شرح زاد المستقنع للشنقيطي

محمد المختار الشنقيطي

المقدمة [1]

شرح زاد المستقنع - المقدمة [1] العلم فضله عظيم، وما رفع الله العلماء إلا لفضل هذا العلم، وهذا العلم هو ميراث الأنبياء عليهم السلام، فما شرح الله صدر عبد يطلب العلم إلا أراد به خيراً، وأهل العلم هم أهل خشية الله سبحانه وتعالى؛ وكما قيل: أصل العلم خشية الله، والعلم له حقوق ينبغي القيام بها عند طلب العلم، فأول هذه الحقوق وأعظمها هو الإخلاص لله في طلب العلم، وكذلك النصيحة والمجاهدة وغيرها من الحقوق التي ينبغي القيام بها عند طلب العلم.

نعمة العلم وفضله

نعمة العلم وفضله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، من أراد به خيراً فقهه في الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه والتابعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، أما بعد: فالحمد لله الذي أكرمنا بأن تغبرت الخطا في طاعته ومحبته ومرضاته، وهنيئاً لطلاب العلم يوم خرجوا من البيوت إلى حَلْقة من حلق العلم، وروضة من رياض الجنة، أسأل الله العظيم أن يكتب لنا ولهم أجر الخطا، وأن يوجب لنا ولهم بها من لدنه الحب والرضا. أيها الأحبة في الله: إن الله تعالى إذا أراد بالعبد خيراً شرح صدره للعلم، وشرح صدره لكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعل ذلك الصدر والقلب بمثابة الحِواء والوعاء لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. إنها نعمة العلم التي شرح الله بها صدور العلماء، فرفع لهم بها القدر، وأعظم لهم البهاء، فعظم بها عند الله قدرهم، وانشرحت لها قلوبهم، وعظم في الدين بلاؤهم. إن العلم نعمة من نعم الله عز وجل، جعلها الله تبارك وتعالى من مواريث النبوة، يوم يصبح الإنسان إماماً من أئمة المسلمين، يؤتمن على أحكام الشريعة والدين، يوم تتلهف القلوب وتشتاق الأسماع إلى معرفة حكم الله من حلال وحرام، وما يكون من الشريعة والأحكام، فيبينها ذلك اللسان الصادق، والعبد الموفق المحقق، فما أجلها من نعمة وما أعظمها من منّة، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم من أهلها. ولذلك أجمع العلماء على أنه لا ينشرح صدر عبد للعلم إلا أراد الله به خيراً، وقد شهد الله تعالى لأهل هذه النعمة العظيمة أنهم أهل الدرجات، وقرن درجاتهم بدرجات أهل الإيمان، الذي هو أعز شيء وأسمى شيء وأكمل شيء، وشهد الله تبارك وتعالى أن أهل العلم هم أهل خشيته، حتى قال الإمام أحمد رحمه الله: أصل العلم خشية الله.

حقوق العلم على أهله

حقوق العلم على أهله إذا كانت نعمة العلم عظيمة، ومنة الله بها على العبد جليلة كريمة، فإنه ينبغي لكل طالب علم أن يقف قبل العلم وقفات يتدبر فيها ويتأمل كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في حقوق هذا العلم، فقد أخبر الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن للعلم حقوقاً، ومن هذه الحقوق: أولاً: الإخلاص: فمن أعظم هذه الحقوق وأجلها: حق الإخلاص الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من فاته فقد فاته حق العلم كله، بل أخبر أن علمه حينها وبالٌ عليه، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله، لينال به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من تعلم العلم ليماري به السفهاء، وليجادل به العلماء، فليتبوأ مقعده من النار). وأخبر صلوات الله وسلامه عليه أن أول خلق الله الذين تسعر بهم نار جهنم من أراد بعلمه غير وجه الله جل جلاله، ذلك القلب المفتون الذي اتجه إلى هذه الدنيا الفانية، فآثرها على الآخرة الباقية، فأصبح حظه من العلم أن ينال السمعة والرياء، فيقف بين يدي الله جل وعلا ليقول له: (عبدي! ألم تكن جاهلاً فعلمتك؟ قال: بلى، ألم تكن وضيعاً فرفعتك؟ قال: بلى، قال: فما عملت لي؟ قال: تعلمت فيك، وعلّمت من أجلك، فقال الله له: كذبت، وقالت الملائكة له: كذبت)، نعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم أن يجعلنا ذلك الرجل. فما أعظمها من ساعة رهيبة لو وقف العبد أمام الأولين والآخرين، فقال الله على رءوسهم: كذبت، نعوذ بالله من ذلك المقام. وما أشرف ذلك المقام لمن أخلص لوجه الله، فوقف في ذلك الموقف العظيم فقال: (تعلمت لوجهك، وعلمت من أجلك، فقال الله له: صدقت، وقالت الملائكة له: صدقت). فحق العلم الأول: أن يخرج الطالب من بيته وليس في قلبه إلا الله، وأن يخرج إلى حلق العلم وهو يرجو ما عند الله، فإنك إن أردت وجه الله بارك الله لك في العلم، وحفظك الله بهذا العلم، ولا زال العلم يأخذ بيدك حتى يقودك إلى الجنة. العلم الخالص لوجه الله قربة، والعلم الخالص لوجه الله يوجب من الله الرضا والمحبة. فيا أيها الأحبة في الله: على طالب العلم ألا يخرج إلى حلق العلم إلا وهو يريد وجه الله والدار الآخرة، ليشتري رحمة الله بخطواته، ويشتري رحمة الله بمجالسه وإنصاته وكتابته، فتكتب في دواوينه تلك الحسنات، فرجله تمشي في طاعة الله، ويده تكتب في مرضاة الله، وعينه ترى كتب العلم في مرضاة الله، وسمعه يسمع ما أمر الله تعالى به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم في طاعة الله، وذهنه وقاد مشتغل بتلك الآيات الكريمات، وتلك الأحكام الجليلة العظيمة، وكل ذلك في طاعة الله ومرضاته، إذا أخلص لوجه الله جل جلاله. فلا نخرج لطلب العلم إلا ونحن نريد ما عند الله عز وجل، ولذلك قال بعض العلماء: من تعلم العلم لغير الله مكر الله به، فينبغي لطالب العلم أن ينزه قلبه من حظوظ الدنيا؛ فإن من طلب العلم للسمعة سمّع الله به، ومن طلبه للرياء راءى الله به، فعلى العبد أن يتقي ربه، وليحرص كل الحرص على الإخلاص، وهذا الحق كان العلماء كثيراً ما يذكرون به. وقال بعض مشايخنا رحمة الله عليه: الإخلاص يُحتاج أن يذكر به طلاب العلم في كل مجلس من مجالس العلم، ولو أن كل مجلس من مجالس العلم استفتحه العالم بالكلام على الإخلاص لكان ذلك خليقاً به وليس بكثير. فالإخلاص هو الفرق بين العبد المطيع الذي أراد وجه الله عز وجل والدار الآخرة، ومن أراد ما عند عباد الله من حظ السمعة والرياء. ثانياً: التضحية والمجاهدة: والوقفة الثانية أيها الأحبة في الله تعالى: أن هذا العلم يحتاج إلى تضحية وجهاد، ولا ينال إلا بالتعب والنصب، فلذلك ينبغي لطالب العلم أن يهيئ من نفسه الهمة الصادقة في طلب العلم؛ فإن في العلم سآمة ومللاً، وتضحية بالأوقات والأعمار، وتضحية بالمال والنفس، وبالجَهد والجُهد. فإذا أخلص طالب العلم لله عز وجل، فليتبع إخلاصه بالصبر والتحمل، حتى يبلغ من هذا العلم أعلى المراتب، وكلما ضحى الإنسان نال أعالي الدرجات عند الله عز وجل، وانظر في سيرة السلف الصالح رحمة الله عليهم، وكيف أن الله فاضل بين علمائهم، فجعل لبعضهم من الدرجات ما لم يجعل لبعض، وصدق الله إذ يقول: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]. فينبغي على الإنسان أن يجتهد وأن يجد في تحصيل هذا العلم، حتى قال بعض العلماء: (أعط العلم كلك يعطك بعضه) فكيف إذا أعطى الإنسان العلم بعضه؟! فينبغي على الإنسان أن يجتهد في تحصيل هذا العلم، وأن يجد، وتكتحل عيناه بالسهر، وأن يضنى جسمه من التعب والنصب، لعلمه أن الله يسمعه ويراه، ولعلمه أن كل تعب ونصب يبذله فإن الله يحب ذلك التعب والنصب. وإن أفضل ما أنفقت فيه الأعمار، وأفضل ما قضي فيه الليل والنهار طاعة الله جل وعلا بالعلم. فهذا العلم الذي تقاد به الأمم، والذي تتبدد به دياجير الظلم، وتنشرح به الصدور، وتخرج به الأمة من الظلمات إلى النور، يحتاج صاحبه أن يجد ويجتهد، وكلما قرأت في سيرة السلف الصالح رحمة الله عليهم من العلماء العاملين الربانيين وجدت الهمة العالية والتعب والنصب من أبرز ما يكون في تراجمهم. يتغرب أحدهم من أجل العلم، فتهون عليه الأموال والأولاد والأوطان، كل ذلك لكي يسمع حديثاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا سمعه رفع الله درجته وأعلى مقامه، وكل آية تسمعها وتتعلم حكمها وتفهمه وتعمل به، فإن الله يرفعك بها درجات، وكل حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلمته وعملت به وعلّمته يرفعك الله به درجات، فاستقل من ذلك الخير أو استكثر. ثالثاً: الأخوة والرفقة: والوقفة الثالثة التي ينبغي أن يتواصى بها طلاب العلم: المحبة، والتعاون، والتكاتف، والتعاطف لبلوغ هذه الغاية الكريمة؛ إذ يحتاج الطالب دائماً إلى الأخ الصادق الذي يشد من أزره في طاعة الله جل وعلا، ويحتاج إلى من يذاكره العلم، ومن يعينه على تفهم المسائل والأحكام واستذكارها واستحضارها. فينبغي على طالب العلم أن ينظر في إخوانه وخلانه، فمن وجده صادق العزيمة، تلوح من أعماله وأقواله أمارات الإخلاص فليقربه إليه، وليحبه في الله ولله، وليجتهد معه في بلوغ هذه الغاية الموجبة لرضى الله جل وعلا. ولذلك قال الله عن نبيه موسى صلوات الله وسلامه عليه: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه:29 - 34]. فما أجلها من نعمة حين يقيض الله لك عبداً صالحاً، فإذا كنت على طاعة ثبتك، وإذا كنت على غيرها دعاك للإقلاع عنها. فينبغي علينا أن نحرص على طلب الإخوة في طلب العلم، وكثير من طلاب العلم يضيعون هذا الأمر العظيم الذي يكمل به طالب العلم نقصه، فطالب العلم لا يستطيع أن يعيش وحده، ولا يمكن أن يحصل هذا العلم على أتم الوجوه وأكملها إلا بأخ صادق يعينه على استحضار المسائل، وكذلك على حل المشاكل، ومعرفة ما كان في حلق العلم، ويحاول الإنسان أن يتناقش معه مناقشة تدل على المودة والمحبة، ولذلك قالوا في العلم: واعلم بأن العلم بالمذاكرة والدرس والفكرة والمناظرة فيحتاج العلم إلى مذاكرته مع الأخ الصادق. رابعاً: محبة العلماء: والوصية الأخيرة في حقوق العلم التي أحب أن أوصي بها: أنه ينبغي على طالب العلم أن يكون حريصاً على محبة العلماء، فإن من مفاتيح العلم محبة العلماء، ومن فقد محبة العلماء والقرب منهم، فإنه قد حرم خيراً كثيراً من العلم، فحبهم قربة، والدنو منهم قربة، وكذلك اعتقاد فضلهم ونشر علمهم وفتاويهم قربة من الله جل وعلا، وكان السلف يوصون طالب العلم بالحرص على القرب من الشيخ وحفظ علمه، ونشر فتاواه، والدعاء له بظهر الغيب. فينبغي على طالب العلم أن يحرص على هذه المرتبة التي تقربه من الله جل وعلا. فحب العلماء الغالب فيه أن يكون خالصاً لوجه الله عز وجل، فمن أحبهم أحبهم لدين الله الذي في صدورهم، فقد جعلهم الله عز وجل أمناء على وحيه، هداة مهتدين إلى طاعته وسبيله ومرضاته، فحبهم طاعة وقربة، والجفوة التي بين طلاب العلم وبين العلماء لا تليق، ولذلك كانوا يثنون على كثيرٍ من السلف بحبهم للعلماء، وقل أن تجد عالماً نفع الله بعلمه إلا وجدته آية في حب عالمه، والقرب منه والاستفادة منه، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم في ذلك الحظ الأوفر والمقام الأكبر رضوان الله عليهم، فقد كانوا أقرب الناس للنبي صلى الله عليه وسلم. فقد قال سهيل حينما وصف النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: (والله ما كلمهم إلا أطرقت رءوسهم حتى يقضي حديثه، ولا تنخم نخامة إلا سقطت في كف أحدهم فدلك بها وجهه)، وهذا من خصوصياته عليه الصلاة والسلام؛ ولا يليق بغيره كائناً من كان، فكان الصحابة أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما في كلام قريب من هذا الكلام: (إذا رأيت العالم بالسنة العامل بها، فإن النظر إليه عبادة وقربة)، فالعلماء حبهم والقرب منهم طاعة، وهم الأدلاء على الخير الأمناء على الطاعة والبر، وما رقت القلوب إلا بالقرب منهم، ولا أنس المستوحشون إلا بحبهم والدنو منهم. فينبغي على من وفقه الله للخير أن يحرص على حب العلماء، وأئمة الإسلام أمواتهم وأحيائهم. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل لنا ولكم من ذلك أوفر حظ ونصيب.

نصائح وإرشادات لطالب العلم

نصائح وإرشادات لطالب العلم أولاً: عدم الاستعجال في طلب العلم: ينبغي على طالب العلم ألا يستعجل في طلب العلم، فبعض طلاب العلم يقول: لو استمرينا في قراءة متن على طريقة ما بالبسط والشرح فقد نمكث سنوات، ونحن نريد في أقرب فرصة أن ننتهي من هذا العلم، وهذا الكلام يعتبر من آفات العلم في هذا الزمان، فقد كان السلف الصالح رحمة الله عليهم يعتنون بطول الزمان في طلب العلم، فكلما طال زمان طالب العلم كلما أحبه الله، وهيأه لمرتبة عظيمة في الإسلام، وكلما استعجل طالب العلم فظهر للناس ظهر على قصور، وحب الانتهاء من العلم بداراً يدل على وجود الفتنة في قلب صاحبه، وأنه يحب الظهور للناس. فينبغي على الإنسان أن لا يستعجل وأن يتريث، فقد تفقه علماء الإسلام على أئمة سنوات عظيمة؛ فقد تفقه عبد الله بن وهب -وهو إمام من أئمة الحديث والفقه- على يدي الإمام مالك رحمه الله تعالى أكثر من عشرين سنة، وكان سواده لا يفارق سواد الإمام مالك رحمة الله عليه. وكانوا يلازمون العالم يسمعون ما يقول، ويعملون بما يأمر به، ثم لا يمكن أن يفوتهم مجلس من مجالس العلم، ولا يمكن أن تفوتهم فتوى، حتى إن بعض أئمة الإسلام -وهذا من الأمر العجيب الذي يدل على حرص السلف وطول الصحبة- كان الرجل منهم أو الصاحب للعالم يقول: حضرته عند بئر كذا، وقد سئل عن مسألة كذا وكذا في الطلاق أو البيع، فهذا يدل على أنهم كانوا يلازمون العلماء ملازمة تامة. وذكر عن الإمام مالك رحمة الله عليه أنه لما قرئ عليه الموطأ فيما يقرب من عام قال: (كتاب ألفته في أكثر من عشرين سنة، تقرؤونه في عام! ما أقل ما تفقهون) أي: ما أقل ما يكون لكم من الفقه. فإياك أن تقول في البداية: لا أستطيع أن أداوم على ذلك المجلس؛ لأن الزمان يطول، فالهدف أن تعمر الأوقات في طاعة الله، والشرف أن تتشرف الآذان بسماع كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. فلذلك لا ينبغي الاستعجال في تحصيل هذا العلم، وأنبه على هذا الأمر؛ لأن الحلق في العلم كثيرة، فيستعجل كثير من طلابها، وقد ينقطع عنها الناس بسبب الاستعجال في وصول أو بلوغ النهاية في العلم، فلا يزال الإنسان في طاعة ما صبر على طلبه. فينبغي على طالب العلم الموفق أن يجعل نصب عينيه لحده حتى ينتهي من العلم. وأذكر علماء أجلاء ومشايخ فضلاء كانوا مع علمهم وجلالة قدرهم يجلسون في مجالس بعض المشايخ كأنهم أطفال لا يفقهون شيئاً. فطالب العلم الذي يريد مرضاة الله عز وجل يصبر، ويطول زمانه في طلب العلم وصحبة العلم. ولذلك أقول: خيرٌ لنا أن نتقن هذا العلم المبارك، وأن نقرأ مسائله بتفصيل وبيان مع ضبط ولو طال الزمان، وذلك خير من أن يكون على سبيل العجالة، ونسأل الله العظيم أن يرزقنا الصبر، وأن يرزقنا التحمل لذلك. ثانياً: تحضير الدروس: ينبغي على طالب العلم أن يقرأ الدرس ولو مرة واحدة على الأقل، وأكمل ما يكون من التحضير الصورة التالية: أن يقرأ المتن أو الباب الذي يريد أن يشرحه ثلاث مرات، ويقرأه مع إدمان نظر، ثم يأخذ أبسط الشروح وأخصرها، ويمر عليه مرة واحدة، ويحاول أن يكون عنده تصور ولو أبتداءً للذي قاله المصنف، ثم بعد ذلك يحضر في حلقة علم، ثم يرجع ويقرأه المرة والمرتين. وفي الخاتمة أن يدون ما علق بذهنه كتابةً، فبعد أن يقرأ ثلاث مرات ويحضر الدرس ويعلق يقرأ الدرس مرة أخرى أو مرتين، وكلما أكثر كلما ضبط، ثم بعد ذلك يكتب شرحاً مختصراً من إملائه، ثم يرفع هذا الشرح ويستذكر به دائماً، وحبذا لو أنه بعد انتهائه من هذا الشرح المبسط يعرضه على عالم يستبين فيه صحة ما كتبه ودونه.

أنواع العلوم

أنواع العلوم

علم العقيدة والتوحيد

علم العقيدة والتوحيد أيها الأحبة في الله! إن العلوم والفنون مختلفة، أجلها وأعظمها ما قرب إلى الله وزاد العبد معرفة بالله سبحانه وتعالى، ألا وهو علم العقيدة والتوحيد، فهو أشرف العلوم، وأنبلها وأسماها وأزكاها، وثغرة العقيدة أعلى الثغور مقاماً، وأعظمها قربة عند الله عز وجل، وأفضلها مراماً، فالإنسان إذا ضبط علوم العقيدة، وأتقن فنونها، فكفى الأمة شئونها، فإن بلاءه يعظم، وأجره يتم ويكمل. والسبب في ذلك: أن من حفظ هذا العلم فقد حفظ للأمة أهم شيء في دينها، وهو علم الإيمان الذي من أجله خلق الله الخلق، ومن أجله أوجد الحياة والرزق، فعلم العقيدة أشرف العلوم وأجلها وأحبها إلى الله جل وعلا.

علم الحلال والحرام

علم الحلال والحرام ثم يلي علم العقيدة علم الأحكام الشرعية، وهو علم الحلال والحرام، الذي يستطيع العبد أن يعبد الله به على بصيرة، ويكون بذلك على نهج الأنبياء والمرسلين، كما قال الله تبارك وتعالى في كتابه المبين: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]. فعلم الحلال والحرام علم مهم جداً، ذلك أن الله عز وجل أحل حلالاً وحرم حراماً، فإذا علم العبد حلال الله، وعلم حرام الله، أمكنه أن يطيع الله فيحل ما أحل، ويحرم ما حرم، فإذا لم يكن على علم بالحلال والحرام، فلا يؤمن منه أن يقع فيما حرم الله عليه، ولذلك قال بعض العلماء: (إن العبد قد يشيب عارضه، ولم تقبل له صلاة واحدة)، والسبب في ذلك: إما أن يكون جاهلاً بأحكام الطهارة، فيصلي والنجاسة قد أصابته. وإما أن يكون جاهلاً بأحكام الوضوء، فيصلي ووضوءه غير صحيح. وإما أن يكون جاهلاً بأحكام الغسل، فيصلي وغسله غير معتبر فلا تصح له صلاة. وقد يقوم في صلاته وعبادته بين يدي الله ربه، فيضيع للصلاة أركانها وشروطها وأحكامها، فيوجب ذلك حبوط عمله ورده -والعياذ بالله- عليه. وكما أن العبادات من الصلاة والزكاة والصوم والحج تحتاج إلى فقه وعلم، فكذلك المعاملات؛ من البيع والإجارة والشركة والقراض والهبة وغيرها من المعاملات تحتاج إلى علم. وقد يكون المرء كأحسن ما أنت راءٍ من استقامة، وحب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنه يمسي ويصبح وقد أكل الربا -والعياذ بالله- لجهله بأحكام المعاملات. فينبغي على المؤمن الموفق أن يعلم ما الذي أحل الله وما الذي حرم الله. وأول ما يكون من الخير له أن يسلم له دينه، ويلقى الله يوم يلقاه وقد حفظ أعز شيء في دنياه، وهو دينه، فتلقى الله يوم تلقاه وقد أديت الصلاة على وجهها، وأديت الزكاة من حقها، وأديت الصيام والحج وسائر العبادات على وجهها، ثم تلقى الله ولا يسألك مسلم حقاً في معاملة؛ لأنك تعامل الناس على بصيرة ومعرفة وإلمام وعلم. فأول ما يكون من الخير لمن فقه في دين الله وعلم الحلال والحرام أن يسلم له دينه، قال بعض العلماء: وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) فعلم الحلال والحرام يسلم به دين العبد. ومما يكون له من الخير بعد ذلك أنه بعد علمه بالحلال والحرام يعظم نفعه للناس، فكم من أناس ينتظرون من يعلمهم أحكام صلاتهم، ومن يبين لهم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء، وهديه في الغسل، وهديه في الصلاة صلوات الله وسلامه عليه، وهديه في الصيام، وهديه في الحج، وسائر العبادات. ألا تعلم أنك لو علّمت إنساناً وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فما أصابت قطرة ماء جسده من ذلك الوضوء إلا أجرت عليه. ولو علمت إنساناً غسله من الجنابة فما غَسَّل واغتسل في ليل ولا نهار إلا أجرت على غسله. ولا علمت إنساناً كيف يصلي كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف يصوم كصيامه، وكيف يقوم كقيامه، وانتصبت له قدم بين يدي الله، فأدى ذلك على الوجه الذي علمته إلا كنت له شريكاً في ذلك الأجر، ولا علّم غيره تلك السنة ولا دعا إليها إلا كان في ميزان حسناتك من الأجور الشيء الكثير. قال صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له أجره، وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئ). فعلم الحلال والحرام علم شريف، ومقام جليل منيف، يوم تصبح إماماً من أئمة المسلمين، فيأتيك الجاهل لكي تنقذه بإذن الله من جهله. ويأتيك الرجل في جوف الليل، وقد قال لامرأته كلمة من الطلاق، ولا يدري أهي حلال فيبيت معها، أم هي حرام عليه فيتركها. ويأتيك المرء وهو لا يدري أهذا المال حلالٌ له أم حرام عليه. وتأتيك الناس من كل حدب وصوب، بقلوب مليئة بالشوق لكي تعلم حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في النوازل، وحلها ودفع ما يكون فيها من معضلات ومشاكل. فعلم الحلال والحرام ثغر من ثغور الإسلام، ينتظر شباب المسلمين وشيبهم، وينتظر أولئك الأخيار الذين يحتسبون الأجر، ويريدون مرضاة الله عز وجل، أولئك الذين يشرون مرضاة الله بتعلم هذا العلم وكفايته، ولا زالت الأمة بحاجة، فكم من بدع انتشرت، وكم من مسائل أشكلت، وكم من معضلات نزلت لم تجد لها حلاً، وقل أن ترى عينك أو تسمع أذنك فقيهاً يضبط أحكامها، أو يحسن سد ثغورها. فالله الله يا شباب الإسلام، والله الله يا أبناء الإسلام أن تحتسبوا في هذا الثغر العظيم، وأن يهيئ الإنسان نفسه لمعرفة هذا الباب العظيم. ولا يقل الإنسان: من أنا حتى أكون فقيهاً من فقهاء الأمة، ومن أنا حتى أكون عالماً؟ فإن الله تعالى يقول في كتابه: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54]، فالله له فضل وله منن، وما أخرج العبد من ظلمات المعاصي، ولا شرح صدره فقام بين يديه راكعاً ساجداً إلا وهو يريد به خيراً. فإذا علم الله من قلبك حب هذا العلم، وأنك تريد أن تسد عن الأمة هذا الثغر العظيم وهو علم الحلال والحرام، وتبين لهم الشريعة والأحكام، فإن الله يوفقك، ولا يزال معك من الله ظهير ونصير ما دام همك أن تكفي المسلمين هذا الثغر العظيم، فاحتسب العلم عند الله. ولو جلست في مجلس علم ولم تخرج منه إلا بحكم واحد شرعي، فليأتين عليك يوم تبلي بهذا الحكم بلاءً عظيماً. فكم من المسائل حضرناها في مجالس العلماء، والله ما كنا ولا كان يخطر لنا على بال أننا في يوم من الأيام نحتاج إلى هذه المسألة، فوقعت نوازل ومشاكل ومعضلات حلت بتلك المسائل بفضل الله عز وجل، فاحتسب العلم عند الله. وكل مجلس يجلسه الإنسان يتعلم فيه كيف يصلي، وكيف يزكي، وكيف يصوم فهو منتفع فيه بنفسه نافع لغيره. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وأن يجعل هذا الفقه موجباً لحب الله ورضوان الله علينا وعليكم.

زاد المستقنع ومنهجية الشرح

زاد المستقنع ومنهجية الشرح كتاب (زاد المستقنع) يعتبر متناً من متون الفقه، ومن عادة أئمة الفقه أنهم إذا ألفوا في الفقه فإنهم يجعلون تآليفهم على مراتب: المرتبة الأولى: مرتبة المتون. المرتبة الثانية: مرتبة الشروح. المرتبة الثالثة: مرتبة الحواشي. وهذا الكتاب من المرتبة الأولى، فهو متن من متون الفقه، والمتن من عادة العالم أن يصوغ فيه فقه الدين بأقل عبارة ممكنة، سواءٌ أكان ذلك المتن من الشعر أم من النثر، ويحرص على أن يجعل الفقه بين يديك بأخصر وأقصر عبارة. ولذلك يحتاج هذا الكتاب إلى أن نشرحه ونبين إجماله، ونفصل ما فيه من الأحكام، سائلين المولى جل وعلا أن يلهمنا التوفيق والسداد، وأن يجعل ما يكون من القول والعمل خالصاً لوجهه الكريم. وهذا المتن متعلق بمذهب معين، وليس مقصودنا أن ندرس مذهباً معيناً، وإنما المقصود أن نعرف حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فسندرس هذا المتن بالدليل، ولذلك سنبين معنى عبارته، ثم بعد ذلك نذكر موقف العلماء من المسألة التي يذكرها المصنف هل هي إجماعية أو خلافية، وإذا كانت خلافية فهل القول الراجح ما اختاره، أو ما اختاره غيره. ولذلك أفضل ما يكون في دراسة الفقه دراسته بالدليل؛ لأن الله تعبدنا بالدليل، فلابد للمسلم إذا قال: هذا حلال، أو: هذا حرام، أن تكون عنده الحجة والدليل، كما قال تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148]، فالعلم هو الدليل والحجة الواضحة. فسنذكر إن شاء الله تعالى أحكام هذا المتن ومسائله ونبينها بدليلها، وإذا كانت مسائل خلافية فسأعتني بإذن الله ببيان أقوال العلماء وأدلتهم، والراجح من تلك الأقوال والأدلة.

تقسيم الفقه ووجه تقديم فقه العبادات على فقه المعاملات

تقسيم الفقه ووجه تقديم فقه العبادات على فقه المعاملات وهنا أمر أحب أن أنبه عليه في قراءة الفقه، فالفقه ينقسم إلى قسمين: فقه العبادات، وفقه المعاملات. والسبب في هذا التقسيم: أن الله عز وجل شرع الشرائع وبين الأحكام، وكانت هذه الشرائع والأحكام منها ما يتعلق بالعبادة من صلاة وزكاة وصيام وحج، ومنها ما يتعلق بمعاملة الناس بعضهم لبعض من بيع وشراء، وإجارة وهبة وشركة، ونحو ذلك. فأما ما يتعلق بما بين العبد وربه، فاصطلح العلماء على تسميته بالعبادات، وما يكون فيه التعامل مع الناس اصطلحوا على تسميته بالمعاملات، فعندنا في الفقه مادتان: المادة الأولى: تتعلق بالعبادات. والمادة الثانية: تتعلق بالمعاملات. أما التي تتعلق بالعبادات، فمنها ما يتعلق بالعبادة البدنية المحضة، كالصلاة والصيام. ومنها ما يتعلق بالعبادة المالية كالزكاة. ومنها ما يتعلق بالعبادة المشتركة بين البدن والمال كالحج. وأما المعاملات فهناك معاملات تتعلق بالمال، وهناك معاملات تتعلق بالنكاح والزواج، وهناك معاملات تتعلق بالجناية والاعتداء على المال، أو على العرض، أو على النفس والأطراف. وهناك معاملات تتعلق بكيفية الفصل بين الناس من القضاء والشهادات والإقرار ونحو ذلك. فالمعاملات تنقسم إلى هذه الأقسام المشهورة: المعاملات المالية، والمعاملات الزوجية التي تتعلق بالنكاح وما يتبع النكاح من حل العصمة بطلاق أو خلع، أو يكون موجباً لحصول أثر مترتب على ذلك كالرجعة ونفقة الرجعة، وغير ذلك. وهناك معاملات تتعلق بجنابة الناس بعضهم على بعض، وجناية الإنسان على نفسه -والعياذ بالله- كالجناية على العقل، وهذا يتعلق بحد المسكر، وباب المسكرات والأشربة. وكذلك الجناية على أعراض الناس مما يتعلق به حد الزنا، والجناية على أموالهم مما يتعلق به حد السرقة، وغير ذلك من الحدود كالجناية على النفس بالقتل، والجناية على الأطراف، وما يوجب ذلك من قصاص وديات ونحو ذلك. وهناك معاملات تتعلق بفصل الخصومات والنزاعات وهو باب القضاء، وما يتبع ذلك من آداب مجلس القاضي، وكيفية الفصل وسماع حجج المختصمين، وكذلك الترجيح بين هذه الحجج إذا تعارضت، إلى غير ذلك من المعاملات المتعلقة بباب القضاء. والعلماء كلهم متفقون على تقديم فقه العبادات على فقه المعاملات، بمعنى أنهم يبدؤون بالصلاة والزكاة والصيام والحج قبل ابتدائتهم بالبيع والنكاح وغيرها من المعاملات. والسبب في ذلك: أن الله عز وجل بين في كتابه أنه ما خلق الخلق إلا لعبادته، فلما كانت العبادات المحضة هي المقصود من خلق الناس من صلاة وزكاة ونحو ذلك، كانت العناية بها آكد، وتقديمها أوجب. أما المعاملات فإنها لا تقع عبادة إلا بقصد القربة، فلو أن إنساناً باع أو اشترى، فإن العبادة في بيعه وشرائه لا تحصل إلا إذا قصد القربة، وإلا هي في الأصل معاملة دنيوية تتعلق بحياة الإنسان ودنياه. وبناءً على ذلك، قدم المقصود الأصلي وهو العبادة على ما هو تبعٌ له وهو باب المعاملات، فأجمع الفقهاء والمحدثون على تقديم أبواب العبادات على أبواب المعاملات. ولذلك سنشرع إن شاء الله تعالى في فقه العبادات أولاً ثم نتبعه بفقه المعاملات، ونسأل الله العظيم أن يلهمنا الصواب، وأن يجنبنا الزلل في القول والعمل، والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم أخذ المال على تدريس العلوم الشرعية

حكم أخذ المال على تدريس العلوم الشرعية Q نحن نُدرّس العلوم الشرعية، ونأخذ على ذلك رواتب، فهل هذا ينافي الإخلاص؟ علماً بأنَّا لن نتمكن من التفرغ للتدريس إذا لم نأخذ هذه الرواتب؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فمذهب المحققين من العلماء رحمهم الله، وهو الذي اختاره بعض الأئمة، ومنهم الإمام ابن جرير الطبري، والحافظ ابن حجر، وغيرهما من المحققين أن الإنسان إذا قصد بعلمه الآخرة، ثم أخذ أجراً على ذلك العلم بسبب عدم تمكنه من طلب الرزق فذلك لا يقدح في الإخلاص، ما دام أن مقصوده هو تعليم العلم، ونفع أبناء المسلمين، فلا يقدح في الإخلاص وجود حظ من الدنيا. وقد دل على هذا القول الصحيح دليل الكتاب والسنة. أما دليل الكتاب فإن الله عز وجل يقول في كتابه: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7]، وهذه الآية نزلت في أهل بدر، فأخبر الله أنهم كانوا يتمنون العير بقوله تعالى: (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ)، فهم خرجوا للعير، فلما واجهوا القتال صدقوا مع الله، فلم يقدح في قتالهم وجهادهم وجود حظ أو قصد حظ الدنيا من تلك العير. ومن الأدلة على صحة هذا القول قول الحق تبارك وتعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198]، فإنها نزلت -كما صح- في أقوام يريدون الحج والتجارة، فالحج عبادة والتجارة دنيا، فلم يقدح في إرادة الآخرة وجود حظ الدنيا. كما دل على صحة هذا القول دليل السنة الصحيح، فإن المصطفى عليه الصلاة والسلام قال قبل القتال: (من قتل قتيلاً فله سلبه)، وهذا القول قاله لترغيب الناس في القتال، فأعطى على القتال الذي يراد به وجه الله حظاً من الدنيا، قال بعض العلماء: في هذا دليل على أنه لا يقدح في الإخلاص وجود حظ من الدنيا إذا لم يكن هو مقصود العبد، فإذا كان مقصودك ما عند الله عز وجل فلا يؤثر فيه وجود حظ من الدنيا. وقد جاء في حديث أبي محذورة رضي الله عنه أنه قال: (ألقى النبي صلى الله عليه وسلم عليّ الأذان، فلما فرغت، ألقى إليّ صرة من فضة) قالوا: في هذا دليل أيضاً على أن حظ الدنيا لا يؤثر إذا لم يكن هو مقصود العبد. ومن مجموع هذه الأدلة خلص هؤلاء العلماء إلى القول بأنه ينظر في الإنسان، فإذا كان مقصوده من التعليم نفع أبناء المسلمين، وإسداء الخير إليهم، ودلهم على طاعة الله ومرضاته، ثم حصل بعد ذلك أجر أو راتب أو غير ذلك، ولم يكن هو مقصوده الأساس، فإن ذلك لا يقدح في إخلاصه، والله تعالى أعلم.

الزاد والمقنع والمبدع

الزاد والمقنع والمبدع Q هل لكتاب الزاد من شروح، وما هو أفضلها؟ وكيف نتمكن من حفظ متن هذا الكتاب؟ A هذا الكتاب في الأصل -وهو الزاد- اعتمد فيه المصنف رحمه الله تعالى على كتاب (المقنع)، وهو في الحقيقة كتاب مقنع، وإن كان أضيفت إليه اختيارات الحجاوي رحمة الله عليه وعلى مؤلفه، ولكن في الأصل كتاب (المقنع)، وكتاب (المقنع) له شروحات، تعتبر بمثابة شرح هذا الكتاب وزيادة أيضاً؛ لأن الإمام الحجاوي رحمة الله عليه حذف بعض المسائل. وأنفس الشروح وأفضلها لكتاب (المقنع): كتاب (المبدع في شرح المقنع) لـ ابن مفلح رحمه الله تعالى، فقد شرحه شرحاً وافياً كافياً، وذكر فيه الأوجه والروايات، ورجح بين الأوجه والروايات، وذكر الأدلة، وقد يناقش في بعض المسائل، لكنه كتاب واسع يجمع هذا الكتاب وغيره، خاصة في الفروع والتتمات التي يذكرها في نهاية كل باب. وكتاب (المبدع) يعتبر شرحاً لأصل هذا الكتاب؛ لأن كتاب (المقنع) يعتبر في نظر مؤلفه -وهو الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى- في الدرجة الثانية، فإن ابن قدامة رحمة الله عليه جعل علم فقه المذهب على درجات: الدرجة الأولى: كتابه (العمدة)، ثم جعل بعد (العمدة) (المقنع)، ثم جعل بعد (المقنع) (الكافي)، ثم جعل خاتمتها بـ (المغني)، ولذلك قال فيه بعض العلماء: كفى الخلق بالكافي وأقنع طالباً بمقنع فقه عن كتاب مطول فكتابه (المقنع) يعتبر في الدرجة الثانية، وأنفس الشروحات -كما قلنا- شرح ابن مفلح رحمة الله عليه الذي أجاد فيه وأفاد، وجمع فيه مسائل الكتاب وزيادة، مع فروعات وتتمات في الحقيقة يكمل بها كتاب (المقنع)، والله تعالى أعلم.

نصيحة لمن منعه والداه من السفر لطلب العلم

نصيحة لمن منعه والداه من السفر لطلب العلم Q أنا أريد طلب العلم، ولكن أهلي يرفضون ذلك، وقد تركت كل شيء في مدينتي من أجل أن أذهب إلى مدينة أخرى للجلوس عند علمائها، فهلا من كلمة لوالدي أسمعهما إياها علهما أن يوافقا؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أهنئك أخي في الله على حب العلم، وحب التغرب من أجل التفقه في الدين، وحمل رسالة الله رب العالمين، وما قذف الله في قلبك حب هذا العلم إلا وهو يريد بك خيراً، فإنهم بذلك عيناً، وليكن حسن ظنك بالله عظيماً، فلابد أن تنال العلم إذا صدقت مع الله جل وعلا. أما الوصية الأولى التي أوصيك بها، فإن تيسر لك طلب العلم في دار فيه والداك، فإياك ثم إياك أن يفارق سوادك سوادهما. إن من أعظم الأسباب التي تنشرح بها الصدور لطلب العلم، ويوفق فيها طالب العلم في طلبه: رضى الوالدين، فلتجتهد في إرضاء والديك، فقد جاء في الحديث أن رجلاً قال: (يا رسول الله: أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد -أي: أن ألازمك، يريد طلب العلم والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم- قال: أحية أمك؟ قال: نعم، قال: فالزم رجلها فإن الجنة ثَمَّ). فالزم رجل والديك إذا كان العلماء في بلدك، وإياك أن تفكر في طلب العلم في مكان ليس فيه والداك، إلا إذا تعين عليك ذلك، ولم تجد أحداً في المكان الذي أنت فيه. وقد كتب بعض العلماء ترجمته، وكان رحمة الله تعالى عليه آية في العلم والعمل، موفقاً حتى في كثير من المسائل والنوازل والفتاوى التي كان يفتي فيها، فقال: لا أعلم عملاً صالحاً بعد الإيمان وفقني الله فيه حتى بلغت هذا العلم مثل بري بوالدي، فقد توفي أبي وهو في النزع يدعو لي بالعلم والعمل. ولذلك أوصي طالب العلم فأقول: إذا أردت أن توفق في طلب العلم، وتوفق لكل عمل صالح بعد الإيمان، فأول ما تفكر فيه إرضاء والديك، من إدخال السرور عليهما، والحرص على الإحسان إليهما، وإسداء الخير إليهما، فتلك من أعظم المفاتيح التي ينال الإنسان بها العلم والعمل. وكذلك أوصي والديك أن يتذكرا فضل الله عليك، وأن يكونا خير والدين حينما يعينانك على بلوغ هذه الرسالة العظيمة، وما أعظمه من شرف للوالدين حينما يتسببان في تحصيل الابن للعلم والعمل؛ إذ ورد في الحديث: (أن حافظ القرآن يؤتى بوالديه يوم القيامة فيلبسان تاج الكرامة)، إكراماً لحافظ القرآن، فكيف بمن حفظه وعلمه وعمل به وعلم الناس؟!! فلذلك أوصي الوالدين أن لا يزهدا في هذا الخير العظيم، فما الذي ينتظران من الأبناء غير أن يكونوا لهما خلفاً صالحاً، ولو لم يكن في العلم إلا أن العالم يأتيه السائل وقد ضاقت عليه الدنيا فإذا أجابه يكون من دعائه له: رحم الله والديك لكفى بها نعمة. وهذا يدل على شرف العلم وبركة العلم وفضله، حتى على والدي الإنسان، فنسأل الله العظيم أن يشرح صدرهما لإعانتك على بلوغ هذه الغاية النبيلة، وتحصيل هذا المقام العظيم، والله تعالى أعلم.

توجيه قول سفيان: (تعلمنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله)

توجيه قول سفيان: (تعلمنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله) Q ما توجيهكم للقول المنسوب إلى سفيان: (تعلمنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله)؟ A قول سفيان رحمة الله عليه: (تعلمنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله) هذه العبارة من أصح الأقوال في توجيهها: أن الإنسان في بداية طلب العلم يأتيه نوع من الغرور، ونوع من الطفرة، وهذا معروف ومألوف، فإذا تمكن العلم من قلبه كسره خشية لله جل جلاله. ولذلك كانوا يعرفون كون هذا العلم يقرب إلى الله، أو يبعد عن الله على مقدار زيادة الخشوع في القلب، فإذا وجدوا هذا العلم يزيد من الخشية والخشوع عرفوا أن العلم لوجه الله جل جلاله، وأنه يزيد العبد قرباً إلى الله. فقوله: (تعلمنا العلم لغير الله) أي: تعلمنا العلم وكان في النية ما كان من دخن بسبب غرور العلم، فالناس تنظر إليك طالب علم تحمل كتابك، ويمدحون الإنسان ويمجدونه فيدخله الدخن. وقوله: (فأبى أن يكون إلا لله)، أي: لما تعمقنا فيه، ودخلت آيات الكتاب إلى القلوب، وعمرت بها القلوب انكسرت تلك القلوب لله جل جلاله، والعلم يكسر صاحبه لله سبحانه وتعالى، ويزيده خشية وخوفاً، كما قال الإمام أحمد: (أصل العلم خشية الله)، فنسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم من أهل هذا العلم. وهذا العلم الموجب للخشية هو ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ميراث العلماء والصلحاء والأخيار والأئمة المهتدين، فهم ورثوا العلم الذي يزيد من خشية الله جل جلاله. فقوله: (تعلمنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله)، أي أنه صاغهم لطاعة الله ومرضاته، حتى خلصت قلوبهم من شوائب الغرور، ونحو ذلك مما يكون لطالب العلم في بداية طلبه، والله تعالى أعلم.

حكم انتقال المرأة من بيت زوجها في عدة الوفاة

حكم انتقال المرأة من بيت زوجها في عدة الوفاة Q امرأة مات زوجها وهي في عدة الحمل، وتريد الخروج من بيت زوجها لمرضها، ولعدم وجود من يرعاها، مع العلم بأنه قد توفي لها مولودان من قبل، فهل يجوز خروجها إلى بيت أحد محارمها؟ A أولاً أهنئ هذه المرأة؛ لما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (جاءت امرأة فقالت: يا رسول الله: ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا يوماً، فجعل لهن يوماً صلوات الله وسلامه عليه، فلما اجتمعن قال: ما منكن من امرأة تقدم بين يديها ثلاثة إلا كانوا لها حجاباً من النار، فقالت امرأة: واثنين يا رسول الله؟ فسكت، فقالت: واثنين يا رسول الله؟ قال: واثنين واثنين واثنين) فأسأل الله أن يجعل ما قدمته هذه المرأة حجاباً لها من النار. أما الأمر الثاني: فأوصيها أن تحتسب الأجر في طاعة الله جل وعلا بلزوم بيت الزوج، فقد قال صلى الله عليه وسلم لـ فريعة بنت مالك بن سنان رضي الله عنها لما سألته عن حدادها: (امكثي في بيت زوجك الذي جاءك فيه نعيه حتى يبلغ الكتاب أجله). فالمرأة تمكث في بيت الزوج في الحداد، فإن كانت مريضة يستدعى لها من يعالجها، فإن تعذر ذلك خرجت للعلاج ولا حرج عليها ثم ترجع؛ لأن ما جاز لحاجة يقدر بقدرها، فلذلك تمكث هذه المرأة في بيت زوجها حتى يبلغ الكتاب أجله، ولله الحكمة البالغة في هذا الحداد، فإن المرأة إذا مكثت في بيت زوجها تذكرته فترحمت عليه، ودعت له، واستغفرت له، وكان ذلك أدعى لسماحها عن أخطائه، وما كان منه من تقصير. فمقصود الشرع من بقائها في هذا المكان أن يكون أدعى لترحمها، وهو حق الأزواج على أزواجهن، فكون كثير من النساء يتساهلن في هذا الحق، ويحرصن على الخروج هو خلاف السنة، وخلاف الهدي، فينبغي الحرص على هذا الأمر الذي شرعه الله تبارك وتعالى. وأما إذا بلغ بالمرأة مقام الاضطرار، كأن تكون في مكان لا تأمن فيه أن تؤذى من الناس في عرضها، أو تقتل، أو يحصل لها ضرر في نفسها، أو أولادها فيجوز لها أن تتحول، واختلف العلماء في تحولها، فقال بعض العلماء: تتحول إلى أقرب مكان من قرابتها، وقال بعض العلماء: إذا إذن لها بالتحول ساغ لها أن تتحول لبيت بعيد مع وجود القريب، والله تعالى أعلم.

حكم النوم بعد صلاة الفجر والعصر

حكم النوم بعد صلاة الفجر والعصر Q ما رأيكم في طالب العلم الذي ينام بعد صلاة الفجر؟ A كان السلف يكرهون النوم بعد صلاة الصبح، وبعد صلاة العصر، حتى إن الإمام أحمد رحمة الله عليه كان يكره النوم بعد العصر، وقال: كانوا يخافون على عقل الإنسان، وذكروا عن رجل أنه حذر أخاه من النوم بعد صلاة العصر، فقال له: إني أخشى على عقلك، فقال له رجل مجنون: لا تصدقه، فإني ما تركتها. يعني هذه النومة. فالنوم بعد صلاة العصر لا يمدحونه، وما بعد الفجر قيل: إنها ساعة البركة، لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بورك لأمتي في بكورها) فإذا كان عندك بحث، أو رسالة أو طلب علم، وبكرت وابتكرت وجدت خيراً كثيراً، وهكذا لو كانت عندك أعمال من الدنيا. وما محقت البركة في كثير من أعمال الناس وأوقاتهم إلا بسبب إضاعة البكور، لكن إذا كان قواماً لليل، ويريد أن ينام بعد صلاة الفجر حتى يكسب أعماله في النهار فلا حرج والأمر واسع. وفي التحذير من النوم بعد العصر حديث ضعيف عن عائشة رضي الله عنها رواه ابن ماجة: (من نام بعد صلاة العصر فأصيب في عقله فلا يلومن إلا نفسه) ولكنه حديث ضعيف، كما نبه على ذلك ابن الجوزي وغيره، وهو حديث غير معتبر، والأصل الجواز حتى يدل الدليل على المنع، لكن قالوا: إن النوم في هذين الوقتين مكروه لما فيه من تفويت البركة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في نوم الصبح، وكذلك أيضاً قالوا: بعد العصر لا يحمد للإنسان منامه، والله تعالى أعلم. أما طالب العلم إذا كان يسهر في تحصيل العلوم والمنافع وينام بعد صلاة الفجر، فهذا رأيي فيه أنه ذكي؛ لأن الناس في النهار يشغلون عن طلب العلم، فإذا سهر ليله في تحصيل العلوم وضبط العلوم، ونام النهار، فهذا على خير كثير. وأما بالنسبة للنوم على سبيل الكسل والخمول، فهذا لا شك أنه يدل على ضعف الهمة وقصورها، والأفضل والأكمل للإنسان أن يحرص على قضاء هذا الوقت في طاعة الله تعالى، كأن يجلس بعد صلاة الفجر إلى الإشراق، فتكون له حجة وعمرة تامة تامة تامة، والله تعالى أعلم.

حكم حج من داعب زوجته دون جماع بعد التحلل الأول

حكم حج من داعب زوجته دون جماع بعد التحلل الأول Q تحللت التحلل الأول، وبقي عليّ الطواف والسعي، وقبل أن أقوم بتكملة هذا الركن، كنت أداعب زوجتي بدون جماع ولا إنزال، فهل عليّ شيء؟ A إذا لم يحصل الإنزال، فإن الحج صحيح، وليس عليك شيء؛ لأنه ليس هناك موجب للفدية، والأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، والله تعالى أعلم. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

المقدمة [2]

شرح زاد المستقنع - المقدمة [2] من عادة السلف رحمهم الله في كتابة الكتب أنهم يبدءون بحمد الله عز وجل والثناء عليه سبحانه، ومن ثم يفصلون بين المقدمة والمضمون بقولهم: أما بعد، والمقدمة لا بد أن تكون مشتملة على التعريف بالكتاب، وبيان منهج الكتاب، ثم تختم بالثناء على الله عز وجل وسؤاله المدد والعون.

معنى الحمد ومشروعية الاستفتاح به وبيان الفرق بينه وبين الشكر

معنى الحمد ومشروعية الاستفتاح به وبيان الفرق بينه وبين الشكر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه أجمعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد، وصلى الله وسلم على أفضل المصطفين محمد]. هذه مقدمة المصنف رحمه الله لهذا الكتاب المبارك -أعني: زاد المستقنع- يبدؤها رحمه الله بقوله: [الحمد لله]، ومن عادة أهل العلم رحمهم الله أنهم إذا أرادوا التأليف أو التصنيف، أو أرادوا الخطابة أو الكتابة صدروا ذلك بحمد الله جل وعلا. ولهم في ذلك دليل من الكتاب والسنة: أما دليل الكتاب فإن الله تبارك وتعالى استفتح كتابه المبين بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، فاستفتح أفضل الكتب وأشرفها وأجلها على الإطلاق وهو القرآن بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2]. قال بعض العلماء: في هذا دليل على أنه يشرع استفتاح كتب العلم بحمد الله جل وعلا. وأما دليل السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم استفتح خطبه بقوله: (إن الحمد لله)، وثبتت الأحاديث عنه عليه الصلاة والسلام في مواعظه المشهورة، أو كلماته المعينة التي وقعت في المناسبات بما يحكيه الرواة عنه بقولهم: (فحمد الله وأثنى عليه ثم قال). وأجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية استفتاح الكتب ونحوها بحمد الله جل وعلا، والمناسبة في ذلك: أن الله جل وعلا هو المستحق للثناء، وما كان العبد ليعلم أو يتعلم لولا أن الله علمه، وما كان ليفهم لولا أن الله فهمه، فيستفتح بحمد الله الذي شرفه وكرمه كما قال: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:5]. وقالوا: كما أن النبي صلى الله عليه وسلم استفتح الخطب بالحمد فيشرع استفتاح الكتب بالحمد؛ لأن الخطبة والكتاب كل منهما هدفه واحد، وهو الدلالة والدعوة إلى الله. فكما أن المراد من خطبه عليه الصلاة والسلام توجيه الناس ودلالتهم على الخير، كذلك هو المراد من كتابة الكتب وتأليف المؤلفات. فلهذا كله شرع في كتب العلم ورسائل العلم والخطب والندوات ونحوها مما فيه تعليم وتوجيه أن تُستفتح بحمد الله، لما فيه من تعظيم الله جل وعلا، ولما فيه من الاعتراف بالجميل والثناء على الله العظيم الجليل.

معنى الحمد والفرق بينه وبين الشكر

معنى الحمد والفرق بينه وبين الشكر قوله رحمه الله تعالى: [الحمد لله]. الحمد في اللغة: الثناء، وقد أطبق على ذلك العلماء في تعريفه, يقال: حمد الشيء، إذا أثنى عليه. والمراد بالحمد في اصطلاح العلماء هو الوصف بالجميل الاختياري على المنعم بسبب كونه منعماً على الحامد أو غيره، فقولهم: (الوصف بالجميل الاختياري)، هو كأن تقول: محمد كريم، شجاع، فاضل، فوصفته بجميل لو سئل إنسان عنه لقال: سئل فلان عن محمد فحمده، أو ذكر أوصافه المحمودة. وقولهم: (على المنعم)، أي: الذي أعطى النعمة وهو الله جل وعلا، أو المخلوق بعد فضل الله جل وعلا. والفرق بين الحمد والشكر عند العلماء أن الحمد أعم بالأسلوب وأخص من جهة السبب، والشكر أعم من جهة السبب وأخص من جهة الأسلوب أو الوسيلة. فالحمد إنما يكون باللسان فهو أخص من حيث الآلة، والشكر أعم منه؛ لأن الشكر يقع باللسان ويقع بالجنان ويقع بالجوارح والأركان. أما باللسان فمنه قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]، لأن الحديث عن النعم شكر للمنعم. وأما بالجنان، فمنه قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53] أي اعتقدوا أنها من الله، فمن شكرك لنعمة الله أن تعتقد في قرارة قلبك أن الله أنعم بها عليك، وأما الشكر بالجوارح والأركان فأن تعمل بجوارحك ما ترد به جميل المنعم، ومنه قوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:13]. فهذه ثلاثة أنواع من الشكر، تشكر بلسانك فتثني على الذي أعطاك الجميل وأسدى إليك النعمة بعد الله، وتشكر بجنانك بأن تعتقد فضله، وتشكر بجوارحك وأركانك برد الجميل إليه، أو فعل ما يرد إحسانه إليه. وأما الحمد فلا يكون إلا باللسان، ولكنه من جهة السبب أعم من الشكر، فتحمد الإنسان مطلقاً سواءٌ أعطاك نعمة أم لم يعطكها، فتقول: فلان كريم، وإن لم يعطك شيئاً، فأثنيت عليه وحمدته لهذه الخصلة الطيبة فيه. فالحمد لا يستلزم وجود فضل للمحمود على الحامد، بخلاف الشكر، إذ إنما يكون بعد جميل ونعمة، فلا تشكر إلا من أحسن وأسدى إليك المعروف. إذاً الفرق بينهما أن الحمد من جهة التعبير أخص ومن جهة السبب أعم، والشكر من جهة التعبير أعم ومن جهة السبب أخص. قال العلماء رحمة الله تعالى عليهم: استفتح الله كتابه بـ (الحمد لله)، فاختار اسم (الله) ولم يقل: (الحمد للكريم) ولا (للعظيم) وهو وإن كان حمداً للعظيم والكريم، ولكن تخصيص الاسم الدال على الذات أبلغ في الحمد والثناء من ذكر الوصف؛ لأنك لو قلت: الحمد لله الكريم، لأشعر أنك حمدته من أجل أنه كريم، ولكن لما قلت: الحمد لله، أثبت له الحمد لذاته سبحانه وتعالى فكان أبلغ. قوله رحمه الله تعالى: [حمداً لا ينفد]. أي: أحمده حمداً لا ينتهي ولا ينقطع، ولذلك جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان: (إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد)، وفي رواية: (لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض ... ) إلى أن قال: (أهل الثناء والمجد) أي: يا الله أنت أهل أن يثنى عليك، فالله هو المستحق للحمد الذي لا ينفد؛ لأن نعمه لا تنقطع ولا تنتهي ولا تنقطع عن العبد، وهو لا يستطيع عدها فضلاً عن شكرها والثناء على الله عز وجل بما هو أهله. قوله: [أفضل ما ينبغي أن يحمد]. أفضل على وزن أفعل، والعرب تأتي بهذه الصيغة للمفاضلة فتقول: فلان أكرم، فلان أحسن، فلان أعلم، وهذه الصيغة تدل على أن الاثنين اشتركا في وصف أحدهما أعلى من الآخر فيه، فقوله: [أفضل] يعني أن الحمد يفضل، والفضل الزيادة، أي أن هذا الحمد فرق بينه وبين حمد غير الله جل وعلا أنه يفضل كل حمد، أو أنه حمد يفضل حمد غيره لله جل وعلا.

بيان معنى الصلاة والآل ومعنى العبادة

بيان معنى الصلاة والآل ومعنى العبادة قوله رحمه الله تعالى: [وصلى الله وسلم على أفضل المصطفين محمد]. الصلاة تطلق في اللغة على معانٍ، فتأتي بمعنى الدعاء، ومنه قول الشاعر: تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا عليك مثل الذي صليت فاغتمضي عيناً فإن لجنب المرء مضطجعا يقول الشاعر: إن ابنتي حينما هيَّأت رحلي للسفر قالت: يا رب جنب أبي الأوصاب والوجع، أي أنها دعت له بالسلامة، فأجابها بقوله: عليك مثل الذي صليت، أي: عليك مثل الذي دعوت، وهو موضع الشاهد من البيت؛ فإنه استعمل الصلاة بمعنى الدعاء. ومنه قول الحق تبارك وتعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] أي: إذا أعطوك الزكاة يا رسولنا -عليه الصلاة والسلام- فصل على من أعطاها لك، ولذلك قال العلماء: يسن لنائب الإمام الذي يلي أخذ الزكاة من الناس إذا أعطوها أن يدعوَ بالبركة والخير في أعمالهم، فقوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] أي: ادع لهم، فالصلاة تطلق بمعنى الدعاء. وتأتي الصلاة بمعنى الرحمة، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56] أي أن الله يرحمه، وصلاة الله على العبد رحمته. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم صل على آل أبي أوفى) أي: ارحمهم، وقيل: (بارك لهم في مالهم)، وهو حديث في صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى. ومنه قول الشاعر: صلى المليك على امرئ ودعته وأتم نعمته عليه وزادها أي: رحم الله ذلك العبد، أو ذلك الأخ الذي ودعته. فقوله: [وصلى الله] أي: على نبيه صلوات الله وسلامه عليه، والمراد به الترحم؛ لأن الصلاة من الله على نبيه صلى الله عليه وسلم هي الرحمة. قوله: [وصلى الله وسلم]: جمع المصنف بين الصلاة والسلام، والسلام إما مأخوذ من السلامة من الآفات، وإما أن يراد به التحية. قال بعض العلماء: قول الإنسان: السلام عليكم. أي سلمكم الله من الآفات والشرور وهي التحية، ووصفت التحية بكونها تحية؛ لأن الإنسان إذا حيَّا غيره دعا له بما يوجب طول بقائه في الحياة، فإذا قلت: السلام عليكم، فمعنى ذلك: سلمكم الله من الآفات. وإذا سلم العبد من الآفات طال عمره وبقي زمناً أكثر مما لو أصابته، ولذلك يقولون: السلام من السلامة، وهو اسم من أسماء الله جل وعلا كما في آية الحشر. فجمع المصنف بين الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والسلام عليه؛ لأنها من أكمل الصفات. قال بعض العلماء: أدب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع فيها بين الصلاة والسلام، والدليل على ذلك. أن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] فجمع له بين الصلاة والسلام عليه أفضل الصلاة والتسليم. قال رحمه الله تعالى: [وعلى آله وأصحابه ومن تعبد]. قوله: [وعلى آله] الآل تطلق على معنيين: الأول: آل الرجل بمعنى قرابته، قالوا: وأصل آل: أَهْلٌ، وهو قول سيبويه رحمه الله تعالى. الثاني: تطلق بمعنى الأنصار والأعوان والأتباع وشيعة الإنسان، تقول: آل فلان؛ بمعنى أتباعه، وهذا هو المراد بقول العلماء: وعلى آله، وهذا هو الصحيح، ونص عليه الإمام أحمد رحمه الله، واختاره جمع من العلماء، فالمراد بآل النبي صلى الله عليه وسلم الذين يصلى عليهم ويسلم تبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم إنما هم أتباعه في كل زمان ومكان. لكن قوله: [وعلى آله وأصحابه ومن تعبد] يؤكد غير هذا المعنى، فإن قوله: [ومن تعبد] يدل على أن المراد بالآل هم الأهل؛ لأنه قال بعد ذلك [ومن تعبد]، والمراد به من سار على نهجه عليه الصلاة والسلام، فإذا كان المريد بالآل الأهل، يكون قوله: [ومن تعبد] من باب عطف الشيء على الشيء. لكن يمكن أن يقال: إن المراد بقوله: [وعلى آله] أي: أتباعه وأنصاره، وقوله: [ومن تعبد] من باب عطف الخاص على العام، أي أنه خص المتعبدين الذين هم أكثر عبادة وصلاحاً. وهذا من باب التشريف والتكريم؛ لأن العرب تعطف الخاص على العام، مثل قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:4] والروح: جبريل عليه السلام، فقوله تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) يدخل فيهم جبريل، لكنه تعالى لما قال: (والروح) نص على الروح تشريفاً وتكريماً وتنبيهاً على علو مقامه ودرجته. وقوله: [تعبد] أي: تفعّل العبادة، والتفعّل زيادة، والزيادة في المبنى تدل على زيادة المعنى، والتعبد مأخوذ من العبادة، والعبادة مأخوذة من قولهم: طريق معبد، أي: مذلل؛ لأن أصل العبودية: الذلة، فإن الإنسان إذا عبد ربه تذلل له، أما حقيقة العبادة في الاصطلاح فأجمع التعاريف لها ما اختاره جمع من المحققين ومنهم شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بقوله: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. فهي شاملة لأعمال القلوب كحب الله، وخشية الله، والإيمان به، واعتقاد فضله سبحانه وتعالى، والخوف منه، والرجاء فيما عنده، فإن هذه كلها من أعمال القلوب الباطنة. والأقوال كالتسبيح والتهليل والتكبير. والأفعال كالركوع والسجود والذبح، ونحو ذلك، فالعبادة تشمل الأقوال والأفعال والاعتقادات لكن بشرط أن تكون مما يحبه الله ويرضاه. وشرط ما يحبه الله ويرضاه أن يكون مشروعاً، فلا يُعبد الله إلا بما شرعه، فلا يُعبد بأهواء ولا آراء، ولكن يُعبد بنصوص الكتاب والسنة التي دلت على مشروعية ذلك العمل قولاً كان أو فعلاً أو اعتقاداً. قال رحمه الله تعالى: [أما بعد]. هذه كلمة يؤتى بها للفصل بين المقدمة والمضمون، فإذا خاطب الإنسان غيره بكلام مكتوب أو مسموع فإن من عادة الناس أنهم يصدرونه بالثناء على الله جل وعلا، وهذه الكلمات التي يصدر بها الكلام توصف بكونها مقدمة. ثم بعد هذه المقدمة من ثناء العبد على ربه عز وجل، وصلاته على نبيه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه يشرع في المقصود، أي: الأمر الذي يريد الكلام عنه بالخطابة أو الكتابة. ولذلك قال بعض العلماء: إن (أما بعد) هي فصل الخطاب، وقد قيل: إن أول من تكلم بها داود عليه السلام، وحملوا عليه قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:20] قالوا: بدليل قرنها بالحكمة وفصل الخطاب، أي: الفصل بين مقدمته ومضمونه، وذلك أبلغ في نفع الناس وتوجيههم، وأن لا يختلط الكلام بعضه ببعض، وهذا قول الشعبي وطائفة من المفسرين رحمهم الله تعالى. والصحيح أن فصل الخطاب هو القضاء بين الناس في الخصومات والنزاعات، وأن قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:20] ليس المراد به (أما بعد)، وإنما المراد به -كما قال طائفة من العلماء- معرفة الطريقة التي يفصل بها بين خطاب الخصوم إذا تخاصموا؛ لأن الخصوم إذا تخاصموا اختلفت أقوالهم، وتباينت آراؤهم، فيحتاج إلى فصل، قالوا: فصل الخطاب قولهم: البينة على المدعي واليمين على من أنكر. وقيل: من فصل الخطاب أن يترك المدعي حتى يكمل دعواه، ثم يسأل المدعى عليه، ولذلك لما عجل داود عليه السلام وحكم وقال: (لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) عاتبه الله تعالى. وهذه الكلمة -أي: أما بعد- سنها النبي صلى الله عليه وسلم، وثبتت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أما بعد: فما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله) فكان يقول: (أما بعد) ولذلك كان من السنة أن تقال هذه الجملة. وقد يكررها بعض المتكلمين فيقول: (أما بعد)، ثم يأتي بكلمة ثم يقول: (ثم أما بعد)، والذي يظهر هو الاقتصار على السنة، بأن يثنى على الله تعالى ويحمده، حتى ينتهي الثناء والحمد ثم يقول: (أما بعد) ويدخل في المقصود، فتكرارها لا يحفظ له أصل، والأبلغ في التأسي الاقتصار على الوارد، خاصة في خطب الجمعة ونحوها.

طريقة الأولين في كتابة المقدمات وبيان معنى الاختصار والفقه

طريقة الأولين في كتابة المقدمات وبيان معنى الاختصار والفقه قال رحمه الله: [فهذا مختصر في الفقه]. أي: هذا الكتاب الذي بين أيدينا مختصر في الفقه، كلمة [هذا] لها حالتان: الحالة الأولى: تكون إشارة إلى شيء موجود. الحالة الثانية: أن تكون إشارة إلى شيء غير موجود نزل منزلة الوجود. ومن عادة المتقدمين أنهم كانوا يكتبون المقدمات قبل كتابة الكتاب، فقد كانوا علماء وأئمة وجهابذة، لا يضع أحدهم قلمه إلا وهو أهل لأن يخط بذلك القلم. ولذلك تجد في بعض الكتب القديمة من يقول: هذا أوان الشروع فيه، وتجد من يقول: وأسأل الله تعالى أن يعين على إتمامه. فالإشكال عند العلماء في قول المصنف: [فهذا] وهو غير موجود، فقالوا: هو إشارة لصيغة موجودة، فنزَّل غير الموجود منزلة الموجود، فلذلك قال: (فهذا مختصر)، أي: الذي سأكتبه بمعونة الله وتوفيقه من وصفه كذا وكذا وأنه مختصر. والاختصار: ضد الإسهاب، فإذا خاطبت الناس في خطبة، أو كتبت لهم كتاباً، أو أردت أن تتحدث في موضوع فلك ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يكون كلامك أكثر من المعنى. الحالة الثانية: أن يكون كلامك أقل من المعنى. والحالة الثالثة: أن تأتي بكلام على قدر معناه. فإذا كان الكلام كثيراً والمعنى قليلاً فإنه يوصف بكونه إطناباً، ولذلك يقولون: أطنب في الأمر، ولا يكون إلا للعوام الذين يحتاجون إلى شرح. أما إذا خاطب إنسانٌ علماء أو طلاب علم فالذي ينبغي أن يكون على إحدى حالتين: فإما أن يخاطب بكلام مقارب للمعنى، وهو الذي يسمونه خطاب المساواة، وإما أن يكون المعنى أكثر من الكلام، وهذا يسمونه الإيجاز والاختصار، وهذا من أبلغ ما يكون؛ لأنه يدل على عقلية المتكلم، وكذلك عقلية الكاتب. وكانوا يقولون: من ألَّف فقد عرض عقله في طبق، فإن كان الكتاب قليل الكلام كثير المعاني دل ذلك على علمه وفضله ونبله وأنه أهل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عن نفسه: (وأوتيت جوامع الكلم)، فقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) يندرج تحته ما لا يقل عن مائة وخمسين مسألة، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6]، يتفرع عنه ما لا يقل عن مائة مسألة، وذكر الإمام ابن العربي: أنه اجتمع علماء فاس فذكروا فيها ثمانمائة مسألة من وجوه البلاغة والأحكام وغيرها. والاختصار يدل على عقلية الإنسان؛ لأنه لا يختصر الكلام إلا من يعرف الألفاظ التي يخاطب بها الناس ومدلولات الألفاظ، فيتخير ما يدل على الاختصار، أو ما يتضمن الاختصار، فقول المصنف: [فهذا مختصر] دل على النوع الثالث وهو الاختصار. ومن منهج العلماء رحمهم الله تعالى في الكتب التي تسمى بالمتون الفقهية أنهم يصوغون الفقه في أقل العبارات، فقد تستطيع أن تشرح السطر الواحد في صفحات. فإذا قيل: (مختصر) يفهم من ذلك أن الكلام قليل ولكن المعنى كثير وجزيل. قوله: [في الفقه] الفقه هو: الفهم، تقول: فقهت المسألة إذا فهمتها، وقال بعض العلماء: الفقه: الفهم مطلقاً، وقال بعضهم: بل يكون للأمر الذي يحتاج إلى دقة في الإدراك والتصور، فلا تقل: فقهت أن الواحد نصف الاثنين، ولكن يقال الفقه في الأمر العظيم، أي: المسألة التي تحتاج إلى تركيز. وقيل: إن الفقه في اللغة عام. وقيل: إنه خاص. ومنه قوله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:27 - 28] أي يفهموه. أما الفقه في الاصطلاح فهو العلم بالأحكام الشرعية المستفادة من أدلتها التفصيلية. والعلم: ضد الجهل، وحقيقته: إدراك الشيء على ما هو عليه، فإذا أدركت الشيء على حقيقته التي هي عليه فقد علمته، أما لو أدركته ناقصاً عن حقيقته فإنك لم تعلمه على الحقيقة. وقولهم: (العلم بالأحكام) الأحكام: جمع حكم، والحكم: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه. وقولهم: (إثبات أمر لأمر) كأن تقول: زيد قائم، فإنك أثبت القيام لزيد وحكمت عليه بالقيام، وإن قلت: زيد ليس بقائم، فقد حكمت عليه بأنه ليس بقائم. والأحكام في الاصطلاح هي: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين على جهة الاقتضاء أو التخيير. فقولهم: (الفقه هو: العلم بالأحكام الشرعية) خرجت به الأحكام الطبيعية التي هي راجعة إلى الحكم الطبيعي العادي، وخرجت به الأحكام اللغوية والأحكام المنطقية. وقولهم: (العلم بالأحكام الشرعية المكتسبة أو المستفادة) أي: التي حصلت واستفيدت من الأدلة الشرعية، فيشمل ذلك دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وما هو ملحق بها وجارٍ مجراها، أي: الذي دل عليه النظر الصحيح. فالفقه يتعلق بالأحكام العملية، فيتعلق بالعبادة من صلاة وزكاة وصيام وحج، ويتعلق بالمعاملة من بيع وإجارة وشركة وهبة وقرض، وغير ذلك، فجميع هذه الأحكام توصف بكونها أحكاماً عملية بخلاف الأحكام الاعتقادية، فإن الأحكام الاعتقادية تدرس في علم العقيدة، وبين علم العقيدة والفقه ترابط، فإن الفقه طريق للاعتقاد، ولا يمكن للإنسان أن يكون فقيهاً إلا إذا كان معتقداً، أي: اعتقاد أهل السنة والجماعة. فباب الردة باب متعلق بالعقيدة، وهو من أبواب الفقه، فإذاً لابد من الترابط بين الفقه وبين العقيدة، فالفقه فرع عن الأصل؛ لأن الإيمان لا يكمل إلا بهذه الأحكام العملية، فلا إيمان لمن لا صلاة له، ولا إيمان لمن لا يزكي، بمعنى كمال الإيمان، ولا إيمان لمن لا يصوم، بمعنى كماله كذلك، ولا إيمان لمن لا يحج، فإن أنكر الحج فقد كفر. فمن لازم الإيمان العلم بهذه الأحكام، ولذلك قالوا: هي أحكام عملية.

أهمية التدرج في طلب العلم

أهمية التدرج في طلب العلم قال رحمه الله تعالى: [من مقنع الإمام الموفق أبي محمد]. (مِنْ): للتبعيض؛ وهي تأتي بمعانٍ منها التبعيض، ومنها السببية كقوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} [نوح:25] أي: بسبب خطيئاتهم، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الماء من الماء) أي: الماء الذي هو غسل الجنابة بسبب الماء وهو المني. قوله: [من مقنع الإمام الموفق أبي محمد] هو كتاب للإمام الموفق أبي عبد الله محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي رحمة الله عليه، المتوفى عام 620هـ في يوم الفطر. فهذا الإمام الجليل ألف كتاباً اسمه: العمدة، صاغ فيه الفقه بأقصر عبارة، واعتبره الدرجة الأولى لطالب الفقه، ثم وضع درجة ثانية فوقه وهو المقنع، وتوسع فيه قليلاً عن العمدة، ثم وضع كتاباً ثالثاً وهو الكافي، وذكر فيه القولين إشارة إلى الوجهين، وهو فوق كتاب المقنع، ثم وضع كتابه المغني وهو النهاية لمن أراد أن يتأهل لدرجة الاجتهاد. فهذه درجات وضعها الإمام الموفق رحمة الله عليه في دراسة الفقه، وهذه عادة المتقدمين، فإنهم يضعون الفقه على مراتب، ولا يمكن لطالب العلم أن يضبط علم الفقه ويكون فقيهاً بمعنى الكلمة إلا إذا ربط الفقه بصغاره قبل كباره، وهذا أمر مهم جداً. فالكتاب الذي بين أيدينا هو الدرجة الثانية وهو كتاب المقنع، فليس من الصواب أن يتفقه الشخص مباشرة من المغني؛ لأنه لا يتأهل لفهمه، ولذلك لابد وأن يرجع إلى البداية، وقد قال بعض العلماء في قوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79] قالوا: العالم الرباني هو الذي يربي على صغار العلم قبل كباره. والذي ضر الآن كثيراً ممن يتصدر لطلب العلم وتعليم العلم والفقه أنه يحفظ المسائل الكبيرة قبل أن يتقن بدهيات المسائل في الفن، وتجد الطالب يأتي في الفقه يناظر في مسألة من المسائل التي لو عرضت على عالم من السلف لرعدت فرائصه من خشية الله. وتجده بكل بساطة وسهولة يبت لك فيها القول، فعنده إلمام بأن فلاناً قال فيها وفلاناً قال فيها، ولو أخذت بيده وقلت له: ما رأيك لو توضأت ولم تتمضمض فما حكم وضوئك؟ لقال: الله أعلم. فلذلك ينبغي العناية بهذا الكتاب الذي بين أيدينا، فإنه يعتبر الدرجة الثانية في سلم الفقه، وقد أشار بعض العلماء إليه بقوله: كفى الخلق بالكافي وأقنع طالباً بمقنع فقه عن كتاب مطول ثم جاء الإمام الحجاوي رحمة الله عليه وألغى من هذا الكتاب مسائل كما سيبين إن شاء الله، وأضاف مسائل وسماه: زاد المستقنع، وسيشير إلى منهجه، فالأصل في هذا الكتاب أنه كتاب المقنع، وقد أضيفت إليه مسائل وحذفت منه مسائل.

طرق تدوين الفقه

طرق تدوين الفقه قال رحمه الله: [على قول واحد وهو الراجح في مذهب أحمد]. كان الفقهاء رحمة الله عليهم يكتبون الفقه على طريقتين: - طريقة المذاهب. - وطريقة الخلاف بين المذاهب. أما طريقة المذاهب فهي طريقة يعتنى فيها ببيان خلاصة المذهب دون تعرض لخلافه، وهذه طريقة المتون، وهذا هو منهج الكتاب الذي معنا، أو يذكر الخلاف في المذهب فيقول: في المذهب أربع روايات، فإن ذكر الخلاف في المذهب، فإما أن يذكره عن الإمام بالروايات، وإما أن يذكره عن أصحاب الإمام بالأوجه في المذهب. فلو قال: في المذهب وجهان، أي أن أصحابه اجتهدوا في تخريج هذه المسألة على رواياتهم، أو على أصول مذهبهم فاختلفوا فيها على وجهين أو ثلاثة أو أربعة. فكتب المذهب إما أن تعتني بحسم المذهب بذكر الخلاصة، وإما أن تعتني ببيان الخلاف داخل المذهب، فبيّن ابن قدامة رحمه الله تعالى الخلاصة في المقنع، وبيّن الخلاصة في العمدة، وذكر الخلاف في الكافي، وذكره بإسهاب مقارناً بين المذاهب في المغني فيقول: عندنا روايتان: الأولى كذا والثانية كذا. ثم يقول: الأولى: لا يجوز، رواها -مثلاً- الإمام علي بن سعيد عن الإمام أحمد رحمة الله عليه وبها قال الشافعي وأبو ثور وفلان وفلان، والثانية يجوز، وقال بها مالك وفلان وفلان وفلان.

المسائل النادرة والموقف منها

المسائل النادرة والموقف منها قال رحمه الله تعالى: [وربما حذفت منه مسائل نادرة الوقوع]: (رُب): للتقليل، وقد تستعمل بمعنى التكثير ولكن الأصل فيها التقليل. وقوله: [ربما حذفت] الحذف يكون بقصد الاختصار، وقد يحذف الكلام لعدم وجود الفائدة منه. قوله: [مسائل نادرة الوقوع]. النادر: ضد الغالب، والنادر هو الأمر قليل الحدوث، والغالب عكسه. والمسائل الفقهية النادرة إما نادرة في زماننا كثيرة في زمانهم، وإما نادرة في زمانهم كثيرة في زمان غيرهم. وإما نادرة في زمانهم وزماننا ولم تحدث بعد. واعلم رحمك الله أن لمز العلماء بالمسائل النادرة من الخطأ بمكان إلا في مسائل مخصوصة فقط يردها علماء جهابذة لهم علم وإدراك، ويعرفون أن هذه المسألة لا طائل تحتها كما يقولون: (مسألة طويلة الذيل قليلة النيل). فقولهم: (طويلة الذيل) أي: الكلام فيها كثير، و (قليلة النيل) أي: قليلة الفائدة والثمرة، هذا معنى، فإذا قال عالم جهبذ: هذه المسألة طويلة الذيل قليلة النيل قبلنا قوله، أما أن يأتي إنسان ضعيف البضاعة في العلم ليس عنده بلاء الفقيه، وما يتعرض له من مسائل ومعضلات فينكر عليهم ذكرهم هذه المسائل ويشنع عليهم فلا. والعلماء رحمهم الله ذكروا المسائل النادرة لأسباب، منها: أولاً: بيان قواعد تفرعت عليها هذه المسائل النادرة، ولذلك تجدهم يقولون: ويتفرع على هذا مسألة كذا وكذا، وتكون نادرة الوقوع، وإنما ذكر العلماء هذه المسألة النادرة الوقوع تفريعاً على هذه القاعدة؛ لأنه علم ولا يجوز كتمان العلم. حتى إنهم من ورعهم رحمة الله عليهم ذكروا أقوالاً ضعيفة لا يعول عليها، ويقولون: ذكرناها من باب عدم كتمان العلم، وينبهون على ضعفها. كل ذلك كان عندهم من الورع، فإنهم كانوا يخافون أن يموت أحدهم وفي قلبه هذه المسألة، فذكر المسائل النادرة غالباً ما يكون في الفروع، فتكون متفرعة إما على حكم أو على دليل أو قاعدة. وقد طرأت الآن مسائل جديدة عصرية وخُرِّجَت على تلك المسائل النادرة، حتى إنني كنت في بحث الجراحة الطبية تمر بي مسائل غريبة، وأجتمع مع بعض الأطباء وبعض طلاب العلم، وتكون هناك مسائل فعلاً ذكرها العلماء وفرعوها ويكون من السهولة بمكان تخريج المسائل الجديدة عليها؛ فرحمة الله على تلك الأفهام وعلى تلك العقول التي نصحت للأمة. فليكن كل إنسان على علم بأنهم -كما نحسبهم ولا نزكيهم على الله تعالى- ما كانوا يحبون الشهرة، ولا تحسبن أنه من العبث والفراغ والترف الفكري ذكر هذه المسألة في كتابه، حاشا وكلا، فهم أرفع -والله- بكثير من هذا كله، فلا ينبغي التشنيع في المسائل النادرة، فإن كان زمانك في غنىً عنها فليأتين زمان يحتاج إليها. ثانياً: قد تذكر المسائل النادرة للتفريع، والفوائد التي يستفاد منها: أنه في بعض الأحيان تكون المسألة في باب الطهارة وهي من غرائب المسائل، وتكون مفرعة عليها مسألة في باب الأطعمة أو في باب النكاح، فمن ميزة فقه المتقدمين -وهذا معروف بالاستقراء والتتبع- أن الفقه عندهم كالبناء مبني بعضه على بعض، وأدلته التي يستدلون بها قل أن تجد واحداً منهم يتناقض فيثبتها في مكان وينقضها في آخره، بل تجده إذا قال مثلاً: أعتبر الدليل الفلاني فيعتبره في العبادات والمعاملات، وإذا قال: أعتبر القاعدة أو الأصل الفلاني يعتبره في العبادات والمعاملات، بينما تجد اليوم الشخص متناقضاً يبني على قاعدة ثم يهدمها. فمن ميزات ذكر المسائل الفريدة أنه قد يحتاج إلى تخريجها في مسائل هي مذكورة في العبادة، لكنها تتفرع على مسائل في المعاملة، فقد يتفرع -مثلاً- على جلد الكلب هل هو نجس أو طاهر. ذكرت هذه المسألة الغريبة في جلد الكلب؛ لأنه يتفرع عليها جواز بيع حذاء صنع من هذا الجلد، فإنه يحكم بطهارته ثم يحكم بجواز بيعه، فيخرج من باب تحريم النجاسات على القول بنجاسة عين الكلب. ومن ذلك قولهم: لو حمل إنسان نجاسة في جيبه؛ إذ ما كان يتصور في الزمن القديم أن إنساناً عاقلاً يضع فضلته من بول أو غائط في إناء ثم يصلي بها، والآن ما أكثر من في المستشفيات من تجرى لهم الجراحة، ويوضع لهم الكيس المعروف الذي فيه فضلة الإنسان. فرحمة الله على أولئك العلماء، ولكن لا ينبغي لنا التشنيع، فإن وجدنا فائدة من المسألة فالحمد لله، وإن لم تجد فَعِلم زادك الله تعالى إياه. فعلى العموم: ينبغي التأدب مع أهل العلم، وأقول هذا لأنه بلغ ببعض طلاب العلم أن يشنع حتى في بعض المسائل الموجودة، ولذلك أقول: لا يشنع في الفقه مسألة إلا إذا شنع عالم وإمام ضابط يعلم أن هذه المسألة لا فائدة فيها فكن له متبعاً، أما أنت بفهمك مع ضعفك في مادة الفقه والعلم فلا تستعجل بالكلام على المسائل. فالمسائل النادرة هي: المسائل التي يقل وقوعها، وهي عند العلماء على ضربين: ضرب منها يقل وقوعه ويندر، وليس فيه ذاك البلاء الذي يحتاج فيه لها، ومسائل يندر وقوعها لكن تعظم بلواها فيحتاج إلى معرفة حكم الله تعالى فيها، كمسائل في السهو وهي نادرة، ولكن قد يصلي الرجل بآلاف ويسهو فتعظم بلواه. قال رحمه الله: [وزدت ما على مثله يعتمد]. أي أنني سأزيد بدل هذه المسائل التي حذفتها مسائل على مثلها يعتمد، إما أنَّ (يعتمد) بمعنى أنها مسائل محررة لا خلاف فيها في المذهب، فمراده اعتماد في المذهب، أو يعني أنها مسائل تكثر لها الحاجة ويكثر لها الطلب.

بيان سبب التصرف في المقنع بالحذف والزيادة

بيان سبب التصرف في المقنع بالحذف والزيادة قال رحمه الله: [إذ الهمم قد قصرت والأسباب المثبطة عن نيل المراد قد كثرت]. إذا كان هذا في زمانه رحمة الله عليه فكيف في زماننا؟ فنسأل الله تعالى أن يلطف بالحال، وإن شاء الله تعالى لا يزال الخير موجوداً. والهمم: جمع همة، وذلك بأن يكون الشيء في قلب الإنسان حديثاً ووسواساً يخطر على الإنسان ويحدث به نفسه، فإذا حدث نفسه اهتم به، فالهم يكون بعد الخاطر والهاجس، ويكون بمعنى تهيؤ الإنسان للعمل، ثم يأتي بعد ذلك عزمه. ولا شك أن قوة الإنسان في همته، ومن كانت عنده همة حَصَّل المراد، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (أسألك العزيمة على الرشد) ولذلك فكم من خير تعلمه وتعرفه ولكن لا تستطيع أن تفعله. فقيام الليل كم فيه من الفضل والخير، وصيام النهار كم فيه من الفضل والأجر، ولكن من يهم ويعمل؟ فليس المهم أن تعلم، ولكن الأهم أن تعزم وتفعل. وذكر أبو نعيم رحمه الله تعالى في الحلية عن بعض السلف أنه قال: علمت أن قوة الإنسان في نفسه. قالوا: وكيف ذاك؟ قال: ألا ترون الرجل العاجز يصلي ويبلغ من الطاعة ما لا يبلغه الشاب. فدل على أنها لو كانت بقوة البنيان لكان الشاب أكثر من العاجز، ولكن العاجز تراه في آخر عمره يحمل على كتفيه ويهادى على رجليه حتى يبلغ الصف الأول في المسجد بفضل الله تعالى ثم بالهمة على العمل الصالح، وترى الشاب الجلد القوي يأتي في آخر الناس، وقد تفوته الصلاة، وقد لا يصلي، فهو يحب الخير ولكن يحال بينه وبينه، لضعف الهمم. ولذلك كانوا يعتنون دائماً بتربية العزيمة، وعبادات الإسلام غالباً تربي على العزيمة، حتى إن فرائضها ونوافلها تؤكد هذا المعنى، وهو أن يكون عند الإنسان عزيمة على الخير. وأيام العلماء رحمة الله عليهم كانت المساجد مليئة بذكر الله جل وعلا، هذا يتلو كتابه، وهذا يراجع درسه، وتوجد حلقة علم، وحلقة فتوى، لكثرة الخير، فتجد بعد صلاة الفجر من العلم مالا يحصى كثرة، وفي الضحى، وبعد صلاة الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، وذلك بسبب همة الناس في الخير وقربهم إلى عصور الخير، فالسلف الصالح كانت مساجدهم تعج بذكر الله جل وعلا من كثرة الناس الطالبين للخير، والراغبين فيما عند الله جل وعلا. وكان العالم إذا أراده الإنسان يجده في مسجده أو في حلقته، فهمم الناس كانت عالية، ولذلك ألفت المختصرات، وكانوا ينبهون في المختصرات، على أنها تحفظ، فكانت تحفظ مثل حفظ الفاتحة، وكان عند السلف همة في أمرين: تعليم أنفسهم، ثم تعليم أبنائهم، فقد كان الرجل عالماً في نفسه ومعلماً لأبنائه، فكانت الهمم عالية، وكلما تباعد الناس عن ذلك الرعيل الطيب -أعني السلف الصالح- جاء زمان شر من الذي قبله، وهذا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام: (ما من زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تقوم الساعة)، وقوله: (ولا يزال المؤمن تأتيه الفتنة فيقول: هذه، هذه حتى يسلمه الله) فكلما جاءت فتنة يقول: هذه آخر الفتن، ثم تأتي بعدها فتنة، وفي وصف الفتن قال صلى الله عليه وسلم: (يرقق بعضها بعضاً). أي: إذا جاءت فتنة نسيت التي قبلها فيقال: التي قبلها أهون، فمن الفتن العظيمة التي بليت بها الأمة: ضعف الهمة في طلب العلم. وكان الناس في الزمان الماضي والزمان القديم يرسم طالب العلم في طلبه للعلم همته، وأنه من ساعته التي يفكر فيها في طلب العلم إلى أن يلقى الله تعالى سيضع كتب العلم بين عينيه، لكن طالب العلم اليوم يفكر هل يستطيع أن يصير عالماً خلال سنتين، ثم يقول: هذا كثير، فلماذا لا نجعلها سنة؟ لماذا لا تكون شهراً؟ لماذا لا تكون أسبوعاً؟ ولو كان بيده أن يصير عالماً في يوم لفعل، وذلك من ضعف الهمة، فلما ضعفت هممهم صاروا يحتاجون إلى اختصار على قدر هذه الهمم الضعيفة. فنسأل الله عز وجل أن يجبر هذا الكسر، وأن يرحم هذا الضعف. قوله: [والأسباب المثبطة عن نيل المراد قد كثرت]. الإنسان يضعف عن الخير بأحد أمرين: إما من نفسه، وإما لشيء خارجيِّ. فقوله: [إذ الهمم] إشارة إلى العلة التي في النفوس، وقوله: [والأسباب] إشارة إلى العلة الخارجة عن النفوس، وهذا من دقة كلام العلماء رحمهم الله تعالى. كأن تجد الرجل يهم أن يذهب لصلة رحم، ويتهيأ، وما عنده أي شك، ويحب صلة الرحم، فهيأ نفسه، ولكن تعلقت به زوجته، أو تعلق به ابنه، أو تعطلت سيارته، أو جاءه جاره، أو طرقه ضيفه، فجاءه سبب يحول بينه وبين هذا الخير. إذاً: إما أن يكون بسبب ضعف النفس وهذا من ضعف الهمة، أو بسبب خارج عنه. فهذا هو التثبيط -نسأل الله العافية- وهو نوع من التخذيل، ومن أعظم البلاء أن الله يثبط الإنسان عن عمل الخير. ويقول بعض العلماء: من نقم الله على العبد تثبيطه عن الخير -نسأل الله تعالى السلامة والعافية- فإن من الناس من ليست فيه النية الصادقة فيثبطه الله، كما ثبط أهل النفاق عن الخروج في ساعة العسرة {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46]. فمن أسباب البلايا ضعف الهمة، أو الأسباب التي تحول بين الإنسان وبين الخير.

الثناء على المؤلفات وحكمه

الثناء على المؤلفات وحكمه قال رحمه الله تعالى: [ومع صغر حجمه حوى ما يغني عن التطويل]. الغنى: الكفاية، تقول: هذا يغنيني، أي: يكفيني، وقد يطلق بمعنى حسن الصوت ومنه التغني، وقد يطلق بمعنى الإقامة ومنه قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24] أي: لم تقم بمكانها، أي: يغني عن التطويل وهو الإسهاب، كما ذكرنا وهنا يرد إشكال وهو أن العلماء رحمهم الله قد تجد في كتبهم عبارات فيها ثناء على كتبهم، أو بيان لفضل هذه الكتب أو المؤلفات، وقد ثبت في دليل الشرع النهي عن تزكية النفس، فثناؤه على كتابه أليس من باب التزكية والمدح؟ والجواب أن التزكية والثناء على النفس لها أحوال: فإن تضمن ذلك الإدلال على الله -والعياذ بالله- وتزكية النفس على الله جل وعلا، فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- هو المحرم ولا يجوز، كأن يثني الإنسان على نفسه بكثرة علم وعبادة تبجحاً ونوعاً من التفاخر والتعالي، وقد عاتب الله جل وعلا موسى عليه السلام لما ذكر علمه وهو عالم، ولم يكن تفاخراً، فكيف بمن فعل ذلك تفاخراً؟! وذكر الله أن الذين أهلكم من شأنهم أنهم فرحوا بما عندهم من العلم فالفرح بما عند الإنسان من العلم لا يؤمن معه أن يمكر الله به -والعياذ بالله- كما يقول العلماء، فلا تفرح بعلم إلا من باب الفرح برحمة الله. وإن كانت التزكية على سبيل معرفة الحق والترغيب فيه، كأن تقول: تعلمت هذا العلم من العلماء، أو أفتيتك بهذه الفتوى عن العلماء، أو هذا الأمر الذي ذكرته لك موروث من الكتاب والسنة، أو تثني على شيء حينما ترى استخفاف الناس به، فهذا فعله الصحابة، كما قال أبو العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: (ما بقي أحد أعلم بمنبر النبي صلى الله عليه وسلم مني)، فهذا نوع من الثناء على نفسه بالعلم حتى يقدر قدره، فأجاز العلماء أن يثني الإنسان على نفسه بمعرفة قدره، وقد قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، فإذا كان الإنسان عنده حق العلم ومن باب معرفة قدره فلا حرج، فهذا من باب الترغيب والتشويق في علمه، ونرجو أن لا يكون من باب التزكية والثناء، وإنما أراد به أن يعرف قدر هذا العلم الذي تعلمه، وحق لمثله، فإنك إن تعلمت علماً، ووفقك الله فيه فمن حقك أن تظهر للناس فضل هذا العلم.

معنى قول المصنف: (لا حول ولا قوة إلا بالله)

معنى قول المصنف: (لا حول ولا قوة إلا بالله) قال رحمه الله تعالى: [ولا حول ولا قوة إلا بالله]. قوله: (لا حول) قيل: هو تحول الإنسان من حال إلى حال، ولذلك سمي الحول -وهو السنة- حولاً كما قالوا؛ إذ الغالب أن الإنسان إذا عاش سنة أنه يتحول، فيتغير طبعه ويتغير حاله إن لم تتغير نفسيته، ويتغير ماله فإما أن يزيد وإما أن ينقص، ويتغير أهله فإما أن يهلكوا وإما أن يبقوا، فقالوا: سمي الحول حولاً من تحول الناس فيه، ولا يبقى شيء على حال، والله المستعان. فقوله: [ولا حول ولا قوة إلا بالله] للعلماء فيها وجهان: فمنهم من يقول: أي: لا تحول من حال إلى حال، ولا قوة على ذلك التحول ولا بلاغ إلا بالله. وقيل: لا حول في دفع ضره ولا قوة في بلوغ خير إلا بالله، فالله جل وعلا منه الحول ومنه الطول ومنه القوة. وكل هذه المعاني متقاربة، ولكن المعنى الأجمع: لا حول في تحصيل خير ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه لما سمع المؤذن يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح قال: لا حول ولا قوة إلا بالله). قال بعض العلماء: مناسبته أنه برئ من الحول والقوة في إجابة داعي الله إلا بعد توفيق الله جل وعلا، فقد يكون الإنسان راغباً في حضور الصلاة وأدائها، ولكن يحال بينه وبينها بسقم أو مرض، وقد يحال بينه وبينها بتأخر أو تقاعس، فلا حول للإنسان ولا قوة في بلوغ الخير إلا بالله جل وعلا، وهكذا في دفع الشر. قوله: [وهو حسبنا ونعم الوكيل]. حسبي أي: كفايتي. وجاء بصيغة الجمع (وهو حسبنا) التي تشمله وتشمل السامع والقارئ. وقوله: [ونعم الوكيل] ثناء على الله جل وعلا، والوكيل هو: القائم على الشيء المتوكل عليه، والله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل، فهو القائم على كل نفس، وهو المتوكل بكل نفس سبحانه وتعالى، فهو حسبنا في بلوغ هذا الأمر الذي رسمناه والمنهج الذي ذكرناه. ومعنى [ونعم الوكيل] أي: نعم من يوكل إليه الأمر.

فوائد المقدمة

فوائد المقدمة وهذه المقدمة فيها فوائد نجملها فيما يلي: أولاً: الثناء على الله عز وجل واستفتاح الكتب بالثناء عليه عز وجل، وفي حكمها الخطب ونحوها. ثانياً: الفصل بين مقدماتها ومضامينها. ثالثاً: أن تكون المقدمة مشتملة على التعريف بالكتاب أولاً، وهذا في قوله: [فهذا مختصر]. رابعاً: بيان منهج الكتاب حينما بين أنه مختصر من المقنع، وأنه يحذف ويزيد، وكذلك بيان أنه يقتصر على القول المعتمد والراجح. خامساً: ختم ذلك بالثناء على الله جل وعلا، وسؤاله المدد والعون، فلذلك ينبغي لطالب العلم أن يستفتح مقدمته بالثناء على الله عز وجل ويختمها أيضاً بسؤال الله عز وجل المعونة والتوفيق. قال بعض العلماء يوصي ابناً من أبنائه وطالباً من طلابه: (يا بني: سل الله التوفيق، فإنه إذا وفقك ألهمك الخير)، فإذا كنت موفقاً فأنت ملهم للخير، فلذلك يسأل الإنسان في خاتمة الأمور دائماً توفيق الله جل وعلا، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزي هؤلاء الأئمة وإخوانهم من علمائنا خير ما جزى عالماً عن علمه، اللهم أسبغ عليهم شئابيب الرحمات، وأوجب لهم بذلك جزيل المغفرات وعلو الدرجات، وألحقنا بهم على أحسن ما تكون عليه الوفاة والممات، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

المبتدئ في طلب العلم والدروس الموسعة

المبتدئ في طلب العلم والدروس الموسعة Q كيف يصنع طالب العلم المبتدئ إذا حضر درساً موسعاً ولم يكن تدرج في هذا العلم قبل ذلك؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإذا كان طالب العلم قد ابتدأ طلبه للعلم في كتاب موسع فإنه يأخذ الخلاصة والزبدة، فيكون طلبه للعلم بتلخيص دروس العلم الموسعة إذا لم يتسير له قراءة المتون المختصرة، والسبب في ذلك الآن ضيق الوقت وضيق الزمان، وقلة من يُعلِّم هذا العلم وندرته، فقد يكون في البلد الواحد درس واحد، بل قد يوجد في الإقليم والمنطقة بكاملها درس واحد إن وجد، فلذلك إذا وجدت درساً موسعاً فأوصيك أن تأخذ زبدة ما يقول ذلك الشارح بالدليل، فالفقه بالدليل. فإذا تكلم عن باب المياه -مثلاً- فلتعرف أول شيء الأمور التي اتفق عليها العلماء، والتي لا إشكال فيها، فتكتبها وتلخصها، ثم الأمور الخلافية التي يتوسع فيها فتأخذ زبدة الخلاف ودليل القول الراجح. ومن لا يستطيع استيعاب المسائل الخلافية فليأخذ بالطريقة التالية: أولاً: يتصور المسألة، ثم بعد ذلك إن قيل: فيها قولان، فيستمرُّ في معرفة الأقوال والأدلة، ويتصور ما يستطيع تصوره حتى يَأتي إلى الراجح، فإذا قال الشيخ: الراجح عدم الجواز، فيعلق في كتابه: الراجح عدم الجواز؛ لقوله تعالى كذا وكذا، ولقوله عليه الصلاة والسلام كذا وكذا، فيكون قد أخذ فقهاً بدليله، لكن ينتبه لقضية وجود القول المخالف، فإن جاءه أحد وقال له: هذه المسألة فيها كذا، يقول: نعم. هناك قول مخالف، ولكن الشيخ الذي قرأت عليه رجح كذا وكذا فأنا أسير معه بدليله؛ لأنني أرى فيه فضلاً، وأعتقد أن عنده إلماماً بهذا العلم، فأنا أتبعه بالدليل، فإذا قيل لك: هناك دليل آخر، فقل: قد أجاب عنه الشيخ، فمن أراد أن يناقش فليناقش الشيخ، فلا تفتح باب المناقشة؛ لأنك في بداية الطلب، فلو فتحت باب المناقشة تعبت، وهذا الذي يضر كثيراً من طلاب العلم. فاقتصر على القول الراجح بالدليل ولا تتعصب، فليس الشيخ بملك مقرب ولا نبي مرسل، وقوله يؤخذ منه ويرد، فإن ذكر القول بالدليل فاعلم أن الله سائلك عن القول بالدليل، فإن اعتقدت ما قاله بالدليل فقد أديت ما عليك. ثم إن خالف أحد فحينئذٍ لا تفتح باب الخلاف، وهذا أمر أجمع العلماء عليه، فمن ليست عنده أهلية للترجيح والخلاف والنظر فإنه يقتصر على قول عالم يثق بعلمه بالدليل حتى يتم الفقه، وإذا بالفقه بين يديك عصارة خالصة، ثم تنتقل بعد ذلك إلى مرتبة معرفة الأدلة ووجه دلالاتها، ثم تتوسع بقاعدة وركيزة. فكل السلف رحمهم الله توسعوا بقواعد وركائز، فكان شيخ الإسلام يقول: وهذا قول أصحابنا وخالفنا الشافعية لقوله تعالى كذا وكذا، فالذي دله على أنه قول أصحابه أنه ابتدأ بفقه مذهبه وضبطه بدليله، ثم انتقل إلى مستوى من خالف وما دليله، ثم يناظر ذلك الدليل ويقارع الحجة بالحجة حتى يستبين السبيل والمحجة، فإذا بلغ طالب العلم هذا المبلغ فبإذن الله يصل إلى علم وفقه واضح. لكن لو فتح باب النقاش وهو في بداية الطلب فإنه سيتبلبل ويقول: الشيخ يقول كذا، والشيخ فلان يقول كذا، والشيخ فلان أعلم من فلان لأنه يعرف الحديث، وفلان يعرف الفقه، فتضيع الأمة، وقد تنتقص وتجرح عالماً، فإذا جاء من يجادلك فقل له: أنا أدين الله أن فلاناً من أهل هذا العلم، وأخذ هذا العلم عن أهله، وأنا لا آخذ قوله لأنه فلان، بل أخذته للدليل، فسأبقى معه حتى أضبط، ثم بعد أن أضبط أنظر من خالفه وما دليله. أما قبل هذه المرتبة فليست مرتبة مقارنة أو مناقشة؛ لأن الإنسان لا يكون متأهلاً للنقاش والخلاف، فهذا أمر ينبغي أن يدرك، وقد نبه عليه الإمام ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين، ونبه عليه الحافظ ابن عبد البر رحمة الله عليه في الانتقاء، ونبه عليه شيخ الإسلام رحمه الله في المجموع، كلهم نبهوا على أن طالب العلم يأخذ القول بالدليل حتى يبلغ درجة المناظرة فينتقل إلى درجة الاجتهاد، أما إذا لم يبلغ هذا المبلغ فعليه أن يتريث. وكثير من طلاب العلم بدءوا بكتاب الطهارة، فأخذوا كتباً في الحديث اختلف العلماء فيها على قولين أو على ثلاثة، فيقول أحدهم: الراجح عندي هذا القول لقول كذا وكذا، فرجح هذا القول لدلالة المفهوم، ثم جاء في مسألة أخرى وقال: الراجح عندي القول الثاني، وهو دلالة منطوق، وقد يكون المفهوم الذي رجح به يعارضه مفهوم آخر من جنسه في المسألة الثانية، فيتناقض ويتبلبل ويعيش في حيرة؛ لأنه ليست عنده موازين للترجيح، ولا موازين للفهم، فهذا هو الذي ضر كثيراً من طلاب العلم. وبعد أن تنتقل إلى درجة معرفة المخالف ودليله ووجه الخلاف فكم من دليل ستراه كأنه حجة وهو ضعيف في دلالته، وكم من دليل ستراه قوي الحجة قد عارض ما هو أقوى منه، فهذا أمر ينبغي التنبه له. فاضبط الفقه بدليل، وانتظر حتى تتسع مداركك وتتفتح، وتفقه عن الله ورسوله، وتأخذ علماً منضبطاً واسعاً، ثم بعد ذلك تنتقل إلى من خالفك ودليله، مثلما درج السلف الصالح رحمة الله عليهم. وهذه قضية مهمة جداً أثرت على كثير من طلاب العلم، حتى إن بعضهم ملّ الفقه وتركه، وأصبح في دوامة لا يعرف الحق والعياذ بالله، فوصل إلى الحيرة، والسبب أنه أوقف نفسه في موقف لا يليق به. فمن أنت حتى تصير حكماً بين الإمام أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد؟! ومن أنت حتى تقول: فلان ومن هو فلان؟! فهذا ليس بالسهل، وقد كان بعض العلماء إذا سئل عن راجح يخاف وتنتفض يداه من الرعب، فهذه مرتبة لا يصل إليها الإنسان إلا بعد عناء، ومن الأدلة على ذلك أن تبحث عن كتب الخلاف في الفقه، فإنك ستجدها تعد على الأصابع؛ لأنهم كانوا يعرفون أن هذا الثغر لا يبلغه الإنسان إلا بعد تحصيل، وبعد أن يشيب رأسه، وبعد تتبع الأقوال ومعرفة المخالفين وأدلتهم، وما كان لمن وراءهم أن يدخلوا في مسائل الخلاف إلا بعد الاستيعاب، ومعرفة ما هي الأقوال في المسألة. وقد تجد الرجل يقف على قولين، وفي المسألة ستة أو سبعة أقوال، فلذلك ينبغي للإنسان أن يتأنى ولا يستعجل حتى يضبط العلم وبإذن الله عز وجل سيبارك الله فيه. فإذا سرت على ما ساروا عليه فستبلغ ما بلغوا بإذن الله جل وعلا، وإذا جئت تجتهد وترسم لنفسك منهجاً جديداً بمحض رأيك وفهمك فلا تلومنّ إلا نفسك. فارتبط بمنهج السلف، وبإذن الله لن تختم باباً إلا وأنت على تصور واضح وطريقة معينة. وليكن قولك: أنا لا أفتح باب النقاش، وأنا الآن أقرأ بدليل، وألقى الله بهذا الدليل والحجة؛ لأنه ليس عندي مرتبة أن أفاضل، فلم أقرأ الأصول، ولا عرفت مراتب الأدلة، ولا عرفت ما هو الراجح من الأقوال. فأنا أقتصر على هذا القول بالدليل. وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن طالب العلم إذا أخذ القول بالدليل فقد أعذر؛ لأنه يلقى الله بدليل، إنما المحرم أن تكون طالب علم تعرف الأدلة ثم تقول: أنا لا أحيد عن العمدة والزاد، فهذا هو التقليد المتعصب المذموم، أو يأتيك إنسان بحجة من الكتاب والسنة فتتركها، لكن إذا كان عندك حجة من الكتاب والسنة، وقول عالم مبني على الكتاب والسنة فعندك حجة وأنت على محجة حتى تبلغ درجة الاجتهاد، ولا يكلف الله تعالى نفساً إلا وسعها، والله تعالى أعلم.

كيفية حفظ المتون

كيفية حفظ المتون Q كيف نستطيع حفظ هذا المتن؟ A بالنسبة للحفظ فأنا أرغب في حفظ كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب العلماء على العين والرأس، ولكن بدل إضاعة الساعة في حفظ زاد المستقنع استغلها في حفظ حديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، والزاد افهمه، واعرف كيف تعبد الله عز وجل، واحفظ مسائله. أما أن تحفظ العبارات فأولى منها حفظ كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكل حرف تتعبد الله عز وجل به لك فيه من الأجور ما الله به عليم، والزاد خير وحفظه بركة، ولكن الأفضل والأكمل لك أن تحفظ كتاب الله تعالى. ومن الصعب أن تجد الطالب يحفظ الزاد ولا يحفظ القرآن، وكيف يحفظ الزاد وتخفى عليه أحاديث الأحكام؟! أما طريقة حفظ الزاد فهي باختصار: أولاً: تأخذ المادة مكتملة ولا تزد على سطر واحد. فإذا تكلم المصنف -مثلاً- عن أقسام المياه في سطرين أو ثلاثة أسطر، فلا تحفظ الثلاثة الأسطر دفعة واحدة، فإذا كانت المادة مكتملة في سطر فخذها، وأما إذا كانت غير مكتملة إلا بثلاثة أسطر فجزئ جزئيات المادة، فإذا كانت المادة ثلاثة أقسام: الماء الطهور سطر، والطاهر سطر، والنجس سطر، فاحفظ أولاً الطهور، ولو ذكره في السطرين فإنه يذكر لك وصفه وحكمه، فالسطر الأول في وصفه والثاني في حكمه، فابدأ بوصفه ثم بحكمه. ولا تحفظ السطر ولا نصف السطر إلا وأنت تعرف عن أي شيء يتكلم. فاكتب السطر ثم أدم النظر فيه، واقرأه على الأقل عشر مرات بتمعن، ولا تقرأ إلا بعد تصحيح هذا المتن على عالم حتى تضبط، ويكون حفظك صحيحاً. وبعد ما تقرأ عشر مرات حاول مرة أن تقرأه غيباً، وتعرَّف على نقاط الضعف في الحفظ في أي العبارات، ثم ارجع وكرر إن استطعت مائة مرة، أو مائتين إذا كنت تريد الحفظ؛ لأن الذي ضر الكثير الآن في الحفظ ازدحام المعلومات، والأولون لم تكن عندهم مشاغل ولا مشاكل كثيرة، وعند الإنسان اليوم مشاغل ومشاكل في بيته وأهله وأولاده وأطفاله فيستغرق ذهنه، لكن إذا صح ذهنه وصفا فإنه تكفيه المرتان والثلاث، وأحياناً مرة واحدة. يقول الشعبي: ما كتبت سوداء في بيضاء، ولا سألت رجلاً أن يعيد حديثه عليّ مرتين. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يلهمنا السداد والصواب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

أحكام المياه [1]

شرح زاد المستقنع - أحكام المياه [1] إن الإسلام دين الطهارة والنظافة، ولذلك ألزمنا بالطهارة في كل شيء؛ في الصلاة والحج والصيام والزكاة، سواء كانت طهارة معنوية بإخراج الشرك وحب الدنيا والرياء والسمعة من قلوبنا، أو حسية كالطهارة الماء من غسل ووضوء، وطهارة المال بإخراج الزكاة، وهذه بعض أخلاق الإسلام ومعالمه الراسية.

أحكام المياه

أحكام المياه بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وخير خلق الله أجمعين، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الطهارة]. الكلام على هذه الجملة في مواضع: الموضع الأول: في بيان معنى قوله: (كتاب الطهارة). والموضع الثاني: في بيان مناسبة تقديم كتاب الطهارة وجعله في صدر هذا الكتاب. يقول المصنف رحمه الله: (كتاب الطهارة). الكتاب: مصدر، مأخوذ من قولهم: كتب الشيء يكتبه كتابة وكتبا، وأصل الكَتب في لغة العرب: الضم والجمع، ومن ذلك قولهم: تكتب بنو فلان، إذا اجتمعوا. قال العلماء: سمي الكتاب كتاباً لاجتماع حروفه بعضها إلى بعض. وقوله: (كتاب الطهارة)، الطهارة: مأخوذة من الطهر، وهو: النقاء والنظافة من الدنس والأقذار، فأصل الطهر في اللغة: النقاء. وأما في اصطلاح العلماء: فإنهم إذا قالوا: الطهارة، فمرادهم بها شيء مخصوص، عبروا عنه بقولهم: صفة حكمية توجب لموصوفها استباحة الصلاة والطواف بالبيت ونحوها مما تشترط له الطهارة. معنى العبارة: أن الطهارة إذا وصفت بها مكلفاً فإن هذا الوصف من لوازمه أنه صفة حكمية، فلا تستطيع أن تجد للطهارة أوصافاً محسوسة، ولذلك هي حكم يحكم به على الإنسان، يقال: فلان متطهر، وفلان غير متطهر، وليست الطهارة شيئاً محسوساً تراه كالثوب والكساء ونحو ذلك، وإنما هي شيء معنوي. ولذلك قالوا: صفة حكمية، أي: غير محسوسة ولا مرئية ولا ملموسة، لكن لو قلت فلان لابس، فلان مكتسٍ، فإن الكساء مدرك بالحس، لكن: فلان متطهر لا تستطيع أن تقول: فلان هذا متطهر، وتشير إلى وصف موجود في ظاهره، وإنما هو وصف حكمي لا يتعلق بالمحسوسات. صفة حكمية تثبت لموصوفها، أي: للشخص الذي تصفه بها، استباحة الصلاة، أي: حل فعل الصلاة؛ لأن الله أمر كل من قام إلى الصلاة أن يتطهر لاستباحة الصلاة والطواف بالبيت ونحو ذلك مما تشترط له طهارة.

مناسبة تقديم كتاب الطهارة على بقية أبواب الفقه

مناسبة تقديم كتاب الطهارة على بقية أبواب الفقه Q لماذا بدأ المصنف رحمه الله كتابه الفقهي بكتاب الطهارة؟ A لأن الفقه منه ما هو متعلق بالعبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج، ومنه ما هو متعلق بمعاملة الناس بعضهم مع بعض كالبيع والنكاح والجناية. فأجمع العلماء على تقديم العبادة على المعاملة، فيقدمون أبواب الصلاة والزكاة والصوم والحج على سائر أبواب المعاملات. والسبب في ذلك: أن العبادة هي الأصل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة) فقدم الصلاة وجعلها بعد الشهادتين. ولذلك درج العلماء من المحدثين والفقهاء على استفتاح كتب الحديث والفقه بكتاب الصلاة. والمصنف قال: (كتاب الطهارة) ولم يقل: (كتاب الصلاة)، فلماذا لم يجعل بداية كتابه بكتاب الصلاة؟ الجواب: أن الصلاة لا تقع إلا بطهارة سابقة؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] فأمر كل من قام إلى الصلاة أن يتطهر قبل فعل الصلاة. وبناءً على ذلك قدم الكلام عن الطهارة على الكلام عن الصلاة، وبعبارة علمية كما يقول العلماء: الطهارة وسيلة والصلاة مقصد، والقاعدة تقول: (الكلام على الوسائل يقدم على الكلام على المقاصد). والطهارة تحتاج إلى معرفة أمور: أولها: أن تعرف ما هو الشيء الذي تتطهر به؟ أي: تتوضأ وتغتسل به، وتغسل به النجاسة عن البدن أو الثوب أو المكان حتى توصف بكونك متطهراً. ثانياً: أن تعرف الصفة التي تحصل بها الطهارة. فلابد من أمرين: ما يتطهر به وصفة الطهارة، وبعبارة مختصرة: شيء يتوضأ به وصفة تحصل بها الطهارة. أما الشيء الذي تتوضأ به فقد جعله الشرع في شيئين: إما الماء، أو البدل عن الماء. فالإنسان يصلي إذا تطهر بماء أو ببدل يقوم مقام الماء. إذاً عندنا أمران: أصل، والذي هو الماء، وبدل، والذي هو التراب، فلابد للمكلف أن يبدأ بمعرفة الشيء الذي تحصل به الطهارة وهو الماء، ثم بعد ذلك يعرف كيفية فعل الطهارة، فإن كل مكلف إذا أراد أن يتوضأ يحتاج أول شيء إلى الذي يتوضأ به، ثم يسألك بعد ذلك كيف أتوضأ؟ فأما الشيء الذي يتوضأ به فهو الماء، ولذلك قال المصنف: (كتاب الطهارة، باب المياه). فابتدأ أول شيء بالمياه؛ لأن الإنسان يحتاج أولاً إلى وجود الماء حتى يسألك بعد ذلك: كيف أتوضأ؟ وكيف أغتسل من الجنابة؟ وتسأل المرأة: كيف تغتسل من نفاسها وحيضها؟. إلخ. فتبين أن الصلاة هي الأساس، ويقدم الحديث عنها على سائر المعاملات، ثم الصلاة تحتاج إلى وسيلة وهي الطهارة والطهارة، تحتاج إلى شيء يتطهر به، وصفة الطهارة. وسينحصر كلامنا إن شاء الله في المياه التي يتطهر بها الإنسان ويزيل بها عنه الخبث ويرفع بها الحدث. ولذلك قال المصنف: (وهي ارتفاع الحدث) فبعض العلماء يقول: باب المياه، وبعض العلماء يقول: كتاب الطهارة: باب المياه ثم يتكلم عن أنواع الماء، لكن المصنف جاء مباشرة وقال: (كتاب الطهارة وهي ارتفاع الحدث) إلخ. ولا فرق لكن التعبير بباب المياه أدق.

أقسام المياه

أقسام المياه وأحب أن أقدم بمقدمة يتهيأ بها الإخوان لمعرفة أحكام المياه التي يذكرها العلماء رحمة الله عليهم: لابد لكل مسلم أن يعرف الأحكام التي تتعلق بالمياه؛ لأنه لا صلاة له إلا بماء معتبر، بعد أن يكون طاهر الثوب والبدن والمكان. والمياه منها ما أذن الله بالطهارة به، ومنها ما لم يأذن الله بالطهارة به، فلابد للمكلف أن يعرف ما هو الماء الذي يتوضأ ويغتسل به، وما هو الماء الذي لو توضأ أو اغتسل به لم يصح وضوءه ولا غسله. وبناءً على ذلك فهذا الباب مهم، فنحتاج أول شيء أن نعرف أقسام المياه؛ لكي نرتب بعد ذلك الأحكام المتعلقة بكل قسم على حدة. الماء قسمه العلماء -على مذهب الجمهور- إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: الماء الطهور. والقسم الثاني: الماء الطاهر. والقسم الثالث: الماء النجس. فعندنا ثلاثة أقسام: إما ماء طهور، وإما ماء طاهر، وإما ماء نجس. فيرد السؤال مباشرة: ما السبب في تقسيم الماء إلى هذه الأقسام؟ و A أن الماء له حالتان: الحالة الأولى: إما أن يبقى على أصل خلقته كماء السيل، وماء البئر، فما نزل وجرى به السيل فهو باقٍ على أصل خلقته، وما نبع من بئر فهو باقٍ على أصل خلقته. الحالة الثانية: أن يأخذه المكلف فيضع فيه شيئاً يخرجه عن أصل خلقته، أو يأتي ريح فيلقي فيه شيئاً فيخرجه عن أصل خلقته. ففي الحالة الأولى إذا بقي على خلقته يسمونه: الماء الطهور: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48] وهو القسم الأول. القسم الثاني: إذا تغير هذا الماء عن الخلقة فإما أن يتغير بشيء طاهر، وإما أن يتغير بشيء نجس. فإن جاء المكلف ووضع فيه شيئاً طاهراً كحمص أو باقلاء أو زعفران، فتغير الماء بالحمص أو الباقلاء أو الزعفران، صار ماء زعفران أو ماء باقلاء أو ماء حمص أو غيره. فتسميته ماءً طاهراً؛ لأنه انتقل عن أصل خلقته إلى صفة جديدة تخالف ما خلقه الله عليه، فأصبح فيه لون الزعفران وطعمه ورائحته، فلو قلت: هذا ماء طهور، لم تصدق؛ لأن الطهور باقٍ على خلقته، وهذا غير باق على الخلقة، حيث تغير بطاهر. القسم الأخير: أن يتغير بنجس، كإناء فيه ماء فجاء صبي وبال فيه أو سقطت فيه نجاسة، فتغير لون الماء بلون النجاسة أو رائحته برائحة النجاسة، فحينئذٍ يكون الماء ماءً نجساً. إذا الآن عندنا ثلاثة أقسام للماء: ماء باقٍ على أصل خلقته. وماء متغير عن أصل خلقته، إن كان بطاهر فطاهر، وإن كان بنجس فنجس. العلماء رحمهم الله يتكلمون على هذا: حقيقة الماء الطهور والطاهر والنجس. وبناءً على ذلك يرد Q ما الذي يحل أن أتوضأ وأغتسل به وأزيل به نجاسة الثوب والبدن والمكان؟ وما هو الذي بخلاف ذلك؟

الماء الطهور أمثلته وأحواله

الماء الطهور أمثلته وأحواله بعد أن قسمنا الماء إلى ماء طهور وماء طاهر وماء نجس. نقدم بمقدمة ثانية: الماء الطهور وصفناه بكونه باق على أصل خلقته، ومثاله: ماء البئر، فإنك إذا حفرت بئراً واستخرجت الماء استخرجت ماءً باقياً على أصل خلقته: {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:18] فالله أسكن هذا الماء الذي نزل من السماء في الأرض، فإذا خرج خرج على أصل خلقته سواءً خرج من بئر، أو من عين، كل ذلك نسميه: ماءً طهوراً، ومثل ماء البئر: ماء العين، وماء النهر، وماء السيل، لكن ماء السيل قد يقول لك قائل: إن السيل يمشي على وجه الأرض فيختلط بالتراب حتى يصير لونه أحمر أو غالباً إلى الحمار مع ضرب من السواد والأحمر القاتم، وأنت تقول: يشترط في الطهور أن يبقى على أصل خلقته، وهذا لم يبق على أصل خلقته، إذاً ليس بطهور. و A أن الماء الطهور يحكم بكونه طهوراً إذا بقي على أصل خلقته أو تغير بشيء يشق احترازه عنه، فماء النهر لو نبت فيه الطحلب -وهو نوع من أعشاب البحر- فأصبحت رائحة الطحلب أو طعمه في الماء، نقول: هذا ماء طهور، وإن كان قد تغير بالطحلب الطاهر. إذاً: الماء الطهور إذا تغير بطاهر فلا نحكم بتغيره في حالات الضرورة، وهي الحالات التي لا يمكن للإنسان أن يفك الماء فيها عما غَيَّره، مثل: اختلاط التراب بماء السيل، ومثل ماء القربة، فإنك إذا وضعت فيها الماء وجئت تشرب تجدُ رائحة القربة في الماء، ويكون الماء قد تغيرت رائحته وقد يتغير طعمه، فلا تقل: تغير بطاهر فهو طاهر، لا؛ لأنه تغير بشيء يشق التحرز عنه، هذا بالنسبة للماء الطهور. إذاً الماء الطهور له حالتان: الحالة الأولى: أن يقال لك: توضأ من هذا الماء الطهور واغتسل منه بدون كراهة، كما لو جئت إلى بركة ماء -والماء فيها على خلقته- فسألت الفقيه وقلت له: هل يجوز أن أتوضأ من هذه البركة؟ قال لك: نعم يجوز بالإجماع؛ لأنه ماء طهور باق على أصل خلقته. لكن هناك حالات يقول لك: يجوز ولكن مع الكراهة، حيث يكره لك أن تتوضأ بهذا النوع من الماء ولو كان في الأصل طهوراً، وسنبين ذلك إن شاء الله.

تعريف الطهارة

تعريف الطهارة قال المصنف رحمه الله: [وهي ارتفاع الحدث وما في معناه وزوال الخبث]. (وهي) الضمير عائد إلى الطهارة.

أنواع الأحداث

أنواع الأحداث قال المصنف رحمه الله: (وهي ارتفاع الحدث) لما قال: (كتاب الطهارة) مباشرة قال: (وهي ارتفاع الحدث). إذاً ما معنى قوله: (الحدث) وقوله: (وما في معناه وزوال الخبث)؟ فأما الحدث فحقيقته في اللغة: حدث الشيء إذا وقع، تقول: هذا حدث أي: وقع، ومنه الحدث، أي: الخبر الذي حصل وكان. ولما قال العلماء: ارتفاع الحدث، يريدون به شيئاً مخصوصاً، فالحدث في الأصل يطلق على خروج الخارج، ويشمل: البول، والغائط، والريح، والحيض، والنفاس، وغيرها من الأحداث. ثم هذا الخارج إما أن يكون موجباً للطهارة الصغرى التي هي الوضوء كخروج الريح، فإذا خرجت الريح وجب على الإنسان أن يتوضأ حتى يصلي، وكذلك خروج البول والغائط والمذي والودي كلها أحداث صغرى. وإما أن يكون الخارج حدثاً أكبر كدم الحيض والنفاس والمني فإنه يوصف بكونه حدثاً أكبر. إذاً الحدث عندنا قسمان: إما حدث أكبر، يشمل الجنابة والحيض والنفاس. أو حدث أصغر، يشمل -أكرمكم الله- البول والغائط والريح ونحوها. فلما قال المصنف: (ارتفاع الحدث) أي: أن الإنسان إذا خرج منه خارج فبمجرد ما يخرج منه تقول: هذا أحدث، فتصفه بكونه خرج منه الحدث؛ لكن قولك: هذا محدث، لا تريد منه أنه خرج منه الخارج، لا، وإنما تريد منه أن مثله لا يصلي، ولا يطوف بالبيت، ولا يمس المصحف ونحوه مما تشترط له الطهارة. وبناءً على ذلك كأنه محبوس عن فعل الصلاة، فإذا اغتسل أو توضأ فقد ارتفع الحدث، أي: زال المانع. فقوله: (هي ارتفاع الحدث) مراده بذلك زوال المانع؛ لأن الرفع -كما يقول العلماء- يكون لشيء وقع، تقول: رفعت الثوب إذا كان قد وقع على الأرض، لكن إذا كان الثوب معلقاً، فلا تقول: رفعت الثوب. فالرفع لا يكون إلا لشيء وقع، فما الذي وقع من المكلف؟ إما خروج ريح، أو بول، أو مذي، أو ودي، أو دم نفاس، أو دم استحاضة، أو دم حيض، فيمنع من الصلاة، فإذا فعل الطهارة التي ستأتي من الوضوء والغسل ووصف بكونه متطهراً جاز له فعل الصلاة ونحوها من العبادات التي تشترط لها الطهارة. (هي): أي: الطهارة عندنا معشر الفقهاء (ارتفاع الحدث). ما هو الحدث؟ الحدث: صفة حُكمية توجب منع موصوفها من استباحة الصلاة والطواف بالبيت ونحوه مما تُشترط له الطهارة. (صفة) أي: تقول: فلان محدث وفلانة محدثة إذا اتصفا بهذه الأشياء (صفة حكمية) ما تُرى بالعين ولا تُلمس باليد؛ إنما هي متعلقة بالمعاني والإدراكات. وعند العلماء الشيء يكون على حالتين: إما حسي، وإما معنوي. الحسي أو الأوصاف المحسوسة: كالطول والقصر والعرض والارتفاع ونحو ذلك. المعنوي: شيء يرجع إلى المعاني والأذهان. فلو دخل عليك رجل عالم هل ترى العلم شيئاً ملموساً عليه مثل الطول والقصر؟ لا. وعندما يخرج من الإنسان الريح أو البول أو الغائط فيوصف بكونه محدثاً، هل الحدث شيء يُرى أو يلمس عليه؟ أبداً، ما تستطيع أن تفرق، وقد يدخل الرجلان أحدهما محدث والآخر لا يدري. إذاً الحدث ليس صفة محسوسة ولكنه صفة معنوية، ولذلك قال العلماء: الحدث صفة حكمية، والحكمية والمعنوية معناهما واحد. (توجب) أي: تثبت منع موصوفها من استباحة الصلاة. فالرجل إذا خرج منه الريح أو البول أو الغائط لا يصلي ولا يطوف بالبيت ونحوه مما تشترط له الطهارة. إذاً: الحدث يمنع، والطهارة تبيح. فأصبح الأمر من باب التضاد (طهارة وحدث)، ولذلك تجد العلماء دائماً يقولون: طاهر ومحدث، هذا حاصل ما نقوله في قوله: (هي ارتفاع الحدث).

ما في معنى الحدث

ما في معنى الحدث قوله: (وما في معناه) كالنوم، فإنه ليس بحدث ذاتي، ولكنه في معنى الحدث، وغسل الميت عند من يقول: أنَّ منْ غَسّلَ ميتاً يغتسل، ومن حمله فليتوضأ، فإنَّ غَسْلَ الميتِ ليس بانتقاض للطهارة، ولكن يقولون: هو في حكم الحدث. فصارت عندنا الموانع قسمين: إما حدث كبول وريح وغائط. وإما في معنى الحدث كالنوم، فإن النوم ذاته ليس بحدث؛ ولكن الإنسان إذا نام سها، فربما خرج منه الريح وهو لا يدري، فأصبح في حكم الحدث، هذا معنى قوله: (وما في معناه) يعني: ما في معنى الحدث، مثل: غسل المستيقظ من النوم يده قبل أن يدخلها في الإناء ثلاثاً كما سيأتي.

الخبث وأقسامه

الخبث وأقسامه وقوله: (وزوال الخبث): الخبث أصله من خَبُثَ الشيء، يَخْبُثُ خُبْثاً إذا كان مستقذراً. فأصل الخبيث المستقذر والذي تعافه النفوس، قال الله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:267] أي: الذي تعافه النفوس. وقد يطلق الخبث على الخبيث حساً ومعنىً، وقد يطلق على الخبيث معنىً. فالخبث النجاسة، والمراد بها أن يصيب الثوب أو البدن أو المكان نجاسة، فإن الله أمر كل من أراد أن يصلي أن يكون طاهر البدنِ، ليس عليه نجاسةً، وطاهر المكان ليس على سجادته أو على المكان الذي يصلي عليه نجاسة، وطاهر الثوب الذي يلبسه: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]. وهنا إشكال وهو: عرفنا أنَّ الإنسان لابد أن يكون طاهر الثوب والبدن والمكان، لكن لو فرضنا أنّ الثوب الذي أُصلي فيه عليه نقطةٌ من بولٍ ونجاسةٍ، أو السجادةِ التي أُريد أن أصلي عليها فيها نقطة من بول أو دم أو نحو ذلك من النجاسات، أو البدن الذي أريد أن أصلي به فيه شيء من النجاسة من دم أو بول أو ودي أو مذي. إلخ، فكيف أزيل هذه النجاسة؟! إنما يتحقق ذلك عن طريق الطهارة، فمن غسل ثوبه وبدنه والموضع الذي يصلي فيه حتى طَهُرَ وُصِفَ بكونه متطهراً. إذاً الطهارة لها حالتان: إما أن تتعلق بالإنسان نفسه من ناحية فعل الطهارة التي هي الوضوء والغسل من الجنابة. وإما أن تتعلق بثوبه وبدنه ومكانه من جهة إزالة الخبث والنجاسة التي عليها. فأصبحت الطهارة تنقسم إلى قسمين: إما طهارة حدث في الإنسان. وإما طهارة خبث في المكان. ولابد للإنسان أن يكون متطهراً من ناحية فعل الوضوء والغسل، ومتطهراً من ناحية البدن والثوب والمكان. فلما كانت الطهارة تنقسم إلى قسمين، وكان في الأحداث ما هو ليس بحدث أصلاً؛ وإنما هو في معنى الحدث، أضاف المصنف كلمة ثالثة فقال: (ارتفاع الحدث وما في معناه وزوال الخبث) وبهذا يكون قد جمع الطهارة المتعلقة بالحدث والطهارة المتعلقة بالخبث.

أحكام الماء الطهور

أحكام الماء الطهور قال المصنف رحمه الله: [المياه ثلاثة]. لا يمكن أن تجد ماء على وجه الأرض يخرج عن واحد من هذه الثلاثة: إما طهور، وإما طاهر، وإما نجس. ولا يمكن أن تجد ماء إلا والشريعة جعلت له واحداً من هذه الثلاثة الأحكام، وهناك بعض من العلماء يقول: الماء طهور ونجس وقد فصلت هذه المسألة وبينت أدلتها في شرح البلوغ، فحتى لا نشوِّش على بعض الإخوة من العوام نقتصر على أنَّ الراجح تقسيم الماء إلى ثلاثة أقسام، لظاهر القرآن وظاهر السنُّة ودلالة الحس على ذلك. أما ظاهر القرآن: فقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48] فعبر بالطهور، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله الصحابة وقالوا: (إنا نركب البحر ومعنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر؟) هذا يدلُ على أن الصحابة كانوا يعرفون انقسام الماء إلى الثلاثة؛ لأن ماء البحر موجود وهو طاهر، فامتنعوا من هذا الطاهر وظنوا أنه لا يرفع حدثاً ولا يزيل خبثاً، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (هو الطهور ماؤه) أي: كون الملح فيه لا يخرجه عن وصف الطهورية، وهذا يدل على أن الماء إذا خرج عن أوصافه في لون أو طعم أو رائحة أصبح طاهراً إلاّ إذا كان مغيره نجساً. وكذلك دلالة الحس، فإنه لا يصح أن تقول لماء الباقلاء: إنه ماء طهور، والله أمرنا بالطهارة من الماء الطهور، وقد قال في ماء السماء: {مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال:11] ووصفه بكونه طهوراً فدل على أن الطهارة لا تحصل إلا بهذا الذي هو الطهور، ومحل البسط والخلاف في شرح بلوغ المرام. على العموم الماء عندنا ينقسم إلى هذه الثلاثة الأقسام.

تعريف الماء الطهور

تعريف الماء الطهور قال المصنف رحمه الله: [طهور لا يرفع الحدث، ولا يزيل النجس الطارئ غيره]. هذا القسم الأول: (طهور لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس الطارئ غيره)، معنى قولهم: طهور، بعبارة مختصرة تقول: الماء الباقي على أصل خلقته، ومن حُكْمِهِ أنه لا يرفع الحدث ولا يزيل الخبث أو النجس الطارئ غيره. قوله: (ولا يزيل النجس الطارئ غيره) وصف الشيء بكونه نجساً على حالتين: إما أن يكون نجس العين والذات. وإما أن يكون نجساً حكماً. تقول: هذا شيء نجس؛ لأن الله حكم بنجاسة عينه. وإما أن تقول: هذا نجس أي: أصابتهٌ نجاسةٌ، لكنْ هو في أصلهِ طاهر. فأما الشيء الذي هو نجس العين هذا لا تستطيع أن تطهره، مثل: الميتة والخنزير: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145] والرجس هو: النجس، فإنك لا تستطيع أن تطهر الخنزير ولو غسلته مائة مرة، فلن يصير طاهراً بل هو إلى الأبد نجس ونجاسته عينية. ولكن الثوب في أصله الخز والقماش طاهر، فإذا وقعت النجاسة عليه فلا تقول: عينه نجسة، ولا ذاته نجسة، ولكنه تنجس فأخذ حكم المتنجس، وليس كله تنجس وإنما جزء منه، فيقولون: هذا ثوب نجس. ولماّ وصفوا الثوب كله أنه نجس هل هذا حكمي أم حقيقي؟ حكمي أي: أن الشرع حكم بمجرد وقوع النجاسة القليلة على الثوب أو على البدن أو على المكان أنه نجس لكن عين الشيء طاهر. ولذلك قال: (ولا يزيل النجس الطارئ) فأخرج الميتة، فإن نجاستها عينية لا يمكن بحال أن يزول منها هذا الوصف بالنجاسة. وبعبارة أخرى يعبر بعض العلماء عن الطهور بقوله: الماء الطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره. قال المصنف رحمه الله: [وهو الباقي على خلقته]. أي: هذا الماء من شأنه أنه باقٍ على خلقته، فإذا خرج عن الخلقة فإما أن يخرج إلى طاهر أو يخرج إلى نجس، فالماء الطهور من شرطه أن يبقى على أصل الخلقة.

حكم الماء المتغير بمجاور

حكم الماء المتغير بمجاور قال المصنف رحمه الله: [فإن تغير بغير ممازجٍ كقطع كافورٍ]. سندخل الآن في تفصيلات، ولكن باختصار شديد فنقول: الماء الطهور إذا تغير بشيء ينتقل إلى حكم ما غَيَّره، هذه قاعدة عندنا، فالماء الطهور إذا تغير انتقل إلى الشيء الذي غيره، إن طاهر فطاهر وإن نجس فنجس. وهنا سنذكر أموراً تغير الماء الطهور بصورة يصعب على المكلف أن يحترز عنها، فهذه يغتفرها الشرع، أو يتغير بصورة لا يمتزج فيها المغَيِّر مع الماء المغَيَّر، فهاتان حالتان: الحالة الأولى: أن يتغير ويكون تغيره بطريقة لا يمكن للمكلف أن يدفعها، وهي حالة المشقة والحرج، حيث يشق عليه أن يفعل ما يوجب انفصال الماء عن هذا الذي غيَّره. والحالة الثانية: أن يتغير بشيء فيه، لكن ذلك الشيء لا يتحلل فيه، كأن تُلقي فيه قطعة جامدة فتجد رائحة هذه القطعة أو طعمها، ولكنها لم تمتزج مع الماء. وكل هذا يعتبر فيه الماء طهوراً؛ ولكن يوصف بكونه مكروهاً أو غير مكروه كما سيذكر. (فإن تغير بغير ممازج). الممازجة: امتزج الشيءُ بالشيءِ إذا دخل بعضه في بعضٍ، حتى لا تكاد أن تفرّقَ بينهما، أكرمكم الله الآن البول لو سقط على الماء يمتزج معه امتزاجاً كلياً، والملح إذا ذُوّبَ في الماء يمتزجُ به امتزاجاً كلياً. فإذا تغير بشيء لا يمكن أن ينفك عنه فهذه ممازجة كاملة؛ لكن لو ألقيت السمن داخل الماء هل يمتزج امتزاجاً كلياً؟ لا يمتزج، كذلك عندما تلقي قطع العود في الماء تجد طعمها فيه؛ لكن هل هذا العود تحلل في الماء؟ ما تحلل. إذاً التغير عندنا له حالتان: إما أن يتغير تغيراً مستحكماً فهذا سنذكره إذا تغير إلى طاهر أو إلى نجس. وإما أن يتغير تغيراً ناقصاً كأن يضع فيه شيئاً لا يمازجه. فقال: (كقطع كافور). الكافور معروف، فإذا أخذ الإنسان من هذا الكافور قطعة ورماها في الماء فإنه يجد طعم الكافور، لكن هل الكافور تحلل تحللاً كاملاً في الماء؟ لا. فيقولون: هذا التغير ليس تغيراً حقيقياً وليس بتغير كامل. قال رحمه الله: (أو دُهن). قال رحمه الله: (أو دهن) الدهنُ لا يمازج الماء، إذا وضع في الماء تجده ينفصل عنه، ولو جئت تطعم الماء لوجدت طعم الدهن فيه، فهو قد تغير، فالماء فيه دهن لكنه لم يمازجه ممازجة كاملة. صورة المسألة: عندك إناء ماء أردت أن تتوضأ به، فجاء أحد أبنائك ورمى فيه قطعة من العود، أو رمى فيه قطعةً من الكافور، أو جاء إلى علبة سمن أو زيت ورماها في هذا الإناء، فتغير الماء، فيرد السؤال حينئذٍ: درست وتعلمت أن الماء الطهور هو الباقي على أصل خلقته، فهذا الآن حين تغير هل هذا التغير مؤثر؟ يكون A أن هذا غير مؤثر، لكن يحكم عليه من ناحية الكراهة أو عدم الكراهة. قال رحمه الله: [أو ملح مائي]. الملح: إما جبلي، وإما مائي. والملح المائي: الذي يستخلص من الماء ويكون في الأراضي السبخة، يصب عليها الماء ثم يستخلص منها بطريقة معينة. والملح الجبلي: هو عبارة عن معادن في الجبال يستخرج منها هذا الملح. فقال: (ملح مائي) وخص المائي؛ لأنه لا يتحلل. قال رحمه الله: [أو سخن بنجس كره]. مثلاً: رجل جاءَ إلى ماءٍ في يومٍ شديدِ البرد يريد أن يتوضأ أو يغتسل من الجنابة، فما وجد وقوداً إلا نجاسة -أكرمكم الله-، فجمع هذه النجاسة وأوقد النار فيها، ثم وضع إناء الماء على النجاسة، فاشتعلت حتى سخن الماء، فسخن الماء بالنجس. فيرد Q هل الماء المسخن بالنجس يعتبر نجساً؟ ومعلوم أن رائحة الوقود تكون في نفس الماء إذا سخن به، وهذا معروف، فالحطب إذا أشعلته على القدر أو على الإناء المفتوح تجد طعم الحطب فيه، فقد تسخن الماء بالنجس وتجد أنه ربما تأثر بهذا النجس، لكن هل هو تأثر حقيقي ممازج أم منفصل؟ منفصل. وبناءً على ذلك قال رحمه الله: (كره). فنريد أن نضبط شيئاً واحداً وهو: أن الماء الطهور تغير، ولكن هل هذا التغير كامل أو ناقص؟ تغير ناقص ليس بكامل، فهذا فقه المسألة. لا يهمك أن تحفظ أنه تغير بدهن أو بكافور لا داعي لحفظ هذه الأشياء، ولذلك الذي ضر كثيراً من طلاب العلم أنهم يجمدون على الألفاظ، فيجمد على اللفظ: تغير بقطع كافور أو دهن، فإذا نسي الدهن والكافور ما يحسن الجواب. وفقه المسألة هو في المخالطة والممازجة وجوداً وعدماً، المهم أن يتغير بشيء لا يمازجه، فلو سُئلت الآن عن نوع من المياه سقطت فيه مادة كيماوية لا تتحلل في الماء ماذا يكون جوابها؟ تقول: نص العلماء رحمهم الله على أن الماء إذا تغير بغير ممازجٍ أنه يكره، وهذا المذكور قد تغير فيه الماء بغير ممازج فهو مخُرَّج على ما ذكروه من المكروه. إذاً الضابط عندنا: هو عدم وجود الممازجة. وقوله: (كره) المكروه: هو الذي يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله. وبناءً على ذلك: إن تركت هذا الماء وتوضأت بغيره فأنت مثاب؛ لأنك تترك الشك إلى اليقين. وما السبب في كراهية هذا النوع من الماء؟! عند العلماء قاعدة في المكروه وهي: الأشياء التي تتردد بين الحرام والحلال، فمذهب طائفة من المحققين من الأصوليين أنها تعطى حكم المكروه؛ لأنك لا تستطيع أن تقول: حرام؛ لأن الشرع حكم بالحرمة للذي فوقها، ولا تستطيع أن تقول حلال؛ لأن الشرع حكم بالحل للذي دونها، فأصبحت مترددة بين الحلال والحرام فتقول: هي مكروهة. ومن أمثلة ذلك كما مثل الأصوليون رحمهم الله: إسبال الثوب إذا نزل عن الكعبين قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل الكعبين ففي النار) فهو محرم، ثم ما فوق الكعبين: (أُزْرَةُ المؤمن إلى أنصاف ساقيه) مباح. بقي الإشكال في الذي يوازي الكعبين هل هو مباح أو حرام؟ تقول: هو مكروه؛ لأنه ليس عندك دليل يحرم ولا دليل يبيح، وإن كان بعض العلماء يقول: الأصل الإباحة فيجوز له، ومذهب المحققين أنه يبقى بين مرتبة الحل والحرمة، وهذا الذي تجدُ بعض السلف دائماً يقول: أي شيء هذا؟ وينفض يديه، يكرهه كله ورعاً عن التحريم والحل، فيصفونه بالكراهة. كذلك عندنا هذا الماء لم يتغير تغيراً كاملاً إن جئت تقول: الأصل أنه طهور فالعبادة صحيحة، ويجوز للإنسان أن يتوضأ به، وإن جئت تنظر إلى التغير غير الكامل فيه تقول: والله أنا أشتبه فيه، فلذلك لا هو بالحرام المحض المتغير تغيراً كاملاً، ولا هو بالسالم سلامة كاملة فقالوا: هو مكروه. واختلف العلماء هل يكره مطلقاً أو يكره بشرط وجود غيره؟ الشرّاح على أن الكراهة مطلقةً، كيف؟! صورة المسألة: لو عندك إناء من الماء وقع فيه عود أو كافور أو دهن، وإناء ثانٍ ليس فيه كافور ولا عود بل هو باقٍ على أصل خلقته، فبعض العلماء يقول: أنا أحكم بالكراهة بشرط وجود البديل. وبعضهم يقول: أنا أحكم بالكراهة مطلقاً وجد البديل أو لم يوجد، وهما مذهبان مشهوران للعلماء رحمهم الله. وكل ما تقدم هذا يعتبر من باب التغير غير الكامل؛ لأننا قلنا عندنا طهور تغير تغيراً غير كامل، وطهور تغير تغيراً كاملاً لكن بشيء يشق التحرز منه. وقد تكلمنا عما تغير تغيراً غير كامل، وسنذكر الآن ما يشق التحرز عنه أي الشيء الذي لا يمكن للإنسان أن ينفك عنه.

حكم الماء المتغير بطول المكث وبما يشق صون الماء عنه

حكم الماء المتغير بطول المكث وبما يشق صون الماء عنه قال رحمه الله تعالى: [وإن تغير بمكثه أو بما يَشُقُّ صون الماء عنه]. نزل المطر فملأ حفرةً من الماء استمرت هذه الحفرة شهراً أو شهرين أو ثلاثة، فاحتجت يوماً أن تتوضأ من هذا الماء، فوجدت الماء قد تغير؛ لكن تغير بطول المكث في هذه الحفرة، يعني: لم يتغير بفعل فاعل وإنما بطول المكث، فالماء الآسن وهو الذي طال مكثه فتغير؛ فهل هذا التغير مؤثر أو غير مؤثر؟! قلنا: شرط الطهور بقاؤه على أصل الخلقة، وهذا لم يبق على أصل خلقته وإنما تغير، لكن تغير بطول المكث والزمان وهو باقٍ في هذا المستنقع أو الغدير. [أو بما يَشُقُّ صون الماء عنه]. يعني: يعسر ويصعب صون الماء عنه، وهذا له حالات: تغير الماء بما لا تستطيع أن تصونه عنه، كأن تأخذ الماء وتضعه في قربة، وهي بطبيعتها تخرج رائحتها وتتأثر بالحر والبرد، فيتأثر الماء الموجود برائحة القربة، فهل تستطيع أن تصون الماء الموجود في القربة عن هذا التغير في الرائحة؟ لا يمكن. كذلك لو أن النهر جرى أو السيل فهل يمكن حفظ مياه السيول عن التراب والغبار الموجود فيها؟! أبداً لا يمكن. قال رحمه الله تعالى: [من نابتٍ فيه وورق شجر]. (من نابت فيه) مثلاً: لو أن هذا الماء الذي نزل إلى الحفرة أو المستنقع الموجود في هذا الموضع نبت فيه طحلب أو نبات الماء، فأصبحت رائحته برائحة النبات الموجود فيه، أو سقط فيه ورق شجر، وهذا كثير في البادية، يكون على البئر شجرة مثل شجر اللوز، وهذه الشجرة تسقط أوراقها فتقع في البئر، ثم تصبح رائحة ماء البئر كرائحة اللوز، فتتغير رائحته وقد يتغير طعمه؛ لكن تغير بورق الشجر الذي يشق صون البئر عنه، فهذا جائز دون كراهة. قال رحمه الله: [أو بمجاورة ميتة]. حفرة فيها ماء وماتت وبهيمة من إبل أو بقر أو غنم بجوار هذا المستنقع، فهذه لها حالتان: الحالة الأولى: أن تلتصق بالغدير. الحالة الثانية: أن تكون بعيدة عن الغدير بينها وبينه فاصل، قليلاً كان أو كثيراً. فبالطبيعي أنها إذا كانت ملتصقة بالماء أنه سيتأثر إلا إذا كان مستبحراً، ونحن كلامنا في الماء المستنقع الذي يتأتى منه التأثر. أما إذا كانت بعيدة فكيف يتأثر الماء؟! يتأثر بالرائحة، كأن تهب الريح على الميتة، فتأتي رائحة الميتة على سطح المستنقع، فإذا جئت تطعم ماء المستنقع وجدت فيه رائحة الميتة أو طعماً متغيراً عن أصل الخلقة. فيرد Q الميتة نجسة، والماء أصبحت رائحته رائحة الميتة، وقد درست أنَّ الماءَ إذا تغير لونه أو طعمه أو رائحته أنه يتأثر، فيقال لك: لا؛ إذا كانت الميتة بعيدة لم تلتصق فإنها لا تؤثر، ولذلك قال: (أو بمجاورة ميتة). ولم يقل: بملاصقة ميتة، ولذلك إذا جاورت الميتة الماء لا تضر مطلقاً؛ لكن إذا التصقت ضرت في اللون والطعم، واختلف في الرائحة: فقال بعضهم: تؤثر. وبعضهم قال: لا تؤثر. وقد أشار بعض العلماء إلى ضبط هذه المسألة بقوله: ليسَ المجاورُ إذَاْ لمْ يلتصقْ يضرُّ مطلقاً وضَرَّ إن لصقْ في اللونِ والطعمِ بالاتفاقِ كالريحِ في معتمدِ الشقاق (ليس المجاور إذا لم يلتصق) يعني: هذه الميتة، (يضر مطلقاً) أي: لا يضر مطلقاً إذا كانت بعيدة عن الماء، سواءً انتقلت رائحتها أو نحوها كلها لا تؤثر. (وضر إن لصق، في اللون والطعم) أي: إذا تغير لون الماء الموجود في المستنقع وطعمه. في اللون والطعم بالاتفاق كالريح في معتمد الشقاق اللون والطعم بالاتفاق، والرائحة على الراجح من الخلاف، فإن تغير ريحه فإنه يؤثر على أرجح أقوال العلماء. قال رحمه الله: [أو سخن بالشمس]. أُخذ الإناء ووضع في الشمس وسخن فيه ماء. والمسخن بالشمس فيه أثر عن عمر لكنه ضعيف، والصحيح أن المسخن بالشمس يجوز الوضوء به؛ لكن قال بعض الأطباء: إنه يورث البرص والمرض في الجلد، ولذلك إذا صح قول الأطباء أنه يؤثر على الصحة مُنِعَ منه لعارضٍ، لكنه طهور. قال رحمه الله: [أو بطاهر لم يكره]. أي: جاز للإنسان استعماله إن سخن بطاهر، كأن يضع الحطب فيوقد على الماء حتى يتوضأ به في البرد، فتصير رائحة الماء رائحة الحطب أو الفحم، فلا يؤثر هذا فيه (لم يكره) أي: جاز لك أن تتوضأ به دون كراهة.

الأدلة على ما تقدم من أحكام المياه

الأدلة على ما تقدم من أحكام المياه عرفنا أول شيء معنى الطهارة، ولماذا قدم العلماء الكلام على الطهارة؟ ثم ذكرنا أن الطهارة منها ما هو طهارة حدث، ومنها ما هو طهارة خبث. وطهارة الحدث تنقسم إلى قسمين: حدث أصغر، وحدث أكبر. وأن المراد بطهارة الخبث طهارة البدن والثوب والمكان من النجاسة والقذر المؤثر في العبادة. ثم بعد ذلك قلنا: إن المصنف سيبتدئ الكلام عن المياه؛ والسبب في ذلك أن الطهارة لا تحصل إلا بماء، والكلام عن الماء مقدم على الكلام عن صفة الوضوء والغسل بذلك الماء. وقلنا: إن الماء إما طهور باقٍ على أصل خلقته، وإما طاهر، وإما نجس. ثم ذكرنا الطهور وضابطه وحقيقته، وأنه إن تغير بما يشق التحرز عنه أو يصعب على المكلف أن يصونه منه فإنه يجوز له أن يتوضأ به لكن مع الكراهة. ثم بعد ذلك تكلمنا على الحالة الأخيرة وهي فيما إذا كان يشق صون الماء عنه جاز بدون كراهة، وأما إذا تغير تغيراً ناقصاً فإنه يكره، أي: الطهور، فإما أن يبقى على أصل خلقته فلا إشكال، وإما أن يتغير تغيراً ناقصاً بطاهر أو نجس فهذا حكمه الكراهة، وإما أن يتغير بما يشق التحرز منه فحكمه الجواز بدون كراهة. وإن كان تغير تغيراً كاملاً بما يشق جاز بدون كراهة، هذا الذي كنا نتحدث فيه. ونريد الآن جملة واحدة وهي قضية الأدلة: عرفنا أولاً أن الطهور هو الأصل، والدليل قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48] وقوله عليه الصلاة السلام عن البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فلم يقل صلوات ربي وسلامه عليه: هو الطاهر، لكن قال: (هو الطهور) وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. وهذا الماء الباقي على أصل خلقته العلماء مجمعون بدون خلاف على أن الماء الباقي على أصل خلقته أنه يتوضأ ويغتسل به من الجنابة، ولذلك لما سُئِلَ النبي صلى الله عليه وسلم عن بئر بُضاعة وما يلقى فيها من النتن والحِيَض قال: (الماء طهور لا ينجسه شيء) فردها إلى أصل خلقتها في ماء البئر. وعلى هذا فكل ماء باق على أصل خلقته سواء نزل من السماء أو خرج من الأرض فهو على الطهارة، دليلنا على ذلك النصوص. أما إذا نزل من السماء فقوله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48] وأما إذا خرج من الأرض: فحديث بئر بضاعة: (الماء طهور لا ينجسه شيء). وأما إذا كان جارياً على وجه الأرض: فقوله عليه الصلاة والسلام في البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) هذا على وجه البحر، ولتوضئه عليه الصلاة السلام من المزادة وغيرها مما ثبتت به الأحاديث الصحيحة، إذاً كل ماء على أصل خلقته هو طهور. ننتقل إلى المسألة الثانية: كيف حكمتم بجواز الوضوء من ماء يشق التحرز عنه؟ وكيف حكمتم بالكراهة من ماء تغير تغيراً ناقصاً؟ فتقول: دليلنا على الحكم بصحةِ الوضوءِ من ماء يشق التحرز عن ما خالطه وغيره: أنَّ تكاليف الشرع مرتبطةٌ بالإمكان، ولذلك يقولون في القاعدة: التكليفُ شرطه الإمكان. ودليل هذه القاعدة قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فجعل التكليف مرتبطاً بالإمكان، فكل ما بإمكان المكلف يكلَّف به، وما ليس بإمكانه لا يكلَّف به. إذاً لا يكلف ما لا طاقة له به: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] هل بوسعك أن تزيل هذا؟ ليس بوسعك، إذاً لا تكلف! ولذلك القاعدة المجمع عليها: المشقة تجلب التيسير من فروع هذه القاعدة: الأمر إذا ضاق اتسع، فهنا ضيق، فهذا الشخص الذي يشق عليه التحرز عنه لو قلت له: لا يجوز الوضوء به، ضاق به الأمر، فَيُوَسَّع عليه في جواز الوضوء، هذه الحالة الثانية إذا شق التحرز عنه. أما الدليل على كراهية ما إذا تغير تغيراً ناقصاً فقد بينّا ذلك ضمن الكلام، وقلنا: إنه ليس بالمباح، أي: ليس بماء باق على أصل خلقته، ولا بماء متغير، فبقي متردداً بين المأذون به وغير المأذون به، فأعطي حكم الكراهة. وعلى هذا نكون قد انتهينا من الثلاث الجمل بأدلتها ومعانيها وأمثلتها، والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تغير الماء إلى البياض حال الضخ بالمكائن

حكم تغير الماء إلى البياض حال الضخ بالمكائن Q سؤالي عن الماء الذي يؤتى في القرب من الحرم، فذلك الماء يتغير بمسحوق أبيض معقم فما هو حكمه؟ A بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. هذا الماء البياض الموجود فيه ناشئ عن ضغط مكائن الضخ، وهذا موجود في كل ماء يُضخَ، فمع فعل الضخ وقوة الضخ وقوته أحياناً يخرج الماء كالأبيض فتظنه ماءً كالحليب، وهو في حقيقته ماء طهور باقٍ على أصل خلقته. فإن كان كما ذكروا أنه يبيض بالضخ وهو باقٍ على أصل خلقته فحينئذٍ لا إشكال ويعتبر ماءً طهوراً، والعبرة في ذلك بشهادة من يعرف الحال لا بحكم الناس عليه؛ لأن الناس يظنون أنه ماء فيه دقيق، حيث ينظرون إليه ويرون فيه البياض فيظنون أنه قد خلط بالدقيق، والواقع أنه كما يذكرون عنه أنه ناشئ عن الضخ، وإذا كان ناشئاً عن الضخ فما حكمه؟ هو باقٍ على أصل خلقته لم يتغير لونه؛ لأن هذه الفقاقيع البيضاء لا توجب تغير اللون الحقيقي، فهو على حقيقة لونه، مثل: تغير مياه البحار إلى الزّرقة الشديدة، فإنها لا تؤثر، فكذلك مع الضخ إذا تغير إلى البياض، بفعل التكرير وكثرة الضخ هذا لا يؤثر، ولا يعتبر مؤثراً وموجباً لزوال وصف الطهورية.

خلاف الفقهاء في نقض النوم للوضوء

خلاف الفقهاء في نقض النوم للوضوء Q ذكرتم -حفظكم الله- أن في معنى الحدث النوم عند من يراه ناقضاً للوضوء، ففهمت من هذه العبارة أن النوم مختلف فيه، نرجو بيان هذا؟ A بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالأمر كما فهمت وهو صحيح، فإن العلماء رحمهم الله سلفاً وخلفاً اختلفوا في النوم. فقال بعض العلماء: النوم ناقضٌ مطلقاً، وهذا القول يرى أن النوم على أي صفة وقع ينقض الوضوء، سواءً نام قاعداً أو مستلقياً أو منكباً على وجهه، وسواءً نام نوماً مستغرقاً أو نوماً يسيراً، فبمجرد أن تخفق عينه فهو نائم ينتقض وضوءه. واحتجوا بحديث صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: (أمرنا ألا ننزع خِفَافَنَا ثلاثةَ أيامٍ من بولٍ أو نوم). وجه الدلالة: أنه قال: (أو نوم) ولم يفرق بين نوم وآخر، وقرن النوم بالبول والغائط، فدل على أنه حدث، يعني أنه آخذ حكم الحدث، فقالوا: إن هذا يدل على أن النوم مؤثر. القول الثاني يقول: النوم ليس بناقض مطلقاً. واحتجوا بحديث أنس الثابت في الصحيحين أنه قال: (أعتم النبي صلى الله عليه وسلم بالعشاء، فخرج عمر يصرخ يقول: الصلاة يا رسول الله! رقد النساء والصبيان، فخرج صلى الله عليه وسلم ورأسه يقطر يقول: والذي نفسي بيده إنه لوقتها لولا أن أشق على الناس أو على أمتي). وفي رواية عن أنس في السنن عند أبي داود وغيره: (كان الصحابة ينامون حتى تخفق رءوسهم ثم يصلون ولا يتوضأون) قالوا: هذا يدل على أن النوم ليس بناقض مطلقاً. وذهب أصحاب القول الثالث إلى التفريق بين نوم القاعد الممكن مقعدته من الأرض، ونوم القاعد غير ممكن مقعدته من الأرض، وهذا هو مذهب الشافعية رحمة الله عليهم، والذين قالوا: إنه ناقض مطلقاً، طائفة منهم ربيعة. والذين قالوا: ليس بناقض مطلقاً هم الظاهرية. والذين قالوا: إنه ناقض في حال عدم تمكين المقعدة هم الشافعية، قالوا: إذا نام ممكناً مقعدته من الأرض لم ينتقض وضوءه، وإن نام على وجهه أو على جنبٍ أو مستلقياً انتقض وضوءه. ودليلهم: أنهم جمعوا بين الحديثين، قالوا: حديث: (من بولٍ أو نومٍ) يدل على أن النوم ناقض، وحديث كان الصحابة ينتظرون العشاء هذا في حال كونهم ممكنين مقاعدهم من الأرض، وعلى هذا ينتقض نوم من كان نائماً مستلقياً لحديث صفوان وهو الأصل، ونستثني ما ورد الشرع بعدم اعتباره ناقضاً، هذا مذهب الجمع للشافعية. القول الرابع: وهو مذهب الحنفية، زادوا على قول الشافعية: إذا نام راكعاً أو ساجداً، قالوا: إنه لا ينتقض وضوءه حتى ولو نام في الصلاة، واحتجوا بما جاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام من الله تعالى: (إذا نام العبد في صلاته وهو ساجد باهى الله به ملائكته وقال: انظروا إلى عبدي! روحه عندي ساجد بين يدي) وهو حديث ضعيف بل باطل، وذكر الإمام ابن الجوزي في العلل المتناهية أنه ليس بصحيح. القول الخامس في المسألة يقول: إن العبرة في النوم بزوال الشعور، وهو مذهب المالكية والحنابلة وهو الصحيح -إن شاء الله- في هذه المسألة، فإن كان الذي نام قد زال شعوره ولو كان نومه يسيراً قاعداً أو قائماً أو مستلقياً انتقض وضوءه، وإن كان لم يَزُل معه الشعور لم ينتقض وضوءه. الحنابلة فرقوا بين القليل والكثير، والمالكية ضبطوه بالشعور، وهذا القول في الحقيقة هو أصح الأقوال في المسألة، أن العبرة بالشعور، فإذا نام الإنسان وشعر بالخارج فهذا لا ينتقض وضوءه بدليل قوله عليه الصلاة والسلام في حديث علي ومعاوية: (العين وكاء السَّهِ فإذا نامت العين استطلق الوكاء). فهذا يدل على أن الناقض في النوم هو زوال الشعور وليس مطلق النوم، وكذلك حديث: (رقد النساء والصبيان). وعلى هذا فمن نام شاعراً بنفسه لم ينتقض وضوءه، ولو نام ساعات ومعه الإحساس والشعور لا ينتقض؛ لكن لو زال شعوره ولو لحظة انتقض وضوءه. والسؤال: كيف يفرق الإنسان بين الشعور وعدمه؟ بعض العلماء يقول: من أمثلة ذلك: لو كان بيده شيء فسقط ولم يشعر به دل على زوال شعوره، كما لو كان يكتب بقلم، ثم ما شعر إلا والقلم سقط دون أن يعلم بسقوطه، دل هذا على أنه قد زال شعوره، فيلزمه الوضوء من هذا النوم. وقيل: من أمثلته: أن يجلس القوم بجواره يتجاذبون الحديث فلا يفرق بين كلامهم، ولا يستطيع أن يُدْرِك معنى الحديث فيغيب عنه بعض معانيه، أو مرادهم بالأحاديث، فيصبح يسمع الأصوات فقط ولا يعي معناها، فإذا بلغ إلى درجة سماع الأصوات دون وعي لمعناها فقد زال عنه الشعور، وهذا ضابط صحيح. وعليه فإن أصح الأقوال في النوم أن العبرة بالشعور، فإن لم يكن عنده الشعور انتقض وإلا فلا، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضطجع بين الأذان والإقامة ثم يؤذِنه بلال بالصلاة؛ وكان يضع كفّهُ تحت خده الأيمن صلوات الله وسلامه عليه، وهذه نومة المضطجع، ومع هذا كان عليه الصلاة والسلام يقول: (تنام عيني ولا ينام قلبي) ولهذا قالوا: إن وضوءه لا ينتقض بالنوم من هذا الوجه. والله تعالى أعلم.

حكم العطور المحتوية على كحول من جهة الطهارة

حكم العطور المحتوية على كحول من جهة الطهارة Q هل العطور التي يوجد فيها كحول تنجس الثوب؟ A هذا يختلف، فإن كانت النسبة تؤثر حتى يصبح متنجساً فحينئذٍ حكمه حكم النجس، ولا يجوز أن يصلي به حتى يغسله، وسنبين -إن شاء الله- ذلك في الدرس القادم من جهة النجاسة متى تكون مؤثرة ومتى تكون غير مؤثرة. فإن كانت نسبة مادة السبيرت التي هي الكحول مؤثرة أي: غالبة، فإنه في هذه الحالة لا يجوز أن يصلي به. ونجاسة الخمر هو قول الأئمة الأربعة، وقال شيخ الإسلام رحمه الله: الخمر نجسة باتفاق الأئمة الأربعة، ولم يحكِ قولاً مخالفاً تضعيفاً للمخالف في هذا. وكذلك قال ابن رشد في بداية المجتهد: إلا خلافاً شاذاً، أعني: القول بطهارتها؛ والسبب في ذلك ظاهر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة:90] فإنه نص على كونها رجساً. فلو قال قائل: إن الرجس هنا المعنوي، بدليل ذكر الأنصاب والأزلام، نقول: إن الأصل حَمْلُ اللفظِ على حقيقته من نجاسة الحس والمعنى حتى ينتفي الوصفُ بنجاسة الحسن، فانتفت نجاسة الحس في الأنصاب والأزلام لدلالة الظاهر والحس، فبقيت الخمر على الأصل، وقد تكلم العلماء على هذا. أما الاستدلال الذي استدلوا به على طهارتها من أنها أُرِيقتْ على الأرض وَجَرَتْ بها سكك المدينة، وكان الصحابة يصلون في أحذيتهم، وحديث المزادتين، فقد أجاب العلماء عنه، وللشيخ الأمين رحمة الله عليه في أضواء البيان بحث نفيس في تفسير آية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة:90] بين فيه نجاستها وبين أن قوله: (حتى جرتْ بها سككُ المدينة) أسلوبٌ عربي يُراد به التكثير لا الحقيقة، كقولك: امتلأ المسجدُ، فإنه ليس المراد أن كل بقعةٍ من المسجدِ عليها أحد؛ إنما المراد امتلأ المسجد بالناس أي: كثر الناس في المسجد، فقولهم: امتلأت بها سكك المدينة أي: كثرت في سكك المدينة. الوجه الثاني: أنه لو سُلِّمَ أنَّ الصحابةَ وطئوها بنعالهم، فإن وجه الاستدلال يقوم على أنهم وطئوها بنعالهم ثم صلوا في النعال. ثم إنه إذا وطئ النعل النجاسة ثم مشى على أرض يابسة فقد طَهرت الحذاء، وقد ثبت في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المصلي إذا أراد أن يدخل المسجد إن وجد الأذى في نعله أن يدلكها بالأرض ثم يصلي فيها). فإذاً كونها تصيبها الأنعل لا يدل على طهارتها؛ لأنها قد طهرت بوطء اليابس من الأرض بعد الرطب منها. وكذلك أيضاً في حديث المزادتين قالوا: سكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمر صاحب المزادتين بغسلهما، وحديث المزادتين أصله: أن رجلاً كان صديقاً للنبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، فلما كان يوم حنين قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وأهدى له مزادة خمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أما علمت أن الله حرمها؟ فقام رجل وسارَّ صاحب الخمر في أذنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بمَ ساررته؟ -يعني: ما الذي قلت له؟ - قال: أمرته يا رسول الله أن يبيعها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الذي حرَّمَ شُرْبَها حرَّم ثمنها، ففتح الرجل المزادة حتى أراقها على الأرض) قالوا: إنه لم يأمره بغسل المزادة، وهذا ليس بقوي؛ لأنه من المعلوم بداهةً أنه سيغسلها، فإن المزادة لو وضعت فيها لبناً ثم أفرغت اللبن ما الذي تفعل؟ -تغسلها منه، هذا معلوم بداهة. ثم لو قيل بهذا القول لصح لقائل أن يقول: يجوز للإنسان إذا أفرغ مزادة خمرٍ أن يملأها باللبن مباشرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بغسلها، وهذا ما يقول به أحد!! فنقول مباشرة: إنه لم يأمره بغسلها للعلم به بداهة. فإذاً: الصحيح أنها نجسة، وإن ترجح عند الإنسان القول بطهارتها فإنه لا حرج عليه في هذه الحالة أن يصلي وعليه هذه الكحول ولو كان ترجح عنده في السابق طهارتها وصلى فصلاته صحيحة. أما بالنسبة للقول الصحيح المعتبر فهو قول جماهير العلماء أنها نجسة وعليه الفتوى، واختاره غير واحد من أئمة العلم رحمة الله عليهم، والأدلة التي استدل بها على طهارتها لم تقوَ على معارضة ظاهر القرآن، فإن ظاهر القرآن في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة:90] أبلغ في الاعتبار من أدلة جريان السكك بالخمر، والمزادة، فإن دلالة (رجس) على النجس أبلغ من دلالة المعنى الموجود في الحديثين. وجماهير السلف رحمة الله عليهم على هذا القول، وكتب العلماء في الفتاوى مملوءة بهذا الحكم، ومن راجعها يعرفها، ومن راجع التفاسير يدرك أن هذا هو قول جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم. حتى إن شيخ الإسلام رحمة الله عليه لماّ حكى نجاستها قال: الخمر نجسة باتفاق الأئمة الأربعة، ولم يحكِ قولاً مخالفاً تضعيفاً للقول بطهارتها؛ لأنه كان رحمه الله يعتني بالأقوال المخالفة التي لها عمدة ولها أصل، ولذلك الذي تميل إليه النفس القول بنجاستها، وعلى هذا فلا يجوز أن تكون في بدنٍ ولا ثوبٍ ولا مكان. لكن متى يحكم بكون هذا الوعاء أو هذا العطر نجس؟! شرط الحكم أن تكون فيه نسبة مؤثرة، أما لو وضعت نسبة من الكحول ليست مؤثرة لا تغير لوناً ولا طعماً ولا رائحة فإنه في هذه الحالة لا يحكم بنجاسة العطر، والمرد في ذلك إلى أهل الخبرة؛ لأن كل نوع من العطور فيه نسبة معينة مكتوبة إما 2% أو 10% أو 20% وأحياناً 25%، فهذه النسب يرجع فيها إلى قول أهل الخبرة، فإن أثرت فهي نجسة وإلا فلا. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أحكام المياه [2]

شرح زاد المستقنع - أحكام المياه [2] إن العبد مطالب أن يتطهر ويستعمل الماء في الغسل والوضوء إذا أراد الصلاة والوقوف بين يدي ربه سبحانه، والطهارة لا بد لها من فقه وعلم؛ إذ كيف يميز العبد بين الطاهر والطهور والنجس إلا إذا فهم القواعد والأصول عند الفقهاء التي يعرف بها الفرق بين أنواع المياه، وضابط كل نوع، ومن ثم يعرف الماء الذي يصلح للطهارة من غيره.

أحكام ومسائل في الماء الطهور

أحكام ومسائل في الماء الطهور الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى جميع من سار على نهجه إلى يوم الدين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإن استعمل في طهارة مستحبة]. تقدم أن ذكرنا أن العلماء رحمهم الله قسموا المياه إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول: ماء طهور، والقسم الثاني: ماء طاهر، والقسم الثالث: ماء نجس، ثم ابتدأنا ببيان الماء الطهور، وهو الماء الذي شرع الله للمكلف أن يتوضأ ويغتسل به من الجنابة ونحوها، وكذلك يزيل به القذر والنجس العالق بثوبه أو بدنه أو مكانه. ثم تكلمنا على بعض المسائل المتعلقة بالماء الطهور، وهي تتلخص فيما إذا ألقي في الماء شيء خارج هل يؤثر فيه أو لا يؤثر، ذكرنا ذلك كله. وسنبتدئ ببعض المسائل المتعلقة بتغير الماء إما إلى طاهر أو إلى نجس، فالماء الذي أوجده الله جل وعلا على أصل الخلقة والذي شرع لك أن تتوضأ وتغتسل به، قد يستعمله الإنسان في غسل مستحب، قال المصنف: (وإن استعمل في طهارة مستحبة) بمعنى أنك إذا توضأت بهذا الماء وضوءاً غير واجب، أو اغتسلت به غسلاً غير واجب، ثم جمعت هذا الماء الذي توضأت أو اغتسلت به في إناء، فجاء غيرك يريد أن يتوضأ به أو يغتسل به وضوءاً أو غسلاً واجباً، هل يصح إيقاع الوضوء بماء قد استعمله الإنسان في طهارةٍ مستحبة؟

استعمال الماء في تجديد الوضوء أو الغسل

استعمال الماء في تجديد الوضوء أو الغسل استعمال المياه في الوضوء أو الغسل له صورتان: الصورة الأولى: أن يتوضأ الأول ويغتسل وضوءاً وغسلاً واجباً، مثال ذلك: أذن مؤذن الصلاة للمغرب، فتوضأت في طشت، فجمع الطست فضلة الماء الذي توضأت به، فجاء آخر يريد أن يتوضأ بفضلة الماء الذي توضأت به لوضوءٍ واجب، فلو توضأ بهذا الوضوء أيصح وضوءه أو لا؟ هذه المسألة ستأتينا -إن شاء الله- في الماء الطاهر. الصورة الثانية: أن تغسل الأعضاء في صورة مستحبة، سواءً كان ذلك وضوءاً أو غسلاً، ومثل المصنف لها بقوله: [كتجديد وضوء وغسل جمعة]. أولاً: معنى تجديد الوضوء: أن يتوضأ الإنسان وضوءاً كاملاً، ثم بعد أن ينتهي من الوضوء، إما بزمان يسير، أو بزمان كبير كساعة ونحوها، يريد أن يعيد الوضوء مرة ثانية، هذا التجديد. دليل مشروعيته ما ثبت في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت، قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم) فدل هذا الحديث على مشروعية تجديد الوضوء بالجملة الأولى، فإن السائل لما قال: (أنتوضأ من لحوم الغنم؟) أي: يا رسول الله! لو كنا على وضوء، فأكلنا لحم الغنم هل ينتقص هذا الوضوء؟ فقال: (إن شئت)، فأجاز أن يوقع وضوءاً ثانياً غير واجب عليه، فأخذ العلماء من هذا دليلاً على مشروعية إيقاع الوضوء، ولو كان ذلك مرتين أو ثلاثاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان الوضوء غير مشروع لقال: لا تتوضئوا، وإنما قال: (إن شئت)، فخيره. وللعلماء تفصيل في مسألة تجديد الوضوء. لكن الذي يهمنا هنا أن تجديد الوضوء مشروع، والدليل على مشروعيته حديث جابر الذي ذكرنا، يبقى Q لو أن إنساناً أخذ الماء الطهور -الذي تقدم ذكره- فتوضأ به لصلاة المغرب وضوءاً وكان قد توضأ قبل ذلك، فالعلماء يسمون طهارة الوضوء الثانية طهارة مستحبة، لقوله: (إن شئت)، أي: حبذ فيه الشرع، وهذا مثال لتجديد وضوءٍ. (وغسل جمعةٍ) هذه الكلمة فيها فائدتان: أولاً: دقة المصنف حيث جاء بطهارة صغرى مجددة كتجديد وضوء، وطهارة كبرى مجددة كغسل جمعةٍ. وغسل الجمعة الصحيح وجوبه، وسنتكلم على وجوبه ودليل وجوبه في كتاب الجمعة إن شاء الله، لكن المصنف يسلك مسلك الجمهور من عدم وجوب الغسل للجمعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) واختلف في إسناد الحديث، وسنتكلم عليه إن شاء الله. فقال المصنف ومن وافقه: إن غسل الجمعة ليس بواجب، فعلى القول بأن غسل الجمعة ليس بواجب، لو أن إنساناً اغتسل الجمعة داخل موضع يحفظ ماء الغسل كالموجود الآن من البرك الصغيرة، ولكن هذا الغسل ليس بواجب، إنما هو غسل مستحب، هذا المثال الثاني: (وإن استعمل) أي: الماء الطهور (في طهارة مستحبة كتجديد وضوء وغسل جمعة). قال رحمه الله: [وغسلة ثانية وثالثةٍ كره]. الغسلة المستحبة تأتي على صورتين: إما أن تأتي الغسلة المستحبة في طهارة كاملة: كالوضوء والغسل من غير جنابة -أي: من غير الواجب- فهذه طهارة مستحبة كاملة للأعضاء كلها، وقد تأتي بإعادة غسل الأعضاء مرة ثانية وذلك بالغسلة الثانية والثالثة. صورة هذه المسألة: لو أن إنساناً ترجح عنده قول بعض العلماء الذين يرون أن استعمال الماء في وضوء أو غسل يوجب سلبه الطهورية، فقال: أنا أحافظ على هذا الماء، فالغسلة الأولى التي أغسل بها وجهي هذه واجبة، فلا أحفظ ماءها، ولكن أغتسل الغسلة الثانية والثالثة للوجه فأحفظ الماء المتساقط منها، ثم غسل يده فغسل الغسلة الأولى للفرض، ثم غسل الثانية والثالثة استحباباً، وحفظ ماء الغسلة الثانية والثالثة، حتى انتهى من جميع أعضاء الوضوء. فإن الماء في الغسلة الثانية والثالثة لم يفرضه الله على المكلف، بدليل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة)، فأصبحت المرتان والثلاث فضلاً لا فرضاً، فهذا الفضل الذي ليس بفرض، لو أن إنساناً حفظ ماءه ثم جاء ثانٍ يريد أن يتوضأ به، فسألك: ما الحكم؟ ومراد المصنف من ذكر هذه الثلاثة الأحوال كتجديد وضوء، وغسل جمعة، وغسلة ثانية وثالثة أن تحفظ القاعدة، وهي: إيقاع طهارة ليست بواجبة. (وغسلة ثانية وثالثة كره). أي: أن هذا الماء المستعمل في الطهارة الغير الواجبة يجوز أن يتوضأ به الإنسان ولكن على سبيل الكراهة، والسبب في ذلك ما سبق بيانه، فإن أصحاب هذا القول يرون أن استعمال الماء لوضوء وغسل واجب يسلبه الطهورية كما سنبينه. وإذا استعمل في طهارة مستحبة فهو متردد بين الطهور السالم والطهور غير السالم فيعطى حكم الكراهة على القاعدة التي سبق بيانها (كره) المكروه يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، والصحيح أن من استعمل الماء في طهارة مستحبة لم يكره لغيره أن يتوضأ ويغتسل بذاك الماء، وسنبين ذلك -إن شاء الله- ونبين أدلته وأقوال العلماء فيه.

تحديد القليل والكثير من الماء بالقلتين

تحديد القليل والكثير من الماء بالقلتين قال رحمه الله: [وإن بلغ القلتين وهو الكثير]. أي: اعلم رحمك الله لو أن هذا الماء الذي شرع الله لك أن تتوضأ به -وهو الماء الطهور- بلغ قلتين، والأصل في القلتين حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) وهذا الحديث صحح إسناده غير واحد، وارتضى الحافظ ابن حجر كما في التلخيص والفتح صحته، والعمل عند جمع من العلماء إما على حسنه أو على صحته، وقال طائفة من العلماء: إنه ضعيف، كما اختاره بعض المحققين ومنهم الإمام الحافظ ابن عبد البر، والإمام ابن القيم رحمة الله على الجميع. وعلى العموم بناء على هذا الحديث: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)، قال لك المصنف: لو أن هذا الماء الطهور بلغ قلتين فهو الكثير. (وهو الكثير). كلمة: (وهو الكثير) اصطلاحية، بمعنى: أنها ستمر عليك في ثنايا كلام الفقهاء وفتاويهم، فإن قال العالم: يجوز ذلك في الماء الكثير، ولا يجوز في القليل، يؤثر في الكثير ولا يؤثر في القليل، أو العكس، فعندهم أن الكثير هو الذي بلغ قلتين، بناء على مذهب من يقول بصحة هذا الحديث والعمل به، وسنبين مسألة القلتين -إن شاء الله- في موضعها. قال رحمه الله: [وهما خمسمائة رطل عراقي تقريباً]. حديث القلتين -كما قلنا- اختلف العلماء في سنده، والواقع أنه وإن صح الحديث فإن متنه لا يدل على اعتبار القلتين فاصلاً؛ لأن ذلك من باب المفهوم، وليس من باب المنطوق، وهو المفهوم الذي يسميه الأصوليون: مفهوم العدد، وفي مفهوم العدد خلاف، ورجح غير واحد عدم اعتباره، وقد تكلمت على هذه المسألة ببسطها وبيان أدلتها وأقوال العلماء والجواب عن هذا الحديث في شرح بلوغ المرام. لكن الخلاصة أن اعتبار القلتين فرقاً بين القليل والكثير مرجوح، والصحيح -كما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله وجمع من المحققين- أن الماء العبرة فيه بأن يتأثر لونه أو طعمه أو ريحه، وأما أن يجعل العبرة فيه بالقليل والكثير فهذا لا يراه المحققون، وبينا وجه ذلك ودليله، لكن هنا لما كان المصنف يرى أن القلتين فرق بين القليل والكثير احتجنا أن نبين مسألة القلتين: فعند العلماء أن القلتين مثنى قلة، والقلة: ما يقل، بمعنى: يحمل، ومنه قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا} [الأعراف:57] أي: احتملته الريح. وسميت قلة لأنها تحمل باليد، وهي الجرة، أو الشراب الموجودة الآن وتسمى في العرف: الشربة، أو الزير الصغير الذي يحمل باليد، ولا يزال إلى الآن بعض أهل البادية يحملونه ويستسقون به، يضعون فيه الماء من الآبار ويجلبونه إلى منازلهم، وهذه القلة تقل باليد، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) بمعنى: أنه لو وقعت فيه نجاسة لم تغير لونه أو طعمه أو رائحته فإنه طهور، وينبغي أن ننبه على أمور هي: هناك ماء بلغ القلتين، وهناك ماء دون القلتين، وهناك ماء فوق القلتين، فأصبح الماء له ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون دون القلتين. الحالة الثانية: أن يكون بلغ القلتين. الحالة الثالثة: أن يكون فوق القلتين. فإن كان دون القلتين، مثلاً: فرضنا أنه قلة واحدة، ومن أمثلتها السطل الموجود الآن، لو أن إنساناً كان عنده ماء على قدر السطل، فهذا يسمى ماء دون القلتين، إذا كان دون القلتين ووقعت فيه نجاسة فعلى حالتين: الحالة الأولى: مثلاً: عندك سطل فيه ماء، وجاء صبي وألقى فيه نجاسةً، أو سقطت منك نجاسة في السطل، فإن تغير لون الماء أو طعمه أو ريحه بالنجاسة فبالإجماع أنه نجس، سواء كانت النجاسة مائعة أو جامدة. وإذا كان نجساً فلا يجوز لك لا أن تتوضأ به، ولا أن تغتسل به، ولا أن تزيل به النجاسة؛ لأنه نجس بذاته. الحالة الثانية: أن يلقي النجاسة في الماء فلا يتغير لونه ولا طعمه ولا رائحته، كقطرة بول -أكرمكم الله- ألقاها في السطل، فهل هذه القطرة تمنع من الوضوء والاغتسال من هذا السطل؟ أو وضع الإنسان بمكان غسله سطل ماء فتطاير رذاذ نجاسةٍ على السطل، فشك هل تطاير النجاسة إلى هذا السطل يمنع من الوضوء به؟ مع أنه لم يتغير الماء لا لونه ولا طعمه ولا رائحته، فهذا محل الخلاف بين العلماء. فمن يقول: أعتبر القلتين يقول: كل ما كان دون القلتين إذا وقعت فيه نجاسة، ولم تغير لونه ولا طعمه ولا ريحه، فإني أحكم بكونه نجساً ولو لم يتغير، وهذه فائدة اعتبار القلتين، فهو إذا كان دون القلتين وتغير فبالإجماع ينجس، لكن إذا لم يتغير فعند المصنف وغيره من العلماء وهو مذهب الشافعية والحنابلة أنه يحكم بنجاسته بمجرد وقوع النجاسة فيه. وهكذا لو وقع فيه عطرٌ، أو شيء طاهر من مسك أو زعفران ونحوه، إذا وقع في هذا الماء الذي في السطل نقطة منه، ولم تغير لونه ولا طعمه ولا ريحه، يقولون: هذا طاهر وليس بطهور. لكن مذهب المحققين وهو مذهب الظاهرية والمالكية واختيار شيخ الإسلام رحمة الله عليه أن العبرة بتغير الماء، فإن وقعت هذه النجاسة وغيرت لون الماء الموجود في السطل أو طعمه أو ريحه حكم بنجاسته، أما إذا لم تغيره فليس بنجس، وهذا هو الصحيح. الحالة الثالثة: إذا بلغ الماء فوق القلتين، فلا ينجس ولا يحكم بنجاسته إلا إذا تغير لونه أو طعمه أو رائحته، فلو سألك سائل عن بركة ماء -البركة تبلغ القلتين وزيادة- وقعت فيها نجاسة هل يجوز له أن يغتسل من هذه البركة أو يتوضأ منها؟ تقول له: إن تغير لون الماء أو طعمه أو ريحه فالإجماع أنه لا يجوز الوضوء من هذه البركة، أما إذا لم يتغير شيء من أوصافه فالإجماع على جواز التطهر منها، وإن كان هناك بعض الخلاف يحكيه بعض العلماء على مسألة البول في الماء الراكد سنبينه إن شاء الله. فعندنا مذهبان: مذهب يقول: الفرق عندي بين الماء القليل والكثير هو القلتان. ومذهب يقول: المهم عندي تغير الماء بالطاهر والنجس، وهذا هو الصحيح. فلما كان المصنف يرجح التقدير بالقلتين قال رحمه الله: [فخالطته نجاسة غير بول آدمي، أو عذرته المائعة، فلم تغيره، أو خالطه البول أو العذرة ويشق نزحه، كمصانع طريق مكة فطهور]. (فطهور) في كلتا الحالتين: إذا بلغ القلتين وخالطته نجاسة من غير بول الآدمي وعذرته، كأن يلقى فيه نجاسة خنزير مثلاً، فإن الخنزير نجس العين والفضلة، فأصبح الماء محل Q هل وقوع النجاسة في هذا الماء الذي بلغ القلتين يوجب الحكم بعدم طهارته إذا لم يتغير؟ قلنا: إن اتفاق العلماء رحمهم الله الذين اختلفوا في القلتين واقع على أنه يجوز التطهر به، وهو طهور ما دام أنه لم يتغير. أما إذا تغير فالإجماع على أنه لا يجوز الوضوء به ولا الطهارة. الحالة الثانية: بلغ قلتين وألقيت فيه نجاسة، وغيرته لكن يشق نزحها، كمصانع طريق مكة، وكانوا في أيامهم يستقون على السابلة على الطرق ويكون فيها البرك ونحوها، فمثل المصنف بهذا المثال؛ لأن مكة مورد المسلمين، فكان شيئاً ظاهراً معروفاً عند غالب أو أكثر المسلمين، فمثل به على هذا الوجه. (يشق نزحها) أي: يشق إخراج النجاسة من هذا الموضع، وذكروا من أمثلة ذلك أن يكون الموضع ألقيت فيه نجاسة ولم يمكن إخراج هذا النجاسة عن ذلك الموضع كما في الآبار والبرك، ويشق نزح هذه النجاسة، فإن شق النزح فالقاعدة: (أن المشقة تجلب التيسير)، ودليل الحكم في هذه المسألة قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ما دام أن الناس ليس بوسعهم أن يزيلوا هذه النجاسة فيخفف عنهم في التطهر بهذا الماء، ويقال: إن الأمر إذا ضاق اتسع، ولا يكلفهم الله إلا بما في وسعهم.

تطهر الرجل بفضل طهور المرأة والعكس

تطهر الرجل بفضل طهور المرأة والعكس قال رحمه الله: [ولا يرفع حدث رجلٍ طهور يسير خلت به امرأه]. هذه مسألة ثانية، فقد ورد في حديث ابن عباس وميمونة وأصله في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يغتسل الرجل بفضل طهور المرأة) فاختلف العلماء فيما إذا تطهرت امرأة من إناء وبقي بعد طهارتها ماء، هل يجوز للرجل أن يتوضأ ويغتسل من هذا الماء؟ فمذهب طائفة من العلماء الأخذ بظاهر الحديث، والمسألة لها صور: جاءت امرأة إلى سطل من الماء واغتسلت منه فبقي نصف الماء فيه، فاحتاج رجل أن يتوضأ بهذا النصف أو يغتسل به، فهل يصح وضوءه وغسله؟! ظاهر الحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل طهور المرأة). فقال أموراً: أولاً: فضل يعني: الزيادة. ثانياً: فضل طهور لا فضل شرب، فلو شربت من السطل لم يرد الخلاف، ولو غسلت بعض أعضاء الطهارة لا يرد الخلاف، لكن يقع الخلاف إذا حصلت الطهارة الكاملة، فلو أنها غسلت يدها أو وجهها من سطل فليس هذا بفضل طهور، وإنما محل الخلاف أن تتطهر طهارةً كاملة، إما طهارة صغرى كأن تتوضأ من الماء أو تغتسل منه، فيبقى بعد غسلها من السطل بقية، فهل من حق الرجل أن يتوضأ أو يغتسل به؟ قولان عند العلماء مشهوران، أصحهما: أنه لا يجوز لظاهر الحديث، وهو قول الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمة الله عليه وطائفة من أصحاب الحديث والظاهرية، على أنه لا يجوز للرجل أن يغتسل من فضل ماء خلت به المرأة، إذاً هناك شروط: أولاً: أن يكون المغتسل بهذا الماء أو المتوضئ امرأة، فلو كانت صبية طفلة صغيرة اغتسلت من السطل لا يقع الخلاف؛ لأن الخلاف في المرأة، والصبية ليست بامرأة. ثانياً: أن يكون هناك تطهر كامل، إما من حدثٍ أصغر، أو من حدثٍ أكبر، فلو استعملته في شرب أو غسل وجه، أو جزء من أعضاء الوضوء والغسل لم يقع الخلاف. ثالثاً: أن تخلو المرأة بذلك الماء، فلو اغتسلت أو توضأت أمام زوجها أو محرمها، واحتاج أن يتوضأ بعدها أو يغتسل فلا حرج، لأنها لم تخلُ به، إذاً أين محل الخلاف؟ فيما إذا تطهرت وكانت امرأة وخلت به، ففي هذه الحالة هل يجوز للرجل أن يتوضأ بهذا الماء؟ قلنا: الصحيح عدم جوازه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى، وظاهر النهي التحريم. وخالف الجمهور رحمة الله عليهم فقالوا: يجوز للرجل أن يتوضأ ويغتسل من فضل طهور المرأة، ودليلهم حديث أم المؤمنين عائشة: (أنها كانت تغتسل ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، تقول له: دع لي، ويقول لها: دعي لي) وجه الدلالة: أنها إذا غرفت الغرفة الأولى فإن الباقي الذي اغترف منه النبي صلى الله عليه وسلم فضلة، ثم لما اغترفت الثانية فأتبع النبي صلى الله عليه وسلم الغرفة بعد غرفتها الثانية فقد اغترف من فضل. وهذا الحديث يجاب عليه من وجوه: أولاً: أن محل الخلاف فيما إذا خلت، وهنا عائشة اجتمعت مع النبي صلى الله عليه وسلم. وثانياً: أن محل الخلاف أن تكمل الطهارة، وعائشة لم تكمل الطهارة. وعلى هذا فنجمع بين الحديثين ونقول: هنا نصان خرجا من مشكاة واحدة، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي نهى عن التطهر بفضل المرأة توضأ مع عائشة، ففهمنا أن النهي لا يشمل الذي فعل، فاشترطنا خلو المرأة به، فدليل الشروط التي ذكرناها هو ما ورد في هذا الحديث، فيعتبر هذا الحديث مقيداً لإطلاق الحديث الذي سبق النهي فيه، وبناءً على هذا نخلص بفائدة وهي: عدم جواز أن يتوضأ الرجل أو يغتسل من بقية وضوء أو غسل المرأة بشروط ذكرناها. ثم يرد Q إذا كان لا يجوز له فهل إذا فعل نقول بإثمه وصحة وضوئه وغسله، أو نقول بإثمه وعدم صحة وضوئه؟ وجهان للعلماء: فمن يرى أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، يقول: لو اغتسل الرجل من هذا الماء أو توضأ به لم يصح لا غسله ولا وضوءه، وهي مسألة أصولية، وقد تكلمت عن هذه المسألة بإسهاب أيضاً في شرح بلوغ المرام، فنكتفي هنا بالقول الراجح من أنه لا يجوز للرجل أن يغتسل أو يتوضأ من فضل طهور المرأة بالشروط التي ذكرناها. (ولا يرفع حدث رجل طهور). مفهوم ذلك أن المرأة لو اغتسلت بفضل المرأة، ما الحكم؟ يجوز، والوضوء صحيح والغسل صحيح، محل الخلاف إذا كان رجلاً. يرد السؤال: لو أن خنثى أراد أن يتوضأ ويغتسل بفضل امرأة، فهل الخنثى ملحق بالرجال أو ملحق بالنساء؟ الخنثى له حالتان: الحالة الأولى: الخنثى البين، الذي بان كونه ذكراً أو كونه أنثى، وذلك بأمارات الرجولة أو أمارات الأنوثة، فهذا لا إشكال فيه، فإن ظهرت فيه علامات الرجولة فحكمه حكم الرجل، لا يتوضأ ولا يغتسل من فضل المرأة، وإن ظهرت فيه علامات الأنوثة فالحكم واضح بين. الحالة الثانية: الإشكال عند العلماء في الخنثى إذا كان مشكلاً، بمعنى: ليس فيه لا علامات الرجولة ولا علامات الأنوثة، ولم يتميز، فهذا فيه ما لا يقل عن ثمانين مسألة، حيرت العلماء رحمة الله عليهم، هل يعطى حكم الرجل أو يعطى حكم المرأة؟ من ناحية الطهارة ومن ناحية الصلاة عليه وتغسيله وتكفينه إلى غير ذلك، المهم من هذه المسائل هذه المسألة، بعض العلماء يقول: الخنثى حكمه حكم المرأة؛ لأن اليقين فيه أنه في درجة المرأة، والشك أنه ارتفع إلى درجة الرجل؛ لأن الله فضل الرجل على المرأة وقال: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36]. {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] فقالوا: نعطيه اليقين لكونه في حكم الإناث، وعلى هذا فيجوز له أن يتوضأ من فضل المرأة، لأنه آخذ حكم المرأة. وعلى الوجه الثاني قالوا: فيه شبهة، فليس بمحض الأنوثة ولا الرجولة، فارتفع عن الأنوثة المحضة، ونزل عن الرجولة الكاملة، فأصبح بين بين، فلا يتوضأ بفضل المرأة، لأنه ليس بامرأة، فاشتبهنا في حكمه. (ولا يرفع حدث رجل طهور يسير خلت به امرأة). الطهور اليسير مثل: الذي في السطل، ومثل: الذي في الإناء المعروف، هذا يعتبر ماء طهوراً يسيراً، ولو قلنا بعموم هذا الحكم لصارت مصيبة؛ لأن البرك يغترف منها النساء، فلو أن امرأة اغترفت من بركة واغتسلت هل نقول: هذه البركة بكاملها لا يجوز للرجال أن يتوضئوا ويغتسلوا منها؟ ف A أن هذا الحكم هو في الطهور اليسير، فالماء الموضوع في الأواني هو الماء الذي ورد فيه النص، وأما غيره فيبقى على الأصل. (يسير خلت به امرأة لطهارة كاملة). قال بعض العلماء: شرط خلوها أن تكون في موضع لا يراها الرجل، وقال بعض العلماء: تكون فيها خلوة نكاح، بمعنى: أن لا تراها الأنظار، أو ترخى عليها الأستار ونحو ذلك. المسألة الأخيرة: هل نهي الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ ويغتسل بفضل طهور المرأة تعبدي أو معلل؟ الصحيح أنه تعبدي لا نعقل علته، حكمة منه سبحانه، قال: هذا الماء توضئوا منه، وهذا الماء لا تتوضئوا منه، هذا الماء اغتسلوا منه وهذا الماء لا تغتسلوا منه، يبتلي عباده بما شاء، فليس الأمر معللاً، ولهذا يقولون: هذا الحكم تعبدي، بمعنى: لا يجري فيه القياس. قال رحمه الله: [لطهارة كاملة عن حدث]. أي: بسبب حدث، فلو تطهرت طهارة كاملة لغير حدث كالغسلة المستحبة، فوجهان للعلماء: قال بعض العلماء: حكمه حكم الغسلة الواجبة. والصحيح القول الثاني: أنه ليس حكمه حكم الغسلة الواجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بفضل طهور المرأة) والطهور الغالب فيه: الواجب، فيعطى حكم الغالب ويهدر النادر.

أحكام ومسائل في الماء الطاهر

أحكام ومسائل في الماء الطاهر قال رحمه الله: [وإن تغير طعمه أو لونه أو ريحه]. الآن سنبدأ بالطاهر، وكل الذي تقدم فيما مضى ماء أباح الله الوضوء، وهو الماء الطهور. وذكرنا الأحكام العارضة على الماء الطهور، يبقى Q كيف أدخل المصنف المسألة الأخيرة في الماء الطهور؟ A أن الماء الذي هو فضل طهور المرأة هو في الأصل طهور، ولكن حكم الشرع عبادة، ولذلك ألحقه بالماء الطهور، ولم يلحقه لا بالنجس ولا بالطاهر، وإلا فكل كلامنا الذي تقدم هو في الماء الذي أذن الله به. الخلاصة: أن الذي تقدم الكلام عليه فيما مضى هو ماء أذن الله لنا أن نتوضأ به ونغتسل، وهو الماء الذي يزيل النجاسة عن البدن والثوب والمكان. وسنبدأ الآن بالنوع الثاني: وهو ماء ليس بنجس، ولكن لا يجوز للإنسان أن يتوضأ ولا أن يغتسل به، لا يرفع حدثاً ولا يزيل خبثاً وهو الماء الطاهر. الماء الطاهر نريد أن نعرفه ونعرف أحكامه؛ حتى إذا جئت تتوضأ لا تتوضأ بمثله، وإنما تتوضأ بالنوع الأول، وإذا جئت تغتسل لا تغتسل بمثله، وإنما تغتسل بالنوع الأول، وقس على هذا بقية الأحكام.

تغير الماء الطهور بشيء طاهر

تغير الماء الطهور بشيء طاهر (وإن تغير لونه أو طعمه أو ريحه). قلنا: الماء الطهور الذي تقدم الكلام عليه ماء باقٍ على أصل خلقته كماء البئر، وماء النهر، ونحو ذلك من المياه، لكن الماء الذي معنا الآن ماء خرج عن أصل خلقته، بمعنى: أنه تغير عن حالته الحقيقية فوضع فيه شيءٌٌ طاهر. مثال ذلك: عندك سطل ماء أخذته من بئر، لو سألك سائل عن هذا الماء الذي أخذته من البئر: من أي أنواع المياه؟ تقول: هذا ماء طهور؛ لأن الله قال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48] وقال عن هذا الماء الذي أنزله من السماء: {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ} [المؤمنون:18] فدل على أن ماء البئر ماء طهور. أخذت هذا الماء الطهور من البئر، أو من النهر، أو نزل من السماء مطر على ذلك السطل فملأه، فإن بقي على خلقته قلنا: توضأ به واغتسل، وأزل به النجاسة، والحكم: أنه يزيل النجاسة ويرفع الحدث. لكن جاء صبي فصب في هذا السطل زعفران، أو وضع فيه صابونة، فتغير لون الماء وأصبح بلون الصابون، أو بقي لونه كما هو لكن جئت تطعم الماء فإذا هو بطعم الصابون، أو بقي على لونه الحقيقي وطعمه الحقيقي ولكن رائحته رائحة صابون لما ألقى الصابونة فيه، فالماء خرج عن أصل خلقته الطهورية إلى شيء جديدٍ وهو الطاهر، ف Q ما حكم هذا الماء؟ المصنف سيأتي بأمثلة كلها فيها: ماء طهور وقع فيه شيء طاهر فسلبه الطهورية، ولذلك العلماء يقولون: سلبه الطهورية، فتحتاج حتى تعرف الماء الذي أذن الله لك في أن تغتسل وتتوضأ به أن تعرف هذا النوع وهو الطاهر، فهو طاهر ولكن لا يتطهر به، فقال رحمه الله: (وإن تغير لونه أو طعمه أو ريحه بطبخ أو ساقط فيه). تغير اللون، أو الطعم، أو الريح هذه قاعدة مطردة. إذا تغير شيء بشيء فإن كان نجساً فغير اللون أو الطعم أو الرائحة فاحكم بنجاسته، وإن كان التغير بطاهر فهو طاهر وليس بطهور، وبالإجماع أنه يوصف بكونه طاهراً إن تغير بطاهر. (وإن تغير لونه أو طعمه أو ريحه بطبخ أو ساقط فيه). أخذ هذا الماء ووضع فيه باقلاء أو باذنجان أو فاصوليا أو غير ذلك من المطعومات ثم طبخه، فأصبح لون الماء بلون الفاصوليا أو الباذنجان ونحوها، فهنا تغير بطاهر فتقول: هذا ماء طاهر تغير بالطبخ، بل حتى ولو لم يطبخ ووضعت فيه هذا الطاهر فتغير لونه أو طعمه أو ريحه حكم بكونه متغيراً. (أو ساقط فيه). جاء صبي فأخذ محبرة فرماها في السطل، فأصبح لون الماء الموجود في السطل بلون الحبر، أزرق أو أحمر أو أسود المهم أنه تغير بلون هذا الحبر فتقول: هذا ماء طاهر.

حكم الماء المستعمل

حكم الماء المستعمل قال رحمه الله: [أو رفع بقليله حدث]. هذه المسألة التي سبق الإشارة إليها؛ مثالها: شخص أخذ سطلاً فتوضأ وضوءاً واجباً عليه، أو اغتسل غسلاً من الجنابة، وحفظ الماء في طشت ونحوه، فجاء رجل آخر يريد أن يتوضأ بهذا الماء، فللعلماء في هذا الماء ثلاثة أقوال: القول الأول: الماء طهورٌ، وهو مذهب الظاهرية، ورواية عن مالك، وقول للشافعي ورواية عن أحمد رحمة الله على الجميع. بمعنى: أن الماء باق على أصله، ولو توضأ به مائة شخص، فما دام أنه لم يتغير فهو ماء طهور كأنه نزل من السماء. القول الثاني: أن الماء إذا كان يسيراً فهو طاهر وليس بطهور، وعليه مذهب الحنابلة ومذهب الشافعية وهو رواية عن مالك، وأيضاً رواية عن الإمام أبي حنيفة رحمة الله على الجميع، وبناءً على ذلك يقولون: هذا الماء لا تتوضأ به ولا تغتسل، لكنه ليس بنجس، فلو وقع على ثوبك أو وقع على بدنك أو وقع على سجادتك التي تصلي عليها لم ينجسها. القول الثالث وهو أشدها: أن الماء إذا توضأ به أحد حكم بنجاسته، وهي رواية في مذهب الحنابلة وأيضاً قول القاضي أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة رحمة الله على الجميع. فعندما ثلاثة أقوال في الماء الذي توضئ به أو اغتسل به من الجنابة: منهم من يرى أنه طهور ويجوز للغير أن يتوضأ ويغتسل به، ومنهم من يرى أنه طاهر وليس بطهور، فلا يجوز للغير أن يتوضأ ويغتسل به، لكنه ليس بنجس، والقول الثالث -وهو أشدها-: أنه نجس. دليل من قال بطهوريته: ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الماء طهور لا ينجسه شيء)، قالوا: نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن الماء لا يتأثر بشيء إلا ما غير اللون أو الطعم أو الرائحة، وهذا مجمع عليه، وهذا لم يتغير لونه ولا طعمه ولا ريحه فهو باقٍ على الطهورية. الدليل الثاني: ما رواه أحمد وابن ماجة: (الماء لا يجنب) فدل على أن الاغتسال من الماء والانتفاع به في الطهارة لا يوجب زوال وصف الطهورية عنه، هذا حاصل أدلة من قال: إنه طهور. أما من قال: إنه طاهر فقالوا: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاغتسال في الماء الدائم)، نهى الرجل أن يغتسل بالماء الدائم، قالوا: وما معنى هذا النهي إلا كونه يسلبه الطهورية، هذا القول الثاني. أما القول الثالث والأخير وهو قول الذين قالوا: إنه نجس، فاحتجوا بحديث النهي: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه) قالوا: في رواية عند أبي داود: (ويغتسل فيه). قالو: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ويغتسل فيه) فشرك وجمع بين الغسل في الماء وبين البول فيه، فدل على أن من اغتسل في الماء كمن بال فيه فهو نجس. والصحيح من هذه الأقوال أنه طهور، وليس بنجس ولا طاهر، أي: لا يحكم بكونه نزل إلى مرتبة الطاهر. أما دليل الرجحان: أولاً: صحة ما ذكره أصحاب هذا القول. ثانياً: أن القاعدة: الأصل بقاء ما كان على ما كان، فالأصل أنه طهور، ونحن شككنا في سلب الطهورية فنبقى على الأصل. ثالثاً: استدلال أصحاب القول الثاني بأن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاغتسال في الماء الدائم علته كونه يسلب الطهورية مردود، فإن العلة يحتمل أن تكون خوف تغير الماء وسلبه الطهورية، فاحتمل الوجهين، فجاءت رواية: (وليغترف منه) لتفيد أن العلة هي خوف إفساد الماء على الغير، ولذلك الراوي وهو أبو هريرة يقول: لعله أن ينتفع به غيره فيشرب منه ونحو ذلك، فدل على أن علة النهي عن الاغتسال في الماء الدائم ليست سلب الطهورية، وإنما هي خوف تلوث الماء وإفساده على من يأتي بعده. رابعاً: استدلال من يقول: نهى عن البول والغسل، فدل على أن الغسل كالبول، هو استدلال بدلالة الاقتران، ودلالة الاقتران دلالة ضعيفة عند الأصوليين، ودليل ضعفهما ظاهر القرآن قالوا: لما قرن الاثنين دل على أن حكمهما واحد، فهذه الدلالة استعملها العلماء في هذه المسألة وفي مسألة: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة:196] قال بعض العلماء: العمرة واجبة لأن الله قرنها بالحج، فدلالة الاقتران ضعيفة عند الأصوليين، كما نبه عليه صاحب المستصفى وغيره. وجه ضعفها -كما قال المحققون وأشار إلى ذلك الإمام النووي في المجموع- ظاهر التنزيل، فإن الله عطف الشيئين المتغايرين في الحكم، فقال سبحانه: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] كلوا من ثمره، هذا أمر للإباحة (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ) أي: أبحت لكم أكل ثمر الشجر، ثم قال: (وَآتُوا حَقَّهُ) أي: الزكاة وهي واجبة، فعطف غير الواجب على الواجب، فدل على أن الشرع قد يعطف على المتغايرين حكماً ومرتبةً، فلا يستقيم استدلالهم بالعطف الموجود في حديث النهي عن البول في الماء الراكد، بدليل رواية الصحيح: (ثم يغتسل فيه). وعلى هذا: فالذي يترجح أن الماء إذا توضأت به وحفظته أو اغتسلت به وحفظته جاز لغيرك أن يتوضأ ويغتسل به، لكن المصنف درج على قول من يقول: إنه طاهر وليس بطهور ولا نجس.

حكم الماء الذي غمس القائم من النوم يده فيه

حكم الماء الذي غمس القائم من النوم يده فيه قال رحمه الله تعالى: [أو غمس فيه يد قائم من نوم ليل]. مثلاً: عندك ماء يسير تريد أن تتوضأ منه لصلاة الفجر، فقمت لصلاة الفجر، وإذا بالماء في إناء -والإناء هو المفتوح، بخلاف الإبريق الذي يكون مغلقاً، فمحل الكلام في الإناء الذي تغترف منه كالقدر- وأردت أن تغترف منه، فالسنة الواردة في حديث أبي هريرة في الصحيحين: (إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً) فتمسك بالإناء وتميله قليلاً إلى كفك، ثم إذا ملأت الكف بالماء غسلت كلتا اليدين الغسلة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، فتطهر يداك، ثم بعد ذلك تغترف للمضمضة والاستنشاق، وتغسل بقية الأعضاء، لكن أن تأتي وتدخل يدك إلى الإناء مباشرة فهذا منهيٌ عنه. وبناءً على ذلك قال بعض العلماء من السلف وغيرهم: علة النهي أنهم كانوا في بلادٍ حارة، وكان الناس لا يعرفون عند قضاء الحاجة الغسل بالماء، وإنما كانوا يستجمرون بالحجارة، فربما عرق الإنسان أثناء نومه فجالت يده فأصابت العرق المتنجس في الموضع، وربما أصابت العضو، أو أصابت نجاسة خارجة من العضو، فنهى الشرع عن إدخال اليد في الإناء حتى لا يفسد الماء. وبناءً على ذلك فعندنا مسائل في المستيقظ من النوم: أولاً: لا يجوز له أن يدخل يده في الإناء حتى يغسلها، والغريب أن بعض الأطباء يقول: ثبت طبياً أن أكثر حالات الرمد -هذا المرض المعروف الذي يصيب الصغار- سببها أن الأطفال يستيقظون من النوم، فيجعلون أصابعهم في أعينهم قبل غسلها. وهنا تظهر حكمة الشرع، فإنه إذا انتقلت النجاسة إلى الإناء والإنسان في الوضوء يرفع الماء إلى وجهه لغسله فربما كان ذلك طريقاً لأذية البدن أو حصول الضرر، وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام. وقال بعض العلماء: بل أبلغ من ذلك معجزةً أن الشرع فيه أولاً أن تتمضمض ثم تستنشق ثم تغسل وجهك؛ لأن الماء إذا كان فاسداً أدركت فساده بالذوق، فإن عجز الذوق أدركته بالشم؛ مع أن العين أشد حساسية من الأنف، والأنف أشد حساسية من الفم، إلا أنه ثبت طبياً أن في الفم من أجهزة المناعة أضعاف ما في الأنف، وفي الأنف أضعاف ما في العين، فهذا من أبلغ ما يكون في حكمة الشرع في مسألة غسل اليدين للمستيقظ من النوم. وبناءً على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن غمس اليد في الإناء، على مذهب من يقول: إن ما دون القلتين ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة، يتفرع على هذا القول أن السطل الذي دون القلتين لو غمس القائم من النوم يده فيه شككنا فيه: فيحتمل أن فيه نجاسة ويحتمل أنه ليس فيه نجاسة، فقال: هو طاهر وليس بطهور؛ لأن النجاسة مشكوك فيها، فقال: نجعله طاهراً لا يتوضأ به ولا يغتسل، ولا نقول: هو نجس؛ لأننا لم نتحقق من النجاسة، ولا نقول: هو طهور، لأنه لم يبق على أصل خلقته، هذا هو وجهه. قوله: (من نوم ليل). وحديث: (إذا استيقظ أحدكم من نومه) للعلماء فيه أقوال: بعض العلماء يقول: لا يجوز إدخال اليدين في الإناء من نوم الليل والنهار، وهو مذهب الظاهرية. ومنهم من يقول: لا يجوز إدخالها من نوم الليل خاصة، وهو مذهب الإمام أحمد وطائفة من المحدثين. ومنهم من قال: باستحباب غسلها كما هو مذهب الجمهور. والصحيح مذهب الظاهرية، أن النهي على العموم، والذين يقولون بتخصيص نوم الليل -كما درج عليه المصنف- يستدلون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)، والبيتوتة لا تكون إلا بالليل فقالوا: الحكم يختص بنوم الليل دون النهار. والصحيح أنه يشمل نوم الليل والنهار والحكم معمم، والسبب في ذلك أن قوله: (فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) خرج فيه النص مخرج الغالب، والذي خصه بالبيتوتة بنى على مفهوم الحديث، والقاعدة: أن النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه، وهي مسألة أصولية، وحبذا لو يرجع إلى شرح عمدة الأحكام، فقد ذكرت فيه أقوال العلماء وأدلتهم والراجح من تلك الأقوال بدليله كما ذكرنا. فالمصنف رجح أن غمس اليد في الإناء قبل غسلها لا يجوز من نوم الليل دون نوم النهار، والشرط أن يكون النوم موجباً للوضوء؛ لأن النوم إذا كان يسيراً لا يوجب الوضوء؛ لأنه لا يزول به الشعور، فالشخص في هذه الحالة يدري أين باتت يده، بخلاف ما إذا زال الشعور، فيحتمل أن تجول اليد إلى مكان فيه نجاسة.

حكم آخر غسلة أزيلت بها النجاسة

حكم آخر غسلة أزيلت بها النجاسة قال رحمه الله: [أو كانت آخر غسلة زالت بها النجاسة فطاهر]. مذهب طائفة من العلماء أن النجاسة تغسل ثلاثاً على الأقل: الأولى: لإذهاب عين النجاسة. والثانية: لإذهاب أثر النجاسة. والثالثة: للاستبراء واليقين. فغالباً الغسلة الثالثة يذهب بها عين النجاسة وأثر النجاسة، فتأتي على نقاء من موضع، فيكون الماء المنفصل من هذه الغسلة طاهراً وليس بنجس، لكن لو أن هذه الغسلة وجد فيها أثر النجاسة، فتغير لون الماء بها أو طعمه أو ريحه، فإنه يحكم بكونها نجسة، فمحل كونها طاهرة ألا تتأثر.

الأسئلة

الأسئلة

العبرة بتغير أحد أوصاف الماء حتى ولو أصابه بول أو غائط

العبرة بتغير أحد أوصاف الماء حتى ولو أصابه بول أو غائط Q إذا وقعت عذرة الآدمي المائعة أو بوله في الماء الذي يشق نزحه، فما حكمه؟ A بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهذه المسألة سبقت الإشارة إليها في قول المصنف: (فخالطته نجاسة غير بول آدمي أو عذرته المائعة)، كما ذكره رحمة الله عليه، فقلنا: استثنوا العذرة أو البول لحديث الصحيحين عن أبي هريرة: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم) فقالوا: إذا وقع هذا البول أو هذه العذرة في ماء راكد ولو كان فوق القلتين سلبه الطهورية، والصحيح أنه لا يسلبه الطهورية إلا إذا غير لوناً أو طعماً أو رائحة. ولذلك القول باعتبار التأثير وتغير اللون والطعم والرائحة يريح طالب العلم والمكلف؛ لأننا لو قلنا بالقلتين سيظل الإنسان يوسوس: هل بلغت خمسمائة رطل عراقي أم لم تبلغ؟ أو مائة وثمانية بالدمشقي -وهي وحدة قياس، قالوا: ذراع وربع في ذراع وربع في ذراع وربع- ويجلس على البركة ويحاول أن يعرف هل بلغت القلتين أم لا، ويصيبه من الوسوسة والتعب ما الله به عليم، والشريعة شريعة سماحة ويسر وتخفيف على العباد. ولذلك تجد المذهب الذي يقول باعتبار القلتين يفرع عليها مسائل دقيقة جداً ومظنية فرحمة الله عليهم، وهم العلماء الذين نتطفل على علمهم، ولكن الحمد لله الذي جعل لنا فرجاً ومخرجاً، وجعل الأمر راجعاً إلى التأثير، فاختيار المحققين مثل: شيخ الإسلام وغيره أن العبرة بالتأثير، ولذلك تنظر للماء إذا وقعت فيه نجاسة أو شيء طاهر، فإن تغير لونه أو طعمه أو ريحه، فقل هذا متغير، وإن لم يتغير فقل: هذا باقٍ على أصله، فأصبح الأمر مرده إلى المؤثر الحقيقي، والله تعالى أعلم.

الدليل على اعتبار تغير الماء للحكم بنجاسته

الدليل على اعتبار تغير الماء للحكم بنجاسته Q وهذا سائل يقول: فضيلة الشيخ ما الدليل على أن العبرة بالتغيير باللون أو الطعم أو الريح، وأنه بذلك تعرف النجاسة؟ A عندنا دليلان: دليل شرعي ودليل حسي. أما الدليل الشرعي: فهو موجود، وهو أن الإجماع منعقد على أن الماء إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجس أنه نجس، وحكى هذا الإجماع غير واحد، منهم الإمام النووي في المجموع، والإمام ابن المنذر في الإشراف، وحكاه الإمام ابن قدامة في المغني، وحكاه كذلك صاحب البحر الزخار وغيرهم، فحكموا أن الماء المتغير لونا أو طعماً أو ريحاً بنجاسة يحكم بنجاسته، وهناك رواية من حديث أبي سعيد: (الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه) وهي ضعيفة، ويقول العلماء: إنها ضعيفة السند صحيحة المتن، وهذه من أمثلة الحديث ضعيف السند صحيح المتن؛ لأن الحديث قد يكون صحيح المتن، كما لو جاء حديث في فضل الصلاة وله أصل في الصحيح، فنقول: إن المتن صحيح لوجود أصله، لكن سنده ضعيف، فنحكم بضعف سنده لا معناه، ولذلك تجد العلماء رحمهم الله كـ شيخ الإسلام يقولون: وهذا حديث ضعيف لكن معناه صحيح. وكذلك الحديث الذي معنا: (إلا ما غير لونه ... )، فهذا دليل الشرع والإجماع المنعقد. ومن قال: إن الماء الذي خالطته نجاسة وأصبح لونه لون النجاسة، أو طعمه طعم النجاسة، أو ريحه ريح النجاسة، أنه ماء طهور، فهذا يعتبر شاذاً عن الإجماع، ومتبعاً غير سبيل المؤمنين، نسأل الله السلامة والعافية. إياك والشذوذ عن إجماعات العلماء رحمة الله عليهم! فإن الخير في اتباع من سلف، والشر كل الشر في اتباع من خلف. أما الدليل الحسي: فإن هذا الماء الذي أنزله الله من السماء، إن بقي على أصل خلقته فهو الماء الذي شرع الله له أن يتطهر به، وإن لم يبق على أصل خلقته وتغير، فحكمه حكم ما غيره، ألا ترى أنك تقول: ماء زعفران، ماء ورد، فتعطيه حكم ما غيره، فدلالة الحس معتبرة كما أن دلالة الشرع معتبرة، بشرط ألا تصادم دلالة الحسن النقل الصحيح المعتبر.

حكم الماء الذي تخالطه مادة الكلور

حكم الماء الذي تخالطه مادة الكلور Q إذا تغير لون الماء الموجود في البركة بمادة الكلور مثلاً، فهل هذا الماء طهور؟ A إذا وجد طعم الكلور في البركة أو رائحته أو لونه، فإنه يحكم بكون الماء طاهراً غير طهور، والله تعالى أعلم.

اعتبار القلتين للفرق بين القليل والكثير عند الفقهاء

اعتبار القلتين للفرق بين القليل والكثير عند الفقهاء Q نرجو إعادة الكلام على اعتبار القلتين فرقاً بين القليل والكثير؟ A قلنا: القلتان قدر معين من القلال التي تقل باليد، فإن بلغ الماء قلتين، بمعنى: أن هذا القدر الموجود في بركة أو في حوض أو في خزان إذا بلغ القلتين ثم وقعت فيه نجاسة فلم تغير لونه ولا طعمه ولا ريحه، قلنا: الإجماع على أنه طهور، ويجوز أن يتطهر به، ولا حرج على المكلف في ذلك، فإن تغير فحكمه حكم ما غيره على التفصيل الذي سبق الإشارة إليه.

الحكمة في عدم جواز تطهر الرجل بفضل طهور المرأة

الحكمة في عدم جواز تطهر الرجل بفضل طهور المرأة Q في مسألة إذا خلت المرأة بالماء، ما الحكمة في عدم جوازه في هذه الحالة فقط؟ A على الله الأمر، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الرضا والتسليم: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]، وليس هذا فقط، بل: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء:65] أي حرج، فجاءت نكرة، والنكرة تفيد العموم في أساليب العرب: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] فنسأل الله أن يرزقنا التسليم، فالتسليم هو: الإسلام، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن الإسلام هو الاستسلام لله. فمن استسلامك لله إذا جاءك الخبر أن تقول: سمعت وأطعت كما قال أبو هريرة لـ ابن عباس: (يا ابن أخي! إذا سمعت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له الأمثال) بمجرد ما يصح الخبر ضع رأسك في التراب وقل: سمعت وأطعت غفرانك ربنا وإليك المصير. وسبحان الله ما سلم عبد لنص كتاب أو سنة إلا جعل الله له فرجاً ومخرجاً، ولذلك شق على الصحابة قول الله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] وعظم عليهم هذا الأمر؛ لأن قلوبهم تعامل الله وتعبده، فخافوا مما أكنوا ومما أظهروا أن يحاسبهم الله به، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (يا رسول الله! إن الله يقول كذا وكذا، -فشق عليهم الأمر- فقال صلوات الله وسلامه عليه: ما زدتم على ما قالت بنو إسرائيل) يعني: كونكم تعترضون وتستثقلون هذا الحكم على أنفسكم، ما يجعلكم أنتم وبني إسرائيل إلا سواء، فقال: (قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فنزل جبريل من السماء بالتخفيف والتسهيل: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286] قال الله: قد فعلت) كما في الصحيح. إذاً: إذا جاءك الحكم وقيل لك: يا فلان لا يجوز؛ لأن الله قال أو رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فقل: سمعت وأطعت، ولا تزيد ولا تنقص على هذه الكلمة، وبإذن الله سيجعل الله لك فرجاً ومخرجاً. ولكن ما أن يقول العبد -والعياذ بالله-: كيف هذا؟ لا ما يمكن! كيف يفتيك العالم الفلاني بعدم الجواز؟ هذا ما نقبله!! فيرد السنة والنقل بالعقل فهذا هو العار والشنار وخزي الدنيا والآخرة، وربما أفضى إلى النار وبئس القرار. لا يجوز تحكيم الأهواء والآراء في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بل بمجرد ما يأتيك الشيء استسلم لله، فإن الاستسلام مظنة الفرج، ألا ترى إبراهيم عليه السلام قال الله عنه: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:103] استسلم لأمر الله، ما قال: يا رب! كيف أقتل ابني فلذة كبدي؟ ولكن جاء الأمر فقال: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102] فجاء الابن الصالح: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] إذا كان الله أمر فأنا مستسلم، حتى ورد في الخبر أنه قال: يا أبت أكفأني على وجهي، حتى لا تدرك عطف الأبوة وحنان الأب فلا تأتمر بأمر الله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:103] استسلم لله، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:103 - 105]. إذاً التسليم هو مظنة الفرج، وأما كون الإنسان يحكم رأيه فهذا ليس بإيمان، وكون الإنسان تأتيه السنة فيحكم رأيه، ويقول: الذي يوافق العقل نعمل به، والذي يصادمه لا نعمل به، كيف هذا! ما يمكن!! كيف ما يجوز؟ لا، كيف يحل؟ كيف يجب؟ هذا كله -والعياذ بالله- عدم تسليم لله ورسوله. يقول بعض السلف: (لا يؤمن على الرجل إذا ترك سنة أن يهلك)، يعني: في دينه ودنياه وآخرته، ولذلك قال أبو بكر: (والله لا يبلغني شيء من سنة النبي صلى الله عليه وسلم إلا عملت به؛ إني أخاف إن تركت شيئاً من سنته أن أضل) صلوات الله وسلامه عليه. فإذاً التسليم والمتابعة المجردة والالتزام هو الهداية وهو التوفيق والسعادة والرحمة؛ لأن الله يقول: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] اتبعوه في كل ما جاءكم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تغتسل من فضل المرأة) إذاً لا أغتسل والمرأة المؤمنة لا تقول: الإسلام يفضل الرجل على المرأة؟! بل تقول: الله هو الحكم العدل الذي هو أعلم بعباده، وأحكم في خلقه، فرغمت أنوف الكفار الذين يدعون أن الإسلام يفرق بين الرجل والمرأة، أبداً بل نحن راضون مسلِّمون، هذا هو الإيمان، وعندها تكون الرحمة والرضا ويكون التوفيق وانشراح الصدر. ويا لله! هناك أقوام بمجرد ما تبلغهم السنة يطيرون بها فرحاً، والناس في السنن على أحوال ومراتب، أعظمها وأجلها -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم- من تتشوق نفسه إلى معرفة السنة. فإذا بلغك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل: الحمد لله الذي بلغني معرفة هذه السنة. الأمر الثاني: تسأل الله المعونة في امتثال أمره واتباعه صلوات الله وسلامه عليه، فتجد نفسك تتشوق للخير، ولا تزال تعمل بالأحاديث والسنن، حتى تكتب من أهل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أولئك القوم الذين وجوههم ناضرة في الدنيا والآخرة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، وأن يحشرنا وإياكم في زمرتهم. فالمقصود: أن الواجب علينا أن نسلم، ولا داعي للبحث عن العلل، وآراء الرجال، فالله يعلم وأنتم لا تعلمون، وعقل ناقص لا يستطيع أن يعرف الحكم والأسرار من الله العظيم الكامل جل جلاله وتقدست أسماؤه، فليس لنا إلا الرضا والتسليم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

أحكام المياه [3]

شرح زاد المستقنع - أحكام المياه [3] الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما استثنى الشرع تحريمه، أو غلب أمر ظاهر على الأصل فينتقل من الإباحة إلى التحريم. والأصل في الماء أنه طهور إلا إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسة جامدة أو مائعة، فإنه حينئذ ينجس ويحرم استعماله.

الماء النجس

الماء النجس الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته أجمعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد:

الأحوال التي يحكم فيها بنجاسة الماء

الأحوال التي يحكم فيها بنجاسة الماء فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [والنجس ما تغير بنجاسة]. هذا النوع الثالث من أنواع المياه: وقد تقدم معنا: الماء الطهور، والماء الطاهر، وهنا: الماء النجس، ولابد من الحديث عن هذا النوع؛ لأن الطهارة لا تصح به، ولأنه لا يمكن للمكلف أن يعرف الطهور إلا إذا حفظه من النجاسة. والنجاسة: أصلها القذر، يقال: نجس الشيء ينجس فهو نجس، إذا كان مستقذراً، والمراد بها نجاسةٌ مخصوصة، وهي التي حكم الشرع بكونها نجاسة؛ ولذلك لابد للمكلّف من معرفة المياه المتنجسة والمياه النجسة. وقبل أن نبدأ الحديث عن أحكام الماء النجس، أحب أن أمهد بتنبيه، وهو أن هناك مائعٌ نجسٌ في أصله، وهناك مائعٌ متنجس. فالمائع النجس: هو الذي أصله نجس، كأن يكون مستخلصاً من شيءٍ نجس، كزيوت الميتة، فلو أُخذَ شحمها وأذيب، فإن المائع المستخلص -وهو الودك- يعتبر نجساً، أي: أن عينه نجسة، وهكذا البول فإن عينه نجسة. أما النوع الثاني: وهو المتنجس، فإن أصله طاهر، ولكن وقعت فيه نجاسةٌ أوجبت نقله في الحكم من كونه طاهراً إلى كونه نجساً. وسنتكلم -إن شاء الله- عن ماءٍ تأثر بالنجاسة، وحُكمَ بكونه نجساً، وعلى هذا فإننا نحتاج إلى معرفة متى يُحكم بانتقال الماء من كونه طهوراً إلى كونه نجساً. فقال رحمه الله: (والنجس ما تغير بنجاسة). والماء النجس ما تغير بنجاسة: أي أن أصله طاهر، مثالُ ذلك: لو أخذت إناءً فيه ماءٌ من بئر فإنه ماءٌ طهور، فإذا تغير بنجاسةٍ فإنه يُحكم بتغيره إذا تغير لونه أو طعمه أو رائحته؛ مثلاً: بال فيه صبيٌ فوجدت لون الماء قد تغير بلون البول، أو تغير بطعم البول، أو رائحة البول في الماء، فإذا وجدت أحد هذه الأوصاف الثلاثة حكمت بكون هذا الماء قد انتقل من كونه طهوراً إلى كونه نجساً، ويحكم بنجاسته؛ لأن النجاسة دخلت عليه فهي نجاسةٌ عارضة؛ ومن ثم لا يجوز أن يتوضأ بهذا الماء؛ لأنه لا يزيل خبثاً ولا يرفع حدثاً، فلا يتوضأ به ولا يُغتَسلُ به من الجنابة، ولا ينظف به من الخارج من بولٍ أو غائط. فكل ماءٍ وقعت فيه نجاسة وغيرت أحد الأوصاف الثلاثة حكم بكونها مؤثرة، سواءً كانت مائعة كالبول أو جامدة كالعذرة، فحينئذٍ يحكم بكون الماء نجساً. قال رحمه الله: [أو لاقاها وهو يسير]. تقدم معنا أن العلماء رحمهم الله منهم من يقول: الماء ينقسم إلى قليلٍ وكثير، أو كثيرٍ ويسير، فعندهم الكثير ما بلغ القلتين وجاوزها، واليسير: ما كان دون القلتين، فكلٌ ماءٍ كان دون القلتين عند من يرى اعتبار القلتين، بمجرد أن تقع فيه النجاسة يحكم بكونه نجساً، فالماء الطهور يحكم بنجاسته في إحدى حالتين: إما أن يكون كثيراً تغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسة، أو يكون قليلاً ولم يتغير، فإن القليل بمجرد أن تقع فيه النجاسة يحكم بكونه متنجساً، هذا في مذهب من يرى القلتين. أما المذهب الصحيح وهو اختيار شيخ الإسلام وجمع من المحققين أنه لا فرق بين القليل والكثير، وأن المهم هو تغير الماء بالنجاسة لوناً أو طعماً أو رائحة، لكن المصنف يرجح مذهب القلتين، والصحيح كما قلنا: أن المهم تغير اللون أو الطعم أو الرائحة. الخلاصة: أنه لا يحكم بنجاسة ماءٍ إلا إذا وجدنا لون النجاسة أو طعمها أو ريحها في ذلك الماء. قال رحمه الله: [أو انفصل عن محل نجاسةٍ قبل زوالها]. هذا الذي يسميه العلماء: غسالة النجاسة، فإذا وقعت على الثوب قطرةٌ من بول فصبّ الإنسان الماء على هذه البقعة، فالماء المصبوب إذا أذهب هذه النجاسة وكان كثيراً ولم يتغير فالمذهب أنه طاهر كالغسلة الأخيرة في إزالة النجس وقد تقدم في الكلام عن الماء الطاهر؛ لكن لو صبت الغسلة الأولى وبقي أثر النجاسةِ في المحل حكمنا على الماء الذي صُبّ أنه متنجس؛ لأنه لو كان طاهراً لأثر في عين النجاسة ولأزالها ولم يبق لها أثراً. فإذا صُبّ الماء على نجاسةٍ، وبقيت بعد الماء المصبوب، فإن الماء المخالط للنجاسة نجس، وهذه صور يمثل بها العلماء، والذي يهمنا هو أنه إذا كان الماء طهوراً وتغير لونه أو طعمه أو ريحه فهو نجس، وإذا لم يتغير أحد أوصافه فهو طهورٌ أو طاهر.

مسألة زوال النجاسة عن الماء ورجوعه إلى حالته الأولى

مسألة زوال النجاسة عن الماء ورجوعه إلى حالته الأولى قال المصنف رحمه الله: [فإن أضيف إلى الماء النجس طهور كثير]. تقدم أن الماء يتنجس إذا وقعت فيه نجاسة، وتبقى عندنا مسألة وهي: كيفية زوال النجاسة ورجوع الماء إلى حالته الأولى من كونه طهوراً أو طاهراً، توضيح ذلك: قلنا: إن الماء في الأصل طهور؛ فإن تغير بنجسٍ فهو نجس، وإن تغير بطاهرٍ فهو طاهر، فإذا عرفنا أن الماء ينتقل من كونه طهوراً إلى كونه نجساً بالنجاسة. فقد يسألك سائل ويقول: أنت حكمت بكون الماء الطهور صار نجساً لوجود أثر النجاسة، أرأيت لو أن أثر النجاسة هذا زال بحرارة الشمسٍ، أو صببنا ماءً كثيراً على الماء المتنجس حتى غالب النجاسة فذهب لونها وطعمها وريحها، هل نحكم برجوع الماء إلى حالته الأولى من كونه طهوراً؟! فقال رحمه الله: [فإن أضيف إلى الماء النجس طهورٌ كثير غير تراب ونحوه، أو زال تغير النجس الكثير بنفسه، أو نزح منه فبقي بعده كثيرٌ غير متغير طهر]. فالماء إذا تنجس بنجاسة، ثم صُبّ عليه ماء طهورٌ حتى يبق معه أثرٌ للنجاسة، فإنه في هذه الحالة نحكم بكونه طهوراً عاد لحالته الأولى. والمهم عندنا تأثر الماء بالنجاسة، فإذا أثرت النجاسة في الماء فهو متنجس، وإن صُبّ على الماء المتنجس طهورٌ كثير حتى رجع إلى حالته الأولى وغلب الطهور النجس بحيث لم يوجد أثرٌ للنجاسة حكمنا بكون الماء طهوراً؛ لأن القاعدة تقول: الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فالحكم: هو النجاسة، والعلة: هي وجود أثر النجاسة، فإذا وجدت في الماء أثر النجاسة حكمت بكونه متنجساً، وإذا زال أثر النجاسة عن الماء حكمت بكونه طاهراً وراجعاً إلى أصله. فمثل لك -رحمه الله- بصب الطهور الكثير، فلو أن إنساناً عنده ماءٌ قليل قدر الكأس، ووضعه في إناء، فجاءت قطرة من بول وأثرت في هذه الكأس أو الكأسين، ثم أراد أن يطهر هذا الماء المتنجس فصب -مثلاً- إلى منتصف الإناء حتى ذهب لون النجاسة وطعمها وريحها، فنقول: هذا الماء انتقل من كونه نجساً إلى كونه طهوراً، وهذا من رحمة الله جل وعلا ولطفه بالعباد. وهذا بشرط أن يكون الماء الذي صُبّ طهوراً، أما إذا كان الماء الذي صبه طاهراً فقد انتقل الماء من كونه نجساً إلى كونه طاهراً.

مسألة الشك في نجاسة الماء أو طهارته

مسألة الشك في نجاسة الماء أو طهارته قال المصنف رحمه الله: [وإن شك في نجاسة ماءٍ أو غيره، أو طهارته بنى على اليقين]. بعد أن ذكر المصنف أقسام المياه سيذكر الآن مسائل تعمُّ بها البلوى، وهي مسائل الشبهة والشك في طهارة الشيء ونجاسته، ومن عادة أهل العلم رحمةُ الله عليهم أنهم يذكرون مسائل الشك في الطهارة والحدث في كتاب الطهارة، ويجعلون هذه المسائل قاعدةً عامة. والأصل في هذه المسائل: أن الشريعة كلفت المكلف بما يستيقنه أو يغلب على ظنه، أما ما شك فيه وتوهم فهذا لا يبنى عليه حكم. وكثيراً ما يسأل الناس: عندي إناء فيه ماء طهور، ثم شككت، هل أصابته نجاسة صبي كان يلعب بجواره فهو نجس أو لم تصبه فهو طهور؟!! وهذه مسائل يحتاج إليها الناس كثيراً وتعمُّ بها البلوى؛ فإن الإنسان قد يكون في غرفة فيها فراش، وعليها صبيان يلعبون أو يعبثون، ثم يشكُ في كون نجاسة أحدهم أصابت ذلك الفراش فلا يصح أن يصلي عليه، أم أن الفراش طاهر فيجوز له أن يصلي عليه؟! إذاً فالناس يحتاجون إلى معرفة أحكام الشك الذي يطرأ على الأشياء الطاهرة، فقال رحمه الله: (وإن شك في نجاسة ماء أو غيره أو طهارته بنى على اليقين). قال: (وإن شك في نجاسة ماء أو غيره) أي شيء حتى ولو كان طعاماً، فلو كان عندك كأسٌ من الماء وشككت هل هذا الكأس طاهر أم نجس؟ ترجع إلى اليقين، والأصل في الأشياء أنها طاهرة حتى يدل الدليل على نجاستها، فإذا كان عند الإنسان فراش، وكان الصبيان يلعبون على هذا الفراش وخرج عنهم، ثم جاء بعد يوم أو يومين وشك: هل بال أحدهم في ثوبه ثم جلس على هذا الفراش ونجسه؟ نقول: اليقين أن الفراش طاهر، والقاعدة تقول: اليقين لا يزال بالشك هذه قاعدة من قواعد الشريعة، وهي إحدى القواعد الخمس المتفق عليها: الأولى منها: (الأمور بمقاصدها). والثانية: (اليقين لا يُزال بالشك). والثالثة: (المشقة تجلب التيسير). والرابعة: (الضرر يزال). والخامسة: (العادة محكمة). وكل قاعدة منها يندرج تحتها من المسائل والفروع ما لا يحصى كثرة، وقد يندرج تحت القاعدة الواحدة ما لا يقل عن مائة مسألة من مسائل الفقه، فمنها مسألتنا التي معنا في قاعدة: (اليقين لا يزال بالشك). هذه القاعدة التي فرعنا عليها الحكم الذي معنا دليلها ما جاء من حديث عبد الله بن زيد أنه قال: (شُكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً). أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكى إليه بعض الصحابة، أن الرجل يقوم في الصلاة، ثم يأتيه الشيطان ويقول له: خرج منك ريح، انتقض وضوءك، أنت لست على طهارة، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً). يعني: حتى يتيقن الحدث كما تيقن الطهارة، فدل هذا على أن اليقين لا يزال بالشك، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح عند الترمذي وغيره: (إذا صلى أحدُكم فلم يدرِ واحدةً صلى أو اثنتين، فليبن على واحدة، فإن لم يتيقن اثنتين صلى أو ثلاثاً فليبن على اثنتين، فإن لم يدرِ أثلاثاً صلى أو أربعاً فليبن على ثلاث، فإن لم يدرِ أأربعاً صلى أو خمساً فليبن على أربع، ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم) وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر اليقين وألغى الشك. ولذلك العلماء أخذوا من الحديث قاعدة وقالوا: (اليقين لا يزال بالشك)، أي: الشيء الذي أنت على طمأنينة به ويقين به لا يزيله الشك كحديث النفس والوسوسة، فأنت في الفراش على يقين من أن فراش الغرفة طاهر، ولم تجد أثر البول على الفراش فتقول: (اليقين) وهو كون الفراش طاهراً (لا يزال بالشك) وهو وسوسة النفس ببول الصبي عليه، وهذا أصل عظيم يتفرع عليه من المسائل ما لا يحصى كثرة، وسيمر علينا -إن شاء الله- في كتب العبادات والمعاملات. فهنا إذا شك في طهارة شيء ونجاسته بنى على اليقين، فلو أن الثوب كان معلقاً ثم تطاير بولٌ في مكان قريب من الثوب، وشككت هل الثوب أصابه البول أو لم يصبه، فاليقين أن الثوب طاهر، والشك أنه نجس، فتقول: (اليقين) وهو طهارة الثوب (لا يزال بالشك) وهذا من رحمة الله. فلو أن الناس فُتح عليهم باب الوسوسة ما استطاع أحدٌ أن يصلي، ولوجدوا في ذلك من الحرج والضيق والمشقة ما الله به عليم، حتى ولو كان الثوب فيه نجاسة حقيقة وأنت لم تدرِ فإن صلاتك تصح وتجزئك عند الله جل وعلا، وهذا من رحمة الله عز وجل. فقال المصنف رحمه الله: (ومن شك في نجاسة ماء أو غيره أو طهارته بنى على اليقين) فإذا شككت في الماء من كونه طاهراً أو نجساً، أو شككت في الطعام من كونه طاهراً أو نجساً بنيت على اليقين من كونه طاهراً، واستبحت أكله وشربه حتى تستيقن النجاسة.

مسألة اشتباه الطهور بالنجس

مسألة اشتباه الطهور بالنجس قال المصنف رحمه الله: [وإن اشتبه طهورٌ بنجس حَرُمَ استعمالهما]. قبل أن نبدأ بهذه المسألة الثانية ننبه على مسألةٍ أخرى: تقدم أن من شك في شيءٍ رجع إلى اليقين، لكن لو كان هذا الماء نجساً ثم شككت: هل زالت نجاسته بالشمس وتبخرت أم أنه لا زال نجساً، فاليقين هنا أنه نجس، والشك في كونه طاهراً، فنبقي اليقين من كونه نجساً، ونلغي الشك من طهارته، وهذا أصل عام. فلو أصاب الثوب نجاسة، ثم جاءك حديث نفس وشككت: هل غسلت الثوب فهو طاهر، أو لم تغسله فهو نجس؟ فالأصل واليقين أنه نجس، فنقول: (اليقين) وهو كونه نجساً (لا يزال بالشك) وهو كونه طاهراً. وهذا أصل عام يسري في كثيرٍ من الأمور، وكثير من المسائل وأحكام القضاء الموجودة في الفقه الإسلامي مفرعة على هذه القاعدة العظيمة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) وأصلها قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]؛ لأن الأصل في المتهم أنه بريء حتى يثبت ما يُدانُ به، إلى غير ذلك من المسائل التي لا تحصى كثرة، في مسألة الشك في طهارة الشيء ونجاسته. فإذا شككت في شيءٍ رجعت إلى الأصل، فإذا كان عندك شيئان: أحدهما طاهر، والثاني: نجس، أو عندك ماءٌ طهور يجوز أن تتوضأ به، وماءٌ نجس، ولكن لا تستطيع أن تعرف الماء الطهور من الماء النجس ففي هذه الحالة هل نقول: يترك الاثنين ويتيمم، أو نقول: يتوضأ بأحدهما ويصلي؟ إن قلنا: يتوضأ بأحدهما ويصلي فإن اليقين أن ذمّته معلقةٌ بالصلاة، فإذا توضأ بأحدهما احتمل أنه توضأ بماءٍ نجس، وحينئذٍ لا يكون قد أبرأ ذمته التي هي معلقةٌ باليقين، إذ كيف يبرئها بأمرٍ مشكوك؟! ولذلك لا يصح ألبتة أن نقول له: يتخير واحداً منهما. بعضهم يقول: يجتهد ويأخذ أقواهما وأقربهما من الطهور، ولكن ليست مسألتنا فيما فيه مدخل للاجتهاد إنما مسألتنا في سطلين أو إناءين لا تستطيع أن تعرف النجس من الطاهر منهما ألبتة، إذ الاشتباه عند العلماء يعني: وجود شيئين كلٌ منهما يشبه الآخر بحيث لا يمكن التمييز؛ لكن لو استطعت أن تميز بالرائحة أو باللون أو بالطعم فالقدرة على اليقين تمنع من الشك، ومسألتنا هي فيما إذا تعذر التمييز. جاءك رجل وقال لك: أنت درست كتاب الطهارة، وعندي سطلا ماء، أحدهما طهور والثاني نجس، ولا أستطيع أن أعرف الطهور من النجس، وأريد أن أصلي، فبأيهما أتوضأ؟ إن قلت له: توضأ منهما فيحتمل أن يتوضأ بالنجس أولاً وبالطهور بعده، فيكون وضوءه بالطهور بعضه رافع لنجاسة البدن بالذي قبله، وإن كان توضأ بالطهور أولاً ثم بالنجس بعده فهذه مصيبة؛ لأنه سيتنجس ويصلي وهو متنجس، ولذلك لا يستقيم أن يقال له: توضأ بواحدٍ منهما أو بهما معاً، وإنما يقال له: اتركهما واعدل إلى التيمم. فلو قال قائل: كيف يتيمم والله يقول: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43] وهذا قد وجد الماء؟! نقول: إن الشرع قال: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً) أي: ماءً طهوراً تبرأ به الذمة، وهذا ماءٌ لا تبرأ به الذمة، فأصبح وجوده وعدمه على حدٍ سواء، ولذلك يسمونه العجز الحكمي، حيث يكون الماء موجوداً ولكن لا تستطيع أن تستعمله، فيعتبر الماء كأنه مفقود حكماً. وقال بعض العلماء: يخلطهما مع بعضهما، وعلى كل حال: فإن المذهب المعتبر أنه يترك كلا المائين ويتيمم. وأصل هذا مسألة أصولية من أمثلتها: إذا اختلطت أخته بأجنبية أو ميتة بمذكاة حرمتا، فلو كان عنده شاتان: إحداهما مذكاة ذكاة شرعية، والثانية: ذُكر عليها اسم غير الله، فهي فسق ورجس لا يجوز أكلها، وكلا الشاتين شكلهما واحد، ومكانهما واحد، فالتبس عليه فلم يستطع أن يعرف أيتهما المذكاة؟ فإننا نقول: حرمت كلا الشاتين؛ لأنه في مظنة أن يقع في المحرم، وهذه المسألة قررها غير واحد من أئمة الأصول ومنهم الغزالي في المستصفى، وكذلك الإمام ابن قدامة في الروضة. كذلك هنا: إذا اختلط الماء الطهور بالنجس، نقول: اتركهما واعدل إلى التيمم. (وإن اشتبه طهورٌ بنجس حرم استعمالهما ولم يتحر). لأنه يؤدي إلى تنجيس بدنه واستباحة الصلاة على وجهٍ لا تبرأ به الذمة. قال رحمه الله: [ولا يشترط للتيمم إراقتهما ولا خلطهما]. قال بعض العلماء: يشترط في التيمم أن يريقهما حتى يصير غير واجد للماء، وصورة المسألة: إذا كنت في سفر وليس عندك إلا وعاء فيه ماء طهور، ووعاء فيه ماء نجس ولا تستطيع التمييز؛ أما لو وجدت غيرهما فإنك تتركهما وتتوضأ بالغير، لكن محل الإشكال هنا إذا لم يوجد ماء غير هذا الماء المشتبه فيه، فتترك الاثنين وتتيمم، وقال بعض العلماء: يخلطهما. ومذهب الخلط يصح إذا كان أحدهما طهوراً يغالب الآخر وأمكن تمييزه، لكن هنا لا يمكن التمييز؛ لأنه إذا خلطهما مع بعضهما ربما أنه يتنجس أحدهما في الآخر؛ لأنه إذا وردت النجاسة على الطهور نجسته، وإذا ورد الطهور على النجاسة طهرها، وأنت لا تستطيع في هذا الحالة أن تفعل كلا الأمرين، لا تورد هذا على هذا، ولا هذا على هذا، فتلغي الاثنين كأنهما غير موجودين، ثم تتيمم، وهذا هو المذهب المعتبر.

مسألة اشتباه الطهور بالطاهر من الماء

مسألة اشتباه الطهور بالطاهر من الماء قال المصنف رحمه الله: [وإن اشتبه بطاهرٍ توضأ منهما وضوءً واحداً]. هذه مسألة أخرى: عندك سطلان، أحدهما فيه ماءٌ طهور، والثاني فيه ماءٌ طاهر. فإن الماء الطهور هو وحده الذي يصح به الغسل والوضوء، أما الطاهر -كما تقدم معنا- فإنه لا يرفع حدثاً ولا يزيل خبثاً، فهل إذا كان أحدهما طهوراً، والثاني طاهراًَ، يأخذ نفس الحكم السابق؟! A لا. فإن الطاهر لا ينجس البدن، فنقول له: توضأ من هذا غرفة، ومن هذا غرفة، فيأخذ الغرفة الأولى من أحدهما ويتمضمض، ثم يأخذ الغرفة الثانية من الآخر ويتمضمض، ثم يأخذ غرفةً من أحدهما ويغسل بها وجهه، ثم يأخذ غرفة من الآخر ويغسل بها وجهه، ثم يأخذ غرفةً أخرى لليد وبعدها للرأس وبعدها للرجلين. ويكون على هذا قد تأكد أنه قد توضأ بماءٍ طهور؛ لأن الماء الموجود إما طهور وإما طاهر، فإذا توضأ منهما فقد جزم بكون الماء الطهور قد أصاب بدنه، وهكذا في الغسل يصب ويفرغ عليه من الإناءين. ويشترط في ذلك تعميم العضو، فبكل غرفة يعمم العضو، إن كان الوجه استوعب الوجه بكل إناءٍ منه غرفة، وإن كانت اليد استوعب اليد وهكذا. قال رحمه الله: [من هذا غرفة ومن هذا غرفة، وصلى صلاةً واحدة]. (وصلى صلاةً واحدة) لأنه يكون بعد انتهائه من الوضوء على هذه الصورة قد تطهر، ولا يجب عليه صلاتان، قال بعضهم: يتوضأ من هذا ويصلي، ثم يتوضأ من الثاني ويصلي، والصحيح: أنه يتوضأ من هذا غرفة ومن هذا غرفة حتى يتم الوضوء ثم يصلي صلاةً واحدة.

مسألة اشتباه الطاهر بالنجس من الثياب

مسألة اشتباه الطاهر بالنجس من الثياب قال المصنف رحمه الله: [وإن اشتبهت ثيابٌ طاهرةٌ بنجسةٍ أو محرمة]. هذه مسألة ثانية: أراد إنسانٌ أن يصلي، ومن شرط صحة الصلاة سترُ العورة، وعنده ثوبان أحدهما: نجس، والثاني: طاهر، ولا يستطيع أن يعرف الثوب النجس من الثوب الطاهر، والتبس عليه ذلك، فلو قال لك قائل: ما يمكن هذا! لأنه إذا وقعت النجاسة -مثلاً- على ثوبه فإنه يستطيع أن ينظر إلى مكان النجاسة ويعرف أن هذا نجس وأن هذا طاهر. فنقول له: افرض أنه في صلاة الفجر في ظلمة، ليس عنده ما يستطيع أن يميز به الثوب الطاهر من الثوب النجس، فما الحكم؟! في هذه الحالة قال العلماء: يصلي بعدد النجس ويزيد صلاة، فلو كان عنده ثلاثة أثواب، واحد منها نجس، يصلي في ثوبين، فيلبس أحدهما ويصلي، ثم يلبس الآخر ويصلي، فإنه إذا كان الأول نجساً فإن الثاني طاهر بيقين، فلو فرضنا أن عدد الثياب خمسة والنجس منها ثوبان فإنه يصلي ثلاث صلوات؛ لأني النجس ثوبان، فيصلي في كل ثوبٍ، ثم إذا بلغ المرة الثالثة يكون قد تحقق أنه قد أدى الصلاة بطهارةٍ كاملة. قال رحمه الله: [صلى في كل ثوبٍ صلاةً بعدد النجس أو المحرم وزاد صلاة]. (أو المحرم) كأن يكون عنده ثوب حرير، ولا يستطيع أن يميز أن هذا ثوب حرير، كأن يكون في ظلام لا يعرف هل هذا حرير أو غيره، ففي هذه الحالة يصلي بعدد النجس أو المحرم ويزيد صلاةً واحدة.

الأسئلة

الأسئلة

إشكال في مسألة اشتباه الطهور بالنجس

إشكال في مسألة اشتباه الطهور بالنجس Q مسألة: (إن اشتبه طهورٌ بنجس) كيف يكون ذلك الاشتباه والنجس إنما يعرف إما بلونه أو طعمه أو رائحته؟ A بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهذا سؤالٌ جيد، وتعلمون أننا قلنا: إن المذهب الراجح هو تغير اللون والطعم والرائحة، وبناء على ذلك فإن المصنف أورد هذه المسألة على المذهب الثاني، وهو الذي يرى: أن مجرد وقوع النجاسة في القليل والكثير يوجب الحكم بنجاسة الماء الطهور، وبناءً على مذهب المصنف: لو كان هناك سطل دون القلتين فأصابته نجاسة حكم بنجاسته، فلا يمكن التمييز فيه، ففي هذه الصورة يكون من جنس ما لا يمكن تمييزه، ويصح تفنيد المصنف وذكره لهذه المسألة على الأصل الذي درج عليه والله تعالى أعلم

وجوب الغسل وإراقة الماء من ولوغ الكلب

وجوب الغسل وإراقة الماء من ولوغ الكلب Q على القول بأن العبرة في نجاسة الماء وطهوريته بالتغير لا بالقلتين، فما قولكم -حفظكم الله- في هذه الصورة: قدرٌ فيه ماء، ولغ فيه كلبٌ، فإن قلنا: هو طهور، فكيف نجمع بينه وبين حديث الإراقة من ولوغ الكلب، وإن قلنا: هو نجس، خالفنا الإجماع؟ A هذا سؤالٌ جيد، وهو إيراد أورده أصحاب مذهب القلتين على مذهب العلماء الذين يعتبرون التغير، والجواب يسير سهل، فقد قالوا: إن الحكم على الماء بالإراقة كما في رواية مسلم في حديث الكلب حكمٌ تعبدي، بدليل أنه أُمر بالتسبيع، فلو كان لنجاسته لأمر بالتثليث ولم يؤمر بالتسبيع؛ ولذلك يقولون: إنه حكمه تعبدي، ألا ترى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً) فدل على أن النجاسة تغسل ثلاثاً، فكونه يأمر في ولوغ الكلب بغسله سبعاً، دل على أن حكم المسألة تعبدي. والقاعدة عند الأصوليين: أن الإيرادات على الأصل بالمسائل التعبدية لا تصح، أي أن الأصل معتبر؛ ولكن ما كان تعبدياً فلا يرد على الأصل، وبناءً على ذلك يعتبر هذا الاعتراض غير مؤثر في حكم المسألة، والله تعالى أعلم.

حكم المواد البترولية الخارجة من الأرض

حكم المواد البترولية الخارجة من الأرض Q ما حكم المواد البترولية مثل الزيوت والبنزين والشحم وغيرها إذا وقعت على الثوب أو على مكان الصلاة أو كانت في اليد وغيرها، هل هي من النجاسات التي يجب التطهر منها؟ A بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالمواد البترولية طاهرة كلها، وليس فيها شيءٌ نجس، وإنما التبس على بعض طلاب العلم ما ذُكِرَ أن أصلها من الميتات القديمة، وأنها ضغطت في الأرض حتى صارت بترولاً، والصحيح: أن هذا الكلام ليس بمعتبرٍ شرعاً، بل هي كنزٌ من كنوز الله التي أودعها في الأرض، كما ثبت في الحديث الصحيح أنه: (لا تقوم الساعة حتى تخرج الأرض كنوزها) ولو كانت الحيوانات الميتة القديمة هي التي نشأ منها البترول، لوجدنا البترول تحت المجازر. ولذلك لا يعتبر هذا دليلاً وإنما هو من رجم الغيب وهذا من تعبيرات الكفار، فإنهم لا يؤمنون بوجود المؤثر فيقولون: منذُ ملايين السنين كانت هناك دواب كالديناصورات ونحوها فانقرضت مع فعل الزمن، ثم ضُغطت في الأرض، سبحان الله! ما أكفر الإنسان! كل شيء يمكن أن يقال إلا: لا إله إلا الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91] يعطيهم المؤن والمنن وبدلاً من أن يقولوا: هي كنزٌ من الله يقولون: من ميتة الديناصور، ومن ضغط الأرض عليها منذ ملايين السنين، ثم ملايين السنين متى هذا؟ يعني: لو جئت تحسب ما بينك وبين نوح هل يبلغ ملايين السنين؟ كل ذلك حساب وضرب في الظنون كما قال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [الأنعام:116] ولكن المؤمن الصالح الموفق يقولها بكل عقيدةٍ وإيمان: هذا كنزٌ أوجدهُ الله وأسكنه في أرضه، وهو العليم بخلقه، فإننا نجده في البحار حيث لا دواب ولا غيرها، ولكنه كنزٌ من الله جل وعلا جعله فيها. وهذا الكنز الأصل طهارته حتى يدل الدليل على نجاسته، فجميع مواد البترول وما يشتق منها طاهرة، وليست بنجسة سواءً أصابت الثوب أو البدن أو المكان لا تؤثر في ذلك ألبتة، والله تعالى أعلم.

الفرق بين اشتباه الماء الطاهر بالنجس واشتباه الثوب الطاهر بالنجس

الفرق بين اشتباه الماء الطاهر بالنجس واشتباه الثوب الطاهر بالنجس Q فضيلة الشيخ حفظكم الله قلتم: إنه لو كان عند أحدنا ثياب واختلطت النجسة منها بالطاهرة أنه يصلي بعدد النجس ويزيد صلاة، السؤال: لماذا لا يجري هذا الأمر باختلاط الماء الطاهر بالنجس؟ A بينا أنه في حال اختلاط الماء الطاهر بالنجس لو أمرناه أن يصلي بكل ماء على حدة لأدى ذلك إلى الشك بكونه متنجساً؛ لأنه سيصلي بنجاسةٍ قطعاً، بمعنى أنه سينجس بدنه، فلا يدري هل الأول هو النجس أم الثاني هو النجس؟ فإن تنجس في الأول وصلى فإنه لم يصلِّ، فتكون صلاته بالطهور الثاني غير معتبرة، وتوضيح ذلك: أننا لو قلنا: توضأ من أحدهما ثم صلِّ، ثم توضأ من الثاني وصلِّ، كما قلنا في الثياب لأدى ذلك إلى ما يلي: أنه لابد أن يبدأ إما بالنجس أو بالطهور، فإن ابتدأ بالنجس وتوضأ به، فإنه لا تصح صلاته الأولى، فإن توضأ بعده بالطهور؛ فإنه في هذه الحالة يكون الطهور أثناء صبه على اليد مزيلاً للخبث لا رافعاً للحدث، فلا يستقيم وضوءه لا الأول ولا الثاني، هذا إذا تقدم النجس وتأخر الطهور، قالوا: فإذا أمرناه يحتمل أنه يفعل ذلك وبسبب هذا الاحتمال لا نجيز له، فلو فرضنا أنه توضأ بالطهور أولاً وصلى، ثم توضأ بالنجس بعده وصلى؛ فإنه ستبقى فيه النجاسة فينجس بدنه وثوبه، ومكانه بخلاف الثوب الذي تكون نجاسته قاصرة على المحل المتنجس دون البدن، والله تعالى أعلم.

حكم من وجد المني على ثوبه

حكم من وجد المني على ثوبه Q سائل يقول: رجل نام ليلة السبت وهو متأكدٌ من طهارة ملابسه، ثم اكتشف يوم الأحد بعد العشاء أن على ملابسه الداخلية جنابة، فماذا يصنع في تلك الصلوات التي مرت عليه وهو نجس، وهو لا يعلم هل حصلت الجنابة ليلة السبت أو ليلة الأحد أفتونا وجزاكم الله خيرا؟ الجواب، أولاً: وصفك له بقوله: (وهو نجس)، غير صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المؤمن لا ينجس) ولكن يقال: متنجس، يعني عنده ثوبٌ لابسه النجس، وهذا على القول: بأن المني نجس، والصحيح: أن المني طاهر، فلا يستقيم وصفه بالنجاسة ألبتة على ظاهر السنة. وبناءً على ذلك: يرد السؤال: من وجد في نهارٍ أثر المني، وهو متأكد أن الليلة الماضية وهي السبت أو الأحد أو الإثنين أو الثلاثاء كان على غير جنابة، فأصح الأقوال عند العلماء، أن من وجد الجنابة في ثوبه فعليه أن يعيد من آخر نومةٍ نامها، فلو فرضنا أنه وجد أثر الجنابة في صلاة المغرب، فإنه إن نام الصبح ولم ينم بعد الصبح أعاد الصبح وما بعده، وإن نام الظهر ووجد الأثر المغرب وجب عليه قضاء العصر وحدها، فيغتسل ويقضي العصر، وهذا على قاعدة (اليقين لا يزال بالشك)، فإن اليقين في آخر نومة والشك فيما قبلها، فنبني على اليقين ونلغي الشك قبلها، والأصل فيه قبل ذلك أنه متطهر، وهذا على القاعدة التي ذكرناها والله تعالى أعلم.

باب الآنية

شرح زاد المستقنع - باب الآنية الأصل في الأواني إباحة استعمالها واتخاذها إلا ما حرمه الشرع كآنية الفضة والذهب، والأصل في أواني الكفار الحل إلا إذا رأينا أمراً ظاهراً يقتضي عدم جوازها، كاستعمالها في النجاسة وطبخ الخنزير وغير ذلك، فيحرم علينا استعمالها، إلا إذا لم نجد غيرها فلنغسلها ونستعملها.

أحكام الأواني

أحكام الأواني بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الآنية] الباب: هو المنفذ بين الشيئين يتوصل به أحدهما إلى الآخر، من داخلٍ إلى خارج والعكس، قالوا: سُميت مباحث العلم أبواباً؛ لأن الإنسان يتوصل من خارج وهو: الجهل بها، إلى داخلٍ وهو: العلم بما فيها، فمن قرأ شيئاً من هذه الأبواب فقد أدرك العلم الذي فيها، كمن دخل البيت فإنه يدرك ما فيه، ويرتفق بمنافعه. (باب الآنية) واحدها إناءٌ، وجمعها رحمة الله عليه لأن الأواني منها ما أباحه الشرع، ومنها ما حرمه الشرع، فناسب أن يقول: (باب الآنية)، أي: في هذا الموضع سأذكر لك أحكام الشريعة في الأواني، والسبب الذي يجعل العلماء يذكرون باب الآنية، ويتكلمون على مباحث الآنية في كتاب الطهارة: أن الطهارة تحتاج إلى ماء يُتطهر به، وصفةٍ تتم بها الطهارة، والماء الذي يتطهر الإنسان به يحتاج إلى وعاء يحمله فيه، فإنه قد يكون الماء طهوراً ولكن الإناء نجس، فهل يجوز أن يتوضأ الإنسان منه؟! وقد يكون الماء طهوراً، ولكنه في إناءٍ محرم كالمصنوع من الذهب والفضة، فهل يجوز أن يتطهر به؟ فإذاً لا بد من الكلام على أحكام الآنية؛ لأنها أوعية الماء الذي يُتطهر به.

الأصل في الأواني الطهارة

الأصل في الأواني الطهارة قال المصنف رحمه الله: [كل إناء طاهر ولو ثميناً يباح اتخاذه واستعماله]. هذه قاعدة، فلو سألك سائل: ما هو الأصل في الأواني؟ تقول: الأصل أنها جائزة ومباحة، إذا كانت طاهرة ولو كانت ثمينة، فلو كان الإناء من الماس أو من الجواهر أو من غيرها من المعادن الثمينة النفيسة، فإنه يباح اتخاذه واستعماله، فلو أن إنساناً شرب في كأسٍ ثمينٍ من معدنٍ ثمين كالجواهر أو غيرها فإنه يباح له ذلك، فالأصل حلّ هذه؛ لأن الله يقول: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13]. فالأصل في هذه الأشياء أنها مسخرةٌ من الله جل وعلا لكي ينتفع بها الإنسان، تكريم من الله لبني آدم، فإذاً: الأصل في الإناء أنه يباح لك استعماله واتخاذه. والاتخاذ يكون في البيت بأن يحفظ فيه الأشياء أو يجعله للزينة ونحو ذلك، فالأصل جواز ذلك ولا حرج فيه، هذا في الآنية. وإذا كان الأصل في الآنية حتى الثمينة منها الإباحة فإنه ينتفع بها وعلى هذا يجوز الوضوء بها، فيجوز أن يتوضأ بآنية ولو كانت غالية الثمن، ما خلا ما استثناه الشرع، فالذي يستثنيه الشرع ويحكم بحرمة استعماله واتخاذه لا يجوز أن يتوضأ الإنسان به، ولا أن يستنجي، ولا أن يغتسل.

حرمة استعمال أواني الذهب والفضة

حرمة استعمال أواني الذهب والفضة [إلا آنية ذهبٍ وفضة ومضبب بهما]. (إلا آنية ذهبٍ) وهو المعدن المعروف، (وفضة ومضببٍ بهما) وآنية المضبب بهما. أما: آنية الذهب والفضة فلا يجوز للإنسان أن يشرب في كأس ذهبٍ ولا كأس فضة، ولا يجوز له أن يأكل بملعقة ذهبٍ ولا فضة ولو كان أثنى، فإن الأنثى يباح لها الحلي للزينة، أما الاستعمال والأكل والشرب والاتخاذ والاغتسال من آنية الذهب والفضة فمحرم، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) وفي حديث الدارقطني: (الذي يشرب في آنية الذهب إنما يجرجر في بطنه نار جنهم) فإذاً من كبائر الذنوب: الأكل أو الشرب في آنية الذهب أو آنية الفضة، وكذلك لو اتخذ صحناً من ذهب أو صحناً من فضة وجعله للزينة في البيت أو نحو ذلك. والسبب في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن حرمة الأكل والشرب من آنية الذهب والفضة مع أن الأكل فيها والشرب فيها من الحاجة، فلأن يحرم ما هو من مقام التحسينيات والكماليات الذي هو الزينة من باب أولى وأحرى. فكون الشرع يحرم علينا أن نأكل أو نشرب في آنية الذهب والفضة يدلنا على أن اتخاذها دون استعمال أولى بالتحريم، وهذا -كما يقول العلماء رحمةُ الله عليهم- من باب التنبيه بالأعلى على ما هو أدنى منه؛ لأن نصوص الشريعة تنبه بالأعلى على الأدنى، وبالأدنى على الأعلى، ولذلك يقولون: حرم النبي صلى الله عليه وسلم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، وكلٌ من الأكل والشرب محتاجٌ إليه، فإن الأكل والشرب قد يصل إلى الاضطرار، فإذا منع الإنسان من أن يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة، فوضعها في بيته زينة أشد وأبلغ في التحريم، ولا يجوز له فعل هذا. قال رحمه الله: [فإنه يحرم اتخاذها واستعمالها ولو على أنثى]. أي: ولو كان الذي يشرب فيه من الإناث، فإن التحريم للأكل والشرب عام، لقوله عليه الصلاة والسلام: (فإنها لهم في الدنيا -أي: للكفار- ولكم في الآخرة). قال بعض العلماء: لا يؤمن على من أكل وشرب فيهما، وانتفع بالذهب والفضة بالأكل والشرب في صحافهما وآنيتهما أن يحرمه الله جل وعلا في الآخرة، كما حرم شارب الخمر -والعياذ بالله- خمر الآخرة بإدمانه عليها في الدنيا، نسأل الله السلامة والعافية. [وتصح الطهارة منها]. هنا مسألة: عند العلماء أن الشرع إذا نهى عن شيءٍ فهل يدل ذلك على نهيٍ فعل متضمن به، مثال ذلك: لو أن إنساناً أخذ إناءً من ذهب أو فضة ثم توضأ منه، أو جاء إلى صنبور فتوضأ منه وهو من الذهب أو الفضة، فهل يصح وضوءه وغسله أو لا؟! بعبارة أوضح: بما أنه لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة، فلو أني توضأت واغتسلت من إناء ذهبٍ أو إناء فضةٍ فللعلماء وجهان مشهوران: الوجه الأول: أن من توضأ من إناء الذهب والفضة صح وضوءه؛ لأن الله أمر بغسل الأعضاء، والوعاء منفصلٌ عن شرط الصحة وهو الوضوء، وهذا قول جمهور العلماء، واختاره غير واحدٍ من العلماء، أنه إذا توضأ أو اغتسل من إناء ذهبٍ أو فضة، فوضوءه وغسله صحيح. الوجه الثاني: ذهب بعض العلماء -وهو قولٌ في مذهب الحنابلة- إلى أنه إذا توضأ أو اغتسل من إناء ذهبٍ أو فضةٍ فلا يصح وضوءه ولا غسله؛ لأنه فعل ما حرمَ عليه شرعاً، وهذا المحرم لا يوجب ثبوت العبادة الشرعية؛ لأن الشرع يقول له: لا تتوضأ من هذا الإناء فتوضأ من هذا الإناء، فلا تستباح العبادة الشرعية بمنهي عنه شرعاً، والصحيح أن الوضوء صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) وهذا قد توضأ، فإن الأعضاء التي أُمِرَ بغسلها قد غسلها، ولكن نقول: هو آثم من جهة استعمال الإناء، وصلاته صحيحة لوقوع العبادة على وجهها المعتبر، فالجهة منفكة، وهذه قاعدة عند الأصوليين: (أنه إذا ورد النهي وانفك عن المنهي عنه في جهته لم يقتضِ ذلك البطلان) فإن الماء الذي توضأ به ماءٌ طهور، والعضو الذي غسله عضوٌ معتبرٌ شرعاً، فإذاً صحت عبادته وصح وضوءه.

شروط اتخاذ الإناء المضبب بالفضة

شروط اتخاذ الإناء المضبب بالفضة قال المصنف رحمه الله تعالى: [إلا ضبة يسيرة من فضةٍ لحاجة]. الضبة بالذهب والفضة تكون على أطراف الإناء أو الوعاء، فيكون الإناء محلى في أطرافه، فهذا يعتبر مضبباً كضبة الباب تحيط بعضاده، وكانوا في القديم يستخدمون آنية من الخشب، فيحفرونها في جذوع النخل ويستخلصون منها الأقداح، وهذه إلى الآن لا تزال موجودة في بعض البلاد، حيث يستخدمون هذه الآنية من الخشب بمثابة الأوعية، وهذا الوعاء قد ينكسر فيحتاج إلى جبر الكسر بصب الفضة عليه حتى لا يخرج الماء من هذا الشعب، فيسمونه (مضبباً)، فإذا انكسر الإناء جاز أن يضع الإنسان فيه ضبةً يسيرة من الفضة بشروط: أولاً: أن تكون من الفضة. ثانياً: أن تكون يسيرة. ثالثاً: أن لا يباشر الأكل والشرب من نفس المكان الذي فيه الفضة. هذه ثلاثة شروط: أن تكون ضبةً يسيرة، ومن فضةٍ، ولا يباشر الشرب من مكان الفضة. لأنه نُهي عن الشرب من آنية الذهب والفضة، فيتقي المكان الذي فيه الفضة ويشرب من غيره إلا أن تكون ضبةً يسيرة فيجوز له، دليل ذلك حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انكسر قدحه سلسله بفضة) قيل: الذي سلسله أنس، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سلسله، والعمل على الثاني. قال رحمه الله: [وتكره مباشرتها لغير حاجة]. أي: مباشرة الضبة لغير حاجةٍ، فإن وُجدت الحاجة كما أن يكون الموضع الذي انكسر هو موضع الشرب، قالوا: فحينئذٍ لا يستطيع أن يشرب إلا من هذا الموضع الذي فيه الفضة فيجوز له أن يشرب؛ لأن أصل التحريم الانتفاع بالفضة على سبيل الكماليات وهنا قد انتفع بها على سبيل الحاجة، فتخلف فيه المعنى الذي من أجله ورد النهي شرعاً.

أحكام أواني الكفار

أحكام أواني الكفار قال المصنف رحمه الله: [وتباح آنية الكفار]. بعد أن بين رحمة الله عليه أحكام أواني المسلمين، وقال لك: الأواني كلها جائز الانتفاع بها إلا آنية الذهب والفضة، بيّن بعد ذلك حكم آنية الكفار، والكفار على قسمين: كفارٌ من أهل الكتاب وهم الذين لهم في الأصل دينٌ سماوي، وهم اليهود والنصارى. وكفارٌ على غير دين سماوي كالوثنيين والمشركين والمجوس ونحوهم، فيرد Q لو أن إنساناً سألك في يومٍ من الأيام وقال لك: وجدتُ إناءً ليهوديٍ فهل يجوز لي أن أتوضأ أو أغتسل منه، أو آكل أو أشرب منه؟! هذا سؤالٌ وارد، ولذلك بينت الشريعة حكم آنية الكفار في أكثر من حديث، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة؛ وتوضيحها: أن آنية الكفار على حالتين: الحالة الأولى: أن تكون جديدةً غير مستعملة، كالأواني التي تأتي منهم جديدة مُصَنّعة، فهذه طاهرةٌ يجوز استعمالها والانتفاع بها بالإجماع ما لم تكن من مادةٍ نجسة؛ فإن كانت من المواد الطاهرة كالحديد والصفر والنحاس ونحوها جاز الانتفاع بها بالإجماع؛ لأن اليقين طهارتها وليس هناك دليل على النجاسة، فنبقى على الدليل الأصلي ونستصحب الأصل من كونها طاهرة. الحالة الثانية: أن تكون أواني الكفار مستعملة، فإن رأيت استعمالهم للنجاسة فيها، ورأيت الإناء وفيه النجاسة فبالإجماع أنه نجسٌ حتى يطهر، ولا يجوز استعماله بالإجماع حتى يغسل. فلو وجدت كأساً لهم فيها خمر فإنه لا يجوز استعمالها إلا بعد غسلها وتنظيفها، وأما إذا كانت هذه الأواني مغسولة عندهم ولم يجد الإنسان غيرها، وكانوا قد أكلوا فيها أو شربوا فهذا للعلماء فيه وجهان: منهم من قال: لا تستعمل إلا أن يضطر إليها؛ لما ثبت في الصحيح من حديث أبي ثعلبة الخشني قال: (يا رسول الله! إني بأرض قومٍ أهل كتاب أفآكل في آنيتهم؟ -وفي رواية أفنأكل في آنيتهم؟ - قال: لا. إلا ألا تجدوا غيرها فاغسلوها ثم كلوا فيها) فدل هذا الحديث على أن آنية الكفار التي يستعملونها لا يؤكل فيها. ونازع هذا الحديث حديثٌ آخر، وهو أكل النبي صلى الله عليه وسلم من آنية الكفار، ففي حديث رواه أحمد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استضافه يهودي على خبزٍ وإهالة سنخة، فأكل النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك) وكذلك أيضاً ثبت في الصحيح عنه: (أن امرأة يهوديةً دعته إلى شاةٍ ووضعت السم فيها، ثم أطعمته عليه الصلاة والسلام فأكل منها). فدل هذا على أن آنية الكفار يؤكل فيها، قالوا: أما الشرب والوضوء ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما لقي المرأة التي معها المزادة توضأ هو وأصحابه منها) فتوضأ من مزادة مشركة. قالوا: فهذا يدل على أن أواني الكفار يؤكل فيها ويشرب منها ما لم تُعلم نجاستها، وهذا مذهب بعض العلماء. وحديث أبي ثعلبة يقتضي أنه لا يؤكل ولا ينتفع بها إلا ألا يجد غيرها فيغسلها ثم يأكل فيها. وأعدل المذاهب: أن يحتاط الإنسان فيها، فلا يأكل في آنية الكفار ولا يشرب منها إلا ألا يجد غيرها فليغسلها ثم ليأكل فيها، وما ورد من فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يعارض هذا الأصل؛ لأن الغالب في هذه الآنية طهارتها، ولو كانت نجسةً لما خلا الوحي من تنبيهه صلى الله عليه وسلم على نجاستها. وعلى هذا فإن التفصيل في أواني الكفار بالصورة التي ذكرناها هو أعدل الأقوال. الحالة الثالثة: أن لا نعلم أو لا نرى فيها نجاسة، فهل نُعْمِل الأصل الذي هو اليقين أو نُعْمِل الظاهر؟ وقد بسطت هذه المسألة في شرح البلوغ عند حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه وأرضاه. فعند العلماء شيء يُسمى: (اليقين) كما تقدم، وشيء اسمه: (الظاهر)، فقد يقول قائل: نحن قلنا في القاعدة: (أن اليقين لا يزال بالشك)، فاليقين في أواني الكفار: أنها طاهرة في الأصل، فكيف عدلنا عن قاعدة اليقين في هذا الموضوع حتى صرنا نقول: إن أواني الكفار تغسل؟! A هناك شيءٌ اسمه: دلالة الظاهر، والظاهر قد يعارض الأصل، فتارةً يُعمِل اليقين، وتارة يُعمل الظاهر، فإن الظاهر في حال الكفار أن أوانيهم نجسة؛ لأنهم يشربون فيها الخمور ويأكلون فيها الميتات، فالظاهر من حالهم أنها نجسة. ومن أمثلة ذلك: إذا دخل الإنسان أكرمكم الله إلى الحمام، فوجد الماء الذي هو في مجرى النجاسة، فالماء هذا اليقين فيه أنه نجس، والماء الذي خارج الحمام اليقين فيه أنه طاهر، فيبقى الماء الذي بينهما هل نقول: اليقين فيه ما بداخل الحمام أو ما بخارجه؟! قالوا: هذا يعتبر من دلالة الظاهر، فالظاهر دورات قضاء الحاجة أنها نجسة حتى يدل الدليل على طهارتها، وبناءً على ذلك فإن الظاهر من أحوال الكفار النجاسة، فيقدم الظاهر على الأصل، وهذا من المسائل التي يتعارض فيها الظاهر والأصل، وإذا تعارض الظاهر والأصل قُدّم الأصل في مسائل وقدم الظاهر في مسائل أخرى. وقد تكلم على هذه القاعدة كلاماً نفيساً الإمام الزركشي في كتابه: المنثور في القواعد، وتكلم عليها كذلك القرافي في: الفروق، وغيرهم من أئمة الأصول بحثوا هذه المسألة، وفيها إشكالات مشهورة عند أهل العلم رحمة الله عليهم. قال المصنف رحمه الله: [وتباح آنية الكفار ولو لم تحل ذبائحهم]. أي: يباح لك استعمال أوانيهم ولو لم تحل ذبائحهم؛ لأن بعض العلماء يقول: تباح آنية أهل الكتاب الذين تحل ذبائحهم، وأما غيرهم ممن لا تحل ذبائحهم فلا تباح آنيتهم. قال المصنف رحمه الله: [وثيابهم إن جُهِل حالها]. ثياب الكفار لها ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن تكون جديدةً لم تُلبس، كالثياب المصنعة في بلاد الكفار، فحكمها الطهارة يقيناً، فأي ثوبٍ جديد ولو جاء من ديار الشرك والكفر فإنا نقول: اليقين أنه طاهر، والأصل فيها الطهارة حتى ترى النجاسة فيه أو عليه. الحالة الثانية: أن ترى على ثوب الكافر نجاسة، فحكمه أنه نجس، مثال ذلك: أن تراه قد صب شيئاً نجساً على ثوبه أو عمامته أو نحو ذلك، فتقول: الثوب نجس، والعمامة نجسة. الحالة الثالثة وهي التي فيها الإشكال: إذا كان ثوباً يستعمله الكافر ولم ترَ نجاسةً عليه، فهل هو نجس أم طاهر؟ قال بعض العلماء: ثياب الكفار يُعمل فيها اليقين من أنها طاهرة حتى تُرى النجاسة عليها، وهو مذهب من يتسامح فيها. والمذهب الثاني يقول: ثياب الكفار الظاهر فيها النجاسة؛ لأنهم يبولون ويتغوطون ولا يسلمون من وضع النجاسة على ثيابهم وبدنهم ولا يتورعون، فالظاهر نجاستها كلها. والصحيح: هو المذهب الثالث وهو التفصيل: فإن كانت على موضع يغلب فيه النجاسة فهي نجسة كالثياب التي تلي العورة؛ فإنه إذا استعمل الإنسان ثوب كافرٍ مما يلي العورة كالسراويل ونحوها والأزر فإنه يغسلها قبل أن يستعملها؛ لأن الغالب فيهم أنهم لا يتورعون عن النجاسات، وأنهم لا يتطهرون، فنعمل دلالة الغالب، والنادر لا حكم له، فيفرق في ثيابهم المستعملة بين ما غلبت طهارته وما غلبت نجاسته.

أحكام جلد الميتة وما قطع منها حية

أحكام جلد الميتة وما قطع منها حية قال المصنف رحمه الله: [ولا يطهر جلد ميتة بدباغ]. جلد الميتة للعلماء فيه قولان مشهوران، وأصح هذين القولين: أنه إذا دُبغ جلد الميتة فقد طهر؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) ولما مر على الشاة الميتة قال: (هلا انتفعتم بإهابها؟ -يعني: بجلدها- قالت: يا رسول الله! إنها ميتة، قال: إنما حرُمَ أكلها) فإن هذا الحديث الصحيح يدل دلالة واضحة على أن جلد الميتة يطهر بالدباغ. وقال بعض العلماء وهي الرواية الثانية عن الإمام أحمد: أن جلد الميتة لا يطهر ولو بالدباغ، لحديث عبد الله بن عكيم عن أشياخ من جهينة أنهم أتاهم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهرين: (أن لا تنتفعوا من الميتتة بإهاب ولا عصب) وهذا الحديث مضطرب، حتى أن الإمام أحمد رحمة الله عليه -كما نقل الترمذي ذلك- رجع عن القول به في آخر حياته. فالصحيح: أن إهاب الميتة على ظاهر الحديث في الصحيحين إذا دُبغَ فقد طهر، فلو أن إنساناً ماتت عنده شاة، فأخذَ جلد الشاة ودبغه فقد طهر، وجاز له أن يضع الماء فيه، وأن ينتفع به، فالمصنف تبنى القول الثاني المرجوح، والصحيح ما ذكرنا بقوله: يطهر بالدباغ. قال المصنف رحمه الله: [ويباح استعماله بعد الدبغ في يابس من حيوانٍ طاهر في الحياة]. هذا على القول بنجاسته، فإذا كان جلد الميتة نجساً فإنه في هذه الحالة تنتفع به في اليابسات دون المائعات؛ لأن المائعات لو وضعت في جلد الميتة تتنجس، فبين رحمه الله: أن جلد الميتة لا ينتفع به وأنه يأخذ حكم الميتة، والصحيح -كما قلنا- أنه طاهرٌ إذا دبغ. قال المصنف رحمه الله: [ولبنها وكل أجزائها نجسة]. وهذا بلا إشكال؛ لأن الله عز وجل حرم الميتة، ولم يفرق بين لبنها ولا بين غيره. قال المصنف رحمه الله: [غير شعرٍ ونحوه]. شعر الميتة للعلماء فيه وجهان مشهوران: فجماهير العلماء على أن شعر الميتة مما لا تحله الحياة، بمعنى: أنه يجوز لك أن تنتفع بشعر الميتة؛ لأنه في حياتها يجز منها ولا يحكم بنجاسته بالإجماع، كما قال تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا} [النحل:80] فدّل دليل القرآن على طهارة الصوف والوبر، وما يستخلص من شعور بهيمة الأنعام، ومعلوم أن شعور بهيمة الأنعام تؤخذ منها بالحلاقة في حال حياتها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما أبين من حيٍ فهو ميت) فلو كانت الشعور تحلها الحياة لحكم بنجاسة الشعر وعدم جواز الانتفاع به، فدل هذا الدليل على أن شعر الميتة يجوز الانتفاع به ولو بعد موت الميتة؛ لأنه منفصل عنها وليست بمتصلٍ بها. قال المصنف رحمه الله: [وما أبين من حي فهو كميتته]. فإن كانت ميتته طاهرة فطاهر كالسمك، فلو أن إنساناً قطع ذنب سمكةٍ وهي حية وفرت، فهل يجوز له أن يأكل هذا الذنب؟ A نعم؛ لأن ميتة السمك نفسها يجوز أكلها: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فيجوز له أن ينتفع بجزء السمك؛ لكن لو أن إنساناً قطع رجل شاةٍ وهي حية. فحكمها كميتة الشاة، وميتة الشاة نجسة ومحرمة الأكل؛ كذلك رجلها إذا قطعت في حال حياتها فإنه يحكم بنجاستها.

الأسئلة

الأسئلة

جواز التختم بالفضة دون استعمالها

جواز التختم بالفضة دون استعمالها Q قلتم: إنه لا يجوز استخدام آنية الذهب والفضة في الأكل والشرب والاستعمال، وأنه قول جماهير أهل العلم، فكيف نجمع بين هذا القول والحديث: (العبوا بالفضة لعباً). A لا تعارض بين الحديثين، فإن اللعب بالفضة أن يلبسها الرجل وتكون في يده، والغالب أن الإنسان إذا تحلى بالفضة لعب بها، أما المتخذ فإنه لا يلعب بها لعباً، والاستدلال: بحديث: (العبوا بها لعبا) على أن المراد: افعلوا بها ما شئتم، استدلال بالتجوز في العبارة، أما حقيقة اللعب بالفضة فهي ما وردت السنة به من التختم ووضعه في اليد؛ ولذلك ثبت في الحديث عن عثمان رضي الله عنه كما في الحديث في الصحيحين: (أنه لما كان في سني خلافته لعب بخاتمه في بئر أريس، حتى سقط خاتم النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فطلبوه فلم يجدوه). فالمقصود أنه كان من عادتهم أنهم يلعبون بالخواتيم الفضة التي أذن الشرع بالتحلي بها، فالمراد حمل اللفظ على الحقيقة، لا على التجوز في العبارة من قوله: (العبوا فيها لعباً) إلا أن المراد بها: التوسع. والله تعالى أعلم.

الجمع بين النهي عن استعمال الذهب والفضة وبين فعل أم سلمة في استعمال الفضة

الجمع بين النهي عن استعمال الذهب والفضة وبين فعل أم سلمة في استعمال الفضة Q كيف يكون الجمع بين حديثين: الأول: (أن أم سلمة رضي الله عنها كان تضع شعرات للنبي صلى الله عليه وسلم في إناء فضة) والثاني: حديث أم سلمة نفسها في النهي عن الشرب من إناء الفضة، وقد قررنا أن هذا النهي ليس خاصاً بالشرب؟ A الأصل عند العلماء رحمةُ الله عليهم أن الصحابي إذا اجتهد وكان لاجتهاده وجه فإنه يعذر في اجتهاده، وتبقى دلالة السنة كما فهم من الشرع، وأخذ من أصول الشرع العامة على تلك الدلالة، ولا يعارض فعل أم سلمة رضي الله عنها هذا الأصل الذي قررناه. ولذلك يعتذر لها بأنه اجتهادٌ منها، ولا يقدح الموقوف على الصحابي في المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النهي عن الأكل والشرب متضمنٌ للنهي عما لا فائدة فيه وهو الاتخاذ. والله تعالى أعلم.

الوسائل المعينة على صدق التوبة والاستقامة

الوسائل المعينة على صدق التوبة والاستقامة Q إذا منّ الله تعالى على الشاب بالاستقامة، وعلم أنه طريق الحق، وعلم أن الشيطان له بالمرصاد فكيف يقاومه والشيطان يحاربه ببعض ذنوبه السابقة الخطيرة: كالنظر إلى المردان، وحب مجالستهم، بينوا ذلك؟ A الله المستعان! أحب دائماً أن الإنسان إذا سأل أن لا يمثل، فإذا كان الإنسان في نفسه مبتلى بأشياء فلا يذكرها؛ لأنه ربما سمع إنسان هذا فظن بالصالحين سوءاً، وهم أرفع -إن شاء الله- من هذه الأمور؛ ولذلك أنا لا أحب في المحاضرات والندوات أن تذكر مثل هذه الأمور لئلا يساء الظن بالأخيار، ويظن أن هذا موجود بينهم، وإنما هذه قضايا فردية قد تقع لبعض الإخوان فينبه على هذا، حتى لا يظن بهم ظن السوء. إذا منّ الله عز وجل على العبد بالاستقامة والتمسك بالدين والالتزام بشريعة الله رب العالمين، فما عليه إلا أن يعض عليها إلى لقاء الله إله الأولين والآخرين، تمسك بحبل الله واعتصم بشريعته ودينه، واجعل الجنة والنار أمام عينيك، وفر من الله إلى الله. أما ما ذكرت من الذنوب والخطايا والعيوب فإن الله لها، وهو مفرج الهموم والغموم والكروب، إذا ذكرك الشيطان بالماضي فادمع على ما كان دمعة الندم، وأخرجها من القلب بكل شجن وألم، وأحسن الظن بالله جل جلاله؛ فإنه يتوب على التائبين، ويمحو بفضله وإحسانه ذنوب المسيئين. أقبل على الله إقبال الصادقين المنيبين وأحسن الظن به؛ فإنه الله رب العالمين، لا يخيب من رجاه، ولا من سعى إليه ودعاه، فأحسن الظن به سبحانه وتعالى جل في علاه. أخي في الله! أوصيك بمجالسة الأخيار، وكثرة تلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار، فإنها تجلي عن القلوب العمى، وتعينها على التمسك بسبيل الهدى، أوصيك أخي في الله أن تكثر من ذكر الله فإنه حصنٌ حصينٌ من عدو الله، فما ذكر عبدٌ ربه إلا ذكره الله، ومن ذكر الله في ملأٍ ذكره في ملأٍ خير من الملأ الذين ذكره فيهم، فأكثر من ذكر الله، واعتمد على الله وأحسن الظن به، ألا وإن من أعظم الأسباب التي تثبت القلوب على سبيل المنهج والصواب: كثرة ذكر الموت والبلى، وقرب المصير إلى الله جل وعلا. اجعل الموت أمام عينيك، وأكثر من ذكر تلك الساعة التي تكون فيها واقفاً على آخر عتبة في الدنيا، أكثر من ذكرها، فوالله إنها تقض مضاجع الصالحين، وتعين على التمسك بالطاعة والدين، وكلما دعتك النفس إلى الشهوات والملهيات والمغريات فذكرها بساعة الموت والسكرات. واجعل القبر أمام عينيك، واستشعر مثل هذه الساعة وأنت وحيد فريد لا مال ولا بنون، ولا عشيرة ولا أقربون، وأكثر من ذكر الآخرة، فإنها تعين على الثبات وتثبت القلوب إلى الممات. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يثبتنا بالقول الثابت، اللهم إنا نسألك الثبات إلى الممات، اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا غير غضبان، اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا غير غضبان، اللهم منّ علينا بالصحة والغفران، اللهم إنا نعوذ بوجهك العظيم من الانتكاسة بعد الهدى، اللهم إنا نعوذ بوجهك العظيم من الضلال بعد الهدى، ومن العمى بعد البصيرة، ومن الحور بعد الكور، يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا، يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا. اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا نادمين، ولا مفتونين ولا مبدلين، يا ذا الجلال والإكرام! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب الاستنجاء [1]

شرح زاد المستقنع - باب الاستنجاء [1] إن باب الاستنجاء باب مهم؛ لأنه يتعلق بطهارة الخبث التي لا يصح وضوء الإنسان ولا صلاته إلا بها، ويذكر العلماء في باب الاستنجاء الآداب الشرعية المتعلقة بقضاء الحاجة على ضوء النصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قضائه لحاجته.

أحكام الاستنجاء

أحكام الاستنجاء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه أجمعين، ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [باب الاستنجاء]. الاستنجاء: استفعال من النجو، وأصله القطع للشيء، قال العلماء: سُمي قطع البول والغائط بالماء والحجارة استنجاءً؛ لأن المكلف إذا فعله فقد حصلت له الطهارة والنقاء، وبالطهارة والنقاء انقطع أثر النجاسة، فلذلك وصف بكونه استنجاء. وباب الاستنجاء باب مهم؛ لأنه يتعلق بالنوع الثاني من أنواع الطهارة، وهو طهارة الخبث، فإن الله عز وجل أمر كل من صلى أو أراد أن يصلي بتحصيل الطهارتين: الطهارة من الحدث، والطهارة من الخبث. فأما طهارة الخبث فيراد بها نقاء الثوب والبدن والمكان، وأما طهارة الحدث فهي الغسل أو الوضوء والبدل عنهما، فالعلماء رحمهم الله يعتنون ببيان الأحكام المتعلقة بمسألة قطع البول والغائط، ولا يصح وضوء الإنسان ولا تكمل طهارته ولا تعتبر ولا تصح صلاته إلا بعد أن يكون طاهر الثوب والبدن والمكان. وهذا الباب يسميه بعض العلماء بـ (باب الاستنجاء)، ويسميه البعض بـ (باب آداب قضاء الحاجة)، ويسميه بعضهم بـ (باب الخلاء وآداب الخلاء) ومراد العلماء رحمهم الله أن يذكروا فيه الآداب الشرعية المتعلقة بالإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته، سواء كانت بولاً أو غائطاً، وهذا الباب وردت فيه النصوص الصحيحة القولية والفعلية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبينت هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضائه لحاجته، ولذلك وصفه العلماء بباب آداب قضاء الحاجة. فمن يقول من العلماء: باب آداب قضاء الحاجة، استنبط ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قعد أحدكم لحاجته)، ومن سمّاه بباب الاستنجاء راعى فيه الحقيقة، كما ورد في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث سلمان: (نهانا أن نستنجي بروث أو عظم) فقالوا: باب الاستنجاء.

آداب الخلاء

آداب الخلاء وآداب الخلاء تنقسم إلى ثلاثة أقسام: آداب قبل دخول موضع قضاء الحاجة، وآداب أثناء قضاء الحاجة، وآداب بعد الفراغ من الحاجة. وكلها قد وردت فيها أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأُخذت من أصول الشريعة العامة. فأما الآداب التي هي قبل قضاء الحاجة: فمنها ما هو قولي، ومنها ما هو فعلي. فأما الأدب القولي: فيسن للمسلم إذا أراد أن يدخل الخلاء أن يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)، فهذا أدب يسبق قضاء الحاجة. وأما مثال الآداب التي تكون حال الجلوس لقضاء الحاجة: أن لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ببول ولا غائط؛ لما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط ولكن شرقوا أو غربوا). وأما الآداب التي تكون بعد الفراغ من قضاء الحاجة: فمنها قوله: (غفرانك) عند الخروج، ونحو ذلك من الأذكار. فأصبح هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قضاء الحاجة مشتملاً على ثلاثة أنواع من الآداب على حسب الأحوال: آداب قبل دخول الخلاء، وآداب أثناء قضاء الحاجة، وآداب بعد الانتهاء والفراغ من الحاجة. فالعلماء رحمهم الله يذكرون في هذا الباب ما يسن للمسلم أن يفعله قبل دخول الخلاء، وما يسن له فعله وهو في أثناء قضائه لحاجته، وما يسن له فعله بعد فراغه وانتهائه من قضاء حاجته.

التعوذ عند الدخول

التعوذ عند الدخول يقول المصنف رحمه الله: [باب الاستنجاء] أي: في هذا الباب سأذكر لك جملة من الأحكام الشرعية المتعلقة بالاستنجاء. [يستحب عند دخول الخلاء قول: بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث]. (يستحب عند دخول الخلاء) أي: قبل أن يدخل الإنسان الخلاء يستحب له أن يقول: (باسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث). والثابت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخُبُثِ -أو الخُبْثِ- والخبائث)، هذا هو الثابت في الصحيحين، وأما لفظة: (باسم الله)، فقد ورد فيها حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنن أن الإنسان إذا قال عند رفع ثوبه أو نزعه: باسم الله، فقد ستر عن أعين الجن، وهو حديث متكلم في سنده، ذكره المصنف رحمه الله وذكر معناه واعتبره في هذا الموضع. (يستحب لمن دخل الخلاء) هذا الكلام يقوله الإنسان إذا كان الموضع الذي يريد أن يقضي حاجته فيه موضعاً نجساً تقضى فيه الحوائج، توضيح ذلك: أن الناس يقضون حاجتهم إما في مكان مهيأ لقضاء الحاجة، وإما في مكان بريٍ ليس مهيأ لقضاء الحاجة، فمثال الأول: ما هو موجود الآن من دورات المياه، فإن هذا المكان معد لقضاء الحاجة وكان يسمى بالكنيف، وأما مثال الثاني: أن تخرج إلى الصحراء أو تكون في سفر فتنزل في موضع طاهر تريد قضاء الحاجة، ف Q متى يستحب أن يقول الإنسان هذا الذكر في الموضعين؟ A إذا كان الموضع مهيأً لقضاء الحاجة كدورات المياه، فالسُّنة أن يقول هذا القول قبل الدخول، أي: قبل أن يدخل إلى الكنيف أو إلى الحمام، وأما بعد الدخول فإنه موضع لا يشرع فيه أن يذكر اسم الله أو يذكر الله جل وعلا جهراً وبالنطق كما سيأتي إن شاء الله. الموضع الثاني: إذا كان الموضع غير مهيأ لقضاء الحاجة، بمعنى: أنه غير مختص بقضاء الحاجة، كالبرية والفضاء ونحوه، فقال العلماء: يسن للإنسان أن يقول هذا الذكر إذا أراد أن يرفع ثيابه، فإذا وقف على الموضع الذي يريد أن يقضي حاجته فيه قال: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)، وهذا الدعاء دعاء نبوي مأثور صحيح، وهو دعاء عظيم يعصم الإنسان به من شرور الشياطين، ومن البلاء الذي قد يصيبه في هذه المواضع، ولذلك قال العلماء: إن أمور الجن والشياطين مغيبة عن الناس -أي: بني آدم-، فإذا كان الإنسان في قضاء حاجته على ذكر لله جل وعلا قبل أن يجلس عصمه الله بعصمته وحفظه من أذيتهم، هذا على القول بأن قوله: (أعوذ بك من الخبث والخبائث) قيل: الخبث: ذكران الشياطين -كما اختاره غير واحد من أهل العلم- والخبائث: إناث الشياطين. وقيل: الخبث: الشر عموماً، والخبائث: الشياطين عموماً، وكلاهما وجهان لأهل العلم رحمة الله عليهم. فالمقصود: أن هذا الذكر يشرع للإنسان أن يقوله إذا كان المكان مهيأ لقضاء الحاجة قبل أن يدخل، وإذا كان الموضع غير مهيأٍ لقضاء الحاجة كالبر والفضاء والخلاء، فإنه يقوله عند رفعه لثيابه.

الاستغفار عند الخروج

الاستغفار عند الخروج قال المصنف رحمه الله: [وعند الخروج منه غفرانك]. (وعند الخروج منه) أي: بعد أن يخرج؛ لأنه إذا أراد الخروج فلا يشرع له أن يتكلم حتى يجاوز موضع قضاء الحاجة، فإذا جاوز موضع قضاء الحاجة قال: (غفرانك)، وأصله: اغفر غفرانك، أو: أسألك اللهم غفرانك، والغفر أصله الستر ومنه المِغْفَر؛ لأنه يستر رأس الإنسان من ضربات السلاح في الحرب. قالوا: سميت المغفرة مغفرة؛ لأن الله إذا غفر ذنب العبد صار كأن لم يكن منه ذنب، وأصبح خالياً من ذلك الذنب، وسُتِر عنه ذنبه وكفي مؤنته، كما أن الإنسان إذا لبس المغفر كفي شر السلاح وأذيته. (غفرانك) قال العلماء: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة عند الخمسة أنه قال: (غفرانك) عند الخروج من الخلاء، وللعلماء رحمة الله عليهم في استغفار النبي صلى الله عليه وسلم بعد قضائه لحاجته وخروجه أقوال: - قال بعض العلماء: استغفر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإنسان لا يأمن من حصول بعض النظر إلى عورته، فشرع للأمة أن يستغفروا من أجل هذا الوجه. - وقيل: لأن النبي صلى الله عليه وسلم شُغل عن ذكر الله جل وعلا بقضاء الحاجة فقال: (غفرانك)؛ لضياع هذا الوقت دون ذكر لله جل وعلا -وكما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين- وهذا من كمال عبوديته لله وكمال حبه وتعلقه بالله سبحانه وتعالى، فهو في هذا الوقت مع حاجة الجسم إليه وهو في حالة اضطرار وعذر عن ذكر الله يستغفر من ذهابه دون أن يذكر الله جل وعلا فيه، وهذا فيه تنبيه للمسلم من أنه ينبغي عليه أن يكثر من ذكر الله، واغتنام الحياة في طاعة الله؛ لأنه هو الأصل من خلقه كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. - وقال بعض العلماء: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (غفرانك)؛ لأنه لما خرج الطعام من الجوف أمِنَ الإنسان من كثير من الأضرار وكثير من البلايا فلم يستطع أن يوفّي شكر نعمة الله على هذا الفضل فقال: (غفرانك) أي: غفرانك من التقصير في حمد نعمك، وشكر مننك التي أنعمت وامتننت بها علينا. قال المصنف رحمه الله: [الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني]. (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى) أي: أذهب عني أذى القذر الخارج؛ لأنه لو بقي في الجسم لأضر بالإنسان، ولذلك لو أن إنساناً منع من البول ساعة واحدة لما استقر له قرار، ولو حيل بينه وبين قضاء حاجته، وقيل له: افتدِ بالدنيا لافتدى بالدنيا حتى تخرج حاجته، وقد يبلغ ببعض المرضى كالمشلولين -حمانا الله وإياكم- أن يمكث أربع ساعات أو خمس ساعات لإخراج فضلته من جسده، فهي نعمة من الله عظيمة، ولا يعلم مقدار فضله ورحمته ولطفه بالعبد إلا هو سبحانه وتعالى، فناسب أن يقول عليه الصلاة والسلام: (الحمد لله)؛ لأنه المحمود على جلب النعم وحصولها، ودفع النقم وزوالها، سبحانه جل جلاله. (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) قيل: المعافاة من شرور الشياطين ونحوهم، وقيل: المعافاة من الضرر الموجود في الجسم بحبس ذلك الطعام والشراب، فالله دفعه فاستوجب أن يشكر ويحمد على هذا الفضل.

تقديم الرجل اليسرى عند دخول الخلاء واليمنى عند الخروج منه

تقديم الرجل اليسرى عند دخول الخلاء واليمنى عند الخروج منه قال المصنف رحمه الله: [وتقديم رجله اليسرى دخولاً واليمنى خروجاً]. آداب الخلاء على قسمين: القسم الأول: آداب قولية، وقد سبق بيان أدب قولي يقال قبل الدخول وأدب قولي يقال بعد الخروج. والقسم الثاني: آداب فعلية، ومن الآداب الفعلية أن الإنسان إذا أراد دخول الخلاء قدّم رجله اليسرى وأخّر رجله اليمنى، وإذا أراد الخروج قدّم رجله اليمنى وأخّر اليسرى؛ لأن الشريعة قصدت تكريم اليمين على اليسار، فجهة اليمين مفضلة مشرفة على اليسار، ولذلك دلت نصوص الكتاب والسُّنة على تعظيم جهة اليمين، فجعل الله أصحاب الجنة أصحاب اليمين -جعلنا الله وإياكم منهم-، وكذلك أيضاً جعل السعيد من نال كتابه بيمينه، وكذلك أيضاً أثنى على اليمين ضمناً حينما ذكرها بصيغة الإفراد في مقابل الجمع، كما قال تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} [النحل:48] فقال: (عن اليمين) فأفرد، وقال: (والشمائل) فجمع، والعرب تجمع في مقابل المفرد تعظيماً للمفرد، كما قال الله تعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] فجمع الظلمات وأفرد النور، وهو أسلوب عربي يدل على تشريف المفرد على الجمع، فجهة اليمين مشرفة على جهة الشمال بدلالة قوله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} [النحل:48] وجاء في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله)، وفي حديث السنن: (إذا لبستم فتيامنوا) أي: إذا لبس الإنسان ثوباً أو عباءة أو حذاء فإنه يقدم الجهة اليمنى من يد وشق ورجل على الجهة اليسرى، فإذا أراد الخروج من الخلاء قدّم رجله اليمنى وأخر رجله اليسرى؛ تشريفاً لليمين؛ لأن الخروج أفضل من الدخول، ففي الدخول يقدم المفضول على الفاضل، وفي الخروج يقدم الفاضل على المفضول، فيقدم رجله اليمنى ويؤخر رجله اليسرى. قال المصنف رحمه الله: [عكس مسجد ونعل]. (عكس مسجد) فمن دخل المسجد قدّم رجله اليمنى للدخول وأخّر رجله اليسرى، وإذا أراد الخروج قدّم اليسرى وأخّر اليمنى، وقد ورد فيه حديث عند الحاكم أن من السنة تقديم اليمنى على اليسرى عند دخول المسجد. واختلف العلماء رحمهم الله في مسألة لطيفة هي: لو أن إنساناً أراد أن يخرج من بيته إلى المسجد -عرفنا أنه إذا أراد دخول المسجد قدّم اليمنى وأخّر اليسرى، ولكن لو خرج من بيته قاصداً المسجد- فهل الأفضل أن يقدم رجله اليمنى؛ لشرف المقصود والغاية، أو يؤخّر اليمنى؛ لفضل المكان الخارج منه؛ لأن الخروج من البيت أدنى منزلة من الدخول، ولذلك إذا أراد أن يخرج يقدم اليسرى، لكن اختلفوا في الخروج إلى المسجد هل يقدم اليمنى؛ لشرف الغاية، أو يقدم اليسرى مراعاة للحال؟ والأقوى: أن يقدم اليسرى مراعاة للحال، فإن الأصل الملتصق بالفعل مقدم على ما انفصل عنه، فالأولى أن يقدم يسراه للخروج من المنزل، ولو خرج لطلب علم ولتعليم ولجهاد ولصلاة ولدعوة ونحو ذلك فكذلك أيضاً.

الاعتماد على الرجل اليسرى عند قضاء الحاجة

الاعتماد على الرجل اليسرى عند قضاء الحاجة قال المصنف رحمه الله: [واعتماده على رجله اليسرى]. أي: إذا أراد ذلك، وهذه من الآداب التي تشرع عند فعل الحاجة وقضائها. قالوا: يعتمد على رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وفيها حديث ضعيف في السنن أن من السُّنة أن الإنسان ينصب رجله اليمنى ويعتمد على رجله اليسرى، وعلل بعض العلماء ذلك بأن الأطباء يقولون: إنه أرفق بالبدن وأيسر لخروج الخارج، فإن صح ما ذكروه كان مشروعاً من جهة الرفق بالبدن ولا يحكى سنة؛ لأن الحديث فيه ضعف، فإذا فعله الإنسان من باب الرفق بالبدن فهو حسن؛ لأن الرفق بالبدن من مقاصد الشريعة، ولا حرج في فعله.

البعد والاستتار عند قضاء الحاجة

البعد والاستتار عند قضاء الحاجة قال المصنف رحمه الله: [وبعد في فضاء واستتاره]. أي: يشرع ويسن للإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته وكان في فضاء -كالأرض الخلاء التي ليس فيها أحد- البعد؛ لأن الفضاء منكشف، والإنسان إذا جلس في الفضاء يمكن أن يُرى شيء من عورته، ولا يأمن خروج الخارج عليه فجأة، فلذلك شرع له أن يبعد وأن يستتر. فيشرع له أمران: البعد في المذهب وهو سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث المغيرة: (تنح عني)، وكذلك أيضاً يستتر، فإذا كانت الأرض منبسطة بحث عن حفرة أو شاخص، فإن وجد المطمئن من الأرض كالحفرة نزل فيها وقضى حاجته؛ لأنه أبلغ في الاستتار، ما لم يكن فيها ضرر عليه، أو يخشى من الضرر، أو يأتي إلى شاخص، كأن يأتي إلى هضبة أو تل فيستقبله ويقضي حاجته مستقبلاً إياه؛ لأنه أبلغ في الاستتار، ويُوليِّ قفاه للناس، فإذا فعل ذلك كان أبلغ في استتاره. (أن يبعد وأن يستتر) قالوا: في الفضاء يبعد؛ لأنه إذا بعد شخصه تعذّر على العين الاطلاع على عورته، ويستتر لئلا يداهمه إنسان فجأة؛ فيكون ذلك أبلغ في تحفظه وصيانة عورته، وقد عُظِّم أمر الاستتار في قضاء الحاجة، ومن تساهل في قضاء حاجته فقضاها بجوار الطرقات على مرأىً من الناس وتساهل في ذلك -ما لم يكن مضطراً- فإنه لا يخلو من الإثم والتبعة، حتى قال بعض العلماء: لو فتن أحد بالنظر إليه حمل إثمه ووزره -والعياذ بالله-؛ لأنه تعاطى السبب لحصول الإثم والوزر، فلا يجوز للإنسان أن يتساهل في العورة، حتى ورد في حديث ابن عباس في الصحيحين في قصة الرجلين اللذين يعذبان، قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله)، وفي رواية: (لا يستتر من بوله)، قال بعض العلماء: (لا يستتر) أي: يتساهل في عورته -والعياذ بالله-، فقالوا: إنها من الأمور التي قد تكون سبباً -على هذا الوجه- في عذاب القبر وفتنة القبر، نسأل الله السلامة والعافية. وأنبه على مسألة يخطئ فيها كثير من الناس أصلحهم الله، خاصة من الجهلة والعوام: فإنهم يأتون إلى أماكن الوضوء ويكشفون عوراتهم ويستنجون فيها دون حياء من الناس، ولا خوف من الله جل وعلا، فأماكن الوضوء المخصصة للوضوء لا يصلح فيها للإنسان أن يكشف عورته فيؤذي عباد الله، وكذلك أيضاً يتسبب في أذيتهم بنتن البول وريحه، وهذه من الأمور الممقوتة التي لا ينبغي للمسلم أن يفعلها، ومن رئي منه فعل ذلك فإنه يُنصح ويُذكّر ويخوف بالله جل وعلا، ويقال له: اتق الله ولا تؤذِ المسلمين، فإن أماكن الوضوء ليست لقضاء الحاجة؛ لما فيه من أذية الناس بالرائحة والنتن، وقد تضافرت نصوص الشريعة على تحريم الضرر، قال بعض العلماء: يحَرُمُ فعل هذا للضرر، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ضرر ولا ضرار).

اختيار الموضع الرخو عند قضاء الحاجة

اختيار الموضع الرخو عند قضاء الحاجة قال المصنف رحمه الله: [وارتياده لبوله موضعاً رخواً]. (وارتياده): ارتاد الشيء إذا طلبه، ومنه سمّي الرائد رائداً، والرائد في لغة العرب: هو الرجل الذي يرسله الناس إذا كانوا في سفر لكي يطلب الماء لهم، ويسمّى: رائداً، والريادة: الطلب، وارتاد أي: طلب. قوله: (يرتاد لبوله موضعاً رخواً) أي: إذا أراد المسلم أن يقضي حاجته كالبول فإنه يلتمس الأرض الرخوة؛ لأن الأرض الرخوة أمكن في استيعاب البول، وأبعد من أن تؤدي للطشاش الذي ينجس الثياب والبدن، فشرع له أن يطلب المكان الرخو، وفيه حديث ضعيف ولكن معناه صحيح، فالإنسان يشرع له أن يطلب مكاناً رخواً؛ لأنه يحقق مقصود الشرع من الاستنزاه من البول، فإن الإنسان إذا بال في مكان رخو أمن من طشاش البول. والأماكن تنقسم إلى أقسام: القسم الأول: أن تكون صلبة، القسم الثاني: أن تكون رخوة. فإن كانت صلبة: فإما أن تكون طاهرة، وإما أن تكون نجسة، وإن كانت رخوة: فإما أن تكون طاهرة، أو تكون نجسة. فأصبحت القسمة مشتملة على أربع حالات: فإن كان المكان طاهراً صلباً جلس، وإن كان نجساً رخواً قام، وإن كان نجساً صلباً امتنع من البول فيه، وإن كان طاهراً صلباً خيّر بين الجلوس والقيام، وقد جمع بعض الفضلاء هذه الصور الأربع في قوله: للطاهر الصلب اجلسِ وامنع برخو نجسِ والنجس الصلب اجتنب واجلس وقم إن تعكس هذه أربع صور. للطاهر الصلب اجلس: يعني: إذا كان المكان طاهراً صلباً اجلس. وامنع برخو نجس: يعني: إذا كان مكاناً رخواً نجساً، كما يحدث الآن إذا امتلأ موضع قضاء الحاجة فلا يجلس الإنسان؛ لأنه إذا جلس ربما سقط ثوبه أو تطاير طشاش البول على بدنه أو ثوبه ونحو ذلك. والنجس الصلب اجتنب: أي إذا كان مكاناً صلباً نجساً فلا تقضِ الحاجة فيه، أعني: البول. واجلس وقم إن تعكس: يعني: الطاهر الرخو، إن شئت فاجلس فيه وإن شئت فقم فأنت مخيّر. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بال قائماً، والسُّنة دالة على جواز البول قائماً. ومنع بعض العلماء منه، وهو مذهب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقد كانت تقول: (من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائماً فلا تصدقوه). وقد صح في صحيح مسلم من حديث حذيفة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً) فدل على جواز البول قائماً. قال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم بال قائماً لعلة، قيل: كان فيه مرض تحت ركبته في المأبض فلا يستطيع أن يجلس ويثني رجليه فيجلس لقضاء حاجته، فبال قائماً للضرورة. وقيل: بال قائماً؛ استشفاء من مرض الصلب؛ وهي الأمراض التي تصيب صلب الإنسان وظهره، وقد كانت العرب تستشفي من أمراض الظهر بالبول قائماً، فقالوا: إنه بال قائماً استشفاءً من مرض الصلب. والصحيح: أن هذا جائز ولا حرج فيه، ولكن الهدي الأكمل والأمثل أن يبول جالساً؛ لما في ذلك من بالغ الاستتار، وإمكان التحفظ من طشاش البول، فإن بال قائماً فلا حرج عليه. وقال بعض العلماء: بال في سباطة القوم قائماً؛ لأن السباطة مكان القذر والنجاسة، فلم يجلس صلوات الله وسلامه عليه من أجل هذا. (وارتياده لبوله موضعاً رخواً). الارتياد: الطلب. (لبوله) أخرج الغائط، فإن الغائط يرتاد له أي موضع كان، وقد استثنى بعض العلماء في الغائط أن يكون هناك مائع نجس، كالحال إذا امتلأ الموضع بنجاسة البول، فإنه إذا تغوط لم يأمن من طشاش النجاسة على ظهره وثيابه، فقالوا: يمنع من قضاء الغائط في مثل هذه المواضع إذا كانت مملوءة. وقال بعض العلماء: لا حرج عليه أن يقضي حاجته فيها بشرط أن يتحفظ فيزيل ما أصابه من طَشاش ذلك القذر النجس. (موضعاً رخواً) إذا كان المكان الذي جلس فيه الإنسان صلباً، وعنده آلة يستطيع أن يحك بها الأرض، قالوا: الأفضل له أن يحكها، وحملوا على ذلك حديث أنس قال: (كنت أسير مع النبي صلى الله عليه وسلم فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة وعنزة)، والعنزة: هي الحربة الصغيرة وفي رأسها الزُّج وهو الحديد. قالوا: كانت تحُمل لقضاء الحاجة؛ لأن الإنسان إذا مر على صلب نكت الأرض بها ثم قضى حاجة البول فيه، فكان ذلك أدعى لصيانة البدن والثياب من النجاسة.

حكم سلت الذكر بعد البول

حكم سلت الذكر بعد البول قال المصنف رحمه الله: [ومسحه بيده اليسرى إذا فرغ من بوله من أصل ذكره إلى رأسه ثلاثاً]. هذا يسمى عند العلماء بالسَّلْت، والسلت أن يضع رأس إصبعه عند أصل الذكر ثم يمره على مجرى البول حتى يُنقّي المجرى من الباقي إذا وجد، والسلت لا أصل له، وليس له دليل صحيح، بل إنه يجلب الوسوسة ويشكك الإنسان، ولذلك قالوا: ينبغي للإنسان أن يقطع حاجته، فإذا غلب على ظنه أن البول انقطع قام، أما أن يوسوس ويبالغ في إزالة الخارج فإنه لا يأمن من وجود الوسوسة والشك، وسيسترسل إلى ما لا تحمد معه العاقبة، ولـ شيخ الإسلام رحمة الله عليه مبحث نفيس في المجموع بيّن فيه أن هذا لم يثبت فيه نص صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقرر العلماء أن الذَّكَرَ كالضرع كلما حلب در، أي: أن المكلف كلما ضغط عليه وأكثر من تعاهده كلما آذاه وأتعبه بالوسوسة، والواجب على المكلف أن يتقي الله قدر استطاعته، فيجلس لقضاء حاجته، فإن غلب على ظنه أن البول انتهى صبّ الماء أو استجمر بالحجارة ثم قام، والله لا يكلفه إلا ما في وسعه، فإن أحس بخروج شيء أو أن شيئاً يتحرك في العضو فذاك من وسوسة الشيطان، حتى يستيقن فيجد البلل على ثوبه أو يجده على فخذه أو رأس عضوه، ولا يلزمه أن يذهب ويبحث ويفتش، فإن الإنسان إذا غلب على ظنه أنه انقطع بوله كفاه ذلك مؤنةً وأجزأ عنه ويكون قد فعل ما أوجب الله عليه والله يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]. والسلت لا يشرع إلا في حالة واحدة: وهي لمن به سلس؛ وهو نوع من المرض -حمانا الله وإياكم منه- يصاب به الإنسان، وذلك بأن يقضي بوله ثم تبقى قطرات تضعف الآلة عن دفعها، ولا يمكن خروجها إلا بالسلت، فيمر رأس إصبعه من أصل العضو إلى رأسه حتى يُنْقِي الموضع، وهذا استثناه العلماء، وهي الحالة الوحيدة المستثناة، وأما ما عدا ذلك فإن الإنسان غير مكلف به.

حكم نتر الذكر بعد البول

حكم نتر الذكر بعد البول قال المصنف رحمه الله تعالى: [ونتره ثلاثاً]. كذلك النتر، فإن فيه حديثاً ضعيفاً ولا يعتبر من السُّنة، والسلت والنتر مدعاة للوسوسة والتباس الأمور على صاحبها، ولكن المكلف يتقي الله على قدر استطاعته، وشريعتنا شريعة رحمة وتيسير وليست بشريعة عذاب ولا عنت ولا تعسير: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فإذا قضى الإنسان حاجته قام، فإن خرج منه خارج ولم يتأكد من خروجه فالله لا يكلفه البحث عنه حتى ولو كان خارجاً بالفعل، وعبادته مجزئة، ولا يعتبر مطالباً بشيء غاب عن ذهنه كما قال أهل العلم رحمهم الله. أي: أن المكلف لو أخذ بغالب ظنه أنه لم يخرج منه شيء فصلى وفي الحقيقة أنه قد خرج منه شيء ولم يعلم إلى الأبد قالوا: إن ذلك يجزئه عند ربه سبحانه وتعالى؛ لأن الله لا يكلف الإنسان إلا ما في وسعه، والذي في وسعه غالب ظنه وقد فعل ذلك، والله لا يكلفه ما وراء ذلك.

التحول عن موضع التخلي عند الاستنجاء

التحول عن موضع التخلي عند الاستنجاء قال المصنف رحمه الله تعالى: [وتحوله عن موضعه ليستنجي في غيره]. بعض الناس يبقى الخارج في عضوه، فقال العلماء: يخرج هذا الباقي بإحدى ثلاث حالات: إما بالسلت، وإما بالنحنحة وهي الصوت، وإما بالتحول من الموضع، فبعض الناس إذا بقي الباقي في عضوه لا يستطيع إخراجه إلا بالسلت فيشرع له السلت؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فشرع بأصل الشريعة. النوع الثاني: يكون الدافع عنده ضعيفاً فيحتاج إلى إحداث صوت وهي النحنحة، وهذه من الأمور التي يُبلى بها الإنسان عند قضائه لحاجته، فيتنحنح حتى تقوى آلته على الدفع، قالوا: فيشرع له ذلك. ومنهم من يخرج منه الخارج بعد حركته، فإذا انتقل من موضع قضاء حاجته ومشى الخطوة والخطوتين قويت الآلة على الدفع فدفعت ما ثمَ، فقالوا: فمثل هذا بعد أن ينتهي من قضاء الحاجة يقوم إلى أقرب موضع فيستنجي فيه؛ حتى يقوى العضو على إخراج ما بقي. الأمر الثاني الذي من أجله ذكر العلماء القيام من الموضع إلى موضع ثانٍ ليستنجي فيه، قالوا: إنه إذا قضى الحاجة على التراب كما هو الحال في القديم؛ فإنه لا يأمن أثناء صبّ الماء على العضو أن يتطاير شيء من البول على البدن أو الثوب، ولذلك قالوا: يتحول عن موضع قضاء حاجته إلى موضع قريب، حتى إذا صب الماء نزل على أرض طاهرة، فإذا تطاير شيء من ذلك الماء لم يدخله الوسواس، هذا هو سبب الانتقال عند أهل العلم رحمة الله عليهم. قال رحمه الله: [ليستنجي في غيره إن خاف تلوثاً]. (إن خاف تلوثاً) يعني: إذا كان الموضع غير مهيأ للاستنجاء والاستبراء.

حكم دخول الخلاء بشيء فيه ذكر الله تعالى

حكم دخول الخلاء بشيء فيه ذكر الله تعالى [ويكره دخوله بشيء فيه ذكر الله تعالى]. الشيخ: ويكره للمسلم أن يدخل الحمام وموضع قضاء الحاجة بشيء فيه ذكر الله كالقرآن، وكتب التفسير، وكتب العلم والرسائل إلا إذا اضطر إلى ذلك، فإذا اضطر الإنسان إلى ذلك كأن يكون اسم الله على النقود ويخاف عليها السرقة ولا يجد لها مكاناً أميناً جاز أن يدخل بها، وكذلك أيضاً إذا كان هناك كتاب كالقرآن ويخشى أنه لو أبقاه في الخارج تلف أو أُهين إهانة أكثر فيجوز له أن يدخله معه، ثم يحوله عن الموضع الذي يقضي فيه حاجته، كأن يضعه على إبريق الماء أو على مفتاح الباب وقضيبه ونحو ذلك. [إلا لحاجة]. (إلا لحاجة) دليل هذا: أن الله أمر بتعظيم شعائره وعدّ ذلك من تقوى القلوب؛ فقال: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] أي: تعظيم شعائر الله من تقوى القلوب، وبناءً على ذلك فإن الإنسان يصون هذه الأذكار وهذه الكتب العلمية عن الامتهان، فإن دخول الحمام بها ودخول أماكن قضاء الحاجة بها فيه نوع انتقاص لتعظيمها وإجلالها وتوقيرها، فلا يشرع له فعله، وقد جاء في الحديث -وهو متكلّم في سنده- دخول النبي صلى الله عليه وسلم الحمام بخاتمه وَقَبْضِه على الخاتم، قالوا: ولذلك يشرع لمن دخل الحمام وفي خاتمه ذكر الله أن يجعل فصه إلى بطن الكف ثم يقبض الإصبع الذي فيه الخاتم سواء كان الخنصر أو البنصر أو غيرهما.

رفع الثوب قبل الدنو من الأرض عند قضاء الحاجة

رفع الثوب قبل الدنو من الأرض عند قضاء الحاجة [ورفع ثوبه قبل دنوه من الأرض]. ومما ينبغي على المكلف إذا أراد أن يقضي حاجته أن يرفع ثوبه إذا دنا من الأرض، وهي سنة محفوظة كما في حديث الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يرفع ثوبه إذا دنا من الأرض)؛ كل ذلك محافظة على العورة، وصيانة لها من نظر الغير.

حكم الكلام في الخلاء

حكم الكلام في الخلاء [وكلامه فيه]. أي: ولا يتكلم فيه، وفيه حديث ضعيف: (إن الله يمقت الرجلين يضربان الغائط يحدث أو يكلم كل منهما الآخر)، فهذا حديث ضعيف، ولكن قال العلماء: من جلس يقضي حاجته وكلّم غيره من دون ضرورة؛ فإنه ساقط المروءة، أي: لا مروءة عنده -والعياذ بالله- وساقط المروءة لا تقبل شهادته، فَعُدَّ من خوارم المروءة ونقص الحياء أن يجلس الإنسان لقضاء حاجته ويتحدث مع الغير إلا من ضرورة، كأن يخشى على إنسان أن يموت فيأمر صبياً بفعل شيء ينقذه به، أو نحو ذلك، فإذا وجدت الضرورة جاز أن يتكلم، أما إذا لم توجد الضرورة فإنه لا يجوز له أن يتكلم، ومن الضرورة أن يترك صبياً خارج الحمام فيصيح الصبي ويتساءل عن أبيه فيحتاج إلى جواب منه فيجوز له أن يتكلم خوفاً عليه أو خوفاً من ذهابه أو شروده أو نحو ذلك، وهذه حالات تستثنى، فإذا خاف على نفسه أو خاف على نفس الغير جاز له الكلام. أما الكلام أثناء قضاء الحاجة من دون حاجة فإنه من خوارم المروءة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، فمن الحياء: ألا يتكلم الإنسان أثناء قضاء حاجته.

حكم البول في الشقوق ونحوها

حكم البول في الشقوق ونحوها [وبوله في شق ونحوه]. أي: ولا يبول الإنسان في الشق ونحوه، والشقوق تكون في الأرض وتكون في الجدران، واختلف العلماء في علة المنع من البول في الشق: فقيل: هي مساكن الجن، فلا يبول الإنسان في الشق حتى لا يؤذيهم فيؤذوه. وقيل -وهو أقوى-: لخوف خروج الدواب والهوام، فإن الإنسان إذا بال في شق لم يأمن أن تكون به حية أو يكون به ثعبان ونحو ذلك، وقد ذكر بعض العلماء: أن رجلاً نهى ابنه عن ذلك ففعله فبال في شق فخرجت له حية فنهشته فمات من ساعته؛ لأن الإنسان في حال قضاء الحاجة لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، وهي حالة صعبة حرجة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما بال الأعرابي في المسجد: (لا تزرموه)، فإن الإنسان إذا قُطع عليه بوله أو ذُعر أو فُجع أثناء قضائه لبوله لا يأمن من حصول أمراض لا تحمد عقباها، قد تضره نفسياً وجسدياً، فلذلك لا يطلب المواضع التي قد تكون مظنة خروج ما يفجعه أو يفاجئه بضرر.

حكم مس الفرج باليمنى

حكم مس الفرج باليمنى [ومس فرجه بيمينه]. مس الذكر، ومس الأنثيين، ومس الدبر، ومس المرأة لفرجها قبلاً أو دبراً محرم باليمين؛ لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه)، وكذلك ثبت نهيه عليه الصلاة والسلام عن إمساك الذكر باليمين في حديث سلمان رضي الله عن الجميع، فلا يجوز للإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته أن يمُسك الذكر باليمين، بل حتى في غير قضاء الحاجة، فلمس الذكر باليمين محرم على ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه)، والتخصيص بالبول ذكر لموضع الحاجة، فدخل ما لا حاجة فيه أو ما فيه الحاجة كالجماع ونحوه، فلذلك لا يجوز مس الذكر باليمين، قال عثمان رضي الله عنه: (ما مسست فرجي بيميني منذ أن صافحت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكانوا يقولون -والله أعلم بصحة ما قالوا-: ما مس رجل ذكره بيمينه إلا نقص من عقله شيء، فلا يحمدون لمس أو مس الذكر باليمين، ولا يستبعد هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، والنهي عن الشيء قد يتضمن حكماً وأسراراً خفية، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينهى عن شيء فيه خير، وعلى الإنسان أن يتقي لمس الذكر باليمين؛ لأنه محرم. ولمس الذكر باليمين على حالتين: أن يكون بدون حائل وهذا محرم، وأن يكون بحائل، فإن كان بحائل فلا حرج، والأولى تركه؛ لما فيه من تشريف اليمين، واُستثني الأقطع والأشل ونحوهم كالمريض الذي بيده اليسرى جراح، فيجوز له أن يمُسك باليمين. ولا يجوز مس الذكر، ولا مس الأنثيين، ولا الدبر، ولا قبل المرأة ولا دبرها، سواء كان للإنسان أو لغيره، كالطبيب إذا عالج مريضاً، فإنه لا يمسك عضوه باليمين؛ لأنه محرم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يمسكن أحدكم ذكره باليمين) وقد خرج مخرج الغالب، والقاعدة في الأصول: (أن النص إذا خرج مخرج الغالب لا يعتبر مفهومه)، فلا يجوز لمسه باليمين ويأثم فاعله.

حكم الاستنجاء والاستجمار باليمين

حكم الاستنجاء والاستجمار باليمين [واستنجاؤه واستجماره بها]. أي: باليمين، أما الاستنجاء باليمين فلا إشكال فيه، ولكن الإشكال هو الاستجمار بالحجارة، فإن من المعلوم أن الإنسان إذا أراد أن يصب الماء صبه باليمين ويمكنه باليسار أن يغسل العضو، فالاستنجاء لا إشكال فيه، والإشكال في الاستجمار؛ لأنه يحتاج إلى إمساك الحجر وإمساك العضو، فإن أمسك العضو باليسار احتاج إلى إمساك الحجر باليمين، وإن أمسك العضو باليمين حرم عليه، فإن قلنا له: يستجمر بيساره، فإن معنى ذلك أن يلمس عضوه باليمين وهو محرم، وبناءً على ذلك استشكل العلماء قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا يتمسح من الخلاء بيمينه). وتوضيح ذلك وزوال الإشكال فيه: أنه في الدبر يمسك الحجر باليسار ويُنقّي دون إشكال. وأما في القبل فإنه يمُسك الحجر باليمين والعضو باليسار ويثبّت اليمين ولا يحركها، فإن حرك اليمين كان متمسحاً باليمين، وهذا هو المراد، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد من المكلف أن لا يحرك يمينه، ويكون التحريك للعضو باليسار، فإذا حصل ذلك فإنه يأمن لمس العضو باليمين، ويأمن التمسح باليمين.

حكم استقبال النيرين عند قضاء الحاجة

حكم استقبال النيرين عند قضاء الحاجة [واستقبال النيرين]. أي: ولا يجوز أن يستقبل الشمس والقمر، وفيه حديث ضعيف. قال بعض العلماء: المنع من استقبال الشمس والقمر المراد به تعظيمهما لكونهما آيتين من آيات الله، وهذه العلة ضعيفة؛ فإن أي شيء تستقبله وتستدبره آية من آيات الله، حتى الحجر آية من آيات الله، والجبال آيات، والأنهار والأشجار والثمار كلها آيات، وهذه علة ضعيفة. والأقوى: أن استقبال الشمس والقمر فيه علة قوية وهي انكشاف العورة عند استقبالهما أبلغ مما لو استدبرهما، بمعنى: أنه إذا قضى حاجته في الليل والقمر تجاهه، فإن نور القمر يكشف العورة، فلذلك يكون عدم استقبالهما من باب حفظ العورة، وعلى هذه العلة فإن الإنسان يحفظ عورته ولا إشكال فيها. أما ما ذكروه من تحريم استقبالهما مطلقاً فمحل نظر؛ لما ثبت في الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط ولا تستدبروها ولكن شرقوا وغربوا)، فإن التشريق تكون فيه الشمس عند الشروق في الشرق كما هو الحال في المدينة، والتغريب تكون فيه الشمس في الغرب عند الغروب، فدل على أن استقبال الشمس والقمر ليس بمحرم، ولكن الأفضل والأكمل أن الإنسان ينحرف بين الجهتين.

حكم استقبال القبلة أو استدبارها عند قضاء الحاجة

حكم استقبال القبلة أو استدبارها عند قضاء الحاجة [ويحرم استقبال القبلة واستدبارها في غير بنيان]. ويحرم على المكلف أن يستقبل القبلة ويستدبرها في غير بنيان. هذه المسألة فيها أقوال للعلماء: القول الأول: يحرم الاستقبال والاستدبار مطلقاً. القول الثاني: يجوز الاستقبال والاستدبار مطلقاً. القول الثالث: يجوز الاستدبار دون الاستقبال. القول الرابع: يجوز الاستدبار دون الاستقبال في البنيان دون الصحراء. القول الخامس: يجوز الاستقبال والاستدبار في البنيان دون الصحراء. القول السادس: يحرم استقبال القبلة ببول أو غائط وكذلك بيت المقدس، وهو قول بعض السلف، فزاد أمراً ثالثاً، وهو بيت المقدس. وهذه الأقوال هي أشهر أقوال العلماء رحمة الله عليهم في هذه المسألة، وأصح أقوالهم، وقد بسطت هذه المسألة في شرح البلوغ، وذكرت الأقوال مسندة إلى مذاهب العلماء رحمة الله عليهم. من حرم مطلقاً كالحنفية وهو اختيار شيخ الإسلام وقول ابن حزم. ومن أجاز مطلقاً كالظاهرية ومن وافقهم، وهو قول بعض السلف. ومن أجاز في البنيان دون الصحراء كما هو قول الجمهور: من المالكية والشافعية والحنابلة. ومن أجاز الاستدبار دون الاستقبال في البنيان، كما هو رواية عن الإمام أبي حنيفة. ومن أجاز الاستدبار دون الاستقبال مطلقاً في بنيان أو صحراء فهو قول بعض السلف، والرواية الثانية عن أبي حنيفة وأحمد. والقول السادس أنه يحرم استقبال القبلة واستدبارها وكذلك بيت المقدس، وهو قول بعض السلف، ومأثور عن الحسن البصري. هذه الستة الأقوال ذكرناها بأدلتها ورددنا على هذه الأدلة. والصحيح: أنه لا يجوز استقبال القبلة واستدبارها لا في بنيان ولا صحراء؛ وذلك لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط، ولكن شرقوا أو غربوا). وأما الاستدلال بحديث ابن عمر فيجاب عنه من وجوه: منها: أن دلالة الفعل لا تعارض دلالة القول الصريحة المخاطب بها جميع الأمة. الوجه الثاني: أنه يحتمل التخصيص؛ لأن في النبي معنى التعظيم الذي لا يوجد في سائر الأمة. والجواب الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد بيان هذا الحكم وإلا بينه باللفظ. الوجه الرابع: أنه يحتمل النسخ، إذ يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك قبل النهي. الوجه الخامس: (أنه إذا تعارض الحاظر والمبيح قدم الحاظر على المبيح)، كما هي القاعدة. فالصحيح: أنه لا يجوز الاستقبال والاستدبار مطلقاً لا في البنيان ولا في الصحراء.

حكم اللبث في موضع قضاء الحاجة

حكم اللبث في موضع قضاء الحاجة قال المصنف رحمه الله: [ولبثه فوق حاجته]. أي: لا ينبغي للمكلف أن يلبث في مكان قضاء الحاجة أكثر من الحاجة؛ وذلك أنها مواضع محتضرة، كما هو في حديث ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن بيوت الخلاء: (إن هذه الحشوش محتضرة)، فالشياطين تحب الأماكن القذرة، والملائكة تنفر منها، كما أن الشياطين تنفر من الأماكن الطيبة وتأوي إليها الملائكة، فلذلك ينبغي للمكلف أن يُعَجِّل بالقيام بعد فراغه من حاجته، وأن لا يأنس لدور الخلاء، وأن لا يطيل المكث فيها، لأن المكث فيها قد يدعو إلى الوسوسة والشك، وقد يحصل للإنسان نوع من الأمور التي لا تحمد عقباها؛ فلذلك يشرع له المبادرة بالقيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تعوّذ عند دخول الخلاء، فدل على أنه مكان لا يحمد الجلوس فيه.

حكم البول في الطريق والظل النافع

حكم البول في الطريق والظل النافع قال المصنف رحمه الله تعالى: [وبوله في طريق وظل نافع]. أي: ولا يجوز للمكلف أن يبول في طريق؛ لأنه مكان اللعنة، والطريق سمي طريقاً من الطرْق، قالوا: لأن الناس يطرقونه بنعالهم، وقيل: لأنه يُسمع فيه طرق النعال. والطريق ينقسم إلى أقسام: الطريق المعين المحدد، وهذا لا إشكال في حرمة قضاء الحاجة فيه سواء كانت بولاً أو غائطاً، ومن فعل ذلك لا يؤمن عليه اللعن؛ لأن الناس تلعنه، فيكون ذلك ضرراً عليه في دينه ودنياه وآخرته؛ أما في دينه فللإثم وحصول أذيته للناس، وحرم البول في الطريق وقضاء الحاجة؛ لأن الناس إذا مرّت تأذّت بالرائحة، وربما لم تعلم بالنجاسة فوطئتها، فكان ذلك ضرراً عليهم في صلاتهم، وضرراً عليهم في ثيابهم وأبدانهم، فاستضروا في دينهم ودنياهم، ولا يجوز للمسلم أن يؤذي إخوانه أو يتسبب في أذيتهم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) فوصفه بكونه مسلماً؛ لعدم الأذيه، فلا تجوز أذية المسلم، بالبول في الطريق والظل. النوع الثاني من الطريق: أن يكون له جوانب مهيأة لقضاء الحاجة كطرق السفر، فالإنسان ينتحي منها ناحية، وقد تكون محجوزة لا يستطيع الإنسان أن يذهب في مكان غير أطراف الطريق، فإذا داهمته حاجته واحتاج أن يبول فلا حرج عليه أن يقضي حاجته؛ لبعد جوانب الطريق عن الضرر، وزوال العلة الموجبة للمنع، وقد ورد فيها الحديث: (اتقوا اللعانين، قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: الذي يبول في ظل الناس وفي طريقهم). أما قضاء الحاجة تحت الظل فإنه أذية بالغة؛ لأن الناس يحتاجون إلى الظل خاصة في الأسفار، كأن وهي الأضرار التي لا يجوز فعلها، ويعتبر آثماً في هذا الفعل إذا قصد الأذية، ولذلك ينبغي عليه أن يطلب مكاناً لا يأوي الناس إلى ظله، ولا يرتفقون بالمشي عليه، وهي الأماكن الخالية.

حكم البول تحت الشجر المثمر

حكم البول تحت الشجر المثمر [وتحت شجرة عليها ثمرة]. لأن الشجرة تغتذي بالنجاسة. ومذهب بعض العلماء: أن الثمرة إذا اغتذت بالنجاسة فلا يجوز أكلها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الجلاّلة؛ وهي التي تأكل العذرة والنجاسة، فالدجاج ونحوه الذي يأكل العذرة حرّم النبي صلى الله عليه وسلم أكل لحمه حتى يُمْسَك، فدل هذا على أن الشجر إذا اغتذى بالنجاسة لا يجوز أكل ثمره، وهذا أصح أقوال العلماء، ولأن الشجر يستظل الناس بظله، فإذا قضى الحاجة تحته فإنه يمنعهم من المقيل والنزول تحته، والإرتفاق به.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية التسمية لمن توضأ داخل الحمام

كيفية التسمية لمن توضأ داخل الحمام Q ابتلي كثير من الناس: بأن مغسلة الوضوء توجد داخل الحمام، فكيف يسمي المتوضئ؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أمابعد: فلا حرج عليه أن يسمّي في نفسه ويذكر اسم الله في قلبه، ويجزيه ذلك ولا يتلفظ به بلسانه. والله تعالى أعلم.

حكم حديث: (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى.

حكم حديث: (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى ... ) من حيث الصحة والضعف Q قوله عند الخروج: (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) هل هذا حديث صحيح؟ A هذا الحديث متكلّم في إسناده، والصحيح ضعفه، وهو القول الأقوى، ولكن من العلماء من حسن إسناده، فمن كان يرى حُسْنَه، وقاله فلا حرج عليه.

الذكر إذا كان التخلي في الصحراء

الذكر إذا كان التخلي في الصحراء Q متى يكون الذكر إذا كان الخلاء في الصحراء؟ A إذا أراد أن يقضي حاجته وكان الخلاء في الصحراء، فإنه يأتي بالذكر عند رفعه للثوب ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)، ثم إذا فرغ وجاوز موضع قضاء الحاجة بخطوة ونحوها قال: (غفرانك) ونحوه من الأذكار المشروعة.

التفصيل في قاعدة: القول مقدم على الفعل

التفصيل في قاعدة: القول مقدم على الفعل Q ما قولكم في قاعدة: (القول مقدم على الفعل)، وتطبيقها على مسألة البول جالساً؟ A قاعدة: (القول مقدم على الفعل) فيها تفصيل: قال بعض العلماء: إذا تعارض القول والفعل قدم القول مطلقاً. وقال بعض العلماء بالجمع بين القول والفعل، فإذا كان القول تحريماً والفعل يدل على الإباحة حمل النهي على الكراهة، كنهيه عن الشرب قائماً وشربه عليه الصلاة والسلام قائماً، قالوا: يصرف إلى الكراهة، وكذلك أيضاً في الجمع بينهما في الحمل على الندب والاستحباب. والصحيح: أن معارضة القول للفعل تأتي على صور مختلفة: فتارة يقوى تقديم القول على الفعل، وتارة يقوى الجمع بين القول والفعل، وهذا يحتاج إلى نظر الفقيه ومعرفته بنصوص الشريعة ومعرفة مقاصدها، ومعرفة قوة دلالة الفعل، فإذا كان الفعل لا يقوى على صرف القول تبقى دلالة القول تشريعاً للأمة، ويبقى الفعل إما خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو يصرف على وجه لا يعارض به القول، ولهذا نظائر كثيرة. من أمثلة ذلك: نهيه عليه الصلاة والسلام أن يَنكح المحرم أو يُنكح أو يخَطب، وقد جاء عنه أنه تزوج ميمونة وهو محرم، كما في حديث ابن عباس في الصحيح. فقال بعض العلماء: إنه يجمع بينهما بحمل النهي على الكراهة، وهذا قول الإمام أبي حنيفة ومن وافقه، فصرف القول من التحريم إلى الكراهة بالفعل. والصحيح: أن الفعل هنا لا يقوى على معارضة القول؛ لأن قول ابن عباس: (وهو محرم) يحتمل وجهين: وهو محرم أي في حرم مكة، أو محرم أي: في الأشهر الحرم، والعرب تسمي من كان في الأشهر الحرم محرماً، وتسمى من دخل الموضع الحرام محرماً، ومنه قول حسان في رثاء عثمان: قتلوا الخليفةَ ابن عفان بالمدينةِ محرماً أي: في حرم المدينة، وفي الأشهر الحرم. فهذا لا يعتبر فيه الفعل معارضاً للقول؛ لأن قول ابن عباس محتمل، وكذلك أيضاً الشرب قائماً منه عليه الصلاة والسلام دلالة الفعل فيه تحتمل التخصيص؛ لأنه حُفِظَ من القرين عليه الصلاة والسلام، وقد أمر من شرب قائماً أن يستقيء. وكذلك أيضاً: ورد أنه شرب من زمزم قائماً، وزمزم فيها معنى التخصيص، فنقول: يجمع بين القول والفعل، فيمنع من الشرب قائماً في غير زمزم، وزمزم يسن شربها قائماً؛ لأنه شربها على بعيره، ولأن المقصود من زمزم أن يرتوي الإنسان منها، فيكون الأبلغ في ارتوائه أن يشرب قائماً لا جالساً. فالمقصود: أن تعارض القول مع الفعل يحتاج إلى معرفة الفقيه لأصول الشريعة، وقوة دلالة القول والفعل، مثال ذلك: المسألة التي تقدمت معنا، فإن حديث ابن عمر قوة دلالته على الإباحة محل نظر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة في مكان لم يره فيه أحد، ولم يقصد اطلاع ابن عمر؛ لأنه لا يعقل أن النبي صلى الله عيه وسلم يريد من ابن عمر أن يطلع عليه، وقد حصل هذا الاطلاع فجأة من ابن عمر، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم قصد اطلاع ابن عمر لقال للأمة: استقبلوا في البنيان دون الصحراء، فدل على أن دلالة الفعل هنا ضعيفة كما نبّه عليه الحافظ ابن دقيق، وله بحث نفيس في شرحه على العمدة. فالمقصود: أن القواعد لا تؤخذ على الإطلاق في تعارض القول والفعل، وإنما ينظر إلى أحوال المسائل واختلاف النصوص. والله تعالى أعلم.

معنى حديث: (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت.

معنى حديث: (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت. ونستغفر الله) Q أليس في قول الصحابي رضي الله عنه في الحديث الصحيح: (وكنا نتحول عن القبلة ونستغفر الله) إشارة ظاهرة لجواز ذكر الله في الخلاء، نرجو الإفادة؟ A هذا حديث أبي أيوب الثابت في الصحيحين أنه قال: (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل الكعبة فكنا ننحرف عنها ونستغفر الله)، وفيه كلام للعلماء من جهة دلالته: قال بعض العلماء: (كنا ننحرف عنها) أي: أثناء قضاء الحاجة، (ونستغفر الله) أي: بعد قضاء الحاجة؛ لأنه لم يتنبه أنها على القبلة إلا بعد قضاء شيء من الحاجة. وقيل: ننحرف عنها ونستغفر الله في أنفسنا، قيل لأصحاب هذا القول: كيف يستغفرون وهم لم يستقبلوا القبلة؟ وأجابوا: أي: نستغفر الله لمن فعل هذا الفعل، فما كان ينبغي له فعله، وهذا على ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من حب الخير بعضهم لبعض، فإذا رأوا الخطأ من الغير وأمكن نصحه نصحوه، وإن كان غائباً مسلماً سألوا الله له العفو والمغفرة إذا كان ممن يُستغفر له أو يُدعى له بالمغفرة، فقالوا: (ونستغفر الله) أي: من هذا الفعل. وهذه في الحقيقة كلها أوجه محتملة، فالقول: بأنهم يستغفرون بعد الانتهاء من الغائط، لا دليل عليه في هذا الحديث. وكذلك القول بأنهم يستغفرون في أنفسهم لا دليل عليه أيضاً. ويبقى الإشكال إذا كانوا يستغفرون أثناء الفعل، وظاهر لفظ (نستغفر) يدل على أنه أثناء الفعل، فنقول في جواب ذلك: إنه فعل من الصحابة، ولو صح أنهم يستغفرون أثناء الفعل، فإننا نقول هذا من فعل الصحابة، والقاعدة: (أنه إذا تعارض هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع فعل الصحابي فالحجة بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بما رآه أصحابه رضوان الله عنهم). وتوضيح ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (أتى سباطة قوم فبال، فمر عليه رجل فسلّم فلم يرد عليه السلام، ثم ضرب بيديه الحائط، ثم قال: وعليكم السلام، إني كنت على حالة كرهت أن أذكر الله عليها)، فإذا كان هذا وهو غير متطهر وقد فرغ من قضاء حاجته، فكيف إذا كان على حال قضاء الحاجة وغير متطهر فإنه أبلغ وآكد، فدل هذا على أنه لا يذكر الله جل وعلا أثناء قضاء الحاجة، وإنما يقتصر على الذكر في المواضع التي شرع ذكر الله جل وعلا فيها، وليس فيها امتهان لذكره جل وعلا. والله تعالى أعلم.

وجه الاستغفار بعد الخروج من الخلاء

وجه الاستغفار بعد الخروج من الخلاء Q ذكرتم أن من العلماء من قال: أن كلمة (غفرانك) أتت لانحباس الإنسان عن الذكر، مع أن ذلك بأمر الله تعالى كما هو الحال في الحائض عند امتناعها عن الصلاة والصيام، ولم يأتِ أنها تقول مثل ذلك بعد الانتهاء من عادتها، فما قولكم؟ A أولاً: لا أحب لطالب العلم أن يجتهد في استنباط النصوص وفي فهمها وفي تتبع كلام العلماء، وينبغي لكل طالب علم أن يحفظ قدره وأن يحفظ للعلماء حقهم، ولذلك أنبه على ما شاع وذاع بين كثير من طلاب العلم وخاصةً في هذه الأزمنة وإلى الله المشتكى، ولا أقصد بذلك صاحب السؤال، ولكنها فرصة طيبة أن أنبه على ذلك، فهناك كثير من الأمور التي تحُكى عن أهل العلم ويأتي طالب العلم ويورد سؤاله على سبيل التعقيب والاجتهاد، ويقول: كيف هذا، والأصل كذا؟! ولا مانع من أن يقول ذلك على سبيل الاستشكال، يقول: أشكل عندي كلام العلماء في هذا الأمر، كيف نوفق بين هذا وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم. ؟ أما أن يورد الشيء على أنه نوع من التعقيب على العلماء أو نوع من المآخذ على كلامهم، فهذا لا ينبغي لطالب العلم وعلى الإنسان أن يعلم أن هؤلاء العلماء كانوا على درجة من الورع وخوف الله جل وعلا ما يمنعهم من أن يقولوا على الله بدون علم. نظر العلماء إلى حالة النبي صلى الله عليه وسلم عند قضاء حاجته وخروجه من قضاء الحاجة، قال: (غفرانك)، فإن أردت أن تفسّر النصوص، فالأصل عند العلماء أن يُفسر هديه عليه الصلاة والسلام ويُعلل إما بدلالة الظاهر أو بفهم أصول الشريعة حتى تُستنبط العلة. ومن ذلك الاستغفار: هل هو للخروج نفسه؟ أو لكونه أخرج فضلة؟ أو لانحباسه عن الذكر عليه الصلاة والسلام؟ كل هذا محتمل. وهل ذلك لوقوع محظور؟ لا محظور منه عليه الصلاة والسلام في الأصل؛ لأنه معصوم صلى الله عليه وسلم. إذاً: ما بقي إلا أن يقال: إن هذا الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يذكر الله جل وعلا في هذا الموضع، إنما هو لتخلفه عن ذكر الله، مع أن الثابت عنه في الصحيح من حديث عائشة عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان لا يفتر عن ذكر الله جل وعلا، (كان يذكر الله على كل أحيانه) كما في حديث السنن. وهذا هو المحفوظ من هديه والمعروف من حاله عليه الصلاة والسلام. وحال الكمال إذا قصر فيه العبد ظن نفسه مقصراً، كقيام الليل، فلو أن إنساناً ألفه وتركه ولو مرة واحدة لعد ذلك نوعاً من التقصير، مع أنه ليس بتقصير في أصل الشرع، فكونه عليه الصلاة والسلام على درجة الكمال من ذكر الله جل وعلا والإكثار من ذكره جل وعلا، وفي هذا الموضع يمتنع من ذكر الله عز وجل، فناسب أن يستغفر لمكان تخلفه عن الذكر. أما قول السائل: (إن الحائض) فأين الحائض من مقام النبوة؟!! وليس سائر الأمة في مقام النبي صلى الله عليه وسلم في الكمال!! ونحن نتكلم على كماله عليه الصلاة والسلام في ذكره لله جل وعلا، أي: أن العلماء استنبطوا العلة من حال النبي صلى الله عليه وسلم من المداومة على ذكر الله، وحال الكمال الذي هو فيه من ذكر الله سبحانه وتعالى، فكونه ينشغل بهذا الأمر الذي هو قضاء الحاجة مع أنه ليس بيده عليه الصلاة والسلام استغفر حتى ينال أجر الاستغفار، وإذا استغفر الإنسان قلبت إساءته حسنة، فما المانع أن يستغفر فيكتب له هذا الحال كحال الذاكر؟!! فيكون استغفاره -مع أنه ليس في حال الذنب- جبراً لنقصان الذكر، هذا الوجه الأول في توجيه كلام العلماء. أي: أنه استغفر حتى يجبر نقص الذكر في هذه الحالة، ولا يمنع أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر على هذا الوجه، ولكن غيره من الأمة لا يلتحقون به، فكون الحائض من سائر الأمة ولا تلتحق به في درجة الكمال لا يقتضي الاعتراض بها؛ لأن الحائض ليست في مقام النبي صلى الله عليه وسلم، فأين مقام النبي صلى الله عليه وسلم في ذكره لله واشتغاله بعبادة ربه، وعدم خلو قلبه من استشعار عظمة الله، حتى إذا نام نامت عيناه ولم ينم قلبه، أين هذا المقام من مقام الحائض؟ وهذا من حفظ الله له، وصيانته له واشتغاله بذكر الله سبحانه وتعالى. ونحن نقول: إن كون العلماء -رحمة الله عليهم- يقولون هذا محتمل، وله وجهه، وهو طريق يعرف عند الأصوليين بطريق السبر والتقسيم، فتُسبر الاحتمالات ثم تقسم إلى احتمال صالح واحتمال غير صالح. أما الاعتراض بأنه ليس بيده، فليس بذنب حتى يقال: إنه ليس بيده. يصح الاعتراض من ناحية أصولية بأن تعترض على علة يعلل بها النص إذا كان يتفق التعليل مع ما ذكر، كأن تقول: إنه ذنب، حتى يشرع الاستغفار، فتقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل شيئاً خارجاً عن يده. فالاعتراض بكونه فاعلاً للشيء الخارج عن يده مركب من وجود الذنب، ونحن لا نقول: إنه ذنب، نحن نقول: استغفر، ولعل هذا الاستغفار أن يُكتب به للعبد لو استغفره على نية أنه لم يذكر الله في هذا الموضع أن يعوض له أجره. وعلى العموم فلا مانع، والتعليل محتمل، والنص إذا احتمل أكثر من وجه فلكلٍ أن يعلل، هذا الذي انقدح في نفس هذا المجتهد له أن يعلل به، وهذا الذي انقدح في نفسك لك أن تعلل به. أما أن يُعتب على العلماء أو يحاول الاستدراك عليهم، أو يورد ذلك على سبيل تضعيف أو توهين أقوالهم، فهذا محل نظر لا ينبغي لطالب العلم. انظروا إلى جهابذة العلماء رحمة الله عليهم شرحوا الأحاديث وفسروا الآيات، وتجدهم يحكون أقوالاً كثيرة لأهل العلم رحمة الله عليهم، ويتأدبون فيها، وبعض الأقوال قد يكون التكلف فيها ظاهراً ويغتفر، كل ذلك رعاية للأدب مع العلماء وصيانة لحرمة العلماء؛ لأن أي إنسان تردّ عليه أو تعقب عليه ولو كان تعقيبك عليه ضعيفاً فإنك قد أنزلت من حقه وقدره. فلذلك ينبغي للإنسان دائماً أن يحترم أهل العلم، فإن لم يتوجه لك هذا التعليل فخذ بما ترجح عندك من تعليلات، ونحن لا نُلزم بتعليل معين، بل نحكي أقوال العلماء، فيحتمل أن هذا علة ويحتمل أن هذا علة، ولا حرج عليك أن تأخذ بهذه العلة أو بغيرها. ونسأل الله أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب الاستنجاء [2]

شرح زاد المستقنع - باب الاستنجاء [2] الأصل في الاستنجاء أن يكون بالماء، ويجوز الاستجمار بالأحجار وما في حكمها، ويشترط فيما يستجمر به أن يكون طاهراً، وهناك أشياء لا يجوز الاستجمار بها؛ إما لأنها محترمة، وإما لأنها نجسة، ويستحب أن يستجمر وتراً. والاستنجاء واجب من كل ما يخرج من السبيلين إلا الريح، ولا يصح الوضوء ولا التيمم إلا بعد الاستنجاء أو الاستجمار حتى تزول النجاسة.

ما يشترط في الشيء الذي يستجمر به

ما يشترط في الشيء الذي يستجمر به بسم الله الرحمن الرحيم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويشترط للاستجمار بأحجار ونحوها أن يكون طاهراً منقياً]. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: ففي هذه العبارة يتكلم المصنف عن الأمور التي ينبغي توفرها في الشيء الذي يستجمر به، فإذا أراد الإنسان أن يقطع البول أو الغائط بالاستجمار فإنه يشترط في الشيء الذي يستجمر به شرطان: الشرط الأول: أن يكون طاهراً. والشرط الثاني: أن يكون منقياً. أما طهارة الشيء الذي يستجمر به فكأن يأخذ حجراً طاهراً وينقي به موضع البول أو موضع الغائط، أو يأخذ ورقاً أو قماشاً -ما لم يكن فيه كتابة أو شيء محترم- فينقي به الموضع. واشترطت الطهارة لأن الشرع شرع الطهارة بالماء والحجارة لإنقاء الموضع، فإن كان الشيء الذي يتطهر به نجساً لم يحقق مقصود الشرع، فإنه يزيد الموضع نجاسة ولا ينقيه، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى البعرة وقال: (إنها ركس) وهي لغة بعض أهل اليمن، أنهم يبدلون الجيم كافاً: ركس، والأصل: رجس، والرجس: النجس، أو الشيء المستقذر في لغة العرب، فامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الإنقاء بالروثة بناءً على أنها رجس، فدل على أن الشيء الذي يتطهر الإنسان به من البول والغائط ينبغي أن يكون طاهراً، وكذلك يكون منقياً، فلو كان لا ينقي الموضع فإنه لا يجزئ، مثال ذلك: لو أن إنساناً تبول فأخذ زجاجة لكي ينقي بها العضو، فإن الزجاج مادته ملساء، وتنساب النجاسة عليها ولا تشربها، فهذا لا ينقي الموضع. ولذلك نهي عن الاستجمار بالعظم، وأحد الأوجه في المنع من الاستجمار بالعظم أنه أملس، فلا يمكن معه إنقاء الموضع، فخلصنا من هذا أنه لابد من الشرطين: أن يكون طاهراً، فلا يصح الاستجمار بالنجس، وأن يكون منقياً، أي: يتمكن الإنسان به من إنقاء الموضع وتنظفيه.

ما يحرم الاستجمار به

ما يحرم الاستجمار به

حكم الاستجمار بالعظم والروث

حكم الاستجمار بالعظم والروث وقوله: [غير عظم وروث]. (غير عظم): (غير) للاستثناء، والاستثناء إخراج ما يتناوله اللفظ، (غير عظم وروث) لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستجمار بهما كما في حديث سلمان وغيره أما العظم، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنه زاد إخوانكم من الجن) ولذلك لما اجتمع النبي صلى الله عليه وسلم بالجن فسألوه الزاد قال: (لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحماً) أي: سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الطعام الذي يأكلونه فأجابهم بهذا، ولذلك نهي عن الاستجمار به. وقال بعض أهل العلم: إن العظام لا تنقي الموضع، مع كونها زاداً لإخواننا من الجن، ففرعوا على هذه العلة حكماً وهو عدم الاستجمار بشيء أملس لا ينقي الموضع كالزجاج.

حكم الاستجمار بالطعام

حكم الاستجمار بالطعام وقوله: [وطعام ومحترم ومتصل بحيوان]. (وطعام) أي: وغير طعام، فإن الطعام لا يجوز الاستجمار به؛ لما فيه من الامتهان، ولأن الطعام يحتاج إليه الإنسان، فإذا استغنى عنه الإنسان احتاج إليه الحيوان، ولذلك نصوا على أنه لا يجوز الاستجمار بالطعام، وهذا بإجماع أهل العلم، وقال بعض العلماء: إنه إذا قصد امتهان النعمة قد يكفر والعياذ بالله، كما لو وطئها بقدمه قاصداً الامتهان والكفر بالنعمة، نسأل الله السلامة والعافية.

حكم الاستجمار بالمحترم

حكم الاستجمار بالمحترم وقوله: [ومحترم]. (ومحترم) أي: لا يجوز الاستجمار بالمحترمات ومنها كتب العلم، فقد أمر الله أمر بصيانتها وتعظيمها كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] قال بعض العلماء: الشعائر جمع شعيرة وهي كل ما أشعر الله العباد - أي: أعلمهم- بحرمته ومكانته، فلذلك لا ينبغي أن يستجمر بشيء محترم شرعاً.

حكم الاستجمار بالمتصل بالحيوان

حكم الاستجمار بالمتصل بالحيوان وقوله: [ومتصل بحيوان]. كأن يأخذ ذنب البعير أو ذنب البقرة أو نحو ذلك، أو يستجمر بظهر البعير أو البقرة، كل ذلك لا ينبغي له؛ لأنه في حكم الاستجمار بالطعام، ولما فيه من تنجيس الموضع المتصل بذلك الحيوان. لاحظوا أن هذه المستثنيات على ضربين: ضرب ورد النص به، كالعظم والروثة. وضرب عرف بأصول الشرع المنع منه، كالمحترم ونحوه. وضرب يفوت مقصود الشرع، وهو الذي لا ينقي. وبناءً على ذلك، نفهم أن الفقه تارة يؤخذ مما نص الشرع عليه، وتارة يفهم من أصول الشرع العامة، وما دلت الشريعة عليه بالعمومات أو بالأصول العامة أو كما يقولون: يفهم من مقاصد الشريعة، كأن تقول: مقصد الشريعة احترام كتب العلم وإجلالها لقوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج:32]، وفي الاستنجاء بها مخالفة لمقصود الشرع فتحرم. وقوله: [ولو بحجر ذي شعب] الحجارة ذات الشعب: هو الحجر يكون له ثلاث أو أربع شعب، على حسب كبره وخلقته التي خلقه الله عليها، فلو أخذ رجل الحجر الذي له ثلاث شعب واستجمر بشعبة، ثم قلبه إلى الشعبة الثانية واستجمر بها، ثم قلبه إلى الشعبة الثالثة واستجمر بها فإنه يجزئ عن الثلاثة الأحجار.

استحباب الاستجمار وترا

استحباب الاستجمار وتراً وقوله: [ويسن قطعه على وتر]. أي: قطع الخارج على الوتر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي هريرة في الصحيحين: (ومن استجمر فليوتر) للعلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (من استجمر فليوتر) قولان: القول الأول: (من استجمر) أي: قطع الخارج من بولٍ أو غائط فليوتر، وسنبين معنى ذلك. القول الثاني: (من استجمر) أي: من تطيب بالبخور فليوتر؛ لأن البخور يسمى بذلك، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في أهل الجنة -جعلنا الله وإياكم منهم- قال: (مجامرهم الألوة). فالاستجمار يقال: إن المراد به التطيب، وهذا قول بعض أهل اللغة، ونسب إلى إمام دار الهجرة الإمام مالك رحمة الله عليه، ولذلك قالوا: يسن إذا أخذ الرجل في تطييب الناس بالبخور أن يطيبهم مرة أو ثلاثاً أو خمساً، وإذا تطيب الإنسان تطيب على وتر، هذا على القول الثاني. والأفضل أن الإنسان يجمع بين الاثنين، فإن استجمر في بول أو غائط قطع بالوتر، وإن استجمر بطيب قطع بوتر، حتى يكون من السنة على كلا القولين، وهذا هو ما ننبه عليه دائماً في المسائل الخلافية، في تفسير أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي لها فضائل للإنسان، فالمسلم يحاول أن يكسب الفضيلة ولو اختلف العلماء فيها، ويحاول أن يحصل الفضل على أتم وجوهه وأكملها. الشاهد: أن المصنف هنا قال: (يسن قطعه على وتر) فلو أن إنساناً تبول ثم أراد أن يقطع البول فأخذ الحجر الأول فاستجمر به، ثم أخذ الحجر الثاني فاستجمر به، فانقطع البول عند الحجر الثاني، فعلى القول بأن الثلاث واجبة يلزمه حجر ثالث، وحينئذٍ لا إشكال، لكن لو فرض أنه استجمر بالحجر الأول والثاني والثالث ولم ينقطع البول ثم استجمر بالرابع فانقطع، فإذا انقطع بالرابع فإنه يضيف حجراً خامساً طلباً للسنة، وهذا هو معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ومن استجمر فليوتر). وكذلك أيضاً بالنسبة للغائط، يجعل حجرين لطرفي الصفحتين، وحجراً لحلقة الدبر، ثم إذا انقطع الخارج من حلقة الدبر بالثلاث فلا إشكال، لكن لو انقطع بالرابع فيضيف خامساً للحلقة.

حكم الاستنجاء من كل خارج من السبيلين

حكم الاستنجاء من كل خارج من السبيلين قال رحمه الله تعالى: [ويجب الاستنجاء لكل خارج إلا الريح]. لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما حفظ عنه أنه تبول ولا تغوط صلوات الله وسلامه عليه إلا وتطهر، وكان أنس -كما جاء في الصحيحين- يحمل الإداوة معه للنبي صلى الله عليه وسلم ليستنجي بها، وكذلك أيضاً جاء في حديث سلمان وعائشة رضي الله عنهما، وغيرها من أحاديث السنن التي تدل على محافظة النبي صلى الله عليه وسلم على إنقاء الموضع إما باستجمار أو باستنجاء. أما الاستنجاء فهو: أن ينقي الإنسان الموضع بالماء، كما هو الحال الموجود الآن في البيوت، فإذا فرغ الإنسان من بوله أو غائطه صب الماء على عضوه وأنقاه، وهذا يسمى استنجاء. أما الاستجمار: فهو أن يأخذ الحجارة، وهذا في الغالب يحصل للذي يكون في سفر أو في بر أو نحو ذلك، وكل منهما مشروع، ولا يجب عليه أن يستنجي بالماء، فلو أن إنساناً دخل إلى الحمام -ولو في المدن- والماء موجود، ولشدة البرد لم يرد أن يغسل عضوه فأخذ مناديله فاستجمر بها لأجزأه ذلك، وهذا بلا خلاف، بل كان بعض السلف لا يرى صب الماء ويقول: هو وضوء النساء، ولكنه قول مرجوح ومردود عليه؛ لأن أنساً حمل للنبي صلى الله عليه وسلم الإداوة، والماء أبلغ وأنظف وأنقى، وكانوا يستحبون أن يبتدئ بالحجارة حتى تنقي الموضع بحيث إذا صب الماء لا يتلطخ بالنجاسة، ثم بعد ذلك يتبعه الماء، وفيه حديث ضعيف في قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108]، والصحيح: أن ذلك الاستحباب هو من أصول الشرع العامة لا من دليل بعينه، أي: لم يرد دليل بعينه يدل على الجمع بين الحجارة والماء، ولكن من باب أصول الشريعة العامة وعلى سبيل المبالغة في التنظيف، وأما لو اقتصر على الماء أو اقتصر على الحجارة فيجزيه، ولا حرج عليه في ذلك، ومقصود الشرع هو إنقاء الموضع.

أقسام الخارج من السبيلين من حيث نقض الوضوء

أقسام الخارج من السبيلين من حيث نقض الوضوء وقوله: [ويجب الاستنجاء لكل خارج إلا الريح]. (كل) من صيغ العموم، وهذا أصل عند الأصوليين، أنه إذا قيل: (كل)، يفهم من ذلك عموم الدلالة، فيشمل ذلك كل ما خرج من البدن، والخارج من البدن يأتي على ضربين: الخارج المعتاد، والخارج غير المعتاد، فالخارج المعتاد: البول والغائط. والخارج الغير المعتاد: كالدم، كأن يحصل للإنسان نزيف داخلي، أو يخرج منه حصى أو دود، فهذه كلها خوارج غير معتادة، أي: خرجت على سبيل المرض، وللعلماء في الخارج أوجه: منهم من قال: لا ينقض الوضوء إلا ما كان خارجاً معتاداً في الصحة، فلا ينقضه الخارج غير المعتاد. ومنهم من قال: ينقض الوضوء كل ما خرج. فالمذهب الأول مذهب التخصيص، والمذهب الثاني مذهب التعميم. ومنهم من فصَّل، فقال: إن كان نجساً نقض، وإن كان طاهراً لم ينقض، أي: إن كان أصله النجاسة كدود البطن، فإنه يكون مختلطاً بالنجاسات؛ فإذا خرج نقض، وإن كان أصله طاهراً كالحصى فلا ينقض، وهذه أوجه العلماء رحمة الله عليهم في الخارج. فالمصنف درج على القول الذي يقول: إن كل ما خرج من البدن ينقض، ويستوي في ذلك أن يكون معتاداً أو غير معتاد، وسيأتي -إن شاء الله- بسط هذه المسألة في نواقض الوضوء. ونريد أن نحدد محل الاتفاق ومحل الخلاف في مسألة الخارج، أما الاتفاق فلو خرج البول ,أو الغائط الذي هو الخارج المعتاد أو المذي أو الودي، فإن كل هذه يجب الاستنجاء منها.

حكم الاستنجاء من خروج المني

حكم الاستنجاء من خروج المني أما المني: ففيه وجهان مشهوران: الوجه الأول: خروج المني يوجب الاستنجاء. الوجه الثاني: لا يوجبه. والذين قالوا: إنه موجب، احتجوا بما ثبت في الصحيحين في صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمهات المؤمنين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل العضو وما هنالك) قالوا: لأن المني يعتبر موجباً للاستنجاء. والذين يقولون: أنه طاهر، وخروج الطاهر لا يضر، فبناءً على الأصل الذي قرروه وهو أن يكون الخارج نجساً، قالوا: والمني طاهر وليس بخارج من المخرج المعتاد؛ لأن له عرقاً يخصه.

حكم الاستنجاء من خروج ما يدخل في السبيلين كالآلات

حكم الاستنجاء من خروج ما يُدخل في السبيلين كالآلات وقوله: [لكل خارج]. هنا مسألة عصرية تتفرع عن قول المصنف: (كل خارج)، وهي: مسألة المادة التي يحقن بها الإنسان كمواد الأشعة التي من أجل تصوير العضو لمعرفة مرضٍ فيه، فتحقن المادة في العضو ثم تبقى في نفس المجرى، ثم يصور ثم تخرج عن طريق التبول أو أنها تسحب، فإذا خرجت هل يجب الاستنجاء منها أو لا يجب، فإن قيل: العبرة بالعموم -كما درج عليه المصنف- وجب الاستنجاء بخروجها، وإن قيل: العبرة بالخارج المعتاد؛ فلا يجب الاستنجاء منها. أيضاً: المسألة القديمة التي تفرعت عليها هذه المسألة: لو أن آلة أدخلت في مجرى البول أو مجرى الغائط -كالمناظير- ثم أخرجت، هل يجب أن يستنجي الإنسان بخروجها أو لا يجب؟ من العلماء من قال بالتفصيل، فقالوا: إن خرجت وفيها أثر الرطوبة وجب الاستنجاء، وإلا لم يجب. والحقيقة أن التعبير بالعموم من حيث أصل الشرع قوي، يعني: ما درج عليه المصنف من إيجاب الاستنجاء من كل ما خرج -بلفظة (كل) - أقوى؛ لأنه مراعٍ لأصل الشرع؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم غسل من المني وهو طاهر، وكذلك غسل من بقية الخوارج، وبناء على ذلك نقول: نعتبر خروج الخارج موجباً للإنقاء. ويبقى لدينا سؤال وهو: ما دليل من قال بالتفريق بين الطاهر وغير الطاهر؟ قالوا: دليلنا الشرع، فإن الريح يخرج من البدن ولا يجب بالإجماع منا أن يستنجى منه، فلو كان كل خارج يوجب الاستنجاء لوجب الاستنجاء من الريح، فكون الشرع لا يوجب الاستنجاء من الريح يفهمنا أنه لو خرج الطاهر من قبل أو دبر أنه لا يوجب الاستنجاء. كيف نجيب عن هذا الدليل ونحن قلنا: إن الأرجح هو الوجوب؟ نقول: إن هناك فرقاً بين ما له جرم وما لا جرم له، بدليل أن الإجماع انعقد على عدم الاستنجاء من الريح، وعندنا المني وهو طاهر ويستنجى منه، ففهمنا أن هناك فرقاً بين السائل الذي له جرم والذي لا جرم له وهو الريح، وبناء على ذلك نقول: يستجمر من كل ما له جرم -جامداً أو مائعاً- إلحاقاً بالمني، ولا يجب عليه الاستجمار من الهواء كالريح، ويبقى الأصل على ما هو عليه ولا يستقيم اعتراضهم بالريح. وربما لو قلت لهم: إن المني يستنجى منه، قيل لك: هذا من باب رد المختلف فيه إلى المختلف فيه؟! فأنا لا أرى أن المني يوجب الاستنجاء منه، هذا إذا كان يقول بطهارته كما هو أحد الأوجه عند الشافعية، فلا يرى الاستنجاء من المني، أما لو كان يقول بنجاسته كالحنفية، فخروجه يوجب الغسل ملحقاً بالبول والغائط، فهذا أصل المسألة أصولياً. فالخلاصة: أنه يجب الاستنجاء من كل ما خرج من السبيلين ما عدا الريح، وشذ بعض أهل الأهواء فقالوا: إن الريح يستنجى منه وهذا قول مردود؛ لأنه لا دليل عليه، لكن ينبغي أن ينبه على أن الريح له أحوال: فتارة يكون معه سالماً من رذاذ النجس الموجود في الموضع، وتارة يكون مخلفاً لرذاذ نجس كما يذكر بعض العلماء في حالة إسهال أو نحوه، فإن صاحب هذه الريح لزج له جرم من الخارج؛ فإنه يجب إنقاء الموضع للخارج لا لذات الريح.

حكم الوضوء والتيمم قبل الاستنجاء

حكم الوضوء والتيمم قبل الاستنجاء وقوله: [ولا يصح قبله وضوء ولا تيمم]. هذه مسألة ثانية، وقد مرَّ أنه ينبغي على المكلف أن يستنجي وينقي الموضع، وبينا الدليل كما في الحديث: (نهانا أن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار) وكذلك قوله في حديث أبي داود عن الثلاثة الأحجار: (فإنها تجزيه) فقوله: (إنها تجزيه) كما يقول الإمام ابن قدامة وغيره: إنها تدل على الوجوب، فإن الإجزاء لا يعبر به إلا في الوجوب. فيجب على الإنسان أن يستنجي من الخارج عموماً -كما ذكر المصنف- إلا إذا كان ريحاً، فلو أن إنساناً خرج منه الخارج ولم يستنجِ، بل تبول ثم نشف الموضع، ولم يكن عليه ثياب، فلبس ثياباً بعد نشاف الموضع ثم يبس المكان، أو مثلاً: تبول ثم غير ثيابه بعد نشاف الموضع، فالثياب طاهرة، وهو من حيث هو طاهر ما عدا موضع الخارج، ثم جاء وتوضأ أو تيمم وأراد أن يصلي، فنحن قلنا: يجب الاستنجاء، فهل هذا الوجوب شرط في صحة الصلاة بحيث لا نصحح العبادة إلا بعد استنجائه؟ أو نقول: إن صلاته صحيحة؟ للعلماء وجهان مشهوران: منهم من قال: تصح طهارته وتصح صلاته، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (توضأ واغسل ذكرك) وفي حديث عمر في الصحيحين: (أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: توضأ واغسل ذكرك) فوجه الدلالة: أنه قال له: توضأ، ثم قال له: اغسل ذكرك، أي: أنه صحح وضوءه مع أنه لم يستنج بعد، لقوله: (واغسل ذكرك) فإن قوله: (اغسل ذكرك) وقع بعد قوله: (توضأ) فدل على أن عبادة الوضوء تصح، وبناء على ذلك قالوا: يصح الوضوء قبل الاستنجاء. وقد يعترض عليه المعترض ويقول: لو كان حديث عمر على الترتيب: فكيف يلمس ذكره بعد الوضوء؟! وجوابه: أنه وضوء في جنابة، فلا ينتقض بمس الذكر، وهذه مسألة لطيفة يلغزون بها: وضوء لا ينتقض إلا بالجماع أو بجنابة جديدة؟ وهو وضوء الجنب، واحتجوا له بهذا الحديث، وأشار إليها السيوطي بقوله: قل للفقيه وللمفيد ولكل ذي باع مديد ما قلت في متوضئ قد جاء بالأمر السديد لا ينقضون وضوءه مهما تغوط أو يزيد يعني: لا ينقضه بول ولا غائط، فتقول: هو وضوء الجنب. فقالوا: هذا الحديث يدلنا على أن من خرج منه الخارج ولم يغسل الموضع ثم توضأ فإن وضوءه صحيح.

الأدلة على عدم صحة الوضوء قبل الاستنجاء

الأدلة على عدم صحة الوضوء قبل الاستنجاء والصحيح: أنه لا يصح الوضوء كما قال المصنف إلا بعد إنقاء الموضع للأدلة الآتية: أولها: أن الله تعالى أمر بالوضوء عند إرادة القيام إلى الصلاة، وهذا يدل على أنه لا يفصل بينهما بفاصل الاستنجاء، وأنه هو الأصل. ثانياً: أن المحفوظ من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته أنه كان يستنجي ثم يتوضأ، وما حفظ عنه في حديث صحيح أنه قدم الوضوء على الاستنجاء. ثالثاً: أن الدليل الذي استدلوا به مجاب عنه بأن الواو في قوله: (توضأ واغسل ذكرك) هي لمطلق الجمع، فالاستدلال بهذا الدليل على الوجه الذي ذكروه وقالوا: إنه مبني على أن الواو تفيد العطف مع الترتيب، هو مذهب ضعيف. والصحيح: أن الواو أصل في إفادة مطلق الجمع، بغض النظر عن كون هذا قبل هذا، كأن تقول: جاء محمد وعمر، فلا يستلزم أن محمداً جاء قبل عمر، إنما المراد مطلق الأمرين. فالمقصود: أن الواو تدل على مطلق الجمع، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (توضأ واغسل ذكرك) مراده حصول الأمرين، لا أن يوقع الوضوء قبل غسله لذكره، وبناء على ذلك يستقيم ما ذكره أصحاب هذا القول من تقديم الاستنجاء على الوضوء. لو قال قائل: قول الذين يقولون بجواز سبق الوضوء للاستنجاء، فكيف يستنجي وهو سيحتاج إلى لمس العضو؟ فأجابوا بقولهم: يلمسه بحائل، أو يتوضأ وبعد أن يتوضأ يصب الماء عليه، كأن يكون في بركة أو عارياً أو نحو ذلك، يعني: المسألة ممكن أن تقع، ولا يشترط فيها لمس العضو حتى يحكم بالنقض.

باب السواك وسنن الوضوء [1]

شرح زاد المستقنع - باب السواك وسنن الوضوء [1] السواك سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم التي حث أمته عليها، وهو مطهرة للفم مرضاة للرب، وهو مستحب في كل وقت، ويتأكد استحبابه عند الوضوء والصلاة والقيام من النوم وتغير الفم، ويُطلب في السواك أن يكون منقياً للموضع، وأن يكون طيباً رطباً غير مضر.

مشروعية السواك

مشروعية السواك قال المصنف رحمه الله: [باب السواك وسنن الوضوء]. يقول المصنف رحمه الله: (باب السواك) السواك يطلق ويراد به الآلة التي يتسوك بها، ويطلق ويراد به فعل السواك، فمن إطلاق السواك مراداً به الآلة التي يستاك بها: حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مرضه الذي توفي فيه، والسواك على طرف لسانه -فقوله: والسواك، يعني آلة السواك- وهو يقول: أع أع، كأنه يتهوع) صلوات الله وسلامه عليه. وأما إطلاق السواك والمراد به الفعل، ففيه حديث أبي هريرة الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك) أي: بفعل السواك. وباب السواك المراد به بيان الأحكام والسنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في السواك، وقد شرع الله عز وجل السواك بهدي نبيه صلوات الله وسلامه عليه، القولي والفعلي والتقريري، فكان عليه الصلاة والسلام يستاك ويأمر أصحابه بالسواك، حتى ثبت في الصحيح أنه قال: (أكثرت عليكم في السواك). وباب السواك يذكره العلماء قبل باب الوضوء، وقبل صفة الوضوء، والسبب في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) وفي رواية: (مع كل وضوء وعند كل وضوء). فقالوا: إن هذا محله، ولذلك يذكرونه في باب الطهارة، ولأن السواك قسم من أقسام الطهارة في الوصف، ففيه إنقاء موضع مخصوص على صفة مخصوصة. وقوله: (وسنن الوضوء) أي: في هذا الموضع سأبين لك جملة من الأحكام والمسائل الشرعية التي تتعلق بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في السواك وسننه في الوضوء، والسنة ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، وهي التي لم يلزم المكلف بها فمن فعلها فقد أحسن ومن لم يفعلها فلا عتبى ولا حرج، تطلب على سبيل الاستحباب لا على سبيل الحتم والإيجاب.

استخدام العود في السواك

استخدام العود في السواك قال رحمه الله تعالى: [التسوك بعود]. (التسوك) صيغة تفعل من السواك أي: فعل السواك (بعود) هذا أحد وجهين عند العلماء رحمة الله عليهم، أن السواك المحمود شرعاً إنما يكون بالعود لا بغير العود، وذهبت طائفة من العلماء إلى أن السواك يحصل بالعود وبكل ما ينقي الموضع، كأن يستاك بخرقة أو بمنديل، قالوا: لأن مقصود الشرع هو إنقاء الموضع، ولهم دليل يدل على صحة قولهم في قوله عليه الصلاة والسلام: (السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب) ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن قوله: (مطهرة للفم) أي: أن السواك من شأنه أن يطهر، فدل على أن كل ما طهر يصدق عليه أنه سواك شرعي، وتوسط بعض المحققين -وهو اختيار بعض العلماء ومنهم الإمام ابن قدامة رحمة الله عليه في المغني- فقالوا: يثاب على قدر ما يصيب من السنة في النقاء، ولا يأخذ فضل السنة كاملة إذا استاك بخرقة أو بمنديل، لكن يكون له فضل، كما لو فقد العود وأراد أن يستاك بمنديل، وهذه المسألة مشهورة ولها نظائر: منها: إذا فقد الإنسان الوصف الكامل في الهدي، وتحصل له بعض الوصف فإنهم يقولون: ينال من الأجر على قدر ما حصل من مقصود الشرع؛ لأن مقصود الشرع النقاء والنظافة، فلما حصل النقاء والنظافة تحقق المراد من السواك، قالوا: فيثاب لموافقته للشرع من هذا الوجه، لأنهم قالوا: الأثر وصورة المؤثر، فإذا لم يجد صورة المؤثر -وهو السواك- فقد وجد حقيقة الأثر، فيثاب لحقيقة الأثر دون صورة المؤثر، وبناء على ذلك: ينال من الأجر على قدر ما أنقى ونظف من الموضع، ولهذا الوجه قوته.

صفة السواك

صفة السواك قال رحمه الله تعالى: [لين منقٍ غير مضر]. (لين) غير يابس؛ لأن اليابس لا ينقي ولا يحقق مقصود الشرع وقد يضر بالأسنان، والشرع لا يجيز الضرر كما في الحديث -وحسنه غير واحد-: (لا ضرر ولا ضرار) قالوا: إن ما فيه ضرر لا يأمر الشرع به، فإذا كان العود يابساً أضر بالأسنان، وبناء على ذلك قالوا: إنه لا يكون إلا ليناً، ولهذا أصل في حديث أم المؤمنين عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في مرض الموت -كما في الصحيحين-: (دخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعن أبيه، وفي طرف يده سواك، فأبده النبي صلى الله عليه وسلم بصره، فقالت له عائشة: أتحبه؟ فأشار برأسه أن نعم، قالت: فأخذته فقضمته وطيبته، ثم أعطيته النبي صلى الله عليه وسلم) ففي هذا دلالة على أن السواك لا يكون إلا رطباً، وأنه لا يستاك بالأعواد اليابسة مباشرة. وقوله: (منقٍ غير مضر). (منقٍ) أي: منظف للموضع، (غير مضر) لأن الشرع -كما قلنا- لا يأمر بالضرر، بل إن الأمر بالسواك دفع لضرر القلح الموجود في الأسنان وتطييب لها، وقد شرع الله عز وجل هذه السنة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم تحصيلاً للمصالح ودرءاً للمفاسد، فلا يؤمر بما فيه مفسدة وفوات مصلحة، إلا في أحوال نادرة في صور مخصوصة وليس هذا منها. قال رحمه الله: [لا يتفتت]. كونه لا يتفتت هذا الوصف إنما هو من اجتهاد العلماء رحمة الله عليهم، وإلا هو إذا أخذ عوداً من أراك واستاك به أصاب السنة، وكونه لا يتفتت أو كونه ليناً -أي: ليناً طيباً- فهذا كله من الكمالات؛ لأنه يعين على تحقيق مقصود الشرع، حتى أن الأطباء الآن يقولون: كلما كان رطباً وفيه المادة الرطبة كلما كان أبلغ، والمادة هذه تستعمل في معالجة الأسنان ونفع اللثة بخلاف ما إذا تفتت، قالوا: إذا تفتت آذى الفم، فإن فتات العود يؤذي اللسان بالوخز، وهذا الوخز قد يتسبب في أضرار بالإنسان؛ لأنه إذا جرح اللسان ودخل إلى الفم أي شيء مضر سهل نفاذه إلى الدم، وقد يتسمم الإنسان ويهلك، وكذلك يدمي اللثة ويجرح اللثة، وعلى القول بنجاسة الدم كما هو قول الجماهير يزيد الموضع قذراً لا طهارة، فكل هذا من باب النظر إلى مقصود الشرع، فلا يقول قائل: إن هذا كلام من عند العلماء فقط، بل هو مستقى من أصول الشريعة، ودائماً تجدون الفقهاء يتوسعون من باب تحصيل كمالات السنة، وهنا عائشة قالت: (طيبته) ما معنى طيبته؟ قال بعض العلماء: طيبته بإزالة آثاره عند قضمه، وقيل: أي: جعلت فيه طيباً، كماء الورد ونحوه، ولذلك قالوا: يسن أن يكون السواك مطيباً، لكن ما يجعل الطيب الذي يؤثر في العقول، والبعض يظن أنه مطيب، بمعنى: أن يجعله في طيب.

حكم التسوك بالأصبع ونحوه

حكم التسوك بالأصبع ونحوه وقوله: [لا بأصبع أو خرقة]. (لا بأصبع أو خرقة) والحقيقة ليس هناك دليل يدل على منع الإنسان من أن ينظف بأصبعه، وهم يقولون: إن الأصبع ليس بسواك لأنه متصل وليس بمنفصل، والسواك منفصل لا متصل. والصحيح: أنه لا حرج على الإنسان -إذا فقد السواك وإذا لم يجد خرقة، أو كانت غير نظيفة- أن يدخل إصبعه؛ لأن مقصود الشرع تنظيف الموضع، فإذا لم يتمكن الإنسان من إصابة السنة على الكمال فلا حرج عليه في إصابة بعضها، فلو أن إنساناً مثلاً: حديث عهد بالسحور، ثم أذن عليه أذان الفجر وليس عنده سواك ولا خرقة، فإن وذر الطعام يحتاج إلى معالجة، فلو قلنا: أنه يقتصر على العود أو على الخرقة، فسيبقى وذر الطعام وقد يضره وقد يؤثر في صيامه، ولذلك لا حرج عليه أن يعالج بيده، أو بالخرقة، وكما قلنا: إن المصنف نفى الخرقة والأصبع بناءً على الأصل الذي قرره في أول الباب من أن السواك لا يكون إلا بالعود.

حكم السواك

حكم السواك قال رحمه الله تعالى: [مسنون كل وقت]. (مسنون) بعد أن عرفنا ما هو السواك يرد Q ما موقف الشرع منه؟ هل هو مأمور به أو منهي عنه؟ فقال: (مسنون)، أي: هو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل على سنيته: قوله عليه الصلاة والسلام: (السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب) هذا على العموم ولم يخصص، ولكنه يتأكد في أحوال كما سيأتي -إن شاء الله- بيانها وبيان أدلتها. قال جمهور العلماء من السلف والخلف: إن السواك ليس بواجب، وقال بعض العلماء -وهو قول بعض أهل الظاهر-: إن السواك فرض واجب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (عليكم بالسواك) والصحيح: أنه ليس بواجب لما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) فقال: امتنع الأمر بالسواك لوجود المشقة، فدل على أنه ليس بواجب. وبناءً على ذلك: يعتبر السواك سنة وليس بفرض، ومن استاك أثيب، ومن لم يستك فإنه لا حرج عليه ولا إثم. وقوله: (كل وقت) هذا على العموم، وهناك أحوال يفضل فيها السواك على غيره، منها عند الوضوء، لحديث أبي هريرة، وعند القيام إلى الصلاة، وكذلك عند القيام من النوم. أما عند القيام إلى الصلاة؛ فلحديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام -أي: إلى صلاة الليل- يشوص فاه بالسواك) يشوص فاه، أي: يدلكه بالسواك. وكذلك حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (أنها كانت تعد للنبي صلى الله عليه وسلم سواكه وطهوره، فيبعثه الله من الليل ما شاء) صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يدل على أنه إذا انتبه الإنسان من النوم شاص فاه بالسواك، وكذلك إذا قام إلى الصلاة، سواء كانت صلاة ليل أو غيرها. كذلك أيضاً عند تغير الفم بالطعام، قالوا: مع كونه عند قيامه من الليل يشوص فاه بالسواك فنعتبره أصلاً، فكلما تغير الفم فإنه يشوص فاه، ولذلك قالوا: يستحب ذلك. وكذلك إذا جلس الإنسان مع أهله وزوجه فيستحب أن يبدأ بالسواك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستاك إذا جلس مع أهله، وكان لا يحب أن يشم منه ريح غير طيبة، فلذلك استحبوا أن يكون الإنسان مستاكاً في مثل هذه الأحوال، وسيأتي -إن شاء الله- بيانها وبيان الأحاديث التي دلت عليها. قال رحمه الله تعالى: [إلا لغير صائم بعد الزوال]. قال: (إلا)، وهذا استثناء، وهو إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، فالسواك مستحب أو مسنون في كل هذه الأوقات. (إلا لغير صائم بعد الزوال) والكلام بهذه الصيغة لا يستقيم. فنقول: لعل الصواب حذف غير، فتكون العبارة: إلا لصائم، أي: إلا لصائم بعد الزوال. أحب أن أنبه أنه في بعض الأحيان يعاجل طالب العلم بتخطئة المكتوب، وهناك أدب من آداب مراجعة الكتب: أن الإنسان إذا وجد عبارة واحتمل فيها التصحيف يكتب في الطرف: (لعل الصواب كذا) لاحتمال أن تكون هذه الكلمة صحيحة بوضعها ولكن هناك نقط وضعت في غير موضعها، أو زيدت كلمة أو حرف، أو طمست كلمة أو حرف، فلا يعاجل بالطمس وبالضرب على الكلمة، ولكن يكتب: (لعل الصواب كذا وكذا)، حتى إذا جاء آخر وأحسن النظر فيها ربما عرفها، أو ربما وجدت نسخة أخرى تبين الصحيح، وهذا هو الذي أدركنا عليه أهل العلم رحمة الله عليهم، فهم لا يجرءون على طمس الكتب وتخطئتها والتصحيح من قبل أنفسهم، وإنما يكتبون في طرف الكتاب أو في هامشه: لعل الصواب كذا وكذا، إلا الآيات القرآنية، بشرط أن يكون الذي يصححها عنده إلمام أو علم بالرواية التي يريد أن يصحح بها إذا كان المصنف التزم رواية معينة كرواية حفص، وهو يتقنها، فلا حرج أن يضرب على الخطأ، فالآيات القرآنية لا يتساهل في أخطائها وإنما تبين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم دعاء ختم القرآن

حكم دعاء ختم القرآن Q هل هناك دليل واضح يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام رضوان الله عليهم كانوا يدعون بعد ختم القرآن الكريم؟ A ليس هناك حديث معين يدل على أنه إذا ختم القرآن دعا، ولكن حكى بعض العلماء رحمة الله عليهم أن فعل السلف جرى على الدعاء بعد الختم، وأثر عن أنس رضي الله عنه وأرضاه، وكان ابن عباس يراقب رجلاً يقرأ في المسجد حتى إذا قارب الختم حضر دعاءه، فلا إنكار على الدعاء عند الختم إذا درج عليه فعل السلف، ولم يحصل له نكير، وحبذا لو يرجع في تحرير هذه المسألة إلى الأستاذ الشيخ بكر حفظه الله في جزئه في مرويات ختم القرآن، فقد أجاد فيه وأفاد، وبين أن فعل السلف على الدعاء عند الختم، ولم يرد في الأحاديث الصحيحة -حسب علمي واطلاعي- حديث صحيح في الدعاء عند الختم، لكن لا ينبغي تخصيص دعاء معين للختم، كأن يكون بألفاظ معينة أو بأذكار معينة أو بصيغة معينة، والأفضل والأكمل أن يؤخذ بهدي النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء بجوامع الكلم. هذا بالنسبة لمسألة الدعاء عند ختم القرآن، فيشرع من حيث الأصل، ولا نكير على الإنسان أن يدعو عند ختم كتاب الله عز وجل، ولكن لا يخصص بدعاء معين أو بصيغة معينة أو بوقت معين أو بزمان معين، كأن يجعل ليلة معينة للختم في كل أسبوع مثلاً، فيحرص على أن يختم في ساعة السحر في الجمعة مثلاً، فهذا لا ينبغي إلا بدليل من الشرع، والله تعالى أعلم.

حكم الاعتكاف بدون صيام والأكل والشرب في المسجد

حكم الاعتكاف بدون صيام والأكل والشرب في المسجد Q هل من شروط الاعتكاف في غير رمضان الصيام؟ وهل يجوز الأكل والشرب في البيت الحرام؟ A هذه مسألة خلافية: هل يشترط للاعتكاف الصوم أو لا يشترط؟ وفيها حديث: (لا اعتكاف إلا بصيام) وفيها حديث عمر رضي الله عنه حينما نذر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام، وهذه الرواية حجة في إلغاء اشتراط الصوم، فلو كان الصوم واجباً للاعتكاف لأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصوم. والصحيح: أنه لا يشترط للاعتكاف الصوم، والحديث يجاب عنه بأنه متكلم في سنده، وعلى القول بتحسينه يجاب بأنه للكمال: (لا اعتكاف إلا بصيام) أي: لا اعتكاف كامل الأجر والثواب إلا بالصيام؛ لأن صاحبه يكون فيه على أبلغ صفات الطاعة، فقد جمع بين عبادة البدن الظاهرة وعبادة البدن الباطنة بالجوع والظمأ والحبس عن الشهوة. ويدل النظر على صحة هذا القول -الذي هو: حمل (لا اعتكاف) على الكمال- أن الإنسان إذا صام ضاق مجرى الشيطان منه، والاعتكاف المقصود منه المبالغة في الطاعة وحضور القلب في العبادة، ولذلك نهي المعتكف عن الخروج إلا من حاجة، فقالوا: إن هذا يدل على أن المراد باشتراط الصيام في الاعتكاف هو الكمال، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (لا اعتكاف إلا بالمساجد الثلاثة) فإن المراد به أكمل الاعتكاف وأعظم الأجر فيه؛ لأن الصلاة في هذه المساجد أعظم أجراً من غيرها، وإنما حمل على الكمال لعموم قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] فالمقصود أن هذا كله محمول على الكمال لا على نفي الصحة، وبناءً على ذلك فلا يشترط الصوم على أصح الأقوال. أما الأكل والشرب داخل المساجد فإن العلماء رحمهم الله قد فصلوا في ذلك، فقالوا: لا حرج على الإنسان أن يأكل ويشرب في المسجد؛ لأنه ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه اعتكف وما خرج لطعام ولا شراب) وهذا في حديث عائشة رضي الله عنها ما خرج إلا لحاجة فقط -وهي البول والغائط- وكان يمر على المريض فلا يعرج عليه، وهذا يدل على أن المعتكف يجوز له أن يأكل ويشرب في المسجد، ولا حرج عليه ولكن بشرط ألا يضر بالمسجد وألا يؤذي المصلين، وأن يكون الطعام الذي يدخله لا تنبعث منه الروائح الكريهة، فيتسبب في أذية المصلين بتغيير رائحة المسجد، فإذا كان الأكل والشرب للمعتكف فلا حرج، أما لغير المعتكفين فالأكمل ألا يأكل في المسجد؛ لأن الله تعالى يقول: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] فمن رفعتها وإكرامها وإجلالها أن تجعل للعبادة فقط، قال عليه الصلاة والسلام: (إن المساجد لم تبنَ لهذا)، وأراد كلام الدنيا ومن باب أولى الطعام؛ لأنه لا يسلم من وجود بعض الضرر من رائحة الأطعمة وأذية المصلين بها. ولذلك الأكمل والأفضل عدم الأكل والشرب في المسجد، أما لو أكل وشرب بالشروط التي ذكرناها فلا حرج، فلو منع من إدخالها إلى المسجد؛ فإنه يصح المنع لمصلحة عامة، وذلك أن الناس إذا استخفوا وتساهلوا فيشرع زجرهم، وخاصة في المساجد التي تجمع عدداً كبيراً من الناس، كالمساجد الثلاثة. إذاً: لابد أن يكون الأكل في المسجد محدوداً ومضبوطاً بحدود وضوابط معينة لا يكون فيها ضرر بالمصلين ولا بالمعتكفين، فإذا منع من ذلك فإنه لا يجوز تهريب الطعام إلى داخل المسجد. وأنا أرى أن دخول بعض الأطعمة كالخضروات والبقول ونحوها المطبوخة فيها أذية للمسجد، فإنك تجد أثر ذلك في المسجد، فإذا كانت المساجد مكتظة بالناس، فإنها تحتاج إلى فترة حتى يذهب ريح تلك الأطعمة. وقد رأيت بعيني في أيام العيد الصبيان يطئون التمر بأقدامهم، أي: أنه ينتشر بالمسجد، فبعض الناس -أصلحهم الله- يتساهلون في الانضباط، فإذا عمّت البلوى واحتيج إلى صيانة المساجد فلاشك أن هذا أمر مطلوب، خاصة في الحال الذي يحصل فيه الحرج والضيق، وأنتم تعرفون أن بعض المساجد يحصل فيها ضيق بالعامة والخاصة، فينبغي على الإنسان أن يتحسب، وإلا فالأفضل للمعتكف أن يقتصر على الأسودين: الماء والتمر، وخاصة في البلد الحرام الذي أكرمه الله عز وجل بماء زمزم الذي هو (طعام طعم وشفاء سقم) فيشدد على أهل مكة أكثر من غيرهم؛ لأن عندهم: (طعام طعم وشفاء سقم) وأبو ذر جلس أربعين يوماً لا يطعم إلا من زمزم. فالمقصود: أن إدخال الأطعمة فيه ضرر للناس والأفضل الانضباط ما أمكن، والله تعالى أعلم.

حكم ائتمام النساء بالرجال مع عدم رؤيتهم

حكم ائتمام النساء بالرجال مع عدم رؤيتهم Q هل يشترط أن يرى النساء المأمومين والإمام أثناء الصلاة المفروضة وفي النوافل كالتراويح مثلاً؟ A الأصل: أن يرين؛ لأن الأحاديث الصحيحة تدل على هذا، ولذلك نهي النساء أن يرفعن رءوسهن قبل الرجال؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا ربما سجد الرجل منهم فبانت عورته؛ لأنهم ما كانوا يجدون الأُزر إلا ما يستر حد الضرورة بسبب ضيق العيش الذي كانوا فيه، فهذا مصعب بن عمير خرج من الدنيا وعليه شملة واحدة هي زاده من الدنيا كلها، إن غطوا بها رأسه بدت قدماه، وإن غطوا قدميه بدا رأسه، فقال صلى الله عليه وسلم: (غطوا بها وجهه، واجعلوا على رجليه إذخراً أو شيئاً من الإذخر) فهذا يدل على أنهن كنَّ يرين الإمام والمصلين. وفي زماننا لو حصل سهو للإمام أو خطأ فربما لم ينتبه النساء لذلك الخطأ والسهو إذا لم يكن يرين، لذلك يشرع رؤيتهن للإمام؛ لأنه الأصل في المتابعة، فيحتاط بموضع ولو لامرأة واحدة حتى ترى من خلاله الإمام، وإلا اختلت صلاتهن، مثال ذلك: لو أن الإمام سها وقام ولم يجلس للتشهد الأول، فإن النساء سيجلسن، وقد وقع هذا كثيراً، وأذكر أنني ذات مرة صليت بقوم التراويح فلما سلمت سجدت سجدتي السهو البعدية، فقال لي أحد الإخوان بعدما خرجنا: قالت إحدى نسائه: من هو الميت الذي صليتم عليه صلاة الغائب؟ نعم والله؛ لأنها سمعت أربع تكبيرات بتسليمة، لكن فاتتها التسليمة الثانية، فربما ظنت أنها السنة. فالمقصود: أن عدم الرؤية مدعاة للخطأ، فيحتاط بوضع مكان تكون فيه امرأة كبيرة في السن أو أمينة، ولاشك أن فساد الناس في هذا الزمن يقتضي الستر لهن، لكن لابد من تحقيق أصول الشرع، فيحتاط ولو بنافذة أو بمكان مخصص ترى امرأة واحدة منه ولو بعض الأمور، ولو مأموماً واحداً لأنه يدل على أفعال الإمام، وبهذا يحصل الاحتياط. وهناك قول ثانٍ: أنه لا تشترط الرؤية، واحتجوا له بحديث أم المؤمنين في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف. لكن الأصل المعتبر هو الرؤية، وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الهدي من بعده في مسجده صلوات الله وسلامه عليه.

حكم خروج الدم من الصائم عمدا وبغير عمد

حكم خروج الدم من الصائم عمداً وبغير عمد Q هل خروج الدم الكثير يفسد الصوم، وما الحكم إذا تعمد إخراجه؟ A خروج الدم فيه تفصيل: فبعض العلماء يرى أنه إذا كان من الحجامة ففيه قولان مشهوران: أصحهما: أن الحجامة لا تفطر الصائم، وسيأتي -إن شاء الله- بيان هذه المسألة بأدلتها والجواب عن حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم). وبناءً على هذا القول فإن خروج الدم لا يوجب الفطر، ويتخرج من القول الذي يرى أن الحجامة تفطر أنه إذا خرج الدم الكثير برعاف أو بنزيف أو بجرح فإن الصيام يبطل، ويجب القضاء، وسيأتي -إن شاء الله- بيان ذلك، فقد ثبت بالحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم) فدل على أن الحجامة لا توجب الفطر، وللبيهقي رحمه الله بحث نفيس في هذه المسألة، بين فيه المرويات وأن حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) كان في أول الإسلام ثم نسخ. وعلى العموم: ثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالاحتجام دليل على أنه لا يفطر، وقوله: (أفطر الحاجم والمحجوم) محمول على أنه عرض نفسه للفطر، فإن الحاجم لا يأمن من دخول الدم أثناء سحب الدم، والمحجوم لا يأمن الفطر من الضعف، وهذا تعرفه العرب، فإن العرب يعبرون بالوقوع في الشيء إذا تعاطى الإنسان أسبابه، يقولون للرجل: هلكت! وهو لم يهلك بعد، أي: أنك على شفا الهلاك. ويقولون له: أصبحت! كما في الحديث الصحيح: (أصبحت أصبحت) أي: أنك على وشك الإصباح، فهذا يعرف في لغة العرب ولا يعتبر موجباً للفطر -على ما ذكرناه- لثبوت السنة بعدم الفطر فيه، والله تعالى أعلم.

أفضلية صلاة المرأة في بيتها

أفضلية صلاة المرأة في بيتها Q إذا كانت المرأة متحجبة حجاباً كاملاً، وتريد أن تصلي التراويح في حرم الله، وهي تعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن المرأة صلاتها في بيتها خير من المسجد، ولعلها لو صلت في بيتها لا تدرك ذلك الأجر، فما العمل؟ A فإن صلاة المرأة في بيتها وفي مخدع بيتها أفضل من صلاتها حتى في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الحرام، وذلك لأمور: منها: بعدها عن الفتن، وكذلك سلامة غيرها من الفتنة، فقد تكون المرأة صالحة وغيرها غير صالح، فإذا رآها فتن بها، ولو لم يكن إلا رؤية الناس للمرأة لكفى بذلك فتنة، حتى ولو كانت متحجبة، فإن المرأة إذا مرت بالرجل انبعثت به غريزته وتحرك الشيطان عليه بالوساوس، ولو كانت في أكمل حجابها، فإن الأسلم لها والأعظم أجراً لها أن تصلي في مخدعها. ومن أعظم النعم على نساء المؤمنين امتثالهن لأمر الله جل وعلا، فإن الله جل وعلا أمر النساء بلزوم القرار بأقوى الصيغ في الأمر فقال سبحانه وتعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] ثم لم يقف الخطاب عند هذا بل قال: {وَلا تَبَرَّجْنَ} [الأحزاب:33] فجاء بصيغة الأمر بالشيء والنهي عن ضده، وهذا من أبلغ ما يكون، فحينما تقول للرجل: اجلس ولا تقم! فإنك تكون قد أكدت عليه وألزمته وفرضت عليه الجلوس أكثر مما لو قلت له: اجلس، فإن قولك: اجلس، إلزام، لكن كونك تقول له بعد ذلك: ولا تقم، أي: امكث ولا تتحرك، فهذا أبلغ في الإلزام. ثم جاء الخطاب بصيغة الأمر وبصيغة النهي مقروناً بالتنفير، فلم يقل: ولا تبرجن، بل قال: {تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33] فجاء بتلك الصورة الممقوتة، كأنه يقول: إن عدتن إلى التبرج عدتن إلى الجاهلية الأولى، فسلامة الأمة وسلامة أمة الله جل وعلا وسلامة دينها أن تبقى في بيتها. ولتجرب المرأة، فما مكثت الشهر والشهرين في بيتها لا تخرج ولا ترى الرجال ولا يراها الرجال إلا وجدت لذلك أثراً في نفسها ودينها، ولو خرجت من بيتها -ولو لحلق العلم والدرس والمحاضرات- إلا وجدت نقصاً، ولا نقول: يطعن في دينها، لكن لابد أن تجد نقصاً في الكمال. إذاً: كمال المرأة وسلامتها وخيريتها في عدم رؤية الرجال وألا يراها الرجال، مهما كانت المرأة صالحة، فقد يمر بها الشاب المفتون، وقد يمر بها الشاب الذي رؤيته فتنة، فمن يسلمها؟! والله عز وجل أعطاها نعمة العافية، فإذا عافى المرأة وألزمها القرار كان ذلك من أعظم نعم الله عليها. والمرأة الملتزمة التي هي في كمال التزامها لا ترتاح إلا في بيتها، فالمرأة التي لا تعرف إلا بيتها اعلم أنها امرأة صالحة وصاحبة خير، ولذلك قالت فاطمة رضي الله عنها وأرضاها: (خير للمرأة ألا ترى الرجال ولا يراها الرجال) ويروى مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم. فالمقصود: أن سلامة المرأة وأعظم الخير لها في عدم رؤية الرجال لها وعدم رؤيتها للرجال، فإن قيل: إنها صالحة، فغيرها غير صالح، وإن كانت صالحة فإنها مهما بلغت المرأة من الصلاح فهناك فتن لا تقوى القلوب عليها إلا برحمة من الله جل وعلا، خاصة في هذه الأزمنة، فأوصي النساء ما أمكنهن أن يمكثن في القرار، ومع هذا أوصي الرجل الصالح والزوج الصالح أنه إذا رأى امرأته تحب أن تصلي في المسجد الحرام، وهو يعرف ديانتها وخيرها أن يعينها على الخير، فلا يُشَدد ولا يُضَيق عليهن، ولكن نحن نقول للنساء: الأفضل أن يمكثن في بيوتهن، فإذا أرادت أمة الله أن تخرج وتريد الخير، فوسع لها رحمك الله، فإن النساء الصالحات في هذا الزمان لهن حق كبير على الأزواج، فالمرأة الصالحة في هذا الزمان -زوجة أو بنتاً أو أماً- تكرم ولا تهان، وتعز ولا تذل، وترفع ولا توضع، امرأة حياتها بين أربعة جدران، انظر لو مر عليك شهر وأنت بين أربعة جدران كيف يكون حالك؟! ولا يوجد عندها ملهٍ ولا مسلٍ، وهي بعيدة عن الفتن، ذاكرة شاكرة، فمثل هذه إذا قالت لك: إنها تريد أن تخرج للخير، فأحسن الظن بها. وبعض الإخوان الأخيار يسيء معاملة النساء، فإذا علمت أن أخاك يضيق على أهله فذكره بالله، وخاصة النساء الصالحات الملتزمات الخيرات، فينبغي التوسيع عليهن ولكن في حدود الشرع؛ لأن المرأة الصالحة إذا منعت من الخروج تسلط الشيطان عليها فقال لها: زوجكِ يسيء الظن بك، وقد يكون هدفك صالحاً ونيتك صالحة، ولكن من لك في القلوب التي هي منفذ ومدخل للشيطان، فإذا أرادت أن تخرج إلى مسجد أو إلى محاضرة أو إلى ندوة فذكرها بالأفضل، فإن أصرت فلا تمنعها، ولك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فبعد أن فرغ من حجه قالت له أم المؤمنين عائشة: (أيرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحج؟ فقال لها: طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة كافيك لحج وعمرة) فأصرت عليه، وفي الرواية: (أنه كان لا يرد سائلاً سأله) صلوات الله وسلامه عليه، فكان كريماً لأهله، فجعلها تخرج ثم تذهب إلى التنعيم ثم ترجع إلى الطواف وتطوف وتسعى ثم تلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فانظر إلى كرم خلقه صلوات الله وسلامه عليه! فأنت دلها على الأفضل؛ لأن بعض الزوجات يشكون من أزواجهن الأخيار، بأنهم يشددون في مثل هذه الأمور، فإن أرادت امرأتك فضيلة فأعنها؛ لأنها تريد طاعة الله ومحبته، فاستوصوا بهن خيراً، ورحم الله الزوج الكريم البر المحسن لزوجته الذي يخرج من هذه الدنيا وقد أحسن إليها ولم يسئ، فأحسن إليها بحسن الظن بها، وبالمعونة لها على الخير، ودائماً أنزل نفسك منزلتها في مكوثها في هذا القرار الذي تكون فيه بعيدة عن الملهيات، وغيرها من النساء في الفتن والشهوات والملهيات فلا يشعرن بالوقت، وكم يعذبن أزواجهن! وهذه أمة صالحة أنعم الله بها عليك فأحسن إليها بارك الله فيك، ووسع عليها وأدخل السرور عليها حتى في الجلوس معها، والتوسعة عليها إذا طلبت بعض الأمور المباحات بحدود وقدر، وإذا كتب الله للإنسان التوفيق فلاشك أنه على خير في حاله ومع أهله ومع الناس، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، والله تعالى أعلم.

النفع المتعدي خير من النفع القاصر

النفع المتعدي خير من النفع القاصر Q فضيلة الشيخ أنا إمام مسجد في إحدى القرى وفيها من الجهل ما الله به عليم، كما أنه لا يوجد إمام للمسجد في التراويح إلا أنا وشخص آخر عامي لا يحسن القراءة، وأريد الاعتكاف في المسجد الحرام، فهل أبقى في القرية أم لا؟ A على العموم: النفع المتعدي أفضل من النفع القاصر، والأفضل أن للإنسان في مثل هذه الحالة أن يبقى مع الناس فيكتب له أجر المسجد الحرام بالنية، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بالمدينة رجالاً ما سلكتم وادياً، ولا قطعتم شعباً؛ إلا كانوا معكم، إلا شركوكم الأجر قالوا: كيف وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر) فهذا عذر شرعي. ولذلك أرى أن تبقى مع أهلك ومع أهل قريتك، وأن تنوي في قلبك أنه لولا وجود هذا الواجب لذهبت إلى المسجد الحرام وأعتكف فيه. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

باب السواك وسنن الوضوء [2]

شرح زاد المستقنع - باب السواك وسنن الوضوء [2] للوضوء سنن كثيرة منها: السواك، ويتأكد استعماله عند القيام من النوم، وعند القيام إلى الصلاة، وعند تغير رائحة الفم بطعام أو غيره، ومن سنن الوضوء كذلك غسل الكفين، والمضمضة والاستنشاق، والتثنية والتثليث في غسل الأعضاء، وكذلك أخذ ماء جديد للأذن.

أحكام السواك

أحكام السواك بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته أجمعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد:

الأدلة على عدم وجوب السواك

الأدلة على عدم وجوب السواك قال المصنف رحمه الله تعالى: [مسنون كل وقت إلا لصائم بعد الزوال]. هذه الجملة مراد المصنف بها أن يبين حكم السواك فقال رحمه الله: (مسنون) ومراده بذلك: أنه ليس بواجب ولا بلازم. وقال بعض العلماء -كما تقدم في المجلس الماضي-: إن السواك واجب, ولكن هذا القول يعتبر مرجوحاً؛ وذلك لمعارضته للسنة الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة). فهذا الحديث يدل على أن السواك ليس بواجب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من إيجابه على الأمة خوف المشقة عليهم, ولذلك يعتبر القول بالوجوب مرجوحاً من هذا الوجه. ويعتبر السواك مسنوناً لا واجباً ولا لازماً, بمعنى: أن الإنسان يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه. (مسنون) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم سنّه بقوله وفعله، أما بقوله: فكما تقدم في حديث أبي هريرة وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث البخاري معلقاً بالجزم: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب) فهذا الثناء من النبي صلى الله عليه وسلم على السواك يدل على أنه سنة. وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه أكد السواك وندب إليه حتى قال في الحديث الصحيح: (أكثرت عليكم في السواك) وهذا يدل على حبه صلوات الله وسلامه عليه وحرصه على هذه الخصلة المحمودة، وقد جاء كذلك عنه عليه الصلاة والسلام أنه رغب في السواك في آخر حياته وهو في مرض موته صلوات الله وسلامه عليه، ففي الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة: (أن عبد الرحمن رضي الله عنه -أعني: أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعن أبيه- دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده سواك، قالت أم المؤمنين: فأبّده النبي صلى الله عليه وسلم بصره) وقد كان عليه الصلاة والسلام عفيفاً، لا يسأل الناس شيئاً، ولكن لفضل السواك وعظيم مكانته أبّده بصره، ففهمت رضي الله عنها وأرضاها حب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا السواك. فالسواك بالإجماع سنة إلا من خالف وقال بوجوبه, أي: يكاد يكون قول الجماهير، إلا أن بعض أهل الظاهر قالوا بالوجوب، والصحيح: أنه ليس بواجب.

حكم السواك بعد الزوال للصائم

حكم السواك بعد الزوال للصائم وقوله: (إلا لصائم بعد الزوال)، قوله: (لصائم) عام, فيشمل الصائم فرضاً, والصائم نفلاً، وهذا هو أحد قولي العلماء رحمة الله عليهم، وهو قول موجود في مذهب الحنابلة والشافعية: أن السواك لا يستحب بعد الزوال، واحتجوا لذلك بأدلة: أولها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) ووجه الدلالة من هذا الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم امتدح الخلوف، وأخبر أنه أطيب عند الله من ريح المسك، قالوا: فلو قلنا بمشروعية السواك في هذا الوقت -أعني: بعد الزوال- لأذهب فضل الخلوف وهو مقصود في العبادة بذاتها، فلا تشرع إزالته بالسواك، كما لا تشرع إزالة دم الشهيد بالغسل إذا قتل في المعركة, وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بشهداء أحد أن يلفوا في ثيابهم وأن يكفنوا فيها دون أن يغسلوا رضوان الله عليهم أجمعين. فقالوا: لا تشرع إزالة أثر الصيام كما لا يشرع إزالة أثر الشهادة بجامع أن الخلوف ودم الشهيد كل منهما أثر لعبادة شرعية. وحاصل أدلتهم أحاديث ضعيفة احتجوا بها, وأقوى ما استدلوا به: أولاً: السنة في قوله: (لخلوف فم الصائم). وثانياً: القياس، حيث قاسوا خلوف فم الصائم على دم الشهيد، فقالوا بعدم مشروعية إزالة هذا الأثر، كما لا تشرع إزالة ذلك الأثر. وأصح القولين -والعلم عند الله- القول بمشروعية السواك، وذلك على العموم ولو كان للصائم بعد الزوال، وذلك لما يلي: أولاً: لعموم الأدلة في فضل السواك، قال صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) ولم يقل: إلا بعد الزوال، وقد قال لـ لقيط بن صبرة: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) فلم يستثنِ صلى الله عليه وسلم السواك، وأمر بالسواك يوم الجمعة، وأكثر فيه عليه الصلاة والسلام ولم يقل: إلا أن يكون صائماً. وكما هو معلوم عند الجميع أن رمضان لا يخلو من جمع, ومعلوم أن الإنسان لا يمضي للجمعة غالباً إلا ما يقارب الزوال, وبناء على هذا كله فإن الذي يترجح هو القول بسنية السواك مطلقاً ولو كان للصائم بعد الزوال. أما الجواب عن أدلة من قال بالمنع أو بكراهيته بعد الزوال: أولاً: استدلالهم بقوله: (لخلوف فم الصائم) نقول: جوابه أن الخلوف ناشئ من المعدة, وليس من نتن الفم، فإن الخلوف بخار يتصاعد من جوف الإنسان لا من فمه، وأما السواك فإنه يذهب أثر الفم وليس أثر الجوف, وهذا معلوم ومدرك ومشاهد بالحس أن السواك لا يؤثر على فضل الخلوف الذي ينشأ عن الجوف، وبناء على ذلك: يكون قوله: (لخلوف فم الصائم) غير دال على المنع من السواك بعد الزوال. ثم الأمر الثاني: أن قولهم: إنه أثر فضلة عبادة لا تشرع إزالته, نقول: إن الذي يزيله السواك هو وسخ الأسنان الذي أمر الشرع بتطهيره، كما أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب) وبهذا كله يترجح القول بأن السواك يشرع ولو للصائم بعد الزوال؛ لعموم الأدلة الثابتة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: [بعد الزوال]. (الزوال) كما هو معلوم مأخوذ من زال الشيء إذا تحرك, والزوال يكون بعد انتصاف الشمس في كبد السماء، فمن سنة الله عز وجل الكونية أن الشمس تسير من المشرق إلى المغرب، فإذا بلغت منتصف النهار وصارت في كبد السماء وقفت لحظة، وهذه اللحظة لا يتحرك فيها الظل لا إلى جهة المشرق ولا إلى جهة المغرب، وهي التي عناها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (حين يقوم قائم الظهيرة) أي: يقوم الظل فلا يتحرك, فإذا وقف الظل هذه اللحظة وهي من أربع دقائق إلى خمس دقائق تقريباً، تبدأ الشمس بعد ذلك بالتحرك إلى جهة الغروب، فإذا تحركت تحرك الظل إلى جهة المشرق بعد أن كان في جهة المغرب؛ لأن الشمس تشرق من المشرق فيكون الظل في المغرب, فإذا انتصفت في كبد السماء وقف الظل ثم إذا تحركت إلى المغرب تحرك الظل إلى جهة المشرق, ولذلك يقولون: زالت, أي: تحركت, فهذا هو الزوال، وهو الدلوك ودحض الشمس, وهو الدلوك الذي عناه الله بقوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78] والدحض الذي عناه أبو بردة رضي الله عنه بقوله: (كان يصلي الهجيرة التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس)، فالمقصود: أن الزوال تحرك ظل الشمس إلى المشرق.

أوقات يتأكد فيها استعمال السواك

أوقات يتأكد فيها استعمال السواك قال رحمه الله تعالى: [متأكد عند صلاة وانتباه وتغير فم].

السواك عند الصلاة

السواك عند الصلاة (متأكد) أي: هذه السنة النبوية -أعني: السواك- يتأكد فعلها (عند صلاة) لثبوت النص: (لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) وهنا للعلماء وجهان: قال الجمهور: يشرع قبل الصلاة أن يستاك الإنسان ولو كان في المسجد. وقال طائفة من العلماء -وهو مذهب بعض المالكية- بكراهية السواك عند الصلاة مباشرة, وحملوا الحديث: (عند كل صلاة) على أن المراد به عند الوضوء، كما في الرواية الأخرى، وقالوا: إننا لو قلنا: إن الإنسان يستاك عند الصلاة لحصلت محاذير: أولها: أنه ربما جرح اللثة؛ لأن السواك لا يؤمن أن يكون ناشفاً، فيجرح اللثة أو يدميها فيسيل الدم, والدم نجس وهو قول الجماهير. الأمر الثاني: أن الإنسان إذا استاك عند الصلاة، إما أن يتفل في المسجد وهذا ممنوع عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البصاق في المسجد خطيئة) وإما أن يبلع الوسخ والقذر الذي أخرجه السواك من أسنانه، فيكون منظفاً لظاهره ومفسداً لباطنه بدخول هذه الفضلة إلى الباطن وربما أضرت بالجسد، قالوا: فلا يشرع فعلها عند الصلاة مباشرة، والصحيح: أنه يشرع، أما ما ذكروه من إدماء اللثة فإنه يحتاط بالسواك الرطب, وكذلك أيضاً يحتاط بإجراء السواك على العظم دون اللثة إذا كان السواك ناشفاً. وأما ما ذكروه من البصاق في المسجد فليس على كل حال، فبإمكان الإنسان أن يبصق في منديل أو في ثوبه، أو إذا كان المسجد غير مفروش بصق تحت قدمه اليسرى ثم دفن بصاقه، لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيمن يبصق في المسجد: (فلا يبصق عن يمينه فيؤذي بها الذي عن يمينه, ولا يبصق عن شماله فيؤذي الذي عن شماله, ولكن عن يساره تحت قدمه) هذه هي السنة إذا كان المسجد غير مفروش, أما إذا كان مفروشاً فإنه يبصق في منديل ونحو ذلك, (متأكد عند صلاة) من الأدلة على تأكده عند الصلاة: حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن أبيه أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك) يشوص: بمعنى: يدلك، شاصه وماصه إذا دلكه, وهذا الحديث يدل على مشروعية السواك عند الصلاة سواء كانت فريضة أو كانت نافلة. وورد في حديث ولكن تكلم العلماء في سنده في فضل السواك عند الصلاة وأنها أفضل من سبعين صلاة بدون سواك، ولكنه حديث ضعيف، وقال بعض العلماء: إنه يستحب عند الصلاة لمكان دنو الملك من قراءة القارئ للقرآن، حتى ورد في الخبر أنه يدني إلى فم القارئ لفضل قارئ القرآن، ولذلك قالوا: يستحب للإنسان أن يحرص على نظافة فمه بالسواك.

السواك عند القيام من النوم

السواك عند القيام من النوم قال رحمه الله تعالى: [وانتباه] أي: انتباه من النوم؛ لأن أم المؤمنين رضي الله عنها ذكرت أنها كانت تعد للنبي صلى الله عليه وسلم سواكه وطهوره, فيبعثه الله من الليل ما شاء, ولذلك كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه إذا قام يشوص فاه بالسواك كما جاء في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في الصحيحين: (كان إذا قام من الليل يشوص فاه) قال بعض العلماء: هذا يتضمن السواك على الوجهين: عند الصلاة؛ لأنه قائم من أجل الصلاة, وعند الانتباه من النوم لأنه لما انتبه من النوم؛ تغيرت رائحة فمه فشرع له أن يزيل تلك الرائحة بالسواك.

السواك عند تغير الفم

السواك عند تغير الفم قال رحمه الله: [وتغير فم] قالوا: حديث حذيفة دل على مشروعية السواك عند الانتباه من النوم, فيكون بلفظه دليلاً على السنية عند الانتباه من النوم، ويكون بمعناه دليلاً على أن السنة أن يستاك عند تغير رائحة الفم, فيكون الحديث فيه لفظ ومعنى. أما لفظه: فيدل على سنية السواك في هذا الوقت. وأما معناه: فهو العلة؛ لأنهم قالوا: ما فعل ذلك عند قيامه من النوم إلا لأن النوم يغير رائحة الفم, فيستنبط من ذلك أنه يشرع عند تغير رائحة الفم. وتتغير رائحة الفم على أوجه: منها: الطعام وخاصة إذا كانت له زهومة, ومنها: أن تتغير رائحة الفم بنوم, أو تتغير بطول صمت, أو بجوع, أو بشدة ظمأ فكل ذلك يشرع فيه أن يستاك الإنسان, وكذلك إذا أكل الإنسان شيئاً له رائحة فيستحب له أن يزيلها بالسواك.

كيفية الاستياك

كيفية الاستياك قال رحمه الله: [ويستاك عرضاً] وفيه الحديث: (استاكوا عرضاً، وادهنوا غباً، واكتحلوا وتراً) وهو حديث ضعيف. والاستياك عرضاً للعلماء فيه وجهان: منهم من يقول: المراد بالعرض أن يأخذ من طرف فمه الأيمن إلى طرف فمه الأيسر, فيبدأ باليمين إلى اليسار, فيكون استياكه على عرض السن. وقيل: العرض عرض الفم وذلك يكون بطول السن، أي: في ذلك وجهان: إما أن تقول: العرض عرض الفم فيكون الاستياك بطول الأسنان, وإما أن تقول: العرض عرض الأسنان فيكون الاستياك بطول الفم، فعرض الأسنان طول الفم وطول الأسنان عرض الفم, وهما وجهان في تفسير هذا الحديث. فمنهم من يقول: (استاكوا عرضاً) أي: أنه يأخذ من طرف فمه الأيمن إلى طرف فمه الأيسر، على الصفة المشهورة، وقيل: (استاكوا عرضاً) أي: أن يأخذ كل سن على حده فيبدأ بشقه الأيمن؛ لأن المراد بأن يستاكوا عرضاً أن يبالغ في تنظيفها, فإذا أخذ كل سن على حدة، فيكون العرض هو عرض الفم لا عرض السن، فيستاك على طول السن الذي هو عرض الفم قالوا: إن هذا أبلغ في تطهير وتنظيف الأسنان وهو المقصود من السواك. والصحيح: أن صفة السواك يشرع فيها فقط في السنية التيامن, أن يكون بالتيامن، أي: يبدأ بشقه اليمين، أما الصفة والطريقة التي يزيل بها فهذا موسع فيه, والإنسان فيه مخير، إن شاء أخذ بعرض الفم وطول الأسنان أو بطول الفم وعرض الأسنان، فالحال يختلف، وبناء على ذلك: ليس فيه سنة معينة غير البداءة بالشق الأيمن. وقوله: [مبتدئاً بجانب فمه الأيمن] لظاهر حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في كل شيء: في طهوره، وتنعله، وترجله وفي شأنه كله) ونص العلماء على أن السنة أن يبدأ بالشق الأيمن وينتهي بشقه الأيسر، ويكون السواك على هذه الصفة مسنوناً لما فيه من التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم.

حكم ترجيل الشعر ودهنه

حكم ترجيل الشعر ودهنه قال رحمه الله: [ويدهن غباً]. الادهان يكون للشعر، ويشمل ذلك شعر الرأس وشعر اللحية، وهذا كما قلنا أورده المصنف لأن الحديث قال: (استاكوا عرضاً، وادهنوا غباً، واكتحلوا وتراً) ولذلك أدخل هذه الجزئية في باب السواك وراعى هذا تأدباً مع الحديث, وهذا منهج الفقهاء أنهم يذكرون الشيء بما قاربه تأسياً بآية أو حديث، فذكر أحكام الادهان. والسنة أن الإنسان يدهن شعر رأسه وشعر لحيته إذا أمكنه ذلك, وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرجل شعره, والدليل على مشروعية ذلك: حديث أم المؤمنين وقولها: (وترجله) أي: ترجيله لشعره, ولذلك قالوا: يسن. قال بعض العلماء: ترجيل الشعر أن يدهن الشعر ثم يسرحه, فالترجيل في مذهب بعض العلماء أن يجمع بين تسريح الشعر مع وجود الدهن. وقال بعض العلماء: الترجيل هو مطلق التسريح بغض النظر عن كونه بدهن أو بدون دهن. ومن سماحة الشريعة أنه يشرع للإنسان أن يضع الدهن في شعر رأسه ولحيته، وذلك على الوسط فلا يترك الشعر أشعث أغبر, ولا يبالغ في الادهان والتسريح، بل يكون وسطاً أما كونه لا يتركه شعثاً فحتى لا يتشبه بأهل الرهبنة وأهل البدع والأهواء الذين هم غلاة أهل الطرق والذين يبالغون في التزهد والتقشف، فلا يتشبه بهم. وكذلك أيضاً لا يتشبه بمن يتأنث ويبالغ في تجميل نفسه, بل يكون وسطاً، وهذا هو القوام الذي جعل الله عز وجل شريعة النبي صلى الله عليه وسلم عليه، بلا إجحاف ولا غلو، وهو العدل الذي أمر الله به في كتابه وجعله هدي رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن الأدلة على أنه لا يداوم على الترجيل: حديث النسائي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الصحابة أن يمتشطوا كل يوم) ولذلك ينبغي للإنسان -إذا كان ولابد- أن يمتشط يوماً ويترك يوماً، وهذا أبلغ في الرجولة وأبلغ في الفحولة مع الاعتدال دون غلو ودون إسراف أو إجحاف، ولذلك يشرع تسريح الشعر وتسريح اللحية، ولكن ينبغي أن يكون التسريح على غير مشابهة لأهل الخنا والفجور, وإنما يكون على قصد القربة والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في إكرام الشعر. السنة أنه إذا ادهن أن يبدأ بشقه الأيمن, فيضع الزيت على لحيه الأيمن, وكذلك شق شعره الأيمن, ثم يبدأ بتسريح شعر رأسه ولحيته، وكذلك الحال بالنسبة لشقه الأيسر بعد أن يفرغ من شقه الأيمن.

الاكتحال وكيفيته

الاكتحال وكيفيته (ويكتحل وتراً) لما تقدم في الحديث وقلنا: إنه ضعيف, والاكتحال أن يضع الكحل في العين, والكحل لا حرج فيه, وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عليكم بالإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر) والإثمد هو: الحجر الأسود، وهذا هو المحفوظ في لغة العرب, وفيه شاهد: خارجي من سواد الإثمد. وكذلك نبه عليه غير واحد، ومنهم: الإمام ابن مفلح رحمة الله عليه في الآداب الشرعية أنه الحجر الأسود، وهو أقوى وأنفع وأبلغ في تنظيف العين وقوة البصر, ويليه الحجر إذا وضع معه شيء من الحديد بصفة يعرفها الأطباء. وقد امتدح النبي صلى الله عليه وسلم هذا النوع من الحجر لما فيه من العلة التي ذكرها من أنه يجلو البصر وينبت الشعر، أي: يجلو بصر الإنسان فينظف العين ويجعل فيها حدة, وكذلك ينبت الشعر. (فيكتحل وتراً) للعلماء في معناه وجهان: قال بعض العلماء: يبدأ بعينه اليمنى فيضع فيها المرود ثم ينتقل إلى اليسرى، ثم يرجع إلى اليمنى ثم يكحل اليسرى, ثم يرجع إلى اليمنى ثم يكحل اليسرى، وقال بعض العلماء: بل إنه يبدأ باليمنى حتى ينتهي من تثليثها، ثم ينتقل إلى اليسرى ويثلثها، والأمر واسع، فإن شاء فعل هذا، وإن شاء فعل هذا والناس متفاوتون, فقد يكون من المشقة على الإنسان أن يأخذ المرود باليمنى ثم يقلبه لليسرى، لكن يستحب الإيتار لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله وتر يحب الوتر) وقال بعض العلماء: إن في هذا الحديث استحباب الوتر مطلقاً, لعموم قوله: (إن الله وتر يحب الوتر)، أي: جنس الوتر بغض النظر عن كونه في عبادة أو شأن آخر.

حكم التسمية قبل الوضوء

حكم التسمية قبل الوضوء قال رحمه الله: [وتجب التسمية في الوضوء]. بعد أن فرغ رحمه الله من بيان السواك وأحكامه شرع في بيان واجبات الوضوء فقال رحمه الله: (وتجب) الواجب مأخوذ من قولهم: وجب إذا سقط, ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36] أي: سقطت واستقرت على الأرض. ومنه ما ثبت في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي المغرب إذا وجبت الشمس) بمعنى: سقطت وغاب قرصها، فالواجب في اللغة يطلق بمعنى: الساقط، ويطلق بمعنى: اللازم، تقول: هذا واجب عليك بمعنى: أنه لازم وحتم, ومنه قول الشاعر: أطاعت بنو عوف أميراً نهاهم عن السلم حتى كان أول واجب أي: أول لازم عليهم أن يفعلوه. ومراد الشرع بالواجب: هو ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، فإذا قال العلماء: هذا واجب, أي: أنه يلزم المكلف أن يقوم به, فإن فعل ذلك أثيب وإن تركه فإنه يعاقب. (وتجب التسمية) أي: من أراد أن يتوضأ فإنه يجب عليه أن يسمي, وهذا هو أحد قولي العلماء في هذه المسألة, وهي مسألة التسمية عند الوضوء، فقال بعض العلماء -وهو اختيار بعض المحدثين-: تجب التسمية للوضوء؛ لظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: (لا وضوء لمن لم يسمِّ)، وهذا الحديث اختلف العلماء في إسناده، والجماهير على أنه ضعيف، وقد قال الإمام أحمد: لا يثبت فيه شيء، أي: لا يثبت في التسمية شيء، وإن كان القول بتحسينه له وجه, وقد اختار بعض المتقدمين وبعض العلماء المتأخرين أن حديث التسمية حسن.

أدلة عدم وجوب التسمية في الوضوء

أدلة عدم وجوب التسمية في الوضوء يبقى الإشكال في مذهب الجمهور, فإنهم يرون أن التسمية ليست بواجبة، وعندهم أدلة: أولاً: دليل الكتاب, وثانياً: دليل السنة, ولهم جواب عن هذا الحديث. أما دليل الكتاب: فإن الله عز وجل قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ولم يأمر بالتسمية، ولو كانت واجبة لأوجبها، كما قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:118] وقوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121] فلم يأمر بالتسمية في الوضوء في كتابه, وجاءت السنة تؤكد هذا بقوله عليه الصلاة والسلام للأعرابي: (توضأ كما أمرك الله) فلو كانت التسمية واجبة لذكرها الله عز وجل. الدليل الثاني من السنة: حديث عثمان وعبد الله بن زيد -رضي الله عن الجميع- في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك حديث علي، فإنه لم يذكر واحد منهم التسمية, ولو كانت واجبة لما تركها النبي صلى الله عليه وسلم ولسمّى قبل وضوئه حتى تسمع تسميته وتنقل؛ لأنه في معرض البيان، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من توضأ نحو وضوئي هذا) الحديث. وبناء على ذلك: قالوا: إن هذه السنة تدل على عدم وجوب التسمية، أما حديث: (لا وضوء لمن لم يسمِّ) فأجابوا عنه سنداً ومتناً, أما سنداً: فالضعف الذي فيه, وكذلك أيضاً من وجه السند أنه معارض بما هو أصح منه, فإنه حسن، والحديث الذي لم يذكر التسمية في الصحيحين بل من أعلى الصحيحين، والحسن إذا تعارض مع الصحيح سقط اعتباره, كما أشار إلى ذلك بعض الفضلاء بقوله في الحديث الحسن: وهو -أي: الحديث الحسن- في الحجة كالصحيح ودونه إن صير للترجيح أي: أن الحديث الحسن يحتج به, ولكن إذا عارض الصحيح فإنه يسقط الاحتجاج به، هذا من جهة السند. أما من جهة المتن فقوله: (لا وضوء لمن لم يسمِّ) نفي مسلط على الحقيقة الشرعية، وهي مسألة أصولية معروفة بقولهم: إذا تسلط النفي على الحقيقة الشرعية هل يحمل على الصحة أو على الكمال؟ وجهان: فإذا انتفى حمله على الصحة وجب حمله على الكمال, فإذا كان حمله على الصحة يعارض النصوص فيجب صرفه إلى الكمال. وما معنى هذه القاعدة؟ النفي بقوله: (لا) مسلط على الحقيقة الشرعية -وهي الوضوء- فهل يحمل على الصحة أو يحمل على الكمال؟ قلنا: يحمل على الصحة ما لم يتعارض مع الدليل، فيجب صرفه إلى الكمال، فيكون هذا النفي بسبب معارضته للأحاديث الأخرى محمولاً على نفي الكمال, أي: لا وضوء كامل لمن لم يسمِّ، أو لمن لم يذكر اسم الله عليه كما في الرواية الثانية, وبهذا يجمع بين النصوص وتكون التسمية مستحبة لا واجبة. ومع هذا ينبغي للمسلم أن يحتاط وأن يأخذ بالأكمل، فإن أولى الناس بقبول عمله الصالح هو من كان أقرب إلى الكمال باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وينبغي على طلاب العلم دائماً أن يأخذوا بأحوط الأقوال لما في ذلك من الأخذ بالكمالات, ولما فيه من بالغ تقوى الله عز وجل وحب الخير والحرص عليه, فيحرص الإنسان على ذكر اسم الله عز وجل.

صيغة التسمية عند الوضوء

صيغة التسمية عند الوضوء يبقى النظر (التسمية): التسمية تفعيلة من اسم الله, فما هي التسمية؟ التسمية الكاملة هي: (بسم الله الرحمن الرحيم) ولكنها هنا: باسم الله, فيقف عند قوله باسم الله, ويكون معتبراً؛ لأن قوله: (لمن لم يذكر اسم الله)، أن المراد به اسم الله فقط, بدليل أن الله قال: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (باسم الله). وبناءً على ذلك: فإن التسمية تكون باسم الله, واختلف العلماء هل يحل غير لفظ الجلالة محله، كأن يقول: باسم الرحمن, أو باسم الرحيم, أو باسم الملك, أو باسم القدوس, أو باسم العزيز؟ الصحيح: أنه ينبغي الاقتصار في الأذكار على الوارد دون تغيير ولا تبديل ولا يجتهد فيها, فكما قال: (لمن لم يذكر اسم الله) فإنه يؤتى باسم الله ولفظ الجلالة؛ وذلك لشرف هذا الاسم وفضله على سائر الأسماء وقد قال بعض العلماء في قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] قيل: هل بمعنى: (لا)، أي: لا تعلم له سمياً, قيل: أي: اسم الله، فإن اسم الله لم يتسم به أحد, وهذا لشرفه، حتى قال طائفة من العلماء: إنه هو الاسم الأعظم الذي إذا سأل العبد به ربه حاجة خالصة من قلبه استجاب دعاءه؛ ولذلك يقتصر على هذا الاسم بعينه وهو قوله: باسم الله، ولا يؤذن في قول: باسم الرحيم ولا باسم الرحمن. أما قوله: (في الوضوء) ليست الظرفية على ظاهرها، أي: ليس مراده في داخل الوضوء, وإنما قوله: (يجب التسمية في الوضوء) بمعنى: أن يبتدئ عبادة الوضوء، بذكر اسم الله عز وجل. وقال بعض العلماء: تذكر التسمية عند أول فرض, فإن كان مستيقظاً من نومه كانت اليد، فيقولها قبل غسل الكفين, وإن كان مستيقظاً -يعني: أثناء النهار- قالوا: يسمي الله عز وجل عند المضمضة والاستنشاق على القول بوجوبها, أو عند غسل الوجه على القول بعدم وجوب المضمضة والاستنشاق, والأكمل أن الإنسان يسمي عند ابتداء الوضوء.

حكم ترك التسمية نسيانا

حكم ترك التسمية نسياناً قال رحمه الله: [مع الذكر]. أي: أنها تسقط عند النسيان، فلا يطالب الإنسان بإعادتها, وقال بعض العلماء: إنه إذا لم يذكر اسم الله جل وعلا وجب عليه الرجوع وإعادة الوضوء. فعلى القول الذي اختاره المصنف أنها واجبة, ولكن ليست شرطاً في صحة الوضوء, وعلى قول إسحاق وبعض أهل الحديث أنها شرط في صحة الوضوء ويلزمه أن يعود إلى ابتداء الوضوء ويسمي من جديد.

حكم الختان للرجال والنساء

حكم الختان للرجال والنساء قال رحمه الله تعالى: [ويجب الختان]. الختان: مصدر ختن يختن ختاناً، وهو خاتن، وفلان مختون. والختان بالنسبة للرجال: إزالة أعلى حشفة الجلد التي على رأس الذكر. وأما بالنسبة للنساء: فهي إزالة أعلى الجلدة التي على الفرج، وشبهها العلماء رحمهم الله بعرف الديك بياناً لمحل الفرض والواجب على القول بوجوبه على النساء. والختان مكرمة وسنة جليلة, وأول من اختتن إبراهيم إمام الحنيفية، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، اختتن وهو ابن ثمانين سنة امتثالاً لأمر الله عز وجل، ولذلك عُد هذا من ابتلاء الله واختباره له، فإن الختان مع تقدم السن وكبرها لا شك أن فيه أمراً شديداً ومشقة عظيمة، ولكنه امتثل أمر الله؛ ولذلك قال حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس قال في تفسير قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة:124] أصل التقدير ابتلى رب إبراهيم إبراهيم بكلمات فأتمهن, وذكر منها: الختان، أنه ابتلاه وهو في كبر سنه فاختتن عليه الصلاة والسلام.

مشروعية الختان

مشروعية الختان والختان شرعه الله للرجال لما فيه من إزالة هذا الموضع الذي تكمن فيه النجاسة, ولذلك إذا أزاله كان ذلك أبلغ في الطهارة والنقاء والبعد عن الدنس, والدين دين طهارة حساً ومعنىً, كما قال تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة:6] فهذه من الطهارة، وطهر الله عز وجل المؤمنين حساً ومعنىً وشرفهم بهذه الطهارة {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]. فشرع هذا الختان طهارة للرجل, وكذلك تخفيفاً من الشهوة في المرأة, فإن المرأة إذا تركت على حالها اشتدت شهوتها, ولذلك كما ذكر شيخ الإسلام رحمة الله عليه يقول: يوجد في نساء الكفار من الشدة لطلب الفساد والحرام ما لا يوجد في نساء المؤمنين، وذلك لمحل الختان. وجعل الله في الختان مصلحة الدين والدنيا, فلذلك يحصل به العفة للمرأة والرجل, وتحصل به العفة للمرأة والطهارة للرجل، ولذلك المرأة إذا اجتثت هذه الجلدة ذهبت شهوتها كما يقول الأطباء والحكماء من المتقدمين والمتأخرين، وإذا تركت اشتدت غلمتها, ولذلك ورد في حديث ابن عطية كما أشار إليه الإمام ابن القيم في التحفة: (أشمي ولا تنهكي) والاشمام يكون من أعلى الشيء، والإنهاك اجتثاثه من أصله، وهو حديث متكلم في سنده, ولكن معناه صحيح عند العلماء، أن الخاتنة ينبغي عليها ألا تأخذ الجلدة بكاملها ولا تستأصلها؛ لأنه استئصال للشهوة وذهاب لها، وكذلك أيضاً لا تترك الجلدة, فشرع الله هذا لما فيه من اعتدال الشهوة للمرأة. كذلك يختن الرجل لطهارته ونقائه, والغريب أنهم وجدوا أن من الحكم والفوائد التي تترتب على الختان أنه قلّ أن يصاب المختتن بسرطان القضيب, وهذا معروف عند الأطباء، وهذا من رحمة الله عز وجل، وإنما يعرف السرطان -والعياذ بالله- الذي يصيب العضو لمن لم يختتن, وذكر بعض الأطباء -وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام وفضائل السنة النبوية التي جاءت عنه عليه الصلاة والسلام ومنها: الختان- أنه يوجد نسبة 1% من المختتنين ممن يصاب بسرطان القضيب. ومن القصص الغريبة التي تحكى للاتعاظ والاعتبار حدثني بها بعض الأطباء: أنه كان في بعض البلاد الإسلامية، وكان معهم طبيب نصراني, وكان تخصص هذا المسلم مع النصراني في المسالك البولية, فكان يهزأ هذا النصراني من الختان ويستخف به كثيراً, حتى أراد الله عز وجل أنه ابتلي -والعياذ بالله- بسرطان القضيب، وحصل له ما حصل من أذية هذا البلاء بسبب استهزائه وسخريته من هذه الشعيرة التي سنها النبي صلى الله عليه وسلم. الختان يشرع للرجال وللنساء والصحيح: وجوبه على الاثنين، وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (خمس من الفطرة) وذكر الختان دون أن يفرق بين الرجال والنساء؛ لأن المرأة تحتاج إليه طلباً للعفة, والعفة مطلوبة وواجبة, وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ ولما كان اعتدال شهوة المرأة يحصل به مقصود الشرع كان الختان من هذا الوجه أقرب للوجوب منه للاستحباب والندب. وينبغي أن ينبه على تساهل كثير من الآباء ومنعهم بعض النساء من الختان وهذا لا ينبغي بل ينبغي إحياء هذه الشعيرة بين النساء وذلك لما ذكرناه من الحكم والفوائد، وقد ذهب طائفة من العلماء رحمهم الله إلى وجوبه على الجميع. وأما ما ورد من حديث ابن كليب: (أن الختان واجب للرجال ومكرمة للنساء) فهو حديث ضعيف, والصحيح أنه للرجال والنساء, وفيه ما ذكرناه من الحكم, ويجب على المسلم إذا قارب البلوغ والأفضل أن يختن الذكر صبياً وتختن الانثى صبية, وينبغي على كل من الخاتن والخاتنة مراعاة حدود الله في الختان، فلا يجوز ويحرم كما نبه الإمام ابن قدامة في المغني في الجزء السادس عند كلامه على الإجارة: يحرم على الخاتن أن يختن إلا إذا كان بصيراً بالختان, عارفاً له. وإذا ختن غير عارف وتجاوز -أو ختن وهو عالم- وتجاوز حدود الختان فإنه يضمن ويأثم شرعاً، أما ضمانه إذا لم يكن عالماً فلقوله عليه الصلاة والسلام في حديث السنن: (من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن) وأجمع العلماء على أنه يأثم، وإذا قصد الإضرار فإنه يقتص منه ولو كان طبيباً, لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] فيختن كلاً من الرجال والنساء وتراعى حدود الله عز وجل من عدم ختن الرجال للنساء إذا وجد النساء, وعدم النظر إلى العورة أكثر من الوقت المحتاج إليه, وعدم الزيادة على الحد المعتبر في الختان. قال رحمه الله تعالى: [ما لم يخف على نفسه]. ككبير السن, الشيخ الهرم، أو يكون هناك التهابات أو أمراض بحيث لو اختتن زادت عليه واستفحل شرها فيرخص له في ترك الختان.

حكم القزع

حكم القزع قال رحمه الله: [ويكره القزع]. القزع: هو حلق بعض الشعر وترك بعضه, والقزع نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف العلماء في المراد منه, فقال بعض العلماء: أن يحلق وسط الرأس, وقال بعضهم: أن يحلق أطرافه، كأن يحلق الشق الأيمن والأيسر والقفا ويبقي وسطه، كما هو شأن أهل الفساد وصنيع السفلة الرعاع، نسأل الله السلامة والعافية. وقيل: أن يحلق نصف الرأس ويترك نصفه, وقيل: أن يحلق مقدمه ويترك مؤخره أو العكس, ولكن لا مانع من اعتبار هذه الصور كلها؛ لأنه يحتملها النص, والأصل: أنه إذا احتمل النص وجوهاً متعددة ولم يرد الشرع تقييد وجه منها أن تبقى دلالته على العموم.

علة تحريم القزع

علة تحريم القزع وللعلماء في تعليل تحريم القزع وجوه: قال بعض العلماء: لأنه مشابهة لليهود، فقد كان اليهود يحلقون بعض الشعر ويتركون بعضه. وقال بعضهم: إن فيه ظلماً للإنسان لنفسه، والله أمر الإنسان بالعدل حتى مع نفسه, وتوضيح ذلك: أنه إذا حلق شقه الأيمن وترك شقه الأيسر ظلم شقه الأيمن إذا كان الزمان برداً، وظلم شقه الأيسر إذا كان الزمان حاراً؛ ولذلك نهي أن ينتعل بإحدى رجليه ويترك الأخرى لأنه ظلم للرجل التي لم تنتعل, وأيضاً نهي عن الجلوس بين الشمس والظل؛ لأنه إذا كان الزمن صيفاً ظلم النصف الذي في الشمس, وإذا كان الزمن شتاء ظلم النصف الذي في الظل، فلذلك قالوا: نهي عن القزع لئلا يكون الإنسان ظالماً حتى مع نفسه, والصحيح: أن كل هذه علل وفيه ظلم وفيه تشبه بأهل الفساد. ومن يقصر أطراف الشعر ويجعل الشعر كثيفاً في منتصف الرأس فإنه يشمله هذا؛ لأن فيه تشبهاً بأهل الفساد, وقد أشار إلى ذلك بعض العلماء رحمة الله عليهم، وكنا نعهد مشايخنا رحمة الله عليهم من الأولين أنهم كانوا يشددون في تخفيف الشعر بعضه دون بعضه وكانوا يعدون ذلك من القزع, وقالوا: إما أن يخفف كله أو يحلق كله، وهذا هو الأصل الذي عليه العمل عند أهل العلم؛ أن السنة في الرأس أن يحلق كله أو يخفف كله، لا أن يفعل ببعضه ويترك بعضه لما فيه من مشابهة أهل الفساد. وإذا كان القزع حراماً حرم للحلاق أن يفعله بالغير، فإن فعل أثم؛ لأنه معين على الإثم والعدوان, وحرمت الإجارة وحرم الثمن، يعني: المال الذي يدفع في مقابل ذلك الشيء ويعتبر حراماً، وهذا على الأصل المقر: أن الإجارة على المحرم محرمة.

سنن الوضوء

سنن الوضوء قال رحمه الله تعالى: [ومن سنن الوضوء السواك]. يقول رحمه الله: (ومن سنن الوضوء) السنة: أصلها الطريقة، وسن الشيء: إذا شرعه، والمراد بها: من سنن النبي صلى الله عليه وسلم في عبادة الوضوء, والمراد بالسنة: ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه. ويشمل ذلك السنن القولية والفعلية والتقريرية, أي: التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم أو فعلها أو فعلت وأقرها, فكل ذلك يوصف بكونه سنة ولا يطلب من المكلف طلب إلزام. (من سنن الوضوء) يعني: من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي ينبغي للمكلف ويستحب للمكلف أن يحرص عليه ويحافظ عليه. وهنا أنبه على أمور: أولاً: أن بعض طلاب العلم يفهم من السنن أنها أمور سهلة ويسيرة؛ فيتساهل في تركها, وكم سمعنا من بعض المنتسبين للعلم من يقول: هذا سنة لا حرج فيه! فإذا جاءه السائل قال له: هذه سنة وخفف من أمرها، ولا حرج أن يبين له عند الحكم إذا ظن السائل وجوبها أن تقول له: سنة لا حرج, لكن الحرج أن يستخف بالسنن ويعتبر قول العلماء: إنه سنة طريقاً للترك, فأخذ بعض طلاب العلم أنه إذا قيل: سنة، يعني: أنه يترك ولا حرج في تركه, لكن أهل الفضل والكمال وأقرب الناس للخير وأحبهم إلى الله وأقربهم نجاة وسلامة وعلو شأن في دينه من كان محافظاً على هدي النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو بكر صديق هذه الأمة رضي الله عنه وأرضاه: (والله لا يبلغني شيء من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه إلا فعلته, إني أخاف إن تركت شيئاً من هديه أن أضل) ولذلك ينبغي للإنسان الموفق دائماً في أي عبادة أن يسأل عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم ويحرص على تطبيقه، وأخشع الناس في العبادة، وأكثرهم توفيقاً لها وأكثرهم شعوراً بلذتها وحصولاً لثوابها وثمرتها وحسن عاقبتها هو أكثرهم متابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك طريقه طريق إلى الجنة, وسبيله سبيل الرحمة: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] فمن اتبع النبي صلى الله عليه وسلم وحرص على اقتفاء أثره والسير على نهجه فهو أقرب الناس إلى الخير. وكان العلماء رحمهم الله يقولون: إن أقرب الناس لقبول العبادة من كان موفقاً في إصابة السنة فيها، فأي عبادة تسمعها أو تعلمها وتريد أن تطبقها فاسأل كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها، وقد كان السلف الصالح رحمة الله عليهم -مع جلالة علمهم وعلو قدرهم- كانوا يجلسون مع الصحابة ويسألون عن كيفية فعل النبي صلى الله عليه وسلم لكثير من الأعمال، وربما سألوا عن أوضح الأشياء، قال أحدهم: شهدت عمر بن الحسن سأل عبد الله بن زيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ للصلاة؟ سبحان الله! الوضوء الذي كان يعرفه صغار التابعين قبل كبارهم، فيدخل هذا العالم الجليل على هذا الصحابي ويقول له: كيف كان يتوضأ عليه الصلاة والسلام؟ فكانوا يحبون السنة ويحبون التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم. فينبغي أن يعلم أن قوله: (ومن سنن) أنه ليس المراد به أن نتساهل ونترك, وإنما المراد الدلالة حتى نعلم ونعمل بها وندعو إليها, علماً وعملاً، ونسأل الله العظيم أن يجعلنا من هداتها ودعاتها.

السواك سنة من سنن الوضوء

السواك سنة من سنن الوضوء قال رحمه الله: [السواك] من السنن التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم عند الوضوء: السواك، والحديث التي تقدمت الإشارة إليه: (عند كل وضوء) ولذلك قالوا: قبل أن يتوضأ يستاك.

حكم غسل الكفين عند ابتداء الوضوء

حكم غسل الكفين عند ابتداء الوضوء قال رحمه الله: [وغسل الكفين ثلاثاً]. لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين من حديث حمران مولى عثمان عن عثمان , وحديث علي بن أبي طالب وعبد الله بن زيد: (أنه استفتح وضوءه فغسل كفيه ثلاثاً) قال بعض العلماء: إنما حافظ النبي صلى الله عليه وسلم على غسل الكفين ثلاثاً؛ لأن الكفين آلة الوضوء وهي التي تنقل الماء؛ فينبغي أن تكون على نقاء وطهارة حتى يكون ذلك أدعى لوصول المقصود من الوضوء. وقوله: [ويجب من نوم ليل ناقض لوضوء]. غسل الكفين على حالتين: إما أن يكون للمستيقظ من النوم, وإما أن يكون لغير المستيقظ من النوم, فإن كان الإنسان مستيقظاً من نوم سواء كان نوم ليل أو نهار فإنه يجب عليه غسلهما ثلاثاً؛ لظاهر حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلهما في الإناء، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) فدل هذا الحديث الصحيح على أنه يجب على من استيقظ من النوم أن يغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلها في الإناء، أما إذا كان لغير المستيقظ من النوم كأن يكون الإنسان قد بقي مستيقظاً من بعد الفجر إلى صلاة الظهر, وحضرت عليه صلاة الظهر وأراد أن يتوضأ، فلا تخلو كفاه من أحوال: الحالة الأولى: أن يتيقن نجاستها، فيجب عليه أن يغسلها قبل أن يتوضأ. الحالة الثانية: أن يتيقن طهارتها أو يشك في الطهارة, فإن تيقن الطهارة فإنه يسن له غسلها ولا يجب, وإن شك في طهارتها استحب له غسل الكفين كذلك ولا يجب. فإذاً: هنا ثلاث حالات: إن تيقن نجاسة الكفين وجب الغسل، وإن تيقن الطهارة سن الغسل، وإن شك في الطهارة استحب الغسل؛ لأن اليقين طهارتها والشك نجاستها، فيلغى الشك ويبقى على اليقين, هذا بالنسبة لغسل الكفين والكفان مثنى كف، وضابط الكف: من أطراف الأصابع إلى الزندين، وهما العظمان البارزان عند طرف الكف، وسمي الكف كفاً لأنه تكف به الأشياء.

البدء بالمضمضة والاستنشاق في الوضوء

البدء بالمضمضة والاستنشاق في الوضوء قال رحمه الله تعالى: [والبداءة بمضمضة]. أي: يسن البداءة بالمضمضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن غسل كفيه تمضمض واستنشق ثلاثاً، والمضمضة مأخوذة من قولهم: مضمضت الحية إذا تحركت في جحرها، فأصل المضمضة: التحريك, ولذلك قالوا: يتفرع على قولنا إن المضمضة هي التحريك مسألة لطيفة وهي: لو أن إنساناً أدخل الماء في فمه ثم ألقاه مباشرة هل يعتبر متمضمضاً؟ على القول بأن المضمضة هي التحريك لا يكون متمضمضاً ومصيباً للسنة إلا إذا حرك الماء في فمه. ثم اختلفوا: هل المضمضة مجرد تحريك الماء ولا يستلزم طرحه أو لابد من طرحه؟ وجهان: قال بعض العلماء: المضمضة التحريك والطرح, فلو مضمض ولم يطرح لم يكن متمضمضاً. توضيح ذلك: لو وضع الماء فحركه ثم شربه, فبناء على القول بأنه لابد من طرح فلا يكون متمضمضاً, وعلى القول بأنه لا يلزم الطرح يكون متمضمضاً. قال رحمه الله: [ثم استنشاق]. الاستنشاق من النشق, والنشق: جذب الشيء بالنفس إلى أعلى الخياشيم, ومنه: النشوق، ويكون عن طريق الأنف, والاستنشاق سمي بذلك لأن الإنسان يجذب الماء إلى أعلى الخياشيم بالنفس, وهي سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم التي حافظ عليها ولم يتركها في الوضوء، صلوات الله وسلامه عليه. والسنة أن يجمع بين المضمضة والاستنشاق بكف واحدة, فيضع نصف الكف في الفم، ثم يرفع النصف الباقي للأنف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما توضأ قسم كفه في حديث عبد الله بن زيد فمضمض واستنشق ثلاثاً من ثلاث غرفات, أي: أن كل غرفة بين المضمضة والاستنشاق وهذا هي السنة. وقوله: [والمبالغة فيهما لغير صائم]. والمبالغة في المضمضة والمبالغة في الاستنشاق، المبالغة مفاعلة من بلغ الشيء يبلغه بلوغاً, إذا وصل غايته تقول: بلغت إذا وصلت الغاية, فقول المبالغة أي: أن الإنسان يصل غاية الاستنشاق وغاية المضمضة وذلك عن طريق المبالغة في جلب الماء بالنفس بالاستنشاق والمبالغة في الإدارة والتحريك في المضمضة. (لغير صائم) هذا الاستثناء لحديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) وقد دل هذا الحديث على أنه لا يسن للإنسان أن يبالغ في استنشاقه, وهذا من باب التنبيه بالنظير على نظيره بالاستنشاق على الفم. وذكر الاستنشاق على أن الغالب في الاستنشاق ألا يتحكم الإنسان عند مبالغته بخلاف المضمضة فإن الغالب أنه يتحكم؛ فنبه بالاستنشاق وإلا فالمضمضة آخذة حكم الاستنشاق. وقوله: (وبالغ في الاستنشاق) فيه تنبيه على قاعدة وأصل عند العلماء: أنه لا يشرع تضييع الفرائض بالسنن, أو ارتكاب المحرمات لطلب السنن، وتوضيح ذلك: إذا بالغ في الاستنشاق فإنه ضيع الواجب وهو الصيام, وكذلك أيضاً لا يبالغ في إصابة سنة إذا كان ذلك سيؤدي للوقوع في محظور, كما لو كان على الحجر الأسود طيب، فإنه إذا بالغ وأصر على لمسه أو تقبيله في عمرته أو حجه فإنه سيصيب الطيب، وذلك تحصيل للسنة يؤدي للوقوع في محظور ولذلك قالوا: يتركه حتى يقبله الغير ثم يقبله من بعده, أو يلمسه الغير فيلمسه من بعده, ولا يضر الأثر وإنما يضره العين مع القصد, ولذلك لا ينبغي تفويت الواجب وارتكاب المحظور طلباً للسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هنا نهى الصحابي أن يبالغ في الاستنشاق حتى لا يفوت الواجب تحصيلاً للسنة.

تخليل اللحية والأصابع

تخليل اللحية والأصابع قال رحمه الله: [وتخليل اللحية الكثيفة]. التخليل: تفعيل من الخلل، وخلل الشيء: أجزاؤه والمناسم التي فيه, تقول: رأيته من خلل الباب, أي: من المناسم الموجودة فيه وهي الفتحات الصغيرة, وقالوا: سمي التخليل تخليلاً؛ لأن الإنسان يوصل الماء إلى الشعر من خلاله أي: يخلل الماء بين الشعر, فيدخل الماء في خلل الشعر وفي خلل اللحية, وكذلك الأصابع؛ لأنه يدخل خنصره بين الأصابع، فقالوا: خَلَّل، كأن الأصابع شيء واحد وقد دخلت الخنصر في خلل ذلك الشيء. وتخليل اللحية فيه حديث عثمان رضي الله عنه وأرضاه, وقيل: لا يصح في التخليل شيء، وحسن بعض العلماء إسناد حديث التخليل. فاللحية إذا كانت كثيفة كثة تخلل؛ لأن الله أمر بغسل الوجه، فإذا كانت كثيفة فإن صاحبها يواجه الناس باللحية فكانت من الوجه فتخلل، أي: يجب إدخال الماء في خللها, وهذا على وجهين: إما أن يدخل الماء في خللها بالكف كما ورد في الحديث أنه أخذ كفاً من ماء وألقمه لحيته، وإما أن يكون بغسل الوجه حتى إذا بلغ لحيته خللها بإجراء الماء في المناسم بالأصابع، وكل منهما لا حرج فيه. قال رحمه الله: [والأصابع]. تخليل أصابع اليدين: هو أنه إذا كان الإنسان يريد أن يتوضأ فصب الماء لكي يغسل يده اليمنى فإنه يجعل كفه اليسرى عند المرفق، ثم إذا سكب الماء مر الماء على ظهر يده اليمنى حتى ينتهي إلى المرفق، فتجمع اليسرى الماء الذي نزل من اليد ثم يقلبه على اليمنى مخللاً. وقيل: أن يغسل اليد أولاً حتى إذا انتهى خلل كلاً منهما، والمراد: أن يتأكد من وصول الماء إلى الخلل، وشرع التخليل وفيه حديث عن المستورد بن شداد ولكن تكلم العلماء في سنده، وإن كان بعض العلماء يحسن إسناده، ولكن الضعف فيه من القوة بمكان، لكن يخلل الإنسان على هذه الصورة وذلك بإدخال أصابع اليسرى في اليمنى, وإدخال أصابع اليمنى في اليسرى على الظاهر. وكذلك أيضاً بالنسبة لتخليل القدمين، وذلك بالخنصر كما ورد في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام على القول بثبوته, وإلا فالأمر واسع، قال بعض العلماء في تخليل أصابع القدمين: أن يخللها بجميع الأصابع وقيل: بأصبع واحدة حتى يكون أبلغ في وصول الماء. والتخليل في الحقيقة ليس مراداً لذاته، وإنما المراد: هو أثره، وهو التأكد من وصول الماء إلى ما بين الأصابع؛ لأنه -كما هو معلوم- لو سكب الماء والأصابع ملتصقة ربما لم يتخلل، خاصة في القديم حيث كانوا يتوضئون بالأواني والماء قليل، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يكفيه مغراف من الماء لوضوئه, وهذا يحتاج إلى نوع من التحري والتحفظ, ولذلك اعتبر التخليل واجباً إذا توقف وصول الماء للبشرة عليه, وليس وجوبه لذاته ولكن من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, وإلى ذلك قد أشار بعض الفضلاء بقوله: خلل أصابع اليدين وشعر وجه إذا من تحته الجلد ظهر أي: (خلل أصابع اليدين وشعر وجه) وهو اللحية, (إذا من تحته الجلد ظهر) يعني: إذا كانت اللحية تبدو معها البشرة.

التيامن في الوضوء

التيامن في الوضوء قال رحمه الله: [والتيامن]. والتيامن: تفاعل من اليمين، وهي الجهة التي شرفها الشرع كما هو محفوظ من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك يكون في الأعضاء المثناة، ويشمل ذلك: اليدين والرجلين, فإنه يتيامن فيها، فيبدأ بغسل يده اليمنى قبل يده اليسرى, ورجله اليمنى قبل رجله اليسرى, ولكن لا يشرع التيامن في الأعضاء المنفردة، فلا يأتي إنسان ويأخذ الكف ويغسل شق وجهه الأيمن ثم يغسل شقه الأيسر؛ لأن هذا تنطع وتكلف في العبادة، وقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يغسل وجهه غسلاً واحداً ويمسح رأسه مسحة واحدة, فمن فعل ذلك فإنه يعتبر مبتدعاً؛ لأن ذلك لو كان له فضل لفعله النبي صلى الله عليه وسلم، فيشرع التيامن في الأعضاء المثناة كاليدين والرجلين, وأما بالنسبة للوجه والرأس فإنه لا يشرع فيها التيامن. فقال: رحمه الله: (التيامن) والتيامن سنة، وبناء على ذلك: لو أن إنساناً غسل يده اليسرى قبل يده اليمنى فوضوءه صحيح، لكنه فوت الأكمل والأفضل، والدليل على صحته أن الله عز وجل يقول في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة:6] فأمر بغسل اليد مطلقاً، ومن غسل اليسرى قبل اليمنى فقد امتثل ما أمر الله به، غير أنه فوت الفضيلة بتقديم اليسار على اليمين.

مسح الأذنين بماء جديد

مسح الأذنين بماء جديد قال رحمه الله: [وأخذ ماء جديد للأذنين]. في حديث عبد الله عند الترمذي وفيه ابن لهيعة، والترمذي يحسن روايته. (وأخذ ماء جديد) أي: أن الإنسان يمسح رأسه مقبلاً مدبراً, ثم يأخذ ماء جديداً لأذنيه, بأن يأخذ كفاً ثم يجعلها لأذنيه ويمسح بها أذنيه على الصفة التي وردت في الحديث بأن يجعل إبهامه خلف الأذن ثم السبابة في داخل الأذن ويمرها على ما ثم.

غسل كل عضو مرتين أو ثلاثا

غسل كل عضو مرتين أو ثلاثاً قال رحمه الله: [والغسلة الثانية والثالثة]. أي: ليست بواجبة إنما هي سنة, والدليل على عدم وجوبها: أن الله عز وجل قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] والغسل يتحقق بالمرة، فمن غسل مرة فقد امتثل، وكذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عثمان أنه توضأ مرة مرة, ومرتين مرتين, وثلاثاً ثلاثاً, فدل على أنه لا تجب التثنية ولا يجب التثليث, وأن الغسلة الثانية والثالثة سنة وليست بواجبة.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الاستياك باليد اليسرى

حكم الاستياك باليد اليسرى Q هل يستاك باليد اليمنى أم باليد اليسرى؟ وهل من السنة وضع السواك بين الأصابع؟ A باسم الله, والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فقد اختلف العلماء رحمهم الله في السواك, فمنهم من يقول: يجعله باليسرى؛ لأنه إزالة قذر، فلا ينبغي أن تليه اليمنى على الأصل المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه جعل يمينه لما فيه شرف, ويسراه لما فيه قذر ونحو ذلك؛ قالوا: فلذلك يستحب له أن يستاك بيسراه. وقال بعض العلماء: يستاك بما شاء, إن شاء باليمين وإن شاء باليسار, ولا يعتبر السواك باليسار سنة، وهذا هو الصحيح؛ لأن إزالة الأذى إن وليت اليد الإزالة مباشرة كانت باليسرى, وإن كانت بحائل فإنه لا حرج في اليمنى, وتوضيح ذلك: أنه إذا استاك باليمنى فإن الذي يلي القذر هو السواك وليست اليد, فلا غضاضة, ودليلنا على أن إزالة الأذى باليمين بدون مباشرتها الأذى لا يقدح في فضل اليمين: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يمسك الإنسان ذكره بيمينه, وأن يستجمر بيمينه، قالوا: إنه لابد أن يمسك الحجر باليمين, فدل على أنه إذا وجد الفاصل الذي هو المزيل بين المحل الذي يراد تنظيفه واليمين التي تلي التنظيف فإنه لا حرج ولا غضاضة. ومن الأدلة أيضاً: أن الناس يختلفون، فربما لو استاك بيساره أدمى لثته وجرح نفسه, وربما أنه لا ينقي كما لو استاك بيمينه, ولذلك قالوا: إنه يترك الناس على التخيير، وهذا هو الأقوى، ولكن مع هذا إذا تأول الإنسان السنة واستحب أن يجعل سواكه بيسراه فإنه يثاب إن شاء الله، ولا حرج عليه.

حكم الاستياك للاستيقاظ من نوم النهار

حكم الاستياك للاستيقاظ من نوم النهار Q هل يستاك من قام من نوم النهار؟ A من قام من نوم النهار فإنه في حكم القائم من نوم الليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام من نوم الليل استاك, والمعنى واحد في نوم الليل ونوم النهار, والقاعدة: أنه إذا اختلف الزمان واتحدت العلة فلا تأثير في اختلاف الزمان, فالزمان هو: ليل ونهار والعلة: هي الإنقاء, فلذلك يطلب من الإنسان أن ينقي الفم عند وجود نتن الفم الناشئ عن النوم، وهذا موجود في نوم النهار كنوم الليل، فيشرع للإنسان أن يستاك من نوم النهار كما يشرع له أن يستاك من نوم الليل، والله أعلم.

حكم التكحل بالإثمد وغيره

حكم التكحل بالإثمد وغيره Q هل يعتبر التكحل بالإثمد سنة، وهل التكحل بغيره سنة أم لا؟ A الاكتحال بالإثمد سنة, ولا حرج في الإنسان أن يكتحل، ولكن كره بعض السلف أن يصبح وفي عينيه كحل؛ لأنه ربما يكون فيه تشبه ببعض أهل الفساد, ولكن ليس هناك دليل يدل على تحريم ذلك, والنبي صلى الله عليه وسلم نص على الاكتحال فقال: (عليكم بالإثمد) وهذا في صيغة الجمع (عليكم) كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [المائدة:105] وهذا الشأن للرجال والنساء، وإذا كان الإنسان محتاجاً إلى الكحل في عينيه لضعف في البصر فإنه يشرع له على العموم، حتى ولو كان أمام الناس, ولا حرج في ذلك، وإن كان بعض السلف قد شدد فيه، إلا أن الأصل التوقيف في مثل هذا، أي: في نهي الناس عن الأمور التي وسع فيها الشرع، فيوقف على النص مادام أنه ليس هناك نص يمنع، فلا حرج أن يكتحل ولو أمام الناس. وأما كون بعض العادات تمقت ذلك أو تمنعه فإن العادات ليست شريعة ولا ديناً, وإنما يترك الشرع والحكم لله جل وعلا، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] فالحكم لله جل وعلا, وليس للعادات ولا للتقاليد. فإذا أراد الإنسان أن يصيب السنة واكتحل وتأسى بقوله عليه الصلاة والسلام: (عليكم بالإثمد) فلا حرج عليه ولو كان أمام الناس, وإن أحب ألا يساء الظن به وأن يسلم من أذية الناس فلا حرج عليه, لكن أن يمنع الناس ويشدد عليهم، أو يستخف بمن يفعل ذلك فليس ثم دليل يدل على هذا التشديد أو هذا المنع. وقد ورد عن ابن عباس أنه اكتحل وسرح شعره في حضرة أصحابه وقال: (إني أحب أن يرى مني أهلي ما أحب أن أرى منهم) , وهذا كله يدل على سماحة الشريعة، وفيه أيضاً ترفع عن غلو أهل الزهد في زهدهم وتنطعهم في التشديد في مثل هذه الأمور التي فيها السماحة والرفق بالنفس.

حكم الإبر والمغذيات للصائم

حكم الإبر والمغذيات للصائم Q ما حكم أخذ الإبر التي في العضل أو في الوريد للصائم؟ وما حكم المغذيات أيضاً؟ A الذي أحفظه قول جمهور العلماء فيها أنه يستوي فيها المغذي وغير المغذي وأنها مفطرة، والعبرة بالوصول للجوف، والدليل على ذلك ما يلي: أولاً: هذه المسألة للعلماء فيها وجهان: منهم من يقول: أعتبر المدخل ولا أعتبر صفة الدخول, يعني: العبرة عندي بالفم والأنف, فما جاء عن طريق الفم والأنف يفطر, وما جاء من عداهما لا يفطر, وصاحب هذا القول أشكل عليه حكم الإبر المغذية، فإنه حين يقول: العبرة عندي بالفم والأنف، فإن الإبر المغذية ينتفع بها الجسم ويرتفق بها كارتفاقه بالطعام الواصل من الحلق سواء كان عن طريق الأنف أو الفم. وقال بعض العلماء: نفرق -خروجاً من هذا الإشكال- بين الإبر المغذية والإبر غير المغذية، وهذا التفريق بدون دليل؛ لأنه إما أن يقول: إنني أعتبر الوصول إلى داخل الجسد بغض النظر عن كونه مغذياً أو غير مغذٍ، بدليل أن الفم الذي هو مدخل للطعام لو أدخل منه الدواء، لأفطر, كذلك الإبر إذا قلت: إن الدخول إلى البدن من سائر الأعضاء فيستوي في ذلك أن يكون مغذياً أو دواءً, كما أن الفم استوى فيه أن يكون مغذياً أو دواءً. ولذلك الذي عليه الجمهور والمنصوص عليه في فتاوى العلماء المتقدمين أنه يستوي الدخول إلى البدن أياً كان, فلو قال قائل: إن الإبر في العضل لا ينتفع بها كانتفاع الطعام والشراب، فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث لقيط بن صبرة: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) فالإنسان عندما يستنشق وتذهب قطرة واحدة إلى حلقه فإنه يفطر إجماعاً, وهذه القطرة قد لا ينتفع بها الجسم, بل ربما أنها قبل أن تصل إلى الجسم تشربها الأمعاء بمجرد وصولها إلى الجدار كما هو معلوم طبياً, بل إنها لا تصل إلى الجوف أصلاً, وبناء على ذلك -وهو كلام جمهور العلماء- فإن العبرة بالوصول إلى الجوف سواءً كان مغذياً أو غير مغذٍ، وهذا هو الأقوى والأبرأ للذمة، بل إن بعض إبر العضل إذا ضربت وجد طعمها في الحلق, وهذا من أظهر الدلائل على انتفاع الجسم وارتفاقه. ففقه المسألة: إما أن نقول: العبرة بالفم ولا عبرة بغيره؛ فيستوي في ذلك الإبر المغذية وغير المغذية. وإما أن نقول: العبرة بالفم وبما وصل إلى الجوف بغض النظر عن كونه مغذياً أو غير مغذٍ كالحال في الفم، وهذا من ناحية أصولية أقوى وهو أسلم وأقوى من ناحية الاستنتاج، ومن أخذ هذه الإبر وتأول فيها قول من يقول: إنها لا تفطر؛ فلا حرج عليه؛ فإنه في هذه الحالة لا يعتبر مفطراً, ولكن الحقيقة أنه يفطر. وننبه على مسألة وهي أن البعض يقول: ليس هناك دليل على اعتبار ما يصل إلى الجوف عن غير طريق الفم والأنف أنه مفطر, والواقع أن هناك دليلاً، وهو حديث لقيط بن صبرة؛ لأن فقه المسألة: أن حديث لقيط بن صبرة فيه دلالة على اعتبار الوصول إلى الجوف بغض النظر عن طريق الوصول، توضيح ذلك: أن الأكل والشرب والمفطر الأصل فيه أنه يصل عن طريق الفم, قالوا: فنبه الشرع باعتبار ما يدخل من الأنف مفطراً على أن العبرة بالوصول إلى الجوف بغض النظر عن طريق الوصول؛ لأن الأنف ليس طريقاً لوصول الطعام إلا في حالات الاضطرار, فلو قال قائل: هو يكون طريقاً للتداوي، فنقول: إذاً: ما وصل إلى الجوف تداوياً يفطر. فأقول: من ناحية أصولية الأقوى أنها مفطرة, سواء كانت مغذية أو غير مغذية ومن قال: إنها لا تفطر إذا كانت في العضل ولم تكن مغذية فيلزمه أن يقول بأنها لا تفطر إذا كانت مغذية, وأما القول بالتفصيل بأنه يرتفق أو لا يرتفق فليس عندنا دليل في الشرع يقول: إن ما نفع الجسم غذاءً أفطر، وما ينفعه دواءً لا يفطر, بل إن الإجماع قائم على أن من تعاطى الدواء بالفم والأنف أنه يفطر، فيستوي في ذلك غير الفم من سائر المنافذ بداخل البدن, والله تعالى أعلم.

حكم خروج المذي من الصائم عند المداعبة

حكم خروج المذي من الصائم عند المداعبة Q ما حكم خروج السائل من المرأة أو المذي من الرجل أثناء المداعبة، وهل ذلك يضر بالصوم؟ A إذا كان مذياً -وهو الذي يخرج عند بداية الملاعبة والشهوة- فإنه لا يوجب الفطر على أصح أقوال العلماء، وهو قول الجمهور. وقال بعض العلماء: إنه يوجب الفطر, والصحيح: أن المذي لا يوجب الفطر؛ لأن الذين قالوا بأنه يوجب الفطر قاسوه على المني, وهذا القياس منتقض لأنه قياس مع الفارق, وهو أحد قوادح القياس الأربعة عشر, وتوضيح الفارق: أن المني كمال الشهوة, والمذي جزء الشهوة واللذة، ولذلك أوجب كمال الشهوة الفطر دون بعضها، فلو قال قائل: أنا أنقض بجزء الشهوة كما أنقض بكلها؛ رد عليه بأن النظر إلى المرأة بالشهوة لا يفطر إجماعاً, مع أن فيه لذة، فدلّ على أن جزء اللذة لا يوجب الفطر. فيقوي القول بأن خروج المذي لا يوجب الفطر، وأنه يصح الصوم ولو أمذى الإنسان، لكن كما يقول بعض العلماء: لا يؤمن أن ينقص أجر الإنسان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي يرويه عن ربه: (فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل) والرفث هو ما يكون عند النساء، ولذلك قالوا: ينبغي للإنسان أن يتحامى حتى يكون أكمل في صومه وأبلغ في طاعته لربه؛ لأن المراد ترويض النفس وتعويدها على الامتثال لأمر الله والبعد عن الشهوة، والله تعالى أعلم.

حكم اغتسال الصائم بعد الزوال وبلع الريق

حكم اغتسال الصائم بعد الزوال وبلع الريق Q ما حكم الاغتسال بعد الزوال للصائم، وما حكم بلع الريق القليل أو الكثير المتجمع؟ A أما بالنسبة لاغتسال الصائم فلا حرج فيه ولا مانع منه, وليس هناك دليل يمنع من الاغتسال للصائم لا قبل الزوال ولا بعده. وأما بالنسبة لبلع الريق فلا حرج فيه، ولا حرج على الإنسان أن يجمع ريقه ويبتلعه؛ لأنه مما يوسع الله فيه على العباد؛ ولأنه لو فتح باب عدم بلع الريق لوقع الناس في حرج ومشقة ووسوسة لا يعلمها إلا الله. وإنما الممتنع هو النخامة، وهي البلغم الذي يخرج من الصدر أو يسحبه الإنسان من أنفه إلى فمه, وأما بالنسبة للعاب والريق الذي يكون في الفم فلا حرج فيه ولا عتب على الإنسان أن يبلعه ولو جمعه، والله تعالى أعلم.

حكم مسح الوجه بعد الدعاء

حكم مسح الوجه بعد الدعاء Q ما حكم مسح الوجه بعد دعاء القنوت؟ A مسح الوجه بعد الدعاء فيه حديث عمر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع يديه في الدعاء لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه) , وهو حديث ضعيف الإسناد, وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: إن مجموع طرقه تقويه حتى يرتقي إلى درجة الحسن، بمعنى: إلى درجة الثبوت. وبناءً على ذلك: لا ينكر على من مسح وجهه خارج الصلاة، أما داخل الصلاة فلا, ففي خارج الصلاة الصحيح: أنه لا يمسح؛ لضعف الحديث, لكن لو مسح شخص فلا ينكر عليه؛ لأنه قد يكون عاملاً بالحديث على قول من يعتد بتحسينه وتصحيحه، وهو الحافظ ابن حجر. وقد أجمع العلماء -رحمهم الله- على أن المكلف لو أخذ بتصحيح حديث أو تضعيف حديث من عالم يعتد بتصحيحه وتضعيفه فإنه يجزئه، كما أشار إلى ذلك بعض الفضلاء بقوله: واقبل لإطلاق بصحة السند أو حسنه إن كان ممن يعتمد أي: إذا كان من أهل العلم والفن الذين يعتمد تصحيحهم وتضعيفهم، والإمام الحافظ ابن حجر إمام في التصحيح والتضعيف, وبناء على ذلك: من مسح في خارج الصلاة فلا حرج عليه, وأما في داخل الصلاة فقد جاء في رفع اليدين في القنوت حديث أنس، ذكره الحافظ ابن الملقن في تحفة المحتاج وحسنه، ولكن المسح زيادة عمل, والأصل: أن يسكن الإنسان في الصلاة لظاهر حديث مسلم: (اسكنوا في الصلاة) ولذلك لا يشرع المسح بها بعد الانتهاء من القنوت في الوتر، لكن لو مسح في خارج الصلاة وتأول حديث عمر فلا حرج عليه في ذلك، وإن كان الأولى والأقوى ألا يمسح، والله تعالى أعلم.

حكم قراءة القرآن من المصحف في التراويح

حكم قراءة القرآن من المصحف في التراويح Q هل تصح قراءة القرآن من المصحف في التراويح لمن لا يحفظ القرآن؟ A الأولى أن يتقدم الناس حافظ القرآن ويصلي بهم القيام أو التراويح, فإن لم يوجد وأراد الناس أن يصلوا بإمام يستطيع القراءة من المصحف فلا حرج, وهو فعل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين أمرت خادمها أن يصلي بها أو يقوم بها في رمضان بالمصحف. ولذلك الفتوى عند أهل العلم على أنه لا حرج في إمساك المصحف والقراءة منه, حتى ولو كان الإنسان حافظاً وأراد أن تكون ختمته للقرآن في مأمن من الخطأ والخلل، أو كان يخشى في مواضع التشابه وأراد أن يجل القرآن من الخطأ، فهذا أكمل له وأعظم أجراً، ولا حرج عليه في ذلك، والله تعالى أعلم.

نصيحة بخصوص قدوم شهر رمضان

نصيحة بخصوص قدوم شهر رمضان Q هل من كلمة حول رمضان؛ فإن بعض الشباب يضيعون أوقاتهم في هذا الشهر الكريم فيما لا ينفع؟ A أقبل رمضان وهو شهر الرحمة والغفران, أقبل رمضان والله أعلم كم في جنباته من حلم وصفح ورحمة وغفران! أقبل شهر قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة) وهو شهر الخيرات والمنافسة في الطاعات, اختاره الله جل وعلا من بين الشهور فجعله شهر العبادة والرحمة, والتلاوة والتسبيح، والتهجد والتراويح، كم دخله من بعيد فقربه الله! وكم دخله من مسيئ مذنب فتاب الله عليه فيه! وكم لله فيه من نفحات! وكم لله فيه من رحمات ومغفرات! وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) وكم من صائم صام يومه وآذنته الشمس بالغروب, فغيبت معها الخطايا والذنوب. وهو الشهر الذي فضل الله قيامه، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) فطوبى لتلك الأحشاء التي ظمئت لوجه الله! وطوبى لتلك الأمعاء التي جاعت لوجه الله! وطوبى لتلك الأقدام التي انتصبت في جوف الليل بين يدي الله! وطوبى لتلك العيون التي سحت بالبكاء من خشية الله! هذا شهرها وهذا أوانها, ينادي منادي الله: يا باغي الخير! أقبل ويا باغي الشر! أقصر، تسلسل فيه الشياطين، وتفتح أبواب النفحات والرحمات من الله رب العالمين. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الرحمة) فما أعظمه من شهر! وما أجلها من غنيمة وذخر! وطوبى لمن خرج من رمضان فخرج عنه رمضان بصفح وغفران! وما يدريك فلعلك أن تخرج من ذنوبك منه كيوم ولدتك أمك. فنسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل لنا فيه أوفر حظ ونصيب, وأن يجعلنا ممن صام الشهر واستكمل الأجر وأدرك ليلة القدر، إنه ولي ذلك والقادر عليه. ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل لنا من هذا الشهر أوفر حظ ونصيب من كل رحمة ينزلها, ومن كل مغفرة يسبغها، ونسأله أن يسبغ علينا الرحمات وعلى جميع الأموات من المسلمين والمسلمات الذين لم يدركوه, وأن يجبر كسرهم، وأن يعظم أجرهم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

باب فروض الوضوء وصفته [1]

شرح زاد المستقنع - باب فروض الوضوء وصفته [1] اهتم الشارع الحكيم بتطهير المسلم ظاهراً وباطناً، حيث شرع الوضوء عند الصلاة، وهذا الوضوء طهارة حسية للظاهرة، وطهارة معنوية تكفر به السيئات، وهو يتم بغسل الأعضاء المأمور بغسلها من الوجه واليدين والرجلين ومسح الرأس، وهذه من منن الله التي امتن بها على عباده.

مشروعية الوضوء وتعريفه لغة وشرعا

مشروعية الوضوء وتعريفه لغةً وشرعاً بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغُرِّ الميامين، ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب فروض الوضوء وصفته]: الفروض: جمع فرض، والفرض يطلق بمعنى الحز والقطع، ومنه الفريضة: وهي النصيب الذي جعله الله عز وجل من تركة الميت للحي من بعده، سميت بذلك؛ لأن مال الميت يُقْتَطَع منه لكل وارث نصيبه، فقيل لها: فريضة. وأما في اصطلاح الشرع: فإن العلماء رحمهم الله إذا قالوا: هذا الأمرُ فرضٌ فإنهم يعنون به ما يثاب فاعله ويعاقَب تاركه، وقد تستعمل الفرائض بمعنى الواجبات، وهذا هو مذهب جمهور العلماء: أن الفرض والواجب في الشريعة معناهما واحد، خلافاً للحنفية رحمة الله عليهم، فإنهم يرون أن الفرض آكد من الواجب. والصحيح: أن الفريضة والواجب كل منهما بمعنى الآخر، وخص الحنفية رحمة الله عليهم الفريضة والفرض بما ثبت بدليل قطعي، أي: أنه ليس من الواجبات على العموم. والصحيح: أن ما ثبت من الواجبات بدليل قطعي أو بدليل ظني كله يوصف بكونه فرضاً وواجباً. يقول المصنف رحمه الله (باب فروض) جَمَعَ الفرائض؛ لأن الواجبات التي ألزم الشرعُ المكلفين بها في الوضوء متعددة، ففرض الله غسلَ الوجه، وفرض غسلَ اليدين إلى المرفقين، ومسحَ الرأس كله، وغسلَ الرجلين إلى الكعبين، فلما تعددت فرائض الوضوء وَصَفَها بالجمع فقال: (باب فروض الوضوء) والوضوء: مأخوذ من الوضاءة، وهي: الحسن والبهاء والجمال، وُصِف بذلك؛ لأن صاحبه يبيضُّ وجهُه في الدنيا والآخرة حساً ومعنىً: أما حساً: فلإزالة القذر من الوجه. وأما معنىً: فلأن صاحبَه يشرق وجهه، كما ثبت في الحديث الصحيح أن أمته عليه الصلاة والسلام: (يدعَون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء)، وهو طهارة معنوية كما ثبت في الصحيح من حديث الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف المصلي بكونه: (لا يبقى من درنه شيء)، وكذلك ثبت في الحديث الصحيح أنه: (ما من مسلم يقرب وضوءه فيمضمض ويستنشق ويغسل وجهه إلا خرجت خطايا وجهه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى تخرج من تحت أظفار أصابعه)، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم تمام ذلك في أعضاء الوضوء. إذاً: تحصَّل من هذه النصوص أن الوضوء يفضي إلى جمال الحس والمعنى، فلهذا سمي وضوءاً. وتعريف الوضوء شرعاً: هو الغسل والمسح لأعضاء مخصوصة حددها الشرع، وذلك بغسل الوجه واليدين والرجلين، والمسح يختص بالرأس، وقد يُمسح في مفروض يجب غسله -وهو الرجلان- إذا حل البدل محلهما، وذلك في المسح على الخفين.

فروض الوضوء والأحكام المتعلقة بها

فروض الوضوء والأحكام المتعلقة بها يقول رحمه الله: (باب فروض الوضوء) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي يُعرف بها ما أوجبه الله وفرضه في عبادة الوضوء؛ ذلك أن أعضاء الوضوء التي غسلها النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يجب غسله، ومنها ما لا يجب غسله، وإنما فعله على سبيل السُّنِّيَّة والاستحباب لا على سبيل الحتم والإيجاب، فانقسمت أعضاء المكلف في عبادة الوضوء إلى: ما يَلزَم غسلُه ومسحُه وما لا يَلزَم غسلُه، ومن ثَمَّ ناسب أن يقول: وسُنَنِه، أي: سأبين لك الأعضاء التي يُثاب غاسلها ولا يعاقب تاركُها وهي أعضاء مخصوصة. مناسبة هذا الباب: أن من عادة العلماء رحمة الله عليهم أنهم يبتدئون بآداب قضاء الحاجة، ثم يثنُّون بفرائض الوضوء؛ لأن المكلف إذا فرغ من قضاء حاجته تهيأ لعبادة الصلاة، وذلك بالوضوء، ثم بعد ذلك يصلي، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] الآية. ولذلك يقولون: تقديم باب آداب قضاء الحاجة على باب الوضوء إنما هو من باب الترتيب المناسب للحال، فالغالب في حال المكلف أن يقضي حاجته أولاً، ثم يتهيأ لعبادة الصلاة، وقد أدخل المصنف باب السواك؛ لأن السواك يكون قبل الوضوء. يقول رحمه الله: [فروضه ستة]: الضمير في قوله: (فروضه) عائد إلى الوضوء، أي: الفروض التي أوجب الله على المكلف في الوضوء ستة. وقوله: (ستة) هذا يسميه العلماء: الإجمال قبل البيان والتفصيل، وهو أسلوب محمود، ومن منهج الكتاب والسُّنة أن إيراد الشيء إجمالاً ثم تفصله، وفي ذلك فوائد: منها: تهيئة السامع والمخاطَب لفَهم المراد، فإنه لو جاء مباشرة وقال: فروض الوضوء: غسل الوجه، وغسل اليدين. إلخ، لما كان في ذلك من المناسبة واللطف مثل ما يوجد في قوله: (فروض الوضوء ستة)؛ لأنه عندما يقول: إنها ستة، ينشأ Q ما هي هذه الستة؟ فيحدث التشويق للسامع والمخاطَب أن يعرف تفصيل هذا الإجمال، وهو أسلوب القرآن، كما في قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1 - 3]، وكان بالإمكان أن يقول: (الحاقة كذبت ثمود)، وكذلك قوله تعالى: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1 - 3] فأحدث بالسؤال وبالإجمال الشوق إلى معرفة البيان والتفصيل، وهكذا هنا. (فروضه ستة) أي: الفروض التي أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بها في الوضوء: ستة.

الفرض الأول: غسل الوجه وجوبه وكيفيته

الفرض الأول: غسل الوجه وجوبه وكيفيته قال رحمه الله: [غَسل الوجه] الغسل: هو صب الماء على الشيء، تقول: غسلتُ الإناءَ، إذا صببتَ الماء عليه فأصاب أجزاء الإناء، وغسلتُ الوجه، إذا صببت الماء عليه فأصاب الماءُ أجزاءه، وبناء على ذلك قالوا: الغسل لا يتحقق إلا بوصول الماء إلى البشرة. فلو أن إنساناً بلل يده ثم دلكها على وجهه دون أن يجري الماء على الوجه لم يكن غاسلاً، وإنما هو ماسح، وفرق بين الغَسل وبين المسح. والوجه: مأخوذ من المواجهة، وهو الشيء الذي يأتي قُبُلَ الإنسان مقابلاً له، تقول: واجهتُه، إذا صرتَ قِبَلاً للإنسان، أي: جئت من وجهه، ويقال لها: مواجهة، ويقال لها: مقابلة، ومنه قوله تعالى: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} [الأنعام:111] أي: أمامهم ينظرون إليه. والوجه سيأتي -إن شاء الله- ضابطه. أما الدليل على إيجاب غسل الوجه فقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6]، فقوله: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) أمر، والقاعدة في الأصول: (أن الأمر يدل على الوجوب إلا إذا صرفه صارف عن ذلك)، فلما قال: (فَاغْسِلُوا) أي: فرضٌ عليكم ولازمٌ عليكم أن تغسلوا وجوهكم. كذلك أيضاً دلت السُّنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم نُقِل عنه الوضوء، ولم يثبت عنه في حديث صحيح أنه توضأ وترك غسل وجهه. ففي الصحيحين من حديث حمران مولى عثمان، عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وأرضاه أنه (دعا بوضوء فأكفأ على كفيه فغسلهما ثلاثاً ثم تمضمض واستنشق ثلاثاً ثم غسل وجهه ... ) إلى آخر الحديث. وكذلك حديث عبد الله بن زيد في الصحيح. وحديث علي بن أبي طالب في السنن، كلها وصفت وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت عنه أنه ترك غسل وجهه. ولذلك أجمع العلماء رحمة الله عليهم على أن غسل الوجه فرض من فرائض الوضوء، فلو توضأ إنسان ولم يغسل الوجه بَطَل وضوءُه بإجماع العلماء رحمة الله عليهم.

أقوال العلماء في المضمضة والاستنشاق والراجح منها

أقوال العلماء في المضمضة والاستنشاق والراجح منها قال رحمه الله: [والفم والأنف منه]. بعد أن بيَّن أن الوجه يجب غسله أشار إلى الخلاف الحاصل بين العلماء في مسألة: هل الأنف والفم من الوجه أو ليسا من الوجه؟ وجهان للعلماء: فقال طائفة من أهل العلم -وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، وقول بعض أصحاب الحديث، وبعض أهل الظاهر-: أن الفم والأنف من الوجه، وبناءً على ذلك يجب على المكلف إذا توضأ أن يتمضمض ويستنشق، فلو غَسَل ظاهر الوجه ولم يتمضمض ولم يستنشق لم يكن غاسلاً للوجه، ثم هل يصح وضوءه أم لا؟ قيل: لا يصح وضوءه، وقيل: يأثم بترك المضمضة والاستنشاق ووضوءه معتبر. فهذا هو القول الأول: أن المضمضة والاستنشاق يعتبر كل منهما فرضاً من فرائض الوضوء؛ لأنه من الوجه. والذين قالوا بالوجوب استدلوا بظاهر القرآن: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ). فلما قيل لهم: كيف فهمتم أن الفم والأنف يعدان من ظاهر الوجه وخارجه لا من باطنه؟ قالوا: عندنا دليل يدل على أن الأنف والفم من خارج البدن لا من داخله، وهو: أن الإنسان لو كان صائماً ثم أخذ الماء فتمضمض واستنشق أيبطل صومه أو لا يبطل؟ قيل: لا يبطل. قالوا: فدل هذا على أنهما من خارج البدن لا من داخله، إذ لو كانا من داخله لأفطر من تمضمض واستنشق وهو صائم. الدليل الثاني: قالوا: لو أن إنساناً استقاء، فأخرج الطعام إلى فمه ثم رد الطعام وهو صائم، ألا يبطل صومُه؟ قيل: يبطل صومه. قالوا: فلو كان الفم من داخله لما بطل صومه؛ لأنه في هذه الحالة يكون الفم في حكم المريء، ولا يوجب وصول الطعام إليه وازدراده بطلانَ الصوم. لهذا قالوا: يجب عليه أن يتمضمض وأن يستنشق. واحتجوا أيضاً بالسُّنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا توضأت فمضمض) وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك المضمضة والاستنشاق في وضوئه، فدل على أنهما من فرائض الوضوء، وليسا من السنن. هذه أدلة من يرى وجوب المضمضة والاستنشاق. والمذهب الثاني -وهو مذهب الجمهور-: أنهما ليسا من الوجه، وأن المراد بالوجه في الآية الكريمة هو البشرة الخارجية، وليس الفم والأنف من خارج الوجه، بل هما من داخل البدن، وعلى هذا فلا يجب على المكلف أن يمضمض ويستنشق في الوضوء، واحتجوا بأدلة من الكتاب والسُّنة. أما دليلهم من الكتاب: فالآية نفسها، قالوا: إن الله عز وجل قال في كتابه: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)، ولا شك أن القرآن جاء بلسان العرب، {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]، فيجب تفسيره بدلالة ذلك اللسان، والذي يدل عليه لسان العرب: أن الوجه ظاهر البشرة، ولا يعتبر الفمَ والأنفَ من الوجه، أي: داخلهما، ولفظ الوجه مأخوذ من المواجهة، قالوا: إن الإنسان إذا واجه الغير فالمواجهة إنما تحصل بالبشرة الظاهرة لا بباطن فمٍ ولا بباطن أنفٍ. هذا بالنسبة لدلالة لفظ الوجه في اللغة. وأما دليلهم من السُّنة: قالوا: أكدت السنة هذا المعنى، فقد جاء في حديث الترمذي (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله! كيف أتوضأ؟ -أي: صف لي الوضوء الذي أصلي به وأستبيح الصلاة به- فقال عليه الصلاة والسلام: توضأ كما أمرك الله) أي: اقرأ كتاب الله، وما وجدت في آية المائدة فافعله، قالوا: فرد النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي إلى ظاهر القرآن، وهذا أعرابي لا يعرف الوضوء؛ إذ لو كان عارفاً بالوضوء عالماً به لما سأل، فردُّه إلى ظاهر القرآن صريحُ الدلالة على أن المرادَ ظاهرُ الآية. وأما ما استدل به الفريق الآخر: فأولاً: ما استنبطوه من كون الفم يعد من خارج الوجه، هذا من المسائل التي لا يدركها إلا الفقيه، ويعسُر على أعرابي في بداية الإسلام وهو يسأل عن كيفية الوضوء أن يدرك المسائل الفقهية الخفية. ثانياً: قولكم: إن اعتباره من داخلٍ وخارجٍ بالصفة التي ذكرتموها في الصوم؛ إنما هو اعتبار حكمي، والاعتبار الحكمي في العبادة المخصوصة لا يطرد في غيرها، أي: كون الشرع حكم بكون الفم من خارجٍِ في عبادة مخصوصة لا يقتضي اطراد ذلك على العموم، إذ لو قيل بذلك لَلَزم منه غسل باطن العين. وقد كان يُحكى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرى وجوب غسل داخل العينين، حتى قيل: إنه هو السبب في عمى بصره في آخر عمره. الشاهد أن الجمهور قالوا: إن ظاهر الكتاب وظاهر السُّنة لا يساعدان على القول بوجوب المضمضة والاستنشاق. وبناءً على ذلك: فالقول بأن العبرة بظاهر البشرة قوي، ويؤيد ذلك: أن الإنسان لو وجد ماءً لا يكفي إلا لغسل وجهه ويديه ومسح رأسه وغسل رجليه لقيل بوجوب الوضوء عليه، ولما قوي أن يقال له: اعدل إلى التيمم، فدل على أن المراد بغسل الوجه غسل ظاهر البشرة. وهذا القول هو أقوى الأقوال وأقربها إلى الصواب؛ لظاهر القرآن وظاهر السُّنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم. أما لو قال قائل: إن النبي عليه الصلاة والسلام داوم على المضمضة والاستنشاق. فجوابه أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد داوم على السنن من باب التعليم لا من باب الإلزام، ألا تراه عليه الصلاة والسلام -بإجماع الروايات عنه- أنه ما توضأ إلا غسل كفيه قبل أن يتوضأ؟! والذين قالوا بوجوب المضمضة والاستنشاق يسلِّمون بأن غسل الكفين قبل الوضوء لغير المستيقظ من النوم مستحب وليس بواجب، فدل على أن المداومة تكون لما هو واجب ولما هو غير واجب، فيقوى القول بعدم وجوبها. ولكن ينبغي على المكلف أن يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأن لا نأخذ من القول بسُنِّيَّة المضمضة والاستنشاق الاستهتار بفعلها، فإن التساهل في السنن لا ينبغي للمسلم، خاصةً لطالب العلم القدوة، ولذلك قد يتعلَّم البعضُ الفقهَ، فيكون نقصاناً في أجره، وحرماناً للخير له، وذلك بأن يتعلم السنن فيفرِّط فيها من باب أنها سنة، وقد تجد طالب علم يقول لك: اترك هذا إنه سنة!! وقد كان ينبغي على طالب العلم أن يقول: احرص عليه؛ لأنه سنة وهدي من النبي صلى الله عليه وسلم. فلذلك ينبغي الحرص والمداومة على هذه السُّنة، ولا يعني القول بسُنِّيَّتها أن الإنسان يفرِّط فيها؛ وإنما يحرص على ذلك لسنيته، ولما فيه من الخروج من خلاف العلماء رحمة الله عليهم. يقول رحمه الله: (منه) أي: من الوجه الذي يجب غسله: الفم، والأنف. الفم: يتحقق غسله بالمضمضة بإدارة الماء فيه. وكذلك الأنف: يتحقق غسله بإدخال الماء فيه إلى الخياشيم وجذبه بالنَّفَس ثم طرحه.

الفرض الثاني: وجوب غسل اليدين مع المرفقين

الفرض الثاني: وجوب غسل اليدين مع المرفقين قال رحمه الله: [وغَسل اليدين]. الفرض الثاني: غَسل اليدين، واليدان: مثنى يد، وسيأتي -إن شاء الله- الكلام على حدهما. واليدان أَمَر الله بغسلهما في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6]، فأمر بغسل اليدين، والأمر دال على الوجوب حتى يأتي الصارف الذي يصرفه إلى ما دون ذلك، ولا صارف هنا. والنبي صلى الله عليه وسلم غسل كلتا يديه إلى المرفقين، والواجب الغَسل من أطراف الأصابع إلى المرفقين، والمرفقان داخلان في الغَسل، فلو غسل اليدين ولم يغسل المرفقين لم يصح وضوءه في قول الجماهير، وذهب داوُد بن علي الظاهري -رحمة الله على الجميع- إلى القول بأن المرفقين ليسا بداخلين في الغَسل، قال: إن قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] (إلى) فيه للغاية، وما بعد الغاية يخالف ما قبلها، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] فإن الليل لا يجب صيامه، والقاعدة في الأصول: أن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها، ولذلك قالوا: لا يجب غَسل المرفقين، والمرفقان هما: مفصل الساعد مع العضد، وسُمِّيا بذلك من الارتفاق؛ لأن الإنسان إذا جلس ارتفق عليهما، فسُمِّيا مرفَقين بسبب ذلك. والصحيح أن المرفقين داخلان في الغسل لأمور: الأمر الأول: ظاهر القرآن في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] فإن (إلى) تأتي في لغة العرب بمعنى: (مع)، ومنه قوله تعالى: {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران:52] أي: مع الله، فـ (إلى) بمعنى: (مع)، فيكون قوله تعالى: (إِلَى الْمَرَافِقِ)، أي: مع المرافق. الأمر الثاني: أن قولهم: إن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها، محل نظر، فإن الغاية إذا جاءت فلها حالتان: الحالة الأولى: أن تكون من جنس المُغَيَّا. والحالة الثانية: أن تكون من غير جنس المُغَيَّا. فإن كانت الغاية من جنس المُغَيَّا دخلت. وإن كانت من غير جنس المُغَيَّا لم تدخل. وتوضيح ذلك: أن المرفقين من جنس اليد، بل إن اليد تمتد إلى المنكب، فلما قال: (إِلَى الْمَرَافِقِ) دخلت؛ لأنها من جنس اليدين. وأما {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] فالليل ليس من جنس النهار المأمور بصومه، فلم يدخل الليل الذي هو الغاية في المُغَيَّا؛ لأنه ليس من جنسه. وبهذا يترجح قول الجمهور أنه يجب غَسلها. ومما يدل على ترجيح قول الجمهور ما ورد في السُّنة، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، فغسل يديه حتى شرع في العضد) يعني: كاد يغسل عضده، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غسل المرفقين. واليد تشمل: اليد الصحيحة، واليد المشلولة، واليد المقطوعة. فلو أن إنساناً كانت يده شلَّاء وجب عليه غسلها، فيصب الماء عليها. ولو قُطِعت وبقي من الفرض شيء، فإنه يجب غسل ما بقي بعد القطع. ويجب غَسل اليد بكامل ما فيها، سواءً كانت على أصل الخِلقة بأن يكون فيها خمسة أصابع، أو زائدةً عن الخِلقة كما لو كان فيها ستة أصابع ونحو ذلك؛ لأن الله عز وجل أمر بغسلها على الإطلاق كما في قوله: (وَأَيْدِيَكُمْ)، ولاشك أن المكلف إذا زادت خِلقته في اليد أو خالفت الفطرة، فإنها داخلة في الوصف من كونها يداً له مأمور بغسلها.

الفرض الثالث: مسح الرأس والقدر الواجب منه

الفرض الثالث: مسح الرأس والقدر الواجب منه قال رحمه الله: [ومسح الرأس ومنه الأذنان]. الفرض الثالث: مسح الرأس، والمسح: هو إمرار اليد على الشيء، تقول: مسحتُ برأس اليتيم، إذا أمررتَ يدك عليه، والمراد بالمسح هنا: أن يُمِرَّ يدَه المبلولة على الرأس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سكب الماء على يده، ثم مسح برأسه صلوات الله وسلامه عليه. والرأس الذي يجب مسحه حدُّه: من الناصية إلى القفا، وهذا بالنسبة للطول، ثم من السالفة أو من عظم الصدغ إلى عظم الصدغ عرضاً، هذا يجب مسحه كله، والدليل على الوجوب قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] فإن قوله: (امْسَحُوا) أمر، والقاعدة في الأصول: (أن الأمر للوجوب حتى يدل الدليل على ما دون الوجوب)، ولا دليل هنا، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه، ولم يترك المسح في وضوء البتة. والإجماع من العلماء منعقد على أنه يجب مسح الرأس، وأن من توضأ ولم يمسح رأسه بطل وضوءه. المسألة الثانية: ما هو الحد الذي يجب مسحه من الرأس؟ اختلفت أقوال العلماء رحمهم الله في هذه المسألة: فقال المالكية في المشهور -وهي أشهر الروايات عن مالك، وإن كان بعضهم رجَّح غيرها أيضاً-: إنه يجب مسح الرأس كله، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، وشهَّرها غيرُ واحد من أصحابه: أن الفرض الذي أمر الله بمسحه من الرأس هو جميع الرأس لا بعضه. القول الثاني: أن الواجب مسح ربع الرأس، وبه قال الإمام أبو حنيفة وأصحابه رحمة الله على الجميع. القول الثالث: أن الواجب مسح ثلاث شعرات، وأن ما زاد عليها ليس بواجب، وبه قال الشافعية رحمة الله على الجميع. وهناك رواية عند المالكية: أن الواجب مسح ثلث الرأس. هذا محصل أقوال العلماء في مسألة مسح الرأس. فيَرِدُ Q ما هي أدلة العلماء على هذه الأقوال؟ من قال بوجوب مسح الرأس كله: احتج بظاهر القرآن في قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) قالوا: إن قوله: (بِرُءُوسِكُمْ) الباء للإلصاق، كأنه قال: امسحوا رءوسكم، وليس المراد بها التبعيض كما يقول الذين يرون أن مسح أجزاء الرأس مجزئ. وقيل: إن الباء تأتي زائدة، واختار بعض المفسرين ممن يرجح هذا القول أنها زائدة وليست للإلصاق، فيقولون: إن قوله: (امْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) أي: امسحوا رءوسكم، وهذا مثل قوله تعالى في قراءة: {تُنْبِتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ} [المؤمنون:20] (تُنْبِتُ بِالدُّهْنِ) أصلها: تُنْبِتُ الدهنَ، والباء زائدة. وهنا ننبه على مسألة في قول العلماء: الباء زائدة، أو مِنْ زائدة! وهي: أنه ليس مراد العلماء بقولهم: إنه حرف زائد، أنه لا معنى له في كتاب الله، فإن بعض المتأخرين يسيء الأدب مع أهل العلم المتقدمين دون التفات إلى مصطلحاتهم ومقصودهم. فليس مراد العلماء رحمة الله عليهم بكونها زائدة إلغاء كونها من القرآن؛ وإنما المراد: أن المعنى: إرادة الكل لا إرادة البعض، مثل قولنا هنا في قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) أنها لم تأت للتبعيض، فيقولون: هي زائدة. وحملُها على الزيادة الحقيقية بمعنى أنها مُلغاة من القرآن يقتضي الكفر، فإن من أنكر من كتاب الله حرفاً ثابتاً بالتواتر يكفر والعياذ بالله، وهذا لا يقوله جاهل من عوام المسلمين، فضلاً عن علماء الأمة الذين هم أهل العلم والدراية والرواية. فلا ينبغي للإنسان أن يكون بسيط الفهم ساذجاً ينكر على العلماء رحمة الله عليهم دون تروٍّ، ودون فَهم مقصودهم من الكلام، فإذا قالوا: هذه قراءة شاذة أو هذا حرف زائد، فليس مرادهم الشذوذ بمعنى: الانتقاص والتحقير، ولا الزيادة بمعنى: الإلغاء؛ وإنما هو معنىً موجود في هذه الحروف بأصل اللغة، والقرآن جاء باللغة، ولذلك تأتي الباء بقرابة عشرة معانٍ جمعها بعض الفضلاء بقوله: تَعَدَّ لُصوقاً واستعِنْ بتسبُّب وبدل صحاباً قابلوك بالاستعلا وزِدْ بعضَهم يميناً تحز معانيها كلها تَعَدَّ: التعدية. لصوقاً: الإلصاق. واستعن: الإستعانة، مثل: باسم الله. بتسبُّب: مثل: {فَكُلَّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت:40]. إلى قوله: (وزِدْ) أي: أنها تأتي زائدة، وهذا هو موضع الشاهد، وقوله: (وزِد بعضَهم) أي: تأتي زائدة وللتبعيض. فالمقصود: أن من معانيها أنها تأتي زائدة، وهذا في لغة العرب باستقراء كلامهم وألفاظهم، هذا بالنسبة للقول الأول، قالوا: إن قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) أي: امسحوا رءوسكم. الدليل الثاني لمن أوجب مسح جميع الرأس: من السُّنة، هو (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح جميع رأسه) ولم يُحفَظ عنه في حديث صحيح أنه اقتصر على بعض الرأس، أو جزء من الرأس، أو على ثلاث شعرات من الرأس، فلو كان الاقتصار على البعض جائزاً لفعله ولو مرة واحدة، صلوات الله وسلامه عليه. هذا بالنسبة لأدلة من قال بوجوب مسح الرأس كله. أما دليل من قال: إنه يجب مسح ربع الرأس -وهم الحنفية رحمة الله عليهم-: فاحتجوا، أولاً بالآية: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) وقالوا: إن الباء للتبعيض، وليس المراد بها الكل، وهذا معروف في لغة العرب، كما قال تعالى: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف:150] فليس المراد أنه أخذ الرأس كله، ولكن أخذ البعض، فَنُزِّل منزلة الكل، وتقول: أخذتُ برأس اليتيم، وليس المراد أنك أخذت الرأس كله؛ وإنما أخذت جُزْأَه، فكأنك أخذت الكل؛ لأنه بمجرد شدك لجزء من الرأس ينشدُّ جميع الإنسان، فيقال: أخذ برأسه. قالوا: فقوله: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ): للتبعيض. الدليل الثاني: احتجوا بحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ في غزوة تبوك، قال: فمسح بناصيته وعلى العمامة) قالوا: والناصية تُقَدَّر بربع الرأس، ولذلك يقدرونها بأربعة أصابع، قالوا: قدر أربعة أصابع من مُقَدَّم الرأس يجزئ في المسح، بشرط أن يكون بأربعة أصابع، فلا يمسح بما دونها. وهذا أصل عند الحنفية: أن أكثر الشيء مُنَزَّل منزلة الكل، وهذا أصل طردوه في مسائلَ لا تحصى كثرةً في العبادة والمعاملة، ولذلك تجدهم يصححون طواف من طاف أربعة أشواط بالبيت؛ لأن أكثر الطواف أربعة أشواط، فلو ترك الثلاثة قالوا: يصح ويلزمه الجبران، وهكذا سعيه، وهكذا في المبيت في الليل قالوا: لو أمسك أكثره فإنه يُنَزَّل منزلة الكل. فهذا أصل عندهم: أن أكثر الشيء مُنَزَّلٌ منزلة الكل. فقالوا: إن ربع الرأس إذا مُسح بأكثر الأصابع وهي الأربعة فإن هذا يجزئ، ويكفي في هذا الفرض الذي أمر الله عز وجل بمسحه. دليل أصحاب القول الثالث الذين قالوا: إنه يمسح ثلاث شعرات: احتجوا بقوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) قالوا: الباء للتبعيض، وبناءً على ذلك يكون قوله: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ): أي: بعض رءوسكم، ولا يجب مسح كل الرأس، وهذا البعض الذي يصدُق عليه أكثر الجمع أنه من الرأس إنما هو الثلاث فأكثر، وهي قاعدة في المذهب الشافعي وغيره، في مسائل: أن أقل الجمع ثلاثة، وبناءً على ذلك قالوا: أقل الرأس ثلاثُ شعرات، فإذا مسح الثلاث صَدَق عليه أنه مسح برأسه، وهكذا لو حلق في الحج ثلاث شعرات أو قَصَّر ثلاث شعرات أجزأه، وهذا أصل عند الشافعي رحمة الله عليه. هذا حاصل أدلة مَن قال بالتبعيض. تبقى أدلة القول الأخير الذي حكيناه رواية عن الإمام مالك: أن الثلث من الرأس يجزئ، وهذا أصل عند المالكية أيضاً: أن الثلث يُنَزَّل منزلة الكل في مسائل، منها: مسألة المساقاة، والمزارعة، إذا كان بالأرض بياض يعدل ثلث الذي سُقِي عليه لحق المساقاة، وجاز أن يتعامل مع العامل على إحيائه، قالوا: لحديث سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير) قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والثلث كثير) فمن مسح ثلث رأسه فقد مسح الكثير فيجزئه، وهذا قول طائفة من أصحاب الإمام مالك رحمة الله عليه. هذا محصل حجج العلماء في مسألة المسح على الرأس. وأصحها -والله أعلم- في نظري: القول بوجوب مسح الرأس كله، وذلك لما يأتي: أولاً: لظاهر القرآن؛ فإن حمل الباء على التبعيض تجوُّز، والأصل حملها على ما ذكر من الإلصاق؛ لأنه أقرب إلى معنى المسح، فإن قولك: مسحتُ برأسه على أنه للإلصاق أقرب من قولك: إنه للتبعيض؛ لأن التبعيض خلاف الأصل، ولذلك يأتي غالباً في المعاني المجازية. ثانياً: أن السُّنة التي احتُجَّ بها على التبعيض -وهو دليل القول الثاني الذي قال: يجب مسح ربع الرأس- يجاب عنها: بأن الحديث فيه: (مَسَحَ بناصِيَتِه وعلى العمامة) فيَصح الاستدلال بهذا الحديث فيما لو اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على مسح الناصية، ونحن نقلب هذا الحديث ونقول: هو حجة لنا لا علينا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أتبع مسح الناصية بالمسح على العمامة. لكن هنا إشكال أورده الحنفية رحمة الله عليهم، قالوا: لو قلتم: إن مسحه للعمامة المراد به مسح فرض لبطلت أصولكم؛ لأنه لا يصح في الأصل أن يُجْمع بين البدل وبين المبدل، فإن الرأس إما أن يمسح عليه أو يمسح على العمامة. فإما أن تقولوا: مسح الناصية هو الفرض، ويكون مسحه على العمامة لاغٍ فيستقيم دليلُنا، أو تقولوا: مسح العمامةِ هو الفرض، والناصيةُ ملغاةٌ، وهذا خلاف الظاهر. فكيف الجواب عن هذا الإشكال؟ A أن يقال: إن المسح على العمامة في هذا الحديث هو الأصل؛ ولكن يجوز في العمامة أن يُكشف ما جرت العادة بكشفه، بدليل أن من تعمَّم العمامة المعروفة فإن السوالف تخرج، والخارج المعتاد مغتفر في المسح على العمامة؛ ولكنه يُمْسح إبقاءً على الأصل، وكشف الناصيةُ صنيع أهلِ الفضل، وهذه من السنن: أن الإنسان لا يبالغ في إرخاء ستر الوجه إلى حواجبه، لأنه صنيع أهل الكبر والخيلاء، ولذلك قالوا: إنه يُكشَف عن الناصية، ويكون كشف النبي صلى الله عليه وسلم عنها في هـ

كيفية مسح من طال شعره

كيفية مسح من طال شعره مسألة: لو أن إنساناً طال شعره حتى استرسل، وبلغ -مثلاً- إلى القفا، فهل يجب عليه المسح لجميع الشعر؟ قال بعض العلماء: يَمسح جميع الشعر حتى يأتي من قفاه ويرده إلى مُقَدَّمِه، فيتأتى له التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعض العلماء: يجب عليه مسح ما حاذى الفرض، بمعنى أنه يمسح حتى يبلغ آخر الرأس، ثم لا يجب عليه مسح ما استرسل، وفرَّعوا على هذا المرأة، فقالوا: إنها تمسح ما حاذى الرأس، ولا يجب عليها مسح ما استرسل. والحقيقة: الأحوط والأكمل أن الإنسان يمسح الكل؛ لأنه حالٌّ محل الأصل، فإن الشعر حال محل جلدة الرأس، وقد تعذر مسح الجلدة، فوجب إنزال البدل منزلة الأصل، فيجب مسح الشعر، ويحتاط الإنسان بكماله.

كيفية مسح الرأس

كيفية مسح الرأس والسُّنَّة في مسحه لشعره: أن يبدأ من مُقَدَّمِه حتى يبلغ قفاه، ثم يَرُدَّه إلى مُقَدَّمِه، هكذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه وأرضاه قال: (بدأ بمُقَدَّم رأسه حتى بلغ قفاه ثم ردهما إلى الموضع الذي بدأ منه). وقال بعض العلماء: بل يبدأ من القفا حتى يَقْدُم إلى المُقَدَّم، ثم يعود إلى القفا، واحتجوا بقوله: (أقْبَلَ بهما وأدْبَرَ) قالوا: أقْبَلَ بهما، أي: من القفا إلى المُقَدَّم، وأدْبَرَ، أي: ردهما إلى القفا. والصحيح: أن قوله: (أقْبَلَ بهما وأدْبَرَ) مجمل، وأن قوله: (بدأ بمُقَدَّم رأسه) مفصِّل مبيِّن، والقاعدة: (أن المفصِّل والمبيِّن مُقَدَّمٌ على المجمل). الأمر الثاني: أن قوله: (أقْبَلَ بهما) استقام استدلالهم به على أن (أقْبَلَ) على الحقيقة؛ ولكن المعروف في لغة العرب أنهم يقولون: أقْبَلَ وأدْبَرَ، ومرادهم: أدْبَرَ ثم أقْبَلَ، وهذا معروف، ومنه قول امرئ القيس يصف جواده: مِكَرٍّ مِِفَرٍّ مُقْبِلٍِ مُدْبِرٍ معاً كجلمود صخرٍ حطَّه السيل مِن عَلِ (مِكَرٍّ مِفَرٍّ) فالكَرَّ لا يكون إلا بعد الفِرار، يفِر الإنسان أولاً ثم يكُر، فالفارس أول ما يفعل: يفِر، ثم بعد ذلك يكر، فلذلك قال: (مِكَرٍّ مِفَرٍّ) فقدَّم كونَه يَكُرُّ على العدو على فِراره. كذلك قوله: (مُقْبِلٍِ مُدْبِرٍ معاً) فإن الأصل: أنه أدْبَرَ أولاً ثم أقْبَلَ على العدو. وهذا معروف في اللغة. فيكون قول الصحابي: (أقْبَلَ بهما وأدْبَرَ) على هذا المعنى؛ أنه أدْبَرَ ثم أقْبَلَ. وعلى هذا لا يستقيم الاستدلال به على الوجه الذي ذكروه. وهناك وجه ثالث قال: نجمع بين الحديثين: (أقْبَلَ بهما وأدْبَرَ) أي: معاً، فيضع يديه في منتصف الرأس، فيُقْبِل باليمنى ويُدْبِر باليسرى. والصحيح: ما ذكرناه؛ من أن قوله: (أقْبَلَ بهما وأدْبَرَ) المراد به: أدْبَرَ بهما ثم أقْبَلَ للرواية المبيِّنة.

الفرض الرابع: غسل الرجلين والرد على من قال بالمسح

الفرض الرابع: غسل الرجلين والرد على من قال بالمسح قال رحمه الله: [وغسل الرجلين]. هذا هو الفرض الرابع الذي أمر الله بغسله، وقد انعقدت كلمة أهل السنة والجماعة على أن غسل الرِّجْلين فرضٌ. وخالف بعض أهل الأهواء ممن لا يُعْتَدُّ بخلافه؛ فقالوا: إن الرِّجْلين يجب مسحهما ولا يجب غَسلهما. والصحيح والمعتبر والذي عليه العمل: أنه يجب الغَسل، وذلك لما يلي: أولاً: أن قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] المراد به: اغسلوا أرجلكم، والذين قالوا: إنه يجب مسح الرِّجْلين قالوا: إن قوله: (وَأَرْجُلَكُمْ) فيه قراءة: (وَأَرْجُلِكُمْ) عطفاً على قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6]، وبناءً على ذلك قالوا: المعنى: امسحوا أرجلَكم. وهذه القراءة يُجاب عنها بأن قوله تعالى: (وَأَرْجُلِكُمْ) الجر فيه للمجاورة، ومنه قول الشاعر: لَعِبَ الزمانُ بها بعدُ وغيَّرها سوافي المَور والقطرِ فإن الأصل: والقطرُ أي: غيَّرها القطرُ، ولكن عندما قال: (سوافي المَور) فأضاف المور مضاف إلى السوافي -المَور: الذي هو الرياح، والسوافي: جمع سافية، وهي الريح- قال: (والقطرِ) فراعى المجاورة في قوله: (المَور) وإلا فالأصل في التقدير أن يقول: والقطرُ، ولا يقول: والقطرِ. وهذه لغة معروفة جاءت عليها القراءة التي ذُكِرت من قوله: وأرجلِكم. وأما قراءة النصب فهي قوية واضحة في الدلالة على الوجوب، وأن الرِّجْلين فرضهما الغَسل لا المسح. ثم يجب غَسل الرِّجْلين من أطراف الأصابع إلى الكعبين، والكعبان داخلان في الغاية، والخلاف فيهما كالخلاف في المرفقين، ولذلك قالوا: إنه يجب غسل الكعبين لحديث أبي هريرة (أنه توضأ فغسل رجليه حتى شرع في الساق وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ). فالمقصود أنه يجب غسل الكعبين، والكعبان هما العظمان الناتئان في آخر الساق، ويجب غسلهما، فلو غسل رجليه ولم يغسل الكعبين لم يصح وضوءه؛ لأن الله أمر بغسلهما وقال: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] أي: مع الكعبين؛ لأن الغاية داخلة في المُغَيَّا إذ هي من جنسها، فإن الكعبين ليسا من الساق وإنما هما من القدم، والقدم تعتمد في الظاهر عليهما؛ لأن حركتَها ووضعَها في رفعِها ووضعِها قائم على الكعبين، فهما من القدم وليسا من الساق، فذلك يجب غسل الكعبين. وبهذا نكون قد انتهينا من أربع فرائض، والفرض الأخير هذا ثبت وجوبه بدليل الكتاب كما قلنا في الآية، وبدليل السُّنة من مواظبته عليه الصلاة والسلام، والإجماع. وليس هناك أحد من أهل السنة والجماعة يقول: إن الرِّجْلين لا يجب غسلهما. يُستثنى من ذلك المسح على الخفين، فإنه إذا غَطَّى قدميه بالخفين نُزِّل المسح منزلة الغَسل؛ لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأحاديث المتواترة، وقد ورد عن أكثر من ستين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على خفيه، ولذلك تجد أن أهل السنة والجماعة إذا ذكروا عقيدة أهل السنة والجماعة أدخلوا فيها سُنَِّّية المسح على الخفين؛ مبالغة في رد قول أهل البدع والأهواء الذين لا يرون المسح على الخفين؛ لأنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأحاديث المتواترة، كما قال بعض الفضلاء: ثم من المشهور ما تواترا وهو ما يرويه جمعٌ حُظِرَا كذبهم عرفاً كمسح الخفِّ رفعُ اليدين عادمٍ للخُلفِ وقد روى حديثَه مَن كتبا أكثر مِن ستين ممن صَحِبا أي: أن المسح على الخفين، ورفع اليدين في تكبيرة الإحرام وَرَدَ عن النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر من ستين من أصحابه صلوات الله وسلامه عليه ورضي الله عنهم أجمعين، فيُنَزَّل المسح على الخفين منزلة غسل الرجلين لإذن الشريعة به، ولذلك قال بعض المفسرين في قوله تعالى: (وَأَرْجُلِكُمْ)، على قراءة الجر، قال: إنها محمولة على حالة المسح على الخفين، ويُنَزَّل الجوربان منزلة الخفين على أصح أقوال العلماء.

وجوب الترتيب في الوضوء والرد على من قال بعدمه

وجوب الترتيب في الوضوء والرد على من قال بعدمه قال رحمه الله: [والترتيب]. يقال: رتَّبَ الأشياء إذا جعل كل شيء منها في موضعه وجعلها تِلْو بعضها. والترتيب: أن يوقع الغَسل والمسح على الترتيب الذي جاءت به آية المائدة، فيبدأ بغسل وجهه، ثم غسل يديه، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجليه، فلو قدَّم مسح الرأس على غسل الوجه لم يُجزئه، ولو قدَّم غسل الرجلين على مسح الرأس لم يجزئه، وهكذا. وهذا الترتيب دل عليه دليل الكتاب، فإن الله عز وجل أمر بغسل الوجه، ثم أتبع الوجه باليدين، ثم أتبعهما بمسح الرأس، ثم أتبع الجميع بغسل الرجلين، والواو هنا يُفهم منها الترتيب لقرينه، فإن الواو في لغة العرب لا تقتضي الترتيب إلا عند وجود القرائن، فإذا قلت -مثلاً-: جاء محمد وعلي، فلا يستلزم ذلك أن يكون محمد جاء أولاً ثم مِن بعده علي، إذ يجوز أن تقول: جاء محمد وعلي، مع أن علياً هو الذي جاء أولاً، ويجوز أن تقول: جاء محمد وعلي، وقد جاءا مع بعضهما لا يسبق أحدهما الآخر. إذاً: الواو في قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة:6]، وقوله بعد ذلك: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة:6] (الواو) في هذه الأربع لا تفيد الترتيب نصاً؛ لكن فُهِم الترتيب من سياقها، وذلك أنه لا معنى لإدخال الممسوح بين المغسولَين إلا إرادة الترتيب، فإن الله عز وجل أدخل الرأس وهو ممسوح بين مغسولَين وهما: اليدان والرجلان، فلو كان الترتيب ليس بلازم لذكر المغسولات أولاً ثم أتبع بالممسوح، أو ذكر الممسوح أولاً ثم أتبع بالمغسولات، فلا وجه لإدخال المسح بين الغَسلَين على هذه الصورة، إلا إرادة الإيقاع على الطريقة أو على الصورة التي وردت في الكتاب. ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: (توضأ كما أمرك الله) أي: على الصفة التي وردت في كتاب الله جل وعلا. ثالثاً: أنه لم يُحفَظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ فقدَّم عضواً على عضو مخالفاً للترتيب. لكن هنا إشكال في الحديث الذي ورد مِن كونه عليه الصلاة والسلام تمضمض بعد أن غسل وجهه، فكيف نجيب عن هذا الإشكال؟ جوابنا: أن الترتيب في أعضاء الوضوء يقع على الصورة التالية: أولاً: الترتيب بين مفروض ومفروض. ثانياً: الترتيب بين مسنون ومسنون. ثالثاً: الترتيب بين مفروض ومسنون. فأما الترتيب بين مفروض ومفروض: فكَغَسل اليدين بعد غَسل الوجه. وأما الترتيب بين مسنون ومسنون: فكالترتيب بين المضمضة والاستنشاق، بأن يوقع المضمضة أولاً ثم يستنشق بعدها. وأما الترتيب بين مفروض ومسنون: فكالمضمضة مع غَسل الوجه، فيبدأ بالمضمضة أولاً ثم الاستنشاق، ثم يغسل وجهه. والذي ورد في الحديث من كونه غَسَل وجهه ثم مضمض؛ إنما هو بين مسنون ومفروض، ومحل الكلام فيما بين المفروضات. وبناءً على ذلك: يكون هذا الحديث خارجاً عن موضع الكلام الذي نتكلمه، وهذا أمر يُغْفِله بعضُ طلاب العلم؛ فيحتج بهذا الحديث على إلغاء الترتيب، وليس في الحديث دلالة؛ وإنما يستقيم الاستدلال بالحديث فيما لو غَسل عليه الصلاة والسلام يديه قبل وجهه، أو -مثلاً- قدَّم مسح رأسه على غسل اليدين، أما أن يخالف في الترتيب بين السنن فأمر السنن واسع ليس كالفرائض. تنبيه: هذا الترتيب إنما هو في الفرائض، بأن يكون الترتيب بين فرض وفرض آخر، أما الفرض بذاته فالترتيب فيه ليس بلازم، وذلك في الأعضاء الثنائية كاليدين والرِّجْلين، فيجوز لك أن تغسل اليمنى قبل اليسرى، وأن تغسل اليسرى قبل اليمنى، ولا يشترط الترتيب بين اليمنى واليسرى، فلو غسل يده اليسرى قبل اليمنى لصحَّ؛ لأن الله عز وجل أمر بغسل اليدين مطلقاً، وهذا قد غسل يديه، وفِعْل النبي صلى الله عليه وسلم هو على سبيل الكمال؛ لقول عائشة: (يعجبه التيمُّن في تنعُّله وترجُّله وطهوره وفي شأنه كله). وبناءً على ذلك: لا يجب الترتيب بين المسنونات.

حقيقة الموالاة في الوضوء

حقيقة الموالاة في الوضوء قال رحمه الله: [والموالاة]. وهي: أن تقع هذه الفروض على الولاء، بعضُها يلي بعضاً، دون وجود فاصل مؤثر. وتوضيح ذلك: أن يغسل وجهَه، ثم يقوم بغسل يديه قبل أن ينشف وجهُه، ثم يمسح رأسه قبل أن تنشف يداه، ثم يغسل رجليه قبل أن ينشف الماء الذي مَسح به رأسَه، هذا مراد العلماء بالموالاة، ولذلك قال العلماء: ضابطها: أن لا ينشف العضو المفروض قبل أن يبدأ بالفرض الذي يليه، مثال ذلك: لو أن إنساناً توضأ في بيته، وكان قد غسل وجهه، وقبل أن يغسل يديه انقطع الماء أو انتهى الماء الذي عنده، فقام من موضعه إلى موضع آخر فيه الماء، ومشى حتى بلغ الماء، فحينئذٍ ننظر: فإن كان الفاصل الذي بين انقطاع الماء وغَسله للعضو الثاني فاصلاً مؤثراً بحيث ينشف العضو الأول فيه، وذلك في الزمان المعتدل الذي هو ليس بشديد البرد ولا بشديد الحر؛ لأن الحر فيه نوع من الرطوبة، خاصةً إذا كان الإنسان في الظل فيبقى العضو طرياً إلى أمد أكثر، والبرد مع الهواء والريح ينشف العضو بسرعة، فلو قُدِّر أن العضو في الزمان المعتدل ينشف إلى سبع دقائق فنقول: إذا مضت سبع دقائق ما بين غَسله لوجهه وغسله ليديه بعد عثوره على الماء بطل وضوءه، وإن كان دون ذلك صح وضوءه ولم يؤثر وجود هذا الفاصل. والولاء أصل في ظاهر الآية لأمور: الأمر الأول: أن الله عز وجل أمر بغسل ومسح الأعضاء في الوضوء، وهذا يقتضي أن تكون في موضع واحد. الأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى على رِجْلِ الرَّجُل قدر لمعة لم يصبها الماء أمره صلوات الله وسلامه عليه أن يعيد وضوءَه، فدل هذا على أن الولاء شرط؛ لأن أمره بإعادة الوضوء إنما هو مبني على وجود فاصل الوقت، فدل على أن الولاء معتبر. وهذا هو الذي يعبر عنه العلماء بقولهم: تجب الموالاة، أي: يلزم المكلف أن يوقع غسل ومسح هذه الأعضاء على الولاء. والله تعالى أعلم. قال رحمه الله: [وهي أن لا يؤخر غَسل عضوٍ حتى ينشف الذي قبلَه]. هذا تعريف الموالاة، وقد يسميه بعض العلماء: ضابط الموالاة. يعني: كأن سائلاً سأل: ما هي الموالاة؟ فقال: (هي أن لا يؤخر غَسل عضوٍ حتى ينشف الذي قبله). وهذا كما قلنا: إن الضابط الذي ذكرناه هو أن لا يؤخر غَسل عضوٍ أو مسح عضوٍ من الأعضاء التي أُمِر بمسحها حتى ينشف الذي قبلَه. إذاً: العبرة بنَشَاف العضو.

الأسئلة

الأسئلة

الخلاف في دخول الأذنين في الرأس

الخلاف في دخول الأذنين في الرأس Q هل من الممكن أن توضحوا لنا قول المصنف رحمه الله: [ومسحُ الرأس ومنه الأُذُنان]؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه. أما بعد: فقوله رحمه الله: [ومسحُ الرأس ومنه الأُذُنان]: الأُذُنان: مُثَنَّى أُذُن، وهي الجارحة المعروفة، وأصل الأذن قيل: الإعلام، ومنه قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:3] أي: إعلام، وقد يُطْلَق بمعنى: الإباحة، ومنه قولهم: أَذِن للضيف، أي: أباح له الدخول. وقوله: [ومنه الأُذُنان]: أي: مِن الرأس، أي: يجب مسحُهما مع الرأس، وفيه حديث عن ابن عباس اختُلِف في إسناده، وضعفه الحافظ ابن حجر والنووي والزيلعي وغيرهم وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (الأُذُنان من الرأس) وقد رواه الترمذي، ورواه أيضاً البيهقي والدارقطني وفي بعض أسانيده المتروكُ والضعيفُ، ولذلك استبعد العلماء جَبْر هذا الحديث بالطرق؛ لأنه -كما تعلمون- من ضوابط المتابعة التي يُحَسَّن بها الحديث: ألاَّ يكون المتابِع منكَراً ولا كذَّاباً ولا وضَّاعاً، فلا يُحْكَم بانجبار السند بكذَّاب ولا وضَّاع، كما أشار إلى ذلك صاحب الطلعة، بقوله رحمه الله: وحيث تابعَ الضعيفَ معتبرْ فحَسَنٌ لغيره وهو نظرْ إن لم يكن لتهمةٍ بالكذبِِ أو الشذوذِ فانجبارُه أُبِي هذا الذي مِن غِمده قد انتضى مَن حقَّق الحسنى وجا بالمرتضى أي: أنه لا يُحكَم بانجبار الحديث وصيرورته إلى كونه حسناً لغيره، إذا كانت الطُّرُقُ طُرُقَ كذَّابين ووضَّاعين، فمثل هؤلاء لا يجْبرُ بعضُهم بعضاً، بل يزيدُ الحديثَ توهيناً وضعفاً. فبعضُ العلماء يرى أن هذا الحديث ضعيف؛ لأن الانجبار فيه متعذر، ولا يرون أنه يُجْبَرُ مثلُه. وذهب بعض العلماء إلى أنه يُجْبَر، واعتمدوا خلافاً بين العلماء في إحدى الطرق، اختُلِف في السماع فيها، فرجح هؤلاء العلماء أن السماع بين ابن عباس ومن روى عنه معتبر، وحكم بتحسين الحديث. وبناءً على هذا: يكون قوله عليه الصلاة والسلام: (الأُذُنان من الرأس) حجةً لمن يرى أن الأُذُنَين تُمْسَحان مع الرأس. وقد اختُلِف في الأُذُنين: فقال بعض العلماء: يجب غسلهما مع الوجه. وقال بعضُهم: تُمسحان مع الرأس. وقال بعضهم: إنهما ليستا من الوجه ولا من الرأس. والقول بأنهما تُغسلان مع الوجه -وهو قول بعض أهل الحديث- كنتُ أتعجب منه، وأقول: كيف يقول الإمام الزهري -رحمة الله عليه وهو ديوان من دواوين العلم في السُّنَّة- إن الأُذُنَين تغسلان مع الوجه؟! فذكرتُ ذلك للوالد رحمة الله عليه، فقال لي: دليله من السُّنة: قوله عليه الصلاة والسلام: (سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره وشق سمعه وبصره) فقال: (وجهي) ثم قال: (شق سمعه) فأضاف السمع إلى الوجه، فقال: هذا يدل على أن الأُذُنَين من الوجه، وليستا من الرأس. وعلى هذا: ما دام أن حديث: (الأذنان من الرأس) ضعيف، فيجب غسل الأُذُنين مع الوجه. والحقيقة: أن الإضافة في الحديث في قوله: (وسمعه) ليست على ظاهرها؛ وإنما هي -كما يسميها العلماء- بالمجاورة، أي: ما جاور الشيء أخذ حكمه، وهذا لأنه في مقام التضرع والابتهال لله عز وجل. وهناك قول رابع يقول: الأُذُنان ما أقبل منهما من الوجه فيغسل، وما أدبر منهما من الرأس فيمسح، وهذا القول يأخذ بالتفصيل. والحقيقة أن الأقوى: أنهما من الرأس. وبناءً على ذلك: يقوى القول بأنهما يمسحان ولا يغسلان. وبناءً عليه: في حال مسحه للرأس -على القول بوجوب مسحهما- أنه لو مسح رأسه ولم يمسحهما لم يكن ماسحاً لرأسه، فيمُسح ظاهرهما وباطنهما، وقد جاءت أحاديث تُكُلِّم فيها، منها: أنه (وضع عليه الصلاة والسلام إبهامه خلف أُذُنِه، ثم أدار المسبِّحة في داخل الأُذُن) صلوات الله وسلامه عليه.

حكم البسملة في الوضوء

حكم البسملة في الوضوء Q هل البسملة فرضٌ من فروض الوضوء؟ وما حكم من نسيها؟ A قد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين: فمنهم من يرى لزومها ووجوبها لحديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه). وقال طائفة من العلماء وهو مذهب الجمهور: أن البسملة ليست بواجبة في الوضوء وذلك: أولاً: لأن الله تعالى لم يأمر بها، وقد أمر الله بالبسملة في الذبح فقال: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:118]، ونهى عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه فقال: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121]. فلو كانت البسملة في الوضوء واجبةً لذكرها في بداية الوضوء. ثانياً: أن الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء في الصحيحين لم يثبت في واحد منها أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر التسمية قبل الوضوء. ولذلك لا يجب ذكرها عند ابتداء الوضوء. والحديثُ مُتَكَلَّمٌ في سنده، وإن كان مذهب بعض المحققين من المتأخرين أنَّه يُحَسِّن إسناده. ولكن يُجاب: بأن قوله: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) نفي مُسَلَّط على الحقيقة الشرعية. والقاعدة في الأصول: (أن كل نفي تسلَّط على الحقيقة الشرعية، وتعذَّر حملُه على نفي الصحة وَجَبَ صرفُه إلى الكمال)، كقوله: (لا إيمان لمن لا أمانة له) أي: لا إيمان كامل، فإنه نفي مسلَّط على الحقيقة الشرعية، فلا يستقيم نفي صحة الإيمان ووجود الإيمان؛ لوجود الأدلة التي تدل على أن ارتكاب الكبيرة نقصانٌ في الإيمان وليس ذهاباً لحقيقته. وبناءً على ذلك: يكون قوله: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) أي: لا وضوء كامل، وهذا هو الأولى والأقوى. والله تعالى أعلم.

حكم تخليل الأصابع في الوضوء

حكم تخليل الأصابع في الوضوء Q ما حكم تخليل الأصابع في الوضوء؟ A فيه حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم خلَّل أصابعه، رآه يُخَلِّل بخنصره) ولكن الحديث مُتَكَلَّم فيه.

معنى قاعدة الأحناف: أكثر الشيء يغني عن كله

معنى قاعدة الأحناف: أكثر الشيء يغني عن كله Q قاعدة الأحناف: أن أكثر الشيء يغني عن كله، فهل إذا غسل شخص ثلاثة أرباع يده يكون ذلك مجزئاً في المذهب؟ A لا، الأحناف ليسوا مغفلين حتى يستدرك عليهم مثلك، الأحناف أئمة وعلماء وجهابذة، هذا -بارك الله فيك- في المعدودات، وفي أجزاء الشيء الذي يقبل التبعيض، أما اليد فما تقبل التبعيض، والمعدودات: كأشواط الطواف بالبيت، وأشواط السعي بالمسعى. وأما بالنسبة لجزء الشيء المتحد فلا تدخله القاعدة عندهم، وإن كان بعضهم يطْرِد ذلك في مسائل في الجزء المتحد؛ لكن هذا أمر مشكل حتى عند فقهائهم، وكل قاعدة لها شواذ. على العموم: ليس مرادهم الإطلاق، وإنما مرادهم أن الأجزاء التي ورد الشرع بتجزئتها يعتبر فيها الأكثر.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (يأتون غرا محجلين)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (يأتون غراً محجلين) Q هل ورد أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يزيد في غسل أعضائه بعد سماعه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتون غُرَّاً محجَّلين)؟ وما معنى: (غُرَّاً محجَّلين)؟ A نعم، ورد عنه رضي الله عنه أنه كان يبالِغ حتى يغسل كثيراً من الساق، وكثيراً من العضد، وكان يتأول قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أمتي يُدْعون يوم القيامة غُرَّاً محجَّلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غُرَّته فليفعل) قيل: إن قوله: (من استطاع) مُدْرَج من كلام أبي هريرة؛ لأنه كان يتأول ذلك. والصحيح: أن معنى (الغُرَّة والتحجيل): هو البياض الذي يوجد في قوائم وجبين الفرس، إذاً الغُرَّة في الجبين، والتحجيل في القوائم. وهذا الوصف الذي ورد المراد به من أسبغ وضوءه، أي: دائماً يتوضأ ثلاثاً، وأيضاً يُكْثِر من الوضوء، فالذي يُكْثِر من الوضوء يَعْظُم نورُه ويَعْظُم أثرُ وضوئه، ويكون محمولاً على هذا الفضل في قوله: (إن أمتي يُدْعون يوم القيامة غُرَّاً محجَّلين) والدليل على أنه ليس المراد به الزيادة على المحل: أن قوله: (غُرَّاً محجَّلين) منحصر في الموضع، وما انحصر في الموضع لا يقبل الزيادة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في الحديث لما توضأ وأتم وضوءه وغسل يديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين، قال: (هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، فمن زاد فقد أساء وظلم) ولذلك لا تشرع الزيادة، وإنما يُقْتَصر على الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم. واجتهادُ أبي هريرة رضي الله عنه مأجورٌ عليه غيرُ مأزور؛ ولكن الصحيح: أن التحجيل والبياض والغُرَّة إنما تكون لمن أدمن الوضوء وحافظ عليه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) فمن فضائل الأعمال وطيِّبها وأحبها إلى الله: كثرة الوضوء، فإنه إذا أكثر من الوضوء تحاتت عنه ذنوبه، وذهب أثر المعصية من جوارحه، فكان ذلك أدعى أنه إذا بُعث وحُشر أن يدعى على أكمل ما يكون من نور وبهاء. جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل. والله تعالى أعلم.

حكم نسيان الترتيب في الوضوء

حكم نسيان الترتيب في الوضوء Q على القول بأن الترتيب فرض فهل يسقط الترتيب بالسهو أو الجهل؟ A لا يسقط الترتيب بالسهو والجهل، وقد اختار الإمام مالك رحمة الله عليه -وهو اختيار بعض الفقهاء- أنه واجب عند الذكر ساقط عند النسيان، واحتجوا بقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، وقوله عليه الصلاة والسلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان). والصحيح أنه يُرفع الإثم بالنسيان، ويجب ضمان الحق، حتى إن الإمام مالك رحمة الله عليه في فرائض الحج وواجباتها لم يسقطها بالنسيان، وأوجب ضمانها وجبرها، وقال: سقط الإثم لمكان النسيان ووجب الضمان لمكان الحق. وهذا أصل في الشرع، فيقوى مطالبته بالضمان والإعادة؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصحابي وعليه اللمعة لم يسأله: أنسيت؟ وإنما أمره بالإعادة مطلقاً. والله تعالى أعلم.

تتابع صيام الست من شوال

تتابع صيام الست من شوال Q هل الأفضل صيام الست من شوال متفرقة أم متتابعة؟ A الأمر واسع؛ ولكن تتابعها من باب المبادرة إلى الخير أفضل وأكمل ما لم يُعْتَقد في الأيام المتتابعة، ولذلك شدد الإمام مالك رحمة الله عليه في صيام الست؛ لأن الناس صاروا يصومونها من اليوم الثاني من الفطر، فخشي أن يُزاد في العبادة ما ليس منها؛ لأن من قواعد مذهبه رحمة الله عليه -وكان يشدد في هذا حيطةً للدين وصيانةً له من البدع والأهواء- أنه كان يمنع من صيام الست، ومراده من ذلك أن لا يعتقد أنها من رمضان؛ لأن الناس بالغوا فيها، فكان الرجل بمجرد فطره يصوم في اليوم الثاني، وقد يفوت زيارته للناس، وحصول الأنس بإصابة شرابهم وطعامهم في أيام العيد، فشدَّد من هذا الوجه، وكانت النصارى تزيد في أعداد الأيام المفروضة عليهم، ولذلك ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم الشك) لئلا يُعتَقد أنه من رمضان فيُزاد في عدده، ولذلك شدد الإمام مالك فيما بعد رمضان إعمالاً لهذا الأصل، وهو خوف اعتقاد الوجوب، وأنها من رمضان، وقد كانوا يقولون: أتممتَ رمضان أو لم تتمَّه؟ ومقصودُهم: أتممت العدد ستاً وثلاثين حتى يُكتب الصيام بعدد أيام العام أو لم تتمه؟ فصارت الست كأنها من رمضان، وكأنها من تمام العدة، فاحتاط رحمه الله لذلك سداً للذريعة. والله تعالى أعلم.

تقديم صيام الست من شوال على القضاء

تقديم صيام الست من شوال على القضاء Q ماذا يفعل من كان عليه قضاء من رمضان وأراد أن يصوم الست من شوال؟ A أما من كان عليه قضاء من رمضان فلا حرج عليه أن يصوم ستاً من شوال ثم يؤخر قضاء رمضان، وذلك لحديث أم المؤمنين عائشة الثابت في الصحيح أنها قالت: (إن كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان، لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني) فقد كانت تصوم الست، وكانت تصوم عرفة، كما ثبت في الموطأ، وكانت تصوم يوم عاشوراء، ولذلك قالوا: إنه يجوز تأخير القضاء. ومَنَعَ بعض العلماء، واحتجوا بأنه كيف يَتَنَفَّل وعليه الفرض؟ وهذا مردود؛ لأن التَّنَفُّل مع وجود الخطاب بالفرض فيه تفصيل: فإن كان الوقت واسعاً لفعل الفرض والنافلة ساغ إيقاع النفل قبل الفرض بدليل: أنك تصلي راتبة الظهر قبل صلاة الظهر وأنت مخاطب بصلاة الظهر، فإن الإنسان إذا دخل عليه وقت الظهر وزالت الشمس وجب عليه أن يصلي الظهر، ومع ذلك يؤخرها فيصلي الراتبة، ثم يصلي بعدها الظهر، فتنفل قبل فعل الفرض بإذن الشرع، فدل على أن النافلة قد تقع قبل الفرض بإذن الشرع، فلما أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة أن تؤخر القضاء دل على أن الوقت موسع. وأما قوله: (من صام رمضان ثم أتبعه) فهذا خارج مخرج الغالب، والقاعدة: (أن النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومُه). فليس لقائل أن يقول: إن مَن عليه قضاء فلا يصم رمضان. ثم نقول: لو كان الأمر كما ذُكِر لم يشمل الحديث مَن أفطر يوماً من رمضان؛ فإنه لو قضى في شوال لم يصدُق عليه أنه صام رمضان حقيقةً؛ وإنما صام قضاءً ولم يصم أداءً. ولذلك: الذي تميل إليه النفس ويقوى: أنه يصوم الست، ولا حرج أن يقدِّمها على قضائه من رمضان. وهذا هو الصحيح، فإن المرأة النفساء قد يمر بها رمضان كلُّه وهي مفطرة، وتريد الفضل، فتصوم الست، ثم تؤخر قضاء رمضان إلى أن يتيسر لها. والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

باب فروض الوضوء وصفته [2]

شرح زاد المستقنع - باب فروض الوضوء وصفته [2] النية شرط لصحة العبادات بإجماع أهل العلم، ولذلك ينبغي على المسلم أن يراعي النية في وضوئه، وأن يستصحبها، ويعرف أحكامها وما يترتب عليها حتى تصح عبادته لله تعالى.

حقيقة النية وأهميتها في قبول الأعمال

حقيقة النية وأهميتها في قبول الأعمال بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [والنية شرط لطهارة الأحداث كلها]. النية مأخوذة من قولهم: نوى الشيء ينويه نِيَّةً ونِيَةً بالتخفيف والتشديد. والنيَّة في لغة العرب معناها: القصد، تقول: نويتُ الشيء، إذا قصدتَه، سواءً كان ذلك في القول أو في الفعل. وقول العلماء رحمهم الله: النية شرط في طهارة الأحداث. مرادهم بذلك: أن يقصد المكلف العبادة، ويكون قصده مشتملاً على التقرب لله جَلَّ وعَلا. والأصل في وجوب النيَّة ولزومها في العبادات قول الله تعالى مخاطباً نبيه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2]. فقوله تعالى: (فَاعْبُدِ) أمر. وقوله: (مُخْلِصَاً) أي: حال كونك مخلصاً. وقوله: (لَهُ الدِّيْنَ) أي: لتكن عبادتك خالصة لله جَلَّ وعَلا. ومن المعلوم أنه لا يتحقق الإخلاص إلا بتجريد النية لله. وبناءً على ذلك: يتوقف اعتبار العبادة على نية القربة، فلو أن إنساناً وقف يصلي، وأثناء وقوفه لم يستشعر العبادة لله جَلَّ وعَلا، أو فعل أفعال الصلاة وقصد بها رياضة البدن، فإنها لا تعتبر عبادة مجزئة. إذاً: لابد في العبادة من قصد القربة لله سبحانه وتعالى، فلو أن إنساناً أعطى غيره مالاً، فإن قصد به الزكاة كان زكاة، وإن قصد به المحاباة كان محاباة، وإن قصد به الهبة والهدية كان هبة وهدية. وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن العبادات لا تصح إلا بنية، وقد قرر الشاطبي رحمه الله مبحثاً نفيساً، ينبغي على طالب العلم أن يرجع إليه -وهو يعتبر إماماً في المقاصد والنيات-، في كتابه: الموافقات، في الجزء الأول في كتاب المقاصد، عقد فصلاً كاملاً لتقرير وجوب النية ولزومها في العبادات، وبيَّن وجه اعتبار الشرع لها، ووجه التزام المكلف بها. الشاهد من هذا: أنه لا يصح إيقاع الوضوء ولا الغسل من الجنابة على الوجه المعتبر شرعاً، إلا إذا نوى الإنسان به الغسل والوضوء، فلو أن إنساناً اغتسل وغسل جميع بدنه قاصداً التبرد أو نظافة البدن، وكانت عليه جنابة، لم يجزئه ذلك الغسل، إلا إذا نوى رفع الجنابة. وكذلك الحال فيما لو أن إنساناً كانت عليه جنابة أو امرأة طهُرت من حيضها، ثم انغمس كل منهما في بركة، وكان قصدهما التبرد في فصل الصيف مثلاً، فإن هذه النية لا تجزئهما عن رفع حدث الحيض وكذلك حدث الجنابة. إذاً: فلا بد من نية الوضوء ونية الغسل، ويستوي في ذلك الطهارة الصغرى والكبرى. وهذا الذي عبر عنه المصنف رحمه الله بقوله: (لطهارة الأحداث)، والأحداث تقدم تعريفها لغةً واصطلاحاً. وقول المصنف رحمه الله: (والنية شرط) الشرط في اللغة: العلامة. وأما في اصطلاح العلماء: فهو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود ولا العدم لذاته. مثال ذلك: عندما نقول: الوضوء شرط لصحة الصلاة، فإنه يلزم من عدم الوضوء عدم صحة الصلاة؛ لأن الوضوء شرط لصحة الصلاة، ولا يلزم من وجود الوضوء وجود الصلاة، فإن الإنسان قد يتوضأ ولا يصلي.

حكم النية في الوضوء

حكم النية في الوضوء هذا معنى قولهم: الشرط يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود. وقوله: (والنية شرط لطهارة الأحداث كلها) هذه مسألة خلافية، اختلف فيها جمهور العلماء مع الإمام أبي حنيفة وأصحابه. فالجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية يرون أن الوضوء والغسل لا يصح إلا بالنية، فمن اغتسل للنظافة أو للتبرد وكان عليه حدث جنابة أو حيض لم يجزئه، وكذلك من توضأ وكان عليه حدث أصغر، فإنه لا يجزئه إذا نوى بوضوئه التبرد في الصيف مثلاً. وذهب الإمام أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول بعض السلف إلى أن الوضوء والغسل يصح كل منهما بدون نية، ولو كان قاصداً النظافة، فإنه يجزئه ويصح. واحتج الجمهور بدليل الكتاب والسنة والعقل: أما دليل الكتاب: فقوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2]، وجه الدلالة: أن الوضوء عبادة وديانة، فلا يصح إلا بإخلاصه ونيته. وكذلك قوله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، قالوا: الوضوء عبادة، والدليل على كونه عبادة: أنه غسل لأعضاء على صفة مخصوصة، ولذلك أمر بغسل بعض الأعضاء ومسح بعضها، ولو كان عبادة معقولة المعنى لما تأتى فيه ذلك، فقالوا: إنه عبادة لا يُعقل معناها، فلا تصح بدون نية. وأما دليل السنة: فحديث عمر في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، ووجه الدلالة: أن الوضوء عمل، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن صحة الأعمال موقوفة على النية، والوضوء عمل، فلا يصح إلا بنية. وأما دليلهم من النظر الصحيح: قالوا: تجب النية في الوضوء كما تجب في التيمم، وتجب النية في الغُسل كما تجب في التيمم، لجامعِ كونِ كلٍّ منهما طهارة من حدث. هذا حاصل ما استدل به الجمهور من دليل النقل والعقل. أما الإمام أبو حنيفة -رحمة الله عليه- وأصحابه فدليلهم العقل: قالوا: إن الوضوء أو الغسل كل منهما عبادة معقولة المعنى، وهو وسيلة وليس بغاية، والوسائل لا تشترط لها النية، ولذلك قالوا: يصح الوضوء بدون نية. ومعنى قولهم: لا يشترط في الوسائل النية أنك لو أردت أن تذهب إلى المسجد -مثلاً- وركبت السيارة، فإنه لا يلزمك في هذه الوسيلة التي تتوصل بها إلى العبادة أن تنوي بها الوصول للعبادة، فلو ركبت السيارة مجرداً عن النية، ثم بلغت بها المسجد، لصح خروجك ذلك عبادةً وطاعةً لله جل وعلا، فقالوا: هو من الوسائل، ومن العبادات المعقولة المعنى. والصحيح: مذهب الجمهور، أن الوضوء لا يصح إلا بالنية، وكذلك الغسل من الجنابة؛ لما ذكرنا من دليل النقل والعقل.

ضوابط النية وحالاتها

ضوابط النية وحالاتها هذه النية لها ضوابط:

تقدم النية على العبادة

تقدم النية على العبادة أولاً: أنه ينبغي أن تقع قبل البداءة بالعبادة، أو عند البداءة بها مصاحبة؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6]، أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم، وغسل الوجه لا يتأتى إلا بعد نيته، ويكون مصاحباً لأول مفروض، فإذا قام الإنسان من النوم كانت بداية النية عند غسله لكفيه، وإن كان في النهار فيلزمه وجود النية عند غسله لوجهه، أي: باعتبار كونها شرطاً لصحة الوضوء، فلو عَزَبَت عنه قبل ذلك لصح وضوءه؛ لأنها تجب عند أول مفروض. ولكن بالنسبة لما قبل المفروض الأول فلا يتحقق فيه الثواب، على الأصل الذي قرره العلماء رحمة الله عليهم.

أحوال اندراج النية في الوضوء

أحوال اندراج النية في الوضوء ثانياً: النية في الوضوء لها أحوال: إما أن ينوي الأعلى، ويندرج تحته الأدنى. أو ينوي الأدنى، فلا يندرج تحته الأعلى. وإما أن ينوي المساوي. وفيه تفصيل: فالحالة الأولى: أن ينوي الأعلى ويندرج تحته الأدنى، وهذا يتأتى في نية رفع الحدث المطلقة، كأن يأتي إنسان إلى مكان ما أو يُحضِر الماء للتطهر، ناوياً به رفع الحدث الذي تلبس به، فينوي الطهارة الصغرى والكبرى، فيجزئه أن يصلي جميع الصلوات، وأن يستبيح جميع العبادات التي يُشترط الوضوء لصحتها: من طواف بالبيت، وصلاة على الجنائز، ومس للمصحف، وغير ذلك مما تشترط له الطهارة. هذا إذا نوى رفع الحدث، بمعنى أن يكون رافعاً للحدث الذي هو متلبس به. ويتأتى اندراج الأدنى تحت الأعلى أيضاً فيما لو نوى عبادةً بعينها، كأن ينوي أن يتوضأ لصلاة الظهر، أو يتوضأ لصلاة العصر، وهي صلاة مفروضة، فإذا نوى الفرض اندرجت تحته النوافل، وصح منه أن يصلي الرواتب القبلية والبعدية وسائر النوافل. الحالة الثانية: وهي نية الأدنى، وتكون بنية النافلة أو ما دون النافلة، ينوي النافلة كأن يتوضأ من أجل أن يصلي ركعتي الضحى، أو يتوضأ من أجل أن يصلي ركعتين فيستخير الله جل وعلا، فينوي وضوءه من أجل هذه الصلاة، فيكون نوى بوضوئه الأدنى، وهكذا لو نوى ما هو أدنى من النافلة، كأن يتوضأ من أجل أن يمس المصحف، كما لو رأى مصحفاً فأراد أن يرفعه أو يحفظه، فتذكر أنه محدث، فقام فتوضأ من أجل أن يستبيح مس هذا المصحف ليرفعه، فقد نوى الأدنى، الذي هو أدنى من الفرض والنافلة. فإن نوى الأعلى، أو نوى النية المطلقة لرفع الأحداث، فإنه يجزئه أن يصلي ما شاء. وإن نوى الأدنى، الذي هو النافلة، فلا يصلي فرضاً. وهل يتأقت ذلك بالنافلة نفسها بعينها، فلا يصلي من النوافل، أو لا يتأقت في النوافل -وهو أقوى-؟ وجهان للعلماء. وإن نوى الأدنى وهو مس المصحف فلا يستبيح به الصلاة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى). قال العلماء: إن هذا الحديث دليل لهذا التفصيل، فمن نوى رفع الحدث ارتفع حدثه، ومن نوى نافلةً خُصَّ رفع الحدث بالنافلة، أي: أنه يستبيح فعل النافلة، فيُنَزَّل منزلة التيمم، وقد عهدنا من الشرع طهارةً يستباح بها فعل العبادات: من مس للمصحف، وطواف بالبيت، وصلاة ونحوها، وهي التيمم. وبناءً على ذلك: لا تصح الصلاة إذا نوى الأدنى، وكانت الصلاة التي يُراد أداؤها صلاةَ فرض ونحوها.

ضرورة نية رفع الحدث الأصغر أو الأكبر

ضرورة نية رفع الحدث الأصغر أو الأكبر قال رحمه الله: [فينوي رفع الحدث]. أي: أن الإنسان إذا انتقض وضوءه ببول أو غائط أو ريح أو نوم فإنه يوصف بكونه محدِثاً، فينوي رفع هذا الحدث، فإن نام أو بال، أو خرج منه ريح، فإنه ينوي رفع الحدث الأصغر، وإذا خرج منه مَنِي، فإنه ينوي رفع الحدث الأكبر، وهكذا.

تحديد النية في الطهارة

تحديد النية في الطهارة قال رحمه الله: [أو الطهارة لما لا يباح إلا بها]. قوله: (أو الطهارة) أي: ينوي الطهارة. قوله: (لما) أي: لشيء. قوله: (لا يباح إلا بها) أي: لا يباح هذا الشيء إلا بالطهارة، مثل: الصلاة، والطواف بالبيت، وكذلك مس المصحف؛ على أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم.

النية فيما تسن له الطهارة

النية فيما تسن له الطهارة قال رحمه الله: [فإن نوى ما تُسَنُّ له الطهارة كقراءةٍ أو تجديداً مسنوناً ناسياً حدثه ارتفع]. قوله: (فإن نوى) الفاء: للتفريع، فبعد أن قرر الأصل بدأ يفرِّع على ذلك الأحكامَ. قوله: (ما تُسُنُّ له الطهارة) أي: لا تجب، بمعنى: أن ينوي شيئاً ضعيفاً. فهذا على سبيل النفل لا على سبيل الوجوب، فتكون نيتُه نيةً ضعيفة، بخلاف ما إذا نوى الذي تقدم من الصلاة المفروضة، والطواف بالبيت، فهذه نيةٌ لواجب. فالوضوء: إما أن يكون لمسنون. وإما أن يكون لواجب.

حكم الاكتفاء بالمسنون عن الواجب في الطهارة

حكم الاكتفاء بالمسنون عن الواجب في الطهارة قال رحمه الله: [وإن نوى غسلاً مسنوناً أجزأ عن واجب]. أي: إن نسي حدثه ارتفع الحدث لوقوع الوضوء بعد حدث سابق؛ لأنه لما نوى المسنون وجدت فيه نية العبادة، وهي نية الوضوء، فصح إيقاع الوضوء، ووقع الوضوء بعد حدث، فيزول ذلك الحدث بوجود موجب زواله. وقال بعض العلماء: إنما يعتبر مبيحاً لا رافعاً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإنما لكل امرئ ما نوى) فيستبيح المحظور الذي يُسَنُّ له الوضوء، ولا يعتبر حدثُه مرتفعاً، وهذا اختيار بعض العلماء رحمة الله عليهم، وهو أحوط كما قلنا، وسبق بيان دليلهم من حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين. فعندنا للعلماء في هذه المسألة وجهان: بعض العلماء يقول: إذا وقع الوضوء المسنون والأدنى ناسياً حَدَثَه ارتفع الحدث، ويستبيح بذلك ما شاء من الصلوات المفروضة والنافلة. ومنهم من يحدد ويقول: إذا نوى المسنون صار وضوءه للاستباحة، كالتيمم، وإن نوى الفرض أو نوى رفع الحدث فإنه يعتبر وضوءه مبيحاً لسائر العبادات التي يشترط لها الوضوء، سواءً كانت واجبة أو كانت نافلة. وهذا القول الثاني قلنا: إنه أقوى، كما أشار إليه بعض الفضلاء بقوله: ولينوِ رفعَ حَدَثٍ أو مفترَض أو استباحةً لممنوعٍِ عَرَض وهي ثلاثة أحوال: ينوي رفعَ حَدَثٍ: وهي أعلاها. أو مفترَض: في حكم الأعلى. أو استباحةً لممنوعٍِ عَرَض. فجعل المسنون في حكم الاستباحة، وهذا هو المذهب الأقوى، أنه يُنَزَّل منزلة التيمم، فيستبيح به؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإنما لكل امرئ ما نوى)، فهذا نوى الأدنى، فلا يصح حمله على الأعلى؛ لأن ظاهر السنة التي احتُج بها على وجوب النية في الوضوء مقيدة للنية على حسب ما نوى، سواءً كان الأدنى أو الأعلى.

صحة اندراج الحدث الأدنى تحت الأعلى

صحة اندراج الحدث الأدنى تحت الأعلى قال رحمه الله: [وكذا عكسُه] يعني: لو نوى الأعلى لاندرج تحته الأدنى، قولاً واحداً عند العلماء رحمة الله عليهم. الخلاف: فيما إذا نوى الأدنى، فهل يرفع الحدث فيستبيح الأعلى أو لا؟ قلنا: الصحيح: أنه لا يستبيح. وإن نوى الأعلى واندرج تحته الأدنى صح له أن يصلي ما دونه، كأن ينوي صلاة الظهر، فيجوز له أن يأتي بالنوافل قبلها وبعدها.

ارتفاع سائر الأحداث بارتفاع أحدها

ارتفاع سائر الأحداث بارتفاع أحدها قال رحمه الله: [وإن اجتمعت أحداث توجب وضوءاً أو غُسلاً فنوى بطهارته أحدَها ارتفع سائرُها]. هذا على الأصل عند بعض العلماء حيث يرى وجود الطهارة بعد الحدث رافعاً للحدث، ولا يفصِّل، يقول: المهم أن الله أمرنا بالوضوء بعد الحدث، فإذا وقع الوضوء بعد الحدث رفع الحدث، ولا يفصِّل بين كونه يبيح أو كونه يرفع. والحقيقة أن هذا المذهب وسط بين من ألغى النية بالكلية، وبين من اعتبر النية واعتبر معها صفة النية، ولا شك أن الدليل الذي دل على لزوم النية في الوضوء: (إنما الأعمال بالنيات) دل بمقطعه الأول على أن صحة الوضوء موقوفة على النية، ودل بمقطعه الثاني على الحصر: (وإنما لكل امرئ ما نوى) يقول العلماء: مفهومه أن من لم ينوِ شيئاً لا يكون له، فهذا نوى الأدنى، فكيف نقول: يستبيح به الأعلى؟ ومنطوقه: أن من نوى شيئاً كان له. هذا هو وجه من يقول بأن الأدنى لا يجزئ في استباحة الأعلى، وهو كما قلنا: أقوى القولين. إن اجتمعت أغسالٌ، مثل: المرأة يكون عليها الحيض وتكون عليها الجنابة، فجاءت ونوت الغسل للحيض، فإنها ترتفع الجنابة، أما لو كان جنس الحدث مكرراً وقصد رفع الحدث نفسه، بغض النظر عن كونه يستبيح صلاة مفروضة أو غير مفروضة، صح الرفع في حالة نية رفع الحدث وهي الحالة العليا، فتشمل هذه النية ما عيَّن وما لم يعيِّن، مثال ذلك: رجل بال وتغوط وخرج منه الريح ونام، أربعة أحداث، فإن هذا لا نقول له: إن نويت رفع البول ارتفع، وبقي عليك حدث النوم والغائط، إنما نقول: نيتك لواحد منها كنيتك لسائرها. وهكذا لو تعددت الأحداث من جنس واحد، كأن ينام مرات متتابعة، ينام ويستيقظ، ثم ينام ويستيقظ، ثم ينام ويستيقظ، فهو حدث واحد؛ لأن الحدث لا يتجدد ولا يوصف بالتعدد، وإنما يعتبر حكماً واحداً، فينتقض الوضوء بالأول منه، ويرتفع هذا الحدث بالوضوء بعده، هذا هو وجهُ إذا لم ينوِ الأحداث بعينها، فقال: أنا أريد أن أرفع هذا الحدث عني، فتوضأ أو اغتسل صح وضوءه وغُسله، ويعتبر ذلك موجباً لارتفاع جنابته وأحداثه الصغرى.

وجوب النية عند أول واجبات الطهارة

وجوب النية عند أول واجبات الطهارة قال رحمه الله: [ويجب الإتيان بها عند أول واجبات الطهارة] بعد أن بين نوعية النية، والشيء الذي تقع له النية، شرع رحمه الله في بيان موضع النية ومكان النية، فقال رحمه الله: (ويجب الإتيان بها) أي: يجب الإتيان بالنية. قوله: (عند أول واجبات الطهارة) فأول واجبات الوضوء: إن كان مستيقظاً من النوم فأول واجب عليه أن يغسل كفيه ثلاثاً، فيجب عليه أن يأتي بالنية عند أول هذا الواجب. وإن قلنا بوجوب المضمضة والاستنشاق، فإنه في حالة ما إذا كان مستيقظاً تكون نيته عند إرادته المضمضة والاستنشاق. وإن قلنا بعدم وجوب المضمضة والاستنشاق، فإن أول مفروض واجب بالإجماع هو الوجه، فيكون إتيانه للنية واستحضاره لها عند غسله للوجه. فإن سبقت النية هذا الواجب، فلا يخلو سبقُها من أمور: إما أن يكون بفاصل يسير غير مؤثر. وإما أن يكون بفاصل مؤثر. وتوضيح ذلك: لو استيقظ إنسان من نومه، ثم نوى أن يتوضأ، وأحضر الإناء، وصحِبت نيتُه سكبَ الماء في الإناء، ثم غسل يديه وشرع في وضوئه، فإن هذا الفاصل: إحضار الإناء ووضع الماء فيه، فاصل يسير، فهذا الفاصل غير مؤثر، فهو مع أنه أثناء غسله لكفه لم يستحضر نية الوضوء صح وضوءه؛ لأن الفاصل غير مؤثر، أما لو كان الفاصل بين الواجب وبين النية فاصلاً مؤثراً، فإنه يلزمه أن يعيد وضوءه، كمن لم ينوِِ؛ لأن الفاصل إذا طال اعتبرت النية لاغيةً بسببه، كالحال في الصلاة ونحوها من العبادات. قال رحمه الله: [وهو التسمية] أي: تجب النية عند التسمية، ونحن قلنا: إن الصحيح أن التسمية ليست بواجبة، لكن المصنف اختار وجوبها. وبناءً على القول بوجوب التسمية، تكون النية عند التسمية. وهناك قول في وجوب التسمية يفصِّل بين نسيانها وعدم نسيانها، فإن نسيها عند غسله لكفيه صح وضوءه، على القول بأن نسيانه يسقط المطالبة والمؤاخذة. إذاً: للنية حالتان: تجب عند أول واجب، ويختلف ذلك باختلاف العلماء: فإن قلتَ: التسمية واجبة عند الوضوء، فينظر: فإن كان بين التسمية والوضوء فاصل مؤثر لم تعتبر نيته ولا تسميته، وإن كان الفاصل غير مؤثر اعتبرت تسميته ونيته. وإن قلنا: أن أول الواجبات هو المضمضة والاستنشاق، فتكون نيته عند إرادة المضمضة والاستنشاق. وإن قلنا: إن أول واجب هو غسل الوجه، كانت نيته واجبة عند ابتدائه بغسل وجهه.

سنية النية عند أول مسنونات الطهارة

سنية النية عند أول مسنونات الطهارة قال رحمه الله: [وتُسَنُّ عند أول مسنوناتها إن وجد قبل واجب] كيف يتأتى هذا؟ يتأتى هذا في غسل الكفين لغير المستيقظ من نومه، فإنه إذا لم يسمِّ إلا عند المضمضة والاستنشاق، تكون قد وقعت التسمية -التي هي أول الواجبات- بعد غسل الكفين وهو أول المسنونات. وبناءً على ذلك: يُسَنُّ له أن ينوي عند ابتداء غسل كفيه، فإن عزبت عنه النية، لزمه أن ينوي عند ابتداء المضمضة.

استصحاب النية في الطهارة

استصحاب النية في الطهارة قال رحمه الله: [واستصحاب ذكرها في جميعها ويجب استصحاب حكمها]. الاستصحاب للنية بمعنى: أنه أثناء غسله ليده وعند صبه للماء يستشعر أن هذا الغسل يُقصد به رفع الحدث، ثم إذا تمضمض وأراد إدخال الماء استشعر نية التعبد؛ لأنه قد يُدْخل الماء إلى فمه لنظافته ونقائه، ولذلك قالوا: لا بد أن يكون عنده نوع من الاستصحاب، وهذا الاستصحابُ في الحقيقة يفتح باباً عظيماً من الوسوسة، ولذلك لا ينبغي على الإنسان أن يشدد فيه، فالأمر وسط والدين دين يُسر ورحمة. ولذلك بمجرد كون الإنسان يبتدئ وضوءه وهو مستشعرٌ لهذه العبادة، فإنه يجزئه ذلك إلى ختم عبادته، ويُعتبر فقط -على ما ذكره المحققون من العلماء- أن لا يأتي عارض يرفع النية، بمعنى: أن لا تختلف النية، أو يختلج في نفسه ما يوجب رفع نيته، كأن يكون أثناء غسله ليده أراد التنظيف، فيخرج عن كونه متوضئاً، وتكون هنا المصاحَبة لازمة، ويعتبر ملزماً بإعادة غسله ليده؛ لكن كوننا نقول: يلزمه عند كل عضو أن يكون مستشعراً، فهذا الأمر يفتح باباً عظيماً من الوسوسة. ولذلك فإن المعتبر أن لا يُدخِل ما ينقض النية، وهذا سهل؛ لأن الإنسان بمجرد إحضاره للماء عُرِف أنه يقصد الوضوء، وبمجرد بداءته بغسل كفيه، ومراعاته لأمر الشرع يعتبر هذا دليلاً على المصاحبة. ولذلك فإن العلماء سلكوا مسلكين: منهم من يقول: أعتبر دلالة الحال مغنية وكافية. ومنهم من يقول: لا، بل لا بد أن تصحبه النية؛ ولا تكفي دلالة الحال. ولذلك فإن المعتبر أن لا يأتي الناقض لهذه النية والرافع لها، كأن يكون أثناء غسله لوجهه أعجبه برد الماء في الصيف فقصد بذلك التبرُّد، فهذا يعتبر ناقضاً لنيته للعبادة، أما إذا لم يوجد الناقض فهو متوضئ، ولا حاجة إلى التشديد في هذا؛ لأنه يفتح باباً من الوسوسة ويعظُم معه البلاء على كثير من الناس. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب فروض الوضوء وصفته [3]

شرح زاد المستقنع - باب فروض الوضوء وصفته [3] اهتم العلماء ببيان صفة الوضوء الشرعي، سواء كانت الصفة الكاملة أو الصفة المجزئة، وكلها مأخوذة من النصوص الشرعية الواردة في بيان هذه العبادة وصفتها.

بيان صفة الوضوء وأحكامه

بيان صفة الوضوء وأحكامه بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال المصنف رحمه الله: [وصفة الوضوء] بعد أن بين لنا رحمه الله فرائض الوضوء شروط صحته شرع في بيان صفة الوضوء. وللفقهاء في هذا مسلكان: - بعضهم يبدأ بصفة الوضوء الكاملة، ثم يبين فرائض الوضوء وشرائط صحته ومسنوناته، فيقول لك: والواجب من ذلك: غسل الوجه، واليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين. وهذا مسلك الإمام ابن قدامة رحمة الله عليه في كتابه: العمدة، حيث قدم الصفة الكاملة ثم أتبعها ببيان الواجبات. وهذا المنهج الذي سلكه ابن قدامة في العمدة أفضل؛ لأن افتتاح باب الوضوء بصفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم الكاملة أفضل وأبلغ في التأسي، وأدعى لتطبيق الناس وعملهم به، ولذلك فالأفضل أن يُذكر الوضوء بكماله، ثم يُبَيَّن الواجب، فيقول: الواجب: غسل الوجه، واليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين، ثم يُسَنُّ له أن يغسل كفيه إذا لم يكن مستيقظاً من النوم، وأن يتمضمض، وأن يستنشق. إلخ. هذه الطريقة أفضل؛ لما فيها من الاستفتاح بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد فعلها ابن قدامة رحمه الله في كتابه: العمدة. أما في كتابه المقنع فقد ذكر الواجبات والفرائض أولاً، ثم أتبعها بالصفة الكاملة.

الفرق بين الكمال والإجزاء

الفرق بين الكمال والإجزاء قوله: (وصفة الوضوء) صفة الشيء: حِليته وما يتميز به، ولما كان الوضوء قد أمر الشرع فيه، بغسل ومسح أعضاء مخصوصة، فإن له صفتين: الصفة الأولى: يسميها العلماء: صفة الكمال. والثانية: يسميها العلماء: صفة الإجزاء. أما صفة الكمال: فهي الصفة التي توضأ بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أكمل ما يكون عليه إيقاع هذه العبادة، مثل البداءة بالمسنونات، سواء كانت قولية أو فعلية، والمحافظة على وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في الوضوء كاملاً، فهذا يعتبر صفة كمال؛ لأن المكلف حصَّل فيه أعلى درجات هذه العبادة. وأما صفة الإجزاء: فهي الصفة التي إذا فعلها أجزأه وضوءه، كأن يكون ماؤه قليلاً، ويخشى أنه لو فعل المسنونات أنه لا يستطيع غسل المفروضات، فيقتصر على صفة الإجزاء. هذا وجه تقسيم الوضوء إلى صفة إجزاء وكمال. والسبب في هذا التقسيم: أنه يستفاد منه في الحكم بصحة الوضوء، وعدم صحته في حال ترك شيء من الوضوء. فإذا قلنا: إن غسل اليدين يعتبر من فرائض الوضوء، فتوضأ ولم يغسل يديه لم يصح وضوءه. وإذا قلنا: إن المضمضة والاستنشاق ليس كل منهما من فرائض الوضوء، فتوضأ ولم يتمضمض ولم يستنشق، لحكمنا بصحة وضوئه. هذا الفرق بين كونه مجزئاً وكونه كاملاً. قال رحمه الله: [أن ينوي ثم يسمي] تقدم الكلام على النية، وعلى التسمية.

حالات غسل الكفين وحدهما

حالات غسل الكفين وحدهما قال رحمه الله: [ويغسل كفيه ثلاثاً]. ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث عثمان وعبد الله بن زيد، وكذلك في السنن عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أنه عليه الصلاة والسلام افتتح جميع وضوئه بغسل كفيه ثلاثاً). ولذلك فإن هذه هي أول المسنونات إذا لم يكن الإنسان مستيقظاً من النوم. وغسل الكفين له ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يكون الإنسان مستيقظاً من نومه، سواءً كان نوم ليل أو نوم نهار، فإذا استيقظ الإنسان من نوم الليل أو نوم النهار وجب عليه غسل كفيه ثلاثاً، وذلك لحديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده!). الحالة الثانية: أن يكون في حال يقظته وأراد أن يتوضأ؛ ولكنه على يقين وعلم بأن كفيه طاهرتان، ففي هذه الحالة يُسَنُّ له غسل الكفين ولا يجب عليه ذلك، ودليل هذه السنية مداومة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. الحالة الثالثة: أن يشك في كونها طاهرة أو نجسة، فيقال: يستحب غسلها، يعني: يتأكد الغسل؛ ولكن لا يصل إلى درجة الوجوب؛ لأن اليقين لا يُزال بالشك. فهذه ثلاث حالات لغسل الكفين. والكفان: حدهما من أطراف الأصابع إلى الزندين. وبناءً على ذلك: سمي الكف كفاً؛ لأنه تُكَفُّ به الأشياء. ويجب عليه غسلهما إذا كان مستيقظاً من النوم، لمكان جوَلان اليد عند نوم الإنسان.

صفة المضمضة

صفة المضمضة قال رحمه الله: [ثم يتمضمض] المضمضة: مأخوذة من قولهم: مضمضت الحية إذا تحركت في جُحرها، فالمضمضة في لغة العرب: الحركة. ولذلك يرد Q لماذا وصف غسل هذا الموضع من الجسم بكونه مضمضة؟ قالوا: لأن السنة في المتمضمض أن يحرك الماء في فمه، ثم اختلفوا: فقال بعض العلماء: حقيقة المضمضة: أن يُدخل الماء ويُحركه فقط دون أن يمج. وقال بعضهم: بل لا يتحقق كونه متمضمضاً إلا إذا حرك الماء ولفظه. إذاً: المضمضة عند العلماء فيها وجهان: الأول: أن يدخل الماء ويحركه فقط. الثاني: أن يدخله ويحركه ثم يلفظه. فوائد الخلاف: الفائدة الأولى: لو أن إنساناً كان عنده ماءٌ وكان عطشان، فابتدأ الوضوء فمضمض ثم بلع الماء. فإن قلنا: المضمضة لا تتحق إلا بالطرح، لم يكن محققاً للمضمضة؛ لأنه ينبغي أن يخرج الماء إلى خارج البدن لا إلى داخله، ويقولون: وجه اعتبار المضمضة بالتحريك واللفظ هو السنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم مضمض ولَفَظ، ولذلك يقتدى به عليه الصلاة والسلام في هديه، فيتمضمض ويحرك الماء ويلفظه. الفائدة الثانية: أن قولهم: المضمضة: تحريك الماء، ينبني عليه: أنه لو أدخل الماء ولم يحركه في فمه ثم لَفَظَه، فلا يعتبر متمضمضاً على الصفة المعتبرة شرعاً؛ لأنه لا بد من التحريك، إذ بالتحريك يحصل النقاء، فلو اقتصر على كون الماء يصل إلى فمه ثم يلفظه، لم يكن ذلك مضمضة على الوجه المعتبر.

صفة الاستنشاق

صفة الاستنشاق قال رحمه الله: [ويستنشق]. الاستنشاق: هو استفعال من النَّشَق، وأصل النَّشَق: جذب الشيء إلى الخياشيم بالنَّفَس، ومنه سمي النَّشُوق نَشُوقاً؛ لأنه يُستعط ويُجذب بالنَّفَس. ودل عليه ظاهر السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه). ولذلك قال بعض العلماء: إذا جذب الماء تحقق الاستنشاق، ولا يلزمه الاستنثار يعني: الطرح؛ والصحيح أن تعبير العلماء بالاستنشاق متضمن للاستنثار؛ لأن الإنسان إذا استنشق فلا يصبر على بقاء الماء حتى ينثره. وفائدة اشتراط النثر: أن الإنسان إذا عصر أنفه دون أن ينثر لم يكن محققاً للاستنشاق على أكمل صوره، وذلك لا بد من النثر، لقوله عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة - (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً -هذا الاستنشاق- ثم لينتثر)، فقوله: (ثم لينتثر) أي: ليطرح، ولينثر الماءَ الذي جذبه بنَفَسِه إلى خياشيمه، ولذلك لا بد من النثر؛ لأن المقصود من إدخال الماء تطهير هذا الموضع، فإذا كان يعصره دون أن يكون منه نثر، لم يتحقق به كمال التطهير لهذا الموضع.

بيان حد الوجه من حيث الطول والعرض

بيان حد الوجه من حيث الطول والعرض قال رحمه الله: [ويغسل وجهه من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولاً ومن الأذن إلى الأذن عرضاً] قوله: (ويغسل وجهه): الوجه تقدم أنه من المواجهة، وبينَّا كلامَ العلماء في الوجه، ودليلَ وجوب غسله. والآن نبين حد الوجه: -أما طولاً: فقالوا: إنه من منابت الشعر الذي يكون في ناصية الإنسان إلى ما انحدر من اللحيين، وهو اللحية السفلى، فيشمل الوجه الشق الأيمن والأيسر إلى ما انحدر. والسبب في تعبير المصنف بقوله: (إلى ما انحدر)؛ لأن الوجه يحصل بهذا القسط من العضو، فحتى يكون كاملاً في غسله لهذا القسط لا بد أن يمسك جزءاً يسيراً مما جاوره، كالصائم لا يتحقق كمال صومه إلا بإمساك جزء يسير من الليل، حتى يتحقق غروب الشمس. ولذلك يقول العلماء: إلى ما انحدر؛ لأنه إذا غسل المنحدِر من العظم فقد كمُل غسل هذا الوجه، سواءً كان في الشق الأيمن أو الشق الأيسر، فلا بد أن يغسله إلى ما انحدر، هذا إذا كان الإنسان أجرداً أو أمرداً، أما إذا كان ذا لحية فالشعر يقوم مقام المنحدِر، ويكون غسله على الصفة التي ذكرناها في التخليل. هذا بالنسبة للطول: أنه من منابت الشعر إلى ما انحدر من اللحيين، وبه يتحقق كمال الوجه طولاً. - أما عرضاً: فإنه قال: (ومن الأذُن إلى الأذُن عرضاً). قال بعض العلماء: إن الوجه كمالُه من الأذُن اليمنى إلى الأذن اليسرى عرضاً. وقال بعضهم: بل إن حده إلى العذار، فإذا غسل العذار، وهو الشعر الذي يكون مقابلاً للأذُن فقد تم غسله للوجه. وفائدة الخلاف: الحكم في البياض الذي بين الشعر والأذُن. وهذا يقوى في الملتحي، ولذلك قالوا: إنه إذا كان ملتحياً، فإن المواجهة تحصل باللحية، فيغيب البياض فلا يعتبر من الوجه، ولذلك قال بعض العلماء: لا يجب غسل هذا البياض. وبناءً على هذا القول: لا يقال: من الأذُن إلى الأذُن؛ ولكن المصنف اختار أحوط القولين، والعمل عليه: أنه يغسل البياض الذي بين الأذُن والشعر؛ لأن وجود الشعر إنما هو مختص بالملتحي دون غير الملتحي، فيجب غسله لكمال غسل الوجه، فإن الذي لا لحية له يعتبر من وجهه وجود ذلك البياض.

وجوب غسل شعر الوجه

وجوب غسل شعر الوجه قال رحمه الله: [وما فيه من شعر خفيف والظاهر الكثيف مع استرسل منه]. أي: يجب عليه غسل الشعر الخفيف الموجود في الوجه؛ لأن البشرة تُرى من تحته، وإذا كانت البشرة تُرى من تحته، فإنه يجب غسل هذا الشعر، كأن يكون شاربه أو لحيته صغيرة في بداية نبتها، وتُرى البشرة من تحتها، فإنه يجب عليه غسل الشعر وغسل ما تحته؛ لأن المواجهة تتحقق بالشعر وبما تحت الشعر من البشرة، فيجب غسل الجميع. قال بعض الفضلاء في هذه المسألة: خلِّل أصابعَ اليدين وشَعَر وجهٍ إذا مِن تحتِه الجلدُ ظَهَر والمصنف قال: إذا كان الشعر خفيفاً، بمعنى أنك ترى البشرة من تحته، فإذا رأيت البشرة من تحت الشعر، فإن المواجهة تكن بالشعر وبالبشرة، فهذا وجه المطالبة بغسل كل منهما.

وجوب غسل اليدين مع المرفقين

وجوب غسل اليدين مع المرفقين قال رحمه الله: [ثم يديه مع المرفقين]. وهنا ننبه إلى خطإٍ شائع عند كثير من العامة: فإنهم إذا توضئوا غسل الواحد منهم الكفين، ثم يتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه، فإذا جاء يغسل يديه يبدأ من آخر الكف، فتراه يغسل ساعده ويغفل عن الكفين، ومن فعل ذلك لا يصح وضوءه، وتلزمه إعادة الوضوء والصلاة، ولذلك ينبغي التنبيه على هذا، فالإنسان إذا غسل يديه فيجب أن يكون غسله من أطراف الأصابع إلى المرفقين، والغاية داخلة في المُغيَّا. فالكثير أو البعض يغفل الكفين؛ لأنه قد غسلهما في بداية وضوئه، فيترك غسلهما عند غسله ليديه، فهذا لا يصح ولا يجزئه. وقد تقدم دليل وجوب غسل اليدين؛ لأنه من فرائض الوضوء، وبينا الحد وبينا خلاف العلماء رحمة الله عليهم.

وجوب مسح الرأس مع الأذنين

وجوب مسح الرأس مع الأذنين قال المصنف رحمه الله: [ثم يمسح كل رأسه مع الأذُنين مرةً واحدة]. شرع المصنف رحمه الله في بيان الفرض الذي يلي غسل اليدين، وهو مسح الرأس، فقال: (يمسح كل رأسه)، وهذا على الصحيح، وقد تقدم بيان دليل مسح الرأس، وخلاف العلماء في القدر الذي يجب مسحه، وأدلة كلٍّ، والراجح من أقوالهم. قوله: (مع الأذُنين مرة واحدة) لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الترمذي: (الأذُنان من الرأس)، وقد تقدم الكلام على مسح الأذُنين مع الرأس، وبينا ذلك، وبينا مذاهب العلماء رحمة الله عليهم فيه.

وجوب غسل الرجلين مع الكعبين

وجوب غسل الرجلين مع الكعبين قال رحمه الله: [ثم يغسل رجليه مع الكعبين]. وهذا الفرض الأخير، غسل الرجلين، أو مسحهما إذا كان لابساً للخفين أو الجوربين. والكعبان يجب غسلهما مع القدمين، لقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6]، وقد تقدم بيان دليل وجوب غسل الرجلين إلى الكعبين، وهل الكعبان يجب غسلهما أو لا يجب؟ وذكرنا الأقوال، والأدلة، والراجح في هذه المسألة، بما يغني عن الإعادة.

كيفية غسل الأقطع لأعضائه

كيفية غسل الأقطع لأعضائه قال رحمه الله: [ويغسل الأقطع بقية المفروض فإن قطع من المفصل غسل رأس العضد منه]. قوله: (ويغسل الأقطع بقية المفروض)؛ لأن الله أمره بغسل الجميع، فإذا سقط عنه البعض لمكان العذر، فلا يقتضي سقوط الكل؛ لأن ما جاز لحاجة يقدر بقدرها، فالخطاب متوجه عليه أن يغسل يديه كاملتين، فإذا قطعت يده وبقي ساعده، فإن الساعد داخل في المأمور، فيجب عليه غسل الساعد الذي بقي بعد القطع. قوله: (غسل رأس العضد منه) على الأساس الذي ذكرناه، من كون الكعبين والمرفقين داخلين في المغيَّا.

حكم رفع النظر إلى السماء بعد الوضوء

حكم رفع النظر إلى السماء بعد الوضوء قال رحمه الله: [ثم يرفع نظره إلى السماء ويقول ما وَرَدَ]. قوله: (ثم يرفع نظره إلى السماء) لم يصح بذلك حديث، وذكره العلماء -رحمة الله عليهم-، والصحيح: أنه يقتصر على القول من ذكر الشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام: (أن من قال عند تمام وضوئه: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله فُتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء). نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل.

حكم الاستعانة على الوضوء

حكم الاستعانة على الوضوء قال رحمه الله: [وتباح معونته]. المباح: هو ما استوى طرفاه، أي: لا يؤمر به ولا يُنهى عنه. قوله: (تباح معونته) يعني: تجوز معونة المتوضئ؛ لما ثبت في الحديث الصحيح أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنتُ أسير مع النبي صلى الله عليه وسلم أنا وغلام نحوي أحمل إداوةً وعَنَزَة)، فهذا يدل على مشروعية خدمة الأحرار بعضهم لبعض، وخاصةً إذا كانوا من أهل الفضل، وكبار السن، والوالدين. فأما إذا كانوا من الوالدين فإن خدمتهم عبادة وقربة لله جل وعلا، وتجب عند الحاجة، وأما إذا كانوا من أهل العلم والفضل خاصةً إذا كانوا من كبار السن، فإن خدمتهم قربة. وأما إذا كان صغير السن وأردت أن تخدمه فلا حرج إذا قُصِد بذلك وجهُ الله لا رياءً ولا سمعةً؛ لكن الأفضل لطالب العلم أن لا يمكن الناس من خدمته في بداية طلبه للعلم، أو عند صغر سنه؛ لما في ذلك من الفتنة، والإنسان في مقتبل عمره لا يأمن الفتنة، بخلاف كبار السن، فإن الخشوع فيهم أكبر وقربهم من الموت يبعدهم من قصد هذا في الناس، مع ما لهم من حق؛ بسبب كِبَر السن. فلذلك يستحب بعض العلماء للإنسان إذا كان صغير السن ولو كان من العلماء أن يتورع عن خدمة الناس له، حتى يكون ذلك أبلغ في إخلاصه، وأبلغ في طاعته لله جل وعلا. وأُثِر عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: (إن صحبتَ رفقة في السفر فلا تكن صائماً، إنك إن أخبرتهم بصيامك، قالوا: أنزلوا الصائم، أكرموا الصائم، احملوا الصائم، حتى يذهب أجرك)، أي: لا يزالون يكرمونك ويكرمونك حتى يذهب أجرك؛ بما يكون منهم من إكرام. ولذلك فالأكمل للإنسان والأفضل له أن يتورع عن ذلك. وقد عهدنا علماء أجلاء رحمة الله عليهم بلغوا من العلم شأواً عظيماً، كانوا يتورعون عن خدمة الناس لهم، خاصة في هذه الأزمنة التي قل أن يوجد فيها المخلص، وإن وُجد المخلص قد يوجد المغالي، وكثير من البدع والأهواء والغلو في الصالحين نشأ بسبب الخدمة، ولذلك لا ينبغي أن يُتخذ الدين طريقة لإهانة عباد الله جل وعلا، فإن الله أخرج الناس بالإسلام من العبودية لغيره إلى العبودية له سبحانه وتعالى. وقد تكلم الإمام ابن القيم رحمة الله عليه كلاماً نفيساً في الفوائد حيث قال: إن كثيراً من الفساق يغترون بصحبة الصالحين، حتى يكونوا جريئين على المعاصي؛ بسبب اغترارهم بصحبة الصالحين وخدمتهم لهم، فتجد الواحد من هؤلاء يجرؤ على حدود الله، ولا يُصْلِح من حاله، وتصبح صحبتُه للعالِم صحبةً شكلية للخدمة، لكن أن ينتفع بعلمه ويستفيد من ورعه ومن تقواه لا تجد لذلك أثراً، حتى -والعياذ بالله- يفْسُدَ عليه دينُه. إذاً ينبغي أن يحمل الإنسان نفسَه على أتم الوجوه، وأقربها إخلاصاً لله جلَّ وعَلا، وقد خرج عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من المسجد فخرج معه أصحابه يشيعونه، فقال: (ما لكم؟ قالوا: رأيناك تسير وحدك، فأردنا أن نشيعك. قال: إليكم عني، إنها فتنة للتابع والمتبوع). هذا ابن مسعود في عصر الخيرية وزمان الخيرية. (إنها فتنة للتابع) أي: أن الإنسان إذا صار مع العالِم دون أن يسأله ودون أن يستفيد من علمه، فذلك فتنة له. (وفتنة للمتبوع) أي: أن العالم ربما دخله غرور برؤية مَن حوله. ولذلك فالأسلم والأكمل أن الإنسان يتورَّع، وإذا نظر الله إليك -وقد حباك العلم، وحباك الفضل- لا تهين عباده، ولا تأخذ منهم أجراً ولا جزاءً ولا شكوراً، كمُل أجرُك عند الله جل وعلا، ولذلك قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]. لكن لا يعني هذا: التحريم والمنع؛ ولكن نقول: إن الإنسان إذا خشي الفتنة لنفسه أو لمن معه، فإنه ينبغي عليه أن يتورع، وهذه المسألة أحب أن أنبه عليها؛ لأنه حصل فيها كثير من الدَّخَن، فلقد رأينا كثيراً من طلاب العلم يصحبون العلماء، ويكون في بداية صحبته للعالم كأحسن ما أنت راءٍ؛ أدباً، وخُلقاً، واستفادةً من العالم، وكثرةَ سؤالٍ ومُدارسةٍ له؛ ولكن ما إن يدخل إلى مقام خدمته، والقيام على شأنه، ويداخله في أموره الخاصة، حتى تنزل منزلتُه، فيصبح كأن العَالِمَ شيء معتاد بالنسبة له، فيخرج عن حد الأدب، ولربما يأتي وقت -وقد رأينا ذلك بأعيننا في بعض ضعاف النفوس- يجرؤ فيه على أن يفتي بحضرة العالم، وهذا -نسأل الله السلامة والعافية- من المزالق الخطيرة. فإذا صحبتَ أهل العلم فلا حرج أن تخدمهم وأنت تريد وجه الله؛ ولكن اعلم أن صحبة العلماء للعلم والفائدة، وليست للمظاهر وللأمور التي قد تكون فتنة على الإنسان في دينه ودنياه وآخرته. إذاً: معنى قوله رحمه الله: (تباح معونته) أي: يجوز أن يعاونه الغير على وضوئه، فيصب الوضوء له، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث المغيرة بن شعبة في الصحيح: (أنه دخل الشعب فبال، ثم صب عليه المغيرة رضي الله عنه وأرضاه الوضوء) صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله عن المغيرة وأرضاه.

حكم التنشف بعد الوضوء

حكم التنشف بعد الوضوء قال رحمه الله: [وتنشيف أعضائه]. الأفضل والأعظم أجراً أن لا ينشف الأعضاء بعد الوضوء،؛ لِمَا ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مسلم يقرب وضوءه، فيمضمض، ويستنشق، ويغسل وجهه، إلا خرجت كل خطيئة نظرت إليها عيناه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء -وكذلك قال في اليدين- حتى تخرج من تحت أظفار أصابعه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء)، فاستحب طائفة من العلماء ألَّا ينشف الأعضاء من ماء الوضوء. وكذلك ثبت في السنة تأكيد هذا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما اغتسل وجاءته أم المؤمنين بمنديل، قالت: (فلم يُرِدْه، وجعل ينفض الماء بيديه). لكن يجوز للإنسان أن يتنشف، خاصةً إذا وُجدت الحاجة؛ كشدة البرد، أو نحو ذلك؛ لكن الذي استحبه العلماء أنه يُبقي الأعضاء مبلولة، حتى يكون ذلك أدعى لخروج خطاياه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، على ظاهر الحديث.

الأسئلة

الأسئلة

حكم التلفظ بالنية والمواضع التي يجوز التلفظ فيها

حكم التلفظ بالنية والمواضع التي يجوز التلفظ فيها Q ما حكم رفع الصوت بالنية عند الوضوء وعند الصلاة؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالتلفظ بالنية يعتبر بدعة، سواءً كان عند الصلاة أو عند الوضوء، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة أنه توضأ وصلى، ولم يُحفظ عنه في حديث واحد أنه تلفظ بنيته، وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي). ولذلك ينبغي ترك هذا الأمر والبقاء على السنة، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم من كون النية بالقصد في القلب، وذلك كافٍ، إلا في ما ورد الشرع بالتلفظ به، وذلك في موضعين فقط: الموضع الأول: عند ذبح النُّسُك؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضحى بالكبشين قال في أحدهما: (اللهم! هذا منك ولك، اللهم هذا عن محمد وآل محمد. وقال في الثانية: اللهم! هذا عمن لم يضحِّ من أمة محمد). الموضع الثاني الذي تلفظ فيه النبي صلى الله عليه وسلم بنيته: عند نُسُك الحج والعمرة، وقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال -كما في صحيح البخاري من حديث عمر -: (أتاني الليلةَ آتٍ من ربي فقال: أَهِلَّ في هذا الوادي المبارك وقل: عمرةً في حجة) فقوله: (قل) أي: تلفَّظ، والقول لا يكون إلا بصوت مجتمع الحروف، ولذلك دل هذا الحديث على سنية التلفظ بالنية في هذا الموضع. وفي الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (لقد كنتُ تحت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها فسمعته يقول: لبيك عمرة وحجة). هذا الذي ورد استثناؤه في الشرع. والله تعالى أعلم.

معنى قول العلماء: (لذاته) في تعريف الشرط

معنى قول العلماء: (لذاته) في تعريف الشرط Q ما معنى قول العلماء -رحمهم الله تعالى -في تعريف الشرط: لذاته؟ A لذاته، أي: أن انعدامه ليس لذات الشرط، فلو أن إنساناً لم يكن متوضئاً، فإنه لا يصلي؛ لكن ليس لانعدام الوضوء وحده؛ ولكن قد يكون ذلك لسبب آخر، لفقد شرط آخر غير الوضوء، كما هو الحال -مثلاً- في الصلاة، لو أن إنساناً لم يتوضأ، فإن الوضوء شرط لصحتها، فعدم وجود الوضوء يوجب عدم الصلاة؛ ولكن ليس لذات الوضوء، قد يكون ذلك مع مصاحبة شرط آخر، كما هو الحال فيما إذا كان قبل دخول الوقت، فإن الصلاة لا تصح. وبناءً على ذلك: عبَّروا بالذات؛ لوجود الانتفاء بالشرط المصاحب، كما هو الحال في دخول الوقت ونحوه.

حكم إدراج الأعلى تحت الأدنى في الوضوء

حكم إدراج الأعلى تحت الأدنى في الوضوء Q ذكرتم أن مَن نوى الأدنى لم يندرج فيه الأعلى، كمن توضأ لصلاة الضحى ثم صلى بهذا الوضوء الظهر، فما حكم من فعل ذلك جهلاً، هل تجب عليه إعادة الصلوات المفروضة، وإن كان لا يعرف عددها فما الحكم؟ A الوضوء الأمر فيه واسع؛ لوجود الخلاف، فلو نوى بوضوئه أن يصلي الضحى ثم صلى به الظهر، فهناك خلاف: فقد أفتى طائفة من أهل العلم -رحمة الله عليهم- بجوازه، وأن هذا ليس فيه حرج؛ ولكنه مستقبلاً يبتدئ بهذه النية؛ لأنه ربما تعلم الوضوء عند من يرى أن نية الأدنى مجزئة عن نية الأعلى، ولذلك لا يُلْزَم في مثل هذا بالإعادة.

إجزاء غسل الجنابة عن غسل الجمعة

إجزاء غسل الجنابة عن غسل الجمعة Q لو اجتمع على المكلف يوم الجمعة غسل الجمعة وغسل الجنابة، فما يفعل؟ هل يغتسل مرتين أو يجزئ أحدهما عن الآخر؟ وإن كان كذلك فماذا ينوي غسل الجمعة أم غسل الجنابة؟ A إذا نوى غسل الجنابة فإنه ينوي تحته غسل الجمعة، فيُجزئه غسل الجنابة عن غسل الجمعة؛ لأن قاعدة الاندراج: أنه يندرج المساوي مع نظيره، بشرط تحقق مقصود الشرع، فلما كان مقصود الشرع من غسل الجمعة أن تحصل النظافة لمكان الاجتماع؛ لما ثبت عند الترمذي في سننه من حديث عائشة، فإنه في هذه الحالة إذا اغتسل للجنابة تحقق مقصود الشرع بالنقاء، ولذلك تجزئه الجنابة عن غسل الجمعة بالنية. أما لو نوى الجمعة فإنها لا تندرج تحتها الجنابة، ولذلك يجب عليه أن يعيد إذا كان قد نوى الجمعة أصالةً ونوى اندراج الجنابة تحتها؛ فالصحيح أن ينوي الجنابة أصلاً والجمعة تحتها؛ لأن صورة الاندراج شرطها تحقق مقصود الشرع، وهكذا الحال بالنسبة للواجبات في الأفعال، كالحال في طواف الإفاضة وتحته طواف الوداع. وبناءً على ذلك يصح منه إذا جعل النية لغسل الجنابة أصلاً، وغسل الجمعة تبعاً. والله تعالى أعلم.

الفرق بين الواجب والشرط

الفرق بين الواجب والشرط Q ذَكَرَ ابن قدامة رحمه الله تعالى في عمدة الفقه أن النية واجبة، وذكر هنا رحمه الله أنها شرط، فهل بينهما فرق؟ A أولاً: قولك: (ذَكَرَ ابن قدامة) هذه ما أقبلها منك، ينبغي التأدب مع أهل العلم رحمة الله عليهم، ابن قدامة ليس من طلاب العلم أو رجلاً عادياً، بل يقال: ذَكَرَ الإمام ابن قدامة، فهو علم من أعلام المسلمين، يقول الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ما دخل الشام بعد الأوزاعي أعلم من الموفق. كان آيةً في العلم والصلاح والورع، وشهد له أقرانه من العلماء بأنه جمع بين العلم والعمل رحمه الله برحمته الواسعة. فمثل هذا لا يليق أن يقال فيه: ذَكَرَ فلان، وينبغي لطالب العلم أن يتعلم الأدب مع العلماء، وإجلال أهل العلم بذكرهم بالألقاب والألفاظ التي تليق بهم، فيقول: ذَكَرَ الشيخُ، ذَكَرَ الإمامُ. ثانياً: جواب السؤال: الشرط أرفعُ من الواجب؛ لأن شرط الصحة لا تصح العبادة بدونه، وأما الواجب فقد تصح بدونه، ويكون الإثم على الترك، فإذا عُبِّر في الواجب على أنه شرط للصحة كان ذلك أبلغ، ولذلك لما اختُلف في الطهارة والوضوء، قال بعضهم: هي واجبة وشرطٌ في صحة الصلاة، أي: دل الدليل على أن فقد هذا الواجب يؤدي إلى بطلان الصلاة، فهناك فرق بين قولهم: واجب، وبين قولهم: شرط؛ إلَّا أن بعض العلماء -رحمة الله عليهم- يعبرون بالواجبات وبالشروط، وبناءً على ذلك فقوله رحمة الله عليه في العمدة: والواجب من ذلك، بمعنى: اللازم الذي ينبغي الإتيان به، وليس المراد به إسقاط معنى الشرطية، بدليل أنه ذكر بعد قوله: والواجب من ذلك أركان الوضوء، وهذا لا شك أنه أرفع من درجة الواجب؛ لأن الركن أعظم من الواجب، كما هو معلوم ومقرر أن ركن الصلاة أعظم من واجباتها. والله تعالى أعلم.

حكم الجمع بين الصلاتين في الحضر لغير عذر

حكم الجمع بين الصلاتين في الحضر لغير عذر Q هل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع بين الصلاتين في الحضر بدون عذر ولا خوف؟ وما الفرق بين العذر والحاجة؟ A هذه المسألة مفرعة على حديث ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما، وفيه يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (جمع النبي صلى الله عليه وسلم في غير مطر ولا مرض ولا سفر -ولما سئل عن ذلك؟ قال ابن عباس -: أراد أن لا يحرج أمَّته) وقد وقع ذلك في خطبة ابن عباس كما في صحيح مسلم: (أنه خطب إبَّان إمارته على الكوفة لـ علي رضي الله عنه، وأطال الخطبة في وقت صلاة الظهر، فقام له أعرابي وقال: الصلاة، فلم يجبه ابن عباس، ثم استمر في خطبته، فقام الرجل وقال: الصلاة، ثم استمر ابن عباس في خطبته، فقام الرجل، فقال له ابن عباس: أتعلمنا بالصلاة لا أمَّ لك؟ جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين ... ) إلى آخر الحديث. هذا الحديث للعلماء فيه وجهان: الوجه الأول: منهم من أخذ بظاهره، وقال: دل هذا الحديث على جواز أن تجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، ولو لم يكن هناك مطر ولا مرض ولا سفر، وهذا القول هو مذهب بعض أصحاب الحديث -رحمة الله عليهم- وبعض أهل الظاهر. والقول الثاني: أن هذا الحديث ليس على ظاهره، وإنما المراد به الجمع الصوري، وهذا واضح من سياق الحديث؛ لأن الرجل لا زال يكرر في أول الوقت؛ لأنه عَهِد من ابن عباس أنه يصليها في أول وقتها، وما زال ابن عباس يستمر في خطبته، فلما قارب وقت الظهر من الانتهاء أقام لصلاة الظهر، فصلاها، فبمجرد انتهائه دخل وقت العصر، فأقام لها فصلى العصر، ثم صلى الاثنتين في صورة الجمع، والحقيقة أن كل صلاة في موضعها. يقول جمهور العلماء: لو أخذنا بهذا الحديث على ظاهره، لألغينا دلالة الكتاب والسنة. أما دليل الكتاب: فقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103]، وقال في آية المواقيت: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78]، فحددها بالوقت، فلو قيل: إن الظهر يُجمع مع العصر، ولا حرج أن تؤخر الظهر إلى وقت العصر، لما كان للظهر وقت محدد، إنما يكون الظهر والعصر بمثابة الصلاة الواحدة؛ لأنه جمع من غير عذر، فيجوز للناس أن يؤخروا الظهر والعصر، ولا حرج أن يوقعوا الظهر في آخر وقت العصر، وهكذا يجوز لهم أن يوقعوا المغرب في وقت العشاء، فنُلغي دلالة الكتاب في قوله: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103]. وأما دلالة السنة: فهي في قول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: (قم فصلِّ)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي: (ما بين هذين الوقتين وقت). إذاً: لا يستقيم حمل الحديث على ظاهره، والقاعدة في الأصول: (أنه لو تردد الحديث بين وجهين: وجهٍ يوافق النصوص من الكتاب والسنة، ووجهٍ يخالف، وجب صرفه إلى الوجه الذي يوافق، لا إلى الوجه الذي يخالف). وبناءً على ذلك: الصحيح أن الصلاة لها ثلاثة أحوال: الأولى: إيقاعُها في وقتها. الثانية: جمعُها صورةً ويكون إيقاعها أيضاً في وقتها. الثالثة: الجمع الحقيقي. فاكتملت القسمة العقلية على ثلاثة أقسام: الأول: أن توقع الصلاتين كلاً في وقتها. الثاني: أن توقع الصلاة في غير وقتها مجموعة مع الأولى أو مع الثانية، الذي هو جمع التقديم أو التأخير. الثالث: أن توقع الصلاة على صورة الجمع، والحقيقة أنها في وقتها. وبناءً على ذلك يَرِد إشكالٌ: ليس هناك دليل يقوى على اعتبار الجمع الحقيقي إلا قول ابن عباس: (أراد أن لا يحرج أمَّته). وهذا ليس فيه دليل، فإن من تأمل هذه العبارة يجد أن معناها: أن الناس وخاصة في بعض الأزمنة كشدة الحر، أو يحتاج الخطيب -مثلاً- أن يخطب في حادثة وقعت، فقام الإمام ينبه الناس على هذه الحادثة فأطال في خطبته، واحتاج إلى بيان وتفصيل، فأخذ وقتَ الظهر إلى آخره ثم صلى بهم الظهر، ودخل وقت العصر فأقام للعصر وصلاها، فيكون قد أخذ بقول ابن عباس: (أراد أن لا يحرج أمَّته) أي: أنهم لو قاموا بعد انتهائهم من صلاة الظهر سيرجعون إلى بيوتهم، ثم يعودون مرة ثانية إلى صلاة العصر، فأسقط الحرج بالجمع بين الصلاتين صورةً، في خروج واحد دون ذهاب وإياب متكررين، وهذا واضح جلي، ولذلك فمذهب جماهير العلماء على أن هذا الحديث ليس على ظاهره، وأن المراد به الجمع الصوري. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

باب مسح الخفين

شرح زاد المستقنع - باب مسح الخفين من رحمة الله تعالى بعباده أن خفف عنهم في عباداتهم ومعاملاتهم، فكان من صور هذا التخفيف أن رخص لهم في المسح على الخفين وما في حكمهما عوضاً عن غسل الرجلين دفعاً للمشقة، ويشبه هذا المسح على العمائم، والمسح على الجبائر، والمسح على الخمر للنساء، وكل هذا مضبوط في الشرع بأحكام وضوابط.

مشروعية المسح على الخفين

مشروعية المسح على الخفين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب مسح الخفين] تقدم في مباحث الوضوء: أن المسح: هو إمرار اليد على الشيء، تقول: مسحتُ الكتاب، إذا أمررتَ يدك عليه، ومسحتُ برأس اليتيم، إذا أمررت يدك عليه. وقوله رحمه الله: (باب مسح الخفين) الخفان: مثنى خُف، وهو النعل من الجلد أو الأدم الذي يكون للقدم. والأصل فيه في الشرع أن يكون ساتراً لموضع الفرض، وذلك من أطراف الأصابع إلى الكعبين، وهما داخلان. كأنه يقول رحمه الله: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام المتعلقة برخصة المسح على الخفين. أما مناسبة هذا الباب للباب الذي قبله: فقد تكلم المصنف رحمه الله على صفة الوضوء الشرعية، فلما فرغ من بيانها وذِكْرِ المواضع التي أمر الله عز وجل بغسلها أو مسحها ناسب أن يذكر ما يتعلق بآخر عضو من أعضاء الوضوء وهما الرجلان؛ حيث رخَّص الله جل وعلا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن يمسح المكلفُ على ساترٍ مخصوصٍ لهما، فناسب بعد الفراغ من باب الوضوء أن يذكر باب المسح على الخفين؛ لأنه متعلق بآخر فرض من فرائض الوضوء وهو غَسل الرجلين. والمسح على الخفين رخصة من رخص الشرع، وهذه الرخصة ثبتت مشروعيتها بالأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى بلغت مبلغ التواتر. قال الإمام أحمد رحمه الله: فيه -أي: في المسح على الخفين- أربعون حديثاً عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعض العلماء: إنها بلغت سبعين حديثاً. ولذلك قال بعض الفضلاء -يشير إلى أن المسح على الخفين مما تواترت النصوص بالدلالة على جوازه- عن الحديث المشهور: ثم من المشهور ما تواترا وهو ما يرويه جمع حُظِرا كَذِبُهم عُرْفاً كمسح الخُفِّ رفعُ اليدين عادمٌ للخُلْفِ وقد روى حديثه مَن كتبا أكثر من ستين ممن صَحِبا أي: أكثر من ستين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم روَوا هاتين الحادثتين عن المصطفى صلى الله عليه وسلم: الأولى: رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، ففيها أكثر من ستين حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثانية: المسح على الخفين. والأحاديث التي وردت في المسح على الخفين: منها ما هو قولي. ومنها ما هو فعلي، أي: ما يدل على فعل النبي صلى الله عليه وسلم إياه. ولذلك لا إشكال في مشروعيته. وكان السلف الصالح -رحمة الله عليهم- عندهم خلاف في الصدر الأول. وقال بعض العلماء ومنهم الحافظ ابن عبد البر: لا يوجد صحابي ينكر المسح إلا رُوي عنه عكسُه، أي: إثبات المسح، ولذلك اتفقت الكلمة على مشروعية هذه الرخصة. وأُثِر عن بعض السلف من العلماء أنه خصها بالسفر؛ لكنه قال بأصلها، وهو إحدى الروايات الثلاث عن الإمام مالك رحمة الله عليه. وسنبين أن الصحيح: أنها رخصة لا تختص بالسفر؛ لحديث حذيفة في الحَضَر، وهو حديث في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بال عند سُباطة قوم قال: فصببتُ عليه الوضوء، فتوضأ ومسح على خفيه) وذلك في الحضر.

المسح على الخفين

المسح على الخفين فالمسح على الخفين ثابت، وثبوته اعتبره السلف ومَن بعدهم، حتى كان بعض العلماء يُدْخل في عقيدة أهل السنة والجماعة القول بمشروعية المسح على الخفين، مبالغةً في الرد على أهل البدع والأهواء الذين لا يقولون بمشروعيته، فكانوا يُدْخلونه من جملة العقائد، فيقولون: ونرى المسح على الخفين؛ والسبب في ذلك أنه ثبت بالتواتر، فأصبح من الأمور التي ثبتت مشروعيتها بدليل القطع، وما ثبتت مشروعيته بدليل القطع وأنكره مَن اعتقد قطعه فقد كفر، -والعياذ بالله- لأنه يكذب الشريعة، وكل قطعي ثابت في الشريعة -في الكتاب أو في السُّنة- فإن إنكاره لمن اعتبر قطعيته وثبوته يُعتبر إنكاراً وتكذيباً للشرع، فيكفر بذلك كما هو مقرر في العقيدة. فبالغ العلماء رحمة الله عليهم في إثبات هذه السُّنة، والرد على أهل البدع والأهواء الذين لا يرونها. والمسح على الخفين ثابت في الحَضَر وثابت في السفر، فالإنسان يُرَخَّص له إذا كان في حَضَر أو كان في سفر أن يمسح على خفيه، ما دام لابساً لهما، وذلك على صورة مخصوصة، سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى. وهذا المسح يعتبر رخصةً غير لازمة، أي: من الرخص غير الواجبة، وليس بلازم على الإنسان أن يمسح على خفيه. واختلف العلماء رحمهم الله: هل الأفضل المسح أو الغسل للقدمين؟ وهي مسألة أقوى الأقوال فيها -وهو اختيار بعض العلماء من المحققين-: أنه يختلف باختلاف حال الإنسان، فإذا كان الإنسان لابساً لخفيه فالأفضل أن يمسح وألاَّ ينزعهما؛ لأنه هدي النبي صلى الله عليه وسلم، أما إذا كانت الرجلان مكشوفتين فإنه لا يتكلف لُبس الخفين من أجل أن يمسح، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلف لبس الخفين، وإنما كان عليه الصلاة والسلام إن كانت رجلاه مكشوفتين غَسَلهما -بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه- وإن كانتا مستورتين بالخفين مَسَحَ عليهما. وقال بعض العلماء: الأفضل بل قد يجب على طالب العلم وعلى العالِم إن عاش بين قوم ينكرون المسح أن يلبس الخفين ويمسح عليهما لِيَرُدَّ القولَ بعدم المشروعية وهذا قول صحيح من جهة النظر، وهو يرجع إلى أصلٌ معتبرٌ عند العلماء: أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإن توقف إحياء السنن على إظهارها وإعلانها لزم أهلَ السُّنة أن يُظهِروها وأن يعلنوها إحياءً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وبياناً لسنن الشرع، ولا يمكن لسَنَنِ الشرع أن يقوم أوْدُه وينتصب عمودُه إلا بالإحياء والدلالة قولاً وعملاً، مهما كان في ذلك من الكَلَفة على الإنسان.

بعض أحكام المسح على الخفين

بعض أحكام المسح على الخفين يقول رحمه الله: (باب مسح الخفين) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام المتعلقة بالمسح: أولاً: مشروعيته؛ أنه مشروع أو غير مشروع. ثانياً: هل مشروعيته على سبيل اللزوم أو غير اللزوم؟ ثالثاً: متى يمسح الإنسان على خفيه؟ رابعاً: ما هي شروط المسح على الخفين؟ خامساً: ما هما الخفان المعتبران للمسح؟ سادساً: ما هي صفة المسح؟ هل لِأَعلى الخف ولِأَسفله، أو لِلْأَعلى دون الأسفل، أو لِلْأَسفل دون الأعلى؟ سابعاً: ما هي مواقيت المسح على الخفين؟ وما حكم الصور التي يختلف فيها حال الإنسان في تلك المواقيت؟ هذا بالنسبة لما يتعلق بمبحث المسح على الخفين. ثم من عادة الفقهاء -رحمة الله عليهم- أنهم يعتنون بذكر حكم النظير مع نظيره، فيُدخلون المسح على العمامة -إذا قالوا بمشروعيتها- في باب المسح على الخفين، فيذكرون أحكام المسح على العمامة، ويُتْبِعُونها بأحكام المسح على الجبائر والعصائب، وقد يُتْبِعُونها كذلك بالمسح على الخُمُر بالنسبة للنساء على القول بمشروعيتها. وكل ذلك سيبيِّنه المصنف -رحمة الله عليه- في هذا المبحث.

مدة المسح على الخفين

مدة المسح على الخفين قال رحمه الله: [يجوز يوماً وليلةً لمقيمٍ] (يجوز) أي: المسح على الخفين جائز، ولما قال: جائز، فهمنا منه أنه مشروع، وأن مشروعيته ليست بإلزام للمكلف، أي: أنه لا يجب على الإنسان أن يمسح على الخفين، وإنما ذلك مباح له وجائز، فإن ترتبت مصالح من قصد إحياء السُّنة ودلالة الناس عليها فإنه يُثاب ويعتبر مندوباً في حقه، وقد يصل إلى الوجوب على التفصيل الذي ذكرناه. ومن عادة العلماء أنهم إذا بوَّبوا باباً أو ذكروا أمراً ما متعلقاً بالعبادة أو بالمعاملة، فإنهم يتكلمون أولاً على موقف الشرع من هذا الشيء، ثم يفصلون بعد ذلك في جوازه؛ هل هو على سبيل الإطلاق أو على سبيل التقييد؟ فقال رحمه الله: (يجوز) أي: المسح على الخفين. (يجوز يوماً وليلةً لمقيم) الإقامة ضد السفر، وتتحقق الإقامة حقيقةً إذا كان الإنسان في موضعه الذي هو نازلٌ فيه، سواءً كان في باديةٍ أو حاضِرة، وتتحقق الإقامة أيضاً حكماً، وهي الإقامة الحكمية، كأن يكون الإنسان ناوياً أن يمكث في بلد أربعة أيام غير يومي الدخول والخروج؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص للمهاجرين أن يبقوا بمكة ثلاثة أيام. ووجه الدلالة من هذا الحديث: أنه أجاز لهم أن يبقوا بمكة مع أنهم هاجروا منها. والإجماع منعقد على أن من ترك أرضاً مهاجراً منها فإنه لا يجوز له أن يرجع إليها وأن يسكن فيها؛ لأن رجوعه إليها نقض لهجرته، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ مات بمكة)، ثم قال كما في صحيح مسلم: (اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم) فدل هذا على أن المهاجر لا يبقى بموضعه، فلما أجاز لهم البقاء ثلاثة أيام فهِمْنا أن من مكث في موضع ثلاثة أيام فإنه لا يأخذ حكم أهله، ودل على أنهم في اليوم الرابع يُعتَبَرون في حكم المقيم. وعلى هذا يُعْتَبَر الناس على ثلاثة أصناف: مسافر. مقيم. في حكم المقيم. وأخذ العلماء من هذا الحديث أصلاً في تحديد مدة السفر بأربعة أيام غير يومي الدخول والخروج، ولا يُشْكِل على هذا الحكم قصة تبوك، حيث قصر عليه الصلاة والسلام للصلاة سبعة عشر يوماً أو واحداً وعشرين يوماً، فإن ذلك لعدم علمه بالمدة التي سيبقاها في ذلك الموضع. وقال بعض العلماء: بل هو عالِم، وهذا محل نظر، فإن المقرر عند العلماء في شرحهم لهذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم غير عالِم، وهذا صحيح؛ لأنه نزل على تخوم الشام لأجل أن الروم أعدت له، فلا يدري أهم قادمون أو غير قادمين؟ وقد بَعَثَ العيون لتأتيه بأخبارهم، فلا يدري أهم قريبون أم بعيدون؟ فقول العلماء رحمة الله عليهم عند بيانهم للحديث: إنه غير عالِم بمدة إقامته بتبوك صحيح، من جهة سياق الحديث ودلالته. وكذلك أيضاً ما ورد عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أنهم مكثوا يقصُرون الصلاة مدة طويلة، كـ أنس في فتح أذربيجان، فقد مكث ستة أشهر، وكانوا على الرباط الذي لا يُدرَى متى ينتهي وينقضي. فالمقصود أنه إذا أقام الإنسان إقامةً حُكْمية أو إقامةً حقيقية فإنه يمسح على خفيه، ويمسح إذا كان مسافراً، وأراد المصنف أن يثبت بهذا القول مشروعية المسح حَضَراً وسفراً. وللعلماء أقوال في هذه المسألة: فمنهم من يقول: المسح مختص بالسفر، وهو إحدى الروايات عن الإمام مالك رحمة الله عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح في السفر، والسفر يناسبه التخفيف، وذلك أن حديث المغيرة في إثبات المسح كان في سفره عليه الصلاة والسلام بغزوة تبوك، فقال أصحاب هذا القول: إن المسح يختص بالسفر. وقال الجمهور: إن المسح لا يختص بالسفر، بل يشمل السفر والحَضَر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح مسلم من حديث علي: (يمسح المسافر ثلاثة أيام، والمقيم يوماً وليلة) فدل على أنه مشروع للمسافر ومشروع للمقيم، وهذه دلالة السُّنة القولية، وقد دلت السُّنة الفعلية أيضاً على مشروعية المسح في حال الحَضَر، كما في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً، قال: ثم قال لي: ادنُ، فدنوتُ، ثم قال لي: ادنُ، حتى كنتُ عند عقبيه، قال: فلما فرغ صببتُ عليه وضوءه -حتى قال- ثم مَسَحَ على خُفَّيه) وهذا في الحَضَر، فدل على مشروعية المسح في الحَضَر كما هو مشروع في السفر، وفي حديث صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه في السنن قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاَّ ننزع خفافنا ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم) فأثبت مشروعية المسح حضراً وسفراً. وبناءً على ذلك: يترجح قول الجمهور بأن المسح يُشرع حضراً وسفراً، وعلى هذا: فلا تتقيد رخصته بالسفر كما هو قول من يقول: إنه متقيد بالسفر؛ لأن ورود المسح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المغيرة من كونه مسح في السفر لا يقتضي تخصيص الحكم بالسفر؛ لثبوت الحكم الشرعي بالسنة القولية والفعلية. قال رحمه الله: [ولمسافرٍ ثلاثةً بلياليها] يجوز المسح للمقيم يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن. وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة: هل المسح على الخفين يتأقت أو لا يتأقت؟ ولذلك يُعَنْوِنون لهذه المسألة بقولهم: توقيت المسح على الخفين، ومرادهم إذا مَسَحْت على الخفين وأنت مقيم فهل أنت ملزمٌ بزمان معين أو غير ملزم؟ - فذهب الجمهور إلى أن المسح على الخفين مؤقت، كما ورد في الأحاديث التي سبقت الإشارة إليها: ثلاثةُ أيام للمسافر، ويوم وليلة للمقيم، وحجتهم ما سبق من حديث علي في صحيح مسلم، وحديث صفوان بن عسال المرادي في السنن، قالوا: إنها نصت على أن المسح مؤقت. - القول الثاني: أن المسح على الخفين غير مؤقت، وهذا هو مذهب المالكية رحمة الله عليهم، وقد احتج المالكية على عدم التأقيت بحديث أبي بن عمارة -وكان ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم- أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المسح على الخفين: (يوماً؟ قال: يوماً، قال: ويومين؟ قال: ويومين، قال: وثلاثة؟ قال: نعم، وما شئتَ) قالوا: إن هذا الحديث أصل في عدم تأقيت المسح على الخفين، فإذا لبستَ الخفين فامسح ما بدا لك، وينتهي الوقت عند نزعك للخفين، وعند أصحاب هذا القول أن المسح لا يتأقت في السفر ولا في الحَضَر، فالإنسان يمسح مدة لُبسه للخفين. وأصح القولين في نظري -والله أعلم-: أن المسح يتأقت: أولاً: لصحة دلالة السُّنة على ذلك. ثانياً: أن حديث أبي بن عمارة ضعيف، قال ابن معين رحمه الله: إسناده مظلم، وضعَّفه البخاري أيضاً، ولذلك لا يعارِض السُّنة الصحيحة التي أثبتت التوقيت في المسح. فلا بد للإنسان إذا مسح على خفيه أن يلتزم التأقيت الذي صحت به النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم.

العبرة في بداية توقيت المسح على الخفين

العبرة في بداية توقيت المسح على الخفين قال رحمه الله: [مِن حَدَثٍ بعد لُبسٍ على طاهر] (مِن حَدَثٍٍ) (مِن) للابتداء، فتبدأ الثلاثة الأيام إذا كان الإنسان مسافراً، واليوم والليلة إذا كان الإنسان مقيماً مِن الحَدَث بعد لبسه، صورةُ ذلك: أن الإنسان إذا أراد أن يمسح على خفيه فيجب عليه أن يتوضأ وضوءه للصلاة حتى إذا فرغ من غَسل كلتا الرجلين، فإنه يُشرع له أن يلبس الخفين، فلو غسل إحدى القدمين ولم يغسل الثانية وأدخل الرجل التي غسلها في الخف لم يصح ذلك منه. والدليل على اشتراط الطهارة: ما ثبت في الحديث الصحيح عن المغيرة رضي الله عنه وأرضاه أنه لَمَّا صب الوضوء على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين) ولا تتحقق الطهارة في (طاهرتين) إلا للرجلين، لأنهما كالعضو الواحد، ولذلك جاز تقديم اليمنى على اليسرى، وأجزأ، وصح ذلك في الوضوء-، ولا يُصْدَق عليهما كونهما طاهرتين إلا إذا تمت طهارتُهما معاً، فلو غسل إحداهما وأدخلها قبل الأخرى لم يَصْدُق عليه أنه طهَّر الرجلين؛ لأن طهارة إحداهما متوقفة على طهارة الأخرى. وبناءً على ذلك: فلا بد أن يكون قد أتم الوضوء، ويستوي في هذا أن يتوضأ ويلبس الخفين بعد الوضوء مباشرة، أو يتوضأ ويلبس الخفين بعد انتهاء الوضوء ولو بساعات طويلة، مثال ذلك: لو أن إنساناً توضأ عند شروق الشمس وبقي على وضوئه إلى منتصف النهار، ثم لبس الخفين وهو على الوضوء صح له أن يمسح عليهما؛ لأنه لبس الخفين وهو على طهارة، فصَدَق عليه وصف النبي صلى الله عليه وسلم: (دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين) إذا ثبت هذا فعندنا في الخف: أولاً: وقت اللبس. ثانياً: ثم بعد لُبسه وهو على وضوء يأتي الحدث، وهو أول ناقض للوضوء. ثالثاً: إذا أحدث فإنه يتوضأ ويأتي المسح، ولذلك اختلفت أقوال العلماء رحمة الله عليهم في المسح على الخفين سواءً كان يوماً وليلة أو ثلاثة أيام: هل يبدأ من بداية الحدث؛ لأنه سبب للكل، أو يبدأ من عند مسحه بعد الحدث؟ فلو فرضنا -مثلاً- أنه أحدث الساعة الثالثة، ثم لم يتوضأ إلا الساعة الرابعة، فيقع مسحه في الساعة الرابعة، فهل العبرة بالحدث الذي هو في الساعة الثالثة، أم العبرة بالمسح بعد الحدث والذي يكون في الساعة الرابعة؟ فقال بعض العلماء: العبرة بالحدث؛ لأنه سبب لما بعده، والأسباب مُنَزَّلة منزلة مسبباتها، وهي المؤثرة في مسبباتها، فيعتبر السبب، وأكدوا هذا بأنه لما أحدث شُرِع له أن يمسح؛ لأنه لما انتقض وضوءه بعد اللبس شُرِع له أن يبتدئ المسح، فكونه يؤخر هذا لا يعنينا، وإنما الذي يعنينا هو وجود الرخصة من الشرع، فقالوا: يبتدئ مِن الحَدَث إلى مثلِه من اليوم القادم، فلو لَبِس الخف الساعة الثانية ظهراً، وأحدث الساعة الثالثة ظهراً، ومسح في أول وضوء الساعة الرابعة، فنقول: العبرة بالساعة الثالثة التي وقع فيها الحدث، ولا نعتبر وقت لُبْسه للخفين، ولا نعتبر وقت مسحه الأول على الخفين، وهذا هو أصح الأقوال؛ لما ذكروه؛ لأن الشرع لما قال: يمسح المسافر ويمسح المقيم، كما في حديث علي رضي الله عنه: (يمسح المسافر ثلاثة أيام، والمقيم يوماً وليلة) شرع أن نستبيح الرخصة بالمسح، واستباحة الرخصة إنما تقع بعد وجود موجب الرخصة وهو الحدث. ولذلك يترجح هذا القول الذي اختاره المصنف رحمة الله عليه. - وقال بعض السلف: العبرة باللُّبس، أي: الساعة الثانية. - ومنهم من قال: العبرة بالمسح؛ لأنه يتم بالمسح العددُ، وهذا مرجوح؛ لأن إتمام المسح بالعدد يكون من المكلف، وجواز المسح من الشارع، واعتبار رخصة الشارع أبلغ من اعتبار ما يكون من المكلف؛ لأن الأحكام الشرعية ترتبط بإذن الشارع، فإذن الشارع: مِن الساعة الثانية -مثلاً- يأذن له أن يتوضأ وأن يمسح، وكونه يؤخر فهذا لا يعنينا، فيُسْقط اعتبارُ المسح ويبقى اعتبارُ موجِبِ المسح أو المؤثر في المسح حقيقةً. وبناءً على ذلك: قال العلماء: وقت المسح مِن الحَدَث إلى مثلِه، أي: الحَدَث الذي وقع بعد اللبس. وبناءً على هذا: فلو أنه أحدث الساعة الواحدة ظهراً فيمتد وقت المسح إلى مثلها من الغد، أو إلى مثلها إلى ثلاث، في الأولى: إذا كان مقيماً، وفي الثانية: إذا كان مسافراً. (بعد لُبس): أي: من الحدث، بعد لُبسه.

شروط الخف

شروط الخف قال رحمه الله: (على طاهرٍ مباحٍ): يشترط في الخف: - أولاً: أن يكون طاهراً. - ثانياً: أن يكون مباحاً. أن يكون طاهراً: فلا يمُسح على نجس؛ لأن الخف النجس: أولاً: لا تصح الصلاة به، لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نزع نعليه لَمَّا أخبره جبريل أنهما ليستا بطاهرتين، فدل على أن حذاء المصلي لا بد أن يكون طاهراً، فلا يتأتى أن يمسح على هذا النوع وهو النجس. ثانياً: أنه بالمسح يتنجس ولا تتحقق طهارة الموضع، فلا بد وأن يكون طاهراً. وأن يكون مباحاً: أي: يكون ذلك الخف مباحاً، ويخرج بقوله: (مباحاً) ما كان حراماً، وهو كالمغصوب، أو يكون من جلد ميتة غير مدبوغ، أو من جلد ميتة لا يُدْبَغ مثلُه، بأن يكون مِن جلد ما لا يُذَكى، إذا قيل: بأنه لا تؤثر الدباغة فيه، كالسباع مثلاً، على القول بأنها لا تطهر جلودوها بالدباغ، فإن هذا في حكم المحرم؛ لأنه نجس وغير مأذون بالانتفاع به. وبناء على هذا: فلا بد من تحقق الطهارة وكونه مباحاً. واختلف العلماء: لو لبس خفاً مغصوباً، أي: أخَذَ خف إنسان ظلماً ثم لبسه وأراد أن يمسح عليه، فهذه المسألة للعلماء فيها وجهان مشهوران مفرَّعان على مسألة أصولية وهي: هل النهي يفيد فساد المنهي عنه أو لا يفيد؟ أو هل النهي يقتضي فساد المنهي عنه؟ وتوضيح ذلك: - أنك إذا قلت: إن الخف المغصوب منهي عنه، والنهي عنه يقتضي فساد الصلاة به وكذلك فعل العبادة به، فيبطل المسح عليه، وهذا قول الحنابلة. - وقال جمهور العلماء: يصح مسحه ويأثم باللبس. ففرع المصنف على هذا الأصل، فقال: [على طاهرٍ مباحٍٍ]؛ لأن غير المباح لا يجوز له ولا يصح أن يمسح عليه. ومذهب الجمهور أنه يصح المسح ويأثم، وهو كالصلاة في الدار المغصوبة، وعلى الأرض المغصوبة، فإنه تصح الصلاة؛ لأنه مأمور بها شرعاً وقد تمت أركانها وشرائط صحتها، ويأثم؛ لأن الجهة منفكة، والقاعدة: أن النهي لا يقتضي الفساد إلا إذا اتحد المحل بأن ينصبَّ إلى الذات -ذات الشيء- أو إلى الوصف اللازم له. وبناءً على هذا: لا يعتبر مسحه على الخف المغصوب موجباً لعدم صحة وضوئه. فالصحيح: أنه يأثم بلبس الخف ويصح مسحه. قال رحمه الله: [ساترٍ للمفروض يَثْبُتُ بنفسه]. (ساترٍٍ) هذا الشرط الثالث: - أن يكون ساتراً للمفروض. لأن البدل يأخذ حكم المبدل، والمسح بدل عما أمر الله بغسله وهو الرجلان، فوجب أن يستر جميع الرجلين اللتين أمر الله بغسلهما، أي: محل الفرض، فلا بد أن يكون ساتراً من أطراف الأصابع إلى الكعبين، والكعبان داخلان كما قررناه في آية الوضوء. فلو كان الخف إلى نصف القدم، فإنه لا يجوز أن يمسح عليه؛ لأنه غير ساتر لمحل الفرض، ولو انكشف الكعبان أو انكشفت رءوس الأصابع، فإنه لا يصح أن يمسح عليه؛ لأنه أيضاً غير ساتر لمحل الفرض. (يثبت بنفسه) هذا الشرط مبني على أنه إذا وردت الرخصة في الشرع فينبغي تقييدها بالوصف الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالخفاف التي كانت موجودة ومعروفة تثبت بنفسها، فيخرج ما لا يثبت؛ لأن الذي لا يثبت بنفسه عرضة لأن يكشف محل الفرض، وبناءً عليه: فإنه لا يمُسح عليه ولا يعتبر على صفة الخف الذي هو الأصل أو الذي ورد دليل الشرع باستباحة المسح عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن خفه مشدوداً، ولو كان مما يُشَد أو كان مما ينزل عن الموضع لبَيَّن ذلك، ولكان ظاهراً من الأحاديث التي جاءت بذكر مسحه صلوات الله وسلامه عليه على خفيه.

حكم المسح على الجوربين

حكم المسح على الجوربين قال رحمه الله: [مِن خُفٍّ وجوربٍ صفيقٍ ونحوِهما] (مِن خُفٍّ) أي: سواءً مَسَحَ على خف أو جورب، فيستوي في ذلك أن يكون من الخفاف وهي التي تكون من الجلد، أو الجوارب، والجوارب: جمع جورب، والجورب الأصل فيه أن يكون من القماش؛ ولكن له صورتان: الصورة الأولى: أن يكون من القماش، أي: كله من القماش، كجورب صوف، وجورب قطن، فهذا يعتبر جورباً من القماش الخالص. الصورة الثانية: أن يكون من القماش المنعَّل، وصورته: أن يكون أعلاه من الصوف، وأسفلُه جلداً، فهذا يسمونه: (الجورب المنعَّل)، فهو من القماش؛ لكن بطانته التي تلي موضع الأرض أو موطئ القدم تعتبر من الجلد، وهو موجود إلى الآن. أما الجوارب ففيها مسألتان: المسألة الأولى: هل يجوز أن يُمسح على الجوارب كما يُمسح على الخفاف؟ المسألة الثانية: هل ذلك شامل لكل جورب؟

الخلاف في مشروعية المسح على الجورب

الخلاف في مشروعية المسح على الجورب أما المسألة الأولى: وهي هل يُمسح على الجورب كما يُمسح على الخف؟ ففيها قولان مشهوران: القول الأول: يُمسح على الجورب كما يُمسح على الخف، وبه قال الإمام أحمد وأهل الحديث. القول الثاني: أنه لا يُمسح على الجورب، وهو مذهب الجمهور. فالذين قالوا بمشروعية المسح على الجورب احتجوا بحديثٍ رواه الترمذي وأحمد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين). والذين قالوا بعدم جواز المسح على الجوربين، وأنه لا يُمسح إلا على الخفاف التي هي من الجلد، احتجوا بأن الأصل: الغَسل أو المسح على الخفين، وأما الجوارب فقالوا: أولاً: لم تصح أحاديثها كأحاديث الخفين. ثانياً: أنه يحتمل أن قول الصحابي: (على الجوربين) المراد به: الخفاف التي ورد ذكرها في الأحاديث الصحيحة. هذان وجهان لهم. والذي يظهر -والله أعلم- جواز المسح على الجوربين: أولاً: لصحة الحديث، فقد صحَّحه غير واحد من أئمة الحديث، منهم الإمام الترمذي والإمام أحمد رحمة الله عليهما. ثانياً: أن حمل الحديث على الخفين خلاف الظاهر، والمعروف أن إطلاق الجورب له معنى، وإطلاق الخف له معنى، وليس الصحابي بجاهل بدلالة الألفاظ، فإنه عبر بلغة صحيحة، قالوا: إن رواية: (مُنَعَّلَين) تدل على الجلد، ويمكن أن يجاب عنها بأن (المُنَعَّلَين) المراد بها بعض أنواع الجوارب، وهي الجوارب التي لها بطانة من الجلد، فإذا ثبتت رواية: (مُنَعَّلَين) فتحمل على الجلد، مع أنه أجيب: بأنه مسح على الجورب ومعه نعله، فمسح صلى الله عليه وسلم على جورب بنعل، أي: كان النعل موجوداً، فمسح على ظاهر الجورب، والنعل لا يلزم مسحه؛ لأنه من باطن كالخف، فاقتصر على مسح الجورب، فقال الصحابي: (جوربٍ مُنَعَّل) أي: أن قصده أنه مسح مع وجود النعل. وعلى هذا يصح القول بالمسح على الجوربين.

صفة الجورب الذي يمسح عليه

صفة الجورب الذي يمسح عليه وإذا ثبت هذا فلا بد في الجورب من أن يكون صفيقاً، وعلى ذلك كلمةُ جماهيرِ مَن يرى المسحَ على الجوربين؛ لأن الجوارب الخفيفة الشفافة هذه لم تكن موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ إنما كانوا يلبسون الجوارب ويمشون بها، ولذلك كانوا يلفون الخرق على أقدامهم، وهذا يدل على ما اعتبره العلماء من اشتراط الصفاقة أي: كونه صفيقاً. وأيضاً فالنظر يقتضيه، فإن الجورب مُنَزَّل منزلة الخف، والخف صفيق، ولا يمكن للجورب أن يُنَزَّل منزلة الخف إلاَّ بالثخانة والصفاقة. وعلى هذا: فإنه يصح المسح عليه -كما نص العلماء- إذا كان صفيقاً ثخيناً، فالذي يشف البشرة لا يُمسح عليه؛ لأنه غير معروف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قال بجوازه بالقياس، أي: يقول: أقيس هذا الشفاف على الجورب الموجود على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يجاب عنه من وجهين: الوجه الأول: أن القياس على ما هو خارج عن الأصل لا يطَّرِد، ولذلك الأصل: غسل الرجلين، والمسح خلاف الأصل، فلا يطَّرِد القياس على الرخص. الوجه الثاني: أن المسح على الجورب إذا كان شفافاً لا يُنَزَّل منزلة الثخين؛ لأن الفرق بين الشفاف والثخين ظاهر، ومن شرط صحة القياس: ألاَّ يوجد الفارق بين الأصل والفرع، فالفرع -وهو (الشُّرَّاب) الشفاف- خفيف، والأصل المقيس عليه -وهو الجورب- ثخين، وإنما جاز المسح على الجورب الثخين لمشابهته الخفين، فيُمنع في الخفيف لعدم وجود وصف الأصل، وهو: كونه ثخيناً، وعلى هذا فالذي نص عليه من يقول بمشروعية المسح على الجوربين اشتراط كونه صفيقاً، كما نبَّه عليه غير واحد من الأئمة، منهم الإمام ابن قدامة -رحمة الله عليه- في المغني، وكذلك المتون المشهورة في المذهب: كالإقناع للحجاوي، والمنتهى للنجار، كلهم نصوا على كونه صفيقاً، إخراجاً للشُّرَّاب الخفيف الذي يمكن أن يصف البشرة أو يكون غير صفيق. (مِن خُفٍّ وجوربٍ صفيقٍ ونحوٍهما). (وجوربٍ صفيقٍ) كما ذكرنا، أي: ثخين. (ونحوِهما): أي: نحو الخف أو الجورب الثخين، حتى قالوا: لو وُجِد نعال من الخشب جاز أن يُمسح عليها، فقد يوجد إنسانٌ -مثلاً- يَصْنَع له نعالاً من خشب، فيقولون: لا حرج أن يمسح عليها، المهم أن يكون ساتراً للقدم أي: أن الحكم لا يختص بالجلد ولا بالقماش، فلو صُنِّع الآن نوعٌ من (الشَّراريب) من غير القماش ومن غير الجلد لجاز أن يُمسح عليها؛ لكن بشرط أن تكون في حكم الخفين أو الجوربين.

العمامة وأحكام المسح عليها

العمامة وأحكام المسح عليها قال رحمه الله: [وعلى عمامةٍ لرجل] بعد أن فرغ رحمه الله من الخفين، شرع في العمامة. والعمامة: مأخوذة مِن عَمَّ الشيءَ إذا شملَه، ووصفت العمامة بكونها عمامةً؛ لأنها تشمل الرأس بالغطاء، فهي تستر الرأس، فيقال لها: عمامة.

أنواع العمائم

أنواع العمائم والعمامة تأتي على صور: - الأولى: العمامة التي لها ذؤابة ومحنَّكة. - الثانية: العمامة التي لها ذؤابة وغير محنَّكة. - الثالثة: العمامة التي لا ذؤابة ولا عَذَبَة لها. هذه ثلاث صور للعمائم. أما العمامة التي لها ذؤابة ومحنكة فهي موجودة إلى الآن عند بعض المسلمين، تكون غطاءً للرأس يلف بها الساتر على الرأس، ثم تبقى فضلة من الملفوف يؤتى بها من تحت الحنك، حتى إنهم بعض الأحيان كانوا يسافرون في البر على الإبل وربما آذاهم التراب أو الغبار، فترى الرجل يضع ما تحت الحنك من العمامة على أنفه فلا ترى منه إلا عينيه، هذه العمامة هي على أكمل صورتها؛ تكون ساترة للرأس ومحنكةً من تحت الحنك، فالأصل في العمائم أن تكون إما محنكة أو لها عَذَبَة، وقد كانت عمائم المسلمين على هذه الصفة، إما لها عذبة وإما محنكة، ولذلك قال حسان بن ثابت رضي الله عنه يصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار: إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بيَّنوا سُنَناً للناس تُتَّبَعُ يرضى بها كلُّ من كانت سريرته تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا فقوله: (إن الذوائب) أي: أهل الذوائب التي كانوا يلبسونها، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عمم عبد الرحمن بن عوف، وأرسل العَذَبة بين كتفيه، وقال: (هكذا فاعتمَّ يا ابن عوف). فالعمامة تكون لها عذبة، إما محنكة وإما غير محنكة. وغير المحنكة: هي العذبة المرسلة؛ التي تكون مرسلة إلى الوراء بين الكتفين، أو يرسلها على جهة كتفه الأيمن تفضيلاً للأيمن على الأيسر. هذا بالنسبة لعمائم المسلمين. وهناك نوع ثالث من العمائم: وهي العمامة المقطوعة التي لا عذبة لها ولا ذؤابة، وكانوا يُلْبِسُونها أهلَ الذمة؛ لأن أهل الذمة إذا كانوا مع المسلمين فإنهم لا يشابهونهم، وهي سُنَّة عمرية سَنَّها الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه، ولها أصل في السُّنة: أن الكفار إذا دخلوا بلاد المسلمين فإنهم لا يشابهونهم في اللباس، فلذلك كان يلزمهم بعمائم مخصوصة، وشَدِّ الزُّنَّار في وسطهم، حتى يكون علامةً لهم، فإذا ساروا بين المسلمين تكون لهم ذلةً وصغاراً، فيلبسون هذه العمائم تمييزاً لهم، حتى لا يكون لهم فضل المساواة ولا الفضل على المسلمين. فهذا النوع من العمائم يختص بأهل الذمة، وقد منع المسلمون من لبسه، وشدد العلماء رحمهم الله فيه؛ لأن فيه مشابهةً بأهل الذمة. ولذلك قال المصنف: [محنكةٍ أو ذات ذؤابة] وتجد كذلك في كتب الفقهاء اشتراط أن تكون العمامة لها عذبة؛ لأن عمامة النبي صلى الله عليه وسلم وعمائم الصحابة -كما هو معروف وسبقت الإشارة إليه- كانت لها عذبة وليست بعمامة مقطوعة، ولذلك قالوا: إذا لبس العمامة فإنه لا بد أن تكون على الصفة الشرعية؛ لأنه إذا لبسها على صفة أهل الذمة فإنه لا يستباح بمثلها الرخصة، خاصةً على مذهب الحنابلة الذين يرون أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، فهو منهي عن مشابهة أهل الذمة، فلا يمسح على مثل هذا.

حكم العمامة للمرأة

حكم العمامة للمرأة (وعلى عمامةٍ لرجلٍ محنكةٍ أو ذاتِ ذؤابة) (وعلى عمامةٍ لرجلٍ) فالمرأة لو اعتمت فإن اعتمامها يكون على حالتين: الحالة الأولى: أن يكون بدون حاجة، فتكون -والعياذ بالله- ملعونة؛ لأنها تتشبه بالرجال، وقد يفعل هذا بعض المسترجلات من النساء، نسأل الله السلامة والعافية. الحالة الثانية: أن تحتاج إلى العمامة لشد رأسٍ من وجعٍ أو ألَمٍ أو نحوِ ذلك، فهذا أمر مستثنى، فتعصب الرأس فيكون كالعمامة، فمثل هذا لا يُمسح عليه، والمرأة ليست لها عمامة، فليست بمحل للرخصة.

دليل جواز المسح على العمامة

دليل جواز المسح على العمامة والأصل في مشروعية المسح على العمامة حديث المغيرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على ناصيته وعلى العمامة)، وورد أيضاً أمره عليه الصلاة والسلام بالمسح عليها، وحسَّنه بعضُ أهل الحديث. والحديث المتقدم أصلٌ في جواز المسح على العمامة، ويُشترط فيها أن تكون كما قال المصنف: (محنكةٍ أو ذاتِ ذؤابة) أي: موضوعة تحت الحَنَك، وقد كانوا يستحبونها لأهل الفضل، ويعتبرونها نوعاً من كمال الرزانة والحلم؛ لأنه كلما تعاطى الإنسان كمال الستر كلما كان ذلك أهيب، وإلى عهد قريب ترى كثيراً من الأخيار لا يستحبون أن تكون نواحي الصدر مكشوفة، وكانوا يسترونه بطرف العمامة، حتى ولو كانت من العمائم المعروفة الآن، ولا يزال هذا الآن نوعَ شعارٍ لأهل الخير؛ وما ورد في السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم من كشفه لصدره هو حالة مخصوصة، دخل فيها الصحابي عليه فوجد أزراره قد فتح منها حتى بدا صدرُه عليه الصلاة والسلام، وهذا لا حرج فيه، أن يبدو الصدر، والعلماء يقولون: قد يفعل النبي صلى الله عليه وسلم الشيء للجواز ونفي الحرج؛ لكن الكمال مطلوب، ولذلك قالوا: الأكمل للإنسان أن يراعي ستر هذا الموضع، وهذا معروف، فإن المشاهد بالحس والطبع أن الناس تحب وتجل من الإنسان إذا عرف منه ذلك؛ لأنه أبلغ في الاحتشام وأبلغ في السكينة والوقار. فالمقصود: أن المحنكة تكون تحت الحنك؛ ولكن لا يشترط في العذبة -كما قلنا- أن تكون تحت الحنك، فلو كانت العذبة طويلة وأرسلها من ورائه شرع له أن يمسح.

الفرق بين المسح على العمامة والمسح على الخفين

الفرق بين المسح على العمامة والمسح على الخفين والمسح على العمامة يخالف المسح على الخفين، وذلك من وجوه: - منها: ظهور بعض المحل المفروض، فإن العمامة يظهر فيها أطراف الرأس الأيمن والأيسر كالسوالف ونحوها، فهذه تغتفر ويجوز كشفها، وكذلك الناصية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على ناصيته وعلى العمامة، وكانوا يكشفونها، وكان ذلك يعتبر من شعار أهل الصلاح والخير، أنهم يكشفون النواصي، فإذا كشف شيئاً من ناصيته فلا حرج، ولا يعتبر ستر جميع محل الفرض شرطاً، فقالوا: تغتفر الناصية مُقَدَّمُ شعر الرأس، والقفا؛ لأنه لا بد إذا تعَمَّم أن يظهر شيءٌ قليل مِن آخِرِ الرأس وأطراف الوجه، فهذا يُغتفر ولا حرج في كشفه، ولا يلزم بالمسح عليه؛ لكن قالوا: يستحب المسح عليه كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على ناصيته وعلى العمامة، فاستحب بعض أهل العلم أن يجمع بين الناصية والعمامة، ومن ذلك أيضاً الأُذُنان؛ لأن الأُذُنين تكونان خارجتين عن الموضع الذي يُعَمَّم به الرأس عادةً.

مسح المرأة على الخمار

مسح المرأة على الخمار قال رحمه الله تعالى: [وعلى خُمُرِ نساءٍ مُدارةٍ تحت حُلُوقهن في حدث أصغر]. (وعلى خُمُر نساءٍ): هذا فيه أثر عن أم سلمة رضي الله عنها، والخَمْر: أصله التغطية، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (خَمِّروا الآنية) أي: غَطُّوها، وسميت الخَمْر خَمْراً -والعياذ بالله- لأنها تغطي العقل، فكأن الإنسان لا عقل عنده، ووُصِف الخمار بكونه خماراً؛ لأنه يستر المرأة ويغطيها، مما يكون من رأسها، فيجوز لها أن تمسح عليه، وهذا على اختيار بعض العلماء لأثر أم سلمة رضي الله عنها، وفيه حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم. (مُدارةٍِ تحت حُلُوقهن) قالوا: إنه ينبغي أن يكون ذلك الخمار مُداراً، مثل: المسفع ونحوه، ويكون تحت الحلق كالحال في المحنك. (في حَدَثٍ أصغر) بعد أن بيَّن -رحمه الله- ما الذي يُمسح عليه، ووقت المسح، شرع في بيان محل المسح. فيختص المسح على الخفين وعلى العمامة وعلى الخمار بالحَدَث الأصغر دون الأكبر، فلا يجوز للإنسان أن يمسح على خفيه إذا اغتسل من الجنابة، بل يجب عليه نزع الخفين وغسل القدمين، والأصل في هذا ما ثبت في الحديث الصحيح وهو حديث صفوان بن عسال المرادي قال رضي الله عنه وأرضاه: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ننزع خفافنا من بولٍِ أو نومٍ أو غائطٍ لكن من جنابة) فقوله: (من بولٍ) أي: بسبب بولٍ (أو نومٍ) أي: بسبب نومٍ (أو غائطٍ) أي: بسبب غائط، فكل هذه لا ننزع منها، ثم قال: (لكن من جنابة) أي: ننزع من الجنابة، فدل على أن الجنب باحتلامٍ أو إنزالٍ أو جماعٍ عليه أن ينزع خفيه وكذلك النفساء والحائض من جماع ونحوه، فإنه يلزمها أن تغتسل ولا تمسح على الخفين.

أحكام المسح على الجبائر

أحكام المسح على الجبائر قال رحمه الله: [وعلى جبيرةٍ لم تتجاوز قدر الحاجة]. بعد أن بيَّن -رحمه الله- المسح على الخفين، وعلى العمائم، وعلى الخُمُر، قال: (وعلى جبيرة).

الفرق بين المسح على الجبيرة والمسح على العمامة

الفرق بين المسح على الجبيرة والمسح على العمامة وهنا يَرِد Q أليست الجبيرة يُمسح عليها كما يُمسح على العمامة، فهذه من قماش وهذه من قماش، وهذه ساترة لمحل فرض وهذه ساترة لمحل فرض، فلماذا أفردها؟ و A أن الجبيرة تخالف ما تقدَّم في كونها يمسح عليها في الحدث الأصغر والأكبر، فإن الإنسان إذا جَبرَّ كسراً ووضع الجبيرة، فإنه يحتاج إلى بقائها مدةً معينة، فسببُ الرخصةِ قائم، بخلاف المسح على الخفين، والمسح على العمامة، وعلى الخُمُر، فإنه ليس مرتباً على سبب ولا علة، وإنما هي رخصة مطلقة، وبناءً على ذلك أفرد المسح على الجبائر بهذا.

دليل مشروعية المسح على الجبائر

دليل مشروعية المسح على الجبائر والأصل في المسح على الجبائر: حديث ذي الشجة الذي رواه الدارقطني وغيره: (أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سافر مع أصحابه فأصابته شجاج أو كانت به جراح، فأجنب فسأل أصحابه: هل من رخصة؟ قالوا: لا رخصة واغتسل -أي: يلزمك الغسل- فاغتسل فمات، فقال صلى الله عليه وسلم: قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذ جهلوا، إنما شفاء العِيِّ السؤال -وفي بعض الروايات-: قد كان يكفيه أن يعصب جرحه) فأخذوا منه مشروعية المسح على العصائب والجبائر، وهذا الحديث مُتَكَلَّمٌ في سنده، والقول بضعفه في رواية الجبائر أقوى؛ ولكن أصول الشريعة وقواعدها العامة تدل على مشروعية المسح على الجبائر، ولذلك اتفقت كلمة العلماء وأجمعوا على أنه يجوز المسح على الجبيرة؛ لأن التكليف شرطه الإمكان، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فإذا كان بإمكان المكلف أن يفعل كُلِّف، وإن لم يكن بإمكانه لم يُكَلَّف، فهذا الذي أصابه الكسر في يده أو ساعده أو زنده أو كفه ليس بإمكانه أن ينزع الجبيرة حتى يغسل، وذلك يترتب عليه ضرر عظيم؛ ولأن الإذن بالشيء إذنٌ بلازمه، فلما أذنت الشريعة له أن يتداوى فقد أذنت بلازم التداوي من بقاء الجبيرة، فتبقى الجبيرة على ما هي عليه، ويمسح.

شروط المسح على الجبائر

شروط المسح على الجبائر ويحل هذا الساتر محل الأصل بشروط: أولاً: وجود الحاجة، أي: أن يتحقق من وجود الكسر الذي يُحتاج به إلى الجبر ويتعين الجبر. ثانياً: أن يشد بقدر الحاجة، فلو فُرض أن موضع الكسر الذي يُحتاج بسببه إلى الجبر محدد بخمسة أصابع، ويحتاج الطبيب إلى إصبع قبل وبعد، أي: من البداية والنهاية -وهذا يسمونه في الطب: الاحتياط- فإنه لا يوضع على نفس الموضع؛ وإنما يزيد قدراً لكي يتماسك، أو يكون في الخشبة الموضوعة في الجبيرة التي تعين على التحام العظم، فهذا الزائد الذي هو الإصبع السابق واللاحق في حكم الأصل فيُشرع ولا حرج؛ لكن لو زاد إصبعين أو ثلاثه أو أربعة، فإنها ليست بداخلة في الإذن، وبناءً عليه يُحكم عليه بما يلي: أن يُؤمر بإزالة الجبيرة وإعادتها إلى الموضع الذي يُحتاج إليه بقدر الضرورة، فإن وَسِعه ذلك -أي: كان بإمكانه أن يعيد الجبيرة مرة ثانية، بأن تُفَك وتُعاد- دون ضرر لَزِم. وإن ترتب الضرر ففيه خلاف بين العلماء: فمنهم من قال: يبقيها والرخصة قائمة له لمكان الضرر اللاحق، ويأثم الطبيب بالزيادة ولا حرج على المكلف. ومنهم من قال: يبقيها ويتيمم لما زاد. ومنهم من قال: يبقيها ويعيد الصلاة إذا برئ. هذه كلها أوجه للعلماء رحمة الله عليهم. ولكن الحقيقة القول بأنه يبقيها إذا عَلِم أن النزع يتسبب في الضرر من القوة بمكان، وتُنَزَّل منزلة الضرر بنفسه؛ لأنه لما تعدى الضرر بإزالته نُزِّل هذا الزائد منزلة المحتاج؛ لأن زوال الضرر بإزالتها موقوف على إبقاء هذا الزائد فيُنَزَّل منزلة الحاجة، وعلى هذا: فيقوى القول بأنه يبقيها ويصح منه المسح عليها مع الزيادة على الموضع. (لم تتجاوز قدر الحاجة) للقاعدة الشرعية: (أن ما أبيح للضرورة يُقَدَّر بقدرها) المتفرعة عن قاعدة من القواعد الخمس المعروفة: (الأمور بمقاصدها). (اليقين لا يُزال بالشك). (الضرر يُزال). (المشقة تجلب التيسير). (العادة مُحَكَّمة). هذه الخمس القواعد التي انبنت عليها مسائلُ الفقه الإسلامي. والقاعدة الرابعة: (المشقة تجلب التيسير)، تفرعت عنها قواعد كثيرة، منها: (الضرورات تبيح المحظورات)، فيصبح في هذه الحالة من اضطر إلى شيء أبيح له فعله ولو كان محظوراً، ويتفرع على هذه القاعدة (أن ما أبيح للضرورة يُقَدَّر بقدرها)، فهي مفرعة على هذا الأصل الذي تفرع عن القاعدة العامة. وبناءً على هذا: ييسر على المكلف بتغطية هذا الموضع الذي أمر بغسله مباشرة، ثم يَمسح على ما ستر؛ ولكن يتأقت المسح بقدر الحاجة، فقال المصنف: إذا لم يتجاوز بشدها موضع الحاجة، على التفصيل الذي ذكرناه.

المسح على الجبائر في الحدث الأكبر

المسح على الجبائر في الحدث الأكبر قال رحمه الله: [ولو في أكبرَ إلى حَلِّها] (ولو في أكبرَ): أي: ولو وقع المسح عليها في حدث أكبر، فإنه يجوز له أن يمسح عليها ولو كان في جنابة، ولا يلزمه الفك؛ لأن الرخصة التي تبيح له المسح في الحدث الأصغر تبيح له في الحدث الأكبر. (إلى حَلِّها) أي: إلى أن يحل هذا الرباط أو هذه الجبيرة؛ ولكن يرجع ذلك إلى قول أهل الخبرة، فإن قال الأطباء: تبقى شهراً، فإنها تؤقت بالشهر، وإن قالوا: تبقى شهرين، فكذلك، فلا يتجاوز القدر الذي حكم الأطباء بالحاجة إليه، فإذا زاد عليه فإنه لا يصح له أن يمسح في ذلك الزائد من الزمان. قال رحمه الله: [إذا لَبِس ذلك بعد كمال الطهارة] يتوضأ قبل شدها، ثم تُلَف، أي: يقوم الطبيب بوضع ما يريد ويَلُف، وهذا إذا وسع الوقت للوضوء، أما لو أنه فُجِئ بالمرض أو كان مُغْمَىً عليه، واضطُّرَّ إلى هذا الشد، واحتيج إلى جبر كسره قبل أن يتوضأ، فقول طائفة من العلماء أن الجبيرة يمسح عليها ولو لم يمكن ذلك على وضوء، لوجود الحاجة والضرورة.

أحكام اختلاف ابتداء المسح وانتهائه

أحكام اختلاف ابتداء المسح وانتهائه قال رحمه الله: [ومن مسح في سفر ثم أقام أو عَكَسَ، أو شَكَّ في ابتدائه، فمَسْح مقيم] هذه المسألة مفرعةٌ على الأصل، فقد عرفنا أن المقيم يمسح يوماً وليلةً على الخف، ويمسح المسافر ثلاثة أيام بلياليهن على الخف، فلو فرضنا أنك كنت مسافراً فمسحت اليوم الأول، ثم رجعت إلى البلد في اليوم الثاني، فأصبحت مقيماً في اليوم الثاني، فهل نقول: العبرة بالابتداء فتتم مسحك مسح مسافر، أو العبرة بالانتهاء فتقطع مسحك لأنك أتممت مسح المقيم؟ والعكس، فلو كان مقيماً فلبس الخف -مثلاً- الساعة الثانية ظهراً وهو على طهارة، ثم انتقض وضوءه في الساعة الثالثة ظهراً، ومسح في الساعة الرابعة، ثم سافر في المغرب، فإنه في الأصل مقيم، وطرأ عليه السفر، فهل نقول: العبرة بالابتداء أو العبرة بالانتهاء -أي: ما انتهى إليه حاله-؟ فللعلماء في هذه المسألة أوجه: منهم من قال: في كل هذه الصور يُرَد إلى اليقين، والقاعدة: أن (الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل)، فالمسح رخصة، فنشُك إذا كان مسافراً وأقام: هل يتم مسح مسافر؟ فنرده إلى اليقين وهو اليوم والليلة، ولما كان مقيماً ثم سافر نشك: هل يطرأ عليه التوسع أو لا يطرأ؟ أو نبقيه على اليقين، فنرده إلى اليقين وهو اليوم والليلة، وهذا اختيار الشافعية والحنابلة. وقال بعض العلماء: إنه يعتبر المآل، فيمسح مسح المسافر، ولو طرأت عليه الإقامة، وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه. والأقوى والأحوط: أنه يتم مسح مقيم في جميع الصور، للقاعدة: أن (الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل) خاصةً وأنه في عبادة الوضوء التي ينبني عليها الحكم بصحة صلاته، وهذا هو أعدل الأقوال إن شاء الله تعالى. قال رحمه الله: [وإن أحدث ثم سافر قبل مسحه فمسح مسافر] بناهُ على قوله: (يمسح المسافر)، وإن كان أصل المذهب أن العبرة بالحدث، فكان يلزم إعمالاً لأصل المذهب أن يقول: إن العبرة بالحدث، فإن وقع حدثه في السفر أو في الحضر فالعبرة بالحدث، فقال: لا، بل نُعمل ظاهر الحديث في قوله: (يمسح المسافر) فيتحقق فيه موجب الرخصة، ويجوز له أن يتم مسح مسافر إذا وقع سفرُه قبل المسح، فلو أحدث الثانية ظهراً ثم خرج للسفر، فتوضأ ومسح في الثالثة ظهراً، فإنه يمسح ثلاثة أيام كاملة، واضح؟ وبصورة أخرى: لو أن إنساناً طرأ عليه سفر وهو مقيم، فتوضأ عند صلاة الظهر، ثم صلى الظهر، وبعد أن صلى الظهر لبس الخف أو قبل صلاة الظهر لبس الخف، المهم أنه لبس الخف بعد وضوئه هذا، ثم أحدث بعد صلاة الظهر وهو لابس للخف، ثم سافر بعد الحدث ولم يتوضأ، وفي السفر توضأ لصلاة العصر ومسح، فقال المصنف: أعتبرُ مسحه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يمسح المسافر)، فأعتبره مسافراً. ثم لو كان في السفر، مثلاً: أنت قادم على مكة، وقبل وصولك إلى مكة بساعات لبستَ الخفين وأنت على طهارة، ثم حصل الحدث الساعة الثانية ظهراً قبل دخول مكة، ثم دخلت مكة، وتوضأت ومسحت بمكة فتتم مسح مقيم. إذاً: في حال اختلاف الهيئة من سفر إلى حضر يتم مسح مقيم في جميع الصور، إلا إذا وقع مسحُه بعد الحدث الأول في حال سفر أو حال حضر فالعبرة بالمسح لا بالحدث الذي يقع بعد اللبس.

ما لا يمسح عليه

ما لا يمسح عليه

حكم المسح على القلانس واللفائف

حكم المسح على القلانس واللفائف قال رحمه الله: [ولا يمسح قلانس ولفافة]. شرع -رحمه الله- في بيان ما لا يُمسح عليه، والقلنسوة واللفافة لا يعتبر كل واحد منهما من جنس ما يُمسح عليه، ولذلك لا يصح المسح عليهما، ولا يُمسح على طاقية ونحوها، لعدم استيعابها لمحل الفرض؛ ولأن الرخصة ثبتت في العمامة، والقلنسوة ليست بعمامة ولا في حكم العمامة، وأما اللفافة: فهي ما يُلَف على الشيء أي: يُدار عليه، ولا يمسح على شيء يحيط بالعضو من القماش إلا ما ورد الاستثناء فيه، وهو الجبيرة، وأما ما عدا ذلك من اللفافات ونحوها فإنها لا تأخذ حكم الرخصة. يتفرع على هذا الحكم: لو أن إنساناً أصابه جرح، ثم غطَّى هذا الجرح بما يسمى في العرف اليوم بـ (الشاش)، ولم يكن ذلك على وجه الرخصة وهي الجبيرة، فإنه لا يُمسح على هذه اللفائف، وتختص الرخصة بما ورد الشرع به من العمامة، وفي حكمها الجبيرة لمكان الإجماع، كما بينا ذلك سابقاً.

حكم المسح على ما لا يثبت ولا يستر محل الفرض

حكم المسح على ما لا يثبت ولا يستر محل الفرض قال رحمه الله: [ولا ما يسقط من القدم، أو يُرى منه بعضُه] يتأتى ذلك فيما إذا لبس الخف ولم يكن ساتراً لمحل الفرض لتساقطه، وقد ذكرنا أن من شرط المسح على الخف: أن يثبت بنفسه، فلا ينكشف من محل الفرض شيئ، فإذا كان الخف على هذه الصورة التي ذكر، فإنه ليس بمحل للرخصة، أعني: رخصة المسح.

كيفية المسح على الجرموق

كيفية المسح على الجرموق قال رحمه الله: [فإن لَبِسَ خفاً على خفٍٍ قبل الحدث فالحكم للفوقاني] اختلف العلماء رحمهم الله في مسألة المسح على خف فوق خف: فقال بعض العلماء: الرخصة تختص بالخف إذا باشر القدم. وقال بعضهم: يجوز المسح على خف فوق خف، أي: لا يشترط أن يكون الخف قد وَلِي البشرة أو وَلِي القدم. فدرج المصنف -رحمه الله- على القول الثاني، والقول الأول أقوى، وذلك أن الرخَص يُقتصر فيها على صورة ما أذن به الشرع، والذي ورد في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم: مسحه على خف يلي محل الفرض، وعلى هذا: لا يقوى القول بالمسح على خف فوق خف؛ لأنه يلي ما حكمه المسح، ولا يلي عضواً يختص الحكم بغسله. وبناءً على القول الذي اختاره المصنف رحمه الله: إن لبس خفاً فوق خف فإن الحكم يكون (للفوقاني) أي: الأعلى منهما.

مقدار المسح

مقدار المسح قال رحمه الله: [ويَمسح أكثرَ العمامةِ] لأن مسح كل العمامة من الصعوبة بمكان، وذلك يخالف موجب الرخصة، وقد ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على عمامته، كما في حديث المغيرة، ولم يحكِِ المغيرة رضي الله عنه تكلُّف النبي صلى الله عليه وسلم في تتبعه المسح لكل العمامة، بل قال: (ومسح على ناصيته وعلى العمامة)، فدل هذا على أنه إذا مسح على العمامة فإنه يمسح أكثرها، ولا يشترط في صحة المسح: الاستيعاب.

مقدار المسح على الخف

مقدار المسح على الخف قال رحمه الله: [وظاهر قدمِ الخُفِّ]: للعلماء في المسح على الخُفين أقوال: فقالت طائفة من أهل العلم: يُمسح أعلى الخف وأدناه، وفيه رواية في حديث المغيرة: (ومسح على أعلى خفه وأسفله). ومنهم من قال: يَمسح الأعلى ولا يمسح الأدنى، وذلك لقوله: (ثم مسح على خفيه) وهذا يقتضي أنه للأعلى، وأيد ذلك ما جاء عن علي رضي الله عنه أنه قال: (لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره؛ ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه) فدل هذا على أنه لا يُمسَح الباطن، وهو الذي يلي الأرض، وقوله: (لو كان الدين بالرأي -أي: بالاجتهاد- لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره) لأن الإنسان إنما يطأ الأرض بباطن قدمه، فباطن الخف الذي يلي الأرض أحوج لِأَنْ يُنَظَّف ويُمسح عليه من ظاهر الخف، فلما قال ذلك رضي الله عنه وأرضاه، دل على أن باطن الخف لا يُمسح. وقال بعضهم -وهي الرواية الثالثة عن مالك -: أنه يُمسح باطن الخف ولا يُمسح ظاهره. وهو قول ضعيف. فهذه ثلاثة أوجه لأهل العلم رحمة الله عليهم، أصحها وأقواها: ما اختاره المصنف -رحمة الله عليه- من أنه يُمسح الظاهر ولا يجب مسح الباطن، بل لو قال قائل بعدم استحبابه لصح قوله على ظاهر الحديث الذي ذكرنا، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام في السنن أنه: (مسح على خفه، فخط الخطوط) كما سيأتي -إن شاء الله- بيانه عند ذكر صفة المسح. قال رحمه الله: [مِن أصابعه إلى ساقه، دون أسفله وعَقِبِه] (مِن) للابتداء. (أصابعه) أي: أصابع القدمين، (إلى ساقه) يُمِرُّ كفَّه مفرقة الأصابع، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال العلماء: يجعل طرف الزند على رأس الأصابع، ثم يُمِرُّها، فإذا فعل ذلك فلا يلزمه مسح العقب، ولا يلزمه كذلك مسح ما هو أسفل القدمين.

مقدار المسح على الجبيرة

مقدار المسح على الجبيرة قال رحمه الله: [وعلى جميع الجبيرة] هذا من الفوارق بين الخفين والجبيرة، ووجه ذلك: أن المسح على الجبيرة حل محل الغَسل للعضو على سبيل الاضطرار، وإذا تعذر الغَسل للعضو وأمكن مسحه بمسح الجبيرة، تعين المسح؛ لأنه مقدور عليه، والقاعدة في الشرع: أن (البدل يأخذ حكم المُبْدَل إلا ما استثنى الشرع)، فلما كانت الجبيرة التي على ساعده -مثلاً- وُضِعت لجبر كسر، والأصل غَسل الساعد، فتعذر غَسله لمكان الحائل وتعذر غَسل الحائل فإنه يَمسح على ذلك الحائل بتمامه؛ لأنه بدل عن أصل، فالمسح بدل عن الغسل، فأصبحت الجبيرة بدلاً عن المحل، وهو البشرة، وأصبح المسح بدلاً عن الغَسل، واستثنى العلماء الخفين لورود النص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يستوعب الخف، فبقيت الجبيرة على الأصل من أن البدل يأخذ حكم مُبْدَلِه.

ما ينقض المسح

ما ينقض المسح قال رحمه الله: [ومتى ظهر بعض محل الفرض بعد الحدث أو تمت مدته، استأنف الطهارة] (ومتى ظهر بعض محل الفرض): هذا يوجب انتقاض المسح، وذلك لعلة ذكرها أهل العلم -رحمة الله عليهم- يستوي فيها أن يكون في الجبائر أو يكون في الخفين: وهي أنه إن ظهر جزءٌ من المستور الذي مُسح عليه بدل غسله فقد توجه الخطاب في الشرع بغسله، ولا يستطيع أن يغسله؛ لأن شرط الموالاة قد فُقِد، فإن مُضِي المدة بين وضوئه الذي مَسَح فيه، وبين انكشاف العضو، يقتضي بطلان شرط الموالاة، وإذا بطل شرط الموالاة تعذر أن يغسل، فيُرجع إلى الأصل من وجوب الوضوء عليه. توضيح ذلك: لو فرضنا أن إنساناً توضأ ثم نزع من خفه ما بان به محل الفرض، فحينئذٍ نقول: إنه في الأصل مطالَب بغسل رجليه، الذي هو محل الفرض، ورُخِّص له في المسح على خفيه، بشرط أن يبقى على الصورة التي أذن الشرع بها من استتمام المدة والخف ساتر لمحل الفرض، ويمسح المقيم يوماً وليلة، فإذا نزع أو انكشف جزء من محل الفرض فقد توجه خطاب الشرع بغسل الموضع؛ لأنه فَقَدَ شرط المسح، فلما توجه الخطاب بالأصل وهو: غسل الموضع، وقد مضت فترة لا يمكنه فيها أن يحقق شرط الموالاة، حُكِم بانتقاض طهارته وبطلانها، وكل ذلك مبني على شرط الموالاة، ولذلك فالمذهب الذي نص عليه المحققون: أنه لو انكشف جزءٌ من محل الفرض في الخفين، وكان قريب العهد بمسح الرأس، كأن يكون مسح برأسه ثم مسح على خفيه، وبعد دقيقة أو دقيقتين كشف عن جزء من محل الفرض أو خَلَعَ خُفَّه، فإنه يمكنه أن يغسل رجليه وتصح طهارته؛ لأن شرط الموالاة لم يُفْقَد؛ لكن صورة المسألة التي يحكم فيها بالبطلان: إذا فُقِد شرط الموالاة، كما نبه على ذلك الإمام الموفق -رحمة الله عليه- في المغني.

الأسئلة

الأسئلة

حكم المسح على الحذاء

حكم المسح على الحذاء Q ما حكم المسح على ما يسمى بـ (الجزمة) عندما يُلبس تحتها (الشُّرَّاب)؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه. أما بعد: فما يسمى بـ (الجِزَم) -أكرمكم الله- أو (الكنادر) الموجودة الآن، هذه على حالتين: الحالة الأولى: أن تكون ساترة لمحل الفرض. الحالة الثانية: أن تكون غير ساترة لمحل الفرض. فإن كانت ساترة لمحل الفرض فلا يخلو حالها من صورتين: إما أن تستر محل الفرض، ولا يكون تحتها حائل. وإما أن تستر ويكون تحتها حائل كالشُّرَّاب ونحوه. فإن سترت ولم يكن تحتها حائل فيُمسح عليها قولاً واحداً؛ لأنها في حكم الخفين، أي: إذا كانت (الكنادر) أو (الجِزَم) -أكرمكم الله- ساترة لمحل الفرض، ولو كانت طويلة كـ (الجراميق) فإنه يَمسح عليها، بشرط أن لا يكون بينها وبين الرجل حائل من (شُرَّاب) أو غيره. الصورة الثانية: أن يكون بينها وبين القدم (الشُّرَّاب)، وحينئذٍ تقع هذه المسألة مفرَّعةً على الخلاف المشهور في مسألة: من لبس خفين هل يَمسح على الأعلى أو الأدنى؟ والصحيح: أنه لا يَمسح إلا على الأدنى؛ لأنه هو الذي يلي محل الفرض، وأن الأعلى لا يقوم مقام الأدنى، وتختص الرخصة بالصورة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرد عنه أنه مسح على خفٍ فوق خف. وبناءً على ذلك: إذا لبس تحتها (شُرَّاباً)، وكان (الشُّرَّاب) من جنس ما يَمسح عليه امتنع المسح؛ لكن لو كان من جنس ما لا يمسح عليه كالشفاف جاز المسح وصح؛ لأنه ليس بحائل مؤكَّد، ووجوده وعدمه على حد سواء. أما إذا لم تكن ساترة لمحل الفرض فإنه لا يُمسح عليها؛ للأصل الذي قررناه من اشتراط ستر محل الفرض. والله تعالى أعلم.

حكم المسح على الخف الذي لا يثبت بنفسه

حكم المسح على الخف الذي لا يثبت بنفسه Q في قول المصنف رحمه الله تعالى: [يثبت بنفسه من خف] قلتَ: إنه لا بد أن يثبت بنفسه لا واسعاً فضفاضاً ولا ضيقاً صغيراً على القدم، فلو قال قائل: إن النصوص الواردة في المسح على الخفين مطلقة، فما رأيكم في ذلك؟ A لا. ليس بصحيح، فالخف الذي هو خف يثبت بنفسه، أما خف يتهلهل ويسقط فهذا لا يسمى خفاً، ولماذا أُمر بأن يبقي هذا الخف يوماً وليلة إن كان لا يستر محل الفرض، فما الداعي لتحديد المدة؟! إذاً: لا بد أن يكون ساتراً لمحل الفرض. ولماذا خُصَّت الخفاف؟ لأنها تستر محل الفرض. فلذلك: الشروط قد تكون ظاهرة ومعروفة من النصوص، وقد تكون جلية في المعنى، أي: بالمفهوم إذا نظر أو سَبَر ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو تدل دلالة الحال على هذا الشرط، فإذا كان الخف يتساقط أو فضفاضاً كما مثل العلماء -رحمة الله عليهم- مثل الإمام ابن قدامة وغيره، فإنه لا يعتبر خفاً متعارَفاً عليه؛ لأن الخف جلد، وتعرفون أن الجلد لا ينزل وإنما يتماسك، أما إذا كان من القماش الذي يتهلهل ويسقط مع المشي فهذا كـ (البُلْغَة) أكرمكم الله، و (البُلْغَة) تكون لنصف القدم، وليست بساترة للقدم حقيقةً. وعلى هذا: أيَّاً ما كان، فعندك أصول: أولاً: انظر -رحمك الله- إلى من يقول بهذا القول، فتجيبه بالأصل وتقول له: هذا الخف أليس هو بدلاً عن القدمين؟ فيقول: نعم. فتقول: إذا كان يتساقط عن القدمين فهل يُشرع أن يُمسح عليه؟ فيقول: لا يشرع. فتقول: ما الدليل؟ فيقول لك: لأن الخف مُنَزَّل منزلة القدم. فتقول: إذاً: يبقى مُنَزَّلاً منزلة القدم مدة المسح، حتى يأخذ حكم المسح، أما إذا كان أحياناً يستر وأحياناً لا يستر فليس مُنَزَّلاً منزلة القدم حتى يُمسح عليه.

حكم لبس العمامة، وحكم قطع الدرس للأذان

حكم لبس العمامة، وحكم قطع الدرس للأذان Q هل لُبس العمامة من السنن أو من العادات التي كان يفعلها صلى الله عليه وسلم؟ وهل يدخل في ذلك ما يلبسه الناس مما يسمى بـ (الغُتْرة)؟ وهل لِلُبس العمائم وقتٌ للمقيم والمسافر كالخف؟ A أما لبس العمامة فيعتبر من السُّنَّة، ومَن لبس العمامة وتأسَّى بالنبي صلى الله عليه وسلم فالذي أدركنا عليه أهل العلم رحمة الله عليهم وعليه فتاويهم أنها من السنن، وهذا موجود في كتب العلماء رحمهم الله. - الأذان. - يا إخوان! لاحظوا أنني أنبه على قضية الإلزام؛ أن يكون الأذان في وقت معين! أي: في حِِلَق العلم لَمَّا نتكلم على مسألة أو على حكم فيُقاطع المحاضر أو المدرس فلا أرى أن هذا من السنة، وأنا أقول -وهذه وجهة نظري-: أنني أرى أنه في المرة الثانية لا يُقاطع؛ ففي بعض الأحيان لَمَّا نقطع حكماً شرعياً لأجل الأذان فالأذان لو أُخِّر دقيقة أو دقيقتين فما فيه إشكال. أما بالنسبة للعمامة فإن الإنسان إذا وضعها تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه مُثاب، وتعتبر من السنن على هذا الوجه، إذا قصد التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم. أما الإنكار على مَن وضعها، والتشديد عليه أو اعتباره غير مؤتسٍ بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد نبه العلماء على أنه لا يصح للإنسان أن يُلْزِم غيره برأيه. فإذا كنت ترى أن العمامة فَعَلها النبي صلى الله عليه وسلم وتتأسى به بفعلها فلا حرج عليك في ذلك وأنت مأجور. والأصل: التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى يدل الدليل على عدم التأسي، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]. وقد رأى أنس بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدُّبَّاء في القصعة، قال: (فما زلت أحبها منذ أن رأيته يتتبعها)، فإذا كان هذا في الدُّبَّاء والطعام، فكيف بالهيئة والحال والشارة، ولا شك أنه عليه الصلاة والسلام جعل الله له أكمل الهيئات وأشرفها، وقد ثبت في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب وعليه عمامة سوداء) كما في الصحيح، صلوات الله وسلامه عليه. فالمقصود: أن من فعلها تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا يُنْكر عليه، وبعض طلاب العلم الآن ينكرون على بعض من يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم بوضع العمامة، وهذا لا ينبغي، فإذا كنت ترجح القول بأنها ليست بسنة فلا تُلْزم غيرك ممن يرى التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان الصحابة يتأسون به في الطعام والشراب فضلاً عن الهيئة والشارة. وأما الخلاف بين سنن العادات وسنن العبادات، فهذا مسلك عقلي معروف عند الأصوليين لا يقدح في التأسي، وكون الإنسان يحب أن تكون هيئته كهيئة النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا حرج في هذا، إلا في حالة واحدة: وهو أن يكون شيئاً مشتهراً يلفت النظر، أما إذا قصد إحياء سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا حرج، وقد كان الناس إلى عهد قريب، قبل عشرين أو ثلاثين سنة يعرفون هذا، وكانت العمامة موجودة، وكان العلماء يتعممون، وكانوا علماء أجلاء ممن يُشار إليهم بالبنان، وكانوا يحافظون عليها في المواسم تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا ترجح عند الإنسان أنها عادة فلا يُنْكِر على مَن يفعلها تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعض العلماء: إن لها أوصافاً محمودة، فإنه قل أن تجد إنساناً يتعمم ويتعاطى رذائل الأمور، وقد يوجد بعض السَّفَلة من يفعل هذا؛ وقالوا: إنها كاللحية، فإن الإنسان إذا التحى تجده يتعاطى كمالات الأمور؛ لكن إذا كان حليقاً ربما جارى صغار السن والأحداث في بعض الأمور، أما إذا كان ملتحياً فتجده ينكف ويتورع، ولو وضع العمامة فسيجد لذلك أثراً، فليجرِّب من أراد أن يجرب، فإنه سيبتعد عن سفاسف الأمور، وسيجد من نفسه نوعاً من تعاطي الكمالات؛ لأنه يشعر أنه يخالف الناس بهذه الهيئة، وقلَّ أن تجد الناس ينظرون إلى إنسان تعمم إلا أجلُّوه وشعروا نحوه بالاحترام والتقدير، هذا إذا قصد التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم. أما بالنسبة لهذا الموجود الآن فهذا يعتبر كغطاء، أما أنه عمامة كما كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فهذا تخريج إلى الآن لم يتبين وجهه؛ لكن -إن شاء الله- فيه خير، أي: ما دام أنه يستر ويحمل الإنسان على الكمال، أما بالنسبة للأكمل والأفضل فهو ما ذكرناه. والله تعالى أعلم. وأما بالنسبة للتأقيت فقد ذكر بعض العلماء التأقيت، ففي بعض الشروح أنها تتأقت، ومنهم من يقول: إنها تطلق كالجبيرة.

الفرق بين الخف المخرق والخف غير الساتر لمحل الفرض

الفرق بين الخف المخرق والخف غير الساتر لمحل الفرض Q ما هو قولكم فيمن يقول: إنه لا يُشترط في المسح على الخف أن يكون ساتراً للمفروض؛ لأن النصوص الواردة في المسح على الخفين مطلقة؛ ولأن كثيراً من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا فقراء، وغالب الفقراء لا تخلو خفافهم من خروق، وقد كانوا يمسحون عليها في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم ينبههم على ذلك عليه الصلاة والسلام؟ A أولاً: ينبغي أن يُفَرَّق بين الخف المخروق، والخف غير الساتر لمحل الفرض، فهاتان قضيتان مختلفتان، فالساتر لمحل الفرض شيء، والمخَرَّق شيء آخر، والغالب في الخروق في الخفين أنها تكون من أسفل الخف والذي يُمسح الأعلى، فما الذي أدخل هذا في هذا؟! فهذا شيء وهذا شيء. ولذلك ينبغي التفريق، فالسلف -رحمة الله عليهم- والعلماء الأولون الذين اشترطوا ذلك ليسوا من الغفلة حتى يلزموا الناس بشيء لا أصل له في الشرع. فالخف اسم له حقيقة، إن حملت على الكمال فتبقى على الكمال حتى يدل الدليل على ما دونه، وإن حملت على الأقل فهذا خلاف الأصل. فالخف الأصل فيه أنه غير مخرق، والأصل فيه أنه ساتر. هذا المعروف في لغة العرب: أن الخف يقال لشيء ساتر، أما إذا بدت الرجلُ فلا يقال: خف. فينبغي للإنسان أن يفقه، فالنص جاء للخفين، فإذا كان الإنسان يجتهد ويقول: إن الغالب أن خفاف الصحابة إلخ، فهذا تعليل ووجهة نظر، وليست بصريح نص ولا بدلالة نص، و (مَسَحَ على خفيه) دلالةُ نص حقيقية، والخف ساتر. فإذا أردت أن تحتاط وتستبرئ لدينك فابقَ على الأصل، حتى يدل الدليل صراحةً على خلاف الأصل. فإذا اجتهد أحد وقال: الغالب فيها أن تكون مخرقة، والغالب فيهم أنهم كانوا فقراء. فنقول: هَبْ أن خفاف الصحابة كانت مخرقة، فلِضرورة أم لغير ضرورة؟ ونقول: افرض أنهم كانوا فقراء، فهل نحن فقراء؟ النقطة الثانية: أوضح من هذا أنه قد ثبت في الحديث الصحيح أن الصحابة كانوا إذا سجد أحدهم بدت عورتُه، ولذلك نهيت النساء عن رفع رءوسهن قبل الرجال. الآن: لو جاء شخص يصلي، فإذا سجد بدت عورته، فما حكم صلاته؟ إذاً: تلك حالات اضطرار. فينبغي الفقه، فليست المسألة أن الإنسان يعلل في مقابل أصل، نحن عندنا حقيقة: (خف)، فتستبرئ لدينك، وتؤدي عبادة ربك على وجه تبرأ به الذمة، وتقول: يمسح على خفين -كما قال العلماء رحمة الله عليهم- ساترَين لمحل الفرض. أما أن تقول: هؤلاء كانت خفافهم لا تسلم من الخرق، هؤلاء كانوا كذا. إلخ. فهذا تعليل، لكن هل الإنسان رأى خفافهم حتى يحكم عليها؟ فربما كانت خفافهم مخرَّقة؛ لكنها مخرَّقة من غير مكان المسح، وفرقٌ بين أن يكون الخرق في مكان المسح أو يكون في غير مكان المسح، وهذا الذي جعل بعض العلماء يخفف في الخرق إذا كان من أسفل الخف دون أعلاه. فأنا أقول: إن الأصل بقاء الألفاظ على أكمل دلالتها، حتى يدل الدليل على ما دونها. وهذا أبرأ وأسلم وأدعى لأداء العبادة على الوجه المعتبر. والله تعالى أعلم.

قاعدة (الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل)

قاعدة (الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل) Q نرجو منكم توضيح قاعدة: (الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل). A ( الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل) عندنا أصل وعندنا رخصة، والرخصة تخفيف، وغالب الرخص استباحة محظور، وتأتي على خلاف الأصل الشرعي، فمثلاً: تقول: قصرُ الصلاة رخصة؛ لأن الأصل في الصلاة أربع ركعات، والمسح على الخفين رخصة؛ لأن الأصل وجوب غسل الرجلين. وهذا منصوص عليه: أن المسح على الخفين رخصة، فعندنا أصل وهو: غَسل الرجلين، وعندنا رخصة، وهي: المسح على الخفين، فإن انقدح دليل الرخصة وموجبها قلت: يرخص له، وإن لم ينقدح تقول: الأصل البقاء على الأصل وهو: الغسل. فهم يقولون: هذه قاعدة لفظية؛ لكنها مستندة إلى أصل شرعي. نقول: يتوجه الخطابان: خطاب بالأصل: اغسل رجليك. وخطاب بالرخصة: إن شئت فامسح عليهما إن كان عليهما خفان. فإذا توجه خطاب الرخصة يتوجه بحالة مقيدة وهي: إن كنت مسافراً فثلاثة أيام، ثم ترجع إلى الغَسل، وإن كنت مقيماً فيوم وليلة ثم ترجع إلى الغَسل. فرع: إذا مسحت يوماً وأنت مسافر، ثم أقمت، فشككت، هل تبقى على حالك مسافراً فتتم الثلاث، ولا زال خطاب موجهاً لك، أو ترجع إلى الأصل؟ فنقول: الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل. ما هو الأصل؟ أنه يغسل رجليه، فنقول: يتم مسح مقيم، فإن تمت مدة الإقامة غََسَل، وإن لم تتم أتمها، ثم غسل بعد هذا الإتمام. فهذا معنى قولهم: (الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل).

الخلاف في تنزيل المصاهرة منزلة النسب من جهة تأثير الرضاع عليه

الخلاف في تنزيل المصاهرة منزلة النسب من جهة تأثير الرضاع عليه Q رضع أخي الأصغر من زوجتي، فصار ابناً لي من الرضاعة، ثم تزوج، فهل تكون زوجته محرماً لي؟ A هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء: هل المحرمات بالمصاهرة تختص بالنسب أو يأخذ الرضاعُ حكمَها؟ وتوضيح ذلك: أم الزوجة من الرضاع، هل يكون الزوج محرماً لها كالأم من النسب؟ وكذلك أبو الزوج من الرضاع هل يكون محرماً بناءً على ما يحصل في النسب للزوجة؟ هذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمة الله عليهم: فالذي نص عليه طائفة: أن الحكم في التحريم بالمصاهرة مختص بالنسب. وظاهر السُّنة من قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) تنزيل الرضاع منزلة النسب في التأثير؛ لكنهم قالوا: لا يشمل ذلك المصاهرة؛ لأنه لم يدخل في ظاهر قوله: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) فلم تُنَزَّل المصاهرة منزلة النسب. فإن كان الإنسان ترجح عنده القول بالرخصة، أو سأل مَن يرى أن المصاهرة تُنَزَّل منزلة النسب في حال الرضاع عمل بفتواه، وإذا سأل مَن يرجِّح القول بأنها لا تنزل عَمِل بفتواه، وإن كان الأقوى أنه لا يُنَزَّل منزلة الرضاع، بمعنى: أن التحريم من الرضاع في المصاهرة لا يسري كسريان التحريم من الرضاع في النسب، وعلى هذا يحتاط، على قاعدة: (الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل)؛ لأننا هنا نشك في تأثير الرضاعة، والأصل أنها ليست بمحرم، وأنها أجنبية، فيبقى على الأصل حتى يقوى تأثير الرضاعة على العموم. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.

بطلان الوضوء بانتهاء مدة المسح

بطلان الوضوء بانتهاء مدة المسح Q إذا انتهت مدة المسح للمقيم أو المسافر، فهل تبطل طهارته؟ A إذا انتهت المدة للمسح بطلت الطهارة؛ لأن الشرع أجاز لك أن تمسح هذه المدة، فإذا انتهت المدة رجعت إلى حكم الأصل وهو: وجوب غسل الرجلين، ولذلك يجب عليه أن يتوضأ وأن يلبس الخفين على طهارة، وهو ظاهر حديث المغيرة: (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين) ولذلك أجمعوا على أنه إذا انتهت المدة لا يمسح، فدل على أنه ليس بمحل للرخصة، وإذا انتفى محل الرخصة انتفى وصفها، فرُجِع إلى الأصل من كونه منتقض الوضوء. والله تعالى أعلم.

باب نواقض الوضوء [1]

شرح زاد المستقنع - باب نواقض الوضوء [1] شرع الله الوضوء، وجعله شرطاً لصحة الصلاة، وطهارة للإنسان، إلا أن هناك أشياء تفسد هذا الوضوء، وتعرف عند العلماء باسم: نواقض الوضوء، وهي من المهمات التي ينبغي للمسلم معرفتها حتى لا يعرض صلاته وطهارته للفساد.

نواقض الوضوء وأحكامها

نواقض الوضوء وأحكامها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [باب نواقض الوضوء] النواقض: جمع ناقض، يقال: نقضتُ الشيء إذا فككت طاقاته، فالنقض ضد الإبرام. ويكون النقض في المحسوسات، ويكون في المعنويات. يكون في المحسوسات فتقول: نقضتُ البناء، ومنه قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً} [النحل:92] فنفض الغزل نقض حسي. ويكون النقض معنوياً كأن تقول: نقضتُ حجتَه، ونقضتُ دليلَه، أي: أوردتُ عليه ما يوجب بطلان الحجة وكذلك دفع الدليل. ومعنى: (نواقض الوضوء) أي: مفسدات الوضوء ومبطلاته، ولما كانت هذه المفسدات والمبطلات متعددة، قال -رحمه الله-: نواقض، ولم يقل: باب ناقض، وإنما قال: باب نواقض الوضوء، أي: نواقض الطهارة الصغرى، ومفهوم ذلك أنه لا يتحدث عن نواقض الغُسل، كالجنابة والنفاس والحيض، وإنما يختص الكلام هنا على نواقض الطهارة الصغرى. سؤال: إذا عرفنا معنى قوله: (باب نواقض الوضوء)، فلماذا ذكر المصنف -رحمه الله- باب نواقض الوضوء بعد باب مسح الخفين؟ و A أن باب المسح على الخفين متمِّمٌ لباب الوضوء، وذَكَرَه بعد باب الوضوء؛ لأنه يتعلق بعضو من أعضاء الوضوء وهما الرجلان، فبعد أن فرغ -رحمه الله- من بيان حكم المسح على الخفين المتعلق بالوضوء، شرع في بيان مبطلات الوضوء، وهذا كما يصفه العلماء: الترتيب في الأفكار؛ لأن نقض الوضوء لا يكون إلا بعد وجوده، فناسب أن يجعل نواقض الوضوء بعد باب الوضوء، كأنه يقول لك: ابقَ على حكم الوضوء إلا إذا طرأ أو حدث ناقض من هذه النواقض، ولذلك يقولون: النقض يكون لِمَا وُجِد، لا لما لم يوجد، فالشخص عندما يقول: نقضتُ البيت، إنما يكون هذا بعد وجود البيت لا قبل وجوده، فالشيء غير الموجود لا يُنقض، ولذلك بيَّن لنا حقيقة الوضوء، فكأنه وُجِد، ثم بعد بيانه وَرَدَ Q متى يُحكم بانتقاض هذه الطهارة؟ وتعبير المؤلف -رحمة الله عليه- بقوله: (نواقض الوضوء) أدق من تعبير بعض العلماء بقولهم: باب نواقض الطهارة، كتعبير الخِرَقي -مثلاً-، فإنه يعتبر نوعاً من التعميم؛ لأنه يشمل نواقض الوضوء ونواقض الغُسل، فلذلك يحتاج إلى قيد؛ لكن لما يقول: باب نواقض الوضوء، فإن ذلك أبلغ في الدلالة على المراد.

انتقاض الوضوء بما خرج من أحد السبيلين

انتقاض الوضوء بما خرج من أحد السبيلين قال رحمه الله: [ينقض ما خرج من سبيل] أي يُفْسد الوضوء الشرعي ما خرج من سبيل. ما: إما بمعنى شيء. أو أنه اسم موصول بمعنى: الذي، أي: الذي خرج من سبيل. وقوله: (ما خرج من سبيل) ما هو الشيء الذي عبَّر عنه بقوله: ما؟ إن الشيء الذي يخرج من السبيل، لا يخلو: إما أن يكون طاهراً. أو يكون نجساً. وفي كلتا الحالتين: إما أن يكون معتاداً. أو غير معتاد. وأيضاً لا يخلو: إما أن يكون سائلاً. أو جامداً. أو ريحاً. وبناءً على ذلك: فالنواقض تجمع ما يلي: أولاً: البول، وهو ناقض بالإجماع، ويخرج من القُبُل. ثانياً: الغائط، وهو ناقض بالإجماع، ويخرج من الدُّبُر. فهذان ناقضان متفق على أن خروج أي واحد منهما من القبل أو الدبر مما يوجب انتقاض الطهارة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء:43]، فإنه كَنَّى به عن ما يخرج من الإنسان إذا ذهب إلى الخلاء. ثم الخارج من القُبُل يكون على النحو التالي: مَذْياً. ووَدْياً. وكذلك دَمَ استحاضة. ويكون ريحاً سواء كان من قُبُل امرأة أو قُبُل رجل، على المسألة التي ذكرها العلماء رحمة الله عليهم. ويكون غير معتادٍ: كأن يخرج الحصى من القُبُل. أو الدُّود. فنبدأ في تفصيل هذه الأمور المتعلقة بالقُبُل:

انتقاض الوضوء بالبول

انتقاض الوضوء بالبول أولاً: البول: ناقض بالإجماع، والدليل على كونه ناقضاً: حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، ويوماً وليلةً للمقيم، من بولٍِ أو نومٍ أو غائطٍ؛ لكن من جنابةٍ) فقوله: (من بولٍ) مِن: للسببية، أي: بسبب بولٍِ، فدل على أن البول ناقض للوضوء. وقوله: (أو غائطٍ) دل على أن الغائط ناقض للوضوء.

انتقاض الوضوء بالمذي

انتقاض الوضوء بالمذي ثانياً: المَذْي: ناقض على قول الجماهير، وحَكَى البعضُ الإجماعَ على أنه ينقض الوضوء، وهو الصحيح؛ لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث علي رضي الله عنه أنه قال: (كنتُ رجلاً مَذَّاءً، فاستحييت أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته مني، فأمرت المقداد أن يسأله، فقال: فيه الوضوء. وفي رواية: توضأ واغسل ذكرك) فدل على أن المَذْي يعتبر ناقضاً للوضوء. والمَذْي: هو ماء أو سائل لَزِج يخرج عند بداية الشهوة، كالملاعبة، فالسائل الرقيق الذي يخرج عند بداية الشهوة، يُعتبر مَذْياً، وإذا خرج فإنه لا يوجب الغُسل، وإنما يوجب ما يوجبه الوضوء من غَسل العضو والوضوء. هذا الناقض الثاني وهو المَذْي.

انتقاض الوضوء بالودي

انتقاض الوضوء بالودي الناقض الثالث: الوَدْي، ويعتبر ناقضاً للوضوء، وحكمه حكم البول، وهو ماء لَزِج يخرج على قطرات عَقِب البول. والفرق بينه وبين المَذْي: أولاً: أنه أخف من المَذْي. ثانياً: أن المَذْي يكون عند الشهوة، وهو يكون عقب البولِ. فهذه الثلاثة كلها نواقض وتعتبر نجسة: البول والمَذْي والوَدْي، ويشمل ذلك الرجال والنساء، كل منهم إذا خرج منه ذلك فإنه يُحكَم بكونه قد انتقض وضوءُه، ويلزم غَسل ما أصابه ذلك الخارج الذي هو: البول، أو المَذْي، أو الوَدْي.

انتقاض الوضوء بدم الاستحاضة

انتقاض الوضوء بدم الاستحاضة رابعاً: كذلك أيضاً يعتبر من نواقض الوضوء ما يختص بالنساء وهو: دم الاستحاضة: فدم الاستحاضة يعتبر موجباً لانتقاض الوضوء. والاستحاضة: استفعالٌ مِن الحيض، والمرأة المستحاضة: هي المرأة التي ينتهي أمد حيضها ويستمر الدم معها، كأن تكون عادتُها خمسة أيام، فإذا انتهت الخمسة الأيام استمر الدم معها ولا ينقطع، فيقال عنها: استحاضت، أي: استمر معها دم الحيض، فهذا الاستمرار يأخذ حكم البول؛ لكن للمرأة رُخَص رَخَّصها لها الشرع؛ نظراً لوجود الضيق والحرج عليها؛ لأن هذا الدم كلما خرج أوجب انتقاض الوضوء، فتصلي في وقت كل صلاةٍ الفريضةَ ونوافلها القبلية والبعدية والسنن المطلقة، حتى ينتهي الوقت، فإذا انتهى الوقت غَسَلت الموضع؛ لأن حكمَه حكمُ الخارجِ النجس، وتوضأتْ للصلاة المستقبَلة. هذا بالنسبة لِمَا يخرج من المرأة بعد انتهاء مدة الحيض.

حكم خروج الحصى والدود من القبل

حكم خروج الحصى والدود من القبل يبقى النظر في الحصى والدود: لو أن رجلاً خرج من قُبُله حصى، أو خرج من قُبُله دود، كأن يكون مريضاً أو مبتلىً بالدود، فيخرج من قُبُله، فهل يوجب ذلك انتقاض وضوئه؟ للعلماء أقوال في هذه المسألة: أقواها وأصحها: التفصيل: إن خَرَج الحصى وفيه رطوبة وندى، حُكِم بانتقاض الوضوء، وإلا لم يحكم بانتقاضه، فينقض لا بذاته ولكن بما صاحبه من النجاسة، فهو وإن كان طاهر الأصل؛ لكنه متنجس بالوصف، فيُحكم بكونه ناقضاً للوضوء كخروج النجس، كما لو خرجت منه قطرة بول، هذا بالنسبة للحصى والدود. أما الخارج من الدُّبُر:

انتقاض الوضوء بخروج الغائط

انتقاض الوضوء بخروج الغائط - فيخرج منه: الغائط، وهو ناقض بالإجماع.

انتقاض الوضوء بخروج الريح

انتقاض الوضوء بخروج الريح - ويخرج منه الريح: وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) فلما سئل أبو هريرة رضي الله عنه عن قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: إذا أحدث؟ قال: إذا خرج منه الريح، ففسره بخروج الريح. فقال العلماء: إن هذا يدل على أن الريح ناقض، وهذا بالإجماع. لكن يُنتبه إلى مسائل: الأولى: وهي أن الريح إنما يُعتبر ناقضاً إذا خرج حقيقةً لا توهُّماً وظناً، وفي ذلك صور، منها: أنه لو أحس بحركة في دبره دون أن يسمع الصوت أو يشم الرائحة، فإنه يبقى على الطهارة، ولو أحس بتحرُّك الدبر، لما جاء عنه عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان ينفُخ في مقعدة الرجل؛ فيظن أن وضوءه انتقض وليس بذاك، إنما يريد به أن يلبِّس عليه في طهارته). المسألة الثانية: أنه لو سمع الصوت ولم يشم الرائحة، حُكِم بانتقاض الوضوء، ولو شم الرائحة ولم يسمع الصوت، حُكِم بانتقاض الوضوء. المسألة الثالثة: أن العبرة في انتقاض الوضوء بالريح إنما هو إذا خرج فعلاً، خلافاً لمن يقول: إنه لو سمع الصوت من بطنه، فإنه يُحكم بانتقاض وضوئه، فهذا قول ضعيف؛ لأن العبرة بالخروج لا بوجود الصوت قبل المخرج، وبناءً على ذلك: فلو سمع الأصوات في بطنه، كأن يكون به ما يسمى الآن في عرف الناس بـ: (الغازات)، لو كان مبتلى، بها أو سَمِعها أو سمع صوتها في بطنه، فذلك لا يؤثر في الوضوء شيئاً، ما لم يكن صوتاً من خارج، أو مصحوباً بدليل من شم رائحة، وأما ما عدا ذلك فليس بناقض. ثم قول العلماء -رحمة الله عليهم-: لا بد من سماع الصوت أو شم الرائحة، يستوي فيه: أن يكون شكُّ الإنسان في الريح قبل الصلاة أو أثناء الصلاة، وهذا مذهب الجمهور، خلافاً للمالكية -رحمة الله عليهم- الذين يقولون: إنما يُعْمِل قاعدة اليقين في الريح إذا كان في الصلاة، لورود الرواية المقيِّدة، وقد أجيب عنها بأن ذكر أحد أفراد العام لا يقتضي تخصيص الحكم به؛ لأن عبد الله بن زيد كما في الصحيحين قال: (شُكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجلُ يُخَيَّلُ إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً) فهذا حكمٌ مطلق، وكونه جاء في الصلاة فلأن صورة الصلاة هي التي يحصل بها عامة البلوى أو أكثر البلوى؛ لأن الشيطان تشتد وسوسته عند الصلاة، فلا يقتضي ذلك تخصيص الحكم بالصلاة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) فلما قال عليه الصلاة والسلام ذلك فَهِمْنا أن السر هو تيقُّن الخارج، فألغينا كونه في الصلاة أو غير الصلاة، ما دام أن المهم هو أن يتيقن، فيستوي في ذلك أن يكون داخل الصلاة أو خارج الصلاة، تكون صورة السؤال في قوله: (شُكي إليه الرجلُ يُخَيَّلُ إليه أنه يجد الشيء في الصلاة) إنما هو سبب النص، ولا يقتضي ذلك تخصيص الحكم به؛ لأن العلةَ مُشْعِرَةٌ بالعموم. هذا بالنسبة للخارج الثاني: الريح، والريح ليس بنجس، فلا يوجب غَسل الثوب، ولا غَسل الموضع، خلافاً لبعض أهل البدع ممن لا يُعْتَد بخلافهم، الذين قالوا: إذا خرج الريح وجب عليه أن يستجمر أو أن يستنجي، وهذا قول ضعيف، فإن العبرة في الغسل إنما هي بالبول والغائط وما في حكمهما، وليس الريح في حكم البول والغائط.

حكم دم البواسير

حكم دم البواسير الخارج الثالث من الدبر: دم البواسير: ودم البواسير يأتي على صور: إن كانت ثآلِيله أو جروحه على الحلقة نفسها فهذا ليس بخارج؛ لأنه ليس من الموضع، ويقع الخلاف فيه في مسألة وهي: إذا خرج الدم من غير القُبُل والدُّبُر، هل ينقض الوضوء؟ وسنبينها إن شاء الله. والصحيح: أنه إذا كانت البواسير قروحها أو دماملها على الحلقة أو على أطرف الحلقة الخارجية، فخروج الدم لا يوجب انتقاض الوضوء. - أما إذا كانت من الداخل، وينبعث دمها إلى الخارج، فإنه يأخذ حكم دم الاستحاضة، فإن غلب الإنسان حتى استرسل معه في وقت الصلاة، فإنه يغسل الموضع ويضع قطنة، ويتوضأ عند دخول وقت كل صلاة، وأما إذا كان الدم يسيراً ويمكن التحرز منه وجب غسله كالبول والغائط سواء بسواء. إذاً دم البواسير له حالتان: الحالة الأولى: أن يسترسل ويصبح آخذاً الوقت أو أكثرَ الوقت، فهذا إذا دخل عليه الوقت غَسَل الموضع ثم شَدَّه بقطنة -إذا أمكن- كالمستحاضة، وذلك للمشقة، ثم يصلي ولو جرى معه الدم، لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286]. الحالة الثانية: أن يكون دم البواسير يخرج نَزْراً قليلاً، بحيث يتأتى منه أنه لو أنقى موضعه استقام له أن يصلي دون أن يخرج شيء، فهذا يجب عليه إنقاء الموضع واللباس الذي يليه، ثم يتوضأ ويصلي. هذا بالنسبة لدم البواسير.

حكم خروج الدود أو الحصى من الدبر

حكم خروج الدود أو الحصى من الدبر يبقى النظر في الخارج من غير البول والغائط والريح: وهو الخارج من دود، أو حصى: فلو خرج من الدُّبُر دودٌ أو حصى، فالقول فيه كالقول في القُبُل؛ أنه إذا صحبه ندى أو رطوبة حُكِم بالانتقاض، لا للذات؛ ولكن لما صاحبه من النجاسة. لكن هنا مسألة ينبغي التنبيه عليها: وهو أنه ينبغي الاحتياط، فلو خرج الدود أو خرج الحصى فإنه يحتاط بالوضوء، وبإعادة ذلك الوضوء. ومسألة خروج الحصى أو الدود تتفرع عليها مسائل، منها: هل خروج الطاهر من القُبُل والدُّبُر يوجب انتقاض الوضوء أو لا يوجبه؟ قال بعض العلماء: خروج الطاهر من القُبُل أو الدُّبُر يوجب انتقاض الوضوء، بدليل المَنِي، فقد قال عليه الصلاة والسلام لـ عمر لما سأله: (أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: توضأ واغسل ذكرك)، قالوا: إن المَنِي طاهر، فأمره بالوضوء وغَسل العضو، فدل على أن الطاهر إذا خرج أخذ حكم النجس، هذا وجه من يقول: إن الحصى والدود وكل طاهر يخرج من القُبُل والدُّبُر ينقض الوضوء. لكن أجيب بأن الأمر من النبي -صلى الله عليه وسلم- لـ عمر: بقوله: (توضأ واغسل ذكرك) ليس لذات الخارج، وإنما هو لعلة طبية، حتى قال بعض الأطباء: إن مرضَ البروستاتا ينشأ عن عدم غسل العضو بعد خروج المني، لكن إذا صبَّ الماء على العضو بعد خروج المَنِي فإنه أبلغ في الوقاية -بإذن الله عز وجل- من مرضها، فأصبحت علةً طبية أبلغ منها شرعية، ويؤكد هذا: أن مجرى البول ليس بمجرى المَنِي، فدل على أنه لا يجري على مسألتِنا؛ لأن مسألتَنا أن يجري الطاهر في مجرى البول وأن يخرج من مخرجه، والمَنِيُّ ليس مخرجه من مجرى البول، كما هو ثابت طبياً. وبناءً على ذلك إذا قلت: إن خروج الطاهر يوجب انتقاض الوضوء، سواءً كان من قُبُل أو دُبُر، فالعلماء يقولون: لو أدخل الطبيب آلةً في الدبر وسحبها انتقض الوضوء، مثل المناظير الموجودة الآن التي تتفرع عليها مسائل منها: أنها توجب انتقاض الطهارة، فإذا سمعتَ من يفتي بانتقاضها، فهو قول مخرَّج على القول بأن مجرد خروج الطاهر -بغض النظر عن كونه أُدخِل وأُخرِج، أو كونه خَرَج من الجوف- يوجب انتقاض الطهارة. وقوله: (ما خرج). الخروج ضد الدخول، ويرد Q ما ضابط تقييده بوصف الخروج؟ الخروج يتحقق بمجاوزة حلقة الدبر بالنسبة لما يخرج من الدبر، أو يكون على رأس مجرى الإحليل في الحشفة، بالنسبة للقُبُل. ويتفرع على هذا مسائل: منها: المسألة اللطيفة: لو أن إنساناً دهمه البول -كما يقع لبعض المرضى- وهو في التشهد، فأمسك العضو وقد احتقن مجرى البول حتى سَلَّم، ثم خرج بعد سلامه، صحَّت صلاته، ولا عبرة بكونه في المجرى المقارب للمخرج. إذاً: لا بد في الحكم بكون الوضوء منتقضاً أن يكون قد خرج من رأس العضو سواءً كان للرجل أو للمرأة. فلابد من المجاوزة، فلو شعر به في المجرى لم يكن شعورُه بجريانه في المجرى موجباً للحكم بالانتقاض.

معنى السبيل والفرق بينه وبين الطريق

معنى السبيل والفرق بينه وبين الطريق ومعنى قوله: (من سبيل) السبيل: هو الطريق. وقال بعض العلماء: إن هناك فرقاً بين السبيل والطريق، فالسبيل يكون في المعنويات: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55] أي: ضلالهم وبُعدهم عن الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108] أي: سبيل الخير من هداية وصلاح، فقالوا: السبيل يختص بالمعنويات، كالهداية والضلالة، وتقول: سبيلي طاعة الله عز وجل، وسبيلي اتباع الكتاب والسنة، هذا في المعنويات. وأما الطريق فيكون في المحسوسات، فلا يقال: طريق، للمعنويات، ولا يقال: سبيل، للمحسوسات، إلا على سبيل التجوُّز. هذا قول اختاره بعض المفسرين في الفرق بين تعبير القرآن بالسبيل وتعبيره بالطريق؛ لكن قول المصنف هنا: (ما خرج من سبيل) يخالف هذا الفرق؛ لأنه جعل السبيل في المحسوسات، وقلنا: إن بعض المفسرين يجعل السبيل في المعنويات، فيكون فعل المصنف ضرباً من التجوُّز؛ لأنه لو قال: (ما خرج من طريق) لَأَوْهَمَ؛ لكن لما قال: (سبيل) كان فيه نوعٌ من انحصار الذهن في الموضع المعروف. قوله: (من سبيل) للإنسان سبيلان: القُبُل. والدُّبُر. وهذان السبيلان هما الأصل اللذان إذا خرج منهما شيء فإنه يوجب نقض الوضوء، وهذا ما قرره العلماء.

حكم خروج البول والغائط من فتحة غير السبيلين

حكم خروج البول والغائط من فتحة غير السبيلين هنا مسألة: لو أن إنساناً فُتِحت له فتحةٌ يخرج منها الخارج، من بول أو غائط، سواءً وقعت فوق القُبُل أو فوق الدُّبُر، فهل نحكم بكون الخارج من هذه الفتحة خارجاً من السبيل، ويأخذ حكم ما قرره العلماء -رحمة الله عليهم- من كونه ناقضاً؟ أو نقول: نقتصر على السبيل المعتبر، وكل فتحة سواءً كانت لقُبُلٍ أو دُبُر، لا تؤثر؟ وجهان للعلماء: أصحهما: أن الفتحة تُنَزَّل منزلة الأصل، فمن انسدت مقعدته، أو مرض فغُيِّر مجرى بوله وغائطه، فإن هذا يقتضي أخذ حكم الأصل، والبدل آخذٌ حكم مُبْدَله. لكن من العلماء من أطلق في حكمها فقال: كل فتحة خرج منها الخارج فإن الوضوء ينتقض بخروج الخارج منها. ومنهم من قال: أفصِّل في الفتحة، وأُفصل في الحكم، فقالوا في الفتحة: لا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون أسفل المعدة، أي: تحت السرة. الحالة الثانية: أن تكون فوق السرة، يعني: أعلى المعدة. قالوا: فإن كانت أسفل المعدة نقضت. وإن كانت فوق المعدة لم تنقض. فالذين قالوا: عموم الفتحة ينزل منزلة الأصل فينقض الخارج منه، نظروا إلى أنها مجرى الخارج، فأخذت حكم المخرج الأصلي؛ لأن البدل يأخذ حكم مُبْدَله. والذين فصَّلوا نظروا إلى أن الخارج إنما هو ناقض إذا استوعبته المعدة واستهلكته، حتى صار بولاً أو غائطاً، ويتأتى ذلك بنزوله من الأدنى، فإن نزل من الأعلى فذلك ليس بخارج على الصورة المعتبرة، فنعتبره أشبه بالقَلْس ولا يوجب انتقاض الوضوء ولا الطهارة. هذا بالنسبة لمن يقول: إنه يفرَّق بين الفتحة من أسفل ومن أعلى. والذي يقوى: أنها إذا أُخْرِجت الفضلة من فوق المعدة أو من أسفل المعدة، فإنها ناقضة. ثم يبقى النظر في مسائل تتعلق بنقض هذه الفتحة من جهة لمسها، هل تُنَزَّل منزلة العضو من كل وجه، أو من بعض الوجوه؟ سيأتي -إن شاء الله- في اللمس. هنا مسألة: وهي إذا قلنا في المسألة الأخيرة: إن الخارج من الفتحة ناقض للوضوء، ووُجِد كحالِ بعضِ المرضى اليوم، حين يوضع كيس البول -أكرمكم الله- في وعائه؛ لأنه يتقاطر منه باستمرار، فهل يُحْكَم بانتقاضه مطلقاً أم ماذا؟ A أنه إذا فتحت الفتحة، واسترسل الخارج أخذ حكم دم الاستحاضة، ويتوضأ عند دخول كل صلاة، ويعتبر وضوءه موجباً لأداء الصلاة ونوافلها القبلية والبعدية، على ما ذكره العلماء رحمة الله عليهم.

حكم الخارج من غير القبل والدبر

حكم الخارج من غير القبل والدبر قال رحمه الله: [وخارج من بقية البدن إن كان بولاً أو غائطاً] (وخارج) أي: ينقض الوضوء كل ما خرج من بقية البدن، سواءً كان بولاً أو غائطاً، هذا يرجع إلى مسألة الفتحة، وآخذة حكم الخروج من المخرج المعتاد. وهذا هو الذي نص عليه فقهاء الحنابلة ودرجوا عليه، وعند الشافعية التفصيل كما قرره الشيرازي في المهذب، وفصله الإمام النووي -رحمه الله- في شرحه وفي الروضة. فالمقصود: أنهم فصلوا فيه بحسب أحوال الفتحات. ومن العلماء من أطلق. ومذهب الحنابلة وقاعدتهم، أنهم يرون خروج النجس من أي موضع من البدن ناقضاً، حتى لو خرج الدم من جرح، ويقولون: بمجرد ما يخرج الدم فإنه ينقض الوضوء، دليلهم على ذلك: قالوا: إنه يُنَزَّل منزلة المستحاضة، فإن المستحاضة خرج منها الدم -وهو نجس-، من غير مجرى البول وهو مجرى الفرج، فأوجب انتقاض الوضوء، مع أنه من غير مجرى البول، وليس ذلك إلا لعلة، وهو كونه نجساً، ففرعوا عليه: أن كل خارجٍ نجِسٍ من سائر البدن ينقض؛ لأن الشرع اعتبر خروج دم الاستحاضة النجس من الموضع المعروف موجباً لانتقاض الوضوء، فكذلك مثله كل نجس خارج. وهذا فيه نظر، فإن خروج دم الاستحاضة يكون من القبل، فاجتمع فيه المخرج والخارج، المخرج: الذي هو القُبُل، بغض النظر عن كونه موضع الجماع أو موضع البول، والخارج: كونه نجساً، ولذلك نقول: إنه إذا خرج من سائر البدن لم ينقض؛ لأنه إذا خرج من سائر البدن وُجِد فيه وصف واحد، وهو: كونه نجساً ولكنه ليس من الموضع. بعبارة أخرى: يقولون: دم الاستحاضة نَقَضَ الوضوء لأنه نجس، وخرج من غير القُبُل والدُّبُر، إذاً نقيس عليه كل نجس من سائر البدن، فعندهم: أي نجس يخرج من سائر البدن كالرعاف، فإنه ينقض الوضوء؛ لأنه نجس وخرج من البدن كدم الاستحاضة. كيف يُجاب عن هذا؟ يجاب عنه: بأن دم الاستحاضة اشتمل على وصفين: كونه نجساً، لقوله: (اغسلي عنك الدم). وكونه من الموضع. وأما النجس الخارج من سائر البدن كالرعاف، فقد حصل فيه وصف واحد، وهو كونه نجساً؛ ولكنه ليس من موضعٍ مؤثر، فنقض الأول وهو: دم الاستحاضة، ولم ينقض الثاني، هذا بالنسبة لمسألة: أن كل خارج نجس من سائر البدن يوجب انتقاض الوضوء. وهناك أدلة على أنه لا ينقض الوضوء أقواها: حديث عباد بن بشر رضي الله عنه، لما قام على الشِّعب يحرس، وجاءه السهم الغارب، فنزف وهو يصلي، فلولا أنه خشي على صاحبه لما قَطَعَ صلاته، فأُقِرَّ على ذلك، فدل على أن خروج الدم لا يوجب انتقاض الوضوء.

خروج النجس من غير السبيلين

خروج النجس من غير السبيلين قال رحمه الله: [أو كثيراً نجِساً غيرَهما] أي: غير البول والغائط، وهو الدم مثلاً. وقوله: (كثيراً نجساً) يشمل أموراً: أولها: الدم. ثانيها: الصديد. ثالثها: القيح. رابعها: القيء. كل ذلك يعتبر من النجس الخارج من غير السبيلين، وهو من غير البول والغائط. فمن قاء فقد انتقض وضوءه -على هذا الأصل-؛ لأنه نجس خارج من البدن. ومن رعف انتقض وضوءه؛ لأن الدم نجس، فيوجب انتقاض الوضوء. ومن خرج منه الصديد أو القيح انتقض وضوءه؛ لأن الصديد والقيح، متولد من الدم، والفرع يأخذ حكم أصله، وما تولد من نجس فهو نجس، والصديد: يقولون: من الماء الذي يخالط الجراح، وقيل: يكون مختلطاً بين الدم والماء الذي يخالط الجراح، فقالوا: أخذ حكم النجس لمكان تنجسه بالموضع. هذه الأمور كلها إذا خرجت أوجبت انتقاض الوضوء، على الأصل الذي قررناه من كون الخارج النجس يوجب انتقاض الوضوء. وقلنا: إن الصحيح: أن الخارج النجس من غير السبيلين لا يُعتبر ناقضاً للوضوء. لكن هنا شرط ذكره المصنف عبَّر عنه بالوصف في قوله: (كثيراً)، فمفهوم قوله: (كثيراً) أنه لو كان قليلاً فلا ينقض الوضوء. تفصيل ذلك: قالوا: إذا خرج من الإنسان دم يسير كالبثرة التي تسمى في عرف الناس بـ: الحَبَّة، تكون على الإصبع أو تكون على الساعد، فينزف الدم منها قليلاً، أو يعصرها الإنسان فيخرج منها الدم اليسير، فهذا يسير. ومن أمثلته أيضاً: لو استاك فأدمى لثته، فخرج دم قليل من طرف اللثة، فهذا قليل. أو جُرِح جرحاً صغيراً، وخرج دم يسير، فهذا يوصف بكونه قليلاً. لكن لو كان كثيراً، كجرحٍ يَثْعُبُ دماً، أو رعف، فإنهم يقولون: انتقض وضوءه. إذاً: هم يفرقون بين القليل والكثير من النجاسات الخارجة. ويقولون: لو كان الخارج النجس كثيراً نقض، وإذا كان الخارج النجس قليلاً لم ينقض، فيرد Q ما هو الضابط الذي نفرِّق به بين القليل والكثير؟ لهم أقوال متعددة: منها ما اختاره غير واحد ومنهم: الإمام الموفق ابن قدامة كما في المغني، واختاره في العمدة، وكذلك اختاره الزركشي، وغيرهم من أئمة الحنابلة وفقهائهم -رحمة الله عليهم- يقولون: إن الكثير ما لا يتفاحش في النفس، فإذا رأيته لم تره كثيراً، ولا تستكثر هذا اليسير؛ لكن لو أنك نظرت إليه فاعتبرته كثيراً، فإنه يعتبر كثيراً. لكن نقول لهم: الناس يختلفون، فقد يكون الكثير عندي يسيراً عندك! قالوا: ما اعتبره أوساط الناس وعقلاؤهم ونحوهم من الحكماء الذين لهم عقل، قالوا: فيخرج الموسوس، والقصاب. أما الموسوس: فلأن أقل شيء عنده يعتبر كثيراً -نسأل الله السلامة والعافية- ويستعظم كل شيء، فهذا القليل عنده لا يعتبر فاحشاً، ومِثْلِه ليس له تأثير. وأما النوع الثاني: فالجزار أو القصاب فإنه لا عبرة بقوله؛ لأنه يستهين بالدماء، فالذي يتفاحش عنده الشيء الكثير جداً، فربما يرى ما يملأ الكوب، فيقول: هذا ليس من المتفاحش وإنما يقاربه؛ لأنه معتاد للدماء. فقالوا: يخرج هذان النوعان: القصاب، والموسوس، فجعلوا أعلى الشيء: القصاب، وأدناه: الموسوس، قالوا: فلا نلتفت لمن يعظِّم الأمر ولمن يحقِّره، وإنما يُنظر إلى الحكيم العاقل وعقلاء الناس وأوساطهم. ومنهم من يحدُّه بالقطرة والقطرتين. لكن كل هذا -كما قلنا- على غير المشهور، والذي اختاره بعض المحققين: أن العبرة فيه بتفاحش النفس، فقالوا: إذا كان الدم كثيراً عندك نقض، وأما إذا كان يسيراً لم ينقض. كل هذا نحن في عافية منه؛ لأنه عندنا لا ينقض الوضوء؛ وإنما نحن نفرِّع على كلام المصنف، ويرد السؤال: لماذا استثنوا القليل؟ استثنوه لعلة، وهي: أنه ثبت عن الصحابة أنهم عصروا البُثَر، وأنهم اغتفروا اليسير، كما جاء عن ابن عباس وابن عمر، فقد عصر ابن عمر بثرةً ثم صلى ولم يرَ في ذلك بأساً، قالوا: فهذا يدل على أن القليل لا يؤثر، وبناءً على ذلك قالوا: نستثني اليسير، فإن كان يسيراً لم ينقض، ولم يُحكم بانتقاض الوضوء.

الأسئلة

الأسئلة

اشتباه المني بالمذي

اشتباه المني بالمذي Q ما الحكم إذا اشتبه على الإنسان المَذْي والمَنِي؟ A باسم الله، والحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه. أما بعد: هذا الاشتباه كما ذكره العلماء له صور منها: - أن يستيقظ الإنسان من نومه، فيجد بلَلاً أو أثر البلل، فيقع في شك، هل هو مَنِي فيغتسل، أو مَذْي فلا يجب عليه الغسل؟ فما الحكم؟ أولاً: يراعي أوصاف المَنِي والمَذْي: فالمَنِي: ماء أبيض ثخين بالنسبة للرجل، وأصفرُ رقيق بالنسبة للمرأة. ثانياً: الرائحة: المَنِي رائحته ليست كالمَذْي، فإن المَنِي له رائحة كرائحة طلع النخل، كما عبر عنه بعض العلماء، وطلع النخل هو الوبار الذي يكون في فحول النخل، ويقول بعض العلماء: كرائحة العجين إذا عُجِن واشتد، فإذا وجد رائحة المَنِي فيه، أو وجد ثِخَن المَنِي فيه، فإنه يَحكم بكونه مَنِيَّاً يوجب الغُسل. لكن لو أنه لم يستطع التمييز، والتبست عليه الأوصاف، ولم يجد ما يحسم الأمر له، هل هو مَنِي أو مَذْي فما الحكم؟ فالذي عليه جماهير العلماء -رحمة الله عليهم-: أنه مَذْي حتى يتيقن أنه مَنِي؛ لأن اليقين أنه مَذْي، والشك هل هو مَنِي فيجب الغُسل أو لا، فيبقى على اليقين وهو المَذْي، ولا يجب عليه الغسل حتى يستيقن أنه مَنِي. والله تعالى أعلم.

حكم غسل الأنثيين عند خروج الودي والمذي

حكم غسل الأنثيين عند خروج الودي والمذي Q هل يلزم الرجل إذا خرج منه وَدْي أو مَذْي غسل الأنثيين؟ A نعم، وهو ظاهر حديث علي: (وليغسل مذاكيره) فدل على أنه يغسل العضو والأنثيين، وهذا هو أصح الأقوال في هذه المسألة، خلافاً لمن قال: يغسل موضع الخروج، وهو رأس الإحليل، والصحيح أنه يجب غسل العضو والأنثيين، لقوله: (وليغسل مذاكيره). والله تعالى أعلم.

حكم من يخرج منه المذي قبل الصلاة وفي أثنائها

حكم من يخرج منه المذي قبل الصلاة وفي أثنائها Q لقد ذكرتم -حفظكم الله- في المَذْي أنه يُتَوَضَّأ منه إن وُجد؛ ولكن ربما يتَوَضَّأ منه ويشرع في الصلاة ويعاوده مرة أخرى أثناء الصلاة، فماذا يجب عليه؟ A هذا فيه تفصيل: من بُلِي بالمَذْي فاسترسل معه، بحيث لا يستطيع إمساكه فترةً يستطيع أن يصلي فيها، فهذا حكمه حكم الاستحاضة، فكلما دخل عليه الوقت توضأ وصلى، ولو خرج منه المَذْي. الحالة الثانية: أن يكون خروجُه بالقطرة والقطرتين، فيخرُج في المرة الأولى عند الملاعبة، ثم إذا مضى وقت قليل خرج مرة ثانية، فهذا يجب عليه غسل العضو وإعادة الوضوء كالحال في البول. والله تعالى أعلم.

نجاسة المذي

نجاسة المذي Q هل كون المَذْي ينقض الوضوء دليل على أنه نجس؟ A أمْرُ النبي صلى الله عليه وسلم بغسله وغسل العضو حيث يقول: (انضح فرجك) والنضح يستعمل بمعنى الغَسل، هذا كله دال على أنه آخذ حكم البول، فهو نجس، وهذا هو المعتبر والذي عليه الفتوى. والله تعالى أعلم.

خروج الطاهر من أحد السبيلين

خروج الطاهر من أحد السبيلين Q هل خروج الطاهر من أحد السبيلين يوجب الاستنجاء؟ A هذا ذكرناه وقلنا: إن الصحيح: أن خروج الطاهر لا يوجب انتقاض الوضوء، وبناءً عليه فإنه لا يلزم منه الاستنجاء ولا يأخذ حكم النجس الخارج، وذلك للفرق بينه وبين النجس الخارج، فإن النجس الخارج يؤثر في المحل، والطاهر لا يؤثر. والله تعالى أعلم.

الأصل بقاء الوضوء ما لم يسمع صوتا أو يجد ريحا

الأصل بقاء الوضوء ما لم يسمع صوتاً أو يجد ريحاً Q يتأكد لي أحياناً خروج الريح؛ ولكن بدون ريح ولا صوت، فهل الوضوء هنا يكون باطلاً؟ A أيتأكد بدون رائحة ولا صوت؟! هذا ليس بصحيح، هذا من الشيطان، ولذلك لا تلتفت إلى مثل هذا، وابقَ على اليقين، حتى تسمع صوتاً أو تجد ريحاً، فإن سمعت الصوت أو وجدت الرائحة أعدت الوضوء، وإلا فلا. والله تعالى أعلم.

حكم الاغتسال لمن رأى في نومه أن يستمني

حكم الاغتسال لمن رأى في نومه أن يستمني Q لو أن رجلاً نام على طهارة ورأى في منامه أنه استمنى فما حكم طهارته؟ A من نام ورأى أنه احتلم أو أنه استمنى فإن العبرة بالحقيقة، فإن استيقظ ووجد الماء وجب عليه الغُسل، وإن استيقظ ولم يجد الماء لم يجب عليه غسل، وهكذا لو رأى موجب الغُسل مناماً كالجماع، فإنه لا عبرة بذلك كله والعبرة بحقيقة الخروج، أما دليل اعتبار الخروج نفسه وإلغاء اعتبار المنام: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد في الصحيح: (إنما الماء من الماء)، (إنما الماء) وهو: الغُسل، (من الماء) (من) سببية، أي: بسبب الماء وهو: خروج المَنِي، فدل على أن العبرة بالخروج، وأنه إذا خُيِّل له وهو نائم أنه خرج مني، واستيقظ ولم يجد شيئاً فإنه لا يجب عليه الغسل، والعكس: لو أنه نام ولم يذكر احتلاماً ثم استيقظ ووجد أثر الماء وجب عليه الغُسل؛ لأن العبرة بوجود الماء، وكونه يذكر أو لا يذكر هذا لا تأثير له؛ لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الماء من الماء) وهذا أصل عند جماهير العلماء -رحمة الله عليهم-: أن العبرة بالحقيقة، ولذلك قالوا: لا يؤثر ذكره للاحتلام، ففي الحديث الصحيح عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رُفِع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: النائم حتى يستيقظ) فدل على أنه لا عبرة بما خُيِّل له في نومه من أنه احتلم أو أنه جامع أو أنه أنزل، ما دام أنه في الحقيقة لم يكن منه شيء، ولذلك يعتبر العلماء وجوب الغسل مربوطاً بوجود الحقيقة لا بوجود الصورة في المنام. والله تعالى أعلم.

حكم الصلاة في الثوب الذي احتلم فيه

حكم الصلاة في الثوب الذي احتلم فيه Q إذا احتلم الرجل ثم اغتسل؛ ولكنه صلى بالثياب التي احتلم فيها، فما حكم صلاته؟ وإذا كانت باطلة فماذا يفعل؟ A هذه المسألة مفرعة على خلاف العلماء -رحمة الله عليهم- في المَنِي، هل هو طاهر أو نجس؟ وأصح الأقوال: أنه طاهر، وقد جاء في حديث ابن عباس (إنما هو بمنزلة المخاط)، وجاء عن أم المؤمنين رضي الله عنها أنها كانت تفركه من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يصلي فيه، وإن أثره لباقٍ فيه، فدل هذا على أنه ليس بنجس، وقد ثبت عنها رضي الله عنها أنها أنكرت على من أصبح وقد غسل ثوبه، فقالت: (إنما كان يكفيه أن يحُتَّه، لقد كنتُ أفعل ذلك بمَنِيِّ النبي صلى الله عليه وسلم) فدل هذا على أن المَنِيَّ ليس بنجس وأنه طاهر، وأنه يكفي فيه الحَتُّ والقرص، فمن صلى في ثوب فيه مَنِيٌّ فصلاته صحيحة ولا حرج عليه. والله تعالى أعلم.

حكم انتقال المني مع عدم خروجه

حكم انتقال المني مع عدم خروجه Q من أيقن وصول المَنِي إلى مخرجه ثم حبسه، هل يجب عليه الغسل أم لا بد من خروجه حقيقة؟ A هذه المسألة للعلماء فيها وجهان، وهي: لو أن إنساناً تحركت شهوته، وأحس بانفصال المَنِي من صلبه، ثم تأخر خروج المَنِيِّ ثم قذفه، فهل العبرة بوقت التحرك، أم العبرة بوقت الخروج؟ - فمن أهل العلم -رحمة الله عليهم- من يقول: العبرة بالخروج، وهذا هو الصحيح، والذي عليه العمل والفتوى، وصورة هذه المسألة: لو كان في الصلاة، فأحس بتحرُّك شهوته، ثم أمسك العضو، وقد بلغ المَنِيُّ العضوَ، ولم يخرج منه إلا بعد استتمام سلامه، قالوا: صلاته صحيحة، ولا يؤثر خروجُه من الصلب، ومسألة خروج المَنِي من الصلب، أو شعوره بتهيئه للخروج، كل ذلك لا تأثير له، والعبرة بالفضخ والخروج، لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا فضخت الماء فاغتسل) فقال: (إذا فضخت) ولم يعتبر مجاوزته للصلب، فدل على أن العبرة بخروجه لا بانتقاله، ولا يشكل على هذا إيراد العكس، فيما لو بقي منه شيء، فخرج بعد غُسله، فهذا فضلة باقية غير ما نحن فيه من كونه ماءً بأصله.

من عوامل الاستمرار في طلب العلم

من عوامل الاستمرار في طلب العلم Q لقد قدمت إلى هذه البلاد لطلب العلم، وأسأل الله أن يجعل نيتي ونية كل مسلم خالصة صادقة، وما إن أحضر إلى حلق العلم والدروس حتى يأتيني الشيطان ويرغبني عن العلم، ويصرفني عنه، ويضعف عزيمتي، ويشغلني بما لا يفيد، فقسا قلبي، وانشغلت عن كتاب الله، وعن الاجتهاد في الطلب، واجتمعت عليَّ هموم وغموم، وأشعر بضيق شديد، فاشدُد من أزري بنصح منك -حفظك الله-، أسأل الله أن ينفعني وإخواني بما تقول. A أما الوصية التي أوصيك بها أخي في الله! أن تعتمد على الله، فإنه نعم المولى ونعم النصير، وما نزل بك ما هو إلا بلاء من الله، إما بسبب ذنب بينك وبين الله، أو أن الله يريد أن يرفع درجتك، فسلَّط البلاء عليك، فإن كنت تريد النجاة فاستدِم الاستغفار، لعل الله أن يرحمك إن كنت عاصياً، وربما كان ذلك بسبب غرور في نفسك، فإن طالب العلم قد يبدأ طلب العلم فيُصاب بالغرور، أو يزل لسانه بكلمة، أو يحدث منه أمر يُغْضِب اللهَ عليه، فيسلب نعمة العلم والرغبة عنه على قدر ما أصاب من ذنب، قال سفيان رحمه الله: أذنبتُ ذنباً فحُرِمْتُ قيام الليل أربعة أشهر. وأما الأمر الثاني فهو: أن تحسن الظن بالله، فلعل الله يريد أن يبلغك مرتبة لا تصل إليها إلا بامتحان وابتلاء، وقلَّ أن تجد طالبَ العلم طَلَبَ العلم إلا وجاءه ما ذكرتَ، بل وأشد مما ذكرتَ، والله يقول: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24] فالله يجعل العبد إماماً إذا صبر، ولذلك قال العلماء: إن الله عز وجل لَمَّا أوحى إلى نبيه أخذه جبريل فغطه حتى رأى الموت، ثم أرسله، ثم غطه، ثم أرسله، ثلاث مرات، قالوا: لكي يبين أن العلم لا يأتي إلا بعد امتحان وابتلاء. فضاق قلبُك، ولعل هذا الضيق يكون ابتلاء كما ابتلي الحبيب صلوات الله وسلامه عليه عند الوحي، هذا إذا أحسنت الظن بالله، واشدد عزيمتك بالله، واستعن الله، فإنه نعم المولى ونعم النصير. وكثير من طلاب العلم يأتيهم الهم ويأتيهم الغم ويأتيهم التثبيط من الناس، فمنهم من يقول: إلى متى تنتهي من دروسك، ولربما تجلس العشر سنوات والعشرين سنة وأنت في هذه الحلقة، أو عند العالم الفلاني، ولا تنتهي! كل ذلك ابتلاء، فإن صَدَقَ مع الله صَدَقَ معه، وكم وجدنا من المثبِّطين والمخذِّلين حتى خَذَّلَهم الله عز وجل عنا. فتعلق بالله، واعلم أنك في جنة، وروضة من رياض الجنة، وهي العلم، فاستَدِم سؤال الله جل وعلا أن يثبت قدمك، وأن يحسن العاقبة لك. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا من العلم حلاوته وطلاوته، وأن يجعل لنا موجبات رحمته، وعلو درجاته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

باب نواقض الوضوء [2]

شرح زاد المستقنع - باب نواقض الوضوء [2] للوضوء نواقض ذكرها العلماء رحمهم الله، وقد دلت عليها النصوص الصحيحة، إلا أن العلماء قد اختلفوا في بعضها هل ينقض أم لا؟ ومما اختلفوا فيه: مس الذكر بدون حائل، وأكل لحم الجزور، والنوم.

انتقاض الوضوء بزوال العقل

انتقاض الوضوء بزوال العقل الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فيقول المؤلف رحمة الله عليه: [وزوال العقل]. أي: من نواقض الوضوء زوال العقل سواءً كان بسبب مباح أو بسبب محرم، كأن يسكر الإنسان -والعياذ بالله- على وجه يعذر به، أو وجه لا يعذر به، فالوجه الذي يعذر به في السكر أن يشرب شراباً يظنه ماءً فيسكر، فإنه معذور في سكره للجهل، والوجه الذي لا يعذر كأن يشرب المسكر -والعياذ بالله- والمخدر عالماً به، ففي كلتا الحالتين لو شرب ما يزيل عقله من المسكرات والمخدرات -أعاذنا الله وإياكم منها- فإنه يحكم بانتقاض وضوئه. والسكر له ثلاث مراتب ينبغي على طلاب العلم أن ينتبهوا لها: المرتبة الأولى: يسميها العلماء: الهزة والنشاط والطرب، وهي أول ما يكون لمن شرب الخمر والعياذ بالله! والمرتبة الثانية: أقصى درجات السكر، وهي أن يسقط كالمغشي عليه لا يعرف الأرض من السماء، ولا يعي ما يقول ولا ما يُقال له فهو كالمجنون. والمرتبة الثالثة: وسط بين المرتبتين. فاعلم -رحمك الله- أنه إذا بلغ السكران بداية السكر وهي الهزة والنشاط، فإنه مكلف إجماعاً؛ لأنه في حكم المستيقظ، فإذا فعل أي فعل في بداية سكره عند هزته ونشاطه، كأن يطلق امرأته أو يفعل أي فعلٍ فإنه يحكم بمؤاخذته؛ لأن الأصل فيه أنه مكلف حتى يؤثر فيه المؤثر، ولم يبلغ درجة يؤثر السكر فيها عليه. أما إذا بلغ منه السكر غايته، كأن يسقط كالمجنون فهذا لا يؤاخذ إجماعاً من جهة طلاقه، وإذا طلق فيها فإنه كالمجنون لا ينفذ طلاقه. وأما الحالة الثالثة المترددة بين الحالتين، فهي التي فيها الخلاف بين العلماء في السكران، هل هو مكلف أو غير مكلف؟ فإذا سكر -والعياذ بالله- المتوضىء، فإنه يحكم بانتقاض وضوئه، ويلزمه أن يعيد الوضوء.

حكم تأثير النوم اليسير على الوضوء

حكم تأثير النوم اليسير على الوضوء قال رحمه الله: [إلا يسير نوم من قاعدٍ أو قائم] (إلا): استثناء، أي: إذا زال العقل بيسير النوم -وهو القول الثاني في مسألة النقض بالنوم، وهو الفرق بين اليسير والكثير- واليسير كاللحظات ولو كان مذهباً للشعور، والكثير كأن ينام ساعة أو ساعة إلا ربعاً وهو يخفق رأسه، أو نصف ساعة وهو يخفق رأسه، فهذا يحكم بانتقاض وضوئه. قوله: (من قاعد) استثنوا القاعد لحديث أنس: (كان الصحابة ينتظرون العشاء حتى تخفق رءوسهم، ثم يصلون ولا يتوضئون). قوله: (أو قائم) لأن اليسير من القائم في حكم اليسير من القاعد لا فرق بينهما، كما اختاره صاحب المقنع رحمه الله، وانتصر له في المغني.

ما ينقض الوضوء من المس

ما ينقض الوضوء من المس

الخلاف في نقض الوضوء بمس الذكر

الخلاف في نقض الوضوء بمس الذكر قال رحمه الله: [ومس ذكر متصل] أي: من مس الذكر فإنه ينتقض وضوءه، سواءً قصد الشهوة ووجد اللذة، أو لم يقصد الشهوة ولم يجد اللذة، فمن مس الذكر وجب عليه أن يعيد الوضوء؛ لما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من مس ذكره فليتوضأ) وجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء من مس الذكر مطلقاً. وقال بعض العلماء: من مس ذكره فلا ينتقض وضوءه؛ لحديث طلق بن علي رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني المسجد فسأله عن مس الذكر؟ فقال عليه الصلاة والسلام يجيب طلقاً: (وهل هو إلا بضعة منك) قالوا: إن هذا الحديث يدل على أن مس الذكر لا يوجب انتقاض الوضوء. والصحيح أنه يوجب انتقاض الوضوء، ويجاب عن حديث طلق بن علي من وجهين: الوجه الأول: أنه منسوخ؛ لأن طلق بن علي قدم عند بناء المسجد كما جاء في الرواية، وحديث: (من مس ذكره فليتوضأ) رواه المتأخرون إسلاماً من الصحابة: كـ أبي هريرة رضي الله عنه، والقاعدة: أن تأخر إسلام الراوي مع تقدم المعارض يدل على النسخ أو يشعر بالنسخ. الوجه الثاني: أن يجُمع بين حديث طلق بن علي وبين حديث: (من مس ذكره فليتوضأ) بأن سؤال طلق بن علي رضي الله عنه عن مس الذكر من فوق الثوب فقال له: (وهل هو إلا بضعة منك) أي: إذا مسسته بحائل كأنك لمست يداً أو نحو ذلك من الأعضاء. وأما إذا لمسه مباشرة فإنه يحُمل عليه حديث: (من مس ذكره فليتوضأ). وقد صحح غير واحد من أهل العلم حديث الأمر بالوضوء من مس الذكر منهم: الإمام أحمد، وأبو زرعة واستصوبه الإمام البخاري رحمه الله، فلذلك يقوى الحكم بأن مس الذكر يوجب انتقاض الوضوء. إذا ثبت أن مس الذكر يوجب انتقاض الوضوء فيستوي في ذلك أمور: أولاً: أن يكون بشهوة أو بدون شهوة. ثانياً: أن المراد بالمس باطن الكف، فلو أنه وقع على ظاهر الكف لم ينتقض الوضوء لقوله: (من مس) والمس: هو الإفضاء بباطن الكف. واختلف العلماء فيما لو إذا مسه بين أصابعه، هل الذي بين الأصابع يأخذ حكم باطن الكف أو يأخذ حكم ظاهره؟ والأقوى أنه يأخذ حكم الباطن؛ للقاعدة: (أن ما قارب الشيء يأخذ حكمه). ثالثاً: أن قوله: (من مس ذكره) أصل، ويُلحق به مس الدبر، فإذا مس حلقة الدبر انتقض وضوءه؛ وذلك لعموم قوله: (من مس فرجه) والفرج: يشمل القبل والدبر. رابعاً: أن هذا الحكم يشمل الرجل والمرأة، فحُكِمَ به للرجال والنساء تبع، وكم من أحكام ترد في الرجال أصلاً والنساء فيها تبع، كما في قوله: (من مس فرجه) وهذا من صيغ العموم، فإن قوله: (مَنْ) من صيغ العموم عند الأصوليين، وقوله: (فرجه) يشمل الرجل والمرأة. خامساً: أن هذا الحكم يستوي فيه أن يمس من نفسه أو يمس من غيره، ولذلك يعم الحكم بالنسبة للماس، سواءً كان لنفسه أو لغيره، بشرط أن يكون متصلاً بالغير. سادساً: يشمل الصغير والكبير، فلو مست المرأة فرج صبيها أو صبيتها انتقض وضوءُها ولو تكرر ذلك؛ وذلك لعموم الخبر من جهة المعنى. سابعاً: يخرج من هذا مس المنفصل، فقال بعض العلماء: لو قُطِعَ العضو فَمُسَّ لم يأخذ هذا الحكم. ثامناً: أنه لو مس فرج الخنثى المشكل فإنه يأخذ حكم المرأة، فلو مس ذكره لم ينتقض وضوءُه؛ لأنه زائد، ولا دليل على إثبات كونه عضواً مؤثراً، فَيُبْقَى على الأصل وهو بقاء الطهارة. وقال بعض العلماء بالانتقاض مطلقاً. تاسعاً: قد علمنا حكم من مس، فهل الممسوس يأخذ حكم الماس؟ فقال بعض العلماء: إنه يأخذ حكم الماس من جهة المعنى، والذي اختاره بعض العلماء: أنه إذا وجد الممسوس الشهوة واللذة انتقض وضوءه وإلا فلا.

مس الذكر بظاهر الكف

مس الذكر بظاهر الكف قال رحمه الله: [أو قُبلٍ بظهر كفه أو بطنه] قوله: (أو قبل) للعموم، فهو يشمل الأنثى والخنثى. قوله: (بظهر كفه أو بطنه) وهذا اختيار بعض العلماء، وإن كان الأقوى أن التأثير بباطن الكف؛ لأن الإفضاء يكون بباطن الكف لا بظاهر الكف، وفي قوله: (من مس) إشعار بالقصد، بخلاف ظاهر الكف، فإنه لا يمس العضو بظاهر الكف إلا على سبيل غير مقصود، ولذلك الذي عليه العمل عند بعض أهل العلم: أن العبرة بباطن الكف لا بظاهر الكف.

مس أعضاء الخنثى

مس أعضاء الخنثى قال رحمه الله: [ولمسهما من خنثى مشكل] أي: لمس العضوين من خنثى مشكل، فهذا يوجب انتقاض الوضوء كما ذكرنا. قال رحمه الله: [ولمس ذكرٍ ذكره أو أنثى قبله] لما ذكرناه. قال رحمه الله: [لشهوة فيهما] سواءً مَسّ أو مُسّ؛ لكن هنا في الحالة الأخيرة قال: (لشهوة) فجعل الحكم مرتبطاً بالشهوة، فإن لم توجد الشهوة فإنه لا يحكم بالانتقاض بالنسبة للممسوس.

الخلاف في نقض الوضوء بلمس المرأة

الخلاف في نقض الوضوء بلمس المرأة قال رحمه الله: [ومسه امرأة بشهوة] أي: ومن نواقض الوضوء أن يمس الرجل المرأة بشهوة، وقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة: فمنهم من قال: لمس النساء كله ينقض الوضوء، سواءً كانت محرماً أو غير محرم، وسواءً وجد الشهوة أو لم يجد الشهوة، وصاحب هذا القول احتج بظاهر قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] قالوا: إن الله عز وجل حكم بانتقاض الوضوء بلمس النساء. وقالت طائفة من العلماء: إن لمس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً؛ وذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يصلي بالليل وعائشة رضي الله عنها معترضة بين يديه، قالت: فإذا سجد غمزني) ولما ثبت أيضاً في الحديث الصحيح أنها قالت: (افتقدت النبي صلى الله عليه وسلم فجالت يدي فوقعت على قدمه وهو ساجد، يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) قالوا: فهذا يدل على أن لمسها له ولمسه لها لا يوجب انتقاض الوضوء؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حمل أمامة بنت أبي العاص في الصلاة وهي في حكم المرأة، فكان إذا أراد أن يسجد وضعها، وإذا أراد أن يرفع حَمَلَها وَرَفَعَها قالوا: ولم ينتقض وضوءه، ولما جاء عنه عليه الصلاة والسلام من تقبيله بعض نسائه قبل خروجه إلى الصلاة، كما في حديث عائشة، واختلف في إسناده، قالوا: فمجموع هذه النصوص يدل على أن لمس النساء لا يوجب انتقاض الوضوء. وجمع بعض العلماء بين القولين فقالوا: إن لمس النساء يوجب انتقاض الوضوء، إذا وجد الشهوة أو قصدها، ولا يوجب انتقاض الوضوء إذا لم يجد الشهوة وهذا هو الأقوى، ولذلك يحمل قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] على الجماع، والسباق والسياق محكم، وسباق الآية وسياقها يدل على أن المراد بـ (لامَسْتُمُ): الجماع؛ للقاعدة في اللغة: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى؛ ولأن السُّنة تصرف (لامَسْتُمُ) من ظاهرها إلى هذا المعنى الذي يقويه السياق والسباق مع قرينة اللغة. إذاً لمس المرأة فيه تفصيل: إنْ لَمَسَ المرأة فوجد الشهوة انتقض وضوءُه، وإن لمس المرأة ولم يجد الشهوة لم ينتقض وضوءه، وبناءً على ذلك قالوا: وجود الشهوة والإحساس بها مظنة الحدث، فينزل منزلة الحدث. وفرَّع بعض العلماء على هذا تفريعات، ولكن لا يقوى الدليل عليها، كقول بعضهم: إن مجرد النظر إلى المرأة -كزوجته- بشهوة ينقض الوضوء، بل هناك قول بأن النظر إلى الأمرد بشهوة يوجب انتقاض الوضوء، والحقيقة أن هذا محل نظر، والصحيح والأقوى أن العبرة بالانتقاض المؤثر، أو ما هو قريب من المؤثر لظاهر السُّنة: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) فنبقى على الأصل من طهارته، وأما مظنات الحدث الضعيفة فإنه لا يقوى اعتبارها، وإن احتاط الإنسان بالوضوء فهو أولى. أي: على الوجه الذي ذكرناه، فإذا مسته المرأة بشهوة فإنه يحكم بانتقاض وضوئها.

نقض الوضوء بمس حلقة الدبر

نقض الوضوء بمس حلقة الدبر قال رحمه الله: [ومس حلقة دبر] لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أم المؤمنين: (من مس فرجه) قالوا: والدبر منزل منزلة القبل، ولذلك يحكم بانتقاض الوضوء بمسه، وظاهر قولهم أن القبل والدبر يختص بالآدمي، فلو مس فرج حيوان فإنه لا ينتقض وضوءه، وقال بعض السلف: إنه لو مس فرج بهيمة فإنه يحكم بانتقاض وضوئه، ولكنه مذهب ضعيف، والجماهير على أن النقض بمس الفرج يختص بالآدمي دون غيره.

لمس الشعر والظفر من المرأة

لمس الشعر والظفر من المرأة قال رحمه الله: [لا مس شعر وظفر] إذا قلنا: إن مس المرأة يوجب انتقاض الوضوء، فأعضاء المرأة تنقسم إلى قسمين عند العلماء: ما هو متصل، وما اختلف فيه هل هو في حكم المتصل أو المنفصل. فإذا تقرر أن اللمس يؤثر، فيرد السؤال عن الأعضاء التي اختلف فيها العلماء كالشعر والظفر؟ فقال بعض العلماء: شعر المرأة في حكم المنفصل وليس في حكم المتصل، وهي قاعدة تكلم عليها الأئمة، ومنهم الإمام ابن رجب في القواعد الفقهية، في القاعدة الخامسة أو السادسة تقريباً. فإذا قلت: إن شعر المرأة في حكم المتصل فإنه ينتقض الوضوء بلمسه من المرأة، وإن قلت: إن شعر المرأة في حكم المنفصل فلا ينتقض وضوء الرجل إذا لمسه من امرأة. وتتفرع على هذا مسائل: إن قلت: إن شعر المرأة في حكم المنفصل، فلو غطت به وجهها في الإحرام وجبت عليها الفدية؛ لأنه منفصل عنها وليس بمتصل، ويتفرع عليه إن قلت إنه منفصل: ما لو لمسه المتوضئ فإنه لا يحكم بانتقاضه؛ لأنه في حكم المنفصل، أما لو قلت: إنه في حكم المتصل، وسدلت شعرها على وجهها حتى غطته عن الشمس، فإنه لا يوجب الفدية عليها، وإن قلت: إنه في حكم المتصل ولمسه الرجل، فإن اللمس يوجب انتقاض الوضوء، هذه فائدة كلامهم على الشعر: هل هو في حكم المتصل أو في حكم المنفصل، فدرج المصنف -وهو اختيار جمع من العلماء- على أن الشعر في حكم المنفصل وليس في حكم المتصل، ودليل الحس دال على ذلك: وهو لو أن إنساناً أحرق طرف الشعر لم يشعر بالألم في طرفه، ولذلك الشعر لا ينقل الإحساس، فإذا كان اللمس مركَّباً على الشهوة، فإن لمس شعر المرأة لا توجد به الشهوة، والرجل يراه منفصلاً فلا يجد به أثر الشهوة، ولذلك قالوا: إن لمس شعر المرأة -إذا قيل بانتقاض الوضوء بلمسها- يستثنى من ذلك لكونه منفصلاً لا متصلاً بها. قوله: (وظفر) كذلك الظفر؛ لأن كلاً من الشعر والظفر الحياة فيهما حياة نمو وليست بحياة روح؛ لأن أعضاء الإنسان فيها ما حياته حياة روح كاليد والرجل، وفيها ما حياته حياة نمو كالشعر والظفر، فالشعر في الإنسان حياته حياة نمو وليست بحياة روح، ولذلك قالوا: إن لمس الظفر كلمس الشعر، فلو أحرقت ظفراً فإنه لا يسري الألم إلا بعد فترة، فدل على أنه ليست حياته حياة روح وإنما هي حياة نمو كالشعر.

لمس الأمرد وتأثيره في الوضوء

لمس الأمرد وتأثيره في الوضوء قال رحمه الله: [وأمرد] وكذلك الأمرد قالوا: إنه لا ينتقض وضوء من لمسه، وهذا أقوى من جهة الأصل لما ذكرنا؛ لأن الأصل طهارته حتى يدل الدليل على انتقاضها ولا دليل، وأما ما ذكروه من مظنة الحدث فيقوى اعتبارها إن قويت الشهوة وإلا فلا.

لمس المرأة مع وجود حائل

لمس المرأة مع وجود حائل قال رحمه الله: [ولا مع حائل] أي: إذا وضعت الكف على المرأة وبينك وبينها حائل، كلباسها أو قفاز في اليد فلا يحكم بانتقاض الوضوء.

حكم وضوء الملموس بدنه مع الشهوة

حكم وضوء الملموس بدنه مع الشهوة قال رحمه الله: [ولا ملموس بدنه ولو وجد منه شهوة] وهو القول الثاني خلاف ما ذكرناه، والنظر إلى اعتبار العلة أقوى.

حكم وضوء من غسل ميتا

حكم وضوء من غسل ميتاً قال رحمه الله: [وينقض غسل ميت] أي: من غسل ميتاً فإنه ينتقض وضوءُه؛ وذلك للحديث الذي في السنن عند البيهقي والدارقطني بسند ضعيف، ولا يصح فيه حديث كما قاله الإمام أحمد وغيره من أئمة الجرح والتعديل: ليس في انتقاض الوضوء بغسل الميت حديث صحيح، والصحيح أنه لو غسل ميتاً فإنه لا ينتقض وضوءه، وأنه يبقى على الأصل من كونه طاهراً.

حكم وضوء من أكل لحم الجزور

حكم وضوء من أكل لحم الجزور قال رحمه الله: [وأكل اللحم خاصةً من الجزور] كان في أول الإسلام إذا أكل الإنسان اللحم وجب عليه أن يتوضأ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (توضئوا مما مست النار) فأمر بالوضوء من كل شيء طُبِخَ في النار، ثم نسخ ذلك وبقي في الجزور؛ وذلك لما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: (أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت، قيل له: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم) فنص عليه الصلاة والسلام على وجوب الوضوء من لحوم الإبل دون غيرها. وذهب طائفة من العلماء إلى أن الأمر بالوضوء من لحوم الإبل منسوخ، وهو مذهب مرجوح، واحتجوا له بحديث جابر (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار) وهذا الحديث الذي ذكروا أنه ناسخ محل نظر؛ لأن فيه علة في إسناده أشار إليها ابن أبي حاتم رحمة الله عليه في كتابه العلل في الجزء الثاني، وهو أن هذا الحديث أصله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ) فرواه الراوي بالمعنى، ولذلك يبقى الحكم أن من أكل لحم الجزور فإنه يجب عليه أن يعيد الوضوء، وهذا الحكم خاص بلحم الجزور. ويرد Q هل إذا شرب لبن الجزور يجب عليه أن يعيد وضوءه؟ A لا. وحديث الأمر بالوضوء من لبن الجزور ضعيف، والصحيح أنه خاص بلحم الجزور. واختلف في الكبد والسنام؟ فقال بعض العلماء: إنه يتوضأ منها وهو أحوط، وقيل: إنه لا يتوضأ منها، وهو أقوى من جهة النص، فإن السؤال ورد على النبي صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ فنص على اللحوم ولم يذكر الكبد ولا بقية أجزاء الإبل كالسنام ونحوه، فإنه ليس بلحم وإنما هو شحم، فمن أكل سنام البعير لا يدخل في هذا الحكم، وهكذا من شرب لبن الإبل فإنه لا يحكم بانتقاض وضوئه؛ لأن الأصل الطهارة حتى يدل الدليل على انتقاضها ولا دليل، والدليل إنما ورد في اللحم فيبقى الحكم مقصوراً عليه. وهنا مسألة: قال بعض العلماء: يجب الوضوء من لحوم الإبل؛ لأن فيها زهومة وفيها قوة، فلو أكل لحم السباع وجب عليه أن يتوضأ؛ لأن فيها ما في الإبل من القوة. وقد يرد السؤال: كيف يأكل لحم السبع وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم أكل كلِّ ذي ناب من السباع؟ والجواب: تتأتى صورة المسألة فيما لو كان الإنسان في سفر فأصابته مخمصة أي: مجاعة، فاضطر إلى أكل لحم أسد أو سبع، فحينئذٍ يرد السؤال: هل انتقض وضوءه كالحال في لحم الإبل أو لم ينتقض؟ وأصح الأقوال: أنه لا ينتقض وضوءه.

موجبات الغسل موجبات للوضوء إلا الموت

موجبات الغسل موجبات للوضوء إلا الموت قال رحمه الله: [وكل ما أوجب غسلاً أوجب وضوءاً إلا الموت] هذا قول بعض العلماء: إن انتقاض الطهارة الكبرى يوجب انتقاض الطهارة الصغرى، ومن ذلك خروج المني، قالوا: يوجب انتقاض الوضوء، ولو جامع أهله انتقض وضوءه وأوجب عليه الغسل، فكل ما أوجب الطهارة الكبرى يوجب الطهارة الصغرى، وبناءً على ذلك قالوا: يجب عليه الوضوء من موجبات الغسل، إلا الموت فإنه لا يوجب الوضوء، فإذا مات الميت فلا يجب أن يُوضّأ؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الرجل الذي وقصته دابته: (اغسلوه بماءٍ وسدر وكفنوه في ثوبيه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) قالوا: فدل هذا على أنه لا يجب أن يُوضّأ الميت، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غسل ابنته زينب: (ابدأن بميامنها وبأعضاء الوضوء منها) وهذا يدل على الاستحباب لا على الحتم والإيجاب.

حكم من تيقن الطهارة وشك في الحدث أو العكس

حكم من تيقن الطهارة وشك في الحدث أو العكس قال رحمه الله: [ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث أو بالعكس بنى على اليقين] من تيقن الطهارة وشك في الحدث، مثلاً: لو توضأت قبل صلاة المغرب ثم شككت هل خرج خارج من ريح أو لم يخرج؟ أو هل دخلت بعد المغرب لقضاء الحاجة أو لم تدخل؟ تقول: إني على يقين أني متوضئ، ولا عبرة بالشك حتى أَستيقِنَ انتقاض الوضوء كما استيقنت وجوده، فتبقى على الوضوء. وهنا مسألة: اليقين والشك، فاليقين هو الأصل، والشك هو الذي يكون مستوي الطرفين، هل خرج أو لم يخرج؟ هل دخلت إلى الدورة فقضيتُ الحاجة أو لم أدخل؟ فهذا شك. دليل هذا الحكم: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن زيد: (شُكي إليه الرجل يخيّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال عليه الصلاة والسلام: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) فمن رحمة الله عز وجل بالعباد أنه قطع الوساوس وقطع الشكوك، ولو فتح باب الوسوسة والشك لتعذب الناس، ولحصل من الضرر ما الله به عليم، فلو أن الإنسان بمجرد الوسوسة ينتقض وضوءه لما استطاع أحد أن يصلي؛ لأنه بمجرد أن يدخل في العبادة أو يتلبس بالوضوء يتسلط عليه الشيطان بوساوسه، ولذلك جزم الشرع باعتبار الأصل وألغى الشك، وتفرع على هذا قاعدة مشهورة عند أهل العلم وهي قولهم: (اليقين لا يزال بالشك)، وهذه القاعدة هي إحدى القواعد الكلية الخمس. وتفرع على هذه القاعدة قاعدة تختص بمسألتنا وهي قولهم: (الأصل بقاء ما كان)، فأنت إذا شككت في الحدث فالأصل بقاء الوضوء على ما كان عليه، فتقول: أنا متوضئ حتى أستيقن انتقاض وضوئي، والعكس فلو أن إنساناً قضى حاجته قبل صلاة المغرب، وشك هل توضأ بعد ما قضى حاجته أو لم يتوضأ؟ فنقول: اليقين أنه محدث والشك أنه متوضئ فيطالب بفعل الوضوء؛ لأن اليقين أنه محدث.

تيقن الطهارة والحدث مع جهل السابق منهما

تيقن الطهارة والحدث مع جهل السابق منهما هنا مسألة: وهي لو أنك تيقنت الوضوء وشككت في الحدث فتعتبر نفسك متوضئاً، ولو تيقنت الحدث وشككت في الوضوء فإنك تعتبر نفسك محدثاً، فلو أن إنساناً قال لك: أنا متأكد أنني توضأت، ومتأكد أنني أحدثت، ولكن لا أدري أيهما السابق؟ أهو الوضوء السابق أم الحدث؟ فما الحكم؟ إذا كانت القاعدة تقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان، وأنا على يقين أنني توضأت قبل المغرب وعلى يقين أنني دخلت لقضاء حاجتي وأحدثت، وأشك هل الذي سبق هو الوضوء والآن أنا محدث، أو الذي سبق هو الحدث وأنا الآن متطهر؟ هذه المسألة أصح الأقوال فيها: أننا نطالبه بالتذكر قبل الحدث والوضوء، فإذا تذكر شيئاً جزم بعكسه، فنقول له: قبل أن تدخل وقبل أن تقضي حاجتك وتتوضأ ما الذي تذكر؟ قال: أذكر أنني قضيت الحاجة. إذاً تيقنا حدثاً قبل الاثنين، وتيقنا بعد ذلك الحدث طهارة، فنقول: أنت على يقين من كونك متطهراً حتى نجزم بأن الحدث المصاحب لاحق لا سابق. توضيح أكثر: الرجل يقول: قبل الظهر تيقنت بأنني دخلت لقضاء الحاجة، وقبل الظهر أذكر أنني توضأت وانتهيت من طهارتي، إذاً هو يجزم بكونه متوضئاً ويجزم بكونه محدثاً، فإذا جئت تقول له: الأصل بقاء ما كان على ما كان، يقول لك: أي الأصلين أعتبر؟ أنا على يقين من الطهارة وعلى يقين من الحدث؟ ولكن لا أدري أيهما السابق؟ نقول له: ما الذي كنت عليه قبل هذا الشك، أي: قبل الحدث والوضوء المتأخر؟ ماذا كنت عليه وقت الضحى؟ قال: في الضحى أجزم بأنني كنت متوضئاً لصلاة الضحى. إذاً: معنى ذلك أنه في الضحى كان على طهارة، ثم حصل عندنا وضوء وحدث، فتيقنا حدثاً بعد طهارة الضحى، إذاً نحن على يقين من أن طهارة الضحى قد انتقضت بالحدث المصاحب للطهارة، ونشك في كون الطهارة وقعت بعد الحدث الثاني أو لا فنلغيها، ونبقى على اليقين. هذا معنى قولهم: يؤمر بالتذكر قبل الحدث والطهارة فيأخذ بالعكس، ولو قال: أتذكر قبلهما حدثاً وطهارة أيضاً، أي: أنا على يقين أنني قبل الظهر قضيت الحاجة وتوضأت، ولا أدري السابق، وعلى يقين أنني توضأت للضحى وأنني أحدثت، ولكن لا أدري أقبل صلاة الضحى أو بعد صلاة الضحى، نقول: يأخذ نفس الحكم، فيؤمر بالتذكر قبل الاثنين، أي: قبل الشك الأول وقبل الشك الثاني ثم يأخذ بالمثل، فإذا كان قبلهما قد تيقن وقال: كنت عند شروق الشمس على طهارة صلاة الفجر وصليت ركعتي الإشراق، فنقول: قد تيقنت بعد ذلك الوضوء حدثاً، وهو الحدث الأول، وتيقنت طهارة في الشك الثاني، وشككت في تأثير الحدث عليها، إذاً: فأنت الآن متطهر، ومن ثم قالوا: في الأوتار يأخذ بالعكس، وفي الأشفاع يأخذ بالمثل، أي: يؤمر بالتذكر، فإن كانت الحالات شفعية يأخذ بالمثل، وإن كانت وترية يأخذ بالعكس، فلو قال: أتذكر وضوءاً وحدثاً قبل الآن، نقول له: أنت على عكس ما تذكر قبل الوضوء والحدث، هذا في الوتر، وإن قال: أذكر اثنين: وضوءاً وحدثاً ثم وضوءاً وحدثاً، فنقول: تذكر ما قبلهما وخذ بالمثل؛ لأنه تذكر أنه متطهر فثبت له حكم الانتقاض بالشك الأول، وحكم الطهارة بالشك الثاني، فيأخذ بالمثل في الأشفاع ويأخذ بالضد في الأوتار، ولو بلغت أربعاً كأن يقول: أنا متأكد أنني في الضحى كنت على حدث وطهارة، وكذلك أيضاً عند الإشراق كنت على حدث وطهارة، وكذلك عند الفجر كنت على حدث وطهارة، فإنه يأخذ بالعكس كما قلنا في الأوتار، وبالمثل في الأشفاع، وهذا معنى قولهم: (الأصل بقاء ما كان على ما كان).

ما يحرم على المحدث حدثا أصغر

ما يحرم على المحدث حدثاً أصغر

حكم مس المصحف للمحدث

حكم مس المصحف للمحدث قال رحمه الله: [ويحرم على المحدث مس المصحف] ويحرم على المحدث مس المصحف وهو القرآن، ودليل ذلك ظاهر القرآن -على نزاع- في قوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] وإن كان الصحيح: أن المراد به اللوح المحفوظ، وأنه لا يمسه إلا الملائكة، لكي ينفي الله جل وعلا تسلط الشياطين على الوحي كما قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء:210 - 211] فالصحيح: أن الآية محمولة على اللوح المحفوظ، لكن فيها وجه عند أهل العلم بحملها على المصحف. أما الدليل الثاني: فحديث عمرو بن حزم وقد تلقته الأمة بالقبول، وفيه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم: (أن لا يمس القرآن إلا طاهر) وقوله: (إلا طاهر) أي: إلا متوضئ، وقال بعض العلماء: (إلا طاهر) يعني: مسلم وليس بمشرك، وهذا قول ضعيف، وحجتهم أنهم قالوا: إن المسلم متطهر، فلا يقال: إن قوله: (طاهر) المراد به: المسلم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لـ أبي هريرة: (إن المسلم لا ينجس)، وأصحاب هذا القول التبس عليهم الأمر؛ فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المسلم لا ينجس) لا يقتضي التطهير؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إني كنت على غير طهارة) وقال لـ أم سلمة -كما في الصحيح في غسل الجنابة-: (ثم تفيضين الماء على جسدك فإذا أنت قد طهرت) وقال الله في التنزيل: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة:222] معنى ذلك: أن الطهارة ما كانت موجودة، ولذلك فرق بين قوله: إنه طاهر، وبين قوله: إنه لا ينجس، فالنفي الذي ورد في حديث أبي هريرة (فانتجست) (فانبجست) (فانخنست) كلها روايات ظن فيها أبو هريرة أنه نجس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن لا ينجس) أي أنه إذا أجنب لا يحكم بكونه نجساً، هذا أمر منفصل عن حديث عمرو بن حزم فليتنبه طلاب العلم إلى ذلك، فإن بعضاً من شراح الحديث عتبوا على جمهور العلماء، وقالوا: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (أن لا يمس القرآن إلا طاهر) المراد به أن لا يمسه كافر، وأن الطاهر هو المسلم، وهذا ليس بصحيح؛ وأما الحديث الوارد من أنه: (لا ينجس) ففرق بين نفي النجاسة وبين إثبات وصف الطهارة، فإن النصوص في الكتاب والسُّنة تدل على جواز نفي الطهارة عن المؤمن، كقوله عليه الصلاة والسلام: (إني كنت على غير طهارة فكرهت أن أذكر الله). الدليل الثالث -وهو من القوة بمكان-: هدي السلف الصالح فقد روى مالك في الموطأ: أن ابناً لـ سعد بن أبي وقاص كان يقرأ عليه القرآن والمصحف بين يديه، فيقول ابنه: (فتحسّست أو تحككت، فقال لي أبي: لعلك لمست -أي: لمست العضو- قال: نعم. قال: قم فتوضأ)، فدل على أنه كان معروفاً ومعهوداً عند الصحابة أن مس المصحف لا يكون إلا لمتوضئ، ولذلك يعتبر التطهر من أجل مس المصحف من الأمور التي يختص بها كتاب الله تشريفاً له وتكريماً.

حكم الصلاة لمن كان محدثا

حكم الصلاة لمن كان محدثاً قال رحمه الله: [والصلاة] لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) وأصله في التنزيل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة:6].

حكم طواف المحدث

حكم طواف المحدث قال رحمه الله: [والطواف] والطواف بالبيت يجب له الوضوء؛ لما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطواف بالبيت صلاة) فأعطاه حكم الصلاة، فدل على أنه يجب له الوضوء، وهو مذهب جمهور العلماء في أن الطواف بالبيت تشترط له الطهارة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه حكم الصلاة، فيؤمر بالوضوء له كما يؤمر للصلاة. وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه لا تشترط الطهارة للطواف، وهو مذهب مرجوح. ومن الأدلة على اشتراط الطهارة، ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ عائشة لما حاضت: (اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) فدل على أن الطواف بالبيت تشترط له الطهارة.

الأسئلة

الأسئلة

حكم مس المصحف من غير وضوء

حكم مس المصحف من غير وضوء Q ما حكم مس المصحف من غير وضوء؟ A ما شاء الله! ما أدري أعاتب من؟ يحكون أن رجلاً أفلس فأمر القاضي أن يحمل على دابة -وكان في القديم إذا أفلس الرجل وحكم بالحجر عليه، يأمر القاضي بأن يُركب على دابة ثم يطاف به في الأسواق، حتى لا يعامله أحد فيعذر القاضي إلى الناس- فُحِمل ذلك الرجل على دابة وطيف به في الأسواق، وقال منادي القاضي: إن القاضي يأمركم أن لا تعاملوا فلان بن فلان، فمن عامله بعد اليوم فلا يلومنَّ إلا نفسه، فلما انتهى من الطواف به في آخر اليوم وأنزله عند بيته، قال له صاحب الدابة: أعطني الأجرة، قال: سبحان الله! ما الذي كنا فيه من اليوم؟! فنحن نتحدث عن مس المصحف للمحدث، والسؤال عن مس المصحف!!

حكم دفن الشعر والأظفار بعد القص

حكم دفن الشعر والأظفار بعد القص Q هل يستحب دفن الأظافر والشعر إذا قيل بأنهما جزء من الإنسان بعد إبانتهما؟ A أظفار الإنسان جزء منه، وإذا أُبينت منه قالوا: يستحب دفنها؛ لأن الله عز وجل يقول: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21] والأصل في أجزاء الإنسان أنها إذا قطعت أو بترت أو فصلت أنها تدفن، فلو قطع من إنسان يده أو نحو ذلك فإن هذه اليد تدفن تكريماً من الله لبني آدم، ولذلك قالوا: إذا قلَّم الأظفار دفن أظفاره، وورد في بعض الأحاديث أنه فيه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قيل: إن ذلك خوفاً من السحر؛ ولكن الأصل في الأمر بدفن الأظفار إنما هو من أجل أنها جزء من الإنسان فتدفن لما ذكرناه، والله تعالى أعلم.

إلحاق الممسوس بالماس إن وجدت شهوة

إلحاق الممسوس بالماس إن وجدت شهوة Q هل كون الممسوس ينتقض وضوءُه إذا وجد شهوة، مستنده القياس أم له دليل آخر؟ A نعم. هو القياس، إذ اتحدت فيه العلة ووجدت في الفرع كما هي في الأصل، فالحكم مستو من جهة المعنى، والشرع ينبه بالنظير على نظيره لكي تلحق الأشياء بأشباهها كما قال عمر لـ أبي موسى الأشعري: (عرف الأشباه والنظائر)، أي: لأجل أن تقيس، فالقياس الصحيح حجة شرعية عند جماهير أهل العلم -رحمة الله عليهم-، فعندما يجد الممسوس الشهوة يكون في حكم الماس نفسه، وقوي إلحاقه بمن مس نفسه، والله تعالى أعلم.

اندراج الوضوء تحت غسل الجنابة

اندراج الوضوء تحت غسل الجنابة Q إذا اغتسل الإنسان من الجنابة وأراد أن يصلي، فهل يجب عليه أن يتوضأ أم يكفيه الغسل؟ A إذا اغتسل الإنسان من الجنابة فإنه لا يجب عليه أن يتوضأ، خاصةً إذا توضأ أثناء غسله، وقد ثبت من حديث عائشة أنه: (أنه عليه الصلاة والسلام ما توضأ بعد غسل) ولذلك لا يجب الوضوء بعد الغسل إلا إذا لمس العضو بعد غسله، وأما إذا كان قد بقي على طهارته، فإن الطهارة الصغرى تندرج تحت الطهارة الكبرى، والله تعالى أعلم.

حكم مس المحدث للمصحف لأجل إبعاده عن الإهانة

حكم مس المحدث للمصحف لأجل إبعاده عن الإهانة Q ما حكم إخراج المصحف من الجيب عندما يريد الإنسان دخول الخلاء وهو محدث؟ A استثنى بعض العلماء مس المحدث للمصحف لإكرامه أو خوف إهانته، فقالوا: لو رأى المصحف وخشي عليه أن يحترق جاز له أن يأخذه ولو كان محدثاً، ولو رآه ساقطاً فمد يده حتى لا يسقط على الأرض إكراماً له وهو محدث جاز له ذلك، فوضعه أيسر من حمله عند قضاء الحاجة، والأصل في الشريعة أنه إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما بارتكاب أخفهما، والله تعالى أعلم.

معنى: الشك، والظن، والوهم

معنى: الشك، والظن، والوهم Q ما معنى قول العلماء: ما استوى طرفاه فشك، وما اختلفا فالراجح ظن والمرجوح وهم؟ A مراتب العلم أربعة يحفظها طلاب العلم وينبغي التركيز عليها: المرتبة الأولى: تسمى عند العلماء: اليقين. المرتبة الثانية: وهي الظن. المرتبة الثالثة: وهي الشك. المرتبة الرابعة: وهي الوهم. فهذه أربع مراتب للعلم: فمرتبة اليقين (100 %)، وهي المرتبة التي يصل فيها علمك بالشيء إلى درجة لا يدخلك فيها أي شك البتة، كأن ترى رجلاً في المسجد تعرفه باسمه ولونه ووصفه فتقول: محمد في المسجد الآن، وأنت تراه أمامك، فهذا يعتبر علم يقين لا يدخل الإنسان فيه أي شك. ومرتبة الظن: أن يكون ما بين (51 %) إلى (99 %)، والغاية داخلة في المغيا، فإذا بلغ علمك بالشيء إلى درجة أن واحداً بالمائة يحتمل الضد، فحينئذٍ يقال: غالب الظن، أو يقال: الظن، أو يقال: الراجح. مثال ذلك: عهدك بأخيك محمد أنه في البيت، ثم سألك سائل بعد ما خرجت من البيت بنصف ساعة أو بربع ساعة، وقال لك: محمد في البيت؟ وأنت تجزم بأن محمداً في البيت؛ ولكن يحتمل أنه خرج بعد خروجك، والاحتمال ضئيل، فتقول: غالب ظني أنه موجود، والمراد بذلك: غلبة العلم بوجوده مع وجود احتمال أنه غير موجود أو أنه خرج بعد خروجك، فهذه يسمونها: مرتبة الظن أو الراجح أو غالب الظن، وكله بمعنى. ومرتبة الشك هو (50 %) فيكون علمك بالشيء إثباتاً ونفياً بمرتبة واحدة سألك سائل: زيد في مكتبه؟ وأنت لا تدري أهو في مكتبه أم لا، فتقول: يمكن أن يكون موجوداً ويمكن أن لا يكون موجوداً، هذا يسمونه: الشك، أي: يحتمل أنه موجود ويحتمل أنه غير موجود. ومرتبة الوهم تبدأ من (1 %) إلى (49 %) فإذا كان غالب ظنك أنه موجود فضده النادر، وهو أنه غير موجود، فالنادر يسمى: وهماً، وغالب الظن يسمى: ظناً راجحاً. هذا معنى ما ذكره السائل من قولهم: ما استوى طرفاه شك، وما رجح أحد الطرفين فالراجح ظن والمرجوح وهم.

حكم وضوء من شرب مرق الجزور

حكم وضوء من شرب مرق الجزور Q ما حكم مرق لحم الجزور، هل ينقض الوضوء أم لا؟ A مرق لحم الجزور فيه خلاف بين أهل العلم رحمة الله عليهم: منهم من يقول: زهومة اللحم في المرق وقوتها قوة اللحم نفسه. ومنهم من يقول: أعتبر لفظ الحديث: (أنتوضأ من لحوم الإبل؟) فما كان من اللحم نفسه نقض وما كان من مرقه لم ينقض، والأقوى أن الإنسان يتوضأ منه.

وضوء المصاب بسلس الريح

وضوء المصاب بسلس الريح Q أنا مصاب بمرض سلس الريح فهل يلزم علي أن أتوضأ عند كل صلاة؟ A هذا فيه تفصيل: إذا استمر خروج الريح مع الإنسان بحيث لا يبقى له وضوء بقدر ما يصلي، فإنه يتوضأ عند دخول وقت كل صلاة، ثم يصلي ولو خرج الريح معه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك المستحاضة. أما لو كان الريح يخرج ثم يبقى ثلث ساعة أو ربع ساعة أو عشر دقائق لا يخرج، بحيث يمكنه أن يصلي، فحينئذٍ يتوضأ ثم يصلي حتى يتدارك ما قبل خروجه، ولو أدى ذلك إلى تركه للجماعة في المسجد فلا حرج عليه؛ لأن مراعاة شرط الطهارة مقدم على الواجب المنفصل من شهود الجماعة، وهذه الحالة يستثنى فيها وجوب الجماعة فيحكم بسقوطها عن الإنسان إذا كان معه سلس، بحيث يستطيع أن يصلي؛ ولكن في وقت ضيق لا يسعه معه أن يمكث في المسجد {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]. والله تعالى أعلم.

الجمع بين الأحاديث الواردة في الوضوء من مس الذكر

الجمع بين الأحاديث الواردة في الوضوء من مس الذكر Q كيف الجمع بين الحديثين الصحيحين: (من مس ذكره فليتوضأ) و: (وإنما هو بضعة منك) هل الأول يكون فيمن مس ذكره بشهوة والثاني فيمن مسه بدون شهوة؟ A ما سألت عنه من تعارض حديث طلق بن علي، وحديث أبي هريرة وبسرة بنت صفوان رضي الله عنها، فأنسب الأجوبة أن حديث طلق منسوخ؛ لأنه قال: (قدمت والنبي صلى الله عليه وسلم يبني مسجده). والأمر الثاني: أنه سأل عن مس الذكر فيحمل على وجود الحائل، والحديث الآخر يحمل على المباشر، وهذا الجمع أقوى من التفريق بين المس بشهوة وبدون شهوة؛ لأنك لو جمعت بين الحديثين بالتفصيل في وجود الشهوة وفقد الشهوة أشكل عليك العموم في قوله: (من مس) ولكن حملك على مس بوصف وهو عدم وجود الحائل، ومس بدون وصف وهو وجود حائل أقوى وأبلغ، ثم وجود الشهوة وعدم وجود الشهوة في الحائل وبدون حائل فيه اعتبار، فدخل هذا الجمع تحت الجمع الذي ذكرناه، من كونه بحائل أو بدون حائل، فإن الإنسان إذا مس بحائل يضعف تأثير الشهوة، بخلاف ما إذا لو مسه بدون حائل، والله تعالى أعلم.

الفرق بين علم اليقين وعين اليقين

الفرق بين علم اليقين وعين اليقين Q ما الفرق بين علم اليقين وبين عين اليقين؟ A علم اليقين متعلق بالإدراك، وأما عين اليقين فمتعلق بالحاسة التي تُوِصِّلَ بها إلى الإدراك، قال تعالى: {ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر:7] أي: ترونها على وجه لا يمكن أن يدخل الإنسان فيه شك؛ لأن الكفار امتروا وكذّبوا بالآخرة، فأخبر الله جل وعلا: أن الفصل بين من صدق بالآخرة وكذب بها أن يرى الناس ذلك في عرصات يوم القيامة، حيث قال سبحانه: {ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر:7] فالمقصود: أن هذا متعلق بالإحساس وهذا متعلق بالإدراك وكل منهما له معناه.

حكم مس المصحف لمن به سلس

حكم مس المصحف لمن به سلس Q ما حكم مس المصحف لمن كان مصاباً بمرض السلس؟ من كان به سلس البول فإنه يجوز له أن يتوضأ في بداية دخول الوقت ثم يمس المصحف حتى ينتهي الوقت، ويتوضأ من جديد، ولا حرج عليه أن يمس المصحف ولو خرج منه الخارج؛ لأنه معذور في انتقاضه، والله تعالى أعلم.

حكم الوضوء من مس الخصية

حكم الوضوء من مس الخصية Q هل مس الخصية ينقض الوضوء؟ A هذه المسألة للعلماء فيها قولان: فجماهير السلف والخلف على أن مس الأنثيين لا يوجب انتقاض الوضوء. وذهب عروة بن الزبير -رحمه الله- إلى القول بأن مس الأنثيين يوجب انتقاض الوضوء. والصحيح أن مسهما لا يوجب انتقاض الوضوء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص الحكم بالذكر دون الأنثيين. وأما قوله من: (من مس ذكره أو أنثييه أو رفغيه) فهي زيادة مدرجة من قول عروة لأنها مذهبه، والله تعالى أعلم.

حكم الوضوء من غسل الميت

حكم الوضوء من غسل الميت Q هل من الممكن إعادة القول في غسل الميت هل ينقض الوضوء أم لا؟ A للعلماء -رحمهم الله تعالى- في غسل الميت قولان: منهم من يرى أنه ينقض. ومنهم من لا يرى انتقاض الوضوء به. فالذين قالوا بعدم انتقاض الوضوء قالوا: إن الأصل طهارة الغاسل حتى يدل الدليل على الانتقاض، وليس ثَمَّ دليل صحيح يدل عليه، ولذلك نبقى على هذا الأصل ونستصحب حكم الطهارة، وهو أولى القولين بالصواب، وقد تكلم الإمام الدارقطني -رحمه الله- في كتابه العلل على علة حديث الأمر بالغسل والوضوء من غسل الميت وحمله، والله تعالى أعلم.

معنى: (مذهب راجح) و (مذهب مرجوح)

معنى: (مذهب راجح) و (مذهب مرجوح) Q قولكم: هذا مذهب راجح وهذا مذهب مرجوح، ما معنى ذلك؟ A إذا قوي دليل أحد القولين فإنه يحكم برجحانه؛ لوجود القوة إما سنداً أو متناً، فإن قويت دلالة النص فالرجحان من جهة المتن، وإن قوي سنده فالرجحان من جهة الثبوت، فإذا قوي الاثنان ثبوتاً ودلالة فحينئذٍ لا إشكال، فإذا قيل: إنه الراجح، فالمراد: أنه أقوى القولين دليلاً، إما من جهة الثبوت وإما من جهة الدلالة، وإما من جهتهما، والله تعالى أعلم.

مسافة القصر بين جدة ومكة والمشاعر وما يترتب عليها من أحكام

مسافة القصر بين جدة ومكة والمشاعر وما يترتب عليها من أحكام Q هل المسافة من جدة إلى مكة مسافة قصر؟ وإذا كانت ليست مسافة قصر فهل من أحرم بالعمرة في أشهر الحج وهو من أهل جدة متمتع؟ وهل يصح له القصر في مكة ومنى وعرفة ومزدلفة؟ A أما بالنسبة للمسافة بين جدة ومكة فقد كانت في القديم تبلغ مسيرة اليوم والليلة، ولذلك لما سئل ابن عباس عن قصر الصلاة للجموم قال رضي الله عنه: (لا، وإنما إلى جدة وعسفان)، فأثبت القصر في هذين الموضعين، ولكن عندما اتصل العمران -كما هو الحال الآن- قصرت المسافة عن حد السفر، ولا تبلغ الحد المعتبر للحكم بالقصر، ولذلك إذا قصد من جدة إلى مكة فإنه لا يأخذ حكم المسافر؛ ولكن إذا نوى الحج من جدة فإنه يحكم بكونه مسافراً؛ لأنه قاصد إلى المشاعر، والمشاعر تتمِّم النقص في المسافة، فيقصر الصلاة ويأخذ حكم المسافر؛ لأن عرفات تبعد عن البيت بأكثر من (8 كم)، وهذا يجبر النقص الموجود في المسافة التي بين جدة ومكة، وبناءً على ذلك تبلغ المسافة غاية السفر، فغايته إذا حج من جدة إلى عرفات، فيحكم بكونه مسافراً، فيقصر الصلاة إذا قصد الحج، وأما إسقاط الدم عن أهل جدة إذا رجعوا فإنه مبني على الاجتهاد، والأقوى أنهم ليسوا من حاضري المسجد الحرام؛ وإنما هم في حكم الخارج عن الحرم وآخذون حكم الآفاقيين، ويجب عليهم دم إن تمتعوا؛ لأنهم ليسوا في حكم حاضري المسجد الحرام، والله تعالى أعلم.

علة القصر في المشاعر

علة القصر في المشاعر Q هل القصر من أجل السفر أم من أجل النسك؟ A القصر من أجل السفر، وأما أهل مكة فأصح الأقوال أنهم لا يقصرون؛ وذلك أن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن القصر لا يقتضي الحكم بكونهم مسافرين، فقد يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بالقصر، وإذا ثبت هذا فإنه يجاب عن سكوته بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أهل مكة بقوله: (أتموا الصلاة فإنا قوم سفر) وسكت في المشاعر عن أمرهم بالإتمام؛ لسبق التنبيه لهم على ذلك. وقال بعض العلماء: بل القصر من أجل النسك، وأنه يشرع لهم أن يقصروا من أجل النسك، ولذلك يَجْمَعون؛ وعلى هذا القول فلا إشكال إذا خرج المكي أن يقصر ولا حرج عليه في ذلك، والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

باب الغسل [1]

شرح زاد المستقنع - باب الغسل [1] حرص الشرع على طهارة الإنسان ونقائه، وأمره بالتخلي عن الأقذار والتطهر من الأحداث، إلا أن بعض الأحداث يكون تأثيرها كبيراً على البدن، فلهذا أمر الشرع بالاغتسال منها؛ كالجنابة والحيض والنفاس، ولم يكتفِ فيها بمجرد الوضوء.

تعريف الغسل وحكمه

تعريف الغسل وحكمه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الغسل]: الغسل في اللغة: هو صبّ الماء على الشيء، واختلف العلماء -رحمهم الله- هل من شرط الغسل أن تمر يدك على الشيء، أم ليس من شرطه؟ فقال بعض أئمة اللغة: كل من صب الماء على الشيء وأصاب ذلك الشيء فقد صدق عليه أنه قد غسله. وقال بعضهم: لا بد من إمرار اليد على الشيء المغسول. وأصح الأقوال: أن الغسل لا يشترط فيه أن تمر يدك على المغسول، وأن الشيء إذا صببت عليه الماء فقد غسلته. والمراد بالغسل في الشرع: تعميم البدن بالماء مع نية مخصوصة، وهي: قصد القربة لله جل وعلا، فخرج من عمَّم بدنه بالماء بقصد النظافة أو السباحة والاستحمام، فإنه لا يعتبر غسلاً شرعياً. والغسل عبادة شرعية، شرعها الله جل وعلا وأوجبها على الجنب والحائض والنفساء ومن في حكمهم ممن هو مأمور بالغسل، والعلماء -رحمهم الله- من عادتهم أنهم يذكرون باب الغسل في كتاب الطهارة؛ والسبب في ذلك: أن الغسل طهارة كبرى، فبعد أن بين -رحمه الله- الوضوء -وهو الطهارة الصغرى- شرع في بيان أحكام الطهارة الكبرى وهي الغسل. وقد يسأل سائل ويقول: أليس الغسل طهارة كبرى، والوضوء طهارة صغرى؟ فنقول: نعم، فيقول: إذا كان الغسل طهارة كبرى والوضوء طهارة صغرى فقد كان الأنسب أن يبدأ بالكبرى قبل الصغرى؛ لأن الصغرى قد تندرج تحت الكبرى. وأُجيب عن ذلك بأن الوضوء أكثر من الغسل، بمعنى: أنك تتوضأ في اليوم أكثر من مرّة والغسل لا يقع إلا عند موجبه من جنابة أو غيرها. وقد يجلس الأعزب سنة كاملة لا يجنب ولا يغتسل إلا مرة واحدة، فلما كان الوضوء أكثر وقوعاً، أو كما يقول العلماء: أعم بلوى، ابتدأ العلماء رحمهم الله بالوضوء ثم ثنّوا بالغسل، هذا من جهة النظر. وبعبارة مختصرة نقول: قُدم الوضوء لعموم البلوى به وشدة الحاجة إليه، وأُخّر الغسل لندرة وقوعه أو قلة وقوعه بالنسبة للوضوء. الأمر الثاني: أن الفقهاء والمحدثين -رحمة الله عليهم- يقدمون الوضوء على الغسل مراعاة لترتيب القرآن، فإن الله عز وجل في آية المائدة بيّن حكم الوضوء ثم أتبعه بالغسل. أما مناسبة الغسل للطهارة: فلأنه نوع من أنواعها، فمن المناسب أن يذكر ما يتعلق به من أحكام.

موجبات الغسل

موجبات الغسل

الغسل من خروج المني

الغسل من خروج المني قال رحمه الله: [وموجبه: خروج المني دفقاً بلذة]. (وموجبه) الموجب هو: المتسبب، أي: أن هذا الغسل يوجبه أو يتسبب في لزومه على المكلف خروج المني دفقاً بلذة، أي: إذا خرج المني من الإنسان دفقاً وبلذة لزمه الغسل. أما الخروج: فهو ضد الدخول كما هو معلوم، ومراد العلماء بخروج المني أن يجاوز رأس الإحليل وهو المجرى من العضو، فإذا بلغ المني ذلك الموضع -بمعنى: أنه قذفه العضو- فقد وجب الغسل، فهذا المراد بالخروج، ولما قال المصنف: (خروج) فهمنا من ذلك: أنه لو لم يخرج وإنما حصل الانتقال، بأن شعر به قد خرج من صلبه ولكن لم يقذف، فهل يجب عليه الغسل؟ A لا، لأن الغسل مرتبط بالمجاوزة، ففائدة تعبير الفقهاء بكلمة: (خروج)، أنك لو سئلت عن رجل حصل منه تحرك الشهوة ونزع المني من الصلب أثناء الصلاة فأمسك العضو حتى سلّم فصلاته صحيحة ولا يحكم عليه بوجوب الغسل إلا بعد تحقق الخروج، فإذاً: الوصف بالخروج معتبر، ومفهومه: أنه إذا لم يخرج لم يجب الغسل، وقد دل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الماء من الماء) أي: إنما الماء -وهو الغسل- (من) سببية، أي: بسبب الماء، وهو خروج المني، فإذا خرج المني وجب الغسل، فإذا لم يحصل الخروج لم يحصل الماء، ولذلك لا يجب الغسل. قال رحمه الله: (خروج المني) المني: هو الماء الأبيض الثخين بالنسبة للرجل، والأصفر الرقيق بالنسبة للمرأة، ورائحته كطلع النخل، يخرج دفقاً عند وجود الشهوة أو اللذة الكبرى.

حكم الغسل من المني الخارج بغير تدفق

حكم الغسل من المني الخارج بغير تدفق (دفقاً) والدفق: وصف معتبر اشترطه الفقهاء -رحمهم الله- لقوله تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:6] فوصف الله جل وعلا مني الإنسان بكونه دافقاً، ولذلك قالوا: إذا خرج المني دفقاً وجب الغسل. وهنا مسألة: لو أن إنساناً خرج منه المني على قطرات دون أن يخرج دفقاً، فهل يجب عليه الغسل؟ قولان للعلماء: القول الأول: إذا خرج المني دفقاً وجب الغسل، وإن خرج بدون دفق فلا غسل عليه؛ لأن الله وصف المني بكونه دافقاً، فإن خرج على هيئة قطرات فهو مرض واعتلال في الصّحة لا يوجب الغسل، ولذلك لا يجب من مثله غسل. القول الثاني: إنه يجب الغسل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الماء من الماء). وأصح القولين -والعلم عند الله-: أنه إن خرج المني على قطرات مع الشهوة وقصدها أوجب الغسل؛ لوجود المعنى الموجب، وإن خرج قطرات على سبيل المرض أو الاعتلال لم يوجب الغسل؛ لأن العلة التي ذكروها من كونه خارجاً عن وصف القرآن بسبب المرض لا تتحقق إلا في آحاد الصور، وإذا كانت العلة لا تتحقق إلا في آحاد الصور فيجب تخصيصها بما ذكر، ولذلك نقول: الأصل في خروج المني أنه يوجب الغسل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الماء من الماء) فإن حصل للإنسان مرض وخرج منه قطرات، أو أصاب العضو مرض وأخرج منيه على هيئة قطرات دون قصد الشهوة ولم يكن ذلك بها فإنه لا يوجب الغسل، وهذا هو أعدل الأقوال في هذه المسألة إن شاء الله تعالى. المسألة الثانية: تجد عند بعض المرضى -كمن استؤصلت منه البروستات أو ما يجري في مسألة غدة المسالك- يخرج المني مع البول، وقد يخرج بكثرة وهو دافق، فهل نعطيه الحكم؟ فنقول: مثله لا يوجب الغسل؛ لأنه ليس في حكم الغالب المعتاد، وهو نادر، ويحصل بسبب اعتلال الصّحة؛ فيأخذ حكم المرض، وبالنظر للأصول العامة في الشريعة: فإننا لو أوجبنا الغسل على مثل هذا لكان فيه حرج ومشقة، والشريعة لا حرج فيها ولا مشقة، وهذا حاصل ما ذكر في قولهم: خروج المني دفقاً. (بلذّة) اللذّة: وصف معتبر، قالوا: إنه يخرج دفقاً مصحوباً باللذّة، وهي اللذّة الكبرى، وخرج بقولهم: اللذة الكبرى، ما يخرج باللذّة الصغرى وهو الذي يسمى: المذي، وهو قطرات يسيرة لزجة تخرج عند بداية الشهوة، فمثل هذه القطرات لا تأخذ حكم المني، والمني يختص باللذّة الكبرى والشهوة الكبرى، وهذا هو الموجب الأول. يقول المصنف رحمه الله: (خروج المني دفقاً بلذّة) أي: إذا خرج المني من المكلّف بهذه الصورة الجامعة للوصفين: دفقاً وبلذّة، وجب الغسل. والدليل على ما سبق: ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا فضخت الماء فاغتسل) فدل على وجوب الغسل من خروج المني بالصفة التي ذكرناها، وظاهر قول المصنف: (خروج المني) العموم، أي: سواء خرج المني في يقظة أو خرج في منام، فإن خرج في اليقظة فيستوي فيه أن يكون بجماع أو بغير جماع، وإن خرج في المنام فيستوي فيه أن يتذكر الاحتلام أو لم يتذكر الاحتلام. أما الدليل على وجوب الغسل بمجرد خروج المني في يقظة أو منام على هذا الإطلاق فحديث صحيح مسلم، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الماء من الماء) فقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن وجوب الغسل من الجنابة مبني على وجود الماء وهو المني، فكلما وجدنا الماء -وهو المني- حكمنا بوجوب الغسل، وعلى هذا لو أن إنساناً نام ثم استيقظ فوجد أثر المني في ثوبه، فهل يجب عليه الغسل حتى وإن لم يتذكر الاحتلام؟ A نعم؛ لظاهر الحديث، حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بوجوب الغسل دون نظر إلى كونه ذاكراً أو غير ذاكر، وبناءً على ذلك فالعبرة بوجود المني سواءً شعر بكونه احتلم أو لم يشعر.

الشك في البلل الموجود على الثوب

الشك في البلل الموجود على الثوب الأمر الأخير الذي نريد أن ننبه عليه: لو شك الإنسان في ماءٍ فاستيقظ من نومه فوجد بللاً في ثوبه ثم لم يدر هل هو مني فيغتسل، أو مذي حكمه حكم البول؟ نقول: يميز هذا الماء، فإن وجد علامة المني وهي رائحة المني التي هي كطلع النخل، أو وصف المني بيبسه إذا كان طال عهده بالمنام، كأن ينام بعد صلاة الفجر ثم يستيقظ بعد شروق الشمس ويسهو عن نفسه، ثم لما أراد أن يصلي الظهر وجد الماء في ثيابه يابساً، فحينئذٍ يعمل بالأوصاف من ثخن المني ورقة المذي، فإن وجد ثخن المني أو رائحته -لأنه إذا طال وقته كانت رائحته كرائحة البيض، وإن كان طرياً تكون رائحته كطلع النخل، وطلع النخل هو الوبار الذي تُؤبَّر به النخل- فإذا وجده بصفة المني حكم بكونه منياً واغتسل، وإن لم يجد الصفة أو وجد قطرات يسيرة فمثلها ليس بمني؛ لأن المني كثير، وحينئذٍ يبني على أنها مذي وهو الذي يكون عند بداية الشهوة، فإن وجد علامة المني أو علامة المذي حكم بما وجد من علامة، وإن لم يستطع التمييز رجع إلى اليقين من كونه مذياً حتى يستيقن أنه مني فيجب عليه الغسل. فنقول لمن شك في هذا الماء الموجود في الثوب هل هو مني فيغتسل، أو مذي فيغسله ويتوضأ؟ نقول: هو مذي حتى تستيقن أنه مني، ولا يجب عليك الغسل بالشك. قال رحمه الله: [لا بدونهما من غير نائم]. (لا بدونهما): لا: نافية، أي: لا يجب الغسل بمني خرج بدون دفق أو بدون لذة أو بدونهما، وقيل بالترابط بين الدفق واللذة لأنه لا توجد اللذة إلا مع الدفق، وبناءً على ذلك قلنا: هذان الوصفان إذا لم يوجدا لم يحكم بوجوب الغسل من المني.

حكم الغسل من خروج المني من النائم

حكم الغسل من خروج المني من النائم قال رحمه الله: [من غير نائم]. (من غير نائم) وهو المستيقظ، فلو أن إنساناً كان مستيقظاً وخرج منه المني بدون دفق ولا لذة، فما الحكم؟ نقول: لا يجب عليه؛ لظاهر القرآن على التفصيل الذي بيناه، لكن لو كان نائماً فلم يشعر بلذة ولا بتدفق فما الحكم؟ قالوا: يجب عليه الغسل؛ لعموم قوله: (إنما الماء من الماء) والسبب في استثناء النائم أن النائم لا شعور عنده ولذلك لا يشعر باللذة، والنائم قد يحتلم ويستيقظ ولا يذكر أثر الاحتلام من وجود الشعور باللذة، وبناءً على ذلك أسقطت اللذة في حكمه وأُعمل عموم النص في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الماء من الماء) ولذلك لما سئل عليه الصلاة والسلام: (عن المرأة ترى ما يرى الرجل، فهل عليها من غسل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نعم، إذا رأت الماء، إنما هن شقائق الرجال).

حكم الغسل من انتقال المني دون خروجه

حكم الغسل من انتقال المني دون خروجه قال رحمه الله: [وإن انتقل ولم يخرج اغتسل له]. هذا هو الوجه الثاني الذي أشرنا إليه، فقد قال بعض العلماء: إذا شعر بانتقاله دون أن يقذفه فإن العبرة بالانتقال لا بالخروج. قال رحمه الله: [فإن خرج بعده لم يعده]. وهذا على صورتين: الصورة الأولى: التي ذكرناها، والصورة الثانية: أن يخرج المني من جماع أو من احتلام ثم تبقى قطرات فيغتسل الرجل، وبعد أن يغتسل إذا بهذه القطرات أو فضلة المني قد نزلت ولو دفقاً، فهل العبرة بالسابق الذي هو الأصل أم العبرة باللاحق؟ إن قلت: العبرة بالسابق، فإن هذا اللاحق لا يؤثر في إيجاب الغسل، ولذلك قال: التابع تابع، فيعتبر تابعاً لما قبله، وإن قلنا: إن العبرة باللاحق؛ فحينئذٍ يجب عليه أن يعيد غسله؛ لأن الحكم مترتب على اللاحق لا على السابق، والصحيح: أن العبرة بالسابق، وأنه إذا اغتسل للأول فلا يجب عليه إعادة الغسل لفضلة المني الباقية التي خرجت بعد غسله، وهو اختيار طائفة، وهو مذهب الحنابلة والمالكية ومن وافقهم.

الغسل من إيلاج الفرج في فرج

الغسل من إيلاج الفرج في فرج قال رحمه الله: [وتغييب حشفة أصلية في فرج أصلي قبلاً كان أو دبراً]. السبب الثاني الذي يجب به على المكلف أن يغتسل: تغييب حشفة أصلية، والتغييب: هو المواراة، تقول: غَيَّبَ الشيء في التراب إذا واراه فيه، والغائب هو: المتواري عن الأنظار، وتغييب الحشفة: الحشفة هي رأس الذكر، والمراد بالتغييب: أن يحصل الإيلاج، فبعض العلماء يقول: إيلاج، وبعضهم يقول: تغييب، والمعنى واحد، فلما قال: (تغييب الحشفة) فهمنا من ذلك: أنه لو ألزق رأس العضو برأس العضو فلا يجب الغسل، سواء كان من قبل أو دبر فإنه لا يترتب عليه الحكم الشرعي المترتب على الإيلاج، وهذا يكاد يكون بالإجماع. فالتغييب شرط معتبر، ولذلك أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا ألزق الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل) فكنى صلوات ربي وسلامه عليه عن الإيلاج بقوله: (إذا ألزق) فإن هذا لا يحصل إلا بإيلاج رأس العضو، قالوا: لا يحصل ذلك إلا إذا وقع الإيلاج، وبناءً على ذلك فشرط هذا الموجب الثاني أن يحصل تغييب لرأس العضو أو قدر رأس العضو من مقطوع رأس العضو، فلو سئلت عن حكم مواراة رأس عضو مقطوع، فتقول: بتغييب قدر رأس العضو أي: حشفته. (تغييب الحشفة في فرج أصلي) في الفرج: يشمل ذلك الأنثى والذكر، والحي والميت، والحيوان والإنسان، فإذا حصل إيلاج على هذه الصورة في فرج آدمي ذكراً كان أو أنثى، أو كان من بهيمة، أو كان من حي أو ميت وجب الغسل، وهذا فيه أصل وفيه مقيس على الأصل: أما الأصل في إيجاب الغسل بالإيلاج فهو الجماع، وهذا بنصوص الأحاديث كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيحين: (إذا ألزق الختان الختان ... ) وقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا مس الختان الختان ... )، وقوله: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل) فهذه النصوص الصحيحة تدل على أن العبرة بإيلاج رأس العضو، وهذا منصوص جماهير السلف والخلف من أهل العلم رحمة الله عليهم. أما بالنسبة للملحق بهذا الأصل ففرج الدبر سواء كان من امرأة أو من رجل أو كان من بهيمة -وهو محرم وطؤه- فإن كل ذلك يعتبر آخذاً حكم ما ذكرناه بالقياس؛ لأن الشرع ينبه بالنظير على نظيره، وهذا هو مذهب جماهير العلماء، وخالف بعض أهل العلم فقال: لا يجب إلا إذا حصل الإيلاج في عضو الأنثى بالجماع، وأما غيرها فلا يجب فيه غسل، ولكن الصحيح ما ذكرناه. (تغييب حشفة في فرج أصلي) هذا التغييب ظاهره سواء كان في يقظة أو منام، فإن التكليف بوجوب الغسل مبني على الحكم الوضعي لا الحكم التكليفي، بمعنى: أنه متى ما حصل الإيلاج فالحكم بوجوب الغسل حاصل بغض النظر عن كونه في يقظة أو منام. (تغييب حشفة في فرج أصلي) خرج من هذا الفرج الغير الأصلي، ومثل له العلماء بالخنثى المشكل، فقال بعض العلماء -رحمهم الله- وهو يكاد يكون مذهب الجمهور: إنه إذا جامع الخنثى وكان مشكلاً فإنه لا يحكم بوجوب الغسل عليه، وهي مسألة فيها خلاف، وأنا متوقف فيها، فبعض العلماء يرى أن العبرة بالفرج الأصلي؛ قالوا: لأن الخنثى إذا لم يتبين أهو ذكر أم أنثى فإننا نعمل بقاعدة: (اليقين لا يزال بالشك)، فاليقين أن المجامع يعتبر طاهراً، وشككنا في هذا الفرج: هل الخنثى رجل فيكون بمثابة وطء فرج غير أصلي فحينئذٍ لا يجب الغسل، أو هو أنثى فيكون جماعاً صحيحاً موجباً للغسل؟ فرجعنا إلى اليقين، هذا وجه إسقاط الغسل، يقولون: إن المجامع الأصل فيه الطهارة وشككنا في هذا الجماع: أيوجب الغسل أو لا يوجبه؟ والأصل براءة الذمة، فلا يجب غسل بجماع خنثى مشكل، هذا بالنسبة لكلام العلماء رحمة الله عليهم. قال رحمه الله: [قبلاً أو دبراً]. (قبلاً أو دبراً) هذا للتنويع، سواء وقع في قبل أو دبر، يخرج من هذا الفرج غير الأصلي كما ذكرنا في الخنثى المشكل، أو يكون مصنّعاً، فكل ذلك لا يوجب الغسل. قال بعض العلماء: الإيلاج يوجب الغسل للمولج فيه، سواء كان المولَج عضواً أو غيره، وهو أحد الأوجه في مذهب الشافعية وغيرهم، ومنها: ومسألة المناظير الطبية الموجودة التي تولج من الدبر، فإذا احتاج المريض لكشف مرض جراحي أو للتأكد من وجود قرحة أو القسطرة التي تكون -مثلاً- في الإحليل، فقال بعض العلماء: إيلاج أي شيء في الفرج سواءً كان مخلوقاً حياً أو كان غير حيّ كالآلات الحديديّة الموجودة الآن من مناظير ونحوها يوجب الغسل، فيتفرّع على هذا لو سأل سائل عن إدخال المناظير أيوجب الغسل أم لا؟ فحينئذٍ نقول على هذا القول: يجب عليه أن يغتسل، والصحيح: أنه لا يجب الغسل بإيلاج غير الأعضاء المعتبرة. قال رحمه الله: [ولو من بهيمة أو ميت]. أي: لو وقع الإيلاج في بهيمة أو ميت.

حكم الغسل لمن جامع زوجته ولم ينزل

حكم الغسل لمن جامع زوجته ولم ينزل وبالنسبة للإيلاج ففيه مسألتان: المسألة الأولى: كان بعض السلف يقول: إذا جامع الرجل ولم يُنزل لا يجب الغسل، أي: أنهم لا يرون أن مجرد الإيلاج يوجب الغسل، وذهب الجماهير من الصحابة رضوان الله عليهم إلى أنه يجب الغسل، سواء حصل الإنزال في الجماع أو لم يحصل، إنما هذا كان في أول التشريع في الإسلام، أن الرجل إذا جامع ولم ينزل فلا يجب عليه الغسل، وفيه أحاديث صحيحة، منها: ما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الماء من الماء) أي: إنما الماء -وهو الغسل- بسبب الماء -وهو المني-، فإذا جامع أهله ولم ينزل فلا غسل عليه، هذا مفهوم الحديث. ومما دل عليه أيضاً: ما ثبت في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم زار رجلاً من الأنصار، فقرع عليه الباب فخرج الرجل مسرعاً كأنه كان مع أهله، فقال عليه الصلاة والسلام: لعلنا أعجلناك، إذا أعجلت أو أقحطت فلا غسل عليك) (أعجلت) بمعنى: أن الإنسان نزع قبل أن ينزل في الجماع، (أو أقحطت) أي: لم يحصل إنزال أثناء الجماع (فلا غسل عليك)، فظاهر هذا النص أن العبرة بحصول المني. وجاء في الحديث الثالث أيضاً ما يؤكد هذا في قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا فضخت الماء فاغتسل) فكانت هذه رخصة في أول الإسلام، أنه لا يجب الغسل بمجرد الجماع، ثم جاء الأمر من الله عز وجل بإيجاب الغسل بالجماع في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل) وفي رواية: (أنزل أو لم ينزل). وعندما اختلف الصحابة في عهد عمر رضي الله عنه كان بعض الصحابة يحفظ الفتوى الأولى ويحفظ التشريع الأول، وكان بعضهم يحفظ النسخ، فاختلفوا واختصموا إلى عمر رضي الله عنه، فبعث عمر رضي الله عنه إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها فأخبرته بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من ورع الصحابة وكمال عقلهم وفضلهم أنهم كانوا ينزلون العلم بأهله. فانظر إلى عمر رضي الله عنه الخليفة الراشد والإمام العدل رضي الله عنه وأرضاه، لما أعْيَته المسألة ما حكم وبتّ الأمر واختار أحد القولين وحسم، بل رجع إلى أم المؤمنين، ولما سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن نافلته عليه الصلاة والسلام في السفر قالت: (سل عبد الله بن عمر فإنه أعلم بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره مني) فهذا هو شأن أهل الفضل، والمنبغي بين طلاب العلم وأهله، أنك إذا علمت أن هناك من هو أعلم منك في فن أو علم فعليك أن تحيل إليه المسألة، فلما اختلفوا في هذه المسألة رجعوا إلى أمهات المؤمنين، وقد كانوا إذا خفي عليهم شيء من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور البيت والنساء وأحكامها رجعوا إلى أمهات المؤمنين رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، فأخبرته أم المؤمنين بالحديث فقال عمر رضي الله عنه: (من خالف بعد اليوم جعلته نكالاً للعالمين) أي: عزرته، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم نسخ الحكم الذي كان في أول الإسلام بالتخفيف، فوجب الغسل سواء حصل الإنزال أو لم يحصل الإنزال. وجاء أبو سلمة رضي الله عنه -الإمام المشهور تلميذ ابن عباس - إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها -وحصل تشكيك في هذه المسألة في عهد التابعين- وذكر القول الذي يقول بإسقاط الغسل عن من جامع ولم ينزل، فسأل أم المؤمنين فقالت: (يا أبا سلمة! إنما مثلك مثل الفُرُّوج سمع الديكة تصيح فصاح بصياحها) أي: ما أنت إلا تبع للناس، وينبغي أن يؤخذ العلم عن أهله، ثم ذكرت له الحديث، فهذا يدل على شدة أم المؤمنين رضي الله عنها في المسألة، وأن الأمر منسوخ ومنتهٍ، ولذلك يقول بعض العلماء: حصل الإجماع بعد الصحابة على أن مجرد الجماع يوجب الغسل سواء حصل الإنزال أو لم يحصل.

حكم الغسل من الإيلاج بحائل

حكم الغسل من الإيلاج بحائل المسألة الثانية: ذكرنا أن الإيلاج يوجب الغسل، فالإيلاج يأتي على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون بدون حائل، وهذا بالإجماع معتبر بالأوصاف التي ذكرناها. الصورة الثانية: أن يكون بحائل، فلو حصل الإيلاج بالحائل فهل يجب الغسل، أو لا يجب؟ فللعلماء ثلاثة أوجه: الوجه الأول: قال بعض العلماء: لا يجب الغسل إذا وجد الحائل. الوجه الثاني: وقال بعضهم: يجب الغسل سواء وجد الحائل أو لم يوجد. الوجه الثالث: وقال بعضهم: إن كان الحائل رقيقاً وجب الغسل، وإن كان ثخيناً لم يجب الغسل. والأقوى: أن الحائل لا يجب معه الغسل، وذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مس الختانُ الختانَ) فعبّر بالمس، ولا يكون المس مع وجود الحائل، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (من مس ذكره فليتوضأ) وقد قالوا: إنه لا بد أن يكون بإفضاء دون وجود حائل، فأصح الأوجه -والعلم عند الله-: أن وجود الحائل لا يجب الغسل معه، لكن الاحتياط والأورع أن يغتسل سواء وجد الحائل أو لم يوجد.

الغسل عند الدخول في الإسلام

الغسل عند الدخول في الإسلام قال رحمه الله: [وإسلام كافر]. أي: إذا أسلم الكافر وجب عليه الغسل، وفيه حديث قيس -واختلف في إسناده وحسنه بعض العلماء، وقال به بعض أئمة السلف- حيث قال عليه الصلاة والسلام: (ألق عنك شعر الكفر واغتسل) وقالوا: إن الكافر يجب عليه الغسل، وللعلماء أوجه في هذه المسألة: فقال بعضهم: يجب الغسل على الكافر مطلقاً. وقال بعضهم: يجب الغسل على الكافر إن كانت منه جنابة في حال كفره، ولا يجب إذا لم تكن منه جنابة. وقال بعضهم: لا يجب الغسل على الكافر مطلقاً، وهذا مذهب الجمهور، أما القول الثاني فهو مذهب الحنفية، والقول الأول هو قول الحنابلة وطائفة من أهل الحديث، والحقيقة أن مدار هذه المسألة يتوقف على صحة الحديث.

وجوب غسل الميت

وجوب غسل الميت قال رحمه الله: [وموت وحيض ونفاس]. (وموت) أي: إذا حصل الموت وجب غسل الميت، لكنه متعلق بالمكلفين، والدليل على ذلك: ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما وقف بعرفة وأُخبر بخبر الرجل الذي وقصته دابته، قال عليه الصلاة والسلام: اغسلوه بماء وسدر وكفّنوه في ثوبيه، ولا تحنّطوه ولا تخمروا وجهه ولا تغطّوا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) ومحل الشاهد قوله: (اغسلوه) فوجّه الخطاب للمكلفين؛ فدل على وجوب غسل الميت، ولكن هذا متعلق بالمكلفين. الدليل الثاني: ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما توفيت ابنته زينب رضي الله عنها وأرضاها، قال عليه الصلاة والسلام: (اغسلنها بماء وسدر) فهذا يدل على وجوبه أيضاً على الأنثى، فالأول للذكر، والثاني للأنثى، وبناءً على ذلك يجب غسل الميت من المسلمين ذكراً كان أو أنثى. وهنا مسائل: لو أن الميت مات وليس هناك ماء؟ قالوا: يسقط الغسل، واختار بعض العلماء أن يُيمم. والمسألة الثانية: لو حكمنا بوجوب غسل الميت، فهل هذا الوجوب مطلق أم مقيد؟ نقول: هو مقيد بالحالات الاستثنائية، فلو أن الميت كان محروقاً أو به مرض الجدري -والعياذ بالله- فكان غسله فيه ضرر على الميت كالمحروق، أو فيه ضرر على مغسله كالمريض بالجدري، فحينئذ إذا وجد ضرر يتعلق بالميت أو يتعلق بالحي سقط تغسيله، فلا يجب تغسيله، مثله الذي به جراحات كبيرة، كما يقع في بعض الحوادث -أعاذنا الله وإياكم- فترى الجسد مجروحاً أو مخدوشاً خدشاً شبه كلي، فمثل هذا لو غسل حصل له من الضرر ما الله به عليم، والتغسيل تكريم له، ولكنه على هذا الوجه يكون أذّيةً وإضراراً به، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (كسر عظم المؤمن ميتاً ككسره حياً في الإثم) فلا ينبغي أن يتسبب في إتلاف أجزاء الميت والإضرار به، ولذلك قالوا: حتى لو قص من شعره فإنه يوضع في كفنه حفاظاً على كمال جثته التي توفي بها، فبناءً على ذلك: لو كان الميت محروقاً أو به أمور تمنع من تغسيله جاز تكفينه دون أن يغسل وسقط هذا الحكم بتغسيله.

الغسل من الحيض والنفاس

الغسل من الحيض والنفاس قال رحمه الله: [وحيض ونفاس]. أي: أن الحيض والنفاس يوجبان الغسل، أما الحيض فبالإجماع، والأصل فيه حديث الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتنظر الأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها -في المرأة المستحاضة- فإذا هي خَلّفت ذلك -يعني: أيام العادة- فلتغتسل ثم لتصلي) فقوله عليه الصلاة والسلام: (لتغتسل) أمر، فدل على أن الحيض يوجب الغسل، والله عبّر عن ذلك في قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222] فقال: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222] فنسب الطهر إليهن، ووصفهن بكونهن طاهرات أي: بعد انقطاع (فإذا تطهرن) فنسب التطهر إليهن، أي: فعلن الاغتسال، فالأصل في الحائض أنها تغتسل، ويجب عليها الاغتسال عند انقطاع دمها. (ونفاس) وكذلك النفاس، وهذا كله بالإجماع، ويكون النفاس بأن يجري معها الدم ثم ينقطع سواء طال أمده أو قل.

حكم الولادة من غير دم

حكم الولادة من غير دم قال رحمه الله: [لا ولادة عارية عن دم]. أي: لو أنها وضعت جنينها دون دم لم يجب عليها الغسل؛ لأن العبرة بالدم، وقد يقول لك قائل: العبرة بخروج الولد، فنقول: لو كانت العبرة بخروج الولد لكان الغسل يجب بمجرد الولادة، لكن كون المرأة النفساء تنتظر حتى ينتهي وينقطع الدم ثم تغتسل بعد انقطاع الدم دلّ على أن حكم وجوب الاغتسال معلق بوجود الدم، والأصل أن الحكم يدور مع موجبه، وما دام أن الدم موجب للغسل، فلا يجب الغسل إذا لم يكن هناك دم، وهي ولدت بدون دم، وهذا موجود الآن، فإذا ولدت امرأة بعملية قيصرية، وأُخرج الجنين منها ولم يجر معها دم لم يجب عليها الغسل.

ما يحرم على من يلزمه الغسل

ما يحرم على من يلزمه الغسل قال رحمه الله: [ومن لزمه الغسل حرم عليه قراءة القرآن]. الشيخ: (ومن لزمه الغسل) أي: من كانت عليه جنابة أو حيض أو نفاس حرم عليه قراءة القرآن، وفيه حديث علي رضي الله عنه وحديث عائشة رضي الله عنها: (أما الجنب فلا ولا آية)، وقوله: (كان لا يمنعه من القرآن إلا الجنابة) والحديثان مختلف في ثبوتهما، ومن أهل العلم من حسن الحديثين، لكن ثبت في الحديث الصحيح عند النسائي وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر عليه الرجل وكان قد قضى حاجته أو بوله فسلّم عليه، تيمم على الجدار، وقال: إني كنت على غير طهارة فكرهت أن أذكر الله عز وجل) فدل هذا الحديث على أن الأصل في الذكر أن يكون على طهارة، ولذلك ينبغي صيانة القرآن عن تلاوة الجنب، وهذه من الأمور التي يفرق فيها بين القرآن وبين الحديث القدسي كما قال بعض الفضلاء بقوله: ومنعه تلاوة الجنب في كل حرفٍ منه عشراً أوجبِ أي: أن القرآن يمنع الجنب من تلاوة القرآن الذي في كل حرف منه عشر حسنات، بخلاف الحديث القدسي. قال رحمه الله: [ويعبر المسجد لحاجة ولا يلبث فيه بغير وضوء]. (ويعبر المسجد لحاجة)؛ لقوله تعالى: {وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء:43] وقوله: (إلا عابري سبيل) فيه تقدير وهو: لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد وهذا أحد الأقوال. وقال بعض العلماء: إن قوله: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء:43] راجع إلى التيمم في السفر، وبناءً على هذا الاستثناء قالوا: يجوز للجنب أن يمر بالمسجد، وهو قول طائفة من السلف رحمة الله عليهم، ولكن ثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ المساجد طرقات، ولذلك لا يعبر المسجد ولا يتخذ طريقاً. وأقول بهذا القول لظاهر السنة بالمنع، فلعل هذا كان في أول الإسلام، وهناك آثار عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يعبرون من المساجد، ولكن يحمل الحديث على أنه متأخر، والأصل: (أنه إذا تعارض الحاظر والمبيح قدم الحاظر على المبيح)، ولا شك أن النفس تميل إلى أن النهي متأخر؛ لأن الأشبه في مثل هذا -كما هو معلوم في مسالك الأصوليين-: أن الحظر فيه متأخر عن الإباحة، فيقوى القول بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد طرقات حتى للطاهر، ولو كانت لك حاجة في طرف المسجد وأنت في الطرف الآخر فتستطيع أن تأتي من خارج المسجد، ويحظر أن تجتاز من داخل المسجد، وكان يقول الإمام أحمد -رحمة الله عليه- وبعض السلف: لا يتُخذ المسجد طريقاً، وهذا الذي تميل النفس إليه، والأحوط أنه لا يمر ولو كان عبوراً.

من يسن لهم الغسل

من يسن لهم الغسل قال رحمه الله: [ومن غسل ميتاً أو أفاق من جنون أو إغماء بلا حلم سُن له الغسل].

حكم الغسل لمن غسل ميتا

حكم الغسل لمن غسل ميتاً (ومن غسل ميتاً) أي: قام بتغسيله، ويكون ذلك على صورتين: الصورة الأولى: أن ينفرد بتغسيله. والصورة الثانية: أن يكون مع غيره، فإن انفرد بتغسيله فقول واحد -عند من يقول بوجوب الغسل عليه أو باستحبابه- وهو: أن عليه أن يغتسل، أما لو كان مع غيره فإنه يأخذ حكم الأصل؛ لأنه يصدق عليه أنه غسله؛ وبناءً على ذلك فإنه إذا غسل الميت منفرداً أو مشتركاً مع غيره فيجب عليه أن يغتسل على قول من يقول بالوجوب، لكن المصنف يميل هنا إلى القول بالسُّنية والاستحباب، وهو أصح الأقوال في هذه المسألة، وفي ذلك حديث جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: (من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ) قال الإمام أحمد رحمه الله: لا يثبت في هذا شيء، والحديث ضعيف، وقد تكلم عليه الإمام الدارقطني -رحمه الله- في العلل، وتكلم عليه الحفاظ، والصحيح عدم ثبوته، وإن كان بعض العلماء قد يحسنه، لكن الضعف فيه من القوة بمكان، ويكاد يكون الجماهير على ضعفه، وخاصة المتقدمين منهم، فإنهم يقولون: إنه ضعيف، لكن على القول بثبوته أو أنه حسن فيحمل على الندب والاستحباب والأفضل، أي: من غسّل ميتاً فله أن يغتسل على سبيل الندب والاستحباب لا على سبيل الحتم والإيجاب.

حكم غسل من أفاق من جنون أو إغماء

حكم غسل من أفاق من جنون أو إغماء قال رحمه الله: [أو أفاق من جنون أو إغماء]. اختلف العلماء في المجنون: فقال بعض العلماء: المجنون إذا أفاق وجب عليه أن يغتسل، وكذلك المغمى عليه. وقال بعضهم: لا يجب على المجنون غسل، والقول بوجوب الغسل على المجنون من القوة بمكان إذا تأتى منه خروج المني، أما إذا لم يتأتَّ منه خروج المني فيقوى القول بعدم الوجوب؛ لأنه لم يثبت فيه نص صحيح بالوجوب، ولذلك يقولون: إن المجنون إذا جنّ أو فقد عقله لم يأمن أن يخرج منه مني وهو لا يشعر، كما أن النائم إذا نام لم يأمن أن يخرج منه ريح وهو لا يشعر، فكما أن الشرع طالب النائم بإعادة وضوئه لوجود النوم الذي هو مظنة أن يكون فيه حدث، كذلك أيضاً الجنون أخذ حكم النوم في الإيجاب، هذا في الطهارة الصغرى وهذا في الطهارة الكبرى، لكن لماذا فرقنا بين كونه يتأتى منه أم لا؟ هذا مبني على نفس الدليل الذي استدل به، فإنك إذا قست الجنون على النوم في إيجاب الطهارة الكبرى قياساً على الإيجاب بالطهارة الصغرى فإنه يتعذر في النائم العلم بعلامة الريح، فلو خرج منه ريح لم يعلم، فوجب عليه الوضوء مطلقاً إذا نام، بخلاف المجنون فإن الخارج وهو: المني، له علامة وأمارة، ولذلك يفرق بين من كان يتأتى منه خروج المني ومن لا يتأتى فيه خروج المني، ويُنَزَّل المغمى منزلة المجنون. قال رحمه الله: [بلا حلم سن له الغسل]. (بلا حلم) أي: بلا احتلام، (سن له الغسل) أي: لا يجب عليه، وهذا كما تقدم أن المجنون يغتسل -على القول بأنه يغتسل- فينزل السكران منزلة المجنون، فإذا قلنا: إن المجنون يغتسل فالسكران كذلك عليه الغسل، وفي حكم السكران من خُدِّر التخدير العام؛ لكن التخدير الموضعي لا يأخذ حكمه، والعلة في هذا كله زوال العقل.

الأسئلة

الأسئلة

حكم وضوء من أمسك ذكره خوف نزول المني

حكم وضوء من أمسك ذكره خوف نزول المني Q ذكرتم أن المصلي إذا أمسك ذكره خوفاً من نزول المني أن صلاته صحيحة، فهل إذا أمسك الرجل ذكره في حالة الانتصاب ينتقض الوضوء أم لا؟ A إمساك العضو على الصورة التي وردت في السؤال لا يجب بها الوضوء، وإن كان بعض المتأخرين يقول: إذا وجد اللذة والشهوة فيجب عليه أن يتوضأ، لكنه قول شاذ لا أعرف له أصلاً، والصحيح أنه لا يجب الوضوء بمجرد إمساكه الذكر، لما ثبت في حديث طلق بن عدي أنه لما سئل عليه الصلاة والسلام عن لمس الذكر -على القول بأن هذا إذا كان بحائل- قال: (وهل هو إلا بضعة منك) قالوا: إنه محمول على وجود الحائل، وبناءً على ذلك فلا يجب عليه الوضوء سواءً وجد اللذة أو لم يجدها. والله تعالى أعلم.

حكم من احتلم ولم يجد بللا

حكم من احتلم ولم يجد بللاً Q إذا رأى الرجل ما يوجب الغسل في نومه ولكنه لم يخرج شيئاً، فهل عليه غسل؟ A من رأى ما يوجب الغسل أو تهيأ له أنه احتلم ثم استيقظ ولم يجد أثر الاحتلام فلا يجب عليه الغسل؛ لما ثبت في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الماء من الماء) فقد دل هذا الحديث على أن وجود الماء يوجب الغسل، ومفهومه: أنه إذا لم يوجد الماء فلا يجب الغسل، والله تعالى أعلم.

حكم وضوء المستحاضة لكل صلاة

حكم وضوء المستحاضة لكل صلاة Q هل المستحاضة تتوضأ لكل صلاة؟ وهل هذا الوضوء على الاستحباب أم على الوجوب؟ A المستحاضة إذا جرى معها الدم فإنها تتوضأ لكل صلاة، فإذا خرج وقت الصلاة الأولى توضأت لدخول وقت الصلاة الثانية؛ والسبب في ذلك حديث تكلم العلماء في سنده، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (توضئي لكل صلاة) وفي رواية: (تغتسل) لكنها ضعيفة، والقول بضعفها هو المعتبر، واختلف في قوله صلى الله عليه وسلم: (توضئي لكل صلاة) فيقولون: المعذور يُعذر في حد الوقت، فإذا انقطع الوقت عنه طولب بالعبادة بدليل مستأنف، وسقطت الرخصة بالصلاة السابقة، فيجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة عند دخول وقتها، وهذه مسألة فيها خلاف، لكن الصحيح: أنها تتوضأ لكل صلاة -وهكذا من به سلس البول- لكن بشرط: أن يجري معها الدم، أما لو انقطع عنها الدم ثم جرى معها الدم في صلاة الظهر، ثم انقطع، فتوضأت وصلت الظهر ولم يجر معها الدم حتى دخل وقت العصر فوضوؤها معتبر، فمحل الكلام إذا جرى معها الدم، وهذا ينبني على مسألة فقهية قالوا: إنها بمجرد أن يخرج منها الدم ينتقض وضوؤها كالبول، فلما خرج منها الدم مستمراً رخص لها في الوقت، فإذا انتهى الوقت طولبت بدليل جديد أن تتوضأ وتصلي؛ لأنه بدخول الوقت يأتي الخطاب بالصلاة المستأنفة الجديدة فيسقط الترخيص في السابقة.

إعادة مسألة الغسل من الإيلاج بحائل

إعادة مسألة الغسل من الإيلاج بحائل Q يا حبذا لو تعيد مسألة: (بلا حائل)؟ A أما بالنسبة لما سألت عنه وهو قوله: (بلا حائل) فالحائل هو الفاصل بين الشيئين، والمراد بالحائل الذي ذكرناه: أن يكون بين العضو المولج والعضو المولجَ فيه حائل من قماش، سواءً كان ثخيناً أو رقيقاً، فإن قيل بقول التفصيل فيختلف الحكم باختلاف نوعية الحائل، لكن قلنا: الصحيح أن الحائل سواءً كان رقيقاً أو ثخيناً فإنه لا يوجب حكماً، ولذلك يعتبر شبهة، فلو أن رجلاً أولج في امرأة بحائل قد يعتبر شبهة توجب درء الحد عنه، وسنتكلم على هذا في باب الزنا، ولكن المنصوص عند العلماء -رحمة الله عليهم- تعليق الحكم بالإيلاج، ولم يفصلوا هل هو بحائل أو بدونه، والذي اختاره بعض مشايخنا -رحمة الله عليهم-: أن الحائل مؤثر، قال عليه الصلاة والسلام: (ادرءوا الحدود بالشبهات) فلذلك قالوا: لا يأخذ حكم المتصل.

حكم غسل من أسقطت جنينا

حكم غسل من أسقطت جنيناً Q إذا أسقطت المرأة، فهل يجب عليها غسل السقط؟ A إذا أسقطت المرأة الجنين فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يكون الجنين الذي أسقطته فيه خلقة أو صورة الخلقة، فإن أسقطت جنيناً كامل الخلقة أو فيه جزء من الخلقة كالوجه أو صورة الوجه أو الرأس أو الرجل أو اليد، فالأصح عند المحققين أنها تأخذ حكم النفاس، وحينئذٍ إن جرى معها الدم أخذت حكم النفساء. الحالة الثانية: أن تسقط قطعة لحمٍ لا خلقة فيها، فحينئذٍ لا يجب عليها الغسل، ولا تأخذ حكم النفساء؛ بل تعتبر استحاضة، وتأخذ حكم الاستحاضة، وهذا تجعله أصلاً عندك، لأن هذه المسألة أشكلت عند العلماء. فالضابط المعتبر عند بعض المحققين أن العبرة بوجود صورة الخلقة، فإن وُجِدَت حُكِمَ وإلا فلا.

حكم الغسل من العادة السرية

حكم الغسل من العادة السرية Q هل يجب الغسل في العادة السرية، رغم أن الذكر لم يلج في فرج أصلي؟ A العادة السرية إذا حصل بها إنزال، أي: أمنى وجب الغسل، وإن لم يمن لم يجب الغسل، فمقصود السائل: أنه إذا وضع العضو بين أصابعه أو في موضع مثلاً ليس بفرج ولم يمن فلا يجب عليه الغسل، لكن لو حصل منه إمناء وجب عليه الغسل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الماء من الماء) ولم يفرق بين كونه يخرج بحلال أو بحرام، والعادة محرمة سواء كانت بيدٍ أو بغيرها، والله تعالى أعلم.

حكم التنفل في المسجد الحرام

حكم التنفل في المسجد الحرام Q هل الانتقال في المسجد الحرام يعتبر من المرور في المسجد؟ A لا، الحكم واحد، فإذا أراد -مثلاً- أن يقطع المسجد من الشرق إلى الغرب لحاجة ما وهو لا يريد أن يصلي فيه، فلا يجوز له ذلك، لكن لو مر وصلى فيه -ولو ركعتين- ثم يمر فلا حرج عليه، لكن أن يتخذه طريقاً فلا، والنهي عام في المساجد، والمسجد الحرام أحقها وأشرفها وأكرمها عند الله عز وجل. وأظن أن السائل قد يقصد: أن ينتقل من جهة الصفا إلى جهة أخرى في الحرم فهل يعتبر ماراً أم لا؟ أما بالنسبة للصفا فكنت أقول: إنها من الحرم، لكن ظهر لي أخيراً أنها ليست من الحرم، وهو اختيار بعض العلماء من المتأخرين ومن مشايخنا -رحمة الله عليهم- ولذلك إذا انتقل من الصفا من جهة المسعى ودخل إلى داخل المسجد فيعتبر آخذاً لحكم من دخل المسجد، وإذا كان العكس، مثلاً خرج من الحرم إلى الصفا، فالصفا خارج المسجد ويجوز فيها المرور، كأن يقطع من طرفي الأشواط، والله تعالى أعلم.

حكم منع تدفق المني

حكم منع تدفق المني Q إذا أحس الشخص بالتدفق فقام من نومه ولم يجعله يتدفق ولم يخرج سوى بعض القطرات، فهل يغتسل أم لا؟ A هذا لا يجوز؛ لأن الأطباء ينصون على أنه ضرر وأذية، ولذلك لا يجوز للإنسان أن يفعل هذا، ولا يشك أن الشريعة تحرم على المكلف أن يتعاطى أسباب الضرر بنفسه؛ ولذلك حرمت العادة السرية -مع وجود ظاهر القرآن الذي يدل على تحريمها- لوجود الأضرار بشهادة الأطباء. فالمقصود: أن كونه يمنع خروج المني هذا فيه ضرر بالغ، وقد قرأت بعض البحوث الطبية وتقول هذه البحوث: إنه يضر ضرراً بالغاً، ولربما يبقى ضرره معه إلى الأبد، فمسألة حبس المني والتلاعب به أثناء خروجه لا تجوز، والله يقول: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:6]، فعليه أن يتركه على خلقة الله عز وجل حتى لا يضر بنفسه، وهذا أصل في الشريعة: أنه لا يجوز للمسلم أن يتعاطى الأسباب التي تتسبب في الإضرار بنفسه أو بجسده، فلو حصل هذا وخرج منه المني فإن الصفة الأصلية له: التدفق، واعتبار العارض بتعاطي أسباب عدم تدفقه احتيال على الشرع، والقاعدة أن مثل هذا يعامل بنقيض قصده، فلا يعتد بتلاعبه ويعتبر منياً؛ لوجود الإمناء وهو الكثرة، وصورة التدفق، والتحكم فيها لا يؤثر ولا يلغي حكم الشرع بوجوب الغسل، والله تعالى أعلم.

خروج مني الرجل من فرج المرأة بعد غسلها

خروج مني الرجل من فرج المرأة بعد غسلها Q قد يخرج من المرأة بعد الغسل قطرات وهي تصلي، وقد تكون هذه القطرات مني الرجل، فما الحكم؟ A بالنسبة للخارج من الفرج، هذه مسألة اختلف العلماء -رحمة الله عليهم- فيها وهي مسألة رطوبة فرج المرأة: فمن أهل العلم من يقول: إن الخارج منها نجس ويوجب انتقاض الوضوء. ومنهم من يقول: إنه طاهر. والذي دلت عليه السُّنة أنه نجس، أي: بالنسبة للخارج -أي: الرطوبة- سواءً كانت قطرات أو كانت سائلة، حتى إن كانت من مني الرجل، فإنها تعتبر آخذة حكم الرطوبة بالكثرة والمغالبة؛ لأنه إذا كان منياً غلبه رطوبة الفرج الموجودة، ودل على نجاسة رطوبة فرج المرأة ما ثبت في الحديث الصحيح -عندما كانت الرخصة في أول الإسلام أن الرجل إذا جامع امرأته ولم ينزل فلا يجب عليه غسل- الذي قال عليه الصلاة والسلام فيه: (ليغسل ما أصابه منها) فقوله: (ليغسل ما أصابه منها) يدل على أن الرطوبة نجسة، وهذا لا شك أنه أقوى الأقوال، ودليله صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أشار إليه الإمام النووي -رحمة الله عليه- في المجموع، وبناءً على هذا فإن هذه القطرات آخذة حكم الناقض سواءً بسواء، ويجب عليها أن تتوضأ عند خروجها، فإن غلبتها واستمرت مع المرأة طيلة وقت الصلاة فلتتلجم كما ثبت في المستحاضة (تلجمي) فتضع قطعة قطن، أو تتلجم وتشد الموضع، فإن غلبها مع التلجم والقطن فتصلي على حالتها كالمستحاضة سواءً بسواء، وتتوضأ بدخول وقت كل صلاة، والله تعالى أعلم.

حكم تنبيه المستيقظ للنائم لشيء حدث منه في نومه

حكم تنبيه المستيقظ للنائم لشيء حدث منه في نومه Q لو رأى الإنسان شخصاً ما يحتلم، فهل يجب عليه إخباره بذلك بعد استيقاظه أم يسكت عنه خشية الإحراج؟ A هذه مسألة أشكلت عند العلماء -رحمة الله عليهم- يقولون: أحدهم مكلف، والثاني غير مكلف، فإذا نُظر -مثلاً- إلى الشخص النائم لو استيقظ وصلى فصلاته صحيحة وعبادته معتبرة؛ لأن الله كلّفه بالعلم وبما وسعه ولم يكلفه ما ليس بوسعه، وهذا ليس بوسعه؛ لأنه ليس بوسعه أن يعلم ما لم يكن. وقال بعض العلماء: يعلمه من اطلع على ذلك واختلفوا هل يجب أم لا؟ فقال بعضهم: يجب؛ لأنه لو لم يخبره لأدى إلى الإخلال بالشرع باستباحة الصلاة على غير طهارة، وقال آخرون: هذا ليس بمستبيح للصلاة على غير طهارة؛ لأنه معذور في حكم الله جل وعلا، مثل الإمام الذي يقع منه الخلل بما يفسد الصلاة ولا يعلم المأمومون بذلك، فإن صلاتهم صحيحة؛ لأن الله ما كلفهم علم ما لم يعلموا، وهذا وجه من يقول بأنه لا شيء عليه إذا سكت. والذين يقولون: يجب عليه أن يخبره، يستدلون بقولهم: عهدنا من الشرع أنه يربط التكليف بالمكلف مع سقوطه عن غير المكلف، ألا تراه أمر أن يؤمر الصبي بالصلاة، والذي يأمره وليه، مع أن الصبي غير مكلف، قالوا: فكلف المكلف بغير المكلف، فلزم أو وجب عليه أن يعلمه؛ صيانة للشرع، لكن لو سكت عنه فهل يأثم أم لا؟ فعلى القول بأنه يجب عليه: يأثم، وعلى القول بأنه لا يجب عليه: لا يأثم، لكن الأحوط أن يخبره، ثم ليس هناك إحراج لو أخبر أخاه بما فيه من خلل، أما بالنسبة للعبادة فهي صحيحة، وبالنسبة للمكلف فغير مؤاخذ.

حكم مقابلة المرأة لأبناء زوجها من الرضاعة

حكم مقابلة المرأة لأبناء زوجها من الرضاعة Q هل يجوز لزوجتي مقابلة أبناء زوج أمها من الرضاعة، وكذلك أبناء هذا الزوج من زوجة أخرى؟ A هذه المسألة فيها خلاف: هل التحريم بالمصاهرة -مثل: أم الزوجة وكذلك زوجة الأب من الرضاعة- هل يأخذ حكم التحريم بالنسب؟ الاحتياط ألا تقابلهم، وقد كنت أقول: لها أن تقابلهم؛ لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب) لكن في الأخير قوي القول بأن تحتاط فيها؛ لأن التغليب لجانب المحرمية وأصول الشرع يقتضي تقوية عدم الإلحاق. والله تعالى أعلم.

حكم تناول الرياضي للمنشطات

حكم تناول الرياضي للمنشطات Q ما هو حكم استعمال الرياضي للبروتينات والمنشطات التي تساعده في البروز بسرعة في المجال الذي يمارسه؟ A استعمال المنشطات والمقويات فيها شبهة؛ لأن بعض التركيبات الموجودة فيها قد تعتمد على بعض المواد المخدرة، وبعض تركيبات المخدرات، والدكتور محمد علي البار له بحث جيد في المخدرات، نبّه فيه على أن بعض المنشطات فيها نسبة من المواد المخدرة، ولذلك مثل هذا يقتضي الحظر والتحريم، إلا إذا وجدت الضرورة والحاجة للاستعمال، وهذه ليست بضرورة وليست بحاجة، وعلى العموم: يبقى على الأصل من عدم جواز استعمال مثل هذه المنشطات التي فيها شبهة والتي فيها نسبة من المخدرات، ويرجع هذا الأمر إلى أهل الخبرة والذين لهم علم بتركيبات الأدوية في هذا، والله تعالى أعلم.

حكم ترك المبيت في منى

حكم ترك المبيت في منى Q امرأة حجت هذا العام، وخرجت من منى بعد رمي جمرة العقبة، وذلك بتوكيل أحد الأشخاص، وطافت طواف الإفاضة مع طواف الوداع، فماذا عليها بتركها الإقامة بمنى؟ A أولاً: أوصي السائلة ونفسي بتقوى الله عز وجل، وأنه لا ينبغي لمن حج بيت الله الحرام أن يتلاعب أو يتساهل في الواجبات والأنساك، فمن حج فعليه أن يتقي الله عز وجل، ولذلك قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] (أتموا الحج) يعني: إذا حججتم فليكن حجكم كاملاً، أتموه لله بفعل أركان الحج وواجباته وأدائها على الوجه المعتبر. أما أن يتساهل الإنسان في الواجبات والفرائض ويوكّل غيره في الرمي ويترك المبيت، فهذا لا يجوز، وبناءً عليه: فالذي يظهر من السائلة أنه لا عذر لها في ترك المبيت وترك الرمي، وعليها دم بترك هذه الواجبات، وكل واجب منها عليها فيه دم، واختلف العلماء: قال بعضهم كل مبيت ليلة نسك، وقال بعضهم: المبيت كله نسك، وأصح الأقوال: أن كل ليلة فيها دم -وهو القول بالتجزئة- وكذلك الحال في الرمي، فعليها دم لمبيت ليلة إحدى عشر، وليلة الثاني عشر وعليها أيضاً دم برمي الحادي عشر ورمي الثاني عشر، ويكون عليها أربعة دماء. والله تعالى أعلم.

الإشارة للحجر الأسود عند الانتهاء من آخر شوط

الإشارة للحجر الأسود عند الانتهاء من آخر شوط Q إذا انتهى الرجل من الشوط الأخير من الطواف فهل يشير ويكبر أم لا؟ A هذه مسألة خلافية، وفيها وجهان: قال بعض العلماء: يشير، وقال بعضهم: لا يشير. والسبب في الخلاف: أنهم اختلفوا: هل هذه الإشارة والتكبير من أجل محاذاة الحجر، أم من أجل استفتاح الطواف؟ فمن قال: إنها من أجل محاذاة الحجر يقول: يكبر في الآخر ويشير؛ لأنه حاذى الحجر، ومن قال: إنها لاستفتاح الطواف قال: ليس هناك شوط ثامن حتى يستفتح فلا يشير. وأصح القولين -والعلم عند الله-: إنها لمحاذاة الحجر؛ لأن جابر رضي الله عنه قال: (استلمه فإن عجز أشار إليه)، فدل على أن العبرة بالمحاذاة وليس من أجل الاستفتاح. والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.

باب الغسل [2]

شرح زاد المستقنع - باب الغسل [2] جاءت النصوص الشرعية مبينة لكيفيات العبادات، ومن ذلك: الغسل، فقد بينت النصوص كيفيته وصفته، سواء كان هذا على سبيل الكمال أو على سبيل الإجزاء، وفصَّل العلماء في أحكامه بناءً على هذه النصوص.

صفة الغسل الكامل

صفة الغسل الكامل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [والغسل الكامل أن ينوي ثم يسمي]. كان الحديث عن موجبات غسل الجنابة، أي: الأسباب التي توجب الغسل من الجنابة، وهنا -إن شاء الله- سيكون الحديث عن صفة غسل الجنابة، وهذا الترتيب يعتبر مراعياً للأفكار -أي: ترتيب الأفكار- فبعد أن تنتهي من الأسباب تصف الشيء، وبعد أن تبين للمكلف ما هي الأمور التي تتسبب في غُسل الجنابة يأتيك Q كيف أغتسل من الجنابة؟ فأولاً: نبين موجبات الغسل وأسبابه، ثم نتبع بعد ذلك بالحديث عن صفة الغسل. فقال رحمه الله: [والغسل الكامل] الواو: للاستئناف، والغسل له حالتان عند العلماء: الحالة الأولى: يسميها العلماء حالة الإجزاء. والحالة الثانية: يسمونها حالة الكمال. والفرق بين الإجزاء والكمال: أن الإجزاء يتحقق به المأمور شرعاً، بمعنى: أنك إذا أوقعت الغسل على صفة الإجزاء عليه فقد أديت ما أوجب الله عليك، وأما بالنسبة للكمال فإنه يراعى فيه ما فوق الواجب واللازم، بمعنى: أن يصف لك الغسل وصفاً على أتم وجوهه وأكملها، وبناءً على ذلك: انقسم الغسل إلى غسل إجزاء وغسل كمال، فلو أخل المكلف بغسل الإجزاء فقد يحكم بعدم صحة غسله، لكن لو أخل بغسل الكمال في غير الإجزاء تقول: فاته الأفضل والأكمل، وغسله صحيح. يقول رحمة الله: (والغسل الكامل) أي: الغسل الذي هو على أعلى مراتب الغسل هو أن ينوي ثم يسمي، ومن عادة العلماء رحمة الله عليهم أن يذكروا حالة الإجزاء وحالة الكمال، والمصنف هنا ابتدأ بصفة الكمال، وغيره ابتدأ بصفة الإجزاء، فطريقة المصنف رحمه الله حينما ابتدأ بغسل الكمال تدرج فيها من الأعلى إلى الأدنى، وطريقة غيره ممن ابتدأ بالأجزاء ثم أتبعه بالكمال تدرج من الأدنى إلى الأعلى، وكلتا الطريقتين لها وجه. أما طريقة المصنف بأن يبتدئ بالكمال ثم يبين لك غسل الإجزاء فهي أنسب؛ لأنه إذا فعل ذلك ترك التكرار، فإنك إذا ذكرت الغسل الكامل ثم قلت: والواجب منه كذا وكذا، أفضل مما لو قلت: الغسل الواجب كذا، ثم أتبعت صفة الكمال وذكرت ضمنها الواجبات، فطريقة المصنف في ذكر الكمال ثم إتباعه بالإجزاء أولى من طريقة غيره ممن ابتدأ بالإجزاء ثم أتبعه الكمال. هذه الصفة التي يسميها العلماء: صفة الكمال، ثبتت بها أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها: حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وحديث ميمونة رضي الله عنها وأرضاها، وكلا الحديثين ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين، فقد وصفت كل منهما غسل النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهما من فصلت في شيء وأجملت في شيء، ومنهما من فصلت في شيء آخر وأجملت في غيره، وقد راعى العلماء رحمهم الله في صفة الكمال ما تضمنه حديث عائشة وحديث أم المؤمنين ميمونة رضي الله عن الجميع. يقول رحمه الله: (أن ينوي) أي: ينوي الغسل، والنية: القصد، والمراد بها كما يقول العلماء: العزم على فعل الشيء تقرباً إلى الله تعالى، كما ذكر هذا التعريف البعلي في المطلع، وكذلك غيره، ومعنى (العزم على فعل الشيء تقرباً إلى الله تعالى): أن تعزم على عبادة أو معاملة، والهدف من ذلك والقصد من ذلك وجه الله عز وجل، سواءً كانت عبادة أو معاملة، فالعبادة: كأن تصلي فتفعل القيام والركوع والسجود وغيره من أفعال الصلاة وفي نيتك وجه الله جل وعلا، أما المعاملة: كأن تعطي ابنك المال قاصداً بذلك مرضاة الله عز وجل، فإنها عادة ولكنها صارت عبادة بالقصد. بعض العلماء يقول: العزم على فعل الشيء، وبعضهم يقول: قصد فعل الشيء قربة لله، والتعبير بالقصد أنسب من التعبير بالعزم؛ لأن من العلماء من فرق بين القصد والعزم فقال: القصد: ما يكون عند توجه النية، والعزم: يكون متراخياً عن ذلك التوجه، ولذلك قالوا: التعبير بالقصد أدق، خاصة وأن الحقيقة اللغوية للنية عرفوها بالقصد، فيكون فيه اشتراك بين التعريف اللغوي والشرعي من هذا الوجه.

حكم النية في الغسل

حكم النية في الغسل (أن ينويه) يعني: أن ينوي الغسل، صورة ذلك: أن يدخل الإنسان مكان الاغتسال وفي نيته أن يعمم بدنه لرفع الجنابة، وهكذا المرأة لإزالة الجنابة، فإذا حصل هذا القصد فقد نوى العبادة وقصدها تقرباً لله عز وجل، وخرج من هذا أن ينوي فعل الشيء لغرض غير وجه الله، مثل أن يدخل مستحمه للتبرد أو للسباحة، فلو غسل جسمه كاملاً للسباحة لم يكن غسلاً شرعياً، وإنما هو غسل عادة وليس بغسل عبادة، ولذلك قالوا: النية تفرق بين العادة والعبادة. فقوله: (أن ينوي الغسل) أي: ينوي رفع الحدث، فإذا نواه فقد أجزأه، والأصل في النية أن تكون مقاربة لزمان الفعل فلو أنه قال: أريد أن أغتسل من الجنابة وجلس من الساعة الثانية ظهراً إلى الساعة الثالثة، ثم عزبت عنه هذه النية، ثم دخل إلى مستحمه وسبح وقد عزبت عنه النية، فنقول: إن هذا لا يجزئ، إنما المعتبر أن تكون النية مصاحبة، قال بعض العلماء: حتى ولو في طريقه إلى السباحة جرى في نفسه أن يغتسل من الجنابة أجزأه؛ لكن لو كانت النية للنظافة أو للتبرد في الصيف فكل ذلك لا يجزئه. وهذه النية واجبة وفرض في قول جماهير العلماء خلافاً للإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، والصحيح مذهب الجمهور؛ لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] وجه الدلالة: أن الله أمر بإخلاص الدين والعبادة، ولا إخلاص إلا بنية، إذاً: النية واجبة، والغسل عبادة؛ إذاً: النية فيه واجبة، كذلك أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات) فقد علق صحة الأعمال على النية والغسل من الجنابة عمل، فلا غسل إلا بنية. (أن ينويه) هذا هو الأصل؛ لأن الإنسان إذا أراد أن يغتسل فإنه يبتدئ أول شيء بنية القلب، ثم بعد ذلك يكون منه الفعل المأمور شرعاً.

حكم التسمية عند الغسل

حكم التسمية عند الغسل قال رحمه الله: [ثم يسمي]. (ثم) للعطف مع التراخي، أي: يقول: باسم الله، وهذه التسمية استحبها بعض العلماء، ومن العلماء من قال بوجوبها في الغسل، وسيأتي الكلام عليها -إن شاء الله- وأن الصحيح: عدم وجوبها، ولكن قال بعض العلماء: تستحب التسمية في العبادات وفي مبتدئها؛ لإطلاق الشرع. ويسمي إذا كان المكان مهيأ لذكر الله، كأن يكون في بركة أو يكون في حمام معد للاغتسال لا لقضاء الحاجة، أما لو كان المكان مهيأ لقضاء الحاجة فإنه لا يذكر اسم الله عز وجل فيه، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني كنت على حالة كرهت أن أذكر اسم الله عليها) فإذا امتنع أن يذكر اسم الله في حال حدثه فمن باب أولى أن يمتنع في مكان الحدث، ولذلك لا يسمي جهرة في أماكن قضاء الحاجة، وهذا هو المعهود شرعاً من عموم قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] واسم الله عز وجل لا شك أنه من أكبر الأشياء وأعظمها كما قال تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] فالإجلال لاسم الله عز وجل من شعائر الله، فلا يذكر اسم الله جهرة، ولكن يسمي في نفسه على قول بعض العلماء، أي: أنه يجري في نفسه ذكر التسمية دون أن يتلفظ باللسان.

محل غسل الكفين في الغسل

محل غسل الكفين في الغسل قال رحمه الله: [ويغسل يديه ثلاثاً وما لوثه]. أولاً: ينوي، ثم يسمي، ثم يغسل يديه ثلاثاً، واليدان مثنى يد، والمراد بهما: الكفان، واليد تطلق ويراد بها جميع اليد إلى المنكب، وقد يراد بها إلى المرفق، وقد يراد بها إلى الزندين، وأقل ما يصدق عليه اليدان: الكفين، وسمي الكف كفاً؛ لأنه تكف به الأشياء، فالمراد أن يغسل كفيه ثلاثاً، والمصنف هنا قال: (يغسل يديه ثلاثاً) ثم أجمل، والحقيقة أن غسل اليدين أو الكفين في الغسل من الجنابة له حالتان: الحالة الأولى: غسل الكفين قبل تعميم البدن. والحالة الثانية: غسل الكفين بعد غسل الفرج تهيأً للوضوء، فأما الحالة الأولى: وهي غسل الكفين عند الابتداء بالغسل، فقد ثبت في الصحيحين كما في حديث أم المؤمنين عائشة التصريح بهذا: (بدأ فغسل كفيه) وفي رواية مسلم: (يغسل كفيه) لكن ليس فيه التصريح بالتثليث، وفهم التثليث من مطلق هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الغسل كقوله: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً) وكذلك حديث حمران مولى عثمان عن عثمان، وحديث عبد الله بن زيد رضي الله عن الجميع في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وكلهم ذكر التثليث قبل ابتداء الوضوء، أي: عند غسل الكفين في ابتداء الوضوء. قال العلماء: التثليث مناسبته: أنك إذا أزلت الأذى بالغسلة الأولى، فالغسلة الثانية تبرئ الموضع، بمعنى: أنك ربما تغسل ويكون الشيء عالقاً باليد، فالغسل الثاني آكد في إزالة العين، والغسلة الثالثة آكد وأبلغ للاستبراء، فلذلك قالوا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل ثلاثاً، ولكن لم يرد التصريح في حديث أم المؤمنين عائشة وميمونة في ابتداء الغسل، ولكن ورد التثليث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غسل ثلاثاً في حديث ميمونة لما غسل فرجه صلوات الله وسلامه عليه، فإنها قالت: (مرتين أو ثلاثاً)، على الشك لا على الجزم بالثلاث. والغسل للكفين في ابتداء الغسل من الجنابة مناسبته -كما يقول العلماء- أن اليدين ناقلتان للماء ولما كان الماء هو الذي يقصد به الطهارة فينبغي أن يكون طهوراً، وينبغي أن تكون آلته محافظة على الطهورية، فإذا كانت اليد نظيفة بقي الماء على أصل الطهورية، وإذا كانت اليد ليست بنظيفة فإن ذلك أدعى لخروج الماء عن وصفه بالطهورية، خاصة وأن الكف تنقل ماءً يسيراً، ولذلك أُمر بغسلها قبل الوضوء لمن استيقظ من نومه، أما الغسلة الثانية للكفين فإنها تكون بعد غسل الفرج. قال المصنف: (يغسل يديه ثلاثاً وما لوثه) اللوث يطلق بمعنى: التلطيخ، يقال: لوث الماء إذا لطخه، وقد يطلق بمعنى: المرض والعاهة في العقل، ومنه قولهم: اللوثة الحمق وذهاب العقل -نسأل الله السلامة والعافية- وقد يطلق بمعنى: حاجة الإنسان. فالتلويث في قوله: (وما لوثه) يعني: ما أصاب يده من القذر، وهذا يدل على أن المراد بغسل الكفين ما يكون بعد إزالة الأذى عن الفرج، فكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يبتدئ فيصب الماء على يمينه ثم يفرغ على يساره، وبعد غسل كفيه صلوات الله وسلامه عليه يفرغ بيمينه على يساره ويأخذ الإناء بيمينه ويفرغه على يساره، ثم يغسل فرجه صلوات الله وسلامه عليه ومواضع الأذى، كما في حديث ميمونة رضي الله عنها وأرضاها، فابتدأ بغسل الكفين ثم ثنى بغسل الأذى على الفرج وما جاوره كالفخذين ونحوهما. ولما انتهى عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين من حديث ميمونة -: (من غسل فرجه وأزال الأذى، دلك يديه في الأرض دلكاً شديداً) كما قالت أم المؤمنين رضي الله عنها، ولذلك قال العلماء: يبتدئ بغسل الكفين، ثم يثني بالفرج، ثم يدلك يديه للغسلة الثانية، وهذه الغسلة الثانية آكد من الأولى، فإن الأولى قد تكون اليدان طاهرتين ولا يحتاج فيها إلى تجديد غسل، ولكن في الثانية لمكان الأذى وتلطخ اليدين بما هناك من الكدر ناسب أن يدلكها عليه الصلاة والسلام، قال العلماء: السنة لمن اغتسل في أرض ترابية أن يدلك يديه على الأرض الترابية، فالتراب يطهر يابساً أو مخلوطاً بالماء، أما يابساً فدليله: التيمم، وأما مخلوطاً بماء فدليله: حديث ولوغ الكلب، وقد ثبت ذلك طبياً، فناسب أن يدلك عليه الصلاة والسلام يده بالأرض، وورد في الحديث أنه ضرب بها الحائط، ولذلك قال بعض العلماء: إذا كانت الأرض صلبة وكان الحائط من طين فإنه يضرب بيديه الحائط. وللعلماء في ضربه عليه الصلاة والسلام على الأرض وضربه الحائط في غسله من الجنابة وجهان: الوجه الأول: أنها عبادة معللة تكون إذا وجدت علتها، بمعنى: أن الإنسان يضرب الحائط ويدلك الأرض إذا كان الحائط أو كانت الأرض ترابية أو من طين، لكن لو كانت الأرض صلبة وكان الحائط صلباً -كما هو موجود- فإنه على هذا القول تكون السنة الغسل بالصابون وما يحل محل الطين، قالوا: لأن العلة التنظيف، فكما أنه تحصل الطهارة بالطين فعند فقده تحصل بما يناسبه مثل الصابون. الوجه الثاني: أنها عبادة، ويقتصر فيها على الصورة، فيكون وجود التطهير بالطين تبعاً لا أصلاً، وعلى هذا القول فإنه يسن للإنسان ولو كان الجدار أملس أن يضرب به يده -كما يقول بعض العلماء رحمة الله عليهم- وإذا كانت الأرض ليس فيها من فضلات النجاسة أو القذر فإنه يضرب يده أو يدلكها بها. والصحيح: أنه عبادة معللة، فيضرب الجدار إذا كان من طين، وتدلك الأرض إذا كانت ترابية، وأما على حال اليوم فإنه لا يتأتى لقول أم المؤمنين: (دلك بيده الأرض دلكاً شديداً) والدلك الشديد لا يقصد به إلا الإزالة والتنظيف، ولذلك قالوا: إنها عبادة معللة، وهذا هو أصح الأوجه، ويكاد يكون قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم.

محل الوضوء عند الغسل وكيفيته

محل الوضوء عند الغسل وكيفيته قال رحمه الله: [ويتوضأ] إذا فرغ من غسل يديه وأنقاها بالطين أو بالصابون فإنه يتوضأ وضوءه للصلاة، ولكن يؤخر غسل رجليه، كما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها وأرضاها، قالت أم المؤمنين عائشة: (ثم توضأ وضوءه للصلاة) وذكرت مثلها أم المؤمنين ميمونة، لكن صرحت بتأخيره لغسل رجليه، فمن العلماء من قال: يتوضأ وضوءاً كاملاً ويغسل رجليه، ومنهم من قال: يتوضأ ويؤخر غسل الرجلين، ومنهم من قال بالتفصيل، فقال: إن كان المكان طاهراً نقياً كالموجود الآن من البلاط، فإنه يتوضأ وضوءه للصلاة كاملاً، وإن كان المكان فيه طين فإنه يحتاج فيه إلى تجديد غسله لرجليه بعد غسله لبدنه مع تطاير الطين فقالوا: يؤخر غسل الرجلين حتى لا يكون ضرباً من الإسراف في استعماله للماء، ومنهم من فصل من وجه ثانٍ فقال: إن كان الماء كثيراً غسل رجليه، وإن كان قليلاً فإنه يؤخر غسل الرجلين على ظاهر حديث أم المؤمنين ميمونة. والذي يظهر -والعلم عند الله- أن الأقوى والأشبه أن تأخير النبي صلى الله عليه وسلم لغسل الرجلين قصد به الأذى، وهذا يعرفه كل من اغتسل في مكانٍ ترابي، فإنه مهما فعل وغسل رجليه فإنه بمجرد أن يفيض الماء على بدنه فإن رذاذ الطين يتطاير على الرجل، وأيضاً ثبوت الرجلين على الطين يحتاج به إلى غسل جديد للرجلين، فالأشبه أنه أخر وضوءه عليه الصلاة والسلام لمكان الطين في الموضع.

الخلاف في الوضوء عند الغسل هل هو مقصود أم لا

الخلاف في الوضوء عند الغسل هل هو مقصود أم لا المسألة الثانية: لو أن إنساناً أراد أن يتوضأ، فهل هذا الوضوء مقصود للغسل أو مقصود لذاته؟ للعلماء وجهان: منهم من قال: يتوضأ وضوءه للصلاة وهو عبادة مقصودة، أي: أنها طهارة مقصودة، ومنهم من قال: لا، وضوءه للصلاة لشرف أعضاء الوضوء، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما اغتسل من الجنابة وبدأ بالوضوء راعى فضل أعضاء الوضوء، وأقوى الوجهين القول الثاني: أنه توضأ لشرف أعضاء الوضوء فقدمها على غسل سائر البدن، يشهد لذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ أم عطية في غسلها لابنته غسل الموت قال: (ابدأن بميامينها وبأعضاء الوضوء منها) وذلك لما أمر بتوضئتها، يعني: إعطاء أعضاء الوضوء الأسبقية، ففهمنا أن هذا لشرف أعضاء الوضوء وليس وضوءاً مقصوداً. فائدة الخلاف: إن قلنا: إنه وضوء مقصود أو وضوء غير مقصود تتفرع عليه مسائل، فمن العلماء الذين قالوا: إنه وضوء مقصود، قالوا: إن خروج المني يؤدي إلى الحدث الأصغر والأكبر فيكون وضوءه لرفع الحدث الأصغر ويكون غسله لرفع الحدث الأكبر، فيصبح خروج المني يؤدي إلى انتقاض الطهارة الصغرى والكبرى، وفائدة معرفة ذلك في القياس، فلو أن إنساناً خرجت منه حصاة فالذين يقولون: إن خروج الحصاة يوجب انتقاض الوضوء يقولون: الحصاة طاهرة، فتنقض الوضوء كما أن المني طاهر وينقض الوضوء، ولذلك وجب الوضوء والغسل. فيستفاد مما سبق في الأقيسة في اعتبار الأصل الشرعي، فإذا اعتبرت أن هذا الوضوء للطهارة الصغرى وأن المجنب بخروج المني عليه طهارتان فيتفرع منها: أن خروج الطاهرات يوجب انتقاض الحدث كما ذكرنا في باب نواقض الوضوء.

إيصال الماء إلى أصول الشعر في الغسل

إيصال الماء إلى أصول الشعر في الغسل قال رحمه الله: [ويحثي على رأسه ثلاثاً ترويه] ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعد أن انتهى من وضوئه حثا على رأسه ثلاث حثيات، كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وحديث ميمونة -وهذان الحديثان يعتبران أصلاً عند العلماء رحمة الله عليهم في باب الغسل من الجنابة- وقد ذكرت ميمونة التعميم وذكرت عائشة رضي الله عنها كذلك التعميم في موضع والتفصيل في موضع ثانٍ، فقد بينت أن هذه الثلاث حثيات كانت من النبي صلى الله عليه وسلم؛ الأولى منها: لشقه الأيمن صلوات الله وسلامه عليه، والثانية: لشقه الأيسر، ولذلك فالسنة لمن توضأ في الغسل من الجنابة أن يبدأ فيأخذ حثية إلى شق رأسه الأيمن، فيحثي عليه، ويروي بهذه الحثية الأولى شعر رأسه قالت أم المؤمنين عائشة: (حتى إذا ظن أنه روى أصول شعره). فالمقصود من هذه الثلاث حثيات: أن الشعر يكون كثيفاً، وخاصة أن شعر النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيفاً، وربما إذا رجّله وصل إلى منكبه، وكانوا في القديم قليلي الحلاقة، ولذلك لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج قال: (سيماهم التحليق) فكانت الحلاقة قليلة في ذلك الزمان، فكان الإنسان إذا اغتسل من الجنابة يخاف من الشعر؛ لأن إنقاء البشرة مقصود في الجنابة، ولذلك قال علي رضي الله عنه: (فمن ثم عاديت شعري)، يعني: خوفاً من الجنابة عاديت الشعر، فكان يحلق رضي الله عنه ويكثر منه، وكل ذلك خوفاً من التقصير في تروية أصول الشعر أو البشرة في الغسل من الجنابة. فكان عليه الصلاة والسلام يأخذ الحفنة الأولى ويروي بها أصول الشعر، فإذا بلغ الماء أصول الشعر في الشق الأيمن والشق الأيسر حثا عليه الصلاة والسلام الحثية الثالثة التي يقصد بها التعميم، فإذا عمم رأسه تفرغ لبدنه، قالت أم المؤمنين رضي الله عنها: (ثم أفاض على جسده)، وفي رواية: (على سائر جسده الماء). قال بعض العلماء: يستحب قبل التعميم أن يتفقد الإنسان المواضع الخفية في البدن كالإبطين فيبدأ بإيصال الماء إليها، كما أوصل عليه الصلاة والسلام الماء لشئون رأسه؛ لأنه عند تعميم الماء لسائر الجسد قد يغفل عن هذه المواضع، ولذلك قالوا: تفقد عليه الصلاة والسلام شعر رأسه، وهذا أصل في تفقد المواضع التي قد تكون بعيدة عن الماء إذا عمم.

تعميم البدن ثلاثا أثناء الغسل

تعميم البدن ثلاثاً أثناء الغسل قال رحمه الله: [ويعم بدنه غسلاً ثلاثاً] (يعم البدن) بمعنى: أن يصب على جسده الماء صبة يعممه بها، وهذا التعميم قال فيه عليه الصلاة والسلام لـ أم سلمة: (ثم تفيضين الماء على جسدكِ فإذا أنتِ قد طهرتِ) والإفاضة: التعميم، والأصل في تعميم البدن قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] وكذلك حديث أم سلمة (ثم تفيضين الماء على جسدك) وقول عائشة رضي الله عنها: ثم غسل سائر جسده، فيعمم البدن بالماء. وقال المصنف: (ثلاثاً) أي: ثلاث مرات، وهذا فيه خلاف بين العلماء، فمن أهل العلم من قال: السنة أن يعم البدن بغسلة واحدة، ولا يزيد إلى الثلاث، وهو قول طائفة من السلف رحمة الله عليهم، وممن روي عنه هذا القول الإمام مالك، وكذلك جاءت عن الإمام أحمد رواية بهذا، وشددوا في الغسلة الثانية والثالثة، وقالوا: لأنه يفعلها معتقداً الفضل ولم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه ثلث في الوضوء، ومن ثم قالوا: التثليث في الغسل بدعة، وشددوا في أن يغسل ثلاثاً بقصد العبادة. لكن لو أنه غسل الغسلة الأولى قاصداً رفع الجنابة، ثم غسل المرة الثانية والثالثة للمبالغة في التنظيف كما هو الحال الآن، فالإنسان قد يغتسل بالصابون فيحتاج إلى صبة ثانية وثالثة، فلا حرج؛ لأنها خرجت إلى قصد النظافة لا إلى قصد العبادة وفرق بين قصد العبادة وبين قصد النظافة، أما لو ثلث بدنه قاصداً العبادة فهذه بدعة في قول طائفة من السلف كما ذكرنا، وهذا القول هو الصحيح، فإن الناظر في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في غسله كلها يجد أنها نصت على أنه أفاض إفاضة واحدة عليه الصلاة والسلام، ولم يثنِ ولم يثلث -بأبي وأمي عليه الصلاة والسلام- ولو كان الفضل في التثنية والتثليث لما تركه عليه الصلاة والسلام، وهناك رواية عن الإمام أحمد -وهو قول لبعض الشافعية رحمة الله عليهم وبعض العلماء- تقول: إنه يستحب التثليث في الغسل، ولكن الاستحباب حكم شرعي يحتاج إلى دليل، ولا دليل.

حكم الدلك عند الغسل

حكم الدلك عند الغسل قال رحمه الله: [ويدلكه] أي: يدلك البدن مبالغة في الإنقاء والتطهير وإيصال الماء إلى البدن، والدلك للعلماء فيه قولان: فمن أهل العلم رحمة الله عليهم من يقول: الدلك واجب، ومن اغتسل ولم يدلك بدنه لم يصح غسله، والقول الثاني: أن الدلك مستحب وليس بواجب، وهو قول الجمهور، والقول الأول لـ مالك رحمة الله على الجميع، والصحيح: مذهب الجمهور، وهو أن الدلك ليس بواجب وإنما هو مستحب، والدليل على عدم الوجوب ما ثبت في الصحيحين من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (إنما يكفيكِ أن تحثي على رأسكِ ثلاث حثيات) انظر قوله: (إنما يكفيكِ -أي: يجزئك) وهذا الإجزاء لا يكون إلا في الواجبات، (إنما يكفيكِ أن تحثي على رأسكِ ثلاث حثيات ثم تفيضين الماء على جسدكِ فإذا أنتِ قد طهرتِ -وفي رواية: فإذا أنتِ تطهرين-) ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالتعميم ولم يبين لها وجوب الدلك وقال لها: (تفيضين) والإفاضة: الصب، ولذلك صح قول من قال: إن المقصود صب الماء دون الدلك، ولذلك يظهر أن هذا القول هو أعدل الأقوال وأولاها بالصواب. لكن الإمام مالك رحمة الله عليه انتزع وجوب الدلك من حديث أم المؤمنين عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل بالصاع، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ربعة من الرجال، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، وكان عليه الصلاة والسلام وسطاً من الرجال، فالإمام مالك يقول: لا يعقل أن الصاع يغسل هذا القدر إلا بالدلك، وهو من ناحية الاستنباط صحيح، والأعدل أن يقال: الدلك ليس بواجب، لكن إذا كان الماء قليلاً وتوقف وصول الماء لجميع البدن على الدلك فإنه واجب من جهة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب). والاستثناء بالصور المخصوصة لا يقتضي التعميم في جميع الأفراد، وبناءً على ذلك: فإنه ينظر في الماء الذي تغتسل به، فإن كان هذا الماء تستطيع إيصاله إلى جميع البدن دون أن يكون منك دلك فإن هذا هو القدر الذي أوجب الله عليك، وإن كان هذا الماء لا تستطيع إيصاله إلى جميع البدن إلا إذا دلكت فحينئذٍ يلزمك الدلك من باب: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لا أنه واجب أصالة، وهذا هو أعدل الأقوال، وعلى قول المالكية بالوجوب يحصل إشكال في الموضع الذي لا تستطيع أن توصل إليه يدك، كأن يكون مثلاً: وراء الظهر، فقالوا: إذا شق عليه الدلك استخدم الليفة وحك بها ظهره. وصل لما عسر بالمنديل ونحوه كالحبل والتوكيل أي: الذي يعسر عليك الوصول إليه باليد فإنك تستخدم واسطة، حتى لو تأخذ قطعة من القماش وتضعها في خشبة وتحك بها الظهر؛ لأنهم يرونه واجباً على جميع أجزاء البدن، والذي يظهر أن الواجب هو تعميم البدن، فلو أنك انغمست في بركة دون أن تمر يدك على سائر البدن أجزأك ذلك.

التيامن أثناء الغسل

التيامن أثناء الغسل قال رحمه الله: [ويتيامن] يعني: يبدأ باليمين قبل اليسار؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في غسل الميت: (ابدأن بميامنها وبأعضاء الوضوء منها) قال رحمه الله: [ويغسل قدميه مكاناً آخر]. هذا الذي سبقت الإشارة إليه، وقلنا: التفصيل هو أعدل الأقوال، فإن كان الموضع نظيفاً فلا حاجة إلى تأخير غسل الرجلين، وإن كان غير نظيف فإنه يؤخر غسل رجليه إلى آخر الغسل، إصابة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

صفة الغسل المجزئ

صفة الغسل المجزئ قال رحمه الله: [والمجزئ أن ينوي ويسمي ويعم بدنه بالغسل] قوله: (والمجزئ) أي: من هذا الذي تقدم، وهذه فائدة تقديم الكمال قبل الإجزاء: أنه يأتيك بعد الكمال ويقول: المجزئ كذا وكذا فيأمن التكرار، لكن لو قدم الإجزاء وأتبعه بالكمال لكرر. (المجزئ) أي: الذي ذكرته لك من الصفة الماضية الواجب عليك منه والفرض هو كذا وكذا؛ وينبغي أن يتنبه طالب العلم إلى أن الإجزاء يقوم وعلى الواجبات على الفرائض والأركان، وقد يدخل في الإجزاء أيضاً شروط الصحة، فقال: (والمجزئ) أي: الغسل الذي إذا فعلته كفاك وأجزأك لعبادتك. (أن ينوي) يعني: النية. (ويسمي) هذا على القول بوجوب التسمية، والصحيح: أنها ليست بواجبة، فليس هناك حديث صحيح يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب التسمية، وإنما أوجبها من أوجبها في الغسل قياساً على الوضوء، وهذا القياس فيه نظر، إذ يعترض عليه أولاً: بفساد الاعتبار، وهو أحد القوادح الأربعة عشر في القياس، وفساد الاعتبار: أن يكون القياس في مقابل نص من الكتاب والسنة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نص أنه قال: (إنما يكفيكِ أن تحثي على رأسكِ ثلاث حثيات) ولم يذكر التسمية، وقال الله في كتابه: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] ولم يأمر بالتسمية، وقد أمر بالتسمية للأكل: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:118]، فهذا القادح الأول: فساد الاعتبار. القادح الثاني: أن هذا القياس يعتبر من باب رد المختلف فيه إلى المختلف فيه، فلك أن تقول لمن يستدل بهذا القياس: أنا أنازعك في الأصل الذي تحتج به -وهو وجوب التسمية في الوضوء- فكيف تقيس على أصل اختلفنا فيه؟ أي: أنا لا أسلم لك أن الوضوء تجب فيه التسمية، فكيف تلزمني بالغسل قياساً على الوضوء؟ ويقولون: هذا من باب رد المختلف فيه -وهو الفرع الذي هو الغسل- إلى المختلف فيه -وهو الأصل-، ومن شرط صحة القياس بالنسبة للإلزام أن يكون المحتج عليه بالقياس مسلماً بحكم الأصل، فإن كان الأصل مختلفاً في حكمه فيكون القياس من باب الالتزام لا الإلزام، أي: أنه يلزم من يحتج به لنفسه؛ لأنه يرى وجوب التسمية في الوضوء، فيقول: أنا أوجب التسمية في الغسل كما أوجبها في الوضوء من باب إلحاق النظير بنظيره. وقوله: (ويعم بدنه بالغسل مرة). إذا حصل في الغسل ثلاثة أمور، أولها: النية، ثانيها: التعميم للبدن، وثالثها: المضمضة والاستنشاق إذا اعتبرناهما من جنس واحد وإلا كانت أربعة أمور، فهذه هي الواجبة واللازمة، فمن دخل إلى بركة -مثلاً- وانغمس فيها غمسة واحدة قاصداً الطهارة من الجنابة، أو قصدت المرأة طهارتها من حيض أو نفاس ثم تمضمض واستنشق أجزأه وتم غسله؛ لأنه عمم البدن ومضمض واستنشق، والفم والأنف من خارج البدن، فيجزئه هذا.

مقدار الماء الذي يغتسل به

مقدار الماء الذي يغتسل به قال رحمه الله: [ويتوضأ بمد ويغتسل بصاع] بعد أن بين رحمه الله صفة الغسل الكاملة والمجزئة، انتقل ليبين هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في قدر الماء الذي يغتسل به فقال رحمه الله: (ويتوضأ بمدٍ ويغتسل بصاع). فقوله: (يتوضأ بمد) المد: هو ضرب من المكاييل التي كانت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، والمد أصغرها، وضابطه عند العلماء: ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، أي: أوسط الرجال لو حفن حفنة ملأت هذا المد، وهذا المد لازال موجوداً إلى الآن في المدينة، ويتوارثه الناس جيلاً فجيل، ويعتبر حجة؛ لأنه من نقل الكافة عن الكافة، وهو ربع صاع بالنسبة لمد المدينة، وعرف المدينة باقٍ على الأصل، وقد حررت ذلك بنفسي على كبار السن، وعندهم أنه إذا صنع الصانع المد فلابد أن يحرر، والتحرير: أنهم يأخذون صاعاً قديماً حرر على أقدم منه وهكذا حتى يضبطونه؛ لأنه في بعض الأحيان الصانع يوسع المد، فلم تكن عندهم المعايير منضبطة مثل ما هو الآن في المصانع، فالصانع ربما وسعه وربما ضيقه، ففي بعض الأحيان يقول لك: هذا المد مسح، بمعنى: إذا امتلأ الطعام فيه فمسحته تم المد، وبعض الأحيان يقول لك: حتى يتساقط، يعني: تملأه بالطعام حتى يتناثر، وبعض الأحيان يقول لك: نصف ملء، بمعنى: أنك تملؤه ولا يتناثر كمال التناثر ولكن إلى نصفه وهكذا، فالمد هذا يعدل ربع الصاع، وصاع النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أمداد، أي: من المد الذي هو ملء اليدين المتوسطتين، فلو ملأت بها أربع مرات أو حثيت بها أربع مرات طعاماً أو تراباً ملأت الصاع، وهذا الصاع كما قيل: إنه وحدة من الكيل فوق المد. وأحياناً يقولون للمد الصغير هذا: صاعاً نبوياً، ولكن المشهور أن الصاع هو الكبير، وهذا الصغير يعد ربع صاع، وكذلك أيضاً هناك وحدة ثالثة وهي: المد الكبير، والمد الكبير ثلاثة أضعاف الصاع، أي: ثلاثة آصع تملأ المد الكبير، فأصبح المد الكبير فيه اثنا عشر مداً صغيراً، فيفرق بينهما، وفي الأعراس قد تسمعهم يقولون: هذا مد كبير أو هذا مد صغير فتفرق بينهما بهذا. يقول: (يتوضأ بمدٍ) وهو المد الصغير، (ويغتسل بصاع)، كما جاء في حديث أم المؤمنين عائشة، وورد عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه اغتسل بإناء قدر الحلاب) والمراد بقدر الحلاب أي: الإناء الذي يسع حليب الناقة، فلو حُلبت ملأته، وهذه ضوابط العرب؛ لأنهم في القديم ما كان عندهم وحدات، فأحياناً يقدرون بمثل هذا وأحياناً يقدرون بشيء تقريبي، وورد عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه اغتسل إلى خمسة أمداد) من المد الذي ذكرناه، وكل هذا على التخيير. وهدي النبي صلى الله عليه وسلم ليس ملزماً؛ لأنه دلالة فعل، بمعنى: لا يلزمك ولا يجب عليك أن تغتسل بالصاع، بل إن في بعض الأحيان لو اغتسل الإنسان بالصاع ربما أخل، فلا تُطلب السنة بضياع الفرض، وإنما يغتسل بالصاع من يضبط الماء، ويحسن صبه على البدن وحفظه، وهذا موجود، وإن كان بعض العلماء يقول: كان الشيء مباركاً فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي زمانه، ثم نزعت البركة، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه: (إذا نزل عيسى بن مريم عليه السلام -كما في صحيح مسلم وغيره من أحاديث الرقائق- أنه توضع البركة، حتى أن الشاة يطعمها أربعون) الشاة الواحدة تكفي أربعين شخصاً من البركة، وقد نزعت البركة من الأشياء، فربما لو قلت لإنسان الآن: اغتسل بصاع، قد لا يستطيع، بل حتى في عصر التابعين، قال ابن الحنفية: (ما يكفيني)، فرد عليه الراوي: (قد كان يكفي من هو أكبر منك جسداً وأوفر شعراً)، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالمقصود: إذا تيسر للإنسان أن يصيب هذه السنة فليصبها، وإذا لم يتيسر له فإنه لا حرج عليه.

حكم الغسل بأقل من صاع

حكم الغسل بأقل من صاع قال رحمه الله: [فإن أسبغ بأقل أو نوى بغسله الحدثين أجزأ]. قوله: (فإن أسبغ بأقل) (أسبغ) بمعنى: عمم أو استوعب أعضاء الفرض، فمثلاً: الصبي الذي هو في الخامسة عشرة من عمره أو الإنسان صغير الحجم، قد يستطيع بأقل من الصاع أو بقدر يقارب الصاع أن يعمم بدنه، فليس مراده أن يغتسل بالصاع إلزاماً، فجاء بهذه العبارة حتى يفيد أنه للندب والاستحباب لا للحتم والإيجاب.

حكم من نوى بغسله رفع الحدثين

حكم من نوى بغسله رفع الحدثين وقوله: (أو نوى بغسله الحدثين أجزأ) إذا اغتسل الإنسان من أجل أن يصلي فإنه يستبيح الصلاة مباشرة، وقال بعض العلماء: إنه يجزئه مطلقاً سواءً نوى أو لم ينو، والأقوى أنه إذا نوى يجزئه، وهذا بالإجماع: أن من اغتسل فإن هذا يجزئه لكلا العبادتين، وإذا وقع الوضوء في الغسل أجزأه قولاً واحداً، لكن عند أبي ثور أنه يجب عليه أن يتوضأ أثناء الغسل، وهذا قول يعتبر من مفردات أبي ثور -وهو الإمام الفقيه إبراهيم بن خالد بن يزيد الكلبي رحمة الله عليه، كان من أصحاب الشافعي ثم اجتهد، وكان له مذهب مستقل، يقول عنه الإمام أحمد: أعرفه بالسنة منذ ثلاثين عاماً رحمة الله عليه- فهذا الإمام الجليل يرى أن الوضوء في الغسل واجب، ولكنه قول مرجوح لظاهر القرآن: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] ولم يوجب الله الوضوء، وما ثبت في الصحيحين من حديث أم سلمة الذي ذكرناه: (إنما يكفيكِ أن تحثي على رأسكِ ثلاث حثيات) وهذا الحديث من أهم أحاديث الغسل، ولذلك أقول: رضي الله عن أم سلمة وأرضاها، ونسأل الله العظيم أن يعظم أجرها بهذا الحديث، وهذا الحديث دفع إشكالات كثيرة في الغسل من الجنابة، وأزال اللبس في كثير من الأمور التي قيل بوجوبها وهي ليست بواجبة، وما كان هناك مخرج إلا بهذا الحديث، وهذه هي فائدة سؤال العلماء، فقد سألت أم سلمة رضي الله عنها وقالت: (يا رسول الله! إني امرأة أشد ظفر شعر رأسي، أفأنقضه إذا اغتسلت من الجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيكِ أن تحثي على رأسكِ ثلاث حثيات، ثم تفيضين الماء على جسدكِ فإذا أنتِ قد طهرتِ) وهذا الحديث يستفاد منه فيما لا يقل عن عشرين مسألة من مسائل الغسل من الجنابة، رضي الله عنها وأرضاها. قال رحمه الله: [ويسن لجنب غسل فرجه]. إذا وقعت الجنابة من جماع أو استيقظ وهو جنب فيسن له أن يغسل فرجه، لظاهر حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وحديث عمر في الصحيحين، أما حديث عائشة فقالت:: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان جنباً وأراد أن ينام أو يأكل غسل فرجه وتوضأ)، وأما حديث عمر في الصحيحين قال: (يا رسول الله! أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، ثم قال عليه الصلاة والسلام: توضأ واغسل فرجك ثم نم) فقالوا: (اغسل فرجك) دل على مشروعية غسل الفرج، حتى أن بعض الأطباء يعتبره من الأمور الطيبة، ويقولون: إنه لا يؤمن أنه إذا تأخر المني في موضعه أن تتولد منه بعض الجراثيم، وقد ينشأ منها بعض الأمراض، ولذلك قالوا: ربما لو يبس على العضو ربما حدث بعض الضرر، فلذلك كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يغسل موضع الجنابة. وقوله: (لجنب). يشمل الذكر والأنثى، لقوله صلى الله عليه وسلم: (أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: توضأ واغسل فرجك).

حكم وضوء الجنب لأكل ونوم ومعاودة جماع

حكم وضوء الجنب لأكل ونوم ومعاودة جماع قال رحمه الله: [والوضوء لأكل ونوم] قد ثبت في حديث أم المؤمنين عائشة عند أحمد ومسلم في صحيحه رحمة الله عليهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان جنباً وأراد أن ينام أو يأكل توضأ) ومن العلماء من قال: هذا الوضوء وضوء الجنب، وهذا الوضوء لا ينتقض، فلو توضأ ثم خرج منه ريح فإنهم يقولون: لا ينتقض وضوءه بل يبقى على وضوئه، وهو الوضوء الذي يلغز به بعض الفقهاء فيقولون: متوضئ لا ينتقض وضوءه لا ببول ولا غائط ولا ريح، فقد تقول: المستحاضة، فيقال: هذه معذورة، لكن هذا غير معذور، فيكون A هو وضوء الجنب، كما أشار إلى ذلك السيوطي بقوله: قل للفقيه وللمفيدِ ولكل ذي باعٍ مديدِ ما قلت في متوضئٍ قد جاء بالأمر السديدِ لا ينقضون وضوءه مهما تغوط أو يزيدِ فهذه من ألغاز الفقهاء، فلو أن إنساناً أراد أن ينام فغسل فرجه ثم توضأ، وقبل أن ينام خرج منه ريح، فيقول: ما دام النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نتوضأ في الجنابة قبل النوم، إذاً فقد انتقض الوضوء، مع أنه يكاد يكون إجماعاً أنه لا ينتقض هذا الوضوء بخروج الخارج؛ لأن المراد به -كما يقولون-: أنه أرفق بالأعضاء، والغالب أن الإنسان إذا حصل منه الإنزال ضعف بدنه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في الغسل عند معاودة للوطء: (فإنه أنشط للعود) وسبحان الله! ما أكرم الله علينا بهذه الشريعة! فنحمد الله تبارك وتعالى على هذه النعم الظاهرة والباطنة، ولهذا فالخير الكثير والرحمة المهداة والنعمة المسداة التي أكرمنا الله عز وجل بها في هذه الشريعة السمحاء، نسأل الله العظيم أن يحيينا عليها وأن يرزقنا طهارتها وأن يميتنا عليها. وعندما تنظر إلى الكفار ترى الواحد منهم ربما أقبل عليك فلا تستطيع أن تتحمل نتنه وقذارته؛ لأنهم لا يغتسلون ولا يزيلون الحدث، حتى ذكر بعض المؤرخين والمتأخرين أن أوروبا عاشت إلى قرون قريبة -إلى قبل القرن العاشر بيسير- وهم لا يعرفون الغسل، ولا يحسنون تنظيف أبدانهم، وهم الذين يقولون: إنهم أهل الحضارات، وما عرفوا الحضارة إلا من الإسلام، ولا عرفوا الطهارة ولا النقاء إلا من هذه الأحاديث النبوية عن النبي صلى الله عليه وسلم التي ما تركت قليلاً ولا كثيراً، والحمد لله الذي جعلنا مسلمين؛ والله أخبر أنه يريد أن يطهرنا، فطهرنا سبحانه حساً ومعنى، وهذا من سماحة الشريعة ومن يسرها وفضلها. وقوله: (والوضوء لأكل) لحديث عائشة. (ونوم) لحديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين، وكذلك في حديث عائشة [(ومعاودة وطء) أي: معاودة الجماع، فلو أن إنساناً جامع أهله ثم أراد أن يعود فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا جامع أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ) فعندنا الآن: الوضوء للنوم، والوضوء للأكل، والوضوء لمعاودة الجماع. وظاهر الأحاديث الأمر: (فليتوضأ) (توضأ واغسل فرجك ثم نم) كلها أوامر، فهل هذا الوضوء واجب؟ وجهان للعلماء: وأصحهما قول الجمهور: أن الوضوء ليس بواجب على الجنب، لا للأكل ولا للنوم ولا للجماع، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما أمرت بالوضوء للصلاة) وهذا هو ظاهر القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6] فدل على أن لزوم الوضوء إنما يكون عند إرادة الصلاة، وفرع من هذا عدم الوجوب لغير الصلاة، وفيه حديث عمار أنه رخص للجنب، يعني: في ترك وضوئه عند إرادته الأكل أو النوم، ولكنه متكلم في سنده، لكن الأقوى: (إنما أمرت بالوضوء للصلاة). إذا ثبت هذا: فالأمر بالوضوء للجنب على الاستحباب والندب لا على الوجوب والحتم، فلو أنه ترك هذا الوضوء لم يجب عليه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم سنية الوضوء لمعاودة الجماع، وقال عليه الصلاة والسلام في بيان العلة: (فإنه أنشط للعود) فقوله: (إنه أنشط للعود) يخرج النص عن الوجوب إلى الندب والاستحباب، وهي قرينة تصرف الحديث من الأمر إلى الندب، ففي هذا الحديث ذكرها العلماء، لكن أظهرها قولهم: أنه للندب والاستحباب لا للحتم والإيجاب.

الأسئلة

الأسئلة

حكم المضمضة والاستنشاق عند الغسل

حكم المضمضة والاستنشاق عند الغسل Q إذا اغتسل الإنسان غسل إجزاء ولم يتمضمض ولم يستنشق، فهل غسله باطل؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: اختلف العلماء رحمهم الله في المضمضة والاستنشاق للغسل من الجنابة على قولين: فقال الإمام أبو حنيفة وأحمد رحمة الله عليهما بوجوب المضمضة والاستنشاق، وقال غيرهم بالاستحباب، والصحيح: أنهما واجبان ولا يصح الغسل بدونهما؛ لأن الله أمر بتطهير ظاهر البدن، والفم والأنف من ظاهر البدن لا من داخله، بدليل أن الصائم إذا تمضمض أو استنشق لم يفطر من صومه، وبناءً على ذلك: فإن أصح الأقوال: أن المضمضة والاستنشاق لازمتان للغسل من الجنابة، فمن لم يتمضمض ولم يستنشق يكون كأنه ترك عضواً من الأعضاء التي أمر بغسلها. والله تعالى أعلم.

حكم من أحدث أثناء الغسل

حكم من أحدث أثناء الغسل Q إذا أحدث الشخص أثناء الغسل، هل يعود ويبتدئ من الأول أم يستمر؟ A إذا أحدث الإنسان أثناء الغسل فحدثه على ضربين: إذا أحدث حدثاً أصغر فإنه لا يؤثر في غسله من الجنابة، ولكن لا يستبيح به الصلاة إلا إذا عمم بدنه بالماء بعد خروج ذلك الخارج، مثال ذلك: لو أن إنساناً -أثناء اغتساله- بعد أن غسل كفيه وتوضأ وضوءه للصلاة وغسل شقه الأيمن خرج منه ريح أو مس فرجه، فحينئذٍ إذا غسل باقي البدن وعمم -بعد انتهائه من الجزء الأيسر- على سائر البدن وتمضمض واستنشق فإنه يجزئه، ويعتبر تعميم البدن بعد خروج الخارج بمثابة الوضوء بعده، أما لو أنه خرج منه الخارج بعد تعميم البدن، كأن يكون مثلاً: عمم بدنه بالماء وقبل أن يغسل رجليه خرج منه الريح أو بال، فإنه في هذه الحالة يعتبر منتقضاً لوضوئه، وأما غسل الجنابة فلا يؤثر فيه الحدث الأصغر. أما لو خرج منه مني فعلى حالتين: إما أن يكون فضلة مني سابقة، كأن يكون مثلاً: خرج منه المني وبقي شيء في المجاري لم يقوَ خروجه إلا عند برود جسده، فلما برد جسده بالماء قويت القوة الدافعة على إخراج ما تم، فخرجت فضلة المني الأول على شكل قطرات فإن هذه تنقض الوضوء ولا تنقض الغسل -على القول بأن خروج المني ناقض للوضوء- وبناءً على ذلك: فإن هذا المني يعتبر لاحقاً للمني الأول، والتابع تابع، لكن لو أن هذا المني كان منياً مستأنفاً فحينئذٍ يلزمه أن يعيد غسله من الجنابة، ولا يصح منه إلا بعد أن يعمم بدنه بالماء، والله تعالى أعلم.

حكم الاغتسال بالماء والصابون في غسل الجنابة

حكم الاغتسال بالماء والصابون في غسل الجنابة Q إذا اغتسل الإنسان بالماء والصابون ونوى به غسل الجنابة، فهل يجزئه ذلك أم أن الماء يعتبر طاهراً؟ A لا ما يمكن؛ لأنه إذا اغتسل بالماء والصابون، وعمم بدنه بالصابون، ثم صب الماء، فالماء طهور، فورود الطهور على الطاهر يطهر، لكن لو كان الماء مخلوطاً بصابون واغتسل بماء وصابون فهل يبقى بالماء والصابون على بدنه؟ ما يمكن هذا، وما يتأتى، فلابد أنه بعد الصابون سيصب صبة مستقلة، فإذا صب الطهور بعد الطاهر أجزأه، أما أن يغتسل بالماء والصابون ويخرج فما أظن هذا حاصلاً؛ لأنه لا يستطيع أن يصبر على أذى الصابون، وبناءً على ذلك: فالمسألة فرضية أكثر من أنها حقيقية، وهي سؤال جيد كمسلك فقهي، أي: هل يؤثر أو لا؟ وهي مفرعة على قوله عليه الصلاة والسلام: (اغسلنها بماء وسدر) قالوا: هل ينفصل، أو يكون مع الماء الطهور، أو يغسل بالماء أولاً ثم يدلك بالسدر ثم يصب الماء الطهور بعد ذلك؟ فالأحوط دائماً: أن تجعل بعد الصابون غسلة مستقلة. فلو كان الماء فيه رائحة الصابون وطعم الصابون فهو طاهر وليس بطهور، وفي هذه الحالة لا يرفع حدثاً أصغر ولا حدثاً أكبر، لأنه طاهر غير طهور.

عصر الذكر عند الغسل من الجنابة

عصر الذكر عند الغسل من الجنابة Q هل يجب على الإنسان عند غُسله من الجنابة أن يعصر ذكره حتى يخرج ما تبقى من المني؟ A لا، تكلف عصر العضو في الخارج سواءً كان منياً أو كان غير مني هذا لا أصل له، ولكن ذكر العلماء أنه إذا حصل عند إنسان مرض ولم تستطع القوة على إخراج الفضلة وتوقف على السلت، قالوا: يسلت من باب: مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولكنها حالة مستثناة، والأفضل والأولى أن لا يفعلها الإنسان ولا يعتاد هذا، وأما هل يجب عليه؟ فلا يجب على أحد أن يعصر ولا أن يتكلف ذلك، وقد يدخل الإنسان على نفسه الوسوسة، وقد يتسلط عليه الشيطان ويقول له: بقي شيء، ويقولون: إن العضو كالضرع كلما حلب در، ولذلك قالوا: كلما اشتغل المكلف بعضوه من ناحية نقاء البول أو المني أو المذي فإنه يدخل على نفسه باباً من الوسوسة يتعب منه كثيراً، ولذلك استحبوا أن الإنسان يقتصر على رحمة الله به ولطفه، فما كلف الله المكلف إلا ما أمامه، فإذا غسل العضو غسلاً عادياً دون أن يتكلف فيه فقد أجزأه وبرئت ذمته، والله تعالى أعلم.

كيفية الاغتسال وفق السنة تحت الدش

كيفية الاغتسال وفق السنة تحت الدش Q كيف يتحقق غسل الجنابة على السنة مع ما يسمى هذه الأيام بالدش؟ A يبدأ الإنسان بغسل كفيه أولاً، ثم يغسل فرجه ومواضع الأذى، ثم يفرغ بيمينه على يساره، فإذا كان عنده صنبور فإنه يفتح الصنبور ويأخذ باليسرى، ويغسل الفرج ومواضع الأذى، ثم يرجع ثانية ويفتح الصنبور ويغسل كفيه حتى يظن أنه أنقاها بالصابون أو نحوه، فإذا حصل النقاء للكفين فإنه يبدأ ويتوضأ وضوءه للصلاة، وبعد أن ينتهي من مسح رأسه -على القول بتأخير الرجلين- يغسل رجليه، ثم يقوم ويقف -وهذا أفضل- ويجعل شقه الأيمن للدُش. فإذا أصاب الشق الأيمن فإنه يدلك شعره، ويبدأ أول شيء بدلك الشعر بحيث يروي أصوله، ثم يجعل شقه الأيسر للدُش، ثم يعمم سائر بدنه، والسنة والأولى -على القول بالتفصيل في غسل الرأس- أن يبدأ بغسل الكفين ثم بغسل الفرج ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ كفاً من ماء ويصبها على رأسه ويروي بها أصول الشعر اليمنى، ثم يروي أصول الشعر ثم يقف، ويصب على شقه الأيمن ثم الأيسر، لكن التيامن والتياسر مشكلة في البركة. فقد يكون الإنسان حريصاً على السنة، فكيف، يفعل في البركة؟ ممكن أن الإنسان، يبدأ بنفس الطريقة، ثم يفيض على شقه الأيمن ثم شقه الأيسر، بل حتى لو وقف في البركة وأصاب الماء منتصف جسده أو إلى صدره ثم أفاض -وهو واقف- يبدأ ويفيض على شقه الأيمن ثم على شقه الأيسر ثم ينغمس في البركة فإن هذا يجزئه.

حكم نقض المرأة شعرها في غسل الجنابة والحيض والنفاس

حكم نقض المرأة شعرها في غسل الجنابة والحيض والنفاس Q هل يجب على المرأة أن تنقض شعر رأسها في الغسل من الجنابة أم هو خاص في الحيض والنفاس فقط؟ A ظاهر حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (إني امرأة أشد ظفر شعر رأسي، أفأنقضه إذا اغتسلت من الجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيكِ أن تحثي على رأسكِ ثلاث حثيات، ثم تفيضين الماء على جسدكِ؛ فإذا أنتِ قد طهرتِ) قال بعض العلماء: لا يلزمها نقض شعرها مطلقاً، لا في غسل جنابة ولا في غسل حيض أو نفاس، ووجه ذلك أنهم قالوا: إنها سألت عن الجنابة، والسؤال عن الجنابة منبهٌ على النظير وهو: الحيض والنفاس، وقال بعض العلماء: يكون الحكم خاصاً بالجنابة، ويبقى الحيض والنفاس على ظاهر القرآن من الأمر بالتطهير، والأقوى: أن الحكم عام وشامل للجنابة والحيض والنفاس. ولذلك: السؤال عن أحد أفراد العام لا يقتضي التخصيص به إذا كان المعنى يقتضي التعميم، وإن كان بعض العلماء ينازع في هذا ويقول: إنه قد يخفف من جهة الجنابة للكثرة ويكون الحيض والنفاس باقٍ على الأصل للقلة، أي: لقلة الحيض والنفاس، حيث يكون مرة في الشهر، ولكن الجنابة قد تكون مرة في اليوم وقد تكون مرات، فقالوا: خفف عليها في الجنابة، وبقي الحيض والنفاس على الأصل الموجب لسائر البدن، والذي يظهر أنه يجزئها في الحيض والنفاس، ولكن الأحوط والأفضل: أن تنقض شعرها في غسلها من الحيض والنفاس، وتبقى في الجنابة على الرخصة، ولكن لو عملت بالرخصة في الجميع أجزأها، والله تعالى أعلم.

حكم مسح الجسم بالماء دون إفاضة الماء

حكم مسح الجسم بالماء دون إفاضة الماء Q هل يجزئ مسح الجسم بالماء بدل الإفاضة بسبب قلة الماء أو برودته؟ A المسح لا يجزئ، لكن لو صب الماء ثم دلك الجسد والماء عليه أجزأ، وهناك فرق بين المسح وبين الغسل، فإن الله أمر بالتطهر بالماء، ولا يتحقق ذلك إلا بالغسل، والفرق بين المسح وبين الغسل: أن مادة الماء موجودة على الجسم أثناء إمرارك لليد، لكن المسح يكون بفضلة الماء الموجودة على الكف الذي تمسح به، ويكون ظاهر البشرة لا ماء فيه، فإن كان الماء موجوداً في اليد الماسحة دون اليد الممسوحة فهذا مسح، وأما إذا كان الماء موجوداً على اليد المغسولة ومر نفس الماء على يده فإن هذا غسل وليس بمسح، وهي مسألة تشكل على الكثير، وقد تحدث بسببها وسوسة للإنسان، فخذ هذا الضابط: إذا كان الماء جارياً على البدن، وجرفت الماء بجريان أصابع يدك عليه، والماء موجود على نفس العضو الذي جرت عليه اليد فهذا غسل، أما إذا كان الماء موجوداً في اليد التي تجري دون اليد التي تُغسل فإنه يكون مسحاً ولا يكون غسلاً، والله تعالى أعلم.

حكم استباحة فريضة بوضوء نافلة

حكم استباحة فريضة بوضوء نافلة Q إذا توضأت لصلاة نافلة وبقيت على ذلك الوضوء حتى دخل وقت فريضة، فهل أصلي بذلك الوضوء، علماً أنني نويت بوضوئي صلاة النافلة فقط؟ A هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، فمن أهل العلم من يقول: من توضأ لنافلة صلى ما شاء الله، ولا يفرق بين النافلة والفريضة، ومنهم من قال: إن من توضأ لنافلة فلا يصلي بها ما هو أعلى منها وهي الفريضة؛ لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام في حديث عمر: (إنما لكل امرئ ما نوى) فمن نوى الأقل لا يستبيح به الأعلى، كمن صلى نافلة وأراد أن يقلبها ظهراً فبالإجماع أنها لا تنقلب، ولذلك قالوا: إذا نوى أن هذا الوضوء للنافلة فإنه يستبيح صلاة النافلة دون الفرض، وهذا هو الأحوط لظاهر قوله: (إنما لكل امرئ ما نوى) فقال العلماء قوله: (إنما لكل امرئ ما نوى) يدل على أن من نوى الشيء حصل له، وأن من لم ينوه -من باب المفهوم- لا يحصل له، وهذا هو الأحوط، فيعيد وضوءه، والأفضل والأحسن أن الإنسان إذا أراد أن يتوضأ أو يغتسل أن ينوي رفع الحدث، ولا ينوي صلاة معينة، فإنه إذا نوى رفع الحدث الأصغر والأكبر أجزأه، وقد أشار بعض الفضلاء إلى هذا المعنى في قوله: ولينوِ رفع حدثٍ أو مفترض أو استباحة لمن معاً عرض فهذه ثلاثة أحوال للنية، (ولينوِ رفع حدثٍ) أي: ينوي مطلق رفع الحدث، وهذا بالإجماع أنه يستبيح به ما شاء مما يمنعه الحدث. (أو مفترض) يعني: صلاة فرضها الله كالظهر والعصر، (أو استباحة لمن معاً عرض) أي: هو محدث فيمتنع عليه أن يطوف فتوضأ للطواف، أو يمتنع عليه حمل القرآن فتوضأ لحمل القرآن، والأولى والأحسن للإنسان أن ينوي رفع الحدث، وإذا نوى رفع الحدث الأصغر والأكبر فإنه يستبيح ما شاء الله أن يستبيح، والله تعالى أعلم.

حكم جمع صلاة العصر مع صلاة الجمعة للمسافر

حكم جمع صلاة العصر مع صلاة الجمعة للمسافر Q هل يجوز للمسافر أن يجمع بين العصر والجمعة جمع تقديم كما يجمع بينه وبين الظهر؟ A هذه المسألة فيها إشكال عند العلماء، ومذهب طائفة من أهل العلم أنه لا يجمع بين الجمعة والعصر، وذلك لأن الجمعة لا تكون للمسافر، والجمع إنما يتأتى إذا قُصرت الصلاة مع الصلاة الثانية، وإن كانت قضية القصر ليست هي العلة الأقوى في هذا؛ لظاهر حديث المناسك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين صلاتين: الأولى تامة والثانية مقصورة وهما: المغرب والعشاء، فإن الأولى تامة والثانية مقصورة، ولذلك قال بعض العلماء: إنه يصح الجمع بين الجمعة والعصر، وقال بعضهم بعدم صحة الجمع بين العصر والجمعة، والأحوط أن الإنسان لا يجمع، لكن لو احتاج وجمع فيقوى القول بأنه يجوز له ذلك ولا حرج عليه، والله تعالى أعلم.

الخلاف في تحريم زوجة الأب من الرضاع

الخلاف في تحريم زوجة الأب من الرضاع Q قال تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:22] هل زوجة الأب من الرضاع تحرم على ابنه من الرضاع فتكون داخلة في عموم هذه الآية؟ A هذا التحريم يسمى التحريم بالمصاهرة في الرضاع والتحريم بالمصاهرة اختلف العلماء فيه، هل يستوي النسب والمصاهرة في التحريم بسبب الرضاع أو لا يستويان؟ والحقيقة أن هذه المسألة أنا متوقف فيها، وكنت أقول: إن التحريم بالمصاهرة في الرضاع ينزل منزلة التحريم بالنسب في الرضاع لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) ولكن الإشكال أن التحريم هنا بالمصاهرة، وهي مسألة توقف فيها عدد من العلماء رحمة الله عليهم من المتقدمين، وأنا أرى أن الإنسان يحتاط، فلا يتزوجها ولا يختلي بها، أي: يحتاط في الذي هو مسلك الشبهة، فأقل درجاتها الشبهة، فلا يتزوجها ولا يختلي بها إعمالاً للأصل في الاستبراء في كلا الأمرين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب التيمم [1]

شرح زاد المستقنع - باب التيمم [1] شرع الله سبحانه التيمم في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وأجمع العلماء كذلك على مشروعيته، وهو رخصة من الله سبحانه لعباده المسلمين؛ ليزيل عنهم المشقة والضرر، وله أسباب تبيح الأخذ برخصته، وكذلك له ضوابط نص عليها العلماء وبينوها حتى تكون الرخصة في محلها.

تعريف التيمم لغة واصطلاحا

تعريف التيمم لغة واصطلاحاً بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب التيمم]. التيمم مأخوذ من قولهم: تيمم الشيء إذا قصده، ومنه قوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:267] أي: ولا تقصدوا رديء التمر والخارج من الأرض لتنفقوا منه زكاة أموالكم، ومن ذلك قول الشاعر: تيممتها من أذرعات وأهلُها بيثرب أدنى دارها نَظَرٌ عالي أي: قصدتها. فالتيمم القصد. وأما في الاصطلاح: فإنه القصد إلى الصعيد الطيب بضرب اليدين ومسح الوجه والكفين بنية استباحة الصلاة ونحوها مما تشترط له الطهارة. والمراد بالصعيد الطيب: ما على وجه الأرض، سواءً كان تراباً أو غيره، وسواء كان جامداً -كالحجارة ونحوها- أو كان غير جامد. فقولهم: القصد إلى الصعيد الطيب، المراد به كل ما صعد على وجه الأرض، والعلماء -رحمهم الله- اختلفوا في هذه المسألة، فمنهم من يقول: لا يقصد إلا إلى شيء مخصوص، وهو التراب إذا كان له غبار، وأما إذا لم يكن له غبار فإنه لا يتيمم به. وقالت طائفة من العلماء: إنه يتيمم بكل ما على وجه الأرض، من الجامد، وغير الجامد كالنباتات التي تغتذي بالماء، قالوا: يجوز أن يتيمم بها ما دامت متصلة بالأرض، كما هو مذهب مالك رحمه الله. ومنهم من خصّ التيمم بكل ما على وجه الأرض، لكن خصه بما كان من جنس الأرض، فيشمل الحجارة والطين والجصّ والنورة وغير ذلك. (بضرب اليدين) أي: يقصد إلى الصعيد الطيب مع ضربه اليدين على ذلك الصعيد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لـ عمار: (إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا) ثم ضرب عليه الصلاة والسلام بكفيه الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه، فدل هذا على أنه يشرع التيمم على هذه الصفة، فقولهم: القصد إلى الصعيد الطيب بمسح الوجه والكفين: المراد به قصد مخصوص، وقولهم: بنية استباحة الصلاة، هو أحد أقوال العلماء، والقول الثاني: بنية رفع الحدث، والقول بنية استباحة الصلاة هو الأقوى؛ لأن التيمم مبيح وليس برافع.

أدلة مشروعية التيمم

أدلة مشروعية التيمم شرع الله التيمم في كتابه بقوله سبحانه وتعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:43] في آيتي النساء والمائدة، وشرعه عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن عماراً لما خرج في السرية -وكانت في زمان بارد- وأصابته الجنابة قال: فتمعكت كما تمعك الدابة -وكان يخشى على نفسه لو اغتسل أن يموت- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ما صنع. فقال عليه الصلاة والسلام: (إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ومسح بهما وجهه وكفيه). وثبت في الصحيحين من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على رجل لم يصلِّ في القوم، فقال: ما منعك أن تصلي في القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء. فقال عليه الصلاة والسلام: عليك بالصعيد الطيب، فإنه يكفيك) وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين) وفي الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي -ومنها قوله:- وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) فدلت هذه الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم على أن التيمم مشروع. وأجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية التيمم. أما بالنسبة لمناسبة هذا الباب لما قبله: فقد كان المصنف رحمه الله في باب الغسل ثم شرع في باب التيمم، فما هو الرابط بين باب الغسل وباب التيمم؟ تكلم المصنف رحمه الله في الباب السابق عن الغسل والوضوء ونواقض الوضوء، فجمع بذلك بين الطهارة الصغرى والطهارة الكبرى، ولكن كان حديثه عن الطهارة بالماء التي هي أصل، ثم شرع هنا في طهارة التراب التي هي بدل، ولذلك قالوا: إن الكلام عن البدل مفرّع عن الكلام على المبدل منه، فبعد أن بين رحمه الله حكم الطهارة بالأصل -وهو الماء- شرع في بيان حكم الطهارة بالبدل، وهو التراب.

التيمم بدل عن الطهارة الصغرى والكبرى وطهارة الخبث

التيمم بدل عن الطهارة الصغرى والكبرى وطهارة الخبث قال رحمه الله: [وهو بدل طهارة الماء إذا دخل وقت فريضة]. (وهو) أي: التيمم. (بدل طهارة الماء) أي: أنه ليس بأصل، وإنما شرع على صورة مخصوصة، وفي أحوال مخصوصة، ولذلك يمكن للفقيه أن يقول للمكلف: تيمم إذا وجد موجبات الرخصة، وممكن أن يقول له: لا تتيمم إذا لم تتوفر موجبات الرخصة، ولذلك قال: وهو بدل، والبدل يحتاج منك إلى أن تعرف شروطه والقيود التي وضعها الشرع لجواز هذا البدل عن المبدل منه، فالتيمم بدل عن طهارة الماء، وهذه البدلية تشمل الطهارة الصغرى -وهي الوضوء- والطهارة الكبرى -وهي الغسل من الجنابة- فيقع التيمم بدلاً عن الوضوء ويقع بدلاً عن الغسل من الجنابة، وللمكلف إذا تيمم أن يستبيح الصلاة مباشرة، ويقع التيمم بدلاً عن طهارة الخبث كما هو قول طائفة من العلماء، فمن وقعت عليه نجاسة ولم يجد ماء يغسل به تلك النجاسة يتيمم لوجود النجاسة ببدنه، فجعلوا التيمم بدلاً عن الطهارة بنوعيها: طهارة الحدث وهذا بالإجماع، فيقع بدلاً عن الطهارة الصغرى وهي الوضوء والطهارة الكبرى وهي الغسل وطهارة الخبث، فإذا سئلت عن بدليته فقل: عن ثلاثة: عن الوضوء والغسل وطهارة الخبث. أما على القول الثاني الذي يقول: إن من لم يجد الماء ووقعت عليه النجاسة فإنه لا يتيمم، فيصبح التيمم بدلاً عن الطهارة الصغرى والكبرى فقط.

أسباب الأخذ برخصة التيمم

أسباب الأخذ برخصة التيمم قال رحمه الله: [وهو بدل طهارة الماء إذا دخل وقت فريضة]. وقوله: (وهو بدل طهارة الماء) عمم المصنف فقال: هذا التيمم بدل عن طهارة الماء، فشمل طهارة الحدث -أي: طهارة الوضوء وطهارة الغسل- وشمل طهارة الخبث، فأصبح بدلاً على العموم.

حكم التيمم للفريضة قبل دخول وقتها

حكم التيمم للفريضة قبل دخول وقتها (وهو بدل عن طهارة الماء إذا دخل وقت فريضة) إذا دخل: هذا شرط، والشروط في المتون الفقهية يعتبر مفهومها، وإن كان بعض العلماء له مصطلح في المفاهيم التي يذكرها في متنه. ومعنى قولنا: إن الشروط تعتبر مفاهيمها، أنه مثلاً: إذا قال لك: إذا دخل وقت فريضة، فمفهومه أنه إذا لم يدخل وقت الفريضة فإنه لا يتيمم لها، لكن لو تيمم لغير الفريضة كأن يتيمم لمس مصحف إذا كان جنباً أو يتيمم للطواف بالبيت فلا حرج عليه. إذاً: قوله: (إذا دخل وقت فريضة) أي: أنك تتيمم وتستبيح رخصة التيمم للفريضة بشرط أن يدخل وقتها، فلو أن إنساناً سألك وقال: لم أجد الماء فتيممت قبل أذان الظهر ثم دخل وقت الظهر فصليت؟ فتجيب: لا يصح التيمم ولا يستباح بهذا التيمم فعل الصلاة؛ لأن شرط التيمم أن يدخل وقت الفريضة. هذا بالنسبة لمعنى العبارة. أما الدليل الذي يدل على اشتراط دخول الوقت للتيمم، فقالوا: إنه الأصل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] إلى أن قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] هذه الآية وجه دلالتها على اشتراط دخول الوقت -وهذا يحتاج إلى دقة في الفهم والتركيز- أنه في أول الإسلام كان يجب على المكلف إذا دخل وقت الفريضة أن يتوضأ، حتى ولو كان متوضئاً، وكانوا يصلون كل فريضة بعد دخول وقتها بوضوئها، أي: في الوقت، ثم نسخ ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم. ومن أهل العلم من قيّد النسخ بفعله عليه الصلاة والسلام في غزوة الخندق، كما ثبت في الحديث الصحيح أنه لم يصلِّ العصر حتى غربت الشمس، كما في الصحيحين من حديث عمر: (أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! والله ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال عليه الصلاة والسلام: والله ما صليتها، قوموا بنا إلى بطحان، قال: فتوضأ ثم صلى العصر والمغرب والعشاء) قالوا: هذا نسخ وجوب الوضوء عند دخول الوقت، ودل على أنه يشرع للمكلف أن يجمع بوضوء واحد بين عدة صلوات ولا حرج عليه في ذلك، فأصبح الوضوء رافعاً للحدث، وبناءً على ذلك قالوا: نُسخ الحكم في الوضوء وبقي التيمم على الأصل من كونه مطالباً بالتيمم عند دخول الوقت، وهذا صحيح؛ لأنه إن ورد النص على العموم إلا أن سياق الآية يقيد الطهارة بدخول الوقت {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6] ولا يقام لفعل الصلاة المفروضة إلا بعد دخول وقتها، فلما جاء الناسخ في الوضوء بقي غيره على الأصل، قالوا: فبقي التيمم على الأصل، ومن هنا لا يتيمم إلا عند دخول وقت الفريضة، وتفرّع على هذا أن التيمم مبيح لا رافع، أي: أن التيمم يبيح لك فعل الصلاة لا أنه يرفع الحدث، إذ لو كان رافعاً للحدث لما احتجت بعد تيممك الأول إلى تجديده بدخول وقت الفريضة الثاني.

مسألة: التيمم رافع أم مبيح

مسألة: التيمم رافع أم مبيح وهذه مسألة خلاف: هل التيمم مبيح أم رافع؟ أصح القولين عند العلماء رحمهم الله: أن التيمم مبيح، ويشهد لذلك -كما قلنا- ظاهر التنزيل، وأيضاً ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رأى رجلاً لم يصلِّ -وفي رواية: أنها صلاة الفجر، كما في حديث عمران في الصحيحين- فقال: ما منعك أن تصلي في القوم؟ قال: يا رسول الله! أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد الطيب فإنه يكفيك) وفي رواية: (ثم وجد الماء فبعث به إلى الرجل) فوجه الدلالة: أن الرجل حينما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (عليك بالصعيد الطيب) سيتيمم للصلاة مباشرة، ولا شك أن تيممه قد وقع قبل وجود الماء؛ لأن الوقت الذي وقع بين وجود النبي صلى الله عليه وسلم للماء وبين فراقه للرجل وقت كافٍ للتيمم قطعاً، وقد توجّه عليه الحكم أن يتيمم، فتيمم الرجل لإدراك الفريضة الواجبة عليه، فلما تيمم قال: (فبعث به إلى الرجل) وجه الدلالة: أن هذا يدل على أن التيمم يبيح فعل الصلاة لا أنه رافع للحدث فيصح فعل الصلاة مطلقاً.

التيمم لأداء نافلة

التيمم لأداء نافلة قال رحمه الله: [أو أبيحت نافلة]. عندنا صلاتان: الصلاة المفروضة، والصلاة النافلة، فإن قلت: إن التيمم لا يكون إلا عند دخول وقت الصلاة، فقيده بصلاة الفريضة بوقتها، فتقول: يتيمم لصلاة الظهر بعد زوال الشمس، ويتيمم لصلاة المغرب بعد غروب الشمس. إلخ، وإن كانت الصلاة نافلة اعتبرت فيها الأوقات المنهي عنها، فتقول: يتيمم في وقت تباح فيه النافلة، فلو أنه تيمم بعد صلاة الصبح أو بعد صلاة الفجر وقبل طلوع الشمس لِفِعْلِ نافلة مطلقة؛ فإنه لا يصح تيممه لوقوعه في غير الوقت المعتبر لإجزاء التيمم في الصلاة.

التيمم عند انعدام الماء

التيمم عند انعدام الماء قال رحمه الله: [وعَدِمَ الماء أو زاد على ثمنه]. (وعدم الماء) هذا شرط؛ دل عليه قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة:6] فمن عدم الماء كأن يسافر سفراً ثم ينتهي الماء الذي معه ولا يجد ماء لا لغسل جنابة ولا لوضوء، فإنه في هذه الحالة يعتبر فاقداً للماء. (عَدِمَ الماء) للعلماء في عدْم الماء قولان: منهم من يقول: عدم الماء يبيح التيمم كلياً، أي: على العموم سواءً وقع ذلك العدم في سفر أو وقع في حضر، فكل من لم يجد الماء في سفر أو حضر أبيح له أن يتيمم، ومنهم من قيده بالسفر، والصحيح: أن الحكم عام يشمل من كان عادماً للماء في السفر أو في الحضر. وعدم الماء يتحقق بأمرين: الأمر الأول: إما يقين تقطع فيه بعدم وجود الماء، وهذا بلا إشكال أنه يعتبر مبيحاً لك أن تتيمم، مثال ذلك: أن يخرج الإنسان إلى مكان يعلم أنه لا يوجد فيه ماء أصلاً، ولا يشك أبداً أن الماء غير موجود، فهذا يقين من المكلف بفقد الماء، فيستبيح التيمم مباشرة. الأمر الثاني: أن يغلب على ظنه الفقد، بمعنى: أن يكون احتمال وجود الماء ضئيلاً، فإذا كان احتمال وجود الماء ضئيلاً فإن العبرة بغالب الظن لا بنادر الظنون؛ لأن الشريعة معلقة على الغالب لا على النادر، ومن قواعدها: (النادر لا حكم له)، ومن قواعد الفقه: (الغالب كالمحقق)، فلما كان غالب ظنك أن الماء غير موجود في هذا الموضع أو في هذا المكان؛ فإنه يعتبر كالقطع بعدم وجوده، فينزل غالب ظنك منزلة يقين عدم الوجود؛ وبناءً على ذلك تستبيح التيمم باليقين وبغلبة الظن، وتبقى لدينا حالة وهي: أن تشك في وجوده، أي: يستوي عندك احتمال وجوده وعدم وجوده، مثال ذلك: نزلت في موضع وأنت مسافر، ولا تدري هل الموضع هذا فيه ماء أو لا ماء فيه، فإن مثل هذه يعتبر شكاً، حيث إن احتمال وجود الماء كاحتمال فقد الماء، ففي هذه الحالة تطالب بالبحث والتحري حتى تصل إلى غالب الظن بالفقد، أو إلى القطع بالفقد فحينئذٍ تأخذ حكم الرخصة ويباح لك أن تترخص بالتيمم.

التيمم عند تعسر شراء الماء

التيمم عند تعسر شراء الماء قال رحمه الله: [أو زاد على ثمنه كثيراً أو ثمن يعجزه]. (أو زاد على ثمنه) أما إذا لم يجد الماء فقول واحد عند العلماء أنه يتيمم، وإن كان هناك خلاف في التفريق بين السفر والحضر، لكنه خلاف ضعيف، فإذا فقد الماء فإنه يتيمم لدليلين: الدليل الأول: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة:6] وكذلك من السنة: (الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين) فهذان النصان من الكتاب والسنة نصّا على استباحة رخصة التيمم عند فقد الماء. الدليل الثاني: أنه إذا فقد الماء تعذّر عليه أن يغتسل أو أن يتوضأ، والتكليف إنما يكون بما يمكن، أي: أن الله يكلف المكلف بما في وسعه لا بما ليس في وسعه، فلما كان ليس بوسعه أن يوجد ما ليس بموجود سقط عنه التكليف بطلب الماء، وأصبح مرخصاً له أن يتيمم. وقوله: (أو ثمن يعجزه). في هذه المسألة: الماء موجود، ولكنه لا يبذل للمكلف إلا بمبلغ كبير، كأن يقال له: هذه الزجاجة من الماء ثمنها مائة ريال، فإن المائة قد تعجزه، ولا يستطيع دفع هذا المبلغ الذي هو قيمتها، أو يستطيع دفع المبلغ لكنه يعتبر ثمناً كثيراً في مقابل الماء، فعندنا حالتان في قيم الماء: الحالة الأولى: أن يكون الماء موجوداً وقيمته باهظة، ولكن عنده القدرة على الشراء كأن يكون ثرياً غنياً. الحالة الثانية: أن يكون الماء موجوداً، ولكن القيمة التي يباع بها هذا الماء سواءً كانت باهظة أو غير باهظة ليست موجودة عنده، فإن فقد القيمة وكانت غير موجودة عنده فهو كالفقد الحسي للماء، ويسمونه الفقد الحكمي، قالوا: فلما كان عاجزاً عن شرائه فكأنه ليس بيده، فهذا لا إشكال في أنه يتيمم ويعدل إلى التيمم. أما الحالة الأولى لو قال له البائع: لا أعطيك هذا الماء أو هذه الزجاجة من الماء إلا بمبلغ كبير، فقال بعض العلماء: إن إجحافه بالمال ينزل منزلة الفقد، وهذا قول مرجوح، والصحيح: أنه إذا كان ثرياً قادراً على دفع المال فيجب عليه دفعه، فإن أمر الصلاة أمر عظيم، ولا يستكثر أن يدفع المكلف مقابل ركن من أركان دينه هذا المبلغ من المال، ولذلك تقدّم مصلحة الصلاة على مصلحة المال، ولا يعتبر هذا الإجحاف عذراً شرعياً؛ لأن الله عز وجل قال: {فَلَمْ تَجِدُوا} [المائدة:6] وهذا ليس بفاقد للماء، لا حكماً ولا حقيقة.

التيمم عند خوف الضرر من استعمال الماء

التيمم عند خوف الضرر من استعمال الماء قال رحمه الله: [أو خاف باستعماله أو طلبه ضرر بدنه]. (أو خاف باستعماله ضرر بدنه) صورة ذلك: أن يكون الإنسان مريضاً، فإذا اغتسل أصابته الأمراض أو زاد عليه مرضه، أو أن يكون في زمان شديد البرد، فلو اغتسل خاف على نفسه المرض أو الموت أو الهلاك؛ ففي هذه الحالة يرخص له أن يعدل من الغسل إلى التيمم، وهكذا لو كان الوضوء يضر به وينتهي به إلى تلف نفسه أو حصول ضرر بجسمه جاز له أن يعدل إلى التيمم، وهذا اختيار المحققين، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية فقد اختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه لو زاد به الزكام أو حصل له الزكام فمن حقه أن يعدل إلى التيمم؛ لما فيه من وجود الضرر، والله عز وجل كلّف العباد بما لا ضرر فيه، لا بما ينتهي بهم إلى ضرر أنفسهم أو أجسادهم، ولذلك قالوا: إذا كان استعماله للماء يفضي إلى تلف النفس أو حصول ضرر بالنفس أو زيادة سقم ومرض جاز له أن يعدل إلى الرخصة ويتيمم، وقال بعض العلماء: إنه لا يجوز له ذلك إلا إذا خاف الهلاك على نفسه. فأما دليل الترخص عند خوفه على نفسه وخوفه على جسده فحديث عمار رضي الله عنه وأرضاه وفيه: (أنه كان في زمان برد قال: فخفت على نفسي أو خشيت على نفسي فتيممت) فلذلك قالوا: إن هذا يدل على مشروعية التيمم للبرد الشديد، وظاهر الروايات أنه لم يجد الماء. والضرر يتحقق بنشوء المرض، سواءً كان نشوء المرض ابتداءً أو بالزيادة فيه، كأن يكون مريضاً بالزكام مثلاً، فلو اغتسل زاد عليه زكامه، فحينئذٍ قالوا: إذا كان مفضياً إلى الزيادة فيستبيح به رخصة التيمم.

التيمم عند خوف الضرر على الرفقة في حال استعمال الماء

التيمم عند خوف الضرر على الرفقة في حال استعمال الماء قال رحمه الله: [أو على رفيقه]. كذلك أيضاً إذا خاف على رفيقه من استعمال أو طلب، مثال ذلك: أن يكون الإنسان عنده ماء وهو محدث، وهذا الماء لو توضأ به احتاج إليه رفيقه لشرب، فحينئذٍ قالوا: لو قلنا له: توضأ بهذا الماء أو اغتسل بهذا الماء هلك رفيقه، أو تضرر رفيقه بعدم وجود الماء، فقالوا: يحل له إذا خاف على رفيقه الهلاك أن يعدل عن الاغتسال بالماء والوضوء به إلى التيمم، وهذا يسمى: فقداً حكمياً، فإن الماء موجود، ولكنه في حكم المفقود؛ نظراً لما يترتب على استعماله من وجود الضرر بالنفس المحرمة. وكذلك أيضاً إذا خفت على رفقتك، كأن تكون معك جماعة، وهذا الماء الموجود هو سقاؤهم، فلو أنك اغتسلت بهذا الماء الموجود فإن غالب ظنك أن رفاقك سيتعرضون للهلاك؛ فحينئذٍ نقول: تعدل عن اغتسالك أو وضوئك إلى تيممك؛ لأن خوف هلاك الأنفس المحرمة كخوف الإنسان هلاك نفسه، ولذلك يباح له أن يترخص. وقوله: (أو طلبه). الماء قد يكون موجوداً، ولكن يحتاج منك إلى أن تبحث عنه، وعندك رفاق -سواء كانوا من الرجال أو النساء أو الصبيان الضعفة، ولو غبت عنهم خشيت عليهم الضرر، كأن تكون في أرض لا تأمن فيها عدواً أو فاسقاً، فحينئذٍ يكون الخوف على العرض أو على الأطفال من الضرر يوجب الرخصة التي تعدل بها إلى التيمم. فلو غلب على ظنه أن طلب هذا الماء يحتاج إلى أربع ساعات أو خمس ساعات يغيب فيها عن أهله أو حتى يحتاج إلى ساعة أو نصف ساعة والأرض غير مأمونة الضرر بسبب السباع أو الهوام أو ما شابه ذلك؛ فحينئذٍ يتحقق العذر الذي يبيح للمكلف أن يترخص بالتيمم.

التيمم عند العجز عن تحصيل الماء خوفا على العرض والمال

التيمم عند العجز عن تحصيل الماء خوفاً على العرض والمال قال رحمه الله: [أو حرمته أو ماله]. يكون الماء موجود، ولكن يحتاج إلى أن يذهب لجلبه، ويترك سيارته أو صندوقه أو غنمه، حيث لا يستطيع أن يأخذها معه إلى مكان الماء، فحينئذٍ نقول: الخوف على المال يبيح له أن يعدل إلى رخصة التيمم. قال رحمه الله: [بعطش أو مرض أو هلاك ونحوه]. كل هذه رخص، فإذا خِفت عليهم الهلاك، أو اعتداء مفسد أو سارق، أو خفت عليهم الضرر من السباع والهوام، فكل هذه من الرخص التي تبيح لك أن تعدل إلى رخصة التيمم. (ونحوه) أي: أن هذه أصول، ويمكن أن تقيس عليها صوراً من النظائر، فالفقهاء رحمة الله عليهم أعطوك الأصل الذي هو: خوف الضرر على النفس أو على الرفقة أو على المال، وبناءً على ذلك: يجوز للإنسان أن يعدل إلى رخصة التيمم لوجود هذه الأعذار، سواء كانت بالصور الموجودة في زمان العلماء أو بصور جديدة في زماننا هذا.

التيمم عند عدم وجود ما يكفي من الماء للطهارة

التيمم عند عدم وجود ما يكفي من الماء للطهارة قال رحمه الله: [ومن وجد ماء يكفي بعض طهره تيمم بعد استعماله]. هذه المسألة من المسائل التي اختلف العلماء رحمهم الله فيها، وهي: عندك ماء لا يكفي لغسل جميع البدن في طهارة الغسل أو لا يكفي لغسل جميع أعضاء الوضوء في طهارة الوضوء، فالماء موجود ولكنه غير كافٍ لاستيعاب محل الفرض، فقال بعض العلماء: من كان الماء عنده قليلاً بحيث لا يمكن استيعاب محل الفرض به فإنه يعدل إلى التيمم مباشرة. وقال بعض العلماء: من كان عنده ماء يكفي لبعض الأعضاء دون بعضها؛ غسل البعض ثم تيمم بنية ما بقي، وهذان قولان مشهوران عند أهل العلم. فالذين قالوا بالعدول إلى التيمم مباشرة، قالوا: لا نعرف في الشريعة الإسلامية الجمع بين الوضوء والتيمم وبين الغسل والتيمم، فالله عز وجل أمرنا بغسل أو تيمم، وأمرنا بوضوء أو تيمم، أما الجمع بينهما فلا نعهده شرعاً، وليس في نصوص الكتاب والسنة ما يدل على الجمع بينهما، ولا يصح لنا أن نجزّئ أعضاء المأمور به، فنقول: يغتسل لبعض ويتيمم لبعض؛ لأن الشريعة جاءت بغسل للجميع وبتيمم عن الجميع، ولا يستطيع أن يحدث الفقيه صورة تجمع بين الأصلين، فيقال له: اغتسل للبعض وتيمم للبعض، ثم قالوا: إن الدليل الذي استدل به على الجمع بينهما إما ضعيف كحديث الشجّة التي تكلم عليه الحافظ الدارقطني في الرجل الذي أصابته شجة، فأشار عليه البعض بأن يغتسل، فمات من ذلك الغسل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذ جهلوا) ثم بيّن عليه الصلاة والسلام أنه كان عليه أن يجمع بين غسله لما استطاع أن يغسل من بدنه وتيممه على جراحه، قالوا: هذا يدل على الجمع بينهما، لكنه حديث ضعيف، ثم أيضاً قالوا: العمومات التي استدل بها لا تصلح أن تكون دليلاً في صور الطهارة المخصوصة، فإن صور الطهارة المخصوصة إما تيمم وإما غسل أو وضوء، فاستحداث صورة ثالثة بالعموم لا يتأتى، ومن العمومات التي استدل بها قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] قالوا: إن هذا بإمكانه أن يغسل بعض الأعضاء ويتيمم للبعض، فيتقي الله بغسل ما استطاع غسله ويتيمم لما بقي. والذين قالوا بمشروعية الجمع بين التيمم وبين الغسل -كما درج عليه المصنف رحمه الله- يستدلون بظاهر الحديث الذي تكلم في سنده، ثم أيضاً قالوا: إن الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] وهذا باستطاعته أن يمس بدنه الماء ويتيمم لما عجز، وقالوا أيضاً: إن الله عز وجل يقول: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة:6] فإذا تيمم مع وجود الماء لم يتحقق فيه الشرط الشرعي لاستباحة الرخصة، فنقول: لا بد -أولاً- أن يستعمل الماء حتى يتحقق فيه شرط فقده. هذه أوجه من قال بالجمع بين التيمم والغسل على ما درج عليه المصنف، وإن كان كلا القولين له وجهه، فإن القول بالجمع بينهما له وجه، ويمكن الجواب عن دليل المخالف، والقول بأنه لا يجمع ويقتصر على التيمم له وجه أيضاً. فالقول الذي يقول بأنه يجمع بينهما تقويه الأصول، ووجه ذلك: أنه إذا توجه الخطاب بمأمور ولم يتأتّ في الكل توجه بقدر ما يستطيع المكلف، وهذا ظاهر قوله تعالى:: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ثم يبقى ما لا يستطاع تحت موجب الرخصة، فتستباح الرخصة، وتكون الصورة الغير معهودة خارجة لندرة الوقوع، يعني: أن الشريعة لم تنص على هذه المسألة -وهي أن يجد ماء لا يكفيه لبعض أجزائه- لندرة وقوعها وأما بالنسبة للقول الذي يقول بأنه لا يجمع فيقويه أن الطهارة عبادة متصلة لا تتجزأ، وبناءً على ذلك يقوى أصلهم بأنه يتيمم مباشرة ويلغي الماء الموجود. والأحوط أنه يغسل الأعضاء حتى يخرج من تبعة ترك الغسل للمأمور بغسله ثم يتيمم لما بقي بنية استباحة الصلاة.

التيمم للجروح

التيمم للجروح قال رحمه الله: [ومن جُرح تيمم له وغسل الباقي]. (ومن جرح تيمم له) الضمير في (له) عائد إلى الجرح، (وغسل الباقي) أي: باقي جسده، ووجه ذلك: أنه يستطيع غسل باقي جسده فبقي على الأصل، والجرح لا يمكنه أن يغسله فرخص له بالتيمم من أجله. وهذه المسألة يصفها العلماء بالجمع بين البدل والمبدل، ويقول بها فقهاء الحنابلة ويوافقهم الشافعية وغيرهم، ويلغز العلماء فيها فيقولون: ما هي صور الجمع بين البدل والمبدل؟ لأن الأصل في البدل والمبدل ألا يجتمعا؛ لأن الضدين لا يجتمعان، فما تستطيع أن تقول: هذا حلو مر، فإما أن تقول: هذا حلو، وإما أن تقول: هذا مر، وبناءً على ذلك قالوا: إن البدل والمبدل كالضدين، فالتيمم لا يستباح إلا عند عدم الماء أو عدم طهارة الماء، وبناءً على ذلك قالوا: لا يجمع بين البدل والمبدل على القاعدة المقرَّرة، إلا في صور تخرج من هذا الأصل، منها هذه المسألة، أي: أن يكون مجروحاً. وقال بعض العلماء: إذا أمكنه أن يبلّ يده ويمرها على الجرح مبلولة، فإنه يجزئه ذلك ولا حرج عليه فيه، ولا يطلب منه أن يتيمم للجرح إذا أمكنه إمرار يده مبلولة.

حكم طلب الماء للطهارة

حكم طلب الماء للطهارة قال رحمه الله: [ويجب طلب الماء في رحله وقربه]. بعد أن بيّن رحمه الله التيمم من كونه بدلاً عن الماء، ومتى يرخص للإنسان أن يستبيح التيمم، شرع في بعض الأحكام المفرّعة على تقرير هذا الأصل، من قوله: (ويجب طلب الماء) أي: أنه يلزم المكلف عند دخول الوقت أن يطلب الماء للفريضة، وهذا بناءً على الأصل؛ لأن الأمر بالشيء أمر بلازمه، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فقد يقول قائل: إن الله أوجب علينا أن نتوضأ ونغتسل، فما الدليل على إيجابكم على المكلف أن يطلب الماء؟ قالوا: الدليل على ذلك أنه مأمور بالطهارة بالماء، وهذه الطهارة بالماء تفتقر أو تحتاج إلى طلب، فتوقف تحقيق المأمور -وهو الوضوء والغسل- على طلب هذا الماء؛ فكان مما لا يتم الواجب إلا به، والقاعدة تقول: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب). (في رَحْلِه) لو أن إنساناً سافر فإنه يطلب الماء في رَحْلِه ويبحث عنه، فإن لم يجده في رحله طلبه في رفقته الذين معه، فإنه إذا لم يكن عنده ماء وجب عليه أن يسأل من معه. (وقربه) يعني: قرب الرحل، أي: يطلبه في ما كان قريباً منه، وهذا بناء على القاعدة المعروفة: (أن ما قارب الشيء أخذ حكمه)، فلما كان مطالباً أن يبحث في رحله وفي جماعته والمكان الذي هو نازل فيه، صار ما قرب منه داخلاً في حكم الأصل من وجوب الطلب، فيلزمه أن يطلبه في قرب المكان النازل فيه، لكن لو كان بعيداً ففيه تفصيل: إن كان طلبه للماء البعيد لا يضر طَلَبَه، ووجب عليه طَلَبُه، وأما إذا كان وقت الصلاة لا يسع، كأن يكون -مثلاً- بعد غروب الشمس ويخشى ذهاب وقت المغرب، فإنه حينئذٍ لا يجب عليه الطلب ولو كان ذلك قريباً؛ لأنه قد يفوت وقت الفريضة. قال رحمه الله: [وبدلالة]. أي: عليه أن يسأل الناس، فيسأل أهل القرية التي نزل بها، ولذلك يقولون: من آداب السفر: أن الإنسان إذا نزل في موضع فعليه أن يسأل عن مكان الماء حتى يتوضأ ويغتسل، وأن يسأل عن اتجاه القبلة، ويسأل كذلك عن موضع قضاء حاجته، قالوا: هذه من الأمور التي يراعيها المسافر، وكانوا يستحبون للضيف إذا نزل أن يدله مضيفه على هذه الأمور قبل أن يبتدئ بالسؤال عنها، فكانوا يعدون ذلك من إكرام الضيف، فينبغي عليه أن يشعره بتعظيم شعائر الله عز وجل، فيبتدئه بقوله: القبلة بهذا الاتجاه، وقضاء الحاجة هنا، والماء إذا أردته هنا. فقوله: (وبدلالة) مأخوذة من الدليل، والدلالة، أي: الأمارة والعلامة، والدلالة: أن يسأل الناس أن يدلوه، ويتفرع على هذا أنه إذا ثبت وجوب طلب الماء فيجب على الإنسان أن يبحث ويسأل عنه؛ والعلماء نصوا على هذه الجمل؟ نصوا على هذه الجمل لوقوعها، فإذا سئلت -وأنت طالب علم- فسألك سائل وقال: نزلت بقرية ولم يكن عندي ماء، ثم انتظرت لعلهم أن يأتوني بالماء حتى كاد الوقت أن يخرج، فتيممت قبل خروج الوقت وصليت، فما الحكم؟ فعليك أن تسأله بقولك: هل طلبت الماء؟ فإن أجاب وقال: لا، لم أطلب الماء؟ فتقول له: أنت آثم، فقد كان ينبغي عليك أن تطلب الماء؛ لأن الله عز وجل أوجب عليك أن تتطهر بالماء أصلاً، وتطهرك بالماء يفتقر إلى وجوده، ووجوده يفتقر إلى طلبه، فأنت بذلك مأمور بطلبه، وبناءً على ذلك أنت آثم بتفريطك في سؤال الناس عنه، وكذلك قال العلماء: لو أن إنساناً في قرية وهو في طريق سفره، وكان بإمكانه أن يسأل عن جهة القبلة ولكنه لم يسأل وصلى، ثم تبين له أنه على غير القبلة، لزمه أن يعيد الصلاة؛ لأن بإمكانه أن يسأل عن القبلة ويعرف اتجاهها، وكذلك هنا كان بإمكانه أن يجد الماء، فلما فرط؛ أُلزم بعاقبة تفريطه، وحكم بإثمه وتحمله لتبعة ذلك التفريط.

حكم تيمم من كان قادرا على تحصيل الماء ونسي قدرته

حكم تيمم من كان قادراً على تحصيل الماء ونسي قدرته قال رحمه الله: [فإن نسي قدرته عليه وتيمم أعاد]. (فإن نسي قدرته عليه) لو أن إنساناً -مثلاً- نزل في موضع، وكان بالإمكان أن يذهب إلى بئر قريب من الموضع الذي نزل فيه، ثم سأل نفسه: هل أستطيع الذهاب أم لا؟ فأجاب على نفسه بقوله: لا أستطيع، وحكم بأنه لا يقدر؛ لأنه تصور أن هذا المكان قد يكون بعيداً، ثم تذكر أن المكان قريب، فهو قد نسي أنه قادر على أن يأتي لهذا الموضع، فاختلق لنفسه الأعذار وقال: الماء بعيد، ولذلك أتى المصنف بصورة النسيان؛ لأن صورة النسيان تتفرع منها صورة الأعذار، ودائماً الفقهاء يذكرون حكم الأصل ويتبعونه بالأعذار، فلو قال لك قائل: قد عرفنا أنه يجب عليه أن يطلبَ الماء ولم يطلبه؟ قلنا: يأثم. فإن قال: إذا كان قادراً على طلبه ونسي قدرته على الطلب ثم تبين بعد تيممه أنه كان بإمكانه أن يطلب الماء وأن يتحصل عليه، فما الحكم؟ نقول له: يعيد الصلاة، لأنه لا يستباح له أن يتيمم؛ لأن الماء في حكم الموجود، وكان ينبغي عليه أن يطلبه، فيلزم بعاقبة تفريطه، والعلماء الذين يفرعون ذلك يفرعونه من قاعدة معروفة أشار إليها ابن نجيم والسيوطي رحمة الله عليهما في الأشباه والنظائر وهي: (لا عبرة بالظن البين خطؤه)، فما معنى هذه القاعدة؟ يعني: إذا ظننت أمراً ثم تبين لك خلافه وأنك أخطأت في ظنك وجب عليك الضمان، ولها فروع، ومنها هذه المسألة، ومن فروعها: لو أنك قمت في آخر الليل وأنت تظن أن الفجر لم يطلع فأكلت وشربت، ثم تبين أنه طلع، فلا عبرة بالظن البين خطؤه، أيضاً: ظننت أنك لا تستطيع الوصول إلى الماء، ثم تبين لك أنك تستطيع، وأنك كنت ناسياً قدرتك، أو كنت ظاناً أنك لا تستطيع الوصول إليه فتبين خطؤك؛ قالوا: يلزم بالضمان لحق الشرع.

حكم رفع عدة أحداث بتيمم واحد

حكم رفع عدة أحداث بتيمم واحد قال رحمه الله: [وإن نوى بتيممه أحداثاً]. هذا مثل ما يقع في طهارة الماء، يجمع بين حدثين في طهارة واحدة، فإنه يجزئه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) فبين صلى الله عليه وسلم أن من نوى شيئاً كان له، وقد نوى فصحت نيته. قال رحمه الله: [أو نجاسة على بدنه تضره إزالتها]. من أمثلتها عند العلماء: الدم إذا تجلط على موضع الجرح، وقال الأطباء: إن البدن يتضرر بإزالته -كما في بعض الجراحات التي يصعب فيها إزالة هذا الدم المتجلط- فعلى قول الجماهير بنجاسة الدم فإن هذا الدم لا يمكن أن يغسله، فطهارة الماء شبه متعذرة فيه، وبناءً على ذلك قالوا: ينتقل إلى التيمم، وينزل طهارة الخبث منزلة طهارة الحدث، فيتيمم من أجل هذه النجاسة. قال رحمه الله: [أو عدم ما يزيلها]. كما قلنا في الماء. قال رحمه الله: [أو خاف برداً]. (أو خاف برداً) إذا اغتسل يخاف البرد. قال رحمه الله: [أو حبس في مصر فتيمم]. الأمصار والمدن يمكن أن يوجد فيها الماء، وقال بعض العلماء: إنه إذا تيمم في المدن يلزمه أن يُعيد؛ وذلك لأن فقد الماء فيها نادر، ورُخَص الشرع لا تتعلق بالصور النادرة، وهذا أصل لبعض العلماء.

صلاة فاقد الطهورين

صلاة فاقد الطهورين قال رحمه الله: [أو عَدِمَ الماء والتراب صَلّى ولم يعد]. قال بعض العلماء: يصلي متيمماً ويعيد، وقال بعضهم: لا يصلي ولا يعيد. وقال بعضهم: يصلي ولا يعيد، وقال بعضهم: يقضي ولا يصلي. هذه المسألة تسمى مسألة فاقد الطهورين، فمثلاً: رجل حبس في غرفة، وكتفت يداه ورجلاه، فلا يستطيع أن يتوضأ ولا أن يتيمم، فهذه المسألة تسمى: مسألة فاقد الطهورين، إما أن يفقده حقيقة، مثل نزوله في موضع ليس فيه ماء ولا تراب، كأن يكون في طائرة والموجود بداخلها ليس من جنس ما يتيمم به -أي: ليس من جنس ما هو على الأرض- وقد ضاق الوقت بحيث أنه لو انتظر إلى النزول فسوف يخرج وقت الصلاة، فالقول الأول: أنه لا يصلي، وإنما ينتظر إلى أن يجد الماء أو يتمكن من استعماله فيعيد الصلاة؛ لأن الصلاة تكون بوضوء أو بتيمم، وهذا دليلهم، فيقولون: إنه لا يصلي إنما عليه الإعادة فقط، ولو استمر على ذلك أياماً أو أسابيع أو شهوراً؛ لأن الله أمره باستباحة الصلاة إما بوضوء أو غسل أو تيمم، وهذا لم يتحقق فيه لا الوضوء ولا الغسل ولا التيمم، فلا يصح منه أن يصلي ولا يطالب بالصلاة في وقتها؛ لأنه غير مكلف بها، ثم يتأخر الحكم في حقه إلى ما بعد القدرة على الاستعمال أو بعد الوجود، وهذا هو القول الأول: أنه لا يصلي وتلزمه الإعادة. القول الثاني: يصلي ولا يعيد، وأصحاب هذا القول ينظرون إلى عمومات الشريعة ورخصها؛ مثل: قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] وقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وقوله جل وعلا: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة:6] فقالوا: دخل عليه وقت الصلاة وتوجه الخطاب إليه، وبالإجماع أنه مطالب بفعل الصلاة، وليس بوسعه لا أن يتوضأ ولا أن يغتسل ولا أن يتيمم، وإنما الذي باستطاعته فعل الصلاة، فيفرعونها على تجزؤ المأمور، فهو لا يجد الطهور، ولكنه يستطيع فعل الصلاة، فنأمره بفعل الصلاة؛ لأنه جزء من المأمور به، وبإمكانه أن يفعل الصلاة ويسقط عنه التكليف بالوضوء وبالغسل وبالتيمم؛ لعدم القدرة على الوضوء والغسل والتيمم، وهذا هو القول الثاني، فالقول الأول: أنه يعيد ويقضي ولا يصلي، والقول الثاني عكسه: أنه يصلي ولا يعيد. القول الثالث: أنه لا يصلي ولا يعيد، أي: أن الصلاة سقطت عنه؛ لأن الصلاة بأدلة الشرع لا تستباح إلا بطهور: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) وهذا ليس بمتوضئ ولا في حكم المتوضئ فلا يطالب بالصلاة، ثم سقطت عنه الإعادة؛ لأن الإعادة شرطها أن يكون مكلفاً بالأصل، فلما جاء وقت الأصل وهو غير مكلف بالصلاة سقطت الإعادة، فالقول الثالث: أنه لا يصلي ولا يعيد. القول الرابع: أنه يصلي ويعيد، وهذا القول عكس القول الثالث، أما كونه يصلي الصلاة: فلأنه قادر على أفعال الصلاة، وإنما سقطت عنه الطهارة لعدم القدرة، وبقي فعل الصلاة فهو مطالب به، وتلزمه الإعادة؛ لأنه لما وجد الماء نقض حكم الرخصة ووجب عليه أن يعيد الصلاة. وأقوى الأقوال: أنه يصلي على حالته ولا يعيد؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة من غزواته -وقيل: إنها غزوة المريسيع- ونزل بذات الجيش -وهي الأرض التي تلي البيداء التي بعد ميقات ذي الحليفة من جهة مكة- فُقِدَ عقد لـ عائشة وأصله لـ أسماء -من جذع ظفار- فطلبه بعض الصحابة فانحبس الناس) وهذا قبل التيمم، بمعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب هذا العقد الذي لـ عائشة، فأخذ الناس يبحثون عنه فانحبس الجيش من أجل البحث عن هذا العقد، ففي هذا الحديث: أن أناساً طلبوا العقد فانقطعوا ولا ماء معهم، فحضرتهم الصلاة فصلوا في موضعهم، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خروج الوقت، فلم يأمرهم بالإعادة، وَصَوَّب فعلهم. ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن هؤلاء فاقدون لطهارة الماء وفاقدون للتيمم -لأن التيمم لم يشرع بعد- فيكون فقد الماء أصالة، وفي حكمه فقد التيمم، فكون النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على صلاتهم بدون طهارة ولم يأمرهم بالإعادة بعد الوقت، يدل على أن من فقد الطهورين لا يلزم بالإعادة وأنه يصلي على حالته، وبناءً على ذلك: لو كُتِّفَ إنسان أو رُبِطَ أو كان الرجل مقطوع اليدين، فلم يستطع أن يتيمم ولا أن يتوضأ فيصلي على حالته ولا حرج عليه ولا تلزمه إعادة الصلاة.

الأسئلة

الأسئلة

حكم نفخ الغبار بعد ضرب اليد على الأرض في التيمم

حكم نفخ الغبار بعد ضرب اليد على الأرض في التيمم Q هل يشرع نفخ الغبار بعد ضرب اليد في الأرض؟ A النفخ سنة جاء ذكرها في حديث عمار رضي الله عنه، ولا حرج في فعله.

حكم التيمم للنافلة

حكم التيمم للنافلة Q قال المصنف رحمه الله: (إذا دخل وقت فريضة) فمفهومه: أنه إذا لم يدخل وقت الفريضة لم يبح له التيمم، فهل يعني ذلك أن التيمم يكون للفرائض ولا يباح للنوافل؟ A نعم، هذا بالنسبة لهذه العبارة، فقد ذكرها في الفرائض، ثم أتبعها بالنوافل، فكلامه متصل، يعني: أنه ذكر الفرائض أولاً ثم أتبعها بالنوافل، فليس مراده التقييد بالفرائض، ولكن قيد الحكم بالفرائض إذا كنت تريد أن تتيمم لفريضة، أما بالنسبة للتيمم للنافلة فقد بين أنه يباح إذا كان غير وقت منهي عنه، وقد بينا ذلك، ولا يتقيد التيمم بالفرائض، وإنما هو للفرائض والنوافل وغيرها كلمس المصحف عند من يشترط الطهارة للمسه.

تعريف السبخة وكيفية التيمم بها

تعريف السبخة وكيفية التيمم بها Q ذكر الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في الزاد أن التيمم يكون بالسبخة، فما هي السبخة؟ وكيف يتيمم بها؟ A السباخ -عادة- هي الأرض المالحة، وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصف المدينة بكونها سبخة، وجاء في حديث الدجال: (أنه ينزل بالسبخة من الجرف) ففي بعض المناطق إذا نزل المطر بها -خاصة في البرد- يعلوها مثل الملح الأبيض، فهذه هي السباخ، وبعضهم يتجوز في السباخ ويقول: إنها مطلق الأرض حتى ولو كان يُزرع عليها، لكن السبخة هي الأرض التي لا تنبت، بمعنى: أنك لو وضعت فيها البذر لا ينبت. وهذه السبخة اختلف العلماء فيها: فمن العلماء من يقول بمشروعية التيمم بها، وهذا هو الصحيح، وقد استنبط العلماء دليلاً عجيباً في إثباتها، قالوا: إن الله تعالى يقول: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:43] فوصف الصعيد بكونه طيباً، والمدينة قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (أُريت دار هجرتكم أرضاً سبخة) ثم قال في حديث الدجال: (هذه طابة هذه طابة) فوصفها بالطيب مع كونها سبخة، وفي الآية أمر بالتيمم من الصعيد الطيب؛ فدل على مشروعية التيمم بالسباخ، وهو قول صحيح واستنباط وارد، وقد أشار إليه الماوردي في كتابه النفيس: الحاوي للأحكام.

حكم تيمم من لم يستطع نزع الماء من البئر

حكم تيمم من لم يستطع نزع الماء من البئر Q ماذا لو وجدت الماء في بئر ولكن ليس لديّ ما أنزع به هذا الماء، ووقت الصلاة قد دخل، فهل أتيمم أم أنتظر من يأتي حتى أجد معه ما أنزع به الماء؟ A هذا يعتبر في حكم الفقد، فإذا كان الوصول إلى الماء يؤدي إلى ضرر أو لا يتمكن الإنسان منه أصلاً، قالوا: يعدل إلى التيمم، لكن يجلس إلى أن يغلب على ظنه عدم وجود الآلة والوسيلة، ومن صور هذه المسألة: لو أنه كان على البئر حية، ويغلب على ظنك أنك لو جئت لتأخذ الماء أنها ربما أضرت بك، فيجوز أن تعدل إلى التيمم، وكذلك أيضاً: لو فقد الحبل الذي يجلب به الماء من البئر أو فقد الدلو الذي يغرف به الماء، فهذا كله في حكم الفقد للماء، لكن يرجع إلى غالب ظنه بالفقد أو بعدم وجود ما يستخرج به ذلك الماء، والله تعالى أعلم.

حكم التيمم مع سهولة الوصول إلى أماكن الماء

حكم التيمم مع سهولة الوصول إلى أماكن الماء Q أرى في زماننا هذا من يكون مسافراً -مثلاً- من مكة إلى الرياض أو المدينة ويستطيع أن يقف عند أي مسجد أو محل تجاري على الطريق ليأخذ الماء، فهل يلزمه الشراء أو يتيمم؟ A لا يصح التيمم مع إمكان الوصول إلى المحطات، سواء كان بالتوضؤ في دورات مياهها، أو التوضؤ بالمياه التي في المحلات التجارية، فإن هذا لا يبيح للإنسان أن يعدل إلى الرخصة؛ لأن الماء موجود، وبناءً على ذلك: فلا يرخص له إلا إذا فقد الماء أو تعذر الوصول إليه على التفصيل الذي ذكرناه، أما كون الإنسان بمجرد سفره يستبيح التيمم فلا، لكن هنا مسألة: لو أن إنساناً سافر وخرج حتى نزل في أرض برية ثم أكل فيها وجبة العشاء -مثلاً- وليس عنده ماء يتوضأ به، وأراد أن يصلي نافلة أو يمس مصحفاً، ففي هذه الحالة يرخص له أن يتيمم؛ لحديث الجدار: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سَلَّم عليه الرجل، وكان عليه الصلاة والسلام يقضي حاجته، قال: ثم ضرب بيديه الجدار ورد عليه السلام، قال: إني كنت على حال كرهت أن أذكر الله عليها) قالوا: فقد تيمم عليه الصلاة والسلام من أجل ورد السلام، رد السلام ذكر، وهو أخف من الفرائض، وهكذا لمس المصحف، وتلاوة القرآن إذا كانت عليه جنابة، فيخفف عنه ولا حرج عليه في هذه الحالة، وأما بالنسبة للفرائض فلا.

حكم من عجز عن الغسل مع قدرته على الوضوء

حكم من عجز عن الغسل مع قدرته على الوضوء Q إذا وقعت على الشخص -مثلاً- جنابة فلم يستطع الغسل، لكنه يستطيع الوضوء، فهل يتوضأ بدلاً من الغسل، أم يتيمم ويكفيه ذلك عن الغسل والوضوء؟ A ظاهر النصوص أن من تيمم وعليه جنابة فإنه يرتفع الحدث الأصغر والأكبر؛ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام لـ عمار: (إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا) ولم يقل له: ثم توضأ، فدل هذا على أن التيمم وحده كافٍ لاستباحة الصلاة، وأنه لا يلزم بالوضوء بعد تيممه، وقال بعض العلماء: إذا كان عاجزاً عن الغسل وقادراً على الوضوء، فإنه يتيمم للغسل ثم يتوضأ، ولكن القول الأول هو الأقوى بناءً على ظاهر حديث عمار رضي الله عنه وأرضاه، والله تعالى أعلم.

حكم التيمم على الفراش

حكم التيمم على الفراش Q هل يجوز التيمم على أرض مفروشة أو على أرض (مبلطة) وليس لها غبار؟ A أما إذا كان الفراش له غبار فإنه يجوز؛ لأنه قد تيمم، ويحصل تيممه بالغبار، وهكذا إذا كان على الجدار غبار وضرب بيديه فإنه يجزئه ويصح تيممه، وأما إذا لم يكن عليه غبار فإنه لا يتيمم، وكذلك الفرش لا يتيمم عليها إذا لم يكن عليها غبار.

مسألة خروج الذنوب بالتيمم

مسألة خروج الذنوب بالتيمم Q وردت أحاديث في الوضوء تفيد بأن الذنوب تخرج مع قطر الماء، فهل يكون ذلك في التيمم أيضاً؟ A ثبت النص بالوضوء، وأما التيمم فقد سكت النص عن ذلك، فالله أعلم بخروج الخطايا بالتيمم أو عدم خروجها.

أسباب ضعف الإيمان وعلاجه

أسباب ضعف الإيمان وعلاجه Q إني كنت أجد الأنس بالله عز وجل وبذكره، وكنت لا أحب أن أتكلم مع الناس في أي شيء لا يعنيني، وأما الآن فلا أجد تلك الطمأنينة في الذكر والأنس بالله عز وجل، وأصبحت أتكلم كثيراً في الأشياء التي لا تعنيني، ولا أستطيع حفظ كلام الله ولا حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك حفظ كلام أهل العلم، مع أنني كنت قبل ذلك مجداً في ذلك؟ A هذه فتنة أصابتك، وبلية نزلت بك، ولا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، فتب إلى الله واستغفره، فإن الله تعالى يقول: {وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت:6] لعلكم ترحمون، فمن كان على استقامة وهداية وصلاح ثم سلب شيئاً منها فإن الله يسلبه ذلك الخير والصلاح حتى ينيب إليه ويتوب إليه، فما سلب الخير إلا بسبب ذنب، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] فتب وأنب إلى الله، وأعد لهذه الفتنة كثرة الاستغفار البكاء والندم، ولعلّ الله إذا نظر إلى دمعة من عينك وخشوع من قلبك، وندم من نفسك أن يبلغك منازلك التي كنت فيها، فلربما فقد الإنسان حلاوة المناجاة ولذة العبادة من صيام وقيام، فتقطع قلبه على تلك الساعات، ولهفت نفسه على تلك اللحظات المباركات؛ فكتب الله له الأجرين: كتب الله له أجر العمل الصالح بتلهفه وتألمه، وكتب له أجر صبره على الفتنة التي هو فيها. فعليك أن تسأل الله، فإن الله هو أرحم الراحمين، وهو المجيب لدعاء المضطرين، سله وتملق له، ثم أوصيك بالنظر في الأسباب، فلعلك عققت أحد أبويك، أو قطعت رحماً، ولعل أخاً قد آذيته، أو مسلماً قد ظلمته فرفع كفه إلى ربه واشتكى إلى خالقه، فنزلت بك هذه البلية، فتفقد نفسك في حقوق الوالدين والأرحام والأقارب، وأصلح لعل الله أن يصلح ما بك. وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعيذنا من الحور بعد الكور، ومن النقص بعد الزيادة، ومن الضلال بعد الهدى، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.

باب التيمم [2]

شرح زاد المستقنع - باب التيمم [2] التيمم رخصة شرعية، شرعها الله ورسوله، وأجمع عليه على ذلك العلماء، وله شروط وأركان ومبطلات، شأنه في ذلك شأن بقية العبادات، وهذه كلها قد نص عليها العلماء وبينوها.

حكم التيمم بتراب ليس له غبار

حكم التيمم بتراب ليس له غبار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويجب التيمم بتراب طهور له غبار] قصد المصنف رحمه الله أن يبين بهذه العبارة الشيء الذي يَتيمم به المكلف، وهذا مناسب لما قبله؛ لأنك إذا بينت الحالات التي يجوز فيها التيمم والحالات التي لا يجوز فيها التيمم؛ سيسألك السائل إن كان من أهل التيمم بماذا يكون التيمم؟ فناسب بعد بيان حالات التيمم أن يبين الشيء الذي يحصل به التيمم، وتتحقق به طهارة التيمم وهو المتيمم به. فقال رحمه الله: (ويجب التيمم بتراب له غبار) خص المصنف رحمه الله التيمم بالتراب على ظاهر ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (جعلت لي الأرض مسجداً، وتربتها طهوراً) أي: جعلت التربة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم طهوراً. قالوا: دل هذا الحديث على أن التراب يُتَيمم به، وهذا مستفاد من ظاهر آيتي النساء والمائدة {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة:6]. وإذا ثبت أن التراب يُتيمم به بدلالة نص الكتاب والسُّنة؛ فإن العمل عند أهل العلم على ذلك، وليس هناك خلاف بين أهل العلم رحمهم الله في أن التراب يُجزئ في التيمم، ولكن الخلاف بينهم في مسألتين: الأولى: هل يشترط له غبار؟ والمسألة الثانية: هل ينحصر التيمم في التراب الذي له غبار؟ فأما بالنسبة لكونه يتيمم بالتراب الذي له غبار؛ فهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم رحمة الله عليهم، وذلك على ظاهر نص الكتاب ونص السُّنة، وأجمع عليه العلماء رحمة الله عليهم، وأما اشتراط أن يكون له غبار أو لا يكون، فهذه مسألة خلافية بين أهل العلم رحمهم الله: أصحها أنه لا يشترط أن يكون له غبار، وذلك لعدم ثبوت دليل في الكتاب والسُّنة يدل صراحة على اشتراط أن يكون التراب له غبار. والذين اشترطوا أن يكون التراب له غبار قالوا: إن قوله تعالى: {صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة:6] الوصف بالطيب يقتضي أن يكون على ذلك، وهذا مردود، فإن الوصف بالطيب المراد به طهارته من النجاسة، فلا يُتيمم بتراب نجس، ثم إننا نقول: إنه لو خُص التراب بما له غبار لخالف ذلك مقتضى الرخصة، فإن كثيراً من الأرض فيها أماكن رمال لا غبار لها كما قرر العلماء ذلك، فلو قلنا: إن التيمم لا يحصل إلا بتراب له غبار لأجحف بالناس، ففي بعض الصحاري ربما تسير يوماً كاملاً ولا ترى أرضاً لها غبار. والمسألة الثانية -وهي: حصر التيمم في التراب- فأصح الأقوال: أنه يجوز التيمم بكل ما على وجه الأرض، فيجوز لك أن تتيمم بتراب له غبار، وبتراب لا غبار له، وكذلك أيضاً تتيمم بالحجر ونحوه مما هو من جنس الأرض كالجص والنورة ونحو ذلك، فلا حرج أن تتيمم به؛ وذلك على ظاهر قوله تعالى: {صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة:6] والصعيد كل ما صعد على وجه الأرض، فلو أن إنساناً أراد أن يتيمم ولم يجد التراب، وإنما وجد حجراً صح له أن يتيمم بالمسح عليه؛ وذلك أن الله تعالى قال: {صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة:6] والنبي صلى الله عليه وسلم وصف المدينة بكونها طَيْبَة مع أن أكثرها حِرَار، وهذا الدليل انتزعه الإمام ابن خزيمة رحمه الله -كما أشار إليه في صحيحه- من ظاهر السُّنة، فإن الله وصف المُتَيمم به بكونه صعيداً طيباً، والنبي صلى الله عليه وسلم وصف المدينة بكونها طيبة مع أن أكثر أرضها (حرار)، وقد ثبت في الحديث (أُريت دار هجرتكم أرضاً ذات نخل بين حرتين) إذا ثبت هذا فيجوز لك أن تتيمم بالتراب وبغير التراب مما صعد على وجه الأرض؛ لكن يشترط أن يكون طاهراً، فلا يتيمم بنجس، فلو كان التراب نجساً لم يصح أن يتيمم به؛ والسبب في التعميم -كما قلنا-: أن قوله تعالى: {صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة:6] يعتبر دالاً على العموم، فالصعيد كل ما صعد على وجه الأرض والأصل في العام أن يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه. والذين قالوا بتخصيص التيمم بالتراب؛ استدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (جعلت لي الأرض مسجداً، وتربتها لنا طهوراً) والاستدلال بهذا الحديث يُردُّ من وجهين: الوجه الأول: أنه استدلال بمفهوم اللقب، ومفهوم اللقب ضعيف على القول الراجح عند الأصوليين، وتوضيح ذلك: أنه عليه الصلاة والسلام قال: (جعلت تربتها لنا طهوراً) فمفهوم قوله: (تربتها) أن غير التربة لا يعتبر طهوراً، وهذا كما قلنا من مفهوم اللقب؛ لأن مفهوم المخالفة عشرة أنواع: الصفة، والشرط، والعلة، واللقب، والاستثناء، والعدد، وظرف الزمان، وظرف المكان، والحصر، والغاية، وقد جمعها ابن عاصم رحمه الله في قوله: صف واشترط علل ولقب ثنيا وَعُدَّ ظرفين وحصر إغيا فقال: صف واشترط علل ولقب (لَقِّب) مفهوم اللقب. فقوله: (تربتها) الاستدلال به على التخصيص من باب الاستدلال بمفهوم اللقب، وهو ضعيف عند الأصوليين. أما بالنسبة للوجه الثاني في رد هذا الاستدلال: فهو مسلك بعض العلماء حيث قالوا: إن ذكر أحد أفراد العام. وثبوت الحكم له لا يقتضي تخصيص الحكم به، فإن النصوص التي في الكتاب عامة {صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة:6] وهذا الحديث ذكر فرداً من أفراد العام وهو التراب، والقاعدة: (أن ذكر بعض أفراد العام لا يقتضي تخصيص الحكم به) فنقول: نص النبي صلى الله عليه وسلم على التربة، وذلك من باب ذكر أفراد العام الذي لا يقتضي تخصيص الحكم بذلك الفرد. ومن أدلتهم على تخصيص التيمم بالتراب الذي له غبار حديث: (ضرب بيديه الأرض ومسح بهما وجهه وكفيه)، فقالوا: لا معنى للضرب إلا لطلب الغبار، وهذا كما قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في بعض ما يُجزئ التطهر به وهو التراب، فإذا كان التراب له غبار؛ فالسُّنة أن يُضْرَب بالكفين عليها. أما إذا كان غير التراب كالحجر ونحوه فيُجزئ الإنسان أن يمسح عليه. قالوا: فكيف يُجاب عن هذا الحديث الذي ضرب فيه النبي صلى الله عليه وسلم كفيه على الأرض، وقال لـ عمار: (إنما يجزيك أن تقول بيديك هكذا، قال: ثم ضرب بكفيه الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه)؟ والجواب على ذلك: بما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام في السنن: (أنه لما قضى حاجته عند سباطة قوم -والحديث أصله في الصحيح- مر رجل فسلَّم فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده على الحائط) قال: فضرب على الحائط، ومن المعلوم أن الحائط لا غبار له، فدل هذا الحديث على أنه لا يشترط وجود الغبار فيما يتيمم به؛ إذ لو كان شرطاً لضرب على الأرض ولم يضرب على الحائط، فدل على أن كل ما صعد على وجه الأرض يُجزئ التيمم به كأن يضرب على حائط طين أو حائط حجر، أو يضرب على صخر ونحو ذلك، فذلك كله يعتبر مجزئاً على ظاهر قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة:6].

فروض التيمم

فروض التيمم قال رحمه الله: [وفروضه: مسح وجه، ويديه إلى كوعيه] بعد أن فرغ رحمه الله من بيان الحالات التي يجوز لك أن تتيمم فيها، وبيان من الذي يحق له أن يتيمم والذي لا يحق له أن يتيمم، وكذلك بيان الشيء الذي يُتيمم به؛ شرع في بيان فروض التيمم. الفروض: جمع فرض، وأصل الفرض في اللغة: الحز والقطع، تقول: فَرَضتُ الشيء، أي: قطعته، ومنه الفَرْضَة التي تكون على النهر؛ لأن الإنسان يقطع بها النهر من شِقِّه إلى شِقِّه. وأما بالنسبة للفرض في اصطلاح العلماء: فجمهور العلماء من الأصوليين -ومنهم: المالكية والشافعية والحنابلة- على أن الفرض والواجب معناهما واحد، فإذا قلت: فرض، أو قلت: واجب، فالمعنى واحد، وذهب الحنفية إلى أن الفرض أعلى من الواجب -وإن كان بعض العلماء يُرجح أن الخلاف لفظي- فالفرض عند الحنفية: هو ما ثبت بدليل قطعي، والواجب عندهم: هو ما ثبت بدليل ظني، فيفرقون في مراتب الإلزامات من الشرع، فما ألزمك الشرع به بدليل لا احتمال فيه فهذا فرض، وما ألزمك الشرع به بدليل فيه احتمال فإنه يعتبر واجباً. وفي قوله: [فروضه] الضمير عائد إلى التيمم، أي: الذي أوجب الله عليك فعله في التيمم.

مسح الوجه في التيمم

مسح الوجه في التيمم قال رحمه الله: [مسح وجهه] قال تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [المائدة:6] والوجه ما تحصل به المواجهة، وقد تقدم ضابط الوجه: أنه من منابت الشعر عند ناصيته إلى ما انحدر من ذقنه، وكذلك -أيضاً- ما انحدر من اللحيين طولاً، وأما عرضاً: فمن طرف الأذن إلى طرف الأذن الأخرى على تفصيل عند العلماء وسبقت الإشارة إليه في باب الوضوء. فبعد أن يضرب بيديه على الأرض يمسح بهما وجهه؛ لظاهر التنزيل في قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [المائدة:6] وظاهر السُّنة في حديث عمار: (فمسح بهما وجهه) والمسح بالوجه يقع بالكفين، فلا يقع بكف دون أخرى، ويستثنى من ذلك أن يكون أقطع اليد أو مشلول اليد أو تكون بيده الثانية عاهة، فيجزئه أن يمسح بيدٍ دون أخرى؛ ولكن هل إذا مسح بيدٍ واحدة يجزيه عن تكرار الضرب؟ وجهان للعلماء: قال بعض العلماء: إن كانت له يد واحدة ضرب بها الضربة الأولى ومسح شقه الأيمن، ثم يضرب الضربة الثانية ويمسح بها شقه الأيسر؛ والسبب في هذا القول أنهم يقولون: إنه إذا مسح المسحة الأولى ذهب ما في يده، فلا يجوز أن يمسح بما فضل من طهوره الشق الثاني، والصحيح: أنه يجزيه ضربة واحدة من اليد يمسح بها الوجه كله، وهم قالوا بهذا الحكم قياساً على الوضوء، فإنك إذا توضأت بماء لم يجز لأحد أن يتوضأ به، وقد قررنا هذه المسألة أن الصحيح: أن الماء إذا توضأت به أو اغتسلت جاز للغير وجاز لك أن تعيد به وضوءاً ثانياً وغسلاً ثانياً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الماء لا يجنب) وبينا أن الأصل في الماء أنه طهور لا ينجّسه شيء -على دلالة السُّنة- إلا ما تغير فيه اللون أو الرائحة أو الطعم، فإذا ثبت أن الأصل أنك إذا اغتسلت بماء أو توضأت به جاز للغير أن يعيد الوضوء به، وكذلك التيمم أيضاً، فيعتبر قياسهم التيمم هنا بالمسح المكرر في الكف على الوضوء والغسل من باب رد المختلف فيه إلى المختلف فيه، ويعتبر دليلهم دليل التزام لا دليل إلزام.

مسح اليدين إلى الكوعين في التيمم

مسح اليدين إلى الكوعين في التيمم قال رحمه الله: [ويديه إلى كوعيه] يمسح يديه إلى كوعيه، وذلك لقوله تعالى: {وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] والأصل في اليد أنها تُطلق من أطراف الأصابع إلى المنكب، فكله يد إلاّ ما خص، فتخص بالكفين بالدليل كما في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] حيث جاءت فجاءت السُّنة وبينت محل القطع، فخصصت اليد بالكف، ولذلك قالوا: إنما خصصنا الكفين بالمسح؛ لظاهر حديث عمار: (فمسح بهما وجهه وكفيه). وقال بعض العلماء: يمسح في التيمم اليد كاملة، وهو قولٌ لطائفة من السلف، وقال بعض السلف: يمسح حتى إلى الإبط على ظاهر قوله: {وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة:6] وقال بعضهم: إلى المرفقين إلحاقاً بالوضوء. والصحيح أن الكفين هما المعتبران في المسح، وأنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المسح أكثر من الكفين، والقاعدة: أن بيان المجمل الواجب واجب، فما دام أن القرآن قال: {وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة:6] واحتمل ذلك الكفين واحتمل إلى المرفقين واحتمل إلى المنكب؛ وجاءت السُّنة ببيانه بفعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث مسح إلى كفيه، صار البيان واجباً كما في الحج؛ ولذلك يقولون في الأصول: بيان الواجب واجب.

الترتيب في التيمم

الترتيب في التيمم قال رحمه الله: [وكذا الترتيب] وجوب الترتيب قول لبعض العلماء، فكما قلنا في الوضوء نقول في التيمم، فالواو في قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] قالوا: تقتضي الترتيب كما اقتضته في الوضوء في قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] وقالوا أيضاً: إن البدل يأخذ حكم مبدله، فلما وقعت عبادة التيمم بدلاً عن الوضوء، والترتيب شرط في الوضوء، كذلك هو شرط في التيمم، وهو أعدل الأقوال وأحوطها، فيحتاط الإنسان ويراعي الترتيب. فائدة هذا: أننا لو قلنا: إنه لا يجب الترتيب ومسح الإنسان كفيه قبل أن يمسح وجهه أجزأه على القول بعدم اشتراط الترتيب، أما إذا قلنا باشتراط الترتيب؛ فإنه لا يجزيه إلا إذا قدم وجهه ثم مسح كفيه بعد الوجه.

الموالاة في التيمم من الحدث الأصغر

الموالاة في التيمم من الحدث الأصغر قال رحمه الله: [والموالاة في حدث أصغر] والمولاة، أي: أن الموالاة واجبة، فبمجرد أن ينتهي من مسح وجهه فعليه أن يمسح كفيه، فلا يقع الفاصل بين مسح العضوين، فإذا وقع الفاصل أثر كما يؤثر في الوضوء، ودليل الموالاة في التيمم هو دليله في الوضوء، قالوا: إنه كما أن عبادة الوضوء -وهي الأصل- تشترط الموالاة لصحتها كذلك عبادة التيمم، فلو أن إنساناً ضرب بكفيه على الأرض، ثم مسح وجهه وجلس ساعة، وبعد ساعة ضرب مرة ثانية ومسح كفيه؛ فعلى القول باشتراط الموالاة لا يجزيه؛ لوجود الفاصل، فكما لم يجزئه في الوضوء كذلك لا يجزئه في التيمم، وعلى القول بعدم الاشتراط يجزئه ويصح منه ذلك. وقوله: [في حدث أصغر] في: للظرفيّة، أي: أن التيمم يكون في حدث أصغر وهو الوضوء، فلو أن إنساناً انتقض وضوءه ببول أو غائط أو ريح؛ فإنه يجزيه أن يتيمم إذا استوفى شروط الرخصة. فالتيمم يشمل الحدث الأصغر والحدث الأكبر، فلك أن تتيمم لحدث أصغر ولك أن تتيمم لحدث أكبر؛ وذلك لأن الله جل وعلا جعل التيمم بدلاً عن الطهارتين فقال بعد ذكره طهارة الحدث الأصغر في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة:6] فدل على أن التيمم يكون بدلاً عن الطهارة الصغرى -وهي: الوضوء- والطهارة الكبرى -وهي الغسل-؛ لأنه قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة:6] والماء يستخدم للطهارة الصغرى وللطهارة الكبرى، فإذا فقد الماء علمنا أن قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة:6] أي لطهارة صغرى أو لطهارة كبرى فتيمموا، فعلمنا أنه بدل عنهما.

اشتراط النية في التيمم

اشتراط النية في التيمم قال رحمه الله: [وتُشترط النية لما يُتيمم له من حدث أو غيره] (وتشترط النية لما يتيمم له) تشترط النية لصحة التيمم، وهذا يكاد يكون بالاتفاق، حتى إن الحنفية -وقد سبق معنا في الوضوء والغسل أنهم لا يرون النية، ويقولون بصحة الوضوء أو الغسل بدون نية -قالوا: لابد من النية في التيمم؛ وذلك لأنها رخصة لابد من وجود النية فيها. والدليل على اشتراط النية: أن التيمم عبادة، والله أمر بإخلاص العبادة، ولا إخلاص إلا بنية. وكذلك الدليل من السُّنة: قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات) والوضوء والتيمم عمل، فتشترط النية لصحة التيمم.

حالات النية في التيمم

حالات النية في التيمم وقوله: (من حدث أو غيره) إذا جئت -مثلاً- تريد أن تتيمم، فيكون في قلبك أنك تقصد استباحة الصلاة، سواء كان ذلك في حدث أصغر أو في حدث أكبر، ومثاله: لو أن إنساناً استيقظ لصلاة الفجر وهو جنب وأراد أن يصلي ولا ماء عنده أو عنده ماء ولا يستطيع استعماله، فقد وجد فيه مقتضى الرخصة، فإنه عند قصده إلى الصعيد الطيب -وهو التراب أو الحجر- ينوي في نفسه بهذه العبادة -وهي التيمم- استباحة الصلاة، فإذا وجدت هذه النية في حدث أصغر أو في حدث أكبر صح تيممه وأجزأه، أما لو عزبت عنه النية وضرب يده دون أن يستحضر أو تكون منه النية؛ فإنه لا يجزئه ذلك. قال رحمه الله: [فإن نوى أحدها لم يجزئه عن الآخر] إن نوى التيمم عن الجنابة لم يجزئه ذلك عن الوضوء، وقال العلماء: لو كانت عليه جنابة وقصد رفع الجنابة دون أن يقصد بها استباحة الصلاة؛ فإنه لا يجزئه، والصحيح: أن المنبغي على المكلف إذا أراد أن يتيمم أن يقصد استباحة الصلاة المفروضة أو النافلة، فإن كانت مفروضة تقيد بالفرض حتى يخرج وقتها، وصلى بذلك التيمم الذي قصد به الاستباحة، وإن كانت نافلة كذلك أيضاً صلى به النافلة، وإن كانت غير فرض ونافلة مثل: الطواف بالبيت أو لمس المصحف؛ فإنه يتقيد بذلك الذي تيمم من أجله، فيجعل في نفسه عند ضربه لكفيه، أو يستحضر في نفسه عند ضربه لكفيه استباحة هذا المحظور الذي لا يجوز فعله إلا بطهارة. قال رحمه الله: [وإن نوى نفلاً أو أطلق لم يصل به فرضاً] وإن نوى نفلاً لم يصل به فرضاً؛ لأن نية الأدنى لا تبيح الأعلى، فكما أنه إذا توضأ لنفل لا يصلي فريضة، كذلك في التيمم؛ والدليل على هذا: ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من قوله: (إنما لكل امرئ ما نوى) فقوله: (إنما لكل امرئ ما نوى) يقتضي التخصيص، فما دام أنه نوى النفل فلا يستبيح الفرض، ولذلك لو أن إنساناً أحرم بالصلاة ناوياً النافلة، وأراد أن يقلبها إلى الفرض لم يصح إجماعاً، كذلك أيضاً لو تيمم ناوياً النافلة لم يصح له أن يستبيح الفريضة. قال رحمه الله: [وإن نواه صلى كل وقته فروضاً ونوافل] وإن نوى الفرض (صلى كل وقته) أي: وقت الفرض، (فروضاً ونوافل)، ويشمل ذلك الفروض إذا كان الوقت يسع فرضين مثل: المسافر، فلو كنت مسافراً ثم أخرت صلاة الظهر حتى دخل وقت العصر ولم تجد ماءً وأردت أن تجمع بين الظهر والعصر في وقت العصر فإنك تصلي الظهر والعصر بتيمم واحد، وهكذا لو أخرت المغرب إلى صلاة العشاء، وهذا بالنسبة للفروض المتعددة.

مبطلات التيمم

مبطلات التيمم

خروج الوقت يبطل التيمم

خروج الوقت يبطل التيمم قال رحمه الله: [ويبطل التيمم بخروج الوقت] وقد ذكرنا هذا في المجلس الماضي، وذكرنا أنه مبني على ظاهر آية المائدة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6] فإن الله سبحانه وتعالى قصر على المكلفين الوضوء لكل صلاة، ثم نُسخ ذلك في الوضوء، فبقي التيمم على الأصل؛ لعدم ورود الدليل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تيمم وصلى أكثر من صلاة، ثم وجدنا هذا الحكم -وهو أن التيمم يبطل بخروج الوقت- قد أفتى به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر الزركشي رحمه الله هذه المسألة في شرحه للمختصر وقال: إنه قضاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وممن قضى به: ابن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو رضي الله عن الجميع، وأما ابن عباس فعنه روايتان في هذا؛ لكن قالوا -خاصة على مذهب من يرى أن قول الصحابي حجة-: إن هذا يعتبر مقيداً بالفرض، ولذلك أفتوا بأنه إذا خرج وقت الفريضة فإنه يتيمم لما بعدها من فريضة، فلو تيمم لصلاة الظهر وخرج وقتها وأراد أن يصلي العصر استأنف تيممه، ويكون التيمم الأول باطلاً بمجرد انتهاء وقت صلاة الظهر.

مبطلات الوضوء مبطلات للتيمم

مبطلات الوضوء مبطلات للتيمم قال رحمه الله: [وبمبطلات الوضوء] يعني: يبطل التيمم بمبطلات الوضوء، كأن يخرج منه ريح أو بول أو غائط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) فجعل الحدث في الوضوء ناقضاً، وكذلك يعتبر الحدث ناقضاً للتيمم؛ لأن البدل يأخذ حكم مبدله.

حضور الماء يبطل التيمم

حضور الماء يبطل التيمم قال رحمه الله: [وبوجود الماء] بهذا أصبح التيمم زائداً على الوضوء في نواقضه، فينتقض التيمم بما ينتقض به الوضوء -وهذا ما يشترك فيه مع الوضوء- وينتقض زيادة على ذلك بأمرين زائدين على الوضوء هما: خروج الوقت، ووجود الماء. أما وجود الماء فلأن ما شرع مقيداً بعلة يزول بزوالها، وقد شرع الله التيمم مقيداً بعلة فقد الماء أو عدم القدرة عليه كما على ظاهر السُّنة في حديث عمار، فلما أمكن المكلف أن يستعمل الماء أو وجده؛ زال الحكم بزوال علته، ولذلك يقولون: إنه إذا وجد الماء انتقض تيممه ولزمه أن يغتسل ويتوضأ؛ ودل على هذا الحكم دليل الكتاب والسُّنة: أما دليل الكتاب: فقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة:6] فجعل التيمم معلقاً على عدم وجود الماء، فإن وجد الماء دل على بطلان التيمم وعدم الاعتداد به. وأكد ذلك دليل السُّنة في حديث عمران في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه صلى بالناس الفجر، فلما صلى عليه الصلاة والسلام الفجر رأى رجلاً لم يصلِّ مع الناس، فقال: عليَّ به، فلما أُتي به قال: ما منعك أن تصلي في القوم؟؟ قال: يا رسول الله! أصابتني جنابة ولا ماء -أي: أصابتني الجنابة ولا أجد ماءً أغتسل به فأرفع الجنابة- فقال عليه الصلاة والسلام: عليك بالصعيد فإنه يكفيك) وفي الرواية الثانية: (فلما مضى عليه الصلاة والسلام وجد الماء فبعث به إليه). وجه الدلالة: أنه جعل الحكم بتيممه والاعتداد بالتيمم موقوفاً على عدم وجود الماء، فدل على أنه إذا وجد الماء سقطت الرخصة لاستباحة الصلاة. الدليل الثاني أيضاً من السُّنة: ما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الصعيد الطيب طهور المسلم، ولو لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته)، الفاء تقتضي العطف على الولاء، يعني: بسرعة، ولا تقتضي تراخياً، ولذلك قال: (فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسَّه بشرته) فدل ذلك -أولاً- على أن التيمم لا يرفع الحدث وإنما يبيح فعل الصلاة، ودل -ثانياً- على أنه إذا وجد الماء لزم على المكلف أن يمسه بشرته، فيزول موجب الرخصة؛ وحينئذ نحكم ببطلان تيممه ووجوب وضوئه وغسله. قال رحمه الله: [وبوجود الماء ولو في الصلاة لا بعدها] (ولو في الصلاة) لو: -كما هو معلوم في المتون الفقهية- إشارة خلافٍ، كما ذكر خليل في المختصر في مقدمته أنه يشير بلو للخلاف، فإذا قال العلماء: ولو قائماً، فُهِمَ أن حالة القيام فيها خلاف، وأن هناك قولاً يقول بالعكس قال: (ولو في الصلاةٍ) قال بعض العلماء: نحكم بكون الماء عند وجوده موجباً لبطلان التيمم مطلقاً سواء وجده وهو فارغ من الصلاة منتهٍ منها أو وجده أثناء فعله للصلاة، فإن وجده بعد انتهائه من الصلاة؛ فهذا فيه قول واحد عند من يرى أن وجود الماء موجب لبطلان التيمم. أما إن وجده وهو في أثناء الصلاة فعلى أصح الأقوال أنه ولو كان في أثناء الصلاة فإنه يحكم عليه ببطلان التيمم، ووجه ذلك أننا نُلزم القائلين بكون وجود الماء -على ظاهر دليل الكتاب والسُّنة- موجباً للبطلان، ونلزمهم بكونه مبطلاً حتى في الصلاة لمكان الإطلاق في الشرع: (فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته) فلم يفرق بين كونه وجده أثناء الصلاة أو وجده بعد الصلاة، ولذلك نقول: إن وجود الماء موجب لبطلان التيمم مطلقاً، سواءً كان وجوده أثناء الصلاة أو بعد فعل الصلاة والفراغ منها. وهنا مسألة خلافية: لو أن إنساناً صلى ثم وجد الماء قبل انتهاء الوقت؛ فقال بعض العلماء بالإجزاء وأنه لا يلزمه أن يعيد الصلاة، وذلك لأن صلاته وقعت معتبرة صحيحة وأجزأته على الحالة التي كان معذوراً فيها. وقال بعض العلماء: يلزمه أن يعيد الصلاة بعد غسله ووضوئه، فإذا وجد الماء أثناء الوقت تلزمه الإعادة. وتوسط آخرون بين القولين فقالوا: تستحب له الإعادة ولا تجب عليه، وإن كان أقوى الأقوال أن صلاته صحيحة ولا تلزمه الإعادة.

استحباب تأخير التيمم إلى آخر وقت الصلاة

استحباب تأخير التيمم إلى آخر وقت الصلاة قال رحمه الله: [والتيمم آخر الوقت لراجي الماء أولى] إذا دخل وقت الفريضة على المكلف فإن غلب على ظنه أنه سيجد الماء فحينئذٍ ينتظر وجوده خروجاً من خلاف العلماء رحمة الله عليهم، وإن كان لا يدري هل يمكنه أن يجد الماء أم لا، أو يُرجّي وجوده بحيث لم يكن هناك غالب ظن؛ فحينئذٍ قالوا: ينتظر، وذلك من باب الاستحباب، فإذا تيمم وصلى أجزأه ذلك ولا تلزمه الإعادة على ما ذكرنا فيمن وجد الماء قبل خروج الوقت.

صفة التيمم

صفة التيمم قال رحمه الله: [وصفته أن ينوي ثم يسمي] (وصفته) أي: صفة التيمم، وهذا كله من الترتيب في الأفكار، فميزة العلماء والفقهاء أنهم لا يأتون بالأحكام هكذا مخلوطة دون ترتيب لها وحسن وضع لأحكامها بما يتناسب مع حال المكلفين، فإنك إذا درست باباً من الأحكام فأول ما يأتيك من الأحكام: من الذي يجوز له أن يتيمم ومن الذي لا يجوز له أن يتيمم؟ وبعد أن تعرف الحالات التي يباح فيها أن يتيمم الإنسان لابد أن تعرف بأي شيء يتيمم، ثم ما هي كيفية التيمم؟ ومن هنا ترى دقة الفقهاء في ترتيب هذه الأحكام وتسلسلها على هذا النحو، ومن ذلك يستفيد طالب العلم أنه إذا خاطب الناس أو أراد أن يبين حكماً لهم فعليه أن يراعي ترتيب الأفكار وتسلسلها، إما أن تُسَلْسَل على حسب مناسبة شرعية أو على حسب الطبيعة والواقع. قال رحمه الله: (وصفته): صفة الشيء: حليته والأمور التي يتميز بها عن غيره، فإذا وصفت شيئاً فقد ميزته عن غيره. والضمير في قوله: وصفته، عائد إلى التيمم، أي: صفة التيمم الشرعية. وقوله: (أن ينوي) النية شرط في صحة التيمم. وقوله: (ثم يسمي) يقول: باسم الله، والصحيح: أنه لا يجب عليه أن يسمي؛ وإنما العلماء يستحبون في مثل هذه العبادات البداءة بالتسمية لمطلقات الشرع في فضل ذكر اسم الله عز وجل، وقد قال الله عز وجل: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن:78] فيقولون: من أراد البركة في الأشياء ذكر اسم الله فيها، وأحق ما تكون فيه البركة الوضوء، ولذلك قالوا: يسمي قبل وضوئه، وأما قبل تيممه فلم يرد نص عن النبي صلى الله عليه وسلم بذكر التسمية في التيمم، ولو أن إنساناً تيمم دون أن يسمي؛ فإن ذلك قد يكون أقرب إلى السُّنة. قال رحمه الله: [ويضرب التراب بيديه] لأن عماراً وصف تيمم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ثم ضرب بهما) أي: ضرب بيديه الأرض وهذه هي السُّنة، فإن كانت الأرض، صلبة كالحجر ونحوه مسح عليها. قال رحمه الله: [مفرجتي الأصابع]: قالوا: لوصف عمار لتيمم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ضرب) والضرب لا يكون إلا في الأرض التي لها غبار، فدل على أنه قاصدٌ للغبار، وإذا قصد الغبار فإنه يفرج بين أصابعه حتى يتخلل ما بينها، فيحصل الإجزاء بعبادته. قال رحمه الله: [يمسح وجهه بباطنهما]. يجعل باطن الكفين للوجه. قال رحمه الله: (وكفيه براحتيه (للعلماء رحمة الله عليهم في صفة التيمم كلام، فقالوا: يبدأ باليمنى فيجعل طرف الراحة عند رءوس الأصابع، ثم يمرها على الظاهر، ثم يشبك بإدخال أو إنزال أطراف الأصابع حتى يكون ما بين الأصابع قد أصابه المسح، وكما أنك مطالب بالشرع في الوضوء أن تغسل ما بين الأصابع فكذلك أنت مطالب في التيمم أن تمسح ما بين الأصابع، وهذا عند من يقول بعدم التفريج؛ لأنه إذا فرج لم يحتج للتخليل، فيمرها على هذه الصفة، فيمسح بكفه اليمنى على كفه اليسرى بهذه الصفة حتى يبلغ كوعه، فإذا انتهى منه يقلب إلى راحته ويمسحهما بها. وقال بعض العلماء -وهو الصحيح- يمسح على ظاهر كفيه، قالوا: إنه يمسح بالظاهر فيكون الباطن قد مسح، فيكون المسح على ظاهره. قال رحمه الله: [ويخلل أصابعه] على الصفة التي ذكرناها، بحيث إذا بدأ باليمين يقلب اليسرى عليها ويولجها بين الأصابع؛ لأنه إذا أمرَّ بهذه الصفة لا يبقى ما بين الأصابع، قالوا: كما أنه أُمر في الوضوء بغسله فالله أمر في التيمم بمسحه، وهذا لا يتحقق إلا بالتخلل، والقاعدة: (أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، فلما كان الأصل في هذه الكف أنها تُمسح كاملةً كما أنها في الوضوء تغسل كاملة فيخلل الأصابع كما هو في الوضوء.

الأسئلة

الأسئلة

ازدحام شرط الوقت وشرط الطهارة في الصلاة

ازدحام شرط الوقت وشرط الطهارة في الصلاة Q لو أدركت مقدار ركعة من الصلاة قبل خروج وقتها وأنا متيمم، فهل تبطل صلاتي لبطلان تيممي بخروج الوقت؟ A هذه مسألة مفرعة على المسألة التي ذكرناها وهي: إذا وجد الماء أثناء صلاته، والحكم يستوي فيه أن تبقى ركعة أو لا يكون في الوقت متسع لأن يتوضأ أو يغتسل، بمعنى: أن الحكم عام، فلذلك نقول: إذا وجد الماء وأمكنه أن يستعمله وخشي خروج الوقت فإنه لا يجزئه أن يتيمم؛ لأن الله عز وجل اشترط في التيمم فقد الماء، وقال بعض العلماء -وهو قول مرجوح وضعيف- إنه إذا خشي خروج الوقت فإنه يتيمم ويصلي، والصحيح: أنه يتوضأ؛ لأن الوضوء والغسل مشترط لصحة الصلاة، ولذلك لا يعتبر فعله للصلاة -مع إمكانه للوضوء والغسل على هذا الوجه مع تيممه- صحيحاً، ولا بد أن يتوضأ ويغتسل ولو خرج الوقت، وهذا هو أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم. وهذه المسألة يجعلها الأصوليون من مسائل ازدحام الشروط، بمعنى: أن الشرع اشترط لصحة الصلاة الوقت، فلا يجوز للمكلف أن يُخْرِج الصلاة عن وقتها، واشترط لها الوضوء إذا كان الإنسان محدثاً حدثاً أصغر، والغسل إذا كان محدثاً حدثاً أكبر، فإذا كان في آخر الوقت بحيث لو قلنا له: توضأ، خرج الوقت، فهل نقدم شرط الطهارة ونقول: يتوضأ ولو خرج الوقت، أو نقدم شرط الوقت ونقول: تسقط طهارة الماء وينتقل إلى البدل لإدراك الوقت؟ فبعض العلماء يقول: أنا أُغلِّب وأُقوّي شرط الوقت على شرط الطهارة، فما دام أن جلوسه للوضوء، يخرجه عن الوقت فعليه أن يتيمم مباشرة ويقوم إلى الصلاة، فيدرك الوقت وتسقط عنه طهارة الماء، وهذا عند من يقول: إن طهارة التراب قائمة مقام طهارة الماء. الوجه الثاني يقول: هذا مكلف، واشترط الشرع في إسقاط طهارة الماء العجز أو الفقد، وهذا ليس بعاجز ولا فاقد، ولذلك نقول: يتوضأ ولو خرج الوقت؛ لأن مثله في الأصل يقضي ولا يؤدي، كما لو استيقظ بعد خروج الوقت، فما دام أنه توضأ واشتغل بالوضوء فهو معذور شرعاً، وهذا القول الثاني أعدل الأقوال وأقواها؛ لأن إسقاط الوضوء شرطه الفقد أو العجز، وهنا ليس بعاجز ولا فاقد، ولا في حكم العاجز ولا الفاقد، وبناءً على ذلك يلزمه أن يتوضأ ولو خرج الوقت، وتكون صلاته مقضية لا مؤداة. وبعض العلماء عنده مخرج فقهي عجيب يقول: ما دام أننا لو قلنا له: توضأ، خرج الوقت، فنقول له الآتي: تيمم وصل وأدرك الوقت، ثم احتط بالوضوء بعد الصلاة، وأعد الصلاة مرة ثانية؛ لأن الصلاة بالوضوء سيوقعها بعد خروج الوقت، فنقول له احتياطاً: أدرك الوقت بالتيمم -وهذا من ناحية أصولية فقط، إعمالاً للقواعد- فيتيمم ويصلي، لكن هذا فيه مشقة، ولو أراد المكلف أن يحتاط بهذه الطريقة فهذا أفضل: فيتيمم ثم يصلي ثم بعد ذلك يتوضأ ويصلي الصلاة المفروضة على الصفة التي ذكرناها، والله تعالى أعلم.

حكم التيمم بالتراب المحترق

حكم التيمم بالتراب المحترق Q في بعض النسخ زيادة مثل قوله: (ويجب التيمم بتراب طهور غير محترق)؟ A هذا تنبيه جيد، فأما قوله: (غير محترق) فيقصد بذلك إخراج ما أصابته الصنعة من نار ونحوه كالإسمنت، فإن التراب إذا أصابته الصنعة وَحُرِق خرج عن كونه تراباً إلى مادة أخرى، قالوا: فلا يجزئ أن يتيمم به، وهذا أحوط؛ لأنه خرج عن أصل المادة المعتبرة للحكم الشرعي من كونها صعيداً، فعلى المكلف أن يحتاط بعدم التيمم بمثل هذا. ويدخل في التراب المحترق الطوب المحروق ونحوه، وكل هذا لا يتيمم به، لكن يتيمم على الصخر والحجر والتراب والرمال ونحوها.

حكم أداء الفريضة بتيمم النافلة

حكم أداء الفريضة بتيمم النافلة Q قال المصنف رحمه الله: (وإن نوى نفلاً أو أطلق لم يصل بها فرضاً) فما معنى قوله: (لم يصل بها فرضاً)؟ A يقولون: (إذا نوى نفلاً) كأن ينوي راتبة الظهر فلا يصلي بها الظهر، وهكذا لو نوى الراتبة القبلية في الصبح وخص نيته بالراتبة القبلية، فلا يصلي بهذا التيمم، غير ما نوى التيمم لاستباحته، وأما بالنسبة للإطلاق: إذا قصد به الاستباحة للصلاة مطلقاً فهذا يتأتى في طهارة الماء، كما أشار إليه بعض العلماء في قوله: ولينو رفع حدث أو مُفْتَرَض أو استباحة لممنوع عَرَضْ ولينو رفع الحدث: هذه النية العامة في طهارة الماء من وضوء وغسل، وأما بالنسبة للتيمم فحين كان مبيحاً لا رافعاً لم يكن بالقوة التي عليها طهارة الماء، ولذلك خُص بهذا الوجه وأصبح من الفوارق بين طهارتي التراب والماء، والله تعالى أعلم.

تقديم الوجه على الكفين في التيمم

تقديم الوجه على الكفين في التيمم Q كيف نجمع بين حديث عمار: (إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه) ففي هذا الحديث تقديم اليدين على الوجه، وفي رواية البخاري تقديم الوجه على اليدين، وهل هذا يدل على عدم وجوب الترتيب؟ A إن من العلماء من أجاب عنه بأن حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم المراد بها مطلق الجمع بحصول مسحه عليه الصلاة والسلام لكفيه ثم مسحه لوجهه، وليس المراد بها مراعاة الترتيب، وإن كان ظاهر السُّنة يدل على مراعاة الترتيب، والأحوط نظراً لمكان الرخصة وتقيد هذه العبادة بكونها رخصة أن يخرج الإنسان من الخلاف، واخترنا القول الذي يقول بمراعاة الترتيب؛ لوجود الشبيه والنظير مع اختلاف الروايات، واختلاف ظاهر السُّنة والتنزيل مع الاحتمال الوارد في ظاهر السُّنة، فرجعنا إلى الأحوط ورجعنا إلى الأصل، فوجدنا الأحوط يقتضي صيانة عبادة المكلف من الخلل، فقلنا يراعي الترتيب، ووجدنا الأصل -وهو طهارة الماء التي وقع التيمم بدلاً عنها- يراعى فيها الترتيب، فحكمنا بالترتيب من هذه الوجوه، وغلبنا ظاهر القرآن {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أبدأ بما بدأ الله به) وفي رواية (ابدأوا) بالأمر، لكن هذه الرواية متكلم فيها، فلما بدأ الله عز وجل بمسح الوجه قبل مسح الكفين راعينا هذا الترتيب مع ما ذكرناه من وجود الأصل، ولذلك من المسالك الأصولية تستطيع أن تقدم القول الذي يقول بمراعاة الترتيب لظاهر الكتاب وظاهر السُّنة، فعندما رجعنا إلى الأصل كان المعارض، وهو الكتاب والسُّنة أبلغ في القبول من قبول سنة منفردة، ثم مراعاة الأصل الذي ذكرناه في عبادة الوضوء، والبدل يأخذ حكم مبدله، وكل ذلك اقتضى تقديم القول الذي يقول بمراعاة الترتيب، والله تعالى أعلم.

حكم إمامة المتيمم بالمتوضئ

حكم إمامة المتيمم بالمتوضئ Q إذا كان هناك رجل متوضئ وآخر متيمم، فمن يقدم للصلاة؟ A هذه مسألة ذكرها العلماء رحمة الله عليهم في آداب الإمامة، فقالوا: إن من آداب الإمامة ومسائل التقديم فيها أنه إذا اجتمع متيمم ومتوضئ فلا يصلي المتيمم بالمتوضئ، وهذا في الحقيقة محل نظر، وأما دليلهم فقالوا: إن المتيمم مرخص له، والقاعدة في الأصول: أن الرخص لا يتجاوز بها محالها، وبناءً على ذلك قالوا: لا يستبيح بالتيمم أن يصلي بغيره، خاصة على المذهب الذي يقول: إن الإمام يحمل الفاتحة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (الإمام ضامن) وإن كان الصحيح: أنه لا يحمل. والذي تدل عليه السُّنة -وهو أقوى وأقرب إلى الصواب إن شاء الله- أنه يجوز أن يصلي المتيمم بالمتوضئ، ولكن بشرط أن يكون إماماً راتباً أو أميراً أو نحو ذلك؛ والدليل على ذلك حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، فإن عمرو قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ قال: فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً)، فقالوا: هذا يدل على جواز إمامة المتيمم بالمتوضئ، ولكن محل ذلك أن يكون إماماً راتباً، كأمير السرية أو أمير السفر أو قائد الجند إذا كان يصلي بهم وهو إمامهم ثم أصابته جنابة، فيصلي بهم ولو كان جنباً؛ لظاهر حديث عمرو. أما لو أن اثنين استويا في المرتبة ووجدنا متوضئاً ووجدنا متيمماً فلا شك أن الخروج من الخلاف أولى، فنقول للمتوضئ: صل بالمتيمم؛ لأنه إذا صلى المتيمم بالمتوضئ شككنا في الصلاة، ولكن إذا صلى المتوضئ بالمتيمم صحت الصلاة قولاً واحداً، ولذلك ينبغي صيانة الصلاة من هذا الخلل، فنقول يصلي المتوضئ بالمتيمم إن استويا، أو كانوا بلا إمام راتب في الناس فلا يتقدم عليهم المتيمم، وإنما يقدم المتوضئ، وهذا من آداب الإمامة، وعلى الإمام ألا يعرض صلاة من وراءه للخلل أو الخلاف، بل عليه أن يحتاط لهم.

حكم من وجد الماء بعد صلاته بالتيمم

حكم من وجد الماء بعد صلاته بالتيمم Q إذا كنت في سفر وحان وقت الصلاة ولم يكن معي ماء فتيممت، مع العلم أني لو سرت مسافة معينة فإنني سأجد محطة، فهل فعلي صحيح؟ وإن لم يكن صحيحاً فكيف أفعل في تلك الصلاة مع العلم أنه مضى عليها ما يقارب شهراً؟ A إذا كان هذا الشخص في سفر ولا يعرف المحطات ولا المنازل، فإنه في هذه الحالة يتيمم ويصلي، فلو مشى -وهو لا يدري- فوجد الماء ولو بعد كيلو ولو بعد نصف كيلو؛ فإنه في هذه الحالة لا يعيد الصلاة، بل صلاته صحيحة؛ لأنها وقعت مجزئه ولا حرج عليه في ذلك، أما لو كان يغلب على ظنه أنه سيجد الماء فصلاته مشبوهة والأحوط له أن يعيدها. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

باب إزالة النجاسة [1]

شرح زاد المستقنع - باب إزالة النجاسة [1] لقد أمر الدين الإسلامي بالطهارة من الحدث والخبث والنجاسة، والطهارة من النجاسة تشمل البدن والثوب والمكان، فإذا وقعت النجاسة في شيء من ذلك وجب إزالتها، والأصل في الطهارة هو الماء، فإن كانت النجاسة في الأرض صب عليها الماء، وإن كانت في غيرها غسلت حتى تطهر، إلا إذا كانت نجاسة كلب إحداهن بالتراب.

إزالة النجاسة وأحكامها

إزالة النجاسة وأحكامها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب إزالة النجاسة] الإزالة: المحو، وزوال الشيء: ذهابه. (النجاسة) النجاسة: مأخوذة من النجس، وهو الشيء المستقذر، والمراد بها: النجاسة الشرعية، أي: التي حكم الشرع بقذارتها ووجوب أو لزوم إزالتها لعبادة الصلاة ونحوها كالطواف بالبيت. ما مناسبة هذا الباب للباب الذي قبله؟ A تكلمنا عن الوضوء ونواقضه، ثم عن الغسل، ثم تكلمنا عن التيمم، فنلاحظ في هذه الأبواب الماضية أنها اشتملت على عبادة الوضوء والغسل، ثم على البدل عنهما وهو التيمم، ثم بعد ذلك شرع رحمه الله بقوله: (باب إزالة النجاسة) وهذا نوع جديد من الطهارة، فالنوع الأول الذي هو الوضوء والغسل والتيمم هو طهارة الحدث، والنوع الثاني الذي معنا الآن هو طهارة الخبث، فعلى المكلف أن يعتني بهذا الباب؛ لأمر الشرع بإزالة النجاسة للصلاة ونحوها مما يشترط له الطهارة كالطواف بالبيت، والأصل في هذا الباب دليل الكتاب والسُّنة وإجماع الأمة.

الأدلة على وجوب إزالة النجاسة

الأدلة على وجوب إزالة النجاسة أما دليل الكتاب: فإن الله عز وجل قال لنبيه: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] فأمره بتطهير ثيابه عند قيامه للصلاة أو إرادته القيام للصلاة، قالوا: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] أمر، والأمر للوجوب، فدل على وجوب تطهير الثياب والملبوس للعبادة وهي الصلاة، هذا بالنسبة لطهارة الثوب. وكذلك إزالة النجاسة دل عليها دليل السُّنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلي عنك الدم وصلي) وقال في بول الأعرابي: (أريقوا عليه سَجْلاً من ماء) وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً) فهذه النصوص كلها قصد منها إزالة النجاسة، وإزالة النجاسة إما من ثوب أو من بدن أو من مكان، فالشرع ألزم المكلف إذا أراد أن يصلي أن يكون طاهر الثوب والبدن والمكان، ولذلك يَنْصَب كلام العلماء ومسائل الناس في النجاسات على نجاسة الثوب أو البدن أو المكان. أما نجاسة البدن: فدل على لزوم إزالتها قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه -لشبهة- فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) فأمر بتطهير البدن والثوب: دليله ظاهر قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] وقوله عليه الصلاة والسلام: (حُتيه ثم اقرصيه بماء) يدل على تطهير الثوب، وكذلك يدل على تطهير الملبوس من حذاء ونحوه، أنه لما صلى النبي عليه الصلاة والسلام في النعلين ثم قام بخلعهما أثناء الصلاة قال: (أتاني جبريل فأخبرني أنهما -أي: النعلين- ليستا بطاهرتين) فدل على أنه لا يُصلى إلا في حذاء طاهر. وثبت أيضاً في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (فإن جاء إلى المسجد فليصل فيهما -يعني: في نعليه- فإن وجد بهما أذى فليدلكهما بالأرض ثم ليصل فيهما) فهذا يدل على تطهير الملبوس، ولكنه بنوع آخر من الطهارة وهي الطهارة الترابية الجامدة. أما تطهير المكان الذي يصلي عليه الإنسان: فيدل على لزوم طهارته قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين من حديث أبي هريرة لما بال الأعرابي في المسجد: (أريقوا عليه سَجلاً من ماء) فأمر بتطهير المكان، فهذه النصوص تدل على إزالة النجاسة في الثلاثة المواضع: البدن، والثوب، والمكان.

الماء أصل في إزالة النجاسة

الماء أصل في إزالة النجاسة أصل الطهارة بالماء، وتكون إزالة النجاسة إما بالماء أو بما في حكم الماء في صور مخصوصة، فإزالة النجاسة بالماء هي الأصل؛ لأن الله تعالى بيّن في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن الماء أصل المطهرات؛ فقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48] أي: طاهراً في نفسه مطهراً لغيره، وقال عليه الصلاة والسلام في ماء البحر: (هو الطهور ماؤه) فدل هذا على أن الماء هو الأصل في التطهير، ويدل على ذلك جلياً قوله عليه الصلاة والسلام: (واغسله بماء وثلج وبرَد) فجعل حتى التطهير بالماء مقدماً على غيره، فدل على أن التطهير في الأصل بالماء، ثم قد يكون التطهير بشيء في حكم الماء في صور مخصوصة، ومثال ذلك: طهارة الخارج من السبيلين تكون بالتراب أو بالحصى، أو تكون بالمنديل، وذلك في الاستجمار، فإن الإنسان إذا قعد فبال أو تغوط جاز له أن يأخذ منديلاً ويزيل ما ثمّ، فإذا فعل ذلك طَهُرَ الموضع؛ لأن طهارته بغير الماء في هذه الصورة المخصوصة أذن الشرع بها، فعلى العموم: الطهارة إما أن تكون بماء، وإما أن تكون بما في حكم الماء في صوره المخصوصة.

إزالة النجاسة من الأرض بغسلة واحدة

إزالة النجاسة من الأرض بغسلة واحدة قال رحمه الله: [يجزئ في غسل النجاسات كلها إذا كانت على الأرض غسلة واحدة تذهب عين النجاسة] (يجزئ) أي: يكفي المكلف وتعتبر ذمته بريئة إذا فعل ذلك، ويجزئه هذا في تطهير النجاسة إذا كانت على الأرض، مثال ذلك: لو وقع بول على أرض مسجد وكانت الأرض من تراب، فإنه يجزئ في إزالة تلك النجاسة أن يصب المكلف صبة من ماء تكون أكثر من النجاسة، أما إذا كانت مثلها أو دونها فإنها لا تجزئ، وإنما تزال النجاسة بالمكاثرة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أريقوا عليه سَجلاً من ماء) أي: على بول الأعرابي، وفي رواية: (دلواً من ماء) فوجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال: أريقوا عليه ماءً ولكن قال: (سجلاً) فدل على أن المكاثرة مطلوبة، وأنه لا يكفي أن تصب أي ماء، فلو بال إنسان -مثلاً- في مسجد، وجاء رجل بمغراف من ماء، فإن المغراف إذا صب على النجاسة فإنه سيتأثر بملاقاتها، ولذلك لا يعتبر مجزئاً في تطهير هذه النجاسة، بل لا بد أن يكون الماء أكثر من النجاسة المصبوب عليها، ووجه ذلك في قوله: (سجلاً) فإن السجل هو الدلو، وقال بعضهم: إنه دلو كبير، وإن كان ظاهر الحديث أن السجل هو الدلو المعتاد، فإن الدلو إذا صببته على بول سيكون أضعاف البول، وهذا يدل على أن النجاسة تزال بالمكاثرة وليس بمجرد صبة واحدة مطلقاً، بل لابد أن تكون مكاثرة بحيث يغلب على ظنك أنها تزيل النجاسة، وهذا من سماحة الشريعة ويسرها ورحمة الله عز وجل بالعباد، فإنك إذا نظرت إلى النجاسة وقد أصابت الأرض الترابية في مسجد أو في غرفة والأرض ترابية فلا يمكن للمكلف أن يقتلع الأرضية ويغسلها كما يغسل ثوبه، فإن في ذلك مشقة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أريقوا عليه سجلاً من ماء) فدل هذا على سماحة الشريعة ويسرها، وهذا النوع من النجاسات يجزئ فيها صب الماء صبة واحدة، لكن بشرط أن يكون على سبيل المكاثرة. وقوله: (غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة). (غسلة واحدة) لقوله عليه الصلاة والسلام: (أريقوا عليه سجلاً من ماء) فلم يشترط سجلين أو ثلاثة. (تذهب بعين النجاسة) فلو صب أقل من النجاسة أو مثلها بحيث لا يغلب على الظن زوالها، فيلزمه أن يزيد حتى تكون أكثر من صبة؛ لأن الشرع قصد إزالة النجاسة، فإن بقي أثرها كان صب الماء وعدمه على حد سواء، ولذلك لابد أن يكون الماء المصبوب أكثر من النجاسة حتى تحصل غلبة الظن، وهذا كله إذا كانت الأرض ترابية، أما لو كانت الأرض من القماش فإنه لابد من إزالة النجاسة مثل إزالتها من الثوب، فيرفع القدر الذي أصابته النجاسة، ويصب عليه الماء على نفس الطريقة، ثم يعصره إذا أمكن عصره، وإذا لم يمكن عصره مثل ما هو موجود الآن من السجاد فحينئذٍ نقول: يصب الماء على البساط ثم يسحب ويشفط ثم يصب مرة أخرى ويجفف حتى يغلب على الظن أن النجاسة قد زالت، لأن مكاثرة الصب تذهب عين النجاسة وأثرها.

كيفية تطهير الإناء إذا ولغ فيه كلب

كيفية تطهير الإناء إذا ولغ فيه كلب قال رحمه الله: [وعلى غيرها سبع، إحداها بتراب في نجاسة كلب وخنزير]. عندنا النجاسات إما مخصوصة وإما عامة، فالنجاسة التي تقع على أرض المسجد صورة مخصوصة يصب عليها الماء صباً، ولا يشترط عصر ذلك كما ذكرناه. ثم يليها من المخصوصات نجاسة الكلب والخنزير: أما نجاسة الكلب؛ فورد فيها حديثا أبي هريرة وعبد الله بن مغفل الثابتان في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات) في رواية (إحداهن) وفي رواية: (أولاهن بالتراب) وفي رواية: (وعفروه الثامنة بالتراب) وهذا الحديث دل على مسائل: المسألة الأولى: إذا ولغ الكلب في الإناء -والولوغ: هو إدخال رأسه وشربه من الإناء- وشرب منه، وكذلك لو لم يكن في الإناء ماء وجاء كلب ولحس والرطوبة موجودة بلسانه فنقول: لقد ولغ فيه، فطهارة الإناء بفعل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب) وفي رواية: (إحداهن) وفي رواية: (وعفروه الثامنة بالتراب) ثلاث روايات. أما رواية: (أولاهن) فصورتها: فإن تأخذ كفاً من تراب وترميه في هذا الإناء الذي أدخل الكلب رأسه وولغ فيه، ثم إذا رميت هذا الكف من التراب صببت الصبة الأولى من الماء ثم الثانية ثم الثالثة. إلى السابعة، فبذلك يطهر الإناء. أما رواية: (إحداهن) فهي مطلقة، فإن شئت صببت الماء في الأولى ثم رميت التراب في الثانية وصببت الصبة الثانية من الماء. أما رواية: (عفروه الثامنة) فهي محل إشكال، فقال بعض العلماء: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (عفروه الثامنة) معناه: أنه بعد غسله سبع مرات يصب التراب ثم يحتاج إلى ماء بعد التراب، وهذا قول شاذ قال به بعض السلف، والصحيح: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (عفروه الثامنة بالتراب) أنها ليست غسلة ثامنة في الترتيب، وإنما هي ثامنة من حيث العدد، فإنك إذا وضعت التراب في الأولى ثم صببت الماء سبع مرات، فإن حسبت وضع التراب صبة مستقلة صارت ثامنة، وهذا هو الصحيح، وليس المراد بالثامنة أنها تقع في الترتيب ثامنة، وبناءً على ذلك أخذنا من الحديث أموراً: الأمر الأول: وجوب غسل الإناء سبعاً وتعفيره الثامنة بالتراب على الصفة التي ذكرناها، وذلك عند حصول الولوغ، أما لو أن كلباً أدخل رأسه فقط ولم يحرك لسانه، فإنه لا يجب الغسل ويبقى الإناء على أصله من كونه طاهراً، أي: ليست القضية أن يدخل رأسه فقط، لا بل لا بد من أن يلغ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ) فقيّد ذلك بوجود الولوغ، وبناءً على ذلك: إذا أدخل رأسه ولم يحرك لسانه فهذا لا يعتبر ولوغاً ولا يوجب الغسل سبعاً والثامنة بالتراب. إذا ثبت أن الكلب يجب غسل ما ولغ فيه سبعاً والثامنة بالتراب، فهنا يرد Q هل الحكم مخصوص بالكلب فقط أو يقاس عليه غيره؟ قال بعض العلماء: يقاس على الكلب غيره، فلو أن خنزيراً أدخل رأسه وولغ في الإناء فإنه يغسل سبعاً والثامنة بالتراب، وهذا مذهب الحنابلة وهو قول مرجوح، والصحيح: أن الحكم -كما يقول الجمهور- يختص بالكلب، وأما الخنزير فإنه لا يأخذ هذا الحكم، والمصنف عمل بالقول المرجوح، والراجح أن الحكم ورد في الكلب، وأما الخنزير فلا يأخذ حكمه، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم -رغم أن الخنزير كان موجوداً في زمانه- قال: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب) وما قال: والخنزير وإنما قال: الكلب، وهذا يدل على أن الحكم يختص بالكلاب ولا يقاس عليها غيرها.

حكم استخدام الأشنان في التطهير من ولوغ الكلب

حكم استخدام الأشنان في التطهير من ولوغ الكلب قال رحمه الله: [ويجزئ عن التراب أشنان ونحوه] (ويجزئ عن التراب) قد قررنا أنه لا بد من التراب في الغسل، فلو أنه لم يجد تراباً، كمن يكون في أرض جبلية، وأراد أن ينتفع من هذا الإناء المولوغ فيه وليس عنده تراب، فما هو الحكم في ذلك؟ الحكم: أن يُنَزَّل الأُشنان منزلة التراب، فيغسله بالأُشنان مع الماء، وهذا على القول بأن الحكم معلل، فإن في الكلب جراثيم يبالغ في تطهيرها على هذا الوجه، ولذلك قالوا: إن الأشنان يقتل الجراثيم كقتل التراب لها وإن كان هناك فرق بين قتل التراب وقتل الأشنان، فإن التراب أبلغ وأقوى في قتل الجراثيم، ولذلك يقولون: إن تخصيص الشرع به أقوى، حتى أن الأطباء الآن يعتبرون التطهير مع الماء من إعجاز الشرع؛ لأن التراب معرض للشمس، وطهارة التراب ونقاؤه من الجراثيم من أكثر الموجودات على سطح الأرض، فإن التراب أبلغ طهارة والماء أقل منه، ولذلك تجد الشرع قد جعل التراب أبلغ في تطهير أو قتل الجراثيم من الماء، وهذا من إعجاز الشرع. وللعلماء في تنزيل الأشنان منزلة التراب ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يُجزئ عن التراب غيره سواءً وجد التراب أو لم يوجد، وبهذا القول قال طائفة من العلماء رحمة الله عليهم، وهو قول في مذهب الشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع. القول الثاني: يُجزئ عن التراب غيره من سائر المنظفات، فلو أردت أن تغسله بماء وصابون أجزأت غسلة الصابون -وكذلك بقية المطهرات- عن التراب كما ذكر المصنف رحمه الله: (الأُشنان) بالضم، والأشنان المراد به: نوع من المنظفات، وفي حكمه المطهرات الموجودة الآن، فعند أصحاب هذا القول أنه يُجزئ أن تغسل الإناء سبع مرات بالماء، وأن تكون ضمن هذه الغسلات غسلة بمنظف، سواءً كان صابوناً أو غيره من المنظفات، وهذا القول هو الوجه الثاني عند الشافعية، وكذلك عند الحنابلة رحمة الله عليهم، وقد درج عليه المصنف حيث قال: (يُجزئ عن التراب أُشنان وغيره). والقول الثالث: أنه إن وجد التراب فلا يُجزئ غيره عنه، وإن لم يوجد فإنه يُجزيء غيره عنه، وهو أعدل الأقوال وأولاها بالصواب -إن شاء الله تعالى- وهو وجه عند الشافعية رحمة الله عليهم، فإذا ثبت هذا فيستوي في الحكم بالمطهر سائر المنظفات سواء كانت من صابون أو أُشنان قديم، فما دام أنه يُنظف ويُنقي؛ فإنه يُجزئ عن التراب إذا فُقد التراب، وهذا محصل أقوال العلماء رحمة الله عليهم في إجزاء غير التراب عن التراب في مسألة ولوغ الكلب.

كيفية إزالة النجاسة غير الكلب والخنزير

كيفية إزالة النجاسة غير الكلب والخنزير قال رحمه الله: [وفي نجاسة غيرهما سبع بلا تراب] أي: غير الكلب والخنزير، فلو أن إنساناً كان عنده ثوب فوقعت عليه نجاسة من غير كلب أو خنزير؛ فكيف يتم تطهير هذه النجاسة؟ للعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول يقول: كل شيء وقعت عليه النجاسة من غير الكلب والخنزير فيجزئ أن تصب عليه صبةً واحدة تذهب عين النجاسة وأثرها ويجزئك ذلك، وهذا القول اختاره غير واحد من أهل العلم، ونُسب إلى جمهور العلماء واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله على الجميع أن العبرة في إزالة النجاسة إذا وقعت على الشيء من غير الكلب أن تصب صبةً واحدة منقية منظفة؛ فحينئذٍ يجزئك ذلك. القول الثاني: لا يجزئ أقل من ثلاث غسلات، وهذا القول اختاره جمع من العلماء وهو وجه عند الحنابلة، واختاره الإمام الموفق ابن قدامة كما هو ظاهر عمدته، وأصحاب هذا القول يقولون: إذا وقعت النجاسة على الثوب وأردت أن تطهره فلابد من ثلاث غسلات: تصب الغسلة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، فإذا أتممت الثلاث حكم بطهارة المحل، بشرط أن يذهب عين النجاسة وأثرها. القول الثالث يقول: لابد في التطهير من سبع غسلات، فلو غسلت بأقل فإن المحل يبقى نجساً، وهذا كما درج عليه صاحب الزاد هنا، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد: أنك تغسل كل شيء تنجس سبع مرات. ولكن عند النظر في أدلة هذه الأقوال الثلاثة يتخلص ما يلي: الذين قالوا: تجزئ صبة واحدة، احتجوا بحديث بول الأعرابي، فإن الأعرابي لما بال في المسجد قال عليه الصلاة والسلام: (أريقوا على بوله سجلاً من ماء) فأمر بصبة واحدة، فقالوا: إنه إذا صب صبةً واحدة على الماء كان كمثل صب الماء على بول الأعرابي، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: صبوا عليه ثلاثاً ولم يقل: صبوا عليه سبعاً، وبناءً على ذلك يبقى المطلق على إطلاقه، فيجزئ في سائر النجاسات أن يصب عليها صبةً واحدة. كذلك أيضاً استدلوا بدليل العقل، قالوا: الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فنحن نحكم بنجاسة الثوب لوجود النجاسة، فإذا صببت صبة واحدة وذهبت النجاسة؛ فقد زالت العلة التي من أجلها حكم بتنجس الثوب، فينبغي أن يزول الحكم، ونقول: الثوب طاهر بصبة واحدة. والذين قالوا: لابد من الثلاث لهم دليلان: الدليل الأول: وهو حديث أبي هريرة: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلها في الإناء) كما هي رواية مسلم في صحيحه، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل اليدين ثلاثاً قبل إدخالهما الإناء؛ فدل على أن النجاسة لا تزول إلا بثلاث غسلات، ويقولون: الغسلة الأولى تذهب عين النجاسة، والغسلة الثانية توجب الاستبراء لذهاب الأثر، والغسلة الثالثة استبراء للمحل، والحق أنك إذا غسلت ثلاثاً فإنك ترى أن النجاسة قد زالت في غالب الأحوال، والحكم في الشرع إنما يناط بالغالب. أما الذين قالوا بالسبع فاحتجوا بحديث أيوب بن جابر -وهو حديث ضعيف- (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل النجاسة سبعاً). وعند النظر نجد أنه لاشك أن القول الذي يقول بالتثليث في الغسل من القوة بمكان: أولاً: لظاهر حديث أبي هريرة، فإنك إذا نظرت في حديث أبي هريرة مع أن النجاسة مشكوك فيها، يقول: (فليغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلهما في الإناء). أما حديث الأعرابي الذي فيه صبة واحدة، فإنك إذا نظرت فيه فإنه ليس من قبيل الإزالة بالعصر، والإزالة في النجاسات التي يزال فيها عين النجاسة وأثرها بالعصر إنما يكون بالتثليث، أما في الأرض فإنه لا يتأتى فيها التكرار بمعنى: أنه إذا صب فكاثر الماء على البول؛ فإنه حينئذٍ يكون قد أزال النجاسة وأزال أثرها، فنستثني هذا الخاص من العام. ومما يقوي دليل التثليث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من ذهب إلى الغائط أن يأخذ ثلاثة أحجار، وهذا يقوي الأصل الذي ذكرناه من التثليث، مع أن الذين يقولون بالصبة الواحدة فيهم من يقول: إنه يجب التثليث عند غسل اليدين وعند الاستيقاظ من النوم، فإذا كان التثليث واجباً في نجاسة مشكوكة، فمن باب أولى أن يكون واجباً في نجاسة متيقنة، ثم وجدنا النظير في الاستنجاء، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاستجمار بثلاثة أحجار، فهذا يقوي أن النجاسة تزول بثلاث غسلات، ثم إن شاهد الحس يشهد أن الغالب زوال النجاسة بالثلاث، وأن الصبة الواحدة لا تزيل النجاسة في الغالب إلا بالكثرة، فما دام أنها لا تزيل إلا بالكثرة؛ فالأفضل للإنسان أن يحتاط ويجعل الصبات متكررة؛ فبدلاً من أن يصب بكثرة صبة واحدة؛ فإنه يحتاط بالثلاث لورود الأمر بها، ثم وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم لما أسبغ الوضوء غسل كفيه ثلاثاً، فكان هذا أدعى للمداومة على التثليث في إزالة القذر والنجس. هنا تنبيه: إذا قلنا: إن النجاسة تزول بمرة واحدة أو بثلاث أو بسبع؛ فاعلم رحمك الله أن الحكم محله ألا يبقى أثر للنجاسة، فلو فرض أن إنساناً غسل النجاسة ثلاث غسلات وما زالت باقية فعند ذلك تجب الزيادة، إذاً: ليس قول من قال: إنها مرة واحدة أو ثلاث أو سبع معناه أن الإنسان يصب دون أن يراعي زوال النجاسة من المحل. والنجاسة تزال كليةً فلا يبقى لها عين ولا أثر، وقد تزال ويبقى أثرها، وقد تزول العين ويزول الأثر وتبقى الرائحة، ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: إما أن تزيل النجاسة فيذهب عينها، وتذهب رائحتها، ويذهب لونها الذي هو الأثر. الحالة الثانية: إما أن تزيل النجاسة، فيذهب عينها دون رائحتها. الحالة الثالثة: إما أن تزيل ويذهب عينها دون لونها. فإذا أزال النجاسة ولم يبق منها عين ولا لون ولا رائحة؛ فبالإجماع أنه قد طهر المحل، لكن يبقى اشتراط التثليث والتسبيع عند من يقول به، ومعنى عين النجاسة: أي: لو أن إنساناً وقع على ثوبه جرم من عذرة آدمي -أكرمكم الله- فإن العين المراد بها: الجرم نفسه، وكذلك الدم، فإن عِلَقَ الدم هذه هي عين النجاسة. أما اللون فهو حمرة الدم، أما الرائحة فهي رائحة الدم التي توجد فيه، ولكن يقول العلماء بعض النجاسات لونها أبلغ من ريحها، وبعضها ريحها أبلغ من لونها، وبعضها يجتمع فيها التأثير بأن تكون قوية الرائحة قوية اللون. بناءً على ما سبق: فإنه ينبغي للمكلف أن يزيل عين النجاسة وأثرها ورائحتها، فلو بذل الوسع في التطهير كما هو الحال في الدم المتجلط أو اليابس الذي يكون على الثوب ربما بالغت بحكه ولكن يبقى شيء من الأثر وهو الصفرة المتحللة، وهي آخر الدم ولا تخرج إلا بصعوبة؛ فهذا مما يعفى عنه. إذاً: بقايا الدم من الصفرة التي يصعب إزالتها حتى مع شدة العصر والفرك لا تضر، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم به الصحابية أن تحته وأن تقرصه بماء وأنه لا يضرها أثر ذلك الدم، وبناءً على هذا تبين عندنا أن النجاسة فيها مسائل: المسألة الأولى: هل يشترط التكرار في تنظيفها؟ وقلنا في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول بأن العبرة بصب الماء دون التفات إلى عدد، وقول بالتثليث، وقول بالتسبيع، وأن الأقوى التثليث. الأمر الثاني الذي نبهنا عليه في هذه المسألة: أن محل الخلاف ألا يبقى أثر للنجاسة، فإذا كان صب الثلاث وصب السبع وصب الواحدة يُبقي شيئاً من النجاسة فبالإجماع أنه مطالب بإزالة ذلك الأثر ولو بلغ إلى عشر صبات. الأمر الثالث: أن النجاسة إما أن تكون قوية اللون والرائحة والعين، وهذه الحالة يجب فيها إزالة العين واللون والرائحة فإن بقي شيء من الرائحة أو اللون فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون مما يشق زواله. الحالة الثانية: أن يكون مما لا يشق زواله. فإن كان مما يشق زواله عُذر المكلف فيه؛ وإلا فلا.

باب إزالة النجاسة [2]

شرح زاد المستقنع - باب إزالة النجاسة [2] تختلف النجاسات في أثرها وشدتها، ومن ثم يختلف ما تزال به بعض النجاسات عن بعض، فقد تزال نجاسة بشيء لا تزال به نجاسة أخرى، وهذا يؤدي إلى اختلاف وسائل إزالة النجاسات، على خلاف بين العلماء في بعضها.

ما لا يجزئ في تطهير المتنجس

ما لا يجزئ في تطهير المتنجس بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

حكم زوال النجاسة بالشمس

حكم زوال النجاسة بالشمس فيقول المصنف رحمه الله: [ولا يطهر متنجس بشمس ولا ريح ولا دلك]. (ولا يطهر متنجس بشمس) صورة المسألة: لو أنك رأيت النجاسة قد أصابت طرفاً من الأرض الذي تصلي عليه، ثم هذا الموضع أصابته الشمس أياماً أو فترة من الزمن، وجئت ووقفت عليه فلم ترَ أثراً للنجاسة فهذا يسميه العلماء: (المكان المتطهر بالشمس) أي: زال أثر النجاسة عنه بالشمس، وللعلماء فيه قولان: قال بعض العلماء: إذا زالت النجاسة بالشمس ولم يبقَ لها أثر في الموضع؛ فإنه يحكم بطهارة ذلك المكان، ويرجع إلى أصله. وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية. والقول الثاني يقول: إنه لابد من صب الماء ولو زال أثر النجاسة بالشمس، وبه قال جمهور العلماء، ويستوي في ذلك أن يكون أرضاً أو يكون ثوباً، فلو أن إنساناً أصابت النجاسة ثوبه ثم عرض ثوبه للشمس، وجاء بعد أيام فلم يجد لا لون النجاسة ولا ريحها ولا أثرها، فقال أصحاب القول الأول: نحكم بالطهارة، وهم الحنفية. والقول الثاني يقول: لا نحكم بالطهارة بل لابد من الغسل، وهو مذهب الجمهور. والذين قالوا: إنه يحكم بطهارة الموضع، استدلوا بدليل العقل، فقالوا: القاعدة في الشرع: (أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً)، فلما كان حكمنا بنجاسة الثوب مبنياً على وجود النجاسة في الثوب؛ فإنه ينبغي أن يزول هذا الحكم بزوال النجاسة، وقد زالت بالشمس، فيستوي عندنا أن تزول بالشمس أو بغير الشمس. وأصحاب القول الثاني -الذين قالوا بعدم طهارة الموضع بالشمس- استدلوا بما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة من قصة الأعرابي، أنه لما بال في المسجد قال عليه الصلاة والسلام: (أريقوا على بوله سَجلاً من ماء) قالوا: لو كانت الأرض تطهر بالشمس إذا زال أثر النجاسة أو ذهب ما يدل عليها لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بأن يتكلفوا صب الماء على الموضع. والقول الراجح في هذه المسألة والأقوى والأقرب للأصول: أنه لابد من صب الماء؛ وذلك لأمرين: الأمر الأول: أنه إذا اختلف في شيء هل هو لازم أو غير لازم؟ فإنه يرجع إلى الأصل، فهل الأصل في النجاسة أنها تغسل أو تشمس؟ الأصل أنها تغسل، وبناءً على ذلك: نحن شككنا في زوالها بالشمس: هل هو موجب لرجوعها إلى كونها طاهرة أو نبقى على اليقين من كونها نجسة؟ فكان هذا بمثابة القرينة على رجحان القول الذي يعتمد الغسل لإزالة تلك النجاسة. والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بصب الماء على ذلك الموضع، وقد كان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم منه ما هو في الشمس ومنه ما هو في الظل. فلو قال قائل: يحتمل أن هذا الموضع الذي أُمر بصب الذنوب عليه كان في الظل، لقلنا: هذا مردود؛ لأن الأعرابي -كما في الصحيح- دخل والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في الحلقة، ومما هو معلوم أنه لو أراد أن يقضي حاجته فإنه سيتلمس أبعد المواضع عن الجلاس، وهذا أمر واضح بدليل الاستقراء للعرف، فإنه لن يأتي ويبول قريباً منهم، ومن عادته عليه الصلاة والسلام أن يكون في أقرب المواضع للظل أو في الظل، وبناءً على ذلك: فإن الغالب من صورة الحال أن يكون بوله في موضع لا ظل فيه، وهذا هو الأرفق والأقرب، وإذا ثبت هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصب الماء عليه، فلو كانت إصابة الشمس تطهر الموضع، لما أمر الصحابة أن يتكلفوا إحضار السجل وصبه على ذلك الموضع ولتركه للشمس تطهره؛ ولذلك لا شك أن الأصل هو كون الماء مطهراً لم يرد دليل صحيح يدل على أن الشمس تطهر، فنبقى على دلالة الأصل خاصةً على مسلك الجمهور الذين يقولون: إن تطهير النجاسة في بعض المواضع فيه شبهة التعبد، فتطهير النجاسة في بعض المواضع ألفنا من الشرع فيه شبهة التعبد، ومثل هذا يقوى فيه البقاء على الأصل، وإلغاء الأوصاف المعللة بالقياس والنظر.

حكم زوال النجاسة بالريح

حكم زوال النجاسة بالريح وقوله: (ولا ريح، ولا دلك). أي: إذا أصابت النجاسة موضعاً وحكمت بنجاسته؛ فإنه إذا طهر بالريح لابد من غسله (ولا ريح) أي: لا يطهر الموضع بالريح، وصورة ذلك: لو أن إنساناً أصاب ثوبه نجاسة فنشره، فجاءت الريح وعبثت بالثوب حتى لم يبق للنجاسة أثر في الثوب؛ فحينئذٍ نقول: إن جريان الريح لا يوجب زوال الوصف المستيقن كونه نجساً، بل لابد من الغسل.

حكم زوال النجاسة بالدلك

حكم زوال النجاسة بالدلك وقوله: (ولا دلك) الدلك له حالتان: الحالة الأولى: ثبت الشرع باعتباره مطهراً فيها. الحالة الثانية: البقاء على الأصل من كون الموضع لا يطهر إلا بالغسل. أما الحالة التي ثبت الشرع باعتبار الدلك فيها مطهراً: فهي في نجاسة الحذاء وثوب المرأة؛ ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالصلاة بالنعال ومخالفة اليهود فقال: (صلوا في نعالكم) ثم قال: (فإن وجد أحدكم فيها أذى -يعني: نجاسة- فليدلكهما بالأرض ثم ليصلِّ فيهما) فدل هذا على أن النجاسة تطهر بالدلك. ومن السُّنة للمرأة إذا لبست العباءة -وهذه سنة أضاعها كثير من نساء المؤمنين خاصةً في هذا الزمان- أن تجر عباءتها في الأرض، وألا تكون هذه العباءة مرتفعة؛ وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء المؤمنات بجر الثوب؛ وسئل عما يصيبه ذلك الثوب من النجاسة فقال: (يطهره ما بعده) يعني: لو مرت المرأة بعباءتها على نجاسة ثم مرت على موضع يابس أو على تراب يابس؛ فإن احتكاك هذا الثوب بالتراب يعتبر منظفاً له كما لو صب الماء عليه، والصحابة يعلمون أن الثوب سيمر على تراب، ولكنهم واستنكروا بقاء هذه النجاسة مع كونه يمر على تراب، فدل ذلك على أن الأصل في النجاسات أنها تُغسل، إِذْ لو كانت تزول بكل طاهر لما استشكل الصحابة كون المرأة تمر بعباءتها وتجرها على الأرض اليابسة، فإذا ثبت هذا فإن الدلك لا يطلق أنه غير مزيل للنجاسة بل يفصل فيه، فما ورد الشرع باعتبار الدلك فيه مزيلاً للنجاسة؛ فيحكم بكونه مطهراً، وما لم يرد فيه دليل فلا يعتبر مطهراً. لكن بعض العلماء يقول: أنا أسلم بكون حذاء الرجل وثوب المرأة إذا مر على النجاسة ثم على الأرض فإنه يطهر، ولكن من باب الرخصة لا من باب الأصل، فيقول: هذا الثوب نجس؛ ولكن الشرع حكم بزوال النجاسة لا حقيقة وإنما اعتباراً من جهة الشرع، ولا أرى الدلك مطهراً. لأنه وإن كان هنا بمثابة المطهّر لكنه لا يحُكم بحقيقة زوال النجاسة، وإنما يرتفع حكمها، وفرق بين ارتفاع حكم النجاسة وبين ارتفاع النجاسة بذاتها وزوال عينها.

حكم زوال النجاسة بالاستحالة

حكم زوال النجاسة بالاستحالة قال رحمه الله: [ولا استحالة غير الخمرة] لو أن هذه النجاسة الموضوعة في الإناء تغيرت واستحالت فإنه لا يحكم بطهارتها. واستحالة النجس إلى طاهر لها أحوال: الحالة الأولى: أن يُكاثر بطاهر. والحالة الثانية: أن يستحيل بنفسه، فالظاهر من إطلاق المصنف العموم. لكن الأمر فيه تفصيل: فإن كانت استحالة النجس بتكثير، كأن يكون عندك سطل من الماء وقع فيه بول، فتغير لون الماء، فجئت بثلاثة سطول وصببتها على هذا السطل حتى ذهب عين النجاسة وأثرها فلم يبق لها أثر، لا طعم ولا رائحة ولا لون، فحينئذٍ نقول: إن الماء قد أصبح طاهراً، وإذا كان الماء الذي صب طهوراً فقد حكمنا باستحالة هذا الماء من كونه نجساً إلى كونه طاهراً أو طهوراً بحسب ما خالطه، وهذا لا يعنيه المصنف هنا، وإن كان الإطلاق يدل عليه؛ لكن المراد الاستحالة الذاتية، والاستحالة المؤثرة بنفسها، وصورة ذلك كما قلنا: أن يكون في إناء أو وعاء شراب، وهذا الشراب تنجس بنجاسة، وبعد أيام تبخرت هذه النجاسة أو وضعت في موضع فأصابته الشمس وبخرت ما فيه من النجاسة وأصبح ماءً نقياً، أو بالتقطير كما هو موجود الآن، فهل يحكم بكونه طاهراً بناءً على أنه رجع إلى أصله أو لا يحكم؟ للعلماء قولان في ذلك: القول الأول: يحكم بكونه طاهراً. القول الثاني: لا يحكم بكونه طاهراً، واختار المصنف الحكم بعدم كونه طاهراً، أي: يبقى على أصله من كونه نجساً، فإن النجاسة قد تتحلل في أجزاء الشيء، فتخفى بعض الخفاء، ولما كان الأصل واليقين أنه نجس، فنبقى على هذا الأصل واليقين حتى يُستحال بمكاثرة الطهور عليه.

القول في نجاسة الخمر

القول في نجاسة الخمر وقوله: (غير الخمرة). (غير) استثناء (الخمرة) والخمر أصله: التغطية، ومنه الخمار؛ لأنه يغطي الوجه، وسميت الخمر خمراً؛ لأنها -والعياذ بالله- تغطي عقل الإنسان وتذهب إدراكه وشعوره، والخمرة تكون مائعة في الأصل، ولكن يلتحق بها كل ما كان مؤثراً في العقل ولو كان جامداً، سواء كان مصنعاً كما هو الموجود الآن في بعض حبوب المخدرات، أو كان طبيعياً كبعض النباتات كالشيكران، فإنه إذا أكل أثر في العقل، أو الخشخاش الذي هو أصل الأفيون، فكل ذلك يعتبر في حكم الخمر، لكن العلماء إذا أطلقوا الخمر فمرادهم به: الشراب المائع الذي يكون من العنب أو من التمر أو من الزبيب أو من غيرها من سائر الثمار، فهذه الخمرة محكوم بنجاستها، وقد تكلمنا على هذه المسألة غير مرة، وفصلنا القول فيها في شرح بلوغ المرام، فإن الذين قالوا بنجاستها -وهم جماهير العلماء- حكموا بالنجاسة لظاهر القرآن في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة:90] والرجس: هو القذر في أصل اللغة، والقذر في الشرع أصله النجس، وقالوا: خرجت الأزلام، أما الأنصاب فإنها نجسة؛ لأنها كانت حجارة يذبح عليها، فيكون الدم المسفوح النجس قد أصابها فهي بذلك نجسة بلا إشكال. أما الأزلام فقال العلماء: خرجت بدلالة الحس وبقي ما عداها على الأصل، وأما بالنسبة للخمر فليس هناك دلالة حس على طهارتها، فإنها مستقذرة، فتبقى على وصف الرجس في الشرع من كونها نجسة، وهذا الدليل نوزع بإراقة النبي صلى الله عليه وسلم لوعاء الخمر كما في قصة المزادتين، فإنه أمر الصحابي أن يريق الخمر من المزادتين، قالوا: ولم يأمره بغسلهما، وهذا استدلال فيه نظر كما نبه عليه غير واحد من أهل العلم، فإن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن أمره بغسل مزادة الخمر إنما هو للعلم به بداهة، فإنك إذا وضعت في هذه المزادة لبناً وأرقت اللبن فمعلوم بداهة أنك ستغسلها، فسكت عليه الصلاة والسلام لعلم الصحابي بذلك بداهة. وقال بعض العلماء في جوابه: لو قيل: إن ظاهر سكوت النبي صلى الله عليه وسلم يدل على طهارتها لاحتج بذلك محتج وقال: يجوز لمن أخذ مزادة الخمر بعد تفريغها أن يصب فيها لبناً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بغسلها، فيكون الجواب بأنه سكت عن الأمر بغسلها للعلم به بداهة، وكما أننا في المشروبات نقول: سكت عنه للعلم به بداهة، كذلك في العبادات نقول: سكت عنه للعلم به بداهة، فهي نجسة، وأما صبها في سكك المدينة فقد بين العلماء أن هذا لا يدل على طهارتها؛ وذلك لأن الصحابة إذا صبوها في سكك المدينة ومشوا عليها بالنعال، فإن المشي على الأرض اليابسة يطهر النعال كما ذكرنا، ولو أن امرأة جرّت ثوبها على خمرة مراقة ثم مضت بعد ذلك إلى أرض يبسة؛ فإنها تطهره بذلك الجر، وبناءً على ذلك: لا يعتبر هذا دليلاً قوياً كما نبه عليه الشيخ الأمين رحمة الله عليه، وله فيه بحث نفيس في تفسير آية المائدة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة:90] فأقوى الأقوال وأعدلها القول بنجاستها. وقال بعض العلماء مستدلاً على طهارة الخمر: إن الله تعالى يقول: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان:21] فوصف الخمر بكونها طهور؛ وقد فاته أن الله حكم بأن خمر الآخرة لا غول فيها، والغَول: هو أساس نجاسة الخمر في الدنيا، فنجاسة الخمر في الدنيا مبنية على وجود هذه المادة التي تستحيل عند الخل، ولذلك لما استحالت هذه المادة في الخمر حكمنا بطهارتها، ولما كانت خمر الآخرة طاهرة من جهة عدم وجود الغول فيها قال تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان:21] وقلب بعض العلماء هذا الاستدلال فقال: بل هو دليل على نجاستها؛ لأنه لو كانت خمر الدنيا والآخرة مستويان لما قال: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان:21].

حكم تخلل الخمر

حكم تخلل الخمر قال رحمه الله: [فإن خُلّلت أو تنجس دهن مائع لم يطهر]. لو أن إنساناً علم أن هذا الوعاء فيه خمر، فتخللت هذه الخمر -بمعنى: استحالت وصارت خَلاً- فلا تخلو صيرورتها إلى الخَل من حالتين: الحالة الأولى: أن تتخلل بنفسها. والحالة الثانية: أن تتخلل بفعل المكلف. فإن تخللت بنفسها؛ فإنها تطهر وتعتبر طاهرة؛ لدليل الشرع، كما في الصحيح من حديث مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نعم الإدام الخَل) فأثنى عليه، والثناء يدل على أصل الإباحة، فأجاز لك أن تأتدم بالخل، والخل أصله خمر، وإذا ثبت هذا فإنها إذا تخللت بنفسها طهرت على ظاهر هذا الحديث. وقد يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على الخل مطلقاً، سواء تخلل بنفسه أو تخلل بفعل المكلف؛ فجوابه ما رواه أحمد وأبو داود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تخليل الخمر، فإنه لما سُئل عن تخليلها نهى عن ذلك، وقال: لا) وأمر أبا طلحة في خمر الأيتام أن يريقها وأن يكسر الدِّنَّان -وهي: أوعية الخمر- ومعلوم أن هذا مال أيتام، فلو كانت الخمر تتخلل بفعل المكلف لقال له: خللها؛ لأنه مال يتيم يحفظ ولا يراق إذا أمكن استصلاحه، فإذا ثبت هذا فيقال في الخمر في تخللها: إنها لا تخلو من حالتين: إن تخللت بنفسها حكم بطهارتها على ظاهر السُّنة، وإن تخللت بفعل المكلف فلا يحكم بطهارتها ولا بجواز الانتفاع بها على ظاهر حديث السنن.

حكم وقوع النجاسة في الدهون

حكم وقوع النجاسة في الدهون (أو تنجس دهن مائع لم يطهر) الدهن له حالتان: إما أن يكون مائعاً أو جامداً، والدهن: مثل: السمن أو الزيت، فالسمن: كسائر ما يكون من بهيمة الأنعام، والزيت: كأن يكون زيتاً نباتياً، مثل: زيت الزيتون، والدهن إذا جمد -كالسمن- إن وقعت فيه نجاسة، فالحكم أنك تأخذ النجاسة وما حولها؛ لظاهر حديث الفأرة في الصحيح، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإلقائها وما حولها، أي: في السمن، فدل هذا على أنه -أي: الدهن- إن كان جامداً طهر بزوال عين النجاسة وما حولها، أو ما قاربها. وأما إذا كان الدهن مائعاً تسري فيه النجاسة وتتخلل فيه فللعلماء في نجاسة المائع قولان: القول الأول: يقول: نجاسة الدهون نجاسة مجاورة لا نجاسة عين، ومرادهم بنجاسة المجاورة أنك حينما ترى القطرة من البول وقعت في السمن فإنها تنحاز وتتميز عن السمن، قالوا: فنجاسته نجاسة مجاورة، ونجاسة المجاورة ليست كنجاسة العين، أي: ليست مثل وقوع البول في الماء؛ فإنه يتحلل فيه، وتصير طاقات الماء وطاقات البول ممتزجة، فصارت نجاسة ممازجة، ففرق العلماء بين نجاسة المجاورة التي يكون فيها جرم النجس منفصلاً، أو ترى فيه انحيازه وعدم ممازجته للعين التي أصابها، وبين النجاسة التي تمازج، والسبب في إفراد العلماء للدهون بالكلام في كتب الفقهاء وجود هذا الإشكال، وهو: أن النجاسة إذا وقعت فيها يقول بعض العلماء: إنه يمكن إزالة هذه النجاسة، لأنها نجاسة مجاورة وليست بنجاسة عين، والنجاسة إذا ضعفت عن التأثير بقي حكم الأصل من كونه طاهراً. فإذا علمنا أن عندنا قولين فما هو أقواهما؟ هل هي نجاسة عين أو نجاسة مجاورة؟ فالذي يقوى ورجحه غير واحد من المحققين: أن نجاسة الزيوت والدهون -إلا في بعض الصور المستثناة، وهذا يختلف باختلاف أنواع الزيوت- نجاستها نجاسة مجاورة وليست نجاسة ممازجة، فإن دليل الحس ظاهر، حتى إنك في بعض الأحيان تحكم بأن النجس قد صار إلى هذا الركن أو هذا الجانب من المائع، فنجاسة هذه المائعات أو الدهون نجاسة مجاورة وليست بنجاسة ممازجة. وإذا ثبت في مسألة نجاسة الدهون أنها نجاسة مجاورة، فيرد هنا سؤال وهو: هل يمكن تطهير الزيوت أو لا يمكن؟ هذه مسألة تكلم عليها العلماء في المذاهب الأربعة كلاماً مستفيضاً، ويترتب عليها مباحث مهمة ومسائل عظيمة في العبادات كالطهارات، وفي المعاملات كالبيع والشراء، فإنك إذا قلت: السمن يمكن تطهيره والزيت المتنجس يمكن تطهيره جاز بيعه، كالثوب يباع وفيه نجاسة؛ لأنه يمكن تطهيره، أما لو قلت: إن الزيت قد أصبح متنجساً، فإنه لا يجوز بيع النجس؛ لأنه لا يمكن تطهيره، فتحكم بعدم جواز البيع، فاختلف العلماء الذين قالوا بأن النجاسة فيه نجاسة مجاورة: هل يحكم بتطهيره أو لا؟ وأصح الأقوال وأقواها: أن فيه شبهة التطهير، يعني: يقوى القول بأنه نجس ويصعب تطهيره، لكن إذا تيسر في هذه الأزمنة وجود بعض المواد التي يمكن بها سحب هذه المادة النجسة فيحكم بالطهارة، قالالذين يرون تطهيره: إنه إذا تنجس الزيت بوقوع بول فيه، فنصب من الماء قدراً يغلب على ظننا أنه لو مازج البول كاثره حتى تذهب مادة النجاسة، فلو كان البول قطرة، وصببت كأساً من الماء، فإن القطرة إذا صب عليها الكأس من الماء أذهب نجاستها، قالوا: فنصب هذا الماء على الزيت، ثم لهم طريقة في استخلاص الماء مع البول، فإن البول ينحاز عن السمن، فإذا صببت الماء في هذه الحالة فإن الماء يختلط بالبول؛ لأن البول يمتزج مع الماء، ولا يختلط الماء مع الزيت -كزيت الزيتون ونحوه- فيبقى الماء في ناحية والزيت في ناحية أخرى، فيقومون باستخلاص الماء بطريقة معينة، قالوا: حتى لو بقي شيء من هذا الماء فقد بقي مكاثراً للنجس، فيحكم بطهارته، وهذا وجه من يقول بتطهير الزيت. أما الطريقة الثانية لهم في التطهير: أن يُغلى بالماء، فإذا غلي بالماء تبخرت النجاسة وبقي الزيت؛ لأن الزيت إذا غلى انقدح، ولكن الشيء الذي فيه يتأثر بهذا الغليان، فمن شدة الحرارة على البول أو على الماء المتنجس الذي وقع يزول مع الغليان. وقد ذكر المصنف رحمه الله أن الدهن لا يطهر؛ لأنه يرى أن النجاسة نجاسة ممازجة، وهذا مبني على حديث الفأرة -وهو حديث ضعيف- حيث جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن كان مائعاً فلا تقربوه) ولو صح حديث الفأرة لقطع النزاع في هذه المسألة.

حكم النجاسة التي خفي موضعها

حكم النجاسة التي خفي موضعها قال رحمه الله: [وإن خفي موضع نجاسةٍ غُسل حتى يجزم بزواله] عرفنا كيف نزيل النجاسة، ومن عادة الفقهاء رحمة الله عليهم أنهم يتكلمون على الصور المعروفة، ثم بعد ذلك يتكلمون على فرائد الأحوال وبعض الصور الغريبة، وأنت الآن قد علمت أنك إذا أردت تطهير النجاسة غسلتها ثلاثاً، وعلمت كون غير الغسل من دلك وريح وتشميس أنه لا يؤثر. فيرد السؤال الآن: عن نجاسة لم تعلم موضعها؟ مثال ذلك: لو أن إنساناً مر على موضع، فتطاير من ذلك الموضع النجس ذرّات من نجاسة، وتحقق أنها أصابت ثوبه، ولكن لا يعلم أين المكان الذي هو محل تلك النجاسة بعينه، فهذه صورة. والصورة الثانية: أن يعلم موضع النجاسة ثم ينسى ذلك الموضع، وإن كان عنده غلبة ظن أنه أسفل الثوب -مثلاً- لكن يخفى عليه هل هو في جانب الثوب الأيمن أو في جانبه الأيسر، فما الحكم؟ هذه المسألة التي ذكرها العلماء مرادهم: أن المكلف يصل إلى درجة لا يستطيع أن يميز فيها، أي: إذا ذكروا مسائل الشكوك فمرادهم بها أنك قد وصلت إلى درجة لا تستطيع أن تجتهد، بمعنى: أن موضع النجاسة خافٍ تماماً، أما لو أمكنك الاجتهاد مثل: من مر على بول فأصابه طشاش بول والثوب أبيض، ويمكنه أن ينظر في موضع النجاسة؛ فالقاعدة تقول: (القدرة على اليقين تمنع من الشك) ولذلك قالوا: من قدر على اليقين فلا يطالب بالشك، فإذا أمكن الإنسان أن يتحرى ويجتهد فهذا لا إشكال فيه، فعليه أن يتحرى ويجتهد، ولكن الكلام إذا لم يمكنك أن تتحرى وتجتهد، فتعلم أن هذا الثوب أصابته نجاسة، وعندك يقين بأنها لا تجاوز الربع الأسفل من الثوب، ولكن لا تدري أهي في اليمين أم هي في اليسار أم هي وسط بين اليمين واليسار أم أهي في وجه الثوب أم هي في قفاه، فأنت تعلم أن أسفل الثوب متنجس، ولكن لا تعلم أين موضع النجاسة، فما الحكم؟ قالوا: يغسل القدر الذي يجزم معه أن النجاسة قد زالت، فنقول لك: ما رأيك لو أخذت هذا القدر؟ تقول: لا. أشك. نقول: خذ هذا القدر. تقول: نعم. إذا بلغ هذا القدر فإني أتيقن أن هذه المساحة لم تجاوز النجاسة قدرها، فنقول: اغسل هذا الموضع، وهكذا لو أصابت النجاسة اليد ولكن لا تدري موضعها، تجزم بأن نصف اليد الأسفل فيه النجاسة، ولكن أهي في أوله أم في الربع الثاني؛ فحينئذٍ نقول: تغسل نصف اليد، وهكذا يغسل ما يجزم معه أنه قد طَهَّرَ موضع النجاسة بغسله.

كيفية تطهير بول الغلام الذي لم يأكل طعاما

كيفية تطهير بول الغلام الذي لم يأكل طعاماً قال رحمه الله: [ويَطهُر بول غلامٍ لم يأكل الطعام بنضحه] لما قال: (بول غلام) عرفنا أن عذرته لا تطهر إلا بالغسل، فمفهومه أن العذرة لا تطهر إلا بالغسل. [غلام]: فهمنا أن الأنثى والصبية لابد فيها من الغسل؛ ودليل هذه المسألة ما ثبت في حديث أم المؤمنين عائشة لما جاءت أم قيس بصبيها ورفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه في حجره، وكان صلوات الله وسلامه عليه يؤتى بالمولود فيحنكه ويدعو له بالخير صلوات الله وسلامه عليه، وهذا من مكارم خلقه صلوات الله وسلامه عليه، فأجلسه في حجره كأنه ابنه، فلما أجلسه في حجره بال في حجر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما بال فيه قالت أم المؤمنين: (فأخذ ماءً فرشه) وفي رواية: (فنضحه ولم يغسله) كما هي رواية السنن، فهذا الحديث يدل على أن بول الغلام يرش وينضح، والنضح: أن تأخذ كفاً من ماء وترش به، وأما الغسل فإنك تصب وتعمم الموضع بالماء، فالرش والنضخ أخف والغسل أثقل، فخُفف في نجاسة بول الغلام، وجاء حديث علي رضي الله عنه يؤكد هذا المعنى، فكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا وقاله بلسانه: (يُغسل من بول الجارية، وينضح من بول الغلام) وهذا القول هو قول الجمهور من العلماء، وممن قال به أيضاً: أهل الحديث. وهنا مسائل: المسألة الأولى: أن الحكم يختص بالغلام الذي لم يأكل الطعام، أي: مدة الرضاعة، فإن فُطِمَ فإنه يجب غسله؛ وحديث علي نص في الغلام الذي لم يأكل الطعام، ولذلك يقولون: إذا فطم وانتهت مدة الرضاع فيجب غسل بوله كالجارية سواءً بسواء، وهنا يرد السؤال عن مسألة: لماذا فرق بين الغلام وبين الجارية؟ أولاً: ينبغي على المكلف أن يسلم بالشرع، وألا يتكلف البحث عن العلل، وأن يتعبد الله عز وجل بما ثبت به دليل الكتاب والسُّنة؛ وقال الإمام الشافعي رحمه الله: على الله الأمر وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ، وعلينا الرضا والتسليم، ولذلك من كمال إيمان المكلف أنه إذا جاءه الحكم قال: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير، وأثنى الله على هؤلاء الذين يسلمون، ولا يتكلفون في بحث العلل والتقصي فيها؛ لكن العلماء ذكروا العلة هنا لكي يقيسوا عليها حكماً آخر، أي: أنهم يحتاجون لهذا التعليل فإن وجدت الحاجة للتعليل فلا حرج. وللعلماء في التحليل أوجه: قال بعض العلماء: خفف في بول الغلام وشدد في بول الجارية لذات البول، فإن بول الجارية أثقل من بول الغلام؛ ولذلك خفف فيه أكثر من بول الجارية، فبقي بول الجارية لمكان حرارته، فقالوا: إنه يجب غسله وأما بول الغلام فإنه ينضح. الوجه الثاني: خفف فيهما لصورة البول. فالأول قال: لذات البول، والثاني يقول: لصورة البول، قالوا: لأن بول الغلام لا ينتشر وبول الجارية ينتشر، وهاتان العلتان ضعيفتان، فأما علة من قال: إن بول الجارية أثقل من بول الغلام، فهذا محل نظر، حتى أن بعض الأطباء تكلم على هذا، وأما من قال: إن بول الغلام لا ينتشر وإنما يكون منحصراً، وبول الجارية ينتشر فهذا أمر عجيب؛ لأن الغلام حينما يؤتى غالباً إنما يوضع في لفافة أو خرقة، فلما وضع في حجر النبي صلى الله عليه وسلم بال، فلو قال قائل: يمكن أنه كان عارياً، فنقول: هذا بعيد؛ لأنه من المعلوم أن الغلام إذا ذهب به إلى أهل فضل أو نحوه فإنه يكون ملفوفاً في لفافة أو نحوها، ولذلك نقول: هب أنه على النادر كان منكشف العورة، فإنه إذا بال سينتشر بوله؛ لأن الثوب يسمح بالانتشار كبول الجارية في الموضع، فالتعليل بكونه لا ينتشر أضعف من التعليل بكونه أخف وأثقل. وأقوى العلل هو القول الثالث: أن الشرع خفف في بول الغلام أكثر من الجارية؛ لأنهم كانوا يحملون الغلمان أكثر من الجواري في محضر الناس، وكانوا يتعاطون الكمال في إخفاء المرأة، فكانوا يحملون الصبيان ويحضرونهم إلى المجالس أكثر، وقد يحضرون الفتاة -كما في حديث أمامة لما حملها النبي صلى الله عليه وسلم- ولكن هذا في النادر فخفف من أجل هذا، هذا بالنسبة لقضية بول الغلام وبول الجارية. وكما قلنا الحكم يختص بالبول، فلا يسري إلى دمه، فلا يقال مثلاً: في دم الغلام ينضح وفي دم الجارية يغسل؛ لأن الحكم خرج من صورة الأصل؛ والقاعدة: (أنه إذا ورد الحكم مستشنىً من الأصل فإنه يبقى على الصورة التي ورد بها الشرع ولا يقاس عليها غيرها).

حكم الدم نجاسة وطهارة

حكم الدم نجاسة وطهارة قال رحمه الله: [ويعفى في غير مائعٍ ومطعوم عن يسير دم نجس من حيوان طاهر] الدم نجس، وهو قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اغسلي عنك الدم) وكذلك قوله في دم المرأة المستحاضة: (إنما ذلك عرق) قالوا: فكما أن دم المستحاضة خرج من عرق فسائر دم الإنسان خارج من عرق، ولذلك قالوا: إن الدم نجس، وظاهر القرآن يقويه في قوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145] والدم المسفوح يكون من البهيمة عند قتلها وتذكيتها ويكون كذلك من الآدمي، فهو الدم الذي يراق في حال الحياة، ولذلك أجمعوا على أن الدم الذي يراق عند ذبح الشاة أو نحر البعير أنه نجس، وهذا بالإجماع كما حكاه ابن حزم في مراتب الإجماع، حيث نقل إجماع العلماء على أن الدم المسفوح عند التذكية نجس، وذلك لظاهر قوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145] فالجماهير لما قالوا بنجاسة الدم قالوا: إن القرآن أطلق، فوصف كل دم مسفوح بكونه رجساً، والدم المراق في الحياة هو دم مسفوح؛ لأن الدم المسفوح هو الذي خرج عند الذكاة والبهيمة حية، ولذلك إذا سكنت البهيمة وماتت بالتذكية فسائر الدم الذي في أجزائها يعتبر طاهراً. والذين قالوا بطهارة الدم احتجوا بحديث الجزور، أي: لما نحر عليه الصلاة والسلام الجزور ثم سلخه وصلى ولم يغسل أثر الدم فيه. وهذا محل نظر، فإن الدم الذي يكون عند السلخ لا يعتبر نجساً حتى يكاد يكون عليه الإجماع، ألا ترى أنك تأخذ كتف البهيمة ويطبخ ويشوى وفيه أثر الدم، فالاستدلال بهذا الحديث استدلال بما هو خارج عن موضع النزاع. واستدلوا كذلك بحديث عباد بن بشر لما جاءه السهم وهو قائم يحرس، فنزعه فنزف، فقالوا: لو كان نجساً لقطع صلاته، وهذا يعارض المنطوق الذي ذكرناه: (اغسلي عنك الدم) وجوابه كما نبه عليه شراح الحديث في غير ما موضع أن حديث الصحابي في النزيف، والنزيف سواءً كان بسهم أو كان باستحاضة -كالمرأة المستحاضة- فإنه متفق على أنه يعتبر رخصة، يعني: يصلي الإنسان ولو جرى معه الدم، كما صلى عمر رضي الله عنه وجرحه يثعب؛ لأنه لا يستطيع الإنسان أن يوقف النزف؛ وإنما يستقيم الاستدلال بهذه الأدلة أن لو كان الدم فيها قليلاً بمعنى: أنه يرقأ، فلو كان الدم يرقأ لعارض ظاهر ما ذكرناه من النصوص ولكنه في مسائل مستثناة، ولذلك لا يعتبر حجة على الجمهور؛ لأن الجمهور يقولون: من نزف جرحه أو رعف أنفه أو المرأة المستحاضة غلبها الدم فهذه تصلي على حالتها ولو خرج منها الدم، وكذلك الذي رعف لو غلبه الرعاف فإنه يصلي على حالته ولو كان على ثوبه ولو كان على بدنه؛ لأن التكليف شرطه الإمكان، فليس هذا دليلاً في موضع النزاع. وكذلك قصة عمر لأنها في النزف؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام: (اغسلي عنك الدم) قالوا: إن هذا دم حيض، ولا شك أن صورة السؤال تقتضي أنه دم حيض، ولا فرق بين دم الحيض وغيره. قالوا: لا. هناك فرق فإن دم الحيض يخرج من الموضع ولذلك حكم بنجاسته، فنقول: الموضع لا تأثير له، ألستم تقولون: إن مني المرأة طاهر وهو خارج من الموضع؟! فلو كان خروجه من الموضع -أي: دم الحيض- هو المقتضي لنجاسته لكان المني الخارج من الموضع نجساً، ولذلك فخروجه من الموضع لا يقتضي نجاسته بدليل أن الولد يخرج من الموضع وهو ليس بنجس، والولد أصله علقة ودم ومع هذا لم نحكم بنجاسته، فدل على أنه نجس لذات الدم، وانتفى في الولد لاستحالته؛ فإنه بعد العلقة خُلِّق فاستحال من كونه دماً إلى كونه مخلوقاً، فلم يكن نجساً من هذا الوجه. وبناءً على ذلك أمر عليه الصلاة والسلام المرأة الحائض أن تغسل الدم، ويُشعر هذا بأن العلة معلقة على كونه دماً لا كونه دم حيض، وإذا ثبت كونه دماً استوى أن يكون دم حيض أو يكون من غيره؛ ويقوى هذا بحديث المستحاضة فإنهم يقولون: إن المستحاضة تغسل الدم أيضاً، فأمروها بغسل الدم، وقالوا: نحكم بنجاسته لورود الشرع به وهو مستثنى، فنقول: إن دم المستحاضة قيل فيه كما في الحديث الصحيح: (إنما ذلك عرق) وجاء في الحديث الآخر: (إنه العاذل) والعاذر، والعاند وكلها أسماء لهذا العرق كما يقول بعض العلماء، فما دام أنه قال: (إنما ذلك عرق) أي: دم خرج من عرق فسائر الدماء التي تخرج من البدن إنما هي من عرق، ولذلك قال جمهور العلماء: إن الدم نجس، ولم يخالف في ذلك إلا بعض أهل الظاهر وبعض أهل الحديث، والأقوى في هذه المسألة أن الدم نجس، وبناءً عليه فإنه يفرق بين كثيره وقليله، فقد أجمع العلماء على أن يسير الدم معفو عنه، وفيه حديث ضعيف وهو حديث الدرهم البغلي، والصحيح: أنه لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم استثناء هذا القدر؛ وإنما استثني بالإجماع.

مقدار الدم الذي يعفى عنه

مقدار الدم الذي يعفى عنه يبقى Q ما الفرق بين الدم القليل الذي يعفى عنه والدم الكثير؟ الدم القليل والدم الكثير للعلماء في ضابطه وجهان: قال بعض العلماء: يسير الدم ما كان قدر الدرهم البغلي. وقال بعضهم وهو الوجه الثاني: يسير الدم: هو الذي لا يتفاحش في النفس. والسؤال: ما الفرق بين القولين؟ أولاً: الذين قالوا: يسير الدم هو مقدار الدرهم البغلي، فما هو الدرهم البغلي؟ الدرهم البغلي على قدر الهللة القديمة، أي: القرش الموجود الآن ينقص منه قليلاً، فهذا هو الدرهم البغلي، فلو خرج من الجرح دم على قدر هذا البياض؛ فإن هذا معفو عنه، ولو نقص عنه فهو معفو عنه أيضاً، فإن جاوزه وكان أكثر من هذا القدر فلابد من غسله، ولابد من إزالة تلك النجاسة إلا إذا وجد ضرراً. ثانياً: الذين قالوا: ما لا يتفاحش في النفس، قالوا: هو الذي إذا نظرت إليه احتقرته، وقلت: هذا قليل، ولاشك أن القول الأول -أي: أنه بمقدار الدرهم البغلي- هو الذي عليه قول المحققين من العلماء رحمة الله عليهم. ثم الذي يتفاحش في النفس، لو قلنا: إنه هو الضابط، لاختلف الناس، فقد يكون اليسير عندي كثيراً عند غيري، ثم يدخل باب الوسوسة، فتجد الموسوس لو عثرت بثرة صغيرة لقال: هذا من الدم الكثير الذي لا يغتفر؛ لأنه موسوس لا يستطيع أن يفرق بين القليل والكثير، ولذلك فالقول بأنه ما لا يتفاحش في النفس يؤدي إلى اختلاف الأحكام؛ فقد يصلي الرجلان أحدهما عليه بقعة دم كبيرة، فيقول هذه قليلة وليست متفاحشة، ويصلي الآخر بجواره وعليه ما هو أقل ويحكم على نفسه بعدم صحة صلاته؛ فتختلج الأحكام، والأقوى أنه قدر الدرهم البغلي. السؤال الأخير: إذا علمنا أن يسير الدم معفو؛ فهل يشترط فيه الانحصار أو يستوي فيه الانحصار والانتشار؟ مثال ذلك: لو أن إنساناً عنده بثرة في يده، وبثرة في وجنته، وبثرة في يده الثانية، فلو أن كل واحدة من هذه البثرات أخرجت قليلاً من الدم، بحيث لو جمعت هذه الثلاث فإنها لا تصل إلى قدر الدرهم، فتقول: الحكم يستوي فيه أن يكون منتشراً أو يكون منحصراً، وبناءً على ذلك يرخص للإنسان إذا كان الدم قدر الدرهم فما دون أن يصلي؛ ولكن محل هذا كله كما قال المصنف: (في غير مائع) بحيث ما يقع في المائع؛ والسبب في هذا: قضية القلتين؛ فإنهم يرون أن المائع إذا وقع فيه النجاسة أثرت فيه سواءً كانت قليلة أو كثيرة، وقد قلنا: إن الصحيح: أن العبرة بالتغير والتأثر، وهذا هو الذي اختاره العلماء ودلت عليه السُّنة كما بيناه في موضعه.

الأسئلة

الأسئلة

إباحة الصلاة في مرابض الغنم لا يعارض منع التطهير بالشمس

إباحة الصلاة في مرابض الغنم لا يعارض منع التطهير بالشمس Q كيف نجمع بين القول بأن تطهير النجاسة بالشمس غير جائز والقول بجواز الصلاة في مرابض الغنم وعدم جوازها في مرابض الإبل؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: إن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في معاطن الإبل لا يعارض قولنا: بأن الشمس لا تطهّر؛ بل هو دليل على ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم منع من الصلاة في معاطن الإبل، وعلل العلماء ذلك بكونها -أي: الإبل- خلقت من الشياطين، قيل: إنها على الحقيقة، وقيل: إن فيها شبهاً من الشياطين، ولذلك أُمر بالوضوء من لحمها، ولم يؤمر بالوضوء من لحم غيرها، وبقي الحكم في الشرع على أنه يجب الوضوء من لحم الجزور دون غيره. الشاهد: أن كونه يحكم بجواز الصلاة في مرابض الغنم لا يدل على نقض المسألة التي معنا من كون الشمس لا تطهّر، فليس هناك تشابه بين المسألتين، فهذا حكم له علاقة بمسألة طهارة فضلة الحيوان، وهذا حكم له علاقة بتأثير النجاسة، فالأول يتعلق بوجود النجاسة في معاطن الإبل ومرابض الغنم أم لا، والذي نبحثه نحن هو زوال النجاسة بالشمس، فالاعتراض ليس وارداً؛ لأن شرط الاعتراض والتناقض بين الحكمين: أن يتحد المورد، فإذا كان الحكم الأول يتعلق بكون هذا يؤثر في إزالة النجاسة أو لا يؤثر، والثاني يتعلق بكون هذا يُصلى فيه أو لا يصلى فيه ولا علاقة له بالنجاسة، فلا تشابه بين الموضعين، فهذه مسألة وهذه مسألة، والإشكال إنما يكون إذا اتحد مورد المسألتين، فهذا الاعتراض ليس فيه وجاهة، والاستشكال ليس بوارد أصلاً؛ لأن الصلاة أجيزت في مرابض الغنم لطهارتها، ومُنعت في معاطن الإبل إما تعبداً وإما لعلة -وهي كما قلنا- وجود الشياطين فيها، والله تعالى أعلم.

حكم صلاة الجزار بثوب عليه دم

حكم صلاة الجزار بثوبٍ عليه دم Q ما حكم الصلاة في الثوب الذي يلبسه الجزار وفي معظم ثيابه دم؟ A الجزارون على حالتين: الحالة الأولى: أن يكون الدم الذي يخرج هو دم البهيمة فهذا نجس؛ الحالة الثانية: أن تأتيه البهيمة وقد ذكيت؛ فالبهيمة التي أمامه مذكاة، وبناءً على ذلك: ما يكون منها من الدم أثناء ضرب الأعضاء وتفصيلها وتقطيعها دم طاهر، وحتى لو وقفت عند الجزار فطار عليك طشاش دم من تفصيل الأعضاء، فإنه ليس بنجس؛ لكن النجس هو موضع الرقبة، وينتبه إلى هذا الموضع الذي هو موضع الذكاة فإنه يعتبر متنجساً، والدم الذي يخرج عند الذكاة هو النجس، وأما لو أراد أن يبين الظهر أو يبين اليد أو يقطعها أو يُفصّل الأعضاء أو يَفْصِل اللحم عنها وتطاير منه دم؛ فهو طاهر ولا يؤثر، والله تعالى أعلم.

حكم إزالة النجاسة بماء زمزم

حكم إزالة النجاسة بماء زمزم Q ما الحكم في استخدام ماء زمزم في إزالة النجاسة من الاستنجاء وغيره؟ A إزالة النجاسة بالمطعوم مشدد فيها، وبالنسبة لماء زمزم وإن كان أصله مشروباً لكنه لوجود احترامه شرعاً وإمكان إزالة النجاسة بالبديل عنه وهو الماء المطلق شدد العلماء في ذلك، وكان العباس رضي الله عنه صاحب السقاية -كما ثبت في الصحيح عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص له أن يبيت في مكة من أجل السقاية- يقول: (لا أحلها -يعني: زمزم لا أحلها- لمغتسل وهي لشارب حلّ وبل) أي: لا أحل ماء زمزم لمغتسل أن يغتسل به، وفي القديم كان نزحه صعباً، ولذلك كان الاغتسال به يحتاج إلى أن يأخذ منه دلواً أو نحو ذلك، فيضر بالناس التي تريد منه ولو شربة واحدة فكان يقول: (لا أحله لمغتسل وهو لشارب) أي: لمن يريد أن يشربه (حل وبِل)، قيل: (حل)، حلال، وبِل أي: (بِلٌ) لحرارة قلبه أو حرارة جسده من العطش، وقيل: (بِل): إنها للاتباع ولا يراد معناها كقولهم: حيص بيص، وكقولهم: حياك وبياك، فإن بياك ليس لها معنىً، فقالوا: إن بِلّ بهذا المعنى، والمقصود: أنهم كانوا يكرهون الاغتسال بماء زمزم، وهذه الكراهة لغسل ظاهر الجسد مع طهارته فكيف بغسل النجاسة، والمحفوظ من فتاوى أهل العلم رحمة الله عليهم أنهم كانوا يشددون في هذا الأمر ولا يستحبون تطهير النجاسات به، والله تعالى أعلم.

حكم قيء الغلام

حكم قيء الغلام Q هل يُعتبر ما يخرج من طفلي من القيء نجساً، وما الحكم إذا صليت ثم علمت بوجوده في ثوبي؟ A الذي يخرج من الطفل لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون متغيراً وقد وصل إلى جوفه، فهذا يعتبر في حكم القيء وهو نجس، كأن تسقيه لبناً فيخرج اللبن وفيه صفرة قد تغيرت مادته وتغيرت رائحته فهذا يحكم بتنجسه. الحالة الثانية: أن يكون الذي خرج لم يتغير وصفه، كأن يكون حديث عهد برضاعة، فلما جاءت تحمله قلس عليها، وهو القلس، فالذي يدفعه الصبي أو الصبية عند الشبع والري من اللبن ونحوه يعتبر طاهراً، فالأول: نجس، والثاني: طاهر، فإذا كان الذي خرج عند استفراغه طاهراً فلا إشكال، وإن كان نجساً قد تغيرت مادته فهو نجس يجب غسله. المسألة الثانية: لو أنها حملت صبياً فقاء عليها، وكان قيئاً متغير اللون والرائحة فعلمت بنجاسته، ثم نسيت أن تغسل الموضع فصلت الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء ثم انتبهت؛ فلا تجب عليها الإعادة في أصح أقوال العلماء؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه صلى بأصحابه في نعليه، ثم خلعهما أثناء الصلاة؛ فخلع الصحابة نعالهم؛ فقال عليه الصلاة والسلام: ما شأنكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، فقال: أتاني جبريل فأخبرني أنهما ليستا بطاهرتين) فدل هذا على أن من نسي النجاسة أو لم يتذكرها أنه لا يحكم بوجوب الإعادة عليه؛ بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره جبريل بنى ولم يقطع الصلاة، فلو كان ذكر النجاسة يوجب الإعادة لقطع النبي صلى الله عليه وسلم صلاته ولاستأنف؛ لأنه أوقع تكبيرة الإحرام -وهي أقل ما يمكن أن يكون قد أوقعه- وهي ركن، ولربما يكون قد صلى بعض الصلاة، فكونه عليه الصلاة والسلام لم يعد دل على أن من نسي النجاسة ثم بعد الصلاة رآها، أو لم يعلم بها أصلاً ثم بعد السلام نظر فإذا النجاسة في ثوبه أو بدنه، فحينئذٍ لا تجب الإعادة في أصح أقوال العلماء، والله تعالى أعلم.

حكم حرمان الزوجة من صلة أبويها

حكم حرمان الزوجة من صلة أبويها Q زوجي ملتزم ومتدين ولله الحمد، ولكن -يا شيخ- أشتاق إلى رؤية أبواي وإخواني، فعندما أطلب من زوجي أن أذهب لزيارتهم مرة كل عام فإنه يرفض، وأحياناً يغضب غضباً شديداً، وذلك يحزنني كثيراً فماذا أفعل؟ A لا يخلو والدا المرأة من حالتين: أن يكونا في نفس الموضع الذي فيه الزوج، أو يكونا في غير الموضع، فإن كانا في الموضع الذي فيه الزوج والزوجة فإنه تنبغي الزيارة بالمعروف، فيجعل وقتاً يستطيع أن يصل فيه رحمه ويقوم فيه بحق الله وتقوم المرأة أيضاً بحق أبويها، فإن منعها وأبواها في نفس المدينة والسائلة تقصد ذلك، فلا أشك أنه -نسأل الله السلامة والعافية- قد قطع رحمه وأعان على القطيعة وعقوق الوالدين والعياذ بالله؛ والسبب في ذلك: أن زيارة الوالدين والقرابة الذين هم ملتصقون كالإخوان ونحوهم لا تشق على الزوج مع اتحاد المكان، فكونه يقصر ويمنعها لا شك أنه مخالف لأمر الله عز وجل بصلة الرحم والإحسان إلى القرابة والله يقول في كتابه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1] وهذه والله مصيبة عظيمة، إذا كان الزوج يبلغ به أن يمر العام الكامل ولا يري زوجته أبويها فوالله بئس ما فعل، ووالله إنه لمن اللؤم بمكان، ولا شك أنه إنسان لئيم، فإن لئيم الطبع هو الذي يمتنع. إن والدي المرأة أكرما الإنسان وقبلانه زوجاً لعورة من عوراتهما، وفلذة من فلذات أكبادهما؛ لكي يكون لها ستراً، ويكون لها زوجاً فتنعم عينها بزواجها منه وعشرتها له، ثم تمكث سنة كاملة -والعياذ بالله- لا ترى أبويها! لقد ثبت في الأحاديث الصحيحة دخول فاطمة على النبي صلى الله عليه وسلم سواءً دخلت لحاجة أو دخلت زائرة، حتى قالت عائشة رضي الله عنها -كما في حديث الترمذي - (كانت إذا دخلت عليه، قام لها، فأجلسها في موضعه)، وفي الصحيحين: قالت: (جاءت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما تخالف مشيتها مشيته) فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ارجعي إلى بيتك، وكان يزورها صلوات الله وسلامه عليه في بيتها، فقضية كون الزوج يبلغ به أن يمر عام كامل ولا ترى زوجته أهلها، والله لا أشك أن هذا من اللؤم بمكان، فإن النفس الكريمة إذا أحسنتَ إليها ملكتها بالإحسان، وأصبحت كأنك ملكت رقبة تلك النفس المؤمنة الكريمة. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (حفظ العهد من الإيمان) فلوالدي الزوجة عهد عند الزوج، بل المنبغي على الزوج الكريم أنه هو الذي يفاتح امرأته بزيارة أهلها، وخاصةً إذا كان ملتزماً ديناً، وكثير من النساء يشكين من بعض الأزواج الذين فيهم خير وفيهم صلاح؛ لأن كثيراً منهم لا ينتبه لمشاعر الزوجة ولا لمشاعر القرابة، فيجلس أحياناً شهوراً وهو غافل عن صلة الرحم، مع أن حقيقة الالتزام هي القيام بمثل هذه الواجبات، فلا تنتظر من الزوجة أن تقول لك: اذهب بي إلى أبي وأمي، بل أنت الذي تبدأ بهذا؛ لأنك تعلم أنك إذا أمرتها بهذا أمرتها بطاعة الله، وأمرتها بمرضاته، وكان لك أجرها، وكان لك أجر صلتها لوالديها، بل إذا بلغ بالإنسان الخير وكان إنساناً كريماً يريد مرضاة الله عز وجل وجدته هو الذي يعرض عليها، ووجدته يذهب إلى أبي الزوجة وأمها، ولا ترضى نفسه إلا أن يذهب إلى أبي زوجته، فيسلم عليه ويجلس معه، ولقد حكى لي بعضهم فقال: قد يكون عندي الظرف الذي لا أستطيع أن أتركه، وتركه من المشقة بمكان، ولكن لا ترضى نفسي أن آتي وأنزلها عند بيتها دون أن أذهب وأقبل رأس أبيها وهو كبير السن، وأدخل على أمها وأحييها، وأدخل السرور عليها؛ فلكونهم اختاروني زوجاً لابنتهم ينبغي أن أرد هذا المعروف. إن هذا أقل ما يرد به المعروف، الزيارة فيها جلب للمحبة والمودة، ثم إن الإنسان بهذه الزيارة يترجم عن الوفاء للجميل، وهذه من الأمور المهمة في المشاكل الزوجية، فالزوجة إذا رأت الزوج غافلاً لا يبالي بقرابتها، ولربما تأتي وتقول له: أريد أن أزور أمي أو أبي، فيضايقها ويتأخر عنها ويماطلها ويؤخرها، بدلاً من أن يكون كريماً، فيدخل الشيطان عليها، فيقول: زوجك لا يحب والديك، زوجك كذا وكذا؛ فالشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والخطأ ليس من الزوجة أن تسيء الظن، ولكن الخطأ من الزوج أن ينسى المعروف والفضل، ولذلك يعاقبه الله عز وجل فلربما تتنكر عليه الزوجة، وكم من مشاكل زوجية عرضت عليَّ فوجدت من الأسباب الخفية التي كانت سبباً في فساد الزوجة على زوجها وتأثرها في معاملة زوجها: تقصيره في الوفاء لوالديها، وهي في هذا معها حق، ولا شك أن الزوج إذا كان بهذه المثابة فإنه ضعيف الإيمان؛ لأن من كمال الإيمان كمال الوفاء والعشرة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (حفظ العهد من الإيمان). لقد كان عليه الصلاة والسلام وفياً لزوجته خديجة رضي الله عنها حتى بعد وفاتها، فكان إذا ذبح شاة يقول: (هل أهديتم لصويحبات خديجة منها شيئاً؟) صلوات الله وسلامه عليه، حتى أن النساء يغرن من خديجة وهي ميتة ومتوفاة رضي الله عنها وأرضاها، فلا يزال ذاكراً وحافظاً لها العهد، ولما دخلت المرأة العجوز الكبيرة السن الضعيفة الحال على النبي عليه صلوات الله وسلامه ما أن سمع صوتها حتى قام يجر رداءه لها، فقالت عائشة: (يا رسول الله! من هذه العجوز التي تقوم لها هذا القيام؟ قال: إنها هالة، إنها هالة، أخت خديجة) صلوات الله وسلامه عليه، فالوفاء والبر والخير في صلة الأرحام، وفي بر الوالدين والإعانة على ذلك، وينبغي على الزوج أن يكون عنده الإحساس والشعور، ويحاول أن يكرم امرأته وأهلها، وخاصةً إذا كانت المرأة صالحة، فالمرأة الصالحة في هذا الزمان نعمة عظيمة ينبغي على الزوج أن يدخل السرور عليها، ودائماً إذا جلس معها ذكر فضل أهلها وذكر أهلها بخير، والله إن من الأزواج الأخيار من يقول: لقد أوذيت من رحمي ومن أهل زوجتي، ومع ذلك لا أذكر أني في يومٍ من الأيام قد ذكرتهم بسوء؛ لأني لا أريد أن أكسر خاطر هذه المرأة المؤمنة حينما أتذكر التزامها وديانتها واستقامتها، وهذا هو شأن الأخيار، فالمرأة إذا رأيتها صالحة فأكرمها وأسكنها في قلبك، وأدخل عليها من المودة والرحمة ما تلتمس به رضوان الله عز وجل، وصل الرحم يصلك الله، فإنها تعلقت بحقوي الرحمن وقالت: (هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال: أما ترضين أن أصل من وصلك وأن أقطع من قطعك؟) فرضيت بذلك، فطوبى لمن وصلها فوصله الله، وويل ثم ويل لمن قطعها وأعان على قطيعتها، وقد قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23] نسأل الله السلامة والعافية، فقد يكون الشاب ملتزماً صائم النهار وقائم الليل، وتأتيه لعنة بسبب قطيعة رحم أو عقوق والدين أو منعه الزوجة من أن تصل رحمها أو تبر والديها، فيحرم -والعياذ بالله- من خشوع في عبادته، أو يحرم من بكاء، أو يحرم من قيام ليل أو صيام نهار، ويقول: ما أدري ما الذي أصابني؟ وكثير من الشباب الأخيار يصاب بنكسة في التزامه أو ضعف إيمان ولا يدري من أين أُتي، وقد يكون هذا من قبل حقٍ لمظلوم دعا عليه فحرمه الله عز وجل هذا الخير، فنسأل الله العظيم أن يُحيي قلوبنا بطاعته، وأن يرزقنا الوفاء لعباده بما يرضيه عنا، ونعوذ بالله من منكرات الأخلاق والأدواء، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

باب إزالة النجاسة [3]

شرح زاد المستقنع - باب إزالة النجاسة [3] من قواعد الشريعة: التخفيف فيما تعم به البلوى، وتكون فيه المشقة، ولهذا خُفِّف في يسير بعض النجاسات التي يشق اجتنابها، على خلاف بين العلماء في نجاسة بعض الأشياء وطهارتها.

المعفو عنه من النجاسات

المعفو عنه من النجاسات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

العفو عن يسير الدم

العفو عن يسير الدم قال المصنف رحمه الله: [ويعفى في غير مائع ومطعوم عن يسير دم نجس من حيوان طاهر، وعن أثر استجمار بمحله]. لا زال الحديث في أحكام النجاسات، ولما ذكر رحمه الله الأحكام المتعلقة بإزالة النجاسة والشيء الذي تزال به النجاسة، شرع رحمه الله في محل الرخصة، وهو الشيء المعفو عنه، فقال: (يعفى في غير مائع ومطعوم عن يسير دم من حيوان) هذه المسألة الأصل فيها حديث ضعيف روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (أنه يعفى في الدم عن قدر الدرهم البغلي)، ثم تأيد هذا الحديث الضعيف بعمل بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما أُثر عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عن الجميع، أنهم كانوا لا يرون في قليل الدم شيئاً، فربما عصر الواحد منهم البثرة -وهي الحبة الصغيرة التي تكون في الوجه أو في اليد أو في الساعد- فخرج منها يسير الدم فلا يتطهر ولا يغسل الموضع، فأخذ العلماء رحمهم الله من هذا دليلاً على مسألتين: المسألة الأولى: أن يسير الدم النجس معفو عنه. المسألة الثانية: هل يلتحق بالدم غيره؟ فمن العلماء من قال: أقصر الرخصة على محلها، فأعفو عن الدم وحده، لأنه هو الذي ورد به الخبر، وهو الذي فعله الصحابة رضوان الله عليهم، ويبقى غيره على الأصل. وقال بعض العلماء: ما دامت العلة التخفيف وأن اليسير لا يأخذ حكم الكثير، فنطرد ذلك في كل ما وافقه، فنقول: يسير النجاسة معفو عنه، ثم استثنى وقال: (في غير مائع ومطعوم) والصحيح المذهب الأول: أن الذي يعفى فيه عن يسير النجاسة هو الدم وحده، فلو سألك سائل عن مذي قليل خرج من الإنسان بشهوة لنظر أو فكر وشعر بخروجه منه، فهل نحكم بنجاسة الثوب الذي أصابه هذا الذي أو لا نحكم؟ إن قلنا: يعفى عن اليسير، حكمنا بجواز وضوئه وصلاته دون أن يغسل الموضع الذي أصابه المذي، وإن قلنا: إنه لا يعفى عنه؛ فحينئذٍ يكون حكمه حكم النجاسة الكثيرة سواء بسواء، فعند ذلك يجب غسله والوضوء بعده، وهذا بالنسبة للمسألة التي ذكرها المصنف مفرّعة على هذا الأصل، والصحيح: ما ذكرنا من أن الحكم يختص بالدم، وأن ما عدا الدم من النجاسات قليلها وكثيرها لا يشمله الرخصة، على ما تقرر من اعتبار الدم نجساً، وقد سبق بيان دليل ذلك، وكلام العلماء رحمة الله عليهم فيه.

العفو عن أثر النجاسة بعد الاستجمار

العفو عن أثر النجاسة بعد الاستجمار وقوله: (وعن أثر استجمار بمحله) أي: يعفى عن أثر الاستجمار في محله، ومن المعلوم أن الإنسان إذا قضى حاجته؛ فإنه ربما غسل بالماء، وربما استجمر بالحجارة، أما لو غسل بالماء فبالإجماع أنه يجب عليه غسل الموضع وإنقاؤه، وأما لو كان بالحجارة فمن المعلوم أن الحجارة لا تنقي الموضع على سبيل القطع كما يحصل في الماء، بل لابد من بقاء أثر للنجاسة في الموضع، وهنا يرد Q لو فرضنا أن هذا الموضع هو الدبر، فلو أن إنساناً قضى حاجته ثم استجمر بالحجارة فأنقى الموضع بالحجارة، فإن الموضع -الذي هو الدبر- سيبقى فيه يسير نجاسة، وهذا اليسير يقولون: إنه معفو عنه، ولكن لا يعفى إلا بما هو في موضع النجاسة، أما لو تعدى موضع النجاسة فإنه لا يعفى عنه قولاً واحداً، كما لو كان على صفحة الإلية ونحو ذلك فإنه لا يعفى عنه. إذا تقرر أنه يعفى عن يسير النجاسة في الدبر أو القبل إذا استجمر الإنسان، فما الدليل على هذا القدر الذي يعفى عنه؟ الدليل: ثبوت السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالاجتزاء بالحجارة، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن من استجمر وأنقى الموضع -بمعنى: أنه حصل منه الإنقاء بالحجر الأخير دون وجود أثر- فإنه يحكم بكونه متطهراً، وإنما تأتي النجاسة؛ لأن هذا الموضع وإن وضعت الحجر عليه وخرج نقياً فإن الموضع لا يزال متغذياً بالنجاسة، فإذا عرق الإنسان أو جالت يده بالعرق فلابد وأن تصيب الموضع، فإذا عرق المكان الذي يلي الموضع وسرى هذا العرق إلى الثوب أو إلى السروال الذي يلي الموضع فهذا معفو عنه؛ لأننا لو حكمنا بنجاسته لدخل الناس في حرج لا يعلمه إلا الله عز وجل، وهذا صحيح؛ ولذلك قالوا: إنه أمر الشارع بغسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء -كما يقول الإمام الشافعي - قالوا: لأن الحجاز كانت حارة، كان الناس في الغالب لا يستجمرون إلا بالحجارة ولا يغسلون، وكانوا يعتبرون غسل الفرجين وضوء النساء كما أثر عن بعض السلف، فكان الغالب منهم الاستجمار، قالوا: ومع هذا فإن الشرع لم يأمر بغسل الموضع، وإنما اكتفى بالحجارة، فدل على أنه إذا عرق الموضع أو جالت اليد في الموضع فإنه يعفى عن هذا اليسير.

أشياء مختلف في نجاستها

أشياء مختلف في نجاستها

حكم جثة الآدمي بعد موته

حكم جثة الآدمي بعد موته قال رحمه الله: [ولا ينجس الآدمي بالموت]. (لا ينجس) أي: لا يحكم بكونه نجساً، بل هو طاهر، وهذا أحد قولي العلماء رحمة الله عليهم أن الآدمي لا ينجس بالموت. وقال بعض العلماء: الأصل في الميتة أنها نجسة، واستثني الآدمي المسلم لقوله عليه الصلاة والسلام: (المؤمن لا ينجس) فبقي الآدمي المشرك على الأصل، وأكدوا هذا بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28] قالوا: لما كانت الميتة في أصل حكم الشرع نجسة كما نص الله عز وجل في غير موضع؛ فإننا نقول: إن كل ميتة نجسة إلا ما ورد الشرع بإخراجه، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن لا ينجس) وهو عام، والقاعدة: (أن الأصل في العام أن يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه)، قالوا: نحكم بكونه نجساً إلا ما استثناه الشرع من الميتات، وقد استثنى الشرع المسلم المؤمن بقوله عليه الصلاة والسلام: (إن المؤمن لا ينجس) واستثنى ميتة البحر بقوله: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فلم يحكم بنجاسة ميتة البحر، قالوا: فبقي الكافر والمشرك على الأصل من كونه نجساً، وهذا بالنسبة للمذهب الثاني عند العلماء رحمة الله عليهم. وهناك مذهب ثالث: أن المشرك نجس حياً وميتاً -والمذهب الثاني وسط بين المذهبين- قالوا: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن لا ينجس) يؤكد أن الكافر ينجس، لأنه لو كان الآدمي طاهراً؛ لقال: إن الآدمي لا ينجس، لكن كونه يقول: (إن المؤمن) يدل على أن الكافر ينجس، قالوا: إما نجاسة موت بمفارقة روحه -ولذلك يعتبر من الجيفة والميتات- وإما بالعموم سواء كان حياً أو كان ميتاً. واعترض عليهم باعتراضات وجيهة منها: قالوا: إن نساء أهل الكتاب حل لنا نكاحهن، وإذا جاز لنا نكاحهن فإنه لابد من مخالطة. واعترض عليهم بقصة ثمامة بن أثال الحنفي، فإنه رضي الله عنه أخذته خيل النبي صلى الله عليه وسلم وهو ماضٍ إلى العمرة فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وربطه في المسجد، قالوا: ولو كان نجساً لما أدخله النبي صلى الله عليه وسلم المسجد، هذا بالنسبة للاعتراضات التي اعترضت عليهم. وأجيب عنها أما كون نساء أهل الكتاب حل لنا؛ فإن قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28] اختلف هل المشركون يدخل فيهم أهل الكتاب أو لا؟ فنقول: إن الآية وردت في المشركين ولم ترد في عموم الكفار، إذ لو كان أهل الكتاب داخلين فيها لقال: إنما الكفار نجس، لكن قال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:28] ووجدنا أن القرآن يفرق بين المشركين وأهل الكتاب {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة:1] فلما فرق بينهم علمنا أن قوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28] هم عبدة الأوثان والذين لا دين لهم سماوي، فهؤلاء يحكم بكون الواحد منهم نجساً، هذا من الأجوبة. وأما بالنسبة للأجوبة على قيمة ثمامة بن أثال فقالوا: إنه خارج عن الأصل لمكان الحاجة، والقاعدة: أن ما خرج عن الأصل لا يعترض به، ولا يرد به الاعتراض في الاستدلال. وهذا حاصل ما ذكر في مسألة: نجاسة الآدمي، فقال المصنف: (وميتة الآدمي)، أي: لا يحكم بنجاستها، وهذا -كما قلنا- قول طائفة من العلماء رحمة الله عليهم ولما قال: (الآدمي) فهمنا أنه يستوي في ذلك الكافر والمسلم.

حكم ما لا نفس له سائلة

حكم ما لا نفس له سائلة قال رحمه الله: [وما لا نفس له سائلة متولد من طاهر] أي: أن ما كان مما لا نفس له سائلة وكان متولداً من طاهر فيعتبر طاهراً. (ما لا نفس له سائلة) النفس تطلق بمعنى الدم، قالوا: سمي الحيض نفاساً لمكان الدم الخارج، كما في الصحيحين من قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (مالك أنفست؟) وسمي النفاس نفاساً لوجود الدم فيه. فالنفس تطلق بمعنى الدم، وتطلق بمعنى الروح، واختلف هل هي والروح شيء واحد أو لا؟ وهو خلاف معروف، لكن المقصود: أن من إطلاقات النفس: الدم، فيقولون: كل دابة ليس لها نفس، أي: ليس لها دم كالبراغيث، والصراصير، وبنات وردان، وكذلك البعوض وما كان مثل هذه الدواب، أو كان من الهوام، فكل ما لا دم له قالوا: يحكم بكونه طاهراً؛ لأنه إذا مات فلا يعتبر من الميتات المتنجسة بالدم؛ قالوا: لأن الميتة ما حكم بنجاستها إلا لمكان احتباس الدم فيها، بدليل أنها لو ذكيت كانت طاهرة، فهذا مستنبط من مفهوم حكم الشرع، قالوا: لما كان الحيوان الذي يذكى بالذكاة يطهر ويحل أكله ويعتبر طاهر الأجزاء، والميتة التي ماتت حتف أنفها وانحبس الدم فيها يحكم بنجاستها، عرفنا أن ما يذكى طاهر، وما لا يذكى نجس، فإن كان الميت مما لا دم له فإنه يخرج عن هذا الوصف، فليس له دم يراق، فيعتبر من الميتة الطاهرة التي لا يحكم بنجاستها، هذا وجه من يقول بطهارة ما لا دم له. مثال ذلك: الصراصير ونحوها، لكن يستثنى من هذا إذا خرجت من مكان نجس، فيقال: متنجسة، وفرق بين المتنجس والنجس، فالنجس بذاته، والمتنجس بعارض، ويمكن تطهيره، فلو خرجت من مكان نجس وهي رطبة حكم بكونها نجسة. والدليل على أن ما تولد من طاهر يحكم بطهارته: أن السوس كان يصيب التمر، ولم يأمر الله عز وجل ولا رسوله صلى الله عليه وسلم باتقاء ما كان فيه سوس، وكان يوجد في الأطعمة، ويوجد في التمور، ويوجد في الحبوب، ويوجد في الدقيق ومع هذا كان يؤكل ولا ينكر على أحد ولا يحكم بكونه ميتة، وهذا يكاد -بالإجماع- يكون دليلاً على أنه طاهر؛ وبناءً على ذلك: فكل ما تولد من طاهر فهو طاهر، فمثلاً: لو كان هناك طعام وتولد من الطعام دود والطعام طاهر؛ فنقول: إنه طاهر، فلو مات هذا الدود في مكان، وجاء الماء على المكان الذي فيه الدود وأصبح متشرباً به ثم أصاب الثوب؛ فنقول: إن الماء طاهر؛ لأن هذه الميتة ميتة طاهرة ولا تعتبر نجسة.

حكم بول وروث ما يؤكل لحمه

حكم بول وروث ما يؤكل لحمه قال رحمه الله: [وبول ما يؤكل لحمه وروثه ومنيه ومني الآدمي] (وبول ما يؤكل لحمه وروثه): الحيوانات تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أذن الشرع بأكل لحمه. القسم الثاني: لم يأذن الشرع بأكل لحمه، ثم كل من هذين القسمين منه ما أجمع على حكمه ومنه ما اختلف فيه. يقول المصنف رحمه الله: (وبول ما يؤكل لحمه وروثه) التقدير: طاهر، أي: آخر الكلام أو الحكم فيه أنه طاهر.

الأدلة على طهارة بول وروث ما يؤكل لحمه

الأدلة على طهارة بول وروث ما يؤكل لحمه أما الأدلة على أن بول وروث ما يؤكل لحمه طاهر فهي: أولاً: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتاه أقوام من عكل وعرينة واجتووا المدينة أي: أصابهم الجوى، والجوى نوع من الأمراض مثل الحمى؛ لأن مناطق أهل البادية تكون نقية ونافعة، فإذا دخلوا المدن يحصل عندهم نوع من الأمراض؛ لأنهم ألفوا المكان الطلق النظيف، والجوى سببه -كما يقول الإمام النووي رحمه الله-: اختلاف الموضع عليهم. لأنهم ألفوا طلاقة الجو ونظافة ما يؤكل وما يشرب، بخلاف المدن التي تكون وخيمة بسبب كثرة الناس بها وضيق أماكنها، فأصابهم الجوى، والعلة في ذكر الجوى هي: معرفة طب النبي صلى الله عليه وسلم كيف عالج الشيء بمألوفه، حتى أن الأطباء يعتبرون هذا من الطب النبوي، فبعض الأمراض يكون علاجها بِرَد الإنسان إلى مكانه الذي نشأ فيه، قالوا: إنه يتأثر بأرضها وهوائها ومائها، وكان بعض الأطباء يداوي بالماء الذي يكون في الموضع الذي ولد فيه الإنسان، فردهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فلذلك اختلف العلماء: فقال بعض العلماء: إنما أمرهم أن يشربوا من الأبوال والألبان؛ لأنهم مرضى، مع أن البول أصله نجس، فكأنه يقول: إنما أجاز لهم شرب بول البعير لكونهم مرضى ومضطرين لذلك، وهذا مذهب الشافعية، أي: أنهم يرون أن بول البعير وما يؤكل لحمه نجس. وقال الحنابلة ومن وافقهم: إنما أجاز لهم شرب البول؛ لأن بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهر، فأجاز لهم شرب البول لا من جهة المرض ولكن من جهة طهارة الذي يتداوى به. فقول الشافعية: إن البول نجس وإنما جاز لهم شربه للتداوي، شددوا فيه في باب الطهارة، وخففوا في باب التداوي. أما الحنابلة فقالوا: البول طاهر ولا يجوز التداوي بالنجس، فخففوا في باب الطهارة، وشددوا في باب التداوي، وهذا من مرونة الشريعة! فقد تجد القول في مكان شديد ولكنه في مكان آخر يسر ورحمة، وقد تجده في موضع يسراً ورحمة، وفي موضع آخر شدة وابتلاء. فالمقصود: أن الحنابلة رحمهم الله يقولون: البول طاهر وجاز لهم شربه لكونه طاهراً. ونحتاج إلى منهج أصولي في الاستنباط حتى نعرف أي المذهبين أرجح، فهؤلاء يقولون: هم مرضى وجاز لهم التداوي به لكونها ضرورة، وهؤلاء يقولون: لا. بل هو طاهر ولا يجوز التداوي بالنجس على الأصل الذي قرروه: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها) فنريد أن نعرف الراجح من القولين. القول الذي يقول: إن بول الإبل والبقر والغنم ونحوها مما يؤكل لحمه نجس هو قول الشافعية، فيقولون: لأن في الحديث وصفاً وهو قوله: (فأصابهم الجوى)، وفي رواية في الصحيح: (فاجتووا المدينة) أي: أصابهم الجوى، قالوا: فالوصف المذكور في الحديث -وهو الجوى والمرض- مشعر بالحكم وهو التخفيف والرخصة، هذا بالنسبة لمسلك الشافعية. الحنابلة قالوا: قولنا أقوى وأرجح؛ لأننا وجدنا أدلة أخرى من السُّنة تدل على أن البول طاهر، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر على بعيره وطاف على بعيره، فلو كان بول البعير نجساً لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على البعير؛ لأنه إذا بال أصابه طشاش بوله، ولابد أن البعير يصيبه شيء من الطشاش أو يبقى شيء في الموضع، قالوا: فكونه عليه الصلاة والسلام يصلي ويوتر ويطوف على البعير -وكلها عبادات تشترط لها الطهارة- يدل ذلك على الطهارة. الشافعية يجيبون عن هذا ويقولون: إن هذا من باب الرخصة والتيسير وهو خارج عن الأصل، ويقولون: قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في معاطن الإبل، فلو كان روث البعير طاهراً لما منع من الصلاة في معاطن الإبل. الحنابلة يقولون: إنه منع عن الصلاة في معاطن الإبل لعلة غير النجاسة، وهي كونها أماكن الشياطين، والإبل خلقت من شياطين كما ورد في بعض روايات السنن. فالمقصود: أن أصح الأقوال وأقواها: أن بول وروث ما يؤكل لحمه طاهر، فقد ركب النبي صلى الله عليه وسلم بعيره، وطاف على البعير، وأوتر على البعير، وهذا كله ظاهر الدلالة على طهارته. وأما بالنسبة للقول بأن هذه رخص فنقول: إنه أجاز الصلاة في مرابض الغنم، فلو كانت الفضلة نجسة لما أجاز النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في مرابض الغنم، ولاشك أن أقوى القولين هو: القول بأن بول وروث ما يؤكل لحمه طاهر، ومذهب الشافعية رحمة الله عليهم في أن فضلة ما يؤكل لحمه نجسة فيه من المشقة شيء كثير، ولذلك من أشق ما يكون إذا كانوا في المساجد وجاء الحمام والطير، فإنهم يعتبرون ذرقه نجساً، وبمجرد ما يصيب الثوب لابد أن يذهب ويغسل ثوبه، فيجدون من الحرج والمشقة ما الله به عليم، حتى إن بعض متأخريهم أفتى بأن ذرق الطيور والحمام في المساجد معفو عنه لمكان الحرج والمشقة، فإنه ربما يكون هناك زحام -كأيام الحج- فيقوم من بين الناس من أجل أن يغسل موضع النجاسة ويطهر المكان. إذا تقرر هذا فإن أصح الأقوال: أن بول وروث ما يؤكل لحمه طاهر، ويستنبط هذا من أن النبي صلى الله عليه وسلم أدى الصلاة والطواف على ظهر البعير، وأجاز الصلاة في مرابض الغنم، ففهمنا من الصلاة على ظهر البعير أن فضلته طاهرة، وفهمنا من إجازة الصلاة في مرابض الغنم أن فضلتها طاهرة، ثم نستنبط معنى آخر للقياس ونقول: قد حكم صلوات الله وسلامه عليه بنجاسة لحم الحمر الأهلية لكونها محرمة الأكل، فإنه لما نزل تحريمها أمر بإكفاء القدور وقال: (إنها رجس) فحكم بكونها نجسة لما نزل تحريم اللحم، فأخذوا من هذا دليلاً -وهذا من أنفس ما يكون في الاستنباط- على نجاسته ونجاسة الفضلة تبعاً، وإذا ثبت هذا فنقول: الفاصل في الحكم بنجاسة الفضلات والخارج هو أنه إما أن يكون من المأذون بأكله أو غير مأذون بأكله، فإن كان من جنس ما أذن بأكله فهو طاهر، وإن كان من غير ما أذن بأكله فهو نجس.

حكم مني ما يؤكل لحمه

حكم مني ما يؤكل لحمه وقوله: (ومنيه ومني الآدمي) (ومنيه) أي: مني ما يؤكل لحمه فإنه يعتبر طاهراً، وقد ذكر هنا مني الدواب؛ لأن كثيراً من المسائل تترتب عليها أحكام، فمثلاً: مني الدواب يباع، وهذا موجود في مختلف أنواع الحيوانات، وقد تقرر في الشرع -ويكاد يكون قول الجماهير خلافاً للحنفية- أن النجس لا يجوز بيعه؛ لحديث جابر بن عبد الله: (إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام) فإذا ثبت أن النجس لا يجوز بيعه، وحكمت على المني الخارج من الحيوان الذي يؤكل لحمه أنه طاهر، ففي هذه الحالة لو سألك سائل عن بيع مني الحيوان كما يفعل بالحقن وتحقن به الإناث من أجل أن تخصب وتنجب، هل يجوز أو لا يجوز؟ فعلى القول بنجاسة فضلته: لا يجوز بيعه؛ لأنه لا يجوز بيع النجس، وعلى القول بطهارتها: يجوز بيعه؛ لأنه طاهر أشبه بسائر الطاهرات.

حكم رطوبة فرج المرأة

حكم رطوبة فرج المرأة قال رحمه الله: [ورطوبة فرج المرأة] الرطوبة: سائل يخرج من الموضع من المرأة، وسواء خرج عند الجماع أو خرج في غير وقت الجماع، أي: سواء خرج عند الشهوة أو في غير وقت الشهوة، فهذا السائل للعلماء فيه وجهان مشهوران: القول الأول: أن هذا السائل طاهر. القول الثاني: أنه نجس، وهذا وجه عند الحنابلة وقيل: إنه المذهب، ووجه عند الشافعية. والأقوى -واختاره غير واحد من المحققين- والصحيح: أنه نجس، وقد دلت السُّنة على نجاسته، ويحتاج إلى تأمل حتى يتبين هذا الدليل. ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليغسل ما أصابه منها) وكان في أول الإسلام إذا جامع الرجل أهله ولم ينزل لا يجب عليه الغسل، وفيه حديث صحيح حيث قال عليه الصلاة والسلام: (إنما الماء من الماء) وجاء في الحديث الصحيح أنه طرق على رجل من الأنصار كان يريده في حاجة، فلما خرج الرجل خرج كأنه منزعج، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لعلنا أعجلناك؟ إذا أعجلت أو أقحطت فلا غسل عليك) يعني: إذا لم تنزل فلا غسل عليك، وكان ذلك في أول الإسلام، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ولكن ليغسل ما أصابه منها) فالذي يصيب الفرج عند الجماع من غير المني هو الرطوبة، فكونه يأمر بالغسل منه يدل على كونه نجساً، وهذا نص صحيح صريح قوي في اعتبار الرطوبة نجسة، وقد أشار إليه بعض المحققين، ومنهم الإمام النووي رحمه الله في المجموع، وبين أن الرطوبة نجسة، ثم القياس والنظر الصحيح يدل على نجاسته، فإن رطوبة فرج المرأة منزلته منزلة المذي من الرجل، قالوا: إنها مذي المرأة، فكما أن مذي الرجل يكون منه فكذلك المرأة، وإذا كان المذي نجساً فإن الرطوبة تكون نجسة؛ لأن النظير يأخذ حكم نظيره، فلو لم يدل الأثر لدل النظر على نجاسته، والسُّنة حاكمة على كل قول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بين أنه مأمور بغسله دل على نجاسته.

حكم المرأة المبتلاة بكثرة رطوبة الفرج

حكم المرأة المبتلاة بكثرة رطوبة الفرج وقد تعم البلوى بهذه الرطوبة، فمن النساء من تجلس ساعات وهي مبتلاة بهذه الرطوبة، فنقول: إن هذا أمر يسير لأنها كالمستحاضة، فكما أن المرأة يصيبها دم الاستحاضة ويستمر معها أحياناً شهوراً، والشريعة تحكم بكون هذا الدم نجس، فكما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسله ويكاد يكون بالإجماع أن دم الاستحاضة نجس، لكن إذا غلبها فإنها تضع قطنة تشد بها الموضع، وتصلي على حالتها وتتوضأ لدخول كل وقت، فالمرأة التي تغلبها الرطوبة وتصل بها إلى درجة المشقة تأخذ حكم الاستحاضة سواء بسواء، وهذا لا حرج فيه ولا مشقة فيه؛ لأن القاعدة في الشريعة: أن الأمر إذا ضاق اتسع، فمادام أنه يضيق على المرأة ويحرجها فإنها تتعبد الله عز وجل على قدر وسعها وطاقتها {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]. وقوله: (ورطوبة فرج المرأة) هذا تخصيص، فدل على أن الرطوبة من سائر بدن المرأة تعتبر طاهرة ولا يحكم بنجاستها، فالرطوبة والعرق من سائر البدن طاهر، سواء من ذكر أو من أنثى، ولكن المراد الرطوبة في موضع مخصوص.

حكم سؤر الهرة وما دونها في الخلقة

حكم سؤر الهرة وما دونها في الخلقة قال رحمه الله: [وسؤر الهرة وما دونها في الخلقة طاهر] (وسؤر الهرة) وهي: القط، ويستوي في ذلك ذكرانها وإناثها، والسؤر: الفضلة، واحد الآسار، وهذا السؤر صورته: أن تأتي الهرة وتشرب من إناء أو وعاء ثم تبقى فضلة، فهذه الفضلة يحكم بطهارتها؛ وذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عن أبي قتادة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه أصغى لها الإناء ثم قال: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات) وهذا يدل على أنها طاهرة، إذ لو كانت نجسة لبين النبي صلى الله عليه وسلم نجاستها، وفيه تيسير ورحمة بالناس؛ لأن الهرة تخالطهم وتكون معهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام مشيراً لهذه العلة: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات). ولذلك يقول العلماء: هي نجسة ولكن حكم بتخفيف الحكم فيها لمكان المشقة؛ وذلك بقوله: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات) قالوا: إذ لو كانت طاهرة في الأصل لقال: إنها طاهرة، لكن كونه يقول: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات) كأنه يقول: إن هذا فيه حرج وفيه مشقة، فخفف من أجل الحرج ومن أجل المشقة، وهذا مسلك بعض العلماء، ولذلك قالوا: كل ما كان في حكم الهرة فسؤره طاهر، حتى قالوا بالتخفيف في السباع فإذا طاف على الإنسان وكان معه، كما لو أنه ربى أسداً للصيد أو نمراً أو نحو ذلك من السباع وخالطه كثيراً، قالوا: يعفى عن فضلته وسؤره. قال: (وما دونها في الخلقة) (دونها) يعني: أقل منها، وإنما قال: دونها؛ لأن القياس يأتي على ثلاثة أوجه: الأول: قياس الأعلى على الأدنى. الثاني: وقياس الأدنى على الأعلى. الثالث: وقياس المساوي. هذه ثلاثة أحوال للقياس. ضابط كونه أعلى أو أدنى أو مساويه هو: العلة، فإن كان الفرع الذي تقيسه أولى بالحكم من الأصل فهذا يسمى قياس أعلى، أي: أنك ألحقت المستحق للحكم أكثر مما ورد به النص، مثال ذلك: الله عز وجل يقول: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] نهى عن قول: (أف) فتقول: يحرم السب والشتم كما يحرم التأفف بجامع كون كل منهما أذية للوالدين، وقد تقول بصورة أخرى تنبه على كونه قياساً أعلى. التأفف للوالدين حرام فسبهما أولى بالحرمة لما فيه من بالغ الضرر، أو بجامع الضرر في كلٍ، وهذا بالنسبة لما يكون أعلى، أو مساوياً: كأن تقيس ما مثل الهرة في الحجم والقدر والتطواف على الهرة. أو دون: أي ما يكون متخلفاً فيه بعض أوصاف العلة، فيكون الأصل أولى بالحكم فيه من الفرع عكس الأول، فلو قست شيئاً علته أدون من علة الأصل، يعني: توجد فيه ولكنها أخف من علة الأصل فتقول: إن هذا قياس أدنى. الشاهد: أنه قال: (وما دونها في الخلقة) وهذا من دقة المصنف، لأن الأصل لما قال: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات) قالوا: إن هذا مبني على التطواف ولذلك يقولون: الأصل نجاسة السباع وما في حكم السباع مما يأكل الحشرات ويغتذي بها، فقال: هذا الأصل يقتضي المنع والحكم بالنجاسة، فإذا جئنا نقيس شيئاً على المرخص عليه فإننا نبحث عما هو دونه حتى يكون أبلغ في اللحوق، وأما إذا كان مثله فإنه يقوى رده إلى الأصل، وإذا كان أعلى منه فهو أولى أن يبقى على الأصل. فالهرة سؤرها طاهر ويستثنى مما سبق مسألة ينبغي التنبيه عليها وهي: أن تراها قد أصابت نجساً ورأيته على فمها؛ فإن سؤرها نجس إذا تغير بذلك النجس، صورة ذلك: لو رأيتها اغتذت بميتة، ورأيت فضلة اللحم الذي نهشته أو النجاسة التي أصابتها على فمها، فجاءت إلى الإناء فشربت منه وأفضلت، وقد وجدت طعم ذلك التي أكلت أو شربت منه من النجس في الماء فحينئذٍ تحكم بكونه نجساً، وهذا التنجيس لعارض لا لأصل، لكن نبه العلماء رحمة الله عليهم على هذا، ولذلك قال بعض الفقهاء -كما هو موجود عند المالكية وغيرهم-: وإن رئيت على فمه عمل عليها، (وإن رئيت) يعني: رأيت النجاسة (على فمه) يعني: فم الهر أو السبع، (عمل عليها) يعني: حكم بحكمها إن أثرت في الماء فالماء نجس، وإن لم تؤثر فالماء طهور.

حكم سباع البهائم والطيور

حكم سباع البهائم والطيور قال رحمه الله: [وسباع البهائم والطير] سباع البهائم كالأسود والنمور ونحوها وهي العادية، فالسبع العادي: هو الذي يعدو على الناس وعلى الدواب. والطيور تنقسم إلى قسمين: منها ما هو من السباع، ومنها ما هو من غير السباع، والغالب في سباع الطيور أن تكون من ذوات المخالب، ولذلك حرم النبي صلى الله عليه وسلم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، وتحريم أكل كل ذي ناب من السباع يدل على نجاسته؛ لأننا نلاحظ في حديث الحمر أنها كانت جائزة وكان أكلها جائزاً فلما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم بتحريمها أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور، فهي لما كان أكلها حلالاً كانت طاهرة، ولما حرِّم أكلها أصبحت نجسة، قال العلماء: وهذا دليل واضح -وهذا استنباط العلة- على أن تحريم اللحم يدل على نجاسة ذلك المحرم إلا ما استثناه الشرع. وإذا ثبت هذا: فعندنا سباع البهائم لا يجوز أكل لحمها، وإذا لم يجز أكل لحمها فإنها نجسة؛ لأن تحريم اللحم ذاته يدل على نجاسته، ومن ثم يكون سؤره وفضلته في حكم أصله المتولد منه، وهذا يقوي أنه نجس، ولذلك قالوا: إن سؤر السبع نجس، وشاهد الحس قوي، فإن السباع تغتذي بالميتات وتغتذي بالنجاسات، بل قَلَّ أن تغتذي بطاهر، ولذلك يقولون: إنه حكم بنجاستها لدلالة الشرع والطبع، فإن العادة والاستقراء تدلان على مخالطتها للأقذار والنجاسات في غالب أحوالها. وسباع الطيور: كالنسور والشواهين، وكذلك الصقور العادية والباشق، ونحوها من الطيور العادية، كلها يحكم على فضلاتها وسؤرها بالنجاسة.

حكم الحمر

حكم الحمر قال رحمه الله: [والحمار الأهلي والبغل منه نجسة]. والحمار الأهلي: الحمار ينقسم إلى قسمين: أهلي، ومتوحش، فأما الحمار الوحشي: فهو الذي يكون في البر، ويختلف، ففي بعض الأحيان يكون مختلط الألوان، وهذا يكاد يكون القول واحداً على طهارته وحل أكله، وأما بالنسبة للذي يكون له لون واحد وهو الباهت القريب إلى الأكحل فهذا مختلف فيه: فقال بعضهم: إنه يأخذ حكم الأهلي. وبعضهم يقول: يأخذ حكم البري. وبعضهم يقول: إن وجد في البر أخذ حكم البري، وإن وجد في القرى والمدن أخذ حكم الأهلي، أي: أنه ينظر إلى موضعه، فحمار الوحش جائز أكله، وهو طاهر، وأما الحمار الأهلي فكان أكله ولحمه طاهرًا في أول الأمر، ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه في عام خيبر، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور، فأكفئت وهي تغلي بلحمها، وأمر بغسلها، فدل على أنه نجس، ولكن استثني من ذلك ركوبه، كأن يكون منه عرق أو نحوه، فهذا مستثنى لمكان الحرج والمشقة، ولذلك قالوا: البردع التي تكون عليه إذا أصابها عرق لا يحكم بنجاستها، وذلك لفتوى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أثر عن أنس رضي الله عنه أنه لما لقيه ابن سيرين بعين التمر وهو مستقبل الشام مستدبر الكعبة ووجهه من ذا الجانب، يعني: على غير القبلة وسأله، فقال: (لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ما فعلته) وكان قد صلى على حمار، فدل هذا على أن عرقه وما يخالط الإنسان عند الركوب من العرق والفضلة أنه يغتفر ويعفى عنه، هذا بالنسبة للحمار الأهلي؛ لأنه نجس، ويستثنى منه ما ذكرنا، أما الحمار المتوحش فهو طاهر ولحمه طاهر وسؤره طاهر أيضاً.

حكم البغل المتولد من الحمار والفرس

حكم البغل المتولد من الحمار والفرس يبقى النظر في شيء متولد من الحمار ومن غير الحمار وهو البغل؛ لأن الحيوانات تنقسم إلى قسمين: منها ما هو منتزع من ذكر وأنثى من جنسه، ومنها ما هو مختلط، يجتمع فيه ماء ذكر من نوع من الحيوان وأنثى من نوع آخر، وهذا الذي يحصل في البغال، فإنه ربما نزى الحمار على المهرة التي هي أنثى الفرس فأولدها بغلاً، ولذلك إذا خرج هذا البغل، فهنا يرد الإشكال: هل نعطيه حكم الأب، أم نقول: الولد للفراش وللعاهر الحجر؟! قال بعض العلماء: الشرع يغلب جانب الأنثى؛ بدليل قوله: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر) وهذا باب عظيم في الطهارات وفي اللحوم؛ لأنك إذا حكمت بكونه يتبع للأنثى فتقول: الفرس يجوز أكل لحمه -عند من يقول بجواز أكل لحمه- فإن تولد البغل من الحمار الأهلي والمهرة من الأفراس فيحكم بكونه طاهراً يجوز أكله، وإن قلت: إني أغلب جانب الأب أو الذكر فتقول بحرمته، لكن الصحيح: أن هذا الباب ينظر فيه إلا أصل آخر، وهو: (أنه إذا اجتمع حاظر ومبيح قدم الحاظر على المبيح) وخاصة في باب المطعومات؛ لثبوت السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه إذا كان في الطعام جانب حظر وإباحة؛ غلب جانب الحظر؛ دليل ذلك حديث عدي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (وإن وجدت مع كلبك كلاب غيرك؛ فلا تأكل) مع أنه يحتمل أن الذي صاده كلبه فيحل له أكله ويحتمل أن الذي صاده كلاب غيره فلا يحل، فقال: لا تأكل. وقال له: (إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل، وإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك لنفسه) فبين النبي صلى الله عليه وسلم تردد الحظر والإباحة، فالكلب إذا أرسلته وأكل من الفريسة فيحتمل أنه أمسك لك فيحل، ويحتمل أنه أمسك لنفسه فلا يحل، فقال: (فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف -ليس بيقين- أن يكون إنما أمسك لنفسه) أخذ العلماء من هذا أصلاً عظيماً وهو: تقديم الحظر على الإباحة، واستنبطوا ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم فانتهوا) فجعلوا مرتبة الحظر أقوى من مرتبة الإباحة؛ ولذلك القاعدة تقول: (إذا اجتمع حاظر ومبيح فإنه يقدم الحاظر على المبيح)، وهنا عندنا البغل إن قلنا: نقدم فيه جانب الحظر فإنه يحرم وهو نجس، وإن قلنا: إنه يقدم فيه جانب الإباحة؛ فيحلّ ويكون سؤره طاهراً؛ إعمالاً للأصل الذي يقتضي طهارته، والمصنف رحمه الله ألحقه بما ذكرناه. وقوله: (والبغل منه) لم يقل: (البغل) بإطلاق، ولكن قال: والبغل منه، أي: من الحمار الأهلي، فمفهوم ذلك أنه إذا كان من غيره وهو الحمار المتوحش فإنه لا يعتبر سؤره نجساً.

الأسئلة

الأسئلة

حكم مني الآدمي

حكم مني الآدمي Q هلا فصّلتم أكثر في قول المصنف: (وبول ما يؤكل لحمه وروثه ومنيه ومني الآدمي. طاهر)؟ A باسم الله. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: في الحقيقة أن السائل متأدب؛ لأننا نسينا الكلام على مني الآدمي، وجزاه الله خيراً. اختلف العلماء: هل مني الآدمي طاهر أو نجس؟ وذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول يقول: إن مني الآدمي طاهر، وهو مذهب الشافعية والحنابلة. والقول الثاني يقول: إن المني نجس سواءً من الرجل أو المرأة وهو مذهب المالكية. والقول الثالث يقول: إن المني نجس، ولكن خُفف في طهارته، وهو قول الحنفية، فقالوا: إن كان يابساً يحك، وإن كان مائعاً رطباً يغسل، وهذه ثلاثة أقوال لأهل العلم، أصحها وأقواها: أن المني طاهر؛ وذلك لثبوت السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه وإن بقع المني وأثرها في الثوب، ولذلك القول بطهارته قوي، وفيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقد اختلف في رفعه ووقفه: (إنما هو بمنزلة المخاط) فنزّل النبي صلى الله عليه وسلم المني منزلة المخاط بجامع كون كل منهما فضلة عن البدن، والمخاط طاهر بالإجماع، فكذلك المني طاهر، إلحاقاً للفرع بالأصل، هذا بالنسبة لمسألة المني، ولذلك لما نزل الضيف على أم المؤمنين عائشة وأصبح وقد احتلم، وإذا به قد غسل ثوبه أنكرت عليه عائشة، وقالت: (كنت أحتّه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يصلي فيه وإن أثره في ذلك الثوب). فالأقوى: أن المني طاهر، والقول بنجاسته محل نظر، ولهم أدلة تكلمنا عليها في شرح بلوغ المرام، فمن أراد التفصيل والإسهاب فليرجع إلى شرح عمدة الأحكام أو بلوغ المرام، فقد ذكرنا فيه المسألة بالأقوال والأدلة والردود والمناقشات، والصحيح كما ذكرنا: أنه طاهر، ويجزئ فيه الحك إذا كان يابساً، ولا حرج عليك أن تصلي ولو كان في الثوب، والله تعالى أعلم.

حكم الطائر الذي يصاد بالحجارة

حكم الطائر الذي يصاد بالحجارة Q هل الطائر الذي يتم اصطياده بالرمي بالحجارة حلال، وكذلك الذي يصطاد بإطلاق النار عليه ويموت دون نزول الدم منه هل يجوز أكله؟ A الذي يرمى بالحجارة، أو بما يسمى في العرف بـ (النبال)، الذي يصيب الطيور ونحوها، هذا فيه تفصيل: إذا كان الحجر قد أصاب الصيد، ولهذا الحجر سن بحيث جرحت الطير وخزقته؛ فإنه يحل أكله، وهذا نادر ويكاد يكون شبه مستحيل في الرمي، لكن في بعض الصور قد يقع. وأما إذا أصابه بالحجر ومات الصيد بضغط الحجر، سواء رماه بيده أو بالنبال أو بالمعراض؛ فإنه وقيذ، والوقيذ: هو الذي يموت بفعل الرض بالحجر أو نحوه، ولذلك لا يجوز أكله إذا كان وجده ميتاً، والدليل على اشتراط الخزق: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله عدي بن حاتم فقال: (يا رسول الله! إني أصيد بهذه البزاة وأصيد بكلبي المعلم وبكلبي غير المعلم ثم ذكر له المعراض، فقال صلى الله عليه وسلم: إن خزق فكل، وما أصاب بعرضه فلا تأكل). فالمعراض هو السهم الذي يكون بدون سن، ومعلوم أن السهام كانت توضع لها حديدة تسمى: الزج، مثلثة في رأس السهم، وهذه الحديدة المثلثة التي في رأس السهم ذكر العلماء رحمة الله عليهم الحكمة منها -كما ذكر ذلك القلقشندي في كتابه: (صبح الأعشى) والدميري في (نهاية الأرب) - يقولون: إن هذه تعين على عدم تذبذب السهم، فهذه الحديدة في العادة إذا أصابت فريسة فإنها إما أن تقتلها أو تعقرها، ولذلك إذا أصابها السهم ثم نزعته أضر ذلك بالفريسة، ففي بعض الأحيان تكون الحديدة غير موجودة، ويكون السهم غير مزجج -أي: ليس فيه الزج الذي هو من الحديد- فهذا السهم الذي يصيد يصيد بالعرض؛ لأنه إذا أصاب بالخزق يكون مثل الحديدة، فسأل أبو ثعلبة رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن صيده بالمعراض، لأن المعراض يأتي ويضرب الفريسة بالعرض، كأن تكون الفريسة طائراً أو نحوه فيترنح السهم فيضرب الفريسة، فمع الخوف وشدة الضربة تسقط الفريسة ميتة، فسأل عن هذا؛ لأنه ليس فيه إنهار للدم ولا خزق للفريسة، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن أصاب بعرضه؛ فلا تأكل، وإن خزق فكل) فركب الأمر على وجود الخزق، فالحجر في حكمه، إن أنهر الدم دخل في قوله: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه؛ فكل) وإن لم ينهر دماً ولم يخزق؛ فإنه لا يجوز أكله وهو الوقيذ؛ ولذلك قال الله تعالى في المحرمات: {وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة:3] فالموقوذة محرمة بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، فالطيور التي تصاد بالحجارة دون أن تخزق هذه محرمة ولا يجوز أكلها، وهكذا بالنسبة للطلقات النارية، إن كانت الطلقة لم تخزق؛ فإنه لا يحل أكل الصيد، وأما إذا خزقت ودخلت فيه وأنهرت دمه؛ فإنه صيد حلال، ويجوز أكله، والله تعالى أعلم.

حكم شرب لبن الحمر الأهلية للتداوي

حكم شرب لبن الحمر الأهلية للتداوي Q هل يجوز شرب لبن الحمر الأهلية لعلاج بعض الأمراض أم لا؟ A لبن الحمار الأهلي ينفع للسعال، وهذا من غرائب الأطباء القدماء، فإن السعال يأتي في الصدر وفي الصوت فيمنع الإنسان حتى من صوته، وخاصة السعال الديكي، فنظروا إلى أقوى الحيوانات صوتاً ونفساً فوجدوا الحمار، فأدركوا أن الغالب أن لبنه تكون فيه هذه الخاصية، ولذلك يرضع صغيره كبيره كما قال تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19]. فالمقصود: أن هذا قد نبه عليه ابن خلدون -ويقولون: إن الطب اكتشافه كان بالاستقراء والتتبع؛ لأن الله وضع الدلائل والعلامات والأمارات- فاستنبطوا من خصائص الحمار وقوة صوته أن يكون لبنه نافعاً في هذا، ولذلك يستثنون لبن الحمار إذا أعيت الحيلة- عند من يقول بجواز التداوي بالنجس عند الضرورة- ويقولون: إذا أعيت الحيلة في المريض بالصدر جاز استخدامه، وهذا يقع، خاصة في بعض الأطفال -أجارنا الله وإياكم- أن يحصل لهم هذا، وأذكر بعض القرابة أنه سقط كالميت ما وجد له علاج، حتى جاء طبيب شعبي -وهذا قبل قرابة ثلاثين سنة- وقال: لا علاج له إلا قطرات يسيرة من لبن الحمار في أنفه، وفعلاً -سبحان الله العظيم! - لما نقطت شفي بإذن الله عز وجل، وقد أشار إلى هذا بعض العلماء بقوله: وجاز الانتفاع بالأنجاس في مسائلاً نظم بعدها يفي في جلد ميتة إذا ما دبغا ولحمها للاضطرار سوغا وشحمها تدهن منه البكرة عظامها بها تصفى الفضة ولبن الأتن للسعال والجلد للرئمان فيه جالي (لبن الأتن) الأتان: هي أنثى الحمار (للسعال) أي: الديكي ونحوه، (والجلد للرئمان فيه جالي)، في بعض الأحيان تموت الناقة أو البقرة فيمتنع صبيها أو صغيرها من الأكل، فماذا يفعلون له؟ يأتون بجلد أمه ويضعون فيه العلف، فإذا شم رائحة أمه أقبل على الطعام، وهذا من غريب ما يذكرونه. فقال: (والجلد للرئمان فيه جالي)، الرئمان: صغار البقر. (جالي) يعني: واضح من الجلاء، فهذه كلها مسائل تستثنى من الأنجاس؛ لأن الجلد نجس، ولو دبغ جلد البقرة لخرج ما ينتفع به صغيرها؛ لأن الصغير يريد أن يشم رائحة أمه ودمها. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

باب الحيض [1]

شرح زاد المستقنع - باب الحيض [1] جاء الإسلام مبيناً لأحكام كثيرة مما يتعلق بالمرأة، ومن هذه الأحكام: أحكام الحيض، فقد جاء الشرع ببيانها، وذكر تفاصيلها، كبداية سن الحيض ونهايته، وأقل مدة الحيض وأكثرها، وأقل مدة الطهر وأكثره، والأشياء التي يحرم على الحائض القيام بها وغيرها من المسائل الكثيرة المتعلقة بهذا الباب.

أهمية دراسة باب الحيض

أهمية دراسة باب الحيض بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [باب الحيض]. الحيض باب عظيم، وتتفرع عليه مسائل عظيمة تتعلق بعبادات الناس ومعاملاتهم، ولذلك اعتنى المحدثون والفقهاء رحمة الله عليهم بهذا الباب، وما من كتاب يتكلم على أحكام الشريعة في العبادات إلا وعقد لهذا المبحث موضعاً خاصاً أورد فيه الأحاديث والأحكام الخاصة به، وهو باب عظيم، وإتقانه ليس من السهولة بمكان بل هو عسير إلا على من يسره الله عليه، ولذلك قال الإمام النووي رحمه الله: إنه من عويص المسائل ومن عويص الأبواب، يعني: من أشدها وأعظمها، ولا شك أن الذي يتقنه يسد ثغرة من ثغور الإسلام، والسبب في ذلك: أن المرأة تلتبس عليها صلاتها، وصيامها، وعمرتها، وحجها، وغير ذلك من عباداتها التي تشترط لها الطهارة، ويلتبس على الرجل حل طلاقه وكذلك إباحة إصابته لامرأته، واستمتاعه بها، وجواز تطليقه وعدم جوازه، وانقضاء العدة وعدم انقضائها، وكل هذه المسائل تتفرع على إتقان باب الحيض، ولذلك لاشك أن طالب العلم ينبغي عليه أن يعتني به، وأن يوليه من العناية والرعاية ما هو خليق به. وقد ألف العلماء رحمة الله عليهم فيه تآليف مفيدة، وجمعها الإمام الدارمي في كتاب مستقل، وجمعها الإمام النووي رحمه الله فيما لا يقل عن مائتي صفحة، وقال: إنه لم يستوعب شتاتها مع هذا كله، وكتب فيها بعض العلماء خمسمائة ورقة، أي: قرابة ألف صفحة في هذه المسائل، وهو أمر دقيق. وقد يقول قائل: كيف يكون عسيراً والأحاديث فيه قليلة، وربما أن الإنسان إذا تفرغ له وأتقن أصوله أَلَمَّ به؟ نقول: الواقع بخلاف ذلك، وأحب أن أنبه على مسألة: وهي أن الحيض حينما يبحث فإنه يبحث من وجهين: الوجه الأول: أصول باب الحيض. والوجه الثاني: الفروع المتعلقة بهذه الأصول فأما الأصول فهي منحصرة ومحدودة، ويمكن للإنسان أن يضبط أحاديثها ولا إشكال فيها، ولكن الإشكال في الفروع، وقد يقول قائل: من أين جاءتنا هذه الفروع التي عُقِّد بها باب الحيض أو وُسّع فيه؟ A أنه ينبغي على طالب العلم أن يتنبه إلى أن الحوادث والنوازل والفروع لا تتقيد، ولذلك قد تكون المسائل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة منحصرة، ثم إذا جاءت من بعد ذلك القرون تعددت المسائل؛ لأن مسائل الحيض في القديم -على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة إلى قرابة عصور الخلفاء الراشدين- تجدها على بيئة واحدة، وهي بيئة الجزيرة، فتجدها منحصرة، لكن لما اختلفت البيئات وفتحت الفتوح ووجدت الأجناس، أصبحت مسائل الحيض واسعة، حتى إن بعض أئمة الحديث يقول: في الحيض ما يقرب من مائة حديث، ولهذه الأحاديث ما يقرب من مائة وخمسين طريقاً، وقد جمَعتُ فيها ما لا يقل عن خمسمائة ورقة، ولذلك قال الإمام ابن العربي المالكي رحمة الله عليه: وهي مسائل تأكل الكبد، وتنهض الكتد، ولا يتقنها منكم أحد، فباب الحيض باب عظيم، يقول الإمام أحمد رحمة الله عليه عن هذا الباب: إنه جلس فيه تسع سنوات حتى فهمه.

التحذير من الاستهزاء بالعلماء لاهتمامهم بباب الحيض

التحذير من الاستهزاء بالعلماء لاهتمامهم بباب الحيض وللأسف نجد من يُثَرّب على العلماء ويقول: إنهم علماء الحيض والنفاس، ووالله الذي لا إله إلا هو، لو أمست امرأته حائضاً وهو لا يعرف أحكام الحيض والنفاس لما أحسن جوابها، ولعرف قدر علماء الحيض والنفاس، ولذلك لا يجوز لأحد أن يستخفّ بهذا الباب، والاستخفاف به يدل على هوى صاحبه. فلو أن إنساناً استخف بالعلماء وقال: علماء الحيض والنفاس! فقد يخشى عليه الكفر؛ لأنه يستهزئ بعلماء الدين، وهذه كلمة كما قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15]، ولذلك ما جاء الأمة البلاء إلا من الغلو، فتجد العابد الصائم القائم يحتقر طلاب العلم ويحس أن الدين هو الصيام والقيام، وتجد طالب العلم يحتقر العابد ويقول: هذا جالس يصلي ويصوم ويحتقر عبادته؛ وذلك لأن طالب العلم يغلو في طلب العلم، والعابد يغلو في العبادة، وهذا لا يجوز؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أهلك من كان قبلكم الغلو) فلا يجوز الغلو في الدين. والإنسان إذا أراد أن يمسك باباً فلا يحتقر غيره، فكلٌ على ثغرة، والله يقول: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] فأنبه على هذا؛ لأنها مسألة عارضة، وهي خطيرة جداً أن يستهزأ بالعلماء، ومسألة الاستهزاء بالفقهاء -أي: الاستخفاف بالفقه- وذكر مسائل الحيض والنفاس قديمة وليست وليدة اليوم، ولكن ينبغي على طلاب العلم أن يتنبهوا لهذه الآفة من آفات اللسان، نسأل الله أن يعصمنا وإياكم من الهوى والردى، والمقصود: أن هذا الباب باب عظيم وينبغي على طالب العلم أن ينتبه له.

حالات المرأة في الحيض

حالات المرأة في الحيض الإشكال في هذا الباب أن المرأة لا تخلو من أن تكون مبتدأة، أو معتادة، أو مميزة، أو متحيرة. أربع حالات: إما أن تكون مبتدأة: والمبتدأة هي التي ابتدأها الحيض، أي: جاءها لأول مرة. وإما أن تكون معتادة: وهي التي عاودها الحيض ثلاث مرات فأكثر على وتيرة واحدة. أو تكون مميزة: وهي المرأة التي تعرف دم الحيض، وتميزه بلونه، ورائحته، وغلظه، ورقته، والألم وعدمه. أو تكون متحيرة، والمتحيرة والمحيرة قالوا: متحيرة: في نفسها لا تستطيع أن تميز، ومحيرة: لأنها حيرت العلماء؛ لأن مسائلها تتداخل، فتارة ينظر إلى التمييز، وقد لا تستطيع أن تميز، وتارة ينظر إلى الأمد والزمان فتردها إلى أقل الحيض، وتارة ترد إلى أكثر الحيض، فاحتار العلماء فيها. فأكثر مسائل الحيض وإشكالاته في المميزة والمتحيرة، وأعقدها في المتحيرة، وقد تكون هناك مسائل متداخلة في الحيض، كأن يدخل الحيض على النفاس، فتكون المرأة نفساء ثم لا تشعر إلا وقد طهرت، فتطهر يوماً كاملاً وترى النقاء، ثم يدخل الحيض على النفاس. المقصود: أن باب الحيض باب دقيق، وهذه الفروع ينبغي أن لا تحتقر، بمعنى: إذا مرت علينا مسائل أو فروع للعلماء فينبغي على طالب العلم أن ينتبه لها، وكان بعض طلاب العلم إبان الطلب يستخفون بهذه المسائل ويقولون: هذه التفريعات ما أنزل الله بها من سلطان، والواقع أننا لما قرأناها وجدناها من ألذ ما يكون في دراستها وضبطها وينفع الله بك المسلمين خيراً كثيراً، فكم من إشكالات وعويص مسائل تزال بإتقان هذا الباب، وهي بسيطة -إن شاء الله- إذا يسر الله على طالب العلم بحيث يعرف أصول كل نوع من النساء وضابطه، أي: يعرف أصل كل حكم يريد أن يقرره، فيستطيع أن يعرف ما تفرع عنه. ويحتاج كتاب الحيض إلى إلمام وإتقان، ولا تزال الأمة بحاجة إلى الإتقان من طلاب العلم، بل إن الإمام النووي في القرن السابع يقول: وقد غلط فيه العلماء. وهذا في القرن السابع، واليوم قلَّ -إلا من رحم الله- من يتقن مسائل الحيض، فقد تجد الواحد يقول: الأمر يسير! ويقفل الباب من بدايته، وقد يرد المرأة إلى عادة أمثالها أو أضرابها، ويقول: تنظر عادة أمها أو أختها وتعمل على ذلك وينتهي الإشكال، لكن لا يستطيع أن يعطيك أصلاً أو حجة تدل على أنه قد فهم هذا الباب وأَلَمّ بأصوله، ولذلك ينبغي على طلاب العلم أن ينتبهوا، وأنبه هنا على أنه لو ترجح عندنا -مثلاً- أن المرأة تبني على الغالب فنقول لها: تحيّضي خمساً أو ستاً أو سبعاً في علم الله عز وجل وينتهي الإشكال، فهذا راجح بالنسبة لظننا، والحديث في هذا حسن ولا يقتضي أن غيره مرجوح من كل وجه، وأنه هو الحق الذي لا مرية فيه، فقد تكون التفريعات التي ذكرها العلماء فيها الصواب وفيها ما يوافق الحق في بعض الصور وهي خارجة عن هذا الحديث، فلذلك نقول: ينبغي على طالب العلم أن يتقن هذا الباب ويلمّ به ويوليه من العناية ما هو خليق به. والكتاب الذي معنا مباحث الحيض فيه مختصرة، ولكن لا شك أن فيها إلماماً بأصول جيدة في باب الحيض، وقد ننبه على بعض الفروع، ونسأل الله عز وجل التوفيق والرعاية.

تعريف الحيض لغة وأحكامه

تعريف الحيض لغة وأحكامه الحيض في اللغة: السيلان. يقال: حاض الوادي إذا سال ماؤه، وحاضت السمرة -وهي نوع من الشجر- إذا سال منها سائل كالصمغ، فيقولون لها: حاضت. ويقال: المرأة حائض وحائضة، ونُوزع في الثاني؛ لأن الذي لا يشترك فيه الذكر والأنثى لا يؤنث. قالوا: فيقال: امرأة حائض، كما يقال: امرأة طالق؛ لأن الرجل لا يَطْلُق، وكذلك الرجل لا يحيض، ولا يقال: امرأة طالقة أو حاملة؛ لأن هذا مما يختص به الإناث فلا حاجة للتأنيث؛ لأن الأصل في التأنيث أن يكون فيما يفصل فيه بين الذكر والأنثى مما يدخله الاشتراك. وأما بالنسبة للاصطلاح فاختلفت تعاريف العلماء للحيض اصطلاحاً، لكن عند النظر فيها تستطيع أن تستجمع منها قولهم: دم يرخيه رحم المرأة عادة، وبعضهم يقول: دم يرخيه رحم المرأة لغير مرض أو ولادة. فقولهم: (يرخيه) أي: يسيل منه، وقولهم: (رحم المرأة) قال بعضهم: فرج المرأة، ولكن التعبير بالرحم أدق. وقولهم: (رحم المرأة) وخرج من هذا الرجل، وقولهم: (رحم المرأة) على التغليب، ولذلك يقولون: يشترط فيه ألا يكون لمرض أو لولادة، فإن كان لمرض: فهو استحاضة، وإن كان لولادة: فهو نفاس. فإذا كان لمرض فهو استحاضة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما ذلك عرق)؛ وسميت الاستحاضة استحاضة؛ لأن الأصل الحيض، فإذا استمر الدم معها فوق أمد الحيض قالوا: استحاضة، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، أي: زاد عن قدره المألوف المعروف. وأما قولهم: (لغير ولادة) فهو إخراج لدم النفاس. وبعض العلماء يقول: دم جبلة وطبيعة يرخيه رحم المرأة لغير ولادة، وهذا أيضاً تعبير دقيق. فقولهم: (دم طبيعة وجِبِلة) يُخْرج دم الاستحاضة؛ لأنه لغير طبيعة وهو عارض. وقولهم: (لغير ولادة) يُخْرج دم النفاس والمعنى كله متقارب. أما بالنسبة للحيض فذكره المصنف رحمه الله في هذا الموضع لتعلقه بمباحث الطهارة؛ حيث يحكم بكون المرأة طاهراً، وبكونها يحل وطؤها ويحل طلاقها كما سيأتي -إن شاء الله- في الفروع المتعلقة بالحيض. وأما بالنسبة لمناسبة ذكره بعد إزالة النجاسة: فدم الحيض دم نجس بالإجماع، وهو نوع من أنواع النجاسات، ويُحَبّب لطالب العلم -لو أمكنه- أن يقرأ بعض كلام الأطباء في هذا الدم الذي يرخيه الرحم، وينظر إلى بديع صنع الله عز وجل وعظيم حكمته، وجليل علمه سبحانه وتعالى، فلو قرأت عن الحِكَم التي توجد في هذا الدم. في كيفية خروجه، وكيفية إرخاء الرحم له، وكيف يتهيأ ذلك الرحم لإخراجه وإفرازه، ثم كيف ينقبض بإذن الله عز وجل عند الخروج؛ لأن هذا الدم يتهيأ الرحم بعده للحمل، وتفرز الهرمونات التي تعين على الحمل، حتى إذا شعر المبيض أنه ليست هناك ولادة امتنع من إفراز هرمون الحمل، فأخذت الأوعية تتقلص، ثم أخذت تفرز ذلك الدم، فإذا به يتجلط في ذلك الموضع، ثم يرسل الله عز وجل له كالخميرة تفكك هذا التجلط، فلو مكث سنوات فإنه لا يتجلط في ذلك المكان -سبحان الله! - وهذا من عظمة الله جل جلاله. ويوجد كلام جيد في الموسوعة الطبية التي ألفها مجموعة من الأطباء، وأيضاً للدكتور محمد بن علي البار كلام طيب في دورة الأرحام، وينبغي على طالب العلم أن يُّلم بهذه الأشياء، وبعضها قد تنبني عليه أحكام فقهية، وأرى أن طالب العلم ينبغي أن يجمع بين الفقه وفهم بعض الحِكَم والأسرار حتى يكون الفقه معيناً له على العبادة، ولذلك أخبر الله عز وجل أنه لا أحسن منه حُكماً لقوم يوقنون، أي: عندهم اليقين وعندهم الإيمان؛ لأن الإنسان إذا تأمل الأحكام الشرعية ونظر فيها أدرك عظمة الله جل جلاله وحكمته، ولو جاء بعكسها لعلم عظمة هذا الحُكم، وأنه ليس أسلم منه ولا أحسن منه ولا أكمل، وكذلك عندما تقرأ بعض الحِكم الموجودة في خلق دم الحيض وتكوينه، وكيف يخرج، وصفة خروجه، ربما أنك تستعين بها في بعض المواضع للتدليل على عظمة الله وعلى قدرته سبحانه وتعالى. فالفقيه ينبغي أن يجمع بين مادة الفقه والحِكم والمعاني المستفادة من الفقه، ففي هذين الموضعين -في الموسوعة الطبية ودورة الأرحام- كلام جيد حبذا لطالب العلم أن يقرأه ويلمّ به، ويقولون: إن السائل الذي يفرز مع دم الحيض يقتل الجراثيم، أي: فيه من القوة على قتل الجراثيم والمكروبات الشيء العجيب، ولو نظر الإنسان إلى أن الله عز وجل لو ترك هذا الموضع دون وجود مثل هذا الشيء لربما أصيبت المرأة بكثير من الأمراض، بل إن الرجل بحكم ما يحصل من الاتصال بينهما ربما يصاب بهذه الأمراض، فالحمد لله على لطفه ورحمته بالعباد. وهذا الباب كما قلنا باب من أبواب الطهارة، ووردت نصوص في الكتاب ونصوص في السُّنة تبين بعض مسائله والأحكام المتعلقة به، ولذلك سنبين بعضها -إن شاء الله- عند ذكر العبارات التي يذكرها المصنف، وقد نتوسع في هذه العبارات، فيحبذ لطالب العلم أن يلم بالأصل الذي نذكره، والفروع التي تنبني على ذلك الأصل.

أسماء الحيض

أسماء الحيض الحيض له أسماء ومنها: النفاس، والإكبار، والإعصار، والطمث، والضحك، فكل هذه أسماء للحيض. فالحيض: اسمه في الكتاب والسُّنة، والنفاس: جاء فيه حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها في حجة الوداع لما حاضت: (مالك أنفست؟ ذاك شيء كتبه الله على بنات آدم) (أنفست؟) أي: أصابك الدم، فسمى الحيض نفاساً، ويسمى أيضاً الحيض بالضحك؛ ومنه قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] فقول طائفة من المفسرين أن قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هود:71] أي: أصابها الحيض حتى تتأهل به للحمل، وإن كان بعض العلماء ينازع في هذا الإطلاق، ولكن في لغة العرب يوجد هذا المعنى وفيها ما يدل عليه.

بداية زمن الحيض

بداية زمن الحيض قال رحمه الله: [لا حيض قبل تسع سنين ولا بعد خمسين]: يقول المصنف رحمه الله: (لا حيض قبل تسع سنين) أي: لا حيض للمرأة إذا كان عمرها دون تسع سنين، وهذه المسألة تُعرف عند العلماء ببداية زمن الحيض، ونظيرها: نهاية زمن الحيض. والعلماء يبحثون مسألة بداية الحيض ونهاية الحيض؛ لأن المرأة ربما يصيبها الدم وهي بنت ثمان سنوات -فرضاً- فهل نحكم بكونها حائضاً، أو نقول: إن الدم دم استحاضة؟ فإن جعلت للحيض زماناً يُبتدأ فيه الحكم بكون المرأة حائضاً فتقول: ما قبله استحاضة، وأي دم يصيب المرأة قبل هذا الأمد تحكم بكونه استحاضة، ولا تحكم بكونه حيضاً، فلو أن المرأة أصابها الدم وهي بنت ثمان سنوات ثم سألت، فإن قلت: الحيض يأتي قبل التاسعة وكان على أمد الحيض وجاوز إلى أمد الحيض فتقول: إنها بالغة وحكمها حكم الحائض. أما لو قلت: التسع سنوات أمد؛ فإنك تحكم بكونها مستحاضة ولم تبلغ بعد، وهي في حكم الطفلة، والدم الذي معها دم عارض وليس بدم طبيعة ولا جبلة. ومسألة أقل زمان الحيض فيها أقوال: قال بعض العلماء: أقله تسع سنوات، ويكاد يكون هذا القول للجمهور. والقول الثاني: أن أقل زمن تحيض فيه المرأة ست سنوات. والقول الثالث: أنه اثنتا عشرة سنة، هذه ثلاثة أقوال. القول الرابع: أنه سبع سنوات. فالقول الست هو لبعض فقهاء الحنفية، والسبع أيضاً مثلها، والاثنا عشر لبعض فقهاء الشافعية، ولكن الجمهور على التسع وهو الصحيح والأقوى، والسبب في صحته وقوته: أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد على عائشة وهي بنت ست سنوات، ونكحها ودخل بها وهي بنت تسع سنوات، فدل على أن التاسعة تتأهل بها المرأة للحيض، وأيضاً دلالة العرف، ولذلك قالوا: قلّ أن تحيض المرأة قبل التسع، وأُثر عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (إذا بلغت الجارية تسع سنوات فهي امرأة)، أي: أنها بالتسع السنوات تتهيأ لكونها امرأة، وأعجل النساء حيضاً اللاتي يكن في المناطق الحارة، ولذلك قال الإمام الشافعي: أعجل من رأيت من النساء في الحيض نساء تهامة، وجدت جدة ابنة تسع عشرة سنة. أي: تزوجت وهي بنت تسع سنوات، فأنجبت حملها وهي بنت عشر، ثم هذه البنت في التسع سنوات أيضاً تزوجت مثل أمها، وأنجبت وهي على آخر التسع، فتكون أمها على أواخر التسع عشرة سنة، ولذلك يقولون: هذا من أغرب ما يكون في النساء، فالتسع تكاد تكون هي الغالب، والقاعدة: أن النادر لا حكم له، وأن الحكم للغالب، هذا بالنسبة لأقل زمان يمكن للمرأة أن تحيض فيه.

نهاية الحيض

نهاية الحيض وأما بالنسبة لأكثره: فقال الله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق:4]، وهو نهاية الحيض، ولذلك قال العلماء: (آخر سنّ ينقطع فيه دم الحيض هو خمسون عاماً) على ما ذكر المصنف، وقال بعض أهل العلم: ستون، وقال بعضهم -وهو القول الثالث والأقوى والأقرب للصواب إن شاء الله- أن هذا يختلف باختلاف البيئات والنساء، وطبيعة الأرض التي فيها المرأة، فالبلاد الحارّة تختلف عن البلاد الباردة في طبائع النساء، ولذلك يرد إلى العرف، ويضبط بضابطه. فإذا تقرر أن آخر أو أكثر الحيض أو نهاية سن الحيض هي الخمسون -بناءً على ما ذكر المصنف- فينبني على هذا أن المرأة لو بلغت الخمسين ودخلت -مثلاً- في إحدى وخمسين ورئي معها الدم فيعتبر استحاضة، ولا يعطى حكم دم الحيض، وينبني عليه أيضاً أنها تعتد بالأشهر ولا تعتد بالحيض؛ لأن الدم الذي معها أُلغي، فهذه فائدة معرفة آخر زمن للحيض، فإنك إذا أثبت أنه يتأقّت، فببلوغ المرأة لهذا الأمد المؤقت يحكم بكونها منقطعة من الحيض آيسة منه فتعتد بالأشهر.

اختلاف العلماء في اجتماع الحيض والحمل

اختلاف العلماء في اجتماع الحيض والحمل قال رحمه الله: [ولا مع حمل]. لأن الله جعل عدة الحوامل إلقاء الحمل، فإذا ولدت خرجت من عدتها: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]، فلو كانت الحامل تحيض لجعل عدتها بالأقراء إعمالاً للأصل، ولذلك قال الإمام أحمد رحمة الله عليه: كان الحمل يعرف بانقطاع الدم. أي: أن الحمل من طبيعته ومن شأنه أنه يعرف بانقطاع دم الحيض، فدلّ على أنه لا يجتمع الحيض والحمل، وقال طائفة من العلماء: إنه يجتمع الحيض والحمل، وهو مذهب بعض أهل العلم، منهم المالكية، وعندهم تفصيل في ضوابط الحيض في الحمل، لكن الذي يقويه الطب: أن الحامل لا تحيض. فائدة الخلاف: أنه لو حملت المرأة وجرى معها دم، فإن قلنا: إن الحامل تحيض وجاء في أمد الحيض حكم بكونه دم حيض، ومنعت من الصلاة والصيام، وإن قلنا: إن الحامل لا تحيض، ففي هذه الحالة يحكم بكونه دم فساد وعلة على الصحيح الذي ذكرناه.

أقل مدة الحيض

أقل مدة الحيض قال المصنف رحمه الله: [وأقلّه يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوماً]. بعد أن بين لك -رحمه الله- من هي المرأة التي تحيض -وهذا تسلسل في الأفكار- وبين لك أن أقل سن تحيض فيه تسع سنوات، وأن أقصى أمد الحيض هو الخمسون، وأن هذا الحيض شرطه أو محله أن لا تكون المرأة حاملاً، إذا ثبت هذا وعرفت من هي المرأة التي تحيض، يرد السؤال الآتي: ما هو أقل أمد للحيض؟ وما هو أكثره؟ لأنك إذا عرفت المحل الذي هو للحيض، يرد السؤال عن نفس الحيض، فتتدرج في الأفكار: فتعرف أول شيء من هي المرأة التي يمكن أن يحكم بكونها من أهل الحيض، والتي يمكن أن يحكم بأنها ليست من أهل الحيض، فإذا عرفت المرأة التي هي من أهل الحيض يرد Q ما هي الضوابط المعتبرة لهذا الدم؟ ومتى نحكم بكونه دم حيض؟ وما هو أقل أمده، وما هو أكثره؟ فقال رحمه الله: (وأقله) أي: أقل الحيض (يوم وليلة) هذه المسألة للعلماء فيها ثلاثة أقوال: القول الأول: قال بعض العلماء: لا حد لأقل الحيض، كما هو مذهب المالكية واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله على الجميع. القول الثاني: أن أقله يوم وليلة، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، كما درج عليه المصنف رحمة الله على الجميع. القول الثالث: أن أقله ثلاثة أيام، وهو مذهب الحنفية. هذه ثلاثة أقوال، والأقوى والأصح: أن أنه لا حدّ لأقله. فائدة هذا الخلاف كالآتي: الذي يقول: إنه لا حد لأقل الحيض يقول: إذا رأت المرأة دم الحيض في زمان الحيض وإمكانه، واستمر ولو ساعة من نهار فإنه يحكم بكونها حائضاً، والذي يقول: إن أقله يوم وليلة، يقول: إن جرى الدم من المرأة واستمر يوماً كاملاً -أربعاً وعشرين ساعة- فهو دم حيض، وإن استمر ثلاثاً وعشرين ساعة، ولم يتم الأربع والعشرين فهو دم استحاضة، لا يمنع صوماً ولا صلاةً. ومن قال: وأن أقله ثلاثة أيام فكاليوم والليلة. فإذاً: عندنا ثلاثة أقوال؛ قول يقول: الحيض لا أقل له، حتى إنه بالإمكان أن يحكم بكونها حائضاً ولو للحظة من نهار، ولو بدفعة واحدة، ويسمونها: دفعة الدم، فإذا دفعت دفعة واحدة من الدم في وقتها أو في ما يعتبر إمكاناً للحيض فيقولون: هذا حيض. أما أصحاب القول الثاني فيقولون: العبرة باليوم والليلة، فلو أنها دفعت دماً لأقل من يوم وليلة فهو دم استحاضة وليس بدم حيض، فلا يمنع صوماً ولا صلاة، ولا يأخذ حكم دم الحيض. والذين يقولون بالثلاثة الأيام، يقولون: إن قل عن الثلاثة الأيام ولو ساعة واحدة؛ فهو دم استحاضة وليس بحيض. وأصح هذه الأقوال -والعلم عند الله-: أن أقله لا حدّ له؛ وذلك لأنه لم يثبت دليل صحيح باعتبار التحديد، ولاشك أن البلاد مختلفة والبيئات مختلفة؛ ولذلك ما دام أن الزمان زمان حيض، فالأصل في هذا الدم -ما دام أنه يمكن أن يكون دم حيض- أنه دم حيض، وليس في الشرع دليل يدل على إلغائه، فنبقى على الأصل الموجب لاعتبار هذا الدم ما دام أنه في زمنه. هذا بالنسبة لأقل الحيض.

أكثر مدة الحيض

أكثر مدة الحيض قوله: (وأكثره خمسة عشر يوماً). إذا عرفنا من هي المرأة التي تحيض، وعرفنا ما هو أقل الدم الذي يمكن أن نحكم بكونه حيضاً، وأنّ الصحيح أنه لا حدّ له؛ يرد Q فيقول لك قائل: هب أن هذه المرأة عمرها تسع سنوات، وجرى معها الدم، سواءً قلنا بمذهب من يقول: إن جرى معها الدم ولو دفعة فهو حيض، أو قلنا بمذهب من يقول: أقله يوم وليلة؛ فهو دم حيض على الأقوال كلها إذا استمر أكثر من ثلاثة أيام، فهل إذا استمر هذا الدم حتى بلغ أياماً، هل نقول: إنها تبقى حائضاً ما جرى معها دم الحيض، أم أن دم الحيض مؤقّت؟ A أن دم الحيض بالإجماع مؤّقت؛ بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (لتنظر الأيام التي كانت تحيضها)، وأخبر الله عز وجل في كتابه عن دم الحيض أنه منقطع: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222]، فأخبر أن للحيض غاية، فإذا ثبت أن للحيض نهاية وغاية، فيرد السؤال: ما هي هذه الغاية التي إذا بلغها الدم وجاوزها حكمنا بكونها مستحاضة؟ وما هي هذه الغاية التي يمكن -في حالة ما لو استمر الدم وانقطع لأقلها وعاودها- أن نثبت لها بها العادة؟ هذا سؤال وارد، ولذلك هذه المسألة تعرف بضدّ المسألة الأولى، المسألة الأولى: أقل الحيض، وهذه المسألة: أكثر الحيض. ما هو أكثر الحيض؟ فالمرأة قد يجري منها دم الحيض ويستمر، وتكون أحياناً مبتدأة صغيرة يجري منها دم الحيض لأول مرة، فتفاجأ، ففوجئت بدم الحيض وقد استمر معها عشرين يوماً أو ثلاثين يوماً أو شهراً، فلا بد أن تحدد ما هي الحيض، وما هو الاستحاضة، وقد يستمر عشرة أيام، أو ثمانية أيام، أو تسعة أيام، وهكذا فإذًا: تحتاج إلى تأقيت أكثر الحيض، فقال لك: (خمسة عشر يوماً) وهذا على قول الجمهور، وفيه حديث: (تمكث إحداكن شطر عمرها لا تصلّي)، ولكنه متكلّم في سنده، لكن العمل عليه عند أهل العلم رحمة الله عليهم. وهذا أكثر الحيض. وفائدة معرفة أكثر الحيض: أنه إذا نزف معها الدم واستمر وجاوز أكثر الحيض، علمت أنها مستحاضة.

أغلب عادة النساء في الحيض

أغلب عادة النساء في الحيض قال المصنف رحمه الله: [وغالبه ست أو سبع]. النساء إذا حضن لا بد أن تعرف القليل والكثير، وبيناه. لكن يرد Q نحن علمنا أن أقل الحيض لا حد له، وأن أكثره خمسة عشر يوماً، فما هو غالب النساء؟ فقال: (غالبه ست أو سبع)، والدليل على ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن: (تحيّضي في علم الله ستاً أو سبعاً)، أي: أن الغالب في النساء أن يستمر دم الحيض وتكون عادتها إما ستة أيام أو سبعة أيام، وللعلماء في قوله: (تحيّضي في علم الله ستّاً أو سبعاً) وجهان: قيل: التخيير؛ يعني: إن شئت أضفت اليوم السابع وإن شئت ألغيتيه. وقيل -وهو الصحيح والأقوى-: إنه للجمع أي: (ستاً وسبعاً)؛ لأن (أو) تطلق في لغة العرب بمعنى الجمع، ومنه قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147] أي: ويزيدون؛ لأن الله لا يشك، وكقوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9] أي: وأدنى؛ لأن الله لا يشك. وفي لغة العرب: كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية؛ أي: كانوا ثمانين وزادوا ثمانية. فالمقصود أن قوله: (أو سبعاً) المراد به: الجمع. فغالب الحيض ستة أيام أو سبعة أيام، ولكنه قد يختل هذا الغالب، فتكون المرأة عادتها خمسة أيام، وقد يختل بما هو أكثر وتكون عادتها تسعة أيام أو عشرة أيام، هذا بالنسبة لغالب الحيض.

أقل الطهر بين حيضتين

أقل الطهر بين حيضتين قال المصنف رحمه الله: [وأقلّ طهر بين حيضتين ثلاثة عشر يوماً]. عندنا شيئان: شيء يسمى: الحيض، وشيء يسمى: استحاضة، وهناك شيء يسمى: الطهر، والطهر هو: النقاء، وأصل الطهر: النظافة؛ طهر الشيء إذا نظف، فمن حكمة الله جل وعلا في خلقه أن المرأة يجري معها دم الحيض، وينقطع عند أمد معيّن، وهذا في الغالب، فإذا انقطع تكون هناك علامتان على الانقطاع: العلامة الأولى: القَصّة البيضاء، وهي ماء كالجير يخرج من الموضع، ويعرفه النساء. وهذه القَصّة البيضاء، هي التي عنتها أم المؤمنين رضي الله عنها بقولها كما في صحيح البخاري: (انتظرن، لا تعجلِنّ حتى ترين القصة البيضاء). العلامة الثانية: الجفوف، والجفوف: أن تضع المرأة القطن في الموضع فيخرج نقياً لا دم فيه، أي: يجف الموضع، وهذه مختلف فيها: هل هي علامة طهر، أو لا؟ فمن حكمة الله جل وعلا أن المرأة يجري معها الدم، ثم ينقطع بعلامة تدل على الطهر، فتبقى طاهراً أمداً، وهذا الأمد يقل ويكثر، ولذلك يحتاج العالم والفقيه وطالب العلم أن يعرف ما هو أقل هذا الطهر بين الحيضة والحيضة؛ لأن المرأة إذا انتهت حيضتها الأولى دخلت في الطهر، ثم أتبعت الطهر بحيضة ثانية، فما بين الحيضتين يسمى: طهراً ونقاءً، وهذا الطهر والنقاء مهم جداً لمعرفة بعض الأحكام الشرعية، خاصة في المرأة المتحيرة، أي: التي ليست عندها عادة، ولا تستطيع أن تميز حينما يجري معها الدم دائماً؛ فحينئذٍ: عندما تعرف أكثر الحيض، وأقل الطهر بين الحيضتين، تحكم بأقل الحيض وأقل الطهر، وتحكم بدخولها في الحيضة الثانية بعد مجاوزة أقل الطهر. توضيح ذلك: مثلاً: لو قلنا بقول المصنف: إن أقل الحيض يوم وليلة، فلو أن امرأة استمر معها دم الحيض يوماً وليلةً، واستمر معها وجاوز أكثر الحيض، فبمجاوزة الدم لأكثر الحيض -وهي لم يأتها الحيض قبل وليست عندها عادة- يحصل الإشكال خاصة في المبتدأة والمتحيرة، فالمرأة التي ابتدأها الحيض -كالصغيرة التي يأتيها الحيض لأول مرة- نحكم بكون اليوم والليلة حيض -على قول المصنف ومن وافقه من الشافعية- فإذا جاوزت أكثر الحيض حُكم برجوعها إلى أقل الحيض، وتقول: هذه المرأة لما جاوزت أكثر الحيض تعتبر مستحاضة، إلا في اليقين الذي هو اليوم والليلة، فأعتبرها حائضاً يوماً وليلة، وما بعد اليوم والليلة تعتبر مستحاضة، فتصوم وتصلي، وتقضي صلواتها وصيامها، ثم إذا استمر الدم بها ستسأل وتقول: عرفت أن اليوم والليلة من الشهر الفلاني عليَّ فيه قضاء الصوم، لكن الدم استمر معي، فهل أبقى مستحاضة إلى الأبد، أم أني سأدخل في حيضة ثانية؟ ف A أنها -طبعاً- ستدخل في حيضة ثانية، فكيف تحكم بدخولها في الحيضة الثانية؟ تنظر إلى أقلّ الطهر الذي ذكرناه، الذي هو -مثلاً- ثلاثة عشر يوماً أو خمسة عشر يوماً على القول الثاني، فتضيف الثلاثة عشر يوماً إلى اليوم والليلة، فيكون اليوم الرابع عشر هو يوم دخولها في الحيضة الثانية حكماً، هذا إذا لم تكن لها عادة ولم يكن لها تمييز. إذًا: معرفة أقل الطهر يستعان به في معرفة دخولها في الحيضة الثانية إذا اختلط عليها الأمر، كأن تكون متحيرة أو تكون مبتدأة لا عادة لها ولا تمييز. هذا بالنسبة لمسألة أقلّ الطهر. إذًا: عندنا أقل الحيض، وأكثر الحيض، فأقل الحيض نستفيد منه في الحكم بكون المرأة حائضاً أو ليست بحائض، فمن يؤقت يقول: ما دونه ليس بحيض، وما كان مثله وزاد فهو حيض، وأكثر الحيض قلنا: نستفيد منه في أنه إذا جاوزه الدم حكمنا بكونه استحاضة، ثم يبقى النظر: هل تردها إلى اليقين من أنها حائض يوماً وليلة عند من يقول بالتأقيت، أو تردها إلى أكثر الحيض أو إلى غالب الحيض؟ كلها أوجه للعلماء سنبينها إن شاء الله.

أكثر مدة للحيض

أكثر مدة للحيض قال المصنف رحمه الله: [ولا حدّ لأكثره]. عرفنا أن أقل الحيض لا حد له، وأن أكثره خمسة عشر يوماً، وأن أقل الطهر ثلاثة عشر يوماً. فيرد Q ما هو الحد الأكثر للطهر؟ قال: لا حد لأكثره. فالمرأة بالإمكان أنها تحيض ثم تطهر وتبقى طاهراً شهوراً، وقد تبقى طاهرا أمداً بعيداً؛ فلا حد لأكثر الطهر. فلو سئلت: ما الفرق بين الطهر والحيض بالنسبة للتقدير؟ تقول: إن الحيض لا حد لأقله، وله حد لأكثره على الصحيح، والطهر لا حد لأكثره وله حد لأقله، فهو عكس للحيض تماماً.

ما يحرم على الحائض

ما يحرم على الحائض قال المصنف رحمه الله: [وتقضي الحائض الصوم لا الصلاة]. بعد أن بيَّن مقدمات كتاب الحيض، شرع رحمه الله في بيان مسألة مهمة وهي: الأشياء التي يمنع منها الحيض، والحيض يمنع عشرة أمور، ذكر المصنف رحمه الله أشهرها وأهمها.

منع الحائض من الصوم والصلاة

منع الحائض من الصوم والصلاة فقال رحمه الله: (وتقضي الصوم لا الصلاة) أي: هذه المرأة التي أصابها الحيض يحكم بمنعها من الصيام ومن الصلاة، فإذا انتهى الحيض وجب عليها قضاء الصوم دون الصلاة. أما الدليل على هذا الحكم: فحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، والذي روته عمرة بنت عبد الرحمن أنها سألت أم المؤمنين: (ما بال الحائض -ما بال، أي: ما الشأن والحال- تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟) عمرة رحمها الله فقيهة من فقهاء التابعين رحمة الله عليهم أجمعين، فهذه الفقيهة الفاضلة سألت أم المؤمنين لماذا أمر الشرع المرأة الحائض أن تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ لماذا سألت؟ A لأن الصلاة في حكم الشرع أهم من الصوم، فالصلاة عماد الدين، وهي الركن الذي يلي الشهادتين. (فقالت لها أم المؤمنين: أحرورية أنتِ؟) أي: هل أنت من الخوارج الذين يكثرون التشدق في الدين والتنطع فيه؟ وحرورية: نسبة إلى حروراء؛ وهو موضع كان فيه الخوارج. (فقالت: لا، بل سائلة) أي: أستشكل فأسأل. فقالت رضي الله عنها: (كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة)، فدل على أن الحائض لا تصوم ولا تصلي، وأنه يلزمها قضاء الصوم ولا يلزمها قضاء الصلاة. قال المصنف رحمه الله: [ولا يصحّان منها، بل يحرمان]. فلو أن امرأة علمت أنها حائض وصامت، فلا يصح صيامها، فإذا علمت بالتحريم وصامت فهي آثمة شرعاً، لكن لو كانت لا تدري أن هذا الدم دم حيض وكانت تظنه دم استحاضة، وصامت أو صلت ظانة أنها طاهر، ثم تبين أن هذا الدم دم حيض؛ فإنه لا إثم عليها ولا يحكم بصحة صومها ولا بصحة صلاتها، وهي غير مطالبة بالصلاة.

المنع من وطء الحائض في الفرج

المنع من وطء الحائض في الفرج قال المصنف رحمه الله: [ويحرم وطؤها في الفرج]. أي: يحرم على الرجل أن يجامع امرأته الحائض في فرجها، والدليل على ذلك: ما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح)، وقد نص الله عز وجل في التنزيل على تحريم وطء الحائض في قوله سبحانه وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222]، وقوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] والمحيض: اسم مكان كالمقيل، أي: مكان الحيض، وفائدة هذا التحديد في الكتاب بكونه في المحيض أنها لا تُعتزل في غيره، وفي ذلك رد على اليهود، فقد كان اليهود -عليهم لعائن الله- إذا حاضت المرأة عندهم لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجالسوها، فجاء الإسلام بالسماحة واليسر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي عائشة رضي الله عنها الإناء فتشرب وهي حائض ويشرب من الموضع الذي شربت منه، كل هذا مبالغة في الرد على اليهود، وإبطال ما كانوا عليه من أذية النساء بذلك. فالمقصود: أن الذي حرمه الله عز وجل هو الوطء. قوله: (الوطء في الفرج) يشمل ذلك القبل والدبر، أما الدبر فيحرم العموم، سواء كان في حيض أو غيره، وأما بالنسبة للقبل فهذا يتأقت بحال الحيض. فيمنع الوطء في الفرج، لكن هل يستمتع بغير الفرج؟ هذه المسألة خلافية عند العلماء، والأصل عندهم أنه يجوز للرجل أن يستمتع بالمرأة إذا كانت حائضاً بغير الجماع، لكن يأمرها فتتّزر، وتلبس إزارها من ثوب ونحوه مما يغطي الموضع المحرم، وبعضهم يحدده بما بين السرة والركبة؛ لأن ما قارب الشيء أخذ حكمه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه)، فلذلك قالوا: تتحدد الأزرة بما بين السرة والركبة، وأكدوا ذلك بقولها: (كان يأمر إحدانا فتتّزر فيباشرها وهي حائض) والأزرة: لا تكون أزرة إلا إذا غطت هذا الموضع، فالإزار الغالب فيه أن يكون بهذا القدر، فقال هؤلاء العلماء -وهو مذهب الاحتياط-: إنه يترك عليها من اللباس ما يكون غطاء للفرج وما حوله، ثم شأنه بما دون ذلك. وقال بعضهم: المحرم عليه الفرجان، ولا مانع من أن يستمتع بغير الفرجين ولو كان بالمباشرة، يعني: أن المراد بالاتزار: أن تشد الموضع فقط، ثم لو لامس غير هذا الموضع -الذي هو موضع الجماع- فلا حرج عليه، على ظاهر القرآن: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيض} [البقرة:222]. وهذا المذهب الثاني أقوى من جهة النص -ظاهر القرآن-: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيض} [البقرة:222] وهذا تأقيت. والمذهب الأول أحوط وأسلم، وأبرأ للذمة، وأبعد عن الشبهة. وفرّق بعض العلماء -وهو قول ثالث- بين الذي يستطيع أن يضبط نفسه، والذي لا يستطيع أن يضبط. فقالوا: يباشر بما دون الفرج قريباً من الفرج إذا كان يملك نفسه، والغالب عليه السلامة، وإلا فلا. وتحريم الله وطء الحائض رحمة بالعباد، فقد ذكر الأطباء أن هذا -وطء الحائض- فيه أضرار، أي: أن هذا الحكم من الحكمة بمكان؛ لما فيه من دفع الضرر عن الزوج والزوجة، حتى أن بعض الأطباء في العصور المتأخرة يقول: أنه كان في إحدى الاجتماعات الطبية، فقالت امرأة طبيبة أنها وصلت إلى أمر هام في الطب وهو: أن من يجامع المرأة وهي حائض فإنه يلتهب عنده البروستات -غدة من غدد الجسم-. فقال أحد الأطباء المسلمين: هذا الذي توصلتِ إليه اليوم عرفه المسلمون من أكثر من ثلاثة عشر قرناً؛ فإن الله عز وجل يقول: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] (قل هو أذىً) فأخبر أنه أذى، والأذية قد تكون بالضرر في الجسد؛ كما قال تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران:111]، فهو يشمل أذى الحس وأذى المعنى، فكان هذا من إعجاز القرآن، وإعجاز هذه الشريعة، فالمسلمون يعرفون أن هذا الشيء يفضي إلى الضرر، ويستوي في ذلك عوامهم وعلماؤهم. فمن رحمة الله أنه حرم الجماع في هذا الوقت، وذكر بعض الأطباء أنه يؤدي إلى الإضرار بالمرأة أيضاً، وقالوا: حتى إنه ربما يؤدي إلى أضرار في نفسية المرأة، وعلى هذا فينبغي على طالب العلم أن يكون على إلمام بهذا، وللدكتور محمد علي البار بحث جيد في دورة الأرحام؛ نبه على الأخطار الطبية المترتبة على وجود الجماع في هذا الوقت الذي حرمه الله عز وجل، فينبغي لطالب العلم أن يطلع على هذه الأمور إن تيسر له ذلك؛ لأنها تؤكد حكم الشريعة، وزيادة في اليقين. قوله: (يمنع) وهذا بالإجماع أنه لا يجوز الجماع؛ وذلك على ظاهر الكتاب وظاهر السُّنة.

كفارة جماع الزوجة الحائض

كفارة جماع الزوجة الحائض قال المصنف رحمه الله: [فإن فعل فعليه دينار أو نصفه كفارة]. (فإن فعل) أي: المكلف، تجاوز حدود الله عز وجل وجامع امرأته وهي حائض (فعليه دينار أو نصفه) الأصل في هذا حديث ابن عباس -اختلف في رفعه ووقفه- أن النبي صلى الله عليه وسلم وقّت هذا، وهو رواية أبي داود، وحسنه غير واحد من أهل العلم، ومنهم من صححه فقال: إنه صحيح لغيره، ومنهم من ضعفه، والقول بتحسينه أقوى، فهذا الحديث أمر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق بدينار أو نصف دينار. ثم اختلف في هذه الصدقة، فقال بعض العلماء: إن قوله (دينار أو نصف دينار) للتنويع، فإن شاء تصدق بدينار وإن شاء تصدق بنصف دينار، وهذا إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، أنه مخير بين أن يتصدق بالنصف وبين أن يتصدق بالدينار. واستشكل بعض العلماء: كيف يؤمر بالأقل والأكثر في كفارة واحدة؟! وهذا ليس بإشكال؛ فإن الله عز وجل أمر من أفطر كالشيخ الكبير أو من لا يطيق الصوم بالفدية؛ وهي: إطعام مسكين، وهذا أقل شيء، ثم قال: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة:184] فذلك يدل على أنه قد يرد في الكفارة الجمع بين الأقل وبين الأكثر، وكذلك أيضاً: لا ضرر في هذا التخيير، إذ قد يجمع بين الشيء ونصفه، وقد يجمع بين الكامل ونصف الكامل، وذلك على سبيل الوجوب، فنقول: لا مانع أن الشرع يأمر بالدينار ونصف الدينار، ولا يتجه اعتراضهم بأنه جمع بين الكامل ونصف الكامل؛ لأن الله أباح قصر الصلاة في السفر، وثبت في السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الرباعية تقصر إلى ركعتين، ومع هذا لو أتم صلاته -كأن يصلي وراء حاضر- فلا حرج عليه، فجمع بين النقص للنصف وبين كمال العبادة. والمقصود: أنه إذا جاءت السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فهي حَكَم على كل قول، وبناءً على ذلك يتصدق بدينار أو نصف دينار على التخيير. وقال بعض السلف -وهي فتوى ابن عباس رضي الله عنهما- سبب التخيير بين الدينار ونصف الدينار سببه: أن الجماع في الحيض يختلف، فإن كان في أول الحيض فدينار، وإن كان في آخره فنصف دينار. وقال بعضهم -وهو قول ثان لبعض السلف أيضاً-: دينار إن كان في أول الحيض، ونصفه إن كان في أوسط الحيض أو آخره. وتقسيم الحيض إلى أول ووسط وآخر يكون إما بالزمان وإما بالتمييز، مثال ذلك بالزمان: أن تكون عادة المرأة ستة أيام، فأوله: اليومان، وأوسطه: الثالث والرابع، وآخره: الخامس والسادس. أما تأقيته بالصفات: فكأن يجري معها دم الحيض في الأيام الأول -يومان مثلاً- أحمر شديد الحمرة قريب إلى السواد، ثم يجري معها في اليومين الأوسطين أحمر شديد الحمرة، ثم في اليومين الأخيرين يجري معها أقل حمرة أو قريباً إلى الصفرة، فبناءً على هذا تؤقت إما بالزمان وإما بالصفة. فإذا وقع في زمان شدة الدم وحمرته واشتداده في أوله فدينار، وإن كان في آخره فنصف. وفتوى ابن عباس تقوي التفصيل؛ إن كان في أوله فدينار، وإن كان في آخره فنصف، وهو قول من القوة بمكان. أما بالنسبة لقدر الدينار: فالدينار الإسلامي القديم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وما بعده إلى عهد الخلفاء وكذلك دينار عبد الملك بن مروان يعادل مثقالاً، والمثقال: يعادل بالجنيه السعودي الموجود الآن جنيهين إلا ربعاً، فيتلخص أن أربعة أسباع الجنيه السعودي تعادل قدر الواجب، فلو فرضنا أن الجنيه السعودي تقدر قيمته بسبعين ريالاً -مثلاً- فيصير أربعة أسباعه كم؟ تقسم السبعين على عشرة، وتخرج نسبتها فيكون السُبع عشرة، فأربعة أسباعه: أربعون ريالاً، أي: بما يجاوز نصف الجنيه بقليل. قال المصنف رحمه الله: [ويستمتع منها بما دونه]. قوله رحمه الله: (ويستمتع) من المتعة وهي: اللذة. وقوله: (بما دونه) أي: بما دون الموضع الذي حرم الله الجماع فيه، وظاهر كلام المصنف أنه سواء وُجد حائل أو لم يوجد حائل، وهي المسألة التي تعرف عند العلماء بـ (مسألة المفاخذة ونحوها). فقال بعض العلماء -كما تقدم-: يجوز، وهو المفهوم من ظاهر كلام المصنف؛ ودليله حديث عائشة: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) وهذا عام، (وكل) -كما يقول الأصوليون-: من ألفاظ العموم، فله أن يستمتع بكل شيء ما لم يصل إلى الحرمة؛ كالوطء في الدبر، فهذا مما حرم الله، ولكن يبقى ما عداه على الأصل؛ لأن الله جعل المرأة عفة للرجل، وجعل الرجل عفة للمرأة.

ما يباح للمرأة عند انقطاع الدم

ما يباح للمرأة عند انقطاع الدم قال المصنف رحمه الله: [وإذا انقطع الدم ولم تغتسل لم يبح غير الصيام والطلاق]. المرأة إذا طهرت من الحيض، ورأت علامة الطهر، فهذه مرحلة أولى، تليها مرحلة ثانية وهي: تطهرها بنفسها، وذلك بالغسل من الحيض، فعندنا طهارتان: طهر للموضع بانقطاع الدم وبدوّ علامة الطهر، وطهر للمرأة، فالأول ليس بيدها، والثاني بيدها. فإذا طهرت المرأة وتطهّرت -اغتسلت- فتخرج بالإجماع من أحكام الحيض ولا إشكال، لكن الإشكال لو طهرت من حيضها ولم تطهّر نفسها بالغسل؛ فهل يجوز أن يأتيها الرجل، أو لا يجوز أن يأتيها؟ وهل يجوز أن تتلبس بالمحظورات من الصيام ونحوه؟ قال رحمه الله: (لم يبح) يعني: لا يجوز له أن يجامعها إذا خرجت من حيضتها ولم تتطهّر، فلم يبح له أن يجامعها إلا بعد غسلها. وهذا مذهب جمهور العلماء. وخالف الإمام أبو حنيفة النعمان رحمة الله عليه وعليهم، فقال: إذا انقطع دم الحيض جاز للرجل أن يجامع امرأته ولو لم تغتسل. والصحيح: أنه لا يجوز أن يجامع إلا بعد اغتسالها؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222]. فالإمام أبو حنيفة يقول: (لا تقربوهن حتى يطهرن) فإذاً الجماع مؤقت بوجود الحيض، وما شرع لعلة يبطل بزوالها كما هي القاعدة في الأصول، فلما زال دم الحيض زال المانع، فجاز له أن يجامع، هذا بالنسبة لقول الإمام أبي حنيفة. لكن الجمهور قالوا: إن في الآية غاية وشرطاً؛ فالغاية في قوله: (حتى يطهرن)، والشرط في قوله: (فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله). قال الإمام أبو حنيفة: العبرة بالغاية؛ لأن القاعدة في الأصول: أن ما بعد الغاية يخالف ما قبلها في الحكم؛ لأنه لو كان الذي بعد الغاية كالذي قبلها فأي فائدة للغاية؟ فإذاً فائدة وجود الغاية أن تعرف أن ما بعدها يخالف ما قبلها في الحكم. فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: (حتى يطهرن) وقّت الله عز وجل به القربان، وهو الكناية عن الجماع، ففهمنا أنها إذا طهرت جاز أن يأتيها. ولكن الصحيح مذهب الجمهور: أن في الآية غاية وشرطاً، وهذا له نظائر: فإن الله عز وجل يقول: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] فقال: (حتى إذا بلغوا النكاح) فهذه غاية؛ وقوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} هذا الشرط، فلا مانع أن تثبت الغاية مع عدم ثبوت الشرط. فنقول: إن آية الحيض فيها غاية وفيها شرط، والقاعدة: أنه إذا تخلف الشرط تخلف المشروط، وإذا وجد الشرط حكم بالمشروط. فإذًا نقول: إذا وجد الاغتسال صح منه أن يجامع، وإلا فلا. الدليل الثاني على رجحان مذهب الجمهور: أن الله عز وجل قال: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222] ثم عقب بقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة:222] فأسند الطهر لأنفسهن بقوله: (فإذا تطهرن) أي: فعلن الطهر، وهناك قراءة: (حتى يطهرن) بالتشديد، وتصلح أن تكون دليلاً كما أشار غير واحد من أهل العلم، واختاره الإمام الماوردي في جوابه في الحاوي. فالمقصود أن أصح الأقوال: أنه لا بد في جماع المرأة من أن تطهر وتغتسل، فإذا طهرت ولم تغتسل فلا يجوز جماعها، وإنما يتريث حتى يتم الشرط الذي أمر الله عز وجل به. قال: (حل لها الصيام والطلاق) يباح لها الصيام، وأيضاً يجوز تطليقها، فالحيض يمنع الطلاق؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ ابن عمر لما أخبر عمر -والده- النبي صلى الله عليه وسلم أنه طلق امرأته وهي حائض، قال: (مره فليراجعها -ونهاه عن أن يطلقها- ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء)، إذاً: لا يجوز تطليق المرأة الحائض؛ ولذلك يأثم من يطلقها، ثم هل يقع الطلاق، أو لا يقع؟ محله -إن شاء الله- كتاب الطلاق. المقصود: أنه لا يجوز أن تطلق المرأة حال حيضها، فلو انقطع دمها ولم تغتسل، ووقع الطلاق بعد انقطاع الدم وقبل الغسل، فما الحكم؟ قال: وقع الطلاق؛ لأن الطلاق لا يتأقت باغتسال، أما بقية الممنوعات فلا بد فيها من الاغتسال كما قلنا: كالجماع ودخولها المسجد، كذلك أيضاً مرورها به، ولبثها فيه ونحو ذلك من ممنوعات الحيض.

الأسئلة

الأسئلة

الدخول على المرأة قبل سن الحيض

الدخول على المرأة قبل سن الحيض Q هل معنى دخول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على عائشة وهي بنت تسع أنه لا يستحب الدخول على المرأة قبل أن تحيض؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: لا شك أن فعل النبي والتأسي به صلى الله عليه وسلم فيه خير، ولو أن هذا من أمور النكاح لكنها من الأمور التي يشرع التأسي به فيها، ولذلك نص العلماء رحمة الله عليهم على استحباب الزواج في شهر شوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بنا فيه بنسائه صلوات الله وسلامه عليه، فلا مانع من أن يحكم بكون المستحب والأفضل أن يدخل بها بعد التسع، أي: بعد أن تبلغ التسع، وأما إذا كانت قبل التسع ولا ضرر في دخول الزوج عليها؛ فلا حرج في دخوله عليها ولا يحكم بتحريمه. والله تعالى أعلم.

حكم تركيب اللولب المانع للحمل والإفرازات التي تكون بسببه

حكم تركيب اللولب المانع للحمل والإفرازات التي تكون بسببه Q امرأة كانت عادتها سبعة أيام حيض، ثم قامت بتركيب شيء اسمه (لولب) لمنع الحمل، فصار ينزل قبل عادتها المعتادة إفرازات لمدة أربعة أيام، ثم سبعة أيام حيض، ثم بعدها أربعة أيام إفرازات، فهل هذه المدة كلها تعتبر حيضاً، أفتونا مأجورين؟ A هذا السؤال فيه مسألتان: المسألة الأولى: اللولب؛ وهو عازل يوضع في الموضع من أجل ألا تحمل المرأة، هل يجوز وضعه، أو لا يجوز؟ الحقيقة أن هذه المسألة نظرت فيها إلى أقوال المجوزين، والعلل الطبية والشرعية التي يتذرع بها لوضع هذا الشيء، فلم أجد عذراً شرعياً يبيح وضع هذا الشيء؛ ولذلك: الذي يظهر ويتبين أنه لا يجوز وضعه، وذلك لأمور: أولاً: لما فيه من استباحة النظر إلى الفرج دون وجود ضرورة. ثانياً: أن فيه لمساً للفرج دون وجود ضرورة. ثالثاً: أن فيه إيلاجاً في الفرج، وتكرار للإيلاج ونظر، خاصةً إذا كان من الرجل فهو أشد وأشنع وأعظم. فهذه الثلاثة الأمور محظورة، حتى لو كان الواضع له طبيبة، فلا يجوز لها أن يحصل منها الإيلاج، أو النظر إلى عضو المرأة أو استباحة وضع العازل فيه. هذه الثلاثة محاذير شرعية، ولم أجد مبرراً شرعياً يجيز وضع اللولب حسب علمي وحسب ما نظرت من أقوال الأطباء، وأقوال من يجيز، فلم أر وجهاً شرعياً لوضعه. أضف إلى هذا تكرار الكشف، والأدهى والأمر أنه يربك عادة المرأة، فلا يستقيم لها أمر، فبمجرد ما تضعه يختلط عليها حيضها، فيتقدم ويتأخر، ويختلط عليها دمها، وقد تلتبس عليها صلاتها وعبادتها بسبب وضعها لمثل هذا، مثل ما ذكرت السائلة، وهذا أهون ما يكون، وإلا فقد مرت عليَّ قضايا من أعجب القضايا في حصول الإرباك للعادة بسبب هذا الأمر، وما ينشأ منه من الأمور التي لا تحمد عقباها؛ ولذلك الذي يظهر عدم جواز وضعه. وأما العذر الذي يتذرع به كخوف حمل المرأة، فإما أن يكون هذا بسبب خوف الضرر مثل أن يكون عندها أمراض أو أعراض فهذه علاجها العزل، أن يعزل الرجل عنها، أو وضع الكيس الذي يمنع القذف في الموضع، وأما بالنسبة لقضية وضع اللولب فالقاعدة عند العلماء: (أنه لا يحكم بالحاجة مع وجود البديل)، وهذا أصل عند أهل العلم، فإن العازل الذي يوضع أخف محظوراً وأخف ضرراً من وضع اللولب. النقطة الأخيرة التي أنبه عليها في هذا الأمر، وهي: مسألة الإفرازات السابقة واللاحقة لأمد العادة، فهذه لا تعتبر من العادة؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث عائشة رضي الله عنها في قصة فاطمة: (لتنظر الأيام التي كانت تحيض فيهن قبل أن يصيبها الذي أصابها)، فترجع إلى عادتها، وتحكم بكونها حائضاً على قدر تلك الأيام. والله تعالى أعلم.

زيادة مدة الحيض على خمسة عشر يوما

زيادة مدة الحيض على خمسة عشر يوماً Q إذا كانت المرأة لها عادة مستمرة مستقرة وهي سبعة عشر يوماً، فهل تعتبر هذه المدة كلها حيضاً، أم ما زاد على خمسة عشر يوماً يعتبر استحاضة؟ A ما زاد على الخمسة عشر يوماً لا يعتبر حيضاً، وإنما هو استحاضة، فلا يحكم بكونها امرأة معتادة سبعة عشر يوماً فأكثر؛ لأن أقصى الحيض خمسة عشر يوماً على ما ذكرناه، وبناءً على ذلك يحكم بكونها حائضاً، إما على أقل الحيض وهو يوم وليلة عند من يرى التأقيت باليوم والليلة، أو بالثلاث عند من يرى التأقيت بالثلاث، أو تتحيض ستاً أو سبعاً عند من يرى عموم دلالة الحديث، أو يحكم بكونها حائضاً أكثر الحيض وهو أحد الوجهين عند الشافعية والحنابلة. والله تعالى أعلم.

علامات دم الحيض

علامات دم الحيض Q هل لدم الحيض علامة؟ وإذا كان كذلك فلماذا لا يُحدَّد أكثره وأقله بهذه العلامة، وكذلك الطهر ودم الاستحاضة؟ A أما بالنسبة للحيض فله علامة، من جهة لون الدم: حيث تختلف ألوانه، فهناك لون السواد، والحمرة، والصفرة، والكدرة، والتُربية، أو الخضرة، هذه ستة ألوان سنتكلم عليها -إن شاء الله- في مبحث المرأة المميزة. وهذه إحدى الضوابط التي يتميز بها دم الحيض -اللون- وفيها الستة الألوان التي ذكرناها، وسنبين أيها أقوى وأيها أضعف، وما الذي يعتد به وما الذي لا يعتد به، وخلاف العلماء فيه -إن شاء الله-، والصحيح من تلك الأقوال التي اختلفوا فيها. وأما بالنسبة للنوع الثاني من التمييز: التمييز بالرائحة -رائحة دم الحيض- فإن المرأة قد تستطيع تمييز حيضها برائحته، وقد يميز بغلظه ورقته، وقد يميز بتجلط الدم، فإن دم الحيض لا يتجلط؛ لأنه يتجلط في الرحم ثم تسلط عليه مادة مثل الخميرة تمنع تجلطه ولو بقي سنوات، وهذا من عجائب ما يكون، ولذلك قالوا: إنه يتميز بالغلظ والرقة والتجلط، وقد جمع بعض العلماء هذه العلامات بقوله: باللّون والرّيح وبالتألمّ وكثرة وقلّة ميزُ الدم وقال بعضهم: باللون والريح وبالتألمّ وغلظ ورقّة ميزُ الدم وهذه الأمور التي يميز بها دم الحيض، سنتكلم عليها -إن شاء الله- بالتفصيل. لكن اعلم رحمك الله أن هذه الأمور ليست في كل حال يمكن أن تميز بها، فقد تأتيك المرأة مبتدأة لأول مرة، لا تعرف دم الحيض، ولا قد رأت دم الحيض، ولا تستطيع أن تميز، فتميز بأي شيء؟ هذا بالنسبة للمبتدأة، وقد تأتيك وتقول لك: نعم، أنا عندي دم يأتيني اليوم الأول أحمر، وفي اليوم الثاني ينقلب لونه إلى أحمر باهت، وفي اليوم الثالث أصفر، وفي اليوم الرابع أكدر، وفي اليوم الخامس أحمر، وفي اليوم السادس أحمر، وهكذا، فتحتاج إلى ضوابط معينة لا بد من دراستها، ولا بد من معرفة متى يحكم بكونها حائضاً، ومتى يحكم بكونها طاهراً، هذا بالنسبة لقضية الحيض، فلم يختلف العلماء، ولم يضعوا هذه الضوابط عبثاً، والسبب في هذا: اختلاف بيئات النساء وأحوالهن وأوضاعهن، واختلاف البلدان التي تعيش فيها النساء، فالبلاد الحارة ليست كالبلاد الباردة، فهذا أمر دعا العلماء رحمة الله عليهم أن يفصّلوا في مسائل الحيض، وأن يبينوها وأن يتكلموا عليها.

تحول دم الحيض إلى غذاء للجنين عند الحمل

تحول دم الحيض إلى غذاء للجنين عند الحمل Q أين يذهب الدم وقت الحمل؟ وهل صحيح أن هذا الدم وقت الحمل يتحول إلى غذاء للجنين عن طريق حبل السر؟ A نعم ذكروا هذا، وأشار إلى ذلك الإمام القرافي رحمه الله في (الذخيرة)، وأشار إليه الإمام ابن قدامة كذلك في (المغني)، وغير واحد من أهل العلم ذكروا هذا، وذكروه عن الأطباء القدماء، وأنه يتحول إلى غذاء للطفل، ثم أصفاه وأطيبه يتحول إلى لبن بعد الولادة، ويكون غذاء للطفل، وأخبثه وأردأه يخرج في النفاس مع الطفل. هذا بالنسبة لما ذكروه من أحوال دم الحيض، وما يكون له أثناء حملها وأثناء وضع جنينها، إذ ينقلب بإذن الله عز وجل إلى كونه لبناً وغذاءً للطفل بإذن الله عز وجل وقدرته. والله تعالى أعلم.

حكم تكفير المرأة إذا جامعها زوجها وهي حائض

حكم تكفير المرأة إذا جامعها زوجها وهي حائض Q إذا جامع الرجل زوجته وهي حائض، فهل الكفارة على الرجل فقط، أم على الرجل والمرأة معاً؟ A هذا فيه تفصيل: إن كانت المرأة طاوعت ورضيت بالجماع، ومكنته من جماعها فالكفارة عليهما، وهكذا إذا أغرته أو رضيت بذلك، فهي في حكم الفاعل، وأما إذا مانعت وغلبت أو أكرهت على الجماع فلا شيء عليها، والكفارة على الزوج وحده، كالحال في كفارة المجامع في نهار رمضان. والله تعالى أعلم.

حكم الإفرازات أثناء الحمل

حكم الإفرازات أثناء الحمل Q ما حكم الإفرازات التي تخرج من الحامل؟ A الإفرازات التي تخرج من الحامل استحاضة على الصحيح من أقوال العلماء رحمة الله عليهم، لكن إن أفرزت دماً قبل الولادة بيوم أو يومين أو ثلاثة فإنها تعطى حكم دم النفاس، كما اختاره غير واحد من المحققين، ونص عليه الإمام ابن قدامة وغيره، وهذا مبني على القاعدة: (أن ما قارب الشيء أخذ حكمه). يقولون: ابتدرها دم النفاس، فإن عاجلها قبل الولادة بيوم أو يومين أو ثلاثة فيعتبر داخلاً في حكم دم النفاس، من كونه يمنع الصوم ويمنع الصلاة، وحكمه حكم دم الحيض. هذا بالنسبة لها إذا كانت حاملاً. والله تعالى أعلم.

حكم دخول الحائض المسجد

حكم دخول الحائض المسجد Q هل يجوز دخول الحائض المسجد؟ وهل يجوز أن تجلس في الصفا والمروة من الحرم؟ A أما بالنسبة لدخولها المسجد، فأصح أقوال العلماء أنها لا تدخل؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأم المؤمنين عائشة: (ناوليني الخمرة. قالت: إني حائض، قال: إن حيضتك ليست في يدك) (ناوليني) أي: مُدي يدك إليَّ في المسجد بالخمرة. (قالت: إني حائض) فدل على أنه كان معروفاً ومعهوداً أن الحائض لا تدخل المسجد؛ إذ لو كانت تدخل المسجد لأنكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم كونها تقول: (إني حائض)، فكونها رضي الله عنها تقول: (إني حائض) يدل على أن الحائض ليس مما كان يعرف أنها تدخل المسجد. وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم على امتناعها دال على أنها لا تدخل المسجد، وإلا كان قال: ادخلي المسجد. كما قال لـ أبي هريرة: (إن المؤمن لا ينجس) لكنه لم ينكر على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. وقد تكلف بعض العلماء في الجواب على هذا الحديث، فقال: إن قوله: (إن حيضتك ليست في يدك) المراد به: أنك لا تملكين رفعها، فهو عذر ليس بيدك، وهذا مجاز، والحقيقة أن تقول: (ليست في يدك) أي: على الحقيقة، أي: ليست في يدك التي تناوليني بها الخمرة، فظنت عائشة أنها لما منعت من المسجد أن الجزء يأخذ حكم الكل، وهذا من فقهها رضي الله عنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن حيضتك ليست في يدك) أي: إنما منعت من دخول المسجد لما يتعلق بالموضع، والكل له حكم والجزء له حكم، ولذلك ليس اعتراض الجزء كاعتراض الكل، فقد كانت تنام بين يديه معترضة، وتقبض رجلها، وقد نهى عن مرور المرأة بين يدي المصلي، فدلّ على أن الجزء لا يأخذ حكم الكل، فدل هذا على أن الحائض لا تدخل المسجد، ويقوى هذا بما ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة: (أنها لما خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وأصابها الحيض قالت: فانسللت -كما في صحيح مسلم، أي: خرجت من الفراش- فقال صلى الله عليه وسلم: مالكِ؟ -أي ما شأنك وما حالك؟ - أنفست؟ -أي: هل أصابك الحيض؟ - قالت: نعم. قال: ذاك شيء كتبه الله على بنات آدم، اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) فمنعها من الطواف ولم يمنعها من السعي، والسعي كان خارج المسجد، فدل على أن امتناعها من دخول المسجد أصل مقرر شرعاً، ولذلك لا تدخل المرأة الحائض المسجد، وهو قول جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم. وأما بالنسبة للصفا فالصحيح أنها ليست من المسجد، ولا حرج عليها في جلوسها فيه. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

باب الحيض [2]

شرح زاد المستقنع - باب الحيض [2] من الضرورة بمكان معرفة أحوال النساء في الحيض، وتنزيل الحكم بمقتضى حال كل امرأة؛ فالمبتدأة لها حكمها، وكذلك المعتادة، والمتحيرة، والمميزة، ومعرفة الضوابط لكل واحدة منهن، وحكم زيادة الحيضة أو نقصها، وكيفية التعامل مع ذلك، وحكم ما يسمى بالصفرة والكدرة، وأقوال العلماء فيها.

أحكام المبتدأة في الحيض

أحكام المبتدأة في الحيض الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المؤلف عليه رحمة الله: [والمبتدأة تجلس أقله ثم تغتسل وتصلي]. شرع المصنف رحمه الله بهذه العبارة في ذكر أحوال النساء، فالمرأة الحائض إذا جاءها الحيض لا تخلو من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون الحيض قد ابتدأها؛ بمعنى: أنها لأول مرة يأتيها دم الحيض. والحالة الثانية: أن تكون معتادة؛ بمعنى: أن دم الحيض عاودها حتى ثبتت لها عادة معينة فيه. الحالة الثالثة: أن تكون المرأة متحيرة؛ بمعنى: أنه لا يمكنها أن تعرف عادتها لمكان النسيان، سواء نسيت قدر العادة أو مكان العادة.

المرأة التي يحكم بكونها مبتدأة

المرأة التي يحكم بكونها مبتدأة هذه الثلاثة الأحوال هي التي ينصبّ عليها كلام العلماء رحمة الله عليهم في مسائل الحيض. ومن عادة أهل العلم أنهم يبدءون بالنوع الأول، وهذا فيه مراعاة لأحوال النساء. فالمبتدأة: هي التي ابتدأها دم الحيض، والمرأة توصف بكونها مبتدأة إذا كان الحيض قد جاءها لأول مرة، هذا أول شرط. والأمر الثاني: أن يكون سنها سن المرأة التي تحيض، فإذا كان سنها دون ذلك؛ فإنه لا يحكم بكون هذا الدم دم حيض -كما تقدم معنا-، فمن شرط أن تكون مبتدأة أن يكون دم الحيض جاءها لأول مرة، ولا يعني هذا إلغاء المرأة التي جاءها الدم قبل تسع سنوات، كأن يكون عمرها سبع سنوات أو ثمان سنوات وجاءها الدم، فإن هذا الدم الذي يأتيها دم استحاضة، لكن إذا كان لأول مرة يأتيها بعد بلوغها لتسع سنوات فإننا نحكم بكونه دم حيض؛ لأن الزمان زمان دم الحيض. إذن: المرأة المبتدأة هي: المرأة التي بلغت سن الحيض، وجاءها الدم في هذا السن لا قبله. والشرط الثالث: أن لا يكون عاودها أكثر من مرة، وهي المعتادة أو التي اختلت عادتها، فلا بد عند حكمنا بكونها مبتدأة أن يكون الدم لأول مرة يأتيها، أعني: دم الحيض.

حكم المبتدأة

حكم المبتدأة المرأة التي جاءها دم الحيض لأول مرة لا نردها إلى عادتها؛ لأنها ليس لها عادة. فإذاً: لا بد أن يكون لها حكم خاص، فما الحكم؟ قال بعض العلماء: كل امرأة مبتدأة فإننا نردها إلى عادة أمهاتها وأخواتها. وقال بعض العلماء: كل امرأة مبتدأة فإننا نردها إلى عادة لِدَاتها أو أترابها -كما يعبر العلماء- واللدة والتريبة هي التي تكون في سن المرأة ومثلها، وقال بعض العلماء: المبتدأة تجلس أقلّ الحيض ونحكم بكونها حائضاً بذلك القدر الذي هو أقلّ الحيض، ثم تغتسل وتصوم وتصلي، حتى يعاودها الدم ثلاث مرات على وتيرة واحدة. فعندنا ثلاثة أوجه: أما الوجه الذي يقول: نردها إلى أترابها -لداتها وأمثالها، أو أمهاتها وأخواتها- فهذا وجه معروف، أي: دليله واضح، وهو: (أن الشيء إذا شابه الشيء أخذ حكمه) أنا لا أقول إن هذه المبتدأة تجلس أقل الحيض، ولكن أقول: تنظر إلى أمثالها، فإن كان عادة أمها ستة أيام، فكل امرأة ابتدأها الحيض وعمرها تسع سنوات فإن عادتها ستة أيام حتى تثبت لها عادة جديدة. فالقول الأول والقول الثاني -اللذات يعتبران والأمهات اللاتي هن القريبات- قولان مرجوحان هذا قول مرجوح عند أهل العلم رحمة الله عليهم؛ لأن الرجوع إلى ذات المرأة أو أصل الحيض أقوى من الرجوع إلى العرف، هذا بالنسبة للقول الأول والثاني، فيلغى النظر فيه. يبقى عندنا القول الثالث، وهو معارض لقول قررناه، فإننا حينما تكلمنا على أقل الحيض قلنا: قال بعض العلماء: ليس لأقل الحيض حد، وهذا مذهب المالكية واختاره شيخ الإسلام، وقلنا: هو الراجح. وقال بعض العلماء: أقلُّ الحيض يوم وليلة، وهو مذهب الشافعية والحنابلة. وقال بعضهم: أقله ثلاثة أيام. إذن: عندنا قول يقول: لا حد لأقله، فقليل الدم وكثيره حيض. وقول يقول: اليوم والليلة، وما دونها ليس بحيض، وما أصابها وجاوزها حيض. وقول يقول: الثلاثة الأيام حيض وما دونها استحاضة. إذا نظرت إلى هذه الثلاثة المذاهب، فالحكم في مسألة المبتدأة مفرّع على هذه الثلاثة المذاهب، فينبغي أن تتنبه إلى أن من يقول: للحيض حد أقلي، سواء يوم وليلة كما يقول الشافعية والحنابلة، أو ثلاثة أيام كما يقول الحنفية، يقول: كل مبتدأة لا أحكم بكونها حائضاً إلا إذا جاوزت أقلّ الحيض، فالشافعية والحنابلة يقولون: كل امرأة بلغت تسع سنوات، وجاءها الدم -دم الحيض- فإنها تجلس يوماً وليلة، وإن استمر هذا الدم معها يوماً وليلة فهي حائض، وإن نقص عن اليوم والليلة فهي مستحاضة والدم دم فساد ومرض، هذا المذهب الأول، وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمة الله عليه. والحنفية يقولون: المبتدأة التي يستمر معها الدم ثلاثة أيام، فحينئذٍ تكون حائضاً، وإن نقص عن الثلاثة الأيام تعتبر مستحاضة، والدم الذي معها دم فساد وعلة. هذا بالنسبة لقضية أقل الحيض. وعلى القول الذي رجحناه من أنه لا حد لأقله، فيقال: تبقى المرأة إذا بلغت تسع سنوات قدر ما أصابها من دم، فلو مكث معها ساعة فهي حائض، ولا تصوم ولا تصلي في الساعة هذه. إذن: نحن رجحنا هذا المذهب الذي يقول: لا يعتد بأقل الحيض، فعلى هذا المذهب بمجرد ما يصيبها الدم بعد تسع سنوات فهو حيض إن كانت فيه أمارات الحيض، وقويت القرائن باعتباره حيضاً. هذا بالنسبة لما رجحناه. فلما قال المصنف رحمة الله عليه: للحيض حد أقلي، قال: ما نقص عن هذا الحد الأقلي فليس بحيض؛ فلابد أن يشترط في المبتدأة شرطاً ثالثاً؛ وهو: كونها تصيب الحد الأقلي أو أكثره. فتبينت مذاهب العلماء رحمة الله عليهم في مسألة المرأة المبتدأة وصار عندنا اتجاهان: اتجاه يقول: هي حائض ولو كان دفعة واحدة، وهو الذي رجحناه. المسلك الثاني يقول: تجلس أقلّ الحيض، إما يوم وليلة على قول، وإما ثلاثة أيام على القول الثاني. فإذا استمر معها يوماً وليلة، أو استمر معها ثلاثة أيام على القول بالتثليث، فلا يخلو إما أن ينقطع لأقل الحيض، وإما أن ينقطع على أكثر الحيض، أو ينقطع بعد أكثر الحيض. فيصير عندنا ثلاث حالات. وعرفنا الحكم إذا ما انقطع لما دون أقل من اليوم والليلة أو أقل من الثلاث، وكلام العلماء فيه، فلو جاءتك امرأة وقالت: إنه أصابها الدم وعمرها تسع سنوات، فما الحكم؟ تقول: على القول الراجح، هذا الدم الذي أصابك دم حيض؛ لأنه في زمان الإمكان، فتمتنعين عن الصوم وعن الصلاة على القدر الذي يجري معك فيه الدم، فلو استمر معها ثلاثة أيام أو أربعة أيام، فعلى هذا المذهب لا تصوم ولا تصلي في هذه الأيام وهي حائض، وهذا المذهب هو الراجح كما ذكرناه، لكن الإشكال أين؟ الإشكال على المذهب الثاني الذي يرى اليوم والليلة، أو الذي يرى الثلاثة الأيام، إذا انقطع لأقل من خمسة عشر يوماً أو الخمسة عشر يوماً، فيقولون: نعتبر اليوم والليلة -أو الثلاثة أيام- حيضاً، والزائد استحاضة، ثم نترك المرأة ثلاثة أشهر، فإذا انقطع في الثلاثة الأشهر بعدد واحد بمعنى: جاءها في الشهر الأول خمسة أيام وانقطع، وجاء في الشهر الثاني خمسة أيام وانقطع، وجاء في الشهر الثالث خمسة أيام وانقطع، الحكم؟ قالوا: تثبت عادتها خمسة أيام، ثم تطالب بقضاء الأربعة الأيام من الشهر الأول، ومن الشهر الثاني، ومن الشهر الثالث؛ لأننا تيقنا أن الأربعة الباقية حيض وليست باستحاضة. فصاحب القول الذي يقول: للحيض عندي حد أقلي، يقول: إن انقطع لأقل من أكثر الحيض بمعنى: انقطع لعشرة أيام، أو ستة أيام، أو خمسة أيام، فإنها تمسك عن الصلاة يوماً وليلة؛ لأنه هو اليقين بأنه حيض، ثم بعد اليوم والليلة يقولون: تغتسل وتصوم وتصلي، فإذا استمر معها خمسة أيام في الشهر الأول والثاني والثالث، فما الحكم؟ يقولون لها: اجلسي يوماً وليلة لا تصومين ولا تصلين، فإذا انتهى اليوم والليلة فاغتسلي ولو جرى معك الدم، ثم تصومين وتصلين، فإن عاودك في الشهر الثاني فالحكم كذلك، وإن عاودك في الشهر الثالث بنفس الوتيرة ثبتت العادة، وتمكثين الخمسة أيام كاملة، ثم تطالبين بقضاء ما مضى، هذا على مذهب الشافعية والحنابلة، واختاره المصنف، لكن الصحيح: فيما إذا انقطع دون أكثر الحيض -أنها تجلس القدر الذي تجلسه، فإذا انقطع عن ستة أيام فهي حائض بالست، وإن انقطع عن سبعة أيام فهي حائض بالسبع وهكذا، فتجلس الأمد الذي يجري معها فيه الدم، والمذهب الثاني الذي فصلنا فيه؛ مذهب مرجوح، والذي ذكره المصنف مذهب مرجوح. فعلى قول المصنف لو استمر معها الدم وجاوز أكثر الحيض فهو دم فساد وعلة، فتبقى على اليقين اليوم والليلة أنها حائض والزائد استحاضة، والشهر الثاني كذلك، والشهر الثالث كذلك، حتى تثبت لها عادة بوتيرة معينة، أو تميز دمها، وسنبين كيف يكون التمييز. فبالنسبة للمبتدأة، عندنا فيها مذاهب، والجميع متفقون على أنه إذا جرى معها الدم ثلاثة أيام فبالإجماع أنها تعتبر حائضاً، ولكن الخلاف إذا جرى لأقل؛ عند من يضع للحيض حداً أقلياً، فإن جرى أقل من يوم وليلة فالمالكية وحدهم يعتبرونه حيضاً، وإن جرى يوماً وليلة فالجمهور -المالكية والشافعية والحنابلة- يعتبرونه حيضاً، والحنفية لا يعتبرونه حيضاً حتى يبلغ ثلاثة أيام، هذا بالنسبة لمسألة المبتدأة. فيشترط فيها أول شيء: أن يكون سنها سن حيض. وثانياً: أن تجاوز أقلّ الحيض عند من يقول أن للحيض حداً أقلياً. قال المصنف رحمه الله: (والمبتدأة تجلس أقله ثم تغتسل وتصلي). (والمبتدأة تجلس أقله) أقله: الضمير عائد إلى الحيض، وأقله: قال: أقله يوم وليلة على ما اختاره المصنف رحمه الله. (ثم تغتسل وتصلي) يعني: نحكم بكونها حائضاً، لكن بشرط أن تجاوز أقلّ الحيض على مذهب المصنف. قال رحمه الله: [فإن انقطع لأكثره فما دون اغتسلت عند انقطاعه]. هذه مسألة ثانية، نحن قررنا أن ما دون أكثر الحيض يُعتبر فيه اليوم والليلة، لكن هناك أمر آخر، قالوا: إذا جرى معها الدم لأول مرة واستمر يوماً وليلة حكمنا بكونها حائضاً، ثم تغتسل بعد اليوم والليلة وتصوم وتصلي، فإن انقطع لأقل من أكثر الحيض -مثلاً- خمسة أيام، سبعة أيام، ثمانية أيام، تسعة أيام، عشرة أيام، أحد عشر يوماً، اثني عشر يوماً، ثلاثة عشر يوماً، أربعة عشر يوماً، لكن ما بلغ أكثر الحيض، فيقولون: عند انقطاعه لأقل من خمسة عشر تغتسل غسلاً ثانياً؛ لاحتمال أن يكون الكل حيض؛ لأنها إلى الآن ما ثبتت لها عادة، فاحتاطوا باحتياطين: أولاً قالوا: نرجع إلى اليقين من أنها حائض يوماً وليلة، فنأمرها بالاغتسال بعد اليوم والليلة؛ لأنها بيقين حائض، ثانياً: قالوا: نأمرها بالاغتسال إن انقطع الدم لأقل الحيض؛ لأنه قد تثبت لها عادة بهذا الأقلي، فإذا انقطع بعد خمسة أيام، ما الحكم؟ تقول: تغتسل غسلاً ثانياً، ثم إذا جاء الشهر الثاني مدة خمسة أيام، والشهر الثالث مدة خمسة أيام، علمنا أن هذا الأمد هو أمد الحيض وهو عادتها.

الحكم باستقرار عادة المرأة

الحكم باستقرار عادة المرأة قال رحمه الله: [فإن تكرر ثلاثاً فحيض وتقضي ما وجب فيه]. قوله: [فإن تكرر] أي: الدم الذي معها ثلاث مرات، هذه المسألة تعرف عند العلماء بمسألة العادة، فبم تثبت عادة الحيض؟ أو كيف تعلم المرأة أنها معتادة، أو بم تثبت عادتها؟ للعلماء وجهان: قال بعض العلماء: العادة من العود، فيشترط أن يعاودها مرتين، فإذا جاءها في الشهر الأول خمسة أيام، وفي الشهر الثاني خمسة أيام، فعادتها خمسة أيام ثبتت بالشهر الثاني، وهذا مذهب الحنفية ومن وافقهم، وأخذوا هذا من اشتقاق اللفظ أنه من العود. أما الحنابلة ومن وافقهم من الشافعية والمالكية فيقولون: لا بد أن يمر عليها ثلاث مرات، فلا بد من الشهر الأول، والشهر الثاني، والشهر الثالث. وينبغي أن يتنبه إلى أنه لا بد أن يمر عليها متتابعاً، فلو مر عليها الشهر الأول خمسة أيام، والشهر الثاني خمسة أيام ثبتت عادتها عند الحنفية، ولم تثبت عند الجمهور، فإذا جاء الشهر الثالث ستة أيام بطل الاعتداد بالشهرين الأولين عند الجمهور، وأصبحت ترجع إلى خمسة أيام عند الحنفية. فتثبت عادتها عند الحنفية بعد الشهر الثاني، ولا تثبت عند الجمهور إلا بعد ثبوتها في الشهر الثالث، ولابد أن يأتي كله على وتيرة واحدة، فلو جاءها في الشهر الأول خمسة أيام، وفي الشهر الثاني ستة أيام، وفي الشهر الثالث خمسة أيام، وفي الشهر الرابع ستة أيام، فلا عادة لها، قولاً واحداً؛ لأنه لم يعاودها على وتيرة واحدة.

أحكام المعتادة

أحكام المعتادة بينا حكم المرأة المبتدأة فيما مضى، وبعد المبتدأة تأتي المعتادة، فأشار إليها رحمة الله عليه فقال: (فإن تكرر) أي: المبتدأة، ثلاث مرات على وتيرة واحدة. فانتقل إذن إلى صنف ثانٍ من النساء، وهي المرأة المعتادة التي لها عادة في الحيض، والمرأة المعتادة، قلنا: تثبت عادتها بالعود ثلاث مرات على وتيرة واحدة، ودليل العادة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لتنظر الأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها) فردها إلى العادة، وهذا يدل على أن العادة محكمة ومعتبرة في الشرع، فإذا جاءتك امرأة وسألتك وقالت لك: إن الدم أصابني هذا الشهر واستمر معي عشرين يوماً فماذا أفعل؟ كم الأيام التي أترك فيها الصلاة والصوم؟ وكم أصلي وأصوم من الأيام؟ ومتى أحكم بكوني طاهرةً فأصوم وأصلي؟ ومتى أحكم بكوني غير طاهرة فلا أصوم ولا أصلي؟ فتقول لها: هل كان الدم قبل هذا الاختلال الذي جاءك لك فيه عادة؟ فإذا قالت: نعم، كان من قبل يأتيني خمسة أيام وينقطع. فتقول: امكثي خمسة أيام، ثم إذا مضت الخمسة الأيام فاغتسلي وصلي وصومي. فنردها إلى العادة، سواء كانت عادتها قريبة أو بعيدة، فلو أن امرأة -مثلاً- كانت عادتها خمسة أيام ثم حملت ثم نفست، وبعد النفاس اضطرب الدم معها، فصار يجري معها الدم عشرين يوماً، فاضطربت عليها العادة، يجري يوماً وينقطع يوماً، أو يجري يومين وينقطع ثلاثة، أو أربعة، والتبس أمرها، فتقول لها: كم كنت تمكثين قبل أن يصيبك الذي أصابك؟ فقالت: ستة أيام، فتقول: إذاً عادتك ستة أيام، فاجلسي ستة أيام يجري فيها الدم، ثم احكمي بكونك طاهرةً بعد انتهاء أمد هذه الست. ففائدة معرفة العادة؛ أنه يحتكم إليها عند اختلال دم المرأة، فإذا اختل وضع المرأة إما لجراحة، أو لمرض، أو لولادة، أو غير ذلك، فحينئذٍ ترده إلى العادة، وكما قلنا: العادة بإجماع العلماء مردود إليها. قال المصنف رحمه الله: (وتقضي ما وجب فيه). يعني: في ذلك الأمد، فتقضي الذي وجب فيه من الصوم والصلاة، فإن كانت في رمضان فالواجب عليها الصوم، وإن كانت في غير رمضان فالواجب عليها الصلاة، فتقضي ما وجب فيه، أي: في ذلك الأمد الذي كانت لا تصلي فيه. وقد مرَّ أن المبتدأة تجلس أقلّ الحيض، ثم تغتسل ثم تصوم وتصلي، هذا بالنسبة للمبتدأة، فإذا مكثت يوماً من الشهر الأول، وأفطرت أربعة أيام، ثم مكثت يوماً من الشهر الثاني وأفطرت أربعة أيام، ثم ثبتت عادتها في الشهر الثالث أنها خمسة أيام، فعليها أن تقضي ما وجب عليها فيه، وهو الصوم، أما الصلاة فإن الحائض لا يجب عليها أن تصلي، فتقول: الأربعة الأيام التي كنت تصومين فيها بحجة أنك طاهرة بعد اليوم والليلة تقضينها ويلزمك قضاؤها كما قررناه سابقاً.

حكم الدم الخارج بعد انقضاء أكثر مدة للحيض

حكم الدم الخارج بعد انقضاء أكثر مدة للحيض قال المصنف رحمه الله: [وإن عبر أكثره فمستحاضة]. قوله: (وإن عبر أكثره) يعني: عبر أكثر الحيض (فمستحاضة) مستحاضة بعد أكثر الحيض بالإجماع، أي: إذا جاوزت أكثر الحيض، والمرأة المبتدأة إما أن ينقطع الدم عنها -كما قلنا- لأقل من أكثر الحيض، أو ينقطع على الأكثر، أو ينقطع بعد الأكثر، أي: إما أن ينقطع دون خمسة عشر يوماً، أو على الخمسة عشر يوماً، أو بعد الخمسة عشر يوماً، فإذا انقطع لأقل من خمسة عشر يوماً، فالحكم أنها تنظر في تكراره على وتيرة واحدة على ما اختاره المصنف، وعلى القول الراجح: تمكث كل الذي دون الخمسة عشر يوماً لا تصوم فيه ولا تصلي على أنها حائض حتى تثبت لها العادة. وإن عبر أكثر الحيض قال: (فمستحاضة)، و Q هل نحكم بكونها مستحاضة بمجرد مجاوزتها للخمسة عشر يوماً، أو بعد اليوم والليلة؟ A مستحاضة بعد اليوم والليلة، فاليوم والليلة حيض، فلما استمر معها الدم أكثر من خمسة عشر يوماً عرفنا أن هذا المستمر دم فساد وليس بدم حيض، وحتى نفهم كلام المصنف ونفهم ما اخترناه على القول الراجح نقول: كلام المصنف ينبني على الآتي: إن كانت المرأة مبتدأة، وانقطع دمها لأقل من أكثر الحيض، أو مساوياً لأكثر الحيض الذي هو خمسة عشر يوماً، فحينئذٍ: تعتبر نفسها حائضاً ليوم وليلة، وتعتبر نفسها حائضاً في الشهر الأول وفي الشهر الثاني، والشهر الثالث تحكم بكونها معتادة إذا جاءها على وتيرة واحدة، هذا بالنسبة لمذهب المصنف رحمه الله، وهذا إذا انقطع لأقل من أكثر الحيض أو مثله، وأما لو انقطع فوقه فالحكم أن الحيض يوم وليلة وما زاد فهو استحاضة، هذا على مذهب المصنف. وعلى المذهب الذي رجحناه نقول: بمجرد ما يأتيها الدم تمسك، حتى ولو استمر عشرة أيام، وهي حائض؛ لأنه زمن حيض وأمد حيض، ولا تقدير من الشرع لأقله، فالأصل واليقين أنها حائض، فإن جاوزت أكثر الحيض قالوا: ما زاد استحاضة وما دونه حيض، وهذا أعدل الأقوال وأولاها بالصواب إن شاء الله تعالى.

أحكام المميزة

أحكام المميزة قال المصنف رحمه الله: [فإن كان بعض دمها أحمر وبعضه أسود، ولم يعبر أكثره ولم ينقص عن أقله؛ فهو حيضها تجلسه في الشهر الثاني، والأحمر استحاضة]. النوع الثالث: المميزة. والمميزة من التمييز، وتمييز الشيء: أن تكون له حلية وأوصاف يتميز بها عن غيره، وهذا النوع يعتبر عند بعض العلماء أقوى من العادة، أي: رجوع المرأة التي تعرف طبيعة دمها إلى تمييزه أقوى عنده من رجوعها إلى العادة، فيردها إلى التمييز قبل أن يردها إلى العادة، وإن كان الصحيح أن العادة أقوى من التمييز لحديث عائشة في الصحيح لما سألت فاطمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لتنظر الأيام)، وقال في الحديث الآخر: (دعي الصلاة أيام أقرائك) وما قال لها: هل تميزين دم الحيض عن غيره أم لا؟ لكنهم يجيبون عن هذا الحديث قائلين: إنها لو ميزت ما سألت، فالمقصود: أن بعض العلماء يرى أن التمييز أقوى. وخالف الإمام أبو حنيفة النعمان رحمة الله عليه فضعف التمييز، والصحيح: أن التمييز حجة ومعتبر.

دليل العلماء في اعتبار التمييز

دليل العلماء في اعتبار التمييز ما الدليل على أن التمييز يعتبر في الحيض؟ قوله عليه الصلاة والسلام لـ فاطمة في إحدى الروايات في السنن: (إن دم الحيض دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة)، الشاهد: (إن دم الحيض دم أسود يعرف) فردها إلى ضابطه وإلى لونه الذي يتميز به، أما اللون الأسود فهو أقواها، ثم يليه الأحمر وهو الطبيعة في دم النساء، ولكنهم قالوا: أحمر محتدم، أي: شديد الحمرة حارق، ويسميه العلماء (القاني) وتعرفه النساء بوصفه، ثم الذي أخف منه هو المشرق، ويسميه بعضهم: الأشقر أو الأشيقر من الشقرة، وقيل: إن الأشقر هو الصفرة التي وردت في حديث أم عطية، ثم يليه الأصفر، ثم يليه الأكدر، والأكدر: كالماء الكدر، ويكون كالماء المتعكر ضارباً إلى شيء من الخضرة، ثم التربي، هذا بالنسبة لألوان دم الحيض، والمرأة تميز باللون وبالرائحة وبالكثرة والقلة وبالألم وبالغلظ والرقة، هذه ضوابط التمييز، ثم سنفصل فيها.

التمييز باللون

التمييز باللون تميز المرأة دم الحيض باللون كالآتي: إن جاءتك امرأة تسأل وقالت لك: جرى معي دم الحيض ثلاثة أيام أسود، ثم ثلاثاً أحمر، ثم ثلاثاً أسود، وعادتي ستة أيام؟ فتقول: الثلاثة الأُول حيض، والثلاثة الحمراء استحاضة، والتي بعدها حيض، فأنت طاهر في الثلاث الوسطى، حائض في الأولى والأخيرة، ويحكم بخروجك من الحيض في اليوم التاسع. فهذه قضية التمييز باللون. وإذا قالت لك: جرى معي يومين؛ يوم أحمر شديد الحمرة، ثم يوماً خفيف الحمرة، أو يومين آخرين خفيف الحمرة، ثم يومين شديد الحمرة، ثم يومين خفيف الحمرة، وعادتي ستة أيام؟ فتقول: اليومان الأولان حيض فلا تصومي ولا تصلي، واليوم الثالث والرابع اللذان يليانهما استحاضة فصومي وصلي، ثم اليومان اللذان اشتدت فيهما حمرة الدم فهذه علامة الحيض فأنت حائض، فتضيفين اليومين هذين إلى اليومين الأولين، فهذه أربعة أيام، ثم تحكمين بطهارتك بانقضاء اليوم الرابع، وتدخلين في الاستحاضة في اليوم الخامس والسادس، ثم في اليوم السابع تدخلين في اليوم الخامس من حيضك، واليوم الثامن هو اليوم السادس من الحيضة، فيحكم بانتهاء حيضك في اليوم الثامن، هذا بالنسبة للأحمر. وإذا قالت: جاءني أحمر مع اختلاف الأوصاف، فجاءني: يومان أحمر، ويومان أصفر، ويومان أحمر، ثم يومان أصفر، ثم يومان أحمر، ويومان أصفر، ثم يومان أحمر، وعادتي ثمانية أيام؟ فتقول لها: أيام الحمرة حيض، وأيام الصفرة استحاضة. هذا بالنسبة لمسألة اختلاف ألوان الدم، وهذا التمييز باللون.

التمييز بالرائحة

التمييز بالرائحة دم الحيض له رائحة شديدة النتن، بخلاف دم الاستحاضة فهو أخف منه، فإذا استطاعت أن تعرف دم حيضها برائحته، فقالت: جاءني دمٌ أحمر عشرين يوماً، ففي الحالة الأولى -التمييز باللون- لا بد أن تختلف الألوان، لكن التمييز بالرائحة يكون اللون فيه واحداً وتختلف الرائحة، فتقول: جاءني عشرين يوماً دم أحمر، فهل كله حيض؟ فتقول: لا، ليس بحيض، وتسألها: هل لك عادة؟ فإذا قالت: ما لي عادة، أو قالت: عادتي ستة أيام، فتقول: هل تستطيعين تمييزه بالرائحة؟ فإذا قالت: نعم، رائحته في الستة الأُول كرائحة دم الحيض، وفي الأربع عشرة الباقية ليست فيه رائحة الحيض، فتحكم بكونها حائضاً في الستة الأول دون ما بقي. ولو قالت: بقي يومين برائحته، ثم أربعاً بدونها، ثم يومين برائحته، ثم أربعاً بدونها، ثم يومين برائحته. فما الحكم؟ تقول: تلفقين -وهذا يسمى: مذهب التلفيق- فاليومان اللذان فيهما رائحة دم الحيض فهو حيض، والأربعة الأيام التي ليست فيها رائحة دم الحيض فهي استحاضة، ثم بعدها دخلت في اليوم السابع في ثالث أيام العادة، وفي اليوم الثامن في رابعه، وقس على هذا. فإذاً: تميَّز بالرائحة.

التمييز بالألم

التمييز بالألم الضابط الثالث للتمييز: التمييز بالألم، فإذا كان اللون واحداً -جاءها أحمر- وقالت: لا أستطيع أن أميز بالرائحة، كأن لا يكون عندها حاسة الشم، أو أنها مزكومة مثلاً، أو أن دم حيضها ليس له ضوابط في الرائحة، فيكون التمييز بالألم، فإذا قالت: جاءني عشرين يوماً، ولكن في الستة الأيام الأول كان مؤلماً حارقاً -وعادتي ستة أيام- فتقول: كونه في هذه الأيام بهذه الصفة، فهو دم حيض، والأيام الباقية دم استحاضة.

التمييز بالقلة والكثرة

التمييز بالقلة والكثرة الضابط الرابع في التمييز: الكثرة والقلة، قالوا: إن دم الاستحاضة تثجه ثجاً ويكون نازفاً بخلاف دم الحيض، فقالوا: إنه يتميز بكثرته وقلته، وبعضهم يضع بدل الكثرة والقلة علامة أخرى وهي: الرقة والغلظ، فإذا قالت لك امرأة: جاءني دم الحيض شهراً كاملاً، فاسألها: هل تستطيعين أن تميزي باللون؟ فإذا قالت: لونه واحد، فاسألها عن الرائحة؟ فإن قالت: ما أستطيع، فاسألها عن الألم؟ فإذا قالت: لا أستطيع أن أميز، لكن ألاحظ أن الستَّةَ الأول كان الدم فيها ثقيلاً غليظاً، والأربعة عشر الباقية من العشرين، أو الأربعة عشر يوماً الباقية من الثلاثين كان رقيقاً، فتقول: الست الثخينة والغليظة حيض، والباقي استحاضة، فهذه ضوابط التمييز: اللون، الريح، الألم، الكثرة والقلة، والغلظ والرقة، وقد جمعها بعض العلماء بقوله: باللون والريح وبالتألم وكثرة وقلة ميز الدم هذا على المذهب الذي يقول بالكثرة والقلة. وبعضهم يرى دخول الغلظ والرقة فيقول: باللون والريح وبالتألم وغلظ ورقة ميز الدم أي: ميز الدم بهذا، هذا بالنسبة لقاعدة التمييز، فالمرأة التي ابتدأها الحيض لو جاءها الدم اليومين الأولين بلون أحمر، ثم اليومين اللذين يليان بلون أصفر، ثم يومين أحمر، ثم يومين أصفر، فنحكم بكونها حائضاً في اللون الذي هو أثقل -الذي هو الأحمر دون الأصفر- هذا بالنسبة لقضية تمييز الدم ورجوع المبتدأة إليه، وهكذا بالنسبة لغير المبتدأة. قال المصنف رحمه الله: (فإن كان بعض دمها أحمر وبعضه أسود). هذه المبتدأة، والكلام الأول إذا كان الدم على وتيرة واحدة، وانظر هنا إلى دقة المصنف حيث جاءك بجميع أحوال النساء، فقال لك: (المبتدأة تجلس أقل الحيض)، ثم قال: (فإن تكرر ثلاثاً) فانتقل إلى العادة وأثبت لها العادة، ثم قال: (فإن كان بعض دمها أحمر وبعضه أسود) فانتقل إلى التمييز. قال المصنف رحمه الله: [ولم يعبر أكثره ولم ينقص عن أقله فهو حيضها تجلسه في الشهر الثاني والأحمر استحاضة].

التي لا تستطيع أن تميز ترجع إلى غالب الحيض

التي لا تستطيع أن تميز ترجع إلى غالب الحيض قال رحمه الله: [وإن لم يكن دمها متميزاً جلست غالب الحيض من كل شهر]. ما حكم امرأة جرى معها الدم، وليس لها عادة، وليس لها تمييز؟ قال: إذا استمر حتى جاوز أكثر الحيض فنردها إلى غالب الحيض، فاستفدنا الآن من الثلاث النقاط التي كنا نبحثها: أقل الحيض، وأكثر الحيض، وغالب الحيض، ففهمنا أقل الحيض في المبتدأة ووضعناه شرطاً وقيداً لها، وأكثر الحيض إذا جاوز أو وازى، وعرفنا حكم كلٍ منهما، ثم إذا كانت لا تستطيع أن تميز ولا تستطيع أن تضبط بضابط فإنها ترد إلى غالب الحيض، أي: غالب الأيام التي تجلسها النساء، وما هو الغالب في النساء إذا أصابهن الحيض؟ قالوا: الغالب أن المرأة إذا أصابها الحيض يمكث ستة أيام إلى سبعة، ودليلنا على ذلك السنة، من قوله عليه الصلاة والسلام: (تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً)، فردها إلى الغالب، فقال العلماء: الست والسبع هي غالب حيض النساء، فالمرأة إذا التبس عليها واستمر معها الدم، ولم يمكن معرفة الحيض لا بالتمييز ولا بالعادة، فإنها ترد إلى غالب الحيض، وقد تأتيك المرأة معتادة ولكن نسيت عادتها ولا تستطيع أن تميز، فتردها إلى غالب الحيض، فإن فقدت العادة وفقدت التمييز فإنها ترجع إلى غالب الحيض.

أحكام المرأة المستحاضة المعتادة

أحكام المرأة المستحاضة المعتادة قال رحمه الله: [والمستحاضة المعتادة ولو مميزة تجلس عادتها]. (المستحاضة المعتادة) المستحاضة: استفعال من الحيض، أي: استمر معها دم الحيض، فالمرأة إذا استمر معها الدم ثلاثين يوماً -كما قررنا - فليس كله حيضاً، بل بعضه حيض وبعضه طهر -الذي هو الاستحاضة- والدليل على ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام لما سألته السائلة وهي حمنة رضي الله عنها قالت له: (يا رسول الله! إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟) فهذه امرأة استمر معها الحيض خمس سنوات والدم يجري معها، وهذا يقع في بعض النساء: (إني أستحاض فلا أطهر)، وفي رواية: (حيضة شديدة فلا أطهر)، أي: لا أرى نقاء ولا طهراً، فهذه المرأة مستحاضة، وكانت لها عادة، فتردها إلى العادة وتقول لها: اجلسي قدر الأيام التي كنت تحيضينها، فلو قالت: عادتي خمسة أيام، فقل لها: هي حيضك، والزائد استحاضة، فإذا قالت: ما عندي عادة، فتقول: ميزي الدم؛ إما بلون، أو رائحة، أو ألم، أو كثرة أو قلة، فإذا قالت: لا أستطيع التمييز، تقول: حينئذٍ أردك إلى غالب حيض النساء، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً)، والباقي استحاضة، ثم احكمي بدخولك في الحيضة الثانية بعد انتهاء الاستحاضة وهكذا.

الحكم في حال نسيان المرأة المميزة لعادتها

الحكم في حال نسيان المرأة المميزة لعادتها قال رحمه الله: [وإن نسيتها عملت بالتمييز الصالح]. قوله: (وإن نسيتها) أي: نسيت عادتها، (عملت بالتمييز الصالح)، ولكن في بعض الأحيان تنسى العادة وزمانها، والمرأة المعتادة ينبغي أن تفهم فيها أمرين: أولاً: أن تعرف قدر العادة الذي هو الستة الأيام أو السبعة الأيام، أي: قدر ما يجري معها دم الحيض. والأمر الثاني: أن تعرف هل عادتها في أول الشهر، أو آخر الشهر أي: كونك تعلم أن حيضها ستة أيام، لا يكفي؛ لأنه قد يرد Q هل تحسب ستة أيام من أول الشهر أو من وسط الشهر أو من آخره؟ فقد تجد امرأة تأتيها عادتها ستة أيام من أول الشهر، وتجد امرأة ثانية تأتيها عادتها ستة أيام من وسط الشهر، وتجد امرأة ثالثة تأتيها عادتها ستة أيام من آخر الشهر، فليست قضية قدر الحيض هي المعتبرة فقط، بل ينبغي أن تعرف في المعتادة أمرين: الأمر الأول: قدر العادة، وهو قدر الأيام التي تحيضها. والأمر الثاني: زمان العادة -أول الشهر، وسط الشهر، آخر الشهر- لأنه لا تسألك إلا امرأة استمر معها الدم، وقد يستمر معها ستين يوماً، فلو قلت لها: تحيضي ستة أيام، مباشرة ستقول لك: رحمك الله، أستاً من أول الشهر، أم من وسط الشهر، أم من آخر الشهر؟ لأنها التبس عليها الأمر، ونسيت زمان العادة. والمرأة أحياناً تنسى قدر الحيض ومكانه، أي: موضعه من الشهر: أوله، أوسطه، آخره. وقد تعلم الموضع وتنسى القدر، أو تنسى القدر وتعلم الموضع. فالحالة الأولى: أن تنسى القدر ولكن تعلم الموضع، فتقول: كانت لي عادة، ولكن نسيت الآن هل هي خمسة أيام، أو ستة أيام، أو سبعة أيام؟ لكني أعلم أنها دائماً تأتيني في أول الشهر. الحالة الثانية: أن تنسى الموضع وتعلم القدر، فتقول: حيضي ستة أيام، ولكن لا أدري: أهي في أول الشهر، أم في وسطه، أم في آخره؟ الحالة الثالثة: أن تنسى القدر وتنسى الموضع. وهذه الثالثة يسمونها: المتحيرة. وأحياناً يقولون: المحيرة، وكلاهما صحيح. قالوا: متحيرة في نفسها، ومحيرة؛ لأنها حيّرت العلماء رحمة الله عليهم؛ فنسيت قدر أيامها ونسيت موضع حيضها، فإن كانت نسيت قدر الأيام وعلمت المكان، فتقول لها: تحيضي ستاً أو سبعاً، وتردها إلى الغالب، بشرط: أن لا يكون لها تمييز صالح، وإن نسيت الموضع وعلمت القدر فتردها إلى أول الشهر؛ لأنه الأصل، فإذا قالت لك: أنا أعلم أن حيضي ستة أيام، ولكن نسيت هل هي في أول الشهر أو وسطه أو آخره؟ كما لو أغشي على امرأة -والعياذ بالله- بغيبوبة أو إغماء، ثم أفاقت ونزفت وقالت: أنا أذكر أني أحيض ستة أيام، ولكن نسيت أهي في أول الشهر أم في منتصفه أم في آخره؟ فتردها إلى أول الشهر؛ لأنه الأصل، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً) ثم يحكم بطهارتها بعد ذلك؛ لأن الأصل أنه لما جرى معها دم الحيض أنها حائض بمجرد جريانه، فلما دخل عليها أول يوم في الشهر فاليقين أنها حائض، ولذلك يقولون: إذا نسيت موضع عادتها ردت إلى أول شهرها. ثم أيضاً هذه التي نسيت القدر، في بعض الأحيان تقول لك: أنا متأكدة أنه في وسط الشهر، أو أنا متأكدة أنه في النصف الأول من الشهر، لكن لا أدري أفي النصف الأول منه أم في النصف الثاني؟ أي: في السبعة الأيام الأول أو السبعة الأيام الثانية، ثم إذا قالت لك: أنا متأكدة أنه في آخر الشهر، ولكن ما أدري أفي نصف نصفه الأول الذي هو الربع الثالث، أم في الربع الرابع من الشهر؟ فيلتبس عليها، فهذه صورة ثانية من التي يلتبس عليها موضع العادة. فبعض العلماء يقول -كما نبه المصنف عليه-: نردها إلى أول الشهر مطلقاً، سواء استيقنت الموضع ونسيت تحديده، أو نسيت الأمرين. فإذا قالت لك: حيضي في النصف الثاني من الشهر، لكن لا أدري أيبدأ من خمسة عشر، أم يبدأ من ثلاثة وعشرين مثلاً فتقول: اليقين عندي أن تبدأ بأول الشهر كما يقول المصنف، والأقوى أن يقال: تبدأ من نصف الشهر الذي هو من يوم خمسة عشر، كما اختاره بعض العلماء رحمة الله عليهم؛ قالوا: لأننا على يقين أن النصف الأول هي طاهرة فيه، والشك إنما وقع في النصف الثاني، فينبغي أن يقصر الشك على موضع التردد ولا يلحق إلى موضع اليقين، وهذا لا شك أنه أقوى الأقوال، فيقال لها: اعتبري الست من أول منتصف الشهر الثاني، هذا إذا كانت لا تعلم موضعه. إذن: لو قالت لك: أنا أعلم أن حيضتي في نصف الشهر الأول، ولكن لا أدري أفي أول الشهر يبدأ، أم من اليوم السابع، فتقول: اليقين أنك تبدئين من أول الشهر، فهي من أول الشهر حائض، وهكذا بالنسبة لنصفه الثاني.

الحكم في نسيان غير المميزة لعادتها

الحكم في نسيان غير المميزة لعادتها قال المصنف رحمه الله: [فإن لم يكن لها تمييز، فغالب الحيض؛ كالعالمة بموضعه الناسية لعدده]. قوله: (كالعالمة بموضعه الناسية لعدده) سبحان الله العظيم! من دقة الفقهاء رحمة الله عليهم أنه من الممكن أن يجمعوا لك ثلاث مسائل في أصل وشبهه. فالآن لما بين لك حكم المرأة الناسية، أدخل عليها كاف التشبيه، فقال: [كالعالمة بموضعه] فالآن أدخل لك صورتين: صورة الأصل التي نتكلم عليها، ومسألة النسيان. قوله: [فإن لم يكن لها تمييز] لو قالت لك امرأة: العادة ليست لي عادة أو نسيت العادة بالكلية؟ فتقول: إذاً ميزي بلون او برائحة الدم؟ فإذا قالت: لا أستطيع أن أميز فإذا كان لا عادة لها ولا تمييز، رجعت إلى غالب الحيض. فالدرجات عندنا كالآتي: أولاً: العادة، ثم يليها التمييز، ثم يليها الحكم بغالب الحيض. هذا بالنسبة لأحوال المرأة المستحاضة. قال المصنف رحمه الله: [كالعالمة بموضعه الناسية لعدده]. ردها إلى غالب الحيض، ثم أدخل مسألة العالمة بموضعه الناسية لقدره، وأيضاً العالمة بقدره الناسية لموضعه، أو الناسية لكلا الأمرين. قال المصنف رحمه الله: [وإن علمت عدده ونسيت موضعه من الشهر]. كأن تقول: أنا أعلم أني أحيض ستة أيام، ولكن نسيت هل في أول الشهر أو في آخر الشهر. (وإن علمت عدده، ونسيت موضعه من الشهر ولو في نصفه جلستها من أوله كمن لا عادة لها). قوله: (ولو من نصفه) كما قدمنا الإشارة إلى الخلاف في ذلك. قوله: (ولو من نصفه جلستها من أوله) فلو قالت لك: أنا أعلم أن القدر ستة أيام، ولكن لا أعلم الموضع؛ فإنها: ترد إلى أول الشهر مطلقاً. والصحيح كما قلنا مذهب التفصيل: فإذا جهلت هل هو في النصف الأول أو الثاني فإننا نردها إلى أول الشهر، ما الدليل؟ أنه بدخولها في أول الشهر والدم معها فالأصل فيها أنها حائض، فنبقى على اليقين؛ لأن اليقين لا يزول بالشك. فالأصل في الدم أنه دم حيض، وبناءً على ذلك قالوا: نحكم بكونها حائضاً بدخول أول الشهر، لكن قال: (ولو في نصفه) يعني: ولو وقع الشك في النصف الثاني، قال: (جلستها من أوله). وقلنا: هذا مذهب مرجوح، والصحيح: أنها يفصل فيها على نصفه الثاني دون أوله.

حكم المعتادة إذا اختلت عادتها

حكم المعتادة إذا اختلت عادتها قال المصنف رحمه الله: [ومن زادت عادتها أو تقدمت أو تأخرت فما تكرر ثلاثاً حيض]. هنا مسألة أخرى، عرفنا المبتدأة والمعتادة والمميزة والمتحيرة، وعرفنا حكمهن، لكن هناك Q مثلاً عندنا المرأة معتادة لها سنة كاملة وهي تحيض ثمانية أيام على وتيرة واحدة، فلما حملت ووضعت جاءها دم الحيض بعد انتهائها من النفاس والوضع ولكنه أقلّ من الأمد الذي كانت تجلسه، فقد كان حيضها ثمانية أيام، ولكن بعد النفاس جاءها سبعة أيام، أو ستة أيام، أو خمسة أيام، وانقطع وبقيت طاهراً إلى أن جاء الشهر الثاني، فجاءها خمسة أيام وانقطع، ثم بقيت طاهراً، وفي الشهر الثالث جاءها خمسة أيام وانقطع، فما الحكم؟ نقول: انتقلت عادتها من الثمانية أيام إلى الخمسة، هذا إذا كان العدد أقل، لكن الإشكال هنا: لو أن عادتها خمسة أيام، ثم حملت وولدت، وبعد النفاس وانقطاع الدم دخلت في الحيض، فجاءها الحيض سبعاً بالزيادة، أو ثمانياً أو تسعاً، فما الحكم؟ مذهب الجمهور على أنها تجلس أيام الحيضة الأولى وهي الخمس، والزائد استحاضة، حتى يمر عليها ثلاثة أشهر بوتيرةٍ واحدةٍ، أو شهران عند الحنفية. فنفصل الأقوال على هذه المذاهب: الحنفية يقولون: إذا اختلت عادتها بالزيادة، فجاءها في الشهر الأول ستة أيام بزيادة يوم، والشهر الثاني جاءها ستة أيام بزيادة يوم، فهذا اليوم في الشهر الأول نقول لها: صومي وصلي فيه. ثم في الشهر الثاني بعد النفاس جاءها ستة أيام، فتثبت عادتها عند الحنفية ويطالبونها بقضاء اليوم السادس الذي مضى؛ لأنه ثبت أنه من الحيض. عند الحنابلة والشافعية -وهو ما اختاره المصنف- يقولون كالآتي: لا بد من أن تمر عليها ثلاثة أشهر بعد النفاس: في الشهر الأول ستة أيام، وفي الشهر الثاني ستة أيام، وفي الشهر الثالث ستة أيام، ففي الشهر الأول تصوم وتصلي في اليوم السادس، وفي الشهر الثاني تصوم وتصلي فيه كذلك، وفي الشهر الثالث يثبت أنه حيض، فتطالب بقضاء اليومين: الأول: الذي هو السادس من الشهر الأول، والثاني: اليوم السادس من الشهر الثاني. فالخلاصة أنهم يقولون: كل مختلة اختلت عادتها بالزيادة فإننا نحكم بصيامها وصلاتها في الشهر الأول، وفي الشهر الثاني تثبت عادتها عند الحنفية، وعند الشافعية والحنابلة لا تثبت إلا في الشهر الثالث. أما المالكية فيقولون: كل امرأة اختلت عادتها بالزيادة فإنها تستظهر بثلاثة أيام، أي: كل زيادة بلغت ثلاثة أيام وأقل فهي حيض، ففي الشهر الأول بعد النفاس، يلحق المالكية اليوم السادس -الزائد- بالحيض، ثم إذا جاء الشهر الثاني، فإنهم يلحقون اليوم السادس أيضاً بالحيض، وفي الشهر الثالث يحكمون بكونه حيضاً، وبكونها قد صارت عادتها ستة أيام، فلا يطالبونها بالقضاء، فأصبح الخلاف بينهم وبين الشافعية والحنابلة والحنفية في هذا اليوم: أن أولئك يحكمون بصيامها وصحة صلاتها، وهؤلاء يلحقونها بالحائض ما دام أن الزيادة ثلاثة أيام فدون. أما دليل المالكية على هذا الاستظهار فقالوا: إن الثلاث مهلة في الشرع؛ ولذلك قال: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65] قالوا: عهدنا من الشرع أن الشيء إذا أراد الإنسان أن يمهل فيه فإنه يمهل بثلاث، فتأخذ بهذا بدل أن نضع ضابطاً من عندنا، وهذه المرأة التي اختل وضعها، يحتمل أنه حيض ويحتمل أنه ليس بحيض، فتحتاط بالثلاثة الأيام، وهذا الاستظهار مردود، ولذلك رده حتى أئمة المالكية، وقالوا: إنه باطل، وممن انتصر لرده الإمام الحافظ ابن عبد البر وقال: إنه لا دليل عليه لا من الكتاب ولا من السنة، ولذلك نبقى على ما ذكرناه من أن الأصل فيها أنها طاهر، ودليلنا على بطلان هذا الاستظهار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتنظر الأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها) فردها إلى العادة ولم يستظهر، فدل على بطلان الاستظهار؛ ولذلك لا اعتداد بهذا الاستظهار، فإذا سمعت -مثلاً- عالماً يفتي بالثلاث فتعلم أنه قد درج على مذهب من يقول بالاستظهار، والصحيح عدم الاعتداد به. قال المصنف رحمه الله: [وما نقص عن العادة طهر، وما عاد فيها جلسته]. هناك فرق بين اختلال عادة المرأة بالزيادة وبين اختلالها بالنقص، فإذا كانت عادتها ستة أيام وزادت عليها فإنها تنتظر ثلاثة أشهر عند الجمهور وشهرين عند الحنفية، هذا في حالة الزيادة، أما إذا كان الاختلال بالنقص فيحكم بكونها طاهراً بمجرد انقطاع الدم عنها.

حكم الكدرة والصفرة

حكم الكدرة والصفرة قال المصنف رحمه الله: [والصفرة والكدرة في زمن العادة حيض]. الصفرة والكدرة: الصفرة مأخوذة من اللون الأصفر، كما يقول العلماء رحمة الله عليهم: الصفرة التي تكون من المرأة كالصديد -كلون القيح- فيها خلاف للعلماء على ثلاثة أقوال: القول الأول: إلغاؤها مطلقاً، كما هو عند الظاهرية ومن وافقهم. والقول الثاني: الاعتداد بها مطلقاً. والقول الثالث: التفصيل، وهو أعدل المذاهب، فإن كانت الصفرة والكدرة في زمان الحيض فهي حيض، وإن كانت بعد انقضاء الحيض فليست بحيض. والدليل على ذلك: قول أم عطية رضي الله عنها كما في البخاري وغيره: (كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الحيض شيئاً). والدليل على الاعتداد بها: (أن أم المؤمنين عائشة كان النساء -كما في البخاري - يبعثن لها بالدّرجة فيها الصفرة والكدرة من دم الحيض، فتقول: انتظرن لا تعجلنّ حتى ترينّ القصة البيضاء)، الدُرْجة: مثل الخرقة (فيها الكرسف) الذي هو القطن، فيه الصفرة والكدرة من دم الحيض. فحكمت بكونها حائضاً، مع أن ذلك صفرة وليس بحمرة ولا غيرها من ألوان الحيض؛ فدل على أن الصفرة والكدرة في زمان الحيض حيض.

تقطع الحيضة

تقطع الحيضة قال المصنف رحمه الله: [ومن رأت يوماً دماً ويوماً نقاءً؛ فالدم حيض والنقاء طهر ما لم يعبر أكثره]. هذه المسألة فيها إشكال؛ لو أن امرأة قالت: يجري مني دم الحيض يوماً وينقطع يوماً، ثم يجري يوماً وينقطع يوماً وهكذا، فما الحكم؟ أولاً: مسائل الانقطاع هذه ينبغي أن يتنبه فيها للقاعدة التي ذكرناها في أقلّ الحيض، فعلى مذهب من يقول إنه لا حد لأقله -كالمالكية ومن اخترنا قوله- فإنه إذا مضى نصف يوم ثم كان اليوم الثاني طهر يوماً كاملاً، ثم خرج نصف يوم، ثم جاء طهر يوماً كاملاً فيرون أن ذلك من الحيض، فأيام الدم أيام حيض. أما من يقول بالأقل فيشترط في هذه المسألة -عند الشافعية والحنابلة- أن يكون يوماً وليلة، مثال ذلك: أن ترى يوماً وليلة دماً، ويوماً وليلة طهراً وهكذا، لكن لو جئت تسأل شافعياً أو حنبلياً أو من يرجح مذهب الشافعية والحنبلية في امرأة جرى منها الدم نصف يوم، ثم انقطع يوماً ونصف، ثم نصف يوم، ثم انقطع يوماً ونصف، فإنه سيقول هذا ليس بحيض وإنما هو استحاضة. فهذه فائدة معرفة أقلّ الحيض، فلا بد عند هؤلاء الذين يقولون بالأقل من أن يكون بلغ أقل الحيض، ولا يحكمون بكونه حيضاً إلا إذا بلغ الأقل، ولذلك قال المصنف: (ومن رأت يوماً دماً ويوماً طهراً). والحنفية يقولون: يكون ثلاثة أيام دماً، ويوماً طهراً، وثلاثة أيام دماً، ويوماً طهراً؛ لأن الأقل عندهم ثلاثة أيام. إذًا: فرض المسألة على المذاهب بهذا الشكل، عند الحنفية: تكون ثلاثة أيام دم؛ لأنهم يعتبرون الثلاث حداً أقلياً. والمالكية لا يحددون ويقولون: أن ترى الدم، وعند الشافعية: أن يكون يوماً وليلة، والحنابلة مثلهم. فقال المصنف رحمه الله: [ومن رأت يوماً دماً ويوماً نقاء فالدم حيض والنقاء طهر]. هذه مسألة خلافية: لو أن امرأة جاءتك وقالت: مكثت شهراً؛ أرى يوماً دماً ويوماً طهراً وهكذا فما الحكم؟ وعادتها خمسة أيام. للعلماء فيها قولان: قال بعض العلماء: تجلس خمسة أيام من أول ما يأتيها الدم، فيصبح اليوم الأول الذي رأت فيه الدم حيضاً، وكذلك الثاني والثالث والرابع والخامس، ويصبح اليومان اللذان هما متخللان للخمسة أيام -اليوم الثاني والرابع- عند أصحاب هذا القول مع كونهما طهراً حيضاً. هذا مذهب القول الأول. القول الثاني يقول: اليوم الذي رأت فيه الدم يصير حيضاً، واليوم الذي رأت فيه النقاء يصير طهراً، ثم تعد بحسب أيام الدم، فاليوم الأول حيض، والثاني طهر، والثالث حيض، والرابع طهر، وهكذا حتى تبلغ الخمسة الأيام، والمذهب الثاني يسمى: مذهب التلفيق، وقال به فقهاء الشافعية والحنابلة والمالكية، وهو الأقوى والأرجح إن شاء الله. فللعلماء وجهان: مذهب يقول: كل أيامها حيض بقدرها، فإذا كانت عادتها ستاً فإنها تعتبر بتمام اليوم السادس، وهذا المذهب مرجوح كما قلنا. المذهب الثاني يقول: إنها تعتبر طاهراً في اليوم الذي فيه نقاء، حائضاً في اليوم الذي فيه دم، وبناءً على ذلك: إذا كانت عادتها ستة أيام فمتى يحكم بخروجها من عادتها على القول الثاني؟ يقولون: اليوم الأول حائض، واليوم الثاني طاهر فتصوم وتصلي، واليوم الثالث والخامس والسابع والتاسع والحادي عشر حائض؛ إذًا: تخرج بتمام الحادي عشر. وهذا يسميه العلماء: مذهب التلفيق؛ لأنها تلفق أيامها، وقال به جمهور العلماء، وهو موجود عند المالكية والشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم، وهو أقوى الأقوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علّق الحيض على وجود الدم، وهو أصل في الشرع، فإن تخلّف الدم ورأت النقاء فإنها طاهر، ولا يحكم بكونها حائضاً.

فائدة في مسألة سؤال الشيخ لتلاميذه أمام الناس

فائدة في مسألة سؤال الشيخ لتلاميذه أمام الناس هنا اقتراح يقول: لو كان هناك بعض الأسئلة من قبل الشيخ في نهاية كل درس؛ وذلك لأمرين: حتى يعرف مدى فهم الطلاب وإدراكهم للدرس، ولتمرين الطلاب على المسائل وحلّها ومعرفتها، وجزاكم الله خيراً. أقول: جزاك الله خيراً على هذا، والاقتراحات- شيء طيب حقيقةً وإذا كان أحد يريد أن يرى رأياً في أمر فيه مصلحة للجميع فهذا لا شك أنه من النصيحة، وجزى الله الأخ الفاضل على هذا الاقتراح خيراً، لكن عسى الله أن يعيننا عليه. هذا الاقتراح محل نظر، أولاً: تعرفون أن الدرس نصف شهري، والوقت ضيق جداً. والأمر الثاني: أنا أمتنع من السؤال لأمور؛ أولاً: أنه فتنة للمسئول، فقل أن تجد طالباً يقوم يجيب أمام إخوانه، ويسلم من الرياء وحظوظ النفس ووساوس الشيطان، وأنا أقول: قلّ؛ لأن أكثر النفوس ضعيفة، ولعل أن يكون هناك نوادر، لكن هذا أمر آخر، أما الغالب: الفتنة، ولا يجيب أحد غالباً إلا ويفتن، فلو أن إنساناً سلم، يبقى الإشكال في أمر آخر وهو: لو أني اخترت أحداً يجيب، فسألته فلم يستطع أن يجيب فماذا تتوقعون؟ قد تضعف همته، وتنكسر نفسيته، وقد يقول: الشيخ ينظر إليّ نظرة أخرى، ولن أحضر الدرس مرة أخرى، وقد وقع من ذلك شيء لزملاء أعرفهم. الأمر الثالث: الطالب حينما تقيمه فيجيب، يحتاج عشر دقائق -الله المستعان- حتى يتهيأ للسؤال، فتصتك القدمان، ويتلعثم اللسان، ويبلع ريقه، ويجلس فترة حتى يستطيع مواجهة الجمهور، وهذا أمر صعب، وخاصة أن الإنسان قد يكون لأول مرة يجيب في محضر، ويضيع الوقت، ثم قد تكون إجابته ناقصة، وأنا حقيقة أراعي ما كنا عليه على أيام مشايخنا، فقد كانوا يستحبون أن لا يتكلم الطالب في مجالس العلم؛ لأن ذلك أدعى للهيبة، وأحفظ لحرمة الدرس، ولكم عليّ -إن شاء الله- ما أخرج من هنا حتى أجيب آخر سائل، وأنا أقول: هذه الطريقة اجتهاداً مني، وقد يكون العلماء والمشايخ والفضلاء لهم طريقة أخرى للمناقشة، لكن الذي أراه: أن نلقي الدروس ونلقي الفوائد، فيذهب الطالب إلى بيته مخلصاً لوجه الله عز وجل، يضع كتابه ودفتره أمامه ويراجع ويحرر، ويرى اثنين من طلاب العلم يسهر معهم أو يراجع معهم أسبوعياً، وإذا به بإذن الله عز وجل قد ضبط العلم وأتقنه. أما أن يحُرَج أو يجيب أمام الناس فهي في الحقيقة تذهب الحرمة، وأنا أقول من باب الفائدة: لا أذكر أني تكلمت خلال أكثر من عشر سنوات بين يدي أبي إلا مرة أو مرتين، سألت سؤالاً فقط، وأما غيره فلا ولله الحمد؛ لأنه أدعى للحرمة وأدعى للهيبة، والإنسان الذي هو طالب علم يركز، ويتعود على الفهم بالإلقاء، ولذلك يقولون: درجات الفهم أعلاها وأرقاها: أن يكون الإنسان عنده استيعاب من نفسه، لا من خارج؛ لأن قضية المناقشات والحوار صحيح أنها تحرك الطالب، لكن تحركه متى ما كان الحوار موجوداً، لكن إذا كان طالب العلم الكامل تحركه العلوم وتحركه الفوائد والحكم، وكان متفاعلاً مع ذات العلم لا لمناقشة، فهذه أصالة في الفهم، وقوة في شخصية طالب العلم، وهذا رأي ووجهة نظر، وقد تختلف آراء العلماء، وكلٌ له وجهة نظر، وصحيح أن الحوار فيه فوائد؛ منها: أن الطالب يكمّل نقصه، كما يقولون: يتشجع على مواجهة الناس، وهذه عليها ملاحظة؛ لأن كل ما كان طالب العلم ينتظر من الله أن يفتح عليه فهذا أفضل، والله ما كنا نستطيع أن نقف أمام شخص أو شخصين، وكان يقال: المفروض أنك تتهيب أن تقف أمام الناس، وكان الوالد يقول لي كلمة واحدة، وأقول لكل طالب علم: اصبر، فإن كان عندك علم يراد به وجه الله فسيخرجك الله ولو بعد حين، وسيقبض لك من يأخذ عنك العلم، ويقيض لك من ينتفع بك، ويقيض لك من يحبك ويصدق حتى في علمه وتعليمه والأخذ عنه، هذا أمر يرجع إلى معاملة الإنسان مع الله عز وجل، وهي أسباب، قد تختلف فيها وجهات النظر، لكن أنا أرى الأخذ بالاحتياط والسلامة، هذا في وجهة نظري، خاصة أن الوقت ضيق جداً، وتصوروا لو أننا جلسنا نصف ساعة نناقش لذهب نصف وقت الدرس، وقد يكون الطالب في بعض الأحيان يحب أن يناقش، يعني تأتي تسأله وإذا هو الذي يسألك، وتأتي تستذكر معه -مثلاً- وإذا هو الذي يذاكرك، فقضية المناقشة لها سلبيات عديدة، وقالوا أيضاً عنها: إنها تجرئ بعض طلاب العلم الذين لا يحسنون وتبرزهم في الناس، فعندما يتعود الإنسان على الجرأة ويفتح له المجال في حلق العلم، قد يتجرأ على الفتوى، وقد يتجرأ على العلم، ولذلك تجد بعض النوعيات التي تكون بهذه المثابة تضر بنفسها وتضر بغيرها. على العموم: هذه وجهة نظر، لكن لو ترجح عندك أنك تناقش وتناظر، فكل له مشربه. ونسأل الله العظيم أن يرينا الصواب وأن يوفقنا له. والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

انقطاع الدم لمدة عام بسبب المرض

انقطاع الدم لمدة عام بسبب المرض Q امرأة انقطع عنها الدم لمدة عام كامل أو يزيد، فهل هي في طهر طوال هذه المدة؟ وما الحكم إن كان سبب الانقطاع مرضاً؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: مسألة الطهر بحثنا فيها من جانبين: أقل الطهر، وأكثر الطهر. أقل الطهر: وهي لا تسأل عن أقلّ الطهر، إذ أن أقلّ الطهر تستفيد منه لما تكون المرأة يجري معها الدم، فتقول: إن عادتها -مثلاً- ستة أيام، فستة أيام هي الحيض، وطهرها هو الباقي إذا كان لها عادة، أما إذا لم يكن لها عادة فتعطيها أقلّ الطهر في جريان الدم، لكن لو أن المرأة استمر معها الطهر أكثر من سنة أو سنتين أو ثلاث فلا حد لأكثر الطهر فقد تبقى المرأة طاهرة خمس سنوات أو ست سنوات ويحكم بكونها طاهرة؛ لأن الشرع علّق الحكم على وجود الدم، والدم غير موجود، فهي طاهرة طيلة انقطاع الدم عنها، ولا يحكم بكونها حائضاً بالتقدير والأمد ما دام أن الدم غير موجود. والله تعالى أعلم.

استمناء الرجل بيد الزوجة أثناء حيضها

استمناء الرجل بيد الزوجة أثناء حيضها Q هل يجوز للمرأة أن تستمني لزوجها بيدها وهي حائض؟ A قد يستغرب البعض من هذا السؤال، لكن اعذروا أخاكم، والحقيقة أن مسائل الدين قد يكون بعضها محرجاً، لكن هذا ديننا وهذه شريعتنا، وافرض أنك طالب علم ويوماً من الأيام سئلت هذا السؤال، فبماذا ستجيب؟ قال بعض العلماء: أحل الله المرأة للرجل، فله أن يستمني بيدها، وله أن يستمني بالمفاخذة، وله أن يستمني بأي وضع ما لم يكن في الموضع المحرم؛ لأن الله يقول: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187]، وقال: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة:223]، فلما كان ضرباً من الشهوة، والناس يختلفون في انقطاع وانكفاف شهوتهم؛ فإن الأصل حِل الاستمتاع حتى يدل الدليل على المنع، فاستمناء الرجل بيد المرأة أو بالفخذ كل ذلك جائز، ولا حرج فيه حتى يدل الدليل على التحريم والمنع، وقد يجوز الشيء منفصلاً ولا يجوز متصلاً، ولذلك يحرم الاستمناء متصلاً -بيد نفسه- ويحل منفصلاً -بيد غيره كالزوجة مثلاً-؛ لأن الشرع أذن بالاستمتاع بالموضع المنفصل، ولم يأذن بالاستمتاع بالموضع المتصل، فكان محرماً في الاتصال حلالاً في الانفصال، فلا حرج أن يستمني بيد المرأة، ولا إثم عليه ولا عليها في ذلك؛ لأن الرجال يختلفون في الشهوة، والمقصود من زواج الرجل من المرأة أن تطفئ شهوته، وأن تعفه عن الحرام، فالأصل في الاستمتاع الحلّ حتى يدل الدليل على التحريم، ولا دليل هنا على التحريم. والله تعالى أعلم.

حكم استعمال اللولب

حكم استعمال اللولب Q ذكرتم في الدرس الماضي أن استعمال ما يسمى باللولب غير جائز، فهل يعني أنه محرم؟ وماذا تفعل المرأة التي اضطرت إلى تركيبه؛ نظراً لعدم قدرتها على الحمل بكثرة، وهل يلزم عليها إخراجه؟ A اللولب لا يجوز، وقد بحثت جميع المبررات التي ذكرت له فلم أر مسوغاً لوضعه. أولاً: فيه استباحة النظر إلى الفرج، وقد يكون الطبيب رجلاً، وهذا معلوم أن الأصل حرمته. ثانياً: فيه استباحة الإيلاج في الموضع، ويتكرر ذلك مرات وكرات؛ أولاً: لوضعه، ثم للكشف عليه، وتهيئة وضعه ومناسبته للمكان، وكل ذلك يحصل فيه الإيلاج الذي حرم الله عز وجل، فأصبح فيه النظر، وأصبح فيه الإيلاج، مع ما فيه من مفاسد على الموضع، ومفاسد على العادة، فقلّ أن تضعه امرأة -بشهادة أهل الخبرة والأطباء والحس والتجربة- إلا اختلت عادتها، واضطرب عليها حيضها، وأصبح عندها ارتباك حتى تلتبس عليها صلاتها، ويلتبس عليها صيامها، وفيه من المفاسد أنه يمنع النسل، ويحول بين النسل الذي هو مقصود الزواج؛ قال صلى الله عليه وسلم: (تناكحوا تناسلوا تكاثروا، فإني مفاخر بكم الأمم يوم القيامة) فمقصود الشرع: التناسل والتكاثر. والحقيقة أن كثيراً من النساء -أصلحهن الله- لا يرغبن في الحمل إلا من رحم الله، وهذا لا شك أنه مخالف للشرع، وفيه تفويت لكثير من المصالح الشرعية، وعلى المرأة أن تتوكل على الله، وأن تحسن اليقين بالله، وقد كان النساء إلى عهد قريب من الزمان تلد المرأة أربعة عشر ولداً وفيهم البركة وفيهم الخير، وهي من أحسن ما يكون وما وقع لها شيء، واليوم تجد المرأة بمجرد ما تضع الابن والبنت إذا بها لا تريد الحمل، وتختلق المبررات والأسباب لكي تقطع الحمل، وهذا من محق البركة، نسأل الله السلامة والعافية. يذكرون عن طبيب هندي وثني أنه جاءه رجل مسلم وقال له: أريد أن تربط لزوجتي، فقال له: لماذا؟ قال له: لا أريد النسل، الذي عندي يكفي، فبكى الطبيب، فسأله: ما الذي يبكيك؟ قال له: كان لي أربعة من الولد، ثم لما أنجبت زوجتي الأربعة قالت: لا أريد الحمل، الأربعة يكفون، فعملت العملية لها، ثم شاء الله أن الأربعة ذهبوا في حادث واحد، وبقي هو وامرأته، لا تنجب ولا يستطيع أن ينجب منها. فالإنسان إذا حمد نعمة الله بارك الله له فيها، وإذا كفر نعمة الله عز وجل محق الله بركته، وأي بركة في الزواج أعظم من أن تخلف وراءك، وما يدريك أن هؤلاء الأبكار الذين جاءوك قد يكون لا خير فيهم، وقد تكون ذرية غير صالحة، وأن الخير يكون لك في آخر ولد، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلعق اليد ولعق الإناء وقال: (إنك لا تدري في أي طعامك البركة)، فقد تكون آخر لقمة من الطعام هي التي فيها البركة، وقد يكون آخر ابن أو آخر بنت تنجبها هي التي فيها البركة. ونسأل الله العظيم أن يرزقنا السداد والصواب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

باب الحيض [3]

شرح زاد المستقنع - باب الحيض [3] التفريق بين المتشابهات من المهمات في الشريعة، ولهذا بحث العلماء الفرق بين الحيض والاستحاضة وما يترتب على هذا من أحكام، وبحثوا كذلك أوجه الشبه بين الاستحاضة وبعض المسائل القريبة منها، حتى يلحق النظير بنظيره.

أحكام المستحاضة

أحكام المستحاضة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [والمستحاضة]. شرع المصنف رحمه الله بهذه العبارة في بيان أحكام المستحاضة، والمستحاضة نوع من النساء تتعلق بها أحكام في صلاتها وصيامها مفرعة على الحكم بطهارتها.

تعريف الاستحاضة

تعريف الاستحاضة يقال: استحاضة، أي: استفعال من الحيض، أي: أن الدم استمر معها، فالأصل أن دم الحيض يقف عند أمد معين، كأن تمر العادة على المرأة ثمانية أيام أو سبعة أيام أو ستة، وإذا بها في هذا الشهر استمر معها الدم عشرين يوماً أو شهراً كاملاً أو شهرين أو ثلاثة، ولربما يستمر معها الدم سنة كاملة. فالمستحاضة إما أن يكون دمها قد جاء قبل أمد الحيض، أو يكون جاء بعد أمد الحيض، وربما يستمر فيتصل بين الحيضتين، كأن تجلس شهرين أو ثلاثة أو أربعة والدم يجري معها. ولا شك أن الكلام على مسائل الحيض يتضمن الكلام على حكم الاستحاضة. وقال بعض العلماء في تعريفها: إنها دم فساد وعلة يرخيه الرحم من أدناه لا من قعره، أو من أعلاه لا من قعره، كله واحد. وبعضهم يقول: دم فساد وعلة لا في حيض ولا نفاس، أي: لا في أمد الحيض ولا في أمد النفاس؛ لأن دم الاستحاضة يخرج عن كونه حيضاً وعن كونه نفاساً، ففي النفاس يكون جريان الدم مع المرأة أربعين يوماً، فإذا زاد إلى خمسين أو إلى ستين أو إلى سبعين، فحينئذٍ تقول: النفاس أربعون، وما زاد فهو استحاضة ما لم يكن له علاقة دم الحيض.

أصل الاستحاضة

أصل الاستحاضة الاستحاضة أصلها عرق؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما سألته فاطمة عن استحاضتها قال عليه الصلاة والسلام: (إنما ذلك عرق)، وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: (إنها ركضة من الشيطان) قال بعض العلماء: ركضة حقيقية، أي: أن الشيطان يركض ويضرب هذا الموضع ضرباً حقيقياً كالركض الذي يكون من الفارس أو من الرجل، وقال بعض العلماء: بل إنه ركض معنوي، بمعنى: أن الشيطان يتذرّع بجريان الدم مع المرأة على هذه الصورة، فيلبّس عليها صلاتها، ويدخلها في متاهة، فلا تدري أهي حائض فلا تصلي ولا تصوم، أو ليست بحائض فيجب عليها الصوم وتجب عليها الصلاة. قالوا: فوصف النبي صلى الله عليه وسلم الاستحاضة بكونها ركضة لمكان التلبيس الذي يكون من الشيطان. هذا من جهة المعنى. أما بالنسبة لحقيقة هذا العرق فقد وردت له أسماء، فالثابت في السنن أن اسمه: العاذل، وفي الرواية الثانية -كما أشار إليها ابن الأثير ورواها بعضهم-: العاذر، فالرواية الأولى باللام: العاذل، والرواية الثانية بالراء: العاذر، وذكر الإمام الحافظ العيني رحمه الله صاحب العمدة أن هناك اسماً له وهو: العادل، بالدال بدل الذال. وهناك اسم رابع رواه الإمام أحمد في مسنده أنه: العاند، فهذه أربعة أسماء: العاذل، والعاذر، والعادل، والعاند. قالوا: سمي عاذلاً: وليس على الحقيقة، فليس هناك عرق في الجسد اسمه: عاذل؛ والسبب في ذلك: أن بعض الفقهاء سأل بعض الأطباء عن عرق اسمه العاذل فلم يعرفوه، والواقع أن العلماء قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم وصفه بكونه عاذلاً من العذل واللوم؛ لأنه يوجب عذل المرأة ولومها، وقيل: إنه يتسبب في العذل واللوم، لا أن اسمه: عرق العاذل. وأما تسميته بالعادل؛ فالعادل عن الشيء هو الجائر عنه، تقول: عدلت عن الطريق إذا جرت عنه وحدت عنه؛ لأنه بخروج المرأة عن عادتها بالحيض ودخولها في الاستحاضة تكون عدلت عن الدم الطبيعي لها، وهو دم الجبلة والطبيعة والصحة -دم الحيض- إلى دم الفساد والعلة والمرض، فعدلت عن الأصل؛ لأن الأصل في الدم أن يجري معها على الصحة فجرى معها على سبيل المرض. وأما العاذر قالوا: لأن المرأة تعذر بوجوده. وأما العاند: فلمكان استمرار الدم كأنه عنيد، وكأنه كالممتنع والصعب على الإنسان. هذا بالنسبة لأسماء عرق دم الاستحاضة.

الفرق بين الحيض والاستحاضة

الفرق بين الحيض والاستحاضة وهناك فوارق بين الحيض وبين الاستحاضة، فيفرق بين الحيض وبين الاستحاضة بأمور: أولاً: من جهة المكان، فدم الحيض يخرج من قعر الرحم، وأما دم الاستحاضة فإنه يخرج من أعلى الرحم وأدناه، هذا بالنسبة لمكان الدمين. أما بالنسبة لأوصاف الدمين: فإن دم الحيض أشد سواداً من دم الاستحاضة؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن دم الحيض دم أسود يعرف) فأعطاه الوصف من كونه دماً أسود يعرف، فقالوا: يعرف بالسواد والحمرة الشديدة، وقد جاء في بعض الأحاديث وصفه بكونه محتدم وبحراني، ولكنها أحاديث ضعيفة، كما نبه عليه الحافظ ابن الملقن في خلاصة البدر المنير. الفارق الثالث: وجود الألم، فإن دم الحيض يكون فيه حرارة وألم للمرأة، بخلاف دم الاستحاضة فإنه لا يكون فيه الألم الموجود في دم الحيض، وقد تقدم معنا ضوابط التمييز التي هي: اللون، والريح، والألم، والكثرة والقلة، والغلظ والرقة، فهذا بالنسبة لما يميز به بين دم الحيض ودم الاستحاضة. وتقدم معرفة أقلّ الحيض وأكثر الحيض، وأقلّ الطهر وأكثر الطهر، وبينا خلاف العلماء رحمة الله عليهم. فيرد السؤال بعد أن عرفنا من هي المرأة الحائض؟ ومتى يحكم للمرأة بكونها حائض، أو بكونها غير حائض؟ فتقول المرأة: إذا حكمت عليَّ بكوني مستحاضة، فما الذي يلزمني من جهة الطهارة، وكيفية أداء الصلوات؟ وماذا يترتب على الحكم بكوني مستحاضة من جهة الوطء؟ وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بالمرأة المستحاضة. فشرع المصنف رحمه الله في بيان هذه الأحكام بقوله: [والمستحاضة ونحوها] أي: المرأة إذا حكم بكونها مستحاضة. وقوله: (ونحوها) نحا الشيء نحواً: إذا قصده ومال إليه وطلبه. وقد يطلق النحو بمعنى: الجهة، تقول: وجهت وجهي نحو القبلة، أي: جهة القبلة. وقد يطلق النحو بمعنى: المثيل والشبيه؛ كما في الصحيحين من حديث عثمان لما توضأ وأسبغ الوضوء ثم قال: إن النبي صلوات الله وسلامه عليه قال: (من توضأ نحو وضوئي هذا) أي: مثل وشبه وضوئي هذا. فهذه إطلاقات النحو، فمراد المصنف بقوله: (والمستحاضة ونحوها) يعني: شبهها. أولاً: نريد أن نعرف ما الذي يلزم المستحاضة؟ ثم بعد ذلك نعرف من يشبه المستحاضة؟ ثم نعرف ما هو الحكم المشترك بين المستحاضة وغير المستحاضة؟

ما ينبغي على المستحاضة

ما ينبغي على المستحاضة المستحاضة فيها أمور: أولاً: أجمع العلماء على أن المرأة إذا حكم بانتهاء حيضها ودخولها في الاستحاضة فإنه يجب عليها أن تغتسل، وهذا الحكم دلّ عليه ظاهر التنزيل والنصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (لتنظر الأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها، فإذا خلّفت ذلك فلتغتسل ثم لتصل) والمرأة المستحاضة في الأصل أنها حائض، ثم لما انتهت أيام حيضها دخلت في الوصف بكونها مستحاضة؛ فلا نتكلم عن امرأة حاضت وانقطع دمها عند انتهاء حيضها، إنما نتكلم عن امرأة حاضت واستمر معها الدم فوق عادتها وأكثر من أمد عادتها، فلو كانت المرأة التي تسألك يستمر معها الحيض ستة أيام، وكان من عادتها أن ترى علامة الطهر بجفاف الموضع أو ترى القصة البيضاء، ولكنها فوجئت بالدم يستمر زيادة على اليوم السادس ولا يرقأ لها، فاستمر معها اليوم السابع والثامن والتاسع والعاشر إلى آخر الشهر، فبمجرد مرور اليوم السادس الذي هو آخر أيام العادة، سيرد السؤال عن حكم هذه المرأة، فتقول مباشرة: هذه المرأة أصبحت مستحاضة عند انتهاء أمد حيضها، سواء انتهى بالزمان أو انتهى بالوصف؛ فانتهاء زمانه بانتهاء زمان حيضها وهو: ستة أيام، وانتهاؤه بالوصف: كأن يكون دمها أحمر شديد الحمرة، فإذا به بعد السادس يصير أحمر مشرقاً أو أصفر أو أكدر كما ذكرنا. فإذا دخلت المرأة في اليوم السابع أعطيناها وصف الاستحاضة، فأول ما يجب عليها: أن تغتسل عند انتهاء أمد الحيض، وهذا بالإجماع. ثانياً: يلزمها طهارة موضعها -أي: موضع الاستحاضة- لأنه خارج نجس من موضع معتبر؛ لأن الخارج النجس له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون من الموضع المعتبر الذي هو القبل أو الدبر. الحالة الثانية: أن يكون من موضع غير معتبر كسائر الجسد، واختلف في الفم كما ذكرناه في القيء. فالمرأة المستحاضة يجب عليها غسل فرجها؛ لأن هذا الدم خارج نجس من الموضع المعتبر، فكما أن المرأة يجب عليها الاستنجاء أو الاستجمار إذا خرج منها البول، كذلك يجب عليها أن تغسل الموضع إذا خرج منها الدم؛ لأنه خارج نجس -كالبول- من الموضع المعتبر. وغسلها لهذا الموضع، للعلماء فيه مسلكان: بعض العلماء يقول: غسل هذا الموضع أوجبناه على المستحاضة بدليل النقل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (اغسلي عنك الدم ثم صلي) للمرأة المستحاضة، قوله: (لتنظر الأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها، فإذا هي خلّفت ذلك فلتغتسل ثم لتصلي) فهذه الرواية نثبت بها الغسل. فقوله صلى الله عليه وسلم: (اغسلي عنك الدم) أمر بغسل الموضع، قال بعض العلماء: أمرها أن تغسل الدم، والأصل أنه دم الحيض، فقوله: (اغسلي عنك الدم) المراد به: دم الحيض، وهذا ضعيف، وإنما المراد به (اغسلي عنك الدم) أي: الدم الذي يجري معك؛ لأنها قد حكم بكونها مستحاضة، فدل على أن دم الاستحاضة يعتبر نجساً كدم الحيض. وهناك طبعاً مسلك ثانٍ: وهو مسلك القياس، فيقولون: الدم نجس كسائر الفضلات الخارجة من الموضع الذي هو القبل. فنخلص من هذا إلى أن الحكم هو غسل الموضع؛ والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لـ فاطمة رضي الله عنها: (اغسلي عنك الدم)، فعرفنا أنه يلزمها غسل الفرج.

أحوال المستحاضة

أحوال المستحاضة يرد Q إذا كنت تقول بأنه يجب غسل الموضع لأجل الدم فما قولك في المستحاضة؛ لأنها يجري معها الدم باستمرار، وقد يستمر معها الدم اليوم كاملاً، فكيف تصلي وتؤدي عبادتها مع جريان الدم منها؟ قالوا: إن المستحاضة لها حالتان: الحالة الأولى: أن تكون استحاضتها خفيفة، بمعنى: أنها لو وضعت قطناً أو قماشاً انحبس الدم وانكف، فيلزمها وضع هذا القطن، ثم تصلي والدم مستمسك معها لمكان خفته، والدليل: قوله عليه الصلاة والسلام لـ حمنة بنت جحش رضي الله عنها لما قالت: (يا رسول الله! إني أستحاض حيضة شديدة فلا أطهر، فقال عليه الصلاة والسلام: أنعت لك الكرسف) (أنعت) من النعت وهو: الوصف. (الكرسف): هو القطن، اسم من أسماء القطن، فقوله عليه الصلاة والسلام: (أنعتِ لك الكرسف) أي: أصف لك علاجاً لهذا الدم الذي لا يرقأ: أن تضعي في الموضع أو تسدي الموضع بالقطن، قالت: (يا رسول الله! هو أكثر من ذلك) موضع الشاهد في قوله: (أنعت لك الكرسف) قال العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (أنعت لك الكرسف:) فيه دليل على أن المرأة المستحاضة التي يجري معها دم الاستحاضة تغسل الموضع أولاً لما ذكرنا، ثم تضع القطن؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فلما كان نقاء الموضع واجباً عليها من أجل صلاتها وعبادتها، وهذا الواجب يفتقر إلى وضع حائل وحاجز -القطن- وجب وضعه، هذا بالنسبة للحالة الأولى: أن يكون دم المستحاضة خفيفاً، بحيث لو وضعت قطعة من قماش أو قطن رقأ الدم وسكن. الحالة الثانية: أن يكون الدم شديداً أو ثجّاجاً، ففي هذه الحالة تغسل الموضع؛ لما ذكرنا في النص، ثم تضع القطن وتشدّ الموضع، أو تشد الموضع دون وجود حائل من قطن أو قماش. وشد الموضع يكون إما يجمع حافتي الفرج، أو بوضع الحبل أو الذي يشد على نفس الموضع على حسب ما ترى المرأة أنه يسد أو يكف عنها الدم، وهذا هو الذي عبّر عنه المصنف بقوله: (وتعصب فرجها) والعصب والعصابة مأخوذة من الإحاطة، سميت العصابة عصابة؛ لأنها تحيط بالشيء، وسمي قرابة الإنسان عصبة؛ لأنه إذا نزلت به ضائقة أو شدة أحاطوا به بإذن الله عز وجل وكانوا معه، فالعصابة أصلها الإحاطة، فلما قال: (تعصب) بمعنى: أنها تحيط، وبناءً على هذا التعبير قالوا: تشد طرفي الموضع، والدليل على أنه يلزمها هذا الشد ظاهر، هو حديث حمنة؛ فإنها لما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني أستحاض حيضة شديدة فلا أطهر، قال عليه الصلاة والسلام: أنعت لك الكرسف، قالت: يا رسول الله! هو أشد من ذلك -وفي رواية: هو أكثر من ذلك- فقال عليه الصلاة والسلام: تلجّمي) والتلجم مأخوذ من اللجام، واللجام في الأصل يكون حائلاً كما يقال: لجام الدابة؛ لأنه يلجمها فيمنعها، فهو حائل ومانع، ولذلك فقوله عليه الصلاة والسلام: (تلجّمي) قال العلماء: معناه اعصبي الفرج؛ لأن عصبه لجام وحائل ومانع يقي من خروج الخارج، أو يحفظ الموضع من إخراج الخارج، وبناءً على ذلك: استنبط العلماء من قوله عليه الصلاة والسلام: (تلجمي) دليلاً على أن السنة أن المرأة تشد الموضع إذا غلبها الدم. هذا بالنسبة لأحوال المستحاضة إذا حكم بانتهاء حيضها ودخولها في الاستحاضة. ودم الاستحاضة دم نجس محكوم بنجاسته؛ لأن قوله: (اغسلي عنك الدم) يدل على أن الدم نجس؛ لأن الغسل يكون لغير الطاهر، ولما كان هذا الدم لا يرقأ خفف في حكمه، فأُلزم المكلف بما في وسعه وسقط عنه ما ليس في الوسع. وتوضيح ذلك: أن المرأة تضع القطن وتشد الموضع، وإن غلبها الدم صلت ولو جرى معها، أي: لو غلبها بعد اللجام والعصب وجرى معها فلا تكلف أكثر مما فعلت؛ لأن هذا حد التكليف.

ما يلحق بالمستحاضة

ما يلحق بالمستحاضة قول المصنف: (ونحوها) يعني: نحو المستحاضة، والنحو بمعنى: المثل والشبيه، فمن هو شبيه المستحاضة ومن هو مثيلها؟ قالوا: شبيه المستحاضة ومثيلها: خارج نجس لا يرقأ، أو خارج طاهر لا يرقأ؛ لأن عندنا في الاستحاضة أموراً: أولاً: أنه خارج، وأنه نجس، وأنه يوجب انتقاض الطهارة، أي: أنه حدث، والذي يكون مثل الاستحاضة إما أن يكون نحوها، بمعنى أن يكون شبيهاً للمستحاضة من كل وجه، وهذه حالة، أو شبيهاً لها من بعض الوجوه ويأخذ حكمها من بعض الوجوه، وهذه حالة ثانية.

حكم من به سلس البول

حكم من به سلس البول ونبدأ بالشبيه الذي يشبه المستحاضة من كل الوجوه: وذلك مثل: المصاب بسلس البول، أو سلس المذي، فإذا نظرت إلى كون المستحاضة قد خرج معها الدم، تقول: هذا الدم -أعني: دم الاستحاضة- دم نجس من خارج معتبر غلب بكثرة خروجه، وكذلك من به سلس بول، فإن البول خارج نجس يوجب انتقاض الوضوء كما توجبه الاستحاضة؛ وبناءً على ذلك يقولون: يأخذ حكم الاستحاضة؛ لأنه نجس كالدم، وخارج من الموضع كالدم، فمن كان به سلس بول أو سلس مذي فحكمه حكم الاستحاضة؛ لأن المذي نجس والبول نجس. هذا مثال واحد؛ وهو من به سلس البول وسلس المذي -وأوصيكم بالشمولية في التمثيل، أي: لا تنحصر على مثال أو مثالين، بل نوع في التمثيل-

حكم من به ناسور أو باسور

حكم من به ناسور أو باسور فإذا ثبت أن الذي به سلس البول أو سلس المذي يشبه المستحاضة من كل وجه؛ لأن هذا خارج نجس من قُبل وهذا خارج نجس من قُبل، فهل هناك شبيه للمستحاضة في خارج من غير القُبل؟ نقول: نعم، مثل الذي به الناسور -أعاذنا الله وإياكم منه- فإن النواسير تكون في داخل الفرج، وتستطيع أن تعطيها حكم الاستحاضة، ولماذا فرقنا بين الناسور والباسور؟ A لأن البواسير تارة تكون على فتحة العضو -فتحة الشرج- وتارة تكون منحازة، بحيث إنه إذا خرج منها الدم يخرج من الخارج، لا من الفتحة نفسها ولا من الداخل، فهناك فرق بين الناسور والباسور، فإن الناسور إذا خرج من الداخل كان دماً كعرق الاستحاضة الذي يخرج الدم من داخل، والباسور يخرج دماً لكنه ليس من الموضع، فشابه الاستحاضة من جهة النجاسة لكنه لم يشابه من جهة التأثير في نقض الطهارة، ولذلك فالبواسير لا توجب انتقاض الوضوء، ولكن الناسور إذا كان داخل الدبر فإنه يوجب انتقاض الوضوء، وبناءً على هذا تقول: من به سلس المذي وسلس البول يشبه المستحاضة من كل وجه؛ لأن العضو واحد من جهة كون هذا قبلاً وهذا قبلاً، والخارج موصوف بأوصاف مكتملة، فيكتمل القياس من كل الوجوه، وهناك خارج مع اختلاف النوع، مثل من به بواسير أو نواسير من داخل الفرج لا من خارجه. ومن به ناسور أو من به سلس البول ومن به سلس المذي فإنه يفصل فيه كالمستحاضة؛ فإن كان هذا الناسور يخرج قطرات يسيرة، ويمكن للشخص أن يعيد الوضوء، وأن يغسل الموضع، وأن يغسل الثوب دون حرج شديد فحينئذٍ نقول: أنت باقٍ على الأصل؛ لأن غسل المرة والمرتين ليس فيه حرج، لكن لو أن هذا الناسور -والعياذ بالله- نزف وغلب صاحبه، خاصة في أيام مثل أيام الشتاء التي يصعب معها الغسل ويصعب معها إصابة الموضع مع وجود الجروح، وقد ينصح الأطباء في بعض الأحيان بعدم الغسل؛ لخوف الالتهاب أو نحو هذا، فحينئذٍ نقول: حكمه حكم المستحاضة، فإن استطاع أن يغسل الموضع غسله، وإذا لم يستطع فعند بداية وقت الصلاة يطهر الموضع إما بحجر وإما بمنديل أو ورق أو نحوه من الطاهرات، ثم إذا كان الدم يتقاطر فنقول: احشه بقطنة أو احشه بمنديل، ثم بعد ذلك يصلي كالمستحاضة سواء بسواء، هذا بالنسبة لمن به الناسور أو الباسور. أما من به سلس البول أو سلس المذي فننظر فيه، فإن كان سلس البول قليلاً يخرج معه قطرة أو قطرتين، بحيث إن بإمكانه أن يذهب إلى مكان قضاء الحاجة وأن يغسل الموضع، ويغسل البول الذي يصيب الثوب، نقول له: يجب عليك فعل ذلك؛ لأنه لا يصل إلى درجة المشقة، والتكليف أصلاً فيه كلفة، وهذا ابتلاء من الله عز وجل يعظم به أجرك ويعظم به ثوابك، فالذي ينتقض وضوءه بقطرات من البول -مثلاً- مرة أو مرتين بحيث لا يوجب حرجاً؛ فهذا تُلزمه بالأصل، فلو قال لك قائل: أدخل الحمام الساعة الرابعة إلا ربعاً على أذان العصر، ثم إني بعد أن أقضي بولي أقوم فأتوضأ، فتخرج مني القطرة والقطرتان بعد الوضوء، فتسأله: ثم ماذا بعد ذلك؟ فهذا لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إن قال: تخرج قطرة أو قطرات وينتهي كل شيء، فنقول: اذهب واغسل العضو والموضع، واغسل ما أصاب الثوب من نجاسة ثم أعد الوضوء؛ لأنه تكليف بما في إمكان الإنسان وفي وسعه. الحالة الثانية: أن يقول: أستطيع أن أذهب وأتوضأ، ولكني لو أعدت الوضوء فإنه يحصل نفس الشيء بعد أن أتوضأ بعشر دقائق فتخرج قطرة، نقول له: فلو أعدت مرة أخرى؟ فلو قال: نفس الشيء حتى بعد المرة الثالثة والرابعة. فهذا به سلس، والسلس لا بد أن يكون مستمراً، وبناءً على ذلك نقول: حكمه حكم المستحاضة، فيجب عليه أن يبدأ فيغسل العضو، ثم بعد غسله للعضو يضع في رأس العضو القطنة ونحوها، قال بعض العلماء: مع شد العضو، أي: يضع لفافة على رأس العضو تحبس، ولكن الأطباء يرون أن هذا فيه ضرر، وأن فيه عواقب وخيمة، فإذا ثبت قولهم: فلا يكلف به؛ لأن قبل الرجل ليس كقبل المرأة، فأمرت المرأة بالعصب لعدم وجود الضرر، والرجل لا يؤمر بالعصب لمكان الضرر؛ لأن الشريعة لا تأمر بالضرر، ولذلك من قواعدها الخمس المتفق عليها: (الضرر يزال)، وهي إحدى القواعد الخمس التي يقوم عليها الفقه الإسلامي، فلا يؤمر الإنسان بما فيه ضرر. هذا بالنسبة لمن به سلس البول ومن به سلس المذي والنواسير.

حكم من به سلس الريح

حكم من به سلس الريح فهذه الأمثلة الأربعة التي ذكرناها تشبه المستحاضة من كل وجه، لكن هناك مثال آخر يشبه المستحاضة من بعض الوجوه؛ ولذلك يعطى بعض الأحكام دون بعضها، مثال ذلك: من به سلس الريح، فإن الذي به سلس الريح يشبه المستحاضة من جهة خروج الخارج الناقض للطهارة دون وصف الخارج، فإن وصف الخارج في المستحاضة: دم نجس، ووصف الخارج في الريح ريح طاهر وليس بنجس، وقال بعض العلماء: إن الريح يعتبر نجساً إذا خرج من الدبر، ولذلك في مذهب بعض الفرق -بعض أهل الأهواء- التي لا يعتد بخلافها أنهم يوجبون على من خرج منه الريح أن يستنجي، وهذا مذهب ضعيف وليس بصحيح، فإن الريح لا يجب منه استنجاء ولا استجمار، وإذا ثبت أنه لا يجب منه استنجاء ولا استجمار، فعلى هذا يكون سلس الريح يأخذ حكم المستحاضة في بعض الأحكام لا في كلها، وبناءً على ذلك: يجب أن نحكم بأن الذي به سلس ريح يجب عليه وضع قطنة أو نحوها على الموضع حتى تمنع خروج الريح، إذا لم يكن في ذلك ضرر عليه، أو أن يعصر بطنه؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، هذا بالنسبة لما يقاس على المستحاضة. وقد يقاس على المستحاضة من جهة خروج النجس وتأثيره، صور أخرى؛ منها: لو أن إنساناً أصابه جرح ونزف -وقد قررنا أن الدم نجس كما تقدم معنا في باب إزالة النجاسات وبينا دليل ذلك- وثبت أن الدم نجس فما القول في هذا الرجل؟ هل نقول: إنه لا يصلي بناءً على أنه غير طاهر، أو نوجب عليه الصلاة ونأمره بالتطهر مع وجود المشقة عليه، أو نتوسط ونقول إنه يصلي على حالته؟ A من به نزيف فإنه يأخذ نفس حكم المستحاضة، فإذا أمكن رقء النزيف بأن توضع قطنة كالمستحاضة، بأن يكون النزيف خفيفاً، بحيث لو وضع في الموضع قطنة سكن نزيفه؛ فحينئذٍ يجب رقء الدم بوضع حائل من قطن أو قماش أو نحوه ولو بالشد وبالرباط. الحالة الثانية: أن يكون النزيف قوياً لا يرقأ، فإن كان قوياً لا يرقأ فإنه يصلي ولو خرج معه ذلك الدم النجس، والدليل على ذلك: أن عمر رضي الله عنه صلى وجرحه يثعب، كما في صحيح البخاري، وكذلك أيضاً: ما جاء عن عباد بن بشر لما أصابه السهم الغائر حينما كان حارساً على فم الشعب، ومع ذلك صلى وجرحه يثعب دماً؛ لأن نزيف السهام نزيف قوي مستحكم، فمثله لا يرقأ؛ ولذلك تعتبر هاتان الحالتان مستثنيين من الأصل الذي يوجب غسل الموضع النجس. ويلتحق بالنزيف: الرعاف، فلو أن إنساناً سألك وقال: أرعفت -خرج الدم من أنفه- فتقول: هذا فيه تفصيل: إن كان الرعاف خفيفاً فلا تصلِّ حتى تغسل الموضع ويسكن الرعاف وتصلي على طهارة؛ لأنه الأصل الذي أمرك الله بفعله. الحالة الثانية: أن يكون الرعاف خفيفاً لا يرقأ من نفسه، وإنما يرقأ بالسبب كالاستحاضة، بأن يضع قطناً أو يسد الأنف، فنقول: حينئذٍ يكون حكمه أن يغسل أنفه قبل الصلاة، فيتطهر ويتوضأ ويغسل الموضع، ثم بعد ذلك يضع فيه القطن الذي يمسكه أو المنديل الذي يستمسك به ثم يصلي. الحالة الثالثة: أن يكون الرعاف قوياً بحيث لا يستمسك، فحينئذٍ نقول: إن دهمه في الوقت وأخذ وقت الصلاة، صلى ولو رعف، ولا يكلفه الله إلا بما في وسعه. هذا بالنسبة للصور التي يقاس فيها غير المستحاضة على المستحاضة.

الخلاف في غسل أو وضوء المستحاضة عند كل صلاة

الخلاف في غسل أو وضوء المستحاضة عند كل صلاة قال المصنف رحمه الله: (وتتوضأ لكل وقت صلاة، وتصلي فروضاً ونوافل). قوله: (وتتوضأ لكل صلاة) ذكرنا حكم الموضع، وكل الأحكام التي كنا نبحثها سابقاً في موضع المستحاضة، بقي السؤال عن طهارتها؟ فالمستحاضة نظراً إلى أن خارجها -وهو الدم- يوجب انتقاض الطهارة، فإنه يرد Q متى تتطهر؟ وكيف تكون طهارتها من الحدث؟ فتقول: طهارتها من الحدث تستلزم عليها أن تتوضأ لكل صلاة، وهي مسألة خلافية فيها ما يقرب من أربعة أقوال للسلف رحمة الله عليهم. فقال بعض العلماء: المستحاضة يجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة، فتغتسل إذا انقطع الحيض وانتهى، ثم بعد ذلك تتوضأ عند دخول وقت كل صلاة. هذا القول الأول، وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم، وبهذا القول قال فقهاء الحنفية -في المشهور- والشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم. القول الثاني: يستحب لها الوضوء عند كل صلاة ولا يجب عليها، وبهذا القول قال المالكية، وقال به أيضاً الظاهرية، وهو قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن إمام المدينة، والذي يسمى: ربيعة الرأي رحمة الله على الجميع، فقالوا: لا يجب عليها أن تتوضأ، ولكن يستحب لها الوضوء عند دخول وقت كل صلاة. القول الثالث: يجب عليها أن تغتسل لكل صلاة، وهذا أشد الأقوال، وهو مأثور عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ ابن عباس رضي الله عنهما، وإحدى الروايات عن علي رضي الله عنه وأرضاه، وأفتى به سعيد بن المسيب إمام المدينة. القول الرابع: أنه يجب عليها أن تغتسل في اليوم مرة واحدة دون تعيين، وهو قول علي رضي الله عنه وأرضاه، سواء كان في أول اليوم أو في وسطه أو في آخره، قالوا: ولا يجب عليها إلا غسل واحد في اليوم وحده، وهذه هي أشهر الأقوال في المستحاضة. وأصح هذه الأقوال وأقواها: أنه يجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة؛ وذلك لأمره عليه الصلاة والسلام لـ أم حبيبة رضي الله عنها بذلك. وللفائدة: كان هناك ثلاث من بنات جحش رضي الله عنهن وأرضاهن مستحاضات: الأولى منهن: زينب أم المؤمنين - زينب بنت جحش - رضي الله عنها وأرضاها، ولكن زينب كانت استحاضتها قليلة، كما أفاده الحافظ ابن الملقن رحمة الله عليه، قال: إنها كانت تستحاض، ولكن كانت حيضتها قليلة. والثانية من بنات جحش: حمنة بنت جحش رضي الله عنها، وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنها وعنه. والثالثة من بنات جحش: أم حبيبة، وكانت أشدهن، وهي زوجة لـ طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه؛ أحد المبشرين بالجنة. فهؤلاء النسوة كن يستحضن، وكانت أشدهن -كما قلنا- حمنة وأم حبيبة رضي الله عنهما، حتى أثر عن إحداهن أنها مكثت خمس سنوات وهي تستحاض، وأثر عن إحداهن أنها كانت تصلي والطست تحتها يجري بالدم. ومن النساء أيضاً فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، وحديثها ثابت في الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. الذين قالوا: يجب عليها أن تتوضأ؛ استدلوا بما ثبت في الرواية -واختلف في ثبوتها، ولكن الصحيح أنها حسنة ومعتضدة بشواهد متعددة- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمستحاضة: (وتوضئي لكل صلاة) فقالوا: توضئي (أمر)، والأصل في الأمر أنه للوجوب، وبناءً على ذلك: يجب على المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة، هذا القول الأول. أما دليل العقل: فلأنها إذا خرج منها الخارج انتقض وضوءها، وإذا انتقض وضوءها بخروج الخارج؛ فإن الأصل أنها مطالبة بالوضوء، فإذا خفف الشرع عنها مدة الوقت بقي ما عداه على الأصل من كونه فرضاً، هذا بالنسبة لدليل العقل، فاجتمعت دلالة النقل ودلالة العقل على وجوب وضوئها لكل صلاة، وبناءً على هذا: إذا أذن أذان الظهر توضأت، لكن لو توضأت قبل أذان الظهر، كما لو توضأت في الساعة الثانية عشرة والظهر يؤذن في الثانية عشرة والنصف أو وربع فحينئذٍ تستبيح الصلاة إلى أذان الظهر، فإن دخل وقت الظهر فإنها حينئذٍ تستقبله بوضوء جديد، هذا بالنسبة لوضوئها لكل صلاة. أما الذين قالوا بغسلها لكل صلاة، فالروايات ضعيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بالغسل، ولا يوجد إلا دليل واحد لهم وهو حديث فاطمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل، قال -كما في الصحيح-: (وكانت تغتسل لكل صلاة) قال بعض العلماء الذين يقولون بوجوب الغسل لكل صلاة: وهذا يدل على وجوب غسل المستحاضة لكل صلاة، وهو مذهب من ذكرنا من الصحابة. والصحيح أنه لا يجب، وأن اغتسال فاطمة رضي الله عنها كان اجتهاداً منها، وليس بنص النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أمره لها أن تغتسل إنما هو عند انقطاع دم الحيض، ولم يكن أمراً بالاغتسال عند كل صلاة، فبقيت الذمة على الأصل من كونها بريئة من المطالبة بالطهارة الكبرى، والأصل أنها مطالبة بالطهارة الصغرى. أما الذين قالوا: إنه يجب عليها غسل واحد في اليوم، فهناك أحاديث ضعيفة وآثار استدلوا بها. وأصح الأقوال في هذه المسألة: أنه يجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة على ظاهر ما ذكرناه من حديث أبي داود والترمذي وأحمد والبيهقي والحاكم وصححه غير واحد، وسئل الإمام البخاري رحمه الله عن هذا الحديث فحسن إسناده، والقول بتحسينه من القوة بمكان، وإن كان بعض العلماء يرى أنه صحيح لغيره. فهذا حاصل ما يقال في حكم المستحاضة من جهة طهرها: هل تتوضأ لكل صلاة أو تغتسل؟ وهناك مسألة ثانية: إذا ثبت أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة وأنه لا يجب عليها الغسل، فهل يستحب لها الغسل؟ أعدل الأقوال: أنه يستحب لها الغسل لكل صلاة، ولكن لا يجب؛ لورود ذلك من فعل السلف، وهو فهم الصحابية، ولذلك نقول يستحب لها أن تغتسل ولا يجب. قال المصنف رحمه الله: [وتصلي فروضاً ونوافل]. تصلي الفروض في الوقت، فتصلي فرض العصر، وفرض الظهر، والمغرب والعشاء والفجر كلاً بحسب وقته. فإذا توضأت لصلاة الفجر صلت بهذا الوضوء الفروض والنوافل، فابتدأت بركعتي الرغيبة فصلتها، ثم ثنت بصلاة الفجر، ثم إذا طلعت الشمس وأرادت أن تصلي الضحى صلت الضحى، ولا يلزمها أن تجدد وضوءها؛ لأنها على أصلها من كونها طاهرة.

وطء المستحاضة

وطء المستحاضة قال المصنف رحمه الله: [ولا توطأ إلا مع خوف العنت]. بقيت مسألة متعلقة بالمعاملة، وهي: هل يجوز وطء المرأة إذا كانت مستحاضة؟ الجمهور على أنه لا حرج في وطء المرأة المستحاضة، ولم يصح حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالمنع أو التحريم، والله عز وجل حرّم وطء المرأة الحائض، ولم يحرم وطء المستحاضة. قالوا: والأصل في المرأة أن يستمتع بها، وهذا على ظاهر التنزيل في قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187]، فإذا ثبت أن الأصل حل الاستمتاع وحل الوطء، فدم الحيض عارض نقلنا عن الأصل؛ والناقل يتقيد بزمانه وبمدة وجوده، فإذا انقطع دم الحيض رجعنا إلى الأصل الموجب لحل الوطء، فهذا مسلك الجماهير في تجويز الوطء، لكن كرهوا ذلك للإنسان. وقال بعض العلماء: إنه لا يطأها إلا إذا خشي العنت، والعنت هو الزنا، يعني: إذا خشي الوقوع في الزنا فله أن يطأ الزوجة ولا حرج عليه في ذلك. والصحيح: أنه لا حرج في وطئها، لكن الأفضل والأولى أن يتقيه. قال المصنف رحمه الله: [ويستحب غسلها لكل صلاة]. يعني: إذا دخل عليها وقت كل صلاة فإنه يستحب لها أن تغتسل، أي: تغسل البدن، ولا يجب عليها ذلك؛ لظاهر ما ذكرناه من فعل فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، وأما الوجوب فإنه لا يجب وإنما يستحب لها، والمستحب يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه ومخالفه.

أحكام النفساء

أحكام النُفساء قال المصنف رحمه الله: [وأكثر مدة النفاس أربعون يوماً] النفاس: تطلق النفس على معان، يقال: نفس الشيء بمعنى: ذاته، ومنه قولهم: رأيت محمداً نفسه. وتطلق النفس بمعنى: الروح، وتطلق النفس بمعنى: الأخ، ومنه قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29]، وتطلق النفس بمعنى: الدم، ومنه قول العلماء: النفاس، وما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (مالكِ أنفست) أي: هل أصابك الدم؟ فلما كان الدم من أسمائه النفس؛ سمي النفاس نفاساً لذلك، من باب تسمية الشيء بسببه، والنفاس: هو الدم الذي يخرج عقيب الولادة، وقال بعض العلماء: إن ما سبق الولادة باليوم واليومين والثلاثة آخذ حكم دم النفاس، فلو أن امرأة أوشكت على الوضع وقبل وضعها بيوم أو يومين أو ثلاثة جرى معها الدم وهي حامل قالوا: تأخذ حكم النفاس؛ للقاعدة: (أن ما قارب الشيء أخذ حكمه)، هذا بالنسبة لدم النفاس، والفرق بينه وبين دم الحيض: أن ذاك دم معتاد وهذا دم مخصوص لوجود الولد.

الخلاف في أكثر النفاس

الخلاف في أكثر النفاس قال المصنف رحمه الله: [وأكثر مدة النفاس أربعون يوماً]. ذكر رحمه الله أكثر النفاس وأنه أربعون يوماً، ونحتاج إلى معرفة أكثر النفاس في المرأة التي يستمر معها الدم؛ لأنها قد تنزف، وقد تتسبب ولادتها بنزيف، فيستمر معها الدم شهرين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة، وقد تبقى سنة كاملة وهي تنزف بعد ولادتها، على حسب ما يكون للنساء من اضطراب في عاداتهن بعد ولادتهن، وبناءً على ذلك: يحتاج الفقيه إلى معرفة أكثر النفاس حتى يحكم بطهارة المرأة، أو يحكم بدخولها في الحيض، أو يحكم بدخولها في الاستحاضة. فقال رحمه الله: (أكثر النفاس أربعون يوماً) وهذه مسألة خلافية، وللعلماء فيها قولان مشهوران: القول الأول: أن أكثر النفاس أربعون يوماً وما زاد فهو استحاضة، وهذا قول الجمهور، واستدلوا بما ثبت في الصحيح: (كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً). القول الثاني: تجلس النفساء ستين يوماً، وهو مذهب المالكية، وقول عبد الرحمن الأوزاعي فقيه الشام رحمة الله على الجميع، يقولون: النفساء لا بد أن تجلس ستين يوماً، وما جاوز الستين فهو استحاضة وليس بدم نفاس. هذا بالنسبة لقوله: (أكثر النفاس أربعون يوماً)، وفهمنا من هذا أن النفاس لا حد لأقله، وبناءً على ذلك: لو أن امرأة ولدت ثم جرى معها الدم لحظة واحدة، فأخرجت دفعة واحدة من الدم ثم انقطع، حكمنا بكونها طاهرة؛ لأنه ليس عندنا حد معتبر لأقل النفاس، وإذا لم يكن هناك حد معتبر فإنه بمجرد انقطاع الدم عنها نحكم بكونها طاهرة، هذا بالنسبة لأقل النفاس وأكثره. والصحيح: أن أكثر النفاس هو أربعون يوماً، تجلسها المرأة، ثم إذا أتمت هذا العدد فإنها تخرج عن كونها نفساء. قال المصنف رحمه الله: [ومتى طهرت قبله تطهرت وصلت]. قوله: (ومتى طهرت قبله) يعني: قبل أكثر النفاس، (تطهرت وصلت) مثال ذلك: امرأة ولدت في أول الشهر، واستمر معها دم النفاس عشرين يوماً ثم طهرت، أي: رأت علامات الطهر، إما جف موضعها، بأن ينقطع الدم، أو خرجت معها قصة بيضاء هي نهاية دم النفاس، فبخروج القصة البيضاء، أو وجود الجفوف تحكم بكونها قد طهرت، فإذا طهرت المرأة أثناء الأربعين يوماً بعد الولادة -مثلاً: طهرت بعد عشرين يوماً أو بعد ثلاثين يوماً أو بعد خمسة وعشرين يوماً- تقول: هي طاهرة، تصوم وتصلي وحكمها حكم الطاهرة.

كراهة وطء المرأة النفساء إذا طهرت قبل مرور الأربعين

كراهة وطء المرأة النفساء إذا طهرت قبل مرور الأربعين قال المصنف رحمه الله: [ويكره وطؤها قبل الأربعين بعد التطهير]. هذه المسألة فيها كلام للعلماء: بعض العلماء يقول: المرأة النفساء إذا طهرت قبل الأربعين لا توطأ، وهي إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمة الله عليه. ومنهم من قال: إنه محمول على الكراهية. ومن أهل العلم من قال: توطأ المرأة إذا انقطع دم نفاسها قبل الأربعين. ولكن في الأمر علة خفية، يقول بعض الأطباء -وهذه فائدة، وأنا دائماً أقول: ينبغي لطلاب العلم ألا يقتصروا فقط على مسألة الأحكام، فلا مانع أن الإنسان يستفيد من بعض الأمور الطبية، وإذا جالس طبيباً خبيراً بمثل هذه الأشياء يستفيد منه- يقول بعض الأطباء: إن هذا يضر بالعضو، وأنه لا يرجع إلى طبيعته قبل الأربعين، ولذلك قالوا: إن الأفضل أن لا يحصل جماع، وهذا يدل على بعد نظر السلف الصالح رحمة الله عليهم في زمان كانت إمكانيات الطب قليلة، والعلوم الطبية قليلة، لكنهم كانوا لا تنزل بهم مسألة إلا رجعوا لأهل الفن والاختصاص فيها، فإن كانت مسألة طبية رجعوا إلى الأطباء واستفادوا منهم، وبعض العلماء يعلل فيقول: لخوف رجوع الدم، ويكون انقطاع الطهر عندها مؤقتاً ليوم أو يومين، وهذا يحدث، فإن المرأة تكون نفاساً ثم تطهر بعد عشرين يوماً، ثم في اليوم الحادي والعشرين لا ترى شيئاً وكذلك في اليوم الثاني والعشرين وفي الثالث والعشرين يعود عليها الدم، ولذلك قالوا: لا نأمن ما دام أنها داخل الأربعين أن دم النفاس يعود إليها بعد أن انقطع. فتوسط المصنف رحمه الله وقال: (يكره)، وإذا ثبت كلام الأطباء من أنه قد يضر بالعضو؛ فيشتد المنع ويكون المنع آكد، لكن إذا لم يكن فيه ضرر فحينئذٍ يطأ الإنسان ولا حرج عليه، إلا أنه يستثنى الشخص الذي يخاف الوقوع في الحرام، فإن الناس تختلف شهواتهم، خاصة وأن الرجل قد حملت امرأته ومكثت زماناً منه، فلذلك قد يقع في المحظور، وقد لا يأمن الوقوع في الفتنة، وفي هذا الحال قالوا: له في ذلك سعة إذا خشي العنت.

انقطاع دم النفاس ثم معاودته

انقطاع دم النفاس ثم معاودته قال المصنف رحمه الله: [فإن عاودها الدم فمشكوك فيه]. قوله: [فإن عاودها الدم] يعني: عاود المرأة النفساء وصورة المسألة: أن يكون عندنا امرأة نفست وجرى معها دم النفاس عشرين يوماً وانقطع دون الأربعين، فحينئذٍ قال بعض العلماء: إذا استمر معها بعد انقطاع العشرين حتى جاوزت الأربعين ولم يعد لها دم فلا إشكال، وهي امرأة طاهرة قولاً واحداً عند العلماء. لكن المشكلة لو جرى معها ثلاثين يوماً، ثم انقطع عنها يوماً، ثم رجع لها، ثم انقطع يوماً، ثم رجع لها، وهذا يحدث، وقد ينقطع عنها خمسة أيام، ثم يعود خمسة أيام، ثم ينقطع خمسة أيام وهكذا، ويختلف ذلك على حسب أحوال النساء وما معهن من النزيف، ولذلك يصعب تمييز الاستحاضة من النفاس، ويصعب تمييز الاستحاضة من الحيض، حتى إن بعض الأطباء المعاصرين يقولون: هذا أمر مشكل؛ لأن كلاً منها انفجار في جدار الرحم المبطن، فقد يكون عرقاً مثل ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كما في الاستحاضة، وقد يكون حيضاً على أصله؛ ولذلك التمييز صعب. فالمشكلة الآن: أنها إذا انقطع عنها دم النفاس، ورأت علامة الطهر -وهذا شرط- فلا يحكم بكون النفساء قد طهرت إلا بعد أن ترى علامة الطهر: الجفوف أو القصة البيضاء كما ذكرنا في الطهر، فلو انقطع عنها الدم عشرين يوماً أو ثلاثين يوماً، ثم هذا الدم الذي انقطع عاودها بعد يومين أو بعد ثلاثة أيام، فلا يخلو من صور: الصورة الأولى: أن يعاودها بصفة دم الحيض وفي زمانه، كأن يكون من عادتها قبل الحمل أن الحيض يأتيها في أول الشهر، فبعد أن انقطع عنها في آخر الشهر من محرم رأت علامة الطهر، وبقيت خمسة أيام طاهراً، ثم جاءها في أول صفر دم يشابه دم الحيض، فنقول: انتقلت من كونها نفاساً إلى كونها حائضاً، وهذا الدم دم حيض، ثم تعطيه حكم دم الحيض فإذا كان عندها عادة قبل الحمل أنها تمكث في الحيض خمسة أيام، فتمكث خمسة أيام، لكن لو قلنا: إن هذا الدم ليس بدم حيض، ماذا نفعل؟ نضيفه إلى عدد النفاس، ثم بعد ذلك نحكم بخروجها من النفاس على قدر أمده، هذا قول. والقول الثاني الذي اختاره المصنف: أنه إذا لم يأتِ بأوصاف دم الحيض وزمانه، فإنه يحكم بكونه مشكوكاً فيه، وإذا كان مشكوكاً فيه فالأصل: أنه استحاضة، والأصل: أنها مطالبة بالصوم والصلاة، فنأمرها بالصيام والصلاة، حتى يحكم بانتقالها ودخولها في الحيض، هذا مذهب المصنف رحمة الله عليه، والحقيقة أن الأقوى هو التفصيل: أنه إذا عاودها في زمان حيض بصفات حيض حكم بانتقالها من نفاس إلى حيض، وإن عاودها بغير أوصاف الحيض قريباً من أوصاف نفاسها فإنه لاحق بما قبله آخذ حكمه، وتلفق في العدد فتضيف الأيام الأخيرة إلى الأيام الأولى حتى تتم عدة النفاس. قال المصنف رحمه الله: [تصوم وتصلي وتقضي الواجبة]. وهذا بناءً على الأصل واليقين من أنها طاهر والدم مشكوك فيه -كونه حيضاً أو نفاساً- فنلغي الشك ونبقى على اليقين؛ للقاعدة المشهورة.

مشابهة النفاس للحيض في غير العدة والبلوغ

مشابهة النفاس للحيض في غير العدة والبلوغ قال المصنف رحمه الله: [وهو كالحيض فيما يحل ويحرم ويجب]. قوله: (وهو) أي: النفاس (كالحيض فيما يحل ويحرم ويجب) أي: أن النفاس يمنع ما يمنع منه الحيض وقد تقدم. فالمرأة النفاس لا تصوم، ولا تصلي، ولا تدخل المسجد، ولا تلمس المصحف -عند من يقول بمنعها من لمس المصحف- ولا يحل وطؤها كما ذكرنا في الحائض، ويستثنى من ذلك ما ذكره المؤلف رحمه الله. قال المصنف: (ويُسْقِط غير العدة والبلوغ). قوله: (ويسقط) أي: النفاس، يسقط عن المرأة التكاليف، فما يسقطه دم الحيض يسقطه دم النفاس سواءً بسواء، ولذلك سمى النبي صلى الله عليه وسلم الحيض نفاساً؛ وذلك لمكان وجود العذر، لكن يستثنى من ذلك: العدة والبلوغ، فإنه لا يحكم باعتداد المرأة بدم النفاس، بخلاف دم الحيض فإنه يعتد به، ولذلك قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] فردهن إلى دم الحيض، قيل: قروء؛ أطهار، وقيل: حيضات، كما سنبينه في باب الطلاق إن شاء الله تعالى. وأما بالنسبة للبلوغ فقالوا: لا يثبت البلوغ بدم لنفاس؛ لأنها بحملها يثبت البلوغ، ولذلك يرى العلماء أن الحمل دليل على البلوغ: وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثماني عشرة حولاً ظهر وإن كان الصحيح أن خمسة عشر توجب البلوغ.

الاختلاف في أول النفاس وآخره إذا ولدت توأمين

الاختلاف في أول النفاس وآخره إذا ولدت توأمين قال المصنف رحمه الله: [وإن ولدت توأمين فأول النفاس وآخره من أولهما]. امرأة ولدت ولدين: الولد الأول ولدته في العشر الأولى من الشهر، والولد الثاني ولدته في الخامس عشر أو في السادس عشر. فيرد الإشكال: من أين يبدأ دم النفاس هل نبدأ من العشر الأولى التي حصلت فيها الولادة، أو نبدأها من العشر الثانية التي حصلت فيها الولادة الثانية؟ قال الجمهور: إنها تبدأ من الولادة الأولى؛ لأنها الأصل، والولادة الثانية ملحقه بهذا الأصل. وقال الظاهرية ومن وافقهم: العبرة بالولد الثاني، فتبدأ النفاس من الولد الثاني، وهذا في الظاهر. والقول بأن العبرة بالولد الثاني من القوة بمكان، لكن لما كان التوأمان في الأصل أنهما حمل واحد قالوا: إنه يعطى حكمه، ولذلك بعض العلماء يختار التفصيل باختلاف طول الزمان وقرب الزمان بين التوأمين. ولكن كلام العلماء إنما هو في التوأمين المتقاربين في الولادة، في المتقارب، ولذلك يقوى مذهب الظاهرية الذين يرون أن العبرة بالوضع الثاني. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

مقدمة كتاب الصلاة

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الصلاة لقد عظم الشرع من شأن الصلاة فجعلها الركن الثاني من أركان الإسلام؛ بل هي عمود الدين، فلا يستقيم دين العبد إلا بها، وهي الفارق بين المسلم والكافر، ولأهميتها يجب على المسلم أن يتعلم أحكامها من شروط وواجبات وأركان، وغير ذلك من المسائل المتعلقة بالصلاة.

من أحكام الصلاة

من أحكام الصلاة

تعريف الصلاة لغة وشرعا

تعريف الصلاة لغةً وشرعاً بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الصلاة]. قوله: (كتاب) مراد العلماء رحمهم الله بكلمة (كتاب) التعبير بها للدلالة على عِظم المبحث وسعة مسائله، ولذلك يقسمونه إلى فصول، ويقسمون الفصول إلى مباحث ومسائل، وكل مذهب بحسبه. والصلاة في اللغة تستعمل بمعانٍ، أولها: الدعاء، ومنه قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] فقوله: (صلّ عليهم) أي: ادع لهم، ومنه قول الشاعر: تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا عليك مثل الذي صليت فاغتمضي عيناً فإن لجنب المرء مضطجعا ومعنى البيت: أن هذا الشاعر لما أراد أن يسافر قالت بنته: يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا فقال رداً عليها: عليكِ مثل الذي صليت فاغتمضي عيناً فقوله: (عليك مثل الذي صليت) أي: لك مثل ما دعوت لي من السلامة والعافية من البلاء. ومن معاني الصلاة: البركة، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: (اللهم صل على آل أبي أوفى)، أي: بارك لهم فيما رزقتهم. وتطلق الصلاة بمعنى: الرحمة، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56] أي: إن صلاة الله على نبيه رحمته، ومنه قول الشاعر: صلى المليك على امرئٍ ودعته وأتم نعمته عليه وزادها فهذه معاني الصلاة في اللغة. أما في اصطلاح العلماء فإنهم إذا قالوا: (الصلاة) فمرادهم بها أنها عبادةٌ مخصوصة مشتملة على أقوال وأفعال مفتتحةٌ بالتكبير ومختتمة بالتسليم، فقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث علي: (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم) أي: الصلاة. فقوله صلى الله عليه وسلم: (تحريمها التكبير) هي التكبيرة الأولى، ولذلك قالوا: إن التكبيرة الأولى تسمى تكبيرة الإحرام؛ لأن المكلف بهذه التكبيرة يدخل في حرمات الصلاة، فلا يتكلم ولا يعبث ولا يفعل أي فعلٍ يعارض الصلاة أو يخالف مقصودها، ولذلك قالوا: مفتتحةٌ بالتكبير. وقالوا: (ومختتمة بالتسليم)؛ لأنه إذا أنهى صلاته خرج بالسلام، أي أن خاتمتها تكون بالسلام، ولذلك اعتبر من أركانها. وأما كونها (عبادةً مخصوصة) فقد أجمع العلماء على وصفها بكونها عبادة مشتملة على أقوال وأفعال؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هو التسبيح وذكر الله وقراءة القرآن) كما في صحيح مسلم. فهذا التعريف الاصطلاحي نفهم منه أن الصلاة عند العلماء -أعني الفقهاء- لها معنىً مخصوص، وأن معناها في اللغة أعم من معناها في الاصطلاح، والسبب الذي جعل العلماء يجعلون تعريفاً لغوياً وتعريفاً شرعياً أن الحقائق الشرعية ربما أطلقت بمعنىً أخص من إطلاقها اللغوي، ولذلك تجد معنى الصلاة في اللغة أعمّ من معناها في الاصطلاح، ولذلك يعتنون بذكر التعاريف الاصطلاحية؛ لهذه الحقائق الشرعية المخصوصة.

أهمية الصلاة في القرآن والسنة

أهمية الصلاة في القرآن والسنة الصلاة عبادةٌ عظيمة مفروضة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي من أعظم شعائر الإسلام بعد الشهادة، ولذلك ثبت في الصحيحين من حديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه لليمن قال له: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلواتٍ في كل يومٍ وليلة) أي أن الله أوجب عليهم هذه الصلوات الخمس، وفرضها عليهم فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بيان وجوب الصلاة تابعاً لفرضية الشهادتين، ولذلك قال العلماء رحمهم الله: إن أهم ما يعتنى بالدعوة إليه، وأمر الناس به، وحثهم عليه، وحضهم على فعله هو الصلاة بعد الشهادتين، فهي أهم المهمات بعدها، وآكد الفرائض والواجبات بعد قول: (لا إله إلا الله)، شهادة التوحيد، وجعلها النبي صلى الله عليه وسلم عمود الإسلام، ومن المعلوم أن العمود إذا سَقط سقط ما بُني عليه، وهذا يدل دلالة عظيمة على فضل هذا الركن العظيم وعظيم شأنه. وثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (أنها آخر ما يفقد الناس من دينهم) وأنه إذا فقدت الصلاة فقد ذهب الدين، وثبت في الحديث الصحيح عند الترمذي وغيره: (أول ما يحاسب عليه العبد من عمله الصلاة، فإن صلحت نظر في بقية عمله، وإن كان لها مضيعاً فإنه لما سواها أضيع). فهذه الصلاة فرضها الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وورد ذكرها في القرآن في أكثر من موضع، يأمر الله بها تارة، وتارةً يرغب فيها، وتارةً يبين فضل أهلها ويثني عليهم، ويبين عواقبهم من دخول الجنة وحصول رضوان الله تعالى عليهم بفعلها. وقد أمر الله بها عموماً فقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] وأمر بها خصوصاً فقال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ} [العنكبوت:45]. وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم خطابٌ لأمته، وأمر سبحانه أن تؤمر بها الذرية والأبناء والأهل والأزواج والزوجات، فقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] وأخبر سبحانه وتعالى عن فضل أهلها الآمرين بها، فأثنى على نبيه إسماعيل فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:54 - 55] قال بعض العلماء في قوله تعالى: (وكان عند ربه مرضياً) أي: بأمره لأهله بالصلاة؛ لأنه أمرهم بأعظم شعائر الدين وأجلّها عند الله عز وجل. وأجمع المسلمون على وجوب الصلاة وفرضيتها، وأنها ركنٌ من أركان الإسلام؛ لما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة)، فأجمعوا على أنها ركنٌ من أركان الإسلام، وأنه لو جحد إنسانٌ وجوبها كفر، إلا أن يكون جاهلاً فيعلم، كما سيأتي إن شاء الله بيانه للمصنف رحمه الله. ولما كان من عادة العلماء رحمهم الله أن يقولوا: (كتاب الصلاة)، والمقصود بهذا الكتاب بيان الأحكام والمسائل المتعلقة بعبادة الصلاة، استلزم ذلك بيان ما يشترط لصحة الصلاة من الوقت واستقبال القبلة، ففي المواقيت يتكلمون عن أفراد المواقيت، أعني: مواقيت الصلوات الخمس، وفي استقبال القبلة يتكلمون عن مسائل استقبال القبلة، ومتى يسقط هذا الواجب -كما هو الحال في السفر- ويقوم على الاجتهاد والظن؛ لثبوت السنة بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك يتكلمون على ستر العورة وأخذ الزينة، وما يتبع ذلك من مباحث، كصلاة العراة ونحوهم. ثم يتكلمون في الصلاة على صفتها، ويتضمن ذلك بيان الأركان والواجبات والسنن التي هي من هيئات الصلاة، فيبدأون ببيان أركانها التي فرضها الله عز وجل، وإذا لم يقم المكلف بها فلا تصح صلاته. ثم بيان الواجبات التي إذا فعلها أثيب، وإذا تركها عوقب وأثم ولا يحكم ببطلان صلاته إلا إذا تركها متعمداً، فهي أخف مرتبةً من الأركان، ثم السنن التي يرغب في فعلها ولا حرج في تركها. ثم بعد ذلك يتكلمون على ما يطرأ على الصلاة، كما هو الحال في باب سجود السهو، فيتكلمون على حال المكلف إذا أخلّ بالأركان أو بالواجبات أو السنن، ثم يتكلمون على أفراد الصلاة الواجبة، ثم المسنونة التي لا تجب على الأعيان وقد تجب على الكفاية، فيتكلمون على صلاة الجمعة وصفتها وشروطها وما يلزم لها، ثم يتكلمون على الصلوات النوافل التي تشترط لها الجماعة، كصلاة التراويح وصلاة العيدين على القول بأنها سنة مؤكدة، وما يتبع ذلك من صلاة الاستسقاء ونحوها. ثم يتكلمون على مطلق النوافل بصلاة التطوع، فيذكرون المباحث المتعلقة بالسنن الراتبة والوتر -على القول بعدم وجوبه- فهذه المباحث كلها متشعبة ومتعددة، فمن العلماء من يختصر، ومنهم من يسهب، ونظراً إلى تعددها حتى في المختصرات فإن من عادة العلماء أن يقولوا: (كتاب الصلاة) دون قولهم: (باب الصلاة)؛ لسعة هذا المبحث، وكثرة مسائله، وتشعب أحكامه. وقد ذكر المصنف رحمه الله كتاب الصلاة عقب كتاب الطهارة، والمناسبة في هذا لطيفة، وهي أن الطهارة وسيلةٌ إلى الصلاة، وقد أمر الله عز وجل بالطهارة قبل الصلاة، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6]، فمن المناسب أن يتكلم على الوسائل قبل الكلام على المقاصد، ولذلك أتبع المصنف رحمه الله كتاب الطهارة بكتاب الصلاة.

من تجب عليه الصلاة

من تجب عليه الصلاة قال المؤلف رحمه الله: [تجب على كل مسلم مكلف]. الوجوب في أصل اللغة: السقوط، يقال: وجب الشيء، إذا سقط، ومنه قولهم: وجبت الشمس، إذا سقطت، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36] أي: سقطت واستقرت على الأرض. ويطلق الواجب في لغة العرب بمعنى اللازم، ومنه قول الشاعر: أطاعت بنو عوفٍ أميراً نهاهم عن السلم حتى كان أول واجب أي: أول لازمٍ عليهم أن يفعلوه. والواجب في الاصطلاح: هو ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، فالواجب أعلى مراتب الأوامر، والحنفية يجعلون أعلى مراتب الأوامر الفرض، ثم يليه الواجب، ويفرقون بين الفرض والواجب بأن الفرض ما ثبت بدليل قطعي، والواجب ما ثبت بدليل ظني سواءٌ في الدلالة أم في الثبوت، كما هو مفصل في مباحث الأصول. قوله رحمه الله: (تجب) أي: الصلاة. أراد المصنف بهذه العبارة أن يبين حكم الصلاة، ولذلك ينبغي على طلاب العلم والفقه أن يبتدئوا أولاً ببيان موقف الشريعة من العبادة، وعادةً إذا قال العلماء: (كتاب الزكاة)، أو (كتاب الصلاة)، أو (كتاب الصوم)، يقولون عقبه: (تجب الصلاة)، أو: (تجب الزكاة)، أو: (يجب الصوم)؛ لأن أول ما يحتاج إليه بيان حكم الشريعة في هذا المبحث من مباحث الفقه، ولذلك قال المصنف: (تجب)، أي: الصلاة، فالأصل فيها اللزوم والوجوب. قوله: [على كل مسلم]. أي: تجب هذه الصلاة على كل مسلم، و (كل) من ألفاظ العموم عند الأصوليين إذا جاءت في صيغ الكتاب أو السنة، وقد درج العلماء على ذلك. فأول ما يخاطب به من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، ولذلك قدم شرط الإسلام؛ لأنه لا تصح الصلاة من كافر، فيطالب المسلم أولاً بالإتيان بالشهادتين، ثم بعد ذلك يتوجه عليه الخطاب بفعل الصلاة. فلابد من وجود الإسلام أولاً، ثم توجه الخطاب ثانياً، وهذا مفرع على حديث معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات). فلا يخاطب أحد بالصلوات إلا بعد أن يحقق الشهادتين، ولذلك قال المصنف: (على كل مسلم)، وهذا الوجوب محل إجماع، إلا أنَّ بعض العلماء يقولون: الصلاة واجبة، وبعضهم يقول: الصلاة فرضٌ، والتعبير بهما على مسلك الجمهور واحد، ولكن الحنفية يقولون: إنها فريضة، ويرون أنها أعلى مراتب الوجوب، والخلاف بين الحنفية والجمهور في هذا عند بعض المحققين من أهل الأصول خلاف لفظي. فالحاصل من هذا أن العلماء رحمهم الله قالوا: إنها واجبة، ونستفيد من هذا أن تَرْكها إثمٌ، وأن فعلها قربة وطاعة. ولما كانت واجبة ويرد Q على من تجب؟ قال: (على كل مسلم)، والمراد هنا: جنس المسلم، فيشمل الذكر والأنثى، ولا فرق بين ذكرٍ وأثنى في الأحكام إلا ما خص الدليل به الرجال دون النساء، أو النساء دون الرجال. وقوله: [مكلفٍ]. التكليف: مأخوذٌ من الكلفة، والشيء الذي فيه كلفة هو الذي فيه مشقة وتعب وعناء، والعلماء رحمهم الله يعبرون عن أوامر الشرع ولوزامها بأنها تكاليف؛ لأنه لا بد في الشرع من ابتلاء، والدليل على ذلك قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فدل على أنه يكلف، لكنه يكلف بما في الوسع لا بما هو خارج عنه، والسبب في هذا أنه لو كانت الأوامر خاليةً من التكليف والمشقة لعريت عن الابتلاء، ولاستوى المطيع والعاصي؛ لأنه لا يظهر فرق بين المطيع والعاصي إلا بوجود الابتلاء، ولذلك قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ} [الملك:2] أي: ليختبركم. وهذا يدل على أن تكاليف الشرع فيها ابتلاء، ومن الأدلة على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (حفت الجنة بالمكاره)، والمكاره: ما يكون في التكاليف سواءٌ أكانت أوامر أم نواهي، فإن كانت أوامر فالمشقة في تحصيلها، وإن كانت نواهي فالمشقة في تركها والاجتناب عنها. والتكليف ينقسم إلى قسمين: إما تكليفٌ بمشقةٍ مقدور عليها، وإما تكليفٌ بمشقة غير مقدورٍ عليها، كان التكليف يتضمن مشقةً غير مقدور عليها فهذا لا يكلف به ولا يرد به التكليف؛ لأن النص في الكتاب دلّ على أنه لا يكلف بما فيه مشقة؛ لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)، فدلّ هذا على أن تكاليف الشرع ليس فيها مشقةٌ غير مقدور عليها. وإن كان التكليف بالمشقة المقدور عليها، فهذه يكلف بها، ولكن هناك ضوابط عند العلماء؛ إذ قد يخفف على الإنسان، كالحال في مشقة الصوم في السفر، فأنت تقدر على الصوم في السفر ولكن بمشقة فيها حرج، فخيّرك الله عز وجل بين أن تصوم وبين أن تفطر. والتكليف يكون بالأمر والنهي. والتكلف في قوله: (على مسلمٍ مكلف) يتضمن شرطين، وقيل ثلاثة شروط: الشرط الأول: العقل، والشرط الثاني: البلوغ، كما قيل: وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل فلا بد في التكليف أن يكون هناك عقلٌ، وأن يكون هناك بلوغ، فلا تكليف على مجنون، ولا على صبيّ دون البلوغ. وقال بعض العلماء: يضاف إليهما أمرٌ ثالث وهو الاختيار وعدم وجود الإكراه. لكن هذا في مسائل مخصوصة، فقد يسقط التكليف لعدم وجود الاختيار كما في المنهيات، فلو أن إنساناً اضطر إلى حرامٍ فإنه يسقط عنه التكليف ولا يكلف، ولذلك يقتصر بعض العلماء على الشرطين الأولين في ثبوت الأهلية، ويرون أن الشرط الثالث يتقيد بأحوال مخصوصة. أما الدليل على أنه لا يخاطب بالصلاة غير العاقل فهو ما جاء في حديث علي عند أبي داود وأحمد في المسند بسندٍ صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رُفِع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون عن يفيق)، فدلّ على أن من كان مجنوناً لا يكلف، لقوله: (رفع القلم)، وفرّع العلماء عليه أن من شرط وجوب الصلاة أن يكون عاقلاً، وهذا بالإجماع، وأما بالنسبة لكونه بالغاً فللحديث نفسه، وأما أمره عليه الصلاة والسلام في حديث أحمد وأبي داود أن يؤمر الصبيان بالصلاة لسبع، وأن يضربوا عليها لعشر، فهذا من باب التعويد والترويض، لا من باب التكليف. وعند العلماء خلاف فيما إذا أمر إنسانٌ أن يأمر غيره، فهل الأمر للأول أو للثاني؟ فعلى القول بأن الأمر للأول فإن هذا الحديث دلّ على أن لا تكليف أصلاً؛ لأن الخطاب لم يتوجه إلى صبي، وبناءً على هذا نأخذ من هذين الحديثين دليلاً على المسألتين، وهو أنه يشترط في إيجاب الصلاة البلوغ والعقل. وعند بعض العلماء الصّبي فيه تفصيل: فإذا بلغ العاشرة فإنه يؤمر بالصلاة ويلزم بها، ويعتبرونه نوع تكليف واستثناء من عموم الخطاب الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم برفع القلم عن الصّبي، حتى قال بعض العلماء: إنه يثاب ولا يعاقب لقوله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة) وذكر منهم الصّبي، وقال: إن حديث: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع) يدل على أنه يثاب ولا يعاقب، ويبقى الثواب معلقاً على بلوغه، فإذا بلغ جرى القلم بكسب ثوابه، وهذا مذهبٌ فيه تكلّف، وهو مذهب لبعض الأصوليين، وهو رواية عن الإمام أحمد أيضاً، ولكن الصحيح أن ظاهر السنة عدم تكليفه، وأن الأمر متوجهٌ إلى الآباء من باب الترويض والتعويد، كما ثبت مثله في الصوم من أمر الصحابة أبناءهم بالصيام، كما في أثر أنس رضي الله عنه وأرضاه-، وإعطائهم اللعب والدمى من العهن يعبثون بها حتى ينشغلوا عن طلب الطعام والإخلال بصيامهم. قال رحمه الله: [لا حائضاً ونفساء]. أي: لا تجب الصلاة على حائض ولا على نفساء، وقد يقال: إنها واجبة على كل مسلمٍ بالغٍ عاقل إلا أن يكون حائضاً أو نفساء. والمراد بالحائض والنفساء: من كانت متلبسةً بالحيض أو بالنفاس، وليس المراد به الوصف؛ لأن المرأة قد توصف بكونها حائضاً، كما تقول: تجب الصلاة على كل حائض، أي: على كل امرأة بلغت المحيض، أو يجب الستر على المرأة الحائض، والمراد: التي بلغت سن المحيض، والعرب تسمي الشيء بما يقارنه. فالمقصود أن قوله: (لا حائضاً) أي أن الحائض لا تجب عليها الصلاة أثناء الحيض، وللعلماء في هذه المسألة قولان: فبعض الأصوليين يقول: الخطاب متوجب على الحائض والنفساء، وسقط عنهما الفعل لمكان العذر في الصوم والصلاة، ثم إذا طهرتا فإنهما تقضيان صومهما، ولا تعتبران موديتين له. وبعضهم يقول: لا يتوجه عليهما الخطاب أصلاً إلا بعد طُهرهما، فيتوجه عليهما الخطاب بفعل الصوم دون فعل الصلاة، والفرق بين القولين في الأداء والقضاء، فإنك إذا قلت: إن الحائض والنفساء أثناء الحيض والنفاس يتوجه عليهما الخطاب فإنك تقول: تكلف الحائض والنفساء بالصلاة وسقطت عنهما بعذر، فالتكليف باقٍ أصلاً. إذا ثبت هذا فيصبح قوله: (لا حائض ونفساء) أي أنه لا يتوجه عليهما الخطاب، فهذا اختيار صاحب الزاد، وهو أيضاً اختيار صاحب المقنع نفسه الإمام ابن قدامة رحمة الله تعالى عليهما، وقد تكلم على هذه المسألة وبيّنها في كتابه النفيس: (روضة الناظر)، وأشار إلى مذاهب العلماء فيها من ناحية توجه الخطاب على الحائض والنفساء أو عدم توجهه عليهما. فإن قلنا: إنه لا يتوجه عليهما، ففي هذه الحالة بعد انتهاء أمد الحيض والنفاس يتوجه الخطاب بالصوم دون الصلاة، وهذا يعارضه حديث عائشة أنها قالت: (كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر قضاء الصلاة). فقول

من يجب عليهم قضاء الصلاة لعذر

من يجب عليهم قضاء الصلاة لعذر

من زال عقله بنوم

من زال عقله بنوم قال رحمه الله تعالى: [ويقضي من زال عقله بنوم]. قوله هذا دلّ على أن النائم مكلف أثناء نومه، أي أن الخطاب متوجهٌ عليه أثناء النوم، واختلف العلماء: هل النائم والناسي والساهي والسكران مكلفون أثناء السكر والنسيان والنوم، ثم يطالبون بالفعل بعد الإفاقة، كالحال في مسألة الحائض والنفساء؟ فقال بعض العلماء: النائم والناسي والساهي مكلفون، ولكن لا يؤاخذون وقت العذر، فإذا زال عنهم العذر فإنهم يطالبون بالفعل، وبناءً على هذا يقال: يؤمرون بالقضاء ويثبت عليهم؛ لأنه إذا تعذّر عليهم الأداء لعذرٍ فالقضاء مفرعٌ على وجود الأداء، وقالوا: إن النائم يؤمر بقضاء الصلاةِ، وهذا بالإجماع؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة له إلا ذلك)، فدل على أنه مطالبٌ بالقضاء، ودل على أن نومه وخروج الوقت عليه وهو نائم لا يوجب سقوط التكليف عنه، ولذلك يؤمر بقضاء هذه العبادة، والأصل: أن ذمته مشغولةٌ بفعل هذه العبادة حتى يدل الدليل على سقوطها، ولا دليل، فيبقى مطالباً بفعل الصلاة، فيؤمر بها بعد استيقاظه من النوم. لكن هنا مسألة: فقد قال بعض العلماء: من نام عن الصلاة وخرج وقتها، فإنه يؤمر بالفعل مباشرةً، وإن تأخر أثم؟ وقال بعض العلماء: يؤمر بفعلها ما لم يدخل وقت الثانية التي بعدها، ويخرج وقت الصلاة التي هو فيها، وقالوا: يجوز له أن يؤخر. وتوضيح هذه المسألة ما جاء في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما الثابت في الصحيح أنه قال: (عرّس النبي صلى الله عليه وسلم وسار إلى آخر الليل، قال: فوقعنا وقعةً ألذ ما تكون على المسافر -لأنهم كانوا يسيرون في الليل في مقدمهم من غزوة تبوك رضي الله عنهم وأرضاهم- فلما صار إلى آخر الليل وقرب وقت الفجر أعياهم المسير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ بلال: اكلأ لنا الليلة -أي: يا بلال! ارقب لنا الفجر وانتبه له، حتى إذا تبين الصبح فأيقظنا للصلاة- فنام بلال، ونام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلم يستيقظوا إلا بحرِّ الشمس، فاستيقظ عمر وصاح في الناس، وصار يكبر، ثم استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر إلى القوم قال عليه الصلاة والسلام: يا بلال: ما شأنك؟ -أي: ما الذي دعاك أن تضيع علينا الصلاة؟ - فقال: يا رسول الله: أخذ بعيني الذي أخذ بعينك) أي: أنت متعب وأنا متعب، فكما نمتَ نمتُ، وهذا من لطف الصحابة رضي الله عنهم وحسن أدبهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن قال: (ارتحلوا إنه منزلٌ حضرنا فيه الشيطان. فارتحلوا عن الوادي، ثم توضأ عليه الصلاة والسلام، وتوضأ أصحابه فصلّى راتبة الفجر -كما في الصحيح في رواية أنس -، ثم أمر بلالاً فأقام فصلى الفجر). فالمسافة ما بين انتقاله من الوادي إلى الوادي فيها تأخيرٌ للصلاة، ولذلك قالوا: دلّ هذا على أنه إذا استيقظ لا يؤمر بالفعل مباشرة، وأنه لو أخّر ليسير الوقت فلا حرج، وقالوا: إنَّ له أن يؤخر إلى قرب الظهر، فهذا مذهب من يقول: إنه لا يطالب بالفعل مباشرةً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخّر الصلاة فانتقل من الوادي الذي هو فيه إلى واد آخر. وأجاب الأولون بأن فعله صلى الله عليه وسلم عذرٌ خاصٌ بهذه الصورة أو ما في حكمها، ويبقى الأصل بتوجه الخطاب عليه بالفعل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصليها إذا ذكرها). فجعل الأمر عند الذكر، فدل على أنه مطالبٌ بالفعل فوراً، خاصةً على مذهب من يقول: إن الأمر يقتضي الفور، فهذا حاصل ما ذكره العلماء. والحقيقة أنَّ الأحوط أن الإنسان يبادر، ويفعل الصلاة بمجرد الاستيقاظ ما أمكنه.

من زال عقله بإغماء

من زال عقله بإغماء قال رحمه الله: [أو إغماء]. المغمى عليه إما مغمىً عليه باختياره كأن يتعاطى أمراً يفضي به إلى الإغماء، أو مغمى عليه بغير اختياره كمن به صرع أو نحو ذلك، فهذه أحوال المغمى عليه، فعمم المصنف فقال: (أو إغماء). فكل من أغمي عليه داخل في هذا العموم، والمغمى عليه للعلماء فيه قولان: قال بعض العلماء: كل من أغمي عليه فهو مكلف، ويبقى إلى أن يفيق فيطالب بقضاء الصلوات وقضاء الأيام التي فرض الله عليه فيها الصيام. والقول الثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، وقال به بعض السلف رحمة الله عليهم: أنَّ المغمى عليه ليس بمكلف، وإذا زال إغماؤه لا يطالب بقضاءٍ ولا بأداء. وفائدة الخلاف: أن من أغمي عليه حتى فاتته الصلوات، أو أغمي عليه وفاته مع الصلاة الصيام، فعلى القول بأنه مكلف يطالب بالقضاء ولو طالت المدة، وعلى القول بأنه غير مكلف لا يطالب بالقضاء، ويقولون: إنه كالمجنون. والحقيقة أنّ المغمى عليه فيه شبه بالمجنون، وفيه شبهٌ بالنائم، ففيه شبهٌ بالمجنون من جهة أنه إذا أوقظ لا يستيقظ، وفيه شبهٌ بالنائم من جهة أن الأصل فيه أنه مكلف، وأن الذي يعتريه من الإغماء إنما هو أشبه بالغطاء على عقله كالغطاء الذي على النائم فليس فيه زوال العقل بالكلية، ولذلك قال بعض العلماء: هو كالنائم، وقال بعضهم: هو كالمجنون، فمن يقول: إن المغمى عليه كالمجنون لا يطالبه بقضاء الصلوات، ويقول: هو كمن جنّ وأفاق، ومن يقول: إنه كالنائم يطالبه بالقضاء، وهذه المسألة يتفرع عليها ما يسمّى بالموت السريري عند الأطباء -أعاذنا الله وإياكم منه ولطف بنا وبكم في كل حال-، فهذا الموت السريري الذي يكون الإنسان فيه عديم الحركة حتى يشاء الله عز وجل بزوال المانع عنه، إما بجلطة أو بسبب آخر يؤدي إلى تعطله، فيصبح كالنائم في سبات، فإذا كلمه الإنسان لا يعي ولا يجيب، حتى يشاء الله له الإفاقة فيستيقظ بعد شهور، وقد يستمر الإغماء إلى سنوات. فعلى القول بأن المغمى عليه مكلف يصبح في هذه الحالة يطالب مثل هذا بالقضاء، وعلى القول: بأنه غير مكلف لا يطالب بالقضاء. وعند النظر في المسألة من جهة الأصول يترجح القول الذي يقول: إنه كالنائم، والشبه فيه بالنائم أقوى من الشبه بالمجنون؛ فإن الإغماء لا يؤثر في عقل الإنسان من جهة الزوال، ولكنه أشبه بالنائم من جهة السبات والخدر، والنائم حقيقته أنه مخدر، أي: لا يستطيع أن يتكلم ولا يفهم الكلام، فالمغمى عليه أقرب إلى النائم منه إلى المجنون، والقاعدة عندنا في الأصول: (إذا تعارض القولان ينظر إلى أقربهما شبهاً بالأصل). فنحن نسلّم أن المغمى عليه فيه وجه شبه بالمجنون، وفيه وجه شبه بالنائم، فانظر رحمك الله أيهما أقرب إلى الأصل، فإذا نظرت إلى أن الأصل وجوب الصلاة عليه وتكليفه احتطت للشارع، وقلت: هو مكلف وأنا أشك في عذره هل يسقط التكليف أو لا، فيبقى على الأصل من كونه مكلفاً، وإن جئت تنظر إلى الأصل الآخر الذي يغلب فيه جانب الجنون فالأصل براءة الذمة. وعند النظر إلى الأصلين نجد أن أصل التكليف ألصق من أصل براءة الذمة؛ لأن توجه الخطاب عليه في الأصل قد ثبت، وأصل براءة الذمة إنما يقوى في المسائل التي لم يتوجه فيها خطاب، أي: لم يوجد فيها أصل يوجب توجه الخطاب، ولذلك يقوى قول من يقول: إنه يطالب بالقضاء. لكن السؤال هنا: لو قلنا: إنه يطالب بالقضاء فأغمي عليه شهرين أو ثلاثة أو أربعة، فكيف يقضي؟ قالوا: إن طالت المدة رتب الصلوات، فكل صلاةٍ مع فرضها، فلو كانت أربعة أشهر فإنه يبدأ من حين إفاقته، ويصلي كل فرض مع فرضه، ويبدأ بالمقضي أولاً ثم بالمؤداة، حتى تتم له أربعة أشهر بهذه الحالة. أما لو أغمي عليه ثلاثة أيام أو أربعة أيام أو خمسة أيام فإن هذا يطالب بالقضاء مباشرةً. وإسقاط التكليف عنه لمكان المشقة -كما يقوله بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه ليس بصحيح، فإنهم يسلمون أنه يطالب بالقضاء ثم يقولون: إن طالت المدة سقطت عنه. وهذا غير صحيح؛ لأن مشقة القضاء يمكن اغتفارها بمطالبته بتسلسل الأوقات بالفرض مع نظيره، وهذا أقوى، واعتبار الأصل فيه أبلغ من اعتبار براءة الذمة الذي سبقت الإشارة إليه.

من زال عقله بسكر

من زال عقله بسكر قال رحمه الله تعالى: [أو سكرٍ أو نحوه]. السكر قد يكون بسببٍ مباح أو بسبب غير مباح، فالسكر بسبب مباح كأن يشرب خمراً يظنها ماءً، فهذا معذور، أو أكره على شرب الخمر عند من يرى أن الإكراه مسقط للتكليف، فهذا معذور، أو أعطي (البنج) لإجراء عملية جراحية فزال عقله، فهذا السكر يعذر العلماء صاحبه، ويخصونه بأحكام في مسائل العبادات والمعاملات. وأما السكر المحرم فالمراد به ما يزيل العقل سواءٌ أكان شراباً أم كان جامداً، وسواءٌ كان قديماً أم حديثاً، كما يوجد الآن في بعض المركبات كالمخدرات ونحوها، فكل ذلك يأخذ حكم السكر في باب الفقه. فإذا ثبت أن السكر يؤثر فإن السكران غير مكلف بالصلاة أثناء سكره، ويطالب بقضائها بعد الإفاقة؛ لأن الله عز وجل قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]، فدل على أنه أثناء السكر لا يطالب بالصلاة، وبناءً على ذلك فإذا أفاق فإنه يخاطب بفعلها، ويكون فعله لها قضاءً لا أداءً. وقوله: [أو نحوه]. أو نحو السكر، كمثل ما يقع في بعض المخدرات والمركبات التي تكون في حكم السكر.

من تصح منه الصلاة ومن لا تصح منه

من تصح منه الصلاة ومن لا تصح منه قال رحمه الله تعالى: [ولا تصح من مجنون ولا كافر]. أي: ولا تصح الصلاة من مجنونٍ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة)، والصحة تستلزم وجود أو ثبوت الثواب، إلا على القول في الصبي في حده وصلاته. وقوله: [ولا كافر]. أي: ولا تصح الصلاة من كافر؛ لأنه مخاطبٌ بالأصل، وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم يؤمر بالصلاة وتصح منه بعد الشهادتين، وكون النبي صلى الله عليه وسلم يرتب الصلاة على وجود الشهادتين يدل على أن الكافر لا تصح منه الصلاة قبل الشهادتين؛ لأنه قال عليه الصلاة والسلام: (فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم ... ) الحديث، فدل على أن توجه الخطاب عليهم بالصلاة وصحتها منهم متوقفٌ على تحصيل الأصل وهو الشهادتان، فقد قال تعالى في الكفار: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، فدل على أن الكافر لا تصح منه قربةٌ ولا طاعة، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعجل للكافر دنياه بحسناته، حتى إذا وافى الله يوم القيامة وافاه وليست له حسنة واحدة)، فلذلك لا تصح منه صلاته ولا تقبل منه عبادته. قال رحمه الله تعالى: [فإن صلى فمسلم حكماً]. قوله: (فإن صلى) أي: هذا الكافر في الظاهر، وقوله: (فمسلم حكماً) يشير به إلى أنَّ عند العلماء ما يسمونه القضاء وما يسمونه الديانة، والقضاء يعبرون عنه أحياناً بقولهم: (حكماً)؛ لأنه يتصل بحكم الحاكم وهو القاضي، وهذا ينبغي أن يتنبه له طلاب العلم، فالشريعة رتبت الأحكام على الظاهر، ولم ترتبها على السرائر في حكم القضاء، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس، وأن أكلْ سرائرهم إلى الله)، والسبب في ذلك أنه لا يستطيع الإنسان أن يعرف حقيقة الشيء من الإنسان سواءٌ أكان في عبادةٍ أم معاملة، فلا يستطيع أن يعلم قصده ولا نيته، ولذلك أُمِر من زكى إنساناً أن يقول: أحسبه والله حسيبه. ولا يمكن أن تنكشف حقيقة الإنسان أو ينجلي صلاحه من عدمه إلا في يومٍ يبعثر فيه ما في القبور، ويحصل فيه ما في الصدور، وهذا هو الفصل في معرفة حقائق الناس، فلما كانت معرفة حقائق الناس متعذرة بالاطلاع على قلوبهم أخذ بالظاهر، فأحكام الشريعة مبنية على الظاهر، فلو أن إنساناً جاء وصلى مع الناس، وفعل الصلاة في الظاهر، فليس لأحدٍ أن يقول: هذا منافق؛ لأنه يحتاج إلى أن يطلع إلى حقيقة قلبه، ما لم تظهر منه أفعال المنافقين التي تدل على نفاقه، والأصل فيها أنه يحكم على ظاهره، وتوكل سريرته إلى الله عز وجل. فمن دخل المسجد وصلى مع المسلمين، واستقبل قبلتهم، وصلّى صلاتهم، وتأثر بكلامهم في ظاهره فهذا من المسلمين، وحكمه حكم المسلمين، والحقيقة ترد إلى الله سبحانه وتعالى. فعندنا شيء في الظاهر، وعندنا شيء في الباطن، فإن قالوا: (مسلمٌ حكماً) أي: في الظاهر، وأما حقيقته فأمرها إلى الله، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي معه المنافقون وهو يعلم أنهم منافقون، والقرآن ينزل عليه، وسمى المنافقين لـ حذيفة بن اليمان، وقال عمر لـ حذيفة: (أناشدك الله: أكنتُ فيمن سمى لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، ولا أزكي بعدك أحداً)، فكان الصحابة رضوان الله عليهم يعرفون المنافق من المسلم إذا رأوا حذيفة يصلي على الرجل، فإذا رأوا حذيفة يصلي على الرجل علموا أنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا رأوا حذيفة اعتزل جنازة علموا أنه منافق وأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه من خبره شيئاً. فالذي ينبغي على الحاكم أن يحكم على الظاهر، وهذا هو الأصل، لظاهر حديث مسلم الذي ذكرنا: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس)، وأما النيات والمقاصد فأمرها إلى الله سبحانه وتعالى، ولكن قد توجد قرائن تدل على المقصد فيغلب على الظن، فهذا أمر آخر يحكم به في مسائل في القضاء. ومن أمثلة الديانة والحكم أو القضاء: لو أن إنساناً قال لامرأته: أنتِ طالق، ولم يدر في خلده أن يطلقها، وإنما كان قصده: أنت طالق من الوثاق، أي: أنك غير مربوطة، فإذا رفع إلى القضاء حكم بكونه مطلقاً زوجته، ولكن بينه وبين الله لا تطلق عليه زوجته؛ لأن لفظ الطلاق في قوله: (أنت طالق) لا يقع ديانةً؛ لأنه لم يقصد الطلاق فيه أصلاً، وبناءً على ذلك قالوا: ينفذ الطلاق حكماً -أي: في ظاهر الأحكام- لا ديانةً. ولها نظائر أيضاً في المعاملات، فإن الإنسان قد يتلفظ بلفظٍ يكون فيه احتمال غالب يؤخذ بظاهره، وإن كان قصده أمراً آخر. لكن لو كان الأمر محتملاً لمعنيين على السواء فلا بد فيه من سؤاله عن قصده ونيته، فتجد الفقهاء يقولون: (ينوّى) أي: يسأل عن نيته، فلو قال لفظاً يحتمل الطلاق، ثم رفع إلى القاضي، فقال له القاضي: ما الذي نويت في هذا اللفظ المتردد بين المعنيين؟ قال: نويت المعنى الذي لا طلاق فيه، وحلّفه القاضي فحلف، فحينئذٍ يحكم بكون الطلقة غير واقعة قضاءً، ولكن ديانةً بينه وبين الله قد طلقت عليه زوجته. ولو أن إنساناً ادعى مال إنسان أو اغتصب أرضه، وليس عند الشخص الذي أخذت منه الأرض الدليل، فإنه إذا حكم القاضي بكون الأرض للغاصب دون المغصوب منه بناءً على اليد ففي الباطن لا يحل له من ذلك المال شيءً، فالمال ماله قضاءً لا ديانةً. فهنا يقول المصنف رحمه الله: (فإن صلى) أي: هذا الكافر الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر، فدخل المسجد وصلى مع المسلمين (فمسلمٌ حكماً) أي: أعطه حكم المسلمين بناءً على ظاهره، وأما سريرته فتوكل إلى الله عز وجل.

متى يؤمر الصبي بالصلاة ويضرب عليها

متى يؤمر الصبي بالصلاة ويضرب عليها قال رحمه الله تعالى: [ويؤمر بها صغير لسبع، ويضرب عليها لعشر]. هذا هو ظاهر السنة للحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود وهو حديث صحيح: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) فاشتمل هذا الحديث على ثلاثة أحكام: أولها: أمرهم بالصلاة لسبع، ولا يضربون إذا تركوها ولم يصلوا، والثاني: إذا بلغوا العاشرة يؤمرون بالصلاة ويضربون عليها إن لم يصلوا. والثالث: التفريق بين الذكر والأنثى في المضجع، وكلام المصنف موافق لظاهر السنة. وقوله عليه الصلاة والسلام: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) للعلماء وجهان في قوله: (لسبع) وقوله: (لعشر): قال بعض العلماء: يؤمر في السبع عند ابتدائها، ويؤمر بالضرب إن عصى في العشر عند ابتدائها. وقال بعضهم: يؤمر في السبع عند تمامها، ويؤمر ويضرب إن عصى في العشر عند تمامها. والفرق بين القولين أنه على القول بأنه يؤمر بالسبع عند ابتدائها يؤمر بعد السادسة ودخوله في أول السابعة، فلو بلغ ست سنوات يؤمر في اليوم الذي هو زائدٌ على الست؛ لأنه بهذا اليوم قد دخل في السابعة، وهكذا في العشر تضربه إذا بلغ تسعاً وزاد يوماً واحداً، فبدخوله اليوم الواحد يدخل في العشر. وعلى القول الثاني إنما يؤمر بعد تمام السبع أو يؤمر ويضرب إن عصى بعد تمام العشر، وهذا أقوى؛ لأن الأصل عدم أمره وعدم ضربه؛ لأنه غير مكلف في الأصل، فإذا شككنا فهذا ينبني على مسألة أصولية عند العلماء أو قاعدة فقهية لطيفة وهي: (هل العبرة بالابتداء، أو بالتمام والكمال)؟ فإن قلت: العبرة بالابتداء تقول: لأول يومٍ من السبع ولأول يومٍ من العشر، وإن قلت: العبرة بالتمام والكمال تقول: إذا تمت له السبع أو تمت له العشر. قال رحمه الله تعالى: [فإن بلغ في أثنائها أو بعدها في وقتها أعاد]. أي: إذا بلغ الصبي أثناء فعله للصلاة، كما لو أن صبياً دخل في الصلاة وأحرم بها الصلاة وهو غير بالغ، ثم بلغ وهو في أثناء وقت الصلاة، زالت الشمس وليست عليه أمارة بلوغه، ثم لما مضت ساعة أو ساعتان احتلم، فباحتلامه دخل في التكليف، فيؤمر بفعل الصلاة وإن كان عند دخول الوقت غير مكلف بها، وهكذا بالنسبة للمرأة الحائض والنفساء، فإنها لو طهرت قبل انتهاء الوقت ولو بركعة واحدة فإنها تؤمر بفعل الصلاة، وهذا مبنيٌ على حديث مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر، ومن أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) فدل على أن إدراك الوقت ولو بركعة واحدة يوجب الحكم والمطالبة بالفعل. فلو أن هذا الصبي صلى صلاة الظهر وهو صبي، ثم نام واحتلم قبل دخول وقت العصر، فحينئذٍ تأكدنا بلوغه بعد الاحتلام، فتكون صلاته الأولى غير مجزية، ويطالب بأداء الصلاة في وقتها؛ لأن الخطاب توجه عليه بعد البلوغ والاحتلام.

حرمة تأخير الصلاة عن وقتها لغير عذر

حرمة تأخير الصلاة عن وقتها لغير عذر قال رحمه الله تعالى: [ويحرم تأخيرها عن وقتها]. قوله: (ويحرم) أي: يأثم من فعل ذلك، أعني التأخير عن وقتها، ووقت الصلاة سيأتي إن شاء الله في باب المواقيت، ومن عادة الفقهاء رحمة الله عليهم أنهم يخصون المواقيت في باب مستقل، ويذكرون فيه مواقيت الصلوات الخمس. وإذا أخّر المكلف الصلاة عن وقتها فإما أن يكون معذوراً أو غير معذور، فالمصنف رحمه الله يقول: (ويحرم تأخيرها عن وقتها) أي: لا يجوز للإنسان أن يؤخرها عن وقتها، فإن كان هناك عذرٌ يسقط التكليف عنه -كما تقدم في النائم والمغمى عليه- فهذا لا إشكال فيه، وإن كان بعناء ومشقة لا يعذر بها كالقتال ونحوه، فإنه يطالب ولو كان على حال المقاتل، ودليل ذلك آية النساء، أعني آية المسايفة في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة:239]، فأمر الله عز وجل بالصلاة ولو حال القتال، فدل على أن الصلاة لا تسقط بحال، وإن كان بعض الفقهاء رحمة الله عليهم -وهو مذهب بعض السلف- يجوز للإنسان إذا عظم عليه الخوف أن يؤخر الصلاة، واستدل بذلك لبعض الآثار عن الصحابة. والصحيح والأقوى أنه يصلي على حاله؛ لأن الله قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة:239] وعمم في الخوف، فدلّ على أن الأصل مطالبته بالفعل، ولذلك يبقى مكلفاً ولو دفن؛ لأن الله لا يكلف الإنسان إلا ما في وسعه، فيقاتل ولو كان راكباً ولو كان ماشياً، كما يقع الآن في الحالات الشديدة التي تقع في القتال فإنه يصلي على حاله، ولو كان على جهاز، ولو كان على آلة أو على دبابة فليصل على حاله، وهذا من سماحة الإسلام، ومن عظم شأن الصلاة؛ لأنه لا يأمن الإنسان أن يقتل أو تزهق روحه، ولذلك يبرئ ذمته ويصلي على قدر استطاعته فيلقى الله عز وجل وقد أدى هذه الصلاة، ولا تسقط في شدة الخوف ولا بشدة ذهول، بناءً على الأصل من كونه مطالباً بفعلها مأموراً بأدائها.

حالات جواز تأخير الصلاة عن وقتها

حالات جواز تأخير الصلاة عن وقتها

من نوى الجمع في السفر

من نوى الجمع في السفر قال رحمه الله تعالى: [إلا لناوي الجمع]. هذا استثناء، والاستثناء إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، فلما ذكر أن الأصل أنه مطالب استثني من ذلك من نوى الجمع، وصورة ذلك: لو أذّن عليك أذان الظهر وأنت في السفر فقلت: أؤخر الظهر إلى وقت العصر، جاز لك أن يخرج عليك وقت الظهر وأنت لم تصلها؛ لكونك معذوراً بنية الجمع، وهكذا لو أذن عليك أذان المغرب وأردت أن تجمع مع العشاء فلا حرج عليك، وبناءً على ذلك يعتبر هذا مستثنىً مما ذكرناه؛ لأن الجمع بين الصلاتين رخصة من رخص السفر فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هديه في ذلك ثابتاً عنه عليه الصلاة والسلام.

من اشتغل بشرط الصلاة عنها

من اشتغل بشرط الصلاة عنها قال رحمه الله تعالى: [ولمشتغل بشرطها الذي يحصله قريباً]. مثال ذلك: شخص قام قبل طلوع الشمس بوقت يسير يريد أن يتوضأ فيه أو يغتسل من الجنابة، فقد قال بعض العلماء: يتيمم ويصلي، وقال بعضهم: يغتسل ويتوضأ ولو خرج الوقت، وعلى هذا القول الثاني درج المصنف، فهذه الحالة تستثنى من المنع من تأخير الصلاة إلى خروج الوقت، قالوا: يرخص لشخصين: أحدهما: من نوى الجمع، والثاني: من اشتغل بتحصيل شرط الصلاة، فإن الطهارة من الحدث من شروط صحة الصلاة، فلو أراد أن يسخن الماء، أو أراد أن يغتسل وليس عنده إلا قدر ما يصلي، فإنه يغتسل ولو خرج الوقت، وهو في حكم المصلي لاشتغاله بشرط صحة صلاته.

حكم جاحد وجوب الصلاة وتاركها تهاونا

حكم جاحد وجوب الصلاة وتاركها تهاوناً قال رحمه الله تعالى: [ومن جحد وجوبها كفر]. من جحد وجوب الصلاة كفر إجماعاً؛ لأن الله أمر بها في كتابه، وإذا قال هو: ليست بواجبة: فإنه يكفر، ودليل كفره: أنه كذّب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن كذّب الله ورسوله فقد كفر، فالله عز وجل يقول: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]، وهو يقول: لا تقيموا الصلاة، وليست بواجبة. لأن قول الله: (أقيموا) أمرٌ تضمن الوجوب والإلزام، وهو يكذّب الله فيقول: ليست بواجبة -والعياذ بالله-، ولذلك قال العلماء: من استحل ما حرم الله في كتابه وعلم بتحريمه سبحانه لذلك فإنه يكفر، فلو قال: الزنا حلال لا شيء فيه، أو: شُرْبُ الخمر حلال لا شيء فيه -والعياذ بالله- كفر؛ لأنه يستحل ما حرم الله، ويكون مكذّباً لله عز وجل بالاستحلال. وكذلك رد الواجبات، بشرط أن يكون على علمٍ بوجوبها، أي: أن تقام عليه الحجة، ومفهوم هذا الشرط أن يكون جاهلاً، فلو أن إنساناً -كما مثل العلماء- في بادية ولا يعلم بشرائع الإسلام قيل له: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فلما أسلم جاءه رجل وقال له: صلّ، قال: ليس هناك صلاة! لكونه جاهلاً لا يعلم، فهذا لا يكفّر، وهي من المسائل التي يعذر فيها بالجهل الذي يدل على عدم وجود التكذيب؛ لأن الأصل في الحكم بكفره تكذيبه لله، ولذلك قالوا: شرطه أن يكون عالماً حتى يوجد فيه السبب الموجب للكفر، وقد تكلم في هذه المسألة الإمام العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام عند كلامه على مرتكب الكبيرة عند اعتقاده لكونها كبيرة أو عدم اعتقاده لكونها كبيرة، فليرجع إليه. قال رحمه الله تعالى: [وكذا تاركها تهاوناً]. من ترك الصلاة تهاوناً كفر، ولكن للعلماء تفصيلٌ في كفره: فمنهم من يقول: يكفر مطلقاً. ومنهم من يقول: يكفر إذا لم يصل أبداً، بمعنىً أنه يترك الصلاة بالكلية، وهذا ظاهر النص، واختاره شيخ الإسلام رحمة الله عليه جمعاً بينه وبين حديث عبادة رضي الله عنه: (خمس صلواتٍ كتبهن الله في اليوم والليلة، فمن حفظهن وحافظ عليهن كان له عند الله عهدٌ أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له)، فإن تركها كليةً كفر، وإن صلى أحياناً وترك أحياناً لا يحكم بكفره جمعاً بين النصين، ولأن قوله: (فمن تركها) أي: ترك الصلاة، أي أنه لم يصل بالكلية، وفرقٌ بين قولك: ترك الصلاة، وبين قولك: ترك صلاةً، ولذلك اختار رحمه الله هذا، ولا شك أنه يوفق بين النصوص ويجمع بينها. قال رحمه الله تعالى: [وكذا تاركها تهاوناً، ودعاه إمامه أو نائبه فأصر]. هذا شرط عند من يقول: إن تارك الصلاة تهاوناً يكفّر. قالوا: بشرط أن يدعوه الإمام، وظاهر النصوص ليس فيها هذا الشرط، ولذلك اختار جمعٌ من أصحاب الإمام أحمد رحمة الله عليه عدم اشتراط دعوة الإمام، وقال الذين قالوا باشتراطها: إن ذلك أبلغ في وجود العذر حتى يحكم بكونه كافراً. قال رحمه الله تعالى: [وضاق وقت الثانية عنها]. أي: أن يضيق وقت الثانية عن فعلها. قال رحمه الله تعالى: [ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثاً فيهما]. أي: أننا إذا حكمنا بكونه كافراً بترك الصلاة فإنه لا ينفذ عليه حد القتل إلا إذا استتيب ثلاثاً، فجمهور العلماء: المالكية والشافعية والحنابلة على أن تارك الصلاة يُدعى إليها ثلاثاً ثم يقتل إذا أبى، وقرر شيخ الإسلام رحمه الله أنه إذا دُعي إليها ثلاثة أيام وهو يصر على تركها أنه كافرٌ بإجماع المسلمين؛ لأنه إذا قيل له: صلّ، وهو يقول: لا أصلي. ثلاثة أيامٍ، فإنه في هذه الحالة لا يحكم بكونه مسلماً، وقال: إنه في حكم من جحد، ويحكي الإجماع على ذلك في غير ما موضع من المجموع. فبعض العلماء على أنه يستتاب ثلاثاً، وهذا مبني على مسألة استتابة المرتد، واستتابة المرتد فيها قولان للعلماء رحمة الله عليهم: فمنهم من يوجب الاستتابة لأثر عمر رضي الله عنه، ولا مخالف له، وقد أمرنا بالأخذ بسنن الخلفاء الراشدين، وأثر عمر: هو (أن أبا موسى رضي الله عنه قدم عليه فقال له عمر: هل من مغربة خبر؟ -أي: هل هناك خبرٌ غريب- قال: نعم يا أمير المؤمنين! رجلٌ ترك دين الإسلام ورجع إلى النصرانية أو اليهودية، فتهود أو تنصر فقتلناه، فقال عمر رضي الله عنه: هلا أطعمتموه وسقيتموه ثلاثاً؟!! اللهم إني أبرأ إليك لم أشهد ولم آمر، اللهم إني أبرأ إليك لم أشهد ولم آمر)، فبرئ رضي الله عنه من فعلهم، قالوا: ولا يبرأ إلا بضياع واجب أو ارتكاب محرم. فقوله: (هلا أطعمتموه وسقيتموه ثلاثاً) دل عند من يقول بوجوب الاستتابة ثلاثاً على وجوبها. والذين يقولون بعدم الوجوب استدلوا بما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن امرأة وجدت مقتولةً ليلاً، فقال صلى الله عليه وسلم: أحرّج على رجل يعلم من خبر هذه إلا أخبرنا، فقام زوجها وهو أعمى وقال: يا رسول الله! إنها كانت تسبك وتشتمك وتسمعني فيك ما أكره، فما هو إلا أن عديت عليها البارحة بمعولي فقتلتها، فقال صلى الله عليه وسلم: ألا اشهدوا أن دمها هدر) قالوا: هذا يدل على عدم وجوب الاستتابة، فإن الرجل قتلها مباشرة دون أن يستتيبها. واستدلوا بحديث ابن عباس الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه)، فأمر بالقتل بوجود الشرط وهو تبديل الدين، فدل على عدم وجود وصفٍ زائد وهو الاستتابة. وبعض العلماء -وهو رواية عن الإمام أحمد - يجمع بين القولين فيقول: إن الكفر والارتداد يكون على أحوال: فتارة يحكم فيها بالكفر مطلقاً ويتفق فيها دلالة الظاهر والباطن كمن يستهزئ بالإسلام والدين، فهذا كفره لا شبهة فيه، بخلاف من يكون كفره دون ذلك أو ارتداده دون ذلك لشبهة أو نحوها فإنه يستتاب حتى يعذر إليه، وهذا جمعٌ لطيف لا شك أن فيه جمعاً بين الأخبار والنصوص، وسنفصل هذه المسألة أكثر إن شاء الله في باب الردة وأحكامها. وعند الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه وأصحابه أن من ترك الصلاة يسجن إلى أن يموت أو يصلي. والجمهور على أنه يستتاب ثلاثة أيام فإن تاب وإلا قتل.

باب الأذان والإقامة [1]

شرح زاد المستقنع - باب الأذان والإقامة [1] الأذان شعيرة من شعائر الإسلام العظيمة، وهو مشروع بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، والغاية منه تعظيم الله، وتنبيه الناس بأوقات الصلاة، وللعلماء في شعيرة الأذان أقوال وتفاصيل في صفته وصيغته، وحكمه، ومن يقوم به، وشروط صحته، ومبطلاته، وحكم أخذ الأجرة عليه، وغير ذلك من الأحكام والمسائل المتعلقة به.

أحكام الأذان والإقامة

أحكام الأذان والإقامة

تعريف الأذان والإقامة

تعريف الأذان والإقامة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين: أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الأذان والإقامة]. الأذان في اللغة: الإعلام، ومنه قولهم: آذنه. إذا أعلمه، قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27]، والمراد بذلك أعلِمهم به. وقال الشاعر: آذنتنا ببينها أسماءُ رب ثاوٍ يمل منه الثواء أي: أعلمتنا وأخبرتنا. فأصل الأذان: الإعلام، وأما في الاصطلاح: فهو الإعلام بدخول وقت الصلاة بلفظٍ مخصوص. فقولهم: (الإعلام بدخول وقت الصلاة) المراد به: الصلاة المفروضة، وقولهم: (بلفظٍ مخصوص): هو اللفظ الذي حدّده الشرع لهذه العباده وعيّنه النبي صلى الله عليه وسلم وأقرّه كما في قصة عمر وعبد الله بن زيد رضي الله عن الجميع. والأذان مشروعٌ بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، شرعه الله في كتابه بقوله: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:58]، أي: أذَّنتم بها وأعلنتم بها، وكذلك شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما أراد مالك بن الحويرث وصاحبه أن يسافرا إلى قومهما، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا حضرت الصلاة فأذِّنا)، ووجه الدلالة في قوله: (فأذِّنا)؛ حيث دل على مشروعية الأذان بالسنة القولية، وكذلك أجمعت الأمة على مشروعية الأذان. والحكمة من مشروعية الأذان: تنبيه الناس وإعلامهم بفريضة الله عز وجل. ويكون بعد دخول الوقت، ولا يصح الأذان قبل دخول الوقت إلا أذان الصبح الذي يكون في السدس الأخير من الليل، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة من هذا الأذان؛ إذ إن المقصود به أن يرد القائم وينبه النائم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن بلالاً يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم)، وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن أذان بلال بالسحر، وهو الأذان الأول يُقصد منه أن يرد القائم أي: أن الإنسان إذا كان في قيام الليل قد لا ينتبه لدخول الفجر، فربما استمر في قيامه وصلاته بالليل حتى يفاجأ بأذان الفجر وهو لم يوتر بعد، ولذلك شرع الله عز وجل هذا الأذان كما في الحديث السابق عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لما وصف وقت الأذان الأول بكونه في ليل دلَّ على أنه قبل وقت الصبح، فهذه هي الحالة التي يُشرع فيها أن يكون الأذان قبل دخول الوقت، وهي حالةٌ مخصوصة، ومن أهل العلم من قصره على رمضان بناءً على ورود الأخبار فيه من أجل الصيام. والمقصود أن حكمة مشروعية الأذان تنبيه الناس، كما أن فيه إعلاءً لذكر الله عز وجل، ولذلك قال بعض السلف في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، قال: المراد بهذا المؤذن، فإنه يدعو إلى الله، ويعمل صالحاً بدعوته إلى الصلاة، ويقول: إنه من المسلمين؛ لأنه يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، ويقول: أشهد أن محمداً رسول الله، فهذا خيرٌ كثير للقائل، وخيرٌ للناس لما فيه من إعلاء كلمة الله عز وجل. فقال العلماء: إن من حكمة مشروعية الأذان، إعلاء ذكر الله عز وجل، ووجود الشهادة لما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة) أي: حينما تقول: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله) فإن الله يُشهِد الحيوان والجامد على شهادتك تلك، وتكون خيراً للعبد بين يدي الله عز وجل. والإقامة: مصدر: أقام الشيء يقيمه، وإقامة الشيء المراد بها أن يؤدِّيه الإنسان على وجهه المعتبر، ولذلك أمر الله بإقام الصلاة، بمعنى أن يُؤديها المكلف على أتم وجوهها وأكمل صفاتها. والإقامة المراد بها: الإعلام بالقيام إلى الصلاة بلفظٍ مخصوص، وهو اللفظ الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة كما سيأتي إن شاء الله بيانه في موضعه. فكأن المصنف رحمه الله يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل المتعلقة بالأذان والإقامة، ومناسبة هذا الباب لما قبله أنه بعد أن فرغ من بيان حكم الصلاة شَرَع في بيان مشروعية الأذان، والسبب في هذا أن الفقهاء رحمهم الله، يبتدئون في كتاب الصلاة ببيان حكم الشرع في الصلاة، وعلى من تجب، ومن المخاطب بها. فبعد أن بين لك من الذي يخاطب بالصلاة، ومن الذي يؤمر بها، ومتى يؤمر، شرع في بيان ما ينبغي أن يكون قبل الصلاة من النداء لها، والإعلام بدخول وقتها، فقال رحمه الله: (باب الأذان والإقامة).

حكم الأذان والإقامة، ومن تلزمان ومحلهما من الصلاة

حكم الأذان والإقامة، ومن تلزمان ومحلهما من الصلاة قال رحمه الله تعالى: [هما فرضا كفاية] قوله: (هما): أي: الأذان والإقامة فرض كفاية. فأول ما يعتني به الفقهاء -رحمهم الله- في الأبواب الفقهية أن يبينوا موقف الشارع من هذه العبادة، فيقولون: هل هذا الشيء شرعه الله أو لم يشرعه؟ ثم إذا شرعه فهل شرعه على سيبل اللزوم، أو على سبيل الاختيار، أو على سبيل الندب والاستحباب؟ وحكم الأذان والإقامة مسألة خلافية بين العلماء، قال بعضهم: الأذان واجب والإقامة واجبة، وهذا القول قال به فقهاء الظاهرية رحمة الله عليهم. والقول الثاني يقول: الأذان والإقامة فرض كفايةٍ إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وهذا مذهب الحنابلة ويميل إليه بعض الحنفية وبعض الشافعية رحمة الله على الجميع. والقول الثالث -وينسب للجمهور- أن الأذان والإقامة كل منهما سنةٌ مؤكدة. وهناك قول رابع لبعض السلف وهو وجوب الأذان دون الإقامة. وقول خامس وهو وجوب الإقامة دون الأذان. وأقوى هذه الأقوال وأولاها بالصواب -والعلم عند الله- الوجوب، والدليل على ذلك أحاديث، منها: حديث مالك بن الحويرث، وهو حديث صحيح، وكان مالك بن الحويرث قد هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم هجرة الوفود، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، ومكث عنده سبع عشرة ليلة، أو تسع عشرة ليلة، قال رضي الله عنه وأرضاه: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شبيبة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة فظن أنا قد اشتقنا إلى أهلينا فسألنا عمن تركنا في أهلنا فأخبرناه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقاً فقال: ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكبركم) وفي رواية: (إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما وصلوا كما تروني أصلي). فالشاهد في قوله: (إذا حضرت الصلاة فأذِّنا وليؤمكما أكبركم)، ووجه الدلالة أنه أمر، والأصل في الأمر أنه يدل على الوجوب حتى يقوم الدليل على ما دونه، ولذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به أمر إلزام، وبناءً على هذا نبقى على هذا الأصل الذي دل عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقول بوجوب الأذان. وأكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت). وأما الفرق بين قولنا: إنه واجب وقولنا: إنه فرض كفاية فهو أن القول بالوجوب يجعل كل جماعة يلزمها التأذين إلا في المساجد العامة، وأما على القول بالفرضية على الكفاية فيسقط هذا الوجوب عند قيام بعض المصلين بهذا المأمور به، فهذا الفرق بين القول بالوجوب والقول بالكفاية، والقول بالوجوب أقوى لما ذكرناه من دلالة السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفرض الكفاية عند العلماء رحمة الله عليهم معناه أنه إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، كأن يقصد الشرع وجود هذا الشيء ولو من بعض الناس، كصلاة الجنازة، فإذا صلى على الجنازة من تحصل به الكفاية سقط الإثم عن الباقين، وكذا تغسيل الميت وتكفينه، وتعليم العلم، وغيره من الأمور التي تعتبر من أصول الشرع ولا تصل إلى حظ فرض العين، فتُعتبر من فروض الكفايات، فإذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين. قال رحمه الله تعالى: [على الرجال المقيمين]. بعد أن بيَّن أن الأذان والإقامة كلٌ منهما فرض كفاية، يرد Q من الذي يُفرض عليه الأذان، وتُفرض عليه الإقامة؟ فقال رحمه الله: (على الرجال). فأخرج النساء، والنساء لا يجب عليهن أذان ولا إقامة، ولا تجب عليهن جمعة ولا جماعة، فإذا سقطت الجماعة سقط الأذان والنداء الموجب للجماعة. وأما لو أن نساءً اجتمعن وأراد رجلٌ أن يؤذن لجماعة النساء، ويصلي النساء جماعة فلا حرج، والدليل على ذلك حديث أم ورقة الثابت في سنن أبي داود، وكانت امرأة صالحة من نساء الأنصار رضي الله عنها وأرضاها، وهذه المرأة الصالحة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألته أن يدعو الله أن تكون شهيدة، فبشَّرها بالشهادة، فشاء الله عز وجل أنها مكثت إلى خلافة عثمان فأتاها عبدان كانا عندها، فمكرا بها وغطاها بقطيفةٍ حتى ماتت، فصدقت فيها معجزة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تسمى أم ورقة الشهيدة، وتوصف بهذا الاسم قبل وفاتها رضي الله عنها وأرضاها. فهذه المرأة الصالحة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألته أن تقيم الجماعة لأهل دارها، قال الراوي: فأذِن لها أن يؤذَّن لها وأن تصلي بهم. قال: فلقد رأيت مؤذنها قد سقط حاجباه من الكبر -أي: رجلٌ كبير كان يؤذِّن لها، فتجمع النساء وتصلي بهن في بيتها. فدل هذا الحديث على مسائل: منها: أولاً: مشروعية الأذان لجماعة النساء، لكن من الرجال لا من النساء. ثانياً: مشروعية الجماعة للنساء، أي أن تصلي النساء جماعة، وهو قول الحنابلة والشافعية، خلافاً للمالكية والحنفية رحمة الله على الجميع، حيث دلّ هذا على مشروعية الجماعة للنساء، ومَنَع منه من ذكرنا، والصحيح مشروعيته على ظاهر هذه السنة. ويؤخذ من مفهوم قول المصنف: (على الرجال) أن النساء لا يلزمهن الأذان، لكن لو أذن رجلٌ للنساء صح ذلك. وهل تؤذن المرأة؟ A لا؛ لأن صوت المرأة عورة، وهذا أمر قد يُدرك دليله بالشرع، وقد يُدرك بالحس، فقد أُمِرَ النساء أن لا يخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، فدل على وجود الفتنة في صوت المرأة، وأيضاً دليل الحس، فإن من الرجال من يتأثر بسماع صوت المرأة ولو لم تخضع بالقول، ولا مكابرة في دليل الحس، وقد يُستند حكم الشرع إلى دليل الحس إذا وجدت مفسدة يَنهى عنها الشرع، فالنساء لا يؤذِّنّ، ولا يُشرع لهن أذان بناءً على ما يكون من المفسدة المترتبة على ندائهن، ولأن النداء إنما شرع للجماعة ولا جماعة تلزمهن. وقوله: (المقيمين) مفهوم ذلك أنهم إذا كانوا في سفر فلا يجب عليهم الأذان، ولذلك رتبوا الفرضية على الأمصار دون حالة الأسفار، فقالوا: إذا سافر القوم لا يلزمهم أن يؤذنوا، وما ذكرناه من ظاهر النصوص يدل على أن الإنسان يؤذن ولو نزل في برية، وذلك أن مالك بن الحويرث وصاحبه أمرهما النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤِّذنا، فقال: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكما)، وهذا إنما يكون في السفر؛ لأنه لو كان المراد قدومهم على قومهم لقال لهم عليه الصلاة والسلام: إذا حضرت الصلاة فأذنوا بأهليكم. ولكن قال: (فليؤذن أحدكما وليؤمكما أكبر كما)، فدل على أنهما في السفر، وهذا يؤكِّد على أن الوجوب على الإطلاق سواءٌ في السفر أم الحضر. قال رحمه الله تعالى: [للصلوات الخمس المكتوبة]. قوله: (للصلوات) اللام للاختصاص، أي أن الوجوب واللزوم والفرضية على الرجال المقيمين مختصة بالصلوات، فخصَّص المصنف رحمه الله الحكم بفرضية الكفاية على المكلَّفين فقال: (على الرجال المقيمين)، وخصه بالصلوات فقال: (للصلوات الخمس المكتوبة). وهذا هو الأصل المعروف، فالنداء بالأذان يختص بالصلوات الخمس، وهي التي يُشرع التجمع لها، وأما ما عداها من الصلوات فقد يُشرع النداء لها بلفظ مخصوص كقولهم: (الصلاة جامعة) في صلاة الخسوف ونحوها، وقد لا يشرع لها لا أذان ولا إقامة، كصلاة العيدين، فإن صلاة العيدين لا يشرع أن يؤذن ولا أن يُقام لهما. قال رحمه الله تعالى: [يقاتل أهل بلد تركوهما] أي: يُقاتل أهل بلدٍ تركوا الأذان والإقامة؛ لأن الأذان شعيرة من شعائر الإسلام، ولذلك قال بعض العلماء: يُحكم على البلد بالإسلام إذا وُجِد فيه الأذان، وهذا يسمونه الحكم بالظاهر، والدليل على أنه من شعائر الإسلام وأن البلد الذي يُقام فيه الأذان لا يُقَاتل أهله ما ثبت في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذاناً كف عنهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم). وكما جاء في حديث أنس في الموطأ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل على أهل خيبر، وكان ذلك عند الفجر، انتظر عليه الصلاة والسلام إلى وقت الصلاة، وصبّح يهود وهم خارجون إلى الحرث والزراعة فصاحوا: محمدٌ والخميس. محمدٌ والخميس -أي: محمدٌ والجيش، والخميس: هو الجيش، فأصابهم الرعب- فقال صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين). ، فقاتلهم صلوات الله وسلامه عليه. والشاهد أن من هديه عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا حضر وقت الصلاة انتظر، فإذا سمع النداء كف، وإن لم يسمعه قاتل أهل البلد.

حكم أخذ الأجرة على الأذان

حكم أخذ الأجرة على الأذان قال رحمه الله تعالى: [وتحرم أجرتهما] أي: تحرم أُجرة الأذان والإقامة، وللعلماء في هذه المسألة قولان: قال بعض أهل العلم: لا يجوز للمؤذن أن يأخذ أُجرة على الأذان أو الإقامة، واستدلوا بحديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى الطائف أميراً على الطائف، قال: فكان آخر ما أوصاني به أن قال لي: (واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً)، وكذا استدلوا بهدي السلف الصالح رحمةُ الله عليهم، فإن ابن عمر رضي الله عنه لما قال له المؤذن: إني أحبك في الله. قال له أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر: وإني أبغضك في الله. قال: ولم؟ قال: إنك تأخذ على أذانك أجراً. فهذه أدلة من قال بعدم جواز أخذ الأجرة على الأذان والإقامة. وأما الذين قالوا بجواز أخذ الأجرة على الأذان والإقامة فاستدلوا بما جاء في حديث أبي محذورة -وهو حديث حسن بمجموع طرقه- وفيه أنه قال: (ألقَى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ألفاظ الأذان ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة). ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم كافأه على الأذان، فدل على مشروعية أخذ الأجرة على الأذان. والقول بالتحريم قول الحنفية والحنابلة، والقول بالجواز قول المالكية والشافعية، وأصح هذين القولين -والعلم عند الله- التفصيل: فإذا كانت الأجرة من بيت مال المسلمين فإنه لا حرج؛ لأن أبا محذورة أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم من بيت مال المسلمين، وأما نهيه عليه الصلاة والسلام لـ عثمان، فالمراد به أن يستشرف الإنسان، كأن يقول: أنا لا أؤذن حتى تعطوني الأجرة، فأصبح أذانه للمال لا لله، وهكذا الإمامة، فلو كان الإمام يأخذ من بيت مال المسلمين فلا حرج ولا حرمة عليه، ولكن إذا قال: أنا لا أصلي ولا أؤم حتى تعطوني الأجرة فهذا هو المحرم، ولذلك لما سئل الإمام أحمد رحمة الله عليه عن رجل يقول لقومه: لا أصلي بكم صلاة التراويح حتى تعطوني كذا وكذا. قال: أعوذ بالله. مَن يصلي وراء هذا؟! أي: من يصلي وراء إنسانٍ يستشرف لأجر الدنيا دون أجر الآخرة؟! نسأل الله السلامة والعافية. فأصح القولين -والعلم عند الله- أن نجمع بين النصوص، فنحمل حديث عثمان بن أبي العاص: (اتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً)، على مَن يطلب، وأما حديث: (أعطاني صرة فيها شيء من فضة)؛ فإن أبا محذورة أذن، فلما أذن وفرغ أعطاه، فكان أشبه ما يكون بالرضخ، والرضخ والعطايا من بيت مال المسلمين، وهذا هو أنسب الأوجه. قال رحمه الله تعالى: [لا رزق من بيت المال لِعَدَمِ متطوع] استثنى المصنف رحمه الله الأجرة إذا كانت من بيت المال، وهو الذي ذكرناه، ولكنه اشترط أيضاً وقال: (لعدم متطوع)، فهناك شيء يسمى المذهب، وهناك شيء يسمى الفتوى المختلفة باختلاف العصر والزمان، فأما المذهب فحرمة الأجرة، وأما الفتوى بالجواز لاختلاف الزمان والمكان فهي مقيدة بالحاجة، ولهذا أمثلة، فهم في الأصل يقولون: يحرم أن يأخذ الأجرة، لكن لما قل المحتسبون، وقل من يوجد من يقوم بالأذان حسبة لخفة الدين عند كثير من الناس، خاصة في آخر الزمان -نسأل الله السلامة والعافية- قالوا: يجوز؛ لأننا لو لم نقل بهذا ما وجدنا أحداً يُقيم للناس أذاناً، ولذلك وجود المصالح العظيمة على إعطاء الأجرة بمثل هذا تخفف معها مفسدة ارتكاب المحظور باتخاذ المؤذن الذي يأخذ على أذانه الأجر. ومن هذا أيضاً أنك تجد فقهاء الحنفية والحنابلة يقولون بعدم جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، لما ثبت في الحديث الصحيح أن أبياً حينما أهدى له الأنصاري قوساً وكان يعلمه القرآن، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له عليه الصلاة والسلام: (إن أردت أن يقلدك الله قوساً من نارٍ فخذها)، فقالوا: هذا يدل على التحريم، فمنع فقهاء الحنفية والحنابلة أخذ الأجرة على تعليم القرآن، قالوا: ولما فسد الزمان وخُشي على القرآن أن لا يُحفظ، وأن أبناء المسلمين سيضيعون القرآن، ولا يجدون من يحفظهم أفتوا بالجواز في العصور المتاخرة، وهذا يسمونه: (الاختلاف بالزمان لا بالحجة والبرهان)، فتجد صاحب القول المخالف يعدل عن قوله إلى قول من خالفه لا بأصل المسألة وهي الحجة والبرهان، ولكن باختلاف الزمان لوجود المفاسد، ولها نظائر في الفقه، وهذه المسألة معروفة؛ لكنها مقيدة بضوابط، وتحتاج إلى أصلٍ يُبنى عليه هذا، كما ذكرنا أنهم قالوا: إننا لو تركنا المساجد وليس لها مؤذنون يحفظون الأذان في الأوقات المعتبرة لضاع على الناس صيامهم، وضاعت عليهم صلاتهم، ولذلك قالوا: نُفتي بالجواز لعظيم المفسدة المترتبة على القول بالتحريم. ويُلاحظ قوله: (لا زرق من بيت المال)، أي: فإن لم يوجد المحتسب، فكأن المصنف يقول: نُجيز للمؤذن أن يأخذ الأجرة من بيت المال بشرط عدم وجود المحتسب، أما لو وُجد المحتسب فإنه لا يجوز أخذ الأجرة؛ لأن القاعدة في الفقه تقول: (ما شرع لحاجة يبطل بزوالها)، فلما كان حكمهم بجواز الرَّزق من بيت المال مبنياً على وجود الحاجة، وهي عدم وجود المحتسب بطل بزوالها إذا وجد.

صفات المؤذن

صفات المؤذن

أن يكون صيتا

أن يكون صيتاً قال رحمه الله تعالى: [ويكون المؤذن صيتا أمينا]. بعد أن فرغ رحمه الله من حكم الأذان، والذي يؤذن وهو المحتسب، وأن لا يكون صاحب أجرة شرع رحمه الله في الأوصاف التي ينبغي توفرها في المؤذن. فقال رحمه الله: (ويكون المؤذن صيتاً أميناً). قوله: (صيتاً) أي: قوي الصوت؛ لأن المقصود من الأذان الإعلام، والقاعدة في الشريعة: (الولايات العامة والخاصة يرشح لها المكلفون بحسب وجود مصالح الولاية). فإذا كانت الولاية تعليم الناس فإنه يرشح لها العالِم الفطن، وإذا كانت قضاءً يُرشح لها العالم -لأن القضاء يحتاج إلى علم- الحازم الذكي الذي يعرف ملابسات القضايا وكذب الخصوم وغشهم وتدليسهم، الداهية الذي يعرف الأمور بدلائلها، أو يتفرس في الخصمين بأقوالهما. فقد قرر العلماء رحمة الله عليهم، ومنهم الإمام الماوردي في الأحكام السلطانية، وكذا شيخ الإسلام في غير ما موضع من المجموع أن كل ولاية شرعية يُنظر فيها إلى الصفات التي يتحقق بها مقصود الشرع، فلما كان المقصود من الأذان شرعاً إعلام الناس وحصول الإعلام قال المصنف: (ويكون المؤذن صيتاً)، فابتدأ بالصوت؛ لأنه هو المعول في إعلام الناس، فلم يقل: ذا صوت وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، أي أنه أرفع صوتاً من غيره، والشخص يكون ذا صوت على أحوال، فأعلاها وأسماها وأسناها رفعة الصوت مع النداوة والطراوة، وهو الذي يسمونه ندي الصوت؛ فإنه قد يكون صوته عالياً لكنه مؤذٍ، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص، فإن كان صيتاً، مؤذياً بصوته فيُعدل عنه إلى من هو أندى صوتاً ولو كان أضعف صوتاً منه. والسبب في هذا أن المؤذن يؤذِّن والناس في ضجعتهم وفي نومهم وفي راحتهم، فإن كان مزعج الصوت آذاهم بهذا الأذان، وربما أزعج الضعفاء من الأطفال والصبية، فحينما يكون ندي الصوت يكون ذلك أدعى لذهاب هذه المفسدة، ويدل على هذا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن عمر لما أُرِي الأذان قال له عليه الصلاة والسلام: (فألق على بلال ما رأيت فليؤذن فإنه أندى صوتاً)، أي: ألق ألفاظ الأذان على بلال، (فإنه أندى صوتاً)، والجملة تعليلية، أي: أمرتك بهذا لعلةٍ وهي كونه أندى صوتاً. فطراوة الصوت ونداوته مطلوبةٌ في الأذان؛ لأنه أرفق بالناس، خاصةً في أذان الفجر والعصر، فلذلك قالوا: يُشرع أن يكون صيتاً وفي صوته نداوة. وننبه على أمور: فلو كان المؤذن صوته ضعيفاً فوَّت مقصود الشرع؛ لأنه بضعف صوته لا يبلغ أذانه المبلغ، ولذلك ينبغي أن يعدل إلى من هو أقوى منه صوتاً، وقد يكون صوته رقيقاً مبالغاً في النداوة حتى يصل إلى رقة النساء، فيصرف عنه الأذان إلى غيره إجلالاً لهذا المنصب ورعايةً له؛ لأن الناس تجل هذه المناصب الشرعية بحسب أشخاصها، فإذا وضع في الأذان من هو أهل عظم الناس الأذان، والعكس بالعكس، ولذلك ينبغي أن يكون صوته بعيداً عن طراوة النساء ونداوتهن، وكذا بعيداً عن الخشونة المؤذية.

أن يكون أمينا

أن يكون أميناً قوله: [أميناً]. مأخوذ من الأمانة وهي الحفظ. والدليل على اشتراط أن يكون المؤذن أميناً ما ثبت في حديث أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين)، فقوله: (المؤذن مؤتمن) خبرٌ بمعنى الإنشاء، أي: ينبغي أن يكون المؤذن أميناً. قال العلماء: وصف النبي صلى الله عليه وسلم المؤذن بكونه أميناً لأمور، منها: أنه يؤتمن على ركن من أركان الإسلام وهو الصلاة، وهو أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، فإن المؤذن مؤتمن على دخول الوقت، فينبغي أن يكون أميناً حتى لا يغش ولا يكذب في أذانه، فإذا كان متساهلاً أو فاسقاً غير عدلٍ فإنك لا تأمن منه أن يبتدر بالأذان قبل الوقت فيفوت على الناس صلاتهم. كذلك المؤذن مؤتمن على ركنٍ ثانٍ وهو الصوم؛ لأن تأذينه في الفجر إعلامٌ بدخول وقت الإمساك، وتأذينه في المغرب إعلام بانتهاء الصيام، فلو كان إنساناً لا أمانة عنده، أو يتساهل ولا يحفظ هذا الأمر العظيم فإن ذلك يؤدي إلى ضياع صيام الناس، وهذا هو الواقع والحال، فإنك إذا وجدت المؤذن لا يتقي الله عز وجل فإنه يضيع على الناس صيامهم، فتجده يقوم في صلاة الفجر متأخراً، ويؤذن بعد دخول الوقت بوقت، ولربما أمسك على أذانه الناسُ، فيضيِّع عليهم صيامهم، ويحمل بين يدي الله وزرهم؛ لأن الناس تأتمنه، ولذلك في يوم الإثنين والخميس الواجب أن يكون أذانه عند أول بزوغ الفجر حتى يحفظ للناس صيامهم، وكذا في الأيام البيض، وينبغي أن يُنصح المؤذنون بهذا، وأن يُنبه ويُؤكد عليهم، بل قال بعض العلماء: الأصل في أذان الفجر أن يكون عند أول الوقت. كل ذلك حفظاً لفريضة الصيام؛ لأنه قد تكون هناك امرأةٌ تريد أن تقضي صيامها، وقد يكون هناك رجل يريد أن يقضي صيامه، فليس له من أمارة أو دليل أو علامة إلا أذان المؤذن، بل لو وُجِدت عنده الساعة فقد لا يعرف متى يكون الإمساك، فلذلك يبني على أذان المؤذن، فاشتراط المصنف رحمه الله للأمانة مبني على السنة، ولما ذكرناه من كون المؤذن مؤتمناً على ركنين من أركان الإسلام: الصلاة والصيام. قال بعض العلماء: اشتُرِطت الأمانة أيضاً في المؤذن لأنهم كانوا في القديم يؤذنون على ظهور المساجد، وربما بنوا المنائر فكان المؤذن يؤذن على المنارة، ولذلك قال بعض أئمة السلف لأحد المؤذنين: (يا بني: إنك ترقى على المسجد، فإذا رقيته فاتق الله في بصرك)؛ لأنه سيرقى على السطح فلربما اطلع على عورات المسلمين، ولربما رأى أموراً من عورات المسلمين، فقال له: احفظ بصرك. فقالوا: هذا من الأمانة، ولذلك قالوا: ينبغي أن لا يُختار لهذا الأمر إلا من كان معروفاً بالعدالة والاستقامة، ولذلك اختلفوا في أذان الفاسق وصحته واعتباره.

أن يكون عالما بالوقت

أن يكون عالماً بالوقت قال رحمه الله: [عالماً بالوقت]. ذلك لأن كل ولاية -كما قلنا- يشترط لها ما يحقق مقصودها، فلما كان الأذان إعلاماً بالوقت وجَب أن يكون المؤذن عالماً بالوقت، فيعرف وقت الزوال، ويعرف دلائل غروب الشمس، ويعرف متى يصير ظل كل شيء مثله، ومتى يصير ظل كل شيءٍ مثليه، وكيف يضبط ذلك، ويعرف الفجر الصادق من الفجر الكاذب، حتى يكون ضابطاً لوقت الفجر، وقس على هذا بقية أوقات الصلاة.

تقديم الفاضل على المفضول في الأذان

تقديم الفاضل على المفضول في الأذان قال رحمه الله تعالى: [فإن تشاحَّ فيه اثنان قدم أفضلهما فيه]. بعد أن بين لك من الذي يؤذن، وما هي الأوصاف التي ينبغي أن تكون في المؤذن قال: (فإن تشاحَّ فيه اثنان قدم أفضلهما)، ومن عادة الفقهاء رحمة الله عليهم أنهم يذكرون الأوصاف المعتبرة للشيء، ثم يذكرون ازدحام الناس فيه كأن يقولوا: من صفة القاضي كذا وكذا، فإن تشاح في ذلك اثنان كل منهما أهل للقضاء (قُدِّم أفضلهما)، والفضل في اللغة: الزيادة، والمراد به في الشرع: الزيادة في الطاعة والخير، ويُعرف فضل الإنسان باستمساكه بالأصل، أي: حفظه للواجبات وبعده عن المحرمات، فإذا حصلت منه المحافظة على فرائض الله، والتقوى عن محارم الله عز وجل كان له أصل الفضل، فإذا أرادت أن تصفه بزيادة الفضل وصفته بالمحافظة على الطاعات. فكذلك الأذان إن تشاحَّ فيه اثنان قُدِّم أفضلهما، فلو حفظ عن أحدهما أنه محافظ على التبكير للمسجد والثاني يتأخر قُدِّم الذي يبكر. ولو عُرِف أن أحدهما طالب علم والثاني مؤذن يعرف الأوقات وفيه أوصاف المؤذن، لكنه ليس بطالب علم، ولا يحرص على طلب العلم، يقدم طالب العلم؛ لأن طلب العلم زيادة فضلٍ ونبل في الإنسان تؤهله لشرف المرتبة، فيُقَدَّم على من هو دونه، ولا يُقدَّم من هو دونه عليه. وكذلك يكون الفضل بالمحافظة على الطاعات، كأن يُعرف أحدهما بصيام النوافل كصيام الإثنين والخميس، والثاني لا يصوم، فيقدم الذي يصوم على الذي لا يصوم، ويُنظر إلى الأوصاف الشرعية التي تدل على زيادة الخير في أحدهما؛ لأنهما إذا استويا في الأوصاف المعتبرة رُشِّح أحدهما على الآخر بزيادة الخير، فإن زيادة الخير تزيد في قدر الإنسان؛ والعكس بالعكس، كما قال الله تعالى: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} [الأنعام:124]، فدل على أن أهل المعاصي في صغار. ومفهوم الآية أنه إذا كان أهل المعاصي يصيبهم الصغار، فأهل الطاعة يصيبهم العلو والفضل، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]. قال رحمه الله تعالى: [ثم أفضلهما في دينه وعقله]. أي: أفضلهما من ناحية السمت والوقار، وأفضلهما من جهة الدين. فلو كانا طالبي علم، حافظين لكتاب الله، وكل واحد منهما محافظ على طاعته، وكلاهما على مرتبة واحدة في الدين، ولا يستطاع اختيار أحدهما ينظر إلى العقل، فإن من الناس من علمه أَكبر من عقله، ومنهم من عقله أكبر من علمه، ومنهم من علمه وعقله على كبر، فقد تجد العالم لكنه لا يتعقَّل في الأمور، ومنهم من عنده عقل وليس عنده علم، فتجد عقله أكبر من علمه، فإذا نزلت به النوازل، أو أحاطت به الكروب أحسن إدارتها، وأحسن التخلص منها، ومنهم من جمع الله له بين العقل والعلم، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء. ولذلك قالوا: من جُمِع له بين العقل والدين فقد أعطي النورين، كما قال تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35]. فالعقل نورٌ داخلي، والوحي نور خارجي، والإنسان يرى بنور داخلي ونور خارجي، فإذا كان الاثنان من ناحية الدين على مرتبة واحدة، ولكن أحدهما أعقل يتريث في الأمور ولا يتعجل، ويُعرف بسداد رأيه وصواب رشده، وأنه إنسان لا تستجره العواطف قُدّم؛ لأن العقل زيادة فضل، ويدل على حب الله للعبد، فإذا كمل عقله مع دينه فهذا نعمة من الله عز وجل تدل على إرادته الخير بهذا العبد، فيُقدَّم العاقل. قال رحمه الله تعالى: [ثم من يختاره الجيران]. إذا كان كلاهما على دين وعقل، ولا تستطيع أن تفضل أحدهما من جهة الدين ولا من جهة العقل، فتقدم من يختاره الجيران؛ لأن الإنسان إذا كان محبوباً بين الناس في علمه أو أذانه أو ولايته الشرعية كان أدعى لقبول ذلك منه، فإذا كان الناس يحبونه ويختارونه ويرتاحون له، فهذه تزكية له، فلو قالوا: نحب فلاناً، فهذه تزكية خير كما في الحديث: (يا رسول الله! كيف أعلم أني محسن؟ قال: سل جيرانك، فإن قالوا: إنك محسن فأنت محسن، وإن قالوا: إنك مسيء فأنت مسيء). فالناس شهداء لله عز وجل في الأرض كما ثبت في حديث عمر في الصحيح، فإذا قال الجيران: نحب فلاناً ورشحوه قُدم، وتكون هذا تزكية زائدة على فضله ودينه وعقله. قال رحمه الله تعالى: [ثم قرعة]. وهذا فعله بعض السلف من الصحابة رضوان الله عليهم، كما حكى بعض أهل العلم أن سعد بن أبي وقاص لما فتح إيوان كسرى تشاحّ الناس في الأذان كلٌ منهم يريد أن يؤذن، فأقرع بينهم سعد رضي الله عنهم وأرضاهم، والصحابة رضوان الله عليهم كانوا محبين للخير، فكادوا أن يقتتلوا؛ إذ كلٌ منهم يريد أن يؤذن في ذلك المكان الذي أعز الله فيه الإسلام، فأحيا فيه الحنيفية وطمس فيه معالم الجاهلية، فتشاحّ الناس حتى كادوا أن يقتتلوا، فهدأهم سعد، ثم أقرع بينهم وأعطى الأذان لمن خرجت له القرعة. والقرعة حلٌ شرعي يصار إليه عند تعذر الترشيح، فلو اجتمعت الأوصاف في الأشخاص لإمامة أو قضاء أو فتوى أو تعليم، واستووا في الفضل والصفات الشرعية يُقرع بينهم. قالوا: والأصل في القرعة أنها اختيار من الله عز وجل، فلو كانوا كلُّهم في مرتبة واحدة وأُقرِع بينهم، فكأن الله اختار هذا الشخص؛ إذ إن الله سبحانه وتعالى شاء أن يكون هذا الشخص دون غيره، مع أنهم كلهم في الفضل على سواء، فلا يضرنا أن تخرج القرعة على واحد منهم. ثم قالوا أيضاً: إن القرعة ثبت اعتبارها في أصل الشرع، كما في قصة يونس بن متى {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141] فهو لما كان في الفلك مع القوم، ولم تكن نجاتهم إلا بإلقاء واحدٍ منهم، فاقترعوا فخرجت على يونس من الله سبحانه وتعالى ابتلاءً ليونس، فدل على أن الله يختار، فوقع الخيار على يونس بالقرعة، ولذلك اعتبر العلماء القرعة من وسائل الإثبات في بعض المسائل، خاصة عند الازدحام، قد فعلها بعض السلف في الأذان فيُعتبر هذا أصلاً للفقهاء في التقديم بالقرعة، والقرعة تكون بوضع أوراق فيها أسماء هؤلاء المرشحين، ثم يختار الإمام أو يختار واحد من الحي ورقةً منها، فيخرج فيها اسم واحد منهم، فيقدم دون من شاحَّه من بقية المؤذنين.

باب الأذان والإقامة [2]

شرح زاد المستقنع - باب الأذان والإقامة [2] لقد وردت ألفاظ الأذان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز أن يزاد عليها أو ينقص منها أبداً، وهي خمس عشرة جملة، ويستحب أن يكون المؤذن متطهراً مستقبل القبلة، وأن يلتفت عند الحيعلتين، وأن يقول في أذان الصبح: (الصلاة خير من النوم). والفاظ الإقامة إحدى عشرة جملة، ويستحب أن يقيم من المكان الذي أذن فيه، وللأذان شروط لابد على المؤذن أن يعلمها، ويسن متابعة المؤذن، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وسؤال الوسيلة له بعد الأذان.

ألفاظ الأذان وأقوال أهل العلم فيها

ألفاظ الأذان وأقوال أهل العلم فيها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين: أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وهو خمس عشرة جملة] أي: الأذان خمس عشرة جملة. قال رحمه الله تعالى: [يرتلها على علو] هذا أحد أقوال العلماء رحمة الله عليهم، وألفاظ الأذان فيها أقوال لأهل العلم، فمن العلماء من قال: الأذان أن يثنِّي التكبير ويربع الشهادتين، ويثني ما بعده إلا التهليل الذي هو الخاتمة فيفرد، وهذا القول هو قول فقهاء أهل المدينة رحمة الله عليهم، وعليه درج إمام دار الهجرة مالك بن أنس عليه رحمة الله، واختار أصحابه المتأخرون الترجيع في الأذان، والترجيع صفته أنه بعد أن يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله) يرجع ويقول بصوت خافت: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، فيذكر الشهادتين سراً ثم يرجع إليهما جهراً، وهذا يسمى الترجيع. فهذا القول الأول في المسألة، وله أصل من حديث أبي محذورة (أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان بمكة فرجّع في أذانه) أي: أمره أن يقول الشهادة سراً يُسمع نفسه، ثم يرجع ويُعلي بها صوته، وهذا هو الذي يسميه العلماء الترجيع في الأذان. القول الثاني: يربع التكبير الذي في أول الأذان، ويربع الشهادتين، ويثنى ما بعد ويفرد التهليل، وهذا مذهب أهل مكة من السلف رحمة الله عليهم، وبه قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، ويرى أنه يرجِّع في الأذان، والفرق بين الأول والثاني، أن القول الأول يثني في التكبير، فيبدأ المالكي ويقول: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله (بصوت منخفض) ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله (بصوت مرتفع) إلى آخره. القول الثاني: يربع في التكبير (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر)، ثم يرجِّع في الشهادتين، فيجمع بين التربيع للأول وللشهادتين. ولهذا القول أيضاً أصل من أذان أبي محذورة في مكة مثل ما ذكره المالكية، وهي رواية المالكية لكن فيه زيادة تكلم عليها بعض العلماء كما أشار إليها الحافظ ابن عبد البر رحمة الله عليه. القول الثالث: أنه يربِّع في التكبير، ويثني في كل شهادة ولا يرجِّع، على الأذان المعروف الموجود، وهذا قال به أهل الكوفة، وهو مذهب الحنفية والحنابلة رحمة الله على الجميع، وهو أذان بلال رضي الله عنه، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية. وهناك قول رابع لبعض السلف تختلف صورته يرى أنه يربع التبكير، ثم يثني الشهادتين حتى يبلغ: (حي على الصلاة، حي على الفلاح)، فإذا انتهى من الحيعلتين رجع ثانيةً إلى الشهادتين، وهو قول الحسن البصري ومحمد بن سيرين من أئمة السلف، وفيه حديث ضعيف تكلَّم عليه العلماء، وأشار إلى ضعفه الحافظ ابن عبد البر رحمة الله عليه. والذي يظهر والله أعلم أنه لا معارضة بين القول الأول والثاني والثالث، فلا حرج أن تؤذن بأذان الترجيع، ولا حرج أن تؤذن بأذان لا ترجيع فيه، فأذان الترجيع الذي لقَّنه النبي صلى الله عليه وسلم أبا محذورة، والذي اعتمده العلماء نوع، وأذان بلال وعبد الله بن زيد هو الأصل، ولذلك بعض العلماء يقولون: أذان أبي محذورة ألقاه النبي صلى الله عليه وسلم على أبي محذورة في مكة حينما فُتِحت، فيحتمل لقرب أبي محذورة من الجاهلية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتشهد حتى لا يسبق لسانه إلى ما اعتاده في الجاهلية. وهذا الجواب ضعيف، والأفضل والأولى كما اختاره بعض المحققين وأشار إليه شيخ الإسلام في القواعد النورانية، وارتضاه الحافظ ابن عبد البر. أنه اختلاف تنوع، وليس باختلاف تضاد، فهذا نوعٌ من الأذان، وهذا نوعٌ من الأذان، ولا حرج أن تؤذن بهذا أو ذاك، ولا إنكار على من أذن بالترجيع، ولا إنكار على من أذن بغير ترجيع، وكلٌ على سنة وخير.

حكم التطهر واستقبال القبلة للمؤذن

حكم التطهر واستقبال القبلة للمؤذن قال رحمه الله تعالى: [متطهراً مستقبل القبلة] قوله: (متطهراً) هذا على سبيل الفضل لا على سبيل الفرض، وقوله: (مستقبل القبلة)؛ لأن هذا هو المحفوظ من أذان بلال رضي الله عنه، ولم يحفظ أنه كان مستدبر القبلة أو منحرفاً عن القبلة، ولذلك يبقى هذا على الأصل، ولأنها أشرف الجهات في الطاعات. قال رحمه الله تعالى: [جاعلاً إصبعيه في أذنيه] لأنه أبلغ في قوة الصوت، وجاء فيه الحديث.

حكم الاستدارة والالتفات في الحيعلتين

حكم الاستدارة والالتفات في الحيعلتين قال رحمه الله تعالى: [غير مستدير ملتفتا في الحيعلة يميناً وشمالاً]. أي: أنه لا يستدير بجذعه، ولكن يحرف وجهه يمنةً ويسرةً ولا حرج في ذلك، والدليل على أنه في الحيعلتين يلتفت يميناً وشمالاً ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه وأرضاه، قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم، فخرج بلال بوضوئه فمن نائل وناضح قال: وأذن بلال فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا يقول يميناً وشمالاً حي على الصلاة حي على الفلاح). وفي هذا الالتفات وجوه، قال بعض العلماء: يلتفت عند بداية الحيعلة، ويختم الالتفات عند ختم الحيعلة يمنةً، مثال ذلك: أن يقول: (حي على الصلآة)، فينتهي من آخر اللفظ عند بلوغ كتفه ملتفتاً. فهذا وجه. والوجه الثاني: أن يقول: (حي على الصلاة) ويرجع إلى الاستقامة. والفرق يين القول الأول والثاني زيادة الثاني بالرجوع إلى القبلة عند انتهاء الحيعلة. وأما في الالتفات فقال بعض العلماء: ينادي (حي على الصلاة) يميناً (حي على الصلاة) شمالاً، (حي على الفلاح) يميناً، (حي على الفلاح) شمالاً. وهذا اختيار بعض العلماء رحمة الله عليهم، وهناك قول ثانٍ أنه يحيعل على الصلاة يميناً، وعلى الفلاح شمالاً، وكلٌ منهما له وجه؛ لأن الحديث أطلق، وكلٌ على سنة سواءً، أفعل هذا أم هذا، ولكن الأقوى أن يجمع بين الاثنين؛ لأن المراد الإعلان. وشرع الالتفات مع الحيعلة ولو وجد المكبر؛ لأنها عبادة، والعبادة توقيفية لا يُنظر إلى إسقاطها عند اختلال المعنى، فلا يستطيع الإنسان أن يجزم أن المراد بذلك علة معينة، فيبقى على الأصل من كونه عبادة، فإذا كانت عبادة استوى في ذلك وجود مكبر الصوت وعدم وجود مكبر الصوت، فيلتفت على كل حال. قال رحمه الله تعالى: [قائلاً بعدهما في أذان الصبح: (الصلاة خير من النوم) مرتين] بعد الحيعلتين في أذان صلاة الصبح يقول: (الصلاة خيرٌ من النوم) وهو توجيه وإرشاد، وكلمةٌ عظيمة تشحذ الهمم تناسب الحال، فهي من المقال المناسب للحال؛ فإن الإنسان تعلوه سكرة النوم، فإذا سمع نداء الله عز وجل أن الصلاة خيرٌ من النوم تلهَّفت نفسه، واشتاقت لإيثار مرضاة الله عز وجل على هوى النفس، وقد جاء في مشروعيتها حديث سعيد بن المسيب في روايته عن بلال رضي الله عنه، وتكون بعد الحيعلتين.

أقوال العلماء في ألفاظ الإقامة

أقوال العلماء في ألفاظ الإقامة قال رحمه الله تعالى: [وهي إحدى عشرة يحدرها]. كان المفروض أن يقول: (والإقامة إحدى عشرة)، ولكن لا مانع لأنَّه قال: (وهو) في الأول إشارة إلى المذكر منهما، فقوله: (وهي) إشارة إلى المؤنث، وهي مفهومة من السياق، إلا أنَّ الأولى التصريح: (والإقامة إحدى عشرة كلمة يحدُرها). وللعلماء في الإقامة عدة أوجه، قال بعض العلماء: تُشفَع ويوتر قوله: (قد قامت)، كما هو مذهب المالكية والحنفية. فيقول: (الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله). القول الثاني: أنه يوتِر الألفاظ الأول فالتربيع يجعله مثنى، والمثنى يجعله واحدة، ويُشفَع قد قامت، كما ورد في الحديث، وعلى هذا تكون الإقامة المعروفة: (الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله)، وكلٌ على سنة، سواءٌ أوتَر أم شفَع، ولكن الأقوى من جهة النص الإيتار، والسبب في الخلاف قوله: (أُمر بلال أن يشفع الأذان وأن يوتر الإقامة)، فقوله: (يوتر الإقامة)، فَهِم بعضهم عنه أنه يوتِر كلمة (قد قامت) ويبقى النداء على الأصل على نداء بلال وعبد الله الذي ذكرناه. ومنهم من يقول: (ويوتر الإقامة)، أي: في الألفاظ، فيكون الإيتار في الجميع، ويكون قوله: (قد قامت) باقٍ على المثنى كما في الرواية.

استحباب الإقامة في المكان المؤذن فيه

استحباب الإقامة في المكان المؤذن فيه قال رحمه الله تعالى: [ويُقِيم من أذن في مكانه إن سَهُل]. كانوا في القديم يؤذنون خارج المسجد، وقد فعل ذلك بلال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أذَّن على سطح بيت الأنصارية، كما جاء في رواية السنن أنه كان يؤذن الفجر على بيت الأنصارية، وكان يؤذن على باب المسجد كما يدل عليه حديث: (لا تسبقني بآمين)، فقد قال بلال للنبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبقني بآمين)، قالوا: لأنه كان يؤذن ويقيم خارج المسجد، فإذا أذن وأقام داخل المسجد لم يُسمع أذانه ولم تُسمع إقامته، ولذلك قال: ويقيم من أذن في مكانه إن سهل). لكن إن عسُر عليه أن يُقيم في مكان الأذان أقام داخل المسجد، ولكن السنة أن يقيم في مكان الأذان كما ذكرنا في حديث بلال، ووجه دلالة حديث: (لا تسبقني بآمين) أنه كان يقيم خارج المسجد، فيكبر النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة، فلا يستطيع أن يدرك آمين في بعض الأحيان، وذلك للمكان الفاصل، خاصةً على القول أنه عليه الصلاة والسلام كان يكبر عند قوله: (قد قامت)، فلربما بلغ آخر الإقامة مع مشيه من موضع الإقامة إلى داخل المسجد وقد فاتته الفاتحة، وقد كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم مرتلة، ولذلك قال له: (لا تسبقني بآمين)، فإنه ربما فاته التأمين لفاصل المكان. ومن أذن فيقيم، قال بعض العلماء: لا يقيم إلا من أذَّن كما هو موجود في مذهب الحنابلة ودرج عليه المصنف، وقال بعضهم: يجوز أن يقيم غير المؤذن، وفي هذا حديث ابن ماجة: (أن أخا صداء قد أذن ومن أذن فهو يقيم)، وهو حديث ضعيف؛ لأن فيه عبد الرحمن بن أبي زياد الأفريقي. وقال بعض العلماء: إن الأمر واسع لو أراد أن يُقيم أحد غير المؤذن. وهذا فيه نظرٌ، فإن كان الذي أذَّن موجوداً فإنه أحق بالإقامة؛ لأنه تولى الأمر من بدايته، فليس من حق أحد أن يدخل عليه لكنهم استثنوا المؤذن الراتب إذا تأخر عن الأذان وحضر عند الإقامة بقي حقه في الإقامة، وإن كان قد سقط حقه في التأذين بسبب التأخير فيقيم، فهو أحق بالإقامة.

شروط صحة الأذان

شروط صحة الأذان

الترتيب والتوالي

الترتيب والتوالي قال رحمه الله تعالى: [ولا يصح إلا مرتباً متواليا]. شرع رحمه الله في شروط صحة الأذان. قوله: (ولا يصح) أي: الأذان. (إلا مرتباً) أي: مرتباً بترتيب الشرع؛ لأن القاعدة في الأذكار والألفاظ الشرعية أنه يُتقَيد فيها بالوارد، فكما أنها جاءت واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الترتيب يُرتبها على هذا الوجه. وقوله: (متوالياً) أي: دون وجود فاصل مؤثر، فلو فصل بينهما بفاصل مؤثر فإنه يستأنف الأذان، ولا يَبني على ما كان عليه.

العدالة في المؤذن

العدالة في المؤذن قال رحمه الله تعالى: [من عدلٍ ولو ملحنا أو ملحونا]. قوله: (من عدلٍ) أي: من إنسان عدل، فهذا الأذان لا يصح إلا من عدل، قالوا: لأنه خبر وإعلام بدخول الوقت، ولا يُقبل خبر الفاسق؛ لأن الفاسق إذا أَخبر بدخول الوقت لا يُوثق بخبره، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، فقالوا: لا يصح أذان الفاسق والحنابلة رحمهم الله شددوا في الأذان وفي الإمامة فقالوا: لا يصح الأذان من فاسقٍ، ولا تصح إمامة الفاسق، ولذلك يرون إعادة الصلاة إذا صُلِّي وراء الفاسق، وإن كان الصحيح صحة إمامة الفاسق لدلالة السنة على ذلك كما سيأتي. وأما الأذان فقالوا: إنه خبر وقد أمر الله بالتثبت في أخبار الفساق، فكيف نقبل خبر هذا بدخول وقت الصلاة، وكيف نقبل خبره في انتهاء وقت الصيام، أو دخول وقت الصيام، فمثل هذا لا تقبل شهادته، فمن باب أولى في أمور الصلاة والعبادة أن لا يُقبل خبره.

حكم اللحن في الأذان

حكم اللحن في الأذان قال رحمه الله تعالى: [ولو ملحّنا أو ملحونا]. اللحن: أن يكون الصوت فيه نداوة وطراوة، وإذا كان اللحن على وجه التغني الذي لا يخرج الألفاظ عن حقائقها فالأذان صحيح، أما لو كان يخرج الكلمات عن معانيها والألفاظ عن دلائلها فإنه يُبطل الأذان، واللحن في القراءة والأذان للعلماء فيه ضابط التأثير، فقالوا: إن أثَّر فأخرج اللفظ عن مدلوله فحينئذٍ يحكم بعدم اعتباره، وأما إذا لم يُخرج عن مدلوله فإنه لا يؤثر. وسُئِل الإمام أحمد رحمه الله عن رجلٍ يتغنى في الأذان، فقال للسائل: ما اسمك؟ قال: محمد. قال: أترضى أن يُقال لك: (يا موحامد)؟ قال: لا. قال: كيف ترضاه لنبيك؟ -صلوات الله وسلامه عليه-. فالمقصود أنه لا يصح الأذان إلا على هذا الوجه، وهو أن يؤدى بألفاظٍ صحيحة بعيدةٍِ عن الألحان المخرجة للألفاظ عن دلائلها. ومن اللحن المبالغة في المدود، فعلى الإنسان أن يكبر ويتشهد بعيداً عن التكلف؛ لأن الإسلام لا تكلف فيه، والتطريب والتمطيط في الأذان ليس من هدي السلف الصالح رحمة الله عليهم، ولذلك نص العلماء رحمة الله عليهم على اختلاف المذاهب على أنه بدعةٌ في الأذان، وإنما يؤذن الإنسان أذاناً لا يُخرِج ألفاظ الأذان عن مدلولاتها، بعيداً عن التكلف وإطالة المدود والترانيم ونحوها، فكل ذلك مما لا أصل له، فاللحن والصوت الجميل والتغني بالأذان والقراءة شرطه أن لا يخرج الألفاظ عن مدلولاتها، كما قيل: اقرأ بلحن العُرب إن تجوّد وأجز الألحان إن لم تعتد فمعنى: (أجز الألحان إن لم تعتدِ) أنه لا مانع أن يكون هناك لحن في الأذان أو في القراءة، لكن بشرط أن لا يعتدي القارئ أو المؤذن فيخرج الألفاظ عن مدلولاتها، فلا يجوز أن يقول: (أشهد أن موحامداً) فيمطها حتى يخرج اللفظ عن مدلوله، فإن قال: (موحامداً) أخرج لفظ الاسم الذي هو (محمد) عن وضعه في أصل اللغة، فإنه ليس بين الميم والحاء مد، وليس بين الميم والدال مد، ولأنه إذا مد أصبح اسماً آخر غير الاسم الذي شهد أنه نبي الله صلوات الله وسلامه عليه. وكذلك إذا كان اللحن بالإخلال بالحركات كأن يقول: أشهد أن (محمداً رسولَ الله) بفتح رسول، وهذا كثير وشائع في هذا الزمان، بل قال بعض العلماء ببطلان أذانه. ولذلك ينبغي أن يُنبَّه على ذلك بعض الجهال الذين لا يفرقون بين الضم والفتح في مثل هذا، فينبَّهون على أنه: (أشهد أن محمداً رسولُ الله) -بالضم-، ولا يجوز أن يقول: (أشهد أن محمداً رسولَ الله)؛ لأنه إخراج للشهادة عن مدلولها. فينبه على مثل هذا ونحوه من الألحان التي تخرج الألفاظ عن دلائلها، أو تفسد المعنى في التركيب اللغوي.

حكم أذان الصبي المميز

حكم أذان الصبي المميز قال رحمه الله تعالى: [ويجزئ من مميز] أي: يجزئ الأذان من صبيّ مميز. قالوا: كما صحّت صلاته صح أذانه، ولذلك إذا أذن الصبي المميز صح أذانه. وقال بعض العلماء: لا يصح أذان الصبي ولو كان مميزاً، وقالوا: لأنه خبر، والخبر شهادة ولا تصح من الصبي؛ لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282]، فالشهادة لا تكون إلا من البالغ العاقل، والصبي ليس ببالغ ولا بعاقل، فلا يوثق بأذانه ولا يوثق بخبره.

مبطلات الأذان والإقامة

مبطلات الأذان والإقامة

الفاصل الكبير والكلام المحرم وإن كان يسيرا

الفاصل الكبير والكلام المحرم وإن كان يسيراً قال رحمه الله تعالى: [ويبطلهما فصلٌ كثير ويسير محرم] أي: يبطل الأذان والإقامة فصلٌ كثيرٌ وكلامٌ محرَّم، كأن يشرع في الأذان فيقول: (اللهُ أكبر)، ثم يجلس وقتاً طويلاً، كما يحدث بعض الأحيان حين ينقطع جهاز الصوت فيحاول إصلاحه، وربما يأخذ منه خمس دقائق أو عشر دقائق، فهذا فاصل مؤثر، وحينئذٍ يستأنف ولا يبني لكن لو أنه كبر ثم انشغل يسيراً ثم رجع إلى أذانه فإنه يبني ولا يستأنف، فيصح أن يبني على الألفاظ الأُوَل إذا كان الفاصل غير كثير. وكذلك الكلام المحرم، كأن يؤذن ويتشهد ثم يسب رجلاً، فقالوا: يبطل أذانه؛ لأن السب ليس من الأذان، فحينئذٍ يُحكم ببطلان أذانه ويبتدئ من جديد. أما لو كان كلاماً مباحاً فقال بعض العلماء: لا يبطل، والاحتياط أن يعيد ويستأنف؛ لأنه أدخل في ألفاظ الأذان ما ليس منها. فقوله: (ويسير محرم) أي: وكلامٍ يسير محرم.

الأذان قبل دخول الوقت

الأذان قبل دخول الوقت قال رحمه الله تعالى: [ولا يجزئ قبل الوقت إلا الفجر بعد نصف الليل] أي: ولا يجزئ الأذان قبل الوقت، إلا الفجر فيجوز أن يؤذن له قبل دخول الوقت لثبوت السنة بذلك، فيؤذن قبل دخول الوقت ولا حرج، ثم اختلف العلماء، فقال بعض العلماء: الأذان الأول لا يجاوز السدس الأخير من الليل، وهو ما يقارب ساعة ويختلف بالصيف والشتاء، فيؤذن الأذان الأول قبل الفجر بحدود ساعة أو تزيد، بحسب الصيف والشتاء، وبحسب طول الليل وقصره. وقال بعضهم: إنما يؤذن الأذان الأول بفاصلٍ يسير بينه وبين الأذان الثاني، بحيث أنه بمجرد ما ينتهي من الأذان الأول يدخل وقت الفجر فيؤذن الأذان الثاني، وهذا ارتضاه بعض فقهاء الظاهرية رحمة الله عليهم بناءً على حديث: (ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا)، ولكن هذه اللفظة عند بعض العلماء فيها نظر؛ لأن بلالاً كان عندما يؤذن يمتطي على ظهر بيت الأنصارية، حتى إذا قرب بزوغ الفجر صعد ابن أم مكتوم وأذن، وليس المراد به أنه ينزل ويطلع مباشرة، كما أفاده بعض العلماء رحمة الله عليهم. والمصنف أخذ بالقول الثالث، وهو أن يؤذن الأذان الأول من بعد نصف الليل، وهذا في الحقيقة محل نظر، والأقوى أن يؤذن في السدس الأخير، ودليلنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بلالاً يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم)، فلما تُوقِظ النائم في نصف الليل فليس هناك مصلحة، وما دام أن الحديث جاءنا بعلة الأمر فنتقيد بالعلة الواردة؛ لأن العلل المنصوص عليها محكومٌ بها، فلما جاءنا الحديث أن العلة في الأذان الأول رد القائم وتنبيه النائم، فذلك أنسب ما يكون في حدود السدس الأخير، كما هو وجهٌ عند الشافعية وبعض العلماء رحمة الله عليهم.

استحباب صلاة ركعتين بعد أذان المغرب

استحباب صلاة ركعتين بعد أذان المغرب قال رحمه الله تعالى: [ويسن جلوسه بعد أذان المغرب يسيرا] يسن ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا قبل المغرب ركعتين)، وفي رواية: (صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، ثم قال عند الثالثة: لمن شاء)، قال أنس رضي الله عنه كما في الحديث الصحيح: (فلقد رأيت كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري حتى إن الرجل لو دخل ظن أن الصلاة قد أقيمت) أي أنه إذا أذن وانتهى يصلون هذه الركعتين، ويبتدرون السواري يجعلونها سُتراً، وهذا يدل على حرصهم على هذه السنة. ووجه الشاهد أن كون النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بصلاة الركعتين بين الأذان والإقامة يدل على أن مِن السنة الفصل بين الأذان والإقامة، خلافاً لمن قال بالتعجيل، وهو موجود في بعض المذاهب، كما هو موجود في مذهب المالكية رحمة الله عليهم، فهم يرون سنية التعجيل؛ لأنهم لا يرون التنفل بين الأذان والإقامة، وهو وجهٌ أيضاً عند بعض الحنفية، والصحيح ما ذكرناه بدلالة السنة من حديث مسلم في صحيحه.

حكم الأذان في الجمع أو قضاء الفوائت

حكم الأذان في الجمع أو قضاء الفوائت قال رحمه الله تعالى: [ومن جمع أو قضى فوائت أذّن للأولى ثم أقام لكل فريضة] هذا على حديث المزدلفة أنه عليه الصلاة والسلام أذن للأولى وأقام إقامتين: إقامة للأولى، وإقامة للثانية، فأصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم أن يؤذِّن الذي جَمَع جَمْع تقديم أو تأخير أذاناً واحداً ويقيم إقامتين.

استحباب متابعة المؤذن

استحباب متابعة المؤذن قال رحمه الله تعالى: [ويسن لسامعه متابعته سراً] من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لِمن سمع النداء أن يُتابع المؤذن سراً، أي: لا يرفع صوته، بل سراً بقدر ما يُسمع نفسه، وإن كان هناك عوام ويريد تعليمهم إن كان من العلماء والقضاة ونحوهم ممن يقتدى بهم فله أن يرفع صوته قليلاً حتى يتعلم الناس، فقد رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعه الصحابة كما في حديث معاوية، فيشرع الرفع قليلاً من باب التنبيه للناس والتعليم لهم، ولا حرج في ذلك.

الحوقلة في الحيعلتين

الحوقلة في الحيعلتين قال رحمه الله تعالى: [وحوقلته في الحيعلة] أي: يُسن لك إذا سمعت المؤذن يقول: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) أن تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. وللعلماء في ذلك أوجه: فمنهم من قال: تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم تقول: (حي على الصلاة). وتقول: (حي على الفلاح)، ثم تقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله). ومنهم من قال: تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. ومنهم من قال: تقول مثل ما يقول المؤذن ولا تقول الحوقلة، فهذه ثلاثة أوجه للعلماء في المسألة. فمن قال: تقول الحوقلة ولا تحيعل اعتمد حديث معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغ الحيعلتين حوقل ولم يحيعل صلوات الله وسلامه عليه. والذين قالوا: يحيعل استدلوا بحديث أبي موسى في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول)، فقول: (فقولوا) أمر، فيشمل جميع أفراد الأذان، فيحيعل إذا قال: (حي على الصلاة)؛ لأنها مثل قول المؤذن، ولم يخص النبي صلى الله عليه وسلم الحيعلتين بذكر، فتبقى على هذا العموم. والقول الثالث جمع بين القولين فقال: يقول: (حي على الصلاة) لحديث: (قولوا مثل ما يقول)، ويحوقل لحديث معاوية، وأصح القولين والعلم عند الله: أنه يقتصر على الحوقلة؛ لأن قوله: (فقولوا مثل ما يقول) مجمل وحديث معاوية مبيِّن مفصِّل، والقاعدة أنه إذا تعارض المجمَل والمفسِّر المبيِّن، يُقدَّم المفسِّر المبيِّن، فإن معاوية حكى ترديد النبي صلى الله عليه وسلم لفظاً لفظاً، فيكون قوله عليه الصلاة والسلام: (قولوا مثل ما يقول) أي: في غالب ألفاظ الأذان، فلما بلغ الحيعلة قال: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، فأصح الأقوال أنه يُحوقِل ولا يُحيعِل. وأما مذهب من قال: يَجمع بينهما. فهو مبني على التعارض على النصين، وشرط التعارض قوة الدلالة منهما، وليست الدلالة منهما قوية، لِما ذكرنا من وجود الإجمال والبيان. وأما مناسبة قول لا حول ولا قوة إلا بالله عند الحيعلة، فقالوا: لأنه إذا قال: (حي على الصلاة) فإنهما تختص بالمؤذن. وهذا صحيح من جهة النظر؛ فإن المؤذن ينادي الناس، فأنت لا وجه لك أن تقول: (حي على الصلاة، حي على الفلاح)؛ لأنه ليس ثم إنسان تدعوه إلى الصلاة، فاختُصَّ المؤذن بالحيعلة، فبقيت أنت مستيعناً بالله، فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، لأنه يُطْلَب منك الإجابة، ولا يُطْلَب منك المماثلة، فلذلك ناسب أن تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ قال بعض العلماء: لا حول في طلب خير، ولا قوة في دفع شر إلا بالله. وزيادة (العلي العظيم) لا ينبغي أن تُزاد؛ لأن السنة التقيد بالوارد، والألفاظ الواردة لا يزاد فيها.

استحباب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وسؤال الوسيلة بعد الأذان

استحباب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وسؤال الوسيلة بعد الأذان قال رحمه الله تعالى: [وقوله بعد فراغه: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محموداً الذي وعدته] هذه هي السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ) على أن كثيراً من الناس ترك هذه السنة، وهي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، فتجده مباشرة إذا قال المؤذن: (لا إله إلا الله)، يقول: (لا إله إلا الله، اللهم رب هذه الدعوة ... )، وهذا خلاف السنة. والسنة أنه إذا قال: (لا إله إلا الله)، أن يصلي بعدها على النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة الإبراهيمية، ثم بعد ذلك يقول: (اللهم رب هذه الدعوة التامة ... ). قال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة عليه بعد الأذان لذكره في الأذان، ومنهم من قال: إنه أمر بالصلاة عليه لوجود الدعوة؛ لأنه يُسن أن يُبتدئ الدعاء بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فمن فضائله -كما في أحاديث الترغيب- أن يكون في الدعاء الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. ويقول بعد انتهائه من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم رب هذه الدعوة التامة ... )، فهي دعوة تامة كاملة؛ لأنها اشتملت على أمرين: أحدهما تعظيم الله، وثانيهما توحيده، ولذلك وصف الله صاحبها بأنه أحسن الناس قولاً، فقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]؛ لأن المؤذن يصلي، وعمل صالحاً بدعوة الناس إلى الصلاة، فلذلك قالوا: هي دعوةٌ تامة، دعا إلى توحيد الله عز وجل بشهادته ثم دعا إلى إقام الصلاة التي هي من تعظيم الله عز وجل. (والصلاة القائمة) أي: التي ستقام، فيوصف الشيء باعتبار ما يؤول إليه، وهذا من بلاغة العرب، حيث يصفون الشيء بما كان عليه، ويصفونه بما يؤول إليه، ويصفونه بحاله، فيقولون: فلان يتيم بناءً على ما كان عليه، كما قالوا: محمد يتيم أبي طالب، باعتبار ما كان عليه، ومنه قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2] نهى عن إعطاء اليتيم ماله، لكن: آتوا اليتامى الذين بلغوا راشدين أموالهم، فوصفهم بكونهم يتامى بما كانوا عليه، وكذلك تصف العرب الشيء بما يؤول إليه، فيقولون: (فلانٌ مصلٍ). أي: سيصلي، ونحن مصلون، أي: سنصلي، فكذلك قوله هنا: الصلاة القائمة، أي: التي ستقام. والوسيلة هي كما فسَّرها النبي صلى الله عليه وسلم: (درجةٌ في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، قال: وأرجوا أن أكون أنا هو). ومن سأل للنبي صلى الله عليه وسلم الوسيلة حلّت له الشفاعة يوم القيامة، فنسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يبلغه الوسيلة، وأن يجزيه عنا خير ما جزى نبياً عن أمته. ثم ختمها بقوله عليه الصلاة والسلام (والفضيلة، والمقام المحمود الذي وعدته)، والفضيلة: من الفضل، والفضل: الزيادة. أي: الفضائل، وهي أعلى الدرجات، وإذا تفضَّل الله على العبد فقد بلَّغه أعالى المراتب وأكملها، كما قال تعالى في الخير: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54]، فالفضل: الخير العظيم، وقال تعالى: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة:105]، وزيادة (الدرجة العالية الرفيعة في الجنة) ضعيفة كما نبَّه عليها السخاوي في (المقاصد الحسنة)، وهي زيادة ضعيفة لا أصل لها. ومعنى (وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته) هو المقام الذي يحمِده عليه الأولون والآخرون، وهو مقام الشفاعة، قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، وعسى في القرآن للحقيقة، وهو مقام الشفاعة. وزيادة: (إنك لا تخلف الميعاد) فيها خلاف، وهي من رواية البيهقي، ومن العلماء من أثبتها، ومنهم من قال بعدم ثبوتها للشذوذ، ومن شرط الصحة عدم الشذوذ، ومن قالها فيتأول الصحة ولا حرج، ومن لم يقلها لا حرج عليه. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، استغفرك وأتوب إليك.

باب شروط الصلاة [1]

شرح زاد المستقنع - باب شروط الصلاة [1] للصلاة شروط مذكورة في الكتاب والسنة، وهي تنقسم إلى: شروط صحة، وشروط وجوب، ومنها: الطهارة من الحدث والخبث والنجس، ودخول الوقت، وينبني على ذلك معرفة وقت كل صلاة ابتداءً وانتهاءً، وأن الأفضل الصلاة في أول الوقت، ولا يجوز تأخيرها إلا لعذر شرعي.

شروط الصلاة

شروط الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب شروط الصلاة]. هذا الباب المراد به بيان العلامات والأمارات التي نصّبها الشارع للحكم بوجوب الصلاة وصحتها من المكلف. وتنقسم الشروط عند العلماء رحمهم الله إلى شروط صحةٍ، وشروط وجوب، وأصل الشروط مبحث من مباحث الحكم الوضعي، بمعنى أن الشروط علامات وأماراتٌ من الشارع سبحانه وتعالى نصَّبها لكي تحكم بوجوب العبادة على المكلف، أو تحكم بصحتها، أو عدم صحتها إذا لم تكن مستوفيةً لهذه الشروط. إذاً لا بد في العبادة من النظر إلى هذه العلامات، وبواسطتها يستطيع طالب العلم أن يقول للمكلَّف: برئت ذمتك وأجزأتك الصلاة، إذا توفرت هذه الشروط المعتبرة لصحة الصلاة، ويستطيع أن يقول للمكلف: عليك إعادة الصلاة؛ لأن العلامة والأمارة التي نصَّبها الشارع للحكم بصحة صلاتك غير متوفرة. فلو أن إنساناً توضأ بعد دخول الوقت، وستر عورته، واستقبل القبلة، وفعل الصلاة بأركانها، فصلاته صحيحةٌ معتبرة. لكن لو أنه صلى قبل دخول الوقت صلاة الظهر، أو صلاة العصر، أو صلَّى ولم يستقبل القبلة عالماً بجهتها مخالفاً لناحيتها، أو صلَّى ولم يستر عورته مع القدرة، فحينئذٍ تقول له: صلاتك باطلةٌ، وتلزمك الإعادة؛ لأن الشارع جعل دخول الوقت علامةً على وجوبه، ولا تصح الصلاة قبل دخول الوقت. وجعل ستر العورة علامةً على صحة الصلاة واعتبارها، فما دمت لم تستر العورة أثناء صلاتك فصلاتك باطلة. فمبحث شروط الصلاة يحتاجه طالب العلم لكي ينظر إلى الأمارات التي نصَّبها الشارع سبحانه وتعالى، لكي يقول: هذه العبادة معتبرة، وبرئت ذمتك أيها المكلف، فلا تُطَالَب بالإعادة، أو يقول: هذه العبادة باطلةٌ ويلزمك إعادة الصلاة؛ لأن شروط الصحة والاعتبار غير متوفرة. والشروط: جمع شرط، والشرط في اللغة: العلامة، ومنه سميت الشَّرْطَة. وأما في الاصطلاح فهو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته. فالطهارة يلزم من عدمها عدم الصلاة، ودخول الوقت يلزم من عدمه عدم وجوب الصلاة. ولا يلزم من وجوده الوجود، فالإنسان قد يتوضأ، ويكون متطهراً، والشرط محققٌ فيه، ولكنه لا يصلي، فيلزم من عدم الشرط عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده وجود المشروط. فقول العلماء: (باب شروط الصلاة) أي: العلامات والأمارات التي نصَّبها الشارع للحكم بوجوب الصلاة على المكلفين، أو العلامات والأمارات التي نصَّبَها الشارع للحكم بصحة صلاة المكلفين واعتبارها، فإن كانت الشروط شروط صحةٍ حكَمْتَ بالصحة أو بعدمها، وإن كانت الشروط شروطَ وجوبٍ حَكَمْتَ بوجوب العبادة أو عدم وجوبها. فشروط الصلاة تنقسم إلى شروط صحةٍ، وشروط وجوب. فشروط الوجوب منها الوقت، ولا تجب الصلاة قبل دخول الوقت، ومنها البلوغ، فلا تجب الصلاة على الصبي قبل بلوغه، ومنها العقل، فلا تجب الصلاة على المجنون حتى يفيق. وأما شروط الصحة فهي: الطهارة، واستقبال القبلة، وستر العورة. فلا تصح صلاة غير المتطهر، ولا تصح صلاة من لم يستر عورته اختياراً، بمعنى أنه قادرٌ على سترها، أما إذا كان غير قادرٍ فسيأتي إن شاء الله الكلام عليه. ولا تصح صلاة من لم يستقبل القبلة اختياراً، أما إذا كان في حال الاضطرار -كما في السفر- ففيه تفصيل سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقوله: (باب شروط الصلاة) مناسبة هذا الباب أنه بعد أن بين لك حكم الصلاة، وعلى مَن تجب، وتكلَّم على مباحث الأذان والإقامة، ناسَبَ أن يتكلم عن الشروط؛ لأن من شروط الصلاة دخول الوقت، والأذان متعلق بالوقت، فلما ذكر الأذان ووجوبه ولزومه وصفته، يرد Q متى يؤذِّن المؤذن؟ وما هو الوقت المعتبر للصلاة؟ ولما كان مبحث الوقت متعلقاً بمبحث الشروط ناسب أن يذكر الشروط معه، فهذا وجه المناسبة. وهناك وجهٌ ثانٍ وهو أن تقول: بعد أن فرغ المصنِّف رحمه الله من بيان حكم الصلاة، والدعوة إليها بالأذان والإقامة ناسب أن يبين العلامات المعتبرة للإلزام بالصلاة، وهي الشروط، فأتبع ذلك شروط الصحة كما قلنا.

الشرط الأول: دخول الوقت

الشرط الأول: دخول الوقت قال المصنف رحمه الله: [شروطها قبلها، منها الوقت]. قوله: (شروطها قبلها) أي: قبل الصلاة، وقوله: (منها الوقت) (مِنْ) للتبعيض، والضمير في (منها) بمعنى: من شروط الصلاة، وهذا للتبعيض؛ لأن هناك شرط البلوغ والعقل لم يذكره المصنف، وترك لظهور العلم به؛ لأنه لا يقرأ قارئ ولا يبحث باحث في أبواب الفقه إلا وهو عالم أن أهلية التكليف تقوم على البلوغ والعقل. فلذلك تَرْكُ المعلوم بداهةً مألوفٌ عند العلماء رحمة الله عليهم. قوله: (منها الوقت) يقال: وقَّتَ الشيء يؤقته تأقيتاً. إذا حدده، ويكون ذلك بالزمان، ويكون بالمكان، فيقال: (وقَّتَ له ساعة مجيئه) للزمان، و (وقت له مكان لقائه) للمكان. فجاء التعبير بالتوقيت في الزمان في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، أي: بالزمان. وجاء التأقيت بالمكان، ومنه حديث ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين: (وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة)، وهو ميقات المكان لنسك الحج. والوقت معتبرٌ للصلاة، والأصل في هذا الشرط قول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] أي: مؤقتاً ومحدداً بزمانٍ معين، وقد بينت السنة إجمال القرآن، وقد جمع الله تبارك وتعالى هذا التأقيت للصلاة في آيةٍ واحدة، وذلك في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، فهذه الآية جمعت مواقيت الصلاة كما ذكر غير واحدٍ من المفسرين، وهذا من بلاغة القرآن وحسن اختصاره، فإن قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) أي لزوالها (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) فشمل الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فيكون (غسق الليل) على أنه نصف الليل هو الأمد الذي هو آخر وقت العشاء الاختياري، ثم لما انفصل الفجر قال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} فأغنى باسم الفجر عن ذكر وقته؛ لأن الفجر من الانفجار والوضوح، ونظراً إلى أن اسمه يدل على وقته؛ لأنه عند انفجار الضوء وانتشاره أغنى التعبير باسمه عن التصريح بوقته، فهذه خمسة فروض وخمسة مواقيت، وكلتا الآيتين أصل في باب المواقيت عند العلماء رحمة الله عليهم. أما السنة فجاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تصف وقت الصلاة، والأصل في هذا أن الله لما فرض على نبيه عليه الصلاة والسلام الصلوات الخمس اختار الله فريضتها أن تكون مباشرةً منه سبحانه وتعالى فوق السماوات العلا، ولذلك كان من دلائل فضل الصلاة وعظيم شأنها أن الله عز وجل لم يوح وجوبها إلى نبيه بواسطة، وإنما باشره بوجوبها والأمر بها تعظيماً لشأنها ودلالةً على عظيم مكانتها، فلما أوجب الله على نبيه الصلوات الخمس، وانتهى الأمر إلى الخمس، وكان يراجع ربه حتى استقرت إلى الخمس نزل عليه الصلاة والسلام، ولما أصبح صبيحة الإسراء وزالت الشمس لم يُفاجأ إلا بجبريل قد نزل عليه فأمَّه عند الكعبة، ولذلك كانت بداية المواقيت بحديث جبريل بمكة. فالأصل في السنة هذا الحديث، وهو أول المواقيت السنية، ولذلك يعتبره العلماء رحمة الله عليهم أصلاً، إلا ما دل الدليل على نسخه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. فأَمَّ جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة يومين، صلَّى به اليوم الأول كل صلاةٍ عند أول وقتها، وصلى به اليوم الثاني كل صلاة في آخر وقتها، ثم قال له: (ما بين هذين وقت)، فحدَّد مواقيت الصلاة وبينها. ثم جاءت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وبقوله، فتارةً بالفعل يُبيِّن المواقيت، وتارةً بالقول يدل عليها صلوات الله وسلامه عليه. فشرط الوقت لا يُحكم بلزوم الصلاة على المكلف إلا بدخوله، فلا يطالب الرجل ولا المرأة بالصلاة إلا بعد دخول الوقت، ويتفرع على ذلك أنه إذا مات قبل دخول الوقت ولو بلحظة فهو غير آثمٍ ولا ملزمٍ بها، وكذلك لو جُنَّ أو حاضت المرأة قبل دخول الوقت ولو بلحظة فإنها لا تُطَالَب بها. فلا يتوجه الخطاب بالصلاة إلا بعد وجود هذه العلامة، فلما كان الوقت له هذه المنزلة وهي أنه لا يتوجه الخطاب من الشرع للمكلف أن يفعل العبادة إلا بعد وجود هذه العلامة. قيل: إنه شرط من هذا الوجه.

الشرط الثاني: الطهارة من الحدث والنجس

الشرط الثاني: الطهارة من الحدث والنجس قال المصنف رحمه الله: [والطهارة من الحدث والنجس]. قوله: (والطهارة من الحدث) تقدَّم تعريف الطهارة، وقلنا: إنها صفةٌ حكميةٌ توجب لموصوفها استباحة الصلاة، والطواف بالبيت، ونحوه مما تشترط له الطهارة. وأما الطهارة من النجس أو الخبث كما يُعبِّر العلماء فيشترط كذلك؛ لأن الطهارة طهارةٌ من الحدث بالوضوء أو الغسل أو التيمم بدلاً عنهما، وطهارةٌ من الخبث بإزالة النجاسة عن البدن والثوب والمكان. فأما طهارة الحدث فدليل وجوبها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة:6]، ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6]، فأوجب وأمر وألزَمَ المكلف بهذه الطهارة، ثم حكم بعدم صحة الصلاة بالفقد، فقال عليه الصلاة والسلام في الصحيحين كما في حديث أبي هريرة واللفظ لـ مسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، فهذه طهارة الحدث ودليل اشتراطها لصحة الصلاة من الكتاب والسنة، لكن دليل السنة في الاشتراط أقوى من دليل الكتاب؛ لأن دليل الكتاب دلّ على الوجوب، وأما دليل السنة فقد دل على عدم الصحة والاعتبار إلا بعد وجود الطهارة، وهو أبلغ في الدلالة على الشرطية؛ لأن كون الشيء واجباً لا يدل على كونه شرطاً لصحة الشيء كما هو معلوم. وأما الطهارة من الخبث، وهي طهارة البدن والثوب والمكان من أجل الصلاة، كونها شرطاً لصحة الصلاة فيدل عليها: أولاً: إلزام المكلف بطهارة البدن، أصله قوله عليه الصلاة والسلام: (اغسلي عنك الدم ثم صلي)، وقوله: (دعي الصلاة أيام قروئك)، وفي الحديث الآخر: (لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا بلغت ذلك فلتغتسل ثم تستذفر بثوب ثم تصلي)، فأمرها بطهارة البدن. ثانياً: طهارة الثوب، والأصل فيها قوله تعالى يخاطب نبيه: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:3 - 5]، فكبر: أي للصلاة، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]، وليس المقصود الترتيب، وإنما المقصود مجموع هذه الأمور، والمراد بقوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]: أي طهارتها من النجس والقذر، فلا تصح الصلاة إلا بعد وجود طهارة الثوب. ثالثاً: طهارة المكان، فلا تصح الصلاة إلا بعد أن يكون مكان المصلِّي طاهراً، والأصل في ذلك حديثان: أحدهما حديث الأعرابي لما بال في المسجد، فقال عليه الصلاة والسلام: (أهريقوا على بوله سجلاً من ماء)، فأمر بتطهير المسجد، وكذلك أمره عليه الصلاة والسلام من دخل المسجد بنعليه إن وجد فيهما أذى بقوله: (ليدلكهما في الأرض)، فجعل دلك الأرض طهارةً لها. والدليل الثاني حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس، ثم خلع نعليه، فخلع الصحابة نعالهم، فلما سلَّم عليه الصلاة والسلام قال: (ما حملكم على إلقاء نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن جبريل أتاني، فأخبرني أن فيهما قذراً، أو قال: أذى). ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم خلع النعلين بعد العلم بنجاستهما؛ لأنهما ليستا بطاهرتين، فلما خلعهما بعد العلم بالنجاسة دل على أن المصلي لا يقف على موضعٍ نجس، ولذلك اعتُبِر حديث النعلين في خلعه عليه الصلاة والسلام لهما أصلاً في طهارة موضع المصلي الذي يصلي عليه. فمجموع هذه النصوص في الكتاب والسنة دلَّ على أنه ينبغي للمصلي أن يطهِّر ثوبه وبدنه ومكانه من أجل صلاته.

أوقات الصلاة

أوقات الصلاة

وقت صلاة الظهر

وقت صلاة الظهر قال المصنف رحمه الله: [فوقت الظهر من الزوال إلى مساواة الشيء فيئه بعد فيء الزوال] الفاء للتفريع، أي: إذا علمت أن الوقت شرطٌ لصحة الصلاة فاعلم أن وقت الظهر ما سيأتي. والظهر: هي الصلاة الأولى تسمى بالظهر، وهذا اسمها الغالب، وللعلماء في سبب تسميتها بالظهر خلاف، قال بعضهم: سُمِّيت بالظهر من الظهيرة، لوجود قائم الظهيرة فيها؛ لأن الشمس تقوم فيها، وهي تقع بعد زوال الشمس مباشرة، فنسبت إلى أقرب موصوفٍ لها. والظُّهر تسمى الأُوْلَى، ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي برزة الأسلمي أنه دخل عليه أبو المنهال سيار بن سلامة رحمه الله، فقال: دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي، فقال له أبي: (كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة؟ قال: كان يصلي الهجير وهي التي تدعونها الأولى)، فوُصِفت بكونها هجيراً، وبكونها أُوْلى، وبكونها ظهراً، أما كونها هجيراً فلأنها تكون بالهاجرة، وهذا الوقت الذي تقع فيه صلاة الظهر، حيث تكون الشمس فيه شديدة الحرارة، ولذلك أمر بالإبراد عن أول الوقت في شدة الحر، فإذا اشتدت الحرارة هجر الناس الشمس، وصاروا إلى الظل، وهجروا أعمالهم من أجل شدة الحر والمئونة والمشقة، فسمِّيت الهجير من هذا، وسميت الظهر لما ذكرناه، وسميت الأولى لأنها أول صلاة تصلى. وهذا أصح أقوال العلماء أن الظهر هي أول الصلوات، والدليل على ذلك عدة أدلة، منها: أنه لما أراد الله أن يبين لنبيه عليه الصلاة والسلام مواقيت الصلاة نزل جبريل في وقت الظهر، فكان أول ما أعلمه بوقته هو الظهر، وكذلك الحال في وصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم للصلوات المكتوبة وأوقاتها كلهم كان يبدأ بصلاة الظهر، وذلك مراعاة لأصل الشرع. وقال بعض العلماء: الأولى هي الفجر والثانية هي الظهر لأجل أن يقوى مذهبهم بأن العصر هي الصلاة الوسطى، وهذا مذهبٌ مرجوح، ويُجاب عنه من وجهين: أولاً مخالفته لظاهر السنة ولهدي الصحابة في قولهم: (كان يصلي الهجير وهي التي تدعونها الأولى ... )، فدل على أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسمونها الأولى، وأما اعتذارهم بأن العصر لا تكون وسطى إلا إذا اعتبرنا الفجر الأولى فمحل نظر؛ لأنهم قالوا إن الفجر والظهر يجتمعان في كونهما صلاة نهارية، والمغرب والعشاء يجتمعان في كونهما صلاة ليلية، فيقع العصر بينهما، فتكون صلاةً وسطى من هذا الوجه. والجواب عن هذا يسير، وهو أن يُقال: إن الوصف بكونها وسطى -أعني العصر- إنما هو لانتصافها بين نهاريةٍ وليلية، لا بين نهاريتين وليليتين، وهم يراعون عدد الصلوات، ويمكن أن تراعى دلالة الحال، فإن صلاة العصر بين نهاريةٍ وهي الظهر، وليليةٍ وهي المغرب، وعلى هذا لا يرد ما ذكروه. فلصلاة الظهر وقتان: أول وآخر، فأما أول وقت صلاة الظهر فهو من الزوال إذا زالت الشمس، وأما آخر وقت الظهر فكما ذكر المصنف حين يصير ظل كل شيءٍ مثله، أي على قدر ظل الرجل إذا قام. أما بالنسبة لاعتبار الزوال أول وقت الظهر فدليله الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78]، ودلوكها: زوالها. أما السنة ففي الأحاديث الصحيحة، منها حديث ابن عمر في صلاة جبريل وإمامته بالنبي صلى الله عليه وسلم صبيحة الإسراء. ومنها: حديث جابر بن عبد الله في الصحيحين (كان يصلي الظهر إذا دحضت الشمس)، أي: زالت. ومنها: حديث أبي برزة: (كان يصلي الهجير وهي التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس). وكذلك أيضاً حديث مسلم في قصة الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مواقيت الصلاة، وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص. فهذه خمسة أحاديث كلها دلت على أن وقت صلاة الظهر يكون بدايته من زوال الشمس، وحُكِيَ الإجماع على أن وقت صلاة الظهر يبتدئ من الزوال، وهذا الإجماع مخالَف بما حُكِيَ عن ابن عباس أنه كان يجيز إيقاع صلاة الظهر قبل الزوال باليسير، وهو قولٌ محكيٌ عن مالك رحمة الله عليه إمام دار الهجرة، وقولٌ مرجوح لمخالفته لظاهر السنة، فحكاية الإجماع يُشكِل عليها ما أُثِر عن ابن عباس وعن مالك رحمة الله عليه. وإذا علمنا أن النصوص دلت على أن أول وقت الظهر الزوال، فما هو الزوال؟ الزوال: مأخوذٌ من زال الشيء إذا تحرَّك، والمراد بالزوال زوال الشمس، والسبب في ذلك أن الشمس إذا طلعت يكون الظل في جهة المغرب، ثم تسير وينقبض ظلها حتى تنتصف في كبد السماء، فتقف عن مسيرها، وبالمناسبة في سير الشمس ينبغي إثباته، والقول بأن الشمس ثابتة باطل مخالفٌ لنص القرآن، ولذلك قال بعض العلماء: لا يجوز أن يعتقد المسلم أن الشمس ثابتة، وذلك لقوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38]، فنص سبحانه على أنها تجري، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ أبي ذر: (يا أبا ذر! هل تدري أين تذهب هذه؟)، فنسب لها الذهاب والمجيء، وهذا يدل على الحركة بخلاف الثبوت، ولذلك يُعتقد جريانها، وقول بعض الفلاسفة: إنها ثابتة مخالفٌ لهذا النص الذي أنبأك به الخبير العليم سبحانه وتعالى خالق الشمس وخالق الكون وهو أعلم بما خلق. فالشمس تطلع من مشرقها فيكون الظل في جهة المغرب، على أقصى ما يكون عند ارتفاع شعاعها، ثم ترتفع قليلاً قليلاً فينقبض الظل من جهة المغرب قليلاً قليلاً حتى تنتصف في كبد السماء، فإذا انتصفت في كبد السماء وقف الظل عن الحركة فلا يزيد ولا ينقص، وهذا الانتصاف قال بعض الخبراء من أهل الفلك: إنه لحظة يسيرة، أي: قد يكون إلى دقائق معدودة جداً، وفي هذا الوقت وهو وقت انتصافها في كبد السماء تسجر جهنم -والعياذ بالله-، ولذلك نُهِي عن الصلاة فيه؛ لأنه لحظة عذاب، وليست بساعة رحمة، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فإذا اعتدلت على رأسك فإن تلك الساعة تسجر فيها جهنم). وثبت عن عقبة بن عامر أنه قال: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب)، فإذا قال العلماء: (قام قائم الظهيرة)، أو قالوا: (وقف الظل)، فمرادهم هذه الساعة، ولذلك تقف الشمس في كبد السماء فلا تتحرك، فإذا وقفت وقف الظل، وأحياناً يقف الشاخِص بدون ظل، وهذا في الأماكن التي تكون معادلة لمنتصف السماء، ولذلك يقولون: إنه في مكة في اليوم السابع من حزيران تكون الشمس لا ظل لها، بمعنى أنها في منتصف السماء، أو في كبد السماء كما ورد في الخبر، فإذا أخذت في هذه اللحظة التي هي لحظة الإمساك تبدأ بعد ذلك في الحركة إلى جهة المغرب، فإذا ابتدأت حركتها إلى جهة المغرب تحرّك الظل إلى جهة المشرق، على عكس ما كان عليه عند غروبها. وهذه اللحظة هي لحظة انتصاف النهار، وتكون في منتصف الوقت ما بين طلوع الشمس وغروبها بإذن الله عز وجل، فإذا انتصفت في كبد السماء وابتدأت بالمسير فحينئذٍ يبدأ وقت الظهر، فقبل مسيرها، وهي لحظة وقوف الظل لا يجوز إيقاع الصلاة -كما قلنا- في قول الجماهير، وانعقد عليه الإجماع، إلا ما جاء عن ابن عباس ومالك رحمه الله تعالى. فلذلك قالوا: يبدأ وقت الظهر من الزوال، أي: من حركة الشمس، فالسبب في تسمية هذا الوقت بالزوال أنّ الشمس تتحرك، فكأنها زالت عن مكانها الذي ثبتت فيه في كبد السماء، وهذا الوقت هو أول وقت الظهر. ثم كيفية معرفة هذا الوقت تختلف باختلاف الفصول، وباختلاف البلدان، ولكن الطريقة التي يمكن للإنسان أن يضبط بها المواقيت. أن يثبت شاخصاً على مكانٍ مستوٍ، ويعرف طول هذا الشاخص، ثم بعد ذلك ينظر في ظل الشاخص، فتبدأ الشمس طالعة من مشرقها فيراقب الظل في جهة المغرب، فكلما تقاصر الظل، خاصةً عند منتصف النهار يضع العلامة، خاصة إذا كان الشاخص على ورقة أو نحوها، فيضع علامة على الظل، حتى يقف الظل فيعلم أن هذه اللحظة التي وقف فيها الظل هي الساعة التي انتصف فيها النهار، بمعنى أنه بمجرد ما يبتدئ الظل بالزيادة والانحسار إلى جهة المشرق فاعلم أنها ساعة الزوال، وأن ما قبلها ساعة انتصاف النهار. و (من) في قوله: (من الزوال) ابتدائية، أي: يبتدئُ بزوال الشمس. وقوله: (إلى مساواة الشيء فيئه بعد فيء الزوال) الفيء: الرجوع، ومنه قوله تعالى: {فَإِنْ فَاءَتْ} [الحجرات:9] أي: رجعت، قالوا: سمي بذلك لأن الظل يَفِيء، بمعنى: يرجع، فبعد أن كان في جهة الغرب إذا به إلى جهة المشرق، وبتقاصُر الظل يكون الفيء، فالظل الذي تقف عليه الشمس عند انتصافها في كبد السماء لا يُحسب، وببداية تحركها إلى جهة المغرب، وزيادة قدر الظل في جهة المشرق يبدأ وقت الظهر كما قلنا، فيضع من هذه البداية علامة على الورقة، ثم بعد مسيرها ينظر إلى طول الظل حتى يساوي العود أو الشاخص الموضوع. والسبب في ذلك أن الزوال أحياناً يقف على قدر من الظل، بمعنى أنه يكون للشاخص ظل، فلو فُرِض أن ظله يختلف بالصيف والشتاء على حسب قرب الشمس من مسيرها الذي هو في منتصف القطب أو انحرافها في فصل الشتاء، فإذا كان الظل الذي وقفت عليه الشمس يعادل شبراً ونصف لشاخص طوله متر، فحينئذٍ يحسب من هذا الشبر والنصف أو القدم -كما يقولون-، ويُعتبر وصول الظل إلى القدم هو بداية وقت الظهر عند الزيادة، فتضع علامة على هذا القدر. وبعد زيادة الظل في جهة المشرق بقدر الشاخص الذي هو المتر، يكون وقت الظهر قد انتهى، وهذا هو معنى: إلى أن يصير فيء كل شيءٍ مثله بعد فيء الزوال. فلا بد في غالب الأحوال أن يكون للزوال ظل، ولذلك تجد في بعض التقاويمات أنَّ ظل الزوال قدم. بمعنى أن الشمس تنتصف

وقت صلاة العصر

وقت صلاة العصر قال المصنف رحمه الله: [ويليه وقت العصر]. قوله: (ويليه) أي: يقع بعد وقت الظهر وقت العصر، والولاء بمعنى أنه بعد انتهاء وقت الظهر يدخل وقت العصر. وقال بعض العلماء: إن هناك وقتاً مشتركاً بين الظهر والعصر، وهو الأمد الفاصل بين الوقتين، وظاهر السنة ما ذكره ودرج عليه المصنف رحمه الله لظاهر حديث إمامة جبريل، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث الوقتين في صحيح مسلم. والعصر في لغة العرب يُطلق بمعانٍ، فالعصر الدهر، وحملوا عليه قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ} [العصر:1]، فأقسم الله عز وجل بالزمان كله. والعصر: اليوم والليلة، ومنه قول الشاعر: ولن يلبث العصران يومٌ وليلة. وكذلك يطلق على الوقت المحدد المعروف الذي يكون في عشي النهار، أي: في آخر النهار. قالوا: سُمِّي العصر عصراً لأن الإنسان إذا عصر الشيءَ لم يبق إلا آخره، بمعنى أن النهار ولَّى ولم يبق إلا آخره، وكان بمثابة العصارة الأخيرة في الشيء، فسُمي العصر عصراً من هذا. والعصر هو الوقت الثاني كما ذكرناه، وهو أفضل الصلوات؛ لقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، فإن الله عز وجل خصها بالذكر، وعطف الخاص على العام يقتضي تشريف الخاص وتميُّزه على العام بفضيلة، كما في قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ} [القدر:4]، وقوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:98]، فذكر جبريل وميكال من باب التخصيص والتشريف، فالعرب تعطف الخاص على العام للدلالة على شرفه، فلما قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] دل على فضل صلاة العصر، وهي الصلاة الوسطى. وأما الدليل على كونها صلاةً وسطى فما ثبت في الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً أو قال: حشا الله أجوافهم وقبورهم ناراً)، وهذا في الصحيح، وهو نص على أن الصلاة الوسطى هي العصر، ووصِفت بكونها وسطى؛ لأنها تقع بين صلاة نهارية وهي الظهر، وصلاة ليلية وهي المغرب، ومما يدل على أنها هي المختصة بالفضل اختصاصها بالوعيد في قوله عليه الصلاة والسلام: (من فاتته صلاة العصرِ فكأنما وتر أهله)، بمعنى -والعياذ بالله- فقد أهله. فهذا يدل على عظيم شأنها، وأنها تتميز من بين الصلوات بهذا الفضل العظيم. قال بعض العلماء: خُصَّت العصر بهذه المزية لأنها تقع عند التجار في أوقات التجارة، فالناس الغالب أنهم في العصر يتبايعون ويشترون، فتكون ساعة غفلة، ولذلك خُصَّت بهذا الفضل. وكذلك الحال بالنسبة لأول النهار، فلما قال تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25] قال عليه الصلاة والسلام: (صلاة الأوابين حين ترمض الفِصال) قالوا: خصَّ صلاة الضحى بهذا الوقت لأنها ساعة اشتغال الناس بالتجارة، فهذه في النافلة في أول النهار، والعصر فريضةٌ في آخر النهار، وجُعِلت فضيلتها في آخر النهار لأنه وقت الكلال والتعب والسآمة. ولذلك قالوا: إنها هي الوسطى، وهي أفضل الصلوات، ووقتها من صيرورة ظل كل شيءٍ مثله على ظاهر حديث جبريل وحديث ابن عمر في الصحيح، إلى أن يصير ظل كل شيءٍ مثليه، فهذا القول الأول. والقول الثاني أن وقت العصر ينتهي إلى اصفرار الشمس، وكلا القولين في وقت الاختيار. وأما وقت الاضطرار فيستمر من ظل كل شيءٍ مثليه إلى غروب الشمس، أو من صُفرة الشمس إلى غروب الشمس. فأما القول الأول الذي يقول: وقت العصر إلى أن يصير ظل كل شيءٍ مثليه، فتحسب ظل كل شيءٍ مثله، ثم بعد ذلك تحسب صيرورته إلى الضعف، فإذا بلغ الضعف من بعد ظل الزوال فقد انتهى وقت العصر الاختياري، فلا يحل تأخير الصلاة لقادرٍ على فعلها عن هذا الوقت، وهذا على القول الأول، ثم يبدأ الوقت الاضطراري، والوقت الاضطراري للحائض والنفساء إذا طَهُرت من حيضها ونفاسها، فلو أن امرأةً طهُرت من حيضها أو نفاسها في هذا الوقت الذي هو بعد أن صار ظل كل شيءٍ مثليه فحينئذٍ يُحكم بوجوب صلاة العصر عليها إذا طهرت قبل غروب الشمس بركعة، فإن طهرت قبل غروب الشمس بثلاث ركعات وهي مسافرة، أو بخمس ركعات وهي مقيمة، طُولِبت بصلاة الظهر والعصر لما بينهما من الاشتراك بدلالة الشرع، وسنبين هذا إن شاء الله في موضعه. وأما قول من قال: إن وقت العصر إلى أن تصفر الشمس فهو أقوى الأقوال؛ وذلك لأن حديث مسلم في قوله عليه الصلاة والسلام: (وقت العصر ما لم تصفر الشمس) ثبت بالسنة المدنية؛ لأنه كان بالمدينة. وحديث إِمَامَة جبريل -وهو حديث ابن عمر - للنبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة، والقاعدة أن المتأخر ينسخ المتقدم، ولذلك لا تعارُض بين الحديثين، فيُعتبر حديث (وقت العصر ما لم تصفر الشمس) نصاً في أن وقتها ينتهي عند اصفرار الشمس، والشمس إذا قربت من المغيب ذهب ضياؤها واصفرت، ثم بعد ذلك يبدأ عند الاصفرار وقت الاضطرار كما ذكرنا، ولا يجوز التأخير إليه إلا لمعذور. وإذا غابت الشمس انقطع وقت الاختيار ووقت الاضطرار. قوله: [إلى مصير الفيء مثليه بعد فيء الزوال]. هذا كما قلنا أحد قولي العلماء، والصحيح القول الثاني أن وقتها ينتهي عند اصفرار الشمس. وأما أول وقت العصر فعند الحنفية أوله إذا صار ظل كل شيءٍ مثليه، وقد بيّنا أن الصحيح أنه إذا صار ظل كل شيءٍ مثله، والدليل من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يبتدئ وقت العصر إذا صار ظل كل شيءٍ مثله، فالأحاديث الصحيحة التي من تأمَّلها نظر إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقع العصر عند صيرورة ظل كل شيءٍ مثله. فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي المنهال حيث حدث يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية)، ومعنى ذلك أنه كان يوقعها وقد صار ظل كل شيءٍ مثله، ولا يتأتى أن يُصلي بهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن صار ظل كل شيءٍ مثليه، ثم يرجع الرجل إلى رحله والشمس حية، فهذا معروف، وغالباً من يعرف وقت المدينة يرى أن هذا بعيد، والغالب أنه صلَّى عند صيرورة ظل كل شيءٍ مثله، وانتهى وقت صلاته على ظاهر السنة ما لم تصفَر الشمس، واصفرارها -كما قلنا-: انطفاء نورها، بمعنى أنك تستطيع أن تنظر فيها، فإذا بها تصبح صفراء فتقوى على النظر إليها، ولكنها إذا كانت قريبة من الزوال يكون من الصعوبة أن تنظر إليها. قوله: [والضرورة إلى غروبها]. أي: وقت الضرورة، إلى غروبها، فإن قال قائل: ما الدليل على تقسيم الضرورة والاختيار؟ قلنا: أما دليلنا على الوقت المختار فقوله عليه الصلاة والسلام: (وقت العصر ما لم تصفر الشمس). وأما الدليل على وقت الاضطرار الذي لا يجوز إلا لمعذور، فقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من أدرك ركعةً قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)، فدل هذا على أن من صلَّى في هذا الوقت، فقد أدرك العصر. وفي الحديث الآخر: (وقت العصر ما لم يغب الشفق)، فعلمنا أن هناك وقت اختيار وهناك وقت اضطرار، وأن وقت الاختيار ينتهي عند انطفاء الشمس وصيرورتها إلى الصفرة، ووقت الاضطرار من الصفرة إلى غروب الشمس. قوله: [ويسن تعجيلها] أي الأفضل والأكمل والأعظم أجر التعجيل بالعصر، لظاهر الحديث الذي ذكرناه في الظهر.

وقت صلاة المغرب

وقت صلاة المغرب قال المصنف رحمه الله: [ويليه وقت المغرب إلى مغيب الحمرة]. أي: ويلي وقت العصر المغرب، والمغرب هي الصلاة الثالثة، وتكون بعد غروب الشمس؛ لما ثبت في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه أنه لما ذكر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم المكتوبة قال: (والمغرب إذا وجبت)، ومعنى: (وجبت): سقط قرص الشمس وغاب، فإن العرب تقول: وجب الشيء إذا سقط، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36]، أي: سقطت الإبل واستقرت على الأرض. فقول جابر: (والمغرب إذا وجبت) أي: كان عليه الصلاة والسلام يصلي المغرب إذا وجبت الشمس، بمعنى غابت وذهب ضياؤها. وقوله: [إلى مغيب الحمرة] أجمع العلماء على أن وقت المغرب يبتدئ عند غروب الشمس، فهذا أول الوقت، إلا خلافاً لبعض أهل الأهواء الذين لا يُعتد بخلافهم الذين يقولون: إن المغرب يكون عند اشتباك النجوم، وكان قولاً لبعض السلف المتقدمين، ولكنه قولٌ لا يُعتد به؛ لمخالفته للسنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرد Q هل المغرب له وقت واحد أو وقتان؟ قال بعض العلماء: المغرب وقتها بقدر ما تفعل، واستدلوا بحديث متكلَّمٍ على سنده. والقول الثاني أن المغرب لها وقتان، بمعنى أنه يبتدئ وقتها بعد غروب الشمس، وينتهي في وقتٍ غيره. فالأولون يقولون: المغرب لها وقتٌ واحد وهو قدر ما تؤديها بعد غروب الشمس، فلا يجوز التأخير فيها، وهذا أضيق المذاهب كما هو موجود في مذهب المالكية والشافعية. والقول الثاني وهو الصحيح أن للمغرب وقتين: الوقت الأول لبدايتها، والثاني لنهايتها، فأما بدايتها فبعد الغروب، وأما نهاية وقتها فيكون عند مغيب الشفق، فإذا غاب الشفق انتهى وقت المغرب، والشفق شفقان: شفقٌ أحمر وشفقٌ أبيض، فأجمع العلماء على أن الشفق إذا غاب انتهى وقت المغرب، ولكنهم اختلفوا في حد هذا الشفق. فقال بعض العلماء: العبرة بالشفق الأحمر، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (وقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق)، فنص عليه الصلاة والسلام على أن وقت المغرب ينتهي عند مغيب الشفق، وسكت عليه الصلاة والسلام، فلم يقل شفقاً أحمر ولا شفقاً أبيض، فإذا غابت الشمس يأتي الشفق الأحمر وينتشر من جهة المغرب، فينتحي ناحية الشمس اليمنى وناحيتها اليسرى ويمتد في الأفق، وهذا يختلف باختلاف أزمنة الصيف والشتاء. وهذه الحمرة تستمر قرابة ساعة زمانية، وقل أن تزيد على ساعة. وبعد هذه الحمرة يأتي بياض في الأفق ليس بليلٍ ولا بنهار، وهذا البياض قدره ثلاث درجات فلكية، وكل درجة لها أربع دقائق، أي: اثنتا عشر دقيقة إلى ربع ساعة، فهذه الاثنتا عشرة دقيقة هي محل الخلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، فإذا قدَّرت بعد غروب الشمس ساعةً كاملة فيغيب فيها الشفق غالباً. وبعد هذه الساعة الكاملة يبدأ الخلاف بين العلماء: هل انتهى وقت المغرب أو لم ينته؟ فمذهب بعض العلماء أنه ينتهي وقت المغرب بمجرد مغيب الشفق الأحمر، وهو أصح أقوال العلماء، والدليل على ذلك أن الشفق إذا أطلق فالمراد به الشفق الأحمر. وأيضاً فإنه إذا أُطلق فالعبرة في الاسم بمبتدئه؛ لأنه أقل ما يصدق عليه الوصف، ولذلك يعتبر مبتدؤه احتياطاً لأمر الصلاة، وتبقى قد ربع ساعة كما قلنا لا يجوز تأخير المغرب إليها. وبناءً على ذلك إذا غاب الشفق الأحمر يبدأ البياض الذي تدخل به ظلمة الليل، أو ما يسمى في لغة العرب (العتمة)، وسميت بذلك لأن العرب يُعتِمون بالإبل، والسبب في ذلك أنهم كانوا يأتون بالإبل من الرعي، فمن كرمهم وجودهم لا يبادرون الإبل بالحلب خوف الضيف أن يأتي، ويتأخرون إلى قدر العتمة، فترجع إلى ديارهم ومنازلهم وإلى مراحها عند الغروب، فإذا غربت الشمس تركوها، أو تأتي بعد الغروب قليلاً فيتركونها، وإن كان ألذ وأطيب ما يكون عندهم أن يحتلبوها ساعة رجوعها، ولكنهم يؤخرونها خوف الضيف، فيتأخرون إلى (العتمة)، فلذلك يقولون لها العتمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى: (لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، ألا إنها العشاء وهم يعتمون بالإبل)، فمعنى (اعتموا بالإبل) أي: أدخلوها إلى العتمة، بمعنى أخَّروا حلبها إلى عتمة الليل، وهي الظلمة التي تكون بعد الشفق الأبيض. قوله: [ويسن تعجيلها]. أي: ويسن تعجيل المغرب، ويكون التعجيل نسبياً، فيترك قدر ما يُصلَّى ركعتين خلافاً للحنفية والمالكية رحمة الله عليهم، فتؤخر قدر صلاة ركعتين ثم يقيم، وهو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في حديث مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب لمن شاء). وفي حديث أنس في الصحيح قال: (فلقد رأيت كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري -أي: يجعلونها سترة- حتى إن الرجل لو دخل ظن أن الصلاة قد أقيمت). فدل هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك قدراً بين الأذان والإقامة، خلافاً لمن قال من العلماء: إنه يؤذن ويقيم مباشرة، فهذا خلاف السنة، وليس المراد بالتعجيل هذا. فالأفضل في المساجد أن يُترك قدر ما تصلى به السنة، وهي ليست براتبة ولكنها مستحبة لمكان الندب إليها بقول النبي صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله تعالى: [إلا ليلة جمعٍ لمن قصدها محرماً]. ليلة جمع المراد بها: مزدلفة، وسميت جمعاً لاجتماع الناس فيها، والمراد بهذا ليلة النحر للحاج، فإن الحاج إذا دَفَع من عرفات لا يصلي المغرب في عرفات، وإن كان دَفْعُه بعد غروب الشمس، فاحتاط المصنف، والدليل على ذلك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولو صلَّى الحاج بعد غروب الشمس بعرفة صحت صلاته ولكنها خلاف السنة، والأفضل أن يؤخر صلاة المغرب ليلة النحر إلى وصوله إلى مزدلفة، ولا يصلي حتى في الطريق، بل قال بعض العلماء: حتى ولو خرج وقت المغرب، فقد اشترك المغرب والعشاء اشتراك جمع، فيؤخرها ولو وصل قرب الفجر؛ لأنه يرى أن وقت الاضطرار يستمر إلى الفجر. واحتج الإمام أبو حنيفة على هذا القول -مع أنه يُضيق في التمسك بظاهر السنة- فإن أسامة لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: الصلاة! قال عليه الصلاة والسلام: (الصلاة أمامك) قال الإمام أبو حنيفة: قوله: (الصلاة أمامك) تحديدٌ من النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى: ألاَّ تصلي إلا أمامك، يعني جَمْعَاً، ولذلك قال: لا تُصلَّى إلا في جمع، ولو وصلها بعد نصف الليل، وهذا من شدة تمسكه رحمة الله عليه بالسنة، وفي هذا رد على من يقول: إن الإمام أبا حنيفة يرد السنة ولا يقبلها، ولا يجوز اتهام هذا الإمام الجليل والعلم الفاضل من أئمة السلف رحمة الله عليه، بل هو غيورٌ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، وإنما كان يخالف الأحاديث بسبب عدم علمه بها، ولكثرة الوضع بالبلد الذي كان بها -أي: العراق-، فقد كان الوضع والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم منتشراً في زمانه، فكان يحتاط في الأحاديث، ولذلك قلَّت عنده السنن. فالمقصود أن الحديث يدل على أن السنة للحاج أن يؤخِّر المغرب إلى بلوغه مزدلفة، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكن هنا مسألة وهي أن المعروف في زمان النبي صلى الله عليه وسلم أنك لو ركبت الدابة أو البعير كما فعل عليه الصلاة والسلام، ودَفَعْت من عرفات إلى مزدلفة، فإنك ستقطع قرابة الساعة أو تزيد قليلاً، ومعنى ذلك دخول وقت العشاء، فقالوا: إن جمعه وقع جمع تأخير. فلو أن إنساناً بادر كما هو موجود الآن في السيارات، ودفع أول ما دفع الناس، فوصل في وقت المغرب، فهل يصليها في أول الوقت أو يتأخر؟ والذي يظهر أنه يصليها وقت بلوغه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علَّق ذلك بالمكان لا بالزمان.

وقت صلاة العشاء

وقت صلاة العشاء قال المصنف رحمه الله: [ويليه وقت العشاء]. أي يلي وقت المغرب وقت العشاء، ووقت العشاء بعد مغيب الشفق، واختلف العلماء في آخره. قال رحمه الله تعالى: [إلى الفجر الثاني]. وقت العشاء وقتان: الوقت الأول ينتهي عند منتصف الليل؛ لقوله تعالى: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:78]، وهو منتصفه، والمراد الإشارة إلى اختياره. وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام تأخير الصلاة إلى نصف الليل، كما في رواية. وقال بعض العلماء: ينتهي وقت العشاء عند الثلث. والأقوى في دلالة الكتاب والسنة ما ورد من كونه منتهياً عند منتصف الليل، أعني الاختياري، ثم يبقى الاضطراري، فإنه ينتهي بطلوع الفجر الصادق. قوله: [وهو البياض المعترض]. الفجر فجران: الفجر الكاذب، وهو الذي يكون كذنب السرحان، بياضٌ طويلٌ في أعلى الأفق، ولا يعترض، أي: لا ينتشر. قال عليه الصلاة والسلام: (الفجر أن يقول هكذا)، وقال: (ولا يهيدنكم الساطع المصَعَّد)، (ولكن الفجر أن يقول هكذا)، بمعنى: لا يروِّعكم، ولا يمنعكم من الأكل والشرب وجود ضياء الساطع المصَعَّد -الفجر الكاذب-، والفجر الكاذب يكون في السدس الأخير من الليل، وسرعان ما يتلاشى هذا الضياء، بمعنى أنه لا يثبت الضياء فيه. وأما الفجر الصادق فإنه ينتشر فيه الضياء، ولا يزال الإنسان يدخل في الوضوح والإصباح حتى تطلع الشمس، والمراد بهذا أن وقت الفجر المعتبر يكون بطلوع الفجر الصادق، فإذا طلع الفجر الصادق انتهى وقت العشاء الاضطراري. قال رحمه الله تعالى: [وتأخيرها إلى ثلث الليل أفضل إن سَهُل]. هذا لما ثبت في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه قال: (أعتم النبي صلى الله عليه وسلم بالعِشاء فخرج عمر فقال: الصلاة يا رسول الله، رقد النساء والصبيان. فخرج ورأسه يقطر يقول: لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة)، فدل على فضل تأخير العشاء. والسنة التفصيل، فإذا كان المسجد مسجد جماعة فإنه يُسنُّ للإمام أن ينظر إلى حال المأمومين، فإن كان المأمومون مجتمعين وكثيرين، فحينئذٍ يقيم الصلاة ويُبكر، وإن كانوا متأخرين يؤخر في العشاء إصابةً للسنة. والدليل على هذا التفصيل ما ثبت في الصحيحين من حديث جابر أنه قال: (والعشاء أحياناً وأحياناً، فإذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطأوا أخر)، فدل على أن أمر مساجد الجماعة يُنظَر فيه إلى حال الناس. وأما بالنسبة للمنفرد والمرأة والرجل المعذور فإن الأفضل له أن يؤخِّر العِشاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي)، فدل هذا على فضل تأخير العشاء. وقال العلماء: السبب في ذلك أنه لا يزال في صلاةٍ ما انتظر الصلاة، ولأن الناس بعد العشاء يضطجعون، خاصة في القديم، والغالب فيهم أنهم بعد العشاء يرتاحون، فكون الإنسان لا يبادر إلى راحته ولا إلى نومه مع أنه قد تعب النهار، وينتظر تأخيرها أبلغ في طاعته لله، حتى يأتي عليه الوقت المتأخر للعشاء، وقل أن تجد أحداً يصلي معه، فيصيب فضلاً لا يصيبه غيره، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها)، (لم يصلها أحد ممن كان قبلكم)، فدل هذا على فضل التأخير من هذا الوجه؛ لأن الناس تغفل وتنام لمكان المشقة وعناء النهار، فلذلك فُضِّل تأخيرها من هذا الوجه، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النوم قبلها، لمكان تعب الناس، ولما فيه من غالب عنائهم بتحصيل مصالحهم في النهار. وأما كيف يعرف المكلف نصف الليل فإنه يحسب من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق، ثم يقسم ذلك على اثنين، ثم يضيف النصف الذي خرج من هذه القسمة إلى وقت الغروب، فلو كان غروب الشمس الساعة السادسة، وأذان الفجر الصادق الساعة الخامسة، فمعنى ذلك أن الليل يستمر من الساعة السادسة إلى الخامسة بمقدار إحدى عشرة ساعة، ونصفها خمس ساعات ونصف، فيضيفها إلى الساعة السادسة التي هي وقت الغروب، فتصبح الساعة الحادية عشرة والنصف هي منتصف الليل. وبناءً على ذلك لا بد أن يعلم ساعة الغروب وساعة طلوع الفجر الصادق، ثم يفعل ما ذكرنا. وقال بعض العلماء: إنه يَقْسِم ما بين طلوع الشمس وغروبها. وهذا مرجوح.

وقت صلاة الفجر

وقت صلاة الفجر قال المصنف رحمه الله: [ويليه وقت الفجر إلى طلوع الشمس]. أي: يلي وقت العشاء الفجرُ، وسُمي فجراً لانفجارِ الضوء فيه وانتشاره، وهذه الصلاة هي الصلاة الخامسة، وقد أثنى الله عز وجل عليها، ووصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها أثقل صلاة على المنافقين؛ لأن الإنسان يكون في نومه، ولا يقوم إلا بوازعٍ من الإيمان وخوفٍ من الله عز وجل، ولذلك أثنى الله على هذه الصلاة وخصها بالذكر وقال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]. قال بعض العلماء: {قُرْآنَ الْفَجْرِ} أي: صلاة الفجر، وهذا قول جمعٍ من المفسرين، وقوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قالوا: يستمر نزول الله جل وعلا في الثلث الأخير من الليل إلى أن تنتهي صلاة الفجر، ولذلك قالوا: مشهوداً بالخير بهذا الفضل العظيم، فلا تزال ساعة الإجابة مرجوة لقوله عز وجل: (هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟)، فدل على فضل هذه الصلاة من هذا الوجه، وقيل: (كَانَ مَشْهُودًا)؛ لأنه تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكةٌ بالنهار)، فملائكة الليل من صلاة العصر إلى صلاة الفجر، وملائكة النهار من صلاة الفجر إلى صلاة العصر. وإذا نظرت فقلَّ أن تجد وقت العصر يفارق وقت الفجر، فتجدهما متقاربين كأنهما النصف، فتجد بين العصر وبين الفجر توافقاً غالباً، ويكون الفرق بينهما أحياناً إلى نصف ساعة، وأحياناً إلى ساعة أو ساعتين، لكن الغالب أن يكون هناك توافق بين العصر وبين الفجر؛ لأنه في بعض الأحيان يُؤخَّر العصر عن وقته. فالمقصود أن هذه الصلاة مفضَّلة من هذا الوجه، وقال بعض السلف: إنها هي الصلاة الوسطى، والصحيح أن الوسطى العصر كما ذكرنا، ولكن لهذه الصلاة فضل، فقد ثبت في الحديث الصحيح أنه: (من صلى العشاء في جماعةٍ فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعةٍ فكأنما قام الليل كله)، وأن (من صلى هذه الصلاة حيث ينادى لها مع الجماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي). ثم قال عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيح-: (فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم)، أي: لا تتعرض لمسلم، فإذا تعرضت لإنسانٍ من أهل الفجر بأذية، فإنه في ذمة الله جل وعلا، ومن آذاه وتعرض لذمَّة الله أوشك أن يكبه الله على وجهه في النار -نسأل الله السلامة والعافية-، ولذلك خُصَّت هذه الصلاة بهذه الفضائل. وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الفجر يجب أداؤها بعد تبيُّن الفجر الصادق، وأنها إذا وقعت قبل الفجر الصادق، فليست بصحيحةٍ ولا معتبرة، وعلى المكلف قضاؤها. وأما بالنسبة لانتهاء وقت الفجر فإنه ينتهي بطلوع الشمس، وقال حبر الأمة وترجمان القرآن: إنه ينتهي وقتها بصلاة الظهر، وهو قولٌ شاذٌ قال به بعض الفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة، ويُحكى عن ابن القاسم من أصحاب الإمام مالك رحمة الله على الجميع، والصحيح أنه إذا طلعت الشمس فقد انتهى وقت الفجر، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أدرك ركعةً قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح)، ومفهومه أن من لم يدرك الركعة قبل طلوع الشمس، فصلاته صلاة قضاءٍ وليست بصلاة أداء. ولذلك ذهب جماهير السلف والخلف إلى أنه لا يجوز الفجر بعد طلوع الشمس، وإذا طلعت الشمس فقد انتهى وقتها على ما ذكرناه. قال رحمه الله تعالى: [وتعجيلها أفضل] أي: السنة تعجيل الفجر. وللعلماء في هذه المسألة قولان: قال بعض السلف رحمهم الله: السنة أن تبتدئ الفجر في أول وقتها، وهو الذي اصطلح العلماء على تسميته بوقت الغَلَس، وذلك لما ثبت من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة أنه كان يصليها بغَلَس. فقد قال جابر رضي الله عنه كما في الصحيح: (والصبح كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس). والغَلَس يكون في أول الفجر الصادق؛ لأنه مع تبيُّن الضوء في أعلى السماء، فإنه لا تزال ظلمة الليل بين الناس، أعني على البسيطة والأرض، فلا تزال هذه الظلمة تنكشف بحسب قوة الضياء، فالسنة في فعل هذه الصلاة أن تقع عند الغلس أو في الغلس. وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله -مخالفاً للجمهور- إلى أن السنة والأفضل في الفجر أن يُسْفر بها، وذلك لما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر)، والصحيح مذهب الجمهور أنّ الأفضل في صلاة الفجر أن تؤديها في أول وقتها، وذلك لما ثبت من حديث جابر في الصحيحين، ولما ثبت أيضاً في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس). ولا يعارض هذا قول أبي برزة: (وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه)، فهذا بالنسبة للقرب، فمعناه أن النبي صلى الله عليه وسلم يُوقِعها في الغلس، ولكن إذا سلّم من الصلاة عرف الإنسان جليسه، وذلك لمكان القرب وتأثير الضياء، أعني دخول الضياء على البسيطة فأقوى الأقوال أن الأفضل إيقاعها في أول الوقت، وأما دليل الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه: (أسفروا بالفجر). فللعلماء في هذا الحديث أوجه، فمنهم من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بقوله: (أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر)، التبيُّن والتثبت حتى يكون الإنسان موقعاً الصلاة في وقتها؛ لأن الفجر مشكلته أنه يعترض خاصةً في الأزمنة الماضية لم تكن فيها الساعات موجودة، وكان الناس يجدون مشقةً وعناء، خاصةً في الليالي البيض، فإن الليالي البيض يكون -كما هو معلوم- القمر فيها شديد الضياء، ولذلك يلتبس ضياء السماء مع ضياء الفجر، وتجد الناس ربما صلوا الفجر ثلاث مرات، أو أربع، يظنون أن الصبح قد طلع، والواقع أنه لم يطلع، قالوا: فقصَد النبي صلى الله عليه وسلم التبين والتحري. وقال بعض العلماء -والنفس تطمئن إليه-: إن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بالإسفار بالفجر أن تبتدئ بها بغلس وتطيل القراءة فيها، حتى إذا سلَّمت أصبت الإسفار، وهذا في الحقيقة هو الأقوى لأمرين: الأمر الأول: أن فيه معنىً يؤكد زيادة الأجر، ووجه ذلك أنك إذا أطلت القراءة، فإنه يوجد موجب للحكم بزيادة الأجر. الأمر الثاني: تأكد هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان يقرأُ فيها من الستين إلى المائة آية -صلوات الله وسلامه عليه-، مع ما فيه من الترتيل والتحبير في قراءته صلوات الله وسلامه عليه، فإذا كان يُوقِع الصلاة في غَلَس، ويخرج منها حين يتبين الرجل جليسه، فلا شك أن هذا نوعٌ من الإسفار، فقُصِد من الإسفار أن الإنسان يطيل القراءة، بشرط ألا يشق على من وراءه، فهذا هو أعدل الأقوال، فالحديث لا يعارض الأصل، ونضيف إلى ذلك أن المعهود في الشريعة أن مواقيت الصلاة الأفضل فيها الإيقاع في أول الوقت، كما جاء في حديث ابن مسعود: أنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله، قال: (الصلاة على وقتها)، وفي رواية ابن حبان وغيره: (على أول وقتها)، ولذلك يقوى القول بأن المراد من قوله عليه الصلاة والسلام: (أسفروا بالفجر) التعجيل، وليس المراد به تأخر وقت الصبح إلى الإسفار.

باب شروط الصلاة [2]

شرح زاد المستقنع - باب شروط الصلاة [2] من شروط الصلاة: دخول الوقت، ومن المسائل المتعلقة بهذا الشرط: كيفية إدراك الصلاة في وقتها، وحكم أداء الصلاة قبل دخول الوقت، وما هو المعتبر في دخول الوقت، وحكم إذا أدرك المكلف وقت الصلاة ثم زال تكليفه ثم كلف وغيرها من المسائل.

كيفية إدراك الصلاة في وقتها

كيفية إدراك الصلاة في وقتها قال المصنف رحمه الله: [وتدرك الصلاة بتكبيرة الإحرام في وقتها] كأن المصنف يقول: إن المكلف إذا علم أوقات الصلاة، فعلمتَ وقت الفجر، ووقت الظهر، ووقت العصر والمغرب والعشاء، فحينئذٍ ينبغي أن تعلم أنك إن أوقعت الصلاة في هذه المواقيت التي وقَّتها الشرع وحددها لهذه الصلوات فإن صلاتك معتبرةٌ مجزئه. واصطلح العلماء رحمهم الله على أنك إذا أوقعت الصلاة في وقتها أنها صلاةٌ مؤدّاة، بمعنى أنها قد أُدِّيت في الوقت المعتبر، ثم إذا علمت أن الصلاة ينتهي وقتها بذهاب ذلك الزمن المحدد الذي سبقت الإشارة إليه فاعلم أنك إن خرجت عن هذا الوقت أنك قاضٍ ولست بمؤدٍ، ولو كنت معذوراً. فلو أن إنساناً نام عن صلاة الصبح حتى طلُعت الشمس فإنه بالإجماع إذا أراد أن يصلي عليه أن ينوي القضاء ولا ينوي الأداء؛ لأن الوقت الذي يُوقِع الصلاة فيه -بعد طلوع الشمس مثلاً- إنما هو وقت قضاءٍ وليس بوقت أداء. فثبت عندنا أن للصلاة وقتاً، وأنك إن أوقعت الصلاة خارج الوقت تكون قاضياً، وإن أوقعتها داخل الوقت تكون مؤدياً. لكن لو أن إنساناً أوقع جزءاً من الصلاة في الوقت المعتبر، وجزءاً منها في الوقت الخارج عن ذلك الوقت المحدد، فهل يوصف الكل بالقضاء؟ أو يوصف الكل بالأداء؟ أو يوصف بحسب الأَجزاء؟ فهذا يتردد من جهة النظر. و A قال رحمه الله: (وتدرك الصلاة بتكبيرة الإحرام في وقتها)، فقوله: (وتدرك الصلاة) أي: أداؤك لها (بتكبيرة الإحرام في وقتها) هذا أحد أقوال العلماء، وهو أن من كبر تكبيرة الإحرام قبل أن ينتهي وقت الصلاة فإنه مؤدٍ لها لا قاضٍ. مثال ذلك: لو أن إنساناً كبر تكبيرة الإحرام قبل أن تغرب الشمس، فإنه يعتبر مؤدياً لصلاة العصر لا قاضياً لها، ولو أنه كبر تكبيرة الإحرام قبل أن يغيب الشفق الأحمر فإنه يعتبر مؤدياً لصلاة المغرب لا قاضياً لها، وقس على هذا. فالعبرة في إدراك الصلوات الخمس على هذا القول إدراك تكبيرة الإحرام قبل انتهاء الأمد والزمان. وذهب طائفةٌ من العلماء وهو مذهب الجمهور إلى أن إدراك الصلاة إنما يكون بالركعة الواحدة فأكثر، فإن ركعت قبل أن يخرج وقت الفريضة فأنت مؤدٍ ولست بقاضٍ. مثال ذلك: لو أن إنساناً كبَّر لصلاة العصر، ثم قرأ، ثم ركع ووقع تكبيره للركوع قبل أن تغرب الشمس، فلما ركع ورفع من ركوعه غابت الشمس، أو لما ركع وقبل أن يرفع من الركوع غابت الشمس، فكل ذلك يُوصَف فيه بكونه مؤدياً للصلاة مدركاً لها، وهذا أصح القولين، فالعبرة في إدراك الفرائض إنما هو بالركعة الكاملة، فمن أدرك وقتاً يستطيع في مثله أن يؤدي ركعةً من الصلاة يُعتبر مؤدياً لها، لا قاضياً لها. ودليله ما ثبت في صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر). ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم علّق إدراك الصلاتين -أعني الفجر والعصر- على كونه أوقع الركعة قبل أن ينتهي أمد الصلاة المعتبر. فإذاً أصح الأقوال أن العبرة بإدراك الركوع؛ لأن الركعة تدرك بالركوع، وهذا القول لا شك أنه أعدل لدلالة السنة عليه. ويتفرَّع على هذا فوائد: فلو قلت: إن العبرة بتكبيرة الإحرام، فلو أن المرأة أدركت لحظة في مثلها يمكن أن تكبر تكبيرة الإحرام، فطهُرت من حيضها، أو طهُرت من نفاسها وجب عليها قضاء العصر. وعلى القول الثاني: إن كانت قد أدركت هذا القدر الذي لا يمكن إدراك الركعة فيه فإنه لا يجب عليها قضاء صلاة العصر. فبناءً على هذا تنظر إلى قدر الزمان، فتكبيرة الإحرام لا تأخذ وقتاً كبيراً، فمن أدرك هذه اللحظات -عند أصحاب القول الأول- يجب عليه قضاء الصلاة، فلو أن مجنوناً أفاق من جنونه قبل أن تطلُع الشمس بمقدار تكبيرة الإحرام، نقول: يلزمك أن تقضي صلاة الفجر، ولو أن حائضاً أو نفساء طهُرت نقول: يلزمكِ قضاء هذه الصلاة؛ لأنها قد طهرت في أمدٍ يمكنها أن تكبر فيه تكبيرة الإحرام، والصلاة مدركة بهذا الأمر. أما لو قلتَ: العبرة بالركعة فقَدِّر للركعة زماناً، فلو قلنا إن الركعة أقل ما يجزئ فيها أن يقرأ الفاتحة، ثم يركع، فيمكنه ذلك في حدود الدقيقتين أو ثلاث دقائق، فحينئذٍ تقول: هذا الأمد -أعني الثلاث الدقائق- إذا أدركه الإنسان قبل غروب الشمس، أو قبل طلوع الشمس فإني أحكُم بكونه مدركاً للفريضة على التفصيل الذي ذكرناه، ولكن لو أدرك دقيقةً فإنه على هذا القول لا يجب عليه القضاء، ولو أوقع الصلاة فيها فإنه قاضٍ وليس بمؤدٍ.

حكم أداء الصلاة قبل دخول الوقت

حكم أداء الصلاة قبل دخول الوقت قال رحمه الله: [ولا يصلي قبل غلبة ظنه بدخول وقتها] بعد أن بين لك رحمه الله أن للصلاة بدايةً، وللصلاة نهاية شرع في بيان الأحكام المترتبة على البداية والنهاية، فبيَّن لك أحكام النهاية، وشرع الآن في بيان أحكام البداية. فإذا علمت هذه المواقيت فإن أحكام بدايتها أنه لا يجوز للمكلف أن يُوقِع أي صلاةٍ قبل وقتها، إلا ما استثناه الشرع، كجمع التقديم في صلاة العصر مع الظهر، وجمع التقديم في صلاة العشاء مع المغرب، فإنك إذا نظرت إلى إيقاع صلاة العصر فقد وقعت في جمع التقديم قبل وقتها، وكذلك أيضاً إذا نظرت في صورة الجمع إلى صلاة العشاء مع المغرب فإنها قد وقعت صلاة العشاء قبل وقتها، لكن باستثناءٍ من الشرع، وبأصلٍ ودليلٍ دل على ذلك، وأنه لا حرج على المكلف في فعله. أما لو أن إنساناً ليس عنده عذر الجمع، فجاء فجمع أو أوقع الصلاة قبل وقتها لم تصح صلاته، مثال ذلك: لو أن إنساناً توضأ لصلاة الظهر، ثم صلى الظهر قبل أن تزول الشمس، فإنه بالإجماع تبطل صلاته ولا تصح منه ويُلزَم بالقضاء؛ لأن الله عز وجل أمره بالصلاة بعد زوال الشمس، فحدد الأمر بها، ووقَّت الزمان للإلزام بها بزوال الشمس، فالصلاة إذا أوقعها قبل زوال الشمس فهي صلاةٌ غير الصلاة التي أمره الله بها. فإذا زالت الشمس، فبعد انتهائه من الصلاة توجه عليه خطابٌ جديد يطالبه بفعل الصلاة؛ لأنه أثناء فعله لم يكن هناك خطابٌ شرعي بالفعل. ولذلك يقول العلماء: من أوقع الصلاة قبل وقتها غير معذور فإنه تلزمه إعادة تلك الصلاة، وصلاته السابقة صلاة نفل، سواءٌ أكان ذلك على سبيل الخطأ منه، أم كان على سبيل التعمد والعلم. فقوله: (ولا يصلي قبل غلبة ظنه)، فيه: أولاً: لا تجوز الصلاة قبل وقتها، وبيّنا هذا ودليله. ثانياً: يستفاد من هذه العبارة أنه إذا غلب على ظنك أن وقت الصلاة قد دخل جاز لك أن تصلي، فمن باب أولى إذا تيقَّنْتَ، وقد تقدَّم معنا أن مراتب العلم تنقسم إلى أربع مراتب: الوهم، والشك، والظن أو ما يُعبِّر عنه العلماء بغالب الظن، واليقين. فالمرتبة الأولى: الوهم، وهو أقل العلم وأضعفه، وتقديره من (1%) إلى (49%)، فما كان على هذه الأعداد يعتبر وهماً. والمرتبة الثانية: الشك، وتكون (50%)، فبعد الوهم الشك، فالوهم لا يُكلَّف به، أي: ما يرد بالظنون الفاسدة، وقد قرَّر ذلك الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه النفيس: قواعد الأحكام، فقال: إن الشريعة لا تعتبر الظنون الفاسدة. والمراد بالظنون الفاسدة: الضعيفة المرجوحة؛ لأن وجودها وعدمها على حدٍ سواء، ثم بعد ذلك الشك، وهو أن يستوي عندك الأمران، فأنت لا تدري أهو موجود أو غير موجود؟ تقول: يحتمل أن يكون موجوداً، ويحتمل أن يكون غير موجود، وكلا الاحتمالين على مرتبة واحدة، فهذا تسميه شكاً. والمرتبة الثالثة: غالب الظن، أو الظن الراجح، وهذا يكون من (51%) إلى (99%)، بمعنى أن عندك احتمالين أحدهما أقوى من الآخر، فحينئذٍ تقول: أغلب ظني. فإذا كان غالب ظنك أن الوقت قد دخل فإنه يجوز لك أن تصلي الصلاة وتفعلها. والمرتبة الرابعة: اليقين، وتكون (100%)، كأن تتيقن أن الشمس زالت، وتعرف زوالها بالأمارة، أو ترى الشمس قد غابت، وتعرف مغيبها بالأمارة، فإذا رأيت الشمس غابت أمام عينيك، فأنت قد جزمت، وهنا تفعل الصلاة لوجود هذا اليقين. لكن لو أن إنساناً قدَّر مغيبها، ومن عادته أن ما بين العصر والمغرب يفعل فيه أشياء، وبمجرد أن ينتهي من هذه الأشياء ينتهي الوقت، وكانت والسماء مغيمة لا يستطيع أن يرى مغيب الشمس فيها، أو يكون في مكان لا يرى فيه الشمس، لكن يعلم أن مثل هذا القدر من الزمان الذي من عادته أن يجلسه أن الشمس تغيب في مثله، فهذا ظن غالب، لا قطع. وكذلك لو جلس من طلوع الشمس إلى زوالها، كرجل كفيف البصر من عادته أن يجلس ما بين طلوع الشمس إلى زوالها، يصلي ما شاء الله له، ويقرأ من القرآن ما كتب الله له، ومن كثرة الإلف والعادة يعلم أنه إذا بلغ إلى القدر المعين أن الشمس تزول، وأن وقت الظهر يدخل، فهذا غالب ظنٍ معتبر. فهذه دلائل بالنسبة لشخص الإنسان، أو دلائل بالأمارات والعلامات يغلب بها ظن الإنسان أن وقت الصلاة قد دخل، فإذا حصَّل الإنسان غلبة الظن، أو حصَّل اليقين فحينئذٍ يتعبدُ الله ويصلي. أما لو كان الظن وهماً، أو كان شكاً، فإن الأصل عدم الصلاة. والدليل على أنه في غالب ظنه يصلي أن الشرع علَّق الأحكام على غلبة الظن، وقد قرر ذلك العلماء رحمة الله عليهم، ولذلك قالوا في القاعدة: (الغالب كالمحقق). أي: الشيء إذا غلب على ظنك، ووجِدت دلائله وأماراته التي لا تصل إلى القطع، لكنها ترفع الظنون، فإنه كأنك قد قطعت به، وقالوا في القاعدة: (النادر لا حكم له). فالحكم للغالب، فالشيء الغالب الذي يكون في الظنون أو غيرها مع الذي به يناط الحكم. وبناءً على هذا إذا غلب على ظنك أن الوقت قد دخل أو تحقق فصلِّ، لكن لو أن إنساناً قال: أنا أشك أن الشمس قد غابت، فاحتمال مغيبها واحتمال بقائها عندي بمرتبةٍ واحدة، أو قال: أتوهَّم أن الشمس قد غابت. فإنه لا يُصلي المغرب؛ لأن اليقين أن العصر باقٍ، واليقين أن النهار باقٍ، والقاعدة في الشريعة أن اليقين لا يزول بالشك، ولذلك تبقى على اليقين، والقاعدة المفرعة على القاعدة التي ذكرناها تقول: (الأصل بقاء ما كان على ما كان). فما دمت في النهار فالأصل أنك في النهار حتى تتحقق من مغيب الشمس، وما دمت أنك في المغرب ولم تتحقق من مغيب الشفق فالأصل أنك في المغرب حتى تتحقق من مغيب الشفق، فهذا بالنسبة إذا شككت واستوى عندك الاحتمالان. ولذلك قال العلماء: من شك هل طلع الفجر أو لم يطلع جاز له أن يأكل ويشرب إذا كان في الصيام. فلو أن إنساناً استيقظ من نومه، ولم يستطع أن يتبين هل طلع الفجر أو لم يطلع، فالأصل واليقين أنه في الليل، ونقول: كُل وأنت معذورٌ في أكلك، لكن لو كان مستطيعاً أن يتحرى وجب عليه التحري، للقاعدة: (القدرة على اليقين تمنع من الشك). ولا يجوز للإنسان أن يجتهد ما دام أنه بإمكانه أن يصل إلى اليقين. فهذا بالنسبة لحكم الوقت ابتداءً. فالإنسان له أربعة أحوال: إما أن يتوهم دخول الوقت، أو يشك، أو يغلب على ظنه، أو يستيقن. فإن توهم دخول الوقت أو شك لم يصلِّ، وإن غلب على ظنه أو قطع فإنه يصلي، وصلاته مجزِئة معتبرة.

المعتبر في دخول الوقت

المعتبر في دخول الوقت قال رحمه الله تعالى: [بدخول وقتها إما باجتهادٍ، أو خبر ثقةٍ متيقن] اعتبار الإنسان بدخول الوقت وقد يكون باجتهاد؛ لأن غالب الظن ينبني على الاجتهاد، وغالب الظن يكون مبنياً على الإخبار؛ لأنه ربما كذب المخبر، لكنه رحمه الله عبر بغالب الظن، وإلا فيمكن في بعض الأحوال أن تستيقن، كما لو رأيت الشمس غابت، فحينئذٍ أنت على يقين، فاختار المصنف رحمه الله حالة غلبة الظن لكي نعلم أن اليقين من باب أولى وأحرى؛ لأنه إذا حكم لك أنه في غلبة الظن تصلي فتعلم بداهةً أنه لا حاجة أن يقول لك: أو استيقنت؛ لأنه إذا غلب على ظنه فمن باب أولى إذا استيقن. فغالب الظن إما أن يكون باجتهاد أو بخبر ثقةٍ متيقِّنٍ، أو بالعلامات أو الأمارات أو الدلائل التي يتحرى الإنسان بها زوال الشمس، ويتحرى بها صيرورة ظل كل شيءٍ مثله أو مثليه، ومغيب الشمس، وكذلك أيضاً مغيب الشفق وانتصاف الليل وطلوع الفجر. فإنسانٌ يعلم دلائل الفجر الصادق من الفجر الكاذب ويستطيع أن يتحرى ويجتهد، فيعرف أن هذا الوقت هو وقت الفجر الصادق، نقول له: اجتهد، فإن غلب على ظنك أن الفجر قد طلع فصلِّ وصلاتك معتبرة. وحينئذٍ لا يخلو من أحوال: فإما أن يجتهد ويتبيَّن له صدق اجتهاده، فصلاته معتبرةٌ إجماعاً. وإما أن يجتهد ويتبيَّن له خطؤ اجتهاده، كأن يظن أن الفجر قد طلع، ثم تبيَّن أن الفجر لم يطلع، فحينئذٍ لا عبرة بالظن فالقاعدة: (لا عبرة بالظن البين خطؤه)، أي: لا عبرة بالظن الذي بان واتضح خطؤه، وبناءً على ذلك يطالب بإعادة الصلاة؛ لأن ظنه في غير موضعه، وقد توصَّل باليقين إلى خطئه فيلزمه أن يعيد. وإما ألا يتبين له هل صدق اجتهاده فأصاب الوقت، أو أن اجتهاده على خطأ، فحينئذٍ نقول: تعبَّدك الله بغلبة الظن، ولا عبرة بما وراء ذلك. والدليل على أن غالب الظن في مثل هذا يجزئ ويكفي تعبُّد الشريعة بغلبة الظن، بل إنها تحكم بسفك الدماء في حكم القاضي بالقتل بناءً على شهادة شاهدين، فإن شهد شاهدان أن فلاناً قتل فلاناً، فبالإجماع أنه يُقتص من القاتل؛ لأنه قتله عمداً وعدواناً، مع أنه يحتمل أن الشاهدين زورا أو أخطأا، ومع هذا فالغالب أنهما لم يخطئا، والغالب أنهما صادقان؛ لأننا لا نقبل شهادة إلا من الثقة العدل، فلما كان الشاهدان على ثقةٍ وعدالة حكمت الشريعة بغلبة الظن. ويُحكم به في الفروج، فتقول: فلانة امرأة فلان، ويحكم القاضي بذلك بناءً على شاهدين عدلين. وهكذا بالنسبة للأحكام الشرعية، حينما تأتي للمجتهد وتسأله عن مسألة اجتهادية فيُفتيك، فإنه يفتيك على غالب ظنه، وليس على يقينٍ وقطع إلا فيما دلَّت عليه النصوص القطعية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر). فاجتهاد القاضي على غلبة ظن، كما قال العلماء، وبناءً على هذا فهمنا أن الشريعة تنيط الأحكام على غلبة الظن، فإذا اجتهد الإنسان وغلب على ظنه أن الوقت قد دخل، ثم لم يتبين له خطأُ الاجتهاد، فاجتهاده معتبر، وعبادته مجزِئةٌ صحيحة. وقوله: [أو خبر ثقةٍ متيقِّن] أي: من غلبة الظن أن يخبرك ثقة، فخرج خبر الفاسق، فإن الفاسق أمرنا الله بالتبيُّن من خبره، كما قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، وفي قراءة: (فتثبتوا)، ولذلك أمر الله عز وجل في مثل هذا الخبر ألا نحكم به، ولكن نتبيَّن، فدلّ على أن خبره لا يُعتد به، إذ لو كان خبر الفاسق مُعتداً به لوجب الحكم به مباشرة، لكن كون الله عز وجل يأمرنا بالتثبت والأخذ من غيره والتبيُّن من صحته دَلّ على أن مثله لا يُعوَّل عليه، ولذلك قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]، وقال سبحانه وتعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282] ثم قال بعد ذلك: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]. فلو أخبرك من لا يُرضَى دينه، ولا يُرضَى خلقه، فليس خبره بمعتدٍ به. قال العلماء: لأن الفاسق كما أنه اعتدى حدود الله بفسقه، فلا يُؤمَن أن يعتدي حدود الله فيكذب عليك ويقول: دخل الوقت، وهذا موجود، فإن بعض الفُسَّاق -والعياذ بالله- عنده استهتار بالدين، فلربما أراد أن يخدع المطيع عن ربه، فقال: دخل الوقت، ثم تركه يصلي، وكل ذلك إما قصداً للسخرية والاستهزاء، وإما تهكماً واستهتاراً واستخفافاً -والعياذ بالله- بحدود الله. فمثله لا يوثق بخبره، فلا بد أن يكون ثقة، وبعد ذلك أن يكون متيقناً. والثقة على حالتين: إما أن يكون مجتهداً، أو يكون متيقناً، فإن كان الثقة متيقناً فلا إشكال، فلو قال لك: رأيت الشمس قد غابت بعيني فحينئذٍ تصلي صلاة المغرب بلا إشكال؛ لأن خبر الواحد في الديانات مقبول، وأما لو قال لك اجتهاداً: يغلب على ظنِّي أن الفجر قد طلع، فإن من أماراته كذا وكذا، وذكر لك الأمارات؛ أو: يغلب على ظني أن النهار قد انتصف، وزالت الشمس؛ لأن الأمارة كذا وكذا. فحينئذٍ لا ينفك المُخبَر عن حالتين: فإما أن تكون مجتهداً مثله، فهذا هو الذي عناه المصنف رحمه الله بمفهوم الوصف، فإن لم يتبيَّن لك الصبح، وجاءك وقال لك: قد تبين الصبح. فهل تترك الاجتهاد وتقلد؟ أو تبقى على الأصل ما دام عندك الآلة والملكة؟ قال بعض العلماء: المجتهد لا يقلِّد، ويجب عليه أن يبقى حتى يتأكد أن الصبح قد طلع. وقال بعض العلماء: المجتهد إذا تعذَّرت عليه الآلة في نفسه وجب عليه أن يعمل بقول غيره؛ لأنه ترفَّع عن مستوى من يقلد بمكان الاجتهاد، فإذا أصبح الاجتهاد فيه متعذراً أو ممتنعاً انتقل إلى حال الأمي وحال المقلِّد، فنلزمه بالعمل بخبر هذا المجتهد. والقول الأول من القوة بمكان، وهو أن المجتهد إذا تعذرت عنده الآلة، ولم يستطع أن يتحرى، فإنه يَقْوَى أن يميل إلى قول غيره، ولكن الاحتياط والأفضل أن يُعمَل بما درج عليه المصنف رحمه الله. والعامِّي الذي لا يعرف الأوقات، ولا يعرف الدلائل لو جاءه إنسانٌ مجتهد يعرف الأوقات بدلائلها وهو ثقة، فلا يَدْخُل فيما سبق، فالعامي يلزمه أن يقلد من عنده علمٌ وبصيرة قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فإذا أخبره ثقة أنه باجتهاده قد تبيَّن له أن الصبح قد طلع وجب عليه أن يعمل بقوله؛ لأنه لا آلة عنده، وهو تبعٌ لغيره، فيستوي حينئذٍ أن يكون مخبِرُه على غالب ظنه، أو على يقين. فالحاصل أن الشخص المجتهد لا يَحكُم بدخول الوقت إلا باجتهادٍ منه أو مخبر متيقِّن، أما لو أخبره بغالب الظن ففيه خلاف، وقلنا: الأحوط أن لا يعمل، وهذا على ما درج عليه المصنف. وأما إذا كان الإنسان عامياً أو غير مجتهد فحينئذٍ يعمل بقول من تيقَّن، وبقول من اجتهد ولو كان بغالب ظنه.

حكم من صلى قبل الوقت باجتهاده فأخطأ

حكم من صلى قبل الوقت باجتهاده فأخطأ قال رحمه الله تعالى: [فإن أحرم باجتهادٍ فبان قبله فنفلٌ وإلا ففرض] هذه مسألة من اجتهد وتبيَّن له الخطأ، فلو أنه أحرم بالصلاة على أن الوقت قد دخل، فظن أن المغرب قد وجب، وأن الشمس قد غابت فصلَّى، ثم في أثناء الصلاة أو بعد انتهاء الصلاة إذا بالشمس قد طلعت، فإن طلعت بعد انتهاء الصلاة فحينئذٍ لا إشكال أن الصلاة لا تُعتد فريضةً، أي: لا تقع فريضة، ويبطل الحكم بكونها فريضة والاعتداد بها، ويُلزم بفعل الفريضة بعد المغيب، ولكن تقع صلاته تلك نفلاً؛ لأنه إذا تعذَّرت نية الفرض انقلبت إلى النفل؛ لأنها عبادة، والله يقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]. ولذلك أخبر الله أنه لا يضيع الإيمان، وبالإجماع على أن المراد بقول الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، الصلاة؛ لأنهم كانوا يصلون إلى بيت المقدس، فقالوا: إخواننا قد ماتوا وقد صلوا إلى بيت المقدس، فأنزل الله عز وجل النفي الذي يدل على أنه ما كان ليضيع إيمانهم أي صلاتهم، فسمَّى الصلاة إيماناً. قالوا: إن الله عز وجل وعد بأنه لا يُضِيع صلاة المصلي، فإذا تعذر إيقاعها فريضةً وانقلبت إلى نافلة، بما دل عليه دليل الكتاب. وقال تعالى: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30]، والمصلي محسن ومطيعٌ لله عز وجل، وقد يقول قائل: ما الدليل على أن الفرائض تنقلب نوافل والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات)؟ فيقال له: الدليل على ذلك أنَّك لو حكمت، فإما أن تحكم ببطلان الصلاة، أو انقلابها نفلاً، فإن قلتَ: أحكُم بانقلابها نفلاً صح ذلك مع دليل الكتاب؛ لأنه ينبني عليه أن صلاته معتد بها، فإنه قصد القربة وقصد الطاعة والإخلاص لله عز وجل، وأوقَع الصلاة بصفاتها الشرعية، فلا وجه للإبطال، والله عز وجل لا يضيع عمل العامل، وهذا عمل، ولذلك نستثنيه من قوله صلى الله عليه وسلم: (وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، فنقول: إذا تعذر الفرض انقلب إلى كونه نفلاً من هذا الوجه.

حكم المكلف إذا أدرك وقت الصلاة

حكم المكلف إذا أدرك وقت الصلاة قال المصنف رحمه الله: [وإن أدرك مكلفٌ من وقتها قدر التحريمه، ثم زال تكليفه أو حاضت، ثم كلف وطهرت قضوها] هذا مما ينبني على معرفة آخر الوقت. وتستفيد منه أنك إن قلت: العبرة بتكبيرة الإحرام فإن المجنون إذا أفاق قبل مغيب الشمس بقدر تكبيرة الإحرام يلزمه أن يقضي العصر، ولو أفاق قبل طلوع الشمس بقدر تكبيرة الإحرام يلزمه قضاء الفجر. كذلك أيضاً لو أن صبياً احتلم، فبلغ قبل طلوع الشمس بقدر تكبيرة الإحرام يلزمه فعلُ الصبح، وكذلك أيضاً لو أنه احتلم قبل غروب الشمس فإنه يُحكم بكونه مطالباً بصلاة العصر، وهذا إذا قُلنا: إنه يعتد بتكبيرة الإحرام. أما الراجح والصحيح -وهو مذهب الجمهور- أنه يُعتد بالركعة كاملة، فإذا أدرك الركوع قبل أن تغيب الشمس، أو قبل أن تطلع الشمس حُكِم بإدراكه لوقت الصلاة، وإلا فلا. وقوله: [أو حاضت، ثم كلف وطهرت قضوها]. أي: أو حاضت المرأة، فيلزمها القضاء. قال رحمه الله تعالى: [ومن صار أهلاً لوجوبها قبل خروج وقتها لزمته]. قوله: [من صار أهلاً] يعني: من أهل التكليف بالصلاة، إذا صار أهلاً قبل أن يخرج الوقت [لزمته] أي: يلزمه أن يفعل هذه الصلاة، إذا كان قبل الخروج بقدر تكبيرة الإحرام. قوله: [وما يجمع إليها قبلها]. الكلام متصل بما بعده، أي [لزمته الصلاة]، ولزمه [ما يُجمع قبلها]، وهذا يتأتى في أربع صلوات: الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء. فإن قال قائل: قد علمتُ أن من أَدرك من آخر الوقت قدر الركعة أنه يُعتبر مدرِكاً للصلاة، لكن لو أن إنساناً أدرك قبل نهاية الوقت في الصلاة التي تُجمع مع ما قبلها بقدر فعل الأخيرة والأولى، أو قدر فعل الأخيرة وركعة من الأولى، فهل يُلزَم بفعل الصلاتين؟ أو يلزم بفعل صلاةٍ واحدة؟ و A لو أن مجنوناً أفاق، أو صبياً احتلم قبل غروب الشمس بقدر خمس ركعات، فالأربع للعصر والخامسة للظهر، فحينئذٍ إن قلتَ: إن وقت الظهر والعصر للضرورات وأهل الأعذار فيُعتبر بمثابة الوقت الواحد، وهو قضاء الصحابة ومفهوم الشرع، وأدلة الشرع تدل عليه من جهة المفاهيم، فإننا نقول: يَلزمه فعل الصلاتين. وهذا هو الصحيح، وأقوى قولي العلماء، فمن أدرك قبل غروب الشمس الصلاة الأخيرة وقدر ركعة من الصلاة التي قبلها يَلزَمه فعل الصلاتين، فيلزمه فعل الظهر والعصر إن أدرك قدر خمس ركعات قبل مغيب الشمس، ويلزمه فعل المغرب والعشاء إن أدرك قبل نصفِ الليل، أو قبل طلوع الفجر -على القولين في آخر وقت العشاء- قدر خمس ركعات. وإن كان مسافراً تقول: إن أدرك ثلاث ركعات؛ لأنه يقصرُ الصلاة، فركعتان للأخيرة وركعة للأولى. وهذا كما قلنا تدل عليه أدلة الشرع، فالصلاتان بمثابة الصلاة الواحدة لأهل الأعذار، فيُلزم بفعلهما معاً، سواءٌ أكان ذلك في الظهر مع العصر، أم المغرب مع العشاء.

باب شروط الصلاة [3]

شرح زاد المستقنع - باب شروط الصلاة [3] من فاتته صلاة أو صلوات فلم يدرك وقتها وجب عليه قضاؤها مرتبة، إلا إن نسي فيسقط عنه الترتيب، أو إذا خشي خروج وقت الصلاة الحاضرة، فيصليها ثم يقضي الفائت بعدها.

أحكام وأقوال العلماء في قضاء الفوائت

أحكام وأقوال العلماء في قضاء الفوائت بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويجب فوراً قضاء الفوائت مرتباً]. قوله: [يجب فوراً]: بمعنى أن تُبادر مباشرةً. وقوله: (قضاء الفوائت) معناه أنه قد خرج الوقت، فإذا خرج وقت الصلاة لمعذورٍ ثم زال عذره، كأن يكون نائماً فأفاق بعد طلوع الشمس يجب عليه فوراً أن يصلي الصبح، وهذه المسألة للعلماء فيها قولان: فقالت طائفةٌ من العلماء: إذا استيقظ الإنسان من نومه بعد خروج وقت الصبح، أو خروج وقت أي فريضةٍ، أو زال عذره، فإنه يجب عليه أن يبادر مباشرةً إلى فعل الفريضة، وإذا أخَّر وهو غير معذورٍ، كأن يكون استيقظ الساعة التاسعة صباحاً، وقد خرج وقت الفجر، فيلزمه مباشرةً أن يتوضأ، وأن يصلي الفجر. فلو جلس إلى العاشرة بدون عذرٍ، قالوا: يأثم، وهذا مذهب من يقول: إن القضاء على الفور لا على التراخي، ولا يجوز له أن يتراخى إلا من عذر، وهو قول الجمهور. وقال بعض العلماء: إنه إذا استيقظ الإنسان من نومه، أو كان معذوراً وزال عذره بعد خروج الوقت لا يجب عليه القضاء فوراً، وإنما يصلي ما لم يدخل وقت الثانية، وهذا يتأتَّى في الصبح، فإنك إذا نظرت إلى الوقت فما بين طلوع الشمس وما بين زوال الشمس وقتٌ متسع، فعندما نقول: يلزمه الفور، أي: حين يستيقظ، ولكنه ينوي القضاء. وأما بالنسبة للقول الثاني فمن حقه أن يؤخِّر ما لم تَزُل الشمس، وهذا القول الثاني أحد الوجهين عند الشافعية رحمة الله عليهم، ودليله حديث حذيفة في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عرَّس -أي: سار إلى آخر الليل- قال: فوقعنا وقعةً ما ألذ منها على المسافر، فقال صلى الله عليه وسلم: يا بلال اكلأ لنا الليل)، ومراده أنهم من شدة التعب والإعياء وقعوا -بمعنى ناموا- وقعةً ما ألذ منها على المسافر، أي: شعرنا بلذة النوم لمشقة السفر وعناء السهر، قال: فقام صلى الله عليه وسلم: (يا بلال اكلأ لنا الليل)، قال: فقام بلال فلم يشعر الصحابة، ثم طلعت الشمس، ثم استيقظ عمر رضي الله عنه -كما في الرواية- وجعل يكبِّر، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ من حر الشمس صلوات الله وسلامه عليه -والتعبير بالحر يدل على أن الشمس قد ارتفعت- فلما استيقظ قال: (يا بلال ما شأنك؟ فقال رضي الله عنه: (أخذ بعيني الذي أخذ بعينك يا رسول الله) أي: ما أنا إلا بشر ضعيف، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان أتى بلالاً حتى نام)، أي: ما زال يهدئه، ويقول له: الصبح باق، حتى نام رضي الله عنه وأرضاه، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ليأخذ كل رجل برأس راحلته، فإنه منزلٌ حضرنا فيه الشيطان)، أي: ارتحلوا فأمرهم أن يرتحلوا عن الوادي الذي ناموا فيه، وقال: (إنه منزلٌ حضرنا فيه الشيطان)، ثم لما ارتحلوا حتى قطعوه أمر بلالاً فأذن، ثم توضأ فصلى رغيبة الفجر ثم صلى الفجر. ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ مباشرة، فما بين قيامهم من النوم وصلاتهم أمد الارتحال، ومعلوم أن الجيش إذا ارتحل يأخذ وقتاً، فإذا شدوا رِحالهم، ووضعوا الرَّحل، فهذا يحتاج إلى عناء ووقت، فليس هو باليسير، خاصة أنه كان هذا في غزاته الأخيرة عليه الصلاة والسلام في العسرة، فإن هذا يحتاج إلى وقت وعناء، وبناءً على ذلك معناه أنهم قد أخذوا وقتاً ليس باليسير. وبناءً عليه فكون النبي صلى الله عليه وسلم يؤخر إلى هذا الوقت الذي هو ليس باليسير يدل على أنه يجوز أن يؤخِّر الإنسان، ولا حرج عليه ما لم يدخل وقت الظهر. والذين قالوا بأنه لا يجوز التأخير، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أخَّر وقتاً يسيراً، والحقيقة أنَّ النفس تميل إلى أن قول من قال: إنه يجوز له التأخير أقوى؛ لأن التعليل بكونه منزل حضره الشيطان لا يدل على بطلان الصلاة فيه، بل العجيب أن بعض العلماء يقول: إنه مكانٌ كمَعَاطِن الإبل التي نُهِي عن الصلاة فيها، وقال: (حضرنا فيه الشيطان)، وهذا محل نظر؛ لأن هناك فرقاً بين قوله: (منزل شيطانِ)، و (منزلٌ حضرنا فيه الشيطان)، فإن قوله: (حضرنا فيه الشيطان) أي تسلط على بلال فنام حتى ذهب الصبح، وليس المراد أنه منزلٌ فيه الشياطين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حضرنا فيه الشيطان)، والكلمات دلائلها معتبرة في أخذ معانيها وما يُستنبط منها، فكونه عليه الصلاة والسلام يقول: (حضرنا فيه الشيطان)، ويعدل إنما هو على سبيل الندب والاستحباب، لا على سبيل الحتم والإيجاب، كأنه كرِه هذا المنزل الذي حصل فيه التفويت للصلاة، وهذا من كمال طاعته لله عز وجل، وهذا شأن كمال الطاعة لا شأن الإلزام، ولذلك لو قلنا: إنه كمعاطن الإبل لقال العلماء من نام في غرفةٍ وفاتته صلاة الفجر يجب عليه ألا يصلي فيها، ولا قائل بهذا. فبناءً على ذلك لا وجه أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع لعذرٍ؛ لأن هذا ليس بعذر، وإنما هو من باب الكمال، وإذا كان من باب الكمال والفضيلة، فإن تأخيره -لو كان القضاء على الفور- لا يتأتى أن يَتْرك الفورية الواجبة لفضيلةٍ غير لازمة. فمن هنا صح أخذ وجه الدلالة على أنه يجوز للإنسان إذا استيقظ من نومه أن يؤخِّر، ولا حرج عليه، ولكن الأفضل والأكمل أن الإنسان يخرج من الخلاف، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم بادر بفعل الصلاة، ولذلك نقول: الأفضل والأكمل أنه يبادر بالصلاة، حتى يخرج من خلاف العلماء رحمة الله عليهم. وأما لو أخَّر الساعة والساعتين ما لم يدخل وقت الظهر فإنه لا حرج عليه لدلالة السنة على هذا.

حكم الترتيب بين الفرائض

حكم الترتيب بين الفرائض قال المصنف رحمه الله: [ويسقط الترتيب بنسيانه] أي: يجب على المكلف أن يرتِّب بين الصلوات، والدليل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] والمؤقت: المحدد، تقول: أَقَّت الشيء يُؤَقِّته تأقيتاً. إذا حدده زماناً أو مكاناً أو صفةً، فلا يصح أن تصلي الظهر ولم تصل الفجر، ولا يصح أن تصلي العصر ولم تصل الظهر، ومن أدلة الإلزام بالترتيب ما ثبت في الحديث الصحيح (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس، فقال: يا رسول الله! ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب. قال النبي صلى الله عليه وسلم: والله ما صليتها. فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد أن غربت الشمس، ثم صلى المغرب). فكونه عليه الصلاة والسلام يراعي الترتيب مع أن الوقت وقت المغرب يدل على الإلزام، وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، ولذلك يدل هذا على أن الإلزام مُعتَبر، ومن هنا أخذ العلماء أنه لا يصح لك أن تصلي العصر قبل الظهر، وهذا صحيحٌ من جهة النظر، فإن المكلف إذا وجبت عليه صلاة الظهر فقد تعلقت ذمته بخطاب الظهر، ولا يُخاطب بالعصر إلا بعد أن تفرغ ذمته بفعل الظهر، ولذلك أصبح مُلزَماً بالترتيب من هذا الوجه، فلا يصح أن يصلي العشاء قبل المغرب. وبناءً عليه فمن كان في سفر، ودخل إلى مسجدٍ والقوم يصلون العشاء، فإنه يدخل وراءهم وينويها نافلة، ثم إذا انتهوا أقام للمغرب فصلاها، ثم صلى العشاء، فهذا مذهب من يقول بالترتيب. لكن لو دخل وهم يصلون العصر، وكان قد أخر الظهر يريد أن يجمع، فلما دخل على الناس وجدهم يصلون العصر، فينوي وراءهم الظهر، ولا حرج عليه؛ لأن صورة الصلاتين متحدة، ولا اختلاف في الأفعال. أما في المغرب والعشاء فستختلف الأفعال والأركان، ولذلك لا يتأتى إيقاع إحدى الصلاتين تلو الأخرى، وبناءً على ذلك يُلزم بالترتيب على ظاهر دليل التأقيت في الكتاب والسنة. فلو أن إنساناً صلى صلاة العصر قبل الظهرلم تصح صلاته، فتكون صلاة العصر منه نافلة، فيُلزَم بإعادة الظهر وإيقاع العصر بعدها. لكن لو نسي فللعلماء قولان: قال بعض العلماء: من صلى العصر ناسياً الظهر، ثم تذكر بعد صلاة العصر يقيم للظهر ويصلي، ولا حرج عليه لمكان النسيان، واختاره المصنف وجمعٌ من أهل العلم، واحتجوا بظاهر قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]. وقال جمعٌ من أهل العلم الذين يقولون بوجوب الترتيب: يلزمه أن يعيد الظهر ثم العصر، وذلك لأن المؤاخذة في قوله تعالى: (لا تُؤَاخِذْنَا) لا تُسقِط الضمان بالحق، ولذلك الناسي يسقط عنه الإثم، ويبقى الأصل بالمطالبة، إذ لو أخذنا بظاهر قوله تعالى: (لا تُؤَاخِذْنَا) على أنه يدل على إسقاط الترتيب لدلّ على إسقاط الصلاة كلها؛ لأنه قد نسيها. وبناءً على ذلك يلزم بفعل الصلاة مع أنه ناسٍ ويلزمه قضاء الصلاة، وحينئذٍ يلزمه أيضاً أن يوقعها مرتبة، كما استثنيتم من قوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا) الصلاة نفسها، فبناءً على الدليل يلزمكم استثناء الترتيب بدليل الترتيب نفسه. فمن نسي الترتيب يُطالَب به، ويسقط عنه الإثم؛ لأن قوله تعالى: (لا تُؤَاخِذْنَا) رفعٌ للمؤاخذة، والمؤاخذة: الإثم، وليس المراد بها رفع المطالبة، إذ لو أخذ بقوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا) على أن المراد به عدم المطالبة حتى بالترتيب، نقول أيضاً: لا يُطالَب بالصلاة؛ لأنه نص عام على عدم المؤاخذة، فكما أنه طولِب بحق الله بفعل الصلاة، فحينئذٍ يُطَالَب بحق الله في إيقاعها مرتبة، وهذا أعدل الأقوال وأقواها. فالاستدلال بقوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا) وقوله عليه الصلاة والسلام: (رفِع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) مقيد بإسقاط الإثم دون إسقاط الضمان، ودليله واضح، ألا ترى الإنسان لو قتل إنساناً خطأً لوجب عليه الضمان لحق الله، فيُطَالب بالكفارة وهي عتق الرقبة، فإن لم يستطع صام شهرين متتابعين، مع أنه مخطئ، والله يقول: {لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، فدلّ على أن المؤاخذة المرفوعة في الآية مؤاخذة الإثم التي لا يفوت بها حق الله وحق المكلَّف. وهذا أعدل أقوال الأصوليين في هذه المسألة المشهورة وهي: هل المرفوع في قوله: (رُفِع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) الفعل والإثم، أو أحدهما وهو الإثم؟ فالمرفوع هو الإثم حتى يدل الدليل على رفع الاثنين معاً.

الترتيب بين الصلاتين في وقت لا يسع سوى الحاضرة

الترتيب بين الصلاتين في وقت لا يسع سوى الحاضرة قال المصنف رحمه الله: [وبخشية خروج وقت اختيار الحاضرة]. تقدم معنا أن من الفرائض ما له وقت اختيارٍ ووقت اضطرار، فلو أن إنساناً نام عن صلاته حتى استغرق نومه، فمرَّت عليه صلاة الظهر وصلاة العصر حتى بقي من وقت العصر قدر يسير ثم ينتهي وقت الاختيار، قالوا يبدأ بالعصر فيؤديها، ثم يقيم للظهر فيصليها. ووجه ذلك أنهم قالوا: إننا لو أمرناه بالترتيب لذهب وقت الاختيار للحاضرة، ولذلك نقول: سقط الترتيب تحصيلاً للصلاة الحاضرة، فيؤدي الصلاة الحاضرة في وقتها؛ لأنه إذا ازدحمت الفروض، فبعضهم يقول: يُراعَى صفة الفرض؛ إذ الحاضرة مزدحمة مع التي قبلها، فإذا قلت له: رتِّب الصلوات بناءً على الأصل الشرعي، فإن معنى ذلك أنه سيقضي الصلاتين، فتصبح صلاته للظهر موجبة لخروجه من وقت الاختيار إلى الاضطرار، فبناءً على ذلك قالوا: إنه يكون في حكم المفوِّت لوقت الاختيار، فيلزمه حينئذٍ أن يصلي الحاضرة في وقت الاختيار، ثم يصلي الفائتة. وهكذا قالوا لو لم يبق من وقت الحاضرة إلا قدر أدائها، كأن يستيقظ قبل طلوع الشمس بقدرٍ يصلي فيه الصبح، وكان قد نام عن العشاء والصبح، قالوا: فلو أمرناه بصلاة العشاء لفاتت عليه صلاة الصبح، فنأمره بصلاة الصبح حاضرة، ثم بعد طلوع الشمس يصلي العشاء الفائتة؛ لأن العشاء مقضية على كل حال، سواءٌ أصليت قبل الصبح أم بعده. وذهب طائفةٌ من العلماء إلى أنه يصلي العشاء أولاً مراعاةً لدليل الشرع، حيث قالوا: تأخر لعذر، وأخر الصلاة الحاضرة لعذر، فيصلي العشاء أولاً استناداً إلى أصول الشريعة التي لم تستثن ولم تفرق، فنأمره بصلاة العشاء حتى ولو خرج وقت الفجر، فإذا خرج وانتهى من قضاء العشاء أقام وصلى الفجر؛ لأنه كالشخص الذي قد خرج عليه الوقت. فهذا الوقت اليسير الذي لا يسع إلا للصبح هو -حكماً- بمثابة من استيقظ بعد خروج الوقت؛ لأنه ملغي بأمر الشرع بالترتيب، وهذا القول من ناحية الأصول أوفق. لكن هناك مخرجٌ لطيف لبعض العلماء، قال: يستحب له أن يصلي الفجر إدراكاً للوقت، ثم يقيم فيصلي العشاء ويعيد الفجر احتياطاً، قالوا: فيكون بهذا قد احتاط لأمره؛ لأنه سيكون قاضياً في كل الأحوال، فإن كان في القدر المتسع اليسير فضل يكون قد أدركه بالصلاة الأولى، وإن لم يكن له فضل يكون قد استبرأ ذمته بالاحتياط لواجب الشرع.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من تعمد تأخير الصلاة حتى خرج وقتها

حكم من تعمد تأخير الصلاة حتى خرج وقتها Q إذا أخر رجلٌ الصلاة عن وقتها متعمداً حتى خرج الوقت، فهل يقضي الصلاة أم لا؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذه المسألة فيها خلافٌ بين العلماء رحمة الله عليهم، فبعض أهل العلم يرى أن من أخَّر الصلاة حتى خرج وقتها وهو متعمد لا يطالب بالقضاء، خاصةً على مذهب من يرى أنه قد كفر بإخراج الصلاة عن وقتها. والقول الثاني أنه لا يكفر، ويُلزم بفعل الصلاة بعد خروج الوقت إن أخرها متعمداً، وهو الأقوى والصحيح إن شاء الله تعالى. والدليل على ذلك أنه إذا اختلف العلماء رحمهم الله: هل يطالب بالفعل أو لا يطالب بالفعل رُجِع إلى الأصل، فإن الأصل فيمن دخل عليه وقت الصلاة أنه مطالبٌ بها لتوجه خطاب الشرع عليه بالفعل، فكونه قد أخرها إلى أن خرج الوقت لا يوجب إسقاطها عنه إلا بدليل يدل على أن المتعمد لا يُطالب بفعل الصلاة بعد خروج الوقت، وليس هناك دليلٌ في الكتاب والسنة يدل صراحةً على أنه إذا خرج الوقت لا يطالب بفعل الصلاة، وغاية ما استدل به أصحاب هذا القول أنهم قالوا: إن الصلاة محددةٌ ببداية ونهاية، وإذا كانت محددة بالبداية والنهاية فإنه إذا خرج عن نهايتها لا يُطَالَب بفعلها وهذا محل نظر؛ ألا ترى النائم يطالب بفعلها بعد انتهاء وقتها؟! ألا ترى المعذور -وهذا بالإجماع- يُطَالَب بالفعل بعد انتهاء وقتها. فإذا كان هذا مقرَّراً، وهو أن المعذور مطالبٌ بالفعل بناءً على أصل دليل الخطاب، فإنه يدل على أنهم مسلِّمون بوجود الخطاب بعد انتهاء الوقت، وأصبح التأقيت يحتاج إلى دليلٍ من الكتاب والسنة يدل على عدم إلزام المكلف بالفعل بعد خروج الوقت، ولذلك الأقوى أنه يُطَالَب بالفعل، وقد ثبت بدليل السنة الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم نزَّل حقوق الله كحقوق العباد، فقال عليه الصلاة والسلام: (أرأيتِ لو كان على أمك دينٌ أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى)، فجعل الصوم، وجعل الحج بتوجه الخطاب ديناً على المكلف؛ لأنه فريضة. يقول الجمهور: فالصلاة دينٌ على المكلف؛ لأنه مكلفٌ بها بتوجه الخطاب، كالصوم والحج إذا ثبت أنه دَيْن: (فإن دين الله أحق أن يقضى). وكما أن حقوق العباد يُطَالب الإنسان بقضائها حتى ولو أنكرها وجحدها وامتنع مِن الفعل وماطل فيها بعد وقتها وهو قادرٌ على السداد، كذلك حق الله يطالب بأدائه ولو خرج عن وقته؛ لأن السداد مأمورٌ به، وهو القيام بفعل الصلاة، فالذي تطمئن إليه النفس مطالبته بالفعل، والله تعالى أعلم. وقد قالوا في الحج: لو أخر مفرِّطاً فيجوز أن يحج عنه، فلو أن إنساناً غنياً ثرياً أخَّر الحج حتى مات وهو قادر على أن يحج، قالوا: يُطالَب بالحج عنه من ماله، بناءً على قوله عليه الصلاة والسلام: (أرأيتِ لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى)، فجعل الحج في ذمة هذا الميت -مع أنه مفرِّط ومتعمدٌ للتأخير- ديناً في ذمته، مع أنه أخرجه عن الوقت المعتبر؛ لأنه بالإجماع على أنه إذا توجه الخطاب على الإنسان بالحج، وهو قادرٌ مستطيع أنَّه واجبٌ عليه، ولكن اختُلِف في مسألة التأخير وعدم التأخير، فقالوا: إنه يُطالَب بالفعل ويترتب على المطالبة إلزام الذمة. وبناءً على هذا فإن الصلاة أُلزِمت ذمته بفعلها، وليس عندنا دليل على أنه إذا أخَّر حتى خرج الوقت سقطت عنه، ثم جاء دليل النظر والقياس الصحيح، وهو ما يسمى عند العلماء: قياس الأولى، وقياس الأولى من أقوى الحجج، حتى إن بعض العلماء يقول: الخلاف بين الظاهرية والجمهور في الأقيسة لا يشمل قياس الأولى. فيقولون: إذا كان المعذور الذي عذر ونام حتى فاتت عنه الصلاة يُطالَب بالإعادة، فكيف بإنسانٍ متعمد؟! فإنه أحرى أن يُطالَب بالإعادة، وهذا يسمونه: قياس الأولى، فإذا كان صح هذا وهو أن المعذور يطالَب بالفعل مع كونه معذوراً، فمن باب أولى غير المعذور، ولذلك تميل النفس إلى المطالبة بالقضاء، والله تعالى أعلم.

حكم قضاء النوافل

حكم قضاء النوافل Q هل تقضى الفوائت من النوافل؟ A أما قضاء الفوائت من النوافل فإنه سنة، ودل على ذلك حديث حذيفة في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قضائه لراتبة الفجر. وقال العلماء: إن راتبة الفجر هي آكد الرواتب، وتقضى قولاً واحداً عند العلماء، وتأكُّد قضائها لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تدعوها ولو طلبتكم الخيل). ولثبوت الخبر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بقضائها مع الصحابة، فإنه لما بات في الوادي الذي ذكرنا أمر بلالاً فأذَّن، ثم صلى ركعتين وهي رغيبة الفجر، ثم أمره فأقام فصلى الصبح. فدل قضاؤه لها على مسألتين: أما المسألة الأولى فسنِّيَّة قضاء الرواتب، والمسألة الثانية: هل يطالب بالقضاء على الفور أم على التراخي؟ ذلك أنه لو كان مطالباً بالفور لصلى الصبح أولاً، ثم صلى بعده الرغيبة، ولَمَا اشتغل بالنافلة قبل الفريضة، فهذا يؤكد ما ذكرناه مِن أن القضاء ليس على الفور؛ إذ لو كان على الفور لما قدَّم النافلة على الفرض. وبناءً على هذا فإنهم قالوا: إنه يُشرَع قضاء النوافل. ومن الأدلة حديث عائشة الصحيح: (يا رسول الله! رأيتك تصلي ركعتين لم أرك تصليهما من قبل؟ قال: أتاني ناس من عبد القيس، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان). وأما حديث أم سلمة أنها لما سألته فقالت: (أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا)، الذي رواه أحمد في مسنده فهو ضعيف، والصحيح أنه يُشرع قضاء الرواتب، وأنه سنة ولا حرج على الإنسان في فعله. وفي الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فاته حِزبُه من الليل صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة)، فقضى عليه الصلاة والسلام صلاة الليل مع أنها نافلة، فدل هذا على مشروعية القضاء. وفي الصحيح أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: (من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل)، وهذا يدل على سعة رحمة الله عز وجل، وعظيم فضله، خاصةً عند وجود العذر، والله تعالى أعلم.

وقت صلاة الضحى

وقت صلاة الضحى Q نرى بعض المصلين يصلون صلاة الضحى قبل الظهر بقرابة ربع ساعة، فهل نبيِّن لهم أن هذا وقت نهي؟ مع رجاء تحديد وقت النهي بالدقائق قبل أذان صلاة الظهر. A هذا فيه مسألتان: المسألة الأولى: تأخيرهم للضحى إلى هذا الوقت، فلو أن إنساناً أخَّر الضحى إلى ما قبل صلاة الظهر، سواءٌ إلى وقت انتصاف النهار المنهي عنه، أم إلى ما قبل وقت انتصاف النهار، فهل هذا من السنة؟ الجواب: لا؛ لأن الضُّحى شيء، والضَّحَى شيء، فإذا أشرقت الشمس فهناك وقت يسمى الضُّحى، وهو أول النهار إلى اشتداد الشمس بحيث تقرُب من الهاجرة، ثم يأتي وقت قبل انتصاف النهار يُقارب الساعة إلى الساعة والنصف يختلف بحسب طول النهار وقصره صيفاً وشتاءً، ففي الصيف يكون أطول، وفي الشتاء يكون أقصر، فهذا الوقت الذي هو قبل أن تنتصف الشمس في كبد السماء يسمى الضَّحَى، وهو المراد بحديث البخاري: (كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجمعة، ثم تكون القائلة). فهذا هو وقت القيلولة قبل الظهر بساعة ونصف إلى ساعة، فغالباً هذا الوقت الذي هو قبل الظهر يعين بإذن الله عز وجل على قيام السحر. وقالوا: هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (قيلوا فإن الشياطين لا تقيل)، فكانت قيلولتهم قبل منتصف النهار، فهذا الوقت يسمى الضَّحَى بالفتح، والذي قبله ما بين طلوع الشمس قيد رمح إلى اشتداد النهار يسمى الضُّحَى، وهو الذي أقسم به الله عز وجل: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1 - 2]، فانظر إلى قوله تعالى: (والليل إذا سجى) أي: جعل بداية الليل وإرخاء سدوله ما يكون عند وجود الشفق إلى سقوط الشفق بحيث يسجِّي الليل، مثل الشخص الذي تسجِّيه، أي: تُغَطِّيه. فقوله تعالى: (الليل إذا سجى) أي: غَطَّى بظلامه، فجعل الوقتان متقابلان. فصلاة الضُحى بداية وقتها بعد طلوع الشمس بقيد رمح، أما أثناء الطلوع إلى ارتفاع قيد رمح فهو داخل في المنهي عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخَّر صلاة العيد إلى ارتفاع الشمس قيد رمح، فدل على أن ما قبله باقٍ على الأصل من النهي، وبناءً على هذا لا ينبغي تأخير صلاة الضُحى إلى هذا الوقت. وأفضل ما تقع صلاة الضُحى بعد ارتفاع النهار، فإذا ارتفعت الشمس قيد رمح بدأ وقت الجواز، فإذا اشتد النهار قليلاً بعد إشراق الشمس بقدر ساعة فهو أفضل؛ لأن الغفلة من الناس تكون في مثل هذا الوقت، وهو وقت طلب التجارة والكسب، فكون الإنسان يترك التجارة والكسب ويُقبِل على الله في مثل هذا الوقت فهذا فضل عظيم. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال)، والفصيل: ولد الناقة، و (ترمض الفصال) أي: يدركها حر الرمضاء، وهذا يدل على أن الشمس قد ارتفعت، وأن صلاة الأوابين هي الضُحى التي وعد الله أهلها بالمغفرة: {َإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25]، فالإضافة المراد بها مثل هؤلاء الذين أثني عليهم بالآية، قالوا: فلا تكون إلا بعد ارتفاع النهار بساعة إلى ساعة ونصف، وما قبل الظهر بساعة إلى ساعة ونصف، فهو أشبه ما يكون بقضاء الضُّحى، وليس بالضُّحى أداءً، وينبني على قضاء النوافل من حيث إنه سائغ أو غير سائغ. فإذا بدأ وقت الضَّحى إلى أن تنتصف الشمس في كبد السماء، فهذا وقت جواز يجوز للإنسان أن يُصلي فيه، وحملوا عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (رحم الله امرأً صلى قبل الظهر أربعاً)، على أن المراد بقبل الظهر قبل وقتها، وليس المراد به الراتبة. قالوا: لقوله: (إنها ساعة رحمة تفتح فيها أبواب السماء)، ولما سئل عنها قال: (إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح)، فهذا قبل انتصاف النهار. وبعض المؤذنين يحتاطون بقدر ربع ساعة ما بين زوال الشمس وصلاة الظهر، فيقولون: الوقت في الظهر داخل بقدر ربع ساعة. وبناءً على هذا فإذا أذن للظهر في الساعة الثانية عشر والنصف، فمعناه أن الزوال ابتدأ في الثانية عشر والربع، وبناءً على هذا فمن جاء يصلي في مثل هذا الوقت الذي تنتصف فيه الشمس في كبد السماء فإنه حينئذ لا يجوز له، لما ثبت في الحديث: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب). وقال عليه الصلاة والسلام في حديث مسلم: (فإذا طلعت الشمس فصل، فإن الصلاة حاضرةٌ مشهودة، فإذا انتصفت -في كبد السماء- فأمسك، فإنها ساعةٌ تسجر فيها نار جهنم). و (تسجر) أي: يشتد لهيبها، فهي ساعة عذاب وليست بساعة رحمة، ولذلك نُهِي فيها عن دفن الموتى، وعن صلاة النافلة، فمثل هذا الوقت لا تصلى فيه صلاة الضُحى، ولذلك قالوا: إن إيقاع النافلة في الأوقات المنهي عنها وجوده وعدمه على حدٍ سواء، إلا عند من يستثني ذوات الأسباب، والله تعالى أعلم. فينبغي تنبيه هؤلاء -الذين يصلون في هذه الأوقات المنهي عنها- على أمرين: أولاً: أن وقت الضُحى من بعد طلوع الشمس قيد رمح، أي: بما يقارب -احتياطاً- اثنتي عشرة دقيقة، فبعدها يغلب على الظن دخول وقت جواز صلاة النافلة، ووقت الفضيلة يبتدئ إذا كان طلوعها السادسة والربع إلى ما يقارب السابعة والنصف إلى الثامنة، وكلما تأخر قليلاً كان أفضل؛ لأنه تكون غفلة الناس باشتغالهم بالدنيا أكثر، والله تعالى أعلم.

حكم من لا يعرف عدد ما فاته من الصلوات

حكم من لا يعرف عدد ما فاته من الصلوات Q فاتتني كثيرٌ من الصلوات بعد بلوغي، وصليت بعضها جنباً خجلا، وكل ذلك لجهل والدي عن تعليمي ما يجب عليَّ، وهي كثيرةٌ جداً ولا أحصي عددها، ولا أستطيع الاجتهاد في معرفتها، فماذا يلزمني تجاه ذلك؟ A هذا السؤال فيه مسائل: أولاً: إذا تركت الصلاة في أمدٍ من بعد بلوغك ولم تكن تصلي -والعياذ بالله- بعد البلوغ إلى أن التزمت بطاعة الله وشريعة الله فلا يلزمك القضاء؛ لأن تركك على هذا الوجه آخذٌ حكم الترك الموجب للكفر، فمن ترك الصلاة والعياذ بالله ولم يصل ولم يركع فإنه يصدق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر). وإذا حكم بكفر تارك الصلاة على هذا الوجه فلا يُلزَم بقضاء، بقوله صلى الله عليه وسلم: (أسلمت على ما أسلفت من خير)، وقال في الحديث الصحيح: (الإسلام يجُبُ ما قبله)، فتكون بالتزامك بالصلاة كأنك قد دخلت في حظيرة الإسلام بأدائها، وبناءً على ذلك لا تُطالب بقضاء ما مضى. ثانياً: أما لو كنت تصلي أحياناً وتترك أحياناً، فحديث عبادة في قوله عليه الصلاة والسلام: (ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له) يدل على عدم الكفر، وبناءً على ذلك تجتهد، وتبني على غلبة الظن، وقولك: لا أستطيع الاجتهاد. غير وارد، فلو قدرت السنة التي التزمت فيها بشرع الله، وأصبحت محافظاً فيها على الصلاة بثلاث سنوات من الآن مثلاً ومن بلوغك إلى الآن لك قرابة سبع سنوات مثلاً، فحينئذٍ تقول: هي أربع سنوات. فأكثر في الصلوات، وصلِ مع كل صلاةٍ حتى تحتاط بقضاء هذا الأمد كاملاً. وأما الأمر الثالث في سؤالك فهو قولك: إنك كنت تصلي وأنت جنب. فلا يجوز هذا، ولذلك قال بعض العلماء: من صلى وهو على غير طهارته عالماً بحرمة ذلك مستخفاً بهذا التحريم فإنه يكفر -والعياذ بالله- وإن كان الصحيح أنه لا يكفر إلا إذا قصد الاستهزاء، ولكن انظر إلى تشدد العلماء رحمة الله عليهم من شدة تعظيمهم لأمر الصلاة، فينبغي حينئذٍ للإنسان أن يحتاط. ولو أن إنساناً دخل في صلاة الظهر، ثم تذكر أنه أجنب، وقال: لو خرجت الآن فإن الناس تراني أو صلى بهم وهو إمام، فقال: كيف أخرج من الصلاة؟! فينبغي أن تكون خشية الله في قلبك أعظم من خشية الناس، وأن تعلم أنه لا يغني عنك أحدٌ من الله شيئاً، وأنه لا يُجيرك من الله ومن سطوته ومن غضبه أحد، فقد يكون استخفافك بعظمة الله وهيبتك للناس أكثر من هيبتك لله سبباً في غضب الله عليك، فاتق الله عز وجل، فبمجرد ما تشعر أنك غير متوضئ فاخرج من الصلاة، ولتنعم عينك بطاعة الله عز وجل، ولك من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الرخصة والتوسعة أن تمسك بأنفك وتخرج، فإن الذي أمرك بدخول المسجد أمرك أن تخرج من المسجد، ولا تبالِ بالصغير ولا بالكبير، ولا بالجليل ولا بالحقير، فلتتق الله عز وجل، ولتكن هيبة الله في قلبك أعظم وأجل وأكبر من أن تهاب غيره فتستخف بعظمة الله فتصلي بين يديه على غير طهارة. ولا يجوز للمسلم أن يصلي على غير طهارة، ولا يجوز له أن يستبيح الصلاة وهو جنُب، لما فيه من الاستخفاف بعظمة الله، ولو كان إماماً فإنه يَسحب من وراءه ويستخلف ويخرج، ولتنعم عينه بطاعة الله، فإن الله يثيبه، والله يبتلي، وقد مر هذا علينا، ومر على بعض العلماء من قبلنا، فالله يبتلي إيمان العبد؛ لأنه لا يمكن أن تخرج من هذه الدنيا حتى يظهر كمال إيمانك من نقصه، ومن الإيمان خشية الله، ولن تخرج من هذه الدنيا حتى تظهر خشيتك لله كاملةً أو ناقصة. فإذا جاءتك مثل هذه المواقف فاعلم أن الله يمتحنك، وأن الله يريد أن يبتليك بخشيته بالغيب، فإن الناس لا يعلمون أنك جُنُب، ولا يعلمون أنك على غير طهارة، ولكن الله وحده هو الذي يعلم، فهو علام الغيوب، فإذا جئت بإيمانٍ منك وصدق وخوف ويقين من الله سبحانه وتعالى تخرج أمام الناس لا تستحيي منهم ولا تهابهم ولا تخشاهم كان ذلك أصدق ما يكون في خشيتك لله سبحانه وتعالى، وهذا أمر شائع ذائع، فإن كثيراً من الناس يقول: صليت وأنا على غير طهارة، أو كنت على غير طهارة وأنا جالس في المسجد فاستحيت أن أخرج؛ وهذا لا يجوز، فينبغي أن تكون عظمة الله فوق كل شيء، قال تعالى: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:13]، فالله أحق أن يُخشى ويهاب، وأحق أن تكون له الرغبة والرهبة، فنسأل الله العظيم أن لا ينزع من قلوبنا خشيته، وأن يرزقنا الخوف منه وإجلاله وإعظامه على الوجه الذي يرضيه عنا، والله تعالى أعلم.

تذكر صلاة الظهر في آخر وقت العصر

تذكر صلاة الظهر في آخر وقت العصر Q إذا فاتت المسلم صلاة الظهر ولم يتذكرها إلا في آخر وقت العصر، والوقت لا يكفي إلا لصلاة العصر فحسب، فهل يلزمه الترتيب أم لا؟ A هذه المسألة فيها خلاف، فبعض العلماء -رحمة الله عليهم- يقول: إذا أدركت آخر وقت الثانية، بحيث لا يسع إلا بقدر أن تصلي الثانية حاضرة وأنت لم تصلِ الأولى، فعليك أن تراعي ترتيب الشرع، وتصلي الأُولى ولو خرج الوقت؛ لأن وقت الثانية ساقط عنك بانشغالك بفرض وهذا هو الأصل، وهو قولٌ مبني على اعتبار دليل الترتيب، وقال به جمع من العلماء رحمة الله عليهم. وقال بعضهم: يقدم الحاضرة على الفائتة، وذلك لأنه إذا صلَّى الفائتة كان قاضياً، فاستوى أن يؤديها في وقت الأولى، أو يؤديها في وقت الثانية وهذا القول محل نظر؛ أولاً: لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من حديث عمر: (أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، وقال: يا رسول الله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب. قال النبي صلى الله عليه وسلم: والله ما صليتها). فانظر رحمك الله إلى قوله: (ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب) بمعنى: صليتها فغربت الشمس مباشرة، حتى إنه لا يدري هل الصلاة سبقت أو الغروب، فمعنى ذلك أنه قد غابت الشمس، ثم احسب وقتاً لذكره لله عز وجل بعد أدائه للصلاة، ثم قيامه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكى، فيحتمل أن الوقت إلى دخول وقت المغرب بقدر لمكان هذا الذي ذكرناه، فاحسب حساب كون عمر يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم له: (والله ما صليتها)، ثم قال: (قوموا بنا إلى بطحان قال: فنزل فتوضأ فصلى العصر ثم المغرب والعشاء)، ووجه الدلالة أنهم قالوا: وقت المغرب ضيق وهذا الحديث يرده؛ لأنك لو حسبت تجد أن النبي ذهب إلى وادي بطحان، ثم نزل به ومعه الجيش، ثم توضأ، ثم صلى العصر، وهذا كله يأخذ وقتاً ليس بالقليل مع أن عمر قد جاءه بعد مغيب الشمس، فاحسب كلامه له بعد ذهابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد المغيب، ثم شكواه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجوابه، ثم أمره عليه الصلاة والسلام بالذهاب إلى بطحان، ثم وقت الوضوء، ثم القيام إلى الصلاة، فهذا وقت ليس باليسير، خاصة وأن عدد الناس معه لا يقلون عن ألف، فهؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم يصلون معه عليه الصلاة والسلام. فالغالب أن وقت المغرب خرج أو كاد يخرج، قالوا: فصلى العصر أولاً، ثم أتبعها بالمغرب، ثم صلى العشاء، ولذلك ما ورد في الحديث أنه انتظر إلى دخول العِشاء قالوا: هذا يؤكد على أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على التقديم حتى على الأقل مع خوف خروج الوقت، وهذا يؤكد ما ذكرناه أنه يبدأ بالفائتة قبل الحاضرة. والذين قالوا: إنه يبدأ بالحاضرة قبل الفائتة اضطرب قولهم، فهم يقولون بوجوب الترتيب، ثم يأتون في هذه المسألة ويقولون: لا يجب الترتيب، وإنما يلزم بفعل الحاضرة قبل الفائتة؛ لأنه إذا صلى الحاضرة أدَّى، وإذا صلى الفائتة قضى في كلتا الصلاتين. والذي تطمئن إليه النفس أنه يبدأ بالفائتة، ثم يتبعها بالحاضرة ولو خرج الوقت؛ لأن التأخير لعذرٍ شرعي، وهو أمر الشرع بفعل الصلاة، ألا ترى أنهم يقولون: إنه لا يصح أن يوقع صلاة العصر حتى يصلي الظهر، فكونه يقول: فائتة أو حاضرة لا تأثير له في الوصف الشرعي، أي: لا يقوى على الاستثناء من الأدلة التي دلت على وجوب الترتيب من التأقيت الذي ذكرناه من دليل الكتاب والسنة، وعلى هذا يقوى القول الذي يقول إنه يبدأ بالفائتة قبل الحاضرة. لكن بعض العلماء ذكر مَخرجاً لطيفاً، فقال: الأفضل أن الإنسان يخرج من الخلاف، فيصلي الحاضرة في وقتها، ثم يقيم فيصلي الفائتة، ويصلي بعدها الحاضرة، قالوا لأنه إذا كان معذوراً بعدم مراعاة الترتيب فقد أوقع الصلاة في وقتها، فإن كانت معتبرة فقد أدرك الإجزاء والاعتبار، وإن كانت غير معتبرة فقد احتاط لدينه بإعادتها بعد الوقت، وهذا أفضل المخارج، والذي تميل إليه النفس أنه يحتاط، لكن الأصل والأرجح أنه يطالب بفعل الفائتة قبل الحاضرة.

آخر وقت سنة العشاء

آخر وقت سنة العشاء Q ما هو آخر وقت سنة العشاء؟ A تتأقت الراتبة البعدية بآخر وقت الفريضة نفسها التي رُتِّبت عليها، فإن كنت في الظهر فآخر وقت الظهر، وإن كنت في المغرب فآخر وقت المغرب، وإن كنت في العشاء فآخر وقت العشاء، فعلى القول بأن وقت العشاء إلى نصف الليل تتأقَّت الراتبة إلى نصف الليل، فتصلي الراتبة إلى منتصف الليل، وعلى القول بأنه إلى الفجر فلك أن تصلي راتبة العشاء ما لم يتبين الفجر الصادق.

حكم صلاة العاري إذا وجد الساتر قبل خروج الوقت

حكم صلاة العاري إذا وجد الساتر قبل خروج الوقت Q لو أن إنساناً صلى وهو عارٍ لانعدام السترة، ثم جاءت السترة قبل خروج الوقت، فهل يجب عليه الإعادة؟ A إن صلى عارياً فقد مضت صلاته وصحَّت، لكن إذا غلب على ظنه أنه يجد السترة قبل خروج الوقت ينتظر، ومذهب طائفة من العلماء أنه يُستحب له أن يُعيد ولا يجب عليه وهذا أفضل.

حكم تشمير الثوب عند الهوي للسجود في الصلاة

حكم تشمير الثوب عند الهوي للسجود في الصلاة Q هل من كف الثياب ما يفعله بعض المسلمين من رفع ثوبه عند الهوي للسجود؛ لأن ذلك يمكّن الإنسان من السجود بكماله؟ A نعم. هذا يدخل فيه، فذكر بعض العلماء رحمهم الله أن هذا يعتبر من كف الثوب؛ لأنه إذا سجد يكون في حكم من كف طرف الثوب من أجل أن لا يتَّسخ، فيكون تشميره للثوب فيه إخلال من وجهين: أولاً: لأنه حركة زائدة في الصلاة؛ لأن رفعه للثوب ينافي خشوعه، فهذه الحركة في الصلاة زائدة عما قصده الشرع من الخشوع والسكون؛ لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] فقالوا: هذا لا يناسب القنوت. والأمر الثاني: كونه يأنف عن سجوده بهذا الثوب لله عز وجل، فأن يترك الثوب على حالته أبلغ لقربته لله عز وجل وطاعته، والله تعالى أعلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب شروط الصلاة [4]

شرح زاد المستقنع - باب شروط الصلاة [4] إن الله عز وجل أمر عباده المؤمنين بعبادته والإقامة على طاعته، وبين لهم كيفية الإتيان بهذه العبادات والطاعات في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن العبادات التي حرص الشرع على بيان أحكامها وشروطها: الصلاة، التي هي عمود الدين، فلا يتأتى للعبد أن يؤدي صلاته صحيحة إلا بمعرفة شروطها وأركانها وواجباتها، ومن الشروط الواجب توافرها لمن أراد أن يصلي صلاة صحيحة: أداء الصلوات في أوقاتها التي بينها الشرع، وستر العورة عند أداء الصلاة، مع الإحاطة بما يتفرع عن هذه الشروط من أحكام.

ستر العورة

ستر العورة

تعريف ستر العورة لغة واصطلاحا

تعريف ستر العورة لغةً واصطلاحاً بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومنها ستر العورة] أي: ومن شروط الصلاة التي يلزم بها المكلف لصحتها ستر العورة. والستر هو: التغطية، تقول: سترتُ الشيء. إذا غطيته. والعَوْرَة: أصلها من العَوَر وهو النقص، وقولهم: (ستر العَوْرَة) أي: تغطيتها. والمراد بالعورة في إطلاق العلماء رحمة الله عليهم أحد أمرين: فمنهم من يقول: القبل والدبر وهذا على الأصل، ومنهم من يقول: القبل والدبر وما أُمِر بستره؛ لأن المرء يؤمر بستر ما عدا القبل والدبر خاصةً مع الأجانب.

أدلة وجوب ستر العورة

أدلة وجوب ستر العورة وهذا الشرط أمر الله به في كتابه المبين، وكذلك في هدي سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وأجمعت الأمة على أنه لازمٌ وواجب، لكن حُكِي عن مالك أنه يراه مستحباً ولا يراه واجباً، والصحيح وجوبه. ودليل وجوب ستر العورة للصلاة قول الحق تبارك وتعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]. ووجه الدلالة من الآية الكريمة أن الله أمر المكلف أن يأخذ الزينة عند كل مسجد، والمراد بقوله: (عند كل مسجدٍ) أي: عند كل صلاةٍ، فيكون قوله: (خُذُوا) أمراً، والأمر للوجوب حتى يدل الدليل على صرفه، ولا صارف له هنا. وكذلك أمره عليه الصلاة والسلام بستر العورة وهديه صلوات الله وسلامه عليه فيها، حتى نهى الرجل أن يصلي وليس على عاتقيه من ثوبه شيء، ففي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام: (لا يصل أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء). وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم ستر عورته، وأمر بستر العورة في أحاديث منها حديث بهز بن حكيم رضي الله عنه عند أبي داود قال: (يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك. قال: قلت: يا رسول الله! إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها. قال: قلت: يا رسول الله! إذا كان أحدنا خالياً؟ قال: الله أحق أن يستحيا منه). ولذلك ورد: (إن معكم من لا يفارقونكم فاستحيوا منهم)، وهم الكرام الكاتبون. وفي حديث أم سلمة أنه لما سئل عليه الصلاة والسلام عن صلاة المرأة في درعٍ وخمار قال: (في الخمار والدرع السابغ الذي يغيب ظهور قدميها)، والصحيح وقفه على أم سلمة رضي الله تعالى عنها. وكذلك حديث جرهد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يغطي فخذه)، وحديث جرهد وحديث بهز بن حكيم فيهما كلام، وإن كان بعض أهل العلم يميل إلى التحسين بمجموع طرق هذه الأحاديث. وقد أجمع العلماء رحمهم الله على وجوب ستر العورة للصلاة، وأن المكلَّف لو صلى الصلاة وهو كاشفٌ عن عورته وقادرٌ على سترها فصلاته غير صحيحة، إلا ما ورد في رواية عن مالك رحمه الله أنه كان يستحب ذلك ولا يوجبه، وإن كان بعضهم يضعفها.

الشروط اللازم توافرها في الساتر

الشروط اللازم توافرها في الساتر وأما من ناحية أحكام ستر العورة فيُعتبر ستر العورة من الشروط التي تتعلق بصحة الصلاة؛ لأننا قدمنا أن من الشروط ما يتعلق بالوجوب ومنها ما يتعلق بالصحة، وشرط الصحة -كما هو معلوم- فقده يُوجِب الحكم بعدم صحة الصلاة. وبناءً على ذلك لا يُحكم بصحة صلاة المكلف إلا إذا حَصَّل هذا الشرط، ومن عادة العلماء رحمة الله عليهم أن يتكلموا على ستر العورة، فيقررون وجوبها، ثم يقررون الضابط المعتبر لستر العورة، ثم يتكلمون بعد ذلك على المسائل المستثناة وأحكام الضرورة، كالعراة الذين لا يجدون ما يسترون به عوراتهم، ونحوها من الأحكام المتعلقة بالاستثناءات. والمصنف رحمه الله راعى ذلك في كلامه على الشروط هنا فقال رحمة الله عليه: [فيجب بما لا يصف بشرتها]. الفاء: للتفريع، فبعد أن قال: (ومنها) أي: من شروط صحة الصلاة ستر العورة، قال: (فيجب) أي: فيلزم المكلف بسترها، والواجب يتفرع منه الحكم أن من صلَّى عارياً يحكم بإثمه إذا كان مختاراً دون اضطرار، وبعدم صحة صلاته، فالتعبير بالوجوب يتفرَّع منه الحكم بالإثم عند الترك في الاختيار، وزيادة شرطية الصحة يتعلق بها الحكم بالمطالبة بإعادة الصلاة. فقوله: [فيجب بما لا يصف بشرتها] أي: فيجب على المكلف أن يستر العورة بما لا يصف بشرتها. فستر العورة على حالتين: إما أن يكون ساتراً مانعاً من رؤية لون البشرة، فهذا لا إشكال في إجزائه واعتباره، كالثوب الثخين، وإما أن يكون الساتر رقيقاً يشف ما تحته، فهذا يقول العلماء: وجوده وعدمه على حدٍ سواء، كالقماش الرقيق الذي ترى معه لون البشرة، فإن وجوده وعدمه على حدٍ سواء. بل قال بعض العلماء: إن ما شفّ أعظم فتنةً مما كشف؛ لأنه يُغرِي، وتكون الفتنة بدعوته إلى النظر أكثر، بخلاف المتعري فإنه ربما اشمأزت النفوس من نظره، لكن لبس الشفاف أبلغ فتنةً وأعظم جُرأةً كما يقول بعض أهل العلم رحمة الله عليهم، فالشفاف وجوده وعدمه على حدٍ سواء. فانقسم الساتر إلى قسمين: ما كان غليظاً غير رقيقٍ يمنع من معرفة أو رؤية لون البشرة، وما كان رقيقاً تُرَى معه البشرة بحمرتها أو ببياضها أو غير ذلك. فبيَّن رحمه الله أنه لابد من الساتر الذي لا يشف، والكلام في الساتر يكون في جرمه، ويكون في صفة تغطيته. أما في الجِرم فيبحث العلماء فيه من حيث السماكة والرقة، وقد بيَّنا حكم السميك والرقيق. وأما بالنسبة لصفة تغطية الساتر، فإنه يكون على حالتين: الحالة الأولى: أن يكون فضفاضاً، بحيث لا يكون ضيقاً يُحدد تفاصيل الجسم، فهذا بالإجماع يُعتبر ساتراً، لكن كره بعض العلماء المبالغة في الفضفاض إلى درجةٍ قد يكشف العورة في بعض الحالات، كما ذكروه في السراويل، فإنها إذا كانت واسعةً، وكانت أكمامها التي تخرج منها الرجلين مبالغاً في سعتها، وكانت قريبةً من الركبتين فإنها طريقٌ للكشف، ولذلك يُعتبر لبسها سبيلاً أو سبباً لسهولة النظر إلى العورة، ومظنة أن يرفع ركبته فينكشف ما قارب السوءة أو السوءة نفسها. ولذلك قالوا: يُشدَّد فيما كان فضفاضاً واسعاً بحيث يبالَغ فيه إلى درجةٍ لا يُؤمَن معها انكشاف العورة. الحالة الثانية: أن يكون ضيقاً، وهو الذي يحدد جرم العضو، فإن كان من المرأة فإنه بالإجماع يَحرُم عليها لبسه، ولذلك شدَّد بعض العلماء في تفصيل المرأة للعباءة التي تكون فيها اليد منفصلة عن الجسم؛ لأنها إذا كانت على هذه الصفة استطاع الناظر أن يدرك تفاصيل جسمها، وهل هي طويلةٌ أو قصيرةٌ أو رقيقةٌ أو غير ذلك. ولذلك قالوا: تكون عباءتها، ويكون تفصيل يدها على حالٍ لو أنها حركت يدها لا يستطيع الإنسان أن يدرك طبيعة جسمها، أما لو كانت بهذه التفاصيل التي تستخدم عند بعض النساء اليوم بحيث إذا رأيت المرأة تستطيع أن تدرك تفاصيل جسمها، خاصةً في اليدين، وأعالي البدن فقالوا: مثل هذا يحرم عليها لبسه؛ لأنه يحدد تفاصيل جسمها. وبعض المحدد -كما يقول العلماء- أشد إغراء بالفتنة لأنها إذا حددت تفاصيل الجسم كانت مغرية بالنظر إليها، فتكون الفتنة فيها أشد، ولذلك ينبغي على المرأة أن تكون عباءتها مغطيةً لها، ولا يكون هناك تفصيل لأعضاء الجسم، حتى لا تشابه الرجال، ولا يستطيع الرجل أن يدرك جِرم جسمها. وكذلك الحال إذا كان سترها في أسفل البدن، كلبسها للسراويل، أو ما يسمى في عُرف اليوم (البنطال)، فهذا اللبس لا يجوز للمرأة مع وجود الرجل الأجنبي، وأما مع محارمها فأقل درجاته الكراهة؛ فإنه يُفصِّل تفاصيل الجسم، ومن أهل العلم من جزم بالتحريم حتى ولو مع وجود محرمها، وقال: لأنه لا يُعرَف في نساء المؤمنين، وإنما هو من باب التشبه، (ومن تشبه بقومٍ فهو منهم)؛ إذ لا يعرف بين النساء المؤمنات أن المرأة تأتي بلباسٍ بهذه الصفة، وإنما هو شيءٌ واردٌ على المسلمين من غيرهم، ولذلك أنا أميل إلى هذا القول، وأرى أنه تشبُّه، وأرى أن المرأة لا يجوز لها أن تلبس البنطلون ولو كان أمام محارمها، إلا إذا اضطرت إلى ذلك فهذا أمرٌ آخر. فلا تلبس مثل هذا اللباس الضيق الذي يفصِّل تقاطيع الجسم في مواضع الفتنة، حتى ولو كان أمام محارمها. فإن الإمام أحمد رحمة الله عليه لما سُئِل عن كشف المرأة عن صدرها وساقيها لمحرمها كأخيها ونحوه قال: (أخشى عليه الفتنة)، وهو إمام في زمانٍ الخير فيه شائع، وفي قرنٍ شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالفضل، فكيف بنا اليوم؟! فلذلك ينبغي التحذير من هذا والنهي عنه، ويعتبر من التشبه الذي لا يجوز للمرأة أن تتعاطاه. وأما بالنسبة لحكمه في الصلاة لو صلَّت به، فإن المفصِّل لتقاطيع الجسم مع ستر العورة يُوجِب الحكم بالصحة، ولكنها آثمةٌ من جهة الإخلال بما ذكرناه.

حد عورة الرجل والأمة

حد عورة الرجل والأمة قال المصنف رحمه الله: [وعورة رجلٍ وأمةٍ وأم ولدٍ ومعتق بعضها من السرة إلى الركبة]. هؤلاء كلهم عورتهم ما بين السرة إلى الركبة، وقد جاء في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (ما بين السرة إلى الركبة عورة)، وقوله: (العورة ما بين السرة والركبة) بهذه الألفاظ، لكنه يأتي على وجهين: الوجه الأول: يأتي مقيداً بالصلاة، وهذا حسَّنه بعض أهل العلم. والوجه الثاني: أن يأتي مطلقاً، وقد تكلم العلماء رحمهم الله على سنده وضعفوه. وقال العلماء: أما بالنسبة للرجل فما بين السرة والركبة. وأما السرة نفسها فقول الجماهير: إنها ليست بعورة. والركبة نفسها عورةٌ في قول بعض العلماء، وليست بعورة في قول طائفة، وإن كان الأقوى أنها ليست بعورة؛ لأن التعبير بالبينية يُشعِر بأن الغاية خارجةٌ عن المغيا، كما هو معلوم في القواعد. وبناءً على ذلك قالوا: إن الركبة كشفها لا يؤثِّر. وقوله: (وأمة) أي: كذلك الأمة، قالوا: لمكان الغالبِ من انصراف النفوس عنها؛ لأن النفوس كانت تأنف من وطء الإماء والزنا بهن، وهذا في الغالب، وإنما كن يتبعن الحرائر، ولمكان تسخير الشَّرْع لهنّ بالرق لخدمة أسيادهن فخُفِّفَت عورتهن، ولذلك قالوا: إنها لا تستطيع القيام بحق أسيادها إلا إذا خرجت ودخلت في قضاء الحوائج والمصالح، فهي أشبه ما تكون بالرجل، فقالوا: عورتها عورة الرجل. ولكن من أهل العلم رحمة الله عليهم من فرَّق بين الأمة الفاتنة وغير الفاتنة لاختلاف النساء في ذلك، وقال: إنه إذا كانت غير فاتنة فالحاجة غير داعية إليها، كما نبه عليه الإمام ابن قدامة رحمة الله عليه في المغني، ودرج على هذا القول، وهو قول الجماهير. وإن كانت فاتنة قالوا: إنه لا يجوز لها الكشف ولو كانت أمةً، فإن بعض الإماء أشد فتنةً من الحرائر، وليس في دين الله الحكم بجواز وشرعية الشيء الذي يُفضي إلى محارم الله عز وجل، والوقوع في حدوده إلا ما استثناه الشرع من الضرورات. وقوله: (ومُعتَقٌ بعضها) كالتي تكون نصفها حرة ونصفها أمة، فعورتها ما بين السرة إلى الركبة، قالوا: لأن الْمُعْتَق بعضها تُعتبر في حكم الرقيقة؛ لأن القاعدة أن اليقين لا يزول بالشك، وفرعوا على هذه القاعدة قاعدة تقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان، فالأصل أنها رقيقة، فإذا أُعتِق بعضها ترددت بين أن تُلحق بالحرة وبين أن تُلحق بالأمة، فروعي الأصل، ولأنه إذا تُرُدِّدَ بين الأضعف والأقوى فالأصل حمله على الأضعف حتى يدل الدليل على ما هو أقوى منه ولا دليل، فالْمُعْتَق بعضها تُنَزَّل منزلة الأمة، وليس منزلة الحرة. وهكذا المكاتَبَة، فقد أضاف بعض أهل العلم رحمة الله عليهم أن المكاتَبَة مُنَزَّلَة منزِلة المعتق بعضها. وقوله: [وأم ولدٍ] ذكر أم الولد لشائبة أنه طريقها إلى العتق. وأم الولد: هي الأمة التي يجامعها سيدها فتلد منه، فإن هذه تبقى أم ولد، فإن مات سيدها عتقت، وبناءً على ذلك يقولون: إنها آيلة إلى العتق، فهل ننزلها منزلة الحرة أو الأمة؟ قالوا: تبقى على الأصل من كونها أمةً، فعورتها عورة من ذكرنا.

حد عورة الحرة

حد عورة الحرة قال المصنف رحمه الله: [وكل الحرة عورةٌ إلا وجهها]. هذا كلامه على الصلاة، فالحرة في الصلاة وجهها ليس بعورة، وهذا مذهب الحنابلة. وقال الشافعية والمالكية: إن الحرة وجهها وكفاها ليسا بعورة، وتكشف الوجه والكفين، وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: وظاهر القدمين. فهذه ثلاثة أقوال لأهل العلم رحمة الله عليهم، أصحُّها وأقواها ما اختاره المصنف من استثناء الوجه، وفيه آثار عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما هو الأثر عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. وبقيت اليدان والرجلان على الأصل، ويدل على ذلك أنه لما سُئِل عليه الصلاة والسلام عن المرأة تصلي في درعٍ وخمار قال عليه الصلاة والسلام: (إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور قدميها)، والسابغ: أصله في الساتر، فدل على أن أصل البدن يُستر، واستثني الوجه لما ذكرناه من الآثار. والصحيح في هذا -أعني حديث أم سلمة - وقفه، كما ذكر غير واحدٍ من أهل العلم رحمة الله عليهم. وإذا وُجِد الأجنبي؟ قال بعض العلماء تغطي وجهها؛ لأنه حق لله، وقال بعض العلماء: إنها تبقى على الأصل من كونها كاشفةً للوجه والإثم على من نظر.

حكم الصلاة في ثوبين

حكم الصلاة في ثوبين قال المصنف رحمه الله: [وتستحب صلاته في ثوبين] قوله: (وتستحب صلاته) الاستحباب يدل على أنه لا يلزمه؛ لأن المقصود أن تستر العورة، فلو أن إنساناً صلَّى بثوبٍ واحدٍ ساترٍ لعورته صحت صلاته، كالحال الآن فلو لبس الثوب المعروف دون أن يكون عليه ملابس داخلية، وهذا الثوب له لون غامق يمنع النظر إلى ما وراءه وصلَّى صحت صلاته، فهذا من ناحية الأصل؛ لأنه ثوبٌ ساتر، والعبرة بالستر. ولكنهم استحبوا أن يصلي في ثوبين، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أو كلكم يجد ثوبين؟)، لكن قال العلماء: إن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم خرج لمكان الضرورة والضيق على عهد الصحابة، أما بعد أن وسَّع الله عز وجل فإنه يستحب للإنسان أن يصلي في ثوبين؛ لأنه هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى بالإزار والرداء صلوات الله وسلامه عليه، وهذا أفضل وأكمل. والثوبان أعلاهما لأعلى البدن، وأسفلهما لأسفل البدن، فما يكون أسفل البدن كالفوط ونحوها يقولون: هذا إزار، وأما الذي يكون على الأعلى فيقولون عنه: رداء، وفي الإحرام تلبس الرداء الذي هو على الكتف، وتلبس الإزار الذي يكون على أسافل البدن. فقد يُصلي في ثوبين من غير الإزار والرداء، يصلي -مثلاً- بقميص وسروال، والقميص قد يكون إلى أنصاف العضد، أو إلى نصف الساعد، هذا بالنسبة لأعلاه، وأما بالنسبة للأسفل فقد يكون إلى الركب، وقد يكون إلى نصف الفخذ، فيكون السروال ساتراً لما هو أدنى منه. وقد يكون قميصاً مع الإزار، وقد كان لبس العرب للقميص في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك قال: (لا تلبسوا القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس). فكان من لباسهم السروال والقميص، فالقميص يكون لأعالي البدن غالباً، وقد يكون القميص طويلاً، وهذا يقع في لباس النساء في القديم، فيكون قميصها طويلاً كالثوب، ويكون ساتراً لجميع البدن إلا ظهور القدمين، إلا إذا كان سابغاً، فيقولون: إن هذا القميص يجوز للرجل أن يصلي به إذا كان معه سروال، أو ما يستر أسافل البدن. وفي الوقت الحاضر لو صلى بما يستر أعلى بدنه بما يسمى (الفنائل) وصلى بالسروال أجزأه ذلك وصح؛ لأنه ساتر وعلى عاتقه شيءٌ، ولكن لا يصلي بذلك في مجامع الناس، ولا في مساجدهم؛ لأن من فعل ذلك سقطت مروءته، ومن كمال المروءة أن يستر بدنه بما جرى به العرف، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) قالوا: والحياء ألا يلبس مثل هذه الملابس في مجامع الناس، ولذلك تصح صلاته ولكن تسقط مروءته وعدالته، إلا إذا كان مضطراً، أو كان عنده عمل، فلو أن إنساناً عنده عمل فصلى في السروال أو البنطلون أو في القميص فصلاته صحيحة ومجزئة؛ لأن تكليف الناس أن يخلعوا هذه الألبسة وأن يلبسوا ثيابهم فيه مشقة، وفيه حرج عليهم، فيجوز لهم أن يصلوا بمثل هذه الألبسة، لكن الأكمل والأفضل كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته). فيستحب لمثل هؤلاء الذين عندهم أعمال أو مهن أن يجعلوا ثوباً قريباً من العمل، فإذا جاء وقت الصلاة نزع ثياب العمل ولبس ثوبه، أو لبس الثوب النظيف على ثياب العمل حتى يكون أستر له وأكمل لمروءته. وهنا تنبيه، وهو أنه شاع في هذه الأزمنة أن بعض الناس -أصلحهم الله- يخرج إلى بيوت الله عز وجل خاصةً في صلاة الفجر والعصر بثياب النوم، وهذه الثياب لها أكمام قصيرة، وهذا لا شك أنه خلاف السنة؛ لأن السنة إبداء الزينة في المساجد، ومثل هذا لا مروءة عنده؛ لأن المروءة أن يلبس ما يستره، ويكون أكمل بصيانة ماء وجهه وهذا من الحياء، فالذي يستحيي لا يخرج بثياب نومه، وهل يليق أن يخرج إلى ملك الملوك وجبار السماوات والأرض الذي أطعمه وسقاه وكساه بهذا المنظر، وكأنه يستكثر أن يقف بين يديه بثيابٍ يتجمل بها لعبادته. فلا شك أنه من ضَعف الإيمان ونقص العقل أن يخرج الإنسان بثياب نومه أمام الناس لكي يصلي فيها، وهذا يدل على استخفافه بالصلاة، وإلا لو كان يُعظِّم الوقوف بين يدي الله لأحسن له عدته ولتجمَّل. ولو أن إنساناً -ولله المثل الأعلى- أراد أن يقف بين يدي عظيم من عظماء الدنيا لتجمَّل وتزين وطلب أحسن الملابس، مع أن الذي أطعمك وكساك ورزقك هو الله جل وعلا. أتستكثر أن تلبس من رزقه، وأن تحسن لباسك وزينتك للموقف بين يديه؟ فهذا ينبغي التنبيه عليه، وينبغي على الأئمة إذا رأوا أحداً بهذه الصفة أن ينبهوه، فإن المسلمين -خاصةً في هذه البلاد- يعظمون شعيرة الصلاة، فإحداث مثل هذه الأمور تُخِل بإكرام بيوت الله عز وجل، وإكرام شعائر الإسلام التي أَمَر الله بتعظيمها وإجلالها، وصدق الله إذ يقول: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] أي: الذي يتقي الله، وكملت تقواه لله عز وجل يُعظِّم الموقف بين يديه، ويحسن التهيؤ لهذه الصلوات. فلذلك ينبغي التنبيه على مثل هذا الأمر، والنصح بلطف وإرشاد، إلا إذا كان الإنسان عنده حاجة أو ضرورة، كشخص نسي أو ذُهِل؛ لأن الناس قد يحصل منهم هذا، ولا ينبغي التعنيف والمبالغة في التقريع، بل ينبغي أخذ الناس بلطف؛ لأن ذلك أدعى لقبول الحق والرضا به.

ستر العاتقين في النافلة والفريضة

ستر العاتقين في النافلة والفريضة قال المصنف رحمه الله: [ويكفي ستر عورته في النفل ومع أحد عاتقيه في الفرض] الصلوات تنقسم إلى نافلة وإلى فريضة، والنفل: الزيادة. فالنافلة أخف شأناً من الفريضة، بما عُهِد من أدلة الشرع، ولذلك يجوز أن تصلى النافلة في السفر على الدابة بخلاف الفريضة، فخُفِّف أمر النافلة أكثر من الفريضة، ومشى عليه الصلاة والسلام لفتح الباب في النافلة، ولم يمشِ في الفريضة. فالمقصود أن النافلة أخف من الفرض، وإذا كانت أخف قالوا: إنه إذا صلى النافلة ساتراً عورته أجزأه. وبناءً على ذلك: لو صلى في سروالٍ دون أن يستر أحد عاتقيه، أو في إزارٍ دون أن يستر أحد عاتقيه، قالوا: تجزيه. لكن عموم نهيه عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن عمر في الصحيح أنه: (نهى أن يصلي الرجل بثوبٍ ليس على عاتقه منه شيء) يدل على العموم، ويشمل النافلة والفريضة، فالأقوى أنه يشمل الفرض والنفل، ولذلك يصلي الإنسان الفريضة والنافلة مع ستر العاتقين والعورة.

صفة ما يستر عورة المرأة

صفة ما يستر عورة المرأة قال المصنف رحمه الله: [وصلاتها في درعٍ وخمارٍ وملحفةٍ، ويجزئ ستر عورتها]. قوله: [وصلاتها] أي: المرأة، [في درعٍ وخمارٍ وملحفةٍ] الدرع الثوب الموجود لبعض النساء يكون كالثوب الموجود للرجل، وهو ما يسمى بالفساتين تقريباً، فهو على تفصيل الفساتين الموجودة في الوقت الحالي، لكن ليس بالتفصيل المعروف المبالغ به؛ لأن السلف ما كان عندهم هذه المبالغة، إنما كان عندهم أن يُفَصَّل كالثوب. قال بعض العلماء: إن الدرع كالقميص بالنسبة للرجل يكون إلى ساتراً لأعالي البدن، ويكون بعض الأحيان سابغاً بحيث يصل إلى ظهور القدمين، وأحياناً أرفع من أن يستر ظهور القدمين -أي: غير سابغ-، ويختلف بحسب بُعدِه، وقد يرتفع. وأما بالنسبة للخمار فهو مأخوذٌ من خمَّر الشيء يُخَمِّره تخميراً: إذا غطَّاه. فأصل التخمير: التغطية، ومنه سميت الخمر خمراً لأنها تغطي العقول -والعياذ بالله-، فالخمار يغطي الرأس وتضعه من تحت الحنك، فتغطي به شعرها، وتغطي به طرف الرأس من ناحية الأذنين. وأما بالنسبة للملحفة فهي الثوب الذي يكون على سبيل الغطاء من خارج، كما هو موجود الآن بما يسمى بالعباء، فيكون في حكم العباء، وإلا هو عادةً يكون من قطع القماش التي تأخذها المرأة وتلتحف بها، وهذا موجود إلى اليوم. وهذا على سبيل الاستحباب، لكن لو أنها سترت عورتها بما يستر أو يكفي للستر، فأخذت قماشاً فسترت به جميع العورة وبقي وجهها صحت صلاتها؛ إذ لا يُشترط تعيين الدرع، ولا يشترط تعيين الخمار، ولا يشترط تعيين الملحفة؛ لأن مقصود الشرع سترها، فإذا حصل الستر فقد حصل مقصود الشرع، فتصح صلاتها.

حكم صلاة من انكشف بعض عورته

حكم صلاة من انكشف بعض عورته قال المصنف رحمه الله: [ومن انكشف بعض عورته وفحش، أو صلى في ثوبٍ محرمٍ عليه أو نجس أعاد]. بعد أن بين المصنف رحمه الله وجوب ستر العورة، ثم بين حدود العورة، ثم بيَّن ما تستر به العورة شرع في المسائل الطارئة، فلو أن إنساناً صلَّى وانكشف منه بعض عورته، فقال رحمه الله: [ومن انكشف بعض عورته وفحش] انكشاف بعض العورة يكون بالاختيار، ويكون بالاضطرار، أما بالاختيار فقولاً واحداً يوجب بطلان صلاته، فإذا كشف عورته مختاراً، دون حاجةٍ ولا ضرورةٍ مع علمه، فإنه تبطل صلاته. وانكشافها بالاضطرار يتأتى في قصر اللباس، كما لو كان له لباسٌ أو ثوب واحد، فإذا سَجَد انكشفت عورته، وكان هذا موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا -كما في أبي داود - يصلون وهم عاقدو أُزرهم على عواتقهم رضوان الله عليهم، فإذا سجد الرجل منهم انكشفت عورته، من قلة اللباس. مصعب بن عمير رضي الله عنه كانت له شملة هي التي خرج بها من الدنيا، إن غطوا بها وجهه في الكفن بدت قدماه، وإن غطوا بها قدميه بدا وجهه، وهذا من ضيق الحالة التي كان عليها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم عاذراً لهم في ذلك، ولم ينزل الوحي بإلزامهم بشيء، أو تحميلهم تبعة ذلك، فدل على أن المضطر لا يكلف أكثر من قدرته. وإن كشفها ذاهلاً وناسياً دون إدراك منه، فقال بعض العلماء: إنه إذا كان ولم يعلم به، صحَّت صلاته إذا لم يفحش، واستدلوا على هذا بما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمرو بن سلمة رضي الله عنه أنه قال: (وكانت العرب تَلَوَّمُ بإسلامهم الفتح فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فأسلم الناس بعد فتح مكة، وقدم أبي على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له ولأصحابه: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآناً، قال: فرجعوا فنظروا فإذا أنا أكثرهم قرآناً فقدموني). فذكر رضي الله عنه أنه كان له ثوبٌ إذا سجد بدت به عورته، فقال رضي الله عنه: (فقالت النساء: استروا عنا است قارئكم). ووجه الدلالة من هذا الحديث قول النساء: (استروا عنا است قارئكم)، فدل على انكشاف عورته، ومع هذا لم تبطل صلاته، ولذلك قالوا: من انكشفت عورته لذهول أو نسيان فإن صلاته تصح بشرط عدم الفحش كما ذكر المصنف رحمه الله. وكان الإمام أحمد رحمه الله يضعف متن هذا الحديث، فكان إذا ذُكِر له حديث عمرو بن سلمة يقول: أي شيءٍ هذا؟ أي شيءٍ هذا؟ دعه فإنه ليس ببيِّن وهذا من فقهه ودقة فهمه رحمة الله عليه. فإن حديث عمرو بن سلمة رضي الله عنه يقول: (رجعوا فنظروا) أي: اجتهدوا، وكان هؤلاء الصحابة -كما هو معلوم- أسلموا في عام الوفود حينما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فمعنى ذلك أن اجتهادهم رضوان الله عليهم مع حدث عهدٍ بجاهلية لا يُؤمَن معه وجود الخلل؛ لأن انكشاف عورة المصلي يوجب البطلان بالأصل، فكونهم يتركونه يصلي بهم والعورة منكشفة -مع إمكان سترها- من ناحية أصول الشرع لا يقتضي الصحة، فكأنه يرى أن هذا فعل صحابيٍ في زمان النبوة لا يستلزم الاحتجاج بمثله، فلو كان في المدينة وبمحضر من النبي صلى الله عليه وسلم وإقرارٍ منه لصح الاحتجاج، لكن كون عمرو نفسه يقول: (فنظروا) يؤكد أن هذا خرج منهم على سبيل الجهل رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان كما جاء عنه في بعض الروايات أنه إذا قيل نفض يديه وقال: أي شيءٍ هذا؟ لأننا لو جئنا نقول بظاهره لأدى ذلك إلى بطلان أصل ستر العورة؛ لأنه بإمكانهم أن يستروه، وبإمكانهم أن يمنعوه من انكشاف عورته، ولذلك قال عمرو: (فنظروا). وهناك رواية عند عبد الرزاق في مصنفه أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وأقره، ولكنها روايةٌ ضعيفة لم يصح سندها، ومثلها الرواية التي تفيد أن عمراً قدمَ مع أبيه، وهي رواية غير صحيحة، والصحيح أن عمراً كان عند أهله، وأنه كان يتلقى من قدم من المدينة من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحفظ ما عنده من القرآن حتى كان أحفظ القوم، وكانوا حديثي عهدٍ بجاهلية، فرأوا أنه أحفظهم فقدموه.

حكم الصلاة في ثوب حرام أو نجس

حكم الصلاة في ثوب حرام أو نجس قال المصنف رحمه الله: [أو صلى في ثوبٍ محرمٍ عليه، أو نجسٍ أعاد]. قوله: [أو صلى في ثوبٍ محرمٍ] كالثوب المغصوب، كأن يغتصب من إنسانٍ ثوبه ويصلى فيه، والصلاة في الثوب المغصوب للعلماء فيها قولان: قال الجمهور: من صلى في ثوبٍ مغصوبٍ فصلاته صحيحة، فلا يُطَالب بالإعادة، ولكنه آثمٌ بلبس هذا الثوب، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية رحمة الله على الجميع. وقال الحنابلة رحمهم الله: إن من صلى في ثوبٍ محرمٍ كالمغصوب والمسروق فصلاته باطلة، وتلزمه الإعادة، والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن النهي لم ينصب على ذات الصلاة، والنهي إذا لم ينصب على ذات الشيء لم يقتض الفساد؛ لأن النهي هنا عن خارجٍ ليس بمتصلٍ بذات الصلاة، فلو كان النهي عن متصلٍ بذات الصلاة لأوجب البطلان. وبناءً على ذلك قال الجمهور بانفكاك الجهة، فقالوا: نقول: هو آثمٌ بلبس الثوب مثابٌ بفعل الصلاة، وبناءً على ذلك نقول: إن صلاته صحيحة، ولبسه للثوب حرامٌ عليه وهذا أصح القولين لما ذكرناه من أن النهي إذا لم يرجع إلى ذات المنهي عنه لا يقتضي البطلان، ولا يقتضي الفساد، وأما إذا رجع إلى ذاته فإنه يقتضي البطلان والفساد. قوله: (أو نجسٍ) أي: أن صلى في ثوبٍ نجس تلزمه الإعادة، وسيأتي إن شاء الله الكلام على الصلاة في الثوب النجس والمكان النجس، ولكن هنا إذا لم يكن مضطراً، أما لو اضطر وكان الثوب الذي يصلي فيه نجساً، ولم يوجد ما يطهر به هذا الثوب، كأن يكون في بريةٍ ونحوها، فقالوا: يصلي ولا تلزمه الإعادة. واستحب بعض العلماء أنه إذا اضطر وصلى في ثوبٍ نجس ثم وجد الطاهر قبل خروج الوقت أن يعيد استحباباً، وهذا مذهب بعض العلماء رحمة الله عليهم. قال رحمه الله تعالى: [لا من حُبس في محل نجس]. قوله: [حُبِس] بمعنى أنه ألجأه الوقت أن يصلي في مكانٍ غير طاهر، قالوا: في هذه الحالة يصلي؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فلو كان في مكانٍ نجس ولا يستطيع أن يخرج عنه، فحينئذٍ يصلي وصلاته صحيحة. وهكذا لو استغرق امتناعه عن الخروج مدة وقت الصلاة، فيصلي ولا إعادة عليه؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وهذا ليس بوسعه أن يجد مكاناً طاهراً، فيصلي على حالته.

حكم عدم كفاية الساتر لستر العورة

حكم عدم كفاية الساتر لستر العورة يقول المصنف رحمه الله: [ومن وجد كفاية عورته سترها وإلا فالفرجين فإن لم يكفهما فالدبر]. بعد أن بيَّن المصنف رحمه الله وجوب ستر العورة للصلاة، وأنه ينبغي على كل مصلٍ أن يستر عورته، بيَّن أن من وجد هذا الساتر الذي أمر الله به فينبغي عليه أن يستتر، أما لو كان الإنسان غير واجدٍ للسُّترة التي أمر الله بها، كأن يكون خرج من غرق في البحر، ولا يجد ما يستر به عورته إلا شيئاً يسيراً من الثياب فيستر السوءتين وذلك هو الأصل في العورة، وما زاد على السوءتين إنما هو آخذٌ حكمها بحكم التَّبَع لا بحكم الأصل، فإذا تعارض عندنا ستر السوءة بنفسها -أعني: العورة- وستر ما جاورها قدم ستر العورة على ما جاورها، فيبتدئُ بستر الفرجين، فإذا كان هناك شيءٌ زائد على ما يستر به الفرجين ستره، وأما إذا كان القدر من الثياب الذي معه لا يكفي إلا للفرجين ستر الفرجين. وقوله: (فإن لم يكفهما فالدبر) للعلماء في تقديم أحدهما وجهان: فمنهم من قال: إن المكلف إذا فقد الساتر ولم يجد إلا ما يستر به أحد الفرجين ستر الدبر؛ لأنه أبلغ في الانكشاف خاصةً عند سجوده، ولإمكان ستر القبُل بالمواجهة، وبإنزال اليدين بمحاذاة الفرج دون مسٍ؛ لأن مس الفرج يؤدي إلى انتقاض طهارته وبطلان صلاته. قالوا: فخُفِّف في القبُل وشُدد في الدبر، ولأن القبل يستتر في حال السجود والدبر ينكشف، فأصبح أحد الموضعين أبلغ من الموضع الثاني في الانكشاف، وإذا كان أحد الموضعين أبلغ كان هذا مرجِّحاً لستره على غيره؛ لأن التضرر بانكشافه أبلغ. وقال بعض العلماء: إنه يستر القبُل ويترك الدبر؛ لأنه إذا وقف كان الانكشاف للقبل أبلغ من انكشاف الدبر. والحقيقة أن القول بستر الدبر أبلغ وأقوم، وذلك من وجوه: منها ما ذكروه، ولأن الإنسان يستر في صلاته قبله، ويضعف انكشاف القبل في حال القيام بضم الفخذين إليه، وبالركوع يكون أخف، وكذلك في حال السجود، فأصبح حال الفرجين مختلفاً من جهة الانكشاف، فرُجِّح تقديم الدبر على القبل للوجوه التي ذكرناها.

إعارة العادم السترة وحكم أخذه لها

إعارة العادم السترة وحكم أخذه لها قال رحمه الله تعالى: [وإن أُعِير سُترةً لزمه قبولها] بعد أن بين رحمه الله أنه لا تصح الصلاة إلا بالسترة، وأن هناك أحكاماً تتعلق بالمضطر -وهو الشخص الذي لا يجد السترة- شَرَع بعد ذلك في حكم هذا الشخص الذي لا يجد سترة، فلو أن إنساناً قال له: خذ هذا الثوب عاريةً مني، أو هديةً، أو عطيةً، فإنه يجب عليه قبول هذا الساتر لستر العورة، وذلك لمكان الفرض الواجب عليه بالستر، وهذه من الصور التي يجب فيها قبول العارية والهبة، لا لذات العارية والهبة، ولكن لأنه مطالبٌ بستر عورته، فتوقَّف هذا الواجب -وهو ستر العورة- على قبول العارية والهدية، والقاعدة أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فلذلك قالوا: يلزمه القبول، ولا يجوز له أن يمتنع.

كيفية صلاة العاري منفردا

كيفية صلاة العاري منفرداً قال المصنف رحمه الله: [ويصلي العاري قاعداً بالإيماء استحباباً فيهما]. بعد أن بين الحالة الأولى، وهي التي تتعلق بالإنسان الذي لا يجد السترة من طَوْلِه ومن ماله ووجدها من الغير بين الحالة الثانية، وهي ألا يجد أحداً يتبرع له بالسترة، ولا يمكنه أيضاً ستر أحد الفرجين، فقال رحمه الله: (ويصلي العاري قاعداً)، فلو أن هذا الشخص الذي لا يجد السترة لم يجد من يعطيه سترة أو يعيره السترة، وليس عنده ما يستر به أحد الفرجين فللعلماء في الإنسان العاري إذا أراد أن يصلي وجهان: فمنهم من قال: يصلي قائماً، ومنهم من قال: يصلي قاعداً. وصورة المسألة: لو أن إنساناً غرق، أو جماعةً انكسرت بهم السفينة، فخرجوا وأصبحوا عراةً، أو نزلوا في موضعٍ احترقت عليهم ثيابهم، ولم يجدوا ما يستروا به عوراتهم، فأهل القول الأول قالوا: إذا اجتمعوا أو انفردوا فإنه يصلي الإنسان في هذه الحالة قاعداً، ووجه هذا القول أنهم قالوا: إنه إذا صلى قاعداً فات حق الله عز وجل في القيام، وإذا صلى قائماً فات حق العبد بانكشاف عورته وتضرر فتعارض الحقان، والقاعدة أن حقوق الله أوسع من حقوق العباد، فإذا تعارض الحقان قدم حق العبد على حق الله لا من جهة التفضيل، ولكن من جهة الرحمة واللطف، ولذلك من اضطر في سفر إلى مخمصة وأصابته المجاعة فإن حق الله ألا يأكل الميتة، وحق نفسه أن ينقذها، فقُدِّم حق النفس على حق الله من جهة الرحمة والتوسعة من الله على عباده. فيقولون: إن العاري لو قلنا له: صلِّ قائماً تضرر بحق نفسه بانكشاف عورته وبدو سوءته، وقد سمَّى الله العورة سوءة قال تعالى: {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [طه:121]. فأخبر سبحانه وتعالى أن العورة سوءة، قالوا: سميت سوءةً؛ لأنها تسيء إلى صاحبها عند انكشافها. والقول الثاني: يصلي قائماً ولا يصلي قاعداً؛ لأن الله تعالى قال: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر)، وقال لـ عمران: (صل قائماً). فالأدلة ملزمةٌ بالقيام، قالوا: فإذا قلنا له: اجلس لمكان انكشاف العورة فإننا نقدم الشرط على الركن، والقاعدة أنه إذا ازدحم الشرط والركن قُدِّم الركن على الشرط، فإن القيام ركن، والجلوس من أجل ستر العورة تحصيل للشرط، والذي تطمئن إليه النفس أن الإنسان إذا لم يجد ما يستر به عورته يصلي قائماً، لأمور: أولاً: للأدلة التي دلت على لزوم القيام. ثانياً: أن قولهم بأنه يجلس ولا يقوم إنما هو تقديمٌ للشرط على الركن، والقاعدة أن الأركان مقدمةٌ على الشروط، وهذا بدليل الشرع، فإن الأركان أَلْزَم؛ لأنها تعود إلى حقيقة الصلاة وماهيتها. ثالثاً: أن فقه المسألة أن الإنسان إذا صلى قائماً فإنه ليس بمخلٍ من نفسه؛ لأن الله كلَّفه أن يستر عورته عند القدرة، ولا قدرة له على الستر. فبقي نظر الغير إليه يتعلق إثمه بالناظر، فالله لم يكلفني نظر الغير؛ لأنني إذا لم أجد الطّول فغيري هو الآثم بالنظر، وأصبح التكليف بغض النظر متعلقاً بالغير لا بالمكلف، ولذلك يقوى القول بأنه يُصَلِّي قائماً، ولا يصح منه أن يصلي جالساً لما ذكرناه. وقوله: (استحباباً) أي: لا نوجب عليه ذلك، ومعناه أنه لو صلى قائماً صحت صلاته، وخلاصة القول: يصلي قائماً حتى نخرج من الخلاف؛ لأن من قال: (يصلي قاعداً) لا يُوجِب القعود، وإنما قال: (استحباباً) أي: لا حتماً ولا إيجاباً.

كيفية صلاة العراة جماعة

كيفية صلاة العراة جماعة قال المصنف رحمه الله: [ويكون إمامهم وسطهم]. هذه مسألة من مسائل الإمامة، قالوا: الأصل في الإمام أن يتقدم؛ لأن الإمام مأخوذٌ من الأمام، كما قال ابن منظور في اللسان، والأمام هو الخط الذي يُخط في أول الدار. قالوا: فوصفه في الشرع بالإمامة يدل على تقديمه، فلو تأخر لم يكن إماماً شرعياً من هذا الوصف؛ لأنه يُؤتم به. وقد ثبت في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) أي: من أجل أن يؤتم به، فلما أخبر أن الإمام مؤتمٌ به، فهذا مطلق يشمل الائتمام به في حال تقدمه والائتمام به في حال أدائه للصلاة، ولذلك ينبغي على الإمام أن يتقدم، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يصلي بأصحابه متقدماً لا متأخراً، ولا مساوياً للصفوف إلا في حال الاضطرار، فهذا يستثنى لمكان الضرورة والحاجة. لكن لو أن عراةً اجتمعوا وأرادوا أن يصلوا قال: [ويكون إمامهم وسطهم]، وذلك مما يُغتفر فيه تقدم الإمام على المأمومين، لكن يُنبه على أن الإمام ينبغي عليه أن يتقدم على من بجواره قليلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به)، فهذا يدل على تقدم الإمام ولو قليلاً، كما نبه العلماء رحمهم الله على ذلك، كما في حديث أنس، وهو أحد الوجهين عندهم كما نبه عليه فقهاء الشافعية وغيرهم. فيصلِّي وسطهم، لكنه يتقدم قليلاً، والسبب في هذا أنه إذا تقدم انكشفت عورته، وانكشاف العورة مخلٌ بالصلاة، قالوا: فيتأخر؛ لأن تقدم الإمام هنا أخف من المسألة التي معنا في القيام والقعود، فإن التقدم في الإمامة يغتفر لمكان دلالة النص على الستر، فإن دلالة النص على الستر في النصوص الواردة بالأمر بالستر وستر العورة أقوى من الأمر بتقدم الإمام، فلما أصبحت نصوص ستر العورة أقوى من نصوص تقدم الإمام قالوا: إن الإمام يصلي وسطهم، بمعنى أن يكون داخل الصف. فلو فرضنا أنهم ثلاثة عراة، فإنه يصلي وسطهم، ويكون أحدهم عن يمينه والثاني عن يساره. قالوا: وهذا يغتفر فيه مقامه عن اليسار، وهي من الصور التي يستثنى فيها وقوف المأموم عن يسار الإمام. لكن لو أنه أخره قليلاً فإنه أولى وأحرى، ولا شك أنه لو تأخر قليلاً لا يكون ثَمّ انكشاف كما لو تقدم تقدماً حقيقياً كما يفعله الأئمة. قال رحمه الله تعالى: [ويصلي كل نوعٍ وحده] أي: تصلي النساء على حدة، إذا كن عراةً، والرجال على حدة، تحقيقاً لمقصود الشرع من ستر العورة وعدم تعاطي أسباب انكشافها، فيصلي الرجال مع الرجال والنساء مع النساء؛ لأن اجتماع النساء مع الرجال في هذه الصور فيه الفتنة، وقال بعض العلماء: لا حرج أن يصلي النساء مع الرجال حتى في حال العري؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا إذا سجدوا انكشفت عوراتهم؛ لأنهم لم يكن لهم ما يسترون به العورة من ضيق اللباس في زمانهم رضي الله عنهم وأرضاهم، قالوا: ففي هذه الحالة كون النبي صلى الله عليه وسلم يأمر النساء بالتأخر في رفع رؤوسهن، وإقراره لصلاتهن مع الرجال على هذه الحالة يدل على التخفيف. لكن هذا محل نظر، وذلك من وجوه: أقواها وأولاها أن حال الصحابة رضوان الله عليهم يقع في صورةٍ يمكن تلافيها، وإمامة العراة صورة لا يمكن تلافيها؛ لأن انكشاف العورة من الرجال في عهد الصحابة كان في حال السجود فقط، وبناءً على ذلك يمكن تلافيه، فإن النساء إذا أخرن رفع رؤوسهن وبادرن بالسجود، فإنه يمكن تلافي الفتنة بالنظر، لكن كونهن يصلين والرجال أمامهن منكشفين فإن النساء يحتجن إلى رؤية الإمام ورؤية من يقتدي بالإمام قطعاً حتى يعلمن بالانتقال، خاصة عند كثرة العدد، وبناءً على ذلك فالفتنة غالبة، ولذلك يقوى قول من قال: إنه يصلي الرجال على حدة والنساء على حدة؛ لأن الجماعة متحققة بالنساء على انفرادهن، وبالرجال على انفرادهم. قال المصنف رحمه الله: [فإن شق صلى الرجال واستدبرهم النساء، ثم عكسوا] قوله: [فإن شق] أي: إن شق أن يصلي هؤلاء على حدة، وأن يصلي هؤلاء على حدة، كما لو كانوا في سفينة، وليس معهم ثياب تستر بها العورات، فحينئذٍ يصلي الرجال أولاً والنساء مستدبرات للرجال، ثم تصلي النساء والرجال مستدبرون للنساء؛ لأن القاعدة أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فغض البصر عن النظر إلى العورة واجب، وتوقف في هذه الحالة على حالة الإستدبار، فأصبح الإستدبار لازماً على الرجال ولازماً على النساء.

حكم من صلى عاريا ووجد ساترا أثناء صلاته

حكم من صلى عارياً ووجد ساتراً أثناء صلاته قال المصنف رحمه الله: [فإن وجد سترةً قريبةً في أثناء الصلاة ستر وبنى وإلا ابتدأ] هذه القسمة العقلية، فالإنسان عقلاً لديه ثلاث حالات: إما أن يجد السترة، وإما ألا يجد السترة، وإما أن يجد بعض السترة. فإن وجد السترة لزمه قولاً واحداً أن يستتر، وهذا الأصل. وإن فقد السترة صلى عارياً، وقد بين المصنف حكمه جماعةً وفرادى. وإن وجد بعض السترة فهل يستر القُبُل أو الدبُر، وجهان: أصحهما أن يستر الدبر. ثم بعد هذا شرَع رحمه الله في الحالة الأخيرة، وهي أن من فقد السترة إما أن يفقدها حتى يصلي وينتهي من صلاته، وحينئذٍ الحكم ما تقدم، وإما أن يفقدها وتطرأ أثناء الصلاة، فقال رحمه الله: (فإن وجد سترةً قريبةً في أثناء الصلاة)، كأنه يقول: بيَّنت لك حكم من لم يجد السترة وصلى، هل يصلي قائماً أو قاعداً، وبقي أنها لو طرأت أثناء الصلاة، فحينئذٍ إذا طرأت أثناء الصلاة لَزِمه أخذها، والحركة لأخذ السترة جائزة ومغتفرة؛ لأنها تحصيل لواجب، والحركة لواجب مشروعة، وقد تحرك النبي صلى الله عليه وسلم لمصلحة الصلاة، ألا تُراه عليه الصلاة والسلام رقى منبره، ونزل من المنبر، وتحرك في الصلاة لمصالحها، وحرك أصحابه لمصالح الصلاة، فدفع جابراً وجباراً وراء ظهره، وأخذ بـ ابن عباس من ورائه فأداره عن يمينه، كل هذا يدل على جواز الحركة لمصلحة الصلاة. فلو فرض أنه وجدها أثناء الصلاة، فإنه إن كان العمل قليلاً فحينئذٍ لا إشكال، كما لو جاءه رجل بسترة وناوله وهو في الصلاة، فإن مناولة السترة ووضعها على العاتق قد تكون خفيفة يسيرة، والعمل لذلك يسير، لكن الإشكال لو احتيج إلى أن يتكلف في لبسها لطبيعتها إلى عملٍ كثير، ويمكنه أن يستر بعض الجسد بالعمل اليسير، فهل يقدم الستر للكل بالعمل الكثير أو يُقدم الستر للعورة بالعمل اليسير؟ صورة ذلك لو أعطاك ثوباً، فإن لُبسَ الثوب يقتضي حركةً أكثر مما لو احتزمت بالثوب، وفي حال إذا كان الثوب يحتاج إلى عمل كثير من إدخال اليدين فيه، وتعاطي أسباب اللبس، فحينئذٍ يكون هذا التحرك مدفوعاً بما هو أقل منه محصلاً لواجب الشرع، فإنك إذا ائتَزَرْت به، ووضعت أحد طرفيه على عاتقك حققت مقصود الشرع، وذلك بعملٍ يسير، فيلزمك فعل اليسير وترك الكثير؛ لأن ما جاز للحاجة يقدر بقدرها، فهو محتاجٌ لستر عورته، فالكمال أن يلبس الثوب بكامله، والإجزاءُ أن يلبسه على موضع عورته وقدر ما يجب عليه ستره، فيفعل الواجب عليه ستره. لكن هنا مسألة أشكل من هذه المسألة وأعظم، فلو أن إنساناً كان يصلي وهو قائم، وألزمنا القيام وهو عاري البدن، ثم سقط الثوب بجواره، فحينئذٍ لا يستطيع أن يأخذ الثوب في الغالب إلا بالانحناء، وإذا انحنى انتقل من ركنٍ إلى ركن، فإنه ينتقل من ركن القيام إلى ركن الركوع أو ركن الجلوس، وحينئذٍ هذا الركن زائد في الصلاة، ولذلك أجمع العلماء على أنَّ تَعمُّدَ زيادة الركن في الصلاة يوجب بطلانها، ففي هذه الحالة ينبه بعض مشايخنا رحمة الله عليهم فقالو إنه يرفعه بقدمه ويتناوله ويلبسه ولا ينحني، فيحافظ على هيئات الصلاة ويلبس ثوبه، ويقتصر على أقل ما يتحقق به الواجب. وقوله: [قريبة] أي أن تكون هذه السترة قريبة، وفي هذه الحالة إذا كانت بعيدةً، أو لزمه عملٌ كثير لتعاطيها ولبسها، قالوا لا يجب عليه أن يشتغل بها، بل يتم صلاته. وقوله: [ستر وبنى وإلا ابتدأ]. هذا بالنسبة لحال الإتمام، لكن لو صاح عليه صائح وقال: لك ثياب عند محمد أو زيد فيلزمه قطع الصلاة، ثم يذهب ويلبس ويصلي مستتر العورة. فلو طرأ أثناء الصلاة وجود سترة تحتاج إلى عملٍ كثير، أو ذهاب إلى موضع، ويمكنه ذلك قبل خروج الوقت يقطع ويذهب؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإنما جاز له أن يصلي في حال الفقد، أما في حال الوَجْد فلا يصح منه أن يصلي في حال قدرته على ستر العورة على هذا الوجه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم كشف الفخذ في غير الصلاة

حكم كشف الفخذ في غير الصلاة Q إن الأحاديث التي وردت بحد العورة مطلقة ضعفها أهل العلم، وحسنُوا المقيد بالصلاة، فهل يُفهم من ذلك أن الفخذ خارج الصلاة ليس بعورة؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فنحن ذكرنا أن الأحاديث المطلقة مضعَّفة، والأحاديث المقيدة بالصلاة محسَّنة وثابتة ويعمل بها، ولكن ليس معنى هذا أنه يجوز للإنسان أن يخرج وعورته مكشوفة. ولذلك قالوا: إن كشف بعض أعضاء البدن إذا جرى العرف بسترها مخلٌ بالمروءة. ويقولون: إن من خوارم المروءة أن يفعل الإنسان ما أبيح له سراً أمام الناس جهراً، ككشف بعض أعضاء الجسم إذا جرى العُرف بتغطيته كالرأس، قالوا إنه يعتبر مسقطاً للمروءة، كما قال القائل: وما أبيح وهو في العيان يقدح في مروءة الإنسان فقالوا: إنه قد يكون الشيء في أصله جائزاً، لكنه من باب المروءة وتعاطي الكمال يجب ستره، وهذا فيما زاد عن حد العورة، كأعالي البدن، فلو أن إنساناً خرج في السوق كاشفاً عن صدره، أو لبس ما يُسمى (بالفنايل)، وجاء أمام الناس لابساً سرواله وفنيلته، فهذا خلاف العُرف، لكن لو كان صانعاً، أو صاحب صنعةٍ أو مهنة، ولبس هذا اللباس أثناء عمله ومهنته فلا حرج ولا عتب عليه، لكن إذا جاء إلى مجامع الناس بهذا اللبس فإنه تسقط مروءته وترد شهادته، قالوا: لأن هذا نقصٌ في العقل، وناقص العقل لا تقبل شهادته، ومن أهل العلم من استدل له بما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت). قال الشاعر: يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء فالإنسان إذا استحيا كملت مروءته، بل قالوا: إنه لا يستحيي إلا من كان كامل العقل، أعني الحياء المحمود الذي يحمل على مكارم الأخلاق. ومن مكارم الأخلاق ما ذكرناه من عدم تعاطي الألبسة، أو كشف الأمور التي لم يجر العرف بكشفها، ويستحب للإنسان أن يراعي هذا خاصةً في الأعراف، فيساير العرف الذي هو فيه إذا كان العرف على الكمال، أما لو كان العرف على النقص فلا يسايره، فلو كان العرف درج على لبسٍ يخل بالمروءة، أو على لبس متهتك يخالف شرع الله، فإنه لا يعتبر عرفاً. قال الناظم: وليس بالمفيد جري العيدِ بخلف أمر المبدئ المعيدِ والعرف إن خالف أمر الباري وجب أن ينبذ في البراري فلا قيمة للعرف ما دام أنه يعارض الشرع، ومثل العلماء لذلك فقالوا: لو جرى العرف بحلق اللحية لم يكن عرفاً معتبراً؛ لأنه يُصادم الشرع. فالمراد بالأعراف المعتبرة الأعراف التي توافق الشرع، وتوافق مكارم الأخلاق ومحاسن العادات وجميل الطباع، فهذا هو العرف المعوَّل عليه، والله تعالى أعلم.

باب شروط الصلاة [5]

شرح زاد المستقنع - باب شروط الصلاة [5] كثيراً ما يقع العبد المسلم في أمورٍ قد تخل بصلاته، لذا وجب على كل مصل معرفة شروط الصلاة؛ كستر العورة وما يخصها من أحكام، وما يكره في الصلاة وما يحرم فيها حتى تكون صلاته صحيحة.

ما يكره فعله في الصلاة

ما يكره فعله في الصلاة

السدل في الصلاة

السدل في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويكره في الصلاة السدل]. نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السدل كما في حديث أبي داود الذي حسن العلماء إسناده: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن السدل في الصلاة)، وبين العلماء رحمهم الله هذا السدل وهو أن يرسل طرفي الرداء دون أن يضمهما أو يجعلهما على أحد عاتقيه، كما في الإحرام يكون الإزار لأسفل البدن، والرداء لأعلاه، فإذا جاء الإنسان يصلي فإنه إذا سدل يكون منفتح الصدر، وهذه الهيئة لا تليق والعبد واقف بين يدي الله عز وجل، ولذلك لو دخل عليه إنسان يجله ويكرمه فإنه مباشرة سيضم ذلك الرداء، ولا يرى من نفسه أن يكشف صدره ما دام أمكنه أن يحجبه. ولذلك يرمي بطرف الرداء إذا أراد أن يصلي، أو على الأقل يضمه، وإذا كان في غير الإحرام شَبَكه، فجعل له مشبكاً أو زَّرره إذا كان له أزراراً، لكن استُثنِي من هذا ما جرت العادة بلبسه مع وجود ما هو دونه مثل العباءة والبشت، فقد أجاز العلماء رحمهم الله أن يرسله؛ لأن العلة غير موجودة فيه، فإن السدل المراد به ما يؤدي إلى الانكشاف، ولذلك يقولون: ما كان معللاً فإنه يدور مع علة الحكم وجوداً وعدماً. وبناءً على هذا لو كان جرى العرف أنه يُسدَل فلا حرج عليه أن يصلي سادلاً، ولكن مع هذا فالأكمل والأولى أنه يضُم طرفي عباءته حتى يكون ذلك أبعد عن الشبهة.

اشتمال الصماء في الصلاة

اشتمال الصماء في الصلاة قال رحمه الله تعالى: [واشتمال الصماء] يقال: حجرةٌ صماء. إذا لم يكن فيها منفذ، واشتمال الصماء فيه أقوال للعلماء: أقواها وأولاها أن يأخذ الثوب ويتلحَّف به على وجهٍ لا يوجد فيه لليدين أو لأحدهما منفذ. فبعض الناس في شدة البرد يأتي بالغطاء الذي هو الرداء على أعلى البدن، ويتوشح به على طريقة لا يستطيع أن يخرج يده لو دهمه عدو أو سبع، أو أرادته دابة أو هامة، فلا يستطيع أن يعاجل لدفع هذا الضرر، فنُهِي عن هذا الاشتمال، وهذا وجه. وقيل: أن يأخذ الثوب ويتلحَّف به ويرده على عاتقيه فينكشف فرجه، قالوا: وهذا وجه من الأوجه التي نهي عنها. وورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه تفسيره بالوجه الذي ذكرناه، وبناءً على ذلك، فإن قلنا: السدل هو أن يضم الثوب، ويكون الثوب أصم لا منفذ فيه تكون العلة خوف الضرر على الإنسان؛ لأنه ربما في بعض الأحيان خاصة إذا كان يمشي يفاجأ بحية أو سبع أو عدو، فإذا كان مشتملاً للصماء فلا يستطيع أن ينزع سلاحه، أو يكبح عدوه، ولا أن يدفع الضرر عنه، قالوا: فنُهِي عنها من أجل مضرة البدن. والوجه الثاني: لخوف انكشاف العورة، فإذا التحف بالثوب الواحد فلو تحرك منه انكشفت عورته على الصورة التي ذكرناها، وكل هذه الصور منهي عنها، لكن الخلاف في المراد باشتمال الصماء، وهذا مثله نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الملامسة، فالإجماع منعقد على أن بيع الملامسة لا يجوز، سواءٌ أقلنا: الملامسة أن يقول له: أبيعك ثوبي على أن يقوم لمسك مقام نظرك، أم قلنا: أن يقول له: إذا لمست الثوب فهو عليك بعشرة، أو إذا لمست الثوب انقطع الخيار عنك، فكل هذه الصور في الأصل محرمة، لكن الخلاف أيها المراد بالحديث، فينبغي أن يُتَنَبه أن خلاف العلماء في اشتمال الصماء هنا إنما هو الخلاف في المراد بالحديث، لكن لو أن إنساناً التحف بالثوب بطريقة تنكشف بها العورة نقول: هذا حرام، سواءٌ أكان هو اشتمال الصماء أم لم يكن؛ لأن الشرع لا يجيز انكشاف العورة، ولا يجيز لبس الثياب على وجهٍ تنكشف به السوءة. كذلك لو قلنا: إن اشتمال الصماء لا يشمل التلحف بالثوب، فإن التلحف بالثوب على وجهٍ لا يتمكن الإنسان معه من دفع العدو أو الدابة أو الهامة منهيٌ عنه؛ لمكان الضرر بالبدن.

تغطية الوجه في الصلاة

تغطية الوجه في الصلاة قال رحمه الله تعالى: [وتغطية وجهه]. ذلك لأنه ورد حديث أبي داود في النهي عن تغطية الوجه في الصلاة، ولأنه إذا غطى وجهه في الصلاة شابه اليهود، فإن اليهود في معابدهم يغطون، فنُهِي عن هذا لئلا يكون فيه مشابهة لليهود، كما نهي عن التشبيك لمن عَمِد إلى الصلاة، أو جلس في الصلاة ينتظرها، أو كان في الصلاة؛ لأن فيه مشابهةً لليهود. وكذلك أيضاً لأنه إذا غطى وجهه في الصلاة فإنه يمنعه من مباشرة السجود عليه، والسجود على الجبهة والأنف مقصودٌ في حديث السبعة الأعظم التي أُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بالسجود عليها كما في حديث ابن عباس في الصحيح.

وضع اللثام على الفم والأنف في الصلاة

وضع اللثام على الفم والأنف في الصلاة قال رحمه الله تعالى: [واللثام على فمه وأنفه]. أي: يستوي أن يغطي وجهه كليةً، أو جزئياً فيجعل اللثام على أنفه، أو يجعله على فهمه، قال بعض العلماء: إنه إذا جعل اللثام على فمه منع من خروج الحروف وإحسان القراءة، ومنع من تبينها إذا كان إماماً، فنهي عن هذا من أجل هذا الوجه. وقال العلماء: إن المقام بين يدي الله في الصلاة مقام هيبةٍ وإجلالٍ وتعظيمٍ لله عز وجل وتوقير، فإذا تلثَّم فإن هذا لا يتناسب مع حال المصلي الواقف بين يدي الله عز وجل.

كف الكم ولفه في الصلاة

كف الكم ولفه في الصلاة قال رحمه الله تعالى: [وكف كمه ولفه] كف الكم ولفه تلك الصورتان منهيٌ عنهما. وكف الكم هو أنه إذا أراد أن يسجد ضم كف كمه إليه؛ لأنه إذا سجد ربما اتسخ الكم، قالوا: إن هذا كف الكم. وأما لفه فصورته أن يلفه حتى يَنْشَمِر ويرتفع إلى العَضُد أو إلى نصف الساعد، فهذه الصورة لا تليق بمن وقف بين يدي الله؛ لأنها صورة العمل، والعامل إذا أراد أن يقوم بمهنته وعمله كفَّ ثوبه، وكذلك لَفَّ الثوب، ولذلك نهي عن هذا الكف؛ لأنه لا يليق بمقام العبد بين يدي الله، ولذلك لو دُعِيَ إنسانٍ ليدخل على إنسانٍ يجله ويكرمه ويعظمه لما دخل مشمر اليدين؛ لأنها هيئة لا تليق بالدخول على العظيم أو من يراد تعظيمه، ولله المثل الأعلى، فناسب أن يكون موقف الإنسان بين يدي الله عز وجل على غير هذه الصورة. وهذا يقع فيه كثير من الناس بسبب الخطأ والجهل، فهم يتوضئون، ثم يأتون مباشرة وقد حسر أحدهم عن ذراعيه، فيكبر ويصلي وهو حاسر الذراعين، وهذا -كما قلنا- لا يليق بالمصلي أن يفعله، والأدهى من ذلك أنه أثناء الصلاة يفك هذا اللفاف عن يديه، وهذا اشتغال، ولا ينبغي للإنسان أن يشتغل به إلا في حالة واحدة، وهي أن ينسى ذلك، ثم يتذكر في الصلاة، قالوا: فإنه يتعاطاه من باب تحصيل الواجب، وهو أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كف الثوب يقتضي خروجه عن هذه الصورة فيُلزم به.

شد الوسط في الصلاة

شد الوسط في الصلاة قوله: [وشد وسطه كزنار]. كان قديماً إذا فُتِحت بلاد الكفار وفيها قومٌ من أهل الكتاب من أهل الذمة يُلزَمُون بلبس معين يختص بهم حتى لا يشابه المسلمين؛ لأن لهم أحكاماً تخصهم، فربما أنهم لو اختلطوا بالمسلمين ولبسوا لباسهم سُلِّمَ عليهم وعوملوا معاملة المسلمين، وذلك تكريمٌ لهم، والشرع قصد إهانتهم كما قال تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18]، فلذلك الكفار إذا كانوا تحت حكم المسلمين يُذلون، وهذا أصل شرعي في حدود اشتمل عليها كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل الذمة، والذي شرحه الإمام ابن القيم في كتابه النفيس: (أحكام أهل الذمة). فمن هذه الأحكام أنه يُشَد وسطهم بالزنار، وهو نوع من اللباس يجمع على وسطهم حتى يتميزوا عن المسلمين، ويكون هذا علامة لهم على أنهم من أهل الكتاب، فلا تُعطَى لهم أحكام المسلمين في الظاهر، فإذا أراد أن يصلي المصلي لا يشد وسطه كالزنار، أي: كشد الزنار. أما لبس الزنار ذاته فإنه منهي عنه؛ لأن فيه مشابهة للكفار، ولا تجوز مشابهتهم. لكن لو صلى الإنسان فلا ينبغي أن يصلي وقد رفع ثوبه أو شمَر وسطه، ويستوي في ذلك أن يرفع طرف الثوب ويضمه، مثلما يفعله بعض العمال أثناء عملهم، حيث يرفع الطرف الأسفل ثم يشد الوسط، أو يجعل الثوب مرخياً ويأتي بعمامته ويشدها في الوسط، كمن أراد أن يحمل شيئاً حتى يتمكن من حمله بقوة الوسط، فيجعل في وسطه حزاماً أو عمامةً، فهذا منهي عنه، لكن لو كان اللباس يُحتاج إليه، كإنسان يعمل في حدادة أو نجارة، ويلبس البنطال واحتاج أن يشده بحزام، لخوف انكشاف عورته، فلربما انحسر هذا الساتر عن عورته لو لم يشد، فحينئذٍ لا حرج عليه، إنما المراد بالشد الذي ينبئ عن الصورة الناقصة في المصلِّي، مثلما يقع في الثياب يُوضَع في وسطها ما يُشَد، أما لو كان من طبيعة اللباس فهذا مستثنىً ولا حرج فيه.

ما يحرم فعله في الصلاة

ما يحرم فعله في الصلاة

الخيلاء بالثوب وغيره في الصلاة

الخيلاء بالثوب وغيره في الصلاة قال المصنف رحمه الله: [وتحرم الخيلاء في ثوبٍ وغيره]. لما ثبت من حديث أبي ذر في الصحيحين: أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (ثلاثة لا يكلمهم الله عز وجل يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب). وجاء في الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء)، قالوا: نهى عن الإسبال وتَوَعَد بسببه بهذا الوعيد لما فيه من الخيلاء والتبختر، والحديث الثاني في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء) يؤكد هذا المعنى، وكذلك ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد إعطاء سيفه في غزوة أحد قال: (من يأخذه بحقه؟ فقالوا: وما حقه يا رسول الله؟ قال: أن يضرب به العدو فتقاعس القوم، فخرج أبو دجانة رضي الله عنه وأرضاه، وعصب عصابته الحمراء وأخذ السيف وتبختر في مشيته، فأخذ يختال بين الصفين، فقال عليه الصلاة والسلام: إنها مشية يبغضها الله إلا في هذا الموضع). فالخيلاء والتبختر في المشي منهيٌ عنه، واعتبر العلماء رحمهم الله أن من تبختر واختال في مشيته أنه من أهل الكبائر، أي: أنه فاسق بهذه المشية، ولو مرةً واحدة، فلو أن أحداً اختال في مشيته، أو جر ثوبه خيلاء فإنه يعتبر متوعَّداً بهذا الوعيد، إلا أن يتوب فيتوب الله عليه. فالخيلاء لا يجوز، لا في المشي ولا في الثوب، والخيلاء في الثوب تكون بجره وإسباله، وكذلك ربما تكون في صورة المشية، كأن ترى الإنسان يختال اختيال العظيم، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بينما رجل ممن كان قبلكم عليه بردان له يتبختر فيهما، إذ نظر إلى عطفيه فأعجب بنفسه، فخسف به فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة). فهذا يدل على أنه لا يجوز لمسلم أن يختال، أو أن يكون من أهل الخيلاء، بل ينبغي عليه التواضع والذلة لله عز وجل.

الصلاة في ثوب فيه تصاوير

الصلاة في ثوب فيه تصاوير قال المصنف رحمه الله: [والتصوير واستعماله] قوله: [والتصوير] تفعيلٌ من الصور، والتصوير سواءٌ أكان باليد أم بآلة، فإنه داخلٌ في عموم الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (ولعن المصورين)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون). وقد دلت السنة الصحيحة على أن المراد من التصوير إيجاد مثل الخلقة، بغض النظر عن كون المصور أوجدها بآلةٍ أو بنفسه، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (يقول الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي)، والكاف تقتضي التشبيه، بغض النظر عن كونه شابه الصورة من كل وجهٍ بآلة، أو لم يشابهها فكان قريباً من الصورة الأصلية، فيشمل ذلك التصوير بآلة والتصوير بالفعل. والدليل الثاني على دخول التصوير بالآلة في النهي أن الصورة التي أخرجتها الآلة لو سُئِل الإنسان عنها: أهي خِلقة الله أو مثل خلقة الله، لأجاب -قطعاً- أنها مثل خلقة الله، فليست هي الخلقة الحقيقية، وقد قال تعالى: (ممن ذهب يخلق كخلقي)، وهذا يستوي فيه أن يكون بآلةً، أو بالشخص نفسه بفعل يده. وكون الإنسان يصور بهذه الصورة يوجب وقوعه في المحظور. فالمصوِّر ولو بآلة يعتبر مصِّوراً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)، وهذا مطلق يشمل أي حالةٍ تم بها التصوير، فمن قيد احتاج إلى دليل، وقولهم: إن التصوير بالآلة كالمرآة هذا قياس مصادمٌ للعموم؛ لأنه قياسٌ مع الفارق، ووجه الفارق أن الصورة في المرآة لا تثبت، والصورة بالآلة ثابتة، والأمر الثاني: أن الصورة في المرآة كانت للخلقة نفسها، فهي محاكاة الخلقة دون ثبوت، والصورة بالآلة محاكاة الخلقة مع الثبوت، فأصبح فعل المكلف بالزيادة على الآلة موجوداً، ولأن المصوِّر بالآلة يحتاج إلى تحميض، وهذا التحميض لا شك أنه فعلٌ للتصوير، ولذلك لا يُشَك أن التصوير بالآلة كالتصوير بالفعل، فلو قال قائل: إن التصوير بالآلة يحكي صورة الإنسان نقول: إذاً لو صور المصور الماهر صورة الإنسان على حقيقته لما كان مصوراً. والأمر الثالث: أنه ينتقض هذا القياس بالنظير، فلو سألنا وقلنا: لو أن إنساناً أوجد آلةً تخرج تمثال الإنسان بعد تصويره، فتطبع صورة الإنسان وتخرجه بالجِرم بنفس الصورة التي التقطت، لقيل: الإجماع على أن ذلك محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صورة تمثال). إذن هذه نفس الصورة، فإن كانت الآلة غير داخلة في التحريم فهذه أخرجتها الآلة، وإن كانت المشابهة تمنع التحريم فهذا مشابه، مع أننا حكمنا بالحرمة في كلتا الصورتين، ولذلك يقوى القول بالتعميم، لكن إذا وُجِدت الضرورة أو الحاجة في الصور لا حرج، كحاجة الإنسان إليها في معاملة استخراج الجواز، أو إثبات الهوية؛ لأنه لولا ذلك لضاعت مصالح العباد، ولحصلت مفاسد وشرور عظيمة، فهذا من باب الضرورة، ولا حرج في هذه الحالة. أما إذا لم تُوجَد الحاجة فالأصل التحريم وأنه لا يجوز، والفتنة الموجودة في صورة اليد كالفتنة الموجودة بصورة الآلة، بل الفتنة بصورة الآلة أعظم من الفتنة بصورة اليد، فالحقيقة أن الذي تطمئن إليه النفس أن مجرد وجود الآلة لا يكفي لزوال التحريم، فإن الآلة ليست بنفسها التي تصور، ومن قال: إنها تصور بنفسها لا شك أنه يكابر في الحس، أليست الآلة يُضْغَط عليها؟! ومن ضغط عليها لا يختلف اثنان في تسميته مصوراً، إذاً هو مصور، فدخل في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون) هذا أمر. الأمر الثاني: أنه إذا طبع بالآلة حمَّض الصورة، ولو كانت صورةً فورية احتاج إلى دلكها، ولا بد من معرفة حقيقة التصوير حتى نحكم، ولذلك حقيقته تدل على وجود فعل المكلَّف، فالآلة إنما هي وسيلة، كالقلم الذي يُراش به، وكالمواد التي تعين على خروج النظير والظل. ولذلك الذي يظهر -والعلم عند الله- هو القول بالتحريم سواءٌ أكان عن طريق الظل أم كان عن طريق فعل اليد. فيَحرُم التصوير، وهو من كبائر الذنوب؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن المصور وقال: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)، (يقال لهم: أحيوا ما خلقتم). ويحرم استعماله إلا من ضرورةٍ وحاجة، فلو أن إنساناً عنده صور للذكرى يأثم ببقائها، قال علي رضي الله عنه لـ أبي الهياج: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)، فهذا يدل على أنه لا يجوز استعمالها، وبناءً على ذلك يحرُم الاستعمال ويحرُم الإيجاد والفعل.

الصلاة في ثوب منسوج أو مموه بذهب

الصلاة في ثوب منسوج أو مموه بذهب قال المصنف رحمه الله: [ويحرم استعمال منسوج أو مموه بذهبٍ قبل استحالته]. ذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرم الذهب، ويحرم استعمال الذهب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة). فلا يجوز استعمال الذهب والفضة في الطعام والشراب في الآنية وهي مصلحة حاجية، فيكون من باب أولى إذا لم توجد الحاجة وهي المصلحة الكمالية، وبناءً على ذلك يكون تنبيه الشرع على الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة تنبيهٌ بالأعلى على ما هو أدنى منه، فلا يجوز استعمالهما في الأقلام، ولا في الساعات، ولا في غيرها، إلا ما ورد استثناؤه بالشرع بلبس المرأة ولبس الرجل؛ لقوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] عن النساء، ولبس الرجل للفضة في خاتمه كما أُثِر عنه عليه الصلاة والسلام في تختمه بالوَرِق. وأما استعمالها في الأقلام وغيرها فهذا لا يجوز، والأصل تحريمه، والاستثناء إنما يكون في خاتم الوَرِق، وحديث أم سلمة رضي الله عنها: (دونكم الفضة فالعبوا بها لعباً) المراد به التختُّم، فإن الإنسان إذا تختَّم لعب بالخاتم لعباً، ولو قيل: إن المراد (العبوا بها لعباً) يعني: استعملوها، فهذا تعبيرٌ مجازي، والقاعدة أنه إذا تعارض المعنى في قوله: (العبوا لعباً) بين الحقيقة التي هي اللعب الحقيقي، وبين المجاز الذي هو المعنى الحكمي، فإنه ينبغي صرف اللفظ على الحقيقة إلا بدليلٍ يوجب العدول عنها إلى المجاز. فلا يستعمل ما فيه ذهب، سواءٌ أكان في الثياب، أم البُسُط، أم الأبواب، أم في غيرها من أدوات البيوت أو في السيارة أو غيرها؛ لأن هذا أصل عام، فلا يجوز استعمالها إلا بما ذكرناه من تحلِّي النساء على الصورة التي ذكرناها سواءٌ أكانت بذهب أم فضة، وتحلي الرجال بالفضة في الخاتم، سواءٌ أكان إنساناً يحتاج إلى الخاتم أم لا يحتاجه. وقوله: [أو مموه بذهب] كالكاسات مثلاً تموَّه بالذهب، أو تُطْلى بالذهب، أو الساعة تطلى بالذهب، فهذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم قليل الذهب وكثيره، وقد استثنى بعض فقهاء الشافعية وبعض فقهاء الحنابلة اليسير المموه، وهذا استحسان، ولا يصح الاستحسان مع دليل العموم، ولذلك الاستحسان لا يقوى في مثل هذا، بل يُبقَى على الأصل الذي يدل على التحريم.

الصلاة في ثوب الحرير

الصلاة في ثوب الحرير قال رحمه الله تعالى: [وثياب حرير]. وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الحرير والذهب فقال: (هذان محرمان على ذكور أمتي، حلال لإناثهم). فدل على أنه لا يجوز لبس الذكر للحرير. ولبس الحرير يستثنى منه قدر أربع أصابع، وذلك لحديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير إلا هكذا، وجمع بين السبابة والوسطى)، وقال ابن عمر: أو ثلاث أصابع أو أربع أصابع كما في الرواية الثانية. فقدر الأربعة أصابع من الثوب مستثنى من الحرير. وللعلماء وجهان، قال بعضهم: إنه أخذ من هذا الحديث بالأربعة الأصابع، وأخذ من حديث الحلة التي لبسها عليه الصلاة والسلام وكان سداها من حرير -والحديث فيه كلام- أنه ينظر في الملبوس: فإن كان أكثره حريراً حرُم، وإن كان أقله حريراً ولو أكثر من أربع أصابع يجوز. والصحيح أنه لا يستثنى من الحرير إلا قدر الأربعة الأصابع فقط، خلافاً للجمهور الذين قالوا: إنه يُستثنى إذا كان -مثلاً- قطناً وحريراً، وكان القطن أكثر، فقالوا: يجوز في هذه الحالة أن يلبس. والصحيح أن المستثنى قدر الأربعة الأصابع، وحديث الحُلَّة فيه ضعف في السند، وشك الراوي من جهة السداة أو تجويفة الحلة، ولا شك أنه إذا كان سداها بالطرف لا يصل إلى الأكثر. قال رحمه الله تعالى: [وما هو أكثر ظهوراً على الذكور] هذا مثل ما ذكرناه، فإذا كان أكثر ظهوراً بالنسبة للملبوس فإنه يحرم، لكن لو كان أقل -بناءً على مذهب الجمهور- يجوز، ولكن الصحيح قدر أربع أصابع فقط، أما إذا كان حريراً خالصاً فبالإجماع لا يجوز. قال رحمه الله تعالى: [لا إذا استويا]. في حال استوائهما قال بعض العلماء: يبقى على الأصل من الحرمة؛ لأن الاستواء داخل تحت دليل العموم الذي ينهى، ويبقى المستثنَى فقط إذا كان أقل وهذا صحيحٌ من جهة الأصول. قال رحمه الله تعالى: [ولضرورةٍٍ] أي: يجوز للرجل أن يلبس الحرير لضرورة، والضرورة جاء بها النص في حديث عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام، فإنهما سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخِّص لهما في لبس الحرير من الحكة ومن القمل، فأجاز لهما لبس الحرير من أجل الحكة؛ لأن الإنسان الذي معه حساسية في جلده إذا كان الثوب خشناً أثار الجلد وألهبه، لكنَّ ثوب الحرير يخفف احتكاك الجسم وثوران الجلد. قالوا: فرَخَّصَ النبي صلى الله عليه وسلم لهما، وهذا من باب الاضطرار، لكن ينبغي أن يفهم أمر، وهو أنه ليس المراد بجواز لبس من به حكة للحرير الإطلاق، بل يتقيد بالكل والجزء، فإن كانت الحكة في جميع البدن لبس ثوباً باطنه من الحرير وظاهره من غير الحرير ولا حرج عليه، فإذا تعذر عليه ولبس ثوباً كله حرير لا حرج. الأمر الثاني: لو أن يده فيها الحكة وبقية بدنه لا حكة فيها، فإنه يجعل بطانة الثوب لليد من حرير، وأما ما عداه فإنه يبقى على الأصل الموجب لعدم جواز اللبس. وقوله: [وحكةٍ أو مرضٍ أو جرب]. كل هذا من باب التمثيل للضرورة. وفي نسخة (حرب)، ففي الحرب قالوا: يجوز أن يلبس الحرير من باب إغاظة الكافر، والحقيقة هذا الاستثناء لا أعرف له دليلاً صحيحاً يدل عليه. وإنما قالوا اجتهاداً: إن العدو إذا نظر إلى المسلمين وهم في نعمة هابهم. ولكن الحقيقة أن هذا لا يقوى على الاستثناء من النهي، فإن الهيبة تتحصل بأمور أخرى غير ما ذُكِر من اقتراف ما نهى الله عز وجل عنه، وقد أمَر الله عز وجل عند لقاء العدو بتقواه، وهي السلاح العظيم الذي يثبُت به العبد أمام عدوه، ولذلك ينبغي الرجوع إلى أصول الشرع وعدم الاجتهاد في هذا، وعدم تحليل ما حرَّم الله عز وجل بهذا الاجتهاد، ويُبقى على الأصل الذي يوجب عدم جواز لبس الحرير، سواءٌ أكان في لقاء عدوٍ أم غيره. لكن بعض العلماء قال: لعل استثناء الفقهاء بلبس الحرير في الحرب مبني على أن الأسلحة في القديم ربما تكون خشنة، وربما يكون ملمسها خشناً يضر بالبدن، فإذا لُبِس الحرير كان أرفق باحتكاك هذه الأسلحة أو حملها على العواتق، أو نحو ذلك. فإذا وجدت حاجة من مثل هذا فلا حرج، فيكون أشبه بالحاجة إلى الحكة والجرب. أما أن يُلبس من أجل إشعار العدو بالنعمة فلا، بل نقول: إن هذا يغري العدو أكثر، فإن العدو إذا رأى النعمة على المسلمين قال: هؤلاء إذا قتلناهم غنمنا خيراً كثيراً. فالأولى البقاء على الأصل الذي يدل على عدم الجواز وهو أولى وأحرى. وقوله: [أو حشواً] أي: ما يكون بالحشو في الداخل. وقوله: [أو كان علماً أربع أصابع فما دون] أي: يكون في طرف الثوب، على أن الاستثناء لأربع أصابع، فلا حرج، لما ذكرناه من حديث ابن عمر. وقوله: [أو رقاعٍ] الرقاع: جمع رقعة، والثوب يتخرَّق فيحتاج الإنسان أن يرقع هذه الشقوق، فيأخذ الرقعة دون الأربعة أصابع، ولا حرج. وقال بعض العلماء: لا تتقيد بالأربعة أصابع، بناءً على مذهب الجمهور، وقلنا: الصحيح تقيدها بالأربعة أصابع، وما زاد عن أربعة أصابع فلا. قوله: [أو لبنة جيبٍ] هي التي تكون في الرقبة، والجيب الذي يُدخَل منه الرأس فتكون له لبنة، يعني تكون مثل ما تُسمى في عرف الناس بالياقة اليوم، فهذه في بعض الأحيان تجعل من الحرير، ولا بأس إذا كانت في حدود أربع أصابع. وقوله: (وسجف فراءٍ) الفراء: من الفرو، وهو معروف، والسجف يكون في أطرافه، مثلما يوجد الآن في بعض الفراء الذي يُلبس في الشتاء، فيجعل في أطرافه قدر أصبعين أو ثلاث أصابع تكون على أطراف السجف، أو تكون من الأسفل في هذه الأطراف، فلا حرج عليه، لكن شريطة ألا تتجاوز الأربعة الأصابع.

حكم الصلاة في الثوب المعصفر والمزعفر

حكم الصلاة في الثوب المعصفر والمزعفر قال المصنف رحمه الله: [ويكره المعصفر والمزعفر للرجال] قوله: (ويكره المعصفر) الصحيح تحريم المعصفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه ونهى عن لبسه، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث، والمعصفر نوعٌ من الثياب يُصبَغ بالعُصْفر، وهذا النوع يكون أقرب إلى لون البرتقال إذا اشتدت حمرته، فيكون الصفار داخلاً في الحمار الغامق، فهذا لون العُصْفُر، وتصبغ به الثياب، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه. وقال بعض العلماء: إن هذا يقتضي تحريم الحُمرة، أن يلبس اللباس الأحمر وهذا ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه لبس حلةً حمراء، فلا حرج في لبس الأحمر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لبسه، والمعصفَر شيء والأحمر شيء آخر، ولا يمكن الحكم بتعارض النصين إلا إذا استويا دلالةً وثبوتاً، وما ورد من الأحاديث التي فيها النهي عن الأحمر فضعيفة لا تخلو من مقال، ولذلك يبقى الأصل جواز لبس الأحمر، بل قد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه لبس حلةً حمراء. والمزعفر: الذي به زعفران، وكانت تصبغ به الثياب، وثبت قوله عليه الصلاة والسلام في الْمُحْرِم في حديث ابن عمر في الصحيحين: (ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس)، فالزعفران كانت تصبغ به الثياب، فيجمع بين الأمرين: طيب رائحته، وجمال لونه. قالوا: هذا يختص بهذين النوعين، لورود النهي عن لبسهما عن النبي صلى الله عليه وسلم للرجال دون النساء، أما المرأة فإنه يجوز. لكن المرأة لا يجوز لها أن تلبس المعصفر في الحداد، كما سيأتي إن شاء الله في باب الحداد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس المعصفر والممشق، وسيأتي الكلام على هذا الحديث في باب الحداد إن شاء الله.

الأسئلة

الأسئلة

الجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم في رحله.

الجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم في رحله ... ) وقوله: (لا تصلوا صلاة في يوم مرتين) Q كيف يجمع بين حديث: (إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه، فإنها له نافلة)، وحديث: (لا تصلوا صلاةً في يوم مرتين)؟ A أما أمره عليه الصلاة والسلام بإعادة الصلاة لمن دخل المسجد فهو ثابتٌ في أكثر من حديث: أولها: ما ثبت في الصحيح في قصة الرجلين في خيف منى: (أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح، ورآهما لم يصليا، فقال عليه الصلاة والسلام: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: يا رسول الله! كنا قد صلينا في رحالنا، قال: فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة). ومنها: حديث أبي ذر رضي الله عنه: (صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل، فإنها لك نافلة). فهذه الأحاديث تقتضي جواز الإعادة، وأنه يُشرع إعادة الصلاة، بل ظاهرها الأمر الذي يدل على الوجوب، وأما كيف يُجمع بينها وبين حديث ميمونة: (لا تعاد الصلاة في يوم مرتين) فقال بعض العلماء: درجة الأحاديث التي توجِب الإعادة أقوى في الصحة من حديث ميمونة، فيقدَّم الأصح على الصحيح، والأعلى ثبوتاً على ما هو أدنى، فهذا وجهٌ من يُقَدِّم حديث الأمر بالإعادة. والوجه الثاني قالوا: لا تعارض بين عامٍ وخاص، فالنهي على عمومه وهذه حالةٌ خاصة، والقاعدة: لا تعارض بين عامٍ وخاص، وهذا أقوى الأوجه، وأميل إليه، فهذان الوجهان مسلك من يقول: إنه يعيد. وأما من يقول: لا يعيد، فيتفرقون على طوائف: الطائفة الأولى يقولون: لا يعيد في صلاة كصلاة الصبح والفجر لورود النهي عن الصلاة بعد الصبح والفجر، وهذا ضعيف؛ لأن حديث خيف مِنى وقع في صلاة الصبح. وقالت الطائفة الثانية: لا يعيد المغرب؛ لأنه إذا أعادها أوتر في الليلة مرتين. ويُجاب عنه من وجهين: أحدهما: إما أن يؤمر بنقض الوتر بركعة، وهذا وجه، أو يقال: إن الوتر يبتدئ وقته بدخول وقت العشاء لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم: الوتر جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر)، فوقت الوتر جعله بين صلاة الصبح وصلاة العشاء، فإذا وقعت إعادته للمغرب وقعت قبل دخول وقت الوتر، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا وتران في ليلة) أي: في وقت الوتر، وهذا مسلك صحيح وأميل إليه. فأصحاب المذهب الثاني الذي يُقدِّم حديث النهي قالوا: لا يجوز للإنسان أن يُعيد الصلاة مطلقاً فهذا يقوي حديث ميمونة رضي الله تعالى عنها في نهيه أن تعاد الصلاة مرتين، ولهم أوجه في الأصول، الوجه الأول: قالوا: لأن القاعدة إذا تعارض الأمر والنهي يُقدَّم النهي على الأمر. والوجه الثاني: قالوا: إن أحاديث الأمر منسوخة بالنهي وهذا ضعيف؛ لأن الإثبات النسخي محل نظر لأمور: أولها: أحاديث الأمر بالإعادة فيها قرائن تدل على البقاء وعدم النسخ، فإنك إذا تأملت حديث خيف مِنىً وجدته من آخر ما يكون؛ لأنه في حجة الوداع، وما عاش النبي بعد حجه صلى الله عليه وسلم إلا شهوراً يسيرة، ولذلك يقوى بقاء الحكم. الأمر الثاني: أن القاعدة في الأصول أن النسخ لا يثبُت في الأخبار، فكيف إذا ترتبت الأحكام على الأخبار؟ فلو قال لك: إن النهي عن إعادة الصلاة أقوى من الأمر بإعادتها، وتقول له: كيف يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر أنه إذا كان أميراً عليه مَن يؤخِّر الصلاة أنه يُعيد، ويتعلق الحكم بما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام. فلا يتأتى الحكم بالنسخ، ولذلك الذي تميل إليه النفس أننا نقول: أحاديث النهي عامة، وأحاديث الأمر بإعادة الصلاة خاصة، فيُقَدَّم الأمر بالإعادة على النهي. وهناك وجه ثان أشار إليه الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد، وهو قويٌ أيضاً، يقول: إن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إعادة الصلاة مرتين محمولٌ لمن يعتقد الفرض فيهما، وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم هذا فقال: (فإنها لكما نافلة)، فيكون نهيه عليه الصلاة والسلام عن إعادة الصلاة مرتين فيه إطلاق، وأمره بالإعادة بنية النفل فيه تقييد. وهذا أيضاً وجه قوي يعتضد مع المسلك الأصولي الذي قلناه، وبهذا لا تعارض بين هذه الأحاديث، والله تعالى أعلم.

حكم شراء كاميرا لتصوير الأهل عند الحاجة والضرورة

حكم شراء كاميرا لتصوير الأهل عند الحاجة والضرورة Q هل يجوز شراء كاميرا لتصوير الأهل لعمل جواز سفر أو لاستخراج الهوية؟ A لا حرج إذا كان الإنسان يريد أن يصور أهله بدلاً أن يصورهم الغريب، فلا حرج في ذلك؛ لأنه مضطر وهي مضطرة، فلا إثم على الفاعل ولا على المفعول به، بل هذا من كمال الغيرة على الأهل، حتى لا يطلع الأجنبي عليهم، بل قد يجب هذا، ولذلك قرر العلماء أنه إذا أريد ختان المرأة، وأمكن ختانها عن طريق زوجها قالوا: إنه في هذه الحالة يتولَّى ختانها زوجها، ولا يجوز أن يُعدل إلى الأجنبي أن يختنها، حتى ولو كانت امرأةً مثلها.

حكم رسم الحيوان أو جزء من الإنسان للطلاب في المدارس

حكم رسم الحيوان أو جزء من الإنسان للطلاب في المدارس Q ما حكم رسم صور الحيوانات للطلاب في المدارس، وما حكم رسم جزء من جسم الإنسان أو رسم خيال لرأس الإنسان؟ A أما بالنسبة لمسألة التصوير فإذا كان الإنسان مضطراً إليها غير مختار فقلنا: إن هذا لا يكون في حكم المحرم، فلو أن إنساناً ألزم بها فلا حرج، لكن عليه أن يتقي الله ويتقيد بقدر الحاجة، والزائد عن الحاجة لا يجوز. أما رسم الظل، فبعض العلماء يقول: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الصورة الوجه) يقتضي التحريم إذا كان التصوير بالمماثلة والمشابهة بحيث يحاكي المصوَّر في رسم أعضائه وبيانها، فإذا كانت الصورة تتضمن أجزاء الوجه من العينيين والأنف فإنها محرمة، وأما إذا كانت ظلاً؛ كأن يظلل بالجِرم دون وجود التفاصيل قالوا: هذا يُغتفر والحقيقة أن فيه شبهةً، فيكون بمقام المتردد بين الحلال والحرام؛ لأنه ليس بالصورة المحضة، ولا بخالٍ عن وصف الصورة لوجود الشبهة في الظل، ولذلك يُتَّقى لما فيه من بالغ التورع كما قال صلى الله عليه وسلم: (وبينهما أمورٌ مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)، والله تعالى أعلم.

حكم تغطية الفم في الصلاة لبرد

حكم تغطية الفم في الصلاة لبرد Q ما الحكم إذا تلثم الشخص لبردٍ أو حساسية من ريح؟ A أما بالنسبة للتلثم للبرد والريح أو بسبب عطر أو رائحةٍ كريهة فهذا مستثنى؛ لأنه مضطر، والله عز وجل لا يكلِّف الإنسان ما ليس بوسعه، فإنه إذا شم هذه الرائحة تضرر، ولربما شُغِل عن الخشوع في الصلاة، والتفكر في الآيات والتدبر فيها بسبب ما يختلج النفس من الضعف بسبب هذه الرائحة، فلا حرج في تلثمه كما ذكر العلماء رحمهم الله ذلك، أما إذا لم توجد الحاجة فإنه لا يتلثم ويبقى على الأصل، والله تعالى أعلم.

حكم السجود على طرف العمامة

حكم السجود على طرف العمامة Q ما الحكم إذا سجد الشخص على طرف العمامة إذا كان لابساً لها؟ A مذهب طائفة من العلماء أنه إذا حصَّل السجود على الأنف أنه يصح سجوده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أنفه. وقال بعض العلماء: لا يصح إلا إذا سجد على جبهته، وكور العمامة إذا منع السجود على الجبهة لا يصح، وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذه المسألة وخلاف العلماء فيها.

حكم الإسبال من غير خيلاء للحاجة

حكم الإسبال من غير خيلاء للحاجة Q قال شارح الزاد: ويجوز الإسبال من غير الخيلاء للحاجة فما توجيهكم لهذا القول؟ A مذهب الجمهور أن من أسبل إزاره لا حرج عليه إذا كان لغير خيلاء، واحتجَّوا له بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه لما سأله أبو بكر وقال: (يا رسول الله! إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أني أتعاهده، فقال: إنك لست ممن يصنع ذلك خيلاء). ؟ واحتجوا أيضاً بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء)، وكلا النصيين محل نظر، فإن الصحيح أنه لا يجوز إسبال الإزار مطلقاً ولو كان لغير الخيلاء، وذلك لورود النصوص التي تدل على ذلك، منها: ما ثبت في الحديث الصحيح من قوله: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار). وأما حديث: (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء) فإن الوعيد في جر الثوب بالخيلاء مبنيٌ على نفي النظر، والوعيد لمن أرخى ثوبه أسفل من الكعبين بالنار، والقاعدة أن حمل المطلق على المقيد شرطه اتحاد المورد، فهذا واردٌ في الجر، وهذا واردٌ في الإسبال. وبناءًَ على ذلك يبقى حديث الإسبال على الأصل أنه للتحريم، ونقول: الوعيد بنفي النظر وعيدٌ خاص زائدٌ على العقوبة بالنار؛ لأن هذا النص دل على حكم وهذا النص دل على حكم. فنقول: كل من أسفل عن الكعبين فإنه يعذب بالنار، كما ثبت في الحديث الصحيح، ومن جر فقد زاد على كونه ظالماً بما أسفل عن الكعبين بالخيلاء. ويبقى الإشكال في قوله عليه الصلاة والسلام: (إنك لست ممن يصنع ذلك خيلاء). والحقيقة هذا الحديث يحتاج إلى نظر، وتأمل ألفاظ الحديث: (إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أني أتعاهده)، والإزار مثل الفوطة أو الإحرام الموجود الآن، فعند ربطك له قد ينحل بسبب المشي فيسقط، فقال أبو بكر رضي الله عنه: (إن أحد شقي إزاري يسترخي)، فهل معناه أن الثوب بذاته طويل، أم أن الوصف بالسقوط والزيادة على الموضع وصفٌ عارض؟ الجواب: وصفٌ عارض، وإذا كان وصفاً عارضاً فإنه لا يُشبه الثوب بحال. وهذا واضح جداً ولا إشكال فيه، فقوله: (إن أحد شقي إزاري يسقط إلا أني أتعاهده، فقال: إنك لست ممن يصنع ذلك خيلاء) معناه: أنني أسهو ولا أنتبه إلا أن أتعاهده، أي: انتبه له، ومعناه أنه إذا انتبه إلى وجوده جره، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنك لست ممن يصنع ذلك خيلاء)، فدل على أن من ترك ثوبه يُجر أنه ممن جرّه خيلاء؛ لأن أبا بكر كان يسقط الإزار عنه دون علم؛ لقوله: (إلا أني أتعاهده)، وأنه متى علم كف، فكيف يُقال لك أن تُرخي الإزار مع علمك ولا حرج عليك ولا تكفُّه؟ فهذا شيء وهذا شيء. ولذلك حديث أبي بكر يحتاج إلى تأمل، وليس فيه دليل على جواز الجر من غير الخيلاء البتة؛ لأنه ذكر صورةً معينة قيَّد الحكم بها، فقال: (إنك) أي: ما دمت على هذه الصفة من كونك رافعاً له عند العلم فلست ممن يتوعد بالعذاب بالخيلاء. وهذا أمر واضح جداً ليس فيه معارضة للنص الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار). قال العلماء: إن العبد يعذب بالعضو الذي عصى الله به، كقوله عليه الصلاة والسلام: (ويلٌ للأعقاب من النار) قالوا: لما ترك العقِب في الوضوء، عذب في الموضع الذي عصى الله به، فإذا نزل الإزار عن الكعبين فقد عصى الله بالزيادة، فيعذب في موضعهما، أي: تكون النار في هذا الموضع، وإذا بلغت النار إلى الكعبين فقد ثبت في الحديث الصحيح أن أهون الناس عذاباً يوم القيامة هو أبو طالب حين يوضع في ضحضاح من نار يغلي بهما دماغه -والعياذ بالله-، وهو يظن أنه أشد الناس عذاباً في النار، وهو أهونهم، فكيف إذا كان ما أسفل الكعبين كله في النار؟! نعوذ بالله، فنسأل الله أن لا يعرضنا لسخطه، ونسأل الله تعالى أن يعصمنا بعصمته، وأن يلطف بنا برحمته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

باب شروط الصلاة [6]

شرح زاد المستقنع - باب شروط الصلاة [6] من المعلوم أن العبد المسلم يقف بين يدي ربه في اليوم كأقل حد خمس مرات يصلي فيها لله عز وجل، ولذلك فلابد من معرفة شروط الصلاة، والتي منها: طهارة المكان، ويتفرع على ذلك معرفة الأماكن التي لا تصح الصلاة فيها، أو تكره، ونحو ذلك.

الطهارة من النجاسات شرط من شروط الصلاة

الطهارة من النجاسات شرط من شروط الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومنها اجتناب النجاسات]. ما زال المصنف رحمه الله يتحدث عن الأمور التي ينبغي توفرها في المصلي حتى يحكم بصحة صلاته، فذكر أن من هذه الأمور والشروط: شرط اجتناب النجاسة، يقال: اجتنب الشيء يجتنبه اجتناباً: إذا تركه وابتعد عنه، وأما النجاسة فقد تقدم الكلام عليها في باب الطهارة، فقوله رحمه الله: [ومنها اجتناب النجاسات] أي: يجب على المصلي أن يجتنب النجاسة سواءٌ في بدنه أم ثوبه أم مكانه الذي يصلي عليه، والأصل في إلزام الناس بالطهارة في الصلاة قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]، فإن الآية الكريمة اشتملت على الأمر بتطهير الثوب، والمراد به أن يطهر ثوبه عند الصلاة بذكر التكبير الذي يفهم منه الشروع في الصلاة. وأما اشتراط طهارة البدن فقد دل عليها قوله عليه الصلاة والسلام للمرأة الحائض: (ثم اغسلي عنك الدم وصلي)، فدل على أن المرأة لا تصلي إلا بعد أن تطهر بدنها من النجاسة؛ لأن الأمر يدل على الوجوب. وأما اشتراط طهارة المكان فلما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما بال الأعرابي في المسجد أمر بذنوبٍ من الماء أن يصب على ذلك البول)، وليس ذلك إلا لطهارة المكان، فقد قصد النبي صلى الله عليه وسلم تطهير المكان الذي يصلي فيه الناس في المسجد، ودل أيضاً على اشتراط طهارة المكان حديث أنس في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعاله أثناء الصلاة، فلما سلم قال للصحابة: ما شأنكم؟ -أي: لماذا خلعتم؟ - قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا فقال: أما إنه قد أتاني جبريل فأخبرني أنهما ليستا بطاهرتين -أي: أن هذين النعلين ليستا بطاهرتين-)، فاتقى النبي صلى الله عليه وسلم النعل النجس، فدل على أنه لا يجوز للمصلي أن يصلي على موضعٍ نجس. وثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه أمر بالصلاة في النعال في المسجد ثم قال: فإن وجد بهما أذى فليدلكهما بالأرض، ثم ليصل فيهما) أي: في المسجد الذي ليس بمفروش. فالمقصود من أمره عليه الصلاة والسلام بتطهير الحذاء أنه لا يجوز للمصلي أن يصلي على موضعٍ غير طاهر، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن هذا الشرط لازمٌ لصحة الصلاة، وإن كان هناك قولٌ شاذ يقول بعدم اللزوم، ولكن الصحيح لزوم طهارة البدن والثوب والمكان، فلو صلى المصلي وبدنه نجس، أو صلى وثوبه نجس، أو صلى ومكانه الذي يصلي عليه نجس فإن صلاته لا تصح مع العلم والقدرة على إزالة تلك النجاسة.

حكم من لاقى نجاسة أو حملها في صلاته

حكم من لاقى نجاسة أو حملها في صلاته قال المصنف رحمه الله: [فمن حمل نجاسةً لا يعفى عنها، أو لاقاها بثوبه أو بدنه لم تصح صلاته] قوله: (فمن حمل نجاسةً لا يعفى عنها) الفاء في قوله: (فمن حمل) للتفريع والتفصيل، أي: إذا علمت أن اجتناب النجاسة لازمٌ على المصلي فاعلم أن من حمل نجاسةً يحملها بالاتصال، مثل أن تكون في ثوبه متصلةً به، فيوصف بالحمل تجوزاً وإن كان في الحقيقة أنه متلبسٌ بها. وقوله: (أو لاقاها) أصل الملاقاة: مواجهة الشيء للشيء، يقال: لقيه: إذا واجهه قالوا: فإذا اتصل الجسم بالجسم فقد التقيا، ثم إذا حصل اللقاء على سبيل المداخلة كأن يلقى نجاسةً وتدخل في ثيابه فهي مداخلة، وأما إذا لاقت النجاسة الجسم دون أن تداخله، كأن تكون جامدة لا تسيل على البدن أو الثوب فهي مماسة. فملاقاة النجاسة على حالتين: فإن كانت النجاسة دخلت في ثوبه، كأن تكون نجاسةً مائعةً فحينئذٍ لا إشكال، فيقال: لقيها وتنجس بها. وأما إذا لم تدخل واقتصر اللقاء على كونه مواجهاً لها إلى درجةٍ يمس فيها الجسم الجسم يقال: لاقاها، ثم فإذا مس الجسم الجسم لا يخلو من الأحوال: إما أن يمسها ببدنه، فيقال: لاقاها ببدنه، كأن يضع كفه على شيءٍ نجس، فيقال: لاقاها ببدنه؛ لأن بشرة البدن قد لاقت النجاسة، وإما أن يمسها ثوبه، وهو الحائل الذي بين البدن وبين النجاسة، فإذا كان الثوب حصلت به الملاقاة قيل: لاقاها بثوبه، فقال رحمه الله: (أو لاقاها ببدنه أو ثوبه) فالملاقاة بالبدن والثوب على هذه الصور التي ذكرناها. وحمل النجاسة له أمثلة، كأن يحمل النجاسة بالجرم النجس أو المتنجس، كشخصٌ أصابه رعاف، ثم سال دمه في منديل، ثم نسي ووضع المنديل في جيبه، فهذا حاملٌ للنجاسة بالوصف. فإن كان عالماً بها فحينئذٌ نقول: حاملٌ للنجاسة، وأما الحمل المنفصل، وهو الحمل الذي يكون جوف الشيء فيه نجس فهذا له حكمٌ يخصه، مثل أن يكون حاملاً لصبية صغيرة أو صبي صغير، فإنه لا يخلو في الغالب من وجود النجاسة، وهذه المسألة ذكرها العلماء رحمهم الله في زمانٍ قد لا يكون مما عمت به البلوى، ولكن في عصرنا اليوم وقعت هذه المسألة، فإن بعض العمليات الجراحية -أعاذنا الله وإياكم منها- يكون الإنسان فيها مضطراً إلى حمل كيس يكون فيه فضل بوله أو غائطه، ففي هذه الحالة يعتبر حاملاً للنجاسة، فلا يشترط في حمل النجاسة أن يضعها على عاتقه، بل الحمل المطلق الذي يطلق على الجيب والبدن، فإن كانت في جيبه قالوا: حملها بثوبه؛ لأن الثوب معلقٌ على البدن، والنجاسة موجودةٌ فيه، فهو حاملٌ لها من هذا الوجه، أو يحملها بالبدن نفسه، كالكيس الذي يكون فيه فضل البول -أكرمكم الله- في حالة الاضطرار، كما في بعض الجراحات المتعلقة بالمسالك البولية، فهذا حاملٌ للنجاسة، وحمل النجاسة لا يخلو من حالتين: إما أن يحملها معذوراً بها لا يمكن بحالٍ، أو يمكنه ولكن بمشقةٍ كبيرة أن يزيلها عنه فهذا يرخص له؛ لأن التكليف شرطه الإمكان وهذا ليس بإمكانه، كمريضٍ قرر الأطباء أنه لا بد من حمله لهذا الكيس الذي يكون فيه فضل بوله، فحينئذٍ نقول: إنه معذور؛ لأنه لم يكلف إلا ما في وسعه، وهذا ليس في وسعه إلا هذا الشيء. وأيضاً يكون معذوراً بحسب الموضع النجس بالمنديل أو القطن إذا احتاج إلى ذلك، مثل ما يقع في الجراحات السيالة التي لا تنكف إلا بمنديل أو بقطنٍ يوضع عليها، فهذه نجاسة ليست بيد الإنسان أن ينزه عنها فيعتبر مضطراً لها، ويجوز له أن يصلي مع حمله لها. أما الذي يتكلم عليه العلماء هنا فهو حال الاختيار لا حال الاضطرار، فلو حملها مختاراً وعالماً ذاكراً فإنه لا تصح صلاته. فقوله: (فمن حمل نجاسةً لا يعفى عنها) أي: يحمل النجاسة، وتكون هذه النجاسة شرطها مما لا يعفى عنه؛ لأن النجاسة على قسمين: ما عفي عنه وهو يسير الدم، وما لا يعفى عنه وهو ما زاد عن ذلك، وقد تقدم ضابط اليسير وخلاف العلماء رحمة الله عليهم فيه، وهناك من أهل العلم من يقول: كل نجاسةٍ يسيرة شق التحرز عنها فإنه يعفى عنها، وهذا من جهة المشقة لا من جهة اليسير، وفرق بأن تقول: يعفى عنه لمكان المشقة وشقة التحرز، وبين أن تقول: يعفى عنه ولو لم يشق، والفرق واضح في هذا، فإنك إن قلت: يعفى عن اليسير للمشقة، مثلما ذكروا في عرق الحمير، إذا ركب الحمار أو نحو ذلك، فهذا لمكان المشقة والعفو من جهة الاضطرار، بحيث لو أمكنه أن يتحرز لزمه، لكن الذي يتكلم عليه المصنف هنا عن نجاسة يعفى عنها في حال الاختيار كاليسير، أو نجاسة يعفى عنها بحال الاضطرار كالنزيف، فحينئذٍ هذا له حكم. فيشترط في النجاسة المؤثرة في الصلاة أن تكون مما لا يعفى عنها، فإن كانت يسير دمٍ يعفى عنه فهذا معذورٌ صاحبه ولا حرج عليه في حمله. فإن قال قائل يوماً: خرج من سني دمٌ، فأخذت المنديل وكففته، فتعلق بالمنديل، ثم انكف هذا الدم، فنظرت فإذا المنديل حامل لهذه النجاسة، فوضعته في جيبي فما حكم الصلاة؟ فحينئذٍ ننظر في هذا الدم الذي تعلق بالمنديل، فإن كان يسيراً -وهو دون الدرهم البغلي كما ذكرنا ضابطه في إزالة النجاسة- فإن صلاته صحيحة، ولا يؤثر فيه هذا اليسير، وأما إذا كان كثيراً متفاحشاً فحينئذٍ نقول: إنه حاملٌ للنجاسة وتبطل صلاته، ومن هنا سيخرج ما أُثر عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يعصرون البثرة وهي الحبة اليسيرة من الدم الذي يخرج في اليد، كانوا يعصرونها وربما عصروها وصلَّوا؛ لأن الذي يخرج من البثرة إنما هو شيءٌ يسير، فنقول: إذا كان الدم الذي حمله المنديل يسيراً فإنه مما يعفى عنه ويغتفر، وإنما ينظر العالم والفقيه في الدم المؤثر في الصلاة إذا كان كثيراً فاحشاً. وقوله: (أو لاقاها بثوبه أو بدنه) سبق الكلام على الملاقاة بالثوب والملاقاة بالبدن. وقوله: (لم تصح صلاته)؛ لأن الله عز وجل أمر بالطهارة، والطهارة شرط الصحة، وفقدها فقدٌ للحكم بالصحة.

حكم الصلاة بوجود النجاسة المنفصلة عن المصلي

حكم الصلاة بوجود النجاسة المنفصلة عن المصلي قال المصنف رحمه الله: [وإن طيَّن أرضاً نجسة أو فرشها طاهراً كره وصحت] بعد أن بين لنا رحمه الله أنه ينبغي عليك إذا صليت أن يكون البدن والثوب والموضع الذي تصلي عليه طاهراً، شرع في مسألة النجس غير المتصل، فالنجاسة إذا كان المصلي متلبساً بها إما أن يكون مباشراً لها مثلما قال: (أو لاقاها) وإما أن يكون بحائل، فمن ترتيب الأفكار بدأ بالملاقاة؛ لأنها أقوى ما يكون وهي متصلة بالمكلف وحكمها أقوى وأشد، ثم شرع في مسألةٍ ثانية وهي النجاسة المنفصلة، ويتأتى ذلك لو أن إنساناً علم أن هذا الفراش بال عليه صبيٌ أو فيه نجاسة مثلاً، فجاء بسجادةٍ ووضعها فوق الفراش، بشرط أن يكون الفراش الأسفل الذي حكمنا بنجاسته غير رطبٍ، أي: في حال النجاسة، وأن يكون الأعلى أيضاً غير رطبٍ؛ لأنه لو كان الأدنى نجساً والأعلى طاهراً وأحدهما رطب، فإنه يتشرب النجاسة، فهنا نقول: إنه إذا وضع الطاهر على النجس فإنه قد حيل بينه وبين النجس، لكن من العلماء من يقول: تصح صلاته بدون كراهة؛ لأنه صلى على موضعٍ طاهرٍ، والله عز وجل كلفه طهارة المكان، فلا عبرة بهذا النجس المنفصل عن السجاد، أو عن الحصير الذي يصلي عليه. ومن أهل العلم من قال: إنه يفرق بين ما تسري فيه النجاسة وما لا تسري فيه، فقالوا: لو أنه وضع تراباً فوق الأرض النجسة وصلى يحكم بأن صلاته صحيحة، ولا كراهة في هذا، ومنهم من قال: تصح مع الكراهة، فيكون وجه الصحة أن الأرض طاهرة، ووجه الكراهة أنه معتمدٌ على نجسٍ، فتكون الكراهة من جهة الاعتماد؛ لأن ثقله وثبوته على الأرض إنما هو ثبوتٌ على أرضٍ نجسة، والحائل طاهر، فقالوا: الحائل يصحح الصلاة، والاعتماد يوجب كراهتها؛ لأن المتردد بين الحل المحض والحرام المحض يوصف بالكراهة على مذهب بعض الأصوليين، لكن يشترط في هذا التراب حينما يوضع على النجس ألا يكون رطباً، وألا تتخلله الرطوبة، ولذلك قالوا: لو طين أرضاً نجسة فجاء بطينٍ ووضعه فوقها في حال طراوة الطين تنجس الطين بملاقاة النجاسة. وهذه الأمور يذكرها العلماء وهي مسائل فرضية ليس المقصود بها حصر المسائل، وليس المهم أن تعرف حكمها، ولكن الأهم أن تعرف ضابطها؛ لأن الناس لا تسأل عن شيءٍ واضح غالباً، وإنما تسأل عن أمرٍ خفي، فإن كنت قد درست مسائل الطهارة فإنك قد علمت أنه ينبغي طهارة الموضع الذي تصلي عليه، فقد يسألك إنسان عن نجاسةٍ بحائل، ولا يكون فيها طين أو تراب، مثل ما يقع الآن في بعض الحافلات يكون موضع الخلاء -مثلاً- تحت الإنسان، فهل إذا صلى مع وجود هذا الحائل يعتبر كأنه مصلٍ على موضعٍ نجس؟ فهذا كله يذكره العلماء من باب الضابط، والأصل أن يعرف الإنسان القاعدة والأصل في المسألة، وليس المراد أن تحفظ الصورة بعينها بمقدار ما تفهم ضابط الصورة، حتى إذا سئلت عن مسألة مثلها تستطيع أن تخرجها عليها، ولذلك يعرف في الفقه وفي المتون الفقهية ما يسمى بالتخريج، وهو أن يكون أصل المسألة منصوص عليه عند العلماء المتقدمين، وتطرأ مسألة موجودة يمكن إلحاقها وتفريعها على هذه المسألة، وهذا يعتني به العلماء كثيراً لما ذكرناه، حتى يكون الفقيه مستوعباً للمسائل التي تطرأ وتجد عليه من حوادث الناس.

حكم الصلاة مع وجود نجاسة متصلة بطرف المصلى

حكم الصلاة مع وجود نجاسة متصلة بطرف المُصلَّى قال المصنف رحمه الله: [وإن كانت بطرف مصلى متصلٍ صحت إن لم ينجر بمشيه] أي: إن كانت النجاسة بطرف المصلى غير متصلةٍ به فإنها لا تؤثر، ما لم تكن بطرف المصلى وتنجر بمشيه، وهذا يقصد منه أن يكون الشيء النجس بمثابة المحمول على المصلى، وذكر العلماء رحمهم الله أمثلة لهذا بالنجاسة التي تكون في طرف الحبل أو طرف القماش المتصل بالثوب، فلو أن إنساناً أراد أن يصلي وهو على سفر ومعه بعيره ويخشى أن البعير يفر، فربما عقد حبله بيده، وقد تكون الدابة نجسة، فهذه صورة في الأصل قد تكون فرضية، لكن المراد منها وضع الضابط كما قلنا، وليس المراد أعيان الصور، ولكن المراد القاعدة التي تخرجت عليها هذه الصورة، فقد ذكر لك الشيء النجس المتصل فقال لك: [لاقاها]، وذكر لك الشيء الذي بينك وبينه طاهر، ويبقى الشيء الذي يتصل بك كأنك حاملٌ له، فإن حملت النجس فلا إشكال، ولكن عندما يكون هذا النجس متصلاً بك بواسطة، بحيث لو تحركت تحركت به، أو يكون متصلاً بك بواسطة لا تتحرك بتحركك، فلو أن إنساناً ربط شيئاً نجساً بحبلٍ، فهذا الشيء النجس المتصل بالحبل لا يخلو من حالتين: إما أن يكون متشرب المادة بالحبل فحينئذٍ الحبل بذاته نجس، ولا يتكلم العلماء عليه؛ لأنه كحمل النجاسة، بمعنى أن يكون طرف النجس سائلاً وسرى إلى الحبل برطوبةٍ أو نحوها فإننا نقول: الحبل نجس، وحكم حمل هذا الحبل كحمل النجاسة؛ لأنه يستوي أن يكون طرف الطاهر في جيبك أو يكون طرفه بعيداً عنك ما دام أن الأصل واحد، كما لو حمل شيئاً وأطرافه التي تتصل بالمصلي نجسة، وأطرافه التي هي بعيدةٌ عنه طاهرة، فلا تؤثر طهارة البعيد ما دام أن القريب نجس؛ لأن الجرم واحد، كذلك لو كان طرفه الطاهر في جيبه وطرفه النجس في موضعٍ آخر، فإن الحكم بذاته واحد، فكما حكمت ببطلان صلاته باتصاله بالنجس مع أن المتصل به طاهر، كذلك تحكم ببطلانها إذا كان المتصل به طاهراً والبعيد عنه نجس. واحتاج العلماء إلى وضع ضابط في الحبل فقالوا: ينجر بمشيه؛ لأنه إذا انجر بمشيه أشبه الحامل له، لكن لو كان لا ينجر قالوا: لا يعتبر هذا الشيء النجس مؤثراً. ومثلوا له بالجرو -ولد الكلب أكرمكم الله- على القول بنجاسته، وهذا أقوى الأمثلة؛ لأنه ينجر بجرك له، فأشبه ما لو حملته، فيكون طرفه كطرف النجس، فهذا الذي ذكره المصنف ودرج عليه. وهناك قول لبعض العلماء أن النجاسة في هذه الصور لا تؤثر، وهو أصح وأقوى، ما لم تتشرب النجاسة في الحبل؛ لأن كونه ينجر لا يستلزم الوصف بكونه محمولاً، وفرقٌ بين المنجر وبين المحمول؛ لأن المنجر منفصل الذات، والمحمول كأنه موضوعٌ على الذات، فالصحيح في هذه المسألة الصحة؛ لأن المجرور والمتصل بحبل ليس كالمحمول لما ذكرناه، إلا إذا كان هذا الحبل الذي يجره الإنسان طرفه نجس، فإننا قلنا: أَشبَهَ ما لو حمل شيئاً طرفه طاهر من جهة ونجسٌ من جهةٍ أخرى، فإنه يحكم ببطلان الصلاة. فالخلاصة أن العبرة بالتنجيس إذا كان الشيء المتصل بك نجس الطرف، أما لو كان طاهراً في ذاته متصلاً بنجسٍ لا يسري إلى هذا الشيء الذي أنت ممسكٌ به أو واقفٌ عليه فإنه لا يؤثر؛ لأنه ليس في حكم ملاقاة النجاسة ولا حملها لكن لو كان طرف الحبل نجساً فإننا نحكم بالتأثير. وبناءً على ذلك يستوي عندنا أن ينجر أو لا ينجر، ما دام أنه نجس الطرف، كما لو صليت على سجادة وطرفها نجس، فإنك كأنك صليت على النجس؛ لأن الذات واحدة، وبناءً على هذا نقول: إن التفصيل بين الانجرار وعدمه مرجوحٌ، والأرجح والله أعلم القول بالصحة.

حكم من علم بالنجاسة بعد الانتهاء من الصلاة

حكم من علم بالنجاسة بعد الانتهاء من الصلاة قال المصنف رحمه الله: [ومن رأى عليه نجاسةً بعد صلاته وجهل كونها فيه لم يعد] ذكر رحمة الله عليه الأحوال للنجاسة، وقرر لك الأصل أنه ينبغي عليك اتقاء النجاسة، وذكر لك صور ملاقاة النجاسة من جهة التأثير وعدم التأثير. ثم شرع الآن في مسائل متعلقة بالنجاسات وهي خارجة عن الأصل من جهة الاضطرار، إما بنسيانٍ أو خطأ، فلو أن إنساناً صلى وعليه نجاسة، ولم يعلم بالنجاسة إلا بعد انقضاء الصلاة فحكمه فيه قولان للعلماء: أصحهما أن من صلى وعليه نجاسة وعلم بها بعد انتهاء الصلاة أن صلاته صحيحة، والدليل على هذا ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى بأصحابه وفي أثناء الصلاة خلع نعليه، فلما رآه الصحابة خلع نعليه ظنوا أن هناك تشريعاً جديداً بخلع النعال وعدم جوازه في الصلاة، فخلع الصحابة نعالهم، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم سألهم: ما شأنكم؟ فقالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، فقال صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد أتاني جبريل فأخبرني أنهما ليستا بطاهرتين). ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر تكبيرة الإحرام، وفعل من أركان الصلاة ما فعل؛ لأن تنبيه جبريل وقع أثناء الصلاة، وقد فعل بعض أركانها، فلو كان الناسي أو الجاهل لوجود النجاسة يتأثر بوجودها لاستأنف النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، ولكان كبر من جديد، ولأعاد من أول الصلاة، فكونه عليه الصلاة والسلام بنى على ما كان دل على أن ما مضى بمكان الجهل وعدم العلم معفوٌ عنه، ولذلك فأصح الأقوال أن من نسي النجاسة أو لم يعلم بالنجاسة أن صلاته صحيحة، ولا تلزمه الإعادة، لكن لو علم بها أثناء الصلاة لزمه قولاً واحداً أن يزيل هذه النجاسة التي علقت به، وذلك بشرط عدم وجود الفعل الكثير الذي يخرجه عن كونه مصلياً كما سيأتي إن شاء الله في صفة الصلاة.

حكم صلاة من علم بوجود النجاسة ثم نسيها

حكم صلاة من علم بوجود النجاسة ثم نسيها قال المصنف رحمه الله: [وإن علم أنها كانت فيها لكن نسيها أو جهلها أعاد] هذا مذهب التفصيل، فبعض العلماء يقول: من صلى في ثوبٍ نجس، أو على موضعٍ نجس، أو في بدنه نجاسة، ولم يعلم بها، أو علم بها ثم نسي، فما دام أنه أثناء الصلاة لا يعلم فالحكم أنه لا تلزمه إعادة الصلاة، وهذا هو الصحيح. ومنهم من فصل -كما درج عليه المصنف رحمه الله- فقال: إذا كان غير عالمٍ بالنجاسة، ثم علم بعد الصلاة تصح صلاته، لكن إذا كان عالماً بها ثم نسيها وصلى فإن صلاته باطلة. مثال من جهل وجودها وعلم بعد الصلاة: شخصٌ صلى على سجادة وهو يظن أنها طاهرة، وعهده أن هذه السجادة التي يصلي عليها طاهرة، فلما صلى وانتهى من الصلاة جاءته امرأته، أو جاءه أخوه، أو أحد الناس وقال له: هذه السجادة التي صليت عليها نجسة. فنقول في هذه الصورة: إنه جاهلٌ بوجود النجاسة؛ إذ إنه غير عالمٍ بها، والحكم أن صلاته صحيحة. والمثال الثاني: شخصٌ أصابت ثيابه النجاسة فلم يغسلها بعد الإصابة، وانشغل حتى نسي، فأذن عليه المؤذن ونزل بثوبه النجس وصلى، وبعد الصلاة تذكر النجاسة. فعلى الصحيح أنه لا تلزمه إعادة، وذلك لظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه؛ لأن المعنى فيه وجود النسيان. والقول الثاني: تلزمه الإعادة، يقولون: إنه فرط وقصر؛ لأنه كان عالماً بها قبل الصلاة وفرط وقصر في المبادرة بإزالة النجاسة وهذا -كما قلنا- يحتاج إلى نظر من جهة تفريطه في الغسل، وممكن أن يقال أيضاً: إن من صلى على موضعٍ لا يعلم بنجاسته أنه مفرط؛ لأنه لو قلب السجادة أو ثوبه وتحرى ربما رأى النجاسة، فالمعنى الذي هو التفريط موجودٌ في هذا كما هو موجودٌ في ذلك، وإن كانت الصورة الثانية أكثر من جهة تعدد الأنواع، لكنه لا يمنع التأثير في العلة.

حكم الصلاة في الجبيرة إذا كانت نجسة

حكم الصلاة في الجبيرة إذا كانت نجسة قال المصنف رحمه الله: [ومن جُبِرَ عظمه بنجسٍ لم يجب قلعه مع الضرر]. الجبيرة على حالتين: إما أن تكون بطاهر، أو تكون بنجس، فلو أن إنساناً جبر عظمه بنجس، ويتأتى ذلك بالعظام النجسة، أو توضع له مواد نجسة تساعد على التحام العظم، فإن بعض العلماء قال: يلزمه قلع الجبيرة وإبدالها بجبيرة طاهرة، وذلك لأن الجبيرة النجسة موجودٌ بديلٌ عنها، وهو الجبيرة الطاهرة، ولا يحكم باضطراره مع وجود البديل؛ لأن شرط الحكم بالضرورة عدم وجود البديل، وبناءًَ على ذلك لما وجدت الجبيرة الطاهرة صار غير مضطر، بل صار مختاراً، وقال بعض العلماء: نفصل فيه: فإن شق عليه نزع هذه الجبيرة وحصل له ضرر بنزعها فإنه يبقي عليها ولا تلزمه الإعادة، ولا يلزمه قلعها، وإن لم يشق عليه نزعها وأمكنه النزع فإنه يجب عليه. فتحديد الخلاف بين العلماء أن يقال: من جبر عظمه بنجاسةٍ أو بجبيرةٍ نجسة، وأمكنه إزالة هذه النجاسة دون تعبٍ ولا عناءٍ ولا مشقة يلزمه قولاً واحداً أن يزيلها، وذلك لأنه مأمورٌ بالطهارة، وبإمكانه أن يتطهر ولا ضرورة له، وبناءً على ذلك يبقى على حكم الأصل، فهذه الصورة الأولى نريد أن نبحث أحكامها، فلو قلت لإنسان: هذه الجبيرة طاهرة أم نجسة؟ فقال: نجسة تقول له: اخلعها. فإن قال: لا أستطيع؛ لمشقة ذلك عليه، فحينئذٍ يكون له حكم سيأتي، لكن لو قال: أستطيع وبالإمكان ولا مشقة، نقول: اخلعها. فإن امتنع عن خلعها وبقيت الجبيرة حتى انجبر العظم فتلزمه إعادة الصلوات كلها، إذا كان قادراً على إزالتها وامتنع من الإزالة حتى انجبر العظم؛ لأنه لم يصل كما أمره الله عز وجل متطهراً في بدنه، ولذلك يلزم بالإعادة. أما إذا كانت الجبيرة لا يمكن نزعها أو في نزعها مشقة، فتبقى على ما هي عليه، وقال بعض العلماء: تلزمه الإعادة لأنه فرط، وكان بإمكانه أن يجبر بالطاهر ولكنه فرط. ولكن الأقوى والصحيح أنه يعذر لمكان وجود الحرج والمشقة لإزالة هذه الجبيرة النجسة.

حكم طهارة أعضاء الإنسان بعد انفصالها عنه

حكم طهارة أعضاء الإنسان بعد انفصالها عنه قال المصنف رحمه الله: [وما سقط منه من عضوٍ أو سن فطاهر] من الملاحظ أن هناك اتصالاً في المباحث والمسائل حيث يذكر العلماء فيه الشبيه بشبيهه، فنحن الآن نتكلم عن إزالة النجاسة، وفي بعض الأحيان يذكر العلماء مسائل فرعية متصلة بالفرع الذي بحث في الباب، فالأسنان والأعضاء التي تسقط من الإنسان ليس هذا موضع الكلام عليها؛ لأن موضع الكلام عليها بكونها طاهرة أو نجسة إنما هو في باب النجاسات، ولكن لما كان يتكلم عن الجبائر وحكم اتصال النجس وانفصاله، فإنه من الأشبه أن تذكر مسألة الأعضاء، فقد يبتر من الإنسان عضو ويزال منه، كأن تقلع منه سنٌ، أو تقطع منه إصبع، أو يد، أو رجل، فللعلماء في حكم هذا العضو الذي بُتر وجهان: فمنهم من قال: هو نجسٌ بمجرد المفارقة، فإذا فارق البدن حكم بنجاسته، قالوا: إن اليد فيها الدم، وإذا قطعت فإن هذا الدم نجس، ولأنه مسفوح، فيحكم بتنجسها بمجرد قطعها، وبناءً على هذا لو أن اليد بترت ثم أعيدت فحينئذٍ يكون إعادةً لنجس؛ لأنها بالبتر أصبح الدم فيها مسفوحاً، وإذا أصبح مسفوحاً فإن الله قال عن الدم المسفوح: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145]، فحينئذٍ يكون كإعادة النجس إلى البدن. والصحيح أن العضو إذا بتر فهو طاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أبين من حيٍ فهو كميتته). والجواب عن الدم المسفوح أن نقول: الدم المسفوح المراق، فاليد ما أريق من جزئها المتصل بالبدن مسفوح، وما أريق من اليد وخرج عنها مسفوح، والجَرَّاح حين يعيدها يزيل ذلك حتى تتصل العروق وتتصل اليدين ببعضها، فيكون هذا ليس من إيصال النجس بالطاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بأن ما أُبين من حيٍ فهو كميتته، وميتة الآدمي طاهرة، فاليد حين تبان هي طاهرة، والدم المسفوح لا يحكم بكونه مسفوحاً إلا بالمفارقة، فنحكم بكون الدم الذي جرى خارجاً عن اليد المقطوعة والمكان الذي قطع منه بكونه نجساً، لكن ذات اليد وذات الموضع الذي أُبين منه إذا اتصل عاد إلى أصله، فبناءً على ذلك لا يحكم بكونه نجساً من هذا الوجه. فإذا ثبت أن السن أو اليد لا يحكم بنجاستها يتفرع على هذا جواز ردها إذا أمكن الرد، فإنه يوجد الآن في الجراحات الدقيقة إذا قطعت اليد وكان قطعها قريباً، وعرضت على جراح أو طبيب، فإنه بإمكانه بإذن الله عز وجل أن يعيدها، فتكون إعادتها على هذا الأصل الذي ذكرناه لا حرج فيها؛ لأنها ليست بنجسة ولا بمتنجسة، ونحكم بجواز الإعادة من هذا الوجه. كذلك أيضاً إذا حكم بكون السن طاهرة، فإنه حينئذٍ لا تسري عليها أحكام النجاسات، فلو أن إنساناً حملها فإنه حاملٌ لطاهر، بخلاف من يقول: إنها نجسة وحاملٌ لنجس.

الأماكن التي نهي عن الصلاة فيها

الأماكن التي نهي عن الصلاة فيها

أولا: المقابر

أولاً: المقابر قال المصنف رحمه الله: [ولا تصح الصلاة في مقبرة] بعد أن بين رحمه الله أنه ينبغي عليك أن يكون الموضع الذي تصلي فيه طاهراً، وبين لك أحكام النجاسات المتصلة، وما هو قريبٌ من المتصل، شرع في بيان المواضع التي لا يجوز أن يصلى فيها، وهذه -كما قلنا- مسائل شبيهة بالمسائل التي معنا، فكما أن الأرض النجسة لا يصلى عليها فإن المواضع التي نهي عن الصلاة عليها كالأرض النجسة، فلا يصح أن تذكر في غير هذا الموضع. والمقبرة مثلثة الباء، والمقبرة: المكان الذي يقبر فيه الآدمي، ولا يصلى فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في المقابر، وثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إذا صلى أحدكم فليجعل من صلاته في بيته، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً) فقوله: (ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً) يدل على أن القبر ليس موضعاً للصلاة، قال العلماء: نهى عن الصلاة في القبور لأمورٍ؛ فإن الأمر قد يعلل بعللٍ كثيرة، فقالوا: منها: خوف الشرك، وهذا أعظمها وأجلها؛ لأن الصلاة على القبر قد تؤدي إلى تعظيمه وإجلاله إلى درجةٍ قد تصل بالمرء إلى الصلاة لصاحب القبر والعياذ بالله. وقيل: نهي عن الصلاة فيها حتى لا يشابه اليهود والنصارى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعنهم عند موته، قالت أم المؤمنين: (يحذر مما صنعوا)، أي: يحذر أمته أن تصنع كصنيع اليهود والنصارى، فقالوا: من أجل المشابهة وكذلك أيضاً قال بعض العلماء: لأنه إذا صلى على القبر فإنه يؤذي صاحب القبر، وقد يؤذيه صاحب القبر؛ لأن الجلوس على القبور مضرةٌ لصاحب القبر ومضرةٌ لمن جلس عليها، ولذلك شدد عليه الصلاة والسلام في التحذير من أذية أهل القبور بالجلوس والاتكاء عليها فقال: (لأن يجلس الرجل على جمرة فتحرق ثيابه خير له من أن يجلس على قبر). فلذلك نهى عن الصلاة في القبور وعلى القبور، ولذلك بين رحمه الله أن هذا الموضع -القبر- لا يجوز أن يصلى فيه، والإجماع منعقد على أنه لا تجوز الصلاة في القبور، والمراد بها صلاة الفريضة وصلاة النافلة، ويستوي في ذلك النوافل المقيدة والنوافل المطلقة، فلا يصلى في المقابر العيدان ولا الكسوف ولا الخسوف، فلا يصلى فيها نفلاً ولا فرضاً. وأما الصلاة على الجنازة في المقابر أو قريباً من المقابر فهذا مستثنى، كأن تكون الجنازة ما صلي عليها في المسجد، ثم أتي بها عند القبر، فصلي عليها عند قبرها ثم دفنت، فلا حرج أن يصلى عليها، ولكن ينبه على خطأ تكرار الصلاة على الجنائز عند القبور وقد صلي عليها في الجوامع، وأن هذا أمرٌ لا أصل له، فإن الأصل الاكتفاء بصلاة المؤمنين وشفاعتهم في المسجد، ولا يزاد على ذلك. وأما في داخل القبور فقال بعض العلماء بجوازه استدلالاً بحديث المرأة التي كانت تقم المسجد، ولكن هذا الحديث -كما جاء في صحيح مسلم، وهو مذهب طائفة من السلف- فيه شبهة تقتضي التخصيص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى على المرأة قال: (إن هذه القبور مملوءةٌ ظلمةً على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي) فقوله: (بصلاتي) دل على التخصيص، فورود النهي الحاضر مع المبيح يوجب تقديم الحاضر على المبيح، فالأولى والأحرى أن الإنسان يقتصر على الصلاة العامة التي تكون في مساجد المسلمين. أما تكرار الصلاة على الجنائز فهذا لم يكن عليه هدي السلف الصالح رحمهم الله، ولا يستقيم الاستدلال بما ذكرناه لوجود شبهة التخصيص.

ثانيا: الحش

ثانياً: الحش قال رحمه الله تعالى: [وحُشَ] الحَش بالفتح والضم، والمراد بالحَش أو الحُش: المزابل، ويقال: موضع قضاء الحاجة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن ماجة: (إن هذه الحُشوش محتضرة) يعني: أماكن قضاء الحاجة، أي: تحضرها الشياطين والعياذ بالله؛ لأنها تحب الأماكن القذرة وروائحها الخبيثة فتأنس بها وتحبها، وأصل الحُش: البستان، قالوا: سميت أماكن قضاء الحاجة حُشاً لأنهم كانوا في الغالب في القديم يخرجون إلى أحوشة البساتين وأسورتها القديمة لقضاء حاجتهم، فما كانوا يضعون الحمامات في البيوت، وإنما كانت مثل المناصع الذي كان في المدينة، وهو موضع شرقي المسجد النبوي إلى شماله كانت تخرج إليه أمهات المؤمنين، وهو الذي كان يؤذي فيه اليهود والمنافقون نساء النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرجن، كما قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (من لي بـ الأشرف فقد آذى الله ورسوله)، فالمقصود أنهم ما كانوا يقضون الحاجة في البيوت، وإنما كانوا يقضونها في الحشوش، فيوصف بكونه حُشاً من هذا الوجه، فلا تجوز الصلاة في هذه المواضع؛ لأنها نجسة، وليست محلاً لذكر الله عز وجل، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني كنت على حالةٍ كرهت أن أذكر الله عليها)، فمن باب أولى إذا كان في الموضع النجس نفسه، ولا تصح الصلاة بالإجماع في هذا الموضع، وهو موضع قضاء الحاجة.

ثالثا: الحمام

ثالثاً: الحمّام قال رحمه الله تعالى: [وحمامٍ] الحمام في لغة القدماء ليس كالحمام الموجود الآن، فالحمام كان مكان الاغتسال، وكانوا في القديم يضعون الحمامات أماكن يغتسلون فيها ولها نظامٌ معين، فيغتسل فيها الناس بالماء الفاتر ويستحمون به، مثل المسابح أو أشبه، لكنها أماكن لها وضع معين تطهر فيها أبدان الناس، ويغتسلون فيها، وهذه الحمامات كانت موجودة إلى عهدٍ قريب في المدن، ونهي عن الصلاة فيها كما في حديث أبي داود والترمذي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في المقبرة والحمام)، وهذا يدل على أنها ليست بموضع للصلوات، وذلك لأنها في حكم أماكن قضاء الحاجة لمكان العري، ولذلك قالوا: لا تصح الصلاة في الحمامات، فلو صلى لزمته إعادة الفريضة، ولا تصح منه إذا صلى في هذا الموضع.

رابعا: أعطان الإبل

رابعاً: أعطان الإبل قال رحمه الله تعالى: [وأعطان إبلٍ] أعطان: جمع عطن، وعطن الإبل: الأصل فيه مراحه، وهو المكان الذي يمرح فيه ويستقر فيه، ويكون على أضرب: منها: أن يكون مراحاً له يبيت فيه ويأوي إليه، فهذا بالإجماع عطن ولا إشكال فيه، أو يكون في وقتٍ دون وقت، فله مكان في الظهيرة يعطِن فيه، ومكان في الليل يعطِن فيه، فإنه إذا عطن في هذا المكان وهو الذي يكون في وقت الظهيرة يوصف بكونه من أعطان الإبل، فلا يشترط أن يمكث جميع وقته في هذا المكان، أعني: وقت راحته أو وقت مراحه. فالأعطان لا تصح الصلاة فيها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في أعطان الإبل كما في صحيح مسلم أنه قال: (صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل)، فنهى عن الصلاة في أعطان الإبل، والصحيح أن العلة أنها خلقت من الشياطين، وأنها مواضع الشياطين، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فالعلة -والعياذ بالله- وجود الشياطين بها وتلبسها بالإبل، ولذلك أمر بالوضوء من لحم الجزور ولم يؤمر من غيره، ونهى عن الصلاة في معاطن الإبل، قالوا: إنها لا تخلو من حضور الشياطين فيها، والأحاديث صحيحة في هذا المعنى، وقد تكلم الإمام ابن القيم كلاماً نفيساً في (أعلام الموقعين) حبذا لو يرجع إليه في بيان بعض الحكم والأسرار المبنية على تحريم الصلاة في أعطان الإبل قالوا: فلمكان حضور الشياطين فيها يتقيها المصلي، ولهذا نظير فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بات عند قدومه إلى المدينة وعرس كما في حديث حذيفة في الصحيحين واستيقظ وقد نام عن صلاة الفجر قال: (ارتحلوا فإنه موضعٌ حضرنا فيه الشيطان) قالوا: فهذا أصل يدل على أن المواضع التي تحضرها الشياطين لا يصلى فيها، فلذلك نهي عن أعطان الإبل لمكان وجود الشياطين فيها. والنهي عن الصلاة في أعطان الإبل يحتج به الشافعية رحمهم الله على أن روح أو فضلة ما يؤكل لحمه نجس؛ لأن أعطان الإبل حكم بنجاستها، لكن ينقض هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز الصلاة في مرابض الغنم، فلو كانت فضلة ما يؤكل لحمه نجسة لكان روث الغنم نجساً أيضاً، ولذلك يقوى القول بأنها طاهرة، وحديث مرابض الغنم يدل على طهارتها، وحديث أعطان الإبل لا يستلزم الحكم بالنجاسة.

خامسا: الأرض المغصوبة

خامساً: الأرض المغصوبة قال رحمه الله تعالى: [ومغصوبٍ] المغصوب: هو المأخوذ قهراً، والفرق بين السرقة والغصب: أن السرقة تكون خفية، والغصب يكون علانية، وللسرقة حكم وللغصب حكم، والسرقة أشد لما فيها من التخفي وعدم معرفة الآخذ بالمال، لكن الغصب يكون علانية، والغصب من كبائر الذنوب، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من اغتصب شبراً من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أراضين)، قال بعض العلماء: إنه يضيق عليه سبعة أراضين، تجمع الأرض التي اغتصبها والشبر الذي اغتصبه كالطوق في عنقه، فيكون من أرضٍ إلى أرض حتى يبلغ السبع الأراضين التي اغتصبها، أي: المسافة التي غصبها، وقيل: يكلف حمل هذا القدر -والعياذ بالله- مما اغتصب، وكيفية تكليفه مع ضعفه أمره إلى الله، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن مقعد الكافر في نار جهنم -أي: مكان قعوده فقط- كما بين المدينة ومكة)، فهذا مقعد الكافر ومكان جلوسه في النار، فالله على كل شيءٍ قدير. وذكر عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (أن ضرس الكافر -والعياذ بالله- مثل جبل أحد)، فلا شك أن الله عز وجل على كل شيءٍ قدير، فالغصب حرام وهو من كبائر الذنوب، فلو اغتصب أرضاً فمما يترتب على الغصب مسألة صحة صلاته: فقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين: فجمهور العلماء على أن الأرض المغصوبة تصح فيها الصلاة، وذهب طائفة من العلماء إلى أن الأرض المغصوبة لا تصح فيها الصلاة، وهو مذهب الحنابلة رحمة الله على الجميع؛ لأنه منهي عن البقاء في هذه الأرض، فالصلاة باطلة، ويقولون: إن هذا مخرج على القاعدة الأصولية أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، والصحيح أن النهي فيه تفصيل، فإن رجع إلى ذات المنهي عنه اقتضى البطلان، وإن كان منفكاً عن ذات المنهي عنه فإننا نقول بانفكاك الحكم، فنقول: إن الصلاة في المكان المغصوب صحيحة ولكن يأثم بالغصب، فهو آثمٌ من جهة الغصب وصلاته صحيحة؛ لأنه فعل ما أمره الله من القيام والقعود والركوع والسجود، وقد قال عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: (إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك)، فالصلاة صحيحة، ولكن قال بعض أهل العلم: أجمع العلماء على أن من صلى على أرضٍ مغصوبة أو بثوبٍ مغصوب أن صلاته غير مقبولة والعياذ بالله. أي: لا يثاب عليها والعياذ بالله، وإن كانت تجزيه، فيقولون: كأنه لم يصل والعياذ بالله من ناحية خلوه من الثواب، نسأل الله السلامة والعافية، وذلك لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] وهذا لم يتق الله، حيث غصب مال أخيه وصلى فيه أو صلى عليه. فإذا ثبت أن الأرض المغصوبة تصح الصلاة عليها، فيتفرع على ما ذكر المصنف رحمه الله أنه إذا قيل: إن الأرض المغصوبة لا تصح الصلاة عليها، يصبح الأصل عند أصحاب هذا القول: كل أرضٍ محرمة لا تصح الصلاة فيها. فيطرد على هذا لو كانت الأرض نهي عن الجلوس فيها مثل أراضي الظالمين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن دخول مساكن الظالمين وقال: (لا تمروها -أي: ديار ثمود- إلا وأنتم باكون أو متباكون)، ولم ينزل بأرض ثمود، وإنما تنحى بأصحابه صلوات الله وسلامه عليه حينما قدم من غزوة تبوك، فأراضي الظالمين النهي فيها للتحريم، ولو صلى لم تصح صلاته على هذا الأصل؛ لأنه منهي عن الجلوس فيها، ويستوي في هذا أن يكون الغاصب هو المصلي، أو يكون غير الغاصب، فلو علمت أن هذه الأرض مغصوبة فعلى هذا الأصل لا تصل فيها، فلو صليت وأنت ترى عدم صحة الصلاة في الأرض المغصوبة تلزمك الإعادة. ويتفرع عليه أيضاً الأرض المحرمة، وهي المشتراة بمالٍ حرام، فإنهم يقولون: إنه لا تصح صلاته فيها، كأن يكون المال الذي اشترى به الأرض مالاً حراماً، كمال يتيم، أو مالاً مغصوباً، أو اشترى به ثوباً فإن الحكم كالحكم في الأرض. فإذا ثبت أن الأرض لا تصح الصلاة فيها، فلو صلى في سطح البيت المغصوب فهل تصح صلاته؟ قالوا: وكذلك السطح، فسطح المغصوب كالمغصوب؛ لأن من ملك أرضاً ملك فضاها وسماها، وملك قعرها بدليل: (من ظلم قيد شبرٍ طوقه من سبع أراضين)، فدل على أنه مالكٌ لأسفل الأرض كما هو مالكٌ لأعلاها، والإجماع منعقد على أنه يملك الأعلى، وبناءً على ذلك قالوا: لو كانت الأرض مغصوبة فصلاته على أعلاها كصلاته على أدناها، وكصلاته فيها، فالحكم في كل ذلك واحد، ولذلك قال رحمه الله تعالى: [وأسطحتها] يعني: أسطح الأرض المغصوبة، وهذا -كما قلنا- مفرع على أن من ملك أرضاً ملك سماها، وتخرج على هذا القول فتوى من يرى الطواف والسعي في الدور الثاني بناءً على أن الأرض وسماها آخذةٌ نفس الحكم. قال رحمه الله تعالى: [وتصح إليها]. إذا ثبت أن الأرض المغصوبة لا يصلى فيها ولا عليها، فإنها إذا كانت بينك وبين القبلة فقد قال المصنف: وتصح إليها. فلو كانت بينك وبين القبلة لا تؤثر، إنما المؤثر عند من يرى عدم الصحة أن تكون تحتك بالمباشرة، أو تكون في أسفل الأرض ونحو ذلك.

حكم الصلاة في الكعبة وفوقها

حكم الصلاة في الكعبة وفوقها يقول المصنف عليه رحمة الله: [ولا تصح الفريضة في الكعبة ولا فوقها، وتصح النافلة باستقبال شاخصٍ منها]. ختم المصنف رحمه الله بهذه الجملة الأحكام المتعلقة بالشرط السابق، وكان الحديث عن طهارة المكان، ولزِم ذكرُ المواضع التي لا يجوز للمكلَّف أن يوقِع الصلاة فيها. فذكرنا المقابر والمزابل، وقارعة الطريق، وأعطان الإبل، والأصل في هذه المواضع حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في سبعة مواطن: المجزرة، والمقبرة، والمزبلة، وقارعة الطريق، وأعطان الإبل، وعلى ظهر الكعبة). فهذه المواضع نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة فيها، وقد تقدَّم أن المِجزرة والمقبرة والمِزبلة والحمّام لا يُصلَّى فيها لأنها مشتملة على وجود الشياطين، وذكرنا علَّة ذلك، وأما قارعة الطريق فهي المكان الذي يقرعه الناس، أي: يمشون فيه، سمِّيت بذلك لأن الإنسان إذا سار في الطريق قرع نعاله، وسُمِع قَرع النعال، أي: صوتها، فيُقال: قارعة الطريق، بمعنى المكان الذي يطرقه الناس. وأما بالنسبة لأعطان الإبل فقد ذكرنا أن العلة في ذلك أنها مأوى للشياطين، وبيَّنا أن هذه العلة هي أقوى العلل، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة في أعطان الإبل، وأجازها في مرابض الغنم، فلو كانت العلة كونها أعطاناً للإبل لاشتمالها على فضلة الإبل لمُنِع من الصلاة في مرابض الغنم لاشتمالها على فضلة الغنم، فأقوى العلل كونها من الشياطين كما قرَّره غير واحدٍ من أهل العلم رحمة الله عليهم. أما الموضع السابع الذي نُهِي عن الصلاة فيه فهو فوق سطح الكعبة، وهذا هو الذي تكلَّم عليه المصنف فقال رحمه الله تعالى: [ولا تصح الفريضة في الكعبة ولا فوقها، وتصح النافلة باستقبال شاخص منها]. أي: لا تصح الفريضة في الكعبة ولا فوقها؛ لأننا أمرنا باستقبال الكعبة، والمستقبل للكعبة يستقبل جدارين، والله أمر نبيه أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام. ومسألة الصلاة على سطح الكعبة أو في داخل الكعبة في الأصل ليست بواردة في هذا المكان؛ لأن الكلام عن طهارة المصلَّى، وذكرنا اشتراط طهارة المكان الذي يصلي فيه المكلَّف، ودليل ذلك من السنة، لكن العلماء رحمة الله عليهم من عادتهم أنهم يذكرون المسائل الشبيهة في المظان، فلما ذَكَر تحريم الصلاة في المواضع النجسة ناسَب أن يُتبِعه بالمواضع المنهي عنها، وإلا فالأصل ألا يُذكَر هذا الحكم في طهارة الموضع من النجاسة. والصلاة على ظهر الكعبة فيها خلاف بين أهل العلم رحمة الله عليهم، فمنهم من قال بعدم صحّتها مطلقاً، ومنهم من قال بجوازها مطلقاً وصحّتها، ومنهم من فرّق بين النفل والفرض، كالصلاة بداخل الكعبة. والصلاة بداخل الكعبة أيضاً فيها ثلاثة أقوال مشهورة: القول الأول: ذهب الإمام الشافعي رحمه الله إلى صحة الصلاة داخل الكعبة مطلقاً، سواءٌ أكانت نفلاً أم فريضة، وهو قول طائفة من أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع. والقول الثاني أنه تصح الصلاة داخل الكعبة إذا كانت نفلاً دون الفريضة، فلا تصح الفريضة داخل الكعبة، وهذا اختيار طائفة من العلماء رحمة الله عليهم، كما هو عند المالكية وبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، ودرج عليه الحنابلة. وهناك قولٌ ثالث بعدم الصحة مطلقاً، وهو لبقية من ذكرنا من المذاهب. فتحصَّل عندنا ثلاثة أقوال، فمن يقول بصحة الصلاة داخل الكعبة مطلقاً يحتج بقوله عليه الصلاة والسلام: (وجُعِلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)، قالوا: فقد عمّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فدلّ على أن الإنسان إذا صلَّى داخل الكعبة تصح صلاته؛ لأنه أخبر أن الأرض مسجد وطهور، وداخل الكعبة مسجد لعموم هذا الخبر، فيصح للإنسان أن يصلي فيه. والدليل الثاني: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر عندما دخل النبي عليه الصلاة والسلام الكعبة، وأغلق الباب عليه وعلى أسامة وبلال رضي الله عن الجميع، فلما فُتِح الباب كان ابن عمر أول من ابتدر إلى الدخول فسأل بلالاً: هل صلى؟ قال: نعم، بين العمودين. فدلّ هذا على مشروعية الصلاة داخل الكعبة، قالوا: ولا فرق بين النفل والفرض. وأما من قال بعدم صحة الصلاة داخل الكعبة فاحتج بحديث ابن عباس رضي الله عنه في الصحيحين عن أسامة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل الكعبة فكبَّر في أركان البيت ونواحيه، ثم لم يصلِّ، وخرج واستقبل الكعبة وكبر وركع ركعتين. ف أسامة ينفي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى، وبلال يُثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى، فحصل الخلاف بين هذين الصحابيين، فيقولون: الأصل استقبال القبلة والكعبة بكمالها، فلمّا حصل التردد اعتضد قول أسامة بالأصل، وبقي كلام بلالٍ محتمِلاً؛ لأن الصلاة تُطلق بمعنى الدعاء، وقد قال أسامة: (كبَّر)، فيحتمل أن بلالاً سمع تكبيره وظنها صلاة؛ لأن أسامة يقول: (كبَّر في نواحي البيت)، وهذا يدل على أنه رأى منه انتقالاً في نواحي البيت؛ لأن الإشكال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما دخل أغلق الباب، ومن المعلوم أن من دخل من خارج البيت أو من خارج الغرفة إلى داخلها ثم أُغلِق عليه مباشرة يخفَى عليه رؤية ما بالداخل، فظن أن سماع هذا التكبير المتتالي يُظَن معه أنه صلَّى. هذا وجه من يقول أنه لم يصلِّ. وأما الذين توسَّطوا وقالوا: يصلي النافلة دون الفريضة، فقالوا: إن بلالاً أثبت أنه صلَّى، فنُعمِل حديث بلال على الإثبات، ونُبقي الأصل من الأمر بالتوجه إلى الكعبة على ما هو عليه، فنقول: يصح إذا كانت الصلاة نافلة دون الفريضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما صلى فريضة داخل الكعبة، ولو كانت جائزة لبيَّنها إما بقوله أو بفعله، فحيث إنه عليه الصلاة والسلام صلى النافلة دون الفريضة -على القول بأنه صلَّى-، فحينئذٍ نقول: إن الفريضة لا تُصلَّى. والذي يترجّح والله أعلم أن مسلك من يقول بالتفصيل أقوى لأمور: الأمر الأول: أمر الله تعالى بالتوجه إلى البيت، ومن بداخل البيت يتوجه إلى جهةٍ واحدة، بخلاف من كان خارج البيت، فإنه يجمع بين جهتين من أي الجهات صلى، ولذلك كان استقباله داخل البيت أخف من استقباله خارج البيت، فلو وقفت -مثلاً- من جهة الباب أو المقام استقبلت جدار الباب والجدار الذي هو بين الحِجر وبين الركن، وكذلك لو وقفت بين الركنين استقبلت الجدار الذي فيه الركنان، وكذلك الجدار الذي من جهة الحِجر، بخلاف ما إذا صليت بالداخل فإن ستستقبل جداراً واحداً. والأصل في دلالة القرآن استقبال البيت، فلذلك يُحمَل على أكمل ما يكون، وحيث تعذر استقبال الأربع الجهات اكتُفِي بالجهتين للتعذُّر، فإذا ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه صلى -مع التردد في الرواية- فإن الأصل يقتضي الاحتياط، ولو أن القاعدة: (من حفِظ حجة على من لم يحفظ)، لكن الشبهة هنا واردة وقوية، خاصة وأن هناك من ينفي وله جلالة علمه وقدره، والحادثة واحدة. الأمر الثاني: وجدنا أن الشريعة تخفِّف في النافلة ما لا تخفِّف في الفرض، ألا تراه في السفر عليه الصلاة والسلام كان يصلي على بعيره كما أخبر عنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ولم يصلِّ فريضة على بعيره، وكان عليه الصلاة والسلام يصلي على بعيره حيثما توجَّه به في السفر، فدلّ على تخفيف القبلة في النافلة، بخلاف الفريضة. ومن هنا يقوى القول بالتفريق بين النفل والفرض ولأن الذي ورد من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو في النافلة، ولم يرد عنه في الفرض إذ لو كان الفرض سائغاً لبيَّنه بالقول عليه الصلاة والسلام. فلا يقوى مسلك من يقول بجواز صلاة الفريضة داخل الكعبة، إلا بناءً على قوله بأنه لا فرق بين النافلة والفريضة، فيُنقَض هذا القول بورود النص في استقبال القبلة، فوجدناه يخفِّف في صلاة النافلة على الراحلة في السفر، فيصلي النافلة حيثما توجَّهت به راحلته، فخفَّف في القبلة، بخلاف الفريضة فإنه يجب عليه أن ينزل ويجتهد ويتحرَّى ويستقبل، ففهمنا من هذا أنه قد تختص النافلة في الاستقبال بما لا يكون للفرض، فقوِي مذهب من يقول بصحة صلاة النافلة دون الفريضة. ثم إن هذا هو مبلغ التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع أن الحديث فيه ما فيه من تعارض قول أسامة مع بلال رضي الله تعالى عنهما. ولذلك قَوِي مذهب من يقول: إنه يصلي النافلة دون الفريضة، لما ذكرناه. ومن هنا لو صلّى على ظهر الكعبة، فإن ظاهر حديث ابن عمر أنه لا يصلي على ظهر الكعبة، وهذا الحديث رواه الترمذي وهو من رواية سعيد بن جبيرة، وهو راوٍ مُتكلَّم في روايته، قال عنه الترمذي: إنه ليس بذاك، وللعلماء فيه قولان: قال بعضهم: إنه كان يضع الحديث، حتى قال بعضهم: إن هذا الحديث من وضعه وهذا من أشد ما يكون في القدح، وقال بعضهم: الرجل ثقة في ذاته -أي: من ناحية ديانته وصلاحه- ولكنه تدرِكه غفلة الصالحين. ولهذا الحديث أيضاً رواية عند ابن ماجة يرويها عن داود بن حصين، وكذلك أيضاً يرويها ابن ماجة عن الليث بن سعد عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال) وذكر الحديث. ولكن هذه الرواية مضعّفة بـ العمري، وهو ضعيف من قِبَل حفظه، وقد يقول قائل: إنه قد تنجبر هذه الطريق بهذه الطريق، ويُحكَم بحسن الحديث كما قاله بعض العلماء، ولكن يُشكِل عليه أن الانجبار في الأحاديث الحسنة ش

الأسئلة

الأسئلة

حكم حمل الصبي في الطواف وعليه الحفاظة

حكم حمل الصبي في الطواف وعليه الحفاظة Q ما حكم حمل الصبي أثناء الطواف بالبيت وهو حاملٌ للنجاسة فيما يسمى بالحفاظة، وهو مما عمت به البلوى؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فحمل الصبي على حالتين: إن كان طاهراً فلا حرج، وقد ثبت الدليل عن النبي صلى الله عليه وسلم بجواز ذلك ومشروعيته. وأما إذا كان نجساً أو متنجساً فإنه لا يجوز أن يحمله في الصلاة وهو على هذه الحالة، ويستثنى من ذلك حالة واحدة يحكم فيها بالجواز، وهي: إذا خافت المرأة على صبيها، كأن تريد أن تطوف بالبيت معتمرة أو حاجة ولو تركت الصبي خافت عليه أن يضيع أو يؤخذ، فإنه يجوز لها أن تطوف وهي حاملةٌ له لمكان الضرورة، والله تعالى أعلم.

حكم إزالة النجاسة في الصلاة المفضية إلى كشف العورة

حكم إزالة النجاسة في الصلاة المفضية إلى كشف العورة Q إذا كانت النجاسة التي علم بها في الصلاة على ثيابه، فإن خلعها ربما انكشفت عورته، فكيف يفعل؟ A لو أن إنساناً لم يجد إلا ثياباً نجسة، ولا يمكنه ستر العورة للصلاة إلا بهذا النجس، فإن هذه المسألة تعرف عند العلماء بمسألة ازدحام الشروط، فإن قلت: أقدم شرط الطهارة على ستر العورة يصلي عارياً، وإن قلت: أقدم ستر العورة على شرط الطهارة يصلي بالمتنجس، وبناءً على ذلك يفصل في هذه المسألة فإن كان يصلي في موضعٍ لا يراه فيه أحد فإنه يعمل الأصل ويصلي عارياً؛ لأن الطهارة معتبرة، وهذا النجس يقدم فيه ما ذكرناه. أما لو كان في موضعٍ يراه فيه أحد فإنه يصلي بثوبه النجس لمكان الضرورة، والله تعالى أعلم.

حكم من صلى وهو جنب ناسيا

حكم من صلى وهو جنب ناسياً Q رجلٌ احتلم بالليل ولم يعلم بذلك، وصلى الظهر والعصر والمغرب، وعند ذلك رأى آثار المني على ثوبه، فهل يعيد تلك الصلوات مرتبة أم كل صلاةٍ في وقتها في اليوم التالي؟ A من صلى وهو ناسٍ أنه محتلم أو عليه جنابة فإنه يلزمه أن يعيد الصلوات ولو كانت أياماً؛ لأنه لا يصح للإنسان أن يصلي وهو على غير طهارة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، وبناءً على ذلك يلزمه إعادة هذه الصلوات كلها، ويراعي فيها الترتيب حتى ولو تعددت أيامه، والله تعالى أعلم.

حكم الصلاة في مسجد به قبر

حكم الصلاة في مسجد به قبر Q ما حكم الصلاة في المسجد الذي به قبر؟ وإذا كانت غير صحيحة فهل يلزمني إعادة الصلوات التي صليتها في هذا المسجد؟ A إذا بني المسجد على القبر فإنه لا تصح الصلاة فيه؛ لأنه آخذٌ حكم الصلاة على القبر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على القبر، وبناءً على ذلك يلزمك إعادة الصلاة إذا صليت فيه، ويجب عليك أن تبحث عن مسجدٍ لا قبر فيه وتصلي فيه، وأما إذا كانت المساجد كلها فيها قبور فتصلي في بيتك، ثم إذا خشيت الفتنة فكما قال عليه الصلاة والسلام: (صلِ معهم فإنها نافلة)، أما إذا لم تخش الفتنة فإنه لا تلزمك الجماعة لمكان هذا العذر، والأولى أن تصلي جماعةً بأهلك أو بجيرانك، والله تعالى أعلم.

حكم من صلى إلى غير القبلة مخطئا ثم عرف ذلك

حكم من صلى إلى غير القبلة مخطئاً ثم عرف ذلك Q لو أن رجلاً صلى في بادية فاجتهد في القبلة، وبعد الصلاة أتاه رجل فأخبره باتجاه القبلة الصحيح، فما حكم صلاته؟ A من صلى في بريةٍ أو باديةٍ لا يخلو من حالتين: إما أن يكون بموضعٍ يمكنه السؤال والتحري فيلزمه؛ لأن القدرة على اليقين تمنع من الشك، وقد كلفه الله باستقبال القبلة، وبإمكانه أن يتحرى جهتها، فيسأل العالم بمواضع القبلة من أهل ذلك الموضع ويلزمه الرجوع إليه، أما لو كان في بريةٍ ليس فيها أحد، ولا يجد أحداً يسأله، أو الذين معه عوام وجهالٌُ مثله فإنه يتحرى ويصلي، ولا حرج عليه إذا ظهر أنه صلى لغير القبلة؛ لما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى وأصحابه في ليلةٍ فيها غيم ثم لما أصبحوا فإذا هم على غير قبلة، فقال صلى الله عليه وسلم: قد مضت صلاتكم). فإذا تحرى الإنسان عند إمكان التحري على قدر وسعه عند فقد العالم بالقبلة أو بجهة القبلة فإنه قد أدى ما عليه، وصلاته صحيحة، والله تعالى أعلم.

وجود النجاسة في الجبيرة

وجود النجاسة في الجبيرة Q كيف يكون الجبر بالعمود النجس؟ A تحتاج إلى طبيب يذكر لك أنواع الجبارة، وعلى العموم خذ هذا الأصل، أما الكيفية فهذا أمر يرجع إلى أهل الخبرة، وهذا فن ما قرأناه إلى الآن، فتحتاج إلى إنسان يعلم طرق الجبائر وأنواعها ثم يتكلم عليها. أما المهم فأن تكون الجبيرة نجسة، أو توضع فيها مادة نجسة، فلو أن الجبس كان فيه بول -أكرمكم الله- أو خلط بماءٍ فيه بول، أو وضعت خلطة الجبس في ماءٍ فيه بول، أو المادة التي وضعت بجبر هذا العظم نجسة، فهذا كله من جبر النجاسة، أو تكون الجبيرة التي توضع وتلف أصابتها نجاسة فتنجست، فكل هذه الصور واردة، وأما ما هي الجبيرة النجسة فهذا أمر يحتاج إلى عالمٍ خبير بالجبائر، ومن أحيل على مليء فليتبع. أما بالنسبة لحكم العلماء رحمة الله عليهم فهذا هو الأصل، أي: يستوي في ذلك أن تكون الجبيرة بذاتها نجسة، أي: نفس الآلات الموضوعة للشد نجسة، أو الحبال واللفائف التي توضع متنجسة، أو الجبس الذي يوضع نجس، فكل هذا يتأتى ويدخل في مسألة الجبيرة النجسة، والله تعالى أعلم.

حكم الصلاة على أسطح الحشوش والحمامات وأعطان الإبل

حكم الصلاة على أسطح الحشوش والحمامات وأعطان الإبل Q هل تصح الصلاة على أسطح الحشوش والحمامات وأعطان الإبل؟ A الصلاة على أسطح الحُش والحمام وأعطان الإبل مفرعة على الكلام على الموضع، فإن قلت: إن سماء الشيء آخذٌ حكم أرضه فحينئذٍ لا تصح، لكن لقائلٍ أن يقول: إن المتصل بالنجاسة ليس كالمنفصل، فنحن حينما ذكرنا مسألة الغصب قلنا: الصحيح أنها لا تؤثر، وأن المغصوب تصح فيه الصلاة، وأن الصلاة على ظهر أو سطح مغصوب صحيحة، كالصلاة على المغصوب نفسه. وبناءً على ذلك إذا قلنا: العلة هي النجاسة وكون الحُش متنجساً يبقى سطح الحُش على العموم لقوله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)، فنقول بصحة الصلاة عليه من هذا الوجه، وكذلك أعطان الإبل إذا كانت الإبل تمرح في مكان وسطحها لا تمرح فيه، فإن العبرة بالمكان لا بسطحه، وهذا أقوى وأوفق وأقرب إلى الأصل من جهة العموم لقوله عليه الصلاة والسلام: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)، ويبقى الإشكال في الجواب عن مسألة من ملك أرضاً ملك سماها. فنقول: هذا في الأوصاف المتعدية، فالاغتصاب الوصف فيه يتعدى؛ لأن الغصب سارٍ على الأرض كلها، لكن النجاسة الوصف فيها لا يتعدى، ونحن قلنا: إذا طين أرضاً نجسة، وكان هناك حائل بينه وبين الأرض النجسة وصلى صحت صلاته، وبناءً على ذلك يفرق بين المتصل والمنفصل، فلما كان في الغصب متصلاً؛ لأن الغصب يسري إلى السطح قلنا بعدم الصحة على الأصل الذي قرره المصنف، ولما كان الوصف هنا لا يسري، ولا يأخذ حكم المتصل قلنا بصحة الصلاة من هذا الوجه، والله تعالى أعلم.

حكم الصلاة بالثوب الذي عليه فضلات طير غير مأكول

حكم الصلاة بالثوب الذي عليه فضلات طير غير مأكول Q من صلى وقد أصاب ثوبه من فضلات الطيور الجارحة كالصقر، وهو يعلم أنها على ثوبه، فهل يعيد الصلاة؟ A الطيور الجارحة فضلاتها وذرقها نجس، أما الطيور التي تؤكل كالحمام والعصافير فأصح أقوال العلماء أنها طاهرة، وخالفت الشافعية رحمة الله عليهم فقالوا: إن ذرق الحمام نجس، ولذلك يقعون في حرجٍ كبير إذا صلوا في الأماكن التي فيها حمام، حتى قال بعض العلماء: بسبب كثرة الحمام ومشقة التحرز يعفى عن ذرق الحمام. فالطيور الجارحة على الأصل الذي ذكرناه أن بول وروث ما يؤكل لحمه طاهر، وأن ما عداه نجس، فيتخرج على هذا القول بنجاسته، وسيأتينا إن شاء الله في كتاب الأطعمة، فلو أصابه ذرق فإنه يعتبر متنجساً، لكن عند من يقول: إن يسير النجاسة الدم وغيره معفو عنه، وكان هذا الذرق يسيراً فإنه يعفى عنه على هذا القول، وإن كان الصحيح أنه لا يعفى عنه؛ لأن العفو مختصٌ بالدم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.

باب شروط الصلاة [7]

شرح زاد المستقنع - باب شروط الصلاة [7] مما لا ينبغي لكل مسلم جهله معرفة شروط الصلاة، والأماكن التي تحرم الصلاة فيها، وحكم الصلاة في الكعبة وعليها، وهل الِحجر داخل فيها، وحكم استقبال القبلة، وهل الفريضة والنافلة في ذلك سواء، وأحوال المصلي في استقباله للكعبة، وما هي الأمور التي يستدل بها على جهة القبلة، وغيرها مما يجدر الإحاطة به.

شرط استقبال القبلة في الصلاة وأدلته

شرط استقبال القبلة في الصلاة وأدلته قال المصنف رحمه الله: [ومنها استقبال القبلة]. أي: من شروط الصلاة التي ينبغي على المكلف أن يراعيها للحكم بصحة صلاته استقبال القبلة، والاستقبال استفعال من القُبُل، ويُقال: الشيءُ قِبَل الشيء، إذا كان مواجهاً له؛ لأن القُبُل ضد الدُبُر، فيُقال استدبَرَه، إذا كان من خلفه، واستقبله، إذا كان من أمامه. قالوا: وُصِفت القبلة بذلك لأنها تكون قِبَالة الإنسان، أي: من وجهه، وقد أُمِر بالشرع أن يجعلها قِبَالة وجهه، ولذلك ينبغي في الصلاة إذا صلَّى أن يجعل ناحية البيت قِبل وجهه، وذلك لأمر الله عز وجل به في كتابه المبين، وكذلك ثبَت بهدي سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وأجمعت الأمة على اعتباره. أما دليل الكتاب فقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:149]، فإن قوله سبحانه: (فَوَلِّ وَجْهَكَ) أمر، وقوله: (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أي: ناحية المسجد الحرام، وسنبيِّن تفصيل هذه الآية وما دلّت عليه. فوجه الدلالة أن الآية أمرَت فدل على لزوم استقبال القبلة. أما دليل السنة فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للمسيء صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر)، فقال له: (استقبل القبلة)، وهذا أمر، والأمر للوجوب، وبناءً على ذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا تصح الصلاة إذا استقبل الإنسان فيها غير القبلة، إلا في حالتين: حالة العذر من وجود السفر، أو حالة العذر من جهة المسايفة، وما في حُكمِها مِن كون الإنسان لا يستطيع أن يتحول إلى القبلة كالمريض الذي يكون مشلولاً ولا يجد من يوجهه إلى القبلة. فاشتراط هذا الشرط دلّ عليه دليل الكتاب ودليل السنة والإجماع.

حكم استقبال القبلة للعاجز والمسافر

حكم استقبال القبلة للعاجز والمسافر قال رحمه الله تعالى: [فلا تصح بدونه إلا لعاجز]. قوله: [فلا تصح بدونه] أي: الصلاة، والفاء للتفريع، أي: إذا علمت رحمك الله أن استقبال القبلة لازم على المكلَّف وواجب عليه، فلا تصح الصلاة مطلقاً سواءٌ أكانت نافلة أم فريضة إذا لم يستقبل القبلة، وذلك لأمر الله عز وجل بها وتعيينها على المكلَّف، إلا ما استثناه الشرع. قال رحمه الله تعالى: [إلا لعاجز]. قوله: (إلا) استثناء، والقاعدة أن الاستثناء إخراج بعض ما يتناوله اللفظ. وقوله: (لعاجز) العاجز يكون على أحوال، كالإنسان المريض الذي يكون مشلولاً ولا يستطيع أن يتحرك يميناً أو شمالاً، وكان على جهة غير القبلة، وحضَرته الصلاة، وليس عنده أحد يحرِفه إلى جهة القبلة، فحينئذٍ يصلي على حالته، خاصة إذا خرج عليه الوقت وهو على تلك الحالة؛ لأن التكليف شرطه الإمكان، وقد قال الله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وهذا ليس بوسعه أن يستقبل، وليس بوسعه أن ينحرف إلى القبلة، فيبقى على العذر لمكان العجز المتعلق به. ولو أن إنساناً رُبِط في بئر أو في مكان بحيث لا يستطيع أن يتحول أو ينحرف، أو رُبط بالجدار وكان وجهه إلى غير القبلة، أو سُجن في موضعٍ فوُضِع وجهه على غير القبلة، ولا يستطيع أن يتحرك، فإن هذا يصلي على حالته؛ لأنه عاجز، والتكليف شرطه الإمكان، والعجز يوجب سقوط التكليف، فلذلك لا يُكلَّف. قال رحمه الله تعالى: [ومتنفل راكب سائر في سفر]. قوله: (ومتنفِّلٍ) أي: في سفر، فيَخرج المفترض، فإن المفترِض يجب عليه أن يستقبل في السفر، وبناءً على ذلك ينزل من على دابته ويستقبل، ودليل استثناء المتنفِّل ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به). فهذا الحديث دل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان من هديه في السفر أن يصلي حيثما توجهت به الدابة، فدل على أنه لا يتعيَّن عليه أثناء ركوبه على الدابة أن يستقبل القبلة، وإنما يصلي حيثما انصرفت الدابة. الدليل الثاني: حديث أنس في الصحيح، وقد رواه ابن سيرين رحمة الله عليه يقول: (خرجنا نتلقى أنس بن مالك حين قدِم من الشام، -فلم ينتظروه حتى يدخل المدينة، ولكن كان السلف الصالح رحمهم الله يُجِلُّون أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم- قال: فلقيناه بعين التمر وهو على دابته، ووجهه من ذي الجانب -يعني على غير القبلة- فقالوا: رأيناك تصلِّي على غير قبلة! فقال: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعله ما فعلته). فدل على أنه من هديه عليه الصلاة والسلام الصلاة على النافلة في السفر حيثما توجّهت به. فإذا ثبت أن المتنفِّل على الراحلة في السفر يصلي حيثما توجَّهَتْ به راحلته فهنا مسائل ينبغي التنبيه عليها: المسألة الأولى: أنه ينبغي عليه أن يستقبل القبلة عند تكبيرة الإحرام، وذلك لحديث أبي داود، وهو حديث حسن، وما ورد من الأحاديث المطلقة عن ابن عمر وأنس مقيد بما ورد بهذا الحديث، ولذلك نقول: إن حديث ابن عمر ذكر الأصل، والقاعدة أن الذي يُفصِّل يُقدَّم على الذي يُجمِل. فكونه يُجمِل ويقول: كان يصلي على دابته حيثما توجَّهت به، هذا يُقدَّم عليه المفصِّل الذي يبيِّن أنه عند تكبيرة الإحرام يَحرِف دابته ويستقبل القبلة، وبناءً على ذلك لا بد من استقبال القبلة عند تكبيرة الإحرام. فإذا كان على بعيرٍ حرَف البعير واستقبل جهة الكعبة وكبَّر ثم عطَف البعير على جهة السير، وهذا بالنسبة إذا أمكن. المسألة الثانية: إذا لم يمكنه ذلك كما هو الحال الآن -مثلاً- في السيارات، فلو كان الإنسان في السيارة والسيارة منطلقة، خاصة إذا كان راكباً فإنه محكوم بقيادة غيره، فحينئذٍ يُكبِّر حيثما توجّهت به السيارة للتعذُّر، فيُستثنَى من هذا الأصل التعذُّر أو حصول المشقة الشديدة، قالوا: وأيضاً في حكمها القاطرة في القديم، وكذلك القطار في الحديث، فإن الإنسان إذا أراد أن يتنفل في قطار أو طيارة أو سيارة وتعذَّر عليه أن ينحرف، فحينئذٍ يكبر على الوجهة التي هو فيها. وإن كان بعض العلماء اجتهد فقال: ينحرف بجسمه ويكبِّر ثم يرجع إلى وضعه، ولكن هذا الفعل فيه إشكال، ويحتاج إلى نظر. وبناءً على ذلك إذا ثبت أن الأصل أنه يكبِّر تكبيرة الإحرام ثم يعطف الدابة ويمشي، فإذا مشت الدابة فحينئذٍ الرخصة أن تمشي في مسيرها الذي هو أصل سيرها، وهذا محل الرخصة، قالوا: فإن انحرفت الدابة عن مسيرها المقصود إلى مسيرٍ آخر كان كانحرافه عن القبلة؛ لأنه إنما جاز له لمكان الحاجة، فهو يستقبل جهته التي ذهب إليها كسباً لوقته، فإذا كان عنده من الوقت أن ينحرف عن طريقه، فالأولى أن ينزل ويستقبل قبلة الله التي أوجبها على عباده. إذاً لا بد وأن يكون على الوجهة التي هو ماضٍ إليها، فإن انحرفت دابته فإنه يكون كما لو انحرف عن القبلة قصداً، وهذا إذا لم توجد حاجة، أما لو انحرفت اضطراراً، أو انحرفت كما يحدث الآن في السيارات أن تنحرف لعارض أو لحاجة فهذا لا يؤثر؛ لأنه في حكم القصد الذي مشى عليه الإنسان من حاجته، فهذا بالنسبة لصلاته على الدابة. المسألة الثالثة: قالوا: إن الله عز وجل لطف بالعباد وخفَّف عليهم، وهذا من شرف العبادة أن جعلهم في عبادة حتى وهم على الدواب، فيؤجرُ المسافر على ذكر الله عز وجل وهو على دابته وبعيره، فكان من رحمة الله عز وجل أن أجاز للمسلمين أن يصلوا وهم على دوابهم حتى لا يفوت المسافر الخير، وبناءً على هذا تكون هذه الرخصة أصل. المسألة الرابعة: لو أن إنساناً كان مسافراً وراكباً على دابته عرَفنا حكمَه، فهَب أنه يمشي على قدمه، فما حكمُه؟ قالوا: إذا مشى على قدمه فإنه يستقبل القبلة ويكبِّر، ثم ينحرف ويمشي في مسيره، فإن جاء وقت الركوع وقَف وركع، وقالوا: يَسُوغ له أن يركع ماشياً؛ لأنه لا يُعذر بالركوع مثل الذي على الدابة؛ لأن الذي على الدابة يومي إيماء، ولا يلزمه أن يقوم ويركع؛ لأنه ربما سقط، كالحال في السفينة أو نحوها. ثم إذا كان يمشي يركع وهو على وجهه، قالوا: ثم يسجد وهو على وجهه، ولا يُعذَر بترك ركوعٍ ولا سجود، فيُفرَّق بين الماشي والراكب على دابته من هذا الوجه.

صلاة المتنفل في السفر

صلاة المتنفل في السفر قال المصنف رحمه الله: [ويلزمه افتتاح الصلاة إليها، وماشٍ، ويلزمه الافتتاح والركوع والسجود إليها]. قوله: (ويلزمه) أي: يجب عليه، وقوله: (افتتاح الصلاة إليها) أي: إلى جهة القبلة -كما قلنا- وهو أصح أقوال العلماء، لحديث أبي داود الذي ذكرناه. وقوله: [وماشٍ] أي: يجوز له إذا كان ماشياً أن يصلي حيثما استقبل من وجهه الذي هو مسافرٌ إليه. قوله: [ويلزمه الافتتاح والركوع والسجود إليها]. قال بعض العلماء مثلما درج عليه المصنف في الركوع والسجود: ينحرف الماشي ويركع ويسجد، وهذا أحوط المذاهب، وهو أقربها إلى الصواب إن شاء الله. وقال بعض العلماء: إنه يركع على سبيله أو على طريقه. فقال الآخرون: لا؛ لأن الرخصة إنما ثبتت عند الحاجة، وهذا بإمكانه أن ينحرف إلى القبلة ويركع ويسجد، وهذا أحوط وأبلغ في إعمال الأصل، ولذلك اعتباره أولى.

أحوال استقبال القبلة

أحوال استقبال القبلة قال رحمه الله تعالى: [وفرض من قرُب من القبلة إصابة عينها ومن بعد جهتها]. المصلي لا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يكون داخل المسجد الحرام. وإما أن يكون داخل الحرم وخارج المسجد، كبيوت أهل مكة. وإما أن يكون خارج الحرم وخارج المسجد، وهم أهل الآفاق، ومن في حكمهم. فإن كنت داخل المسجد الحرام فيجب عليك استقبال عين الكعبة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم -كما في حديث ابن عباس في الصحيح- لما خرج من الكعبة كبَّر وركع ركعتين، وقال: (هذه القبلة)، أي: هذا الذي فعلته من الاستقبال هو المتعيِّن واللازم على المكلَّف، فاستقبل عين الكعبة، فيجب على المكلَّف أن يستقبل عين الكعبة ما دام داخل المسجد. وبناءً على ذلك لو كان في الأروقة ينبغي أن يتحرَّى وأن يستبين، ولا يفعل كما يفعل العوام، فبمجرد ما يجد صفاً يكبِّر، بل ينبغي أن يحتاط ويتحرَّى استقبال عين الكعبة؛ لأنه ربما صار مستقبلاً للفراغ خاصة عند طول الصفوف، فينبغي الاحتياط والتثبت، وكذلك أيضاً لو كان في الأدوار العليا وهو بعيد ينبغي عليه أن يحتاط ويتثبت، ويبني على غالب الظن إذا كانت هناك أمارات وعلامات يقوى بها إلى الاهتداء إلى جهة الكعبة، فيصيب تلك العلامات، أو يكون بينها حتى يكون مصيباً لعين الكعبة. فإذا تبيَّن أنه كان مستقبلاً لفراغٍ أو فضاء، بمعنى أنه لم يستقبل الكعبة لزِمته الإعادة، وذلك لأنه فرّط، فيُلزم بعاقبة تفريطه، فيُعيد صلاته لإمكان استقبال عين الكعبة. الحالة الثانية: أن يكون داخل بيوت مكة وخارج مسجد الكعبة، فهذا يستقبل المسجد، أي: يَعْتَد بالمسجد، ولذلك صلَّى عليه الصلاة والسلام بالمحصَّب، وكذلك صلّى عليه الصلاة والسلام بالبطحاء، قالوا: فاستقبل جهة المسجد. والدليل على أنه يستقبل جهة المسجد أنه لما صلى في منىً وهي في الحرم صلّى بالخط الطويل؛ لأنه كان صف أصحابه طويلاً، ومع ذلك لم يحدد عدد الصف حتى يصيب عين الكعبة؛ لأن الصف الطويل قطعاً سيصيب الفراغ، فكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلِّي بالصفوف الطويلة من أصحابه وهو داخل حدود مكة أثناء حجِّه عليه الصلاة والسلام يدلُّ على أن العبرة بجهة المسجد، وأنه إذا استقبل جهة المسجد أجزأه ما دام أنه داخل حدود الحرم. الحالة الثالثة: أن يكون خارج حدود الحرم، فهذا العبرة عنده بجهة مكة، وبناءً على ذلك قالوا في قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144]، والضمير عائد إلى المسجد، قالوا: (شطره) أي: ناحيته. وقد دلّ الدليل الصحيح على أن العبرة بالناحية والجهة، ووقع إجماع العلماء على أنك إذا كنت في المدينة فاعتبِر الجهة، فجهة القبلة في المدينة في الجنوب منحرفة قليلاً إلى الغرب، وإذا وقفت إلى الجنوب المحض فأنت مستقبل للقبلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في قبلة أهل المدينة: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)، وقال كما في الصحيحين من حديث أبي أيوب: (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببولٍ ولا غائط، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا)، فدل على أن القبلة بين الشرق والغرب بالنسبة لأهل المدينة، وهذا يُثبت على أن العبرة بالجهة، وليس المراد إصابة عين الكعبة؛ لأن كون الإنسان وهو في المدينة أو جدَّة أو الطائف أو آفاق الأرض يستقبل عين الكعبة فهذا متعذِّر، ولذلك العبرة بالجهة. وإذا ثبَت أن العبرة بالجهة، فحينئذٍ لو أن الإنسان انحرف انحرافاً لا يخرجه عن جهة القبلة فلا بأس بذلك، فلو أن قبلته في الجنوب، ولم ينحرف إلى الشرق ولا إلى الغرب، أو إلى جهة فرعية يتبين بها انحرافه فصلاته صحيحة، وقبلته معتبرة، وقال بعض العلماء بإلغاء الجهات الفرعية، والعبرة بالجهات الأصلية، وهذا مذهب قوي، خاصة للأحاديث التي ذكرناها. ومن هنا يُنبّه على ما شاع وذاع في هذه العصور المتأخرة من العمل بالبوصلة، وتشكيك الناس في محاريبهم، فإن بعض من يضبط بالبوصلة يبالغ في الضبط بها، فلو حُدِّدت الدرجة لأهل المدينة -مثلاً- تسع عشرة درجة، فهل معنى ذلك أن شرق المدينة كغربها كوسطها؟ لا. فإذا وجدنا المسجد ينحرف قليلاً، فما دام أنه يصيب الجهة فلا داعي لتشكيك الناس في صلاتهم، وهدم بيوت الله عز وجل، وإحداث الشوشرة على الناس، فلا يُعتد بالانحراف اليسير؛ لأن الله عز وجل كلَّفهم بالجهة، كما قال تعالى: ((فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)) [البقرة:144]، فإذاً العبرة بالشطر والناحية، فكونه بعد وجود هذه الآلات الدقيقة يُحرص على أنه لا بد من أن يكون استقبالاً محضاً، فهذا محل نظر، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإمكانه أن يستقبل عين الكعبة بالوحي. فإن قال قائل: إن وجود هذه الآلات الآن أمكن معها ضبط عين القبلة! نقول: نعم. لكن في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان محرابه مصيباً لعين الكعبة، وقال بعض العلماء بالإجماع على ذلك، ومع ذلك ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأتي إلى مساجد الناس في المدينة ويقول لهم: هلموا أضبط لكم قبلة الكعبة بعينها، بل ترَكهم يجتهدون، وقال: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)، وهذه هي سماحة الدين ويُسره، وأما المبالغة في الضبط والتحرَّي، وتشكيك الناس في صلاتهم فهذا لا ينبغي؛ لأن الله عز وجل وسَّع على عباده، وديننا دين رحمة، وليس دين عذابٍ وعنت، ولذلك ما دام أنه استقبالٌ للجهة فهذا يكفي، ولا عبرة بالتحديد المبالغ فيه كما ذكرنا. وقوله: (ومن بَعُد جهتها) أي: جهة الكعبة، فإن كانت جهتها في المشرق فالقبلة المشرق، وإن كانت جهتها المغرب فالقبلة المغرب، لا يكلِّفك الله أكثر من الجهة، والدليل على هذا قوله تعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144]، والشطر هو الناحية؛ لأن الشطر يُطلق بمعنيين: بمعنى النصف، وبمعنى الناحية، فيُقال شطر كذا، بمعنى ناحيته، وشطر كذا، أي: نصفه.

كيفية الاستدلال على جهة القبلة

كيفية الاستدلال على جهة القبلة قال المصنف رحمه الله: [فإن أخبره ثقة بيقين أو وجد محاريب إسلامية عمل بها]. بعد أن عرفنا أن من كان داخل المسجد يستقبل العين، وأن من كان خارج المسجد يستقبل المسجد، وأن من كان خارج مكة يستقبل جهة مكة، بقي معرفة هذه الجهات، فللمصلي حينئذٍ حالات: الحالة الأولى: أن يكون عالماً بها عارفاً لها، يعلم أن جهة مكة هنا، فحينئذٍ يعمل بعلمه، وهذا لا يحتاج إلى اجتهاد ما دام أنه يعلم أن جهتها في هذه الجهة؛ فيعمل بما يعلم. الحالة الثانية: أن يكون غير عالمٍ بجهة الكعبة، ولكن هناك من يعلم جهتها، فإن أخبره وهو ثقة عمِل بقوله ما دام أنه يعلمها بيقين، وليست المسألة هنا مسألة اجتهاد، بل مسألة العلم، وفرقٌ بين مسألة العلم والاجتهاد، فالعلم أن تعلم جهة الكعبة، والاجتهاد أن تجتهد في ضبطها، فهذا شيء، وهذا شيء. مثال ذلك: لو كنت في دار بجوار مسجد الكعبة، وهذه الدار تطِل على البيت، لكن الغرفة التي أنت فيها ليس فيها نافذة تطل على البيت، والغرفة التي فوقك فيها نافذة، فجاءك الذي فوقك، وقال لك: القبلة هكذا لأنه نظر ووجد أن القبلة أمامه مباشرة، فحينئذٍ يلزمك أن تعمل بخبره، كأنك رأيت أنّ القبلة في هذا الموضع، وهذه المسألة ليست موضع اجتهاد، بل هذا موضع النقل، وموضع النقل شيء، وموضع التحرِّي والاجتهاد شيءٌ آخر. فابتدأ المصنِّف رحمه الله بمسألة العلم والاطلاع، إن اطلعت بنفسك على الكعبة، فكنتَ في غرفة تطل على مسجد الكعبة، وتعلم أنك تستقبل ما بين الركنين صحّ ذلك ولزِمك أن تعمل بهذا؛ لأنه اليقين، وليس هناك أرفع ولا أعلى من نظر الإنسان إلى الشيء؛ لأنه علم اليقين. الحالة الثالثة: أن يكون في حكم علم اليقين، كإخبار الشخص الثقة، أي: العدل الذي يوثق بقوله، وليس بإنسان كذاب، ولا فاسق لا يُعتَد بقوله وخبره، فإن كان فاسقاً لزِمك التبيُّن؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]. كذلك في حكم هذا قالوا: لو نزل الضيف على مضيفه، فإن صاحب الدار له أن يُعلِمه بأمور، منها قبلتَه ومكان قضاء حاجته؛ لأنه يحتاج إلى ذلك، فالأول لدينه، والثاني لرفقه ببدنه، فإذا أعلمك صاحب الدار عملت بعلمه؛ لأنه لا مساغ في مثل هذه المواضع أن تجتهد، وإنما هي مواضع النقل. قوله: [أو وجد محاريب إسلامية عمل بها]. المحاريب: جمع محراب، وكان بعض السلف يكرهون وجودها في المساجد، ويكرهون الصلاة فيها، كما أُثِر عن طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورخَّص فيها بعض العلماء، قالوا: هذا مما سكت عنه الشرع، ويُعتبر من المصالح المرسلة؛ لأن الناس ضعُف فيهم الاجتهاد الذي يعلمون به القبلة، والأمر الثاني: قل أن تجد إنساناً منهم يعلم جهة القبلة، وربما جاء الغريب إلى البلد، فإذا وجد المساجد مربَّعة ليس فيها موضع القبلة فإلى أين يصلي؟ قالوا: فإذن هذه تعين على مقصود الشرع من استقبال القبلة، فتسامح فيها طائفة من العلماء رحمة الله عليهم. ودُرِج على ذلك، وانتشرت المحاريب ووُجِدت، وحصل الخلاف على ما ذكرنا، فبعض العلماء يكرهها، وبعض العلماء يُجيزها، وإن كان الأصل كراهيتها، لكن نظراً لوجود الحاجة قد يُغتفر وجودها. وبناءً على هذا فإذا وُجِد في المسجد محراب فإن هذا المحراب دليلٌ على القبلة، وأهل المسجد أعلم بقبلتهم، فكون هذه الأمة كلها تصلي في هذا المسجد، وأهل البلد أو أهل هذا الحي كلهم متظافرون ومتفقون على أن القبلة هنا، فمثل هؤلاء يُعتَد باجتهادهم. قالوا: هذه حالة الغريب إذا نزل، فحينئذٍ يلزمه أن يعمل بهذا المحراب، فيستقبل جهة المحراب؛ لأنها دليل على جهة القبلة، ولا يُعقل أن هؤلاء كلهم يتظافرون على خطأ دون نكير. وقوله: [محاريب إسلامية] مفهوم ذلك أن محاريب غير المسلمين لا يُعتَد بها كالديَر والصوامع، ويتأتى ذلك لو أن إنساناً -مثلاً- مسافر بين الشام وبين المدينة، ورأى بَيْعة (كنيسة) مستقبِلة إلى جهة بيت المقدس يعلم أن عكسها هو القبلة؛ لأن بيت المقدس على عكسه، فيعكس إلى القبلة فيستقبل الجنوب؛ لأن الذي يريد أن يستقبل بيت المقدس يستقبل الشمال، فإذا أراد أن يستقبل الكعبة يستقبل الجنوب. فقالوا: إن هذا لا يُعتد به؛ لأن النصارى لا يُؤمَن منهم تحريف دينهم، فخرج من هذا محاريب غير المسلمين، فقالوا: العبرة بمحاريب المسلمين دون غير المسلمين.

العلامات التي يستدل بها المسافر ونحوه على القبلة

العلامات التي يستدل بها المسافر ونحوه على القبلة قال رحمه الله تعالى: [ويُستدل عليها في السفر بالقطب والشمس والقمر ومنازلهما]. قوله: [ويستدل عليها بالسفر] أي: في حال السفر؛ لأن الباء تأتي بعشرة معانٍ، ومنها الظرفية. تعد لصوقاً واستعن بتسبب وبدِّل صحاباً قابلوك بالاستعلاء وزد بعضهم يميناً تحز معانيها كلا فمن معانيها الظرفية، تقول: محمدٌ بالبيت، أي: في البيت. فُستدل على القبلة بالسفر -أي: في حال السفر- بالقطب، والقطب نجمٌ صغير خفي، والمراد به القطب الشمالي، ويكون بين بنات نعش الصغرى، وهو لا يكاد يظهر إلا في الليالي المقمرة، ويستدل عليه بالجَدي وبالفَرقَدَين، والفرقدان: النجمان اللذان يدوران على القطب، والقطب ثابت لا يتحول، ولكن دورتهما خفيفة، وبقية النجوم التي تراها حوله تدور حوله ومحيطة به كإحاطة الرحى، ولذلك يقولون: سمِّي قُطباً من هذا الوجه، ويستدل عليه إما بالجدي، وإلا بالفرقدين، ويحتاج إلى إنسان له علم وبصيرة بموضعه. وهذا القطب يكون في الجهة الشمالية، وفي بعض المواضع يمكن للإنسان أن يحدد موضع القبلة على حسبه، فإذا كان الإنسان في الشام، أي: في جهة الشمال، ووَضَعه وراء ظهره، ووراء أذنه، قالوا: هذا يُعد مستقبلاً للقبلة، وإذا كان في جهة اليمن يجعله في وجهه، كما قيل: مَن واجه القطب بأرض اليمن وعكسه الشام وخلف الأذُن يُمنى عراقٍ ثم يُسرى مصر قد صححوا استقبالها في العمر ففي اليمن يجعله في وجهه؛ لأنه يكون في الجنوب فيَعكِس؛ لأن من كان في جنوب الجزيرة تكون قبلته في الشمال، فيجعل القُطب في شماله، وإذا كان في الشمال سيكون الأمر بالعكس، فيجعل القطب وراءه، ويكون في يمين مَن كان في جهة العراق، ويَسار من كان في جهة مصر، فهذا المشرق وهذا المغرب، فيُستدل بالقطب، وهو دليلٌ ثابت، هذا إذا كان يعرفه، ويمكنه أن يهتدي إليه. قوله: [والشمس والقمر ومنازلهما]. كذلك الشمس والقمر، فلو فرَضنا أن إنساناً أراد أن يصلي الصبح قضاءً، حيث استيقظ بعد طلوع الشمس، فهو يعلَم أن الجهة التي فيها الشمس الآن هي المشرق، ويقابلها تماماً المغرب، فإذا كانت قبلته في جهة الشرق استقبل جهة طلوع الشمس، وإذا كانت في جهة الغرب استقبل جهة غروب الشمس العكسية، وجعل الشمس وراء ظهره عند الإشراق. لكن ينتبه لفصل الشتاء وفصل الصيف؛ لأنها في فصل الشتاء تنحرف إلى جهة الشمال، وتكون عند مهب الصبا في الشتاء، فينتبه لهذا الانحراف في الدرجات حتى يُراعِي السمت والجهة، ويكون أقرب إلى إصابة جهة الكعبة. وكذلك منازل القمر، فلو أنه في الليلة الأولى رأى الهلال فإنه يعلم أنها جهة المغرب، فإذا أراد أن يستقبل القبلة وكانت هذه جهة المغرب التي فيها الهلال فمعناه أن التي يخالفها المشرق. فإن كان من أهل المغرب جعل الهلال وراء ظهره واستقبل عكس الجهة التي هو فيها، وإن كان من أهل المشرق جعله في جهة المغرب؛ لأن قبلته ستكون في المغرب. قوله: [ومنازلهما] للقمر منازل، فمثلاً في الليلة السابعة لو أن الإنسان في المشرق يكون القمر مواجهاً له، بحيث لو استقبله يكون على القبلة، فهذا في الليلة السابعة؛ لأنه في كل ليلة يكون للقمر منزلة، وهي ثمانٍ وعشرون منزلة. والمقصود أنه يتعلم هذه الأمارات والعلامات ويطبِّقها، وهذا إذا كانت السماء صحواً وأمكنه أن يعلم، أما إذا كانت مغيمة فحينئذٍ يكون الحكم شيئاً آخر، فيستدل إذا وُجِد الإمكان للاستدلال، لكن لو لم يمكن له الاستدلال لوجود الغيم فحينئذٍ لا يُكلَّف بالاستدلال لعدم وجود الأمارات والعلامات، والأصل في اعتبار هذا الدليل وهذه الأمارات قول الله تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]، وهذه من نعم الله عز وجل. وذكر لنا بعض مشايخنا رحمة الله عليهم -وقد كان يفسِّر لنا قوله تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل:63]- أنه كان في صِغَرِه مسافراً من مصر إلى مكّة من أجل الحج، وهذا الكلام قبل قرابة ثمانين سنة، وقد توفِّي الشيخ وكان من العلماء الأجلاء رحمة الله عليه، يقول: كنا في الليل في السفينة، وكنت بجوار الذي يقود السفينة، فوجدته ينظر إلى السماء ويقود، وكنت صغير السن، فعجبت؛ فسألته وقلت له: كيف تقود وأنت تنظر إلى السماء؟ قال: إن بعض الشعاب المرجانية الموجودة في البحر يُستدَل عليها بالنجوم، فبعض النجوم تدل على مواضعها. ولا يقف الأمر عند العلامات والأمارات التي تكون بالجهات، بل حتى ساعات الليل من ناحية أوله وأوسطه وآخره، فالثلث الأول والثلث الأوسط والثلث الأخير يدل على ذلك إذا ضبطها الإنسان، فكل شيء موزون، وليس في الكون اختلاج؛ لأنه من صنع اللطيف الخبير والحكيم البصير سبحانه الذي لا يمكن أن تجد في خِلقته أو صنعه أي خلل، وخلَق كل شيءٍ فقدَّره تقديراً. وقد وضع بعض الخبراء في موضع ما ثقباً صغيراً لا يدخل ضوء الشمس منه إلا في لحظة معينة من السنة كلها، وهذا يدل على أن مجرى الشمس ثابت لا يمكن أن يتحول شعرةً واحدة، وهو يوم معين في السنة خاصة على الأيام التي تكون منضبطة بالأشهر الشمسية، فالشاهد من هذا أن هذه العلامات والأمارات ثابتة، وعلم النجوم محرَّم إذا كان يُتوصل به إلى ادعاء علم الغيب، أو يتوصل به للاعتقاد بالنجوم كما هو مذهب السامرة الذين يعبدون النجوم والكواكب -والعياذ بالله-، وهم قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهذا كفر -والعياذ بالله-، ويعتبر ردة وخروجاً عن الإسلام إذا اعتقد الإنسان أنها تنفع وتضر، كالاعتقاد في بعض النجوم أنها إذا ظهرت كان بلاءٌ وشقاءٌ على الناس، أو إذا اختفت أن ذلك نعمة ويسر، ويسمون هذا سعد السعود، وهذا سعد الذابح ونحو ذلك، فلا يجوز الاعتقاد في الكواكب ولا في النجوم، وإنما يعتقد في الله سبحانه وتعالى الذي يحكم ولا يعقَّب حكمه وهو الحكيم الخبير، فالمقصود أنه يجوز الاهتداء بالنجوم وبالكواكب وبالشمس وبالقمر لمن يعرف هذا الدليل. قال بعض العلماء: يجب على الإنسان إذا سافر أن يكون على علم بهذا الدليل، وإذا تركه يأثم؛ لأنه تلبَّس بالحاجة، وإذا تلبس الإنسان بالحاجة يجب عليه تعلم علمها، وكذلك يقولون: يجب تعلم أحكام البيع لمن تلبس بالبيع، ويجب تعلم أحكام التجارة لمن تلبس بالتجارة، وأحكام الحج لمن أراد الحج، وكذلك هنا من أراد السفر ينبغي أن يتعلم هذه الأمارات والعلامات حتى يكون آمناً أو سالماً في دينه. وهناك أدلة أخرى لم يذكرها المصنف، ومن أضعفها الرياح، فقد ذكر الإمام النووي رحمه الله أن للقبلة أدلة كثيرة، حتى أُلِّفت فيها مؤلفات، وكثيرٌ منها مخطوط، ويقول: إن أضعفها الرياح. فالريح أحياناً يستدل بها على القبلة، كالصبا والدبور والشمال والجنوب، فهذه كلها رياح يُستدل بها على الجهات، خاصةً إذا كان الإنسان غالب حاله في البر فإنه يضبط هذا، فأهل البر عندهم علم وخبرة بذلك. وأذكر أنني ذات مرة زرت بعض المناطق التي على الساحل، فقال أحد المشايخ الفضلاء: إنه إذا جاء الزوال هبت الرياح من البحر، وكانت في أول النهار تهب الرياح إلى داخل البحر، وإذا جاء الزوال هبت من البحر، ثم لا نلبث أن نمكث ثلاث ساعات إلى ساعتين ونصف حتى تهب إلى داخل البحر، ثم إذا جاء العشي أو آخر النهار هبت من البحر، فانظر إلى رحمة الله ولطفه؛ لأنهم في أول النهار يحتاجون الدخول إلى البحر، فسخرها سبحانه على البحر، ثم إذا قضوا معاشهم في منتصف النهار احتاجوا للرجوع فسخرها الله على البر، ثم إذا قضوا واستجموا كانوا أحوج ما يكونون للدخول، فيسخرها الله على البحر ويرسلها على البحر ثم يعيدها إلى البر، وهذا كله من لطف الله سبحانه وتعالى.

اختلاف مجتهدين في القبلة

اختلاف مجتهدين في القبلة قال رحمه الله تعالى: [وإن اجتهد مجتهدان فاختلفا جهةً لم يتبع أحدهما الآخر ويتبع المقلد أوثقهما عنده]. إذا اجتهد المجتهدان فلن يخلو اجتهادهما من حالتين: إما أن يتفقا وإما أن يختلفا، فإذا اتفقا على الجهة وجب عليهما أن يصليا على هذه الجهة، ويأتمُّ كلٌ منهما بالآخر والجماعة فرضٌ في حقهما؛ لأن صلاة الجماعة خاصة على المذهب واجبة، وهذا هو الصحيح لدلالة السنة، ففي هذه الحالة إذا اتفق اجتهادهما لزمتهما الجماعة، ووجب عليهما أن يقيما الجماعة، ويأتم أحدهما بالآخر؛ لأنه يعتقد أنه يصلي إلى القبلة. لكن لو أن أحدهما قال: القبلة هنا، وقال الثاني: القبلة هنا، فحينئذٍ ينبغي النظر في دليل كلٍ منهما، فإن كان لا يمكن الجمع بين الدليلين والنظر إلى الأصوب منهما فحينئذٍ يصلي كل واحدٍ منهما إلى جهته، ولا يأتم أحدهما بالآخر؛ لأنه إذا ائتم به اعتقد بطلان صلاته؛ لأنه يصلي على غير جهة القبلة. وقال بعض العلماء: الشروط مسامحٌ فيها إذا اختلف حال المأموم والإمام. لكن لا أحفظ أن منها القبلة، والمحفوظ في شرط الطهارة والوقت، مثال ذلك: لو أن حنبلياً يرى صلاة الجمعة قبل الزوال، قالوا: يسوغ للمالكي والحنفي أن يصلي الجمعة وراءه؛ لأنها صحيحةٌ في أصلها من جهة المكلف، وقالوا: كذلك أيضاً لو أن من يرى أن أكل لحم الجزور لا ينقض الوضوء جاز لمن يرى أنه ناقض أن يصلي وراءه، قالوا: فالخلاف في الفروع يرتفع في الاقتداء. وهذا مذهب المحققين، وقد نبه على ذلك ابن عابدين في حاشيته، وابن الهُمَام في فتح القدير، وأئمة المالكية كما في شروح المختصر، حيث يقولون: يرتفع الخلاف في الفروع في مسائل الاقتداء، ونبه عليه الشافعية ومنهم الإمام النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم، وفي روضة الطالبين، فذكر أن الخلاف في الفروع يرتفع، ويجوز للإنسان أن يصلي وراء من يرى أن مذهبه مرجوحٌ. وعلى هذا فرّع بعض العلماء مسألة الاقتداء، ولكن فُرِّق بينهما بأن الجهة تخالف الطهارة؛ لأن الطهارة أنت متطهر، قالوا: إنه متطهر في نفسه فصحَّت الصلاة. فالشاهد أن اقتداء المجتهدين بعضهما ببعض لا يتفرع إلا على مسألة من يرى اغتفار الخلاف في الفروع. لكن لو فرضنا أن الخلاف في الفروع مرتفع، وأنه يجوز أن يقتدي أحدهما بالآخر فمن الذي يكون إماماً؟ إذ ربما يقول أحدهما: أنا أريد أن أكون إماماً حتى أخرج من الإشكال ومن خلاف العلماء. ويقول الآخر: لا، بل أنا الإمام. فقالوا: العبرة بالإمام في الأصل، فإن تشاحَّا جرت بينهما القرعة، فمن خرجت القرعة له فالقبلة ما رجَّحه، هذا بالنسبة إذا حصل خلاف بينهما. وهذا على القول بأنه يأتم أحدهما بالآخر، أما على القول أنهما لا يأتم أحدهما بالآخر كما ما رجح المصنف فلا إشكال. قوله: [ويتبع المقلد أوثقهما عنده] المقلد: هو الذي لا يستطيع أن يجتهد، وليس عنده علم بأدلة القبلة، ولا يعرف القطب، ولا يعرف منازل القمر، ولا يعرف كيف يهتدي إلى جهة القبلة. فلو كان هناك مجتهدان واختلفا، وكان معهما عوام، فمن يتبع العوامُ؟ قالوا: ينظر العامي إلى أقربهما أو أعدلهما أو أوثقهما في نظره، فإن رأى أن أحدهما أكثر ضبطاً وأكثر علماً ائتم به، وهذه المسألة التي يلغزون فيها ويقولون: عاميٌ يجتهد في المجتهد لأن المجتهدين كلٌ منهما توفرت آلته، قالوا: فيجتهد فيهما، فينظُر أيهما أقرب إلى الخير أو أكثر علماً ويصلي وراءه. وقال بعض العلماء: يُستثنى من هذا إذا كان أحدهما أميراً في السفر وهو إمامهم، فحينئذٍ تتبعه لمكان حق الإمارة؛ لأن إمامته هي المنعقدة، فالمأموم تبعٌ لهذا الأمير في سفره.

حكم الصلاة بغير اجتهاد ولا تقليد إلى غير القبلة

حكم الصلاة بغير اجتهاد ولا تقليد إلى غير القبلة قال رحمه الله تعالى: [ومن صلى بغير اجتهادٍ ولا تقليدٍ قضى إن وجد من يقلده]. لو أن شخصاً لا يعرف أن يجتهد، وعنده إنسان عنده علم ومعرفة بجهة القبلة ولم يسأله ولا تابعه بجهة القبلة، وإنما جاء من نفسه وصلى إلى غير القبلة، فإنهم قالوا: صلاته باطلة؛ لأنه اجتهد من نفسه، وهو لا يحق له أن يجتهد، مع إمكان اطلاعه على جهة القبلة من جهة الاجتهاد، ولذلك ما دام أنه بوسعه أن يسأل هذا المجتهد، وأن يرجع إلى مَن هو أعلم منه يُلزم بعاقبة تقصيره، ويُطالب بإعادة الصلاة ولو طالت مدة هذه الصلاة، فلو جلس شهراً ثم سأل يلزم بإعادة الصلاة؛ لأنه صلى إلى غير قبلة، فالذي ليس عنده علم أو إلمام بجهات القبلة مع إمكانه أن يسأل مفرط، فيلزم بعاقبة تفريطه؛ لأن الله لا يأذن له أن يجتهد لنفسه ما دام أنه غير محصِّلٍ لآلة الاجتهاد.

الاجتهاد في تحديد القبلة لكل صلاة

الاجتهاد في تحديد القبلة لكل صلاة قال رحمه الله تعالى: [ويجتهد العارف بأدلة القبلة لكل صلاةٍ]. قررنا أن المجتهد يجتهد، فإن كان عندك علم أن جهة القبلة في هذه الناحية، فصليت البارحة العشاء في هذه الجهة، فإن أصبحت وجاء الفجر فهل تبقى على اجتهادك الأول أم تجتهد اجتهاداً جديداً؟ لأنه ربما في الليل تهتدي بالقطب، ولكن في ليلة ثمانٍ وعشرين ربما تجتهد بطلوع القمر هلالاً من جهة المشرق، فيكون عندك دليل قد يكون أقوى من استدلالك بالقطب في الليل، فبعض الأحيان قد يحصل عند الإنسان في اجتهاده اختلاف على حسب الأدلة والأوقات، ولذلك قالوا: كل صلاةٍ يستأنف الاجتهاد فيها وهذا هو الصحيح، حتى يكون محصِّلاً للأصل، وهو كونه مطالباً بالنظر والاستدلال. قال رحمه الله تعالى: [ويصلي بالثاني ولا يقضي ما صلى بالأول]. إذا اجتهد ثانية لا يخلو من حالتين: إما أن يوافق اجتهاده الثاني اجتهاده الأول فلا إشكال، كما لو صلى العشاء على هذه الناحية، فلما استيقظ الفجر اجتهد فوجد أن القبلة على هذه الناحية، لكن الإشكال لو أنه صلى العشاء على هذه الناحية، ثم اجتهد فوجد أن القبلة في هذه الناحية أو على العكس تماماً من الجهة التي استقبلها، قالوا: يصلي على اجتهاده الثاني ومضت صلاته على اجتهاده الأول؛ لما ثبت عند أبي داود والدارقطني والبيهقي وحسنه غير واحد من حديث سعد بن عامر رضي الله عنه: (أنهم كانوا في سفر في ليلةٍ ذات غيم فأرادوا الصلاة فنظروا -أي: اجتهدوا-، فلما أصبحوا إذا بهم على غير قبلة، قال: فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قد مضت صلاتكم) أي: ما دمتم أنكم اجتهدتم وتحرَّيتم فقد مضت صلاتكم، أي أنها معتبرةٌ وصحيحة.

الأسئلة

الأسئلة

حكم صلاة الفريضة داخل الحجر

حكم صلاة الفريضة داخل الحِجْر Q هل تصح صلاة الفريضة داخل الحِجْر؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذه المسألة تقدّم الكلام عليها، والحِجْر آخذ حكم داخل البيت؛ لأن الحجر تُرِك منه ستة أذرع، واختُلِف فيما هو زائد على ستة أذرع، كما ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه من البيت قدر ستة أذرع وشيء، واختُلِف في هذا الشيء، وتكلَّم عليه المؤرخون الذين تكلموا على تاريخ مكة والكعبة، فقال بعضهم: إنه يصل إلى النصف، وقال بعضهم: إنه دون النصف بقليل. فهذا القدر يُعتبر من البيت، فإن صلى في هذا الحد وقع الخلاف الذي ذكرناه، أما لو أنه صلى فيما هو خارجٌ عنه، -أي: وراء الستة الأذرع والنصف- فإن صلاته صحيحة ومعتبرة، والله تعالى أعلم.

حكم النظر إلى الكعبة أثناء الصلاة في الحرم

حكم النظر إلى الكعبة أثناء الصلاة في الحرم Q إذا كان الإنسان داخل الحرم فهل يلزمه أن ينظر إلى عين الكعبة أم ينظر إلى موضع سجوده؟ A هذه المسألة فيها خلافٌ بين العلماء رحمة الله عليهم، قال بعض أهل العلم: من صلَّى فإنه يضع وجهه قِبَلَه ولا يضعه جهة السجود، وذلك لأن الله عز وجل يقول: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]، وأما ورود السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرمي ببصره إلى موضع سجوده، فقالوا: لا مانع أن يكون الأصل أنه كان يرمي ببصره إلى حيث أُمِر، ثم إنه يرمي إلى موضع سجوده في بعض الأحيان، كما يقع من الإنسان الخاشع، فهذا وجه من يقول: إنه يستقبل جهة القبلة ويجعل بصره أمامه. وأكدوا هذا أيضاً فقالوا: لأنه يحقق مقصود الشرع، فإنه لو مر أحدٌ بين يديه ينتبه له، ولكن إذا كان رامياً إلى موضع سجوده فقد يكون أقل انتباهاًَ لمن يمر، ولذلك قالوا: إن الأفضل والأولى أن يجعل وجهه قِبَل القبلة، بمعنى أنه يرفعه. وقال بعض العلماء: السنة أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده، وذلك لثبوت الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا صلى رآه الصحابة رامياً ببصره إلى موضع سجوده) صلوات الله وسلامه عليه. قالوا: وهو أيضاً يحقق مقصود الشرع؛ لأنه أقرب إلى الخشوع. وجاء حديث أم سلمة يؤكد هذا، وهو: (أن الناس كانوا إذا صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم كانت أبصارهم لا تفارق موضع سجودهم، ثم لما قُتِل عمر رضي الله عنه نظروا أمامهم، فلما قتل عثمان أخذوا يميناً وشمالاً)، أي: على حسب الفتن، نسأل الله السلامة والعافية. فكان الخشوع موجوداً فيهم، ثم لما حصلت الفتن أصبح الناس يسلبون الخشوع شيئاً فشيئاً، كما جاء في حديث الدارمي: (إن أول ما يرفع من العلم الخشوع). فالمقصود أنهم قالوا: إن أم سلمة أثبتت هذا، فدل على أن مقصود الشرع أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده، وهذا القول في الحقيقة أقوى، وبناءً على ذلك إذا كان في مكة أو داخل البيت فإنه يأخذ بالسنة من الرمي إلى موضع السجود، وإن رفَع بصره إلى جهة الكعبة فلا حرج، لكن الذي تطمئن إليه النفس ما ذكرناه لورود الخبر مع تحقيق مقصود الشرع من الخشوع. وما ذكروه من دفع المصلي فإننا نقول: إذا تعارضت فضيلتان: الانتباه لدفع المصلي وخشوع المصلي، فإن خشوع المصلي متصلٌ بالصلاة، وفضيلته متصلة من هذا الوجه، ودفع المصلي منفصلٌ عن الصلاة ففضيلته منفصلة من هذا الوجه، فتُقدَّم الفضيلة المتصلة على الفضيلة المنفصلة من هذا الوجه، والله تعالى أعلم.

استقبال القبلة لصلاة الفريضة في الطائرة

استقبال القبلة لصلاة الفريضة في الطائرة Q في بعض الأسفار تطير الطائرة لمدة ثلاث عشرة ساعة أو أكثر، ويتعذر استقبال الكعبة، فكيف تصلى الفريضة؟ A بالنسبة للأسفار الطويلة في الطائرة فإنه يلزمه أن يستقبل جهة الكعبة، فيقوم ويأتي في هذا الممر؛ لأنه لا بد من وجود أوقات يمكن أن يستقبل فيها القبلة حتى ولو يؤخر إلى آخر الوقت، وإذا كان الناس يمرون أخر إلى آخر الوقت، وهذا مما يُستثنى من النهي عن الصلاة في قارعة الطريق، فإن النهي عن الصلاة في قارعة الطريق أضعف من أن يمنع المكلف من ركن الصلاة الذي هو القيام والركوع والسجود. ولذلك الأقوى -كما اختاره بعض مشايخنا رحمة الله عليهم والنفس تميل إليه- أنه إذا جاء وقت الصلاة يقوم فيستقبل جهة مكة أو جهة الكعبة، وخاصة في بعض الرحلات حيث يتيسر فيها وجود البوصلة التي تدل على الجهة، فحينئذٍ يستقبل الجهة، ثم يصلِّي ولو في الممر، كأن يأتي في آخر الممر ويبسط سجادة ثم يصلي، فيأتي بالقيام والركوع والسجود والجلوس، لكنه لو جلس على كرسيه فلا يستطيع القيام ولا الركوع ولا السجود، فيُذهِب ما لا يقل عن ثلاثة أركان من أركان الصلاة، ولذلك لا يُخفَّف؛ لأنه بإمكانه أن يُحقِّق هذه الأركان بهذا الموضع، ولذلك تُغتفر صلاته في الطريق؛ لأن حديثها ضعيف، وتبقى الأركان المأمور بها على الأصل، ولأن قارعة الطريق إنما نُهِي عنها لوجود الضرر، وخاصة في الطائرات التي تكون ممراتها متعددة، فالضرر غير موجود؛ لأنه إذا صُلِّي في هذه الطريق فيمكن أن يلتمس المارُّ طريقاً آخر، فالذي يظهر أنه يمكن من الصلاة على الصفة التي ذكرناها في كل وقتٍ بحسبه، والله تعالى أعلم.

حكم السترة في الحرم

حكم السترة في الحرم Q ما الحكم في سُترة المصلي داخل الحرم؟ وهل يعذر في قطع الصلاة بسبب الزحام ونحوه؟ A النصوص في السترة عامةٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين قبلته أحد فليفعل)، وسئل عليه الصلاة والسلام عن سترة المصلي فقال: (مثل مؤخرة الرحل)، فلا يضره من مر وراء ذلك، وقال: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً) فهذه كلها تدل دلالةً واضحةً على اللزوم. وبناءً على ذلك نظرنا في هذا النص فوجدناه عاماً لم يفرق بين كون الإنسان داخل المسجد أو خارجه. وقال بعض العلماء باستثناء مكة وداخل المسجد، والحديث في ذلك ضعيف، فلم يصح حديثٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم باستثناء داخل الكعبة، وإنما استثناه العلماء بهذا الحديث الضعيف وبالنظر -أي: الاجتهاد- فقالوا: إنه داخل المسجد يرى الكعبة، فلا حرج أن يمر أحدٌ بين يديه ولا يقطع صلاته وهذا اجتهاد في مقابل عموم النص فيُقدَّم عموم النص عليه، والصحيح أنه لا بد من السترة، بل ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته إلى السترة في داخل مكة. ففي الصحيحين من حديث أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه أنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبةٍ له حمراء من أدم -وهذا بعد أن فرغ من المناسك ونزل عليه الصلاة والسلام- قال: فأتاه بلال بوضوءٍ. إلى أن قال: ثم رُكزت له العَنَزَة). وهذا يدل على أن داخل مكة كخارجها سواءً بسواء، والحديث ضعيف فيُبقى على عموم النص، ويستوي من كان بالداخل والخارج. لكن لو أن إنساناً غُلِب بمرور الناس فليتنح إلى ناحية ليس فيها أُناس، خاصة إذا كان يريد أن يصلي صلاةً واجبةً عليه، كأن يقضي ظُهراً أو عصراً، أما أن يأتي في المطاف مثلاً، أو بجوار المطاف أو المقام، ويريد أن الناس لا تمر بين يديه فإنه يعتبر كالمتسبب لنفسه في مرور الناس، فلو ظن أنه لا يمر بين يديه أحد وغلبه الناس فلا حرج، فلو قام يصلي سنة الظهر، أو ليصلي صلاة رغيبة الفجر فجاء الناس ومروا بين يديه وغلب عليهم فلا حرج؛ لأن التكليف شرطه الإمكان، وهذا ليس بإمكانه أن يدفع إذا حصل الضرر عليه بغلبة الناس له، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب شروط الصلاة [8]

شرح زاد المستقنع - باب شروط الصلاة [8] من المعلوم أن النية في العبادة لها شأن عظيم، خاصة في الصلاة؛ لأنها هي التي تميز بين الفريضة والنافلة، وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على اشتراطها في الصلاة، ومحلها هو القلب، ولها أحوال وأحكام ينبغي معرفتها.

شرط النية في الصلاة ودليله

شرط النية في الصلاة ودليله بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومنها النية] ما زال المصنف رحمه الله يبين شروط الصلاة، وقد تقدمت جملٌ منها وبقي هذا الشرط الأخير وهو شرط النية، فقوله رحمه الله: [منها] أي من الشروط التي ينبغي توفرها للحكم بصحة الصلاة وجود النية. والنية في اللغة: القصد، يقال: نوى الشيء ينويه نيةً (بالتشديد) ونيةً (بالتخفيف)، أي: قَصَدَه. وأما في الاصطلاح: فهي القصد لفعل العبادة تقرباً إلى الله عز وجل، وقد تقدم الكلام على هذا الضابط وبيان الفرق بينه وبين من عبر بالعزم. أي: يشترط لصحة الصلاة أن تنويها، فإذا فقدت النية حكم بعدم اعتبار الصلاة، وهذا ينبني عليه أنه لا تصح فريضةٌ إلا بنية، ولا نافلةٌ معينةٌ إلا بنية، أما إذا كانت الصلاة من النفل المطلق فإنها لا تُشترط لها النية، وإنما يقصد التقرب إلى الله عز وجل بفعل الصلاة. والدليل على اشتراط النية قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)، فهذا الحديث المتفق على صحته دل على أن اعتبار الأعمال وصحتها مترتبٌ على النية، وإذا ثبت أن الأعمال اعتبارها موقوفٌ على النية يتفرع عليه ألا عمل إلا بنية. والصلاة من الأعمال، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماها عملاً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عملاً، وقال في حديث عمر في الصحيحين: (إنما الأعمال بالنيات). فللإنسان أن يقول: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت بحديث عمر أن الأعمال اعتبارها وصحتها بالنية، والصلاة عملٌ كما ثبت في الحديث الصحيح الذي ذكرنا، إذاً لا صلاة إلا بنية. وعلى هذا فإنه إذا لم ينو الصلاة فإنها لا تصح، فلو لم ينو الظهر وصلى أربعاً لم تصح لإبراء ذمته، فيُطالب بإعادة الظهر، ولو صلى أربعاً في وقت العصر ولم ينو أنها عن العصر فإنها تقع نفلاً محضاً، ويُلزم بفعل صلاة العصر، وهكذا في المغرب والعشاء والفجر، فلا بد من قصد الصلاة وتعيينها.

حكم استحضار النية عند الصلاة

حكم استحضار النية عند الصلاة قال المصنف رحمه الله: [فيجب أن ينوي عين صلاةٍ معينةٍ، ولا يشترط في الفرض والأداء والقضاء والنفل والإعادة نيتهن]. قوله: (فيجب) الفاء للتفريع، أي: إذا علمت أن النية لازمةٌ فإنه يتفرع على ذلك أنه يجب على المكلف أن ينوي الصلاة المعينة، ويستوي في ذلك أن تكون فريضةًَ أو نافلة، فالصلاة المعينة من الفرائض كصلاة الظهر ينوي أنها ظهر، وصلاة العصر ينوي أنها عصر، وهكذا المغرب والعشاء والفجر، وهكذا لو نذر صلاةً؛ فإن الصلاة المعينة تنقسم إلى قسمين: نفل وفرض، فالفرض كالصلوات الخمس، وفي حكمها الصلاة المنذورة، فلو أن إنساناً قال: لله عليّ أن أصلي اليوم مائة ركعة؛ فإنه حينئذٍ يُلزم بهذه المائة، ويُعتبر نذراً يجب الوفاء به؛ لأنه نذر طاعة، فيجب عليه أن يعين هذه الصلوات التي يصليها لنذره. وهكذا بالنسبة للنافلة، والنافلة تنقسم إلى قسمين: النافلة المعينة والنافلة المطلقة التي هي غير مقيدةٍ، كإنسانٍ يريد أن يتقرب إلى الله عز وجل بصلاةٍ دون أن تكون لراتبةٍ أو وترٍ أو نحو ذلك، فالمقصود أن النافلة تنقسم إلى هذين القسمين: نافلةٍ معينة كالوتر والسنن الراتبة القبلية والبعدية وصلاة الضحى، فهذه توصف بكونها نافلةً معينة، ونافلةٌ مطلقةٌ، كإنسانٍ يريد أن يتقرب إلى الله، فتوضَّأَ وصلى ركعتين -على القول بأن ركعتي الوضوء ليست من النوافل المعينة-، أو صلى ناوياً التقرب إلى الله عز وجل بمطلق النفل، فهذه تعتبر نافلةً غير مقيدة. فإذا ثبت أن الفرائض معينة، وهناك نوافل معينة وغير معينة فيجب عليك إذا أردت أن تؤدي الفرائض أن تعيِّنها، فتعيِّن الظهر وتعين العصر وهكذا بقية الفروض، وتعيِّن الوتر وتعين السنن الراتبة في النوافل، فلو أن إنساناً أحرم قبل صلاة الظهر بين الأذان والإقامة دون أن يُعيِّن أنها للراتبة القبلية صحت نفلاً مطلقاً، ولا نقول: إنها تحل محل الراتبة القبلية؛ لأن الراتبة القبلية نافلةٌ مقيدة ومعينة، فلا بد من تعيينها والقصد إليها، فإذا لم يُعينها ولم يَقصد إليها فإنها لا تعتبر لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، فهذا نوى النافلة المطلقة فلا تجزيه عن النافلة المقيدة. وقوله: [ولا يشترط في الفرض والأداء والقضاء والنفل والإعادة نيتهن] أي: ولا يشترط في الفرض أن ينوي فرضاً، فالإنسان إذا أراد أن يصلي الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء أو الفجر لا يُشترط أن ينوي الظهر فريضةً، وإنما ينوي الظهر، فإذا نوى الظهر أجزأه ذلك. أما تفصيل المنوي فإنه يؤدي إلى الاسترسال، والمؤدي إلى الاسترسال باطل؛ فإنه لو قلنا بوجوب أن ينوي الفرض فرضاً، لزِمه أن ينوي أداءً أو قضاءً، ثم حاضراً أو مسافراً، أربع ركعات أو ركعتين، مع إمامٍ أو منفرد، فيسترسل إلى ما يضر بالناس ويوجب الوسوسة لهم والحرج عليهم، وكل ما أدى إلى باطلٍ فهو باطل، ولذلك اكتُفي بتعيين الفرض، فإن نوى أنها للظهر فهي ظهر، فلا نلزمه بنية أنها فرض، ولا نلزمه بنية أنها أداءٌ أو قضاء. ويتفرَّع على هذا لو دار بخلده أن الشمس لم تطلع بعد في صلاة الفجر، فأحرم بالصلاة ظاناً أن الشمس لم تطلع وفي نيته أنه يؤدي، ثم تبين أن الشمس قد طلَعت، فحينئذٍ يجزيه ولا يُطالب بالإعادة؛ لأنه لا يشترط تعيين الأداء والقضاء، فإذا أُلزِم بتعيين المؤاداة والمقضية لم يصح إيقاع إحداهما عن الأخرى، وهذا وجه إسقاط اشتراط الأداء والقضاء والفرض. فغاية ما يطالب به المكلف أن ينوي عين الفرض، سواءٌ أكان من الفروض الخمسة أم كان من الفرائض التي جاءت بأسبابها، كركعتي تحية المسجد عند من يقول بوجوبها، ينوي أنها تحيةٌ للمسجد. وهكذا لو قلنا بوجوب ركعتي الطواف في الطواف الركن، فإنه ينوي أنها عن طوافه الركن، وقس على هذا.

وقت استحضار النية

وقت استحضار النية قال المصنف رحمه الله: [وينوي مع التحريمة]. بعد أن بين لك رحمه الله لزوم النية، وما هو الشيء الذي يُنوى له، يرد Q أين موضع النية؟ فقال: [ينوي مع التحريمة]، أي: مع تكبيره للإحرام. وللعلماء قولان: القول الأول: المعتبر في النية أن تصاحب تكبيرة الإحرام، ولا يصح أن تقع قبل تكبيرة الإحرام ولو باليسير. والقول الثاني: المعتبر في النية وقوعها مع التكبير أو قبله ولو بزمنٍ يسير ما دام أنه في الوقت، كما درج عليه المصنف، والسبب الذي جعل بعض العلماء يقول: لا بد في النية أن تصحب تكبيرة الإحرام، هو البناء على أنها ركن، والركن لا بد وأن يكون من الشيء لا خارجاً عن الشيء، ولذلك قالوا: لا بد أن تصحب النية تكبيرة الإحرام. ومن هنا لو أنها سبقت تكبيرة الإحرام فهو ركنٌ منفصلٌ عن الماهية وذات الشيء، وإذا انفصل الركن عن الماهية وذات الشيء لم يُعتد به، فهذا وجه من يقول: إذا سبقت نيته تكبيرة الإحرام لم تُجزِه، والعبرة بوقت التكبيرة. والقول الثاني: -وهو أقوى، وإن شاء الله أنه أصح كما درج عليه المصنف رحمه الله- أن العبرة بالمصاحبة أو ما قاربه، فالصحيح أنها شرطٌ للصحة وأنها ليست بركن، وشروط الصحة منها ما يكون قبل فعل الصلاة ومنها ما يكون داخل الصلاة، ولذلك فإنه ينوي ولو قبل الصلاة بيسير، فإذا كان الفاصل يسيراً أجزأه ولا حرج عليه، بل قال بعض العلماء: إنه لو خرج من بيته بعد أذان الظهر قاصداً إلى المسجد فإنَّا نستصحب نيته التي خرج من أجلها وهي السبب الباعث، فلا نلتفت للتفصيل بعد ذلك. والأولى والأقوى ما قلناه أنه ينبغي أن يقارب الفعل؛ لظاهر دليل السنة على لزوم أن تكون النيات مع تكبيرة الإحرام. ومما يُصَحِّح أنه يجوز تقدمها على تكبيرة الإحرام بقليل أن المكلف عند تكبيره للإحرام يستشعر الذكر الذي يذكره وهو تكبيره لله عز وجل؛ لأن المسلم مطالبٌ أن يذكر الله وهو حاضر القلب لا غافلاً عما يقول، فلو قلنا: إن النية يلزم أن تكون مصاحبةً من كل وجه فإن هذا يؤدي إلى الاشتغال، ويكون لفظه بالتكبير دون التفاتٍ إلى المعنى؛ لأن الله تعالى ما جعل لرجلٍ من قلبين في جوفه، فأنت إذا قلت له: انو الصلاة وكبر وأنت مستشعرٌ للتكبير امتنع أن يجتمع الأمران في محلٍ واحد لا يقبل الاجتماع. ولذلك نقول: صحة جواز كونه قاصداً قبل الصلاة بيسير يُنَزَّل منزلة القصد المصاحب، ومن القواعد المعلومة أن ما قارب الشيء أخذ حكمه، ولذلك نقول: إنه يصح منه أن ينوي وهو قريبٌ من الصلاة، ولا حرج عليه في ذلك. وهذه النية التي تكون مصاحبةً لتكبيرة الإحرام تكون بالقلب ولا يتلفظ بها، وعلى هذا ظاهر سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهو قول الأئمة الأربعة، وإنما خرَّج بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي من قول الشافعي أن الصلاة تنعقد بالقول، خرَّجوا منه وجوب النية أن تكون باللفظ ولا تكون سراً، وهذا القول الذي قاله الإمام الشافعي -أعني: إلزامه الدخول في الصلاة بالقول- المراد به تكبيرة الإحرام، وليس المراد به أن يكون متلفظاً بالنية، ولذلك لا يُتلفظ بالنية إلا في موضعين ثبتت السنة بهما: الموضع الأول: عند نية الإحرام سواءٌ أكان في حجٍ أم عمرة، والدليل على ذلك ما ثبت في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني الليلة آتٍ من ربي، فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة)، ولذلك قال أنس: (كنت تحت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها، أسمعه يقول: لبيك عمرةً وحجاً). أما الموضع الثاني: فهو عند ذبح النسك، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الأضحية: (اللهم هذا عن محمدٍ وآل محمد)، وقوله في الحديث الثاني: (اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي) صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فدل هذا على موضعين يشرع فيهما التلفظ: عند الإحرام، وعند النسك. أما في الصلاة فإنه لا يشرع التلفظ بالنية، ولا شك أن القول بالتلفظ بالنية متأخر عن القرون المفضلة، وهو إلى الحدَث أقرب، وقد فتح على الناس باب الوسوسة والشكوك، ولذلك تجد الرجل يقول: نويت نويت ويتردد، ويكون عنده التباس، وربما خالف لفظه ما في قلبه فيحصل عنده من الارتباك والوسوسة شيءٌ كثير، ولذلك الأولى أن يبقى على سماحة الشرع ويُسره من القصد ووجود توجه القلب بقصد القربة بهذا الفعل وهذه الطاعة لله عز وجل.

حكم استحضار النية قبل دخول وقت الصلاة

حكم استحضار النية قبل دخول وقت الصلاة قوله: [وله تقديمها عليها بزمنٍ يسيرٍ في الوقت] أي: يجوز له أن يقدمها على الصلاة بيسيرٍ، لكن بشرط أن يكون في الوقت، وبناءً على ذلك فمن سبقت نيته الصلاة المفروضة لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تسبق نيته وتكون خارج الوقت. والحالة الثانية: أن تسبق نيته وتكون داخل الوقت. فإذا سبقت نيته وكانت خارج الوقت فإنه لا يُعتد بها ولو كانت بيسير، مثال ذلك: لو أن إنساناً قبل أذان الظهر بخمس دقائق خرج من بيته ناوياً أن يصلي الظهر، فأذَّن عليه الأذان، فانقطعت نيته قبل الأذان، ثم بعد الأذان اشتغل عن النية، ثم دخل وكبر دون أن يستحضر أو يعين الصلاة التي يريد أن يصليها، فإن نيته لاغية؛ لأن النية وقعت قبل لزوم الذمة وانشغالها بفعل الصلاة، ولذلك لا يعتد بها. وإذا كان الفاصل اليسير سابقاً للصلاة، ولكن بعد دخول الوقت، فبعد أن أذن المؤذن نويت أن تصلي الظهر وكان في نيتك أن تصلي الظهر، ثم انشغلت بقراءة كتابٍ فأقيمت الصلاة، فقمت وكبرت أجزأتك نيتك، وكانت صلاتك معتبرة.

حكم قطع النية في أثناء الصلاة

حكم قطع النية في أثناء الصلاة قال رحمه الله تعالى: [فإن قطعها في أثناء الصلاة أو تردد بطلت]. بعد أن بين رحمه الله أنه يلزمك أن تنوي، وألا حرج أن تنوي والفاصل يسير بشرط أن يكون داخل الوقت شَرَع في مسائل النية بعد وقوعها، وهذا من ترتيب الأفكار، فبعد أن بيّن لزومها شرع في الأحكام المتعلقة بالنية بعد وقوعها، فهذه النية التي دلّ دليل الشرع على لزومها، لو أن إنساناً تردد فيها أو شك أو قطعها فما الحكم؟ فبعد أن أثبتها بيّن ما ينقضها، فلو أن إنساناً كبّر لصلاة الظهر، ثم قطع هذه النية ونواها نافلةً أجزأه ذلك، ولكن لا تقع عن فرضه، فالنية الأولى وهي نيته للفرض ملغية بقطعه لها، فقوله بالبطلان أي: للنية الأولى. فقطع النية الأولى بفرضٍ أو نفلٍ يوجب إلغاءها، فلا بد وأن تكون النية باقية؛ لأنه إذا قطعها لم يكن ناوياً، والشرع لا يصحح الصلاة إلا بنية. فلذلك قالوا: حديث عمر في إثبات النية يدل على أن من قطعها لم ينو، وبناءً على ذلك إذا لم ينو فإن صلاته لا تصح ولا تعتبر لما نواه في ابتدائها، وعلى هذا لو نوى الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء أو الفجر، وفي أثناء الصلاة قطع هذه النية عن فرضه فإن هذا القطع يؤثر ويوجب إلغاء نيته الأولى، لكن لا يُحكم ببطلان صلاته؛ لأنه يمكن الانتقال من الفرض إلى النفل ومن الأعلى إلى الأدنى، فنقول: إذا قطعها واستمر متقرِّباً لله عز وجل فهذا عملٌ صالح، وتبقى نية النافلة المطلقة؛ لأن هذا عمل، فتكون نيته الأولى قد حَلَّ محلها النفل، فتقع صلاته نافلةً وتُجزيه قربةً وطاعة، هذا إذا قطعها أو تردد، أو علق على فعلٍ بالشرط -أي: علّق القطع على الشرط- كما إذا نوت امرأة في نفسها إن قام طفلها فإنها تقطع هذه النية وتقطع صلاتها أو تنتقل إلى النافلة، فهي تريد أن تصلي الظهر أربعاً وتخشى على صبيها، فقالت: لو أتممتها أربعاً ربما خرج، ولكن إذا تحرك الصبي فسأقلِبها نافلة؛ لأن الركعتين أستطيع أن أُسلِّم منهما فأدركه فحينئذٍ إذا علّقت على حركة الصبي، أو على فعلٍ ما فإن النية غير مستصحبة، ولذلك يكون هذا من التردد الموجب لعدم الاعتداد بنية الفرض، وتكون نافلةً كما ذكرنا.

حكم الشك في النية أثناء الصلاة

حكم الشك في النية أثناء الصلاة قال رحمه الله تعالى: [وإذا شك فيها استأنفها]. هذه مسألة مشكلة، فإذا جاء الإنسان أثناء صلاته وسواس، فحدثته نفسه وهو يصلي الظهر مثلاً أنه لم ينو الظهر، فحينئذٍ قال: [استأنفا] أي: الصلاة. والسبب في ذلك أنه إذا شك فاليقين أنه لم ينو، ومن قواعد الشريعة التي دلت عليها النصوص في الكتاب والسنة أن اليقين لا يزول بالشك، فالأصل أنه لم ينو حتى يتحقق أنه نوى، فإذا شك أنه نوى فمعنى ذلك أنه لم تبرأ ذمته المشغولة بلزوم النية، وبناءً على ذلك يلزم باستئناف الصلاة، فهذا وجه عند العلماء رحمة الله عليهم، ودرج عليه فقهاء الحنابلة والشافعية، وجمع من فقهاء المالكية والحنفية رحمة الله على الجميع. وهذا مبني على القاعدة أن اليقين لا يزول بالشك، فقالوا: الأصل البراءة والعدم حتى يدل الدليل على الوجود، فهو مطالبٌ في الشرع بالنية، فإذا شك أنه فعل أو لم يفعل فالأصل أنه لم يفعل حتى يستبين ويستيقن أنه فعل، فلما حصل عليه الشك أثناء الصلاة أُعمل الأصل، وهو أنه لم ينو حتى يستيقن أنه قد نوى. وقال بعض العلماء: يستمر في صلاته ولا عبرة بهذا الشك، وهذا ينبني على قاعدةٍ ثانية وهي (إعمال الظاهر)، وتعتبر هذه المسألة من تعارض الأصل والظاهر، فإن من يقول: يستأنف الصلاة يقول: إن اليقين أنه لم ينو، والشك أنه نوى، فنبقى على اليقين أنه لم ينو. والذين يقولون: إنه يستمر في صلاته ويلغي هذا الحديث والهاجس يقولون: إن الظاهر من حال المكلف أنه لم يدخل في الصلاة إلا بنية، وبناءً على ذلك نبقى على هذا الظاهر، ونلغي هذا الشك الطارئ، ويعتبر هذا من تقديم الظاهر على الأصل. والحقيقة أن هذه المسألة من قواعد الفقه التي ينبني عليها معارضة الأصل والظاهر. ولكن ما هو الأصل وما هو الظاهر؟ الأصل هو الذي يكون في الإنسان سواءٌ في المعاملات أم العبادات، فلو أن إنساناً أحدث فنقول: الأصل فيه أنه محدث. ثم شك هل توضأ أو لم يتوضأ بعد حدثه، فتقول: الأصل فيك أنك محدث، واليقين فيك أنك محدث حتى تستيقن أنك قد توضأت. كذلك أيضاً العكس، فلو قال: أنا على يقين أنني توضأت من البيت، ثم دخل المسجد وجاءه حديث نفس أنه خرج منه شيء أو لم يخرج، تقول له: الأصل فيك بفعل الوضوء أنك متطهر، فتبقى على هذا اليقين حتى تستيقن أن الوضوء أو الطهارة قد انتقضت بالحدث، فهذا يسمى استصحاب الأصل، ويعتبره العلماء مندرجاً تحت قاعدة: (اليقين لا يُزال بالشك، أو لا يزول بالشك)، ويعتبرون هذا الأصل فرعاً عن القاعدة التي تقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان. فهذا الأصل. فالأصل أن تنظر إلى اليقين وتبقيه وتُعمِله حتى تستيقن مثله سواءٌ كان في الطهارة أم في الصلاة، ففي الصلاة قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سها أحدكم في صلاته فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين فليبن على واحدة)؛ لأن الأصل فيه أنه صلى واحدة، والشك أنه صلى الثانية، فيبقى على الواحدة. كذلك في الزكاة، فلو أنه قال: أنا أشك في كوني أخرجت زكاة هذه السنة أولاً، نقول: الأصل أن ذمتك مطالبةٌ بالزكاة وعلى شكٍ أنك أخرجتها، فتبقى على اليقين من كونك مطالباً بالزكاة. وفي الصوم لو شك هل طلع الفجر أو لم يطلع، فإننا نقول: الأصل أن الليل باقٍ حتى تستيقن أن النهار أو الفجر قد طلع فيحرُم عليك الأكل. وفي الحج لو شك -مثلاً- في الطواف هل طاف خمساً أو ستاً، نقول: ابن على خمس. ولو شك هل فعل الطواف أو لم يفعله، فاليقين أنه لم يفعله، فهذا بالنسبة للعبادات. وفي المعاملات لو أن إنساناً تعامل مع غيره، كبائع ومشترٍ اختصما إليك، فقال أحدهما: هذا اشترى مني هذا الكتاب ولم يدفع لي المال، فسألت الخصم: هل اشتريت الكتاب؟ قال: نعم، ولكني دفعت المال. فالأصل أن الذي اشترى مطالب بقيمة الكتاب، فتقول: إما أن تأتي بدليلٍ على أنك دفعت القيمة، وإلا أُلزِمت بالقيمة؛ لأن الأصل أنك مدين؛ لأنك باعترافك أنك اشتريت الكتاب فأنت مدين، فهذه قاعدة عامة في العبادات والمعاملات. كذلك لو شك هل طلق امرأته أو لم يطلقها، فنقول: اليقين أنها زوجته، والطلاق شك، فنبقى على اليقين من كونها زوجةً له، ولو شك هل طلق طلقة أو طلقتين، بنى على أنها طلقة، وقس على هذا، إذاً هذه القاعدة يُعتبر فيها الأصل. لكن هناك دلالة الظاهر، ودلالة الظاهر تقع في العبادات والمعاملات، ففي العبادة لو أن إنساناً رأى ماءً في موضع نجاسة، مثل الماء الذي يكون في دورات المياه، فإن الأصل في الماء أنه طاهر، والشك أنه نجس، لكن كونه في دورة المياه الظاهر منه أنه نجس، فنقول: هنا نقدم الظاهر على الأصل. ولو أن اثنين اختصما في دابة، أحدهما على صدر الدابة أمامها، والثاني وراءه، فإن الظاهر أن الدابة ملكٌ للذي في الأمام؛ لأن قائد الدابة يكون في الأمام، ويكون هو المدَّعَى عليه، والذي خلفه مدعٍ، مع أن القاعدة هنا قدمنا فيها الظاهر، فعندنا ظاهر وعندنا أصل. فهنا حينما تقول: المكلَّف ما دخل المسجد ولا كبَّر في الصلاة ولا قرأ ولا ركع ولا سجد إلا والظاهر أنه ناوٍ؛ لأن الظاهر من حال الإنسان أنه لا يدخل في الصلاة إلا بنية، ثم إذا نظرت إلى الأصل أن ذمة المكلف مطالبة بفعل الصلاة تقول: إنني أُلزِمه بقطع الصلاة، وأعتبر ما قاله غير مُعتدٍ به لأنه شك، والشك عندي لاغٍ بالأصل. هذا بالنسبة لقضية الظاهر والأصل في تكبيرة الإحرام هنا، فمن يقول: يستأنف الصلاة نقول له: المسألة تحتاج إلى تفصيل: فيتم الصلاة نافلة؛ لقوله تعالى: {ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، ثم إذا سلَّم يشرع من جديد، ويبتدئ صلاةً مفروضة بنيةٍ من أولها، وهذا القول أوجه وأقوى من حيث الأصول والقواعد؛ لأن عندنا دليلاً في الشرع يُلزِم بالنية، والظاهر هنا ضعيف؛ لأن الظاهر تكون دلالته في بعض الأحيان قوية، وبعض الأحيان تكون ضعيفة، فنظراً لوجود دليل الشرع بإلزام المكلف بالنية نُغَلِّب الأصل، ونقول: تقديم الأصل في هذا أشبه، وهو مذهب الجمهور رحمة الله عليهم. فلذلك نقول: لو أن إنساناً شك في أثناء الصلاة هل نوى الظهر أو لم ينوه يستأنف. وإذا ثبت أنه يستأنف، بمعنى أنه يتمها نافلة ثم يكبر من جديد فحينئذٍ يرد Q هل هذا الحكم بإطلاق؟ و A لا، فيُستثنى من هذا الموسوس، فمن كانت عنده وسوسة لا يلتفت إلى هذا الشك، ونبقى على الظاهر؛ لأن في مثله الظاهر أقوى، الموسوس والمسترسل إذا كان معهما الوسواس فهذا لا يؤثر في نيته ما طرأ عليها؛ لأنه لو فتح عليه هذا الباب لما صلى صلاةً بسبب ما يشتغل به من الوساوس، والتكليف شرطه الإمكان، وهذا ليس بإمكانه أن يطالَب كل فترة بقطع الصلاة؛ لأنه يدخل عليه بل يزيده بلاءً، فيُستثنَى من هذا الموسوس، ونقول: إنه يستمر في صلاته؛ لأن وجود الوسوسة معه يدل على ضعف الأصل وقوة الظاهر.

حكم قلب نية الفرض نفلا

حكم قلب نية الفرض نفلاً قال المصنف رحمه الله: [وإن قلب المفترض فرضه نفلاً في وقته المتسع جاز]. هذه من المسائل بعد وجود النية، فنحن قلنا: إن الإنسان إذا شك أو قطع أو تردد فحكمه أنه يستأنف، وبيّنا مسألة الشك. والسؤال هنا: لو أن إنساناً أراد أن يقلب نيته من الفرض إلى النافلة، كشخصٌ يصلي الظهر ثم أراد أن يقلب هذا الفرض الذي نواه فرضاً إلى نافلة أثناء الصلاة فهل من حقه ذلك أو لا؟ مذهب الجماهير على أن من حقه ذلك ولا حرج عليه أن ينوي النافلة، ولكن هنا تفصيل عند بعض العلماء، فمن يرى وجوب صلاة الجماعة يقول: إذا نوى أن ينتقل إلى النفل في فريضةٍ ولا يتيسر له وجود الجماعة بعده فإنه لا يجوز له ذلك؛ لأنه يفوت أمر الشرع بحضور الجماعة، وهو ملزم بهذه الجماعة التي هو فيها، ولذلك لا يصح انقلابه من الفرض إلى النفل؛ لأن الصلاة متعينةً عليه، كذلك أيضاً يستثنى -كما ذكر المصنف- أن يكون الوقت غير متسع إلا لبقية الفريضة، فلو كان في آخر الوقت بحيث لو قلبها نافلة خرج عليه الوقت فحينئذٍ لا يصح القلب؛ إذ لا يصح التنفل مع انشغال الذمة بالواجب. ولذلك من أصول الشريعة أنها تلغي التنفل مع اشتغال الذمة بالفرض، حتى المعاملات، فإنه لما اعتق رجلٌ غلمانه عن دبرٍ وعليه دين ألغَى النبي صلى الله عليه وسلم هذا العتق، وباع الغلمان، وسدد دينه صلوات الله وسلامه عليه، فإذا كان هذا في حقوق العباد فحق الله أولى وأحرى، كما قال صلى الله عليه وسلم. فالانتقال من الفريضة إلى النافلة يُفصَّل فيه: فإن اتسع الوقت جاز، إلا إذا كان في جماعةٍ ولا يمكنه أن يحصل غيرها. أو إذا كان الوقت ضيقاً بحيث إذا صلى نافلةً خرج عليه وقت الفريضة، فحينئذٍ لا يصح منه قلب النية؛ لأنه يفوت مقصود الشرع من إيقاع المكلف للعبادة على وجهها المعتبر.

صور انتقال النية

صور انتقال النية قال المصنف رحمه الله: [وإن انتقل بنيةٍ من فرضٍ إلى فرضٍ بطلا]. للانتقال في النية صورٌ: الصورة الأولى: أن ينتقل من الأعلى إلى الأدنى، فإنه يجوز، وهذا كما قررنا أنه ينوي الفرض ثم يقلبه إلى النافلة. الصورة الثانية: أن ينتقل من الأدنى إلى الأعلى، ولا يجوز قولاً واحداً، كإنسانٍ كبر في صلاته ناوياً النفل المطلق، فحينئذٍ لا ينقلب إلى فريضة، ولا ينقلب إلى نافلةٍ مقيدة، فلو كبر ناوياً النفل المطلق والتقرب إلى الله بهاتين الركعتين ولم يعين فيهما شيئاً، ثم طرأ عليه أن يقلبهما سنةً راتبةً قبليةً للفجر نقول: السنة الراتبة القبلية في الفجر في حكم الشرع آكد من النفل المطلق، ولذلك لا يجزيه أن ينتقل من هذا الأدنى إلى الأعلى، كما لا يجزيه أن ينتقل من النفل المطلق إلى الفريضة؛ لأن المقصود في الشرع واحد، وهو ارتفاع درجة الثاني عن الأول. الصورة الثالثة: أن يكون الانتقال من النظير إلى نظيره ولا يخلو من حالتين: إما أن يكون في النوافل، وإما أن يكون في الفرائض، ففي الفرائض ينتقل من الظهر إلى العصر، وفي النوافل ينتقل من سنة إلى سنة، فتكون هذه راتبة وهذه راتبة، فلو أراد شخص أن يصلي ركعتي الضحى فهذه نافلة معيّنة، ثم لما أحرم بركعتي الضحى تذكّر أنه لم يصل راتبة الفجر فحينئذٍ ينتقل من النظير إلى نظيره، من نافلةٍ معينة إلى نافلةٍ معينة. فإذا كان انتقاله من فرض إلى فرض بطل الفرضان الأول والثاني، أما الفرض الأول فإنه بطل لقطعه للنية، وذلك أنه فيما استقبل من الصلاة لم يستصحب نيته التي أُمِر باستصحابها، ولذلك لم ينو، فلو أنه انتقل من الظهر إلى العصر وهو في الركوع، أو عند ركوعه للركعة الأولى، أو الثانية، أو الثالثة فإن ما وقع من الصلاة من تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة وقع عن فرضه، ثم ما وقع بعد تجديد النية وقع بنية لفرضٍ ثان، فقَطَع به الفرض الأول فأشبه ما لو لم ينو. وبناءً على ذلك إذا قَطَع النية بفرضٍ محل فرضٍ ألغي الفرض الأول لمكان القطع، ولظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، قالوا: مفهومه أن من لم ينو شيئاً لا يكون له. وبناءً على هذا يبقى النظر في الفرض الداخل، فالفرض الداخل باطل؛ لأن من شرط نية الفرض أن تكون عند تكبيرة الإحرام، وهذا الفرض وقعت نيته في الأثناء، ولا يصح إيقاع النية في الأثناء، إنما المعتبر في النية أن تكون قبل تكبيرة الإحرام، أو مع تكبيرة الإحرام. وبناءً على ذلك لا يصح منه أن يُدخل نية فرضٍ على فرض. ويبقى Q هل تبطل صلاته أو تنتقل إلى النافلة؟ و A تنتقل نفلاً محضاً، وبناءً على هذا إذا نوى من فرضٍ إلى فرض فإنه ينتقل إلى النفل المحض. وأما إذا انتقل من نافلةٍ معينة إلى نافلةٍ معينة فهذا للعلماء فيه خلاف، قال بعض العلماء: إن الانتقال من المثل إلى المثل يسري حتى في النوافل، وقال بعض العلماء: النافلة أهون من الفرض، فيُخفف فيها. ولكن القول بأن النافلة المعينة كالفريضة المعينة أقوى من جهة الأصول وكمسلك أصولي صحيح؛ لأن التعيين في كلٍ منهما يُوجِب إلحاق النظير بنظيره، وبناءً على ذلك يقوى أنه ينتقل إلى نفلٍ محضٌ سواءٌ أكان انتقاله في فريضةٍ أم نافلة.

حكم استحضار الإمام نية الائتمام بالناس

حكم استحضار الإمام نية الائتمام بالناس قال المصنف رحمه الله: [ويجب نية الإمامة والائتمام]. قوله: [ويجب نية الإمامة] أي: على الإمام أن ينوي أنه إمامٌ لمن وراءه ومؤتمٌ به، وذلك لحصول الجماعة، وفي الجمعة آكد، ولذلك قالوا: إنه يُلزَم بنية الإمامة في الجمعة. وقال بعض العلماء بعدم وجوب النية، أي: عدم لزومها، بحيث لو لم ينو الإمامة صَحّ اقتداء المأموم به، وهذا مبنيٌ على مسألة وهي حمل الإمام عن المأموم، فمن يرى أن الإمام يحمل عن المأموم فإنه يقول: لا يصح حمل الإمام عن المأموم إلا بنية، فيجب على الإمام أن ينوي، وهذا يقوى على مذهب من يقول: إن المأموم لا يقرأ الفاتحة وراء الإمام، ويُقوِّي هذا، فكأنه يرى أن صلاة المأموم مبنية على صلاة الإمام، فحتى يقع هذا الحَمْل، وتقع هذه العبادة على الوجه المعتبر فإنه لا بد وأن ينوي، فلو ائتممت بإنسانٍ لم يعلم بك فإنه لا يصح هذا الائتمام، وبناءً على ذلك يقولون: تبطل الجماعة، ولا تقع صلاته جماعةً إذا لم ينو الإمام الجماعة. وأما على مذهب من يقول: إن الإمام لا يَحمِل الفاتحة فالأمر أخف؛ لأنه لا يرى أركاناً تترتب على هذا، بخلاف ما إذا حَمَل عنه الفاتحة، فإنه يحمل ركناً من أركان الصلاة، ويرى أن صلاة المأموم مربوطة بصلاة الإمام بحكم الشرع، ولكن كونه ينوي الإمامة قالوا: يكون بتحصيل الفضيلة له، لكن لا يُحكم بإثمه ولزوم ذلك عليه. والحقيقة أن الأقوى والذي ينبغي دائماً في مسائل الإمامة أن يُحتاط للناس، فينوي الإئمة ولو كان الأمر خلافياً، ولو ترجَّح عند الإنسان أنه لا ينوي فينبغي عليه أن ينوي حتى يصون صلاة الناس عن الخطأ، وكما ذكرناه غير مرة أن من آداب الإمامة مراعاة الخلاف، وقد نبه على هذا غير واحد من الأئمة، منهم الإمام الحافظ ابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، والحافظ ابن حجر، وأئمة العلم رحمة الله على الجميع، وذكروا أنه ينبغي على الإمام أن ينتبه للخلاف، فيُخرِج صلاة الناس من الشبه دائماً في الأمور اللازمة، فيحتاط لها حتى تقع صلاة الناس على وجهٍ معتبر، فهذا من النصح للعامة.

صيرورة المنفرد مؤتما أو إماما

صيرورة المنفرد مؤتماً أو إماماً قال رحمه الله تعالى: [وإن نوى المنفرد الائتمام لم يصح كنية إمامته فرضاً]. قوله: [وإن نوى المنفرد الائمتام لم يصح] ذلك أنه لما أحرم لزمته الصلاة، ولزمته قراءة الفاتحة، فكان أصله أقوى، ولذلك يقرر العلماء أن المنفرد أقوى من المأموم، وبعض الأحيان تجد المنفرد في حكم الإمام، وتجب على المنفرد أشياء لا تجب على المأموم كالتسميع والتحميد، فإنه يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، وتكون واجبة في حقه، لكن لو كان مأموماً فإنه لا يجب عليه التسميع، وإنما يجب عليه التحميد وحده. كذلك أيضاً في حَمْل السهو منه إذا كان مأموماً، فلا يحمل سهو نفسه، ولا يحمل غيره عنه سهو نفسه إذا كان منفرداً، فكأن المنفرد بمثابة الإمام. فقالوا: لا يصح من المنفرد أن ينتقل مأموماً، وصورة المسألة: لو دخلت المسجد بعد أن انتهى الناس من صلاة الفريضة فكبرت للصلاة، فبعد أن دخلت فيها منفرداً جاءت بجوارك جماعة وانعقدت، بحيث يمكنك أن تخطو حتى تدخل في صفها، أو اقتربت منك بحيث يمكن أن تلتصق بمن بجوارك وتعتبر مأموماً لهذا الإمام، فحينئذٍ إن قلنا: يصح للمنفرد أن ينتقل مأموماً يجوز لك أن تدخل في هذه الجماعة، والصحيح أنه لا يجوز له، وخاصةً على مذهب من يرى أن الإمام يحمل عن المأموم الفاتحة، فقد تعينت عليه الفاتحة، وبانتقاله ينتقل من الأعلى إلى الأدنى على وجهٍ يُفوِّت الواجب الذي ذكرناه وهو قراءة الفاتحة عليه، فقالوا: لا يصح انتقال المنفرد مأموماً كما لا يصح انتقال الإمام مأموماً، فهذا مذهب من يقول بعدم صحة الانتقال. وقوله رحمه الله: [كنية إمامته فرضاً] أي أنه لا يصح أن يدخل المأموم وراء المنفرد إذا طرأ عليه أثناء الصلاة. والصحيح أنه يجوز له ذلك؛ لأن من العلماء من قال: لا يصح في الفرض إلا أن يكون من ابتداء الصلاة. والصحيح أنه يستوي الفرض والنفل في ذلك، وقد ثبت من حديث ابن عباس في الصحيحين أنه قال: (نمت عند ميمونة والنبي صلى الله عليه وسلم عندها في تلك الليلة، فتوضأ ثم قام يصلي، فقمت عن يساره، فأخذني فجعلني عن يمينه)، ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم استفتح الصلاة منفرداً، ثم آل أمره إلى كونه إماماً، فالمنفرد والإمام بمرتبةٍ واحدة، فيجوز له أن يصير إماماً سواءٌ أكان في فرضٍ أم نافلة. فلو دخلت بعد صلاة الظهر لوحدك وأقمت الصلاة وكبّرت، فجاء رجل صح له أن يدخل معك حتى تصير لك الجماعة، وقد ثبت بذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلاً يصلي لوحده بعد إن انقضت الصلاة، فقال عليه الصلاة والسلام: (من يتصدق على هذا؟ فقال أبو بكر: أنا. فقام أبو بكر فصلى معه)، فدل على أنه يجوز للمنفرد أن يصير إماماً، وبناءً على ذلك يصح منه أن يكون في النفل، أو يكون في الفرض.

حكم المفارقة للمؤتم بلا عذر

حكم المفارقة للمؤتم بلا عذر قال المصنف رحمه الله: [وإن انفرد مؤتمٌ بلا عذرٍ بطلت]. أي: إذا كنت مأموماً وأردت أن تنفرد عن إمامك فتصير منفرداً، لتنتقل من الأدنى وهو كونك مأموماً إلى الأعلى وهو كونك منفرداً، فقال: [لم يصح]. أي: أنه لا يصح من المكلف أن ينفرد عن الإمام وذلك لارتباط صلاته بصلاة الإمام. وقد ينفرد بعذر ويستوي في ذلك أن يكون العذر متعلقاً به أو بغيره، فمثال تعلقه به: كإنسان استفتح إمامه بسورةٍ طويلة، ومعه مرَض -كما يجري لبعض من ابتُلِي بالسكر ونحوه- فيضيق عليه الحصْر، ويَخشى أن يستضر بهذا، فيحتاج إلى قطع الصلاة، فيقطع الصلاة مع إمامه، أي: نية الائتمام، ويبقى منفرداً يتم لنفسه. وأما ما يتعلق بغيره فكامرأةٍ خافت على صبيها وهي مأمومة، فتنفرد وتُتِم لنفسها عند خوف الضرر عليه ثم تدركه؛ لأنها مصلحةٌ قد تصل إلى الضرورة، وأقلها الحاجة. وبناءً على ذلك إذا احتاج الإنسان للقطع لمصلحته أو مصلحة غيره جاز، كما قال المصنف: [لعذرٍ]، فيستوي أن يكون العذر في الشخص أو في غيره، لكن إذا علمنا أنه يجوز للإنسان عند العذر أن ينفصل عن إمامه ولا يجوز له عند عدم العذر، فما الدليل على الجواز؟ و A الدليل على الجواز ما ثبت في الحديث الصحيح عند مسلم أن معاذاً رضي الله عنه استفتح الصلاة بقومه ثم قرأ بالبقرة، فتخلف أو انفرد رجلٌ عن الصف، فأتم لنفسه، ثم رجع إلى بيته، فأُخبِر معاذ بخبره، فقال: إنه منافق، فقال: لست بمنافق. ومضى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله إن معاذاً يصلي معك ثم يأتينا بآخرته، وإنا أصحاب حرثٍ وزرع، ثم ذكر القصة، فقال صلى الله عليه وسلم: (أفتانٌ أنت يا معاذ؟ أفتانٌ أنت يا معاذ؟) الحديث، ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الرجل إتمامه لنفسه، وذلك لوجود العذر. ومن ثمّ قالوا: إنه يجوز للإنسان عند وجود العذر أن ينفرد عن إمامه إذا خشي إطالته، وغلبة الظن كالتحقيق، فإذا كنت تعرف الإمام، أو يغلب على ظنك أنه يطيل وانفردت عنه كأنك متحققٌ أنه يطيل، والقاعدة أن الغالب كالمتحقق، وبناءً على ذلك لا حرج عليك لوجود العذر، وهذا من سماحة الشريعة ويسرها ورحمة الله بعباده، فإن الإنسان إذا كان معذوراً وأُلزِم أن يتم صلاته وراء الإمام استضر، ولربما حصل الضرر بغيره، كالمرأة يحصل الضرر لصبيها، وحينئذٍ يجوز للإنسان أن يقطع ولا حرج عليه.

حكم صلاة المأموم إذا بطلت صلاة الإمام

حكم صلاة المأموم إذا بطلت صلاة الإمام قال المصنف رحمه الله: [وتبطل صلاة مأمومٍ ببطلان صلاة إمامه فلا استخلاف]. هذا مذهب من يرى ارتباط صلاة المأموم بالإمام، حيث يرون أنه إذا أحدث الإمام، أو حصل منه ما يوجب بطلان صلاته فصلاة المأموم وراءه باطلة. وقال بعض العلماء: يصح أن يستخلف الإمام إذا أحدث، والصلاة بالنسبة لمن وراءه صحيحة، ثم يذهب ويتوضأ. مثال ذلك: لو أن إماماً صلى بالناس الظهر، ثم تذكر أثناء الصلاة أنه محدث، أو أن عليه نجاسة، أو صلى وطرأ عليه الحدَث، ففي هذه الأحوال يقوم الإمام بالاستخلاف، وهذا أصح أقوال العلماء، فيشرع للإمام أن يستخلف إذا طرأ عليه العذر في الصلاة فبطلت صلاته، ويصح للمأمومين أن يُتموا فرادى، فإن استخلف الإمام اعتبر البديل خليفته ونُزِّل منزلته، وإن لم يستخلف فحينئذٍ يتم كل إنسانٍ على حدة، فسواءٌ أبنوا صلاتهم على الاستخلاف، أم أتم كل واحدٍ منهم على حدة، فصلاتهم صحيحة، وهذا مذهب الجمهور وهو الصحيح؛ لظاهر قصة عمر رضي الله عنه، فإنه لما طعن استخلف عبد الرحمن بن عوف، وجعله مكانه إماماً يصلي بالناس، فدلَ هذا على مشروعية الاستخلاف، وأنه لا حرج فيه. وبناءً على ذلك لا يُحكم ببطلان الصلاة، ويُعتبر قول المصنف رحمه الله: [فلا استخلاف] مرجوحاً، خاصةً وأن الصحابة رضوان الله عليهم قد فعلوا ذلك، ولم يقع بينهم نكير، وهي سنة راشدة، ويكاد يكون إجماعاً من الصحابة؛ لأنها قصةٌ اشتهرت ولم يُنكرها أحد، فكان هذا أقوى في الدليل على الاستخلاف. والذين يقولون: إنه لا يستخلف قالوا: لقصة معاوية رضي الله عنه، فإنه لما ضُرِب على عجيزته أتم الناس فرادى، ولو صحّ هذا فإنه لا يعارض ما أُثر عن عمر، ونقول: اختلف قضاء الصحابة، فيقدم قضاء عمر على فعل معاوية، فإن عمر رضي الله عنه ممن أمر بالاستنان به، فتكون رتبة الصحابي هنا أقوى من رتبته هناك. والأمر الثاني: نعتذر لـ معاوية بانشغاله بالطعن عن الاستخلاف، وصحة الائتمام بالإمام أن يُوجَد الخليفة المستَخْلف من الإمام، وكون الإمام لم يستخلف فإنه يحمل على أنه من شدة الطعن ذُهِل عن أن يستخلف للناس، وبناءً على ذلك نقول: إن فعل عمر يعتبر مقدماً على فعل معاوية رضي الله عنه، أو نعتذر لـ معاوية، فيصبح لا تعارض بين فعل الصحابيين، فـ عمر استخلف لمكان القدرة على الاستخلاف؛ لأن نفسه كانت أقوى، وكان صبره أكثر، ومعاوية فاته الاستخلاف، أو لم يستطعه لمكان قوة الألم، وحينئذٍ نعتبر حادثة معاوية خارجة عن موضع النزاع؛ لأن النزاع على الاستخلاف، ومعاوية لم يستخلف، فيكون هذا في جانب وهذا في جانب، ويصح القول بالاستخلاف، ويقوى من هذا الوجه.

مسألة إذا جاء الإمام الراتب وقد ائتم بالناس غيره

مسألة إذا جاء الإمام الراتب وقد ائتم بالناس غيره قال المصنف رحمه الله: [وإن أحرم إمام الحي بمن أحرم بهم نائبه وعاد النائب مؤتماً صح]. إمام الحي هو آكد من غيره، فلو أن إمام الحي استخلف إنساناً مكانه، وتقدم وصلى بالناس، فجاء إمام الحي، فما الحكم؟ قال بعض العلماء: لو أن الناس قدموا رجلاً يصلي بهم لتأخر الإمام، ثم جاء الإمام متأخراً كان من حقه أن يُتِم بالناس، وذلك لقصة أبي بكر رضي الله عنه حينما قُدِّم عند اختصام بني عوفٍ وصُلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، كما في الحديث الصحيح، فتأخر النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء بلال إلى أبي بكر وأمره أن يصلي، ثم أقام للناس، فتقدم أبو بكر وصلى، وفي أثناء الصلاة جاء النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر رضي الله عنه منشغلاً في صلاته، فنبهه الصحابة إلى ذلك، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس المراد الالتفاف الكامل وإنما كان من خشوعه رضي الله عنه أنه مقبلٌ على صلاته، فالتفت لمكان إحساسه بتسبيح الناس، فإذا به برسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: رَمَق رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأخر، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك، أي: الزم مكانك، فتأخر رضي الله عنه وأرضاه، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم وأتم بالناس. وقال بعض العلماء: هذه المسألة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه قال: ما كان لـ ابن أبي قحافة أن يتقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستدل بآية الحجرات قالوا: هذا من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يرون أن إمام الحي إذا حضر كان من حقه أن يؤخِّر من كان بدلاً عنه. وبعضهم يرى أن تقدُّم النبي صلى الله عليه وسلم هنا لمكان الاستحقاق في الإمامة، فتقدم أبو بكر لعذر، أو للحاجة وهي تخلف الإمام، وما شُرِع لحاجةٍ يبطل بزوالها، فالشريعة تحفظ الحقوق، فالإمام الراتب الذي رَضِي به الناس أحق، فلما تقدم لحاجة وزالت الحاجة وَجَب أن يُعاد الإمام الراتب، وأكدوا هذا بمرض الوفاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم تقدم على أبي بكر رضي الله عنه، وائتم أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم، والناس بـ أبي بكر، وبناءً على هذا قالوا: إن الإمام الراتب من حقه أن يأتي -ولو كان متأخراً- ويُتِم بالناس. فإن صلى الأول ركعتين وكنا في الظهر، ثم جاء إمام الحي، وقلنا بجواز أن يدخل إماماً في الركعتين الأخريين وتأخر الخليفة، فإنهم قالوا: يبقى المأمومون يتشهدون قياساً على صلاة الخوف، فيُتِم الإمام لنفسه ركعتين، ثم يسلم بالناس؛ لأن لها نظيراً في صلاة الخوف. والصحيح الذي يقوى أنه ينبغي صيانة صلاة الناس عن التشويش، خاصةً وأن هذا يُحدِث للناس إرباكاً، وكثيرٌ من الناس لا يفقهون، والدليل فيه شبهة، فإن للنبي صلى الله عليه وسلم من الخصوصيات ما ليس لغيره، فيقوى القول بتخصيص هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم، خاصةً وأن أبا بكر رضي الله عنه قال: ما كان لـ ابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا يدل على أنه فَهِم أن التقدم المنهي عنه بين يدي الله ورسوله يشمل حتى الصلاة، فاستند إلى دليل، وهذا الدليل من الخاص وليس من العام، فيقوى القول بتخصيص هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم والاحتياط فيه. ولذلك الأولى أن إمام الحي يأتي ويدخل مع الجماعة إذا كان مسبوقاً، لكن لو كان الإنسان يرى مشروعية هذا، ويرى أن السنة عامة فله ذلك، فإذا جاء متأخراً قالوا: إنه من حقه أن يفعل ذلك وقالوا: لأن القاعدة: (لا إيثار في القُرَب)، وكونه يصلي بالناس أعظم لأجره من أن يصير مأموماً، فإنه إذا صلى إماماً أفضل له، فقالوا: من حقه أن يتقدم، خاصةً إذا كان يرى ذلك، فالأفضل له إذا كان يرى جواز ذلك أن يتقدم وأن يتأخر الإمام الذي يصلي بالناس مكانه.

الأسئلة

الأسئلة

التشريك في النية بين تحية المسجد وسنة الفجر

التشريك في النية بين تحية المسجد وسنة الفجر Q إذا دخلت المسجد لصلاة الفجر فإني أصلي ركعتين بنية أنها السنة القبلية لصلاة الفجر ولا أصلي غيرها، فهل تسقط عني ركعتي تحية المسجد؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذه المسألة -على مذهب الجمهور- جوابها أن ركعتي رغيبة الفجر تحل محل تحية المسجد، وأنه لا حرج على المكلف إذا صلاها أن يجلس ولا يصلي بعد ذلك تحية المسجد، وهذا مبنيٌ على أن مقصود الشرع أن يصلي الإنسان ركعتين، وهو قوي خاصةً لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس)، فدل على أن المقصود أن يصلي قبل أن يجلس، وهذا قد صلى قبل أن يجلس، والله تعالى أعلم.

حكم من نوى أن يصلي الوتر ثلاث ركعات متصلات ثم بدا له أن يفصلهن

حكم من نوى أن يصلي الوتر ثلاث ركعات متصلات ثم بدا له أن يفصلهن Q من نوى أن يصلي الوتر ثلاث ركعاتٍ متصلات، ثم غير نيته وصلى ركعتين، ثم سلم وأوتر بواحدة، فما الحكم؟ A هذه المسألة تنبني على الشروع في النوافل، فبعض العلماء يقول: الشروع في النوافل يصيرها فرائض. ففي هذه الحالة لما شرع ناوياً أن يصليها ثلاثاً قالوا: ينبغي عليه أن يتمها ثلاثاً ولا يقطعها بركعتين. لكن من العلماء من قال: حتى ولو قيل باللزوم فإنه يتخرَّج هذا بالانتقال من نية الفرض إلى النافلة، قالوا: وإن كانت لازمةً عليه فإنه ينتقل إلى النافلة، خاصةً وأنه سيصلي ثلاثاً، وبناءً على ذلك لا حرج عليه إذا قطعها بالركعتين المنفصلة ثم صلى ركعة الوتر منفردة، والله تعالى أعلم.

حكم صلاة الفريضة بوضوء النافلة

حكم صلاة الفريضة بوضوء النافلة Q مَن توضأ للنفل كصلاة الضحى -مثلاً- ثم دخل وقت صلاة الظهر، فهل يجب عليه إعادة الوضوء قياساً على تحويل النية في الصلاة؟ A ظاهر السنة أن من نوى شيئاً كان له، ومن لم ينوه لم يكن له؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)، فخرج العلماء على هذا أن من نوى وضوءه للنافلة لا يصح أن يصلي به الفرض؛ لأنه مُحدِث، وقد رفع حدثه لاستباحة النافلة لا لاستباحة الفرض، وهذا هو أقوى الأقوال، خاصةً على ظاهر حديث عمر الذي ذكرناه، فإنه إنما نوى النافلة ولم ينو الفرض. ولذلك الأفضل للإنسان وإنما إذا أراد أن يتوضأ أن ينوي رفع الحدث، فإذا نوى رفع الحدث يصح له أن يصلي مطلقاً، أما لو نوى بالخصوص فريضةً أو نافلةً فهذا مُشكِل، فحتى يخرج من الإشكال ينوي رفع الحدث؛ لأن نية الوضوء إما نية رفع الحدث، أو نية الأدنى، أو نية الأعلى، ولذلك جمعها بعض العلماء بقوله: ولينو رفع حدثٍ أو مفترض أو استباحةً لممنوع عرض فالأولى أن ينوي رفع الحدث حتى يخرج من الإشكال، ويكون على ظاهر الحال أنه متطهر، ويصح له أن يصلي النافلة والفريضة دون قيد.

حكم إمامة المتنفل بالمفترض

حكم إمامة المتنفل بالمفترض Q ما الحكم إذا صلى الرجل نافلةً، وفي أثنائها ائتم به شخصٌ بنية الفرض؟ A إذا كان الإنسان في النفل وطرأ عليه من يريد أن يصلي معه الفرض قالوا: لا يصح. على ما قرره المصنف رحمه الله بقوله: [وإن نوى المنفرد الائتمام لم تصح، كنية إمامته فرضاً] فإذا لم يصح وهو مفترض فمن باب أولى ألا يصح وهو متنفل. والأقوى كما قلنا على ظاهر حديث ابن عباس رضي الله عنهما صحة ذلك وجوازه. وأما ائتمام المفترض بالمتنفل فإن الصحيح جواز ائتمام المفترض بالمتنفل لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ، وهو أصح الوجهين عند العلماء، ففي هذا السؤال مسألتان: المسألة الأولى: هل يجوز ائتمام المفترض بالمتنفل؟ وهذه المسألة أصح الأقوال فيها الجواز للحديث الذي ذكرناه. والمسألة الثانية: إذا قلنا بالجواز فهل يحق له أن تطرأ عليه نية الإمامة لهذا المفترض أثناء الصلاة؟ أصح الأقوال جواز ذلك لحديث ابن عباس، والله تعالى أعلم.

كيفية صلاة العراة إذا كانوا أكثر من صف

كيفية صلاة العراة إذا كانوا أكثر من صف Q لو اجتمع عراةٌ كثيرون في صفين أو أكثر كيف يصلون؟ A أما بالنسبة لصلاة العراة فإنهم يصلون ويكون إمامهم وسطهم، والصحيح أنهم يصلون قياماً، ولا يصلون وهم جالسون، ولذلك يكونون صفاً واحداً لمكان الاستتار، ولا حرج عليهم إذا ضاق بهم المكان أن يصلوا صفين، والله تعالى أعلم.

وقت صلاة الوتر عند جمع التقديم

وقت صلاة الوتر عند جمع التقديم Q إذا جمع المسافر بين المغرب والعشاء في وقت المغرب، فهل يصلي الوتر أم يصليه بعد دخول وقت العشاء؟ A هذه المسألة للعلماء فيها وجهان: الوجه الأول: وقت الوتر يبتدئ بوقت العشاء، ومن أوتر قبل دخول وقت العشاء لم يصح وتره. والوجه الثاني: وقت الوتر يصح بعد فعل العشاء لا مقيَّداً بوقت العشاء. وأصح القولين أن وقت الوتر مقيدٌ بوقت العشاء؛ لظاهر السنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله قد أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، الوتر جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفج)، فإن الصلاة إذا أُطلقت يراد بها وقتها، ولذلك نقول: مما يدل على أن المراد وقت العشاء أنه لو استيقظ بعد وقت الفجر وقبل أن يصلي الفجر لم يوتر؛ لأن وقت الفجر ينقطع به الوتر، فدل على أن ابتداء الوتر كانتهائه، فيكون ابتداؤه مقيداً بوقت الصلاة لا بفعل الصلاة، كما أن انتهاءه مقيدٌ بوقت الصلاة لا بفعل الصلاة، وعلى هذا فالأقوى أنك إذا سافرت وجمعت بين المغرب والعشاء في وقت المغرب أنك تنتظر دخول وقت العشاء حتى توتر، والله تعالى أعلم.

طهارة وصلاة من ابتلي بسلس البول

طهارة وصلاة من ابتلي بسلس البول Q أنا شابٌ مصابٌ بسلس البول أكثر من سنتين وقد شق ذلك علي، فما الحكم؟ A نسأل الله العظيم أن يشفيك وأن يعافيك، وأن يمن بالشفاء على جميع مرضى المسلمين. أولاً: أوصيك بالصبر واحتساب الأجر عند الله عز وجل، فإن البلاء -خاصةً- إذا كان في الدين يكون أعظم أجراً، وبلاؤك هذا في الدين؛ لأنه كما أنه مضرةٌ بالبدن، ويُتعِب الإنسان من حيث عنايته بانتباهه لبوله وأذى البول، كذلك أيضاً هو مضرةٌ في الدين؛ لأن الإنسان ينشغل وتعتني نفسه بهذا الخارج، ويُصبِح في هم وقلق، خاصةً إذا دخل عليه وقت الصلاة، وقد وجدت ذلك ورأيته فأبشر بخير، والله أعلم كم لك من الأجر في هاتين السنتين اللتين مضتا، فأبشر بخير، وأنعم عيناً بالله عز وجل، فإن الله سيرضيك إذا صبرت واحتسبت، والله يقول عن أيوب عليه السلام: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]، فمن صبر فإن الله يُنعم عليه، فاصبر بارك الله فيك، واعلم أن الذي ابتلاك هو ربك، وليس لك إلا الرضا عن الله عز وجل، فأوصيك أولاً بالصبر واحتساب الأجر عند الله. والأمر الثاني: أن تأخذ بالأسباب فإذا دخل وقت الصلاة، وكان السلس مسترسلاً فإنك تتوضأ لدخول وقت كل صلاة، فتتوضأ عند أذان الظهر ثم تصلي الظهر، وتضع إذا أمكنك قطنةً لخروج البول إذا كانت تحبس البول. أما إذا كانت تضر بك وتجحِف بك وتحدث الضرر فحينئذٍ لا حرج عليك، بعد أن تتوضأ في أول الوقت ولو خرج الخارج؛ لأنه ليس بإمكانك إلا أن تصلي على هذا، والله لا يكلفك إلا ما بإمكانك، كما قال سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فهذا الذي في وسعك. أما لو كان السلس متقطعاً بحيث يمكن أن يسلم وقت الصلاة لك، بحيث تمكث -مثلاً- ربع ساعة لا يخرج شيء فصلِّ في ربع الساعة ولو أدى ذلك إلى فوات الصلاة مع الجماعة، فإن الصلاة مع الجماعة يجوز تركها تحصيلاً لشرط الطهارة المتصل بالصلاة، فإيجاب الجماعة منفصل، والطهارة إيجابٌ متصل، فيقدم الواجب المتصل على الواجب المنفصل. أما إذا كان لا يسع الوقت فحينئذٍ تنزل وتصلي مع الجماعة، ولو خرج منك البول، والله تعالى أعلم.

حكم من نسي ركعة من الصلاة

حكم من نسي ركعة من الصلاة Q رجلٌ صلى صلاة العشاء ثلاث ركعات، وبعد السلام تذكر بأنه بقي عليه ركعة واحدة، فهل يصلي الركعة الناقصة أم يعيد الصلاة، مع العلم أنه تذكرها بعد تمام الذكر بعد الصلاة؟ A من سلم من صلاة ناقصةً، ولم يعلم بنقصها إلا بعد وقتٍ سواءٌ أكان بعد الأذكار أم بعد السنن فإنه يجوز له أن يستقبل القبلة ويُتم صلاته ما دام أنه في المسجد، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم بنا إحدى صلاتي العشي، فسلم من اثنتين، ثم قام إلى الجذع وشبّك بين أصابعه كالغضبان، فهاب الصحابة أن يكلموه، وفي الناس أبو بكر وعمر، فقال له رجلٌ يقال له ذو اليدين: يا رسول الله! أقصُرَت الصلاة أم نسيت؟ فقال: ما قصرت ولا نسيت)، وفي رواية: (ما كان شيءٌ من ذلك! قال: بلى، قد كان شيءٌ من ذلك، فسأل الصحابة: أَصَدقَ ذو اليدين؟ قالوا: نعم فرجع إلى مصلاه وأتم ركعتين، قال: وأنبئت أن عمران قال: ثم سجد سجدتين قبل أن يسلم). فدل هذا الحديث على مسائل كثيرة: منها: أن من سلَّم من صلاته منتقصاً لها، وكان في المسجد فمن حقه أن يرجع ويُتِم الصلاة ولو كان قد استدبر القبلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استدبر القبلة. وبناءً عليه فما دمت قد صليت العشاء ثلاثاً فإن ذمتك مشغولةٌ بالركعة الرابعة، فيلزمك أن تستقبل القبلة وتتم الركعة الرابعة، ثم تسجد سجدتين قبل أن تسلم. المسألة الثانية في هذا الحديث، وهي مما يحسن التنبيه عليها: جواز مخاطبة الإمام بخطئه إذا لم يفهم، وهذه المسألة يُغفلها كثير، فلو أن إماماً أخطأ في الصلاة، كأن قام إلى الركعة الثانية وكبَّر ووقف فقرأ فقال: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1] مثلاً، فإنه يظن أنه قرأ الفاتحة وهو لم يقرأها، فلو قلت له: سبحان الله. سيرجع ويقول: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1] يظن أنه أخطأ في الآية، فحينئذٍ لا يمكن أن ينتبه إلا أن تقول له: اقرأ الفاتحة فيجوز لك أن تقول له: اقرأ الفاتحة؛ لأن ذا اليدين خاطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فكون بعض العلماء يقول: إن ذا اليدين كان يظن أن التشريع على الركعتين. خطأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ما كان شيءٌ من ذلك)، وقال: (ما قصرت ولا نسيت)، فقال: بلى قد كان شيءٍ من ذلك. فتكلَّم مع علمه بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حصل منه السهو، وبناءً على ذلك يصح للمأموم أن يخاطب الإمام بخطئه إذا تعذَّر فهم الإمام، خاصةً إذا كان خطؤه مما تختلج معه الصلاة، بحيث إذا قلت له: سبحان الله يزيد في الخطأ، وبناءً على ذلك تنبهه وتقول له مباشرة -مثلاً-: اركع اسجد اقرأ الفاتحة، وينبغي أن تقتصر على أقل الكلام فتقول له: الفاتحة. بمعنى: اقرأ الفاتحة، وقس على هذا؛ لأن ذا اليدين خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بخطئه، والله تعالى أعلم.

حكم دخول الحمام بسبيكة على شكل الكعبة

حكم دخول الحمام بسبيكة على شكل الكعبة Q يوجد عند بائع الذهب سبيكةٌ ذهبية على شكل الكعبة المشرفة تُلبس في العنق، فهل يجوز للمرأة دخول الحمام بها؟ A لا ينبغي في الحقيقة تصوير مثل هذه الصور للأماكن التي قَصَد الشرع تعظيمها، والناس إذا أَلِفوا النظر إلى الكعبة يكون دخولهم عليها لأول وهلة أمراً معتاداً، ولذلك كان عمر رضي الله عنه إذا انتهى الناس من الحج صاح فيهم فيقول: يا أهل الشام شامكم، يا أهل اليمن يمنكم، يا أهل العراق عراقكم، يا أهل مصر مصركم. فلما سُئِل عن ذلك قال: أخشى أن تذهب هيبة الكعبة من قلوبهم؛ لأنهم إذا أَلِفوا الجلوس وألفوا النظر إليها اعتادوها فذهبت هيبتها، ومقصود الشرع تعظيم مثل هذه الأماكن، فهذا من فراسته رضي الله عنه، وكان محدَّثاً ملهماً كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه في الصحيح. وبناءً على ذلك لا ينبغي تصوير مثل هذه الصور التي هي محل إجلال وتعظيم من المؤمنين، فينبغي إجلالها وصيانتها، وبناءً على ذلك فالذي أراه أنها تُصاغ على غير صورة الكعبة، أما من ناحية الجواز فيجوز، لكن كون الإنسان يعلق مثل هذه الصور فلا أرى له وجهاً أن يفعل ذلك، وصلى الله وسلم على نبيه وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب صفة الصلاة [1]

شرح زاد المستقنع - باب صفة الصلاة [1] تنقسم صفة الصلاة إلى: صفة كمال، وصفة إجزاء، فالأولى هي أتم الصفتين، وهي المشتملة على هدي النبي صلى الله عليه وسلم الكامل في صلاته، والثانية هي التي يجب على المسلم أن يأتي بها، فإن أخل بشيء منها نقص من صلاته بقدر ما أخل منها. ويذكر العلماء في صفة الصلاة المشي إلى المساجد وآدابه وسننه.

من آداب المشي إلى الصلاة

من آداب المشي إلى الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب صفة الصلاة]. بعد أن تكلم المصنف رحمه الله على الأمور التي ينبغي على المكلف أن يحصلها قبل الصلاة شرع رحمه الله في بيان صفة الصلاة. وصفة الشيء: حليته وما يتميز به، فقوله رحمه الله: (باب صفة الصلاة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل يستدل بها على هدي الصلاة. وصفة الصلاة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يسمى صفة الكمال، وهذه الصفة هي أتم الصفتين وأكملها، وذلك أنها تشتمل على هدي النبي صلى الله عليه وسلم الكامل في صفة صلاته. والقسم الثاني من صفة الصلاة: صفة الإجزاء، وهي الصفة التي ينبغي على المسلم أن يأتي بها كاملةً، فإن أخلّ بشيءٍ منها فإنه يعتبر مخلاً إما بركنٍ أو بواجب، فإن ترك الركن فإن صلاته تبطل ما لم يكن نسياناً وكان نسيانه مقارباً للصلاة في مسجده، فلو ترك ركناً وهو في المسجد، ثم ذكر قبل الخروج وأمكنه التدارك أتم صلاته، وصفة الإجزاء تشتمل على الأركان والواجبات، وقد يقتصر بعض العلماء فيها على الأركان وحدها. ومن عادة العلماء رحمهم الله أنهم يعتنون بذكر وصف العبادة حتى يحكم على صلاة المكلف بكونها معتبرة أو غير معتبرة، وبعض العلماء يقدِّم على هذا الباب باباً، وهو باب آداب المشي إلى الصلاة، كما اعتنى به الإمام ابن قدامة رحمه الله في كتابه العمدة، وهكذا غيره من العلماء، ومنهم من يقتصر على ذكر الصفة ولا يذكر آداب المشي، والأكمل الاعتناء بآداب المشي في الصلاة، وهي تنحصر في أمورٍ من أهمها ما يلي:

استحضار النية

استحضار النية أولاً: ينبغي للمكلف إذا أراد أن يذهب إلى المسجد للصلاة أن يستحضر النية، وهي قصد وجه الله عز وجل بخروجه إلى المسجد، وهذه النية معتبرة للحكم بكونه في قربة وعبادة، وذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة الرجل تضعّف على صلاته في بيته وسوقه خمساً وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأصبغ الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة)، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يخرجه إلا الصلاة)؛ لأن الناس منهم من يذهب إلى المسجد للآخرة، ومنهم من يذهب للدنيا، ومنهم من يذهب جامعاً بين الدنيا والآخرة، فمن خرج وقصده الآخرة كأن يخرج وقصده العبادة والتقرب لله، وشغل الوقت في طاعة الله، وأداء ما افترض الله عليه فهو في قربة، ومثاب من خروجه إلى رجوعه إلى بيته، حتى ورد في الخبر أنه لو هلك فعلى الله أجره، بمعنى أنه لو أصابته مصيبة فمات في طريقه إلى المسجد، أو أصابته بلية فإن أجره على الله، ولذلك كانوا يعتبرون من حسن الخاتمة موت الإنسان في خروجه إلى الصلاة، أو خروجه إلى المسجد؛ لأنها طاعةٌ وقربة، فإذا خرج يستحضر النية.

ذكر الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم

ذكر الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم ثانياً: أن يأخذ بآداب الخروج من الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم: (باسم الله، آمنت بالله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة الله إلا بالله)، فقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (فإذا قالها تنحى عنه الشيطان، وقال الملك: أمنت وكفيت ووقيت، فقال: ما لكم في رجلٍ كفي ووقي من حاجةٍ) أي أنه في رحمة الله وضمانه. وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه خرج من بيته إلى صلاة الفجر، فدعا بثمان كلمات -كما في صحيح مسلم وغيره- وقال: اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، واجعل في بصري نوراً، واجعل من خلفي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، وأعطني نوراً)، فهذه ثمان كلمات من النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الإنسان عند خروجه من بيته يريد التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم فليحرص على هذا الذكر، فما أكثر فلاحه، وما أنجحه حين يخرج وهو يسأل الله أن يجعل في قلبه نوراً، ومن جعل الله في قلبه نوراً فإنه في أمنٍ وعافيةٍ من الفتن، وقال: (اجعل في لساني نوراً)، فلا يقول إلا خيراً، ولا يتكلم إلا بخير، ويعصم في كلامه، وإذا عُصِم الإنسان في كلامه ومنطقه كان على سدادٍ ورشاد، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [الأحزاب:70 - 71] فيحرص على هذه الأدعية النبوية، وهذا من آداب الخروج.

المشي راجلا دون أن يركب

المشي راجلاً دون أن يركب ثالثاً: أن يمشي ولا يركب؛ لأن مشيه أعظم أجراً وثواباً له في الطاعة، لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إليها ممشى)، (وكان رجلٌ يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تخطئه صلاة، وكان يمشي على رجله، فقالوا له: لو أنك أخذت دابة تقيك حر الرمضاء والهوام، فقال: ما أحب لو أن بيتي معلقٌ طنبه بطنب بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني أحتسب عند الله أن يكتب أجري في ذهابي ورجعتي، فأخبر صلى الله عليه وسلم بقوله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد جمع الله لك بين ذلك)، فإذا كان خروجك ماشياً بقصد أن يكتب الله لك أجر المشي، وكانت نيتك أن يجمع الله لك بين أجر الذهاب والرجعة كتب لك الأجران، فهذا من فضل السعي إلى المسجد. وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، كثرة الخطا إلى المساجد)، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (إذا رفع العبد قدمه وهو ماضٍ إلى الصلاة لم يخط خطوةً إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة)، فهذا خيرٌ كثير. وكان العلماء رحمهم الله يستحبون للإنسان إذا خرج إلى الصلاة أن لا يسرع، وأن يقارب الخطا حتى يكثر أجره بناءً على هذا الحديث، وأذكر من العلماء رحمهم الله من كان يمشي كأنه معقول الرجلين، يخفف من المشي حتى تكون خطاه أكثر وأجره عند الله أعظم؛ لظاهر هذا الحديث الثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

المشي إلى المسجد بالسكينة والوقار

المشي إلى المسجد بالسكينة والوقار رابعاً: والسنة لمن خرج إلى المسجد أن لا يشبك بين أصابعه، وأن لا يشتد سعيه. أما عدم التشبيك بين الأصابع فلأنه في صلاة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تشبيك الأصابع في الصلاة؛ لأن اليهود إذا صلوا شبّكوا، فنهي المسلمون عن التشبيك حتى لا يتشبهوا باليهود، فإذا خرج إلى الصلاة يمتنع من تشبيك الأصابع، وقد جاء في حديث أبي داود تأكيد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما أن لا يشتد في سعيه فمعناه: لا يجري ولا يهرول، ولا يسعى حثيثاً حتى ولو سمع الإقامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا أقيمت فلا تأتوها وأنتم تسعون، وائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من أتى إلى الصلاة أن لا يسعى، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليأتها بسكينة ووقار)، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما خرج إلى الصلاة -أعني صلاة الاستسقاء- خرج متخشعاً متذللاً متبذلاً) صلوات الله وسلامه عليه. فلا بد من العناية بهذه الآداب. وقد يقال: هل الأفضل أن يركب الإنسان حتى يحصل الصف الأول في المسجد، أو الأفضل أن يمشي فيحصل فضل السعي إلى المسجد؟ فإن الإنسان لو مشى قد يكون بعيداً عن المسجد، بحيث لو مشى على قدميه ربما فاته الصف الأول، وإذا ركب سيارته أو دابته أدرك الصف الأول، فهل الأفضل مشيه إلى الصلاة تحصيلاً لهذه الفضائل، أو تبكيره بالركوب وفوات فضل المشي عليه بإدراك الصف الأول؟ في هذه المسألة وجهان للعلماء: أقواهما أنه يركب، فيكون فضل الصف الأول مقدّماً على فضل المشي، ووجه هذا الترجيح أن القاعدة: (إذا تعارضت الفضائل قدمت الفضيلة المتصلة على الفضيلة المنفصلة)، فإن المشي إلى الصلاة فضيلة منفصلة عن الصلاة، والصف الأول فضيلة متصلة بالصلاة، ولذلك تقدم الفضيلة المتصلة على الفضيلة المنفصلة، فالأفضل له أن يركب، ولكن كما قال بعض العلماء رحمة الله عليهم: يستحب له أن يجعل في نيته أنه لولا ضيق الوقت لمشى على قدميه، حتى يكتب له الفضلان.

ذكر الدعاء المأثور عند دخول المسجد

ذكر الدعاء المأثور عند دخول المسجد خامساً: إذا دخل المسجد قال الدعاء المأثور: (باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك)، والسنة أن يقدم يمناه ويؤخر يسراه، والسنة إذا دخل إلى المسجد أن يكفّ أذاه عن الناس بعدم تخطي الرقاب ورفع الصوت تشويشاً على المصلين، حتى ولو كان ذاكراً، إذا أمكنه ذلك، وذلك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس في الجمعة، فجاء رجلٌ يتخطى الرقاب، فقال عليه الصلاة والسلام: اجلس فقد آذيت وآنيت)، ومعنى قوله: (فقد آذيت) أي بتخطيك لرقاب الناس، ومعنى (آنيت): أي تأخرت، فالذي يريد الصفوف الأول، والذي يريد الفضائل التي تكون في الصفوف الأول فليبكر، أما أن يأتي متأخراً ويتخطى رقاب الناس ويؤذيهم ويشوش عليهم فإن هذا لا يجوز له لما فيه من الضرر، والقاعدة في الشريعة: (إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قدم درأ المفسدة على جلب المصلحة)، وهذا من حيث الإطلاق، فكيف إذا كانت المصلحة عامة والمفسدة خاصة؟! لأن تخطي الرقاب يؤذي العامة، أي: عامة الناس، وكونه يدرك الصف الأول فضيلة خاصة، فلذلك تقدم درأ المفسدة هنا على جلب المصلحة، فلا يجوز له أن يتخطى رقاب الناس، ولا أن يؤذيهم بالهيشات ورفع الصوت؛ لأن ذلك مما لا ينبغي في بيوت الله عز وجل؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى منبهاً عباده المؤمنين على حرمة المساجد، وما ينبغي أن تكون عليه من إجلال وإكبار: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36]، ورفع الشيء: إجلاله وتعظيمه، وذلك يكون بالسكينة والوقار في بيوت الله عز وجل. وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلين اختصما في المسجد ورفعا أصواتهما، فلما جاء إليهما قال: ممن أنتما؟ قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً، أي: لمكان حرمة المسجد وأذية الناس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. فلا بد للإنسان أن يراعي هذه الآداب، ولذلك نبّه العلماء رحمهم الله على أنه كلما كان الإنسان متعاطياً للسنة حريصاً عليها كلما كان موفقاً للقبول في صلاته، وينبغي نصح الناس وتوجيههم إلى عدم الإخلال بهذه السنن، وبيان ما ينبغي من التزامه بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصةً فيما يتعلق بكفّ الأذى.

صلاة تحية المسجد

صلاة تحية المسجد سادساً: فإذا دخل المصلي في وقتٍ لا صلاة فيه كأن يدخل بين الأذان والإقامة فإنه يفتتح الصلاة بتحية المسجد، فيحي المسجد بالصلاة، وذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين)، فدل هذا على لزومها، وأنه لا ينبغي للمسلم أن يجلس في المسجد حتى يصليهما، ثم إذا صلاهما فإنه في صلاةٍ ما انتظر الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: (وذلك أنه إذا توضأ فأسبغ الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوةً إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم اغفر له اللهم ارحمه) أي: ما دام جالساً في مصلاه فريضةً كانت أم نافلة فإنه تصلي عليه الملائكة، فتدعو له بالمغفرة والرحمة، وهذا خيرٌ كثير، ولذلك ما دخل إنسان مسجداً وصلى مع الجماعة وخرج إلا خرج طيب النفس ومجبور الخاطر، ولو كانت عليه هموم الدنيا، فإنه إذا دخل وخاصةً إذا بكّر إلى المسجد وصلى فيه فإنه يجد هذا الخير الكثير من صلاة الملائكة عليه، ودعائها له، واستغفارها له. فإذا حضرت الصلاة فحينئذٍ يبتدئ بمراعاة ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)، فإذا أقيمت الصلاة فإنه يمتنع من التنفل، ويمتنع من إحداث صلاة النافلة بعد إقامة الصلاة.

صفة القيام إلى الصلاة

صفة القيام إلى الصلاة

سنية القيام عند (قد) من إقامتها

سنية القيام عند (قدْ) من إقامتها قال المصنف رحمه الله: [يُسن القيام عند (قدْ) من إقامتها]. إذا كان المكلف جالساً في المسجد وأقيمت الصلاة، فقد قال بعض السلف: يبتدئ قيامه عند قول المؤذن: (الله أكبر) من الإقامة. وهذا القول مأثور عن عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد رحمة الله عليه، وكان يقول به بعض السلف، أي: أنه إذا قال المؤذن: (الله أكبر) للإقامة فإن الناس يقومون. والمحفوظ من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان الستار على بابه، فكان بلال رضي الله عنه إذا شعر بحركة الستار أقام الصلاة، فكان الناس إذا ابتدأ بلال للإقامة قاموا، فإذا رأوا الستر تحرك قاموا، وأخذوا مصافهم، وهيأوا أنفسهم للصلاة، فلا يصل عليه الصلاة والسلام إلى موضع محرابه أو مكان مصلاّه إلا والناس قد أخذوا مصافهم، فسواهم وأمرهم بالاستواء، ثم كبر وصلى بهم. وثبت في الحديث الصحيح أن بلالاً رأى حركة الستر، فظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج فأقام الصلاة، فانتظر الناس وهم قيام حتى طال عليهم القيام، ثم دخل عليه الصلاة والسلام، فقال عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم-: (إذا رأيتموني فقوموا)، رفقاً بالصحابة رضوان الله عليهم وبالمصلين، وأخذ العلماء من هذا دليلاً على أنه من السنة أن يقام عند رؤية الإمام، وللعلماء في هذا الحديث وجهان: منهم من يقول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتموني فقوموا) لم يقصد به حالة مخصوصة، كأنه يقول: إذا رأيتم الإمام في المسجد فقوموا. حتى يكون ذلك أبلغ في استواء الناس قبل دخول الإمام إلى المحراب أو موضع الإمامة. وقال بعض العلماء: بل هذا خاص؛ لأنه وُجِدت المشقة بقيام الصحابة، فقال لهم: (إذا رأيتموني فقوموا). والذي يظهر أن أقلّ ما فيها أنها سنةٌ تقريرية، فإن الصحابة كانوا يقومون عند دخوله، فالأفضل والأكمل عند رؤية الإمام أن يقوم الناس، وأن يأخذوا مصافّهم، ويحاولوا تهيئة أنفسهم، بحيث لا يبلغ موضع إمامته إلا والناس قد أخذت مصافّها، كما جاءت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الإمام مالك رحمه الله فإنه لم يجد حداً معيناً لقيام الناس عند الإقامة، ورأى أن الأمر واسع، فخفف رحمه الله وقال: الناس فيهم الصغير وفيهم القوي وفيهم الجلد، أن الناس يختلفون في أحوالهم، فلم يحدّ في القيام للصلاة حداً معيناً، وهذا لا شك أنه من ناحية الإلزام صحيح، فلا نستطيع أن نلزم الناس بالقيام لا عند ابتداء الإقامة، ولا عند (قدْ)، ولكننا نقول: الأفضل والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يقام عند رؤية الأئمة، فإذا رؤي الإمام داخلاً إلى المسجد، أو رؤي عامداً إلى مصلاّه فإن الناس يقومون، وهذا هو السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ الصحابة على فعلهم، ولأنه يعين على تحقيق مقصود الشرع، فإن الناس إذا ابتدروا بالقيام وسووا صفوفهم، ثم أمرهم الإمام كان ذلك أبلغ في تسوية الصفوف، وخاصةً في هذا الزمان فإنه يعجل الإمام بالتكبير، والفاصل قد يكون قليلاً، وقد يكون الإنسان يرغب في إدراك تكبيرة الإحرام وفضلها، فقد يضطر إلى الاشتغال بتسوية الصفوف، لكن المبادرة للقيام عند رؤية الإمام أبلغ في استواء الصفوف واعتدال الناس، ولا نحفظ في ذلك أمراً يدل على اللزوم بالقيام عند (قد)، ولكن نقول: الأفضل والسنة القيام عند رؤية الأئمة، وأُثِرَ عن علي رضي الله عنه القيام عند قدَّ، ولا يصح هذا عنه ويُروى في حديث مرفوع ضعيف. والصحيح أن الأمر واسع، ولكن السنة والأفضل أن يُقام عند رؤية الأئمة كما ذكرنا. وقوله رحمه الله: [عند (قدْ) من إقامتها] الإقامة -كما هو معلوم فيها-: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، فتقال مرتين، فحينئذٍ هل يكون القيام على قول المصنف عند (قدْ) الأولى أو الثانية؟ و A يكون عند (قد) الأولى، وليس الثانية؛ لأنه أطلق، والمطلق ينصرف إلى أول مذكور، ولو أراد الثانية لقال: عند قوله (قد) الثانية من إقامتها، أو: بعد قوله (قدْ) من إقامتها.

تسوية الصفوف وإقامتها

تسوية الصفوف وإقامتها قال رحمه الله تعالى: [وتسوية الصف]. يسنّ للناس أن يعتنوا بتسوية الصفوف، والمراد بهذه السنة أنها من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسوية الصفوف وإقامتها من إقامة الصلاة، وقول الجماهير على أنه يجب على الناس أن يسووا صفوفهم، وأن من لم يسو الصف فهو آثم، وذلك لدليلين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (استووا)، وقال: (ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم)، وقال: (عباد الله لَتُسَوُّونَّ صفوفكم)، فجاء بصيغة التأكيد الدالة على اللزوم. الدليل الثاني الذي يدل على وجوب تسوية الصفوف ولزومها: أن النبي صلى الله عليه وسلم توعد على الإخلال بهذا، -فقد ثبت عنه في الصحيح-: (أنه كان يأمر الناس بتسوية الصفوف -قال الصحابي رضي الله عنه-: حتى إذا رأى أنا قد عقلنا عنه خرج ذات يومٍ فرأى رجلاً بادياً صدره في الصف، فقال عليه الصلاة والسلام: عباد الله لتسون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم -وفي رواية-: وقلوبكم)، فهذا وعيد، والقاعدة في الأصول أنه إذا ترتب على ترك الأمر وعيد كان هذا دليلاً على أنه من الواجبات، وأن الإخلال به من المنهيات، ولذلك يعتبر الإخلال بتسوية الصفوف من المحرمات، والأمر به واجب، فالناس مطالبون بإقامة الصفوف وتسويتها، وثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة، فالذين يسوون صفوفهم ويعتنون بتسويتها هم مقيمون للصلاة، والله أثنى على المقيمين للصلاة وزكاهم في كتابه، فمن إقامة الصلاة تسوية الصفوف. وثبوت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن عدم تسوية الصفوف سببٌ لمخالفة القلوب، أو مخالفة الأوجه فيه خطر شديد، حتى قال بعض العلماء: المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: (أو ليخالفنّ الله بين وجوهكم أو قلوبكم) أن يلبسهم شيعاً وأحزاباً والعياذ بالله، أي: يجعل الناس مفترقين لا يتفقون، فتحصل بينهم النزاعات والخلافات والشجارات بسبب عدم العناية بهذا الأمر وهو تسوية الصفوف، وهو أمرٌ عظيم، وكان عمر رضي الله عنه لا يكبر حتى يأتيه أناسٌ وكّلهم بالصفوف فيعلمونه أن الصفوف قد استوت -رضي الله عنه وأرضاه- حرصاً منه على هذه السنة، وعنايةً منه بها، فيسوّي الصفوف. وإذا كان الذي وراء الإمام يعقل تسوية الصفوف كطلاب علم، فللعلماء وجهان: فبعضهم يقول: السنة أن تطلق، فدائماً تقول: استووا. وظاهر الحديث: (حتى إذا رأى أنا قد عقلنا عنه) يدل على أنه إذا كان الناس عندهم علم بتسوية الصفوف، وكان الذين معه من طلاب العلم، أو من العلماء، فلا حاجة أن تقول: استووا. وهذا مذهب طائفة من العلماء. وقال بعضهم: لا، بل إنها سنة مطلقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها، وكان إذا قام أمر بالاستواء. ولكلا الوجهين وجهه، خاصةً في هذا الزمان الذي كثر فيه العوام وكثر فيه الإخلال، حتى إن من يعلم ربما نسي وربما ذهل، ولربما قام الإنسان في الصف وهو من العلماء أو من طلاب العلم فغفل عن تسوية نفسه، والإنسان بشر، ولذلك الأمر والتنبيه بها فيه أجر للإمام، وفيه تنبيهٌ أيضاً للناس، فلا حرج في المداومة عليها والأمر بها.

تكبيرة الإحرام

تكبيرة الإحرام قال رحمه الله تعالى: [ويقول: (الله أكبر)، رافعاً يديه]. أي: يقول المصلي إذا أراد الدخول في الصلاة (الله أكبر)، وهذا التكبير يسمّى عند العلماء رحمهم الله بتكبيرة الإحرام، وسبب تسميته بذلك ظاهر السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث أبي داود والحاكم بسندٍ صحيح: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير)، فوصف التكبير بكونه موجباً للدخول في حرمات الصلاة، فسمّى العلماء هذا التكبير بتكبيرة الإحرام؛ لأن المصلّي إذا كبر دخل في حرمات الصلاة، وهذا التكبير للعلماء فيه ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يصح لك أن تدخل الصلاة نافلةً أو فريضة إلا إذا قلت: (الله أكبر) وحدها، فلا يجزي غير هذا اللفظ، لا المشتق منه ولا من غيره، ولو اشتمل على تعظيم الله، فلو قال: الله العظيم، أو قال: الله الكبير، أو: الله الأكبر لم تنعقد تحريمته، وكذلك لو اختار لفظاً فيه تعظيم من غير المشتق، كقوله: الله القدوس، الله السلام، الله المهيمن، فإنه لا ينعقد تحريمه، وهذا مسلك الحنابلة والمالكية رحمة الله عليهم، وهكذا لو قدّم: (أكبر) على لفظ الجلالة، فقال: أكبر الله، فإنه لا يصح ولا ينعقد تحريمه، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر)، وكبر معناها: قل: الله أكبر. وهو المعهود في أذكار الشرع في الدخول إلى الصلاة، بدليل ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من تكبيره في الدخول إلى الصلاة، فهذا أمرٌ. الأمر الثاني: أنه لم يثبت حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بالعدول عن هذا اللفظ المخصوص، والصلاة عبادةٌ مخصوصة، وأذكارها مخصوصة، فلا يصح أن يجتهد المكلف بإدخال ألفاظٍ قريبة من اللفظ المشهور. الأمر الثالث: أنه لفظ مخصوص في موضع مخصوص لم يشرع إحداث غيره أو قريبٍ منه كالتشهد، أي: كما أن التشهد لا يجزي إلا باللفظ الوارد، كذلك تكبيرة الإحرام لا تجزي إلا باللفظ الوارد. فهذه الأوجه كلها تدل على لزوم التكبير. وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أنه يجوز للمصلي أن يدخل بأي لفظٍ دال على تعظيم الله عز وجل وذكره، واستدل بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15]، فقال رحمه الله: إن الله عز وجل قال: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} [الأعلى:15]، فمن ذكر اسم ربه عند بداية صلاته أجزأه ذلك وصحت صلاته، فلو قال: الله العظيم أجزأه وانعقد إحرامه وانعقدت تحريمته. وذهب الإمام الشافعي رحمه الله إلى موافقة الإمام أحمد ومالك، ولكن قال: يجوز إذا كان من لفظ (أكبر)، فقوله مثلاً: الله الأكبر تنعقد به التحريمة، فالمشتق كالكبير والأكبر قالوا: ينعقد به إحرامه، وأما بغير ما اشتق منه فلا ينعقد إحرامه. والصحيح أنه لا بد من ذلك اللفظ المخصوص، وهو لفظ التكبير، والجواب عن دليلهم أنه مطلق مقيد. كما أن الآية التي استدل بها الإمام أبو حنيفة رحمه الله في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15] الصحيح أن المراد بقوله تعالى: (قد أفلح من تزكى)، أي: زكاة الفطر ليلة العيد، (وذكر اسم ربه) أي: أكثر من التكبير ليلة العيد فصلّى صلاة العيد، والمراد بذلك أنه على فلاح بانتهائه من فريضة الله عز وجل وهي الصيام. فالمقصود أن هذه الآية يجاب عنها من وجهين: إما أن يقال: إنها خارجة عن موضع النزاع، والمراد بها صلاة العيدين. وإما أن يقال: إنها مطلقةٌ مقيدة، والقاعدة أن المطلق يُحمل على المقيد، ولا تعارض بين مطلقٍ ومقيد. وقوله رحمه الله: [يقول: الله أكبر] أي: يقول بلسانه: الله أكبر.

رفع اليدين مضمومتي الأصابع وممدودة عند التكبير

رفع اليدين مضمومتي الأصابع وممدودة عند التكبير قال رحمه الله تعالى: [رافعاً يديه مضمومتي الأصابع ممدودة حذو منكبيه كالسجود]. [رافعاً يديه] هذه هي السنة في تكبيرة الإحرام، وأجمع العلماء على أن تكبيرة الإحرام برفع اليدين، وقد جاء عن أكثر من ستين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في صفة صلاته أنه رفع يديه في تكبيرة الإحرام، ولذلك قالوا: رفع اليدين في تكبيرة الإحرام متواتر، كما أشار إلى ذلك صاحب الطلعة رحمه الله بقوله: ثم من المشهور ما تواترا وهو ما يرويه جمعٌ حظرا كذِبهم عُرفاً كمسح الخف رفع اليدين عادمٌ للخُلفِ وقد روى حديثه من كتبا أكثرُ من ستين ممن صَحِبا فرفع اليدين بالدخول في الصلاة في تكبيرة الإحرام متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه جمع، وقال بعض العلماء: فيه أكثر من خمسين حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها في رفع اليدين، حتى إن العلماء لما اختلفوا في رفع اليدين في الصلاة اتفقوا على أنه في تكبيرة الإحرام يرفع يديه. ثم هنا في رفع اليدين السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رفعها حذو منكبيه، وقال به جمعٌ من العلماء رحمة الله عليهم، كما اختاره الشافعي وأحمد، وقال بعض العلماء: حذو الأذنين، والذي يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم من سنته أنه كان يرفع حذو منكبيه، وأما ما ورد إلى حذو أذنيه فهذا يُحمل على وجهين: الوجه الأول: إما أن يحمل على أنه كان يفعل هذا تارة ويفعل هذا تارة ولا حرج، ويصير خلاف تنوع لا حرج فيه. والقاعدة تقول: إن خلاف التضاد لا يحكم فيه بالخلاف، فتقول: هذا نوع من الرفع، وهذا نوع من الرفع، والأكمل حذو منكبيه، والجائز والسنة التي لا حرج فيها أن يرفع إلى حيال أُذنيه. الوجه الثاني: وجه الجمع، قالوا: إنه رفع، فمن أراد الغاية التي بلغتها أصابعه فهما المنكبان، ومن أراد غاية ما وصل إليه في رفعه حتى يقابل أقلّ أصابعه بهما فهما الأذنان، فيكون هذا من باب الجمع، فيكون هذا عبر بالغاية وهذا عبر بالبداية، فبداية ما يكون من أصابعه حيال أذنيه، فكأنه اعتبر غاية اليد ولم يعتبر أولها، وهذا يكون من باب الجمع بين الروايتين. وأما بالنسبة لقوله: (كالسجود) فللعلماء فيه وجهان: منهم من يقول: يجعل اليدين كالرجل الذي يريد أن يمسك طرفا رأسه، فتكون بطون اليدين مقابلة لصفحتي الوجه. والوجه الثاني: أن يجعل بطون اليدين أو الراحتين إلى جهة القبلة، ولذلك عبر بقوله: (كالسجود) أي: كحال الإنسان في سجوده؛ لأنه لما قال لك: (رافعاً) التبس الأمر: هل يرفع وقد جعل البطون إلى القبلة، أو يرفع وقد جعل البطون إلى وجهه؟ فلذلك قال: (كالسجود). وأما بالنسبة للتفريج والضم للأصابع، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه لم يفرج ولم يضم، فالسنة الاعتدال، واختار المصنف الضم، والسنة الاعتدال في هذا، ولا يتكلف في الأمر. وهناك ثلاثة أوجه في الابتداء بالرفع أو التكبير: الأول: أن تبتدئ التكبير وتقول: الله أكبر ثم ترفع يديك، وتخفض بعد إنزالهما، أو: تقدم الرفع على التكبير فترفع يديك ثم تقول: الله أكبر بعد أن تتم الرفع وتنزلهما، أو: تجمع بين الرفع والتكبير، وذلك لكون الإنسان يرفع يديه فيبتدئ التكبير عند رفعه، ثم لا ينتهي إلا وقد انتهى من تكبيره، فهذه كلها أوجه، وقد جاءت بها الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم. ففي حديث ابن عمر: (أنه رفع ثم كبر). وثم تقتضي الترتيب، قالوا: فيكون التكبير بعد الرفع. والوجه الثاني الذي هو وجه الجمع بينهما أو وجه المتابعة جاء في حديث وائل وغيره في رواية السنن، والأول صحيح من حديث ابن عمر. وأما كونه يكبر ثم يرفع فقد قال الحافظ ابن حجر: لا قائل به، أي: لا يعلم قائلاً يقول بالتكبير قبل الرفع. قال العلماء: الأفضل للإمام أنه ينتبه لأحوال الناس، فإن من الناس من يسمع الصوت ولا يرى الشخص، ومنهم من يرى الشخص ولا يسمع الصوت، فالشخص الذي هو في أقصى الصف -خاصةً في المواضع التي لا يكون فيها مكبر الصوت موجوداً- يرى شخص الإمام ولا يسمع صوته، فإذا رفع الإمام يديه ظن المأموم أنه دخل في حرمة الصلاة وكبر، فربما سبق المأموم الإمام بالتكبير في هذه الحالة، كما لو كان في آخر الصفوف ويرى شخص الإمام، كما هو الحال في الأرض المنحدرة حيث يرى شخص الإمام، أو يكون الإمام مرتفعاً قليلاً فيراه يرفع يديه، فيرفع المأموم يديه ويقول: الله أكبر، فيسبق تكبيره تكبير الإمام، خاصةً إذا لم يسمع الصوت، وقالوا: أيضاً من الناس من يسمع الصوت ولا يرى الشخص ككفيف البصر، أو من هو بمنأىً لا يستطيع أن يرى الإمام، فإنه يعتبر الصوت ويسمع صوته، كما في الصف الرابع والخامس في الصحراء ونحوها، فربما خفي عليه صوت الإمام، ولذلك الأفضل والأولى للإمام حتى لا يعرض صلاة الناس للبطلان بتقدم التكبير على الرفع أن يجمع بينهما، حتى لا يكون سبقٌ، ما دام أن السنة قد ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالجمع بينهما.

لزوم إسماع الإمام من خلفه من المؤتمين

لزوم إسماع الإمام من خلفه من المؤتمين قال رحمه الله تعالى: [ويسمع الإمام من خلفه كقراءته في أولتي غير الظهرين]. قوله: [ويسمع الإمام من خلفه] أي: تكبيرة الإحرام، وذلك لأن تكبيرة الإحرام تنعقد الصلاة بها، وقال العلماء: إنه لو سبق المأموم الإمام في تكبيرة الإحرام، أو سبقه بالسلام بطلت صلاته خاصة على مذهب من يرى اتصال صلاة المأموم والإمام، كما درج عليه الحنابلة ومن وافقهم أنه لو سبق تكبير المأموم على الإمام بطلت صلاته ولم تنعقد له، ولذلك يقولون: إنه ينبغي عليه أن يتحرى، فإذا كان المأموم مطالباً بإيقاع تكبيره بعد تكبير الإمام فإنه ينبغي على الإمام أن يرفع صوته حتى ينبه الناس. وقد أجمعوا على أن المأموم لا يجوز له أن يسبق الإمام فيكبر قبل تكبير الإمام، واختلفوا: لو أن المأموم ساوى الإمام فكبّر مع تكبير الإمام، فهل هذا هو السنة، أم السنة أن ينتظر إلى أن يكبّر الإمام ويكبر بعده؟ فذهب جمهور العلماء إلى أن السنة أن يكبّر المأموم عقب تكبير الإمام، وذلك لحديث أنس رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به، فإذا كبّر فكبروا)؛ لأن قوله: (فإذا كبّر) أي: فرغ من التكبير، (فكبروا) أي: أوقعوا تكبيركم بعد تكبيره، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبقوني إني قد بدنت)، فدل على أن المأموم كما أنه في الفعل لا يوقعه إلا بعد الإمام، كذلك أيضاً في القول لا يوقعه إلا بعد الإمام، ولقوله في الرواية الثانية: (ولا تكبروا حتى يكبر). فهذه الثلاثة الأحاديث اقتضت أن يقع تكبير المأموم بعد تكبير الإمام، ولذلك قال أصحاب هذا القول وهم الجمهور -المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية-: تحرم مسابقة الإمام وتكره موافقته؛ لأنها حالة بين الحلال والحرام، فبين الحلال كونك توقع التكبير بعده، وبين الحرام كونك تسبقه، ولذلك عبروا بالكراهة، كما نبهنا غير مرة أن مسلك بعض الأصوليين أن المكروه مرتبة بين الحلّ والحرمة. أما بالنسبة لفقهاء الحنفية فقالوا: السنة أن يوقع المأموم تكبيره مع تكبير الإمام، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا كبّر فكبروا) والفاء تقتضي العطف مع المقارنة، كما تقول: جاء محمد فعمر بمعنى أنهما كادا أن يكونا متصلين ببعضهما، قالوا: وهذا يدل على أن تكبير المأموم يكون مع تكبير الإمام، ولا شك أنه الحل المجازي؛ لأنهم قالوا: (إذا كبّر) بمعنى: شرع في التكبير، كما يقال: أنجد: إذا دخل نجداً، أي: بدايتها، وأتهم: إذا دخل تهامة وإن لم يكن قد بلغ آخرها، وهذا معروف في لغة العرب، قالوا: فقوله: (إذا كبّر) أي: ابتدأ التكبير، (فكبروا) أي: اصحبوه في تكبيره، فهذا وجه الحديث عندهم، ويلاحظ أن الكل يتمسك بالسنة. والحقيقة الذي يترجح ويقوى من جهة النصوص والنظر أن تكبير المأموم يقع بعد تكبير الإمام، وعلى هذه المسألة تفرّع قولهم في السلام، ولذلك تجد بعض من يميل إلى هذا القول يسلم مع تسليم الإمام، ولا شك أن هذا له وجهٌ من السنة بناءً على أنهم يرون أن العطف في هذه اللغة وفي هذا الوجه يقتضي المقارنة، وإن كنا قد قلنا: إن الصحيح أن يأتي بالتكبير والفعل بعده، لكن ما دام أن الإنسان يتأول وجهاً من السنة فلا إنكار، ولكن الصحيح والأقوى أن يوقع فعله بعد فعل الإمام. والجهر بالتكبير على حالتين: الحالة الأولى: المبالغة في الجهر فهذه مكروهة، وهي أن يبالغ في رفع صوته إلى درجة أن يزعج من وراءه من المصلين، فإن الصلاة خشوع وخضوع وسكينة، وينبغي للأئمة دائماً أن يتعاطوا مراتب الكمال وأنسب الأحوال، حتى يكون ذلك أقرب لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأشبه بالعبادة التي يتلبسون بها، ولذلك لا يبالغ بالتكبير بصوتٍ فيه مبالغة في الرفع؛ لما فيه من الأذية والإجحاف بالنفس، والسنة في الشرع في الذكر أن الإنسان لا يبالغ فيه برفع الصوت، كما قال تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء:110]، وقال تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19]، فقالوا: تجتنب المبالغة في رفع الصوت، إلا ما ورد النص به كالتلبية، فترفع صوتك حتى تبالغ بها ولا حرج؛ لأن الصحابة كانوا إذا أحرموا لم يبلغوا الروحاء حتى تبح أصواتهم، وهذا لا شك أن ورود السنة به هو مقصود في العبادة، وقال عليه الصلاة والسلام: (الحج العج والثج) فهذا مخصوص، لكن بالنسبة للأذكار تبقى على الأصل من تحري السنة وعدم المبالغة في الرفع، فيرفع صوته على الحالة الثانية، وهي الرفع المعتبر الذي يسمع به من وراءه، وبناءً على ذلك فإذا حصل مقصود الشرع من الإعلام فإنه يقتصر عليه المكلف. ومن هنا كان من الخطأ ما يفعله بعض المصلين حينما يأتي والناس في المسجد، ويريد أن يصلي تحية المسجد، فتجده يكبر تكبيرة الإحرام بلفظ مزعج وملفتٍ للأنظار، ولربما يشوش على غيره، ويجعل الناس يلتفتون إليه من غرابة ما وقع منه، والصلاة -كما قلنا- فيها سكينة وخشوع، فينبغي للمصلي أن يبتعد عن أذية الناس بها. وقوله: [كقراءته في أولتي غير الظهرين]. المراد بالظهرين: الظهر والعصر، وهذا من باب التغليب، كالعمرين والقمرين، والمراد بهذا في قوله رحمه الله: [كقراءته] أن يجهر بالتكبير -أعني تكبيرة الإحرام- كما يجهر بقراءته في الأوليين من صلاة المغرب والعشاء، وكذلك الفجر، فالسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالقراءة في صلاتي الصبح والمغرب والعشاء، يجهر في الأوليين من العشاء وكذلك المغرب، وفي صلاة الفجر كلها، فالسنة أن يرفع صوته ويجهر. وهنا ينبه على أمرٍ ينساه كثير من الناس، أو يغفلون عن حكمه، وهو أن الإنسان ربما تفوته صلاة الفجر، أو تفوته ركعةٌ وراء الإمام فيقوم للقضاء، فلا تسمع من يرفع صوته بالقراءة، وهذا كثير بين الناس إلا من رحم الله، فبسبب الجهل تجدهم يقومون ولا تسمع أصوات القراءة، وهذا ينبغي التنبيه عليه، فصلاة الفجر كلها جهر، ولذلك ليس من السنة الإسرار في الجهري، ولا من السنة الجهر الكلي في السري، أما كونك في السر ترفع صوتك بالآية والآيتين فلا حرج، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما ملازمة الجهر في السري كله فهذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر والعصر معاً.

أن يسمع المنفرد نفسه بالقراءة والتكبير

أن يسمع المنفرد نفسه بالقراءة والتكبير قال رحمه الله تعالى: [وغيرُه نفسه]. أي: يسمع غيرُ الإمام نفسَه القراءة، فإذا صليت لوحدك تسمع نفسك القراءة، أي: تجهر جهراً بحيث تَسمَعُ قراءتك، فهذا هو الحد، كأنه أراد أن يضع لك ضابطاً للجهر إذا كنت لوحدك أو منفرداً.

باب صفة الصلاة [2]

شرح زاد المستقنع - باب صفة الصلاة [2] إذا قام المصلي إلى الصلاة فإنه يبدأ بتكبير الإحرام، ولها صفة معلومة، ثم يضع يمينه على شماله، وصفة الضم معلومة مفصلة، ولها حالات مذكورة في موضعها، ثم ينظر إلى موضع سجوده، ويقرأ دعاء الاستفتاح، وله ألفاظ عدة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يتم صلاته على هذا النحو الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ما يفعله المصلي حال قيامه في الصلاة

ما يفعله المصلي حال قيامه في الصلاة

وضع اليمين على الشمال ومحلهما حال القيام في الصلاة

وضع اليمين على الشمال ومحلهما حال القيام في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ثم يقبض كوع يسراه تحت سرته]. بعد أن يفرغ الإنسان من التكبير والرفع فالسنة له أن يجعل يمينه على شماله، وهذا ثبتت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وترجم له الأئمة والحفاظ في كتب الحديث. وقال بعض أهل العلم: بلغت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع اليمين على الشمال في الصلاة مبلغ التواتر، أي أنها متواترة بوضع اليمين على الشمال، وهذه هي السنة، وخالف في هذا بعض المالكية رحمة الله عليهم فقالوا: إنه يطلق يديه ويرسلهما إلا في النافلة، وقالوا: في النافلة لا بأس أن يقبض أما في الفريضة فلا، وهذه المسألة تعرف بمسألة الإرسال، وفيها لبسٌ ينبغي لطلاب العلم أن يتنبهوا له، حتى يحصل منهم التوجيه لمن يرسل يديه في صلاته اعتماداً على القول في مذهب المالكية. ووجه ذلك أن الإمام مالكاً رحمه الله قال في موطئه: (باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة)، فبوب رحمه الله لوضع اليمين على الشمال في الصلاة، وكان عبد الرحمن بن القاسم العتقي من أصحاب مالك المصريين رحمة الله عليهم أجمعين، فسافر إلى مالك، وقرأ عليه الموطأ، وحمل عنه مذهبهم وعلمه، ثم رجع إلى مصر، وتوفي مالك، فقدم أسد بن الفرات من المغرب لأجل أن يسأل عبد الرحمن بن القاسم، وكانت نيته حينما سافر من المغرب أن يلقى الإمام مالكاً، وأن يتتلمذ عليه، فلما وصل إلى مصر توفي الإمام مالك، فلما أخبر بوفاته سأل: مَنْ مِنَ أصحابه أخذ علمه؟ فقالوا: عبد الرحمن بن القاسم، فلزم عبد الرحمن وقال له: إني سائلك عن مسائل، فما كان فيها من قول مالك فأفتني به بقوله، وما كان لا قول له فيه فأخبرني بالأشبه، أو اذكر أشبه الأقوال بقوله، وذلك لأن عبد الرحمن بلغ مبلغ الاجتهاد في قول مالك رحمه الله؛ لأنه أخذ عنه الفقه وتتلمذ عليه، فسأله عن مسائل، ثم ارتحل أسد إلى المغرب، فجاء رجل يقال له: سحنون واسمه عبد السلام فسأل أسد بن الفرات أن يعطيه المدونة من أجل أن يأخذها ويدون ما فيها من المسائل والعلم، فامتنع أسد من إعطائها له، فضن بها عليه، فقال له: هذا علم، ولا يجوز لك أن تحفظه، فاشتكاه إلى القاضي، فأمر القاضي بها لـ أسد؛ لأن أسداً قال: الكتابُ كتابي والقلم قلمي والمداد مدادي وسحنون يقول: إنه علم ولا يحل كتمه، فحكم القاضي أنها لـ أسد، وله أن يعطيها من شاء ويمنعها من شاء، فارتحل سحنون إلى عبد الرحمن بن القاسم وأخبره بالقصة، فغضب عبد الرحمن، وسأله سحنون عن المسائل، وهي الموجودة الآن في كتابه (المدونة)، وفيها مسائل لـ عبد السلام الذي يسمى سُحنون وكان مما سأل عبد الرحمن أنه سأله عن القبض، فقال عبد الرحمن بن القاسم: سألت مالكاً عن القبض فقال: لا أعرفه، ولا بأس به في النفل وأكرهه في الفرض. فهذه العبارة قالوا: المراد بها وضع اليمين على الشمال وأنه لا بأس به في النفل ويُكره في الفرض. والواقع أن هذه العبارة ليس لها علاقة بوضع اليمين على الشمال؛ لأن هناك شيئاً يسمى وضع اليمين على الشمال، وشيئاً يسمى القبض، وهو الزائد عن الوضع، فالإمام مالك رحمه الله روى الحديث في موطئه، ولا يمكن أن يقول قائل: إن مالكاً يقول: لا أعرفه. فهو قد رواه في موطئه، وهذا لا يمكن أن يكون بحال، والمراد بهذا القبض الأخذ؛ لأن بعض السلف يقول: إنما السنة أن تضع اليمين على الشمال وأما القبض فهذا فيه نوع من الراحة، ولذلك عندما تنظر إلى العبارة الواردة المدونة فسياقها في الاعتماد، والاعتماد في النافلة جائز، ولكنه في الفريضة مكروهٌ وممنوع، وقد يعبر بالكراهة ويراد بها المنع، فلذلك قال: لا بأس به في النفل وأكرهه في الفرض. فلو صليت في التهجد أو أطلت في قيام ليلك، فحينما تتهجد دون أن تقبض تتعب، فبمجرد ما تمضي عليك ربع ساعة وأنت واضع يدك اليمنى على الشمال تجد التعب والعناء، لكن حينما تقبض ترتاح، فأصبح فيه نوع اعتماد، فهذا من دقة مالك رحمه الله في تحري السنة، فليست العبارة لها علاقة بوضع اليمين على الشمال البتة؛ هل يمكن أن يقول في موطئه: (باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة)، ثم يقول: لا أعرفه؟! وفي هذا الوضع أكثر من أربعين حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه وضع وأمر بالوضع، حتى قال: (أُمرنا معاشر الأنبياء أن نأخذ بأيماننا على شمائلنا في الصلاة). فالسنة وضع اليمين على الشمال في الصلاة، وأما بالنسبة للقبض فأخذوه من قوله: (أن نأخذ)، والأخذ فيه زيادة معنى، فإنك لا تأخذ الشيء إلا إذا استحكمت يدك به، فلما قال: (أن نأخذ بأيماننا على شمائلنا) دلّ على هذه الزيادة، والإمام مالك لم يرو هذا الحديث، واقتصر على الأحاديث التي فيها وضع اليمين على الشمال، فكان من فقهه تسويغ ذلك في النافلة دون الفريضة. وإنما أحببنا التنبيه على هذا حتى لا ينسب إلى الإمام مالك رحمة الله عليه، ويكون طالب العلم على بينة إذا اعترض عليه معترض فقال: هذا قول الإمام مالك، فليقل له: إن الإمام مالكاً رحمه الله ذكر هذا في المدونة، وقال: باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة، وقد قال رحمه الله: (إذا وجدتم قولي يخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي عرض الحائط وخذوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقال: (كلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر -وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم-) فكلٌ يؤخذ من قوله ويرد، ولو صح عنه فالحجة في السنة، ونقول: لو كان الإمام مالك لا يرى القبض لعدم ورود الحديث عنده، فإنه يعتذر له بعدم العلم به، ويبقى سنة لورود الخبر من طريق غيره، ولذلك فالسنة وضع اليمين على الشمال في الصلاة، وهذا الوضع -كما قلنا- ثبتت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قبض كوع اليسرى تحت سرته

قبض كوع اليسرى تحت سرته يقول المصنف رحمه الله بعد أن ذكر الوضع: [ثم يقبض كوع يسراه تحت سرته]. هذا وجه في محلهما، وفيه أثر عن علي رضي الله عنه -وهو غير صحيح- في وضع اليدين تحت السرة، وهو مذهب الحنفية أيضاً. والصحيح أن السنة وضعهما على الصدر، وثبتت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يبالغ في رفعها في الصدر حتى يصل إلى الرقبة؛ لأن هذا ليس بالسنة، وإنما السنة أن تكونا على الصدر، وذلك على القصد دون تكلف، وإذا وضعها قال بعض العلماء: يقبض يمينه على شماله جهة قلبه؛ لأنه أشرف الأماكن ولا وجه لهذا التخصيص، والسنة مطلقة، فإن الإنسان يضع يمناه على يسراه على صدره كما ورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا هو السنة والذي يستحب للإنسان أن يتحراه، وإن وضع الكف على الكف فقد ثبت وضع يمينه على شماله على ظاهر الحديث، وإن وضعها على الرسغ -وهو المفصل الذي يكون بين الكف والساعد- فحينئذٍ لا حرج، وإن وضعها على الساعد فلا حرج، والناس يختلفون على حسب اختلاف الأماكن ضيقاً واتساعاً، وإن أراد الإنسان أن يفعل هذا مرةً ويفعل هذا مرةً ويفعل هذا مرةً فكل ذلك سائغ، وكلٌ على خير وسنة، ولا حرج على الإنسان في فعله. لكن الأخذ بالمرفق يعتبر من المخالف للسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه وضع أو ألقم كفه الأيمن مرفقه الأيسر، فهذا ليس من السنة في شيء، وهكذا لو عكس. والسنة في وضع اليدين أن تكون اليمنى هي العليا واليسرى أسفل، وليس من السنة وضع اليسرى على اليمنى، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما رأى الرجل وضع يسراه على يمناه نزع، فجعل يمناه على يسراه)، وهذا تشريف وتكريم، ويدل على فضل اليمين على اليسار. وقد أخذت منه فائدة، وهي خلاف العلماء رحمهم الله: هل الأفضل في الميت إذا كفن في ثلاثة أثواب أن يكون أحسنها جمالاً مما يلي الميت، أو الأفضل أن يكون من خارج لمنظر الناس؟ فالذين يقولون يكون من الخارج قالوا: الأفضل يكون الأعلى، ولذلك لما أريد تشريف اليمنى جعلت هي الأعلى، مع أن اليسرى وليت البدن، وكذلك الأفضل في الكفن أن تكون العليا هي الحسنة، إضافةً إلى أنه جمالٌ له أمام الناس، وأبلغ في زينته لكفنه، وأجمل له في حاله، فهذه من المسائل التي خرجت على ما ذكرنا؛ لأنه لما جعل عليه الصلاة والسلام اليمنى على اليسرى دل على أن الأعلى أشرف وأفضل وإن كان الأدنى والياً للبدن أو مباشراً.

نظر المصلي إلى مكان سجوده

نظر المصلي إلى مكان سجوده قال رحمه الله تعالى: [وينظر مسجده]. السنة للإنسان إذا صلى أن يرمي ببصره إلى مكان سجوده، والمسجد: مكان السجود، على وزن (مَفْعِل)، والمراد به موضع سجوده، وذلك لما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رمى ببصره إلى موضع سجوده)، وكان إذا تشهد رمى ببصره إلى إصبعه وهو يشير بها صلوات الله وسلامه عليه لا يجاوزها، فقال: السنة في القيام الرمي بالبصر إلى موضع السجود. أما إذا ركع فقال بعضهم: يرمي ببصره إلى رؤوس قدميه؛ لأنه أبلغ في الذلة وقال بعضهم: إلى موضع السجود. والأولى: الكف في هذا حتى يثبت الخبر، ويترك الناس على سعة ولا يحدد لهم شيءٌ معين؛ لأنه لا تحديد من الشرع. فالسنة أنه إذا قام يرمي ببصره إلى موضع سجوده، لكن لو رمى ببصره إلى أمامه، إلا أن يكون في اضطرار كالخوف في صلاة الخوف، فلا بد أن يرمي ببصره أمامه، فالله عز وجل حينما قسّم طوائف المؤمنين في القتال في صلاة الخوف إنما شرع أن تكون الطائفة الثانية قائمة وراء الطائفة الأولى عندما تسجد من أجل مراقبة العدو، ففي هذه الحالة لا يكون من السنة الرمي بالبصر إلى السجود، وهذا من باب تقديم مصلحة فوات الأنفس على الخشوع المتعلق بالصلاة، فهذه من صورها ومن أمثلتها، وقد ثبت في حديث عباد بن بشر أنه لما صلى رمى ببصره إلى الشعب يحرسه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، لكن اختلف العلماء: هل الأفضل أن يرمي المصلي إلى موضع سجوده أو ينظر أمامه؟ قال بعض العلماء: الأفضل أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده، لما ذكرناه وقال بعضهم: الأفضل أن يرمي ببصره قِبَل وجهه، وذلك لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] قالوا: فهذا يدل على أن وجهه يكون إلى جهة القبلة، وأنه لا يرمي ببصره أكثر. وأكدوا هذا بما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم -وهو في الصحيح- أنه قال: (أميطي عنا قِرامَك، فإنه ما زالت تصاويره تُعرض عليَّ آنفاً حتى ألهتني عن صلاتي) قالوا: هذا يدل على أن القرام كان ستراً ولا يمكن أن يراه عليه الصلاة والسلام إلا إذا رفع بصره، فدل على أنه كان يرفع بصره. والذي يظهر والله أعلم أن السنة أن يرمي ببصره إلى موضع السجود، وأنه لا حرج أن يرفع بصره أحياناً؛ لأنه قد يدفع إنساناً ماراً أمامه، وقد يحتاج إلى شيءٍ من هذا القبيل، أما السنة فرمي البصر إلى موضع السجود.

ذكر دعاء الاستفتاح

ذكر دعاء الاستفتاح قال رحمه الله تعالى: [ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك]. هذا دعاء الاستفتاح يقوله بعد أن يفرغ من التكبير، فيضع يمناه على يسراه ويقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك) ودعاء الاستفتاح مشروع، وهو قول الجماهير، خلافاً للإمام مالك رحمةُ الله عليه الذي لا يراه، والصحيح أنه سنة، وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بدعاء الاستفتاح أكثر من حديث. منها حديث أبي هريرة في الصحيح، وحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في السنن، وكذلك أيضاً حديث قيام الليل في افتتاحه عليه الصلاة والسلام، وكذلك حديث علي رضي الله عنه: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) وكلها أحاديث صحيحة في دعاء الاستفتاح، فالسنة مشروعية دعاء الاستفتاح. فبعد أن ذكر المصنف رحمه الله وضع اليمين على الشمال في الصلاة قال: (ثم يقول)، وذكر دعاء الاستفتاح، وقلنا: إنه مشروع على مذهب جمهور العلماء لثبوت الأحاديث الصحيحة به عن النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال له أبو هريرة: (أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ فقال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي) الحديث، فدل هذا على مشروعية دعاء الاستفتاح، والاستفتاح يأتي على ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يشتمل على التمجيد المحض. الصورة الثانية: أن يشتمل على الدعاء المحض. الصورة الثالثة: أن يجمع بين التمجيد والدعاء. فاستفتاح النبي صلى الله عليه وسلم لصلاته الذي أقره وفعله عليه الصلاة والسلام أتى على هذه الثلاثة الأحوال، تارةً يعظم الله ويمجده ويسبحه ويقدسه، ومن ذلك ما ذكره المصنف من حديث عائشة رضي الله عنها في السنن: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)، واستفتح به عمر رضي الله عنه، وجهر به ليعلم الناس، ومن الاستفتاح بالتعظيم ما أقره عليه الصلاة والسلام، ففي الحديث الصحيح: (أن رجلاً دخل في الصلاة وقال: الله أكبر، الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، فلما سلّم عليه الصلاة والسلام، قال: من الذي قال كذا وكذا آنفاً؟ قال: أنا يا رسول الله. قال: والذي نفسي بيده لقد رأيتُ اثنى عشر ملكاً يبتدرونها إلى السماء)، فتأمل هذه الألفاظ: الله أكبر، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، فكل كلمة يحملها ملك، وإذا نظرت إلى عددها وجدتها اثنتي عشرة كلمة، ولما قال رجل بعد التسمية: (ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، قال صلى الله عليه وسلم: رأيت بضعاً وثلاثين ملكاً يبتدرونها)، فإذا عددت حروفها وجدتها بضعاً وثلاثين، فهذا من المناسبات كما يقولون، وهو يدل على فضل ذكر الله عز وجل، وهذا من الألفاظ الواردة في الشريعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ الصحابي على هذا الذكر المخصوص، وقد ثبت في الحديث أنك إذا قلت: الحمد لله تملأ الميزان، وإذا قلت: سبحان الله والحمد لله ملأت ما بين السماء والأرض، فمن أنواع الذكر أن تستفتح بتمجيد الله عز وجل، أو أن تقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك). أو تقول: (الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً)، أو يكون دعاءً محضاً كما في حديث أبي هريرة: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي)، فهذا دعاء محض. أو أن تجمع، وقد جمع عليه الصلاة والسلام بين الدعاء والثناء، وذلك في حديث علي الثابت في الصحيح، قال عليه الصلاة والسلام فيه باستفتاحه: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلكَ أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت وأنا عبدك، ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، واعترفت بذنوبي، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير بيديك، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها)، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين التمجيد وبين الدعاء، وهو النوع الثالث من الاستفتاحات، وكلٌ على سنة. قال العلماء: إن كان الوقت طويلاً كقيام الليل، وتريد أن تكسب فضل الذكر والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم تقول هذه الدعاء الطويل، وكذلك صلاة الظهر تحتاج إلى الإطالة حتى تصيب السنة في إطالة الأوليين، فتقول الدعاء الطويل في الاستفتاح، وإن كان الوقت ضيقاً ولا يسع فلك أن تقول: (سبحانك اللهم وبحمدك)، أو الدعاء المحض، أو (الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً)، ونحوها مما يشتمل على التمجيد.

بعض مسائل دعاء الاستفتاح

بعض مسائل دعاء الاستفتاح

تفاوت أدعية الاستفتاح في الفضل

تفاوت أدعية الاستفتاح في الفضل يقول المؤلف عليه رحمة الله: [ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك]. تقدم معنا أن هذا الدعاء يسميه العلماء رحمهم الله دعاء الاستفتاح، والمراد بذلك أنه تستفتح به الصلاة، وفاتحة الشيء: ما يكون في أوله، وقد يسمى بدعاء الثناء. وتقدم معنا أن استفتاح النبي صلى الله عليه وسلم الذي ورد من هديه القولي والتقريري منه ما هو دعاء محض، ومنه ما هو ثناءٌ محض، ومنه ما هو مشتملٌ على الدعاء والثناء، فكان صلى الله عليه سلم يستفتح صلاته بالثناء على الله عز وجل، ويستفتح صلاته بالدعاء وسؤال الله، ويستفتح صلاته جامعاً بين الثناء والدعاء. وقد ذكرنا الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، من قوله وإقراره عليه الصلاة والسلام. وأما المفاضلة بين هذه الاستفتاحات من عدمها فقد ذهب بعض العلماء رحمهم الله إلى تفضيل الثناء على الدعاء، وقال: الاستفتاح بالثناء على الله عز وجل أفضل من الاستفتاح بالدعاء، وذلك لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم استفتح صلاته بهذا الثناء فقال: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)، فأثنى على الله عز وجل، وثبت في الحديث أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً قال: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، قال: والذي نفسي بيده لقد فتحت لها أبواب السماء، وقال: لقد رأيت اثني عشر ملكاً يبتدرونها أيهم يصعد بها)، فهذا يدل على فضل الثناء على الله عز وجل في دعاء الاستفتاح. وذهب بعض العلماء إلى تفضيل الدعاء، وأخذ بحديث دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد)، وهو حديث أبي هريرة في صحيح مسلم، قالوا: فالأفضل للمكلف أن يفتتح صلاته بالدعاء والمسألة. وقال بعض العلماء: الأفضل حديث علي: (وجهْتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض)، وقالوا: لأنه يجمع بين الدعاء والثناء. والذي يظهر والله أعلم أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قول أبي هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي) هو هديه الذي فعله عليه الصلاة والسلام واختاره الله له. وأما حديث: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك) فهو نوعٌ من أنواع الثناء على الله عز وجل لا يخالف ما ورد عن أبي هريرة فإنه قد روته أم المؤمنين عائشة، والأشبه بـ عائشة رضي الله عنها أن تعلم صلاته بالنوافل، وأما بالنسبة لـ أبي هريرة فقد صرح أنه يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، أو اطلع على سكوته بين التكبير والقراءة، وهذا إنما يكون في الصلاة المفروضة، فيجمع بين هاتين، فيقال: الدعاء أفضل لفضل الفريضة، ثم التمجيد والثناء وما ورد في الأحاديث الأُخر فيكون في النوافل، جمعاً بين هذه النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

مشروعية دعاء الاستفتاح في الصلاة

مشروعية دعاء الاستفتاح في الصلاة دلت الأحاديث الصحيحة، كحديث أم المؤمنين عائشة، وحديث أبي سعيد، وحديث أبي هريرة، وغيرها من الأحاديث التي اشتملت على دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الاستفتاح على أن دعاء الاستفتاح من الأمور المسنونة والمشروعة في الصلاة، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: فذهب جمهور العلماء إلى أن دعاء الاستفتاح سنة، كما هو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية رحمة الله على الجميع، وذلك لثبوت الأحاديث والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه استفتح صلاته الفريضة والنافلة. وذهب الإمام مالك رحمه الله في المشهور عنه إلى أن دعاء الاستفتاح لا يشرع، وجاءت عنه رواية إلى أنه يشرع في النافلة دون الفريضة، والسبب الذي جعل المالكية يقولون بعدم مشروعية دعاء الاستفتاح أدلة: منها: حديث أنس في الصحيح أنه قال: (صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان كلهم كانوا يستفتحون القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]) قالوا: فلم يذكر أنهم استفتحوا بدعاء الاستفتاح. وقالوا أيضاً: إنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علم المسيء صلاته وقال له: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) قالوا: فلم يذكر صلوات الله وسلامه عليه دعاءً بين التكبير والقراءة. والذي يترجح والعلم عند الله القول بمشروعية دعاء الاستفتاح، وذلك لثبوت الأحاديث الصحيحة فيه. وأما الاستدلال بحديث أنس رضي الله عنه فإنه محله القراءة، أي: أنهم كانوا يستفتحون قراءتهم بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، ولا يستفتحونها بسورةٍ أخرى، فهو يتكلم عن الابتداء بالقراءة، ونحن نتكلم عن ابتداء الصلاة، وفرقٌ بين الابتداء العام وهو ابتداء الصلاة، وبين الابتداء الخاص وهو ابتداء القراءة، ولذلك لا معارضة بين حديث أنس وبين حديث الاستفتاح. ثم إننا نقول: لو أن أنساً قال: لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح لكان حديث أبي هريرة حجةً عليه؛ لأن القاعدة أن من حفظ حجةً على من لم يحفظ، فكيف وحديث أنس لم يصرح بنفي دعاء الاستفتاح؟! فلذلك يقوى اعتبار الأحاديث التي دلت على مشروعية دعاء الاستفتاح.

دعاء الاستفتاح مشروع في كل صلاة

دعاء الاستفتاح مشروع في كل صلاة ظاهر النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن دعاء الاستفتاح مشروعٌ في الصلوات كلها، نافلةً كانت أو فريضة، والمالكية يفرقون بين النفل والفرض كما قدمنا، والصحيح أنه سنةٌ مطلقة. واختلف في صلاة الجنائز: هل يستفتح المصلي إذا صلى صلاة الجنازة؟ فللعلماء في هذه المسألة قولان مشهوران: القول الأول: صلاة الجنازة لا يشرع لها دعاء الاستفتاح، وإنما تكبر وتبتدئ بقراءة الفاتحة، وذلك لثبوت السنة من حديث أبي أمامة، وكذلك حديث ابن عباس رضي الله عن الجميع في صفة صلاته عليه الصلاة والسلام على الجنائز، فذكرا أنه استفتح بالفاتحة، وأنه لم يقرأ غير الفاتحة، ولم يفصل بين الفاتحة والتكبير بدعاء. القول الثاني: يُسنّ أن يقرأ دعاء الاستفتاح في صلاة الجنازة في التكبيرة الأولى، وهذا هو مذهب الحنفية رحمة الله عليهم، وأخذوا بعموم الأحاديث. والذي جعل الحنفية رحمة الله عليهم يذهبون إلى هذا هو أنهم لا يرون في الصلاة على الجنائز قراءة الفاتحة، وإنما يرون أنها دعاء، ولذلك قالوا بمشروعية هذا الدعاء؛ لأنه داخل في جنس ما قرروه من أن صلاة الجنازة تقوم على الدعاء والشفاعة للميت. والذي يترجح والعلم عند الله القول بعدم مشروعية دعاء الاستفتاح في صلاة الجنازة؛ لأن العموم الوارد هنا مخصص هناك، فإن حديثي ابن عباس وأبي أمامة في السنن رضي الله عن الجميع يدلان دلالة واضحةً على أن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الاقتصار على الفاتحة في التكبيرة الأولى.

موضع دعاء الاستفتاح

موضع دعاء الاستفتاح دعاء الاستفتاح يقع بين تكبيرة الإحرام والقراءة، سواءٌ أكان في فريضة أم نافلة. وهنا Q فلو أن إنساناً صلى صلاة العيد، فهل يستفتح بين التكبيرة الأولى والتكبيرة الثانية، أو يستفتح عقيب التكبيرات؟ و A مذهب الجماهير أنه يستفتح عقيب التكبيرات، وذلك لأن الفصل بين تكبيرة الإحرام وبين دعاء الاستفتاح بعد الانتهاء من التكبيرات إنما هو فصل بشيء من جنس التكبير، ولذلك لا يؤثر، وبناءً على هذا يشرع أن يستفتح بعد التكبيرة الأخيرة من تكبيرات العيدين في الركعة الأولى من الصلاة.

نسيان دعاء الاستفتاح وسجود السهو له

نسيان دعاء الاستفتاح وسجود السهو له للعلماء في نسيان دعاء الاستفتاح وسجود السهو له وجهان: أصحهما أن دعاء الاستفتاح سنة وليس بواجب، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّم المسيء صلاته الأركان والواجبات، ولم يرد في دعاء الاستفتاح دليل يأمر به ويلزم به، فبقي على السنة والتخيير، ويؤكد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بالاستفتاح، ولم يطلع عليه أبو هريرة إلا بعد أن قال له: (أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة)، فلو كان دعاء الاستفتاح واجباً لبينه صلوات الله وسلامه عليه، ولما جعل الصحابة ينتظرون أن يعلمهم بعد سؤالهم. وهنا مسألةٌ وهي: لو أن إنساناً نسي دعاء الاستفتاح فكبّر تكبيرة الإحرام في فريضةٍ أو نافلة، ثم شرع بالاستعاذة، خاصة في الصلوات السرية، وتذكّر قبل أن يبدأ بالبسملة والسورة، فهل يرجع أو لا؟ فيه وجهان للعلماء: أقواهما أنك إذا شرعت في الاستعاذة أو البسملة أو الفاتحة لا ترجع للفوات، فإن محل دعاء الاستفتاح ما بين التكبير والاستعاذة، وبناءً على ذلك إذا فات فإنه يشرع في الاستعاذة، ويسقط الاستفتاح.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الجمع بين أدعية الاستفتاح في موضع واحد

حكم الجمع بين أدعية الاستفتاح في موضع واحد Q هل يجوز جمع روايات دعاء الاستفتاح في الصلاة، أم يقتصر على رواية واحدة؟ A الذي اختاره جمعٌ من المحققين أنه ينوع، فيدعو بهذا تارةً ويدعو بهذا تارة؛ لأن الخلاف هنا خلاف تنوع وليس بخلاف تضاد، وبناءً على ذلك ينوع، فيصلي بهذا تارة ويصلي بهذا تارة؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما لو جمع الجميع في موضع واحد فللعلماء وجهان: الوجه الأول: اختار الإمام النووي رحمه الله أنه لا حرج في الجمع بين هذه الأدعية. والوجه الثاني: اختار شيخ الإسلام وغيره: أن الجمع بينهما لم يرد، فلذلك يقتصر على الوارد. والأولى والأحوط أن الإنسان يقتصر على الوارد، فيصلي بهذا تارة وبهذا تارة، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وتعالى جدك)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وتعالى جدك) Q ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وتعالى جدّك) في دعاء الاستفتاح؟ A ( تعالى) من العلوّ، فلذلك وصف الله سبحانه وتعالى بالعلو، وقد ثبتت صفة العلو لله سبحانه وتعالى، وهي على مذهب أهل السنة والجماعة تدل على ثبوت الفوقية لله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50]. ولذلك لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم الجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء)، فهذا إثبات صفة العلو لله سبحانه وتعالى، على خلاف من قال بعدم ثبوتها، وقال: إن العلو ليس لله سبحانه وتعالى، بمعنى أنك لا تقول: إن الله في العلو كما ثبتت به النصوص الواردة في الكتاب والسنة، ولذلك يقول: من أثبت الجهة كان مبتدعاً، وهذا قولٌ مردود. فمذهب أهل السنة والجماعة إثبات العلو لله عز وجل على ما يليق بجلاله وكماله. فالنصوص ثبتت بوصف الله عز وجل بكونه أعلى، كما قال عليه الصلاة والسلام: (سبحان ربي الأعلى) في سجوده، وقال تعالى في كتابه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، فأثبت العلو لنفسه، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء)، فدل هذا على ثبوتها. وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الدعاء كما جاء في السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أحب الكلام إلى الله: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك).

حكم إشراك نية الدنيا مع نية الآخرة

حكم إشراك نية الدنيا مع نية الآخرة Q هل يشترط في الخروج إلى المساجد أن يستحضر النية في رفع الدرجات وحط الذنوب والسيئات بالخطا، أم أنها تقع بمجرد المشي؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإذا خرج الإنسان من بيته ونيته المسجد فلا يخلو من حالات: الحالة الأولى: أن تكون نيته الصلاة والتقرب إلى الله عز وجل، وليس في قلبه أن يلقى أحداً أو أي شيء من عرض الدنيا، لا يريد إلا أن يذهب لأجل أن يصلي ويطيع الله عز وجل، فهذا بأعلى المراتب وأشرفها عند الله عز وجل، ونيته نية آخرة، فإذا نوى هذه النية كتب الله له أجره، ورفع درجاته، وحط خطيئاته، فتكفي هذه النية، وهي أن تخرج للصلاة ولا يخرجك إلا إجابة داعي الله عز وجل، وهذا هو الذي يحصل به قدر الفضل. الحالة الثانية: أن يخرج ونيته الدنيا والعياذ بالله، كرجل لولا أن هناك حاجة من حوائج الدنيا ما خرج، أو يخرج رياءً أو سمعة، فهذا -والعياذ بالله- خروجه عليه لا له. الحالة الثالثة: أن يُشَرّك بين النيتين، فتكون نيته الصلاة والدنيا، يقول: أخرج إلى الصلاة وألقى فلاناً فأكلمه على البيت وعلى الحاجة، أو أكلمه على دَين، أو أكلمه على أمرٍ من الأمور. وإن كانت نيته المشتركة نية طاعة وعبادة فلا إشكال، كأن يقول: أخرج إلى المسجد من أجل الصلاة ومن أجل تعليم العلم، فهذا أفضل من الذي قبله من جهة أنه جمع بين فضل الصلاة بالخطا وفضل تعليم الناس، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من عمد إلى مسجده ليتعلم أو يعلم الناس كان كأجر المجاهد في سبيل الله)، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من خصوصيات مسجده عليه الصلاة والسلام. أما إذا كانت النية المشرَّكة لحاجة من حوائج الدنيا كأن يقول: أُصلي وأكلم فلاناً، أو: أصلي وأوصي فلاناً على أمر من أمور الدنيا، فحينئذٍ إن كانت نية الآخرة هي الأصل ونية الدنيا تبع بحيث لو لم توجد نية الدنيا لخرج لا يؤثر هذا التشريك؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198]، فإنها نزلت فيمن يريد الحج والتجارة، فلما كانت التجارة تبعاً لم تؤثر، وقال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7]، فكانوا يتمنون العير وقد خرجوا إلى غزوة بدر، فجعل الله لهم فضل الجهاد مع أنهم كانوا يتمنون العير وهي دنيا، وكقوله عليه الصلاة والسلام: (من قتل قتيلاً فله سلبه)، فهذا دنيا لكنه تبع وليس بغاية. فمن خرج إلى المسجد بهذا النوع الثالث وهو يريد الدنيا، والنية لها تبع وليست بأصل، بحيث لو امتنعت نية الدنيا لخرج، فهذا لا يؤثر، ويعتبر من التشريك المغتفر على مذهب المحققين من العلماء، كما ارتضاه الإمام الطبري رحمه الله، والحافظ ابن حجر، وغيرهم من علماء الإسلام، فإذا كانت نيتك الصلاة أساساً ونية الدنيا تبعاً فلا حرج عليك في ذلك، وأنت مأجورٌ إن شاء الله. والله تعالى أعلم.

الجمع بين أفضلية الجماعة على الانفراد بسبع وعشرين وخمس وعشرين درجة

الجمع بين أفضلية الجماعة على الانفراد بسبع وعشرين وخمس وعشرين درجة Q ورد في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الجماعة تفضل على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة)، وفي حديث آخر: (بخمس وعشرين)، فكيف نجمع بين الحديثين؟ A هذه المسألة فيها خلاف، قال بعض العلماء: سبع وعشرون وخمس وعشرون لا تعارض بينهما، فالسبع والعشرون لمن بكّر إلى المسجد، وحصّل الصلاة من أولها، والخمس والعشرون لمن تأخر فجاء في آخر الصلاة، كأن يدرك التشهد، فمن أدرك الإمام قبل أن يسلم فقد أدرك الخمس والعشرين، وهذا القول له وجهٌ من حديث أبي هريرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وذلك أنه إذا توضأ فأصبغ الوضوء ثم مشى إلى المسجد أو خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوةً) الحديث، وقد قال في صدر الحديث: (تضعف على صلاة الفذ بخمسٍ وعشرين ضعفاً) فجعل الفضل من جهة الخروج، فمن أدرك آخر الصلاة أدرك الخمس والعشرين، والسبع والعشرين لمن أدرك أولها، فلا تعارض بين الحديثين لانفكاك الجهة. وقال بعضهم: السبع والعشرون درجة للصلاة مع الجماعة إذا كانت جهرية، والخمس والعشرون درجة إذا كانت سرية؛ لأن الجهرية فيها قراءة واستماع وتأثر بالقرآن. وقيل: السبع والعشرون درجة لمن سمع القراءة وتأثر بها، والخمس والعشرون لمن سمع وغفل عن التأثر بها. وقيل: إن السبع والعشرين درجة تكون لمن مشى إلى المسجد، والخمس والعشرين لمن ركب. وقيل: إن السبع والعشرين درجة تكون لمن تأثر وخشع وكانت الصلاة مؤثرةً فيه، والخمس والعشرين لمن كان على قدر الإجزاء، فيكون له حظ السعي والتعب والمشي. وهناك أوجه أخرى ذكرها العلماء رحمهم الله، من ذلك أن سبعاً وعشرين درجة للجماعة الكثيرة، وخمساً وعشرين درجة للجماعة القليلة، إلى غير ذلك مما ذكروه. ولكن الحقيقة أن القول الذي يقول: إن الخمس والعشرين للمشي، والسبع والعشرين لكمال الصلاة من القوة بمكان، وهناك وجه يرفع التعارض بالكلية، فيقول: عندنا حديث يقول: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبعٍ وعشرين درجة)، وهذا من حديث ابن عمر في الصحيح، وحديث أبي هريرة: (صلاة الرجل في مسجده تضعف على صلاته في بيته خمساً وعشرين ضعفاً)، فجعل الفضل هنا بالضعف، والفضل هناك بالدرجات، والقاعدة في الأصول أنه لا يُحكم بالتعارض إلا إذا استويا محلاً، وهنا لم يستويا؛ لأن الموصوف بالدرجة ليس كالموصوف بالمضاعفة، وهذا مذهب من يقول بانفكاك جهة التعارض. وعلى العموم صل مع الجماعة وأدرك فضلها وأنت على خير، فالأفضل للإنسان أن يدرك الصلاة على أكمل وجوهها، حتى يحصل الفضل على أتم وجوهه، كتبكير إلى الصلاة، والخشوع والتأثر بالقرآن، فهذا أكمل ما يكون من الحظ في السبع والعشرين درجة، وهو أعلى مرتبة من صاحب الخمس والعشرين درجة، ولذلك ينبغي للمسلم أن يحرص دائماً في مسائل الفضل على تحصيل الفضل، وما دام أن الإنسان يرجو الخير والفضل ويسعى إلى الكمال فهو على خير، ثم العلم عند الله في حقيقة هذه الأمور، وهو الذي يفصل بين عباده وهو خير الفاصلين. والله تعالى أعلم.

حكم الائتمام بمسبوق من الجماعة الأولى

حكم الائتمام بمسبوق من الجماعة الأولى Q يحدث كثيراً أن بعض المصلين يفوتهم شيء من الصلاة، فإذا قاموا ليقضوا ما فاتهم جاء رجلٌ من خارج المسجد وائتم بأحد هؤلاء، فهل يصح ذلك؟ A هذه المسألة فيها تفصيل، فإذا صليت مع الجماعة وأدركت الجماعة فلا تخلو من حالتين: فإن أدركت ركعةً فأكثر فقول جماهير العلماء أنه لا يصح الاقتداء بك؛ لأنك مأموم ولست بإمامٍ، ولا يصح للمأموم حُكماً وفضلاً أن يصير إماماً، ولا يعرف في الشرع هذا إلا في مسائل الاضطرار كالاستخلاف. وقال بعض العلماء -وهو وجهٌ ضعيف عند الشافعية-: يجوز أن يصلي المأموم الذي أدرك الإمام بجماعةٍ ثانية، واستدلوا على هذا بوجود صلاة الخوف في الاستخلاف، ولكن هذا المذهب ضعيف، وبيّن العلماء رحمهم الله أنه قولٌ ضعيف ولا يقوى دليله. والصحيح أن من أدرك ركعةً فأكثر أنه مأموم وليس بإمام، ولا يحمل عن مأمومه الصلاة وهو منها في حلّ، ولذلك لا يكون المأموم إماماً. أما بالنسبة للحالة الثانية فهي أن لا تدرك ركعةً مع الإمام، كأن تدرك الإمام وقد رفع من الركوع الأخير، سواءٌ أدركته بين الرفع وبين السجود، أم أدركته في السجدة قبل الأخيرة، أو السجدة الأخيرة، أو في التشهد، فإذا أدركته في هذه الحالة جاز لك أن تصير إماماً لغيرك؛ لأنك وبالإجماع تأخذ حكم المنفرد، ألا تراهم في هذه الحالة يقولون: إنك لو أدركت إمام الجمعة في التشهد أو بعد الركعة الأخيرة فإنك تصلي ظهراً على الراجح، فدل ذلك على أنك مدركٌ لفضل الجماعة لا لحكمها، فتكون إماماً من هذا الوجه، ولذلك رخص العلماء في هذه الصورة، فإذا دخلت مع إنسان معك تقول له: إذا سلّم الإمام ائتم بي حتى تكون النية منقعدة، فإذا سلّم الإمام تقوم أنت فتكبر فيتبعك دون أن تكلمه، فتنعقد لكم الجماعة، فيحصل لكم فائدة دخولكم في الجماعة الأولى، وفائدة الجماعة الثانية من جهة الاقتداء. ولذلك الأفضل للإنسان إذا دخل أن يتبع الإمام، بل قال العلماء: يجب على من دخل المسجد ولو بقيت لحظة على سلام الإمام أن يدخل معه، ولو لم يدخل يأثم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أدركتم فصلوا)، وهذا نص من السنة، وإن كان بعض الشافعية رحمهم الله اختاروا على أنه لا حرج أن يحدث جماعة ثانية، لكنه وجه شاذ؛ لأن الإسلام يحرص على الجماعة ولا يريد الشذوذ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: لما رأى الرجلين لم يصليا قال: (ما منعكما أن تصليا في القوم، ألستما بمسلمين؟!!)، فدل على أنه لا يجوز إحداث جماعة في داخل المسجد مع وجود الجماعة الأولى، ولأنه يحتمل أن الإمام بقيت عليه ركعة كأن يكون سلّم من ثلاث وهو في ظهر سهواً، فلذلك لا يحكم بجواز إحداث الجماعة الثانية ما دام أن الإمام لم يسلم من الجماعة الأولى، ولأن إدراكك للجماعة الأولى أفضل من إحداث جماعةً ثانية؛ لأنك إذا أدركت الجماعة الأولى أدركت فضلاً في الوقت لم تدركه الجماعة الثانية، واللحظة اليسيرة في أوقات الصلاة بينها وما بعدها كما بين السماء والأرض، ففي الحديث: (إن العبد ليصلي الصلاة، وما يصليها في وقتها، وإن ما فاته من وقتها خيرٌ له من الدنيا وما فيها)، فقد يكون وقتاً يسيراً جداً ما بين الجماعة الأولى والثانية، فتفوت على نفسك الفضل بإحداث الجماعة الثانية، ثم إن هذا شذوذ ويخالف ظاهر السنة في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أدركتم فصلوا)، فدل على أن من دخل المسجد يلزم بالدخول مع الجماعة، ولا يجوز له أن يختلف عن الإمام والشذوذ عنه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

باب صفة الصلاة [3]

شرح زاد المستقنع - باب صفة الصلاة [3] إذا أتم المصلي قراءة دعاء الاستفتاح فإنه يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ثم يبسمل سراً، ثم يقرأ الفاتحة، وهي ركن من أركان الصلاة، ثم يقول (آمين) بعد الفاتحة جهراً في الجهرية، ثم يقرأ بعدها سورة من القرآن، ويلتزم في التطويل والتخفيف بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ثم يركع مكبراً، وللركوع صفة معلومة، ثم يقوم من الركوع ملتزماً فيه بالصفة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

أحكام الاستعاذة والبسملة

أحكام الاستعاذة والبسملة

الاستعاذة قبل القراءة

الاستعاذة قبل القراءة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ثم يستعيذ ثم يبسمل سراً]. الاستعاذة: طلب العوذ، ومعناها: ألتجئ وأعتصم بالله عز وجل نعم المولى ونعم النصير، ولذلك شرع الله هذه الاستعاذة عند قراءة كتابه العزيز، فقال: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم -وأمره أمرٌ لأمته حتى يدل الدليل على الخصوص- أنه إذا استفتح قراءة القرآن أن يستفتحها بالاستعاذة، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه استفتح قراءته بالاستعاذة، ولذلك قال بعض العلماء: إنه ينبغي على القارئ أن يستفتح قراءته بالاستعاذة، ومن السلف من قال بوجوب الاستعاذة، وذلك لأمر الله عز وجل بها، قالوا: فهي واجبة.

صيغ الاستعاذة

صيغ الاستعاذة والاستعاذة تأتي على صيغ: الصيغة الأولى: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وهذه الصيغة هي التي وردت في سورة النحل، وعليها جماهير القراء، وهي أفضل من غيرها، وذلك لأن الله أمر بها وحدّدها في افتتاح كتابه، والمعين أفضل من غير المعين، فيعتبر تعيينها دليلاً على فضلها، وقد أشار بعض الفضلاء إلى ذلك بقوله: ولتستعذ إذا قرأت واجهر مع استماع وابتداء السور إلى أن قال: ولفظه المختار ما في النحل وقد أتى الغير عن أهل النقل أي: لفظ الاستعاذة المفضل ما في سورة النحل، وهو قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]. وورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه)، فهذه أيضاً استعاذة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعض السلف: يقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم)، وبعضهم يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم)؛ لأن الله قال لنبيه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36] قالوا: فيقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم). ولا شك أن الوارد أوقى من غيره؛ لأن القاعدة -كما قرر العز بن عبد السلام وغيره- تقول: (إذا وردت ألفاظٌ للأذكار منها وارد ومنها مقتبس من الوارد، فالوارد أفضل من غيره -أعني: المقتبس-)، ولذلك يقدم قولهم: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وهو أقوى الاستعاذات. وكون النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ أحياناً بقوله: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه) يدل على الجواز، وما دلّ على الجواز ليس كما أُمِر به، فإن اختيار الله له يدل على الفضل.

أوجه الاستعاذة مع البسملة وأول السورة، وأوجه البسملة بين السورتين

أوجه الاستعاذة مع البسملة وأول السورة، وأوجه البسملة بين السورتين والاستعاذة أدب من آداب التلاوة ينبغي لمن تلا كتاب الله أن يستفتح بها، قالوا: لأن الإنسان يُعصم بإذن الله عز وجل من دخول الدخل من الشيطان الرجيم في قراءته، فينال بركة القراءة وخيرها وحظها، ولذلك تجده أكمل الناس تدبراً ووعياً وفهماً، فإنه حينما يلتجئ ويحتمي بالله عز وجل من الشيطان أن يدخل بينه وبين قراءته فإنه يأمن الفتنة، وتكون قراءته على أتم الوجوه وأفضلها وأحسنها، فشرع الله لعباده أن يفتتحوا بهذه الاستعاذة، وهذه الاستعاذة تعتبر أصلاً في القراءة كما ذكرنا، وتكون مع البسملة والابتداء بأول السورة على أربعة أوجه: الوجه الأول: تقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين)، وهذا الوجه يسميه العلماء وجه الوصل، فتصل الجميع. الوجه الثاني: تقطع فتقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، (بسم الله الرحمن الرحيم)، (الحمد لله رب العالمين)، فتقطع الأول عن الثاني، والثاني عن الثالث. الوجه الثالث: أن تجمع بين الأول والثاني وتفصل الثالث عنهما، فتقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم)، (الحمد لله رب العالمين). الوجه الرابع: أن تقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين). وأما البسملة بين السورتين ففيها أربعة أوجه، وأحدها لا يجوز: الوجه الأول: أن يقول مثلاً: " {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3] بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] " وهذا وجه الوصل، فيصل الجميع. الوجه الثاني: " {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3]، بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] " فيقطع الأول عن الثاني، والثاني عن الثالث. الوجه الثالث: أن يقطع آخر السورة، ويقول: " {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3] " ثم يسكت، ويبتدئ ويقول: " بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] ". الوجه الرابع: ولا يصح هذا الوجه، وهو أن يصل قوله تعالى: " {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3] ببسم الله الرحمن الرحيم " ثم يقطع ثم يقول: " {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] "؛ لأنه يوهم أن البسملة لآخر السور، وإنما شرعت البسملة لأوائل السور.

الإسرار بالبسملة

الإسرار بالبسملة قال رحمه الله تعالى: [ثم يبسمل سراً وليست من الفاتحة]. أي يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فـ (البسملة) اختصار لها، كالحوقلة والحسبلة اختصاراً لما ذُكِر من الأذكار. والبسملة شرعت للفصل بين السور، ومذهب طائفة من العلماء وجوبها إلا فيما بين براءة والأنفال، فإنه لا يفصل بينهما بالبسملة، ولذلك قالوا: بسمل وجوباً عند كل السور عدا براءةٍ وذاك في الأشهر أي: على أقوى قول العلماء رحمةُ الله عليهم، فالأشهر يعني الأقوى والأرجح. فالبسملة مشروعة لابتداء السور، فيقول: بسم الله الرحمن الرحيم. وقوله: (سراً) على مذهب الجمهور. والشافعية رحمة الله عليهم يقولون بالبسملة جهراً. وكلا الفريقين يحتج بحديث أنس: (صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان كلهم كانوا يستفتحون القراءة: ببسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2])، والرواية الثانية: (كلهم يستفتحون القراءة: بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]). وجمع العلماء بين الروايتين عن أنس بأن نفيه للبسملة مراده الجهر، وإثباته لها مراده السر، أي: أنهم كانوا يقرؤون (بسم الله الرحمن الرحيم) سراً لا جهراً. فإن كان الإنسان قد ترجح عنده القول بعدم الوجوب فإنه يسر، وهذه هي السنة في حقه، وإن ترجح عنده القول بوجوب البسملة وقرأها جهراً فلا حرج، ولا ينكر على أحد بسمل جهراً، ولذلك اختار بعض العلماء: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل هذا تارة ويفعل هذا تارة، كما يفهم من كلام بعض المحققين، ولذلك لا ينكر على من جهر بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)، وهو قولٌ أئمة من السلف، ومعتدٌ بقولهم وخلافهم؛ لأن له وجهاً من سُنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هل البسملة من الفاتحة

هل البسملة من الفاتحة قوله: [وليست من الفاتحة] هو مذهب الجمهور. وعند الشافعية البسملة هي آية من الفاتحة، ولذلك يصلون قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] فإن قلت: إنها آية وصلت اعتبرتها آية واحدة حتى تكمل سبعاً؛ لأن سورة الفاتحة سبع آيات كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر:87] قيل: إنها الفاتحة، وعلى هذا الوجه قالوا: إن آياتها سبع، وبناءً على ذلك يقولون: إذا قرأ البسملة فإنه يصل الآية الأخيرة ولا يحسبها آيتين، ولا يقف عند قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7]، أما إذا كان يرى أنها ليست من الفاتحة فإنه يعتبر هذا موقفاً له وآية.

قراءة الفاتحة في الصلاة

قراءة الفاتحة في الصلاة

وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة

وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة قال رحمه الله تعالى: [ثم يقرأ الفاتحة]. لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها، وقال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أيما صلاةٍ لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج، فهي خداج)، وسميت فاتحة لأن الله افتتح بها كتابه، وتشرف الكتب بما تفتتح به، ولذلك كانت أفضل سورةٍ في كتاب الله عز وجل، فأفضل آيةٍ آيةٌ الكرسي، وأفضل سورةٌ سورة الفاتحة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام فيها: (هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) فهذا يدلّ على شرفها، ولذلك قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87]، فعطف العام على الخاص، وعطف الخاص على العام والعام على الخاص يدلّ على شرف الخاص وفضله، كما قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:4]، فإن اختصاصه بالذكر يدل على ثبوت شرفه وعلوه عن غيره، فلذلك قالوا: الفاتحة هي أفضل ما في القرآن من سور.

حكم قطع الفاتحة بذكر أو سكوت طويل

حكم قطع الفاتحة بذكر أو سكوت طويل قال رحمه الله تعالى: [فإن قطعها بذكر أو سكوت غير مشروعين وطال، أو ترك منها تشديدة أو حرفاً أو ترتيباً لزم غير مأموم إعادتها]. قوله: [فإن قطعها بذكر أو سكوت غير مشروعين وطال]. أما الذكر فمثاله: لو أن إنساناً قرأ وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2 - 3] فقطع بين الآية الثانية والآية الثالثة بذكرٍ غير مشروع في هذا الموضع، كما لو قال: (حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم)، فهذا ذكر، لكنه غير مشروع في هذا الموضع، لكن لو قطعها بسؤال رحمته أو استعاذة من عذابه فإنه مشروع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه كما في حديث ابن مسعود أنه: (ما مر بآية رحمة في قيام الليل إلا سأل الله من فضله، ولا مرّ بآية عذابٍ إلا استعاذ بالله عز وجل)، فلو أنه قطع بينهما بذكرٍ مشروع لا يؤثر، وإن قطع بذكر غير مشروع أثر. فلو قال الحسبلة بين الآية الثالثة والرابعة أو الرابعة والخامسة يبتدئ من جديد قراءة الفاتحة؛ لأن هذه الحسبلة ليست من كتاب الله عز وجل، ولا يشرع ذكرُها في هذا الموضع الذي ذكر، فكأنه تكلم بكلامٍ خارجي، وخرج عن كونه قارئاً، وقارئ الفاتحة لا بد أن يتمها، فإن فصل بين آياتها بالذكر الخارجي فإنه لم يتمها، فيلزمه أن يبتدئ قراءتها من أولها، وقال بعض العلماء: يبتدئ من حيث فصل، فيقرأ الآية الأخيرة التي وقع عند الفصل ثم يتم ما بعدها والأول أحوط. وأما السكوت فهو السكوت الفاحش، وهو السكوت الطويل، كما لو قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، ثم سكت وطال سكوته، فإنه حينئذٍ يستأنف؛ لأنه لا يشرع السكوت هنا إذا كان متفاحشاً. أما لو سكت للفصل بين الآيات فهذه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2 - 4]، فكانت قراءته عليه الصلاة والسلام مفصّلة مرتلة صلوات الله وسلامه عليه.

حكم ترك بعض الحروف والتشديدات في الفاتحة

حكم ترك بعض الحروف والتشديدات في الفاتحة قوله: [أو ترك منها تشديدة]. في الفاتحة إحدى عشرة تشديدة: (الله)، (ربِّ)، (الرَّحمن)، (الرَّحيم)، (الدِّين)، (إيَّاك)، (وإيَّاك)، (الصِّراط)، (الَّذين)، (الضَّالِّين وفيها تشديدتان)، فهذه إحدى عشرة تشديدة، فإذا ترك منها تشديدة واحدة يستأنف؛ لأن الحرف المشدد يشتمل على حرفين، فـ (ربّ) تشتمل على بائين مدغمتين في بعضهما كأنهما حرفٌ واحد، وهي ولكن حقيقتهما أنهما حرفان، فإذا خفف وترك التشديد كأنه أسقط حرفاً من الفاتحة، ولم يقرأ الفاتحة كما أمرهُ الله، وإنما يعتد بقراءةٍ وقعت على السورة التي أمر الله عز وجل بها، فإن صلى الإمام وكان من هذا الجنس الذي يترك التشديد، أو يُخِلّ بالألفاظ إخلالاً يخرجها عن المعنى، كأن يضم التاء من: (أنعمتَ)، أو يكسرها: (أنعمتِ)، فإنه حينئذٍ لا تصح الصلاة وراءه، فالذي يلحن لحناً يحيل المعنى في الفاتحة فإن صلاته باطلة إذا لم يكن معذوراً، أما إذا كان معذوراً فإنه تصح صلاته لنفسه ولمن هو مثله أو دونه. ومن ذلك أيضاً الأمي الذي يلحن في الفاتحة لحناً يحيل المعنى، كما لو قال: (أَهدِنا)، فإنه غير قوله: (اهْدِنَا)، وكذلك إذا ضم التاء أو كسرها في قوله تعالى: (أنعمتَ)، فإنه حين يقول: (أنعمتُ) أحال المعنى، فكأنه هو المنعم، وكذلك الحال إذا كسر فإنه خطاب للأنثى، وليس ذلك بصائغٍ لله عز وجل. فالمقصود أن أي إخلال في الفاتحة يُذهِبُ به الحرف أو يخل به المعنى فقراءته غير معتبرة، وإن كان على سبيل السهو فحينئذٍ يرجع ويعيد القراءة؛ لأنها ركن في الصلاة ويتدارك، وإلا صحت صلاته إذا كان معذوراً كالأمي وحديث العهد بالإسلام الذي لا يمكنه، فإذا غلط في أول مرة يتسامح له، ويصلّي على حالته لنفسه، ثم إذا وسعه الوقت للتعلم فإنه يأثم. قوله: [أو حرفاً]. وهكذا لو ترك حرفاً، كما لو قرأ: (الصراط) بتخفيف الصاد، فإنه ترك حرفاً، أو ترك الحرف بالكلية فقال: (أنعم) بدل (أنعمتَ)، فإنه تبطل قراءته، ويلزمه أن يأتي بالفاتحة على الوجه المعتبر. قوله: [أو ترتيباً]. أي: لم يرتب آياتها، فذكر آيةً قبل آية، فإنه لا يعتد بقراءته، ويلزمه أن يستأنف. وقوله: [لزم غير مأمومٍ إعادتها]. أي أن الإمام يلزمه أن يعيد، وإذا أعاد أجزأ ذلك المأموم، ولذلك قال: [غير مأموم]، وهذا على القول أن الإمام يحمل الفاتحة عن المأموم، وإن كان الصحيح أن الإمام لا يحمل الفاتحة عن المأموم، وبناءً على ذلك فإنه قال على الوجه الذي يرى أن الإمام يحمل عن المأموم، فقال: (لزم غير مأمومٍ إعادتها)، فيلزم المنفرد والإمام أن يعيد القراءة إذا حصل واحدٌ من هذه الإخلالات التي ذكرناها، فإذا ترك حرفاً، أو تشديدةً أو لحن لحناً يخل بالمعنى، فإنه يستأنف.

قول (آمين) والجهر بها للإمام والمأموم

قول (آمين) والجهر بها للإمام والمأموم قال رحمه الله تعالى: [ويجهر الكل بآمين في الجهرية]. التأمين معناه: (اللهم استجب)، فقولك: (آمين) أي: اللهم استجب، وقد شُرِع التأمين جهرةً لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به، ولذلك قال: (إذا أمّن الإمام فأمنوا)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أمّن) أي: بلغ موضع التأمين، وليس المراد أنه إذا أمَّن وقال لفظ التأمين؛ لأن هذا معروف في لغة العرب، إذ يصفون الإنسان بالشيء عند مقاربته له، فيقال: أصبح، أي: كاد أن يصبح، ومنه قوله: أصبحت أصبحت، أي: كدت أن تصبح، فقوله عليه الصلاة والسلام: (أمّن) أي: قارب التأمين ووقف عليه، فحينئذٍ: (إذا أمَّن فأمنوا)، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (فإذا قال: (ولا الضالين) فقولوا: (آمين) فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفِر له ما تقدم من ذنبه)، وثبت في الحديث تفصيل ذلك بأن الملائكة تقول في السماء: آمين، ويقول العبد: آمين، فإذا وافق تأمين العبد تأمين الملائكة غُفِر له ما تقدم من ذنبه، وهذا يدل على أنه يجهر، لقوله: (قولوا)، والقول إنما هو اللفظ، وليس الكلام النفسي؛ فإن الكلام النفسي لا يسمّى قولاً، على ما هو معروف من مذهب أهل السنة والجماعة من أن الكلام إنما هو باللفظ وليس في النفس. كذلك أيضاً ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان وأصحابه إذا أمَّن رفع صوته حتى ترتج أعواد المسجد، أو يرتج المسجد من تأمينه عليه الصلاة والسلام وتأمين الصحابة معه، ولذلك حسدت اليهود المسلمين على هذا التأمين. فالسنة أن يرفع الصوت، وقال بعض العلماء: يرفع الصوت ولا يبالغ في الرفع إلى درجة الإزعاج، ولا يخافت، ولكن يرفع بقدر وسط.

قراءة سورة بعد الفاتحة

قراءة سورة بعد الفاتحة قال رحمه الله تعالى: [ثم يقرأ بعدها سورة]. وهذا من هديه صلوات الله وسلامه عليه، والسورة قيل: مأخوذة من السور لارتفاعه، فقيل: سميت سورةً لارتفاعها وعلو شأنها، وقيل: لأن المكلف بقراءته لها يرتفع درجة، فيكون بحالٍ أحسن من حاله قبل قراءتها بفضل التلاوة، وقيل: من السور، بمعنى الإحاطة، وكل هذه أوجه. فقوله: [يقرأ بعدها سورة] أي: من كتاب الله عز وجل، ولا حرج عليك أن تقرأ سورةً كاملة، أو تقرأ بعض السورة، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ السور كاملةً، وجزّأ السورة في الركعة الأولى والثانية كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة، ففي فريضة الفجر قرأ: {قُولُوا آمَنَّا} [البقرة:136]، و: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} [آل عمران:64]، فالأولى من البقرة والثانية من آل عمران، هذه آية وهذه آية، وكذلك ثبت عنه قراءته بآخر سورة البقرة صلوات الله وسلامه عليه. وكذلك أيضاً ثبت عنه في الحديث الصحيح قراءة السور كاملة، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في أكثر من حديث أنه قرأ في الصلوات الخمس السورة في الركعتين، في الفجر كما سيأتي إن شاء الله، وفي الظهر، وفي العصر، وفي المغرب، وفي العشاء، قرأ السورة كاملة، ويجوز للإنسان أن يجمع بين السورتين أيضاً ولا يقتصر على سورةٍ واحدة، فقد ثبت في الحديث أن رجلاً كان يقرأ ثم يختم بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] في كل ركعة، فشكوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما حملك على هذا؟ - أي: ما حملك على أن تجمع بين السورة وسورة الإخلاص- قال: إني أحبها قال: حبك لها أدخلك الجنة)، فهذا يدل على جواز أن يقرن بين السور، وقد قال ابن مسعود: (إني لأعرف السور التي كان يقرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها). فعلى العموم لا حرج أن تقرأ أكثر من سورة، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه استفتح قيام الليل، فقرأ سورة البقرة والنساء والمائدة -كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه - ولم يقرأ آل عمران) قيل: هذا قبل الترتيب في العرضة الأخيرة. فالمقصود أن هذا كله من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن شئت قرأت سورةً كاملة، وإن شئت قرأت بعض السورة، وإن شئت قرأت نصف السورة في الركعة الأولى أو أكثرها، وفي الركعة الثانية أتممت، فكل هذا من هديه عليه الصلاة والسلام.

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التخفيف والتطويل في الصلوات

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التخفيف والتطويل في الصلوات

القراءة في الصبح بطوال المفصل

القراءة في الصبح بطوال المفصل قال رحمه الله تعالى: [وتكون في الصبح من طوال المفصل]. أي: في صلاة الفجر، والمفصل: مأخوذٌ من فصل الشيء، قال بعض العلماء: إنه من الفصل بين الشيئين أن يُحال بينهما بحائل. قالوا: وُصِفت هذه السور بكونها مفصلة لكثرة الفصل بينها بالبسملة، بخلاف أوائل القرآن كالسبع الطوال، فإنها طويلة، والفصل بالبسملة قليل، والمفصل يبتدئ من سورة (ق) إلى آخر القرآن. والوجه الثاني: سمّي المفصل مفصلاً لكثرة الفصل بين آياته، فآياته قصيرة، على خلاف السبع الطوال وما بعدها من السور، فإن غالبها طويل المقاطع. والوجه الثالث: سمّي المفصل مفصلاً من الفصل بمعنى الإحكام، والسبب في ذلك قلة النسخ فيه؛ لأنه محكم وقليل النسخ، بخلاف أوائل القرآن، فإن فيه آيات منسوخة. وهذه كلها أوجه في سبب تسميته بالمفصل. والمفصل كما هو المعهود عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يعتبرونه من سورة (ق). ثم هذا المفصل فيه طواله وأواسطه وقصاره، فيُقسم على هذه الثلاثة الأقسام: طوال المفصل، وأواسط المفصل، وقصار المفصل. فأما طوال المفصل فتبتدئ من سورة (ق) إلى سورة (عم)، وأما أواسطه فمن سورة (عم) إلى (الضحى)، وأما قصاره فمن سورة (الضحى) إلى آخر القرآن، هذا بالنسبة لطوال المفصل وأواسط المفصل وقصار المفصل. فقوله رحمه الله: [يقرأ في الفجر أو في الصبح بطوال المفصل] أي: من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح أنه كان يقرأ بطوال المفصل، ويطيل القراءة فيها، ثبت هذا في حديث جابر وأبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، ففي حديث جابر: (وكان يقرأ في الفجر ما بين الستين إلى المائة آية)، فقراءة النبي صلى الله عليه وسلم كانت ما بين الستين إلى المائة، ولذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يطيل القراءة، قالوا: لأن النفوس في صلاة الفجر مهيأة لسماع القرآن والتأثر به، والناس حديثو العهد بالنوم، وعلى استجمام وراحة. وقول جابر: (ما بين الستين إلى المائة) ظاهره أن ذلك في الركعتين، وحديث صلاة الفجر في الجمعة: (أنه كان يقرأ في الفجر (الم تنزيل) في الركعة الأولى، وسورة (هل أتى) في الركعة الثانية) يدل عليه، فإن مجموع السورتين إحدى وستين آية، وهذا يقوي أنه كان يقرأ ما بين الستين إلى المائة في الركعتين، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه طوّل في صلاة الصبح، ويشترط أن لا يكون في ذلك حرجٌ على الناس وأذيةٌ بهم، فإن كان هناك على الإنسان حرج، أو كان يغلبه النعاس، أو كان خلفه مريضٌ وأراد أن يخفف فهي السنة؛ لما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (قرأ بالزلزلة)، وثبت عنه في الحديث الصحيح أنه استفتح صلاة الفجر التي كان يطوّل فيها فسمع بكاء صبي فقرأ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]، وقال عليه الصلاة والسلام: (إني سمعت بكاء صبي فأشفقت على أمه) صلوات الله وسلامه عليه، من رحمته وحلمه وتخفيفه ولطفه بالناس. وهكذا ينبغي أن يكون عليه الإمام، والإمام الحكيم الموفّق يُحسِنُ النظر لمن وراءه؛ لأن الله سائله عن جماعته، ومحاسبه عليهم، والهدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التخفيف، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أمّ أحدكم الناس فليخفف)، فهذا خِطابٌ للأمة. وينبغي أن ينبه على مسألة، وهي أننا إذا قلنا بالستين إلى المائة، فإن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت قراءة مرتلة مجوّدة تُعطى فيها الحروف حقها من صفةٍ لها ومستحقها، وكون الإنسان يصلي بالناس بالستين إلى المائة وهو يتغنى ويمطط الآيات ويتكلف فيها ليس من السنة، بل يقرأ قراءة مرتلة ولا يبالغ في التمطيط؛ لأن هذا يجحف بالناس ويضر بهم، ولذلك ينبغي إذا أراد أن يتخير الإطالةَ أن يُحسن ترتيل القرآن، وأن يكون بعيداً عن التكلف والتقعر في تلاوته، وكذلك أيضاً لا يبالغ في الهذ والإسراع في القراءة، وإنما تكون قراءته قراءةً مفصلة مبينة، حتى يكون ذلك أبلغ لانتفاع الناس بقراءته، وحصول الخير لإمامته. فالسنة في صلاة الفجر الإطالة، ولكن -كما قلنا- النبي صلى الله عليه وسلم من هديه التخفيف عند وجود الحاجة، فلو علمت أن هناك مريضاً، أو أن الناس في سفر، كأن تكون مع رفقة مسافرين في الليل وحضرت صلاة الفجر وهم على نعاس وتضرر من أذى السفر للتخفف عليهم وترفق بهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم اللهم فارفق به)، فالإمام ولاية، وهي ولايةٌ في أمور الدين، فينبغي التخفيف في هذه الحالة.

القراءة في المغرب بقصار المفصل

القراءة في المغرب بقصار المفصل قال رحمه الله تعالى: [وفي المغرب من قصاره]. أي: يقرأ في المغرب من قصار المفصل، وقد جاء ذلك في حديث سلمان بن يسار أنه سمع أبا هريرة يقول: (ما رأيت أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان، لإمامٍ كان يصلي به)، وهو حديث قال عنه الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح، قال: (فنظرت فإذا به يصلي المغرب من قصار المفصل) أي: من قصار سور المفصل من الضحى فما بعد. وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ في المغرب بطوال المفصل، بل بأطول الطوال وهي سورة الأعراف صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك ثبت عنه أنه قرأ (المرسلات عرفاً)، وهي من أواسط المفصل، فدل على أنه لا حرج أن الإنسان أحياناً يصلي بطوال المفصل، والحقيقة أن الأمر يرجع إلى الإمام، فإن بعض الأئمة قراءته تكون طيبة ترتاح لها القلوب والنفوس، ويكون لها أثر من ناحية الخشوع، حتى يتمنى الناس لو طول بهم أكثر مما هو عليه، وهذا كان حال الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الإمام يريد أن يطيل أو يصيب السنة بقراءة الأعراف فلا حرج، ولكن حبذا أن ينبه الناس، خاصةً في هذه الأزمنة التي تكثر فيها شواغل الناس وحصول الظروف لهم، فينبه على أنه سيصلي بالأعراف، ولا حرج أن يصلي بهم بالمرسلات، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى بالطور، وهي من طوال المفصل، فلا حرج أن ينوع بين هذا الهدي، فيصلي على غالب حاله بقصار المفصل، ويصلي أحياناً بطوال المفصل، ولا حرج عليه في ذلك.

القراءة في العشاء والظهرين بأوساط المفصل

القراءة في العشاء والظهرين بأوساط المفصل قال رحمه الله تعالى: [وفي الباقي من أوساطه]. أي: يقرأ في صلاة الظهر والعصر والعشاء من أوسط المفصل، أما صلاة الظهر فثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ بما يقرب من ثلاثين آية، وجاء عنه أنه قرأ السجدة وهي ثلاثون آية، أو إحدى وثلاثون آية، فهذا يدل على أنه من السنة قدر الثلاثين، خمس عشرة آية تكون للركعة الأولى، وخمس عشرة آية للركعة الثانية، وجاء هذا في حديث السنن، وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ في الظهر بأواسط المفصل، كما في سورة البروج فقد قرأها في صلاة الظهر، وكذلك سورة {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق:1] وسورة: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1] كله جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما بالنسبة للعصر فإنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يجعله على النصف من صلاة الظهر، وكان في صلاة الظهر يطول في الركعة الأولى، حتى ثبت في الحديث أنه: (كان الرجل يذهب إلى البقيع فيقضي حاجته ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى)، وثبت أنه: (كان يقوم في الركعة الأولى حتى لا يسمع قرع نعال)، وهذا يدل على تطويله عليه الصلاة والسلام، وورد في حديث أبي داود أنه كان تطويله يفهم منه الصحابة أنه يريد من الناس أن يدركوا الركعة الأولى. أما العصر فإنه كانت قراءته على نفس قراءة الظهر، فلذلك يقرأ بخمسة عشر آية، أو فيما هو في حدودها. وأما العشاء فقد ثبت عنه ما يدل على أنه كان يقرأ من أواسط المفصل، والسبب في ذلك أن معاذاً رضي الله عنه لما اشتكاه الرجل قال له النبي صلى الله عليه وسلم -وكانت القضية في صلاة العشاء-: (هلاَّ قرأت بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1])، فدل هذا على أنه كان يقرأ من أواسط المفصل، ولا حرج أن يقرأ: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الانفطار:1] كما جاء في بعض الروايات، وكل هذا من السنة.

حكم القراءة في الصلاة من غير مصحف عثمان

حكم القراءة في الصلاة من غير مصحف عثمان قال رحمه الله تعالى: [ولا تصح الصلاة بقراءة خارجة عن مصحف عثمان]. والسبب في ذلك أنه كان على العرضة الأخيرة، ولذلك تعتبر هذه العرضة الأخيرة بمثابة النسخ لبقية القراءات التي هي خلاف ما في المصحف الإمام، فقد أجمع المسلمون على هذا المصحف، ولذلك كانت قراءته متواترة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقرأ في الناس بالمصحف الإمام، ولا حرج أن يقرأ بأي القراءات الثابتة. لكن هنا مسألة وهي: لو قرأ بقراءةٍ صحيحة ثابتة، كقراءة ابن مسعود: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) أي: في كفارة الحلف، فهذا فيه وجهان للعلماء: من أهل العلم من قال: إن هذه القراءة وإن صحت بالآحاد فإنها لا تثبت حكماً؛ لأن القراءة إنما تكون بما ثبت بالقطع والتواتر، ولذلك لا تصح بها القراءة. وقال بعض العلماء: إنها تصح، وهي إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمة الله عليه. ولكن لا ينبغي للإنسان أن يخرج بالناس عما هو الأصل الذي اتُفق على صحة الصلاة به وهو مصحف الإمام، ولا حرج على الإنسان أن يقرأ بأي القراءات، ولكن نبه العلماء رحمة الله عليهم على أنه إذا كان الإنسان بين قوم يجهلون القراءات، ويكون تنويعه للقراءات تعليماً لهم أنه يستحب له أن ينوع بين القراءات إذا كانت له رواية بهذه القراءات. وقال بعض العلماء أيضاً: يستثنى من هذا أن يكون بين قومٍ جهال، فلو قرأ بقراءاتٍِ غريبة ربما أحدث الفتنة، فلا يقرأ بغير القراءة المعروفة، فلو كان بين قومٍ يعرفون رواية حفص فجاء وقرأ برواية ورش فلربما تكلم عليه الناس، وربما ردوا عليه وظنوا أنه قد أخطأ، والواقع أنه مصيب، فقالوا: في مثل هذه الأمور لا ينبغي التشويش، خاصة على العامة، فربما عرضهم للكفر؛ لأنهم ربما أنكروا هذا القرآن وهو ثابت، فيكون هذا الإنكار في الأصل من حيث هو كفر، وإن كان العامي على قول طائفة يعذر بجهله إذا لم يعلم أنها قراءة. فالمقصود أن الإنسان إذا أراد أن يخرج عن القراءة المعروفة فلينتبه لحال الناس ولا يشوش عليهم، ولا يأتي بقراءةٍ لا يعرفونها، حتى لا يحدثهم بما لا يعرفون، قال صلى الله عليه وسلم: (حدّثوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟)، وهذا في الأحاديث فكيف بالقراءات؟! أما لو كان بين طلاب علم، ويريد أن يبين لهم بعض القراءات ليستفيدوا منها، فهذا في الحقيقة أفضل وأكمل؛ لأن فيه زيادة علمٍ وبيان للناس وتوضيحٍ وإرشادٍ لهم. فإذا قلنا: تجوز القراءة بالقراءات فهذا يشترط فيه أن يكون في كل ركعة بحسبها، فلا يصح -كما يقول بعض العلماء- أن تخلط بين القراءتين في الركعة الواحدة، فلو قرأت سورةً ما من السور واستفتحت برواية حفص فلتتمها برواية حفص، ولا تدخل القراءة في القراءة، فإذا التزمت القراءة تستمر بها، أما إذا شئت في الركعة الثانية أن تقرأ بقراءة ثانية فقالوا: لا حرج، أما أن ينوع في القراءات في الركعة الواحدة فلا، كأن يقرأ الآية الأولى بحفص، والآية الثانية بورش؛ فإن حفصاً لا يقرأ المصحف كله إلا على قراءته التي رواها، فإذا التزمت استفتاح السورة بقراءة حفص تتمها بقراءة حفص، ولا تدخل فيها قراءة ورش؛ لأن هذا فيه إخلال، وإنما رخص العلماء للقراء والعلماء في أثناء الدروس في القراءات لمكان الحاجة، فله أن يقرأ بالأوجه المتعددة من باب التعليم والحاجة، أما في داخل الصلاة فلا.

الركوع وصفته قولا وفعلا

الركوع وصفته قولاً وفعلاً

رفع اليدين عند الركوع

رفع اليدين عند الركوع قال رحمه الله تعالى: [ثم يركع مكبراً رافعاً يديه]. أي: بعد أن يفرغ من القراءة يركع، وسيأتي إن شاء الله بيان ما هو الواجب منه واللازم، وما هو المندوب والمستحب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: (ثم اركع)، وقد أمر الله بالركوع فقال: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43]، وقال: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [الحج:77] فأمر بالركوع، وهذا يعتبر من أركان الصلاة، ويركع في النافلة والفرض، يركع حال كونه مُكبراً، أي: جامعاً بين الفعل والقول، وهذا التكبير يسميه العلماء تكبير الانتقال؛ لأنه انتقل من حال القيام إلى حال الركوع. وقوله: [رافعاً يديه]، لثبوت السنة بذلك من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في الركوع).

وضع الكفين على الركبتين مفرجتي الأصابع

وضع الكفين على الركبتين مفرجتي الأصابع قال رحمه الله تعالى: [ويضعهما على ركبتيه مفرجتي الأصابع]. أي: يلقم الركبتين بكفيه، ولا يفعل مثل ما يفعل بعض العوام حين يجعل رؤوس الأصابع عند الركبة، والسنة أن يُلقم أصابعه للركبتين.

استواء الظهر مع الرأس حال الركوع

استواء الظهر مع الرأس حال الركوع قال رحمه الله تعالى: [مستوياً ظهره]. قد كان عليه الصلاة والسلام من هديه إذا ركع هصر ظهره، فاستوى ظهره في الركوع حتى قالوا: لو صُبّ الماء على ظهره صلوات الله وسلامه عليه لم ينكفئ، فكان يركعُ مستوي الظهر. ثم رأسه لا يشخصه ولا يصوبه، وإنما يجعله مساوياً لظهره، كما جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبلغ ما يكون في الذلة والخضوع لله سبحانه وتعالى، فلا يبالغ الإنسان في الانحدار، ولا يبالغ في رفع الرأس، وإنما يهصر ظهره حتى يستوي، ثم يكون رأسه باستواء ذلك الظهر.

قول: (سبحان ربي العظيم) في الركوع

قول: (سبحان ربي العظيم) في الركوع قال رحمه الله تعالى: [ثم يقول: سبحان ربي العظيم]. وهذا التسبيح بمعنى التنزيه، فسبحان ربي العظيم بمعنى: (أنزهه)، وقد جاء في الحديث: (أنه لما نزل قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74] قال عليه الصلاة والسلام: اجعلوها في ركوعكم)، فالركوع فيه فعلٌ وقول، فالفعل هصر الظهر والانحناء، وأما القول فهو قوله: (سبحان ربي العظيم)، والثناء على الله وتمجيده وتعظيمه، قال صلى الله عليه وسلم: (أما الركوع فعظموا فيه الرب)، فيقول: (سبحان ربي العظيم) لثبوت السنة به، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا التسبيح، وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي) بعد نزول قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3]، وكان في قيام الليل صلوات الله وسلامه عليه يقول: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح)، فكان من هديه صلوات الله وسلامه عليه الثناء على الله في الركوع.

القيام من الركوع وصفته قولا وفعلا

القيام من الركوع وصفته قولاً وفعلاً

قول: (سمع الله لمن حمده) للإمام والمنفرد حال القيام من الركوع

قول: (سمع الله لمن حمده) للإمام والمنفرد حال القيام من الركوع قال رحمه الله تعالى: [ثم يرفع رأسه ويديه قائلاً إمام ومنفرد: سمع الله لمن حمده]. قوله: (قائلاً) أي: حال كونه قائلاً، (إمام ومنفرد) أي: يقول الإمام والمنفرد: (سمع الله لمن حمده) ولا يقول المأموم: (سمع الله لمن حمده)، وهذا مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية رحمةُ الله على الجميع، فالإمام والمنفرد يقولان: (سمع الله لمن حمده)، والمأموم لا يقول: (سمع الله لمن حمده)، وإنما يقتصر على قوله: (ربنا ولك الحمد) أو: (ربنا لك الحمد)، ولا يزيد التسميع. وذهب الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه إلى أنه يقول المأموم: (سمع الله لمن حمده)؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به). والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن التقسيم ينفي التشريك، وهذه قاعدة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمن فأمنوا)، فدل على أنه في الأصل لا يؤمنون مع الإمام حتى يؤمروا بالتشريك، فلما قال: (إذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا:) دل على التقسيم، والتقسيم خلاف التشريك، وإنما قالوا بالتشريك لحديث: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به)، فنقول: هذا مطلق وهذا مقيد، والقاعدة أن المقيد مقدمٌ على المطلق، والأصل: حمل المطلق على المقيد، فنقول: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به) فيه إجمال، وإن كان الأمر فيه من حيث العموم، لكن نقول: جاء المفصل، فقال عليه الصلاة والسلام: (فإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد)، قالوا: هذا يدل على أنه لا يجمع المأموم بين قوله: (سمع الله لمن حمده) وقوله: (ربنا ولك الحمد). فأصح الأقوال أنه لا يجمع بينها بالنسبة للمأموم، فمحل الخلاف في المأموم، أما الإمام والمنفرد فشبه إجماع من أهل السنة أنه يقول: (سمع الله لمن حمده).

قول: (ربنا ولك الحمد) بعد إتمام القيام

قول: (ربنا ولك الحمد) بعد إتمام القيام قال رحمه الله تعالى: [وبعد قيامهما: (ربنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) ومأموم في رفعه (ربنا ولك الحمد) فقط]. أي: يقول حال رفعه أثناء الانتقال: (سمع الله لمن حمده)، حتى إذا استتم قائماً قال: (ربنا ولك الحمد)، سواءٌ أكان إماماً أم مأموماً أم منفرداً، فالإمام والمنفرد إذا أراد أن يُسَمِّع فأثناء الفعل، وبعضهم يترك التسميع حتى ينتصب قائماً، وهذا ليس من السنة، والسنة أن يكون التسميع أثناء رفعه من الركوع فيقول: (سمع الله لمن حمده) و (سمع) قيل معناه: استجاب الله دعاء من حمده، ولذلك كان من السنة استفتاح الأدعية بالحمد وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم فليبدأ بالحمد لله)، قالوا: وهذا يدل على أن من علامات إجابة الدعاء الاستفتاح بحمد الله تبارك وتعالى والثناء عليه. فإذا انتصب الإمام قائماً قال: (ربنا ولك الحمد)، أو قال: (ربنا لك الحمد)، فهذا كله وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم. واستحب طائفة من العلماء رواية الواو: (ربنا ولك الحمد)، وفضلها على رواية: (ربنا لك الحمد)؛ لأن رواية الواو فيها زيادة معنى، فأنت تقول: (ربنا) أي: أنت ربنا، (ولك الحمد) أي: فيه معنى زائدٌ، فتثبت له الربوبية مع الثناء عليه بالحمد، لكن إذا قلت: (ربنا لك الحمد) قالوا: هذا معنىً واحدٌ، والأفضل الأول، وبالنسبة للإمام أو المنفرد فإنه يجمع بينهما، فيقول: (سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد)، أو: (ربنا لك الحمد)، والمأموم يقتصر على قوله: (ربنا ولك الحمد). ولهذا يقول المؤلف عليه رحمة الله: [ثم يرفع رأسه ويديه قائلاً إمام ومنفردٌ: (سمع الله لمن حمده)، وبعد قيامهما: (ربنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) ومأموم في رفعه: (ربنا ولك الحمد) فقط]. فذكر رحمه الله ما ينبغي على المصلي بعد انتهائه من الركوع من رفعه، وهذا الرفع أمرَ به النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح من حديث المسيء صلاته، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على لزومه في الصلاة، وإن كانوا قد اختلفوا في الطمأنينة في هذا الرفع، وقد تقدم بيان الأذكار وخلاف العلماء رحمهم الله في مسألة الجمع، ثم ذكر المصنف رحمه الله الدعاء المأثور الذي يقوله بعد قوله: (سمع الله لمن حمده)، أو قول الإمام: (سمع الله لمن حمده) وهو أن يقول: (ربنا ولك الحمد)، أو على الرواية الثانية: (ربنا لك الحمد)، ورواية الواو أوجه عند بعض العلماء، والسبب في هذا أن رواية الواو فيها زيادة معنى، كأنك تقول: (أنت ربنا)، ثم تقول: (ولك الحمد). وذكر رحمه الله دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه بقوله: (ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد)، وفي رواية: (لا مانع لما أعطيت)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ملءَ): أي حال كونه ملءَ السماوات وملءَ الأرض، وهي رواية الفتح. وقد احتج بهذا الحديث طائفة من العلماء رحمهم الله على أن الأعمال توزن يوم القيامة، وهي مسألةٌ خلافية بين أهل العلم، فهل الذي يوضع في الميزان هو الإنسان نفسه يوم القيامة، وعلى قدر صلاحه وفساده يكون الوزن، أم أن الذي يوزن هو عمله قولاً كان أو فعلاً أو اعتقاداً، أم مجموع الأمرين؟ فقال بعض العلماء: الذي يوزن هو الإنسان نفسه؛ لقوله تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105]، ولقوله عليه الصلاة والسلام لما اهتزت الشجرة بـ ابن مسعود فضحك الصحابة من دقة ساقيه: (ما يضحككم من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده إنهما أثقل في الميزان من أحد)، فهذا يدل على أن الموزون هو الإنسان نفسه. وقال بعض العلماء: إن الموزون هو العمل؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقليتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم). فقد دلّ هذا الحديث الصحيح على أن قول الإنسان للذكر هو الموزون، قالوا: فالعمل شامل للقول والفعل، وكله يوزن. والصحيح أنه يوزن الإنسان نفسه وعمله؛ لأن النصوص وردت بالجميع، والقاعدة تقول: (النصوص إذا وردت بأمرين فلا يصح إثبات أحدهما ونفي الآخر إلا بدليل)، فكما أن الله أخبر في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بما يدل على أن الإنسان يُوزَن، وأخبر بما يدل على أن العمل يُوزَن فنقول: كلٌ صحيح، وكلٌ خرج من مشكاةٍ واحدة، فالإنسان يوزن، وعمله يُوزن، وعرصات القيامة مختلفة -كما هو جواب ابن عباس رضي الله عنهما أن عرصات يوم القيامة مختلفة- والمراد بالعرصات: المواقف -نسأل الله أن يلطف بنا وبكم فيها-، فتارةً توزن الأعمال، وتارة يوزن أصحاب الأعمال، وكلٌ على حسب ما يكون منه من خير وشر. فقوله عليه الصلاة والسلام: (ملء السماوات وملء الأرض) دلّ على أن الحمد موزون، وأن له ثقل، فقال في هذا الثقل: (ملء السماوات وملء الأرض)، وهذا يدل على عظم ما للعمل الصالح من عاقبةٍ، وكونه له أثر في ثقل ميزان العبد يوم القيامة. وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع بعض أصحابه يقول وراءه: (حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه)، فقال صلى الله عليه وسلم: (من المتكلم بها؟ فقال: أنا يا رسول الله فقال: لقد رأيت اثني عشر ملكاً يبتدرونها أيهم يرفعها) وفي رواية: (رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول)، فلو نظرت في حروف هذه الكلمات لوجدتها ما يقارب اثنين وثلاثين حرفاً، فكان هذا مناسباً، كأن لكل حرف ملك يرفعه، وهذا يدل على فضل ذكر الله عز وجل، وأن له عند الله عز وجل شأناً عظيماً، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الذاكرين. فورد عن النبي صلى الله عليه وسلم التحميد بقوله: (ربنا لك الحمد)، وقوله: (اللهم ربنا لك الحمد) (اللهم ربنا ولك الحمد). وقوله: (ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيءٍ بعد) إنما يقع بعد التحميد، ولا يكون من الإمام جهراً. وقال بعض العلماء: يستحب للإمام أن يرفع صوته قليلاً ببعض الأذكار إذا كان بين قومٍ يجهلونها وهذا على سبيل التعليم؛ فإن العوام والجهال قد يحتاجون من طلاب العلم ومن الأئمة إلى بيان بعض السنن، ويفتقر هذا البيان إلى نوعٍ من الوضوح، كأن يرفع الإمام صوته قليلاً، ولذلك جهر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بدعاء الاستفتاح، لكي يعلم الناس دعاء الاستفتاح. قالوا: فلا حرج أن يجهر الإمام أحياناً بمثل هذه الأدعية المأثورة تعليماً للناس بالسنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم السلام على الجالسين عند دخول المسجد

حكم السلام على الجالسين عند دخول المسجد Q حينما يدخل المصلي المسجد، فهل أن يسلم على الجالسين في المسجد لأن السلام سنةٌ من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، أم لا؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالسنة لمن دخل المسجد أن يبدأ بتحية المسجد قبل السلام على الناس، وهذه السنة دل عليها حديث أبي هريرة في الصحيح: (أن المسيء صلاته لما دخل ابتدأ بالصلاة، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم ورحمةُ الله، فقال له: ارجع فصل فإنك لم تصل)، فدل على أن السنة أن يُبتدأ بالصلاة قبل السلام على الناس؛ إذ لو كان من السنة أن يستفتح بالسلام لابتدأ الأعرابي السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ثم الصلاة، فكونه يبتدئ بتحية المسجد دل على أن الهدي الذي كان معروفاً أن يبدأ بتحية المسجد قبل السلام، ولذلك قالوا: السنة لمن قدم المدينة أن يبتدئ بتحية المسجد، ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التحية. وهذا مبني على ما ذكرنا من حديث المسيء صلاته، ولذلك هذا هو الهدي؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحكم المسجد فليركع ركعتين). وبعد أن ينتهي من التحية يسلم على الناس ويحدّث من شاء، أما قبل التحية فلا يشرع له أن يسلم. والذي يظهر والله أعلم ترجيح القول الأول، وهو أنه يبتدئ بتحية المسجد، ثم يثني بعد ذلك بالسلام على الناس؛ لأنه حقٌ خاص، والحق الخاص مقدمٌ على العمومات؛ لأن هذا في موضعٍ خاص ورد فيه دليل السنة الذي يدل على اعتبار تقديم الصلاة على السلام. والله تعالى أعلم.

حكم قطع الفاتحة بالاستعاذة من الشيطان

حكم قطع الفاتحة بالاستعاذة من الشيطان Q لو أن إنساناً قطع الفاتحة بقوله: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)؛ لكي يذهب عنه وساوس الشيطان، فهل يعيد الصلاة، أم ماذا عليه؟ A إذا دخل على الإنسان داخل الوسواس فاستعاذ أثناء القراءة قالوا: هذا ذكرٌ مشروع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الشيطان الذي يسمى (خنزب)، وهو شيطان الصلاة، وشيطان الوضوء (الولهان) كما ورد في الخبر عنه عليه الصلاة والسلام، فثبت عنه عليه الصلاة والسلام قوله: (إذا أُقيمت الصلاة أقبل -أي: الشيطان- فيوسوس على الإنسان حتى يحول بينه وبين الصلاة)، وذلك لعلمه أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها، فيأتيه بالوساوس والخطرات، قال عليه الصلاة والسلام: (فيقول له: اذكر كذا. اذكر كذا. اذكر كذا)، حتى ورد: (إن العبد لينصرف من صلاته وليس له منها إلا العشر إلا الربع إلا الثلث إلا الثمن، وما فاته منها خيرٌ من الدنيا وما فيها) وهذا كله بسبب الوساوس، قال عليه الصلاة والسلام: (فإذا وجد أحدكم ذلك فليتفل عن يساره ثلاثاً، وليستعذ بالله منه)، ولا يكون فيه التفات، وإنما يكون نفثه إلى اليسار دون حصول اللي للعنق، فيتفل عن يساره ثلاثاً بريق خفيف، ويقول: (أعوذ بالله من الشيطان)، فهذا ذكر مشروع. ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي بأصحابه، ثم تكعكع فتكعكع الصف الأول وتكعكع الصف الثاني بعده، وهو يقول: أعوذ بالله منك، أعوذ بالله منك. فإذا بالشيطان قد جاءه بشهاب من نار، فخنقه صلوات ربي وسلامه عليه وقال: (لولا أني ذكرت دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطاً يلعب به صبيان المدينة) فهذا يدل على مشروعية الاستعاذة في الصلاة من الشيطان؛ لأنها ذكر مشروع، فالإنسان إذا حيل بينه وبين القراءة وتدبر كلام الله والتأثر بآيات القرآن لا حرج عليه أن يستعيذ. والله تعالى أعلم.

حكم قراءة الفاتحة للمأموم

حكم قراءة الفاتحة للمأموم Q إذا قرأ الإمام سورة الفاتحة، فهل يقرأ المأموم بعد الإمام، أم ينصت للإمام؟ وما الخلاف في هذه المسألة، وما الراجح؟ A للعلماء في المأموم إذا كان وراء الإمام أقوال في وجوب الفاتحة عليه: القول الأول، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمة الله عليه: الوجوب في جميع الصلاة، سواءٌ أكانت سرية أم جهرية، وهو مذهب الشافعية، وكذلك اختاره جمع من أهل الحديث، والظاهرية رحمة الله على الجميع، فهم يرون أن قراءة الفاتحة واجبة على المأموم والمنفرد والإمام، وأنك إذا صليت وراء الإمام في جهرية أو سرية يجب عليك قراءة الفاتحة. القول الثاني: لا تجب على المأموم قراءة الفاتحة وراء الإمام مطلقاً، وهو مذهب الحنفية رحمة الله عليهم. القول الثالث: تجب عليه في السرية دون الجهرية، كما هو موجود في مذهب المالكية، وكذلك بعض أصحاب الإمام أحمد يميل إليه، وقالوا: إذا جهر لا يقرأ، ولا تلزمه القراءة، وإذا أسر وجبت عليه القراءة. وأصح هذه الأقوال والعلم عند الله القول بوجوب القراءة مطلقاً، وذلك لما يأتي: أولاً: لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاةٍ لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج)، والقاعدة في الأصول أن (أيّ) من ألفاظ العموم، وما فرّق النبي صلى الله عليه وسلم بين صلاتك إماماً أو مأموماً أو منفرداً، نافلة أو فريضةً، فالأصل في العام أن يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه، ولا مخصص. الدليل الثاني: أنه ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه استثنى الفاتحة في القراءة وراء الإمام حتى في الجهرية، فثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (صلى بالناس الصبح فسمع قارئاً يقرأ وراءه، فقال: إنكم تقرءون وراء إمامكم؟ قالوا: نعم. قال عليه الصلاة والسلام: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، فهذا نص، والذين قالوا بعدم القراءة قالوا: هذا منسوخ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث جابر: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)، قالوا: فهذا يعتبر ناسخاً لحديث: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب). والجواب عن هذا القول من وجوه: أولاً: إنه لا يصح النسخ بالاحتمال، حيث لم يثبت دليل يدل على تأخر هذا الحديث عن الحديث الذي ذكرناه: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب). ثانياً: أن هذا الحديث ضعيف، وجماهير المحدثين على ضعفه، فلا يقوى على معارضة ما هو أصح منه. ثالثاً: أن قوله: (فقراءة الإمام له قراءة) المراد به: القراءة التي بعد الفاتحة، فبالإجماع أنك إذا صليت وراء الإمام أنك تترك قراءته، وهذا هو الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر، ولذلك نهى الصحابي لما قرأ بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] فقال: (مالي أنازعها)، فلذلك يفهم من هذا أن المراد بقوله: (فقراءة الإمام له قراءة) ما بعد الفاتحة. وبناءً على هذا يترجح القول بوجوب القراءة مطلقاً، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (أيما صلاةٍ لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج). وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب). وقوله في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب). فهذه الأدلة تقوي مذهب من قال بأنه يقرأ في السرية والجهرية. أما السؤال: متى يقرأ إذا كان وراءه، فإنَّ قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] لا يعارض ما نحن فيه؛ فإن القاعدة: (العام يخصص إذا أمكن تخصيصه)، وقد جاءنا الحديث يقول: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، فهذا مخصص، والقاعدة: (لا تعارض بين عامٍ وخاص). فنقول قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الأعراف:204] محمول على العموم إلا في الصلاة؛ لأنك مطالبٌ بالقراءة كما يقرأ إمامك، وبناءً على ذلك: فله قراءته وأنت لك قراءة، فلا يصح أن تترك الفرض للاستماع الذي هو دونه في الوجوب، حتى لو قلنا بوجوب استماع القرآن، فقد تعارض الفرض الذي هو ركن الصلاة والواجب، والقاعدة أنه إذا تعارض الفرض والركن مع الواجب يقدّم الفرض والركن على الواجب، فهذا وجهٌ. الوجه الثاني: أن أبا هريرة رضي الله عنه -كما روى البيهقي عنه بسندٍ صحيح في جزء القراءة وراء الإمام- لما قيل له ذلك قال: (اقرأها في سرك)، وجاء عن بعض السلف: اقرأها في سكتات الإمام، فتقرؤها في سكتات الإمام كسكتته بين الفاتحة والسورة، أو سكتته قبل الركوع، فهذا الذي تميل إليه النفس. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

باب صفة الصلاة [4]

شرح زاد المستقنع - باب صفة الصلاة [4] إذا رفع المصلي رأسه من الركوع فإنه يسجد مكبراً، والسجود ركن من أركان الصلاة، وله صفة معلومة، ثم يرفع من السجود ويجلس بين السجدتين كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الجلسة ركن من أركان الصلاة أيضاً، ثم يسجد سجدة ثانية كالأولى، ثم يرفع منها ويقوم للركعة الثانية، ويفعل فيها كما فعل في الأولى، ما عدا تكبيرة الإحرام والاستفتاح.

السجود وأحكامه

السجود وأحكامه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ثم يخر مكبراً ساجداً]. الخرور: هو السقوط من أعلى إلى أسفل، ومنه قوله تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:26]، ولذلك قال بعض العلماء: إنه إذا قرأ الإنسان آية السجدة وكان جالساً فليقف حتى يأتسي بداود عليه السلام في خروره؛ لأنه لما كان الخرور من أعلى إلى أسفل فإنه يقف لكي يسجد. ويُفهم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه الميل إليه، وإن فعله الإنسان فحسن، لكن الأقوى واختيار الجماهير أنه يسجد على حالته. والمراد بهذا الخرور تحصيل الركن البعدي، وهو مرحلة الانتقال من ركن الرفع بعد الركوع إلى ركن السجود، وهذا الركن الذي يَخِرُّ إليه عبر عنه بقوله: (مكبراً ساجداً) أي: حال كونه مكبراً قائلاً: الله أكبر، وقد تقدم أن هذا التكبير يسميه العلماء رحمة الله عليهم تكبير الانتقال؛ لأنه ينتقل فيه من ركنٍ إلى ركن، ما عدا تكبيرة الإحرام. فقوله: (ثم يخر مكبراً) أي: قائلاً: (اللهُ أكبر) كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. والسنة أن يوافق تكبيره الفعل كما تقدم معنا غير مرة، لأنه إذا وُجِد من لا يراه ويسمع صوته فإنه يساويه في الفعل ولا يسبقه، ومن يراه ولا يسمع صوته كذلك أيضاً يساويه في الفعل، فحينما يوافق تكبيره خروره فإن ذلك أنسب لحصول ائتمام الناس به إذا كان إماماً.

أدلة وجوبه ومعناه

أدلة وجوبه ومعناه أمر الله بهذا السجود فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77]، وأجمع العلماء على أنه ركنٌ من أركان الصلاة. والسجود: أصله التذلل والخضوع، ويتضمن إظهار الحاجة لله عز وجل بما يشتمل عليه من الأذكار من التسبيح والتحميد والتمجيد لله عز وجل، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي)، وهذا السجود أمر به النبي صلى الله عليه وسلم المسيء صلاته فقال: (ثم اسجد)، فأمره بالسجود، ولذلك قلنا بلزومه ووجوبه، وسيأتي أنه من أركان الصلاة. وهذا الخرور بين فيه المصنف صفةً معينة هي من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، على أحد القولين عند العلماء وسيأتي بيانها.

وجوب السجود على سبعة أعضاء

وجوب السجود على سبعة أعضاء قال رحمه الله تعالى: [ساجداً على سبعة أعضاءٍ: رجليه، ثم ركبتيه، ثم يديه، ثم جبهته مع أنفه] هذه السبعة الأعضاء ثبت فيها الحديث عن ابن عباس رضي لله عنهما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرتُ أن أسجد على سبعة أعظم) ثم ذكرها، وابتداء المصنف بذكر الرجلين لأن المصلي ثابت عليهما، والسجود على الرجلين ليس المراد به أن يرفع ويعود، وإنما لبكونه ينتقل إلى الخرور فيضطر إلى ميل الرجلين، فكأنه سجد على الرجلين، وهو في الحقيقة ساجد؛ لأن السنة لمن سجد أن يستقبل بأصابع الرجلين القبلة كما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومن حرص على أن تستقبل أصابع رجليه القبلة فإنه يتمكن من السجود أكثر، ولذلك تجد الأعضاء قد تمكنت من الأرض، وهذا أبلغ ما يكون في الذِّلَّة لله عز وجل بالسجود، فحينما يستشعر الإنسان أن أعضاءه جميعها مستغرقة للسجود، وأنه متذلل لله عز وجل، فذلك أبلغ ما يكون في التذلل والخضوع لله سبحانه وتعالى، وهذا هو المقصود من الصلاة، فيستقبل بأطراف أصابعه القبلة، كما جاء في الحديث، وكذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رصّ العقبين، فلم تكن مفرجة، وإنما كان يرص قدميه صلوات الله وسلامه عليه، فيبتدئ بالرجلين مستقبلاً بهما القبلة، فإذا انحنت الرجلان فقد سجدتا؛ لأنه قد تحصل بهما السجود من جهة الاعتماد.

كيفية الهوي للسجود

كيفية الهوي للسجود قوله: [ثم ركبتيه] هذا على القول بأنه يقدِّم الركبتين على اليدين، وهو أحد الوجهين عند العلماء رحمة الله عليهم، وقال طائفة من أهل العلم: يقدم اليدين على الركبتين. والسبب في ذلك: حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبرك الرجل كما يبرك البعير، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه) أخرجه أبو داود. ففي روايةٍِ: (يضع ركبتيه قبل يديه)، وفي رواية: (يضع يديه قبل ركبتيه)، فنظراً لهذا الاختلاف في الروايات اختلف العلماء رحمهم الله: فمنهم من رجّح أن يقدِّم الركبتين كما درج عليه المصنف رحمه الله، واحتجوا برواية أبي هريرة التي تدل عليه، وكذلك حديث وائل بن حجر رضي الله عنه وأرضاه وأنه: (قدّم ركبتيه على يديه) لهذا قالوا: إنه يقدم الركبتين على اليدين. وقالت طائفة: يقدم اليدين على الركبتين، وذلك لرواية في حديث أبي هريرة، وهي عند أبي داود في سننه بسندٍ صحيح، وفيها تقديم اليدين على الركبتين. وقالوا: إن رواية وائل بن حجر مطعونٌ فيها من جهة الثبوت. ثم قالوا: إن صدر الحديث يدل على ترجيح هذه الرواية، وذلك من جهة أن البعير يقدِّم ركبتيه على يديه حال بروكه، ولذلك إذا رأيت البعير أراد أن يبرك فإنه يقدم الركبتين قبل تقديمه لرجليه، ومن ثم قالوا: إنه من السنة أن يقدم اليدين، فإذا قلنا بتقديم الركبتين شابه البعير، وإلا تناقض صدر الحديث مع عجزه. وللشيخ ناصر الدين رحمه الله في الإرواء بحث جيد في هذا يُرجع إليه، وكذلك أشار إلى شيء منه في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم. والحقيقة أن هذا القول هو أعدل الأقوال وأولاها إن شاء الله بالصواب، وهو أنه يقدم اليدين، ولو ترجح عند الإنسان تقديم الركبتين على اليدين فليقدِّم الركبتين على اليدين ولا حرج عليه، فكلٌ على خير، فمن ترجَّح عنده تقديم الركبتين فليقدم، ومن ترجح عنده تقديم اليدين فليقدم، لكن الخلط بين الروايتين باطل؛ إذ يقول بعض طلاب العلم: نجمع بين الروايتين بأن نفعل هذا تارة وهذا تارة. فليس الخلاف هنا من خلاف التنوع الذي يسوغ فيه الجمع بين الصفات، وذلك لورود النهي عن بعضها، فبالإجماع أنه منهيٌ عن واحدةٍ منها، فإذا فعلت هذا تارة وهذا تارة فقد وقعت في المحظور، ولذلك إما أن يأخذ الإنسان برواية أبي داود الثابتة في تقديم اليدين على الركبتين، إضافةً إلى أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يفعل ذلك، وهذا يترجح أيضاً بما جاء عن السلف، كما قال الأوزاعي وهو فقيه الشام، ومنزلته ومكانته لا تخفى: (أدركتهم يقدمون اليدين على الركبتين) أي: إذا سجدوا. فإذا ترجح عند إنسان هذا القول عمل به، وإن ترجح عنده غيره عمل به. وليتأكد من أن أهل اللغة يقولون: إن ركبتي البعير في مقدمته. فهذا يُرجع ويحتكم إليه عند الخلاف؛ لأنه إذا ثبت قولهم: إن ركبتي البعير في يديه فحينئذٍ يُقدِّم المصلي الركبتين على اليدين، وإن قيل: إن الركبتين في موضعهما كما يُفهم من قول صاحب اللسان، وهو الذي اعتمده غير واحد من أهل اللغة فحينئذٍ يترجح القول بتقديم اليدين على الركبتين، وهذا هو الذي تميل إليه النفس، وهو قول طائفة من السلف كما ذكرنا. قالوا: إن مما يؤكد هذا القول أن النزول على اليدين أرفق بالإنسان، وخاصةً إذا كان مع الضعف؛ فإن الغالب فيه أنه إذا خرّ يحتاج للاعتماد على اليدين أكثر من اعتماده على الركبتين، ولذلك تجده يتحامل عند تقديمه للركبتين على اليدين، وهو أرفق وأولى بالاعتبار من هذا الوجه.

حكم الحائل بين أعضاء السجود والأرض

حكم الحائل بين أعضاء السجود والأرض قال رحمه الله تعالى: [ولو مع حائل ليس من أعضاء سجوده] ذكرنا أن هذه السبعة الأعضاء يُسجد عليها، وهذا على سبيل الوجوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها، خلافاً لمن قال بعدم وجوب السجود عليها. وبناءً على ذلك فمن سجد فإنه يراعي في سجوده سجود الرجلين بالصفة التي ذكرناها، وكذلك سجود الركبتين بالتصاقهما بالأرض، وسجود الكفين، وذلك بالتصاقهما بالأرض، وسجود الجبهة والأنف، وذلك بوضعهما على الأرض، فلو سجد ورفع رجليه فإنه يُعتبر آثماً، ولا يصح سجوده في قول طائفة من أهل العلم رحمةُ الله عليهم، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسجود على هذا الوجه، وكذلك لو رفع إحدى الركبتين متعمداً دون حاجةٍ فإنه يأثم ولا يصح سجوده في قول من ذكرنا. فإن وضع أعضاءه على الأرض، ووجد الحائل بينها وبين الأرض، سواء في مقدمة الإنسان أم في مؤخرته، فإن الحائل في القدمين والركبتين يكاد يكون بالإجماع أنه لا يؤثر، وتوضيح ذلك: لو صلَّى في نعليه، فإنه سيكون اعتماده على النعلين، وهذا مع وجود حائلٍ متصل، فقالوا: لا يؤثر. وكذلك الحال بالنسبة للركبتين، فإنه لو صلّى سيصلي بثوبه، وبناءً على ذلك فالحائل المتصل بالإنسان في هذين الموضعين بالإجماع لا يؤثر، وقد كان عليه الصلاة والسلام يصلي في نعليه وخفيه، ومن المعلوم أن الخف والنعل يحول بين الإنسان وبين إلصاقه العضو بالأرض مباشرة. أما بالنسبة لليدين والجبهة فإن كان على حصيرٍ أو سجاد أو خمرة فإنه بالإجماع لا يؤثر، فقد ثبت في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم عند أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها وأرضاها قال: فقال لنا: (قوموا فلأصل لكم)، قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس، فنضحته بماء، فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، وهذا الحديث في صحيح مسلم، قالوا: إنه صلى على حصير. وفي الصحيحين قال عليه الصلاة والسلام لـ عائشة رضي الله عنها: (ناوليني الخمرة، قالت: إني حائض، قال: إن حيضتك ليست في يدك) والخمرة: أصلها من خمّر الشيء إذا غطاه، وهي قطعة توضع لكي تحول بين الوجه وبين الأرض يُسجد عليها وتكون من قماش، كالسجادة الصغيرة، وكالقطعة التي تسع مقدم الإنسان، أو تسع غالب أجزائه. فهذا يدل على أن الحائل بالسجاجيد لا يؤثر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرده ولم يعتبره مؤثراً في سجوده. والسنة أن الإنسان إذا كانت أعضاؤه على الأرض أن تلي الأرض، فإن وُجِد هذا الحائل الذي لا يؤثر فلا إشكال. لكن لو أن إنساناً قصد وضع الحائل للحاجة إلى ذلك، كأن يكون في حرٍ شديد، فلو سجد ربما أضر بجبهته وأنفه فيؤثر عليه، فهل له أن يبسط طرف الثوب مثل كمه أو طرف الرداء، ويجعله تحته إذا سجد لكي يكون أرفق به؟ A ثبت الحديث عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا إذا أرادوا أن يسجدوا بسط أحدُهم طرف ثوبه فسجد عليه من شدة الحر في صلاتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا حرج أن يكون ما يسجد عليه حائلاً، ولو بحائل متصل، وهذا الذي دعا المصنف إلى أن يقول: (ولو مع حائل) إشارةً إلى هذا الأصل الذي دلت السنة عليه. السجود مع الحائل إذا لم توجد إليه حاجة فهو ممنوع، وشدد بعض العلماء فقال: إنه إذا احتاج إلى حركة وأفعالٍ من أجل الحائل فإنه لا يبعد أن يأثم، كأن يسحب شيئاً من أجل أن يسجد عليه، فيتكلف دون وجود الحاجة، ومن أمثلة ذلك أن يصلي المصلي فتنقلب سجادته، ويكون بإمكانه أن يسجد على الأرض، فلا ينبغي له أن يشتغل بقلب السجادة؛ لأنها حركة زائدة، خاصةً في الفريضة، ومن مشايخنا رحمة الله عليهم من كان يشدد في ذلك، خاصةً طلاب العلم، لمقام الهيبة والوقوف بين يدي الله عز وجل، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن في الصلاة لشغلا)، فكونه لا توجد الحاجة ويشتغل بقلب السجادة وردها، خاصةً إذا كان هناك هواء وريح، فإنه اشتغالٌ بما لا تأثير له في الصلاة، وليس من جنس أفعال الصلاة، فليتركها على حالها، ويتفرغ لطاعته لله عز وجل بالسجود على الأرض، بل أبلغ وأعظم قربةٍ إلى الله عز وجل أن يعفِّر الإنسانُ جبينه بالسجود لله سبحانه وتعالى. وقد ثبت عن خير خلق الله، وحبيب الله صلى الله عليه وسلم أنه سجد على الطين حتى رئي أثر الماء والطين في جبهته صلوات الله وسلامه عليه، وهذا من أبلغ ما يكون من الذلة، ولذلك لما أثنى الله على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم وزكّاهم قال سبحانه: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29]. فلذلك كلما سجد على الأرض وتذلّل لله عز وجل كان أبلغ، ولا ينبغي -كما قلنا- تكلف وجود الحائل، خاصة مع الحركات في الصلاة، أما قبل الصلاة فلو وضع الحائل فلا بأس. وهنا مسألة يخشى فيها على دين الإنسان، وقد أشار إليه بعض أهل العلم وهي أن بعض المصلين يتتبع المواضع الحارة للصلاة فيها، حتى تحترق جبهته، ليكون شعار الصلاح في وجهه نسأل الله السلامة والعافية (خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين) لأنه يريد الرياء ويريد ما عند الناس من التزكية والثناء، فلا يجوز للإنسان أن يبالغ في سجوده في المواضع التي يترتب على السجود فيها حصول الأثر، وهكذا الضغط على الجبين حتى يظهر في وجهه أثر السجود، فهذا لا ينبغي، إنما ينبغي أن يترك الأمر على ما هو عليه دون تقصُّد. وكان السلف الصالح رضوان الله عليهم يخافون من ظهور الخير من الإنسان فضلاً عن أن يطلبوا أمارات الصلاح رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان الرجل منهم إذا اطُّلع على عبادته ربما بكى وأشفق على نفسه من الفتنة، فنسال الله السلامة والعافية، فالمبالغة في وضع الجبهة على مكان السجود حتى تؤثر في الجبين، أو تؤثر في مارِن الأنف كل ذلك مما ينبغي للإنسان أن يحذره، وأن يتقي الله في عبادته، وأن يجعلها لله، فإن الله وصف أهل النفاق بأنهم: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]، فنسأل الله أن يعيذنا من أخلاقهم، وأن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال.

مجافاة العضدين حال السجود

مجافاة العضدين حال السجود قال رحمه الله تعالى: [ويجافي عضديه عن جنبيه] المجافاة: أصلها البعد، وجفاه: إذا قلاه وابتعد عنه، أو امتنع من كلامه والقرب منه، والمجافاة بين العضد والجنب هي أن لا يقرِّب عضده من جنبه؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث وائل، وكذلك في الأحاديث الصحيحة عنه أنه جافى، وثبت في حديث البراء قال: (إن كنا لنأوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة ما يجافي)، فكان إذا سجد جافى حتى يرى بياض إبطيه صلوات الله وسلامه عليه. وهذه المجافاة تعين على تمكن أعضاء الإنسان من السجود، بخلاف ما إذا طبّق بينها أو افترش افتراش السبع، فإن هذه الحالة لا تكون أبلغ في سجوده وتمكن أعضائه من الموضع. فالمجافاة سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي للإنسان أن يؤذي جاره إذا كان في الصف، فهي سنةٌ لمن تيسر له ذلك، فإذا كان بجواره من يزعجه ويضايقه حين يجافي فإنه في هذه الحالة يجافي بقدر معين؛ لأنه كما أنك تريد تحصيل السنة، كذلك هو يريد تحصيل السنة، فلو ذهب كل منكما يجافي فإنه يضر بالآخر، ولذلك يجافي الإنسان عند الإمكان، واستثنى أهل العلم مَن كان في الصف، ولذلك قالوا: تأتَّى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يتأت لغيره، وذلك لكونه إماماً؛ فإن الإمام يتمكن من السجود أكثر، ويتمكن من المجافاة أكثر.

مجافاة البطن عن الفخذ حال السجود

مجافاة البطن عن الفخذ حال السجود قال رحمه الله: [وبطنه عن فخذيه] فلا يجعل الفخذين حاملين للبطن، وهذا من السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإنسان مع هذه المجافاة يجد نوعاً من المشقة، ولكنها طاعةٌ وقربة، ولذلك يُحس بأثر هذا السجود، ولعله عند سجوده وحصول نوعٍ من الأثر عليه يُحس بالسجود بين يدي الله، لكنه لو ارتفق ربما ارتاح لذلك فأنست نفسه، ولذلك قال بعض العلماء: إن المجافاة تُشعر الإنسان بالسجود بين يدي الله. وجرِّب ذلك، فإنك كلما جافيت وحرصت على أن يكون هناك مجافاة بين وسطك وبين العضدين والجنب فإنك تجد أنك تُحس بالسجود وثقله عليك، وهذا أدعى لاستشعار الإنسان مقامه بين يدي الله عز وجل، وذلك أدعى لحضور قلبه وخشوعه. قال رحمه الله تعالى: [ويفرق ركبتيه] أي: يفرِّق الركبتين، فليس من السنة التصاقهما، ولذلك يرص العقبين ويفرِّق بين الركبتين، وهذا إذا كان رجلاً، كما سيأتي.

قول: (سبحان ربي الأعلى) في السجود

قول: (سبحان ربي الأعلى) في السجود قال رحمه الله تعالى: [ويقول: سبحان ربي الأعلى] بعد أن فرغ رحمة الله عليه من بيان صفة السجود الفعلية بدأ بما ينبغي على المكلف أن ينتبه له من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم القولي، فقد كانت للنبي صلى الله عليه وسلم أذكارٌ وأدعية في سجوده، فيُسن للإنسان أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وهذا الموضع من أبلغ المواضع ذِلةً لله سبحانه وتعالى، وقال بعضهم: إنه من أشرف مواضع الصلاة. ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه من مواطن الإجابة فقال: (أقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجداً)، وقال عليه الصلاة والسلام في هذا الموضع: (فقمنٌ أن يستجاب لكم) أي: حريٌ أن يستجاب لكم من الله عز وجل، وذلك لما فيه من بالغ الذلة لله سبحانه وتعالى. فيقول: (سبحان ربي الأعلى)، وهذا التسبيح يُعتبر من أذكار السجود الواجبة فيه، ولذلك لما نزل قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] قال عليه الصلاة والسلام: (اجعلوها في سجودكم). ولما نزل قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74] قال: (اجعلوها في ركوعكم)، وثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا سجد قال: (سبحان ربي الأعلى)، وهذا من الدعاء بالمناسبة، فهو في أدنى ما يكون ذلَّة لله، فقابلها بما يكون من صفة العلو لله سبحانه وتعالى، فقال: (سبحان ربي الأعلى)، وفيه ردٌ على من ينفي جهة العلو لله سبحانه وتعالى، وسيأتي إن شاء الله أن هذا الذكر من واجبات الصلاة. وله أن يدعو بالأدعية التي يريدها من خيري الدنيا والآخرة، فلا مانع أن يسأل الله العظيم من فضله سواء أكان في نافلةٍ أم فريضة. وقد جاء في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه افتقدته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، قالت: (فجالت يدي) أي: في حجرتها، وكانت حجرة النبي صلى الله عليه وسلم من الضيق بمكان؛ لأن الله اختار له الآخرة، ولم يختر له الدنيا، كان إذا أراد أن يسجد لا يستطيع أن يسجد حتى تقبض عائشة رجليها من أمامه، فتقول: (افتقدته فجالت يدي فوقعت على رجله ساجداً يقول: يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك) فكان من أجمع الدعوات وأفضلها وأعزها وأكرمها أن يسأل الله الثبات على دينه، فجعله في هذا الموضع، فكونه ساجداً بين يدي الله، وكونه في ظلمات الليل التي هدأت فيها العيون، وسكنت فيها الجفون يدل على شرف هذا الموضع، فاختار له هذه الدعوة العظيمة وهي الثبات على الدين، وكان من هديه أن يقول: (يا مقلب القلوب: ثبت قلبي على دينك)، وفي رواية: (صرّف قلبي في طاعتك). المقصود أن من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء في السجود، فعلى الإنسان أن يدعو ويسأل الله من فضله.

صفة الجلوس بين السجدتين

صفة الجلوس بين السجدتين قال رحمه الله: [ثم يرفع رأسه مكبراً] أي: إذا فرغ من السجود رفع رأسه مكبراً، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الرفع، كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في حديث المسيء صلاته، حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ارفع)، فأمره بالرفع من السجود لكي ينتقل إلى الركن البعدي، وهو الجلوس بين السجدتين. قال رحمه الله تعالى: [ويجلس مفترشاً يسراه ناصباً يمناه] أي: يجلس حال كونه مفترشاً يسراه، فيقلبها لكي تكون حائلاً بين الإلية والأرض، ولما صارت حائلاً بين إليته والأرض فإنها تعتبر بمثابة الفراش الذي يحول بين البدن وبين الأرض، فمن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يفترش رجله اليسرى كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في صفة صلاته صلوات الله وسلامه عليه، فيفترش اليسرى ويجعلها بمثابة الفراش، ثم ينصب يمناه.

دعاء الجلوس بين السجدتين

دعاء الجلوس بين السجدتين قال رحمه الله تعالى: [ويقول: رب اغفر لي] أي: يستقبل بأطراف أصابعه اليمنى القبلة كما هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: رب اغفر لي. وهو الدعاء الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يقول: (رب اغفر لي. رب اغفر لي)، وكان يقول عليه الصلاة والسلام دعاءه المأثور في السنن: (اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني وارفعني واهدني وعافني وارزقني)، وهذه أدعية تجمع خيري الدنيا والآخرة للعبد، فسأل الله عز وجل خير دينه، وذلك بسؤاله الرحمة والمغفرة، وقال: (اجبرني وارفعني) وهذا للدين والدنيا والآخرة، فإنه جبر لأمور الدين والدنيا، ورفعة في أمور الدين والدنيا، وقال بعد ذلك عليه الصلاة والسلام: (وعافني وارزقني) فهذا أيضاً من خير الدنيا؛ فإن الإنسان إذا عُوفي فقد تمت عليه نعمة الله عز وجل بالنسبة لأمور الدنيا؛ لأن أكثر المصائب في الدنيا إنما تقع بسبب زوال عافية الله عز وجل عن العبد، وإذا سُلب العبد العافية فقد هلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يا عم رسول الله سل الله العافية). فكان يسأل عليه الصلاة والسلام بين السجدتين العافية، ويكون هذا الموضع موضع دعاء، وللعلماء في ذلك وجهان: قال بعضهم: هو موضع دعاء فيشرع أن يدعو الإنسان بما يتخير من أمور دنياه وأخراه، وقال بعضهم: يُتقيد بالوارد. وهذا أقوى، ولكن إذا لم يحفظ، كأن يكون عامياً فلا بأس أن يدعو بما تيسر له. والسبب في أنه يدعو بما تيسر له أن السنة أمران، الأمر الأول: دعاء، والثاني: لفظٌ مخصوص، فإن تعذر عليه اللفظ المخصوص فالسنة أن يسأل، وهو قول الجماهير كما نسبه غير واحدٍ إليهم، فإذا كان لا يستطيع أن يحفظ الوارد، أو كان يجهله ودعا بما تيسر له، كدعائه له ولوالديه فلا حرج، والأفضل والأكمل أن يدعو بالدعاء المأثور، وفرقٌ بين قولنا: الأفضل، وبين أن يقال: إن هذا حرامٌ وبدعة. فلا يسوغ للإنسان أن يحرِّم، إنما يكون التحريم في ألفاظ الذكر المخصوصة، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يسكت عن الصحابة، ولم يأمرهم بلفظ مخصوص بين السجدتين يدل على أن الأمر واسع، وهذا قول جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم، وينبه على أن الحكم بالبدعة يحتاج إلى دليل، والأصل في الأذكار التوقيف، لكن إذا كان المحل محل تمجيد، أو دعاء، أو أُثر فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء فإن لمن دعا فيه -كأن يدعو له ولوالديه- وجه من السنة، وإن قال: أنا لا أدعو بذلك؛ لأني لا أراه، فله أن يقول ذلك، أما أن يُقال لمن دعا: ابتدعت، ويُحرم عليه، ويحكم بكونه آثماً في صلاته فهذا يحتاج إلى نظر، ولذلك قال بعض العلماء: يدعو لوالديه لتعذر ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نُهي عن الدعاء لوالديه صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك يبقى غيره على الأصل من أمر الله عز وجل له بالدعاء ولوالديه، فلا حرج عليه أن يدعو، لكن السنة والأفضل والأكمل للإنسان أن يتقيد بالوارد. قال رحمه الله: [ويسجد الثانية كالأولى] أي: يسجد السجدة الثانية، ويفعل فيها ما فعل في الأولى من الهدي العملي والقولي.

الانتقال من السجود إلى الركعة الثانية

الانتقال من السجود إلى الركعة الثانية قال رحمه الله: [ثم يرفع مكبراً] أي: ثم يرفع رأسه من سجوده مكبراً لكي ينتقل إلى الركعة الثانية إذا كان في شفع، سواء أكان في الفرض أم النفل. قال رحمه الله تعالى: [ناهضاً على صدور قدميه معتمداً على ركبتيه إن سهل] هذا وجه عند أهل العلم رحمة الله عليهم، وهو أنه يعتمد القائم من السجود على ركبتيه وصدور قدميه إذا تيسر له ذلك، وهو قول بعض السلف رحمة الله عليهم. وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم اعتماده على الأرض كما في حديث العَجْن، وكذلك في حديث مالك بن الحويرث وللعلماء في ذلك وجهان: منهم من قال: إن كان الإنسان مطيقاً قادراً قام على صدور القدمين والركبتين، كما جاء في بعض الروايات عنه عليه الصلاة والسلام من قيامه على هذا الوجه، فإن كان عاجزاً، أو لا يستطيع الأخذ بحديث العجْن فلا حرج عليه. وحديث العجن مختلفٌ في إسناده، وإن كان حسنه بعض أهل العلم وقال بثبوته، فلا حرج في الأخذ بهذه السنة والعمل بها، والعَجْن: أن يجمع أصابعه لكي يتمكن من وضعها، ثم يقوم معتمداً عليها؛ لأنه إذا أراد أن يعجن العجين جمع أصابعه ثم اتكأ عليها، هذا بالنسبة لصفة قيامه من السجود.

تحقيق القول في جلسة الاستراحة

تحقيق القول في جلسة الاستراحة مسألة جلسة الاستراحة للعلماء فيها وجهان: فمنهم من قال: هي سنةٌ مطلقاً للكبير والصغير، واحتجوا بحديث مالك بن الحويرث، وما جاء في بعض روايات حديث أبي حميد الساعدي، وما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علّم المسيء صلاته أمره بهذه الجلسة، ولكن هذه الزيادة في حديث أبي هريرة في صحيح البخاري ضعيفة، ونبَّه على ضعفها غير واحد كما أشار إليه الحافظ ابن حجر رحمةُ الله عليه، هذه الزيادة من أمره عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته بعد فراغه من السجدة الثانية أن يرجع ضعيفة، والأقوى فيما اعتمده الإمام الشافعي رحمه الله في إثبات هذه الجلسة -وهو وجهٌ عند الحنابلة- حديث مالك بن الحويرث، وهو حديث صحيح لا يختلف اثنان في ثبوته، ولكن الإشكال أن مالك بن الحويرث قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر عمره بعد عام الوفود. وثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في آخر عمره أخذه اللحم، بمعنى أنه بدُن وثَقُل صلوات الله وسلامه عليه، كما في حديث عائشة: (فلما سن وأخذه اللحم) ولذلك كان يصلي في قيام الليل جالساً، حتى إذا قرُب من قدر مائة آية قام وقرأها ثم ركع. فقالوا: كونه يراه في آخر عمره بهذه الصفة يدل على أنه كان يفعلها لحاجة، فهي سنةٌ للمحتاج، إما لضعفٍ أو مرضٍ أو كِبَر، ولكن الحدث والقادر فإنه يقوم مباشرة. وهذا القول هو أولى الأقوال، وهو مذهب المالكية والحنفية، وقولٌ عند الحنابلة رحمة الله عليهم، والدليل على ذلك أنه ثبت عندنا أمر في حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثم ارفع)، وهذا بعد السجود، وهو في الصحيحين، والأمر يقتضي الوجوب. وحديث مالك متردد بين أن يكون سنةً جبلِّية لمكان الحاجة، وبين أن يكون سنةً تشريعية للأمة، ولمكان هذا الاختلاف فإنه يُبقى على الأصل من كونه يقوم مباشرةً، ومن تأول هذه السنة وفعلها أيضاً فلا حرج عليه، فلو ترجح عند الإنسان الأخذ بحديث مالك بن الحويرث واعتبرها سنةً مطلقة فإنه لا حرج عليه ولا يُنكر عليه، وكلٌ على سنة وخير. فالأصل عند سلف الأمة رحمةُ الله عليهم أنه لا يُشنَّع عليه ولا يُبدَّع، ولا يؤذى من تأول سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعنده سلفٌ من هذه الأمة يقول بقوله، فلا حرج على من جلس وهو يتأول السنة، ومثابٌ إن شاء الله، ولا حرج على من قام وهو يتأول السنة. ولكن لو ترجح عند الإنسان أن جلسة الاستراحة تعتبر سنة فالأفضل له أن لا يداوم عليها؛ لأن كون الصحابة كـ ابن عمر وأبي هريرة وأنس، والذين هم محافظون على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقومون بعد السجود مباشرة، ولم يُحفظ عن واحدٍ منهم أنه كان يجلس هذه الجلسة يدل ويؤكد على أنها على الأقل لا يُوَاظَب عليها؛ لأنه لو وُوظِب عليها لانتشر ذلك وذاع بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك الأولى والأحرى أن الإنسان إذا تأوّل اعتبارها أن لا يداوم عليها، وإنما يفعلها أحياناً. وهنا مسألة وهي: لو ترجح عند الإنسان أنها سنة، فإذا سها مرة فظن أنه في الركعة الثانية، فلما رفع من السجود وفي نيته أن لا يجلس جلسة الاستراحة، فكان عليه أن يقوم، فجلس ناوياً التشهد، ثم تذكر أنه في الركعة الأولى، فهل تنقلب إلى جلسة استراحة، أو تعتبر عملاً زائداً في الصلاة ويسجد للسهو؟ و A لو أنه ابتدأ بالتشهد وتكلم فلا إشكال، لكن قبل أن يتكلم بالتشهد إن تذكَّر ثم قام فالذين يقولون: لا تشرع جلسة الاستراحة للحدث عندهم وجه واحد وهو أنه يسجد سجود السهو. والذين قالوا بمشروعية جلسة الاستراحة اختلفوا: فقال بعضهم: يسجد للسهو؛ لأنه لم يفعلها بقصد السنية، وإنما فعلها على سبيل السهو، والسجدتان جابرتان لهذا النقص. وقال بعض العلماء: إنها تنقلب جلسة استراحة؛ لأن سجود السهو إنما شُرِع لزيادة وهو في الحقيقةِ لم يَزِد، وهذا مبني على أصل، هل يغلّب الظاهر أو الباطن؟ إن قلت: يُغلَّب الباطن لزمه سجود السهو؛ لأنه في الباطن يَعتقد أنها جلسة التشهد، وإن قلت: يُغلَّب الظاهر فإنه في هذه الحالة لا يلزمه أن يسجد؛ لأن الظاهر معتبرٌ مأذونٌ به شرعاً. والوجهان ذكرهما الإمام النووي رحمه الله، وغيره من أصحاب الشافعي الذين يقولون بمشروعية جلسة الاستراحة، وكلا الوجهين من القوة بمكان، لكن القول الذي يقول: إنه يسجد للسهو أقوى من ناحية النظر.

ما يفعله المصلي في الركعة الثانية

ما يفعله المصلي في الركعة الثانية قال رحمه الله تعالى: [ويصلي الثانية كذلك ما عدا التحريمة والاستفتاح والتعوذ وتجديد النية] قوله: (الثانية) أي: الركعة الثانية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف للمسيء صلاته الركعة الأولى أمره أن يفعل في الثانية مثل ما فعل في الأولى، والسنة أن تكون الثانية أخف من الأولى. قال بعض العلماء: تخفَّف قسطاً. وقال بعضهم: هي كالأولى في قدر المقروء. وتوضيح هذين القولين أننا لو قلنا: تخفف قسطاً -أي: في القراءة، لأن طول القيام يقوم على القراءة- فمعناه: أن تختار سورة أقل من السورة التي في الركعة الأولى، وإن قلت: ليس المراد أن تخفف قسطاً، وإنما باعتبار فلك أن تختار سورةً مثل السورة التي في الركعة الأولى، ويكون التخفيف بفارق دعاء الاستفتاح في الأولى، فهذا الفرق بين الوجهين، تخفيفها قسطاً أقوى من جهة السنة، ولكن هناك أحاديث تدل على أنه لا حرج أن تتساوى الركعة الأولى مع الثانية في القراءة، ويكون الفضل لدعاء الاستفتاح، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام قراءته للزلزلة في الركعتين، قال الصحابي: ما أُرَاه إلا نسي. وهو في الحقيقة لم ينس عليه الصلاة والسلام، وإنما فعل ذلك لكي يبين أنه لا حرج أن تقرأ في الركعة الثانية نفس السورة التي قرأتها في الركعة الأولى. فهذا الحديث يشير إلى أن التخفيف في الركعة الثانية قد يكون باعتبار زيادة دعاء الاستفتاح، خاصةً إذا أطال الإنسان في قيام الليل، ولكن وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في تخفيفه للقراءة في الركعة الثانية عن الركعة الأولى، وبناءً على هذا يكون حال الإنسان في الركعة الثانية أخف، فلا يدعو بدعاء الاستفتاح، ولا يُكبر تكبيرة الإحرام، وإنما يكبر تكبيرة الانتقال، ولا يتعوذ على ما اختار المصنف، وإن كان الأقوى أنه يتعوذ، وذلك لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]، وللعلماء في هذه المسألة وجهان: فمنهم من قال: يتعوذ. ومنهم من قال: لا يتعوذ. والسبب في هذا الفاصل، فهل هو من جنس العبادة الواحدة، أم من جنس العبادة المختلفة؟ والأقوى أنه يتعوَّذ، فالذين يقولون: إن انتقاله لا يؤثر يقولون: ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ -كما في حديث ابن مسعود - في قيام الليل، فما مر بآية رحمةٍ إلا سأل الله من فضله، ولا مر بآية عذاب إلا استعاذ بالله، قالوا: ففَصَل بين القراءة الأولى والقراءة الثانية بالتعوذ وسؤال الرحمة، ومع ذلك لم يبتدئ قراءته من جديد. فدل على أن الذكر الذي هو من جنس القراءة في حكم المقروء، وبناءً على ذلك قالوا: الفصل بالركوع والسجود وأذكارهما بمثابة كأنه في عبادةٍ واحدة. وقال الآخرون: إن الاستعاذة لفظٌ مخصوص، وزيادته في الصلاة تحتاج إلى دليل. والأقوى أنه يتعوذ لعموم الأدلة، ولا مُخصِّص يدل على سقوطها في هذا الموضع، فيبتدئ بالاستعاذة.

الأسئلة

الأسئلة

قول: (ربنا ولك الحمد ولك الشكر) زيادة لم تثبت

قول: (ربنا ولك الحمد ولك الشكر) زيادة لم تثبت Q ما حكم زيادة: (ولك الشكر) في قول: (ربنا ولك الحمد) بعد تسميع الإمام؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهذه الزيادة لم تثبت، فالشكر ثابتٌ لله عز وجل في الأصل على العموم، ولكن اختيار هذا الموضع لزيادة الشكر لا أصل له، وإنما الوارد أن يقول ما ذكرناه، وله أن يقول: (حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه)، وإن كان بعض العلماء رحمة الله عليهم سامح في الثناء على الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الصحابي حينما قال: (حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه)، قال: فالمقام مقام تمجيد، فلو مجّد الله وعظّمه فإنه لا حرج عليه. لكن الأولى والذي ينبغي دلالة الناس على السنة والاقتصار على الوارد، والقاعدة -كما نبه عليها العز بن عبد السلام - أن الوارد أفضل من غير الوارد، وهذا فيما شُرِع فيه الدعاء والثناء، فلو اخترت لفظاً وارداً فهو أفضل من غير الوارد، فكيف إذا كان محتمِلاً التقيي؟! ولذلك القول بالتقيد من القوة بمكان، ويُنبه الناس على السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

حكم من سجد على الجبهة دون الأنف

حكم من سجد على الجبهة دون الأنف Q هل إذا سجد على الجبهة دون الأنف أجزأه ذلك؟ A هذا فيه خلاف بين العلماء رحمةُ الله عليهم، وقد جاء في حديث ابن عباس الجمع بين الجبهة والأنف، حيث أشار عليه عليه الصلاة والسلام إلى جبهته وأنفه. واختلف العلماء، في الاقتصار على واحدٍ منهما دون الآخر، فقال بعضهم: يُجزيه، ويكون هذا على سبيل أنه عضو أو جزء العضو، وإذا سجد ببعض العضو قالوا: يُجزيه السجود ولكن يأثم بالترك. فهذا هو أعدل الأقوال وهو أنه يأثم بترك الأنف لو تركه، والجبهة لو تركها، كما لو سجد على يده فاعتمد على رءوس أصابعه متعمداً فإنه يصح سجوده من جهة الإجزاء، ولكنه يأثم بترك الباطن، فهو جزء المأمور به. فإذا قلنا: إن الجبهة والأنف بمثابة العضو الواحد على ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (على سبعة أعظم) فإنه في هذه الحالة يكون من جنس الجزء المشتمل على موضعين، كالحال في الكف والأصابع، فبطن اليد شيء والأصابع شيءٌ آخر، فلو اتكأ على أطراف أصابعه، أو رفع أصابعه واعتمد على راحته فإنه يجزيه ويأثم.

حكم السجود على العمامة

حكم السجود على العمامة Q إذا كان المأموم لابساً عمامته فهل له أن ينحيها قليلاً حتى يمكن جبهته من السجود؟ A استحب العلماء رحمةُ الله عليهم أن لا يغطي الإنسان جبهته؛ لأنه شعار أهل الخير والصلاح، وقد وصف الله عز وجل أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29]، وهذا لا يتأتى إلا برؤية الناس لهذا الموضع، ولذلك استُحِب لطالب العلم ولأهل الفضل والصلاح أن يكشفوا عن هذا الموضع، وكان معروفاً في عهد السلف، ولذلك لما قال ابن النصرانية الأخطل في الأنصار يهجوهم -قاتله الله وأبعده ولعنه-: ذهبت قريشٌ بالمفاخر كلها وبقى اللؤم تحت عمائم الأنصارِ لما قال ذلك دخل قيس بن سعد رضي الله عنه وأرضاه على معاوية وكشف جبهته وقال: أترى لؤماً؟ قال: لا. والله ما أرى إلا خيراً ونبلاً. قال: ما بال ابن النصرانية يقول كذا وكذا؟ قال: لك لسانه. فأهدر لسانه، ثم إنه فرّ. فالمقصود أنهم كانوا يرون أن من شعار أهل الصلاح والخير كشف هذا، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (مسح على ناصيته وعلى العمامة). وكان بعض العلماء رحمة الله عليهم يكشفون عن النواصي أحياناً، إيثاراً للتواضع والذلة لله عز وجل، حتى يكون أبلغ في قبول الناس له وإقبالهم عليه، خاصةً العلماء ومن يُحتاج إليه، فإنهم إذا كانوا على سمتٍ فيه لين ورفقٌ بالناس كلما كان ذلك أبلغ لقرب الناس منهم، وتغطية هذا الموضع يفعلها الإنسان في الغالب على سبيل الكبر أو الخيلاء، فلذلك الأفضل أن يجلي جبهته. وإذا أراد أن يسجد -نظراً إلى أنه مأمورٌ بالسجود على الجبهة- فإنه يجليها حتى يتمكن من السجود، والله تعالى أعلم.

حكم تكرار الفاتحة في الركعة الواحدة

حكم تكرار الفاتحة في الركعة الواحدة Q إذا قرأ المصلي بعد سورة الفاتحة سورة الفاتحة أيضاً فهل صلاته جائزة؟ A إذا قرأ المصلي سورة الفاتحة بعد قراءتها فهذا على صور: الصورة الأولى: أن يقرأ ذلك متعمداً متقصداً تكرار الفاتحة، فللعلماء فيه وجهان: قال بعض العلماء: تبطل صلاته؛ لأنه زيادة ركنٍ، فكما أن زيادة الأركان في الأفعال تبطل الصلاة، كذلك زيادة الأركان في الأقوال تُبطل الصلاة. وهذا القول من جهة الأصول قوي؛ فإنك إذا نظرت إلى أنها زيادةٌ مقصودة في ركنٍ مقصود فإنها كزيادة الأفعال، ولذلك يقوى هذا القول من الوجه الذي ذكرناه. وقال بعض العلماء: أساء ولا تبطل صلاته. ولذلك هذا الفعل أقل درجاته أنه إذا تقصَّده فهو حدث وبدعة؛ لأنه لا يفعل ذلك إلا على سبيل الفضل، ولم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون مبتدعاً من هذا الوجه. أما لو شك هل قرأ الفاتحة أو لم يقرأها، ثم قرأها على سبيل الجزم والاحتياط فهو مأمورٌ بقراءتها في هذه الحالة وتجزيه، فلو صليت ثم شككت: هل قرأت الفاتحة أو لم تقرأها -خاصةً إذا كان الإنسان وحده، أو كان إماماً في سرية من ظهر أو عصر- فإنه في هذه الحالة يعيد قراءتها، ولو ركع قبل أن يجزم بقراءتها فإنه يلزمه قضاء تلك الركعة، فيجب عليه أن يقرأها ويتأكد من قراءتها، إلا إذا كان مبتلىً بوسواس فإنه في الوسوسة لا يلتفت إليها، ولا يعمل بها، والله تعالى أعلم.

مشروعية صلاة الضحى والمداومة عليها

مشروعية صلاة الضحى والمداومة عليها Q هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يداوم على صلاة الضحى أم لا؟ وهل المداومة عليها من السنة، أم نصلي بعض الأيام ونترك بعضها؟ A صلاة الضحى ورد فيها حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وغيره من الأحاديث التي تدل على مشروعيتها وسنيتها، وكون عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ينكرها وغيره من الصحابة فإن من حفظ حجةً على من لم يحفظ، وكم من سنن خفيت على الأفاضل من كبار الصحابة، كما ثبت عن عمر رضي الله عنه في الصحيح أنه لما نزل بالشام أُخبر بخبر الطاعون -طاعون عمواس- فامتنع من دخول الشام، فقال له أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه: (نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله?!) فبيَّن له أن هذا من الأسباب، وليس له علاقة بالفرار ما دامت عقيدته في الله عز وجل وأخذ بالسبب، فلا حرج عليه، ثم قام في الناس فقال: أُحرّج على من كان عنده خبر من هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعلمنا أو يخبرنا. فقام عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وقال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه)، فحمد الله على موافقته للسنة. فهذا يدل دِلالة واضحة على أنه قد تكون السنة خافية على كبار الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فكيف بـ ابن عمر رضي الله عن الجميع وأرضاهم؟! وإن كان ابن عمر له فضله ومكانته وعلمه وورعه رضي الله عنه، ولكن المقصود أن كون ابن عمر لا يراها لا يدل على نفيها، فهي ثابتة، ومن السنة فعلها. والأصل أن ما جاء على الإطلاق لا يُقيد إلا بدليل، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بها أبا هريرة رضي الله عنه، ويوصيه بها فإنها سنةٌ ثابتة، فتبقى سنة ثابتة حتى يدل الدليل على التقييد بفعلها تارة أو تركها تارة. ويبقى النظر: هل فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم أو لم يفعلها؟ فهذا مما سكتت عنه الأخبار، وليس عندنا دليل يثبت أنه كان يصلي ركعتي الضحى، وليس عندنا دليل ينفي ذلك. والقاعدة أنه إذا لم يرد ما يوجب النفي وما يوجب الإثبات رُجِع إلى الأصل، فلما كان الأصل عندنا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بها على الإطلاق نبقى على هذا الإطلاق، ونقول: هي سنة. فلو قال قائل: كيف ولم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مداومته؟ قلنا: ولو ثبت عنه أنه تركها فإنه لا يعتبر دليلاً على نفي المداومة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك العمل وهو يحب أن يفعله خشية أن يُفترض على أمته، كما ثبت في الحديث الصحيح. وبناءً على ذلك نقول: السنة المداومة عليها للإطلاق، ولا حرج على الإنسان أن يداوم عليها، وهو على خير. كما أنه ثبت في الحديث الصحيح ما يدل على تقوية هذا القول من قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال)، فصلاتهم هذه معناها أنه أمر ألفوه وداوموا عليه، فلا يحتاج إلى أن يُقيد بدليل، فنبقى على هذا الإطلاق من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، والله تعالى أعلم.

حكم قيام الليل لمن صلى الوتر بعد العشاء

حكم قيام الليل لمن صلى الوتر بعد العشاء Q هل يجوز للمسلم أن يقوم الليل إذا كان قد صلى الوتر بعد العشاء مباشرة؟ A من صلى الوتر بعد العشاء وأحب أن يقوم الليل فلا حرج عليه، وكان ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه يقوم بعد أن يوتر، وينقض وتره بركعةٍ، ثم يصلي ركعتين ركعتينِ، ثم يوتر. ولا حرج على الإنسان أن يفعل ذلك؛ فإنه ربما خاف الإنسان أن لا يقوم فاحتاط بالوتر في أول ليله، ثم يريد الله به الخير فيستيقظ من آخر ليله، فلا حرج عليه أن يصلي، وأن يسأل الله من فضله؛ لعموم الأدلة الثابتة في ذلك، وإن صلى ركعتين ركعتينِ ولم يوتر فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها- صلى ركعتين بعدما أوتر. فدل هذا على أنه من السنة ولا حرج، وقد ألف فيه الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه رسالة في إثبات سنية الشفع بعد الوتر، ولكن السنة والأفضل والذي داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم جعْل الوتر في آخر الصلاة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا). نسأل الله العظيم أن يرزقنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً، وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.

باب صفة الصلاة [5]

شرح زاد المستقنع - باب صفة الصلاة [5] للتشهد صفة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وله صور وحالات معلومة، وينقسم إلى: التشهد الأول، والتشهد الثاني، فإذا أتم التشهد الثاني فإنه يسلم من صلاته، وللتسليم صور واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك يكون قد أتم صلاته على أكمل وجه وأحسنه.

صفة الجلوس للتشهد

صفة الجلوس للتشهد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ثم يجلس مفترشا ويداه على فخذيه] أي: إذا تم من الركعة الثانية يجلس مفترشاً كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكذلك غيرها في صفة جلوسه عليه الصلاة والسلام أنه (افترش اليسرى ونصب اليمنى، واستقبل بأطراف أصابعه القبلة)، صلوات الله وسلامه عليه. وكان الصحابة رضوان الله عليهم يفعلون ذلك، حتى أُثر عن بعضهم أنه كان إذا انحنى إبهامه أصلحه حتى يكون مستقبلاً القبلة، ويكون معتمداً عليه في جلوسه، وهذه إحدى الجلسات. كذلك أيضاً جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه جلس بين السجدتين، فنصب قدميه وجعل صدور القدمين على الأرض مستقبلاً بها القبلة وإليته على العقبين، وهذا ليس بالإقعاء المنهي عنه، فقد ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وأنه من السنة فلا حرج فيه، وإنما الإقعاء المنهي عنه أن يجعل طرفي القدمين ويفضي بإليتيه إلى الأرض، فهذا الصورة للإقعاء. الصورة الثانية: أن ينصب رجليه، ثم يفضي بإليتيه إلى الأرض. الصورة الثانية: أن تكون بطون القدمين إلى الأرض، وتلتصق العقبان بالإلية، هذه كلها صور للإقعاء المنهي عنه. أما لو نصب واستقبل بأطراف أصابعه القبلة؛ فإن هذا ورد فيه حديث ابن عباس أنه من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله: [ويداه على فخذيه] أي: تكون يدا المصلي على الفخذين، وهذه جلسة التشهد، فقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه فعل هذا الفعل، فشرع رحمه الله في الصفة الفعلية، فجلسة التشهد تحتاج إلى فعلٍ وقول، أما الفعل فشيءٌ منه يتعلق بمؤخر الإنسان وشيء يتعلق بمقدمه، فالذي يتعلق بمؤخَّره فقد ذكرناه من افتراش اليسرى ونصب اليمنى، واستقبال القبلة بأطراف أصابع اليمنى. أما ما يتعلق بمقدمه فنبدأ بوضع اليد اليسرى، وفيه ثلاثة أوجه: الوجه الأول: قال بعضهم: يُلقِمها ركبته كما جاء في السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنه ألقَم ركبته، والإلقام: أن تجعلها بمثابة الفم على الركبة، كأن نصفها على آخر الفخذ، ونصفها الذي هو أطراف الأصابع ملتصق بظاهر الركبة، وهذه الصورة تعرف عند العلماء بصورة اللقم. الوجه الثاني: أن يجعل رءوس أصابعه عند ركبته مستقبلاً بها القبلة. الوجه الثالث: أن تكون على الفخذ، بمعنى أنها لا تكون قريبة من الركبة، وإنما تكون على الفخذ. هذه ثلاثة أوجه للعلماء رحمةُ الله عليهم. واليد اليسرى بالإجماع أنه لا يشرع التحريك فيها، والأصل في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مرّ على الرجل وهو يشير بإصبعيه قال: (أحِّد أحِّد) أي: اجعله واحداً، فنهى عن رفع إصبعه الثانية؛ فدل هذا على أنه ليس من السنة أن يشير بالأصبعين من اليدين، وإنما يقتصر بالإشارة على الكف الأيمن. قال رحمه الله: [يقبض خنصر يده اليمنى وبنصرها] بالنسبة للوسطى مع الإبهام يحلق بهما، ويشير بالسبابة. والسبابة: هي ما بين الإبهام والوسطى، فالعرب تسمي أصغر الأصابع: الخنصر؛ ثم التي تليها البنصر، ثم الوسطى، ثم السبابة، ثم الإبهام، والسبابة سُمِّيت بذلك لأن الإنسان عند السب أو اللعن -والعياذ بالله- مع شدة الغضب يشير بها، كالمتوعد، ووُصِفت بهذا وأصبح اسمها، فيقبض الخنصر والبنصر، ثم يحلق ما بين الوسطى والإبهام، ويشير بالسبابة. [ويحلق إبهامها مع الوسطى ويشير بسبابتها في تشهده] بعض العلماء يرى أنها تكون كالدائرة، وقال بعضهم: أن يجعل طرف الإبهام عند منتصف السبابة، وهذا مبني على رواية: إحدى وخمسين، بناءً على حساب العرب في عدّ الأصابع. وبعضهم يرى أنه يكون جامعاً بها على هذه الصفة، بحيث تجتمع الأنملة العليا من الوسطى مع طرف الإبهام، وهذا وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في التحليق، وثبت عنه في الأحاديث الصحيحة، ويشير بالتوحيد عند قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله) وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (أحّد) والسبب في هذا أن الأصل عدم التحريك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسكنوا في الصلاة) وقال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]. قالوا: الأصل السكون وعدم الحركة والكلام حتى يدل الدليل على حركة وكلام معتبر، فلما جاء الدليل ووجدنا أنه عليه الصلاة والسلام أمره بالتوحيد، فدلّ ذلك على أنه عند الشهادة، وهذا على الأصل، ولذلك قالوا: يرفعها عند قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله) وهذا هو أوجه الأقوال وأعدلها وأقربها إلى السنة إن شاء الله تعالى. وللعلماء في هذه الإشارة أوجه: منهم من يرى أنه يُشار بها شديدا، يعني: بقوة، ومنهم من يرى أنها لا تُشد ولا تُرخى وإنما يُتوسط فيها، كما جاء في حديث ابن عمر عند البيهقي وغيره؛ ولذلك قالوا: منكتاً بها إلى الأرض، وهذا أولى الأقوال، ولو فعل الأول فلا حرج، لكن أولى الأقوال أنه يُنَكِّت بها إلى الأرض، ويرمي ببصره إليها، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينظر إليها كما في حديث السنن. إذاً: ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجعل مرفقه عند فخذه صلوات الله وسلامه عليه، ثم يعقد خنصره وبنصره، ويحلق بالوسطى مع الإبهام ويشير بالسبابة. وهناك صورة أخرى اشتمل عليها حديث وائل بن حجر رضي الله عنه وأرضاه، وحديث أحمد في المسند، وكذلك غيره عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد ثلاثاً وخمسين، وهذا يعني: أن يعقد الخنصر والبنصر والوسطى، ويجعل الإبهام عند أصل الوسطى. الصورة الثالثة: أنه يستقبل بالأصابع القبلة، ويجعل أصابعه مستقبلة القبلة، ويُشير بالسبابة، وهذه الصورة اختارها بعض العلماء رحمهم الله استحساناً، من جهة استقباله للقبلة، قالوا: لأنها هيئة الساجد. والأقوى ما ذكرناه من الصفتين أنه إما أن يُحلّق بين الوسطى وبين الإبهام ويشير بالمسبحة، وإما أن يعقد ثلاثاً وخمسين. والسبب في ذلك أن الخنصر واحد، والبنصر الثاني، والوسطى الثالث، والعرب إذا أرادت أن تعد تعقد الإبهام إلى أصل الأصابع، فيكون فيه إشارةً إلى الخمسين، فأصبح المجموع ثلاثاً وخمسين. هاتان الصفتان هما أقوى ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة كفه اليمنى أثناء التشهد. أما بالنسبة للكف اليسرى فلها كما قلنا إما أن يجعلها على فخذه، وإما أن يجعل أطراف أصابعه عند ركبته، وإما أن يلقم بها الركبة، وكلٌ قد جاءت به سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الإشارة باليسرى فإنه لم يثبت بها دليل، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس وغيره أنه رأى رجلاً يشير بإصبعيه يدعو بهما، فقال عليه الصلاة والسلام: (أحّد أحد) وهو حديث عند النسائي، وهذا على سبيل المناسبة؛ فإن الله واحد؛ ولذلك جعل الإشارة بتوحيده بالإصبع الواحدة، ولم يجعله بإصبعين، حتى تكون هناك مناسبة بين العدد الذي يشير به وبينما يدل عليه.

حكم الإشارة بالإصبع في التشهد

حكم الإشارة بالإصبع في التشهد الإشارة في الصلاة للعلماء فيها ثلاثة أوجه: منهم من قال: يشير ولا يحرك، وهذا بناءً على ما ثبت في حديث ابن عمر وحديث وائل رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار بها، وكلها أثبتت الإشارة دون تحريك. وأما التحريك فقالوا: أخذوه من حديث ابن الزبير (يدعو بها) قالوا: والدعاء بها يقتضي التحريك، وجاءت أحاديث -لم يخل حديث منها من كلام، وقد أشار الذهبي وغيره إلى ضعفها- أنها مذعرةٌ للشيطان أي: أنها تصيب الشيطان بالذعر، ولكن لم يصح في ذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والأحاديث إما منكرةٌ أو موضوعة. والذين قالوا بالتحريك ينقسمون إلى طائفتين: طائفة تقول: يبتدئ الدعاء بالرفع، فيجعل الرفع عند ابتداء كل دعاءٍ، وعلى هذا إذا قال: (اللهم إني أعوذ بك من فتنة المحيا والممات) ابتدأ الرفع عند قوله: (اللهم) وكلّما ابتدأ دعاءً رفع إصبعه سائلا الله عز وجل الإجابة. هذا بالنسبة لمذهب من يقول: يدعو بها؛ أي: أنه يحركها عند ابتداء كل دعوة. والقائلون بهذا القول كأنهم يرون أن الأصل هو ثبوت الإصبع، فقالوا: يدعو بها؛ ويتقيد تحريكها بالدعاء. لكن يُشكل عليهم لفظ الشهادة، فإنه لا يشتمل على السؤال، ولا يشتمل على الدعاء؛ فالذين يقولون: تثبت دون تحريك أي: من عند قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله) يبقى مشيراً بها ومنكِّتاً إلى الأرض، كما في حديث ابن عمر عند البيهقي وغيره، وعلى هذا تثبت إلى نهاية الصلاة. وأما الذين يقولون بالتحريك فيقولون: يبتدئ تحريكها عند الشهادة فيشير ثم يقبض، فإذا ابتدأ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لاشتمالها على نوع من الدعاء: (اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد) فيحرك عند ابتداء كل صلاةٍ؛ لأنها دعاء ومسألة. والذين قالوا بالتحريك المطلق -وهو أضعف الأقوال، وهو القول الثالث- قالوا: إنه يشير بها، أي: يحركها سواء كان في ابتداء الدعاء أو أثنائه. وأقوى هذه الأقوال أنه يشير بها ولا يحركها؛ وذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اسكنوا في الصلاة) وقوله: (يدعو بها) متردد بين شهادة التوحيد وبين أن يبقى مشيراً بها، فنقول: إن من رفعها أثناء دعائه فكأنه داعٍ بها؛ ولذلك ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا خطب لا يزيد على الإشارة بها صلوات الله وسلامه عليه.

التشهد الأول والصيغ الواردة فيه

التشهد الأول والصيغ الواردة فيه قال رحمه الله تعالى: [ويقول: (التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله). هذا التشهد الأول] التشهد -كما قلنا- يشتمل على فعلٍ وقول، ففرغ رحمه الله من هيئة المتشهد، ثم شرع في أذكار التشهد، والسبب في تقديمه للأفعال والأوصاف على الأقوال أن أول ما يبتدئ به المتشهد أن يهيئ مجلسه للتشهد، فابتدأ بهيئة الجلوس، ثم أتبعها بذكر الجلوس، وذكر التشهد يبتدئ بالتحيات. وقد جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم صِيغٌ للتشهد، منها حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي ذكره المصنف. ومثله حديث عبد الله بن عمر، وحديث أبي موسى الأشعري مع اختلاف يسير، وهناك صيغٌ أخرى منها تشهُّد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وتشهد عمر بن الخطاب. فأما الإمامان أحمد وأبو حنيفة فاختارا تشهد ابن مسعود هذا، والسبب في ذلك أنه قال: (علمني النبي صلى الله عليه وسلم التشهد وكفي بين كفيه) إشارة إلى القرب واتصال الرواية، ولأن ألفاظ تشهد ابن مسعود جاءت متناسقة، ولم يحدث بينها اختلاف، ولأن هذا التشهد علَّمَه غير واحدٍ من السلف، فلذلك قالوا: إنه أفضل صيغ التشهد. وقيل بتشهد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما: (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله)، وهناك تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات لله)، وفي رواية: (الطيبات) بدون (لله)، وفي رواية: (الطيبات لله، والصلوات لله)، وكلتاهما روايتان ثابتتان عن النبي صلى الله عليه وسلم. فاختار الإمام الشافعي تشهُّد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، واختار الإمام مالك رحمه الله تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد بيّن المحققون -ومنهم الإمام الحافظ ابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية كما قرره في القواعد النورانية، وابن عبد البر في الاستذكار، وكذلك الإمام ابن القيم رحمه الله في غير ما موضع من كتبه- أن الأمر واسع، فإن شئت تشهدت بتشهد ابن مسعود، أو بتشهد عبد الله بن عباس، أو بتشهد عمر بن الخطاب. وكأنهم يرون أن هذا الخلاف إنما هو من اختلاف التنوع، وليس من اختلاف التضاد، فالأمر واسع، فإن شئت تشهدت بهذا، وإن شئت تشهدت بهذا، واستحب بعض العلماء أن يُكثر من تشهد عبد الله بن مسعود وذلك لقوة رواياته، ولكن ينوع في بعض الصلوات بالتشهد الآخر الوارد عن عمر وعن عبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع. ومعنى: (التحيات) أي: البقاء والدوام لله عز وجل. ومعنى: (والصلوات) أي: الثناء على الله سبحانه وتعالى، والأدعية مختصة بالله عز وجل لا تكون لغيره. وقوله: (والطيبات) وصَفَها بالطيب؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً سبحانه وتعالى. و (المباركات) من البركة، وأصل الشيء المبارك: الكثير الخير والنماء والزيادة، فالبركة هي النماء والزيادة والخير الكثير. وقوله: (السلام عليك أيها النبي) جاء في الرواية عنهم أنهم رضي الله عنهم لما توفي عليه الصلاة والسلام كانوا يقولون: (السلام على النبي)، وقال بعض العلماء: يُبقى على اللفظ الوارد؛ لأنه هو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة فيقتصر عليه، وإن قال الإنسان: (السلام على النبي) فلا حرج. فالذين قالوا إنه يقول: (السلام عليك أيها النبي) قالوا: إن كاف الخطاب لا يشكل عليها وفاته عليه الصلاة والسلام؛ لأن الصحابة كانوا يسافرون، وكانوا يبتعدون أحياناً عن النبي صلى الله عليه وسلم في حال حياته، ومع ذلك لم يغيروا هذا اللفظ، فيبقى هذا اللفظ على ما هو عليه لا يختلف في حياته وموته صلوات الله وسلامه عليه، ولا شك أن هذا المذهب من جهة الاتِّباع والقوة في التأسي من حيث اللفظ الوارد هو أقوى، وذلك لأن التحيات ذكر مخصوص، وينبغي أن يلتزم فيه المصلي ما ورد، وأما اجتهاد الصحابة رضوان الله عليهم فهذا منهم، فلهم أجرهم على الاجتهاد، ولكن الأقوى والأولى ما ذكرناه. وقول: [السلام عليك أيها النبي ورحمةُ الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين] في التشهد لأنهم كانوا في القديم يسلّم بعضهم على بعض عند انتهاء الصلاة، فأبدلهم الله عز وجل بهذا، وكانت هي الصلاة المدنية؛ فعندما كان يسلم بعضهم على بعض، ويشير بعضهم على بعض لبُعدهم قال صلى الله عليه وسلم: (ما لي أراكم رافعي أيديكم كأذناب خيلٍ شمسٍ، اسكنوا في الصلاة)، فنهاهم عن هذا السلام، وأبدلهم الله بقول: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)، وقد ورد في الخبر أنه لا يبقى عبدٌ لله صالح إلا أصابه هذا السلام، إذا قال المصلي: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)، وفيه دليل على فضل صلاح الإنسان. قال بعض العلماء: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) عامة تشمل كل مسلم. وقال بعضهم: بل تختص بمن زاد خيره وزادت طاعته، فهو المختص بهذا التسليم من المصلين إظهاراً لشرف الصلاة والزيادة في الهداية، فكلما زادت هداية الإنسان وازداد صلاحه وخيره كان عليه سلامٌ من المصلين، فمن صلى نفلاً أو فرضاً أصابه هذا التسليم من عباد الله المصلين، وهذا فضلٌ عظيم وخيرٌ كثير. وأما قول: [أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله] لقد جاء في الرواية الثانية: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له -بزيادة (وحده لا شريك له- وأشهد أن محمداً رسول الله)، وجاء في روايةٍ أيضاً: (محمداً عبده ورسوله)، وكل هذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: [هذا هو التشهد الأول] لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبع كلمات وهي تحية الصلاة)، وهو حديث عند مسلم وغيره، قالوا: هو التشهد الأول؛ لأن التشهد تفعلٌ من الشهادة، فمن بلغ إلى قوله: (أشهد أن لا إله الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) فقد انتهى من تشهده الأول، وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإنها لا تكون في التشهد الأول على أصح أقوال العلماء، وهو مذهب الجمهور، خلافاً لمن قال إنها تكون في التشهد الأول. والسبب في ذلك أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم دعاء، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الدعاء إنما يكون في التشهد الثاني لا في التشهد الأول، وقد اختلف في حديث النسائي وغيره الذي فيه ما يدل على أنه يدعو في التشهد الأول، ولذلك خطَّأ بعض العلماء هذه الرواية، وقوَّى أن الدعاء إنما هو في التشهد الثاني، وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لمن انتهى من صلاته: (ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء)، فالتشهد الأخير هو تشهد المسألة والدعاء، وأما التشهد الأول فإنه لا يُدعا فيه، ولذلك جاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (كان إذا جلس في التشهد الأول قام كأنما كان على الرضف)، وهو الحجارة المحماة، وهذا إشارة إلى أنه كان يستعجل، ولم يكن يطيل جلوسه للتشهد الأول. ولذلك قالوا: السنة أنه لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أمُرُه عليه الصلاة والسلام بالصلاة عليه في هذا الموضع، فيقتصر على التشهد، وقد سموه تشهداً واسمه دال عليه، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قالوا: فتسمية النبي صلى الله عليه وسلم له تشهداً تدل على أنه يقتصر فيه على قول: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله). فالخلاصة أن ما قلنا هو أقوى الأقوال، هناك قولٌ ثانٍ: أنه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك قولٌ ثالث: أنه يشرع له الدعاء. ولكنه قولٌ ضعيف عند العلماء للاختلاف في ثبوت الرواية بدعائه عليه الصلاة والسلام؛ لأن المحفوظ عدم دعائه، وسرعة قيامه إلى الركعة الثالثة.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الثاني

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الثاني قال رحمه الله تعالى: [ثم يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد]. هذه هي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولها صيغٌ عديدة، واختار المصنف رحمه الله منها هذه الصلاة، وهي صحيحة ثابتة، فهذه الصلاة لها أكثر من عشر صيغ ثابتة في الكتب الستة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأي صلاةٍ صلى بها فإنها مجزئة، لكن المعتبر منها الصلاة الإبراهيمية التي اختارها المصنف رحمة الله عليه، وقد دلّ عليها حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه وأرضاه.

حكم الاستعاذة من النار والقبر بعد التشهد الثاني

حكم الاستعاذة من النار والقبر بعد التشهد الثاني قال رحمه الله تعالى: [ويستعيذ من عذاب جهنم وعذاب القبر] أي: يسأل الله أن يعيذه من عذاب جهنم، والتعوذ من عذاب جهنم ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال أربع كلمات، اختلف العلماء فيها على وجهين: فمنهم من قال: يُستحب للمصلي أن يتعوذ من هذه الأربع: من فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن عذاب القبر، ومن عذاب جهنم. والسبب في ذلك أمره عليه الصلاة والسلام على سبيل الندب لقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء)، فقوله: (ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء) يدل على الندب والاستحباب، وأنك تقول هذا الدعاء على سبيل الأفضلية لا على سبيل اللزوم. وهناك قولٌ ثانٍ يقول: يجب على المصلي أن يتعوذ بالله من هذه الأربع، ويُلزمه بها، وهو قول بعض فقهاء الظاهرية كما اختاره ابن حزم، بل شدد بعضهم -ويوافقه بعض أهل الحديث رحمة الله عليهم- فقال: من لم يتعوذ بالله من هذه الأربع تبطل صلاته. والصحيح أنها مندوبة مستحبة، وليست بلازمة واجبة؛ لدلالة السنة على صرف الأمر عن ظاهره من الوجوب إلى الندب، والقاعدة في الأصول أن الأوامر تبقى على ظواهرها من الدلالة على الوجوب ما لم يقم الصارف على صرفها عن ذلك الظاهر. وقد قام الصارف في قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء)، فوسَّع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقيِّد. وهذه الأربع -كما يقول العلماء- اشتملت على شرور الدنيا والآخرة؛ فإن الإنسان يأتيه الشر من فتنة المحيا، وقد يؤخر الله عنه البلاء فيكون في فتنة الممات، والأمر الثالث: البرزخ، والرابع: عذاب جهنم. قال بعض العلماء: فتنة الممات ما يكون عند سكرات الموت، نسأل الله أن يلطف بنا فيها. فالإنسان المسلم الموفَّق السعيد يخشى من هذه الأربعة المواضع. الموضع الأول: فتنته في حال حياته، فمادامت روحه في جسده فإنه معرضٌ للفتن، حتى ولو بلغ أعلى درجات الصلاح فإنه لا يأمن أن يُمسِي مؤمناً فيصبح -والعياذ بالله- كافراً، ولا يأمن أن يصبح مؤمناً ويمسي كافراً، ففي الحديث: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) نسأل الله السلامة والعافية. فإذا كان حياً فإنه يخاف من فتنة المحيا، وكم من إنسان كان على خير فانعكس حاله -والعياذ بالله- إلى الشر بسبب طول حياته إلى زمان الفتن، ولذلك كان بعض العلماء -رحمةُ الله عليهم- من مشايخنا يقول: كنت أسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم في أمره بالتعوذ من فتنة المحيا والممات، وكنا نتعوذ، ونسأل الله أن يعيذنا، ولكن لم نعرف ولم نجد أثر ذلك إلا بعد رؤية الفتن، فعلمنا فضل هذا الدعاء: (وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات)، وكم من إنسانٍ يتمنى العيش إلى دهر يسوءه ولا يسره ولا ينفعه، بل يضره، نسأل الله أن يلطف بنا وبكم. الموضع الثاني: إذا سَلِم في حياته فقد يبتليه الله قبل موته، فيختم له بخاتمة السوء، ولذلك قد يتخبط الشيطان الإنسان عند سكرات الموت -والعياذ بالله- فقال صلى الله عليه وسلم: (وفتنة الممات)، فيسأل الله أن يلطف به في فتنة الممات، وأن يجعل خاتمته على خير؛ فإنه قد يموت الإنسان على خاتمة السعداء، وقد يموت على خاتمة الأشقياء، ولذلك ثبت في الحديث أن رجلاً طُعِن يوم أحد فسالت دماؤه فاستعجل الموت -والعياذ بالله- فطعن نفسه فقتل فمات قاتلاً لنفسه. فعلى الإنسان أن يسأل الله أن يلطف به، خاصةً عند سكرات الموت وشدته، فإن سَلِم من فتنة المحيا والممات فإنه قد تكون هناك ذنوبٌ وخطايا منه لم يغفرها الله سبحانه وتعالى لعدم وجود التوبة النصوح منه، فيبتليه بفتنة القبر، فقال صلى الله عليه وسلم: (وأعوذ بك من عذاب القبر)، فإن سلم من فتنة المحيا ومن فتنة الممات، ومن فتنة القبر فإنه يحتاج إلى أن يسلِّمه الله من عذاب جهنم. ثم بعد هذه الفتن الأربع هناك فتنٌ خاصة وهي التي عناها بقوله: (فتنة المسيح الدجال)، فالفتن منها ما هو عام، ومنها ما هو خاص، فاستعاذ من فتنة المحيا العامة، ثم شرع في فتنة المحيا الخاصة وهي فتنة المسيح الدجال، وهي من أعظم الفتن، وسمي مسيحاً لأنه يمسح الأرض، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه لا يدع موضعاً من الأرض إلا وطئه، إلا ما يكون من المدينة، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث تميم الداري - أنه: (على كل نقب من أنقابها ملائكةٌ يحرسونها، فلا يستطيع أن يدخلها، وإنما ترجف فيخر المنافقون إليه في السبخة من أرض الجرف، ويمكث أربعين يوما: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، ويوم كسائر أيام السنة). وتعظُم فتنته، حتى ثبت في الحديث الصحيح أنه يمر على الأرض الخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتخرج كنوزها تتبعه كيعاسيب النحل، أي: من الذهب والفضة وما فيها من الكنوز، فيفتن الناس به فتنةً عظيمة، ويدعي أنه الله، ويعظمُ بلاؤه، وله جنةٌ ونار، فناره جنة وجنته نار، حتى يكتب الله عز وجل للمؤمنين السلامة من فتنته بنزول عيسى ابن مريم عليه السلام وقتله للمسيح، كما ثبتت بذلك الأخبار في الصحيحين. وأما عذاب القبر فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (دخل على عائشة، وكانت قد دخلت عليها يهودية فأطعمتها أم المؤمنين عائشة، فقالت لها اليهودية: أعاذك الله من عذاب القبر، فعجبت عائشة من قولها، فلما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته، فقال عليه الصلاة والسلام: أشعرت أن الله أوحى إليَّ أنكم تفتنون في قبوركم؟! قالت أم المؤمنين: فما سمعته صلى صلاةً إلا واستعاذ بالله من عذاب القبر). وفي الحديث الصحيح من حديث البراء عند أحمد في مسنده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في جنازة أنصاري، فجلس -لكي يلحِدوا له- قال: وجلسنا حوله وكأن على رءوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً)، ثم ذكر الحديث، فالشاهد من هذا أنها فتنة عظيمة تكون للإنسان في قبره، ويستعيذ الإنسان منها لكي تحصل له من الله السلامة، فنسأل الله أن يعيذنا من هذه الفتن ما ظهر وما بطن. قال رحمه الله: [ويدعو بما ورد] أي: يسأل الله عز وجل من خير الدنيا والآخرة بما ورد، فيسأله العافية في دينه ودنياه وآخرته، ويقول الدعاء المأثور -كما في حديث أنس -: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)، ومن أفضل الدعاء الدعاء بجوامع الكلم كقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى)، وكقوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادةً لي في كل خير، واجعل الموت راحةً لي من كل شر). فإن هذه الخمس الكلمات تجمع للإنسان سعادة الدنيا والآخرة، فمن أعطاه الله هذه الخمس فقد أعطاه السعادة بعينها. فهذا اختيار جمعٍ من العلماء وهو أنه يقتصر في دعائه على ما ورد، وقالوا: لا يدعو بأدعية الدنيا، كأن يقول: اللهم إني أسألك دابةً سريعة، أو زوجةً جميلة، أو داراً فسيحة، ونحو ذلك. وقالوا: إنما يدعو بما ورد، ورخص بعض العلماء في الدعاء؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ثم يتخير من المسألة ما شاء)، وهذا في الحقيقة أقوى لظاهر دلالة السنة، ولكن أجمع العلماء على أن الأفضل للإنسان أن يدعو بما ورد؛ لأنه إذا دعا بما ورد كان له أجران: أجر الدعاء وأجر الاقتداء والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقال: الأفضل الاقتصار على ما ورد، ولا يُقال: إنه يمتنع عليه الدعاء بغير ما ورد، لثبوت السنة بالإقرار.

السلام من الصلاة والأحكام الواردة فيه

السلام من الصلاة والأحكام الواردة فيه قال رحمه الله: [ثم يسلم عن يمينه: (السلام عليكم ورحمة الله) وعن يساره كذلك] السلام يحتاج إلى فعل وذكر، فأما هديُه عليه الصلاة والسلام فكان يلتفتُ حتى يُرى بياض خده، وهذا البياض للخد سببه أنه كان يلبس العمامة صلوات الله وسلامه عليه فلا يمنع رؤية الخد شيء، فإذا وضع صلوات الله وسلامه عليه ذقنه على كتفه بدا خده، وبعض طلاب العلم يخطئ عند تطبيق هذه السنة، فإنه ربما يكون عليه غطاء رأسه فيتكلف حتى ينحرف عن القبلة بجذعه، فتجدهُ بحرف صدره كأنه يريد أن يري الناس خده، وهذا لا شك أنه يريد الخير والتأسي ببيان خده كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن خفي عليه أن خد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يستره شيء؛ لذلك ينبغي لمن أراد أن يطبق هذه السنة أن يثبُت؛ لأنه مطلوب منه أن يكون مستقبل القبلة، فالانحراف والحركة من الأمور التي شدّد فيها العلماء رحمةُ الله عليهم، بل كان يقول بعض العلماء: إذا انحرف انحرافاً لأغلب الجذع فإنه لا يؤمن أن تبطل صلاته؛ لأنه انحرف عن القبلة قبل تمام صلاته. فهذا ينبغي التنبيه عليه ويخطئ فيه كثير، بل من طلاب العلم من يخطئ فيه. فلذلك يثبت الإنسان مُستقبل القبلة بصدره، ثم يحرف رأسه ويجعل ذقنه على الكتف، فهذه هي السنة في السلام الكامل، وأما المبالغة في الحركة والانحراف، فليست من السنة في شيء، ولذلك يُشدد فيها ويمنع منها. وكان عليه الصلاة والسلام إذا فرغ من تسليمه عن اليمين سلم عن يساره، فابتدأ باليمين تشريفاً لها، ثم سلم عن يساره صلى الله عليه وسلم.

صيغ السلام الثابتة في السنة

صيغ السلام الثابتة في السنة أما الذكر القولي فهناك أربع صيغ للسلام: الصيغة الأولى: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) عن اليمين، (السلام عليكم ورحمة الله) عن اليسار. الصيغة الثانية: (السلام عليكم ورحمة الله) عن اليمين، (السلام عليكم ورحمة الله) عن اليسار. وهي الصيغة المشهورة والموجودة الآن. الصيغة الثالثة: (السلام عليكم ورحمة الله) عن يمينه، (السلام عليكم) عن اليسار. الصيغة الرابعة: (السلام عليكم) عن يمينه. فهذه أربع صيغ ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، سلم تسليمتين فجعلها كاملة، وجعلها كاملة عن اليمين ناقصة عن اليسار، وجعلها أيضاً متساوية في اليمين واليسار. والتسليم يُعتبر من أركان الصلاة على أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم، خلافاً للإمام أبي حنيفة رحمه الله الذي لا يرى وجوب التسليم، ويقول: لو أن المصلي خرج من الصلاة بصنعةٍ فإنه يُعتبر خارجاً من الصلاة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: (فإذا فعلت هذا فقد تمّت صلاتك) ولم يأمره بالتسليم. والصحيح أنه لازم لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث علي رضي الله عنه الثابت عنه: (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم)، فلما قال: (تحليلها التسليم) دلّ على أن المصلي لا زال في حرماتها حتى يسلم. واحتج الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه أيضاً بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وقضى تشهده ثم أحدث فقد تمت صلاته)، وهو حديث ضعيف، والصحيح ما ذكرناه من لزوم السلام ووجوبه. وأصح الأقوال عند العلماء أن السلام مخيرٌ فيه، فإن شاء سلّم تسليمتين، وإن شاء سلم تسليمة واحدة، ولكن إذا كان مأموماً يرى التسليمتين، وصلى وراء إمامٍ يسلم تسليمة واحدة يُسلِّم وراءه تسليمةً واحدة، وإن كان مأموماً يرى التسليمة الواحدة، وصلى وراء إمامٍ سلم تسليمتين فإنه يسلم من ورائه تسليمتين. قال بعض العلماء: الواجب في التسليم الأولى، والثانية سنة، وقال بعضهم: الواجب التسليمتان. فإن قلنا: الواجب التسليمتان، أو قلنا الواجب التسليمة فالحكم يختلف. وفائدة ذلك أنه لو قلنا الواجب تسليمة واحدة، فإن سلم الأولى ثم أحدث فإن صلاته صحيحة على القول بأن الواجب هي التسليمة الأولى. وكذلك لو قلنا: إن الواجب التسليمة الأولى. فإذا سلم التسليمة الأولى، وقبل أن يسلم الثانية مرت امرأة، أو مر كلبٌ أو مر حمارٌ فإنه على القول بأن الصلاة تقطع يُعتَبر بتسليمته الأولى قد خرج من الصلاة وصحّت صلاته. أما على القول بأن الواجب تسليمتان فلا. ومن فوائد هذا الخلاف أننا إذا قلنا: الواجب التسليمة الأولى فمعنى ذلك أنك لو صليت وراء إمام وفاتتك ركعة فأكثر، وسلم الإمام التسليمة الأولى، فإنك تقوم مباشرة؛ لأنك مأمورٌ بواجب، فلا تتوقف على السنة، قالوا: ولا ينتظر التسليمة الثانية، كما اختاره غير واحدٍ من أهل العلم، ومنهم الإمام العز بن عبد السلام، وطائفة من أصحاب الشافعي رحمة الله عليه، فقالوا: لا يجلس؛ لأن جلوسه تحصيلاً للسنة، وقد أُمِر بالإتمام لقوله عليه الصلاة والسلام: (وما فاتكم فأتموا)، قالوا: فلذلك لا يشتغل بالسنة عن الفرض اللازم عليه. هذا حاصل ما ذُكِر في تسليم المصلي من صلاته.

مسائل متفرقة في الصلاة

مسائل متفرقة في الصلاة

التكبير ورفع اليدين عند القيام إلى الثالثة

التكبير ورفع اليدين عند القيام إلى الثالثة قال رحمه الله تعالى: [وإن كان في ثلاثية أو رباعية نهض مكبرا بعد التشهد الأول] أي: إن كان المصلي في ثلاثيةٍ كالمغرب، أو رباعية كالظهر والعصر والعشاء نهض مكبراً إلى الركعة الثالثة، وقوله: (مكبراً)، أي: حال كونه مكبراً يقول: اللهُ أكبر، فإن استتمّ قائماً رفع يديه مشيراً بها كالحال في تكبيرات الركوع والرفع من الركوع. وهذا هو الموضع الرابع الذي يُشرع فيه رفع اليدين كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر في صفة رفعه صلوات الله وسلامه عليه يده في الصلاة. قال رحمه الله تعالى: [وصلى ما بقي كالثانية بالحمد فقط] قوله: [كالثانية] أي: كما وصفنا في الركعة الثانية، لا كما وصفنا في الركعة الأولى؛ فإنه في الثالثة والرابعة يفعل ما يفعل في الثانية، لكن يقتصر في الثالثة والرابعة على سورة الفاتحة إلا الظهر، وهذا فيه حديث ابن عباس، فإن السنة أن يقرأ بسورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] في الركعة الثالثة، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] في الركعة الرابعة، وقد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وصح عنه. وقال بعض العلماء: يُقاس على الظهر العصر، ففي الأخريين من العصر يقرأ بسورتي الإخلاص. وهذا محل نظر، فإن الأقوى أن يُقتصر على الوارد، ويُقال بسنيته في الظهر، ويضعف القياس في مثل هذا.

مسألة التورك في التشهد الأخير

مسألة التورك في التشهد الأخير قال رحمه الله تعالى: [ثم يجلس في تشهده الأخير متوركا] أي: إذا كان في ثلاثية أو رباعية يجلس في تشهده الأخير حال كونه متوركاً. والتورك ثَبَتَ فيه حديث ابن عمر وابن الزبير رضي الله عن الجميع. وهذا التورك للعلماء فيه ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن يجعل طرف قدمه اليسرى بين الساق والفخذ قريباً من الركبة، وهذا الوجه يصعب في حال ازدحام الناس، بل قد لا يتأتى؛ لأنه يحتاج إلى انفراج الإنسان قليلاً حتى يتمكن من إدخال قدمه اليسرى بين ساقه وفخذه قريباً من الركبة. الوجه الثاني: أنه يؤخِّرها حتى يقترب من الإلية. الوجه الثالث: أنه يُنزلها ويجعلها تحت الساق، وتكون على صورتين: الأولى تكون فهيا مقدمة، بمعنى: قريبة من الركبة. والثانية: تكون مؤخرة بحيال القدم المنصوبة. فهذه كلها أوجه في التورك لا حرج على الإنسان أن يفعل أي واحدةٍ منها. وتشرع في الثلاثية والرباعية. والجلوس في الصلاة على صورتين: الأولى: الافتراش، وهي أن تجعل اليسرى بمثابة الفراش، فظاهرها على الأرض وباطنها الذي يلي الأرض عند المشي يكون إلى الإليتين، وينصب رجله اليمنى، ويجعل أصابعه مستقبلة القبلة، فهذا يسمى الافتراش، وفيه حديث عائشة رضي الله عنها، وحديث وائل بن حجر رضي الله عنه. الثانية: التورك الذي ذكرناه. والعلماء رحمة الله عليهم لهم في هذه الجلسات ثلاثة مذاهب: فمذهب يقول بتقديم الافتراش على التورك، كما هو اختيار الحنفية ومن وافقهم. ومذهبٌ يقول بتقديم التورك على الافتراش، كما هو مذهب المالكية ومن وافقهم. ومذهبٌ يرى التفصيل، كما هو اختيار الحنابلة والشافعية، وهو الأرجح. ومذهب التفصيل هو أنه إن كان في ثنائيةٍ بعدها سلام، أو في التشهد الأول من الرباعية أو الثلاثية فإنه يفترش ولا يتورك، وإن كان في رباعيةٍ، أو في ثلاثيةٍ وجلس للسلام فإنه يتورك ولا يفترش، فهؤلاء يرون أن الافتراش يكون في الثنائية، ويكون في الجلسة الأولى من الرباعية، بمعنى أفهم يرونه في كل ركعتين، وأما التورك فيرونه لجلسة السلام. ولذلك بعض العلماء يقول: إن كانت ثلاثيةً ورباعيةً جلس متوركاً لسلامه، ويجلس مفترشاً في التشهد الأول، وفي كل ثنائية. فهذا بالنسبة للمذهب الذي يقول بالتفصيل، فجمع بين الأحاديث، وقد جاء في حديث أبي حميد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفترش ويتورك على حسب حاله في التشهد من كونه مسلِّماً أو غير مسلِّم. فإذا قلنا بالتفصيل فإنه قد يقال: هل التورك في الرباعية والثلاثية من أجل السلام، أم من أجل العدد؟ وهذا يتفرع عنه ما لو صلى الوتر، فإن قلنا: إن جلوسه متوركاً في الرباعية والثلاثية من أجل السلام فحينئذٍ يتورك في الوتر. والأقوى عندهم أنه لا يتورك؛ لأنه في الفجر لا يتورك، ومن بعده السلام؛ وبعض العلماء الشافعية يرون أنه يتورك لتشهد السلام، فيرى أنه إذا أراد أن يسلِّم تورَّك لكل تشهد من بعده سلام، وافترش لكل تشهدٍ لا سلام بعده.

المرأة كالرجل في الصلاة

المرأة كالرجل في الصلاة قال رحمه الله تعالى: [والمرأة مثله لكن تضم نفسها وتسدل رجليها في جانب يمينها] المرأة كالرجل فيما ذكرناه من صفات الصلاة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما هن شقائق الرجال)، والأصل في الأحكام أن النساء فيها كالرجال حتى يدل الدليل على اختصاص الرجال، أو اختصاص النساء. ولكن جلوسها للعلماء فيه وجهان: قال بعض العلماء: إذا جلست في التشهد فإنها تتربع ولا تفترش، والسبب في ذلك أنه أبلغ في سترها. ورووا عن بعض أمهات المؤمنين ما يدل على جلوسها متربعة، كما أُثِر عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقالوا: ما كانت لتفعله إلا وله أصل، خاصةً وأن الصلاة مبناها على العبادة والتوقف. ومنهم من قال بما اختاره المصنف وهو أنها تحمل رجليها إلى جهة اليمين، والسبب في ذلك أنها إذا جعلت الرجلين إلى جهة اليمين فإنه لا يتحدد جِرمها، فيكون أبلغ في سترها، ويكون غطاؤها عليها، فلا تستطيع أن تميِّز جرم المرأة بخلاف إذا ما جلست مفترشة.

الأسئلة

الأسئلة

الإشارة بالسبابة في التشهد وغاية انتهائها

الإشارة بالسبابة في التشهد وغاية انتهائها Q إذا أشار المصلي بسبابته في التشهد عند لفظة الشهادة، فهل يبقى مشيراً إلى نهاية التشهد أم يقبضها؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فقد ذكرنا أن أصح شيء ما جاء في كونه يشير، ويبقى بإشارته حتى ينتهي منكتاً بها إلى الأرض، وإن حركها يتأول قول من قال بذلك فلا حرج، وإن أشار بها شديداً -كما هو اختيار بعض السلف- فلا حرج، فالأمر في هذا أن كل من ثبتت عنده سنة، أو اطمأن إلى قول عالمٍ يقول بسنة، أو يترجح عنده صحة حديث التحريك والإشارة بها ولو متردداً فلا حرج عليه؛ لأن له أصلاً، والأقوى ما ذكرناه؛ لأن السنة دلَّت على أن الحركة لا تجوز إلا بدليل، لقوله صلى الله عليه وسلم: (اسكنوا في الصلاة) فلما قال عليه الصلاة والسلام: (اسكنوا في الصلاة)، كان الأصل هو عدم التحريك حتى يدل الدليل على التحريك، فجاء الدليل يدعو بها، فنقول: إن مطلق الدعاء بها لا يستلزم الحركة كما هو معلوم.

معنى السلام على عباد الله الصالحين في التشهد

معنى السلام على عباد الله الصالحين في التشهد Q ما معنى أن كل عبدٍ صالح يصله السلام عند التسليم من عباد الله المصلين؟ A المراد بذلك أن السلام أصله الدعاء بالسلامة، فإذا قلتَ لإنسان: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فمعناه: سلمكم الله من الآفات ومن الشرور، وسلمكم الله من الفتن، فتدعو له بالسلامة؛ لأن من سلِم غَنِم، فالعبد إذا سلَّمه الله كان غانماً وعلى خير وبر، والسلامة تكون في الدين والدنيا، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (يا عم رسول الله! سل الله العافية، يا عم رسول الله! سل الله العافية، يا عم رسول الله! سل الله العافية) فالعافية هي السلامة، فمن عُوفي فقد سلم، فإذا قلت: (السلام عليكم) أي: سلمكم الله، وإذا قلت: (السلام علينا) أي: أسأل الله أن يسلمنا، (وعلى عباد الله الصالحين) أي: أسأل الله أن يسلمهم، فتلقي السلام عليهم، وهذا بمثابة الدعاء أن يسلمهم الله، والله تعالى أعلم.

إذا نسي المصلي فسلم عن اليسار قبل اليمين

إذا نسي المصلي فسلم عن اليسار قبل اليمين Q إذا نسي المصلي فسلّم أولاً على الشمال ثم على اليمين، فهل يلزمه سجود السهو، أم أنه خالف السنة ولا شيء عليه؟ A أما بالنسبة لتسليمه عن يساره قبل اليمين فإنه يعتبر خارجاً من الصلاة بتسليم اليمين زائداً لتسليمة اليسار؛ لأن تسليمة اليسار وقعت في غير موقعها، فلذلك يعتبر أشبه بالالتفات الزائد، ولذلك اختار بعض العلماء رحمة الله عليهم أنه يسجد للزيادة، خاصةً على القول بأن سجود الزيادة بعد السلام، فبعد أن يسلم يسجد سجدتين؛ لأن زيادة التسليم من جنس الصلاة، فيسجد السجدتين بعد السلام، والله تعالى أعلم.

حكم تكبيرات الانتقال للإمام والمأموم

حكم تكبيرات الانتقال للإمام والمأموم Q هل يجب على المأموم تكبيرات الانتقال؟ A تكبيرات الانتقال واجبة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها، وقد فعلها عليه الصلاة والسلام وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، والمراد بتكبيرات الانتقال: تكبيره للركوع، وتكبيره للسجود، وتكبيره للرفع من السجود، وتكبيره للسجدة الثانية، وتكبيره للقيام إلى الثانية والثالثة، فكلها وصفت بكونها تكبيرات انتقال؛ لأنه ينتقل بها من ركنٍ إلى ركن، فلما كان قائماً انتقل إلى الركوع فقال: الله أكبر، وكان ساجداً فانتقل إلى الجلوس فقال: الله أكبر. فقالوا: هذه تكبيرات الانتقال، وأصح الأقوال وجوبها، والله تعالى أعلم.

التسليم قبل الوجه ثم الالتفات

التسليم قبل الوجه ثم الالتفات Q ما حكم من ينطق بالتسليمة ثم يقوم بعد ذلك بالالتفات؟ A هذا قول بعض العلماء رحمة الله عليهم، ويميل إليه بعض المالكية، حيث قالوا: إن التسليم أن يسلِّم قبل وجهه ثم يلتفت. خاصةً وأنهم يقولون بالتسليمة الواحدة، وعلى العموم فإذا اختار أحدٌ هذا القول وعمل به فلا إنكار عليه.

حكم من أدرك مع الإمام ركعة

حكم من أدرك مع الإمام ركعة Q رجلٌٌ أدرك ركعة مع الإمام في صلاة المغرب، فهل يقرأ التشهد الثاني مع الإمام حتى يسلم، ثم يكمل ما فاته، أم يقتصر على التشهد الأول؟ A إذا صليت وراء إمام وأدركت شيئاً من الركعات، وفاتك شيءٌ منها، ثم جلست الجلسة الأخيرة فبعض العلماء يقول: العبرة بحاله عند ائتمامه كحال الإمام، فإذا كان مؤتماً يعتبر حاله كحال الإمام، فيفعل ما يفعله مَنْ وراء الإمام، ويَتفرَّع على هذا القول مسائل، منها: أنك لو أدركت الإمام في الركعة الثالثة من العصر تقتصر على الفاتحة، والثالثة من المغرب تقتصر على الفاتحة، والثالثة من العصر كذلك تقتصر على الفاتحة. وأما القول الثاني فإنه يقول: العبرة بالمأموم؛ لأن صلاته مع الإمام هي الأُولى. فعلى القول الأول فإنه عند تشهد الإمام التشهد الأخير يعتبر حاله حال المتم، ويتشهد تشهداً كاملاً، وهذا أقوى. وعلى القول الثاني يعتبر حاله وراء الإمام حال الباني، فصلاته مع الإمام هي الأولى، ويكون حاله دون حال الإمام. ومن فوائد هذه المسألة أن من أدرك الإمام في التكبيرة الثانية أو الثالثة من صلاة الجنازة، فبعضهم يرى أن العبرة بحاله، فحينئذٍ يبتدئ بالفاتحة، خاصةً وأنها ركنٌ في الصلاة، وحتى لو كان الإمام في الدعاء تداركاً لما فات، والقول بأنه يعتبر حاله كحال الإمام أقوى، وذلك لظاهر السنة: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)، فإنه جعل الإتمام والبناء بعد الانفصال، وبعد الإكمال، ولذلك يقوى في هذه الحالة اعتبار حاله مع الإمام كحال الإمام، فيأتم بالإمام على الصورة التي يجده عليها. ولا يُشكِل على هذا قول من قال: إنه لو أدرك مع الإمام التكبيرة التي قبل الأخيرة في الصلاة على الجنازة فإنه يترك الفاتحة؛ فإننا نقول: إنه لو أدركه وصلى وراءه فإنه يدعو، فكما أنه لو أدركه راكعاً، أو أدركه قبل الركوع بقليل لا يتمكن فيه من قراءة الفاتحة فإنها تسقط عنه، كذلك تسقط عنه هنا، فدل على أن مسائل الاضطرار لا تأخذ حكم الاختيار، ولا يلزم فيها بالأصل ولا يُعترض به، والله تعالى أعلم.

الدعاء في الصلاة بغير اللغة العربية

الدعاء في الصلاة بغير اللغة العربية Q هل يجوز الدعاء في الصلاة بغير اللغة العربية؟ A فقد رخص بعض أهل العلم في الأمور التي هي من غير الأذكار والأدعية المخصوصة كالتشهد، فإذا كان الإنسان أعجمياً ولا يسعه أن يتعلم الدعاء الوارد فله أن يدعو بلسانه ولا حرج عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم يتخير من المسألة ما شاء)، ولم يقيد ذلك بلسان، لذلك قالوا: إنه لا حرج عليه. ولأن كثيراً ممن يسلمون ويكونون حديثي عهدٍ بجاهلية لا يستطيعون الكلام، فإذا كانوا من العجم فلا يستطيعون تعلم اللغة ومعرفة اللسان العربي في الدعاء إلا بعد وقتٍ وجهد، ولذلك وُسِّع عليهم من هذا الوجه، فلا حرج عليه أن يدعو بدعائه سواء أكان بعد انتهاء تشهده أم في حال سجوده، والله تعالى أعلم.

حكم التسليمتين في صلاة الجنازة

حكم التسليمتين في صلاة الجنازة Q نرى من يسلم في صلاة الجنائز عن اليمين والشمال، فما حكم التسليم عن الشمال؟ A المحفوظ التسليمة الواحدة، وحكى بعض أهل العلم التسليمة الثانية، لكني لا أحفظ في ذلك حديثاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيُسأل، فإذا كان عنده حجة ودليل ثابت في هذا، فحينئذٍ لا إشكال، وإلا الأصل في التسليم المتابعة وعدم إحداث سلام زائد على ما ورد.

قول: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) وخلاف العلماء في محله

قول: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) وخلاف العلماء في محله Q هل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) بعد التشهد؟ A نعم، فهذا اختيار بعض العلماء لقوله عليه الصلاة والسلام: (يا معاذ! إني والله لأحبك. فقال معاذ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله. وأنا والله أحبك، فقال: أوصيك يا معاذ ألا تدع في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). فقال بعض العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم: (دبر كل صلاة) إن دبر الشيء منه. فقالوا: تدعو بهذا الدعاء بعد التشهد، فتقول: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). وقال بعض العلماء: إنه يدعو به خارج الصلاة وهو أقوى، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبر الله ثلاثا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر). وبالإجماع فإن هذه الأذكار تكون بعد الفراغ من الصلاة، وقد وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بكونها دبر الصلاة، قالوا: قد عرف في اللسان العربي أنه يوصف الشيء بحكم قربه من غيره، ولذلك يقولون: إن قوله: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) إنما يكون بعد الانتهاء من السلام، وهذا المذهب أقوى لوجود النظير الدال عليه، ولأن الأصل أن لا يُدخل في الصلاة إلا بدليل، فإذا فعله الإنسان في أثناء التشهد لا يُنكر عليه، وإن فعله بعد انتهائه من السلام فهو الأولى والأحرى، والله تعالى أعلم.

ضابط صلاة الإشراق

ضابط صلاة الإشراق Q هل ينبغي لمن جلس إلى الإشراق أن لا يتحرك من مكانه الذي صلى فيه؟ أم أن المقصود بالمصلى المسجد عامة؟ A أما بالنسبة لصحة الحديث الوارد في ذلك والقول بثبوته أو تصحيحه لغيره. فهو يتوقف على مجموع طرق الحديث، والمعتبر بالتحسين منها كله بلفظ: (في مقعده)، (في مصلاه)، والقاعدة أن الإضافة تقتضي التخصيص؛ فإن معنى (مقعده) أي: مكان جلوسه، و (مصلاه) أي: مكان صلاته، ولذلك المحفوظ من كلام أهل العلم أن المراد بمقعده ومصلاه نفس المكان، حتى ولو قام يريد أن يأخذ المصحف فإنه لا يعتبر له هذا الفضل فإنك لو تأملت أن فضل ذلك حجة وعمرة تامة تامة فإنه ليس باليسير، وهذا أمر ينبغي للإنسان أن يجتهد فيه، ولذلك كلما كان الفضل أعظم والأجر أكثر كان الابتلاء أكثر وأعظم، ولذلك ابتلي بأن يثبُت في نفس المصلى. ثم إنه ينبغي عليه أن يكون ذاكراً لله؛ إذ بعضهم يجلس وينام، وربما يتكاسل حتى تصيبه السنَة من النعاس، ويغفل عن ذكر الله عز وجل، فقد شدد بعض العلماء حتى قال: لو أنه تكلم في فضول الدنيا فإنه لا يؤمن أن يفوته الفضل وهذا أقوى. واعتُرِض على هذا القول بما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس بعد صلاة الفجر فيحلق عليه الصحابة، فيأخذون فيما كانوا فيه من أمور الجاهلية -أي: يتحدثون بما كانوا عليه من الجاهلية- فيضحكون ويتبسم النبي صلى الله عليه وسلم. قالوا: فهذا يدل أنه لا حرج أن يتكلم في أمور الدنيا، ولكن هذا الاعتراض ضعيف؛ لأن الكلام كان من الصحابة، ولم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم. والأمر الثاني: أنهم كانوا يتحدثون بما كانوا عليه من أمور الجاهلية على سبيل ذكر نعمة الله عليهم، فكان عبادة من هذا الوجه، فإنهم يذكرون ما امتنّ الله عليهم بنعمة الإسلام، فيكون التحدث بما كانوا عليه في الجاهلية على سبيل الإشعار بفضل الله عليهم بالهداية للإسلام، ولذلك كان التحدث بالنعم شكراً لله عز وجل، فهو ذكر وطاعةٌ من هذا الوجه. فالذي تطمئن إليه النفس أن يبقى قارئاً للقرآن، أو مسبحاً، أو مهللاً، أو مكبراً، أو مستغفراً، أو قائلاً لأذكار الصباح، أو أذكار المساء، ويجلس في ذكرٍ وطاعة، وهذا يحتاج إلى جهاد وصبر حتى ينال فضل الحجة والعمرة التامةِ التامة. وأما القول بأن مصلاه المسجد كله فلا أحفظ أحداً من العلماء من السلف رحمة الله عليهم يقول به، وخاصةً أن ظاهر الحديث لا يساعد عليه، فالقول بأن مصلاه المراد به المصلى كله من باب التجوُّز، والأصل حمل اللفظ على حقيقته بقيد (مصلاه) أي: مكان صلاته، كما يُقال: مسجده أي: مكان سجوده، وهذا هو الأقوى والأشبه بلفظ الحديث، والله تعالى أعلم.

فصل: مكروهات الصلاة

شرح زاد المستقنع - فصل: مكروهات الصلاة المكروه هو ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، وفي الصلاة مكروهات لا ينبغي فعلها؛ لأنها تنقص من الخشوع والإقبال على الصلاة، ومنها: الالتفات، ورفع البصر إلى السماء، وإغماض العينين، والإقعاء في الجلوس، وافتراش الذراعين في السجود، والعبث، والتخصر، والتروح، وفرقعة الأصابع، وتشبيكها، والصلاة مع وجود البول، أو الطعام، وتكرار سورة الفاتحة.

مكروهات الصلاة

مكروهات الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

الالتفات

الالتفات فيقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: ويكره في الصلاة التفاته] بعد أن فرغ المصنف رحمه الله من بيان صفة الصلاة المشروعة الكاملة، وشرع الآن في بيان ما يُكرَه للإنسان أن يفعله في الصلاة، ولذلك قال: [فصل]، وأصل الفصل: قطع الشيء عن الشيء، والفاصل: هو الحائل بين الشيئيين. ووصف العلماء رحمهم الله هذه المواضع بكونها فصلاً؛ لأنه يُفصَل بها بين المسائل والأحكام لاختلاف أجناسها وما تضمنته من معانٍ. وهذا الفصل سيتكلم المؤلف رحمه الله فيه على الأمور المكروهة، وهي التي يتركها الإنسان فيُثَاب على تركها، ولا يعاقب على فعلها، والسبب في إيراد هذا الفصل في المكروهات هو أن اتقاء هذه المكروهات يحصل به المكلف على كمال الصلاة، فلما فرغ من صفة الصلاة الكاملة نبه على أن هذا الكمال ينبغي أن يكون مصحوباً بترك هذه الأمور التي فِعلها يُعد خلاف الأولى. والمكروه: هو ما يُثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، ويأتي النهي عنه من الشرع إما في الكتاب، وإما في سنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة عنه، وتدل الأدلة على أن هذا النهي الوارد في الكتاب، أو الوارد في السنة ليس على ظاهره وإنما هو على الكراهة. قوله: [يكره في الصلاة التفاته] أي: يكره للمصلي إذا كان في صلاته أن يلتفت، يُقال: التفت إذا صَرَف وجهه قبل اليمين أو قبل الشمال، وهذا الالتفات يكون من المكلف على صورتين: الصورة الأولى: أن يَصرِف وجهه مع بقاء جذع جسمه. الصورة الثانية: أن يصرف الوجه والجسد. ومراد المصنف رحمه الله هنا صرف الوجه وحده، فإن السنة لمن وقف بين يدي الله عز وجل أن ينصب وجهه، وأن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً، وهذا من تعظيم أمر الصلاة، وتعظيم الموقف بين يدي الله عز وجل، ولذلك أمر الله باستقبال القبلة، ويكون استقبال المكلَّف لها بجميع جسمه، فإذا التفت فقد صرف وجهه عن قبلته؛ ولذلك يُعتبر هذا ممنوعاً عن المصلي. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سُئِل عن الالتفات الذي يقع من الناس، فقال عليه الصلاة والسلام: (هو اختلاسٌ يختلسه الشيطان من صلاة العبد)، وأصل الاختلاس: الأخذ بسرعةٍ مع غفلة المأخوذ منه، أي: يأخذ الشيطان حظاً بهذا الالتفات من صلاة الإنسان، حتى قال بعض العلماء: إنه ينقص أجره على قدر ما كان منه من الالتفات. والالتفات إذا كان ضرورياً لحاجةٍ؛ أو أمرٍ ناب الإنسان فالتفت من أجله، فهذا إن كان يسيراً فإنه لا يضر ولا يؤثر في الصلاة. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقر أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه حينما كان في الصلاة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تأخر عن الحضور بسبب كونه يُصلِح بين حيين من بني عوفٍ بقباء، فتأخر النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فجاء بلال إلى أبي بكر وأخبره، فأقام بلال الصلاة وتقدم أبو بكر رضي الله عنه؛ فلما كان في الصلاة قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبَّح الناس لـ أبي بكر، وكان أبو بكر رضي الله عنه لا يلتفت من كمال خشوعه وصلاته، فلما أكثر الناس عليه التسبيح التفت فإذا هو برسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأخر، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك إلى آخر الحديث. ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ أبا بكر حينما التفت، ولم يجعل التفات أبي بكر موجباً لبطلان الصلاة، فأخذ العلماء من هذا دليلاً أن المكلَّف إذا كان في الصلاة والتفت لمصلحة الصلاة، أو لأمر مضطر إليه لمصلحة نفسه، كأن يظن أن عقرباً يتحرك عن يمينه، أو حيةً تحركت عن شماله فخاف على نفسه فالتفت، فحينئذٍ يكون مضطراً إلى هذا الالتفات ومُحتاجاً إليه، فلا يوجب بطلان صلاته. والالتفات يكون جزءاً وكلاً، فالالتفات الكامل: أن يصل الذقن إلى العاتق، وفي هذه الحالة يكون الالتفات كاملاً، وأما الالتفات الجزئي فيكون بصرف الوجه قليلاً، وهذا لا يؤثر، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل إذا شوّش عليه الشيطان في صلاته فيتفل عن يساره ثلاثاً. فإذا كثُرت وساوس الشيطان على الإنسان وهو في الصلاة، وقال له الشيطان: اذكر كذا، اذكر كذا. يريد أن يصرفه عما هو فيه من أمور الصلاة والخشوع فيها فإنه يُحرِّك رأسه قليلاً دون أن يلتفت التفاتاً كاملاً، ثم يتفل عن يساره، أي جهة اليسار، فكونه عليه الصلاة والسلام يقول: (وليتفل عن يساره) يدل على أنه نوع التفاتٍ، وهو جزء الالتفات الذي ذكرناه. أما الالتفات الكامل فقد قلنا: إنه إذا وُجِدت الضرورة فلا إشكال، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه التفت إلى الشِّعب وهو في الصلاة، وجاء في بعض الروايات أنه كان يلتفت إلى الشعب، وأن الشعب كان في جهة القبلة وهذه الرواية تخفف من شأن الالتفات؛ لأنه لو لم تأت هذه الرواية لفُهِم منه أنه التفات خارجٌ عن جهة القبلة؛ ولذلك لا حرج على المكلف أن يلتفت قليلاً، أو يُحرِّك رأسه قليلاً، ولكن مع هذا فإنه بالتفاته من دون حاجةٍ معرَّضٌ لفوات الكمال، ولذلك جاء في الحديث: (لا يزال الله عز وجل مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه انصرف عنه)، وهذا يدل على فوات الكمال، والحظ الأوفر للعبد إذا صلى واستشعر موقفه بين يدي الله ولم يلتفت. أما النوع الثاني من الالتفات: فهو الالتفات بالجذع، وهو الذي يتحرك الإنسان فيه إلى درجة ينحرف فيها عن القبلة، فلو أن إنساناً كان في صلاته ثم سمع صياح صَبِيِّه، فالتفت فتحرك جذعه حتى تحركت قدماه بحيث خرج عن كونه مستقبلاً الشرق فاستقبل جهة فرعية أو جهةٍ أصلية فإنه تبطل صلاته ولو كانت لضرورة، إلا ما استثني من ضرورة القتال؛ فإنه في حال ضرورة القتال يُستثنى لمكان نص الله عز وجل على ذلك في آية المسايفة.

رفع البصر الى السماء

رفع البصر الى السماء قال رحمه الله: [ورفع بصره إلى السماء] كان من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده صلوات الله وسلامه عليه، وهذا أكمل ما يكون من المكلف في خشوعه وخضوعه وذلته بين يدي الله عز وجل وهو واقفٌ في الصلاة؛ فإن هذا يدل على الإقبال على الله عز وجل، والاشتغال بما في الآيات من العظات والذكرى، فأكمل ما يكون من المكلَّف أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم. فأما رفع البصر إلى السماء فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على إنكاره، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما بال أقوامٍ يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم)، ثم شدد فقال عليه الصلاة والسلام: (لينتهنَّ عن ذلك، أو لتخطفن أبصارهم)، وفي رواية لـ مسلم: (أو لا ترجع إليهم)، والعياذ بالله. وهذا يدل على أنه لا يجوز للإنسان أن يصرف بصره إلى السماء، وذلك لأن القاعدة في الأصول تقول: (إذا ورد الوعيد على فعل شيء دل ذلك على أنه محرم)، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يبين أنه سبب لأن تُخطَف الأبصار إن استمروا على ما هم عليه يدل على حرمة رفع البصر إلى السماء. وقد جاء في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُقلِّب بصره في السماء حتى نزلت آية القبلة، ثم نهي عن ذلك، وقيل: لما نزلت آية المؤمنين: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 1] رمى ببصره عليه الصلاة والسلام إلى موضع سجوده. فلا يجوز للمصلي أن يرفع بصره إلى السماء، ويستوي في ذلك أن يكون في موضعٍ له سقف، أو يكون في موضعٍ منكشف السقف، وهذا على أن قوله صلى الله عليه وسلم: (إلى السماء)، أي: إلى العلو، فإنه حينئذٍ يكون المراد به أن لا يرمي ببصره إلى أعلى، ويستوي حينئذٍ كونه مسقوفاً أو غير مسقوف. وقال بعض العلماء: الحكم يختص بالسماء، أي: عند نظره إلى السماء. وهذا جمودٌ على ظاهر النص؛ فإننا لو قلنا لهؤلاء: أرأيتم إن كانت السماء مغيمة فإن الحكم واحدٌ عندكم، فالغيم الذي بين المكلفين وبين السماء كالسقف الذي بينهم وبين السماء، ولذلك يستوي أن يكون رفعه للبصر عند وجود الحائل كالسقف، أو يكون بدون حائلٍ كالفضاء.

إغماض العينين

إغماض العينين قال رحمه الله: [وتغميض عينيه] تغميض العين: إطباق الجفن على الجفن، فإذا أطبق الجفن على الجفن فقد غمَّض عينيه، فالتغميض مكروه في الصلاة؛ لأنه من فعل اليهود؛ فإنهم إذا صلَّوا غطوا رءوسهم وغمَّضوا أعينهم. وقال العلماء: إن هذا التغميض يعتبر مكروهاً، ونص عليه غير واحدٍ من أهل العلم، وهذا الصحيح، ووجه كراهته ما ذكرناه من المشابهة، ولأنه يُفوِّت المصالح، وذلك أن المكلَّف إذا غمَّض عينيه قد لا يستطيع أن يدفع المار؛ لأنه مُغمَّض العينين، ولأنها حركةٌ زائدة، وحينئذٍ لا تُشرع إلا بدليل، ويستوي في ذلك تحرك العضو أو جزء العضو. ويستوي في ذلك أن يغمض العينين أو يغمض إحداهما، فالحكم واحد. ولم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يغمض عينيه في الصلاة، وفصَّل بعض الفقهاء فقالوا: إذا كان غمض عينيه لكمال الخشوع، أو لكون الموضع الذي أمامه فيه نقوش وزخرفة وإذا نظر إليها اشتغل بها عن الصلاة فغمَّض، فحينئذٍ لا حرج، والذي ينبغي ترك التغميض مطلقاً، حتى ولو كانت هناك نقوش؛ فإنه من المجرَّب أن الله إذا أراد بعبده خيراً ورزقه الخشوع يستوي عنده أن يُصلي على ذات نقوشٍ أو غيرها، فلو كانت النقوش موجودة وحدد البصر على موضع السجود فإنه سيخشع إن شاء الله، ولذلك الأَولى والأكمل والأحرى والأقرب لهدي النبي صلى الله عليه وسلم الامتناع عن تغميض العينين.

الإقعاء

الإقعاء قال رحمه الله: [وإقعاؤه]. يقال: أقعى الكلب إذا أَلصَق إليتيه بالأرض، وهذه مسألة ينبغي لطلاب العلم أن يتنبهوا لها، فالإقعاء ينصب فيه الكلب -أكرمكم الله- رجليه ويجعل يديه على الأرض، فتكون الإليتين ملتصقة بالأرض والرجلان منتصبتان، فهذا إقعاء الكلب الذي تكلم عليه أئمة اللغة وجهابذتهم كـ أبي عبيدة مَعْمَر بن مثنى، وأبي عبيد القاسم بن سلام الجمحِي، وناهيك بهما علماً وفضلاً، فهما أعرف بلسان العرب، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإقعاء. والذي عليه جماهير العلماء رحمة الله عليهم أنه هو المراد بالحديث، وأن من فعل هذا فقد فعل ما حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه، وبعض الناس يفعل هذا الإقعاء بين السجدتين، أو يكون جلوسه لهذا الجلوس عند قيامه للركعة الثالثة أو الثانية، فإنك تجده ينصب القدمين ويلصق الإليتين ويتكئ على اليدين كالمرتاح، وبعضهم يَهِم ويظنها جلسة الاستراحة، وهذا لا شك أنه أبلى وأطم؛ لأن الإنسان حينها يوقع غير المسنون وغير المشروع موقع المسنون. وهذا النوع من الجلوس يستوي فيه أن يكون بين السجدتين، أو يكون حال التشهد، أو يكون عند القيام إلى الركعة الثانية أو إلى الرابعة، فكل ذلك منهي عنه ومحرمٌ. وهناك جلسات اختلف العلماء رحمهم الله في كونها من الإقعاء أو ليست من الإقعاء، ففسَّر بعض العلماء الإقعاء بكونه ينصب القدمين، ويجعل الإلية على العقبين، وهذا النصب له صورتان: الصورة الأولى: أن ينصب القدمين، ويجعل الأصابع مستقبلة للقبلة، وتكون الإلية على العقبين. الصورة الثانية: أن ينصب القدمين ويجعل بطنهما إلى الأرض، ولا يجعل الأصابع مستقبلة القبلة، فإذا جعل البطنين إلى الأرض برز العقبان فكانت الإليتان عليهما. وهناك صورةٌ ثالثة يدخلها بعض العلماء فيقول: هو أن ينصب القدمين ويجعل يديه على الأرض. والأوّلون يقولون: يستوي أن تكون يداه على الأرض، أو تكونان على فخذيه. أما كونه ينصب القدمين ويجعل رءوس الأصابع مستقبلة للقبلة فهذا ليس من الإقعاء، لظاهر حديث ابن عباس، إذ فعله بين السجدتين؛ لأن ابن عباس نصب قدميه رضي الله عنه وأرضاه واستقبل بالأصابع القبلة، وجعل إليتيه على العقبين، فلما قال له تلميذه طاوس بن كيسان: إنه من الجفاء قال: سنةَ نبيكم صلى الله عليه وسلم. وهذا يدل على أنه من السنة أن يفعله الإنسان، ولكن بين السجدتين كما ورد عن ابن عباس. أما الصورة الثانية: وهي أن يجعل بطني القدمين إلى الأرض والعقبين تحت الإليتين والأصابع إلى الأرض ليست بمنتصبة فهذه هي عقبة الشيطان، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى، وفيها حديث عائشة رضي الله عنها الصحيح من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الجلسة، فالصحيح أنها محرمة ومنهيّ عنها من حديث عائشة لا من جهة الإقعاء، يعني: إذا رأيت الرجل ينصب قدميه فيجعل بطونهما إلى الأرض مع الأصابع، ثم يجعل الإليتين على العقبين فلك أن تنماه عن ذلك من جهة حديث عقبة الشيطان، لا من جهة حديث الإقعاء، وهذا هو أصح الأوجه عند الجماهير رحمة الله عليهم. ونُهِي عن هذه الصورة -التي ذكرناها- من الإقعاء لما فيها من مشابهة الحيوان -أكرمكم الله-، وقد شرف الله الآدمي وكرمه كما أخبر الله تعالى في آية الإسراء، وأخبر أنه كرمه وفضَّله على كثيرٍ ممن خلق تفضيلاً، ومن باب أولى أن يُكَرَّم في أثناء وقوفه بين يدي الله عز وجل، ولذلك نهي عن هذه الصورة، ولأنها لا تتناسب مع الأدب ومقام الذلة بين يدي الله عز وجل، فنُهِي عن هذه الجلسة لما فيها من بشاعة الصورة؛ ولذلك فإن طاوس بن كيسان لما ذكر أن الرجل يجعل إليتيه على عقبيه قال: إنه من الجفاء بالرجل. أي: كان السلف رحمة الله عليهم، وكان الناس في القديم يرون أن هذا جفاء، فكيف بالإقعاء الذي هو صورة الحيوان؟!

افتراش الذراعين في السجود

افتراش الذراعين في السجود قال رحمه الله: [وافتراش ذراعيه ساجدا] أي: يُكره للمكلف إذا سجد أن يفترش ذراعيه افتراش السبع، كما ورد مِن نهي النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد بالافتراش: أن يجعل الذراعين ممدودين على الأرض كانبساط الكلب إذا جلس، فإنه ينبسط انبساطاً، وهذا الانبساط مَنهِيٌ عنه. فالسنة أن يَرفع وأن يُجافِي عَضُده عن جنبه، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يجافي حتى كان الصحابة يُشفقون على النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة مجافاته، كما في حديث البراء عند ابن ماجة في سننه، ولذلك كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا، لكن لو اضطر الإنسان بسبب ضيق المكان فألزَق عضُدَه بجنبه بسبب الضيق وتراصّ الناس فإن هذا لا حرج فيه، ويُعتبر الإنسان فاعلاً له بغير الاختيار.

العبث

العبث قال رحمه الله: [وعبثه]. أي: يكره له العَبَث، والعَبَث: الحركة الزائدة. ووصف المتحرك بغير المشروع في صلاته بكونه عابثاً، لأن الأمر يقتضي منه ما هو أشرف وأكمل من اشتغاله بهذا الشيء. فمثال العبث: أن يصلح ثوبه من دون حاجة، كأن يبالغ في تعديل عمامته على رأسه، أو ينظر إلى ساعته، أو يُحرِّكها كما هو حال بعض الناس اليوم أصلحهم الله. ومن العبث كثرة تحريك الأرض، وإصلاح السجاد عند السجود، وكثرة العبث بها، واشتغاله بحركة يديه على فخذه إذا كان جالساً في التشهد، أو بحركة يده بثوبه إذا كان قائماً بين يدي الله عز وجل في حال وقوفه، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الصلاة لشغلاً)، أي أن المكلف ينبغي عليه أن يشتغل بأمر الصلاة، وشأن الصلاة وحالها يشغل. فقد أُثِر عن علي زين العابدين أنه كان إذا توضأ تغيّر وجهه فاحمرّ، فقالوا: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ قال: ألا تدرون من أناجي؟! فالإنسان إذا أقبل على الله عز وجل فهو في شغل، وهو أشرف الأشغال وأعظمها وأجلها وأكرمها، كما قال العلماء، هو الشغل الذي خُلِق من أجله، وهو العبادة، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فهذا هو الشغل وأَنعِم به من شغل، فكونه ينصرف عما هو بِصَدَدِه من الإقبال على الله عز وجل إلى تحريك اليدين، أو العبث بالفخذ، أو العبث بالساق، أو كثرة الحركة، أو الترنُّح أثناء الوقوف فكل ذلك مما لا يليق بالمصلي. فإذا كان العبث يكثر منه إلى درجةٍ لو رآه إنسان لظن أنه في غير صلاة حُكِم بكونه قد بطلت صلاته، أما لو كان عبثه يسيراً فإنه حينئذٍ يكون بين درجة الحرام ودرجة المسنون وهو المكروه، فقالوا: يُكره. فالعبث الذي يريده المصنف هنا رحمة الله عليه هو العبث الذي لا يخرج المصلي عن كونه مصلياً، أما لو بالغ في العبث فحينئذٍ تبطل صلاته. فلو قال قائل: ما دليلكم على أن الحركة اليسيرة لا تُبطِل الصلاة ولو لم تكن من جنس الصلاة؟ قلنا: ثبوت السنة بذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم حينما وقف في صلاة الليل ووقف معه ابن عباس أخذ يفتِل أذنه صلوات الله وسلامه عليه، وهذا نوع حركة وهي خارجةٌ عن الصلاة، وهذا يدل على أنه لا حرج.

الاختصار

الاختصار قال رحمه الله: [وتخصره]. الاختصار للعلماء فيه أقوال: قال بعض العلماء: التخصُّر الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح هو وضع اليدين على الخاصرة، وهذا الوضع للعلماء فيه ثلاثة أوجه في التعليل: الوجه الأول: أنه من فعل الشيطان، فنُهِي عنه حتى لا يُشابه الشيطان. والوجه الثاني: أنه فِعل اليهود، فنُهِي عنه حتى لا يشابه اليهود. والوجه الثالث: أنه صنيع المتكبرين، والمقام مقام أهل الذلة والخضوع، وهم الخاشعون، فلا يليق أن يقف بهذا الموقف بين يدي الله عز وجل. وهذه الثلاثة الأوجه صحيحة؛ فإنه لما نهى عنه الشرع دلّ على أنه من الشيطان، ولذلك ينسب المنهي عنه إلى كونه من فعل الشيطان. أما كونه من فعل اليهود فقد جاء عنهم أنهم يفعلون ذلك في صلاتهم. وأما كونه من صنيع المتكبرين فإن أهل التكبر إذا أعجبتهم أنفسهم تخصَّروا، فوضع الواحد منهم يديه في خاصرته كالمستعظم لنفسه والمتعالي، والمقام مقام ذلة بين يدي الله عز وجل، فلذلك قالوا: لا يناسب الحال -أعني الخشوع بين يدي الله- أن يتخصَّر، فنهي عنه. وقال بعض العلماء: المراد بالتخصر: الاختصار، وهو اختصار الآيات، كأن يقرأ من بعض السور آية أو آيتين ثم ينتقل إلى سورةٍ أخرى، ويقرأ منها آيةً أو آيتين. وقال بعض العلماء: الاختصار الذي نهي عنه: السرعة والاختلاس في الصلاة، بمعنى أنه يختصر الصلاة، فبدل أن تكون على قدر من الزمان تكون على ما هو أقل منه، والمراد بذلك الاستعجال حتى إنه لا يُعطِي الأركان حظها، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه؛ لأنه يُفوِّت الطمأنينة. فهذه أقوال العلماء رحمة الله عليهم في مسألة الاختصار، وجميع ما ذكرنا منهيٌ عنه إلا مسألة انتقاء الآيات من القرآن، فالصحيح أنك لو أخذت آيةً من البقرة وقرأتها في الركعة الأولى، ثم أخذت آيةً من آل عمران وقرأتها في الركعة الثانية فلا حرج؛ فإن الاختصار بهذا المعنى ثبتت فيه السنة، كما في حديث ركعتي الفجر، فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الأولى منها بقوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة:136]، وفي الركعة الثانية بقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64]، فدل هذا على جواز اقتطاع آيات من القرآن في الركعات، وأنه لا حرج فيه.

التروح

التروح قال رحمه الله: [وتروحه]. التروُّح في الصلاة: مأخوذ من المروحة، وذلك من شدة الحر؛ لأن الإنسان ربما كان في مكانٍ حار، خاصة في القديم؛ فإن المساجد لم تكن مُهيّأة فيها وسائل الراحة والاستجمام، فلربما مع كثرة الناس -خاصةً في الجمع، أو في غيرها، أو في التراويح- يكون الحر شديداً، والمسجد مع كثرة الناس فيه تشتد حرارته، فربما احتاج أن يحرك شيئاً يتروح به، وهذا مكروه وممنوع منه؛ لأنه يُخالف هيئة المصلي، ولأنها حركةٌ زائدة لغير مصلحة الصلاة، لكن قالوا: هو مكروه مع وجود الحاجة، أي إذا كان الإنسان محتاجاً إليه، فقالوا: إذا كان يسيراً فإنه يعتبر مكروهاً لا يوجب بطلان صلاته، كأن تكون معه المروحة، فإذا اشتد عليه الحر إلى درجةٍ تزعجه قالوا: يدفع هذا الإزعاج؛ لأنه يحصل مقصود الصلاة من حضور القلب، فإن الحر يزعجه، وربما يخرجه عن كونه خاشعاً في صلاته. وهناك نوع من التروُّح، وهو المراوحة بين القدمين، فإنك تجد بعض المصلين إذا طال عليه القيام في الصلاة يقف على القدم اليمنى وتكون اليسرى مُرسَلة لا يعتمد عليها، فإذا طال قيامه انتقل إلى الجهة اليسرى، فكان اعتماده على اليسرى وأصبحت اليمنى خفيفة الثقل، فأرسَلها لكي يتروح. وهذا أُثِر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وقالوا: إنه السنة، وهذا هو المقصود، وهو أن يكون هناك تروُّح، بمعنى أن يفرج بين القدمين، ولذلك لا يَرُصّ القدمين معاً إذا وقف، ولا يُبالِغ في التفريج، إذا وقف المصلي فلا يُسن له أن يبالغ في توسعة ما بين القدمين، ولا يبالغ أيضاً في رصّ القدمين فيجمعهما. ولذلك لما رأى ابن عمر رضي الله عنهما هذا الفعل أنكره، وبين أنه خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قالوا: يكون في قيامه وسطاً، ويروح بينهما، بمعنى أنه يعتمد على إحداهما، لكن كره بعض العلماء المبالغة في التروح؛ فإن البعض إذا رأيته متروِّحاً وهو واقفٌ ربما أنكرت أنه في صلاة، وهو التروُّح المبالغ فيه، كأن يَعتَمِد اعتماداً كلياً على اليسرى ويُرسِل اليمنى، وهي صورة ربما يكون فيها نوعٌ من الفوات للأكمل، ولذلك لا حرج أن يُروِّح بين الأقدام، خاصةً عند طول القيام، والسنة وسط، بل قال بعض العلماء: من رص القدمين معاً فقد تنطع، ومن بالغ في إلزاقها بمن هو بجواره فقد تنطع، فالمبالغة في التفريج والمبالغة في الضم كلاهما ذميم، وإنما السنة وسط. لكن هنا مسألة، وهي أنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بإلزاق الكعب بالكعب والمنكِب بالمنكِب، وكان الإنسان لا يستطيع أن يُلزق الكعب بالكعب إلا إذا مد رجله ذات اليمين ومد الأخرى ذات اليسار، فقال العلماء: هذا فيه تفصيل، فبعض العلماء رحمة الله عليهم يقولون: إن الذي ينبغي أن الإنسان يرتصّ مع من بجواره، ويسحب الذي بجواره إليه، فإن امتنع الذي بجوارك أن يقترب منك فالإثم عليه والإخلال منه، قالوا: فلا يقتضي أن تبالغ في وجود الاتساع بين القدمين. وبناءً على فإن الأصل أن الإنسان يقف وقوفاً اعتيادياً، فإن احتاج إلى شيءٍ قليل من التفريج لينضم إلى من بجواره حتى يصيب السنة من رصِّ القدم بالقدم فحينئذٍ لا حرج، أما أن يبالِغ في التفريج فإن هذا خلاف السنة، وخلاف صورة الأدب في الوقوف بين يدي الله عز وجل. وإذا قلنا: إنه يسحب من بجواره إليه حتى يرتص القدم مع القدم، وتُلزَق المنكب بالمنكب، فحينئذٍ يرد Q إلى أي جهةٍ يرتص؟ وهذه المسألة كثيراً ما تقع، فلو أن إنساناً مع الإمام وجاء فجذب الذي عن يمينه إليه، فأيهما أحق؟! هل الذي عن اليمين، أو الذي عن الشمال؟ قال العلماء: العبرة بجهة الإمام، فإذا دخلت المسجد وكان الإمام في جهة اليمين فإنك تجذب الذي في جهة اليسار؛ لأنه ينبغي عليه أن يرتص إلى جهة الصف، وبناءً على ذلك لو كان في جهة اليسار فإنك تجذب الذي في جهة اليمين. وعلى هذا تتفرع مسألة إتمام الصفوف، فإنه إذا جاء الإنسان بعد اكتمال الصف الذي أمامه، فقد قالوا: الأفضَل له أن يقف وراء الإمام من جهة اليمين. وقال بعض العلماء: بل الأفضل أن يكون وراء الإمام قصداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى). فجعل هذا المقام مقام فضل، فقالوا: الأفضل أن يكون وراءَه مباشرة، ثم يليه في الفضل من كان عن يمينه، ثم من كان عن يساره، وفي الحديث: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف)، وفيه كلام. فالمقصود أنه إذا جئت وراء الإمام مباشرة حُق لك أن تسحب مَن على اليمين ومَن على الشمال، لكن إذا كنت منحرفاً عنه إلى جهة اليمين فإنك تسحب من كان عن يمينه، وإذا كنت على شماله فإنك تسحب من كان عن شماله، وقس على هذا.

فرقعة الأصابع وتشبيكها

فرقعة الأصابع وتشبيكها قال رحمه الله: [وفرقعة أصابعه وتشبيكها]. فرقعة الأصابع أن يضغط على الإصبع حتى يُسمع له الصوت، وهذه الفرقعة نُهِي عنها وتعتبر مكروهة، ولذلك أُثِر عن حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه وأرضاه أنه كان معه مولاه ففرقع أصابعه في الصلاة، فلما سلّم رضي الله عنه وأرضاه قال له: أتفرقع أصابعك في الصلاة لا أم لك؟! أي: وأنت واقفٌ بين يدي الله عز وجل تفعل هذا الفعل! فهذا الفعل لا يليق، ولو فُعِل بين يدي أهل الفضل وأهل العلم وأهل المكانة فإنه يُعد من سوء الأدب، فكيف بالموقف بين يدي الله عز وجل؟ ولله المثل الأعلى، ففرقعة الأصابع لا تنبغي، ولذلك إذا كان الإنسان في صلاته فإنه لا يفرقع، وفيه أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عنه. قوله: [وتشبيكها]. التشبيك: إدخال الأصابع بعضها في بعض، وهذا التشبيك إما أن يكون خارج المسجد، أو يكون داخل المسجد، فإن كنت خارج المسجد قاصداً إلى المسجد فلا تشبك، فقد جاء فيه حديث أبي داود بالنهي، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من توضأ ثم خرج يريد الصلاة فهو في صلاة)، ولذلك قالوا: ينبغي عليه أن يراعي أدب المصلِّي من السكينة والوقار، وقد ثبتت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إذا شبك بين أصابعه فإنه يخالف هيئة الصلاة، ولذلك لا يشبك وهو قاصدٌ إلى المسجد لجمعة أو جماعة. فإذا كان في المسجد فإنه إذا كان قبل الصلاة -كأن يكون في حال دخوله، أو في كونه ينتظر الفريضة- فالحكم سواء، فإنه لا يشبك بين الأصابع لورود النهي، ولأنه في حكم المصلي، وقد ثبتت في ذلك الأحاديث. وإن كان داخل الصلاة فالأمر أشد، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وقالوا: إنه فعل اليهود في صلاتهم، وجاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (رأى رجلاً شبك بين أصابعه في الصلاة ففرقها). فإذا انتهت الصلاة فللعلماء وجهان: قال بعضهم: يستمر النهي. وقال بعضهم: لا يستمر، فإذا أراد أن يقوم بذلك وهو في داخل المسجد فلا حرج وقد ثبت بذلك حديث أبي هريرة في الصحيحين: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي، قال: فصلى بنا ركعتين ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه) الحديث. قالوا: وهذا بعد انتهاء الصلاة؛ لأنه كان يظن أن الصلاة قد انتهت، فدل على أنه لا حرج في التشبيك بعد الصلاة وبعد انتهائها.

احتقان البول

احتقان البول قال رحمه الله: [وأن يكون حاقناً]. أي يكره أن يكون حاقناً ببول، والسبب في ذلك أنه إذا كان البول يزعجه ويحتاج إلى إخراجه، فإنه ينشغل عن الخشوع في الصلاة، كما قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4]، وفي الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافع الأخبثين) قالوا: فدل هذا الحديث على أنه لا ينبغي للإنسان إذا كان محصوراً ببولٍ أو غائطٍ يدافعهما أن ينشغل بذلك عن الصلاة، وإنما يقضي حاجته ويتوضأ ويتطهر، ثم يصلي وقلبه قد فرغ من هذا الشغل، وهذا مبنيٌ على حديث عائشة الذي ذكرناه. وأَلحق العلماء بهذا شِدة الحر وشِدة البرد، فإذا أمكنه أن يتقيهما فإنه يتقيمهما ثم يصلي، فلو كان المكان شديد البرد وأمكنه أن يأتي في مكانٍ أخف برد فإنه يتنحى إلى ذلك. وهنا مسألةٌ لطيفة وهي: لو كان المكان الذي هو أخف برداً يبعد عن المكان الذي فيه البرد بقدر بحيث يفوته وقت أفضل وهو وقت أول الصلاة، فهل الأفضل له أن يذهب إلى المكان الذي هو منفصل وبعيد، حتى يكون أبلغ لخشوعه، أم أنه يصلي إدراكاً لفضيلة أول الوقت؟ قال بعض العلماء: فضيلة أول الوقت أفضل ويُغتفر فيها فوات الخشوع؛ لأنه كمال. وقال بعض العلماء: هذا من تعارض الفضيلتين: فضيلة تخفيف البرد الذي يزعجه ويشغل ذهنه، وفضيلة الوقت، ولا شك أن الإزعاج المتعلق بذات الصلاة دفعه أولى من الفضيلة المنفكة عن الصلاة، وأَمِيل إلى هذا القول الثاني لوجود النهي عن الصلاة حال مدافعة الأخبثين؛ فإن ورود النهي يُقوِّي أن فضيلة الحضور للقلب والخشوع أبلغ من فضيلة أول الوقت، فلو أنه تنَحَّى إلى المكان الذي لا برد فيه أو لا حر فيه، وكان الوقت بقدر لا تفوت به الصلاة فإن هذا أفضل وأكمل على ظاهر ما ذكرناه.

الصلاة بحضرة الطعام المشتهى

الصلاة بحضرة الطعام المشتهى قال رحمه الله: [أو بحضرة طعام يشتهيه]. حضور الشيء ضد غيابه، وحضرة الطعام هي أي أكلٍ من غداءٍ أو عشاءٍ أو فطورٍ، وقال: [بحضرة]، بمعنى أن الطعام قد حضر، ومفهوم ذلك أن الطعام إذا لم يحضر وجب عليه أن يصلي، فمحل النهي في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يصلي أحدكم بحضرة طعام)، إذا كان الطعام موجوداً والنفس جائعة بحيث تميل إليه، وبناءً على ذلك فإذا كان لا يشتهيه كأن يكون شبعاناً، أو تكون نفسه لا تميل إليه فإنه حينئذٍ يُصلِّي ويصيب فضل الصلاة في أول الوقت لما ذكرناه. وبنى العلماء على هذا لو أذن المؤذن وعشاء الإنسان بين يديه فإنه يقدم طعام العَشاء على العِشاء، لظاهر السنة: (إذا حضر العَشاء والعِشاء فابدأوا بالعَشاء قبل العِشاء). فدل على أنه يجوز للمكلف أن يتخلَّف عن الجماعة، ولكن بشرط أن لا يجعل ذلك إلفاً له وعادة، وإنما أن يحصل ذلك على سبيل الموافقة لا على سبيل القصد، وفرقٌ بين الموافقة وبين القصد. والقصد: أن يُهيِّء طعامه على وجهٍ يعلم أنه سينتهي به عند حضور وقت الصلاة، فحينئذٍ يُعتَبر إخلالاً؛ لأن المقاصد مُعتبرة، فالقاعدة أن الأمور بمقاصدها، كما دلّ على اعتبارها حديث عمر: (إنما الأعمال بالنيات)، فلما وضع الطعام عند وقت الأذان أو عند وقت الإقامة دلّ على أنه قَصَد أن يُفوِّت إجابة النداء، فحينئذٍ شُدِّد في حقه، والقاعدة عند العلماء أنه يُعامَل بنقيض قصده، ويجب عليه أن يصلِّي مبالغةً في النكاية به، وهذا مذهب طائفة من العلماء رحمة الله عليهم. فالمقصود أنه إذا حضر الطعام وحضرت الصلاة فإنه يقدم الطعام على الصلاة. لكن هنا مسألة، وهي مسألة فطور الصائم، فبعض الناس -أصلحهم الله- يضعون الطعام الكثير، ويبالغون في إفطار الصائم إلى درجةٍ يفوتون بها على الناس إدراك الجماعات، ولربما تفوتهم الركعة الأولى وهم مشتغلون برفع الطعام، وربما يكون بعضهم مشتغلاً بإصابته، وهذا لا شك أنه منهيٌ عنه؛ لأن النصوص دالة على أن من دخل المسجد يجب عليه أن يدخل مع الجماعة، وقد ثبتت النصوص بذلك حتى على من صلى، وقد أَمَر النبي صلى الله عليه وسلم من صلى في بيته أن يعيد في المسجد، كل ذلك حتى لا يشذ عن الجماعة، وإعمالاً للدخول مع الجماعة، فكون الصائم يضع هذه السُّفَر على وجهٍ يخِلُّ أو يؤدي إلى الإخلال لا شك أنه يعتبر آثماً من هذا الوجه، ولكن يفطر الصائم بالوجه المعروف، كأن يضع الطعام اليسير الذي ليس فيه إشغالٌ للصائم عن فرضه من أداء الجماعة والقيام بما أوجب الله عليه من الصلاة. فالمقصود أنه ينبغي تنبيه الناس في إفطار الصائم، ولا شك أن الناس -إن شاء الله- نيتهم صالحة نحسبهم ولا نزكيهم على الله، وبعضهم يقول: إني أريد أن أصيب فضل تفطير الصائم قبل المغرب لا بعد المغرب. ولا شك أنه إذا كان يريد إصابة هذا الفضل أنه سيضيع واجباً أهم مما هو مشتغلٌ به؛ فإن العلماء اتفقوا على أن تحصيل الفضائل لا يكون على حساب المنهيات، وهذا منهي عنه، ولربما أدى ذلك إلى إفساد فرش المساجد وغير ذلك مما لا يخفى، بل إنه يبالغ فيه إلى درجةٍ أن يزعج المصلين أثناء الركعة الأولى، فلا تسمع إلا اللغط، ولربما تسمع الكلام الذي يكون بسببه انشغال الناس عما هم فيه من الإقبال على الله عز وجل، فجميع هذه المفاسد تدل على أن طلبه لهذه الفضيلة لا يُعتبر شرعاً لوجود هذه الإخلالات. وبناءً على ذلك نقول: يفطر الناس على التمرة والشربة، ثم بعد الصلاة يمد لهم ما شاء من الطعام والله يَأْجُره، فإنه على خير؛ لأنه امتنع من وضع طعامه كله لأمر الشرع، فإذا وضعه بعد الصلاة لا شك أنه يصيب الفضل إن شاء الله تعالى والله يأجره على حُسن نيته، فيُنَبَّه الناس على ذلك، وينبغي على الأئمة أن ينصحوا الناس. ولقد رأينا -خاصةً في هذه الأزمنة- أموراً عجيبة مما ذكرناه، من التشويش على المصلين وأذية المساجد في فرشها؛ لأنه ربما يستعجل إلى درجةٍ يصيب بها الفراش، فيبقى الطعام على الفراش ولربما يُنْتِنُه، ولربما يؤذي المصلي بهذا النتن، فكل هذه المفاسد الموجودة مع ما فيها من إضاعة الركعة الأولى وفضل التأمين وراء الإمام، وإصابة أول الوقت بالتكبير تدل على أنه ينبغي تنبيه الناس على مثل هذا الأمر ونهيهم عنه.

تكرار الفاتحة

تكرار الفاتحة قال رحمه الله: [وتكرار الفاتحة]. تكرار الفاتحة يأتي على وجهين: الوجه الأول: أن لا يكون معذوراً. والوجه الثاني: أن يكون معذوراً بالتكرار. أما التكرار الذي لا يعذر فيه فكأن يقرأ الفاتحة مع علمه أنه قرأها، فللعلماء قولان: قال بعض العلماء: من كرر الفاتحة عالماً أنه كررها بطلت ركعته. وقال بعضهم: بل تبطل صلاته، ووجه ذلك: أن الفاتحة ركن، فإذا كررها مرتين فإنه يكون قد زاد ركناً قولياً، وزيادة الركن القولي مؤثرة كزيادة الركن الفعلي، فهذا وجه من يقول في أن من كرَّر الفاتحة تبطل صلاته. وقال بعض العلماء -كما درج عليه المصنف-: من كرر الفاتحة كرِه له ذلك، ولا تبطل صلاته؛ لأنه خلاف السنة، ولا تبطل صلاته؛ لأن زيادة الأقوال ليس كزيادة الأفعال. وهذا مُرَكَّب على مسألة الزيادة في الماهية والخارج عن الماهية؛ فإن زيادة الأفعال تُعتَبر زيادةً في الماهية فأبطلت؛ لأنها زيادة في هيئة الصلاة، بخلاف زيادة الأقوال فإنها لا تؤثر في الهيئة، فالهيئة على ما هي عليه، قالوا: وبناءً على ذلك لا يؤثر هذا على صلاته. إلا أن تسليم أصحاب هذا القول بأن الفاتحة ركن يُوجِب إحراجهم من هذا الوجه، ولذلك ينبغي اتقاء تكرار الفاتحة على هذا الوجه. الوجه الثاني: تكرارها لحاجة، مثل الذي يشك أنه قرأ الفاتحة، فهذا لا يخلو من حالتين: الأولى: أن يكون الشك معه طارئاً، كما لو صليت ذات يومٍ الظهر، ثم شككت هل قرأت الفاتحة أو لم تقرأها، فاليقين أنك لم تقرأ، فتقرأها وتلزمك قراءتها. ففي هذه الحالة إذا كان الشك طارئاً فحينئذٍ لا حرج وأنت معذورٌ لوجود السهو. الحالة الثانية: أن يكون الشك مسترسِلاً، كالموسوس، فإنه حينئذٍ لا يخلو شكه في الفاتحة من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون بعد دخوله في السورة، فإذا دخل في السورة وجاءه الشيطان وقال له: لم تقرأ الفاتحة فإنه يلغي هذا الشك؛ لأن الظاهر من حاله بدخوله في السورة أنه قد قرأ الفاتحة، ووجود الشك المسترسل يدل على ضعف هذه الشبهة، فيبقى على دلالة الظاهر ويُلغِي الأصل من هذا الوجه. الحالة الثانية: أن يكون شكه في حال سكوته، والتبس عليه كون سكوته بين الفاتحة وبين السورة، أو بين دعاء الاستفتاح وبين الفاتحة، فالأصل أنه ما بين دعاء الاستفتاح وما بين الفاتحة فيقرأ الفاتحة ولا حرج عليه في هذا التكرار. قال رحمه الله: [لا جمع سور في فرض كنفلٍ]. أي: أنه لا يُكره تكرار السور وجمعها في فرضٍ، فلو أن إنساناً قرأ سورتين في ركعة فلا حرج عليه، وليس بمكروه، وقال بعض العلماء بالكراهة، ولكن السنة خلافه، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقر الصحابي الذي كان يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] في كل ركعة، فإنه كان يقرؤها مضافةً إلى السورة، وكان ابن مسعود يقول: (إني لأعرف النظائر التي كان يجمع بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته)، فلا حرج أن تجمع بين السورتين في ركعةٍ واحدة.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تغميض العينين في المساجد المزخرفة

حكم تغميض العينين في المساجد المزخرفة Q في المساجد المزخرفة -خصوصاً إذا كانت الزخارف في مواضع السجود- هل يجوز للمصلي أن يغمض عينيه؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فقد قال بعض العلماء: إنه إذا كان في الأرض زخرفة أو نحوها فإنه لا بأس بتغميض الإنسان لعينه؛ لأنه يُحصِّل الخشوع بالانكفاف عن هذه الزخرفة. ولهذا القول ما يدل عليه في السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عنه قال: (أميطي عنا قرامك هذا، فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي)، قالوا: هذا يدل على أن الإنسان مهما بلغ من الخشوع فإنه يُشغَل، ولو جاهد الإنسان نفسه فإن الله عز وجل يعينه. وكنا في القديم نغمض ونظن أن هذا يُعين على الخشوع فوجدنا أن المجاهدة أفضل، حتى يصبح هذا الشيء شيئاً عادياً عندك، بحيث إذا أَلِفْته وأحدقت البصر إلى موضع سجودك وتأثرت بالآيات وأحسست أن الله يخاطبك بها بما فيها من الوعد والوعيد والترغيب والترهيب فإن هذا يدعوك إلى التأثُّر وعدم الالتفات إلى الزخرفة، ولذلك الذي تطمئن إليه النفس أن الإنسان يجتهد قدر استطاعته، ويجاهد علّ الله عز وجل أن يبلغه إلى هذه الدرجة من الكمال، والله تعالى أعلم.

الواجب على من ترك الركوع سهوا

الواجب على من ترك الركوع سهواً Q رجلٌ كان يصلي وراء الإمام، وقد قرأ الإمام في آخر قراءته آية سجدة ثم ركع، ولكن هذا المأموم لم يركع مثل الإمام، وإنما سجد سهواً، فماذا يكون على هذا المأموم؟ A هذا أمرٌ ينبغي التنبيه عليه لأئمة المساجد وطلاب العلم، فقد نَبَّه العلماء رحمة الله عليهم أن من فقه الإمامة أن لا يفعل الإمام شيئاً يُوجب اختلال صلاة الناس وراءه، وهذا من النصح للعامة، ووجه ذلك أنه إذا وقف على موضع السجدة أَربَك الناس، فلا يدري الناس أهو ساجد أم راكع خاصةً إذا كان هناك أناس يقتدون به في خارج المسجد، فترى هذا راكعاً وهذا ساجداً، وترى آخر قائماً حائراً لا يدري، أيسجد أم يركع، ولذلك ذكروا أن من فقه الإمامة التَّنَبُّه لمثل هذه الأمور. قالوا: فإذا قرأ ذلك وَوَقَع فيه فإن لم يكن عنده رغبة أن يَسْجُد فليصلها بسورة بعدها، فإنه إذا قرأ الآيتين والثلاث، أو استفتح سورةً مثل سورة (اقرأ)، ولا رغبة له في السجود فإنه يستفتح بسورة القدر، فإن دخوله بسورة القدر ينبه على أنه لا يريد الركوع، قالوا: حتى ولو قرأ منها آيتين لينبه الناس على أنه غير ساجد، ثم يركع بهم. ولذلك يقولون: يَنبغي للإمام أن يكون عنده العلم بأحكام الإمامة وفقه الإمامة. أما بالنسبة لحكم هذه المسألة فإن الإمام إذا كبر وركع ثم سجد الناس، فمَن سجد صحّ سجوده، وحينئذٍ إذا رفع الإمام يقوم مباشرة، ثم يركع ويدرك الإمام في الرفع من الركوع وصلاته صحيحة؛ لأنه سجد على وجه الإخلال، ويَحمِل الإمام عنه هذا السهو. وأما إذا لم يركع وإنما سَجَد ثم قام من سجوده فوقف مع الإمام في الرفع من الركوع ولم يركع فعليه أن يلغي هذه الركعة، فإذا سلَّم الإمام قضى هذه الركعة؛ لأنه لم يركع. فإن تَدَارك صحت ركعته، وإن لم يتدارك وجب عليه قضاء الركعة، فإن خرج من المسجد ولم يقض هذه الركعة وَجَب عليه قضاء الصلاة كاملة. فالخلاصة أن الصور ثلاث: الأولى: أن لا يركع ولكن يتدارك، فصلاته صحيحة وركعته مجزية. الثانية: أن لا يركع ولا يتدارك فتلزمه الركعة، فإن فَعَلَها وهو في المسجد وقام وتحرك كما في قصة ذي اليدين، فحينئذٍ صلاته صحيحة. الثالثة: فإن خرج من المسجد ولم يتدارك هذه الركعة لَزِمه قضاء الصلاة كاملة، والله تعالى أعلم.

وصايا لطلاب العلم قبل الامتحانات

وصايا لطلاب العلم قبل الامتحانات Q أقبلت الامتحانات، فما هو الذي ينبغي على طالب العلم فعله في هذه الأيام؟ A يوصى طلاب العلم بأمور: أولاً: إخلاص العمل لوجه الله عز وجل وإرادة ما عند الله سبحانه وتعالى؛ فإن الله سبحانه وتعالى يأجر الإنسان على قدر نيته، فلا يُغلِّب طالب العلم نية الدنيا على الآخرة. الأمر الثاني الذي يُوصَى به طالب العلم: الاعتماد على الله، كما قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58]، فلا تعتمد على ذكائك ولا على فهمك، ولا على حفظك ولا على تحصيلك، ولكن توكل على الله، فإن الله قادر على أن يترك الإنسان وهو على أكمل ما يكون من الذكاء والحفظ حتى يدخل إلى الاختبار فينسيه جميع ما حفظ، والله على كل شيء قدير، وربما يبتليه بمرض في رأسه أو جسمه فيصبح في شتاتٍ من أمره لا يستطيع أن يبلغ ما يريد. فنحن تحت رحمة الله عز وجل، وإذا أردت أن تنظر إلى توفيق الله لك في الأعمال فلا تستفتح عملاً إلا وأنت تعلِّقه على حول الله وقوته. وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم المأثور: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)، فلا يصلح الشئون إلا هو سبحانه، فالتوكل على الله تعالى، كما قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58]، وقال الله في كتابه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]، وأيام الاختبارات أيامٌ صعبة، وفيها هموم وغموم، فالإنسان يذهب هذه الهموم والغموم بالاعتماد على الله عز وجل والتوكل على الله سبحانه وتعالى وحسن الظن به. الأمر الثالث: ينبغي لطلاب العلم أن يتراحموا، وأن يكون بينهم ما ينبغي أن يكون بين طلاب العلم من البعد عن الأنانية والبخل بالخير على إخوانهم، فإن احتاج أخوك إلى شرح مسألة أو كتاب أو ملخَّص فأعطِه، وإياك وما يسوِّله الشيطان حين يقول: هذا مهمل متكاسل. فمن الآن تعود على الإيثار، فلربما كانت عنده ظروف، أَعطِه ملخَّصك وانصحه، فلذلك لا ينبغي للإنسان أن يبخل على الناس، وطالب العلم الذي يبخل اليوم سيبخل غداً، والذي فيه الأنانية اليوم فيه الأنانية غداً. فينبغي لطالب العلم أن يُوطِّن نفسه على الإيثار وحب الخير للناس، فإن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، والعلم رحمٌ بين أهله، فإذا احتاج أخوك إلى مساعدة، أو إلى شرح مسألة فلا تبخل فإن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. الأمر الرابع: البعد عن المحرمات، ومنها الغش في الاختبار؛ لأن الغش في الاختبار يُعتبر كبيرة من الكبائر ولا شك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غشنا فليس منا)، ولأنه يفضي إلى استباحة الأمور المحرمة؛ لأن الإنسان ينال شهادةً مزورة وهو ليس بأهل لهذه الشهادة، بل قال بعض العلماء: يُشتبه في رزقه، إلا أن يتوب فيتوب الله عليه. ولذلك يُنظر فإن نال الشهادة بالزور وبالغش -والعياذ بالله- فأقل ما يكون أن يمحق الله بركة ماله، ولذلك تجده يأخذ المال الكثير وليست فيه بركة، ولو تاب لتاب الله عليه. الأمر الخامس الذي يُنَبَّه عليه: تعظيم شعائر الله عز وجل، فإن الطلاب في الاختبارات ربما يقطعون أوراق القرآن من المصاحف، وربما يمتهنون بعض الكتب، فينبغي التناصح في هذا الأمر، فلا يجوز امتهان كتاب الله ولا تمزيق أوراق المصحف، وكذلك لا يجوز امتهانها بوضعها في الطرقات والوطء عليها بالأقدام. ولذلك يُخشى على الإنسان إذا رمى بورقة أن يطأ عليها أحد فيكون عليه وزر؛ لأنه هو السبب، والتسبب في الأشياء يوجب ضمان ما نشأ عنه، لذلك من يتسبب في امتهان كتبه وأوراقه بمجرد أن ينتهي من اختباره، أو يضعها في مكان تعبث بها الرياح فهذا لا يجوز، وينبغي التناصح في هذا الأمر. كذلك أيضاً أُوصِي بوصية ينبغي التنبه لها، وهي حقوق الأبناء في مثل هذه الأيام، فعلى الآباء والأمهات أن يتقوا الله في الأبناء والبنات؛ فإن أيام الاختبار أيام عصيبة، ويكون الطلاب فيها في هم وغم، فينبغي الرفق بهم والتوسعة عليهم وإعانتهم وتيسير الأمور لهم وتقوية صلتهم بالله عز وجل، وغير ذلك من الأمور التي ينبغي أن يسديها الوالدان إلى الولد في مثل هذه المواقف، وينبغي القيام بالواجب والمسئولية. وبعض الآباء لا يهمه أن يضبط ابنه العلم أو لا يضبطه، والله سائلك عن ضبط ابنك للعلم؛ لأن تعلم الابن ومعرفته بأمور دينه وما يتصل بها من الأمور التي يحتاجها لحياته أمرٌ مطلوب. فينبغي شحذ همم الأبناء والبنات وإعانتهم على مراجعتهم، وتيسير الأمور التي تعينهم على الخير وبلوغهم لأفضل الغايات؛ لأن هذا من النصيحة؛ فإن من نصحك لولدك قيامك عليه على هذا الوجه الذي يُرضِي الله عز وجل. وكلمةٌ أخيرة إلى من ابتلاه الله بالتدريس، فإني أسأل الله العظيم أن يشكر سعيهم، وأن يعظِّم أجرهم، وأن يجزيهم على أبناء المسلمين وبناتهم كل خير، فنعم ما يصنعه المعلم من كلمات طيبة، فأسأل الله أن يتقبل منا ومنهم صالح العمل، فلا يعلم مقدار ما يبذله المعلم والموجِّه لمن يُعلِّمه إلا الله سبحانه وتعالى، فالله أعلم كم تمر عليه من ساعات هم وغم، حتى وإن كان يُعلِّم شيئاً من أمور الدنيا، فإن المسلمين بحاجة إلى طبيب وبحاجة إلى مهندس، وبحاجة إلى كل من يسد ثغور الإسلام ولو كان في أمور الدنيا ما لم تكن محرمة، فالمعلم بقيامه بهذه المسئولية على خير، وهو مأجورٌ عند الله عز وجل، فنسأل الله أن يتقبل منا ومنكم. والوصية التي يوصون بها: الرفق بالطلاب، وإحسان الظن بهم وعدم التشويش والتضييق عليهم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به). فبعض المدرسين يأتي بأسئلة تعجيزية، وبعضهم يُحاول أن يضيق على الطلاب، وكأن الاختبار شيء من المنافسة والأذية والإضرار، وهذا لا يجوز؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا ضرر ولا ضرار)، فرفقاً بأبناء المسلمين وبناتهم، ولتتق الله في هذا الابن الذي يأتيك متوتر الأعصاب شارد الذهن مهموماً مغموماً مكروباً، فينبغي الرفق بمثل هؤلاء، خاصة وأنهم ذرية ضعيفة، فإن الله سمى الأطفال -خاصة صغار السن- ذريةً ضعيفة، فمثل هؤلاء يرفق بهم. وبعض المعلمين إذا رأى التقصير من الطالب سبّه وشتمه وأهانه، بل ربما ضيق عليه، فيخرج هذا الطالب بهم وغم يبقى معه دهره كله، فلربما يُصاب بمرضٍ في نفسه أو في عقله، وهذا لا يجوز، فهؤلاء أمانة والله سائلنا عنهم، فينبغي الرفق بهم والإحسان إليهم وأخذهم بالتي هي أحسن، وإذا كنت في المدرسة ورأيت من يشدد فذكِّره بالله عز وجل، وذكره أن حوله بحول الله، وأن قوته بقوة الله عز وجل. ولذلك لما ضرب أبو مسعود رضي الله عنه وأرضاه غلامه وهو يملكه قال: أغضبني فضربته ضرباً شديداً، فسمعت صوتاً من ورائي لم أستطع أن أتبينه من شدة الغضب، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: (اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام). فلذلك ينبغي على الإنسان أن يتقي الله في أبناء المسلمين وبناتهم فهم أمانة، وينبغي أن نعرف نفسياتهم والضيق الذي هم فيه والكرب، فإن الله عز وجل يرحم من عباده الرحماء، وفي الحديث: (من لا يرحم لا يرحم)، وهذا لا يعني أن نسوي بين الخامل وبين المجد، فيستطيع المدرس الموفق الناجح أن يُعطي كل ذي حقٍ حقه، وأن يزن بالقسطاس المستقيم، وهذا لا شك فيه، لكن بطريقة ليس فيها إضرار بأمثال هؤلاء الضعفة الذي ينبغي الإحسان إليهم. والشدة المبالغ فيها تنفِّر، ولو كان المعلم يدرس أفضل العلوم وأحسنها، فإنها تنفر، ولربما يكره بعض الطلاب كتاب الله عز وجل -والعياذ بالله- لصغرهم وجهلهم بسبب الأذية والإضرار، فينبغي تهيئة من يعين الطلاب على بلوغ هذه الغايات الطيبة، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجيرنا وإياكم من امتحان الآخرة، فينبغي علينا أن نتذكر في مثل هذه المواقف حينما يدخل الطالب إلى الاختبار وقد هُيِّئت له الأمور، فكيف إذا قدِم العبد على الله عز وجل في يومٍ تشخص فيه الأبصار؟! ولا شك أن الإنسان الموفَّق يتنقل من فكرةٍ إلى فكرة ومن عبرة إلى عبرة، فاختبار الدنيا يذكر باختبار الآخرة. ويا للعجب حين تجد الآباء والأمهات مشفقين على الأبناء والبنات وهم يذهبون إلى الاختبارات، والأكف تُرفع بالدعوات، ولا يبالي الأب بابنه في الامتحان الأكبر، ومن منا سأل الله لنفسه وأولاده أن يجيرهم الله من عذاب الآخرة؟ فإن الامتحان كل الامتحان في الآخرة. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجيرنا من هول يوم الوعيد، وأن يؤمننا من سطوة ذلك اليوم الشديد، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يتقبل منا ومنكم صالح العمل، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

مباحات الصلاة

شرح زاد المستقنع - مباحات الصلاة هناك مباحات يجوز للمصلي أن يفعلها في صلاته ولا حرج عليه، ومنها: رد المار بين يديه، وعد الآيات بأصابعه أثناء القراءة، والفتح على الإمام إذا أخطأ أو أرتج عليه، ولبس الثوب أثناء الصلاة، ولف العمامة، وقتل ما يؤذي كالحية والعقرب ونحوها، وقراءة ما شاء من أول السورة أو وسطها أو آخرها، والبصق عن يساره، وإذا كان في المسجد ففي ثوبه.

مباحات الصلاة

مباحات الصلاة

رد المار بين يدي المصلي

رد المار بين يدي المصلي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وله رد المار بين يديه]. الضمير في (له) عائد إلى المصلي، سواء أكان في فرضٍ أم في نفل. وقوله: [وله رد المار بين يديه] قال بعض العلماء: بل يجب عليه ذلك. وقال بعض العلماء: لا يرد. وهو قول طائفة من أهل الرأي، فقد كانوا يرون أن هذا من المنسوخ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اسكنوا في الصلاة)، والصحيح أنه ليس بمنسوخ، وأن الحكم باقٍ إلى قيام الساعة، وأنه لا يجوز أن تترك إنساناً يمر بين يديك، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (فليقاتله فإنما هو شيطان)، وقوله عليه الصلاة والسلام عن السترة أنها: (مثل مؤخرة الرحل، فلا يضره من مر وراء ذلك)، فإن قوله: (فلا يضره) يدل على أنه إذا مر بينه وبين قبلته ضرَّه. قال العلماء: إن من صلَّى ومر المار بين يديه تضرر الاثنان، فيتضرر المصلي لأنه قُطِع عن خشوعه، وإذا سكَت عنه أعانه على الإثم والعدوان، ومن أعظم الإثم والعدوان إثم العبادات والاعتداء على حدود الله عز وجل في المقام بين يديه، فقالوا: يأثَم المصلي من هذا الوجه؛ لأنه أعانه وسكت عنه، ويأثم المار عند علمه؛ لأنه فعل ما نُهِي عنه شرعاً من المرور بين يدي المصلي، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه). قال أبو النضر: لا أدري أقال أربعين يوماً أو شهراً أو سنة. ولذلك شدد الشرع في هذا المرور؛ لأنه يشوش على الناس في صلاتهم ويقطعهم عن الخشوع، وهو عبادة لا نعلم علتها الحقيقية، فمِن الله الأمر وعلى الرسول البلاغ وعلينا الرضا والتسليم، وليس هذا بكثيرٍ على أشرف العبادات، وأكمل المقامات وهي الصلاة. والمار بين يدي المصلي لا يخلو المصلى معه من أحوال: الحالة الأولى: أن تشعر به قبل المرور، وهذا يتأتى حينما يكون الإنسان قد رمى ببصره إلى موضع سجوده فأحس بالمار من جهة يمينه أو من جهة يساره قبل أن يحول بينه وبين القبلة، فإن شَعَرت به قبل مروره مددت اليد، وهذا المد من باب التنبيه، ولا يجوز لك في هذه الحالة أن تبدأ بالمقاتلة، وهذا على خلاف ما يُرى من بعض الناس -أصلحهم الله- فإنه بمجرد أن يمر بين يديه يضربه، وهذا لا يجوز؛ لأن أذية المسلم والإضرار به محرَّمة، ولا تجوز إلا في الحدود الشرعية التي أَذِن الله بها ورسوله عليه الصلاة والسلام، وبناءً على ذلك لا يبتدئ الناس بالدفع أو ضربهم على صدورهم مباشرة، وإنما يمد مداً قوياً حتى يتنبه المار، فإذا أحسست أن ثبوت اليد يحول بينك وبينه أثبتّ اليد واكتفيت بالإثبات دون حركة، فإن انصرف فبها ونعمت؛ لأنه ربما يكون المار مشوشَ الذهن، وربما يكون شارد الذهن، وربما يكون غير منتبه لما أمامه، فإذا وضعت يدك تنبَّه، فحينئذٍ يرتدع، ولا شك أن ما أُبِيح للضرورة يُقدَّر بقدرها، فإن أصر على المرور في هذه الحالة دفعته، فإن أصر قاتلته، فلك حق الدفع، ولو كان ذلك على وجه الإضرار. واختلف العلماء لو أنه دفعه وسقط وانكسر، أو أصابه ضرر، فقال بعض العلماء: أَذِن الشرع بالمقاتلة ودمه هدر، فإن مات فلا يلزم الدافع الضمان ولا يجب عليه القصاص. وقال بعض العلماء: إنه ضامن، فلا إثم عليه في الدفع، ولكنه يضمن. وهذا القول أقوى الأصول؛ لأن إسقاط الإثم عليه لا يستلزم إسقاط الضمان، وبناءً على ذلك تَردُّه وتدفعه، فإن حصل له ضرر فإنه من يدك، وابتلاءٌ ابتلاك الله به، كما يُبتَلى الرجل بالسقم في جسمه والبلاء في جسده فيضمن؛ لأن الأصل الضمان حتى يدل الدليل على الإسقاط، وليس هنا دليل يدل على إسقاط الضمانات، فالدليل عندنا في الإذن بالمقاتلة، لكنه لا يستلزم إسقاط الضمان، وفرقٌ بين قوله: (فليقاتله)، وبين قوله: (فليقتله)، فإن المقاتلة هي المدافعة، وهو أسلوب عام، أي أعم من أن يكون دالاً على الإسقاط. واختلف العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (فليقاتله). فقال بعضهم: ليس المراد أن يقاتل بمعنى أن يدافعه في الصلاة، وإنما المراد أن المار على حالتين: فإن دفعته فلا إشكال، وإن لم يندفع، وغلب فإنهم قالوا: فليدْع عليه في صلاته، فإن القتل يُستعمل بمعنى اللعن، وبمعنى الدعاء، ومنه قوله تعالى: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30]، وقوله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] أي: لُعِن، فقالوا: إنه بمعنى الدعاء عليه، فإذا غَلَب المكلَّف فحينئذٍ يدعو عليه لعظيم الضرر الذي أصابه. ولكن القول الثاني -وهو أن المراد بالمقاتلة المدافعة- أقوى، وهو قول الجماهير، وليس المراد به استباحة دمه والخروج عن كونه مصلياً. فإن كان المار قوياً، وكنت ضعيفاً وغلبك فحينئذٍ قالوا: الإثم على المار دون المصلي. وفي بعض الأحيان في حال الجلوس بين السجدتين أو التشهد لا تستطيع المصلي أن يدفع إلا إذا كان الإنسان قوياً يستطيع أن يقاتل، فحينئذٍ لا حرج؛ فلقد رأيت رجلاً ضعيف البنية أمسك بساق رجل حتى كاد أن يموت الرجل بسبب ما أعطاه الله من القوة، لكن الإشكال إذا غلبه، فقالوا: إذا غلبه فالإثم على المار دون المصلي. وقد ذكر العلماء حالات المرور بين يدي المصلي فقالوا: لا يخلو المصلي والمار بين يديه من حلالت، ففي حالة يأثمان، وحالة لا يأثمان، وحالة يأثم المار دون المصلي، وحالة يأثم المصلي دون المار. فالحالة الأولى التي لا يأثمان فيها صورتها أن يكون المصلي كفيف البصر، ويمر المار وهو لا يدري أنه مارٌ بين يدي المصلي. فسقط الإثم عن الأعمى؛ لأنه لا يرى، وهذا ليس بإمكانه، وسقط الإثم عن المار لكونه لا يعلم. الحالة الثانية التي يأثمان فيها: أن يبصره وهو قادرٌ على دفعه ولا يدفعه، ويمر المار دون وجود عذر، مع علمه أنه مارٌ بين يدي المصلي، فيأثمان معاً. الحالة الثالثة التي يأثم فيها المار دون المصلي: أن يكون المصلي كفيفاً والمار مبصراً عالماً، فيأثم المار دون المصلي. وأما الحالة الرابعة التي يأثم فيها المصلي دون المار، كأن يكون المار كفيف البصر، أو لا يعلم فيمر دون أن يدفعه، فحينئذٍ يأثم المصلي دون المار. فذكرنا أن السنة رد المار بين يدي المصلي، وعبَّر المصنف بهذا الرد على العموم، فيشمل كل ما مرّ بين يديك، سواءٌ أكان إنساناً أم حيواناً، فإذا مرَّ الشيء بين يديك فإنك تدفعه، خاصةً إذا كان مما يقطع الصلاة فإن الأمر فيه أشد، كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه. أما بالنسبة لغير الآدمي، وهي الحيوانات، فهي على ثلاثة أضرب: الضرب الأول: ما يمكن ردُّه بمد اليد، كالبعير وكالبقرة إذا كانت مماثلة لموقف المصلي، فإذا مد يده تنبه البعير وانصرف عنه، وكذلك البقرة، وفي حكمها أيضاً الحمار والبغل ونحوه مما هو عظيم الجثة بحيث يماثل الإنسان حال قيامه. الضرب الثاني: أن يكون مما لا يُمكن رده من الحيوانات، كالطائر إذا مر بين يدي الإنسان، فإنه يتعذر عليه أن يرده بيده. الضرب الثالث: أن يكون مما يمكن رده في حال القيام مع حدوث الانتقال من ركنٍ إلى ركن، وذلك كالهره، فالهرة الصغيرة إذا مرَّت لا تستطيع أن تردها إلا إذا انحنيت إليها، وكذلك البهمة الصغيرة من الغَنَم كالسخلة ونحوها، فإنك تضطر إلى أن تنحني، فتنتقل من ركن القيام إلى ركن الركوع، وربما تُبالغ في الانحناء لردها كالقطة، فحينئذٍ هناك أوجه: قال بعض العلماء: يجوز له أن يدفعها ولو بالرَّمي، فينحني مسرعاً في انحنائه، أي: ينتقل بسرعة ويأخذها ويرميها، ثم يرجع إلى قيامه ويُغتَفر هذا الانتقال. وهذا قال به بعض السلف. القول الثاني: أنه يَرُد بقدمه، ولا يرد بيده، فينتقل الرد من كونه بيده إلى كونه بقدمه، فيدفعها بقدمه، فإذا جاءت تمر فإنه حينئذٍ يجعل قدمه في منتصف الهر ونحوه ثم يرمي به فيُغْتَفر هذا، ويكون كالمدافعة باليد. القول الثالث: أنه يتقدم حتى يلتصق بالحائط أو بسترته، فتمر البهمة من ورائه، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعله لذلك. وأقوى هذه الأقوال وأعدلها والقولان الأخيران، فإما أن يكون الدفع بالقدم، وإما أن يكون الدفع بأن يتقدم حتى يلتصق ثم تمر هي من رواءه كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام. والرد المشروع أن يكون قبل دخوله فيما بين الإنسان وبين سترته، أما لو جاوز هذا المكان ومر، فقال بعض العلماء: يردُّه. وقال بعضهم: لا يرده؛ لأنه إذا رده حصل مروران بين يدي المصلي. وهذا أقوى، أعني الأخير؛ فإنه إذا فات الإنسان ومر، فحينئذٍ قد سقط التكليف وأصبح من المتعذر؛ لأن الإخلالات تنقسم إلى قسمين: ما لا يمكن تداركه فلا تكليف، وما يمكن تداركه فإنه يُكلَّف به الإنسان، وهذا مما لا يمكن تداركه؛ فإن المرور قد فات، فحينئذٍ لا يُطَالَب برده، ولأن رده يتضمن مفسدةً من الانشغال مع حصول مرورٍ زائد، وبناءً على ذلك لا يشتغل برده ثانيةً. الأمر الثاني الذي يُرَاد التنبيه عليه: أن يكون المرور فيما بين يدي المصلي، فلو مر من وراء سترته فإنه بالإجماع لا يُؤثِّر؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في السيرة: (مثل مؤخرة الرحل، فلا يضره من مر وراء ذلك)، فدل على أن المرور وراء السترة لا يُؤثِّر، وثبتت في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقر حينما مرّ الناس من وراء السترة، فالسترة جُعِلت كغاية، فالدفع يكون فيما بينه وبين هذه الغاية، ولا يُشرع له الدفع فيما زاد عن هذه الغاية. ويبقى النظر لو كان الإنسان يصلي إلى غير سترةٍ، أو كانت سترته بعيدة، فهل يُشرع له أن يتقدم حتى يَرُد؟ و A السنة للإنسان أن تكون سترته على ممر الشاة من موضع سجوده، وهذا يأتي بأكثر من ذراع، فهذا القدر يتركه ويسجد، كما جاء في حديث سهل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (جعل هذا القدر ممر الشاة) قالوا: العلة في هذه -والله أعلم- أن لا يُشبِه عبدة الأ

عد الآيات أثناء الصلاة

عد الآيات أثناء الصلاة قال رحمه الله تعالى: [وعدّ الآي]، المراد بالعد: الحساب، والآي جمع آية، وهي آيات القرآن. ومراد المصنف أن المصلِّي إذا أراد أن يعد الآيات في صلاته فلا حرج عليه في ذلك، وقد جاء حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان يعقد أصابعه لعد الآي)، ورخَّص فيه بعض السلف رحمة الله عليهم، وجاء عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعلهم لذلك. وقال العلماء: إنه اغتُفِر هذا الفعل لكونه يسيراً، وقد يحتاج الإنسان للعد لطلب فضيلةٍ، كما في قيام الإنسان بمائة آيةٍ وقيامه بألف آيةٍ في الليل، فبيَّن المصنف رحمه الله بهذه العبارة أن من اشتغل بعد الآي فلا حرج عليه، ولكن الأكمل والأفضل والأعظم أجراً أن يقتصر على التلاوة بالتدبُّر. وأما عد الآي فإن حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه لم أعثر على من صحّحه وقال بثبوته، ولذلك يُبْقَى على الأصل، ولأن المصلي إذا عد الآي فإن ذلك يشوش عليه فكره، وكذلك قد يمنعه ويحول بينه وبين تدبر معاني الآيات، ولذلك قالوا: إنه خلاف الأولى على أقل درجاته.

الفتح على الإمام

الفتح على الإمام قال رحمه الله تعالى: [والفتح على إمامه] إذا صلَّيتَ وراء إمامٍ وارتُج على هذا الإمام أو أخطأ فإنه يحق لك أن تفتح عليه، والفتح على الإمام يكون عند حدوث الخطأ، والخطأ يأتي على صور في تلاوة القرآن، فتارةً يكون الإمام واقفاً عند الآية لا يعرف ما بعدها، وتارةً يُردد الآية على سبيل اللبس مع آيةٍ أخرى، خاصةً في المتشابه من الآيات. ففي هاتين الحالتين يُفَصَّل في حكمه، فإذا كان الإمام قد ارتُجَّ عليه فقرأ الآية ثم وقف ولم يكمل ما بعدها؛ فإنه حينئذٍ يحتمل أن يكون وقوفه لتدبرٍ أو تفكر أو اتعاظ، ويحتمل أن يكون وقوفه لمكان الخطأ وعدم معرفة ما بعد الآية على سبيل النسيان، فإن غلب على ظنك أنه قد وقف على هذه الآية على سبيل الخطأ جاز لك أن تبادره بالفتح وأن تعاجله به، وأما أن يبادر الإنسان مباشرة بالفتح فلا؛ لأن الأصل سكوت المأموم وعدم كلامه، وإنما أبيح لك أن تتكلم فاتحاً على الإمام عند وجود الحاجة، فلمّا تردد الحال بين كونه محتاجاً أو غير محتاج بُقِي على الأصل. ولذلك قال العلماء: ليس كل سكوتٍ من الإمام في وسط الآيات أو عند ختم الآيات يدل على أنه قد التبس عليه، أو ارتج عليه، ولذلك هذا النوع من الوقوف ينبغي على الإنسان أن لا يتعجل فيه؛ لأنه ربما قرأ الإمام فأدركه خشوع الآية فقطع نصفها، وربما غلبته نفسه بالفكر والتأثر فوقف حتى يسترجع نفسه، وربما لم يستطع إكمال الآية لضيق نفسه، ونحو ذلك. قالوا: ففي مثل هذه الصور لا يعاجل الإنسان بالفتح، وهذا إذا وقف الإمام على رأس الآية، أو وقف أثناء الآية، إلا أنهم قالوا: إن وقوف الإمام أثناء الآية أبلغ في الدلالة على كونه ناسياً منه إذا وقف عند آخر الآية. أما وقوفه عند آخر الآية فلا شك أن مبادرتك بالفتح خلاف الأولى، وذلك أنه من المعهود في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من قراءته سكت، ثم كبر للركوع، فلربما سكت الإمام من أجل الركوع، فلذلك كان وقوفه على رأس الآي وتأخره في قراءة ما بعدها لا يدل على كونه ناسياً. ومن هنا قالوا: من فقه الإمام إذا كان وقوفه على سبيل النسيان أن يكرر الآية التي وقف عليها، فإن تكراره يشعر من وراءه بالخطأ، فهذا إذا وقف على رأس الآيات. أما الحالة الثانية: وهي أن يرتج على الإمام، والمراد به: أن تجده يكرر الآية على وجهين وهذان الوجهان لا أصل لهما، بمعنى أن أحدهما الصحيح والآخر خطأ، أما لو كررهما على وجهين يحتملان الصواب -كما هو الحال في القراءات المختلفة- فهذا ليس محل كلام العلماء رحمةُ الله عليهم. فقولهم: (إذا ارتج) مأخوذ من رج الشيء إذا خض، والمراد بذلك أن الإمام يتردد في الآية. أما إذا أخطأ فقرأ الآية على غير ما أُنزلت عليه، فحينئذٍ بمجرد خطئه تبادره بالفتح، ويختلف هذا الوجه عن الوجه الذي قبله بكون الوجه الذي قبله يتحرى فيه المأموم، وهذا الوجه يبادر فيه بالفتح. وقوله: [على إمامه] تقييد فيه نوع من التخصيص؛ لأن الإضافة تقتضي التخصيص، فدل على أنه يُشرع له أن يفتح على إمامه دون إمامٍ آخر، ودون قارئ آخر. ولذلك صور: الصورة الأولى: لو أن إمامين صلّيا بجوار بعضهما، فأخطأ أحد الإمامين وكنت وراء المصيب وسمعت بخطأ الثاني الذي لا تأتم به، قالوا: لا يفتح عليه؛ لأنه ينشغل عن صلاته خاصةً مع وجود من يفتح عليه. الصورة الثانية: أن يقرأ بجوارك إنسان كتاب الله عز وجل فيخطئ، فهنا قال بعض العلماء: يجوز لك أن تفتح عليه، بخلاف الإمام. ومن العلماء من قال: إنه لا يفتح عليه كالإمام الذي لا تأتم به، ومن رخص في الفتح عليه قال: إن هذا -أي الفتح- إنما شُرِع لإصلاح الخطأ في كتاب الله عز وجل، ولعظيم حرمة كلام الله عز وجل، فيُشرع للإنسان أن يبين خطأه، ويُغتفر هذا الكلام ويَقْصِد به الذكر، فخففوا في هذا، كأن يقرأ بجوارك قارئ فيخطئ، فلك أن تقرأ الآية التي يقرأها، وهذا على سبيل التعبُّد لا على سبيل الرد. وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة -أعني إذا أخطأ الإمام- فهل من حقك أن ترد عليه أو ليس من حقك ذلك؟ وذلك على وجهين مشهورين عند العلماء رحمة الله عليهم، فذهب جمهور العلماء إلى مشروعية الفتح على الإمام، وأن الإمام إذا أخطأ في قراءته كان من حقك أن تفتح عليه بالصواب، وذهب الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه إلى عدم جواز الفتح على الإمام وقال: إنه يلزم المأموم أن يسكت، وأما الإمام فإنه يتذكر، فإن تذكر فبها ونعمت، وإلا ركع وانتقل إلى موضعٍ آخر من كتاب الله عز وجل. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، وذلك لما ثبت في حديث أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة يقرأ فيها، فالتبس عليه، فلما انصرف قال لأبي بن كعب: أصليت معنا؟ قال: نعم قال: فما منعك أن تفتح عليَّ). قالوا: فهذا يدل دلالة واضحة على مشروعية فتح المأموم على إمامه، وأنه لا حرج على المأموم إذا تكلم بما يعين إمامه على صواب قراءته، وهذا المذهب لا شك أنه أَقرب المذاهب إلى السنة. وأما ما يفتح فيه من الأخطاء فالصواب أنه يفتح في جميع الأخطاء، سواءٌ أأخطأ بإسقاط آية أم جملة أم كلمة أم حرف أم غير الشكل، وسواء أكان تغيير الشكل محيلاً للمعنى أم غير محيلٍ للمعنى؛ لأن المقصود إصلاح قراءته لكتاب الله عز وجل. وعلى هذا فيُشرع الفتح على الأئمة في هذه الأحوال كلها، والإنسان مثابٌ على هذا الفتح ومأجورٌ عليه.

لبس الثوب أثناء الصلاة

لبس الثوب أثناء الصلاة قال رحمه الله تعالى: [ولبس الثوب]. أي: وله لبس الثوب في الصلاة. وهذا مبني على حديث مسلم، فقد جاء عن وائل بن حجر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر للصلاة والتحف بإزاره). قال بعض العلماء: هذا يدل على مشروعية لبس الإنسان لثوبه أثناء الصلاة، ولكن قالوا: بشرط أن لا يكون بالحركة الكثيرة، فإن التحاف النبي صلى الله عليه وسلم بالإزار إنما كان على وجه ليس فيه كثير عبث وكثير حركة، بخلاف الدخول في الثوب الآن، فإنه يحتاج إلى كثير حركةٍ وكثير فعل، ولذلك يُفرَّق بين اللبس الذي فيه كثير الحركة، وما فيه يسير الحركة. وبناءً على ذلك فله أن يصلح ثوبه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أصلح إزاره، وصورة ذلك أن تكون العمامة على رأسه فيلفها، أو يرفع الغطاء -أعني غطاء القلنسوة- عن جبهته لكي يسجد عليها، ونحو ذلك، فهذا لا حرج فيه، أما ما كان من اللباس يحتاج إلى كثير عمل فإنه لا يفعله في صلاته.

لف العمامة

لف العمامة قال رحمه الله تعالى: [ولف العمامة]. أي: إدارتها؛ لأنها إذا سقطت أزعجته، ولذلك قالوا: لا حرج عليه في لفها؛ لأنه ربما انحلت العمامة فسقط كورها، خاصةً عند السجود؛ فإذا ارتفع من سجوده وأراد أن يعيد كورها فإنه لا حرج عليه في ذلك إلحاقاً بالتحاف النبي صلى الله عليه وسلم بالإزار. ومن أهل العلم من قال: فرقٌ بين الإزار والعمامة ونحوها؛ لأن الإزار يتوقف عليه ستر العورة الذي من شروط صحة الصلاة، فكان أمره أشد من العمامة التي لا يُشترط فيها ما يُشترط في الإزار، فلذلك فرّقوا بين العمامة والإزار. ولكن هذا التفريق محل نظر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كبر وقد ائتزر، وإنما مراد وائل شد الإزار، وشد الإزار لا شك أنه مرحلة فوق تغطية العورة، فخرج عن كونه مؤدياً لشرط الصحة إلى ما هو فضل أو معينٌ على الفضل.

قتل الحية والعقرب والقمل في الصلاة

قتل الحية والعقرب والقمل في الصلاة قال رحمه الله تعالى: [وقتل حية وعقرب وقمل]. أي: وللمصلي أن يقتل الحية العقرب، وأن يقتل القمل. أما قتله للحية والعقرب فقد جاء فيه حديث السنن من أمره عليه الصلاة والسلام بقتل الأسودين في الصلاة، أي: العقرب والحية. وهذا يدل على سماحة الشريعة ويسرها، ووجه ذلك أن المصلي لو اشتغل بصلاته وجاءته العقرب فلدغته فإن ذلك مظنة أن يموت، وكذلك إذا لُدِغ من الحية، ولذلك يُعتبر هذا -أعني جواز القتل أثناء الصلاة- من باب ارتكاب أخف الضررين، ويَعتبره العلماء من باب تعارض المفسدتين، فعندنا مفسدة الفعل وهو القتل الذي يُخرِج المصلي عن كونه مصلياً، ومفسدة فوات النفس وحصول الضرر بلدغة الحية والعقرب. فلذلك قالوا: كون الشريعة تأذن بقتل الحية وبقتل العقرب يدل على تقديم المفسدة العليا على المفسدة الدنيا، وهذا أصل في الشريعة، ومنه القاعدةٌ المشهورة: (إذا تعارضت مفسدتان أكبرهما)، وبعضهم يقول: (رُوعِي ارتكاب أخفهما بدفع أعظمهما) أي: لدفع الأكبر، ومن ذلك كَسْر السفينة، كما في قصة موسى مع الخضر، حيث علل الخضر عليه السلام كسرها بقوله فيما حكى الله تعالى عنه:: {فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79]، فكسرها أفضل من أخذها بالغصب كلها، ولذلك قالوا: كسر السفينة مفسدة أهون من فوات السفينة بكاملها. وعليه فرّع العلماء جواز أن يذهب ثلث الوقف لاستصلاح ثلثيه، ونحو ذلك من المسائل، فكون الشريعة تأذن بقتل الحية والعقرب في الصلاة من باب ارتكاب أخف الضررين؛ فإن الاشتغال بالقتل أولى من كون الإنسان يُلدغ، قالوا: لأنه إذا لُدِغ شوّشت عليه صلاته، ولم يستطع أن يصلي وربما مات، فلذلك قالوا: تقدم المفسدة العليا أعني فوات النفس. ومما تفرع على هذا الأصل من المسائل: أنك لو خفت من شيءٍ يُفضِي بك إلى فوات نفسك فإنه يجوز لك في الصلاة أن تدفعه، فلو جاء الإنسان أسد وهو في صلاته شُرِع له أن يفر، أو يتخذ السلاح، أو يضربه بالسلاح درْءاً لمفسدة فوات النفس، وكذلك الحال بالنسبة لغيره، فلو رأيت أعمى يكاد يقع في حفرة جاز لك أن تقطع الصلاة لإنقاذه إن توقَّف إنقاذه على قطع الصلاة، وجاز لك أن تتكلم، وأن تصوِّت بصوت تمنعه من الوقوع إن كان ذلك يمكن، فقالوا: هذا من باب حفظ الأنفُس، ولا شك أنه مطلوبٌ شرعاً، بل هو أحد الضروريات الخمس التي راعتها الشرائع كلها. ومن ذلك أيضاً: المرأة إذا كان معها صبيها الصغير فرأته قد اقترب من نار، أو خشيت عليه السقوط على وجهٍ يوجب تلف نفسه، أو ذهاب عضو من أعضائه، أو حصول الضرر عليه، قالوا يجوز لها أن تتحرك وتنقذه، فإن توقفت نجاته على الخروج من الصلاة شُرِع لها الخروج من الصلاة. فكل هذه الأمثلة مخرَّجة على ما ذكرناه. أما الأدلة التي دلت على مشروعيةِ تحصيل حفظ الأنفس بفوات الصلاة، فمنها حديث السنن الذي ذكرناه في قتل الحية والعقرب. ومنها: ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (جاءه الشيطان في الصلاة فتكعكع، فتكعكع الصف الأول، ثم لما سلّم عليه الصلاة والسلام سأله أصحابه، فقالوا: رأيناك تكعكعت فتكعكعنا -أي: رأيناك تأخرت فتأخرنا- فذكر أن الشيطان قد جاءه بشهابٍ فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: أعوذ بالله منك)، وفي رواية: (أعوذ بالله منك ألعنك بلعنة الله). إلى أخر الحديث. وقالوا: إن كونه يأتيه بشهابٍ من نار ثم يدفعه النبي صلى الله عليه وسلم يدل على دفع المفاسد التي هي دون القتل؛ فإن شهاب النار مُحرِق ولكنه لا يصل إلى درجة فوات النفس فجعلوا حديث الحية والعقرب فيما فيه فوات النفس، وجعلوا حديث النار فيما فيه الضرر البالغ على الإنسان. ومن الأدلة أيضاً: مشروعية الصلاة حال القتال والمسايفة فإن الله أَذِن للعبد أن يصلي ويقاتل، وذلك حفظاً لنفسه، فدل على أنه يجوز للإنسان أن يتحرك تحصيلاً لهذا الأصل الذي ذكرناه. وما الحية والعقرب فبعض العلماء يفرق بين الحية والعقرب، قالوا: إن شأن الحية أخف من شأن العقرب، والسبب في ذلك أن الحيّات لا يعترضن غالباً إلا من اعترضهن، وربما مرّت الحية على ساق الإنسان ولا تؤذيه، وربما مرت أمامه ولا تتعرض له، وإنما تتعرض لمن يتعرض لها. فقالوا في هذه الحالة: هي أخف من العقرب، بخلاف العقرب فإن ضررها أبلغ وقصدها للأذية أبلغ، ففي حالة كونه يتضرر من الحية قالوا: يتريث ولا يعجل إذا غلب على ظنه أنه قد يأمن الشر، وإنما يجوز لك أن تقطع الصلاة، أو تقاتلها أثناء الصلاة إذا كان الفعل يسيراً، وغلب على ظنك كونها ضارةً لك وقال بعض العلماء: لا يُفَصَّل بهذا التفصيل؛ لأن الحية مأمورٌ بقتلها. قال رحمه الله تعالى: [فإن أطال الفعل عرفاً من غير ضرورة وبلا تفريق بطلت ولو سهواً] بعد أن بين لنا رحمه الله أنه يُشرع للمصلي أن يفعل هذه الأفعال من قتل الحية وقتل العقرب بين لنا أنه إن طال فعله -أي للقتل ورد المار- بحيث يؤثر في صلاته استأنف الصلاة، وإلا بنى. وهذه المسألة للعلماء فيها وجهان: فجمهور العلماء على الجواز، ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد رحمة الله على الجميع، ووافقهم أهل الحديث وأهل الظاهر. وذهب الإمام أبو حنيفة إلى عدم مشروعية هذه الأفعال، فقال: إن الحركة في الصلاة نُسِخت، وذلك بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث مسلم: (اسكنوا في الصلاة). والصحيح أنه باق، وأنه لا حرج على الإنسان أن يفعل هذه الأفعال عند وجود أسبابها وموجباتها. فإذا قلنا على مذهب الجمهور: إنه يُشرع لك أن تقتل الحية وأنت في الصلاة، سواء أكانت فريضةً أم نافلة، وأنه يشرع للإنسان أن يتسبب في نجاة غيره إذا كان في الصلاة، فحينئذٍ لا يخلو فعلك من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون فعلاً يسيراً. والحالة الثانية: أن يكون فعلاً كثيراً. فإن كان فعلاً يسيراً فإنه مغتفر عند الجمهور، ومثال ذلك أن يكون بجوار الإنسان عصا فأخذها ورفعها مباشرة وضرب بها الحية ثم رماها وألقاها، فهذا فعل يسير، أو كان بجواره رمح فأخذه وطعن به الحية فقتلها، فهذا أيضاً يسير مغتفر. وإن كان فعلاً كثيراً، فهذا يوجب استئناف الصلاة، بمعنى أنه قد خرج عن كونه مصلياً وتُستثنى حالة المسايفة وهي القتال، فإن الكثير فيها والقليل على حدٍ سواء، فلو أن العدو نزل بالمسلمين في وقت الصلاة، فقاتلوه بحيث لم يبق إلا قدر أدائها، قالوا: يُقاتِل على حالته، ولو كان في حال ضربه بالسيف، فإنه يقاتِل ويصلي ولو ترك ركوعه وسجوده لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة:239]. وإذا ثبت أنه يُشرع لك أن تفعل هذه الأفعال، وقلنا: إن الكثير مؤثر، فللعلماء وجهان في هذه ضابط هذا الكثير المؤثر: فقال بعض العلماء: الكثير عندي يرجع إلى العرف ومراده بالعرف أنه لو نظر إليه شخصٌ وهو في حال أفعاله وحَكَم بكونه غير مصلٍ بطلت صلاته، وأما لو نظر إليه ورأى أن فعله يسيراً، ولا يخرج في العرف عن كونه مصلياً، فصلاته صحيحة، ويبني على ما مضى. وقال بعضهم: الضابط ثلاث حركات، وبشرط أن تكون متتابعات، فإن فرق بينها لم يؤثر، فإذا تتابعت ثلاث حركات فأكثر حكم ببطلان صلاته، ويستأنف الصلاة. وقوله: [فإن أطال الفعل عرفاً] دلّ على أن المصنف رحمه الله يميل إلى التقيِيد بالعرف، كما هو مذهب الشافعية ووافقهم جماعة على ذلك. وذهب الحنفية إلى الضابط بالعدد وهو عندهم ثلاث حركات متتابعات. والقول بالعرف من القوة بمكان، ولكن تعتبر الثلاث الحركات في بعض الصور.

قراءة أواخر السور وأوساطها

قراءة أواخر السور وأوساطها قال رحمه الله تعالى: [ويباح قراءة أواخر السور وأوساطها]. أي: يباح لك إذا صليت أن تقرأ أواخر السور وأواسطها، ولا حرج عليك في ذلك؛ لأن هذا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أكثر ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [البقرة:136]، إلى آخر الآية، وفي الركعة الثانية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64]، إلى قوله {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]). قالوا: فهذا يدل على جواز قراءة جزء السورة في ركعة وجزء السورة الثانية في ركعة ثانية، وهو من هدي النبي صلى الله عليه وسلم. لكن قالوا: الأفضل والأكمل أن يقرأ السورة كاملة، وذلك أفضل لكونه هدي النبي صلى الله عليه وسلم الغالب، ولاشتمالها على الموعظة، فإن إتمام السور أبلغ من اقتطاع أجزاء منها لكن قالوا: ربما احتاج الإنسان أن يذكر الناس بآيات، أو كانت قراءته تخشع في مواضع دون مواضع فحينئذٍ لا حرج عليه أن يتخير من كتاب الله عز وجل، ويقرأ بعض الآيات في ركعة ثم غيرها في ركعة أخرى، سواء من أواخر السور، كأواخر سورة البقرة أو أواخر سورة آل عمران، أم من أواسطها، كما جاء في حديث ابن عباس في صلاته عليه الصلاة والسلام في الرغيبة، فكل ذلك جائزٌ وسائغ. أما الدليل على جواز ذلك فعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن)، فكونه يقرأ من وسط السورة أو آخرها هو الذي تيسر له، ولذلك لا حرج عليه في فعله هذا الوجه، لكن الأفضل والأكمل إتمام السور لما ذكرناه، ولأنه الهدي الغالب من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تسبيح الرجل وتصفيق المرأة في الصلاة للحاجة

تسبيح الرجل وتصفيق المرأة في الصلاة للحاجة قال رحمه الله تعالى: [وإذا نابه شيء سبح رجل، وصفقت امرأة ببطن كفها على ظهر الأخرى]. قوله: [سَبّح] اختصارٌ لـ (سبحان الله) فقوله: [سبح رجلٌ] أي: قال: سبحان الله. ويرفع بها صوته إذا نابه شيء، كأن يقرع عليه ضيف الباب، أو يتحرك عنده الطفل حركة غريبة ويخشى عليه فيقول له: سبحان الله. حتى يتنبه. أو كان هناك أمرٌ يحتاج إلى التنبيه عليه لجالسٍ بجواره، فإنه يقول: سبحان الله. والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما التسبيح للرجال والتصفيق للنساء)، فدل هذا على مشروعية أن يسبِّح الرجال. ومن ذلك أن ينوب الإنسان أمرٌ داخل الصلاة، فإنه من باب أولى وأحرى، كأن يسهو الإمام، فإذا سها الإمام في الأفعال تسبِّح له، فلو أن إماماً كبَّر للجلوس بين السجدتين فإذا به يحاول القيام، أو قام ووقف فإنك تسبح؛ لأن الجلوس بين السجدتين لا بد من الرجوع إليه، فهو ركنٌ من أركان الصلاة، وهكذا إذا فعل فعلاً يُحتاج إلى تنبيهه عليه، ولا حرج عليك في ذلك لعموم قوله عليه والصلاة والسلام: (إنما التسبيح للرجال). وأما التصفيق فقد ثبت في جزء الحديث الثاني، وهو يختص بالنساء، والحديث في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (إنما التسبيح للرجال والتصفيق للنساء)، وفيه دليل على أن النساء إذا عَلِمن بخطأ الإمام وسهوه وغفل الرجال عن التنبيه، أو صلت المرأة مع زوجها وسها فإنها حينئذٍ تصفِّق له، والتصفيق ينقسم إلى قسمين في الأصل: تصفيق مشروع في الصلاة، وتصفيق غير مشروع وهو تصفيق أهل اللهو والمجون. ويكون التصفيق ببطن الكف إلى بطن الكف، وهو التصفيق المعروف والمعهود، سواء أوقع بالمقابلة الكاملة أم كان بجزئه، كأن يجعل أصابعه على بطن راحته فإنه يعتبر من التصفيق. أما التصفيق المشروع الذي يكون في الصلاة فقيل: هو أن تضرب بظاهر الكفين على بعضهما. وقال بعض العلماء: التصفيق المشروع في الصلاة أن تضرب ببطن إحدى اليدين على ظهر الأخرى. وقيل: أن تَقْلِب فتجعل الظاهر على باطن الأخرى. وسواء أفعلت هذا أم هذا فكل ذلك جائزٌ ومشروع، وفي هذا الحديث حجة لما ذهب إليه جمهور العلماء من أن صوت المرأة عورة، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صرفها من اللفظ إلى التصفيق، مع أن المرأة قد تصلي مع محارمها ولم يرد استثناء. ولذلك قالوا: عُدِل عن التسبيح إلى التصفيق بالنسبة للنساء لمكان الافتتان بأصواتهن، والفرق بين قولنا: إن صوت المرأة عورة، وقولنا: ليس بعورة يظهر في مسألة محادثتها للرجال من دون حاجة، فإن القول بأنه ليس بعورة معناه أنه لا حرج أن يسمع الرجل صوت المرأة إذا أمِن الفتنة. والأصل أن الغالب كالمحقق، ولذلك قالوا: الأصل فيه أنه عورة، ولا يُرخَّص إلا لحاجة كسؤالٍ واستفتاءٍ ونحو ذلك.

البصق في الصلاة

البصق في الصلاة قال رحمه الله تعالى: [ويبصق في الصلاة عن يساره وفي المسجد في ثوبه]. البصاق والبساق والبزاق ثلاث لغات، بالصاد والسين والزاي. وقوله: [ويبصق في الصلاة عن يساره] لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المصلي أن يبصق قِبَل وجهه، ونهاه أن يبصق عن يمينه، وقال: (عن يساره تحت قدمه)، فإذا كان في بَرِّيةٍ فإنه يُشرع له أن يتفل عن يساره ويبصق عن يساره تحت قدمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك. أما إذا كان في المساجد وكانت مفروشة فإنه لا يجوز له أن يبصق لا عن يمينه ولا عن يساره ولا قبل وجهه ولا وراء ظهره، فلا يجوز له بحال أن يبصق داخل المسجد، وفي القبلة أَشَد، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذلك وقال: (البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها)، وهذا حينما كانت المساجد من التراب، وكان عليه الصلاة والسلام يدفنها، وثبت عنه في الحديث الصحيح أنه لما رأى نخامةً في قبلة المسجد حكّها، ثم طيب مكانها صلوات الله وسلامه عليه. فهذا يدل على تعظيم أمر المساجد، وأنه لا يجوز البصاق فيها، وقد ثبت في حديث مسلم أنها من خطايا أمته التي عرضت عليه صلى الله عليه وسلم. وقال بعض العلماء: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البصاق في المسجد لمكان الأذية والضرر فإن هذا يدل على أن كل شيء فيه أذيةٌ للمصلين وفيه إضرارٌ بهم لا ينبغي للمسلم أن يفعله في المسجد، فالأصل أن تُرفع المساجد وأن تُكرَم لظاهر آية النور في قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]. والمراد بها المساجد. قال بعض المفسرين: معنى قوله تعالى: (أَنْ تُرْفَعَ): أي: تُصان عما لا يليق بها حساً ومعنىً، فما لا يليق بها حساً مثل البصاق ونحوه كالقاذورات، وما لا يليق بها معنىً كلغط أهل الدنيا ونحوه؛ فإنها لم تُبن لهذا، ولذلك جاء في الحديث الصحيح: (من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا). فقال العلماء: في هذا دليل على أنه ينبغي صيانة المساجد، ولذلك قالوا من دخل بنعليه على مسجدٍ مفروشٍ فإنه لا يخلو من الإثم؛ لأنه إنما شُرِعت الصلاة في النعلين في ما هو غير مفروش، أما إذا كان مفروشاً فإنها قد خرجت عن صورة السنة، ولا بد في صورة السنة من التأسِّي والاقتداء، فكونه يصلي على فراشٍ على خلاف ما أُثِر عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان الفراش غير موجودٍ على عهده صلوات الله وسلامه عليه، ولم يصل على فراشٍ البتة، بل قام على حصير -كما في حديث أنس في الصحيحين- فلم يقم بنعليه صلوات الله وسلامه عليه. فهذا يدل على أن المعنى هو عدم أَذِيَّة المصلين، وعدم التسبب في الإضرار بهم، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام -وهو أصلٌ في الشرع- أنه قال: (لا ضرر ولا ضرار)، وخرّج العلماء عليه القاعدةٌ المشهورة التي هي إحدى قواعد الفقه الخمس (الضرر يُزال)، فلذلك لا يُشرع للمصلي أن يتفل قِبَل وجهه، وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟!) أي: هل يرضى أحد أن يُستقبل من قبل وجهه بالنخامة؟! فالله أجل، ولله المثل الأعلى. فإن كان في المسجد فإنه يبصق في ثوبه كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام، ثم يدلك الثوب، أو كما هو موجودٌ الآن من المناديل التي يضعها المصلي في جيبه، فله الحق أن يُخرِجها من الجيب ويبصق فيها ولا حرج عليه في ذلك، لكن السنة والأولى له إذا بصق في المنديل أن يجعله في شقه الأيسر وأن لا يجعله في شقه الأيمن؛ لأن المعنى موجود. ولا ينبغي أن نجعل الأواني التي تحفظ هذه الفضلة من هذه المناديل في قِبْلة المصلين، وهذا خطأ يشيع عند بعض الناس، فإنهم يجعلون هذه الأواني التي تحفظ بقايا النخامات قبل المصلين أمام وجوههم، ولذلك لا يُشرع مثل هذا، وإنما تُصرَف إلى مياسر الصفوف ونحو ذلك.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الرد على الإمام إذا أخطأ في التجويد

حكم الرد على الإمام إذا أخطأ في التجويد Q هل يجوز لنا أن نرد على الإمام إذا أخطأ في حكم من أحكام التجويد؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: تجويد القرآن وترتيله أمرٌ لازم، وذلك لقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:4]، وهو مشروع؛ فإن القرآن إنما نزل على صورةٍ معيَّنة، وهذه الصورة تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبريل، وتلقاها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتناقلتها الأمة جيلاً بعد جيل، ورعيلاً بعد رعيل على صورةٍ مخصوصة وهيئة مخصوصة عُرِفت بمصطلحٍ اصطلحوا على تسميته بالتجويد. وهذا المصطلح يكاد يكون إجماع السلف رحمة الله عليهم ومن بعدهم على كونه مشروعاً في الأصل، فلم يُوجد في العصور المتقدمة بل إلى عهدٍ قريب من يقول: إن التجويد بدعة. وذلك لأن القرآن واضح في الأمر بترتيل القرآن. والمراد بترتيل القرآن إعطاء الحروف حقها ومستحقها، ولذلك قال الله عز وجل: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]، فلم يقتصر على وصفه بكونه لساناً عربياً حتى أضاف إليه كونه مبيناً، قيل: مبيناً من جهةٍ كونه يبين الحق، وقيل: مبيناً من جهة اللفظ. ولا مانع من الجمع بين المعنيين كما هو مُقرَّر في أصول التفسير أن اللفظ إذا احتمل المعنيين وكان يمكن أن يُطلَق عليهما معاً فإن الأصل حملُه على ذلك العموم المقتضي لهما معاً. وقد اختَص أهل القرآن بتجويده وضبطه وإتقانه وتحريره، وكان لهم شرف هذا الضبط وهذا التحرير، وعُقِدت لهم مجالسهم في بيوت الله عز وجل وفي أماكن حِلَق الذكر والعلم، ولم يُنكر أحدٌ هذا العلم، بل قالوا في حكمتهم المشهورة: القراءة سنةٌ متبعة لا تؤخذ إلا من أفواه الرجال فكانوا يأخذون القرآن بالتلقي. وأخذ المصاحف والقراءة بها فيها بالطريقة الموجودة اليوم ما عُرِف إلا في هذه الأزمنة الأخيرة، وإنما كان في القديم لا يقرأ الإنسان إلا عن طريق الشيخ صيانةً لكتاب الله عز وجل وحفظاً له من الخطأ والزلل. ومن قال: إن التجويد بدعة فإن قوله محل إشكال عظيم؛ إذ لو قلنا: إن الإنسان يقرأ القرآن على ظاهره فكيف يقرأ قوله تعالى: (كهيعص)؟ فمن أين جاءتنا معرفة المدود لنقرأ: (كاف، ها، يا، عين، صاد)؟ ومن أين جاءتنا تلاوة هذه الحروف على هذا الوجه المعين؟ فما جاءنا إلا عن طريق الرواية، فكما أنه أُلزِم بهذه الرواية على هذا الوجه فكذلك الشأن في كتاب الله عز وجل في حروفه، ولذلك تجد التنوين والغُنَّة والإخفاء وغيرها من الأحكام تترتب عليها مسائل دقيقة في صِفَة الحروف. وقد أُثِر عن علي رضي الله عنه أنه لما فَسَّر الترتيل فسَّرَه بإعطاء الحروف حقها من صفةٍ لها ومستحقها، ولذلك قرر العلماء رحمهم الله لزوم التجويد، ومرادهم بذلك التجويد الذي تنضبط به الحروف، وتنضبط به مخارج الحروف، أما الزائد على ذلك من التحبير والتحسين والإتقان الذي هو مرتبة الكمال فهو مرتبة فضل، وليس بمرتبة وجوب، ولذلك لا حرج في كون الإنسان يجهله، لكن إذا جاء إلى القدر اللازم مثل إخفاء الحرف، ومثل كون الحرف منوناً، والذي تبين به صفة الحروف، فهذا سنةٌ متَّبَعة، وينبغي التأسي فيها والاقتداء بسلف هذه الأمة ومن بعدهم، ولا شك أن هذا الأمر مما يكاد يكون مجمعاً عليه بين أهل العلم رحمة الله عليهم. وعليه فإذا أخطأ الإمام في أحكام التجويد بما يُخِل، فلا شك أنه يُشرع الفتح عليه ويُلزَم؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما لو أخطأ في الآية كلها، ولذلك يُشرع في مثل هذه الصورة أن يُفتح عليه، أما إذا كان في الكمال فإنه يغتفر، وخاصةً إذا كان من الأميين الذين يطول ردهم، والله تعالى أعلم.

حكم الفتح على الإمام بصوت عال

حكم الفتح على الإمام بصوت عالٍ Q يلاحظ على بعض المأمومين في قضية الفتح على الإمام أنه إذا كان في مؤخرة المسجد يفتح على الإمام بصوت عالٍ يُسمع في أرجاء المسجد، فهل هذا الفتح يعتبر من العبث الذي يؤثر في صحة الصلاة؟ A هذه المسألة مهمة جداً، خاصةً في صلاة التراويح، فتجد الناس يمسكون المصاحف، وقد يكون أحدهم خارج المسجد، فإذا أخطأ الإمام رفع صوته ورد على الإمام، وهذا يُعتبر من الأمور التي يُنْهى عنها؛ لأنه لا حاجة إلى كلامه، وما أبيح للضرورة يُقدَّر بقدرها. ولذلك قال العلماء: إذا كان وراء الإمام من يتولى الرد عليه فإنه يُتْرك الأمر له؛ لأنه ليس هناك حاجة إلى أن يتكلم. وقالوا: إنه لو أخطأ الإمام وأنت خارج المسجد، بحيث لا يمكن أن يبلغ الصواب الإمام فإنه حينئذٍ يُشرع ترك الفتح؛ لأنه يعتبر من العبث؛ إذ ليس فيه إلا التشويش على المأمومين، لكن لو كنت في طرف الصف أو بعيداً، ويغلب على ظنك أنك لو فتحت ربما نقل غيرك فَتْحَك للذي أمامه، والذي أمامه لمن أمامه حتى يصل إلى الإمام، فحينئذٍ لا حرج أن تفتح عليه لكي يُبَلّغ بصوتك، بل وترفع صوتك ولا حرج عليك في هذا. أما لو وُجِد وراء الإمام من يفتح عليه وينبهه على الخطأ فحينئذٍ يلتزم الإنسان الصمت كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم المأموم وراء الإمام، فيُنصِت ويسكت؛ لأنه هو الأصل في المصلي، والله تعالى أعلم.

قتل القمل أثناء الصلاة

قتل القمل أثناء الصلاة Q ما حكم قتل القمل في الصلاة؟ A القمل له حالات: الحالة الأولى: أن يشوش على المصلي، كما لو كان في رأسه وبين شعره وآذاه وأزعجه، فقد شُرع له أن يقتله، ويكون ذلك كما هو معلوم بحركة الإصبع. الحالة الثانية: أن يكون بعيداً عن الأذية، كأن يراه على ثوبه، فبعض العلماء يُعمِّم ويقول: يقتل القمل مطلقاً، فيدخل في هذه الحالة أن يقتله ولو كان على ثوبه؛ لأن الضرر في مظِنّة الوقوع فإذا كان في هذه الساعة على الثوب فربما بعد ساعات يكون على الجسد، ومن ثم قالوا: يُشرع له أن يقتله بناءً على العموم ولا تجد العلماء يفرقون بين كونه مُشوِّشاً في الصلاة أو غير مشوِّش، لكن لو أمكن الإنسان أن يصبر عنه حتى ينتهي من صلاته فهو أولى وأحرى وقتل القمل -كما يقول العلماء- حركته يسيرة وفعله يسير، ولذلك لا يُشدد فيه، وليس كقتل غيره، والله تعالى أعلم.

دعاء المصلي أثناء الصلاة إذا مر بآية عذاب أو رحمة

دعاء المصلي أثناء الصلاة إذا مر بآية عذاب أو رحمة Q إذا قرأ الإمام قول الله عز وجل: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40] ونحوه، فهل يشرع أن يقول الإمام والمأموم: (سبحانك. بلى)، أم لا يُشرع؟ A نعم. فهذا فيه حديث في السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (سبحانك. بلى) لما قرأ قوله تعالى:: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40]، وهذا إنما يكون في النافلة، أما في الفرض فلا. وكان عليه الصلاة والسلام في قيام الليل إذا مر بآية عذابٍ استعاذ، وإذا مر بآية رحمةٍ سأل الله من فضله، ولذلك ما حفظ عنه عليه الصلاة والسلام إلا في قيام الليل. ولذلك يُعتبر هذا الأصل في صلاة النافلة، فلا حرج على المصلي أن يفعل ذلك؛ لأن أمرها أخف من أمر الفريضة، وأما في الفريضة فإنه يسكت لأنه الأصل، حتى يدل الدليل على جواز الكلام والنطق؛ لما ثبت في الحديث الصحيح أنه لما نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، قال الراوي: (أُمِرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام).

حكم تصفيق الرجال والنساء في الحفلات والأعراس

حكم تصفيق الرجال والنساء في الحفلات والأعراس Q ما حكم التصفيق للرجال في الحفلات ونحو ذلك، وما حكم التصفيق للنساء في غير الصلاة، كالأعراس ونحوها؟ A التصفيق من صنيع أهل اللهو؛ ولذلك لا يُشرع، ويُسقِط مروءة طالب العلم والعالم إذا فعلاه، وأما عوام الناس فيُنبَّهون على أنه من صنيع أهل اللهو ومن لا يؤبه له، أما طلاب العلم وأهل الفضل ومَن هم قدوة فلا يصفقون، وحَمَلوا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال:35] على هذا الوجه، والله تعالى أعلم.

حكم تغطية المصلي لفمه أثناء الصلاة

حكم تغطية المصلي لفمه أثناء الصلاة Q ما حكم تغطية المصلي لفمه أثناء الصلاة؟ A تغطية المصلي لفمه أثناء الصلاة مَنْهِيٌ عنها. فقد قال العلماء: نُهِي عنها. واختلفوا في العلة، فقال بعضهم: لأنه تشبه باليهود، ولذلك لا يُغَطِّي فمه. وقال بعض العلماء: نُهِي عن تغطية الفم في الصلاة لأنه لا يُحسن القراءة وإخراج الحروف، وأياً ما كان فلا مانع من تعليل النهي بالعلتين؛ لأن أصح الأقوال عند الأصوليين أنه يجوز تعليل الحكم بعلتين، وبناءً على ذلك نقول: إن تغطية الفم في الصلاة فيها محظور وهو صعوبة خروج الحروف من مخارجها مع ما فيها من التشبُّه، والله تعالى أعلم.

الواجب على المصاب بسلس البول إذا دخل وقت الصلاة

الواجب على المصاب بسلس البول إذا دخل وقت الصلاة Q شيخٌ كبير به سلس البول ولا يتحكم في بوله، فهل يجب عليه غسل ما وَصَل إليه البول من الثياب دائماً وخاصةً إذا كان بعيداً عن بيته؟ A من كان بهذه الحالة فإنه إذا دخل عليه وقت الصلاة يغسِل الأماكن المتنجسة من ثوبه الذي يلي فرجه وما أصابه البول، فإن شقّ عليه وعَسُر فحينئذٍ يمكنه أن يستبدله بثوبٍ آخر إذا كان يشق عليه غسله، كما هو الحال في أيام البرد، فإنه إذا غسل الثوب لا يستطيع أن يلبسه مباشرة، فإذا وجد مثل هذا فليتخذ له سروالين ونحوهما كما هو الأصل في الواجبات، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فقد أوجب الله عليه الطهارة للصلاة، وكونه يصلي على هذه الحالة مع القدرة على التخلي عن هذه النجاسة لا يباح له ولا يُرَخَّص له. وأما مسألة تطهره للصلاةِ فإنه كلما دخل عليه وقت الصلاة يُشرَع له أن يتوضأ، ولا يضره خروج البول أثناء وقت الصلاة، كالمستحاضة. لكن في مسألة تغيير الثوب وغسل البول، فإذا شق عليه، أو لم يمكنه ذلك، كالمريض الذي يكون طريح الفراش ولا يستطيع أن يجد الماء الذي يغسل به العضو، وحضره وقت الصلاة وخاف خروجه فحينئذٍ يجوز له أن يصلي ولو كان في ثوبه البول لمكان الضرورة، والله تعالى أعلم.

الأمر بغض الصوت للمرأة

الأمر بغض الصوت للمرأة Q زوجي كثير الخروج بنا إلى منزل أهله، وإذا ذهبنا إلى منزلهم أجلس مع أهله جميعاً في مجلس واحد ويكون معهم أخوه البالغ من العمر خمسة عشر عاماً، وأكون أثناء الجلسة متحجِّبة بالحجاب الإسلامي الكامل، إلا أنني أتحدَّث بصوتٍ مسموع مع والدة زوجي وأخواته، وأحياناً يتعدى الأمر إلى الضحك، وقد حاولت عدم التحدث بصوتٍ مسموع والإقلال من ذلك، لكني لم أستطع، فما الحكم في مثل هذه الحالة؟ A إذا كان الإنسان في مثل هذه الحالة يأمن الفتنة فلا حرج أن يجلس القرابات النسوة مع بعضهن ويتحدثن ويكون صوتهن عالياً، لكن إذا كان بجوارهن رجال وكانوا أجانب فإنه في هذه الحالة ينبغي عليهن الغض من الصوت وعدم إسماع الرجال الأجانب؛ لأن الرجل يُفتَن بصوت المرأة غالباً، واغتفَر العلماء صغار السن ومن هو قريب البلوغ إذا أُمِن منه أن يفتتن، والله تعالى أعلم.

حكم قصر الصلاة لمن كان عمله خارج مدينته

حكم قصر الصلاة لمن كان عمله خارج مدينته Q رجلٌ يسكن في مكة وعمله خارجها، فهل يقصر الصلاة إذا خرج من مكة إلى مكان عمله، أو لا؟ A إذا خرج من مكة إلى مكان العمل ولم يكن له مستقرٌ في مكان العمل، كبيتٍ يسكنه ومزرعة يقوم عليها، أو ملك له فيها فإنه في هذه الحالة يقصُر بشرط أن لا يُقِيم أو ينوي الإقامة أربعة أيام فأكثر، فإن نوى الإقامة أربعة أيام فإنه ينتقل إلى حكم المقيم، ويلزمه إتمام الصلاة من أول يوم ينزل فيه في ذلك الموضع، والله تعالى أعلم.

حكم قراءة الآية من نصفها في الصلاة

حكم قراءة الآية من نصفها في الصلاة Q ما حكم القراءة في الصلاة من نصف الآية لا من أولها، علماً بأن المعنى مكتمل؟ A هذا خلاف السنة، فالسنة أن يبتدئ بأول الآية كما ذكرنا في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قراءته عليه الصلاة والسلام في ركعتي الفجر أما لو فعل ذلك فإن صلاته صحيحة، والله تعالى أعلم.

حكم الدعاء في القنوت بغير ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم

حكم الدعاء في القنوت بغير ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم Q هل يجوز للإنسان الدعاء بالأذكار التي فيها مواضع دعاء كأذكار الصباح والمساء والنوم أثناء القنوت وغيره، أو الاستغفار بسيد الاستغفار؟ A القنوت لا يُشرع فيه إلا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم والحاجة الداعية إلى القنوت، فإذا قَنَت الإنسان فإنه يقتصر على الوارد كقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إنا نستعينك ونستهديك)، وقوله: (اللهم لك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد) ونحو ذلك من الأدعية الواردة. ثم يقتصر على أمرين: الدعاء على من فيه ضرر على المسلمين، والدعاء لمستضعفي المسلمين، فإن زاد عن هذين الموضعين -كأن يدعو بأمورٍ خارجةٍ عنهما- فقد حكم العلماء ببطلان صلاته؛ لأنه كلامٌ خارجٌ عن المشروع كما لو تكلَّم بكلامٍ أجنبي، ولذلك قال الإمام أحمد: إن زاد عن الوارد حرفاً واحداً فاقطع صلاتك. تشديداً في هذا الأمر. ومن البدع المحدثة الاستسقاء في القنوت، فهذا بدعة وليس له أصل، وينبغي تنبيه الأئمة على أنه ينبغي عليهم التأسِّي برسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتصار على الألفاظ التي ورَدت، فتدعو على من ظلم، وتدعو للمسلمين بالنُّصرة والتأييد، والزائد على ذلك يعتبر من البدعة والحدَث، والإمام يأثم ويتحمل مسئولية من وراءه، وينبغي على الأئمة إذا أرادوا أن يفعلوا أمراً وله أصلٌ من الشرع أن يسألوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وأن لا يختلقوا من عندهم بالاجتهادات والاستحسانات. ولذلك شدد العلماء رحمهم الله في القنوت، وعباراتهم فيها مشهورة، وينبغي التقيد بما ذكرنا، فإذا دعا بمثل هذا الدعاء فقنوته صحيحٌ ومشروع وأما إذا زاد عليه، وكانت الزيادة بما لم يُشرع فحينئذٍ تنوي المفارقة، أي: تنوي أنك منفرد، ولا حرج إذا خفت الفتنة أن تسجد مع سجوده، ثم إذا رفع ترفع معه، ولا تنو الاقتداء به. وهذا أصل عند العلماء رحمة الله عليهم إذا طرأ في الإمام ما يوجب بطلان إمامته، والله تعالى أعلم.

الواجب على من فاتته تكبيرة من تكبيرات الصلاة على الميت

الواجب على من فاتته تكبيرة من تكبيرات الصلاة على الميت Q كيف يصنع من فاتته تكبيرة من تكبيرات الصلاة على الميت؟ A إذا فاتت تكبيرة فأكثر من تكبيرات الصلاة على الميت، فإنه في هذه الحالة لا تخلو الجنازة من حالتين: الحالة الأولى: أن تدرك بقدرٍ يقضي فيه الإنسان ما فاته، فحينئذٍِ تُكَبِّر التكبيرة وتُتِم الأذكار الواردة فيها. وأما الحالة الثانية وهي الموجودة الآن: أن ترفع مباشرة، فإذا رُفِعت مباشرة فإنك تُكَبِّر بدون دعاءٍ وذكر، ثم توالي بين التكبيرات، كأن يفوتك تكبيرتان، فتقول: الله أكبر، الله أكبر، السلام عليكم. فهذا هو المشروع والذي عليه العمل عند أهل العلم رحمة الله عليهم، وإنما قالوا بالتفريق بين كون الجنازة حاضرة ومرفوعة لأن حضورها هو الذي شُرِعت فيه الصلاة، ولذلك لا يُصَلّى عليها قبل حضورها، فالصلاة عليها بعد رفعها كالصلاة عليها قبل حضورها، ولذلك قالوا إنما يُشرع القضاء وذكر الأذكار بين التكبيرات إذا كانت الجنازة ثَم. والله تعالى أعلم.

قول الإمام للمؤذن أقم الصلاة

قول الإمام للمؤذن أقم الصلاة Q هل من السنة قول الإمام للمؤذن أقم الصلاة؟ وهل للإمام أن يطيل في الركوع في الفريضة لكي يتسنى للداخل إدراك الركعة؟ A لا يقول الإمام للمؤذن أَقِم، ولا يتنحنح، ولا يفعل شيئاً. فإذا كان الإمام يأتي من قِبَل المسجد والمؤذن يراه، فحينئذٍ يسكت الإمام ولا يقل: أقم، لكن لو كان المؤذن يأتيه الإمام من ورائه، أو يأتيه من مكان يريد أن ينبهه وينبه من أمامه حتى يمكنه أن يدخل إلى الصف الأول فلا حرج أن يقول: أقم. خاصةً إذا كان الإمام لم يصلِّ تحية المسجد، ولذلك يُشدد في كلامه وذكره، فالأَولى والأفضل أن يكون دخوله على وجهٍ يتنبه به المؤذن لإقامة الصلاة. والله تعالى أعلم.

سنن الصلاة

شرح زاد المستقنع - سنن الصلاة كما أن للصلاة أركاناً وواجبات وشروطاً، فلها أيضاً سنن ينبغي المحافظة عليها، ومنها: السترة، والاستعاذة عند آية وعيد، والسؤال عند آية رحمة، ونحوها.

سنن الصلاة

سنن الصلاة

السترة

السترة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وتسن صلاته إلى سترة قائمة كمؤخرة الرجل] ذكر المصنف رحمه الله تعالى جملةً من الأحكام والمسائل التي كانت من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، وشرع بعد بيان صفة الصلاة في بيان الأمور التي يسن للإنسان أن يحصلها في صلاته، ومنها السترة. فيقول رحمه الله: [وتسنّ]، وهذا التعبير يَدل على أن جعلك للسترة إنما هو على سبيل الندب والاستحباب، بمعنى أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا صلّى صلّى إلى سترة. والسترة أصلها: ما يستتر به الإنسان، ويشمل ذلك ما يستر عورته، أو يستره إذا كان في مكان، ولكن المراد بها هنا سترة مخصوصة حَكَم الشرع باعتبارها، فأنت إذا صَلَّيت تحتاج إلى حدٍ معين تمنع فيه الناس أن يمروا بينك وبينه، وهذا الحد وَضَعه الشرع على سبيل العبادة؛ لأن المكلَّف إذا خَلِي من مرور الناس بين يديه كان ذلك أدعى لخشوعه، وأدعى لحضور قلبه، ثم إن هذه الصلاة تكون لها حرمة، فيمتنع المار أن يمر بين يدي المصلي، وذلك إنما يكون بوضع حدٍ معين، وهو الذي وصف في الشرع بكونه سترةً. وقد قال صلى الله عليه وسلم في شأن السترة: (مثل مؤخرة الرحل، فلا يضره من مر وراء ذلك)، أي: مثل مؤخرة الرحل سترةً للمصلي، ثم لا يضره من مر وراء هذه السترة. وأمر عليه الصلاة والسلام في غير ما حديث إذا صلى المصلي أن يجعل السترة تلقاء وجهه، ولذلك ذهب طائفةٌ من أهل العلم رحمة الله عليهم إلى أن جعل السترة أمام المصلي في صلاته أمر واجب، ولا شك أن هذا القول أقرب لظاهر السنة الثابتة في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إننا إذا تأمّلنا خطر المرور بين يدي المصلي وتشديد الشرع في أمره وترهيب المار من مروره فإنه يتضمن الدلالة على أن السترة واجبة. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو يعلم المار بين يدي المصلي -أي ما في ذلك من الوعيد والعذابِ- لكان أن يقف أربعين أهون من أن يمر بين يديه). قال أبو النضر: لا أدري أقال أربعين يوماً، أو أربعين سنةً، أو أربعين شهراً. فأمر يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول أمر عظيم يدل على عظم خطر المرور بين يدي المصلي، فإذا كان الأمر كذلك فإن من مقصود الشرع صيانة الناس عن هذا الخطر، وحفظهم عن الوقوع في هذا الضرر، وذلك إنما يكون بسبيل الإلزام، فإذا أُلزِم المصلي بجعل السُّترة كان ذلك أدعى لحفظ الناس من الوقوع في هذا المحظور. والسترة تكون جداراً، وتكون جماداً، وتكون حيواناً، فلا حرج أن تستتر بظهر إنسان، ولا حرج أن تستتر بحيوان، فلو أنك دخلت المسجد وأردت أن تصلي تحية المسجد ولا تجد شاخصاً إلا ظهر إنسان أمامك فإنه لا حرج أن تصلي وراء ظهره، وقد جعلت في نفسك أن هذا الظهر بمثابة السترة لك، ويحق لك إذا وقع موقفك في الصف الذي يلي الصف أن تجعل الصف الأمامي بمثابة السترة. وتكون السترة حيواناً، كأن يُنيخ الإنسان بعيره ثم يجعل أحد جنبي البعير سترةً له؛ لأنه لا يليق أن يجعل وجهه أمامه، وهكذا بالنسبة للرجل، حتى لا يُظَن أنه ساجدٌ للبعير أو ساجدٌ للإنسان، فسدّاً لذريعة السجود لغير الله عز وجل، لا تجعل الحي قبل وجهك، وإنما تأتي من قفاه إذا استُحسِن أن تكون في القفا، أو تأتي من جنبه، كالحيوان من بهيمةٍ أو إبلٍ أو بقرٍ أو غير ذلك، وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يُنيخ بعيره ويصلي إليه. وكذلك تكون السترة جماداً، وهذا الجماد قد يكون حائلاً كالجدار وكالبناء، فهذا لا إشكال في كونه سترةً مؤثرة. لكنه يكون في بعض الأحيان شاخصاً، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى إلى كلٍ منهما، فلما دخل الكعبة اقترب من جدارها وصلى إلى الجدار، وكذلك اعتبر الجماد الشاخص كما في حديث أبي جحيفة وهب ابن عبد الله السوائي رضي الله عنه وأرضاه في حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ثم ركزت له عنزة)، وهذا يدل على جواز الصلاة إلى الشاخص، كأن تغرز عوداً أو عصاً أو رمحاً أو نحو ذلك ثم تصلي إليه، أو تضع حجراً، لكنهم قالوا: إذا صليت إلى الحجر فاجعله عدة أحجارٍ حتى لا تشابه عبدة الأوثان، سداً لذريعة المشابهة لعبدة الأوثان؛ لأنه إذا جعل حجراً واحداً فكأنه يُشَابه أهل الأوثان بعبادتهم للأنصاب ونحوها، فقالوا: تجعل حجرين أو ثلاثة بجوار بعضها حتى تخرج من مشابهتهم. وكذلك قالوا: السنة في الصلاة إلى الحجر أو الشاخص أن تجعل الشاخص إما على حاجبك الأيمن، أو على حاجبك الأيسر، ولكن لا تجعله أمامك مباشرة حتى لا تشابه عبدة الأوثان. وفيه حديث أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان عليه الصلاة والسلام إذا صلّى جعل السترة على جانبه الأيمن، أو على جانبه الأيسر، ولم يصمُد لها صمْداً، أي: ما جعلها أمامه كأنه يسجد لها كحال عبدة الأوثان. قوله: [قائمة كمؤخرة الرحل] الرحل: هو ما يكون على ظهر البعير، ومؤخرته -كما ضبطها بعض العلماء- بقدر ذراع، وهي تحفظ الراكب من ورائه. فإن كانت السترة صغيرة الحجم طلب ما هو أعلى منها، وذلك أن العالي أدعى لانتباه الناس له وتوقيهم المرور بين يدي المصلي. ثم السنة في هذا الشاخص أن تجعل بين سجودك وبين مكانه قدر ممر الشاة، فمكن أن يكون قدر ذراع، وهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان بين منبره والجدار قدر ممر الشاة قال بعض العلماء: الحكمة فيه -والعلم عند الله- أنه يمنع من مشابهة عبدة الأوثان؛ لأنه إذا كان بينك وبين السترة حائلاً دلّ على أنك لا تقصدها. قال رحمه الله تعالى: [فان لم يجد شاخصاً فإلى خط]. الخط يكون في الأرض التي هي كالبرية، والتي يمكن وضع الخطوط فيها، وللعلماء في مشروعية هذا الخط قولان مشهوران: فقال الجمهور بعدم مشروعيته، وذلك لشدة الضعف في الحديث الذي ورد من قوله عليه الصلاة والسلام: (فإن لم يجد فليخط خطاً)، فالضعف في الحديث قوي جداً، وأشار بعض العلماء إلى تحسينه كالحافظ ابن حجر وغيره، ولكن الكلام فيه قوي، لكن قال العلماء رحمةُ الله عليهم: لو لم يدل عليه الحديث لاقتضاه الأصل؛ لأن المقصود منع الناس، وليس المراد به أن يكون سُترةً. ثم اختلفوا في صورة هذا الخط، فقال بعضهم: يجعله في أحد جانبيه كالحال في العصا. وقيل: يجعل الخط من أمامه على آخر ما ينتهي إليه سجوده كالحال في الجدار المعترض. وقيل: يجعله كالهلال. أي: كالمحراب الذي يدخل فيه الإنسان، وأصح الأقوال أن الأمر واسع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فليخط خطاً) -على القول بثبوت الحديث- ولم يبين كيف يكون، فيبقى الأمر على إطلاقه إعمالاً للأصل. قال رحمه الله تعالى: [وتبطل بمرور كلب أسود بهيم فقط]. أي: تبطل الصلاة إن صليت إلى السترة بمرور كلبٍ أسود بهيمٍ، وهذا فيه الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب)، فهؤلاء الثلاثة بأمر الشرع يقطعون الصلاة، أي أن الشرع دلّ على أنهم يقطعون الصلاة على سبيل العبادة، والله تعالى أعلم بعلة ذلك، وإن كانوا قد ذكروا في الكلب وخَصُّوه بالأسود لورود الخبر أنه شيطان. وهذا القول -أعني القول بقطع الصلاة بمرور أحد هؤلاء الثلاثة- هو أصح الأقوال وأعدلها، وهو مذهب الإمام أحمد وطائفة من أهل الحديث، بمعنى أن المكلف يُطَالب باستئناف الصلاة، ومثال ذلك: لو قمت تصلي تحية المسجد، فجاءت امرأةٌ، أو مَرّ حمارٌ -أكرمكم الله- بينك وبين السترة، فهذا المرور لهذه الدابة يُوجِب قطع الصلاة، فلو صليت ركعةً من تحية المسجد فكأنك لم تصلِّ، فتسأنف الصلاة ولو كنت في التشهد الأخير، فمروره بين يديك في هذه الحالة يُوجِب انقطاع الصلاة من أصلها فتستأنف الصلاة، وكأنك في غير صلاةٍ، ولو كانت فرضاً، أي ولو كنت في فرض فإنك تستأنف الصلاة، وهذا على أصح أقوال العلماء. وخَالَف الجمهور رحمةُ الله عليهم من الحنفية والمالكية والشافعية، فقالوا: لا يقطع الصلاة واحدٌ من هؤلاء الثلاثة. قالوا: أما الحمار فلثبوت حديث ابن عباس في الصحيح أنه قال: (أقبلت راكباً على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد). ووجه الدلالة أن الأتان مرَّت بين المصلين فلم يوجب ذلك قطع صلاتهم، فدل على أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة. قالوا: وأما المرأة فلما ثبت في الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتهما، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح). كانت حجرته عليه الصلاة والسلام صغيرة الحجم إلى درجة أنها لو نامت رضي الله عنها لا يجد مكاناً يسجد فيه صلوات الله وسلامه عليه، ولكنها وإن كانت ضيقة فهي واسعةٌ بما فيها من الإيمان والحكمة ونور القرآن، وبما فيها من خير النبي صلى الله عليه وسلم الذي بلغ الآفاق صلوات الله وسلامه عليه. قالوا: لو كان مرور المرأة يقطع الصلاة لامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة على هذه الصورة. وعند التأمل لهذه النصوص التي احتجّ بها جمهور العلماء رحمةُ الله عليهم فإننا نرى أن الدليل الذي دلّ على قطع الصلاة أرجح، وذلك لكونه نصاً في موضع النزاغ. ثانياً: أن اعتراض أم المؤمنين عائشة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو اعتراض الجزء، والقاعدة في الأصول أن الجزء لا يأخذ حكم الكل، ولذلك لو حَلَفت وقلت: والله لا أدخل الدار، فأدخلت رجلاً ولم تدخل الأخرى لم تحنث؛ لأنه لا يَصْدُق عليك أنك قد دخلت إلا بالجرم كله، و

التعوذ عند آية وعيد والسؤال عند آية رحمة في الصلاة

التعوذ عند آية وعيد والسؤال عند آية رحمة في الصلاة قال رحمه الله تعالى: [وله التعوذ عند آية وعيدٍ والسؤال عند آية رحمة ولو في فرض]. قوله: [وله] أي: للمصلي، فلك إذا صليت نافلة أو فريضة وقرأت آية عذابٍ أن تسأل الله أن يُعيذَك منه، أو قرأت آية رحمةٍ أن تسأل الله من فضله. والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام في قيام الليل من حديث حذيفة أنه ما مر بآيةٍ فيها ذكر رحمةٍ إلا وقف وسأل الله من فضله، ولا مر بآيةٍ فيها ذكر عذابٍ إلا استعاذ بالله عز وجل. قالوا: فهذا يدل على مشروعية أن يسأل المكلف ربه من فضله إن مرّ بالرحمة، ويستعيذ به إن مر بالعذاب، ولا فرق عند القائلين بهذا القول بين الفرض والنفل. والصحيح أنه يُفَرَّق في السؤال بين الفرض والنفل كما ذهب إليه الجمهور؛ فإنه -كما في الحديث الصحيح- لما نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، قال الراوي: (فأُمِرنا بالسكوت ونُهِينا عن الكلام)، فدل على أن الأصل في المصلي أن يسكت، وقال عليه الصلاة والسلام في الإمام: (إذا قرأ فأنصتوا)، فالأصل عدم الكلام، فلما ثبتت السنة بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل، ولم يثبت حديث صحيح واحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعل هذا في الفرض؛ إذ لا يُعقَل أنه يصلي بأصحابه صلوات الله وسلامه عليه هذا الردح من الزمان الطويل ولا يثبت عنه في فرضٍ واحدٍ أنه فعل ذلك، فحينئذٍ نقول: يجوز في النفل ما لا يجوز في الفرض، فيُشرع فعل ذلك في النفل دون الفرض، وهذا هو أعدل الأقوال وأقربها إلى السنة، فعلى المصلي إذا كان وراء الإمام أن ينصت ويمتنع عن الحديث، ويختص حكم هذه المسألة بالنفل دون الفرض. ولذلك قال المصنف: [ولو في فرضٍ]، وكلمة (لو): تشير إلى الخلاف، ومعنى ذلك أن هناك من يقول بتخصيصه بالنفل دون الفرض، وهو مذهب الجمهور، وهو أقرب الأقوال وأعدلها، ولذلك ينبغي الاقتصار عليه في النوافل دون غيرها، أعني: الفرائض.

الأسئلة

الأسئلة

حكم السترة في الحرم المكي

حكم السترة في الحرم المكي Q ما حكم السترة في الحرم المكي؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: السترة في الحرم المكي وغيره حكمها واحد، وذلك لثبوت السنة على سبيل العموم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستثن الحرم، والقاعدة في الأصول أن العام يبقى على عمومه حتى يرد ما يُخصِّصه. ولم يثبُت حديثٌ صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في استثناء مكة، فبقِيَت على الأصل. لكن قالوا: إن اقترب من المطاف وآذاه الطائف وتعذر عليه منعه فإن هذا يُوسَّع فيه، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (يا بني عبد مناف: إن وليتم هذا الأمر فلا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار) قالوا: فكأنه يمنع. هناك وجه ألطف من هذا الوجه في استثناء الطائف، قالوا: لأن الطائف في صلاة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (الطواف بالبيت صلاة). فمروره أصلاً هو من الصلاة، فهذا التوجيه من أدق ما قيل في هذه المسألة، فالطائف عند مروره استثني وأما غيره فيبقى، ولذلك استثناؤه على هذا الوجه لا حرج فيه. والدليل الذي يدل على أن مكة وغيرها على حدٍ سواء حديثُ أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه الثابت في الصحيحين أنه قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبةٍ حمراء من أدم -لأنه نزل بالمحصِّب بجوار الحجون بعد أن أتم ليالي منى فبات بها وتأخر ولم يتعجل عليه الصلاة والسلام- قال: ثم رُكِزت له عنزة. وركز العنزة إنما يُقصَد به أن تكون سترةً له عليه الصلاة والسلام، فدلّ على أن مكة وغيرها على حدٍ سواء، خاصةً على القول الذي يقول: إن حرم مكة كله آخذٌ حكم مضاعفة الصلاة، وهو قولٌ من القوة بمكان، ولذلك يقوى أن يكون حرم مكة كله يمتنع فيه المرور بين يدي المصلي، والله تعالى أعلم.

منع الأطفال من المرور بين يدي المصلي

منع الأطفال من المرور بين يدي المصلي Q عند الصلاة إلى سترة هل يمنع الأطفال من المرور بين يدي المصلي وكيف؟ A يمنع الطفل من المرور بين يدي المصلي، وإن كانت الصلاة نافلة وأزعج المرأة طفلها فإن لها أن تنحني وتتناوله وترفعه حتى لا يمر، وهذا من أرفق ما يكون إذا كان مما يصعب رده؛ لأن الانحناء في النافلة أوسع منه في الفرض، وقال بعض العلماء بجوازه في الفرض لحديث أمامة بنت أبي العاص رضي الله عنه، قالوا: إنه حَمَلَهَا النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن حديث أمامة فيه إشكال؛ لأن حديث أمامة لم ينتقل فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالانحناء، وإنما كان يرفعها وإذا سجد وضعها ثم حَمَلها عند رفعه، فما كان ينتقل بالانحناء؛ لأنه في الفرض لو انحنى انتقل من ركن القيام إلى ركن الركوع، ولربما اضطر إلى الجلوس، فلما كان النفل يجوز لك أن تجلس فيه مع القدرة على القيام وُسِّع في حملها في النفل دون الفرض، والله تعالى أعلم.

حكم المرور بين يدي المأمومين لغير حاجة.

حكم المرور بين يدي المأمومين لغير حاجة. Q إذا مر الرجل بين المأمومين لغير حاجة، فهل ينبغي له هذا، وهل عليه حرج؟ A لا يُمَر بين يدي المأمومين إلا من حاجة، أما إذا لم توجد الحاجة فلا، وأذكر من أهل العلم رحمة الله عليهم من مشايخنا من يقول: يُشرَع دفعه إذا مر للتشويش والأذية؛ لأنه ينشغل الواحد بدفعه لمصلحة الكل، فيجوز أن تُرتَكب المفسدة الدنيا لجلب المصلحة العليا، فلذلك قالوا: يُشرع أن تدفعه فتنشغل وحدك تحصيلاً لمصلحة الكل، ومنع بعض العلماء من دفعه، وقالوا لأنه إذا اندفع انشغل وهو مكلَّف بمصلحته والعذر متعلقٌ بمصلحة الغير، فلا يسوغ؛ لأنه لا إيثار في القُرَب.

المقصود بالكلب الذي ورد أنه يقطع الصلاة

المقصود بالكلب الذي ورد أنه يقطع الصلاة Q قول المصنف رحمه الله: (بمرور كلبٍ أسود) هل المراد به هذا الكلبٌ المعهود، أم أنه يطلق على السباع وغيرها؟ A يختص بالكلب المعروف، أما السباع كالأسد والنمر ونحوه فلا يدخل في هذا، وأما في الصيد فإنه يدخل فيه لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4]، فوصف الجارحة مع الكَلَب يدل على أنه يجوز أن تُعَلِّم أسداً الصيد وتصيد به، وهكذا لو علمت نمراً أو غيره من السباع العادية؛ لأنه يصدق فيه وصف الجارحة والكلب لكن (ال) في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الكلب) عهدية، فيشمل كلب البادية وكلب الحاضرة. والكلاب التي تكون في البادية للصيد معروفة، وهي صغيرة الحجم، فهذا الذي يقطع الصلاة، فنقول بالعموم في جنس الكلاب، بخلاف الكَلَب فهناك فرق بين الكَلْب والكَلَب، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم تسمية الأسد في قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم سلِّط عليه كلباً من كلابِك) حين دعا على عتبة بن أبي لهب، ثم لما خرج في تجارته إلى الشام قال: إني أخاف دعوة محمد. فكان إذا نام ينام بين أصحابه، فلما كان على تخوم الشام جاء الأسد وافترسه من بين أصحابه. فأخذ العلماء من قوله صلى الله عليه وسلم (. كلباً من كلابك) أنه وصف الأسد بكونه كلباً، فدل على أنه في عرف الشرع قد يُطلق الكلْب ويراد به الأسد أو كل جارح؛ لأنه مأخوذ من الكَلَبِ، وهذا كما نبّه عليه ابن منظور رحمة الله عليه في (لسان العرب) فالصيد يكون بأي نوع من الحيوانات المفترسة من السباع، وقد كان عَدِي يصيد بالسباع على اختلافٍ بالكلاب وغير الكلاب، وقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا فقال: إنا قوم نتصيد بهذه الكلاب والبزاة فما يحل لنا منها؟ والباز هو الصقر. فأجاز له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم ينكر عليه. فنقول: بعض العلماء يقول: اسم الكلب عام كما جاء في الصيد، ونقول: الصيد شيء، والكلْب في الصلاة شيءٌ آخر؛ لأنه في الصلاة أمر تعبدي، وفي الصيد من جانب الكلب والقوة، والمقصود تحصيل الرفق بالناس في الصيد. فجاز في الصيد على سبيل العموم رفقاً بالناس، ولذلك يقال هنا بخصوصه في الكلب المعهود دون غيره، والله تعالى أعلم.

حكم دعاء القنوت

حكم دعاء القنوت Q هل دعاء القنوت خاصٌ بالفريضة دون النافلة؟ A نعم. القنوت قنوتان: قنوت فرض، وقنوت نفل. فقنوت الفرض مثل الدعاء في النوازل، فالدعاء في النوازل يُقتصر فيه على الوارد مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إنا نستعينك ونستهديك)، وكذلك قوله: (اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق)، ثم بعد أن تنتهي من هذا التمجيد الوارد في هذين الخبرين تدعو على من ظَلَم من الكفار، وتدعو بالنصرة للمسلمين، وتقتصر على ذلك لا تزيد، فلو دعا بالاستسقاء كان بدعة، ولو دعا بنجاح الطلاب في الاختبار كان بدعة، وهذا مما يحدث الآن، فبعضهم يدعو بنجاح الطلاب في الاختبار، وبعضهم يدعو بعموم الأدعية، وهذا لا يجوز، فالصلاة لا يجوز فيها الكلام إلا بقدر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصلاة لا يصلُح فيها شيء من كلام الناس)، فما ورد في القنوت يُقتَصر عليه، ولذلك قال الإمام أحمد: إن زاد على الوارد حرفاً واحداً فاقطع صلاتك. يعني أنه قد خرج عن كونه مصلياً. ولذلك ينبغي على الإمام أن يحتاط لصلاة الناس فيدعو بالوارد، ويدعو بنصرة المؤمنين بجوامع الدعاء، مثل (اللهم انصر المستضعفين) ونحو ذلك من جوامع الدعاء، ولا داعي للإطالة والخروج عن المعهود والتكلُّف، فلذلك يقتصر على جوامع الدعاء، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم يدعو بالنصرة للمسلمين وهلاك على الكافرين، ثم يختم ويسجد. أما بالنسبة لقنوت النافلة وهو قنوت الوتر فيدعو بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الفضل، لا على سبيل الفرض، فلو دعا بغير هذا الدعاء جاز، ولو زاد على الوارد جاز، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الحسن، والحسن كان صغير السن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان الدعاء لازماً بالقيد لعلمه الصحابة، ولألزم الصحابة بهذا الدعاء في الوتر على سبيل الخصوص، ولأن الوتر رِفقٌ بالناس ليسأل المصلِّي فيه حاجته في ليله فوُسِّعَ على الناس أن يسألوا من حوائج الدنيا والآخرة ما فيه صلاح دينهم ودنياهم وآخرتهم، والله تعالى أعلم.

بيان الترتيب فيما يكون سترة للمصلي

بيان الترتيب فيما يكون سترة للمصلي Q في الحديث: (فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن معه عصا فليخط خطاً)، فهل هذا على الترتيب أم على التخيير؟ A قوله: (إن لم يجد) دليل على الترتيب، وهذا أصل، فإن وردت في الكتاب فهي على الترتيب، ففي كفارة اليمين قال تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89]، وفي قراءة ابن مسعود: (متتابعات)، فاشترط في جواز الصيام وإجزائه في كفارة اليمين أن لا تستطيع الإطعام أو الكسوة أو تحرير الرقبة. وبعض العامة هداهم الله إذا حلف اليمين وحنث ينتقل مباشرة إلى الصوم، وهذا لا يُجزيه لإجماع العلماء على أن كفارة اليمين بالصيام شرطها عدم الوَجْد، أي: عدم القدرة. وهكذا قالوا: لو أن إنساناً وجبت عليه الرقبة في الظهار، أو الجماع في نهار رمضان، أو في القتل فانتقل -وهو قادر على أن يشتري رقبة- إلى صيام شهرين متتابعين لم يُجزِه، فكأنه لم يَصُم ويصبح صومه نافلة؛ لأنه شرط مقيد بنص الشرع: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المجادلة:4]، {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} [المجادلة:4]، فالذي لم يجد له حكم، والذي لم يستطع له حكم، أما أن ينتقل إلى درجة ما بعد الشرط و {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المجادلة:4]، مع القدرة والوَجْد فهذا خارجٌ عن الحد المعتبر. فلما قال: (فإن لم يجد) دلّ على الترتيب لا على التخيير، ولذلك يُبتدأ بالشاخص ثم بالعصا ثم بعد ذلك بالخط كما ورد في الخبر على القول بثبوته، والله تعالى أعلم.

فصل: أركان الصلاة [1]

شرح زاد المستقنع - فصل: أركان الصلاة [1] للصلاة أركان دلت عليها الأدلة من الكتاب والسنة، ومن تركها عمداً بطلت صلاته، ومن تركها سهواً فإن أمكنه أن يعود عاد وأداها، وإن لم يمكنه فإنه يقضي الركعة كاملة، وهي: القيام، وتكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والركوع، والاعتدال عن الركوع، والسجود على الأعضاء السبعة، والاعتدال عن السجود، والجلوس بين السجدتين وغيرها.

أركان الصلاة

أركان الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصلٌ أركانها]. ركن الشيء: دعامته وعمدته التي يقوم عليها، وقد دلت النصوص الصحيحة الصريحة في الكتاب والسنة على أركان الصلاة، وهذه الأركان من تركها عامداً بطلت صلاته، ومن تركها ساهياً فإن أمكنه أن يعود إليها عاد وجبرها، وإن لم يمكنه العود إليها فإنه يقضي الركعة كاملة. فمن ترك قراءة الفاتحة عامداً وهو يرى رُكنيتها بطلت صلاته، ولو في ركعةٍ واحدة، ومن تركها ساهياً، كما لو صليتَ فابتدأت الصلاة مباشرة، وقرأت دعاء الاستفتاح، ثم سهوت فقرأت: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1]، فابتدأت بالسورة قبل أن تبدأ بالفاتحة، فلما كنت في أثنائها تنبهت أو ذكّرك من وراءك إن كنت إماماً، فإنك ترجع وتقرأ الفاتحة وتتدارك الركن؛ لأنه يمكن التدارك حيث لم تدخل في ركنٍ بعدي، أما إذا كان لا يمكن التدارك كأن تكون دخلت في الركعة الثانية فتذكَّرت أنك في الركعة الأولى لم تركع أو لم تسجد، وقمت إلى الركعة الثانية فإنه حينئذٍ يلزمك قضاء الركعة الأولى، على تفصيل في كونك تلغي الركعة وتلفِّق، أو تبني الصلاة وتعيد الركعة من موضعها؟

الأدلة من السنة على أركان الصلاة

الأدلة من السنة على أركان الصلاة الأركان هي أهم شيءٍ في الصلاة، والأصل فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً ذات يومٍ مع أصحابه في المسجد، فدخل رجلٌ فصلَّى واستعجل في صلاته، فلم يحسن ركوعه ولا سجوده ولا جلوسه، فلما فرَغ من الصلاة قَدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ مع أصحابه، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وعليك السلام ارجع فصل فإنك لم تصلّ)، فرجع الرجل وصلى كحاله أولاً، ثم أتاه فسلم فرد عليه، فقال: (ارجع فصلّ؛ فإنك لم تصلّ)، فلما كانت الثالثة قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا، فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر واقرأ بما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تستوي وتطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها). فهذا الحديث بيّن النبي صلى الله عليه وسلم فيه الأركان التي لا تصح الصلاة إلا بها، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنك لم تصلّ)، فيكون بيانه هنا بياناً للأركان، ولذلك ذكر غير واحدٍ من أهل العلم رحمةُ الله عليهم أن حديث أبي هريرة هذا الذي يسميه العلماء: (حديثُ المسيء صلاته) قد جمع التنبيه على أركان الصلاة، فلذلك اعتنى علماء الإسلام رحمهم الله بهذه الكلمة، وهي مصطلح الأركان والواجبات والسنن. وهذه المصطلحات ليست ببدع كما يظن بعض من ليس عنده إلمام بالعلم وضبطه، فيظن أن هذه أمور محدثة، فيقول: من أين جاءنا الركن أو الواجب أو السنة؟ فإنا نظرنا في الشرع فوجدناه تارةً يقول: إذا فات هذا الشيء بطلت الصلاة، أو: يجب قضاء الركعة، ووجدناه تارةً يبين أن الشيء الذي فات يمكن جبره بالسجود، ووجدناه يُرخِّص في ترك شيءٍ، فعلمنا أن أعمال الصلاة ثلاثة أشياء: شيءٌ تبطل الصلاة بعدم وجوده، وشيءٌ يمكن جبره بالسجود، وشيءٌ يُتسامح فيه فلو تركه الإنسان ولو متعمداً صحت صلاته. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى ركعتين ثم سلمّ -كما في قصة ذي اليدين- فقال له ذو اليدين: يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: كل ذلك لم يكن. فقال: بلى. قد كان بعض ذلك. فسأل الصحابة: أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم. فرجع فصلى ركعتين)؛ وكان قد قام من مصلاه كما في الصحيح، قال الراوي: وأنبئت أن عمران قال: ثم سجد سجدتين وسلم. فدل هذا على أن الأركان لا تُجبر إلا بالفعل وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر السهو موجباً لإسقاط الركن، بل تعتبر الركعة بمثابة الركن في الصلاة الجامع للأركان، فهي أصل في الصلاة، فكما أن الظهر قائمة على أربع ركعات كذلك كل ركعة قائمةً على أركانها. ثم وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم تفوته أشياء من أفعال الصلاة ويجبرها بالسجود، فقد صلى عليه الصلاة والسلام إحدى صلاتي العشي، فسجد السجدة الثانية من الركعة الثانية ولم يجلس للتشهد، بل استوى واعتدل قائماً، فلما كبر سبح له الصحابة ليعود إلى جلسة التشهد، فأشار إليهم بيديه من وراء ظهره أن: قوموا. أي: إني لستُ براجعٍ وقد لَزِمَكم الركن البعدي الذي هو القيام للركعة الثالثة، فقام الصحابة، فأتم بهم الركعتين ثم سجد سجدتين قبل أن يُسلِّم، فهنا فات شيء من أفعال الصلاة، ولكنه اعتبره مجبوراً بالسهو، فعلمنا أن مرتبة هذه الأفعال دون مرتبة الأفعال التي قبلها. وكذلك أيضاً وجدناه عليه الصلاة والسلام يرى بعض الأقوال في الصلاة لازمة. وبعضها غير لازمة، فقال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، فلم يعتد بالصلاة ولم يعتبرها عند عدم وجود الفاتحة، ووجدناه يسامح في ترك دعاء الاستفتاح، فقد قال له أبو هريرة: (يا رسول الله! بأبي أنت وأمي أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي). فقد ثبت قطعاً أن الصحابة لم يعلموا ما الذي يقول، فلو كان هذا الدعاء حتماً كالفاتحة لألزَمهم به وعلّمهم إياه، فدل على أن هناك أموراً تلزم في الصلاة وأموراً لا تلزم، ولذلك قلنا: إن مثل هذا سنة. فأصبحت القسمة عندنا بتتبع واستقراء الشرع تنقسم إلى هذه الثلاثة الأقسام، فوجدنا ما هو ركنٌ وما هو واجبٌ وما هو سنةٌ. فلو قال قائلٌ: إن هذا بدعة نقول: إن الأسماء في ظاهرها بدعة -أي: لا نعرفها في القديم- ولكنها في الحقيقة موجودةٌ في حكم الشرع، ولا مشاحةً في الاصطلاح أن تسمي الشيء بأي اسم ما دام أن الشرع قد ترك لك التسمية والحكم موجود. فإنك لو قلتَ: جميع أقوال الصلاة وجميع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم لازم لتناقضت النصوص، ولو قلتَ: إن جميع ما قاله النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الصلاة ليس بلازم لتناقضت النصوص. فإذاً لا بد من التفريق بين اللازم وغير اللازم، وذلك هو مصطلح العلماء بالأركان والواجبات والسنن. وقوله: [فصلٌ] يبين دقته رحمه الله تعالى، حيث ذكر صفة الصلاة كاملة، ثم جاء يبين ما الذي يَلزَم وما الذي لا يَلزَم، ثم الذي يَلزَم منه ما هو ركنٌ تتوقف الصلاة عليه، ومنها ما ليس بركنٍ وهو الواجب الذي لا تتوقف صحة الصلاة عليه، بحيث لو تركه الإنسان سهواً أمكنه أن يجبره بسجود السهو. فابتدأ رحمه الله بالأركان، اعتناءً بالأهم، وهذا من باب التدرج من الأعلى إلى الأدنى؛ لأن أهم ما في الصلاة أركانها، ولذلك ابتدأ، فقال: [أركانها]. والضمير عائدٌ إلى الصلاة.

الركن الأول: القيام

الركن الأول: القيام قال رحمه الله تعالى: [أركانها: القيام]. القيام ضد القعود، يقال: قَام إذا انْتَصَب عوده، أي: استَتَم. وقوله: [القيام]، أي: أول ركنٌ من أركان الصلاة القيام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6]، وقال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر). هذه النصوص دلت على وجوب القيام ولزومه على سبيل الركنية والفرض، ولذلك ذهب إلى هذا الحكم جماهير أهل العلم رحمةُ الله عليهم، لكنهم قالوا: الصلاة لا تخلو من حالتين: إما أن تكون فريضة أو نافلة، فإن كانت فريضةً وصلى جالساً مع القدرة على القيام بطلت صلاته؛ لأنه لم يُصلِّ كما أمره الله بالقيام، لكن لو كان في نفلٍ صحَّ له أن يصلي جالساً لقوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم)، وهذا إنما هو في النفل. والظاهرية حملوا قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم) على الفريضة بالنسبة للمعذور، وقولهم مردود؛ لأننا لو حملنا هذا الحديث على الفريضة بالنسبة للمعذور لردت نصوص الشريعة التي تدل على أن كل مريضٍ ومعذورٍ أجره كامل كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً)، فحينئذٍ بتناقض النصوص، فدلّ هذا الحديث على صرف عموم الحديث الذي معنا عن ظاهره، وأن المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم) النافلة دون الفريضة، ووجدنا أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في السفر يُصلِّي على دابته غير المكتوبة. ومن هنا قلنا: إنه يجوز في النفل ما لا يجوز في الفرض، بدليل أنه في السفر يصلي على الدابة حيثما توجهت، وهذا في النافلة دون الفريضة. وعليه فيلزمك القيام لصحة الصلاة المفروضة، لكن بشرط أن توجد القدرة، وذلك لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقوله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فالعاجز عن القيام معذور. وقد أثبت المصنف أن القيام مع القدرة ركن. وأما ضابط القيام فقالوا: الضابط في القيام أن لا تصل كفَّاك إلى ركبتيك، فلو انحنيت بحيث تصل الكفان إلى الركبتين فقد خرجت عن كونك قائماً إلى كونك راكعاً ومنحنياً. ويتفرع على هذا مسائل: المسألة الأولى: لو أن إنساناً يكون جالساً فيكبر الإمام تكبيرة الإحرام، فيقوم فيستعجل فيكبر تكبيرة الإحرام قبل أن يستتم قيامه، فلا تنعقد تكبيرة الإحرام؛ لأن من شروط انعقادها أن يكون قائماً كما أمر الله عز وجل، فإذا كان أثناء قيامه وانتصابه رفع يديه وكبّر ولم يستتم، بحيث أمكن لليدين أن تنال الركبتين، وهو الانحناء المؤثِّر، فهذا لا يُعتد بتكبيره؛ لأن هذا الركن -وهو تكبيرة الإحرام- يُشترط فيه أن يكون في حال القيام، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر). فدل على أن القيام يسبق التكبير، ومن فعل هذا الفعل فقد سبق تكبيره القيام، فلم يصلِّ كما أمره الله. المسألة الثانية: المعذور الذي لا يستطيع القيام يصلي قاعداً، وهيئة القعود تختلف، فبعض الأحيان لا يستطيع أن يصلي قاعداً إلا على علو ونَشَز، كأن يجلس على دكةً أو سرير أو كرسي، فهذا الجلوس ينبغي أن يُفَصَّل فيه، فإن كان قادراً على القيام في تكبيرة الإحرام، فلا يأتي ويجلس مباشرة ويكبر، وإنما يكبر قائماً؛ لأنه بإمكانه أن يكبر في حال القيام، ثم يجلس إذا كان يشق عليه أن يقوم، وإن كان يمتنع أو يصعب عليه أن يقوم، كالحال في المشلول، فإنه يكبر وهو جالس، أما إذا كان يمكنه أن يقف فإنه يقف ويجعل الكرسي وراءه ولا حرج، فإن أدركته المشقة رجع فجلس، كما هي القاعدة في الفقه أن الضرورة تقدر بقدرها، ويتفرع عنها أن ما أبيح للحاجة يُقَدَّر بقدْرِها. فلما كانت ضرورته أن القيام يشق عليه نقول: كبِّر قائماً ثم اجلس. لكن لما كانت الضرورة أن يتعذر عليه القيام قلنا: كبِّر جالساً ولا حرج. فهذا له قدره وهذا له قدره، فيُنَبَّه الناس؛ لأنك قد ترى الرجل يكبر وهو جالس مع أنه يستطيع أن يقف، وقد يقف ويتناول الكرسي ويخرج به وهو حاملٌ له، فمثل هذا لا يُرَخَّص له أن يؤدي الركن وهو تكبيرة الإحرام في حال قعوده، فهذا يُنَبَّه عليه، فإن تعذر عليه القيام قلنا: يجلس. وهذا الجلوس جلوسان: جلوس على هيئة شرعيةٍ، وجلوس على غير الهيئة الشرعية. فجلوس الهيئة الشرعية كأن يجلس الإنسان متربعاً أو مفترشاً أو متورِّكاً، ووجه كونها شرعية أنها جلسة اعتبرها الشرع للتشهد وللجلسة بين السجدتين، فإذا كان جلوسه على هذه الهيئة فحينئذٍ لا إشكال عليه لو جلس بهذه الصفة. لكن الإشكال إذا جلس الجلسة الثانية، وهي غير الهيئة الشرعية، كأن يجلس على سريرٍ أو كرسي، فإنه بجلوسه على السرير والكرسي في حال القيام يُعذَر، لكن عند التشهد لا يكون ملاصقاً للأرض، ومقصود الشرع أنك عند التشهد أو بين السجدتين تكون قريباً من الأرض، فحينئذٍ يكون ارتفاعه على الأرض خلاف ما ورد في الشرع من كونه ملتصقاً بالأرض. قال العلماء: إن تَعذَّر عليه أن يجلس انتقل بالانفصال هذا لكونه متصلاً بالأرض عن طريق الكرسي، فكان في حكم الجالس، وأبيح له أن يصلي على هذه الهيئة، أما لو كان بإمكانه أن ينزل ويجلس جلسة المفترش، أو جلسة المتربِّع فإنه يلزمه ذلك ولا يجلس على كرسيّ ونَشَز؛ لأنه يفوِّت صفة الصلاة. وفي جلوسه متربعاً أو مفترشاً وجهان للعلماء، وأشار إلى ذلك الطبري وابن المنذر في الأوسط. فقال بعض العلماء -وهو مأثور عن بعض الصحابة-: يجلس جلسة التشهد. وهذا أقوى، وذلك لأنها هيئة أقرب لهيئة الصلاة. وقال بعضهم: يجلس متربعاً لأنه أَرفق. وهذا مأثور عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. والأمر واسع فإن كان الأرفق له أن يجلس متربعاً جلس، وإن كان على جلسة المتشهد جلس، لكن ينبغي أن يُنَبَّه على إعانته على السجود؛ فإن جلوسه كجلسة المتشهد أبلغ في إعانته على السجود من هيئته إذا كان على هيئة المتربِّع؛ لأنه عند التربع يحتاج إلى كلفة حتى يتمكن من السجود. ودليلنا على الترخيص أن يصلي جالساً ما ثبت في حديث عمران رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان عمران مبتلى بالبواسير، فشكى ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، فوسَّع النبي صلى الله عليه وسلم للمعذور؛ لأن من به بواسير فإنه يشق عليه في هيئات الصلاة أن يقوم، ولربما أضرَّه القيام، ولذلك رخَّص له صلوات الله وسلامه عليه، فدلّ على التوسعة في حال وجود العذر، وأنه عند وجود الرُّخصة والعذر لا حرج، وقد قال تعالى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286]:.

الركن الثاني: تكبيرة الإحرام

الركن الثاني: تكبيرة الإحرام قال رحمه الله تعالى: [والتحريمة]. المراد بالتحريمة تكبيرة الإحرام، فالركن الأول: القيام مع القدرة، والركن الثاني: تكبيرة الإحرام. فبعض العلماء يختصر ويقول: التحريمة. ومراده تكبيرة الإحرام. ووُصِفت بكونها تحريمه أو تكبيرة إحرام لأن المكلف إذا جاء بها دخل في حُرُمات الصلاة، ولا يمكن أن يُحكم بكونه مصلياً إلا بعد إتيانه بها. والتكبير للدخول في الصلاة يُعتَبر ركناً من أركان الصلاة، والدليل على ركنيته قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في الصحيحين للمسيء صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر)، فأمره بالتكبير. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر تكبيرة الإحرام في أكثر من ستين حديثاً عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك بلغ مبلغ التواتر. وأما إلزام المكلف بها بحيث لو لم يأت بها لم تصح صلاته فلقوله عليه الصلاة والسلام: (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم)، فقوله في هذا الحديث: (تحريمها التكبير)، أي أن دخول المكلف في حرمات الصلاة يتوقف على شيءٍ وهو تكبيرة الإحرام. فإن وُجِد هذا الشيء حكمت بكونه مصلياً وقد دخل في الحرمات، وإن لم يوجد حكمت بكونه غير مصلٍ، ولذلك قالوا: هي ركن من أركان الصلاة. وتكبيرة الإحرام للعلماء -رحمهم الله- فيها ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن تكبيرة الإحرام لا تنعقد إلا بلفظ: (الله أكبر) بخصوصه، كما هو مسلك المالكية والحنابلة من حيث الجملة. الوجه الثاني: يصح للمكلف أن يقول: (الله أكبر) وما اشتُق من هذا اللفظ، كأن تقول: (الله كبير)، وتنعقد تحريمته، وهو قول الشافعية. الوجه الثالث: يصح للمكلف أن يدخل في الصلاة بكل لفظ دال على التعظيم، فإن قال: (الله العظيم) أو (الله الجليل) صح ذلك وأجزأه واعتبر داخلاً في حرمات الصلاة، وهو قول الحنفية. والصحيح أنه لا بد من قول المكلف: (الله أكبر)، وأنه لو غيَّر في هذه الصيغة ولو بالذكر العام فإنها لا تنعقد تحريمته ولا يعتبر داخلاً في حرمات الصلاة. فإن كان القيام ركناً فلا تصح تكبيرة الإحرام إلا بعد أن يستتم المكلف قائماً، وإن كان القيام موسعاً فيه كصلاة النافلة فيصح أن يكبر وهو جالسٌ تكبيرة الإحرام، ويصح أن يكبر أثناء قيامه، ويصح أن يكبر بعد أن يستتم قائماً. وبناءً على هذا فإن من الأخطاء التي يفعلها بعض الناس في الصلاة المفروضة أن تُقَام الصلاة فيستعجل الشخص في القيام، فقبل أن يستتم قائماً يكون قد كبَّر. فلا ينعقد تكبيره إلا بعد ثبوت القيام، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر)، فجعل التكبير مرتباً على القيام، ولذلك لا بد من سبق القيام للتكبير، ولا يصح أن يُكبِّر قبل أن يستتم قائماً، فتلازم القيام والتكبير.

الركن الثالث: قراءة سورة الفاتحة

الركن الثالث: قراءة سورة الفاتحة قال رحمه الله تعالى: [والفاتحة]. هذا هو الركن الثالث، أي: قراءة سورة الفاتحة. وهذا الركن دليل لزومه قوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج خداج) أي: ناقصة. وهذان الحديثان صحيحان ثابتان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن صلَّى ولم يقرأ الفاتحة فإن صلاته لا تصح. وفي قراءة الفاتحة مسائل: المسألة الأولى: أن قراءة الفاتحة لازمة، وأنها ركن من أركان الصلاة لظاهر السنة. وهذا الركن يجب في الصلاة في كل ركعة، ولا يختص بجزء منها؛ لأن العلماء اختلفوا، فمنهم من يقول: من قرأ الفاتحة في ركعة صحت صلاته، ولو تركها في بقية الركعات. وقال الإمام مالك رحمه الله -في إحدى الروايات عنه-: لو ترك الفاتحة في ركعة من رباعية صحت صلاته. والصحيح أنه لا بد من قراءتها في كل ركعة، وذلك لدليلين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، الثاني: قوله تعالى في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل ... ) الحديث، فذكر القراءة وهي واقعة في الركعة، فصح أن يصدق على الركعة أنها صلاة، وأن جزء الصلاة الذي هو الركعة يُعتبر صلاةً، لأن الذين قالوا: يجوز أن تقرأ الفاتحة في ركعة وتجزيك، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما صلاة لا يقرأ فيها)، وأنت قد قرأت. فيقولون: يصح أن تقرأها في ركعة، ويصح أن تقرأها في ركعتين، وتقتصر على هذا. والصحيح أنه لا بد من قراءتها في كل ركعة، ويقوي هذا حديث المسيء صلاته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره بالقيام والقراءة في الركعة الأولى ووصفها قال له بعد القراءة: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع) ثم ذكر السجود، ثم قال له بعد السجدة الثانية: (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)، فدل على أن هذا الموصوف الذي ذكره وألزم فيه بالقراءة في الأولى أنه يسري حكمه إلى غيره كما هو ثابت فيه، وبناءً على ذلك يُلزَم المكلَّف بقراءة الفاتحة في كل ركعة. وكان بعض العلماء يقول: إن الأخريين من صلاة الظهر لا يُقرأ فيهما، والصحيح أنه يُقرأ، وكانوا يقولون: إنه يرخص للمكلف أن يترك الفاتحة فيهما، واحتجوا بما أُثر عن ابن عباس وعمر رضي الله عنهما أنهما رخصا في ترك الفاتحة، كما روى ذلك مالك عن عمر في الموطأ. والصحيح أن الحجة في السنة، ويعتذر لـ عمر -إن ثبت عنه، وإن كان الأثر عنه غريباً- بأنه لم يبلغه الحديث، والصحيح ما ذكرناه لظاهر السنة، وهو الذي يجب على المكلف التزامه في كل ركعة. المسألة الثانية: قراءة الفاتحة للمنفرد والإمام والمأموم: أما المنفرد والإمام فنلزمهما قراءة الفاتحة وجهاً واحداً. وأما المأموم فللعلماء فيه أقوال: فبعض أهل العلم رحمة الله عليهم يرون أن المأموم يَحْمِل الإمام عنه قراءة الفاتحة، فمذهب الحنفية وإحدى الروايات عن الإمام مالك أنه إذا قرأ الإمام -خاصة في الجهرية- سقط عن المأموم قراءة الفاتحة، ولزمه الإنصات والاستماع. والصحيح ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة ووافقهم الظاهرية وبعض أهل الحديث أنه يجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة وراء إمامه، وذلك لأمور: أولها: أن الحديث الذي دل على وجوب الفاتحة ولزومها عام شامل لحال المنفرد والمأموم، ولا مخصص له. ثانيها: أنه ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى بالناس الفجر فارتج عليه، فقال: (إنكم تقرءون خلف إمامكم! قالوا: نعم، قال: فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، فإن هذا نص عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن المأموم ملزم بالقراءة وراء الإمام، فإن قوله: (إلا بفاتحة الكتاب) استثناء، والقاعدة في الأصول أن الاستثناء إخراجٌ لبعض ما يتناوله اللفظ، فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب، وقال: (فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، أي: بفاتحة الكتاب افعلوا. فألزم النبي صلى الله عليه وسلم بقراءتها وراء الإمام، فدل على أن المأموم وراء الإمام يلزمه أن يقرأ الفاتحة. وأما من قال بعدم لزومها فاحتج بحديث جابر: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)، وهذا الحديث ضعفه جماهير أهل الحديث، والضعف فيه من القوة بمكان، وقد نبه على ذلك الحافظ ابن حجر وغيره، لكن هناك من أهل العلم من حسن الحديث، وحَسّن إسناده لشواهد. فعلى القول بتحسين هذا الحديث قالوا: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) يدل على سقوط الفاتحة. وهذا الحديث يُجاب عنه من وجهين: الوجه الأول: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) المراد به قراءة الإمام التي يختارها بعد الفاتحة، ولذلك نسبها إليه، أي: لو أن الإمام قال: (ولا الضالين) وقلت: آمين، ثم قرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، فلا تقرأها، فقراءة الإمام بـ (سبِّح) لك قراءة، فكأنك قد قرأتها. فيكون قوله صلى الله عليه وسلم: (فقراءة الإمام له قراءة) أي: فيما كان من غير الفاتحة، وهذا هو الذي ورد فيه الحديث. الوجه الثاني: أن من قال: إن هذا الحديث متأخر عن حديث: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب). يجاب عنه بأنه ليس هناك دليل صحيح يدل على تأخر هذا عن تاريخ الذي قبله، وقد تقرر في الأصول أن ادعاء النسخ ليس بحجة؛ لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، فلو قال أحد: إن هذا الحديث متأخر عن الذي قبله لا يُقبل قوله حتى يأتي بالدليل على تأخره، وأنه قد وقع بعده لكي يكون ناسخاً. ولذلك فالأحاديث التي تدل على وجوب قراءة الفاتحة على العموم، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وكذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) كلها نصوص صحيحة تدل على أنك إذا كنت وراء الإمام فإن قراءة الفاتحة تلزمك. وهذه الركنية شاملة للمنفرد وللإمام وللمأموم، ويستوي في هذا أن تكون الصلاة جهرية أو سرية، فأما الجهرية فقراءة الفاتحة بالنسبة لك ركن، واستماعك لقراءة الإمام لما بعد الفاتحة أعلى درجاته أنه واجب على القول بظاهر الآية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204]، فنقول: إنه قد تعارض الركن والواجب فيقدم الركن على الواجب. ولو أن قائلاً قال: إن إثبات الركنية إنما هو بالاجتهاد. فلو سُلِّم هذا جدلاً فإننا نقول: هب أنهما واجبان، واجب متصل وواجب منفصل، والقاعدة أنه إذا تعارض الواجب المتصل بعبادة المكلف مع الواجب المنفصل فإن الواجب المتصل الذي أُمِر به إلزاماً يقدم على ما انفصل عنه على سبيل المتابعة للإمام. وقوله: [الفاتحة] يخالفه فيه بعض العلماء فيقول: قراءة الفاتحة. وهذا أدق، فالتعبير بالقراءة إسقاط لما في السِّر، فلا يجزئ الإنسان أن يقفل فمه؛ لأن بعض الناس يكبر تكبيرة الإحرام ويقفل فمه فتجده كالصامت وهو يقرأ في داخل نفسه، فهذه القراءة لا تجزيه، ولا تصح منه حتى ينطق، وقالوا: يُسمِع نفسه. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ) والقراءة إنما تكون باللفظ، وأما ما كان في النفس فليس بقراءة ولا في حكم القراءة. المسألة الثالثة: إذا ثبت أن المأموم مأمور بقراءة الفاتحة فإنه يستثنى من هذا إذا أدرك الإمام راكعاً، فإنه تسقط عنه الفاتحة لظاهر حديث أبي بكرة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من أدرك الركوع فقد أدرك السجود، ومن أدركهما فقد أدرك الركعة)، وهذا نص، وبناءً على هذين الحديثين نقول: إن هذا استثناء لهذه الحالة بعينها، فمن أدرك الإمام راكعاً سقطت عنه الفاتحة؛ لأنه لم يُدرِك وقتاً يمكنه فيه القيام بركنها. أما إذا أدركه قبل الركوع فحينئذ لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يدرك وقتاً يتسنى له أن يقرأ فيه الفاتحة فيقصِّر أو يشتغل بدعاء الاستفتاح، فحينئذٍ يلزمه قضاء الركعة إن لم يقرأ الفاتحة، لأنه كان بإمكانه أن يقرأ. الضرب الثاني: أما لو أدرك وقتاً لا يمكن معه قراءة الفاتحة، فبمجرد أن كبَّر وقبض يديه وشرع في الفاتحة كبَّر الإمام للركوع، فتسقط عنه الفاتحة؛ لأنه لم يدرك وقتاً يُلزَم في مثله بالقراءة. المسألة الرابعة: الأصل وجوب قراءة الفاتحة باللفظ، ويستثنى المريض الذي تكون في لسانه عاهة، ولا يمكنه التحريك، فإنه يجزيه أن يقرأ في نفسه؛ لأن التكليف شرطه الإمكان، وهذا ليس بإمكانه أن يقرأ إلا على هذا الوجه، فسقط عنه اللفظ وتحريك اللسان وبقي على الأصل. وفي حكم هذا من كان في لسانه جراح بحيث يصعب عليه، أو يتألم عند تحريك اللسان، فإنه يجزيه لو أطبق الشفتين وقرأ في نفسه، وتصح منه القراءة ويعتد بها.

الركن الرابع: الركوع

الركن الرابع: الركوع قال رحمه الله تعالى: [والركوع]. الركن الرابع الركوع، ودليل ركنيته قوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77]، فقوله تعالى: (اركعوا) أمر، ودلت السنة على ثبوت ذلك ولزومه، كما قال عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً)، فدل على لزوم الركوع، وأنه ركن في الصلاة، والركوع يتحقق بوصول اليد إلى الركبة، فإذا وصل الكف إلى الركبة فقد ركع. وبناءً على ذلك لو انحنى فلم تصل الكف إلى ركبته فإنه لا يعتبر راكعاً ولا يجزيه ذلك، ولو انحنى فوصلت كفاه إلى ركبتيه ولكنه لم يهصر ظهره فإنه حينئذ يُجزيه الركوع وفاتته السنة؛ لأن السنة أن يهصر ظهره، كما جاء في حديث عائشة: (ثم هصر ظهره)، فإذا هصر الظهر واعتدل الظهر فهذه مرتبة الكمال، وهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم. فإن حصل منه قدر الإجزاء -وهو بلوغ الكفين إلى الركبتين- صح ركوعه، ولكن فاته الكمال، فإن وُجِد عذرٌ من مرض أو ضيق مكان كتب له أجر السنة كاملاً لوجود العذر. فمن كان مريضاً على وجهٍ لا يتسنى له أن يركع، فحينئذٍ يُجزيه أن ينحني بالقدر الذي يصل إليه على حالةٍ لا يشق عليه فيها، أو لا يبلغ فيها بنفسه درجة المشقة، فإذا انحنى بهذا القدر من الانحناء الذي يستطيعه ويطيقه فقد أجزأه وانعقد ركوعه، ويستثنى من كمال الانحناء لانعقاد هذا الركن. كذلك يستثنى من ركنية الركوع أن يكون الإنسان على دابته في السفر ويصلي النافلة، فإن الركوع يعتبر ركناً، بمعنى أنه يُطلب فعلُه، ولكنه ركن باعتبار، فينحني ويكون انحناؤه أقل من انحناء السجود، أما انحناء السجود فإنه يكون أبلغ، فينحني انحناءً بقدر، فإذا حصل هذا الانحناء صدق عليه أنه ركع وأجزأه وتحقق الركن من صلاته النافلة.

الركن الخامس: الاعتدال من الركوع

الركن الخامس: الاعتدال من الركوع قال رحمه الله تعالى: [والاعتدال عنه]. الركن الخامس الاعتدال عن الركوع، والاعتدال: هو الذي لا اعوجاج فيه. فلما كان المكلَّف في حال الركوع ينحني ظهره، فإنه يخرج عن هذا الركن إلى الركن الذي بعده بوجود الاعتدال، والاعتدال: هو أن يستتم قائماً. ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان إذا رفع رأسه من الركوع اعتدل حتى يرجع كل فقار إلى موضعه)، والمراد بقوله: (كل فقار) أي: فقرات الظهر؛ لأن ظهر الإنسان فيه فقرات، فإذا انحنى تباعد ما بين الفقرات، لكنه إذا اعتدل كأنها رجعت إلى حالتها الطبيعية، وهذا الحديث يدل على هديه في الاعتدال. أما كون الاعتدال ركناً فدليله قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم ارفع -أي: من الركوع- حتى تعتدل قائماً)، فإذا حصل الاعتدال قائماً أجزأه وتحقق الركن، لكنه لو رفع من الركوع وقبل أن يستتم قائماً انحنى ساجداً أو خرَّ ساجداً فإنه لا يُجزيه ولا يصح منه ذلك، وإذا لم يتداركه وجب عليه قضاء الركعة، فإن لم يقضها بطلت صلاته؛ لأنه لا بد من ركن الاعتدال، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الله إلى صلاة رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده)، فلا بد من أن يستتم قائماً، فلو أنه قال: (سمع الله لمن حمده) ولم يستتم قائماً وبادر بالسجود فإنه حينئذ يُحكم بأنه لم يقم صلبه. ويستثنى من هذا الذي لا يستطيع أن يستتم قائماً كالمريض، أو الشيخ الهرم إذا كان منحني الظهر، فإن ركوعه يكون بالقدر، ويكون رفعه من الركوع على القدر الذي يستطيع تحصيله في حال قيامه.

الركن السادس: السجود على الأعضاء السبعة

الركن السادس: السجود على الأعضاء السبعة قال رحمه الله تعالى: [والسجود على الأعضاء السبعة]. من أركان الصلاة أن تسجد على الأعضاء السبعة. أما دليل ركنية السجود فقوله سبحانه وتعالى في آية الحج: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77]، فإن قوله سبحانه وتعالى: (اسجدوا) أمر، والأمر يدل على اللزوم والوجوب. وقال عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً)، فدل على أن السجود ركن من أركان الصلاة. ويتحقق السجود على الكمال في كونه على الأعضاء السبعة، وقد بيّنا ذلك، وبينا دليله من حديث ابن عباس الثابت في الصحيح: (أمرت أن أسجد على سبعة آراب)، أو: (على سبعة أعظم)، كما في الرواية الثانية. فإذا سجد فكان سجوده على الأعضاء السبعة فإنه تم ركنه، وأجزأه بمماسة الأرض، ثم يبقى شرط الطمأنينة الذي يأتي ذكره. ويُستثنى من هذا من كان مريضاً بحيث لا يمكنه الهوي للسجود ولا السجود، حتى ولو كان يخشى ضرراً بعضو أو نفس، كمن أجريت له عملية في عينه، فإنه قد يُمنع من السجود خشية ذهاب البصر، فأصح الأقوال -وهو قول جماهير السلف رحمة الله عليهم والعلماء- أنه يُرخص للإنسان إذا خاف على بصره بطب ونحوه أن يترك السجود. وشدَّد في ذلك بعض السلف ومنهم ابن عباس، رضي الله عنهما، فقد قال العلماء عن ابن عباس إن سبب إصابته بالعمى أنه كان مريضاً في عينه، فنصحه الطبيب أن لا يسجد، فلم يرض ابن عباس بذلك وسجد فكُفّ بصره رضي الله عنه. وإن كان الذي ذكره غير واحد من العلماء رحمة الله عليهم أن ابن عباس ابتلِي بذهاب البصر لأنه قل أن يرى أحدٌ الملائكة إلا عمي بصره، وكان ابن عباس قد رأى الملائكة -كما جاء في الحديث الصحيح- لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبوه العباس، فلما دخل سلّم العباس فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه إذ كان مشغولاً بالوحي، وكان جبريل عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم، فسلّم وكرر السلام فلم يرد عليه فانصرف العباس وفي نفسه شيء، وخاف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجِد عليه، فلما انصرف علم عبد الله من أبيه ما علم، فقال: يا أبتِ! إنه قد شغل بمن معه، وكان قد رأى جبريل، فلما قال ذلك رجع العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: (هل رأيته يا عبد الله؟ قال: نعم. قال: ذاك جبريل)، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (لو كان معي بصري لأريتكم الغار الذي نزلت منه الملائكة يوم بدر) أي: يوم القتال، وقد ذكر عن بعض الصحابة ومن غير الصحابة أنهم رأوا الملائكة فكُفّت أبصارهم، فيقولون: إن هذه سنة كونية من الله عز وجل أنه لا يبقى له البصر لقوة ما رآه. ولكن هذا قد يستثنى منه الأنبياء ونحوهم مما أُعطوا بإقدار الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى جبريل على حقيقته. والمقصود أن هناك من العلماء من يقول: إن ابن عباس كان مذهبه أنه يشدد في ذلك، حتى إنه حين نهاه الطبيب خشية أن يكف البصر لم يرخص لنفسه. ولهذا قال بعض العلماء: إن الخوف على العضو أو الخوف من الزيادة في المرض لا يرخِّص به في السجود. والصحيح أنه يرخص به، فمن كان قد تعاطى علاجاً أو عملية جراحية في صلبه أو ظهره، وخُشِي أنه لو سجد يتضرر أو يذهب عضو من أعضائه فإنه يُرخَّص له في ترك السجود، ولا حرج عليه أن يسجد بالقدر الذي يصل إليه. فإن صلّى على مرتفع أو نشز كالكرسي ونحوه فسجوده أخفض من ركوعه، بمعنى أن يكون انحناؤه أبلغ ما يكون في السجود، ويكون الركوع أرفع منه قليلاً، وهذا إذا كان على نشز، أما لو كان على الأرض كأن يجلس جلسة التشهد، فإن سجوده أن ينحني إلى القدر الذي يستطيع تحصيله دون ضرر، فإذا بلغ هذا القدر فإنه يُعتبر ساجداً، لكن ينبغي أن يُنبه على كيفية السجود، فبعض الناس يكون مريضاً ولا يستطيع السجود، فتجده إذا سجد وضع كفيه على فخذيه وانحنى، وهذا لا يصح، بل ينبغي أن ينزل الكفين إلى الأرض، لأنه مأمور بالسجود على السبعة الآراب (الأعضاء)، فكونه عاجزاً عن إيصال الجبهة أو الرأس إلى الأرض لا يُوجِب ذلك الترخيص بترك مماسة اليدين للأرض؛ لأن القاعدة أن الضرورة تقدر بقدرها، فضرورته أن لا يصل رأسه إلى الأرض، والزائد على الضرورة من كونه يترخص بسحب اليد ووضعها على الفخذ لا موجب له، فيبقى على الأصل الموجب لتحصيل السجود به.

الركن السابع: الاعتدال من السجود

الركن السابع: الاعتدال من السجود قال رحمه الله تعالى: [والاعتدال عنه]. أي: الاعتدال عن السجود، والمراد بذلك أن يحصِّل القَعْدة وذلك بالرفع من السجود، فإذا اعتدل من السجود حصل الركن، وهذا الاعتدال أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء صلاته فقال له: (ثم ارفع حتى تستوي جالساً)، فدل على ركنية هذا الرفع من السجود وأنه يُلزم به، وقد ذكره في موضعين: في السجدة الأولى وفي السجدة الثانية، فقال: (حتى تستوي جالساً)، وقال: (ثم ارفع حتى تعتدل قائماً)، فدل على ركنين: الركن الأول: الرفع من السجود أو الاعتدال عنه. والركن الثاني: الجلسة بين السجدتين.

الركن الثامن: الجلوس بين السجدتين

الركن الثامن: الجلوس بين السجدتين قال رحمه الله تعالى: [والجلوس بين السجدتين]. من دقة المصنف وتحرِّيه وفقهه جعل الاعتدال من السجود والجلوس بين السجدتين ركنين، وليس ركناً واحداً؛ لأن هناك فرقاً بين الجلوس بين السجدتين والاعتدال من السجود؛ لأن الاعتدال يقع بالجلوس ويقع أيضاً بعد الجلوس، كما لو سجد السجدة الثانية، فمن دقة المصنف أن قال: (الاعتدال عنه)، حتى يشمل ما بعد السجدة الثانية. ويكون والجلوس بين السجدتين ركن منفصل؛ لأنه يختص بما بين السجدتين، فلو قال: [الاعتدال عنه] وسكت، فإنه لا يتضمن ذلك الجلسة بين السجدتين، ولو قال: [الجلوس بين السجدتين] وسكت، فإن هذا لا يشمل الرفع بعد السجدة الثانية، ومن هنا كان من فقهه رحمة الله عليه أن جعلهما ركنين، وهذا هو الصحيح، ولذلك تعقُّب بعض الشراح على المصنف رحمه الله ليس في محله، بل من دقته أن هذا ركن وهذا ركن؛ لأنك لو قلت: (الجلسة بين السجدتين) فحسب لم تنبه على ركن الرفع من السجدة الثانية، فإن الرفع من السجدة الثانية ليس فيه جلوس بين السجدتين كما هو معلوم، ولو قلت: (الرفع من السجود) فحسب فإن الرفع من السجود مطلق لا يستلزم جلوسك بين السجدتين؛ لأن من رفع ولم يجلس صدُق عليه أنه قد حصل الركن. والجلوس بين السجدتين يتحقق بحصول الجلسة، والجلسة بين السجدتين تكون بالافتراش بأن يرفع الإنسان رأسه حتى يستوي جالساً وتحصل له طمأنينة الجالس، لكن لو أنه رفع من السجود وقبل أن يستوي جالساً كبّر للسجدة الثانية فإنه لا يجزيه، ولم يتحقق ركن الجلوس بين السجدتين، فيلزمه أن يرجع مرة ثانية ويستقر جالساً؛ لأنه قال: [والجلوس بين السجدتين] وهذا لم يجلس. ويتحقق الجلوس بالتصاق الإلية بالعقب، أو إذا فرش رجله اليمنى للإليتين، فإذا حصل هذا فقد جلس، لكن لو أنه قبل أن يرجع وتصل الإلية إلى العقب قال: الله أكبر. لم يصح ذلك ولم يُجزه، ويلزمه أن يعيد الجلوس بين السجدتين، وتُلغى السجدة الثانية التي سجدها، ويسجد لها سجود الزيادة.

فصل: أركان الصلاة [2]

شرح زاد المستقنع - فصل: أركان الصلاة [2] من أركان الصلاة: الطمأنينة في جميع أركان الصلاة وهيئاتها، والتشهد الأخير والجلوس له، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه، والترتيب بين أركان الصلاة، والتسليم، وبه يخرج المصلي من صلاته.

تابع أركان الصلاة

تابع أركان الصلاة

الركن التاسع: الطمأنينة في الصلاة

الركن التاسع: الطمأنينة في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [والطمأنينة في الكل]. الطمأنينة: هي الوقت الكافي الذي يصدق به تحصيل الركن، ففي القيام لا إشكال أنه سيقرأ الفاتحة فيحصِّل الطمأنينة المعتبرة، فإن وقت قراءة الفاتحة قدرٌ للطمأنينة. لكن بحث العلماء في الطمأنينة في الركوع والسجود والرفع من الركوع والرفع من السجود. أولها: إذا ركع، لأنه في القيام سينشغل بالقراءة، فلو ركع فإن الواجب عليه تسبيحة واحدة، فإذا ركع ثم رفع مباشرة ولو قال: (سبحان ربي العظيم) اختطافاً فإنه حينئذ لا يُجزيه هذا الركوع؛ لأنه لم يطمئن، وهذا هو الذي وقع من المسيء صلاته، وهو الذي من أجله نبهه النبي صلى الله عليه وسلم على صفة الصلاة؛ لأن هذا الرجل -كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة - صلى ولم يحسن الصلاة، والمراد بعدم إحسانه الصلاة استعجاله فيها. فالطمأنينة إذا ركع أن ينتهي إلى الركوع الكامل، فإذا انتهى إلى الركوع الكامل يقول: (سبحان ربي العظيم)، وقدر قوله: (سبحان ربي العظيم) يعتبر تحصيلاً للطمأنينة، فلو أنه خطف الكلام، أو أنه ركع ونسي أن يقول: (سبحان ربي العظيم) ورفع مباشرة، فإنه في هذه الحالة يبطل ركوعه، ويلزمه أن يعيده، فيقول: (الله أكبر)، راكعاً، ويقول: (سبحان ربي العظيم)، ويُحصِّل قدر الطمأنينة ثم يرفع، ويبقى ما بين الركنين من كونه ركع ورفع لاغياً؛ لأنه ركوع لم يَعتَد به الشرع، فيسجد له السجود البعدي المتعلق بالزيادة.

الركن العاشر: التشهد الأخير

الركن العاشر: التشهد الأخير قال رحمه الله تعالى: [والتشهد الأخير]. التشهد تشهدان إذا كانت الصلاة رباعية أو ثلاثية، أما إذا كانت ثنائية، أو كانت وتراً فالتشهد واحد، فإذا قالوا: التشهد الأخير. فالمراد به الذي يحصل بعده السلام. وهذا التشهد يعتبر ركناً من أركان الصلاة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقعد الإنسان للتشهد. فلو أن إنساناً سجد السجدة الثانية من الركعة الثانية ثم مباشرة سلَّم فإنه يُحكم ببطلان صلاته، فلا بد من التشهد. والمراد بقوله: [التشهد] أي: اللفظ الذي هو ذكر التشهد، والأحاديث الواردة فيه وهي حديث ابن مسعود، وحديث عبد الله بن عمر، وحديث عبد الله بن عباس، وحديث عمر بن الخطاب وأبي سعيد الخدري رضي الله عن الجميع. والركن في التشهد الأخير ينتهي عند قولك: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)، فلو أن مصلِّياً قرأ (التحيات لله) حتى بلغ قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) واحتاج أن يقطع الصلاة فسلَّم صَحَّت صلاته؛ لأن الزائد ليس بركن، فما بعد التشهد من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء ليس بركن على أصح أقوال العلماء. وبناءً على ذلك لو وقف عند آخر جملة من التشهد -أي: عند قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) - وسمع أمر خطيراً أو أمراً أفزعه فأراد أن يُدركه فسلم صحت صلاته وأجزأته.

الركن الحادي عشر: الجلوس للتشهد الأخير

الركن الحادي عشر: الجلوس للتشهد الأخير قال رحمه الله تعالى: [وجلسته]. أي: من أركان الصلاة الجلوس للتشهد الأخير، فلو قرأ التشهد الأخير وهو واقف فإنه لا يُعتَد بقراءته إلا أن يكون معذوراً، أو قرأ التشهد الأخير قبل أن يستتم جالساً، كما لو رفع من السجدة الأخيرة وانحنى فلم يستتم جالساً وقرأ التشهد بسرعة وسلم فإنه لا يجزيه، فلا بد من أن يستتم جالساً ويقرأ التشهد بكماله إلى القدر الذي ذكرنا، ثم بعد ذلك إن سلَّم لحاجة فحينئذٍ تصح صلاته وتعتبر.

الركن الثاني عشر: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير

الركن الثاني عشر: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير قال رحمه الله تعالى: [والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه]. الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ركن على هذا القول، والحقيقة أنه ليس هناك دليل قوي على ركنية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، بل هي سنة ثابتة ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُشك في هذا، لكن القول بأنها ركن لو تُركت تبطل بها الصلاة ليس عليه دليل صريح. واحتج من يقول بركنيتها بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وهذا عام، ومثل هذا لا يصلح حجة على الإلزام، ولو قلنا بأنه يصح حجة لقلنا: غاية الأمر أن يكون واجباً لا ركناً؛ لأن الركنية توجب بطلان الصلاة. والأمر الثاني: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم جاءت أشبه ما تكون من أجل الدعاء، ولذلك شرعت الأدعية أن يكون فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والصلاة أشرف مواضع الدعاء، فهي مناسبة من أجل الدعاء. فإذا كان الأصل ليس بواجب فمن باب أولى ما يُقصد له، فإن الدعاء نفسه ليس بواجب، وبناءً على هذا يكون ما شُرِع له ليس بواجب من باب أولى وأحرى. ولذلك ليس هناك حديث أو آية تدل صراحة على كون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ركناً في الصلاة. واحتجوا أيضاً بحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه في تعليمه صلى الله عليه وسلم الصحابة الصلاة عليه بقوله: (قولوا: اللهم صلِّ على محمد) قالوا: هذا أمر، ويدل على ركنية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة. ويجاب عنه بأنه مبني على بيان، وذلك أن الصحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، والسؤال معادٌ في الجواب، فيكون قوله: (قولوا) من باب البيان. ألا ترى لو أن إنساناً قال لعالم: كيف أصلي ركعتين نافلة؟ فقال له: قم وافعل كذا وكذا وكذا، فإننا لا نقول: إن هذا لازم عليه. وإنما يكون من باب البيان المرتب على السؤال الذي لا يقتضي الإلزام، وإنما يكون إلزاماً أن يقول عليه الصلاة والسلام: إذا صليتم فصلوا علي. وأيضاً فإن حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه الذي فيه التعليم لصفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه دليل على تخصيصه بالصلاة. وبناءً على ذلك فإننا لو سلمنا أن دلالة: (قولوا) للوجوب، فإننا نقول: إن هذا على سبيل العموم، ومسألتنا على سبيل الخصوص، وإذا كان الدليل أعم من موضع النزاع فإنه لا يقوى على إفادة المراد. وبناءً على هذا، فالذي يترجح -والعلم عند الله- أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست بركن، بمعنى أن من تركها لا تبطل صلاته، ولكن لا شك أن الأكمل والأحرى والأولى بالمصلي أن لا يسلم إلا وقد صلَّى على النبي صلى الله عليه وسلم.

الركن الثالث عشر: الترتيب بين أركان الصلاة

الركن الثالث عشر: الترتيب بين أركان الصلاة قال رحمه الله تعالى: [والترتيب]. الترتيب: مأخوذ من رتّب الشيء على الشيء إذا جعله عليه، بمعنى أن وجود الثاني بعد الأول، والثالث بعد الثاني. ومراد المصنف بالترتيب هنا أن يُوقِع هذه الأركان مرتبة على الصورة التي وردت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبناءً على ذلك فإن المكلَّف لو فعَل جميع هذه الأركان بأن جاء وكبَّر، فلما قام ركع مباشرة، وبعد الركوع رفع من الركوع وقرأ الفاتحة، فإنك إذا نظرت إلى الصلاة وجدت الأركان جميعها موجودة، لكنها ليست مرتَّبة على الصفة التي وردت في السنة، فنقول: هذا غير معتبر، فالركن ومحل الركن لا بد منه، ودليلنا على الإلزام بالترتيب قوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع) الحديث. فالعطف بـ (ثم) يفيد الترتيب، وقد وقع هذا العطف بين هذه الأركان، فدل على أنه لا يصح إيقاع بعضها سابقاً على بعض.

الركن الرابع عشر: التسليم

الركن الرابع عشر: التسليم قال رحمه الله تعالى: [والتسليم]. التسليم وهو الركن الأخير، والمراد بذلك أن يقول: السلام عليكم، وهذا أقل قدر يصح به التسليم. فلو أن مصلياً قال: (السلام عليكم) تسليمةً واحدة، فإنه يُجزيه وتتم صلاته. وهناك صفات أُخرى في التسليم، منها: الصفة الأولى: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم ورحمة الله. الصفة الثانية وهي المشهورة: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله. الصفة الثالثة: السلام عليكم ورحمة الله (عن اليمين) السلام عليكم (عن اليسار). الصفة الرابعة: السلام عليكم عن اليمين فقط. وهذه أربع صفات من فعل واحدة منها فإنه قد خرج من صلاته. وقوله: [التسليم] المراد به التسليمة الأولى، فلو أنه سلَّم التسليمة الأولى ثم أحدث فإن صلاته تصح وتجزيه، ولو أنه سلم التسليمة الأولى فمرت بين يديه امرأة قبل أن يسلم التسليمة الثانية فإن صلاته صحيحه؛ لأن التسليم قد حصل بالأولى، والثانية تعتبر سنةً وليست بواجبة. أما دليلنا على أن التسليم ركن فقوله صلى الله عليه وسلم: (تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)، وفائدة كونك تجعل التسليم ركناً تظهر عند حصول الموجِب لبطلان الصلاة قبل التسليم. فلو أن إنساناً تشهد وقبل أن يسلِّم انتقض وضوؤه فإنه حينئذٍ تبطل صلاته؛ لأنه بقي ركن من أركانها، وهكذا لو أنه صلى وفي التشهد مرت امرأة، أو مر حمار أو كلب -أكرمكم الله-، فعلى القول بأن هؤلاء يقطعون الصلاة فإننا نحكم بأن صلاته قد بطلت؛ إذ لا بد من وقوع التسليم قبل وجود المُخِل، فما دام أن التسليم ركن فإن الصلاة لا تصح. وقد خالف في هذه المسألة الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، فإنه يرى جواز الخروج من الصلاة بصنعة، فلو أن إنساناً التفت وقصد بهذا الالتفات الخروج فإنه يخرج من صلاته، وهكذا لو صنع أي شيء يُخِل بالصلاة قاصداً به الخروج من الصلاة فإنه يجزيه ويعتبر خارجاً من الصلاة. والصحيح أن الخروج من الصلاة عند تمامها، أو قبل تمامها -كأن تُقام الصلاة وأنت في الركعة الأولى وتريد أن تخرج منها- أن تخرج بالتسليم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)، ولم يفصِّل صلى الله عليه وسلم بين كمالها وبين نقصانها. فلو قال قائل: قوله صلى الله عليه وسلم: (وتحليلها التسليم) المراد به أن يكون بعد تمام الصلاة. قلنا: هذا تخصيص بدون دليل يدل على التخصيص، بل إن ظاهر الحديث في سياقه يدل على أن التسليم مطلق، وذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم: (تحريمها) يدل على أنك قد دخلت في الحرمات، وأن هذا الخروج من الحرمات يفتقر إلى شيءٍ تخرج به، فقال: (وتحليلها التسليم)، فالمقابلة تقتضي الملازمة، بمعنى أنك إذا دخلت في الحرمات لا تخرج من هذه الحرمات إلا بتسليم. ومن الفروق بين قولنا: يخرج بتسليم، وقولنا: يخرج بدون تسليم أنك لو كنت ترى أن التسليم معتبر للخروج من الصلاة، فكبَّرت وقرأت الفاتحة وقرأت السورة فأُقِيمت الصلاة، وغلب على ظنك أن الصلاة ستفوتك لو استمررت في هذه النافلة، فأردت قطع هذه الصلاة فقطعتها بفعلٍ ولم تقطعها بتسليم فحينئذٍ لا أجر لك فيما مضى؛ لأنك أبطلت الصلاة بهذا الفعل؛ لأنه فعل غير شرعي، وخرجت به عن كونك مصلياً، لكن لو سلّمت معتداً بالأصل الشرعي، بأن دخلت بالتكبير وخرجت بالتسليم فإنه يكتب لك أجرها، وهذا إذا كنت ترى أن التسليم لازم. وأما الحنفية فيرون أنه يجوز له أن يخرج بصنعة، ويقولون: إذا أقيمت الصلاة فله أن يلتفت، وله مباشرة أن ينوي القطع في قلبه ويُكبِّر للفريضة، فلو قال: (الله أكبر) تكبيرة الإحرام الثانية تنعقد الفريضة؛ لأنه قد قطع النافلة بنيته. وهذا ضعيف مخالف لظاهر العموم؛ لأن الخروج من الصلاة جمع الشرع فيه بين الظاهر والباطن، فخروجه بمجرد نيته إنما هو خروج بالجزء؛ لأن الشرع في الصلاة المعهودة أن تخرج بالفعل الذي هو التسليم، أي: القول والفعل. فقولهم: نيته كافية في الخروج إنما هو اجتزاء ببعض المطلوب مع أن الشرع اعتبر للخروج من هذه العبادة دلالة الظاهر، فلا وجه للاقتصار على دلالة الباطن وهي النية. ولذلك يقوى مسلك الجماهير أنه لا بد من التسليم.

الأسئلة

الأسئلة

مواطن قراءة الفاتحة للمؤتم

مواطن قراءة الفاتحة للمؤتم Q متى يقرأ المكلَّف الفاتحة خلف الإمام، خاصة إذا لم يترك له الإمام فرصة للقراءة؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن قراءة الفاتحة وراء الإمام تكون في السكتات، كسكوت الإمام ما بين قراءة الفاتحة وقراءة السورة، وقد جاء هذا عن سعيد بن المسيب، وهذا الأثر وإن كان مرسلاً فإنه يدل على أن أقل درجاته أنه كان معهوداً عند السلف الصالح رحمة الله عليهم، ومعلوم مكانة سعيد بن المسيب، فهو قريب إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان يقال: إن المدينة إلى عهد مالك لم تدخلها بدعة. فكيف بعهد سعيد بن المسيب الذي كان من أقرَب الناس إلى عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم?! ولذلك يسكت الإمام هذه السكتة، وهي من فعل السلف، ويعطي للمأموم مجالاً أن يقرأ، فإذا أمكنته قراءتها فالحمد لله، وإذا لم يمكنه أن فليقرأها يستمر، ولو استمر الإمام في قراءته؛ لأننا قلنا: يتشاغل بالركن عن الواجب، على القول بوجوب الإنصات لقراءة الإمام. ولذلك أمر بها أبو هريرة، فقد روى البيهقي عنه بالسند الصحيح في جزء القراءة خلف الإمام أنه أمر بها، وقال: (حتى ولو قرأ الإمام). ولذلك فإنه يقرأ الفاتحة ولو لم يعطه الإمام مجالاً لقراءتها؛ لانشغاله بما هو ركن تنعقد به الصلاة ولا تصح بدونه، والله تعالى أعلم.

قراءة القرآن

قراءة القرآن Q ما حكم قراءة الفاتحة للمأموم خلف إمامه في صلاة النفل؟ A الحكم في ركنية الفاتحة شامل للفرض والنفل؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُفصِّل في الصلوات، ولم يفرِّق بين حال الائتمام والانفراد والإمامة، فيبقى هذا العموم على ظاهره، ويُلزم المكلف بالقراءة على كل وجه، سواءٌ أكان في فريضة أم نافلةٍ، ولا وجه للتخصيص لعدم ثبوت دليل يخصص، والله تعالى أعلم.

بم تدرك الركعة؟

بم تدرك الركعة؟ Q مصلٍ كبَّر تكبيرة الإحرام وانتهى منها في الركوع أو في أثناء الركوع، فهل تجزيه؟ A إذا جئت متأخراً والإمام راكع، فكبّرت، ثم رفع الإمام، أو كبرت وأثناء التكبير رفع الإمام، فهذه المسألة على صورتين: الصورة الأولى: أن تُكبِّر لركوعك وتنتهي من التكبير بكماله، أي: بعد انتهائك من حرف (الراء) من قولك: (أكبر) قال الإمام: (سمع الله لمن حمده) فأنت مدرك للركوع، وأيضاً قبل أن يتلفظ الإمام بـ (السين) من: (سمع الله لمن حمده)، ولو رأيته بالفعل؛ لأن العبرة بالقول وليس بالفعل، وبناءً على ذلك فلو رأيته تحرك ثم مباشرة أدركت التكبير وكبّرت، فإنه يجزيك وتُعتبر مدركاً للركوع وتسقط عنك الركعة. الصورة الثانية: أن يرفع الإمام، أو أن يُسمِّع الإمام في أثناء تكبيرك أو قبل تكبيرك، فحينئذٍ لا تُعتبر مدركاً للركوع، فإذا قلت: (الله أكبر) وما بين لفظ الجلالة وأكبر قال: (سمع الله)، فحينئذٍ تتم تكبيرك وتبقى قائماً، فقد أدركت ركن القيام ولم تدرك ركن الركوع. وبناءً على هذا يلزمك أن تقضي هذه الركعة لعدم إدراكك لركوعها، والله تعالى أعلم.

انتظار الإمام الداخل إلى الصلاة أثناء الركوع

انتظار الإمام الداخل إلى الصلاة أثناء الركوع Q هل للإمام إذا كان راكعاً أن ينتظر الداخل إلى المسجد لإدراك الركعة؟ A هذه المسألة اختلف فيها السلف رحمة الله عليهم، فكان بعض العلماء يقول: إذا ركع الإمام وسمع رجلاً يدُّب إلى الصف فإنه لا ينتظره؛ لأن الصلاة لله وليست للناس؛ لأنه إذا انتظره وأطال القيام أساء من وجوه: أولها: أنه قصد الداخل ولم يقصد العبادة، وبناءً على ذلك قالوا: هذا يُخِل في قصده ونيته، والمساجد لله وليست للناس. ثانيها: أنه يشق على الجماعة من أجل الفرد، والأصل تقديم ضرر العامة على ضرر الخاصة، فإن إطالة الركوع مشقة لمن ركع وهم الجماعة، وكونه يرفع من الركوع مشقة على المنفرد وهو المسبوق، فقالوا: إنه يلزمه أن يعتد بركوعه المعتاد، فإن بلغ القدر الذي في مثله يرفع رفع. وقالت طائفة من العلماء بالتفصيل: فإن كان يشق الانتظار على المأمومين فلا ينتظر، كالمساجد الكبيرة التي يكون فيها فسحة والمكان بعيد بين بابها وبين آخر الصفوف؛ لأنه إذا انتظر شق على المأمومين، وأما إذا كان لا يشق عليهم فإنه ينتظر، وذلك لعموم الأوامر، ولثبوت السنة بما يشهد بهذا، فقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (كان يصلي في الظهر حتى لا يُسمع قرع نعال)، والمراد بذلك إطالته للقيام لكي يدرك المأمومون الصلاة. وقالوا مجيبين عن الأولين: أما قولكم: فإنه يطيل من أجل الناس فإن الصورة ليست مقصودة، وإنما المقصود معنى الصورة، فإنه لما أطال ليس لذاك الرجل، بدليل أنه لا يعرف من الداخل، وإنما أطال تحصيلاً للقربة، فكان ثواباً للجماعة وثواباً للداخل، فالمأمومون يحصلون الخير فيسبحون أكثر، وتطول صلاتهم، وليس هناك مشقة. فقالوا: إنما أطال تحصيلاً للقربة؛ لأنه إذا أطال كان أعظم لأجرهم وعوناً للمكلف أن يدرك الفضل، فليس ثمّ إخلال. ومن هنا نفهم عبارة بعض العلماء الذين يقولون بهذا القول، قالوا: فإن كان الذي دخل يعرفه أنه من ذوي الشرف أو ذوي الجاه حرُم عليه. وقال بعض العلماء: تبطل صلاته إن كان قصد مثل هذا الرجل، أي أنَّ قصده بإطالة الركوع هو مُدَاهنة هذا الرجل أو محبته أو تأليفه، أو نحو ذلك مما ليس بمقصد شرعي. والمقصود أن أصح الأقوال أنه إذا كان لا يشق على المأمومين ونية الإمام صالحة فلا حرج لظاهر السنة في حديث الظهر، ولعموم الأدلة التي دلَّت على معونة الناس في تحصيل الخير، والله تعالى أعلم.

حكم صلاة راتبة العشاء خلف من يصلي التراويح

حكم صلاة راتبة العشاء خلف من يصلي التراويح Q إذا كان المأموم خلف إمامه في صلاة التراويح، فهل له في ركعتين منها أن ينوي سنة العشاء؟ A لا حرج على المأموم أن ينوي الراتبة (سنة العشاء) مع الإمام في صلاة التراويح، وكان بعض العلماء يستحب غير هذا فيقول: أستحب أن يدخل وراء الإمام بنية التراويح ولا يقلبها راتبة، حتى إذا انتهى من الوتر صلى ركعتين؛ لأنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (صلى ركعتين بعد الوتر). قالوا: لأنه إذا فعل هذا فقد حصَّل فضل قوله صلى الله عليه وسلم (من قام مع إمامه حتى ينصرف ... ) الحديث. قالوا: لأن الركعتين الأوليين من التراويح إنما هي من القيام، أي: من إحياء الليل، فلو نوى بها راتبة العشاء خرج عن كونه مقتدياً بالإمام لاختلاف النيتين. والأولون يقولون: يدخل بنية الراتبة من أجل قوله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)، قالوا: لأنه سيحتاج بعد هذا أن يشفع بعد الوتر فيفوته هذا الفضل. والذي تميل إليه النفس أن لا ينوي، وإنما يصلي حتى يُوتِر، ثم بعد الوتر يصلي ركعتين؛ لثبوت فعل النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، ويكون قوله عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) على سبيل الاختيار، وهذا لا اختيار له لمكان ضيق الوقت، والله تعالى أعلم.

توجيه إشكال في قراءة الفاتحة للمؤتم

توجيه إشكال في قراءة الفاتحة للمؤتم Q أشكلت عليَّ حديث: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، فقد قرأت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ما لي أنازع ... ) الحديث. فقال أبو هريرة: فانتهى الناس عن القراءة والفاتحة أيضاً. فما قولكم في هذا الإشكال؟ A هذا يحتاج إلى نظر، فـ أبو هريرة بنفسه أمر بها، وقد روى ذلك عنه البيهقي في جزء (القراءة خلف الإمام) بالسند الصحيح، فأين ثبت قوله: (والفاتحة أيضاً) بهذا اللفظ؟ إلا إذا كان السائل فهمه من قوله: (فانتهى الإمام عن القراءة وراء الإمام). فـ أبو هريرة رضي الله عنه أخبر أنهم كانوا يقرءون، فإذا قرأ الإمام مثلاً: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] فالناس خلفه يقرءون: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]؛ لأنهم كانوا يرون أن الإمامة تقتضي المشاركة، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الجزء الزائد، ولذلك قال: (فقراءة الإمام). لأن الإمام يختار في هذا الموضع، لكن الفاتحة ليس باختياره، وإنما هي قراءة للكل. فقوله: (فقراءة الإمام له قراءة) أي: ما يختاره من السور ويعيِّنه فهو له قراءة. أي: تجزئ المأمومَ. ولو فرض غير هذا فإن حديث:: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نص على قراءة الفاتحة صراحة، وقول أبي هريرة (فانتهى الناس) متردد بين ما ذكرناه فهو محتمل، فالتشريع للأمة في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، وكون الناس انتهوا أو لم ينتهوا هو جزء الحكاية، ولا يعتبر حجة. ثم إن أبا هريرة نفسه بيَّن أنه تلزم قراءة الفاتحة، فلا يُعقل أنه يروي أن الناس انتهوا عن القراءة، ثم يروي إلزاماً المأموم بقراءة الفاتحة إلا ومراده ما زاد عن الفاتحة وليس الفاتحة نفسها. فهذا أمر ينبغي التنبه له، ولذلك أوصي طالب العلم بالتحفظ، خاصة في حكاية سنة النبي صلى الله عليه وسلم. فبعض الأحيان قد تجد في بعض فتاوى العلماء، أو قد تجد في كتبهم أنهم حينما يصفون شيئاً على هدي النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: من السنة كذا وكذا. ويكون ذلك من السنة المفهومة، وليس بالصريح، فينبغي أن يفرق بين حكاية النص، وبين فهم مدلول النص، فالفهم شيء والنص شيء آخر. فإذا جئت تحكي شيئاً عن السنة وتثبته، بمعنى أن تقول: وكان كذا وكذا، أو قال أبو هريرة كذا وكذا، أو قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فينبغي أن تتقيد فيه باللفظ ولا تراعي فيه ما ترى، ولا تراعي فيه المذهب؛ لأن هذا أمانة لا بد فيه من الحيطة والحذر، خاصة طلاب العلم، ولذلك ما رأيت شيئاً يَكمُل به طالب العلم في فقهه وفهمه وفتواه وقضاءه وحكمه بعد توفيق الله عز وجل مثل الأمانة والتحفظ. فلتتحفظ في فهمك، ولا تتجاوز في فهم الشيء أكثر مما دل عليه النص، ولا تتجاوز في بيان ما دلَّت عليه النصوص. فكونك ترى شيئاً فتأتي وتقول: السنة كذا وكذا. بمعنى أنك تحكي السنة، وتقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، أو: فعل كذا وكذا، وأنت تفهم الشيء فتحكيه قولاً، أو تحكيه سنة، فهذا أمر من الصعوبة بمكان، إلا في حالة واحدة رخص فيها العلماء، وهي بيان الهدي الذي يكون على سبيل السياق، مثل أن يحكي الإنسان صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل العموم، لكن يحتاط في المواضع. ولذلك كان من دقة العلماء المتقدمين أنهم يقولون: وكان من هديه عليه الصلاة السلام كذا وكذا. فيذكرون الهدي المنصوص عليه، فإذا جاءوا إلى مواضع الخلاف، لا يقولون: وكان من هديه كذا وكذا. وإن كان الواحد منهم يرى أنه من الهدي، لكن يقولون: وقال عليه الصلاة والسلام كذا وكذا. فيكون القول محتمل الوجهين، فلا تجد أحدهم ينص صراحة بناءً على مذهبه، أو يقول: وكان من هديه كذا وكذا على أصح قولي العلماء لقوله عليه الصلاة والسلام كذا وكذا. وهذا موجود خاصة عند المتقدمين، وهذا من الورع والتحفظ. وهذا على خلاف حالنا اليوم، فإنك تجد الرجل إذا رأى قولاً أو رأياً، أو اعتبر قولاً فهو يرى أنه السنة التي لا جدال فيها، وقد تكون هذه السنة بنصوص محتمِلة، وقد تكون بأحاديث ضعيفة حُسِّنت بالشواهد والاعتبار، فيأتي ويحكم بكونها السنة الثابتة التي لا تقبل نقاشاً، وأن دلالتها صريحة لا تحتمِل قولاً ثانياً، فلا يجوز أبداً أن إنساناً يحكي ما ليس صريحاً على وجه الصراحة، ويحكي المحتمِل على وجه غير محتمِل، فهذا ليس من الأمانة؛ لأن العلم أمانة وتحفُّظ. فعلى الإنسان أن ينقل العلم للناس مثل ما هو عليه لا يزيد فيه بفهمه ولا ينقص منه برأيه، وهذه هي الأمانة، ومن فعل ذلك بارك الله له في علمه، وغالباً لن تجد طالب علم يتحفظ، ويتقيد في أخذه للعلم وفهمه، وإفهام الناس وبيان الفتوى لهم إلا وَجدت الله عز وجل قد وضع له القبول في فتاويه وفي علمه. لأنه من الصعوبة بمكان أن يترجَّح عندي قول في مسألة فيها حديث محتمِل، وهناك نصوص أخرى عارضته، فآتي وأغرس في نفوس طلاب العلم أن هذه هي السنة وحدها، فيصبح كل من خالفه من أهل العلم كأنه مرتكب لما خالف السنة، فهذا لا ينبغي، إنما ينبغي أن أقول: ترجح، أو ظهر لي، أو: هذا هو السنة على ما ظهر، أو: على أصح أقوال العلماء، أو: هناك قول آخر لقوله تعالى، أو لقوله عليه الصلاة والسلام، أو: لكن الصحيح كذا وكذا. فإذا رأيت من خالفك تعلم أن عنده سنة وأن عنده حجة فلا تبالغ في الإنكار عليه، ولا تستعجل في استهجانه، وقد يكون الحق معه، وكان السلف يقولون: (قولنا صواب يحتمل الخطأ، وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب)، وهذا في النصوص المحتمِلة، ولذلك لا ينبغي للإنسان أن يجاوز دلالة النصوص، بل ينبغي عليه أن يتقيَّد، فالشيء المحتمِل يقول عنه: محتمِل. فهذه فائدة عارضة، وأوصي بها طلاب العلم كثيراً، خاصة في هذا الزمن الأخير، ولذلك كان الوالد رحمة الله عليه كثيراً ما يوصيني ويقول لي: أي علم تستطيع أن تأخذه من الأوائل فابدأ به؛ لأنه ليس من السائغ أن يبدأ الإنسان بعلمه من الأواخر. ولا يعني هذا هجران العلماء الموجودين، إنما المراد أن تلتزم بمنهج الأوائل وطريقة سلفك الصالح رحمة الله عليهم، فكنت كثيراً ما أرجع إلى كتب الأولين، فأجد المسألة تُعرض بشيءٍ من الأمانة والتحفظ، ووالله إن بعض العبارات في الفتاوى وفي الشروحات تلمس فيها من العالم من خلال كلامه خوفه من الله عز وجل، وتلمس ورعه وتحفظه وصيانته. ولذلك لو جئت تجمع فتاوى المتقدمين قد تجدها لا تتجاوز جزءاً واحداً، فتجد السؤال وجوابه بكل تحفظ وحذر من الزيادة عما دلت عليه النصوص الشرعية، وهذا هو العلم، فمن سلك هذا المسلك فقد علم وفهم. ولكن إذا جئت اليوم إلى إنسان في مسألة تريد أن يبين لك فيها حكماً قال لك: هذه مسألة خلافية سبق الكلام فيها بين العلماء، ويكتب رسالة، أو يجيب عن سؤال فتجده يبيِّن لك المسألة ويبين لك دليلها، وقد يكون هذا الدليل حديثاً اختلف في إسناده، أو يكون دليلاً صحيحاً ثابتاً في الكتاب والسنة ولكن دلالته محتمِلة، فيأتي ويذكر الحديث، فلا ينتهي منه حتى يقول: قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، ويملي عليك خطبة في حجية السنة، بمعنى: إن خالفتني فقد خالفت السنة، وإن تركت قولي فأنت على غير محجَّتي، وعلى هلاك. وهذا لا ينبغي؛ لأنك إذا أصبحت تحجر الناس كلهم على رأيك وفهمك، فإنك ستأتي إلى الأقوال المخالفة وتستهجن آراء العلماء، وتبالغ في ذم الرجال، وتعتبر شيخك هو الوحيد الذي ينبغي قبول السنة منه، وأنه إن خرج أحد عن الذي في كتاب فلان فليس من أهل السنة والجماعة، ويصل بك الأمر إلى أنك تجد أقوالاً للسلف الصالح رحمة الله عليهم -إذ الخلاف قديم وموجود بين أئمة العلم- فتحتقر هذه الأقوال وهي لأئمة وعلماء، وقد يكون الذي رجّحه مشايخك من أقوال الشذاذ والأفراد، فتأتي وتقول: سبحان الله! جماهير أهل العلم خالفوا السنة! إي نعم لا تعتد بالرجال إنما اعتد بالدليل. وقد تجد أقوال أفراد من التابعين أو الصحابة نُسيت وتركت، وأصبح العمل في القرون كلها على قول انتشر وذاع، فهل أصبحت هذه الأمة كلها على ضلالة، وهي أمة معروفة بالعلم والورع والصلاح والإخلاص لله عز وجل، أفكل هؤلاء ما أصابوا الجادة?! فهذا أمر يحتاج إلى تَنبُّه، فإنك تجد بعض طلاب العلم اليوم يفرحون ببعض الأقوال المنفردة، فبعض طلاب العلم قد يفرح عندما يجد أن هذا القول لا يقول به إلا الأفراد، وهذا موجود وملموس في طلاب العلم، ولذلك ينبغي التأنِّي والتريُّث وأخذ العلم عن أهله، والتحفظ في ضبط العلم وتحريره، فإذا قال لك العالم: هذا القول هو الصواب، وظهر لي منه كذا فعليك أن تفتش وتنقب؛ إذ ليس قوله هو الغابة، وليس هو النهاية، فقد سبقه رجال فحول وأرباب في العلم، وأناس لهم فهمهم وعلمهم وورعهم وقدمهم الراسخة، فينبغي الرجوع إليهم والاعتداد بأقوالهم، والتنبه لكون الأمر مجمعاً عليه أم أن فيه خلاف، وهل الدلالة مسلمة أم لا. فكثير من الطلاب يغتر بمثل هذا، إذ يأتيني طالب علم قرأ رسالة ما لمتأخر وهو مقتنع اقتناعاً كاملاً أن الحق في هذه الرسالة، وكأن صاحبها هو المعصوم؛ لأن أسلوب الرسالة يحمل هذا الطالب على أنه لا يحيد عنها؛ لأن صاحبها ابتدأها بالسنة وأهمية السنة وحجية السنة، وكأنه يقول: إنني قد أصبتها فإياك أن تحيد عنها. وهو وإن أصاب شيئاً لكنه محتمل، فليس هذا من الأمانة، فينبغي التحفظ والصيانة، خاصة في المسائل الخلافية. فإذا جاء الطالب قلت له: هذا القول الذي تقوله يستدل بحديث كذا وكذا، وهذا الحديث دلالته مختلف فيها حتى بين الأصوليين؛ لأن دلالته معارضة بما هو أقوى منها، أو هذا الحديث ضعيف، وتحسينه قول لبعض العلماء، وهناك حديث أصح منه، فتجد الطالب مقتنعاً اقتناعاً كاملاًلا يرضي أن يتركه. وفي بعض الأحيان نجد الطالب لا يحفظ

حكم صلاة الجالس القادر على القيام

حكم صلاة الجالس القادر على القيام Q بعض النساء -هداهن الله- يعملن في البيوت طوال الوقت، فإذا جاء وقت الصلاة صلَّين وهنّ جالسات بحجة أنهن متعبات لا يستطعن القيام، فما حكم هذا، وما هو توجيهكم لهؤلاء النسوة؟ A إذا كانت الصلاة فريضة وصلّت المرأة جالسة وهي قادرة على القيام، فعليها أن تعيد صلاتها، ولو جلست مائة سنة بهذهِ الحال لا تجزيها الصلاة، وينبغي عليها أن تعيد صلواتها مدة حياتها إذا لم يكن ثم عذرٌ؛ لأنها لم تصلِّ كما أمرها الله، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسيء صلاته أن يرجع ويصلي لفوات ركن الطمأنينة، فكيف بركن القيام، ولذلك يلزمهن الإعادة لهذه الصلوات. وأما إذا كان التعب عُذْراً بيِّناً، كما يكون في بعض النساء الحوامل، وقد تكون بعض النساء ضعيفة البنية، فيحصل لها إرهاق شديد، خاصة مع شدة السهر أو نحوها، وتخشى السقوط في صلاتها، أوتخشى الضرر فلا حرج أن تصلي جالسة، لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وهكذا إذا كانت مريضة كما ذكرنا. أما الترَخُّص والتوسُّع في هذا فإنه يوجب بطلان الصلاة، والله تعالى أعلم، لكن ينبغي أن يُنصَح الرجال بالتخفيف على النساء، حتى لا يضطررن إلى ذلك، فالحكمة تقتضي تخفيف أعباء البيوت حتى لا تصبح معونة على تركهن لفريضة الله عز وجل.

حكم تقييد الصلاة على الراحلة

حكم تقييد الصلاة على الراحلة Q هل الصلاة على الراحلة مقيَّدةٌ بصلاة الوتر كما ثبت في الحديث الصحيح، أم أنها مطلقة في جميع صلاة النفل بما فيها السنن والرواتب؟ A صيغة السؤال تفيد أنه ورد حديث يقول: (لا تصلوا النافلة في السفر إلا إذا كانت وتراً على الدابة). وهذا لم يرد، ولهذا فلينتبه طالب العلم، وليحذر من الكلمات في التعبير، فينبغي أن تنتبه لمنطوق اللفظ ودلالة المفهوم؛ لأنك غداً ستكون المعلم والمربي والمفتي والقاضي، فينتبه الإنسان في العبارات، ولتكن عنده دقة، ولا يُحمِّل النصوص في دلالتها ما لا تحتمل، فانتبه رحمك الله وقل: هل هي مقيدة بالوتر، أو ليست مقيدة بالوتر؟ أمَّا النصوص فهي تدل على العموم، كما في حديث ابن عمر: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به يومئ إيماء صلاة الليل إلا الفرائض)، وهذا في الصحيح. وكما في حديث أنس، حيث يقول ابن سيرين: (خرجنا فاستقبلناه بعين التمر، فلقيناه يصلي على حماره ووجهه من ذا الجانب، فقلنا: رأيناك تصلي إلى غير قبلة! قال: لولا أني رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يفعله ما فعلته). فالمهم أن النصوص الواردة ورد فيها في الوتر، ووردت نصوص أنه أوتر على بعيره، لكن هذا ليس على سبيل التقييد. والقاعدة في الأصول أن ورود الخاص بخصوصه لا يقتضي حمل العام عليه ما لم تُفهم القرائن أو تَدُل الأصول على اعتبار هذا الحمل. ولذلك فالذي يقوي العموم في النوافل قوله: (إلا الفرائض)، ويشمل هذا الوتر، وهكذا لو توضأ وأراد أن يصلي ركعتي الوضوء، أو ركعتي استخارة، أو يتَنفَّل طاعةً وقربة لله في سفره، فلا حرج عليه أن يصلي على دابته حيث توجهت به.

حكم تكبيرة الانتقال إذا دخل المصلي والإمام راكع

حكم تكبيرة الانتقال إذا دخل المصلي والإمام راكع Q رجلٌ دخل المسجد والإمام راكع، فدخل معهم في الصلاة، وجعل تكبيرة الإحرام والركوع تكبيرة واحدة، فهل هذا يجزئه؟ A قال بعض العلماء: لا بد من التكبيرتين. وقال بعضهم: تجزيه تكبيرة واحدة. وهذا هو الصحيح. وهذا ظاهر؛ فإن النصوص لم يرد فيها الإلزام بالتكبيرتين، لكن الذين قالوا بالإلزام قالوا: لأنه يكبر التكبيرة الأولى للإحرام، والثانية: للركوع. وهذا محل نظر؛ لأنه لو جاء والإمام ساجد فإن قالوا: يُكَبِّر أيضاً تكبيرتين، فحينئذٍ نقول: إنه ليس في حال قيام؛ لأن تكبيرة الإحرام للدخول في الصلاة وللقيام، فلذلك ليس ثم ركن قيام إذا كان ساجداً. وبناءً على ذلك قال بعض العلماء الذين يقولون بالتكبيرة الواحدة: لو كبَّر تكبيرتين لم يجزه؛ لأنه إذا كبر في القيام لزمته القراءة، وهو لم يقرأ ويريد أن يركع، ولذلك قالوا: لا يصح منه. والصحيح: أنه يجزيه؛ لأنه كبَّر للقيام في وقتٍ لا يتسنى له فيه قراءة الفاتحة فسقطت للعجز فأجزأه أن يُكَبِّر، فمن فعل هذا فلا حرج، ومن فعل هذا فلا حرج، لكن الأشبه والأقوى أن يُكبِّر تكبيرةً واحدة، وهذا أصل خَرَّجَهُ العلماء على القاعدة الشرعية: (اندراج الأصغر تحت الأكبر)، وهذا له ضوابط كثيرة، فالأصغر هو تكبيرة الركوع، والأكبر تكبيرة الإحرام، فاندرج الأصغر تحت الأكبر. ولذلك لو جئت وأنت متأخر والإمام في الركعة الثالثة واقف فإنك تكبر تكبيرةً واحدة مع أن الإمام تعتَبر صلاته في الثالثة، فإذا كان كذلك فمعناه أن عليك تكبيرة الإحرام وتكبيرة القيام للثالثة؛ لأنه قام لها الإمام ولها تكبيرة خاصة. فقالوا: أصل الاندراج يَدُلُّ عليه. وله نظائر في العبادات والمعاملات، ومن نظائره في المعاملات أن يسرق الإنسان -والعياذ بالله- ويزني ويقتل، فقالوا: إن حد القتل يأتي عليها جميعاً. فلو كان محصناً فزنى وقتل فإنه يُقتَل بالقصاص، فيُعتَبر قتله قصاصاً يندرج تحته قتله بالرجم، ولا حاجة أن يُرجَم، ولذلك يقولون: يندرج الأصغر تحت الأكبر؛ لأن حَدَّ القتل أعظم من حد الزِّنا في الأصل، بدليل تنوع حد الزنا وعدم تنوع حد القتل، قالوا: فاندرج الأصغر تحت الأكبر. وهو مذهب بعض الصحابة رضوان الله عليهم الذين يقولون بالاندراج. وتتفرع على هذه القاعدة فروع منها هذه المسألة، وهي أنه لو قدم والإمام راكع، فقالوا: يُكَبِّر تكبيرةً واحدة، فتندرج تكبيرة الركوع تحت تكبيرة الإحرام. نسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وموجباً لرضوانه العظيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

واجبات الصلاة

شرح زاد المستقنع - واجبات الصلاة الواجب في الصلاة: هو ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، ومن تركه عمداً بطلت صلاته، وإن تركه سهواً جبر بسجود السهود على تفصيل في ذلك، وواجبات الصلاة هي: لفظ التكبير عند الانتقال من ركن إلى ركن، وقول سمع الله لمن حمده، وربنا لك الحمد، والتسبيح في الركوع والسجود، والتشهد الأول والجلوس له.

واجبات الصلاة

واجبات الصلاة

تكبيرة الانتقال

تكبيرة الانتقال بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه رحمة للعالمين، وإماماً للمتقين، سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وواجباتها التكبير غير التحريمة] الواجبات: جمع واجب، والضمير عائد إلى الصلاة، أي: واجبات الصلاة، فعَطَفَ رحمه الله الواجبات على الأركان، أي: إذا علمت أحكام الأركان فاعلم أن هناك أموراً واجبة، وأن للصلاة واجبات، ثم شرع في بيان هذه الواجبات، وهذا -كما يسميه العلماء- من باب التدرج من الأعلى إلى الأدنى. وهذه والواجبات لها أحكام: الحكم الأول: أنه يثاب فاعلها. الثاني: يعاقب تاركها. الثالث: من تركها متعمداً بطلت صلاته. الرابع: أن من ترك هذا الواجب ساهياً فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون منفرداً أو إماماً، أو يكون مأموماً، فإن كان منفرداً أو إماماً وجب عليه أن يجبر هذا الواجب بسجود السهو، وأما إذا كان مأموماً فإن الإمام يَحمِل عنه الواجب، وبناء على ذلك اتفقت الأركان والواجبات في كون كل منهما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وانفردت الواجبات بأن تركها نسياناً يُجبر بسجود السهو، والأركان إذا تركت نسياناً وجب جبرها بالفعل، فالواجبات تجبر بسجدة السهو والأركان لا تجبر، بل لابد من فعلها. ثم إن الواجبات يحملها الإمام إذا نسيت أو سهيت أو لم يمكنك فعلها، ولكن الأركان لا يحملها الإمام عنك البتة، بل ينبغي عليك فعلها، وإن لم تفعلها وجب عليك قضاء الركعة كاملة، فهذا بالنسبة للفرق بين الواجبات وبين الأركان في الصلاة. قوله: [التكبير غير التحريمة] أي: من الواجبات التي أوجبها الله عز وجل في الصلاة التكبير غير التحريمة، والتكبير لفظ: (الله أكبر)، وهذا التكبير يسميه العلماء بتكبير الانتقال، أي: يجب على المصلي أن يُكبر عند انتقاله من ركن إلى ركن، فإذا أراد أن ينتقل من القيام إلى الركوع قال: الله أكبر. وإذا أراد أن ينتقل بعد رفعه من الركوع إلى السجود قال: الله أكبر. وإذا أراد أن ينتقل من سجوده إلى الجلسة بين السجدتين كبَّر. وإذا أراد أن ينتقل منها إلى السجود كبر، وهكذا، فهذا التكبير الذي يقع بين الأركان لكي تنتقل به من ركن إلى ركن يسميه العلماء تكبير الانتقال. وقوله رحمه الله: [التكبير غير التحريمة] المراد بالتحريمة تكبيرة الإحرام، وهي ركن وليست في مرتبة الواجبات، وإنما هي في مرتبة أكبر، فالتكبير من غير تكبيرة الإحرام واجب. فلو أن إنساناً كان يصلي لوحده فقرأ الفاتحة، ثم قرأ السورة، ثم ركع ونسي أن يكبر فإنه يجبره بسجود السهو لأنه واجب عليه، فإن تعمد فركع دون أن يكبر قاصداً ترك التكبير بطلت صلاته فرضاً كانت أو نفلا. فهذا معنى قولهم: (التكبير غير تكبيرة الإحرام) أي: يلزمك إذا صليت فريضة أو نافلة أن تكبر تكبيرة الانتقال، فلا تنتقل من ركن إلى ركن إلا بهذا التكبير، فلو حصل أن تركت هذا التكبير قاصداً ومتعمداً بَطَلت صلاتك نفلاً أو فرضاً، ولو حصل أن تركته سهواً قلنا: إن كنت منفرداً تجبره بسجدتي السهو قبل السلام لمكان النقص، وإن كنت مع الإمام حَمَل الإمام عنك هذا السهو لقوله عليه الصلاة والسلام: (الإمام ضامن) كما في حديث أبي هريرة عند أبي داود وأحمد في مسنده، فقد دل هذا الحديث على أن الإمام ضامن، والمراد بضمانه ضمان صلاة من وراءه، وذلك بحمل الواجبات دون الأركان، كما هو معلوم ومقرر عند العلماء. وهكذا الحكم لو أن إنساناً بدلاً من أن يكبر للركوع قال: سمع الله لمن حمده، فأبدل ذكراً مكان ذكر في الانتقال، أو أراد أن يسجد فقال: (ربنا ولك الحمد) سهواً، فإنه حينئذٍ يمكنه التدارك إن أمكنه، وإن لم يمكنه التدارك فإنه لابد وأن يأتي بسجدتي السهو على التفصيل الذي ذكرناه. أما دليل وجوب التكبير فقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا كبر فكبروا)، وهذا أمر، وشمل تكبيرة الإحرام وغيرها للإطلاق، ولكن خُصَّت تكبيرة الإحرام بالزيادة لورود النصوص فيها، كقوله صلى الله عليه وسلم: (تحريمها التكبير)، ونحوه من النصوص التي ذكرنا، ودلت السنة على وجوب تكبير الانتقال، وبناء على ذلك فإن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا بالتكبير يوجب علينا التكبير.

قول: سمع الله لمن حمده

قول: سمع الله لمن حمده قال رحمه الله: [والتسميع] أي: الواجب الثاني من واجبات الصلاة التسميع. والتسميع على وزن (تَفْعِيل) والمراد به قول المكلف: سمع الله ولمن حمده أي: استجاب الله دعاء من حمده، وقيل: معناهنا: سمع الله على الحقيقة من أثنى عليه سبحانه وتعالى، فلا يخفى عليه شيء وهي جملة متصلة ببعضها، فلو قال: (سمع الله) لم يُجزِه، بل لا بد من تمام الذكر، فلا يُنقص منه ولا يزاد عليه، فلا يقال: سمع الله الجبار المتكبر من حَمِده. فلا تُشرع الزيادة، ولا يُشرع النقص كأن يقول: (سمع الله)، ويسكت، أو يقول: (سمع الله مَن)، ويسكت، فكل هذا لا يجزي، بل لا بد من تمام الجملة؛ لأنه ذكر توقيفي، فوجب البقاء على حدِّه دون زيادة ولا نقصان.

قول: ربنا لك الحمد

قول: ربنا لك الحمد قال رحمه الله: [والتحميد] التحميد على وزن (تَفْعِيل) من الحمد، أي قولك: (ربنا ولك الحمد)، أو (ربنا لك الحمد)، فكلاهما وارد ومأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قلت: (ربنا ولك الحمد)، أو: (ربنا لك الحمد)، فقد فعلت ما أوجب الله عليك من التحميد. والتحميد يتعلق بالمأموم، والتسميع يتعلق بالإمام والمنفرد فيجمعان بين التسميع والتحميد، أما المأموم فيقتصر على قوله: ربنا ولك الحمد. أما دليل الوجوب فما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من قوله: (وإذا قال -أي الإمام- (سمع الله لمن حمده) فقولوا: (ربنا ولك الحمد))، فقوله: (فقولوا) أمر، والأمر يدل على الوجوب، وقد قاله عليه الصلاة والسلام في معرض التقسيم، وكونه يقوله في معرض التقسيم فقد خص الإمام بالشرط في قوله: (إذا قال)، فإذا كان التحميد واجباً كان موجبه واجباً، فأصبح التسميع والتحميد واجبين من واجبات الصلاة، فلابد من قول المكلف: (سمع الله لمن حمده. ربنا ولك الحمد) إن كان إماماً أو منفرداً، أما إذا كان مأموماً اقتصر على قوله: (ربنا لك الحمد). ومكان هذا التسميع والتحيمد مختص بما بعد الرفع من الركوع، فيقول: (سمع الله لمن حمده) في حال الرفع، فإذا استتم قائماً قال: (ربنا ولك الحمد)؛ لأنه هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يُشرع له أن يقول: (ربنا ولك الحمد) قبل أن يَستتم قائماً، وإنما يقول: (ربنا ولك الحمد) إذا انتصب عوده واستقام ظهره، وبناءً على ذلك فإن السنة أن يبتدئ بالتسميع عند ابتداءِ الرفع حتى إذا استتم قائماً قال كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أم المؤمنين عائشة قال: (ربنا ولك الحمد)، وقاله عليه الصلاة والسلام وهو قائم. قال العلماء: في هذا فائدة لطيفة، وهي أن التسميع ذكر الانتقال من الركوع إلى القيام الذي هو الوقوف، فيُشرع له الذكر المقارن كالتكبير، ثم إذا استتم قائماً كان ذكر ما بينهما -أي: ما بين الرفع وبين سجوده- أن يقول: (ربنا ولك الحمد)، كما هو الحال فيما بين السجدتين، فتقول التكبير عند الانتقال من السجود إلى الجلوس، فإذا جلست قلت: (رب اغفر لي). بين السجدتين، كذلك هنا يكون تسميعك عند الانتقال وقولك: (ربنا ولك الحمد)، عند استتمامك قائماً، كأنهم نظروا أن التحميد ذِكرٌ لما بين الركنين، والتسميع ذكر انتقال.

تسبيحتا الركوع والسجود

تسبيحتا الركوع والسجود قال رحمه الله: [وتسبيحتا الركوع والسجود] هذان واجبان، أي: قوله: (سبحان ربي العظيم) في الركوع، وقوله: (سبحان ربي الأعلى) في السجود، وأما دليل وجوب التسبيح في الركوع فإنه لما نزل قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74] قال عليه الصلاة والسلام: (اجعلوها في ركوعكم)، فإن قوله: (اجعلوها) أمر، والقاعدة تقول: الأمر يدل على الوجوب إلا إذا قام الدليل على صرفه. فوَجَب على المكلف أن يمتثل هذا الأمر على سبيل اللزوم، وبناءً على ذلك فإذا ترك التسبيح لا يخلو من حالتين: إما أن يتركه ناسياً، وإما أن يتركه متعمِّداً، فإن ترك تسبيح الركوع أو تسبيح السجود متعمداً فإنه تبطل صلاته إماماً كان أو منفرداً أو مأموماً، سواءٌ أكان في فريضة أم نافلة، وإن تركه ناسياً فإنه إن كان وراء إمام قلنا: حمل الإمام عنه التسبيح، كأن يكون نسي، أو اقتصر على تعظيم الله عز وجل بغير التسبيح سهواً ونسياناً، أو ركع ولم يتكلم لمكان السهو، فرفع الإمام ولم يتدارك التسبيح، فحينئذٍ نقول: هذا السهو وراء الإمام يَحمِله الإمام عنه؛ لأن الإمام ضامن، وإن كان إماماً أو منفرداً فإنه يسجد للسهو. وأما التسبيح في السجود فالدليل على وجوبه في السجود ما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما نزل قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] قال: (اجعلوها في سجودكم)، فدل قوله: (أجعلوها) على الأمر، والأمر يقتضى الوجوب، وبناءً على ذلك يجب على المكلف أن يقول: (سبحان ربي الأعلى) في السجود، وأن يقول: (سبحان ربي العظيم) في الركوع، فلو أبدل اللفظين فجعل (سبحان ربي الأعلى) في ركوعه، و (سبحان ربي العظيم) في سجوده، فإنه إن تَقصَّد وتعمَّد فقد أساء، وذلك لمخالفته للسنة. وأما بطلان صلاته فالذي يظهر أن التسبيح قد حصل، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم في ركوعه يقول: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي)، فدل على أن قوله: (أما الركوع فعظموا فيه الرب) يشمل التسبيح الذي يكون للسجود، ويكون اختلاف التسبيحين تنوعاً لا يُوجِب بطلان الصلاة بترك التسبيح المأمور به في الأصل، وبناءً على ذلك يجزيه، ولكن لا يخلو من الإثم لمكان التعمد بالعصيان، وأما لو تَرَك ذلك سهواً فإنه يُجزيه ويصح منه، ولا يُلزَم بسجود السهو، وإن سجد للسهو فحسن.

سؤال الله تعالى المغفرة بين السجدتين

سؤال الله تعالى المغفرة بين السجدتين قال رحمه الله: [وسؤال المغفرة مرة، مرة ويسن ثلاث] التسبيح في الركوع والسجود الواجب منه مرة، ولا حرج أن يزيد المكلف، فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يزيد، وكان يقول: (سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى)، وكان يُسمَع تسبيحه صلوات الله وسلامه عليه في صلاته. وقوله: [وسؤال المغفرة مرة مرة]، أي: بين السجدتين، وهذا واجب آخر، أي: ويجب على المكلف أن يقول: (رب اغفر لي بين السجدتين)، وقد صح عنه أنه قال: (رب اغفر لي رب اغفر لي)، قاله مرتين صلوات الله وسلامه عليه بين السجدتين، فدل على مشروعية التكرار. وهذا الذكر الذي بين السجدتين يعتبر واجباً بناءً على الأصل؛ لأننا عهدنا من الشرع أنه جعل الأذكار المتخللة بين الأركان واجبة فأُلحِق النظير بنظيره، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فقوي إلحاقه بقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، فأُلحِق بالواجبات، فصار ذكراً لما بين السجدتين، وأُلزِم به المكلف تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم. فلو صلى المصلي ونسي أن يقول بين السجديتن: (رب اغفر لي)، وقال أي ذكر آخر، فحينئذٍ لا يخلو إما أن يكون منفرداً أو مأموماً، فإن كان منفرداً وتعمَّد بطلت صلاته، وإن كان منفرداً ونسي سجد للسهو، وإن كان مأموماً فإن تعمد بطلت، وإن سها حَمَل عنه ذلك الواجب الإمام.

التشهد الأول والجلوس له

التشهد الأول والجلوس له قال رحمه الله: [والتشهد الأول وجلسته] التشهد الأول وجلوسه كلاهما واجب، أما دليل الوجوب فما ثبت في حديث عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين من بعض الصلوات، ثم قام فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبر قبل التسليم، فسجد سجدتين وهو جالس ثم سلم). وهذا الحديث في الصحيح، ومثله حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه في كونه رضي الله عنه وقع في نفس السهو، ولما سبحوا له أشار إليهم أن قوموا، ثم سجد قبل أن يسلم سجدتين، ثم رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل ما فعل. فهذان الحديثان يدلان دلالة واضحة على أن هذا الجلوس واجب، أما دليل وجوبه فكون النبي صلى الله عليه وسلم جبره بسجدتي السهو، فدل على أنه دون الأركان؛ لأنه لو كان ركناً لرجع له النبي صلى الله عليه وسلم، فكونه لم يرجع له يدلّ على أنه ليس بركن، وكونه يَجبُره بالسجدتين يدلّ على أنه من الواجبات وليس من السنن والمستحبات، وبناءً على ذلك ارتقى عن درجة السنن والمستحبات، ونَزَل عن درجة الأركان، فأصبح واجباً من واجبات الصلاة. ولما كان هذا الموضع يشتمل على فعل وقول قالوا بوجوب كل منهما؛ لأن الجبر وقع لهما معاً، واستُدِل به على أن الواجبات تتداخل، فمن ترك أكثر من واجب جبره بسجدتين وكان ذلك كافياً له ومبرِئاً لذمته، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الواجب الفعلي وهو الجلوس، وترك الواجب القولي وهو قراءة التشهد. فأصبح عندنا واجبان: الواجب الأول: الجلوس للتشهد بعد الفراغ من السجدة الثانية من الركعة الثانية. الثاني: قراءة التشهد. فإن تركهما جبرهما بسجود السهو، وإن ترك واحداً منها كأن يجلس وينسى أن يقول الشهد ثم يقوم، فإن كان وراء الإمام حمل الإمام عنه الذكر القولي، وإن كان منفرداً ومتعمداً بطلت صلاته، وإن كان ناسياً جَبَره بسجود السهو.

سنن الصلاة

سنن الصلاة قال رحمه الله: [وما عدا الشرائط والأركان والواجبات المذكورة سنة] تقدَّم معنا ذكر المصنف شروط الصلاة من النية والوقت والطهارة، واستقبال القبلة، وغيرها مما ذكر من الشروط، وذكر لنا الأركان الأربعة عشر التي ذكرناها، وذكر لنا الواجبات الثمانية التي كنا بصددها. وعليه فما عدا هذه الأركان والواجبات والشروط فهو سنن، ومستحبات يُثاب فاعلها ولا يُعاقب تاركها، ولو تركها عمداً فإن الشرع لم يُلزِم بها، والأصل أننا نعتبر ما اعتبره الشرع، فإن كان اعتباره على سبيل اللزوم ألزمنا، وإن كان اعتباره على سبيل عدم اللزوم رخَّصنا وقلنا: الناس في سعة، فإن فعلوا أثيبوا، وإن تركوا فلا حرج عليهم. ومن هذه السنن المستحبات قوله: (ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد) إلخ بعد قوله: (سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد). فهذا الذكر من المستحبات، وليس بواجب ولا لازم، ولو قال بين السجدتين: (اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني وارفعني وارزقني واهدني وعافني)، فهذا الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة وليس بواجب.

حكم ترك بعض شروط الصلاة غير النية

حكم ترك بعض شروط الصلاة غير النية قال رحمه الله: [فمن ترك شرطاً لغير عذرٍ غير النية فإنها لا تسقط بحال] قوله: (فمن ترك) الفاء للتفصيل، فبعد أن ذكر الشروط والأركان والواجبات شَرَع رحمه الله في حكم ترك هذه الأمور، فابتدأ بالشروط، وقد سَبق أن ذكر الشروط قبل الأركان، والسبب في هذا أن شروط الصحة والوجوب تكون قبل الأركان في غالب صور المصلي وأحواله، فإن الإنسان يتوضأ قبل الصلاة وقبل فعل أركان الصلاة، وهكذا بالنسبة لاستقباله القبلة يكون قبل تكبيره حتى يقع تكبيره وفعله للأركان في حالة استقباله للقبلة، وهكذا طهارته من الحدث وطهارته من الخبث. فلذلك ابتدأ بحكم ترك الشروط، فالتارك للشرط إما أن يتركه معذوراً فحينئذٍ يسقط عنه لمكان العذر، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، إلا شرطاً واحداً من شروط الصحة وهو النية. فلو ترك المكلف الوضوء والتيمم لعدم وجود الماء وعدم وجود ما يتيمم به -وهي مسألة فاقد الطهورين- فإنه تصح صلاته وتجزيه؛ لأنه ليس بإمكانه إلا ذلك، والقاعدة تقول: (التكليف شرطه الإمكان) لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]. فإذا كان المكلَّف عاجزاً عن تحصيل الشرط الذي هو طهارة الحدث فإننا نعذره ونقول: صلاته صحيحة، والدليل على ذلك ما ذكرناه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للمستحاضة أن تُصَلِّي والدم يجري معها، فدل على أنها معذورة، وأن من كان في حكمها معذوراًَ أنه يرخص له في صلاته. ولأنه عليه الصلاة والسلام أقر الطائفة التي صلت قبل فرضية التيمم بدون وضوء، مع أن الوضوء كان لازماً، وقد ثبت اعتبار لزومه بالشرع، ومع هذا صحَّح صلاتهم ولم يأمرهم بالإعادة، وذلك لعدم إمكانهم أن يتوضأوا، فدلنا ذلك على أن من ترك الطهارة من الحدث لوجود العذر فصلاته صحيحة. ولو ترك شرط طهارة الخبث لعذر فالحكم كذلك، كأن تَرَكه نسيان، كما لو صلَّى ولم يعلم أن بثوبه نجاسة، فلما سلَّم اطلع على النجاسة فإن صلاته صحيحة، والدليل حديث أنس في الصحيح (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي فخلع نعليه فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله! رأيناك خلعت فخلعنا فقال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثا). ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعد الصلاة من بدايتها؛ لأنه فعل أركاناً كتكبيرة الإحرام، وربما قرأ الفاتحة، وقد يكون ركع عليه الصلاة والسلام، أو فعل أكثر من ركعة، ومع هذا لم يُعِد ولم يستأنف الصلاة، وإنما اعتبر الأركان السابقة، وذلك بسبب وجود العذر من النسيان. فدلّ على أن من ترك طهارة الخبث لمكان النسيان أنه معذور وصلاته صحيحة، وهكذا لو ترك استقبال القبلة لعذر يُعذر به شرعاً، ألا ترى المسافر عذره الشرع في استقبال القبلة، فلو اجتهد ثم تبين له أن اجتهاده خاطئ فإن صلاته صحيحة، فقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان مع الصحابة في ليلة مغيمة، فصلّوا وهم على غير قبلة، فلما أصبحوا تبينوا أنهم على خطأ، فقال عليه الصلاة والسلام: (قد مضت صلاتكم)، فدل على أن من فقد هذا الشرط معذوراً -وهو استقبال القبلة- الذي يُشترط لصحة الصلاة أنه يعذر وتصح صلاته. ويستثنى من سقوط الشروط بالعذر النية؛ فإنه لا تصح الصلاة إلا بها، والدليل على هذا أن النية دلّ الشرع على عدم الاعتداد والاعتبار بالعبادات إلا بها، فدل على أن الأصل عدم صحة العبادة إلا بالنية. أما الشروط الأخرى فقد جاءت النصوص تستثني بعضها، كاستقبال القبلة، والطهارة من الحدث والخبث، ونحوها من الشروط، فتلك الشروط من تركها لعذر عذرناه لورود النصوص بالاستثناء، وبقي شرط النية على الأصل الموجب لعدم الاعتداد بالعبادة إلا بها.

حكم ترك ركن أو واجب من الصلاة عمدا

حكم ترك ركن أو واجب من الصلاة عمداً قال رحمه الله: [أو تعمد ترك ركن أو واجب بطلت صلاته بخلاف الباقي] أي: كذلك لو تعمّد ترك ركن أو واجب بطلت صلاته بخلاف البواقي، إلا إذا كان لعذر فيُعذر. فمن ترك ركناً متعمداً، كما لو لم يقرأ الفاتحة وهو ذاكر ومتعمِّد بطلت صلاته، أو قرأ الفاتحة وسورة، ثم قال: بدلاً من أن أركع أسجد. فسجد مباشرة، فإنه حينئذٍ يكون قد ترك ركن الركوع والرفع من الركوع فتبطُل صلاته إذا تعمد. فهذا بالنسبة للأركان وهو بالإجماع. وهكذا لو ترك الترتيب بين الأركان، كما لو قال: أسجد ثم أقوم وأركع. فإنه حينئذٍ تبطل صلاته؛ لأن الترتيب يُعتبر من فرائض الصلاة، ولا تصح إلا به.

أحكام السنن

أحكام السنن قال رحمه الله: [وما عدا ذلك سنن أقوال وأفعال] ذكر لنا رحمه الله الصلاة مجملاً، ووصف لنا الصلاة بصفتها الكاملة، ثم قال: ما عدا الأركان والواجبات والشروط فسنن، سواءٌ أكانت من الأقوال أم من الأفعال، فلا تبطل الصلاة بتركها، فمن فعلها فقد أُثِيب وأَحْسَن، ومن تركها فلا إثم ولا حرج عليه. قال رحمه الله: [ولا يشرع السجود لتركه، وإن سجد فلا بأس] أي: ولا يشرع سجود السهو بترك هذا المسنون قولاً كان أو فعلاً، فإن سجد فلا بأس. وبعض العلماء يقول: إذا كان الإنسان ترك سنة يسجد لها، ولا يُفرق بين الواجبات وغيرها. وهذا القول مذهبٌ والعمل على خلافه عند أهل العلم رحمة الله عليهم، والصحيح أن السنة لا يجب جبرها؛ لأنها ليست بلازمة، ولو كانت لازمة لنُزِّلَت منزلة الواجبات، فيكون رفعة لها عن مرتبتها التي نص الشرع أو دلّ دليل الشرع، على كونها فيها، وبناءً على ذلك لا تُنَزَّل السنن منزلة الواجبات، فحيث ترك سنة نقول: إنه لا حرج عليه، ولكن فاته الأكمل والأفضل. والدليل على ذلك أن الصحابة كانوا يصلون وراء النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت للنبي صلى الله عليه وسلم سنن، ومع ذلك لم يُلزِمهم بسجود السهو لعدم إتيانهم بهذه السنن. ألا ترى دعاء الاستفتاح لم يطلع عليه أبو هريرة إلا بعد أن سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم ولا يستفتح بهذا الدعاء، فدلّ على أن السنن لا يجب جبرها بسجود السهو، وإن فعل ذلك فقد قال بعض العلماء: لا حرج أن يسجد للسهو. لكن بعض أهل العلم يقول: لو أن الإنسان ألف السنة -أي: أعتادها-، وداوم عليها ثم أتاه الشيطان فنسيها، فلو جبرها بسجود السهو فإنه حسن أي أنه يُفرِّق بين السنة التي يداوم عليها والسنة التي لم يداوم عليها، فإن كان مداوماً على الدعاء الذي بعد التحميد، وهو قوله: (ملء السماوات وملء الأرض ... ) إلخ، أو مداوماً على دعاء الاستفتاح وتركه ناسياً قالوا: يسجد للسهو، وحسنٌ منه أن يفعل ذلك.

الأسئلة

الأسئلة

مناسبة تقديم المصنف للمكروهات قبل الأركان والواجبات

مناسبة تقديم المصنف للمكروهات قبل الأركان والواجبات Q أشكل عليَّ تقديم المصنف رحمه الله للمكروهات على الأركان والواجبات فهل هذا هو الأولى؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهذا من الدقة بمكان، لأن الإنسان إذا جاء يصلي فإنك تحذِّره مما يكره قبل أن يشرع في الصلاة؛ لأن التحذير يقع قبل التلبس بالشيء لا بعده، ولذلك تقديمه على الأركان والواجبات له وجه من جهة التحذير ومن جهة والبيان، حتى يكون الإنسان على بينة من أمره، وهذا اعتذارٌ للمصنف، وإلا فإنه يستقيم لو أنك ذكرت الشروط، ثم الأركان، ثم الواجبات، ثم السنن والمستحبات، ثم المخالفات وهي المكروهات، وهذا أيضاً له وجهه، ويفعله بعض العلماء رحمة الله عليهم، فهذا له وجهه وهذا له وجهه، والله تعالى أعلم.

وجوب التلفظ بجميع أذكار الصلاة وضابطه

وجوب التلفظ بجميع أذكار الصلاة وضابطه Q إذا كانت قراءة الفاتحة يجب التلفظ بها، فهل يُقاس على ذلك بقية أذكار الصلاة؟ A نعم، فلا بد لمن كبر أن يتلفظ بالتكبير، فلو تلفظ في نفسه لم يقم بالواجب، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر)، وقوله: (إذا كبَّر فكبروا)، ولا يصدق على الإنسان أنه كبَّر إلا إذا تلفَّظ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا)، والقول إنما يكون باللفظ، والكلام النفسي لا يعتبر قولاً، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، خلافاً لمن يقول: إن الكلام النفسي كلام. وبناءً على ذلك لا بد وأن يتلفظ، واللفظ يكون بتحريك الشفتين واللسان وحصول الحروف على الوجه المعتد به، والله تعالى أعلم.

حكم متابعة الإمام في السنن

حكم متابعة الإمام في السنن Q ما هو حكم متابعة الإمام في السنن، وهل تضر مخالفته عند تركها؟ A متابعة الإمام في السنن ليست بواجبة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم -كما ذكرنا في حديث أبي هريرة -كان يفعل السنن وهي خافية على الصحابة، فدل على أنها ليست بواجبة ولا لازمة. ومن الأدلة على عدم وجوبها حديث أنس في الصحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، ثم فصَّل وبين، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن قوله: (فإذا كبر فكبروا) تفصيل لإجمال وهو قوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، فبين صلوات الله وسلامه عليه ذلك الإجمال بقوله: (إذا كبروا فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: (سمع الله لمن حمده) فقولوا: (ربنا ولك الحمد))، وفي الرواية الثانية: (إذا قرأ فأنصتوا، وإذا قال: (وَلا الضَّالِّينَ) فقولوا: (آمين)) فهذا كله يدل على ما يجب وما هو ركن، وأن ما ليس مذكوراً في هذا من السنن فالأمر موسَّع فيه. فلا يجب على المكلف أن يتابع إمامه في السنن، فلو أن الإمام جلس جلسة الاستراحة وأنت لم تجلس فلا حرج. وهذا إذا كانت سنة فعلية، وفي حكمها السنة القولية، فلو أن الإمام قرأ دعاء الاستفتاح ولم تقرأه فإنه لا حرج عليك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ دعاء الاستفتاح ويتركه بعض الصحابة ولم يُنكِر عليهم، وكذلك كان يزيد في قوله: (سمع الله لمن حمده) قوله: (ربنا ولك الحمد ملء السماوات، وملء الأرض ... ) إلخ، وكان يخفى على كثير من أصحابه، ومع ذلك لم يُلزِم به، فدلّ على أنه على سبيل النفل لا على سبيل الوجوب، وأن المكلف لو ترك هذه السنن فلا حرج عليه، والله تعالى أعلم.

حكم من صلى بغير طهور ثم ذكر بعد خروج وقت الصلاة

حكم من صلى بغير طهور ثم ذكر بعد خروج وقت الصلاة Q صلى رجل وهو محدث وكان ناسياً، ولما خرج وقت الفريضة تذكر أنه صلى بغير وضوء، فما الحكم؟ A لا تصح الصلاة إلا بطهور كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، وبناءً على ذلك فإنه إذا تذكر داخل الوقت، أو تذكر بعد خروج الوقت فإنه يُلزَم بقضاء الصلاة، ولو تذكر بعد أيام، ولو تذكر بعد شهور، بل ولو تذكر بعد أعوام فإنه يلزم بقضاء الصلاة؛ لأنه لا تُقبل منه صلاة إلا بطهور كما ذكرنا، والله تعالى أعلم.

الفرق بين من صلى وفي ثوبه نجاسة وبين من صلى تاركا للطهارة

الفرق بين من صلى وفي ثوبه نجاسة وبين من صلى تاركاً للطهارة Q أشكل عليَّ فهم مسألتين: الأُولى: صلى وفي ثوبه نجاسة ناسيا فصحت صلاته، والثانية: صلى ونسي أنه ليس بمتوضئ فلم تصح صلاته، وهل المسألتان من باب واحد؟ A الطهارة نوعان: طهارة حدث وطهارة خبث، وينبغي في الأصل أن يتساويا في الحكم؛ لأنه يقال: كيف إذا صلى وعليه نجاسة ناسياً وتذكّر بعد الصلاة تصح صلاته، وإذا صلى وهو ناسٍ للوضوء، أو ناسٍ للغُسل يُلزم بالإعادة؟! والجواب: أن الفرق واضح وظاهر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، وجاء دليل الشرع بالأمر بطهارة الخبث، فلما جاءت السنة تستثني في حديث النعلين طهارة الخبث بقيت طهارة الحدث على الأصل الذي يُوجِب عدم صحة الصلاة إلا بفعلها. وهناك مخرج آخر لبعض الفقهاء، حيث يقولون: إن طهارة الخبث من التروكات، وطهارة الحدث من الأفعال والواجبات، فيُغتفر في التروكات ما لا يُغتفر في الواجبات، فالتروكات الأمر فيها أوسع من الواجبات، فصحَّت صلاته في التروكات ولم تصح في الواجبات، والله تعالى أعلم.

لزوم مقارنة تكبيرات الانتقال للأفعال

لزوم مقارنة تكبيرات الانتقال للأفعال Q هل يكبِّر المصلي ثم ينتقل إلى الركوع، أم يكبر أثناء الانتقال، أم يكبر بعد الانتقال؟ A الأولى والأحرى أن يكون التكبير مقارناً؛ فإن بعض السنن تشير إلى ذلك، كما في صحيح البخاري من حديث خباب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود فإني قد بدنت)، فقد دل ذلك على أن قوله كان مُصاحباً لفعله، فلو كان فعله يسبق قوله لما شعر به الصحابة، ولما كانوا سابقين له، لكن لما أقترن قوله بفعله دل على أن الصحابة يشعرون بالانتقال فتكون خفتهم موجبة للسبق فقال: (لا تسبقوني فإني قد بدنت)، فدل هذا الحديث -كما قرر غير واحد من الأئمة- على أن الأولى بالإمام والمنفرد والمأموم أن يجعل الذكر مقارناً، إلا ما دل الشرع على تأخيره، كالتحميد بعد انتهائه من الرفع، فقد قالت عائشة: ثم قال وهو قائم: (ربنا ولك الحمد)، فهذا يشرع بعد تمام القيام. أما التكبيرات فتشرع عند الانتقال، خاصة الإمام. قال بعض العلماء: في تخصيص الأئمة حكمة لطيفة، وذلك أن المأمومين منهم من يرى الإمام ولا يسمع صوته، ومنهم من يسمع صوته ولا يرى شخصه، فلو سبق القول الفعل أو الفعل القول فإن هذا يحدث الاختلاف، فإن الأعمى يسمع الصوت ولا يرى الشخص، فلربما سبق بالفعل إذا كان الإمام يسبق بالقول، وكذلك الحال لو كان يرى شخصه ولا يسمع صوته كالحال في الصفوف البعيدة جداً التي يرى فيها الإمام ولا يسمع فيها صوته، فلو كان الإمام بمجرد قيامه من التشهد يقوم ولا يكبر إلا إذا وقف، فإنك إذا كنت في الصف الأخير ولا تسمع صوته، فإنه مظنة أن تراه يتحرك فتتحرك مع أنه لم يكبر للانتقال، قالوا: فهذا يؤدي إلى سبق المأموم للإمام. ولذلك قالوا: يُحتاط بالمقارنة فهذا أولى وإن كان بعض السنة يُفهم منه سبق القول للفعل، والله تعالى أعلم.

عمرة أهل مكة في رمضان

عمرة أهل مكة في رمضان Q هل لأهل مكة عمرة، خصوصاً في رمضان؟ A لا حرج على أهل مكة أن يعتمروا، فإن الترغيب في العمرة خاصة في رمضان النص فيه عام، وليس هناك دليل في الكتاب والسنة يُحرِّم على أهل مكة أن يعتمروا، ولو نقل المنع عن بعض السلف فإن هذا لا يقوى على التحريم. فالتحريم والمنع يحتاج إلى دليل ينص على أنهم لا يعتمرون، وفي حديث ابن عباس في الصحيح قال صلى الله عليه وسلم في المواقيت: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك -أي دون المواقيت- فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة). فدل على أن لأهل مكة أن يُهِلوا، ويشمل ذلك تلبيتهم بالحج والعمرة، خصوصاً أن مذهب طائفة من العلماء أن العمرة واجبة، ولذلك لا يُفرَّق بين أهل مكة وغيرهم، ولكن كان بعض العلماء رحمة الله عليهم يقول: لا ينبغي للمكي أن يذهب للعمرة ويُفَوِّت فضل الطواف بالبيت، وأُثر عن بعض أصحاب ابن عباس أنهم كانوا يقولون: عمرة أهل مكة الطواف بالبيت. ووجه ذلك أنهم خرجوه على النظر، فقالوا: لأنهم إذا خرجوا إلى التنعيم تكلَّفوا الخروج، فما دام أن العمرة يقصد منها الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة فإن هذه الخطوات التي يذهب بها إلى التنعيم ويرجع منه الأولى أن تُستغل في الطواف بالبيت. أي: بدلاً من أن يذهب إلى التنعيم ويتكلَّف الذهاب فليطُف بالبيت، فمن هنا تخرَّج قولهم: عمرة أهل مكة الطواف بالبيت. إلا أن هذا إنما يكون لأُناس معروفين بالمرابطة عند البيت، فتجدهم لا يفرطون في مكة، ولا يفرطون في الصلاة في الحرم، ولا يفرطون في الطواف، بحيث إذا خرج من مكة ضاع عليه وقته في الذهاب، فيكون فيه نوع من الاشتغال بالمفضول عن الأفضل، لكن إذا كان مثل حالنا ولا حول ولا قوة إلا بالله، حيث تجد الإنسان في مكة وعهده بالبيت منذ أسابيع أو شهور، وبعضهم ربما تمر عليه فترة طويلة وهو لا يرى البيت، لأنه يرى قول من يقول إن الصلاة بمكة كلها مضاعفة، فتَرَخَّص في هذا القول، وإذا قيل له: انزل وطُف بالبيت قال: فيه فتن. فيُضيِّع الشيطان على كثير من الأخيار الخير بسبب ما يكون من هذه الأعذار والعلل العقلية، ففي هذه الحالة الأولى له أن يعتمر، فالطواف بالبيت له فضله، فإذا كان الشخص قائماً بمكة كثير العبادة في الحرم فلا شك أن الأفضل أن يشتغل بالطواف، ومن أراد أن يُصيب فضل العمرة في مكة تحصيلاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة في رمضان فإنه لا حرج عليه، وليس هناك دليل يمنع، ومَن مَنع يُطالَب بالدليل، لكن الاستكثار من الخروج والرجوع وتكرار العمرة للمكي وغير المكي بدون موجب لا أصل له، فإذا وجد الموجب فلا حرج، كرجل قدم من الآفاق فاعتمر، ثم أراد أن يعتمر عن أبيه الذي لم يعتمر، أو عن أمه التي لم تعتمر فلا حرج، لكن لو أراد هذا الآفاقي بعد إتيانه بالعمرة أن يأتي إلى التنعيم ويعتمر نقول له: طف بالبيت؛ لأن الآفاقي الأفضل له أن يشتغل بالطواف بالحرم؛ لأن المقصِد أولى من الوسيلة، فإن خروجه إلى العمرة مآله إلى الطواف بالبيت، فالأفضل منه أن يشتغل بالطواف بالبيت، وهذا هو الذي ذكره غير واحد من أهل العلم رحمة الله عليهم، وإلا فالأصل الجواز، والبقاء على الأصل معتبر حتى يدل الدليل على الزوال عنه، والله تعالى أعلم.

حكم طواف الوداع للمعتمر

حكم طواف الوداع للمعتمر Q ما حُكم طواف الوداع للمعتمر؟ A هذه مسألة خلافية، فمن العلماء من قال بوجوبه لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه يعلى بن أمية رضي الله عنهما وأرضاهما أنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي عليه جبة عليها صفرة من أثر الطيب، وهو معتمر بالجعرانة فقال: يا رسول الله! ما ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه ما ترى؟ قال: فأُوحِي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يغط كغطيط البكر، فلمّا سُرِّي عنه قال: أين السائل؟ قال: أنا. قال: انزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الطيب، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك). قالوا: وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك). فهذا يدل على أن العمرة تأخذ حكم الحج، فإن كان طواف الوداع واجباً في الحج فيلزمكم أن تقولوا بوجوبه في العمرة. وذهب طائفة من العلماء إلى أنه لا يجب طواف الوداع في العمرة. وهذا هو الصحيح؛ لأنه الأصل، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر عائشة أن تطوف طواف الوداع بعد فراغها من عمرتها بعد الحج، ولأن الدليل الذي استدلوا به إنما هو أشبه بالتروكات لا بالأفعال، ووجه ذلك أن قوله عليه الصلاة والسلام: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) المراد به حسب السياق الذي ورد في القصة: اصنع في عمرتك هذه ما أنت صانع في حجك من الانكفاف عن المحظورات؛ إذ لو كان المراد به الأفعال لوجب عليه أن يخرج إلى عرفة، وأن يبيت بمزدلفة، وأن يفعل ما يفعله الحاج في الأفعال، فدل على أنه في مقام التروكات، وليس في مقام الأفعال. فبما أن قوله: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) تخرج منه أفعال الحج، فإن طواف الوداع من أفعال الحج، وتأكّد هذا من جهة النظر في معنى طواف الوداع، ففي حديث عائشة في طواف الوداع في الصحيح قالت رضي الله عنها: (كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات) بمعنى أنهم يكون آخر عهدهم بمنى وعرفات، قالت: (فأُمِروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت طوافاً)، والسبب أنهم كانوا يطوفون يوم النحر فيبعد عهدهم بالبيت، فشُنِّع على الحاج أن يصدُرَ من حجه دون أن يطوف بالبيت، قالت: (فأُمِروا -وهذا تخصيص واضح بالحاج- أن يجعلوا آخر عهدهم -أي: عهد الحاج- بالبيت طوافاً)، فصار من واجبات الحج، ولم يصر من واجبات العمرة، ويتأكد هذا بأن عائشة بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بطواف الوداع في الحج لم يأمرها أن تطف طواف الوداع في عمرتها، وإلا كانت ستقول: أُمِر الناس إذا صَدَروا من مكة أن يطوفوا؛ لأنه يشمل المعتمر وغير المعتمر. ولذلك الذي تميل إليه النفس أنه لا يصح الاستمساك بقوله عليه الصلاة والسلام: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) بوجوب طواف الوداع. وذلك لأنه ثبت بدليل الشرع أن المراد به ترك المحظورات، فإن كان لا يشمل أفعال الحج الواجب من رَمْي الجمار والمبيت بمزدلفة ونحوها من الواجبات، فكذلك لا يشمل طواف الوداع الذي هو من خصوص الحج، لكن الأولى والأحرى إذا أحب الإنسان أن يخرج من الخلاف أن يطوف للوداع. ومن الأدلة أيضاً التي تدل على ضعف قول من يقول بطواف الوداع في العمرة قول: بعض العلماء -وهو استنباط جيد-: إن الذين قالوا بوجوبه على المعتمر اضطربت أقوالهم، فقال بعض العلماء: يجب على المعتمر بمجرد انتهائه من عمرته. أي: بعد أن ينتهي من العمرة ينزل ويطوف. وقال بعضهم: لا. بل أجمعوا على أن المعتمر إذا طاف وسعى ومشى مباشرة ليس عليه طواف وداع. فاضطربت أقوالهم في المعتمر الذي يَصدُر مباشرة، ثم اضطربت في المعتمر الذي يجلس، قال بعضهم: إن جلس ساعة وجب عليه طواف الوداع. وقال بعضهم: إن جلس فرضاً وجب عليه طواف الوداع. وقال بعضهم: إن جلس خمسة فروض، أو يوماً كاملاً وجب عليه طواف الوداع. فلو كان طواف الوداع واجباً على المعتمر لما تُرِك على هذا الاختلاف، ولحَدّ الشرع فيه حداً معيناً يُنتَهى إليه، ولذلك يَقوى أنه اجتهاد، والأصل براءة الذِّمَم، وإن احتاط المكلف فلا حرج عليه، والله تعالى أعلم.

حكم التقبيل والمداعبة للصائم

حكم التقبيل والمداعبة للصائم Q هل يجوز التقبيل والمداعبة للصائم إذا لم يُنزل، وما الحكم إذا أنزل دون جماع؟ A أما التقبيل فلا حرج فيه على الصائم، فقد جاء في حديث عمر رضي الله عنه في تقبيل الصائم أنه كالمضمضة، ولكن إذا كان الإنسان يغلب على ظنه أنه يقع في المحظور فإن الوسائل آخذة حكم المقاصد فيَتَّقي ويَمتَنع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أملك الناس لإربه كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وقد قال العلماء: أكمل الناس أجراً في الصيام من اتقى الرفث واللغو، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو لبيان الجواز وتوسِعةً على الأمة، ولكن الأفضل والأكمل تركه. ولذلك قال بعض العلماء: إذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم المفضول كان أفضل في حقه. ولا يُشكِل على هذا أن يقول قائل: لو كان الأفضل ترك التقبيل فلماذا لم يتركه النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإنهم قالوا: فعله تشريعاً، ولم يفعله على سبيل القصد. وفرقٌ بين التشريع والقصد، ومن هنا يتخرَّج قولهم: إذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما قد نهى عنه فهذا الفعل يصرف النهي إلى الكراهة. فحين يقول قائل: كيف يصير هذا الشيء مكروهاً مع أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله؟ عندئذ تقولون: لأن المقام مقام تشريع، ولا يسري عليه ما يسري على عموم الأمة. فنسأل الله العظيم أن يرزقنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً، وأن يجعل ما تعلمناه وعلّمناه خالصاً لوجهه الكريم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.

باب سجود السهو [1]

شرح زاد المستقنع - باب سجود السهو [1] شرع الله السهو جبراً للنقص وإبطالاً للزيادة، ويشرع كذلك لأجل الشك في الصلاة، وهو سجدتان يسجدهما المصلي قبل السلام أو بعده على تفصيل معلوم في ذلك، ولا يسجد للسهو إلا من نسيان أو شك، أما العمد فليس فيه سجود سهو.

أحكام سجود السهو

أحكام سجود السهو بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب سجود السهو]. أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام الشرعية المتعلقة بالسهو في الصلاة، ويعبِّر عنه العلماء بـ (باب سجود السهو)، والأصل أن يقال: باب السهو. لكن لما كان هذا السهو يترتب عليه الأمر بسجدتي السهو قالوا: (باب سجود السهو)، و (باب سجدتي السهو) كما يعبر عنه بعض العلماء، وبعضهم يقول: (باب السهو في الصلاة)، أو (أحكام السهو في الصلاة)، فيجعل الباب عاماً، لكن لو جُعِل خاصاً فإن هذا هو الأصل الذي ورد الدليل فيه. فمن عادة العلماء رحمة الله عليهم أن يذكروا ما يشرع له سجود السهو في هذا الموضع، ويذكرون أحكام السهو العامة، فمن يعبر ويقول: (باب أحكام السهو في الصلاة)، يُعبر بالعموم، ومن يعبر فيقول: (باب سجود السهو)، يُعبر بالخصوص، ثم يتبع بالخاص الذي ورد الدليل فيه بقية الأحكام لمكان المجانسة؛ لأن من عادة الفقهاء أن يذكروا أجناس الأحكام المتقاربة مع بعضها في أبوابها أو فصولها ومباحثها. وسجود السهو المراد به سجدتان، وهاتان السجدتان تكونان قبلية وتكونان بعدية، على التفصيل الذي سنذكره إن شاء الله، وتُشرع هاتان السجدتان بتكبير للسجدة الأولى ورفع، ثم تكبير للثانية ورفع، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسلِّم من هذا السهو كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

خلاف العلماء في التشهد بعد سجدتي السهو

خلاف العلماء في التشهد بعد سجدتي السهو للعلماء وجهان في التشهد بعد سجود السهو إذا وقع بعد السلام: قال بعض العلماء: إذا سجد بعد السلام سجدتي السهو تشهد، وفيه حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما في قصة ذي اليدين أنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فرجع إلى مقامه فصلى ما تركه، ثم سلم، ثم كبر فسجد، ثم تشهد، ثم سلم)، لكن زيادة (تشهد) انفرد بها أشعث عن أصحاب ابن سيرين الحفاظ، ولذلك قالوا بأنها شاذة. والعمل عند طائفة من المحققين من أهل الحديث على شذوذ ذكر التشهد، وإن كان الحافظ ابن حجر يقول: لو قال قائل بتحسين الحديث لوجود شواهد أخرى تقويه فإنه له وجه وقوَّى ذلك العلائي أيضاً فقال: إن التحسين له وجه، خاصة وأن ابن مسعود فعله، فقد جاء عنه بسند صحيح كما روى ابن أبي شيبة في المصنف. وعلى ذلك فلو فعل الإنسان التشهد خروجاً من الخلاف فلا حرج عليه خاصة وأن له أصلاً، ولو تركه فلا حرج عليه.

حكم سجود السهو

حكم سجود السهو للعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول: سجود السهو جميعه زيادةً ونقصاً واجب. وهذا قول الحنفية والحنابلة رحمة الله على الجميع، وبناءً على ذلك لو أن المكلف زاد في الصلاة أو نقص منها، وتذكَّر أنه زاد أو نقص فلم يسجد للسهو فإنه يُحكم ببطلان صلاته إذا تركه متعمداً، فعند أصحاب هذا القول أنه واجب من واجبات الصلاة، فلو قلت للإمام: إنك زدت. فقال: علمت أني زائد. فقلت له: اسجد للسهو. فقال: لا أريد أن أسجد. وتركه متعمداً بطلت صلاته وصلاة من صلى وراءه لتركه متعمداً. القول الثاني: سجود السهو سنَّة، وبه قال الإمام الشافعي رحمة الله عليه، فعنده إن فعل فقد أحسن، وإلا فإن الصلاة يُحكم بصحتها والاعتداد بها. القول الثالث: التفصيل، وهو مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمة الله عليه، قال: إن كان السجود سجود نقص فواجب؛ لأنه يجبر نقصاناً في الصلاة فكأنه من الصلاة، فحل محل الواجب من الصلاة، وإن كان السجود لزيادة فسنة، ولا يحكم ببطلان صلاة المكلف؛ لأنه قد جاء بالصلاة كاملة. والصحيح أن سجود السهو واجب، وذلك لما ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم)، فإن أمره بالسجود يدل على الوجوب، وفي الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر خمسا، فقالوا: أزيد في الصلاة؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت خمساً. فثنى رجليه وسجد سجدتين ... )، ثم ذكر الحديث وفيه: (فليسجد سجدتين قبل أن يسلم). فهذه أوامر، والقاعدة في الأصول أن الأمر للوجوب حتى يدل الدليل على صرفه. فلما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسجد سجدتي السهو دلّ ذلك على وجوبها ولزومها، وأنه إذا تَركها المكلَّف فقد ترك الواجب، وحكمه حكم تارك الواجب سواءً بسواء. وإذا قلنا بالوجوب وأنه هو الصحيح، فإنه لو أن إنساناً صلَّى ونسِي واجباً من واجبات الصلاة، ثم سلَّم وقام من مصلاه وهو في المسجد إلى حلقة علم، أو قام إلى موضع ثانٍ، وتذكَّر بعد قيامه فعلى القول بالوجوب يلزمه أن يستقبل القبلة وأن يكبر ويسجد، وذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث عبد الله بن مسعود قال: (فثنى رجليه وسجد سجدتين) الحديث، فإنه عليه الصلاة والسلام تداركه حين كان في المسجد، فلذلك إذا تذكر السجديتن وهو في المسجد يقضي، وهكذا لو كان في بيته في مكان الصلاة، أما لو خرج من المسجد وتذكَّر بعد خروجه فإنه لا يُلزَم بالرجوع، وقد مضت صلاته وصحَّت، وتسقط عنه السجدتان لمكان العذر؛ لأن المكان قد فارقه المكلف، ولا يمكن بمفارقته التدارك فتصح صلاته وتجزيه.

الحكمة من سجود السهود في الصلاة

الحكمة من سجود السهود في الصلاة شرع الله عز وجل السهو جبراً للنقص وإبطالاً للزيادة، يدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد في الصحيح: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان). فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أحكاماً، منها أن سجود السهو إن كان لزيادة أبطل الزيادة، فكأن المصلي لم يفعلها. وقال بعض العلماء: في سجود الزيادة إغاظة الشيطان، لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان)، وبناءً على ذلك قالوا: إن السهو كان من الشيطان، فكونه يسجد أبلغ في رد الأذية التي كانت من الشيطان. ولذلك ثبت في الحديث أنه: (إذا سجد ابن آدم اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله! أُمِر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فلم أسجد فلي النار)، فيكون ذلك أبلغ في الأذية والتحقير والإرغام له. ومن حكم الله تعالى في تشريعه لهذا السجود الرفق بالمكلف؛ فإنه لو قيل: إن المكلف إذا نقص من صلاته فصلاته باطلة، وإذا زاد في صلاته فصلاته باطلة، فكيف سيكون حال الناس؟ فإن الإنسان ضعيف، فربما دخل الصلاة وهو مشوّش الفكر بهمٍّ في نفسه أو أهله أو ولده أو ماله أو تجارته، ومن مظان ضعفه أن يضعف أمام الوساوس والخطرات، فالسهو لا بد منه، ولا بد وأن يقع، وقل أن تجد إنساناً يسلم من هذا السهو، وقد حصل لنبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه وهو أكمل الناس خشوعاً وتقوى لله عز وجل، فما بالك بغيره صلوات الله وسلامه عليه؟! فلو أن الشريعة حكمت على كل من زاد في صلاته أو نقص ساهياً ببطلان صلاته فكيف ستكون صلاة الناس؟ وكيف يكون حالهم؟! خاصة من ابتلي بالوسوسة أو كان عنده شك، فإنه تضيق به الأرض، وتصعُب عليه عبادته حتى يكون أصعب ما يكون عليه أن يصلي، أو يقف بين يدي الله عز وجل، مع أن الصلاة طمأنينة القلوب، وفيها انشراح الصدور وحصول الخير للإنسان بوقوفه بين يدي ربه، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقول: (يا بلال! أرحنا بالصلاة)، فتنقلب الصلاة هماً على المكلف بدلاً من كونها انشراحاً لصدره ورحمة به.

التفصيل في محل سجود السهو

التفصيل في محل سجود السهو المسألة الأخيرة في سجود السهو: السهو يكون بالزيادة ويكون بالنقص، وبعض السجود يكون قبل السلام وبعضه بعد السلام، فهل المكلف مطالب بالسجود على وتيرة واحدة، بمعنى أنه يسجد السجود كله بعد السلام، أو كله قبل السلام، أو فيه تفصيل؟ للعلماء رحمة الله عليهم ثلاثة أقوال في محل السجود: القول الأول: أن السجود جميعه بعد السلام. وهذا القول مأثور عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود فجميع السجود عندهم يكون بعد السلام، وبهذا القول قالت الحنفية رحمة الله عليهم، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، ومروي عن عمار بن ياسر، سواءٌ أكان لنقص أم لزيادة، وحكاه بعض العلماء عن سعد بن أبي وقاص. وعند هؤلاء أيضاً أنك إذا سجدت للسجدتين فإنك تتشهد، فيقولون بالتشهد بعد السلام أيضاً، لما ذكرناه من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه. القول الثاني: أن السجود كله يكون قبل السلام، وهذا القول مروي عن أبي هريرة، وبه قال الليث بن سعد فقيه مصر رحمة الله عليه، وهو مذهب الأوزاعي، ومذهب الشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع، فيقولون: جميع السهو يكون قبل السلام سواءٌ أكان المكلف قد زاد في صلاته أم نقص منها، لكن استثنى الحنابلة أنك لو سلمت ونسيت السجود قبل السلام فإنك تسجد بعد سلامك ولا حرج عليك. القول الثالث: التفصيل بين النقص والزيادة، فقالوا: إن سها بنقص فالسجود قبل السلام، وإن سها بزيادة فسجوده بعد السلام، وهذا هو مذهب المالكية رحمة الله على الجميع. فعندنا في المسألة ثلاثة أقوال: قول بأن السجود كله يكون بعد السلام، وهو مروي عن علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص، وبهذا القول يقول فقهاء الحنفية رحمة الله عليهم. وقوله: أن السجود كله يكون قبل السلام، وبه يقول فقهاء الشافعية والحنابلة، ومروي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه. وقول: بالتفصيل، إن كان نقصاً فقبل السلام، وإن كان السهو زيادة فبعد السلام، وهو مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمة الله على الجميع. واحتج الذين قالوا: جميع السجود يكون قبل السلام بأحاديث: أولاً: حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم)، قالوا: فقوله صلى الله عليه وسلم: (فليسجد سجدتين قبل أن يسلم) أمر، والأمر يدل على اللزوم والوجوب، وكونه قبل أن يسلم يدل على ظرفية الأمر وهو كونه واقعاً قبل السلام. ثانياً: حديث ابن عباس، وهو بنحو حديث أبي سعيد، وأصله في الصحيح. ثالثاً: حديث عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه وأرضاه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من الثنتين من الظهر ولم يجلس بينهما، فلما قضى صلاته سجد سجدتين ثم سلم)، وهذا حديث أيضاً في الصحيح. ومثله ما أخرجه الترمذي وصحَّحه أن المغيرة صلى بالناس وسها فلم يجلس في التشهد الأول، فسبحوا له فأشار إليهم أن: قوموا. فلما فرغ من تشهده سجد السجدتين ثم سلم) ورفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعل مثل ما فعل. قالوا: هذه الأحاديث كلها تدل على أن السجود كله يكون قبل السلام، سواءٌ أكان لنقص أم لزيادة، فهذا مذهب الشافعية والحنابلة كما قلنا. وأما الذين يرون أن السجود كله بعد السلام -وهم الحنفية- فقد احتجوا بأحاديث: أولاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي -أي: الظهر أو العصر- فسلَّم من ركعتين، ثم قام وشبك بين أصابعه واستند إلى الجذع، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهاب الناس أن يكلموه، وكان رجل من بني سلمة يقال له ذو اليدين -واسمه الخرباق - فقال: يا رسول الله: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: كل ذلك لم يكن، فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم، قال: فصلى ركعتين وسلم، ثم كبر ثم سجد، ثم كبر فرفع، ثم كبر وسجد، ثم كبر ورفع). ووجه الدلالة أن السجدتين وقعتا من النبي صلى الله عليه وسلم بعد السلام، ثانياً: حديث عمران بن حصين في الصحيحين، وهذا الحديث مثل حديث أبي هريرة في قصة التسليم من الركعتين، وأنه بعد أن أتم الصلاة وسلَّم كبر فسجد ثم رفع، قال الراوي: (وأُنبِئت أن عمران قال: (ثم سجد سجدتين بعدما سلم). ثالثاً: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه -وهو في الصحيح أيضاً ورواه الجماعة- قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر خمساً، فقالوا: أزيد في الصلاة؟ قال: وما ذاك؟! قالوا: صليت خمساً، فثنى رجليه وسجد سجدتين). ووجه الدلالة أن هذا الحديث وقع فيه سجود النبي صلى الله عليه وسلم بعد السلام، فدل على أن السهو كلَّه يكون بعد السلام، ولا يكون قبله. وأما أصحاب القول الثالث فجمعوا بين النصوص فقالوا: تأمَّلنا هذه الأحاديث فوجدنا حديث أبي سعيد الخدري في الشك، والشك خارج عن أصل المسألتين؛ لأن مسألة الشك تُستثنى، والكلام عن الزيادة والنقص. قالوا: وحديث عبد الله بن مالك بن بحينة فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الجلسة التي للتشهد، فهذا نقص، فسجد عليه الصلاة والسلام قبل السلام، وحديث ذي اليدين زاد فيه التسليم، فحينما صلى ركعتين وسلم قام ثم سجد بعد السلام، وأكَّده حديث عبد الله بن مسعود أنّه صلَّى خمساً فاتجه إلى القبلة فسلَّم، فاتفقت عندنا الأحاديث؛ لأنها كلها من مشكاة واحدة، فوجدناه يسجد للنقص قبل السلام، ووجدناه يسجد للزيادة بعد السلام. ولما كانت حالة الشك مترددة بين النقص والزيادة أُلحِقت بالنقص لأنه الأصل لاحتمال أن تكون ناقصةً، فلذلك قالوا: حينئذٍ نقول: إن نقص من الصلاة فقبل السلام، وإن زاد في الصلاة فبعد السلام، فوجدنا النظر يُقوي الأثر، وذلك أن النقص من الصلاة سيُجبر في الصلاة، والزيادة خارجة عن الصلاة، فيكون ترغيم الشيطان بها بعد الصلاة، فقالوا: نجمع بين النصوص على وجهٍ لا تعارض فيه. وبهذا يكون مذهبهم قد أخذ بهذه النصوص كلها؛ لأنك إن قلت: السجود قبل السلام عارضتك أحاديث ما بعد السلام، وإن قلت: السجود بعد السلام عارضتك أحاديث ما قبل السلام، مع أن القاعدة أنه لا يعارض بين الأحاديث إلا باتحاد موردها، فوجدنا المورد مختلفاً، وأنا أميل إلى هذا القول، فما كان من نقص فقبل السلام، وما كان من زيادة فبعد السلام، على التفصيل الذي يميل إليه أصحاب هذا القول.

مشروعية سجود السهو

مشروعية سجود السهو قال المصنف رحمه الله: [يشرع لزيادة ونقص وشك]. قوله: (يشرع) الضمير فيه عائد إلى سجود السهو، أي أن سجود السهو شرعه الله عز وجل في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيادة ونقص وشك. وقوله: (لزيادة) أي: من أجل الزيادة. وقوله: (ونقص) معطوف على الزيادة، أي: يشرع سجود السهو للنقص كما يشرع للزيادة، فإن وقع سجود السهو لزيادة ألغى الزيادة، فلو أن إنساناً صلى الصبح ثلاث ركعات ثم علم بعد انتهائه منها أن الذي صلاه إنما هو ثلاث، فإنه بفعله للسجدتين يلغي الركعة الزائدة، وهكذا لو زاد ركوعاً أو سجوداً أو ركناً قولياً، كأن يكرر الفاتحة مرتين، فإن قوله: (لزيادة) معناه أن الله شرع هاتين السجدتين إذا زاد المكلف في صلاته، سواءٌ أزاد واجباً، أم زاد ركناً، أم ركعة متضمنة للأركان، فمن زاد في صلاته وسجد هاتين السجدتين فإنها تلغى الزيادة، وهذا محله إذا زاد في صلاته سهواً لا قصداً. وقوله: (ونقص) أي: ويشرع سجود السهو للنقص، والانتقاص من الشيء الأخذ منه، فلما كان الله عز وجل قد حدّ في الفرائض حدوداً فجعلها على عدد معين، فإن المكلف ينتقص إما من أركانها وإما من واجباتها، فإن انتقص الأركان فلا بد من الإتيان بها، لكن إن انتقص الواجبات فإن انتقاصه للواجبات يوجب جبره لها بسجدتي السهو، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (وشك) أي: ويشرع سجود السهو لمكان الشك، والشك مأخوذٌ من: شك في الشيء: إذا تردد بين الأمرين، تقول: أشك في وجود محمد. أي أنك متردد بين كونه موجوداً أو غير موجود، فالشك استواء الاحتمالين. فالإنسان إذا صلى لا يخلو من حالات: الحالة الأولى: أن يتم صلاته ويجزم بتمامها. الحالة الثانية: أن يزيد في صلاته ويجزم بالزيادة. الحالة الثالثة: أن ينتقص منها ويجزم بالنقص. الحالة الرابعة: أن يتردد بين كونه قد صلى على التمام، أو أن صلاته ناقصة أو زائدة. فهذا الشك هو استواء الاحتمالين، فيتردد بين كونه قرأ الفاتحة أو لم يقرأها، وكونه ركع أو لم يركع، وكونه سمع أو لم يسمع، وكونه حمد أو لم يحمد، ونحو ذلك مما يعتري الإنسان من الشك. فيشرع سجود السهو إما لزيادة في الصلاة، أو نقص فيها، أو شك يحدث للمكلف في أعداد الركعات، أو في أركانها، أو في واجباتها.

أدلة مشروعية سجود السهو للزيادة

أدلة مشروعية سجود السهو للزيادة ثبت في سجود السهو للزيادة أحاديث: منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين في قصة ذي اليدين المشهورة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي -إما الظهر وإما العصر- فسلم من ركعتين، ثم قام كالغضبان -صلوات الله وسلامه عليه- وشبّك بين أصابعه واستند إلى الجذع، فهاب أصحابه رضي الله عنهم أن يكلموه، ورأوا الغضب في وجهه -وكان صلوات الله وسلامه عليه مهاباً بينهم- فلما هابوه قال رجل في القوم يقال له ذو اليدين: يا رسول الله: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: ما كان شيء من ذلك، قال: بلى قد كان شيء من ذلك، فسأل الصحابة: أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم، فرجع وأتم الركعتين، قال الراوي: وأنبئت أن عمران قال: ثم سجد سجدتين بعدما سلم) وهذا الحديث فيه زيادة؛ لأنه لما جلس للتشهد الأول صلوات الله وسلامه عليه زاد أمرين: الأمر الأول: الدعاء؛ لأنه ظن أنه في التشهد الأخير. الأمر الثاني: التسليم، فسلم من الصلاة، والتسليم ركن. فهذه الزيادة للدعاء والسلام اقتضت أن تجبر بسجدتين، فسجد بعد سلامه صلوات الله وسلامه عليه، فدل هذا الحديث على مشروعية السجود للزيادة. ومما يدل على مشروعية السجود للزيادة حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمساً، فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال: وما ذاك؟ قالوا: صليت خمساً، فسجد سجدتين بعدما سلم)، وأصل الحديث في الصحيح. فدل هذان الحديثان الصحيحان على أن الزيادة في الصلاة يشرع لها سجود السهو.

أدلة مشروعية سجود السهو للنقص

أدلة مشروعية سجود السهو للنقص وأما السجود للنقص ففيه أحاديث، ومن أشهرها ما ثبت في حديث عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه وعن أبيه وعن أمه، فكلهم صحابة رضوان الله عليهم، فقد ذكر هذا الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى فقام في الركعتين، فسبحوا فمضى، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين ثم سلم)، فدل هذا الحديث على أن فوات الواجب يجبر بسجود السهو، ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ترك الركعتين -كما في الحديث السابق- رجع وفعلها، ولما ترك الواجب هنا -وهو التشهد الأول- جبره بسجود السهو، فدل على أن الأركان في النقص لا تجبر إلا بالفعل إذا أمكن التدارك. وأما الواجبات فإنها تجبر بسجدتي السهو؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على السجدتين جبراناً للنقص الحاصل من كونه لم يجلس في التشهد الأول، فدل هذا الحديث على مشروعية سجود السهو للنقص. ومن أدلة السجود للنقص: حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه، حيث صلى بأصحابه، فلما صلى ركعتين قام ولم يجلس، فسبّح من خلفه، فأشار إليهم أن: قوموا. فلما فرغ من صلاته سلم وسجد سجدتي السهو وسلم، وقال: هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم). فالحديث الأول -وهو حديث عبد الله بن مالك بن بحينة - عند النسائي وغيره، والثاني -وهو حديث المغيرة - عند الترمذي، وصححه غير واحد من أهل العلم. فهذان الحديثان الثابتان يدلان على أن نقص الواجبات يجبر بسجدتي السهو، وأما الأركان فلابد وأن تأتي بالركن، فإن فات تدارك الإتيان بالركن فإنك تقضي الركعة كاملة.

أدلة مشروعية سجود السهو للشك

أدلة مشروعية سجود السهو للشك وأما السجود للشك ففيه حديثان صحيحان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحدهما: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماماً لأربع كانتا ترغيماً للشيطان)، وهذا الحديث في الصحيح، ونفهم منه أن الإنسان إذا شك فإنه يبني على الأقل، وأنه ببنائه على الأقل يلزم بالإتيان بما يوجب الكمال والتمام، فإذا فعل هذا -أعني: الإتيان بما يوجب الكمال- أُلزم بالسجدتين قبل أن يسلم، وهاتان السجدتان اللتان تشرعان في حال الشك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكمة منهما، فإنك إن صليت الفجر وشككت هل الركعة التي تصليها الأولى أو الثانية، فإنك تبنى على أنها الأولى، ثم تضيف ركعة، ثم تسجد قبل أن تسلم سجدتين، فإن كانت الركعة التي أضفتها توجب تمام عدد الفجر، بمعنى أنك فعلت الصحيح وأنك لم تزد في صلاتك، كانت السجدتان ترغيماً للشيطان؛ لأن الشيطان إذا رأى ابن آدم يسجد يتولى يبكي، ويقول: أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فلم أسجد فلي النار. وكلما رأى ابن آدم يسجد كلما ازداد غيظاً، وكان ذلك أبلغ في إرغامه. وإن كان الذي صليت زيادة فالسجدتان تلفيان الركعة الثالثة، فكأنها لم تكن، وتكون الصلاة تامة كاملة من هذا الوجه. فدل هذا الحديث على مسائل: أولاً: مشروعية السجود للشك، وهذا هو المطلوب. ثانياً: أن هذا السجود يكون ترغيماً للشيطان إن كان الذي فعلته على التمام، ويكون إلغاء للزيادة إن كان الذي فعلته زائداً. ومثل حديث أبي سعيد رضي الله عنه حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وهو في الصحيح. فهذان الحديثان الصحيحان يدلان على مشروعية سجود السهو في الحالة الثالثة وهي حالة الشك. فقول المصنف: (يشرع لزيادة ونقص وشك) من باب ترتيب الأفكار، حيث بيّن محل سجود السهو، وبيّن مشروعيته في قوله: (يشرع) أي: يشرع سجود السهو، ومن عادة الفقهاء والعلماء رحمة الله عليهم أنهم إذا تكلموا على أمر أن يبينوا موقف الشرع منه، فقال: (يشرع)، فالأصل في سجود السهو أنه مشروع، لكن مشروعية هذا السجود لموجب، أي: ليست مشروعية مطلقة، وذلك لقوله: (يشرع لزيادة ... )، أي: أنها مشروعة في حد، أو في مكان معين، ولذلك يكون ابتداؤه رحمه الله بذكر الزيادة والنقص والشك من باب بيان المحل الذي يشرع فيه فعل هاتين السجدتين.

حكم سجود السهو في حال التعمد

حكم سجود السهو في حال التعمد قال رحمه الله تعالى: (لا في عمد). أي أن سجود السهو إنما يشرع في حال النسيان والشك، أما في حال التعمد والقصد فلا يشرع. كما لو صلى الظهر فزاد قراءة الفاتحة مرتين متعمداً، فهذه زيادة ركن قولي، أو زاد ركوعاً مع الركوع الذي شرعه الله في أي ركعة من ركعات الظهر، وهذه زيادة ركن فعلي. ففي هاتين الحالتين تبطل صلاته، ويكاد يكون بإجماع العلماء أن من زاد في صلاته ركناً واحداً متعمداً فقد أحدث وابتدع وترتب عليه أمران: الأمر الأول: أنه آثم لإحداثه في دين الله وابتداعه، ومعلوم ما للبدعة من سوء عاقبة والعياذ بالله، فإن صاحبها يفتن، كما قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63] ويصرف عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم، فالمبتدع لا يسقى من حوض النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي يزيد ركعة، أو يحدث في صلاته ركناً زائداً، أو واجباً زائداً، فإنه قد أحدث في دين الله ما لم يأذن الله عز وجل به، ويحكم ببطلان صلاته؛ لأنه لم يصل كما أمره الله، وقد قال عليه الصلاة والسلام -وهو يبين تأقيت الصلاة وتحديدها وأنها عبادة لا مجال فيها للرأي والاجتهاد-: (صلوا كما رأيتموني أصلي) أي: لا تجتهدوا من عند أنفسكم. أما لو اجتهد العالم في إثبات حكم في الصلاة بناءً على كتاب أو سنة فلا حرج؛ لأنه من الدين، أما أن يأتي إنسان ويقول: أصلي الظهر بدل ركعتين ثلاثاً. فقد حبط عمله وكان من الخاسرين، فصلاته رد عليه. الأمر الثاني: قال بعض العلماء: زيادة الأركان وزيادة الركعات استهزاء واستخفاف -والعياذ بالله-، والاستخفاف بهذه الشعيرة أمره عظيم، ولذلك يخشى على صاحبه. فقوله: (لا في عمد) أي: أن سجود السهو لمكان السهو والنسيان، وذلك أن الله سبحانه وتعالى علم ضعف الإنسان، وأنه لا بد أن يعتريه ما يعتري هذا البشر الناقص من الخلل والنسيان، فانظر رحمك الله لو أن الله أوجب علينا أن لا نؤدي الصلاة إلا كاملة، وأن من شك في أقل شك ينبغي عليه أن يعيد صلاته، كيف يكون حال الناس، خاصة وأن الإنسان ربما دخل في صلاته مهموماً بكرب في نفسه أو في جسده أو في أهله أو في ولده أو في ماله، فيتشتت ذهنه، وقد قال عليه الصلاة والسلام في انبجانية أبي جهم التي أهداها إليه: (فإنها ألهتني عن صلاتي آنفاً)، والانبجانية: الخميصة التي لها الأعلام. فالإنسان بشر يعتريه ما يعتري البشر، فلو أن الله سبحانه وتعالى ألزم المكلف أن يوقع الصلاة كاملة لحصل له من الضنك ما الله به عليم، فسجود السهو لا يشرع إلا عند السهو والنسيان، أما عند التعمد والقصد فلا.

سجود السهو للفريضة والنافلة

سجود السهو للفريضة والنافلة قال رحمه الله: [في الفرض والنافلة]. أي: أن سجود السهو يشرع لك أن تفعله في زيادة ونقص وشك، سواءٌ أكانت الصلاة مفروضة أم نافلة، فهو لا يختص بالنوافل دون الفرائض، ولا بالفرائض دون النوافل، وإنما حكمه على العموم، ولذلك من سها في فريضة كمن سها في نافلة، ولذلك يعمم العلماء رحمهم الله في أحكام سجود السهو، فيشمل حكمه النافلة والفرض على حد سواء، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا صلى أحدكم) ولم يقل: نافلة ولا فرضاً، والحديث ثابت في الصحيحين من حديث أبي سعيد وابن عباس رضي الله عن الجميع. وقوله رحمه الله: (في الفريضة والنافلة) فيه فائدة، وذلك أنه لما قال: (والنافلة) عمم، فشمل أي نافلة، وهذا قد يشمل النافلة التي ألزم الشرع بها على الكمال، أو أوجب فيها بعض الأفعال فانتقص منها بعض أفعال الناس المعهودة، كصلاة الجنائز على أنها سنة مؤكدة. فإن صلاة الجنائز إذا سها الإنسان فيها فمن العلماء من يرى أن السهو في صلاة الجنائز يجبر بسجود السهو، وظاهر كلام المصنف العموم، فيشملها من هذا الوجه، وهو اختيار بعض العلماء، ولكن لا يسجد والجنازة أمامه، وإنما يسجد بعد رفعها في قول بعض العلماء، وإن كان قد استحب طائفة من العلماء أن السجود يكون عند وجودها أمامها. وهذا أقوى؛ لأنه لا يعتبر ساجداً لها إلا إذا كانت أمامه كالسترة التي تكون أمام المصلي؛ فإنه حينئذٍ يسجد جبراناً لواجبها على القول بأن سجود السهو يشرع حتى في صلاة الجنائز.

حكم زيادة أقوال أو أفعال في الصلاة عمدا أو سهوا

حكم زيادة أقوال أو أفعال في الصلاة عمداً أو سهواً قال رحمه الله تعالى: [فمتى زاد فعلاً من جنس الصلاة قياماً أو قعوداً أو ركوعاً أو سجوداً عمداً بطلت، وسهواً يسجد له]. قوله: (فمتى) الفاء للتفريع؛ لأنه إذا أثبت لك الأصل والقاعدة فإنه بعد ذلك يفصل، فبعد أن بيّن أن سجود السهو يشرع للزيادة وللنقص وللشك شرع الآن في التفصيل. وابتدأ بذكر الزيادة قبل النقص؛ لأن الإنسان إنما يراعى فيه حال أدائه للصلاة على الكمال، والزيادة زيادة على الكمال، فيبتدأ بأحكام الزيادة أولاً ثم بأحكام النقص. وقوله: (فعلاً) لأن الزيادة تكون أقوالاً وتكون أفعالاً، فالأقوال كأن يكبر مرتين، أو يُسَمِّع مرتين، فيقول: (سمع الله لمن حمده، سمع الله لمن حمده)، أو يزيد فعلاً مرتين، كأن يركع مرتين، فيركع ويرفع، ثم يسهو ويظن أنه قائم فيركع ثانية ويرفع، فيتذكر أنه قد ركع مرتين، أو يسجد ثلاث سجدات في الركعة الواحدة أو أربع سجدات، وقس على هذا، فهذا من الزيادة في الأقوال والزيادة في الأفعال، وهذه الزيادة إذا وقعت في الصلاة لا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يزيد شيئاً مشروعاً أصله في الصلاة، كأن يقرأ الفاتحة مرتين، أو يكبر مرتين، أو يسمع مرتين، وهذا في الأقوال، أو يركع ركوعين أو ثلاث سجدات، وهذا في الأفعال، فكونه يزيد فيقرأ الفاتحة مرتين فإن الفاتحة التي زادها من جنس ما شرع في الصلاة، فإن قراءة الفاتحة مشروعة في الصلاة، وكونه يزيد الركوع فإنه بزيادته للركوع مرتين في الصلاة قد زاد فعلاً أصله مشروع في الصلاة. الحالة الثانية: زيادة شيء من خارج الصلاة قولاً أو فعلاً، فالقول كقوله: أف، أو يتأوه فيقول: آه، أو يتنحنح، فهذا كله ليس من جنس الصلاة. وأما زيادة الفعل الخارج عن الصلاة فكأن يتناول كتاباً، أو يرفع شيئاً، أو يضع شيئاً، أو يدخل يده في جيبه، أو يعبث بساعته، فهذه زيادة أفعال ليست من جنس الصلاة. فإذا ثبت أن الزيادة لها حالتان فإن من عادة العلماء أن يبتدئوا بالشيء الذي هو من جنس الصلاة، فابتدأ رحمه الله بقوله: [فمتى زاد فعلاً من جنس الصلاة قياماً أو قعوداً أو ركوعاً أو سجوداً عمداً بطلت]. فقوله: (فعلاً) نكرة يشمل أي فعل. وقوله: (من جنس الصلاة قياماً أو ركوعاً أو سجوداً عمداً بطلت) هذا تفصيل لقوله: (لا في عمد)، أي: إذا علمت رحمك الله أن سجود السهو محله أن يكون في سهو ونسيان فاعلم أنه لو زاد فعلاً من ركوع أو سجود أو قيام عمداً فإن صلاته تبطل، فيكاد يكون بإجماع أهل العلم رحمة الله عليهم أن من زاد متعمداً عالماً فصلاته باطلة. قوله: [وسهواً يسجد له] أي: إن زاد في صلاته الركوع والسجود والقيام سهواً سجد لمكان هذه الزيادة. وقلنا: إن هذا السجود قد بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة بكمالها، فإذا كان السجود يلغي الركعة بكمالها فلأن يلغي جزء الركعة من باب أولى وأحرى؛ لأن الشرع ينبه بالأعلى على الأدنى، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بيّن لنا أن من زاد ركعة كاملة في صلاته وسجد للسهو، -أي: سهو الزيادة- أن هذا السجود يرفع هذه الزيادة، فلأن يرفع السجود زيادة الركن الذي هو جزء الركعة من باب أولى وأحرى.

الأسئلة

الأسئلة

حكم نسيان السجدة الثانية من الركعة الأخيرة في الصلاة

حكم نسيان السجدة الثانية من الركعة الأخيرة في الصلاة Q كُنت إماماً فنسيت السجدة الثانية في آخر ركعة، ثم جلست للتحيات وقرأتها، وكنت أظن أنها الجلسة الأخيرة، ثم تبين لي أنها الجلسة بين السجدتين، فكيف العمل وقتئذٍ إن تذكرت في أثناء الصلاة، أو إن تذكرت بعد الصلاة؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهناك إشكال في السؤال؛ لأنه وصف نفسه بأنه في السجدة الأخيرة لقوله: (كنت إماماً فنسيت السجدة الثانية من آخر ركعة). وهذا يقتضي أنه إذا جلس بعدها تكون الجلسة للتشهد الأخير، ثم قال: (ثم جلست للتحيات وقرأتها وأظن أنها الجلسة الأخيرة). فظنك في محله لأنك تقول: (نسيت السجدة الثانية من آخر ركعة)، فمعنى ذلك: أن هذا التشهد هو التشهد الأخير. وبناءً على ظاهر كلامك لا يستقيم هذا، وذلك في قولك: (ثم تبين لي أنها الجلسة بين السجدتين، فكيف العمل وقتئذٍ؟) فإذا نسي الإنسان السجدة الثانية من الركعة الأخيرة، وسلّم وهو ظان أنه في الجلسة الأخيرة فللعلماء فيه وجهان: فبعضهم يرى أنه يلزمه أن يسجد سجدة بعد سلامه، وينوي بهذه السجدة السجدة الثانية التي نسيها، ثم يتشهد، ثم يسلم، ثم يسجد بعد السلام للزيادة. وهذا هو أصح الأقوال. وهناك قول يرى الإلغاء، فحينئذٍ لا يعتد بركعته ويستأنف ركعة مكان الركعة التي أخلّ فيها ما دام أنه سلم. والصحيح أن يعتبر نفسه كأنه لم يقرأ التشهد، وكأنه لم يسلم، فيسجد السجدة الثانية التي نسيها، ثم يتشهد بعد ذلك، ثم يسلم، وإن كان يرى أن السجود كله قبل السلام يسجد قبل سلامه سجدتي السهو، وإن كان يرى أن الزيادة بعد السلام يسلم ثم يسجد للسهو، فهذا هو أصح أقوال العلماء. والدليل على ذلك أنه لما رفع رأسه من السجدة الأولى ظاناً أنه في السجدة الثانية فإنه في هذه الحالة يلزمه أن يذكر أذكار السجدتين، كقوله: (رب اغفر لي) -كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام- فعدل إلى التحيات، فحينئذٍ يرجع وإن كان في جلسة التشهد ثم يقول: (رب اغفر لي، رب اغفر لي) لكي يأتي بالذكر الواجب، ثم يسجد السجدة الثانية، ثم يتم على الصفة التي ذكرناها. والله تعالى أعلم.

حكم سجود المؤتم إذا ركع الإمام عند وقوفه عند آية سجدة

حكم سجود المؤتم إذا ركع الإمام عند وقوفه عند آية سجدة Q إذا صلى وقرأ آيات وكان آخر آية في السورة سجدة فكبر وركع، وظن المأموم أنه سجد للتلاوة فنزل للسجود، فرفع الإمام من الركوع، فتبين للمأموم أن الإمام ركع وسجد للتلاوة، فماذا عليه في هذه الحال؟ A هذا السؤال تعم به البلوى، وفيه جوانب: الجانب الأول: أن بعض العلماء رحمة الله عليهم نبهوا إلى أن الإمامة لها فقه وآداب، فلا يكفي طالب العلم أن يكون على علم بأفعال الصلاة ليأتي ويؤم الناس، بل ينبغي أن يعرف فقه الخلاف، والنوازل التي تطرأ على الأئمة، وفقه الإمامة. ومن الأمور التي ذكروها في فقه الإمامة أنهم قالوا: لا ينبغي للإمام أن يتسبب في أمر يوجب اختلال صلاة الناس. ومن ذلك ما ذكر في السؤال: أن يقرأ سورة في آخرها سجدة. قالوا: إذا قرأ السورة التي في آخرها سجدة فإنه يسجد ولا يركع؛ لأن الناس لا شك أنهم سيسجدون، وبناءً على ذلك يعمل بالأصل فيسجد، فإن كان ليس عنده نية أن يسجد فحينئذٍ لا يقف على السجدة، وإنما يقف إما قبل السجدة، أو يصل السورة بالتي بعدها ويستفتح بآية أو آيتين ويركع. فيعلم الناس أنه بدخوله في السورة الثانية قصد أن لا يسجد، وحينئذٍ تحفظ صلاة المأمومين من الاختلاج، ولذلك قال الأئمة: إنه مما يكره تخيّر آيات السجدة لمن لا يريد السجدة، كأن يقرأ سورة (اقرأ باسم ربك) في صلاة المغرب وهو لا يريد أن يسجد، فإنه إذا مر بالسجود وقال: (الله أكبر) فإن من لا يراه، كالنساء سيسجد مباشرة، كذلك من هو بعيد عن الإمام، خاصة في المساجد الكبيرة. فمن فقه الإمامة التنبه لمثل هذا، ولذلك لا ينبغي فعل مثل هذا، فإن أراد الإمام أن يقرأ السجدة ويسجد فلا حرج، وقد أصاب السنة، أما إذا لم ينو السجود فلا يقرأ، أو يقرأ ما بعدها من آيات لكي يبين أنه غير قاصد للسجود. فهذا بالنسبة لما يتعلق بالإمام. أما بالنسبة لما يتعلق بالمأمومين فإذا كبّر الإمام وركع فمن الناس من يسجد، ومنهم من يركع، أما من ركع فلا إشكال، ولكن من سجد فلا يخلو من حالات: الحالة الأولى: أن يسجد ويتنبه أن الإمام راكع أثناء سجوده أو أثناء الهوي، أو يتنبه بعد سجوده أن الإمام لم يسجد، أو يتنبه بمن بجواره، أو يتنبه برؤية الإمام أثناء الهوي أنه ركع ولم يسجد، فحينئذٍ إذا تنبه رجع مباشرة؛ لأنه مطالب بالاقتداء، وزيادة هذا الفعل حصلت لما كان الأمر في الآية بالسجود، ولا عبرة بالظن الذي بان خطؤه، فيلغى فعله، والإمام يحمل عنه هذا الخلل، فهذا إذا تنبه ورجع. الحالة الثانية: أن لا يتنبه إلا بعد تسميع الإمام، وحينئذٍ لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون ساجداً، فيقول الإمام: (سمع الله لمن حمده)، فإن قام واستتم قائماً وركع وأدرك الإمام في الرفع من الركوع أو في السجدة صحت صلاته وأجزأته، وقد فاته الركن وتدارك، ويكون تأخره للعذر، فيجبره بالتدارك، وهذا إذا قام وركع. الحالة الثانية: أن يجهل الحكم فيقوم ولم يركع، لكون الإمام قد وقف، فاجتهد لحظ نفسه، فحينئذٍ إذا لم يركع يلزمه أن يأتي بركعة بعد سلام الإمام، كمن فاتته ركعة وراء الإمام، وكمن لم يقرأ الفاتحة وراء الإمام، أو لم يركع أو يسجد لسهو وراء الإمام، فيلزمه أن يأتي بركعة تامة؛ لأن الركوع لا يجبر إلا بالركعة التامة، وحينئذٍ إذا جاء بالركعة الثانية صحت صلاته تامة، لكن لو فرض أنه لم يفعل شيئاً من هذا، كأن قام ووقف مع الإمام وسجد وسلم مع الإمام، ثم خرج من المسجد ولم يقضِ هذه الركعة فقد بطلت صلاته ولزمته الإعادة. فهذا حاصل ما يقال في هذه المسألة التي يكون فيها سجود المأموم وركوع الأئمة، وقس على هذا بقية الأركان التي يحصل فيها الاختلاج بين الأئمة والمأمومين. والله تعالى أعلم.

كيفية الفتح على الإمام إذا لم يفهم المقصود بالتسبيح

كيفية الفتح على الإمام إذا لم يفهم المقصود بالتسبيح Q إذا سبح الثقات للإمام، ولكن الإمام لا يعلم هل زاد أم نقص، فما الحكم في ذلك؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإذا كنت وراء إمام وسبحت له ولم يفهم مقصودك فإنه يشرع في هذه الحالة أن تخاطبه، وتبين له ما ينبغي عليه فعله، وهذا الكلام الذي تخاطبه به دلت السنة على مشروعيته في حديث أبي هريرة في الصحيحين، فإن ذا اليدين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أقصرت الصلاة، أم نسيت؟) فباشره ببيان الحال. فأخذ العلماء من هذا دليلاً على أن الإمام إذا لم يفطن، أو غلب على ظنك أنك لو سبحت له أنه يرتبك ولا يعرف ماذا يصنع، فحينئذٍ تباشره بالكلام وتقول له: اركع. أو: فاتت ركعة. أو: فاتت سجدة. أو: اقرأ الفاتحة. فلو أن إماماً كبر وابتدأ القراءة بـ (التِّينِ وَالزَّيْتُونِ)، فإنك إذا سبحت له ظن أنك تسبح لخلل في قراءته فيرجع ويقول: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1] فحينئذ تقول له: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال بعض العلماء: تذكر الآية حتى تكون من جنس القراءة، ويكون فتحاً عليه. وهذا أولى وأنسب، فإن لم يفهم ولم يتفطن فلك الحق أن تقول: اقرأ الفاتحة، أو: فاتت الفاتحة، فإن الفتح على هذا الوجه لعذر، وإذا كان الكلام لعذر، لمصلحة الصلاة فإنه جائز ولا حرج فيه. والله تعالى أعلم.

حكم سجود المؤتم للسهو إن لم يسجد الإمام

حكم سجود المؤتم للسهو إن لم يسجد الإمام Q نرى بعض الناس بعد تسليم الإمام يسجد سجدتي السهو قبل أن يسلم، فما حكم هذا؟ A لا يشرع للمأموم أن يسجد بعد تسليم الإمام لما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود وأحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين)، وبناءً على هذا الحديث قالوا: يحمل الإمام عن المأموم سهوه بالنقص في الواجبات، ولا يحمل عنه سهوه في الأركان، وبناءً على ذلك فإن الأركان لا تجبر إلا بالفعل، وعليه فإذا سها المأموم وراء الإمام في غير الأركان فإن الإمام يتحمل عنه السهو، وقد خرّج العلماء على هذا أن المأموم لا يشرع له سجود السهو وراء الإمام، إلا في مسألة ما إذا كان المأموم مسبوقاً، كما لو أدركت الإمام في الفجر في الركعة الثانية فقمت بعد سلام الإمام بالركعة الثانية بالنسبة لك وفي قيامك بها حصل خلل، فإن نسيت أن تقول: (سمع الله لمن حمده)، أو غيره من الواجبات، فحينئذٍ يشرع لك أن تسجد للسهو، لكن هذا بعد الانفصال وليس قبل الانفصال، أما وأنت وراء الإمام وسلامك بسلام الإمام فلا يشرع لك أن تسجد وراء الإمام سجود السهو، وينصح مثل هذا. والله تعالى أعلم.

حكم سجود السهو مع الإمام إذا زاد في صلاته وقد فارقه المؤتم

حكم سجود السهو مع الإمام إذا زاد في صلاته وقد فارقه المؤتم Q قام الإمام إلى الركعة الخامسة ولم يرجع، فجلسنا للتشهد حتى أتم الصلاة ثم سلمنا معه، ثم قيل له بعد الصلاة: إن الصلاة زائدة فهل نسجد معه سجود السهو؟ A من كان مع الإمام متصل الصلاة وانتظر تسليم الإمام فإنه لم يفارقه، والذي لم يفارق يسجد مع الإمام لسهو الإمام؛ لأنه متصل بصلاته، كما لو سها الإمام في ركعة لم تدركها، أو سها قبل أن تدركه في الركعة، فحينئذٍ يشرع لك أن تسجد وراءه، ولا يشترط في متابعة الأئمة أن يكون سهوك كسهوه، ألا ترى في صلاة الظهر لو أنه نسى واجباً من الواجبات كقراءة التشهد الأول وقام وأنت قرأت التشهد الأول فإنك تسجد وراءه، مع أنك لم تحدث النقص. وبناءً على ذلك فلو أنك انتظرته حتى أتم الركعة ثم جلس للتشهد وسجد بعد السلام للزيادة فإنك تسجد وراءه، أو سجد قبل سلامه سجدت وراءه على الأصل الذي ذكرناه. والله تعالى أعلم.

ضوابط بيع الذهب بغيره

ضوابط بيع الذهب بغيره Q أنا تاجر ذهب في محلٍّ صغير آخذ الذهب من التجار الكبار بدون مبلغ أحياناً، ثم أبيعه وأعطيهم الثمن بعد ذلك، فهل في هذا شيء؟ A لا يجوز التعامل في الذهب والفضة إلا يداً بيد، مثلاً بمثل عند اتحاد الصنف لما ثبت في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير والملح بالملح، مثلاً بمثل يداً بيد)، فبيع الذهب بالفضة لا يجوز إلا يداً بيد لقوله في نفس هذا الحديث: (فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، فإذا اشتريت ذهباً فإنه لا يجوز لك أن تفارقه حتى تعطيه قيمة الذهب، فلو قلت له: هذه خمسون، وتبقى علي مائة، أو: يبقى ريال واحد. فإنه يحكم بكونه ربا النسيئة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في التعامل في الذهب مع الفضة في البيع أن يكون يداً بيد. والله تعالى أعلم.

الاستدلال بحديث المسيء صلاته على عدم وجوب السترة

الاستدلال بحديث المسيء صلاته على عدم وجوب السترة Q القاعدة الأصولية تقول: (لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة)، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر المسيء صلاته عن السترة، فهل يدل ذلك على أنه صارف لوجوب السترة إلى الندب؟ وإذا كان ترك الواجب عمداً يبطل الصلاة وسهواً يجبر بالسجود، فهل يكون كذلك في ترك السترة؟ A هذا اعتراض على مسألة وجوب السترة، والاعتراض بحديث المسيء صلاته غير وارد، وذلك لأن المسيء صلاته حدثه النبي صلى الله عليه وسلم عمَّا هو متعلق بذات الصلاة -أي: بجنسها-، مع أن لقائلٍ أن يقول: إنما نبهه على الخلل -وهو حصول عدم الطمأنينة- وارتبطت به الواجبات التي ذكرت تبعاً، ولذلك قال العلماء رحمهم الله عند ذكرهم لهذا الحديث: أجمعوا على أنه تضمن أركان الصلاة والتنبيه على الأركان. ولذلك فما ورد إلا في روايات الآحاد والأفراد مسألة: (استقبال القبلة)، ورواية: (توضأ)، وإلا فإن الرواية المشهورة ذكرت الأركان التي حصل الخلل فيها. ولذلك قالوا: هذا منفك؛ فإنك توجب الأذان ولا تستطيع أن تسقطه بحديث المسيء صلاته؛ لأن حديث المسيء صلاته منصب على شيء معين حصل الإخلال فيه، مع أنه يمكن أن يعترض على من اعترض بحديث المسيء صلاته، فيقال له: يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه اقترب من السترة وكبّر فنبهه على الإخلال في الأركان ولم ينبهه على السترة، فهذا محتمل، والقاعدة تقول: (ما تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال)، وإنما يستقيم الاستدلال به لو رآه عليه الصلاة والسلام يصلي إلى غير سترة ولم يأت في الحديث ذكر السترة، فإنه حينئذٍ يكون دليلاً صريحاً يقوى على معارضة الصريح من الأمر بالسترة، أما إذا كان الدليل متردداً يحتمل أنه صلى إلى سترة ويحتمل أنه صلى إلى غير سترة فلا؛ لأنه لا يستقيم استدلاله بالحديث إلا إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم رآه يصلي إلى غير السترة وسكت عنه، أما لو رآه يصلي إلى السترة فإنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن الرجل يعلم وجوب السترة، فلا يحتاج إلى أن ينبهه عليها. الأمر الثاني: أنه يمكن أن يقال: إنه لا تعارض بين هذا وهذا لورود الأمر بالسترة منفصلاً عن حديث المسيء صلاته، وإنما يستقيم الاستدلال بحديث المسيء صلاته إذا جاء بأسلوب القصر والحصر الذي يدل على أن ما عدا ما ذكر من المستحبات والمندوبات. وأما بالنسبة لجبرها بسجود السهو فليست السترة من جنس الأفعال والأقوال المتعلقة بالصلاة التي يعتبر تركها مجبوراً بسجود السهو، فهي عبادة هيئة إن وجدت حصل المقصود، وإن لم توجد أثم التارك لها متعمداً، ولا يجبر تركها بالسجود. والله تعالى أعلم.

حكم قصر الصلاة لمن يظن أنه سيصل إلى بلده ويدرك الوقت

حكم قصر الصلاة لمن يظن أنه سيصل إلى بلده ويدرك الوقت Q هل يجوز القصر لمن يستطيع أن يدرك الفريضة في المدينة التي يريد أن يسافر إليها؟ A لو كنت من أهل مكة وجئت من المدينة في الساعة الثالثة والنصف أو الرابعة، وأذّن المؤذن أذان العصر وأنت في الجموم أو في عسفان، ويغلب على ظنك أنك ستصل إلى مكة قبل غروب الشمس فأنت مدرك للوقت، فلك أن تأخذ بالرخصة وتصلي قصراً، مع علمك أنك تصل قبل انتهاء الوقت. وذلك لأن الخطاب توجه عليك بدخول الوقت بركعتين، فأنت مطالب بهما على الأصل. أما إدراكك للمحل الذي تريده قبل غروب الشمس فمظنون فإذا لطف الله وصلت، وإذا لم يلطف الله عز وجل فلو بلغت شق الأنفس لن تبلغ، وبناءً على ذلك تبقى على الأصل، فيجوز لك أن تصلي؛ لأن الخطاب متوجه عليك بركعتين، فإذا صليت الركعتين فقد برئت ذمتك. وهذا على أصح أقوال العلماء، فمن صلى مسافراً في أول الوقت وأدرك آخر الوقت في الحاضرة لا يلزم بالإعادة؛ لأن ذمته برئت. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب سجود السهو [2]

شرح زاد المستقنع - باب سجود السهو [2] من زاد في صلاته ركعة فلم يعلم بها إلا بعد إتمامها فإنه يسجد للسهو، وإن سها الإمام فزاد في الصلاة فعلى من خلفه أن يسبحوا، فإن سبحوا ورجع فبها، وإلا بطلت صلاته وصلاة من تبعه إن كان عالماً. ومن أكثر الحركة في الصلاة من غير جنسها فإن صلاته تبطل، وإن كانت الحركة يسيرة فلا تبطل بها الصلاة، ولا يشرع لها سجود سهو. وهناك أحوال لا يشرع فيها سجود السهو مفصلة في موضعها.

أحكام سجود السهو

أحكام سجود السهو

حكم زيادة ركعة في الصلاة

حكم زيادة ركعة في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإن زاد ركعة فلم يعلم حتى فرغ منها سجد]. الزياة في الصلاة إما أن تكون عمداً أو سهواً، فإن كانت عمداً فإنها توجب البطلان، وإن كانت سهواً، كأن زاد فعلاً أو أفعالاً من جنس الصلاة ساهياً سجد، فالزيادة مع السهو تجبر بسجدتي السهو، ولذلك قال المصنف: [وإن زاد ركعة فلم يعلم حتى فرغ منها سجد]. فلو أنّه صلى الصبح فقام إلى الركعة الثالثة وهو يظن أنه في الثانية، فلما سجد الثانية من هذه الركعة الزائدة، أو كان في التشهد تذكر أنه قد زاد وأنه قد صلى ثلاثاً، فلا إشكال أنه يسجد بعد السلام سجدتين. قال رحمه الله تعالى: [وإن علم فيها جلس في الحال، فتشهد إن لم يكن تشهد وسجد وسلم]. قوله: (وإن علم فيها) أي: بأن قام للركعة الزائدة ناسياً فقرأ الفاتحة وأتمها، أو قرأ نصف الفاتحة، أو قبل ابتدائه بالفاتحة وبعد أن استتم قائماً فذكر أنه زاد ركعة فعليه أن يجلس مباشرة، سواء أذكر عند بداية الركعة بمجرد وقوفه، أو تذكر بعدما وقف وقرأ الفاتحة، أو تذكر بعدما وقف وقرأ الفاتحة وشرع في السورة، أو قرأ الفاتحة وقرأ السورة وأراد أن يركع فتذكر أنها زائدة، أو قرأ وانتهى من القراءة وركع وأثناء الركوع تذكر، أو قرأ وركع ورفع من الركوع وقبل سجوده تذكر، ففي هذه الأحوال كلها يلزمه أن يرجع مباشرة، ولا يجوز له أن يبقى لحظة واحدة بعد العلم متلبساً بهذه الحالة الزائدة، فإن بقي لحظة واحدة بعد العلم وكان متعمداً بطلت صلاته؛ لأنها زيادة قيام وركن. وهنا أحكام: الحكم الأول: أنه يلزمه قطع الأقوال والأفعال مباشرة، فلو قلت: (الله أكبر)، وقمت واستتمت قائماً، فقلت: (الحمد لله رب العالمين)، ثم تذكرت مباشرة فإنك تجلس. الحكم الثاني: أن انتقالك من القيام إلى الجلوس بعد أن علمت أنك زدت لا تتكلم فيه ولا تكبر؛ لأنك في هذه الحالة مأمور بالجلوس للتشهد، وبمجرد رفعك من السجدة الثانية قد كبرت للتشهد الأخير، فلا تحدث أي قول، بل تجلس مباشرة وأنت ساكت، وإن كنت إماماً جلست وأنت ساكت والناس معك سكوت. ثم إن كنت في مثل صلاة الفجر، فقمت إلى الركعة الزائدة، ثم تبين لك بعدما قمت أنك زدت، وكنت قد قرأت التشهد، فحينئذٍ إذا رجعت لا تقرأ التشهد؛ لأنك قد قرأته، فتتم بالدعاء ثم تختم بالتسليم، فهذا إذا تذكرت بعد أن كنت قد قرأت التشهد. أما لو أنك بعد سجدتك الثانية قمت إلى الركعة الثالثة الزائدة، فتذكرت فإنك تجلس مباشرة، ثم تشرع في قراءة التشهد؛ لأنك مخاطب في هذه الحالة بقراءة التشهد، فتتشهد وتتم صلاتك، ثم تسجد بعد السلام للزيادة؛ لأنك لما وقفت هذه الوقفة كان ركناً زائداً جبر بسجدتي السهو بعد السلام. فقوله: (جلس في الحال) هذا هو الحكم الأول، وقوله: (فتشهد إن لم يكن تشهد) حكم ثان في حالة ما إذا صليت الظهر أربع ركعات ثم جلست للتشهد، ثم شككت بعد أن انتهيت من التشهد بكماله، في كون الركعة التي أنت فيها الثالثة أو الرابعة، فالشك إذا حصل للإنسان قبل سلامه فإنه يلزمه أن يأتي باليقين على ظاهر حديثي ابن عباس وأبي سعيد رضي الله عنهما، فإن قمت ظاناً أنك في نقص، فلما وقفت تذكرت أن الذي أنت فيه إنما هو التمام والكمال، فإنك تجلس مباشرة، وحينئذٍ لا تقرأ التشهد، وكونك أحدثت قياماً بعد تشهدك لا يلغي التشهد الأول لمكان إذن الشرع بالتمام، فألغي بعد العلم، وصار وجوده وعدمه على حد سواء، فإن شئت أتممت الدعاء، وإن شئت جلست مباشرة وسلمت. وقوله: (وسجد ثم سلم) هذا على ما اختار رحمة الله عليه -وهو أحد أقوال العلماء- أن سجود السهو كله قبل السلام، والراجح للنصوص الواردة أن الزيادة يسجد لها بعد السلام، والنقص والشك قبل السلام.

حكم إلزام الإمام بتسبيح المؤتمين إن سها في الصلاة

حكم إلزام الإمام بتسبيح المؤتمين إن سها في الصلاة قال رحمه الله تعالى: [وإن سبح به ثقتان فأصرو لم يجزم بصواب نفسه بطلت صلاته وصلاة من تبعة عالماً لا جاهلاً أو ناسياً]. أي: قالا: (سبحان الله). وهو اللفظ الذي يشرع عند حصول الخلل من الإمام، أو يكون لعارضٍ يريد أن ينبه الإنسان به غيره، كما لو رأى إنسان غيره يريد أن يقع في ضرر أو شيء ما فإنه يقول: (سبحان الله). وأما الدليل على اشتراط الثقتين فحديث ذي اليدين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حينما سلم من الركعتين وقام كالغضبان، قال ذو اليدين: (يا رسول الله! أقصرت الصلاة، أم نسيت؟) فالنبي صلى الله عليه وسلم بنى على ظنه واجتزأ بهذا الظن وسلم بالمأمومين، فدل على أن الإمام يعمل بظنه، فلما قال له ذو اليدين: (يا رسول الله: أقصرت الصلاة، أم نسيت؟ قال: ما كان شيء من ذلك. فقال: بلى قد كان شيء من ذلك) فلم يرجع النبي عليه الصلاة والسلام إلى قول ذي اليدين وحده. فدل على أن قول الثقة وحده لا يكفي؛ إذ لو كان كافياً لعدل النبي صلى الله عليه وسلم عن صواب نفسه إلى قول ذي اليدين، وإنما قال عليه الصلاة والسلام للصحابة: (أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم). فدل على أنه لا بد من تمام البينة والشهادة، وذلك إنما يكون في أصل الشرع بشهادة ثقتين، فإذا قال أحد المأمومين: (سبحان الله). وهو وحده، وأنت على غلبة ظنك أنه لابد من ركعة، فإنك تقوم، فإن سبح اثنان ثقتان وراءك فحينئذٍ ترجع إلى قوليهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ألغى ظنه ورجع إلى ظن الثقات، فدل على أنه إذا كمل النصاب رجع إلى قول الثقات، وهذه من المسائل التي يقدم فيها قول الثقتين على ظن النفس. ولها نظائر، منها: لو أن القاضي شهد عنده عدلان أن لفلان على فلان ألفاً، وهو يعلم أن فلاناً قد سدد هذا الألف، ولكن ليست عنده بينة، فلا بد أن يحكم بشهادة الشهود، ولا يعتبر بعلم نفسه، قالوا: يحكم بما قال الشهود، ثم يخبر صاحب الحق أنه سيشهد له، فيقيم صاحب الحق دعوى عند غيره ويكون القاضي شاهداً بحقه. ولذلك قال: وعدل إن أدى على ما عنده خلافه منع أن يرده وحقه إنهاء ما في علمه لما سواه شاهداً بحكمه فهذه من المسائل التي تقدم فيها شهادة الشهود على ظن نفسك، وإلا فإن الأصل يقتضي أن يقين نفسك لا تعدل به إلى ظن غيرك. لكن قالوا: إنما اشترط العدلان لأنه حينما يقول لك رجل: (سبحان الله) فأنت على يقين في نفسك، وهو أيضاً على يقين في نفسه، فحينئذٍ ليس من حقك أن تعدل عن يقين نفسك إلى يقين غيرك؛ لأن الله كلفك بيقين نفسك، ومن هنا قالوا: لا يجوز للمجتهد أن يعدل إلى اجتهاد غيره، ما دام أنه قد تبين له الحق في اجتهاد نفسه. وقالوا: يحرم على المجتهد أن يقلد؛ لأنه على بينة في قرارة نفسه والله تعبده بظنه. فالإمام إذا سُبِّح له وهو على يقين من نفسه، وقال الذي وراءه: (سبحان الله) فهذا ظن غيره، فلما اكتملت الشهادة ضعف جانب الإمام وحده، ووجب عليه الرجوع إلى قول هؤلاء العدول. وقوله: [سبح به] الباء لها معانٍ تقرب من عشرة معانٍ، وقد أشار إليها ابن مالك بقوله: تعد لصوقاً واستعن بتسبب وبدَّل صحاباً قابلوك بالاستعلاء فقوله: (سبح به الثقتان) بمعنى: أعلموه بالزيادة التي هو فيها، فهو قائم وهم جلوس، فسبحوا له أن: ارجع إلى التشهد. فإن لم يكن على يقين نفسه، وأصر على القيام ولم يكن جازماً في قرارة نفسه فحينئذٍ (بطلت صلاته وصلاة من تبعه عالماً)؛ لأنه إذا بطلت صلاة الإمام بطلت صلاة المأمومين على هذا الأصل المقرر عند فقهاء الحنابلة والحنفية. قالوا: لأنه لما سبح به الثقتان ولم يكن عنده يقين نفسه فإنه في هذه الحالة مأمور بالرجوع إلى قول الثقتين، وكونه لم يرجع إلى قول الثقتين يكون قد ترك واجباً من واجبات الصلاة، ومن ترك الواجب متعمداً فصلاته باطلة، ولذلك يقولون: دليل الوجوب هدي النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي). وأما كونهم اشترطوا الجزم فلأن ذا اليدين لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (بلى قد كان شيء من ذلك) شك عليه الصلاة والسلام فقال: (أصدق ذو اليدين؟)، فدل على أنه ليس على يقين من نفسه، وبناءً على ذلك فإذا كان الإمام على يقين من نفسه فحينئذٍ يعمل بيقين نفسه. وقوله: (عالماً) أي: بالزيادة. وقوله: (لا جاهلاً أو ناسياً) هذا على العذر بالجهل والنسيان، وفيه حديث معاوية بن الحكم المشهور. وبعض العلماء يقولون في مسألة العذر بالجهل: إذا استقرت الأحكام فلا يعذر بالجهل، وإنما يعذر بالجهل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وحملوا عليه حديث الأعرابي في عمرة الجعرانة، وحديث معاوية بن الحكم في الكلام، فقالوا: إن الأحكام لم تستقر، ولذلك يعذر، ويعتبر هذا موجباً لعذره. ومنهم من يقول: إن العذر يكون لعدم العلم بالناسخ، خاصة في الكلام، وسيأتي إن شاء الله ذكره، وهو قول بعض العلماء، منهم أبو الخطاب، حيث يخرجها على المسألة الأصولية المشهورة: (إذا لم يعلم بالناسخ فإنه يعذر بفعل المنسوخ). وبناءً على ذلك يكون كأنه متعبد لله عز وجل بأصل، فيعتبرون الجهل في هذا موجباً لعدم بطلان صلاته، وموجباً للعذر.

أحكام مفارقة المؤتم للإمام إذا سها في الصلاة

أحكام مفارقة المؤتم للإمام إذا سها في الصلاة قال رحمه الله تعالى: [ولا من فارقه]. إذا كنت وراء الإمام وصلى الإمام الظهر خمساً وقام إلى ركعة وأنت على يقين من أنها خامسة، فإن الذي يلزمك شرعاً -إذا علمت أنه قد زاد الركعة- أن تبقى في مكانك وتتشهد، ولا يجوز أن تتابعه على الزيادة، ولك هنا حالتان: الحالة الأولى: قال بعض العلماء: تتشهد وتتم لنفسك وتفارقه لمجرد زيادته. الحالة الثانية: تبقى تتشهد وتنتظر حتى ينتهي من الركعة؛ لأنه معذور فيها فله حكمه على ظنه، وأنت معذور بترك الائتمام، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، إذ جلست الطائفة الأولى وقام للطائفة الثانية بالركعة، فأتمت لنفسها وسلم بالجميع. قالوا: فيتخرج على هذا أنه يعذر المأموم في ترك الاقتداء لمكان الزيادة، ثم يبقى يتشهد، ثم يكثر من الدعاء والاستغفار وسؤال الله من فضله حتى يتم الإمام ركعته، ثم يسلم معه. وهذا المذهب أقوى؛ لأن الأصل المتابعة حتى يدل دليل على الخروج من الصلاة. وبناءً عليه، فلو صلى إمام الحي الصبح ثلاثاً، فإذا قام للثالثة تجلس وتتركه حتى يتم إذا أصر على رأيه ويقينه، ثم إذا تشهد تبقى تتشهد حتى ينتهي من الركعة بكمالها، ثم تسلم معه. وإذا زاد إمام الحي بأن قام للثالثة في صلاة الفجر، أو الخامسة في صلاة الظهر أو العصر، أو الرابعة في المغرب، أو الخامسة في العشاء، فالمأمون على حالات: الحالة الأولى: من تبعه منهم ظاناً أنه على حق وصلاته صحيحة، كأن يقوم الإمام في الفجر إلى الثالثة والمأموم يعتقد أنها الثانية، فصلاته وصلاة الإمام صحيحة؛ لأن الله تعبدهما بهذا الظن. الحالة الثانية: أن تعلم أنها زائدة، فثبت على الحالة التي ذكرناها وسلمت مع الإمام، أو فارقته على مذهب من يرى المفارقة، فصلاتك صحيحة. الحالة الثالثة: أن تعلم أنها زائدة وتقوم معه متعمداً عالماً بزيادته لكنك جهلت الحكم، فحينئذٍ تعذر بالجهل عند من يرى العذر بالجهل، والدليل على ذلك أن الصحابة سلموا وراء النبي صلى الله عليه وسلم -كما في قصة ذي اليدين - ظانين أن الصلاة قد قصرت بدليل الحديث: (فقام السرعان من الناس يقولون: قصرت الصلاة. قصرت الصلاة)، فسلم أبو بكر وهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سلم وأن هذا السلام ليس في موضعه، لكنه جاهل بالحكم، ويظن أن الصلاة قد نسخت. فلذلك قالوا: (الجهل بالحكم والظن بالتشريع في مرتبة واحدة)، فيعذر هذا كما يعذر هذا، وبناءً على ذلك فمن قام من العوام مع الإمام يظن أنه يتابعه وهو يعلم أنه قد زاد فحينئذٍ يحكم بصحة صلاته من هذا الوجه. وقالت طائفة من العلماء: تبطل صلاتهم. وهذا على مذهب من يقول: إن العذر بالجهل خاص بزمان النبي صلى الله عليه وسلم. وهو أقوى المسلكين من مسالك الأصوليين رحمة الله عليهم.

حكم كثرة الحركة في الصلاة من غير جنسها

حكم كثرة الحركة في الصلاة من غير جنسها قال رحمه الله تعالى: [وعمل مستكثر عادة من غير جنس الصلاة يبطلها عمده وسهوه]. وصف المصنف العمل بكونه مستكثراً، أي: كثيراً، فخرج العمل القليل، كأن يصلح عمامته أو يصلح ثوبه، فقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حينما جر ثوبه وهو في الصلاة والتحف به، فهذا عمل يسير. وللعلماء قولان في ضابط العمل الكثير: القول الأول: أنه يضبط بالعدد، فإذا فعل ثلاث حركات متتابعات بدون فاصل فهذا عمل كثير ويوجب بطلان الصلاة، وهذا قول الحنفية. القول الثاني: لا حد بالعدد، وإنما يحد بالعادة والعرف؛ لأن ما أطلق في الشرع فإنه يبقى على إطلاقه. فيعرف الكثير من العمل في العادة بأنه لو رآه رجل من بعيد يفعل هذه الأفعال لقال: هذا غير مصلٍ. فبناءً عليه فرقوا بين القليل والكثير بضابط العادة، وهذا قول الجمهور، ومنهم الشافعية والحنابلة، ودرج عليه المصنف فقال: [عادة]، والقاعدة أن ما أطلقه الشارع فإنه يرجع فيه إلى العرف والعادة. فعمل المستكثر عادة يعتبر من موجبات بطلان الصلاة؛ لأن الإنسان إذا فعل الأفعال الكثيرة التي لا تتعلق بالصلاة خرج عن كونه مصلياً، وبناءً على ذلك يحكم ببطلان صلاته، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن في الصلاة لشغلاً)، والتعبير بهذا الأسلوب يدل على أنه شغل، أي: ينبغي للمكلف أن يستجمع نفسه لهذه الصلاة فلا يشتغل بأي أمر خارج عنها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن الحكم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس)، فهي عبادة مخصوصة تقع على هيئة مخصوصة، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأصل بقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي). فالأفعال التي هي من جنس الصلاة إن كانت عمداً فالصلاة باطلة، وإن كانت سهواً جبرت بسجود السهو. وهذا هو النوع الأول من الأفعال الزائدة. والأفعال الزائدة من غير جنس الصلاة يفرق بين قليلها وكثيرها، فإن كان الفعل كثيراً بطلت، وإن كان يسيراً لم تبطل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فتح الباب وهو في الصلاة، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه حمل أمامة في الصلاة ووضعها، وصعد المنبر ونزل عنه عليه الصلاة والسلام، وكل ذلك لم يوجب بطلان صلاته صلوات الله وسلامه عليه. وقوله: (يبطلها عمده وسهوه). أي أن الأفعال المستكثرة التي ليست من جنس الصلاة يبطلها العمد والسهو، فلو أن إنساناً نسي أنه في الصلاة فتحرك حركات كثيرة، ثم تذكر أنه في الصلاة ورجع إليها؛ فإنه يحكم ببطلان صلاته، ويستوي في ذلك أن يكون متعمداً أو ناسياً، ولذلك يعتبرون النسيان في مثل هذا الحال لاغياً. فإن قال قائل: كيف نجيب عن قول الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]؟ قلنا: نسيانه وذهوله يوجب سقوط الإثم عنه، ولا يوجب سقوط الحق عنه، ولذلك فإن النسيان لا يسقط الحقوق، فلو كان لرجل على إنسان دين ونسيه ثم تذكره وجب عليه أن يقضي الدين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فدين الله أحق أن يقضى)، فحق الله لا يسقط بالنسيان، وهذا على الأصل وإن كان هناك استثناءات دلت النصوص عليها، ولذلك يعبر الأصوليون بعبارة أدق فيقولون: يسقط عنه الإثم من باب الحكم، ويلزم بإعادة صلاته واستئنافها إعمالاً للأصل.

يسير الحركة في الصلاة

يسير الحركة في الصلاة قال المصنف رحمه الله: [ولا يشرع ليسيره سجود]. أي: إذا عمل عملاً كثيراً حكم ببطلان صلاته، أما لو عمل شيئاً يسيراً فإنه لا يشرع له أن يسجد سجود السهو، فلا يسجد لليسير من الأفعال سجود السهو جبراً للخلل، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل بعض الأمور اليسيرة التي ليست من مقصود الصلاة ولم يسجد لها، كفتحه للباب لما قُرع عليه، ورده السلام حينما سُلم عليه وهو في الصلاة، فهذه الأعمال اليسيرة لا يحكم فيها ببطلان الصلاة، ولا يشرع لها سجود سهو، وإنما تغتفر سماحة ويسراً من الشرع.

الأكل والشرب في الصلاة

الأكل والشرب في الصلاة قال رحمه الله تعالى: [ولا تبطل بيسير أكل وشرب سهواً]. لأن الأكل والشرب يخالف مقصود الصلاة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الصلاة لشغلاً)، فالأصل في المصلي أن يشتغل بذكر الله عز وجل، وعمل الأعمال التي أمر الله بعملها حال الوقوف بين يديه، فإذا أكل أو شرب فقد خرج عن كونه مصلياً. ومذهب كثير من العلماء أن من أكل أو شرب اليسير أو الكثير عمداً أو نسياناً فصلاته باطلة، وهذا القول أشبه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن الصلاة فيها شغل، وليس من شغل الصلاة الأكل والشرب، بل هو متضمن للإعراض عن الله عز وجل بالالتهاء بشهوة البطن، سواءٌ أكان أكلاً أم شرباً، كثيراً أم قليلاً، إلا أن هؤلاء منهم من استثنى اليسير الذي يكون بين الأسنان، وهكذا طعم الطعام، كأن يكون شرب لبناً فبقي شيء من طعمه في ريقه، أو بقيت رائحته في فمه فاستطعم ذلك الطعم، فقالوا: لا تبطل صلاته لما في ذلك من المشقة؛ إذ يصعب على الإنسان -خاصة أثناء صيام رمضان إذا كان حديث عهد بالسحور وجاء لصلاة الفجر- أن يدفع مثل هذا اليسير، ثم هو شيء قليل لا يقصد عادة فاستثنوا مثل هذا اليسير الذي يكون بين الأسنان، أو يكون داخل الفم من رائحة قوية للطعام لم تزل بالمضمضة. وفصّل بعض العلماء فيما يكون بين الأسنان فقال: إن اشتغل بقلعه أثناء الصلاة ووضعه بين أسنانه كحال الطاعم والعاض فإنه يحكم ببطلان صلاته؛ لأنه في صورة الآكل. أما لو أنه استخرجه مباشرة فإنه لا يحكم ببطلان الصلاة لكونه لم يطعم. ولا شك أن الأكل والشرب لا وجه لاستثنائه يسيراً كان أو كثيراً، إلا ما أثر عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أنه شرب الماء في صلاة النافلة، وبعض العلماء يشكك في ثبوت الخبر، ولكنهم قالوا: إن هذا لا يقوى على معارضة السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تدل على أن المصلي ينبغي عليه أن يشتغل بمقصود الصلاة. وبناءً على هذه السنة فإنه لا يقوى على تخصيصها إلا ما هو في مثلها في القوة أو أقوى منها، كأن يكون نصاً قطعياً متواتراً، فلا يقوى مثل هذا على الاستثناء، ويتأول لـ ابن الزبير لو صح عنه، فإذا قيل بهذا فإنه يُبقى على الأصل الذي يوجب الحكم ببطلان الصلاة. واستنثى المصنف رحمه الله حالة السهو إذا أكل أو شرب يسيراً، وقد قال بعض العلماء: يغتفر له وتصح صلاته. والصحيح ما ذهب إليه طائفة من أهل العلم أنه يستوي في ذلك العمد والسهو، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر برفع المؤاخذة عن الساهي، فيقولون: يسقط عنه الإثم لمكان السهو ويحكم ببطلان صلاته ولزوم استئنافها. وهذا له أصل، فلو احتاج لإنقاذ نفس، كأن رأى صبيه يوشك أن يقع في الهلاك، فقد قالوا: لو قطع صلاته واشتغل بإنقاذه فخرج عن الصلاة بالعبث الكثير لإنقاذه، فإننا نحكم بسقوط الإثم لمكان الضرورة، ونحكم بوجوب الاستئناف لكونه قد خرج عن الصلاة ومقصودها. وكذلك قالوا هنا: يسقط عنه الإثم لمكان السهو، ويؤمر باستئناف صلاته وابتدائها. قال رحمه الله تعالى: [ولا نفل بيسير شرب عمداً]. أي: ولا يبطل النفل بيسير شرب عمداً، فإذا كان شربه للماء قصداً في النفل قالوا: إن صلاته لا تبطل. وهذا مبني على مذهب من يقول من الأصوليين: إن قول الصحابي وفعله حجة. وهذا لا شك أن له وجهاً عند من يقول به، ولكن نظراً لمعارضته للأصل الذي يدل على وجوب اشتغال المصلي بما هو من مقصود الصلاة فإنه لا يقوى تخصيص هذا الأصل بالأثر الوارد عن ابن الزبير لو صح عنه ذلك.

نقل الذكر المشروع في الصلاة إلى غير موضعه

نقل الذكر المشروع في الصلاة إلى غير موضعه قال رحمه الله تعالى: [وإن أتى بقول مشروع في غير موضعه كقراءة في سجود وقعود، وتشهد في قيام، وقراءة سورة في الأخيرتان لم تبطل ولم يجب له سجود، بل يشرع]. قوله: (وإن أتى بقول مشروع في غير موضعه) مثاله: أن يصلي إنسان الظهر، فعندما قام للركعة الثانية فبدل أن يقرأ الفاتحة قرأ التشهد سهواً لا قصداً، أو ركع فسها فقرأ القرآن راكعاً، أو سجد فقرأ الفاتحة ساجداً، أو جلس للتشهد فسها فقرأ الفاتحة وهو في التشهد. فالفاتحة مشروعة في الصلاة، والتشهد مشروع في الصلاة، فهو متلفظ بلفظ مشروع في الصلاة، ولكن الموضع الذي تلفظ فيه لا يشرع إيقاع هذا الذكر فيه. فسواءٌ أكان في حال القراءة أم حال الرفع من الركوع، أم تشهد بين السجدتين في جلسته بينهما، فكل هذا إذا سها فيه فقد قال رحمه الله: (لم تبطل، ولم يجب له سجود، بل يشرع). وهذا النوع من الأقوال يعتبر متردداً في القياس، أي: يعتبر قياسه قياس شبه، وهو عند الأصوليين (أن يتردد الفرع بين أصلين مختلفين في الحكم)، فأنت إذا نظرت إليه وقلت: إن هذا القول مشروع في أصله. فإن زيادته في الصلاة توجب سجود السهو، كما لو زاد في الصلاة ذكراً في موضع لا يشرع أداء ذلك الذكر فيه، كأن يتشهد مرتين في موضع التشهد فإنه يسجد للسهو، فحينئذٍ إن قسته على من تشهد مرتين أو قرأ الفاتحة مرتين قلت: يسجد للسهو؛ لأن الذكر مشروع في أصله، ولأن إيقاع التشهد الثاني وقراءة الفاتحة مرة ثانية واقع في غير موقعه، فهذا إذا قلت: إنه يسجد للسهو. وإن قلت: لا يجب عليه سجود السهو فذلك لأن المكان ليس بمكان هذا الذكر، فأشبه الفعل الخارج عن الصلاة والقول الخارج عن الصلاة، فلذلك تقول: إنه قول زائد عن الصلاة، فلا يشرع سجود سهو له، كما لو فعل اليسير من الأفعال فلا يجب عليه أن يسجد سجود السهو. فتوسط أصحاب هذا القول بين الأصلين وقالوا: لا يجب عليه سجود السهو؛ لأن الموضع ليس بموضع الذكر، ويشرع له، أي: لو سجد لشرع له لمكان الأصل الذي يلتحق به، كما لو كرر الفاتحة أو كرر التشهد. فالمصنف رحمه الله ذهب إلى هذا القول المتوسط فرأى أنه لا يجب عليه سجود سهو، ولكن لو سجد فلا حرج، وهذا معنى قوله: (بل يشرع) أي: له أن يسجد. فلو سألك سائل وقال: أنا قرأت التشهد قائماً، قلت له: لا يجب عليك أن تسجد، وإن سجدت فلا حرج. ولو سألك وقال: قرأت الفاتحة ساجداً، أو حال التشهد، أو بين السجدتين تقول: لا يجب عليك أن تسجد للسهو، وإن سجدت فلا حرج.

التسليم قبل إتمام الصلاة عمدا أو سهوا

التسليم قبل إتمام الصلاة عمداً أو سهواً قال رحمه الله تعالى: [وإن سلم قبل إتمامها عمداً بطلت، وإن كان سهواً ثم ذكر قريباً أتمها وسجد]. قوله: (وإن سلم) أي: الإمام أو المأموم أو المنفرد، (قبل إتمامها) أي: إتمام الصلاة (عمداً بطلت) أي بطلت صلاة الجميع. فلو أن شخصاً صلى الصبح، فلما انتهى من الركعة الأولى سلم، وهو عالم أنه في الركعة الأولى وأن صلاته لم تتم فإن صلاته تبطل بالإجماع، أو سجد السجدة الثانية الأخيرة، وقبل أن يقرأ التشهد سلم فقد بطلت صلاته، إلا عند من لا يرى وجوب التشهد ولزومه. فمن سلم من الصلاة قبل كمالها وتمامها عالماً أن صلاته لم تتم، فصلاته باطلة؛ لأنه لم يصل على الصفة المعتبرة شرعاً، وقد ثبت في الحديث الصحيح من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم)، فدل على أنه لما سلم أثناء الصلاة فقد حل منها، وبناءً على ذلك يكون تسليمه قبل انتهاء صلاته خروجاً من الصلاة، وقد خرج من الصلاة قبل كمالها فبطلت، وهذه المسألة تدل على أن من أراد أن يقطع الصلاة إذا أقيمت الصلاة فعليه أن يسلم حتى يصدق عليه أنه صلى، ولذلك قالوا: من سلم قبل تمام الصلاة بطلت صلاته. وهذا يدل على أنهم معتبرون للتسليم، وأن التسليم يوجب الخروج من الصلاة، وكل هذا إذا بقي له ركن، أما لو سلم قبل الكمال الذي هو بمنزلة الفضل، كأن يكون سلم قبل الدعاء الأخير، فإن صلاته صحيحة؛ لأن الدعاء الأخير لا يعتبر ركناً ولا واجباً ولا شرطاً في صحة الصلاة، فلو أنه قرأ التشهد وأكمله وكان مستعجلاً وسلم صحت صلاته وأجزأته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: (إذا فعلت هذا -أي: الأركان- فقد تمت صلاتك). وقوله: (وإن كان سهواً ثم ذكر قريباً أتمها وسجد) مثاله: أن يسلم من ركعتين في الرباعية، كما لو صلى الركعتين الأوليين من الظهر وجلس للتشهد، ثم ظن أنه في الركعة الأخيرة فسلم، أو صلى الفجر ركعة ثم جلس يظن أنه في الأخيرة وتشهد وسلم، فكل هذه الصور داخلة تحت هذا الأصل الذي ذكره المصنف، وهذا الحكم مبني على حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين أنه قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي ركعتين ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدمة المسجد فوضع يده عليها، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس، فقالوا: قصرت الصلاة، فقام رجل يقال له: ذا اليدين فقال: يا رسول الله: أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: لم أنس ولم تقصر، فقال: بلى، قد نسيت، فسأل الصحابة: أصدق ذو اليدين؟ فقالوا: نعم. فصلى ركعتين، ثم تشهد، ثم سلم، ثم سجد سجدتين بعدما سلم) صلوات الله وسلامه عليه. وهذا الحديث يدل على مسائل، منها: أن من سلم من صلاته ساهياً يجوز له أن يرجع فيتم ما فاته ويستدركه، وأنه يسجد للسهو لمكان الزيادة، وبناءً على ذلك فمن صلى الصبح ركعة وسلم فإنه يرجع، وإذا رجع يجلس كحال المتشهد ليأتي بصفة القيام من الجلوس إلى القيام، فيقوم ويقرأ الفاتحة ويتم الركعة، ثم يجلس للتشهد ويسلم، فإذا سلم سجد بعد السلام سجدتين، وهاتان السجدتان لمكان الزيادة، ووجه الزيادة أنه زاد في تشهده، ثم زاد السلام بعد التشهد، وهذه الزيادة التي وقعت وهي من جنس الصلاة شرع لها جبر، وذلك بسجوده بعد السلام. فإذا ثبت أن من سلم من نقص يلزمه التمام، فهل كل من ذكر النقص في الصلاة يرجع ويتمها؟ A هذه المسألة فيها تفصيل، فلو أن إنساناً صلى الركعتين وسلم بعد انتهائه منها وبقيت له ركعتان، كأن يكون في الظهر أو العصر أو العشاء، فإن تذكر في المسجد فإنه يشرع له أن يرجع ويتم الصلاة، سواء أطال الوقت أم قصر، ويستوي في هذا أن يكون في مكان صلاته، أو يكون في غير مكان الصلاة. والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من مكان الصلاة وانتقل إلى جوار الجذع، فخرج عن المكان الذي صلى فيه، لكنه داخل المسجد، فاشترط أن يكون ذكره حال كونه داخل المسجد، فلو خرج من المسجد انقطع التدارك ولزمه الاستئناف. وقال بعض العلماء: إن طال الزمان بين تسليمه من الركعتين وذكره يلزمه أن يستأنف. واختلفوا في قدر الطول والقصر على تفصيل. ولكن الأشبه والأقوى أن يرجع إلى المصلى ولو طال الزمان ما دام أنه في المسجد، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجع، فدل على أنه في حال المصلي، مع وقوع الكلام الأجنبي الذي ليس هو من ألفاظ الصلاة كقوله: (ما نسيت ولم تقصر)، وقوله: (أصدق ذو اليدين؟)، فهذا كله كلام ليس من أذكار الصلاة، وإن كان مشروعاً لمصلحة الصلاة. فالمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى الصلاة، واعتبر هذا الفاصل مع وجود الكلام غير مؤثر في الصلاة، وعلى هذا فيشرع للإمام والمنفرد أن يرجعا إلى صلاتهما ويتما على الصورة التي ذكرنا. أما لو أنه خرج من المسجد فإنه يستأنف الصلاة، سواءٌ أطال الوقت أم قصر، فلو أنه سلم من ركعتين وخرج من المسجد مباشرة فإنه حينئذٍ لا يتدارك، وإنما يرجع ويستأنف الصلاة؛ إذ قد بطلت صلاته الأولى بالخروج من المحل، فاعتبر المحل لتصحيح بنائه على صلاته الأولى. وبناءً على ذلك فلو أوقع شخص صلاة بين الركعتين الأوليين من الظهر والركعتين الأخريين، كأن صلى الظهر ثم سلم من ركعتين ساهياً، ثم قام وصلى ركعتين نافلة، ثم بعد أن صلى الركعتين تذكر أنه سلم من اثنتين فعليه أن يرجع ويتم الصلاة، وذلك لأن الصلاة التي أوقعها من جنس الصلاة، وهذا ظاهر. ومثله لو طاف إنسان شوطين، ثم أقيمت الصلاة المفروضة فصلى، ثم رجع وبنى فهو من جنس الطواف، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (الطواف بالبيت صلاة)، فلم يجعل دخول الصلاة بين الأشواط الأولى والأشواط الأخيرة فاصلاً؛ لأنه من جنس الطواف من جهة كونه صلاة. وهكذا لو أوقع نافلة بين الصلاتين المفروضة فيعذر لمكان السهو، وتصح صلاته لمكان الكمال والتمام.

من فاته شيء في الصلاة ثم ذكر بعد السلام

من فاته شيء في الصلاة ثم ذكر بعد السلام قال رحمه الله تعالى: [فإن طال الفصل، أو تكلم لغير مصلحتها بطلت ككلامه في صلبها، ولمصلحتها إن كان يسيراً لم تبطل]. في هذه المسألة مذاهب، فبعض العلماء يقول: أعتبر في الفاصل بين الركعتين الأوليين والأخريين وجود الوقت الطويل، ويعبرون عنه بالفاصل كما درج عليه المصنف. وطائفة من العلماء يقولون: لا عبرة عندنا بالفاصل، ما دام أن المكان لم يغادره المصلي إعمالاً لظاهر حال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ظاهر السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى مصلاه وهو في المسجد، فقالوا: نعتبر الحال والهيئة. وهذا المذهب أشبه من جهة دلالة حال النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكروه. قوله: (أو تكلم لغير مصلحتها بطلت ككلامه في صلبها) أي: إذا تكلم بكلام أجنبي، كأن يسلم من ركعتين فيسأل الذي بجواره عن حاله، أو يكلمه في أمر ما من الأمور، أو سئل عن مسألة فأجاب، أو تكلم بكلام أجنبي ليس من ذكر الله عز وجل وليس من الصلاة، فإنه يستأنف الصلاة على هذا المذهب. والذي يختاره بعض العلماء أنه إذا تكلم بكلام أجنبي نزل منزلة الساهي، كمن تكلم ناسياً كونه في الصلاة، قالوا: فإذا كان كلامه كثيراً فإن صلاته باطلة، وأما إذا كان يسيراً فلا تبطل الصلاة. قوله: [ولمصلحتها إن كان يسيراً لم تبطل]. أي: إن كان الكلام يسيراً لمصلحة الصلاة لم تبطل، فلو سلمت من ركعتي الظهر فقال رجل بجوارك: يا هذا: إن صلاتك لم تتم لأنك صليت ركعتين، فقلت له: لم أصل ركعتين. أو سألته متأكداً من قوله فحينئذٍ إذا رجعت مباشرة صحت صلاتك، وذلك أن سؤالك على سبيل الاستيقان والتثبت، كسؤال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدق ذو اليدين؟)، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم خاطبه ذو اليدين فراجعه النبي صلى الله عليه وسلم حتى تأكد وتحقق، فأخذ العلماء من هذا دليلاً على أن الكلام لمصلحة الصلاة ولتصحيحها لا يوجب البطلان. وفرعوا على هذا لو كنت وراء إمام أخطأ في صلاته بحيث لو سبحت له ازداد في الخطأ، قالوا: يشرع أن تكلمه، فتخاطبه بالذي يفعله، ولا حرج عليك؛ لأن ذا اليدين خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بالذي يفعله، ولم يوجب ذلك الحكم ببطلان صلاته.

باب سجود السهو [3]

شرح زاد المستقنع - باب سجود السهو [3] ينتاب العبد في صلاته أمور كثيرة، منها ما قد يوجب إعادة الصلاة، ومنها ما يوجب نقصانها وجبرها بسجود سهو وغير ذلك، وكل حال من الأحوال التي تعرض للعبد في صلاته فإن لها أحكاماً نصت عليها أدلة السنة النبوية وبينها أهل العلم في مصنفاتهم، وفي هذه المادة كثير من تلك المسائل التي تتعلق بسجود السهو.

تابع أحكام سجود السهو

تابع أحكام سجود السهو

حكم القهقهة والنفخ والانتحاب والتنحنح

حكم القهقهة والنفخ والانتحاب والتنحنح بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وقهقهة ككلام]. القهقة: هي الضحكة المعروفة، والقهقهة للعلماء فيها قولان إذا وقعت في الصلاة: فمنهم من يقول: من ضحك في صلاته فإن صلاته باطلة ويلزمه أن يعيد الوضوء. وهذا مذهب الحنفية. ومنهم من يقول: من ضحك في أثناء صلاته فصلاته باطلة ووضوءه صحيح، وهذه هو مذهب الجمهور. واستدل الحنفية بحديث ضعيف وهو: (أن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا وراء النبي صلى الله عليه وسلم فرأوا أعمى تردى فضحكوا، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا الوضوء والصلاة). وهذا حديث ضعيف السند والمتن: أما ضعف سنده فالكلام فيه، وأما ضعف متنه فلأن الصحابة أورع وأتقى لله وأخشى من أن يروا أعمى ويضحكون عليه، خاصة وأنهم وقوف بين يدي الله عز وجل، بل إنهم أبعد من أن يضحكوا لو سقط الأعمى في غير صلاة، فكيف وهم واقفون بين يدي الله عز وجل؟!! فهذا حديث ضعيف لا يعول على مثله في بناء الأحكام عليه. وبناءً على ذلك فإذا قهقه أو ضحك في الصلاة فإن صلاته باطلة لخروجه عن كونه مصلياً، ولا شك أن الضحك في الصلاة يعتبر من الآثام، أما لو غلب الإنسان عليه، كأن ذكر أمراً لم يستطع دفعه فهذا له حكمه، لكن أن يضحك قاصداً متعمداً فهذا على خطر، ولذلك يخشى عليه أن يكون مستهزئاً، ومعلوم ما للمستهزئ بالدين من حكم، فالضحك في الصلاة على سبيل العبث واللهو واللعب أمر خطير، ولذلك قال الله عز وجل: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} [الأنعام:70]، فلذلك لا يجوز للإنسان أن يتشبه بأمثال الكفار الذين قال تعالى عنهم: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة:58]، فالاستهزاء في داخل الصلاة أمره عظيم، وهو من صنيع أهل النفاق والكفر، والعياذ بالله. ولا يقع من إنسان إلا إذا كان في قلبه مرض -نسأل الله السلامة والعافية-، أما لو غُلِب على ذلك فإنه يدل على ضعف إيمانه؛ لأنه لو استشعر مقامه بين يدي الله عز وجل، ووقوفه بين يدي الله ملك الملوك وجبار السموات والأرض، وأن الله مطلع عليه حال وقوفه لما ضحك، خاصة وأنه يتدبر ويتأمل الآيات، فإنه في هذه الحالة أبعد من أن يضحك، ولو تذكر ما يضحك الإنسان فإنه لشدة الهيبة والمقام بين يدي الله يستطيع أن يتماسك ويمتنع من الضحك. فنسأل الله العافية من هذا البلاء، ونسأل الله أن لا يبتلينا بالاستخفاف بعظمته وهيبة المقام بين يديه. وقد قال بعض العلماء مستنداً إلى بعض الأحاديث، وإن كان قد تكلم في سندها: (إن مقام الناس بين يدي الله يوم القيامة على قدر خشوعهم في الصلاة). فيقف الإنسان بين يدي الله يوم القيامة على قدر ما كان منه من حال أثناء صلاته، فإن كان أثناء وقوفه بين يدي الله في الصلاة يعظمه ويجله كان مقامه بين يدي الله يوم القيامة على أكمل المقامات وأتمها وأحبها إلى الله، ويكون حاله على حال السعداء، وإن كان حاله على الاستخفاف والتلاعب والتشاغل فهو بحسبه، نسأل الله السلامة والعافية. قال رحمه الله تعالى: [وإن نفخ، أو انتحب من غير حشية الله تعالى، أو تنحنح من غير حاجة فبان حرفان بطلت]. وقوله: (وإن نفخ) النفخ في الصلاة هو إخراج الهواء من الفم، ويكون في بعض الأحوال متضمناً لبعض الحروف والكلمات، خاصة إذا كان نفخه فيه شيء من التأوه والتألم والتضجر والسآمة، فإنه في هذه الحالة يخرج شيء أشبه بالأصوات، فقد يقول: آه. فإن فيه الهمز والهاء، وهذان حرفان. وقوله: (أو انتحب من غير خشية الله) أي: بكى، وذلك كالشخص الذي يكون حزيناً لأمر، فيدخل في الصلاة وهو حديث عهد بالحزن، فيبكي في صلاته لحزنه لا لخشية الله، فهذا البكاء إذا كان فيه نحيب وصوت فإنه يوجب بطلان صلاته. وقوله: (أو تنحنح لغير حاجة) التنحنح استثناه بعض العلماء لحاجة، كأن يجد في صدره ما يوجب التنحنح، أو يتنحنح للتنبيه، فقالوا: إنه يكون في حكم التسبيح، وقد جاء عن علي رضي الله عنه أنه: (كان إذا دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بالليل تنحنح له عليه الصلاة والسلام)، فهذا يعتبره العلماء بمثابة التسبيح؛ فإن التسبيح فيه حروف وجمل، فإن (سبحان الله) جملة، وبناءً على ذلك قالوا: لا تبطل الصلاة إذا وجدت الحاجة الداعية إلى أن يتنحنح، خاصة لورود حديث علي رضي الله عنه في السنن. أما إذا انتحب -وهو الصوت الذي يكون مع البكاء-، وكان نحيبه من خشية الله فبعض العلماء يقول: إذا أصدر الأصوات وأزعج فإن صلاته تبطل، وخرج عن كونه مصلياً، وقد أثر عن عمر رضي الله عنه أنه: (كان يسمع نشيجه وبكاؤه من آخر الصفوف)، لكن هذا النحيب من عمر وأمثال عمر إنما هو من مغلوب عليه، أما أن يتكلف الإنسان ويحاول أن يغلب نفسه لكي تبكي، ويرفع صوته بذلك فلا شك أن هذا يوجب بطلان صلاته، خاصة إذا علت الأصوات وشوش على المصلين، ولا يأمن على صاحبه من الرياء، نسأل الله السلامة والعافية. ولذلك تجد بعض العلماء والأخيار والصالحين يغالب نفسه في البكاء، ويحاول أن لا يبكي حتى يغلب، وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه الله برحمته الواسعة (إذا خطب في الناس وبكوا قطع الخطبة وجلس خوف الرياء). فإذا كان الإنسان مغلوباً على البكاء فلا حرج، خاصة إذا كان من خشية الله عز وجل، أما إذا كان بكاؤه تكلفاً ويغالب به نفسه وحصلت من الأصوات الحروف فإنه يحكم ببطلان صلاته وخروجه عن كونه مصلياً.

ترك الركن وغاية تداركه

ترك الركن وغاية تداركه قال المصنف رحمه الله: [فصل: ومن ترك ركناً فذكره بعد شروعه في قراءة ركعة أخرى بطلت التي تركه فيها]. من ترك ركناً فإما أن يكون تكبيرة الإحرام، وإما أن تكون غيرها، فمن ترك تكبيرة الإحرام بطلت صلاته؛ لأن الصلاة لا تنعقد بغير تكبيرة الإحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث علي: (تحريمها التكبير)، وهو حديث صحيح، فلو أن إنساناً وقف ظاناً أنه كبر تكبيرة الإحرام وقرأ الفاتحة وركع وسجد، ثم تذكر أنه لم يكبر تكبيرة الإحرام فصلاته لم تنعقد أصلاً، فتكبيرة الإحرام لا تنعقد الصلاة بغيرها. أما بالنسبة لغير تكبيرة الإحرام، كأن ترك قراءة الفاتحة، بأن كبّر ثم سها فقرأ السورة التي بعد الفاتحة، ثم ركع، فتذكر وهو في الركوع أو بعد الركوع، فحينئذٍ قال بعض العلماء: من نسي ركناً وشرع في الركن الذي يلي الركن الذي بعده فإنه يلزمه قضاء الركعة؛ لأنهم يرونه بدخوله في الركن البعدي قد ابتعد ولم يمكنه التدارك؛ لأنه قد اشتغل بركن غير الركن الذي هو فيه، فلا يرجع. وقال بعضهم: العبرة بأربعة أركان، فإن دخل في الركن الرابع لم يرجع للذي قبله؛ لأنه في الركن الأول والثاني والثالث يمكنه أن يتدارك، أما فيما بعد الأركان الثلاثة بدخوله للرابع فإنه لا يمكنه التدارك. وقال بعضهم: إن دخل أو شرع في قراءة الركعة التي بعد الركعة التي سها فيها فحينئذٍ قد خرج عن التدارك، وإن كان قبل ذلك يتدارك. وهذا هو الذي درج عليه المصنف، وهو الأقوى والأرجح إن شاء الله، فمن نسي ركناً وتذكر هذا الركن قبل أن يدخل في قراءة الركعة التي تلي الركعة التي سها فيها فإنه يرجع ويتدارك الركن، فلو نسي الفاتحة فركع وتذكر وهو راكع فإنه يرفع رأسه بدون ذكر، ويقرأ الفاتحة ويقرأ السورة التي تليها، ويتم الصلاة على سننها وطريقتها، ثم يسجد بعد السلام؛ لأنه زاد ركن الركوع قبل أن يفعل ركن القراءة. وكذلك لو تذكر في ركن ثان، كأن نسي قراءة الفاتحة وركع ثم رفع من الركوع، فإذا تذكر في حال الرفع من الركوع فإنه يقرأ الفاتحة ثم ما بعدها من سورة، ثم يتم الصلاة على سننها ويسجد للزيادة. وكذلك لو تذكر أنه لم يقرأ الفاتحة وهو في السجدة الأولى، أو بين السجدتين، أو في السجدة الثانية من الركعة التي نسي فيها، فإنه يقوم مباشرة بدون ذكر ويقرأ الفاتحة والسورة التي تليها، ويتم الصلاة على سننها ويسجد للزيادة. والسبب في هذا أنه بمجرد تركه للركن لا يزال خطاب الشرع عليه بقراءة الفاتحة، فلما ركع أوقع الركوع في غير موقعه؛ لأن الركوع في هذه الركعة لا يصح إلا بعد قراءة الفاتحة، فكأنه فعل شيئاً خارجاً عن الصلاة، فلم يعتد بوقوع ذلك الشيء ورجع للتدارك، وهكذا لو رفع أو سجد أو كان بين السجدتين، ففي الجميع قد توجه عليه الخطاب أن يقرأ الفاتحة فيرجع تداركاً لأمر الشرع، ويكون انتقاله لهذه الأركان مغتفراً لمكان السهو، ويلزم بسجود السهو البعدي لمكان الزيادة، فقد زاد شيئاً من جنس الصلاة، فهذا وجه كونه لم يرجع ما لم يدخل في ركعة ثانية. أما لو دخل في الركعة الثانية، كما لو نسيت الفاتحة فركعت ورفعت وسجدت، ثم سجدت السجدة الثانية، ثم قمت إلى الركعة الثانية وقرأت الفاتحة، فقد دخلت في ركعة جديدة، وألغيت ركعتك الأولى، وحينئذٍ وقع الخلاف في كونه يلفق أو يلقي: فقال بعض العلماء: يلغي الركعة الأولى كأنها لم توجد؛ لأن هذه الركعة وجودها وعدمها على حد سواء. وقال بعضهم: يقضي ركعة بعد انتهائه من الصلاة. وفائدة الخلاف: أنك لو صليت الركعة الأولى ونسيت فيها الفاتحة، ثم قمت إلى الركعة الثانية وشرعت في قراءة الفاتحة، فبعد انتهائك من الركعة الثانية فإنك على أحد القولين تقوم بناءً على أن الركعة الأولى ألغيت وأنت في الثانية، وهو الأقوى والأصح إن شاء الله. وعلى القول الآخر تجلس للتشهد، ثم تأتي بالركعتين الأخريين، ثم تقضي ركعة كاملة. والأقوى ما ذكرناه؛ لأن الأولى تلغى لكونها غير معتدٍ بها، ويلزمه أن يأتي بالركعة الثالثة بعد الركعة الثانية على الصورة المعهودة في الصلوات. قال رحمه الله تعالى: [وقبله يعود وجوباً فيأتي به وبما بعده]. أي: قبل أن يشرع في الركعة الثانية يرجع ويتدارك وجوباً، كما لو نسي الفاتحة وتذكرها وهو راكع فإنه يرجع مباشرة، وهكذا لو تذكرها وهو ساجد، وقس على هذا. قال رحمه الله تعالى: [وإن علم بعد السلام فكترك ركعة كاملة]. ذلك بأنه إذا لم يقرأ الفاتحة في الأولى، أو الثانية، أو في الثالثة، أو الرابعة فكتركه لركعة، أي: يلزمه أن يرجع إلى مصلاه، أو يستقبل القبلة إن بعد عنه المصلى ويتم ركعة كاملة. فكأنه يقول: ابن الحكم في هذه المسألة على المسألة التي تقدمت معنا فيمن سلم من ركعتين، فلو أنك سهوت عن الفاتحة ولم تتذكر إلا بعد السلام، فإن طال الفصل فإنك حينئذٍ تستأنف الصلاة وتعيدها كاملة، وإن لم يطل الفصل فحينئذٍ تأتي بركعة كاملة. فهذا وجه تشبيهه؛ لأنه كتركه لركعة، وبناءً على ذلك فإن طال فصله فعلى مذهب المصنف رحمه الله يستأنف الصلاة وتبطل صلاته الأولى، وإن لم يطل الفصل فإنه يبني ويأتي بركعة كاملة قضاءً لهذه الركعة التي اختلت بفوات ركنها. وأما على المذهب الذي قلنا: إنه أقوى فعلى ظاهر حال النبي صلى الله عليه وسلم، فإن تذكر أنه لم يقرأ الفاتحة وهو داخل المسجد فإنه يستقبل القبلة ويتم صلاته على الصورة التي ذكرناها.

ترك التشهد الأول ومتى يتدارك حال النسيان

ترك التشهد الأول ومتى يتدارك حال النسيان قال رحمه الله تعالى: [وإن نسي التشهد الأول ونهض لزمه الرجوع ما لم ينتصب قائماً]. هذه المسألة تتعلق بنسيان الواجبات، والمسألة الأولى في نسيان الأركان، فذكر لك رحمه الله حكم ما إذا نسي الركعة بكاملها، وفصّل لك بين أن يطول الفصل وألا يطول، ثم إن نسي جزء الركعة، وفصّل بين أن يتذكر داخل الصلاة أو بعد الفراغ من الصلاة، ثم انتقل إلى نسيان الواجبات، كأن ينسى التشهد الأول ويقوم إلى الركعة الثالثة، فإذا نسي التشهد الأول، كما لو صلى الركعة الأولى والثانية، ثم بدل أن يجلس للتشهد انتصب قائماً، فحينئذٍ إذا انتصب قائماً فإنه انتصب عوده واستتم قائماً فإنه لا يرجع إلى التشهد، ويسقط عنه التشهد لحديث عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه وأرضاه، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس، فقام الناس معه، حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس، وسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم)، ومثله حديث المغيرة بن شعبة حينما كان أميراً على الكوفة، فإنه سها وقام ولم يجلس في التشهد الأول، فسبحوا له، فأشار إليهم أن: قوموا. ورفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعل فدل هذا على أن من نسي التشهد الأول واستتم قائماً أنه لا يرجع، بل يمضي في صلاته، ثم يسجد سجدتي السهو قبل السلام تداركاً لهذا الواجب الذي تركه. وهناك أقوال أخر للعلماء في هذه المسألة: فقد قال بعضهم: بمجرد مفارقته للأرض لا يعود. - وقال بعضهم: إذا استتم قائماً وشرع في الفاتحة. - وقال بعضهم: ما لم يركع. فهذه كلها أقوال للسلف رحمهم الله. وأقواها أنه يعود ما لم يستتم قائماً؛ لأنها صورة حال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه انتصب قائماً، ولم يذكر الراوي شروعه في الفاتحة، ولا قدر الشروع في الفاتحة، والذي يظهر أن الصحابة رفعوا رءوسهم مباشرة، وأنت إذا تأملت حاله فالغالب أنه إذا كبّر عليه الصلاة والسلام فتكبيره كان مقارناً بقيامه، فإذا تأملت حال الصحابة أنهم رفعوا رءوسهم سيكون تسبيحهم بمجرد استتمامه قائماً، ولا شك أنه يقوي القول بأنه قبل قراءته للفاتحة، وأن العبرة باستتمامه قائماً، فكما أنه قوي من جهة الأثر فإنه قوي من جهة النظر؛ لأنه إذا استتم قائماً قد دخل في الركعة التي تلي واجب التشهد، فيقوى حينئذٍ اشتغاله بالركن عن الرجوع إلى الواجب. وعليه فيقوى أن يقال: إنه يتم بناءً على وقوفه، ولا يشترط قراءته للفاتحة. قال رحمه الله تعالى: [فإن استتم قائماً كره رجوعه وإن لم ينتصب لزمه الرجوع، وإن شرع في القراءة حرم الرجوع وعليه السجود للكل]. المصلي إذا يستتم قائماً، كأن تحرك أو وثب فلما وصل إلى درجة الركوع سبحوا له فإنه يلزمه الرجوع؛ لأنه لا يعتبر متلبساً بالركن ولا داخلاً فيه إلا عند استتمامه بالقيام، ويلزمه حينئذٍ الرجوع، وفيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مفاد قوله: (وإن لم ينتصب لزمه الرجوع) وحينئذٍ إذا تركه متعمداً بطلت صلاته، فلو أنه تحرك للقيام فسبحوا له وعلم أنه قد ترك التشهد فقام عالماً متعمداً، ولم يتأول مذهب من يقول بمفارقة الأرض، فحينئذٍ يحكم ببطلان صلاته؛ لأن من ترك واجباً من واجبات الصلاة متعمداً بطلت صلاته. قوله: [وإن شرع في القراءة حرم الرجوع] أي: حرم عليه أن يرجع إلى التشهد، فبين لك رحمه الله متى يلزم بالرجوع للتشهد، ومتى يلزم بالبقاء وإتمامها، فقال: إن فارق الأرض ولم يستتم قائماً وجب عليه أن يرجع؛ لأن الخطاب متوجه عليه بالجلوس للتشهد، وإن استتم قائماً لزمه إتمام الركن؛ لأن الخطاب متوجه عليه بإتمام الركعة، وحينئذٍ لا يرجع للتشهد، فلو رجع فقد حكم بعض العلماء ببطلان صلاته؛ لأنه زاد ركن القيام. وقال بعضهم: يحكم ببطلان صلاته؛ لأنه زاد التشهد بعد سقوطه عنه. وكلا القولين والتخريجين صحيح. وقال بعض العلماء بالتفريق بين الجاهل وبين العالم على الأصل الذي يسلكه بعض الأصوليين في العذر بالجهل، وكون الجاهل يعذر بالجهل بعد استقرار الأحكام أو لا يعذر مسألة معروفة عند الأصوليين. وقوله: [وعليه السجود للكل]. فيه صورتان: الأولى: أن يستتم قائماً ويقرأ الفاتحة ولا يرجع، فيكون سجوده عن نقص، ويكون قبل السلام. الثانية: أن يكون قد ارتفع من الأرض ولم يستتم قائماً ورجع فيكون سجوده للزيادة؛ لأنه زاد الحركة -التي هي قيامه ومفارقته للأرض قبل استتمامه- ما بين جلوسه وما بين استتمامه قائماً، وهذه الحركة زائدة؛ لأنه مطالب أن يجلس للتشهد، فكونه يزيد الوقف أو التحرك للوقوف فإنه يطالب بسجدتي السهو جبراً لهذه الزيادة. ولما كان المذهب لا يفرق بين الزيادة والنقص قال: (وعليه السجود) للكل وسكت، لكن من يفصل يقول: يسجد للزيادة إن كان قد رجع، ويسجد للنقص إن كان قد استتم قائماً.

الشك في الركعات والأركان

الشك في الركعات والأركان قال رحمه الله: [ومن شك في عدد الركعات أخذ بالأقل، وإن شك في ركن فكتركه]. بعد أن بيّن لنا رحمه الله النقص والزيادة وأحكامها في سجود السهو شرع بإلحاق مسائل ملتحقة بهذا، وهي تصرف الإنسان في حال الشك. والشك: هو استواء الاحتمالين، فلو صليت الصبح ولم تدر هل صليت الركعة الثانية، أم صليت ركعة واحدة فحينئذٍ كأنك لم تصل الثانية إذا استوى عندك الاحتمالان، أما لو ترجح عندك أو غلب على ظنك رجحان أحد الاحتمالين فحينئذٍ تبني على غالب ظنك، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام سلم من اثنتين، بناءً على ظنه الغالب. وقال بعض العلماء: الشك والتردد يوجب البناء على الأقل مطلقاً. والأقوى أنه يتحرى الصواب ويبني على غالب ظنه. والبناء على غالب الظن هو أن توجد قرائن تدل على أنه ليس في الركعة الثانية، كأن يحس أن الوقت قصير جداً بحيث لا يتسع لصلاة ركعتين، فحينئذٍ يبني على واحدة، أما لو أحس بطول الزمان، وقراءته قليلة، وغلب على ظنه أنه صلى الركعتين فحينئذٍ يبني على أنه أتم الصلاة ولا يأتي بالركعة الثالثة. والأصل في هذا حديث أبي سعيد الخدري في الصحيح أن النبي صلى قال: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثاً أم أربعاً فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى تماماً كانتا ترغيماً للشيطان)، فدل على أنه مطالب بالأخذ بالأقل، وهذا مفرّع على القاعدة المشهورة: (اليقين لا يزول بالشك)، فمن كان شاكاً: هل صلى واحدة أو اثنتين فهو على يقين من واحدة وشك من اثنتين، واليقين أنه مأمور بركعتين، فحينئذٍ لا تبرأ ذمته إلا بيقين، فيلزمه حينئذٍ أن يأتي بالركعة الثانية، ويقاس على هذا تكبيرات الجنائز، فلو شك هل كبّر واحدة أو اثنتين فإنه يبني على واحدة، ولو شك في أشواطه في طوافه بالبيت فإنه يبني على الأقل، وهكذا السعي بين الصفا والمروة، فكل هذا يبني فيه على الأقل، وفي الصلاة يسجد سجدتين قبل أن يسلم. وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة من هاتين السجدتين، فقال: (إن كان صلى تماماً -يعني: أربعاً- كانتا ترغيماً للشيطان)، وذلك أن الشيطان يتألم من سجود ابن آدم، فإذا رأى ابن آدم ساجداً تولى يصيح: يا ويله! أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فلم أسجد فلي النار. فإن كنت صليت تماماً فيكون بناؤك صحيحاً واعتبارك لليقين صحيحاً، وتكون السجدتان ترغيماً للشيطان؛ لأنه أدخل عليك الوسوسة بالشك فيؤذى بالسجود، وأما إن كانت صلاتك زائدة وكانت الركعة التي صليتها ركعة خامسة في رباعية، أو رابعة في ثلاثية، أو ثالثة في ثنائية، فإن السجدتين تشفعان هذه الركعة، فتلغيانها كأنها لم توجد، وصلاتك صحيحة ومعتبرة. وقوله: [وإن شك في ترك ركن فكتركه]، أي: إذا شك في ترك الفاتحة أو عدم تركها فإنه كما لو تركها، ويلزمه أن يقرأ الفاتحة، وهكذا أي ركن سواها.

حكم الشك في ترك واجب

حكم الشك في ترك واجب وقوله: [ولا يسجد لشك في ترك واجب أو زيادة]. فرق العلماء بين الواجب والركن لوجود الأصل في الركن الذي دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدة صلى أم اثنتين فليبن على واحدة، فإن لم يدر اثنتين صلى أم ثلاثاً فليبن على اثنتين)، فاعتبر عليه الصلاة والسلام في الأركان الأقل، وبقي الواجبات على الأصل، وبناءً على ذلك فإنه يلزم بسجود السهو إذا تيقن أن شكه باطل، سواء أتيقن أثناء أدائه أم تيقن بعد انتهائه. مثال ذلك: لو قام إلى الركعة الخامسة ظاناً أنه قد صلى ثلاثاً، وأن هذه التي قام لها هي الرابعة، فإنه إذا تذكر أثناء صلاته للركعة الخامسة وأدائه لها لزمه أن يجلس مباشرة، وحينئذٍ يسجد بعد السلام لمكان الزيادة بالقيام والقراءة إن وجدت. وكذلك الحال لو تذكر أنه لم يفعل واجباً ثم تبين له أنه فعله، كما لو رفع رأسه من الركوع فقال: (سمع الله لمن حمده)، ثم شك: هل قال أو لم يقل، أو شك هل كبر للسجود أو للركوع أو لم يكبر؟ هذه الواجبات إذا شك في وقوعها فإنه حينئذٍ يتدارك إذا أمكنه التدارك، وأما إذا لم يمكنه التدارك فإنه حينئذٍ يسجد للسهو قبل السلام، على الأصل الذي ذكرناه: أن نقص الواجبات يجبر بسجود السهو.

ما يحمله الإمام عن المأموم

ما يحمله الإمام عن المأموم قال رحمه الله تعالى: [ولا سجود على مأموم إلا تبعاً لإمامه]. وهذا مبني على أن الإمام يحمل عن المأموم نقص الواجبات، ولا يحمل عنه نقص الأركان، ويحمل عن مأمومه الزيادة، فإذا زاد المأموم وراء إمامه سهواً فإن الإمام يحمل عنه هذه الزيادة. فلو أنك كنت وراء الإمام، فسهوت وركعت ظاناً أن الإمام راكع، أو قرأ الإمام فاختلجت عليك القراءة فظننت أنه يكبر فكبرت راكعاً، فهذه زيادة وراء الإمام، وهي ركن، فالإمام يحمل عنك هذا الركن الذي زدته. وكذلك لو زدت واجباً وراء الإمام، فعلى القول بأن المأموم يقتصر على قوله: (ربنا ولك الحمد) فإن قلت وراء الإمام ساهياً: (سمع الله لمن حمده) فزدت واجباً، فإن الإمام يحمل عنك هذا الواجب الذي زدته سهواً. والدليل على أن الإمام يحمل عن المأموم الواجبات ظاهر حديث أبي هريرة عند أبي داود وأحمد في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن)، وهذا الضمان فسره غير واحد من أهل العلم أنه حمل الإمام عن المأموم. وبناءً على ذلك فيحمل عن المأموم الواجبات إذا نسيها، ويحمل عنه زيادة الأركان، فيعتبر كأنه لم يزد في صلاته إذا كان وراء إمامه.

حكم سجود السهو

حكم سجود السهو قال رحمه الله تعالى: [وسجود السهو لما يبطل عمده واجب]. أي أن سجود السهو لجبر الواجبات وجبر الأركان واجب. وقد اختلف العلماء في حكم سجود السهو: فمنهم من قال: إنه واجب. ومنهم من قال: إنه سنة. ومنهم من يفصل بين سجود الزيادة وسجود النقص، فيوجبه في النقص ولا يوجبه في الزيادة. والصحيح وجوبه على العموم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فليسجد سجدتين)، فهذا أمر والأمر ظاهره الوجوب، ولا دليل يدل على صرف هذا الأمر عن ظاهره. فالأصل في سجود السهو أنه للوجوب، لكن هذا الوجوب يتقيد في جبر الواجبات؛ والأركان لا تجبر إلا بفعلها. وبناءً على ذلك فإن سجود السهو لجبر الواجبات واجب، أما لو سها في صلاته بزيادة ذكر في غير موضعه كقراءة الفاتحة في حال الركوع أو السجود فإنه يشرع ولا يجب، على التفصيل الذي ذكرناه عند كلام المصنف رحمه الله على زيادة الأقوال المشروعة في غير موضعها. قال رحمه الله تعالى: [وتبطل بترك سجود أفضليته قبل السلام فقط وإن نسيه وسلم سجد إن قرب زمانه]. سجود النقص إذا تركه متعمداً بطلت صلاته إذا كان السجود قبل السلام، أما عند من يقول بالسجود بعد السلام فإنه يمكن أن يتدارك بعد سلامه، فلو تعمد ترك السجود عند من يقول بوجوبه فهو كترك واجبات الصلاة، وهذا المذهب صحيح، فمن ترك واجباً كالتسميع والتحميد وتكبيرات الانتقال، ثم علم أنه ترك هذا الواجب ناسياً، وتعمد ترك سجود السهو قبل السلام بطلت صلاته كما لو ترك واجباً متعمداً، وذلك أن سجدتي السهو جبر، لهذا الواجب، فكونه يترك سجدتي السهو متعمداً كما لو تعمد ترك هذا الواجب أصالة، وبناءً على ذلك تبطل صلاته بترك سجود السهو من هذا الوجه. وقوله: [وإن نسيه وسلم سجد إن قرب زمانه] أي: إن نسي سجود السهو جبره إن قرب زمانه، كالحال في الأركان، فإذا كانت الركعات يمكن تداركها مع قرب الزمان فإن الواجبات من بابٍ أولى وأحرى. مثال ذلك: لو صليت فنسيت تكبيرات الانتقال أو التسميع أو التحميد، أو نسيت التشهد الأول، ثم صليت وسلمت ونسيت أنك قد نسيت هذا الواجب فلم تسجد للسهو، ومكثت في مصلاك، ثم تذكرت قبل أن يطول الفصل فإنك تسجد سجدتي السهو وتسلم، ولا يلزمك شيء. وكذلك الحال لو أنه قام من مصلاه -على القول بأنه ما دام في داخل المسجد- ثم تذكر، فإنه يستقبل القبلة ويسجد سجدتي السهو، ويصح ذلك منه ويجزيه.

تكرار السهو في الصلاة

تكرار السهو في الصلاة قال رحمه الله تعالى: [ومن سها مراراً كفاه سجدتان]. أي: من ترك أكثر من واجب فإنه تكفيه سجدتان، ويدل على ذلك ظاهر السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما ترك التشهد الأول كان التشهد مشتملاً على الجلوس للتشهد، وعلى تشهده، وعلى التكبير الجلسة؛ لأن تكبيره الذي قام فيه للركعة واقع بعد التشهد. وبناءً على ذلك فقد حصل هنا أن ثلاثة واجبات قد تركت، فتداخلت في سجود النبي صلى الله عليه وسلم، واعتبرها بمثابة الواجب الواحد، فهكذا الحال لو ترك واجبات متفرقة فيسجد لها سجدتين وتجزيه، ويتداخل السهو في هذه المسألة.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تكرار قراءة الفاتحة في الركعة الواحدة

حكم تكرار قراءة الفاتحة في الركعة الواحدة Q رجل صلى الفجر، وفي قراءة السورة التي بعد الفاتحة سجد للتلاوة، ثم بعد الرفع سها وقرأ الفاتحة وسورة بعدها وتذكر قبل التسليم، فما الحكم في ذلك؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن هذا قد زاد ركناً قولياً وهو قراءته للفاتحة بعد قيامه من سجود التلاوة، ويلزمه أن يسجد بعد السلام، على القول بأن سجود الزيادة بعد السلام، وصلاته صحيحة إن شاء الله. والله تعالى أعلم.

حكم استئناف الصلاة من جديد إن علم نقصانها بعد الصلاة

حكم استئناف الصلاة من جديد إن علم نقصانها بعد الصلاة Q رجل صلى الفجر وسلم بعد ركعة واحدة، وأخبر قبل أن يبرح من مكانه، ولكنه لم يتم بل استأنف الصلاة من جديد، فما هو الحكم؟ A هذا الفعل خلاف السنة، وبناءً على ذلك فلا شك أنه لو علم بالسنة وتعمد هذا الفعل فقد خالف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدث وتنطع، وذلك أنه لم يجتزئ بالرخصة التي وسّع الله على عباده؛ لأنه كان يكفيه أن يستقبل قبلته ويتم ركعة واحدة، فتنطع واعتقد عدم الإجزاء فزاد على الشرع، ولذلك يعتبر فعله هذا من الحدث والابتداع، أما لو كان جاهلاً ولم يعلم الحكم وأحب أن يحتاط ويستبرأ فحينئذٍ يجزيه فعله، ولا حرج عليه. إلا أن بعض العلماء قال: إنه يعتبر منتهياً من الصلاة بالركعة الأولى من الركعتين الأخيرتين؛ لأنه لما قام وجاء بركعة تمت صلاته الأولى فيسجد حينئذٍ للسهو، وتجزئه صلاته في هذه الحالة لمكان العذر بالجهل، كما لو سها وزاد ركعة على صلاة ثنائية فصلاها ثلاثاً، فبهذا يكون قد صلى مرة واحدة على هذا القول، لكن القول الثاني يرى أنه قد صلى صلاتين: الصلاة الأولى لاغية والصلاة الثانية مستأنفة. والله تعالى أعلم.

موضع سجود السهو في الزيادة والنقص

موضع سجود السهو في الزيادة والنقص Q صليت الظهر وأدركت مع الإمام الركعة الأخيرة، فلما سلم أكملت الصلاة، فلما قمت من الركعة الثانية نسيت التشهد، ثم في الركعة الثالثة جلست للتشهد سهواً، ثم قمت للرابعة، فهل السجود هنا قبل السلام أم بعده؟ A هذه المسألة اجتمع فيها سجود السهو للزيادة والنقص، أما النقص فلكونك قمت بعد الركعة الأولى من قضائك؛ لأن الأصل أنك بعد الركعة الأولى من القضاء تجلس للتشهد؛ لأن أصح أقوال العلماء أن من فاته شيء مع إمامه أنه يبني على صلاته على ظاهر حديث أبي هريرة في الصحيح، فكان يلزمك أن تجلس لهذا التشهد الأول، ويعتبر هذا تشهداً أولاً بالنسبة لك، وقد سهوت وأنت ترى هذا القول، فتكون قد تركت واجباً، فهذا هو النقص في صلاتك، ثم لما قمت إلى الركعة الثانية من القضاء والثالثة بالنسبة للصلاة كان يلزمك بعد سجدتها الثانية أن تقوم للركعة الرابعة، ولكنك جلست ساهياً على سبيل السهو، فحدثت زيادة التشهد بين الركعتين الأخريين، وليس في الأخريين من الظهر أو العشاء أو العصر تشهد بينهما، فهذا هو مكان الزيادة في صلاتك، فاجتمع في صلاتك وصف الزيادة ووصف النقص، فبعض العلماء يقول: إذا اجتمعت الزيادة والنقص اجتزأ بسجدتين قبل السلام، خاصة على مذهب المصنف ومن وافقه في كون السجود كله قبل السلام، وأما على مذهب من يرى التفصيل فهذا هو الذي يقع فيه الإشكال، فهل يغلب النقص فيسجد قبل السلام، أم يغلب الزيادة فيسجد بعد السلام، أم يجمع بينهما فيسجد قبلياً وبعدياً؟ فالوجه الأقوى عندهم: أنه يغلب جانب النقص لاتصاله بالصلاة ويسجد السجدتين، وتكون بهذا صلاته تامة صحيحة. والله تعالى أعلم.

صلاة من لا يجيد قراءة الفاتحة

صلاة من لا يجيد قراءة الفاتحة Q هناك امرأة كبيرة في السن ولا تعرف أن تصلي بغير الفاتحة، وقد لا تجيد الفاتحة كذلك، ولا تحسن الحفظ لكبر سنها، فما هو العمل مع هذه المرأة الكبيرة؟ A إذا كان الشخص لا يستطيع أن يُعلّم الفاتحة لمكان صمم أو نحو ذلك أو لا يستطيع أن يضبط الفاتحة لكبر سنه وضعف ذاكرته، فإنه يحفظ قدر ما يستطيع، ويجزيه ذلك القدر الذي يمكنه حفظه ولو آية من الفاتحة، فإذا حفظه أجزأه. ثم قال بعض العلماء: يسبح ويكبر ويذكر الله عز وجل على قدر ركن الفاتحة؛ لأن الله أوجب عليه أمرين: الأمر الأول: قراءته للفاتحة. الأمر الثاني: إن تعذر عليه أن يقرأ الفاتحة في الوقت المستغل للفاتحة فعليه أن يقرأ قدر ما يستطيع من الآيات، ثم يذكر الله بقدر قراءة الفاتحة، ثم يركع، ثم يفعل ذلك في بقية الركعات الأخر. والله تعالى أعلم.

تحية المسجد لمن فارق المسجد بنية الرجوع إليه

تحية المسجد لمن فارق المسجد بنية الرجوع إليه Q من خرج من المسجد وفي نيته الرجوع كمن أراد الوضوء، فهل تجب عليه تحية المسجد، أثابكم الله؟ A جماهير أهل العلم على أن من خرج من المسجد ولو خطوة واحدة يلزمه أن يصلي ركعتي التحية، وهذا القول هو الذي دلت عليه السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين)، فقوله: (إذا دخل) يعيد ذلك، فإن الإنسان بمجرد خروجه من الباب ورجوعه ثانية يصدق عليه أنه دخل، وبناءً على ذلك يستوي أن يطول الزمان أو يقصر. أما القول بأنه إذا كان في نيته أن يرجع فلا يصلي تحية المسجد فهذا القول محل نظر؛ لأنه ما من إنسان صلى فرضاً من الفروض إلا وفي نيته أن يرجع ليصلي الفرض الذي بعده، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابي: (قم فاركع ركعتين) وأمره أن يترك الاستماع للجمعة من أجل هاتين الركعتين لكونه دخل المسجد، ولم يقل له: هل كان في نيتك أن تعود إلى المسجد، أو لم يكن في نيتك؟ ثم إن التفصيل بأنه إذا قرب العهد كما لو ذهب ليتوضأ ورج لا يصلي، وإن طال العهد يصلي، تفصيل وتفريق بدون دليل؛ لأن الطول والقصر يحتاج إلى دليل باعتبار الأصل، والأصل لم يقم عليه دليل، فلا وجه للتفريق بين طول الزمان وقصره؛ لأنه استحسان، والاستحسان لا يعارض العموم، فإن عموم النص: (إذا دخل أحدكم المسجد) يلزم المكلف بأداء هذه الصلاة التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم كل داخل إلى المسجد، وهذا القول لا شك أنه قول جماهير العلماء، وهو أولى بالصواب لدلالة السنة عليه. وبعض العلماء يستثني النية، وهذا مذهب مبني على تغليب الباطن على الظاهر، فيقولون: في الظاهر أنه دخل، لكن كونه في نيته أن يعود فإنه في حكم الجالس في المسجد. وهذا محل نظر؛ فإنه بخروجه عن المسجد لا يعطى حكم المصلي، فخرج عن كونه في المسجد أصلاً، ولذلك لو فعل الأفعال التي تخالف مقصود المسجد من بيع وشراء صح منه ذلك وأجزأه، ولا عتب عليه ولا ملامة؛ لأنه خارج عن كونه في المسجد، وتغليب الباطن على الظاهر لا يقع إلا في صور، وليست هذه الصور منها، أي: كونه في نيته أن يرجع، فهذا تغليب للباطن على الظاهر، ولا شك أن إعمال الظاهر الذي دلت عليه السنة أقوى وأولى. والله تعالى أعلم.

الأحكام المترتبة على سقوط الجنين وهو ابن ثلاثة شهور

الأحكام المترتبة على سقوط الجنين وهو ابن ثلاثة شهور Q ما هي الأحكام المترتبة على سقوط جنين عمره نحو ثلاثة شهور، لم تتضح أعضائه، وذلك فيما يتعلق بصيام المرأة التي أسقطت وصلاتها؟ A إذا أسقطت المرأة وكان الذي أسقطت ليس فيه صورة الخلقة واسترسل معها الدم، فإن هذا الدم دم استحاضة وليس بدم نفاس على أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم، فالعبرة بالتخلق، فإن وجد في هذا الذي سقط منها صورة الآدمي، أو صورة أعضائه وأجزائه أخذت حكم النفاس وامتنعت مما تمتنع منه النفساء. أما لو لم تكن فيه صورة الخلقة فإن هذا الدم لا يعتبر دم نفاس ما لم تميزه، فإن ميزت أنه دم حييض دخلت في حكم الحيض، كأن يجري معها يومين أو ثلاثة أيام ثم ترى أوصاف دم الحيض، فتكون قد انتقلت من الاستحاضة التي كانت عقب الإسقاط إلى الحيض الذي دخلت فيه بصفته. والله تعالى أعلم.

باب صلاة التطوع [1]

شرح زاد المستقنع - باب صلاة التطوع [1] صلاة التطوع هي الصلاة النافلة غير الواجبة، وتنقسم إلى: قسم محدد مقيد، وقسم مطلق غير مقيد، فمن الأول: الكسوف، والاستسقاء، والتراويح، والوتر، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل، وينبغي على المؤمن الحرص على النافلة قدر المستطاع.

صلاة التطوع

صلاة التطوع بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [باب صلاة التطوع]. تقدم تعريف الصلاة، وأما التطوع فهو تفعُّل من الطاعة، يقال: تطوع الرجل: إذا تبرع بالشيء، وأصل التطوع: النافلة التي ليست بواجبة على المكلف، ولذلك يوصف كل شيءٍ فعله الإنسان من العبادات دون أن يكون لازماً عليه على سبيل القربة والطاعة لله عز وجل بكونه تطوعاً، فيقال: هذه صلاة تطوعٍ، وهذه صدقة تطوعٍ. ونحو ذلك، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:79]، فالمراد بهم المتبرعون بصدقاتهم الذين دفعوها ولم تكن لازمةً عليهم. ومن فوائد هذه النوافل أنه إذا كان هناك نقص في الفرائض فإنها تجبر بما كان من النوافل، وهذه النوافل فيها حِكَم، خاصةً إذا كانت قبل العبادات المفروضة، فإنها تهيئ المكلف لفعل العبادة المفروضة، فإذا دخل الإنسان إلى العبادة المفروضة وكان قد تنفل قبلها قويت نفسه على العبادة المفروضة لحدث عهده بالطاعة، وتوضيح ذلك أن الإنسان إذا دخل مباشرةً إلى الفريضة يكون إقباله على الله في حال أضعف من حاله إذا سبق الفريضة بنافلة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة)، إذا سبق الفريضة بنافلةٍ فإن نفسه تقوى على أداء الفريضة أكثر، ويكون أكثر انشراحاً صدره، وأقوى لفهم آيات ربه.

أقسام صلاة التطوع

أقسام صلاة التطوع الصلاة التي توصف بكونها تطوعاً تنقسم إلى قسمين: قسم محدد ومقيد، وقسم مطلق غير مقيد، ولا شك أن المحدد يعتبر أفضل من المطلق، وذلك أن تحديد الشرع له يدل على عنايته به، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن فضل النوافل المقيدة بأحاديث، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها). وإخباره عن الله تعالى في الحديث القدسي أنه قال: (يا ابن آدم اكفني أربع ركعات في أول اليوم أكفك آخره). ففي هذه النوافل المقيدة كصلاة الضحى وركعتي الفجر فضل وعلو درجة على النافلة المطلقة، وأفضل الصلوات صلاة الليل، فصلاة الليل أفضل من صلاة النهار؛ لأن الليل مظنة أن يكون الإنسان مجهداً من عناء النهار، فكونه يتقرب إلى الله عز وجل مع أنه وقت راحته وسكونه واستجمامه وأنسه بأهله فإن ذلك أبلغ وأعظم في تقربه إلى الله عز وجل. ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد يقوم من الليل، فإذا قام وصلى قال الله تعالى: يا ملائكتي: عبدي ما الذي أقامه من حبه وزوجه؟)، فيكون نائماً بجوار زوجته فيذكر الجنة والنار فيتوضأ ويصلي بالليل، فيقول الله: (يا ملائكتي! عبدي ما الذي أقامه من حبه وزوجه؟ قالوا: إلهنا: يرجو رحمتك ويخشى عذابك. قال: أشهدكم أني قد أمنته من عذابي وأدخلته في رحمتي)، فصلاة الليل أفضل من صلاة النهار، ولأن صلاة الليل فيها إخلاص، فإنها بعيدةٌ عن أنظار الناس، وبعيدة عن اطلاع الغير، ولذلك يكون الإنسان فيها أقرب، ولأن الليل فيه الثلث الذي ينزل فيه الله عز وجل، ويقول: (هل من داعٍ فأستجيب له)، فلذلك فضّل العلماء هذا النوع من النوافل. أما النوافل المقيدة فإنها تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما شرعت له الجماعة، كصلاة العيدين والاستسقاء والخسوف والكسوف والتراويح والتهجد ونحوها من الصلوات التي شرعت جماعةً. القسم الثاني: ما يقع فرادى، كصلاة الضحى وغيرها. فهذا نوع وهذا نوع، وكلٌ قد ثبت الشرع بجواز أدائه على حاله، إن كان يصلى جماعةً فجماعة، وإن كان يصلى فرادى ففرادى. فقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة التطوع] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام المتعلقة بصلاة التطوع.

آكد صلاة التطوع

آكد صلاة التطوع [آكدها كسوف]. آكد الصلاة النافلة صلاة الكسوف، وهي الصلاة التي تكون بسبب ذهاب ضوء الشمس كله أو بعضه، فإن ذهب ضوء الشمس كله فإنه حينئذٍ يقال: كسوف كلي، وإن ذهب بعضه فإنه يقال: كسوف جزئي، وكذلك صلاة الخسوف، والخسوف: هو ذهاب ضوء القمر كله أو بعضه، وقد يطلق الخسوف على غياب الشمس، كما في حديث أم المؤمنين: (خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم). وصلاة الكسوف إنما فضلت على بقية الصلوات التي هي من النافلة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها، حيث ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كسفت الشمس على عهده قال الناس: كسفت لموت إبراهيم، وكان الناس في الجاهلية يعتقدون أن الشمس لا تنكسف إلا لموت عظيم أو لولادة عظيم، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس ونادى: الصلاة جامعة. فاجتمع الناس، فصلى بهم عليه الصلاة والسلام وأطال قيامه على الصفة التي ستأتي إن شاء الله في صلاة الكسوف، ثم لما سلم قال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان ولا ينخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، ثم قال: فإذا رأيتم ذلك -أي: كسوف الشمس- فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم)، فقوله: (فصلوا) أمر قالوا: فورد بها الأمر فكانت أعلى مراتب صلاة التطوع، ولأن هذا الأمر ورد على سبيل الجماعة على ظاهر النص.

الخلاف في أفضل الطاعات

الخلاف في أفضل الطاعات صلاة التطوع فيها مسألة ذكرها العلماء رحمة الله عليهم وهي: هل صلاة التطوع أفضل الطاعات، أم هي دون غيرها من الطاعات الأخر؟ فمن المعلوم أن العبد إذا تقرب إلى الله إمّا أن يتقرب بواجب لازمٍ عليه، فهذا الذي اصطلح عليه بالفرائض، وإما أن يتقرب بالنوافل التي لا تجب عليه. فاختلف العلماء في الأفضل من النوافل الذي ينبغي للعبد أن يكثر منه، فهل الأفضل أن يكثر الإنسان من الصلوات، أم الأفضل أن يكثر من الصيام، أم الأفضل أن يكثر من الذكر، أم الأفضل أن يكثر من الجهاد في سبيل الله، أم من الدعوة، أم من العلم؟ فقال الجمهور: أفضل الطاعات وأشرفها وأزكاها وأعظمها نفعاً للعبد في الدنيا والآخرة طلب العلم وتعليم الناس، ويعبرون عنه بقولهم: العلم. فهو أفضل الطاعات وأشرف القربات لورود النصوص في الكتاب والسنة الدالة على عظيم منزلة أهله وشرفهم وعلوّ درجتهم وعظيم بلائهم، قال الله عز وجل في كتابه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وهذا الاستفهام يدل على أنهم لا يستوون، فهذا نصٌ من كتاب الله يدل على أنه لا يستوي العالم والجاهل. ثم إنَّ الله سبحانه وتعالى قد قرن العلم بالإيمان، وأخبر عن رفعة درجة أهل العلم والإيمان، فقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وقال: [درجات] ولم يقل: درجة. والتعبير بالنكرة بصيغة الجمع يدل على أنها كثيرةٌ بإذن الله عز وجل. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين فضل رباط طالب العلم وصبره على طلب العلم وتحمله لمشاق العلم، وكذلك تحمله لمشاق العمل بهذا العلم، ومجاهدته للنفس والشيطان والهوى حتى يبلغ مرتبة العلم والعمل، فإذا بلغ مرتبة العلم والعمل جاءت مرتبة الدعوة إلى الله عز وجل بتعليم الناس، فهذه المراتب الثلاث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن علو درجتها، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، قال بعض السلف: في هذا دليل على أن من حُرم الفقه في الدين فقد حُرِم خيراً كثيراً. فقوله: (من يرد الله به خيراً) يدل على أن الله أراد لأهل العلم خيري الدنيا والآخرة؛ ولذلك هم أنفع الناس وأصلح الناس، وأقربهم إلى الخير وأدعاهم إليه، وبهم تشحذ الهمم إلى الطاعات، ويتنافس الناس في الخيرات. وأيضاً ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع)، ولذلك قالوا: إن المراد بهذا الحديث أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم وهو يغدو إلى مجالس العلم لشرف هذه العبادة وعظيم منزلتها، فالدين لا يصان ولا يحفظ إلا بطلب العلم، ولذلك إذا كثر العلماء انتشر الدين بين الناس وانتشر الخير، وحمل الناس على الطاعات والخيرات، وإذا قلّ العلم كثر الجهل وعظمت المصائب والبلايا بين الناس، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من علامات الساعة فشو الجهل وقلة العلماء، وكان ابن عباس رضي الله عنه من تلامذة زيد بن ثابت، فلما توفي زيد قام على قبره وبكى، وقال: (ألا من سره أن ينظر كيف يقبض الله العلم فلينظر هكذا، ثم ذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبضه بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جُهّالاً فسُئِلوا فأفتوا بغير علمٍ فضلوا وأضلوا)، فصلاح الأمة موقوف على كثرة العلماء العاملين، وعلى وجود العلماء العاملين المخلصين في الدعوة إلى الله عز وجل. وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن أفضل الأعمال فقال: أفضلها طلب العلم. وفي رواية عنه: أفضلها العلم إذا صحت فيه النية. قالوا: كيف تصح نيته؟ قالوا: ينوي أن يتواضع فيه، وأن يعلمه الناس. أي: ينوي أن يجعل علمه للآخرة، كما قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص:83]، فينوي أن يصحح نيته، فهذا بخير المنازل عند الله عز وجل. فهذا هو قول جمهور العلماء، ومن تأمل الواقع وتأمل الحال فإنه لا يشك أن طلب العلم هو أفضل القربات وأجلها وأعظمها. فالمقصود أنه ظهر من ظاهر دليل الكتاب والسنة أن طلب العلم والعمل به وتعليمه للناس أفضل وأحب الأعمال إلى الله عز وجل، وإذا تعارضت عند الإنسان الأعمال الخيرية فليبدأ بطلب العلم، ثم انظر إلى دليل العقل والنظر، فإنك إذا تأملت كثيراً من المشاكل والنوازل والمعضلات والمشكلات تجد أنها لا تحل إلا بالعلم، ولا يمكن للناس أن يجدوا من يحل لهم المشكلات ويرفعها عنهم بإذن الله عز وجل إلا العالم العامل، فالرجل يأتيك في جوف الليل لا يدري هل امرأته تحل له أو لا تحل له، حيث قال لها: أنت طالق، فقال كلمةً لا يدري أهي بها حرام أم حلال. ويأتيك الناس وقد عظمت الفتن والخصومات بينهم في الأراضي والأموال، ويحتاجون إلى من يفصل بينهم. بل قد تجد العالم مشلول الجسد لا يستطيع أن يبرح مكانه، وقد تجده مشوه الخلقة، ولكن عنده لسان ينبئ به عن حكم الله عز وجل، فتضعه الناس فوق رؤوسها بهذا العلم، لشرفه وعلو منزلته وعظيم بلائه. فالمقصود أنه لا يشك أحد في عظيم فضل هذا العمل، ولو تأملت العالم وهو يسهر الليالي فيجيب الناس عن المشكلات والمسائل فإنك لا تشك أن طلب العلم وتعليمه أفضل. وقال بعض العلماء: إن الجهاد أفضل لما فيه من إعلاء كلمة الله عز وجل، وكسر بأس الذين كفروا، وصد العدو. وهذا إنما يراد به جهاد النفل وليس جهاد الفرض؛ لأنهم اتفقوا على أن الفرائض ليست بداخلة في هذا الخلاف، فإذا تعين العلم أو تعين الجهاد فلا يدخلان في هذا الخلاف، إنما الكلام هنا على النافلة، أي: جهاد النفل، وهو جهاد الطلب، واحتج هؤلاء الذين قالوا: إن الجهاد أفضل فقالوا: إن إعلاء كلمة الله عز وجل ونشر دين الله متوقفان على الجهاد، ويفتقران إلى مجالدة أعداء الله عز وجل، حتى ينتشر التوحيد، وترفع راية الإسلام، ويكون في ذلك الخير لأهل الأرض جميعاً، فلذلك يكون الجهاد هو أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل. وهذا القول يقول به الإمام أحمد، ففي رواية عنه أن الجهاد أفضل الطاعات. وهناك قول ثالث في المسألة أن أفضل الطاعات وأشرفها الصلاة، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، ولما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يقول: ما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به)، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (من سعادة المؤمن كثرة الصلاة، وكثرة الصيام، وصحبة الفقيه). فقالوا: إن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل الصلاة، ولأنها في أصلها عماد الدين، فتشرف بشرف أصلها. وأصح هذه الأقوال كما ذكرنا هو القول بأن طلب العلم والعمل به والدعوة إليه أفضل وأشرف وأكمل هذه الطاعات كلها، بل إن ما ذُكِر من الأعمال الصالحة من الصلاة والجهاد يفتقر إلى العلم، فإذا نظرت إلى الجهاد فإن ثغور الجهاد لا تملأ ولا يمكن أن تقوى عزائم المجاهدين إلا بالعلم، وابحث عن ثغرٍ فيه طالب علمٍ يذكر الناس ويعظ الناس فستجد نفوسهم معلقة بالله سبحانه وتعالى، وتجدهم أقوى شكيمة وأشد بأساً وأعظم حميةً، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا مع أعلم من على وجه الأرض صلوات الله وسلامه عليه، فكيف يخرج الناس للنفير وتسد الثغور بغير العلماء؟ فالعلم هو أفضل الأعمال. ثم إن الصلاة إذا تأملتها وجدتها تفتقر إلى علم، وتفتقر إلى معرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيها، ومعرفة ما يطرأ في الصلوات.

ترتيب بقية النوافل في الفضيلة

ترتيب بقية النوافل في الفضيلة قال رحمه الله تعالى: [ثم استسقاء]. ذكرنا أنَّ أول النوافل فضلاً وأعلاها وآكدها صلاة الكسوف لما فيها من الدعاء برفع البلاء، ولذلك قالوا: إنها آكد مع ورود أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها، فتأكد فضلها وتأكد القيام بها. ثم تليها صلاة الاستسقاء. والاستسقاء: استفعالٌ من السقي، والمراد به هنا: طلب السقيا، أي: طلب الغيث من الله عز وجل، وأن يمطر العباد والبلاد، وإنما فضل الاستسقاء لما فيه من رفع البلاء عن الناس، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم وسنه للأمة، وسيأتي إن شاء الله بيان صفة هاتين الصلاتين، صلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء، وسنبين إن شاء الله هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيهما، والأحكام المتعلقة بهما. قال رحمه الله تعالى: [ثم تراويح]. التراويح: قيل: إنها مأخوذ من الراحة، والسبب في ذلك أنهم كانوا يرتاحون بين كل تسليمتين، فقد كانوا يطيلون حتى اعتمدوا على العصي، كما في الأثر حين جمع عمر الناس لصلاة التراويح وجعل أبياً الإمام، فقالوا: إنها سميت بذلك لمكان الاسترواح والراحة في أثناء هذه الصلاة والتراويح المراد بها: القيام جماعةً في ليالي رمضان، وقالوا: إنها من آكد السنن. وإذا قيل: سنةٌ مؤكدة فإنها تقارب الوجوب، لكن ليست بواجبة ولا لازمة، والنص في هذا واضح، كما في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: (خمس صلواتٌ كتبهن الله في اليوم والليلة)، فالفرض الخمس المعروفة، والكسوف والاستسقاء والتراويح كلها زائدة عن هذه الفرائض.

حكم صلاة الوتر

حكم صلاة الوتر قال رحمه الله تعالى: [ثم وتر يفعل بين العشاء والفجر]. قوله: (ثم وتر) أي: آكد النوافل بعد الصلوات التي شرعت لها الجماعة الوتر، والوتر المراد به الواحد في الأصل، ويعبر به عن كل ما لا يقبل القسمة على اثنين فيقال: إنه وتري فيشمل ذلك الواحد والثلاثة والخمسة إلخ. والوتر من آكد النوافل، لقوله عليه الصلاة والسلام: (الوتر حق، ومن لم يوتر فليس منا)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد زادكم صلاةً هي خيرٌ لكم من حمر النعم، جعلها لكم ما بين العشاء والفجر)، وقال الإمام أحمد رحمةُ الله عليه فيمن ترك الوتر: هذا رجل سوءٍ لا ينبغي أن تقبل شهادته. وهذا يدل على تأكد الوتر، ولذلك جعله العلماء رحمهم الله سنةً مؤكدة. واختلف العلماء رحمهم الله في الوتر على قولين مشهورين: فمذهب جمهور السلف رحمة الله عليهم أن الوتر سنةٌ وليس بواجب، وبهذا القول قال فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث، فلو ترك الإنسان الوتر فإنه لا يأثم، ولو فعله فإنه يثاب. وذهب غيرهم إلى أن الوتر واجب، وبهذا القول قال الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه وأصحابه. واستدل الذين قالوا: إن الوتر ليس بواجب بأدلة منها: أولاً: قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، ووجه الدلالة أن الله عز وجل قال: {وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، فدل على أن الصلاة التي أُمر بالمحافظة عليها وهي واجبةٌ على المكلف وترية، ولو قيل بوجوب الوتر لصارت الصلوات ستاً، فيكون العدد شفعياً لا وسط فيه؛ لأن قوله: {وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] يدل على أن العدد وتري؛ لأنها خمس، ونصف الخمس معناه أنه يكون في وسط الخمس واحدة، فيكون المقابل لها اثنتان واثنتان، فيكون العدد بهذا وترياً. ثانياً: ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أُسْري به وعرج صلوات الله وسلامه عليه، قال الله له في آخر المرات حينما راجع ربه في الصلوات المفروضة: هي خمسٌ وهنّ خمسون)، فقوله تعالى: (هي خمس) أي: الصلوات التي كتبتها عليك يا محمد -صلوات الله وسلامه عليه- وعلى أمتك هي خمس، (وهن خمسون) أي: في الأجر والثواب تفضلاً من الله عز وجل، ثم قال تعالى: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ)، فثبت أنها خمس إلى قيام الساعة لقوله تعالى: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) أي أنه لا يكون هناك تشريعٌ بزيادة. الدليل الثالث: ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما سأله الأعرابي عن الصلوات التي فرضها الله عليه، قال له: (خمس صلوات في كل يوم وليلة، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا. إلا أن تطوع)، فدلّ على أن الوتر ليس بواجب؛ لأن الوتر غير الصلوات الخمس، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس بواجبٍ عليه. الدليل الرابع: ما ثبت في الصحيحين من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال له: (فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلواتٍ في كل يومٍ وليلة)، فهذا الحديث -إذا تأملته- من آخر ما كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً في آخر حياته، ومع هذا قال له: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة)، فلو كان الوتر واجباً لقال: افترض عليهم خمس صلواتٍ ووتراً. فالمقصود أن هذه الأدلة من الكتاب والسنة تدل على أن الوتر ليس بواجب. أما الذين قالوا: بالوجوب فقد استدلوا بأحاديث السنن: أولها: قوله عليه الصلاة والسلام: (أوتروا يا أهل القرآن). ثانيها: قوله عليه الصلاة والسلام: (الوتر حقٌ، ومن لم يوتر فليس منا). ثالثها: قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله قد زادكم صلاةً هي خيرٌ لكم من حمر النعم، وهي الوتر). قالوا: أما الحديث الأول: (أوتروا) فهذا أمر، والأمر للوجوب، وأما الحديث الثاني: (إن الله قد زادكم صلاةً) فإنه يدل على أنها زائدة على الصلوات الخمس، وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يوتر فليس منا) فإنه ذم، والذم لا يكون إلا على ترك واجب أو فعل محرم، فثبت أن الوتر واجب. فهذا حاصل أدلة القائلين بالوجوب. والذي يظهر والله أعلم أن الوتر ليس بواجب، وذلك لصحة دلالة الكتاب والسنة على هذا القول. أما استدلال من قال بالوجوب بقوله: (الوتر حق) فالجواب عنه بأن الحق معناه: الثابت، تقول: هذا حقي. أي: ثابتٌ في ملكي، فالحق يعبر به بمعنى الثابت، فمراد النبي صلى الله عليه وسلم أن الوتر سنة من هديه، أي ثابتٌ في الشرع ومسنونٌ فعله. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يوتر فليس منا) فمعناه: ليس على هدينا الكامل، وليس المراد به الهدي اللازم الذي يعتبر من تركه وأخل به مذموماً. وأما قولهم: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله قد زادكم صلاةً) يدل على الوجوب، فيجاب عنه بأنه صلى الله عليه وسلم قد قال مثل هذا في ركعتي الفجر، وأنتم لا تقولون بوجوبها، أي أنه عبر بالزيادة في ركعتي الفجر، ومع هذا لا يقول الحنفية بوجوبها، فكما أنهم رأوا أن صيغة الخبر هناك لا تدل على الوجوب فيلزمهم القول هنا بأن صيغته لا تدل على الوجوب. فأصح ما يقال في الوتر أنه مسنون وفيه فضيلة، ومن فضائله أنه يسن فيه الدعاء، وهو خاتمة صلاة الليل، فتشرع صلاة الوتر بالليل. وأما صلاة الوتر بالنهار تنفلاً لا قضاءً، كما لو دخل المسجد وصلى ركعتين، ثم قال: أحب أن أتنفل بركعةٍ ركعة فقد أُثِر عن بعض الصحابة أنه فعل هذا، ومذهب جماهير العلماء رحمة الله عليهم أنك لا تسلم إلا من ركعتين إلا في الوتر وحده، على أن السنة والذي ينبغي للمصلي أن يصلي ركعتين ركعتين ولا يسلم من واحدة، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر: (صلاة الليل مثنى مثنى)، وفي حديث آخر: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)، فدل على أنه لا يسلم من واحدة، وما أثر عن الصحابي مردود إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك يختص الوتر بأنه من صلاة الليل، والسنة فيه أن يكون في آخر الليل، كما سيأتي إن شاء الله بيان أحكامه.

وقت صلاة الوتر

وقت صلاة الوتر قال رحمه الله تعالى: [يفعل بين العِشاء والفجر]. العِشاء من العشي، وسميت بذلك لأنها تقع في وقت العشي بعد ذهاب الشفق الأحمر على أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فتبدأ صلاة العشاء بمغيب الشفق الأحمر، ويستمر وقتها إلى طلوع الفجر الصادق. وقد اختلف العلماء في كون العبرة في وقته بصلاة العشاء أم بوقت العشاء: فبعض العلماء يقول: العبرة بصلاة العشاء، فإن صلى العشاء شُرِع له أن يصلي الوتر ولو لم يدخل وقت العشاء. وقال بعض العلماء: العبرة بوقت العشاء لا بفعل العشاء. والذي ينبني على هذا الخلاف أن العشاء لها حالتان: الحالة الأولى: أن تصليها في وقتها، وحينئذٍ بالإجماع يجوز لك بعد أن تصلي العشاء أن توتر. الحالة الثانية: أن تجمع العشاء مع المغرب، كالحال في ليلة مزدلفة، فإذا أقبلت على مزدلفة في أول الوقت وأدركت صلاة المغرب فصليت المغرب والعشاء، فإنك إن قلت: العبرة بصلاة العشاء فحينئذٍ توتر ولا حرج، وإن قلت: العبرة بدخول وقت العشاء نفسه فحينئذٍ لا بد وأن يكون وترك بعد مغيب الشفق الأحمر كما ذكرنا. ومذهب الجمهور أنه لابد من مغيب الشفق، وأنه لا يصلى الوتر قبل دخول الشفق؛ لأن تقدم العشاء على خلاف الأصل، وإنما شُرِع على سبيل الرخصة فاقتصر فيها على موضعها، ولذلك جاء في الرواية الأخرى: (ما بين صلاة العشاء والفجر)، ويدل التعبير بقوله: (صلاة العشاء والفجر) على الوقت المعهود، وكذلك تعبيره: (ما بين العشاء والفجر) يدل على أن العبرة بالوقت نفسه كما في رواية السنن، فأقوى الأقوال أنه لا يصلي الوتر إلا بعد دخول وقت العشاء. وقوله: (يفعل بين العشاء والفجر) أي: يفعله المكلف ما بين العشاء إلى الفجر، فإذا دخل وقت الفجر فحينئذٍ لا يصح إيقاع الوتر بعد تبين الفجر الصادق من الكاذب بعد الأذان. وقال بعض الصحابة: يشرع أن يصلي الوتر ما بين الأذان والإقامة من صلاة الفجر، وهو مذهب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. والصحيح أنه إذا أذن المؤذن لصلاة الصبح فإنك تمسك عن الوتر، وتنتظر إلى طلوع الشمس، ثم تقضيه بعد طلوع الشمس وتشفع الوتر بركعة، فإذا كنت صليت بالليل عشر ركعات، فلما كبرت ودخلت في صلاة الوتر أذن المؤذن لصلاة الفجر، فحينئذٍ تنوي أن هذه الصلاة شفعية، وتقلبها من الوتر إلى الشفع؛ لأن الوقت قد زال، ويجوز الانتقال في هذه الحالة من الوتر إلى الشفع، ثم إذا انتهيت من هاتين الركعتين انتظرت حتى طلوع الشمس، فإن طلعت الشمس صليت الوتر ركعة وشفعته بركعةٍ معه، فتصلي ركعتين إن كان وترك ركعة، وإن كان وترك بثلاث صليت أربعاً؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فاته حزبه من الليل صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة)، وكان حزبه من الليل إحدى عشرة ركعة، فلما قالت: (صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة) دل هذا على أن وتر الليل قد شُفع بركعةٍ واحدة. ثم إن وتر النهار قضاءً فيه أحكام: أولها: أن تشفع الوتر ولا تتركه على حاله. ثانيها: أن لا تدعو بعد الركعة الأولى، فوتر الليل فيه دعاء ووتر النهار لا دعاء فيه. ثالثها: أن صلاته في النهار سرّية، وصلاة الليل جهرية.

عدد ركعات صلاة الوتر وهيئاتها

عدد ركعات صلاة الوتر وهيئاتها قال رحمه الله تعالى: [وأقله ركعة، وأكثره إحدى عشر ركعة مثنى مثنى، ويوتر بواحدة، وإن أوتر بخمس أو سبع لم يجلس إلا في آخرها، وبتسع يجلس عقب الثامنة ويتشهد ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة ويتشهد ويسلم]. قوله: (وأقله ركعة، وأكثره إحدى عشرة) ثبت في عدد ركعات الوتر أحاديث مختلفة، أما الركعة -وهي أقله- فقد ثبت فيها الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة). وأما الوتر بثلاث أو خمس أو سبع أو تسع فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (الوتر حقّ، فمن شاء أن يوتر بثلاث أو بخمس أو بسبع أو بتسع ... ) الحديث. كما ثبت الوتر بخمس في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أنه صلى الوتر خمساً). وثبت الوتر بسبع كذلك في حديث أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر في الوتر بسبع). وثبت الوتر بالتسع كذلك في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر بتسع، ولم يقعد إلا في الثامنة، ثم قام -أي: نهض عليه الصلاة والسلام- ولم يسلم، فصلى التاسعة -وهي الوتر- ثم سلم) صلوات الله وسلامه عليه. وأما الوتر بإحدى عشر ركعة، فهو أكثره كما ذكر المصنف رحمه الله، وللوتر بإحدى عشرة ركعة صور: الصورة الأولى: أن تجعل صلاتك مثنى مثنى، وتجعل الحادية عشر ركعةً مستقلة، وهي الصورة التي فيها حديث ابن عمر. الصورة الثانية: أن تصلي أربعاً بتسليمة واحدة، ثم أربعاً بتسليمة واحدة، ثم توتر بثلاث، فيكون العدد إحدى عشرة ركعة، لما أخرجه النسائي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (. فمن شاء منكم أن يوتر بثلاث)، وكذلك ثبت في حديث أبي بن كعب في صلاته صلى الله عليه وسلم. الصورة الثالثة: أن تصلي ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم خمساً متصلة، فهذه إحدى عشرة ركعة، ويكون وترك بخمس في الإحدى عشرة ركعة. قال رحمه الله تعالى: [وإن أوتر بخمسٍ أو سبعٍ لم يجلس إلا في آخرها، وبتسع يجلس عقب الثامنة ويتشهد ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة ويتشهد ويسلم] هذا الذي ذكره المصنف ثبت فيه حديث أم سلمة رضي الله عنها في السنن، فالسنة أن تصلي الخمس متصلة وتجلس في آخرها ثم تسلم، وإن أوترت بالسبع فكذلك، فتصلي السبع ثم تجلس في آخرها، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه فعل في التسع خلاف ما فعل في الخمس والسبع، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام صلى ثماني ركعات متصلة ثم جلس عليه الصلاة والسلام في الثامنة، ثم قام إلى التاسعة ولم يسلم، كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم، فهذا يدل على مشروعية الجلوس في وتر التسع قبل الأخيرة، فيجلس للتشهد في الركعة الثامنة ولا يسلم منها ويقوم للركعة التاسعة ثم يجلس، فيكون وتره بالتسع فيه جلستان في آخر الصلاة على ظاهر حديث عائشة. وقد جاءت رواية أخرى تدل على خلاف ما اختاره المصنف في السبع، وذلك أنه جلس عليه الصلاة والسلام في السبع قبل تسليمه عليه الصلاة والسلام ثم أوتر بواحدة، وهذا يدل على أن الأمر واسع، لكن حديث عائشة رضي الله عنها الذي فيه الجلوس في الثامنة قالت فيه: (فلما كبر وضعف) عليه الصلاة والسلام، فدل على أنه لم يستطع أن يصلها ببعضها صلوات الله وسلامه عليه، فأوتر على هذه الصورة التي ذكرناها، وهذا كله من باب التوسعة. وأما السبب في مشروعية الوصل فقد ذكروا أنه لذلك حكماً عظيمة، ومنها أن المصلي يقوى على طول القيام؛ إذ إنّ للعلماء رحمهم الله تعالى في كون الأفضل في صلاة الليل كثرة الركعات أو طول القيام مذهبان: فبعض العلماء يقول: الأفضل في صلاة الليل أن يكثر العدد ويكثر السجود. وقال بعضهم: الأفضل أن يطيل القيام ولو قلّ السجود. واحتج من قال: إن الأفضل أن يكثر من السجود بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ربيعة أنه لما كان يعد للنبي صلى الله عليه وسلم طهوره بالليل قال له صلى الله عليه وسلم: (سلني حاجتك؟ قال: أسألك مرافقتك في الجنة. قال: أو غير ذاك؟ قال: هو ذاك. قال: أعني على نفسك بكثرة السجود) قالوا: فهذا يدل على أن الأفضل أن تكثر من السجود، وهذا يدل على مشروعية الزيادة على إحدى عشرة ركعة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (أعني على نفسك بكثرة السجود)، ولم يقيد ذلك بالليل ولا بالنهار، وإنما أطلق. وأما الذين قالوا: إن الأفضل طول القيام في الليل فاحتجوا بما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر أنه لما سئل صلى الله عليه وسلم: (أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت)، أي: طول القيام في القراءة. وهذا المذهب الثاني أرجح، فإن الأفضل أن يصلي إحدى عشرة ركعة يطيل القراءة فيها، وذلك لدليلين: أحدهما: أنه هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يختار الله لنبيه إلا الأفضل والأكمل. الثاني: أن الشخص إذا صلى إحدى عشرة ركعة وسجد في كل ركعة سجدتين فإنه يوصف بكونه قد أكثر من السجود؛ لأنه تكون له قرابة اثنتين وعشرين سجدة، ولذلك يكون موصوفاً بكونه قد أكثر من السجود، وعلى هذا فالأفضل طول القنوت، ولأن طول قنوتك ووقوفك فيه كثرة قراءة للقرآن، وكثرة القراءة يصحبها التدبر والتأمل والتأثر، وهذا هو المقصود من قيام الليل، وهو أن الإنسان يتأثر بالقراءة في وقتٍ لا شغل فيه، فلذلك قالوا: إن هذا كله يرجح مذهب من يقول بطول القنوت. وفائدة الخلاف أنه لو كان رجلٌ عامي يحفظ سوراً قصيرة فالأفضل له أن يقرأ هذه السور، ولو بالتكرار ولا حرج عليه؛ لأن المراد شغل الركن الذي هو القيام بالقراءة. فلو قال قائل: كيف نجمع بين هذا وبين كراهية تكرار الفاتحة؟ قلنا: إن الفاتحة ركن، وتكرار الأركان محظور، ولكن السنن التي هي القراءات ونحوها لا حرج فيها، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كرر سورة الزلزلة في ركعتين، فقرأها في أولى الفجر وثانيتها)، وكذلك ثبت عنه أنه أقر الصحابي على قراءة سورة الإخلاص في كل ركعة، فالأفضل لمثل هذا أن يكثر من القراءة حتى يطول قنوته وقيامه. وعلى القول الثاني: يقرأ قصار السور ويكثر من السجود، فيعوض ما عنده من نقص في حفظ القرآن بكثرة السجود، والأرجح ما ذكرناه. [وأدنى الكمال ثلاث ركعات بسلامين، يقرأ في الأولى بـ (سبح)، وفي الثانية بـ (قل يا أيها الكافرون)، وفي الثالثة بالإخلاص]. ثبت في حديث أبي بن كعب وحديث ابن عباس رضي الله عن الجميع في وتره عليه الصلاة والسلام أنه: (أوتر بثلاث، قرأ في الأولى بـ (سبح)، وفي الثانية بـ (قل يا أيها الكافرون)، وفي الثالثة بسورة الإخلاص)، وورد عنه أنه قرأ في الثالثة بالمعوذات مع سورة الإخلاص، فهذا يدل على أدنى الكمال الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ثلاث. ثم إن في صلاتها ثلاث ركعات ثلاث صور: الصورة الأولى: أن تصلي الثلاث متصلة وتجلس في آخرها وتسلم. الصورة الثانية: أن تصلي ركعتين وتسلم، ثم تقوم للثالثة وتسلم، فتكون ثلاث ركعات. الصورة الثالثة: أن تصلي الركعتين وتجلس للتشهد، حتى إذا فرغت من التشهد الأول قمت ولم تسلم وأتيت بالركعة الثالثة، فهذه ثلاث صور. فالصورة الأولى -وهي صلاة جميع الركعات بدون وجود فاصل- لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا في وتره عليه الصلاة والسلام بالخمس والسبع. وأما إذا صلى ركعتين ثم سلم ثم قام إلى الثالثة فمذهب الجمهور أنه الأفضل، وأنه هو المعتبر، وأنه كذلك لا يفعل الصورة الثالثة، وهي أن يصل الثلاث بتسليمة واحدة، فيتشهد في الثانية، ثم يقوم ولا يسلم إلا في الثالثة. وذهب أبو حنيفة إلى جواز أن تصل الثلاث في الوتر، فتجلس بعد الركعة الثانية للتشهد ولا تسلم، كصلاة المغرب سواءً بسواء، وقد جاء في حديث السنن: (لا تشبهوا بالمغرب)، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوتر بثلاث تشبهاً بالمغرب. والصحيح أنه يمنع، فلا يصليها ثلاثاً على صفة صلاة المغرب، والأفضل أن يسلم من ركعتين، وأن يقوم للركعة الثالثة كما ثبت في الحديث الذي ذكرناه.

حكم القنوت في الوتر ومحله

حكم القنوت في الوتر ومحله قال رحمه الله: [ويقنت فيها بعد الركوع]. قوله: (ويقنت) أي: يدعو. والقنوت في الوتر سنة، وقد اختلف العلماء والسلف رحمة الله عليهم في هذا الدعاء في الوتر: فمنهم من يقول: يشرع مطلقاً. أي: في جميع الوتر في سائر السنة. ومنهم من يقول: إن السنة في دعاء الوتر أن يكون في آخر رمضان. أي: في النصف الثاني من رمضان دون النصف الأول. ومنهم من يقول: في رمضان كله، فيخصه برمضان. ومنهم من يقول: يقنت أحياناً ويترك أحياناً، وهذا القول هو أعدل الأقوال وأقربها إلى السنة، واختاره غير واحدٍ من أهل العلم رحمة الله عليهم، وإن داوم عليه فلا حرج، لكن لو علّم الناس السنة فترك القنوت في ليلة من ليالي الشهر فلا حرج، لكن في رمضان استحبوا أن يستديم القنوت؛ لأن هناك قولاً للسلف في استدامة القنوت في كمال رمضان خاصة، وذلك لما فيه من حصول البركة باجتماع الناس، كما ثبت في الحديث الصحيح اعتبار هذا النوع من الخير، ففي حديث العيد ذكرت أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر النساء بالخروج إلى المصلى، وقال في شأن الحيض: (يشهدن الخير ودعوة المسلمين) فاجتماع الناس في الدعاء فيه خيرٌ كثير؛ لأنه اجتماعٌ مشروع، وليس باجتماع بدعةٍ ولا حدث، بل هو اجتماع مشروع وله أصلٌ في الشرع، فمثل هذا الاجتماع إذا اغتنم في الدعاء للناس بخيري الدنيا والآخرة فلا شك أنه أفضل، فاستحب بعض العلماء أن يُخرج قنوت رمضان من الخلاف لما فيه من الفضائل ولما ذكرناه. والقنوت له صورتان: الصورة الأولى: أن يكون قبل الركوع. الصورة الثانية: أن يكون بعد الركوع. وكل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمن قنت قبل الركوع فقد فعل سنة، فلو أن إماماً قرأ سورة الإخلاص، أو قرأ سورة الإخلاص والمعوّذات ثم ابتدأ الدعاء فلا حرج عليه في ذلك، وهو على سنة وخير، ولا ينكر عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ورد عنه في حديث أبي ذلك، وإن ترك قنوته إلى ما بعد الركوع فكذلك هو على سنةٍ وخير، وهذا النوع من الخلاف يسميه العلماء خلاف التنوع، وليس بخلاف التضاد الذي يوجب التبديع أو المنع من إحدى الصورتين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا مرة وفعل هذا مرة، وكلٌ جائز ولا حرج فيه.

شرح دعاء القنوت

شرح دعاء القنوت قال رحمه الله تعالى [ويقنت فيها بعد الركوع فيقول: (اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت)]. هذا حديث الحسن بن علي رضي الله عنه في السنن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه هذا الدعاء:: (اللهم اهدني فيمن هديت) وأصل (اللهم): يا الله، فحُذف حرف النداء (الياء) وعوّض عنه (الميم) فقيل: اللهم. ولذلك لا يقال: يا اللهم، إلا في القريض والشعر، كما قال الناظم: والأكثر اللهم بالتعويض وشذ يا اللهم في قريض أي: في الشعر. ومنه قول الشاعر: إني إذا ما حدثٌ ألمّا ناديت يا اللهم يا اللهما وهذا خاص بالشعر، أما في النثر فإنه يقال: (اللهم)، ولا يقال: يا اللهم. وقوله: (اللهم اهدني فيمن هديت) الهداية: الدلالة. يقال: هداه: إذا دله. والهداية تكون بمعنى التوفيق، وهذه خاصةٌ بالله سبحانه وتعالى، فهو يوفق من يشاء إلى رحمته بفضله سبحانه وتعالى، وتكون بمعنى الدلالة، فإن كانت بمعنى الدلالة فإما أن تكون دلالةً على خير، وإما أن تكون دلالةً على شر، فيقال: هداه إلى الشر. بمعنى دله عليه، وهداه إلى الخير، بمعنى دله عليه، وقد تكون دلالةً على مصالح الدنيا، ومنه قوله تعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] أي: هدى كل مخلوقٌ إلى ما فيه صلاحه في معاشه، فتجد النملة تغدو لرزقها، وتجد الطير تغدو إلى أرزاقها، وتُهدى كيف تبني أعشاشها وأكنانها، وكيف تقضي مصالحها وتربي أطفالها، فهذا كله من الهداية، والله هو الذي هداها لذلك، فهذه هداية إلى مصالح الدنيا، أما الهداية إلى مصالح الدين فإنها على نوعين: النوع الأول: التوفيق، وهي مختصة بالله عز وجل، والنوع الثاني: الدلالة والإرشاد، فهذه تكون لله، وتكون لأنبيائه ورسله، ولذلك نفى الله هداية التوفيق عن نبيه فقال سبحانه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، وأثبت له هداية الدلالة فقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، فهنا الهداية بمعنى الدلالة والإرشاد. والمراد بالهداية في قوله: (اللهم اهدني فيمن هديت) هداية التوفيق، أي: اجعلني على صلاحٍ وخير، وهذا فيه تعطشٌ لرحمة الله عز وجل، وإظهارٌ للفقر، وأنك بحاجة إلى رحمة الله أن يرحمك بالاستقامة على دينه، وفيه استرحامٌ من العبد لربه أن لا يجعله محروماً؛ لأنه لما قال: (اهدني فيمن هديت) فمعناه: لا تصب الناس بهدايتك وتجعلني محروماً من هذه الهداية. قوله: وعافني فيمن عافيت. المعافاة: السلامة، والمعافى: هو السليم، وعافاه الله: سلّمه الله من شر دين، أو شر دنيا، أو منهما معاً، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عافني) فيه إطلاق يشمل عافية الدين وعافية الدنيا، ولذلك لما جاء العباس رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (يا عم رسول الله! سل الله العافية. يا عم رسول الله! سل الله العافية. يا عم رسول الله! سل الله العافية)، فإذا عافاك ربك فقد صلح لك دينك، وصلحت لك دنياك، وصلحت لك آخرتك، فأكثر المصائب تأتي من البلاء، حين يبتلى الإنسان -نسأل الله السلامة والعافية- ولا يرزق التوفيق للصبر على هذا البلاء. قوله: (وتولني فيمن توليت) الولاَية بالفتح تكون بمعنى النصرة، وتكون بمعنى التأييد، وولي الله عز وجل وصفه الله عز وجل بصفتين، فقال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]، ولا يوصف الإنسان بكونه ولياً لله عز وجل إلا إذا كان مؤمناً تقياً، ولذلك لما توسع الناس في هذا ضل فئام وحارت أفهام حينما تُرِك هذا الأصل الذي دلّ عليه دليل الكتاب، فولي الله عز وجل هو المؤمن التقي، فأصبحت الولاية تطلق على أناس هم أبعد ما يكونون عن دين الله عز وجل من أهل الأهواء والبدع والضلالات -نسأل الله السلامة والعافية-، حتى أصبحت الولاية في لبس الخرق، وإظهار رثاثة الحال، والخروج عن سنن النبي صلى الله عليه وسلم، وتحريم الحلال، وغير ذلك من الأمور المنكرة التي أحدثها الناس، وأصبحت الولاية إنما تكون للإنسان المجتهد في أذية الناس والتعرض لهم، فيوصف بكونه ولياً -نسأل الله السلامة والعافية-، وهذا كله من الضلال والبدع والأهواء التي أصابت الناس فأضلتهم عن سبيل الله، فالولاية لا تكون إلا بهذين الأمرين: الإيمان والتقوى. قوله: (وبارك لي فيما أعطيت). البركة: الزيادة والنماء والخير؛ لأن الله قد يعطيك شيئاً ولا يبارك لك فيه -نسأل الله السلامة والعافية-، فقد يعطى الإنسان علماً ولا يبارك له فيه، وقد يعطى دنيا ولا يبارك له فيها، فربما رأيت الرجل العالم لا ينصح، ولا يُذَكِّر بالله تعالى، ولا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر، بل قد تجد الرجل يدخل إلى المسجد وبجواره رجلٌ يقرأ القرآن يحرّف كلام الله عز وجل ويخطئ في آياته ولا يرد عليه بحرفٍ واحد، ويقول: أنا الذي أخذت الدكتوراه فكيف أجيب على هذا فأشتغل به؟!! فهذا من محق البركة -نسأل الله السلامة والعافية- لنظره إلى علو مرتبته في نفسه، أو بسبب موت قلبه عن استشعار مسئوليته أمام الله عز وجل، لكن الله إذا أحب عبداً وأعطاه نعمة بارك له فيها، ولذلك فدائماً سل الله البركة فيما أعطاك. والبركة كما تكون في أمور الدين تكون في أمور الدنيا، فقد تجد إنساناً عنده المال القليل توضع له البركة فيه، فإذا به مالٌ كثير. وقد تجد الرجل عنده الولد الواحد فيقوم بمصالحه ويقضي حوائجه، ويكون قرة عينٍ له في الدنيا والآخرة، فإن كان في الحياة خدمه وأحبه وأكرمه، وإن توفي رفع كفاً إلى الله عز وجل لا تخيب بصالح الدعوات، فجعل الله له فيه خيراً كثيراً، فهذا من البركة في الولد، وقد تجد الرجل عنده العشرة من الولد وأكثر من ذلك لكنهم أصحاب مصائب، لا يجني منهم إلا سوء السمعة والأذية والبلية والإضرار، ويتمنى موتهم بدل حياتهم -نسأل الله السلامة والعافية-، وهذا من محق بركة الولد. كما تكون البركة تكون في الزوجات، وتكون في الأموال. والدعاء هنا بوضع البركة إنما هو الدعاء بالخير، فقوله: (وبارك لي فيما أعطيت) أي: اجعل فيما أعطيتني وأوليتني بركة وخيراً، فنسأل الله العظيم أن يبارك لنا فيما أعطانا. قوله عليه الصلاة والسلام: (إنه لا يذل من واليت). الذلة: ضد العزة، فقوله: (إنه لا يذل من واليت) أي: لا يذل من كنت ولياً له، وهذا كأنه تعليل لسؤال الولاية. وقوله: (ولا يعز من عاديت) يفيد أن الولاية طريق إلى العزة، كما قال الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]، فجعل الله العزة لمن أطاعه والذلة لمن عصاه، فإذا كان الإنسان مطيعاً لله فإن الله يعزه، يقول بعض العلماء: إن سؤال الأثر أو المسبب يتضمن ما يكون سبباً في وجوده، فكأنه لما يسأل الله عز وجل أن يكون على هذه الحال من كونه ولياً لله عز وجل فقد حصل العزة. وفي هذا الدعاء تنبيه على أن الناس إذا أسلموا وأطاعوا وكانوا من أتباع هذا النبي الكريم وأصابتهم الذلة فإنها تكون بسبب ضعف الولاية لله عز وجل، فإذا رأيت المسلمين في ضعفٍ وخور وذلة ومهانة واحتقار من الأعداء فاعلم أن بينهم وبين الله أموراً، وهذه الأمور هي معاصي الله وانتهاك حدود الله عز وجل، فإذا عظّموا الله وكانت ولايتهم لله أعزهم الله عز وجل. فقوله: (لا يعز من عاديت) أي: لا يكون من عاديته عزيزاً، وهذا فيه إطلاق يشمل عزة الدنيا وعزة الآخرة، ولذلك جعل الله أهل الكفر في ذلةٍ وحقارة كما قال تعالى: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ} [الأنعام:124]، فلا يكتب لأحد عصى الله عز وجل عزة ما دام على معصية -نسأل الله السلامة والعافية-، فلذلك ضرب الله الذلة والمهانة على اليهود لما قتلوا أنبياء الله واعتدوا حدود الله عز وجل. (تباركت ربنا وتعاليت). (تبارك) تفاعلٌ من البركة، فأعظم ببركته سبحانه وتعالى. وقوله: (وتعاليت) مأخوذ من العلو، وهذا فيه ثناء على الله عز وجل، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء بين الثناء وبين المسألة، فمن أبلغ ما يكون أن تجمع بين الثناء على الله عز وجل والمسألة. قال عليه الصلاة والسلام: (وقني شر ما قضيت) قوله: (قني): مأخوذ من الوقاية. وهذا الدعاء يشمل الوقاية من شرور القضاء، سواء أكانت في أمور الدين أم أمور الدنيا. والله عز وجل قد كتب ما هو كائن وما يكون إلى قيام الساعة، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فجرى بما هو كائنٌ وما يكون إلى قيام الساعة)، فكتب الله عز وجل المقادير، وقضى بها سبحانه وتعالى، ولا شك أن ما كتبه لا بد أن ينفذ، فيسأل العبد ربه أن يكفيه وأن يقيه شر ما قضى، وليس المراد بهذا ما قد كتب على العبد، فإن الذي يكتب على العبد لا بد من مضيه ولا بد من نفاذه، ولكن المراد من هذا أن يسأل الله عز وجل العافية والسلامة مما يكون من البلاء على العباد، أي: من سواه من العباد، وقد يقول قائل: إذا كان الله عز وجل لم يكتب عليه فكيف يدعو وهو سالم من هذا القضاء؟ فقالوا: لأنه يثاب على هذا الدعاء ويؤجر، وثانياً: لأنه لم يطلع على الذي كتب، ولذلك هو يسأل على ما ظهر له، وهذا هو الأصل في قضايا القضاء والقدر. وقوله: [(اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا نحصي ثناء عليك،

مسح الوجه باليدين بعد الدعاء

مسح الوجه باليدين بعد الدعاء قال رحمه الله: [ثم يمسح وجهه بيديه]. المسح: هو إمرار اليد أو الكف على الشيء، ويستدل لهذا المسح بحديث عمر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع يديه في الدعاء لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه)، وهذا الحديث تكلم العلماء على سنده، والأقوى أنه ضعيف، وإن كان الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه أشار إلى أن للحديث طرقاً يقوي بعضها بعضاً، وأنه يرتقي إلى درجة الحسن، وتضعيف الراوي موقوف على كلام الحافظ ابن حجر نفسه الذي نقله في التهذيب وأشار إليه في التقريب، فإذا كان الحافظ ابن حجر الذي كتب وبيّن وأرشد إلى الكلام في هذا الراوي، يقول: إن مجموع طرقه تقوّي الحديث وتشهد بأصله، فإنه حينئذٍ لا ينكر على من فعله، لكن الأولى والأكمل أن يقتصر على رفع اليدين، وإن مسح وجهه فلا ينكر عليه؛ لأنه فقد ثبت الحديث: (أنه رفع يديه في القنوت)، وهو حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وحسنه الحافظ ابن الملقن في تحفة المحتاج في تخريجه لأحاديث المنهاج، حيث ذكر حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قنت رفع يديه)، وهو أصل عند العلماء في رفع اليدين في القنوت، فإذا ضممت حديث أنس مع حديث عمر الذي ذكرناه: (أنه كان إذا رفع يديه لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه) فحينئذٍ لا ينكر على من مسح، لكن الأسلم والأولى -نظراً للكلام في الحديث، ولعظيم شأن الصلاة وشدة أمرها، وأنه لا ينبغي أن يفعل الإنسان إلا ما ثبت وتقرر- أن يقتصر على الرفع دون المسح، ومن مسح فإنه لا ينكر عليه إذا تأوّل الحديث وكان يرى تحسينه، أو يرى اعتبار قول من يقول بالحسن، على الأصل المقرر عند العلماء أنه لا إنكار إذا اختلفت النصوص صحةً وضعفاً، فكما أنك تقول بصحة حديث لتصحيح من ترى علمه، وتقول بضعف غيره للقول الذي يقوله هذا العالم، فكذلك غيرك يرى، والكل بشر يحتمل قوله الصواب والخطأ، ولذلك لا ينكر على من فعله إذا كان يتأول، وإنما يُدل من فعله على الأفضل، فيقال له: الأفضل أن تقتصر على الرفع ثم تضع يديك، وهكذا في الدعاء العام، فإذا جلس ورفع كفيه يسأل الله من خيري الدنيا والآخرة فإنه يقال له: لا تمسح وجهك. ويُدل على الأفضل، ويقال: إن الحديث ضعيف. لكن لو قال: إنني أقول بحديث عمر، وفيه كذا وكذا. فلا حرج، كما قال الناظم: واقبل لإطلاق لصحة السند أو حسنه إن كان ممن يعتمد أي: ما دام أن هذا التحسين والتضعيف من أئمة وأناس شهد لهم بالأهلية فإنه يقبل، ويكفيك بالحافظ ابن حجر رحمة الله عليه علماً وفهماً ودرايةً بأصول التصحيح والتضعيف، فلا شك أن مثل قوله له وجه. وعلى العموم يُدَل الناس على الأفضل، ويقال لهم: الأفضل والأكمل أن لا يُمسح. لكن الذي نعتقده وندين الله عز وجل به -لضعف الحديث- أنه لا يثبت المسح في الدعاء العام ولا في الدعاء الخاص، وأما أمر الصلاة فهو أعظم. وعلى القول بحديث عمر رضي الله عنه أنه كان يمسح بهما وجهه، فقد اختلف العلماء في تعليل هذا الفعل، ومن التعليلات ما ذكره بعضهم -وأشار إليه الصنعاني رحمة الله عليه في السبل- أن هذا الحديث إنما خُرّج على أن الإنسان يقوى يقينه بالله من باب الفأل، والشرع يستحب الفأل، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل، فكأن الداعي اعتقد أن الله لا يخيبه وأنه سيعطيه سؤله، ولذلك مسح أشرف المواضع كأنه مصيبٌ لحاجته من قوة يقينه بالله. فعلى القول بثبوت هذا الحديث فإنه يُخرّج على هذا التعليل. وأما ما يفعله بعض الجهال بعد الانتهاء من مسح الوجه حيث يجعل مسحه جميع الجسد فهذا لا أصل له، ويعتبر بدعةً وحدثاً، وهذا في الصلاة أشد؛ لأنه فعلٌ خارج عن هيئات الصلاة لا يشرع إلا بدليل، ولا دليل.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية قضاء الوتر لمن لم يكن له حزب محدد

كيفية قضاء الوتر لمن لم يكن له حزب محدد Q إذا كان الإنسان يصلي الوتر مرة ثلاثاً ومرة خمساً ومرة سبعاً، فكيف يقضي إذا فاته الوتر؟ A الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإذا كان يوتر بخمسٍ أو بسبع فحينئذٍ يشفع وتره، فيكون وتره ستاً إن كان يوتر بخمس، وإن كان يوتر بسبع فيكون وتره ثماني ركعات، يشفع وتر الركعة السابعة بالثامنة. أما لو اضطرب حاله، فتارةً يوتر بسبع وتارةً يوتر بخمس، فهذا مما لا أحفظ فيه نصاً عن العلماء، ولذلك أتوقف في حكمه. والله تعالى أعلم.

حكم من أوتر في النهار سهوا

حكم من أوتر في النهار سهواً Q رجلٌ صلى صلاة النافلة في النهار فسها وصلى وتراً، ثم تذكر بعد سلامه، فماذا يصنع؟ A هذا فيه تفصيل: فإن كان تذكر في نفس المكان الذي صلى فيه قبل خروجه منه فإنه يستقبل القبلة ويجلس كحال المتشهد حتى يأتي بالقيام، ثم يقوم للركعة التي فاتته ويتمها كأنه لم يسهُ، ثم يسجد سجدتين بعد السلام، على ظاهر حديث ذي اليدين في الصحيحين، فحينئذٍ يجبر هذه الركعة التي فاتته ما دام أنه لم يخرج من المسجد، أو لم يخرج من الغرفة التي صلى فيها. أما لو خرج من الغرفة أو خرج من المسجد فإن كانت الصلاة التي صلاها ركعةً واحدة مفروضة فإنه يلزمه قضاؤها وفعلها تامةً على الصفة المشروعة، وقد بطلت بخروجه من المسجد وبخروجه من الغرفة، أما لو كانت الصلاة نافلة ففيها قولان للعلماء: فمن يقول: إن النوافل إذا شرع فيها المكلف وجبت عليه، فإنه يوجب عليه القضاء. ومن يقول: إن الشروع في النافلة لا يصيرها فرضاً، فحينئذٍ لا يوجب عليه القضاء. وتوضيح ذلك أن بعض العلماء يقول: إذا كبّرت في نافلةٍ، أو أنشأت صيام تطوعٍ وجب عليك أن تتم النافلة وأن تتم الصيام، فإذا قطعته بدون عذر أثمت، وإذا قطعت الصلاة النافلة بدون عذرٍ أثمت، واحتجوا بقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، قالوا: نهى الله تعالى عن إبطال العمل، والصلاة عمل، بل هي من خير العمل، وهكذا في بقية النوافل. والذين قالوا: إن الشروع في النوافل لا يصيرها فرائض قالوا: إنها ليست بواجبةٍ في أصل الشرع، فإذا قلنا: إنها تصير فريضةً فقد زدنا على أصل الشرع الذي دلّ على عدم لزومها، وقاسوا النظير على نظيره، فقالوا: هي ليست بواجبةٍ بعد الشروع كما أنها ليست بواجبةٍ قبل الشروع، وأما قوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] فإنما هو في الأعمال التي هي على سبيل اللزوم، وأما بالنسبة للأعمال التي هي على سبيل الخيار فالمكلف مخيرٌ بأصل الشرع. وبناءً على هذا فلو أنشأ نافلة، كأن يقوم في غرفته ليصلي ركعة في النهار ثم سلّم منها ظاناً أنه صلى ركعتين فحينئذٍ إن قلنا: النوافل تصير فرائض بالشروع فإنه يلزمه أن يتم هذه الركعة الباقية، وإن قلنا: النوافل لا تصير فرائض بالشروع فإننا نقول له: أنت بالخيار، فإن أحببت أن يثيبك الله وأن يتم لك أجر الركعتين فأتمها، وإن لم تحب فحيئنذٍ لا حرج عليك؛ لأن النوافل لا تصير مفروضةً؛ إذ هي نافلةٌ في أصل الشرع، وليست بفريضةٍ واجبة.

نصائح وتوجيهات لطلبة العلم

نصائح وتوجيهات لطلبة العلم Q هل من وصيةٍ لطالب العلم عن كيفية مراجعة الدروس؟ A طلب العلم فيه سآمةٌ وملل، وفيه تعبٌ ونصب، وطالب العلم لا بد أن تمر عليه ساعات وأيام وأعوام يجد فيها بعض السآمة والملل والظروف والمصائب والمتاعب، ولذلك ينبغي لطالب العلم دائماً أن يستشعر الإخلاص؛ فإنه لا يبدد هذه الهموم والغموم شيءٌ غير توفيق الله سبحانه وتعالى، ثم وجود نيةٍ خالصة بين العبد وبين ربه، وهذا هو الذي صبر به الأولون وسار على نهجه الأخيار الصالحون، فبارك الله في علمهم وتعلمهم ونفعهم للعباد، فإذا استشعرت دائماً حب الله في هذا العلم وحب الله لك في هذا التعلم والسعي لإنقاذ نفسك وإنقاذ الأمة بهذا العلم المبارك فإن الله سبحانه وتعالى يرحمك ويوفقك ويذهب عنك كل ما يحول بينك وبين رحمته، فهذا الأمر الأول. والأمر الثاني الذي يوصى به طالب العلم حتى يثبت في طلب العلم ويقوى على تحصيل العلم وضبطه: أن يجمع في علمه بين العلم والعمل، فأي سنة يتعلمها يطبقها، وأي نافلةٍ يُدعى إليها يعمل بها ولو مرة، وقد قالوا: اعمل بالحديث مرةً تكن من أهله، فتلقى الله يوم تلقاه وقد عملت به ولو مرةً واحدة، حتى إذا قلت للناس: إن هذا الحديث يدل على الخير، تكون لك قدم سابقة عند الله عز وجل، وتكون لك قدم صدق أنك فعلت وعملت بهذا الذي دعوت إليه، ولذلك أوصي طلاب العلم خاصة في مرحلة الطلب أن يكثروا من العبادة والعمل بالعلم؛ فإن لهذا أثراً عظيماً فيما يكون في مستقبلهم، وأن لا يشتغلوا بالقيل والقال وإضاعة الأوقات فيما لا ينفع، وإنما يشتغلون بهذا العلم، وطالب العلم إذا أقبل عليه يقبل بكله ولا يقبل بجزئه، فتقبل على هذا العلم إقبالاً صادقاً، وتجعله ليلاً ونهاراً أنيسك وجليسك الذي تسعد به وترتاح إليه وتأنس به، ويكون أفرح ما عندك أن تظفر بالفائدة والحكمة والمقولة التي تستنير بها وتضيفها إلى علمك، فإذا بلغت إلى هذه المرتبة -وهي التفاني في تحصيل هذا العلم مع العمل- فإن الله سبحانه وتعالى يبلغك أعالي درجات العلماء بإذنه سبحانه وتعالى، وإذا جمعت بين العلم بالعمل والتفاني في تحصيله فإن الله عز وجل سيجعل العاقبة لك محمودة، ولذلك تجد بعض طلاب العلم يطلبون العلم سنة ويملون، أو سنتين ويسأمون، أو ثلاث سنوات ويتركون، والسبب في هذا -والله أعلم- أنهم يضعون العلم أحمالاً على ظهورهم، فلا يعملون بما علموا، وتجد طالب العلم يجمع الأقوال ويجمع المسائل ويجمع الردود والمناقشات، وهذه أمور قد يقسو القلب بسببها إذا كثر الاشتغال بها، وكان اشتغالاً جامداً عارياً عن العمل، وقد تخرج الإنسان عن المقصود الأعظم، ولكن الإنسان إذا عُرضت عليه المسألة فتأملها ونظر الحق الذي فيها عجب من فتح الله على العلماء، وأدرك فضل الله على هذا العالم في فهمه، وأدرك فضل الله عز وجل على هذا العالم في استنباطه ومناقشته ومراجعته، فيقول: يا رب أسألك أن تفتح عليّ كما فتحت عليه. وينظر إلى دواوين السلف التي زخرت بهذه المسائل فيزداد حباً لها ويقول: يا رب كما وفقتهم وفقني، فحين يكون علمه في مثل هذا الارتباط بينه وبين الله عز وجل يجد أنه كلما ازداد علماً كلما ازداد قرباً من الله تعالى. وشوب العلم بالعمل له بركة عظيمة، ولذلك قالوا: إن أول العلم طفرة وآخره انكسار وخشية لله عز وجل. فهذا هو العلم المبارك الذي يهتدي الإنسان به إلى الله، بل قال بعض العلماء: إذا أراد الإنسان أن يعرف أن علمه نافع فلينظر إلى كسر هذا العلم لقلبه لله، فإن وجد أنه يزداد خشية لله ومعرفة بالله سبحانه وتعالى فليعلم أن علمه نافع بإذن الله عز وجل، وأنه علمٌ مبارك، فهذا العلم النافع الذي تحس أنه يكسر قلبك لله عز وجل ويذهب عنك طفرة الغرور لا يكون إلا بشوب العلم بالعمل والخشية لله عز وجل، قال الإمام أحمد رحمه الله: أصل العلم خشيةُ الله. كما أن العلم بحاجة إلى أشياء كثيرة بجانب خشية الله تعالى، منها: حب الله، والتعلق بالله سبحانه وتعالى، والقرب من الله عز وجل، واستشعار أن هذا العلم بفضل الله وحده، لا أنه بفضل الذكاء والفهم، فالذين حفظوا لم يحفظوا لأن أذهانهم كانت حافظة، وإنما هو فضل الله سبحانه وتعالى، فكم من مسائل تنزل على المفتي يفتح عليه في جوابها، ووالله لو أعمل فكره ليلاً ونهاراً على أن يصل إلى هذا الفتح الذي فتح الله عليه لما وصل إليه، لكن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. فمن الأمور التي تعين على الجد والاجتهاد في تحصيل العلم الإخلاص وكثرة العبادة مع العلم، وقرن العلم بالعمل والتزكية والخشية والقرب من الله عز وجل والحب لله سبحانه وتعالى، وتجعل كل مجلس علم تجلسه لا تقوم منه إلا وأنت تثني على الله، وتسأل الله عز وجل أن يجعل هذا الذي تعلمته خالصاً لوجهه الكريم. فطلاب العلم بحاجة إلى مثل هذه المواقف الكريمة التي يحسون فيها بلذة العلم، فكم من مجلس علم جلسته وانتفعت فيه!! فقل لي بربك: هل جلست مجلس علمٍ، وبعد أن انتهيت منه دمعت عيناك من خشية الله، وقلت: يا رب علمتني ما لم أكن أعلم وكان فضلك عليّ عظيماً. فتأملوا إلى هذه النعم، فكم من أناسٍ في دياجير الجهل والظلمات بعيدين عن الله سبحانه وتعالى هم أحوج ما يكونون إلى كلمةٍ تنقذهم، وكم من إنسان مشغول يتمنى أن يجلس هذا المجلس، وكم من مريض يتمنى أن يجلس هذا المجلس، فهذه النعمة العظيمة إذا شبتها بالشكر لله والثناء على الله عز وجل أحبك وبارك فيك، وإذا شكرت هذا المجلس بورك لك في المجلس الثاني، فبدل أن تعلم ربع العلمٍ يعطيك الله نصف العلم، ثم ثلاثة أرباع العلم، حتى تبلغ من العلم خيراً كثيراً. فالارتباط بالله في هذا العلم مهم، وليست القضية أن نحمل الكتب ونذهب إلى المجالس ونرجع وحالنا هو الحال، بل إن بعض طلبة العلم قد يفتن بعلمه، فنريد أن نشوب علمنا بالورع وبالعمل وبالطهارة. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل علمنا نافعاً، وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم. اللهم إنا نسألك علماً يقربنا إليك، وأن تهب لنا رحمةً من لدنك إنك أنت الوهاب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب صلاة التطوع [2]

شرح زاد المستقنع - باب صلاة التطوع [2] من صلوات التطوع: صلاة الوتر، ويشرع فيها القنوت، وكذلك يشرع القنوت إذا نزلت بالمسلمين نازلة، فيقنت في جميع الصلوات، ومن الصلوات المسنونة المؤكدة: صلاة التراويح في رمضان، وهي إحدى عشرة ركعة، ولا بأس بالزيادة، وتصلى جماعة مع الإمام حتى ينصرف.

أحكام القنوت

أحكام القنوت

محل القنوت

محل القنوت بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [ويكره قنوته في غير الوتر إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة غير الطاعون فيقنت الإمام في الفرائض]. تقدم معنا بيان مشروعية القنوت في الوتر، وذكرنا تعليم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء للحسن بن علي رضي الله عنه وعن أبيه. وهنا شرع المصنف رحمه الله في التنبيه على مسألة القنوت في غير الوتر التي تعتبر من مسائل الخلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، فهذا القنوت -وهو الدعاء الذي يكون بعد الركوع، أو يكون قبل الركوع- هل يشرع في غير الوتر، أو لا يشرع؟ فمذهب طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم أن دعاء القنوت في الفريضة يعتبر سنة. وبهذا القول قال الإمام مالك والشافعي عليهما رحمة الله، وقال الإمام أبو حنيفة وأحمد رحمة الله عليهما: إن المداومة على دعاء القنوت في الفريضة ليست بسنة، ثم اختلفوا على قولين: فقال الإمام أحمد رحمة الله عليه: إنما يشرع في النوازل. ومنع الإمام أبو حنيفة القنوت مطلقاً. فأما الذين قالوا بمشروعية دعاء القنوت فقد استدلوا بأحاديث صحيحة ثابتةٍ عن المصطفى عليه الصلاة والسلام أنه قنت ودعا، ومن أصحها ما ثبت عنه: (أنه قنت شهراً يدعو على رعل وذكوان، وعصية عصت الله ورسوله)، وكان يدعو بالنجاة للمسلمين، فكان يدعو أن ينجي الله الوليد بن الوليد، وكذلك دعا عليه الصلاة والسلام بنجاة عياش بن أبي ربيعة رضي الله عن الجميع، فأخذ العلماء من هذا دليلاً على مشروعية القنوت، وأكدوا هذا بحديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا). وأما الذين قالوا: إنه لا تشرع المداومة على القنوت، وإن المداومة عليه بدعة فقد استدلوا بما ثبت في حديث لـ مالك الأشجعي رضي الله عنه وأرضاه أنه سأل أباه رضي الله عنه فقال: يا أبت: صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فهل كانوا يقنتون؟ قال: أي بني: إنه مُحْدث. وهو حديثٌ رواه أصحاب السنن، قالوا: فهذا يدل على أن المداومة على القنوت تعتبر بدعة. وقالوا: إن الأحاديث التي دلت على أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في صلاة الفجر إنما كانت في أول الأمر، ثم نسخ ذلك. وأجابوا عن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه بالطعن في سنده، وهو حديثٌ متكلمٌ في سنده، رواه البيهقي وغيره. ولذلك فالذي يظهر من هذه المسألة أحد أمرين: الأول: ما اختاره جمعٌ من المحققين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل القنوت أحياناً ويتركه أحياناً. وهذا مسلك يسلكه بعض العلماء رحمة الله عليهم في الجمع بين النصوص. والمسلك الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت لحاجة، فيعتبر القنوت سنة إذا وجدت الحاجة. وهذا القول الأخير هو أحوط الأقوال وأولاها بالصواب إن شاء الله؛ لأن الصلاة شأنها عظيم، وقد حصل التردد بين كون القنوت باقياً وبين كونه منسوخاً، ولا شك أن الأدلة على نسخه أقوى، أي: نسخ المداومة عليه، فإن الله عز وجل أوحى إلى نبيه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] فكفّ عليه الصلاة والسلام. وجاء في الحديث الآخر: (أنه لما قنت يلعن رعلاً وذكوان، وعصية عصت الله ورسوله، وقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف أوحى الله إليه: يا محمد: إنا لم نجعلك نكالاً، وإنما جعلناك رحمةً للعالمين) -صلوات الله وسلامه عليه- وكان فيما أنزل عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] أي: لا تدعُ عليهم، فلعلّ الله أن يتوب عليهم، ولذلك فالفاسق والمجرم والكافر المعين لا يدعا عليه، وإنما يدعا بتوبته، ويدعى بكف بأسه عن المسلمين، ومنه أخذ جمعٌ من أهل العلم تحريم لعن الكافر المعين، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نُهي عن ذلك، أما الدعاء على الكافر فإنه يشرع ولا حرج، ولكن الأفضل والأكمل أن يدعا بصلاحه وبهدايته إن أمكن ذلك. وبناءً على هذا فالقنوت يشرع عند وجود النوازل، والنوازل المراد بها المصائب والنكبات، كأن يعتدى على أعراض المسلمين، أو على دمائهم، أو يضيق بهم الحال في كربٍ أو خطب، فيلجأون إلى الله بالدعاء، وهذا هو الأصل الذي دعا الله إليه عباده فقال: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43]، والمسلمون (كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). ولا يبلغ المسلم حقيقة الإسلام، ولا يبلغ المؤمن حقيقة الإيمان إلا إذا بلغ به الحال أنه إذا بلغه ضرر بأخيه المسلم أحس به كما يحس به أخوه المسلم أو أشد، ولذلك كان بعض العلماء رحمة الله عليهم إذا بلغه المصاب في المسلمين، أو النكبة تحل بالمسلمين تأثر، وربما مرض حتى يعاد في بيته، وهذا من كمال الإيمان، ومما جعله الله عز وجل وشيجة بين المؤمنين، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه بقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد). فإذا نزلت المصيبة بالمسلمين هنا أو هناك شرع أن يقنت، وأن يدعا بالنجاة والسلامة لمن ابتلي، وكذلك يدعا بكفّ بأس الذين ظلموا عن المسلمين، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك فهذا القول يعتبر أعدل الأقوال، وفيه جمع بين النصوص، خاصةً وأنه أعمل السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الحالة التي فعل فيها النبي صلى الله عليه وسلم القنوت. وبناءً على ذلك يشرع القنوت للنوازل في دفع ضرر عام أو خاص على بلاد المسلمين.

السنة في القنوت

السنة في القنوت وردت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء القنوت، منها دعاؤه المشهور: (اللهم إنا نستعينك ونستهديك، ونستغفرك ونتوب إليك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونهجر من يفجرك، اللهم لك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق)، وقد كانت سورة تتلى من سور القرآن، وكان يقنت بها في دعاء القنوت. فالسنة أن الإمام إذا دعا في القنوت أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما في هذا الدعاء الوارد من إظهار الفاقة والحاجة إلى الله سبحانه وتعالى، والاعتراف له بالعبودية، والإسلام له سبحانه وتعالى. ثم إنه يقتصر على أمرين: الأول: أن تدعو بكف بأس الذين ظلموا، فتدعو على الكافرين أن يستأصل الله شأفتهم، وأن يكفّ بلاءهم عن المسلمين. الثاني: الدعاء للمسلمين أن يرحمهم الله، وأن يغاثوا، وأن يعجل لهم بالنصر إن كانوا في ضائقة. وأما الزائد على ذلك من الأدعية الأخرى فلا يشرع في هذا الموضع؛ لأنه كلام أبيح للضرورة، ولا يجوز فيما أبيح للضرورة والحاجة أن يزاد فيه على الوارد، فإن هذا القنوت إنما شرع للنازلة، فيتقيد الإمام فيه بالوارد، حتى قال الإمام أحمد: إن زاد حرفاً واحداً -أي: عن الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- فاقطع صلاتك. أي: لا تأتم به إذا خرج عن السند والسبب في هذا أنه إذا زاد كلاماً آخر فإنه قد خرج عن كونه قانتاً إلى كونه مُحدثاً، نسأل الله السلامة والعافية. فينبغي على الأئمة أن يتقيدوا بما ورد، وأن لا يزيدوا على هذه السنن الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالوارد موصوف بهذين الوصفين: أولهما: ما ورد من الثناء على الله عز وجل في هذه الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله: (اللهم لك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق) إلى آخره. الثاني: الدعاء بالنجاة للمسلمين والهلاك على الكافرين، ولا حرج أن يعمم في دعائه أو يخصص قوماً؛ فإن تخصيص القوم جائز إذا كان لا يعني منهم شخصاً معيناً، ولذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على رعلٍ وذكوان وعصية عصت الله ورسوله، فلا حرج إذا دعا على طائفة أن يكون دعاؤه على هذا الوجه لثبوت السنة به، وقال بعض العلماء: إذا سمى طائفةً أو سمى جماعةً بعينها فإنه يعتبر داخلاً في نهي الله عز وجل لنبيه؛ لأن سبب نزول الآية إنما ورد في دعائه عليه الصلاة والسلام على مضر في قوله: (اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف)، قالوا: فخصص، وتعتبر مضر بطوناً كثيرة، ومع ذلك نهاه الله عز وجل. وهذا القول لا شك أنه من القوة بمكان، فلو دعا على الكافرين فإنه يعمم، ولذلك كان من دعائه عليه الصلاة والسلام: (اللهم قاتل الكفرة من أهل الكتاب الذي يصدون عن سبيلك)، فعمم صلوات الله وسلامه عليه، ولم يخص منهم طائفة دون أخرى.

قنوت النازلة وموضعه

قنوت النازلة وموضعه قال: [إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة غير الطاعون فيقنت الإمام في الفرائض]. قوله: (إلا أن تنزل) استثناء، والاستثناء -عند أهل العلم رحمة الله عليهم-: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ. فكأنه يقول: إنه لا يشرع أن يقنت إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة، وقد ذكرنا ذلك. قوله: (غير الطاعون) الطاعون: مرض يصيب الجوف، ويعتبر شهادةً، فقد ثبتت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من أصابه الطاعون فمات منه -والعياذ بالله- يعتبر في حكم الشهيد. ويقول بعض العلماء: إنه هو المرض المعروف اليوم بالكوليرا فتعتبر هي الطاعون، ومن مات بها فإن هذا الموت يعتبر شهادة، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الطاعون: (أنه رحمةٌ بالمؤمن، ونقمةٌ على الكافر)، فإذا انتشر بين المسلمين فإنه رحمةٌ يريد الله أن يرحم بها عباده المسلمين، وإذا انتشر بين الكافرين فيعتبر عاجل نقمة عجلها الله لهم في الدنيا قبل الآخرة، ولا يشرع إذا نزل هذا المرض أن يدعا أو يقنت، قالوا: لما فيه من معنى الرحمة، ولأن الصحابة رضوان الله عليهم طُعنوا كما في طاعون عمواس في عهد أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعنهم أجمعين، فلم يقنت رضي الله عنه، ولم يسأل الله رفعه، ولذلك قالوا: لا يشرع في هذا أن يدعا برفع البلاء. قوله: [فيقنت الإمام في الفرائض]. قد جاءت أحاديث تدل على هذا، وقد اختلف العلماء في ذلك: فمنهم من يخص القنوت بالفجر، وهذا لا شك أنه لا شبهة فيه ولا إشكال، ومن أهل العلم من قال بالعموم في الصلوات. والسبب في هذا الخلاف ورود أحاديث اختلف في تصحيح أسانيدها، فمن يصحح أسانيدها يقول بمشروعية القنوت في الصلوات الخمس، وأنه لا فرق بين السرية والجهرية، وأنه في السرية يقنت ويكون قنوته سرياً، ويعتبر هذا تابعاً للسنة كما ذكرنا. ومن أهل العلم من خصه بالجهرية دون السرية، وقال: إنما يشرع القنوت في الجهرية دون السرية، ولذلك فعله النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر.

صلاة التراويح

صلاة التراويح التراويح: تفاعيل من الراحة، وسميت التراويح بهذا الاسم لأنهم كانوا يتروحون ويرتاحون بين كل أربع ركعات، فكانوا يرتاحون لطول القيام، وقد اختار عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب أن يصلي بالناس بعد صلاة العشاء، وكان أبي رضي الله عنه من حفّاظ كتاب الله عز وجل، وكان من الصحابة القلائل الذين جمعوا حفظ القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفاه شرفاً وفضلاً ونبلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلاة وارتج عليه، فلما سلم قال: (أفي الناس أبي؟ قال: نعم. قال: ما منعك أن تفتح عليّ آنفاً؟)، فاختاره من بين الصحابة. وثبت في الحديث الصحيح: (أن الله أوحى إلى نبيه أن يقرأ القرآن على أبي، فقال أبي: وسماني لك؟ قال: نعم. فبكى -رضي الله عنه وأرضاه-)، فلما قام بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أطال قيامه، فقام بهم من بعد صلاة العشاء وأطال بهم القيام، فكان يروح أو يرتاح بهم بين الأربع، فلذلك سميت التراويح بهذا الاسم.

أصل مشروعية صلاة التراويح

أصل مشروعية صلاة التراويح صلاة التراويح من أهل العلم من يقول: إنها شرعت بهدي النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم من يقول: إنها شرعت في أصلها بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم شرعت بوصفها بسنة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وهذا القول الثاني أدق، ووجه ذلك أن الصحابة اجتمعوا وصلّى بهم النبي صلى الله عليه وسلم الليلة الأولى، ثم كثروا في الليلة الثانية، ثم كثروا في الليلة الثالثة، فلم يخرج إليهم عليه الصلاة والسلام، حتى حصبوا الخيمة التي كان فيها ليشعر، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إنه لم يخف عليّ مكانكم البارحة، ولكني خشيتُ أن تفرض عليكم)، فامتنع من الخروج والصلاة بهم خوف أن تفرض هذه الصلاة على الأمة، وكان عليه الصلاة والسلام من رحمته وشفقته ورفقه بالمؤمنين يخشى أن ترهقهم التكاليف، فيعجزون أو يمتنعون عن فعلها فتكون فتنةً عليهم، فكان صلى الله عليه وسلم ممتنعاً من أجل هذا المعنى، فلما توفي صلّى الناس قيام رمضان في المسجد، فصار هذا يشوش على هذا، وتجدهم أوزاعاً كلهم يصلي، وصلاة الليل فيها نوع من الجهر، فلا يجهر بها جهراً كاملاً ولا يخافت، فلما صار بعضهم يشوش على بعض جمعهم عمر رضي الله عنه -وهو المحدّث الملهم- على أبي، فكانت سنةً حسنةً منه، فكان أصلُ الجمع مستنداً إلى السنة من فعله عليه الصلاة والسلام، لكن الوقت الذي اختاره من كونها بعد صلاة العشاء لم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فاستند إلى الأصل في قيام الليل، وكانت الصفة من كونها في أول الليل من سنة عمر، ولذلك لو اعترض معترضٌ على فعل التراويح والتهجد في آخر رمضان أجيب بهذا الجواب، وقيل له: إن التراويح شرعت سنةً عمرية، أي أنها سنة، وحصل الإجماع عليها، وأما التهجد فيكون بعد الهجود؛ لأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تهجده إنما كان بعد اضطجاعه، فسمي التهجد تهجداً لأنه بعد الهجود، وهو أكمل وأفضل وأعظم ما يكون لكونه بعد الراحة والاستجمام، كما أشار الله إلى ذلك حينما أمر به نبيه فقال: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79]. فكان هذا القول أدق من هذا الوجه، فتكون سنةً عمرية من جهة الوقت، أي: كونها في أول الليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جمع الصحابة في آخر الليل.

عدد ركعات صلاة التراويح

عدد ركعات صلاة التراويح قال رحمه الله تعالى: [والتراويح عشرون ركعة] في القرون المفضلة كانوا يقومون بعشرين ركعة، وفي هذا العدد حديثٌ عن ابن عباس مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه حديث ضعيف، فيه إبراهيم بن عثمان، وهو ضعيف باتفاق المحدثين. وفيه كذلك أثر السائب بن يزيد في قيام أبي بن كعب، وتكلم العلماء فيه، فمنهم من صححه كالإمام النووي وغيره، ومنهم من ضعفه، وكانت عشرين على عهد عمر رضي الله عنه، واستمر هذا في عهد السلف الصالح، فقد كان في عهد مالك رحمة الله عليه، وكذلك أدركه الأئمة كالإمام أحمد رحمة الله عليه، وهذا يدل على أن له أصلاً، ومن المعلوم أن المدينة إلى عهد مالك -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - لم تدخلها بدعة واحدة، ولذلك رأى الإمام مالك أن العمل بقول أهل المدينة حجة إذا كان من الأمور الظاهرة، وقد فصّل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالةٍ نفيسة في إجماع أهل المدينة. فكون التراويح تصلى بعشرين ركعة إلى عصر مالك -كما نقل في الموطأ ما يدل عليه ويشهد له- يقوي أن هذا العدد له أصل، لكن اعتقاد أن هذا العدد بمثابة اللازم، والمحافظة عليه على وجهٍ يُظَنّ أنه لازم لا تشرع الزيادة عليه ولا النقص منه لا أصل له، ولذلك ينبه على أن فعله من حيث الأصل جائز؛ لأنه داخل تحت الأصل الذي يطلق قيام الليل، لكن إذا اعتقد الشخص أنه لا تجوز الزيادة على ثلاث وعشرين، أو أنه لا يجوز النقص عن ثلاث وعشرين، وتقيد بذلك والتزم فقد أحدث، ووجه الإحداث فيه أنه ظن ما ليس بلازمٍ لازماً، واعتقد فضل الثلاث والعشرين بعينها دون ورود نص بالتحديد، فكان تبديعه من هذا الوجه، أما لو صلّى ثلاثاً وعشرين على أصل أنه كان محفوظاً، وأراد بذلك التخفيف، كالإمام يريد أن يخفف على كبار السن ونحوهم، فيجعل طول القيام لأجل أن يكون أرفق بهم فلا حرج في ذلك، والهدي الأكمل والأفضل والأعظم أجراً اتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاقتصار على إحدى عشرة ركعة، فهي الثابتة في حديث أم المؤمنين عائشة، وإن زاد إلى ثلاث عشرة ركعة فلا حرج؛ فإنها سنة كما في الحديث الآخر، وكذلك إلى خمس عشرة ركعة، كما هو حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه في السنن، فكلٌ على سنةٍ وخير، ولا يجوز لأحدٍ أن يقول: إن الإحدى عشرة ركعة واجبة، فمن زاد عليها يعتبر مبتدعاً. فليس هناك أحدٌ من أئمة السلف رحمة الله عليهم يقول: إن الزيادة على إحدى عشرة ركعة بدعة؛ لأنك إذا قلت: إن الزيادة على إحدى عشرة ركعة بدعة فمعناه أنه يجب على من قام الليل أن يلتزم بإحدى عشرة ركعة، ولكن تقول: الهدي الأكمل والأفضل ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المحافظة على إحدى عشرة ركعة، أما أن يعتقد أن من زاد على إحدى عشرة ركعة أنه مبتدعٌ فلا، ويأبى الله ويأبى رسوله عليه الصلاة والسلام ذلك؛ لثبوت الأدلة من الكتاب والسنة على مشروعية الزيادة على إحدى عشرة ركعة. أما الدليل الأول على إطلاقها فقوله سبحانه وتعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، فأطلق ولم يقيد، ولم يلزم بعددٍ معين. وقال سبحانه وتعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ} [الزمر:9]، فأطلق ولم يقيد. وقال تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:2]، فأطلق ولم يقيد. وقال سبحانه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79]، فأطلق ولم يقيد. فدليل الكتاب صريحٌ في عدم الإلزام بعدد معين. ثم انتقلنا إلى السنة فوجدناها قد دلت على هذا قولاً وفعلاً وإقراراً: أما القول فقد وجدنا الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما سأله السائل -كما في الصحيحين من حديث ابن عمر - عن صلاة الليل كان الجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة)، فلم يبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن صلاة الليل يلزم فيها بإحدى عشرة ركعة، وإنما أطلق له، وثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي بالليل). وأقوى الأدلة دلالةً على عدم الإلزام بإحدى عشرة ركعة ما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن سلام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما دخل إلى المدينة خاطب أهل المدينة -وهم لم يروه يقوم الليل- خاطبهم بقوله: (أيها الناس أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام)، فلو كانت هذه الإطلاقات مقيدة بالفعل فكيف يفهم أهل المدينة في أول لحظة يلقون النبي صلى الله عليه وسلم فيها أنهم مطالبون بإحدى عشرة ركعة، وهو يخاطبهم ويقول: (صلوا بالليل والناس نيام)؟ فأطلق لهم، ففهمنا من هذه الأدلة في الكتاب والسنة أن قيام الليل على الإطلاق، ثم جاء فعل النبي صلى الله عليه وسلم فوجدناه على صورتين: فصورة إحدى عشرة ركعة ترويها عائشة، وصورة في الزيادة على إحدى عشرة ركعة يرويها ابن عباس وغيره، وبناءً على ذلك فإنك لو قلت: احملوا المطلق على المقيد من فعله عليه الصلاة والسلام يرد الإشكال: أنحمله على إحدى عشرة ركعة، أو على ثلاث عشرة ركعة، أو على خمس عشرة ركعة؟ ثم إن مسلك حمل المطلقات على المقيدات في مثل هذا ضعيف، ولا يتأتى بحال؛ لأنك لو قلت بهذا لزمك أن تقول: إن صلاة النهار المطلقة مقيدة بما ورد؛ لأنه كما قيدت في صلاة الليل تقيد في صلاة النهار، فتعتبر من زاد على ما ورد في صلاة النهار مبتدعاً ولا قائل بذلك، فعلى العموم لو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث واحد ينهى عن الزيادة على إحدى عشرة ركعة ما حل لمسلمٍ أن يجاوزه، ثم إننا لم نجد في عصر القرون المفضلة التي شهد لها بالخيرية إماماً واحداً من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم يقول: إن الزيادة على إحدى عشرة ركعة بدعة. ومن وجد أحداً من السلف الصالح من الأئمة الذين هم أهل الفضل والعلم في القرون المفضلة يقول بذلك فإنها فائدةٌ عظيمة وليتحفنا بها، لكن الذي يظهر من أدلة الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح من هذه الأمة أن الأمر موسّع فيه، وأنك إذا أردت أن تلتزم السنة تقول: الأفضل والأكمل أن يصلى كما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة ركعة، فتكون ملتزماً بدليل النص. ثم لو قلت: إن الزيادة على إحدى عشرة ركعة بدعة فاعلم أنك تقول ذلك بالاجتهاد، ووجه الاجتهاد أنك حملت مطلق النص على المقيد، وهذا -كما هو معلوم- ليس من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يقوى على ترك النصوص المطلقة التي هي من كلامه، كقوله: (صلوا بالليل والناس نيام)، وكذلك التي من نص القرآن، فضلاً عن أن حمل المطلق على المقيد فيه النزاع المعروف بين الأصوليين، فالتزام نصوص الكتاب والسنة الواردة أولى من الميل إلى هذا الاجتهاد في حمل المطلق على المقيد مع ضعفه من جهةٍ أصولية؛ لأن فقه الأصول في حمل المطلق على المقيد أن يكون الأصل دالاً على التقييد، أما إذا كان الأصل دالاً على الإطلاق فإنه لا يقوى حمل المطلق على المقيد في مثل هذا، فهذا الذي ظهر والله تعالى أعلم. فإذا ثبت هذا فهل الأفضل لو صلّى الإمام ثلاثاً وعشرين ركعة أن تنصرف من عشر ركعات تتأول السنة، أو تبقى معه إلى تمام قيامه؟ والجواب أنه إن انصرف من عشر ركعات فإنه يكون على الحال المفضول، وإن انصرف من ثلاث وعشرين ركعة فلا شك أنه يكون على الأفضل، وذلك لثبوت النص في قوله عليه الصلاة والسلام: (من قام مع إمامه حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة). وإذا قال قائل: إنه الإمام الأول فهذا ضعيف؛ لأنه إذا قيل بأنه الإمام الأول الذي ينصرف من خمس تسليمات فمعنى ذلك أنك تخالف معنى النص؛ لأن النص إنما جاء من أجل شحذ همم المأمومين للبقاء مع الأئمة، فقصد الشرع من قوله: (من قام مع إمامه حتى ينصرف) أن يبين فضل معونة الأئمة على البقاء، فإذا قال: إنه الإمام الأول خالف المقصود. ثم إن الإمام الأول إذا انصرف فإنه لم ينصرف حقيقةً، وإنما بقي كما هو معلومٌ ومعهود، وبناءً على ذلك فلا يسلم الانصراف لا من جهة معنى النص، ولا من جهة دلالة ظاهر الحال، فلا يشك أن البقاء إلى انتهاء التراويح بكمالها أقرب إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأقرب إلى هديه، فهو أكمل من وجوه: أولها: أنه ظاهر قوله: (من قام مع إمامه حتى ينصرف)، فلم يفصّل النبي صلى الله عليه وسلم بين إمامٍ يلتزم الإحدى عشرة ركعة أو يزيد. ثانياً: أنه إذا بقي مع الإمام حتى ينصرف فإن هناك فضائل كثيرة لا يشك أنه مثابٌ عليها، منها: سماعه للقرآن، ومنها: قيامه بين يدي الله راكعاً ساجداً، ومنها: ما يكون من مشقة ومؤنه العمل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثوابك على قدر نصبك)، أي: على قدر تعبك. وقال الله تعالى: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195]، فلا شك أنه لو بقي إلى تمام التراويح فهو أفضل وأعظم أجراً، وأضف إلى ذلك أن آخر التراويح فيه الوتر، خاصةً في الثلثين الأولين من الشهر، وهذا الوتر فيه دعوة المسلمين، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الحائض أن تشهد صلاة العيد وتعتزل المصلى، مع أن عندها العذر وممنوعةٌ من الصلاة، فقال: (وأما الحيّض فليعتزلن الصلاة وليشهدن الخير ودعوة المسلمين)، فلا شك أنه لو بقي إلى انصراف الإمام الأخير أصاب هذه الفضائل التي دلت عليها السنن، وبناءً

حكم الجماعة في صلاة الليل

حكم الجماعة في صلاة الليل قال رحمه الله تعالى: [تفعل في جماعة]. صلاة التراويح مما تشرع له الجماعة، وهنا مسألة، وهي: لو أن قوماً خرجوا ذات يومٍ، أو ذات ليلة ثم قام رجلٌ منهم يصلي، فصلوا معه جماعة في غير رمضان، فهل تشرع الجماعة في غير التراويح في قيام الليل؟ و A هذه المسألة لها صورتان: الصورة الأولى: يسميها العلماء الجماعة قصداً. والثانية: أن تكون اتفاقاً. أما الجماعة قصداً فصورتها أن يقول قائل: إذا سافرنا أو بتنا الليلة نقوم الليل جماعة، فمعنى ذلك أنهم قصدوا القيام. والحالة الثانية: أن تكون اتفاقاً، كأن تقوم في المسجد فيأتي رجلٌ ويأتم بك، أو تكون مع جماعة في السفر فتتوضأ وتقوم تصلي بالليل فيراك أخوك فيأتي بجوارك، ثم يأتي الثاني والثالث حتى تصير جماعة، لكن اتفاقاً لا قصداً، أي: موافقةً دون أن يكون ذلك بترتيب معين. فإن كانت قصداً فقد منع منه طائفة من العلماء، وأشار إلى ذلك غير واحد من محققي أهل العلم، فلا تشرع الجماعة في قيام الليل في غير رمضان، وهذا الذي أشار إليه المصنف رحمة الله عليه بما ذكر، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم مع سفره وكثرة خروجه وحصول الجماعة له حتى في بيته -كما في حديث ابن عباس وابن مسعود - فإنه لم يطلب منهم أن يكونوا معه جماعة، فلم يحدث الجماعة على سبيل القصد. أما الحالة الثانية، وهي أن تكون الجماعة اتفاقاً، كأن تقوم تصلي ويأتي رجل بجوارك ويصلي معك، أو يكون هناك إنسان عرف بقيام الليل فرأيته فقمت معه فهذه سنة؛ لما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود وحديث عبد الله بن عباس، قال رضي الله عنه -أعني ابن عباس -: (بِتُّ عند خالتي ميمونة، وبتّ في عرض الوسادة، فلما كان هوياً من الليل قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح النوم من عينيه، ثم تلا الآيات من آخر سورة آل عمران، ثم قال: ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن، ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن، قال: فتوضأ، ثم قام فكبر، فقمتُ فصنعت مثل ما صنع، فقمت عن يساره فأدارني عن يمينه)، ووجه الدلالة أن ابن عباس تبع النبي صلى الله عليه وسلم في فعله، فوقعت جماعة ابن عباس مع النبي صلى الله عليه وسلم اتفاقاً لا قصداً، بمعنى أنه لم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم: إذا قمتُ فقم معي وكذلك الحال في قيامه عليه الصلاة والسلام مع بقية الصحابة. وعلى هذا فإنه تشرع الجماعة اتفاقاً لا قصداً، فلو قال جماعة في رحلة أو نحوها: سنصلي بالليل. وألزموا من معهم أن يصلوا معهم جماعة فإن هذا يعتبر مضيقاً فيه عند العلماء رحمة الله عليهم، خاصةً وأن قيام الليل كما هو معلوم أمرٌ أقرب إلى الإخلاص، وأقرب إلى معاملة الله سبحانه وتعالى بالسر، فإذا رتب لها، أو أمر بها إنسانٌ كانت أشبه بالفريضة، ولذلك لا يدعا الناس إلى مثل هذا إلا بسنة أو بدليل من الشرع ولا دليل، فهذا بالنسبة لقوله: [تفعل في جماعة]، فقيام الليل جماعة إنما يفعل في التراويح، أو يفعل على سبيل الاتفاق لا القصد.

وقت التراويح ووقت الوتر في لياليها

وقت التراويح ووقت الوتر في لياليها قال رحمه الله تعالى: [تفعل في جماعةٍ مع الوتر بعد العشاء في رمضان]. أي أنه يقوم بهم ويوتر، ولذلك يوتر بهم في التراويح، فإذا جاءت أواخر رمضان وأرادوا أن يقوموا في التهجد فلا شك أن الأفضل انصرافهم بدون وتر؛ لما يحدثه قيامهم بالوتر في أول الليل وآخر الليل ما هو معروف من اللبس على الناس، مع أن أكثرهم يحضرون ويشهدون التهجد، ولذلك يوتر وتراً واحداً، خروجاً من مخالفة حديث الترمذي عنه عليه الصلاة والسلام في قوله: (لا وتران في ليلة) وعلى هذا فالسنة في إيقاع صلاة جماعةً على هذا الوجه يختص بها شهر رمضان، والسبب في هذا أن رمضان نُدِب إلى إحيائه، وثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم النصوص بمشروعية هذه الجماعة في رمضان دون غيره، والأصل أن يتقيد بالوارد، فكانت السنة في قيام رمضان بالتراويح في أول الليل خاصة برمضان دون غيره من سائر الشهور. وقوله: (بعد العشاء) أي: بعد صلاة العشاء، ويكون هذا -كما هو معلوم- بعد أن تصلى سنة العشاء، ولذلك يبتدأ بسنة العشاء، ويترك للناس وقت ليصلوا سنة العشاء، ثم يبتدأ بصلاة التراويح، وتعتبر صلاة التراويح في الأصل قياماً لأول الليل، وصلاة التهجد قياماً لآخر الليل، والقيامان بينهما فرق، فقيام التهجد أفضل من قيام التراويح، فإذا كان الشخص لا يستطيع أن يقوم الاثنين معاً فإن الأفضل والأكمل أن ينتظر إلى قيام التهجد؛ لما فيه من هجر النوم والكرى، وهذا أبلغ في الطاعة والعبودية، وأكثر عناءً ونصباً وتعباً، ثم إن فيه إحياءً لآخر الليل الذي ثبتت فيه النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بفضل إحيائه، وأنه أفضل ما تكون فيه صلاة العبد، كما قال عليه الصلاة والسلام للصحابي في شأن جوف الليل الآخر: (وإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن) أي: في جوف الليل الآخر. [ويوتر المتهجد بعده]. أي: بعد صلاة التهجد. وهذا هو الأصل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)، فالسنة في الوتر أن يجعل بعد التهجد، أي: في آخر التهجد، وهذا فيه حكم: منها: أن يكون وتراً للصلاة على ظاهر ما ورد في السنة. وثانياً: أنه يصيب السَحَر، أو يقارب السَحَر الذي يكون فيه الدعاء أسمع، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن دعاء السحر أسمع، ففي الحديث الصحيح أن الله تعالى ينزل كل ليلة في الثلث الآخر، ويقول: (هل من داعٍ فأستجيب دعوته، هل من مستغفرٍ فأغفر له ... ) الحديث. فهذا يدل على فضل الدعاء في مثل هذه الساعات، ولذلك يكون الوتر آخر الليل، وفي الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى وتره إلى السحر)، فمن صلّى التهجد فإنه يجعل وتره في آخر التهجد، وهذه هي السنة.

الجمع بين أكثر من وتر في ليلة

الجمع بين أكثر من وتر في ليلة قال رحمه الله تعالى: [فإن تبع إمامه شفعه بركعة]. قوله: (فإن تبع إمامه) أي: في التراويح طلباً للفضل، فإذا صليت التراويح وأوتر الإمام فللعلماء أوجه: قال بعض العلماء: لا توتر معه، حتى لا يكون وتران في ليلة، إذا كنت تريد أن تتهجد وتوتر. وقال بعضهم: توتر معه، وتوتر في التهجد، وتوتر بعدهما. وقال بعضهم: توتر في التراويح، ثم تصلي التهجد، وتترك وتر التهجد بناءً على أن الفضل للأول منهما والأسبق. والذي يظهر والله أعلم أن الأفضل والأولى أن توتر في التراويح لكي تحصل ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (من قام مع إمامه حتى ينصرف)، فإن انصراف الإمام -كما هو معلوم- إنما يكون بعد الوتر لا قبل الوتر، فتوتر معه في التراويح، ثم إذا قام للتهجد فإنك تصلي ركعةً قبل التهجد تنقض بها الوتر الذي أوترته مع الإمام، ثم تصلي ركعتين ركعتين، ثم تجعل وتر الإمام هو وترك، فهذه هي أسلم وأفضل الصور، وهي مأثورةٌ عن عبد الله بن عمر. أما دليل فضلها فلكونك تدرك فضل القيام مع الإمام في التراويح إلى الانصراف، وقد ثبت النص بتفضيل هذه الحالة، وأنها كقيام الليل. وأما نقض الوتر الأول بركعة فيدل له قوله: (لا وتران في ليلة)، فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا وتران في ليلة) ونهيه عن إيقاع الوترين في ليلة يدل على أن أحدهما ناقضٌ للآخر؛ لأن العلة في النهي عن الوترين في الليلة أنه يجعل العدد شفعاً، ويصير مثنى، وقد قصد الشرع أن تختم صلاة الليل بالوتر، وهذا يكون مؤكداً لما ذكرناه من أن الركعة المنفصلة ناقضةٌ للركعة التي وقعت في التراويح، فإن قوله: (لا وتران) يدل على أن الوتر الثاني يؤثر في الوتر الأول؛ إذ لو لم يكن مؤثراً في الوتر الأول لما قال: (لا وتران في ليلة). والأمر الثالث في هذا الفضل أنه يدرك أيضاً الإيتار مع الإمام في التهجد، فهو أفضل من القول بتركه، ولا شك أن وتر التهجد أفضل؛ لما فيه من إصابة السنة التي ذكرناها من كونه يقع في هذا الوقت الذي يكون فيه الدعاء أسمع، ولكونه مطابقاً لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأضف إلى هذه الفضائل كلها أنه قد جاء عن عبد الله بن عمر فعل ذلك. ويتخرّج على هذا أن من أوتر ثم نام ثم استيقظ فهو على حالتين: الحالة الأولى: أن يريد أن يصلي ركعتين ويقتصر عليهما، فهذا السنة له أن يصلي الركعتين، ولا ينقض الوتر الأول، ولا يوتر بعد الركعتين، لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى ركعتين بعدما أوتر)، وألف الحافظ ابن حجر في هذا رسالة أثبت فيها الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وفي السنن التي تدل على شفعه بعد الوتر، وأنه فعل ذلك على سبيل الجواز لكي يبين الجواز للأمة. الحالة الثانية: أن يكون قصده أن يصلي أكثر من ركعتين، وأن يقوم آخر الليل، فهذا الأفضل له أن ينقض الوتر الأول بركعة كما ذكرنا، لحديث الترمذي: (لا وتران في ليلة)، ثم يصلي شفعاً شفعاً، ثم يوتر لقوله عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)، فيصيب هذه السنة، خاصةً وأنها جاءت بالأمر المشتمل على الحث والحض، فيطابق السنن من هذه الوجوه كلها. أما إذا صلى مع الإمام الوتر وقام ليشفع بركعة ففيه وجهان للسلف: قال جمهور العلماء: إنه يسلم مع الإمام. وهذا على ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به). قالوا: فلا يحدث الركعة الزائدة، وذلك لأن الأصل فيه أن يتابع الإمام، فليست هذه الركعة الزائدة واجبةً عليه حتى يتكلف القيام لها ويأتي بالشفع. والقول الثاني: أنه يأتي بركعةٍ شفعية. وهذا القول هو إحدى الروايات عن الإمام أحمد في هذه المسألة، فينقض وتره مع الإمام بركعة بعد سلام الإمام. والقول الأول بأنه يسلم مع الإمام على ظاهر السنة، وأما القول بالشفع فإن أقل درجاته أنه خلاف الأولى لأمور: أولها: أنك إذا صليت مع الإمام وشفعت بعد سلامه خالفت ظاهر الحديث: (إنما جعل الإمام ليؤتم به). ثانياً: أنك تستبيح الدعاء في الركعة الأولى مع أنك تريد الشفع، ولا يعرف في الشرع صلاة شفعية يكون الدعاء في الركعة الأولى منها، وإنما يكون الدعاء في الشفعية في الثانية كالفجر، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا شفعت وترك كنت قاصداً لركعتين مستبيحاً للدعاء في أولهما، ولا صورة في الشرع لمثل هذه الصلاة. ثالثاً: أنه يُحدثُ جلوساً بين ركعتين شفعيتين، ولا يعرف في الشرع صلاة شفعية يجلس فيها بين الأولى والثانية للتشهد، فإنه سيستبيح الجلوس في التشهد والدعاء والذكر بعد انتهائه من السجدة الثانية من الركعة الأولى. رابعاً: أنه -خاصةً في أول الشهر- إذا صلى مع الإمام وقام أمام الناس لكي يأتي بركعة فكأنه يشير وينبه على أن له حظاً من قيام الليل في آخره، ولذلك يكون في هذا شيءٌ من الإظهار للعبادة، فإذا سلم مع الناس كسائر الناس خفيت عبادته، لكن لو قام أمام الناس فإن هذه ينبه على أن عنده ورداً في آخر الليل، وكأنه يشعر بهذه الصلاة التي سيصليها، والتي الأولى فيها والأحرى أن تكون سرية بين العبد وبين الله، لذلك فالأفضل والأكمل أن يسلم مع الإمام حتى يصيب ظاهر الحديث، ثم بعد ذلك إذا أراد أن ينقض الوتر نقضه قبل دخوله في التهجد، أو يوتر ويجعل وتر التهجد ناقضاً لوتر التراويح، ثم يصلي بعد ذلك ما شاء الله، ثم يوتر لظاهر قوله: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً).

التنفل بين التراويح

التنفل بين التراويح قال رحمه الله تعالى: [ويكره التنفل بينها لا التعقيب بعدها في جماعة]. أي: يكره التنفل بين التراويح، فإذا صلى الإمام التراويح وجلس بين الركعات، كأن صلى تسليمتين، ثم جلس لكي يخفف على الناس ويرتاح الناس، فقام الإنسان يتسنن، فإنهم قالوا: يكره والسبب في هذا أنه أثر عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه أنكر ذلك، وقال لمن فعل ذلك: أتتنفل وإمامك أمامك؟! ولذلك قالوا: إنه لا يتنفل بينها، ولو تنفل جاز له ذلك، لكن مشى المصنف رحمه الله على مذهب بعض الأصوليين الذين يقولون: إن قول الصاحب حجة، فحكم بالكراهة، مع أنه لو صلى فلا حرج عليه؛ لأنه داخل في ظرفٍ شرع فيه أن يصلى فرادى وأن يصلى مع الجماعة، ألا ترى أنك لو انصرفت عن الإمام وصليت لوحدك لما أنكر عليك، وعلى هذا فإنه لا حرج أن يتنفل، والمصنف رحمه الله إنما حكم بالكراهة لما أُثِرَ عن زيد رضي الله عنه، والكراهة حكمٌ شرعي تحتاج إلى دليل، وليس عندنا دليل مرفوع؛ ولذلك لو بقي المصنف على الأصل لكان أولى وأحرى. قوله: [لا التعقيب بعدها في جماعة]. أي: لا حرج عليه أن يعقب بعدها في جماعة، كأن يصلي في تهجد ونحو ذلك.

الأسئلة

الأسئلة

صلاة الرجل بامرأته ليلا

صلاة الرجل بامرأته ليلاً Q إذا كانت الجماعة لا تستحب إلا في رمضان، فكيف يمكن الجمع بين هذا والحديث الذي يحث على قيام الزوج مع زوجته؟ وهل يصح أن يصلي مع زوجته قيام الليل والوتر؟ A أما حديث قيام الرجل مع زوجه فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رحم الله امرأً قام من الليل فصلى وأيقظ أهله، فإن أبت نضح في وجهها الماء)، وليس فيه التصريح بصلاتهما معاً، وهو أعمّ من أن يكون جماعةً أو يكون فرادى. الأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه جمع بأهله، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان، فهو ما صلى بنسائه، ولا حفظ عنه في حديث واحد أنه صلى بأهله صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يقول فيه العلماء: إنه من السماحة، فكانت أم المؤمنين عائشة وأمهات المؤمنين ربما أوترن أول الليل وعجزن عن القيام آخر الليل، وهذا أمر يحتاج إلى صبر ومكابدة، فليست كل زوجة تستطيع أن تفعله، وإنما دلّ النبي صلى الله عليه وسلم على نضح الماء في وجه المرأة على سبيل الأفضلية، وعلى سبيل السنية والاستحباب، ولكن لا يستلزم ذلك وجود جماعةٍ بينهما، فإنه لم يثبت في هذا ما يدل عليه، وليس في نفس الحديث ما يدل عليه، ولا يعتبر معارضاً للأصل الذي ذكرناه. والله تعالى أعلم.

اقتداء المسافر في صلاة المغرب بمن يصلي العشاء

اقتداء المسافر في صلاة المغرب بمن يصلي العشاء Q رجل مسافر أخر صلاة المغرب إلى العشاء ليجمع جمع تأخير، وحين نزوله إلى المسجد وجد المصلين يصلون العشاء، فماذا يصنع؟ A إذا نوى الإنسان أن يؤخر صلاة المغرب والعشاء ويجمع بينهما فإنه في هذه الحالة إذا دخل المسجد فإنه يدخل وراء الإمام بنية النافلة، ثم إذا انتهى من صلاته نافلةً أقام لصلاة المغرب ثم صلاها وصلى بعدها العشاء، والسبب في كونه لا يتابع أن صلاة العشاء والمغرب ليس بينهما اتفاق في الصورة، وشرط اقتداء المأموم بالإمام عند اختلاف نية الصلاتين أن تتحد صورتهما، والصورة هنا مختلفة، فالثلاث لا تصلى وراء الأربع، ولا يمكن بحال أن تتحقق المتابعة على الصورة المعتبرة شرعاً، وإن كان بعض العلماء -وهو وجهٌ ضعيف شاذٌ يحكى ولا يعول عليه قال به بعض فقهاء الشافعية قياساً على صلاة الخوف- قالوا: يجوز له أن يدخل وراء من يصلي العشاء، ثم إذا انتهى الإمام من الركعة الثالثة جلس، وترك الإمام يتم الركعة الرابعة قياساً على صلاة الخوف. وهذا محل نظر؛ لأنه قياس في صورة التعبد، وفيما هو تعبدي يفتقر إلى نص يدل على مشروعية هذه الصورة وجوازها. ثانياً: أن نفس القياس معارض بأنه قياسٌ على الخارج عن الأصل، والقاعدة أن ما خرج عن الأصل لا يقاس عليه. توضيح ذلك أن صلاة الخوف خارجة عن الأصل، ولذلك الإمام في بعض الصور يصليها أربعاً والمأمومون يصلون ركعة ويفارقونه، والطائفة الثانية تصلي ركعة وتفارقه، وهذا لا يعرف في سنن الصلاة أو الجماعة الأصلية، ولذلك قالوا: إن ما عدل عن سنن القياس -أي: عن الأصل- فغيره عليه لا ينقاس. كما لو قال قائل -مثلاً-: أقيس الأخ لو قذف أخاه -والعياذ بالله- بالزنا على الزوجة، فيشرع بينهما اللعان قياساً على لعان الزوج لزوجته. فيكون القياس باطلاً؛ لأن أصل اللعان الذي وقع بين الزوجين خارجٌ عن الأصل؛ لأن الأصل: (البينة أو حدٌ في ظهرك)، فشرع للزوجين على سبيل الخصوص، فكذلك أيضاً متابعة الإمام في الأصل واجبة على المأموم، فجاءت صلاة الخوف بعينها واستثنيت، فلا وجه لأحدٍ أن يقيس على هذا المستثنى. لكن هنا مسألة، حيث قالوا: لو أدركه في الأخيرتين من صلاة العشاء، أو أدرك إماماً مسافراً يصلي ركعتين، فقد اختار بعض العلماء أنه يدخل وراءه في ركعتين ناوياً بها المغرب، فإذا سلم الإمام قام وجاء بركعة، وهذا أخف من الذي قبله؛ لأن الذي قبله فيه اختلاف، وأما هذا فلا اختلاف في صورته، وغاية ما فيه أنه كالمسبوق يقوم ويتم لنفسه. والأحوط والأفضل ما ذكرناه من كونه يدخل متنفلاً، ثم بعد ذلك يقيم لصلاة المغرب، ثم يقيم بعدها لصلاة العشاء، أما لو نوى الجمع بين صلاتي الظهر والعصر وأخرهما فدخل ووجد إماماً يصلي العصر فإنه يدخل وراءه بنية الظهر، ثم إذا سلم الإمام أقام لصلاة العصر وصلاها؛ لأن الظهر والعصر صلاتان متفقتان في الصورة، والله تعالى أعلم.

حكم المسبوق إذا سجد إمامه للسهو بعد السلام

حكم المسبوق إذا سجد إمامه للسهو بعد السلام Q إذا زاد الإمام في الصلاة وسجد سجود السهو بعد السلام وبعض المأمومين فاتته الركعة الأولى، فقاموا بعد سلام الإمام مباشرة، ولم يسجدوا معه للسهو، فهل يرجعون ليسجدوا للسهو، أم يتمون صلاتهم ثم يسجدون للسهو؟ A إذا دخلت المسجد وقد فاتتك ركعة، وكان الإمام قد سها في صلاته، سواءٌ أدركت السهو، كأن يقع سهوه بزيادة في ركعةٍ خامسة، أو يقع سهوه بزيادة سجدة في الركعة الرابعة، وقس على هذا، أم لم تدرك السهو، كأن يكون في الركعة التي لم تدركه فيها قد زاد شيئاً، فحينئذٍ للعلماء وجهان: قال بعض العلماء: تثبت في مكانك وتسجد معه بعد سلامه دون أن تسلم، وهذا إذا علمت أنه سيسجد، كأن تكون قد اطلعت على زيادته، فتثبت في مكانك ولا تقوم للإتمام، وذلك لأنك مطالب بالمتابعة، وإنما تنفصل عنه بعد سلامه الكلي لا سلامه الجزئي الذي يكون قبل إتيانه بسجدتي السهو، فتثبت في مصلاك، ثم تكبر وراءه ساجداً السجدتين لمكان المتابعة، ولا يضر وقوع هاتين السجدتين قبل إتمامك للصلاة؛ لأن النص استثناهما بالأمر بالمتابعة. الوجه الثاني يقول: تقوم وتتم لنفسك، ثم بعد سلامك تقضي ما فاتك من السجدتين. وكلا الوجهين صحيح، فلو أنك انتظرت وسجدت معه ولكن لم تسلم فلا حرج، ولو أنك -وهو أقوى وأولى- قمت بعد سلامه مباشرة لقوله صلى الله عليه وسلم: (وما فاتكم فأتموا) فحينئذٍ لا حرج عليك، وتسجد سجدتي الزيادة بعد سلامك من الصلاة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

باب صلاة التطوع [3]

شرح زاد المستقنع - باب صلاة التطوع [3] السنن الراتبة التي تصلى قبل الصلوات المفروضة وبعدها من أفضل صلاة التطوع، وقد شرعت لحكم عظيمة، منها: الاستعداد لأداء الفريضة، وجبر النقص الواقع في الفريضة، وهي ركعتان قبل الفجر وأربع قبل الظهر وركعتان بعدها وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء، ومن فاته شيء منها سن له أن يقضيه. ومن أفضل صلاة التطوع صلاة الليل، وخاصة في الثلث الأخير منه.

السنن الراتبة

السنن الراتبة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ثم السنن الراتبة]. السنن الراتبة: مجموعةٌ من الصلوات ثبت في الشرع الحث والحض عليها، وسميت راتبة؛ لأن الشرع رتبها، وهذه السنن الراتبة تفعل مع الفرائض إما قبل، وإما بعد، وإما قبل وبعد، ولذلك قسّم الشرع هذه السنن بهذا الترتيب، فجعل لبعض الصلوات المفروضة سنناً قبلها ولم يجعل لها شيئاً بعدها كالفجر، وجعل لبعضها سنناً بعدها ولم يجعل لها سنناً راتبة قبلها كما في المغرب والعشاء، فإن السنة الراتبة فيهما بعد وليست قبل، وجعل للظهر سنة راتبة قبل وسنة راتبة بعد، وجعل لبعض الصلوات رواتب ولم يجعل لبعض الصلوات لا قبلية ولا بعدية على سبيل الترتيب وهي العصر، وإن كان للعصر سنة عامة، وهي داخلة في السنن العشرين، فهناك السنن العشر الراتبة التي ذكرت هنا، وبعضهم يجعلها اثنتي عشرة ركعة على تفصيل سنذكره، وهناك السنن المطلقة التي رتبت لكن لم تكن على سبيل التقييد بالوصف الذي ذكرناه، ويجعلونها عشرين ركعة، وهي: الأربع قبل الظهر والأربع بعدها، والأربع قبل العصر، والأربع بعد المغرب، والأربع بعد العشاء، فهذه عشرون ركعة وردت بها الأحاديث وصحت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

حكمة مشروعية السنن الراتبة

حكمة مشروعية السنن الراتبة والسنن الراتبة هذه شُرعت لفضائل وحكم عظيمة؛ فإن المصلي إذا دخل إلى الفريضة مباشرة يكون في حالة أدنى من الخشوع والخضوع واستحضار القلب مما لو سبق الفريضة بسنة قبلية، كما هو الحال في صلاة الظهر، فإن الناس في الظهر يكونون على عناء العمل وشظف طلب العيش، فإذا دخلوا إلى الصلاة وهم حديثو عهد بالتجارات ونحوها فإنهم يكونون أقل خشوعاً مما لو قدموا بسنة ثم دخلوا الفريضة بعد السنة، فإن الطاعة تشرح الصدر وتيسر الذكر، وهذا محفوظ من هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لما أراد أن يقوم الليل عليه الصلاة والسلام استفتح بركعتين خفيفتين، قالوا: لأن هذا الاستفتاح يهيئ النفس للإطالة، وللاستحضار وللخشوع، فكان في السنة الراتبة نفس المعنى، وهذا مجرب في الشخص الذي يأتي متأخراً في الصلوات، أو يأتي مع الإقامة، فإنه إذا دخل لا تجده في الخشوع كحالته حين يدخل بين الأذان والإقامة فيصلي الراتبة ويذكر الله، فإن الحسنة تدعو إلى أختها، فتجده بعد انتهائه من الراتبة أشرح صدراً وأكثر طمأنينة في قلبه، فهذا يقوّيه على فعل الفريضة بنفس أقوى وحضور أبلغ، وهذا إذا كانت الراتبة قبلية، وكذلك الحال إذا كانت بعدية، فإن فيها كمال خضوع وكمال تعلق بالله سبحانه وتعالى؛ لأن الرواتب ليست بواجبة، فكونه بعد فراغه من الفريضة يتعلق بربه سبحانه وتعالى وينيب إليه بقيامه بهذه الصلاة الراتبة البعدية فهذا فيه كمال ذكر وكمال إنابة إلى الله عز وجل أبلغ مما لو انصرف إلى أمور دنياه بعد انتهائه من فريضته.

عدد السنن الراتبة

عدد السنن الراتبة ثبت عن عبد الله بن عمر في الصحيح أنه حفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر. فهذه في الأوصاف خمس ركعتان ركعتان، وعددها عشر، وهي ثابتة وصحيحة. وحمل بعض العلماء هذه الرواتب على حديث أم المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى لله في كل يوم ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً)، وفي رواية: (بني له بيت في الجنة)، قالوا: إنها هي الرواتب. وأضافوا إليها الأربع قبل الظهر، فتكون أربعاً قبل الظهر وركعتان بعد الظهر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، فيكون المجموع ثنتي عشرة ركعة.

مسائل في راتبة الفجر

مسائل في راتبة الفجر المسألة الأولى: أفضل هذه الرواتب وآكدها راتبة الفجر، وهي التي تسمى بالرغيبة، وكان من هديه صلوات الله وسلامه عليه أنه يصليها ويخفف فيها صلوات الله وسلامه عليه، حتى كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: (لا أدري أقرأ فيهما بفاتحة الكتاب أو لم يقرأ). وقال بعض أهل الظاهر وبعض أهل الحديث: إنه لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب والصحيح أنه يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، وذلك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (أيما صلاةٍ)، وقولها: (لا أدري) لا يعتبر نافياً للأصل، ولذلك يبقى على الأصل، ويحمل قولها: (لا أدري) على التجوّز؛ فإن قول عائشة لا يقوى على معارضة النص بالإلزام بالفاتحة. وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقوم الليل فإذا بلغ السحر أوتر، ثم يترك السحر للاستغفار والراحة عليه الصلاة والسلام، فإن كانت له حاجةٌ إلى أهله فعل، وإن كانوا مستيقظين حدّثهم صلوات الله وسلامه عليه حتى يؤذن المؤذن بالصبح، ثم يصلي ركعتين وهما رغيبة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن صلوات ربي وسلامه عليه، قال العلماء: إنما اضطجع على شقه الأيمن لأجل أن يرتاح من قيام الليل وعناء الليل. فقد كان يقوم حتى تفطرت قدماه صلوات الله وسلامه عليه، فكان يضطجع هذه الضجعة على شقه الأيمن، ولا ينام فيها، وإنما هي ضجعة، ولذلك سنّ فعل هذه الضجعة لمن قام آخر الليل، أما من كان نائماً ثم أذن عليه الصبح فإنه لا يعتبر فيه المعنى الذي كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم. وثبت عنه أنه قرأ في ركعتي الفجر بسورتي الإخلاص، وقرأ فيهما آيتين: أولاهما من البقرة وهي قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة:136]، والثانية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ. } [آل عمران:64]، فهذا بالنسبة لهديه عليه الصلاة والسلام في القراءة فيها، وكان يخفف فيهما عليه الصلاة والسلام، ويتجوّز فيهما، ولكن مع إتمام الأركان من الركوع والسجود. المسألة الثانية: السنة في هذه الرغيبة أن تقع بين الأذان والإقامة، فإذا أقيمت الصلاة فلا يجوز فعلها بعد الإقامة، ووردت في فعلها بعد الإقامة بعض الأحاديث الضعيفة، ولا تصلح للاستمساك بها في معارضة النص الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)، وهذا النص ورد في صلاة الفجر، ولذلك لما رأى رجلاً يتنفل بركعتين بعد الإقامة، قال: (يا هذا! بأي الصلاتين اقتديت: أبصلاتك معنا، أم بصلاتك وحدك؟!)، وفي الحديث الآخر عن أنس قال عليه الصلاة والسلام: (يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعاً)، فلا وجه لإنشاء هاتين الركعتين بعد الإقامة، أما لو أقيمت الصلاة وأنت في الرغيبة فأنت على حالتين: فإن كنت قريباً من السلام، أو تستطيع أن تتمها وتدرك الإمام قبل تأمينه حتى تحصل فضيلة التأمين فحينئذٍ تتم، على ظاهر قوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]. وأما إذا غلب على ظنك فوات الركعة فإنك تقطع الرغيبة، ويكون قطعك بالسلام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث علي: (تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)، وإذا قطعتها بسلام كتب لك الأجر كاملاً؛ لأنك قطعت بعذرٍ على صورةٍ شرعية، فيكون تسليمك في موضعه، كأنك سلمت من الصلاة بعد كمالها في الحكم من ناحية الفضل، أما إذا قطعتها بدون تسليم فإنه لا يكون لك أجر العمل السابق، وذلك لأنه بمثابة الإلغاء للركعتين. وكان عليه الصلاة والسلام لا يدع هاتين الركعتين حضراً ولا سفراً، بل كان عليه الصلاة والسلام إذا نام عن صلاة الفجر قضى هاتين الركعتين قبل أن يفعل صلاة الفجر، ففي الصحيحين من حديث حذيفة رضي الله عنه أنه لما عرّس عليه الصلاة والسلام ونام عن صلاة الفجر هو وأصحابه في الوادي، في مقفله إلى المدينة، وقام وقد ارتفعت الشمس أمر بلالاً فأذن، فصلى ركعتين -وهما رغيبة الفجر- ثم أمره فأقام فصلى الصلاة. وفي هذا دليل على مسائل: الأولى: أنه يجوز لك أن تتنفل قبل أن تفعل الفرض إذا كان وقت قضاء الفرض موسعاً، ومن هنا تخرّج قول من يقول: يجوز أن يصوم ستاً من شوال ثم يقضي رمضان بعد ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما استيقظ من نومه كان في الأصل مخاطباً بصلاة الفجر، وفي ذمته فريضةٌ هي صلاة الفجر، فاشتغل بالنافلة قبل القضاء؛ لأن الصورة صورة قضاء، فكذلك يجوز لك أن تشتغل بالنافلة بستٍ من شوال مع تعلق الذمة بقضاء رمضان لمكان التوسع في القضاء. المسألة الثالثة: أن قضاء الفجر موسع إذا كان بعد طلوع الشمس، ووجه ذلك أنه يجوز لك أن تؤخر القضاء، وذلك لما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه تحول من الوادي إلى موضع آخر وقال: (إنه منزلٌ حضرنا فيه الشيطان)، وصلى رغيبة الفجر وهذا نوع تأخير، فأخذ منه بعض العلماء دليلاً على أن من استيقظ بعد طلوع الشمس وكان عنده أمرٌ ضروري واحتاج أن يفعله مع أنه عازمٌ على أن يفعل الصلاة بعد انتهائه من هذا الأمر ما لم يدخل وقت الظهر فلا حرج عليه في ذلك، على ظاهر هذا الحديث، ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم انتقل من الوادي لكونه حضره فيه الشيطان، وهذا على سبيل الفضل وليس على سبيل اللزوم والوجوب، ولذلك أجمعوا على أن من نام في موضعٍ لا يجب عليه أن يتحول عن ذلك الموضع ليصلي. المسألة الثالثة: لو فرض أنك استيقظت على قربٍ من طلوع الفجر، بحيث لو صليت الرغيبة خرج وقت الفجر وطلعت الشمس فحينئذٍ يجب عليك أن تبتدئ بالفجر، وأن تلغي ركعتي الرغيبة وتجعلهما من بعد طلوع الشمس. المسألة الرابعة: أنه يُسنّ قضاء رغيبة الفجر، وقضاء رغيبة الفجر لا يخلو من حالتين: إما أن لا يمكنك أن تصليها قبل الفجر، كأن تستيقظ عند الإقامة، فتأتي ولا يمكنك أن تصلي قبل صلاة الفجر، أو تخشى فوات الجماعة، ففي هذه الحالة هل بعد سلامك مع الإمام تقوم وتأتي بالرغيبة، أو تنتظر إلى طلوع الشمس؟ فأقوى ما دلت عليه النصوص أن تنتظر إلى طلوع الشمس؛ لورود المعارض من قوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس) كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه. فإن صليت بعد الفجر ففيها أحاديث اختلف في أسانيدها، وإن كان تحسينها مقبولاً عند جمع من المحققين رحمة الله عليهم، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر من قضى ركعتي الفجر بعد صلاة الفريضة. والأفضل والأولى أن تصلي بعد طلوع الشمس، لكن إذا كان عند الإنسان عمل، أو غلب على ظنه أنه لو أخر القضاء إلى بعد طلوع الشمس فربما لا يتمكن من القضاء لوجود المشاغل، فحينئذٍ لا حرج عليه أن يصليها بعد صلاة الصبح، ولكن بشرط أن لا يكون ذلك في حال طلوع الشمس؛ فإنه في حال طلوع الشمس لا يجوز إيقاع النوافل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة)، وثبت في الحديث الصحيح: (ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو أن نقبر موتانا، ثم ذكر منها: إذا طلعت الشمس)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا طلعت فأمسك عن الصلاة؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان)، فهذا بالنسبة لرغيبة الفجر وما فيها من أحكام.

راتبة الظهر

راتبة الظهر قال رحمه الله: [ركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها]. السنة أن تصلي أربعاً قبل الظهر، وهي المذكورة في الحديث: (من حافظ على أربع قبل الظهر حرمهُ الله على النار)، وهذا فيه فضل، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى قبل الظهر أربعاً، وسألته أم المؤمنين فقال عليه الصلاة والسلام: (إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، فأحب أن يصعد لي فيها عملٌ صالح)، قال بعض العلماء: إن مراد عائشة: بقبل الظهر أي: فيما بين الأذان والإقامة، أي: قبل فعله لصلاة الظهر، وقال بعض العلماء: (قبل الظهر) أي: وقت الضَحَى، أي: قبل أن يدخل وقت الظهر، وكلاهما وجهان للعلماء.

التنفل قبل الجمعة

التنفل قبل الجمعة الركعتان اللتان هما قبل الظهر في غير الجمعة، أما في الجمعة فليس للجمعة قبلية، وإنما يسن لك إذا مضيت إلى الجمعة أن تتنفل، وأن تستكثر من النوافل؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل التبكير إلى الجمعة أنه قال: (من غسّل واغتسل، وبكّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ثم صلى ثم دنا وأنصت ... ) الحديث، قالوا: فقال: (صلى)، فدل على أن الأفضل أنك إذا دخلت المسجد في الجمعة أن تستكثر من الصلاة، حتى يأتي وقت الخطبة، ولا حرج عليك أن تصلي في حال الأذان الأول أو بين الأذان الأول والثاني، فهذا لا حرج فيه، لكن لو كنت جالساً وقصدت أن تصلي بين الأذان الأول والثاني فحينئذٍ للعلماء وجهان: قال فقهاء الشافعية: لا حرج -أو يسن- أن يصلي بين الأذان الأول والثاني. واستدلوا لهذا بما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (بين كل أذانين صلاة)، قالوا: والأذان الأول أذان مشروع؛ لأنه سنةٌ راشدة ثبت النص باعتبارها؛ لأنه فعلها عثمان، وعمل السلف الصالح رحمة الله عليهم بها دون أن ينكرها أحد، وأجمعت الأمة على هذا الأذان الثاني. ومن قال: إنه بدعة فقوله لم يسبق إليه، وهذا أمر ينبغي أن يتنبه له؛ فإن هذه السنة فعلها خليفة راشد أمر باتباعه، وعلماء الأمة كلهم ليس فيهم واحد يقول: إنها بدعة، فلا شك أنه أمرٌ من السنة بمكان، وأثرٌ يتعين اقتفاؤه ولزومه، ولا شك أن اعتبار قول هذه الطائفة من المؤمنين التي تتابعت جيلاً بعد جيل، ورعيلاً بعد رعيل أنه أولى وأحرى من حيث الأصل في الأذان الثاني، ولا يحكم ببدعيته في أي زمان، وذلك لأن السلف الصالح رحمة الله عليهم أقروا ذلك، ولم ينكروه، ولم يوجد عالم من علماء السلف رحمة الله عليهم يقول: إن الأذان الثاني بدعة، إنما هو سنة ثابتة، ولا إشكال في ثبوتها، وأما قصد الصلاة فقلنا: إن بعض فقهاء الشافعية يرى ذلك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين)، قالوا: الأذان الأول ثبتت مشروعيته بالسنة؛ لأن الشرع وصف سنة الخلفاء الراشدين بكونها سنة، فإذا ثبت أنه أذان مسنون، وأجمعت الأمة على اعتباره فإنه يصدق عليه ظاهر الحديث: (بين كل أذانين صلاة). وقال الجمهور: إنه لا يسن التنفل بين الأذان الأول والثاني. وهذا هو الأرجح بمعنى: لا يسن أن يقصد الإنسان التنفل قصداً، لكن لو أنك قمت تصلي وأطلت الصلاة بحيث استغرقت الأذان الأول ووقعت صلاتك بين الأذان الأول والثاني اتفاقاً لا قصداً فإن ذلك مشروع؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (فصلى ثم دنا وأنصت)، فإن قوله: (فصلى ثم دنا وأنصت) يدل على مقاربة الصلاة للخطبة، ولذلك قالوا: إنه وقت فضيلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إلى الاستكثار من النافلة يوم الجمعة، وقال: (فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي ... ) الحديث، قالوا: فهذا يدل على أن الشرع قصد الاستكثار من النافلة في هذا اليوم، وبناءً على ذلك لا حرج أن يستطيل الإنسان في قيامه حتى يصيب هذا الفضل، ويخرج أيضاً من الخلاف، ولا شك أن مذهب الجمهور، أنه لا يسن قصد فعل ركعتين بين الأذان الأول والثاني، أما فعل النوافل المطلقة فلا حرج. وبناءً على ذلك يكون قوله: (ركعتان قبل الظهر) في الأصل في الظهر، وعلى هذا فالمريض لو ترك الجمعة شُرِع له أن يصلي قبل ظهره ركعتين وأربعاً على الصورة التي ذكرناها.

راتبة المغرب

راتبة المغرب قال رحمه الله: [وركعتان بعد المغرب]. قد ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلهما، وكان يفعلهما في بيته صلوات الله وسلامه عليه، فيدخل إلى بيته ويصلي هاتين الركعتين بعد صلاة المغرب، والتنفل بعد صلاة المغرب جعله بعض العلماء من قيام الليل، وإن كان الصحيح أنه ليس من قيام الليل، وحملوا عليه قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، قالوا: إنها نزلت في جمع من الصحابة رضوان الله عليهم كانوا إذا فرغوا من أعمالهم في المغرب أصابهم الجهد والنصب، فإذا صلوا المغرب قاموا يتنفلون حتى يقووا على الصبر والمكابدة إلى صلاة العشاء، فأنزل الله فيهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، وعدّ -كما ذكرنا- بعض العلماء هذا الوقت وقتاً من قيام الليل. والصحيح أن قيام الليل إنما يبتدئ بعد صلاة العشاء على الأصل الذي دلّت عليه النصوص من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

راتبة العشاء

راتبة العشاء قال رحمه الله: [وركعتان بعد العشاء]. هذه سنة بعدية، فتجتمع العشاء والمغرب في كون كل منهما السنة فيها بعدية، ولكن كان عليه الصلاة والسلام إذا جمع بين صلاة المغرب والعشاء بجمعٍ لم يسبح بينهما، كما في حديث ابن عمر في الصحيحين: (أنه -عليه الصلاة والسلام- جمع بين المغرب والعشاء ولم يسبح بينهما)، وهذا أصل عند العلماء، وهو أن السنة الراتبة تترك في السفر، وهكذا بالنسبة للظهر؛ حيث ثبت في حديث أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزل وصلى بالمحصب -وذلك حينما ركزت له العنزة- لم يتنفل قبل الظهر. والركعتان بعد العشاء راتبة، وتقدم على التراويح، وإن أخر العشاء فإنه يؤخر راتبة العشاء بعده، فإذا أخرها إلى آخر وقتها لكي يصيب فضيلة تأخير العشاء كما في حديث عائشة في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتم بالعشاء، فخرج عمر يقول: الصلاة يا رسول الله! فقال: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي)، فإذا طلب الإنسان هذه الفضيلة وأخر العشاء إلى آخر وقتها فإنه يجعل كذلك الراتبة مؤخرة، فراتبة العشاء تكون بعدية في الصورة والحقيقة، فلا تقع راتبة العشاء بمجرد دخول وقت العشاء، فهي راتبة بعدية.

تأكد راتبة الفجر على غيرها

تأكد راتبة الفجر على غيرها قال رحمه الله: [وركعتان قبل الفجر وهما آكدها]. أي: هاتان الركعتان آكدهما وذلك للأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان فضل هاتين الركعتين، حتى قال في الحديث الحسن: (لهما أحب إليّ من الدنيا وما فيها)، أي: هاتان الركعتان رغيبة الفجر القبلية، وقال في اللفظ الآخر: (ركعتي الفجر خير من الدنيا وما فيها)، وجاء في الحديث الثالث -وإن كان ضعفه من القوة بمكان-: (لا تتركوها ولو طلبتكم الخيل)، وفُهِم تأكدهما من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتركهما حتى في السفر، كما ذكرنا في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه أنه لما فاتته عليه الصلاة والسلام صلاة الفجر قضى هاتين الركعتين وحافظ على قضائهما، فدلّ على تأكدها، وهذا يدل على عظيم شأنها وفضيلتها.

حكم قضاء الفوائت

حكم قضاء الفوائت قال رحمه الله: [ومن فاته شيء منها سن له قضاؤه]. أي: من فاته شيءٌ من هذه السنن سنّ له قضاؤه؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى، فيسن لك -مثلاً- أن تقضي راتبة الظهر القبلية، فإذا دخلت والإمام قد دخل في الصلاة فإنك تدخل معه، وبعد السلام تقوم وتصلي ركعتين تنوي بهما القبلية إن كانت قبليتك اثنتين، وإن كانت قبليتك أربعاً فتقضي أربعاً، وهكذا الحال لو نسي الإنسان راتبة المغرب، فإنه حينئذٍ لو تذكرها بعد العشاء شرع له أن يصليها. وقال بعض العلماء: إنه لا حرج في تداخل الصلوات، بمعنى أن يجعل الراتبة البعدية من الأولى تُصلى قبل الراتبة البعدية من الثانية، ومثال ذلك: صلاة العشاء والمغرب، فقال بعض العلماء: لا حرج أن تؤخر راتبة المغرب إلى ما بعد العشاء، فتصلي راتبة المغرب أولاً ثم راتبة العشاء ثانياً. والذي يظهر أن هذا ليس من السنة إذا قصده قصداً، لكن لو أنه شُغِل ونسي، أو جاءه شغل لا يستطيع معه أن يصلي الراتبة فأخرها إلى ما بعد العشاء فصلاها ثم صلى راتبة العشاء فإنه لا حرج عليه في ذلك.

صلاة الليل وأفضل وقتها

صلاة الليل وأفضل وقتها يقول المصنف عليه رحمة الله: [وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار]. فبعد أن ذكر رحمه الله النوافل التي يسن للمكلف فعلها، وبيّن أنواع هذه النوافل من حيث ما تسن له الجماعة وما يوقعه المكلف حال انفراده شرع رحمه الله في بيان فضل صلاة الليل، فإن أفضل النوافل وأحبها إلى الله عز وجل وأعظمها أجراً صلاة الليل، وهذا بالنسبة للمقابلة بين صلاة الليل والنهار، والأصل في تفضيل صلاة الليل على صلاة النهار ما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل)، وقد امتدح الله عز وجل أهل الليل الذين يتهجدون، خاصةً إذا كان تهجدهم في دياجير الظلمات، أعني الثلث الأخير من الليل، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه انتهى وتره إلى السحر)، فكان قيامه أكمل القيام، وإحياؤه الليل أكمل الإحياء. وقد جاءت الآيات في كتاب الله عز وجل والأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم تبيّن فضل قيام الليل، وأنه لا يحافظ عليه إلا مؤمن يخاف الله ويرجو رحمته، قال الله عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ} [الزمر:9]، قال العلماء: في هذه الآية دليل على أنه لا يحافظ على قيام الليل إلا من خاف الله عز وجل ورجا رحمة الله سبحانه وتعالى، وأكد الله هذا المعنى بقوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16]. وفي قيام الليل الفضائل والنوائل، ولذلك قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، أي: مقاماً يحمدك عليه الأولون والآخرون. وهذا إنما ذكره الله بعد أمره لنبيه صلى الله عليه وسلم بقيام الليل. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن قيام الليل دأب الصالحين وشأن عباد الله الأخيار المتقين، كما في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين من قبلكم)، فدلت هذه النصوص من كتاب الله عز وجل وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم على فضيلة قيام الليل، ونظراً لكون قيام الليل فيه المشقة وفيه العناء وفيه الجهد أثنى الله عز وجل عليه، وأخبر أنه أجلّ وأكرم، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6]، وناشئة الليل إنما تكون بعد الليل وبعد الضجعة، فأفضل قيام الليل ما كان في آخر الليل، وكان بعد نوم وهجود، فحينئذ يصدق على الإنسان أنه متهجد، والسبب في هذا أنه إذا اضطجع ونام وذاق لذة النوم والكرى فإنه لا ينبعث من فراشه إلا بقوة إيمان وخشية لله عز وجل ورجاء في رحمته، وفي الحديث الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد إذا قام من الليل يتهجد من بين زوجه وحِبّه قال الله: يا ملائكتي! عبدي ما الذي أقامه من حِبّه وزوجه؟ قالوا: إلهنا: يرجو رحمتك ويخشى عذابك. فيقول الله: أشهدكم أني قد أمنته من عذابي وأصبته برحمتي)، فقيام الليل فيه فضلٌ عظيم. وإنما قال العلماء بتفضيله لورود النصوص في الكتاب والسنة بالثناء على أهله وبيان عظيم فضله، ولذلك قال العلماء رحمهم الله: أفضله وأكمله أن يكون في آخر الليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الدعاء أسمع في آخر الليل، وأن أفضل ما يكون من الصلاة في جوف الليل الآخر، فقال عليه الصلاة والسلام يخاطب الصحابي: (إن أحببت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن)، أي: إن أحببت واستطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن. أعني: الثلث الأخير من الليل. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الليل ساعة لا يوافقها عبدٌ يسأل الله خيراً من الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه)، فهذا فضلٌ عظيم، وقد قرر العلماء رحمهم الله أن أفضل قيام الليل الثلث الآخر، ولكنهم استحبوا أن يكون السحر للاستغفار، والسحر يوافق سدس الليل الأخير، فيجعل ما قبل السدس للتهجد والعبادة وتلاوة القرآن تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام يقوم ثلث الليل الآخر، فكان يصلي ما شاء الله له أن يصلي، ثم إذا فرغ جعل بينه وبين صلاته وأذان الفجر وقتاً كما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، ولذلك قال العلماء: الأفضل في آخر الليل -أعني السدس الأخير من الليل- أن يتفرغ للاستغفار، حتى قال بعض العلماء: هو أفضل من تلاوة القرآن؛ لأن الله يقول: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18]، فأثنى على من استغفره سبحانه في هذا الوقت -أعني السحر-، وقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن الله تعالى ينزل في كل ليلة في الثلث الآخر من الليل)، كما ثبت في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام، ولذلك استحب العلماء أن لا يصل قيام الليل إلى السحر، وإنما يكون وتره عند ابتداء السحر، وهذا أفضل الهدي وأكمله؛ لما فيه من الراحة للنفس قبل الفجر، فإنه إذا جلس للاستغفار هدأت أعضاؤه وسكنت من عناء قيام الليل؛ لأن الإنسان بشر، وربما أنه لو واصل قيام الليل إلى الفجر ضعف عن الصلاة المفروضة ولم يخشع فيها، فكان مشتغلاً بفضل نافلة عن فضيلة فريضة، والفريضة أفضل من النافلة. وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن قيام الليل أفضل من صلاة النهار تطوعاً. قال رحمه الله: [وأفضلها ثلث الليل بعد نصفه]. أي: أفضل قيام الليل ثلث الليل بعد نصفه، أي: الثلث الآخر كما يعبر عنه العلماء رحمة الله عليهم. قال العلماء: فضلت صلاة الليل على صلاة النهار من وجوه: أولها: ثناء الله على أهل هذه الصلاة في كتابه العزيز، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث. ثانياً: لأنها صلاة خفية لا يعلمها إلا الله عز وجل، وذلك أن ساعة الليل ساعة تهدأ فيها العيون، وتسكن فيها الجفون، ولا يرقب فيها أحد أحداً، حتى إن الرجل ربما قام يصلي وأهله الذين هم أقرب الناس منه لا يشعرون بقيامه، ولذلك قالوا: لمكان الإخلاص وكون هذه العبادة خفية لا يعلمها أحد كانت أفضل من غيرها، بخلاف صلاة النهار، فإن الغالب فيها أن يطلع عليها الناس، وأن يعلم بها الناس. ثالثاً: لأن الناس في الليل يحتاجون إلى النوم ويحتاجون إلى الراحة، فإن قام أول الليل فإنه يقوم بعد عناء وتعب ونصب وهو أحوج ما يكون إلى النوم، فكونه يؤثر الصلاة على النوم فذلك أبلغ ما يكون في العبادة والطاعة، وإن صلاها بعد نومه كان أبلغ وأبلغ؛ لأنه إذا ذاق لذة النوم والكرى وحلاوة الفراش ثم قام من ذلك كله فهو مؤثر مرضاة الله عز وجل. فلأجل هذه الفضائل كلها فضلت صلاة الليل على صلاة النهار.

كيفية تطوع الليل والنهار

كيفية تطوع الليل والنهار قال رحمه الله: [وصلاة ليل ونهار مثنى مثنى]. أي: إذا صليت تطوعاً بالليل، أو صليت تطوعاً بالنهار فصلّ مثنى مثنى، أي: سلم من ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عمر -وأصله في الصحيحين-: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) فقوله: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)، أخذ منه الإمام أحمد رحمة الله عليه وطائفة من أهل العلم أنه لا يسلّم المصلي من ركعةٍ واحدة في الليل والنهار إلا في الوتر. ولذلك قال العلماء: من أراد أن يتطوع في النهار فلا يصلي ركعة واحدة إلا في الوتر، وأما في غير الوتر فإنه يسلم من اثنتين، وإن شاء سلم من أربع، وإن شاء سلم من ست، وإن شاء سلم من ثمان، فقالوا: إنما يسلم من شفع ولا يسلم من وتر؛ لما ذكرناه في الحديث السابق. قال رحمه الله: [وإن تطوع في النهار بأربع كالظهر فلا بأس]. أي: لا حرج عليه، وأخذ العلماء هذا الحكم مما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (رحم الله امرأً صلى قبل الظهر أربعاً)، فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأربع، وإن كان مذهب بعض العلماء أن هذا المطلق محمول على المقيد في قوله: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)، ولكن أجيب بأن قوله: (مثنى مثنى) أي: يسلم من شفع، فتدخل الأربع في هذا، ولذلك لو صليت أربعاً وجلست في آخر الأربع فلا حرج وإن صليت أربعاً وجلست جلستين أو تشهدت تشهدين فلا حرج، على أصح أقوال العلماء، ولذلك قال: [كالظهر] أي: يصليها كالظهر. وقد أسقط النبي صلى الله عليه وسلم التشهد الأول في قيام الليل، كما في حديث عائشة: (يصلي أربعاً لا تسأل عن حسنهن وطولهن)، فقالوا: أسقط التشهد لكي يكون قيامه أطول، فكان يريد أن يجعل وقت التشهد لقراءة القرآن، وذلك أفضل؛ لقوله: (أفضل الصلاة طول القنوت). ومن هنا قال العلماء: الأفضل إذا صليت أربعاً أن تصلها؛ لأن الوقت الذي تأخذه في الجلوس للتشهد ستستغله في قراءة القرآن؛ لأن طول القيام أفضل من وجود التشهد؛ لما ثبت في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئِل عن أفضل الصلاة؟ قال: (طول القنوت) أي: طول القيام بالقراءة.

أجر صلاة القاعد

أجر صلاة القاعد قال رحمه الله: [وأجر صلاة قاعد على نصف أجر صلاة قائم]. هنا مسألتان: الأولى: الأصل عندنا صلاتان: صلاةٌ مفروضة، وصلاة نافلة، فأما الصلاة المفروضة فمذهب جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم أنه لا يجوز لك أن تصليها قاعداً إلا من عذر. وذهب الإمام داود الظاهري وأصحابه إلى أنه يجوز لك أن تصلي جالساً وأجرك على النصف من أجر القائم، وهذا إذا كان عندك العذر. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور أنه لا يجوز لك أن تصلي الفريضة قاعداً إلا من عذر، فإن صليت قاعداً من عذر في الفريضة فأجرك كامل. والإمام داود الظاهري ومن معه يقولون: يصلي قاعداً للعذر ويكون أجره على النصف. فطبّقوا هذا الحديث على عمومه. وأصح الأقوال في هذه المسألة أنك إن صليت في الفريضة قاعداً من عذر فأجرك كامل؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مرض العبد أو سافر كُتِب له عمله)، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن بالمدينة رجالاً ما سلكتم شعباً ولا قطعتم وادياً إلا شركوكم في الأجر)، وقال هذا الكلام وهو في تخوم الشام صلوات الله وسلامه عليه في غزوة تبوك غزوة العسرة، فقالوا: (يا رسول الله! كيف وهم في المدينة؟ قال: حبسهم العذر)، فدلت هذه الأحاديث الصحيحة على أن المعذور أجره كامل، ولذلك إذا كان الإنسان مريضاً فصلى الفريضة قاعداً فإن أجره على الكمال والتمام. المسألة الثانية: يجوز لك أن تصلي النافلة قاعداً، ويجوز لك أن تصليها قائماً، ولا إلزام في ذلك. فإن صليت النافلة قاعداً وأنت قادرٌ على القيام انطبق عليك الحديث في قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم)، وذلك أن القعود أقل عناءً وأقل تعباً، ولذلك كان أجره على النصف من أجر القائم. وجمهور العلماء على أن المراد بهذا الحديث النافلة لا الفريضة، خلافاً لـ داود الظاهري الذي يحمله على الفريضة في حال وجود العذر. والصحيح أن هذا الحديث الذي يدل على أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم إنما هو في النافلة، فالإنسان مخيرٌ، فلو رأيت إنساناً -كما يفعله بعض الناس بعد صلاة الفريضة- كبّر للسنة وصلاها قاعداً فإنه لا ينكر عليه؛ لأنه مخيّر بين أن يصلي قائماً أو يصلي قاعداً، فإن صلّى قاعداً فأجره على النصف، إلا أنه إذا كان الإنسان معذوراً أو يشق عليه القيام فإن الأفضل له أن يجلس حتى إذا قارب الركوع قام ووقف وأتم قراءته ثم ركع، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام يقوم من الليل حتى تفطرت قدماه من طول القيام، وذلك لأنه أخذه اللحم صلوات الله وسلامه عليه في آخر عمره وبدن، فكان يثقل على بدنه صلوات الله وسلامه عليه، فإذا طال القيام عليه كان عبء الجسد على القدمين حتى تتفطر، قالوا: تفطرها أن تتشقق كاللحم يتمزع عن بعضه من طول قيامه صلوات الله وسلامه عليه، فلما ثقل عليه طول القيام كان يصلي قاعداً، تقول عائشة: (حتى إذا بلغ مائة أو قدر مائة آية قام -صلوات الله وسلامه عليه- فأتمهن قائماً ثم ركع). فهذا أفضل، فلو صليت في التهجد وكنت على تعب أو نصب وأردت أن تجلس فالأفضل أن تجلس حتى إذا قارب الإمام الركوع تقوم وتتم معه حتى تصيب فضيلة القيام ولو في بعض أجزاء ركن القيام.

باب صلاة التطوع [4]

شرح زاد المستقنع - باب صلاة التطوع [4] من الصلوات المسنونة: صلاة الضحى، فقد ورد في فضلها أحاديث صحيحة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ووقتها من بعد طلوع الشمس إلى قبل الزوال، ومن النوافل: صلاة الاستخارة، وصلاة الشروق، وصلاة الهم والحاجة، ويسن كذلك سجود التلاوة، وسجود الشكر.

نوافل الصلاة

نوافل الصلاة

صلاة الضحى

صلاة الضحى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وتسن صلاة الضحى]. من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصلى صلاة الضحى، وصلاة الضحى هي إحدى الصلوات التي أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسميت بهذا الاسم من باب تسمية الشيء بزمانه الذي يقع فيه، كالأضحية سميت أضحية لأنها تذبح أضحى يوم النحر، فقالوا: صلاة الضحى من إضافة الشيء إلى زمانه، وهذه الصلاة جماهير السلف رحمة الله عليهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ومنهم الأئمة الأربعة على أنها سنة، وقد ثبتت فيها الأحاديث الصحيحة، وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم ينكرون هذه الصلاة، ومنهم عبد الله بن عمر، فكان إذا رأى من يصليها في المسجد حصبه بالحصباء منكراً عليه وكأنه يراها بدعة، إلا أنه أجيب عن فعل ابن عمر هذا من وجهين: الوجه الأول: أن ابن عمر رضي الله عنهما يحتمل أنه لم يبلغه النص بثبوت صلاة الضحى، فرأى كأنهم يفعلون أو يتكلفون فعلاً لا أصل له، وقد كان حريصاً على متابعة النبي صلى الله عليه وسلم فأنكر على حسب علمه. والوجه الثاني -وهو أقوى-: أن ابن عمر إنما أنكر على الناس قصدهم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الضحى، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلف فعلها في المسجد، فحينئذٍ يكون كأنه يوافق في أصل المشروعية ولكن ينكر صفة الإيقاع، وقد يكون الشيء مشروعاً بأصله ولكنه غير مشروع بوصفه، ومن أمثلته هذا، فحمل إنكار ابن عمر رضي الله عنه على الناس أنهم تكلفوا المجيء إلى المسجد، مع أن صلاة الضحى تفعل في البيوت. وقد ثبتت في صلاة الضحى أحاديث: منها ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يصبح على كل سلامى من الناس في كل يوم تطلع فيه الشمس صدقة، فبكل تسبيحة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن المنكر صدقة، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ويجزئ عن ذلك ركعتا الضحى)، (فقوله: على كل سلامى) أي: مفصل، فهذه المفاصل الثلاثمائة والستون في الإنسان إذا أصبحت سليمة وأنت معافى بنعمة الله عز وجل ثبت أداء شكرها، فمن شكر هذه النعمة التي أنعم الله بها عليك من سلامة أعضائك أن تفعل الخير، فتكثر من التسبيح والتحميد حتى تبلغ عدد هذه الأعضاء، فتسبح وتحمد وتكبر وتهلل، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعين الرجل على دابته فتحمل له متاعه عليها أو تحمله عليها، حتى تبلغ من الصدقات والنوافل قدر هذه النعمة التي أنعم الله عليك بها وهي الثلاثمائة والستون مفصلاً، فكأنها صدقة الأعضاء، فقال عليه الصلاة والسلام: (ويجزئ عن ذلك ركعتا الضحى)، وفي هذا دليل على فضيلة هاتين الركعتين اللتين بلغتا شكر نعمة الله عز وجل على سلامة البدن كاملاً، وهذا يدل على فضل الصلاة. وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أن الله تعالى يقول: (يا ابن آدم! اكفني أربع ركعات أول النهار أكفك آخره)، أي: إن صليت أربع ركعات قربة ونافلة أول النهار كفيتك همّ يومك كله، سواء همّ دِين أم دنيا أم آخرة، فتكفاه إلى نهاية هذا اليوم بالأربع ركعات. وكذلك ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه يوم الفتح اغتسل صلوات الله وسلامه عليه، وسترته فاطمة، فدخلت عليه أم هانئ يوم الفتح وهو يغتسل، فلما انتهى من الغسل التحف عليه الصلاة والسلام بردائه فكبّر وصلى ثماني ركعات)، ومذهب طائفةٌ من السلف أن المراد بها ركعات الضحى، ولذلك تسن هذه الصلاة. وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه بثلاث، ومنها صلاة الضحى. فصلاة الضحى سنة، والأحاديث فيها صحيحة وثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. فقوله: (تسن) أي: فعلها سنةز واختلف العلماء: هل الأفضل أن يداوم عليها، أو يفعلها أحياناً ويتركها أحياناً؟ وأصح الأقوال -والعلم عند الله-: أن الأفضل المداومة عليها، وكونه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه داوم عليها لا يمنع المداومة عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دلّ على فضلها بالسنة القولية، وقد كان يترك فعل الشيء وهو يحب أن يفعله خشية أن يفترض على الأمة، مع أن عدم النقل لا يدل على عدم الوجود، ولهذا الأفضل أن يداوم على ركعات الضحى. قال رحمه الله تعالى: [وأقلها ركعتان وأكثرها ثمان]. هذه الركعات أقلها ركعتان، وأكثرها فيه للعلماء وجهان: فقيل: ثمان ركعات. وقيل: اثنتا عشر ركعة. وهو الأقوى. أما كونها تصلى ركعتان فلما ثبت في حديث أبي هريرة: (ويجزئ عن ذلك ركعتا الضحى). وأما كونها تصلى أربعاً فلما ثبت في الحديث الصحيح الذي ذكرناه: (ابن آدم اكفني أربع ركعات من أول اليوم أكفك آخره). وأما كونها تصلى ست ركعات فلحديث أنس -وقد ذكره الترمذي في الشمائل-: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى ست ركعات). وأما كونها تصلى ثماني ركعات فلما ثبت في الصحيح من حديث أم هانئ: (أنها دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وفاطمة تستره بثوب وهو يغتسل، وفيه قالت: فالتحف، ثم صلى ثماني ركعات)، وحديث أم هانئ هذا فيه وجهان للعلماء: فبعض العلماء يقول: هي صلاة الضحى. وكانت أم هانئ تفعل ذلك، وكان ابن عباس لا يرى الضحى، حتى دخل على أم هانئ فوجدها تصليها فاعتبر صلاة الضحى لما رآها تصلي هذه الثمان. فمذهب طائفة أن هذه الصلاة صلاة الضحى. وهناك وجه ثانٍ أن هذه الصلاة التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة يوم الفتح إنما هي صلاة الفتح، صلاها شكراً لله عز وجل أن فتح له مكة، وبلّغه هذا اليوم الذي أعزّ فيه جنده وأعلى فيه كلمته ونصر فيه عبده، فكانت شكراً لله على الفتح، ولذلك لما فتح سعد بن أبي وقاص إيوان كسرى صلى فيه هذه الثمان الركعات، كانوا يستحبون لأمراء الجيوش والقادة أن يصلوها عند الفتح شكراً لله عز وجل على الفتح، فهذا أحد الوجهين فيها، وعلى القول بأنها صلاة الضحى تصبح صلاة الضحى ثماني ركعات. وتصلى اثنتي عشرة ركعة، وفيها حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى ركعتين كان من العابدين ... ) الحديث، وذكر فيه من صلى اثنتي عشرة ركعة. ولذلك قالوا: أقل الضحى ركعتان وأكثر الضحى اثنتا عشرة ركعة. وقيل: ثمان. وقيل: يصلي ما شاء الله. وفي هذا حديث أم المؤمنين عائشة: (أنها لما سُئِلت عن صلاة الضحى قالت: (كان يصلي أربعاً، ويزيد ما شاء الله)، فهذا يدل على أن فيها أدنى الكمال وأعلى الكمال. فأفضل ما يكون أن تصلى اثنتي عشرة ركعة، وحملوا عليه قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من صلى لله في يومٍ ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً في الجنة)، فحملوه على هذه الركعات التي تكون في صلاة الضحى.

وقت صلاة الضحى

وقت صلاة الضحى قال رحمه الله: [ووقتها من خروج وقت النهي إلى قبيل الزوال]. قوله: (ووقتها) الضمير عائد إلى صلاة الضحى، فبعد أن عرفنا أنها سنة وعرفنا عدد ركعاتها، يجئ الكلام على وقتها. فوقتها يبتدئ بابتداء وقت صلاة العيد، ويكون بعد انتهاء وقت النهي، ووقت النهي يبتدئ بصلاة الفجر، ويستمر من بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، ثم من بعد الطلوع حتى ترتفع قيد رمح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى صلاة عيد الأضحى صلاها والشمس على قيد رمح، ولما صلى صلاة عيد الفطر صلاها والشمس على قيد رمحين، فعجّل الأضحى وأخر الفطر، فعجّل الأضحى لأن الناس تحتاج إلى وقت الضحى من أجل الأضحية، فعجّل صلاة الضحى وأوقعها بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، وأخّر صلاة الفطر لأن الناس يحتاجون لهذا الوقت من أجل إخراج زكاة الفطر حتى تكون زكاة مقبولةً إن شاء الله، فأول وقت الجواز بعد طلوع الشمس حين ترتفع قيد رمح، فهذا هو وقت بداية صلاة الضحى، ثم ينتهي وقت صلاة الضُّحى في الضَّحى، أي: في دخول وقت الضَّحى، فهناك وقت يسمى وقت الإشراق، وهو ما بعد طلوع الشمس بقيد رمح، ثم يدخل وقت الضُّحى، وذلك عند تجلي الشمس بارتفاعها، وهناك وقت الضَّحى، وهو ما قبل الزوال بما يقرب من ساعة ونصف إلى ساعتين إلا قليلاً، وهو الذي ورد فيه الحديث الصحيح: (فنرجع إلى بيوتنا -يعني يوم الجمعة- فنقيل قائلة الضَّحى)، فالضَّحى ما قبل الظهر بقرابة ساعتين إلا ربع فما دون، فهذا الوقت يسمى، وقت الضَّحى، أي: قرب الزوال. فإذا دخل وقت الضَّحى -أي: قبل صلاة الظهر بساعة ونصف إلى ساعتين إلا قليلاً- فهذا الوقت ينتهي فيه وقت صلاة الضُّحى. ثم إن هذا الوقت الذي هو وقت صلاة الضُّحى فيه وقت فضيلة، فأفضل أوقات صلاة الضُّحى إذا ارتفعت الشمس قليلاً، أي: بعد ارتفاعها قيد رمح، ولذلك قال أبو هريرة رضي الله عنه: لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أوّاب. وقد قال الله تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25]، فالذي يحافظ على هذه الصلاة أوّاب، وعندما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة قال: (صلاة الأوّابين حين ترمض الفصال)، كما في الصحيح. أي: صلاة الضحى. ,الفصال: جمع فصيل، وهو ولد الناقة الصغير، ومعنى: (تمرض) أي: يدركها حرّ الرمضاء. فالفصيل يسرح بجوار أمه حتى إذا ارتفعت الشمس وابتدأ وهيج الشمس دخل تحت أمه، أو أوى إلى ظل الشجر، فهذا الوقت -الذي هو ما بعد طلوع الشمس إلى ساعتين، أو ساعتين وقليل- هو أفضل أوقات صلاة الضحى، والسبب في فضله ما ذكره العلماء في كلامهم على حديث مسلم: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال)، حيث قالوا: إنما فُضّل هذا الوقت لأنه وقت غفلة. ولذلك أشد ما تكون عليه السوق في هذا الوقت، فالناس مشتغلون بالتجارة ومشتغلون بالبيع والشراء، ومشتغلون بمصالحهم وأمورهم الدنيوية، ثم إنك قلّ أن تجد فراغاً في هذا الوقت، فكون الإنسان يعرض عن لغط الدنيا في ساعة غفلة الناس فهذا من أبلغ ما يكون في القربة إلى الله، كصلاة الليل إذا نام الناس وهجدوا فضلت لإعراض الناس عن العبادة سكوناً إلى الراحة وخلوداً إليها، كذلك أيضاً في حال الغفلة، فلما غفل الناس في أول النهار بطلب معايشهم وطلب أمورهم كان وقت الفضيلة عند اشتداد النهار قبل الضَّحى، فهذا هو أفضل الأوقات، وكلما تأخّر قليلاً إلى ما قبل الضَّحى كان أبلغ، إلا أنه إذا كان الإنسان يخشى الانشغال فليصلها في أول وقتها ولا حرج عليه، وكان بعض العلماء يستحب أن تكون في أول اشتداد النهار؛ لقوله: (يا ابن آدم اكفني أربع ركعات من أول النهار)، فقالوا: كلما قرب من أول النهار كان ذلك أفضل وأكمل.

نوافل لم يذكرها المصنف

نوافل لم يذكرها المصنف وهناك نوافل أخرى لم يذكرها رحمة الله عليه ورضوانه، ومن هذه النوافل ركعتا الوضوء، وفيها أحاديث صحيحة:

ركعتا الوضوء

ركعتا الوضوء منها: حديث عثمان رضي الله عنه، فعن حمران مولى عثمان أن عثمان دعا بطهور، فتوضأ فأكفأ على يديه، فغسلهما ثلاثاً، ثم مضمض واستنشق ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً -أي: توضأ وضوءاً كاملاً، وهو وضوء الإسباغ-، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال: (من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه)، فهذا يدل على فضيلة ركعتي الوضوء. ومنها: حديث بلال رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إني سمعت خشخشة -أو دف- نعليك في الجنة، فأخبرني عن أرجى عمل عملته؟ قال: يا رسول الله! ما أحدثت إلا توضأت، ولا توضأت إلا صليت ما كتب لي)، قالوا: فلذلك يحافظ الإنسان على ركعتي الوضوء. وقال بعض العلماء رحمة الله عليهم: الأفضل في ركعتي الوضوء أن تكون بعد الوضوء مباشرة، حتى قال بعض العلماء: قبل أن تجف الأعضاء؛ لما فيه من وصل الطاعة بالطاعة. وهذا أبلغ ما يكون في القربة والانكسار لله عز وجل، حتى لا يدخل بينهما غيبة ونميمة، أو شيء من أمور تغفل قلبه عن ذكر الله؛ لأنه بمجرد انتهائه من الوضوء تتحات عنه الذنوب، فيكون أشرح صدراً، فربما لو أخرها اغتاب أحداً أو وقع في محرم فصرف عن الخشوع، والخشوع هو المعين على المغفرة في ركعتي الوضوء.

صلاة الاستخارة

صلاة الاستخارة ومن النوافل: صلاة الاستخارة، جعلها الله عوضاً عما كان عليه أهل الجاهلية من البدع والخرافات، فيقدمون على أمورهم ومصالحهم الدنيوية ويحجمون عنها بالاستقسام بالأزلام، وبتحريك الطيور والنظر إلى جهاتها، فعوض الله المسلمين بركعتي الاستخارة، فإذا أهمك أمر ولم تدر تقدم عليه أم تحجم، فحينئذ إذا هممت به وأردت أن تعزم عليه بعد استشارة الناس فإنك تستخير. وهنا أمر يخطئ فيه كثير من الناس، فبعض الناس يجعل الاستخارة قبل الاستشارة، وهذا خطأ، بل الذي ينبغي أن تكون الاستخارة بعد أن تهتم النفس بالشيء، وبعد أن يشاور الناس فيجد من يعينه ومن يثبطه؛ لأنك إذا استخرت فلا تستشر أحداً بعد الله عز وجل، ولذلك قالوا: تكون الاستخارة هي آخر الأمر، بمعنى: أنه التبس عليك الأمر، فوجدت هذا يقول لك: أقدم، وهذا يقول لك: أحجم، وهذا يقول لك: هذا فيه خير، والثاني يقول: فيه شر، فحين تتردد نفسك وتهتم بالأمر فإنه تستخير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا همّ أحدكم بالأمر)، فمعناه: أن يكون عنده الاهتمام، ومعنى ذلك أنه قد وجد من مشورة الناس ومن حديث النفس ما يجعله يتردد، فحينئذٍ يصلي ركعتين من غير فريضة، ثم يقول الدعاء المأثور: (اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك؛ فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -ويسميه- فيه خيرٌ لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فيسره لي وسهله لي، وإن كنت تعلم أن فيه شراً لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، ثم اقدر لي الخير حيثما كنت، ثم رضِّني به)، فأي شيء بعد هذه الاستخارة تفعله هو خير مهما كان هذا الشيء، ولذلك بعد الاستخارة سلّم الأمر لله، حتى ولو وجدت الأمر في أوله يسوؤك فإن عواقبه خيرٌ لك في الدنيا والآخرة، وقد يكون الشيء في أوله حزن ولكن آخره سرور، وقد يكون أوله نكبة ولكن آخره صلاح وفلاح وخير لك في الدنيا والآخرة، ولذلك إذا استخرت الله عز وجل فحينئذٍ تنشرح نفسك، ولا تجعل في قلبك من هذا الأمر أي هم، إن تيسر فعله فافعل، وإن تيسر تركه وصرفت عنه فهو الخيرة من الله عز وجل، وهذه رحمة من الله عز وجل. وأما هل يفعل الدعاء في آخر الصلاة، أو يفعله بعد السلام فأصح الأقوال أنه يفعله داخل الصلاة. وقال بعض العلماء: إذا فعله داخل الصلاة أو بعد السلام فلا حرج عليه. ولكن الأولى والأكمل أن يكون عقب تشهده وقبل السلام، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن بعد الفراغ من التشهد: (ثم ليتخير من المسألة ما شاء)، وهذه مسألة، وشرعت الصلاة من أجل هذه المسألة، فالذي يظهر إيقاع السؤال والاستخارة قبل السلام.

صلاة الإشراق

صلاة الإشراق ومن الصلاة النافلة: صلاة الإشراق، وهي تكون بعد جلوس الإنسان في مصلاه بعد صلاة الفجر في جماعة، فقد ثبت في الحديث عند الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى الفجر في جماعة ثم جلس في مصلاه يذكر الله حتى تطلع عليه الشمس ثم صلى ركعتين كان له كأجر حجة وعمرة تامةٍ تامة). وهذا الفضل له شروط: أولها: أن يصلي الفجر في جماعة، فلا يشمل من صلى منفرداً، وظاهر الجماعة يشمل جماعة المسجد وجماعة السفر وجماعة الأهل إن تخلف لعذر، كأن يصلي بأبنائه في البيت فيجلس في مصلاه. ثانياً: أن يجلس يذكر الله، فإن نام لم يحصل له هذا الفضل، وهكذا لو جلس خاملاً ينعس فإنه لا يحصل له هذا الفضل، إنما يجلس تالياً للقرآن ذاكراً للرحمن، أو يستغفر، أو يقرأ في كتب العلم، أو يذاكر في العلم، أو يفتي، أو يجيب عن المسائل، أو ينصح غيره، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإن جلس لغيبة أو نميمة لم يحز هذا الفضل؛ لأنه إنما قال: (يذكر الله). الأمر الثالث: أن يكون في مصلاه، فلو تحول عن المصلى ولو قام يأتي بالمصحف فلا يحصل له هذا الفضل؛ لأنه فضلٌ عظيم، وهو حجةٌ وعمرة تامة تامة، فهذا فضل عظيم، والمراد به الرباط؛ لأنه قال: (ثم جلس في مصلاه)، فهذا يدل على أنه لا يبرح المصلى، ومن قام من مصلاه لسلام أو تحية أو طلب حاجة فإنه لا يصدق عليه هذا الشرط، وهو قوله:. (ثم جلس في مصلاه)، فلذلك يلزم المصلى؛ لأنه فضل عظيم، وتحصيل الفضل العظيم يكون أكثر عناءً وأكثر نصباً، فيحتاج إلى أن يتكلف العبد في إصابة ظاهر هذه السنة، فيجلس حتى تطلع الشمس، ثم يصلي ركعتين. رابعاً: أن يصلي ركعتين. وهاتان الركعتان هما ركعتا الإشراق، وهناك من يطلق ركعة الإشراق على الركعة التي تكون بعد ارتفاع الشمس بين الضحى وبين طلوع الشمس، أي: بعد ارتفاعها قيد رمح. وأثر عن ابن عباس في التسبيح بالإشراق، قال في قول الله عز وجل: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص:18]: ما كنت أعلم التسبيح بالإشراق حتى سمعت أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها تذكره. فحملوه على الركعتين ركعتي الإشراق، وجعلوها صلاةً تكون في أول النهار.

صلاة الهم والحاجة

صلاة الهم والحاجة وهناك أيضاً صلاة الهمّ والحاجة، كأن ينزل بالإنسان كرب، أو -لا قدّر الله- فاجعة أو مصيبة، فإذا نزل به أمر ضاق به صدره، أو جاءته مصيبة، أو بلغه خبر يحزنه أو يفجعه، أو أهمه أمر فالسنة له أن يتوضأ ويصلي ركعتين؛ لما ثبت في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزّ به أمرٌ -وفي رواية: إذا حزبه أمر- فزع إلى الصلاة) فقولها: (فزع إلى الصلاة) أي: ناجى الله عز وجل وصلّى، فالأفضل للإنسان إذا نزلت به كربة أو مصيبة أن يصلي، ولذلك أخبر الله عز وجل أنها معونة للعبد، فقال سبحانه وتعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]، وذكر الصلاة مع الصبر، فمعناه: أن يستعان بالصلاة عند وجود الشدائد والأهوال، وهذا أبلغ ما يكون في العبودية؛ لأن الله يحب من عبده إذا نزلت به المصائب أو نزلت به البلايا أن يضرع إليه، قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43]، أي: فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا، وأبلغ الضراعة الصلاة، ولذلك قالوا: يشرع أن يصلي إذا نزلت به مصيبة، أو ألمت به حادثة، أو أصبح عنده أمرٌ يهمه ويقلقه، فينزل حاجته بالله جل جلاله الذي تنزل به الحاجات ومنه تفرج الكربات، فهذا من أفضل ما يكون عند نزول الشدائد بالعبد.

أحكام سجود التلاوة

أحكام سجود التلاوة قال رحمه الله: [وسجود التلاوة صلاة]. بعد أن فرغ رحمه الله من النوافل التي تكون بفعل الصلاة شرع في النوافل التي هي أجزاء من الصلاة، كسجود التلاوة، وهو آخذٌ حكم الصلاة من حيث الطهارة واستقبال القبلة والتكبير والتسليم. فسجود التلاوة يأخذ حكم الصلاة، وقال بعض العلماء: يجوز له أن يسجد ولو لم يكن متوضئاً، بل قال بعضهم: يسجد ولو لغير القبلة، وهذا القول من أضعف الأقوال أي: أن يسجد لغير القبلة، وذلك لما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً) يعني الكعبة، وهذا نصٌ عام، ولذلك شرع في الميت إذا وضع في قبره أن يقبّل للقبلة، وهكذا إذا كان عند الاحتضار، فقال: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً)، ومن هنا أخذ العلماء رحمة الله عليهم أن من زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأراد السلام عليه عند الدعاء أن يستقبل القبلة، وذلك لأن القبلة تقصد عند الدعاء وعند السجود، ولذلك لا يقال بالتوسع بحيث يسجد لأي جهة، ومن قال بالسجود لغير القبلة فهو مطالبٌ بالدليل، ومطالب بأن يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد لغير قبلة، ونحن لا نحفظ ذلك عنه عليه الصلاة والسلام في صلاة فريضة ولا نافلة، بل حتى في سجود التلاوة ما حفظ عنه نصٌ واحد أنه استقبل غير القبلة وسجد، ولذلك لا بد من استقبال القبلة، ولا يعتبر ساجداً إلا إذا استقبل القبلة التي سنّ الله عز وجل للصلاة، وما في حكم الصلاة -أعني: سجود التلاوة-، وبناءً على هذا فسجود التلاوة يشرع لأن الله عز وجل ذكره في كتابه، وامتدح أهله، وكذلك فعله النبي صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ آية السجدة فيسجد ونسجد معه حتى لا يجد أحدنا موضعاً يضع فيه جبهته)، وهذا دليل على متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في السجود.

الخلاف في وجوب سجود التلاوة

الخلاف في وجوب سجود التلاوة وسجود التلاوة للعلماء فيه وجهان: أحدهما: أنه عزيمة وواجب. وهو مذهب الإمام أبي حنيفة، واستدل بالأوامر في القرآن، حيث جاءت أكثر آيات السجدة بالأمر بالسجود في مواضع متعددة، فقال: هو واجب ولازم. وذهب الجمهور إلى أنه ليس بواجب، واحتجوا بحديث أبي داود بسند صحيح أنه عليه الصلاة والسلام: أنه لما قرأ السجدة وتهيأ الصحابة أن يسجدوا قال: (على رسلكم، إنها ليست بعزيمة)، ولما رآهم تهيأوا للسجود نزل فسجد تطييباً لخواطرهم صلوات الله وسلامه عليه، فدل على أنها ليست بعزيمة. ومما يؤكد هذه الآثار الصحيحة ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد روى عنه مالك في الموطأ أنه قرأ السجدة وهو في الخطبة أي: قرأ آية السجدة-، فنزل فسجد في أصل المنبر، فسجد الناس معه، ثم لما كانت الجمعة الثانية قرأها فتهيأ الناس للسجود، فقال: على رسلكم، إنها ليست بعزيمة -أي: سجود التلاوة ليس بعزيمة- وإنما هو فضل لا فرض)، ولذلك قال جمهور العلماء: إنه فضيلة وليس بفريضة. أما استدلال الإمام أبي حنيفة رحمة الله ورضوانه عليه بما ورد من الأوامر بالسجود في الآيات فهو مردود بورود حديث السنة الذي يدل على صرف الأمر عن ظاهره من الوجوب إلى الندب. كما أنه لو قيل بهذا الاستدلال -كما أجاب بعض العلماء- للزم المصلي أن يصلي عند كل آيةٍ فيها أمر بالصلاة، كقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، ولا قائل بهذا، فدل على أن الأمر بالسجود غير واجب كما أن الأمر بالصلاة غير واجب عند تلاوته الأمر بها. فسجود التلاوة يشرع عند تلاوة الآية التي فيها سجدة.

سجود التلاوة للمستمع واقتداؤه بالقارئ

سجود التلاوة للمستمع واقتداؤه بالقارئ قال رحمه الله: [يسن للقارئ والمستمع دون السامع]. أي: يسن سجود التلاوة لمن قرأ ولمن استمع، أي: حضر مجلس القراءة وكان مع القارئ في نفس المجلس، أما لو سمعه بالمبلّغ الذي لا يجتمع معه في المكان، أو سمعه في الأجهزة من مسجلٍ ونحو ذلك فإنه لا يشرع له أن يسجد معه، وذلك لأنه ائتمام، وحكمه حكم الائتمام في الصلاة، وحينئذٍ لا يسجد معه، كما أنه لا يصلي وراءه ولا يركع ولا يسجد بالتبليغ بالجهاز دون التبليغ الحقيقي الذي يكون فيه مجتمعاً معه في المكان، وعلى هذا فلا تسجد إذا كنت مستمعاً إلا إذا كان المكان متحداً، ولذلك بعض العلماء يضيف قيد المجلس، ولا يقتصر على كونه مستمعاً، وإنما يضيف قيد المجلس، وهو اتحاد القارئ والمستمع في المجلس؛ لأنه ربما حصل الاستماع بدون حضور المجلس، كأن يعلو صوته من بيته وأنت في بيتك فتسمعه، أو تسمعه من غرفته وأنت في غرفتك، فحينئذٍ قالوا: إنه لا يشرع السجود لمكان عدم صحة الاقتداء. وأما السامع فإنه لا يسنّ له السجود، وهناك فرق بين السامع والمستمع، ففضل الاستماع أكثر من فضل السماع؛ إذ السامع هو الذي لا يقصد، ولذلك قالوا: لو مررت على صوت غناءٍ وسمعته ولم تستمع له لم تأثم، ومن هنا خرّجوا أثر ابن عمر الوارد عنه حينما كان معه مولاه نافع، فمر بالسوق فسمع صوت الغناء فوضع أصبعيه في أذنيه، فما زال يسأل نافعاً: أنتهى الصوت؟ فيشير له: لا بعد. حتى أشار له أنه قد انقضى. فاستشكل العلماء: كيف ابن عمر يضع أصابعه ولا يأمر نافعاً أن يضع أصبعه في أذنه؟ فقالوا: وضعها ابن عمر ورعاً وكمالاً في البعد والهجر لمعصية الله، وبقي نافع على الأصل من الرخصة. ولذلك قد تغلب على سماع شيءٍِ وأنت لا تريده، فإذا سمعته ولم تستمع له -بمعنى: لم تصغ إليه- لم تأثم، وهكذا إذا سمعت القرآن ولم تستمع له لم تؤجر، وبناءً على ذلك فرقوا بين السماع والاستماع من هذا الوجه، وهذا مذهب طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم، ونبه عليهم علماء محققون، منهم الإمام ابن قدامة رحمة الله عليه في المغني. قال رحمه الله تعالى: [وإن لم يسجد القارئ لم يسجد]. أي: إذا لم يسجد القارئ لا تسجد لمكان الاقتداء، وقد جاء فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه آثار عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لم يسجدوا، حتى إن ابن مسعود رضي الله عنه أمر تميماً رحمة الله عليه فقال له: اسجد حتى نسجد معك. فدلّ على أن سجود المستمع متوقف على سجود القارئ، ولذلك قالوا: لا يسجد المستمع دون أن يسجد القارئ.

عدد سجدات التلاوة

عدد سجدات التلاوة قال رحمه الله: [وهو أربع عشرة سجدة]. أي: سجود التلاوة أربع عشرة سجدة. أولها سجدة الأعراف، ثم تليها سجدة الرعد، ثم النحل، ثم الإسراء، ثم مريم، ثم في الحج سجدتان، ثم الفرقان، ثم النمل، ثم السجدة، ثم سجدة حم فصلت ثم سجدة النجم، ثم الانشقاق، ثم العلق، فهذه أربع عشرة سجدة، ومذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه وطائفة من السلف أنها كلها من عزائم السجود. وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يسجد في المفصّل، كما هو مذهب إمام دار الهجرة الإمام مالك رحمة الله عليه، فقال: إنه لا يسجد في المفصل، واستدل بحديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما سجد في المفصل بعد الهجرة)، ولكنه حديث منكر كما بيّن العلماء رحمة الله عليهم، ومنهم الحافظ ابن عبد البر الذي بيّن أنه حديث ضعيف. والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في المفصل، وعلى هذا يشرع السجود في المفصل، ولا حرج على الإنسان، وتكون السجدات أربع عشرة سجدة. واختلف العلماء في سجدة الحج الثانية، وأما الأولى منهما فعزيمة، والثانية وهي قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77] فيها خلاف. ومذهب طائفة كـ الشافعي وأحمد رحمة الله عليهما السجود فيها، وثبت فيها حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على صحة القول بالسجود فيها. وأما سجدة (ص) فالصحيح أنها ليست من عزائم السجود، وجاء فيها حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (إنها ليست بعزيمة، إنما كانت توبة من نبي من أنبياء الله)، فيكون الاقتداء به على سبيل الاستنان العام بهدي الأنبياء، ولذلك ابن عباس لما قيل له في سجدة (ص) قرأ قول الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، فسجد نبي الله داود عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، فنحن نسجد من باب الاستنان العام، لكنها ليست من عزائم السجود، والفرق بين قولنا: إنها تسجد من باب الاستنان العام وكونها من عزائم السجود أنه لو سجد الإمام بها في الصلاة فلا تتابعه؛ لأنها ليست من عزائم السجود، فتكون فعلاً زائدة. وبناءً على ذلك لا يسجد وراء الإمام إذا سجدها، وهذا إذا كان الإنسان لا يراها عزيمة، أما إذا كان يراها من عزائم السجود -كما هو مذهب بعض السلف رحمة الله عليهم- فحينئذٍِ لا حرج أن يسجد وراء الإمام إذا سجدها. قال رحمه الله: [في الحج منها اثنتان]. أشار إلى الخلاف رحمة الله عليه، أي أنه يرى القول الذي يقول بالسجدة الثانية من الحج، وهي التي تكون في آخر سورة الحج، أما الأولى منهما فيكاد يكون بالاتفاق أنها من عزائم السجود.

التكبير والتسليم والقيام في سجود التلاوة

التكبير والتسليم والقيام في سجود التلاوة قال رحمه الله: [ويكبر إذا سجد وإذا رفع ويجلس ويسلم ولا يتشهد]. قوله: (ويكبر إذا سجد وإذا رفع) هذا هو المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الصحيح أنه كبّر لسجوده، وفي حديث أبي داود أيضاً ما يؤكد ذلك حينما سجد عليه الصلاة والسلام، فكان يكبّر لسجوده ورفعه من السجود. وقوله: [ويجلس ويسلم ولا يتشهد]. أي: يجلس ثم يسلم، ولا يتشهد في جلوسه. وللعلماء في الأفضل في كيفية الابتداء في هذا السجود وجهان: فاختار بعض العلماء من الحنابلة والحنفية رحمة الله عليهم أن الأفضل في سجود التلاوة أن تقوم ثم تخر ساجداً؛ لأن الله أثنى على من خرّ ساجداً فقال تعالى:: {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء:107]، فالخرور قالوا: من أعلى إلى أسفل. فإذا وقف كان هذا أبلغ؛ لأن فيه تكلف الفعل، ووجود المشقة فيه أكثر مما لو سجد وهو جالس، ثم إنه مطابقٌ لوصف الآية. وقال بعض العلماء: لا فضيلة في القيام، وإنما يجلس ويسجد وهو جالس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفظ عنه تكلف القيام. وهذا القول الثاني فيه قوة ووجاهة، خاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفظ عنه أنه قام ثم خرّ ساجداً، لكن لو خرّ الإنسان وسجد فلا حرج عليه ولا بأس.

سجود الإمام للتلاوة في الصلاة السرية

سجود الإمام للتلاوة في الصلاة السرية قال رحمه الله تعالى: [ويكره للإمام قراءة سجدة في صلاة سر وسجوده فيها]. هذا لأنه إذا قرأ سجدة -مثلاً- في صلاة الظهر وهي صلاة سر ثم سجد فإنه يشوش على المأمومين، وهذه من آداب الإمامة، ولذلك ينبغي للإمام أن يكون ملماً بفقه الإمامة، فمن فقه الإمامة هذه المسألة. وذكروا مسألة ثانية في سجود التلاوة، وهي إذا قرأ آية السجدة وكانت في آخر قراءته، كما في سورة العلق، فحينئذٍ قالوا: إذا كان لا يرغب في السجود فليقرأ بعد فراغه من آخر السورة آيات أو سورة حتى ينبه من وراءه أنه لا يريد السجود؛ لأنه لو كبّر راكعاً في هذه الحالة سيخرّ الناس سجداً، وحينئذٍ يحصل الاختلال في صلاة الناس، فعدوا من فقه الإمام أن يتفطن لمثل هذا، فلا يركع عند آية السجدة؛ لأنه إذا ركع لبّس على الناس، خاصةً في الفريضة فإن الأمر أشد، فتجد هذا قائماً وهذا راكعاً وهذا ساجداً؛ لأن الناس يلتبس عليهم الأمر. ولذلك قالوا: لا يقرأ آية السجدة عند الركوع، إلا إذا كان يريد أن يسجد فحينئذٍ يقرؤها. ومن ذلك أن يقرأ السجدة في السرية، فكره بعض العلماء أن يقرأها، ولكن ورد ما يدل على مشروعية قراءتها في السرية وسجوده فيها، وعلى هذا فلا حرج أن يفعل ذلك، لكن يقول بعض العلماء: لو أنه رفع صوته قليلاً بآية السجدة قبل أن يسجد في السرية فلا بأس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الصلاة السرية يرفع صوته أحياناً يُسمِّع بالآية، قالوا: فإذا ثبت التسميع بالآية وهو مشروع فليفعل ذلك قبل سجوده حتى ينبه الناس أنه يريد أن يسجد، وإنما كره من كره من العلماء أن يقرأ آية السجدة في السرية لأنه إذا ترك السجود ترك السنة، وإن سجد ظن الناس أنه وهِم، فبدل أن يركع سجد، فيلتبس على الناس فعله، ولذلك قالوا: لا يقرأ في الصلاة السرية السجدة. والصحيح أنه لا حرج عليه أن يقرأ السجدة لثبوت ما يدل على مشروعية ذلك، والأصل العام يقتضيه. قال رحمه الله: [ويلزم المأموم متابعته في غيرها]. أي: إن شاء سجد وإن شاء لم يسجد، فيلزمه متابعته على الأصل في حديث أنس بن مالك في الصحيح: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا)، فأمر المأموم بمتابعة إمامه، ولذلك يلزم المأموم في الأصل بمتابعة الإمام، وسيأتي إن شاء الله الكلام على المتابعة وأحكام الاقتداء في باب صلاة الجماعة بعد هذا الباب.

مشروعية سجود الشكر

مشروعية سجود الشكر قال رحمه الله: [ويستحب سجود الشكر عند تجدد النعم واندفاع النقم]. استحباب سجود الشكر هو مذهب طائفة من السلف رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين، قالوا: إنه يستحب للمسلم إن أصابته نعمة أن يسجد شكراً لله عز وجل؛ لأن داود عليه السلام أناب إلى ربه وخر راكعاً، حينما تاب الله عز وجل عليه، فقالوا: يستحب للإنسان إذا نزلت به النعمة أو اندفعت عنه الشدة والنقمة أن يستقبل القبلة ويسجد لله عز وجل شكراً. وسجود الشكر كسجود التلاوة، لكن خصص بعض العلماء الطهارة له، فقالوا: إنه لو سجد على غير طهارة صح منه سجوده ولا حرج عليه. ويكون سجود الشكر في موضعين: الأول: حصول النعم، كأن يأتي خبرٌ سار بحصول الخير، فأول ما تستقبل الخبر تشكر الله عز وجل فتسجد، وقد تأذن الله بالزيادة لمن شكر. الثاني: اندفاع النقم، كزوال بلية أو مصيبة، عامة كانت أو خاصة، فلو بلغه أن كربة فرجت عن المسلمين، أو ضائقة زالت عنهم سجد شاكراً لله عز وجل، وهكذا إذا بلغه أن نعمة أصابت إخوانه المسلمين خرّ ساجداً شاكراً لله عز وجل، فكل ذلك مما هو مشروعٌ، ولا حرج على المكلف في فعله. قال رحمه الله: [وتبطل به صلاة غير جاهل وناسٍ]. هذه مسألة العذر بالجهل، قالوا: إنه يعذر إذا كان جاهلاً ويعذر إذا كان ناسياً. والسبب في ذلك أن الله عز وجل رفع المؤاخذة عن الناس، فقد جاء في الحديث الصحيح في قوله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، أن الله تعالى قال:: (قد فعلتُ)، أي أني لا أؤاخذكم إذا نسيتم أو أخطأتم، فقالوا: إذا كان الإنسان جاهلاً بالحكم عذر؛ لحديث معاوية رضي الله عنه عندما تكلم في الصلاة فقال: واثكل أمياه وكذلك أيضاً إذا كان ناسياً فتابعه فيها وهي زيادة فعل، فحينئذٍ يقولون: إنه لا تبطل صلاته لمكان الجهل والنسيان

الأسئلة

الأسئلة

اندراج ركعتي الإشراق والضحى في ركعتي الطواف

اندراج ركعتي الإشراق والضحى في ركعتي الطواف Q هل تجزئ ركعتي الطواف عن ركعتي الإشراق أو الضحى؟ A مذهب طائفة من العلماء أنه يحصل الاندراج في مثل هذا، ولكن بما أن الأمر متوقف على ركعتين فاركع لطوافك واركع لإشراقك، وهذا خير كثير ونعمة عظيمة. أما في الإشراق فلا يحصل هذا؛ لأن الإشراق -كما هو معلوم- متصل بجلوسه، فإذا فصل بالطواف فصل بأمرٍ أجنبي عن الذي من أجله قصد الصلاة التي هي ركعتا الإشراق، وعلى هذا فلا يحصل الاندراج. فالذي يظهر أن الإنسان يركع ركعتي الإشراق أولاً، ثم بعد ذلك يطوف، ثم يصلي ركعتي الطواف على الأصل المعروف الذي وردت به السنة. والله تعالى أعلم.

قراءة الإمام للقرآن بعد الرفع من سجود التلاوة

قراءة الإمام للقرآن بعد الرفع من سجود التلاوة Q إذا قام الإمام من سجود التلاوة فهل له أن يركع، أم لا بد أن يقرأ ما تيسر؟ A ذكر بعض العلماء أنه يستحب له أن يقرأ، حتى لا يكون هناك وصل بين السجود وبين الركوع، ولا يحفظ في هذا أصل، وإنما استحبه بعض العلماء. والله تعالى أعلم.

حكم تكرار صلاة الاستخارة

حكم تكرار صلاة الاستخارة Q هل يشرع تكرار صلاة الاستخارة إذا لم يحصل انشراح الصدر من أول مرة؟ A لا يشرع هذا فمن الحدث والبدعة تكرار صلاة الاستخارة، أو سؤال غير أن يصليها، أو ادعاء أنه يرى في النوم ما يسر وما يزعج، فكل هذا من البدع، فإن صلاة الاستخارة إنزال للأمر بباب الله جل وعلا الذي تنزل به الأمور، وبه تتيسر الأمور، ويستفتح المغلق، ويزال الهم والغم، فلذلك إذا صليت هاتين الركعتين فحسبك، وخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإياك والحدث، ولا تلقَ الله عز وجل وقد زدت في دين الله ما ليس منه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فليركع ركعتين من غير الفريضة)، فلا تزد على هذا الحد الذي حده رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليكون لك في ذلك الخير والفلاح والصلاح والنجاح. أما تكرار الاستخارة وتعلق القلب برؤيا ونحوها فكل ذلك مما لا أصل له، فإن أصابك الهم فأكثر من ذكر الله عز وجل حتى يأتيك الفرج من الله، فإنك إن صليت هاتين الركعتين فقد قضي الأمر وفرغ من الأمر، فإن وجدت هماً وعيق بينك وبين الأمر بهذا الهم فاعلم أنه صرفٌ من الله صرفك الله به عن هذا الأمر بالهم، وإن حصل انشراح ولو بعد حين فهو خيرة الله عز وجل، فيكون ما سبق من الهم نفث من الشيطان نفثه في قلبك فعوضك الله به تيسير الأمر، وقد يسلط الله على المستخير هماً بمجرد انتهائه من الاستخارة، فيبقى اليوم واليومين والأسبوع والشهر والشهرين والثلاثة ثم يجد الانشراح؛ لحكمةٍ من الله، فهو يعلم أنه لو فعل هذا الأمر خلال هذه الأيام فإنه لا يكون له خير، ولذلك أَنْزِل الأمر بالله عز وجل، ولا تنتظر شيئاً غير أن يأتيك الفرج بإذن الله عز وجل، أما أن ينتظر الإنسان رؤيا في المنام، أو يأمر غيره أن يصلي له، ويكثر الاستخارة ويقول: ما تبين لي شيء فكل هذا من حدث الناس، وهو غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى المسلم الاتباع ونبذ الابتداع. والله تعالى أعلم.

اشتراط الطهارة لسجود التلاوة

اشتراط الطهارة لسجود التلاوة Q هل تشترط الطهارة لسجود التلاوة؟ A هذا هو المحفوظ: أن السجود أُمِر فيه باستقبال القبلة والتكبير وما ورد من صفات الصلاة مما يدل على أنه آخذ حكمها، والنظر الصحيح دال على صحة هذا القول، ووجه ذلك: أن صلاة الجنازة تشتمل على القيام، وتشتمل على القراءة، وهذه أركان، ويشابهها سجود التلاوة؛ فإن سجود التلاوة فيه ركن السجود، والرفع من السجود مع وجود الذكر من تسبيح وسؤال الله عز وجل الخير، كما ورد في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول في سجود تلاوته: (سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين)، وفي الحديث الآخر: (اللهم اكتب لي بها أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك ونبيك داود)، فهذا ذكر، ولذلك خصه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الذكر، فيقوى إلحاق سجود التلاوة بصلاة الجنازة، وصلاة الجنازة قال الجمهور رحمهم الله بوجوب الوضوء فيها لحديث أبي هريرة: (لا صلاة بغير طهور)، وبناءً على ذلك فإذا كانت صلاة الجنازة مع اشتمالها على هذا القيام والتكبير الذي لا سجود فيه فإن في حكمها سجود التلاوة؛ لأنه مشتمل على جزء الصلاة، ولا فرق بين هذا وهذا من جهة النظر الصحيح. والله تعالى أعلم.

تكرار السجود بتكرار قراءة السجدة لمن يحفظ القرآن

تكرار السجود بتكرار قراءة السجدة لمن يحفظ القرآن Q إذا كان الإنسان يحفظ ومرت به سجدة التلاوة فهل يسجد عند كل إعادة؟ A إذا كان الإنسان يكرر آية السجدة فما أحلى وما أجمل وما ألذ تكرار السجود؛ لأنه من الذي يشرع له أن يكرر السجود غيره؟ فما يشرع لأحد أن يكرر السجود إلا بتكراره بالتلاوة، وهذا على سبيل الحفظ، ولذلك قالوا: لو قرأ وسجد ثم رجع مرة ثانية يقصد تكرار السجود كان مبتدعاً لكن هذا معذور لمكان الحفظ، فما ألذه من سجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة وكتب لك بها حسنة، فهذه نعمة عظيمة من الله عز وجل، وهذا هو الأفضل والأكمل. أما لو أخذ بقول جماهير العلماء، فجمهور العلماء يقولون: من حفظ وكرر فإنه يجزيه السجود لأول مرة، فيسجد السجدة الأولى ثم التكرار الباقي تبع للسجدة الأولى؛ لأنه لم يقصده، وقصده إنما وقع على سبيل التبع، والقاعدة أن المشقة تجلب التيسير والأمر إذا ضاق اتسع، قالوا: فيضيق عليه أنه كلما قرأ يسجد، لكن إذا كان لا مشقة عليه وكان يمكنه أن يكرر السجود فلا حرج، وهو حسن، وهو مأجور على ذلك. والله تعالى أعلم.

حكم من أحدث وهو ينوي الجلوس إلى الشروق

حكم من أحدث وهو ينوي الجلوس إلى الشروق Q إذا أحدث الإنسان فهل يخرج من المسجد للوضوء، ثم يرجع إلى مصلاه، أو يبقى حتى تطلع الشمس ثم يخرج ويتوضأ ثم يصلي الركعتين؟ A استحب بعض العلماء إذا أحدث أن يبقى حتى تطلع الشمس، ويجلس في ذكر حتى يصيب فضيلة: (جلس يذكر الله)، ثم يعذر في صلاة الركعتين لوجود الحدث، فيتوضأ ويصلي ركعتيه، فتقع حينئذٍ بعد انتهاء جلوسه، فكانت كما لو جلس ولم يحدث. والله تعالى أعلم.

نصيحة وتوجيه في صلة الأرحام

نصيحة وتوجيه في صلة الأرحام Q إلا لم أصل الأرحام بالزيارات ووصلتهم بالكلام معهم عبر الهاتف هل أعتبر قاطعاً للرحم؟ A الله المستعان وإلى الله المشتكى. صلة الرحم من أحب الأعمال وأفضلها عند الكبير المتعال، ولذلك عظّم الله شأنها ورفع الله قدرها، وأمر عباده أن يتقوه فيها: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1]، فالأرحام أمرهم عظيم وشأنهم كبير، وصلة الرحم منسأةٌ في الأثر، وزيادة في العمر، وبسطٌ في الرزق، وتيسيرٌ في الخير، وقلّ أن يصل عبدٌ رحمه إلا خرج مسرور النفس منشرح الصدر قوي العزيمة على طاعة الله عز وجل، فمن أحب الأعمال بعد توحيد الله وبر الوالدين صلة الأرحام، ودخل صلوات الله وسلامه عليه المدينة فكانت أول الكلمات التي قالها: (أيها الناس! أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا جنة ربكم بسلام)، فمن وصل الرحم وصله الله، ففي الحديث القدسي: (إني أنا الرحمن خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي، فأنا الرحمن وهي الرحم، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته)، فمن قطعه الله عز وجل فبئس -والله- حاله، ولذلك أخبر الله عز وجل أن من قطعها ملعون، وأنه لا ينتفع بخير ولا ذكر، قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]، قال بعض العلماء: أصمهم فإذا سمعوا موعظةً لا ينتفعون بها، (وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) فإذا رأوا خيراً لا يهتدون إليه -والعياذ بالله- ولذلك تجد بعض الناس إذا ذكّرته بالله لا يتذكر، فهو قاسي القلب يتمنى أن يكون خاشعاً، وقد حالت الرحم بينه وبين الله عز وجل، فالرحم أمرها عظيم. وأوصيكم ونفسي -وخاصةً طلاب العلم- أن نتقي الله في الرحم، فكم من طالب علم يجد في قلبه الظلمة ويجد في نفسه الوحشة، وقد يبتلى ببعض الذنوب، وقد يبتلى ببعض المعاصي بسبب لعنة أصابته بقطيعة الرحم، فسل نفسك كلما مر عليك أسبوع متى عهدك بالرحم، ومتى عهدك بالعم، ومتى عهدك بالعمة، ومتى عهدك بالخال، ومتى عهدك بالخالة، ومتى عهدك بهذا القريب الضعيف، ومتى عهدك بذلك القريب المحتاج، وإذا وصلتهم أعظم الله أجرك، قال صلى الله عليه وسلم: (من أحب منكم أن ينسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه فليصل رحمه)، فهذه نعمةٌ عظيمة، ولذلك كان الناس بخير، وكنت تجد كبار السن فيهم الرحمة، وتجدهم دائماً يعصمون من كثير من الشرور والبلايا؛ إذ تجدهم من أوصل الناس للرحم. واليوم نشأت الناشئة ونشأ الشباب بعيدين عن الأرحام، حتى تجد الإنسان عهده بعمه في العيد، وهذا إذا كان يأتيه في العيد، بل إنه لا يكاد يعرف عمه إلا في المناسبات -نسأل الله السلامة والعافية-، بل إن بعضهم يستحي في المناسبات أن يسلم على عمه وخاله، فتكمل له القطيعة حتى تكمل عليه لعنة الله والعياذ بالله. والله عز وجل يقطع من قطع الرحم ولو كان أقرب الناس منه، فإن قطيعة الرحم أمرها عظيم، ولقد توعد الله عز وجل من يقطعها أن يقطعه، ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يتنبه لهذا الأمر، وقد تجد الرجل صالحاً لكنه قاطع للرحم من حيث لا يشعر، فهذا أمر يحتاج طالب العلم دائماً أن يضعه في حسبانه، ويسأل نفسه دائماً عن عهده بالعم والعمة والخال والخالة، والأقارب والأرحام، خاصةً إذا كانوا محتاجين، وإذا وصلت الرحم وكان له حقٌ عليك -كأن يكون كبير سن- فعظمه وأجله، فقد دخل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر فقام له يجر رداءه صلوات الله وسلامه عليه، فالتزمه وقبّل بين عينيه. فمن آداب الإسلام وشعائر الإسلام إجلال ذي الرحم، خاصةً إذا كان كبير سن، أو كان من أهل العلم والفضل وبينك وبينه رحم فينبغي أن توصل، بل إن الرحم قد تكون من أجل المصاهرة، ولو كانت في طبقة عالية، فانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط -وهي مصر-، فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم رحماً)؛ لأن أم إسماعيل منهم، وكذلك مارية أم إبراهيم منهم، فأوصى النبي صلى الله عليه وسلم بها لوجود الرحم البعيد، فكيف بالرحم القريب كالعم والخال؟! فلذلك ينبغي للإنسان أن يحرص كل الحرص على صلة رحمه، وإذا دخلت على العم فقبّل بين عينيه، ولو كان أصغر منك سناً عظمه وأجله؛ فإن جعفراً دون النبي صلى الله عليه وسلم في الفضل، ومع ذلك قبّل النبي صلى الله عليه وسلم بين عينيه؛ لكي يرسم للأمة المنهج في صلة الرحم، وينبغي عليك مع صلة الرحم أن تعوّد أبناءك وبناتك وتأخذهم معك، فيا لها من نعمةٍ عظيمة إذا نشأت أبناءك على صلة الرحم، ووالله ما خرجت بابنك إلى صلة عم أو عمة أو خال أو خالة فاغبرت قدمه إلا كان لك أجره، ولن يحافظ من بعد موتك على صلة رحم إلا أجرت كأجره؛ لأنه ما عرف صلة الرحم إلا بك، فإذا نشأت أبناءك على هذا الخير وعودتهم على صلة الرحم وجعلت فيهم حب القرابة والميل إلى القرابة آجرك الله وعظّم ثوابك، وفتح لك أبواب الخير، بل يسعدك حتى في هذا الابن؛ لأن الابن الذي ينشأ على صلة الرحم يكون فيه رحمة من الله عز وجل، فينبغي التواصي بهذا الأمر، ولذلك لما سأل هرقل أبا سفيان: بماذا يأمركم؟ قال: يقول: اعبد الله ولا تشركوا به شيئاً. ويأمرنا بصلة الرحم، فكانت من الأمور الهامة التي اعتنى بها النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته صلة الرحم. وينبغي دائماً على طلاب العلم أن يحيوا هذا الأمر في المساجد في كلمة بعد الصلاة تذكر فيها الناس بصلة الرحم، وكذلك الأئمة والخطباء، ولو بكلمة عابرة في الشهر، أو على الأقل في العام تذكر فيها بحق الرحم؛ حتى تنشأ الناس على التواصل والرحمة. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

أوقات النهي في الصلاة

شرح زاد المستقنع - أوقات النهي في الصلاة جاء النهي عن الصلاة في خمسة أوقات: بعد صلاة الفجر، وعند طلوع الشمس، وعند انتصاف الشمس في السماء، وبعد صلاة العصر، وعند الغروب، وهذا النهي يتعلق بالنوافل، واختلف في إيقاع بعض النوافل في وقت النهي، وكذلك قضاء الفرائض.

أوقات النهي عن صلاة التطوع

أوقات النهي عن صلاة التطوع بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [وأوقات النهي خمسة]. بعد أن بيّن لنا رحمه الله أنواع النوافل شرع في بيان الأوقات التي يمنع فيها الإنسان من فعل النافلة؛ لأن الكلام عن الصلاة يستلزم بيان مواقيتها، ولذلك يقول العلماء: إن لصلاة النافلة ميقاتاً، يعنون بذلك ألا تقع في وقت النهي. والوقت: مأخوذ من وقّت الشيء يؤقته تأقيتاً إذا حدده فإما أن يحدد بالزمان أو يحدد بالمكان، فالحدود الزمانية مواقيت، والحدود المكانية مواقيت، ومواقيت الصلاة التي ذكرها هنا مواقيت زمانية. قوله: [وأوقات النهي] أي: الأوقات التي ينهى فيها عن الصلاة، وهذا راجع إلى الزمان، وجمعها رحمة الله عليه لأنها أكثر من وقت، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إيقاع الصلاة فيها، وهي على التفصيل الآتي: الأول: من بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، الثاني: من بعد طلوعها حتى تبلغ قيد رمح، الثالث: حين يقوم قائم الظهيرة -أي: حالة انتصاف الشمس في كبد السماء كما سيأتي-، والوقت الرابع: من بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، الخامس: من الغروب حتى يتم الغروب، فهذه خمسة مواقيت ينهى فيها عن صلاة النافلة، والأصل في ذلك حديث عبد الله بن عباس في الصحيحين قال رضي الله عنه: (شهد عندي رجال مرضيون -وأرضاهم عندي عمر - أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وعن الصلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس)، وفي الحديث الصحيح قال: (ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو أن نقبر موتانا: حين تطلع الشمس، وحين تغرب، وحين يقوم قائم الظهيرة)، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (فإذا صليت الصبح فأمسك عن الصلاة حتى تطلع الشمس؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان)، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأوقات الثلاثة -التي تنقسم بالتفصيل إلى خمسة- عن إيقاع الصلاة، والمراد بهذا صلاة النافلة.

حكم قضاء الفريضة في وقت النهي

حكم قضاء الفريضة في وقت النهي لو أنك نمت عن صلاة الفجر، واستيقظت فتوضأت ثم صليت فأوقعت ركعة قبل الطلوع، ثم أثناء أدائك للركعة الثانية طلعت عليك الشمس، فهل تتم الصلاة، أو تقطعها؟ في هذا قولان للعلماء: فمذهب جمهور العلماء أن النهي لا يشمل الفرائض، وأن الفريضة مستثناة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)، فقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إدراكك للركعة قبل الطلوع يوجب إدراكك لصلاة الصبح، وكذلك إدراكك لها قبل الغروب يوجب الحكم بكونك مدركاً للعصر، وهذا لا يتّأتى إلا إذا أتممت الصلاة؛ لأنك لو قطعتها لكنت كمن أداها بعد الطلوع وبعد الغروب. وبناءً على هذا الحديث الصحيح ثبت أن من طلعت عليه الشمس أثناء أدائه لصلاةٍ مفروضة فإنه يتم الصلاة ولا يقطعها. وذهب الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه إلى أنه إذا طلعت عليك الشمس وأنت في صلاة الصبح، أو غربت عليك وأنت في صلاة العصر، أو في غيرهما من الفرائض فإنك تقطع الصلاة لظاهر الحديث الذي تقدم: (لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس). والصحيح ما ذهب إليه الجمهور؛ فإن الحديث نصٌ في موضع النزاع، وهو دال على أن من أدرك الركعة قبل الطلوع فقد أدرك الصبح، ومن أدركها قبل الغروب فقد أدرك العصر. وهنا أيضاً مسألة ثانية في قوله رحمه الله: [وأوقات النهي] حيث تقيد بالنافلة ولا تشمل الفرائض، والنوافل على قسمين: نافلة لها سبب، ونافلة لا سبب لها، ثم النافلة ذات السبب على صور، وسيأتي إن شاء الله الكلام على أحوال الأسباب المتقدمة والمصاحبة والمتراخية. من العلماء من يقول: إن النهي يتبدئ من صلاة الصبح حتى تطلع الشمس. ومنهم من يقول: من طلوع الفجر الثاني. والفرق بين القولين يظهر في مسألة خلافية، وهي: لو أذن أذان الصبح هل يجوز لك أن تتنفل غير راتبة الصبح؟ فذهبت طائفة من العلماء إلى أنه لا يصلي الإنسان بعد أذان الصبح إلا راتبة الصبح، حتى قالوا: إذا دخل المسجد فإنه ينوي تحية المسجد تحت راتبة الصبح. كل ذلك تشديدٌ لمنع غير الراتبة بين الأذان والإقامة في الصبح، وهذا فيه الحديث الصحيح: (لا صلاة بعد الصبح إلا ركعتي الفجر)، قالوا: إنه يحمل على هذا. وبناءً على ذلك قالوا: إنه لا يصلي بعد أذان الصبح إلا راتبة الفجر، وأما غيرها فلا يصليها. وذهب الجمهور إلى أنه يجوز للإنسان أن يصلي بعد أذان الفجر بين الأذان والإقامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا صليت العشاء فصلّ فإن الصلاة حاضرة مشهودة حتى تصلي الصبح، فإذا صليت الصبح فأمسك عن الصلاة حتى تطلع الشمس) الحديث، وهو حديث صحيح، ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز للصحابي أن يتنفل بعد العشاء ما لم يصلّ الفجر، فدل على أن ما بين الأذان والإقامة من الفجر وقت نافلة. أما الذين قالوا: إنه لا يتنفل فقد احتجوا بالحديث الذي فيه النهي، وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ركعتي الفجر -التي هي الرغيبة- ثم اضطجع ولم يصلّ، فدل على أنه ليس بوقت نافلة. لكن أجيب عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان متهجداً، وأراد أن يتقوى على الفريضة؛ لأن تهجده عليه الصلاة والسلام كان طويلاً حتى تفطرت قدماه فيه، فكان يصلي بالبقرة وآل عمران والنساء في ركعةٍ واحدة، فهذا يأخذ من الجهد شيئاً كثيراً، ويحتاج بعد الأذان أن يستجم حتى يقوى على الصلاة، خاصة أنه كان يقرأ في صلاة الصبح -كما في حديث أبي برزة في الصحيح- من الستين إلى المائة آية، فاضطجاعه بين الأذان والإقامة ليس لتحريم الصلاة، وإنما ليتقوى على صلاة الفجر. فالذي يترجح أنه لا حرج في إيقاع النوافل بين الأذان والإقامة؛ لأن الأصل جواز ذلك، وأما حديث: (لا صلاة بعد الصبح إلا ركعتي الفجر) فالمراد بذلك على أحد الوجهين أنه يقضي رغيبة الفجر بعد صلاة الصبح، وفي ذلك أحاديث أخرى صحيحة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رخّص في استثناء ركعتي الرغيبة بعد صلاة الصبح.

حكم قضاء الرغيبة وقت النهي

حكم قضاء الرغيبة وقت النهي المسألة الثانية: من نام حتى سمع الإقامة، أو نام حتى سمع الأذان، وأثناء تهيؤه لصلاة الفجر أقيمت الصلاة، فلم يتمكن من الرغيبة، فهل يصلي الرغيبة بعد صلاة الصبح، أم ينتظر إلى طلوع الشمس؟ للعلماء وجهان: فذهب الجمهور إلى أنه ينتظر إلى أن تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قضى رغيبة الفجر. وفي ذلك أحاديث صحيحة، منها ما صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم بتأخيرها إلى ما بعد طلوع الشمس، ومنها -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نام عن حزبه من الليل فقرأه ما بين طلوع الشمس وزوالها -أو صلاة الظهر كما في الرواية الثانية- كتب له كأنما صلاه من ساعته) قالوا: فإذا كان هذا في صلاة الليل فمن باب أولى في رغيبة الفجر التي هي بين أذان الفجر وإقامته وهذا القول هو أحوط الأقوال، لكن لو كان الإنسان يخشى أن ينسى رغيبة الفجر، أو يخشى أن تفوته فحينئذٍ لو صلاها بعد صلاة الفجر فلا حرج عليه إن شاء الله.

النهي عن النافلة في الساعات الثلاث

النهي عن النافلة في الساعات الثلاث المسألة الثالثة: أجمعوا على أنه أثناء الطلوع وأثناء الغروب وأثناء بقاء الشمس في كبد السماء لا تصلى النوافل، وهذا الإجماع يحكيه طائفة من علماء الإجماع، حتى ذوات الأسباب لا تصلى؛ لأن النص فيها صريح، وهو قوله: (ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو أن نقبر موتانا: حين تطلع الشمس، وحين تغرب، وحين يقوم قائم الظهيرة)، فهذه الثلاث الساعات نهي عن الصلاة فيها، قالوا: فلا تصلى النافلة في أثناء الطلوع وأثناء الغروب وأثناء انتصافها في كبد السماء، خاصةً في أثناء انتصافها في كبد السماء؛ لأنها ساعة عذاب وليست بساعة رحمة -والعياذ بالله- ولذلك نهى عن قبر الموتى فيها، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة السلام أنه قال: (فإذا انتصفت الشمس في كبد السماء فأمسك عن الصلاة؛ فإنها ساعةٌ تسجر فيها جهنم). قال رحمه الله: [من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس، ومن طلوعها حتى ترتفع قيد رمح]. دل حديث ابن عباس المتقدم على النهي عن الصلاة من بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس. والعبرة بصلاتك لا بصلاة الناس، توضيح ذلك: لو أنك دخلت المسجد بعد انتهاء الجماعة فصليت رغيبة الفجر، أو صليت تحية المسجد، ثم أقمت للصبح فلا حرج؛ لأنه قال: (لا صلاة بعد صلاة الصبح)، فلذلك العبرة بفعلك لصلاة الصبح، وعلى هذا: فلو أوقعت النافلة قبل أدائك لصلاة الصبح فلا حرج. وقوله: [ومن طلوعها حتى ترتفع قيد رمح] دلّ عليه حديث العيدين: (كان صلى الله عليه وسلم يصلي الأضحى والشمس على قيد رمح، ويصلي الفطر والشمس على قيد رمحين)، وقد بينا فيما سبق أنه أخّر الفطر وعجّل الأضحى؛ لأن الناس يحتاجون في عيد الأضحى إلى الوقت حتى تقع الأضحية في الضحى، وفي صلاة الفطر الناس يحتاجون إلى الوقت لإخراج زكاة الفطر، فأخّر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفطر إلى قيد رمحين، وقدم صلاة الأضحى إلى قيد رمح، فأخذوا من كونه عليه الصلاة والسلام يوقع صلاة الأضحى على قيد رمح أن وقت النهي ينتهي بارتفاع الشمس قيد رمح.

تسعير جهنم عند انتصاف الشمس في السماء

تسعير جهنم عند انتصاف الشمس في السماء قال رحمه الله: [وعند قيامها حتى تزول]. قوله: [وعند قيامها] أي: انتصافها في كبد السماء؛ لأن الشمس تسير من المشرق إلى المغرب، فإذا جاءت في منتصف السماء الذي هو منتصف النهار وقفت لحظات، وبعض العلماء يقول: من ثلاث دقائق إلى خمس دقائق تقف ولا تتحرك، وهذا الوقوف تسعر عنده -والعياذ بالله- جهنم، وعلى صفة الله أعلم بها، وهذا أمر يرد غيبه إلى الله عز وجل، وقد تجد من أهل الفلسفة والعقل من لا يتصور ذلك، ويقول: كيف هذا، وهي تسير على الأرض كلها، فما من فترة إلا وهي تقف فيها؟ فنقول: هذا أمرٌ مردهُ إلى الله، كالنزول في الثلث الآخر من الليل، فهذه أمور نسلم ونؤمن بحقيقتها، والله أعلم بالكيفية التي تقع عليها، فتسعير جنهم مردهُ إلى الله عز وجل، لكن نؤمن بأنها تسعر كما أخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، ولذلك قال العلماء: إنها ساعة عذاب وليست بساعة رحمة، ولذلك يمسك عن الصلاة في وقتها. ومن هنا قال بعض العلماء: إن مواطن العذاب لا يصلى فيها، فكما أن ساعات العذاب لا يصلى فيها فكذلك مواطن العذاب لا يصلى فيها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لما مر على ديار ثمود التي تسمى مدائن صالح: (لا تدخلوها إلا وأنتم باكون أو متباكون، لا يصيبكم ما أصابهم) وضرب دابته وأسرع، حتى إنه أرخى عليه الصلاة والسلام رداءه على عينيه، كأنه يقول: إني مؤمن ولو لم أر. وهذا يدل على أن مواطن العذاب لا ينبغي الجلوس فيها، كذلك قالوا: ولا يصلى فيها حتى قال بعض العلماء ببطلان الصلاة فيها كمواطن الغصب.

النهي عن التطوع بعد صلاة العصر إلى الغروب

النهي عن التطوع بعد صلاة العصر إلى الغروب قال رحمه الله: [ومن صلاة العصر إلى غروبها]. أي: غروب الشمس، لحديث ابن عباس المتقدم. قال رحمه الله: [وإذا شرعت فيه حتى يتم]. أي: وإذا شرعت الشمس في الغروب حتى يتم، أي: حتى يتم غروبها. بمعنى: تتوارى في الحجاب فإذا توارت الشمس في الحجاب فحينئذٍ تم غروبها، قال بعض العلماء: العبرة بتواريها في الحجاب، وذهاب الحجاب ليس بشرط ومن أهل العلم من قال: ذهاب الحجاب شرطٌ لصلاة المغرب وبناءً على ذلك طردوا النهي فيه، فقالوا: يمسك بعد غروبها إلى قدر ما تتوارى بالحجاب والصحيح أنها إذا توارت بالحجاب وسقطت فقد حل إيقاع الصلاة، ويجوز للإنسان أن يتنفل بين الأذان والإقامة في ذلك الوقت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا قبل المغرب ركعتين، صلوا قبل المغرب ركعتين، وقال في الثالثة: لمن شاء). وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه أنه قال: (ولقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري -أي: يسرعون إلى السواري لأجل أن يجعلوها سترة- حتى لو دخل الداخل ظن أن الصلاة قد أقيمت)، من كثرة من يصلون. قال رحمه الله: [ويجوز قضاء الفرائض فيها]. إذا استيقظت بعد صلاة العصر ولم تصل الظهر فيجوز لك أن تقضيها وتصليها في هذا الوقت.

حكم إيقاع ركعتي الطواف وقت النهي

حكم إيقاع ركعتي الطواف وقت النهي وأما ركعتي الطواف فاختُلف في إيقاعها في الأوقات المنهي عنها: فقال بعض أهل العلم رحمة الله عليهم: يجوز فيها إيقاع ركعتي الطواف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا بني عبد مناف لا تمنعوا أي رجلٍ طاف بهذا البيت وصلى أي ساعةٍ شاء من ليلٍ أو نهار)، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم عمم، ثم قالوا: إن ركعتي الطواف لهما سبب، وكل ما له سبب يجوز إيقاعه بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر، ولا حرج في فعل هذا، وهذا القول هو منصوص الشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم. وذهب طائفة من أهل العلم -وهو مذهب الحنفية والمالكية، وبعض أصحاب الإمام أحمد رحمة الله عليهم- إلى أن ركعتي الطواف لا تفعل بعد صلاة الصبح ولا بعد صلاة العصر ولا حين يقوم قائم الظهيرة، وذلك لأنهم قالوا: إن العموم مخصص، ولأن النهي عن فعل الصلاة في هذا الوقت نصٌ في موضع النزاع، ولأن القاعدة في الأصول أنه إذا تعارض نصان أحدهما نهيٌ والثاني أمر يقدم النهي على الأمر. فركعتا الطواف أبلغ ما فيها إذا كانت عن طواف واجب أنها واجبة، فتعارض النهي عن فعل الصلاة والأمر بفعلها فيقدم النهي. والوجه الثاني للترجيح: أنه إذا تعارض نصان وعمل الخلفاء الراشدون أو واحد منهم بواحد من النصين كان مرجحاً، فلما تعارض حديث يدل على جواز فعل ركعتي الطواف على العموم وحديث أوقات النهي قلنا: نرجع إلى الخلفاء الراشدين، فنجد عمر رضي الله عنه كان يؤخر ركعتي الطواف حتى تطلع الشمس وحتى تغرب. وفي الأثر الصحيح عنه الذي رواه مالك في الموطأ: أنه طاف طواف الوداع بعد صلاة الصبح، فأخر ركعتي الطواف إلى ذي طوى وهذا بمحضرٍ من الصحابة وباطلاعٍ منهم ولم ينكر عليه أحد، فكان هذا مرجحاً. والوجه الثالث لرجحان مذهب من يقول بالمنع: أنَّ حديث: (يا بني عبد مناف) عام دخله التخصيص، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)، وبناءً على ذلك لو أنه استأنف الصلاة بعد المكتوبة لمنع، فدخل العموم التخصيص، ولذلك قالوا: إنه إذا دخل النص العام التخصيص لم يصح الاستدلال بعمومه، مع أنهم يقولون: إنه عام ويخص بالأوقات والقاعدة: (لا تعارض بين عام وخاص)، فقوله: (يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار)، نقول هذا عام، وجاءت أحاديث المواقيت خاصة، فيخص العموم للقاعدة: لا تعارض بين عام وخاص. وهذا المذهب لا شك أنه أحوط وأسلم، خاصةً أنه لو أخر ركعتي الطواف إلى ما بعد الطلوع أو الغروب خرج من الخلاف ولم يحصل له محظور، لكن لو فعلها في وقت النهي شك هل تجزيه أو لا تجزيه. وبناءً على ذلك يحتاط الإنسان لإيقاعها بعد الطلوع وبعد الغروب، والله تعالى أعلم.

حكم إعادة الجماعة وقت النهي

حكم إعادة الجماعة وقت النهي قال رحمه الله: [وإعادة جماعة]. هذه المسألة ثبت فيها الحديث الصحيح، ولكن المقصود بها أعلى، حتى قال بعض العلماء: إن إعادة الجماعة واجبة. صورة ذلك: لو أنك صليت الصبح في بيتك، ثم طلبت رجلاً في مسجد فدخلت فإذا الناس يصلون صلاة الصبح، فإنه يجب عليك أن تدخل معهم، وذلك لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى بالناس الفجر في الخيف -خيف منى-، فرأى رجلين لم يصليا فقال: عليّ بهما فأتي بهما ترعد فرائصهما من الخوف، قال: ما منعكما أن تصليا معنا ألستما بمسلمين؟ قالا: يا رسول الله! صلينا في رحالنا قال: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا فإنها لكما نافلة)، ووجه الدلالة أنه قال: (فصليا) فأمر، فقالوا: إن الوجوب فيها آكد من الوجوب في ركعتي الدخول إلى المسجد، قالوا: لأن الإسلام منع من الشذوذ، وجواز عدم الصلاة مع الجماعة فيه فتح بابٍ ليدخل الرجل ويجلس والجماعة تصلي، ولذلك حارب الإسلام هذا الشذوذ، وأمر من دخل المسجد ولو كان قد صلى أن يصلي مع الجماعة، ولذلك قال: (ألستما بمسلمين؟)، فأمر بالدخول في جماعة المسلمين، ولذلك قالوا: شدد في هذا وعلى هذا قالوا: تعاد الجماعة، واختلف العلماء في إعادة الجماعة: فمنهم من يقول: تعاد الجماعة في كل الصلوات، فإذا دخلت المسجد وقد صليت تعيد في جميع الصلوات، سواءٌ أدخلت في صبح أم ظهر أ/ عصر أم مغرب أم عشاء لظاهر هذا الحديث: (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا)، فهذا عام، والأصل في العام أن يبقى على عمومه. ومنهم من قال: لا تعاد أي صلاة صلاها المكلف، وقالوا: إن هذا الحديث منسوخ بحديث ميمونة: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعاد الصلاة مرتين). والقول الثالث يقول: تعاد في جميع الصلوات ما عدا صلاة الصبح وصلاة العصر، للنهي عن النافلة بعد الصبح وبعد العصر. ومنهم من قال: تعاد في جميع الصلوات إلا صلاة الصبح والعصر والمغرب؛ لأن المغرب وترية، ولا وتران في ليلة. فحاصل أقوال العلماء رحمة الله عليهم في المسألة تتلخص في هذه الأربعة الأقوال. وأصحها -والعلم عند الله- أن الصلوات جميعها تعاد، وذلك لصحة دلالة النص الذي معنا، حيث إنه نصٌ في موضع النزاع، أما من قال باستثناء الصبح والعصر فجوابه أن الحديث ورد في صلاة الصبح، وهو نصٌ في وقتٍ منهي عنه، وفيه الأمر، ولذلك يعتبر مستثنى. أما من قال: بالنسخ فالقاعدة أن النسخ لا يثبت إلا بإثبات أن الناسخ متأخر عن المنسوخ ولا دليل هنا، بل لو قال: إن الأمر بإعادة الصلاة آخر ما كان لكان أقوى؛ لأنه وقع من النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، ومعلوم أن حجة الوداع توفي النبي صلى الله عليه وسلم بعدها بفترة وجيزة، ولذلك الذي يقوى أن حديث الأمر بإعادة الصلاة لم يدخله النسخ، ويقوي هذا حديث أبي ذر: (كيف بك إذا كان عليك أمراء يؤخرون الصلاة إلى شرق الموتى؟ قال: فما تأمرني يا رسول الله! قال: صلّ الصلاة لوقتها، ثم صلها معهم)، والقاعدة في الأصول: (النسخ لا يثبت في الأخبار)، فقال له: (صلها معهم)، فأعطاه حكماً إلى ما بعد وفاته، فدلّ على أن هذا الحكم غير منسوخ، ولهذه الأوجه يقوى القول بأنها تعاد الصلوات كلها، ويبقى الإشكال: كيف نجيب عن حديث: (نهى أن تعاد الصلاة مرتين)؟ فيجاب عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إعادتها لمن يعتقد أن كلتا الصلاتين فرض، بمعنى: يعيد الصلاة الثانية على أنها فرض أيضاً، فيحتسب أجر الأولى فريضة والثانية فريضة، وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة على أن الثانية نافلة، والقاعدة في الأصول: لا تعارض بين نصين إلا إذا اتحد موردهما، وهنا النصان اختلف موردهما، فالنهي وارد لمن يعتقد الفريضة في الاثنتين، والأمر بالإعادة لمن يعتقد النافلة في الثانية، فلا تعارض بينهما، وهذا جمع بين النصين.

حكم فعل ذوات الأسباب وقت النهي

حكم فعل ذوات الأسباب وقت النهي قال رحمه الله: [ويحرم تطوع بغيرها في شيء من الأوقات الخمسة حتى ما له سبب]. هذا مذهب الجمهور، وهو أنك لا تصلي بعد العصر وبعد الصبح حتى ذوات الأسباب، والصلاة التي لها سبب ينقسم سببها إلى ثلاثة أقسام: السبب السابق، والسبب المصاحب، والسبب المتراخي، فيكون السبب سابقاً كدخول المسجد، فإن تحية المسجد وجبت لسبب سابق وهو دخولك المسجد، ولذلك قالوا: إن السبب إذا كان سابقاً أثّر وإذا كان مقارناً أثر، وأما إذا كان لاحقاً فإنه لا يؤثر، فإن كان السبب سابقاً كالدخول للمسجد وركعتي الطواف فإنهم قالوا: تصلي. أما إذا كان السبب مصاحباً كما لو كسفت الشمس واستمر كسوفها إلى ما بعد صلاة العصر فإنك تصلي صلاة الكسوف، وعند الجمهور لا تصلي، والسبب المتراخي يكون بعد الصلاة، فتشرع الصلاة لسبب بعدها، ومن أمثلته: الاستخارة، فهنا لا يجوز لك أن تصلي بعد الصبح وبعد العصر بالإجماع قولاً واحداً، فهذه أحوال السبب الثلاثة، وهي: أن يكون سابقاً كتحية المسجد وركعتي الطواف، وأن يكون مقارناً كالكسوف، وأن يكون متراخياً كمسألة الاستخارة. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب صلاة الجماعة [1]

شرح زاد المستقنع - باب صلاة الجماعة [1] فرض الله تعالى على عباده خمس صلوات في اليوم والليلة، وأوجب عليهم أن يؤدوها جماعة مع المسلمين، فصلاة الجماعة واجبة على الرجال دون النساء، ولها حكم وفوائد عظيمة، وأحامها معلومة في بابها، ومنها: حكم صلاة الجماعة في البيت، وصلاة أهل الثغور في المسجد الجامع وغيرها.

أحكام صلاة الجماعة

أحكام صلاة الجماعة

مشروعية صلاة الجماعة

مشروعية صلاة الجماعة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة الجماعة]. وهذه الترجمة تشتمل على مضاف ومضاف إليه، وذلك في قوله [صلاة الجماعة]، وقد تقدم معنا تعريف الصلاة لغة واصطلاحاً. وأما الجماعة فإنها مأخوذة من قولهم: جمع الشيء إلى الشيء إذا ضمه إليه، فأصل الاجتماع الانضمام، وسميت الجماعة جماعة لانضمام أفرادها بعضهم إلى بعض. وقد ائتسى العلماء والفقهاء رحمة الله عليهم في هذه الترجمة برسول الله صلى الله عليه وسلم في تسميته لهذا النوع من الصلوات التي تقع على صورة الاجتماع، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين) وفي رواية: (بخمس وعشرين درجة)، فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة بهذا الوصف، فمن الفقهاء من يقول: (باب صلاة الجماعة) مراعاة لهذا الحديث، ومنهم من يقول: (باب الإمامة) وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح لـ مالك بن حويرث وأخيه الذي كان معه من قومه: (إذا حضرت الصلاة فأذنا وليؤمكما أكبركما)، فقال: (وليؤمكما)، وقال كما في الصحيح من حديث ابن مسعود: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) فعبر بالإمامة. فبعض العلماء يقول: (باب صلاة الجماعة)، وبعضهم يقول: (باب الإمامة) والمعنى واحد، أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بصلاة الجماعة، وتقوم الجماعة على ربط المأموم صلاته بالإمام، فيتابعه قولاً وفعلاً كما يتابعه مكاناً، فلا يتقدم على الإمام من جهته، وذلك مراعاة لهذا الائتمام. والإمامة مأخوذة من أمَّ الشيء يؤمه إذا قصده. وهي هنا: ربط المأموم صلاته بالإمام، ويقع هذا الربط بصورة مخصوصة بيّن الشرع حكمها كما في دليل الكتاب في صلاة الخوف، وكذلك أدلة السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد شرع الله صلاة الجماعة في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وبفعله عليه الصلاة والسلام، وكذلك أجمع العلماء رحمة الله عليهم على مشروعيتها. أما دليل الكتاب على مشروعية هذا النوع من الصلاة فقوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102]، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن الله تبارك وتعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقوم بالطائفة، وذلك في صلاة الخوف، وإذا كانت الجماعة مشروعة في حال الخوف فمن باب أولى وأحرى أن تشرع حال الأمن والطمأنينة، ولذلك دلت هذه الآية الكريمة على مشروعية صلاة الجماعة، كما يقول العلماء، واحتج بعض أهل العلم بدليل الكتاب في قوله سبحانه: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43]، ووجه الدلالة أن هذه الآية الكريمة أمرت بني إسرائيل أن يركع بعضهم مع بعض، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، وهنا ورد شرعنا بما يوافقه. وأما دليل السنة فأحاديث صحيحة، منها حديث ابن عمر في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)، فقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم مشروعية صلاة الجماعة، وأنها أفضل من صلاة الفذ، وذلك لما ذكر من الدرجات، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث مالك بن حويرث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكما أحدكما، وليؤمكما أكبركما)، فدلت هذه الأحاديث وغيرها من الأحاديث الصحيحة على مشروعية صلاة الجماعة، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجماعة، بل إنه حين وطئت قدمه طيبة الطيبة بعد نزوله من قباء كان أول ما فعل أن اختط مسجده صلوات الله وسلامه عليه تأكيداً لأهمية الصلاة في المساجد وفي بيوت الله عز وجل. فالصلاة إذا ثبتت مشروعيتها، وتبين لنا أنها مشروعة بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فينبغي أن يعلم أنه قد أجمع العلماء رحمة الله عليهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على مشروعيتها. وهذه المشروعية لها فضائل ونوائل تعود على الإنسان بالخير في دينه ودنياه وآخرته، ولذلك قال العلماء رحمهم الله: شرع الله صلاة الجماعة وجعل فيها الخير للفرد وللمجتمع وللأمة كلها، وهذا الخير لا يقتصر على خير الدين بل يشمل حتى خير الدنيا، ويقولون: إن صلاة الجماعة تعود على الإنسان بالخير في دينه، فمن خيراتها في دينه أن الله يكفر بها سيئاته ويرفع بها درجاته، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ كثرة الخطا إلى المساجد)، وإنما يأتي الإنسان إلى المساجد تحصيلاً لصلاة الجماعة، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الرجل في مسجده تضعف على صلاته في بيته وسوقه خمساً وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأسبغ الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لم يخط خطوة إلا كتبت له بها حسنة، ورفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة)، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الفضل من كونها تكفر خطايا العبد وترفع درجاته، وكفى بذلك فضلاً ونبلاً للإنسان، مع أن فيها إيماناً واهتداءً، ولذلك يعمر المسلم بيوت الله بشهود صلاة الجماعة، وأثنى الله عز وجل على من كان متخلقاً بذلك ومتصفاً به بقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]، فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه من أهل الإيمان، وأن مآله إلى الاهتداء، وكان العلماء رحمة الله عليهم إذا لمسوا من الإنسان ضعفاً في دينه سألوه عن الصلاة مع الجماعة. فصلاة الجماعة جعل الله فيها هذه الخيرات الدينية للفرد والمجتمع، فبها يتواصل الناس ويتراحمون؛ لأن الإنسان إذا غاب عن المسجد لمرض أو عاهة أو بلاء علم الناس ذلك واطّلعوا عليه وأدركوه بتخلفه عن الصلاة مع الجماعة، خاصة إذا كان من المحافظين والمداومين عليها، ومع ما فيها من جوار لله عز وجل، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي)، فهذه نعم عظيمة وخيرات كثيرة، وبشهود الناس لصلاة الجماعة تتحقق أواصر المحبة للمجتمع، فهذا يلقى أخاه يسلم عليه، ويسأله عن حاله، ويعين الضعيف، ويفرج كربة المكروب، إلى غير ذلك من الخيرات التي جعلها الله عز وجل في هذه الصلاة.

حكم صلاة الجماعة

حكم صلاة الجماعة قال المصنف رحمه الله تعالى: [تلزم الرجال للصلوات الخمس لا شرط]. قوله: (تلزم) الضمير عائد إلى صلاة الجماعة، أي: تجب. والمراد بالتعبير باللزوم الدلالة على أنها واجبة لازمة في ذمة المكلف، لكنه قال: (تلزم الرجال)، ومفهوم قوله: (الرجال) أنها لا تلزم النساء، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، ولذلك كان من تعبير العلماء أن قالوا: ليس على النساء جمعة ولا جماعة. أي: ليس على النساء أن يشهدن الجمعة ولا الجماعة، وهذا من باب درء المفاسد؛ إذ إنه لو أذن للنساء كلهن بالخروج لكان في ذلك مفاسد عظيمة وأضرار كثيرة لوجود العبء عليهن بالخروج. وقوله: (تلزم الرجال) هذه الجملة ظاهرها أن كل مسلم بالغ من الرجال يجب عليه أن يشهد الصلاة مع الجماعة، والمراد بذلك الصلوات الخمس، وهذا الحكم اختلف العلماء رحمة الله عليهم فيه على قولين: فذهب الإمام أحمد وداود الظاهري -وهو قول مأثور عن جمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان- إلى أن صلاة الجماعة واجبة على كل بالغٍ ذكر، وأنه إذا تخلف عنها من غير عذر يعتبر آثماً. ووافقه على هذا القول بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة والشافعي رحمة الله على الجميع، فعند أصحاب هذا القول أن صلاة الجماعة لازمة، ولا يجوز للمسلم أن يتخلف عنها إلا إذا وجد عنده عذر من مرض يحبسه أو نحو ذلك. القول الثاني: أن الصلاة ليست واجبة على الرجل. وبهذا قال جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية رحمة الله على الجميع. وقد استدل أصحاب القول الأول الذين قالوا بالوجوب بدليل الكتاب والسنة والأثر: أما دليلهم من الكتاب فقوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102]، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن الله عز وجل قال: (فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) وهذا أمر، والأمر للوجوب، ثم أمر الطائفة الثانية التي تخلفت بالشهود فقال تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء:102]، قالوا: فدلت هذه الآية الكريمة على وجوب صلاة الجماعة، وذلك في حال الخوف، فلأن تجب في حال الأمن والسلامة من باب أولى وأحرى. وكذلك استدلوا بدليل السنة، وذلك بأحاديث: الأول: حديث أبي هريرة رضي الله الثابت في صحيح مسلم: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله! إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد. فرخص له، فلما ولّى دعاه، فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم. قال: فأجب، فإني لا أجد لك رخصة) رواه مسلم. ووجه الدلالة من هذا الحديث أن هذا الرجل الأعمى مع وجود المشقة والعناء عليه بشهود الجماعة أمره النبي صلى الله عليه وسلم بها، فدل على أنها واجبة لازمة، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (فأجب)، وهذا أمر، والأمر للوجوب، وقال: (فإني لا أجد لك رخصة)، فدل على اللزوم، وأن من تخلف عن الجماعة آثم. الدليل الثاني: حديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الجماعة فأحرّق عليهم بيوتهم). ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في هذا الحديث أنه سيعاقب من تخلف عن الجماعة، وأنه همَّ بمعاقبة من لا يشهد هذه الصلاة، ولا ترد العقوبة إلا على ترك واجب أو على فعل محرم، فدل على أن شهود الجماعة واجب، وأن التخلف عنها من غير ضرورة ولا عذر محرم. الدليل الثالث: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع النداء فلم يأتِ فلا صلاة له إلا من عذر) رواه ابن ماجة وغيره. ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في هذا الحديث أن من لم يشهد الجماعة فلا صلاة له إلا من عذر، فدل على أنها واجبة لازمة، فهذا حاصل ما احتج به أصحاب القول الأول من دليل الكتاب والسنة. وأما دليلهم من الأثر فما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن؛ فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو تركتموها لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين فيقام في الصف. ووجه الدلالة من هذا الأثر أن هذا الصحابي الجليل الموسوم بالفقه والعلم والعمل أخبر عن أهمية هذه الصلاة، وأنها بمثابة اللازم الواجب الذي لو ترك لضل العبد بتركه، وهذا كله يؤكد وجوبها ولزومها؛ لأنه لا يوصف بالضلالة إلا على ترك الهدى اللازم والواجب على المكلف. فهذا حاصل ما استدل به أصحاب القول الأول القائلين بالوجوب. أما من قال بعدم الوجوب فقد استدلوا بحديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين)، وفي رواية: (بخمس وعشرين درجة). ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر كلتا الصلاتين، وجعل لصلاة الفرد فضلاً، فدل على أن صلاة الجماعة ليست بواجبة؛ إذ لو كانت واجبة لما ورد الفضل لضدها، أعني صلاة الفرد. والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بوجوب صلاة الجماعة، وذلك لصحة دلالة الكتاب والسنة على هذا القول. وأما ما استدل به من قال بعدم الوجوب فإن حديث ابن عمر رضي الله عنهما غاية ما دل عليه إثبات الأجر لصلاة الفذ، وذلك لا يستلزم عدم وجود الإثم المترتب على التخلف عن صلاة الجماعة. ووجه ذلك أن يقال: إن الأحاديث التي أمرت بصلاة الجماعة دلت على وجوبها، وحديث أبي هريرة دل على المفاضلة بين صلاة الجماعة وصلاة الفذ، فكأن حديث أبي هريرة خرج عن موضع النزاع؛ لأن موضع النزاع في الدلالة على الوجوب أو عدم الوجوب، وكون الأجر يرد على هذا أقل من غيره، أو يرد على هذا أكثر من غيره فهذا خارج عن موضع النزاع، والقاعدة في الأصول أن النص إذا خرج عن موضع النزاع لم يصلح دليلاً على عين المسألة المختلف فيها. وبهذا يترجح القول القائل بالوجوب. وقوله: [للصلوات الخمس] أي: تلزم في الصلاة المكتوبة، وهي الصلوات الخمس: الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ولذلك قيد المصنف رحمه الله إطلاق الوجوب واللزوم بهذه الصلوات الخمس على ظاهر النصوص؛ لأنها إنما وردت في الصلاة المفروضة والمكتوبة، وأما جماعة النوافل كصلاة التراويح والصلاة على الجنازة إذا كانت جماعة فهذه ليست بلازمة ولا واجبة على المكلف. وقوله: [لا شرط] أي: صلاة الجماعة شهودها مع الجماعة واجب ولازم، ولكن ليس شرطاً في صحة الصلاة. ونحن ذكرنا أن العلماء رحمة الله عليهم -الظاهرية والحنابلة وبعض الحنفية والشافعية- الذين قالوا بوجوب صلاة الجماعة انقسموا إلى طائفتين: فطائفة أوجبت صلاة الجماعة، وقالت: لو صلى لوحده صحت صلاته. وطائفة قالت بوجوب صلاة الجماعة، وقالت: لو صلى فرداً من دون عذر لم تصح صلاته. وإذا ثبت أن صلاة الجماعة واجبة، فهل وجوبها وشهودها شرط في صحة الصلاة أو ليس شرطاً؟ في المسألة قولان عند من يقول بالوجوب: قال الحنابلة، والحنفية والشافعية الذين يوافقونهم على وجوب صلاة الجماعة: إنها ليست بشرط في صحة الصلاة، فمن صلى منفرداً صحت صلاته وأجزأت ويأثم؛ لأنه لم يشهد الجماعة. وقال الظاهرية -وهو رواية عن الإمام أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله على الجميع- إنها واجبة وشرط في الصحة. فلو صلى منفرداً بدون عذرٍ فإن صلاته باطلة على هذا القول. وقد استدل الذين قالوا بالوجوب وأنها ليست بشرطٍ في الصحة بأدلة الوجوب التي ذكرناها؛ لأن الأصل أن من أدى صلاته كاملة بأركانها وشرائطها وواجباتها فصلاته صحيحة حتى يدل الدليل على البطلان. فلو سألك سائل: ما الدليل على أن الأصل فيمن أدى الصلاة بأركانها وواجباتها أن يحكم بصحة صلاته تقول: حديث المسيء صلاته؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن بين له ما يجب في الصلاة قال له: (إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك)، فإذا صلى المنفرد وأدى الصلاة بأركانها وواجباتها انطبق عليه ما ورد في هذا الحديث. أما فقهاء الظاهرية ومن وافقهم فقد استدلوا على بطلان صلاة المنفرد بدون عذر بما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع النداء فلم يأتِ فلا صلاة له إلا من عذر) رواه ابن ماجة، وهذا الحديث مختلف في إسناده وفيه كلام، ولكن على القول بصحته، قالوا: إن قوله: (فلا صلاة له) أي: فلا صلاة صحيحة. فدل هذا الحديث على بطلان صلاة المنفرد؛ لأنه صلى بدون عذر. وأما الذين قالوا بصحتها فإنهم يقولون: إن قوله: (فلا صلاة له) أي: كاملة، والذين يقولون بعدم صحتها يقولون: فلا صلاة صحيحة، فأصبح حديث ابن عباس متردداً بين نفي الكمال ونفي الصحة. والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بصحة صلاة المنفرد ولو كان تاركاً للجماعة بدون عذر، وذلك لما يلي: أولاً: لصحة ما احتج به أصحاب هذا القول. ثانياً: أن استدلال أصحاب القول الثاني بحديث ابن عباس يجاب عنه من وجهين: الوجه الأول: من جهة السند، فإنه معارض لما هو أصح منه، مع ما فيه من الطعن في روايته. الوجه الثاني: من جهة المتن، فإن قوله عليه الصلاة والسلام: (فلا صلاة له) يتردد بين نفي الصحة ونفي الكمال، وال

صلاة الجماعة في البيت

صلاة الجماعة في البيت قال رحمه الله تعالى: [وله فعلها في بيته]. قوله: (وله) أي: للمكلف، (فعلها) أي: فعل صلاة الجماعة في بيته، بأن يجمع أهله، فيصلي بامرأته أو ببناته، أو يصلي بإخوانه وأخواته، أو يصلي بأبنائه وبناته، وقس على هذا، فلا حرج عليه على هذه الرواية. ومن الأصحاب من قال: إن كان تخلفه عن المسجد لا يؤدي إلى ضعف الجماعة فإنه يجوز له أن يتخلف ويصلي مع جماعته في المنزل، واحتجوا بحديث الرحل -وهو ثابت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام-: أنه صلى بالناس بخيف منى، فرأى رجلين لم يصليا، فقال: (ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: قد صلينا في رحالنا. قال: فلا تفعلا. إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الإمام ولم يصل فصليا معه؛ فإنها لكما نافلة). ووجه الدلالة أنهما تركا جماعة المسجد لجماعة الرحل والبيت، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهما ذلك. وهناك من العلماء من قال: إن هذا لا يشمل صلاة الرجل في أهله، وإنما هو وارد في صلاة السفر، والجماعة في السفر ساقطة عن المسافر لهذا الحديث، فلا تشمل من جمع في أهله. وهذا القول من القوة بمكان، أعني أنه لا يشرع للإنسان أن يتخلف عن الصلاة مع الجماعة ويجمع بأهله؛ لأنه لو فتح هذا الباب لفات كثير من مقاصد الشريعة بإيجاب الجماعة، ولذلك يحمل حديث الرحل على المسافرين؛ لأنهما كانا بخيف منى فكانا في حكم المسافرين، ولذلك صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم قصراً، فالحديث وارد في المسافرين، وأحاديث الجماعة إنما هي في المقيم، وعلى هذا نقول: إن المسافر لا تجب عليه الجماعة إن كان يصلي في رحله رفقاً وتوسعةً من الله عز وجل على هذا النوع من المكلفين.

صلاة أهل الثغور في مسجد جامع

صلاة أهل الثغور في مسجد جامع قال رحمه الله تعالى: [وتستحب صلاة أهل الثغر في مسجد واحد]. أهل الثغور: هم الذين يكونون في الجهاد، ويوصف الجهاد بكونه ثغراً، فيقال: ثغور الإسلام؛ لأنها منافذ يدخل منها على المسلمين، ويقف المجاهدون المرابطون عليها صيانة لثغور الأمة. فيستحب لأهل الثغر -أي: الذين يكونون في الجهاد -أن لا يتفرقوا في جماعات متعددة؛ لأنهم إذا اجتمعوا في جماعة واحدة كان أمكن في إظهار هيبة الإسلام وعزة أهله وتآلف أصحابه، وإذا رآهم العدو وهم بهذه الكثرة العظيمة يصلون مع بعضهم ويركعون وراء إمام واحد وينضبطون انضباطاً كاملاً كان ذلك أبلغ في الهيبة، حتى إن الأوزاعي قال: لقد هممت أن أحرق المساجد في الثغور من أجل أن يجتمع المجاهدون على إمام واحد، وهذا لا شك أنه أبلغ في الجماعة، وفي الألفة والمحبة، وفي قوة الأخوة وتحقيق الأواصر، وأبلغ في النكاية بالعدو وإرهابه من شوكة المسلمين، فلذلك استحب العلماء أن تكون جماعتهم واحدة، ولكن نظراً لأن الثغور يعتريها ما يعتريها من وجود التفرق خوفاً من دهم العدو ومباغتته فلا حرج أن تكون هناك أكثر من جماعة، ولا حرج أن يتفرقوا جماعات، ويكون الأمر مرتبطاً بمصلحة الجهاد على حسب ما يراه إمامهم.

صلاة الرجل في المسجد القريب منه

صلاة الرجل في المسجد القريب منه قال رحمه الله تعالى: [والأفضل لغيرهم في المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره ثم ما كان أكثر جماعة]. بعد أن بين لنا لزوم الجماعة ووجوبها، وأنها ليست شرطاً في الصحة شرع الآن في بيان أفضل الجماعات. فمنها: أن الرجل الذي تتوقف الجماعة عليه في مسجده، ويكون مسجده محتاجاً إليه لحصول الكثرة، فهذا الأفضل له أن يصلي في جماعة مسجده. مثال ذلك: أن يكون لحيك جماعة، وهذه الجماعة قليلة العدد، وبشهودك يكثر العدد ويعرف الناس هذا المسجد ويقبلون عليه وتقوى جماعتهم، فحينئذ تصلي معهم، ولا تنصرف إلى غيره؛ لما فيه من تقوية هذه الجماعة ودعوة الناس لشهودها، وهذا يحقق مقصود الشرع. قال: (ثم ما كان أكثر جماعة). إن كان مسجدك لا تتوقف جماعته عليك يرد Q لو أن عندك أكثر من مسجد، فهل الأفضل أن تصلي في هذا المسجد، أو في ذاك المسجد؟ و A أن المساجد قد فاضل الشرع بينها، فما كان من المساجد منصوصاً على فضله فمقدم على غيره، فيقدم المسجد الحرام على سائر المساجد على وجه الأرض، فمسجد الكعبة أفضل المساجد على الإطلاق، والصلاة فيه أشرف وأكمل وأعظم أجراً وحظاً، وذلك من كل الوجوه، خاصة وجود المضاعفة التي تصل إلى مائة ألف صلاة، وكذلك الجمعة فإنها آكد، والحض عليها في مسجد الكعبة آكد، ولو كان الإنسان يرجح القول الذي يقول: إن كل مكة يعتبر من المسجد الحرام فلا ينبغي له أن يذهب الفضل بعدم شهود الصلاة في المسجد الحرام؛ فإن دخوله وشهوده وتكثير سواد المسلمين فيه من الخير بمكان، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن صلاة الرجل مع الرجل أفضل وأزكى من صلاته وحده، وأنها مع الثلاثة أزكى من الاثنين، وما كان أكثر كان أفضل، كما في حديث أحمد، فصلاة الجماعة في المسجد الحرام فيها فضيلة المكان، وفضيلة العدد -الكثرة-، وفضيلة القدم؛ لأن الله يقول: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108]، فقدم هذا المسجد، وشهود الله عز وجل بقدمه يدل على فضله وبركة الصلاة فيه؛ لأن كل شيء شهد الشرع بفضله فهو مبارك. ويلي ذلك المسجد النبوي، وذلك لشهود النبي صلى الله عليه وسلم له بالفضل في قوله: (صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الصلاة فيه أفضل، ثم يليه المسجد الأقصى، فإنه بخمسمائة صلاة فيما سواه إلا ما ذكرنا من المسجدين، فهذه المساجد الثلاثة هي أفضل المساجد على وجه الأرض، والصلاة فيها أكمل وأعظم أجراً، ويليها مسجد قباء، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه كان له كأجر عمرة) رواه النسائي وغيره بسند صحيح. ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت الفضل لمسجد قباء، وأما الصلاة فيه فمطلقة، سواءٌ أكانت نافلة أم فريضة، وأما رواية: (فصلى فيه ركعتين) فضعيفة، لكن الرواية القوية: (فصلى فيه) بإطلاق، ولذلك لو صلى فيه فريضة أو نافلة فإنه ينال أجر العمرة. فهذه المساجد أفضل، وشهود الجماعة فيها أكمل، وفي مكة لا شك أن الإنسان ينبغي له الحرص على الصلاة في المسجد الحرام، خاصة في يوم الجمعة؛ فإن الجمعة فيه بمائة ألف جمعة، فهي الفضل بمكان، ولو أن الإنسان حسبها لوجدها تعادل قروناً من العمر، فهذا فضل عظيم خص الله عز وجل به أهل مكة، فلا ينبغي -خاصة لأهل العلم وطلاب العلم- البعد عن هذا الفضل، خاصة وأن المسجد الحرام -مع ما في شهوده من الخير- فيه تعليم الجاهل وإحياء السنة؛ لأنه إذا كثر شهود أهل السنة الصلاة في هذا المسجد ائتسى الناس، وأحييت السنن، وكان في ذلك من الخير ما الله به عليم، ولذلك ينبغي الحرص على هذه الفضيلة. وبعد هذه المساجد للعلماء تفصيل في تفضيل الجماعات: - فمنهم من يقول: يلي هذه المساجد أقدم المساجد، فلو كان عندك مسجدان، أو جماعتان إحداهما مسجدها أقدم فإنه تقدم الجماعة على المسجد الذي يلي ذلك المسجد في القدم، واحتجوا بقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108]، فقد أخبر الله تعالى أن قدم المسجد دال على فضله، فأثبت الأحقية للأقدم، وعلى هذا كلمة جماهير العلماء، فالمسجد القديم أفضل من المسجد الجديد وأحق، حتى قالوا: لو وجد مسجد قديم ثم جاء إنسان وأحدث مسجداً جديداً من دون حاجة لصلاة جماعة وإنما لقصد جذب الناس إلى مسجده فإنه يعتبر مسجد ضرار، ولو أُحدث مسجد للجمعة بعد مسجد قديم فإن العبرة في الجمعة بالمسجد القديم، ولا تصح الجمعة في المسجد الجديد إذا لم توجد حاجة، وهذا على ظاهر آية التوبة التي ذكرناها. وعلى هذا جمع من أهل العلم رحمة الله عليهم من الفقهاء، فالمسجد القديم أحق لنص كتاب الله عز وجل على تفضيله، ولأنه أكثر طاعة وشهوداً للخير، وذلك لفضل الزمان الذي امتاز به على المسجد الذي هو دونه في الزمان. فقوله: [ثم ما كان أكثر جماعة] أي: ثم ينظر إلى المسجد الذي هو أكثر جماعة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أفضل)، وهذا الحديث المسند يدل على أن الجماعة الأكثر عدداً أفضل من الجماعة الأقل عدداً. قال رحمه الله تعالى: [ثم المسجد العتيق]. اختلف العلماء فيما لو كان هناك مسجدان أحدهما قديم وجماعته قليلة، والثاني جديد وجماعته أكثر، فهل الأفضل أن تشهد القديم مع قلة الجماعة، أو تشهد الجديد مع كثرة الجماعة؟ فمنهم من يقول: أقدم فضيلة المكان -أي: فضيلة المسجد القديم-، وذلك لورود النص بها من القرآن. ومنهم من قال: أقدم فضيلة الجماعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين مسجد قديم وجديد، والذي يظهر -والله أعلم- أن المسجد القديم ولو كان أقل جماعة أفضل؛ وذلك لأن حديث النسائي فيه كلام في سنده، ودلالة نص الآية أقوى من دلالة السنة. قال رحمه الله تعالى: [وأبعد أولى من أقرب]. أي أن أبعد المساجد أفضل من أقربها. فلو كان عندك جماعة بعيدة وجماعة قريبة، فالجماعة البعيدة أفضل؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا بني سلمة! دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم) أي: الزموا دياركم تكتب آثاركم. وذلك لأنهم أرادوا أن يتحولوا إلى جوار المسجد، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إليها ممشى)، ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن أعظم الناس أجراً في صلاة الجماعة أبعدهم إليه ممشى، فدل على أن المسجد البعيد أفضل من المسجد القريب، ولذلك قالوا: الأفضل أن يذهب إلى ما هو أبعد لما فيه من المشقة والعناء. وفي الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه أن رجلاً كانت لا تخطئه صلاة في المسجد، فقيل له: لو أنك اتخذت دابة تقيك حر الرمضاء وهوام الليل؟ فقال: ما أحب لو أن بيتي معلقاً بطنب بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. إني أحتسب أن يكتب الله لي الأجر في ذهابي ورجعتي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد جمع لك بين ذلك)، فمن كان بعيداً واحتسب الخطا إلى المسجد فإن ذلك أفضل وأكمل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ كثرة الخطا إلى المساجد، وإسباغ الوضوء على المكاره، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)، فدل هذا على أن من كان أبعد فهو أفضل ممن كان أقرب، ولذلك قالوا: إذا وجد مسجدان أحدهما أبعد والثاني أقرب فإن الأبعد أحب وأفضل من الأقرب.

الأسئلة

الأسئلة

حكم صلاة الجماعة للمسافر

حكم صلاة الجماعة للمسافر Q هل يعتبر السفر عذراً في سقوط الجماعة عن المسافر ولو سمع النداء؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فظاهر حديث الخيف أنه إذا صلى المسافران أو المسافرون في رحلهم سقطت عنهم الجماعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل من الرجلين: أسمعتما النداء أو لم تسمعا. والقاعدة في الأصول: (ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال)، فكأنه إذن بالعموم، سواءً أسمعوا أم لم يسمعوا، وهذا هو الذي يترجح من ظاهر السنة. والله تعالى أعلم.

الترخص برخص السفر لمن نوى السفر وهو لا يزال مقيما

الترخص برخص السفر لمن نوى السفر وهو لا يزال مقيماً Q نويت السفر، وأثناء الاستعداد للرحيل نودي لصلاة الظهر، فهل الجماعة واجبة في هذا الظرف، أم أصلي بأهلي ثم أسافر؟ A إذا سمعت النداء وأنت تنوي السفر فحكمك حكم المقيم، ولا يأخذ المسافر رخصة المسافر إلا إذا أسفر وخرج من آخر العمران، فإذا أسفر فقد سافر، وحينئذٍ لا حرج عليه أن يأخذ برخص السفر من قصر الصلاة والفطر ونحو ذلك مما يشرع للمسافر أن يترخص به، أما وأنت لا زلت مقيماً وتسمع النداء فإنه يجب عليك شهود هذه الجماعة، إلا إذا كنت مسافراً واضطررت بحيث يتوقف على تعجيلك أمور مهمة ويكون في تأخرك ضرر عليك، فحينئذ ينزل هذا منزلة العذر، كالعذر في حال الإقامة، ولا حرج عليك أن تبرد وتسافر. والله تعالى أعلم.

حضور صلاة الجماعة لمن سمع النداء وهو في نزهة

حضور صلاة الجماعة لمن سمع النداء وهو في نزهة Q نحن مجموعة من الشباب نخرج إلى نزهة ونصلي الجماعة في المكان الذي نحن فيه، ونسمع النداء في المكان المجاور لنا، فما حكم صلاتنا؟ A إذا كنتم تسمعون النداء بدون وسائل التكبير الموجودة الآن فإنه يجب عليكم شهود الجماعة، وذلك لنص النبي صلى الله عليه وسلم على شهودها لمن سمع النداء، ولا عذر لكم. والله تعالى أعلم.

تعدد صلاة الجماعة في أيام الحج

تعدد صلاة الجماعة في أيام الحج Q ما حكم تعدد الجماعات في وقت واحد في أيام الحج، وما الواجب عليّ فعله أثناء تواجدي في ذلك المكان؟ A الأصل أن يجتمع الناس على إمام واحد تحقيقاً لمقصود الشرع، فإن كان المنزل الذي نزلته فيه مكان قد هيئ لصلاة الجماعة فإنه أحق، وجماعته هي الجماعة، فالزمها واحرص عليها، وأنت مأجور بشهودها أكثر من غيرها، وأما إذا كان منزلاً يستوي فيه الناس، كأن يكون في أطراف المناسك -كما يحصل في عرفات وفي مزدلفة وفي منى- فحينئذ تصلي في أقرب الجماعات إليك إن أردت اللزوم، وأما إن أردت الفضل فانظر إلى أكثرها عدداً وأكثرها جماعة؛ فإن شهودها أفضل. والله تعالى أعلم.

اللحن الذي تبطل به الصلاة

اللحن الذي تبطل به الصلاة Q ما هو اللحن الذي تبطل به الصلاة، وهل لي أن أعلم جماعة المسجد بذلك؟ A اللحن الذي يبطل الصلاة أن يكون لحناً يحيل المعنى، كأن يقول: (أهْدِنَا)، فإن (اهدنا) غير (أهْدِنَا)، ولذلك يقولون: إذا لحن هذا اللحن الموجب لخروج المعنى من الدلالة فإنه حينئذ تبطل صلاته وصلاة من وراءه إذا كان من وراءه يحسن الفاتحة، أما إذا كان هذا الرجل لا يحسن الفاتحة ومن وراءه مثله أو أسوأ منه، فإن صلاته صحيحة، وتصح صلاته ولا يأثم إلا إذا فرط في التعلم. والله تعالى أعلم.

إتمام الصلاة لمن فاته بعضها

إتمام الصلاة لمن فاته بعضها Q من أعاد صلاة في مسجد آخر وقد سبقته الجماعة الثانية بركعة فأكثر هل يتم ما فاته؟ A من صلى وراء إمام فإنه يتم ما فاته؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمام والكمال، إلا إذا كان مسافراً ودخل وراء المقيم في الركعتين الأخريين من الرباعية. فإنه يشرع له أن يسلم بسلام الإمام والله تعالى أعلم.

نصيحة لمن يتخلف عن صلاتي الفجر والعصر

نصيحة لمن يتخلف عن صلاتي الفجر والعصر Q كثير من الناس في هذا الزمن يتخلفون عن الجماعة في صلاتي الفجر والعصر بحجة غلبة النوم، فما توجيهكم لهؤلاء؟ A على المسلم أن يأخذ بالأسباب، وذلك إذا كان شديد العناء شديد التعب، فإنه يوصي من يوقظه، أو يضع بجواره من الآلات ما يعينه على الاستيقاظ، فإن تعاطى أسباب إيقاظه وغلبه النوم فإنه يعذر، أما إذا لم يأخذ بالأسباب فإنه يعتبر آثماً؛ لأن تعاطي الأسباب واجب عليه، وتركها أوقعه في محظور التخلف عن الجماعة، فيعتبر آثماً من هذا الوجه، أما لو تعاطاها واحتاط لنفسه فإنه لا يأثم؛ لظاهر حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه حينما عرس النبي صلى الله عليه وسلم في مقدمه من غزوة تبوك إلى المدينة. وأما تساهل الناس في شهود هاتين الصلاتين فإنه لا يجوز للناس أن يتعاطوا أسباب التقاعس عن هاتين الصلاتين وشهودهما مع الجماعة، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن فضل شهودهما مع الجماعة، فقال في الحديث الصحيح: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله)، وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، وشهود الصلاة فيه خير كثير على الإنسان، من استفتاح يومه بالعمل الصالح، واستفتاحه بسماع كلام الله وكتاب الله عز وجل، خاصة إذا كان الإمام قد أعطى كتاب الله حقه من الترتيل والتجويد؛ فإن في ذلك أثراً عظيماً على النفس، من انشراح الصدر وطمأنينة القلب وقوة النفس واستجمامها وإقبالها على الخير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأصبح طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)، نسأل الله المعونة وكفاية المئونة. والله تعالى أعلم.

إمامة المتنفل بالمفترض

إمامة المتنفل بالمفترض Q إذا صليت في جماعة ثم أتيت إلى مسجد آخر وقد أقيمت الصلاة فهل لي أن أصلي بهم؟ A من صلى الفريضة في جماعة ثم قدم على جماعة ثانية، فإن وجد غيره ممن هو أهل للإمامة فإن الأفضل له أن لا يتقدم؛ لأن العلماء رحمهم الله اختلفوا في إمامة المتنفل بالمفترض، وإن كان الصحيح جوازها، ولكن صيانة صلاة الناس والخروج من خلاف العلماء رحمهم الله أولى وأحرى، ولذلك تقدم غيرك، إلا إذا لم يكن هناك إمام سواك، فتتقدم بهم ولا حرج عليك. والله تعالى أعلم.

الصلاة في المسجد لمن فاتته صلاة الجماعة

الصلاة في المسجد لمن فاتته صلاة الجماعة Q لو جئت إلى المسجد وقد انتهت الصلاة، فهل الأفضل أن أصلي في المسجد أم أرجع إلى البيت؟ A الأفضل أن تصلي في المسجد، وذلك لأن صلاتك في المسجد فيها فضيلة إتيان غيرك إليك، فإنه ربما رآك إنسان متخلف وصلى معك فأصبت وإياه الجماعة، ثم قد يصلي معك إنسان ممن صلى فيتصدق عليك ويثاب وتثاب أيضاً فتحصل فضيلة الجماعة، أما الرجوع إلى البيت فهذا قول شاذ ضعيف قال به بعض العلماء في المتخلف وراء الصف، حيث قالوا: من دخل ووجد الصفوف مكتملة فإنه يقف وينتظر، فإذا لم يأتِ أحد فإنه يرجع إلى بيته ويصلي. وهذا القول من الشذوذ بمكان؛ لأن معناه أو مبناه على أن صلاته في المسجد غير صحيحة، فأين الدليل الذي يدل على أنه لو صلى لا تصح صلاته؟! وبناء على ذلك لا تصح صلاته إلا إذا صلى منفرداً خلف الصف، أما لو صلى منفرداً بعد الجماعة فعلى الأقل يقال: إنه يصلي، فإن جاء أحد معه فبها ونعمت، وإن لم يأتِ أحد معه استقبل الصلاة. أما أن يرجع بعد أن أمره الله عز وجل بالشهود والحضور فهذا قول ضعيف قال به بعض العلماء رحمة الله عليهم، ووصفه جمع من العلماء رحمة الله عليهم بالشذوذ، أعني القول الذي يقول: إنه لو جاء والصف قد اكتمل ولم يجد من يصلي معه فإنه ينصرف ويرجع إلى بيته ولا يصلي في المسجد. والله تعالى أعلم.

كيفية إحرام من دخل مكة لغرض العمل ثم غير نيته

كيفية إحرام من دخل مكة لغرض العمل ثم غير نيته Q ما حكم رجل يقيم في جدة، وخرج إلى مكة بنية العمل فغير نيته إلى نية الحج، فحج من مكانه؟ A من كان من أهل جدة وبعد أن خرج إلى مكة للعمل طرأت عليه النية في الطريق أو في مكة ففيه تفصيل: فإن طرأت عليه النية في الطريق فمن المكان الذي طرأت عليه يجب عليه الإحرام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (فمن كان دون ذلك فإحرامه من حيث أنشأ)، فإذا أنشأ نية الحج وهو في طريقه بين مكة وجدة يلزمه أن يحرم من المكان الذي جددت فيه نيته، ولذلك أحرم عبد الله بن عمر رضي الله عنه من وادي الفرع، وذلك من مزرعته التي كانت هناك، وهذا يدل على أن من طرأت عليه النية أحرم من حيث طرأت عليه النية، وعلى ذلك جماهير العلماء رحمة الله عليهم. أما لو طرأت عليه النية بعد أن دخل مكة، أو بعد أو وصل إلى منى فيحرم من موضعه ولا حرج عليه، والله تعالى أعلم.

حكم من جامع زوجته بعد التحلل الأول

حكم من جامع زوجته بعد التحلل الأول Q ما حكم رجل جامع زوجته بعد التحلل الأول، وهل على الزوجة شيء؟ A هذه المسألة قضى فيها بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن حجه صحيح. وعلى هذا جماهير العلماء رحمة الله عليهم، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة)، ولكن يلزمه أن يذهب إلى التنعيم ويأتي بعمرة حتى يقع طواف الإفاضة في نسك صحيح؛ لأنه بجماعه قد أفسد نسكه -أعني فيما يستقدم-، فيمضي إلى التنعيم ويحرم بعمرة، ثم يطوف طواف الإفاضة قبل العمرة، ثم يعتمر بعد ذلك، ثم يرجع ويتم مناسكه وعليه الدم. والله تعالى أعلم.

صلاة الحاج من أهل مكة

صلاة الحاج من أهل مكة Q هل الحاج من أهل مكة في الحج بين المشاعر يقصر الصلاة أو يتمها؟ A هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم -أعني مسألة أهل مكة-، وبعض العلماء يرى أن أهل مكة في حكم المسافر، وإذا خرجوا إلى عرفات أو منى يقصرون؛ لأن أصحاب هذا القول لا يرون أن للسفر حداً، وعلى هذا فإن قليل المسافة وبعيدها سفر، وبناء عليه يشرع لهم الجمع لا للنسك ولكن للسفر، وذهب جمع من العلماء رحمة الله عليهم إلى أنهم يأخذون حكم المقيم إعمالاً للأصل، ولأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) صح عنه في مكة، ولم يصح عنه في عرفة، قالوا: إنما سكت في عرفة؛ لأنه سبق وأن أعلن أهل مكة بمكة. وهذه المسألة مشكلة حتى على القول بأنهم قد خرجوا، فالمشكلة الآن أنه اتصل البناء، فأصبحت الأرض سكناً لأهل مكة، ولذلك أرى أن يحتاط وأن يخرج من خلاف العلماء رحمة الله عليهم، وإن جمعوا تجمع للنسك في يوم عرفة، وتجمع للنسك أيضاً ليلة مزدلفة لورود السنة بها، فإذا جمعت للنسك فلا حرج، لكن إتمام الصلاة يعتبر خروجاً من الخلاف. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.

باب صلاة الجماعة [2]

شرح زاد المستقنع - باب صلاة الجماعة [2] لصلاة الجماعة أحكام ومسائل متعلقة بها، منها: حكم إمامة الشخص في المسجد مع وجود الإمام الراتب، وحكم إعادة الصلاة لمن صلاها ثم حضر جماعة يصلون نفس الصلاة، وحكم تكرار الجماعة في المسجد، وحكم النافلة إذا أقيمت الصلاة، وبماذا تدرك الجماعة ونحوها من المسائل.

تابع أحكام صلاة الجماعة

تابع أحكام صلاة الجماعة

التقدم للإمامة مع وجود الإمام الراتب

التقدم للإمامة مع وجود الإمام الراتب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويحرم أن يؤم في مسجد قبل إمامه الراتب إلا بإذنه أو عذره]. قوله: [ويحرم أن يؤم في مسجد قبل إمامه الراتب إلا بإذنه] أي: يحرم على المكلف أن يؤم غيره في المسجد الذي له إمام راتب إلا بإذنه. أي: بإذن الإمام الراتب. فلا يجوز للإنسان أن يتقدم للإمامة إذا وجد الإمام الراتب إلا بعد إذنه، وذلك لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه تخلف للصلح بين حيين من بني عوف، فلما تأخر جاء بلال فآذن أبا بكر بالصلاة، فأقام وتقدم أبو بكر يصلي بالناس، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم، فنبه الناس أبا بكر رضي الله عنه، فالتفت فإذا هو برسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب يتأخر، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأتم، وتأخر أبو بكر. ووجه الدلالة: -كما يقول العلماء- أن أبا بكر تأخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأحقية النبي صلى الله عليه وسلم بالإمامة، وذلك لمكان الرسالة من وجه، ولمكان الإمامة من وجه؛ ولذلك قالوا: إن هذا الحديث سنة، فلو قدم الإمام الراتب أثناء الصلاة وقد تقدم غيره، وأراد أن يؤخره ويتقدم صح ذلك وأجزأه، وبه أفتى جمع من العلماء رحمة الله عليهم، والسنة دالة على هذا. والسبب في ذلك أنه أحق، والشرع قد أعطاه ذلك إن تعيّن من الإمام، أو من ينوب منابه، كما هو الحال لو عُين إمام راتبا لمسجد، فهذه الأحقية من جهة الولاية لا يجوز لأحد أن يتقدم عليها إلا بإذن من الشرع، وأذن لك الشرع أن تتقدم إماماً بدل الإمام الراتب عند عدم وجوده، فأما لو وجد فإن التقدم عليه يعتبر طعناً فيه وأذية له، وتقدماً من دون حق، وقد قال صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث عنه-: (من زار قوماً فلا يؤمهم)، فنص عليه الصلاة والسلام على أن لا يتقدم على إمامهم، ولذلك قال جماهير العلماء: الإمام الراتب أحق، ولا يجوز لأحد أن يتقدم عليه، وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم على الرجل أن يؤم الرجل في سلطانه، والإمام الراتب سلطان في مسجده. وقالوا: هو في حكم الرجل في بيته وفي سلطانه، فلا يجوز التقدم عليه، ومن هنا لا يشرع للإنسان أن يتقدم للإمامة مباشرة، وإنما يتقدم إذا لم يوجد الإمام الراتب، أو وجد إمام راتب وأذن له أن يتقدم، كأن يكون أعلم وأحق وأولى لعلم وفضل ونحو ذلك، فإنه يشرع للإمام أن يقدمه إظهاراً لفضله وإظهاراً لنبله ولذلك تأخر أبو بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لعظيم حقه صلوات الله وسلامه عليه، فإن تأخر له فحينئذ يتقدم. فإذا لم يوجد الإمام الراتب ولم يوجد له نائب فحينئذ يجوز لك أن تتقدم إذا كنت أهلاً للإمامة، أو جد إمام راتب لكنه يلحن في الفاتحة لحناً يوجب بطلان صلاة من وراءه، فحينئذ يشرع لك أن تتقدم، وذلك صيانة لصلاته وصلاة من وراءه، فحينئذ لا حرج عليك أن تتقدم، إلا إذا وجدت مفسدة أو ضرر فحينئذٍ لا تعتد بصلاتك وراءه. وقوله: [أو عذره]. أي: وجود العذر. وإذا تأخر الإمام عن المسجد فحينئذٍ يرسل إليه إذا كان بيته قريباً، ولا حرج أن يطلب من الأئمة إذا تأخروا أن يحضروا، فإن عمر رضي الله عنه لما أعتم النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة العشاء خرج يصرخ ويقول -كما في الصحيحين-: الصلاة يا رسول الله! رقد النساء والصبيان. فإذا كان تأخير الناس في انتظار الصلاة يحصل به المشقة والضرر فلا حرج أن يرسل إلى الإمام ويقال له: بادر إلى الصلاة. فإن كان. عنده عذر، أو طرأ عليه عذر فقال لهم: صلوا. وأذن لهم بالصلاة، فحينئذ يقدمون من رضوه لإمامتهم ويصلي بهم.

إعادة الصلاة لمن صلى ثم حضر جماعة يصلون

إعادة الصلاة لمن صلى ثم حضر جماعة يصلون قال رحمه الله تعالى: [ومن صلى ثم أقيم فرض سن أن يعيدها إلا المغرب] قوله: [ومن صلى] أي: الفريضة. [ثم أقيم فرض] أي: لنفس الفريضة التي صلاها، كأن تصلي العصر في مسجد، ثم تذهب إلى مسجد آخر تطلب أخاً أو تريد حاجة، فدخلت في هذا المسجد فأقيمت الصلاة، فإنه يجب عليك أن تدخل مع هذه الجماعة الثانية، وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء: فمنهم من قال: من صلى صلاة ثم دخل المسجد وأقيمت نفس الصلاة فلا يصليها ولا يعيد. واحتجوا بحديث ميمونة: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تعاد الصلاة مرتين). والقول الثاني: يعيد جميع الصلوات بدون استثناء وهو مذهب بعض أهل الحديث وأهل الظاهر، وذلك لظاهر حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (صل الصلاة لوقتها، ثم صلها معهم، ولا تقل: إني صليت)، وحديث الخيف بمنى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجلين: (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا؛ فإنها لكما نافلة). ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بإعادة الجماعة، وهذا في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أن الصلاة تعاد في المسجد مطلقاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: إلا المغرب، أو العصر، أو الفجر، وإنما قال: (فصليا؛ فإنها لكما نافلة). ومنهم من قال: يعيد جميع الصلوات إلا صلاة الفجر والعصر. ومنهم من قال: يعيد جميع الصلوات إلا المغرب، كما اختاره المصنف. ومنهم من قال: يعيد جميع الصلوات إلا صلاة الفجر والعصر والمغرب. والسبب في استثناء المغرب -كما درج عليه المصنف- أن المغرب وتر، وإذا صلاها فإنه يكون موتراً وترين في ليلة، وفي حديث الترمذي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا وتران في ليلة). والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- أنه يشرع له أن يعيد جميع الصلوات بدون استثناء، وذلك لما يلي: أولاً: لصحة حديث أبي ذر في الصحيحين أنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صل الصلاة لوقتها، ثم صلها معهم، ولا تقل: إني صليت)، ولم يقل: إلا المغرب. بل أطلق، والقاعدة في الأصول: (المطلق يبقى على إطلاقه حتى يرد ما يقيده)، ولا مقيد له هنا. وكذلك حديث الخيف، حيث قال للرجلين: (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا)، ولم يقل: إلا المغرب، أو الفجر، أو العصر. وهذان النصان مطلقان. أما استثناء المغرب لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا وتران في ليلة) فيجاب عنه بأن الوتر يبتدئ وقته من بعد صلاة العشاء، وإذا صلى المغرب فإنه لم يدخل بعد وقت العشاء، فيكون هذا الوتر غير معتدٍ به ولا مؤثر. ثانياً: أن نقول: إنه بعد سلام الإمام يقوم ويشفع صلاته بركعة، جمعاً بينه وبين حديث: (لا وتران في ليلة)، وعلى هذا فلا تعارض بين هذه النصوص، وكل من صلى ثم دخل المسجد فإنه يعيد صلاته مع الجماعة الثانية. وهذا -كما يقول العلماء- فيه نكتة لطيفة، وهي أن الإسلام حرص على الجماعة ونهى عن الشذوذ؛ لأن الشذوذ عن الجماعة شر وبلاء، ولذلك من خرج عن جماعة المسلمين العامة مات ميتة جاهلية والعياذ بالله، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الخروج عن الجماعة، حتى قال: (من مات وليس في عنقه بيعة فليمت إن شاء يهودياً، وإن شاء نصرانياً)، فالخروج عن جماعة المسلمين هلاك، فأدب الله عز وجل عباده المؤمنين في أهم أركان الدين وهي الصلاة أن يكونوا على وتيرة واحدة ولا يشذون، ولأنه لو فتح باب التخلف عن الجماعات لفتح لأهل الأهواء والبدع أن يتخلفوا عن أهل السنة، ولذلك جمع الله شمل المسلمين بهذه الصورة، فإذا دخل الإنسان إلى المسجد فإنه يلتزم بجماعة المسجد، حتى نص جماهير العلماء على أنه لو دخل قبل تسليم الإمام ولو بلحظة وأمكنه أن يكبر يجب عليه أن يكبر، ولا ينتظر، ولا يحدث جماعة ثانية، وذلك للنص الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فإذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا) أي: ما أدركتموه مع الإمام فصلوا، قالوا: فهذا مطلق يشمل جميع ما يدرك، وإذا أراد أن يحدث جماعة ثانية يقول لمن معه: ندخل في التشهد، فإذا سلم الإمام فائتم بي. فإن كل هذا تعظيم لأمر الجماعة، ولذلك قالوا: من دخل وقد صلى فإنه يصلي ويدخل مع الجماعة ويعيد، وتعتبر هذه الإعادة لازمة وواجبة؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها دون استثناء لفرض.

حكم تكرار الجماعة في المسجد

حكم تكرار الجماعة في المسجد قال رحمه الله تعالى: [ولا تكره إعادة الجماعة في غير مسجد مكة والمدينة]. أي: لا حرج في استحداث جماعة ثانية بعد الجماعة الأولى، وذلك لأدلة: أولها: أنه قد ثبتت النصوص في الكتاب والسنة باعتبار المساجد للجماعات، وأن الأصل في المساجد أنها للجماعة. ثانيها: أنه ثبت في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس جماعة، ثم لما انفتل من صلاته رأى رجلاً يصلي وحده، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يتصدق على هذا؟) فقام أبو بكر فصلى معه. ووجه الدلالة أن هذا الرجل دخل لوحده، وأبو بكر كان قد صلى، ولم يوجد مع الرجل رجل ثانٍ، فندب النبي صلى الله عليه وسلم من كان صلى أن يصلي معه. قالوا: عرف منه الشرع أنه ينبه بالأدنى على الأعلى. وقالوا: فإذا شرعت الجماعة في المسجد بعد الجماعة الأولى لمتنفل مع مفترض، فلأن تشرع لمفترض مع مفترض من باب أولى وأحرى. ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لو وجد معه رجلاً لم يقل للناس: (من يتصدق على هذا)، فكأن مقصود الشرع الرفق بالناس، ونفهم من قوله: (من يتصدق على هذا) أن مقصود الشرع حصول الجماعة بأية وسيلة ولو بإعادة الصلاة مرة ثانية، فإذا علمت أن مقصود الشرع هو حصول الجماعة من جهة قوله: (من يتصدق) دل قوله: (من يتصدق) على العموم، أي أن مقصود الشرع أن تحصل الجماعة الثانية، بدليل قوله: (من يتصدق) أي: من يجعل صلاة هذا صلاة جماعة، فإذا كان مقصود الشرع أن يتصدق على هذا، وأن تكون الصلاة بالرجل صلاة جماعة فلا فرق أن تقع الجماعة الثانية بمفترض مع مفترض، أو بمفترض مع متنفل، والقول بأن هذا خاص بالمتنفل تخصيص بدون مخصص، ولا يستقيم هذا القول. فلو قال قائل: إن هذا يختص بمتنفل مع مفترض، فهذا قول ضعيف؛ لأن مسلك التخصيص عند الأصوليين شرطه أن يكون الأصل خلاف ما ورد به النص، بمعنى أن يأتي أصل نص صريح يدل على أنه لا تجوز الجماعة الثانية، وليس عندنا نص صريح بل غاية ما فيه حديث ابن مسعود، وحديث تأخر النبي صلى الله عليه وسلم في الصلح بين حيين بقباء، فقدم المسجد فوجدهم قد صلوا، فلم يعرج على المسجد بل مضى إلى بيته، فهذا الحديث لا يدل على المنع من الجماعة الثانية -كما يقول الإمام مالك ومن وافقه-؛ لأن حديث الصلح يجاب عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم مضى إلى بيته، ودعوى أصحاب هذا القول أنه: لا تشرع الجماعة الثانية -أي: نهي ومنع وتحريم- تحتاج إلى صريح نص، ولذلك يقولون: دلالة الفعل لا تدل على التحريم، فيقول الجمهور: لا مانع أن ينصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته لئلا يكسر خواطر أصحابه؛ لأنه لو دخل المسجد لانكسر خاطر من صلى بهم، وقد كان عليه الصلاة والسلام من أرحم الناس بأصحابه، وغاية ما فيه أن يقال: إنه خارج المسجد، وخلافنا في داخل المسجد، والقاعدة في الأصول: (لا يحكم بالتعارض بين نصين إلا إذا اتحدا مورداً ودلالة). وقد جاءنا حديث أبي بكر في داخل المسجد، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم في خارج المسجد، مع وجود صريح اللفظ في حديث أبي بكر، ووجود دلالة فعل محتملة في حديث الصلح، فبقي قول من قال بمشروعية التكرار أقوى وأوجه وأولى بالاعتبار، ولذلك كان أرجح القولين، والعلم عند الله عز وجل. وقوله: [في غير مسجدي مكة والمدينة]. أي أن مسجدي مكة والمدينة لا يشرع تكرار الجماعة فيهما، وهذا توسط بين القولين اللذين ذكرناهما، وإلّا فإن الخلاف بين العلماء رحمة الله عليهم عام في المساجد كلها، وكان الإمام مالك رحمة الله عليه ومن وافقه من السلف يشددون في الجماعة الثانية من باب سد الذرائع، ومن أصول المالكية سد الذريعة؛ لأن عصورهم كان فيها أهل بدع وأهواء يتخلفون عن جماعة أهل السنة ويحدثون الجماعة الثانية، فخشي أن يفتح لأهل البدع والأهواء ما يفعلونه من التخلف عن الجماعة واستحداث جماعة ثانية حتى تكون شعاراً لهم، قالوا: ولأنه لو حدثت الجماعة الثانية لتقاعس الناس عن الجماعة الأولى، وهذه كلها علل عقلية لا تصادم النص الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (من يتصدق على هذا)، ولا تصادم النصوص التي دعت إلى إحياء الجماعة، وغاية ما نقول: إن الجماعة الثانية لو تخلف الإنسان لها فقد فاته فضل الجماعة الأولى، فبقي مشدود الهمة للجماعة الأولى تحصيلاً لفضيلة أول الزمان وفضيلة أولى الجماعتين.

حكم صلاة النافلة إذا أقيمت الصلاة

حكم صلاة النافلة إذا أقيمت الصلاة قال رحمه الله تعالى: [وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة فإن كان في نافلة أتمها إلا أن يخشى فوات الجماعة فيقطعها] هذه العبارة تعتبر جملة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح، وأصله قصة وقعت لبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصلاة فأقيمت الصلاة فكبر رجل ودخل في الصلاة، فلمّا سلّم النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل: (يا هذا بأي الصلاتين اقتديت؟ أبصلاتك وحدك أم بصلاتك معنا؟) وفي الحديث الآخر قال عليه الصلاة والسلام: (يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعاً)، وهذا الحديث يتضمن النهي عن الدخول في صلاة النافلة إذا أقيمت الصلاة المفروضة. فقوله: [إذا أقيمت الصلاة] معناه: إذا كان الإنسان في المسجد وأقيمت الصلاة الحاضرة [فلا صلاة] أي: لا يجوز له أن يبدأ في صلاة إلا المكتوبة التي أقيمت. وبناءً على ذلك فلو كان يريد التنفل، كأن يصلي الفجر القبلية ويكون ذلك عند الإقامة أو بعد الإقامة فإنه ينهى عن ذلك، ويعتبر فعله هذا محرماً ومنهياً عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فلا صلاة إلا المكتوبة)، والنفي في قوله: (فلا صلاة) يتضمن النهي؛ إذ لم يفرق بين صلاة وأخرى. وهناك فائدة ثانية، وهي أن هذا الحديث دلنا على أن التعارض بين الواجب وغير الواجب الذي هو أدنى منه يوجب تقديم الواجب لعلو مرتبته في الشرع، ووجه ذلك أنه إذا أقيمت الصلاة وأنت في المسجد فإنك مخاطب بواجب حاضر وهو الصلاة مع الجماعة، والتنفل دون هذا الواجب، وبناءً على ذلك تقطع هذه النافلة وتدخل في الفريضة مع الجماعة. وفيه دليل على فائدة ثالثة، وهي أن الإسلام يريد من المسلمين أن يكونوا جماعة واحدة، ولا يريد التفرق حتى في أشرف العبادات وهي الصلاة، ولذلك منع المصلي أن ينفرد عن الجماعة في المسجد، وكما أنه في الابتداء يدخل مع الجماعة فكذلك عند الانتهاء، فلو دخلت قبل تسليم الإمام ولو بلحظة فإنك تدخل مع الجماعة، وحينما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أنه سيكون عليهم أئمة يؤخرون الصلاة قال الصحابي: ماذا أفعل؟ قال: (صلِّ الصلاة لوقتها، ثم صلها معهم) أي: لا تشذ عن الجماعة، وقال للرجلين لمّا صليا بعد يوم النحر بمنى ثم جاءا إلى ناحية من المسجد فلم يصليا: (ألستما بمسلمين؟) أي: لو كنتما مسلمين لكنتما مع جماعة المسلمين قالا: بلى يا رسول الله. ولكنا صلينا في رحالنا. قال: (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا؛ فإنها لكما نافلة) يقول العلماء رحمة الله عليهم: وهذا كله يؤكد أمر ولزوم جماعة المسلمين ما أمكن، حتى في أشرف المواطن وأعظمها وهي الصلاة. فلو فتح للناس أن يتنفلوا أثناء الفريضة لتفرقت جماعة المسلمين، وأصبح هذا يصلي الرغيبة وهذا يصلي تحية المسجد، فلا يدري الإنسان وهو داخل عن حال الجماعة، لكنهم إذا صلوا وراء إمام واحد، واقتدوا بإمام واحد كان ذلك أبلغ في الاجتماع والاتئلاف، وهذا هو مقصود الشرع من صلاة الجماعة. وللإنسان عند إقامة الصلاة حالتان: الحالة الأولى: أن تقام الصلاة ثم يبتدئ النافلة، وهذا محرم بالإجماع، فلا يشرع في النافلة بعد إقامة الصلاة، سواءٌ أكانت في أول الإقامة أم بعد الانتهاء من الإقامة، أم في أثنائها، فإذا قال المؤذن: (الله أكبر)، يقيم الصلاة فإنه يحرم على الإنسان أن يكبر لنافلة أو غيرها. وقد استثنى بعض فقهاء الحنفية المتأخرين رحمة الله عليهم رغيبة الفجر، فتجدهم ينفردون يصلون ولو كان الإمام في الأولى، واحتجوا بحديث ضعيف: (إلا رغيبة الفجر)، ولكنه لا يقوى على استثناء هذا النص الصحيح الصريح، وبناءً على ذلك فإن العمل على ما عليه جماهير العلماء من أنه لا يجوز إذا أقيمت الصلاة أن يبتدئ المصلي بصلاة نافلة أياً كانت هذه النافلة. الحالة الثانية: أن تقام الصلاة وأنت في أثناء الصلاة، فإن غلب على ظنك أنك سوف تتم الصلاة قبل أن يركع الإمام ويمكنك أن تدرك الركعة معه فحينئذ تتم الصلاة على قول جماهير العلماء، خلافاً للظاهرية وأهل الحديث، حيث قالوا: إذا أقيمت الصلاة -حتى ولو غلب على ظنك أنك تدرك الإمام في ركوعه- فإنك تقطع هذه الصلاة، ولو كنت في آخرها؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (فلا صلاة إلا المكتوبة) والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن الله يقول -كما في التنزيل-: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، فنهانا عن إبطال العمل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن خير أعمالكم الصلاة)، فنهانا الله عن إبطال العمل، والصلاة عمل، فلا نبطلها إلا بوجه بين، فإنه إذا غلب على ظنك أنك مدرك للركعة جمعت بين الأمرين، والقاعدة: (الجمع بين النصين أولى من العمل بأحدهما وترك الآخر). ثم إننا نقول: إن قوله: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة) هو نص في ابتداء الصلاة، وليس المراد به إلغاء الصلاة التي من قبل، وبناءً على ذلك فإنه يقوى أن يكون المعنى: (فلا صلاة ابتدءاً)، ويؤخذ المعنى منسحباً إلى كل صلاة تؤدي إلى فوات جزء الصلاة ركعة فأكثر. وقوله: [فلا صلاة إلا المكتوبة]. المكتوبة هي المفروضة؛ لأن الكَتْب يطلق بمعنى الفرض، ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] أي: فرض ووجب ولزم عليكم الصيام، فالكتب هو الفرضيّة والوجوب، فمن هنا يكون قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) أي: المفروضة الحاضرة. وقوله: [فإن كان في نافلة أتمها إلا أن يخشى فوات الجماعة فيقطعها]: أي: إن كان في نافلة فإنه يتمها إن وسعه الإتمام دون أن تفوته الركعة، وأما إذا كانت الركعة سوف تفوته فإنه يقطعها ويدخل في الجماعة.

ما تدرك به فضيلة الجماعة

ما تدرك به فضيلة الجماعة قال رحمه الله تعالى: [ومن كبر قبل سلام إمامه لحق الجماعة]. إذا دخلت إلى المسجد والإمام في التشهد الأخير ففي هذه الحالة تعتبر غير مدرك للركعة؛ لأن من أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة، وهناك أمران عند العلماء: أحدهما: حكم الصلاة مع الجماعة. وثانيهما: فضل الجماعة. فهناك فرق بين الحكم وبين الفضل، يُقال: أدرك الفضل. ويقال: أدرك الحكم. وإدراك الحكم شيء، وإدراك الفضل شيء آخر، فإذا كان الإنسان قد أدرك ركعة فأكثر مع الإمام فقد أدرك الصلاة، فلو أدركت ركعة فأكثر، كأن دخلتَ في صلاة الظهر فأدركت الإمام في الركعة الأخيرة، وكبرت وركعت معه فأنت مدرك للصلاة، وكذلك الحال لو أدركته يوم الجمعة في الركعة الأخيرة، فأنت مدرك للجمعة، وحكمك حكم المجمّع. الحالة الثانية: إدراك الفضل، وهو على صورتين: الأولى: إدراك الفضل الحقيقي بالدخول مع الجماعة الأولى الذي يتضمن إدراك فضلها وقتاً. الثانية: إدراك فضلها ثواباً، ولكن دون ثواب من أدركها كاملة، وهناك إدراك فضلها بمطلق الخروج. فأما إدراك فضلها الذي يكون دون إدراك الحكم فكما لو أدركته قبل التسليم وقلت: (الله أكبر)، فانتهيت من تكبيرة الإحرام قبل أن يسلم فقد أدركت فضل الجماعة، وبناءً على ذلك قال بعض العلماء: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)، وفي رواية: (بخمس وعشرين درجة) محمول في رواية السبع والعشرين على من أدركها من أولها، وأجر الخمس والعشرين لمن أدرك آخر أجزائها، فيكون أقل ما يدركه الإنسان في فضل صلاة الجماعة الخمس والعشرين جزءاً، وإذا أدركها من ابتدائها فيدرك سبعاً وعشرين درجة، ويتردد بين الفضيلتين، فهذا بالنسبة لإدراك الفضيلة. وتوضيح هذين الأمرين يتضح بصلاة الجمعة، فلو أن إنساناً أدرك الإمام في يوم الجمعة في الركعة الأخيرة فقد أدرك الجمعة، ويتم ركعة واحدة، لكنه لو أدرك الإمام بعد الرفع من الركوع ولم يدرك الركعة الأخيرة نقول: أدرك فضيلة الجمعة ويتمها ظهراً؛ لأنه لم يدرك الحكم، فهناك فرق بين حكم الجمعة وبين فضلها، وبين حكم الجماعة وبين فضلها. وبناءً على هذا فمن أدرك الإمام قبل تسليمه ولو بلحظة فكبر فإنه مدرك للفضيلة، وبناء على ذلك لو دخلت ولو قبل تسليم الإمام بلحظة فإن الجماعة الأولى التي تدركها أفضل من الجماعة الثانية التي ستصلي معها، خلافاً لمن اختار من بعض الأئمة أنه ينتظر ويقيم جماعة ثانية، وهذا فيه إشكال من وجوه أشهرها وجهان: الوجه الأول: أنه مخالف لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (فما أدركتم فصلوا)، وهذا عموم؛ حيث لم يفرق بين إدراك الحكم وإدراك الفضيلة، وهذا نص لا يحتاج إلى اجتهاد، ولم يقل: إلا أن يكون قبل السلام بلحظة فجمعوا، وإنما قال: (فما أدركتم فصلوا). الوجه الثاني: أنك لو دخلت مع الجماعة الأولى أدركت فضيلة الجماعة الأولى في الوقت، ولكن لو تأخرت وأحدثت جماعة ثانية فقد فاتك من الفضائل ما الله به عليم؛ لأنه ربما تكون اللحظة بين أول وقت الصلاة وبين التي تليها كما بين السماء والأرض. وفي الحديث: (إن العبد ليصلي الصلاة وما يصليها في وقتها -أي: الكامل- ولما فاته من وقتها خير من الدنيا وما فيها)، فربما أن الجماعة الأولى ستأخذ الركعة الأولى والثانية والثالثة والرابعة فيها أجزاءً من الوقت، وقد تطول الصلاة، فعندما تدخل مع الإمام قبل تسليمه ولو بلحظة فقد أدركت فضيلة الوقت، وكان لك حكم الجماعة الأولى التي أدركت من فضل الوقت ما لم تدركه الجماعة الثانية. ومن هنا ترجح قول الجماهير أنه يدخل مع الجماعة الأولى، ولكن استحب بعض العلماء أنه لو دخل بجواره من يفقه ويعلم أن يقول له إذا دخل بعد الركعة الأخيرة: إذا سلم الإمام فائتم بي. فإذا سلم الإمام فإنه يقتدي هذا المتأخر بالمتأخر، ولو كانا اثنين دفعهما وراءه ثم صلى بهما، أما لو أدرك ركعة فأكثر فلا يحدث جماعة ثانية، فيكون مدركاً لفضيلة الجماعة الثانية ومدركاً لفضيلة الجماعة الأولى، وهذا أنسب الوجوه وأحبها عند طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم. قال رحمه الله تعالى: [وإن لحقه راكعاً دخل معه في الركعة وأجزأته التحريمة]. الضمير في [وإن لحقه] راجع إلى الإمام، فإن لحق الإمام راكعاً أدركه، أي: إذا كبر تكبيرة الإحرام فإنه يعتبر مدركاً لتلك الركعة ما لم يرفع الإمام رأسه، وبناء على ذلك فإن أصح أقوال العلماء -وهو مذهب الجمهور- أن من أدرك الإمام راكعاً وركع معه فإنه يعتبر مدركاً للركعة وتسقط عنه الفاتحة. وهناك حديث في ذلك صحيح قوي، وهو حديث أبي بكرة رضي الله عنه: أنه انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (زادك الله حرصاً ولا تَعُدْ)، فروي بلفظ: (ولا تَعْدُو)، ولفظ: (ولا تُعِد)، وأصحها: (ولا تَعُد) أي: لا تعد إلى التأخر عن الجماعة حتى تضطر إلى هذا الفعل. وقيل: (لا تَعُد) بتكبير دون الصف والمشي؛ لأنه حركة في أثناء الصلاة، وأما رواية: (لا تعْدُ) فلأن المساجد القديمة المفروشة بالحصى إذا أسرع الإنسان فيها شوش بصوت الحصى، وهذا موجود إلى الآن، فقال: (لا تعدُ)؛ لأن الصلاة تحتاج إلى سكينة. وأما رواية: (ولا تُعِد) أي: لا تعد الركعة فقد أجزأتك، والروايتان الأخيرتان أضعف من الرواية الأولى، وهي: (ولا تَعُد)، أي: لا تعد إلى هذا التأخير الموجب لفوات الفضل عليك. و (راكعاً) في قوله: [وإن لحقه راكعاً] حال، أي: حال كونه راكعاً، وبناءً على ذلك فأنت حينما تدرك الإمام راكعاً فأنت على أحوال: الحالة الأولى: أن تنتهي من التكبير والانحناء قبل أن يُسمّع الإمام ويرفع رأسه؛ لأن هنا شيئين: شيئاً يصدر منك وهو التكبير، وشيئاً يصدر من الإمام وهو التسميع والرفع من الركوع. فعندنا أمران لا بد من بيانهما لتفصيل أحكام الإدراك، فالذي يفعله المكلف التكبير والانحناء لكي يدرك الركوع، والذي يفعله الإمام التسميع والرفع من الركوع، فالذي يدرك الإمام راكعاً إما أن يقول التكبير ويفعل الانحناء، بمعنى أن يركع قبل أن يتلفظ الإمام ويرفع رأسه، وبناءً على ذلك تكون قد أدركت القول والفعل قبل أن يكون من الإمام القول والفعل، فحينئذٍ لا إشكال أنك مدرك للركوع عند من يقول: إن إدراك الركوع يوجب إدراك الركعة. الحالة الثانية: أن تدرك القول ولا تدرك الفعل قبل رفعه، بأن تقول: (الله أكبر)، ثم يقول الإمام: (سمع الله لمن حمده) قبل أن تحني رأسك، أو قبل أن تركع، ففي هذه الحالة إذا انتهيت من راء (أكبر) قبل أن يبتدئ الإمام بالسين من (سمع الله لمن حمده) فأنت مدرك للركعة؛ لأنك بتكبيرك قد دخلت، وتسقط عنك التكبيرة الثانية؛ لأنها داخلة في الأولى، وبناء على ذلك يجزئ المكلف في قول الجماهير تكبيره واحدة لإدراك الركعة، كما اختاره المصنف ودرج عليه. وبناءً على هذا فالعبرة بانتهائك من قولك: (الله أكبر)، فإن ابتدأ الإمام بالسين من (سمع) أثناء تكبيرك، أو قبل ابتدائك التكبير فتبقى واقفاً؛ لأنك لم تدرك الركوع، وقد أدركت الرفع من الركع، فتبقى واقفاً لم تدرك الركعة ويلزمك قضاءها. الحالة الثانية: أن تبتدئ بالتكبير وترى الإمام أمامك رافع الرأس قبل أن يسمع كما يفعل بعض الأئمة، فيسبق الفعل القول، فأنت تراه أمامك قد رفع رأسه، فإذا رفع قلت: (الله أكبر)، قبل أن تسمع منه الصوت فحينئذ أنت مدرك ولا عبرة بالفعل؛ لأن العبرة بالانتقال الذي هو التسميع، قال صلى الله عليه وسلم: (من أدرك الركوع فقد أدرك السجود، ومن أدركهما فقد أدرك الركعة)، وأمر عليه الصلاة والسلام من أدرك الإمام على حالة أن يدخل معه عليها، وقوله: (من أدرك الركوع فقد أدرك السجود، ومن أدركهما فقد أدرك الركعة) نص في أن إدراك الركوع يوجب ثبوت إدراك الركعة، وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) فإنه عموم مخصص بالنصوص السابقة، كحديث أبي بكرة الصحيح، وحديث: (من أدرك الركوع فقد أدرك السجود، ومن أدركهما فقد أدرك الركعة)، ثم إننا نقول: إن إيجاب قراءة الفاتحة محله إذا وسع الوقت لقراءتها، وهذا لم يسع الوقت له بالقراءة، وبناء على ذلك لا يجب عليه أن يقرأ الفاتحة ولا يلزمه ذلك، وتسقط عنه، والركعة مجزئة.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية قطع النافلة إذا أقيمت الصلاة

كيفية قطع النافلة إذا أقيمت الصلاة Q إذا شرع المصلي في نافلة، ثم أقام المؤذن للصلاة، فكيف يكون القطع لصلاة النافلة؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فمن دخل في صلاة ثم أقيمت الصلاة وأراد أن يقطع فمذهب جمهور العلماء أن قطعها يكون بالتسليم، وذلك لحديث علي الصحيح في الصلاة قال (تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)، فلم يفرق بين التحليل الذي يكون أثناء الصلاة أو بعد الصلاة، والقاعدة أن النص العام يبقى على عمومه. وذهب الحنفية رحمة الله عليهم وأهل الرأي إلى أنه ما دام سيقطع الصلاة فلا يحتاج إلى تسليم، فقالوا: لو التفت أي التفات، أو فعل أي فعل فإنه يخرج به عن الصلاة ويجزئه ذلك. وقال بعضهم: لو نوى الخروج بقلبه أجزأه. وكلا القولين ضعيف للآتي: أولاً: أنه اجتهاد في مقابل النص؛ فإن النص: (وتحليلها التسليم) عام، والأصل في العام أن يبقى على عمومه. ووجه هذا العموم أنه قال: (تحريمها) بمعنى أنه دخل في الحرمات بالتكبير، فدل على أنه أثناء الصلاة في حرمة، ولا يخرج إلا بما يخرج من الحرمة وهو التحليل، فقال: (وتحليلها التسليم)، وبناء على ذلك يبقى هذا العام على عمومه، كما هو مذهب الجمهور. أما قولهم: إنه يخرج بنيته فهذا محل نظر؛ لأن الشريعة فيها ثلاثة أوجه: الأول: ما انحصر فيه الحكم في الباطن. الثاني: ما انحصر فيه الحكم في الظاهر. الثالث: ما اجتمع فيه الحكم بينهما، أي: بين الظاهر والباطن. فهناك أمور تجزئ فيها النية -الباطن- ولا يحتاج إلى ظاهر، وهناك أمور يجزئ فيها الظاهر ولا يحتاج فيها إلى نية، وهناك أمور يجمع فيها بين الأمرين. فما كان فيه حكم للظاهر فإنه لا يقتصر فيه على الباطن، وما كان الحكم فيه للباطن لا يقتصر فيه على الظاهر؛ لأن الشريعة أعطت كل شيء حقه وحظه، فلما كانت الصلاة أفعالاً قائمة على الظاهر والدخول فيها راجع إلى النية فإنه كما أنه لا يصح أن يصلي بنية خالية عن الفعل كذلك لا يصح أن يبطل الصلاة بنية خالية عن الفعل، ولذلك فإن الخروج من الصلاة في حكم الشرع وفعل الشرع إنما يكون بالفعل مع النية المصاحبة، فلو سلم ساهياً لم يجزه السلام وعليه أن يعيد السلام؛ لأن الشرع اعتبر الظاهر مع الباطن، فكذلك هنا، وهذا إذا جئنا إلى العقل والرأي. أما إذا جئنا إلى النص الذي ينبغي أن يحتكم إليه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (وتحليلها التسليم)، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أيها الناس: من كبر في صلاة فقد دخل في حرمات الصلاة. ولذلك سميت التكبيرة بتكبيرة الإحرام، فمن دخل في حرمات الصلاة لا يخرج إلا بتحليل، ولذلك قال: (تحليلها التسليم)، وقال: (تحريمها التكبير)، فكل من كبر فقد أحرم، ومن أحرم لا بد وأن يخرج بحل وإذن من الشرع. فالذي يظهر أنه لا بد وأن يسلم، ويجزئه أن يسلم تسليمة واحدة عن يمينه يقول: (السلام عليكم)، فيكون قد خرج من صلاته، ويدخل في الفريضة بعد ذلك. والله تعالى أعلم.

قراءة الفاتحة لمن يخشى فوات الركعة

قراءة الفاتحة لمن يخشى فوات الركعة Q إذا دخلت مع إمام في سرية، وبعد شروعي في قراءة الفاتحة ركع الإمام، وإذا علمت أني لو أكملت قراءة الفاتحة فلن أدرك الركعة مع الإمام فماذا أفعل؟ A من أدرك الإمام قبل أن يركع فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تدرك قدراً يمكنك معه قراءة الفاتحة فحينئذ يجب عليك قراءة الفاتحة، وتتم الفاتحة ثم تركع، وتدرك الإمام. الحالة الثانية: أن تكون غير مدرك للقدر الذي يمكن معه قراءة الفاتحة، فعند تكبير الإمام لو قرأت آية أو آيتين، وغلب على ظنك أنك لو أتممت الفاتحة أن الإمام سيرفع فإنك تقطع الفاتحة وتركع؛ لأن الذي وجب عليك قراءة الآيتين اللتين أدركت وقتهما، وما بعدهما ليس بواجب عليك؛ لأن الوقت الذي أدركته ليس كافياً لوجوب الفاتحة عليك، فكأنك أدركت الإمام راكعاً فتسقط عنك قراءة الفاتحة، وتعتبر قراءة ما قرأته حداً مجزئاً أو كافياً في براءة الذمة، والله تعالى أعلم. أما لو أدرك قدراً يمكن معه قراءة الفاتحة وتساهل أو تشاغل، ثم ركع الإمام وغلب على ظنه أنه سوف يرفع فترك الفاتحة وركع مع الإمام فإنه يلزمه قضاء هذه الركعة؛ لأنه فرط، والمفرط ملزم بسبب تفريطه، والله تعالى أعلم.

الائتمام بالمسبوق بعد ما يفارق الإمام

الائتمام بالمسبوق بعد ما يفارق الإمام Q من أدرك الإمام قبيل السلام فهل يشترط أن يخبر من بجواره أن يأتم به، أم لا حرج ولو ائتم به دون قصد مسبق؟ A لا حرج عليه، سواء أطرأ القصد أم كان سابقاً؛ لكن ينبغي أن لا يقف قبل وقوفك، فإن وقف قبل وقوفك فإنه لا يدخل معك؛ لأنه ينتقل من الإفراد إلى الائتمام، لكن لو أنك أخبرته قبل أن تدخل مع الإمام فقلت: إذا سلم الإمام فائتم بي فهذا هو الذي ينبغي، وهو الأفضل والأحرى، وخاصة لكثرة جهل الناس بمثل هذا، فتخبره قبل أن يسلم الإمام حتى يكون على بينة، ثم تنال فضل الجماعتين على الصورة التي ذكرناها. والله تعالى اعلم.

باب صلاة الجماعة [3]

شرح زاد المستقنع - باب صلاة الجماعة [3] أحكام صلاة الجماعة كثيرة ومتنوعة، ينبغي على المسلم أن يعلمها ويلم بها، ومنها: حكم القراءة للمأموم، سواء في الجهرية أم في السرية، وحكم متابعة المأموم لإمامه، ومشروعية التخفيف في صلاة الجماعة، وتطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية، ومنها: حكم خروج المرأة إلى المسجد وغيرها من المسائل.

تابع أحكام صلاة الجماعة

تابع أحكام صلاة الجماعة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ولا قراءة على مأموم]. هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم: - فمن أهل العلم من يرى وجوب قراءة الفاتحة على المصلي، سواءٌ أكان منفرداً أم كان في جماعة، وذلك لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج)، والقاعدة في الأصول أن (أي) من ألفاظ العموم؛ حيث لم يفرق بين المأموم والمنفرد. وذهبت طائفة من العلماء إلى سقوط الفاتحة وراء الإمام مطلقاً في السرية والجهرية. وذهبت طائفة ثالثة إلى وجوبها في السرية على المأموم دون الجهرية؛ فإن الإمام يحملها عنه في الجهرية، كما درج على ذلك المصنف رحمه الله، وهي رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه. أما الذين قالوا بسقوطها عن المأموم وراء الإمام فيحتجون بحديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)، كما هو مذهب الحنفية ومن وافقهم، ويحتجون أيضاً بما رواه أبو داود وأحمد في مسنده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن) قالوا: الضمين: هو الحميل الذي يضمن الشيء ويتحمله، فهو يحمل عن المأموم، وبناءً على ذلك لا تلزم المأموم قراءة الفاتحة، فهذا مذهب من يرى الإسقاط، سواءٌ في جهرية أم سرية. وهناك من يرى التفصيل فيقول: إن كانت جهرية سقطت القراءة؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]، وفي السرية يقرأ لحديث: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج)، الحديث، وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، فعملوا بالنص في السرية، وأما في الجهرية، فقالوا: إنه مأمور بالإنصات، فيلزمه الإنصات ولا يقرأ. والذي يترجح -والعلم عند الله- القول بوجوبها مطلقاً، سواءٌ أكانت الصلاة سرية أم جهرية، في جماعة أم منفرداً، وذلك لما يلي: أولاً: لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ... ) الحديث، ولم يفرق. كما أن الصلاة في قوله: (لا صلاة لمن لم يقرأ) نكرة في سياق النفي، والقاعدة أنها تفيد العموم. ثانياً: النص الصحيح الصريح القوي في هذا، وهو أنه لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه فارتج عليه قال: (لعلكم تقرءون وراء إمامكم؟ قالوا: نعم. قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، وقد قال بعض العلماء المتأخرين: إن هذا الحديث منسوخ بحديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)، وهذا القول ضعيف من وجوه: الوجه الأول: أن حديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) ضعيف عند جماهير المحدثين، والضعف فيه من القوة بمكان. الوجه الثاني: أنه لو قيل بتحسينه فهناك قاعدة في الأصول تقول: (إن النسخ لا يثبت بالاحتمال)؛ لأنا لا ندري أي الحديثين أسبق. الوجه الثالث: أن متن هذا الحديث وهو: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) لا يقوى على معارضة متن: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)؛ فإن قوله: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) دل على أن هناك قراءتين: قراءة الفاتحة، وقراءة ما بعد الفاتحة التي هي السورة، فقال: (لا تفعلوا -أي: في السورة- إلا بفاتحة الكتاب)، فاستثناها، وفي الحديث الآخر لم يقل: فكل قراءة الإمام له قراءة. وإنما قال: (فقراءة الإمام له قراءة)، والقراءة إنما تكون لما بعد الفاتحة، وتبقى الفاتحة على الأصل. وهذا أنسب الوجوه عند جمع من العلماء؛ لأنه يجمع بين النصين، ولذلك يقولون: لا يقوى التخصيص ولا المعارضة إلا إذا استويا دلالة وثبوتاً، فحديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) أضعف ثبوتاً؛ لأن غاية ما قيل فيه: إنه حسن لغيره، وحديث (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج) وحديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وكذلك حديث: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) أقوى صحة من هذا الحديث، فهذا من جهة السند. أما من جهة المتن فعمومات صريحة، حتى إن بعض العلماء يرى أن النص العام قطعي الدلالة على أفراده ثم إن القاعدة في الأصول أن صورة السبب قطيعة الدخول في الحكم. وصورة السبب وردت في صلاة الفجر وهي جهرية، وبناءً على ذلك تعتبر الصلاة الجهرية قطعية الدخول في هذا الحكم: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، وحديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) متردد، فلا ندري أقراءة الفاتحة هي المرادة به أم قراءة ما بعد الفاتحة، فهو لا يقوى على المعارضة. وبناءً على ذلك فالذي تطمئن إليه النفس القراءة، ولذلك فقد روى البيهقي بسند صحيح في كتابه النفيس: (القراءة وراء الإمام) أن أبا هريرة سئل: متى أقرأ إذا عجل الإمام؟ قال: اقرأها في سكتات الإمام قال: فإن عجزت؟ قال: اقرأها وقول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] عموم تستثنيى منه الصلاة؛ لأن القرآن إذا قرئ فالاستماع له واجب، وقوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج) يدل على الوجوب واللزوم ويدل على أنه ركن من أركان الصلاة، كما هو قول من يقول باعتبار الفاتحة، فوجوب الفاتحة آكد من وجوب الاستماع. وثانياً: أن الاستماع منفصل ووجوب الفاتحة متصل، والقاعدة أن الواجبات أو الفروض إذا تعارضت ينظر إلى جهاتها، فيقدم باختلاف الجهات، فلما كانت عين الفاتحة على المأموم متصلة به، والاستماع إلى غيره منفصل عنه قدم المتصل بوجوبها على المنفصل، ولذلك ترجح القول بالوجوب على العموم.

حكم قراءة المأموم الفاتحة خلف الإمام

حكم قراءة المأموم الفاتحة خلف الإمام

استحباب قراءة الفاتحة للمأموم أثناء سكوت الإمام أو إسراره

استحباب قراءة الفاتحة للمأموم أثناء سكوت الإمام أو إسراره قال رحمه الله: [وتستحب في إسرار إمامه وسكوته وإذا لم يسمعه لبعد لا لطرش]؛ لأنهم لا يرون وجوبها. قوله: [في إسراره] أي: في الصلاة السرية. وقوله: [وسكوته] أي: في حال سكتات الإمام، فإذا أراد أن يقرأ الفاتحة فلا يقرأها في الصلاة الجهرية على مذهب من يرى أنها لا تقرأ في الصلاة الجهرية. وقوله: [وإذا لم يسمعه لبعد لا لطرش]. كأن هذا المذهب قائم على كونه يسمع قراءة الإمام، ولذلك يعتبر الاستشهاد بالآية أضعف من الاستشهاد بالحديث الذي هو نص في موضع النزاع، فقالوا: لما كان وجوب أو إسقاط الفاتحة مبنياً على سماع قراءة الإمام فإنه لو كان بعيداً لن يسمع؛ لأنه في القديم لم تكن هناك وسائل تعين على نقل الصوت مثل الأجهزة الموجودة الآن، فكان الصف قد يصل إلى مائتين أو ثلاثمائة أو أربعمائة أحياناً فلا يسمع الصوت، ولذلك اختلفوا فيما لو أن إنساناً أراد أن يصلي الفجر والصف طويل وليس هناك مكبر صوت، فإذا اقترب من الإمام يسمع القراءة سيكون في الصف الثاني أو الثالث، فهل الأفضل أن يكون في الصف الأول مع عدم سماع القراءة، أم يكون قريباً من الإمام مع تخلفه في الصف؟ فهذا مسألة خلافية في صلاة الفجر، فبعضهم يرى أن استماعه للقرآن وتأثره به لفضل القراءة في صلاة الفجر أفضل؛ لقوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] فيستثنون صلاة الفجر. وبناءً على ذلك قالوا: إذا كان بعيداً لا يسمع الإمام لا لطرش -والأطرش: هو ثقيل السمع- فمثل هذا يبقى على الأصل، أما من لا يسمع لبعد فيستحب له القراءة.

دعاء الاستفتاح

دعاء الاستفتاح قال رحمه الله: [ويستفتح ويستعيذ فيما يجهر فيه إمامه]. قوله: [ويستفتح] أي: يقرأ دعاء الاستفتاح. وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، قالوا: فيسن أن يقرأ دعاء الاستفتاح ولذلك لما سأل أبو هريرة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دعاء الاستفتاح علمه، ولم ينكر عليه ذلك، ولم يقل: هذا خاص بي. وهنا مسألة مهمة، وهي أنه: إذا قلنا بمشروعية الاستفتاح وراء الإمام فلو جئت في صلاة الظهر أو العصر، أو أي صلاة والإمام قبل الركوع بقليل، بحيث يغلب على ظنك أنك لو قرأت الاستفتاح لم تستطع قراءة الفاتحة فحينئذٍ تترك الاستفتاح، وبمجرد تكبيرك تبدأ بقراءة الفاتحة؛ لأننا عهدنا من الشرع تقديم الواجب على ما هو دونه، كما في الحديث: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)، فعلمنا أن الشرع يقدم الأهم على المهم، وبناءً على ذلك فإنه يقدم قراءة الفاتحة ويشتغل بها، قال بعض العلماء: لو كبر وقرأ الاستفتاح وركع الإمام ولم يقرأ الفاتحة ولم يتمكن منها لم تجزه الركعة، وعليه قضاؤها؛ لأنه حينما أدرك القدر الذي تقرأ فيه الفاتحة فوجبت عليه قراءتها، وهذا إذا أدرك وقتاً يغلب على ظنه أنه لو قرأ الاستفتاح وراء الإمام فاتته الركعة، فتسقط عنه من هذا الوجه. فإذا كان الأصل في إسقاط القراءة عن المأموم الاستماع في الجهريات أو غير الجهريات بناءً على أن الإمام يتحمل قالوا: يبقى دعاء الاستفتاح على ما هو عليه، ويبقى التعوذ، فيستفتح ويستعيذ بالله عز وجل من الشيطان، ثم يبقى ساكتاً منصتاً لقراءة الإمام إذا كان يقرأ، أو ينتظر تكبير الإمام، وإذا قرأ على الاستحباب فلا حرج عليه، لا على الحتم والإيجاب.

سبق الإمام بالركوع أو السجود

سبق الإمام بالركوع أو السجود قال رحمه الله: [ومن ركع أو سجد قبل إمامه فعليه أن يرجع ليأتي به بعده]. ذلك لأن الله عز وجل أوجب على المأموم متابعة الإمام، ويحرم على المأموم أن يسابق إمامه، ويكره له أن يوافقه، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به ... ) الحديث. أي: إنما شرع الله الإمام من أجل أن يؤتم به، فقوله: (ليؤتم به) بمثابة التعليل، كقوله: (إنما فعلت هذا لتأتموا بي)، فاللام تعليلية، أي: إنما شرع الله الإمامة في الصلاة لكي يكون الإمام بمثابة القدوة لمن بعده، فيوقع فعله بعد فعله، ولا يوقعه قبله. وقال أئمة اللغة: الإمام: مأخوذ من الأمام والأمام هو الخط الذي يخط في أول الباب عند البناء؛ لأنه يعول عليه ويبنى عليه، فصلاة المأموم لما كانت واقعة وراء الإمام كأنها بنيت على صلاة إمامه، ولذلك لا يجوز للمأموم أن يسبق الإمام، فإن سبقه أعاد. قال رحمه الله: [فإن لم يفعل عمداً بطلت]. أي: إن سبقه في ركن فركع قبله، ولم يرجع لكي يتابع الإمام ويكبر ويركع بعده بطلت صلاته، وحينئذٍ يلزمه أن يستأنف الصلاة، لكن لو أنه ركع قبل الإمام ولم يشعر، إما لغلبة هم أو حزن عليه، أو فرح، أو انشغال ذهن، فلم يشعر إلا وقد كبر وركع، فلم يفاجأ إلا والإمام قال: (الله أكبر) وركع، فقالوا في هذه الحالة يرجع ويكبر وراء الإمام ويدركه في الركوع، وهكذا الحال لو شعر قبل أن يكبر الإمام. فإنه يرجع مباشرة إلى حالته مع الإمام، ولا يبقى على حالة السبق والتقدم؛ لأن ذلك مما نهى الله عز وجل عنه. ومن الأدلة التي تدل على عظم هذا الأمر قوله عليه الصلاة والسلام: (أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار)، والقاعدة في الأصول أنه إذا ورد الوعيد بعقوبة دينية أو دنيوية أو أخروية فإن هذا مشعر بالإثم وبكون الفعل ذنباً وهذا من دلائل المنهيات وأنها تدل على التحريم، ويعتبر العلماء رحمة الله عليهم سبق الأئمة بالأركان كبيرة من الكبائر؛ لورود الوعيد على من سبق الإمام، واختص الرفع من الركوع لكثرة البلوى به؛ لأن الانحناء في الركوع غالباً ما يكون فيه مشقة، فالركوع ليس كالسجود، ولذلك يعجل الناس في مثله لقربهم من الاعتدال، ولخفته عليهم، فخص الركوع بهذا، فلذلك يقولون: لا فرق بين ركن الركوع وغيره من سائر الأركان، فالشرع قصد أن يرتبط المأموم بإمامه، وكونه يورد هذا الوعيد على هذا الفعل يدلنا على أنه كبيرة من كبائر الذنوب، ولذلك عده جمع من الأئمة والعلماء -منهم صاحب الزواجر- أنه من كبائر الذنوب وهذا بناءً على ثبوت ضابط الكبيرة فيه. قال رحمه الله: [وإن ركع ورفع قبل ركوع إمامه عالماً عمداً بطلت]. أي: بطلت صلاته، سواءٌ أتم الركعة ورفع قبله أم ركع عامداً ولم يرفع أو ينتظره حتى رفع، فكل ذلك يوجب بطلان صلاته بالعمد. قال رحمه الله: [وإن كان جاهلاً أو ناسياً بطلت الركعة فقط]. يعذر بالجهل -عند من يقول بالعذر بالجهل- أن يكون جاهلاً بالاقتداء، وبعد ذلك رأى الناس يتابعون الإمام فرجع إلى المتابعة، فإنه في هذه الحالة يعذر عند من يقول بعذره، وهذا خاصة في الناس الذين هم حديثوا عهد بإسلام، فمثلاً شخص قيل له: صلِ مع الجماعة وعرف أنه يقرأ ثم يركع ثم يرفع، فجاء وسبق الإمام في الركوع، فرأى أن أصحابه لم يركعوا، فعلم أن الذي فعله خطأ، ثم رجع والتزم مع الإمام، فإن هذا يعتبر عذراً عند طائفة وجمع من أهل العلم رحمة الله عليهم. وقوله: [أو ناسياً]. أي: أو ناسياً كونه مع الإمام، فيظن أنه لوحده، وهذا يحصل مع غلبة الفرح، أو غلبة الترح، أو الحزن، أو يكون منصرف الذهن -نسأل الله السلامة والعافية- فيسهو عند الانتهاء من القراءة، فلا يفاجأ إلا وهو راكع يظن أنه لوحده، ثم يتذكر أنه مع الإمام، فإنه يرجع ويتابع الإمام على الصورة التي ذكرنا. قال رحمه الله: [وإن ركع ورفع قبل ركوعه، ثم سجد قبل رفعه بطلت إلا الجاهل والناسي]. ومن فعل هذا يلزمه في هذه الحالة قضاء هذه الركعة بعد سلام الإمام، كأنه لم يدرك الإمام في هذه الركعة، فإن كان قد صلى مع الإمام أربع ركعات -كصلاة الظهر- فإنه يلغي هذه الركعة، ويصبح حاكماً على نفسه بأنه مدرك لثلاث ركعات، كأنه سبق بركعة كاملة؛ لأنه إذا سبق الإمام في الأركان الثلاثة فقد سبقه في أغلب الركعة، فحينئذ تلغى هذه الركعة، ويلزمه قضاؤها كاملة. قال رحمه الله: [ويصلي تلك الركعة قضاء]. أي: بعد سلام الإمام يقوم ويأتي بهذه الركعة قضاء، والفرق بين قولك: إنه يتمها، وقولك: يقضيها هو أنه إن قلت: يتمها ففي هذه الحالة -إذا كان في الظهر- يأتي بالفاتحة وحدها، لكن إذا قلت: يقضيها وكان في الركعات الأول فإنه يأتي بالفاتحة والسورة؛ لأن القضاء يحكي الأداء، فكأنه لم يفته شيء مع الإمام، ويعتبر كأنه يؤديها حال قضائه على الصورة المعتبرة حال متابعته للإمام.

مشروعية التخفيف بالمصلين

مشروعية التخفيف بالمصلين قال رحمه الله: [ويسن لإمام التخفيف مع الإتمام]. من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم التخفيف، والتخفيف ضد التطويل، والمراد به الرفق بالناس؛ لأن شريعتنا شريعة رحمة ويسر، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)، وقال: (أنا رحمة مهداة)، وفي التنزيل قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وهذا يتضمن أن الشعائر والشرائع التي بعث بها صلوات الله وسلامه عليه فيها رحمة، وليس فيها عنت ولا عذاب، ولذلك ثبت من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن الأفضل والأكمل والأصل التخفيف من قبل الإمام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف)، فهذا أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدل على أن السنة والأصل هو التخفيف على الناس؛ لأن التطويل عليهم ينفرهم من الصلاة مع الجماعة، وقد حدث هذا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم أفضل الأمة، فقد أخبر رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يتأخر عن الصلاة بسبب تطويل إمامهم، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فوعظ موعظة -قال الراوي: ما رأيت أشد منه في تلك الموعظة- وقال: (إن منكم منفرين)، وقال لـ معاذ لما اشتكاه الرجل في تطويله لما صلى بالناس البقرة في العشاء قال: (أتريد أن تكون يا معاذ فتاناً)، أي: هل تريد فتنة الناس عن دين الله؟! وصرفهم عن دين الله! فالدين يسر والشريعة شريعة رحمة، فعندما يأتي الإمام ويطول على الناس، وإذا دخل المحراب لا يشعر بالضعيف ولا بكبير السن، ولا يشعر بالسقيم والمريض وذي الحاجة، فهذا يدل على غفلته وعدم فقهه بسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من هديه أنه كان يطيل فما يمل من إطالته، ويخفف فما يخل في تخفيفه صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك قال أنس: ما صليت وراء أحد أتمّ ولا أخف صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودخل في صلاة الفجر - وكان يقرأ من الستين إلى المائة آية، كما في الصحيح من حديث أبي برزة وجابر في صلاة الفجر- فلمّا سمع بكاء صبي قرأ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]، فلما سلم قال: (إني سمعت بكاء صبي فأشفقت على أمه)، وهكذا الحال إذا صلى الإمام بالناس ورأى أن الوقت وقت إزعاج، وأنهم في حالة من التعب والإعياء فليخفف عنهم، كأن يكونوا في سفر، ونزلوا بعد عناء السفر، فيجب على الإمام أن يخفف ويقرأ قراءة محببة إلى النفوس، وتكون إمامته بهم تدل على رحمته وشفقته، فهذا من خيرية الإمامة، ولذلك يرزق أمثال هؤلاء القبول وحب الناس والدعاء بظهر الغيب، وترى الناس يقبلون على مواعظهم، ويتأثرون بهم؛ لأنهم يحسون أنهم يريدون الخير ويتلمسون أحوال الناس، بل والغريب أن الإنسان إذا تعود التخفيف على الناس بدون أن يكون تخفيفاً زائداً عن الحد، ثم أطال في بعض صلواته لتطبيق السنن في التطويل في بعض المناسبات فلن تجد أحداً يكرهه؛ لأنه يعلم أنه يحب الرحمة والتيسير، وأنه إنما فعل هذا على سبيل التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم فيحب السنة، لكن إذا ألف التطويل على الناس ولو جاء بسنة نفروا منه، وتجدهم لا يحبون ذلك منه، وأشد ما يكون هذا في الخطب؛ فإن الخطب إذا كانت طويلة جداً ومزعجة فإن الناس لا تتيسر لهم الاستفادة، وربما ينفرون، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصر الخطبة، ولو جئت إلى بعض خطبه المأثورة عنه عليه الصلاة والسلام تجده لم يتجاوز الصفحة، ولو تتبعت المرويات في خطبة حجة الوداع التي بين فيها شرائع الإسلام وشعائره فإنها لا تتجاوز صفحة ونصف صفحة، وهكذا الأئمة وغيرهم كانوا على هذا الحال، فخير الكلام ما قل ودل، وكان آخذاً بمجامع قلوب الناس موجباً لحبهم لهذا العلم الذي يكون في الخطب والمواعظ، نسأل الله العظيم أن يرزقنا الائتساء والاقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم. وقوله: [مع الإتمام]؛ لأن التخفيف على حالتين: الحالة الأولى: التخفيف مع التقصير. الحالة الثانية: التخفيف مع الإتمام، كأن يقرأ فيهز بقراءته القلوب، فيعطي الحروف حقها من صفة لها ومستحقها، ويعرب كتاب الله ويفصله ويبينه، فيقرأ السور المناسبة، ثم إذا ركع سبح ثلاث تسبيحات تدل على طمأنينته، كذلك إذا رفع من الركوع قرأ هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأذكار وحافظ عليها، وما تقوم به الأركان، فهذا كله من الكمال، فيخفف مع التمام والكمال؛ لحديث أنس: (ما صليت وراء أحد أتم ولا أخف صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم).

تطويل الركعة الأولى على الثانية

تطويل الركعة الأولى على الثانية قال رحمه الله: [وتطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية]. من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم التخفيف، وقال بعضهم: الأصل التطويل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالأعراف في صلاة المغرب، كما كان يقرأ المرسلات والطور صلوات الله وسلامه عليه. ولكن هذا محل نظر؛ فإن المفردات لا تدل على العموم، ولذلك ولو سُلِم أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا فإن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم كانت قراءة مرتلة لا يشعر الناس معها بالملل ولا بالسآمة، وكان عليه الصلاة والسلام لا يُمَلُّ في إطالته، ولو سلم هذا فإن له خصوصيات عليه الصلاة والسلام، ولذلك لما صلى معه الصحابي في الركعة الواحدة في قيام الليل قرأ البقرة والنساء والمائدة في ركعة واحدة، وهذا إنما يكون بقوة نفسه عليه الصلاة والسلام، أما كون الإنسان يأتي يريد أن يقرأ سورة الأعراف، ويحاول أن يتكلف في أحكام التجويد، أو يقرأ -مثلاً- سورة المرسلات ويتكلف فيها، أو يقرأ فجر يوم الجمعة سورة السجدة والإنسان بالتجويد، ويحاول أن يتكلف ويتقعر ويترنم ويشق على العجزة وعلى المسلمين وكبار السن فهذا ليس من السنة، إنما السنة أن القراءة إذا كانت لجزء طويل فيرتل، والدليل على هذا واضح؛ إذ القراءة على مراتب معروفة، وهي التجويد والتدوير والترتيل والحدر، كما قال الناظم: إن القراءة على مراتب أربع قد فصلت للراغب ترتيلنا والحدر والتدوير كذلك التجويد يا فصيح فلو جاء يجود سورة الأعراف وقت المغرب فيخرج الوقت وما انتهى من الأعراف، ولذلك كان للنبي صلى الله عليه وسلم مناسبات في القراءة، فمن كانت عنده قدرة على القراءة بحيث يقرأ للناس في فجر يوم الجمعة ويرتل وتكون قراءته بالحدر الذي يعطي به أيضاً للقرآن حقه من التأثر بالآيات فهذا شيء طيب، ولذلك تجد الناس يرتاحون إذا قرأ الإمام بالحدر وأعطى الآيات حقها من التأثر، هذا من أفضل ما يكون؛ لأنه لا يشق على الناس، ويطبق السنة، ويتأثر بكتاب الله، أما لو جاء يتكلف بالإتيان بأحكام التجويد، ويحاول أن يتقعر في الآيات ويبالغ فيها فهذا يشق على الناس كثيراً، ولذلك ينبغي أن نطبق السنة من جميع وجوهها، فعندنا سنة قراءة السجدة والإنسان في الجمعة -مثلاً- أو قراءة الأعراف في المغرب لكن عندنا قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أم أحدكم الناس فليخفف)، وهذا أمر والأمر للوجوب، ويدل على اللزوم، خاصة وأن هناك مفاسد، فلذلك ينبغي الالتزام بمثل هذه السنة، فيفعل هذه السنن دون أن يؤدي إلى إحراج الناس أو الإضرار بهم. ومن السنة -ونبه عليه المصنف- تطويل الركعة الأولى وتقصير التي بعدها، فهذا من السنة، والتطويل للأولى والتقصير في الثانية من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن ينبغي أن ينبه على أمر، فإن العبرة بالآيات لا بعدد الآيات، فقد تكون السورة آياتها قليلة ولكن قراءتها تأخذ وقتاً، ولربما تكون السورة كثيرة الآيات ولكنها سهلة تقرأ بسرعة، ويمكن للإنسان أن يقرأها في وقت أقل من التي هي أطول منها، فإذا نظرت إلى سورة الأعلى مع الغاشية فإنك تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهما، فإنك إذا نظرت إلى سبح تجد في آياتها ما يحتاج إلى التأخر، ولكن الغاشية تجد فيها سهولة في الانسياب في الآيات، وهذا يختلف باختلاف الحروف ومخارجها كما هو معروف، وكذلك تجد -مثلاً- سورة الليل إذا قرنتها بسورة الشمس، وقد تجد سورة أقل في الآيات ولكنها تحتاج إلى معالجة مثل العاديات، بحيث يطول وقتها أكثر، فقال العلماء: العبرة بالوقت والقدرة على الأداء، وليست العبرة بالقدر، فإن كان في قراءة الأولى مسترسلاً بحيث يستطيع أن يقرأ القدر الأكثر فحينئذ يؤخر، وإذا كانت الثانية أقل فإنه يجعل القليل للثانية والكثير للأولى. ويجوز له أن يجمع في الوقت بين الأولى والثانية، فلو جعل وقت الأولى والثانية متناسباً فإنه لا حرج عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قرأ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1] في الركعة الأولى، وقرأ في الركعة الثانية: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1]، فأخذ العلماء منه دليلاً على مسألتين: المسألة الأولى: جواز تكرار السورة في الركعتين. المسألة الثانية: جواز العدل بين الركعتين، بحيث تكون الأولى والثانية بقدر واحد، وبناء على ذلك قالوا: لو كانت السورة ثلاثين آية فإنه يقرأ في الركعة الأولى خمس عشرة آية، وفي الركعة الثانية خمس عشرة آية. فبناءً على ذلك يكون قد عدل بين الركعتين، ولو جعل للركعة الأولى عشرين آية وللثانية عشر آيات فحسن، ولا حرج عليه، والأمر واسع في هذا كله. ومن السنة أيضاً أن يطيل الأوليين ويخفف الأخريين؛ فإن سعداً رضي الله عنه وأرضاه الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارم فداك أبي وأمي)، وكان من المبشرين بالجنة، اشتكاه أهل الكوفة إلى عمر، حتى قالوا: إنه لا يحسن كيف يصلي وهذا يدل على أن الإنسان لا يسلم من الناس، فلما جيء إلى عمر وبلغت الشكوى، أمر محمد بن مسلمة أن يأتي به إلى المدينة، فجاء إلى المدينة، فقال له: لقد قالوا: إنك لا تحسن أن تصلي. قال: والله ما كنت آلوا أن أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أطيل في الأوليين، وأركض في الأخريين. فدل على أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم تطويل الركعتين الأوليين وتخفيف الركعتين الأخريين. قالوا: لأنه كان يقرأ فيهما بالفاتحة وحدها، كما في حديث ابن عباس، وكان أحياناً ربما قرأ بالفاتحة وسورتي: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) و: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، كما كان يفعل ذلك في صلاة الظهر، وثبت وصح عنه ذلك. قال رحمه الله: [ويستحب انتظار داخل ما لم يشق على مأموم]. هذه المسألة اختلف فيها العلماء، فإذا كنت راكعاً وأنت إمام فسمعت الداخل فهل تنتظر هؤلاء الداخلين أو لا تنتظر؟ فللعلماء أقوال في هذه المسألة أشهرها قولان: القول الأول: ينتظر؛ لأنه من التعاون على البر والتقوى واستدلوا بالعمومات التي فيها الرفق والتيسير، وقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم من ولي من أمور المسلمين شيئاً فرفق بهم فارفق به). قالوا: فهذا من الرفق. القول الثاني: لا ينتظر؛ لأنه أطال الصلاة من أجل الداخل لا لله جل وعلا. وبناء على ذلك قالوا: لا يشرع هذا. ولأنه يفتح باب المحاباة، ويعين على التكاسل عن الصلاة. إلى غير ما ذكروا من العلل. والذي يظهر أنه لا حرج أن يطيل قليلاً إذا رأى أكثر الناس يأتون، فيزيد في القراءة لا في الركوع؛ لأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صلاة الظهر- أنه: (كان يصلي حتى لا يسمع قرع النعال)، فدل على أنه كان يراعي حال الناس، فيكون التطويل في القراءة، فإذا ركع بعد تطويله في القراءة فالأفضل إذا كان لا يوجد مشقة على الناس وأحب أن ينتظر ولا حرج، وإن وجدت مشقة فإنه لا ينتظر.

حكم خروج المرأة إلى المسجد

حكم خروج المرأة إلى المسجد قال رحمه الله: [وإذا استأذنت المرأة إلى المسجد كُرِهَ منعها، وبيتها خير لها]. الاستئذان استفعال من الإذن، والإذن: هو السماح بالشيء، يقال: أذن له إذا أحل له الشيء وسمح له به، واستأذنت، أي: طلبت الإذن. فالحل للمرأة أن يسمح لها زوجها بالخروج، وهذا فيه دليل وهو حديث ابن عمر في الصحيح: (إذا استأذنت أحدكم امرأته المسجد فلا يمنعها)، وقال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، وفيه دليل على مسائل: المسألة الأولى: أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها؛ لأنها إذا كانت وهي خارجة إلى الصلاة تستأذن فمن باب أولى إذا خرجت لأمور الدنيا، وهذا أمر يقصر فيه كثير من النساء، فلا يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها، وينبغي على المرأة أن تسمع وتطيع، فلو قال لها زوجها: لا تخرجي فلا تخرج، ولا تراجع ولا تحاول؛ لأن الزوج ربما كانت عنده أعذارٌ، لا يستطيع أن يبينها، كما قال الإمام مالك رحمه الله: ليس كل الناس يستطيع أن يبين عذره. وقد تكون عنده حمية أو يريد لها الخير، كما قالت فاطمة رضي الله عنه: خير للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال. المسألة الثانية: من سماحة الشرع أنه جعل الأمر للزوج، ولكن قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، فإذا قالت له: أريد أن أصلي، أو أريد أن أشهد التراويح أو التهجد فإنه يعينها على الخير، وينبغي للزوج أن يكون حكيماً؛ لأن الشيطان ربما دخل عليها وقال لها: هذا يمنعك من الخير، فيزين لها أن زوجها أحد رجلين: الأول: أنه إنسان يشك فيها والعياذ بالله؛ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، يقول العلماء: إنه يدخل الشك والوساوس على المرأة والمرأة ضعيفه، فإذا منعها من الخير قالت: الصلاة لا أحد يمنع منها، فليس هناك سبب إلا الشك فيدخلها الشيطان من هذا الباب، فكان من حكم الشرع: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله). الثاني: أنه إذا ضعيف الإيمان؛ لأنه لو كان قوي الإيمان لأحب لها الخير كما يحبه لنفسه، ولذلك منع الشرع من منعهن، ولما قال بلال بن عبد الله بن عمر: والله لنمنعهن أقبل عليه ابن عمر فسبه سباً سيئاً، قال الراوي: ما سمعته سبه مثله قط، قال: أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: والله لنمنعهن. أي: تجرأ على السنة! فهذا يدل على أن المسلم ملزم باتباع السنة. ولكن يجوز للزوج أن يمنعها إذا علم أو غلب على ظنه الوقوع في الفتنة والمحظور، كأن يغلب على ظنه وجود الفساق والفجار، وأنها قد تتعرض لما لا يحمد عقباه، فمن حقه أن يمنعها؛ لأن الله لم يجعل الأمر بيده إلا لكي يتقي الله عز وجل، ومن تقوى الله سبحانه وتعالى منعها عند وقوع الفتن، ولذلك أثر عن عمر رضي الله عنه أنه ضرب عجيزة امرأته لما خرجت إلى الصلاة، وقال: إن الناس قد تغيروا، فأصرت عليه أن تخرج فتركها، فلما كانت الليلة الثالثة ضرب عجيزتها، أي: ضربها على عجيزتها وهي مارة، وكانت النساء على حياء وخجل، وكانوا يعرفون أن المرأة الحرة، فيقولون: لو ضربت بالسوط على ظهرها لم تلتفت من كمال عفتها وحيائها. حتى إن العلماء لما تكلموا على توبة الزانية من الزنا قالوا: توبتها أن تترك ماشية، ثم يصاح وراء ظهرها، فإن التفتت فما زالت في ضعف العفة؛ لأن من كمال عفة المرأة الحية أنها لا تلتفت ولا تنظر إلا في أرضها، وقد يبلغ بها أن تتعثر وتسقط، ولكن سقوط الجسم أهون من سقوط الهوى والردى، ولذلك كن بهذه المثابة. وإذا أذن لها فعليها أن تخرج تفلة، بمعنى أنها لا تخرج متعطرة ولا متبرجة، وإلا منعها وأخذ على يدها، فإن لم يفعل فهو آثم، وبناءً على ذلك فمن حقه أن يمنعها في مثل هذه الأحوال، وكذلك الحال إذا كان طريقها غير آمن، فإنها قد تكون صالحة ولكن غيرها غير صالح، فيشرع للزوج أن يحبسها. وقوله: [وبيتها خير لها] لنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاتها في مخدعها خير لها من صلاتها في بيتها، وصلاتها في بيتها خير لها من صلاتها في مسجد حيها، وصلاتها في مسجد حيها خير لها من صلاة المسجد الجامع)، وهذا مبالغة في ستر المرأة.

الأسئلة

الأسئلة

التطويل في الركعتين الأوليين ليس خاصا بالقراءة فقط

التطويل في الركعتين الأوليين ليس خاصاً بالقراءة فقط Q هل التطويل في الركعتين الأوليين مختص بالقراءة فقط كأم هو عام في سائر الأركان كالركوع والسجود؟ A المحفوظ من هديه -بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه- أن قراءته وركوعه وسجوده ورفعه من السجود كل ذلك كان قريباً من المساواة، وهذا هو هديه صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك وصفت صلاته بالتمام، فإذا فعل الإنسان هذا ووسعه ذلك فإنه يفعل، لكن إذا كان فيه مشقة على الناس فإنه يقتصر على حد الإجزاء، ففي التسبيح يقتصر على ثلاث، وكذلك أيضاً في الرفع من الركوع يقرأ الدعاء المأثور: (ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) إلى آخره، ويجعل صلاته موزونة حتى يدرك السنة بصورتها إن لم يدرك حقيقتها، فإنه يدرك فضل صورة السنة، فيكون مدركاً للسنة من وجه؛ لأن الله لا يضيع عمل العامل، فهذا من إدراك جزء السنن كما يقرره جمع من الأصوليين رحمة الله عليهم. والله تعالى أعلم.

دعاء الاستفتاح لمن دخل والإمام يقرأ الفاتحة

دعاء الاستفتاح لمن دخل والإمام يقرأ الفاتحة Q من أدرك الإمام وهو يقرأ الفاتحة فهل ينصت، أم يقرأ دعاء الاستفتاح؟ A إذا أدركت الإمام وهو يقرأ الفاتحة تنصت، ويسقط دعاء الاستفتاح لفوات المحل والانشغال بالواجب؛ فإن مرتبة دعاء الاستفتاح دون مرتبة وجوب الإنصات، وبناء على ذلك يسقط دعاء الاستفتاح لمكان المتابعة، ولوجود قراءة، ويشتغل الإنسان بالاستماع على ظاهر النص. والله تعالى أعلم.

حكم صلاة الراتبة بعد السلام من الفريضة

حكم صلاة الراتبة بعد السلام من الفريضة Q ما حكم صلاة الراتبة بعد السلام من المكتوبة مباشرة؟ A هذا فيه حديث في يوم الجمعة، حيث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن يصل الصلاتين ببعضهما حتى يتكلم أو ينصرف على الأقل من مكانه، لا أن تقوم مباشرة بعد سلامه من صلاة الجمعة، فهذا هذا منهي عنه في حديث معاوية رضي الله عنه وأرضاه. فالسنة أن يأتي بالأذكار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك يتسنن ويتنفل بما شاء، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام الاستغفار وقول: (اللهم أنت السلام ... ) إلى آخره، وكذلك أيضاً: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) كما في حديث معاذ، ثم يشرع في الأذكار والمعقبات التي لا يخيب قائلهن، ثم إذا انتهى من المعقبات وقال تمامهن: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على شيء قدير، بعد ذلك يقول: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت. ثم بعد هذا يتسنن إذا أحب ذلك، والأفضل أن يؤخر السنة إلى بيته. وقال بعض الحفية: إنه يصل الصلاة بالصلاة. ولهم في هذا حديث ضعيف: (صلاتان لا لغو بينهما)، والحديث ضعيف، لكن لو صح فإنه يجاب عنه بأن قوله: (صلاتان) المراد به صلاة فريضة وفريضة، كصلاة الظهر والعصر، وقوله: (لغو بينهما) أي: لا يغتاب الناس، ولا يقول النميمة، ولا يسب، ولا يشتم، ولا يفعل الحرام؛ لأنها موجبة للرحمة وللخير، فيشمل الفريضة مع الفريضة، وهذا يدل على أن صلاته الأولى مقبولة؛ لأن الرجل إذا كان يصلي الصلاة ويتبعها بالصلاة الثانية لا ذنب بينهما فإن هذا -كما يقول جمع من العلماء- من علامات القبول، وأن صلاته تنهاه عن الفحشاء والمنكر، وهذا بأفضل المنازل عند الله سبحانه وتعالى، فمن أفضل المنازل أن يصل إلى درجة أن تكون صلاته تنهاه عن الفحشاء والمنكر، ومن دلائل ذلك أن تجده يصلي الصلاة ويعقبها بالصلاة لا لغو بينهما، فهذا يدل على أنه بخير المنازل، وأن صلاته نهته عن الفحشاء والمنكر، نسأل الله العظيم أن يبلغنا هذه المنزلة، وأن يجعلنا من أهلها بمنه وكرمه. والله تعالى أعلم.

قراءة آيات معينة في صلاة العشاء

قراءة آيات معينة في صلاة العشاء Q هل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءة سور أو آيات معينة في صلاة العشاء؟ A نعم ورد عنه. وأخذوا من قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (هلا قرأت بهم بـ: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى)، و (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى)، و (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا)) على الروايات التي وردت، ولذلك يقولون في هذه السور: هذا هو الذي يقرأ في صلاة العشاء؛ لأن الشكوى كانت من معاذ في صلاة العشاء، وأمره أن يقرأ هذه السور في صلاة العشاء، فدل على أنها السنة، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) كما جاء من حديث البراء رضي الله عنه وأرضاه، فالأمر في هذا واسع، والناس يختلفون، فقد يصلي الإنسان العشاء مع جمع لكن على حرج ومشقة، وقد يصلي بجمع على سعة وجلد، كشباب وراءهم عمل ولا شغل، ويكونون متهيئين للإطالة فيطيل بهم، فهذا من الأفضل. ومن أفضل ما تكون الصلاة إذا طولت القراءة فيها، فإن بعض العلماء يقول: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) المراد به أن السبع والعشرين درجة للصلاة الجهرية؛ لأن فيها قراءة للقرآن وتأثر الناس به، وكلما كان استماع الإنسان مع التأثر وحضور القلب والخشوع وحب هذه الآيات المنزلة من الله سبحانه وتعالى وحبه للعمل بها والتأثر بها كلما كان أرفع درجة وأعظم حظاً، ولذلك يرى بعض العلماء أن السبع والعشرين مختصة بالصلاة الجهرية، كصلاة الفجر وصلاة العشاء وصلاة المغرب كله لمكان القراءة. وعلى العموم فإن قراءة العشاء تكون على الوصف الذي ذكرناه، ولكن إذا كان هناك مجال للإطالة، كأن يكون الإنسان مع جمع ورفقة تحب الإطالة وترتاح لقراءته، ويرى أن هذا فيه خير لهم، فإنه يطيل، ونعم الإطالة أن يشتغل الإنسان بكتاب الله عز وجل، فلا يزال بخير ما وقف بين يدي الله عز وجل، نسأل الله العظيم أن يوفقنا لحسن الصلاة وكمالها.

حكم من أفطر رمضان جاهلا بوجوبه عليه

حكم من أفطر رمضان جاهلاً بوجوبه عليه Q امرأة لما بلغت كانت تجهل وجوب الصيام عليها، ولم تصم طيلة عامين، فماذا عليها، وهل تعذر بالجهل؟ A يجب عليها قضاء الشهرين، قضاء الشهر من السنة الأولى وقضاؤه من السنة الثانية، وفي هذا تفريط ولو ادعت الجهل، خاصة في هذه الأزمنة الذي أمكن فيها سؤال العلماء والرجوع إليهم. وكون المرأة تجلس هكذا لا تسأل ولا تراجع العلماء، وتبلغ ولا تبحث عن أحكام دينها ولا تسأل، ثم تقول: إنها جاهلة فمثل هذا الجاهل يلزم بعاقبة التقصير، ويقال له: تقضي ما فاتك. فليس هذا الجهل بعذر؛ لأنه يمكنها أن تسأل وقد قصرت، والواجب على من أسلم أن يعلم شعائر الإسلام، وأن يتفقه كما ندب الله عباده إليه، فقال سبحانه وتعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:122]، فندبهم إلى هذا، قال العلماء: يتعين طلب العلم على من بلي بالعبادة والمعاملة، فمن أراد أن يصلي صار فرضاً عليه أن يسأل عن أحكام الصلاة، ومن أراد أن يزكي صار فرضاً عليه أن يسأل عن أحكام الزكاة. أما أن يجلس ويترك الزكاة السنة والسنتين والثلاث، ولا يسأل وهو يعلم أن هذا من دينه فإنه في هذه الحالة يلزم بعاقبة تقصيره، ويتحمل وزر ذلك. والله تعالى أعلم.

ضابط الموالاة في الوضوء

ضابط الموالاة في الوضوء Q ما هو ضابط الموالاة في الوضوء؟ A الموالاة: وقوع الشيء وهو يلي الشيء الذي قبله. والضابط عند العلماء رحمة الله عليهم في الموالاة: أن تغسل يدك -مثلاً- ثم بعد غسل اليد مسح الرأس، قالوا: يشترط في صحة مسح الرأس أن لا تنشف اليد، والتنشيف يختلف باختلاف الصيف والشتاء، فقالوا: ننظر للزمان المعتدل، فلو أن إنساناً توضأ وغسل كفيه فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه، ثم غسل يديه فانقطع الماء من الصنبور، أو انتهى الماء الذي معه فنزل من دور إلى دور يبحث عن الماء، أو ذهب يبحث عن الماء، أو ذهب إلى مكان آخر فيه ماء، والمسافة التي بين المكان الأول للذي يتوضأ فيه والمكان الثاني الذي يوجد فيه الماء يسيرة جداً بحيث تبقى نداوة العضو، ويبقى أثر الماء عليه، فحينئذ شرط الموالاة لم يذهب، ويصح منه أن يبتدئ من الموضع الذي انتهى إليه فيغسل ما بعده. وبناء على ذلك يكون شرط الموالاة أن لا ينشف العضو في الزمان الواحد، لكن لو فرض أنه في شدة البرد ينشف بسرعة، وفي شدة الحر يكون فيه شيء من الرطوبة والنداوة للجسم، خاصة إذا لم ينشف، فيتأخر في الصيف ويبادر في الشتاء، قالوا: في هذه الحالة ننظر إلى الزمان المعتدل، فمثلاً: الزمان المعتدل دقيقتان إلى ثلاث دقائق فنقول: لو كان في شدة الصيف أو شدة الشتاء فالعبرة بثلاث دقائق، أو العبرة بالدقيقين. وهذا يرجع إلى غلبة ظن الإنسان، أما العضو فما زال الماء عليه. والله تعالى أعلم.

عدم اشتراط الطهارة للأذان

عدم اشتراط الطهارة للأذان Q هل تشترط الطهارة للأذان؟ A الطهارة للأذان لا تشترط، وبناءً على ذلك يجوز للإنسان أن يذكر الله في الأذان ولو لم يكن متوضئاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن وهو على غير وضوء، فمن باب أولى الأذان الذي هو دون القرآن؛ لأن القرآن أفضل، وقد جاء في الأثر: (فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه)، كما في الصحيح، فإذا كان القرآن الذي هو أفضل الأذكار وأشرفها وأعظمها لا تشترط له الطهارة لتلاوته فمن باب أولى الأذان الذي هو دون ذلك، وبناءً على هذا يصح الأذان من المحدث، ولكن ليس الإشكال هنا، فالإشكال أنه إذا دخل المسجد وأذن سيضطر إلى الخروج بعد الأذان، وهذا أمر منكر يقع حتى من بعض طلاب العلم؛ فإن الإنسان إذا سمع الأذان وهو في المسجد لا يخرج ولو إلى مسجد أفضل من المسجد الذي هو فيه، بل يجب عليه أن يبقى في المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخروج بعد الأذان، حتى إن ابن مسعود رضي الله عنه لما رأى رجلاً خرج بعد الأذان قال: أما هذا فقد عصى الله ورسوله فلا يجوز الخروج بعد الأذان إلا لمن كان محدثاً، قالوا: فهذا محدث، ويكون حدثه عالماً به قبل الأذان، فكأنه يتعاطى أسباب التقصير، بخلاف من أحدث أو تذكر أنه محدث بعد الأذان، لكن إذا أحدث قالوا: يضع يده على فيه كما ورد في السنة، ثم يخرج أما أن الإنسان يؤذن ثم يخرج من المسجد، خاصة ما يجعله بعض المؤذنين الآن -أصلحهم الله- من التساهل في مثل هذه الأمور، فتجده لا يحضر إلا عند الإقامة، فيؤذن ثم يخرج، وقد يخرج خارج المسجد، وقد يخرج إلى مصالح دنيوية، وهذا من بالغ الغفلة -نسأل الله السلامة والعافية- وبسبب تقصير كثير من الناس في تعظيم شعائر الله عز وجل بعد أن كان الأئمة والمؤذنون لا يفارقون المساجد، وترى الرجل منهم وتعرفه كحمامة المسجد، وإذا أردت أن تبحث عن إنسان منهم وتعلم أين هو فانظر إليه في المسجد، فلا يؤذن للصلاة إلا وجدته في الصفوف الأول حريصاً عليه، أو قريباً من المسجد، لكن الآن قد تجده يؤذن ثم يخرج في صلاة الفجر ويجلس مع أصحابه أو أولاده، ثم لا يخرج إلا وقت الإقامة، كأنه أمر من أمور الدنيا، نسأل الله السلامة والعافية. فينبغي التناصح في مثل هذا، حتى لطلاب العلم الذين يخرجون بعد الأذان، ولو كانوا أئمة لا يخرجون، فإذا أرادوا أن يخرجوا فعليهم أن يخرجوا قبل الأذان. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا للسداد والرشاد، وأن يلهمنا لما فيه مرضاته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

فصل: الأولى بالإمامة [1]

شرح زاد المستقنع - فصل: الأولى بالإمامة [1] مما يتعلق بصلاة الجماعة: أحكام الإمامة، ويقدم فيها الأقرأ للقرآن العالم فقه الصلاة، ثم الأكبر سناً، ثم الأقدم هجرة، ثم يقرع فمن خرجت قرعته تقدم، وهناك أئمة أحق من غيرهم؛ كصاحب البيت، وإمام المسجد الراتب. ويقدم الحر والحاضر والمقيم والبصير على غيره، ولا تصح الصلاة خلف الكافر، ولا خلف امرأة أو خنثى.

أحكام الإمامة

أحكام الإمامة

تقديم أقرأ الناس للإمامة في الصلاة

تقديم أقرأ الناس للإمامة في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [فصلٌ: الأولى بالإمامة الأقرأ العالم فقه صلاته] الإمامة منصبٌ شريف ومقام عزيز مُنيف لا ينبغي لكل أحدٍ أن يتصدّر له، ولا ينبغي لكل أحدٍ أن يكون فيه إلا إذا كان أهلاً لهذا المقام، فحينئذٍ يجوز له أن يتقدم على الناس، وأن يتشرف بهذا المكان الذي يكون فيه مؤتمناً على صلاتهم، وإقامة هذه الشعيرة لهم، والناس تقتدي بالأئمة، فكلما كان الإمام على صلاح وتقوى لله عز وجل وعلمٍ بالشريعة وفقه في الدين ومعرفةٍ بهدي النبي صلى الله عليه وسلم كلّما كان ذلك أدعى لحبِّه وحب الصلاة وراءه، والتأثر بقراءته ومواعظه وخطبه، الأمر الذي يكون له أحمدُ العواقب، وأحسنُ الثمرات، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم الأمة أن تهيئ لهذا المقام من توفرت فيه شروط الأهلية، فقال صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أبي مسعود في الصحيح-: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله). فأمرنا عليه الصلاة والسلام أن نقدم الأقرأ لكتاب الله عز وجل، والسبب في ذلك أنّ الغالب في الإنسان إذا شرّفه الله وكمّله وفضّله بحفظ كتابه فالأصل فيه أن يكون من أهل كتاب الله العالمين به، العاملين بما فيه، ومثل هؤلاء أئمة يُقتدى بهم إذا كان القرآن إماماً لهم في القول والعمل والاعتقاد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله). فلما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يحفظ كتاب الله عز وجل إلا من علمه وعمل به كان ذلك أدعى لتقديم هؤلاء الخيرة البررة الذين هم صفوة الله عز وجل من الخلق، أعني العلماء بكتاب الله العاملين به. فالمصنف رحمه الله بعد أن بين لنا حكم صلاة الجماعة، والمسائل المتعلقة بمباحث صلاة الجماعة شرع في بيان من الذي يُقدّم للإمامة لكي يُصلِّي بالناس جماعة، فقال رحمه الله: [الأولى بالإمامة الأقرأ] وفي هذه النسخة [العالم فقه صلاته]، وفي غيرها الإطلاق: [الأقرأ]، وهذه المسألة اختلف العلماء رحمهم الله فيها، ولذلك لا بد من بيان المراد بقولهم: (الأقرأ) ثم بعد ذلك نبيِّن أقوالهم وأدلتهم، والراجح من الأقوال والأدلة. فلفظ (الأقرأ) اختلف العلماء رحمهم الله فيه على قولين: قال بعض العلماء: الأقرأ: هو الأكثر أخذاً للقرآن، والمراد بذلك أن يكون حفظُه أكثر من غيره، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال ذلك فَهِم منه الصحابة هذا الفهم، كما في الحديث في الصحيح أن سالماً مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما كان يؤم المهاجرين والأنصار، وذلك في المدينة قبل مقدِم النبي صلى الله عليه وسلم قال الراوي: وكان أكثرهم قرآناً. فقوله: كان أكثرهم قرآناً، أي: كان حفظه أكثر. وكذلك استدلوا بحديث عمرو بن سلمة، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا فارقه قوم أبي سلمة قال لهم: (وليؤمكم أكثركم قرآناً) قال: فرجعوا فنظروا فإذا أنا أكثرهم أخذاً للقرآن، فقدموني. ووجه الدلالة أنه علَّق التقديم على كثرة الحفظ، فدلّ على أن المراد بالأقرأ الأكثر حفظاً للقرآن، وعلى هذا يُقدم حافظ القرآن كله على من حفظ ثلاثة أرباعه، ويقدم من حفظ ثلاثة أرباع القرآن على من حفِظ النصف ولو كان أكثر ضبطاً لأحكام التجويد والترتيل، فهذا هو الوجه الأول، فالعبرة عندهم بكثرة الحفظ، ولكن يلاحظ أنهم يرون مع كثرة الحفظ أن يكون ضابطاً لما ينبغي أو يُشترط لصحة التلاوة واعتبارها. القول الثاني يقول: إن المراد بالأقرأ الأتقن في مخارج الحروف وضوابط القراءة، وهو المجوِّد لكتاب الله عز وجل الذي يحسن ترتيله ويحسن تحبيره وتتأثر الناس بقراءته أكثر، وهذا القول يعتمد على ظاهر اللفظ في قوله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)؛ فإن اللغة العربية تدل على أن (الأقرأ) أفعل تفضيل، والمراد به أنه فَضُل على غيره بحسن التلاوة وحسن الأداء للقراءة، فقالوا: المهم عندنا أن يكون محبِّراً لكتاب الله عز وجل، وعلى هذا الوجه. فلو اجتمع حافظٌ للقرآن كله وحافظٌ لنصف القرآن، والذي يحفظ نصف القرآن أكثر ضبطاً لأحكام القراءة، والناس تتأثر بقراءته أكثر، ويُحسن تحبيره وتجويده قالوا: يُقَدَّم على من هو أكثر حفظاً منه. والذي يظهر -والعلم عند الله- أن العبرة بكثرة الحفظ، وليس المراد التحبير وحسن النغمات والمبالغة في التجويد، وعلى هذا فلو اجتمع من هو أكثر حفظاً للقرآن مع من هو أحسن أداءً وأحسن ترتيلاً وتجويداً فإنه يُقَدَّم الأحفظ؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم فَهِموا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدلّ على أنه هو المعوَّل وعليه العمل. وإذا عرفنا ما هو المراد بالأقرأ ف Q لو اجتمع عندنا رجلان أحدهما أقرأ، سواءٌ أكان أكثر أخذاً للقرآن أم أكثر ضبطاً للقرآن، والآخر أفقه، بمعنى أنه يعلم أحكام الصلاة وما يكون فيها من أحكام السهو ونحوه، وما يطرأ فيها من الطوارئ التي يحتاج الأئمة فيها إلى جبر النواقص والزوائد، أو كان عالماً بالأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات، فهل نُقدِّم الأقرأ أو نقدم الأفقه؟ في ذلك قولان للعلماء: القول الأول: ذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه، ووافقه جمعٌ من المحدثين، وبه قال بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي رحمة الله على الجميع إلى أن الأقرأ لكتاب الله يقدم على الأفقه. القول الثاني -وهو قول الجمهور-: أن الأفقه يقدم على الأقرأ، فلو اجتمع حافظٌ للقرآن ومن هو أكثر منه علماً وفقهاً في الدين فإنه يقدم الأفقه والأعلم بالحلال والحرام على الحافظ لكتاب الله عز وجل. واستدل الذين قالوا بتقديم الأقرأ بظاهر حديث أبي مسعود رضي الله عنه وأرضاه في الصحيح، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)، ووجه الدلالة من هذا الحديث واضح، حيث قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة)، قالوا: فقدّم الأقرأ على الأعلم بالسنة فدل على أن القارئ مقدمٌ على الفقيه. وأصحاب القول الثاني احتجوا بحديث أبي بكر رضي الله عنه في إمامته، كما في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة وغيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم قدّم أبا بكر، وكان أبو بكر رضي الله عنه من أعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قالوا: قُدِّم لفقهه لا لقراءته؛ لأن أُبياً رضي الله عنه أعلم منه بالقراءة، ومع هذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فدل هذا على أن الأفقه مُقدمٌ على الأقرأ، وهناك أدلة أخرى، ولكن المعوَّل على هذين الدليلين، فالأول حديث أبي مسعود رضي الله عنه، والثاني حديث أبي بكر في إمامته. ومما علل به الجمهور لمذهبهم أن قالوا: إن الأقرأ نحتاج إليه للقراءة، والقراءة تتعلق بركنٍ واحدٍ وهو القيام. وأما بالنسبة للأفقه فنحتاج إليه في أركان الصلاة؛ فإن الصلاة قد يطرأ فيها السهو، فتطرأ فيها الزيادة ويطرأ فيها النقص، وتختلج الصلاة على الناس، فإذا كان الأفقه موجوداً أو هو الإمام فإن ذلك أدعى لتعليم الناس، وهو أعرف وأعلم بما ينبغي فِعله على الإمام في مثل هذه الأحوال الطارئة. فكأن الفقه يُحتاج إليه لأركانٍ، والقراءة يُحتاج إليها لركن، فقُدِّم ما يحتاج إليه لأركانٍ على ما يحتاج إليه لركنٍ واحد. والذي يترجح -والعلم عند الله- هو القول بتقديم الأقرأ لكتاب الله، وذلك لظاهر السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثانياً: أن سالماً مولى أبي حذيفة -كما في الصحيح- كان يؤم المهاجرين والأنصار، وفيهم عمر رضي الله عنه وأرضاه، وأما إمامة أبي بكر رضي الله عنه فإنها لم تتمحض بإمامة الصلاة، وإنما قُصِد منها الإشارة إلى استخلافه رضي الله عنه وأرضاه، فخرج الدليل عن موضع النزاع، ولذلك يُعتبر تقديم الأقرأ لكتاب الله هو المعوّل عليه، لكن ينبغي أن يُنبه على أن الأقرأ يُقدَّم إذا كان عنده إلمام بضوابط الصلاة، وليس المراد أن يُقدَّم مطلقاً حتى ولو كان جاهلاً ببعض الضوابط، كالأمور التي تطرأ في السهو ونحوه. فقول المصنف رحمه الله: [الأولى بالإمامة الأقرأ]، أي: أقرأ الناس لكتاب الله عز وجل. والسبب في هذا ظاهر؛ فإن القرآن يشرِّف أهله، ويرفع من مكانتهم في الدنيا والآخرة، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خيركم من تعلم القرآن وعمله)، وما أوتي أحدٌ عطاءً أشرف ولا أكمل -بعد الإيمان بالله عز وجل- من حفظ كتاب الله عز وجل والعمل بهذا الكتاب؛ فإنه نور في قلبه، ونورٌ له في حشره، ونورٌ له بين يدي ربه ولذلك إذا أنعم الله على العبد بهذا الكتاب فإنه يشرِّفه ويكرِّمه، ولم يبق إلا أن يُكرم قارئ القرآن ما في قلبه، فيصونه -أو يصون نفسه- عن الأمور التي لا تليق بمثله. وقوله: [العالم فقه صلاته] هذا إضافة في بعض النسخ، فنُقدِّم الأقرأ إذا كان عنده إلمام بفقه الصلاة، لكن لو كان عندنا إنسان يحفظ القرآن ولكنه يجهل أحكام الصلاة، ولربما يقع الناس في لبس في صلاتهم فحينئذٍ لا يُقدَّم؛ لأنه قد يُعرِّض صلاة الناس للفساد. قال رحمه الله تعالى: [ثم الأفقه]. (ثم) تقتضي الترتيب، فيُقدم بعد الأقرأ الأفقه، والأفقه: أفْعَلٌ، من فقه الشيء: إذا فَهِمه. ويقال: إن الفقه يختص بالمعضلات، ولا يكون إلا في المسائل الدقيقة، والفقه شرف ونعمةٌ عظيمة يُنعم الله عز وجل بها على من شاء من عباده، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين

الأدلة على تقديم الفقيه للإمامة

الأدلة على تقديم الفقيه للإمامة أما الدليل على تقديم العالِم بالحلال والحرام فحديث أبي مسعودٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسنة). والعلم بالسنة يكون على ثلاثة أضرب: الأول: أن يحفظ السنة ويكون من حفّاظها، وهذا الذي يسميه العلماء الحافظ والمحدّث، وهو الذي يُسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحفظ الأحاديث، ويكون عالماً بما قاله عليه الصلاة والسلام. الثاني: أن يعرف، أو يفهم ويفقه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحكام التي تتضمنها هذه الأحاديث، ولكن حفظه للأحاديث قليل، وليس عنده حفظ للأحاديث، ولكن إذا جاء النص من الأحاديث يحسن فهمه، ويحسن تخريجه، ويعرف ما تعارض من الأحاديث وكيفية الجواب عنها، وكيف الخروج من إشكالها، فالأول حافظٌ للحديث، والثاني فقيه بالحديث. الثالث: من جمع الله له بين الحسنيين فحفظ الأحاديث مع الفهم، فيكون عنده إلمام بما قال عليه الصلاة والسلام، بحيث يحفظ الأحاديث والآثار، وعنده شغف وتلهف لمعرفة ما ورد من هدي النبي صلى الله عليه وسلم القولي والفعلي والتقريري، ثم كذلك إذا جاءته السنة فإنه يعرف كيف يفهمها، وعلى أي محملٍ يحملها عليه، فهذه أشرف المراتب، وهي أعلى مراتب السنة، فيكون حافظاً لها فقيهاً بما فيها من المعاني، وكل هذه المراتب مراتب شرف. وأما المرتبة الأولى -وهي مرتبة الحفظ- فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها: (نضَّر الله امرأً سمع مقالتي فحفظها -وفي رواية: فوعاها- فأداها كما سمعها)، فقوله: (نضّر الله) قال بعض العلماء: هو من النضارة، وهي الحسن. وقال بعض العلماء: يُحشر أهل الحديث وهم بيض الوجوه لهذا الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أي: نضر الله له وجهه في الآخرة. وقال بعض العلماء: بل الحديث على إطلاقه، أي: نضّر الله وجهه في الدنيا والآخرة. فمن حفظ حديثاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وبلغه فإنه داخلٌ تحت هذا الفضل، فمن شاء فليستكثر، ومن شاء فليستقل، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (نضّر الله) وأطلق، وقال بعض العلماء: لأهل الحديث نورٌ في وجوههم بحفظهم لسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وأما فقه الأحاديث فهذا هو المقصود في النصوص، كما قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29]، ولم يجعله للحفظ وحده، وإنما قال: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29]. وقد عتب على بني إسرائيل حين حفظوا ولم يعملوا، فقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5]، فالمهم مرتبة الفقه والعمل، وإذا جمع الله للعبد الحسنيين فقد حاز تلك الفضيلتين، فلو اجتمع من يحفظ الأحاديث ومن يحفظ القرآن فإننا نقدم من يحفظ القرآن، ثم لو اجتمع من يحفظ السنة أكثر ومن هو أقل منه حفظاً للسنة فإننا نقدم من هو أحفظ للسنة.

تقديم الأكبر في السن للإمامة عند التساوي في الحفظ والعلم

تقديم الأكبر في السن للإمامة عند التساوي في الحفظ والعلم قال رحمه الله: [ثم الأسن] الأسنَّ: مأخوذ من السِّن، والمراد بذلك: الأكبر سناً، فلو كان عندنا رجلان كلاهما حافظٌ للقرآن، وكلاهما فقيه أو عالم بالحلال والحرام من السنة، فحينئذٍ استوت مرتبتهما في الكتاب والسنة، فنرجع إلى التفضيل بالسن، والسبب في ذلك أن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم منعقد على تفضيل الكبير وإكرامه وإجلاله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا -أي: ليس على هدينا الكامل- من لم يوقر كبيرنا)، فتوقير الكبار وإجلالهم ومعرفة قدرهم شأن الفضلاء، فلا يُجلهم إلا الكرام ولا يحتقرهم إلا اللئام، فالكبير له حق على الصغير، ومن هنا قدَّمت الشريعة الإسلامية الكبير في السن حتى في الإمامة، فلو كان أحدهم أسن فإنه يقدم. قال العلماء: الدليل على التقديم بالسِّن حديث مالك بن الحويرث، وذلك أن مالكاً هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه رجلٌ من قومه، فجلسا قرابة عشرين يوماً فقال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حليماً رحيماً رفيقاً بأصحابه، فرأى أنا قد اشتقنا إلى أهلنا، فقال: (ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم، وإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكما وليؤمكما أكبركما)، ووجه الدلالة أن مالكاً رضي الله عنه والذي معه اجتمعا في الحفظ والفهم، فعلما وسمعا القرآن، وسمعا السنة، فاستوت مرتبتهما في العلم، فقال: (وليؤمكما أكبركما). قال العلماء: في هذا دليل على التقديم للإمامة بالسن، فلو اجتمعت مراتب المتقدمين علماً بالقرآن والسنة فإننا نقدم بالسن. وهذا يدل على ما ينبغي من تقديم الكبار وإجلالهم، وقال العلماء: تقديم الكبار له فضيلة، فإن الكبير -خاصةً إذا كان كبير السن ضابطاً لصلاته- يكون أخشع في الصلاة وفي القراءة؛ لأنه قريبٌ من الآخرة، فيتأثر أكثر من تأثر الشاب الحدث. ثانياً: أن كبير السن أكثر هيبةً وأكثر إجلالاً، فتهاب الناس المحراب، وتهاب المنبر، وتُحس بهيبته ورهبته إذا تقدم كبار السن والأجلاء والعُقلاء. الأمر الثالث: أنهم أناس لهم بصيرة ولهم علم ومعرفة بالحوادث وبما يكون، فإذا وقع أمرٌ ما على الناس واحتاجوا إلى من عنده تجربة ومعرفة وجدوا عند الإمام ما يعينهم على صلاح دينهم ودنياهم، فهذه كلها أمور تدل على حكمة الشريعة في تقديم الأكبر سناً، ولكن إذا استوت مرتبة العلم بكتاب الله والعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله تعالى: [ثم الأشرف]. الأشرف: مأخوذ من الشّرف، والشرف يرجع إلى النسب؛ فإن الإنسان إذا شرُف نسبه فكان من أهل البيوت الشريفة، وفضّله الله عز وجل بنسبه فإنه يُقدَّم، وهذا مذهب بعض العلماء، والصحيح أن النسب لا دخل له في التقديم بالإمامة، ولكن على سبيل الاستحباب، فلو وُجِد من ينتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وله شرف النسب فإنه يقدم، كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأئمة من قريش)، ففضَّل بالنسب، وقالوا: لأنه لما يكون نسيباً فإن الناس تهابه وتجله وتكرمه، وكل ذلك المراد منه أن تتهيأ الأمور التي تعين على إجلال الإمامة وتشريفها وتشريف من يقوم بها. فالصحيح أن الشّرف لا يُقدَّم به، أي: أنه لا يُلزم بالتقديم به كما تقدم في القراءة وفي السنة وفي السِّن، فلو اجتمع عندنا من هو أتقى لله عز وجل، ومن هو أشرف فإننا نقدِّم الأتقى لله عز وجل، قال علي رضي الله عنه لما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] قال: ذهب النسب اليوم. ولكن قوله هذا معناه -كما قال العلماء-: ذهبت المفاخرة بالنسب، لكن لو وجد إنسان عنده دين وصلاح وأعطاه الله شرف النسب فإنه يُقدّم؛ لأن الله جمع له بين الحسنيين، وشرّفه بهاتين الفضيلتين، فهو مقدمٌ على من دونه.

تقديم الأقدم هجرة والأتقى للإمامة

تقديم الأقدم هجرة والأتقى للإمامة قال رحمه الله تعالى: [ثم الأقدم هجرة]. وهذا ثابتٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، في قوله: (فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً) وهذه رواية صحيح مسلم، ومعنى (أقدمهم سِلماً): أي: إسلاماً. ويمكن الآن أن يُنظر إلى التزام الشخص واستقامته وهدايته، فلو كان كِلا الشخصين حافظاً للقرآن عالماً بالسنة، ولكن أحدهما أقدم وأسبق في الالتزام وسنهم سواء؛ فإننا نقدم من نشأ في طاعة الله عز وجل على من هو دونه؛ ولذلك له شرف السَّبق والالتزام بدين الله عز وجل فحملوا عليه رواية الصحيح: (فأقدمهم سِلماً)، وقال صلى الله عليه وسلم: (فإن كانوا في السِّلم سواء فأقدمهم هجرةً) وفي رواية الأشج في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأقدمهم سناً) بدل (سِلماً)، وعليها حُملت الرواية بتقديم الأسن، ثم بعد السن جاء التفضيل من جهة الهجرة، وكانت الهجرة -ولا زالت- سنة من السنن، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)، ولذلك الهجرة باقية، وإذا كان أحدهم أقدمهم هجرة فإنه يقدم لسبقه إلى الإسلام، وابتلائه في ذات الله عز وجل، وصبره على هذا الابتلاء أكثر من غيره، وهذا يدل على أن التقديم كله من جهة الدين، وهذا شرفٌ للإنسان من جهة الدين لا من جهة الدنيا. قال رحمه الله تعالى: [ثم الأتقى]. الأتقى: أي: الأكثر تقوى لله عز وجل، وهذا بلا إشكال؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم أشخاصاً للإمامة ومفاضلته بين المتقدمين يدل على أن الأتقى لله عز وجل مُقدّم؛ فإن الأتقى لله عز وجل ينفع الله بقراءته، وينفع الله بمواعظه، وينفع الله بهديه واستقامته، بخلاف الفاسق الفاجر المتهالك المتهافت، فإنه قد يدعو الناس إلى الرذائل، وقد يستخف الناس بالحرام بسبب وجود هذا الفاجر والعياذ بالله، وقد ترى هذا الفاجر وهو إمام يصلي بالناس يفعل أموراً لا تليق بمثله، فيُشِين الإمامة ويجعل الناس في نفرة من دين الله عز وجل، ولكن الأتقى لله عز وجل على العكس من ذلك؛ فإنه لا يزال الإنسان يتمسك بشريعة الله عز وجل ويلتزم بدين الله حتى يتأثر به من يراه، ويحبه من يسمع قوله ويرى هديه، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96] أي: سيجعل الله لهم في القلوب حباً. ولكن بالإيمان والعمل الصالح، فإذا كان الإمام تقياً نقياً يخاف الله عز وجل ورعاً بعيداً عن الحرام فإن هذا أدعى لتأثر الناس به واقتدائهم به.

العمل بالقرعة عند التنازع على الإمامة

العمل بالقرعة عند التنازع على الإمامة قال رحمه الله تعالى: [ثم من قرع]. أي: من أصابته القرعة، فلو كان عندنا جماعة تقدموا للإمامة حفظهم لكتاب الله على حدٍ سواءً، وكلهم عالمٌ بالسنة بمرتبة واحد، وكلهم في سنٍ واحد، والتزامهم واحد، وتقواهم وديانتهم وصلاحهم واحد فإننا حينئذٍ نرجِع إلى التفضيل بالقرعة، والسبب في ذلك أن القرعة تُخرج عند المشاحّة، وقد عمل بها العلماء والأئمة والسلف رحمة الله عليهم، واعتبرها العلماء رحمهم الله حتى في مسائل عديدة مسائل القضاء، فإذا تشاح القوم فإن الناس سيفترقون بسبب أن كل طائفة تريد فلاناً أن يتقدم، فتقع فتنة ويقع شر، ولذلك يُقرع، أي: تُكتب أسماؤهم، ثم بعد ذلك يؤخذ بالقُرعة، فمن خرج اسمه فقد اختارهُ الله عز وجل، فيُقدم على غيره.

صاحب البيت أحق بالإمامة من غيره

صاحب البيت أحق بالإمامة من غيره قال رحمه الله تعالى: [وساكن البيت وإمام المسجد أحق إلا من ذي سلطان]. قوله: (وساكن البيت) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا يؤمن الرجل في داره، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه)، فدل على أن صاحب البيت أحق، وهذا فيه حِكم ذكر العلماء رحمهم الله منها: أولاً: أحقيته بالدار. ثانياً: أنه ربما كان يحتاج في ضيافته للناس إلى أن يستعجل، وإذا تقدم الإنسان الذي ليس وراءه مثل هذه الأمور فقد يُجحف برب البيت، فحينئذٍ يقدم للإمامة صاحب الدار، وشرط هذا ألا يكون فيه ما يمنع من إمامته، فإذا كان أهلاً للإمامة قُدِّم، وإلا تقدم من هو أهل على الصفة التي ذكرنا، إلا من ذي سلطان؛ فإن السلطان إمام للإنسان ولو في بيته، كالأمير ونحو ذلك، فإنه يلي أمره ويُقدَّم؛ لأنه ولي أمر الإمامة العامة، فمن باب أولى أن يلي ما دون ذلك، وهذا هو الأصل، وبناءً على ذلك يتقدم عليه، وفيه استثناء حديث السنن، فإذا حضر على بساطه، أو في بيته يتقدم عليه، وقال العلماء: ينبغي لصاحب البيت إذا رأى من هو أعلم وأفقه منه أن يقدمه ويشرِّفه بالإمامة، وهو مثاب على ذلك؛ لأنه من إنزال الناس منازلهم.

إمام المسجد أحق بالإمامة من غيره

إمام المسجد أحق بالإمامة من غيره قال رحمه الله تعالى: [وإمام المسجد أحق إلا من ذي سلطان]. إمام المسجد هو الذي يسميه العلماء: الإمام الراتب. والإمام الراتب سواءٌ أكان من قبل ولي الأمر كما يحصل الآن، حيث يكون الإنسان مرتبطاً بالإمامة ومعيناً فيها، فهو أحق ويُقدم على غيره، أم كان راتباً لأن أهل الحي أحبُّوه، ورضوا به أن يتقدمهم، فهو إمامٌ راتب، فيُقدم ولا يتقدم عليه أحد إلا بإذنه. أما الدليل على تقديمه فإن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- لما تأخر في قُباء ليُصلح بين حيين من بني عوف جاء إلى المسجد وقد تقدم أبو بكر يصلي، فسبّح القوم فلم يلتفت أبو بكر -وكان رضي الله عنه خشوعاً في صلاته مقبلاً-، فلما أكثروا عليه التشويش التفت فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب يتأخر، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك، فتأخر رضي الله عنه وأرضاه. وهذا لمكان أحقية النبي صلى الله عليه وسلم مع النبوة ومع الولاية، وأحقيته كذلك بالإمامة الراتبة ولذلك استنبط العلماء رحمهم الله أنه إذا حضر الإمام الراتب في الركعة الأولى حُقَّ له أن يتقدم، وهذا نص عليه غير واحدٌ من السلف، فلو حضر أثناء إمامة هذا المستخلَف الذي وُضِع من قبل الناس، أو تقدم من نفسه وحضر الإمام الراتب فمن حقه أن يؤخِّره ويتقدم ويُتم بالناس صلاتهم، وهذا مذهب طائفة من العلماء، وتدل عليه السنة. وذهب بعض العلماء إلى تخصيص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لقول أبي بكر: (ما كان لـ ابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم. قالوا: كان يتأوّل آية الحجرات. والصحيح أنه على ظاهره، وإمام الحي إذا حضر فإن إمامة من دونه إنما كانت لضرورة وحاجة، وما أبيح للضرورة والحاجة يبطل بزوالها، فيتأخر ويتقدم الإمام الراتب، وهذا إذا كان في الركعة الأولى، أما إذا كان في أثناء الركعة الثانية والثالثة فمن حقه أن يتقدم، ثم الناس يثبتون بعد تمام صلاتهم، ويُتِم كصلاة الخوف، ولكن نظراً لجهل كثير من الناس وعدم معرفتهم بالسنن وحدوث التشويش، إذ قد يُحدث هذا إرباكاً في المسجد، فحينئذٍ إذا اقتصر الإمام وبقي في آخر القوم فلا حرج، ولكن لو أراد الفضل فله أن يتقدم؛ لأن صلاته بالناس لها فضل، ولا إيثار في الفضل؛ لأنه إذا تأخر فقد آثر غيره بهذا الفضل، ولذلك قالوا: لو رضي أن يتنازل عن هذا فلا حرج. وقوله: [إلا من ذي سلطان] هو لمكان الولاية كما قلنا.

استحباب بعض العلماء لبعض صفات الإمام

استحباب بعض العلماء لبعض صفات الإمام قال رحمه الله تعالى: [وحرٌ وحاضر ومقيم وبصير ومختون ومن له ثياب أولى من ضدهم]. قوله: [وحر]. هذه من باب الأفضلية، فالحر يُقدم على العبد والرقيق؛ لأن الرِّق يكون بسبب الكفر، كما هو معلوم أنهم يؤخذون في الجهاد ويُضرب عليهم الرق، فلِمكان النقص الموجود في الرقيق يُقدَّم عليه الحر، فهو أولى، ولكن ليس هناك نص، بل لو كان العبد حافظاً لكتاب الله عز وجل، أو عالماً بالسنة فإنه يُقدم ولو كان مولىً أو عبداً، خلافاً لمن قال: إنه لا يؤُم العبد، وهذا قولٌ ضعيف، والصحيح أن القرآن يُقدِّمه وعلمه يقدمه ولذلك لما سُئِل بعض السلف رحمة الله عليهم عن إمامة العبد قال: سبحان الله! ومن لا يصلّ وراء عكرمة؟ ثم ذكر غيره ممن كان من الموالي كـ نافع وغيره، فمن الذي لا يستطيع أن يصلي وراء هؤلاء الأئمة الأجلاء، فالإسلام وإن كان قد ضرب الرِّق عليهم فإن هذا لا يعني عدم إعطائهم حقوقهم إذا كانوا أهلاً لهذه الإمامة بحفظهم لكتاب الله عز وجل وعلمهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وفقههم في الدين، فإنهم يُقدمون ولو كان فيهم شائبة الرق. وقوله: [وحاضر]. قالوا: يُقدم الحاضر على البادي. والسبب في ذلك غلبة العلم في الحاضر أكثر من البادي، ولكن لو كان من بالبادية أعلم وأفقه فإنَّه يقدم، والصحيح أنه لا تُمنع إمامة البادي إذا كان عالماً أو فقيهاً أو عارفاً بالسنة؛ لأن العبرة في الإمامة بالأوصاف التي ذكرناها، وأما ما ذكره العلماء رحمةُ الله عليهم من هذه الأوصاف فهذه كلها أمورٌ اجتهادية، والنص الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم سلماً، فإن كانوا في السلم سواء فأكبرهم سناً) يدل على التفضيل بهذه الأمور، وأما ما عداها فإنه لم يرد به نص مما اجتهد به العلماء رحمهم الله، كالعبد والحاضر ونحو ذلك، فكل هذا مما لا نص فيه، بل قد تجد غير الحاضر أكثر ديانةً واستقامةً، وأبعد عن المعاصي والفواحش من غيره، وأكثر تمسكاً بالدين، وقد يكون على فطرته التي فيها استقامة في الأخلاق، وكمال في العقل، فالعبرة بالديانة والاستقامة، بغض النظر عن كون هذا حاضراً أو غير حاضر، فهذا كله لا تأثير له مع وجود الدين والاستقامة والعلم بأحكام الصلاة. وقوله: [ومقيم]. قالوا: يُقدم المقيم على المسافر، والسبب في ذلك أن المسافر سيقصر الصلاة، وبناءً على ذلك قالوا: ربما اختلجت على الناس صلاتهم؛ لأنه سيصلي ركعتين في الرباعية، فإذا تقدّم بالناس وصلى بهم فإنهم يظنون أنه وَهِم فربما سبّحوا له، وربما سلّم بعضهم معه؛ لأن الناس بعضهم فيه غفلة فيدخل في الصلاة ولا يعي عدد ما صلّى، فإذا قال الإمام: (السلام عليكم) ظن أنه على الكمال فسلّم معه، ولذلك قالوا: يُقدَّم المقيم على المسافر. وكل ذلك من باب الاجتهاد، ولكن المسافر إذا كان على عِلمٍ، وكان حافظاً لكتاب الله عز وجل، وأحب القوم أن يقدموه فإنه يقدم. وقوله: [وبصير]. قالوا: البصير يقدم على الأعمى. وهذا لا نص فيه، وإنما هو اجتهاد من العلماء رحمة الله عليهم، ولكن قالوا: إن وُجِد من هو أعمى ومن هو بصير، فإن البصير ربما يكون أرفق بالناس. ولكن الحقيقة أن العبرة بالديانة والاستقامة، وأما البصير والأعمى فهما على حدٍ سواء؛ فإنه لا يُفضَّل بينهما إلا بنص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكم من أَعمى قد كُف بصره ولكن استنارت بصيرته، والعمى عمى القلب، ولذلك إذا جمع الله للإنسان الفقه في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فهو مقدَّم ولو كان كفيف البصر. وقوله: [ومختونٌ]. قالوا: يُقدم على الأقلف وهو غير المختون؛ لأن غير المختون تنحبس النجاسة في الموضع المعروف، ولذلك يكون المختون أكمل طهارة من غير المختون، وهذا ذكره العلماء رحمة الله عليهم من باب الاحتياط للصلاة، وعندهم كلام في إمامة الأقلف، ولكن ليس هناك نص على بطلانها وعدم صحتها، والصحيح أنه يجوز أن يُصلي بالناس، ومثاله: أن يسلم رجلان، ثم أحدهما اختتن، وكلاهما حفظ القرآن، أو حفظا مع بعضهما من كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فكان علمهم على حدٍ سواء، ولكن أحدهم اختتن والثاني لم يختتن، فقالوا: نقدِّم المختون. وفي مثل هذا يستقيم، فيُقدم المختون على غير المختون؛ لأن هذا تقديم من جهة الدين، والسبب في ذلك أنه التزم بشرع الله أكثر من غير المختون؛ فإنه بادر واختتن، ولذلك يكون هنا التقديم من جهة الدين، ويعتبر زيادة في تقوى الله عز وجل، والتزاماً بحدود الله سبحانه وتعالى. وقوله: [ومن له ثياب]. لأن شرط صحة الصلاة ستر العورة، فإذا وُجِد العاري وغير العاري فإن الذي يؤم هو الذي قد ستر عورته، ولا يتقدم العاري؛ لأنه إذا تقدم انكشف، وتكون إمامته سبباً في انكشافه ولذلك يتقدم غير العاري على العاري. وقوله: [أولى من ضدهم]. ولا يُشترط أن يكون العري كاملاً، فلو كان أحدهم عنده ثوبٌ كامل، وآخر عنده ثوب يستر العورة، والثاني عنده ثوب إلى نصف العورة فإننا نقدم من كمُل ستر عورته على من هو دونه.

حكم الصلاة خلف الكافر والفاسق

حكم الصلاة خلف الكافر والفاسق قال رحمه الله تعالى: [ولا تصح خلف فاسق ككافر]. بعد أن بين لنا رحمه الله من الذي يُقدم للإمامة ومراتب الأئمة والمفاضلة بينهم شرع رحمه الله في حكم إمامة من لا تصح الصلاة وراءه، فقال رحمه الله: [ولا تصح خلف فاسق ككافر]. والفاسق: مأخوذٌ من قولهم: فسقت الرُّطبة، أو الثمرة عن قِشرها إذا خرجت، فأصل الفِسق في لغة العرب: الخروج، وسُمِّي الفاسق فاسقاً لأنه خارج عن طاعة الله -والعياذ بالله-، وذلك بعصيانه والتمرد عليه سبحانه وتعالى، والفسق يكون على حالتين: الأولى: أن يصل بالإنسان إلى الكفر والعياذ بالله، فإن الكافر يُوصف بكونه فاسقاً لأنه على أعلى درجات الفسق والخروج عن طاعة الله عز وجل. الثانية: أن يكون دون حد الكفر، بمعنى أن فِسقه لا يُخرجه من الإسلام، ولذلك تجد في القرآن وصف الكفار بالفسق؛ لأنهم خرجوا عن طاعة الله عز وجل على أكمل ما يكون عليه الخروج. فأما إذا كان الإمام كافراً فالصلاة لا تصح وراءه بإجماع العلماء؛ لأن إمامة الكافر لا تجوز، ولا يجوز تقديمه، ومذهب طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم أنّهم يُلزمون بإعادة الصلاة فلو أن كافراً قُدِّم للصلاة بالناس ولم يعلموا إلا بعد خمس سنوات فإنهم يُلزموا بإعادتها خمس سنوات، ووقع هذا في بعض الأماكن، حيث قدّموا بعض الكفار فصلّوا وراءه أكثر من خمس سنوات، ثم تبين أنه كافر فأعادوا صلاتهم خمس سنوات، وهذا يكون بالترتيب في الفروض على الصفة التي ذكرناها في قضاء الفوائت. فلا تجوز إمامة الكافر، ولا يجوز تقديمه، ولا تجوز الصلاة وراءه. وبناءً على ذلك قال رحمه الله: [ولا تصح خلف فاسق ككافر]. والفاسق الذي يرتكب الكبائر أو يصر على الصغائر ضد العدل، فالعدل: الذي لا يرتكب الكبيرة ولا يصر على الصغيرة. كما قيل: العدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الأغلب الصغائر فالذي يرتكب الكبائر ولو كبيرة واحدة، أو يصر على الصغائر ويداوم عليها يُوصف بكونه فاسقاً، فلا تصح الصلاة وراءه، واختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، فلو أن إنساناً فاسقاً تقدم وصلى بالناس، فهل صلاتهم وراءه صحيحة أو ليست بصحيحة؟ فللعلماء قولان فيها: القول الأول: الصلاة وراء الفاسق صحيحة، ما دام أن فِسقه لم يخرجه عن الإسلام، وبه قال جمهور العلماء، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية وبعض أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع. القول الثاني: الصلاة وراء الفاسق باطلة لا تصح إمامته، ولا تصح الصلاة وراءه، وهو مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه. واستدل الذين قالوا بصحة الصلاة وراء الفاسق بأدلة، أولها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم)، ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإن أخطأوا فلكم -أي: لكم صلاتكم كاملة- وعليهم): أي عليهم خطؤهم. فبين أنه لا علاقة للإنسان بفسق الإمام أو صلاحه، فالعبرة بصلاتك، فقال: (يصلون لكم، فإن أصابوا -أي: إن كانوا صالحين- فلكم ولهم -أي: الصلاة على ما هي عليه- وإن أخطئوا -أي: كانوا على خطأ- فلكم -أي: صلاتكم لكم وعليهم خطؤهم-. وهذا الحديث نصٌ واضح في صحة إمامة الفاسق. الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا ذرٍ رضي الله عنه أن يصلي مع الجماعة، وقال: (صلها معهم فإنها لك نافلة)، كما في الصحيح، ووجه الدلالة أنه صحّح صلاته وراء الفسّاق، وأثبت كونها نافلة؛ إذ لو كانت باطلة لم تكن نافلة ولا فريضة. الدليل الثالث: هدي السلف وإجماع السلف الصالح رحمةُ الله عليهم، فإن ابن عمر وأنس بن مالك رضي الله عن الجميع صليا وراء الحجاج، ومع ذلك لم يحكم أحدهما ببطلان الصلاة وراءه، ولم ينكر عليهما أحد، فدل على أن الصلاة وراء الفاسق صحيحة. الدليل الرابع من العقل: قالوا: الفاسق صلاته في نفسه صحيحة، أي: مجزئة لنفسه، فمن باب أولى أن تُجزئ إمامته لغيره. وتوضيح ذلك أنهم قالوا للحنابلة: الفاسق لو صلى الظهر وصلى العصر فهل تطالبونه بإعادة الظهر والعصر؟ قالوا: لا. قالوا: ما دام أن صلاته صحيحة في حق نفسه فمن باب أولى أن تصح في حق غيره. أما بالنسبة لمن قال بعدم صحة الصلاة وراء الفاسق ففي الحقيقة ليس لهم دليل واضح صحيح صريح يدل على بطلان الصلاة وراء الفاسق. ولكن لهم أُصول، منها: أنه إذا تقدم الفاسق وأمّ بالناس فإنه لا يُؤمن أن يحملهم على المحرمات، أو يدعوهم إلى المنكرات، ثم إن هذا فيه انتقاصٌ من مكانة الإمامة، وامتهانٌ لهذه الإمامة التي تقوم عليها أعظم شعائر الدين بعد الشهادتين وهي الصلاة، ولهم في ذلك اجتهادات، لكن الصحيح ما ذهب إليه الجمهور وهو أن الصلاة وراء الفاسق صحيحة، وأن الفاسق له صلاته، فكما أن صلاته صحيحة في حق نفسه فمن باب أولى أن تصح في حق غيره. فقوله رحمه الله: [ولا خلف فاسق ككافر] جمع به رحمه الله بين هذه المسائل: أولاً: عدم صحة الصلاة وراء الفاسق، وهذا مذهب مرجوح. ثانياً: عدم صحة الصلاة وراء الكافر، وهذا يكاد يكون إجماعاً. ثالثاً: الدليل في قوله: [خلف فاسق ككافر] قياس.

أدلة تقديم الفقيه للإمامة

أدلة تقديم الفقيه للإمامة

حكم صلاة الرجال خلف امرأة أو خنثى

حكم صلاة الرجال خلف امرأة أو خنثى قال رحمه الله تعالى: [ولا امرأة وخنثى للرجال] أي: ولا تصح الصلاة وراء امرأةٍ، أي: الرجال أن تكون إمامتهم امرأة، فلا تجوز إمامة المرأة للرجال، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله، لكن شذّ بعض العلماء -ويُنسب الشذوذ إلى الطبري وداود - فقالوا: يجوز أن تؤم المرأة الرجال. وهذا قولٌ شاذ، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة)، وقال في الحديث: (استقيموا ولن تُحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، فخير الأمور الصلاة، فإذا لم تصح إمامتها فيما هو دونها، وورد الوعيد فيما دونها فمن باب أولى في الصلاة نفسها، فلا تُقدَّم المرأة للإمامة بالرجال، ولأنها إذا تقدمت بالرجال فَتنت أو فُتِنت، أو اجتمعت الفتنتين، فكانت الإمامة فتنةً لها في نفسها وفتنةً لغيرها، فلا تتقدم المرأة على الرجال. قوله: [وخنثى] كذلك الخنثى؛ لأن الخنثى محكومٌ بكونه أنثى، ولا يؤم الرجال، وإنما يؤم من هو مثله، أو يؤم من هو دونه وهي المرأة.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين الإمامة والأذان من حيث الفضل

الفرق بين الإمامة والأذان من حيث الفضل Q أيهما أفضل: الإمامة أم الأذان؟ A اختلف العلماء رحمهم الله في ذلك: فمذهب الجمهور أن الإمامة أفضل، وذلك لأن الإمامة هي المقصد، والأذان وسيلةٌ للإمامة والصلاة جماعة، ولأن الإمامة يُشترط فيها من الفضائل ما لا يشترط في الأذان، ويشترط لصحة الصلاة نفسها ما لا يشترط لصحة الأذان، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أم، وأمّ مِن بعده الخلفاء الراشدون، وكذلك أيضاً لم يُحفظ عنه عليه الصلاة والسلام نصٌ صحيح بتقديم الأذان على الإمامة، ولهذا قالوا بتقديم الإمامة على الأذان. القول الثاني: الأذان أفضل. وهو روايةٌ عن الإمام أحمد رحمةُ الله عليه اختارها جمعٌ من أصحابه، وقيل: إنها هي المذهب، فالأذان أفضل من الإمامة. واحتجوا بما أُثر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لولا الخلافة لأذّنت، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين)، وهو حديث أبي داود وأحمد في مسنده عن أبي هريرة. قالوا: هذا يدل على أن الأذان أفضل من الإمامة، وقال صلى الله عليه وسلم: (إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء؛ فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا حجرٌ ولا شجرٌ إلا شهد له يوم القيامة)، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أطول الناس أعناقاً يوم القيامة المؤذنون) قالوا: هذا يدل على فضل الأذان، وأنه أفضل من الإمامة. والصحيح أن الإمامة أفضل من الأذان؛ لأن الله اختارها لنبيه عليه الصلاة والسلام، ولم يحفظ في حديث واحدٍ أنه تولّى عليه الصلاة والسلام الأذان. وأما كونه يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم الدلالة على فضل الأذان فإن هذا لا يدل على أنه أفضل من الإمامة، ألا ترى الصلوات النوافل وردت فيها أحاديث بفضلها، ولم يرد بخصوص صلاة الفرائض كصلاة الفجر والعشاء والمغرب مثل الأحاديث التي وردت في النوافل، ولذلك الإمامة مقدمة من وجوهٍ عديدة، فإن الإنسان إذا نظر إلى ما للإمامة من مسئولية ومن تحمل أعباء أدرك ذلك، ولما فيها من الفضل، كما قال بعض السلف: من صلى بالناس كُتب له أجره. يعني أن الإمام له أجر من يصلي وراءه قلُّوا أو كثروا، وهذا فضل عظيم، مع ما في مواعظهم وتذكيرهم؛ فإن الإمام يذكِّر الناس في الخطب، وفي المواعظ العابرة، وفي المناسبات المقتضية لذلك، وهذا التذكير فيه حياةٌ للقلوب، ودلالةٌ على الخير، وانشراحٌ للصدور، وهداية إلى سبيل الله عز وجل، والله تعالى يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33]، فإن (مَنْ): بمعنى (لا)، أي: ولا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى الله. وقد يقول قائل: إن هذه وردت في المؤذن! فنقولك هذا قول مرجوح، وإنما هي عامة. وعلى هذا نقول: المؤذن داعٍ إلى شيء معين وهو الصلاة، والإمام الخطيب داعٍ إلى أشياء، بل داعٍ إلى شعائر الإسلام كلها، فإن قلت بتفضيل المؤذن لكونِه يدعو إلى الصلاة فإن الإمام يقوم بها، وإن قلت إنه يدعو فإن الإمام يدعو إلى الصلاة، ويدعو إلى ما هو أعظم وأجل، كدعوته إلى توحيد الله عز وجل، وخطبته في الناس وتذكيره، فالذي يظهر -والعلم عند الله- أن القول بترجيح الإمامةَ أولى وأحرى، وأن الإمامة لها فضلٌ عظيم. وقوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين) دليلٌ لنا لا علينا؛ فإن قوله: (اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين) يدل على فضل الإمام؛ لأنه لعظم مسئوليتها صرف الدعوة إلى أن يعينهم على أدائها حتى يكون أجرهم أكثر، وقال عليه الصلاة والسلام: (واغفر للمؤذنين) فلخفة أعباء الأذان كان الدعاء لهم بما يناسبهم، وقال بعض العلماء: إنما هو دعاءٌ بما يناسب الحال لا علاقة له بالتفضيل، والذي يظهر -والله أعلم- أن تفضيل الإمامة أولى وأحرى، وذلك لما ذكرناه من الوجوه التي بُنِيت على النقل والعقل والقول بتفضيلها، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس. والله تعالى أعلم.

حالات المأمومين أثناء سهو الإمام

حالات المأمومين أثناء سهو الإمام Q إذا قام الإمام لركعةٍ خامسة فهل المسبوق بركعة يصلى معه الخامسة وهي له رابعة، أم ماذا يفعل؟ A إذا قام الإمام لخامسة فحينئذٍ الناس على ثلاثة أقسام: القسم الأول: من منهم تامةٌ صلاته ويعلم بخطأ الإمام، فحينئذٍ يجب عليه أن يبقى في التشهد، ويترك الإمام يُتم الخامسة ويتشهد معه ويسلم، أي: يتشهد ويطيل في الدعاء حتى ينتهي الإمام من الركعة الخامسة الزائدة، فأنت معذور لأن الواجب عليك أربع، والإمام معذور لأنه مأمور إذا شك أن يُتِم الخامسة، وأما المأموم فيبقى على ما هو عليه وصلاته صحيحة. القسم الثاني: من يكون غير عالم بزيادة الإمام، فتلزمه متابعة الإمام ولا يجوز له أن يبقى؛ لأنه ملزم بالمتابعة حتى يتيقن أنها الخامسة فيجلس كالطائفة الأولى، وبناءً على ذلك إذا لم تعلم هذه الزيادة، ولم تدرِ هل زاد أم لم يزد. فالأصل أنك تتابع، فتصلي معه، فإن تبيّن أنها خامسة فصلاتك صحيحة؛ لأنك كالإمام لمكان العذر بالسهو. القسم الثالث: هم الذين سُبِقوا بأجزاء من الصلاة، أو بكل الصلاة، فهؤلاء يتابعون الإمام ويصلون معه الركعة الخامسة؛ لأنهم مأمورون بالاقتداء بالإمام، والإمام معذورٌ فيما زاد، وبناءً على ذلك: ركعة الإمام صالحةٌ له وصالحةٌ لمن وراءه، فلو أنك علمت أنها زائدة وقد فاتتك ركعة دخلت وراءه وأتممت وسلمت معهم، فتسلم معه لأنه قد تمت لك أربع ركعات، فأنت مأمورٌ بالصلاة أربعاً، ومأمور بمتابعة الإمام، فتابعت الإمام فيما يُشرع لا فيما يُمنع، والطائفة الأولى إنما تعذرت عليها المتابعة لأنها في الممنوع لا في المشروع، والله تعالى أعلم.

حكم الصلاة في مسجد فيه قبر

حكم الصلاة في مسجد فيه قبر Q ما حكم الصلاة في المسجد الذي به قبر؟ A لا تجوز الصلاة في القبور، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن الله اليهود والنصارى، واتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وقالت أم المؤمنين رضي الله عنها: يحذر مما صنعوا. أي: يُحذِّر أمته أن تصنع كما صنعت اليهود والنصارى. فإن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح يبيِّن لنا أنه لا يجوز اتخاذ القبور مساجد، فلا تجوز الصلاة على قبر، ولا عند قبر، ولا بين القبور، وكذلك لا تجوز الصلاة إلى القبور، كأن تكون جدرانها متصلة بالمساجد. وهذا القول قال به جماهير السلف رحمة الله عليهم، وقال جمعٌ منهم بعدم صحةِ الصلاة، وأنها باطلة ولو صلى في المقابر فإن صلاته غير صحيحة. ويستثنى من هذا الصلاة على الجنازة في القبر إذا دُفِن وقُبر، فقال بعض السلف بجواز الصلاة على الميت بعد قبره، ثم اختلفوا في المدة فقال بعضهم: في حدود ثلاثة أشهر. وقال آخرون: في حدود ستة أشهر. وقال آخرون: ما لم يبلَ. فهي ثلاثة أقوال للعلماء الذين يقولون بجواز الصلاة على القبر بعد دفنه، وإن كان الأقوى والأولى من ناحية الدليل أن الصلاة على القبر مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لما صلّى على المرأة التي كانت تقيم المسجد قال: (إن هذه القبور مملوءةٌ ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم)، فهذا يقتضي التخصيص كما يقول الجمهور، حيث قال: (ينورها بصلاتي)، وهذه رواية مسلم، لكن لو أن إنساناً صلّى على قبر يتأول قول من يقول بالجواز فلا حرج. فالشاهد أنه لا تجوز الصلاة في المسجد الذي فيه قبر لعدم صحة الصلاة فيه، ولأنه ذريعة إلى الشرك والعياذ بالله؛ فإن الصلاة على القبور أو عند القبور تفضي إلى تعظيمها، وقد حدث الشرك أول ما حدث في قوم نوح بتعظيم الصالحين، وذلك حينما صوّروا صورهم، ثم جاء مِن بعدهم جيل فعبدوهم والعياذ بالله، وكان السبب في عبادتهم تعظيم الأوائل لهم. فالصلاة عند القبر تعظيم له، فقد يُعتقد أن هذه البقعة لها فضل ولها مزيَّة، ولذلك إذا فُتح هذا الباب للجهال فإنهم يسترسلون ويقعون في الشرك -والعياذ بالله-، كما هو واقع في بعض الأماكن -نسأل الله السلامة والعافية-؛ فإنه لما بُنِيت المساجد على القبور طافوا واستغاثوا بها، وذبحوا ونذروا لها -نسأل الله السلامة والعافية- حتى إنهم يعظمونها كتعظيمهم لبيت الله الحرام -نسأل الله السلامة والعافية-، بل إن بعضهم لو دُعي إلى تعظيم شيء من هذه الأمور فإنه قد يُعظمها أكثر من البيت، فلو دُعي للحلف عند قبر فلان من الصالحين ودعي للحلف عند الكعبة لربما وجد أن الحلف عند قبر الصالح أشد وأعظم من الحلف عند البيت، وقيل لرجل: أتحلف بالله؟ فحلف بالله أيماناً مغلظة أنه ما فعل. فقيل له: احلف بفلان الصالح؟ قال: لا. فأصبح -والعياذ بالله- تعظيمه لهذا أكثر من تعظيمه لله، وهذا بسبب الجهل، وبسبب التساهل في الذرائع التي تُفضي إلى الشرك، فلا تجوز الصلاة في القبور أو عندها أو الصلاة إليها. والله تعالى أعلم.

حكم من صلى بالناس وهو محدث وعلم ذلك بعد الصلاة

حكم من صلى بالناس وهو محدث وعلم ذلك بعد الصلاة Q لو صلى الإمام بجماعةٍ وهو محدث، ولم يعلم إلا بعد انتهاء الصلاة، فهل يخبر المأمومين ويُعتبر من واجبات الإمامة بيان هذا الأمر؟ A إذا صلى الإمام وهو محدث ثم تبيّن له بعد الصلاة وبعد تمام الصلاة أنه كان محدثاً فصلاة من وراءه صحيحة، ولا يلزمه أن يخبرهم، بل يقتصر على الوضوء إذا كان محدثاً حدثاً أصغر، أو الغسل وإعادة الصلاة إن كان محدثاً حدثاً أكبر، وقد جاء عن عمر رضي الله عنه وأرضاه -كما روى مالك في الموطأ- أنه صلى بالناس الصبح -أي: الفجر- ثم انطلق إلى مزرعةٍ له بالجرف -وهي من ضواحي المدينة- فلما جلس على الساقية -أي: على القنطرة التي فيها الماء- رأى أثر المني على فخِذه، فقال: ما أُراني إلا أجنبت وصليت وما اغتسلت. وهذا بعد طلوع الشمس، ثم اغتسل رضي الله عنه، وفي رواية قال: إنا لما أصبنا الودك لانت العروق. اغتسل رضي الله عنه وصلى، ولم يأمر الناس بالإعادة. قالوا: وهذا القول هو قول جمهور العلماء رحمةُ الله عليهم، وله أصل في حديث أبي هريرة الذي ذكرناه في صحيح البخاري: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم) أي: لكم صلاتكم صحيحة وعليهم خطؤهم. ولكن لا يجوز للإمام أن يتقدم بالناس وهو مُحدِث، ولا يجوز للمأموم أن يأتم به إذا علم حَدَثَه، أو رأى عليه نجاسة، فإنك إذا رأيت حدثه وعلمت كونه مُحدِثاً، أو رأيت الإمام وقد دخل وقضى حاجته وانتقض وضوؤه، أو سمعت منه ما يُوجب انتقاض وضوئه، ثم رأيت منه الذهول والنسيان، فتقدم بالناس وصلَّى فلا يجوز لك أن تأتم به، وإن ائتممت به فذهب طائفة من العلماء إلى أن الصلاة باطلة ولا تصح. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

فصل: الأولى بالإمامة [2]

شرح زاد المستقنع - فصل: الأولى بالإمامة [2] من المسائل المتعلقة بالإمامة: من هم الذين تصح خلفهم الصلاة والذين لا تصح خلفهم الصلاة؟ وهنا بيان للذين لا تصح الصلاة خلفهم، وهم: الصبي غير البالغ، إلا أن فيه خلافاً والصحيح الجواز، ومنهم: الأخرس والعاجز عن الركوع أو السجود أو القيام أو القعود. وتصح الصلاة خلف من به سلس البول بمثله، ولا تصح خلف محدث ولا متنجس، ولا أمي لا يحسن القراءة. وهناك من تكره إمامتهم في الصلاة ذكرهم العلماء في باب الإمامة.

تابع أحكام الإمامة

تابع أحكام الإمامة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ولا تصح خلف فاسق ككافر، ولا امرأة وخنثى للرجال، ولا صبي لبالغ]. ما زال المصنف رحمه الله يبين لنا الأمور التي تؤثر في الإمامة، فبين رحمه الله من لا تصح إمامته، وذكرنا عدم صحة إمامة الكافر بالمسلمين وبينا وجه ذلك، ثم تعرض رحمه الله لإمامة الفاسق، وبينا أن مذهب الحنابلة رحمة الله عليهم وجمهور أهل العلم على أن الصلاة خلف الفاسق صحيحة؛ لثبوت الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم)، أي: لكم صلاتكم كاملة وعليهم خطؤهم. وقال العلماء: إن الفاسق تجزئه في حق نفسه، ولذلك تصح إمامته لغيره. وبينا أن السلف الصالح رحمة الله عليهم كانوا يصلون خلف الفساق وما كانوا يبطلون الصلاة، كما هو فعل أنس بن مالك وعبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع. ثم بعد ذلك ذكرنا إمامة المرأة للرجال، وقلنا: لا تصح إمامة المرأة للرجال، وأما إمامتها للنساء فللعلماء فيها قولان. وأما الدليل على أن المرأة لا تؤم الرجال: فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة)، فالنساء جبلن على الضعف الذي هو كمال لهن في أمورهن الخاصة، وجعل الله هذا الضعف رفقاً بهن وبغيرهن، وفيه خيرٌ لهن ولغيرهن، ثم جعل في الرجل ما لم يجعله للمرأة من إمامة الرجال لافتتان الرجال بها وافتتانها بهم، ولذلك يضيع المقصود من الإمامة والصلاة من قصد القربة إلى الله عز وجل، وبناءً على ذلك لا تصح إمامة المرأة للرجال، وشذ داود والطبري رحمة الله عليهما، فقالا بصحة إمامة المرأة للرجال، وذلك لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله). وهذا القول ضعيف لمعارضته للسنة الصحيحة التي دلت على عدم ولاية المرأة، والإمامة ولاية، والصلاة كذلك من أعظم الأمور، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة). وأما بالنسبة لاحتجاجهم بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) فمحل نظر؛ لأن لفظ (القوم) يطلق بمعنى الرجال، كما في قوله تعالى: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات:11]، فقيل: إن القوم يطلق ويراد به الرجال خاصة، بدليل عطف النساء عليه بعد ذلك بقوله تعالى: (وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ)، فلم تجتزئ الآية بذكر القوم حتى خصصت ذكر النساء، فدل على أن القوم يطلق ويراد به الرجال. وأيضاً قول الشاعر: فما أدري ولست إخال أدري أقومٌ آلُ حِصْنٍ أم نِساءُ؟ فقوله: أقومٌ آلُ حِصْنٍ أم نِساءُ؟ أي: هل هم رجال أم نساء؟ فدل على إطلاق القوم وإرادة الرجال وحدهم، وهذا هو لسان العرب الذي نطق به القرآن، وكذلك نطقت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وبناءً على ذلك لا تؤم المرأة الرجال، ولكن يرد Q هل المرأة تؤم النساء؟ في هذه المسألة قولان: فقالت الحنابلة والشافعية رحمة الله عليهم: إن المرأة تؤم النساء. واحتجوا بحديث أبي داود في سننه وعند أحمد في مسنده: (أن أم ورقة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكانت امرأة صالحة- أن تؤم أهل دارها، فأذن لها -عليه الصلاة والسلام- بذلك)، وكان يؤذن لها رجلٌ أعمى كفيف البصر، قال الراوي: فلقد رأيته قد سقط حاجباه فكان يؤذن لها، ثم تؤم أهل دارها، فدل على أنها تؤم النساء مثلها. وقالت الحنفية والمالكية رحمة الله عليهم: إن المرأة لا تؤم النساء. وهذا قولٌ ضعيف، وقد احتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (آخروهن حيث أخرهن الله)، وهو حديث ضعيف. وقوله عليه الصلاة والسلام: (خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)، فقالوا: إن الإمامة تكون فضلاً، ولكن على هذا الوجه تكون بخلافه فتعارض مقصود الشرع من تأخير النساء. والصحيح جواز إمامة المرأة للنساء، وبناءً على ذلك فلا حرج أن تصلي المرأة بمثلها من النساء. ثم قال رحمه الله: [ولا صبي لبالغ]. أي: لا تصح إمامة الصبي للبالغ. والصبي لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون غير مميز، وهو الصبي الطائش الذي لا يضبط أمور الصلاة ولا يعيها ولا يعقلها، فهذا لا يؤم البالغين بالإجماع. والحالة الثانية: أن يكون الصبي يميز، والمميز للعلماء فيه ضابطان: فمنهم من يضبطه بالسن فيقول: هو الذي بلغ سبع سنين، وهو المميز، فمن كان دون سبع سنين فليس بمميز. واحتجوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع)، فدل هذا الحديث على أن سن السبع هو سن التمييز، وأن الصبي يؤمر بالصلاة لسبع، وما دون سبع لا يؤمر لها، فدلنا على أن السبع فاصل بين التمييز وعدمه. وهناك قولٌ ثانٍ ضبط الصبي المميز بضابط الحال، فقالوا: الصبي المميز هو الذي يفهم الخِطاب ويحسن الجواب. أي: إذا كلمته فهم ما تريد، وإذا أجابك أحسن الجواب على الوجه الذي تطلب والفرق بين القولين: أن الصبي قد يكون قوي الذكاء فيحسن الجواب والخطاب وعمره خمس سنوات، أو ست سنوات؛ فحينئذٍ -على القول الأول- ليس بمميز، وعلى القول الثاني هو مميز، والصحيح اعتبار السن. فقوله: [ولا صبي لبالغ] أي: ولا تصح إمامة الصبي، والصبي من هو دون البلوغ، ومحل الخلاف في المميز، واختلف العلماء لو أن صبياً كان حافظاً لكتاب الله عز وجل، وأمّ البالغين فهل تصح إمامته أو لا تصح؟ وجمهور العلماء على أن الصبي لا يؤم البالغين، وأنه لا يؤم البالغين إلا البالغ. وبهذا القول قال فقهاء الحنفية والمالكية والحنابلة رحمةُ الله على الجميع. القول الثاني: إن الصبي إذا كان أحفظ القوم فإنه يؤم البالغين ولا حرج في ذلك، وبهذا القول قال الإمام الشافعي، وهو كذلك قولٌ لطائفة من أصحاب الإمام أحمد رحمةُ الله على الجميع. والذين قالوا: لا يؤم الصبي البالغين احتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب البالغين فقال في الحديث الثابت في الصحيح: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) يخاطب البالغين، فدل على أنه لا يؤم البالغين إلا واحد منهم. وقالوا أيضاً: إن الصبي كالمجنون؛ لأن الصبي لم يبلغ الحلُم ولم يكتمل عقله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (رفع القلم عن ثلاثة) ثم قال: (وعن الصبي حتى يحتلم)، فأخبر أنه لا يبلغ الحلم والعقل، وهذا معروف ومجمع عليه، فالصبي لا عقل عنده بمعنى الكمال، وبناءً على ذلك قالوا: إنه كالمجنون وهذا ضربٌ من القياس والنظر. الوجه الثالث: قالوا: إن الصبي إذا أمّ البالغين فإنه متنفل؛ لأن الصلاة ليست بواجبةٍ عليه، والذين يصلون وراءه من البالغين مفترضون، ولا يؤم المتنفل المفترض. فهذه هي أوجه من قال بعدم صحة إمامة الصبي للبالغين. أما الذين قالوا بصحة إمامة الصبي للبالغين فاحتجوا بحديث عمرو بن سلمة -وهو ثابت في الصحيح- أنه قال: كانت العرب تلوم بإسلامها فتح مكة ومعنى هذه العبارة: أن العرب كانوا يقولون: اتركوا هذا الرجل وقومه، وكانوا يجلون قريشاً ويقدرونها ويعظمون أمرها، وكانوا يقولون: أهل الحرم -أي: أهل مكة- لا يقصدهم ظالم إلا آذاه الله عز وجل، ولا يسلم من نقمة الله عز وجل. فقالوا: إن كان محمدٌ ظالماً فسيكفيكم أمره ظلمه لقريش، وإن كان على حق وغلبهم أسلمنا وأطعنا، فقال عمرو بن سلمة: كانت العرب تلوم بإسلامها فتح مكة. أي: تنتظر ما الذي سيجري بين محمدٍ وأهل مكة، فلما فتحت مكة ظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم دينه دين حق؛ لأنه لو لم يكن على حق لما فتحت له مكة، كما قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1 - 2]، قال: فقدم أبي وقومي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلمهم ما شاء الله أن يعلمهم من أمور الإسلام وشرائعه. قال: ثم قال عليه الصلاة والسلام: (صلوا صلاة كذا في حين كذا وكذا وليؤمكم أكثركم قرآناً)، والرواية في الصحيح تقول: فرجعوا فنظروا فإذا أنا أكثرهم أخذاً للقرآن فقدموني. قالوا: وهذا الحديث فيه أن عمرو بن سلمة وهو غلام ابن تسع سنوات قد أمَّ هؤلاء البالغين، وكان في عصر التشريع والوحي، فلو كانت إمامة الصبي للبالغين لا تصح لما أجاز النبي صلى الله عليه وسلم لهم ذلك. ووجه هذا أنهم قالوا: إن عموم قوله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) يدل على أن الصبي إذا كان حافظاً للقرآن فإنه يقدم. وناقش الجمهور هذا الحديث من وجوه: فكان الإمام أحمد رحمة الله عليه إذا ذكر هذا الحديث -كما نقل عنه الإمام ابن قدامة وغيره- يقول: أي شيءٍ هذا؟ أي شيء هذا؟ دعه فإنه ليس ببين. والسبب في هذا أن حديث عمرو بن سلمة فيه إشكال، ووجهه أنه يقول: (كنت أؤمهم) وكان من التابعين ولم يلق النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا سجد بدت عورته كما في رواية البخاري، فقالت امرأة: استروا عنا است قارئكم. فالإمام أحمد فطن إلى هذا المأخذ؛ إذ إن الإنسان لو صلى مكشوف العورة بالاختيار لبطلت صلاته، فدل على أنهم مجتهدون وهم قريبوا العهد بالجاهلية كما هو ظاهر الرواية في الصحيح، فكان رحمه الله يقول: أي شيءٍ هذا؟ دعوه فإنه ليس ببين. أي: إذا أُخذ على ظاهره من أنهم اجتهدوا؛ لأنه قال: فرجعوا فنظروا. فقوله: (فنظروا) واضح في الدلال على أنهم اجتهدوا. كما رد الجمهور على هذا الحديث

حكم إمامة الأخرس

حكم إمامة الأخرس قال رحمه الله: [وأخرس]. أي: ولا تصح الإمامة من أخرس، وهو الذي لا ينطق، وكل من كان مبتلىً بالخرس -على أحد الوجهين- فإنه لا يتقدم الناس، والسبب في ذلك أن الإمام يتحمل القراءة، قال صلى الله عليه وسلم: (الإمام ضامن)، فالأخرس لا يستطيع القراءة، فكيف يتحمل عن الناس قراءتهم؟ وكيف يقوم بواجبات الصلاة وأركانها المشتملة على قراءة الفاتحة، وهكذا بالنسبة لأذكار الانتقال من التكبير والتسميع ونحو ذلك؟ فلا تصح إمامة الأخرس.

حكم إمامة العاجز عن الركوع أو السجود

حكم إمامة العاجز عن الركوع أو السجود قال رحمه الله: [ولا عاجز عن ركوعٍ أو سجود أو قعود أو قيام]. هذه كلها أركان للصلاة، فالقيام مع القدرة والركوع والسجود والجلوس كلها من أركان الصلاة، فقالوا: إذا كان الإمام عاجزاً عن القيام أو الجلوس أو الركوع أو السجود فإنه لا يصلي بغيره، والسبب في ذلك أنه معذورٌ في نفسه وغيره غير معذور، فعذره لا يتعدى إلى الغير، ومن ثم قالوا: لا يؤم العاجز عن القيام والعاجز عن الركوع والسجود غيره، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى جالساً في موضعين: الموضع الأول: حينما وقع من على فرسه وجرح شقه الأيمن، قال أنس -كما في صحيح مسلم-: (سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم من على فرس فجحش شقه الأيمن -أي: جرح-، فصلى قاعداً فصلى وراءه أصحابه قياماً، فلما سلم قال: لقد كدتم أ، تفعلوا فعل الأعاجم. ثم قال عليه الصلاة والسلام: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا. وإذا رفع فارفعوا، إلى أن قال: وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين)، فهذا يدل على أنهم يقتدون بالإمام إذا كان جالساً، وبناءً على ذلك قالوا: إذا كان معذوراً وهو الإمام الراتب جاز أن يصلي بالناس قاعداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إمامٌ راتب. والذين يقولون بالمنع من إمامة من يعجز عن الركوع والسجود والقيام السبب عندهم أن العجز مختصٌ به والإمام ضامن، وبناءً على ذلك لا يكون الناقص ضامن للكامل، وعلى هذا لا يحمل ولا يضمن للناس صلاةً فلا يصح أن يتقدم بهم، وهناك حديث: (لا يؤمن أحدٌ بعدي جالساً)، وهو حديث ضعيف. قال رحمه الله: [إلا إمام الحي المرجو زوال علته، ويصلون وراءه ندباً]. هذه المسألة فيها خلاف، فقال بعض العلماء: لا يؤم الإمام الجالس أو القاعد مطلقاً، سواءٌ أكان إمام حيّ أم غيره. ويحتجون بالحديث الذي ذكرناه، ومنهم من قال: يؤم الإمام ولو كان جالساً إذا كان إماماً راتباً أو إمام الحي فإنه يؤم جالساً ويصلي الناس وراءه، واختلفوا في المأمومين على قولين، فقيل: يصلون قياماً. وقيل: يصلون جلوساً مثله. فالذين قالوا: يؤم ويصلي الناس وراءه جلوساً يحتجون بحديث أنس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سقط من على الفرس وصلى جالساً عتب على الصحابة أن صلوا وراءه قياماً، وبناءً على ذلك قالوا: إن هذا يدل على أن الإمام لا يصلى وراءه إلا بالصفة التي هو عليها، فإن صلى معذوراً جالساً صلينا وراءه جلوساً لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين). القول الثاني يقول: لا يصلون وراءه جلوساً، وإنما يصلون وراءه قياماً؛ لأن الإمام معذورٌ في حق نفسه ومن وراءه غير معذور، فهو مخاطبٌ بأن يقوم كما أمره الله، فيبقى العذر مخصوصاً بصاحبه ويبقى غيره على القيام، فقيل لهم: كيف تجيبون عن حديث أنس؟ قالوا: حديث أنس كان في أول الأمر، ثم نسخ بصلاته عليه الصلاة والسلام في مرضه. فإنه لما مرض مرضَ الموت وتقدم أبو بكر ليصلي بالناس جاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة ثم قعد فصلى، فصلى أبو بكر بصلاته يسمع الناس، فكان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً والصحابة من ورائه قياماً، فقالوا: هذا وقع في آخر إمامةٍ أَمّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة، ويؤكدون هذا بأن النصوص قوية في الدلالة على مخاطبة المكلف بالقيام، فنبقي هذه النصوص التي أوجبت القادر على القيام على دلالتها، ثم يستثنى الإمام لمكان العذر، وتكون صورة الصلاة كصورة إمامته عليه الصلاة والسلام في هذه الواقعة التي كانت آخر حياته، بل كانت آخر إمامةٍ وقعت منه عليه الصلاة والسلام للصحابة. وجمع الإمام أحمد رحمةُ الله عليه بين هذه النصوص فقال: إذا كان إمام الحي المرجو زوال علته فإنهم يصلون وراءه جلوساً -على الصفة التي ذكرناها، ويكون ذلك ندباً كما ذكر العلماء رحمةُ الله عليهم، وهذا بأمره عليه الصلاة والسلام- وأما إذا كان طرأ عليه العذر أثناء الصلاة فإنهم يصلون وراءه قياماً. فجمع بين الحديثين بأن قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى جالساً فصلوا جلوسا أجمعين) عام سواءٌ أبتدأ الصلاة جالساً أم طرأ عليه الجلوس أثناءه، وأما حديث مرض الموت فإن الجلوس من الإمام طرأ ولم يكن في أول الصلاة؛ لأن الذي استفتح الصلاة إمامٌ قائم وهو أبو بكر، والجلوس طرأ بعد هذه الإمامة، وبناءً على ذلك يقول: كأنه وجب عليهم أن يقوموا في مرض الموت، وبقي حديث أنس على العموم. فكأنه يرى أنه لا يصلي المأمومون وراء الإمام قياماً إلا في حالةٍ واحدة، وهي أن يستفتح الصلاة بهم وهو صحيح ثم يشتد عليه مرضه فيجلس، فإذا استفتح بهم الصلاة وهو صحيح واشتد عليه المرض وجلس فيصلي المأمون وراءه قياماً، وأما في غيرها، كأن يصلي من بداية الصلاة جالساً فيصلي الناس وراءه جلوساً. فهذا في الحقيقة فيه الجمع بين النصوص وهو أقوى الأقوال -إن شاء الله- وأقربها إلى الصواب. وقوله: [ويصلون وراءه جلوساً ندبا]. لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر، فصُرِف الأمر من الوجوب إلى الندب لوجود حديث مرض الموت؛ لأنه معارض لحديث الأمر، فحملوا الأمر على أنه محمول على الندب، وأكدوا هذا بأن الصحابة لما صلوا وراء النبي صلى الله عليه وسلم قياماً لم يؤثمهم. وقالوا: إن هذا يدل على أن الأمر للندب والاستحباب، وليس للحتم والإيجاب. قال رحمه الله: [وإن ابتدأ بهم قائماً ثم اعتل فجلس ائتموا خلفه قياماً وجوباً]. هذا على ظاهر حديث مرض الموت، فإن الصحابة بقوا على حالتهم وهم قائمون، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك، وبناءً على ذلك نقول: إذا دخلت المسجد والإمام الراتب يريد أن يصلي جالساً واستفتح الصلاة جالساً فصل وراءه جالساً، ودليلك حديث أنس: (وإذا صلى جالساً فصلوا وراءه جلوساً أجمعين)، وأما إذا دخلت والإمام يستفتح الصلاة وليست به علة، ثم طرأ عليه المرض، أو طرأ عليه العذر فاحتاج للجلوس فإنك تبقى على القيام حتى تتم الصلاة لحديث مرض الموت.

حكم إمامة من به سلس البول

حكم إمامة من به سلس البول قال رحمه الله: [وتصح خلف من به سلس البول بمثله]. بعد أن ذكرنا المعذور في الأركان انتقل إلى المعذور في الشروط، فابتدأ بالمعذور في شرط الطهارة. فلو كان الإمام به علة، أو به مرض كسلس البول، فهذا المرض -في الأصل- يقتضي أنه معذور، وبناءً على ذلك فإن طهارته لا تأتي على الوجه الكامل، وإنما رُخّص له أن يتوضأ عند دخول وقت كل صلاة، وإلا فإنه غير متوضئ؛ لأن السلس لا يمكنه من إبقاء طهارته على ما هي عليه، فكأنك تصلي وراء إنسانٍ محدث، وبناءً على ذلك قالوا: هذا عذرٌ في حق نفسه أن يصلي وبه سلس، والإمام -خاصة على مذهب الحنابلة والحنفية- يحمل الفاتحة عن المأموم، ويحمل الأركان، فقالوا: لا بد وأن يكون على صفةٍ يكون بها حصول براءة الذمة، وهي أن يكون متطهراً، فلا يكون محدثاً، أو في حكم المحدث، فقالوا: صحيح أن الشرع عذره أن يصلي وبه سلس البول، ولكن عذره في حق نفسه، ولم يأتنا دليل أن من به سلس يصلي بالناس، وعلى هذا فإنه لا يصح أن يصلي بغيرهِ، وإنما يصلي بمن هو مثله، فلو وجد إنسان به سلس البول إماماً به سلس بول فإنه يصلي معه؛ لأن حالتهما واحدة، فيبني المثل على مثله، أما القوي فلا يبنى على الضعيف.

حكم صلاة المأمومين خلف محدث

حكم صلاة المأمومين خلف محدث قال رحمه الله: [ولا تصح خلف مُحدِث]. قوله: [ولا تصح خلف محدث] عموم، سواءٌ أحدث حدثاً أصغر أم أكبر، وصورة ذلك أن يعلم المأمومون أن إمامهم محدث، فإن علموا أن إمامهم محدث فإنه لا يجوز لهم أن يأتموا به، ولو وقع الحدث أثناء الصلاة وتابعوه بركنٍ واحد بعد الحدث بطلت صلاتهم، وإنما يلزمهم بمجرد حدث الإمام أن ينووا مفارقته. فلو أن إماماً تقدم، ثم أحدث أثناء صلاته وإمامته، سواءٌ في أول الصلاة أم في وسطها أم في آخرها قبل تمامها، فالذي يفعله الإنسان هو أنه إذا أمكن أن يستخلف فلا إشكال، لكن لو كان جاهلاً، أو لا يمكنه الاستخلاف فإنك تنوي المفارقة، وتنوي مفارقته كأنك منفرد، وتحتسب لنفسك ما كان من صلاتك، وبناءً على ذلك لو أحدث في الركعة الثانية وأنت في الظهر فتتم الثانية ثم الثالثة والرابعة وتسلم، وهذا إذا أحدث وعلمت بحدثه أثناء الصلاة، أما لو علمت بحدثه قبل الصلاة فلا يجوز لك أن تأتم بإمام محدث، وبناءً على ذلك لو ائتم به وهو يعلم بحدثه قبل الصلاة بطلت صلاته. وهناك صورةٌ ثالثة وهي لو أن هذا الإمام كان محدثاً ولم يعلم المأمومون إلا بعد انتهاء الصلاة، كما لو قام إلى صلاة الفجر يظن أنه على غير جنابة، فتوضأ ثم صلى بالناس، وبعد أن سلم وانتهى تبين له أنه محدث، أو أحدث حدثاً أصغر ثم نسي أنه محدث، فتذكر أنه على طهارة ولم يذكر الحدث الذي بعد طهارته، ثم تقدم وصلى بالناس، وبعد أن صلى تذكر أنه أحدث قبل صلاته، فللعلماء في هذه المسألة قولان: القول الأول: إذا كان الإمام محدثاً ولم يعلم المأمومون بحدثه إلا بعد الصلاة فإن صلاتهم صحيحة. وبهذا قال جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الحديث. أي أن الإمام إذا صلى بالناس ناسياً للحدث، ثم لم يتذكر إلا بعد انتهاء الصلاة فإن صلاة المأمومين وراءه صحيحة، ولو كان بعد تسليمه مباشرة. القول الثاني: إن صلاة المأمومين فاسدة وتلزمهم الإعادة حتى ولو بعد سنوات وبهذا القول يقول فقهاء الحنفية رحمةُ الله على الجميع. واستدل الجمهور على صحة صلاة المأمومين بما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأئمة: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأو فلكم وعليهم)، فوجه الدلالة من هذا الحديث أن قوله: (وإن أخطأوا فلكم) أي: لكم صلاتكم كاملة، (وعليهم) أي: عليهم خطؤهم. وهذا عام يشمل خطأ الشروط وخطأ غيرها. وبناءً على ذلك يقولون: إن هذا يدل على صحة الصلاة وراء الإمام المحدث. وكذلك احتج الجمهور بإجماع الصحابة، وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه -كما روى مالك عنه في الموطأ- صلى بالناس الفجر ثم انطلق إلى مزرعته بالجرف بضاحية المدينة، فلما جلس على الساقية -على قنطرة الماء- نظر إلى فخذه فإذا هو بأثر الماء من الاحتلام فقال: ما أُراني إلا أجنبت وصليت وما اغتسلت. فقام رضي الله عنه مباشرة واغتسل وأعاد صلاة الفجر بعد طلوع الشمس، ولم يأمر الناس بالإعادة، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضوان الله عليهم. فهذه سنةٌ راشدة عن خليفةٍ راشد في نفس المسألة المتنازع عليها، ولم ينكر عليه أحدٌ من فقهاء الصحابة وأجلائهم، وبناءً على ذلك فكأنه إجماع منهم أن الإمام إذا صلى بالناس وهو لا يعلم بحدثه فإن صلاتهم صحيحة، ولا تلزمهم الإعادة. وأما الذين قالوا بأنه تلزمهم الإعادة فإنهم احتجوا بما جاء عن علي رضي الله عنه أنه صلى بالناس الفجر، ثم رأى أثر الاحتلام، فأمر منادياً أن ينادي في الناس بإعادة صلاة الفجر. ووجه الدلالة أن علياً أعاد الصلاة، ولم تكن الإعادة لازمة حتى ألزم الناس بها. والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بعدم الإعادة، وأن الصلاة صحيحة؛ لظاهر الأدلة من السنة والآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم، وأما ما احتج به أصحاب القول الثاني من أثر علي ففيه كلام، ولو صح فإنه معارض بما هو أقوى، ويحتمل أن علياً لم يبلغه حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ونقول: إن فعل علياً قد عارضه فعل عمر، ولا شك أن عمر رضي الله عنه محدَّثٌ ملهم مقدم؛ لأنه إذا تعارضت آراء الصحابة نظر إلى الفضائل، ففضل عمر رضي الله عنه لا شك أنه مقدمٌ على فضل علي رضي الله عن الجميع. وبناءً على هذا فإن الذي يترجح هو القول بصحة الصلاة، وأن المأمومين لا تلزمهم الإعادة، ودرج على هذا المصنف رحمه الله، وهو قول الجمهور كما قلنا.

حكم صلاة المأمومين خلف متنجس

حكم صلاة المأمومين خلف متنجس قال رحمه الله: [ولا متنجس يعلم ذلك، فإن جهل هو والمأموم حتى انقضت صحت لمأموم وحده). قوله: [ولا متنجس] أي: ولا تصح الصلاة وراء متنجس يعلم بنجاسته، كإنسان -مثلاً- كان على ثوبه بول، أو غيره من النجاسات، فإنك إذا رأيت النجاسة في ثوب الإمام فإن أمكنك أن تريه النجاسة وينصرف ويستخلف فلا إشكال، فلو أن النجاسة في طرف كمه فإنك تتقدم إلى جوار الإمام وتسحب كمه لتريه -لأنها حركة لمصلحة الصلاة- حتى يستخلف وتصح صلاة من وراء. وإذا تعذر عليك إعلامه، أو كان الإمام جاهلاً فحينئذٍ بمجرد رؤيتك للنجاسة والخلل في الإمام فإنك تنوي مفارقته -أي: تنوي أنك منفرد-، وتتم لنفسك وصلاتك صحيحة، أما لو رأيت النجاسة وبقيت وراءه عالماً بنجاسته التي في ثوبه فإن صلاتك وراءه باطلة، وتبطل بأداء ركنٍ واحد بعد العلم. قوله: [فإن جهل هو والمأموم حتى انقضت صحت لمأمومٍ وحده]. هنا مسألتان: المسألة الأولى: أن يصلي الإمام وهو مُحدث غير عالمٍ بحدثه؛ فلا إشكال أنه يطالب الإمام بالإعادة ولا يطالب المأمومون. الحالة الثانية: أن يصلي بنجاسته التي لا يعلمها حتى ينتهي من الصلاة فلا يعيد هو ولا المأمومين. فإذا كان الإمام محدثاً فحينئذٍ تلزمه الإعادة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، وأما إذا كان في ثوبه أو بدنه نجاسة لا يعلمها، فإن الإعادة لا تلزمه ولا تلزم المأمومين، والسبب في ذلك حديث أنس الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى بالصحابة فخلع نعاله أثناء الصلاة، فخلع الصحابة نعالهم، فلما سلم -عليه الصلاة والسلام- قال: ما شأنكم؟ قالوا: يا رسول الله! رأيناك خلعت فخلعنا. فقال عليه الصلاة والسلام: أما إنه قد أتاني جبريل فأخبرني أنهما ليستا بطاهرتين)، أي: خلعتهما لعذر، وهو وجود النجاسة. ووجه الدلالة من هذا الحديث -وهو دقيق- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعد الصلاة من بدايتها، حيث كبر تكبيرة الإحرام، ويحتمل أنه فعل بعض الركعات، ومع ذلك لم يستأنف الصلاة بعد العلم بالنجاسة، وإنما بنى، فكما صحت أجزاء الصلاة والإحرام بتكبيرة الإحرام التي هي الركن، فكذلك تصح الصلاة في كمالها إذا علم بعد السلام، وبناءً على ذلك يفرق في الإمام بين أمرين: الأول: أن يكون محدثاً ولا يعلم بحدثه أو لا يتذكر أنه محدث إلا بعد الصلاة. فإنه حينئذٍ تلزمه الإعادة. والثاني: أن يكون الإمام عليه نجاسة في بدنه أو ثوبه ولا يعلم بها، أو كانت في المكان الذي يصلي به ولا يعلم بها إلا بعد انتهاء الصلاة، فصلاته وصلاة من وراءه صحيحة.

حكم إمامة الأمي

حكم إمامة الأمي قال رحمه الله: [ولا إمامة الأمي، وهو من لا يحسن الفاتحة، أو يدغم فيها ما لا يدغم، أو يبدل حرفاً، أو يلحن فيها لحناً يحيل المعنى إلا بمثله]. أي: ولا تصح إمامة الأمي، والأمي نسبة إلى أمه، أي: الإنسان الذي لا يقرأ ولا يكتب. والأمية وصفٌ لهذه الأمة، والعلماء رحمةُ الله عليهم يقولون: الأمية وصف شرف لهذه الأمة. على خلاف ما يظن بعض المتأخرين -وخاصة في هذه الأزمنة- أن الأمية وصف ذلة، أو وصف نقص. فهذا ليس بصحيح، بل الأمية وصف شرف لهذه الأمة، قال تعالى: {الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة:2]، وقال عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين-: (إنا أمةٌ أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا). وانتبه رحمك الله: فإن الأمية لا تستلزم الجهل، وفرق بين الأمية والجهل؛ لأن الإنسان قد يكون أمياً لا يقرأ ولا يكتب وهو عالم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إمام العلماء وقدوتهم صلوات الله وسلامه عليه وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، فليست الأمية مستلزمةً للجهل، وفرق بين الجهل والأمية، إلا أنهم قالوا: الغالب في الشخص إذا بقي على حاله منذُ أن ولدته أمه أن يكون جاهلاً أي: أنه يكون به الجهل، ولكن ليس هذا مطرداً، فكم من علماء لا يقرؤون ولا يكتبون، وكم من كفيف البصر لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك قد يكون أعلم الناس وأعرفهم بالحلال والحرام. فعدم القراءة والكتابة الذي هي وصف الأمية لا يستلزم الجهل، ولذلك قالوا: إن الأمية وصف شرف لهذه الأمة، وليست بوصف نقص. ف (الأمي) الذي يجهل، فالجاهل الذي لا يعلم أحكام الصلاة ولا يعرف ما يقرأ فإنه لا تصح صلاته إلا بمثله، وبعض العلماء يضع ضابطاً للأمي فيقول: هو من لا يحسن الفاتحة. وهذا ضابط خاص بالإمامة وهو الصحيح، فالمراد بالأمي: الذي لا يحسن الفاتحة، وبناءً على ذلك إذا كان لا يحسن الفاتحة فإنه لا تصح صلاته إلا بمثله أو من هو دونه، ولكن إذا كان أعلم منه فللعلماء قولان: قال بعض العلماء: إذا أمّ الأمي غيره ممن هو أحسن منه وأعلم منه بطلت صلاة من وراءه وصحت صلاة الأمي. وقال الحنفية: إذا حضر القارئ والأمي في الصلاة بطلت صلاة الأمي ومن وراءه والقارئ معه؛ لأن الواجب أن يقدم القارئ، وكانوا معذورين قبل حضور القارئ، فلما حضر القارئ بطل عذرهم، ووجب عليهم أن يأتموا بالقارئ؛ لأنه عندهم، والإمام لا بد وأن يكون على وجه يضمن به، لقوله عليه الصلاة والسلام: (الإمام ضامن)، وبناءً على ذلك لا تصح إمامة الأمي إلا بمثله أو من هو دونه. قوله: [وهو من لا يحسن الفاتحة، أو يدغم فيها ما لا يُدغَم، أو يبدل حرفاً]. هذا كله من صفات الأمي فمن ذلك أن لا يحسن الفاتحة، أو يدغم ما ليس يُدغم، فتجده يغير في أوضاع الحروف وصفاتها التي هي من حقوق الحرف، فإذا كان بهذه الصفة فلا تصح إمامته، ولو كان يبدل المعنى ويلحن لحناً يحيل المعنى كأن يقول: (أَهدنا الصراط المستقيم)، أو يقول: (إِياكِ نعبد)، فإن (إياكَ) و (إياكِ) معناهما مختلف؛ فإنه إذا قال: (إياكِ) خرج عن المعنى المقصود، ويعتبر لحناً محيلاً للمعنى، فتبطل صلاته، فإذا صُلي وراء مثل هذا تبطل صلاة من وراءه، ويعذر إذا كان جاهلاً وليس هناك من يعلمه. أما لو كان هذا الأمي يمكنه أن يتعلم وقصر في التعليم فإنه تبطل صلاته وصلاة من رواءه وتلزمه الإعادة مدة تقصيره. فلو كان الأمي في بادية بعيداً عن الناس، وليس عنده من يعلمه فإنه يعذر، وبناءً على ذلك يعتبر بُعده وعدم وجود من يعلمه عذراً له، لكن لو فرض أنه كان بموضعٍ قريب من العلماء ويمكنه أن يأتيهم، أو جاء أناس من أهل العلم إلى الموضع الذي هو فيه وأمكنه أن يصحح قراءته فقصر وترك التصحيح، ولم يتعرض لهم بشيء ليتيسر له أن يصحح قراءته ولم يفعل؛ فتعتبر صلاته وصلاة من وراءه باطلة؛ لأنه غير معذورٍ حينما كان عاجزاً عن إتقان الفاتحة، لكنه لما تيسر له أن يتقنها قالوا: فإنه يأثم، ويكون عليه إثمه وإثم من يصلي وراءه -نسأل الله السلامة والعافية-. وقالوا: لو صلى بالناس عشر سنوات بهذه الصفة تلزمه الإعادة عشر سنوات. فالأمر جد عظيم، فإذا كان يلحن في الفاتحة لحناً يحيل المعنى ويمكنه أن يجلس مع العلماء ولا يتعلم، أو جاءه عالمٌ، أو من يستطيع أن يصحح له قراءته فامتنع وتكبر، أو استنكف، أو اعتذر بأعذار لا تغني فإنه يأثم ويتحمل وزره ولو مرت عليه سنوات، نسأل الله السلامة والعافية. قوله: [أو يلحن فيها لحناً يحيل المعنى]. هذا كما لو قال: (أنعمتُ عليهم). فإذا قال: (أنعمتُ عليهم) أو: (إياكِ نعبد) أو: (أََهدنا الصراط المستقيم)، أو أبدل حرفاً بحرف، أو أدغم بعض الحروف ببعضها يجعل في موضع لا يصح فيه الإدغام فإنه في هذه الحالة يعتبر لحناً مؤثراً، وهكذا إذا لحن، أو كان في لسانه علة يبدل بها حرفاً مكان حرف، كأن يقول: أهدنا الشراط. بدل الصراط، فإنه في هذه الحالة يكون إبداله مؤثراً، وهكذا بالنسبة للتمتام والفأفاء ونحوهم ممن فيه آفة في لسانه لا تمكنه من إعطاء الحروف حقوقها من الصفات المعتبرة. وقوله: [إلا بمثله]. أي: إذا أم الأمي مثله صحّت. قال رحمه الله: [وإن قدر على إصلاحه لم تصح صلاته]. أي: وإن قدر على إصلاح خطئه لم تصح صلاته؛ لأنه مفرط ويلزم بعاقبة تفريطه، وهذا -نسأل الله السلامة والعافية- من التكبر والاستنكاف عن الحق، ومثل هذا لا يجوز أن يقدم إذا كان يلحن لحناً يحيل المعنى وهناك من يستطيع أن يقرأ بدون لحن، فيجب على الناس أن يقدموا القارئ، وإذا لم يقدموه فإنهم يأثمون.

من تكره إمامته للناس

من تكره إمامته للناس قال رحمه الله: [وتكره إمامة اللحان والفأفاء والتمتام، ومن لا يفصح ببعض الحروف، وأن يؤم أجنبية فأكثر لا رجل معهن أو قوماً أكثرهم يكرهه بحق]. أي: الذي يلحن لحناً لا يحيل المعنى، أما لو كان لحناً يحيل المعنى فكما تقدم في الأمي. وقوله: [والفأفاء والتمتام]. الفأفاء: الذي إذا جاء يقرأ يكثر من الفاء أثناء حديثه بقوله: (ف ف ف)، فتجده يرددها مرات. والتمتام في التاء، فتجده إذا أراد أن يتكلم يتأخر ويأتي بالتاء مكررة. قوله: [ومن لا يفصح بعض الحروف]. كأن يقول: (الشراط) بدل الصراط، أو تكون صفات الحروف متداخلة عنده بطبيعة لسانه، أو يكون فيه عجمة، كأن يقول في (الرحمن): الرهمن، بالهاء، فهذا أيضاً يعتبر إبدال حرف بحرف، وهكذا بالنسبة للراء إذا كان ألثغ. قوله: [وأن يؤم أجنبيةً فأكثر لا رجل معهن]. أي: ويكره له أن يؤم أجنبية فأكثر لا رجل معهن، وذلك لأنه منهي عن الدخول على النساء والخلوة بهن إذا لم يكنّ من المحارم، قال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والدخول على النساء. قالوا: يا رسول الله! أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت)، وإذا خلا بأجنبية فإنه منهي عن هذه الخلوة لقوله عليه الصلاة والسلام: (ما خلا رجلٌ بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، وقال: (ألا لا يخلون رجلٌ بامرأة) فهذا نهي، قالوا: وبناءً على ذلك لا يصلي الرجل الأجنبي بالمرأة الأجنبية على خلوة؛ لأنه قد يخرج عن مقصود الصلاة إلى الفتنة. وقوله: [أو قوماً أكثرهم يكرهه بحق]. لقوله عليه الصلاة والسلام: (وأن يؤم القوم وهم له كارهون)، وفي هذا الحديث وعيد شديد، حتى عد بعض العلماء هذا من الكبائر. والكراهة تنقسم إلى قسمين: إما تكون كراهةً مشروعة، وإما أن تكون كراهةً غير مشروعة. فالكراهة المشروعة التي تكون لخلل في الإمام لدينه، أو يكون إنساناً يعسر عليهم ويؤذيهم ويخرج عن حدود السنة، فتجده يطوّل عليهم وأسلوبه منفر، فمثل هذه الكراهة شرعية، ولذلك لما جاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنه يتأخر عن الصلاة مما يطول فلان قال عبد الله فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعظ موعظةً أشد من تلك الموعظة وقال: (إن منكم منفرين) فأقر الرجل حينما كره من هذا الإمام إطالته، ولما شكي بـ معاذ في الإطالة لم يعتب على الشاكي في ذلك، وإنما سمع شكواه، وعنف معاذاً وقال له: (أفتانٌ أنت يا معاذ)، فهذه كراهة مشروعة، فكون الإمام إذا دخل المحراب نسي من وراءه، فلم يرحم الشيخ الكبير، ولا يراعي السقيم، ولا يراعي ذا الحاجة، ولربما يكون المسجد في مكانٍ فيه الناس في شغل فلا يراعي أوضاعهم، ويحاول أن يطول بهم ويعنفهم، وقد تكون فيه شدة وغلظة وعنف فمثل هذا يكره كراهة جبلية لا يستطيع الإنسان أن يمسك عنها نفسه، خاصةً وأنه على خلاف السنة، وعلى خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إليه، فقال: (إن منكم منفرين)، فإذا كرهوه لهذا الوجه من وجود العنف والمشقة والإضرار بهم فالكراهة شرعية، ومثل هذا ينطبق عليه الوعيد الشديد، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا تجاوز صلاتهم رءوسهم قيد شبر: -أي: لا تقبل منهم نسأل الله السلامة والعافية، ولا ترفع إلى السماء- رجلٌ أم قوماً وهم له كارهون، وعبدٌ أبق عن سيده حتى يعود إليه، وامرأةٌ باتت وزوجها عليها ساخط)، فهؤلاء الثلاثة لا تجاوز صلاتهم رءوسهم قيد شبر، فنسأل الله السلامة والعافية. وإذا كان الإمام لا يبالي فالأمر أشد وأعظم، فإذا قيل له: إن الناس يكرهونك. أو: لا تطول على الناس ولا تؤذهم، قال: من أعجبه فالحمد لله، ومن لم يعجبه فلينصرف. فهذه جرأة، ومثل هذا على خطر، فينبغي عليه أن يتقي الله عز وجل، وأن يراقب نفسه، وأن يستشعر أنه على نقص وأنه بشر، وقد يكون من الإنسان الخطأ وهو لا يدري، فالعين لا ترى ما بها إلا بالمرآة، فالإنسان لا يستطيع أن يرى ما بعينه إلا بمرآة، والمرآة هم الناس، فإذا جاءك الناس وقالوا لك: إنك تطول أو جاءك أكثر من شخص، أو شخص تثق بدينه وبأمانته فاعذر الناس وأنصفهم من نفسك. وأما الكراهة غير الشرعية فهي التي تكون من أناس متساهلين في أمور دينهم والإمام يدعوهم إلى السنة، ويدعوهم إلى طاعة الله عز وجل فيكرهونه لأنه يدعوهم إلى الخير، ويكرهونه لأنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويكرهونه؛ لأنه لا يحابيهم، ويصدع بالحق، فهذه الكراهة وجودها وعدمها على حدٍ سواء، ومثل هذا ينطبق عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس)، فهذا على خير وعلى سنة ورشد، فإن كان الإمام مكروهاً فإنه لا يقدم على الناس من يكره؛ لأنه إذا تقدم على الناس من يكره لا ترتاح الناس للصلاة وراءه، ولا تتأثر بقراءته، ولا تتأثر بمواعظه، وفي هذا صرف للناس عن الخير، ولذلك عاتب النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً، وأمره أن يهيئ لنفسه ما يدعو إلى قبول إمامته وحبه والإقبال عليه.

حكم إمامة ولد الزنا والجندي

حكم إمامة ولد الزنا والجندي قال رحمه الله: [وتصح إمامة ولد الزنا والجندي إذا سلم دينهما]. تصح إمامة هذين إذا كانا على ديانةٍ واستقامة، فولد الزنا الذنب ذنب غيره وليس بذنبه، وقد قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وكره بعض العلماء أن يقدم ابن الزنا للإمامة بالناس، وهذا قولٌ فاسد؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)، وقد يكون على صلاح وديانةٍ واستقامة، والذنب ذنب غيره وليس بذنبه هو، وليس عليهم من وزر والده شيء، وما ورد من أنه لا يدخل الجنة فباطل وقولٌ مردود مصادمٌ للنصوص الصحيحة الصريحة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا قولٌ شاذ لا يعول على مثله، وهذا قول رده العلماء وأبطلوه؛ لأنه يصادم النصوص الصحيحة الصريحة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف يضيع الله صلاحه وقد صلح واستقام؟! وقد أخبر الله تعالى أنه يخرج الحي من الميت، فقد أخرج عكرمة من رأس الكفر أبي جهل، فلذلك لا يمتنع أن يخرج العبد الصالح من أصل فاسد، وقد يكون الرجل زنى ثم تاب إلى الله فتاب الله عليه، وهكذا بالنسبة لأمه، فالمقصود: أن ولد الزنا تصح إمامته إذا استقام، لكن بعض العلماء يقول: إذا وجد غيره وهو مثله -أي: في مثل حاله- يقدم عليه؛ لئلا يغتابه الناس، ولأجل صيانة الإمام إذا وجد غيره، أما إذا لم يوجد غيره، أو كان أفضل الموجودين فخليقٌ بها، ونعما هو عليه. وقوله: [والجندي]. كذلك الجندي تصح إمامته ويصلي بالناس إذا كان على استقامةٍ وخير.

حكم صلاة من يصلي قضاء خلف مؤد والعكس

حكم صلاة من يصلي قضاءً خلف مؤدٍ والعكس قال رحمه الله: [ومن يؤدي الصلاة بمن يقضيها وعكسه]. مثال ذلك: لو أنك دخلت على أخيك وهو يصلي العصر -خاصةً عند من يقول: إنه يجوز أن تصلى الظهر وراء العصر- وأنت تنوي الظهر قضاءً فإنه يجوز ذلك ولا حرج فيه، فصلاتك مقضية وراء مؤدٍ، وهكذا لو قضى الظهر فجئت وصليت وراءه العصر أداءً صح هذا، فيصح الأداء خلف القضاء والقضاء خلف الأداء إذا اتحدت صورة الصلاتين، وبناءً على ذلك لا حرج، ويعتبر العلماء هذا مع اختلاف النية لحديث معاذ رضي الله عنه الثابت في الصحيح حينما كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، وينطلق إلى قومه يصلي بهم العشاء فهو متنفل وهم مفترضون، فاختلفت نيته معهم، وقالوا: فلا يؤثر أن ينوي القضاء وينوي غيره الأداء، أو ينوي هو الأداء وغيره ينوي القضاء، فلا حرج في هذا. وقوله: [وعكسه]. أي: كذلك لو صلى أداءً وصليت وراءه قضاء فلا حرج، وهكذا بالنسبة لصلاة الظهر، فلو أن إنساناً نسي صلاة الظهر البارحة ولم يذكرها إلا اليوم، ودخل عليك وأنت تصلي الظهر، فإنه هو قاضٍ وأنت مؤدٍ، فيصح القضاء خلف الأداء، ولو ابتدر هو بصلاة الظهر وصلاها بنية القضاء، ثم دخلت عليه بعده فنويت وراءه الأداء صح ذلك ولا حرج.

حكم صلاة مفترض خلف متنفل

حكم صلاة مفترض خلف متنفل قال رحمه الله: [لا مفترض بمتنفل]. أي: لا يصح أن يصلي المفترض وراء إمامٍ متنفل. وهذه المسألة فيها قولان للعلماء: القول الأول يقول: يجوز أن يصلي المفترض وراء المتنفل. وبهذا القول قال فقهاء الشافعية وجمعٌ من أصحاب الإمام أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمةُ الله على الجميع. القول الثاني: لا يصح أن يؤم المتنفلُ المفترضين. وبهذا القول قال جمهور العلماء من المالكية والحنابلة والحنفية. أما الذين قالوا بصحة صلاة المفترض خلف المتنفل فاحتجوا بحديث معاذ الذي سبقت الإشارة إليه الثابت في الصحيح أنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم عشاءً، ثم ينطلق إلى قومه فيصلي بهم وهو متنفل وهم مفترضون. وفي الرواية عن جابر: (هي له تطوع ولهم فريضة)، ووجه الدلالة أن هذا وقع من معاذ رضي الله عنه وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم وأقره على ذلك، فدل على صحة إمامة المتنفل بالمفترض. وذهب الجمهور -كما قلنا- إلى عدم صحة إمامة المتنفل بالمفترض، واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به إلى أن قال: فلا تختلفوا عليه)، فوجه الدلالة أن هذا نهي، فإذا كانوا ناوين للفريضة وراءه فقد اختلفوا عليه، وبناءً على ذلك لا يصح أن يوقع الفريضة مع إمام متنفل، ثم إن الفريضة أقوى من النافلة، وقد عهدنا بناء الضعيف على القوي لا بناء القوي على الضعيف، خاصةً أن الإمام ضامن. ثم أجابوا عن حديث معاذ بوجوه، فقالوا: إن حديث معاذ محمول على أنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم النافلة ويأت قومه فينوي الفريضة. وهذا مردود وباطل، خاصةً وأنه يصادم الراوية الصحيحة عن جابر أنه كان ينوي وراء النبي صلى الله عليه وسلم الفريضة ثم يصلي بقومه نافلة. ولا يعقل أن معاذاً رضي الله عنه -وهو الفقيه- يضيع صلاته وراء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الفريضة أفضل. كما أجابوا -أيضاً- عن حديث معاذ بقولهم: سلمنا في حديث معاذ أن قومه مفترضون وهو متنفل، ولكن نقول: قد نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. ولذلك يقول فقهاء الحنفية أنه منسوخ. وبناءً على ذلك لا يصلح للاحتجاج به لرواية السنن: (إما أن تصلي معنا أو تصلي مع قومك)، فقالوا: فهذا يدل على أن هذا الفعل منسوخ. وهذا باطل؛ لأن الرواية متكلم في سندها، وبناءً على ذلك لا يسلم النسخ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية الصحيحة أنكر عليه الإطالة، ولم ينكر عليه إمامته بقومه وهو متنفل، وإنما قال: (أفتانٌ أنت يا معاذ؟)، ثم بين له السبيل الأمثل والسنة في إمامة الناس، فدل هذا على أن النبي صلى الله وسلم قد أقره على إمامته، وأن إمامته صحيحة، وأن هذا الفعل يعتبر في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم من جهة الإقرار؛ أي أنه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم إقراره، وعلى هذا يعتبر القول بجواز إمامة المتنفل للمفترض هو القول الراجح، فالصحيح أنه لا حرج للمتنفل أن يؤم المفترضين، ولهذه المسألة نظائر وصور منها: لو أنه دخل وراء متنفل فإن اتحدت صورة الصلاة فلا إشكال، وإن اختلفت فلا، وبناءً على ذلك لو أنه دخل والمتنفل يصلي التراويح فإنه يجوز له أن يصلي وراءه العشاء، سواءٌ أكان مسافراً فيسلم بتسليم الإمام أم كان مقيماً فبعد تسليمه من الركعتين يقوم ويأتي بركعتين كأنه مسبوق، وهكذا الحال بالنسبة لبقية الصور، أما لو اختلفت صورة الصلاتين، كأن تكون المغرب وراء العشاء، أو العشاء وراء المغرب فإنه لا يصح الائتمام في هذه الحالة؛ لأنه يؤدي إلى اختلاج الصلاة، والمحفوظ من إقراره عليه الصلاة والسلام إنما هو في اتحاد صورة الصلاتين، أما في الاختلاف فإنه لم يثبت، فيبقى الأصل في متابعة الإمام على ما هو عليه. وأما ما استدل به من قال بالمنع من قوله عليه الصلاة والسلام: (فلا تختلفوا عليه)، فإنه محمول على الاختلاف في الأفعال، وليس المراد به الاختلاف في النيات؛ لحديث معاذ الذي دل على تخصيص هذا الأمر.

حكم صلاة الظهر خلف من يصلي العصر وغيرها

حكم صلاة الظهر خلف من يصلي العصر وغيرها قال رحمه الله: [ولا من يصلي الظهر بمن يصلي العصر أو غيرها]. هذا بناءً على المذهب الذي يقول: إنه لا يُصلّى مع اختلاف النيات. والصحيح أنه يجوز أن يصلي مع اختلاف النية، أما لو كانت نيتك النافلة والإمام مفترض فإنها تصح بالإجماع، كأن تكون قد صليت الظهر، ثم دخلت المسجد والإمام يصلي، فإنك تصلي وراءه الظهر، فهي لك نافلة ولهم فريضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك الصحابيين، كما في حديث خيف منى، وهو ثابت في الصحيح، وكذلك أمر أبا ذر رضي الله عنه لما أخبره عن الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الأذان للمرأة

حكم الأذان للمرأة Q إذا صلى النساء جماعة فهل يجوز أن تؤذن إحداهن وتقيم؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد. فالثابت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أن يؤذن لـ أم ورقة الشهيدة وكانت تسمى الشهيدة؛ لأنها استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في خروجها لبدر فمنعها عليه الصلاة والسلام فأخبرته أنها تريد الشهادة، فقال لها: (امكثي في بيتك وستأتيك الشهادة)، فمكثت حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أبو بكر وعمر، حتى إذا كان زمان عثمان قام غلامان من غلمانها فغطاها بقطيفة حتى ماتت، فصدقت فيها معجزة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه المرأة الكريمة الفاضلة رضي الله عنها وأرضاها أمرها أن يؤذن لها، فدل على أن الأذان ليس للنساء، ومن ثم قالوا: ليس على النساء أذانٌ ولا جماعة، وإنما هو للرجال. والغالب في صوت المرأة أنه فتنة، وبناءً على ذلك فإن الأذان إنما يكون لرجلٍ يؤذن لها على ظاهر السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.

استخلاف الإمام غيره في الصلاة إذا خرج منها

استخلاف الإمام غيره في الصلاة إذا خرج منها Q إذا خرج الإمام من الصلاة بسبب تذكره أنه محدث واستخلف، فهل يستأنف النائب أم يبني؟ A يبني ولا يستأنف، وهذا هو المقصود من الاستخلاف، فيبني على الصلاة ولا يستأنف، وظاهر حديث أبي بكر رضي الله عنه في إمامة النبي صلى الله عليه وسلم في مرض الموت يدل على الاستخلاف في صورة العكس. والله تعالى أعلم.

حكم من وجد ببدنه أو ثيابه نجاسة أثناء الصلاة

حكم من وجد ببدنه أو ثيابه نجاسة أثناء الصلاة Q من علم أن ببدنه نجاسة، أو بثوبه أثناء الصلاة وهو إمام فماذا يفعل؟ A هذا فيه تفصيل، فإذا كان الماء قريباً، وأمكنه أن يصل إليه دون أن ينحرف عن القبلة فإنه يجوز له أن يمضي إلى الماء، وأن يغسل هذه النجاسة، ثم يبني على صلاته ويستمر، كأن يكون بجواره صنبور ماء، أو بجواره وعاءٌ فيه ماء وأمكنه أن يأخذ منه ويغترف دون أن ينحرف عن القبلة، فإن الجماهير على أن له ذلك ويتم صلاته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعليه، فخلع النعال فعلٌ لإزالة النجاسة، فلما خلع النعال وفعل فإنه كذلك يخلع النجاسة عن ثوبه بالغسل؛ لأن الإذن بالشيء إذنٌ بلازمه، فلما أُذِن له بأن يزيل نجاسته أذن له بلازم ذلك من الأفعال التي لا يخرج بها عن كونه مصلياً ولا ينحرف بها عن القبلة. أما لو كان الإمام بعيداً عن الماء، أو يتعسر عليه، أو لا يمكنه أن يصل إلى الماء إلا بفعل كثير، أو ينحرف عن القبلة فإنه يستأنف ولا يبني، وبناءً على ذلك يقطع الصلاة ويخرج منها، ويستخلف غيره إن كان إماماً. والله تعالى أعلم.

حكم الصلاة خلف الفاسق فسقا أكبر

حكم الصلاة خلف الفاسق فسقاً أكبر Q إذا كان الإمام فاسقاً فسقاً أكبر، كأن يكون ممن يستغيث بالقبور ويقع في الشركيات، فهل تجوز الصلاة خلفه؟ A لا تجوز الصلاة وراء كافرٍ، وهكذا الحكم فيمن ثبت شركه، فإنه لا يصلى وراءه، أي: إذا ثبت أن في عقيدته خللاً يوجب بطلان صلاته فإنه لا يصلى وراءه، إنما المراد الفسق الذي لا يخرج عن الملة، أما لو كان فسقه -والعياذ بالله- أكبر مخرجاً عن الملة فإنه لا يصلى وراءه.

حكم من فاتته بعض تكبيرات صلاة الجنازة

حكم من فاتته بعض تكبيرات صلاة الجنازة Q كيف يقضي المصلي صلاة الجنازة إذا دخل مع الإمام بعد التكبيرة الثالثة؟ A إذا دخل المصلي مع الإمام في صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثالثة فإنه إذا سلم الإمام لا تخلو الجنازة من حالتين عند المحققين من العلماء، فإن كانت الجنازة تترك برهة لقضاء من فاتته الصلاة لكي يقضي فحينئذٍ يكبر ويقول الأذكار التي بين التكبيرات، أما لو كانت ترفع -كما هو الحال في غالب الجنائز الآن- فإنه يوالي بين التكبيرات ويسلم، وهذا اختيار جمع من أهل العلم رحمةُ الله عليهم. ووجهه أن الصلاة إنما شُرعت بحضور الجنازة، ولذلك لا يصلى في المسجد قبل حضور الجنازة، وإنما يصلى بعد حضورها، وبناءً عليه فرفعها يعتبر موجباً لانتهاء الصلاة عليها، فمتى ما رفعت من المسجد، أو من الأرض فقد انتهت الصلاة عليها، فيوالي بين التكبير، فإن فاتته تكبيرتان فعند سلام الإمام يقول: الله أكبر. الله أكبر. السلام عليكم ورحمة الله. وإن فاتته ثلاث تكبيرات فإنه عند سلام الإمام يقول: الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. السلام عليكم ورحمةُ الله، فيوالي بين التكبيرات ولا يقول الأذكار التي بينها. والله تعالى أعلم.

حكم صلاة المغرب خلف من يصلي العشاء

حكم صلاة المغرب خلف من يصلي العشاء Q شخصٌ مسافر أراد أن يؤخر صلاة المغرب جمع تأخير مع صلاة العشاء، وعندما حضر وقت صلاة العشاء، فهل يصلي العشاء مع الجماعة ثم يصلي المغرب؟ A يصلي العشاء بنية النفل، ثم يقيم للمغرب ويصليها، ثم يصلي العشاء، ووجه ذلك أن صلاة العشاء لا تصح قبل المغرب، فقد قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى الصلوات مرتبة، وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، وبناءً على ذلك لا يصح إيقاع فريضة قبل فريضة إلا إذا كانت مرتبة على الوجه الذي وقعت عليه. وعلى هذا فلو قلنا له صلِّ العشاء ثم صلِّ المغرب فقد خالفنا مقصود الشرع من مراعاة الترتيب، حيث لا يخاطب بصلاة العشاء إلا بعد أن تبرأ ذمته بصلاة المغرب، وعلى هذا قال العلماء يدخل بنية النافلة في العشاء، ثم بعد ذلك يقيم للمغرب فيصليها، ثم يصلي بعد ذلك العشاء، وهذا إذا كان المسجد لا يسع أكثر من جماعة، أما لو كان مسجداً سابلاً كمساجد السفر التي على طرقات السفر فإنك تقيم للمغرب وتحدث جماعةً ثانيةً للمغرب وتصلي بمن شئت؛ لأن المساجد السابلة رخص فيها تكرار الجماعات، شريطة ألا يشوش بعضها على بعض. والله تعالى أعلم.

مسألة مضاعفة صلاة الفرض والنافلة في المسجد الحرام

مسألة مضاعفة صلاة الفرض والنافلة في المسجد الحرام Q هل الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاةٍ في الفريضة والنافلة، أم ذلك خاصٌ بالفريضة؟ A هذه المسألة فيها وجهان للعلماء: أصحهما أن المضاعفة في مسجد مكة والمدينة والمسجد الأقصى شاملةٌ للفرض والنفل لقوله عليه الصلاة والسلام: (صلاةٌ في مسجدي هذا بألف صلاة)، فإنها نكرة، والقاعدة في الأصول أن النكرة تفيد العموم. فشملت الفريضة والنافلة. وقال جمعٌ من أهل العلم: إن المضاعفة تختص بالفريضة دون النافلة، واحتجوا بوجوه. أولها وأقواها حديث رمضان، حينما أمّ النبي صلى الله عليه وسلم بالصحابة في قيام الليل، ثم في الليلة الثالثة امتنع من الخروج. وقال: (صلوا في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، ووجه الدلالة أنه صرفهم عن صلاة القيام في المسجد إلى صلاتها في البيت، فدل على أن المضاعفة مختصة بالفريضة دون النافلة وأكدوا ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الرواتب في بيته، ولم يكن يصليها في مسجده إلا ما ورد من الاستثناء في صلاة الجمعة البعدية، فقالوا: إن هذا كله يؤكد أن النوافل الأفضل فيها أن تكون في البيوت، وأن المضاعفة هذه المساجد مختصة بالفرائض دون النوافل. والذي يترجح القول الأول الذي هو للجمهور، وهو أن المضاعفة شاملة للفرض والنافلة لعموم الحديث الذي ذكرناه، وهذا أولاً. ثانياً: الاستدلال بحديث: (فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، الذي يظهر أنه لا تعارض بين النصين؛ فإن المضاعفة في قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة فيما سواه) مضاعفة متجهةٌ إلى العدد، وحديث: (فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) راجع إلى البعد عن الرياء، فانفكت الجهة بين النصين، والقاعدة في الأصول أنه لا يحكم بالتعارض إلا إذا اتحد مورد النصين. أي: أن يأتي حديث ويقول: بألف صلاة، وحديث يقول: هي بصلاة وبناءً على ذلك لا نسلم أن الحديثين متعارضان، وإنما كلٌ منهما في جهة، ويؤكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم فليجعل من صلاته في بيته؛ فإن الله جاعل له من صلاته في بيته خيراً)، وهذا من جهة بعده عن الرياء وعمارته لهذا البيت حتى لا يكون كالقبر الذي لا يصلى فيه، فالذي يظهر -والله أعلم- أن المقصود بذلك إحياء البيوت بالذكر؛ لكي لا تشابه القبور، ولكي تعود بالبركة والخير عليه وعلى أهل بيته، وأما بالنسبة لمضاعفة الصلاة في المساجد فهي باقيةٌ على عمومها لثبوت السنة فيها على العموم. والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه وسلم.

فصل: يقف المأمومون خلف الإمام

شرح زاد المستقنع - فصل: يقف المأمومون خلف الإمام يجب على المأمومين التأخر خلف الإمام إن كانوا جماعة، والواحد يقف عن يمينه إلا المرأة فخلفه، ولا يجوز لمنفرد أن يصلي خلف الصف وحده إلا المرأة، ولا تعتبر المصافة مع الكافر والمحدث والمرأة، ومن وجد فرجة دخل فيها وإلا جذب من يصلي معه، ولابد من سماع لمن صلى في المسجد أن يسمع الإمام، وإن لم يره، وإن كان خارج المسجد فلابد أن يرى الإمام وتكره الصلاة بين السواري، وهناك آداب ينبغي للإمام أن يتحلى بها.

تابع أحكام الإمامة

تابع أحكام الإمامة

موقف المأموم من الإمام

موقف المأموم من الإمام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: يقف المأمومون خلف الإمام] تقدم في المواضع السابقة بيان جملة من الأحكام المتعلقة بالإمام، وما ينبغي أن يكون عليه من صفات قبل إمامته للناس، وكذلك حال إمامته. وهنا شرع المصنف في مسألة مهمة من مسائل الإمامة وصلاة الجماعة، وهي التي تعرف بموقف المأموم مع الإمام، وذلك أن الجماعة تتحقق بواحد مع الإمام، ولا تكون الجماعة لواحد منفرد. وعلى هذا يرد السؤال عن موقف الواحد مع الإمام، وعن موقف الاثنين، وعن موقف الثلاثة وأكثر. ثم بعد ذلك يرد السؤال عن موقف الرجال وموقف النساء وموقف الصبيان والخناثى، ونحو ذلك من الأحكام المتعلقة بالمواقف. قال رحمه الله: [يقف المأمومون خلف الإمام]. السنة للمأموم أن يقف وراء الإمام، وهذا إذا كان المأمومون أكثر من واحد، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إنما جعل الإمام ليؤتم به). والإمام -كما يقول العلماء رحمهم الله-: مأخوذ من الأمام، وهو الخط الذي يخط في أول الدار؛ فكأنه ينبني عليه غيره، ولذلك يكون متقدماً متميزاً على غيره بهذا التقدم، ولا يكون مساوياً للمأمومين، فهذا في الأصل. فقوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، معناه أن يكون المأموم تبعاً للإمام، وهذا يشمل ما يكون في الأفعال وما يكون في الصورة، فصورة المأموم في موقفه، فالأصل إذا كان المأمومون أكثر من واحد أن يكونوا وراء الإمام، أما لو كان المأموم واحداً فسيرد التفصيل في أحكامه، لكن الأصل في المأموم أن يقف وراء الإمام. وقوله: [يقف المأمومون] عبر فيه بالجمع، وهذا يقتضي أن موقف الجماعة يكون وراء الإمام إذا كانوا اثنين فأكثر، وإذا وقف الاثنان عن جانبه الأيمن صحت صلاتهم؛ لأنه موقف معتبر. وفي الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أنه لما قام عليه الصلاة والسلام بعد هوي من الليل وتوضأ ووقف قال ابن عباس: (فقمت فصنعت مثل ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جئت فقمت عن يساره فأدارني فجعلني عن يمينه). فدل على أن ميمنة الإمام موقف، لكن إذا كان المأمومون أكثر من واحد فإنهم يقفون وراء الإمام، فلو وقف الاثنان عن يمينه فقد وقفا في موقف معتد به شرعاً فيصح ائتمامهم. قال رحمه الله تعالى: [ويصح معه عن يمينه] هذا يقع في الأحوال التي قد توجد فيها حاجة، أو توجد فيها ضرورة، كما لو كان المكان لا يتسع أن يتأخر المأمومون عن الإمام، فإذا كان المكان لا يتسع أن يتأخر المأمومون عن الإمام فإنهم يقفون ويصلون عن يمينه، ثلاثة كانوا أو أكثر، ولو كان صفاً طويلاً فلا حرج، كأن يكون هناك ممر وليس هناك متسع أن يكون الإمام متقدماً، فحينئذٍ يقفون عن يمينه. وقال بعض العلماء: إنهم لو جعلوا الإمام أمامهم ثم تأخروا قليلاً عنه، وجعلوا فسحة بينهم وبينه فإنه لا حرج، واغتفروا هذا الفاصل اليسير، لكن شدد فيه بعض العلماء؛ لأنه بمثابة قطع الصف. فالحاصل أنهم لو كانوا محتاجين ووقفوا عن يمينه فلا حرج، وهكذا إذا كانت ثَمَّ مشقة، بأن قطع الإنسان الصفوف وجاء ووقف عن يمين الإمام فلا حرج. قال رحمه الله تعالى: [أو عن جانبيه]. يعني عن جانبي الإمام، فإنه لا حرج في أن يقف المأمومان أحدهما عن يمينه والثاني عن يساره، وهذا ثابت في حديثٍ أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صلى بـ علقمة والأسود صاحبيه، فأقام أحدهما عن يمينه والثاني عن يساره، ورفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وإن كان هذا الحديث فيه إشكال في رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه إن صح موقوفاً فـ ابن مسعود ناهيك به علماً وفقهاً، وهذا مذهب الحنفية رحمة الله عليهم، فيرون أن الاثنين يقف أحدهما عن يمينه والثاني عن يساره. وخالفهم الجمهور رحمة الله عليهم فقالوا -وهو الصحيح-: إن الاثنين يقفان وراء الإمام؛ لحديث جابر وجبار فإنه لما قام جابر عن يمينه صلى الله عليه وسلم وجاء جبار دفع صلوات الله وسلامه عليه بصدورهما وراءه، كما في الحديث الصحيح، فدل على أن الاثنين يقفان وراء الإمام، ولا يقفان بحذاء الإمام عن يمينه وعن يساره. وأما حديث ابن مسعود فالذي يظهر -والعلم عند الله، كما هو جواب طائفة من المحققين- أنه كان في أول الإسلام، وهي الصلاة المكية، ثم نسخت بالتشريع المدني. والسبب في ذلك أن ابن مسعود لما صلى بـ علقمة والأسود رحمة الله عليهما ركع فطبق بين يديه، والتطبيق: هو أنه حينما يركع يجعل كفه اليمنى مع كفه اليسرى مجموعتين غير متداخلتين -أي: بدون تشبيك-، ويجعلهما بين الفخذين. وكانت الصلاة بهذه الصفة كالتعظيم لله سبحانه وتعالى، ثم نُسِخت بوضع الكفين على الركبتين وإلقامهما، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم معنا في صفة الركوع. فكانت سنة مكية أنه إذا صلى الإمام يجعل أحد المأمومين عن يمينه والثاني عن يساره، ثم نسخ هذا بحديث جابر وجبار، وكما يقول العلماء: إنه يستفاد من رواية الراوي ما يدل على النسخ، فلما كان ابن مسعود من أحفظ الناس للتشريع المكي، وهو من أسبق الصحابة رضوان الله عليهم وأعرفهم بالفقه المكي، وحديث جابر وجبار إنما كان بالمدينة قالوا: هذا يشير إلى أنه كان منسوخاً، بدليل أن جباراً لما جاء وقف عن اليسار، فدل على أنه كان معهوداً في أول الأمر أن يقف أحدهم عن يمينه والثاني عن يساره، وهذا هو أعدل الأوجه وأقواها في الجواب عن هذه السنة الواردة، والتي حفظها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه. فالخلاصة أن الاثنين فأكثر يقفون وراء الإمام، والأصل في ذلك حديث أنس (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، فلو أنه وقف الإمام بينهم لم يكن ائتماماً بالصورة، ولذلك قالوا: يتقدم ويتأخران. قال رحمه الله تعالى: [لا قدامه]. أي: لا يجوز للمأموم أن يتقدم على الإمام، وذلك لنص الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، فلو تقدم عليه لم يأتم به، وإنما صار المأموم كأنه إمام لإمامه، وهذا خلاف المقصود شرعاً. ثم إنَّ تقدمَ المأموم على الإمام فيه مفاسد، ومن أعظمها أنه تختلف عليه أفعال الإمام، ولربما يحصل منه اختلاج في صلاته، والسبب في ذلك واضح، فلو صلى وراء الإمام رباعية وسها الإمام ولم يجلس للتشهد الأول فقام ووقف، فإن المأموم سيجلس للتشهد؛ لأن ظنه أن الإمام جلس للتشهد، فلا يشعر إلا والإمام راكع، وحينئذٍ تختلف صلاة المأموم مع إمامه. قال رحمه الله تعالى: [ولا عن يساره فقط]. الدليل على أن اليسار ليس بموقف حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فإن ابن عباس لما بات عند خالته ميمونة رضي الله عنه وعنها قال: (فلما كان هوياً من الليل قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى إلى شنِّ فتوضأ، ثم قمت فصنعت مثلما صنع فقمت عن يساره فأدارني عن يمينه). ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم حرك ابن عباس، وحصل هذا الفعل لمصلحة الصلاة، فدل على أن يسار الإمام ليس بموقف، وأنه إذا وقف المأموم في يسار الإمام وجب أن يحوله إلى يمينه.

بطلان صلاة المنفرد خلف الصف غير المرأة

بطلان صلاة المنفرد خلف الصف غير المرأة قال رحمه الله تعالى: [ولا الفذ خلفه أو خلف الصف إلا أن يكون امرأة]. أي: لا تصح صلاة الفذ إذا وقعت خلف الصف، فإنه إذا صلى منفرداً خلف الصف لم تصح صلاته، إلا المرأة، فإن النص ورد باستثنائها. أما الدليل على أن المنفرد لا تصح صلاته خلف الصف فحديث وابصة بن معبد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف). وكذلك حديث علي بن شيبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم انفتل من صلاته ورأى رجلاً يصلي وحده فقال له: (استقبل الصلاة -أي: أعد الصلاة- فإنه لا صلاة لمنفرد خلف الصف)، فدل على أن من صلى وراء الصف ركعة كاملة فأكثر أن صلاته باطلة وتلزمه الإعادة. قوله: [إلا أن يكون امرأة] أي: إلا أن يكون الواقف امرأة، وهذا الأصل فيه حديث أنس رضي الله عنه -وهو ثابت في الصحيحين- أن النبي صلى الله عليه وسلم زار أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها وأرضاها، قال أنس: فقال لنا: (قوموا فلأصلي لكم) -وهذا في الضحى- قال أنس: (فقمت إلى حصير قد اسود من طول ما لُبس فنضحته، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من خلفنا). ووجه الدلالة أن العجوز -أي: المرأة- صلت وراءهم وهذا يدل على أن المرأة إذا انفردت فصلاتها صحيحة، وعلى هذا قالوا: إن عموم قوله: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) يخصص، وتستثنى منه المرأة لثبوت الحديث الصحيح باستثنائها، وللشرع في ذلك حكم، منها: دفع المفاسد باختلاط الرجال مع النساء.

موقف إمامة النساء

موقف إمامة النساء قال رحمه الله تعالى: [وإمامة النساء تقف في صفهن]. ذكرنا أن النساء يُشرع لهن أن تكون بينهن جماعة، وأن تكون إمامتهن منهن، ولا حرج في ذلك؛ لحديث أم ورقة الأنصارية رضي الله عنها، حيث أذن لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلي بأهل دارها. فلما أذن لها عليه الصلاة والسلام أن تصلي بأهل دارها دل هذا على أن المرأة تكون إماماً، ولكن للنساء، وعلى هذا يرد Q حيث عرفنا أن موقف المأموم يكون وراء الإمام فهل هذا الحكم عام للرجال والنساء؟ والجواب أنه يختص بالرجال دون النساء، أما النساء فلو كانت الإمامة منهن فإنها تقف بينهن ولا تقف أمامهن، وهذا فعل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكذلك أم سلمة رضي الله عن الجميع، وروى ذلك سعيد بن منصور في السنن. فقالوا: إنه لا يمكن أن تفعل أم المؤمنين رضي الله عنها وهي الفقيهة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها، لا يمكن أن تفعل هذا دون توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إن مقاصد الشرع تؤكد هذا، حيث إن المرأة إذا صلّت بين النساء كان هذا أستر لها وأحفظ، بخلاف ما لو تقدمت عليهن، ولأن للرجال درجة على النساء، وفرق ما بين النساء والرجال، فقُدِّم الرجال لأمن الفتنة، وتأخرت النساء لوجود الفتنة.

ترتيب المأمومين خلف الإمام

ترتيب المأمومين خلف الإمام قال رحمه الله تعالى: [ويليه الرجال ثم الصبيان ثم النساء كجنائزهم]. أي: يلي الإمام الرجال، والأصل قوله عليه الصلاة والسلام: (ليلني منكم أولو الأحلام). فدل على أن السنة أن يلي الإمام الكبار والعقلاء، خاصة أهل العلم والحلم والعقل والفضل، ويكون هذا المكان -الذي هو خلف الإمام مباشرة- لأمثال هؤلاء. والمطلوب أن يبكروا، وأن يبادروا بالحضور لا أن يتأخروا ويتخطوا رقاب الناس، أو تحجز لهم أماكن، فإن المساجد لا يجوز فيها حجز الأماكن إلا لمن خرج لضرورة وحاجة بعد أن يجلس وينال حق المكان، أما أن يحجز لأمثال هؤلاء الأماكن ويمنع منها من سبق فهذا لا يجوز، وهذا من الظلم الذي يعتبر أذية للناس، والله تعالى منع أن يمنع الإنسان أحداً أن يصلي في مساجده، فإذا جاء شخص إلى الصف الأول مبكراً فهذا حقه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من سبق إلى شيء فهو أحق به). وبعض الناس يفهم من قوله: (ليلني منكم أولو الأحلام) أنه يحجز ما وراء الإمام للكبار وأهل العقل ونحوهم، وهذا ليس بصحيح، فإن الناس في المساجد على حد سواء. ولذلك مَن سَبق فهو أحق، وإنما مراده عليه الصلاة والسلام في قوله: (ليلني منكم أولو الأحلام) أن يبادروا وأن يبكروا بالمضي، حتى يكون ذلك أدعى لحفظ صلاة الإمام. والسبب في الأمر بأن يليه الرجال وأهل العقل أنه ربما طرأت أمور، بمعنى أن الإمام قد يسهو، وكذلك أيضاً ربما يصيبه السهو في القراءة، فيحتاج إلى من يرد عليه، وكذلك ربما التبس عليه الأمر ماذا يصنع في صلاته، فإذا كان وراءه من يعقل ويفهم فإنه ينبهه. ثم إنه يكون على درجة من الوعي والإدراك لما يفعله الإمام، بخلاف العوام وهيشات الناس فإنهم دون ذلك لانشغالهم بمصالحهم، وبعدهم عن استشعار الصلاة مثل أولي الأحلام والنهى. فيتقدم الرجال، ثم بعد الرجال الصبيان، كما ورد في حديث أنس وأبي موسى الأشعري رضي الله عن الجميع، فكان صلى الله عليه وسلم يكون الرجال وراءه، ثم وراءهم الصبيان، ثم من بعد ذلك النساء، فهذه هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم. والخناثى يكونون بين الرجال والنساء، ولا يكون الخناثى مع النساء ولا مع الرجال؛ لأنهم لم يبلغوا درجة الرجال، وليس بمتحقق أنهم نساء، فهم بين الأمرين، ونظراً لهذا يكون موقفهم بينهما، أي بين الرجال والنساء. وقوله: [كجنائزهم]. يعني مثلما تقدم في الجنائز.

صلاة المنفرد خلف الصف وما يتعلق بها

صلاة المنفرد خلف الصف وما يتعلق بها قال رحمه الله تعالى: [ومن لم يقف معه إلا كافرٌ أو امرأة أو من علم حدثه أحدهما أو صبي في فرض ففذ]. هذا نوع من التسلسل في الأفكار، ومن عادة الفقهاء رحمة الله عليهم أنهم يذكرون لك الأصل، وبعد تقريرهم للأصل يبينون ما استُثني من الأصل، أي يبين الأصل الذي دلت عليه النصوص، ثم بعد ذلك يرد السؤال في الأحوال الطارئة. فنحن لو قلنا: إن المنفرد لا تصح صلاته خلف الصف، فهذا يأتي على صور، فإن كان المنفرد جاء وصلى وحيداً وراء الصف فلا إشكال في أن هذا انفراد حقيقي. وهناك نوع ثانٍ وهو الانفراد الحكمي، وصورة ذلك: أن يصلي معه صبي، أو يصلي معه كافر، أو يصلي معه محدِث يعلم بحَدَثه، فهؤلاء وإن كانت صورة حالهم أنهم مؤتمون، ولكنهم في الحقيقة وجودهم وعدمهم على حد سواء، فإن الكافر لا تصح صلاته، والصبي لا تعتبر مصافته على هذا القول الذي درج عليه المصنف رحمه الله، والمحدِث كذلك صلاته غير صحيحة لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ). فمعنى ذلك أن المحدث الذي يصلي بجانبه لا صلاة له، وإذا كان لا صلاة له فإنه حينئذٍ لا تعتبر مصافّته، فوجوده وعدمه على حد سواء. وأما الكافر فإنه لا إشكال أن الكافر وجوده وعدمه على حد سواء، والمحدث لا إشكال أن وجوده وعدمه على حد سواء، وبقي عندنا اثنان: أحدهما الصبي، والثاني المرأة. فلو فرضنا أنك جئت والإمام في ركعة من الركعات، فجئت وكبرت وبجوارك صبي ليس هناك غيره، وأنت وإياه دون الصفوف، فهل تعتد بهذه الركعة وتصح صلاتك، وتعتبر في حكم من دخل الصف، أم أن وقوف الصبي بجوارك وجوده وعدمه على حد سواء فأنت منفرد، ولو كنت في الظاهر مع غيرك؟ A هذه المسألة فيها قولان للعلماء: فالجمهور على أن الصبي يُعتبر من صلى بجواره غير فذ وصلاته صحيحة. وذهب بعض الحنابلة رحمة الله عليهم -ونص البعض أنه هو مذهب الإمام أحمد - إلى أنه لا يُعتد بالصبي، وأنه يلزمه أن يعيد صلاته إذا لم يأتِ بالغ يعتد بموقفه. والصحيح مذهب الجمهور أن وقوف الصبي معك معتد به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع)، فدل على صحة الصلاة واعتبارها منهم، وأمر بضربهم عليها لعشر. والدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف ابن عباس عن يساره أداره عن يمينه، فدل على أنه معتد بموقفه، إذ لو لم يكن لموقفه اعتداد لما كان لإدارته من فائدة؛ لأنه يستوي أن يقف هنا أو هنا إذا كان لا يُعتد به. فدل على أن الصبي يُعتبر وقوفه مع الإنسان رافعاً لوصف الفردية، كذلك أيضاً مما يؤكده حديث أنس في الصحيحين: (وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا) فقوله: (وصففت أنا واليتيم وراءه) يدل على أن الصبي يعتبر رافعاً لوصف الانفراد. إذ لو لم يكن رافعاً لقدَّم النبي صلى الله عليه وسلم أنساً يصلي بجواره، فلو قال قائل: إن أنساً ربما كان صبياً، أو صغير السن، فجوابه: ولو قلنا بذلك! ألا تراه عليه الصلاة والسلام أخَّرهما، فدل على أنهما اثنان، وإذا كانا اثنين فمعنى ذلك أنه معتدُّ بوقوف اليتيم مع أنس، فبوقوف أنس مع اليتيم صارا بمثابة الصف، وعلى هذا فمن وقف بجوار صبي صحت صلاته، ولا يعتبر منفرداً على الصحيح. وأما المرأة ففيها خلاف أيضاً: فمن العلماء من قال: إن المرأة إذا وقفت بجوار الرجل وهو فذ فصلاته صحيحة، ويرتفع عنه الوصف المؤثر الموجب لبطلان صلاة الفذ؛ لأنه ليس بفذٍ. وهذا مذهب المالكية والشافعية وطائفة من أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع. والقول الثاني يقول: إن وقوف الرجل بجوار المرأة لا يعتبر رافعاً لوصف الفذ، بل هو فذ وشدد الحنفية وقالوا: لو وقف الرجل بجوار امرأة، أو صف الرجل بجوار النساء ولو كان معه رجال من الطرف ونساء من الطرف، ولو امرأة واحدة بالغة بطلت صلاة الرجال الذين صفوا والنساء. وقد ذكرنا هذه المسألة من قبل، وبينا أن الصحيح أن الرجال إذا حاذوا النساء لا تبطل صلاة الرجال؛ لأنه ليس ثم دليل على أن المرأة إذا وقفت بجوار الرجل تُبطِل صلاته، لكن المسألة التي معنا هي أنه لو وقفت المرأة مع الرجل فإنه فذ على الصحيح، وهو المذهب، والسبب في ذلك واضح، وهو أن الشرع أمر المرأة في هذه الحالة أن تتأخر، فإن تقدمت وصافت الرجل فإن هذا التقدم منهي عنه شرعاً، والمنهي عنه شرعاً لا يُعتد به ولا يُحتسب، فصار وجوده وعدمه على حد سواء.

الدخول في الفرجة والتفصيل فيه

الدخول في الفرجة والتفصيل فيه قال رحمه الله تعالى: [ومن وجد فرجة دخلها وإلا عن يمين الإمام]. أي: من وجد فرجة في الصف فمن حقه أن يدخل، بل يجب عليه أن يسد ما بين الصفوف من الفرج، وهذا هو الأصل، حتى لا يتخلل الشيطان. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإلزاق الكعب بالكعب والمنكب بالمنكب، وكل ذلك حتى لا يتخلل الشيطان، وبناءً عليه فمن وجد فُرجة فإنه يُحاول أن يتمكن منها ويدخل. والفرجة فيها تفصيل، فالفرجة في بعض الأحيان تكون دون الشخص، فلو وجد فرجة ولكنها دونه بحيث لو دخل في الصف فإنه يضايق الناس فهذا لا يدخل في الصف لوجود الحرج والأذية، والذين سبقوا أحق بذلك. والحل في هذه الحالة أنه إذا وُجِدت الفرجة سحب بعضهم بعضاً، والعبرة بجهة الإمام، فإن كانت الفرجة عن اليمين والإمام في المنتصف فإن معنى ذلك أن ينسحبوا إلى جهة اليسار؛ لأن العبرة بجهة الإمام، وإن كانت الفرجة في اليسار والإمام في المنتصف فإنهم ينسحبون إلى جهة اليمين، فيسحب بعضهم بعضاً إلى جهة اليمين حتى تصير الفرج في الأطراف. فإن صارت الفرجة في الطرف ففيها تفصيل: فإن كانت الفرجة تسع الرجل أثم من تأخر من الرجال في الصف الذي يليه، وإن كانت الفرجة لا تسع بأن كانت لا يمكن دخول الرجل فيها فإنهم يُعذرون في ذلك، ولا تؤثر شيئاً، كما لو صلوا وانتهى حد الصف عند هذا القدر. قوله: [وإلا عن يمين الإمام]. أي: إن وجد الفُرجة دخل حتى لا يصلي منفرداً، وإلا صلى عن يمين الإمام حتى تصح صلاته، ويصح له أن يأتي عن يمين الإمام، ولا حرج عليه.

حكم جذب المنفرد لشخص من الصف

حكم جذب المنفرد لشخص من الصف قال رحمه الله تعالى: [فإن لم يمكنه فله أن ينبه من يقوم معه] إذا جئت فوجدت الصفوف مكتملة بينك وبين الإمام، ولا تستطيع أن تتخطى هذه الصفوف، ولم تجد فرجة أمامك، فلك أن تنبه من أمامك، قالوا: فإذا أمسك الساحب بطرف ثوبه يتراجع، وإذا رجع كان هذا من التعاون على البر والتقوى، ولا إثم عليه. وقالوا: إنه إذا رجع فقد أعان على صحة صلاةٍ، خاصة إذا لم يوجد شخص آخر، فإعانته على صحة الصلاة له فيها الأجر؛ لأن الصلاة لهذا المنفرد لا تصح إلا مع وجود من يقوم معه، وهذا قد فعل السبب الذي صحّت به صلاته فكان له كأجره؛ لأنه أعان على خير. وقد ورد في هذا حديث عند الحاكم، ولكن تُكلِّم في إسناده ولم يخل من مقال، ففي هذا رواية معضلة، وفيه رواية مرسلة وهي رواية الجذب: أي أنه يجذب أحداً من الصف، وقال بعض العلماء: إنه لا يجذب، وإذا جذب أحداً فإنه يأثم، ولا ينبغي للمجذوب أن يستجيب لمن يجذبه. وإن كان الأقوى والأشبه أنه إن جذبه واستجاب فبها ونعمت، وإن لم يجذبه فإنه يُصلي، فإن جاء أحد فبها ونعمت، وإن لم يجئ أحد فإنه يستقبل صلاته ويصليها. وشدد بعض العلماء حتى قال ابن حزم الظاهري: إنه إذا لم يجد أحداً فإنه يرجع إلى بيته، وهذا أمر الصعوبة منه بمكان؛ فإن المساجد بنيت لإقامة الجماعة، وكونه يؤمر بالرجوع إلى بيته فيه مخالفة لمقصود الشرع. والذي يظهر -والله أعلم- أنه يحاول الجذب حتى يجد من يستجيب، فإن رجع الإنسان بالجذب فعلى حالات: الحالة الأولى: أن تمكث معه بقية الصلاة ولا يأتي أحد فلا إشكال، فتصير الفرجة التي حدثت في الصف يمكن سدها بجذب بعض الناس لبعض حتى تصير في طرف الصف، ويصير الناس معذورين بهذا، وأنت معذور بتصحيح صلاة من معك. قالوا: إن مفسدة الفرجة أهون من مفسدة فساد الصلاة وهذا صحيح؛ فإنك لو تأمَّلت أنه لو سُحِب صارت فرجة فإن هذه الفرجة يمكن سدها لو حضر شخص معه، وإذا لم يمكن سدها وبقيت فإن مفسدتها أهون من مفسدة فوات الصلاة على هذا المصلي. وعلى هذا فإن لم يجئ أحد وبقيت معه فلا إشكال، فلك أجر إعانته على صحة صلاته، وإن جاء أحد تقدمت إلى الفرجة وسددتها؛ لأن القاعدة تقول: (ما شرع لعذر بطل بزواله)، وبعضهم يقول: (ما جاز لعذر بطل بزواله)، وهذا جاز لعذر -وهو تصحيح صلاته معك- وقد صحت، ثم لما جاء الثاني زال العذر، فحينئذٍ يبطل تأخرك عن الصف، فتتقدم للصف الذي كنت فيه. قال رحمه الله تعالى: [فإن صلى فذاً ركعة لم تصح]. قيل: لم تصح صلاته، وقيل: لم تصح الركعة التي صلاها دون الصف، وعلى هذا لو أدركه أحد في الركعات الباقية فإنه يقضي هذه الركعة وحدها، فتبطل الركعة التي دون الصف ويلزم بإتمامها، وقال بعض العلماء: بل تبطل جميع الصلاة.

حكم الركوع فذا قبل الدخول في الصف

حكم الركوع فذاً قبل الدخول في الصف قال رحمه الله تعالى: [وإن ركع فذاً ثم دخل في الصف، أو وقف معه آخر قبل سجود الإمام صحت]. هذه مسألة اعترض بها الجمهور على القائلين بأن صلاة الفذ لا تصح، فالإمام أحمد رحمة الله عليه يقول: من صلى فذاً أو منفرداً دون الصف بطلت صلاته إلا المرأة. فاعتُرض عليه بحديث أبي بكرة، وحاصل حديث أبي بكرة أنه (دخل والنبي صلى الله عليه وسلم راكع، فخاف أن يرفع النبي صلى الله عليه وسلم فكبر دون الصف، ثم دب ودخل في الصف، فلما سلّم عليه الصلاة والسلام قال: من فعل كذا وكذا؟ قال أبو بكرة: أنا. قال: زادك الله حرصاً ولا تَعُد)، فروي في لفظ الحديث: (لا تَعُد)، (ولا تُعِد)، (ولا تعدُ). وأقوى الروايات: (ولا تَعُد) قيل معناها: لا تعد إلى التأخر عن الصلاة حتى لا تضطر إلى مثل هذا الفعل. وهذا عند من يرى صحة هذا الفعل وبقاء التشريع به. وقيل: ولا تعد إلى مثل هذا الفعل مرة ثانية. وقيل: لا تَعُد إلى الإسراع؛ لأنه كأنه أسرع بعد ركوعه فصار فيه تشويش؛ لأن المساجد كانت في الرمال، ومشي الناس بسرعة يزعج المصلين. ولذلك قالوا: هذا هو المقصود من قوله (ولا تَعُد)، وأما (ولا تُعِد)، و (ولا تَعْدُ) فلا إشكال فيهما. فعلى هذا اعترض الجمهور، فقالوا: أنتم تقولون: إن المنفرد إذا صلى خلف الصف بطلت صلاته، وهذا أبو بكرة قد كبر تكبيرة الإحرام وركع ودب إلى الصف، فانعقد ركنه دون الصف! فلو كانت صلاة الفذ لا تصح لبطلت صلاته، ولأمره عليه الصلاة والسلام بإعادتها. والجواب عن ذلك ما قاله الإمام أحمد حيث قال: أُبقي حديث (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) على عمومه، وأستثني من فَعل فِعل أبي بكرة وهذا هو الفقه، وهو الجمع بين النصوص على حسب دلالتها، فأعمل رحمة الله عليه عموم قوله: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف)، واستثنى حالة أبي بكرة، وقال: لا إشكال فيمن فَعل فِعل أبي بكرة، فإني أصحح صلاته، بمعنى أنه يكبر ثم يدب إلى الصف. قال: وفي حكمه ما لو ركع وجاء رجل معه وركع قبل أن يرفع الإمام فإنه تصح صلاته وتجزيه. وهذا القول لا شك أن السنة تدل عليه، خاصة أنه مسلك أصولي صحيح، فأنت إذا تأملت حديث (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) وجدت أن هذا العموم دخله التخصيص، والدليل على ذلك أنه استثني منه المرأة فيما ذكرناه من حديث أنس، فإذا استثنيت المرأة فمعنى ذلك أنه عام مخصص، فلا مانع أن تخصص منه الأحوال في جنس ما قيل بالعموم فيه، أعني الرجال.

حكم الاقتداء بالإمام مع رؤيته وعدمها

حكم الاقتداء بالإمام مع رؤيته وعدمها يقول رحمه الله: [فصل: يصح اقتداء المأموم بالإمام في المسجد وإن لم يره]. هذا كما في الأعمى، فإنه يصح اقتداؤه به، خاصة أنه إذا كان داخل المسجد فإنه سيرى من يقتدي بالإمام، وسيعلم بأفعال الإمام من جهة المأمومين الذين يصلون معه. قال رحمه الله تعالى: [ولا من وراءه إذا سمع التكبير وكذا خارجه إن رأى الإمام أو المأمومين]. أي: كذلك إذا لم ير من وراءه، بشرط سماعه للتكبير، وهذا أحد المذاهب عن العلماء رحمة الله عليهم، فيقولون: المهم عندنا أن يكون في المسجد، كما هو مذهب الحنابلة، ووافقهم الشافعية رحمة الله على الجميع. فيقولون: ما دام أنه داخل مسجد واحد وموضع واحد يصلي مع الإمام، فيستوي ألا يراه ويرى المأمومين، أو لا يراه ولا يرى المأمومين، لكن المهم أن يسمع الصوت. قوله: [وكذا خارجه إن رأى الإمام أو المأمومين]. ظاهر السنة أن الصلاة تصح إذا رأى المأموم الإمام أو المأمومين. فيقولون: إن هذا يدل على أن الأصل أن يرى الإمام أو من يقتدي بالإمام داخل المسجد؛ لأنه إذا لم ير الإمام لم يأمن أن تختلج أفعاله، ولا يأمن عند سهو الإمام ألا يدري ماذا يصنع، كما لو سها في الرباعية فقام الإمام بدل أن يجلس للتشهد، فإنه لا شك إذا لم ير الإمام ولا من يقتدي بالإمام أن يقع منه هذا اللبس. لكن قالوا: إنه يصح الاقتداء ولو لم يرَ أحداً قياساً على الأعمى. وأكدوا هذا بحديث الحجرة أيضاً، فإنهم ائتموا بالنبي صلى الله عليه وسلم وهم يسمعون صوته ولا يرون شخصه، قالوا: لأن الحجرة مع المسجد كالشيء الواحد، فاستثني هذا. فهذا حاصل ما قيل إذا كان داخل المسجد، أما إذا كان خارج المسجد فجماهير أهل العلم لا يصححون الصلاة إلا برؤية الإمام، أو من يقتدي بالإمام، ولا يكون هذا إلا باتصال الصفوف؛ لأنها هي الإمامة الحقيقية، وهي السنة والهدي والاقتداء. أما لو كان لا يرى الإمام ولا يرى المأمومين وهو منفصل عن المسجد، كأن يكون في بيت بينه وبين المسجد طريق، أو بينه وبين المسجد بيوت، ويسمع عن طريق الأجهزة الموجودة الآن فإنه لا يصح اقتداؤه ولا تصح متابعته. وهكذا لو سمع عن طريق الأجهزة التي تنقل، كالراديو ونحوه، فإنه لا تصح صلاته؛ لأنه غير مؤتم حقيقة بالإمام. فلذلك قالوا: لابد وأن يرى الإمام أو من يقتدي بالإمام.

حكم ارتفاع الإمام على المأمومين

حكم ارتفاع الإمام على المأمومين قال رحمه الله تعالى: [وتصح خلف إمام عالٍ عنهم]. إن كانت الأرض التي يقف عليها الإمام والمأموم واحدة فلا إشكال، وهذا الأصل في موقفه عليه الصلاة والسلام. لكن هناك حالة يرتفع فيها الإمام ويكون المأموم أنزل منه، وحالة يكون الإمام في أرض هي أدنى في الارتفاع من أرض المأموم. فأما إذا علا الإمام فإنه لا يعلو إلا من ضرورة وحاجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت أنه في حديث أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه وأرضاه قال لامرأة من الأنصار: (انظري غلامك النجار يعمل لي أعواداً أكلم الناس عليها) فصنع أعواد المنبر، قال سهل: (فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عليها فكبر -أي: كبر تكبيرة الإحرام على المنبر- ثم ركع، ثم رفع -وهو على المنبر- ثم نزل القهقرى فسجد في أصل المنبر، ثم رفع ثم سجد، ثم رفع ثم صعد المنبر، ثم كبر فركع، ثم رفع، ثم رجع القهقرى وسجد في أصل المنبر، ثم قال: إنما صنعت هذا -أي: كوني صليت على المنبر- لتأتموا بي)، واللام للتعليل، أي: من أجل أن تأتموا بي فتروني، (لتأتموا بي ولتعلّموا صلاتي). فللعلماء في هذا وجهان: فمنهم من قال: لا حرج عندي في ارتفاع الإمام عن المأمومين، ولا بأس بذلك؛ لأن السنة دلت عليه فلا حرج. ومنهم من قال: لا يجوز للإمام أن يرتفع عن المأمومين، وإن ارتفع من غير حاجة فإنه يأثم. وشدد بعضهم فقال بعدم صحة الصلاة والاقتداء إذا كان الارتفاع بدون حاجة، خاصة إذا قصد به الكبر والترفع، والعياذ بالله. وأكدوا هذا بما جاء عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه مع ابن مسعود، فإن حذيفة حينما صلى بأصحابه وهو على دفة الدكان القديمة وقف عليها رضي الله عنه والمأمومون وراءه، فلما رآه ابن مسعود جاء وجذبه فأنزله، فلما سلم قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن هذا؟ قالوا: فدل على أنه منهي عنه، وأنه لا يجوز، قال: قد علمت، أو تذكرت حينما جذبتني. فدل على أن ارتفاع الإمام عن المأمومين الأصل فيه الحظر والمنع. وهذا القول هو الصحيح، فلا يرتفع الإمام عن المأمومين إلا إذا وُجدت حاجة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي)، فكأنه ارتفع بقصد التعليم، فقالوا: لو زار عالم أناساً لا يعرفون هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فأحب أن يكون في موضع يراه الجميع فيعلمون صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في انتقاله وفي وقوفه وفي ركوعه وسجوده، فصلى على نشز أو مرتفع فلا حرج. ويكون بقدر المنبر، فلا يرتفع ارتفاعاً فاحشاً؛ لأنه هو الهدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن الحاجة تتحقق بمثل هذا، فقالوا: لا حرج. أما إذا لم توجد الحاجة فلا. قال رحمه الله تعالى: [ويكره إذا كان العلو ذراعاً فأكثر كإمامته في الطاق]. ذلك لأنهم حزروا وقدَّروا منبره عليه الصلاة والسلام -الذي هو ثلاث درجات- بهذا القدر؛ لأنه لا يقل عن ثلاثة أشبار، وبناءً على ذلك قالوا: لا يزيد على ذراع، فإذا زاد على ذراع قالوا: إنه في هذه الحالة يكون مكروهاً. ونص بعض العلماء على حرمته؛ لقوله: كانوا ينهون عن ذلك. والأصل في النهي أنه يُحمل على أعلى درجاته، إلا إذا دل دليل على ما هو أدنى من ذلك، أعني الكراهة. قوله: [كإمامته في الطاق] الطاق هو: المحراب، أي: دَخْلة المحراب، وكان السلف كـ ابن مسعود وغيره يشددون في ذلك ويمنعون منه، خاصة أن في القديم ما كان هناك سماعات، فإذا دخل الإمام في الطاق داخلاً لم يروه، وبناءً على ذلك تخفى على بعض الناس الذين هم في أطراف الصف أفعاله، ولذلك قالوا: لا يصلي داخل الطاق، وكرهوا ذلك، وشدد فيه بعض أئمة السلف كالإمام مالك رحمة الله عليه وغيره.

حكم تطوع الإمام في موضعه

حكم تطوع الإمام في موضعه قال رحمه الله تعالى: [وتطوعه موضع المكتوبة إلا من حاجة] أي: لا يتطوع الإمام موضع المكتوبة، وهذا فيه تفصيل، فبعضهم يقول: الإمام لا يصلي النافلة في موضع إمامته. وهذا القول وجيه، وسبب ذلك أن المحفوظ من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا صلى بالناس وانتهى من الأذكار ينصرف. يقول العلماء: الحكمة في ذلك -والله أعلم- أن الإنسان إذا تقدم على الناس تميز وصار له فضل، وحينئذٍ يكون الناس وراءه، وهذا الفضل شُرِع لحاجة وهي الإمامة، ثم أعطي قدر الأذكار، فبقي ما عداها على الأصل، فلا ينبغي له أن يبقى في موضع إمامته. ولذلك شدد العلماء رحمة الله عليهم، وبعض المتقدمين شددوا على الإمام أن يطول في الأذكار ويطيل الجلوس في المحراب، ولا يتذكر أنه متقدم على الناس؛ لأن هناك أناساً لهم فضلهم ولهم مكانتهم، فلا يتقدم عليهم إلا بقدر ما أذن له الشرع بالتقدم. وهذه من آداب الإمامة التي ينبغي أن يتنبه لها الإمام، وقد كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه لا يبقى في موضعه إلا بعد صلاة الفجر، فكان عليه الصلاة والسلام يجلس -كما ثبت في الصحيح- ويتحلّق حوله أصحابه، واستثنى بعض العلماء إذا وُجدت حاجة كالتعليم، كأن يكون عند الإمام درس علم ونحو ذلك، ويكون في موضع المحراب، قالوا: لا حرج في هذا. وإن كان بعضهم يستحب له أن ينتقل. فالشاهد أنهم قالوا: لا يتطوع في موضع المكتوبة، وجاء فيه حديث ضعيف عند ابن حبان، أو ابن ماجة ينهى عن التطوع في موضع المكتوبة. واختلف الأئمة في تعليل ذلك، فقال بعض العلماء: إنما هو للتميز -كما ذكرنا-، وقال بعضهم: لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يوصل بين الصلاتين، فلا يصل بين الصلاتين حتى يتكلم، أو يفعل فعلاً يخرج به عن الصلاة، وهذه من سماحة الإسلام، حتى يخرج المسلم عن رهبنة النصارى والغلو في العبادات. ولذلك قالوا: إنه لا يصل الصلاة بالصلاة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن وصل الصلاتين ببعضهما ما لم يتكلم أو يعمل، قالوا لا يصلي حتى يكلم أحداً، أو ينتقل من موضعه، وقالوا: فإذا انتقل من موضعه صلى ولا حرج عليه. وقال بعض الأئمة في تعليل ذلك: إنه إذا صلى في موضع المكتوبة فإنه يشهد الموضع له بالصلاة، فإن أراد أن يصلي النافلة فليستكثر من الخير وليتقدم أو يتأخر أو يتيامن أو يتياسر، وقد حفظ عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يصلي على يمين منبره، وهو الموضع الذي ورد في الصحيح أنه كان يتحرى الصلاة عنده عليه الصلاة والسلام. فهذا يدل على أن الإمام لا يتعطَّن، كأنهم يقولون: إنه إذا صلى في هذا الموضع كأنه تعطَّنه؛ لأنه إمام يصلي المكتوبة ويصلي النافلة في هذا الموضع، قالوا: كأنه تعطَّن، وقد نهي عن تعطن المواضع في المساجد. فهذا حاصل ما ذُكِر في تنفِّله في موضع المكتوبة، وإن كان الأشبه أن المراد به ألا يتميز على الناس، وألا يتقدم عليهم، فبعد انتهائه من الأذكار يدخل إلى بيته متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم ويصلي الراتبة، إلا ما ورد فعله منها في المسجد، أو يصلي في أي ناحية من المسجد، حتى لا يكون متميزاً على الناس.

حكم إطالة الإمام القعود في موضعه بعد الصلاة وكيف ينصرف

حكم إطالة الإمام القعود في موضعه بعد الصلاة وكيف ينصرف قال رحمه الله تعالى: [وإطالة قعوده بعد الصلاة مستقبل القبلة]. السنة للإمام إذا صلى بالناس وانتهى أن يستغفر وهو مستقبل القبلة ولا يلتفت. والسبب في هذا أنه يمكث بقدر ما يقول: أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله ثلاثاً، قالوا: لاحتمال أن تكون الصلاة فيها نقص، واحتمال أن يكون قد سها في صلاته، فإذا انتقل مباشرة فإنه لا يكون بحالة أكمل مما لو بقي في موضعه. ولذلك كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه لا يتحول مباشرة، فعلى الإمام أن يبقى، قالوا: فيه مصالح، منها: قضية تدارك ما فات، سواءٌ أكان بسجود سهوٍ، أم بقضاء ركعة بقيت وسلم قبل أن يفعلها، وكذلك أيضاً قالوا: إنه قد يكون هناك نساء يُرِدن الانصراف، فإذا عجل فإنه لا يأمن الفتنة، ولذلك قالوا: لا يبادر بالانصراف. وقد كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يتأخر في انصرافه قليلاً ليتمكن النساء من الانصراف، كما ورد في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام. فهذا من آداب الإمامة، فإذا ثبت أنه لا يستعجل فكذلك أيضاً لا يتأخر، فلا يبقى معطياً للناس ظهره؛ لأنها صفة لا تليق؛ لما فيها من الانتقاص؛ لأن تولية الظهر للشيء انتقاص له. ولذلك وصف الله عز وجل من أعرض عن القرآن بأنه اتخذه وراءه ظهريا، فإذا كان الإنسان معطياً لغيره ظهره فإن هذا لا يكون إلا بقدر الحاجة، فلما وُجِدت الحاجة بالإمامة وانتهت الإمامة فإنه ينفتل إلى الناس ويستقبلهم. وللعلماء أوجه في جهة الانصراف: فقيل: السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يُكثر الانصراف عن يساره، وقال: (لا يجعل أحدكم للشيطان حظاً من صلاته)، قالوا: إذا انصرف فلا ينصرف دائماً عن يمينه وإنما ينصرف عن يساره، وقال بعض العلماء: بل ينصرف عن يمينه كابتداء انفتاله من الصلاة؛ لفضل اليمين وشرفه، ثم إذا قام وهبَّ إلى بيته، أو هب إلى موضع درسه، أو إلى موضع في المسجد فإنه يكون انصرافه عن اليسار تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا ضعيف؛ لأن بيت النبي صلى الله عليه وسلم كان في اليمين بعد أن ينفتل، ولم يكن في اليسار. فلو كان انصراف النبي صلى الله عليه وسلم دائماً المراد به عن يمينه ثم ينفتل عن يساره، لأصبح في هذا مشكلة أنه عن يساره سينفتل إلى الجهة الغربية في المدينة، والجهة الغربية جهة الخوخات في المسجد، وهي بيت أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعلي رضي الله عنه وغيرهما من الصحابة، وليس ببيته وحجراته عليه الصلاة والسلام، ولم تكن إلا حجرة بعض نسائه عند باب الرحمة، وهي الجهة الغربية، ولا يمكن أن يقصدها ابن مسعود في إخباره عن أكثر انفتاله عليه الصلاة والسلام في قوله: (أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم ينفتل عن يساره). والذي يظهر أن الإنسان لا يجعل حظاً للشيطان، فينفتل تارة عن يمينه وتارة عن يساره، والناس تُنكر هذه السنة، فإحياؤها طيب، ومستحب أن يحيي الإنسان هذه السنة، والأفضل أن يسبق ذلك بتنبيه للناس حتى لا يحدث تشويشاً عليهم. قال رحمه الله تعالى: [فإن كان ثم نساء لبث قليلاً لينصرفن]. هذا من باب الرفق بهن حتى يكون ذلك أدعى لسترهن وأبعد عن فتنته.

حكم الصلاة بين السواري

حكم الصلاة بين السواري قال رحمه الله تعالى: [ويكره وقوفهم بين السواري إذا قطعن الصفوف] الصلاة بين السواري قد جاء فيها حديث أنس رضي الله عنه أنهم كانوا يُطردون عنها طرداً. وقال بعض العلماء: إنه لا تجوز الصلاة بين السواري، واختلفوا، فقال بعضهم: إنما نهي عن الصلاة بين السواري لأنها تقطع الصفوف، وهذا وجه للتعليل. والوجه الثاني أنها كانت موضع الأحذية، وليست موضع الِعبادة، ولذلك مُنِع منها تنزيهاً وتشريفاً للصلاة، كما هو معهود في غير ما مثال من الشرع. فلذلك قالوا: لا يصلى بين السواري لهذا، وإنما يصلى في الصف التالي، واغتفر بعض العلماء رحمة الله عليهم القاطع اليسير والقاطع المضطر إليه كقاطع المنبر ونحوه، قالوا: إن هذا يغتفر، وهكذا إذا كان القاطع يسيراً لا يمنع العلم بأطراف الصلاة، كما كان في المسبوقات القديمة التي تكون للأئمة ونحوهم. قالوا: إن هذه القياسر ونحوها تستثنى ولا حرج فيها، خاصة إذا كانت قدر شبر ونحوه، أي: يسيرة، قالوا: إن هذا يغتفر ولا حرج فيه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم التقدم على الإمام من غير جهته في الكعبة

حكم التقدم على الإمام من غير جهته في الكعبة Q الصلاة في الحرم المكي أمام الصف الأول مما يلي الكعبة في غير جهة الإمام هل تعتبر من التقدم على الإمام أم لا؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فمن صلى داخل المسجد الحرام فإنه على حالتين: الحالة الأولى: أن يكون في الجهة التي فيها الإمام. والحالة الثانية: أن يكون في غير جهة الإمام. فأما من كان في جهة الإمام فإنه لا يجوز له أن يتقدم على الإمام، وهذا هو الأصل الذي ذكرناه وقررناه. توضيح ذلك: لو صلى الإمام في الجهة التي تلي باب الكعبة وكان بينه وبين الكعبة ثلاثة أذرع، فلا يجوز لأحد أن يتقدم على هذا القدر، وإنما يكون وراء الإمام. وأما بالنسبة للجهات الأُخَر فإنه يجوز له أن يكون على بعد ذراع من الكعبة، ولا حرج عليه في ذلك، وهذا قول جماهير العلماء، وأفتى به طائفة من السلف رحمة الله عليهم، وكان معروفاً في مكة في أزمنة الأئمة رحمة الله عليهم، ونقله الإمام الشافعي رحمه الله، قالوا: إن هذا لم يكن أحد ينكره، أي: التقدم في غير جهة الإمام. والسبب في ذلك أن غير جهة الإمام لا يكون الإنسان فيها مطالباً بالتأخر عن الإمام؛ إذ لو قلنا: إنهم مطالبون بالتأخر إلى حد الإمام لوجب عليهم أن يرجعوا ويصلوا وراءه فتتعطل الجهات الأُخَر، فلما أُذِن بالصلاة في الجهات الأخر استوى أن يكونوا قريبين أو بعيدين. والأمر الثاني: أن المفسدة التي من أجلها نهي عن التقدم على الإمام غير موجودة في هذه الحالة، والسبب في ذلك أنهم في الجهة هذه يرون الإمام أو من يقتدي بالإمام، وعلى هذا قالوا: إنه إذا لم يره بشاخص الكعبة فإن أطراف الصف يرون، فينتقل العلم بطرف الصف. وإذا ثبت أنه يجوز في الجهة التي هي غير جهة الإمام أن يتقدم فلو كان الإمام من جهة الباب، أو من جهة المقام بينه وبين الكعبة متر حيث يجوز أن يكون بينك وبين الكعبة قدر ذراع، فيجوز أن تكون أقرب إلى الكعبة، فإنه يرد السؤال: هل العبرة في الصف الأول بمن يلي الإمام من حدِّه دائراً على الكعبة؟ أم العبرة في الصف الأول في غير جهة الإمام بمن كان أقرب للكعبة؟ وجهان للعلماء: أصحهما وأقواهما أن من كان أقرب للكعبة فإنه هو الصف الأول؛ لأنه لما أُذِن بالشرع بتقدمهم فإنه يعتبر صفهم هو الأول، ولا يستقيم أن يُقال عن صف: إنه الصف الأول، وقد تقدم عليه غيره؛ لأن الوصف لا يتحقق، لقوله عليه الصلاة والسلام: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول). فالصف الأول من غير جهة الإمام الذي أذن به الشرع هو أقرب الصفوف إلى الكعبة، فكما أن الصف الأول من جهة الإمام أقربها إليه كذلك من غيرها الصف الأول أقربها إلى الكعبة، وهو أولى الأقوال وأقواها إن شاء الله تعالى.

حكم القصر إذا سافر دون مسافة القصر

حكم القصر إذا سافر دون مسافة القصر Q إذا وصل المسافر إلى ضاحية أو قرية من قرى مدينته التي لا تبعد عنها مسافة القصر، فهل له أن يقصر الصلاة إذا قفل راجعاً من سفره؟ A من خرج من مدينته إلى موضع دون مسافة القصر فإنه لا يقصر الصلاة، فلا بد في جواز القصر من وجود المسافة، وهذا هو مذهب طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتدل عليه السنة في ظاهرها. أما دليل السنة فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم)، فوصف مسيرة اليوم بكونها سفراً، ولو كان ما دون اليوم يسمى سفراً لمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن تسافر. الأمر الثاني: أن الصحابة رضوان الله عليهم أفتوا بذلك، فإن ابن عباس رضي عنه سئل وهو بمكة عن قصر الصلاة إلى مر الظهران وما قرُب من مكة فقال: لا، إنما يقصر إلى عسفان وجدة والطائف، وكانت عسفان وجدة والطائف على مسافة القصر. ولذلك قالوا: إن هذا يدل دلالة واضحة على أن مسافة القصر مؤقتة، ويؤكد هذا السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أُحد وهي بضاحية المدينة ولم يقصر الصلاة، ومكث بالخندق وهي تبعد ميلين عن المدينة إبان عهده عليه الصلاة والسلام ولم يقصر الصلاة، وخرج إلى بني النضير خمسة عشر يوماً وحاصرهم ولم يقصر الصلاة، وخرج إلى بني قريظة وصلى بأصحابه العصر ولم يقصر الصلاة، وكلها ضواحٍ، مع أنه في حكم المسافر؛ لأنه حينما نزل على بني قريضة إنما قصد حصارهم وحربهم، وهذا سيكون بلا شك أنه في حكم السفر، ومع ذلك لم يقصر الصلاة، حتى إن الإمام ابن حزم الظاهري مع تمسكه بظواهر النصوص والتزامه بها رحمة الله عليه يقول: علمنا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يقصر في القليل والكثير، وإنما كان يقصر في المسافة. فدل على أنه يؤقت السفر بالمسافة، وهذا هو الذي أفتى به جمهور العلماء، وعليه العمل، فالعبرة في السفر بالمسافة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى ضواحي المدينة لم يقصر. وعلى هذا إذا كان المكان الذي تريد قصده دون مسافة القصر كضاحية فإنك لا تقصر، لكن لو أنك قصدت مدينة بعيدة، كأن تخرج من مكة إلى المدينة، ثم لما خرجت من مكة نزلت بعد بُعدِك عن مكة بعشرة كيلو مترات، أو بخمسة كيلو مترات في موضع أو في ضاحية حل لك أن تقصر. فمتى خرجت عن آخر عمران مكة جاز لك أن تترخص بالقصر في السفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعاً وبذي الحليفة العصر ركعتين. فدل على أن القصر يكون بمجاوزة آخر العمران، وهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما يفهم من حديث أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه وأرضاه. والله تعالى أعلم.

حكم إعادة تحية المسجد عند الخروج والدخول للمسجد

حكم إعادة تحية المسجد عند الخروج والدخول للمسجد Q يصلي كثير من الطلاب مع الجماعة في الصف الأول، ثم يصعدون للحلقات في الدور الثاني، فهل عليهم إعادة تحية المسجد مرة أخرى؟ A هذا فيه تفصيل، فإن خرجوا من باب المسجد ودخلوا من باب ثان صاعدين إلى المسجد فالسنة واضحة: (إذا دخل أحدكم المسجد)، ولم يفرق صلى الله عليه وسلم بين طول العهد وقصر العهد، والأصل في العام أن يبقى على عمومه. فلو قيل: إنه إذا كان حديث العهد جاز، وإن كان طال العهد لم يجز، أو: إذا خرج بالنية جاز له أن يدخل ولا يصلي فإن هذا فيه نظر؛ لأنه إذا خرج وكان خروجه قريباً ورجع فإنه يحتاج إلى تأقيت يُفرَّق فيه بين القليل والكثير، وهذا ليس فيه دليل من الشرع، ولذلك يقولون: تأقيت بدون مؤقت. وقالوا: إن التفريق بين كونه قريباً وبعيداً مبني على الاستحسان، والأصل أن إعمال عموم النص أولى من إعمال الاستحسان في مثل هذا، خاصة وأنه شُرِع على وجه التعبد؛ فقال: (إذا دخل أحدكم المسجد)، ولم يفرق بين هذا وذاك. وقال بعض العلماء: لو خرج بكامل جسمه ثم رجع مباشرة لزمه أن يعيد تحية المسجد، أما لو خرج من المسجد ناوياً الرجوع، أو خرج من المسجد على نية أن يبقى فهذا مبني على إلغاء الظاهر وإعمال النية والباطن. وتوضيح ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (إذا دخل أحدكم المسجد)، علق هذا على ظاهر المكلف ولم يعلقه على نيته. وما من إنسان يخرج من المسجد -إذا كان عبداً صالحاً أو يريد الخير- إلا وفي نيته غالباً أن يعود إليه، ولذلك ورد في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل قلبه معلق بالمساجد). بل قل أن تجد إنساناً صالحاً يخرج إلا وفي نيته أن يعود إلى الفرض الذي بعده، وعلى هذا تسقط تحية المسجد، والذي يظهر والله أعلم أن العبرة بعموم النص، وما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إذا دخل أحدكم المسجد)؛ حيث لم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين دخول يطول الفصل فيه ودخول يقصر فيه الفصل، ولم يفرق بين كونه ناوي الرجوع، أو غير ناوٍ. والله تعالى أعلم.

حكم قطع الطواف لصلاة الجنازة

حكم قطع الطواف لصلاة الجنازة Q من كان يطوف فهل له أن يقف ويصلي على الجنازة، أم يمضي في طوافه؟ A الذي يظهر -والعلم عند الله- أنه يُتم طوافه ولا ينشغل بصلاة الجنازة، أما لو كان الطواف فرضاً كطواف الإفاضة ونحوها من الأطوفة الواجبة واللازمة كطواف الوداع فلا إشكال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الطواف بالبيت بأنه صلاة، ولا يترك الصلاة المفروضة اللازمة لما هو دونها في المرتبة، فإن الصلاة على الجنازة من فروض الكفايات، وقد قام حقها بصلاة غيره عليها، فلا يترك الفرض العيني المتعلِّق به إلى فرضٍ قد سقط عنه بفعل غيره، ولذلك يبقى في طوافه ولا يقطع. ولكن إذا أُقيمت صلاة فريضة فإنه ينسحب ويصلي، ثم إذا صلى الفريضة كالعصر والظهر ونحوها ورجع فهل يرجع من أول الطواف، أو يرجع من الموضع الذي قطع فيه؟ أصح الأقوال أنه يرجع من الموضع الذي قطع فيه. وبناءً على ذلك يرجع إليه ويُتِم طوافه، والأحسن أن يبتدئ من بداية الشوط الذي قطعه على سبيل الندب والاستحباب لا على سبيل الحتم والإيجاب. والله تعالى أعلم.

نصائح وتوجيهات لطلبة العلم

نصائح وتوجيهات لطلبة العلم Q نود ذكر ما ينبغي أن يكون عليه طالب العلم من حيث ضبط المسائل ومراجعتها؟ A أولاً: أوصي الإخوان وأوصي الجميع ونفسي بتقوى الله عز وجل، فيتقي الإنسان ربه، وهذا العلم يراد به ما عند الله سبحانه وتعالى. وكان العلماء رحمة الله عليهم يوصون دائماً بالإكثار من التواصي بالإخلاص في العلم، فإن الله يضع البركة فيه، ويكثر خيره، وينمي ما فيه من نفع المسلمين بحسن نية صاحبه. فينوي الإنسان بهذا العلم أن ينقذ نفسه من الضلال، وأن يعمل به، وأن يعلمه الناس، وأن يكون في نيته ألا يبخل على أحد بحكمة رزقه الله علمها، فهذا من أفضل ما يكون في توفيق الإنسان، وكلما صلحت نية طالب العلم كان ذلك أدعى لتوفيق الله ورحمته به. فإن الله اختار القلوب للنظر، ففي الحديث: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، فأَرِ الله من نفسك حسن النية. الأمر الثاني: لا تعجب، ودائماً كن في احتقار وانتقاص لنفسك؛ فإن الله يرفع قدرك، قال بعض السلف: والله ما جلست مجلساً أظن نفسي أني أعلى القوم إلا خرجت وأنا أدناهم، وما جلست مجلساً أرى نفسي أصغر القوم إلا خرجت وأنا أعلاهم. فإذا احتقر الإنسان نفسه وقال: من أنا، وأخذ يظن بنفسه أنه دون الناس رفع الله قدره، وجعل بين الناس حبه والثقة بما يقول. الأمر الثالث: أن تضبط هذا العلم حق ضبطه، فتأخذه كما ينبغي أن يأخذه طالب علم بجد واهتمام وصدق كما قال تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]، فيحتاج العلم إلى عزيمة، ولا يكون بكسل أو خمول أو توانٍ، فتأخذ العلم بهمة صادقة وعزيمة على الخير وحب للانتفاع به. قال صلى الله عليه وسلم: (منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا)، فأرِ الله منك الجد والاجتهاد والصبر والتحمل. ولذلك موسى عليه السلام لما بلغه أن هناك من هو أعلم منه قال: {لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:60] ومعنى (حقبا) أي: إلى آخر الدهر حتى أبلغ هذا الذي هو أعلم مني. وهذا يدل على الهمة الصادقة في العلم، فإن وجدت من هو عالم ويوثق بدينه وما عنده من العلم فخذ العلم كما ينبغي أن يؤخذ، فتكون عندك الهمة الصادقة فيه، والجد والاجتهاد والتفاني فيه، وبقدر ما تضحي للعلم يضع الله لك البركة والخير والنفع للمسلمين. فمن تعب اليوم فإنه يجني الثمار غداً، فيجنيها في الدنيا والآخرة، ويجنيها من الله سبحانه وتعالى في عاجل أمره وآجله؛ لأن المعاملة مع الله رابحة على أتم الوجوه وأكملها. الأمر الرابع: أول ما تُعنى به تطبيق العلوم بعد أن تعلمها وتعرف حلالها وحرامها، فتعمل بهذا العلم الذي علمته، ولذلك قالوا: اعمل بالحديث ولو مرة تكن من أهله. فإذا علمت أن الله أحل فأحِل، وإذا علمت أن الله حرم فحرم، وكن عاملاً بهذا العلم، فإذا وفقك الله للعمل بما علمت فإن الله يرزقك علم ما لم تعلم. قالوا: من عمل بما علم رزقه الله علم ما لم يعلم، أي: رزقه ما لم يكن له على الحسبان، وفتح الله له البركة؛ لأن العمل توضع بسببه البركة في علم العالم. الأمر الآخر الذي أحب أن أوصي به بعد العمل: أن تدعو الناس، وتهدي الناس إلى هذه السنن، وتحس أنها في رقبتك أمانة، فتبين للناس حلال الله وحرامه، وتدعوهم بالتي هي أحسن إلى أن يعملوا بالحلال وأن يحلوه، وأن يجتنبوا الحرام ويبتعدوا عنه وينبذوه. فمن خير المنازل الدعوة إلى الله عز وجل بالعلم، حتى تكون ممن عناهم الله عز وجل بقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت:33]. وينبغي عليك أن تتنبه لأمور: أولاً: شيء لا تعلمه لا تتكلم فيه؛ فإن الله عز وجل إذا أراد أن يسلم العبد من تبعة هذا العلم رزقه الأمانة فيه، فلا تتكلم إلا بقدر ما علمت، وكلما كان طالب العلم دقيقاً من أول طلبه للعلم، فلا يتكلم إلا في حدود ما يعلم كان أدعى لضبطه للعلم، وأدعى -أيضاً- لسلامته من تبعة العلم. فإن الإنسان تزل قدمه بكلمة واحدة، وقد يمقت الله العبد بكلمة من غضبه حينما يفتري على الله كذباً فيقول: هذا حلال، والله حرَّم، أو: هذا حرام، والله أحل، خاصة إن كان عن جهل وجرأة على الله، نسأل الله السلامة والعافية. قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام:21]، فلو وقفت أمام الناس والخلق أجمعين يسألونك عن شيءٍ لا تعلمه فقل بكل عزة وإباء: الله أعلم، فمن قال: لا أدري، فقد أُنفذت مقاتله، ويكون الله أعلم في قلبك من كل أحد، ولا تبال بأحد. ولو ضاقت عليك الأرض بما رحبت فلا تقل في دين الله وشرع الله ما لا تعلم أبداً، فلا تتقدم، فإنك إن فعلت فقد تقحّمت النار على بصيرة، نسأل الله السلامة والعافية. ومن كانت عنده الجرأة على الاجتهادات والخوض في الآراء وكثرة الجدل حتى يُحدث لنفسه أقيسة وفروعاً فقد زلت به القدم -نسأل الله السلامة والعافية- إن عاجلاً أو آجلاً، وقل أن يسلم من مكر الله به والعياذ بالله، فينبغي أن تكون أميناً. فاتق الله يا طالب العلم، فإن الناس إن جلست بين يديك تريد علماً صادقاً، ولا تريد الكذب، ولا تريد الغش، ولا تريد إحلال الحرام وتحريم الحلال، وإنما تريد الأمانة. وقد قال تعالى: {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4]، قال بعض العلماء: في هذه الآية دليل على أن العالم لا يكون صادقاً إلا إذا تتبع الأثر. ولذلك تجد في بعض الأحيان بعض الكتب تنقل ولا تزيد، حتى إن الكلمات مكررة، وهذا يدل على أمانة العلماء، وهم قادرون على أن ينظِّروا، وأن يجتهدوا، وأن يفرعوا، وأن يؤصِّلوا، ولكن الخوف من الله حبسهم. فينبغي لطالب العلم أن يكون بهذه المثابة، فلا تتكلم في شيء لا تعلمه، وإذا أصبحت من الآن لا تخطو خطوة إلا وأمامك دليل وحجة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فأنت على خير. والوصية التي أحب أن أنبه عليها أيضاً أنك لا تدخل في مماراة السفهاء ومجادلة العلماء، فلا تتعلم العلم لتماري به السفهاء، أو تجادل به العلماء، فمن تعلم العلم ليماري به السفهاء أو ليجادل به العلماء أو ليصرف وجوه الناس إليه فليتبوأ مقعده من النار. وليكن أهم شيء عندك رضوان الله العظيم، وأهم شيء أن الله يرضى عنك حينما علمت فعملت وعلّمت ودعوت، فإذا بلغت هذا وضع الله في قلوب العباد الثقة بعلمك، ووضع الله في قلوب العباد حبك، وتجد من تيسير الله لك في العلم، حتى إنه في بعض الأحيان تقول: (الله أعلم) فتخاف الله عز وجل وتتورع، فلا تجاوز مكانك حتى يفتح الله عليك بالحق فيها، وهذا مجرب، فربما تتذكر أدلة ونصوصاً في المسألة، وكأن الله يمتحنك، وكأن الله يبتليك ويختبرك، فإذا كنت بهذه المثابة فإن الله يفتح عليك. ثم عليك أن تشوب العلم بالصلاح والتقوى والورع، فكلما نظرت إلى الله سبحانه وتعالى كيف علّمك وفهمك وهداك وأرشدك فينبغي أن تشكر هذه النعمة؛ فإن الله تأذن بالزيادة لمن شكر، وتأذن بمحق البركة لمن كفر. ولذلك يقول العلماء: قرينان لا يمكن أن يكون الإنسان إلا على واحد منهما، إما شكر وزيادة، وإما كفر -والعياذ بالله- فمحق للبركة وخسارة، فإذا أردت أن يبارك الله لك في هذا العلم فدائماً اذكر فضل الله عليك، وأثن على الله بما هو أهله. ودائماً ينبغي أن تدمع عينك، خاصة إذا كنت في خلوة بينك وبين الله، فتقول: يا رب: لك الحمد، علمتني وكنت جاهلاً، وهديتني وكنت ضالاً، وأرشدتني وكنت حائراً. إلى غير ذلك. فلا تزال تثني على الله وتصعد منك هذه الكلمات، ففي الحديث: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها). فلربما أنك تجلس خالياً فتذكر ولو مجلساً واحداً جلسته، ولو فتوى واحدة سمعتها من أهل العلم، فإن الله يرفعك بها درجات، فإن شكرت بارك الله لك. والوصية الأخيرة: أن تتأدب مع العلماء والسلف الصالح رحمة الله عليهم، فأنت لم تتعلم العلم لكي تضع نفسك في مكان لست بأهله، فلا تكن جريئاً على تخطئة الأسلاف، وكذلك بيان عوارهم وانتقاصهم، وإنما تأدب مع السلف الصالح والأئمة، وتأدب مع من هو أعلم منك. وإن جلست في مجلس وهناك من هو أعلم منك فأعط الزمام له، قال صلى الله عليه وسلم: (كبر كبر)، فاحفظ حق من هو أكبر منك، ومن هو أسبق منك، ولا تتعال على الناس، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل علمنا نافعاً، وعملنا صالحاً خالصاً لوجهه الكريم، ونسأله سبحانه وتعالى أن يبارك لنا فيما علمنا وعملنا، وأن يجعله خالصاً لوجهه ليس فيه لأحد سواه حظ ولا نصيب؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فصل: أعذار ترك صلاة الجماعة

شرح زاد المستقنع - فصل: أعذار ترك صلاة الجماعة المرض هو أحد الأعذار التي يعذر بها صاحبها عن ترك صلاة الجمعة والجماعة، وقد قسم العلماء المشقة فيه إلى مشقة مقدور عليها ومشقة غير مقدور عليها، ومن الأعذار التي يعذر بها صاحبها عن التخلف عن صلاة الجمعة والجماعة: مدافعة أحد الأخبثين، وحضرة الطعام مع الحاجة إليه، وكذلك الضرورة التي يقاس عليها بعض الأعذار وغيرها، ولأهل الأعذار كالمريض كيفية خاصة في الصلاة كما جاء في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.

أعذار ترك صلاة الجمعة والجماعة

أعذار ترك صلاة الجمعة والجماعة

المرض

المرض بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: ويعذر بترك جمعة أو جماعة مريض]. قوله: [يعذر بترك] أي: بالتخلف. فالجمعة والجماعة لا تجب على المريض الذي لا يستطيع شهودها وحضورها، والسبب في ذلك أن تكاليف الشرع مبنية على التيسير على الناس، لا على التعسير عليهم. وقد بعث الله نبيه رحمة للعالمين، ولم يبعثه -صلوات الله وسلامه عليه- بما فيه حرج ومشقة لا يطيقها الناس، والمرض فيه مشقة وحرج. ولذلك لما مرِض عليه الصلاة والسلام لم يشهد الجماعة، كما في الصحيحين أنه قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، فتخلف عليه الصلاة والسلام عن شهود الجماعة، فأخذ العلماء من هذا دليلاً أن من كان مريضاً يُعذر بترك الجماعة. والمرض له أحوال، فتارةً يمتنع الإنسان بالكلية عن شهود الجماعة، كأن يكون مشلولاً أو به ألم لا يطيق معه الخروج من بيته، فهذا يُعذر، ويعتبر وجود مثل هذا الأذى رخصة له في ترك الجمعة والجماعة. وتارة يكون مرضه يستطيع معه الخروج، ولكن يتضرر بالخروج؛ فتارة يزداد عليه المرض، كأن يكون مصاباً بالزكام، فلو خرج في شدة البرد زاد عليه زكامه، ولربما ساءت صحته، واشتدت عليه علّته، وتارةً يستطيع الخروج ولا يزداد المرض، ولكن يجد الأذى والمشقة في النقلة، كأن يكون مرضه في قدميه، فلو سار عليهما أو حمل بين اثنين فإنه يتضرر بالمشي. ففي الحالة الأولى اختار بعض العلماء والمحققين أنه إذا خاف زيادة المرض، وغلب على ظنه أن المرض يزداد والعلة تشتد فإنه يترك شهود الجماعة، فلو أنه أصابه الزكام، وغلب على ظنه أنه لو خرج لهذه الصلاة تشتد عليه العلة ويعظم عليه البلاء فإنه يتخلف. وهكذا لو كان خروجه فيه المشقة والحرج والأذية، أما لو كانت به مشقة يستطيع أن يتحملها فعليه أن يخرج، ولذلك يقول العلماء: المشقة مشقتان: مشقة مقدور عليها، ومشقة غير مقدور عليها، فالمشقة غير المقدور عليها لا يكلف معها إجماعاً وإذا كان الإنسان لا يطيقها، ولا يمكنه أن يأتي بالشيء مع وجودها، فلو أن إنساناً أصابه مرض لا يستطيع معه القيام ألبتة -كالشلل- فإنه لا يكلف إجماعاً بالقيام. والمشقة المقدور عليها تنقسم إلى قسمين: الأول: أن تكون مقدوراً عليها وفيها حرج وضيق وعناء. الثاني: أن تكون مقدوراً عليها، ولا يلحق الإنسان بها حرج ولا ضيق. فمثال الأول -إذا أصابته المشقة وأجحفت به- أن يكون في سفر وتشتد عليه المخمصة، فلو كان في سفر وهو صائم، فإنه في حال السفر يمكنه أن يصبر على الصيام، ولكن تصل نفسه إلى الضيق والحرج، فهذا يرخص له في الفطر. ومثال الثاني: مشقة الخروج لصلاة الفجر، فإنه يترك النوم ويخرج، ومشقة الوضوء في الشتاء، فإنه يكلف بها، فأصبحت المشقة ثلاثة أقسام: الأول: ما لا يُقدر عليه، كالمخمصة التي تفضي به إلى الموت. فهذه يسقط فيها التكليف، وينتقل إلى الرخصة بأكل الميتة. الثاني: مشقة مقدور عليها مع الحرج، كالصوم في السفر، فيخير بين الفعل والترك، والرخصة له أن يترك، فالإنسان في السفر يخير بين أن يفطر ويصوم. الثالث: مشقة مقدور عليها بدون حرج، فيلزم فيها بالتكليف، ولذلك قال العلماء: سميت التكاليف تكاليفاً لوجود الكلفة والمشقة فيها. وبناءً على ذلك فالمريض الذي إذا خرج من بيته أجحف به الخروج وحصل له العناء والضررله أن يترك شهود الجماعة، ولا حرج عليه في ذلك. أما لو كان يطيق -ولو مع يسير المشقة- فإنه يشهد، فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم نفاقه، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف). فهذا يدل على حرصهم رضي الله عنهم على شهود الجماعة، ويدل على تأكدها ولزومها.

مدافعة أحد الأخبثين

مدافعة أحد الأخبثين قال رحمه الله تعالى: [ومدافع أحد الأخبثين] أي: يعذر بترك الجماعة من كان يدافع أحد الأخبثين. والمدافعة: مأخوذة من دفع الشيء، والمراد به كفه. وهناك (دفع) و (رفع)، والعلماء يقولون في القاعدة المشهورة: (الدفع أسهل من الرفع). وسأل بعضهم: ما الفرق بين الدفع والرفع؟ فقالوا: الدفع لما لا يقع، والرفع لما وقع. فأنت ترفع شيئاً قد وقع وحصل، كأن ترفع شيئاً على الأرض، فإنه بعد سقوطه على الأرض يرفع. وأما بالنسبة للدفع فإنه يكون لشيء لا يراد وقوعه، فمدافعة الأخبثين المراد بها: أن يكون حاقناً بالبول أو الغائط أو بهما معاً، فمثل هذا لا يستطيع أن يكون مستحضراً للخشوع في صلاته، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم من يدافع الأخبثين أن يصلي حال مدافعته للأخبثين، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان)، والأخبثان -كما قلنا-: البول والغائظ. ومدافعة الأخبثين تكون على صور: الصورة الأولى: أن تكون إلى درجة لا يعي الإنسان معها الصلاة، بأن تشتد عليه، وتبلغ به إلى مقام تذهله عن صلاته، وكذلك عن خشوعه وموقفه بين يدي ربه. الصورة الثانية: أن تكون في بدايتها، بحيث يطيق الصبر إلى انتهاء الصلاة، فيرجع إلى صلاته تارة ويغيب عن صلاته تارة. فإن وصلت به إلى حد لا يستطيع معه أن يدرك صلاته فإن صلاته لا تصح في قول طائفة من العلماء، وهو مذهب الظاهرية، وكذلك قال به الإمام مالك، وكذلك قال به بعض السلف رحمة الله على الجميع. فإذا وصلت المدافعة إلى درجة لا يعي معها صلاته، فإن صلاته غير صحيحة، ويُلزم بإعادة الصلاة. والقول الثاني: صلاته مكروهة، وتقع مجزئة؛ لأنه صلى وهو متوضئ وغير محدث، وإنما كانت مدافعة الأخبثين متعلقة بالخشوع، وفوات الخشوع لا يؤثر في ذات الصلاة، وإنما يؤثر في كمالها وحصول الأجر فيها، وهذا مذهب الجمهور. وهذا المذهب يقول: لا يستلزم فوات الخشوع بطلان الصلاة، فغاية ما هو فيه -أي: الذي يدافع الأخبثين- أنه لا يعي صلاته، بمعنى أنه لا يخشع فيها الخشوع المعتبر. وبناءً على ذلك قالوا: إن صلاته صحيحة. والحقيقة أنه إذا دافع مدافعة يذهل فيها عن صلاته بالكلية فإن القول بالإعادة من القوة بمكان. وأما إذا كانت المدافعة يسيرة، بأن تغلبه تارة ويرجع تارة إلى الصلاة، فإن الظاهرية يقولون ببطلان الصلاة، وبعض أهل الحديث يوافقهم، والجمهور على صحة الصلاة، وقالوا: لكن يُكره له أن يصلي على هذه الحالة. والصحيح أنه إذا كان في بداية المدافعة بحيث يرجع إليه الشعور تارة ويغيب عنه تارة فإن صلاته صحيحة. والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لأم المؤمنين عائشة: (أميطي عنا قرامك هذا؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي)، فقوله: (أميطي) أي: أزيلي. (قرامك) القرام: هو الستارة، وكانت فيها صور، فقال: (أميطي عنا قرامك هذا؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي)، ولم يبطل صلاته ولم يقطعها. فدل على أنه إذا فاء تارة وغلبه فذلك لا يؤثر في الصلاة، وفي الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام، فأمر عليه الصلاة والسلام فقال: (اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم؛ فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي، وائتوني بأنبجانية أبي جهم)، فهذا الحديث يدل على أن من ذُهل عن صلاته بحيث يفيء تارة ويغلب تارة فصلاته صحيحة. وبناءً على ذلك يفرق فيمن يدافع الأخبثين بهذا التفريق، فإن غلبته المدافعة إلى درجة لا يعي معها الصلاة بالكلية فإنه حينئذٍ يعيد، وأما إذا كان تغلبه تارةً وتارةً يغلبها فإنه تصح صلاته وتجزيه، لما ذكرنا من الأحاديث. فمن يدافع الأخبثين إذا أقيمت الصلاة يشرع له أن يخرج ويتوضأ، أو يعيد وضوءه، والسبب في ذلك واضح إذا كانت المدافعة قوية؛ لأن صلاته محكوم ببطلانها، أما إذا كانت المدافعة يسيرة فإنه يصلي. وقال بعض العلماء: لا حرج أن يخرج من المسجد وأن يعيد وضوءه في هذه الحالة ولو كانت يسيرة.

حضرة الطعام مع الحاجة إليه

حضرة الطعام مع الحاجة إليه يقول المصنف: [ومن بحضرة طعام محتاج إليه] الطعام قد يكون غداءً أو عشاءً، وحضور الطعام مع الصلاة هو المعبر عنه في الحديث في قوله في حديث أم المؤمنين عائشة: (لا صلاة بحضرة طعام)، وحضور الطعام كمال نضجه واستوائه وتهيؤه لتناوله، فالمراد بذلك أن تحضر الصلاة في حال حضور الطعام. بمعنى أن يكون فعل الجماعة للصلاة وقت وضع الطعام بين يديه، أو يكون مشغولاً بالأكل فتقام الصلاة أثناء اشتغاله بالأكل، فإذا كان الطعام يحتاج إليه وتتعلق نفسه به فإنه حينئذٍ ينصرف إلى الطعام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدأوا بالعشاء). وهذا من سماحة الشريعة، وفيه دليل على كمال منهجها ورحمة الله عز وجل بعباده؛ فإن الإنسان ضعيف، إذ لو صلى وهو بحضرة الطعام تنشغل نفسه فيفوته الأجر، فأُذِن له أن يشتغل بالطعام. وقوله: [محتاج إليه] خرج به الطعام الذي لا يحتاج إليه، فلو دعي إلى صلاة العِشاء، وكان بحضرة طعام لا يحتاج إليه، كأن يكون في شبع، أو يكون شراباً كالشاهي أو نحوه، كما هو موجود في زماننا الآن فإنه ينصرف إلى الجماعة، ولا يجوز له أن يتخلف عنها. أما إذا كان محتاجاً إليه، كمن أصابه الجوع وحضرته صلاة العصر والطعام بين يديه فإنه يتخلف، وينبغي أن يُنبه أنه لا يجوز اتخاذ هذا وسيلة لترك الجماعة، كأن يُهيئ طعامه عند حضور الصلوات بقصد التخلف عنها، فإنه يعامل بنقيض قصده، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات). فإذا نوى مخالفة الشرع وتفويت هذه الفريضة عليه من شهود الصلاة مع الجماعة فإنه يأثم بهذا الفعل، وقال طائفة: لا يرخص له. فتسقط الرخصة عنه معاملة له بنقيض قصده، والمعاملة بنقيض القصد الفاسد معروفة شرعاً ومعهودة عند العلماء رحمة الله عليهم. فالمقصود أن حضور الطعام المراد به نضجه وتيسر أكله له مع تعلق نفسه به، فإن كان الطعام لم ينضج بعد فإنه ينصرف إلى صلاته، وكذلك إذا كانت نفسه لا تتعلق بهذا الطعام، بمعنى أنه في شبع ولا يجد الحاجة لهذا الطعام، فيجب عليه شهود الجماعة إعمالاً للأصل.

الخوف من ضياع المال أو فواته

الخوف من ضياع المال أو فواته قال المصنف: [وخائف من ضياع ماله أو فواته أو ضرر فيه] أي: يرخص للإنسان إذا كان عنده مال ويحرس هذا المال ويقوم عليه أن يتخلف عن الجماعة إذا خاف بذهابه إليها أن يسرق هذا المال، أو يضيع عليه. فمن كان عنده مال أمانة، أو ماله هو يملكه، ولا يستطيع أن يدخله معه فإنه يرخص له في ترك الجماعة لوجود الضرر. وقد نبه الشرع بالنهي عن الصلاة بحضرة الطعام على اعتبار حاجة الإنسان، والمال من حوائجه، ولذلك لا حرج عليه في قول جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم في ترك الجماعة، خاصة إذا كانت هناك جماعة أخرى كأهله وزوجه ونحو ذلك. فإن خاف على ماله، أو مال يكون أمانة عنده فإنه حينئذٍ يُشرع له أن يحفظ المال، وأن يتخلّف لوجود الحاجة، والحاجة تنزل منزلة الضرورة للقاعدة التي تقول: (الحاجة تنزَّل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة). وهذا بالنسبة لفوات المال، ويكون أيضاً ضياع المال في حكم الفوات، كأن يكون عنده دابة ولا يجد مكاناً يحفظ فيه هذه الدابة، فإن أقيمت الصلاة وإذا تركها فإنها تضيع فحينئذٍ يجوز له أن يتخلف عنها، خاصة إذا كان في سفر وفواتها يضر به ويجحف.

الخوف من موت قريب إذا تركه بمفرده

الخوف من موت قريب إذا تركه بمفرده يقول المصنف: [أو موت قريبه]. أي: إذا خاف موت القريب فإنه يُشرع له أن يتخلف لمداواته والقيام عليه وتجهيزه للصلاة عليه، وقد أُثر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه لما سمع الصارخ على ابن عمه -وقد كان خرج للجمعة- ترك الجمعة، وانصرف إليه وأقام حاله. وهذا من باب التيسير، وبناءً على ذلك فإذا أقيمت الصلاة والإنسان يخاف على والدته أو على والده أن يموت، أو كان في شدة المرض يحتاج إلى قيامه عليه ورعايته له، فلا حرج عليه أن يتخلف للقيام عليه ورعايته. وكذا لو غلب على ظنه أنه لو ترك المريض وذهب فإنه يموت، أو ربما يحصل له ضرر، كالأطباء في بعض الأحوال التي يقومون فيها على المرضى، فيشرع لهم أن يتخلفوا عن الجماعة في الحالات الطارئة. فالأطباء الذين يستقبلون الحالات التي تطرأ على الناس، ويغلب على الظن فيها فوات الأنفس يشرع لهم أن يصلوا جماعة مع بعضهم، وأن يتخلفوا عن الجماعة العامة إحياءً للأنفس إذا غلب على ظنهم وجود الضرر أو التلف. وهكذا بالنسبة لمن يحفظ الأموال وخاصة عند وجود الفساد، فإنه يُشرع لهم أن يتخلفوا لوجود الحاجة، وهكذا الخوف على العرض، فإذا كان الإنسان في سفر ومعه زوجه أو معه أخته، وهو في موضع لا يجد فيه أين يضع أهله، ويخشى لو فارقهم أن يُعتدى عليهم، أو يحصل الضرر عليهم، فإنه يجوز له أن يصلي معهم جماعة، ولا حرج عليه في مثل هذه الأحوال.

الخوف على النفس من ضرر أو سلطان

الخوف على النفس من ضرر أو سلطان يقول المصنف: [أو على نفسه من ضرر أو سلطان]. إذا خاف على نفسه من ضرر فإنه يجوز له -في قول جماهير العلماء- أن يتخلف عن الجماعة، وذلك لأنه إذا تعارض حق الله وحق العبد فحقوق الله مبينة على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة والمقاصة. ولذلك أباح الله عز وجل للعبد أن يأكل من الميتة في حال خوفه على نفسه، فسقط التكليف بالحرمة، فإذا خاف على نفسه سقط التكليف بوجوب شهادة الجماعة، وجاز له أن يتخلف. والأمثلة التي ذكرها إنما هي أمثلة أنواع، وليست أمثلة تقييد، فإذا خاف على نفسه الضرر من أي جهة كانت فإنه يشرع له ويجوز له أن يتخلف دفعاً لهذا الضرر، فإن الشرع دفع الضرر عن المكلف كما في الصوم، وكما في المخمصة. ولذلك قالوا: إن الشرع قصد المحافظة على الأنفس فيخفَّف في شهود الجمعة والجماعة، فيصليها في بيته إذا خاف الضرر، ولا حرج عليه في هذه الأحوال. قالوا: وأصول الشريعة تدل على هذا؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وهذا ليس في وسعه أن يعرض نفسه للهلاك والتلف. وكذلك أيضاً يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فلو أُلزِم بشهودها كان ضررا يخالف القصد الذي بُنيت الرسالة عليه من الرحمة بالناس، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن خير دين الله أيسره)، وقال: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين). فلو أوجبنا عليه شهود الجماعة مع وجود هذه الأضرار كان هذا مخالفة للأصول التي دلت عليها هذه النصوص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فاستنبط الجماهير رحمة الله عليهم من هذا الحكم بجواز التخلف عن شهود الجماعة في مثل هذه الأحوال.

ملازمة غريم

ملازمة غريم قال رحمه الله تعالى: [أو ملازمة غريم ولا شيء معه] ملازمة الغريم تكون على حالتين: الأولى: أن يكون الإنسان معذوراً بالتخلف عن سداد الدين. الثانية: أن يكون غير معذور. فإن كان معذوراً لا يجد السداد والغريم يسيء إليه، فيؤذيه بالكلام، أو يتسبب في التضييق عليه، أو الاستعداء عليه، بحيث يكون سبباً في لحوق ضرر به، أو يخاصمه أمام الناس، فيقول له: يا ظالم. يا مماطل. أو يؤذيه بدون حق فيجوز له أن يتخلف في هذه الأحوال. والسبب في ذلك -كما يقول العلماء رحمة الله عليهم- أنه لو خرج لحقت به المشقة والحرج، والله يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، فإن الإنسان إذا أوذي أمام الناس وانتقصت كرامته، وأوذي بسبه وشتمه قد يكون الأذى والضرر عليه أكبر مما لو أُوذِي بجرحه والضرر في جسده. ولذلك قالوا: جرح اللسان أعظم من جرح السنان. فالمقصود أن الإنسان إذا خاف من أذية صاحب الدين وكان مظلوماً بهذه الأذية وليس عنده سداد شرع له التخلف. أما لو كان عنده سداد ويستطيع أن يدفع فإنه ظالم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته) فإذا امتنع عن السداد وهو قادر عليه، وعنده ما يتمكن به من سداد الحقوق التي عليه فإنه لا يشرع له أن يتخلف عن الجماعة، بل يجب عليه أن يخرج، وإذا أُوذِي فإنه يستحق الأذية بإذن الشرع بذلك.

فوات الرفقة

فوات الرفقة قال رحمه الله تعالى: [أو فوات رفقة] إذا كان في سفر وكان فوات الرفقة قد يعرضه للهلاك فقد قالوا: يشرع له أن يترك الجماعة. أما لو كانت هناك رفقة بديلة عن هذه الرفقة، أو يستطيع أن يمشي وحده ولا حرج عليه فإنه حينئذٍ يتخلف ويصلي، فإن أدركهم فبها، وإلا أقام حق الله عز وجل عليه بشهود الجماعة.

غلبة نعاس

غلبة نعاس قال رحمه الله تعالى: [أو غلبة نعاس] مثال هذا: لو أن إنساناً اشتغل من الصباح الباكر، فجاء قبل صلاة الظهر وإذا به في شدة الإعياء والإرهاق، ثم إنه غلب على ظنه أنه لو نزل إلى المسجد فإنه سينتظر بقدر ربع ساعة إلى ثلث ساعة وهو في غاية الإرهاق، وغلب على ظنه أنه لو نزل لا يعي الصلاة من شدة ما يجد من العناء والتعب، أو قد لا يستطيع ذلك إلا بعناءٍ شديد ومشقة، فحينئذٍ يصلي في موضعه، ولا حرج عليه في التخلف عن الجماعة.

الأذى بمطر أو وحل

الأذى بمطر أو وحل قال رحمه الله تعالى: [أو أذى بمطر أو وحل] وذلك لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر من هديه عليه الصلاة والسلام أنه إذا نزل المطر وحضرت الصلاة كان ينادي المنادي: (الصلاة في الرحال الصلاة في الرحال). وهذا بعد قوله: حي على الصلاة. وهذا من سماحة الشرع ويسره، وذلك أن الخروج في المرض أو في المطر لا يخلو من وجود الضرر والأذية، ولذلك يقولون: إذن الشرع بالتخلف عن الجماعة في حال المطر يدل على اعتبار الأضرار مرخِّصة في ترك الجماعة. فكون الشرع مع وجود المطر يأذن في ترك الجماعة ينبِّه على أنه لو وُجِد الضرر الذي ذكرناه من خوف النفس والخوف على الأموال ونحوها يُشرع له التخلف؛ فإنها في مقام ضرورة، أو مقام حاجة قد تكون أشد من أذية المطر وما يكون فيه من مشقة. وبعض العلماء يقول: يسير المطر وكثيره سواء، وهذه سنة ضائعة اليوم إلا ممن رحم الله، وينبغي للمؤذنين أن يحيوها، وأن يُنبه على المؤذنين بإحيائها، فإن الأذان يؤذن -سواءٌ هناك مطر أم لم يكن هناك مطر- وقل أن تسمع هذه السنة، بحيث يقال: الصلاة في الرحال. فينبغي إحياء هذه السنة والتنبيه عليها، وأنه إذا وجد المطر يقول المؤذن: (الصلاة في الرحال الصلاة في الرحال) لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان من هديه ذلك، وقد فعل ذلك ابن عمر رضي الله عنهما وأرضاهما، ورفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولذلك لا يقتصر على الأذان وحده، وإنما يدخل هذه العبارة؛ لأنها من ألفاظ الأذان المشروعة. والمطر إن كان شديداً فقولاً واحداً أنه يتخلف ويعذر بالتخلف عن الجمعة والجماعة. وأما إذا كان يسيراً فقال بعض العلماء: إن يسيره لا يوجب الترخيص، وإنما يوجب الترخيص إذا كان فيه ضرر. بمعنى أن يكون شديداً. وإن كان ظاهر النص على أنه يُرخص في المطر مطلقاً، والاحتياط أنه إذا كان يسيراً وأمكن الإنسان أن يشهد معهم الجماعة دون وجود ضرر فإنه يشهدها. قوله: [أو وحل]. هو الذي يكون ناتجاً عن المطر، كالطين الذي يكون في الطريق، فإذا كان طريقه فيه وحل فحينئذٍ لا حرج أن يتخلف عن الجماعة؛ لأن الشرع لما أذن بالصلاة في البيوت مع وجود المطر فإن الوحل أثر من الآثار التي أوجبت الرخصة.

الريح الشديدة البرودة في الليلة المظلمة

الريح الشديدة البرودة في الليلة المظلمة قال رحمه الله تعالى: [أو بريح باردة شديدة في ليلة مظلمة]. الريح فيها حرج ومشقة، وخروج الناس مع وجود الريح في شدة البرد يُضر بهم، وقد يتسبب في حصول الضرر بالإنسان، ولذلك قالوا: يشرع له أن يتخلف عن الجماعة إذا كانت الريح باردة، والريح الساخنة التي تسمى بالسموم يمكن الصبر عليها، ويمكن اتقاؤها وإذهاب حرها بما يكون من الملابس ونحوها. والريح الباردة أقوى في الإضرار بالجسد من الحارة، ولذلك رخِّص في الباردة دون الحارة، فالأمر الأول: أن تكون الريح باردة. الأمر الثاني: أن تكون شديدة، فإذا كانت يسيرة وجب عليه أن يشهد الجماعة؛ لأنه الأصل. الثالث أن تكون في ليلة مظلمة، والسبب في ذلك أن الضرر بها يكون أبلغ ما يكون إذا كان بهذه الصفة، أما لو كانت الريح باردة وشديدة، ويمكنه أن يخرج ويرى فحينئذٍ يخرج، فقوله: [مظلمة] إشارة إلى أنه لا يرى الطريق، فلما كان الشرع يأذن بالتخلف عن الجماعة مع وجود المطر الذي يعيق السير كان تنبيهاً إلى الريح الشديدة الباردة وما في حكمها. قالوا: فحينئذٍ يتخلف، لكن بشرط أن يكون متأذياً، أو متضرراً ببرودة هذه الريح وشدتها وكونه في ليلة ظلماء، أما لو اتقى الريح بركوب سيارة، أو كان عليه ما يحفظه من الأذى والضرر فإنه يشهد الجماعة، ولا يتخلف عنها؛ لأن العلة في مثله ليست بمتحققة، فيشهد الجماعة ويصلي مع الناس. وهذا كله من سماحة الشرع وتيسير الله عز وجل على عباده، والعلماء ذكروا هذه الصور، وهي إما منصوص عليها كمدافعة الأخبثين والصلاة بحضرة الطعام ونحوها من الأعذار التي نص عليها. وإما أن تكون في حكم المنصوصة، كالخوف على النفس، وما يوجب الحرج على الإنسان، سواء أكان ذلك في نفسه أم في ماله، فإنه يجوز له أن يتخلف للمعنى الذي استنبط من النصوص. فعندنا أعذار نصية وأعذار اجتهادية، فالأعذار النصية مثلما ذكرناه، والأعذار الاجتهادية آخذة حكم الأعذار المنصوصة؛ لأن الشرع ينبه بالشيء على مثله، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخاطب أبا موسى: (اعرف الأشباه والنظائر). فإنه قد ينبه الشرع على شيء لكي يكون أصلاً لغيره، فلما نبه الشرع على المطر، وكان ذلك موجباً للترخيص في ترك الجمعة والجماعة كان أصلاً في دفع كل ما فيه ضرر لشهود الجماعة.

الأسئلة

الأسئلة

أكل الثوم أو البصل ونحوهما ومدى تأثير ذلك في حضور الجماعة

أكل الثوم أو البصل ونحوهما ومدى تأثير ذلك في حضور الجماعة Q هل يعذر من أكل ثوماً أو بصلاً في ترك الجمعة والجماعة على ظاهر حديث النهي عن أكلهما قبيل الصلاة؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فمن أكل الثوم والبصل فإنه لا يشهد الصلاة في المسجد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا -أو ليعتزل مسجدنا- وليقعد في بيته، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)، وحينئذٍ يصلي في بيته، ولكن هناك فرق بين من أكل الثوم والبصل من غير عذر ومن كان معذوراً، فإن المعذور يكتب له أجره كاملاً، وأما من أكل الثوم والبصل من غير عذر فقد فاته الأجر. ومن أمثلة المعذور: من أكله للتداوي، بمعنى أن الطبيب أمره بأكل الثوم والبصل للدواء فأكله، أو أكل دواءً له رائحة نتنة ومضرة، فإنه حينئذٍ يكون في حكم المريض، ويُكتب عمله كاملاً ولا ينقص أجره، والله تعالى أعلم.

قياس مدافعة الريح بمدافعة الأخبثين

قياس مدافعة الريح بمدافعة الأخبثين Q هل تنزل مدافعة الريح منزلة من يدافع الأخبثين وتأخذ نفس الحكم؟ A مدافعة الريح قال بعض العلماء بالرخصة فيها، ونص بعض العلماء على أن من يدافع الريح فإنه آخذ حكم من يدافع الأخبثين ولكن في الريح فرق بينه وبين البول والغائط، ولذلك يجعلون ضرر البول والغائط أعظم من الريح، فيخففون في البول والغائط ولا يخففون في الريح. وهنا مسألة ذكرها بعض العلماء، فلو أن إنساناً فيه بعض الأمراض، وإذا وقف استطلقت بطنه، أو كان معه الريح، وإذا صلى جالساً فإنه لا يحصل معه شيء من ذلك، فهل نقول له: صل جالساً حتى لا ينتقض وضوءك، أو نقول له: صل قائماً ولو انتقض وضوءك؟ وهذا إذا كان معه المرض باستمرار، أو يكون المرض لا يستطيع معه أن يحافظ على طهارته، فالصحيح أنه يصلي قائماً ولو استطلقت بطنه بالريح، وهذا يتفرع على مسألة اعتنى العلماء رحمهم الله بها وهي مسألة الازدحام. والازدحام يكون على صور: منها: ازدحام الفروض مع الفروض، وازدحام الشروط مع الشروط، وازدحام الواجبات مع الواجبات، وازدحام الفروض مع الشروط، وازدحام الشروط مع الواجبات، وازدحام الفروض مع الواجبات، فهذه من مسائلها التي تكلم عليها الأصوليون. فمن مسائل الازدحام ازدحام الركن -وهو هنا القيام والركوع- مع شرط الصحة وهو الطهارة، فلو قلنا له: صل قاعداً حتى لا ينتقض وضوؤك، فإننا قدمنا شرط الصحة على الأركان فأسقطنا الأركان واعتبرنا الشرط، والركن أقوى من الشرط. وحينئذٍ يُقدَّم الركن على الشرط، فالصحيح أنه يصلي قائماً ولو استطلق بطنه ولا حرج عليه في ذلك، والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب صلاة أهل الأعذار

شرح زاد المستقنع - باب صلاة أهل الأعذار الإسلام دين يسر ورحمة، ومن تيسيره على العباد أن جعل لمن كان به عذر صفة خاصة في الصلاة بحسب استطاعته، فمن كان مريضاً صلى قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب، ويومئ إيماءً، ومن كان في سفينة وقدر على القيام في الصلاة قام، وإن لم يقدر صلى قاعداً، ومن كان على راحلة وحضر وقت الفرض وكان هناك وحل ونحوه، صلى على راحلته وهذا كله يدل على يسر الإسلام ورحمته بالناس.

صفة صلاة أهل الأعذار

صفة صلاة أهل الأعذار

كيفية صلاة المريض

كيفية صلاة المريض ذبسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة أهل الأعذار]. أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالمعذورين. وهذا الباب من أهم الأبواب، نظراً لأنه تعم به البلوى، خاصة وأن المرضى يكثر تساؤلهم: كيف يصلون؟ وقد يكون الإنسان مريضاً في نفسه أو في جسده، وقد يكون في بيته المريض فيسأله، وقد يسأل عامة الناس عن مثل هذه المسائل والأحكام. وقد اعتنت نصوص الكتاب ونصوص السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم ببيان الرخص وأهل الأعذار. فبعد أن فرغ رحمه الله من أهل الأعذار في شهود الصلاة مع الجماعة شرع في أهل الأعذار الذين يعذرون في صفة أداء الصلاة. فهناك من يعذر في شهود الصلاة، وهناك من يعذر في كيفية أداء الصلاة، وهذا الباب من أهم الأبواب؛ لأن مسائل الناس تكثر عنه، وهو صلاة المريض وما في حكمه. قال رحمه الله تعالى: [تلزم المريض الصلاة قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب] قوله: [تلزم المريض الصلاة قائماً] أي: إذا أطاق ذلك وقدر عليه، والأصل في ذلك قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6]، فدل على أن من يصلي يكون قائماً. وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة فاستقبل القبلة ثم كبر)، وقال عليه الصلاة والسلام لـ عمران بن حصين: (صل قائماً). فالأصل أن يصلي الإنسان قائماً، والمريض مطالب بالصلاة قائماً، ولكن إذا أطاق القيام، وأما إذا كان عاجزاً عنه ففيه التفصيل. وهذا هو نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله عمران بن حصين، وكانت بـ عمران رضي الله عنه وأرضاه بواسير فاشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما يجده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً)، فدل هذا على الأصل. ولذلك نقول: الأصل في المصلي أن يصلي قائماً بنص الكتاب ونصوص السنة التي ذكرنا، ولقوله عليه الصلاة والسلام لـ عمران وهو مريض: (صل قائماً). قوله: [فإن لم يستطع فقاعداً]. أي: لا يستطيع أن يقوم، كأن يكون الإنسان مصاباً بالشلل والعياذ بالله، فإنه حينئذٍ ينتقل إلى الرخصة، فشرط إيجاب القيام الاستطاعة والقدرة، لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]. والمريض إذا لم يستطع القيام فله حالات: الحالة الأولى: أن لا يستطيعه بالكلية، فحينئذٍ يصلي جميع الصلوات قاعداً بلا إشكال. الحالة الثانية: أن يطيق بعض القيام دون بعض، فحينئذٍ يلزمه القيام بقدر ما يطيق، ويأتي هذا على صورتين: الأولى: أن يستطيع القيام من أول الصلاة ثم يضعف، فالرخصة له بعد ضعفه، فنقول له: افتتح الصلاة وصل قائماً، فإذا أحسست بالعناء والمشقة جلست. الثانية: أن يكون العكس، كأن يبتدئ الصلاة عاجزاً ثم يجد الخفة والنشاط، فنقول: تُلزَم بالقيام، ويلزمك أن تتم قائماً. وقد أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم الصورة الثانية، حيث كان في قيام الليل يصلي قاعداً لما بدُن وكثر لحمه عليه الصلاة والسلام وأسن صلوات الله وسلامه عليه، فكان لا يطيق طول القيام؛ لأنه كانت ركعته بما يقارب البقرة وآل عمران والمائدة، حتى إن قدمه تتفسخ من طول القيام صلوات الله وسلامه عليه. فلما كبر وضعف في آخر سنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي قاعداً، تقول أم المؤمنين: حتى إذا بقي قدر مائة قام. فجعل الإطاقة بعده، ولذلك يقولون: إذا كان الإنسان بمثل هذه الحالة فالأفضل أن يجعل ذلك في الثانية. أما إذا كان في الفرض فإنه يبتدئ بقدرته، ثم إذا وجد الضعف ترخص عند وجود الضعف. وأما جلسة المريض فهناك من يجلس متربعاً، وهناك من يجلس مفترشاً، وهناك من يجلس متوركاً كجلسة التشهد، فهل يصلي قاعداً متربعاً، أو يصلي قاعداً كقعدة التشهد؟ هذه المسألة فيها قولان للعلماء، فمن العلماء من قال يتربع. وفيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وآثار عن بعض أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم، وقال بعضهم بل يفترش. وقد أشار إليهما الإمام ابن المنذر رحمه الله في الأوسط، وكذلك أشار إليها الإمام الطبري في اختلاف الفقهاء. هذان الوجهان مشهوران عن أهل العلم، فالذين يقولون: يجلس جلسة المتشهد قالوا: لأنها جلسة صلاته، إذ لا يعرف في الصلاة أن يجلس متربعاً، وإنما جلسته في الصلاة لما يُصلي ويبلغ الجلسة بين السجدتين أو التشهد، ما عهدنا من الشرع أنه يجلس كجلسة التشهد. وبناءً على ذلك قالوا: إنه يجلس مفترشاً. والصحيح أنه يجلس جلسة المفترش، ولا حرج عليه أن يجلس جلسة المتربع، خاصة إذا كان يحتاج إليها، أما جلسة الافتراش فإنها أشبه عند طائفة من السلف رحمة الله عليهم؛ لأنها هي جلسة الصلاة. والحديث الذي ورد في تربعه عليه الصلاة والسلام فيه كلام لا يخلو من ضعف، فقالوا: إنه يجلس جلسة المتشهد. والدليل على أنه يجوز له أن يصلي على هذه الصورة أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق، فقال عليه الصلاة والسلام: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً)، فمن جلس متربعاً فهو قاعد، ومن جلس مفترشاً فهو قاعد، لقوله عليه الصلاة والسلام في المفترش: (إذا قعد أحدكم للتشهد)، فسمَّى جلسة التشهد ووصفها بكونها قعدة. ولذلك يكون الافتراش أولى وأشبه لأنه على صفة الصلاة؛ لقوله: (إذا قعد أحدكم للتشهد)، ولأنها جلسة معهودة، فهو أولى وأحرى. لكن هنا مسألة وهي: لو أن إنساناً يصلي قاعداً بين القائم والجالس، كمن يصلي على كرسي ونحوه، فهذا فيه تفصيل، فإن كان جلوسه لوجود العلة وما يوجب ارتفاقه بعلو ونشز فلا إشكال في جواز ذلك وحله. وأما إذا كان من دون حاجة، كأن يرى ذلك أيسر له، وأريح لنفسه وأجم لجسمه فإنه حينئذٍ ينبغي عليه أن يجلس في الأرض؛ لأنه ليس هناك ما بين القيام والقعود، فإما أن يقف على الأصل الذي أمر به الشرع، وإما أن يجلس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً)، فلم يجعل ما بينهما موضعاً للرخصة، وإذا كان به علة أو مرض يمتنع معه نزوله إلى الأرض، كمن يكون به الضرر تحت ركبته، أو يكون عنده مرض يمنعه من النزول إلى الأرض فحينئذٍ يجلس على كرسيه. فإذا جلس على كرسيه يبتدئ تكبيرة الإحرام واقفاً فيكبر، ثم إذا أطاق القيام قرأ الفاتحة وصلى قائماً بقدر ما يطيق، ثم يجلس إذا لحقه العناء والمشقة، أما أن يكون قادراً على القيام ويجلس مباشرة ويكبر وهو جالس فلا يجزيه، إنما يجزيه أن يكبر قائماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قمت إلى الصلاة فاستقبل القبلة وكبر). فدل على أن التكبير يكون حال القيام، وعلى هذا فلابد وأن يفصل في مثل هذا بالآتي: أولاً: أنه لا يجلس على الكرسي من دون حاجة، وإن جلس خالف الأصل الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لـ عمران: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً)، فهذا ليس بقائم ولا قاعد في الصورة، وإن كان قاعداً في الحكم. ثانياً: أن يكون محتاجاً لهذا الجلوس، فيكبر تكبيرة الإحرام قائماً ثم يجلس، ولا يكبرها وهو جالس متى أطاق التكبير وهو قائم. قوله: [فإن لم يستطع فعلى جنب] هذا هو تكملة حديث عمران: (فإن لم تستطع فعلى جنب)، والجنب: هو شق الإنسان الأيمن أو الأيسر. وقد اختلف العلماء في تعيين الجنب، فقال بعضهم: على جنبه الأيمن ويستقبل القبلة، وذلك لأنها صفة مَن في اللحد؛ إذ يوجه للقبلة على هذه الصفة. وقال بعضهم: على شقه الأيمن أو الأيسر أيهما شاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق. والمذهب الأول أحوط، خاصة وأن الحديث يقول: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً)، وهو حديث حسنه بعض العلماء رحمة الله عليهم، والعمل بالإجماع عليه في القبور. وبناءً على توجيه الميت في قبره على هذه الصفة لفضل اليمين نقول: إذا أطاق الجنب الأيمن فإنه أولى وأحرى وفيه خروج من الخلاف، وفيه استئناس بالسنة المقيدة: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً). فدل على أن استقبال القبلة حال الاضطجاع إنما يكون بالشق الأيمن لا بالشق الأيسر، وهذا إذا أطاقه. وأما إذا لم يطق الشق الأيمن فإنه ينتقل إلى الشق الأيسر ولا حرج، فإذا انتقل إلى الشق الأيسر فإنه يجعل القبلة في وجهه. فيصلي على جنبه على التفصيل الذي ذكرناه من كونه إذا كان يطيق الجنبين يصلي على جنبه الأيمن للحديث الذي ذكرناه، ولاستقبال القبلة استئناساً بالفعل بالميت حال تقبيله في لحده. وأما إذا كان لا يطيق الأيمن، أو فيه حرج عليه ومشقة فينتقل إلى الأيسر، لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فيدخل الشق الأيسر لعموم قوله: (فإن لم تستطع فعلى جنب)، وهذا على جنب. قال رحمه الله تعالى: [فإن صلى ورجلاه إلى القبلة صح]. وذلك بأن يكون مستلقياً كهيئة النائم، فقالوا: تصح صلاته. وهذا قول طائفة من السلف رحمة الله عليهم، وله أصل، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة النائم على النصف من صلاة القاعد)، فجعل النائم -وهو من استلقى- آخذاً نصف صلاة القاعد، كما في حديث: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد)، قالوا: فسماه مصلياً حال استلقائه على قفاه. وبناءً على ذلك فإنه إذا اضطجع ونام على قفاه ووجهه إلى السماء قالوا: يُرفع صدره قليلاً، وهو التقبيل للميت، فيكون جذعه الأعلى إلى جهة القبلة، بحيث لو قام كان أول ما يباشره القبلة، وهكذا يكون التقبيل، وكذلك في الصلاة. وهذا وج

صلاة المريض مستلقيا مع القدرة على القيام للمداواة

صلاة المريض مستلقياً مع القدرة على القيام للمداواة قال رحمه الله تعالى: [ولمريض الصلاة مستلقياً مع القدرة على القيام لمداواة بقول طبيب مسلم] قوله: [لمريض الصلاة مستلقياً] هذا إذا كان العذر الدواء والعلاج، كما في بعض الأمراض الجراحية في بعض الأعضاء التي لا يستطيع معها أن يركع ولا يسجد ولا يقف، فحينئذٍ إذا كان على الفراش بحيث لا يستطيع أن يقوم فإنه يصلي على هذه الحالة. كذلك لو كان يتداوى، فلو كان المرض في عينيه وأُلزم بوضع معين لا يستطيع معه القيام ولا يستطيع معه الركوع ولا السجود، وقيل له: إن قمت أو ركعت أو سجدت فإنه سيحدث الضرر فإنه في هذه الحالة يصلي وهو مستلقٍ، لكن بشرط أن يكون ذلك بشهادة طبيب مسلم. ووجه هذا أن احتمال وقوع الضرر بغلبة الظن كوجوده؛ لأن القاعدة: (الغالب كالمحقق)، فلما غلب على ظننا أنه لو صلى قائماً أو ركع أو سجد يصاب بالضرر والأذى، أو أن علاجه لا يتمكن منه الطبيب، فإنه حينئذٍ يعتبر هذا رخصة، كما لو كان مريضاً لا يطيق القيام والركوع والسجود. وهذا قول جمع من السلف، وأُثر عن ابن عباس رضي الله عنه، وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً روي عن ابن عباس أنه شدد في ذلك، حتى قالوا: إن سبب العمى الذي بلي به رضي الله عنه وأرضاه أنه نصحه الطبيب في علاجٍ وضعه له أن لا يسجد، فامتنع وسجد فكُفَّ بصره رضي الله عنه وأرضاه، فهذا مما ذكروه. فالشاهد أنه كان بعض السلف يشدد في هذه المسألة ويقول: التداوي ليس كالمرض الذي يمنع. والصحيح أنه ينزل منزلة المرض المانع، وإنه إذا كان بالإنسان عملية جراحية، أو يتداوى من مرض في جوفه أو في صلبه أو في عينيه، أو نحو ذلك من الأمراض التي تكون في مواضع الجسم المختلفة، وقيل له: إنه لا يتم علاجك إلا إذا امتنعت من الركوع، أو امتنعت من السجود، أو امتنعت من القيام فإنه يمتنع، بشرط أن يكون الطبيب الذي يخبره عدلاً مسلماً. والسبب في ذلك أنها أمور الديانات، وأمور الديانات لا يُجتزأ فيها إلا بشهادة الثقة العدل، وأما إذا كان غير ثقة وغير عدل فإنه يُنتقل إلى من هو أعدل منه. فإذا وجد الطبيب المسلم الذي يشهد له بهذا فلا إشكال، وحينئذٍ إذا قال له الطبيب الكافر: ينبغي عليك أن تصلي مستلقياً. فإنه لا يسمع قوله حتى يشهد الطبيب المسلم؛ لأن وجود الطبيب المسلم يغني عن شهادة الكافر. والسبب في ذلك أن الكافر لا يُوثق بقوله في الديانات، وقد كان بعض أئمة السلف رحمة الله عليهم -مثل الإمام أحمد رحمه الله- يستطب عند اليهودي والنصراني، فيقول الراوي: كان يستطبه بمعنى أنه يتعالج عنده ويعتمد على ما يصفه له من دواء. فإذا نهاه عن أمر من أمور الديانة، كأن يقول له: لا تصم. أو: صلِّ قاعداً. لم يطع في ذلك لمكان التهمة، وهذا إذا لم يوجد المسلم، وإذا وجد المسلم فعلى حالتين: الأولى: أن يوجد العدل وغير العدل، فحينئذٍ ينبغي اعتبار شهادة العدل دون غير العدل. الثانية: أن لا يوجد العدل، بأن يكون الأطباء ليس فيهم مَن تتوفر فيه شروط الشهادة المعتبرة، فحينئذٍ يؤخذ بأمثلهم. وهذه قاعدة قررها جمع من المحققين، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن فرحون في تبصرة الحكام، حيث بين فيها أنه يرجع إلى الأمثل في مثل هذا إذا تعذر وجود العدل في أهل الصنعة. فالقاضي لو احتاج إلى قول أهل الخبرة في الخصومات والنزاعات من مهندسين أو أطباء ولم يجد العدل فإنه يأخذ أمثلهم، وهو من وُجدت فيه صفات أفضل من غيره. وعلى هذا فإما أن يوجد المسلم والكافر، فلا يجوز أن يقبل شهادة الكافر مع وجود شهادة المسلم، وإما أن لا يوجد الطبيب المسلم، كأن يكون هذا المرض الذي به لا يحسنه إلا طبيب كافر، أو في بلد ليس فيه إلا كفار، فحينئذٍ يأخذ بشهادة أمثلهم، وله أن يأخذ بذلك. وهذه المسألة تكلم عليها الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية بكلام نفيس في الفتاوى المصرية، بيّن فيه رحمة الله عليه أن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستعانة بالكافر والمشرك إذا أُمنت منه المفسدة، وذكر لذلك الأدلة الصحيحة، ومنها حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استأجر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً). وهو عبد الله بن أريقط، والحديث ثابت في الصحيحين، ووجه ذلك أنه مكَّنه من السير معهما في الهجرة، والهجرة يُسلك فيها مسالك وعرة، ومسالك لا يسلكها الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد التخفي عن العيون، ومع ذلك مكنه النبي صلى الله عليه وسلم من السير بهما لمكان الثقة. وكذلك ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في الزاد، فقال: وكانت خزاعة عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسلمهم وكافرهم. فكان صلى الله عليه وسلم يأخذ بأخبارهم مع أنهم مع الشرك والكفر، لكن علم فيهم الثقة والأمانة. وكذلك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر الصحابة أن يستطبوا الحارث بن كلدة، وكان على دين قومه، ومع هذا قال: لم يمنعه الكفر أن يأمرهم أن يستطبوه. فالشاهد من هذا كله أنه لا مانع من أخذ شهادة الطبيب الكافر إذا لم يوجد طبيب مسلم في هذا المرض الذي يحتاج المسلم لعلاجه، أو كان المسلم في بلد فيه كفار وأطباء كفار ولا يوجد المسلم فإنه يعمل بشهادتهم وقولهم.

كيفية الصلاة في السفينة

كيفية الصلاة في السفينة قال رحمه الله تعالى: [ولا تصح صلاته في السفينة قاعداً وهو قادرٌ على القيام] الإشكال في الصلاة في السفن أنها تتقاذفها الأمواج، ولا يستقر الراكب فيها، خاصة عند اشتداد الموج. ولذلك تكون أحوالهم مختلفة -أعني الملاَّحين، أو من يكون في السفينة-، فإن أطاقوا القيام بأن سكن الموج، وأمكنهم أن يقوموا فإنه يجب عليهم أن يقوموا ويصلوا قياماً، فلو أنهم في هذه الحالة وهم قادرون على الصلاة قياماً صلوا قعوداً بطلت صلاتهم؛ لأن الفريضة القيام فيها ركن كما بيناه، وهذا في الحالة الأولى، وهي أن يطيقوا القيام ويؤمن الضرر. الحالة الثانية: أن يوجد الضرر في قيامهم، كأن يسقط الإنسان، أو يغرق، أو يسقط ويتضرر بسقوطه، كما يكون بجوار شيء عالٍ، أو على نشز داخل السفينة، فلو اضطربت به الأمواج وهو قائم ربما سقط، ففي هذه الحالة يجوز لهم أن ينتقلوا إلى القعود إن غلب على ظنهم فوات الوقت. أما لو غلب على ظنهم أن الموج سيهدأ كأن يقطعوا مسافة ويغلب على ظنهم سكون الموج، فإنهم يؤخرون الصلاة حتى يقطعوا هذه المسافة ويهدأ الموج، ثم يصلون الفرض. فإن أُمن الضرر فإنهم يصلون قياماً. وإن لم يؤمن الضرر فإنهم يصلون قعوداً. وإن شكوا فإن الأصل وجوب القيام عليهم ولزومه، فيصلون قياماً حتى يطرأ الضرر، فإن طرأ عليهم الضرر أثناء القيام قعدوا.

جواز الصلاة على الراحلة خشية التأذي

جواز الصلاة على الراحلة خشية التأذي قال رحمه الله تعالى: [ويصح الفرض على الراحلة خشية التأذي لوحل لا للمرض] أي: تصح الصلاة -أي: الفريضة- على الراحلة إذا خشي الأذى من الأرض إذا كانت السماء قد أمطرتها، وفي هذا حديث الترمذي، وكذلك أحمد في مسنده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة عند المضيق والسماء ممطرة والأرض بها بلة، فأقام عليه الصلاة والسلام الصلاة ثم تقدم وصلى بهم). وهذا الحديث حديث ضعيف، وذكر الإمام الترمذي رحمه الله بعد إيراده للحديث أن العمل عند أهل العلم على هذا الحديث، واختاره جمع من السلف رحمة الله عليهم، فعندهم يصلي إذا كان هناك ضرر ومشقة بالطين والوحل. ولكن -نظراً لضعف الحديث- إذا أمكن الإنسان أن يحتاط ويستبرئ لدينه فإنه أولى وأحرى.

فصل: صلاة المسافر [1]

شرح زاد المستقنع - فصل: صلاة المسافر [1] السفر مظنة لوجود المشقة والتعب، والله سبحانه وتعالى رحيمٌ بعباده، ومن رحمته أن خفف عليهم الصلاة في السفر، فشرع للمسافر قصر الصلاة الرباعية، والجمع بين الصلاتين.

صلاة المسافر

صلاة المسافر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد ذكر المصنف رحمه الله باب صلاة الجماعة، وبين الأحكام المتعلقة بصلاة الجماعة والمسائل التي تندرج تحت هذا الباب. ثم بعد ذلك عقد فصلاً في آخر باب صلاة الجماعة في الأعذار التي تُسقط عن المكلف الجمعة والجماعة، ثم بعد أن انتهى من الأعذار شرع في باب صلاة أهل الأعذار، وذكر صلاة المريض، ثم انتقل إلى صلاة المسافر، وهذا الترتيب فيه تسلسل في الأفكار، ومراعاة لما تتضمنه هذه الفصول من معان شرعية. وذلك أن التخفيف في الشرع يكون فيه شيء من الإسقاط، وهذا الإسقاط تارة يكون لذات العبادة، بحيث تسقط العبادة عن المكلف، وهذه أعلى درجات الإسقاط في العبادات، وتارة يُخفف عنه في هذه العبادة ولا تسقط عنه، وهذا التخفيف بالنسبة للصلاة، أما بالنسبة للرخص عامة فلها تقسيمات أخر واعتبارات أخر، لكن التخفيف في الصلاة إما إسقاط للصلاة، وإما تخفيف في الأركان، وإما تخفيف في الشروط، كما سنبين إن شاء الله. فابتدأ رحمه الله بالفصل الذي قبل صلاة أهل الأعذار، وهو سقوط الجمعة والجماعة، فهذا إسقاط كلي لعبادة الخروج إلى الجمعة وشهودها، وكذلك صلاة الجماعة. وبعد أن انتهى من التخفيف بالإسقاط شرع في التخفيف الجزئي، وهو التخفيف في هيئة الصلاة، فابتدأ بالتخفيف في أركانها بعذر المرض، ثم شرع في التخفيف في ذات الصلاة من حيث الأعداد، وذلك في صلاة المسافر، فإن الشرع خصص بعذر السفر عدد الصلوات، وذلك في الرباعية وحدها، فجعل الرباعية تقصر إلى ركعتين، وهذا نوع من التخفيف، وهو التخفيف في أعداد الصلاة. وأما التخفيف في شروط الصلاة؛ فكاستقبال القبلة بالنسبة للمصلي في السفر، فقد خفف الشرع عنه لو كان على راحلته بأن يصلي حيثما توجهت به، وكذلك التخفيف على المريض الذي به سلس بول فإنه يخفف عنه في شرط الطهارة، وكذلك بالنسبة للنجاسة التي يحملها يخفف عنه. فالتخفيف إما بإسقاط الصلاة، أو بالنقص من أعدادها، أو بالتخفيف في أركانها وشروطها.

معنى السفر وسبب تسميته

معنى السفر وسبب تسميته السفر في لغة العرب: مأخوذ من قولهم: أسفر الشيء: إذا بان واتضح. ومنه قولهم: أسفر الصبح: إذا بان ضوؤه واتضح. وسمي السفر سفراً لمناسبات، فقيل: لأن الإنسان يُسفِر، بمعنى أنه يَبِيْن عن العمران، فإن المسافر يبِيْن عن القرى والأمصار والمدن، فينفرد عنها ويبِيْن منها. كما سمي بذلك لأن فيه معنى الوضوح، وذلك أنه يسفر عن حقيقة الإنسان من ناحية صبره وضعفه وجلده وخوفه وقوة شكيمته إلى غير ذلك من أخلاقه. ولذلك قالوا: سمي السفر سفراً لأنه يسفر عن وجه صاحبه، وفي سنن البيهقي لما شهد الشاهد عند عمر قال له عمر: إني لا أعرفك، فاذهب وائتني بمن يزكيك. فجاءه برجل فقال عمر للرجل: أتعرفه؟ قال: أعرفه بالعدالة والأمانة. قال: أهو جارك الذي تعرف مدخله ومخرجه؟ قال: لا. قال: أعاملته بالدينار والدرهم الذي يعرف به صدق الرجل من كذبه؟ قال: لا. قال: أسافرت معه؟ قال: لا. قال: لا تعرفه. ثم قال للرجل: اذهب وائتني بمن يعرفك. فالسفر من حيث هو يعين على معرفة حقيقة الإنسان ويسفر عن وجهه. والسفر له ضوابط معينة، فلا يحكم بكون الإنسان مسافراً إلا بها.

أحوال المسافر

أحوال المسافر لا يخلو الإنسان الذي يريد أن يخرج للسفر من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون مستقراً في بيته ناوياً السفر، فيكون السفر في باطنه -أي: في نيته-، ويكون ظاهره أنه غير مسافر. الحالة الثانية: أن يخرج من بيته. فإذا كان في بيته ناوياً السفر فإنه ليس بمسافر في قول جماهير العلماء حتى يخرج من البلد، فإن خرج من البلد فإنه يحكم بسفره على التفصيل الذي سنذكره، وهذا قول جماهير السلف رحمة الله عليهم من الصحابة والتابعين، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم رحمة الله على الجميع. فلو أصبحت فنويت الخروج إلى بلد ما بعد الظهر، فإنك -على هذا القول- لست بمسافر حتى تخرج، فلا يكفي باطنك حتى يجتمع مع الباطن دليل الظاهر على السفر. وذهب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -وهو رواية عن عطاء، وقال به موسى بن سليمان - إلى أنه يحكم بكونه مسافراً بالنية، فلو نوى السفر فإنه يأخذ برخص السفر وهو في البلد. مثال ذلك: لو أنه نوى السفر بعد الساعة الحادية عشرة ولم يخرج إلا بعد الثانية فإنه سيؤذن عليه الظهر وهو في بيته، وحينئذٍ قالوا: يصلي ركعتين. وهكذا لو كان صائماً يجوز له أن يفطر في بيته قبل أن يخرج. وهذا القول مرجوح، والصحيح ما ذهب إليه الجماهير لدلالة الكتاب والسنة على ذلك. أما دلالة الكتاب فقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء:101]، فقوله: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ)) [النساء:101] يدل على أنه شرع وضرب في الأرض، ولا يكون ذلك إلا بالخروج. وقوله سبحانه وتعالى في شأن الصوم: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184]، ولا يمكن أن نحكم على الإنسان بأنه على سفر إلا إذا كانت صورته تدل على أنه مسافر، وبناءً على ذلك فظاهر التنزيل على أنه لا يكون مسافراً إلا إذا ضرب في الأرض. وأما دليل السنة -وهو أقوى الأدلة- فحديث أنس الثابت في الصحيحين، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعاً، والعصر بذي الحليفة ركعتين، فإنه قد كان نوى حجة الوداع عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك لم يترخص برخص السفر إلا بعد أن خرج إلى ذي الحليفة. وهذا يدل على أن نية السفر لا تكفي في ترخُّص الإنسان بالرخص. وأما ما أُثر عن الصحابة فإنهم إذا قالوا: (إنها السنة) تردد ذلك عند جماهير العلماء رحمة الله عليهم بين أن يكون الصحابي فاهماً لها أنها السنة، وبين أن تكون من صريح فعله عليه الصلاة والسلام. فلما جاء فعله يخالف ما فعله هؤلاء الصحابة -مع أنهم عزَوا ذلك إلى السنة- فهِمنا أنه فهمهم رضي الله عنهم وأرضاهم. فإذا تبيَّن لنا أن من كان ناوياً للسفر لا يترخص إلا إذا خرج، فحينئذٍ لا يخلو الذي يريد أن يخرج للسفر إما أن يكون في المدينة، بمعنى أن يكون داخل المدن والقرى -أي: البناء والعمران- وإما أن يكون في البر، كأهل العمود والخيام في البادية، فخيمته هي منزله ومكانه. فإن كان في البلد والعمران فإنه لا يُحكم بكونه مسافراً، ولا يَتَرخَّص برخص السفر إلا إذا خرج من آخر العمران، وهي البيوت، فإذا انقطع عن البيوت فحينئذٍ يصدق عليه أنه سافر. وبناءً على ذلك لا تخلو المدن من حالتين: الحالة الأولى: أن يتصل بناؤها ويكون حد نهايتها معروفاً، كأن تكون بيوتاً متصلة آخرها محدود، فإذا بلغ هذا الآخر وبعده تنقطع الأرض فإنه مسافر. فهذه الحالة لا إشكال فيها، فيحكم بأنه أنه مسافر بمجاوزته لآخر بيت من العمران، فلو أذَّن عليه الظهر بعد مجاوزته آخر بيت من العمران فإنه يصليها ركعتين. ولو أذن عليه الظهر قبل أن يخرج من آخر بيت من العمران -كأن يقف عند إشارة، أو يقف عند المحطات يريد أن يتزود منها، أو يأخذ زاده من طعام أو غير ذلك- فإن قلنا: العبرة في الصلوات بالأذان فإنه يجب عليه أن يصلي أربعاً؛ لأنه لما أذن للصلاة وهو داخل العمران توجه عليه الخطاب أن يصلي الظهر أربع ركعات. وعلى هذا لا تسقط عنه لكونه لم يتلبس بالسفر بعد. الحالة الثانية: أن تتصل المباني ويكون وراءها خراب، كما يقع في بعض المدن، حيث تكون المباني المعمورة والتي فيها السكان متصلة، ثم بعد ذلك تأتي خرابات، أو بساتين مهجورة، أو نحو ذلك، فللعلماء وجهان: قال بعض العلماء: هذه البيوت الخربة في حكم العامر ولا يترخص حتى يجاوزها. واختاره جمع من العلماء، وهو مذهب الحنابلة. القول الثاني: يترخص بانقطاع العمران، ولو دخل في الخرابات ونحوها فإنه مسافر. وهذا مذهب الشافعية رحمة الله على الجميع. والصحيح أنه إذا انقطع العمران فقد أسفر وصار مسافراً؛ لأن هذا الخراب لا يُعتد به، وليس في حكم العامر. وبناءً على ذلك يكون في العمران التفصيل، فإن اتصل فلا إشكال، وإن كان هناك خرابات فالعبرة بمجاوزة العمران، ولا تأثير للخراب في إسقاط الركعتين. وأما إذا كان في البادية، كأن يكون عنده خيمة، فلا يخلو من حالتين أيضاً: الحالة الأولى: أن تكون خيمته متصلة بفريق، وهم القوم والجماعة الذين ينزلون مع بعضهم، كأبناء عمٍ وقبيلةٍ ونحو ذلك، فالعبرة بآخر الخيام حتى يجاوز آخر خيام محلته، بشرط أن تتصل خيمته بهم. الحالة الثانية: أن تكون خيمته منفردة، فإنه بخروجه من خيمته يكون مسافراً ويَترخص برخص السفر. وفائدة ذلك أنه إذا قلنا: إن العبرة بمجاوزة آخر الخيام، فإنه لو أذَّن الظهر وقد جاوز آخرها وجب عليه الظهر ركعتين، وأما لو أُذن قبل أن يجاوز آخرها فقد وجب عليه أن يصلي الظهر أربعاً. وهكذا الحال لو كانت الخيام متفرقة، فإننا نقول: بمجرد خروجه من خيمته يأخذ برخص السفر. وهكذا لو كانت خيمته ليس بجوارها أحد، فإنه بمجرد ركوبه على دابته -كما يقول العلماء- أو بمجرد أخذه في الطريق يُحكم بكونه مسافراً، ويأخذ برخص السفر.

أنواع السفر

أنواع السفر يقول العلماء: السفر تعتريه الأحكام الخمسة، فيكون واجباً، ومندوباً، ومباحاً، ومكروهاً، وحراماً. فيكون السفر واجباً إن اشتمل على واجب، كسفر حج الفريضة، وكذلك السفر لبر الوالد والوالدة، فلو أن الوالد أمر ولده أن يأتيه في مدينته والولد في مدينة أخرى، وليس عند الولد عذر يمنعه من السفر وجب عليه أن يسافر، ولزمه برُّ أبيه بالسفر، فهذا السفر يكون واجباً. وهكذا بالنسبة للسفر الذي يكون الإنسان فيه يؤدي أمراً واجباً عليه، فإنه يعتبر من الأسفار الواجبة. ويكون السفر مندوباً ومستحباً لو اشتمل على أمر مندوب ومستحب كحج النافلة والعمرة، فهذا مندوب ومستحب، فإنه إذا سافر يقال: هذا سفر مندوب. ويكون السفر مباحاً إذا انتفت فيه الدوافع، سواءٌ أكانت للنّدب أم للوجوب، وانتفت فيه الموانع، سواءٌ أكانت للتحريم أم للكراهة، ومن أمثلته: السفر للتجارة، فإنه يعتبر من المباحات، وهكذا السفر للنزهة، فإنه يعتبر من الأسفار المباحة. ويكون السفر مكروهاً إذا اشتمل على أمر مكروه لا يصل إلى درجة الحرمة، فلو أنه سافر على وجه لا يتضمن الحرام، كما لو كان مشتغلاً بطلب العلم، وهذا السفر يشغله عن طلب العلم فإنه يكون في حقه مكروهاً إذا اتصل هذا السفر بما يوجب شغله عن طلب العلم. ويكون حراماً إذا تضمن أمراً محرماً، كسفره -والعياذ بالله- للزنا، أو لشرب خمر، أو لقطع طريق، أو عقوق والدين، ونحو ذلك، فهذه خمسة أحوالٍ للسفر. فإذا كان سفره مباحاً جاز له أن يترخص، وإذا كان مندوباً جاز له أن يترخص؛ لأن المندوب فيه الإباحة وزيادة، وهكذا إذا كان واجباً؛ لأن الواجب فيه الإباحة وزيادة. ففي هذه الثلاثة الأحوال يجوز له أن يترخص برخص السفر. أما لو اشتمل سفره على معصية كأن يسافر لقطع طريق، أو عقوق والدين -والعياذ بالله- فإن هذا السفر المحرم قد اختلف العلماء فيه على قولين: القول الأول يقول: إن السفر المحرم لا يحل لصاحبه أن يترخص فيه، فيجب عليه فيه أن يُتِم الصلاة أربعاً، ولا يأخذ برخص السفر. وهذا مذهب الجمهور رحمة الله عليهم. القول الثاني: من سافر سفر معصية يجوز له أن يترخص. وهو مذهب الحنفية، واختيار بعض المحققين من العلماء رحمة الله على الجميع. أما من قال: إنه لا يترخص فإنه يحتج بقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:173] قالوا: إن الاضطرار شرطه أن لا يكون بغياً ولا عدواناً، ولذلك لما فسر حبر الأمة وترجمان القرآن هذه الآية قال: غير قاطع للطريق وذكر المحرمات. فكأنه يرى أنه إذا كان باغياً أو عادياً لا ضرورة له فلا رخصة له. قالوا: وهذا حبر الأمة وترجمان القرآن وقد فسر كتاب الله عز وجل، وهو المدعو له أن يُفقَّه في الدين، وأن يُعَلَّم تأويل الكتاب، فقصر الرخص على انتفاء وجود البغي والعدوان، فهذا أولاً. ثانياً: أن السفر إذا أُطلق في الشرع ينبغي أن يتقيد بالمعروف شرعاً، والمأذون به شرعاً؛ لأنه لا يعقل أن الشرع يأذن له بالرخصة مع كونه يمنعه من السفر، فيعتبر السفر من وجهٍ ويحرمه من وجه. قالوا: فهذا شيء من التناقض، فلما كان هذا السفر غير مأذون به شرعاً لم تتصل به الرخص؛ لأنه مأمور بإلغاء هذا السفر، فكيف يباح له أن يترخص فيه؟ والعجيب أن هذا القول من القوة بمكان من جهة الأصل؛ فإن القاعدة تدل على أنه إذا شك في الرخصة فإنه يرجع إلى الأصل، والأصل أن الإنسان يجب عليه أن يصلي أربعاً بناءً على أنه مقيم. ولا نعني بالأصل ما سبق التشريع من كون الصلاة فرضت ركعتين ركعتين، فهذا أصل الوصف وليس له تأثير في الاستدلال، وإنما نعني أن الأصل فيه أنه مقيم. ولما شككنا هل هذا السفر سفر رخصة أو ليس برخصة رجعنا إلى الأصل من كونه مطالباً بفعل الصلاة أربعاً. وأما الذين قالوا: إنه يقصر فقالوا: إن الله عز وجل أطلق فقال: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء:101]، ولم يفرق بين كونه ضرباً بسفر مباح، أو ضرباً بسفر محرم. وهكذا قالوا: إن الأدلة التي وردت في القصر مطلقة، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه. وقد ناقش الجمهور هذا فقالوا: إن المطلق في الشرع مقيد بالمعهود، فنحن نعني بالسفر ما أُذن به شرعاً، فحينئذٍ يستقيم التقييد بما عرف شرعاً. والنفس تميل إلى أنه يُحتاط، فالسفر القائم على المعصية لا يُتَرخص فيه ما أمكن؛ إعمالاً للأصل الذي ذكرناه، وإعمالاً لقوله عليه الصلاة والسلام: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)؛ فإن أقل درجاته الشبهة، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه. وعلى هذا فإنه يتم الصلاة ويبقى على الأصل الذي أوجبه الله عز وجل عليه، كما قال جمهور العلماء رحمة الله عليهم. وهناك أمر ينبغي التنبه له، وهو أن العلماء رحمة الله عليهم فرقوا بين كون السفر سفر معصية، وكونه سفراً تُفعَل فيه المعصية. فالمعصية في السفر كأن يسافر لأمر مباح، ثم يفعل معصية أثناء سفره، فهذا لا يشمله هذا الحكم، فلو أن إنساناً سافر لقصد التجارة ثم -والعياذ بالله- زنى أثناء سفره، أو شرب الخمر، فإن هذا لا ينطبق عليه ما ذكرناه؛ لأنه ما خرج أصلاً لفعل الحرام، وإنما خرج للمباح وهو التجارة. ولو أنه سافر للمباح ولفعل الحرام، فإنهم قالوا: يأخذ حكم من سافر للحرام أصلاً.

الأسئلة

الأسئلة

الجمع بين عدم الإذن للأعمى بالتخلف عن الجماعة والإذن بالتخلف لعذر المطر ونحوه

الجمع بين عدم الإذن للأعمى بالتخلف عن الجماعة والإذن بالتخلف لعذر المطر ونحوه Q كيف نجمع بين مشروعية التخلف عن صلاة الجماعة لعذر خوف الضرر الشديد حال المطر والوحل والريح الشديدة، وعدم إذن النبي صلى الله عليه وسلم للأعمى الكبير في السن بالتخلف عن صلاة الجماعة بعد أن سمع النداء؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن العلماء رحمهم الله أخذوا من حديث ابن عمر الثابت في الصحيح أن المؤذن إذا بلغ حي على الصلاة حي على الفلاح قال: الصلاة في الرحال. فأخذوا من إذن الشرع بالصلاة في الرحال وسقوط الجماعة مع وجود المطر دليلاً على أنه إذا وُجِدت المشقة بالريح الشديدة في الليلة المظلمة فإنه يترخص بترك الجماعة، وهذا معنىً صحيح. وأما حديث الأعمى الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أتسمع النداء؟) قال: نعم. قال: (فأجب)، وفي رواية أخرى: (ما أجد لك رخصة) فقد قال العلماء فيه: سماعه يدل على قربه، ولذلك أمره بشهود الجماعة لمكان القرب. ثم إنه إذا حضر ليست هناك ريح شديدة، فإن الريح الشديدة تعيق الإنسان وتدفعه عن المضي إلى المسجد وإلى شهود الجماعة، بخلاف العذر الذي هو مطلق، كقول الأعمى رضي الله عنه (تكون الظلمة والسيل والمطر)، فإنه لا يدل على سقوط الجماعة بعد وجوبها. ولبعض العلماء رحمة الله عليهم من المتأخرين جواب آخر لو صح لكان أقوى، حيث قالوا: الذي يظهر أن حديث الأعمى متقدم، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الصلاة بعذر المطر فقال: الصلاة في الرحال. لأن الأعمى قال: (إنه تكون الظلمة والسيل والمطر، وليس لي قائد يقدوني)، فكانت عزيمة في أول الأمر، ثم جاء التخفيف، فيكون من نسخ الأثقل بما هو أخف. وهذا القول لو صح فثبت أن التخفيف بالمطر ونحوه متأخر، وثبت ما يدل على التأخر فلا شك أنه يزيل الإشكال. والله تعالى أعلم.

موضع جواز جمع الصلاة للمسافر

موضع جواز جمع الصلاة للمسافر Q نويت السفر قبل صلاة الظهر، ولم أخرج من بيتي إلا بعد الظهر، فصليت الظهر أربعاً مع جماعة، فهل أصلي العصر جمع تقديم، مع العلم أن صلاة العصر تدركني وأنا في الطائرة، ولا تهبط إلا بعد خروج الوقت؟ A بعض العلماء يقول: إنه لا يترخص بالجمع إلا بعد الخروج من المدينة. وهذا -مثلما ذكرناه- على ظاهر نص الكتاب والسنة، فالمسافر لا يترخص إلا بعد الخروج من العمران. وعليه فإنه لا يحق له أن يجمع ما دام داخل مدينته حتى يخرج ويبرز إلى العمران، فحينئذٍ يجوز له أن يترخص بالجمع، والله تعالى أعلم.

التفصيل في كمية تناول الطعام عند حضور وقت الصلاة

التفصيل في كمية تناول الطعام عند حضور وقت الصلاة Q هل يكون الأكل عند حضرة الطعام بمقدار ما تنكسر نهمته، أو له أن يشبع؟ A من حضرته الصلاة وحضره الطعام فإنه إما أن يمكنه أن يكسر شهوته ونهمة نفسه، ثم يدرك الجماعة، ولا يفسد الطعام بحيث يعود ويتمه، فإنه حينئذٍ يفعل ذلك إعمالاً للأصل، وبكسره لشهوة نفسه يزول المعنى الذي من أجله سقطت الجماعة. وأما إذا كان تركه لبقية الأكل يُفسد الأكل ولا يمكنه أن يدركه بعد الصلاة، فحينئذ يقضي نهمته ولو فاتته الصلاة؛ لنص حديث عائشة رضي الله عنها. والله تعالى أعلم.

البدء بالصلاة الفائتة قبل الحاضرة

البدء بالصلاة الفائتة قبل الحاضرة Q إذا كنت مسافراً من مكة الساعة الحادية عشرة -مثلاً-، وأخرت صلاة الظهر مع العصر، ودخلت المسجد والناس يصلون العصر فماذا أفعل؟ A إذا دخل المصلي المسجد والناس يصلون العصر وهو لم يصل الظهر فإنه يدخل وراءهم بنية الظهر، ثم إذا سلموا أقام للعصر وصلاها. والله تعالى أعلم.

جواز ترك الجماعة لمن خرج خارج البنيان ولا يسمع الأذان

جواز ترك الجماعة لمن خرج خارج البنيان ولا يسمع الأذان Q نخرج غالباً خارج البنيان ونحن جماعة، وذلك للتنزه وغير ذلك، ولا نسمع الأذان، فهل نعذر في ترك الجماعة العامة في المساجد؟ A من خرج خارج العمران، أو خرج إلى مكان لا يسمع فيه النداء فإنه يجوز له أن يصلي بمكانه، وإن كانت معه جماعة فإنه يؤذِّن ويقيم ويصلي بهم جماعة، وأما إذا كان قريباً من العمران بحيث يسمع النداء فإنه يلزمه أن يمضي إلى أقرب المساجد إليه ويجيب داعي الله عز وجل له، والله تعالى أعلم.

حكم الصلاة في الرحال

حكم الصلاة في الرحال Q إذا سافر شخصان إلى مدينة ما، وأرادا الإقامة بها يومين فقط، فهل يصح لهما قصر الصلاة في المنزل وترك الجماعة؟ A إذا كان الإنسان مسافراً ومعه جماعة وكلهم مسافرون فإنه يجوز لهم أن يصلوا جماعة في رحالهم، لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بالناس الفجر بخيف مِنى فرأى رجلين فقال: (علي بهما، فأُتي بهما فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: قد صلينا في رحالنا. قال: فلا تفعلا. إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم؛ فإنها لكما نافلة). ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهما على فعل الجماعة في الرحال مع أن جماعة النبي صلى الله عليه وسلم قد انعقدت في الخيف، فدل هذا -كما يقول العلماء- على جواز أن يصلي المسافر جماعة في رحله، ثم إذا حضر المسجد فإنه يصلي مع جماعة المسجد نافلة، ولو كانت الصلاة عصراً أو صبحاً أو مغرباً على أصح أقوال العلماء. والله تعالى أعلم.

وقت ذكر دعاء السفر

وقت ذكر دعاء السفر Q متى يشرع قول دعاء السفر، هل عند ابتداء ركوب الدابة، أم إذا لزم جهة السفر، أم إذا تجاوز البنيان؟ A بعض الأحاديث فيها التكبير عند ركوب الدابة، كما في السنن، فيكبِّر إذا وضع رجله في الغرز، أو إذا ركب السيارة كما هو موجود الآن، ويقول الدعاء: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) قالوا: لِحَمْد نعمة الله عز وجل على المركوب، ولا علاقة له بالسفر، وإنما شُرِع في السفر لمكان المناسبة. وأما بقية الأدعية التي نص فيها على السفر فإنها لا تكون إلا بعد مجاوزته للعمران، لأنه يسأل الله عز وجل في وجهه الذي هو ماض إليه، والله تعالى أعلم.

الأخذ برخص السفر لا يشترط فيه مدة معينة

الأخذ برخص السفر لا يشترط فيه مدة معينة Q من سافر وهو ينوي الرجوع في نفس اليوم فهل يجوز له القصر؟ A من سافر وهو ينوي الرجوع في نفس اليوم فإنه مسافر، وبناءً على ذلك يجوز له أن يترخص برخص السفر إعمالاً لحالته، ويصدق عليه ظاهر التنزيل وظاهر ما ورد من النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكونه يرجع في نفس اليوم أو غيره من الأيام الأخرى لا تأثير له؛ لأننا لا نحفظ دليلاً يدل على تقييد الرجوع بزمان معين، وإنما وردت الأدلة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة للمسافر مطلقاً. وعلى هذا فلو خرج إلى تدريس أو تعليم بمكان يبعد مسافة القصر حل له أن يترخص بِرُخَص المسافر في الطريق ذاهباً وراجعاً. والله تعالى أعلم.

حكم المريض إذا مات وعليه بعض الصلوات

حكم المريض إذا مات وعليه بعض الصلوات Q كان عندنا مريض يصلي بعض الأوقات، وبعض الأوقات لا يصليها، وذلك لشدة المرض، وأحياناً يصلي فيغلبه النوم أثناء الصلاة، وقد مات وعليه فروض لم يصلها، فهل عليه شيء؟ A هذا المريض ظاهره أنه قد حيل بينه وبين الصلاة بالمرض، وهذا الذي يظهر، بدليل أنه إذا حضرته الصلاة صلى، وإذا عجز لم يصلِّ. أما بالنسبة لأهله فلا شيء عليهم، وبالنسبة له هو فقد مضى إلى الله عز وجل، وإلى الله حكمه، ولا يلزمهم في ذمتهم من شيء، فإن كان يترك الصلاة تساهلاً وتكاسلاً فحكمه إلى الله سبحانه وتعالى، وإن كان تركها لعذر من غيبة عقلٍ وإغماء ونحو ذلك فهذا حكمه حكم المعذور، والله تعالى أعلم.

حكم من أكل ثوما أو بصلا قبل صلاة الجمعة

حكم من أكل ثوماً أو بصلاً قبل صلاة الجمعة Q هل يعذر الإنسان بترك صلاة الجمعة إذا أكل ثوماً أو بصلاً؟ A من أكل الثوم والبصل في يوم الجمعة قاصداً التخلف عن الجمعة فإنه آثم، وقال بعض العلماء: إنه لا يحضر الجمعة ويكون عليه وزر من تعمد تركها. وذلك أنه تقصد أن يتخلف واحتال على الشرع، والحيلة على الشرع لاغية. فيكون فعله المحتال به كما لو قصده، وأما لو أنه أكل طعاماً وهو لا يدري أن فيه الثوم والبصل، أو أكل الثوم والبصل ناسياً أنه يوم جمعة، فلما أكل وتلبَّس به، شعر أنه في يوم جمعة، فإنه يعتبر معذوراً لنص النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا -أو ليعتزل مسجدنا- وليقعد في بيته، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)، والله تعالى أعلم.

حكم الصلاة بين السواري

حكم الصلاة بين السواري Q قيد بعض العلماء كراهة الصلاة بين السواري بأن يكون بين السارتين ثلاثة أذرع، ومعنى هذا أن السواري الموجودة اليوم لا تأخذ هذا الحكم، وأن الصف بينهما صحيح، فهل هذا صحيح؟ A هذا التحديد الذي ذُكِر تحديد بدون دليل نعلمه، والأصل في التقديرات والتحديدات أنها تكون مستندة إلى نصوص الكتاب أو السنة، وأما هذا التحديد فلا أحفظ له دليلاً من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبناءً على ذلك فإنه لاغٍ ولا يُعتد به، ويبقى الحكم بالصلاة بين السواري على ما هو عليه، لكن قال العلماء في السواري المنفصلة المتباعدة بعداً قوياً: إنها لا تؤثِّر. وقالوا: إنه يجوز أن يصلى بينها كما لو صلى بين جدارين، فإنه لا حرج عليه، ويعتبر هذا مأذوناً به، وليس داخلاً في النهي، والله تعالى أعلم.

حكم قضاء السنن الرواتب

حكم قضاء السنن الرواتب Q هل يجوز قضاء السنن الرواتب إذا لم يصلها في أوقاتها أم لا؟ A قضاء السنن الرواتب ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد فعل ذلك في السفر، كما في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه أنه: (لما نام عليه الصلاة والسلام عن صلاة الفجر واستيقظ بعد طلوع الشمس أمر بلالاً فأذن بالصلاة، ثم صلى رغيبة الفجر، ثم أمر فأقام فصلى الفجر). فدل على مشروعية قضاء الراتبة بعد خروج وقتها، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنه صلى الله عليه وسلم صلى بعد العصر ركعتين، فقالت: يا رسول الله: رأيتك تصلي ركعتين لم أرك تصليهما من قبل؟! قال: (أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان). فدل هذا الحديث على مشروعية قضاء السنن الرواتب إذا كان الإنسان عذر بتركها، كما لو نام عن صلاة الفجر لعذر ثم استيقظ بعد طلوع الشمس، وهكذا إذا دخل والإمام يصلي الظهر ولم يتمكن من صلاة السنة القبلية، فإنه بعد سلام الإمام يجوز له أن يصلي القبلية، ثم يصلي بعدها السنن الراتبة البعدية، والله تعالى أعلم.

حكم الجهر في الصلاة

حكم الجهر في الصلاة Q إذا نسي الإمام الجهر بالقراءة في الصلاة الجهرية هل يسجد للسهو؟ A للعلماء في الجهر في الصلاة وجهان: قال بعضهم: إنه من الواجبات، ويلزمه إذا نسيه أن يسجد له سجود السهو. وهذا قول يختاره بعض السلف رحمة الله عليهم، وهو في مذهب بعض العلماء، كـ مالك رحمة الله على الجميع. وقال بعض العلماء: الجهر ليس بواجب، ولذلك لو أسرّ في جهرية أو جهر في سرية ولو كان متعمداً صحت صلاته، والأحوط أنه يسجد إذا كان يريد الخروج من الخلاف، أما لو ترك السجود فإنه لا حرج عليه، والله تعالى أعلم.

حكم من أفطر في رمضان ولم يعلم بوجوب القضاء إلا بعد فترة طويلة

حكم من أفطر في رمضان ولم يعلم بوجوب القضاء إلا بعد فترة طويلة Q امرأة أفطرت شهر رمضان كاملاً بسبب الحمل والولادة، ولم تكن تعلم أنه يجب عليها القضاء، فلم تقض ذلك الشهر حينها، وبعد عشرين سنة تبين لها أنه يجب عليها القضاء، فماذا تفعل؟ A يلزمها قضاء هذا الشهر، وللعلماء رحمهم الله في الجاهل وجهان: قال بعضهم: الجهل عذر، ويُسقط التكليف، ولا كفارة لمكان العذر. وقال بعضهم: ليس بعذر بعد استقرار الشرع. وهذا واضح، خاصةً إذا كانت في المدن والعمران؛ لأنه يتيسر وجود العلماء وسؤالهم، ومع ذلك تسكت عن سؤالهم ثم تأتي وتقول: إنها جاهلة. فقالوا: مثل هذه لا يُعذر، إنما يُعذر من كان في البوادي بعيداً عن العلماء، أو كان في زمان التشريع. وهذا القول من القوة بمكان، فإنه لا يفتح للناس الترخص بالجهل؛ لأنهم إذا كانوا في حاضرة وأمكنهم سؤال العلماء فهم مقصرون مستهترون، ومن قصر في الشرع يُلزم بعاقبة تقصيره. ولذلك يُفصَّل في هذه المرأة، فإن كانت في العمران وأمكنها سؤال العلماء فإنها آثمة بالتقصير ومعرفة حكم الله عز وجل. وأما إذا كانت في مكان لا يتيسر معه أن تبعث من يسأل لها أو لا يتيسر فيه وجود العالم الذي تسأله فإنها معذورة، ولا كفارة عليها، على القول بأن الجهل عذر مطلقاً، فلا كفارة عليها ولا إثم. وعلى القول بالتفصيل -وأميل إليه- أنها تأثم إن كانت قصّرت ولا تأثم إن لم تقصر، ثم إذا قلنا: إنها قصرت. وحكمنا بإثمها فمذهب جمهور العلماء أن من قصّر فدخل عليه رمضان الثاني ولم يقض رمضان الأول فعليه عن كل يوم ربع صاع، وهو قول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك جمع من العلماء يُنسب إلى جمهور أهل العلم رحمة الله عليهم، ويُفتى به على سبيل الاحتياط، وإلا فقول الظاهرية بعدم وجوب التكفير من القوة بمكان. والله تعالى أعلم.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة) Q ما المقصود بالأذانين في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة)، والصلاة بينهما هل هي النافلة والمكتوبة؟ A هذا حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: (بين كل أذانين صلاة) من باب التغليب، والعرب تقول: القمران والعشاءان والظهران والعمران، كل ذلك من باب التغليب، فقوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين) أي: بين الأذان والإقامة فغُلِّب الأذان على الإقامة). ووجه ذلك أن الأذان في لغة العرب الإعلام، فلما كان الأذان الأول أذاناً -بمعنى أنه يُعلم بدخول وقت الصلاة- وكانت الإقامة إعلاماً بقيام الصلاة وُصِفت بكونها أذاناً من هذا الوجه. وعلى هذا فإنه يصلي بين الأذان والإقامة، وهذه النافلة ليست براتبة، وإنما هي نافلة مستحبة يفعلها الإنسان، وليست من السنة الراتبة، إلا إذا كانت للصلاة الذي أُذِّن لها راتبة قبلية كالظهر والفجر ونحو ذلك. أما إذا لم تكن لها راتبة قبلية كصلاة المغرب، فإنه إذا أذن المغرب يُشرع للإنسان ويسن له أن يصلي ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين كل أذانين صلاة)، وهكذا لو أذن العشاء فله أن يصلي بين الأذان والإقامة ركعتين. والله تعالى أعلم.

حكم التقصير في حق الوالدين بعذر طلب العلم والدعوة

حكم التقصير في حق الوالدين بعذر طلب العلم والدعوة Q لي أبٌ عاجز، وأشتغل بطلب العلم وبعض المشاريع الدعوية، وأقصر في حق الوالد، فهل أنا معذور بهذا التقصير؟ A أخي في الله! اتق الله في أبيك، واتق الله في والديك، وابدأ بهما؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر بتوحيده ثم ثنى ببر الوالدين، فاتق الله عز وجل في أبيك عند المشيب والكبر، فارحم ضعفه واجبر كسره، وكن إلى جواره، والزم قدمه؛ فإن الجنة ثم. قال سبحانه وتعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23]. وفي الحديث:: (رغم أنف رجل أدرك والديه فلم يدخلاه الجنة. قل: آمين. قلت: آمين)، فاحمد الله عز وجل إذ متّع ناظريك بوجود والديك، واغتنم هذه الفرصة، خاصة إذا كان الوالد ضعيفاً فقم على حالته، واقض حوائجه وفرج كربته، وكن إلى جواره، فإنه فرضٌ لازم عليك مقدم على النوافل، ومقدم على حلق الذكر، ومقدَّم على مجالس الصالحين إذا كانت على سبيل النفل ولم تكن واجبة. وما تقرب العبد إلى الله بشيء أحب إليه مما افترض عليه، فابدأ بوالديك، وفي الحديث أن صحابياً قال: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد. -يريد أن يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهاجر لكي يكون تحت ظله، يقاتل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال: أحي والداك؟ قال: نعم. قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)، وفي رواية: قال: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد وتركت أبواي يبكيان. قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما)، وأبى أن يخرج معه. فبر الوالدين فرض لازم ينبغي على المسلم أن يبدأ به قبل النوافل والطاعات، فابدأ بنفسك وبمن تعول، وارحم ضعفه وارحم كبره، وكن مع الوالدين ولا تسأم ولا تمل، ولا تتعب ولا تضجر، فإنك تخوض في رحمات الله جل جلاله. فكل لحظة وأنت في جواره تُدخل السرور عليه، وتذهب الوحشة عنه بأنسه برؤية وجهك، فكم من قلوب للوالدِين تتعطش وتتألم، ولكن يزول ألمها ويروى عطشها إذا اطلعت ورأت أبناءها وبناتها. وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما احتضر ابنه إبراهيم دمعت عيناه عليه الصلاة والسلام، فقال له الصحابة: (ما هذا يا رسول الله؟ قال: رحمة أسكنها الله في قلوب عباده). فالوالدان فيهما رحمة، وفيهما حنان للولد وشوق وحنين، ولو أمرك أن تسافر أو تذهب للدعوة فينبغي أن تكون أحرص على الخير منه. فالوالد قد لا يحب أن يزعجك، ولا يحب أن يضيق عليك، فيراك تحب السفر فيقول لك: سافر. وتحب أن تكدح وتتاجر وتذهب هنا وهناك فيقول لك: اذهب. ولكن ينبغي أن تكون فطناً لبيباً حكيماً أريباً، فهذا الوالد في آخر عمره وضعفه ومشيبته وكبره بحاجة إليك. فالدنيا تُدرك، ولكن بر الوالدين ليس إلا ساعات ولحظات، اختار الله عز وجل والديك فسوف تعض على أصابع الندم، ولات ساعة مندم. فاتق الله عز وجل في والديك، واشكر نعمة الله سبحانه وتعالى إذ متع عينيك برؤية الوالدين. فينبغي ألا ينام الإنسان إلا وهو يفكر كيف يبر والديه، وأول الفروض بعد توحيد الله عز وجل بر الوالدين، فتكون إلى جواره، ولو أدى ذلك إلى انقطاعك عن بعض الدروس، فإن الوالد في أشد الحاجة أن تجلس معه، فإن كان مريضاً تداويه، وإن كان محتاجاً إلى معونة تعينه وتساعده، حتى ولو كان الإنسان يجد من والديه الأذية، فإن أفضل البر وأحسنه وأكمله وأجمله إذا كنت تُحسن إلى الوالدين ويسيئان إليك، وإذا كنت ترحمهما فتجد منهما الغظاظة، ولربما تجد منهما أنهما يكرمان غيرك ويهينانك، فإذا رأيت من الوالدين السباب والشتام والاحتقار فاعلم -إن شاء الله- أن ذلك من دلائل القبول، فما دمت لا تتسبب في غضبهما، وكأن الوالد لا يحفظ معروفك، ولا يشكر إحسانك، فلعل الله لحكمة يريد أن يرفع درجتك ببرك بوالديك. واعلم رحمك الله أنها من فواتح الخير، فكم من علماء وأفاضل وصلحاء بلغوا الخير بفضل الله جل جلاله ثم برضا الوالدين. وأعرف عالماً من العلماء الذين بلغوا شأواً عظيماً في العلم كتب ترجمته بيده فقال: لا أعرف أمراً وفقني الله عز وجل إليه بعد توحيده بلغت به بفضل الله عز وجل هذا العلم مثل بري بوالدي، فقد توفي وهو في النزع يدعو لي بالعلم والعمل. فإذا وفقك الله لبر الوالدين كسبت منهما الدعوات الصالحات، وخضت في رحمات الله سبحانه وتعالى، فتخرج من عند والديك والأكف ترفع إلى الله أن يسعدك، وأن يوفقك، وأن يكون معك، فأبشر بكل خير في دينك ودنياك وآخرتك. فلا يشتغل الإنسان بالنوافل ويترك الفرائض، وبعض طلاب العلم يجد السآمة، ويجد الضيق، ويجد الملل، ولا يدري من أين جاءه هذا الهم والغم والنصب والتعب، فقد يكون عق أباه؛ لأن الإنسان قد يعق والده بكلمة واحدة، فتغيب عليه شمس ذلك اليوم وهو من العاقين -والعياذ بالله-. فكيف يحتاج والدك إلى حاجة ويأتيك قبل أن تأتيه، وهو الذي طالما سهِر وتعب عليك؟ والله إن الإنسان ليكاد يذوب خجلاً -لو أن القلوب والضمائر والنفوس حية- حينما ينظر إلى والده يسأله حاجة. فالمفروض أنك لا تنتظر من الوالد أن يسألك، ولا تنتظر من الوالد أن يعرض حاجته عليك، بل عليك أن تلبي حاجته، وأن تفرج -بإذن الله- كربته، وتسعى في تحقيق مصالحه وإدخال السرور عليه، وبذل كل ما تستطيع من الخير. فقبل الجلسات، وقبل الأصدقاء والأصحاب والأحباب بر الوالدين، فالواحد منا يجلس مع أصحابه وأحبابه ساعات متأخرة من الليل لا يسأم، ولا يمل ولا يضجر، وقد يكون في فضول الحديث، ولكن بمجرد أن يجلس مع أبيه لحظة واحدة يتذمر، وتجده إذا دخل عليه رجل من أهل الدنيا يقوم من مكتبه يقضي حوائجه، ويفرج كربته، فإذا قال له الرجل: أشكرك على ما قدمت. يقول: هذا واجب. وإذا جاء والده في أبسط حاجة أو أقل معروف أعرض عنه، ولربما جاء وقضى الحاجة بتذمر، حتى إن الوالد يكره هذه الحاجة مما يرى من السآمة والملل من ابنه. فالله الله في هذه القلوب الضعيفة، فارحموا ضعف الوالدين. وينبغي على الخطباء وطلاب العلم دائماً أن يذكِّر بعضهم بعضاً ببر الوالدين، فهذه فواتح رحمة، وهذه من الأمور التي كان العلماء رحمهم الله يتفقدون فيها طلابهم، فلا تمر فترة إلا وهم يذكرون، وقد عهِدت بعض المشايخ رحمة الله عليهم أنه كان لا يجلس معه طلابه إلا وهو يتفقدهم في أمرين، ويقول: أمران لا أسأم منهما: الإخلاص وبر الوالدين. فتجده دائماً يقرع طلابه ويذكرهم بهذا. وإن كنت في حيِّك، أو في مسجدك، فاذكر فضل بر الوالدين، وأَشِدْ بهما؛ لأن الناس تناست، وكلما طال العهد عن النبوة كان الناس في فتنة ومحنة وغربة عن الدين، فقد أصبح اليوم قضاء حوائج الوالدين كائناً مع الضيق والسآمة والملل، حتى إن كثيراً من الآباء يضجرون، فتجد الأب تُقضى حاجته، لكن تُقضى بدون رغبة. وقد اتصل بي ذات مرة رجل من الأخيار، وكان من خيار طلاب العلم والدعاة، فقال لي: إني أريد أن أخرج إلى كذا وكذا -وهي قربة من أجل القربات- فقلت له: يا أخي! هل والداك موجودان؟ قال: الوالد موجود. قلت: هل أذن لك في الخروج؟ قال: أذن لي. قلت: لو كنت تريد مني الرأي فأنا أنصحك أن تبقى عند والدك. قال: لماذا؟ قلت: والدك كبير، ولو أذن لك فالمفروض أن تستحي من الله عز وجل أن تتركه على ضعف وخور في هذا العمر وتخرج تتنفل بالطاعات، فقال: أنا واثق أنه راض. قلت له: تأكد. وثلاث مرات وأنا أراجعه، ولكن يأبى الله عز وجل، وأرجو أن الرجل كان فيه الخير والصلاح، أحسبه ولا أزكيه على الله. فيشاء الله عز وجل أنه يُقدم على ما هو طالبه من الخير، فخرج، فلما خرج وابتعد عن المدينة التي هو فيها مسافة تذكر شيئاً في البيت أنه لم يأخذه معه، وكان من لوازم سفره. قال: فرجعت، فلما رجعت وجدت الوالد في حالة من البكاء والحزن والهم والغم ما الله به عليم، قال: فلما رأيت الوالد ذُهِلت حتى عن الشيء الذي أتيت من أجله، فقلت: ما هذا يا والد؟ قال: يا بني! ماذا أفعل؟ رأيتك تحب هذا الشيء ولا أحب أن أمنعك عما تريد، أما لو كان باختياري وهواي فلا أريدك أن تفارقني. قال: والله ما هو إلا أن قبلت قدمه، وجلست أبكي عنده. فالوالدان فيهما رحمة، ولا يستطيع الوالد إذا رآك تريد شيئاً أن يصدّك عنه، والوالدة أرحم من الوالد، فلا يغتر الشاب لقول الوالد: اذهب. فإذا قال: اذهب. فقل: لا أذهب، بل أجلس عند قدمك وأقضي حوائجك. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الزم رجلها فإن الجنة ثم). فالوالدان يحتاجان إلى وفاء، وإلى رد جميل، وإلى الإحسان مهما كان، حتى ولو كان الوالد يقول لك: اذهب إلى طلب العلم. فلتذهب إلى طلب العلم ولكن بقدر، ولتجعل حاجته بين عينيك، ولا تنتظر منه -إذا كنت تريد الرحمة والرضوان والتوفيق من الله، وسعادة الدنيا والآخرة- يوماً من الأيام أن يطلب منك شيئاً، وإنما تكون أنت الذي تقضي حوائجه، وأنت الذي تبادره وتسبقه إلى حوائجه. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكرمنا بالبر، وأن يجعلنا من أهله، ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا في هذا المجلس المبارك أن يسبغ شآبيب الرحمات على من كان منهم من الأموات من الآباء والأمهات. اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، وأوسع مدخلهم، واجزهم عنا خير ما جزيت والداً عن ولده، اللهم أسبغ عليهم شآبيب الرحمات، واجعلهم عندك في نعيم الجنات. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

فصل: صلاة المسافر [2]

شرح زاد المستقنع - فصل: صلاة المسافر [2] السفر غالباً تصحبه مشقة وعناء، ولذلك خفَّف الله عن المكلفين في السفر وشرع لهم قصر الصلاة فيه، لمسافة معلومة ومدة معلومة، وبشروط معينة، على أن يراعى وقت أداء الصلاة ووقت وجوبها، وكذلك حال الاقتداء بالمقيم، ومن التخفيف عن المسافر: مشروعية الجمع بين الصلاتين، مراعاة لحال المسافر وتيسيراً عليه، وقد يكون الجمع في غير حال السفر كالجمع في عرفة ومزدلفة.

تابع أحكام صلاة المسافر

تابع أحكام صلاة المسافر

حكم القصر في السفر المحرم

حكم القصر في السفر المحرم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [من سافر سفراً مباحاً أربعة برد سن له قصر الرباعية ركعتين إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه]. شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان المسائل والأحكام المتعلقة بصلاة المسافر، والله سبحانه وتعالى جعل الصلاة في السفر إذا كانت رباعية ركعتين، كما شهد بذلك حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيح: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت في السفر وزيدت في الحضر). وقد بينا أن السفر يعتبر من الأمور التي توجب التخفيف عن العباد والمكلفين في الصلاة. قوله: [من سافر سفراً مباحاً] يفيد أنه يشترط في السفر الذي تقصر فيه الصلاة أن يكون سفراً مباحاً وليس بسفر معصية، فإن كان السفر سفر معصية فإنه لا يحل له أن يقصر الصلاة، وذلك لقوله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:173]، فقد فسر حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الاضطرار في حال البغي والعدوان فقال: (أن يسافر سفر بغي، أو سفر عدوان). فإذا كان مسافراً سفراً محرماً فإن الخطاب يتوجه عليه بالرجوع، فكأن السفر وجوده وعدمه على حد سواء، فلو قال قائل: إنه مسافر في الصورة! قلنا: إن الصورة يشترط فيها أن يعتد بها شرعاً، فلما كانت لاغية في حكم الشرع لم يترخص برخصه.

المسافة التي يقصر فيها المسافر

المسافة التي يقصر فيها المسافر قوله: [من سافر سفراً مباحاً أربعة برد]. البرد: جمع بريد، والبريد كلمة أصلها فارسي وهو: (برده ذم)، قالوا: كان أصل البريد في اللغة الرسول، وكانوا يستخدمون البغال في إيصال الرسائل، فعلى كل مرحلة يجعلون محطة تكون فيها بغال مهيأة، فإذا أخذ الرسول الرسالة من محطة انطلق إلى المحطة الأخرى، فيجد رسولاً آخر ينتظره في المحطة فيعطيه الرسالة، فينطلق إلى المحطة التي تليها، فيكون أبلغ في وصول الرسالة في أقرب وقت، أو ينطلق نفس المسافر، فإذا وصل إلى المحطة الأولى وجد دابة فركب عليها إلى المحطة التي تليها، وهكذا حتى يبلغ المكان الذي يريده لرسالته، فسمي بريداً. فالبريد نفس المسافة التي يقطعها المسافر في اليوم وهي المرحلة الكاملة، وهذه المسافة -التي هي أربعة برد- توقيت وتحديد ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله، فالمسافر لا يكون مسافراً إلا إذا قصد هذه المسافة فما فوقها، فلو كانت المنطقة أو المدينة التي يريد بلوغها دون أربعة برد فإنه لا يوصف بكونه مسافراً، فكما أن من خرج من مدينة إلى ضواحيها لا يعتبر مسافراً في حكم الشرع، فكذلك من انتقل إلى مسافة دون هذه المسافة. أما الدليل الذي دل على اعتبار هذه الأربعة البرد فحديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة -وفي رواية: مسيرة يوم- إلا ومعها ذو حرمة)، ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على المرأة أن تسافر بدون محرم، ولم يذكر مسافة توصف بكونها مسافة سفر دون اليوم والليلة، فدل على أن مسافة اليوم والليلة ومسيرة اليوم والليلة هي السفر. وقالوا: إن الأربعة البرد من إنسان يسير يوماً كاملاً تكون على هذا الوجه؛ لأنه إذا مشى من أول النهار إلى أوسطه فإنه يقطع بريداً، ثم من أوسطه إلى آخره يقطع بريداً، فيتم له في النهار بريدان، ثم في الليلة بريدان، فأصبح المجموع أربعة برد، فهي مسيرة اليوم والليلة، فإن قالوا: مسيرة يوم وليلة فإنها مسيرة أربعة برد. والبريد من الفراسخ أربعة، والفرسخ ثلاثة أميال، وبناء على ذلك لتكون المسافة ستة عشر فرسخاً، أو ثمانية وأربعين ميلاً، وتقدر بالكيلو مترات، فبعض المتأخرين -قبل ما يقرب من أربعين سنة- اختبر سير الإبل، فذكر أن الإبل في اليوم تسير ما يقارب أربعين كيلو متراً، أي: من طلوع الشمس إلى غروبها، وقد تسير دون الأربعين شيئاً قليلاً، وقد تصل إلى الأربعين، فإذا كان السير معتاداً في الزمان المعتاد الذي ليس بشديد الحر ولا بشديد البرد، فإنه يصل السير إلى ما يقارب الأربعين كيلو متراً، فإذا حسبت في النهار أربعين كيلو متراً وفي الليل أربعين كيلو متراً فهي إلى الثمانين، فهو يقول: إنها تصل إلى ما يقارب ثمانية وسبعين كيلو متراً. ومن العلماء من يقول: اثنان وسبعون كيلو متراً. ومنهم من يقول: ستة وسبعون كيلو متراً. ومنهم من يقول: ثمانون كيلو متراً. فهي ما بين اثنين وسبعين كيلو متراً إلى ثمانين كيلو متراً، فإن احتاط فإنه يوصلها إلى الثمانين، ولكن الأشبه -فيما ذكره غير واحد- أنه إلى اثنين وسبعين يرخص له برخص السفر. وقلنا: إن الدليل من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة أن تسافر مسيرة يوم وليلة)، فدل هذا النص الشرعي على أن من سار مسيرة اليوم والليلة فهو مسافر. فإن قال قائل: كيف أسقطت ما دون اليوم والليلة عن كونه سفراً؟ وما هو الدليل على أن من خرج دون اليوم والليلة لا يكون مسافراً؟ قلنا: السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مواضع دون هذه المسافة -أي: دون مسيرة اليوم والليلة-، ومكث فيها ولم يقصر الصلاة، فقد خرج إلى الخندق وهو يبعد عن المدينة ثلاثة أميال تقل أو تكثر، خاصة إذا خرج من طريق بطحان، ومع ذلك لم يقصر رباعية، وخرج إلى أحد ولم يقصر رباعية، وكذلك ثبت عنه في الأحاديث أنه خرج إلى بني النضير وحاصرهم خمس عشرة ليلة في شهر ربيع ومع ذلك لم يقصر الصلاة، وبنو النضير على أميال من المدينة، وكذلك خرج إلى بني قريظة ولا تقل المسافة بينه وبينهم عن ستة أميال كما ذكر غير واحد، وهذه كلها ضواحٍ من المدينة بينها وبين المدينة دون اليوم والليلة، فكونه يخرج إلى هذه المسافات التي هي دون اليوم والليلة قاصداً إياهم -حيث قصدهم بالحصار والقتال- ومع ذلك لم يقصر الصلاة يدل على أن ما كان دون اليوم والليلة لا يحكم بكونه سفراً. ولذلك قالوا: نرجع إلى أقل ما سماه الشرع سفراً، فنحكم بكون الإنسان مسافراً إذا قطعه، وأما ما دونه -كما لو خرج إلى قرية دون مسافة اليوم والليلة -فإنه في حكم من خرج إلى ضواحي المدينة وما قاربها. وأكدوا هذا بأن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كان لا يجيز لأهل مكة أن يقصروا الصلاة بعرفة، فقد سألوه رضي الله عنه وأرضاه: أنقصر الصلاة في عرفة؟ قال: لا. ولكن إلى جدة وعسفان، أو الطائف. وهذا السند صحيح عنه رضي الله عنه، ولم يختلف على ابن عباس رضي الله عنهما في فتواه بهذه المسألة، وقد كانت عسفان مسيرة يوم وليلة، وكانت جدة في ذلك الزمان مسيرة يوم وليلة، وكانت الطائف تربو على مسافة اليوم والليلة بشيء. قالوا: فهذا يدل على أن الخروج المطلق لا يوصف بكونه سفراً، وإنما يكون سفراً إذا كانت المنطقة التي يريدها تبعد بمقدار اليوم والليلة فأكثر. ثانياً: أنه قد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قصر الصلاة حينما خرج إلى وادي ريم، ووادي ريم يبعد عن المدينة ما يقارب ستين إلى سبعين كيلو متراً يقل قليلاً أو يكثر على حسب الطريق، وقد يزيد على السبعين قليلاً إذا قصدت آخر الوادي، وعلى هذا فهو يقارب مسيرة اليوم والليلة، وجاء عنه أيضاً في الرواية الأخرى -رضي الله عنه وأرضاه- أنه قصر في الأربعة البرد، وما ورد عنه من أنه كان يقصر في الثلاثة الأميال فهو ابتداء قصره، بمعنى أنه لو خرج مسيرة اليوم والليلة كان إذا سار ثلاثة أميال قصر، بل حتى لو خرج من العمران يقصر، فعلى هذا لا تعارض بين الروايات عن ابن عمر، فإن الروايات القوية واردة عنه رضي الله عنه بالتأقيت في الأربعة برد ومسيرة اليوم والليلة، وإذا نظرنا إلى الأسانيد عن ابن عمر وجدنا أصحها وأقواها ما جاء عنه في القصر في الأربعة البرد، وهي عن أوثق أصحابه وأقربهم منه كـ سالم ابنه، وكذلك نافع مولاه رحمة الله على الجميع، خاصة وأنه ورد عنه أنه أمر بالقصر في هذه المسافة، فيقوى مذهب من قال -أعني: الجمهور-: إنها أربعة برد، وما ورد عنه من القصر في الثلاثة الأميال فإنه محمول على أنه ابتدأ القصر، بمعنى أنه خرج من المدينة ثلاثة أميال فحضرته الصلاة فصلى وهو قاصد لمسيرة اليوم والليلة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حينما خرج من المدينة، فإنه بمجرد أن وصل إلى ذي الحليفة قصر الصلاة، مع أن ذا الحليفة ليست على مسيرة مرحلة كاملة. فهذا حاصل ما ذكر بالنسبة لأدلة السنة، وكذلك الآثار الصحيحة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولأننا لو لم نقل بالتحديد فإن ذلك سيؤدي إلى اختلاج الأحكام، فلو قلنا: إنه يرجع فيه إلى عرف الناس لاختلفت أعرافهم، فتجدنا نقول: عند هؤلاء يعتبر سفراً وعند غيرهم لا يعتبر سفراً. ولأن نوايا الناس تختلف، فقد أراه على سفر ولا يراه غيري على سفر مع أن المسافة قد تكون واحدة. وعلى هذا فإن نص النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (مسيرة يوم وليلة) يتضمن مسألتين: المسألة الأولى: أن يعتد بالزمان. المسألة الثانية: أن يعتد بالمكان. فعند اختلال إحداهما يرجع إلى الآخر، فإذا كانت المسافة الزمنية التي تقطع فيها المسيرة قاصرة عن اليوم والليلة رجعنا إلى مسافة المكان، وإن كانت مسافة المكان شاقة فيمشي الإنسان ويواصل بحيث يمضي يوماً وليلة وهو يمشي فإنه يرجع إلى التأقيت بالزمان. توضيح ذلك أن الإنسان لو قطع مسافة السفر في سيارة في نصف ساعة أو ساعة فإنه مسافر؛ لأنها مسيرة يوم وليلة، وبنص الحديث مسيرة اليوم والليلة سفر، فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم والآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة) يدل على أن المسافة معتد بها، وعلى هذا فلو سافر بالطائرة أو بالسيارة في برهة يسيرة أو زمان يسير فإننا نقول: هو مسافر التفاتاً إلى المكان الذي قطعه، أما لو كان المكان شاقاً كالأماكن الوعرة والجبال التي يصعب تسلقها والوصول إليها وشق عليه أن يقطع هذه المسافة فإننا نرجع إلى التأقيت بالزمان، ولذلك قالوا: إن الحديث تضمن التحديدين: تحديد الزمان إن تعذر المكان، وتحديد المكان إن تعذر الزمان، والاعتداد بهما إن تسايرا وتوافقا. فالحاصل أن البريد أرعبة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، كما قيل: إن البريد من الفراسخ أربع وفرسخ ثلاثة أميال ضعوا فمسافة القصر أربعة برد، أو ستة عشر فرسخاً، أو ثمانية وأربعون ميلاً، وما دونها فليس بسفر، فإذا قلنا: إن المسافة -مثلاً- ثمانية وأربعون ميلاً فلو أن إنساناً سافر سبعة وأربعين ميلاً فليس بمسافر، إلا أننا نقول: هذا لا حرج فيه، فإن الرجل إذا خرج إلى العمرة وحاذى الميقات ثم خطا خطوة واحدة ولبى ولم يحرم فإنه يجب عليه الدم، وإذا رجع إليه وأحرم منه سقط عنه الدم، فالشرع إذا حدد المكان فإنه لا يختلف فيه القليل ولا الكثير، ما دام أن هذا تحديد الشرع وهذا نصه، وهذه مكة فإنك قد تقف على آخر حدها فلو أن إنساناً دخل هذا الحد ونوى فيه -نسأل الله العافية- الظلم والإثم فإنه متوعد بالوعيد، ولو خرج شبراً واحد لم يحصل له ذلك الوعيد؛ لأن هذا تأقيت من الشرع، فلو سافر دون ثمانية وأربعين ميلاً ولو باليسير فإننا لا نقول -على ظاهر هذا النص-: إنه لا يحكم بكونه مسافراً. هذا حاصل ما ذكره العلماء رحمه الله عليهم في مسافة السفر.

حكم القصر في السفر ومن أين يبتدئ به

حكم القصر في السفر ومن أين يبتدئ به [سن له قصر الرباعية ركعتين إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه]. [سن له] أي: لا يجب عليه القصر. وهذا مذهب الجماهير؛ لأن عثمان رضي الله عنه وأرضاه أتم الصلاة بالناس في حجه، ومع ذلك صلى وراءه الصحابة، فدل على أن الإتمام لا يعتبر موجباً لبطلان الصلاة، ولا يحكم فيه بإثم صاحبه، وعلى ذلك فإنه من السنة، ولكن ينبغي على الإنسان أن لا يجاوز هذا الهدي، فإنه إذا قال: أريد أن أتم الصلاة وأنا مسافر طلباً للفضل فإنه تخشى عليه الفتنة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتم الصلاة لطلب الفضل، وإذا صلى زيادة على الركعتين فجعل الرباعية المقصورة أربعاً معتقداً أنه يكون له فضل الركعتين وأنه أفضل فإنه مبتدع في قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم. إنما الكلام فيما ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم من إتمام عثمان، وقد أجيب عنه بأجوبة: فقيل: إن عثمان رضي الله عنه تزوج من أهل مكة، كما ورد في مسند أحمد أنه قال: (إني تأهلت بمكة، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من تأهل ببلد فليتم فيه)، فيعتبر كأنه مكي من هذا الوجه. وقيل: إنه سمع أعرابياً يقول: ما زلت أصليها ركعتين منذ أن فارقتك عام أول. قالوا: إن هذا يدل على أن عثمان رضي الله عنه خاف أن الجهال يعتقدون أن الرباعية ركعتان، ولذلك قالوا: إنه أتم لخوف هذه المفسدة، فزاد في الصلاة من هذا الوجه. فهذه من أقوى الأوجه التي اعتذر بها لأمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين رضي الله عنه وعنهم أجمعين. وقوله رحمه الله: [سن له قصر الرباعية] يدل على أن القصر يختص بالرباعية، وهي الظهر والعصر والعشاء، أما صلاة الفجر والمغرب فإنها لا تقصر بإجماع العلماء رحمة الله عليهم. قوله: [إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه]. الإنسان له حالتان: فإما أن يكون في مدينة وقرية ونحو ذلك، وإما أن يكون في خيام وبر. فإن كان في مدينة قلنا: إنه إذا خرج من آخر بنائها فإنه يعتبر مسافراً، فلو أن البنيان اتصل بالبساتين والحوائط فلا يخلو من حالتين: الأولى: أن تكون الحوائط عامرة، فحينئذٍ بعد أن يخرج منها يقصر. الثانية: أن تكون الحوائط مهجورة والبيوت مهجورة فإن العبرة بالعمران، فبمجرد خروجه من المواضع التي فيها العمران يقصر الصلاة ويستبيح رخص السفر من الفطر ونحوه. وإذا كان في الخيام فإما أن تكون له خيمة منفردة، فحينئذٍ يبتدئ الرخص بمجرد ركوبه على دابته ومفارقته لخيمته، كأن يولي قفاه لها. وإما أن يكون مع خيام جماعته وقرابته أو قوم معه، فحينئذٍ إذا جاوز آخر خيمة من هذه الخيام فإنه يترخص برخص السفر، ويأخذ حكم المسافر بمجاوزتها.

حالات القصر والإتمام للمسافر

حالات القصر والإتمام للمسافر

الإحرام بالصلاة حضرا ثم الشروع في السفر

الإحرام بالصلاة حضراً ثم الشروع في السفر [وإن أحرم حضراً ثم سافر، أو سفراً ثم أقام، أو ذكر صلاة حضر في سفر أو عكسها، أو ائتم بمقيم أو بمن يشك فيه، أو أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها، أو لم ينو القصر عند إحرامها، أو شك في نيته، أو نوى إقامة أكثر من أربعة أيام، أو ملاحاً، معه أهله لا ينوي الإقامة ببلد لزمه أن يتم]. قوله: [وإن أحرم حضراً ثم سافر] مثاله -كما ذكر العلماء- أن يكون في سفينة، وتكون هذه السفينة على شاطئ البحر، فحينئذٍ ما دامت السفينة واقفة فإنه لا يحكم بكونه مسافراً؛ لأنها لا تزال متصلة بالعمران، وأما إذا تحركت السفينة فإنه يستبيح الرخص بمجرد حركتها، فلو أنه أحرم وكبر تكبيرة الإحرام ولم تتحرك السفينة، ثم لما كبر وانتهى من التكبير وأراد أن يشرع في القراءة تحركت السفينة في السفر، فإنّا إن نظرنا إلى ابتدائه الصلاة وجدناه مقيماً، وإن نظرنا إلى حاله في الصلاة وجدناه مسافراً، فهل العبرة بالابتداء والشروع، أم العبرة بما ينتهي إليه أمره؟ قال بعض العلماء: العبرة بإحرامه، فإن أحرم حال السفر ثم دخل إلى الحضر فإنه يتمها سفراً، وإن أحرم وهو حاضر ثم مضت السفينة فإنه يتمها حضراً كأنه حاضر. فهذا وجه لبعض العلماء رحمة الله عليهم، وهم الظاهرية ومن يوافقهم من أهل الحديث. الوجه الثاني -وهو للشافعية والحنابلة ومن وافقهم-: إذا أحرم وهو حاضر وتحركت السفينة فإنه يتمها أربع ركعات حضراً، لقاعدة: (الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل)، وهذه قاعدة شرعية حاصلها أنك إذا كنت تريد أن تفعل شيئاً فيه رخصة من الشرع فإن كنت تشك في كونك من أهل الرخصة رجعت إلى الأصل، فلو شككت في كونك من أهل الرخصة فتخفف الصلاة وتقصرها، أو لست من أهل الرخصة فتكون في حكم المقيم وتتمها، فالقاعدة أن تبني على أنك مقيم حتى تتحقق من كونك من أهل الرخص؛ لأن الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل. وربما يعترض معترض ويقول أيضاً: قد أحرم بصلاته وهو حاضر، فمعنى ذلك أنه قد وجب عليه أن يصلي صلاة الحاضر. وهذا هو أقوى الوجهين، فيتمها أربع ركعات، والسبب في هذا واضح، بل إن بعض العلماء يقول: إذا أذن المؤذن وأنت في داخل المدينة فإنك تعتد بالأذان، وهذا القول النفس إليه أميل؛ لأنه عندما أذن أذان الظهر قبل أن تخرج من المدينة فإنه قد توجه عليك الخطاب الشرعي أن تصلي أربع ركعات، ولم تسقط عنك الركعتان اللتان هما تمام الأربع، فلا تسقطان باحتمال وشك، وعلى هذا قالوا: إنه عندما أذن المؤذن وجبت عليه أربعاً، فيتم الصلاة ولو سافر بعد ذلك، فبعض العلماء يقول: العبرة عندي بأذان الصلاة، فإن أذن المؤذن وهو داخل المدينة صلى مقيماً، وإن أذن المؤذن بعد خروجه من المدينة صلى مسافراً. والوجه الثاني يقول: العبرة عندي بالصلاة. ويعتدُّ بالصلاة على حسب أحوالها، ومنهم من يعتد بتكبيرة الإحرام كما أشار إليه المصنف. لكن أعدل هذه الأقوال أن الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل، وهذه القاعدة هي التي ذكر فيها المصنف هذه المسائل التي منها: أن تكبر تكبيرة الإحرام وأنت في المدينة، ثم تتحرك بك الدابة أو السيارة، فتبقى بقية الصلاة وأنت متلبس بصفة السفر فإنك تتمها صلاة مقيم.

الإحرام بالصلاة سفرا ثم دخول الحضر قبل تمامها

الإحرام بالصلاة سفراً ثم دخول الحضر قبل تمامها قال: [أو سفراً ثم أقام]. مثاله: لو كان في السفينة فكبر تكبيرة الإحرام قبل أن يصل إلى الشاطئ والميناء، فلما كبر تكبيرة الإحرام، أو شرع في الفاتحة إذا بالسفينة قد رست، فإننا إن نظرنا إلى دخوله في الصلاة فإنه مسافر ويتم ركعة واحدة، وإن نظرنا إلى ما آل إليه أمره فإننا نقول: يتمها بثلاث ركعات، فقالوا: في هذه الحالة يجب عليه إتمامها صلاة حضر؛ لأننا شككنا في كونه يستبيح الرخصة، والأصل أنه واجب عليه أن يتم أربع ركعات، فيجب عليه أن يصلي أربع ركعات تامة، وهذا -كما ذكرت- وجهه أن من شك في الرخصة وجب عليه الرجوع إلى الأصل؛ لأن الأدلة الشرعية دلت على صحة هذه القاعدة، ومن هذه الأدلة: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، وهو إذا صلى في هذه الحالة ركعتين استراب؛ لأنه يشك هل الرخصة مطردة، أو ليست بمطردة. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (البر طمأنينة والإثم ريبة)، فوصف الشيء الذي فيه براءة الذمة وكمال الطاعة في البر بأنه لا ريبة فيه، وبناء على ذلك قالوا: يخرج من الريب، خاصة في الصلاة التي هي عماد الدين، ولها حظها في الإسلام، فينبغي له أن يخرج منها بما يوجب براءة ذمته على الوجه المعتبر.

ذكر صلاة الحضر في السفر والعكس

ذكر صلاة الحضر في السفر والعكس قال: [أو ذكر صلاة حضر في سفر]. ذِكر صلاة الحضر في السفر، مثاله: أن يخرج من مكة بعد انتهاء وقت صلاة الظهر، ثم في الطريق تذكر أنه لم يصل الظهر، فيكون ذكر الحضرية؛ لأن وقت الظهر كان فيه مقيماً، فهو ذكر الحضرية -وهي الظهر- في السفر، فبعض العلماء يقول: إذا ذكر الحضرية في السفر فإنه يصليها كاملة؛ لأن الخطاب توجه عليه بإتمامها أربعاً، ولذلك يجب عليه أن يصليها صلاة حاضر، ولا عبرة بحاله أثناء الأداء، والعكس أيضاً لو ذكر سفرية في حضر، فلو أنه قدم المدينة وكان مسافراً ومضى عليه وقت العشاء ودخل الفجر فنسي أن يصلي العشاء، وصلى الفجر ثم وصل الصباح، ثم تذكر بعد أن وصل إلى بيته أنه لم يصل العشاء البارحة، فإنهم قالوا: إنه يصليها أربعاً؛ لأنه يشك في استباحة الرخصة، فيرجع إلى الأصل، على القاعدة التي قررناها وأشرنا إليها.

الائتمام بالمقيم

الائتمام بالمقيم قال: [أو ائتم بمقيم]. وفيه حديث ابن عباس: (من السنة إذا صلى المسافر وراء المقيم أن يتم)، والمسافر إذا صلى وراء المقيم له صور: الصورة الأولى: أن يدخل معه في الصلاة من أولها، فهذا يتم صلاته، وعليه يتنزل ما ورد عن ابن عباس، وهو قوله: (من السنة أن يتم المسافر وراء المقيم). الصورة الثانية: أن يدخل معه في الصلاة في أغلبها بحيث يتعذر عليه القصر، وصورة ذلك أن يدخل في الركعة الثانية من الظهر، فإنه في هذه الحالة يصعب عليه القصر، وكذلك أيضاً بالنسبة للركعة الثانية من العصر، أو الثانية من العشاء، فكل هذه يصعب عليه فيها أن يقصر، وإن كان هناك وجه ضعيف يقول: إذا دخل في الظهر يصلي وراءه، ثم يجلس بعد الركعة الثالثة للتشهد، وينتظر الإمام حتى يأتي بالرابعة ثم يتشهد مع الإمام ويسلم قياساً على صلاة الخوف، وهذا من أضعف الأقوال، وهو وجه شاذ عند أهل العلم رحمة الله عليهم. الصورة الثالثة: أن يدخل وراء المقيم موافقاً له في صفة صلاته، كأن يدخل وراء المقيم في الركعتين الأخريين من الظهر، أو الركعتين الأخريين من العصر، أو الركعتين الأخريين من العشاء، فللعلماء فيه وجهان: فمنهم من قال: يتم. وهذا مذهب الجمهور. ومنهم من قال: إنه يقصر ويسلم؛ لأن الله أوجب عليه ركعتين، وهو مذهب طائفة من العلماء رحمة الله عليهم، وأحد الوجهين عند الشافعية، وهذا الوجه من القوة بمكان، فله أن يسلم مع الإمام؛ لأن الله أوجب عليه ركعتين، فإذا دخل ونوى القصر وسلم مع الإمام فلا حرج عليه. الصورة الرابعة: أن يدخل وراء الإمام مدركاً ركعة واحدة، فهنا يضيف إليها ركعة، وقد قال به جمع من السلف رحمة الله عليهم، وبه يقول الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس إمام دار الهجرة، فقالوا: إذا أدرك ركعة فإنه يضيف إليها ركعة ثانية ويسلم. الصورة الأخيرة: أن لا يدرك شيئاً من الركعات، فيتمها صلاة سفرية، أي: يتمها ركعتين، وهذا إذا نوى وراء المقيم القصر، أما إذا لم ينو القصر فإنه بتمها صلاة حضرية وجهاً واحداً عند العلماء رحمة الله عليهم.

الائتمام بمن يشك في إقامته أو سفره

الائتمام بمن يشك في إقامته أو سفره قال: [أو بمن يشك فيه]. هذا عند من يقول: إن المسافر وراء المقيم يتم، فإن المساجد في السفر لا تخلو من حالتين: الأولى: أن يكون لها غالب وظاهر حال. الثانية: غالب ولا ظاهر حال. فالجماعة أو المساجد التي لها غالب حال مثالها مساجد مكة، فإنه إذا دخل المسافر مكة فإن مساجد مكة ظاهر حال أهلها أنهم متمون، فحينئذٍ لا إشكال إذا دخل وراء إمامهم أنه ينوي الإتمام بدون أي شك، وليس هناك مجال للشك؛ لأن المسجد ظاهر حاله أنه مسجد إتمام، وكذلك الجماعة ظاهر حالها أنها متمة. وأما ما لا يعرف لها ظاهر حال، حيث تكون في موضع وتشك في كون المصلين من أهل الموضع فمثاله ما يحدث في القرى، فإنك تدخل فترى جماعة فتشك في هذه الجماعة في كونها جماعة سفر فتنوي القصر وراءهم وتسلم معهم، أو أنها جماعة مقيمة فتدخل وراءهم ناوياً الإتمام، فقالوا: في هذه الحالة ينوي الإتمام ويتم الصلاة. لكن هناك وجه عند بعض العلماء يخرج من الإشكال، وهو أنك إذا شككت تنوي وراءهم القصر، فإن كانوا مسافرين فلا إشكال، وإن كانوا غير مسافرين فإنه لا حرج في الإتمام بعد نية القصر، ولذلك يقولون: لا حرج فيه ويغتفر، وإنما يصعب أن ينتقل من الإتمام إلى القصر، أما أن ينتقل من القصر إلى الإتمام فإنه لا حرج فيه، والأمر واسع. فإذا قلنا: يجوز أن تدخل وراء الإمام في الركعتين الأخيرتين وتسلم معه، ففي هذه الحالة إذا دخلت في صلاة الظهر ولا تدري هل الإمام المقيم في الركعتين الأخريين، أم في الركعتين الأوليين، فإنك تنوي القصر، فإن ظهر أنه في الأخيرتين سلمت معه وصحت نيتك، وإن ظهر أنه في الأوليين فإنك حينئذٍ تتم معه، وتنتقل من الأدنى إلى الأعلى ولا حرج، وإنما يحظر عليك أن تنتقل من الأعلى إلى الأدنى، كأن تنتقل من نية الإتمام إلى نية القصر، قالوا: لأنك إذا نويت الإتمام وجبت عليك أربعاً، وإن نويت القصر وجبت عليك اثنتان، فلا مانع أن تزيد على ما شرعت فيه الزيادة.

الإحرام بصلاة يلزمه إتمامها ثم بطلانها

الإحرام بصلاة يلزمه إتمامها ثم بطلانها قال: [أو أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها]. إذا كنت على سفر فدخلت وراء إمام يتم فإنه يلزمك إتمام الصلاة على القول الذي اختاره المصنف رحمه الله، فإن دخلت وراءه وأصابك عذر يوجب انفصالك عنه أو خروجك من الصلاة وراءه فإنك تخرج، وحينئذٍ يرد Q هل يجب عليك أن تقضيها أربعاً، بناء على أنك حينما دخلت وشرعت تعين عليك بالخطاب الشرعي أربع ركعات؛ لأنك نويت الإتمام، فأصبحت ذمتك مشغولة في الصلاة بأربع ركعات، أم أن العبرة بحالك عند الأداء، فإنه وجب عليك أن تتم لما كنت مع هذا الإمام، ولما فارقته أصبح حكمك سارياً على الأصل؟ فمن العلماء من اختار الوجه الأول، وقال: إنه لما دخل وراء الإمام المقيم فقد ألزم ذمته بأربع ركعات، فإذا ألزم ذمته بأربع ركعات فإنه ليس عندنا دليل على إسقاطها، وهو وإن كان إنما يلزمه إتمامها مدة اتصاله بالإمام لكن الذمة انشغلت بالأربع الركعات. ولذلك قالوا: يلزمه أن يتم. ومن العلماء من اختار الوجه الثاني فقالوا: لزمه الإتمام حال متابعته لهذا الإمام، وقد بطلت فرجع إلى الأصل، وبناء على ذلك يكون الواجب عليه أن يصلي قصراً لا أن يتم. ولا شك أنه لو احتاط فهو أفضل.

ترك نية القصر حال الصلاة والشك فيها

ترك نية القصر حال الصلاة والشك فيها قال: [أو لم ينو القصر عند إحرامها]. إذا صلى مسافر وراء مسافر، ونوى القصر فلا إشكال، في أنه يقصر ويسلم معه وجهاً واحداً عند العلماء. وإن صلى وراءه ولم ينو القصر ونوى الإتمام كأن يكون نسي أنه في سفر فنوى أن يتم أو ظن أن إمامه يتم فنوى الإتمام وراءه لزمه أن يتمها أربعاً. قال: [أو شك في نيته]. إذا شك هل نوى القصر فيبقى على الركعتين، أم نوى الإتمام، فقد قالوا: يتم. وإن كان الأقوى في هذه الحالة أن يبقى على الركعتين لأنهما هما الواجبتان في ذمته، وظاهر حاله أنه ينوي القصر فيرجع إلى تغليب الحال مع اعتضاده بالأصل، فتسقط عنه الركعتان، فإن احتاط بالإتمام فهو أفضل.

نية الإقامة فوق أربعة أيام

نية الإقامة فوق أربعة أيام قال: [أو نوى إقامة أكثر من أربعة أيام]. هذه مسألة مبنية على وصف السفر إن قلنا: إن للسفر حداً معيناً، وإنَّ المسافر ينتهي إلى أمد يحكم فيه بكونه مقيماً، فالناس ثلاثة أقسام: القسم الأول: مسافر، وقد بينا حكمه. والثاني: المقيم، ولا إشكال في حكمه. والثالث: من هو في حكم المقيم، فهو مسافر في الأصل لكنه يأخذ حكم المقيم. وهذا التقسيم مذهب جماهير العلماء من السلف والخلف رحمة الله عليهم، فالسفر قد ينتقل الإنسان به إلى حكم المقيم، فيكون الإنسان مقيماً ومسافراً ومسافراً في حكم المقيم، والذي في حكم المقيم للعلماء فيه خلاف مشهور، وفيه أكثر من خمسة عشر قولاً بين العلماء رحمة الله عليهم في ضابطه، والسبب في ذلك اختلاف الأدلة، فالجمهور يقولون -من حيث الجملة- العبرة بأربعة أيام، ولا يحسب فيها يوم الدخول ولا يوم الخروج. وتوضيح ذلك أنهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم سافر وقصر الصلاة، والنصوص تدل على أن المقيم يجب عليه إتمام الصلاة، فأصبحت عندنا حالتان: حالة سفر، وحالة حضر. فمن كان حاضراً فإنه يتم، ومن كان مسافراً فإنه يقصر، فجئنا ننظر إلى تأقيت السفر فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم ينقل المسافر عن كونه مسافراً إلى كونه مقيماً بالزمان، وذلك في حديث المهاجرين حينما رخص لهم أن يبقوا بمكة ثلاثة أيام، فإنه لما رخص لهم أن يبقوا بمكة ثلاثة أيام دل على أنهم في اليوم الرابع ينتقلون إلى حكم المقيم، وتوضيح ذلك أنهم تركوا مكة لله، والعلماء يقولون: من هاجر من بلد لله -كأهل مكة حينما هاجروا من مكة إلى المدينة- لا يجوز له أن يرجع إليها ويقيم فيها؛ لأنه لما هاجر عنها تركها لله عز وجل، ولذلك نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقوا بمكة، وقال: (لكن البائس سعد بن خولة) يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة، ثم قال: (اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم خائبين). ووجه الدلالة أن المهاجرين لا يبقون في مكة، وإذا كانوا لا يبقون بمكة فترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لهم في الثلاثة الأيام دل على أنهم لو بقوا اليوم الرابع انتقلوا إلى حكم المقيم بمكة، وأكدوا هذا بأنه عليه الصلاة والسلام حينما قدم في حجته قدم لصبح رابعة، ثم انطلق في اليوم الثامن يوم التروية إلى منى، فدل هذا على أن أقصى ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام هذه المدة. أما ما ورد عنه في تبوك فإنه كان عليه الصلاة والسلام لا يعلم مدة إقامته، ونحن نتكلم على علم مدة الإقامة، أي: إذا علم المسافر مدة إقامته، فلما رخص للمهاجرين هذا القدر تحددت المدة. أما إذا لم تعلم المدة كإنسان قدم مدينة لا يدري كم يمكث فيها لحاجة أو لغرض، فحينئذٍ يقصر الصلاة مدة جلوسه ولو جلس سنة كاملة، فإن أنساً رضي الله عنه مكث ستة أشهر -حينما حاصرهم الثلج في الفتوحات- يقصر الصلاة رضي الله عنه وأرضاه، وحملوا عليه حديث تبوك، فإن غزوة تبوك خرج النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى بني الأصفر يريد قتالهم فأرسل العيون، ومعلوم أنه إذا أرسلت عيون الجيش فربما بعد لحظة يأتي العين ويقول: إنهم على ماء كذا، كما هو معلوم، وربما يأتي بعد يوم، وربما يأتي بعد يومين أو بعد ثلاثة، فالأمر محتمل، ولا يدرى كم القدر، فجماهير العلماء رحمة الله عليهم يقولون: إنه محمول على من جهل المدة وهذا واضح من ظاهر السنة؛ لأنه لما قدم إلى تبوك جهل مدة إقامته عليه الصلاة والسلام، وليس هناك نص واضح أنه نوى إقامة مدة معينة، ولذلك قالوا: أرسل العيون على حسب الحال، فإن وجد حالاً يقتضي القتال بإخبار العيون تقدم، وإن لم يجد رجع عليه الصلاة والسلام، فمكث هذه المدة جاهلاً بالأمد، فقسموا حالة المسافر إلى حالتين: الحالة الأولى: أن يعلم مدة إقامته. الحالة الثانية: أن لا يعلم مدة إقامته. فإن لم يعلم مدة إقامته فإنه يقصر أبداً، ولو جلس سنة كاملة. وإن علم مدة إقامته فحينئذٍ إما أن تكون دون أربعة أيام، وإما أن تكون أربعة أيام فأكثر، فإن كانت دون أربعة أيام قصر، وإن كانت فوق الأربعة الأيام فإنه يتم صلاته ويأخذ حكم المقيم.

المسافر الذي لا ينوي الإقامة ببلد

المسافر الذي لا ينوي الإقامة ببلد قال: [أو ملاحاً معه أهله لا ينوي الإقامة ببلد لزمه أن يتم]. الملاح: هو صاحب السفينة، أو قبطان السفينة، فالشخص الذي يعمل في نقل الناس بين المدن، ويدمن السفر والرحلة، والذي تمضي عليه أيام متنقلاً بين المدن سواءٌ في بر أم بحر أم جو إذا لم يكن له مكان يستقر فيه ومعه أهله فإنهم قالوا: إنه يتم في كل موضع. فهذا الملاح في كل مكان مقيم، وهذا مذهب طائفة من العلماء. ومذهب طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم أن الملاح ومن في حكمه يأخذ حكم السفر على ظاهر حاله، وهو أقوى من جهة النصوص.

حكم سالك أبعد الطريقين ليقصر الصلاة، ومن تذكر صلاة سفرية في سفر

حكم سالك أبعد الطريقين ليقصر الصلاة، ومن تذكر صلاة سفرية في سفر قال رحمه الله: [وإن كان له طريقان فسلك أبعدهما أو ذكر صلاة سفر في آخر قصر]. قوله: [وإن كان له طريقان] مثاله: إنسان في قرية تبعد عن مكة ولها طريقان: طريق تبعد به مسافة القصر ثمانين كيلو متراً، وطريق تبعد به ستين كيلو متراً، فإننا إذا جئنا ننظر إلى الطريق الذي فيه ثمانون كيلو متراً نقول: من سلك هذا الطريق فهو مسافر، ومن سلك الطريق الذي هو ستون كيلو متراً فليس بمسافر. وبناء على ذلك يقولون: إنه يأخذ حكم المسافر بالمسيرة، فإن سلك الطريق الذي هو طريق سفر فمسافر؛ لأن ظاهر السنة يدل عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن نهي المرأة أن تسافر بغير محرم: (أن تسافر مسيرة يوم وليلة)، وهذا سافر مسيرة اليوم والليلة، ولذلك تنطبق عليه السنة، ويترخص برخص المسافر. قوله: [أو ذكر صلاة سفر في آخر] أي: في سفر آخر، كأن تكون سافرت من المدينة إلى جدة أو إلى مكة، فلما رجعت تذكرت وأنت مسافر أنك البارحة لم تصل صلاة العشاء وهي سفرية، فإنه حينئذٍ تصليها صلاة سفر، سواءٌ أكان السفر اعتبارياً مع اتحاد الجهة، كأن تكون ذهبت إلى جدة ورجعت إلى المدينة، فالسفر واحد، فحينئذٍ لو نسيتها في ذهابك وتذكرتها في إيابك فهي في حكم السفر الواحد. أم كان السفران مختلفين، كأن تكون سافرت من جدة إلى المدينة وأنت من أهل المدينة، فلما سافرت من جدة إلى المدينة نسيت صلاة العشاء وقد وجبت عليك في السفر، فجلست في المدينة إلى الضحى، ثم تحركت من المدينة في الضحى إلى القصيم، وفي طريقك للقصيم -بعد أن خرجت من المدينة- تذكرت أنك لم تصل صلاة العشاء البارحة، فإنك تصليها صلاة سفر، أي: تصلي ركعتين؛ لأنه في هذه الحالة لا يختلف الحكم. قال رحمه الله تعالى: [وإن حبس ولم ينو الإقامة، أو أقام لقضاء حاجة بلا نية إقامة قصر أبداً]. هذا ما ذكرناه، فالشخص الذي لا يدري كم يمكث في مكان إقامته فإنه يصلي قصراً ولو طالت مدة إقامته؛ لظاهر حديث تبوك، فقد جلس النبي صلى الله عليه وسلم سبع عشرة ليلة يقصر الصلاة بتبوك، ولا حرج عليه في هذه الحالة أن يقصر ولو طالت مدة جلوسه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم القصر لمن يسافر ويعود في نفس اليوم

حكم القصر لمن يسافر ويعود في نفس اليوم Q إذا كانت المدة دون أربعة أيام، فهل يدخل تحتها لو سافر ورجع في غضون ساعات وكان سفره أكثر من مسافة قصر، كما هو الحال في من يعمل خارج منطقته ويرجع إليها في نفس اليوم؟ A من كان عنده عمل، أو كانت عنده مزرعة تبعد عن موضعه مسافة القصر، فخرج إليها في سويعات، أو خرج إليها أثناء النهار وعاد في نفس اليوم فإنه يترخص في طريقه، وذلك على ظاهر السنة لما ذكرناه من النصوص، فلو حضرته صلاة الظهر وهو في طريقه بين المنطقتين فإنه يقصر، لكن لو أنه -مثلاً- كان في مكة ومزرعته بعسفان، فخرج من مكة إلى عسفان ففي الطريق يقصر، وإن حضرته الصلاة وهو في مزرعته فإنه يتم، فيعتبر مكياً إن كان في مكة، ويعتبر أيضاً من أهل عسفان إذا نزل في مزرعته ووصل إليها، فيترخص في الطريق، ولكن لا يترخص في موضعه الذي تأهل فيه، أو كانت له فيه تجارة، أو كان له ملك، كما أثر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه حينما كان له مال بوادي الفرع، وكذلك زرعه بخيبر وزرعه بوادي ريم كما ذكرنا. والله تعالى أعلم.

حكم الانتقال من نية الفرض إلى النافلة والعكس

حكم الانتقال من نية الفرض إلى النافلة والعكس Q إذا كان يجوز أن ينتقل المسافر من نية القصر إلى نية الإتمام، فهل يجوز للمصلي أن ينتقل من صلاة الفرض إلى النفل والعكس؟ A أما انتقاله من صلاة الفرض إلى النفل فلا حرج فيه، كأن يكون دخل وراء شخص يريد أن يصلي الظهر، ثم تذكر أنه صلى الظهر، فإنه يقلبها إلى نافلة ويجزيه ويصح منه ذلك. أما انتقاله من الأدنى إلى الأعلى فلا، كأن يحرم متنفلاً وراء إمام وهو يظن أنه قد صلى الظهر، ثم تذكر أنه لم يصل الظهر، فإنه لا ينتقل من الأدنى -وهو النافلة- إلى الأعلى -وهو الفريضة- وحينئذٍ يبقى مع هذا الإمام بنية النافلة ويسلم، ثم بعد انتهائه يقيم ويصلي صلاة الظهر، فإن كان الوقت ضيقاً بحيث لو سلم مع الإمام خرج الوقت فإنه يلزمه أن يقطع صلاته وراء الإمام ولا يشتغل بالنفل، وعليه أداء الفرض إذا ضاق الوقت، وحينئذٍ يقطع صلاته، ثم يكبر وينوي وراءه نية الفرض. والله تعالى أعلم.

حكم تسليم المسبوق المسافر مع الإمام

حكم تسليم المسبوق المسافر مع الإمام Q يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، فكيف نوفق بين هذا، وقول من قالوا: إن المسافر إن أدرك الركعتين الأخريين مع الإمام اكتفى بهما إن نوى القصر؟ A لا حرج في كونه يصلي ركعتين مع الإمام، فإنه إذا سلم مع الإمام فقد ائتم بالإمام، الإمام سلم وهو سلم، فيكون قد صلى وراء الإمام، فكبر وراءه، وقرأ الإمام فأنصت، وركع فركع، وسجد فسجد، ثم قرأ التحيات، وسلم الإمام فسلم معه، فوجبت عليه ركعتان فصلاهما وراء الإمام سواء بسواء، فأين المخالفة؟ ولذلك ليس في هذا النص معارضة بينة، بل هذا حجة على مشروعية أن يصلي وراء الإمام ركعتين.

حكم القصر بين البلدين المتباعدين عند اتصال البنيان

حكم القصر بين البلدين المتباعدين عند اتصال البنيان Q إذا كان السفر مسافة قصر، وكان البنيان متصلاً طوال الطريق حتى يصل المسافر إلى المدينة الأخرى التي يريدها، فهل يقصر الصلاة. أم لا؟ A إذا اتصل البنيان بين موضعين، أو كان البنيان كثيراً بحيث كانت المسافة دون مسافة القصر فحينئذٍ لا يكون ذلك سفراً، فلو أن الذي بين مكة وعسفان انتشر فيه البنيان من جهة عسفان، أو انتشر فيه البنيان من جهة مكة حتى تقاصرت المسافة، وأصبح ما بينهما قدر خمسين كيلو متراً فإنه لا يعتبر سفراً؛ لأنه لا يعتبر مسافراً ظاهراً إلا بعد مجاوزته لآخر العمران من عسفان، كما أنه ليس بمسافر إلا بعد مجاوزته لآخر العمران من مكة، والذي يقطعه بينهما ليس مسيرة اليوم والليلة، فليس بمسافر من هذا الوجه، ولذلك تعتبر جدة في هذه الحالة دون مسافة القصر، وإن كانت في القديم مسافة قصر، وذلك لسعة العمران وامتداده، حتى تقاصرت المسافة عن مسافة القصر، أما لو خرج أهل جدة للحج فإنهم قاصدون لعرفة، فإنهم مسافرون ويشرع لهم أن يقصروا الصلاة؛ لأن التقاصر الذي حصل في المسافة قد ازداد ببلوغ عرفات، فإنه تزيد المسافة حتى تصل إلى قدر السفر، وحينئذٍ يترخصون. والله تعالى أعلم.

حكم إجابة النداء للمسافر النازل

حكم إجابة النداء للمسافر النازل Q إذا كان سفري دون أربعة أيام، ولكنني أسمع النداء، فهل تلزمني صلاة الجماعة؟ المسافر إذا سمع النداء وهو نازل في المدينة التي هي غير مدينته اختلف العلماء رحمهم الله فيه: فقال جمع من أهل العلم: يجوز له أن يترك الجماعة، وأن يصلي إذا وجدت جماعة ثانية كرفقته في السفر، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الرجلين حينما تركا صلاة الفجر في خيف منى، فدل على أنه يجوز للإنسان أن يترك الجماعة إذا كان مسافراً. وهذا هو أصح القولين وأولاهما بالصواب، فلا حرج على المسافر أن يترك الجماعة ولو سمع النداء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجلين: (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا فإنها لكما نافلة)، ولم ينكر عليهما، بل أذن لهما أن يصليا في رحالهما. والله تعالى أعلم.

كيفية صلاة المسافر إذا وصل قبل خروج الوقت

كيفية صلاة المسافر إذا وصل قبل خروج الوقت Q رجل كان على سفر، فلم يصل صلاة العشاء وهو مسافر، ودخل بلدته قبل خروج الوقت، فهل يصلي صلاة مسافر، أم يتم؟ A إذا كان الإنسان مسافراً وترك الصلاة الرباعية ودخل بلده، أو وصل إلى بلده قبل انتهاء وقتها فإنه يلزمه الإتمام، وذلك أنه لما أخر الصلاة خوطب بالصلاة في آخر وقتها، ولزمه الإتمام في قول جماهير العلماء رحمهم الله. والله تعالى أعلم.

حكم صلاة المسافر خلف من يخالفه في النية

حكم صلاة المسافر خلف من يخالفه في النية Q إذا دخل المسافر على جماعة مقيمين فيما بين الأذان والإقامة لصلاة العصر وهو لم يصل الظهر، فهل يصلي الظهر، أم ينتظر الجماعة ويصلي معهم بنية الظهر؟ A يجوز للإنسان أن يصلي الظهر وراء من يصلي العصر، والعصر وراء من يصلي الظهر، فيصلي وراءهم في هذه الحالة لكي يدرك فضل الجماعة، ولو اختلفت نيته مع نيتهم؛ فإن حديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه يدل على مشروعية صلاة الفرض وراء من يصلي الفرض مع اختلاف النية، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه، بشرط اتحاد صورة الصلاتين، فالظهر وراء العصر والعصر وراء الظهر قد اتحدت فيهما صورة الصلاتين، فلا حرج عليه في هذه الحالة أن يوقع الصلاة وراء الصلاة، لكن في مسألة الجمع منع العلماء رحمهم الله أن يصلي وراء هؤلاء جماعة ثم أقيم للثانية دخل معهم بنية العصر بعد أن صلى الظهر مع الجماعة الأولى، ويرون أن الجمع صورته مخصوصة بما ورد، وهذه الصورة تخالف ما ورد، فلا يصح جمعه على هذا الوجه. والله تعالى أعلم.

حكم الصلاة إلى غير القبلة

حكم الصلاة إلى غير القبلة Q إذا صلى الإنسان في مكان لا يعرف اتجاه القبلة فيه، وبدأ في الصلاة، ثم مر به شخص يعرف القبلة فأدارها إلى اتجاهها، فما حكم الركعات التي صلاها في غير اتجاه القبلة؟ A هذه المسألة فيها تفصيل: فإن كان الإنسان في موضع يمكنه أن يرجع إلى أهله، أو يعتمد دلائل البلد الذي هو فيه على القبلة وقصر في ذلك فإنه يلزم بعاقبة تقصيره، فيلزمه أن يقطع صلاته وأن يستأنف الصلاة على الجهة الجديدة، بشرط أن تكون الجهة فرعيةً ينتقل بها من فرع إلى فرع، أما لو كان انحرافه قليلاً فإنه لا يؤثر إذا كانت الجهة هي الجهة. مثال ذلك: أن يصلي إلى الجنوب منحرفاً انحرافاً لا ينصرف به من الجنوب المحض إلى الجنوب الفرعي الذي هو الجنوب الغربي، فإذا لم ينصرف من الجنوب المحض إلى الجنوب الغربي فهذا الانحراف لا يؤثر. أما لو انحرف انحرافاً بيناً يخرجه من جهة إلى جهة فحينئذٍ إن قصر في السؤال والتحري فإن صلاته تعتبر باطلة، ويقطع الصلاة ويستأنف، وإن كان معذوراً حيث لم يجد من يدله، أو اجتهد بناء على عدم وجود من يدله فإنه حينئذٍ إذا حضر من هو أعلم، أو وجد من هو من أهل البلد أثناء الصلاة فإنه ينتقل إلى الأصل الذي هو العمل بقول هذا العالم، أو هذا الخبير، أو هذا الذي هو من أهل البلده ويتم بقية الصلاة ويعذر فيما مضى. والله تعالى أعلم.

حكم دخول الجد لأم على الزوجة

حكم دخول الجد لأم على الزوجة Q هل الجد لأم يكون محرماً لزوجة حفيده مثل الجد لأب؟ A الجد لأم يعتبر محرماً لزوجة حفيده، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23]، فإن ابن البنت ابن لأبيها، فابن البنت يعتبر ابناً للجد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحسن: (إن ابني هذا سيد)، فجعله ابنه، وقد قال الله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء:23]، فلما سمى النبي صلى الله عليه وسلم ابن بنته الذي هو الحسن ابناً دل على أنه لا فرق بين الجد المتمحض بالذكور والجد المتمحض بالإناث والجد الذي جمع بين الذكور والإناث، فإنه في هذه الحالة تثبت له محرمية المصاهرة، فتصبح زوجة ابن بنته أو ابن ابنه محرماً له. والله تعالى أعلم.

حكم استخدام حبوب منع الحمل

حكم استخدام حبوب منع الحمل Q هل يجوز أن تأخذ زوجتي ما يمنع الحمل، وذلك لأجل الراحة من الحمل مدة معينة، وتُمنع بعد ذلك؟ A لقد ذهبت البركة في كل شيء، حتى النساء ذهبت منهن البركة، وقد كانت المرأة في القديم تضع أربعة عشر ولداً وخمسة عشر ولداً ويضع الله فيها البركة، ويكون من الخير ما الله به عليم، والمرأة الآن تجدها تحمل بمشقة وعناء، وتذهب تلتمس الرخص وتلتمس الأعذار، وتتكلف في ذلك حتى تحرم الأمة من الخير الذي يكون في النسل والذرية، فلولا الأبناء والأولاد لما خرجنا إلى هذه الدنيا، ولو كنا ولدنا في هذا العصر لكان كثير منا لم يوجد، بسبب تعاطي هذه الحبوب التي تمنع الحمل -نسأل الله السلامة والعافية-. فمن الأمور التي ينبغي تنبيه النساء عليها وتذكيرهن بالله عز وجل فيها أن الشرع يقصد تكثير النسل وتكثير سواد الأمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مفاخر بكم الأمم يوم القيامة)، وكأنه يقول: شرع لكم النكاح من أجل الولد، وتجد المرأة تتبع الرخص من هنا وهناك وتحتج بأنها تتعب، والله عز وجل شرّف الأم وأمر ببرها، وجعل لبرها ثلاثة أضعاف ما للأب، وقد قال تعالى عنها: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف:15]، فأخبر أن الحمل كره، وأخبر عن مريم ابنت عمران عليها السلام أنها لما جاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:23]، فهكذا الحمل، فكونها تتألم من الحمل أو تجد المشقة ليس بعذر لها أن تقطعه، ولا يرخص فيه، وإنما يكون العذر إذا خيف عليها الهلاك، وهي حالات مخصوصة ومعينة يقررها الأطباء، أما أن المرأة تأتي فتمنع الزوج من نسله وذريته حتى يضع الله البركة في هذا النسل وهذه الذرية، وتحرمه من هذا الخير فإنه أمر من الصعوبة بمكان. وأصبح الرجال يسترسلون مع النساء، وأصبح النساء يتتبعن الرخص، وما يدري المرأة أن هذه الآلام وهذه المتاعب درجات لها في الجنة لا تبلغها بكثرة صلاة ولا صيام. وليس من عيب على امرأة جاهلة أن تفعل هذا، ولكن العيب أن تجد المرأة طالبة علم، أو تجدها من الصالحات القانتات الفاضلات وتجدها تتعاطى حبوب منع الحمل، فأين الإيمان بالله عز وجل وحب النسل والذرية، والصبر على النسل والذرية؟! وقد كان النساء يرعين الغنم في البادية على فطرتهن، فلا طبيب ولا مغيث ولا مجير إلا الله سبحانه وتعالى، وتجدها وهي ترعى بهائمها تضع ولدها، وليس معها أحد، ولا يعلم بحالها إلا الله سبحانه وتعالى، فتضع الولد ثم تنتقل به إلى بيتها، وهذا حدث لأكثر من امرأة، وكان مشهوراً معروفاً، لكن لما ضعفت عقائد الناس، وأصبح الإنسان ضعيف الإيمان بالله عز وجل -نسأل الله السلامة- محقت البركة حتى من النساء، فأصبحت المرأة تشتكي من القليل والكثير، فإذا كانت تشتكي بسبب الدراسة والتدريس فليس هذا هو الأصل، فالأصل أنها أم، والأصل أنها مربية، والأصل أنها أم للأطفال والأولاد، وأنها هي التي تقوم على هذا الأمر الذي شرّفها الله وكرمها به. فلذلك لا ينبغي للنساء أن يبحثن عن هذه الرخص، ولا ينبغي للمرأة أن تقول: إنها تريد أن ترتاح من الحمل. وما يدريك لعل الله عز وجل أن يجعل هذا الولد الذي تفرين منه هذا العام من الذرية الصالحة. وقد ذكروا عن امرأة أنها كانت تلد بنات، حتى ولدت تسع بنات متتابعات، فسئمت من البنات -وهذا الكلام قبل أكثر من مائة سنة، وهي قصة مشهورة عن أحد أهل الفضل في المدينة رحمة الله عليه، وكان من حفاظ كتاب الله عز وجل-، وكانت بمكة، فأخذت دواء من العطار تتناوله في السَحَر -أي: في الصباح الباكر- قبل الأكل وقبل الشراب لأجل أن تسقط هذا الحمل العاشر؛ لأنها لا تريد البنات، وهي لا تحمل إلا بنات، فأرادت أن تسقط هذا الجنين، فلما أرادت أن تستعمل هذا الدواء سمعت صائحاً في الفجر يصيح ويقول: يا أرحم الراحمين. فاقشعر بدنها، وتعلقت بالله سبحانه وتعالى ليضع الله لها الخير في هذا الولد، ويريد الله سبحانه وتعالى أن يكون ذكراً، وأن يكون من حفاظ كتاب الله، والله لقد أدركته -وكان من أصدقاء الوالد- من أفضل الناس ديانة واستقامة وطاعة لله عز وجل، فلو أنها تعاطت هذا الدواء فكم كانت ستحرم من الخير؟ وكم كانت ستحرم من الدعوات الصالحات؟ ولذلك ينبغي على المرأة أن تكون قوية الإيمان بالله عز وجل، وأن تتوكل على الله، وأن يكون عندها حسن الظن بالله سبحانه وتعالى، وفي الحديث الصحيح: (أنا عند حسن ظن عبدي بي)، ورؤي سلمان الفارسي بعد موته -كما روى أبو نعيم في الحلية- فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: ما وجدت أفضل بعد الإيمان من حسن الظن بالله عز وجل. والمرأة إذا أحسنت الظن بالله وقالت: أصبر وأتوكل على الله عز وجل. فتح الله لها أبواب رحمته، وفي الحديث الصحيح: (من يصبر يصبره الله)، فتحس أن هذا الحمل كأنه يمر في ساعة، وكأنه طيف من الخيال والأحلام، ثم إذا بها يبارك لها الله عز وجل في هذه الذرية وهذا النسل، فلعله أن يذكرها بدعوة صالحة، وما يدريها لعل هذا النسل الذي تريد أن تمتنع منه يكون من أبر أولادها بها بعد مشيبها وكبرها، وما يدريها لعل الله أن يسخر لها بعد موتها بالدعوات الصالحات. نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل في القول والعمل. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

فصل: صلاة المسافر [3]

شرح زاد المستقنع - فصل: صلاة المسافر [3] الجمع بين الصلاتين مما أجازته الشريعة في أحوال خاصة تخفيفاً وتيسيراً على المكلفين، سواء بالتقديم أو التأخير، ولها أعذار موجبة للترخص بها كالسفر والمطر، ولكن يراعى فيها شروطها المعتبرة، ومفسداتها المبطلة للجمع، ونحوها من الأحكام.

الجمع بين الصلاتين

الجمع بين الصلاتين

حكم الجمع بين الصلاتين

حكم الجمع بين الصلاتين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: يجوز الجمع بين الظهرين وبين العشاءين في وقت إحداهما]. هذا الفصل يتعلق بمسألة الجمع بين الصلاتين، والجمع بين الصلاتين رخصة رخص الله بها لعباده، تقع في الحضر وتقع في السفر، فقد يجمع الإنسان بين الصلاتين في سفره، وقد يجمع بين الصلاتين في حال حضره. والجمع بين الصلاتين فيه خلاف مشهور بين العلماء: فمن أهل العلم من قال: يجوز الجمع مطلقاً. وهذا مذهب الشافعية والحنابلة من حيث الجملة. ومنهم من يقول: لا يجوز الجمع مطلقاً إلا في حالة الجمع في النسك، وذلك بتقديم الظهر مع العصر بعرفة، وتأخير المغرب مع العشاء بمزدلفة. وهذا مذهب الحنفية رحمة الله عليهم. والقول الثالث: أن الجمع يجوز للمسافر إذا جدّ به السير. وهو مذهب الإمام مالك رحمة الله عليه، ويختاره بعض المحققين كـ ابن القيم وغيره رحمة الله على الجميع، فيقولون: تجمع إذا جدّ بك السير، فلو كنت تريد أن تسافر من مكة إلى المدينة، وخرجت من مكة قبل أن يؤذن الظهر، وأذن الظهر وأنت في الطريق تريد أن تكسب الوقت فلم تنزل للصلاة، حيث تريد أن تدرك حاجة بالمدينة، فحينئذٍ يقولون: يجوز لك أن تؤخر الظهر والعصر إلى آخر وقت العصر؛ لأنه جدّ بك السير وأنت محتاج إلى الوقت فتجمع. وهكذا إذا كان جمع تقديم، فلو خرجت من مكة ونزلت بقرية بين مكة والمدينة، ثم أردت أن تمشي بعد دخول وقت الظهر وتريد أن تكسب الوقت لوصول المدينة، فحينئذٍ تجمع في هذه القرية بين الظهر والعصر جمع تقديم، فهذا هو الذي يعبر عنه العلماء بقولهم: إذا جد به السر. أي: إذا احتاج إلى الجمع لضرورة وحاجة، وهي كسب الوقت، فحينئذٍ يقولون: يجوز الجمع. أما إذا لم تكن هناك حاجة أن تجمع وليس هناك جدّ سير فإنك تبقى على الأصل، ولا يجوز لك الجمع. فهذا بالنسبة لمذهب من يقول بالتفصيل. هناك مذاهب أخرى ضعيفة تفصّل في الجمع بين الصلاتين تفصيلات لا دليل لها من النصوص. وهذه أشهر الأقوال في مسألة الجمع بين الصلاتين. وهناك قول يقول: يجوز جمع التأخير ولا يجوز جمع التقديم. فيرون أنه يرخص للإنسان أن يجمع جمع تأخير، ولا يرون له أن يجمع جمع التقديم. والذي يظهر -والعلم عند الله- مشروعية الجمع، سواءٌ أكان جمع تقديم أم جمع تأخير، والسنة في ذلك صحيحة وثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جمع -بأبي وأمي عليه الصلاة والسلام- بين الظهر والعصر، وبين العشاءين: المغرب والعشاء، جمع جمع تقديم وجمع جمع تأخير. أما الحديث في مسلم فإنه أطلق الجمع، وهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين). وأما بالنسبة لتفصيل الجمع فحديث معاذ ظاهر في ذلك، وقد حسنه غير واحد من الأئمة كـ الترمذي وغيره، فإنه قال: (كان إذا ارتحل -أي: عليه الصلاة والسلام- قبل أن تزول الشمس أخر الظهر فصلاها مع العصر، وإذا ارتحل قبل أن تغرب الشمس أخر المغرب إلى وقت العشاء فصلاهما معاً، وكان إذا ارتحل بعد أن تزول الشمس قدم العصر مع الظهر فصلاهما معاً، وإذا ارتحل بعد أن تغيب الشمس قدم العشاء إلى وقت المغرب فصلاهما معاً)، وهذا يدل على مشروعية جمع التقديم وعلى مشروعية جمع التأخير. وهذا القول الذي يقول بمشروعية الجمع مذهب الجمهور، وذكرنا أن هذا الحديث أصله في صحيح مسلم واضح، فيبقى الإشكال عندنا في القول الذي يقول: لا يجمع إلا إذا جدّ به السير، خاصة وأن الرواية عن معاذ: (كان إذا جدّ به السير)، وهي متكلم فيها، قالوا: ثم إن هذا يقويه النظر، فإن الأصل أن الصلاة تصلى في وقتها، والجمع خارج عن الأصل، فلا يجوز إلا عند وجود الحاجة، فيقولون: إذا جدّ به السير جمع. ويجاب عن هذا القول بحديث تبوك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين ولم يجدّ به سير؛ لأنه كان في خيمته وخبائه عليه الصلاة والسلام، وهذا يؤكد أن الجمع لا يشترط فيه جدّ السير، وبناء على ذلك يترجح قول من قال من الأئمة رحمة الله عليهم: إن الجمع بين الصلاتين مشروع، سواءٌ أكان يحتاجه لجدّ سير أم لغيره، وسواءٌ أقدم أم أخر، فلا حرج عليه في ذلك كله. وقوله: [يجوز الجمع بين الظهرين وبين العشاءين]. الظهران: هما الظهر والعصر، كما يقال: العمران والقمران. فكل ذلك من باب التغليب، والعشاءان: هما المغرب والعشاء. وقوله: [يجوز] يدل على أنه ليس بواجب.

الجمع في عرفة ومزدلفة والحكمة منه

الجمع في عرفة ومزدلفة والحكمة منه اختلف في الجمع في عرفة ومزدلفة، فقال جمع من العلماء والسلف رحمة الله عليهم بوجوبه ولزومه، خاصة وأنه مرتبط بالنسك. وقد شرع الله الجمع تخفيفاً عن المسافر، وشرعه أيضاً للعبادة كما هو الحال في الحج، فإن الإنسان يوم عرفة أذن له أن يجمع بين الظهر والعصر حتى يكون الوقت للذكر والعبادة أطول ويتفرغ لذكر الله سبحانه وتعالى، فإنه إذا صلى الظهر والعصر جمع تقديم كان الوقت لدعائه وذكره لله عز وجل أطول، وكان حظه من الخير أكثر، وهذا يدل على أنه ينبغي على الإنسان إذا انتهى من صلاة الظهر والعصر يوم عرفة أن يقبل على الله عز وجل، وأن يكثر من الدعاء والذكر لله سبحانه وتعالى، على خلاف ما يفعله بعض الجهلة الذين لا يعرفون مقدار هذا المنسك العظيم وهو الوقوف بعرفة، فإنك تجد بعضهم ينام، ولربما يجلس بعضهم لفضول أحاديث الدنيا. فانظر رحمك الله إلى عبادة يقدمها الله عن وقتها، ويشرع لعباده أن يقدموها عن وقتها المعتبر، كل ذلك تعظيماً للذكر والدعاء في هذا اليوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الحج عرفة)، وأشرف شيء وأفضل شيء في يوم عرفة هي السويعات التي قبل مغيب الشمس ما بين انتهاء الصلاتين إلى مغيب الشمس، هذا أفضل ما يكون في يوم عرفة، حتى إن بعض العلماء يقول: أرجى الناس لفضل الله عز وجل من أعطي القوة على الذكر من بعد الصلاة إلى مغيب الشمس، والمحروم من حرم، ولذلك يقولون: إن الله لما شرع لعباده تقديم العصر عن وقتها وجب على العباد أن يتنبهوا لشرف هذا الموقف. فهذا الجمع يقصد به المعونة على الذكر لشرف الموقف الذي يباهي الله عز وجل به ملائكته، مع أن الصلاة من أفضل الطاعات وأفضل الأعمال بعد الإيمان بالله، قال صلى الله عليه وسلم: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، وهذا كله يؤكد أن هذا الجمع قصد منه أن يتفرغ لذكر الله عز وجل، ولذلك يجمع أهل مكة، ولو كانوا مع الإمام فإنهم يجمعون، مع أنهم مقيمون وفي حكم المقيم، وبناء على ذلك قالوا: إنه ينبغي أن يكون هذا الجمع يقصد به الاستعانة في هذا الوقت على ذكر الله عز وجل والتفرغ للدعاء. وأما الجمع ليلة المزدلفة فإنه يجمع بمجرد وصوله تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم ليرتاح بعد عناء الموقف، ووراءه المنسك الذي يكون بعد الفجر، وهذا الموقف أيضاً له فضله وله شرفه، فهو مشعر وله مكانته، حتى قال بعض السلف: شهدت هذا المكان أكثر من ستين عاماً أسأل الله العظيم أن لا يجعله آخر العهد فردني إليه، وإني أستحيي أن أسأله هذه السنة، فمات من عامه، وكان من أئمة الحديث، فما رد الله دعاءه في هذا الموقف وهو موقف المشعر، فيقولون: إنه شرع أن يجمع بين المغرب والعشاء حتى يتقوى بنومه، فإذا استيقظ استطاع أن يقف للدعاء بنفس مرتاحة وصدر منشرح، فيقوى على الذكر والطاعة. ولذلك كان الجمعان لقصد النسك، فلهما ارتباط بالنسك، ويؤكد هذا أنه لما قدم عليه الصلاة والسلام منى ما جمع بين الصلاتين، ولو كان الجمع للسفر، أو لشيء آخر منفك عن الحج لجمع في منى عليه الصلاة والسلام، لكن كونه عليه الصلاة والسلام يخص هذين الموضعين بالجمع يدل على أن الجمع قصد به الاستعانة على الذكر والدعاء في هذين المشعرين العظيمين. فلما قال: [يجوز] دل على أنه ليس بواجب، أي: يباح لك. وهذه رخصة، فإن أخذت بها فلا حرج، وإن صليت كل صلاة في وقتها فإن ذلك هو الأصل ولا عتبى ولا حرج عليك، لكن لو أن الإنسان وجد المشقة والحرج في الصلاة لوقتها وإذا جمع وجد التيسير والراحة فإنهم قالوا: إنه ينبغي له أن يستعين برخص الله عز وجل، كما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (عليكم برخص الله التي رخص لكم). فمن السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين الصلاتين، خاصة إذا وجد ما يوجب الجمع. فلما قال لنا رحمه الله: [يجوز الجمع]، فهمنا من ذلك أن رخصة الجمع ليست بواجبة ولا بلازمة، وأن المكلف مأذون له بذلك الفعل، فلا هو ملزم به ولا هو واجب عليه، وكذلك ليست بمحرمة ولا مكروهة، فالإذن بها إذن إباحة، بمعنى أنه يجوز له أن يفعل الجمع وأن يتركه، ولكن قال العلماء: إذا كانت هناك حاجة فالأفضل أن يجمع؛ لما فيه من التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، فكونه يجمع تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم أفضل، وكذلك إذا قصد إحياء السنة، كأن يكون بين قوم يجهلون أحكام الجمع، فيحيي هذه السنة بينهم حتى يتعلموا، أو يكون معه طلاب علم وهو ليس بحاجة للجمع في طريقه ولكنه يجمع حتى يعلموا أحكام الجمع، فذلك مستحب له ومندوب. [في وقت إحداهما في سفر قصر]. وقوله: [في وقت إحداهما] تضمن نوعين من أنواع الجمع: النوع الأول: ما يوصف بكونه جمع تقديم، وذلك بأن توقع الصلاة الثانية في وقت الصلاة الأولى، فتصلي العصر في وقت الظهر، وتصلي العشاء في وقت المغرب، فهذا هو جمع التقديم. النوع الثاني: جمع التأخير، بأن تكون الصلاة الأولى في وقت الصلاة الثانية، فتؤخر الظهر وتصليها مع العصر، أو تؤخر المغرب وتصليها مع العشاء. وليعلم أن الأصل في الصلوات أن تصلى كل صلاة في وقتها؛ لأن الله يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] أي: محدداً. وقد ألزم النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالصلاة في مواقيتها، وقال للأعرابي لما صلى له في اليومين: (ما بين هذين وقت)، أي: ألزمه وقتاً للصلاة، فعندنا شيء يسمى: أصل، وشيء يسمى: رخصة، فالشيء الذي هو الأصل أن تصلى كل صلاة في وقتها، فالظهر يصلى في وقته، والعصر يصلى في وقته، والمغرب يصلى في وقته، والعشاء يصلى في وقته، ولكن لما جاء الإذن من الشرع بفعل الجمع كان رخصة من هذا الوجه.

أعذار الترخيص في الجمع بين الصلاتين

أعذار الترخيص في الجمع بين الصلاتين

السفر

السفر قال رحمه الله تعالى: [يجوز الجمع بين الظهرين وبين العشائين في وقت إحداهما في سفر قصر] أي: محل الرخصة أن يكون الإنسان مسافراً سفر قصر، ولذلك لا يجمع الصحيح في غير السفر على ما اختاره المصنف رحمه الله وهو قول الجماهير، فالجمع من حيث الأصل يكون في السفر، وأما جمع المرض وجمع الخوف فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. ولذلك يجمع على الصورة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث معاذ، وحديث أنس بن مالك، وحديث عبد الله بن عمر، وكلها في جمعه عليه الصلاة والسلام في السفر. وسفر القصر ينقسم إلى أقسام: فإما أن يكون سفراً واجباً، وإما أن يكون سفراً مندوباً، وإما أن يكون سفراً مباحاً، فأنت إذا سافرت لحج فريضة فهذا سفر واجب تجمع فيه الصلاة، ويجوز لك أن تجمع قولاً واحداً عند من يقول بالجمع، وإذا سافرت إلى سفر مندوب وسفر طاعة وقربة مندوب إليها كعمرة النافلة، فإن هذا سفر مندوب، وتجمع فيه وجهاً واحداً لأهل العلم، ولكن إذا سافرت سفراً مباحاً كالتجارة وزيارة بعض أحبابك وإخوانك دون أن تكون بقصد القربة، فحينئذٍ اختلف العلماء: فجمهور من يقول بجواز الجمع يقول: لا فرق عندي بين أن يكون السفر سفر طاعة أو سفراً مباحاً. وهناك من يقول من السلف: إن الجمع يختص بالسفر الذي هو سفر القربة والطاعة، أما لو سافر للتجارة، أو سافر لنزهة وسياحة، أو لصيد فإنه لا يجمع بين الصلاتين، كما يختاره الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس رحمة الله على الجميع. والصحيح أن كل سفر تقصر فيه الصلاة سواءٌ أكان واجباً أم مندوباً أم مباحاً، حل للإنسان أن يجمع الصلاة فيه.

المرض

المرض [وبين العشاءين لمطر يبل الثياب أو لوحل]. (وبين العشاءين لمطر يبل الثياب) هذا السبب الثالث الذي يبيح الجمع: المطر، وللعلماء في المطر قولان مشهوران: القول الأول: أنه إذا وقع المطر جاز للإنسان أن يجمع بين الصلاتين، وهذا هو مذهب جمهور السلف رحمة الله عليهم، فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وكذلك أبان بن عثمان فعله بالمدينة، وفعله عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد، وهو مذهب الشافعية والحنابلة وطائفة من أصحاب الحديث، وقال به أجلاء التابعين: كـ سعيد بن المسيب ومحمد بن القاسم بن أبي بكر الصديق وخارجة بن زيد وكذلك أبو سلمة ابن عبد الرحمن ونحوهم من الأجلاء قالوا: إن الجمع في المطر رخصة، ولا حرج إذا نزل المطر أن يجمع بين الصلاتين على تفصيل عندهم، رحمة الله على الجميع. القول الثاني يقول: إنه لا يجمع في المطر، وهذا القول هو مذهب أهل الرأي، فالقول الأول للجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة وأهل الحديث، والقول الثاني للحنفية: لا يجمع في المطر، وهو قول إبراهيم النخعي وكذلك ابن سيرين، رحمة الله على الجميع. أصح هذين القولين هو القول بمشروعية الجمع في المطر، وذلك لحديث ابن عباس في الصحيح أنه قال: (جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين في غير مطر ولا سفر)، فلما قال: (مطر ولا سفر)، دل على أن المطر يوجب الترخيص بفعل الجمع كما أن السفر يوجب ذلك، وعلى هذا لو نزل المطر فمتى يجمع؟ الذين قالوا بمشروعية أن يجمع الإنسان في المطر لهم قولان: القول الأول يقول: يجوز لك أن تجمع الظهر مع العصر، وتجمع المغرب مع العشاء، وهذا مذهب الشافعية وطائفة من أصحاب الإمام مالك، رحمة الله على الجميع. والقول الثاني يقول: إنك لا تجمع في المطر إلا بين المغرب والعشاء كما درج عليه المصنف فقال رحمه الله: (ولمطر بين العشاءين) أي: تجمع بين المغرب والعشاء فقط، أما الظهر والعصر فلا تجمع بينهما للمطر؛ والسبب في هذا القول الذي يقول بالتخصيص وهو مذهب الحنابلة والمالكية رحمة الله عليهم أنهم يرون أن النصوص التي وردت بالجمع إنما وردت في المغرب والعشاء، والظاهرية استدلون بإطلاق ابن عباس: (من غير مطر ولا سفر)، قالوا: هذا فيه إطلاق، فيدل على مشروعية الجمع، سواء كان بين الظهر والعصر أو بين المغرب والعشاء. والقول بالتخصيص بالمغرب والعشاء من القوة بمكان، ووجه ذلك: أنه إذا كان المطر في الليل فإن الناس يصيبهم الضرر، والغالب أن المطر يصحب بالريح، فلا يأمن عند تبلل ثيابه أن يأتيه ضرر في جسده، ثم لا يأمن إذا أصاب الأرض الوحل والطين أن تزل قدمه، ويستضر الناس إذا كان المطر موجوداً في ثيابهم وكذلك إذا كان يصيبهم في مشيهم وذهابهم إلى المسجد، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة في الرحال)، حيث أذن إذا كان هناك المطر أن ينادي المنادي الصلاة في الرحال، فرخص في تركها، فكذلك يرخص إذا وجد المطر في الجمع بين الصلاتين أعني: المغرب والعشاء. ومذهب التخصيص يستدل بحديث أبي النجاد رحمه الله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء)، وليس هناك حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، فقالوا: فتبقى الظهر والعصر على الأصل ويرخص في المغرب والعشاء؛ لأن الحاجة والمشقة في الليل أكثر، وهذا القول أحوط القولين وأولاهما -إن شاء الله- بالصواب: أنه لا يجمع في المطر إلا بين المغرب والعشاء. ثم إذا جمّع بين المغرب والعشاء في المطر فالمحفوظ من هدي السلف الصالح رحمة الله عليهم أنهم كانوا يؤخرون المغرب قليلاً، كما جاء عن أبان بن عثمان حينما أمّ وصلى عبد الله بن عمر معه ولم ينكر عليه: كان ينتظر إلى اختلاط الشفق -حمرة الشفق- بوجه الليل، أي: ابتداء الظلمة، قالوا: هذا أرفق بالناس. فالجمع بين العشاءين يكون جمع تقديم، هذا في الأصل، وإلا فيجوز أن يجمع جمع تأخير، لكن قالوا: يجمع جمع تقديم؛ لأن الناس -خاصة في القديم- إذا مضوا إلى المسجد في صلاة المغرب، وجمع جمع تأخير فإن هذا سيضر بهم؛ لأنه سيتركهم ينتظرون إلى صلاة العشاء ويجحف بهم، فيفوت المعنى الذي من أجله شرع الجمع بين الصلاتين، ولذلك يقولون: إنه لا يؤخر ولكن يمضي ويصلي صلاة المغرب والعشاء في وقت المغرب، أي: يكون الجمع في وقت الأولى. واستثنى العلماء ما لو كان جمع التأخير أرفق، فإذا كان جمع التأخير أرفق مثل: لو أن إنساناً خرج في نزهة مع جماعة أو مع أصحابه أو رفقائه وأصابهم المطر على وجه المغرب ثم مضوا إلى بيوتهم، فإنهم لو نزلوا شق عليهم ذلك ولا يستطيعون أن يجمعوا، فاختاروا أن يؤخروا المغرب والعشاء إلى وقت العشاء فلا حرج؛ لأن جمع التأخير في حق هؤلاء أرفق، لكن جماعة المسجد جمع التقديم في حقهم أرفق، ولذلك يجمع جمع تقديم بين صلاة المغرب والعشاء؛ للأسباب التي ذكرناها من وجود الحرج والمشقة للمصلين.

المطر

المطر قال رحمه الله تعالى: [وبين العشاءين لمطر يبل الثياب أو لوحل]. هذا السبب الثالث الذي يبيح الجمع، وهو المطر، وللعلماء في المطر قولان مشهوران: القول الأول: أنه إذا وقع المطر جاز للإنسان أن يجمع بين الصلاتين. وهذا هو مذهب جمهور السلف رحمة الله عليهم، وفعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر، وكذلك أبان بن عثمان فعله بالمدينة، وفعله عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد، وهو مذهب الشافعية والحنابلة وطائفة من أصحاب الحديث، وقال به أجلاء التابعين كـ سعيد بن المسيب، ومحمد بن القاسم بن أبي بكر الصديق وخارجة بن زيد، وكذلك أبو سلمة ابن عبد الرحمن ونحوهم من الأجلاء، قالوا: إن الجمع في المطر رخصة، ولا حرج إذا نزل المطر أن يجمع بين الصلاتين، على تفصيل عندهم رحمة الله على الجميع. القول الثاني يقول: إنه لا يجمع في المطر. وهذا القول هو مذهب أهل الرأي، فالقول الأول للجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة وأهل الحديث، والقول الثاني للحنفية، وهو قول إبراهيم النخعي، وكذلك ابن سيرين رحمة الله على الجميع. وأصح هذين القولين هو القول بمشروعية الجمع في المطر، وذلك لحديث ابن عباس في الصحيح أنه قال: (جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين في غير مطر ولا سفر)، فلما قال: (مطر ولا سفر) دل على أن المطر يوجب الترخيص بفعل الجمع، كما أن السفر يوجب ذلك. والذين قالوا بمشروعية أن يجمع الإنسان في المطر لهم قولان في الصلوات التي يجمع بينها: القول الأول يقول: يجوز لك أن تجمع الظهر مع العصر، وتجمع المغرب مع العشاء، وهذا مذهب الشافعية وطائفة من أصحاب الإمام مالك رحمة الله على الجميع. والقول الثاني يقول: إنك لا تجمع في المطر إلا بين المغرب والعشاء، كما درج عليه المصنف فقال رحمه الله: [وبين العشاءين لمطر. ] أي: تجمع بين المغرب والعشاء فقط، أما الظهر والعصر فلا تجمع بينهما للمطر. والسبب في هذا القول الذي يقول بالتخصيص -وهو مذهب الحنابلة والمالكية رحمة الله عليهم- أنهم يرون أن النصوص التي وردت بالجمع إنما وردت في المغرب والعشاء، والظاهرية استدلوا بإطلاق ابن عباس: (من غير مطر ولا سفر)، قالوا: هذا فيه إطلاق، فيدل على مشروعية الجمع، سواءٌ أكان بين الظهر والعصر أم بين المغرب والعشاء. والقول بالتخصيص بالمغرب والعشاء من القوة بمكان، ووجه ذلك أنه إذا كان المطر في الليل فإن الناس يصيبهم الضرر، والغالب أن المطر يصحب بالريح، فلا يأمن عند تبلل ثيابه أن يأتيه ضرر في جسده، ثم لا يأمن إذا أصاب الأرض الوحل والطين أن تزل قدمه، ويستضر الناس إذا كان المطر في ثيابهم، وكذلك إذا كان يصيبهم في مشيهم وذهابهم إلى المسجد، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة في الرحال)، حيث أذن إذا كان هناك المطر أن ينادي المنادي: (الصلاة في الرحال)، فرخص في تركها، فكذلك يرخص إذا وجد المطر في الجمع بين الصلاتين، أعني المغرب والعشاء. ومذهب التخصيص يستدل بحديث أبي النجاد رحمه الله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء)، وليس هناك حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، فقالوا: تبقى الظهر والعصر على الأصل، ويرخص في المغرب والعشاء؛ لأن الحاجة والمشقة في الليل أكثر، وهذا القول أحوط القولين وأولاهما -إن شاء الله- بالصواب، فلا يجمع في المطر إلا بين المغرب والعشاء. ثم إذا جمّع بين المغرب والعشاء في المطر فالمحفوظ من هدي السلف الصالح رحمة الله عليهم أنهم كانوا يؤخرون المغرب قليلاً، كما جاء عن أبان بن عثمان -حينما أمّ وصلى عبد الله بن عمر معه ولم ينكر عليه- أنه كان ينتظر إلى اختلاط الشفق -حمرة الشفق- بوجه الليل، أي: ابتداء الظلمة. قالوا: هذا أرفق بالناس. فالجمع بين العشاءين يكون جمع تقديم في الأصل، وإلا فيجوز أن يجمع جمع تأخير، لكن قالوا: يجمع جمع تقديم؛ لأن الناس -خاصة في القديم- إذا مضوا إلى المسجد في صلاة المغرب وجمع جمع تأخير فإن هذا سيضر بهم؛ لأنه سيتركهم ينتظرون إلى صلاة العشاء ويجحف بهم، فيفوت المعنى الذي من أجله شرع الجمع بين الصلاتين، ولذلك يقولون: إنه لا يؤخر، ولكن يمضي ويصلي صلاة المغرب والعشاء في وقت المغرب، أي: يكون الجمع في وقت الأولى. واستثنى العلماء ما لو كان جمع التأخير أرفق، كما لو أن إنساناً خرج في نزهة مع جماعة أو مع أصحابه أو رفقائه، وأصابهم المطر وقت المغرب، ثم مضوا إلى بيوتهم، فإنهم لو نزلوا شق عليهم ذلك ولا يستطيعون أن يجمعوا، فإن اختاروا أن يؤخروا المغرب والعشاء إلى وقت العشاء فلا حرج؛ لأن جمع التأخير في حق هؤلاء أرفق، لكن جماعة المسجد جمع التقديم في حقهم أرفق، ولذلك يجمع جمع تقديم بين صلاة المغرب والعشاء للأسباب التي ذكرناها من وجود الحرج والمشقة على المصلين.

الوحل والريح الشديدة

الوحل والريح الشديدة قال رحمه الله تعالى: [أو لوحل وريح شديدة باردة]. قوله: [أو لوحل] أي: أن ينقطع المطر ثم تبقى الأرض فيها الزلق والوحل، قالوا: فيجوز أن يجمع، وهذا في الحقيقة فيه خلاف، وإن كان قوّى غير واحد من الأئمة أن الوحل لا يوجب الجمع، وهو من القوة بمكان، لعدم ورود النص بالترخيص في مثله، وإنما رخص في المطر، وشرط المطر الذي يبيح للناس أن يجمعوا بين المغرب والعشاء أن يكون مطراً يبل الثياب، أما لو كان مطراً يسيراً أو خفيفاً فإنه لا يوجب الترخيص في الجمع. وفي حكم المطر الثلج، ثم يفصل في الثلج مثلما يفصل في المطر، فإن كان الثلج يسيراً وخفيفاً لا يشق على الناس أن يصلوا كل صلاة في وقتها فلا جمع، وإن كان الثلج كثيراً ويؤذي الناس فإنهم يجمعون بين الصلاتين كالحال في المطر. وقوله: [وريح شديدة باردة]. هذا قول بالقياس، وهو قول ضعيف. والصحيح أن الريح الشديدة لا توجب الجمع بين الصلاتين، إعمالاً للأصول من النصوص الواردة في الكتاب والسنة بإلزام المكلف بإيقاع كل صلاة في وقتها، واستثني ما استثني من الجمع لورود النص، فلا يقوى القياس ولا الإلحاق. قال رحمه الله تعالى: [ولو صلى في بيته أو مسجد طريقه تحت ساباط]. إذا كان العلماء رحمة الله عليهم يقولون: إن الناس يرخص لهم أن يجمعوا بين المغرب والعشاء لمكان المطر، فهذه الرخص التي تقع في المطر وفي السفر وفي المرض نظر الشرع فيها إلى غالب أحوال الناس، فأعطى الرخصة بغض النظر عن أفراد لا تتوفر فيهم معاني الرخصة، وتوضيح ذلك أن الأصل في السفر أن فيه مشقة، وأن فيه عناءً وتعباً ونصباً، فلو فرض أن إنساناً سافر ولم يجد عناءً ولا مشقةً ولا نصباً فلا نقول: يبقى على الأصل ولا يفطر ويبقى على موجب الإمساك والصيام، بل نقول: إن الرخصة هنا عامة من الشرع ولا يلتفت فيها إلى الأفراد، كأن الشرع قال: الغالب في السفر أن يكون فيه الضرر، فلا عبرة بالنادر؛ لأن الحكم للغالب، كذلك هنا -إذا قلت: إن المطر يوجب الترخيص- لأن الناس إذا مضوا إلى المسجد تضرروا، فلو فرضنا أن المسجد طريقه مظلل، أو كان الإنسان قريباً من المسجد، أو بيوت الناس كلها تطل على المسجد، فليس هناك وحل، وليس هناك ضرر ببلة الثياب، فهل نقول: لا يجمعون؟ قال بعض العلماء: العبرة عندي بوجود موجب الرخصة، أي: الوصف العام وهو وجود المطر، بغض النظر عن كونه يتضرر أو لا يتضرر، وبغض النظر عن كون طريقه تحت الساباط الذي هو المظلات التي هي مثل ما يكون تحت البيوت، أو الذي يكون ملصقاً بالبيوت يقي الناس الشمس ويقيهم المطر، فيقول: العبرة عندي بوجود المطر، بغض النظر عن كونهم تضرروا أو لم يتضرروا، كالحال الآن، حيث يمكنه أن يركب سيارته ويمضي إلى المسجد فلا يبتل له ثوب ولا يتضرر، قالوا: لا نلتفت إلى هذا؛ لأن الحكم للغالب والنادر لا حكم له. وهذا أصل في الرخص، فيقولون: ننظر إلى الأصل، وكون بعض الأفراد يتخلف فيهم المعنى الذي هو موجب الرخصة لا نلتفت إليهم، ولذلك لو اعترض عليك معترض وقال: كيف تقولون بالفطر والإنسان قد يسافر في طائرة وقد يسافر في سيارة وهو مستريح؟ تقول له: أذن الله بالفطر في السفر؛ لأن الغالب فيه وجود المشقة، وكون النادر في بعض العصور وفي بعض الأزمنة لا يلتفت إليه؛ لأن الشريعة لا تلتفت إلى عصر دون عصر، ولكن إذا اختلفت العصور فإنك تنظر إلى الغالب، وبناء على ذلك فالغالب أنه إذا نزل المطر تضرر الناس، فكون بعض الناس يكون طريقهم إلى المسجد لا مضرة فيه ولا مشقة لا يلتفت إليه، ويبقى على الأصل من موجب الرخصة.

مسائل في الجمع بين الصلاتين

مسائل في الجمع بين الصلاتين

الأفضل من جمع التأخير أو التقديم

الأفضل من جمع التأخير أو التقديم قال رحمه الله تعالى: [والأفضل فعل الأرفق به من تأخير أو تقديم]. الأفضل للإنسان إذا أراد أن يجمع لسفر أو مرض أو مطر أن ينظر إلى الأرفق، فإن كان الأرفق به أن يقدم قدم، وإن كان الأرفق به أن يؤخر أخر؛ لأنها رخصة وسعة، وقد استحب بعض العلماء أن يجمع جمع التأخير، قالوا: لأن جمع التأخير لا خلاف فيه عند من يقول بمشروعية الجمع، ولكن جمع التقديم فيه خلاف، وجمع التأخير تقع فيه الصلاة الثانية وقد دخل وقتها؛ لأنها تقع بعد حكم الشرع بفعلها، ولكن جمع التقديم تكون فيه الصلاة الثانية في غير وقتها، ولذلك قالوا: الأفضل أن يراعي جمع التأخير. فهذا مذهب بعض العلماء، وهو تفضيل جمع التأخير على جمع التقديم. والصحيح أن الإنسان ينظر إلى الأرفق؛ لأن الله وسع على عباده بالجمع، فليس لنا أن نحد حداً معيناً، وإنما نقول: ما دام أن الله وسع عليك فإن كان الأرفق بك أن تجمع جمع تقديم فافعل، وإن كان الأرفق بك أن تجمع جمع تأخير فافعل، والدليل على ذلك السنة، فقد روي أنس رضي الله عنه -كما في الصحيح-، وكذلك مثله حديث معاذ في السنن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس -يعني: قبل أن تزول- أخر الظهر إلى وقت العصر فصلاهما معاً، وإذا ارتحل قبل أن تغرب الشمس أخر المغرب إلى وقت العشاء فصلاهما معاً)، فقوله: (كان إذا ارتحل قبل أن تزول الشمس) يلاحظ فيه أنه إذا ركب قبل أن تزول الشمس وقبل أن يدخل وقت الأولى فالأرفق أن يؤخر، وقوله كذلك: (وكان إذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس قدم العصر إلى وقت الظهر فصلاهما معاً)، فدل على أن الأفضل للمكلف أن ينظر إلى الأرفق، فإن كان الأرفق به أن ينزل ويصلي في أول الوقت نزل وصلى، وإن كان الأرفق أن يؤخر أخر. فلو أنك خرجت من مكة تريد المدينة وأذّن للظهر وأنت تريد حاجة وقت العصر، فإنك إن نزلت وصليت ربما تأخرت عن حاجتك، فإذا شئت نزلت وجمعت جمع التقديم ولا حرج، لكن لكون التأخير أفضل لك حتى تدرك الوقت وتحصل جد السير فحينئذٍ تجمع جمع تأخير ولا حرج، والعكس بالعكس أيضاً، فلو أن إنساناً أذن عليه الأذان بعد أن خرج من مكة ويريد أن يقف لزاد ونحو ذلك، فقال: ما دمت أني واقف فالأفضل أن أصلي الصلاتين فصلاهما حتى يكسب الوقت فلا حرج، فلا يقيد الناس ولا يلزمون بتقديم ولا بتأخير.

النية في الجمع بين الصلاتين

النية في الجمع بين الصلاتين قال رحمه الله تعالى: [فإن جمع في وقت الأولى اشترط نية الجمع عند إحرامها]. قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)، فإذا أردت أن تجمع فيشترط أن تنوي الجمع في وقت أولاهما، فتكون النية أن تجمع الثانية إلى الأولى، وعلى هذا فإذا نويت كان لك الجمع، وأما إذا لم تنو فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإنما لكل امرئ ما نوى)، فمن نوى الجمع كان له، ومن لم ينو لم يكن له. وقالت طائفة من العلماء: النية ليست بشرط للجمع، ويجوز له أن يجمع ولو لم ينو.

مبطلات الجمع بين الصلاتين

مبطلات الجمع بين الصلاتين قال رحمه الله تعالى: [ولا يفرق بينهما إلا بمقدار إقامة ووضوء خفيف ويبطل براتبة بينهما]. قوله: [ولا يفرق بينهما] يعني: لا يفرق بين الظهر والعصر، ولا بين المغرب والعشاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الفاصل بين الصلاتين قليلاً، فلما صلى عليه الصلاة والسلام المغرب والعشاء ليلة النحر بمزدلفة تركهم بقدر ما يحط الإنسان رحله، ولذلك قالوا: بقدر ما يتوضأ الإنسان ويفرغ من وضوئه. وهذا هو الهدي، يقولون: لأن الجمع بين الصلاتين جعل الصلاتين قد صارتا بمثابة الصلاة الواحدة، فلا تدخل بينهما راتبة، ولا تدخل بينهما فاصلاً مؤثراً، كمن ينام نوماً يفصل بين الصلاتين به، أو كشغل يخرج به عن الصلاة، قالوا: فإذا وقع الفاصل فإنه لا جمع، وحينئذٍ يصلي الثانية في وقتها ولا يجمع جمع التقديم. قوله: [ويبطل براتبة بينهما]. ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسن بين المغرب والعشاء، فقال: (ولم يسبح على إثر واحدة منهما) كما في الصحيحين، فدل على أنه لا يصلي الراتبة بينهما. قال رحمه الله تعالى: [وأن يكون العذر موجوداً عند افتتاحهما وسلام الأولى]. هذا في المطر، فلو أن الإنسان أراد أن يجمع في المطر بين المغرب والعشاء، فيشترط عند تكبيرة الإحرام أن يكون المطر موجوداً، فيكبر للمغرب والمطر موجود، ويسلم من المغرب والمطر موجود، وحينئذٍ يقيم ويصلي العشاء ويكبر ويكون المطر موجوداً، فلو أنه كبر للمغرب والمطر موجود، ثم بعد ذلك انقطع المطر، فسلم والمطر منقطع، فحينئذٍ لا يجمع؛ لأن موجب الرخصة غير موجود، وينتظر إلى دخول وقت الثانية، لكن لو أنه كبر ثم انقطع المطر بعد تكبيره حتى كان في الركعة الثالثة، فنزل المطر فسلم والمطر ينزل، فأقام وكبر للعشاء والمطر لا زال نازلاً، ثم بعد ذلك انقطع قبل سلامه من العشاء صح فعله وأجزأه. وقال بعض العلماء: لا يصح إلا إذا سلم من العشاء والمطر موجود. وهذا على مسألة: (هل العبرة بالابتداء، أو العبرة بالانتهاء) كمسألة من تيمم ثم رأى الماء أثناء الصلاة، فإن قلنا: العبرة بإحرامه مضت له الرخصة ولا يقطع، وإن قلنا: العبرة بسلامه -وهو أحوط ورجحناه في التيمم- فإنه حينئذٍ لا يعتد بجمعه.

اشتراط النية قبل الجمع بين الصلاتين وبقاء العذر إلى دخول وقت الثانية

اشتراط النية قبل الجمع بين الصلاتين وبقاء العذر إلى دخول وقت الثانية قال رحمه الله تعالى: [وإن جمع في وقت الثانية اشترط نية الجمع في وقت الأولى إن لم يضق عن فعلها واستمر العذر إلى دخول وقت الثانية]. إذا كان الإنسان يريد أن يؤخر الظهر إلى وقت العصر، أو المغرب إلى وقت العشاء فإنه ينوي عند تأخيره أن يجمع، أما إذا لم ينو فإنه حينئذٍ تخرج عليه الصلاة الأولى، فيكون كأنه ترك الصلاة الأولى، فتعتبر صلاة قضاء لا صلاة جمع، والدليل على ما ذكرناه قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)؛ لأن من ترك الصلاة الأولى حتى دخل وقت الصلاة الثانية لا يخلو من حالتين: الأولى: أن يكون معذوراً لنسيان أو نوم ونحو وذلك. الثانية: أن يكون غير معذور. فلما لم ينو الجمع دخل في حكم غير المعذور، وبقيت صلاته قضاءً لا جمعاً. وقوله: [واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية] بمعنى أنه يستمر المطر إلى دخول وقت الثانية، وهكذا السفر، فلو أن جماعة خرجوا لتدريس ونحو ذلك مسافة مائة كيلو، ثم رجعوا بعد انتهاء التدريس وأرادوا أن يجمعوا بين الظهر والعصر -لأنهم إذا دخلوا مكة سيكونون في عناء السفر ومشقة السفر، وقد يصعب عليهم أن يصلوا بعد التعب أو يكون عندهم من الخشوع ما يستحضرون به الصلاة- فنقول: فيه تفصيل: فإن كان دخولهم إلى مكة بعد دخول وقت الثانية فحينئذٍ يصح جمعهم؛ لأن العذر استمر إلى دخول وقت الثانية وهم مسافرون، فترخصوا برخصة لوجود موجبها، وأما لو دخلوا قبل أذان العصر فحينئذٍ لا يعتد بجمعهم، وعليهم أن يصلوا ثم بعد ذلك يرتاحون، فلو شق عليهم أن ينتظروا الجماعة نقول: امضوا إلى بيوتكم وصلوا؛ لأن الإنسان إذا شق عليه حضور الجماعة وانتظار ثلث الساعة أو نصفها الذي بين الأذان والإقامة بحيث يشق عليه فحينئذٍ يجوز له أن يقيم وأن يصلي العصر، ويكون ممن رخص له في الجماعة، كما تقدم معنا في أعذار ترك الجماعة.

الأسئلة

الأسئلة

الجمع الصوري بين الصلاتين

الجمع الصوري بين الصلاتين Q هل قال بعض العلماء رحمهم الله بأن حديث ابن عباس محمول على الجمع الصوري؟ وما هو الجمع الصوري وحكمه؟ A حديث ابن عباس حمل على الجمع الصوري عند الجمهور، وهناك من روى الحديث عن ابن عباس فقال: أراد أن يؤخر الظهر إلى قرب وقت العصر فيصلي الظهر فيدخل وقت العصر ويصليها. وهذا أصح الأقوال. والحقيقة أن حديث ابن عباس نفسه في صحيح مسلم يؤكد هذا، فـ ابن عباس كان أميراً على الكوفة، ثم خطب الناس في يوم في الظهر، فكانت خطبته طويلة؛ لأن الخطبة في مصالح المسلمين فيها توجيه ويصعب قطعها، فما زال يخطب، فقام له أعرابي وقال: الصلاة. فسكت عنه ابن عباس واستمر في خطبته، فقام له مرة ثانية وقال: الصلاة. فسكت عنه، فقام المرة الثالثة وقال: الصلاة، فقال له: (أتعلمنا بالصلاة لا أم لك؟! جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير مطر ولا سفر)، فقالوا: إن ابن عباس أخر الظهر إلى آخره، فلما أقام وصلى الظهر دخل وقت العصر فأقام للعصر وصلاها، مع أن الأصل يقتضي أن يصلي الظهر في أول وقتها، فهذا وجه الرفق، وهذا وجه دفع الحرج؛ لأن الناس بدل أن يخرجوا للظهر ويرجعوا إلى بيوتهم، ثم يرجعوا إلى العصر ويرجعوا مرة ثانية إلى بيوتهم سهل عليهم بأن يصلوا الصلاتين بخروج واحد ورجوع واحد، وهذا هو وجه قوله: (أراد أن لا يحرج أمته)؛ لأن الأصل يقتضي أن تصلى الصلاة لوقتها، وهذا في الحقيقة هو أقوى الأقوال وأولاها بالصواب، خاصة وأن من روى عن ابن عباس فسره بذلك وقال: أراه ذلك. وأيضاً عندنا قاعدة، وهذه القاعدة تدل عليها السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال للصحابة: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة) قالت طائفة: النبي صلى الله عليه وسلم قصد التعجيل، فنبقى على الأصل، فنصلي العصر في وقتها. وقالت طائفة: نبقى على ظاهر اللفظ. فلما علم بالطائفتين أخبر أن الذين صلوا في الوقت أصابوا السنة؛ لأنهم نظروا إلى أن الأصل في الصلاة أن تصلى في وقتها، ونظروا إلى أن الحديث: (لا تصلو العصر إلا في بني قريظة) محتمل بين أن يكون للاستعجال وأن يكون على ظاهره، فردوا الأمر إلى أصله فقال: (أصابت السنة)، فالرجوع إلى الأصل هو إصابة للسنة. فكان عندنا الأصل أن الله تعالى يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]. ولو قلنا بالجمع بدون حاجة فمعنى ذلك أن الظهر والعصر صار وقتهما واحداً، فحينما تجمع لعذر وغير عذر تصير الظهر والعصر بمثابة الصلاة الواحدة، وبناء على ذلك سنلغي الأصل بناء على هذا الحديث، فتلغى نصوص الكتاب، وتلغى أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة، لكن حينما تبقي أحاديث المواقيت على دلالتها وآيات المواقيت على دلالتها وتقول: الجمع في حديث ابن عباس جمع صوري، ومعنى: (أن لا يحرج أمته) على ظاهره تكون جامعاً بين النصوص، والجمع بين النصوص أولى من العمل ببعضها وترك الآخر، والنفس تميل إلى هذا. يقول العلماء: لو أن شيخاً أو عالماً عنده أمر مهم، أو كان الناس عندهم موضوع مهم لا يستطيعون أن يقطعوه، وهم يتشاورون في أمره فلهم أن يؤخروا الصلاة، فيجلسون يتحدثون حتى يقضوا هذا الأمر وينتهوا منه ويفرغوا منه، ثم يقيمون للصلاة الأولى التي هي الظهر، ثم بعد ذلك يقيمون للعصر ويصلونها، وهكذا المغرب والعشاء، وكل ذلك تيسير من الله عز وجل ولطف بعباده.

العبرة بنية الجمع حال الائتمام

العبرة بنية الجمع حال الائتمام Q إذا دخل الرجل مع إمام يريد أن يجمع ولم يعلم إلا بعد انتهاء الصلاة الأولى، فهل يحق له الجمع ونية الإمام نية النفل، أم لا يحق له ذلك؟ A النية معتبرة بالمأموم، فكل مأموم على حده، فإن نوى صح جمعه عند من يقول باشتراط النية، وإن لم ينو لم يصح جمعه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

فصل: صلاة الخوف

شرح زاد المستقنع - فصل: صلاة الخوف من رحمة الله تعالى بعباده وتيسيره عليهم أنه لم يكلفهم بأداء الصلاة كما هي إذا كان في حال خوف وفزع، بل شرع لهم صلاة الخوف المتضمنة للتيسير والتخفيف، ولها عدة صفات كلها جائزة وصحيحة، وسواء كان الخوف خوف قتال، أو خوفاً من غيره.

أحكام صلاة الخوف

أحكام صلاة الخوف

سبب مشروعيتها

سبب مشروعيتها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: وصلاة الخوف صحت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفات كلها جائزة]. صلاة الخوف: هي صلاة القتال، وهذه الصلاة شرعها الله في كتابه، وكذلك شرعت بهدي رسوله عليه الصلاة والسلام، وقال بها جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم، وفعلها النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع، حتى ذكر الإمام ابن العربي رحمه الله أن لها ثماني عشرة صفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الذي اشتهر في المرويات -كما أشار إليه الإمام أحمد - سبع صفات وردت عن النبي صلى لله عليه وسلم. والسبب في صلاة الخوف: أنه لما التقى النبي صلى الله عليه وسلم بالمشركين وكان المشركون يومها بعسفان -كما في حديث أبي عياش الزرقي -، وأصل الحديث في الصحيح عن جابر رضي الله عنه- وكان على المشركين يومها خالد بن الوليد، فصلى المسلمون صلاة الظهر، فلم ينتبه المشركون لغفلة المسلمين فقالوا: لقد أصبنا منهم غرة لو أنّا قتلناهم، فقال بعضهم لبعض: انتظروا فإن لهم صلاة هي أحب إليهم من أهليهم وأولادهم. وهذا يدل على ما كان لصلاة العصر من مكانة في قلوب الصحابة رضوان الله عليهم، فأوحى الله إلى نبيه، وشرعت صلاة الخوف.

صفات صلاة الخوف

صفات صلاة الخوف صلاة الخوف على صفات، لكن سنذكر منها المشروع: الصفة الأولى: أن يقسم الإمام الجيش إلى طائفتين، فيكون الجيش صفين: الصف الأول يلي الإمام، والثاني من بعده، ويصلون وهم حاملون للسلاح، فتقام الصلاة وكل واحد معه سلاحه الذي لا يزعجه في صلاته، كالسلاح الذي يدفع به العدو ولا يمنعه من الركوع والسجود، ولا يمنعه من أداء أركان الصلوات: وقد اختلف العلماء في حكم حملة سلاحه، فقال بعضهم: يجب عليهم أن يأخذوا السلاح لظاهر قوله سبحانه وتعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102]، فأمر سبحانه وتعالى بأخذ الحذر بأخذ السلاح، وقال تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102]، فكونه يأمر بأخذ السلاح يدل على الوجوب؛ لأن الأصل في الأمر أنه للوجوب، وهذا مذهب الظاهرية وطائفة، وهو أقوى القولين، أنهم يأخذون السلاح. فعند انقسام الجيش إلى صفين تقام الصلاة فيصلي الإمام الركعة الأولى، فإذا ركع الإمام ركع معه الصف الأول وبقي الصف الثاني واقفاً، ثم بعد أن ينتهي من الركوع يرفع معه الصف الأول ثم يسجد السجدتين الأوليين من الركعة الأولى والصف الثاني قائم، وهذا وجه في هذه الصفة. الوجه الثاني وهو الأقوى: أنه يركع الركعة الأولى ويرفع، فإذا رفع الصف الأول ركع الصف الثاني، وينتظر الإمام بعد الركوع بقدر ما يرفع الصف الثاني، ثم بعد ذلك يهوي للسجود الصف الأول ويبقى الصف الثاني في وجه العدو، فإذا سجد الصف الأول مع الإمام السجدتين قام الإمام بهم، فإذا استتم قائماً نزل الصف الثاني وسجد السجدتين، ثم بعد انتهائه من السجود يقوم فيتقدم الصف الثاني إلى مكان الصف الأول، ويرجع الصف الأول إلى مكان الصف الثاني، فإذا رجع ركع الصف الثاني معه في نفس الركعة الثانية، وبقي الصف الأول الذي كان أولاً وأصبح ثانياً واقفاً في وجه العدو، وهذا من باب العدل، فإذا صلى بهم يعدل بين الطائفتين، فلا يفضل إحداهما على الأخرى، فإذا ركع ورفع ركعت الطائفة التي تليها ثم رفعت، ثم ينزل للسجود وهم وقوف، فإذا سجد السجدتين وجلس للتشهد نزلت الطائفة الثانية وسجدت؛ لأنه في التشهد يكون الصف الأول منتبهاً للعدو، فتسجد الطائفة الثانية ويتشهد بالجميع ويسلم، فهذه الصفة الأولى، وهي التي وردت في حديث عسفان؛ لأنه في عسفان كان المشركون جهة القبلة، فهذه الصفة في حالة أن يكون العدو في جهة القبلة. وهذه الصفة الأولى جاءت في حديث أبي عياش الزرقي، وأصلها في الصحيح. الصفة الثانية: وردت في حديث ابن عمر في الصحيحين، وهي مما اتفق عليه البخاري ومسلم، والظاهر -كما يقول جمع من العلماء-: أنها إذا كان العدو في غير القبلة، فلو كان العدو في الظهر والقبلة في الأمام فإنه يقسمهم طائفتين، فيأمر طائفة أن تحرس في وجه العدو، ويأخذ طائفة ويصلي بهم ركعة، فإذا انتهى من الركعة وسجد السجدة الثانية وقام للركعة الثانية انصرفت هذه الطائفة ولم تسلم وكأنها في غير صلاة، فتنصرف وتقف في وجه العدو وهي في صلاة، ويطول الإمام في القراءة حتى تدركه الطائفة الثانية، فتأتي هذه الطائفة الثانية وتكبر تكبيرة الإحرام وتصف معه ويصلي بهم الركعة الأولى، فإذا انتهى الإمام من هذه الركعة وسجد السجدتين فإنها الثانية بالنسبة له، فيجلس للتشهد فتقوم هذه الطائفة الثانية وتنصرف إلى العدو مثل ما انصرفت الطائفة الأولى، ثم يتشهد الإمام لوحده ويسلم، فترجع الطائفة الأولى وتصلي الركعة الثانية قضاءً، وتكون صلاتهم فرادى، فكلٌ يصلي لوحده ركعة فيتم صلاته، ثم يتشهدون ويسلمون، ثم يرجعون إلى وجه العدو، فتأتي الطائفة الثانية وتصلي أيضاً ركعة كما صلت هذه وينصرفون إلى وجه العدو، فهذه هي الصفة الثانية التي اشتمل عليها حديث عبد الله بن عمر. الصفة الثالثة: أن يقسمهم الإمام قسمين، فيصلي بالطائفة الأولى ركعتين تامتين ويسلم ويسلمون معه، ثم يقيم مرة ثانية ويصلي بالطائفة الثانية ركعتين ويسلم بهم، وهذه واضحة لا إشكال فيها، وغاية ما فيها أن الإمام يصلي الصلاة الثانية نافلة ومن وراءه مفترضون. الصفة الرابعة: هي مثل الصفة الثالثة، إلا أن الإمام لا يسلم، فيصلي ويتشهد التشهد الأول ويترك الطائفة الأولى تتم التشهد وتسلم وتنصرف وهو في التشهد، ثم للعلماء وجهان في هذه الصفة: قال بعض العلماء: يثبت في التشهد حتى يحس بالطائفة الثانية، فإذا أحس بالطائفة الثانية يقوم ويكبر، ولا يكبر إلا بعد حضورها. فهذا وجه. الوجه الثاني: تبقى معه الطائفة الأولى، فإذا قال: (الله أكبر) قائماً للثالثة سلموا وقام هو وقرأ الفاتحة وأطال في ذكر الله عز وجل حتى تأتي الطائفة الثانية، فهذا بالنسبة إذا جمع وصارت له أربع ركعات. الصفة الخامسة: هي صفة حديث ابن عباس، وكانت في غزوة ذي قرد، وحديث ابن عباس مشكل عند العلماء، لكن أجاب عنه جمع من الأئمة، فحديث ابن عباس مثل حديث ابن عمر، وهو أنه يصلى بالطائفة الأولى ركعة فتنصرف إلى العدو وتجزيها عن الركعة الثانية، ويصلي بالطائفة الثانية ركعة وتجزيها عن صلاتها كلها، ولكن هذا الوجه ضعيف على الصحيح. الصفة الأخيرة: أن يصلي بسهم ركعة ثم يتمون بأنفسهم، ثم يصلي الركعة الثانية بالطائفة الثانية وتتم لنفسها فيتشهد بها ويسلم. فهذه ست صفات في صلاة الخوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الست الصفات قد تصل إلى اثنتي عشرة صفة، فنفس هذه الست تجعلها في صلاة السفر والحضر، ففي السفر يصلي ركعة، وفي الحضر يصلي ركعتين فتصير اثنتي عشرة، صفة، ثم إذا أدخلت صفات المغرب فيها قد تصل إلى ثماني عشرة صورة، فهذا بالنسبة لصلاة الخوف، وهذا أشهر ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة أدائها.

حكم صلاة الخوف

حكم صلاة الخوف صلاة الخوف شرعها الله عز وجل في كتابه المبين، فقال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء:102]، وهذا يدل على سماحة الإسلام، وعلى حكمة التشريع، وعلى كمال علم الله سبحانه وتعالى ولطفه ورحمته وحلمه بعباده سبحانه وتعالى، فلو أن المسلم كان مطالباً أثناء القتال بفعل الصلاة كما هي لحصل في ذلك من الحرج ما الله به عليم. وهذه الصلاة مشروعة في قول جماهير السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وإنما خالف أبو يوسف رحمه الله وقال: صلاة الخوف لا تشرع إلا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله يقول: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ)) [النساء:102]، قال: فهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه قد تطرأ أمور من التشريع في الصلاة ففيه معنى ليس في غيره. والصحيح أنها تشرع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبعد زمانه لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، وكما أن موجب الترخيص موجود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فهو كذلك موجود في غير زمانه عليه الصلاة والسلام، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة، وأجمع الجماهير على مشروعيتها، وأنه يشرع فعلها على الصفات التي ذكرنا.

تفصيل صفات صلاة الخوف حضرا وسفرا

تفصيل صفات صلاة الخوف حضراً وسفراً صلاة الخوف إما أن يكون العدو في وقتها في وجه القبلة، وإما أن يكون في غير القبلة، وإما أن تكون الصلاة سفرية، وإما أن تكون حضرية، وإما أن تكون الصلاة تقصر، وإما أن تكون الصلاة لا تقصر. فإذا كان العدو في وجه القبلة فإن القول بأنه يقسم الجيش إلى قسمين أو إلى طائفتين أولى وأحرى، فيقسم الإمام الجيش إلى طائفتين، فيصلي بالطائفة الأولى وينزل بهم ويركع ويسجد، ثم بعد ذلك يرتفع، فتنزل الطائفة الثانية وتصلي وتتم على الصفة الأولى التي ذكرناها، وإن شاء في حال وقوفه في وجه العدو -إن رأى أنه الأرفق بهم- صلى لوحده ركعة كاملة، ويثبت عند قيامه للركعة الثانية، فتقوم الطائفة الأولى وتتم لنفسها، ثم بعد ذلك تتشهد وتسلم، وتأتي الطائفة الثانية وتصلي الركعة التي بعدها. وإذا قلنا: إنه يصلي بالطائفة الأولى ركعتين ثم يصلي بالطائفة الثانية ركعتين فلا إشكال إذا كانوا في جهة القبلة، وإذا صلى بهم وسلم من الركعتين الأوليين وصلى بعد ذلك الركعتين الأخريين نافلة فلا إشكال. فكونه يصلي بالطائفتين معاً، فتسجد معه الطائفة الأولى دون الطائفة الثانية، أو كونه يصلي بهم ركعتين ركعتين سواء أسلم أم لم يسلم، فكل هذه الصور لا إشكال فيها، وهذا إذا كان العدو في جهة القبلة، وهي أيسر الأحوال. وإذا كان العدو في جهة القبلة والصلاة حضرية، فإنهم قالوا: يفعل مثلما يفعل في السفرية، فإن شاء جعلها رباعية مجزأة، وإن شاء جزَّأها ركعتين ركعتين، لكن الأولى أن يجزأها على صفة صلاة السفر تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيصلي بهم الركعة الأولى، ثم يركع بالصف الأول ويسجد، ثم يرفع فيسجد الصف الثاني، ثم بعد انتهائه من الركعة الأولى يدخل الصف الثاني مكان الصف الأول ويرجع الصف الأول إلى مكان الصف الثاني، فيتم بهم الركعة الثانية، ويكون قد عدل بين الطائفتين فيتشهد، فينزل الصف الثاني ويسجد ويتشهد معه، ثم يقوم بهم إلى الركعة الثالثة فيتقدم الصف المتأخر مكان المتقدم كالحال في صلاة القصر، ويتم ذلك بنفس الترتيب، لكن بدل أن يفعلها ركعتين يفعلها أربع ركعات على نفس التقسيم ونفس الصورة. وإذا كانت الصلاة حضرية وقلنا إنه لا يسلم، فإنهم قالوا: يبقى على صفة الصلاة التي يسلم فيها من أربع ركعات، فيصلي بالطائفة الأولى أربع ركعات، ثم يصلي بالطائفة الثانية أربع ركعات، إعمالاً للأصل الموجود في صفة صلاة السفر. وهكذا الحال بالنسبة لما لو كان العدو في غير جهة القبلة، فأقوى الأقوال إذا كان العدو في غير جهة القبلة أنه يقسم الجيش إلى طائفتين، فيبدأ بالطائفة الأولى ويصلي ركعة كاملة، فإذا قام للركعة الثانية وهم وراءه نووا مفارقته كأنهم فرادى، ويتمون لأنفسهم وينصرفون جهة العدو، ويطوّل الإمام في قراءة الركعة الثانية، فتنصرف الطائفة الأولى بعد انتهاء الركعة التي كانت عليها بمثابة الإتمام إلى وجه العدو، ثم تأتي الطائفة الثانية فتدرك الإمام قد طول في الركعة الثانية وتدخل معه، فإذا انتهى الإمام وركع ورفع وسجد السجدتين يجلس للتشهد، فإذا جلس للتشهد فإن هذه الطائفة تقوم وتتم لنفسها، ويطول الإمام في التشهد، ثم تدركه في التشهد فيتشهد بهم ويسلم، فهذا بالنسبة لما إذا كان العدو في غير وجه القبلة.

كيفية الصلاة عند هجوم العدو

كيفية الصلاة عند هجوم العدو المصلون صلاة الخوف في أثناء الصلاة لا يخلون من حالتين: الحالة الأولى: أن تمضي الأمور على سلم وارتفاق، أي: لا يوجد ما يسوء أو يضر. الحالة الثانية: أن يهجم العدو، فإن هجم العدو عليهم وهم في الصلاة فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون هجومه يمكن دفعه بالطائفة التي وقفت بإزائه، كأن يكون العدد كافياً لصد العدو، فيبقى الأولون في صلاتهم ولا يشتغلون بالعدو. وإما أن يخشى أو يغلب على الظن أنهم لا يقدرون على العدو فحينئذٍ ينصرفون من صلاتهم ويقاتلونه. وهم في صلاتهم، فيصلون رجالاً وركباناً وهم يضربون بالسلاح، لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة:239]، فيكبر ويقرأ الفاتحة وهو يضرب العدو، سواء أكان إلى غير القبلة أم إلى القبلة، فهذه رخصة من الله عز وجل وسماحة، وهذا يدل على عظمة هذا الدين، وعلى عظمة أمر الصلاة، فإنهم في حالة الخوف والخشية على الأنفس ومع ذلك فإن الله عظّم هذه الشعيرة وأمر أن تؤدى، ولذلك عظّم السلف الصالح رحمهم الله الصلاة، وكانوا يستشهدون على تعظيم الله لها بأن الإنسان لا يعذر في تركها حتى في حال المسايفة والمقاتلة.

كيفية صلاة الخوف في العصر الحديث

كيفية صلاة الخوف في العصر الحديث إذا عرفنا صفة صلاة الخوف في القديم، فكيف تصلى صلاة الخوف في العصر الحديث؟ أما صلاة الخوف في العصر الحديث فإن العصر الحديث لا يمكن معه في بعض الأحوال أن يفارق الإنسان موضعه، بل إنه لو كان على بعض الأجهزة وغفل طرفة عين فربما يدخل العدو من هذه الثغرة، فالأمر جد خطير، وقد يكون في آلة لا يستطيع أن يفارقها، وقد يكون في خندق لو رفع رأسه يقتل. فكل إنسان في ثغره وفي موضعه إذا لم يمكنه أن يتحرك بقيام ولا بركوع ولا بسجود، ولم يمكنه أن يؤدي الصلاة على صفتها، فإنه يصلي على أيسر ما يكون، وعلى أقل ما يستطيع من طاقة، وحينئذٍ لو كان في خندقه يضرب العدو فإنه يكبر ويركع ويسجد ولو بالذكر، فإذا كان على سلاحه في وجه العدو كأن يكون مراقباً، بحيث لو غفل لحظة ربما هجم العدو، كما هو موجود في بعض الآلات التي ترصد العدو، فلو كان يراقب بهذه الآلة ولا يمكن أن يفارقها في وقت الصلاة، إذ ربما أنه لو غفل عنها لحظة تدمرت أمة كما هو موجود الآن، فيرخص لمثل هذا أن يصلي ولو كانت عينه على الجهاز، ولو كان يضرب، ولو كان يحرك أصابعه، فيذكر الله عز وجل، فيقول: الله أكبر، ويقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، ويقرأ ذكره وورده على ما هو عليه، ويصلي بالانتقال، كالحال في العاجز عن القيام والركوع والسجود، وذلك متى ما كان الوقت لا يسمح، ولا يمكن لغيره أن يكون في موضعه. وهكذا لو كان داخل الآلات كالدبابات ونحوها فإنه يصلي بداخلها، سواء أكان على قبلة أم على غير القبلة، خاصة في حال الهجوم، أو حال دفع الهجوم، فإنها -كما يسميها العلماء- حالة المسايفة، وفي حالة المسايفة قرر العلماء رحمهم الله في القديم أنه يصلي على حالته وهو يضرب بالسيف، فلا فرق بين أن يضرب بسيفه، أو برشاشه، أو بمدفعه، أو بقنابله، كل ذلك سائغ؛ لأن المراد المحافظة على النفس والنكاية بالعدو، فيصلي على حالته بشرط أن لا يمكنه إلا ذلك، وبشرط أن يكون وقت الصلاة لا يسع إلا لهذا، أما لو أمكنه أن يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها ثم يصلي على صفتها فيلزمه ذلك ويجب عليه.

حمل السلاح في صلاة الخوف

حمل السلاح في صلاة الخوف [ويستحب أن يحمل معه في الصلاة من السلاح ما يدفع به عن نفسه ولا يثقله كسيف ونحوه]. مذهب الجمهور أن حمل السلاح للطائفة الأولى والثانية مستحب. والصحيح والأقوى هو مذهب الظاهرية وطائفة من أهل الحديث ويقول به جمع من الفقهاء، وهو أن حمل السلاح واجب؛ لأن الغالب أن العدو يتربص، والله سبحانه وتعالى نبه على هذا، ولما ورد الأمر بأخذ السلاح وحمل السلاح فالأصل في هذا الأمر أن يبقى على ظاهره حتى يدل الدليل على صرفه عن هذا الظاهر، ولذلك لا بد من حمل السلاح، وحمل أقل ما يدفع به العدو من رشاش، أو نحو ذلك من الأسلحة التي يمكن أن يدفع بها العدو لو هجم عليهم، وهكذا لو كان الموضع الذي يصلي فيه يوضع فيه من الآلات والأجهزة ما يمكن به الدفع عند مباغتة العدو، فبعض الأجهزة الآن لا يمكن حملها على جسد الإنسان، كالرشاش الكبير أو نحو ذلك، فيمكن أن يصلي وهو بجواره، بحيث لو دهم العدو يدفعه، أما أن يتركه في موضعه ويتباعد عنه فإن هذا يخالف نص القرآن لقوله تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102]، فليس من الحذر أن يترك الإنسان سلاحه ومع غلبة الظن بأن العدو يتربص، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102]، فليس من الحذر ذلك، فكونه يأمر بحمل السلاح ثم يقول: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102]، يدل دلالة واضحة على أن الأمر بحمل السلاح على الوجوب، وهذا من القوة بمكان.

حكم صلاة الخوف في القتال المحرم، وحكمها لطائفة من الجيش

حكم صلاة الخوف في القتال المحرم، وحكمها لطائفة من الجيش ذكر المصنف صلاة الخوف، لكن هذه الصلاة لا تشرع إلا بشرط أن يكون القتال مشروعاً، أما لو كان القتال محرماً فلا، فإن الرخص لا تستباح بالمحرمات، فلو كان القتال قتال بغي، كأن يخرج إنسان باغٍ على المسلمين، أو معتدٍ على المسلمين، أو مفارق جماعة المسلمين -والعياذ بالله-، فمثله لا تشرع في حقه صلاة الخوف. ثم إن صلاة الخوف لا يشترط فيها أن يصليها كل الجيش، فلو أن طائفة صلت صحت صلاتهم، ولو أن طائفة من المسلمين نزلوا في موضع وطلبهم عدو فإنهم في حكم الجيش، فإذا كانوا ستة أنفار فإنه يقسمهم إلى قسمين: ثلاثة في وجه العدو وثلاثة يصلون معه، ولو كانوا أربعة فإنه يقسمهم، فتكون اثنان في وجه العدو واثنان معه، وقيل: لا يكون المصلون أقل من أربعة، لقوله تعالى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102]، ولكن قال بعض العلماء: إن قوله تعالى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102] خرج مخرج الغالب في قتال العدو، وهو أنه لا يكون عددهم أقل من الطائفة، وهي من الثلاثة إلى العشرة. ولذلك قالوا: أقل ما تنقسم عليه الصفوف ثلاثة. وعلى هذا فكأنهم يقولون: صلاة الخوف لا تشرع لأقل من ستة؛ لأنه لا يمكن قسمهم إلى صفين، ولكن إذا كانوا ثلاثة ثلاثة فيمكن أن يكونوا طائفة مع الإمام. والصحيح أنه يمكن أن تكون صلاة الخوف بناء على وجود الوصف الغالب، والقاعدة أن النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه. فذكر الطائفة هنا خرج مخرج الغالب، فلو فرضنا أن سبعة خرجوا في مهمة في أرض العدو ثم حضرتهم الصلاة، فإنه يشرع لهم أن يصلوا صلاة الخوف. ولا يشترط في صلاة الخوف أن يصليها الجيش بعامته، بل لو كان بعض الجيش على ثغر من الثغور وعددهم عشرة أو اثنا عشر، فيمكن أن يصلوا صلاة الخوف بهذه الصفة، فلا يشترط فيها أن يصليها الجيش بكماله.

حكم صلاة الخوف في غير خوف القتال

حكم صلاة الخوف في غير خوف القتال في حكم الخوف في القتال الخوف بغير القتال الذي يكون في الغزوات وغزو الجيوش، فلو كان إنسان مطلوباً من إنسان آخر يريد أن يأخذه، أو أن قوماً بغاة أو قطاع طريق هجموا على طائفة من المسلمين، فإن هؤلاء المظلومين من هؤلاء الذين هجموا عليهم يشرع لهم أن يصلوا صلاة الخوف، فلا يشترط أن يكون في جهاد الدفع أو جهاد الطلب، بل حتى إذا خشي الإنسان على نفسه فإنه يصليها. وهنا مسألة، وهي صلاة المطلوب، ومثالها: طلبك عدوك وأنت على دابتك، فلو نزلت تصلي أدركك العدو وغلب على ظنك أنك تهلك، فهذه المسألة اختلف فيها العلماء. والمطلوب هو الذي طلب بالظلم، أما لو طلب بحق فلا، فالمطلوب: هو الذي يخشى على نفسه لو نزل وصلى الصلاة على صفتها في الأرض أن يدرك، فأصح الأقوال في المطلوب أنه يصلي على حالته، فلو كان على سيارة فإنه يصلي ويومئ على قدر ما يستطيع، ولو كان على فرس أو على بعير فإنه يصلي ويومئ على قدر حالته، وهكذا لو فر بقدميه فلو توقف فسيدركه العدو، فإنه يصلي وهو يعدو على حالته، وهكذا لو فر على سيارته، أو فر على دابته، وهذا كله من رحمة الله عز وجل ولطفه بعباده، فالحمد لله على سعة رحمته، والحمد لله الذي جعل هذا الدين دين تيسير لا دين تعسير، وجعل فيه من الخير والرحمة واليسر على عباده، فالحمد لله على هذا الفضل العظيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

باب صلاة الجمعة [1]

شرح زاد المستقنع - باب صلاة الجمعة [1] يوم الجمعة هو خير أيام الأسبوع، ففيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه تاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وقد شرع الله صلاة الجمعة وفرضها، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، وانعقد إجماع العلماء رحمة الله عليهم على وجوبها، وأنها فرض عين على المكلفين بشروطها المعتبرة.

أحكام صلاة الجمعة

أحكام صلاة الجمعة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة الجمعة]. الجمعة: مأخوذة من الاجتماع، وهو ضد الانفراد. وسميت الجمعة جمعة لأجل اجتماع الناس، وذلك أن الناس يجتمعون للخطبة والصلاة، فوصفت هذه الصلاة بهذا الوصف لاشتمالها على اجتماع الناس. وقيل: لأن الله عز وجل جمع في هذا اليوم خلق آدم، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فيه خلق آدم). وقيل: لاجتماع الخلق فيه بخلق آدم. وقيل: سميت (جمعة) اسماً إسلامياً، ولم يكن ذلك معروفاً في الجاهلية، وذلك أن هذا اليوم كانوا يسمونه يوم العروبة، ثم إن الإسلام سماه باسم يوم الجمعة وهذا هو الصحيح، فلم يكن اسماً جاهلياً وإنما سمي في عصر الإسلام. وهذا اليوم هو أفضل أيام الأسبوع، وهو خير أيام الأسبوع، وفيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه تاب الله عز وجل عليه، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه تقوم الساعة، وما من يوم جمعة يصبح العباد فيه إلا وكل دابة مصيخة -أي: مستمعة- تخاف أن تقوم الساعة، ولذلك عظم الله شأن هذا اليوم، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خير الأيام. وقد اختلف العلماء في خير الأيام: فقال بعض أهل العلم: خير الأيام هو يوم الجمعة. وقال بعض العلماء: خير الأيام هو يوم عرفة. وهذان قولان مشهوران للعلماء، فمنهم من يقول: يوم الجمعة أفضل من يوم عرفة. ومنهم من يقول: يوم عرفة أفضل من يوم الجمعة. وفائدة هذا الخلاف تظهر فميا لو أن إنساناً قال: لله عليَّ أن أعتق عبدي في أفضل أيامه فمن يقول: إن يوم الجمعة هو أفضل الأيام يقول: إنه يقوم بفعل الطاعة في هذا اليوم ويجزيه، ومن يقول: إن يوم عرفة هو أفضل يقول: لا يخرج من نذره ولا تبرأ ذمته إلا بالعتق يوم عرفة. وأصح الأقوال عند المحققين أن التفضيل نسبي، فيكون يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم عرفة أفضل أيام العام، وذلك أن الله اختار فكان الاختيار نسبياً، فإن نظر إلى أيام الأسبوع المتكررة فإن أفضل شيء هو يوم الجمعة، على ظاهر النص الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بالنسبة إلى العام كله فخيرها وأفضلها يوم عرفة، وهذا التفضيل النسبي فيه جمع بين النصوص، وذلك أن تفضيل كلا اليومين قد خرج من مشكاة واحدة، ولا شك أن الوحي بريء من التعارض، ولذلك يجمع بهذا الجمع، فيقال بتفضيل الجمعة بالنسبة للأسبوع، وبتفضيل يوم عرفة بالنسبة للعام كله. وقد شرع الله الجمعة وفرضها، ودلّت الأدلة على هذه الفرضية، كما في دليل الكتاب العزيز والأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانعقد إجماع العلماء رحمة الله عليهم على وجوب الجمعة، وأنها فرض عين على المكلفين بشروطها المعتبرة. أما دليل الكتاب على وجوبها فقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، فإن قوله تعالى: (فاسعوا) أمر، والأمر دال على الوجوب، فأمر سبحانه وتعالى بالمضي إلى الجمعة، فدل على لزومها وأنها من فروض الأعيان. كذلك أيضاً ثبتت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم التي دلت على وجوبها، ومن أقوى ما ورد في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليطبعن الله على قلوبهم -وفي رواية: أو ليختمن الله على قلوبهم- ثم ليكونن من الغافلين)، ووجه الدلالة من هذا الحديث الصحيح أنه توعد من ترك الجمعة وتخلف عنها، وهذا يدل على حرمة تركها من غير عذر، وإذا كان تركها من غير عذر حراماً، فإن هذا يدل على وجوبها؛ لأن الوعيد إنما يأتي على ترك الواجب أو فعل المحرم. وانعقد الإجماع على وجوب الجمعة ولزومها، وهذا على تفصيل سنذكره، فهناك من تلزمه وهناك من لا تلزمه إذا وجد العذر لسقوط الوجوب عنه. والجمعة يوم فضله الله وشرفه، وقد شرعه الله عز وجل لهذه الأمة، وفضلها وشرفها بدلالتها على هذا اليوم، كما في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إننا السابقون، وإن أهل الكتاب تبع لنا)، فأضل الله اليهود والنصارى عن هذا اليوم المفضل المكرم المشرف المعظم، وهدى إليه أمة نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فأصبحت بهذه المنزلة العظيمة حيث شرّفها الله بهذا اليوم الذي فيه الفضائل العظيمة، حتى ذكر بعض العلماء أن هناك ما يقرب من مائة فضيلة تخص هذا اليوم، فاليهود ضلوا عنه فأصابوا يوم السبت ولم يصيبوا الجمعة، والنصارى ضلوا عنه فأصابوا يوم الأحد، كما قال عليه الصلاة والسلام: (اليهود غداً والنصارى بعد غد)، وهذا يدل على فضل هذا اليوم، وتفضيل الأمة باختياره لها واختيارها لهذا اليوم، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. فالناس في يوم الجمعة يجتمعون لكي يعرف المسلم إخوانه، وينظر أحوالهم، ويتفقد أمورهم، وقبل ذلك يجتمعون في كل يوم على خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فيجتمعون في أحيائهم، ثم إذا كان يوم الجمعة تداعى الناس من أطراف المدينة، فنظر المسلم إلى إخوانه الذين يعيشون معه في بلدته ومدينته، فإن كان غنياً عطف على الفقراء والضعفاء والمحتاجين وواساهم، وكذلك تنبه لإخوانه المرضى والمنكوبين فزارهم وعادهم، كما يجتمع الناس يوم الجمعة لكي يشعروا بألفة الإسلام ومودته ومحبته، ويشعر الناس أنهم أمة واحدة بهذا الدين الذي جمع بينهم على اختلاف أحسابهم وأنسابهم وأقطارهم وألوانهم، وكل ذلك من الله سبحانه وتعالى بحكم عظيمة ينبغي للمسلم أن يتنبه لها، فليس هذا الاجتماع يراد به أداء الصلوات مجردة عن هذا الشعور الإسلامي النبيل الذي يحس به المسلم أنه مع أخيه المسلم كالجسد الواحد يشد من أزره ويعضده ويناصره ويؤازره ويتعاون معه على الخير.

بيان من تجب عليهم صلاة الجمعة

بيان من تجب عليهم صلاة الجمعة قال رحمه الله تعالى: [تلزم كل ذكر حر مكلف مسلم]. أي: تجب الجمعة على كل ذكر. وقلنا: إن اللزوم والوجوب دليله دليل الكتاب والسنة والإجماع. وقوله: [ذكر] خرج به الأنثى، فالجمعة لا تلزم الأنثى، إذ قد أجمع العلماء رحمة الله عليهم على أن المرأة لا تجب عليها الجمعة، ولكن لو حضرت المرأة الجمعة فإنها تصح منها ولذلك تعتبر النساء من الطائفة الذين لا تلزمهم الجمعة، ولكن إذا حضرنها صحت منهن، ولذلك قالوا: إن النساء لا تلزمهن الجمعة ولا الجماعات، فلا تلزمهن الصلوات الخمس جماعة، وكذلك لا تلزمهن الجمعة. وقوله: [حر]. خرج به العبد، فالعبد لا تلزمه الجمعة في قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم، وخالف داود الظاهري فقال بوجوبها ولزومها على العبد، ووافقه الإمام أحمد في رواية، وقالا: إن العبد يجب عليه أن يشهد الجمعة؛ لأنها فرض عيني فاستوى هو والحر. وقد جاء في سقوط الجمعة عن العبد حديث عن طارق بن شهاب، وهذا الحديث تكلّم العلماء رحمهم الله على سنده؛ لأن طارقاً لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه بعض الرواة تكلم فيهم، وتسامح بعض أهل العلم رحمة الله عليهم فيه؛ لأنه وإن كان طارق لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه صحابي؛ لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه، فهو صحابي، ويكون حديثه أشبه ما يكون بمرسل الصحابي، وقد دل هذا الحديث على سقوط الجمعة عن العبد والمريض والمسافر والمرأة، فقالوا: إن العبد لا تجب عليه الجمعة؛ لأنه مشغول بخدمة سيده، والله أمره بأن يكون في خدمة سيده، فلذلك لا تجب عليه الجمعة. والقول بوجوبها على العموم من القوة بمكان، إلا إذا وجد ما يشهد للحديث بالصحة فلا إشكال. قوله: [مكلف]. التكليف شرطه البلوغ والعقل، فلا نقول للصبي صلِّ الجمعة على سبيل الإلزام، فلا تلزمه الجمعة ولا تنعقد به، والمجنون لا تلزمه ولا تنعقد به ولا تصح منه، وسنبين معنى الانعقاد. وأما بالنسبة للصبي فإنها لا تنعقد به ولا تلزمه، ولكن تصح منه إن فعلها، وهذا إذا كان مميزاً لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)، فدل على أن الصبي لو صلى صحت صلاته وكانت معتبرة، ولكن لا تجب عليه. فالتكليف شرطه البلوغ والعقل، فالمجانين لا يطالبون بشهود الجمعة، وكذلك الصبيان، ولكن يؤمر الصبيان في قول بعض العلماء بشهود يوم الجمعة أمر تعليم وإرشاد، وهو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نأمر الصبيان بالصلاة، ولم يفرِّق بين الجمعة وغيرها، فلذلك يأمر الوالد ولده إذا بلغ سبع سنين أن يشهد الجمعة ولا يلزمه بها، ثم إذا بلغ العاشرة فإنه يضربه إن تخلف عنها. والتكليف -كما قلنا- شرطه البلوغ والعقل، ولا يحصل التكليف باختلال أحد الشرطين، وقد نظمها من قال: وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثمانية عشر حولاً ظهر فقوله: مع البلوغ بدم أو حمل أي: علامة البلوغ دم المرأة إذا حاضت، والحمل يعتبر دليلاً على كونها بالغة. وقوله: أو بمن أراد به الاحتلام لظاهر حديث علي رضي الله عنه. وقوله: (أو بإنبات الشعر). أي: يعتبر البلوغ: بإنبات الشعر كذلك، وأصح الأقوال أن الإنبات يعتبر دليلاً على البلوغ، أي: ظهور شعر العارضين، وشعر العانة، وشعر الإبط على خلاف فيه. وقوله: أو بثمانية عشر حولاً ظهر الصحيح أن سن البلوغ خمسة عشر، وثمانية عشر هو مذهب المالكية والحنفية في الذكور، وسبعة عشر في الإناث، وأما عند الشافعية والحنابلة فخمسة عشر، وهو الصحيح لحديث ابن عمر. والحاصل أن الإنسان غير مكلف ومأمور بالجمعة أمر إلزام من جهة التكليف إلا إذا كان بالغاً عاقلاً، فلما قال: (مكلفٍ) أشار إلى هذين الشرطين. وقوله: [مسلم]. خرج به الكافر، والكافر مختلف فيه، فمن يقول: إنه غير مخاطب بفروع الإسلام يقول: لا تلزمه حتى يسلم. ومن يقول: إنه مخاطب بفروع الإسلام يرى أن الكافر ممن تلزمه الجمعة ولا تصح منه. قوله: [مستوطن ببناء اسمه واحد ولو تفرق]. أي: تلزمه الجمعة إذا كان مستوطناً ببناء، والسبب في ذلك أن الأصل في المكلف أن يصلي صلاة الظهر، فإذا انتقل عن هذا الأصل إلى صلاة الجمعة ركعتين فكأننا بالجمعة نسقط عنه التكليف بالركعتين الأخريين، فلا نسقطها إلا على الصفة التي وردت عليها الجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يثبت في دليل أن الجمعة يصليها غير المستوطن، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سافر وزال عنه وصف الإقامة والاستيطان لم يجمِّع صلوات الله وسلامه عليه، فدل هذا على أن الاستيطان شرط، وهناك أحاديث ضعيفة في اشتراط الاستيطان في الجامع، والصحيح أن هذا الاستيطان منتزع من صورة الأصل، ولذلك يقولون: لا تصح الجمعة لغير المستوطنين. وبناء عليه فأهل البادية الذين يرحلون للمرعى، والذين إذا نزل المطر في موضع ينتقلون إليه ولا يثبتون في مكان، بل ينتقلون على حسب المراعي لا تجب عليهم الجمعة، ولا نلزمهم بها؛ لأنهم غير مستوطنين في موضعهم، ولو استوطنوا صيفاً فإنهم يرتحلون شتاءً، ولو استوطنوا شتاءً فإنهم يرتحلون صيفاً، ولو استوطنوا ربيعاً فإنهم يرتحلون في الخريف، وهكذا، فليسوا بمستوطنين، والاستيطان -كما ذكر المصنف- إنما يعتبر إذا كان ببناء وكانت فيه الجوامع، كالمدن والقرى العامرة، فهذا لا إشكال فيه، أما لو كانوا غير مستوطنين كأهل العمود والخيام فإنه لا يحكم بوجوب الجمعة عليهم، ولذلك لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كانوا في البادية أن يجمِّعوا، فدلّ على أن الجمعة إنما تكون لأهل الجوامع والأمصار والمدن والقرى ونحوها. قوله: [اسمه واحد ولو تفرق]. أي: يكون هذا البناء اسمه واحد ولو تفرقت بيوت أهله، فبعض المدن تكون فيها المحلات وقد تتباين وتتباعد، لكنها في حكم المدينة الواحدة واسمها واحد، ولو تفرق البنيان بأن تكون في منطقة خمسة بيوت، وفي أخرى خمسة بيوت، وخمسة بيوت في منطقة أخرى، ونحو ذلك لكنها في حكم المدينة الواحدة، فإنهم يعتبرون كالمستوطنين في الجامع، وتجب عليهم الجمعة. قوله: [ليس بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ]. أي: من شروط إلزام المكلف بالجمعة ألا يكون بين المكلف وبين المسجد الذي فيه الجمعة أكثر من فرسخ، والسبب في ذلك أن الجمعة إنما تجب بسماع النداء، والنداء يسمع في حدود فرسخ إذا كان في زمن ليس بشديد الحر، ولا تتحرك فيه الرياح كالحال في الفجر. ويقوِّي هذا ما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد شهد الصحابة الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم من قباء، وكذلك من ضواحي المدينة كالعوالي، وهي تبعد عن المدينة ثلاثة أميال أو أربعة، على حسب قرب المزارع ودنوها من المدينة، فهي في حدود الفرسخ، والفرسخ، ثلاثة أميال، كما قيل: إن البريد من الفراسخ أربع ولفرسخ فثلاثة أميال ضعوا فالفرسخ ثلاثة أميال، وهذا القدر إنما هو نسبي تقريبي، فمن كان في هذه المسافة فإنه يسمع النداء وتلزمه، وبناء على ذلك قالوا: إذا كان بعيداً عن المصر أو عن الجامع بهذا القدر يلزمه أن يصلي الجمعة، أما لو كان -مثلاً- على بعد سبعة كيلو مترات فما فوق فإن هذا لا تجب عليه الجمعة، ولكن يصلي ظهراً، فإن نزل وجمَّع فلا حرج فمثل هذا يقال فيه: لا تلزمه، وإن حضرها صحت وانعقدت به، فهو على غير المسألة المعتبرة. لكن بالنسبة للذين هم داخل المدن ولو كانوا على بعد عشرين كيلو متراً فإنه تلزمهم الجمعة، فلو كانت المدينة طولها -مثلاً- أربعون كيلو متراً وكان بعدهم عن وسط المدينة الذي يكون فيه المسجد قرابة عشرين كيلو متراً، فإنه تلزمهم الجمعة؛ لأنهم في حكم البلد الواحد، وبناء على ذلك يلزم القريب والبعيد داخل المدينة أن يصلي الجمعة، ولا يقال: إن من كان على بعد أحد عشر كيلو متراً من وسط المدينة لا تلزمه الجمعة. بل نقول: إن من كان على حدود المدينة يلزمه أن يجمِّع مع أهلها.

بيان من لا تجب عليهم صلاة الجمعة

بيان من لا تجب عليهم صلاة الجمعة قال رحمه الله تعالى: [ولا تجب على مسافر سفر قصر ولا على عبد وامرأة]. أي: لا يلزم الإنسان إذا كان في السفر أن يصلي الجمعة، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الجمعة في السفر، ولم يثبت عنه في أي سفر من أسفاره أنه جمع، ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن المسافر لا تلزمه الجمعة، ويؤكد ذلك فعله صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة، فإنه خطب الناس خطبة حجة الوداع، وقد كان بالإمكان أن يصليها جمعة، وقد كان أهل مكة معه عليه الصلاة والسلام ومع ذلك لم يصل بهم جمعة. ومن البدع والغرائب التي يقع فيها من لا ينتبه لهذه الأحكام الشرعية أنه ربما يخرج بعضهم إلى رحلة مبتعدين عن المدينة مسافة قصر ثم يصلون جمعة، وقد يمكثون شهراً أو أسبوعين أو ثلاثة، فجمعتهم باطلة وتلزمهم إعادتها ظهراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع الناس في السفر، وقد سافر صلوات الله وسلامه عليه ولم يثبت عنه حديث صحيح أنه صلى الجمعة في السفر، وأجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا جمعة على المسافر إذا كان في حال السفر. أما لو دخل المسافر المدينة، كرجل من أهل المدينة قدم إلى مكة يوم الجمعة، فقد اختلف في هذا العلماء: فمنهم من قال: يلزمه أن يصلي معهم الجمعة. ومنهم من قال: لا يلزمه، على الخلاف الذي ذكرناه في الجماعة. وقد استدل العلماء بحديث طارق بن شهاب في ذكره للأربعة الذين لا تجب عليهم الجمعة حين ذكر منهم المسافر، فقالوا: إن المسافر لا تلزمه الجمعة. قوله: [ولا على عبد]. أي أن العبد لا تلزمه الجمعة، فالمصنف شرع في ذكر عكس الشروط المتقدمة للايجاب من قوله: [ولا تجب على مسافر. ]؛ فلما ذكر لنا أنها تلزم الحر ذكر هنا أنها لا تلزم العبد، فهو عكس ما ذكرناه من الشروط. قوله: [وامرأة]. أي: لا تجب الجمعة على النساء لما ذكرناه. قال رحمه الله تعالى: [ومن حضرها منهم أجزأته ولم تنعقد به]. أي: من حضرها من العبيد ومن النساء؛ لأنهم ليسوا من أهل الجمعة. قوله: [ولم تنعقد به]. مسألة الانعقاد ترجع إلى اشتراط عدد المصلين للجمعة، فمذهب الجماهير أنه يشترط لها عدد معين، ثم اختلفوا في هذا العدد: فقال بعضهم: أربعون. وقال بعضهم: اثنا عشر. وقال بعضهم: أربعة. وقال بعضهم: اثنان. فهذه مشهورات الأقوال في هذه المسألة، فلو قلنا: إن العدد يشترط فيه أن يكون أربعين، فإنه إذا حضر تسعة وثلاثون من الرجال البالغين العاقلين وحضرت امرأة، لا تنعقد الجمعة، وكذلك لو حضر عبد على هذا القول الذي ذكرناه، لكن الصحيح أن العبد يلزم بالجمعة وتنعقد به، فلو حضر تسعة وثلاثون وعبد فإنه انعقدت به الجمعة. قال رحمه الله تعالى: [ولم يصح أن يؤم فيها]. أي: أن امرأة حضرت فلا تصلي ولا تجمِّع بغيرها ولو بنساء، وكذلك العبد، فإنه لا يجمِّع بالأحرار في قول طائفة من أهل العلم رحمهم الله، واختاره المصنف. وذهب طائفة من العلماء رحمة الله عليهم إلى أن العبد تصح إمامته في الجمعة. وقد قررنا أن العبد تصح جمعته ويلزم بها، وعلى ذلك فأنه لو صلى بهم صحت إمامته واعتد بتلك الجمعة وكانت مجزئة.

وجوب صلاة الجمعة على من حضرها إذا سقطت عنه

وجوب صلاة الجمعة على من حضرها إذا سقطت عنه قال رحمه الله تعالى: [ومن سقطت عنه لعذر وجبت عليه إذا حضرها وانعقدت به]. من مرض مرضاً يعذر به في عدم شهود الجمعة فتحامل على نفسه واحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى حتى جاء ودخل المسجد، فحينئذٍ تجب عليه وتنعقد به وتصح إمامته للناس، فلو أن الإمام مرض فقوى الله سبحانه وتعالى نفسه وعزيمته فقال: أحتسب الأجر عند الله تعالى، وصلى بالناس صحت جمعته وأجزأته وانعقدت به، وعلى هذا فالمريض ممن لا تلزمه الجمعة، وتصح منه وتنعقد به، لا تلزمه الجمعة ولكن تصح منه إن حضرها وتنعقد به. والعذر بالمرض يشمل المريض والممرض للمريض، فإن الممرض للمريض يعتبر معذوراً، فلو أذن المؤذن للجمعة وكان المكلف قائماً على مريضٍ عنده كوالده أو زوجته أو ابنته أو ابنه، وخشي عليه الضرر وتفاقم المرض، أو كان يحتاج إلى حمله للإسعاف ونحو ذلك، فله أن يجلس مع هذا المريض، ويعذر بترك الجمعة إذا خاف عليه. وإذا كان المريض يحتاج إليه لسقي دواء وفعل علاج ونحو ذلك من الأمور التي يحتاج إليها المريض، فإن الشرع يرخص لمثل هذا، ويدل على ذلك ما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه لما سمع الصارخ على ابن عمه وهو خارج إلى الجمعة ترك الجمعة وعاد إليه، فقام عليه حتى غسل وكفن ثم صلى عليه رضي الله عنه وأرضاه، وعلى هذا فإن الممرض في حكم المريض، ويقال في الممرض مثلما يقال في المريض، فلا تلزمه الجمعة، ولكن إن حضرها انعقدت به وصحت، وأجزأت إمامته لو صلى بالناس. ومن المعذورين أيضاً من كان بينه وبين الجمعة وحل شديد ومطر، ولو خرج إلى الجمعة في شدة المطر الذي يعذر به وشهد الجمعة صحت جمعته، فيقولون: لا تلزمه، وتصح منه، وتنعقد به.

متى يصلي الظهر تارك الجمعة بغير عذر وتاركها بعذر

متى يصلي الظهر تارك الجمعة بغير عذر وتاركها بعذر قال رحمه الله تعالى: [ومن صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام لم تصح]. هذه المسألة -نسأل الله السلامة والعافية- في رجل في مدينة قادر على شهود الجمعة مسلم عاقل بالغ حر مستوطن سمع نداء الجمعة فتخلف -والعياذ بالله- متعمداً بدون عذر، فحينئذ يرد Q متى يصلي الظهر؟ A الأصل فيه أن يصلي الجمعة، وبناء على ذلك فالواجب في حقه أن يمضي إلى الجمعة لظاهر قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، فإذا لم يسع إلى ذكر الله فإنهم قالوا: هذا المكلف مكلف بالجمعة، فلا يصلي ظهراً حتى تفوته الجمعة؛ لأن الأصل أنه مخاطب بالجمعة وليس مخاطباً بالظهر، فيبقى حتى يفرغ الإمام من صلاة الجمعة، أو يقدر ذلك على غلبة الظن وحينئذٍ يصلي، فلو صلّى قبل أن يصلي الإمام لم تصح منه ظهراً؛ لأنه يصلي الظهر قبل أن يخاطب بها، وفِعْلُ الصلاةِ قبل الخطاب بها موجبٌ للحكم بعدم الاعتداد بها وعدم إجزائها، كما لو صلى قبل أذان الظهر. وتوضيح ذلك أنه إذا صلى الظهر أثناء صلاة الناس للجمعة فإنه كالمتنفل للظهر؛ لأنه أثناء الصلاة كان بإمكانه أن يلحق ويصلي معهم الجمعة، فلا زال الخطاب متجهاً عليه أن يصلي ركعتي الجمعة وأن يشهد الجمعة، فلا يسقط عنه الخطاب بالجمعة حتى ينتهي وقت الجمعة فيتوجه عليه الخطاب بالظهر، ومن هنا قالوا: من لزمته الجمعة ولم يعذر بتركها لا تصح منه صلاة الظهر إلا بعد انتهاء الإمام من صلاة الجمعة. لكن من كان معذرواً لا يدخل في حكم هذا، وهو الذي سيذكره المصنف رحمة الله عليه. قال رحمه الله تعالى: [وتصح ممن لا تجب عليه، والأفضل حتى يصلي الإمام]. قوله: [وتصح] أي: تصح صلاة الظهر. وقوله: [ممن لا تجب عليه] أي: من عذر بتركها كالمرأة، فلو أن امرأة في بيتها أرادت أن تصلي الظهر يوم الجمعة، جاز لها أن تصلي أثناء صلاة الإمام، ويجوز لها أن تصلي قبل صلاة الإمام؛ لأن الجمعة ليست بواجبة عليها، والخطاب متوجه عليها بفعل صلاة الظهر بمجرد زوال الشمس، وعلى هذا يقولون: إنه يجب عليها أن تصلي الظهر بزوال الشمس فحينئذٍ لا علاقة لها بصلاة الإمام، فيستوي أن تصلي الظهر قبل الإمام وأن تصليه أثناء صلاة الإمام وأن تصليه بعد صلاة الإمام، كالحال في الصلوات العادية، فلو أذّن المؤذن للظهر، وبعد أذان الظهر مباشرة قامت وكبرت وصلت الظهر، فبالإجماع صلاتها صحيحة؛ لأنها مخاطبة بالظهر بمجرد دخول الوقت، وقد أدت الصلاة بعد دخول وقتها. وهكذا لو أن المريض صلّى بعد زوال الشمس يوم الجمعة فلا حرج عليه، فكل إنسان معذور لا حرج عليه. لكن قالوا: الأفضل في المعذور أن ينتظر انتهاء الإمام لاحتمال أن يزول عنه العذر، ولذلك قال: [والأفضل حتى يصلي الإمام] لما فيه من الاحتياط.

حكم السفر يوم الجمعة بعد الزوال

حكم السفر يوم الجمعة بعد الزوال قال رحمه الله تعالى: [ولا يجوز لمن تلزمه السفر في يومها بعد الزوال]. أي: لا يجوز للمكلف الذي تلزمه الجمعة أن يسافر بعد زوال الشمس من يوم الجمعة، والسبب في هذا واضح، وهو أن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، فقالوا: هو مكلف بفعل صلاة الجمعة بعد زوال الشمس ودخول وقت الجمعة، فإذا أراد أن يسافر فإنه يسقط هذا الوجوب ويحتال على الشرع. وبناء على ذلك قالوا: لا يجوز للإنسان أن يسافر بعد زوال الشمس من يوم الجمعة؛ لأن ذلك يؤدي إلى فوات صلاة الظهر. لكن لو كان يريد أن يسافر ويمكنه أن يصلي الجمعة في موضع آخر غير المدينة -كأن يسافر إلى قرية بجوار مدينته بحيث يدرك فيها الجمعة- فإنهم قالوا: لا حرج عليه؛ لأنه لم يقع في المحذور الذي من أجله منع من السفر يوم الجمعة، ولا يكون مخالفاً لأمر الله عز وجل بالمضي إلى صلاة الجمعة. فاستثنوا من هذا أن يكون بإمكانه أن يصلي الجمعة في المحل الذي يسافر إليه، أو في الطريق، كما لو كان بينه وبين البلد الذي يقصده قرىً تقام فيها الجمعة، أو مواضع يصلى فيها الجمعة ويعتد بهذه الجمعة، فقالوا: يجوز له في هذه الحالة أن يسافر ولا حرج عليه؛ لأنه لم يقع المحذور في تركه للجمعة. فالذي ذهب إليه بعض العلماء أن المنع يبتدئ من بعد الفجر؛ لأن نهار الجمعة يعتدّ به من طلوع الفجر الصادق. والاعتداد بطلوع الفجر الصادق أو بعد طلوع الشمس في جريان الأحكام عليه مسألة خلافية بين العلماء: فبعض العلماء يرى أن طلوع الفجر نهار، كما هو معلوم من قوله سبحانه وتعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ} [هود:114]، فإن المراد بهذه الصلاة التي في طرفي النهار: صلاة الفجر وصلاة العصر؛ لأنهما في طرفي النهار، فالفجر في طرفه الأول، والعصر في طرفه الثاني، فلما قال: (طرفي النهار) قالوا: إن هذا يدل على أن النهار يبتدئ من تبين الفجر الصادق. وفائدة هذا الخلاف تظهر في مسألة تقسيم الليل لمعرفة الثلث الأخير منه، فإن قلت: ينتهي الليل بطلوع الفجر الصادق ويحكم بابتداء النهار بطلوع الفجر الصادق، فحينئذٍ تقسم الساعات من مغيب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق على ثلاثة، ويكون الثلث الأخير هو الثلث الذي قبل تبين الفجر الصادق، أما لو قلت: إنه يستمر إلى طلوع الشمس فلا إشكال.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الخنثى المشكل في وجوب صلاة الجمعة

حكم الخنثى المشكل في وجوب صلاة الجمعة Q هل تجب الجمعة على الجنثى المشكل؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن الخنثى حكمها حكم الأنثى، والسبب في ذلك أن القاعدة: (اليقين لا يزول بالشك) فالخنثى متردد بين الرجل والمرأة، فلما كان الوصف بالرجولة أعلى قالوا: اليقين أنه أنثى حتى نتأكد أنه رجل. ولذلك فجماهير العلماء يعطون الخنثى حكم الأنثى، وقالوا: إنه يأخذ حكم الأنثى فلا تجب عليه الجمعة، وإنما تجب على الخنثى الذي استبان أنه رجل، وأما إذا كان خنثى مشكلاً فإنه لا تجب عليه الجمعة. والله تعالى أعلم.

العامل والأجير لا يأخذان حكم العبيد في إسقاط الجمعة عنهما

العامل والأجير لا يأخذان حكم العبيد في إسقاط الجمعة عنهما Q هل المراد بالعبد الخصوص في سقوط الجمعة عنه، أم يدخل معه العامل والأجير؟ A لا يأخذ العامل والأجير حكم العبيد، ولكن العامل والأجير فيهما نظر، فلو كان عند الإنسان مال، وكان العامل أو الأجير هو الحارس لهذا المال والقائم عليه، فإنه يجوز له أن يتخلف عن الجمعة إذا غلب على ظنه أنه لو نزل وصلى الجمعة سرق المال أو تلف، وهكذا من كان في حراسة ونحوها، فإنه يشرع له أن يتخلف عن الجمعة إذا كان قائماً على مصالح المسلمين، أو قائماً على حراسة الأنفس، وهكذا الطبيب إذا كان قائماً على علاج المريض، ونحو ذلك، فهؤلاء يرخص لهم في ترك الجمعة، وهم في حكم المعذورين، وقد تقدم معنا في صلاة أهل الأعذار الإشارة إلى مثل هذه المسائل. فإذا كان العامل يقوم على عمل فيه أموال وفيه مصالح لا يستطيع أن يتركها ويتخلف عنها، أو يغلب على ظنه أنه لو شهد الجمعة سرقت أو تلفت أو تعرضت للأذية والضرر، فإنه يجوز له حينئذٍ أن يتخلف للقيام عليها، ويكون معذوراً. والله تعالى أعلم.

ما يتفق فيه الرجل مع المرأة من أحكام الجمعة وما يختلفان فيه

ما يتفق فيه الرجل مع المرأة من أحكام الجمعة وما يختلفان فيه Q هل يجب على المرأة إذا حضرت الجمعة ما يجب على الرجل من الغسل، والصمت عند حضورها، وعدم مس الحصى ونحوها مما يبطل الجمعة؟ A تشارك المرأة الرجل في عدم جواز الكلام أثناء الخطبة، وكذلك يحكم بكونها لاغية إن تكلمت أو مست الحصى، لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (من مس الحصى فقد لغى)، والقاعدة في الأصول أن (مَنْ) من صيغ العموم، ولذلك يقولون: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (من مس الحصى فقد لغى) محمول على العموم، وعلى هذا فإن المرأة لو كانت في المسجد فعبثت أو تكلمت فإنها لاغية، ويحكم عليها بما يحكم على الرجل. وأما اغتسالها للجمعة فقد قال به بعض العلماء، لقوله عليه الصلاة والسلام: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم)، فقالوا: إن (كل) من ألفاظ العموم. ولذلك يقولون: إنه يجب عليها أن تغتسل حتى إن بعضهم يقول: تغتسل المرأة ولو لم تشهد الجمعة. وإن كان الصحيح أن الغسل واجب على من شهد الجمعة؛ لأن حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الترمذي يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالغسل من أجل الشهود، فقد قالت: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمّال أنفسهم -أي: يقومون على أمورهم بأنفسهم-، وكانوا يغشون المسجد من العالية، وكانت الأرض أرض زرع، فعلت المسجد منهم زهومة، فأمروا أن يغتسلوا. فدل على أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل ليوم الجمعة إنما هو من أجل النتن، وذلك أن الناس إذا اجتمعوا ربما تضرروا بالرائحة الكريهة، حتى إن بعض العلماء يقول: كل صلاة شرع لها الاجتماع ينبغي أن يتنظف لها الإنسان ويتطيب حتى لا يؤذي الناس، ولذلك أمر بالتطيب صلوات الله وسلامه عليه. وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقول: إن المرأة إذا شهدت الجمعة فإنها تغتسل -أي: تتنظف- ولكن لا تتطيب كالرجل؛ لأن الطيب ورد للرجال دون النساء، وفي قوله عليه الصلاة والسلام: (مس من طيب امرأته)، وفي رواية: (مس من طيب أهله) كما في الصحيح، فقالوا: إن هذا يدل على أنه للرجال دون النساء، خاصة أنه قد قال صلى الله عليه وسلم:: (أيما امرأة مرت بقوم فوجدوا ريحها أو طيبها فهي زانية) قالوا: هذا يؤكد أنها لا تتطيب. والله تعالى أعلم.

حكم جمع صلاة العصر مع الجمعة للمسافر

حكم جمع صلاة العصر مع الجمعة للمسافر Q مسافر صلى الجمعة مع المقيمين، ثم قدّم صلاة العصر وصلاها قصراً، فما حكم صلاته للعصر؟ A هذه المسألة فيها خلاف، فلو أن مدنياً نزل بمكة يوم الجمعة، فقضى حاجته، وأراد أن يصلي الجمعة ثم يمشي بعد الجمعة مباشرة إلى المدينة، فجمع مع صلاة الجمعة العصر، فإنه قد قال جمع من العلماء رحمة الله عليهم: لا يجمعُ العصر مع الجمعة، وذلك لأن الجمع خارج عن الأصل، وإنما يقتصر فيه على الوارد، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع مع الجمعة صلاة العصر. قالوا: والرخص تقصر على صورة الإذن والجواز، أي: ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا يفصل بين الصلاتين إلا بالفاصل اليسير الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، واشترطوا لها شروطاً مخصوصة؛ لأنها خارجة عن الأصل. وقال جمع من العلماء بجواز ذلك. ولكن الأحوط ألا يفعله.

الواجب على المسافر إذا لم يصل الجمعة ظهرا

الواجب على المسافر إذا لم يصل الجمعة ظهراً Q كنا نخرج للعمل خارج القرية على بعد خمسة عشر كيلو متراً في البر، ونجتمع ونصلي الجمعة، فهل صلاتنا -على القول الذي رجحتموه- باطلة وتلزمنا إعادتها، أم أنا معذورون بالجهل؟ A تلزمكم إعادة هذه الجمعات كلها، ولو تعددت إلى سنوات، والجهل لا تعذرون به؛ لأنكم أقدمتم على أحكام شرعية مع إمكان الرجوع إلى العلماء، فليس هذا مسوغاً لإسقاط فرض الله عليكم الذي هو صلاة الظهر، ولذلك يقولون: من قصر عوقب بعاقبة تقصيره. فإنه كان بالإمكان أن تسألوا العلماء وتستأذنوهم، وأن تعرفوا أنه يحل لكم أن تصلوا الجمعة أو لا، أما أن يقال بالعذر بالجهل مطلقاً فإنه محل نظر، فجمعتكم هذه على غير الوجه الشرعي، ولا يستطيع الإنسان أن يتحمل مسؤولية أمام الله عز وجل، فما دمتم أنكم قصرتم في سؤال العلماء والرجوع إليهم فإنكم تتحملون مسئولية تقصيركم، وتعيدون هذه الصلوات، فإن كنتم لا تستطيعون عدّها فإنكم تبنون على غالب الظن وتقدرون، وغالب الظن كالمحقق، وبناء على ذلك فإنكم تبنون على غالب ظنكم العدد الذي تحسون أنكم أبرأتم به الذمة، فتعيدون صلوات الظهر في هذا كله؛ لأنها جمعة لاغية وغير معتد بها شرعاً. والله تعالى أعلم.

دخول غسل الجمعة تحت غسل الجنابة

دخول غسل الجمعة تحت غسل الجنابة Q من أصابته جنابة يوم الجمعة هل يلزمه غسلان للجنابة والجمعة؟ A من كان قبل صلاة الجمعة قد أجنب، ثم أراد أن يصلي الجمعة، فأصح الأقوال أن غسل الجمعة يندرج تحت غسل الجنابة بشرط أن ينوي، فينوي بغسل الجنابة غسل الجمعة، ويقع غسل الجمعة تحت غسل الجنابة، وهذه من مسائل الاندراج، فإذا تحقق مقصود الشرع بالاندراج يندرج. وتوضيح ذلك أن مقصود الشرع من غسل الجمعة أن يكون الإنسان نظيفاً على ظاهر حديث أم المؤمنين عائشة، فإذا اغتسل لجنابته تحقق مقصود الشرع من زوال التفث، وزوال النتن عن البدن، فحينئذٍ إذا نوى بغسله غسل جنابته وغسل الجمعة أجزأه واعتد به. والله تعالى أعلم.

الواجب على المسافر إذا طلب منه إلقاء خطبة الجمعة

الواجب على المسافر إذا طلب منه إلقاء خطبة الجمعة Q بعض طلاب العلم يخرج في سفر، ويطلب منه أن يخطب خطبة الجمعة، فما حكم هذا الفعل؟ وهل فيه خلاف بين أهل العلم؟ A هذه المسألة على الأصل الذي ذكرناه، فإنه لم يجمِّع عليه الصلاة والسلام بالمقيمين، ألا تراه قد جاء إلى مكة -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- ولم يصل بأهل مكة الجمعة، ولذلك لا يجمِّع المسافر بالمقيمين لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن المسافر لو حضر وصلى الجمعة فإنها تنعقد وتصح به الجمعة على مذهب طائفة من العلماء. أي أنه إذا صلى بهم فإن صلاته يعتد بها. وفي النفس شيء من هذا القول، والذي ينبغي لطلاب العلم دائماً أن يحتاطوا، لكن لو أن الإنسان ترجح عنده القول الذي يرى أن المسافر يجمِّع وجمَّع بالناس فإنه لا حرج عليه في ذلك، خاصة إذا كان طالب علم وجاء إلى قرية أو إلى بادية وأراد أن يفقههم في أمور دينهم، وأن يبين لهم أموراً يحتاجون إليها فقدموه للصلاة بهم، فهذا يرخص فيه بعض العلماء، لكن الذي تميل إليه النفس الاحتياط في صلوات الناس، وعدم تعريضها للمحتمل. والله تعالى أعلم.

الجمع بين أدلة صلاة النبي للجمعة قبل الزوال وصلاته بعد الزوال

الجمع بين أدلة صلاة النبي للجمعة قبل الزوال وصلاته بعد الزوال Q كيف نجمع بين حديث جابر: (كان يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس)، وحديث: (ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به)، وحديث: (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة)؟ A حديث جابر رضي الله عنه وأرضاه هو عمدة، وهو أقوى ما احتج به من يقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقع صلاته وخطبته قبل زوال الشمس، ولكن أجيب عن هذا القول بأن حديث جابر رضي الله عنه معارض بحديثين: أولهما: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. ثانيهما: حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه في صلاته عليه الصلاة والسلام حين تزول الشمس. والقاعدة أنه إذا تعارض حديثان يحمل المحتمل على الوجه الذي يجمع به بينه وبين غير المحتمل، فإن حديث أنس من أقوى الأدلة على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما صلى إلا بعد زوال الشمس، فيكون قوله: (نريح نواضحنا) متأخراً عن قوله: (صلى عليه الصلاة والسلام ... ) أي: كنا نصلي حين تزول الشمس، ثم نريح نواضحنا. لأن إراحة النواضح ليست مقصودة بالذكر، وليس زمانها مقصوداً ولا مبحوثاً عنه، فذكرت تبعاً لا أصلاً، وإنما يستقيم الاستدلال لو كان المعنى المفهوم أنه يخطب ثم يصلي ثم تراح النواضح حين تزول الشمس، وهذا -كما قلنا- ليس مراداً، على أن جابراً رضي الله عنه قصده أنه عليه الصلاة والسلام ابتدأ صلاته وخطبته عند زوال الشمس. وأما حديث أنهم كانوا يتبعون الفيء فلم يكن للحيطان ظل فهو حديث صحيح، ومعناه أنه ليس لها ظل يستظل به، كما قال جماهير الشرّاح، وهذا صحيح؛ فإن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تزيد على خمس دقائق، وهذا أمر حقيقي وواقعي، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن من مئنة فقه الرجل طول صلاته وقصر خطبته، وكان عليه الصلاة والسلام يصلي بالجمعة والمنافقين، فإذا جئت تنظر إلى الجمعة فهي صفحة كاملة، وإذا جئت تنظر إلى المنافقين فهي كذلك صفحة كاملة، فمعنى ذلك أن خطبته عليه الصلاة والسلام دون الصفحتين، مع أنه عليه الصلاة والسلام من الفصاحة بمكان، وكلامه من الوضوح في غاية البيان صلوات الله وسلامه عليه، فتقسم الخطبتين على صفحة ونصف، فالخطبة الواحدة لا تبلغ الصفحة الكاملة، فكانت خطبته عليه الصلاة والسلام من القصر بمكان، وصلاته -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- بالجمعة والمنافقين مع ترتيله وحسن أدائه صلوات الله وسلامه عليه قد لا تعدو ربع ساعة. والزوال يحتاج إلى حساب دقيق؛ لأن الشمس إذا تحركت من الزوال تحتاج إلى وقت، وهذا التحرك يستغرق قرابة أربع دقائق في انسحاب الشمس عند زوالها، ثم تحسب تبين الزوال، فإذا كان انسحاب الشمس في زوالها في حدود هذا الوقت اليسير فمتى يكون الفيء والظل للحيطان؟!! فإذا ابتدأ صلى الله عليه وسلم بعد زوال الشمس أو عند زوالها وخطب في هذا القدر اليسير، ثم صلى بالناس عليه الصلاة والسلام -وكان لا يملهم- ثم انصرفوا، فإن الحيطان حينئذٍ لها ظل، ولكن ليس بذاك الظل؛ لأنه إذا كان لها ظل كبير فقد اقترب خروج وقت الظهر. فالمشكلة أن بعض الأحاديث تفهم بناءً على الواقع؛ لأن الإنسان إن نظر إلى أن الجمعة تأخذ نصف ساعة، وأنه يركب سيارته، ثم يدخل إلى المسجد، ثم ينظر إلى الوقت الذي يضيع، فإنه يظن أن الجمعة تستغرق هذا الوقت الكبير، مع أنه عليه الصلاة والسلام كان يخرج من حجرته إلى المنبر مباشرة، ولا يصلي ولا يتنفل قبل خطبته، ويلغى كلامه على الناس عند ابتداء الزوال، ويؤذن بلال بدون تمطيط ولا أخذ وقت، ثم يقوم عليه الصلاة والسلام ببيانه وفصاحته بالكلمات اليسيرة، ثم يصلي بالناس وتنتهي الجمعة، فهذا القدر إذا جئت تحسبه ربع ساعة أو ثلث ساعة صدق عليه أنه لو انصرف الناس بعده لا يجدون للحيطان ظلاً، وفي رواية: أنهم كانوا يتتبعون الفيء، ومعنى ذلك أن هناك حيطاناً، وأنه قد زالت الشمس. ثم إننا نقول: إن حديث جابر قد عارضه حديث أنس، فعارض المحتمل غيرُ المحتمل، إضافة إلى حديث سلمة. وأما حديث: (ما كنا نتغدى ولا نقيل إلا بعد الجمعة)، فهذا لا إشكال فيه؛ فإن غداء الناس ومقيلهم نسبي، والقيلولة المعروفة قيلولة الضحى؛ لأن الوقت من طلوع الشمس إلى زوالها وقتان: ضُحى وضَحى، فإذا طلعت الشمس فهو الضُحى إلى أن تصل إلى ثلاث ساعات، وبعده يبدأ الضَحى -بالفتح- والضَحى قبل الزوال ما بين الضُحى وزوال الشمس، ثم بعد ذلك إذا زالت الشمس فإنه قد انتهى انتصاف النهار ودخل الإنسان في العشي، وقد كان من عادتهم أنهم ينامون قبل الظهر، وهذه هي القيلولة، وهذه القيلولة تعين على قيام الليل؛ لأن الغالب أن الإنسان إذا نامها يستعين بها على قيام الليل، وهذا شيء معروف ومجرب، ولذلك تجد كبار السن يسهل عليهم قيام الليل، وهم يحافظون على هذه النومة التي قبل الظهر، وتكون قبل الظهر بحدود الساعة، وهي قائلة الضَحى التي عناها الصحابي بقوله في البخاري: (فنقيل قائلة الضَحى)، فكانوا لأجل اشتغالهم بالجمعة اغتسالاً وتهيؤاً لا يتمكنون من هذا النوم، فكانوا يؤخرونه إلى ما بعد صلاة الجمعة، فقوله: (ما كنا نتغدى ونقيل إلا بعد الجمعة) لا علاقة له بالوقت، وليس فيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقع الجمعة أثناء وقت الضَحى، ولم يصرح الصحابي بهذا، وإنما قال: (ما كنا نتغدى ونقيل إلا بعد الجمعة)، وهذا ليس كصريح حديث أنس رضي الله عنه الذي يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وابتدأ صلاة الجمعة حين زالت الشمس، وأياً ما كان فعندنا أصول، والفقه الرجوع إلى الأصول، ألا ترى الصحابة رضوان الله عليهم لما مضوا إلى بني قريظة قال عليه الصلاة والسلام: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة)، فاختلف الصحابة رضوان الله عليهم في قوله: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة)، فقالت طائفة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قصد التعجيل فتصلى العصر في وقتها، وطائفة قالت: لا نصلي إلا في بني قريظة. فلما قدموا على بني قريظة قدموا بعد غروب الشمس فصلوا العصر بعد الغروب، فلما حكوا للنبي صلى الله عليه وسلم لم يعنفهم، فعذر الطائفتين؛ لأن الجميع عنده نص، لكن قال صلى الله عليه وسلم للذين صلوا في الوقت: (أصبتم السنة) التفاتاً إلى الأصل. فإذا كانت الجمعة قائمة مقام الظهر بدليل الشرع وإجماع العلماء على أن من فاتته الجمعة يصلي الظهر، وهي بدل عن الظهر، فالأصل أنها تصلى بعد الزوال، وعندنا نصوص تؤكد أنها بعد الزوال، فإذا جاءت نصوص تدل على أنها تقع قبل الزوال، أو يفهم منها أنها تقع قبل الزوال، فإنه يرجع إلى ما يكون أبرأ وأقرب إلى الأصل، فنقول: إنه لا يجمِّع إلا بعد الزوال، ولكن الأفضل أن يوقع الجمعة عند ابتداء الزوال تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد.

باب صلاة الجمعة [2]

شرح زاد المستقنع - باب صلاة الجمعة [2] دخول الوقت هو أحد شروط صلاة الجمعة، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في تحديده، فمنهم من يقول: إن وقت الجمعة يبدأ من حين ارتفاع الشمس قدر رمح، ومنهم من يقول: من حين الزوال، ومنهم من يقول بعده، ويشترط كذلك شهود عدد معين لتقام الصلاة كما هو قول بعض العلماء، ويشترط كذلك الاستيطان في البلد، وأن تقدم الخطبتان على الصلاة، وهناك أمور يستحب أن يفعلها الخطيب في خطبته.

شروط صلاة الجمعة

شروط صلاة الجمعة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: يشترط لصحتها شروط ليس منها إذن الإمام]. الجمعة وقعت موقع صلاة الظهر، ولذلك قالوا: إنه لا بد من وجود شروط معتبرة للحكم بالاعتداد بهذه الجمعة، والحكم بصحتها وإجزائها شرعاً. قوله: [يشترط] الشرط في اللغة: العلامة، وفي الاصطلاح: ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم. قوله: [ليس منها إذن الإمام]. هذه مسألة خلافية، فبعض العلماء يقول: لا تقع الجمعة إلا بالإمام العام أو بإذنه، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إماماً عاماً وجمَّع بالناس وصحت الجمعة، فهم يرون أن الأصل أن تصلي الظهر، فلا تنتقل من الظهر إلى الجمعة إلا على الصفة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جمَّع وهو الإمام العام قالوا: لا يعتد بالجمعة مع الإمام العام، ولما أذن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة أن يجمعوا بالمدينة كان هذا بمثابة أصل في الإذن العام، ويشترط الإذن العام الحنفية رحمة الله عليهم ومن وافقهم. وذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط الإذن العام. والذي لا شك فيه أنه لا تقام الجمعة حتى يرجعوا إلى من هو موكّل بالنظر في الجمعة؛ لئلا يفتح للناس سبيل التلاعب بالجمعة، فكل جماعة سيفتحون في مسجدهم جمعة، وقد وقع هذا بين الأحياء، فإنهم ربما يتنافسون، وربما يكون فتحهم للجمعة في حيّهم أشبه ما يكون بالاستغناء عن الحي الآخر، فلا يعتد بالجمعة إذا تعددت مساجدها من دون عذر، فلو أن أهل حي قالوا: نفتح مسجداً عندنا ونصلي فيه الجمعة. وفعلوا ذلك بدون إذن، وبدون وجود فتوى من عالم، أو الرجوع إلى الموكل بالنظر في مثل هذه المساجد فإنه حينئذ لا يعتد بهذه الجمعة ولا تجزئ؛ لأنها أشبه ما تكون بالتلاعب والاحتيال، وقد قرر جمع من العلماء أنه لو أقدم أهل حي على إحداث جمعة في حيهم على سبيل النفرة من الحي الآخر، أو على سبيل الأنفة من الذهاب إلى الجمعة في الحي الآخر دون وجود عذر فإن مسجدهم مسجد ضرار، ولا يعتد بجمعتهم، والجمعة للمسجد الأول القديم، ولم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم جمعتان، بل كانت في مدينته صلوات الله وسلامه عليه جمعة واحدة، مع أنه كان الأنصار في قباء بينهم وبين المسجد ثلاثة أو أربعة أميال، وكانت طائفة منهم من العوالي، ولذلك أُمر الناس بالغسل يوم الجمعة، كما قالت عائشة: كانوا يغشون الجمعة من العالية -والأرض أرض زراعة وفيها الغبار- فعلت منهم زهومة -أي: بسبب العرق في الطريق-، ومع ذلك لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أهل العالية أن يجمِّعوا، فقالوا: إنه لم يعرف إقامة جمعتين في بلدة واحدة. وأول ما وقع ذلك في عهد بني العباس، وإلا فعهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم لم تجمع فيه جمعتان، وكان أهل قباء يصلون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهد بني العباس، فإنه وقعت حادثة حاصلها أن الناس في بغداد كان بعضهم في شط وبعضهم في شطر آخر ليس فيه المسجد الجامع، وكان الناس في يوم الجمعة على الجسر يزدحمون، وربما سقط بعضهم ومات، فاشتكوا إلى الخليفة فاستأذن الخليفة القاضي أبا يوسف رحمه الله صاحب الإمام أبي حنيفة أن يجمع أهل الشط الثاني، وقد كانت بغداد عامرة، فقد قيل: إن فيها ما لا يقل عن ثلاثمائة أو أربعمائة مسجد في ذلك الزمان، ومع ذلك لم يرخص لهم إلا بعد وجود الضرورة، فلما وجدت الضرورة أمرهم أن يجمعوا وأن يعيدوها ظهراً احتياطاً، وكل ذلك خوفاً من هذا التعدد الذي لم يعرف له أصل أن لا يكون معتداً به. ولكن الصحيح أنه يجوز تعدد الجمعة عند الحاجة وبإذن الإمام، أي: بعد الرجوع إلى أهل العلم، أو أناس مختصين بهذا أذن لهم في مثل هذه الأمور. أما أن يقيم أهل كل حي وأهل كل منطقة الجمعة في حيهم ومنطقتهم فلا، ولذلك ينبغي الرجوع إلى المساجد المعتد بها، ومن هنا قال العلماء: وإن تعددت الجمعة فالجمعة للعتيق، أي للمسجد القديم، والسبب في هذا أن ما أحدث من بعده دخيل عليه، وقد قال الله في كتابه: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108]، فجعل المسجد القديم أحق، فدل على أنه إذا أحدث مسجد ثان من دون حاجة لجمعة أن الجمعة الثانية لاغية. وذهب بعض العلماء إلى التفصيل، قالوا: لو أحدثوا بدون إذن إمام وجمعوا نظر إلى أسبق الجمعتين، فمن أوقع صلاته قبل الثاني فالجمعة له. وهذا ضعيف، ويقول به بعض أصحاب الشافعي رحمه الله. والصحيح -كما قال جمع من الأئمة- أن العبرة بالمسجد القديم، سواء أوقعت جمعته قبل أم وقعت من بعد، فهو الذي يعتد بجماعته على ظاهر التنزيل، وهو قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108]. أما لو كان الناس في بلد فيه أقلية مسلمة، ويريدون أن يصلوا الجمعة، فقد قال أهل العلم من فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة: لا حرج إذا كانوا في بلد ليس فيه إمام أن ينتدبوا منهم إماماً ليصلي بهم إذا بلغوا العدد وتوفرت فيهم شروط الجمعة في محل إقامتهم واستيطانهم.

الشرط الأول: الوقت

الشرط الأول: الوقت قال رحمه الله تعالى: [أحدها الوقت]. قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، ولما كانت صلاة الجمعة صلاة دخلت في هذا العموم، فلا تصح صلاة الجمعة قبل وقتها، وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلاها في ميقات معين. ووقت الجمعة فيه خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، يبحث في أوله وآخره، فأول الجمعة للعلماء فيه قولان: قال بعض العلماء: أول وقت صلاة الجمعة هو أول وقت صلاة الظهر، وذلك بزوال الشمس. وهذا مذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم، ومنهم الإمام أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد في رواية عنه. والدليل على ذلك حديث أنس في الصحيح أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة حين تزول الشمس)، وهذا ثابت وصحيح، وكذلك حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس وخطب حين زالت الشمس). فهذه الأدلة تدل على أن الجمعة يبتدئ وقتها بزوال الشمس؛ لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، ولأن الجمعة قائمة مقام الظهر ووقتها في وقت الظهر، فيكون ابتداء وقتها بزوال الشمس. وذهب الإمام أحمد -في رواية- وطائفة من أصحابه وبعض أهل الحديث إلى أن وقت الجمعة يبتدئ في وقت صلاة العيدين، وذلك بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، فمن ارتفاع الشمس قيد رمح تجوز صلاة الجمعة. واحتجوا بحديث ابن سيدان أنه شهد الصلاة مع أبي بكر وإن النهار لم ينتصف، وشهدها مع عمر والنهار قد انتصف، وشهدها مع عثمان وذلك بعد زوال النهار. قالوا: هذا يدل على أن أبا بكر رضي الله عنه أوقعها قبل الزوال، فدل على أن وقتها يبتدئ قبل الزوال، وليس هو وقت الظهر. وهذا الأثر عن ابن سيدان فيه إشكال، وذلك للكلام في سنده بالطعن بالجهالة، وقال الإمام البخاري: إنه لا يتابع عليه. كما أنه معارض من وجوه: أولاً: ما في مصنف ابن أبي شيبة عن سلمة رضي الله عنه وأرضاه: أنه شهد الجمعة مع أبي بكر فصلاها حين زالت الشمس. وهذا يعارض ما ورد عنه، مع أنه أقوى ثبوتاً. ثانياً: ما في الموطأ عن عمر رضي الله عنه في طنفسة عقيل بن أبي طالب التي كانت توضع عند الحجرات، وكانت تفيء عليها الشمس. وهذا يدل على أنه ما صلى عمر رضي الله عنه إلا بعد بداية الزوال. ثالثاً: أن نفس هذا الأثر فيه نظر، وذلك أنه من الصعوبة بمكان أن تعرف اللحظة التي عندها تزول الشمس، وهذا أمر معروف، ولا يمكن إدراكه إلا بحسابات دقيقة جداً، وذلك العصر عصر أبي بكر وعمر وعثمان، ولم تكن هناك الموازين والآلات الحاسبة الدقيقة، فالأمور نسبية تقريبية، فقوله: (فصلاها حين زالت الشمس) أي: ابتداء صلاته وخطبته كان عند الزوال، أي أنه كان يعجّل بحيث يجلس على المنبر ويسلم على الناس كأن الشمس لم تتحرك ويتيقن زوالها، ثم جاء عمر -ومعروف احتياط عمر رضي الله عنه- فكان عند الزوال يجعلها بتأخر قليل عن أبي بكر، وكان عثمان رضي الله عنه يجعلها بعد الزوال تحرياً أكثر، ولذلك أحدث النداء الثاني رضي الله عنه وأرضاه، وعلى هذا يكون الأثر محتملاً. ثم لو أنه سلم به فإنه ليس بقوي صحيح؛ لأنه معارض بأثر عن الصحابة أنفسهم أبي بكر وعمر، ثم هو معارض بما هو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ويبقى الإشكال في حديث جابر: (أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فصلى وخطب حين زالت الشمس). وجوابه: أن الصلاة والخطبة ابتدأت عند زوال الشمس على الأصل الذي قررناه، ومراد جابر أن ابتداء الصلاة كان على وصف الإنسان بكونه مصلياً بابتداء الخروج، ولذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم من خرج إلى الصلاة بكونه مصلياً، فكأنه يقول: ابتداء الصلاة كان عند الزوال. لا أنه عليه الصلاة والسلام صلى وخطب حين زالت الشمس، فليست دلالة حديث جابر رضي الله عنه دلالة صريحة، والقاعدة في الأصول: إذا تعارض الصريح وغير الصريح قدّم الصريح على غير الصريح. فإن حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس) يدل على أن صلاته عليه الصلاة والسلام وقعت عند ابتداء ميل الشمس، بمعنى أنه خطب النبي صلى الله عليه وسلم، وابتداء صلاة الجمعة عند الزوال، ثم إن الأصل يؤكد هذا، خاصة أن الجمعة في حكم صلاة الظهر، ولذلك من فاتته الجمعة صلاها ظهراً بالإجماع، وعلى هذا فإنه يقوى القول الذي يقول: إن الجمعة لا تصلى إلا بعد زوال الشمس. قوله: [وآخره آخر وقت صلاة الظهر]. أي: آخر الجمعة آخر وقت صلاة الظهر، وذلك حين يصير ظل كل شيء مثله، فمن انتهى من صلاته قبل أن يصير ظل كل شيء مثله فإن صلاة جمعته مجزئة. ولكن اختلف العلماء لو أنه خطب وطوّل في خطبته، وأحرم بالصلاة بعد أن صار ظل كل شيء مثله، أو خطب وابتدأ الصلاة قبل أن يصير ظل كل شيء مثله، وفي أثناء الصلاة صار ظل كل شيء مثله، فخرج عليه الوقت أثناء الصلاة، فمنهم من يقول: العبرة بخطبته. ومنهم من يقول: العبرة بتكبيرة الإحرام. ومنهم من يقول: العبرة بالركعة الأولى. وهو أقواها، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف من أدرك الركعة بكونه مدركاً للصلاة، فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)، فأقوى الأقوال أن العبرة لركوعه في الركعة الأولى، فإن كبّر لركوعه في الركعة الأولى قبل أن يصير ظل كل شيء مثله أجزأه، أما لو كبّر للركوع في الركعة الأولى بعد أن صار ظل كل شيء مثله يتمها أربع ركعات، فيتمها ظهراً ولا يتمها جمعة. قال رحمه الله تعالى: [فإن خرج وقتها قبل التحريمة صلوها ظهراً وإلا فجمعة]. هذا -على ما ذكرناه- أحد أقوال العلماء، وهو أن العبرة بالتحريمة، والصحيح أن العبرة بالركعة الأولى على ظاهر النص، ولذلك يعتد بإدراك وقته بهذه الركعة، كما لو أدرك الإمام في الركعة الأولى فإنه يعتبر مدركاً لصلاة الجمعة ويتم ركعة معها، وهذا يدل على أن العبرة بإدراك الركعة وليست العبرة بإدراك تكبيرة الإحرام.

الشرط الثاني: حضور عدد معين

الشرط الثاني: حضور عدد معين يقول المصنف عليه رحمة الله: [الثاني: حضور أربعين من أهل وجوبها]. يشترط لصحة صلاة الجمعة وجود عدد معين إذا وجد حكم باعتبارها، وإذا نقص هذا العدد فإنه عند من يقول باشتراطه لا يحكم بصحتها وانعقادها جمعة، وإنما يلزم هؤلاء الذين لم يكتمل عددهم بالنصاب المعتبر أن يصلوا ظهراً. وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم: فقال بعض السلف: الجمعة تصح بواحد مع الإمام. وبه يقول أبو ثور والطبري رحمهما الله تعالى. وقال آخرون: تصح باثنين. وبه يقول بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمهم الله تعالى. وقال آخرون: تنعقد بثلاثة مع الإمام. وهو مذهب الإمام أبي حنيفة، واختاره جمع من المحققين. وقال بعضهم: إن وجود الثلاثين يغني، وهو قول بعض أصحاب الإمام مالك، ويروى عنه أيضاً. وقال بعضهم: أربعون، فإن نقصوا عن الأربعين بواحد فإنه لا تصح جمعتهم ولا يعتد بها، وهو مذهب الشافعية والحنابلة. وهناك قول باعتبار اثني عشر رجلاً. وهناك أقوال أخرى، وأوصلها بعض العلماء إلى خمسة عشر قولاً في المسألة. وهذه الأقوال هي أشهر أقوال أهل العلم رحمهم الله، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم نص صحيح يصرح بأن هناك عدداً معيناً إذا نقص لا يحكم بالاعتداد بالجمعة، وهذا هو الذي دعا العلماء رحمهم الله إلى أن يختلفوا. فمن قال باشتراط الأربعين فإنما بنى ذلك على حديث أسعد بن زرارة رضي الله عنه، فإن كعب بن مالك -كما روى عنه ابنه عبد الرحمن، وثبت في الصحيح- كان إذا أذن المؤذن يوم الجمعة ترحم على أسعد بن زرارة، فذكر له عبد الرحمن ذلك، فقال: إنه أول من جمَّع بنا في هزم المبيت في نقيع الخضمات. ونقيع الخضمات يقع في حرة بني بياضة، وقد جاء مصرحاً به في سنن الدارقطني في حديث حسنه غير واحد من أهل العلم، وهذا الموضع تقريباً في جنوب غرب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الموضع الذي أقيمت فيه أول جمعة في المدينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للصحابة وجمَّعوا فيها، فلما سئلوا: كم كنتم يومئذ؟ قالوا: أربعين رجلاً. فدل هذا على أن الأربعين هي العدد المعتبر عند من يقول باشتراط الأربعين، وعلى هذا نص المصنف على أن العدد المعتبر لصحة الجمعة هو الأربعون. والذين يقولون بأنها تصح بثلاثة احتجوا بحديث السنن، وفيه: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان)، وهذا المذهب هو أقوى هذه المذاهب، وذلك أن الجمعة صلاة، وتسمى صلاة بإجماع العلماء، وتوصف بهذا الوصف الشرعي، فدل هذا على أن الثلاثة تنعقد بهم الجمعة، كما يقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله، واختاره جمع من المحققين من الأئمة، وعلى هذا فإنه لو اجتمع ثلاثة من غير الإمام صحّت جمعتهم وأجزأت. ولكن لو قلنا باشتراط الأربعين فاجتمع تسعة وثلاثون فإن الجمعة لا تنعقد، ويلزمهم أن يصلوها ظهراً.

الشرط الثالث: الاستيطان

الشرط الثالث: الاستيطان قال رحمه الله تعالى: [الثالث: أن يكونوا بقرية مستوطنين، وتصح فيما قارب البنيان من الصحراء]. المراد بهذا إخراج أهل العمود وأهل الخيام، كأهل البادية الذين يرتحلون طلباً للمرعى، فإنهم لا يستقرون ولا يحكم بكونهم مستوطنين، ولكن لو أن الناس كانوا بجوار المدن وفي حكم ما قارب المدينة فإنه يحكم بلزوم الجمعة عليهم إذا كانوا يسمعون النداء، وإلا فالأصل أنها لا تجب على أهل العمود والخيام كأهل البادية. قوله: [وتصح فيما قارب البنيان من الصحراء]. أي: تصح الجمعة إذا وقعت في مكان قريب من البنيان، وهذا مبني على القاعدة المعروفة: ما قارب الشيء أخذ حكمه. ووجه ذلك أن ما قارب البنيان محكوم بكونه في حكم المدينة، وعلى هذا فلو كانوا قريبين من البينان بينهم وبينه ميل أو أقلّ صح أن يجمِّعوا في هذا الموضع. أما الدليل على هذه المسألة فحديث الدارقطني الذي سبقت الإشارة إليه، وهو أن نقيع الخضمات -وهو أحد الأبقعة والأنقعة التي كانت في المدينة كبقيع الغرقد- كان قريباً من المدينة ولم يكن متصلاً بالبنيان اتصالاً مباشراً، فدل على أنه إذا وقعت الجمعة في مكان قريب من البنيان، ورأى الإمام أن الرفق بالناس أن يصلوا في هذا الموضع، وأنه أرفق بمن كان داخل المدينة وأرفق بمن كان يأتي من البادية، فجعل الجمعة في مكان قريب من البنيان، فحينئذ نقول: الجمعة صحيحة. فاشتراطهم الاستيطان لا يفهم منه أن الجمعة لا تصح إلا داخل المدن، بل إنها لو وقعت قريبة من المدن فإنها تأخذ حكم ما لو وقعت داخل المدن، وهذا -كما قلنا- دلت عليه السنة في حديث أسعد بن زرارة رضي الله عنه، فإن نقيع الخضمان قريب من المدينة، وليس بداخلها. وتوضيح ذلك أن بنيان المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يجاوز المسجد الحالي الموجود الآن، وقد يكون أقل منه بقليل، وكان إلى جنوب غرب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يقع مصلى العيد، وهو المعروف الآن بالغمامة، وبعد الغمامة بمسافة أبعد عن المسجد يقع بقيع أو نقيع الخضمات في حرة بني بياضة، وهو إلى الجنوب أكثر، فهذا الموضع يبعد أكثر من ميل وقليل، وهو يبعد عن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فكونهم جمَّعوا في هذا الموضع البعيد عن البنيان بهذه المسافة التي هي ميل وزيادة يدل على أن ما قارب المدينة يأخذ حكمها، وأنه لا حرج في إقامة الجمع قريبة من البنيان.

حكم النقص من عددها المشترط قبل تمامها

حكم النقص من عددها المشترط قبل تمامها قال رحمه الله تعالى: [فإن نقصوا قبل إتمامها استأنفوا ظهراً]. لو قلنا: يشترط في صحة الجمعة أن يحضرها أربعون رجلاً. فحضر الأربعون ثم أحدث أحدهم وقام فإنه يكون عددهم تسعة وثلاثين رجلاً، أي: دون النصاب المعتبر، فحينئذٍ يستأنفونها ظهراً، فإن رجع وأرادوا أن يجمِّعوا فلا حرج عليهم في ذلك. فمراد المصنف أن اشتراط العدد مستصحب، فليس اشتراط الأربعين موقوفاً على الابتداء. وقال بعض العلماء: العبرة بالابتداء، فلو ابتدأ بهم وهم أربعون ثم نقصوا أثناء الخطبة عن الأربعين صحت الجمعة وأجزأت. واحتجوا لذلك بحديث التجارة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يخطب، وقدمت العير من الشام قاموا عن النبي عليه الصلاة والسلام وتفرقوا حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقطع خطبته ولم يستأنف جمعته ظهراً، فدل على أنه إذا ابتدأ الإمام الصلاة بالناس وهم على العدد المعتبر، ثم طرأ نقص بعد ذلك عن النصاب المعتبر فذلك لا يؤثر في الجمعة، ولا يلزمهم أن يستأنفوها ظهراً. وهذا المذهب قوي من جهة الدليل. وقد بيّنا أن العبرة في العدد بثلاثة للأصل الذي ذكرناه من حديث السنة.

المعتبر في إدراك حكم الجمعة مع الإمام

المعتبر في إدراك حكم الجمعة مع الإمام قال رحمه الله تعالى: [ومن أدرك مع الإمام منها ركعة أتمها جمعة]. الأصل أن من أدرك ركعة مع الإمام فقد أدرك الصلاة، وهذا كما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام (من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)، وكذلك قوله: (من أدرك الركوع فقد أدرك السجدة، ومن أدركها فقد أدرك الصلاة)، فدل على أن من أدرك الإمام راكعاً ولو في الركعة الأخيرة فهو مدرك للصلاة. وبناء على ذلك فالعبرة في إدراك الجمعة أن يدرك الإمام قبل أن يرفع من الركعة الأخيرة، فلو أدركه قبل أن يرفع من الركعة الأخيرة ولو بيسير وركع معه فإنه يضيف ركعة واحدة، أي أن صلاته صلاة جمعة، ولكن لو وقف فرفع الإمام قبل أن يكبر تكبيرة الإحرام فإنه يكبر مع الإمام، حتى إذا سلّم الإمام أتمها ظهراً، وهذا هو أصح الأقوال من مذاهب السلف رحمة الله عليهم، ودليل السنة الذي ذكرناه واضح في الدلالة على أن من أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة. لكن هنا أمران: أحدهما: إدراك الحكم. الآخر: إدراك الفضل. ففي الجمعة والجماعة يدرك الفضل ولو كان قبل تسليم الإمام بلحظة، فمن كبّر قبل أن يسلم الإمام فقد أدرك الفضل، ولكنه إدراك نسبي يتفاوت الناس فيه على حسب الإدراك كمالاً ونقصاً، فإذا أدرك هذا القدر مع الإمام لا تصح جماعته ولا جمعته، ويعتبر مدركاً للفضل، ولذلك قال العلماء: إنه لو دخل الإنسان المسجد فوجدهم في آخر التشهد فالأفضل له أن يكبّر معهم؛ لأنه إذا كبّر معهم أدرك فضيلة الجماعة الأولى. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله: (فما أدركتم فصلوا)، فإن هذا النص فيه عموم، أي: أي شيء أدركتمونا عليه فصلوه معنا. ولم يفرّق بين القليل والكثير، ولذلك قالوا: من أدرك الجماعة ولو قبل التسليم بلحظة فالأفضل أن يصلي معهم، ولا ينتظر إلى سلامهم ليحدث جماعة ثانية؛ فإنه لو أحدث الجماعة الثانية فقد أدرك جماعة في الفضل دون الجماعة الأولى، وعلى هذا قالوا: الأفضل له أن يدرك الفضيلتين، فيقول لمن بجواره: إذا سلّم الإمام فائتم بي لأنه منفرد، فإذا كبّر ودخل مع الإمام أدرك فضيلة الجماعة الأولى، ثم يكبّر ويقوم إلى الركعة الأولى، وهو في حكم الجماعة المستأنفة مع الرجل الذي دخل معه. وقد قال بعض العلماءفي حديث: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة)، وفي رواية: (بسبع وعشرين): إن الخمس والعشرين هي أقل الفضائل لمن أدرك آخر الجماعة، كأن يدرك الإمام قبل أن يسلم، ورواية: (سبع وعشرين) لمن أدركها من ابتدائها، ويبقى الفضل فيما بينهما على حسب ما أدرك من الصلاة، سواءٌ أكان في أولها أم آخرها، فهذا بالنسبة لإدراك الفضيلة. وأما إدراك الحكم فلا يحكم بكون الإنسان مدركاً للصلاة إلا بركعة فأكثر، وعلى هذا فلو أدرك الإمام في الجمعة وهو راكع في الركعة الأخيرة فإنه قد أدرك الجمعة ويضيف ركعة واحدة، فإذا رفع الإمام من الركعة الأخيرة وأدركه بعد الرفع من الركوع فإنه مدرك لفضل الجمعة وليس بمدرك لحكمها، فيلزمه أن يتمها ظهراً، وإلا فليصلها نافلة إذا لم ينو الظهر، ثم يقيم ويصلي بعد ذلك الظهر، فهذا بالنسبة لمن أدرك الإمام بعد الرفع. وتتفرع على هذا مسائل: منها: صلاة العيدين، فإن صلاة العيدين -إذا قيل: إنها تقضى- تقضى على الصفة إذا أدرك بعضها، ولا تقضى إذا لم يدرك شيئاً منها، فلو أدرك المأموم الإمام قبل أن يرفع من الركعة الثانية من صلاة العيد -عيد الأضحى أو الفطر- فإنه يضيف ركعة يجعلها الثانية، ويكبر فيها خمساً على صفة الركعة الثانية في صلاة العيدين، لكن لو أدرك الإمام في صلاة العيد بعد رفعه من الركوع من الركعة الثانية فإنه يتمها نافلة، وقال بعض السلف: إنه إذا فاته العيد فإنه يستأنفها أربعاً كالجمعة. وعلى هذا فرّق العلماء بين إدراك الفضل وبين إدراك الحكم، فإدراك الفضل يكون قبل السلام ولو بلحظة، وإدراك الحكم يشترط فيه أن يدرك الإمام قبل أن يرفع رأسه، وقبل أن يسمِّع من ركوعه. وهنا مسألة، وهي: لو أنك دخلت المسجد فرأيت الإمام يريد أن يرفع، فتحرك الإمام للرفع فكبرت قبل أن يقول سمع الله لمن حمده. فإذا انتهيت من لفظ التكبير قبل أن يبدأ بالسين من التسميع فأنت مدرك للركوع. أما لو أنك شرعت في التكبير وقبل أن تنتهي من التكبير، بأن قلت: (الله) وقبل أن تقول: (أكبر) قال: (سمع الله لمن حمده)، فحينئذٍ تكون غير مدرك للركوع، ويلزمك أن تتم ظهراً على الأصل الذي قررناه. قال رحمه الله تعالى: [وإن أدرك أقل من ذلك أتمها ظهراً إذا كان نوى الظهر]. أي: من أدرك الإمام بعد الرفع من الركوع في الركعة الثانية، أو في السجدة الأولى من الركعة الثانية، أو بينهما، أو بين السجدة الأولى والثانية، أو في الثانية، أو في التشهد، أو قبل السلام ولو بيسير أتمها ظهراً إن نوى الظهر، أما إذا لم ينو الظهر فإنه لا يتمها ظهراً وإنما يتمها نافلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، فلا ينعقد ظهره الفرض إلا بنية، فإن نواه اعتد به، وإلا فلا.

الشرط الرابع: تقدم الخطبتين

الشرط الرابع: تقدم الخطبتين قال رحمه الله تعالى: [ويشترط تقدم خطبتين، ومن شروط صحتهما حمد الله تعالى، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقراءة آية، والوصية بتقوى الله عز وجل، وحضور العدد المشترط]. وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الجمعة مجردة عن الخطبة، وإليه ذهب جماهير العلماء، وقال بعضهم: إنه كالإجماع. فلو صلى الناس الجمعة ركعتين جهريتين بدون خطبة لم تنعقد جمعة، فلا بد في صحة الجمعة أن تكون هناك خطبتان، فإذا وقعت الخطبتان فإنه حينئذ يصح لهم أن يجمِّعوا، بمعنى أن لهم أن يصلوا ركعتين تكونان تمام جمعتهم، أما لو صلوا الركعتين مجردتين عن الخطبتين فإنه لا يعتد بذلك، ولا يحكم بكونها جمعة معتبرة. والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما صلّى جمعة إلا وخطب فيها خطبتين، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبتين يجلس بينهما) أي: يفصل بينهما بالجلوس. فالخطبتان لازمتان لصلاة الجمعة. قوله: [ومن شروط صحتهما حمد الله، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم] أي: يشترط لصحة الخطبتين أن يستفتحهما بحمد الله. وهذا هو الأصل في ذكر الله عز وجل، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في مواعظه أنه كان يستفتحها بالحمد، وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، فيستفتح بحمد الله. وأما الصلاة على رسوله عليه الصلاة والسلام، فقد اشترطها بعض العلماء. والصحيح -كما هو مذهب المالكية والحنفية وطائفة من أصحاب الإمام أحمد والإمام الشافعي، وكاد يكون قول الجمهور- أنه لا تشترط الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لصحة الخطبتين، فلو أنه خطب الخطبتين مجردتين عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يحكم ببطلان خطبته، بل إن خطبته صحيحة؛ لأن الله يقول: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، وذكر الله يتحقق لو تجرد عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، لكن مع هذا لا ينبغي على الإنسان أن يخطب دون أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: [والوصية بتقوى الله عز وجل] أي: الشرط الثالث: الوصية بتقوى الله عز وجل. بمعنى أن يقول: (أوصيكم بتقوى الله عز وجل). وإن جمع بين نفسه والناس وقال: (أوصيكم ونفسي بتقوى الله) فإنه لا حرج، أو قال لهم: (اتقوا الله)، أو قال: (آمركم بتقوى الله)، أو: (آمركم بما أمر الله به، وأنهاكم عما نهاكم الله عنه)، فكل ذلك من الوصية بتقوى الله. فالوصية بتقوى الله تكون على ضربين: الضرب الأول: صريح اللفظ بالوصية، كأن يقول: (اتقوا الله)، أو: (أوصيكم ونفسي بتقوى الله)، أو: (أوصيكم بتقوى الله عز وجل). الضرب الثاني: أن تكون الوصية بتقوى الله بالمعنى، وذلك كأن يقول: (عباد الله: أوصيكم بفعل أوامر الله وترك نواهي الله، فإنها هي وصية الله عز وجل، وهي تقوى الله) أي: فعل الفرائض وترك المحارم، فكلاهما معتبر عند من يقول باشتراط الوصية بتقوى الله عز وجل. وأما قراءة آية فإنه ثبت في الصحيح من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن في خطبة الجمعة)، وكذلك حديث الصحابية التي كانت تقول: (ما حفظت سورة (ق) إلا من فم النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة ما يرددها على المنبر)، فقالوا: يقرأ آية، ويدعو للمؤمنين والمؤمنات بما فيه صلاح دينهم ودنياهم وآخرتهم. وهذه الشروط مستنبطة، وهناك مذهب لبعض السلف أنه لا يشترط هذه الشروط بتفصيلها، وأنه لو ذكّر الناس فأمرهم بأي أمر من أوامر الله، أو نهاهم عن أي نهي من نواهي الله، واشتملت خطبته على البشارة والنذارة أجزأه ذلك. وهذا هو الصحيح، فلا تشترط هذه الأمور بأعيانها حتى لا يقال للإنسان لو صلى بالناس ولم يقل لهم: أوصيكم بتقوى الله: إن خطبتك باطلة. فهذا محل نظر، والصحيح أنه إذا ذكر الناس ووعظهم بأقل ما يصدق عليه أنه ذكر وموعظة فإنه يجزيه؛ لأن الله يقول: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] فأطلق، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقيد خطبته بشيء معين يُلزم الناس به، وعلى هذا فإنه يجزيه أن يوقع الخطبة بما فيه أمر بما أمر الله به، وبما فيه نهي عن ما نهى الله عز وجل عنه، وما يصدق عليه أنه ذكر. وقال بعض السلف: لو أنه ذكّر بأي ذكر، كقوله: (سبحان الله) فإنه يجزيه. وهو مذهب الإمام أبي حنيفة وأصحابه. ولكن الأقوى والأشبه أن يكون الكلام مؤثراً بالدعوة إلى الخير، أو النهي عن الشر، فإن وقع ما يدل على الأمر بالخير أو النهي عن الشر أجزأه. لكن لو أن الإنسان حافظ على تلك الشروط حتى تكون خطبته على أتم الوجوه، ليدفع عن الناس الوسوسة والشك بالاعتداد بخطبته فإن هذا أفضل، خاصة وأنه يؤلّف القلوب، ويدعوهم إلى حضور جمعته والتأثر بها، والعمل بما يدعوهم إليه من الخير. قوله: [وحضور العدد المشترط]. أي: في الخطبة. وهذا على ما سبق بيانه، وقال بعض العلماء: الشرط مستصحب. وقال بعضهم: لو أنه أثناء الخطبة نقص العدد لعذر فإن الجمعة معتدٌ بها، ولا يلزمهم أن يستأنفوها ظهراً.

ما لا يشترط في الخطبة

ما لا يشترط في الخطبة قال رحمه الله تعالى: [ولا تشترط لهما الطهارة، ولا أن يتولاها من يتولى الصلاة]. هذا مذهب طائفة من العلماء، ويقول به أصحاب الإمام أحمد والشافعي. وقال بعض العلماء رحمهم الله تعالى -كما هو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية-: تشترط لها الطهارة. وسامح بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة كمذهب الحنابلة. والصحيح أنه تشترط لها الطهارة تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث لم يحفظ عنه أنه خطب الناس بدون طهارة، وعلى هذا فإنه لا ينبغي للخطيب أن يخطب الناس وهو على غير طهارة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، فحيث حكمنا أن صلاة الجمعة لا يعتد بها إلا بالخطبة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخطب إلا بطهارته، والصلاة متصلة بالخطبة، فإنه حينئذ لا بد من اشتراط الطهارة. ويقوّي هذا أن الخطبتين في مذهب بعض العلماء رحمهم الله منزّلة منزلة الركعتين الأوليين من الظهر، بدليل أنه لا يجوز فيهما الكلام، وبدليل أنه يلزم بالجلوس، حتى لو أنه حرك شيئاً من الحصى فقد لغى، كأنه في حكم المصلي. والذين يقولون بعدم اشتراط الطهارة، يقولون: لو أن الخطيب تكلّم بكلام محرم خرج عن كونه خطيباً. وهذا كله يؤكد أنها أشبه بالعبادة، وعلى ذلك فإنه تنبغي الطهارة تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، وهو قد صلى الجمعة -خطبة وصلاة- متطهراً، فمن قال: لا تشترط الطهارة يطالب بدليل يصرفنا عن هذا الأصل، ولا نحفظ دليلاً يدل على الانصراف والخروج عن هذا الأصل، ولذلك لا ينبغي للإمام أن يعرّض جمعة الناس للبطلان، بل عليه أن يحتاط وأن يصلي بهم وهو على أكمل ما تكون عليه الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر. قوله: [ولا أن يتولاهما من يتولى الصلاة]. أي: لا يشترط أن يتولى الخطبة الأولى والثانية من يتولى الصلاة. فلو كان هناك رجل قوي في الخطبة، وهذا الرجل إذا خطب أثّر في الناس، والثاني قارئ إذا قرأ انتفع الناس بقراءته، فإنهم قالوا: نترك الخطيب يخطب، والقارئ يقرأ ويصلي بالناس، فيجوز أن يخطب رجل ثم يصلي رجل آخر، بل ويجوز أن يخطب الخطبة الأولى رجل، ويخطب الخطبة الثانية رجل، ويصلي بالناس رجل ثالث. وفي النفس شيء من هذا؛ فإن صلاة الجمعة عبادة توقيفية وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن تكون بالصفة الواردة، لكن إن وجد عذر أن يتخلّف الخطيب ويتقدم غيره فحينئذٍ يكون كحكم الاستخلاف في الصلاة، وهذا أصح الأقوال عند العلماء، ويختاره جمع من العلماء، كأصحاب الإمام الشافعي، والإمام مالك، وغيرهم رحمة الله على الجميع، فلابد أن تكون صورة الجمعة على ما حفظ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. أما أن يخطب شخص ويصلي بالناس آخر دون وجود حاجة فلا، وبناء على ذلك فإنه لا يوسّع في مثل هذا؛ لأنه يخرج الناس عن صورة السنة التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمعته، ويُبقى على الصفة التي أدى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة، ونقول: إن وجد العذر ووجدت الحاجة -كأن يكون هناك أمر طرأ على الإمام يوجب خروجه كمرض ونحو ذلك- فلا حرج عليه أن يستخلف غيره، وهكذا لو ضاق به حصر أو نحو ذلك فقدّم غيره ليكمل الخطبة، أو ليصلي بالناس، فهذا أصل مقرر لوجود العذر والضرورة، فالأصل في العبادات أن تكون توقيفية على الصورة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

سنن الخطبة

سنن الخطبة قال رحمه الله تعالى: [ومن سننهما: أن يخطب على منبر أو موضع عالٍ، ويسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم، ثم يجلس إلى فراغ الأذان، ويجلس بين الخطبتين، ويخطب قائماً، ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا، ويقصد تلقاء وجهه، ويقصر الخطبة، ويدعو للمسلمين]. قوله: [ومن سننهما] أي: من سنن خطبة الجمعة الأولى والثانية [أن يخطب على موضع عالٍ]. والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنه قال: (أنا أعلمكم بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لامرأة منا -أي: من الأنصار-: مري غلامك النجار أن يعمل لي أعواداً أجلس عليهن إذا كلمت الناس. قال: فصنعها)، فشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قام عليه. فهذا الحديث فيه قصة المنبر، والمنبر: من النبر، وأصله: ارتفاع الصوت. قالوا: إن المنبر إنما شرع من أجل أن يبلغ صوته. والسبب في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس، وكان المسلمون في المدينة قليلين حينما كانت محصورة على أهلها والمهاجرين الذين هاجروا معه، فلما فتحت مكة وقدم الناس والوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر الناس في المدينة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمنبر لأجل أن يبلغ صوته في خطبته صلوات الله وسلامه عليه، فصنع هذا المنبر من ثلاث درجات، ثم خطب عليه صلى الله عليه وسلم، فصارت سنة أن يخطب الإمام على منبر، فإن تيسير وجود المنبر فبها ونعمت، وإن لم يتيسر فإنه يخطب على شيء عالٍ، كأن تكون هناك صخرة يقف عليها، أو يكون هناك درج عالٍ من الخشب، أو وعاء من الحديد عالٍ، فالمهم نشز على الأرض عال يقف عليه، ولو كانوا في البر فوقف على هضبة أو ربوة فخطب عليها فلا حرج، والسبب في هذا أنه إذا علا فإن ذلك أدعى لسماعهم صوته وانتفاعهم بموعظته وخطبته. قوله: [ويسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم]. هذا هو هديه عليه الصلاة والسلام، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، فمذهبهم أن السنة إذا رقى الخطيب المنبر والتفت بوجهه إلى الناس أن يسلم عليهم. وقال بعض السلف: يسلم عند دخوله للمسجد، فإن سلم عند دخوله للمسجد لم يحتج أن يعيد السلام على المنبر. ولكن المحفوظ من فعله عليه الصلاة والسلام وفعل أبي بكر وعمر وعثمان السلام عليهم على المنبر، فالروايات تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم سلّم كان إذا رقى المنبر وأقبل على الناس سلّم صلوات الله وسلامه عليه. وقد روى أبو النجاد أن أبا بكر وعمر كانا يفعلون ذلك. وفي رواية منفردة عن عثمان، أنه فعل ذلك، كل ذلك يؤكد على أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده السلام بعد رقي المنبر إذا أقبل على الناس. قوله: [ثم يجلس إلى فراغ الأذان، ويجلس بين الخطبتين]. أي: إذا سلم جلس حتى يفرغ المؤذن من أذانه، ويردد معه، وبعد الفراغ من الأذان يقول الدعاء المشروع، ثم يبتدئ بخطبته، فهذا هو المسنون والمشروع لظاهر النصوص، كقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول)، هذا يدل على أن السنة أن يسكت أثناء الأذان. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا سلّم على الناس وأذّن المؤذن أخذ الصحابة يكلّم بعضهم بعضاً، فإذا ابتدأ عمر خطبته قطعوا الكلام وامتنعوا عن الحديث. قوله: [ويجلس بين الخطبتين]. هذا كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وغيره أنه: (كان عليه الصلاة والسلام يفصل بين الخطبة الأولى والثانية بالجلوس)، وهذا الجلوس يسير، وضبطه بعض العلماء بقدر ما تحصل به الطمأنينة. وقال بعضهم: يقارب قراءة سورة الإخلاص، أي: بقدرها من الزمان اليسير. والصحيح أنه لا يتقيد بهذا، وإنما يكون بأقل ما تحصل به الطمأنينة، فلو جلس جلسة خفيفة تحصل بها الطمأنينة فإنه حينئذٍ يعتد بجلوسه، ولا يصل الخطبتين ببعضهما. وهنا مسألة، وهي أنه إذا كان يجوز للإنسان أن يخطب جالساً لوجود عذر كمرض ونحوه، فخطب جالساً الخطبة الأولى فإن كيفية فصله بين الخطبة الثانية والأولى- كما قالوا- أن يسكت هنيهة بقدر جلوسه بين الخطبتين، فإذا سكت بين الخطبة الأولى والثانية كان سكوته بمثابة الجلوس. قوله: [ويخطب قائماً]. ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه خطب قائماً)، ولذلك قبّح الصحابة رضوان الله عليهم وشنّعوا على من خطب جالساً، كما أثر عنهم رضي الله عنهم وأرضاهم، ولما دخل بعض الصحابة على بعض أهل البدع وهو يخطب جالساً قال: انظروا إلى هذا الخبيث. وذلك لأنه تمرد على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من باب غيرتهم على سنته صلى الله عليه وسلم، خاصةً وأن الخطبة ينبغي أن تكون على صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في صفته وحاله، وهذا يؤكد ما ذكرناه، بدليل أن الصحابة كانوا يشنّعون على كل من خالفه، ولما رؤي مروان بن الحكم وهو يرفع يديه قال الصحابي: (تباً لها من يدين قصيرتين، ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد على الإشارة)، أي: ما كان يرفع يديه على المنبر في الدعاء إلا في الاستسقاء. فقوله: [ويخطب قائماً] لأنه أبلغ في الهيبة، وأبلغ في التأثير، وأكثر نفعاً للناس، وذلك برؤيتهم الخطيب، خاصة إذا رآه المستمع وهو ينفعل في كلامه ويتأثر بما يقول، فإن ذلك أدعى لحصول الموعظة في القلوب وتأثرها بها، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً، وإذا خطب رفع صوته واشتد غضبه، وهذه هي السنة، فلابد أن يكون في الخطيب في هيئته وصورته ومنظره ما يدل على هيبته لذلك المقام، وهو مقام الوعظ والتذكير بالله سبحانه وتعالى، وهو أشرف المقامات وأحبها إلى سبحانه وتعالى، وهو مقام الدعوة إلى الله عز وجل، فكان عليه الصلاة والسلام إذا خطب -كما في حديث جابر - تحمر عيناه، وتنتفخ أوداجه -أي: عروق رقبته عليه الصلاة والسلام-، ويشتد غضبه، ويعلو صوته كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم، قال العلماء: لأنه إذا خطب بهذه الصفة شعر الناس بهيبة الكلام الذي يقوله، أما لو خطب ببرود وخمول وبصوت ضعيف فإن الناس لا تتأثر ولا تتفاعل مع كلامه، ولا تحسب بأن هذا الكلام يخرج من إنسان يتأثر به، فإذا كان الخطيب يتأثر بالكلام الذي يقول، وكانت كلماته خارجة بوقع بليغ يدل على تأثره بالكلمات التي يلقيها على الناس، فإن الناس يستجيبون لذلك، ثم إن صورته من شدة الغضب وتغير وجهه تدعو الناس إلى دفع السآمة والملل والنوم، والإقبال عليه، حتى إنهم يشفقون عليه في حاله، ويحسون حينئذٍ أنه يتكلم عن أمر عظيم، وهذا أدعى إلى هيبة الشرع، بخلاف ما إذا تكلم الإنسان ببرود وبطمأنينة وهدوء، فإن الناس ربما ناموا وربما تكاسلوا وانشغلوا، ولكنه إذا تفاعل مع خطبته كان الأثر أبلغ، وهذا الشيء مجرب، ولذلك حمدت طريقة الإلقاء على طريقة الخطبة من الورقة، فإنه إذا خطب بالإلقاء تفاعلت الناس برؤيته وأحسوا أنه يتفاعل مع الكلام الذي يقول، بخلاف ما إذا كان يخطب من ورقة، وهذا الذي جعل بعض العلماء يستحب أن يكون الإلقاء مباشرة تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك المقصود منه أن يكون الأثر أبلغ في النفوس، حتى يعظم الناس شأن الخطبة وشأن المنبر، ويحس الناس بهيبة المنبر، أما لو علا المنبر ضعيف النفس ضعيف الإلقاء والتحضير فإنه لا يبلغ أثره في القلوب بموعظته، وترى الناس تستهين بالمنبر، وربما يصل إليه من ليس بأهل فلا يحصل المقصود من تأثير الناس في المواعظ والخطب، ويكون هذا مخالفاً لمقصود الشرع ومراده. قوله: [ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا] فيه حديث اختلف العلماء في سنده، وحسنه الحافظ ابن حجر رحمه الله في اعتماده عليه الصلاة والسلام على العصا. ولذلك لا ينكر على أحد اعتمد على عصا، ودرج على ذلك العلماء رحمة الله عليهم، ولكن لو خطب بدون عصا فإنهم يقولون: لا حرج عليه ولا ينكر عليه. وبعض العلماء يرى أنه ما دام الحديث مختلفاً فيه فإنه يخطب بدون عصا. قوله: [ويقصد تلقاء وجهه]. أي: إذا خطب الخطيب لا يلتفت يمنة ولا يسرة؛ لأنه إذا التفت يميناً ظلم أهل اليسار؛ لأن صوته يعزب عنهم، وإذا التفت يساراً ظلم أهل اليمين؛ لأن صوته يعزب عنهم، ولذلك قالوا: يقصد تلقاء وجهه. أي: يجعل وجهه إلى الأمام، فلا يلتفت يميناً ولا شمالاً. وفي هذه المسألة دليل خفي أشار إليه بعض المحققين، كالإمام الحافظ ابن الملقن رحمه الله، فقد أشار إليه في حديث أنس في الصحيحين، وهذا يدل على عمق فهمه رحمة الله عليه، وذلك أنه ذكر أن الأعرابي -كما في الرواية الصحيحة- لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم في الجمعة التي استسقى فيها، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستسقي للناس، دخل من باب عمر)، وكان يسمى: باب القضاء، وهي دار كانت لـ عمر بيعت وصارت دار قضاء، وهذا الباب كان في الجهة الغربية إلى الشمالية من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل منه هذا الأعرابي. قال أنس: (فمضى حتى صار تلقاء وجه النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبله). ووجه الدلالة في انتزاع هذا الحكم -كما قالوا- أنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم يلتفت في خطبته لما احتاج الأعرابي أن يتكلف المسير من الجهة الغريبة حتى ينتصف المسجد ويأتي تلقاء وجهه، فقالوا: دل هذا على أنه كان إذا خطب قصد تلقاء وجهه عليه الصلاة والسلام. واستثنى بعض العلماء الدروس وأثناء المجالس العامة، فقالوا: إنه إذا خشي على الناس أن ينام بعضهم، أو يحصل له ما يدعوه إلى السآمة والملل فلا حرج أن يلتفت، خاصة عند تقرير المسائل وضبطها، أما في الخطب فالسنة أن يقصد تلقاء وجهه، ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً، وقالوا: هذا كله أدعى لهيبة الخطيب ولإقبا

الأسئلة

الأسئلة

حكم إلقاء خطبة الجمعة بغير العربية

حكم إلقاء خطبة الجمعة بغير العربية Q هل هناك حرج لو كانت الخطبة بلغة غير عربية لكي يفهمها المصلون؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فاختلف العلماء رحمهم الله في صحة خطبة الجمعة بغير العربية على قولين مشهورين، والصحيح أنه يبتدئ الخطبة والموعظة بالكلام العربي حتى يحصِّل القدر المعتبر لصحتها، ثم بعد ذلك يخطب بلغة القوم ولا حرج عليه حينئذٍ، أما لو تمحضت بالأعجمية، فإن في صحتها نظراً، ولذلك لا بد من ورودها على الوجه الذي ذكرنا، فيخطب بالعربية على القدر المجزي بما فيه بشارة ونذارة، ثم بعد ذلك شأنه بالقوم يعظهم ويذكرهم. والله تعالى أعلم.

حكم الكلام أثناء خطبة الجمعة ومدى تأثيره على الصلاة

حكم الكلام أثناء خطبة الجمعة ومدى تأثيره على الصلاة Q إذا كان لا يجوز الكلام أثناء الخطبة، فهل معنى ذلك أن من تكلم بطلت جمعته ولا أجر له؟ وهل يؤثر ذلك على صحة صلاته؟ A إن تكلم أثناء الجمعة فإن جمعته صحيحة ولكنه ينقص في الأجر، ويكون كلامه من اللغو الذي يوجب نقصان أجره في الجمعة، ويكون قوله عليه الصلاة والسلام: (فلا جمعة له) أي: لا جمعة كاملة. والله تعالى أعلم.

الجمع بين السعي المذكور في آية الجمعة والمشي بالسكينة المذكور في الحديث

الجمع بين السعي المذكور في آية الجمعة والمشي بالسكينة المذكور في الحديث Q كيف نجمع بين قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة)؟ A قوله سبحانه وتعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] أي: امضوا إلى ذكر الله، وليس المراد به السعي الذي هو الاشتداد في السير، وأخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة دليلاً على أنه يجوز السعي عند إقامة الصلاة، والصحيح أن ذلك خلاف السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)، فدل نهيه عليه الصلاة والسلام عن السعي عند المضي إلى الصلاة على أنه لا ينبغي من المكلف هذا الضرب من السير، وهذا اللفظ في الحديث عام شامل لصلاة الجمعة وغيرها، وتكون الآية: (فاسعوا إلى ذكر الله) المراد بها مطلق السعي الذي هو المضي، كما تقول: سعيت إلى المسجد، بمعنى: مضيت إليه، ويؤكد ذلك قراءة ابن مسعود: (فامضوا إلى ذكر الله)، والقراءة تفسر قراءة، وعلى هذا يكون السعي هنا في الآية الكريمة ليس على ظاهره، ولا يعارض منصوص السنة. والله تعالى أعلم.

حكم الالتزام بخطبة الحاجة في خطبة الجمعة

حكم الالتزام بخطبة الحاجة في خطبة الجمعة Q هل يسن بدء الخطبة يوم الجمعة بخطبة الحاجة؟ A أما خطبة الحاجة فقد جاءت عنه عليه الصلاة والسلام وهي مطلقة، وأما بالنسبة لخطبة الجمعة فالأمر فيها واسع، وهكذا مجالس الذكر والمحاضرات والندوات، وأما الالتزام والتقيد بخطبة الحاجة إلى حد أن الإنسان لا يكتب رسالة ولا كتاباً، ولا يخطب، ولا يحاضر، ولا يتكلم إلا ويستفتح بخطبة الحاجة، فهذا التقيد الزائد عن الحد لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالثابت في الأحاديث الصحيحة (حمد الله وأثنى عليه)، وهذا فيه حديث عائشة في الصحيحين، وحديث جابر في صحيح مسلم، وكلها بلفظ: (حمد الله وأثنى عليه)، فلم يتقيد بلفظ معين، ولو كان تعتد لقال: (خطب خطبة الحاجة) ولذلك السنة أن ينوع، وانظر إلى كتب الأئمة والسلف ودواوين العلم، فإنك لن تجد أحداً صدّر كتابه بخطبة الحاجة، فالالتزام بها والتقيد يشعر بأنها واجبة، حتى إن بعض طلاب العلم ربما أنكروا على الخطيب، أو على المحاضر، أو على المدرس، أو على الواعظ إذا استفتح موعظته أو خطبته بغير خطبة الحاجة، أو استفتح كتابه بغير خطبة الحاجة، وهذا محل نظر، وحديث خطبة الحاجة يدل على فضل هذه الخطبة، ولكن لا يتقيد بها حيث يشعر أو يظن الناس كأنها واجبة لاستفتاح الذكر. والله تعالى أعلم.

حكم تقديم الحافظ للصلاة بالناس يوم الجمعة على الخطيب غير الحافظ

حكم تقديم الحافظ للصلاة بالناس يوم الجمعة على الخطيب غير الحافظ Q إذا خطب الإمام الخطبة وكان في القوم من هو أقرأ منه، وهل يقدمه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فليؤمكم أقرؤكم لكتاب الله)؟ A لا يقدمه؛ لأن صلاة الجمعة متصلة بخطبتها، وبناء على ذلك يسير على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن خطب بالناس صلى بهم، وعلى هذا فإننا نقول: يغتفر هذا اليسير، وخاصة إذا كان إماماً راتباً فإنه: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)، وإن كان على عمومه، فلا حرج أن يتقدم ولو كان هناك من هو أقرأ منه، ما دام أنه أقدر على الموعظة والتأثير على الناس، قال العلماء: المهم في صلاة الجمعة يوم الجمعة الخطبة، ولذلك لا يلي الجمعة القارئ، بمعنى أنه لو كان قارئاً لا يحسن الخطبة ولا يحسن توجيه الناس فإنه يقدم من يحسن توجيه الناس على القارئ؛ لأن مقصود الجمعة يوم الجمعة التذكير والخطبة، ولذلك أُمر الناس بالسعي إليها ونهوا عن الكلام أثناء خطبة الخطيب، وكل ذلك تعظيم لشأن الخطبة، الأمر الذي يدل على أن الشرع قصدها، وعلى هذا فإنه إن كان خطيباً مؤثراً وكلامه نافعاً، أو كان فقيهاً عالماً ولكنه دون غيره في القراءة فإنه أولى، والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من ولي الخطبة يلي الصلاة. والله تعالى أعلم.

حكم الاحتباء يوم الجمعة بالحبل أو باليدين

حكم الاحتباء يوم الجمعة بالحبل أو باليدين Q هل النهي عن الاحتباء أثناء الخطبة يختص بمن كانت معه حبوته -أي: الحبل الذي يحتبي به- أم أنه إذا جمع رجليه بيديه يقع في النهي؟ A النهي عن الاحتباء فيه حديث تكلم العلماء رحمهم على سنده، وقال من يقول به: إن النهي عن الاحتباء لعلتين: العلة الأولى: خوف النوم، وذلك أنه إذا احتبى لم يأمن أن يسترسل في نومه، ثم بعد ذلك ينتقض وضوءه فتبطل صلاته، وكذلك ينشغل عن ذكر الله وعن الموعظة التي ينبغي أن يستمع إليها ويتأثر بها. العلة الثانية: أنه إذا احتبى انكشفت عورته، وذلك لأن الناس كانوا يأتزرون، والاحتباء مع الائتزار لا يمنع من كشف العورة في كثير من الأحوال والصور، ولذلك قالوا: إنه يبقى النهي على عمومه، سواء، أكانت معه الحبوة أم لم تكن معه. أما الذين يفرقون بين وجودها وعدمها فقالوا: إن كانت معه حبوته -كأن يكون معه القماش الذي يدار، أو يلف غطاء رأسه عليه ويعقده، أو يأتي بحزام ثم يجمع بالحزام ركبتيه إلى صدره- فإنها تعينه على النوم، فلا يحتبي بها، أما لو لم تكن معه حبوته وإنما احتبى بيديه، فإنه إذا نام سقط واستيقظ، ففرقوا بين أن تكون معه حبوته وبين ألا تكون معه، وهذا راجع إلى العلة؛ لأنهم لما نظروا أن العلة هي النوم قالوا: إذا كانت معه حبوته يسترسل وينام ولا يشعر، ولكن إذا لم تكن معه حبوته فإنه يجمع بيديه، فإذا نام انفكت يديه فيستيقظ. ففرقوا بين أن تكون معه الحبوة أولاً تكون معه، ولكن ظاهر السنة العموم، ولذلك يكون تخصيص هذا العموم من جهة علته، والتخصيص من جهة العلة إن قويت قوي وإن ضعفت ضعف. والذي يظهر والله أعلم -عند من يقول باعتبار هذا الحديث- أن النهي على العموم أولى، وعلى ذلك يشمل من جمع بحبوة أو جمع بيديه فقط. والله تعالى أعلم.

الواجب على الخطيب إذا نسي الخطبة الثانية

الواجب على الخطيب إذا نسي الخطبة الثانية Q إذا نسي الخطيب الخطبة الثانية، ونزل من المنبر، وأقيمت الصلاة، فهل يجوز أن يرجع؟ وما الحكم لو صلّى ولم يؤد الخطبة الثانية؟ A سئل بعض العلماء عن هذه المسألة فقال: من أغرب ما رأيت أن تكون الأمة كلها نائمة، ولا أحد ينبه الخطيب، حتى أثناء إقامة الصلاة، فهي أشبه بقولهم: (إذا لم تغرب الشمس). ولذلك لا يرون أن هذه المسألة لها حقيقة ووجود. وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء: فبعض العلماء يرى أن الخطبتين قائمتان مقام الركعتين الأوليين من الظهر، وبناء على ذلك لا يصح أن يخطب خطبة واحدة وينزل ويصلي، ويلزمه حينئذٍ أن يعيد الجمعة إذا صلى. وبعضهم يقول: يرجع ويخطب الخطبة الثانية، ثم يقيم للصلاة ويصلي، فحينئذٍ يصح بناؤه. وهذا أقوى في الاعتداد بصلاته، وسقوط الشبهة في الاعتداد بها. والله تعالى أعلم.

حكم الصلاة على النبي أثناء الخطبة والجهر بها

حكم الصلاة على النبي أثناء الخطبة والجهر بها Q هل يحوز للمأمومين أن يؤمنوا إذا دعا الإمام، أو يجهروا بالصلاة إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، أو يكون ذلك في أنفسهم بقاءً على الصمت وعدم الكلام؟ A أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال بعض العلماء: إذا صلى يصلي جهراً، ولا حرج عليه؛ لحديث: (رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقل: آمين، فقلت: آمين)، فقالوا: يصلي عليه لأنه مأمور بالصلاة عليه عليه الصلاة والسلام عند ذكره، فقالوا: هذا واجب، فيجب عليه، ولا حرج أن يفعل هذا. وقال جمهور العلماء: يصلي في نفسه. وهو أقوى، وحينئذٍ يكون أمره عليه الصلاة والسلام دليلاً على سقوط الصلاة عنه، وهو قوله: (إذا قلت لصاحبك -والإمام يخطب- أنصت فقد لغوت)، فتأمل هذا الحديث، فإنه يخاطب صاحبه ويقول: أنصت. وهذا أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وهو واجب، ومع ذلك قال: (فقد لغوت)، فدل على أنه لا يتكلم ولو كانت الصلاة واجبة، وهذا يدل على عظم شأن الخطبة، وأنه ينبغي الإنصات لها والتأثر بها، وكذلك أيضاً عقد العزم على العمل بما فيها من الخير. والله تعالى أعلم.

حكم رفع اليدين بين الخطبتين والدعاء

حكم رفع اليدين بين الخطبتين والدعاء Q هل يجوز رفع اليدين بين الخطبتين والدعاء؟ A رفع اليدين بالدعاء بين الخطبتين قول طائفة من العلماء، وأنه مما يتحرى لإجابة الدعوة، أي أنه مما يظن أن فيه الساعة التي هي ساعة الجمعة، ولذلك يدعو فيها، ولكن رفع اليدين بقصد القربة يعتبر من الحدث، أما لو أنه دعا دعوة مطلقة فلا حرج عليه في ذلك، أو لم يتخذ ذلك ديمة ولم يعتقد فيه فضلاً فلا حرج عليه؛ لمطلق الأحاديث في جواز رفع اليدين في الدعاء، والوقت الذي بين الخطبة الأولى والخطبة الثانية يشرع فيه الكلام، ويشرع فيه الفعل، وهذا دل عليه الحديث في صحيح البخاري أن الصحابة فعلوا ذلك بحضرة عمر رضي الله عنه وأرضاه. والله تعالى أعلم.

مواضيع يستحب الحديث عنها في خطبة الجمعة والتذكير بها

مواضيع يستحب الحديث عنها في خطبة الجمعة والتذكير بها Q ما المواضيع التي ينبغي أن يعتني الأئمة بها في خطبة الجمعة؟ وهل كان من هدي السلف تفقيه الناس ما يجهلونه من الأحكام في خطبة الجمعة، أم يقتصر على الوعظ والإرشاد؟ A أما ظاهر القرآن فخطبة الجمعة دعوة إلى ذكر الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، ومعنى هذه الآية الكريمة: أن الناس أحوج ما يكونون في خطبة الجمعة إلى من يذكرهم بالله عز وجل، ويذكرهم بوعده ووعيده، وتخويفه وتهديده، وجنته وناره، وبشارته ونذارته، وما عنده من الخير، وما عنده من الشر، وأن الخير لمن أطاعه والشر لمن عصاه، فتذكير الناس بذلك هو المقصود، وإذا وفق الخطيب لأن يمس شغاف قلوب الناس بتذكيرهم بوعد الله عز وجل، وما أعد للأخيار من جنته ودار كرامته، وكذلك تخويفهم وتهديدهم من وعيده، وما أعده للأشرار من ناره وعقوبته، فخرج الناس من الخطبة وقد بلغتهم الموعظة، وهم على الرجاء والخوف في قلوبهم، فإن ذلك أدعى لصلاح أمورهم كلها. فلو أن خطيباً تكلم بموعظة عن الآخرة، فإنه سيتأثر بها صغير الناس وكبيرهم، وعالمهم وجاهلهم، وسفيههم ورشيدهم، وسيصبح التأثر على جميع طبقات من حضر من أفاضل المجتمع، فإذا خرجوا لسلوكهم وتصرفاتهم، وخرجت هذه الموعظة معهم؛ لأنها لا تتقيد بزمان، ولا تتقيد بمكان، ولا تتقيد بحدث، ولا تتقيد بشيء معين، فلو خرج الواحد منهم من المسجد فرأى عورة من عورات المسلمين قال: أستغفر الله. فغض بصره، ولو سمع أمراً محرماً. قال: أستغفر الله. لأن الجنة والنار جعلت أمام عينيه، ولذلك ينبغي التركيز على تبشير الناس بما عند الله تعالى، وتخويفهم مما عند الله، فإن هذا يدعوهم إلى صلاح جميع أمورهم، وقد قالت أم المؤمنين: (كان أول ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات فيها ذكر الجنة والنار). فالناس إذا خافت ورجت ما عند الله تركت زمام أمورها لمن خوفها بالله عز وجل وبشرها بما عنده؛ لأن الخوف والرجاء مظنة السلامة، كما قال الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]، وقال عن عباده الأخيار: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، فجمع لهم بين الخوف والطمع، وبناء على ذلك فإن المقصود من الخطبة أن يمس الإنسان شغاف قلوب الناس حتى يكونوا مطيعين لله سبحانه وتعالى، فيفعلون أوامره ويجتنبون نواهيه، ويخرج كل إنسان إن كان أخطأ في أمور دنيوية لكي يصحح هذه الأمور الدنيوية على وفق شرع الله، وإن كان في أمور دينية اتقى الله عز وجل فيها فلزم السنة وترك البدعة والتزم الجماعة، وسار على نهج الكتاب والسنة. فهذا بالنسبة لأفضل ما يكون من ذكر الله عز وجل، فإذا ذكّر بهذا التذكير، وكانت الخطبة قائمة على الإيمان بالله وقواعد الإيمان به المدعمة بالأدلة الصحيحة الصريحة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم انتفع الناس على اختلاف طبقاتهم. أما بالنسبة لما يلي ذلك من الأحكام والأمور التي لها مساس بالفقه والمعاملات فهذا بقدر حاجة الناس، فإذا رأى الناس يحتاجون إلى تفقيههم في العبادات فعل، كمواسم الحج، فإنه يذكرهم ببعض الأمور المهمة في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك يذكرهم بالمعاملات المحرمة، وكيف يتبايعون، وما الذي يحرم عليهم، خاصة إذا عمت البلوى في بعض المعاملات المحرمة، فإنه يخطب فيها خطبة يبين للناس حرمة هذا النوع من التعامل؛ لأن هذا من التذكير بالله عز وجل. وكذلك يذكرهم بأمور المسلمين وما يتربص به أعداؤهم من الكيد والأذية لهم، من تشتيت كلمتهم وتفريق صفوفهم، والنيل من ديانتهم وقربهم من الله عز وجل، فهذا أمر مهم ومطلوب. فلابد للخطيب أن يكون عنده تنويع في مثل هذه الأمور، أما المبالغة في الأشياء، بمعنى أن الإنسان يبالغ في جانب معين، فيأتي الناس إليه خطبته في أشياء معينة يدور فيها، ويحيا ويموت عليها، وكأن الإسلام حصر فيها، فهذا من الغلو، فكونه ينحصر في هذه الجوانب، أو يرى العناية بواقع المسلمين ومشاكلهم فيحقر من يذكر الناس بالجنة والنار، فهذا ليس من السنة في شيء، فهو أقرب إلى البدعة منه إلى السنة؛ لأنه غلا في دين الله عز وجل، وعدّ أن العناية بواقع المسلمين ومشاكلهم هو الإسلام كله، وهذا ليس بصحيح، بل إن الناس يحتاجون إلى عناية؛ لأن صلاح الناس يبتدئ من الناس أنفسهم، فإذا صلح الفرد صلح المجتمع، وهذا الذي أمامك إن أصلحه الله بموعظتك وتذكيرك فإنه أدعى إلى أن يخرج إلى بيته وإلى زوجه وإلى إخوانه وأخواته فيؤثر فيهم. فكون الإنسان يعتني بالإسلام عموماً، ولا ينحصر في جانب معين، هو أقرب إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.

باب صلاة الجمعة [3]

شرح زاد المستقنع - باب صلاة الجمعة [3] من الأحكام المتعلقة بصلاة الجمعة: أن صلاتها تكون ركعتين يجهر فيهما بالقراءة، ويسن أن يقرأ في الأولى بالجمعة وفي الثانية بالمنافقون، ومنها: حكم إقامة أكثر من جمعة في البلد الواحد، ومقدار السنة التي تصلى قبل الجمعة وبعدها. وللجمعة سنن ينبغي مراعاتها والمحافظة عليها، ومنها: الاغتسال، والتطيب، وليس أحسن الثياب، والتبكير، والدنو من الإمام، وقراءة سورة الكهف، والإكثار من الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

أحكام صلاة الجمعة

أحكام صلاة الجمعة

عدد ركعاتها، والسنة فيما يقرأ فيها

عدد ركعاتها، والسنة فيما يقرأ فيها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: الجمعة ركعتان]. أجمع العلماء رحمة الله عليهم على أن الجمعة ركعتان، وهي هدي النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الأحاديث الصحيحة، ركعتان يجهر فيهما بالقراءة. قال رحمه الله تعالى: [يسن أن يقرأ جهراً في الأولى بالجمعة وفي الثانية بالمنافقين]. قوله: (يسن) أي: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله أنه قرأ في الأولى بالجمعة وفي الثانية بالمنافقون، أما اختيار الجمعة فالمناسبة في ذلك أنه يوم الجمعة، ولذلك إذا قرأها ختمها بأمرهم بما يدل على أهمية شهود صلاة الجمعة؛ لأن الله ختمها بالأمر بحضور صلاة الجمعة وشهودها والنهي عن التخلف عنها، وأما سورة المنافقون؛ فلأنها تشتمل على صفاتهم المذمومة التي حذّر الله منها عباده المؤمنين، فيكون ذلك أدعى إلى دعوة الناس إلى الإخلاص وترك الرياء وصفات المنافقين التي لا يحبها الله عز وجل، فذكر صفات أهل النفاق فيه قرع للقلوب، وتذكير لها وتحذير لها من سلوك هذا السبيل الذي سمّى الله أهله، ونفّر العباد من اتباعه.

التفصيل في حكم إقامة الجمعة في أكثر من موضع من البلد

التفصيل في حكم إقامة الجمعة في أكثر من موضع من البلد قال رحمه الله تعالى: [وتحرم إقامتها في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة]. والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده لم يجمِّعوا أكثر من جمعة واحدة، وكان أهل قباء على أميال من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومسجدهم له الفضل والمكانة، ومع ذلك لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمِّعوا، وهذا يدل على أنه لا تشرع أكثر من جمعة في المدينة الواحدة، فإن وجدت الحاجة كاتساع العمران كما هو موجود الآن، وأصبح الناس في مشقة أن يشهدوا الجمعة في مسجد واحد فيجوز التعدد بقدر الحاجة. وأول تعدد للجمعة وقع في بغداد في عهد بني العباس، وذلك في عصر هارون الرشيد رحمه الله، فإنه ازدحم الناس على جسر دجلة، وشهد أهل جانب بغداد الشرقي الجمعة فكانوا يزدحمون على الجسر، فربما سقطوا بدوابهم في النهر وغرقوا وماتوا، ولربما مات الضعفاء من النساء والأطفال ونحوهم، فاسترخص الناس في أن يقيموا الجمعة في الشط الثاني من بغداد، فأذن لهم ورخص لهم القاضي أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة، وهي أول مسألة حصل فيها تعدد الجمعة كما يذكر العلماء رحمة الله عليهم، ولما أفتاهم أن يجمِّعوا أمرهم أن يعيدوها ظهراً احتياطاً. قال رحمه الله تعالى: [فإن فعلوا، فالصحيحة ما باشرها الإمام أو أذن فيها]. قوله: [فإن فعلوا] أي: عددوا من دون حاجة فهم آثمون، كأن تكون هناك جمعة في حي وهناك حي قريب منه، فيقول أهل الحي القريب: لو أننا أحدثنا جمعة في حينا، ولا حاجة أن نذهب إلى الحي الثاني. فإحداثهم للجمعة محرم إذا لم توجد حاجة وضرورة، فحينئذٍ إذا أحدثوها أثموا. فإن صلوا فهل العبرة بالجمعة القديمة، أم العبرة بالجمعة الحديثة، أم العبرة بالجمعتين وكلتاهما صحيحة؟ هذا فيه تفصيل بين العلماء: فبعض العلماء يقول: العبرة عندي بأول الجمعتين، فأول الجمعتين وقعت هي المجزئة، فلو أن المسجد الحديث بكّر وصلى الجمعة قبل فجمعته هي المعتدّ بها وهي المعتبرة، ولا ينظر إلى قديم ولا إلى جديد وهذا يقول به بعض أصحاب الشافعي رحمه الله. القول الثاني: العبرة بالمسجد القديم، وهو قول الجمهور، كما ينص عليه أصحاب الإمام مالك رحمه الله، وأصحاب الإمام أحمد، وكذلك جمع من أصحاب الإمام الشافعي رحمة الله على الجميع، وهذا هو ظاهر القرآن، قال تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108]، فدل على أن المسجد الذي هو أقدم جمعته هي المعتبرة، وعلى هذا فالجمعة في المسجد الثاني لاغية، سواءٌ أوقعت قبل جمعة المسجد القديم أم وقعت بعده، فالعبرة بالمسجد القديم، سواء أتقدم أم تأخر، ولا حاجة إلى تفصيل العلماء رحمة الله عليهم. وهناك وجه آخر -كما درج عليه المصنف- أن العبرة بالجمعة التي أذن فيها الإمام وهذا مشكل؛ لأنه ربما أذن الإمام لأصحاب الجمعة الثانية، والجمعة الأولى في الأصل كانت موجودة قبل إذن الإمام، فحينئذٍ لازم هذا أن يحكم ببطلان الجمعة بالمسجد العتيق وصحتها في المسجد الحديث، وظاهر القرآن يدل على خلاف هذا، فيستصحب نص القرآن على أن العبرة بالمسجد القديم؛ لأنه أحق، والمسجد الجديد داخل عليه، وأهله ظلموا المسجد القديم بدخولهم عليه، ولذلك يعتد بالجمعة التي تقع في المسجد القديم، ولو كانت متأخرة، أما لو كانت وجدت حاجة لإحداث الجمعة الثانية فلا إشكال، فكلتا الجمعتين صحيحة. قال رحمه الله تعالى: [فإن استويا في إذن أو عدمه فالثانية باطلة]. لو أذن الإمام بكلتا الجمعتين فقد قيل: العبرة بالأسبق وقوعاً، وهي التي وقعت ولو كانت في الجمعة القديمة، فإنها هي الصحيحة، ولو أن الجمعة التي وقعت في المسجد الحديث وقعت قبل فإنها هي الصحيحة، والصحيح ما ذكرناه أن العبرة بالمسجد القديم سواء أستويا في الإذن أم استويا في الوقت، أم شك في الوقت، فالعبرة بالمسجد القديم على ظاهر آية التوبة، وهي نص قوي في الاعتداد بالمسجد القديم وعدم الاعتداد بالمسجد الحديث الطارئ عليه. قال رحمه الله تعالى: [وإن وقعتا معاً أو جهلت الأولى بطلتا]. إذا كانت العبرة بالوقت فيرد Q لو وقعتا معاً فما الحكم؟ و A تبطل الجمعتان؛ لأنه لا بد من تصحيح إحدى الجمعتين وإلغاء الأخرى، والضابط في التصحيح مستوٍ فيهما، فلا وجه لتصحيح إحداهما دون الأخرى، قال: [بطلتا]، فيصلونها ظهراً. والصحيح أن العبرة بالجمعة القديمة -كما ذكرنا- حتى ولو استويتا في الوقت.

بيان مقدار السنة بعد الجمعة

بيان مقدار السنة بعد الجمعة شرع المصنف رحمه الله في بيان جملة من السنن التي أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة، فمنها ما يتعلق بالصلاة كالسنن الراتبة، ومنها ما يتعلق بالمكلف من ناحية تهيؤه لصلاة الجمعة ومضيه إليها، فقال رحمه الله في بيان السنة الراتبة التي تكون بعد الجمعة: [إن أقلها ركعتان]، وهذا على ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أنه صلى بعد الجمعة ركعتين)، وهاتان الركعتان كان عليه الصلاة والسلام يصليهما في بيته، ولذلك حفظ بعضها من أحاديث أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن. وكذلك ثبت عنه في حديث ابن عمر: (أنه عليه الصلاة والسلام صلى بعد الجمعة ست ركعات)، وللعلماء رحمهم الله في هذا أقوال: فهناك أحاديث أنه صلى ركعتين، وهناك أحاديث أنه صلى أربعاً، وأنه صلى ست ركعات، وأنه بيّن أن السنة يوم الجمعة ست ركعات. فبعض العلماء يقول: إذا صلى في المسجد يصلي أربعاً، وإذا تسنن في بيته يصلي ركعتين جمعاً بين النصوص، فما جاء عن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن من صلاته عليه الصلاة والسلام بالركعتين يكون في بيته، فنعمل الحديث على ظاهره، وما جاء عنه عليه الصلاة والسلام من صلاته في المسجد أربعاً بعد الجمعة يكون في المسجد فهذا وجه للجمع. ومنهم من خير فقال: يصلي تارة ركعتين، ويصلي تارة أربع ركعات، والاختلاف ليس اختلاف تضاد، إنما هو اختلاف تنوع، فإن شاء صلى ركعتين وإن شاء صلى أربعاً، كأنه يرى أن أقصى ما يصلى هو الأربع ركعات. ومن العلماء من قال: إن السنة هي ست ركعات، كما ثبت في حديث ابن عمر، فكان عليه الصلاة والسلام يصلي أربع ركعات في مسجده وركعتين في بيته، وهذا هو أقوى الأقوال، وهو أن السنة أقصى ما يكون فيها ست ركعات، وأقل ما يكون فيها الركعتان، ولذلك من أراد أن يصيب السنة على أكمل وجوهها وأتمها، فليصل ركعتين في بيته إذا رجع، ويصلي قبلها أربعاً في المسجد. ولكن إذا لم يتيسر له أن يصلي الأربع في المسجد فإنه يصلي الست في بيته، وإذا لم يكن له بيت، كأن يكون صلى ويريد أن يرجع إلى ضيافة، أو إلى دعوة ولا يتيسر له الرجوع إلى بيته يصلي في المسجد ستاً، وهذا هو المحفوظ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فإنه كان يصلي ست ركعات في مسجده، كما أثر عنه حينما قدم إلى مكة رضي الله عنه وأرضاه. والخلاصة من هذا أن للجمعة راتبة، وتختص راتبتها بالبعدية، وليس للجمعة راتبة قبلية، وذهب بعض السلف إلى أن للجمعة راتبة قبلية، وأنه يصلي قبل الجمعة ركعتين، وهذا مأثور عن بعض السلف من الأئمة رحمة الله عليهم، وقال به بعض أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع. والأقوى الذي دلت عليه السنة أنه لا يصلى قبل الجمعة راتبة، ولكن الأفضل والسنة للإنسان إذا قدم إلى المسجد قبل صلاة الجمعة أن يكثر من النوافل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بيان بعض الأعمال والفضائل يوم الجمعة: (ثم دخل المسجد فصلى، ثم جلس فأنصت)، ولذلك استحب العلماء أن يكثر من الصلاة، خاصة وأنه قبل الجمعة بعد الزوال، وهناك قول يقول: إنها ساعة إجابة، ولذلك يستكثر من الصلاة ويصلي؛ لأن أفضل الأعمال هي الصلاة، فيستكثر من الصلاة، ولكن لا يتقيد بالسنة الراتبة، أي: ليس لها سنة راتبة. واختلف العلماء في الصلاة بين الأذان الأول والثاني: فمذهب طائفة من أصحاب الشافعي رحمهم الله أنه يصلي بين الأذان الأول والثاني؛ لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة)، فقالوا: لا حرج أن يصلي بين الأذان الأول والثاني، وكان الإمام أحمد رحمة الله عليه إذا أذن المؤذن الأول قام فصلى حتى يشرع الخطيب في خطبته، فيصلي بين الأذان الأول والثاني. وذهب الجمهور إلى أن حديث: (بين كل أذانين صلاة) يختص بالأذان والإقامة، وأنه لا يشمل الجمعة ولكن مع هذا لا ينكر على من يصلي بين الأذان الأول والثاني، وليس هناك نص صحيح في كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم يدل على تحريم الصلاة بين الأذان الأول والثاني، فلو أن إنساناً صلى لا ينكر عليه، خاصة وأن ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة) يحتمله، وقد قال به أئمة، والأصل في المسائل الخلافية أنه إذا تمسك أحدهم بظاهر السنة المحتملة فإنه لا ينكر على من فعلها، ولكن إذا اعتقد الفضل بأن قال: أقصد الصلاة بين الأذان الأول والثاني، فإذا اعتقد مزية الفضل في هذا الوقت يكون قد أحدث، أما لو أنه صلى صلاة مجردة، فإن الصلاة في هذا الوقت النصوص دالة على مشروعيتها وجوازها، ولا ينكر على من فعلها، وليس هناك وجه لتحريم الصلاة إلا بنص من الكتاب أو السنة. ولذلك يبين في هذه المسألة، فإذا صلى بين الأذان الأول والثاني، وأخذ بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة)، والأذان الأول أذان شرعي، وقد أجمعت الأمة وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بعد عهد عثمان رضي الله عنه على هذا الأذان، وقال: إنني أتأول ظاهر هذا الحديث: (بين كل أذانين صلاة)، فهذا وجه تحتمله السنة، ولذلك لا ينكر على من فعله، إنما ينكر لو اعتقد مزية الفضل، فإذا اعتقد مزية الفضل فقد أحدث في دين الله ما ليس منه باعتقاد فضل لوقت لم يرد النص به عيناً، أما لو صلى مطلق الصلاة، أو صلى لتأول ظاهر الحديث: (بين كل أذانين صلاة)، فإنه لا ينكر عليه، خاصة أن من أهل العلم رحمة الله عليهم من يقول: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة) السبب فيه أنه إذا أذن المؤذن فتحت أبواب السماء، فشرع أن يصلى بين الأذان والإقامة، ولذلك يستجاب الدعاء بين الأذان والإقامة، وذلك نظراً إلى كونه إذا أذن المؤذن فتحت أبواب السماء لاشتمال الأذان على أفضل ما يقال وأعظم الكلمات وأجلها عند الله، وهي شهادة التوحيد، فتفتح أبواب السماء، وهذا المعنى ينطبق على الأذان الأول؛ لأنه أذان شرعي أجمعت الأمة على اعتباره والاعتداد به. قال رحمه الله تعالى: [وأكثره ست]. أي: أكثر هذه السنة الراتبة البعدية ست ركعات، والصحيح -كما قلنا- أنه ليس هناك راتبة قبلية وإنما راتبة بعدية فقط، وهذا مما تختص به الجمعة، بخلاف صلاة الظهر في كل يوم فلها راتبة قبلية وبعدية، وقد تقدم الكلام على هذه الراتبة، وبيان ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في أعدادها عند كلامنا على صلاة السنن الراتبة. فقوله: [أكثرها ست] أي: أكثر ما يتنفل به كراتبة بعدية، ولكن لو أن إنساناً أراد أن يصلي بعد الجمعة نافلة مطلقة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عمرو بن عبسة: (فإذا زالت فأمسك عن الصلاة، فإذا انتصفت في كبد السماء فأمسك عن الصلاة، فإنها ساعة تسجر فيها جهنم، فإذا زالت فصل فإن الصلاة حاضرة مشهودة)، ولذلك لم يفرق بين الجمعة وغيرها، فلا حرج أن يتنفل النفل المطلق، لكن النفل الذي يقصد منه راتبة الجمعة البعدية لا يكون إلا على أقصى درجة، وهي ست ركعات، وهذا هو أقصى ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصة وأن حديث الست فيه جمع بين الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأربع والذي ورد عنه بالركعتين.

سنن الجمعة

سنن الجمعة

الاغتسال

الاغتسال قال رحمه الله: [ويسن أن يغتسل لها]. أي: يسن للإنسان أن يغتسل لصلاة الجمعة، والسبب في هذا أن بعض الصحابة كانوا يقدمون على الجمعة من العوالي ومن قباء، ومن نحوها من الأماكن التي هي من ضواحي المدينة، وكانت الأرض أرض زراعة، فإذا مشوا في الطريق يغشاهم الغبار والتراب، قالت أم المؤمنين: فَعَلَتِ المسجد منهم زهومة بمعنى أنه مع عرقهم وما يكون في الثياب من عرق فاحت هذه الرائحة في المسجد، وتضرر الناس، وكان مسجده عليه الصلاة والسلام صغيراً، فتضرر الناس بذلك، فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يغتسلوا للجمعة، وهذا يدل على أن السنة أن يغتسل، وهذا الاغتسال فيه حكم عظيمة: أولها: أنه يقوي نفس الإنسان على ذكر الله عز وجل، وذلك أن الاغتسال يقوي الإنسان وينشطه، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان إذا دخل إلى مكة اغتسل بذي طوى)، وذي طُوى مثلث الطاء، ويسمى الآن الزاهد، اغتسل فيه عليه الصلاة والسلام ونزل وطاف، وهذه سنة يضيعها كثير من المعتمرين إلا من رحم الله، فمن السنة أن يغتسل الإنسان قبل الطواف؛ لأنه إذا اغتسل قويت نفسه، خاصة وأنه قد جاء من السفر في عناء وتعب، فإذا طاف وهو قوي النفس نشيطاً مرتاح البال، مع وجود الاستجمام بإصابة الماء للبدن، قويت نفسه على ذكر الله واستجمت، وأصبح في جلد على الطواف والسعي، فالاغتسال يقوي النفس. ثانياً: أن الناس يحضرون ويدخلون يوم الجمعة، فإذا اجتمعوا في المسجد ولم يغتسلوا علت منهم الزهومة، وأضر بعضهم ببعض، وهذا جعل بعض العلماء رحمة الله عليهم ينبه على أن الإنسان إذا دعي إلى حلق الذكر ومجالس العلماء التي يكثر فيها الناس أنه يفضل أن يغتسل لها، لا بقصد العبادة، وإنما بقصد المعنى الذي قصده الشرع من الاجتماع، وفرق بين أن يغتسل بقصد القربة والعبادة، وبين أن يغتسل من أجل دفع ضرر النتن الذي قد يكون في ثيابه، أو يكون بسبب الازدحام مع غيره، فقالوا: إن الغسل يوم الجمعة يدفع عن الناس ضرر الرائحة الكريهة. ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن الجمعة والذهاب إليها: (من غسّل واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب) إلى آخر الحديث، وقد اختلف العلماء في قوله: (غسل واغتسل): فمنهم من يقول: (غسل واغتسل) معناهما واحد، والمراد به تأكيد الغسل. ومنهم من يقول: (غسل) أي: تسبب في غسل زوجته، بناء على أنه يصيب أهله قبل أن يذهب إلى الجمعة، فإنه إذا أصاب الأهل قبل ذهابه إلى الجمعة انطفأت الشهوة، فكان أغض لبصره، وأحصن لفرجه، وأبعد له عن الفتنة، فإذا أقبل على الذكر أقبل بنفس مطمئنة، ويكون منشرح الصدر، بعيداً عن الوساوس والخطرات، خاصة وأنه في يوم الجمعة لا يأمن من وجود الاختلاط الذي قد تصاحبه فتنة النظر. وقال بعض العلماء: (غسل واغتسل) أي: غسل رأسه واغتسل لسائر جسده. وقال بعضهم: قوله (غسل) أي: أنه توضأ، (واغتسل) أي: غسل جميع بدنه. وهذه كلها أوجه لها ما يبررها ويدل على اعتبارها، وقال بها جمع من أهل العلم رحمة الله عليهم. وقول المصنف: [يسن] السنة: ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، فلو قلنا: دعاء الاستفتاح سنة فإن من كبّر وقرأ الفاتحة مباشرة لا يأثم، وهكذا الدعاء المأثور: (ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) بعد التسميع والتحميد، وكذلك: (حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه)، فإن هذه الأدعية سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها. فقوله: [يسن أن يغتسل] أي أنه إذا اغتسل فأفضل، وإذا لم يغتسل فلا إثم عليه، وهذا مذهب طائفة من العلماء. والصحيح: مذهب الظاهرية ومن وافقهم من أهل الحديث أن غسل الجمعة واجب، وذلك للأمور الآتية: أولاً قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل)، والأمر للوجوب حتى يدل الدليل على صرفه، ولا صارف صحيح. ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم). ثالثاً: أننا وجدنا الصحابة قد فهموا اللزوم للغسل، وذلك أن عثمان رضي الله عنه دخل وعمر يخطب في الناس يوم الجمعة، فقال له عمر: (أي ساعة هذه؟) أي: ما بك وما شأنك قد تأخرت عن الجمعة؟ فقال: (يا أمير المؤمنين! ما هو إلا أن سمعت النداء فتوضأت وقدمت فقال: والوضوء أيضاً) كأنه ينكر عليه، فدل على أن الغسل كان معروفاً أنه لازم لصلاة الجمعة، وعلى هذا فإنه يقوى القول بالوجوب. ثم إن دليل النظر يقوي هذا القول، وهو أنه إذا لم يغتسل أضر بالناس، وذلك بحصول النتن، وإن كان النتن منه يسيراً فاليسير مع اليسير من غيره كثير، والجبال من دقائق الحصى، ومعنى هذا أن دفع هذا الضرر مطلوب شرعاً، وبناء عليه فإنه يعتبر أشبه ما يكون بالوجوب واللزوم منه إلى السنة. أما الغسل للجمعة فإنه أفضل ما يكون عند إرادة الخروج، فهذا أفضل ما يكون، فمثلاً: لو كان يخرج الساعة التاسعة أو العاشرة، فإنه يؤخر غسل يوم الجمعة إلى هذه الساعة؛ لأنه إذا أخّر غسله إلى هذه الساعة حقق مقصود الشرع من حصول النظافة والنقاء، ومن ثم قال العلماء: الأفضل في غسل الجمعة أن يقع قريباً جداً من الخروج، ولكن إذا كان غسله عند الخروج فيه ضرر عليه كأن يكون في شدة برد، فإنه لا حرج أن يقدمه بوقت على قدر ما يدفع به الضرر عن نفسه. لكن لو أن إنساناً صلى الفجر واغتسل، أو طلعت عليه الشمس واغتسل، فهل يصدق عليه أنه حقق الواجب من غسل الجمعة؟ الذي يقوى ويظهر أن هذا الغسل ينبغي أن يكون قريباً من الخروج، وذلك للرواية في الصحيح: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل)، فيكون مطلق قوله: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) مقيداً بقوله: (إذا أتى أحدكم الجمعة)، خاصة وأنه يفهم من النص أو الأمر بهذا الغسل أن يكون نقياً لصلاة الجمعة، فلو أنه اغتسل قبل الجمعة بوقت ربما زال هذا المعنى، فيعتريه ما يعتري الإنسان من العرق ونحو ذلك، فيذهب المقصود من غسله ليوم الجمعة. قال رحمه الله تعالى: [وتقدم]: أي: تقدمت صفة الغسل، وهذه العبارة تُعقِّب فيها صاحب المتن بأن فيها نظراً، وليس المراد أنها فاسدة من كل وجه، فإذا كان الكلام مستقيماً والحجة مستقيمة وقال الخصم: (فيه نظر)، فإن قوله هذا يكون مكابرة وعناداً، وقد يكون الكلام فيه احتمال الخطأ، فقولهم: (فيه نظر) يعنى أنه يحتمل الخطأ، أو فيه خلل في ضابط من ضوابطه أو أصل من أصوله الذي اعتمدها. فقول المصنف: [وتقدم] لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون قوله: [وتقدم] أي: تقدم أنه مسنون، وهذا احتمال، وحينئذٍ على هذا الوجه يكون الذي تقدم حكم غسل الجمعة. وإما أن يكون معناه: تقدمت صفة الغسل، أو تقدم بيان الغسل، أو بيان ما يتحقق به الغسل الذي يسن. فإن كان معنى قوله: [وتقدم] أي: تقدم أنه مسنون، فهذا هو الذي جعلهم يقولون: (فيه نظر)؛ لأنه في باب غسل الجنابة لم يذكر أن غسل الجمعة سنة، فيكون قول الشارح: (فيه نظر)، أي: إن تقدم حكم غسل الجمعة بأنه سنة ففيه نظر. والواقع أن المصنف رحمه الله قصد بقوله: [وتقدم] بأنه تقدم ضمناً ولم يتقدم صراحة، وتوضيح ذلك أنه لما تكلم في باب الغسل ذكر من موجباته خروج المني دفقاً، وتغييب الحشفة، وإسلام الكافر، والحيض إلى آخره، ولم يذكر يوم الجمعة، فلما لم يذكر الجمعة مع الموجبات فهمنا أن غسل الجمعة مسنون وليس بواجب، وهذه إشارة خفية، ومن هنا لم يتبين لمن تعقب المصنف رحمه الله وجه كونه قدم الحكم، والواقع أنه قدم الحكم، ولكن قدمه بدقة. وإن كان مراده بقوله: [وتقدم] أي: تقدم بيان ما يتحقق به الغسل المعتبر، فقد تقدم، فإنه في الغسل بيّن ما يتحقق به الغسل في باب غسل الجنابة، وبناء على ذلك فلا وجه لتعقب صاحب المتن، وكلامه صحيح ومعتبر على الوجهين: إن قلنا: أراد الحكم، فلا إشكال. وإن قلنا: أراد الصفة، فلا إشكال.

التنظف والتطيب

التنظف والتطيب قال رحمه الله تعالى: [ويتنظف ويتطيب]. هذا الأمر بالنظافة يفهم منه الأمر بالغسل، وذلك أنه لما أمر الشرع بالغسل فإن معنى ذلك أن يتنظف الإنسان، وهذا صحيح، فإننا نأخذ الأحكام إما من منطوق الشرع، أو مما نفهمه من الشرع، وهذا من الفقه، فإنه إذا جاء النص يأمرنا بغسل الجمعة فإننا نفهم أن المراد أن يكون الإنسان على نظافة ونقاء، إضافة إلى أن الأصل في شهود المساجد ودخولها أن يكون الإنسان على نقاء، يقول تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، فقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] مما يتضمن الزينة المطلقة، سواء أكانت زينة البدن التي يصحبها نقاؤه ونظافته، أم الزينة التي يراد بها ستر العورة، وقد استدل العلماء رحمهم الله بهذه الآية على اشتراط ستر العورة، وقد تقدم معنا. قوله: [يتنظف]. الغسل قد يكون فيه نظافة وقد لا يكون فيه نظافة، فالإنسان قد يبلّ جسده بأن يدخل في بركة ويغتسل ولكن لا يتنظف، بمعنى أنه لا يدلك جسده، ولا يبالغ في إزالة الشعث عنه، فالنظافة فوق الغسل، وبناء على ذلك فإن السنة والأفضل للإنسان أن يبالغ في نظافة جسده حتى يكون محققاً لمقصود الشرع من زوال الأذى الذي يتضرر به الناس، وهو وجود الرائحة الكريهة. وقوله: [ويتطيب]. الطيب هو الرائحة، ويشمل الطيب الذي يكون سائلاً، أو يكون له رائحة كالبخور والند والعود، ونحو ذلك، فهذا كله من الطيب، والطيب من السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيح-: (ومس من طيب أهله)، وهذا يدل على أن السنة أن يتطيب الإنسان، وقد جاء في حديث فضل المضي إلى الجمعة: (ومس طيباً) أي: يمس من طيبه طيب بيته أو طيب أهله، وقالوا: التعبير بطيب الأهل لأن الإنسان إذا أراد أن يتجمل على أبلغ ما يتجمل فإنه يتجمل لزوجه، ولذلك اختار هذا النوع من الطيب الذي يكون به أبلغ ما يكون في زينته، وأحسن ما يكون في رائحته، وكأنه لما قال: (طيب أهله) لأن الإنسان لا يحب أن يضر أهله عند نومه معهم ونحو ذلك، كذلك أيضاً في مخالطته لإخوانه، فإنه يتطيب بأحسن ما يجد من الطيب وأفضله.

لبس أحسن الثياب

لبس أحسن الثياب قال رحمه الله تعالى: [ويلبس أحسن ثيابه]. لأنه يوم عيد، والجمعة عيد الأسبوع، ولذلك يلبس أحسن ما يجد، وهي السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن الإنسان إذا أراد شهود صلاة الجمعة، أو الصلاة عموماً فالأفضل له أن يلبس أحسن ما يجد. ومن الأخطاء الشائعة عند الناس اليوم -وينبغي أن ينبهوا لها- شهود بعض الناس المساجد بملابس نومهم، فهذا أمر لا ينبغي، وهو يخالف أمر الله عز وجل بأخذ الزينة عند دخول المساجد، وإذا رأيت إنساناً يدخل المساجد بهذه الثياب تنبهه، ولا مانع أن تبالغ في بيان أن هذا الأمر لا ينبغي للإنسان الذي يقف بين يدي الله عز وجل، فإنه لو مضى إلى مقابلة إنسان عظيم فإنه يتجمل ويلبس أحسن ما يجد، ولوجد في نفسه المنقصة أن يخرج بمثل هذه الثياب، والأصل عند العلماء وضوابط العلماء التي قرروها أنه لو خرج الإنسان بالثياب الداخلية أمام الناس والملأ عامة فضلاً عن المسجد فإنه تسقط عدالته، ويعد هذا من خوارم المروءة، فالذي يخرج بثياب نومه أمام الناس في الشارع، فضلاً عن أن يدخل بيت الله عز وجل والمساجد التي يشهدها الناس على اختلاف طبقاتهم فإنه قد حرم مروءته. ومن الحياء والخجل أن يخرج الإنسان بثياب نومه إلى بيوت الله عز وجل، فينبغي إجلال هذه البيوت، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36]، ولذلك ينبغي للإنسان أن يشهدها وهو على أحسن وأفضل ما يكون، قال عليه الصلاة والسلام: (ما على أحدكم أن يتخذ ليوم جمعته ثوبين سوى ثوبي مهنته) أي: ما عليه من ضرر لو أنه جعل ثوباً لمهنته، وثوباً لجمعته، مع أن ثياب المهنة يقابل بها الناس، فكيف إذا كان بثياب بيته التي لا يقابل بها الناس؟ ولو أنه دعي لمقابلة إنسان يكرمه ويجله ويعظمه لما خرج بثياب نومه، ولأحس هذا الإنسان أنه يزدريه وينتقصه، فكيف بالله جل جلاله؟! ولذلك ينبغي للإنسان أن يظهر نعمة الله عز وجل عليه. كما أن خروج الناس بمثل هذه الثياب فيه أثر نفسي على الأبناء والأطفال، فإن الأبناء والأطفال إذا رأوا آباءهم، أو رأوا كبار السن يخرجون بمثل هذه الثياب إلى المساجد احتقروا أمر الصلاة، وتقالوا أمر المساجد، ولكنهم إذا رأوهم يأخذون زينة المساجد تأسوا بهم واقتدوا بهم، فكان شعوراً نفسياً يعين على إجلال بيوت الله عز وجل ومساجده، وإجلال شعائره التي من أعظمها الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، فعلى الأئمة والخطباء أن ينبهوا الناس، وإذا رأيت إنساناً يصلي بجوارك وعليه هذه الثياب تنبهه، وإذا كان الإنسان له مكانة لا مانع أن تقرعه وتقول: إن هذا لا ينبغي، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، فالحياء يدعو الإنسان ألا يخرج بمثل هذه الثياب؛ لأن هذه ثياب البيت.

التبكير في الذهاب إلى الصلاة مشيا

التبكير في الذهاب إلى الصلاة مشياً قال رحمه الله تعالى: [ويبكر إليها ماشياً]. هذه هي السنة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا وأنصت)، فقوله: (من بكر وابتكر) قالوا: بكّر على وزن (فعَّل)، وهذه الصيغة تدل على زيادة المبنى، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، قالوا: إن هذا يدل على تكلف البكور، والبكور في أول النهار، واختلف العلماء رحمة الله في التبكير للجمعة متى يكون؟ فمنهم من يرى أن التبكير للجمعة يكون من بعد الزوال، كما هو قول طائفة من فقهاء المدينة من السلف رحمة الله عليهم، وبه يقول إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رحمة الله على الجميع. والقول الثاني أن التبكير يكون من أول النهار، وهو مذهب الجمهور، فيمشي من بعد طلوع الشمس. بل قال بعضهم: لو صلى الفجر وجلس كان أبلغ في التبكير، أي: لو أنه بعد صلاة الصبح، وبعد رجوعه إلى بيته وإصابته لطعامه خرج إلى مسجده، فهذا أبلغ ما يكون من البكور. وإن كان الأقوى أنه بعد طلوع الشمس؛ لأن فيه الساعات الأول التي فيها الفضل، والتي سبق بيانها وأنه: (من خرج في الساعة الأولى كان كأنما قرب بدنة ... ) الحديث، فهذا الفضل لا يكون إلا للمبكر، وهو الذي يخرج في أول الساعات. فالفضل يكون في البكور، ولأن البكور فيه مسارعة للخير ومسابقة إليه، والله سبحانه وتعالى ندب عباده إلى المسارعة والمسابقة إلى الخير، فقال سبحانه: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133]، فالذي يسارع إلى الجمعة يسارع إلى مغفرة من ربه، والذي يسابق إلى الجمعة يسابق إلى مغفرة من ربه، وإلى جنة عرضها السماوات والأرض؛ لأن دافعه إلى ذلك رجاء رحمة الله، ورجاء عفوه ومغفرته ورضوانه، فالفضل في التبكير للجمعة، وأعظم الناس أجراً في الجمعة أبعدهم إليها ممشى، وأسبقهم إليها تبكيراً.

الدنو من الإمام

الدنو من الإمام قال رحمه الله تعالى: [ويدنو من الإمام]. لأنه في القديم كانت المساجد لا يوجد فيها الأجهزة التي يبلغ فيها الصوت، فكلما دنوت من الإمام كلما كان ذلك أدعى لسماعك، والمقصود من الجمعة أن تسمع الموعظة، ولذلك من أفضل ما يكون للعبد يوم الجمعة أن يكون تأثره بالخطيب بليغاً، حتى ولو كانت خطبته لا يجد فيها تلك الفصاحة وتلك البلاغة، لكن ينبغي أن يتفاعل مع ما يقوله الخطيب وما يأمر به من أوامر الله وما ينهى عنه من زواجر الله، فإنه إذا فعل ذلك، وتأثر بما يقوله الخطيب فإنه من أفضل الناس وأعظمهم أجراً، وكان العلماء رحمهم الله يستبشرون للعبد بذلك، ويعدونه من دلائل الإيمان. وما جعلت هذه المنابر، وما أمر الأئمة بإلقاء الخطب عليها إلا للعمل وللتأثر بما يقولون، فإذا رزق الله العبد أذناً صاغية وقلباً واعياً، فإن هذا من نعم الله عليه، وقد كانوا يقولون: من أعظم الناس أجراً يوم الجمعة أفضلهم تأثراً بقول الخطيب. وكان بعضهم يقول: إن من دلائل القبول أنه إذا وجد نفسه في الخطبة تتأثر وينكسر قلبه ويخشع، وربما يبكي، ويحس أن هذه الزواجر تقرعه وتذكره وتعظه، وأنها تنصحه، ويجد لها وقعاً بليغاً على قلبه، فليحمد الله، عز وجل على عظيم نعمة الله عليه، فهذا من نعم الله، ومما يخص الله به من شاء من عباده. وقد اختلف العلماء في مسألة وهي: لو أن الإنسان يوم الجمعة كان في بادية، أو في مكان ليست فيه أجهزة مكبر الصوت، فلو أنه جاء مبكراً فأدرك الصف الأول في طرفه بحيث لا يسمع الخطبة، ويمكنه أن يأتي في الصف الثاني فيسمع الخطبة، فهل الأفضل أن يكون في الصف الأول مع بعده عن سماع الإمام، أم يكون في الصف الثاني مع سماعه وتأثره؟ ومثل هذه المسألة أيضاً: صلاة الفجر، فقد اختلفوا فيها: هل الصف الثاني أفضل إذا كان الصف الأول أبعد عن الإمام بحيث لا يسمع قراءته، أم الفضيلة للصف الأول وإن لم يسمع قراءة الإمام؟ فبعض العلماء يقول: إن قربه من الإمام ولو كان في الصف الثاني أو الثالث أو الرابع أفضل من الصفوف الأول، ويرجح ذلك بقوله سبحانه وتعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، فقالوا: إن هذا يدل على فضل هذه القراءة، خاصة وقد قيل: إن الفجر تشهده الملائكة وقيل: إنه يشهده الله عز وجل، أي أن النزول إلى السماء الدنيا يستمر إلى قراءة الفجر إعظاماً لهذه الصلاة. والصحيح: أن قوله: {كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، معناه: تشهده الملائكة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار يجتمعون في صلاة الصبح والعشي) التي هي صلاة العصر، فقوله: {كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] معناه: تشهده الملائكة. وفائدة الخلاف أن من يقول: الأفضل أن يكون في الصف الثاني والثالث مع السماع والتأثر، يقول: السماع والتأثر مقصود من الشرع، فكأن صلاة الجمعة قصد منها أن يسعى الإنسان ويتأثر، فيحقق بذلك مقصود الشرع والنفع بها متعدد، خاصة وأنها من جنس العلم، والصف الأول من جنس العبادة، والعلم مقدم على العبادة، ففضل العلم مقدم على العبادة. ومن يقول: الصف الأول أفضل، فذلك لعموم النصوص. وثانياً: أن الصف الأول فضيلته متصلة، أي: أنه يتصل بنفس فعل الصلاة، والسماع لا يعتبر في كل الصلاة وإنما في بعضها، فإذا صلى الصلاة كلها في الصف الأول فالفضيلة كاملة له، لكن السماع لا يكون إلا في حال الخطبة، ولا يكون إلا في حال القراءة، كما في صلاة العشاء يكون في الركعتين الأوليين، وفي صلاة المغرب في ثلثي الصلاة وهما الركعتان الأوليان. فقالوا: الأفضل أن يصلي في الصف الأول. والحقيقة أن الصف الأول أفضل من جهة النص ومن جهة المعنى، ومقصود الشرع من ناحية الفائدة، فإن القرب من الإمام أفضل، لكن والحمد لله مع وجود الوسائل الموجودة الآن لا شك أنه يرتفع الخلاف، ويكون الصف الأول أفضل مطلقاً؛ لأنه يسمع الإمام ويصيب فضيلة الصف الأول.

قراءة سورة الكهف يوم الجمعة

قراءة سورة الكهف يوم الجمعة قال رحمه الله تعالى: [ويقرأ سورة الكهف في يومها]. أي: السورة التي ذكرت فيها قصة أهل الكهف، وتسمى سور القرآن بما يذكر فيها، وقد اختلف السلف في ذلك: فبعضهم يقول: لا يقال: سورة الكهف، ولا يقال سورة البقرة، وإنما يقال السورة التي تذكر فيها البقرة، أو السورة التي يذكر فيها الكهف. والصحيح أنه يجوز أن يقال: سورة الكهف، وسورة البقرة؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكر شفاعة القرآن قال: (تقدمهم سورة البقرة وآل عمران)، وقال: (من قرأ الآيتين من آخر البقرة في ليلته كفتاه)، فهذ يدل على مشروعية تسمية السورة مباشرةً بقوله: سورة البقرة، وسورة آل عمران، ونحو ذلك. وذكره قراءة سورة الكهف لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث -وحسنه غير واحد من الأئمة- قوله: (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أعطي نوراً كما بين السماء والأرض)، وهذا يدل على فضل قراءة هذه السورة يوم الجمعة. وللعلماء وجهان في قراءتها: فمنهم من يقول: تقرأ في ليلة الجمعة، ولا حرج أن يقرأها في الليل أو النهار فهو بالخيار. ومنهم من يقول: لا تكون قراءتها في الليل، وإنما بين طلوع الشمس إلى غروبها. ويفضل بعض العلماء أن تكون قبل الصلاة، بمعنى أن تكون ما بين طلوع الشمس إلى صلاة الجمعة، وهذا أقوى وذلك لأنه يكون في أول النهار، فلما يقرأ القرآن تكون عبادته معينة له على صلاة الجمعة وحضور القلب، فكلما شهد الإنسان الجمعة وهو أكثر خيراً وأكثر براً كلما كان أكثر تأثراً وأكثر انتفاعاً وأرجى للقبول من الله عز وجل، ولكن لا حرج لو قرأها بعد صلاة الجمعة، أو بعد العصر. وينبغي أن ينبه على أنه لا يعتقد الفضل لوقت معين بعينه لقراءة هذه السورة، فلو قال إنسان: لا تقرأ هذه السورة إلا في الساعة الأولى من الجمعة، فإن تحديده لهذه الساعة بدعة، وذلك لأنه أحدث؛ لأن الشرع أطلق وهو قيد، ولا يجوز تقييد المطلقات من الشرع إلا بدليل يدل على هذا التقييد. قال العلماء: سبب تخصيص سورة الكهف بالقراءة يوم الجمعة لما فيها من ذكر ابتداء الخلق، وكذلك لما فيها من ذكر مآل الناس من مشاهد يوم القيامة وعرصات يوم القيامة، ولما فيها من التزهيد في الدنيا وضرب الأمثال على حقارة الدنيا، خاصة قصة صاحب البستان، وما كان منه من كفر نعمة الله عز وجل عليه، وكيف أن الله انتقم منه لما كفر نعمة الله سبحانه وتعالى، وبيان حقيقة الدنيا بقوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ} [الكهف:46]، فكون الإنسان يقرأ مثل هذه الآيات، ويتأثر بها ويحس أنها تخاطبه لا شك أن هذا يدل على فضل هذه السورة، وكذلك ما اشتملت عليه من الدعوة إلى طلب العلم وفضل طلب العلم -كما في قصة الخضر وموسى- كل هذا يدل على فضل هذه السورة لما تشتمل عليه من معانٍ جليلة، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجر الجمعة بسورتي السجدة والإنسان، قالوا: لما فيهما من ذكر الآخرة، والتذكير بمآل الناس يوم القيامة من نعيم وجحيم.

الإكثار من الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

الإكثار من الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله تعالى: [ويكثر الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم]. قوله: [ويكثر الدعاء] أي: يوم الجمعة، والسبب في ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم -أو قال: مؤمن- يسأل الله شيئاً إلا أعطاه) أياً كان هذا الشيء من خيري الدنيا والآخرة. ومعنى ذلك أنه يشرع الإكثار من الدعاء يوم الجمعة، ويسن الإكثار منه، ولذلك لما كان قيام ليلة القدر له فضله شرع في العشر الأواخر أن يحيا ليلها بالقيام، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شد المئزر وأحيا ليله، فلما نبه الشرع على أن: (في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد يسأل الله شيئاً من خيري الدنيا والآخرة إلا أعطاه) دل على أنه يشرع ويسن الإكثار من الدعاء حتى يصيب الإنسان هذه الساعة، يقول العلماء: التنبيه على الساعة دعوة إلى الإكثار من الدعاء؛ لأنه لما نبه على أن هناك ساعة فكأنه يقول: ادعوا وأكثروا من الدعاء علكم أن توافقوا هذه الساعة. والعكس بالعكس، فإذا منع الشرع، أو كان هناك رجاء إجابة وخيف من دعوة ظالمة يمنع من الدعاء، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا تدعوا على أولادكم لا توافقوا باباً في السماء مفتوحاً فيستجاب لكم)، فحذر ومنع؛ لأن هناك ساعة يستجاب فيها الدعاء، فمنع من الدعوة التي فيها ضرر. والساعة التي حث عليها النبي صلى الله عليه وسلم قليلة؛ لأن الرواية الصحيحة تقول: (أشار بيده يقللها) حتى قال بعض العلماء: إنها برهة من الوقت وجاء في بعض الأحاديث أنها ساعة كاملة تشمل جزء النهار، والنهار اثنتا عشرة ساعة كما في الصحيح، فهي ساعة بكاملها، وهي ستون دقيقة، وإن كان الأقوى في رواية الصحيح أنها ساعة يقللها عليه الصلاة والسلام. وقد اختلف العلماء في وقت هذه الساعة: فقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إنها بعد ارتفاع الشمس بقدر ذراع أي: بعد الارتفاع بقليل، وهذا قول ضعيف؛ لأن هذا الوقت منهي فيه عن الصلاة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية الصحيحة: (لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي)، فدل على كونها في وقت صلاة، وإن كان اعتبر بعض العلماء هذا بأنه إذا جلس بعد صلاة الفجر ينتظر الإشراق وينتظر الصلاة يكون في حكم المصلي ولكن هذا محل نظر؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: (ما يزال في صلاة ما انتظر الصلاة) أي: الصلاة المفروضة، وهذا يجعله لا يوافق هذا الفضل إلا إذا كان جالساً في مصلاه بعد الفجر إلى أن يصلي الجمعة، وهذا من المشقة بمكان. وقال بعض العلماء: تكون بعد صلاة الفجر من يوم الجمعة إلى طلوع الشمس، وهذا أيضاً مروي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا القول مشكل؛ لأن هذا الوقت أيضاً ليس بوقت صلاة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النافلة فيه، ولذلك يضعف أن يكون هذا الوقت وقت إجابة؛ لأن تلك الساعة يكون فيها العبد مصاحباً للصلاة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (وهو قائم يصلي)، كما في رواية مسلم. وقال بعض العلماء: إنها من بعد الزوال مباشرة. أي: من حين أن يبدأ الزوال تكون هذه الساعة، وهذا القول فيه قوة، وخاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى قبل صلاة الظهر أربعاً قال: (إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح)، ولما التقى شيخ الإسلام -رحمه بالله- بالتتار كان يقول للقائد: انتظر -أي: لا تبادر المعركة- حتى تزول الشمس وتهب الرياح، ويكون الوقت أرجى لقبول الدعاء ساعتها، ويدعوا المسلمون على المنابر. فهذا الوقت من أرجى الأوقات، وهو من بعد زوال الشمس، أو من بداية زوال الشمس. وبعض أصحاب هذا القول: من بعد الزوال ولو لحظة أي: بعد أن تزول الشمس يقوم الإنسان ويصلي بعد زوالها مباشرة. القول الرابع: أنها من بعد الزوال إلى أن تنتهي الصلاة. القول الخامس: أنها من حين يشرع الإمام في الخطبة إلى أن تنتهي الصلاة. القول السادس: أنها من حين يشرع في الخطبة إلى أن تقام الصلاة. القول السابع: أنها عند إقامة الصلاة. القول الثامن: أنها أثناء إقامة صلاة الجمعة، أي: من حين تقام الصلاة ويكبر تكبيرة الإحرام إلى أن يسلم. القول التاسع: أنها من بعد العصر إلى غروب الشمس. القول العاشر: أنها قبل غروب الشمس بساعة. القول الحادي عشر: أنها في الثلاث الساعات التي قبل غروب الشمس. والأفضل والأولى وهدي السنة أن يسكت عن هذه الساعة؛ لأن الشرع سكت، وما ورد من الأحاديث فهو متعارض، مثل حديث أبي سعيد مع حديث أبي ذر، فالأحاديث فيها معارضة، مع أن الصحابة كانوا يفهمون هذا. لكن الأقوى من ناحية النص والدليل أنها تكون في وقت تشرع فيه الصلاة، وهو من طلوع الشمس قيد رمح، إلى أن تصلى صلاة العصر، ويستثنى أثناء الزوال، وبعض العلماء لا يستثني وقت الزوال؛ لأنه يرى أن ساعة الزوال في يوم الجمعة مرتفعة، أي: ساعة انتصاف الشمس في كبد السماء، فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا انتصفت فأمسك عن الصلاة، فإنها ساعة تسجر فيها جهنم)، فمن بعد طلوع الشمس قيد رمح إلى صلاة العصر هذا هو الوقت المشتمل، وأما ما عدا هذا من الأقوال فإنه يعارض قوله صلى الله عليه وسلم: (وهو قائم يصلي). وأما القول بأنها بعد العصر فبناءً على أنه إذا جلس ينتظر صلاة المغرب أنه في صلاة، وأما ما أثر عن أبي سعيد الخدري وغيره من الصحابة فمشكل؛ لأنه قال: (وهو قائم)، ولم يقل: وهو يصلي. مع أنه جاء في بعض الروايات: (وهو يصلي)، لكن رواية: (وهو قائم يصلي) تؤكد على أنها صلاة ذات ركوع وسجود، وكونه يقال: إنه إذا انتظر الصلاة فهو في صلاة فهذا حكم الصلاة، وفرق بين الحكم والوصف، فلو قال عليه الصلاة والسلام: (وهو يصلي) لاستقام القول، لكن لما قال: (وهو قائم يصلي) فالقيام يدل على وجود الفعل للصلاة بذاتها. والذي تطمئن له النفس أنها ساعة من بعد ارتفاع الشمس قيد رمح إلى صلاة العصر، ما خلا ساعة الزوال، على أصح أقوال العلماء من أن ساعة الزوال في يوم الجمعة وفي غيرها على حد سواء يمسك فيها عن الصلاة، خلافاً للإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فقد استدل بحديث رواه في مسنده وهو حديث ضعيف، وفيه استثناء يوم الجمعة، والصحيح: أن ساعة الزوال أو ساعة انتصاف الشمس في كبد السماء لا يصلى فيها للإطلاق في النصوص، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه حتى يرد ما يقيده من الأدلة الصحيحة. كما أن الذي تطمئن إليه النفس أنه يمسك عن تحديد هذه الساعة؛ لأنه منهج الشرع، ولذلك جاء في ليلة القدر أن الأفضل أن يمسك عنها؛ لأنه أدعى إلى اجتهاد الناس وإقبالهم على العبادة، وبعض العلماء رحمة الله عليهم كان يستغرب من إهمال أول النهار، فيقول: إن الأقوال كلها انصبت على آخر النهار، وانصبت من بعد الزوال، مع أن ساعة الضحى تعتبر من ساعات الغفلة، ويوم الجمعة الناس فيه أكثر بيعاً وشراءً ولهواً في الدنيا، ولا يقبل على العبادة في مثل هذا الوقت إلا من كان حاضراً فقط، مع أنها ساعات فضل بالتبكير إلى الجمعة، ولذلك كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يطمئن إلى الساعات في أول النهار، ولكن الأفضل والأولى أنه شيء سكت عنه الشرع، فإذا لم يرد الدليل الصحيح الصريح فإنه يبقى على الإطلاق الذي أطلق الشرع فيه هذه الساعة، خاصة وأنهم لما قالوا: بعد صلاة العصر فإن ما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس وقت طويل، وقد جاء في الحديث: (أشار بيده يقللها)، وكذلك من بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، فقد يصل إلى أكثر من ساعة، ولذلك يضعف هذا القول، ويقوى القول الذي يقول: إنها في ساعة تباح فيها الصلاة، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس. قوله: [ويكثر الدعاء]، هذا أمر يضيعه كثير إلا من رحم الله، فالناس عندما كانت قلوبهم مملوءة بالخير وبإعظام الله جل جلاله، وكان الدين قوياً كانوا في مثل هذه الأيام المباركة يكثرون من ذكر الله عز وجل، ومن سؤال الله من خيري الدنيا والآخرة، ولكن قلّ أن تجد اليوم من يعمر أوقاته في يوم الجمعة بذكر الله عز وجل، وهذا من الغفلة، وقد كان السلف يكثرون من تلاوة القرآن، وكذلك من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنك لو تأملت قوله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من الصلاة عليَّ يوم الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: كيف تعرض عليك وقد أرمت؟ قال: إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء) وسألت نفسك: كم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة لوجدتها صلوات معدودة، بل إنك قد تجد من الناس من لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم إلا في صلاته، أو حين يأمر الخطيب بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من غفلة الناس. فهذا اليوم مأمور بالإكثار فيه من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ويستحي العالم وطالب العلم والعامي أن يعرض اسمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليه إلا النزر القليل، ولذلك على الإنسان أن يكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم، ويأمر أبناءه وأهله بهذه السنة التي أضاعها الكثير، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً)، وهذا فضل عظيم، وفيه أجر كثير للإنسان، فعلى الإنسان أن يكثر من الصلاة والسلام على سيد الأنام عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام، وكانوا يقولون: من نعم الله التي أنعم بها على أهل الحديث ورواة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يكثرون الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من أفضل القربات وأجلها وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى. واختلف العلماء في الأفضلية في يوم الجمعة: هل هي أن يكثر من تلاوة القرآن، أو من ا

الأسئلة

الأسئلة

التنفل يوم الجمعة في وقت النهي

التنفل يوم الجمعة في وقت النهي Q كيف يكثر المصلي من النوافل يوم الجمعة، مع كون بعض أوقاتها منهياً عن الصلاة فيه؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن معنى السؤال أن يوم الجمعة لو أن إنساناً أكثر فيه من النوافل فإنه ربما صلى أثناء انتصاف الشمس في كبد السماء، وبناءً على ذلك يقولون: كيف يُكثر من النوافل مع أنه ربما يوافق وقت النهي؟! والجواب أن وقت النهي في يوم الجمعة للعلماء فيه قولان: فمذهب طائفة من العلماء -كالشافعية ومن وافقهم- أن يوم الجمعة يجوز للإنسان أن يصلي فيه النافلة ولو كان أثناء انتصاف الشمس في كبد السماء، وفيه حديث رواه الشافعي في مسنده، ولكنه ضعيف. والذي يظهر أن يوم الجمعة وغيره على حدٍ سواء، وأنه لا يتنفل إذا انتصف النهار؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصلاة في هذه الساعة، وهي ساعة انتصاف الشمس في كبد السماء، وقال عليه الصلاة والسلام: (فإذا انتصفت فأمسك عن الصلاة فإنها ساعة تسجر فيها جهنم) نسأل الله السلامة والعافية. قالوا: هذا عام، والأصل في العام أن يبقى على عمومه، فإنه لم يقل: إلا يوم الجمعة. وهذا القول هو أقوى الأقوال، وهو أن يوم الجمعة وغيره على حد سواء، ولا يصلي الإنسان أثناء انتصاف الشمس في كبد السماء. وتعرف هذا الوقت المنهي عن الصلاة فهي بأن تنظر إلى الوقت الذي يكون فيه إشراق الشمس، والوقت الذي يكون فيه غروب الشمس، وتحسب ما بينهما من الزمان، ثم تقسمه على اثنين، فذلك هو وقت انتصاف النهار. فإذا كان طلوع الشمس الساعة السادسة، وغروبها الساعة السادسة، فإن المجموع سيكون اثنتي عشرة ساعة، فحينئذٍ تقسمها على اثنين فتكون ست ساعات، فعند بلوغ الساعة الثانية عشرة والنصف حينئذ تمسك عن الصلاة، ويبقى هذا القدر الذي يقارب عشر دقائق إلى سبع دقائق لا تصلي فيه، فتحسب ما يبن الإشراق -أي: الإشراق المحض، وليست صلاة الإشراق الموجودة في التقاويم- ووقت غروب الشمس؛ لأن صلاة الإشراق قد يُحتاط فيها بارتفاع الشمس قيد رمح، فلا بد وأن يكون الوقت دقيقاً في الإشراق ودقيقاًً في الغروب، فتحسب ما بينهما وتقسمه على اثنين، فيكون الناتج هو وقت انتصاف الشمس في كبد السماء، ففي هذه اللحظة تقف عن الصلاة، وإنما تصلي قبلها أو بعدها، والسبب في ذلك نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة في مثل هذا الوقت، والنصوص عامة، ويوم الجمعة وغيره على حدٍ سواء، والله تعالى أعلم.

الجمع بين القول بوجوب الغسل وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت)

الجمع بين القول بوجوب الغسل وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت) Q إذا قلنا بوجوب غسل الجمعة فكيف نجيب عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)، وهل يقتضي كونه واجباً إثم من لم يغتسل؟ A اختلف العلماء في ثبوت هذا الحديث، فمن أهل العلم من ضعَّفه، وإن كان تحسينه قوياً عند طائفة من المحدثين، لكن القول بثبوته وكونه حسناً لا يعارض ما ثبت في الصحيح، فيجاب من وجهين: الوجه الأول: ما اختاره العلماء بأنه يحتمل أن يكون قبل أمر العزيمة، وهذا من أقوى الأجوبة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان موسِّعاً على الناس، فقال: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) قالت أم المؤمنين عائشة: (فلما علت المسجد منهم زهومة)، وهذا يدل على أنه أمرٌ متأخر لازدحام الناس، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب على الجذع، فلما كان في آخر حياته خطب على المنبر -كما في الصحيحين من حديث أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه- لأجل كثرة الناس وامتلاء المسجد، وهذا يؤكد أنه كان في أواخر العصر المدني. وعلى هذا يكون الجمع بين الحديثين أنه كان رخصة في أول الأمر. الوجه الثاني: إذا قيل بالمعارضة فإن هذا الحديث لا يقوى على معارضة النص الذي معنا، وذلك أن النص الذي معنا مما اتفق عليه الشيخان، والقاعدة في الأصول أنه إذا تعارض الصحيح والحسن يُقدَّم الصحيح على الحسن، كما قال صاحب الطلعة في الحديث الحسن: وهو في الحجة كالصحيح ودونه إن صير للترجيح أي: الحديث الحسن نحتج به كما نحتج بالحديث الصحيح، ولكن إذا عارض الصحيح فإننا نسقطه في مقابل ما هو أصح منه وأثبت، وبناءً على ذلك فلا إشكال باعتماد القول الذي يقول برجحان وجوب غسل الجمعة، خاصة وأن هناك عدة أحاديث: منها: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل)، وحديث عائشة: (فأُمِر الناس أن يغتسلوا) وقوله صلى الله عليه وسلم: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم)، فهذه الأحاديث قوية جداً في التأكيد واللزوم، وعلى هذا فإنه يقدم القول الذي يقول بوجوبه، مع أن بعض العلماء يقول: إن متن حديث: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) لا يخلو من نظر من ناحية دقة تركيبه اللغوي، وبعده عن الجزالة ودقة البلاغة في التعبير، ولذلك يقولون: إنه لا يبلغ ما بلغه ما هو أصح منه من الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم إن مما يقوي هذا الترجيح أننا وجدنا الصحابة يرجِّحون جانب الغسل، ووجه ذلك: أن عمر رضي الله عنه لما تأخر عثمان قال: أي ساعة هذه؟! قال: يا أمير المؤمنين: كنت في السوق، فما هو إلا أن سمعت النداء فتوضأت ثم غدوت. قال: والوضوء أيضاً! والإنكار لا يكون إلا في ترك واجبٍ أو محرم، فقوله: [والوضوء أيضاً!] دل على أنه كان معروفاً أنه لا جمعة حتى يغتسل من أراد أن يجمِّع، وهذا قاله أمير المؤمنين -رضي الله عنه- على حضور ملأ من الصحابة، وكان ذلك الزمن غضاً طرياً قريباً من عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقول قائل: إن هذا يدل على السنية لأنه جاء بأسلوب الإنكار. وبناء على ذلك يقوى القول الذي يقول بأنه إذا تعارض النصَّان وعمل الخلفاء الراشدون أو أحد منهم بأحد النصين كان مرجِّحاً له على غيره، فهذا يقوي ترجيح الأمر على حديث السعة والرخصة، والله تعالى أعلم.

الواجب على من شرع في الطواف يوم الجمعة ثم بدأت الخطبة

الواجب على من شرع في الطواف يوم الجمعة ثم بدأت الخطبة Q ما حكم من شرع في الطواف يوم الجمعة، وقبل أن يكمل شرع الإمام في الخطبة، هل يُتِم طوافه، أو ينتظر حتى ينتهي الإمام من الخطبة والصلاة؟ A هذه المسألة فيها تفصيل: فالأطوفة تختلف، فما كان من الأطوفة واجباً وفرضاً لازماً فالمختار أنه لا يقطعه، ويستمر فيه حتى ينتهي؛ لأنه يمكنه أن يستمع الخطبة، مع أنه في الغالب إذا كان الطواف عليه واجباً أن يكون من المسافرين الذين لا تلزمهم الجمعة. ولذلك يقولون في مثل هذا: يستمر حتى ينتهي من طوافه، ثم بعد ذلك إذا أقيمت الصلاة دخل مع الإمام وصلَّى. أما إذا كان الطواف سنة أو مستحباً، فحينئذٍ يقولون: إنه يقطعه، ويُنصِت للإمام ويستمع، ولا حرج عليه في ذلك واختار بعض العلماء أنه يُتِم الطواف، سواء أكان نفلاً أم فريضةً؛ لأن الله يقول: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، ولأنه يمكنه أن يجمع بين الإنصات بالسكوت عن أذكار الطواف، ويكون مشتغلاً بالسماع للخطيب أثناء طوافه، ولا حرج عليه في إتمام الطواف على هذه الصورة. والله تعالى أعلم.

كيفية صلاة السنة البعدية يوم الجمعة لمن صلاها ستا

كيفية صلاة السنة البعدية يوم الجمعة لمن صلاها ستاً Q من صلى السنة الراتبة بعد الجمعة أربعاً أو ستاً، فهل يصليها ركعتين ركعتين، أم يجعلها متصلة بسلام واحد؟ A من صلى هذه الست التي وردت في حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه وغيره، فإنه يجوز له أن يصلي الأربع الأُوَل بتسليمة واحدة، ثم يصلي ركعتين، ويجوز له أن يصليها ركعتين ركعتين، فهذان وجهان يخير بينهما، والله تعالى أعلم.

أفضلية ترديد الأذان الأول لمن دخل المسجد وأراد أن يصلي التحية

أفضلية ترديد الأذان الأول لمن دخل المسجد وأراد أن يصلي التحية Q رجل دخل المسجد في وقت أذان الجمعة، فهل يصلي تحية المسجد، أم يستمع ويردد الأذان؟ A يردد الأذان لإمكانه بعد الأذان الأول أن يصلي تحية المسجد دون أن يفوته فضل المصاحبة والموافقة للمؤذن في ذكره، وأما إذا دخل أثناء الأذان الثاني فإننا إذا قلنا: إنه ينتظر فإنه يكون منشغلاً بالفضيلة التي يردد فيها وراء المؤذن، ويفوته ما هو أفضل من استماعه وإنصاته لخطبة الجمعة، وعلى هذا فإنه يصلي ولو كان ذلك أثناء الأذان لكي يدرك الإنصات للجمعة بكمالها، وهذا عند بعض العلماء آكد وألزم، والله تعالى أعلم.

صيغة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

صيغة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم Q هل للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم صفة معينة، وذلك للإكثار منها يوم الجمعة؟ A الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ما تكون إذا كانت بالصيغة الإبراهيمية التي دل عليه الصلاة والسلام أمته وأصحابه عليها، فإذا صلى الصلاة الإبراهيمية فذلك أفضل وأكمل ما يكون؛ لأن القاعدة في الشرع: (الوارد أفضل من غير الوارد)، فالصلاة بهذه الصيغة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل وأكمل. وأما بالنسبة للصيغة في الصلاة، فالأفضل أن يجمع بين الصلاة والسلام؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، فأمرنا أن نجمع بين الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

حكم الصلاة على النبي أثناء الصلاة

حكم الصلاة على النبي أثناء الصلاة Q إذا قرأ الإمام قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، فهل يجوز للمأموم أن يتلفظ بالصلاة، أم يجعلها في نفسه، أم لا يقول شيئاً على الإطلاق؟ A من فقه الإمامة التي ينبِّه عليها بعض العلماء أن لا يوقع الإمام المصلين وراءه في الحرج، ومن هنا قالوا: إنه لا يقرأ بسورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] لأنه إذا كبر للركوع ذهبوا إلى السجود وسجدوا. وكذلك أيضاً قالوا: إنه لا يتعاطى الأمور التي توجِب اختلاج صلاة الناس. ومثل هذه المسألة الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، يقولون: إنه سيعرض المأمومين إلى التكلم في الصلاة، ولذلك يقولون: إن الأفضل أن لا يتعاطى مثل هذه الأمور التي قد توقع الجاهل في الأمور المحظورة، فإن الإنسان إذا صلى وراء إمام وقرأ آية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه في نفسه، ولا يتلفظ بالصلاة، وقد قال عليه الصلاة والسلام (إن في الصلاة لشغلاً). وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (وإذا قرأ فأنصتوا). وأما بالنسبة للنافلة فقد قال بعض العلماء: يُشرع له أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم لما ثبت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان إذا مر بآية رحمة سأل الله من فضله، وإذا مر بآية عذاب استعاذ)، ففرَّقوا بين الفرض والنفل. قالوا: في الفريضة لم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقف عند آية العذاب أو آية الرحمة ويتكلم، إنما كان يسرد قراءته، مع أنه ثبتت عنه الأحاديث الصحيحة الكثيرة في قراءته في الفرض من السور التي ذُكِرت في يوم الجمعة والصلوات، ومع ذلك لم يُحفظ عنه حديث واحد أنه توقف لآية عذاب، أو آية رحمة، وأما في قيام الليل فثبت عنه أنه توقَّف لآية الرحمة وسأل الله من فضله، وتوقف عند آية العذاب واستعاذ بالله عز وجل، فدلّ على الفرق بين الفرض والنفل، وقد يجوز الشيء في النفل ولا يجوز في الفرض، فلذلك يجوز للإنسان أن يصلي النافلة في السفر على الدابة، ولا يجوز له أن يصلي الفريضة، فالفرض أعلى مرتبة من النفل. ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس المداومة على قراءة هذه الآية ليلة الجمعة، وهذا من البدع فينصح الإمام بعدم تكرار هذا والمداومة عليه، وإذا سمع الناس يتلفظون وراءه ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم بصوت عالٍ فإن عليه أن يكون أشد محافظةً على صلاة الناس كي لا تبطل، خاصة وأن بعض العلماء يرى عدم جواز التلفظ في مثل هذه الحالة كما ذكرنا، والله تعالى أعلم.

اختلاف العلماء في أخذ المصلى حكم المسجد

اختلاف العلماء في أخذ المصلى حكم المسجد Q هل يأخذ المصلَّى حكم المسجد في صلاة ركعتين قبل الجلوس؟ A بعض العلماء يقول: إن المصلَّى لا يأخذ حكم المسجد وهذا قوي من ناحية أن المصلَّى لا يأخذ حكم المسجد من كل وجه، ولكن هناك أدلة تشير إلى أن المصلى قد يلتحق بالمسجد، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أما الحيض فيعتزلن المصلَّى)، وفي رواية (الصلاة)، فهذا يدل على أنه يأخذ حكم المسجد، ويقوي قول من قال: إن الحائض لا تدخل المصلى. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

باب صلاة الجمعة [4]

شرح زاد المستقنع - باب صلاة الجمعة [4] دلت الأدلة الصحيحة من السنة على أن هناك مكروهات ومحذورات يجب على المسلم أن يجتنبها في يوم الجمعة حتى لا تخدش في صلاته ولا في أجره، ومن تلك المحذورات: تخطي رقاب الناس، وإقامة أحد الجالسين من مكانه، والكلام أثناء الخطبة أو اللهو والعبث، والبيع والشراء بعد الأذان الثاني، ونحوها.

محذورات خطبة الجمعة وما قبلها

محذورات خطبة الجمعة وما قبلها

تخطي رقاب الناس

تخطي رقاب الناس بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [ولا يتخطى رقاب الناس إلا أن يكون إماماً أو إلى فُرْجةٍ]. أي: إذا دخل يوم الجمعة لا يتخطى رقاب الناس. وقوله: (إلا إذا كان إماماً)؛ لأن الإمام لا يستطيع أن يبلغ المنبر إلا عن طريق التخطي، وخاصة أن الإمام لا يدخل إلا وقت الصلاة؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام يدخل إلى السلالم مباشرة، ولم يكن يصلي تحية المسجد، ولذلك مذهب المحققين من العلماء، أن السنة للإمام أن يدخل مباشرة إلى المنبر، وألا يصلي تحية المسجد، لكن لو كان هناك وقت وأراد أن يصلي تحية المسجد وأن يجلس فلا حرج، لكن لو دخل في وقت الصلاة فالسنة له أن يدخل إلى المنبر مباشرة، وأن يبتدئ بالسلام على الناس، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم، ويعتبر مستثنىً من العموم بالأمر بتحية المسجد. بعض العلماء يجيب في هذه المسألة بجواب لطيف، فيقول: إن جلوسه عليه الصلاة والسلام كان في آخر الزوال. أي: جلس في وقت منهي عنه، وهذا يقوي مذهب من يقول: إنه من دخل في وقت منهي عنه يجلس ولا يصلي. وتوضيح ذلك أن حديث ابن سيدان حمله العلماء على أنه عند الزوال، بمعنى أن جلوس النبي صلى الله عليه وسلم كان في وقت منهي عنه. ضبط الزوال ضبطاً دقيقاً يحتاج إلى شيء من الموازين الدقيقة جداً، ولذلك حدده الصحابة بالتقريب، فقال جابر: حين تزول الشمس، وكان حديث أنس كذلك: (حين يصلي ويخطب) أي: حين تزول الشمس، وهذا -كما يقول العلماء- يرخص فيه، لكن على هذا الوجه الأخير أنه (كان دخوله أثناء انتصاف الشمس في كبد السماء). فمن دخل أثناء انتصاف الشمس في كبد السماء، وكان يرى هذا القول لا يصلي ويجلس. ومن دخل قبل أو بعد فإنه يتسنن إعمالاً للأصل الذي يأمر بتحية المسجد. وقوله: (ولا يتخطى رقاب الناس) لأن فيه وعيداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعدّه بعض العلماء أنه من كبائر الذنوب؛ لما فيه من أذية المصلين والتشويش عليهم، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يؤذي المصلين، ويستثنى الإمام، أو من له فرجة، بمعنى أنه لو خرج لقضاء حاجة -كإنسان أصابه الحصر فخرج للوضوء ثم رجع إلى مجلسه- فهو أحق به، كما في الصحيح: (إذا قام الرجل من مجلسه ثم عاد إليه فهو أحق به)، فهذا نص، فكونه يخرج لقضاء حاجته ثم يعود فهو أحق بمجلسه، فلما أذن له الشرع بهذا المجلس جاز له أن يتخطى؛ لأن الإذن بالشيء إذن بلازمه، فلما كان من لازمه أن يتخطى فلا حرج عليه أن يتخطى، ولا إثم عليه في ذلك. وقالوا: لو رأى فرجة في الصف الأول، أو في الصف الثاني فإنه يمضي إليها ويتخطى؛ لأن من وراء هذه الفرجة من الصفوف مقصر في سد هذه الفرجة، فيجوز له أن يتخطى وهذا محل إشكال. والذي يظهر أن من الأولى والأحرى أن يحتاط الإنسان وأن لا يتخطى، حتى ولو رأى فرجة؛ لأن المعنى الذي من أجله منع موجود في التخطي للفرجة، وتقصير غيره لا يوجب الاعتداء عليه بالتخطي. واختلف العلماء في كون النهي عن التخطي مخصوصاً بيوم الجمعة، أو يشمل. فقالوا: لو كان هناك حلقة ذكر وجاء إنسان يتخطى؟ يشرع منعه؛ لأن المعنى موجود، فلو جاء إنسان في حلقة كبيرة ورأى الناس مجتمعين، وجعل يتخطى رقابهم حتى يصل إلى المقدمة، فهذا فيه ظلم لهم؛ لأنه تأخر، والمتأخر يجلس حيث انتهى به المجلس -كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم- أما كونه يتخطى رقاب الناس ويؤذيهم ويشوش عليهم فإنه يذهب الخشوع، فربما سمعت الإمام وهو يقرأ القرآن، أو يذكر الموعظة فتأثرت بالموعظة والقرآن، ثم تفاجأ بمن يأتيك فجأة فيضع رجله على عاتقك، أو يضع رجله بجوار كتفك، فإن هذا يزعج، والنفس البشرية ضعيفة، فإن الناس إذا تخطيت رقابهم انشغلوا عن الخطيب وتأثروا بذلك، وقال العلماء: المعنى موجود حال الخطبة وغير الخطبة، ولكنه حال الخطبة أشد. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام للرجل لما جاء متأخراً وتخطى وهو يخطب: (اجلس فقد آنيت وآذيت)، ومعنى: (آنيت) جئت متأخراً، وليس هذا وقتك التي تبحث فيه عن الصفوف الأول، (وآذيت) أي: بتخطيك لرقاب الناس. فالصحيح أن يوم الجمعة وغيره على حد سواء، وأن التشويش على المصلين بتخطي رقابهم وأذيتهم لا يجوز. واستثنى العلماء لو أنه أراد أن يمر واستأذن وأذنوا له، أو رأى فرجة بينهم قليلة يستطيع أن يمر منها؛ فقالوا: لا حرج، فهذا ليس من التخطي؛ لأن التخطي المراد به المجاوزة حيث لا توجد الفرجة، أما لو وجددت الفرجة وانخرط فيها، أو سلك فيها فلا حرج.

حرمة إقامة من سبق إلى مكان والجلوس مكانه

حرمة إقامة من سبق إلى مكان والجلوس مكانه قال رحمه الله تعالى: [وحرم أن يقيم غيره فيجلس مكانه إلا من قدم صاحباً له فجلس في موضع يحفظه له]. قوله: (وحرم أن يقيم غيره فيجلس مكانه) أراد بـ (غيره) أي: من المصلين؛ لأن هذا نهى عنه عليه الصلاة والسلام لما فيه من الظلم، فمن سبق إلى شيء فهو أحق به، ومن آداب المجالس التي أدب الله بها عباده المؤمنين أن الإنسان إذا سبق إلى مجلسه وجلس فيه فهو أحق به، ولذلك لا يجوز لأحد أن يقيمه، ولا أن يضايقه حتى يقوم. والتشويش على من يصلي على وجه الأذية والإضرار حتى يفسح له، أو يأتي ويبرك عليه حتى يفسح وكل ذلك لا يجوز، سواء أأقامه أم ضايقه حتى يقوم، فكل ذلك من الأذية، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار). واختلف العلماء في الأب والابن، فلو أراد الأب أن يقيم ابنه ويجلس مكانه، فهل من البر أن يتنازل الابن عن الصف الأول ويتركه لأبيه؟ قال بعض العلماء: الأفضل له أن يتأخر ويقدّم أباه، وذلك لأنه إذا تأخر وقدّم أباه أصاب البر الذي هو أفضل من الصف الأول، ووجه ذلك أن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله بعد التوحيد بر الوالدين، فقد قال أحد الصحابة: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها -أي: أول الوقت- قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين) قالوا: فمن أفضل الأعمال وأحبها أن يتأخر الابن لأجل أن يجلس الأب. وقال بعض العلماء: لا إيثار في القرب ولو للقريب حتى ولو كان الأب، ويدل على ذلك أن صحابياً أراد الجهاد في غزوة فطلب من ابنه أن يبقى ليخرج هو للجهاد، فقال: كل شيء لك إلا هذا. إني أرجو الجنة. وخرج رضي الله عنه حتى قتل قبل أبيه رضي الله عنه وأرضاه، فكانوا لا يؤثرون في القرب، والقاعدة: (لا إيثار في القرب)، فقالوا: لا يقدم الأب من هذا الوجه؛ لأنه إذا قدمه فكأنه زاهد في الخير. والصحيح أن له أن يقدمه، وأنه إذا قدم أباه أصاب الفضيلتين: فضيلة الصف الأول بوجود البر، وفضيلة البر التي هي من الفضل بمكان، وقولهم: لا إيثار في القرب؛ لأن فيه زهداً. فإن تقديم الأب ليس على سبيل الزهد، وإنما لرجاء فضيلة ولرجاء طاعة، فلا حرج عليه في مثل هذا. كما اختلف في غير الوالد، مثل كبير السن، أو العالم، أو من له حق كالوالي الذي له فضل، ونحو ذلك، فقال بعض العلماء: لا حرج أن يقدمه، وهو في حكم الوالدين. وبعض العلماء يخص الوالدين لورود النص، ودلالة النصوص بتفضيلهما على غيرهما. قوله: [إلا من قدم صاحباً له فجلس في موضعه يحفظه له]. هذه المسألة تعرف عن السلف الصالح رحمة الله عليهم من التابعين، فقد كان الواحد منهم كـ محمد بن سيرين وغيرهم ربما يبعث مولاه، فيجلس في مكان، والمولى لا تجب عليه الجمعة، فإذا حضر محمد قام المولى فجلس مكانه وصلى، وقد جاء هذا عن بعض السلف رحمة الله عليهم، وهذا كان أيام الموالي، لأنهم لا تجب عليهم الجمعة، وكذلك يحكى عن أبي هريرة رضي الله عنه مثل هذا. وإن كان الأقوى والأشبه أنه لا يفعل هذا، وأنه لا يجلس إلا في موضع يريد أن يصلي فيه، فإما أن يبكر ويكون له حق السبق، وإما أن يترك المكان لغيره، حتى ولو كان عالماً، كما يقع في بعض الأحيان في المحاضرات والندوات حينما يأتي الإنسان متأخراً -خاصة إذا كان على سفر، وكان قدومه في وقت الإقامة- فإنه يريد أن يدخل إلى الصفوف الأولى وربما يزعج المصلين، ولو كان هو المحاضر أو صاحب الندوة فعليه أن يترك الناس على أماكنهم ومصافهم، وإنما له حق التقدم في درسه وفي موعظته، فإذا جلس مكان كرسيه بعد درسه فلا حرج؛ لأنه بعد محاضرته في حكم الجالس في مكانه، فإذا جاء متأخراً وعاق أصحاب الصفوف الأولى، وربما خرج منهم من لا يستطيع الركوع ولا السجود، ولربما ازدحم الناس إلى درجة لا يستطيعون معها الصلاة أو الركوع، فالأفضل أنه يتأخر إلى ما بعد الصلاة، أو يصلي في ناحية المسجد إذا أمكنه، إلا إذا خشي تشويش الناس بالسلام عليه وإعاقته، فإذا دخل يدخل بعد الصلاة مباشرة، حتى يكون أسلم له، وصلاته بجوار الإمام إذا لم يجد مكاناً في الصف الأول أفضل من أن يزعج أهل الصف الأول، خاصة وفيهم المبكر، وفيهم من لا يستطيع السجود لو دخل معه، فكونه يحتاط ويتورع، خاصة أهل العلم فهذا أفضل وأولى؛ لأنهم القدوة. فلا يجوز لأحد أن يحتكر مكاناً في مصلاه ولو كان مؤذناً أو إماماً، فلا يجوز له أن يحتكر هذا المكان إلا في الحدود الشرعية، كخطيب يوم الجمعة، فله أن يحتكر مكانه على منبره، ونحو ذلك، أما أن يأتي متأخراً ويؤذي الناس ويضرهم فلا، والمؤذن كذلك، فإذا أذن المؤذن وكان الناس في مصافهم، ثم خرج من المسجد، وعند الإقامة يأتي ويزاحم أهل الصفوف الأولى، فهذا ليس من حقه؛ لأن هذا المكان استحقاق شرعي لمن سبق، ولا يجوز أذية أحد فيه، وهذه الأمور يغفل عنها كثير من الناس إلا من رحم الله. فالذي ينبغي أن يحتاط في مثل هذه الأمور ويتناصح الناس؛ لأن هذه المساجد أمرها عظيم، فلا يجوز لأحد أن يؤذي فيها مسلماً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه المصلون) فالذين يأتون إلى الصفوف الأولى -خاصة الذين هم من وراء الإمام- هم أسبق الناس. وقد يكون فيهم كبار السن، وقد يكون فيهم الضعفة والحطمة، فأمثال هؤلاء لا يجوز التضييق عليهم وإزعاجهم. ومن الأخطاء أيضاً: حجز الأماكن في مجالس العلماء، أو مجالس الذكر، كأن يأتي مبكراً فيرمي بكتابه، أو يضع شيئاً ثم ينصرف ويجلس في مكان غير المكان الذي هو فيه، فالذي يظهر عدم جواز هذا، وأن الذي ينبغي للناس أن يصلوا ثم ينطلقوا إلى حلق الذكر الأسبق فالأسبق، حتى يكون الناس في هذه الأمور على حد سواء، لا فضل لغنيهم على فقيرهم، ولا لرفيعهم على سوقتهم، إلا بتقوى الله عز وجل والمبادرة للخير، فمن سبق فهو أحق، ومن تأخر نال حظه على قدر ما وصل إليه من الخير، وبناء على ذلك ينبغي للإنسان أن يعمل الأصل، وهو أن السابق أحق، سواء في الصفوف، أم في مجالس العلماء، ولا يجوز لأحد أن يتخطى على أحد، ولا أن يضيق على أحد من المصلين، ما دام أن الأصل يقتضي أنه أحق بهذا المجلس وأولى به. ولا يجوز له أن يحجز المكان لغيره، وهذا من الأمور المحرمة، خاصة إذا كان ذلك عن عوض، كأن يقول لرجل: احجز لي مكاناً بجوارك. وربما يتواطأ الرجلان على أنهما إذا جلسا كان مجلسهما على توسع حتى يأتي الثالث فيجلس ويصلي بينهما. ومن الأمور المحرمة أنه قد تكون هناك فرجة بين الرجلين، فيمتنعان من إدخال أي شخص فيها، إلا من يعرفان، أو من يحبان، فهذا من الظلم، فقد قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة:114]، فهذه البقعة خير لهذا الرجل أن يصلي فيها، وأن يذكر الله عز وجل، وأن يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بذكره سبحانه في هذه البقع، فكونه يحجزها، أو يتوسع في مجلسه، أو يمنع أحداً من الجلوس بجواره فهذا كله من الظلم الذي لا يجوز للمسلم أن يفعله. وعلى الناس أن يستشعروا عظمة هذه المساجد، وأنه ينبغي ألا يضار أحد فيها، فإن أذية المسلم لا خير فيها، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقولون: من الأمور التي تمنع قبول الصلاة: كثرة مظالمهم، وأذية بعضهم لبعض، فلربما يدخلون في المساجد فيقع منهم من الأذية والظلم ما يجعل الإنسان محروماً من قبول الصلاة -نسأل الله السلامة والعافية- فلذلك ينبغي التورع في مثل هذه الأمور، فلا يجوز أذية الناس، كأن يأتي الإنسان متأخراً، فيحاول أن يدخل بين الناس وهم في ضيق، ويحاول أن يشعر الناس بأنه صاحب حق لكونه عالماً، أو شيخاً، أو مؤذناً، أو غير ذلك، فليس هناك حق إلا بالتقوى، وهي المبادرة والمسابقة، وإذا كان الإنسان يريد أن يؤذن أو يؤم الناس فيبكر وليبادر إلى المسجد، فإن هذا أبلغ في البعد عن ظلمهم وأذيتهم. قال رحمه الله تعالى: [وحرم رفع مصلى مفروش ما لم تحضر الصلاة]. أي: لا يجوز لأحد أن يرفع المصلى المفروش لأحد مالم تحضر الصلاة؛ لأنه يحتمل أن يكون صاحبه معذوراً، كأن يذهب لقضاء حاجة أو نحو ذلك، فلا يجوز أن يرفع مصلاه؛ لأن مصلاه فرش لحفظ حقه، وهذا الحق مستحق شرعاً فيترك، لكن لو كان هذا المصلى لإنسان غير مستحق، كمن يفعل هذا لإنسان يعطيه مالاً أو نحو ذلك، فإنه يشرع لك أن ترفعه وتصلي في مكانه، وهذا نص عليه الأئمة رحمة الله عليهم وأفتوا به، ولـ شيخ الإسلام رحمة الله عليه كلام نفيس في مجموع الفتاوى، وهو أنه لا يجوز مثل هذا إلا عند وجود الضرورة والحاجة.

حكم القيام من مكان لعارض والعودة إليه

حكم القيام من مكان لعارض والعودة إليه قال رحمه الله تعالى: [ومن قام من مكانه لعارض لحقه ثم عاد إليه قريباً فهو أحق به]. هذا لوجود النص الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم، فإن عاد إلى مكانه فهو أحق به، خاصة عند الضرورة، وكأن يخرج لقضاء حاجته، أو أصابه حصر، أو خرج منه ريح فخرج يتوضأ، لكن لو أنه انتقل من دون حاجة، كأن ينتقل ليجلس مع صاحبه فلا، فإما أن يجلس بالمكان ويعمره بذكر الله عز وجل، وإما أن يتركه لغيره من المسلمين، خاصة في الصفوف الأولى. ومن هنا كان على من يريد الاعتكاف في الصفوف الأولى في المساجد في رمضان إذا كان يريد أن ينام في ذلك المكان أنه يتركه إذا كان هناك من يُريد أن يصلي فيه، خاصة إذا كانت بقعة لها فضل الصلاة، كأن تكون قرب المقام، أو تكون في روضة المسجد النبوي أو نحو ذلك، فلا ينام فيها؛ لأنه إذا نام عطلها عن ذكر الله عز وجل. فالمساجد إنما بنيت من أجل ذكر الله، وإذا أراد أن ينام فله أن ينام في آخر المسجد، أما أن يأتي إلى الصفوف الأولى وينام فيها عند حاجة الناس فلا، بخلاف ما لو كان الناس ليسوا بحاجة إلى ذلك المكان، مثل أوقات الضحى، فليس هناك من يريد الصف الأول، وليس هناك من يطمع في الصف الأول، فإذا نام في مكانه يريد أن يحرص على هذا الخير وهذا الفضل فلا حرج عليه، أما أن يأتي في الأماكن التي يحتاجها الناس فينام فيها، ويتخذها مكاناً لراحته واستجمامه فيعطلها عن ذكر الله فلا، ولذلك لا يكون له حق إلا إذا عمرها بذكر الله عز وجل. ولكن لو أنه خرج لتشييع جنازة، فهل له أن يحجز المكان؟ الصحيح أنه لا يحجز، ومن أراد أن يشيع الجنازة فهو مخير بين فضيلتين: إما أن يبقى في هذا المكان عامراً له بالذكر والطاعة والصلاة والقربة، وإما أن يمضي لتشييع الجنازة، فإن اختار الخروج لتشييع الجنازة ترك المحل لعامة الناس، فهم فيه سواء، وإن اختار الجلوس فلا إشكال، فحينئذٍ يكون مستحقاً لمكانه بشغله له.

حكم تحية المسجد حال الخطبة

حكم تحية المسجد حال الخطبة قال رحمه الله: [ومن دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما]. ذهب المصنف إلى هذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، وهذا أصح أقوال العلماء، وهو قول الشافعية والحنابلة، خلافاً للحنفية والمالكية، فإنهم يحتجون بأمره عليه الصلاة والسلام، حيث أمر المتخطي للرقاب بقوله: (اجلس)، وقالوا: إن هذا يدل على عدم لزوم ركعتي تحية المسجد أثناء الخطبة، ولأن الإنصات واجب والتحية عندهم سنة، ولا يشتغل بالسنة عن الواجب. والصحيح: أنه يصلي ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على ذلك فقال: (من دخل والإمام يخطب فليصل ركعتين)، وفي رواية: (وليتجوز فيهما)، أي: يقرأ قصار السور، أو قصار الآيات حتى يجلس للاستماع والإنصات.

حكم الكلام أثناء خطبة الجمعة

حكم الكلام أثناء خطبة الجمعة قال المصنف رحمه الله: [ولا يجوز الكلام والإمام يخطب إلا له أو لمن يكلمه]. هذا إشارة إلى عظيم شأن خطبة الجمعة وصلاتها، فقد عظمها الله تعالى حيث أمر سبحانه وتعالى بالسعي إليها، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، ووصفها بكونها ذكراً له سبحانه وتعالى، وهذا يتضمن التعظيم والإجلال لهذه الموعظة والخطبة. كما عظَّم شأنها حينما عُدَّ المتكلم أثناء خطبة الخطيب لاغياً، ومن لغا فلا جمعة كاملة له، ولذلك ينقص أجره بكلامه إذا لم يكن معذوراً في ذلك الكلام كما سيأتي إن شاء الله تعالى. والسبب في هذا واضح، وذلك أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل للإنسان في جوفه قلبين، فإذا انشغل وتكلَّم بأي شيء خارج عن الخطبة، ولم يكن متصلاً بالخطيب فإن هذا مظنة لأن يشغل عن الكلام والموعظة، ومظنة لأن يشغل غيره، ولذلك مُنِع أن يكلم غيره، أو ينشغل بشيء كمس الحصى، ونحو ذلك مما يصرف قلبه عن التأثر والإقبال على الخطيب، وهذا كله يؤكد أن مقصود الشرع الانتباه لهذا الخطيب. وفي هذا دلالة على فضل العلم، فقد قال بعض العلماء رحمة الله عليهم: من فضائل العلم أن ترى الخطيب يوم الجمعة وقد رقى على أكتاف الناس، وما رفعه إلا فضل الله سبحانه وتعالى، ثم العلم الذي تعلم، ولذلك يؤمر الناس بالإنصات له والسماع له، وأعظمهم أجراً في الجمعة من تأثر بكلامه وأتبعه بالعمل. فلذلك يُنهى عن الكلام، فلا يتكلم مع أحد حتى ولو كان الكلام من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت والإمام يخطب فقد لغوت)، فقولك لصاحبك والإمام يخطب: (أنصت) أمر بمعروف، والأمر بالمعروف واجب، ومع أنك إذا أمرته بالإنصات حصلت المصلحة للجماعة، فإذا كنت مع كونك آمراً بهذا الواجب تُعتبر لاغياً، فمن باب أولى إذا انصرفت إلى شيء آخر. ومن هنا أخذ العلماء دليلاً على أنه لا يُشمَّت العاطس، فلو عطس العاطس وقال: (الحمد لله) لا تشمِّته؛ لأنه إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع كون مصلحته تنفع الناس في سماع الخطبة يُعد من اللغو، فمن باب أولى وأحرى ما انفك عن ذات الجمعة وذات الخطبة، وبناءً على ذلك قالوا: لا يشمت العاطس، ولا يرد السلام، كما لو كان في فريضة. وأكدوا ذلك فقالوا: لمسنا من الشرع أن الخطبتين كأنهما قائمتان مقام الركعتين الأوليين من الظهر، ولذلك أُمِر بالسعي للجمعة بعد النداء الثاني، وكذلك أمَر النبي صلى الله عليه وسلم بالإنصات والإقبال على الخطيب، قالوا: هذا يؤكِّد أنه في حكم المصلي، ولذلك لا يرد السلام، ولا يشمِّت العاطس. فقوله رحمه الله: [ولا يجوز الكلام] أي: للمأموم إذا جلس أثناء خطبة الخطيب، ويبتدئ هذا الحظر من ابتداء الخطيب في الخطبة، أما لو سلَّم أثناء سلامه، أو أثناء الأذان الثاني، أو أثناء جلوسه بين الخطبتين فلا حرج. وقد ثبت في صحيح البخاري عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أنهم كانوا يتكلمون وعمر جالس على المنبر، بعد سلامه أثناء أذان المؤذن، وكذلك كانوا يتكلمون بين الخطبتين. إلا أن الكلام بين الخطبتين ضيَّق فيه بعض العلماء، فقالوا: والأولى والأحرى أن يشتغل بما هو فيه من ذكر الله عز وجل، خاصة وأن بعض العلماء يرى أن بين الخطبتين مظنة أن تكون ساعة إجابة. فقوله: [لا يجوز الكلام] أي: لا يتكلم مع غيره، ولا يجيب غيره ولو كان بذكر الله. واختلف العلماء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الخطيب، أو أمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، واختلفوا كذلك إذا ذكر المأموم الله عز وجل أثناء الخطبة: فقال بعض العلماء: إنه يجوز للمأموم أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يؤمِّن ولا حرج عليه في ذلك. والسبب في هذا أنهم يرون أن المأموم إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه في حكم الذاكر، وكأنه متصل بالخطبة؛ لأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وردت أثناء الخطبة. ولذلك يقولون: هذا في حكم المتصل بالخطبة كما لو كلمه الخطيب، وهكذا إذا أمرهم الخطيب، وأكدوا بتأكُّد الصلاة عليه أثناء ذكره، فقالوا: يُشرع له أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره. والأقوى والأرجح ما ذهب إليه جمع من العلماء رحمة الله عليهم أنه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، والسبب في هذا واضح، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت) فإذا كان هذا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمن باب أولى في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وما اعتذروا به محل نظر، لكن غاية ما يقال: إنه لو صلَّى أحد على النبي صلى الله عليه وسلم فلا حرج، ومن صلى عليه جهرة فلا حرج، ومن أنصت فلا حرج، لكن الأفضل أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، وهكذا التأمين، فإنه يؤمن في نفسه، فكلما دعا الخطيب أمن المأموم في نفسه على دعائه، وسأل الله أن يستجيب هذا الدعاء من قلبه، ويكون هذا في حكم التأمين، ويكون إنصاته لمكان الاشتغال بما هو أولى وأهم من الإنصات. والذين يقولون: يؤمِّن ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: إن الحديث يدل على هذا، وذلك أنه قال: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب)، وإذا دعا وشرع في الدعاء فليس بخطيب، إنما هو داعٍ وسائل. ولكن رُدَّ هذا القول؛ إذ كيف يقال: إن من الأمور اللازمة للخطبة أن يدعو، ثم يقال: إن هذا ليس من الخطبة. فهذا تعارض، فإنهم يعتبرون الدعاء من الأمور التي ينبغي للخطيب أن يحافظ عليها تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم لورود حديث الاستسقاء، وذلك أن الصحابي سأله أن يستسقي فدعا، فدل على أنه كان من عادته أن يدعو آخر خطبته، قالوا: فإذا كان هذا فإنه من السنة والهدي. فالذي يترجح ويقوى أنه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، وكذلك يؤمن على الدعاء في نفسه دون حدوث صوت أو كلام مسموع. قوله: (إلا له) أي إذا خاطب الخطيب، أو كلَّمه الخطيب فأجاب فلا حرج، كأن يسأله الخطيب عن أمرٍ فيرد عليه، أو يسأل الخطيب أن يستسقي وأن يسأل الله عز وجل الغيث والرحمة بالناس، ودليله ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه أعرابي وهو يخطب فقال: ادع الله أن يغيثنا. قال بعض العلماء: هو عباس بن مرداس السُّلمي رضي الله عنه وأرضاه، والرواية مبهمة في الصحيحين. ووجه الدلالة أنه خاطب النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. وكذلك إذا خاطبه الخطيب، كأن يقول له: أصلَّيت؟ -أي: التحية- فيقول: نعم، صليت، إذا كان قد صلى، أو يقول: لم أصلِّ، إذا لم يكن صلى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابي: (قم فاركع ركعتين). فهذا يدل على مشروعية مخاطبة المأموم للإمام. أيضاً: حديث أنس في الصحيحين أنه لما أُمطِر الناس سبتاً -أي أسبوعاً- جاء الأعرابي من الجمعة القادمة وقال: (يا رسول الله! هلكت الأموال وانقطعت السبل، فاسأل الله أن يصرف الغيث، قال: فقال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والضراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر)، فما أشار إلى ناحية إلا تفرقت. فأخذ من هذين الحديثين حكمان: الحكم الأول: أنه لا حرج على المأموم أن يخاطب الإمام. الحكم الثاني: لا حرج على المأموم أن يرُدَّ إذا سأله الإمام. ومن هنا أخذ بعض العلماء مشروعية الفتح على الإمام إذا أخطأ في الخطبة، قالوا: لأنه في حكم المتكلم مع الإمام، فلو أن الخطيب قرأ الآية وأخطأ فيها شُرِع لك أن تنبهه على الخطأ وأن تفتح عليه، أو نسي تمام الآية، فتفتح عليه بما يُتمها.

جواز الكلام قبل الخطبة وبعدها

جواز الكلام قبل الخطبة وبعدها قال رحمه الله تعالى: [ويجوز قبل الخطبة وبعدها] قوله: [ويجوز قبل الخطبة] أي: يجوز له أن يتكلم قبل أن يخطب الخطيب، وذلك في حالة جلوس الخطيب بعد السلام وقبل ابتداء الخطبة. وقوله: [وبعدها] أي: بعد الخطبة، وذلك حين ينتهي من خطبته وقبل دخوله في الصلاة، فلا حرج إذا قام الناس أن تشير لرجل وتقول له: تقدم. أو تشير لرجل وتقول له: تأخر، لأجل تسوية الصفوف، فإن هذا الكلام لا حرج فيه. فإذا كان الأصل أنه لا يتكلم الإنسان في حال خطبة الخطيب، فهنا مسائل: المسألة الأولى: لو كان الإنسان أصم لا يسمع، فإن عموم النص يقتضي أنه لا يتكلم؛ لأن الأمر فيه معنى وفيه عبادة، فإن انتفى المعنى فالتعبد موجود فيه، ولذلك يُلزم الأصم بالسماع للخطبة والإنصات ولو لم يكن يسمع. المسألة الثانية: لو قلنا: إن الخطيب يجوز له أن يخطب بغير اللسان العربي، فخطب بغير اللسان العربي، وكان المستمع عربياً، فإنه يُنصِت ويسمع؛ لمقام التعبد، كما لو صلى أعجميٌ وسمع الإمام يقرأ القرآن فإنه يُنصِت، مع أنه لا يفقه شيئاً من كتاب الله عز وجل. المسألة الثالثة: اختلف العلماء في هذا الحكم: هي يختص بمن سمع الخطيب دون من كان بعيداً لا يسمع، أم هو عام؟ ومثال ذلك: لو كان المسجد صغيراً كما هو الحال في الأيام القديمة، وامتلأ بالناس حتى صلى المأموم خارج المسجد، بحيث لا يسمع صوت الخطيب، أو صلى داخله ولم يسمع صوت الخطيب. فقال بعض العلماء: إذا كان لا يسمع الخطيب فيجوز له أن يتكلم، ولا حرج عليه في ذلك. وهذا اجتهاد مبنيٌ على المعنى، وذلك أنهم رأوا أن المقصود أن يستفيد من الخطبة وينتفع، وأنه إذا لم يسمع الإمام ولم يسمع الخطبة، فإن إنصاته لا معنى له. والصحيح أن فيه معنى التعبد، ولذلك يُلزم بالإنصات والسكوت، سواء أسمع الخطيب أم لم يسمع، على المختار من أقوال العلماء رحمة الله عليهم. المسألة الرابعة: لو كان بجوارك من يتكلم والإمام يخطب، وأردت أن تُسكِته، فإذا قلت له أنصت فقد لغوت، وإن سكتَّ شوش عليك بحيث لا تسمع. ففي هذه الحالة اختار جمع من السلف أن تشير إليه بإصبعك أن: اصمت. وذلك بأن ترفع السبابة وتضعها على الفم، إشارة إلى السكوت والإنصات، قالوا: فإذا أشار إليه بهذا فقد كفاه. وهذا يختاره بعض العلماء، وممن اختاره الإمام أحمد رحمة الله عليه، وبعض السلف ينصُّون على هذا، وأنه لا حرج أن يخاطب بالإشارة. وقال بعض العلماء: الإشارة منزَّلةٌ منزلة العبارة. والصحيح أن الإشارة لا تأخذ هذا الحكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت)، والقول لا يكون إلا باللفظ المسموع، وبناءً على ذلك فإنه لا يؤثر أن يشير إليه بالإنصات، ولأن الإشارة بالإنصات ليس فيها انصراف، خاصة وأنه يسمع للخطيب. وإذا نُظِر إلى المعنى ومقصود الشرع فإنه صحيح، فإنك لو تركته يتكلم ويشوش عليك فكأنك لم تنصت إلى الإمام أصلاً، فإنه بكلامه سيضيِّع عليك، ويجوز ارتكاب المفسدة الدنيا لمصلحة أعلى منها. ولذلك نقول: إن إقباله على هذا وإشارته له بالإنصات أخف من كونه يسكت عنه، حتى يُضيِّع عليه الذكر والإنصات. المسألة الخامسة: لو سأل سائل مالاً أثناء الخطبة فقد اختلف العلماء في جواز إعطائه وعدمه: فبعض العلماء يمنع من السؤال في المسجد، ولا يرى جواز أن يسأل السائل داخل المسجد، وهذا القول من القوة بمكان، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا) فقد لا يجد ظهراً، وينشد ضالته في هذه الحالة مع وجود هذا الاضطرار والحاجة، ومع ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (فليقل: لا ردها الله عليك)، ويعزر بالتوبيخ والتقريع والدعاء عليه، فضياع الدابة بمثابة فقد المال، وطلبه للدابة كطلب المال، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن المساجد لم تبن لهذا)، والأصوليون يقولون: إن جملة: (فإن المساجد)، كأنها تعليل لنهيه عن نشد الضالة في المسجد، قالوا: فلما قال: (فليقل: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا)، فمعناه: أن المساجد لم تبن للسؤال، وبعبارة أجمع: المساجد لم تبن إلا لذكر الله ولم تبن للدنيا، وهذا سائل دنيا. ورخَّص بعض العلماء في سؤال السائل في المسجد، وفيه حديث علي المشهور أنه أعطى سائلاً يسأل في المسجد وهو راكع، فأنزل الله الآية: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55]، فأُثنِي عليه مع أنه أعطاه في المسجد. والذي تطمئن له النفس التضييق على هؤلاء، وينبغي أن يكون بأسلوب مؤدب إذا أمكن، لكن الإنسان لو تورع عن منعهم، فإنه قد يكون أفضل له من ناحية الورع، والسبب في منعه -خاصة في هذه الأزمنة التي يقوم فيها الرجل ويتكلم كلاماً كثيراً- أنه يشغل الناس عن الأذكار بعد الصلاة، وقد يزعجهم ويقلقهم بأمورٍ الله أعلم هل هو صادق فيها أو كاذب، مع أن الأمر توسع أكثر من اللازم، وقد يكون فيه شيء من الكذب والاحتيال على الناس، ولو أن هذا الأمر نُظِّم ورتب عن طريق أئمة المساجد، بحيث لا يسأل إلا من كانت له بطاقة معينة لكان هذا أولى، حتى لا يكون فتحاً لباب أذية الناس في صلاتهم، فإنه إذا قام أمام الناس وذكر فجائعه ونكباته، وما نزَل به ضَيَّق على الناس وشوش عليهم، وأذهب الخشوع عنهم، وأشغلهم عن ذكر الله، خاصة أن القلوب طرية ندية قريبة من ذكر الله ومن الصلاة والعبادة، ومن الإقبال على الله عز وجل، وقد يصيح صياحاً يزعج الناس ويقلقهم، وقد يشوش على المصلين، وعلى من يقضي صلاته، فلأجل هذه المفاسد كلها يقوى القول أن يُصرف، فيقال له: إن شئت أن تسأل فاذهب إلى الباب، ولا تتكلم، فهذا الذي تطمئن إليه النفس، وإن امتنع الإنسان عن منعهم لقوله تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10] فهذا تورع، لكن الحكم شيء والورع شيء آخر، فالذي تطمئن إليه النفس أنه لا يَسأل. وعلى القول بأنه يجوز له أن يسأل، فلو سأل أثناء الجمعة، وكان الإنسان يستمع للجمعة، وأراد أن يعطيه فإنه ورد في هذه المسألة أن ابن عمر رضي الله عنه كان إذا رأى السائل يسأل أثناء الجمعة في المسجد حصَبه. واستُشكِل هذا، خاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من مس الحصى فقد لغا)، واعتذر لهذا بأنه مسٌ لمقصودٍ شرعي، ولا يخلو هذا الاعتذار من نظر، لكن الذي يظهر صرفهم وعدم إعطائهم، والأقوى أنه لا يُعطى أثناء الخطبة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.

باب صلاة العيدين [1]

شرح زاد المستقنع - باب صلاة العيدين [1] شرع الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم عيد الفطر وعيد الأضحى لكي يتوسعوا فيهما بالمباحات ويتقربوا إلى ربهم بالطاعات، ويشكروا الله تعالى على ما أنعم عليهم به من تسهيل صيام رمضان في عيد الفطر وسؤال قبوله، وعلى ما يسر لهم في أداء المناسك في عيد الأضحى. وقد شرع لهم الاجتماع للصلاة في هذين العيدين ليتعارفوا ويتواصلوا ويهنئ بعضهم بعضاً. وهناك شروط ومستحبات في صلاة العيد ينبغي الإلمام بها ومعرفتها.

صلاة العيدين وأحكامها

صلاة العيدين وأحكامها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة العيدين]. هذا الباب يقصد المصنف منه أن يبين لنا أحكام صلاة العيدين، أي: في هذا الباب سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بصلاة العيدين. والمناسبة في ذكره بعد باب صلاة الجمعة أن الجمعة عيد الأسبوع، والعيدان يُعتبر كل واحد منهما عيد للمسلمين يُشرع في كل عام مرة. والعيد مأخوذ من العود، سُمي بذلك لأنه يعود ويتكرر كل عام، وبهذا قال بعض العلماء. وقيل: لأنه يعود بالفرح والسرور على الناس. وقال بعض أئمة اللغة: الأصل أن العرب تصف الشيء الذي فيه اجتماع بكونه عيداً، ولذلك يقولون: إنه سمي عيداً لاجتماع الناس فيه. وعبر المصنف بقوله: [باب صلاة العيدين] لأن للمسلمين عيدين لا ثالث لهما، فلم يقل: باب صلاة الأعياد، وإنما شرع الله عيدين، وصلاتين لهذين العيدين، ولم يشرع عيداً ثالثاً إلا عيد الأسبوع المعروف الذي هو يوم الجمعة، فقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمَّى الجمعة عيداً. قال بعض العلماء في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15]، إن قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) المراد به زكاة الفطر، وقوله تعالى: (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) أي: كبر ليلة عيد الفطر، وقوله تعالى: (فَصَلَّى) أي: صلاة عيد الفطر، وقال بعض العلماء في قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] أي: صلِّ صلاة عيد الأضحى وانحر الأضحية. فالآية الأولى في سورة (الأعلى) تدل على مشروعية عيد الفطر، والآية الثانية في سورة الكوثر تدل على مشروعية صلاة عيد الأضحى. [باب صلاة العيدين] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بصلاة العيدين. ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان للأنصار يومان في الجاهلية يلعبون فيهما بمثابة العيد لهم، ثم إن الله أبدلهما بهذين اليومين يومي عيد الفطر والأضحى، عوضاً عما كان الأنصار عليه في الجاهلية. وقال بعض العلماء: إن أول صلاة للعيد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم كانت في السنة الثانية من الهجرة، وذلك أن افتراض الصيام كان فيها.

حكم صلاة العيدين

حكم صلاة العيدين قال رحمه الله تعالى: قوله: [وهي فرض كفاية] أي: صلاة العيدين فرض كفاية، والفرض إما عيني وإما كفائي، والعيني: هو الذي يجب على كل مكلف بعينه كالصلاة، فإنه يقوم بها المكلف بعينه ويُخاطب بها بعينه إن توفرت فيه الشروط التي تدل على لزوم الصلاة عليه، وأما فرض الكفاية فإنه يُعتبر وجوبه متعلقاً ببعض المكلفين، بحيث لو قام به بعضهم سقط الإثم عن الباقين. فقال المصنف: [وهي فرض كفاية] أي: صلاة العيدين، وهذه المسالة فيها ثلاثة أقوال للعلماء أصحها وأقواها -كما هو مذهب الحنفية وبعض المالكية، وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله- أنها فرض عيني، أي: من الفروض اللازمة على المكلف عيناً. والدليل على لزومها آية الكوثر، فإن المراد بها عيد الأضحى بلا إشكال؛ لأن قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] أمر، والأمر يدل على الوجوب واللزوم، ومن أقوى الأدلة على ذلك حديث: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج العواتق وذوات الخدور والحُيَّض، وقال: أما الحيض فيعتزلن المصلى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين -وفي رواية:- ودعوة الناس). قالوا: فكون النبي صلى الله عليه وسلم يأمر العواتق وذوات الخدور والحيض أن يخرجن يؤكد لزومها وفرضيتها وهذا القول من القوة بمكان، أي أنها واجبة ولازمة، ولا يجوز للإنسان أن يتخلف عنها إلا بعذر. وقوله: [فرض كفاية] أي: إذا صلَّى بعض المكلفين سقط الإثم عن الباقين، بحيث لو صلَّت جماعة سقط الإثم عن أهل المدينة كلهم، ولو امتنع أهل المدينة ولم يصل أحد منهم صار الإثم على الجميع. وقوله: [إذا تركها أهل بلد قاتلهم الإمام] أي: إذا ترك أهل بلد صلاة العيد قاتلهم الإمام، وذلك لأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، وشعائر الإسلام الظاهرة يقاتل عليها الإنسان، ولا يدل ذلك على كفره، أي: كوننا نقاتلهم لا يدل على كفرهم، ولذلك أمر الله عز وجل بقتال الفئة الباغية من المسلمين، ومع هذا لا يُحكم بكونها كافرة، فالأمر بمقاتلتهم لا يستلزم كونهم كافرين؛ لأنهم تركوا هذه الشعيرة الظاهرة من شعائر الإسلام، ويقاتلهم ولي الأمر ولا يكون قتالهم من الأفراد. ومن أمثلة ذلك: الأذان، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يغزوا قوماً انتظر حتى تحضر الصلاة، فإذا سمع أذاناً كف عن قتالهم، وإن لم يسمع ركب القوم وقاتلهم، فهذه من شعائر الإسلام الظاهرة، فلو أن أهل بلد قالوا: لا نصلي العيد شُرِع لولي الأمر أن يقاتلهم حتى يحيوا هذه الشعيرة التي تعتبر شعاراً ظاهراً للمسلمين.

وقت صلاة العيدين

وقت صلاة العيدين قال رحمه الله تعالى: [ووقتها كصلاة الضحى] أي: وقت صلاة العيدين كصلاة الضحى، وصلاة الضحى يبتدئ وقتها -كما تقدم معنا- من ارتفاع الشمس قيد رمح إلى الضحى، والضحى يمتد إلى ما قبل الزوال، فهنا التشبيه بصلاة الضحى ابتداءً، أي: يبتدئ وقت صلاة العيدين بابتداءٍ وقت صلاة الضحى. والحقيقة أن الأصل في الضحى أن وقتها إنما هو مبني على صلاة العيدين، فحينما قيل: يبتدئ وقتها من ارتفاع الشمس قيد رمح إنما هو مبني على صلاة العيدين، وهنا كأنه تشبيه عكسي، فألحق الأصل بالفرع، وإلا ففي الواقع أن صلاة العيدين هي الأصل في أن تبدأ بعد ارتفاع الشمس قيد رمح. وتوضيح ذلك أنه إذا صلى المكلف الفجر، فإنه يمسك عن صلاة النافلة حتى تطلع الشمس، كما في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمرو بن عبسة رضي الله عنه: (فإذا صليت الصبح فأمسك عن الصلاة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت فإنها تطلع بين قرني شيطان، فإذا ارتفعت فالصلاة مكتوبة مشهودة)، فظاهره أنه بمجرد طلوعها تجوز الصلاة، فكونه عليه الصلاة والسلام تأخر وامتنع أن يُصلي العيد ويُوقِعه حتى ارتفعت الشمس قيد رمح فهمنا منه أن هذا أقل ما يكون، وتوضيح ذلك أنها أثناء الطلوع بالإجماع لا تجوز الصلاة، وأثناء الغروب كذلك لا تجوز الصلاة؛ لأنه ورد في الحديث الثابت في الصحيح: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا. وذكر منها: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع)، فلما جاء النص (حين تطلع الشمس) أصبح ردءً للنص الذي يقول: (حتى تطلع الشمس)، فيصبح الحديث الأول ناهياً عن النافلة إلى حين الطلوع، والحديث الثاني في قوله: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع) ناهياً عن النافلة أثناء الطلوع، وفسر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأنها تطلع بين قرني الشيطان، فيسجد الكفار لها، وفي الحقيقة هم ساجدون للشيطان -والعياذ بالله-، فنُهِي المسلم عن إيقاع الصلاة في هذا الوقت. فإذا ثبت هذا فإنه قد يقال: إذا كان الوقت المصاحب للطلوع الأصل فيه عدم جواز الصلاة، فيرد فمتى يجوز به أن يُصلِّي، أي: متى ينتهي الحظر؟ و A أنَّ السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يوقع نافلة قبل أن ترتفع الشمس قيد رمح، ففهمنا من هذا أن قيد الرمح هو ابتداء الإذن بالصلاة بعد طلوع الشمس. وقيد الرمح. مقداره عند بعض العلماء ما يقارب سبع دقائق من ابتداء الإشراق، فهذا هو ابتداء وقت صلاة العيد إذا ارتفعت قيد رمح، ثم يستمر الوقت بعدها. وصلاة الضحى سميت بذلك من باب تسمية الشيء بزمانه، ومنه سميت الأضحية أضحية؛ لأنها تقع في ضُحَى يوم النحر. قال رحمه الله تعالى: [وآخره الزوال]. أي: وآخر وقت صلاة العيد الزوال، والزوال: زوال الشمس. وظاهر العبارة أنه يجوز أن يصلي إلى أن تزول الشمس، والواقع أنه أثناء انتصاف الشمس في كبد السماء ينتهي وقت صلاة العيدين، وإذا عُبِّر بالزوال فكأنه يُنبَّه على ما قبله؛ لأنه قد تقدم معنا أن وقت انتصاف الشمس في كبد السماء لا تجوز الصلاة فيه، فلو قال: (إلى انتصاف النهار) كان أبلغ وأدق؛ لأنه هو المراد، فإنه عند انتصاف النهار ينتهي وقت صلاة العيدين. قال رحمه الله تعالى: [فإن لم يُعلم بالعيد إلا بعده صلوا من الغدِ] بعد أن بين رحمه الله أن الوقت يبتدئ من وقت صلاة الضحى، أي: من ارتفاع الشمس قيد رمح إلى الزوال، أو إلى منتصف النهار -كما قلنا- فإنه قد يقال: لو أنهم علِموا أن اليوم يوم عيد في وقت متأخره فما الحكم؟ أي: لو أن الناس أصبحوا صائمين، ولم يعلموا إلا بعد طلوع الشمس. والجواب: في هذا تفصيل: فإن علموا بعد طلوع الشمس وقبل انتصاف النهار بحيث يسعهم أن يصلوا أفطروا وتهيأوا وصلوا، وأما إذا لم يعلموا إلا قبيل الزوال، أو قبيل انتصاف الشمس في كبد السماء، بحيث لا يتيسر للناس أن يصلوا العيد، فإنهم حينئذ يُفطرون؛ لأنه لا يجوز صيام يوم العيد، ويغدو بهم الإمام من الغد؛ لما ثبت في الحديث الحسن: (أن الهلال غُمَّ على الصحابة فلم يروه، ثم أصبحوا صائمين، ثم جاء ركب في آخر النهار. فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قد رأوا الهلال الليلة الماضية، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يُفطروا، وأن يغدوا من الغد إلى المصلى)، وهذا يدل على وجوب صلاة العيد، وبناءً على ذلك يكون الحكم أنه إذا بلغهم الخبر بحيث لا يتمكنون من إيقاع صلاة العيد في وقتها، فإنه يأمرهم بالفطر يومها، ثم يغدو بهم إلى الصلاة في الغد.

مكان صلاة العيدين

مكان صلاة العيدين قال رحمه الله: [وتسن في صحراء] أي: وتسن صلاة العيد في صحراء، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان له مصلىً، وهو في الموضع الذي يُسمى الآن بجامع الغمامة، وهو في غرب المسجد منحرفاً إلى الجنوب، فهذا هو مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي صلى فيه العيدين، وصلى فيه الاستسقاء، فكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يخرج للعيد ولا يصليه في داخل المدينة؛ لما في الخروج من إظهار الفرح بهذا اليوم، وإظهار فضل الله عز وجل على العباد بخروج رجالهم ونسائهم وأطفالهم وكبارهم وصغارهم وأغنيائهم وفقرائهم، فهو أبلغ في شعور الناس بالعيد، بخلاف ما لو دخلوا المسجد الذي ألفوه في الجمعة وألفوه في صلواتهم الخمس، لكنهم عندما يخرجون إلى العراء وإلى الفضاء، فهذا أبلغ في شعورهم بهذا اليوم، فيصحبهم الشعور النفسي الذي يكون معه الشعور بفضل الله عز وجل واجتماع المسلمين، وإظهار عزة الإسلام باجتماعهم في هذا الموضع، مع ما فيه من بالغ القربة بتكلف الخروج إلى المصلى. فكان هديه عليه الصلاة والسلام الخروج إلى المصلى، وكذلك الخلفاء الراشدون من بعده: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فكانوا يخرجون إلى المصلى رضي الله عنهم وأرضاهم، فهذه هي السنة، وهذا هو الأفضل. واستثنى بعض العلماء أهل مكة، فقالوا: أهل مكة الأفضل لهم أن يصلوا في الحرم لفضل المضاعفة فيه، وللشرف العظيم الذي اختص الله عز وجل به أهل مكة في هذا المسجد وهذا القول من القوة بمكان، حيث لم يحفظ أن أهل مكة على زمان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين كان لهم مصلى خارج مكة، أي: لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يصلون العيدين خارج مكة، لكن المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم. ولو قلنا: إن السنة أن يخرجوا إلى المصلى فهنا مسائل: المسألة الأولى: لو صلوا داخل المدينة أو داخل المسجد، فهل تبطل صلاتهم؟ A بالإجماع صلاتهم صحيحة، أي: إذا صلوا داخل المساجد مع عدم وجود العذر، فبالإجماع صلاتهم صحيحة، لكن فاتهم الأفضل. المسألة الثانية: يُشرع لهم أن يتركوا المصلى إذا وجد العذر، ولذلك ثبت عن أهل المدينة في عهد عثمان رضي الله عنه أنهم تركوا المصلى في يوم عيد كان فيه مطر، وصلوا بالمسجد؛ لأن المطر يجحف بالناس ويشق عليهم في الخروج، ولما فيه من التضرر، خاصة أن الإنسان يخرج بثياب عيده، فيكون فيه مشقة وحرج على الناس، مع ما في الطريق من الوحل، وقد جعل الله عز وجل وجود المطر رخصة في ترك الجماعة، ولذلك يقولون: إنهم يصلون داخل المساجد لما فيه من الرفق بهم. والشافعية رحمة الله عليهم -ويوافقهم بعض أهل العلم- عندهم تفصيل، فيقولون: لا يُوضع ضابط معين، والأفضل الصلاة في الخلاء. بمعنى: أن يكون هناك مصلى خارج المدينة، ولكن ينظر الإمام فإن وجد أن المصلى لو خرجوا إليه لحصل الضرر والمشقة الضيق على الناس صلى بهم في المسجد؛ لأنه أرفق بهم، ويكون هذا أشبه بالعذر. ومثل هذا لو كان خروجهم إلى البراز فيه فتن وفيه أذية وضرر، خاصة إذا كثر السفهاء وحصلت الفتن، فلو احتيط بالمساجد لصيانة النساء وحفظهن فلا حرج في مثل هذا. وعلى هذا يتخرج ما لو رأى الإمام فتناً دينية، أو وجد أن المصلحة أن يصلي في المسجد، فلا حرج عليه في عدم الخروج في هذه الحالة على هذا القول.

أحكام أخرى متعلقة بصلاة العيدين

أحكام أخرى متعلقة بصلاة العيدين

استحباب تقديم صلاة لأضحى وتأخير صلاة الفطر

استحباب تقديم صلاة لأضحى وتأخير صلاة الفطر قال رحمه الله: [وتقديم صلاة الأضحى] السنة تقديم صلاة الأضحى وتأخير صلاة الفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عجل الأضحى، فكان يصلي الأضحى والشمس على قيد رمح، ويصلي الفطر والشمس على قيد رمحين، وهذا لحكمة أشار إليها بعض العلماء، وهي أنه في الأضحى يحتاج الناس إلى ذبح الأضاحي، والسنة في الأضحية والأفضل والأكمل أن يذبح الإنسان أضحيته في أول الضحى؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولذلك يقولون: يصيب الناس السنة بالتعجيل بحصول هذه الشعيرة التي شُرِعت في يوم عيد النحر، وأما في الفطر فالناس يحتاجون إلى وقت كاف قبل الصلاة لكي يتمكنوا من إخراج صدقة الفطر، فتؤخر الصلاة إلى قيد رمحين حتى يتسنى للإنسان أن يجد الفقراء، وأن يحسن إليهم، وأن يؤدي زكاة الفطر قبل أن ينتهي وقت زكاة الفطر. وبناء على ذلك قالوا: السنة في الأضحى أن يُعجَّل وفي الفطر أن يؤخر، ولكن لا يؤخر تأخير مضراً بالناس. ولذلك أنكر عبد الله بن بسر رضي الله عنه وأرضاه على الإمام لما تأخَّر على الناس يوم العيد، وقال: (إنا كنا في هذه الساعة قد فرغنا من الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: ما شأنه يتأخر عن الناس، وقد كنا في مثل هذا الوقت ننتهي من هذه الصلاة، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! إنكاراً عليه لمخالفته هدي النبي عليه الصلاة والسلام. قال رحمه الله تعالى: [وعكسه الفطر]. ذلك لأن الناس يحتاجون إلى وقت كافٍ لكي يخرجوا صدقة الفطر، فإنها تنتهي بالصلاة، فإذا تأخر إلى طلوع الشمس قيد رمحين فإنه أبلغ في حصول التوسعة عليهم.

استحباب الأكل قبل صلاة الفطر دون الأضحى

استحباب الأكل قبل صلاة الفطر دون الأضحى قال رحمه الله تعالى: [وأكله قبلها وعكسه في الأضحى إن ضحى] أي: السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكل قبل صلاة عيد الفطر، وأن يؤخر أكله في الأضحى، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عجل فطره لكي يكون أبلغ في الخروج عن عبادة الصوم، فإنه قد ألف الناس الصوم، فكان عليه الصلاة والسلام يفطر على تمرات، فإن تيسر له أصاب التمرة والتمرتين والثلاث، فإنه فِطْر؛ لأن المراد به أن يفطر فيغدوا إلى المصلى، خاصة إذا كان إماماً، وكذلك المأمومون يُشرع لهم أن يفطروا على تمرٍ ونحوه، ويكون شهودهم الصلاة وهم مفطِرون، حتى يكون أبلغ في الامتثال والطاعة لله سبحانه وتعالى، فسبحان من أمرهم بالصيام قبل وهم اليوم مفطرون. ولكن السنة في الأضحى أن يؤخر فطره إلى أن يصيب أضحيته، كما هو هديه عليه الصلاة والسلام، فلا يأكل حتى ينحر أو يذبح أضحيته، ثم يأكل من هذه الأضحية.

كراهية صلاة العيدين في الجامع بلا عذر

كراهية صلاة العيدين في الجامع بلا عذر قال رحمه الله تعالى: [وتكره في الجامع بلا عذر] أي: يكره أن يصليها في الجامع وفي المدينة بلا عذر، ومفهوم ذلك أنه إذا وُجِد العذر فلا كراهة، كما فعل السلف الصالح ذلك حينما كان في يوم العيد مطر، فصلوا مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.

استحباب تبكير المأموم لصلاة العيد وتأخر الإمام

استحباب تبكير المأموم لصلاة العيد وتأخر الإمام قال رحمه الله تعالى: [ويسن تبكير مأموم إليها ماشياً بعد الصبح، وتأخر إمام إلى وقت الصلاة على أحسن هيئة] قوله: [ويسن تبكير مأموم إليها ماشياً بعد الصبح]. أي: يسن أن يبكر المأموم إلى صلاة العيد ماشياً بعد الصبح؛ لأن ابن عمر فعل ذلك، وغدا إلى الصلاة وبكر، وهذا أفضل لما فيه من إدراك فضيلة الصف الأول، ولما فيه من إدراك فضيلة انتظار الصلاة، وذلك أنه سيجلس في المصلى ينتظر الصلاة، وهذه زيادة قُربة، ولما فيه من عمارة الوقت بطاعة الله سبحانه وتعالى، والإقبال عليه جل وعلا، فالأفضل له أن يبكر؛ لأنه مسابقة ومسارعة إلى الخير، وذلك مندوب إليه. فيغدوا إلى الصلاة مبكراً مكبراً لله عز وجل معظماً، ويُكثِر من التكبير وذكر الله سبحانه وتعالى، ويرفع صوته بذلك أحياء لهذه الشعيرة في هذا اليوم، ويُسن له أن يخرج على خشوع وسكينة ووقار، وألا يأخذه الكبر، خاصة أن يوم العيد يصحبه التجمل والتزين، فيتواضع لله عز وجل، ويحمد الله سبحانه وتعالى الذي كساه من عُري، فلا يبطر نعمة الله بالتباهي، ولا يغدو على سبيل الكبر والخيلاء، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بينما رجل يتبختر يمشي في برديه قد أعجبته نفسه، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة). وهذا الحديث يدل على أن التبختر والتباهي إذا لبس الإنسان أحسن ما يجد، أو تجمَّل أنه من الفتنة له، ولذلك عد العلماء الاختيال في المشية والتكبر فيها أنه من كبائر الذنوب، لورود هذا الوعيد -والعياذ بالله- الثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. فلذلك ينبغي للإنسان أن يتنبه لهذا، وأن يكون بعيداً في خروجه إلى المصلى عن الكبر والاختيال والتعالي على الناس، وإنما يخرج خاشعاً متذللاً لله سبحانه وتعالى، حامداً ذاكراً شاكراً لنعمة الله عز وجل وإحسانه عليه. وكذلك المرأة تخرج إلى صلاة العيد بعيدة عن الفتنة، فلا تتطيب طيباً يُشم منها، لا تتزين زينة تفتن الناس، فإنه إن رجعت من الصلاة رجعت بوزر قد يكون أكثر من أجرها، وخير لمثل هذه التي تفتن وتُفتن أن تلزم بيتها، فقرارها في بيتها خير لها من الخروج. ولذلك ينبه العلماء على أنه ينبغي الاحتياط واتقاء الفتنة، فليس أمر النبي صلى الله عليه وسلم بشهود الصلاة مطلقاً، ولكنه مقيد بالضوابط الشرعية، فينبغي المحافظة على ذلك في الملبس وفي الهيئة، وفي صفة الخروج، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: [وتأخُّر إمام إلى وقت الصلاة على أحسن هيئة]. أي: ويتأخر الإمام فلا يخرج إلى المصلى إلا متأخراً؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا في الجمعة، فالأفضل له أن يأتي وقت الخطبة أو قريباً منه، إلا إذا كان بعيداً عن المسجد ويخشى من العوارض أو ما يطرأ عليه فيبكِّر بقدر، فهذا يقيَّد بقدر الحاجة، وإلا فالأصل من هديه عليه الصلاة والسلام أنه كان لا يبكر قبل الجمعة، وكذلك أيضاً قبل الصلاة، وإنما كان عليه الصلاة والسلام يمضي وقت الجمعة أو الصلاة. والسبب في هذا أن تكبيرهم -على أحد القولين- ينقطع عند رؤية الإمام، وهذا فعله بعض الصحابة، فكانوا إذا رأوا الإمام قطعوا التكبير، ولذلك قالوا: الخروج سنة، وفيه شعيرة ويتصل به حكم. ولذلك ينبغي أن يتأخر خروجه إلى وقت الصلاة، ولا يُسن في حقه أن يبكر وأن يمضي مع الناس وأن يجلس معهم في الصحراء؛ لأن ذلك أبلغ في الهيبة والإجلال للإمامة وتعظيمها، فيخرج عند دنو وقت الصلاة، ولا يقرب من المصلَّى إلا وقد أزف الوقت، بحيث يقيم للناس صلاتهم وشعيرة العيد. ويخرج الإمام بأحسن ما يجد من الثياب؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشترى حلة حمراء وجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (يا رسول الله: ابتع هذه تجمَّل بها للعيد والوفود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة)، فلم يُنكر عليه قوله: (تجمَّل بها للعيد والوفود). فهذا يدل على أنه كان من هديه عليه الصلاة والسلام أن يتجمل للعيد، وإنما أنكر كونها حمراء، على تفصيل سيأتي إن شاء الله في حكم اللباس الأحمر. فالمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُنكِر عليه قصد التجمل لصلاة العيد، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاغتسال يوم الجمعة ولبس أحسن الثياب وقال: (إنه عيد)، فدل على أنه يسن التنظف وإبداء الهيئة الحسنة في الملبس، حتى يكون ذلك أبلغ في شهوده للعيد على أكمل وأحسن حال. وكان صلى الله عليه وسلم يتجمل للعيد ويلبس أحسن ما يجد من الثياب، ولذلك ينص العلماء على هذه السنة، وهي أن الإمام يتجمل لصلاة العيد، فيلبس أحسن ما يجد، دون أن يبالغ في زينته، خاصة وأن الأئمة وأهل العلم قدوة لغيرهم. وكان بعض العلماء رحمة الله عليهم يقولون: يستحب للأئمة والخطباء والوعاظ ومن يلي توجيه الناس أن يكون ملبسه وسطاً بين الابتذال وبين الشهرة، أي: المبالغة، والسبب في ذلك أنه لو لبس لباس الأغنياء لم يستطع أن يقرب منه الفقراء، وإذا لبس لباس الفقراء امتهنه الأغنياء والعظماء، فلذلك يلبس الوسط؛ ولأنه إن كان متواضعاً ولبس الغالي والنفيس فإن الفقير إذا جاء بجواره تضرر وشعر بالنقص بقربه منه لضيق حاله وضيق يده، ولذلك كان العلماء والأخيار يوصون بأنه ينبغي ألا يُبالغ أهل الفضل وأهل العلم في زِيهم، حتى لا يكون في ذلك كسر لقلوب الفقراء مما يوجب نفرتهم وبعدهم عنهم. قال رحمه الله تعالى: [إلا المعتكف ففي ثياب اعتكافه]. أي: إلا المعتكف فيشهد العيد بثياب اعتكافه، وليس ثَمَّ نص يدل على هذا، وقد كان بعض العلماء يمنع من هذا ويقول: إنه إذا شهد العيد بثياب اعتكافه فربما كانت نتنة فآذى الناس، وربما أضرَّهم، ثم إنه يتميز عن الناس بذلك، والذي يظهر أنه يُشرع له أن يغتسل وأن يلبس أحسن ما يجد كغيره سواءً بسواء، وليس ثَمَّ دليل يخص المعتكف بهذا الحكم، والأصل أن السنة للجميع -رجالاً ونساءً- أن يتطيبوا ويتجملوا ويكونوا على أحسن هيئة، دون فرق بين معتكف وغيره.

شروط صحة صلاة العيدين

شروط صحة صلاة العيدين شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان الشروط التي ينبغي أن تتوفر لكي يُحكم باعتبار صلاة العيدين، فقال رحمه الله: [من شرطها الاستيطان]، وقد تقدم أن الاستيطان يعتبر من شروط صحة الجمعة، وبيّنا حقيقة الاستيطان هناك، وعلى هذا فلا تصح صلاة العيد من مسافر؛ لأنه غير مستوطن، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أدركه عيد النحر وهو على سفر، وذلك في حجته للوداع صلوات الله وسلامه عليه ولم يعّيد، وكذلك أيضاً لما فتح مكة صلوات الله وسلامه عليه لم يعيد، فدل هذا على أنه من شروط صحة صلاة العيد أن يكون الإنسان مستوطناً. قال رحمه الله تعالى: [وعدد الجمعة]: وذلك أنهم ألحقوا العيدين بالجمعة، وقد تقدم الكلام على اشتراط العدد لصلاة الجمعة، وعلى هذا فإنه إذا تقرر أن الجمعة تصح بثلاثة فكذلك صلاة العيدين فإنها تصح بهذا العدد؛ لأنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على تعين الأربعين، أو تعين اثني عشر رجلاً، فحينئذٍ لو صلى ثلاثة وتوفرت فيهم باقي الشروط فإن عيدهم معتبر. قال رحمه الله تعالى: [ليس منها إذن الإمام]: أي: لا يشترط لصلاة العيدين إذن الإمام، وهذا قول الجماهير رحمة الله عليهم، والعيدان أخص من الجمعة، وإن كان العيد يلتحق بالجمعة في مسائل وأحكام لكنه لا يأخذ الشبه من كل وجه، وعلى هذا قالوا: إنه لا يلتحق بالجمعة من هذا الوجه، أي: لا يشترط في صحة العيد أن يأذن الإمام به، فلو أن جماعة اجتمعوا في ضاحية المدينة، وكانوا مستوطنين وصلوا العيد، فإنه يجزيهم ذلك ويصح منهم، وتعتبر صلاتهم صلاة صحيحة.

استحباب مخالفة الطريق

استحباب مخالفة الطريق قال رحمه الله تعالى: [ويسن أن يرجع من طريق آخر]: ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان يذهب من طريق ويرجع من آخر). واختلف العلماء في سبب ذلك، فقال بعضهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب من طريق ويخالف في الرجوع فيرجع من طريق آخر، لكي يمر على أكثر عدد من المساكين والضعفاء، فيحسن إليهم -صلوات الله وسلامه عليه-، ويكرمهم، ويدخل السرور عليهم، خاصة أن يوم العيد يندب فيه إدخال السرور على ضعفة المسلمين من المساكين والفقراء ونحوهم، فقال أصحاب هذا القول: إن ذهابه عليه الصلاة والسلام -كما في حديث جابر - من طريق ورجوعه من طريق آخر يعتبر من هذا الوجه سنة يقتدى فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم ويهتدى بهديه، وليست من السنن الخاصة به عليه الصلاة والسلام، وبناء على ذلك فإنه يسن للإنسان إذا مضى للعيد أن يمضي من طريق وأن يرجع من طريق آخر، حتى يمر على عدد كبير من الضعفة والفقراء، فيحسن إليهم ويواسيهم، فهذا استحبه جمع من العلماء رحمة الله عليهم. لكن على هذا التخريج لو كان الإنسان راكباً دابته، أو على السيارة كما هو موجود في عصرنا اليوم، أو ما في حكمها، فإنه قد يتعذر عليه صلة المساكين والإحسان إليهم، فيكون أمر السنة فيه من هذا الوجه أضعف. الوجه الثاني: قالوا: ذهب النبي صلى الله عليه وسلم من طريق ورجع من طريق آخر حتى تكون شهادة الخير له من الأرض أكثر، وذلك أن الأرض تشهد بما عليها من الخير، وتحب أن يوطأ عليها إذا كانت تلك الخطوة أو ذلك المشي في طاعة الله، كما قال سبحانه وتعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29]، قالوا: إن العبد الصالح تبكيه الأرض من كثرة ما كان يعمل عليها من خير، وتبكيه السماء لما كان يصعد من عمله الصالح إلى الله جل وعلا، ويكون فقده على هذا الوجه موجب لبكاء السماء والأرض عليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم حينما مضى للعيد من طريق ورجع من طريق آخر، قصد من هذا أن تكثر الخطا على الأرض، فبدل أن تكون من طريق واحد وتكون الشهادة لطريق واحد، تكون الشهادة لأكثر من طريق، وإلى هذا المعنى أشار عليه الصلاة والسلام بقوله: (يا بني سلمة: ديارَكم تُكتبْ آثارُكم، ديارَكُمْ تُكْتبْ آثارُكُمْ، دياركْمْ تُكْتَبْ آثارُكُمْ) أي: الزموا دياركم البعيدة عن المسجد، فإن الله عز وجل يكتب لكم هذه الآثار إلى طاعتكم. وأفضل الطاعات الصلاة، فكأنهم يقولون: كون الإنسان يمضي لصلاة العيد من طريق ويرجع من طريق آخر يكون شهود الأرض له بأرض غير التي شهدت بذهابه، فهذا أفضل في الخير وأكثر، وعلى هذا الوجه تكون الفضيلة والسنة آكد لمن يمشي على قدميه لشهود الخير، ومن ركب على دابته فإنه دون ذلك. الوجه الثالث: قال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم مضى إلى العيد من طريق ورجع من طريقٍ آخر من أجل أنه أرفق به عليه الصلاة والسلام، أي: أخف عليه، فكأنه ذهب من طريق لأنه أضيق، ورجع من طريق آخر لأنه أيسر في الرجوع، وبعض الطرق أخف في الذهاب ولكنه أثقل في الرجوع، وبعضها أخف في الرجوع ولكنه أثقل في الذهاب. والصحيح من هذه الأقوال الأول، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا أكثر من مرة، فلما دخل مكة دخلها عليه الصلاة والسلام من ثنية كداء من جهة القبور والمعلاة، وخرج من أسفلها، وإن كان بعض العلماء يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل من ثنية القبور التي تسمى الآن الحجون. قالوا: والسبب في هذا أنه فعله من أجل إعزاز الإسلام، أي أنه عليه الصلاة والسلام خرج إلى الهجرة متخفياً في ظلام الليل وسواده، ودخل في وضح النهار من أعلى مكة حتى يكون أبلغ في عزة الإسلام وإظهاره. كذلك قال بعض العلماء: إنه ذهب للعيد من طريق ورجع من طريق آخر لإغاظة المنافقين، وذلك أن شعائر الإسلام تغيظهم، وكان المنافقون في المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة، وتنطوي قلوبهم على ما لا خير فيه للإسلام والمسلمين، فقصد إغارة صدورهم. والصحيح أنه لكثرة شهود الخير، ولكثرة الإحسان إلى الناس، ويدل على هذا أنه عليه الصلاة والسلام ذهب إلى عرفات من طريق ضب، ورجع إلى المزدلفة من طريق المأزمين، وهذا سنة للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره، وقد تكرر هذا في حجه صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك أيضاً في ذهابه للعيدين. وبعض العلماء يقول: هذه سنة جبلية محضة، خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتأسى به، والصحيح أنها من السنن التي يقتدى فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو ذهبت إلى عرفات من طريق ضب، ورجعت من طريق المأزمين فإنك تكون مصيباً للسنة ومتأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشرع الاقتداء والتأسي بمثل هذا. والسبب في هذا وأن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يشرع التأسي به بالإجماع، ومنها ما يكون جبلياً خاصاً به، ومنها ما يحتمل أن يكون جبلياً ويحتمل أن يكون هدياً، فهذا الفعل وهو ذهابه إلى العيد من طريق ورجوعه من طريق آخر اختلف العلماء فيه: فبعضهم يقول: هذا سنة جبلية لا يتأسى ولا يقتدى به فيه؛ لأنه أرفق به، فغيره لا يشاركه في هذا، وهذا قول ضعيف. والصحيح مذهب الجمهور أنه سنة يتأسى ويقتدى فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيشرع لك أن تذهب من طريق، وأن ترجع من طريق آخر لعمارة الطرق بذكر الله، ولكي تشهد لك الأرض بما يكون عليها من الخير. وقد أخذ العلماء من هذا سنة عامة، فقالوا: إذا ذهبت إلى أي عمل خير كصلة رحم، وبر والدين، وطلب علم، ونحو ذلك من الخير فلتذهب من طريق ولترجع من طريق آخر؛ لأنك لا تزال في خير حتى ترجع إلى بيتك، فمن خرج إلى طاعة الله عز وجل فهو في طاعة، ويكون في رحمة الله حتى يرجع إلى مكانه، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تكفل لمن خرج في سبيله -أي: للجهاد- لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسولي أن أدخله الجنة أو أرده إلى بيته بما نال من أجر أو غنيمة)، فهذا كله من ضمان الله عز وجل للعبد، فيشرع للإنسان إذا ذهب إلى طاعة أن يذهب من طريق وأن يرجع من طريق آخر.

باب صلاة العيدين [2]

شرح زاد المستقنع - باب صلاة العيدين [2] لصلاة العيدين صفة مخصوصة جاءت في السنة النبوية، وهي أنه يبدأ بالصلاة قبل الخطبة، وهي ركعتان يكبر في الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً، يقرأ فيهما بالأعلى والغاشية، ثم يخطب بعدهما خطبتين كخطبتي الجمعة، وهناك مستحبات في الخطبة وفي يوم العيد ينبغي المحافظة عليها، ومنها: التكبير في يوم العيد وليلته، وله صفة مخصوصة ووقت معلوم.

صفة صلاة العيدين وخطبتهما

صفة صلاة العيدين وخطبتهما

تقديم الصلاة على الخطبة

تقديم الصلاة على الخطبة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويصليها ركعتين قبل الخطبة يكبر في الأولى بعد الإحرام والاستفتاح، وقبل التعوذ والقراءة سنناً، وفي الثانية قبيل القراءة خمساً]. قوله: [ويصليها ركعتين قبل الخطبة]. السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يبتدئ بالصلاة قبل الخطبة، وهذا هو فعله عليه الصلاة والسلام وفعل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فهو فعله وفعل الخلفاء الراشدين المهديين من بعده رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وأول من خطب قبل الصلاة مروان بن الحكم عفا الله عنا وعنه، فإنه كان إذا خطب مروان ففي آخر الخطبة كان يشتم علياً كما كان يفعله بنو أمية حتى عهد عمر بن عبد العزيز، فكانوا يشتمون علياً على المنابر في خطب الجمعة والعيدين، وقد قيل: إن معاوية كان منه ذلك لأنه بلغه أن علياً سبه، فكان من باب رد الأذى بالأذى، وعلى العموم فهذه السنة السيئة بقيت في أعيادهم وفي جمعهم، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقومون عن مروان إذا ذكر علياً رضي الله عنه ونال منه، فكأنه أخذ في نفسه، فصار يقدم الخطبة على الصلاة، فلما مضى إلى صلاته ذات يوم، وكان معه أبو سعيد رضي الله عنه، فلما أراد أن يصعد المنبر جذبه أبو سعيد، فقال له: غيرتم! -أي: غيرتم السنة- فقال: إن الناس ليسوا كما تعهد. أي: ليس الناس كما تعهد يصبرون على الخطبة، فكأنه اجتهد في تقديم الخطبة على الصلاة حتى يسمع الناس خطبته وما يكون فيها، ولا شك أن هذا من البدع المحدثات، نسأل الله أن يعفو عنا وعنهم. فمن قدم الخطبة على الصلاة فإن هذه الخطبة لا يعتد بها ولا تصح؛ لأنه خلاف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعله واقع في غير موقعه، ووجوده وعدمه على حد سواء، وإنما تصح الخطبة إذا وقعت بعد صلاة العيدين تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه.

تكبيراتها وحكم الرفع فيها

تكبيراتها وحكم الرفع فيها فيقول المصنف رحمه الله: [يكبر في الأولى بعد الإحرام والاستفتاح وقبل التعوذ والقراءة ستاً، وفي الثانية قبل القراءة خمساً]: هذا هو الثابت من هديه صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا، وقد كان يكبر في العيدين ثنتي عشرة تكبيرة، سبعاً في الأولى وخمساً في الثانية، فقد كان هذا هديه صلوات الله وسلامه عليه في صلاة العيدين: عيد الأضحى وعيد الفطر. قال رحمه الله تعالى: [يرفع يديه مع كل تكبيرة]. رفع اليدين مع كل تكبيرة فيه خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم في مواضع، منها: صلاة العيدين وصلاة الجنازة. فالمأثور عن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يرفع يديه، وكذلك ابن عمر، وكانوا يقولون: إنه لا يضم. فـ ابن عمر -خاصة مع شدة تحريه للسنة- لن يرفع يديه إلا وله أصل من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي صحيح ابن خزيمة ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في تكبيرات الجنائز، والصحيح أنه من رفع فلا حرج عليه ومن ترك فلا حرج عليه، وكلٌ على خير، فمن رفع فله أصل وله سنة، خاصة وأن الأثرم روى بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه في هذه التكبيرات، ولكني لم أطلع على سنده، بحيث فلم أجد من جزم بصحة هذه الرواية، فإن صحت فلا إشكال أنها السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها الأفضل. قال رحمه الله تعالى: [ويقول: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليماً كثيراً]. هذا القول المأثور عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كـ ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فقد روي عنه أنه كان يقوله بين التكبيرات، فاستحب بعض العلماء أن يقول هذا؛ لأنه أثر عنه رضي الله عنه، والذي اختاره بعض العلماء أنه يتوقف في الذكر، لكن لو كبر هذا التكبير فإنه يثاب؛ لأن له أصلاً من حديث أبي هريرة أن رجلاً في صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم قال: الله أكبر، ثم قال: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. فلما سلَّم عليه الصلاة والسلام قال: (من الذي قال كذا وكذا آنفاً؟ فقال: أنا يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده لقد رأيت بضعاً وثلاثين ملكاً يبتدرونها إلى السماء أيهم يصعد بها)، وهذا يدل على فضل هذه المعقبات العظيمة. وهذا من أعظم ما يكون من الثناء على الله عز وجل وإجلاله سبحانه وتعظيمه، فلذلك قالوا: يقوله بين التكبيرات أفضل من أن يسكت، ولكن لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء مرفوع، فمن سكت فهو على سنة، ومن قال هذا تأسياً بما أثر عن ابن مسعود -والظن به أن يكون له شبهة التأسي، أو يكون له أصل- فإنه لا حرج عليه، ولا ينكر عليه؛ لأن له سلفاً، خاصة أنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومذهب طائفة الاحتجاج بفعل الصحابي وقوله. قال رحمه الله تعالى: [وإن أحب قال غير ذلك]: هذا بناءٌ على أن قول الصحابي حجة، فإذا كان قول الصحابي حجة فكأنهم يرون مشروعية الذكر بين التكبيرات، وأن المحفوظ أن يذكر بينهما، وألا تخلو من وجود ذكر، فإذا كان الأصل الذكر والثناء على الله فلو قال غيرها من الأذكار التي فيها ثناء على الله فلا حرج. ولكن الأقوى والأولى والأقرب -إن شاء الله- إلى السنة أن يسكت.

السنة في القراءة فيها

السنة في القراءة فيها قال رحمه الله تعالى: [ثم يقرأ جهراً بعد الفاتحة بسبح في الأولى، وبالغاشية في الثانية]: كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يصلي صلاة العيدين جهريةً، وهذا مما توافق فيه صلاة النهار صلاة الليل، وإلا فالأصل في الصلاة السرية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها في النهار ما عدا الفجر، وكذلك صلاة العيدين فقد أثر عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1]، وكذلك أيضاً ثبت عنه أنه قرأ بـ: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1]، و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وللإمام ابن القيم رحمة الله عليه كلام نفيس في هذه المسألة، فقد بين أن اختيار هاتين السورتين للدلالة على عظمة الله سبحانه وتعالى، خاصة أن فيهما ذكر البعث والنشور ونهاية الدنيا وصيرورة الإنسان إلى الآخرة، وما يعين على رقة قلبه وخشوعه وخضوعه، وخاصة في يوم العيد حيث الناس قد لبسوا أحسن ما يجدون من الثياب، فلربما دخل في الإنسان الغرور ولهو الدنيا والركون إلى شيء مما يصرفه عن ذكر الله عز وجل، فعندما يقرأ الإمام هاتين السورتين فكأنه يوحي إلى القلوب أن تكون على قرب وخوف من الله سبحانه وتعالى، فمع أنه يوم عيد يشرع تذكيرهم بالله عز وجل، ولذلك اختار هذه السورة لما فيها من بالغ العظة والذكرى، خاصة وأن سورة {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] تشتمل على نهاية الإنسان وحال السعداء والأشقياء، وما ينتهي إليه حال الناس من الخروج من قبورهم إلى لقاء الله جل جلاله، فتذكير الناس في مثل هذا اليوم الذي يغلب فيه الفرح والسرور أدعى إلى الموازنة والبعد عن الغلو في الفرح، والإسلام دين الوسط، فإنه في الأعياد لا يفتح الباب على مصراعيه حتى يسترسل الناس في غيهم وفي فجورهم، ويقعون في أمور حرمها الله، وكذلك لا يضيق على الناس، فبأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام لما كان يوم العيد، ودخل الحبشة يلعبون بالسلاح في المسجد سألته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن تنظر إليهم، فقام على قدميه الشريفتين صلوات الله وسلامه عليه، وهي تنظر إليهم من وراء ظهره، وهو صلوات الله وسلامه عليه سيد الأمة وأفضل الخلق، فمع فضله وعلو مكانته يقف لها من أجل أن تنظر إليهم وهم يلعبون؛ لأنه يوم عيد، ويوم فرحة ويوم سرور، ولم يعتب عليها، ذلك لأن الحال يقتضي التوسعة، تقول أم المؤمنين عائشة: وهو يقول لي: (هل فرغت؟ فأقول: لا بعد، فيقول: هل فرغت؟ وأقول: لا بعد). صلوات الله وسلامه عليه، ولما دخل أبو بكر رضي الله عنه وجاريتان تضربان بالدف لـ عائشة رضي الله عنها تغنيان لها، فأراد أن يضربهما، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه يوم عيد) أي: لا تؤذهما فإنه يوم عيد. ولما دخل عمر على الحبشة وهم يلعبون بالسلاح، فأراد أن يحصبهم، قال: (يا عمر! إنه يوم عيدنا)، فهذا يدل على التوسعة، لكن إذا زاد الأمر فإنه يخشى أن الناس يفرطون في اللهو المباح، وفي الأمور التي توجب الوقوع في سخط الله وغضبه وكفران نعمه وبطر عيشه، فقرأ عليه الصلاة والسلام بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1]، وكذلك {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، فإن هاتين السورتين -خاصة {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]- فيهما تذكير بحال الأمم الماضية، وكيف كانت في عزة ومنعة ثم آلت إلى ما آلت إليه من سوء الخاتمة -والعياذ بالله- بعصيان الله جل وعلا، فهذا شيء عجيب من الموازنة والانضباط لكي يكون المسلم بين الإفراط والتفريط، فهو الوسط الذي يحمد صاحبه، وتكون به عواقب الخير في دينه ودنياه وآخرته.

صفة الخطبة ومحلها وما يقول فيها

صفة الخطبة ومحلها وما يقول فيها قال رحمه الله تعالى: [فإذا سلم خطب خطبتين كخطبتي الجمعة]. هذا هو هديه عليه الصلاة والسلام، كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنه وغيره فخطبه عليه الصلاة والسلام يوم الفطر والأضحى كانت تشتمل على تعليم الناس، كما سيأتي. فالخطبة في هذا اليوم يقصد منها بيان الأحكام الشرعية، وكذلك أيضاً تذكير الناس ووعظهم والأخذ بمجامع قلوبهم إلى الله عز وجل، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب أتى النساء ووعظهن، وقال: (يا معشر النساء: تصدقن ولو من حليكن، فإني أريتكن أكثر حطب جهنم. قلن: يا رسول الله! ولِمَ؟ قال: بكفركن. قلن: نكفر بالله؟ قال: لا. إنما تكفرن العشير) إلى آخر الحديث. فهذا يدل على أنه ينبغي وعظ الناس في خطبة العيد، سواءٌ أكان عيد الأضحى أم عيد الفطر. قال رحمه الله تعالى: [يستفتح الأولى بتسع تكبيرات، والثانية بسبع]. هذا فيه حديث ضعيف في السنن عنه عليه الصلاة والسلام متكلم على سنده، إلا أن جمعاً من العلماء تسامحوا فيه، وإن كان بعضهم يقول: السنة والأولى أن يستفتح بالحمد، فإن خشي نفرة القلوب وحصول بعض المفاسد من استفتاحه بالحمد، فإنه لا بأس له أن يستفتح بالتكبير تأليفاً للقلوب كما يختاره بعض المحققين، كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مسائل السنن حين يخشى معها حصول الفتنة وما لا يحمد عقباه. قال رحمه الله تعالى: [يحثهم في الفطر على الصدقة، ويبين لهم ما يخرجون]. قوله: [يحثهم في الفطر على الصدقة] هذا قياس على خطبة الأضحى إذا قصد بهذه الصدقة صدقة الفطر كما هو ظاهر من قوله: [ويبين لهم ما يخرجون]. ووجه القياس أن حديث البراء بن عازب في خطبته عليه الصلاة والسلام يوم النحر أنه خطب وبيّن لهم كيف الأضحية، وأي السن يجزي، وبين وقتها عليه الصلاة والسلام، فقالوا: كما أنه في يوم النحر بين للناس أحكام الأضحية، كذلك يوم الفطر يبين للناس أحكام صدقة الفطر. ولكن هذا محل نظر؛ لأن صدقة الفطر تنتهي بالصلاة، والنحر يُبتدأ بانتهاء الصلاة كما سيأتي إن شاء الله بيانه، وبناء على ذلك اختلف الحالان، فكان القياس قياساً مع الفارق، ولذلك يقوى أن تكون موعظة، وهذا هو الأشبه؛ لأن الثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه في يوم العيد مضى إلى النساء ووعظهن، فدل على أن خطبة العيد الأفضل فيها أن تكون موعظة، ولا يبالغ في الموعظة حتى يخرج الناس عن فرحهم، ولكن تكون موعظة فيها نوع من القصد والاعتدال، حتى يبعد الناس من الغرور، ولا ينفرهم من الفرحة ويخرجهم مما هم فيه من يوم عز في ذلك اليوم الذي هو عز للإسلام والمسلمين. قال رحمه الله تعالى: [ويرغبهم في الأضحى في الأضحية، ويبين لهم حكمها]: أما في الأضحى فالثابت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)، وفي رواية: (من ذبح قبل الصلاة فلا تجزيه وليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)، فدل هذا الحديث أن من السنة أن يبين للناس أحكام الذبح والنحر في يوم النحر؛ لأن الناس فيهم العوام، وفيهم الجاهل، وفيهم من قد يكون لأول مرة يضحي عن نفسه وعن أهله، خاصة إذا كان قد توفي أبوه، أو تلبس بهذا الأمر لسفر أبيه إلى حجه ونحو ذلك، فبيانه للأحكام الشرعية يعين الناس على تحقيق مقصود الشرع من ذبح الهدي المعتبر في هذا اليوم، وبناء على ذلك يسن أن يبين للناس هذه الأحكام. وهذا مأخوذ من حديث البراء في الصحيحين من خطبته عليه الصلاة والسلام يوم النحر الذي ذكرناه وتقدمت الإشارة إليه، فقال العلماء: يسن في خطبة عيد النحر أن تشتمل على بيان أحكام الأضحية. والأفضل أن يجمع بين بيان الأمور التي يحتاج الناس إليها، خاصة إذا كانت هناك أمور عامة، أو تعم بها البلوى، أو يحتاج الناس إليها، فلا حرج أن ينبه عليها، وينبه أيضاً على أحكام الأضحية، كما هو هديه عليه الصلاة والسلام.

حكم تكبيرات صلاة العيدين وحكم الخطبتين

حكم تكبيرات صلاة العيدين وحكم الخطبتين قال رحمه الله تعالى: [والتكبيرات الزوائد والوقف بينهما والخطبتان سنة]. أي: أنها ليست بواجبة ولازمة، وعلى هذا فلو نسي التكبير في صلاته فلا يلزمه سجود السهو، فلو أن الإمام قال: الله أكبر، ودخل ثم قال: (الحمد لله رب العالمين) فسها عن التكبير، فإنه لا يلزمه أن يسجد سجود السهو؛ لأن هذه التكبيرات الزوائد من السنة، وكذلك إذا قام من سجوده، فالتكبيرة الأولى تكبيرة انتقال، والخمس بعدها تعتبر من التكبيرات المسنونة، فإن فعلها أصاب، وإن تركها فإنه لا يلزم بتركها بسجود السهو؛ لأنها ليست بواجبة. قوله: [والخطبتان سنة]. أي: كذلك الخطبتان سنة عنه صلى الله عليه وسلم لا تشترطان لصحة الصلاة، فلو أنه صلى ولم يخطب فإنه لا يحكم ببطلان الصلاة، ولكن العلماء رحمة الله عليهم ينصون على أنه أساء بمخالفة هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن المصنف رحمه الله ومن وافقه قالوا: إنه يتسامح في الخطبة، ولا تعتبر واجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خير الصحابة حينما قام يخطب -كما في الحديث الذي رواه ابن ماجة - فقال: (من شاء أن يقعد فليقعد، ومن شاء أن ينصرف فلينصرف)، فخيرهم بين أن يقعدوا وبين أن ينصرفوا، فدل على أن الخطبة ليست بلازمة، ولكن هذا محل نظر عند العلماء رحمة الله عليهم؛ لأنه قد يكون الشيء لازماً في حق الإمام، ولكنه ليس بلازم في حق المأمومين.

حكم التنفل قبل صلاة العيد وبعدها

حكم التنفل قبل صلاة العيد وبعدها قال رحمه الله تعالى: [ويكره التنفل قبل الصلاة وبعدها في موضعها]: يكره للإنسان إذا مضى إلى المصلى في يوم العيد أن يتنفل قبل صلاة العيد، حتى ولو طلعت الشمس، ففي عيد الفطر يؤخر إلى ارتفاع الشمس قدر رمحين، فيخرج وقت الكراهة بارتفاع الشمس بقدر رمح، فلو أنه أراد أن يتنفل فيما بين قيد الرمح وقيد الرمحين فإنه يكره له ذلك، بل نص بعض السلف على أنه بدعة محدثة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، ولم يكن من هدي الصحابة رضوان الله عليهم، وهديه عليه الصلاة والسلام أنه لم يتنفل قبل صلاة العيد ولا بعدها، فبعد العيد ينصرف الإنسان مباشرة، حتى قالوا: إن صلاة العيد تغني عن ركعتي الضحى في يوم العيد، وهذا اختيار بعض العلماء؛ لأن ركعتي الضحى تعتبر تحتها، أو كأنها مندرجة تحتها، ولكن إذا رجع إلى بيته وأراد أن يصلي الضحى فلا حرج، أما في المصلى فلا، فالتأسي برسول الله والاقتداء به أفضل وأكمل، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد من هذا اليوم التوسعة على الناس، فهو يوم عيد ويوم فرحة، يشرع للناس فيه أن يتفرغوا للفرحة بنعمة الله عز وجل عليهم، حتى أنه في الخطبة خيرهم بين أن يجلسوا وبين أن ينصرفوا، ولما وافق يوم العيد يوم الجمعة خيرهم بين أن يأتوا الجمعة وبين أن يصلوها ظهراً، وهذا يدل على التوسعة، وأن مقصود الشرع فرح الناس بهذا اليوم الذي هو يوم عز للإسلام والمسلمين.

من فاتته صلاة العيدين أو بعضها

من فاتته صلاة العيدين أو بعضها قال رحمه الله تعالى: [ويسن لمن فاتته أو بعضها قضاؤها على صفتها]: قوله: [ويسن لمن فاتته] أي: الصلاة كلها أو بعضها، كأن تأتي والإمام في الركعة الثانية، فإنه يسن بعد سلام الإمام أن تقوم وتقضي، وللعلماء قولان: فقال بعض العلماء: إذا قمت إلى الركعة الثانية فإنك تحتسبها الركعة الأولى لأنك قاضٍ، فتكبر السبع التكبيرات، أي: تكون أشبه بالقضاء، وهذا مذهب من يقول: ما فات يقضى، أي: الذي فات المسبوق يقضى. والقول الثاني: أن يقوم ويتم، فيكبر كتكبيرات الركعة الثانية ست تكبيرات مع تكبيرة الانتقال، أو خمساً بتكبيرة الانتقال، وجهان للصحابة رضوان الله عليهم في هذا. فعلى هذا الوجه إذا قمت إلى الركعة الثانية تقضي فإنك تحتسبها الركعة الثانية، وهذا هو الأصح؛ لأن الخلاف بين العلماء في المسبوق هل يقضي أو يبني، فإن قلنا: إنك تقضي فكأنك تعيد الركعة الأولى بصورتها، وكانت صورتها مع الإمام سبع تكبيرات، فتعيد السبع، وإن قلنا: تبني، فهو الأقوى من جهة السند والمتن؛ لأن روايات أبي هريرة من طريق الزهري وأصحاب الزهري أقوى، وهي رواية: في رواية: (فأتموا)، ونص الحديث: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)، وفي رواية: (فاقضوا)، فعلى رواية: (فاقضوا) تكبر سبعاً، وعلى رواية: (فأتموا) تكبير خمساً أو ستاً على الوجهين الذين ذكرناهما. والصحيح أن رواية: (فأتموا) أقوى من وجوه: أولاً: من جهة السند، فإن رواتها أوثق وأقوى. ثانياً: من جهة المتن، فإن الإتمام يستعمل القضاء بمعناه، فإن رواية: (وما فاتكم فاقضوا) محمولة على معنى: (فأتموا)؛ لأن العرب تسمي تمام الشيء قضاءً، كقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة:10] أي: أتممتموها، وقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة:200]، أي أتممتموها، فأصبح متن رواية: (فاقضوا) لا يقوى على معارضة رواية: (فأتموا)؛ لأنه متردد بين معنى التمام وبين معنى القضاء. والقاعدة: إذا تعارض النصان المحتمل والصريح فإنه يقدم الصريح على المحتمل. وعلى هذا فإن الأقوى أن يتم، وعليه فإنك لا تكبر سبعاً، وإنما تكبر ستاً أو خمساً على الوجهين الذين ذكرناهما عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

التكبير المطلق والمقيد في العيدين وأحكامه

التكبير المطلق والمقيد في العيدين وأحكامه قال رحمه الله تعالى: [ويسن التكبير المطلق في ليلتي العيدين]: أي: يسن أن يكبر تكبيراً مطلقاً في ليلتي العيدين، أما ليلة عيد الفطر فالتكبير فيها آكد؛ لأن الله عز وجل قال: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185]، فأمر سبحانه وتعالى بالتكبير بعد تمام العدة، أي: بعد تمام شهر رمضان، ولذلك إذا غابت شمس آخر يوم من رمضان فإنك تكبر، حتى قال بعض العلماء بوجوبه، لقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} [البقرة:185]، لكن لو كانت الليلة ليلة شك، كليلة الثلاثين التي يحتمل أن تكون من رمضان ويحتمل أن تكون ليلة عيد الفطر فإنه يُبتدأ التكبير عند العلم بأنها ليلة عيد الفطر حتى يكون ذلك أبلغ في تحقيق هذا الأمر، أو امتثال هذا الأمر الذي أمر الله عز وجل به عند تمام العدة، وكذلك الحال بالنسبة لعيد النحر، فإن العشر من حيث هي يشرع فيها التكبير، قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203]، قال بعض السلف: إن المراد بها عشر ذي الحجة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة. قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بماله ونفسه فلم يرجع من ذلك بشيء)، فهذا يدل على فضل ذكر الله في هذه الأيام المعدودات، وكان ابن عمر رضي الله عنهما وأرضاهما في هذه العشر يدخل إلى السوق وليس له حاجة في السوق أن يبيع ويشتري، ولكن يدخل ويكبر ويرفع صوته، حتى يتذكر الناس التكبير فيكبر الناس بتكبيره. وهذا يدل على تأكد التكبير في هذه العشر، وذكر الله عز وجل فيها، وهذا هو التكبير المطلق، والمطلق: أصله من الإطلاق، يقال أطلقت الدابة: إذا حللت وثاقها، وضده المقيد، والتكبير المطلق: هو الذي لا يتقيد بالصلوات، والتكبير المقيد: هو الذي يتقيد بالصلوات، وسيأتي. قال رحمه الله تعالى: [وفي فطر آكد، وفي كل عشر ذي الحجة]: قوله: [وفي فطر آكد] أي: تكبيرك ليلة عيد الفطر آكد من تكبيرك ليلة عيد النحر؛ لأن في ليلة عيد الفطر أمراً هو قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185]. وقوله: [وفي كل عشر ذي الحجة] لقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203]، فيشرع أن يستكثر من ذكر الله سبحانه وتعالى بالتكبير، وهذا هو فعل السلف، كما ذكرنا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وكذلك أثر عن علي رضي الله عنه وأرضاه. قال رحمه الله تعالى: [والمقيد عقب كل فريضة في جماعة]. سمي مقيداً لتقيده بالفرائض، وللعلماء فيه وجهان: الوجه الأول: يتقيد بالفريضة بشرط أن تكون في جماعة، فإذا صلى في جماعة كبر، أما لو صلى وحده فلا يكبر، وهذا يقول به بعض الصحابة رضوان الله عليهم، ويحكى عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه. الوجه الثاني: يشرع أن يكبر أدبار الصلوات، سواءٌ كان في جماعة أم لم يكن في جماعة، وعلى هذا الوجه فلو صلى لوحده فإنه بعد الانتهاء من الصلاة يكبر الله عز وجل. قال رحمه الله تعالى: [من صلاة الفجر يوم عرفة، وللمحرم من صلاة الظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق]: قوله: [من صلاة الفجر يوم عرفة] هذا يعتبر تكبيراً مقيداً، وهذا عند جمع من العلماء، وقال بعضهم: من ظهر يوم عرفة، كما يقول به فقهاء المدينة السبعة، إذ يقولون: إنه يُبتدأ التكبير المقيد من ظهر يوم عرفة. وقد قوى جمع من العلماء ابتداءه من فجر يوم عرفة، وقد ثبت في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أنهم غدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى إلى عرفات منهم المكبر ومنهم الملبي ومنهم المهلل، فلم يعب أحدهم على الآخر، وقد قوى بعض المحققين أنه يُبتدأ بالتكبير المقيد من فجر يوم عرفة، ويكون بعد الصلوات بعد أن ينتهي الإمام ويسلم، ويلتفت إلى الناس ويكبر، وعلى هذا جرى العمل في عهد السلف الصالح، ولم ينكره أحد، بل جرى على ذلك العمل، وأقره العلماء رحمة الله عليهم، وهي سنة باقية؛ أي: أنه يكبر أدبار الصلوات. قوله: [وللمحرم من صلاة الظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق]: أي: بعد أن يصلي صلاة الظهر يوم النحر يبتدئ الإمام فيكبر ويكبر الناس بتكبيره، ولكن السنة أن يكبر كل إنسان على حده، وأما إذا اشتركت الأصوات فعلى حالتين: الحالة الأولى: أن يكون الاشتراك قصداً ويطلب ذلك الاشتراك، وأشد ما يكون أن يبتدئ الرجل فيقول اللفظ فيقولون وراءه، فهذا من أشد الأنواع، وأقرب إلى الحدث، وشدد فيه العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، لا في تلبية ولا في تكبير، فلو أن جماعة قام رجل فيهم وصار هو الذي يكبر وهم يكبرون وراءه فإنه إلى الحدث أقرب منه إلى السنة. أما لو أنك كبرت وصار الناس معك يكبرون فاتفقت الأصوات، ولم يكن ذلك بسبيل القطع، ولم يكن ذلك متابعة لواحد منهم، فلا حرج، فإنه يجوز الشيء بدون قصد ولكنه لا يجوز عند القصد، ويستدل بعض من يجيز أن يكبر الرجل ويُكبر وراءه، ويُلبي ويلبى معه بما أثر عن ابن عمر رضي الله عنهما، من أنه كان يدخل السوق فيكبر فيكبر الناس بتكبيره، أي: كان يكبر فيكبرون وراءه، وهذا ضعيف فإن الباء في قوله: (بتكبيره) سببية، أي: يكبرون بسبب تكبيره، كأن تكبيره ذكرهم التكبير، وليس المراد به المصاحبة، أي: مع تكبيره، وإنما المراد أنهم يكبرون إذا سمعوا تكبيره، فهو أشبه ما يكون أنه قصد إعلامهم وتنبيههم، وهذا هو الأشبه بالأثر؛ لأن ابن عمر أصلاً لم يكن يدخل السوق لحاجة، وإنما دخله لأن الناس في غفلة الدنيا، فأراد أن يذكرهم بهذه السنة. قال رحمه الله تعالى: [وإن نسيه قضاه، ما لم يحدث أو يخرج من المسجد]. أي: إن نسيه فصلى وذكر الأذكار ونسي التكبير قضاه، فبمجرد أن يتذكر يقضي ما دام في مصلاه، فإن خرج من مصلاه فإنه حينئذ يفوت القضاء ولا وجه لأن يقضيه؛ لأنه مقيد بالصلاة، فما دام في مصلاه كأنه لم يبرح المصلى، فهو في حكم من انفتل من صلاته، وهذه المسألة تعتبر اجتهادية، كأنهم يرون أنه لما انفتل من صلاته ولم يكبر مباشرة لوجود العذر، فإذا زال العذر رجع إلى الأصل من التكبير ومطالبته بهذه الشعيرة. قال رحمه الله تعالى: [ولا يسن عقب صلاة عيد]. أي: ولا يسن التكبير عقب صلاة عيد، وقال بعضهم: لا حرج أن يكبر ما لم يستفتح الإمام الخطبة ولكن الأقوى والأشبه عند الجماهير أن التكبير يكون إلى وقت دخول الإمام في الصلاة. ففي يوم النحر يكبر الإنسان عند غدوه إلى المصلى، ويكثر من التكبير ويرفع صوته، وإذا جلس في المصلى أظهر التكبير ورفع صوته، وهذه السنة قد تغافل الناس عنها وإلى الله المشتكى، وقد كان الناس في القديم إذا كان يوم العيد ارتجت مساجدهم بالتكبير وذكر الله عز وجل والتسبيح على أحسن وأجمل وأكمل ما أنت راءٍ، حتى إنك تشعر بعزة الإسلام، وهذا إلى عهد قريب قد لا يقل عن خمس عشرة سنة إلى عشرين سنة، ولكن الناس اليوم قلّ أن يكبروا إلا إذا أخذت (المسمع) أو (المذياع) فذكرتهم، وإلا إذا تركوا فهم في غفلة إلا من رحم الله، وهذا يدل على ضعف هذه السنة وذهابها عن الكثير، وينبغي على الأئمة والخطباء أن ينبهوا الناس على أنه ينبغي في يوم العيد إظهار هذه السنة، ورفع الأصوات بها حمداً وثناءً وذكراً وإجلالاً وإعظاماً وإكباراً لله سبحانه وتعالى، فهو يوم شكر لنعم الله عز وجل. فإذا أظهر الناس هذه الشعائر وحمدوا الله عز وجل على نعمه أغدق الله عليهم من فضله؛ لأن من أجلَّ الله أجلَّه الله، وإذا كان الإنسان في غفلة عن ذكر الله عز وجل لم يبال الله عز وجل به؛ لأن الله يذكر من ذكره، ولذلك قلّ أن تجد إنساناً يحافظ على السنة، ويحرص على أدائها إلا أحيا الله ذكره في الناس، وأحيا محبته وتوقيره وإجلاله، وانظر إلى أهل العلم فإنهم لما أثنوا على الله سبحانه وتعالى، وكانت منهم المواعظ والخطب والتذكير ألقى الله في قلوب العباد حبهم، ونشر بين الناس ذكرهم، وكانوا في حمد وثناء بين الناس لما كان لهم من ذكر الله عز وجل، والفضل والمنُّ لله عز وجل على كل حال. فكذلك الحال في الناس عامة، فينبغي أن يحيا فيهم الإكثار من ذكر الله ورفع الأصوات بذلك، حتى يكون في ذلك إظهارٌ لعزة الإسلام، خاصة إذا كان هناك أعداء للإسلام، أو كانت البلاد فيها كفار ومسلمون، فإذا كان يوم العيد وخرج المسلمون يكبرون ويثنون على الله، حتى ترتج الشوارع وهم يثنون ويكبرون، فإن هذا يدخل الهيبة في قلوب الأعداء، ويشعرهم بعزة هذا الإسلام وتلاحم المسلمين وتراحمهم وتعاطفهم وتكاتفهم، وهذا خير كثير، فينبغي إحياء مثل هذه السنن، وندب الناس إلى رفع الأصوات بها، سواءٌ في المصلى أم في الطريق، فكل ذلك كان من هدي السلف الصالح رحمة الله عليهم أجمعين. قال رحمه الله تعالى: [وصفته شفعاً: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد]: قوله: [صفته شفعاً] لأن لفظ التكبير تكرر أربع مرات، والأربع شفع، وإن كان وتراً يكون قوله: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد)؛ لأن التكبير يكون فيه وتر، والشفع اختيار طائفة من العلماء رحمة الله عليهم، ويحكى فيه بعض الآثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والأمر فيه واسع، فإن أوتر فلا حرج، وكان بعض العلماء يستحبه؛ لأن الوتر محبوب، وإن شفع فلا حرج، وكل على خير وبركه.

الأسئلة

الأسئلة

فرضية صلاة العيدين

فرضية صلاة العيدين Q بماذا يجيب القائلون بأن صلاة العيدين فرض عين عن حديث الأعرابي الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (هل عليّ شيء غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع)؟ A حديث أبي طلحة في الصحيحين في قصة الأعرابي: (هل عليّ غيرها؟ قال: لا. إلا أن تطوع) المراد به الفرض المصاحب لليوم، بمعنى أنه هل عليّ غيرها من الصلوات تكون في كل يوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (لا. إلا أن تطوع)، وصلاة العيد ليست متكررة كل يوم، وإنما هي في العام مرة، ولذلك يقولون بوجوب ركعتي الطواف مع أنها من غير الصلوات الخمس، ولذلك لا تعارض بين قولنا بوجوب هذه الصلاة، وكذلك بوجوب غيرها من الصلوات التي ورد النص والأمر بها مع هذا الحديث الذي يُقصد به ما كان في اليوم بعينه، والله تعالى أعلم.

وقت دعاء الاستفتاح في صلاة العيد

وقت دعاء الاستفتاح في صلاة العيد Q هل يقرأ دعاء الاستفتاح بعد تكبيرة الإحرام، أم بعد السبع التكبيرات؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فللعلماء قولان في هذه المسألة: فبعضهم يرى أن دعاء الاستفتاح يكون بين تكبيرة الإحرام وبين بقية التكبيرات. وبعضهم يرى -وهو الأقوى والأقرب إلى السنة- أنه يكون استفتاحه بعد انتهاء جميع التكبيرات وقبل الابتداء بالقراءة، وأما بعد التكبيرة الأولى فإما أن يذكر الذكر الذي ذكرناه، وإما أن يسكت، وهذا هو الأولى والأصح، والله تعالى أعلم.

وقت التكبير المقيد

وقت التكبير المقيد Q هل يكون التكبير المقيد قبل أذكار الصلاة أم بعدها؟ A التكبير المقيد يكون بعد الصلاة مباشرة، ولذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم التكبير بعد الصلاة مباشرة، وفي الحديث التكبير ثلاثاً بعد انفتاله من الصلاة، ولذلك يكبر بعد سلامه مباشرة، وإذا أخره إلى بعد قوله: (استغفر الله) فإن هذا يفعله بعض العلماء، ولكن قالوا: إن هذا مقيد وتقيده بالصلاة، والأفضل أن يوقعه بعد الصلاة مباشرة وقبل استغفاره، وبعد ذلك يشرع في الأذكار التي من عادتها أن يقولها بعد السلام، والله تعالى أعلم.

حكم من قدم القراءة على التكبيرات

حكم من قدم القراءة على التكبيرات Q ما حكم من قدم القراءة على التكبيرات في العيدين، وهل هذا من السنة في شيء؟ A من قدم القراءة على التكبيرات فإن التكبيرات تسقط بشروعه في القراءة، وقد أساء بمخالفته لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي له أن يفعل ذلك قصداً، أما لو سها وكبر تكبيرة الإحرام ثم استفتح وقرأ الفاتحة فإنه تسقط عنه التكبيرات ولا يعتبر آثماً، ولا تكون مخالفته للسنة على سبيل القصد بهذا الوجه، والله تعالى أعلم.

حكم شهود الكفار صلاة العيد وغيرها مع المسلمين

حكم شهود الكفار صلاة العيد وغيرها مع المسلمين Q إذا أراد أهل الكتاب حضور صلاة العيد -أو غيرهم من الكفار-، فهل يسمح لهم؟ A إذا كانت الصلاة في مصلى وأرادوا أن ينظروا إلى حال المسلمين في صلاتهم فلا حرج، فإن المنافقين شهدوا الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم على الكفر، ولذلك فلا حرج في شهودهم، وأما إذا كانت الصلاة في مسجد فإنهم لا يدخلون المساجد؛ لأنهم ممنوعون منها. وأما بالنسبة للاستسقاء فللعلماء فيه قولان؛ لأن العيد أمره أخف، وأما الاستسقاء فهو أشد، قالوا: في الاستسقاء إذا شهدوا مع المسلمين عزلوا؛ لأنهم إذا سقوا امتنوا على المسلمين، وظنوا أن لهم يد فضل في هذا، فيكون الشعار الأغلب للمسلمين، وتكون الصلاة للمسلمين منفردة، ويؤمرون أن يعتزلوا المسلمين. لكن لا حرج أن يصلوا صلاتهم، أو يذكروا أذكارهم، أو يظهروا الفاقة لله سبحانه وتعالى؛ لأن المقصود تضرع الجميع، فلا حرج في هذا ولا يعترض عليهم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في قريش في صلح الحديبية: (والذي نفسي بيده، لا يسومونني خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أجبتهم إليها). أي: إذا كانوا في تعظيم لله عز وجل يجيبهم إليه، فهم إذا خرجوا إلى الاستسقاء فإن إظهار الفاقة والحاجة والفقر لله سبحانه وتعالى يشرع من البر والفاجر، ومن المؤمن والكافر، فلا حرج، لكنهم يتميزون عن المسلمين، أي: يؤمرون بأن يتنحوا عن المسلمين ولا يكونوا معهم في صلاتهم وشعيرتهم، والله تعالى أعلم.

تعارض قضاء صلاة العيد مع فرضيتها

تعارض قضاء صلاة العيد مع فرضيتها Q كيف نجمع بين القول بأن صلاة العيد فرض عين، وبين قولهم: لا تقضى إذا فاتت؟ A قد يكون الشيء لازماً على الصورة التي وردت في الشرع، وهي صورة الجماعة ويسقط في غير الجماعة، وكأن صلاة العيد إنما شرعت على هذا الوجه، وهي بالجماعة، فإذا فاتت جماعتها فإنه في هذه الحال لا يطالب بالقضاء عند من يقول بعدم قضائها، وكان بعض السلف يقول: من فاتته صلاة العيدين يشرع له أن يصلي مع غيره كالصلاة المعروفة، وكان بعض الصحابة كـ ابن مسعود رضي الله عنه يأمر بعض مواليه أن يجمع بعض أهله ويصلي بهم إذا فاتته صلاة العيد، ويصلي بهم كصلاة الإمام، لكنه لا يخطب. وقال بعضهم: على هذا الوجه فلو حضرت والإمام في التشهد تقوم وتأتي بركعتين، أو حضرت بعد سلام الإمام تقوم وتأتي بركعتين على صفة ركعتي الإمام، وهذا الوجه لا يشترط الجماعة. الوجه الثاني: من فاتته صلاة العيد فإنه يصلي أربع ركعات، وهو محكي عن بعض السلف رحمة الله عليهم. وبعضهم يرى أنه يصلي ركعتين نافلة مطلقة. وكل هذه الأقوال لها وجه، ومن فعل بأي واحد منها فله سلف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينكر عليه، والله تعالى أعلم.

حكم الكلام أثناء خطبة العيد

حكم الكلام أثناء خطبة العيد Q هل الكلام أثناء خطبة العيد، محرم كالكلام في خطبة الجمعة؟ A إذا كان الإنسان في المصلى يتكلم فإنه يشوش على المستمعين، ولذلك يكون المنع من الكلام لأذية الغير، وأما إذا كان لا أذية فيه ولا ضرر فإنه لا حرج؛ لأنه مخير بين أن يجلس وبين أن يمضي، وبناء على ذلك فلو تكلم فلا حرج، ومن هنا قال بعض العلماء: لا حرج أن يجهر بالتأمين عند دعاء الإمام في خطبة العيدين، ولكنه لا يجهر به في خطبة الجمعة، كما سبق بيانه في أحكام صلاة الجمعة وخطبتها، والله تعالى أعلم.

حكم الاكتفاء في العيد بخطبة واحدة

حكم الاكتفاء في العيد بخطبة واحدة Q هل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب للعيد خطبة واحدة، فإن بعض الخطباء يفعل هذا، ويقول: إنها سنة؟ A حكي عن بعض السلف رحمة الله عليهم أنه يقول بهذا القول، لكن الصحيح أنها كصلاة الجمعة يخطب لها خطبتان، ويفصل بينهما بالجلوس، كالحال في الجمعة سواء بسواء، وهذا هو الهدي الذي ينبغي للإنسان أن يلتزمه لما فيه من تأليف القلوب، وإذا كانت السنة الظاهرة المشهورة أنه يخطب كخطبة الجمعة، والناس عرفوا ذلك وألفوه، فإن تأليف قلوب العامة أولى من أن يأتي بالأمر الغريب عليهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم -ويروى موقوفاً على علي علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذب الله ورسوله) أي: لا تتسببوا في اعتداء الناس على السنة إذا كانت السنة غريبة عليهم، أنها لو وقعت عليهم من السنن التي يرغب فيها سنن الأنواع، وليس المراد بها السنن التي تقصد وتطلب في سنن الأنواع، إذا قلنا: إنه يشرع للإنسان أن يخطب خطبة واحدة، على الروايات في خطبته عليه الصلاة والسلام، يصبح هذا الحال من التنويع، ويحمل الحديث المشهور من الخطبة كخطبة الجمعة على الأصل، بمعنى أننا نقول: إن الإنسان يحافظ عليه؛ لأن الناس ألفوه وعرفوه، فلو جاء يخطب خطبة واحدة فإن الناس تنفر، ولربما عدت أن صلاته خاطئة، فيتهجمون على السنة بسببه، فهو وإن أحيا سنة من وجه فإنه يضيع عليهم أجوراً كثيرة ويوقعهم في غيبته، ويجعلهم في نفرة منه، ولربما نسبوه إلى الشذوذ، فإن جاءهم بحق بعد ذلك لم يقبلوه. لكن لو أنه خطب أو بيّن السنة المعمولة المعروفة بالفعل، ثم بين بالقول بعض السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يعلم الناس بوجود شيء من الشذوذ، وكذلك أيضاً الإيغال في ترك السنن، وذم أصحابها، والله تعالى أعلم.

حكم من ترك التكبيرات في صلاة العيد عمدا

حكم من ترك التكبيرات في صلاة العيد عمداً Q ما الحكم إذا ترك الإمام تكبيرات العيد في الصلاة عمداً، وذلك ليعلم الناس أن التكبيرات سنة؟ A لا يفعل هذا. بل عليه أن يصلي كما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجتهد من عنده، مع أن بعض العلماء يقول: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) يقتضي اللزوم. فعليه أن يكبر بهذه التكبيرات، وإذا أراد أن يعلم الناس أنها سنة وليست بواجبة فليعلمهم بالكلام؛ لأن القاعدة أنه إذا كان هناك طريقان إلى تحقيق المصلحة أحدهما فيه مفسدة -وهو هنا ترك السنة- والثاني لا مفسدة فيه وجب فعل الذي لا مفسدة فيه، فإذا أمكن تعليم الناس بالقول فلماذا يذهب إلى الفعل، ويهجر سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل توقف إعلام الناس أنها سنة على ترك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فيمكنه أن يعلمهم أنها سنة بالقول، فقبل العيد في عصر آخر يوم من أيام رمضان يحدثهم عن أحكام العيدين، ويبين لهم، أما أن يأتي ويفعل ذلك على خلاف ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا، ولا أرخص له في هذا، والله تعالى أعلم.

سجود التلاوة على الدابة في السفر

سجود التلاوة على الدابة في السفر Q هل يجوز الانحناء في سجود التلاوة على الراحلة في السفر كما يجوز ذلك في صلاة التطوع عند الركوع والسجود؟ A من كان على الدابة في سفر وأراد أن يسجد سجود التلاوة أو سجود الشكر فإنه ينحني على أقصى ما يستطيع من الانحناء ويجعله لسجوده. وأما إذا صلى فإنه يجعل ركوعه أرفع من سجوده، أي: يجعل انحناءه للركوع أرفع من سجوده؛ لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فإنه يشرع للإنسان إذا سجد للتلاوة أو سجد للشكر وهو على دابته أن ينحني، ويكون انحناؤه دليلاً على سجوده، والله تعالى أعلم.

حكم من أحرم بالعمرة من غير ميقاته

حكم من أحرم بالعمرة من غير ميقاته Q نويت العمرة من جدة، لكني لم ألبس الإحرام منها، وكنت مشغولاً ببعض الاحتياجات، وجئت إلى مكة وقضيت كل حاجاتي ومكثت في مكة يومين، وأحرمت من التنعيم، علماً بأني جاهل، فما الحكم؟ A هذه المسألة فيها تفصيل، فإن كنت في جدة ونويت العمرة ولبيت وأنت في ثيابك فإنه حينئذ ننظر، فإن كان بقاء الثياب عليك لعذر عدم وجود ما تلبسه من إزار ورداء فإنه حينئذ تسقط عنك الفدية، حتى تجد الإزار والرداء فتتجرد من مخيطك. أما إذا بقيت بملابسك وخرجت من جدة وأنت تلبي بالعمرة، ومضيت إلى مكة وقضيت حاجياتك في ثيابك العادية مع إمكانك أن تزيلها وتلبس الإحرام فعليك الفدية فقط، وهي فدية اللبس، وذلك أن النية قد وقعت في جدة، وإحرامك من جدة إحرام صحيح، وشروعك في التلبية والذكر وغير ذلك مما يستصحب دليل على أن الشروع في هذه العبادة معتبر، فعلى هذا يكون المحظور الذي ارتكبته هو بقاؤك في الثياب، وأما الإحرام فأنت محرم، فلا يشترط في صحة انعقاد العمرة والحج أن تكون متجرداً من المخيط، بل لو أنك قلت: (لبيك) وأنت في ثيابك فقد انعقدت عمرتك، وعلى هذا يكون إخلالك في لبسك الثياب فحسب، ويلزمك حينئذ أن تفتدي فدية لبس المخيط، وكذلك يلزمك غيرها إن كنت قد ارتكبت من المحظورات، غير لبس المخيط، ويكون قدومك إلى التنعيم بالنية لاغياً؛ لأنك أدخلت نية على نية، ولا عبرة بالثانية؛ لأن العبرة بالأولى، ولا يصح إيقاع الثانية حتى تتم الأولى، لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]. فعلى هذا -في هذه الصورة- يشترط أن تكون قد لبيت بالعمرة أو نويتها. أما إذ لم تنو أصلاً، وكان في قلبك أن تعتمر، ولعل هذا هو مقصود قولك: (نويت العمرة من جدة)، بمعنى: أحببت أن أعتمر، وكان في نيتي أن أعتمر. فإن مضيت ولم تلبِ، ولم تنشئ عمرةً حتى جئت مكة وقضيت حوائجك وأحرمت من التنعيم، فإنه حينئذ يلزمك دم، وذلك لتأخر إحرامك ونيتك عن جدة، فميقاتك جدة لقوله عليه الصلاة والسلام: (فمن كان دون ذلك فإحرامه من حيث أنشأ)، فأنت دون المواقيت، فكان يلزمك أن تلبي من جدة، فلما أخرت إحرامك إلى التنعيم لزمك الدم الذي هو دم الجبران، ويكون بمكة لكي تجبر هذا الفوات، ولو كنت جاهلاً فجهلك ليس بعذر، فالعلماء موجودون، وتقحمك للأحكام دون سؤال أهل العلم يلزمك بعاقبة تقصيرك، وليس الجهل عذراً في مثل هذا، والله تعالى أعلم.

صلاة راكب القطار والطائرة ونحوهما مع إسقاط بعض أركانها

صلاة راكب القطار والطائرة ونحوهما مع إسقاط بعض أركانها Q الرجل يسافر بالقطار أو بالطائرة يوماً وليلة، ولا يمكن له أن يصلي إلا بعد أن ينزل، ولا يستطيع أن يصلي إلا جالساً، فما هو الحكم في الصلوات المكتوبة؟ A من سافر في القطار واستمر سفره على هذه الصورة فإنه يصلي على الحالة التي يستطيع، لقوله سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فالذي في استطاعته ووسعه هو الذي يكلف به، وعلى هذا فلو أنه غلب على ظنه أنه لو وقف أو ركع سيسقط ويتضرر فإنه حينئذ يجوز له أن يصلي وهو قاعد، ويستقبل جهة القبلة إن أمكنه، فإن تعذر عليه ذلك صلى إلى أقرب الجهات إليها، أو إلى أي موضع توجه إليه بوجهه، وهذا قرره العلماء رحمهم الله في مسألة الصلاة على السفينة، فإنهم قالوا: إذا خشي السقوط فإنه يصلي وهو قاعد. والله تعالى أعلم.

حكم استخدام ماء زمزم لتنظيف الجهاز التناسلي تداويا

حكم استخدام ماء زمزم لتنظيف الجهاز التناسلي تداوياً Q امرأة مصابة بمرض في جهازها التناسلي، فهل يجوز لها استخدام ماء زمزم في تنظيفه وتطهيره لما علمت من بركة ماء زمزم؟ A إذا شربته فإنه يكفيها، أما أن تغسل به ذلك الموضع فلا، فماء زمزم كما قال صلى الله عليه وسلم: (طعام طعم، وشفاء سقم)، ولذلك قالوا: هو في حكم الطعام، فإذا كان في حكم الطعام فلا يقصد به إزالة الأذى في الموضع، أما لو اغتسلت به عموماً ووقعت إصابة الموضع تبعاً فلا حرج، فالشيء يجوز تبعاً ولا يجوز قصداً، ولذلك يجوز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها تبعاً للنخيل، ولا يجوز أن تقصدها بعينها، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر، ففيه إثبات الجواز تبعاً وتحريمه قصداً، فهذا يدل على أنه يجوز للإنسان أن يفعل الشيء تبعاً ولا يفعله قصداً. فإذا أرادت أن تستشفي فإنها تشرب زمزم، وماء زمزم لما شُرِبَ له، فإن شربته بنية التداوي فإن الله يشفيها، وعلى هذا يكون تداويها بشربه، أما أن تغسل الأذى وتغسل تلك المواضع فهذا أمر فيه شدة، وقد كرهه طائفة من السلف رحمة الله عليهم، وظاهر قوله لـ أبي ذر في الحديث الثابت: (طعام طعم، وشفاء سقم) يدل على ذلك، فالأطعمة لا تجوز إزالة القذر والنجس بها، وقد شدد العلماء في ذلك، وقالوا: من قصد إهانة الطعام كفر -والعياذ بالله-، فلو أخذ الطعام وقصد به الامتهان لنعمة الله عز وجل والكفر بها -نسأل الله العافية- فإنه يكفر، لكن لا يعني هذا تكفير من غسل الفرج بماء زمزم، خاصة إذا قصد التداوي، ولكن نقول: إن هذا القول -خاصة على اعتبارنا زمزم في حكم الطعام لظاهر السنة في قوله: (طعام طعم) - يدل على أنه لا يجوز للإنسان أن يضعه على هذه المواضع لقصد غسلها أو إزالة الأذى، أما لو أراد التداوي فإنه يسعه أن يشرب، فإنه لو شرب جرى في مسالكها، وكان من الخير ما يرجى بإذن الله، والله تعالى أعلم.

المسبوق ومتابعة الإمام

المسبوق ومتابعة الإمام Q إذا فاتتني ركعة من صلاة الجماعة، وكان الإمام في التشهد الأخير، فقرأت التشهد والصلوات الإبراهيمية، فهل يجوز لي أن أقول الدعوات التي تكون بعد التشهد وقبل السلام، علماً بأنه بقي لي ركعة؟ A يختار جمع من العلماء رحمهم الله أن المسبوق إذا كان وراء الإمام أنه يفعل كفعله، وبناء على ذلك يتفرع على هذا الأصل أنك لو فاتتك -مثلاً- ركعة من صلاة المغرب، ثم قام الإمام بعد التشهد الأول وقمت معه إلى الركعة الثانية بالنسبة له فإنك ترفع يديك حذوا أذنيك أو منكبيك؛ لأن العبرة به لا بك، لأجل شعار الجماعة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، فقصد المتابعة في الصورة والحال، وهذا يختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه، فإذا انفصلت عنه فإنك في هذه الحال تكون في حكم المنفرد، فكأنهم يرون أنه في حكم المنفرد عند الانفصال، وعلى هذا فإنك إذا جلست للتشهد الأخير بالنسبة للإمام وليس بالنسبة لك فإنه يشرع أن تصاحبه، وهذا أقوى، بدليل أنك تقرأ التشهد والتشهد ليس بلازم عليك في الأصل، فدل هذا على أنك قرأت التشهد لموافقة الإمام، فمن هنا تتم التشهد إلى تمامه وكماله، والله تعالى أعلم.

محرمية الجد من جهة الأم لزوجة حفيده

محرمية الجد من جهة الأم لزوجة حفيده Q هل يجوز لجدي من جهة أمي أن ينظر إلى زوجتي؟ A الجد من جهة الأم يعتبر محرماً لزوجتك، وذلك أن جدك لأمك تعتبر أنت من أبنائه، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحسن: (إن ابني هذا سيد)، وهو جده من جهة أمه صلوات الله وسلامه عليه، والله تعالى يقول في المحرمات: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23]، فتحرم الزوجة على الجد، ويستوي في ذلك الجد من جهة الأب أو من جهة الأم، والذي تمحض بالذكور أو تمحض بالإناث، أو جمع بين الذكور والإناث، فأبو أم الأب وأبو أبو الأب، وأبو أم الأم، كل هؤلاء يعتبرون في الحكم سواءً، وكذلك أبو الأب وأبو الأم، فكل هؤلاء يعتبرون من المحارم، ولا حرج أن يرى الزوجة، وتسافر معه؛ لأنها حليلة ابنه، وحليلة الابن محرمة على الجد مطلقاً، والله تعالى أعلم.

استقبال القبلة في صلاة التطوع على الراحلة في السفر

استقبال القبلة في صلاة التطوع على الراحلة في السفر Q هل يجب على المسافر في صلاة التطوع أن يستقبل القبلة ثم ينصرف؟ A الصحيح أنه يستقبل القبلة عند تكبيرة الإحرام لرواية أبي داود في سننه -وقد حسنها غير واحد من العلماء رحمة الله عليهم- من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يكبر تكبيرة الإحرام استقبل القبلة وكبر، ثم صرف دابته)، وعلى هذا لو كنت في السيارة اليوم، فإنك تستقبل القبلة عند تكبيرة الإحرام، ثم تصرف السيارة إلى أي وجهة تريد، كما كانوا في القديم يستقبلون القبلة عند تكبيرة الإحرام، ثم يصرف المصلى دابته إلى الجهة التي يذهب إليها. لكن لو كنت راكباً، وأردت أن تكبر تكبيرة الإحرام، وكانت السيارة إلى غير القبلة، بحيث كانت القبلة عن يمينك، فانفتلت عن يمينك وكبرت ثم رجعت إلى وضعك فقد اختار بعض العلماء رحمة الله عليهم أنك إذا انحرفت من مجلسك وكبرت ثم انحرفت اختياراً بطلت صلاتك. والسبب في هذا أنك إذا أردت أن تكبر تكبيرة الإحرام على وجهتك فإنه حينئذ يغتفر انحرافك عن القبلة؛ لأن الانحراف كان من الدابة، أما لو انفتلت بنفسك فكأن الانحراف بفعل نفسك، كما لو انحرفت عن القبلة بقصدٍ، فيفرق بين من يكبر تكبيرة الإحرام ثابتاً إلى آخر الصلاة وانحرفت به السيارة في طرقاتها، وبين من كبر ثم انحرف إلى جهته، فإنه كبر وانحرف باختياره، فبطلت صلاته كما لو انحرف عن قبلته. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

باب صلاة الكسوف

شرح زاد المستقنع - باب صلاة الكسوف شرع الله سبحانه وتعالى صلاة الكسوف التجاء إليه سبحانه عند حدوث الكسوف للشمس أو للقمر، وقد حث على الدعاء والصدقة فيها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه الصلاة فيها من الأحكام ما ينبغي على المسلم معرفتها إذا أداها، ولتكون على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أهم المسائل والأحكام المتعلقة بها: حكم صلاة الكسوف وصفتها، والأحوال التي لا تشرع فيها صلاة الكسوف، وغيرها من الأحكام.

أحكام صلاة الكسوف

أحكام صلاة الكسوف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة الكسوف]. المراد بالكسوف كسوف الشمس والقمر. وللعلماء رحمهم الله في إطلاق الكسوف عليهما خلاف معروف، فمن أهل العلم من يقول: إن الكسوف والخسوف يطلقان على الشمس والقمر، وقد جاء بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان ولا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته) قال العلماء رحمهم الله: فعبر بالكسوف عنهما، وكذلك بالخسوف وهذا هو أحد الأوجه عند أهل العلم رحمة الله عليهم. ومن أهل العلم من يقول: إن الكسوف للشمس والخسوف للقمر. وعلى هذا مصطلح أكثر الفقهاء رحمة الله عليهم، فيعبرون بالكسوف للشمس وبالخسوف للقمر، كما قال تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} [القيامة:7] {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامة:8]، فعبر بالخسوف للقمر، ففهم من هذا أن الكسوف للشمس، وقد جاء في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (كسفت الشمس فصلى)، فعبر بالكسوف للشمس، قالوا: وعبّر القرآن بالخسوف في القمر، فدل على أن الكسوف للشمس والخسوف للقمر. وصحح غير واحد من أئمة اللغة هذا المذهب، وقال الجوهري، وكذلك ثعلب: إن الأفصح أن الكسوف للشمس والخسوف للقمر. وقال بعض أهل العلم: الكسوف للقمر والخسوف للشمس وقد ضعف هذا المذهب القاضي عياض رحمه الله؛ لأنه خلاف التنزيل، فإن الله عز وجل قال: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامة:8]، فعبّر بالخسوف في القمر، فدل على أنه يطلق الخسوف على القمر، وعدم إطلاقه على القمر على هذا القول يخالف نص الآية، وهذا من أضعف المذاهب. وهناك مذهب آخر يرى أن الكسوف المراد به ذهاب بعض الضوء، فتقول: كسفت الشمس وكسف القمر: إذا ذهب بعض الضوء، وتقول: خسفت الشمس إذا ذهب الضوء كله، وكذلك خسف القمر إذا ذهب الضوء كله. وفي هذا القول جمع بين الأقوال التي سبق ذكرها، ويختاره بعض الأئمة رحمهم الله من الفقهاء واللغويين. وقد ترجم الإمام البخاري رحمة الله عليه في الصحيح بباب: (هل يقول كسفت الشمس أو خسفت؟) فقدّم الكسوف وعبّر به للشمس، وأخّر الخسوف، فقال بعض العلماء: إن الإمام البخاري متردد في هذه المسألة، حيث أورد هذه الترجمة بصيغة الاستفهام التي لا جزم فيها، فكأنه متردد بين هذه الأقوال. ومن أهل العلم من يقول: إن الإمام البخاري قصد أن الكسوف للشمس والخسوف للقمر؛ لأنه بوب بقوله: (هل يقول كسفت الشمس أو خسفت؟)، ثم قال: وقال الله تعالى: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامة:8]، ففهم من هذا أنه يميل إلى مذهب من يقول: إن الكسوف للشمس والخسوف للقمر. والمصنف حين قال: (باب صلاة الكسوف)، فإنه إن كان يرى أن الكسوف خاص بالشمس فإنه قدمه لأن الأدلة وردت في كسوف الشمس، فيكون خسوف القمر تبعاً من هذا الوجه، وإن كان يرى القول الذي يطلق الكسوف عليهما، فحينئذٍ لا إشكال في تعبيره بالكسوف.

صلاة الكسوف من صلوات الرهبة

صلاة الكسوف من صلوات الرهبة وهذا النوع من الصلوات -أعني صلاة الكسوف- يعتبر من صلوات الرهبة، وذلك أن الله عز وجل يرسل بالآيات تخويفاً لعباده، وزجراً لهم، وتنبيهاً لهم من غفلتهم وما هم فيه من الإعراض عنه سبحانه وتعالى، فيرسل الآيات تخويفاً لعباده، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في خطبته حيث قال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يخوف الله بهما عباده، لا ينخسفان ولا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته)، فنص على أنها آيات يخوف الله عز وجل بها عباده، وذلك بما يعتريهما من الكسوف والخسوف. فهذه الصلاة المخصوصة التي أُثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حال كسوف الشمس إنما هي صلاة رهبة، والمراد بذلك أن الناس تفزع إلى الله عز وجل وتفر إليه بذكره، وتقف بين يديه بأشرف المقامات وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى وهي الصلاة التي قال عليه الصلاة والسلام فيها: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة). وهناك نوع ثانٍ من الصلوات يسمى بصلاة الرغبة، وهي صلاة الاستسقاء، فكما أن صلاة الكسوف للرهبة كذلك صلاة الاستسقاء للرغبة، ولذلك ابتدأ المصنف بصلاة الكسوف ثم أتبعها بصلاة الاستسقاء.

مناسبة تأخر باب صلاة الكسوف إلى نهاية كتاب الصلاة

مناسبة تأخر باب صلاة الكسوف إلى نهاية كتاب الصلاة وأما مناسبة باب صلاة الكسوف لما تقدم من صلاة العيدين فهي أن المصنف رحمه الله ابتدأ بالصلاة مع الجماعة وبيان صلاة الجماعة وأحكامها، ثم ثنى بما تشرع له الجماعة كل يوم، ثم شرع في بيان ما تشرع له الجماعة كل أسبوع وهي الجمعة، ثم أتبع ذلك بباب صلاة العيدين وهي الصلاة التي تشرع جماعة مرتين في العام، ولما كان الكسوف قد يقع وقد لا يقع أتبع الغالب بالنادر فقال: (باب صلاة الكسوف)، ولما كانت صلاة الاستسقاء تبعاً لصلاة الكسوف من جهة المقابلة في كونها صلاة رغبة وسؤال وحاجة لله عز وجل ختم بها باب الصلوات ثم أتبع ذلك بباب صلاة الجنائز.

الدلائل والبراهين الجلية لكسوف الشمس والقمر

الدلائل والبراهين الجلية لكسوف الشمس والقمر في الكسوف آيات لله عز وجل أعظمها وأجلها أنه يدل على وحدانية الله سبحانه وتعالى، وذلك أن اختلال الأشياء المنتظمة يدل على وجود مؤثر وهو الله عز وجل الذي جعلها تنتظم بقدرته وتختل بقدرته، وفي هذا رد على الطبيعيين الذين يقولون: إن الحياة طبيعية، وليس هناك إله -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- فحينما تختل الأمور يدل اختلالها على وجود مؤثر وهو الله سبحانه وتعالى، ولذلك خلق الله الأشياء بالأضداد حتى لا ينسب الأمر إلى الطبيعة، فجعل الألوان مختلفة والأشكال مختلفة، وجعل الصفات متباينة، كما قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْن} [الذاريات:49]، فجعل الأشياء أزواجاً حتى تدل على وحدانيته سبحانه وتعالى؛ لأنه لو حدثت الأشياء بنفسها لحدثت على وتيرة واحدة، فلما جعلها الله متباينة الأشكال مختلفة الصور والصفات كان هذا من دلائل وحدانيته، ومن هنا نُهي المكلف عن تغيير الخلقة، فنهيت المرأة عن وصل شعرها؛ لأنك إذا رأيت المرأة بشعرها ثم رأيت امرأة بدون شعر علمت أن هناك إلهاً يخلق هذا وهذا، فنهي عن تغيير الخلقة والتعرض لها حتى يبقى عند الناس شعور بوجود من يخلق هذه الأشياء ويدبرها سبحانه وتعالى. وأدلة القرآن تنصب على هذا، فتجد أن الله عز وجل يذكر ألوان الجبال، واختلاف الأشياء وتضادها، كالليل والنهار، والشمس والقمر، فكل شيء جعل له ضد، وهذه الضدية تشعرك بوحدانية الله عز وجل. فإن جاء إنسان يقول: الحياة طبيعية وليس هناك إله، فإنك تفحمه وتلقمه الحجر بوجود التباين، فلو كانت الأشياء حدثت بنفسها لحدثت بوتيرة واحدة، إما على الكمال المطلق وإما على النقص المطلق، أما كون هذا يكون على النقص وهذا يكون على الكمال، وهذا يكون كماله في الحس ونقصه في المعنى، وهذا كماله في المعنى ونقصه في الحس، فكل ذلك يدل على وحدانية الله سبحانه وتعالى ووجود الخالق لوجود هذا التباين. والكسوف من آيات الله التي فيها ردٌ على عبدة الشمس والكواكب، وذلك أنهم لما عظموا الشمس واعتقدوا أنها الإله غيبها الله سبحانه وتعالى عنهم في كل يوم؛ حتى يعلموا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يسيرها، وهو الذي يأمرها فتأتمر، كما في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن يقال لها: ارجعي من حيث أتيت، فتصبح طالعة من مغربها، أتدري متى ذلك يا أبا ذر؟! حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً). فالمقصود: أن الله يغيبها حتى يكون في ذلك رد على من يعبد الشمس، فلو كانت الشمس هي الإله لبقيت، ولكنها تزول وتذهب، فإذا كانت باقية كما في بعض المناطق التي قد لا تغيب عنها الشمس إلا لحظات يسيرة فإنها تغيب بالكسوف ويذهب ضوءها بالكلية، ويظهر حينئذٍ أنها أفقر ما تكون لله عز وجل، فالقمر يكون بينها وبين الأرض فيكون الكسوف إما كلياً أو جزئياً، فيظهر حينئذٍ أنه لا إله إلا الله سبحانه وتعالى. كما أن في الكسوف تنبيهاً للغافلين وإيقاظاً للنائمين الذين هم في بعد عن صراط الله المبين؛ لأن الإنسان إذا أصابته النعمة كفر بها إلا أن يرحمه الله برحمته، فكونه يعيش في حياة يألفها ويفاجأ في يوم من الأيام بالشمس قد ذهب ضوءها، وأصبحت لا ضوء لها فإنه قد ينتبه ويعود إلى الله عز وجل، حتى إنه في بعض الأحيان يذهب ضوءها إلى درجة يرى الناس فيها النجوم في وضح النهار، وكأنهم في ليلة من ليالي السرار، وهذا من عظمة الله سبحانه وتعالى. فمن أبلغ ما يكون عظة في الكسوف أن يذهب ضوءها بالكلية فيكون كسوفاً كلياً، حتى إن الناس يرون النجوم، ويكون في ذلك عظة عظيمة للناس، خاصة المذنبين منهم، وفيه تثبيت لأهل الطاعة؛ لأنه يزيد من خوفهم من الله جل جلاله، ولذلك كان أكمل الموحدين وإمام المطيعين صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين إذا رأى الريح أقبل وأدبر، وتغيّر وجهه صلوات الله وسلامه عليه من شدة خوفه من الله سبحانه وتعالى. فالكسوف يزيد من خوف الخائفين، ويزيد من يقين الموقنين، ففيه نوع من السلوى لأهل الإيمان والثبات لهم على طاعة الله جل جلاله، وكذلك فيه التنبيه والعظة لمن كان بعيداً عن الله غافلاً عن طاعته جل ذكره، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده)، فهذا التخويف المقصود به دعوتهم إلى القرب من الله عز وجل، ولذلك شرع الله عز وجل هذه الصلاة التي فيها دليل على خوف العبد من الله سبحانه وتعالى، واستشعاره لعظمته وقدرته على أخذ العباد كما أخذ ضوء هذه الشمس وأذهب ضياء القمر، فإنه قادر سبحانه وتعالى على أن يذهب من دون ذلك وهم البشر. نسأل الله العظيم أن يرحمنا برحمته.

حكم صلاة الكسوف

حكم صلاة الكسوف قال المصنف رحمه الله: [تسن جماعة وفرادى إذا كسف أحد النيرين]. قوله: (تسن) أي: صلاة الكسوف، وقد دل على هذه السنة الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ المنذري: روى حديث الكسوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة عشر شخصاً من أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم، فممن روى حديث الكسوف عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عباس، وأم المؤمنين عائشة وأسماء وأبو موسى الأشعري وأبو هريرة وأبي بن كعب وسمرة بن جندب وقبيصة الهلالي رضي الله عنهم، وأحاديثهم في الصحيحين وكذلك في السنن، وكلها وصفت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف. وقد وقع الكسوف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم واختلف فيه: فبعض العلماء يقول: كسفت الشمس أكثر من مرة. وقالوا: الأحاديث التي وردت اتفقت على مرة، وهي في يوم موت إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم. وورد عند الزبير بن بكار بسند تكلم بعض العلماء فيه أنه كان موته في السنة العاشرة من الهجرة، ووقع ذلك في اليوم العاشر من ربيع الثاني وقام بعض الفلكيين المتأخرين بحسابه وضبطه بالعاشر من شوال من السنة العاشرة، وهذا أمر يحتاج إلى نظر؛ لأنه من الصعوبة بمكان التوصل إلى مثل هذه الأمور، إلا أن حساب الكسوف أمر ممكن، وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه، والإمام ابن القيم وبسطا في ذلك بسطاً يحبب الرجوع إليه في (مجموع الفتاوى) و (مفتاح دار السعادة) بينا فيه أنه يقع الحساب، ويمكن للإنسان أن يعرف متى يقع الكسوف وعدد مراته إذا كان ضابطاً لحسابه، وليس هذا من علم النجوم، ولا يعد هذا من العلم المذموم؛ لأنه تابع لمنازل القمر، ويكون الاهتداء إلى وقت الكسوف راجع إلى الخبرة والمعرفة، فهو من الاهتداء بالعلامات والأمارات، وليس من باب التنجيم الذي ذم شرعاً، وإن كان اطلاع الناس على الكسوف والخسوف لا ينبغي؛ لأنه يحدث عندهم إلفاً لهذا الأمر، ويورث ضعفاً في خشية الله تعالى والخوف منه، بخلاف ما إذا فوجئوا، والعجب أنه قد يفعل هذا بعض الناس بقصد أن يذهب الخوف عن الناس، والله عز وجل أراد أن يخوف عباده وهذا يريد أن يطمئنهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول عن كسوفهما: (يخوف الله بهما عباده)، ولذلك لا يجوز لأحد أن يخفف عن الناس، أو يقصد التخفيف عن الناس، أما إذا كان من باب الصنعة، أو من باب العلم والدراية بمواقيت الكسوف والإخبار عنها فهذا لا حرج فيه، والأفضل والأكمل أن لا يخبر الناس، حتى يكون أبلغ في زجرهم وعظتهم. وقد اتُفق على وقوع الكسوف في يوم موت إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي ذكرناه، وهناك رواية في السنن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الكسوف بمكة)، وتُكلِّم عليها وهي ضعيفة، والمحفوظ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الكسوف بالناس في مكة. وقوله: [تسن]. من العلماء من قال: سنة واجبة، كما يقول بعض أئمة الحنفية، وبعض أهل الحديث، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (فصلوا وادعوا)، وظاهر الأمر الوجوب، ولأن الخروج من الخوف يكون بما يقابله مما هو أشبه في اللزوم، لا بما هو مندوب إليه. وذهب جماهير أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة: إلى أنها سنة، وإذا قام بها البعض فإنه لا إثم على الباقين. وقوله رحمه الله: [تسن فرادى وجماعة]، أي: من السنة صلاة الكسوف، ولا بأس أن يصليها الإنسان لوحده ويصليها مع الجماعة. ويستوي في ذلك أن يصليها في الحضر أو يصليها في السفر، فلو كنت مسافراً ورأيت خسوف القمر أو كسوف الشمس شرع لك أن تصلي، وعلى القول بأنها نافلة تصليها ولو على الدابة، بناءً على أن صلاة النافلة يجوز فعلها على الدابة، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على دابته إلا المكتوبة)، فيصلي الإنسان ولو كان في السفر، ولو صلى مع الجماعة فهو أفضل وأكمل لندائه عليه الصلاة والسلام: (الصلاة جامعة)، وكذلك يصلي بأهله، فلو أنه جمع أهله وصلى بهم شرع له ذلك، فلا حرج أن يصليها منفرداً ولا حرج أن يصليها في جماعة، سواء أوقعت جماعته مع الناس أم وقعت مع خاصته كأهله، أو كانوا رفقة في السفر فنزلوا وصلى بهم أحدهم فلا حرج في ذلك، ولكن إذا صلى لوحده لا يخطب عند من يقول بالخطبة، وسيأتي إن شاء الله بيان حكم الخطبة، وأن الصحيح أنها ليست بواجبة، وسنبين دليل عدم وجوبها إن شاء الله تعالى. وقوله: [إذا كسف أحد النيرين] أي: يستوي في ذلك الشمس والقمر. وهذا يدل على أن المصنف يميل إلى أن الكسوف يطلق على الشمس والقمر، وأنه لا حرج، ولذلك قال: (إذا كسف أحد النيرين) أي: إذا ذهب بعض أو كل ضوئه فإنه يسن أن تصلي، والسنة أن يكون ذلك عند بداية الكسوف، ولا ينتظر إلى تمامه وكماله، فإن الآية تكون من بداية الكسوف، فإذا رأى بداية الكسوف أو شعر ببداية الكسوف فإنه ينادي بقوله: الصلاة جامعة. وإذا اجتمع الناس صلى بهم، ولا ينتظر تمام الكسوف أو اشتداده.

صفة صلاة الكسوف

صفة صلاة الكسوف قال المصنف رحمه الله: [ركعتين]. مذهب جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم أن صلاة الكسوف ركعتان، ولكن الخلاف بينهم فيما يكون داخل الركعتين من الركوع: فمذهب الجمهور أنه يركع ركوعين في كل ركعة. وذهب طائفة من أصحاب الإمام الشافعي، واختاره الإمام ابن حزم: إلى جواز أن يصلي في كل ركعة ثلاثة ركوعات. وهناك قول ثالث: بأنه يصلي أربعة ركوعات. وهناك قول رابع: بأنه يصلي خمسة ركوعات في الركعة الواحدة. وهناك قول خامس: بأنه يصلي ركعتين، ولكن إذا طال وقت الكسوف زاد في عدد الركوعات، فيجعل الأصل أن يركع في كل ركعة ركوعين، وإذا رأى أن الكسوف مستمر وأنه لا زال يزيد ركوعاً ثالثاً. فهذه هي أوجه أهل العلم رحمة الله عليهم. وأصحها وأقواها سنداً ورواية الثابت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع أن صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان، فهذا هو الصحيح، والذي عليه جمهور العلماء والأئمة رحمة الله على الجميع. والسنة أن ينادى لها بقول: (الصلاة جامعة)، وينادى لها عند ابتداء الكسوف، ولا يكون لها أذان، ولا يكون لها إقامة بإجماع العلماء، أي: لا يؤذن لها أذان المكتوبة ولا يقام لها إقامة المكتوبة، وإنما ينادى لها بهذا النداء، فيجتمع الناس عند وجود هذا النداء، فإذا اجتمعوا قام الإمام وكبر، كما ذكر المصنف رحمه الله.

صفة القراءة في الركوع الأول من الركعة الأولى

صفة القراءة في الركوع الأول من الركعة الأولى قال المصنف رحمه الله: [يقرأ في الأولى جهراً بعد الفاتحة سورة طويلة]. أي: يبتدئ ويكبر، ثم يقرأ دعاء الاستفتاح، ثم يستعيذ، ثم يقرأ الفاتحة، ويطيل في القراءة بعد الفاتحة، والثابت عنه عليه الصلاة والسلام أنه حزرت قراءته نحواً من سورة البقرة في الركعة الأولى، وهذا عند العلماء على وجهين: فمن أهل العلم من يقول: يقرأ بقدر سورة البقرة في الركعة الأولى. ويرى ذلك من السنن المطردة، وأن من صلى ينبغي أن يراعي هذا القدر، وهذا يقوله بعض أصحاب الشافعي رحمة الله عليهم، وبعض أهل الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد الإطالة، حتى ولو كان الكسوف جزئياً، لأنك لو أطلت هذه الإطالة ربما انجلت الشمس قبل أن تتم، أو قبل أن تصلي بقية الصلاة، فعلى هذا الوجه تراعي التطويل على هذه الصورة، سواء أكان الكسوف مما يخشى أن يطول أم كان دون ذلك، وهذا القول أشبه بالمتابعة للسنة. القول الثاني: أن هذا تقديري، فيقرأ نحواً من مائة آية من البقرة في الركعة الأولى. ومنهم من يقول: الأمر راجع إلى الإمام، فإن كان الكسوف مما يكون فيه القدر طويلاً، ويغلب على الظن الإطالة أطال إلى البقرة، وإن كان دون ذلك قصر، وهذا يرجع إلى فقه الإمام وعلمه، وكذلك فطنته في الإطالة والتقصير على حسب من وراءه من المصلين. والقراءة في خسوف القمر جهرية وجهاً واحداً عند العلماء رحمة الله عليهم، والخلاف في كسوف الشمس هل يجهر فيه بالقراءة، أو يسر؟ فظاهر حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة، ونصت على ذلك رضي الله عنها وأرضاها. وهذه المسألة من مشكلات المسائل عند العلماء رحمة الله عليهم، فأحاديث أثبتت أنه جهر، وأحاديث نفت الجهر وأثبتت أنها كانت سراً، فـ ابن عباس يقول: (نحواً من سورة البقرة)، وهذا يدل على أنه ما سمع قراءته، وأم المؤمنين عائشة تقول: جهر، ونصت على الجهرية، وكذلك اختلف العلماء: فمن العلماء من يقول: هي سرية، إعمالاً للأصل في أن تكون صلاة النهار سرية وصلاة الليل جهرية، إلا ما استثني. وقال بعض العلماء: بل هي جهرية. وهذا القول من ناحية النصوص أقوى، ومن ناحية أصولية أقوى، فإن المثبت مقدم على النافي، مع أن ابن عباس رضي الله عنهما يحتمل أن يكون بعيداً في آخر الصفوف؛ لأن أم المؤمنين عائشة كانت أقرب الناس، وهي التي حكت قيامه لصلاة الكسوف، ولذلك يكون قربها بمكان، وعلمها بالقراءة أولى، ويظهر لها شأنه عليه الصلاة والسلام أكثر من غيرها، ولذلك يقوى قول من قال بأنه يجهر. ولكن إن أسر إعمالاً للأحاديث كحديث ابن عباس وحديث سمرة بن جندب رضي الله عن الجميع فإنه لا حرج عليه، لكن الأقوى من ناحية النصوص أنه يجهر. وهناك جمع ثان للعلماء يقول: إن الكسوف تعدد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فتارة جهر وتارة أسر، فيكون من خلاف التنوع لا من خلاف التضاد. والذي عليه المحققون أن الكسوف وقع مرة واحدة في عهد النبي صلى عليه وسلم، وهذا هو الذي اختاره شيخ الإسلام رحمة الله عليه، فالكسوف لم يتعدد. وهناك وجه ثانٍ للجمع يقول: إنه يحتمل أن عائشة رضي الله عنها قصدت بالجهر الإسماع، مثل ما فعل في صلاة الظهر، فإنه ربما كان يسمع بالآيات، فيظن أنه جهر، والواقع أنه لم يجهر عليه الصلاة والسلام. ولكن الذي يظهر والله أعلم أن الحديث نص صريح واضح في إثبات جهريته صلوات الله وسلامه عليه بالصلاة.

صفة الركوع الأول من الركعة الأولى

صفة الركوع الأول من الركعة الأولى قال المصنف رحمه الله: [ثم يركع طويلاً]. أي: بعد انتهاء قراءته يركع طويلاً، وهذا أصح الوجهين عند العلماء رحمة الله عليهم، ويقول بعض العلماء: إنه يقارب القراءة، للسنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ركوعه قريباً من قيامه، فيطيل في ركوعه حتى يقارب القيام، أو يكون دون ذلك. قوله: [ثم يرفع]. أي: ثم يرفع من الركوع، وهذا الركوع هو الذي تدرك به الركعة الأولى، فمن أدرك هذا الركوع فإن صلاته تامة، ولو جاء بعد رفع الإمام من هذا الركوع وأدرك الركوع الثاني فإنه يلزمه قضاء ركعة كاملة بركوعين، فهذا الركوع الأول هو الذي تدرك به الركعة الأولى؛ لأنها ركعتان، وبناء على ذلك فإن العبرة بالركعة الأولى وركوع الركعة الأولى، فإن أدرك الإمام قبل أن يرفع من ركوعه الأول من الركعة الأولى فإنه يعتبر مدركاً للصلاة كاملة، أما لو رفع الإمام وأدركه في الرفع، أو أدركه في الركوع الثاني من الركعة الأولى، فإنه يلزمه قضاء ركعة كاملة، وتكون بركوعين على نفس الصفة التي فاتته.

صفة القراءة والركوع في الركوع الثاني من الركعة الأولى

صفة القراءة والركوع في الركوع الثاني من الركعة الأولى قال المصنف رحمه الله: [ثم يرفع ويسمع ويحمد، ثم يقرأ الفاتحة وسورة طويلة دون الأولى]. أي: ثم يرفع بعد الركوع ويقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد. ثم بعد ذلك يقرأ ثانية، واختلف العلماء: فقال بعضهم: يستفتح بالتعوذ، ثم بعد ذلك يشرع في القراءة. وقال بعضهم: يشرع في القراءة مباشرة لأنه اتصال، والفصل في الركوع لا يضر، وهذا مفرع على مسألة الفصل بالركوع والسجود هل هو فصل فتشرع الاستعاذة، أو ليس بفصل فلا تشرع الاستعاذة؟ والصحيح أنه تشرع الاستعاذة، فيستعيذ لظاهر قوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل:98]، فيشرع له أن يستعيذ عند ابتداء قراءته بعد رفعه من الركوع الأول من الركعة الأولى. قوله: (ثم يقرأ الفاتحة وسورة طويلة دون السورة الأولى)، هذا هو هديه عليه الصلاة والسلام، فقد كان يخفف ما يلي عما قبله، ولذلك تجد النفوس أقوى في الأولى، وتقوى على الركوع الأول وعلى القيام الأول أكثر من قدرتها على ما بعده، وهذا من كمال هديه عليه الصلاة والسلام، وكذلك حسن فقهه وإمامته بالناس صلوات الله وسلامه عليه، فإن النفوس تضعف وتدركها سآمة العبادة، ولذلك جعل صدرها وأولها أشق وأطول، حتى يكون ما بعدها أخف، فترتاح النفوس، وتقوى على هذه الإطالة ولا تملها. فبناء على هذا يشرع للإمام أن يحزر السور، وأن يحزر الآيات التي يريد قراءتها، فليست العبرة بعدد الآيات وقصر الفصل، ولكن العبرة بسلاسة القراءة؛ فإنه ربما تكون الآيات طويلة ولكنها سهلة سلسلة في قراءته، بحيث يمكنه أن يقرأها في أقصر وقت أكثر من غيرها؛ لأن هذا يرجع إلى الحروف وإلى الكلمات ومخارجها وصعوبة قراءتها، فلذلك يختار من المقاطع ويرتبها حتى يكون ذلك أدعى لإصابته للسنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون قيامه الثاني دون قيامه الأول. قال المصنف رحمه الله: [ثم يركع فيطيل وهو دون الأول]. هذا هو الركوع الثاني من الركعة الأولى، ولكنه دون الركوع الأول، والصحيح أن هذين الركوعين يشرع فيهما الإطالة، خلافاً لمن قال من أصحاب الإمام الشافعي رحمة الله على الجميع: إنه لا يشرع أن يطيل. والسنة تدل على الإطالة فيه، ففي الحديث: (فأطال)، وفي رواية: (ركع فلم يكد يرفع) من طول ركوعه عليه الصلاة والسلام، وهذا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. فعلى العموم فإن السنة أن يطيل في ركوعه الثاني، ولكن يكون دون الركوع الأول. قال رحمه الله تعالى: [ثم يرفع]. يرفع من ركوعه الثاني في الركعة الأولى، ثم إذا رفع لا يطوّل، فإذا رفع من الركوع الثاني من الركعة الأولى يكون قيامه كالمعتاد، فيقول مثلاً: (ربنا ولك الحمد)، وإن شاء أن يصيب السنة قال: (ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد ... ) إلى آخر هذا الدعاء، أو يقول: (حمداً كثيراً طيباً، مباركاً فيه)، ثم يسجد.

صفة السجود في الركعة الأولى

صفة السجود في الركعة الأولى قال المصنف رحمه الله: [ثم يسجد سجدتين طويلتين]. هاتان السجدتان تابعتان للركعة الأولى، وهاتان السجدتان يشرع فيهما الإطالة كالركوع، وذهب بعض العلماء رحمة الله عليهم إلى أنه يخفف السجدتين. والصحيح أنه يطوّل السجدتين، وتكون على الصفة التي تقدمت، فيطيل السجود الأول ويخفف السجود الثاني للهدي الذي ذكرناه عن النبي صلى الله عليه وسلم في تقصيره فيما يكون مرتباً على الولاء؛ حتى يكون ذلك أدعى لدفع السآمة عن الناس والملل من طول العبادة. وأما مشروعية التطويل بين السجدتين ففيه وجهان للعلماء: فمن أهل العلم من قال: لا يطول، بل يقتصر على المعتاد، فيقول الأذكار: (اللهم اهدني وارحمني وعافني وارفعني وانفعني واجبرني ... ) إلى آخر الدعاء المعروف. ومنهم من يقول: بل يطوّل ويكثر من ذكر الله عز وجل، وقد جاء حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وأرضاهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أطال بين السجدتين)، ولكن هذه الرواية في السنن فيها عطاء بن السائب، وفيه كلام، ولذلك يقول بعض العلماء: إنه لا يطيل فيهما. وإن كان الذي صححه غير واحد من الأئمة أنه يشرع له أن يطوّل ويثني على الله عز وجل بما هو أهله.

صفة الركعة الثانية مع التشهد والتسليم من صلاة الكسوف

صفة الركعة الثانية مع التشهد والتسليم من صلاة الكسوف قال المصنف رحمه الله: [ثم يصلي الثانية كالأولى لكن دونها في كل ما يفعل ثم يتشهد ويسلم]. قوله: (ثم يصلي الثانية كالأولى) أي: كصفة الأولى، وقوله: (ولكن دونها في كلٍّ) في الطول، فيكون قيامه الأول من الركعة الثانية دون قيامه الأول من الركعة الأولى، ويكون قيامه الثاني من الركعة الثانية دون قيامه الثاني من الركعة الأولى، فهذا هو الهدي الوارد عنه عليه الصلاة والسلام في صفة صلاته في الكسوف، وهو ثابت في حديث أم المؤمنين عائشة، وحديث عبد الله بن عباس وغيرهما رضي الله عن الجميع. قوله: [ثم يتشهد ويسلم]. في صفة التشهد عند زوال الكسوف خلاف بين العلماء: فقال بعض العلماء: إن كانت الشمس قد تجلت وانكشفت فإنه يخفف التشهد؛ لأنه زال السبب والموجب فيخففه. وقال بعض العلماء: يتشهد على ما هو معتاد له ولا يتجوّز.

تأثر طول الصلاة وقصرها بانجلاء الكسوف

تأثر طول الصلاة وقصرها بانجلاء الكسوف قال المصنف رحمه الله: [فإن تجلى الكسوف فيها أتمها خفيفة]. إذا تجلت أثناء الركعة الثانية، أو بعد قيامه من الركوع الأول من الركعة الثانية فللعلماء في تتمة صلاته حينئذٍ وجهان: فمنهم من يقول: إن العبرة بالابتداء، ويتم الصلاة على الصفة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يخفف. ومنهم من يقول: بل يخفف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم)، فلما قال: (حتى ينكشف ما بكم) دلّ على أن الصلاة ينبغي أن تتأقت بالانكشاف، وعلى هذا فالوجه الثاني هو الأقوى، فيخفف إذا تجلت الشمس وتبين أن الكسوف أو الخسوف قد زال، فإنه حينئذٍ يخفف ما بقي من الركعات والسجدات ويصلي كصلاته المعتادة، وهذا هو اختيار جمع من العلماء -كما ذكرنا- لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم).

اشتراك الشمس والقمر في صفة الصلاة

اشتراك الشمس والقمر في صفة الصلاة ذكرنا صفة صلاة الكسوف، وهذه الصفة هي مذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث رحمة الله على الجميع، فصلاة الكسوف تصلى على هذه الصفة الواردة في الأحاديث الصحيحة، وهي أحاديث من سمينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. وذهب الإمام أبو حنيفة وبعض المالكية إلى أنه يصلي ركعتين كالصلاة المعتادة، ولا تكون لها جماعة، بمعنى أنه يصلي ركعتين دون أن يجمّع، وهذا في صلاة خسوف القمر، فكل إنسان يصلي على حدة، ولا يلزم أن يجتمع الناس، فهذا هو مذهبهم. والصحيح مذهب من ذكرنا، فيشرع أن يصليها مع الجماعة، وتصلى بهذه الصفة الواردة، ويشمل ذلك صلاة الكسوف وصلاة الخسوف لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. أما صلاة الخسوف فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان ولا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم هذا فصلوا وادعوا)، فشرّك بين الكسوف والخسوف، فجعل كسوف الشمس وكسوف القمر كلاهما يشتركان في قوله: (فصلوا)، فدل على أن حكمهما واحد، وأنه كما يصلى الكسوف بالصفة التي ذكرناها جماعة يشرع له أن يصلي الخسوف بالصفة التي ذكرناها جماعة، ولذلك يعتبر مذهب الحنفية وبعض المالكية رحمة الله عليهم مرجوحاً من هذا الوجه.

الأحوال التي لا تشرع فيها صلاة الكسوف

الأحوال التي لا تشرع فيها صلاة الكسوف قال رحمه الله تعالى: [وإن غابت الشمس كاسفة، أو طلعت والقمر خاسف، أو كانت آية غير الزلزلة لم يصل]. في مثل هذه الحالات قال الإمام النووي وغيره من الأئمة رحمة الله عليهم: لا يصلي؛ لأنها إذا غابت يكون قد ذهب سلطانها. والسنة تقوي هذا القول؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (صلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم)، وإذا غابت فقد ذهب سلطانها، وكذلك أيضاً إذا طلعت الشمس والقمر قد خسف فلا تصلى صلاة الخسوف، والعبرة بالشمس لا بالقمر. قال رحمه الله تعالى: [أو كانت آية غير الزلزلة لم يصل]. قوله: (أو كانت) أي: وقعت وحصلت، وقوله: (آية غير الزلزلة) الآيات مثل الصواعق والرياح الشديدة والزلازل، فإنها تنتاب الناس فجأة، فتارة تهب عليهم الرياح وهم لا يشعرون، أو تأتيهم الصواعق في أثناء نزول المطر فيباغتون بها، فإذا وقعت بشكل يزعج منه ويخاف منه يفر إلى الصلاة، وللعلماء رحمة الله عليهم في الصلاة عند الآيات غير الكسوف وجهان: فمن أهل العلم من يقول: يشرع أن يصلي صلاة الكسوف في كل آية فيها خوف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخوف الله بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا)، فجعل الصلاة مرتبة على الخوف، قالوا: فكل شيء فيه خوف يشرع أن يصلى له صلاة الكسوف، كما لو كثرت الصواعق، أو أصبحت الرعود قوية جداً بحيث تزعج وتحدث الرهبة والخوف عند الناس، أو كانت في منتصف الليل والناس على ضجعة فجاءتهم على شكل مفزع، فحينئذٍ يشرع أن يصلوا صلاة الكسوف. ويختار هذا القول بعض الأئمة، ويميل إليه الإمام ابن حزم الظاهري رحمة الله على الجميع. ومن أهل العلم من قال: لا يشرع أن تصلى صلاة الكسوف إلا فيما ورد فيه النص من كسوف الشمس وخسوف القمر، أما كسوف الشمس فلفعله عليه الصلاة والسلام، وأما خسوف القمر فلقوله: (فإذا رأيتم هذا فصلوا وادعوا)، فشرّك بينهما. والصحيح أن هذه الصلاة لا تشرع إلا في الكسوف والخسوف، والزلزلة لا يصلى فيها؛ لأن الأثر عن علي رضي الله عنه ضعيف، فالقول بجواز الصلاة للزلزلة ضعيف، إلا أنه يجوز أن يصلي الناس صلاة عامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة أنه: (كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة)، فلو أن الرعود أو الصواعق أصابت الناس أو حدثت الزلزلة فكل إنسان يصلي ويفزع إلى الله عز وجل بالصلاة.

الأمور المشروعة مع الصلاة عند الكسوف والخسوف

الأمور المشروعة مع الصلاة عند الكسوف والخسوف وكما تشرع الصلاة عند الكسوف والخسوف فهناك أمور أخرى تشرع أيضاً، فيشرع للإنسان إذا وقع الكسوف أن يكثر من الصدقات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فصلوا وادعوا) -وفي رواية: (وتصدقوا-)، ولأن الصدقة تطفئ غضب الرب، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن الصدقة تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار)، فإذا كانت الصدقة تطفئ غضب الرب، وحدوث هذه الآيات بهذه الصفة من غضب الله على عباده بسبب الذنوب وما يكون من المعاصي، فيشرع أن يتصدق الناس لكي يكون ذلك سبباً في رحمة الله بهم، قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43]، فقوله تعالى: (فلولا) أي: فهلا. فهي بمثابة الحث، أي: فهلا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا. فالمشروع أن يتضرع الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى ويتقرب إليه بالصدقة، ولذلك نص بعض أهل العلم رحمة الله عليهم على أنه لا حرج إذا نزلت بالإنسان مصيبة أو ملمة أو كربة أن يتصدق، فإن هذا مشروع لقوله عليه الصلاة والسلام: (فصلوا وادعوا وتصدقوا)، وقوله في الصحيح: (إن الصدقة تطفئ غضب الرب)، ولما كانت المصائب من غضب الله على العبد، أو من وجود الذنوب من العبد فإنه يشرع أن يطفئ غضب الله عز وجل عليه وسخطه ومقته بالصدقة، وهذا من أفضل ما يرجى، وقد يتصدق على أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره، فيكون سبباً في رحمة الله عز وجل به. فيشرع أن يتصدق عند حصول مثل هذه الكوارث والمصائب، ولا يعتبر هذا من النفاق، فبعض العوام يظن أنه إذا نزل البلاء لا يتقرب بكثرة الصلاة، حتى إن بعضهم ربما يتعجب، أو يأخذه العجب إذا رأى بعض الأخيار يكثر من الخير، أو رأى بعض الأشرار إذا نزلت به المصيبة يتنفل أو يتقرب أو يغير من حالته، ويقول: هذا نفاق. فوهذا خطأ، بل يشرع للإنسان إذا رأى هذه الآيات أن يظهر الذلة لله سبحانه وتعالى، وأن يخشى من عذاب الله عز وجل ومقته، فإنه من قسوة القلوب -نسأل الله السلامة والعافية- أن يبقى الإنسان على غيّه وفجوره مع رؤيته للعذاب، وهذا من الختم على القلوب، ونعوذ بالله أن يختم على قلوبنا، فلذلك يشرع للإنسان أن يبادر بالتوبة. ولما أراد الله عز وجل أن يعذّب قرية يونس، ورأوا آثار وعلامات العذاب، وقد أنظرهم عليه الصلاة والسلام، فلما رأوا دلائل العذاب فزعوا إلى الله عز وجل، وخرج الرجال والنساء والأطفال، وخرجت معهم بهائمهم، وتضرعوا إلى الله وبكوا حتى رفع الله عنهم العذاب، وكانت القرية التي استثناها الله عز وجل بقوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس:98]، فإنهم لما أظهروا لله عز وجل الذلة والخوف والفاقة، وخرجوا رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، وهم يبكون ويتضرعون رحمهم الله عز وجل ونظر إليهم فلطف بهم، فالإنسان إذا أظهر لله عز وجل الذلة والفاقة واسترحم الله فإن الله يرحمه. فالمشروع في مثل هذه الآيات، كالكواعق والرعود التي تزعج وتقلق ويكون فيها شيء من الإعلام وتنبيه الناس أن يتوضأ الإنسان ويصلي، لما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة)، وهذا أمر من الأمور، وكذلك في الزلازل فإنه يشرع أن يتوضأ الإنسان ويصلي، وأن يسترحم الله عز وجل، فإذا اقتضت إرادة الله أن يهلك العامة أتاه العذاب وهو تائب إلى الله عز وجل قبل أن تنزل به نقمته، ولذلك يشرع للإنسان أن يستكثر من خصال الخير، وظاهر السنة التنويع. وبعض العلماء يقول: يجمع بين هذه، فيصلي ويتصدق ويدعو. وقال بعض العلماء: إن هذا يختلف باختلاف الناس، فمنهم من يكون فقيراً ليس عنده مال ففضله في الدعاء؛ لأن دعاء الفقير أرجى في الإجابة لقوله عليه الصلاة والسلام: (رب أشعث أغبر ذي طمرين ... ) الحديث؛ لأن الفقير لا تكون منه مظالم في الغالب، وهو أقل كبراً، فرحمة الله عز وجل أقرب إليه، بخلاف الأغنياء، قالوا: فالأغنياء ينبغي عليهم أن يستكثروا من الصدقات؛ لأن أكثر غضب الله عليهم كان بسبب ظلمهم في أموالهم، فيشرع للأغنياء أن يتصدقوا، وللفقراء أن يستكثروا من الدعاء، وللناس عامة أن يصلوا، فهذا اختيار بعض العلماء. والصحيح أن الأمر للتنويع للجميع، فمن شاء أن يتصدق ولو كان فقيراً فإنه خير وبر، ومن شاء أن يدعو ولو كان فقيراً أو غنياً فإنه خير وبر.

حكم الزيادة على الركوعين في كل ركعة من صلاة الكسوف

حكم الزيادة على الركوعين في كل ركعة من صلاة الكسوف قال المصنف رحمه الله: [وإن أتى في كل ركعة بثلاث ركوعات أو أربع أو خمس جاز]. هذا اختيار بعض العلماء، فمنهم من يقول: الاختلاف اختلاف تنوّع، فإن شئت صليت ركعتين بثلاثة ركوعات، وإن شئت بأربعة، وإن شئت بخمسة، فلا حرج عليك في هذا. فيرونه اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد. واختار المصنف رحمه الله هذا القول؛ لأن الروايات وردت بذلك، والصحيح أن الروايات الصحيحة أن يركع ركوعين في كل ركعة، فيكون المجموع أربعة ركوعات في ركعتين، وأما رواية الثلاث -وهي في صحيح مسلم- ففيها كلام للعلماء رحمة الله عليهم، وكذلك رواية الخمس والست لم تخلوا من كلام عند أهل العلم رحمهم الله.

الأسئلة

الأسئلة

المشروع بعد انتهاء الصلاة وعدم انجلاء الكسوف

المشروع بعد انتهاء الصلاة وعدم انجلاء الكسوف Q إذا انتهت الصلاة ولم ينجل الكسوف، فهل يبقى في مصلاه ويذكر الله، أم يصلي مرة أخرى؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالمشروع هو صلاة واحدة؛ لأن هذا هو هديه عليه الصلاة والسلام، وأما إذا لم ينجل فإنه يستكثر من الاستغفار، ولا حرج أن يصلي الصلوات العامة التي هي النفل المطلق تقرباً إلى الله عز وجل. والله تعالى أعلم.

موضع الدعاء المشروع عند حدوث الكسوف

موضع الدعاء المشروع عند حدوث الكسوف Q هل الدعاء الذي حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم) يكون في أثناء الصلاة، أم خارج الصلاة؟ وأين يكون مكانه في الصلاة إذا كان في أثنائها؟ A يشرع الدعاء داخل الصلاة وخارج الصلاة، أما داخل الصلاة فإنه أولى وأحرى؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجداً)، وقال في السجود: (فليكثر من الدعاء فقمن أن يستجاب له) أي: حري أن يستجاب للعبد وهو ساجد. وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام ف يحديث الشفاعة: (فانطلق فآتي تحت العرش فأخر ساجداً بين يدي الله عز وجل، ويفتح الله علي بمحامد يلهمنيها -أي: ساعتئذ- قال: ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع)، فالسجود من أعظم المقامات وأشرفها، فيقتصر على الدعاء والاستغفار والاسترحام وسؤال الله عز وجل العفو في مثل هذا المقام فهو أفضل مواضع الدعاء، وكذلك أيضاً في تشهده إذا لم تنجل فإنه يستكثر من الدعاء وسؤال الله عز وجل الرحمة واللطف. والله عز وجل أعلم.

حكم صلاة الكسوف في أوقات النهي

حكم صلاة الكسوف في أوقات النهي Q هل تصلى صلاة الكسوف في أوقات النهي؟ A هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، فعلى القول بأنه يشرع فعل ذوات الأسباب بعد صلاة الصبح والعصر فإنه يشرع حينئذٍ أن تصلى، وأما على القول بالمنع من ذلك فإنه لا يشرع فعلها، والله تعالى أعلم.

الكسوف آية يخوف الله بها عباده، وهي مسألة حسابية فلكية

الكسوف آية يخوف الله بها عباده، وهي مسألة حسابية فلكية Q كيف نوفق بين كون الكسوف من آيات التخويف، وبين ما تقرر عند أهل الفلك والحساب من كونه يقع عند وجود القمر بين الشمس والأرض؟ A لا مانع من هذا إذا كان هذا الأمر يوافق الزمان الذي فيه فساد، فيكون الزمان الذي وقع فيه الكسوف قد ووقع فيه فساد الناس وبعدهم عن الله عز وجل، فعلمهم بميقاته لا يمنع أن يكون موافقاً لما عليه الناس من البعد عن الله عز وجل وعصيانه والتمرد على أوامره، ولذلك لا يعتبر علمهم رافعاً لكونه آية من آيات الله عز وجل، كما لو أن إنساناً قال له الأطباء: إن استمررت على حالتك سيصيبك مرض معين يترتب على تساهلك في علاج هذا البلاء الذي نزل بك، وهذا المرض سينتهي بك إلى الموت. وكان هذا الرجل مسرفاً بعيداً عن الله عز وجل في عصيان وتمرد، فلا يمتنع لو مات بهذا المرض أن نقول: مات بهذا المرض عقوبة من الله عز وجل، إذا كان هذا المرض مما يكون من جنس العقوبات، ووافق أن الأطباء يعلمونه بأسبابه وأماراته، فكونهم يعلمون بأسباب الشيء وأماراته لا يمنع أن يكون آية من آيات الله عز وجل، فالله سبحانه ألهمهم وعلمهم وما كانوا ليعلموا. والله تعالى أعلم.

حكم صلاة الكسوف لمن سمع به في أرض ولم يكن ببلده

حكم صلاة الكسوف لمن سمع به في أرض ولم يكن ببلده Q لو علم الكسوف في ناحية من الكرة الأرضية، فهل تسن الصلاة لكل من على الأرض، أم هي لمن يرى الكسوف؟ A صلاة الكسوف لا يشرع إلا لمن رآه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا رأيتم ذلك)، ولذلك لا يشرع أن تصلى صلاة الكسوف في المواضع التي لا يرى فيها الكسوف، والسبب في هذا أن القمر إذا كان بين الأرض وبين الشمس يحدث كسوفاً للشمس في مواضع دون مواضع؛ لأن القمر لا يصل جرمه إلى جرم الشمس، ولذلك لا تنكسف في جميع الأرض لوجود الفرق بين حجم القمر وحجم الشمس، وقد قرر هذا شيخ الإسلام، والإمام ابن القيم رحمهما الله وقرره أيضاً علماء الفلك والباحثين فيه. فعلى هذا يكون الكسوف في بعض المواضع دون بعضها، فإذا كان الموضع الذي فيه المكلف فيه كسوف صلى، وأما إذا كان في موضع ليس فيه كسوف فلا يشرع له أن يصلي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم ذلك)، فجعل الحكم معلقاً على الرؤية، فالمواضع التي لا يرى فيها الكسوف لا تشرع فيها صلاة الكسوف. والله تعالى أعلم.

حكم المناداة بالصلاة عند حدوث الكوارث من زلازل وصواعق

حكم المناداة بالصلاة عند حدوث الكوارث من زلازل وصواعق Q الصلاة في وقت الزلازل والصواعق هل تشرع جماعة؟ وإذا كان كذلك فهل ينادى لها؟ A ذكرنا أن هذه الآيات لا يشرع لها أن تصلى جماعة كما يصلى لصلاة الخسوف والكسوف لعدم ثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، ومن أقوى الأدلة على أن الآيات لا يشرع فيها صلاة كصلاة الكسوف والخسوف أن النبي صلى الله عليه وسلم وقعت في زمانه الرياح، ووقع في زمانه ما وقع من هذه الآيات، ومع ذلك لم يصل عليه الصلاة والسلام، فدل على اختصاص الأمر بالكسوف والخسوف، والسياق في قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الشمس والقمر ... ) إلخ، يقتضي التخصيص بخسوف القمر وكسوف الشمس دون غيرهما من الآيات الأخرى، فيشرع أن يسأل الله عز وجل ويدعو ويتصدق ويستغفر. والله تعالى أعلم.

حكم القراءة من المصحف للإمام في صلاة الكسوف

حكم القراءة من المصحف للإمام في صلاة الكسوف Q هل للإمام الذي لا يحفظ القرآن أن يقرأ من المصحف نظراً؟ A الإمام الذي لا يحفظ القرآن يشرع له أن يصلي بالناس وهو ممسك بالمصحف في صلاة الكسوف والخسوف؛ لأنها تحتاج إلى طول قراءة، وهذه الصلاة لا تعتبر من الفرائض كالصلوات المكتوبة، وإذا لم تكن من الفرائض فإنه يجوز أن يحمل القرآن ويقرأ، فقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها كانت تأمر مولاها ذكوان أن يأخذ المصحف ويقرأ بها في القيام. فدل على مشروعية حمل المصاحف في صلاة النافلة، خاصة إذا كان الإنسان لا يحفظ القرآن، وعلى هذا فلا حرج في صلاة الكسوف والخسوف أن يصلي وهو ممسك بالقرآن، لكن إن وجد من هو حافظ للقرآن قدّمه، وهو أولى منه لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله). والله تعالى أعلم.

حكم رفع الصوت بالقراءة في الصلاة السرية

حكم رفع الصوت بالقراءة في الصلاة السرية Q جاء في الحديث: (كان يسمعنا الآية أحياناً) وذلك في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في السرية، فهل هذا خاص بالإمام، أم يجوز للمأمومين أيضاً؟ A هذه السنة من فعلها يتأوّل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا حرج، وإن كان الأقوى أنه خاص به عليه الصلاة والسلام لنكتة نبه عليها بعض العلماء، فيقولون: إنه في صلاة الظهر أطال، والطول قد يشعر المأمومين أن الإمام ربما سها، فإذا كان يسمع الآيات في أثناء وقوفه فإن هذا ينفي عنه مظنة السهو، ولذلك تكون سنة تشريعية لمن وراءه، أو لمن هو غيره من الأئمة إلى يوم الدين. قال بعض العلماء: تختص بالإمام، وأما غيره فلا؛ لأن غيره إذا جهر آذى من بجواره، ولذلك لا يشرع له أن يجهر حتى لا يؤذي من بجواره ويشوش عليه في القراءة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا. وقالوا: كونه يصيب السنة بالجهر -مع أنها سنة محتملة- ويؤذي غيره برفع الصوت، فإن الأولى أن يتركه. والله تعالى أعلم.

حكم إزالة شعر الشارب عند المرأة

حكم إزالة شعر الشارب عند المرأة Q هل يجوز حلق أو إزالة الشعر الموجود في وجه المرأة، علماً بأنه يوجد في مكان الشارب واللحية؟ A يجوز للمرأة أن تزيل شعر شاربها، وكذلك ما نبت على اللحي، وذلك لمكان التشبه بالرجال وعظيم الضرر في ذلك، ونص الأئمة رحمهم الله على مشروعية ذلك وجوازه، وأنه مستثنى من النمص المنهي عنه، فالنمص يختص بالوجه ولكنه لا يشمل لحية المرأة وشاربها. والله تعالى أعلم.

موضع الاعتكاف لمن نذرت أن تعتكف أسبوعا

موضع الاعتكاف لمن نذرت أن تعتكف أسبوعاً Q امرأة نذرت الاعتكاف لمدة أسبوع، ولا تدري هل تعتكف في المسجد أم في البيت لكون مصلاها في بيتها؟ A إذا نذرت المرأة الاعتكاف وحددت المكان الذي تعتكف فيه، فإنها تعتكف في المكان الذي حددته؛ لأنه نذر واجب مخصوص بالمكان لا تبرأ الذمة إلا بفعله وإيقاعه في المكان المخصص، ويستثنى من ذلك أن تنتقل من الأدنى إلى الأعلى، كأن تنوي الاعتكاف في المسجد الأقصى فيجوز لها أن تعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ويجزيها، وكذلك لو نوت الاعتكاف في أحد المسجدين ما عدا المسجد الحرام، أو في غير المسجد الحرام من المساجد الأخرى فإنه يجزيها أن تعتكف في المسجد الحرام؛ لأنها تحصّل فضيلة ذلك المسجد وغيره من المساجد، وظاهر السنة دال على ذلك، فإنه لما أخبر أبو هريرة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى أمره أن يعتكف في مسجده صلوات الله وسلامه عليه. ولا يجزيها أن تعتكف في بيتها إذا نوت مسجدا ًغير بيتها، بل يلزمها أن تخرج إلى ذلك المسجد وتعتكف فيه. والله تعالى أعلم.

حكم إزالة شعر الحاجبين إذا طال وكان مؤذيا

حكم إزالة شعر الحاجبين إذا طال وكان مؤذياً Q هل يجوز لكبير السن أن يزيل ما تدلى من حاجبيه إذا كان يؤذي عينيه؟ A الشعر الذي يتساقط على العين فيؤذي صاحبه، إن كان يتدلى على العين فيجرح حدقتها، فإنه يشرع له وجهاً واحداً أن يقص الأطراف المتدلية ويزيلها، وكذلك الحال لو تدلى حتى حجب الرؤية، فقد قال بعض العلماء: يرخص له إذا سقط حاجباه حتى منعاه الرؤية أن يقص ما تدلى منهما، كالشيخ الهرم الذي يحتاج إلى انكشاف بصره ليرى، فإنه حينئذٍ يجوز له أن يزيل بقدر حاجته، فهذا مما استثناه الأئمة رحمة الله عليهم في مسألة إزالة شعر الحاجب والتخفيف منه. والله تعالى أعلم.

كيفية إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام

كيفية إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام Q إذا أدركت الركعة الأولى مع الإمام فهل أكون قد أدركت فضل تكبيرة الإحرام؟ A حديث الفضل في تكبيرة الإحرام الذي جاء فيه: (من صلى أربعين يوماً لا تفوته تكبيرة الإحرام مع إمامه كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق)، حسنه غير واحد من العلماء رحمة الله عليهم، ويشترط لنيل هذا الفضل أن يدرك تكبيرة الإحرام مع إمامه، فإذا كان في حي أدرك ذلك في مسجد الحي، وإذا كان مع إمامه الذي صلى معه جماعة -كأن يكون في سفر- فالعبرة بجماعة من سافر معهم. وأما الضابط في إدراك تكبيرة الإحرام، فالصحيح أن الضابط هو أن يدركها قبل أن يبدأ بقراءة الفاتحة، فإذا كبّر الإمام وأدركت التكبيرة قبل أن يبدأ الإمام بقراءة الفاتحة فأنت مدرك لفضل هذه التكبيرة. فإذا كانت الصلاة سرية كصلاة الظهر والعصر، فإنهم قالوا: يقدر الزمان، فإن قدر زمناً يقرأ فيه الإمام بدعاء الاستفتاح فإنه حينئذٍ إذا وقع تكبيره في ذلك الزمان أدرك وإلا فلا. والله تعالى أعلم.

محرمية الرجل لحليلة ولده مؤبدة

محرمية الرجل لحليلة ولده مؤبدة Q إذا طلق الزوج زوجته فهل يجوز لوالده أن يقابلها، أي: هل المحرمية التي ذكرت في الآية مؤبدة أم مؤقتة؟ A والد الزوج محرم لزوجة ابنه، وحرمتها عليه حرمة مؤبدة، فمتى ما عقد الابن على امرأة فإنها تعتبر حراماً على أبيه إلى الأبد، سواء أدخل بها أم لم يدخل بها، كأن يكون توفي ولم يدخل بها، أو طلقها ولم يدخل بها، فلا تزال المحرمية باقية إلى الأبد؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23]، والمرأة تحل للابن بالعقد لا بالدخول، فإن الدخول صفة حلّ أو تحقيق للحل، أما بالنسبة للحلّ فإنه يكون بمجرد العقد، ولذلك قال العلماء: كل امرأة عقد عليها الابن فإنها محرمة على أبيه إلى الأبد؛ لأنها محرمية مؤبدة، وهذا بإجماع العلماء. والله تعالى أعلم.

حكم تسليم المؤتم قبل التسليمة الثانية للإمام

حكم تسليم المؤتم قبل التسليمة الثانية للإمام Q هل ينتظر المأموم الإمام حتى ينتهي من التسليمة الثانية ثم يبدأ هو بالتسليمة الأولى، أم يبدأ بالتسلمية الأولى بعد انتهاء الإمام من التسليمة الأولى؟ A في هذا وجهان للعلماء رحمهم الله: فمنهم من يقول: إذا سلم الإمام تسليمتين فإن التسليمتين واجبتان. ومنهم من يقول: الواجبة الأولى والثانية سنة. وعلى هذا القول الثاني -وهو أقوى القولين- يجوز للإنسان أن يقوم لإكمال الصلاة بمجرد تسليم الإمام التسليمة الأولى، ويجوز للإنسان أيضاً أن يبتدئ بالتسليمة الأولى قبل ابتداء الإمام بالتسليمة الثانية. والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب صلاة الاستسقاء

شرح زاد المستقنع - باب صلاة الاستسقاء صلاة الاستسقاء مشروعة لعموم الأدلة التي أمرت بالتضرع عند نزول البلاء، ويتعلق بصلاة الاستسقاء الكثير من الآداب والأحكام، ومنها: الآداب التي ينبغي مراعاتها عند الخروج للاستسقاء، ووقت الاستسقاء، وصفة صلاة الاستسقاء، والسنن التي ينبغي أن يحرص الناس عليها عند نزول الغيث، وغير ذلك.

أحكام صلاة الاستسقاء

أحكام صلاة الاستسقاء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة الاستسقاء]. الاستسقاء: مأخوذ من السقي، والألف والسين والتاء للطلب، كقولهم: استغفر إذا سأل الله أن يغفر له، واسترحم إذا سأل الرحمة من الله عز وجل، والاستسقاء: هو طلب السقيا من الله عز وجل. ومناسبة هذا الباب لما تقدم أنه بعد فراغه من صلاة الرهبة، وهي الصلاة التي تشرع عند رؤية كسوف القمر والشمس أو خسوفهما ناسب أن يتكلم رحمه الله على صلاة الرغبة، وهي التي يسأل فيها العباد ربهم أن يسقيهم الغيث والحياة، فناسب أن يتكلم رحمه الله على هذه الصلاة بعد ذكره لأحكام الكسوف. وهذه الصلاة مشروعة لعموم الأدلة التي أمرت بالتضرع عند نزول البلاء وندبت إليه، كقوله سبحانه وتعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43] أي: فهلا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا، فتشرع هذه الصلاة عند حصول الضيق بالناس بسبب ما كان منهم من الذنوب والمعاصي، فيتأخر عنهم القطر من السماء، ويعظم حالهم، وتشتد عليهم المئونة بسبب غور الآبار، وذهاب المياه من العيون، وانقطاع السيول والأنهار، والناس يحتاجون إلى هذه الأمور -أعني الآبار والأنهار- للشرب ولسقي الدواب، ولكي يقيموا عليها مصالحهم من زرع وحرث وماشية ونحو ذلك، فإذا انقطع القطر من السماء تضرر الناس وعظم بلاؤهم بذلك، فشرعت هذه الصلاة؛ لأن الحالة حالة شدة، والله يقول: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43] فهي حالة شدة وبأس، فيشرع أن يتضرعوا ويسألوا الله رحمته ومن واسع فضله، وقد فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر ابن حبان وغيره من العلماء رحمهم الله تعالى: أن استسقاءه عليه الصلاة والسلام وقع سنة ست من الهجرة، وذلك في شهر رمضان، فاستسقى عليه الصلاة والسلام بالمسلمين حينما شكى إليه المسلمون تأخّر الغيث، وكذلك تضررهم بالجدب، فشرعت هذه الصلاة بفعله عليه الصلاة والسلام، ولها أحكام ومسائل. ومن ثم اعتنى الفقهاء رحمهم الله بذكرها في كتاب الصلاة؛ لأنه يشرع أن يصلى لها، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن صلاة الاستسقاء تكون ركعتين، إلا خلافاً ممن لا يعتد بخلافه من أهل البدع والأهواء، حيث قالوا: إنها أربع ركعات. وأما مذهب السلف والخلف فهو أنها ركعتان لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعلهما دون زيادة عليهما.

الأحوال التي تشرع فيها صلاة الاستسقاء

الأحوال التي تشرع فيها صلاة الاستسقاء قال المصنف رحمه الله: [إذا أجدبت الأرض وقحط المطر صلوها جماعة وفرادى]. الناس يتضررون بتأخر السقيا، وهذا الضرر قد يكون في النفس وقد يكون في غيرها. أما الضرر في النفس فأشد ما يحدث في البوادي ونحوها، حيث تغور المياه في الآبار، وتنقطع السيول والأنهار، وتجف العيون ويذهب ماؤها، فتعظم عليهم الكلفة في حفر الآبار، وقد يقومون بحفرها دون أن يجدوا الماء، فحينئذٍ يتضررون بمشقة السقيا والكلفة التي يجدونها بعدم تيسر الوصول إلى الماء، فهذا النوع من الأسباب مما تشرع له صلاة الاستسقاء، فلو كان أهل محلة أو موضع تضرروا بسبب غور آبارهم وذهاب المياه من العيون وانقطاع السيول عنهم شرع لهم أن يصلوا صلاة الاستسقاء. وأما الضرر في غير النفس فهو الذي يقع على البساتين والزروع والمراعي، فإن الدواب -كما هو معلوم- تحتاج إلى الرعي، والمراعي تعين على صلاح الدواب والبهائم، فإذا أجدبت الأرض وبعد العهد بالمطر انقطع الكلأ إما للجفاف بسبب القحط وشدة السنين، وإما أن يكون بسبب قلة المرعى لندرة المطر، فحينئذٍ تتضرر الدواب، وإذا تضررت الدواب تضرر الناس بتضرر دوابهم، وكذلك تتضرر الزروع والبساتين، فلربما جفت وماتت، حتى إن بعض الزروع لو أصابت الماء من عروقها قد تصيبها أمراض في أوراقها، ولا يزيل هذه الأمراض إلا الله جل جلاله حينما ينزل الغيث الذي يغسل أوراق هذه الأشجار، فلو سقيت الماء من جذورها فإنها تحتاج إلى هذا الغيث الذي سماه الله عز وجل ووصفه بكونه رحمة، فمن رحمته سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الخير للزروع، فإذا انقطع القطر من السماء تضرروا، فتضررت الزروع وماتت -على الأقل- تضرروا بقلة ما يكون من هذه الزروع لقلة الماء، فسواءٌ تضرروا بانقطاع الماء الذي يشربون، أم تضرروا بقلة المرعى، أم تضرروا بهما معاً، فكل ذلك مما تشرع له صلاة الاستسقاء. وبناءً على ذلك، فلو كانت أحوال الناس دون الحالة التي فيها الكفاية، بمعنى أنه نزل عليهم الغيث ولكن نزوله لم يكن بصورة تحيي الأرض حياة ينتفع بها الناس انتفاعاً يحصل به الاكتفاء على وجه التمام والكمال، فقد قال بعض العلماء: يشرع لهم أيضاً أن يصلوا صلاة الاستسقاء. فعلى هذا القول لا يتوقف حكمنا بمشروعية صلاة الاستسقاء على حالة شدة الجدب الشديدة، ولا على حالة شدة القحط، فلو كان هناك نوع جدب فيه نوع ضرر يشرع أيضاً أن يصلوا صلاة الاستسقاء، فلو كان الماء موجوداً ولكنه بقلة، أو كان المرعى موجوداً ولكنه بقلة فإنه يشرع حينئذٍ أن يستسقوا. فالحالة الأولى التي يشرع لها الاستسقاء: إذا أجدبت الأرض وقحط المطر كما نص المصنف. والحالة الثانية: أن يكون الماء موجوداً ولكنه لا يكفي لسد الحاجة. والحالة الثالثة: أن يستسقوا فلا يسقون، فيشرع لهم أن يكرروا الاستسقاء مرة ثانية، ويسألوا الله العظيم أن يرحمهم، ولو تكرر ذلك عشرات المرات فلا حرج؛ لأنه داخل في عموم الندب إلى التضرع وسؤال الله الرحمة.

كيفيات الاستسقاء

كيفيات الاستسقاء قوله: [صلوها جماعة وفرادى]. مذهب العلماء رحمة الله عليهم -ويكاد يكون مذهب الجماهير- أن صلاة الاستسقاء سنة مؤكدة، وقال بعض العلماء: إنها مستحبة. والنصوص دالة على تأكد هذه السنة، ويقوم الإمام بالاستسقاء عند رؤية أحوال الناس أو شكواهم. والاستسقاء على ثلاثة أنوع: النوع الأول: أن يكون بالصلاة مع الجماعة، وهذا هو الذي يعتني العلماء رحمهم الله ببيان أحكامه ومسائله في الغالب، وهو الذي ينصبّ عليه الحديث في باب صلاة الاستسقاء. النوع الثاني من الاستسقاء: الاستسقاء من الأفراد، وذلك أن يستسقي الإنسان وحده، كأن يكون صاحب مزرعة، أو صاحب دواب ويتضرر بعدم وجود الكلأ، فيصلي ويسأل الله عز وجل، ولكن على غير صفة صلاة الاستسقاء، وإنما يصلي صلاة مطلقة يسأل الله عز وجل فيها من فضله، ويتضرع إلى الله سبحانه وتعالى، فهذا استسقاء من الأفراد. النوع الثالث من الاستسقاء: الاستسقاء في صلاة الجمعة، وهذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: (أن رجلاً من الأعراب دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يغيثنا وفي رواية: أنه اشتكى الجهد واللأواء التي هم فيها، وفي بعض الروايات أنه وصف شدة الجدب إلى درجة أن الدابة لا يتحرك لها ذيل من شدة ما هي فيه من الإعياء والنصب، فلما اشتكى لرسول الله صلى الله عليه وسلم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم كفيه حتى رئي بياض إبطيه، وقال: (اللهم أغثنا. اللهم أغثنا. اللهم أغثنا) قال أنس: فوالله ما في السماء من سحابة ولا قزعة، حتى خرجت من وراء سلع كالترس -يعني السحابة- فأمطرتنا سبتاً. وقد جاء في هذا الحديث أنهم لم يروا الشمس بسبب المطر، وما جاء قوم من ناحية إلا وذكروا الحياة والمطر وأنهم سقوا، قال: فلما كانت الجمعة الثانية دخل الرجل فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! هلكت الأموال وانقطعت السبل! فقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الضراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر)، وفي رواية: أنه ما أشار إلى جهة إلا تفرق السحاب عنها، وهذا من معجزاته صلوات الله وسلامه عليه. فالمقصود: أن الاستسقاء ثلاثة أنواع: النوع الأول: الاستسقاء جماعة، وذلك بالصلاة كما سيصفه المصنف رحمه الله. النوع الثاني: الاستسقاء فرادى، بأن يدعو الإنسان، فالإنسان لو كان جالساً في مزرعته، أو بين دوابه وبهائمه، ونظر إلى شدة ما هو فيه، وتذكر ذنوبه وإساءته في جنب ربه فرفع كفه إلى الله يسأله أن يغيثه ويرحمه فهذا مشروع ولا حرج فيه، ولو صلى وسأل الله عز وجل في صلاته واسترحم ربه فإنه لا حرج عليه في ذلك؛ لأنه داخل في عموم التضرع، لكنه لا يصلي صلاة الاستسقاء بصفتها إذا كان منفرداً، وإنما يصلي صلاة مطلقة لعموم حديث عائشة: (كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة)، وقد ندب الله عز وجل المبتلى للصلاة عند حصول البلاء، فقال سبحانه: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، فلذلك لا حرج أن يدعو. النوع الثالث: الاستسقاء يوم الجمعة، ويكون الاستسقاء يوم الجمعة من الخطيب إذا اشتكى إليه الناس، أو رأى هو ما بهم وأحسّ بحاجتهم، فإنه يستغيث ويسأل الله العظيم من فضله. وقول المصنف: (إذا أجدبت الأرض) كأنه يشير به إلى الوقت الذي يكون فيه الاستسقاء، وبناءً على ذلك فإن الزمان الذي يقع فيه الاستسقاء هو وقت حصول المشقة والحاجة من الناس، حتى ولو كان ذلك في الصيف، فإن رحمة الله واسعة، والذي ينزل الغيث في مواسمه قادر على أن ينزله في غير مواسمه، فقد قال تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120]، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:82 - 83].

مسائل متعلقة بصلاة الاستسقاء

مسائل متعلقة بصلاة الاستسقاء

وقتها

وقتها السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقتها أنه: (خرج حينما بدا حاجب الشمس)، كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ولذلك قال العلماء رحمهم الله: يستحب أن تكون صلاة الاستسقاء في وقت صلاة العيدين، وذلك بعد ارتفاع الشمس قيد رمح. فقولها رضي الله عنها: (بدا حاجب الشمس)، تعبير يشير إلى ظهور ضوء الشمس، والحاجب هو الضوء، وإنما عبروا به لأن الضوء من الشمس يحجب الشمس، فأنت إذا رأيت الشمس مشرقة متوهجة بضوئها لا تستطيع أن ترى نفس الشمس؛ لأنه يحجبها عنك من شدة توهجه، ولذلك يقولون: حاجب الشمس. أي: الذي يحجب الشمس من ضوئها. فخرج عليه الصلاة والسلام، وكان قد وعد الناس بالخروج، وهذا من السنة كما سيأتي، فيخرج ويكون وقوعها في وقت الضحى، ويصلي بعد انتهاء وقت النهي، ووقت النهي يبدأ من بعد صلاة الصبح وينتهي بارتفاع الشمس قيد رمح، أما أثناء طلوع الشمس أو بعد صلاة الفجر وقبل طلوع الشمس فإنها لا تصلى قولاً واحداً عند العلماء، حتى حكي الإجماع على عدم مشروعية إيقاع صلاة الاستسقاء في أوقات الكراهة، فليس بمشروع أن يوقعها في هذا الوقت مع أن لها وجهاً وهو كونها من الصلوات ذوات الأسباب، لكنه لما كان الأمر فيه نوع تأسٍ واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع. وأما آخر وقتها فبعض العلماء يقول: صلاة الاستسقاء جماعة تصح في الليل والنهار، ولا حرج أن يصلوا في الليل أو في النهار، أو في أي وقت إلا أوقات الكراهة. فهذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله. وهذا المذهب لا يخلو من نظر؛ إذ لو كانت تصلى في أي وقت لالتمس عليه الصلاة والسلام وقت السحر، إلا أن بعض العلماء أجاب عن هذا الاعتراض وقال: إن وقت السحر يشق على الناس، خاصة وأن أكثرهم نائمون. لكن أجيب بأن هذه المشقة مقدور عليها؛ لأنها صلاة في يوم معين، فلا مانع أن يكلفوا بها، وقد كان عليه الصلاة والسلام يندب الناس إلى إحياء العشر الأواخر، وهو يندب بذلك عامة الأمة. ومهما يكن فهذا القول لا يخلو من نظر؛ لأنه لو كان فعلها في الليل مشروعاً لفعلها عليه الصلاة والسلام، ولو قلنا: إن فعلها في السحر فيه مشقة، فإنه لا مانع أن يفعلها بين العشاءين، وهذا أرفق وأخف بكثير على الناس، لكن كونه عليه الصلاة والسلام يتقصد أول النهار لا شك أنه هو الأولى والأحرى، ولذلك قال بعض العلماء: إنه ينتهي وقتها بالزوال كالعيد، وهذا هو الأشبه، ولذلك نجد الصحابة يلحقون صلاة الاستسقاء بصلاة العيد.

كيفيتها وحال الخارج لها

كيفيتها وحال الخارج لها قال رحمه الله تعالى: [وصفتها في موضعها وأحكامها كعيد]. ينبغي لمن خرج لصلاة الاستسقاء أن يخرج من بيته خاشعاً متخشعاً متبذلاً متذللاً متواضعاً متضرعاً؛ لما ثبت في حديث ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم خاشعاً متخشعاً متذللاً متواضعاً متضرعاً)، فهذه هي السنة في الخروج. ومعنى خروجه خاشعاً: أن لا يدمن الالتفات يمنة أو يسرة، وإنما يكون عليه الخشوع والوقار، والتبذل: مأخوذ من البذلة، وهي الثياب التي ليس لها شأن، بمعنى أنه لم يعتن بجميل الثياب، بخلاف العيد، فإن السنة أن يلبس له أحسن ما يجد وأن يتجمل؛ لأنه يوم عز للإسلام، ولكن يوم الاستسقاء يوم ضراعة واستكانة وفاقة وحاجة واسترحام واستغفار وسؤال الله الحلم والعفو، فلذلك شرع له أن يظهر بحالة تناسب المقام. قالوا: تكون ثيابه غير مبالغ فيها. لكن لا يمنع هذا أن يكون نظيفاً، فلا يخرج وهو نتن الرائحة، خاصة إذا كان مأموماً؛ لأنه يؤذي الناس، واجتماع الناس بعضهم مع بعض قد تؤذيهم بسببه الروائح الكريهة، ولذلك يشرع له أن يخرج بثياب ليست بذات الشأن، وأيضاً لا يبالغ في الطيب والتزين، وكذلك لا يبالغ في رفاهية الثياب. ثم إذا انتهى إلى المصلى فإن للعلماء قولين: قال بعض العلماء: يبتدئ بالخطبة والدعاء قبل الصلاة. وهذا فيه حديث مسلم عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه وأرضاه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ثم دعا ثم صلى). وقال بعضهم: يبتدئ بالصلاة قبل الخطبة، فإذا صلى بالناس صلاة الاستسقاء رقى المنبر ثم خطب ودعا. وهذا القول الثاني هو الأقوى؛ لأنه يؤيده حديث عائشة وحديث أنس بن مالك رضي الله عن الجميع. وحديث عبد الله بن زيد أُجيب عنه -كما اختاره بعض المحققين، ويميل إليه الحافظ ابن حجر - بأن الأحاديث التي ذكرت الدعاء قبل الصلاة لا تعارض الأحاديث التي ذكرت الخطبة بعد الصلاة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في دعاء وضراعة حتى انتهى إلى المصلى، فمن رأى ضراعته ودعاءه قال: إنه خطب. وذلك حين قال لهم: (إنكم شكوتم إليَّ جدب دياركم، وانقطاع المطر وتأخر أوانه عنكم، وشدة المئونة بكم)، قالوا: هذا فهم منه الصحابي أنه خطبة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصد به أن يبين لهم عظيم رحمة الله لقوله بعد ذلك: (وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم)، فمن نظر إلى أن هذا الدعاء السابق من النبي صلى الله عليه وسلم أنه بمثابة الخطبة وبمثابة الدعاء قال: خطب ثم صلى. وأما الروايات الصريحة القوية فهي أنه صلى ثم خطب، وهذا يختاره بعض العلماء. والخلاصة: أن للعلماء في هذه الأحاديث المختلفة أوجه: فمنهم من يقول: السنة أن يبتدئ بالخطبة ثم يصلي. ومنهم من يقول: يصلي ثم يخطب، على الصورة المعهودة المعروفة عندنا. ومنهم من يقول: يخيّر، فإن شاء قدم الخطبة ثم صلى، وإن شاء خطب ثم صلى، فكل جائز ولا حرج عليه في ذلك، والأمر على السعة والخيار. فإذا ابتدأ الصلاة صلى كصلاة العيدين، يكبر في الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً، على أصح أقوال العلماء، وذلك لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، حيث حكى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء كصلاته في العيدين، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في العيدين من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أنه كبر في الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً). وقال بعض العلماء بعدم مشروعية التكبير والأقوى أنه يشرع.

الأمور التي يحث الإمام الناس عليها قبل خروجهم للاستسقاء

الأمور التي يحث الإمام الناس عليها قبل خروجهم للاستسقاء قال رحمه الله: [وإذا أراد الإمام الخروج لها وعد الناس وأمرهم بالتوبة من المعاصي والخروج من المظالم وترك التشاحن، وبالصيام والصدقة]. أي: إذا أراد الإمام الخروج لصلاة الاستسقاء وعد الناس، فيقول لهم: في يوم كذا سنخرج للاستسقاء. فإذا حدد لهم يوماً يخرجون فيه للاستسقاء فإن الناس تتهيأ لهذا اليوم بالتوبة والاستغفار وإصلاح أحوالهم، ويكون ذلك بما ذكره المصنف رحمه الله، وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة حديث يشير إلى هذا، فلا يغير الله أحوال الناس مما هم فيه من البلاء حتى يقلعوا عما هم فيه من المعصية، كما قال بعض السلف: (ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة)، فإذا تاب الناس تاب الله عليهم، وإذا استغفروه غفر لهم، وإذا استرحموه رحمهم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. فإذا قحط المطر وتأخر فإن هذا إشارة إلى ما هم فيه من البعد عن الله وكثرة الذنوب والمعاصي، وكأنه نذير لهم أن يتوبوا إلى الله، وأن يراجعوه قبل أن يعمهم بعذاب، فإذا راجعوا أنفسهم شرع لهم أن يتوبوا فيما بينهم وبين الله، فالحقوق الواجبة كالصلوات ونحوها يحافظون عليها، والحدود المحرمة كالفواحش ونحوها يقلعون عنها، وحقوق العباد ينتبهون لها، كحقوق الأقارب من بر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجيران، وتفقد أصحاب الحقوق كالعمال والمستخدمين ونحوهم، فليغير الإنسان من حاله حتى يغير الله ما به، ويصلح الله حاله؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، فإذا غيّر العبد من حاله غيّر الله ما به، ولذلك لما رأى قوم يونس أمارات العذاب وأمارات السخط والغضب من الله عز وجل حين تغيرت السماء وتلبدت خرجوا إلى الله رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، حتى أخرجوا دوابهم وبهائمهم، وما زالوا في البكاء والتضرع والاستغفار حتى رفع الله عنهم العذاب، وهي القرية الوحيدة التي رأت أمارات العذاب وسلّمها الله من عذابه، كما قال تعالى عنها: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98]، فهذا من رحمة الله عز وجل ولطفه بالعباد. قوله: (وأمرهم بالتوبة). التوبة ترفع وتدفع عن الإنسان البلاء، ولذلك إذا تاب العبد تاب الله عليه، وبالتوبة يزول البلاء؛ لأن سببه الذنب، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا)، فشرور النفس هي التي تجلب البلاء، فإذا تاب من شرور النفس تاب الله عليه، ورفع البلاء عنه، فقد قال تعالى حكاية عن صالح عليه السلام: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل:46]، فالتوبة سبب من أسباب الرحمة، ولذلك إذا أكثر الإنسان من الاستغفار رحمه الله عز وجل، فمن أسباب رحمة الله بعبده أن يكثر العبد من الاستغفار، فإذا أكثر من الاستغفار رحمه الله عز وجل. وقوله: (والخروج من المظالم) معناه أنه إذا كان هناك مسلم يعلم أنه أكل مال أحد، أو شتمه، أو سبّه، أو عابه، أو آذاه فليذهب إليه وليقل له: يا فلان! إني ظلمتك في كذا، فإن شئت أن تأخذ حقك أعطيتك حقك، وإن شئت أن تعفو فجزاك الله خيراً، ونحو هذا من الكلام الذي يكون به تطييب خاطر المظلوم، فإذا أخذ الناس حقوقهم وردت المظالم إلى أهلها رفع الله البلاء عن الناس، ورفع الله البلاء عمن ابتلاه بسبب ظلمه للناس وأذيته لهم. قوله: (وترك التشاحن). أي: ويوصي الإمام الناس بترك التشاحن؛ إذ الخلاف والفتن التي تقع بين الناس وتفرق جماعة المسلمين وتؤذيهم من السباب والشتائم ونحو ذلك من الأمراض التي تقع بين الناس بسبب ما يكون من فتن الدنيا، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم ما يفتح الله من زهرة الدنيا، فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم)، فهذا يدل على أن الناس إذا انشغلوا بالدنيا ألهتهم عن الآخرة، فتقع بينهم الشحناء والبغضاء، فعلى الإمام والخطيب أن يوصي الناس أن يتركوا الشحناء، وأن يصلحوا ذات بينهم؛ لأن الله أمر بذلك فقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]، فالمسلمون كالجسد الواحد، وينبغي أن يعطف بعضهم على بعض، فإذا كان الناس في قحط وشدة، أو أصاب الناس القحط والشدة فلينظروا إلى ما هم فيه، فإذا نظروا إلى اثنين بينهما خصومة سعوا في الصلح بينهما وجمع الشمل وإزالة ما بينهما من الشحناء والبغضاء، وهذا واجب في سائر أيام السنة، وفي سائر أحوال المسلمين، فضلاً عن مثل هذه الحالة التي فيها شدة وبلاء. فعلى المسلمين دائماً أن تكون مجالسهم معمورة بالصلح بين الناس. وقد كان الناس في خير ورحمة حينما كان بعضهم يوصي بعضاً بالصلح، حتى قلّ أن تجد المشاكل الزوجية والأمور التي تقع بين الناس تصل إلى القضاة، بسبب وجود أهل الحل والعقد والفضل والنبل الذين كانوا يسعون للصلح بين الناس، فكان الناس في رحمة مع أنهم كانوا يعيشون في فقر وشدة وحاجة، ولكن كانوا في رحمة من الله بسبب حفاظهم على المودة وإصلاح ذات البين، ولما فقد الناس هذا كثر الشر بينهم. يقول بعض العلماء: إن وجود الشحناء بين الناس يرفع الخير عن الأمة. والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما كان معتكفاً أُري ليلة القدر، فتلاحى رجلان في الدين - أبي وابن أبي حدرد الأسلمي رضي الله عن الجميع- فقال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب الدين: ضع هكذا. ثم قال للمدين: قم فاقضه. ثم قال للصحابة صبيحتها: أريت ليلتكم هذه فتلاحى رجلان، فرفعت وعسى أن يكون خيراً)، أي: أثناء الخصومة رفعت ليلة القدر، حتى كان بعض العلماء يقول: إن هذا مثال على ما جعل الله في الخصومة من البلاء على الأمة، حتى إن ليلة القدر مع ما فيها من عظيم الأجر والخير للناس رفع علمها عن الناس بسبب الخصومة والشحناء. وقد جعل الله الشحناء سبب الفشل والخيبة، فقال سبحانه وتعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]. فينبغي للإمام أن ينصح الناس باجتماع القلوب وتآلفها وتراحمها وتعاطفها، وهو الخير الذي ذكره الله تعالى في قوله: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]، وعظيماً من الله ليست بالهينة، فإزالة الشحناء مطلوبة عند الاستسقاء، ومتأكدة في كل وقت، فينبغي للمسلمين أن يتواصوا، وأن يوصي بعضهم بعضاً لإزالة ما بينهم من الشحناء والخلاف. قوله: (وبالصيام). الصيام من أفضل القربات وأحبها إلى الله عز وجل، وذلك لما فيه من الإمساك عن شهوتي البطن والفرج قربة إلى الله سبحانه وتعالى، ولما فيه من الإخلاص لله عز وجل، فهو العبادة الخفية التي استأثر الله بثوابها وأجرها. فعلى الإمام أن يحثهم على أن يصوموا ويستكثروا من الصيام والصدقات والصلوات وذكر الله عز وجل، حتى يكون حالهم أدعى للإجابة من الله سبحانه وتعالى. قال رحمه الله تعالى: [ويعدهم يوماً يخرجون فيه]. أي: يحدد لهم يوماً فيقول: في يوم كذا سيكون استسقاؤنا. ويخرج الناس في صبيحة ذلك اليوم للاستسقاء وسؤال الله عز وجل الغيث.

الآداب التي ينبغي مراعاتها عند الخروج لصلاة الاستسقاء

الآداب التي ينبغي مراعاتها عند الخروج لصلاة الاستسقاء [ويتنظف ولا يتطيب ويخرج متواضعاً متخشعاً متذللاً متضرعاً]. قوله: (ويتنظف) أي أن له أن يغتسل، وأن لا يكون على ثيابه القذر والنتن، خاصة مع اجتماع الناس، فكما أنه يتنظف الإمام فليتنظف المأموم؛ لأن الناس يتضررون من الروائح الكريهة، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم من أكل الثوم والبصل أن يقرب المصلى. قوله: (ولا يتطيب) لأن الطيب فيه بالغ زينة، وليس الاستسقاء بعيد، كالحال في الجمعة والعيدين؛ إذ يشرع له التطيب فيهما، ولم يتطيب عليه الصلاة والسلام، ولذلك يخرج على حالته، وظاهر قوله في الحديث: (متبذلاً) يدل على أنه لم يكن متطيباً عليه الصلاة والسلام. قوله: (ويخرج متواضعاً) التواضع: المراد به توطئة الكنف، والتواضع مندوب إليه، وأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله أوحى إليَّّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد)، فالتواضع مطلوب، وكلما كان الإنسان في نعمة من الله عز وجل فإنه ينبغي أن يتواضع لها، وكلما طابت نفس الإنسان كلما كمل تواضعه، ومن كانت سريرته على خير أظهر الله تلك السريرة الطيبة المباركة من خلال شمائله وآدابه التي تدل على سماحته وتواضعه، ولو لم يكن في التواضع إلا قوله عليه الصلاة والسلام: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون)، لكفاه فضلاً، فهذه سمات لا توجد إلا عند المتواضعين، وكلما زاد خير الإنسان كلما تواضع، كما قيل: إن كريم الأصل كالغصن كلما ازداد من خير تواضع وانحنى فالإنسان إذا طاب أصله وطابت سريرته ظهر ذلك الطيب على شمائله وآدابه فيتواضع. فقوله: (ويخرج متواضعاً) ممعناه: أنه لا يتكبر، ولا يصعر خده إذا خرج للصلاة، ولكن يخرج على صفة تدل على ذلته لله سبحانه وتعالى وانكساره؛ لأنه يوم فاقة وفقر وحاجة إلى الله عز وجل، وقد جاء هذا اللفظ في حديث ابن عباس: (خرج متواضعاً). أي: خرج عليه الصلاة والسلام وعليه شعار المتواضعين، ويتأكد هذا في حق الأخيار والعلماء والصالحين كطلاب العلم ونحوهم، فهم أحق الناس بهذه الخلة الكريمة التي يحبها الله ويرفع أهلها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما تواضع أحد لله إلا رفعه). وقوله: (متخشعاً) أي: متعاطياً أسباب الخشوع من السكينة ونحوها، وأصل الشيء الخاشع: الذي فيه سكون وهدوء. فالمعنى أن الإمام لا يكون فيه صخب ولا لغط ولا لغو، ولكن فيه سكينة ووقار يدل على حالة من الذلة لله سبحانه وتعالى والانكسار. وقوله: (متذللاً) من الذلة، وذلك كما قلنا؛ لأن الحال والمقام يقتضي هذا، فالمقام مقام سؤال، والسائل إذا سأل ربه ينبغي أن يظهر لله عز وجل الذلة والانكسار، كأن يطأطئ رأسه وتظهر عليه آثار الخوف والوجل من الله سبحانه وتعالى حتى يرحمه ولا يخيبه فيرد عليه سؤاله ولا يجيب استسقاءه، فكل إنسان أراد الخروج فعليه أن يخرج وكله أمل أن الله يرحمه، وما يدريك فلعل الله أن يجعل دعوتك هي المجابة، ويرحم بك هذه الأمة، ويكون لك أجر هذا الدعاء وأجر هذا الخير الذي تصاب به الأمة، وما ذلك على الله بعزيز، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)، فالله لا ينظر إلى الصور ولا إلى الأشكال، ولكن ينظر إلى القلوب، فإذا خرج الإنسان بذلة واستكانة وفاقة إلى الله عز وجل فإنه حري أن يجاب. (متضرعاً) من الضراعة: وهي بالغ السؤال.

أصناف الناس الذين يخرجون مع الإمام للاستسقاء

أصناف الناس الذين يخرجون مع الإمام للاستسقاء [ومعه أهل الدين والصلاح والشيوخ والصبيان والمميزون]. أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه استسقى بعم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو العباس بن عبد المطلب. فيكون مع الإمام أهل الدين والصلاح، كالعلماء والأخيار الذين عرفوا بالاستقامة والتمسك بالكتاب والسنة والعبادة على منهج السلف بعيداً عن البدع والأهواء، وأهل الخير وأهل التمسك بالدين، فمثل هؤلاء ترجى إجابة دعوتهم بإذن الله عز وجل لما فيهم من الخير والاستقامة والالتزام بدين الله عز وجل، وكلما كان الإنسان أكثر صلاحاً واستقامة كلما كانت دعوته أرجى للإجابة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يذكر من ذكره، ووعد الذي يكون على استقامة بالطاعة والخير وذكر لله عز وجل أن يذكره، فمن ذكر الله في الرخاء ذكره في الشدة، فلذلك يخرج بأمثال هؤلاء من العلماء وطلاب العلم والأخيار الصالحين ونحوهم من أهل الفضل والنبل، وهذا أدعى لإظهار الحاجة لله سبحانه وتعالى، على خلاف ما إذا خرج بأهل الدنيا من الأغنياء والأثرياء فإن الحال يكون على عكس هذا تماماً. قوله: [والشيوخ]. أي: يخرج معه الشيوخ؛ لأن كبار السن قلوبهم منكسرة، ولذلك لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الإمامة قال: (فإن كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سناً)، وكبر السن مظنة أن يكون الإنسان أقرب إلى الآخرة؛ لأن كبار السن فيهم خشوع، فقد جبروا الزمان، وعزفت نفوسهم عن الدنيا، وأقبلوا على الآخرة، فالخشوع منهم أكثر، ولذلك يكون الدعاء منهم أرجى إجابة من غيرهم، فالمهم أن يتعاطى أسباب إجابة الدعاء. وبعض العلماء يستدل لهذا بحديث ابن ماجة: (لولا شيبان ركّع، وصبيان رضّع، وبهائم رتّع لصببت العذاب عليكم صباً)، إلا أن هذا الحديث تكلم العلماء رحمهم الله على إسناده. قوله: [والصبيان المميزون]. أي: ويخرج معه الصبيان المميزون، وذلك لقلة ذنوبهم؛ لأنهم غير مكلفين، فدعاؤهم وسؤالهم الله عز وجل أرجى إجابة، مع أن خروج الصبيان فيه نوع استرحام لله عز وجل، فإن خروج الإنسان بأطفاله من الصغار فيه نوع من الذلة لله عز وجل.

خروج أهل الذمة مع المسلمين للاستسقاء

خروج أهل الذمة مع المسلمين للاستسقاء قال رحمه الله: [وإن خرج أهل الذمة منفردين عن المسلمين لا بيوم لم يمنعوا]. أهل الذمة هم اليهود والنصارى الذين فتحت بلادهم وأحبوا أن يبقوا على دينهم ويدفعوا الجزية. أما من جاء من الكفار إلى بلاد المسلمين، ودخل بأمان من واحد منهم فإن أمانه يكون ماضياً على جميع المسلمين، لحديث علي في الصحيح: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم وهم حرب على من سواهم)، فالكافر إذا دخل بلاد المسلمين يسمى مستأمناً، وإن كان من اليهود والنصارى الذين يدفعون الجزية فهو من أهل الذمة. فإن أراد أهل الذمة الخروج للاستسقاء فقد اتفق العلماء على عدم السماح لهم أن يخرجوا منفردين في يوم معين؛ لأنهم إذا خرجوا منفردين في يوم معين ربما امتحن الله العباد فنزل الغيث في اليوم الذي استسقوا فيه فتحصل الفتنة للناس، وربما ظنوا أنهم سقوا باستسقائهم، ولذلك لا يشرع أن يمكنوا من الاستسقاء منفردين. واختلف العلماء إذا طلبوا الخروج مع المسلمين المستسقين: فقال بعض العلماء -كما اختاره المصنف رحمه الله-: يجوز أن يخرجوا مع المسلمين، ولكن يعتزلون المسلمين، ولا يصلون معهم، حتى لا تكون لهم يد منة، فإذا ظهر الفضل كانت نسبته للمسلمين، وهم أحق بذلك وأولى به؛ لأنهم على دين الله الصحيح، وأولئك على غير دين الإسلام، ولذلك لا يشرع أن يكونوا مع المسلمين في نفس المصلى، وإنما يعتزلون ويكونون بناحية غير ناحية المسلمين.

كيفية الخطبة والدعاء في الاستسقاء

كيفية الخطبة والدعاء في الاستسقاء قال رحمه الله تعالى: [فيصلي بهم، ثم يخطب واحدة يفتتحها بالتكبير كخطبة العيد، ويكثر فيها الاستغفار وقراءة الآيات التي فيها الأمر به]. ما ذكره المصنف في شأن الخطبة هو كما ذكر بعض العلماء إلحاقاً لها بصلاة العيد على ظاهر حديث ابن عباس حينما وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء أنها كصلاة العيد. وقوله: (يفتتحها بالتكبير). الأولى والأقوى أن يستفتح بحمد الله عز وجل، لكن لو كبّر وهو يتأول فهو قول له سلف من العلماء قالوا به، وإن كان الأولى والأقرب للسنة أن يبدأ بحمد الله عز وجل والثناء على الله سبحانه وتعالى، على ظاهر حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها الذي تقدمت الإشارة إليه، وهو عند أبي داود وغيره. قوله [ويكثر فيها الاستغفار وقراءة الآيات التي فيها الأمر به]. آيات الاستغفار كقوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10 - 12]، فلما ورد هذا النص في كتاب الله عز وجل دل دلالة واضحة على أن الاستغفار من أعظم الأسباب التي يرحم الله بها عباده فيسقيهم الغيث. ولا يقف الأمر عند هذا، بل إنه سبب في وضع البركة في الأموال والأولاد، فمن أكثر الاستغفار فإنه يخرج من ذنوبه، وإذا خرج الإنسان من ذنوبه خرج من أسباب البلاء، وكان ذلك من أعظم الأمور التي يجعل الله بها خير دينه ودنياه وآخرته. قال رحمه الله تعالى: [ويرفع يديه فيدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه: (اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً ... ) إلى آخره]. رفع اليدين في دعاء الاستسقاء ثبتت به النصوص الصحيحة، ومن أقواها حديث أنس في الصحيحي وأنه وصف رفعه حتى ذكر أنه كان يبالغ حتى يرى بياض إبطيه. وكذلك رفع يديه في استسقائه عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة، وقد ذكرنا في صلاة الجمعة أنه يشرع للإمام إذا دعا للاستسقاء أن يرفع يديه، وقد جاء رفع اليدين عند الدعاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما لا يقل عن ثلاثين حديثاً، وذكر الإمام النووي أنه جمع نحو ذلك من الصحيحين أو أحدهما كلها في رفعه عليه الصلاة والسلام ليديه في الدعاء، وهذا في مواضع مختلفة. فرفع اليدين في الدعاء لا حرج فيه إلا في العبادات التوقيفية كالحج والعمرة ونحو ذلك، فيتقيد فيها بالوارد، ولا يرفع إلا حيث ورد الرفع. فلو أن إنساناً في لحظة ما أراد أن يدعو فرفع يديه ففي هذا عدد من الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة والحسنة التي تدل على رفعه، حتى أفردها الإمام النووي بالتصنيف، وأفردها كذلك الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه بعد كتاب الدعوات، وأفردها أيضاً السيوطي في كتابه: (فض الوعاء بمشروعية رفع اليدين في الدعاء)، وذكر الأحاديث في الصحيحين وغيرهما، وهي ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في العبادات التوقيفية لا يشرع رفع اليدين إلا في المواطن التي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه فيها، فهذا هو السنة والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وبناءً على ذلك: فإذا أراد أن يستسقي يشرع له أن يرفع يديه في الاستسقاء، ويرفع يديه مبالغاً في الرفع حتى يرى بياض إبطيه، وإذا كان عليه الثوب يكون في حكم من انكشف إبطه، بمعنى أنه يبالغ في رفع اليدين حتى يظهر شدة الفاقة لله سبحانه وتعالى. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قلب كفيه صلوات الله وسلامه عليه في الدعاء، وللعلماء في هذا القلب وجهان: فمنهم من يقول: هو سنة توقيفة لا تشرع إلا في هذا الموضع. وبناءً على ذلك لا يشرع أن يقلب الإنسان كفيه إلا في هذا الموضع من دعاء الاستسقاء، وتكون مناسبته -كما ذكر بعض العلماء- أن النبي صلى الله عليه وسلم عدّ هذا من الفأل، والفأل تقرّه الشريعة، كما في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل ويكره الطيرة)، والفأل: أن يسمع الإنسان، أو يرى شيئاً يبشره بالخير، كأن يريد السفر فيسمع إنساناً يقول: يا سالم. فإنه فأل بالسلامة؛ لأن الفأل يحمل الإنسان على حسن الظن بالله عز وجل، ويزيد من اعتقاده بالله جل جلاله، بخلاف التشاؤم؛ فإن التشاؤم يصرفه إلى الاعتقاد في الأشياء، والاعتقاد في الأزمنة، والاعتقاد في الأشخاص، فإذا رأى مشلولاً أو أعمى تشاءم فصار يعتقد في الأشخاص أنهم شؤم عليه، فيفطعن هذا في عقيدته وتوحيده -نسأل الله السلامة والعافية- لكن الفأل الحسن يحسّن ظنه بالله عز وجل، فقلب كفيه عليه الصلاة والسلام من باب الفأل الحسن، فإنه سأل ربه وكأنه يقول: أرجو أن الله يبدل الحال، أو يغيّر ما بالناس من الشدة إلى الرخاء، ومن الضيق إلى السعة، ومن القحط إلى الغيث، ومن الجدب إلى المراعي الخصبة التي ينتفع بها الناس والدواب وخلق الله عز وجل، وهذا -كما قلنا- من باب الفأل. ومن العلماء من يقول: إنه يشرع عند كل دعاء في شدة، وفيه حديث حسنه بعض العلماء، إلا أن فيه ابن لهيعة. والأقوى أن هذا يختص بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما في غيره فيكون السؤال ببطن الكف، كما هو الأصل في دعاء الله عز وجل وسؤاله الثابتة به الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (فيدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه: (اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً ... ) إلى آخره). ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: (اللهم أغثنا. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا)، وكذلك جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً. هنيئاً مريئاً مريعاً عاماً طبقاً سحاً غدقاً عاجلاً غير آجل ولا رائف تنبت به الزرع، وتدر به الضرع، وتحيي به بلدك الميت، سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا غرق ولا هدم)، وكذلك ورد عنه: (اللهم إن بالعباد والبلاد من البلاء واللأواء والجهد ما لا يشكى إلا إليك، ولا يعول في رفعه إلا عليك، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا)، وكذلك: (اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين)، وغير ذلك من الأدعية التي وردت في الكتاب فيها استرحام، واستغفار وسؤال الله عز وجل الرحمة بعباده، فكل ذلك لا حرج على الإنسان أن يدعو به.

ما يفعله الناس إن سقوا قبل الاستسقاء

ما يفعله الناس إن سقوا قبل الاستسقاء قال رحمه الله تعالى: [وإن سقوا قبل خروجهم شكروا الله وسألوه المزيد من فضله]. أي: إذا نزل عليهم غيث قبل استسقائهم شكر والله تعالى، والسبب في هذا أنه إن وعدهم يوماً معيناً، فلربما يغيرون ما بهم ويتوبون من المظالم، فيرحمهم الله قبل أن يسقوا، فإذا نزلت عليهم الرحمة وسقوا قبل أن يخرجوا فحينئذٍ يحمدون الله عز وجل ويشكرونه حتى يبارك لهم فيما أسدى إليهم وأولاهم من نعمه وفضله، ولذلك قال العلماء: لا يشرع أن تصلى صلاة الاستسقاء إذا نزل الغيث. بمعنى أنهم لو تهيأوا للخروج للاستسقاء، فنزل الغيث، وأغيث العباد، وجرت السيول، وانتفع الناس، فحينئذٍ لا وجه للاستسقاء، فلا يستقيم للخطيب أن يقول: (اللهم إن بالعباد والبلاد من الجهد والبلاء ... )؛ لأنه يشكي بدون سبب للشكوى، ولذلك قالوا: لا يشرع أن يستسقوا إذا سقوا الغيث، لكن لو سقوا سقيا ضعيفة، أو نزل الغيث ولم يكن الغيث الذي ينتظرون فإنه يشرع لهم أن يخرجوا، وأن يستسقوا مع نزول الغيث عليهم. قال رحمه الله تعالى: [وينادى لها الصلاة جامعة]. الثابت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لم يؤذن لها ولم يقم، ولكن بعض العلماء يقول بأنه ينادي لها بـ (الصلاة جامعة) ولكن الأقوى والأشبه أن لا ينادى لها بهذا النداء، لقوله: (بدون أذان ولا إقامة). قال رحمه الله تعالى: [وليس من شرطها إذن الإمام]. أي: يصلونها فرادى وجماعات، بدون ليست كالجمعة، أما الجمعة فلا بد فيها من إذن الإمام.

ما يسن فعله عند نزول المطر

ما يسن فعله عند نزول المطر قال رحمه الله تعالى: [ويسن أن يقف في أول المطر وإخراج رحله وثيابه ليصيبهما المطر]. بعد أن ذكر لنا -رحمه الله- آداب الاستسقاء التي قبل السقيا وصفة صلاة الاستسقاء شرع رحمه الله في بعض الآداب والسنن وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء نزول الغيث، وهذا من المناسب؛ لأنه لما تكلم عن السقيا وسؤال الله الغيث ناسب أن يذكر بعض الهدي والآداب الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء نزول الغيث. فمن هذه الآداب أن يخرج إلى المطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل الغيث حسر عن رأسه صلوات الله وسلامه عليه، وكان يقول: (إنه قريب العهد بربه)، أخرجه الترمذي وغيره. وكان من دعائه: (اللهم صيباً نافعا)، فكان عليه الصلاة والسلام يسأل الله أن يكون الغيث والمطر صيباً نافعاً، ولذلك شرع أن يحسر عن رأسه حتى يصيبه الغيث. ولذلك قالوا: هذا من السنة، ويكون الدعاء الوارد: (صيباً نافعاً)، بمعنى أنه يكون فيه الخير؛ إذ ربما مطر الناس ولا يكون في هذا المطر خير، فيبقون على قحطهم وما هم فيه من الجدب -نسأل الله السلامة والعافية- فلا يكون صيباً نافعاً، كما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (أن تمطروا ثم تمطروا ثم لا تنبت الأرض) أي: يمطر الناس المطر بعد المطر ولا يضع الله البركة في هذا المطر، فلا تنبت الأرض، فكأنهم لم يمطروا، فهذا من أشد ما يكون -نسأل الله السلامة والعافية-. وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه ندب للدعاء عند نزول المطر، فإنه من مظان الإجابة.

ما يقال عند الخوف من كثرة المطر

ما يقال عند الخوف من كثرة المطر قال رحمه اله تعالى: [وإن زادت المياه وخيف منها سن أن يقول: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الضراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر)، (رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ... ) الآية]. الدعاء الذي ذكره هو الوارد عنه عليه الصلاة والسلام، وهذا هو الدعاء الذي يمكن أن يقال عند تخوّف المطر، كأن يكون مطراً شديداً يخشى منه الغرق، ويخشى أن يكون منه ما يضر الناس، فيسأل الله أن يجعله حواليهم ولا عليهم، بمعنى أنه لا يسأل الله صرف المطر كله؛ لأنه إذا صرفه كله صرف الخير عن عباد الله، فلذلك يقول: (حوالينا ولا علينا)؛ لأن ما حوالي المدن والقرى في الغالب أماكن السيول والأودية التي يتقونها عند النزول. فمراده ما فسره بعد ذلك في قوله: (على الضراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر)؛ وذلك أنها إذا نزلت على الجبال فإنها تنفع أكثر؛ لأن نزولها على الجبال يكون منه جريان السيل، بخلاف نزولها على الأرض المنبسطة، فنزول الغيث على الضراب والآكام وبطون الأودية والأماكن المرتفعة ينفع كثيراً، ويصل إلى أمد، ربما يجاوز المكان الذي نزله إلى مكان آخر؛ لأن السيل إذا قويت موارده كانت نهايته أبلغ ما تكون على حسب قوة مورده، فلذلك يسأل الله أن يكون على الأماكن العالية حتى يكون أبلغ في وصول الماء إلى الناس الآخرين، حتى ينتفع به المسلمون، ويكون نفعه عاماً لا خاصاً بالمكان الذي نزل فيه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الخطبة في صلاة الكسوف

حكم الخطبة في صلاة الكسوف Q ما حكم الخطبة في صلاة الكسوف؟ A بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن الخطبة في صلاة الكسوف ليست بواجبة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم)، ولم يأمر عليه الصلاة والسلام بالخطبة، خاصة وأن خطبته عليه الصلاة والسلام كانت لمناسبة، وهي قول الناس: إن إبراهيم قد توفي، وإن الشمس قد كسفت لوفاته. فهي ليست بواجبة، لكن لو خطب فإنه لا حرج في ذلك، وهو مذهب طائفة من العلماء، ويرون أنها جائزة، بمعنى أنها مسنونة ولا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الجنة والنار في خطبته عليه الصلاة والسلام، ورغب ورهب في خطبة الكسوف، قالوا: فهذا يدل على مشروعية الخطبة لها. والله تعالى أعلم.

حكم من ندبهم الوالي للاستسقاء وهم مكتفون بالعشب والماء

حكم من ندبهم الوالي للاستسقاء وهم مكتفون بالعشب والماء Q إذا ندب الوالي للاستسقاء وهناك بلدة مكتفية بالماء والعشب، فهل يشرع لهم الاستسقاء بندب الوالي لهم؟ A نعم. وتكون السقيا لغيرهم، كأن يكون البلد واحداً فيستسقون، فيكون السقيا لهم زيادة خير، ولغيرهم زوال بلاء وضر، وقد نص بعض العلماء على أنه لا حرج في هذا، والله تعالى أعلم.

كيفية قضاء من فاتته ركعة من صلاة الاستسقاء

كيفية قضاء من فاتته ركعة من صلاة الاستسقاء Q كيف يقضي صلاة الاستسقاء من فاتته ركعة منها، هل يقضيها سبع تكبيرات أم خمس؟ A هذه المسألة مفرعة على مسألة أخرى في القضاء وهي: إذا فاتتك بعض الركعات فهل صلاتك ما بقي مع الإمام هي الأولى، أو هي الأخيرة؟ فهناك مذهبان هما أصل هذه المسألة تفرّع عنهما مذهب الجمع، وهو المذهب الثالث الذي يلفق بين المذهبين. فمن العلماء من يقول: الذي أدركته مع الإمام هو صلاتك الأولى. وبناءً على ذلك فإذا سلم الإمام فإنك تضيف ما فاتك من الركعات وتعتبره آخر صلاتك، وهذا المذهب يحتج بحديث أبي هريرة في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)، فهذا يدل على أنك تبني على صلاة الإمام، ولا تقضي ما فاتك. ومن العلماء من يقول: صلاتك مع الإمام هي الأخيرة. وبناءً على ذلك فإذا قمت فإنك تقضي ولا تبني، وتعيد الركعات التي فاتتك. وهناك مذهب ثالث يلفق بين المذهبين فيقول: يبني في الأفعال ويقضي في الأقوال، جمعاً بين رواية: (فاقضوا)، ورواية: (فأتموا). وأصح هذه الأقوال وأقواها أنه يتم ويبني، ولا يقضي، ولا يجمع بين البناء والقضاء، وذلك لما يلي: أولاً: لأن الرواية الصحيحة عن أبي هريرة أقوى ما رويت به رواية الإئتمام، أي: (وما فاتكم فأتموا)، فأصحاب الزهري رحمه الله الذين رووا: (فأتموا) أقوى من الذين رووا: (فاقضوا)، فالسفيانان يقدمان على غيرهما عند التعارض. ثانياً: أن روية: (فأتموا) لا تعارضها رواية: (فاقضوا)؛ لأن القضاء يستعمل بمعنى الإتمام، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة:10] أي: تمت. وقوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة:200] أي: أتممتموها. والقاعدة في الأصول أنه إذا تعارض نص مع نص، وكان أحدهما يتضمن المعنى الذي لا يعارض من كل وجه بحيث يمكن صرفه إلى معنى يتفق مع الوجه الثاني فإنه ينبغي صرف النص المخالف إلى المعنى الذي يوافق به النص الآخر. فنقول: رواية: (فاقضوا) المراد بها رواية: (فأتموا)؛ لأن القضاء يستعمل بمعنى الإتمام، فترجح قول من يقول: إنه يتم ولا يقضي سنداً ومتناً، سنداً لأنها رواية أقوى، ومتناً لأن معنى الإتمام أقوى في الدلالة من معنى القضاء، فالقضاء يستعمل بمعنى الإتمام، فدخل تحت الإتمام ولم يقو على معارضته. ويتفرع على هذه المسألة ما لو كنت قد أدركت ركعة في صلاة الاستسقاء فعلى القول بالقضاء تقوم فتكبر سبع تكبيرات في الركعة الثانية التي ستقضيها، وعلى القول بالبناء تكبر خمس تكبيرات؟ والصحيح أنك تكبر خمس تكبيرات على ظاهر السنة التي ذكرناها. والله تعالى أعلم.

مشروعية شهود النساء للاستسقاء

مشروعية شهود النساء للاستسقاء Q هل يشرع للنساء أن يحضرن صلاة الاستسقاء كالعيد؟ A لا حرج في شهود النساء للاستسقاء إذا أمنت من خروجهن الفتنة، وذلك لأن المقام مقام استرحام واستعطاف، وكان بعض العلماء يرى خصوص الخروج لكبيرات السن دون الشابات، فلا يشرع للشابات والنساء اللاتي تحصل بهن فتنة أن يخرجن؛ لأنه يوم تضرع ومسكنة، وخروجهن فتنة لهن، أو فتنة لغيرهن، أو فتنة لهن ولغيرهن، وأما بالنسبة لكبيرات السن من النساء والضعفة فلا حرج في خروجهن. وبعض العلماء يمنع مطلقاً، يقول: لا يشرع خروج النساء مطلقاً.

من فاتته صلاة الاستسقاء مع الجماعة

من فاتته صلاة الاستسقاء مع الجماعة Q إذا لم أدرك صلاة الاستسقاء مع الجماعة فهل أصلي بمفردي، أم أستمع للخطبة؟ A من جاء وقد فرغ الإمام من صلاة الاستسقاء، وكان الاستسقاء في مسجد فإنه يصلي ركعتين تحية المسجد، ثم ينصت ويدعو بدعاء المسلمين، ويسأل الله عز وجل الرحمة أثناء الدعاء وأثناء خطبة الإمام. والله تعالى أعلم.

حكم الزيادة والنقصان في عدد تكبيرات صلاة الاستسقاء

حكم الزيادة والنقصان في عدد تكبيرات صلاة الاستسقاء Q ما حكم الزيادة والنقصان في عدد تكبيرات صلاة الاستسقاء؟ A المشروع أن يكبر في الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً، على الأصل الذي ذكرناه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في صلاة العيد، وعلى هذا فلا يشرع له أن يزيد، وبناءً على ذلك تكون السنة على هذه الصفة الواردة، ولو زاد تكبيرة فبعض العلماء يرى من ناحية الأصل أنها بدعة، ويرى كأنه قد تكلم بكلام أجنبي، فيتفرع الحكم على هذه المسألة عن حكم الكلام في الصلاة إذا كان بذكر الله كالتكبير والتحميد وتلاوة القرآن، وإذا كان بغيره، وإن كان الأقوى أنها لا تبطل، فإذا زاد تكبيرة لا تبطل، لكنه يأثم؛ لأنها بدعة وحدث، فيعتبر آثماً إذا كان عالماً. لكن لو شك هل الذي كبره أربع تكبيرات أو خمس تكبيرات فإنه يبني على الأقل حتى يستيقن، على الأصل الذي دل عليه حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه، وكذلك أحاديث الشك في عدد ركعات الصلاة كحديث أبي سعيد، وأبي موسى رضي الله عن الجميع، وهي كلها ثابتة وصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم. أما كونه يزيد في عدد التكبيرات من عند نفسه فلا؛ لأننا قلنا: إن هذا من البدعة والحدث، ويأثم صاحبه. والله تعالى أعلم.

قلب الرداء في الاستسقاء يشمل غطاء الرأس

قلب الرداء في الاستسقاء يشمل غطاء الرأس Q هل قلب الرداء في الاستسقاء يشمل ما يغطى به الرأس؟ A الرداء هو ما يلبس لأعالي البدن، وما يكون لأسفل البدن يسمى إزاراً في لغة العرب، مثل ما يلبس المحرم، ولقد قلب رداءه عليه الصلاة والسلام، فجعل ما على الأيمن على الأيسر، وما على الأيسر على الأيمن، وهذا هو السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فطرد بعض العلماء رحمهم الله ذلك في الملبوس الآن، وقال: لما كان المعنى هو التفاؤل بتغيّر الحال واسترحام الله عز وجل وحسن الظن بالله سبحانه وتعالى شرع إذا كان له عباءة كالبشت ونحوه أن يقلبه، ولا حرج أن يجعل أيمنه على يساره وأيسره على يمينه. قالوا: وكذلك أيضاً إذا لم يكن عليه عباءة قلب غطاءه الذي على رأسه كالغترة والشال ونحوهما، ولا حرج عليه أن يقلبه فيجعل أيمنه أيسره وأيسره أيمنه؛ لأن المعنى موجود، وصورة الثوب غير مؤثرة؛ لأن مقصود النبي صلى الله عليه وسلم حسن الظن بالله عز وجل والفأل المحمود شرعاً. والله تعالى أعلم.

حكم تخصيص يوم الإثنين بصلاة الاستسقاء

حكم تخصيص يوم الإثنين بصلاة الاستسقاء Q هل ورد دليل على تخصيص الصلاة بيوم الإثنين؟ A اختار بعض العلماء يوم الاثنين لأنه يوم صيام، وهو أرفق وأيسر على الناس، فكرهوا يوم السبت لأنه يوم اليهود، وكرهوا يوم الأحد لأنه يوم النصارى، ويرون أن ابتداء الإثنين أرفق بالناس، ويوافق عرض الأعمال على الله، ثم إن الناس يصومونه فهم أقرب إلى الله عز وجل، ومثل الإثنين يكون الخميس؛ لأن للخميس ما للإثنين، وقد يكون أرفق من جهة كونه أخف عليهم. ومع ذلك فليس هناك دليل لتخصيص الإثنين، لكن لو خصص الإثنين فلا حرج، لزومه واعتقاد وجوبه فليس هناك دليل على ذلك، وفرق بين أن نقول: يخصص يوم للخروج، وقولنا: يجب خروج هذا اليوم، فتخصيص أي يوم للخروج ثبتت به السنة، وأما اعتقاد وجوبه فلا. والله تعالى أعلم.

حكم رفع اليدين عند دعاء الخطيب في الجمعة

حكم رفع اليدين عند دعاء الخطيب في الجمعة Q هل يشرع رفع اليدين في خطبة الجمعة إذا دعا الخطيب؟ A رفع اليدين في خطبة الجمعة لا يشرع إلا عند الاستسقاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رفع حين استسقى، كما في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه، فدل على أنه كان من هديه إذا دعا أنه لا يرفع إلا في استسقائه، ومن هنا أخذ العلماء رحمهم الله أنه لا يشرع الرفع، ولما رفع مروان بن الحكم على منبر النبي صلى الله عليه وسلم قال عمارة بن رؤيبة: تباً لهاتين اليدين. وهذا إنكار عليه، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يزيد على أن يشير بإصبعه: اللهم اغفر لنا. اللهم ارحمنا. اللهم تب علينا. ونحو هذا، فما كان يرفع يديه صلوات الله وسلامه عليه في دعائه في خطبة الجمعة. والله تعالى أعلم.

من عليه أكثر من كفارة يمين

من عليه أكثر من كفارة يمين Q امرأة عليها كفارات أيمان، فهل تكفر كفارة واحدة أم متعددة؟ A هذا فيه تفصيل، فإذا حلفت اليمين على شيء واحد وكررت اليمين فقالت: والله لا أخرج. ثم بعد ساعة قيل لها: اخرجي، قالت: والله لا أخرج. ثم في اليوم الثاني قيل لها: اخرجي. قالت: والله لا أخرج. فحينئذٍ لو حلفت ألف يمين على هذا الشيء المعين فكفارته كفارة واحدة، وأما إذا كانت حلفت أيماناً متعددة على أشياء متعددة فإن الكفارة فيها متعددة بتعددها، وذلك لاختلاف أسبابها، فكل يمين تستقل بحكمها، ويجب التكفير عن كل واحدة منها منفردة عن أختها. والله تعالى أعلم.

حكم إدراج نية الوضوء في الغسل المستحب أو الواجب

حكم إدراج نية الوضوء في الغسل المستحب أو الواجب Q ما حكم إدراج نية الوضوء في الغسل، سواء أكان للتبرد أم للجنابة أم للجمعة؟ A لا حرج أن يدرج الإنسان الوضوء تحت الغسل، فتنوي قبل غسلك أن تصلي بعد الغسل، فهذا لا حرج فيه، لحديث أم المؤمنين عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يتوضأ بعد غسله)، فكان بعد الغسل يصلي مباشرة، فأجمع العلماء على أن من نوى بغسله أن يصلي أنه يجزئه، سواء أكان الغسل للجنابة أم كان غسلاً مستحباً. والله تعالى أعلم.

وقت قيام المرأة إلى الصلاة المكتوبة

وقت قيام المرأة إلى الصلاة المكتوبة Q هل تصلي المرأة الصلوات الخمس بعد انتهاء الإمام من الصلاة، أم بعد دخول الوقت مباشرة؟ A إذا دخل الوقت يجوز للمرأة أن تصلي، فإذا سمعت النداء، أو غلب على ظنها أن وقت الصلاة قد دخل فإنها تصلي. لا تلزم بصلاة الإمام، ولا يجب عليها أن تتقيد بصلاة الإمام، وإنما يتقيد بصلاة الإمام الرجل في يوم الجمعة إذا كان قد ترك الجمعة تهاوناً فإنه لا يصليها ظهراً إلا بعد صلاة الإمام للجمعة؛ لأنها لا تجب عليه ظهراً إلا بعد فراغ الإمام من الجمعة. والله تعالى أعلم.

حكم الدخول مع الجماعة إذا أدرك المصلي التشهد الأخير

حكم الدخول مع الجماعة إذا أدرك المصلي التشهد الأخير Q إذا وصلت المسجد والجماعة في التشهد الأخير فهل أجلس معهم للتشهد، ثم أتم، أم أنتظر حتى يتجمع بعض المتأخرين ونقيم جماعة جديدة؟ A من دخل المسجد وجب عليه أن يدخل مع الجماعة لظاهر السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (فإذا أقيمت فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا) فقال: (فما أدركتم) ولم يفرق بين قليل ولا كثير، ولذلك يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم شدد في ترك الجماعة حتى قال للرجلين: (ما منعكما أن تصليا في القوم؟ ألستما بمسلمين؟ -مع أنهما كانا قد صليا في رحالهما- فقالا: يا رسول الله! قد صلينا في رحالنا. قال: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا فإنها لكما نافلة). فكون الإنسان يدخل والجماعة قائمة والإمام في صلاته ويبقى واقفاً ينتظر تسليم الإمام فهذا لا أصل له من جهة الدليل، أي: ليس هناك دليل يستثني هذا العموم الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك ينص العلماء رحمهم الله لحديث أبي هريرة في الصحيح على أنه ينبغي عليه أن يدخل مع الجماعة، ومنهم من يقول: يجب عليه أن يدخل مع الإمام ولا يتخلف، وقد جاء الأمر في بعض الأحاديث في السنن مفسراً ذلك، فقال: (على أي حالة أدركتمونا فصلوا) بمعنى أنه يجب على الإنسان أن يدخل على الحالة التي يجد عليها الإمام. ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس والعامة أنهم يرون الإمام ساجداً فيبقون حتى يرفع الإمام من سجوده، وهذا فوات للخير وفوات للبركة، ولذلك ينبغي على الإنسان إذا وجد الإمام ساجداً أن يسجد، فإن الله يرفعه بها درجة ويعظم له بها الأجر، وقد يستجيب الله له الدعاء، فقد يوافق باباً مفتوحاً في السماء فيستجاب له، وفي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم حث على الدعاء عند السجود وقال: (فقمن أن يستجاب لكم)، فترك السجود والفضل والدرجات والانتظار حتى يقوم الإمام فوات للخير. فيفوته وقت الصلاة؛ لأن هذا القدر الذي فيه السجدة يعتبر من أول الوقت، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليصلي الصلاة وما يصليها في وقتها، ولما فاته من وقتها خير له من الدنيا وما فيها)، فلحظات يسيرة ربما تكون خيراً للإنسان من الدنيا وما فيها، فهذا القدر اليسير تدركه والإمام راكع، وتدركه والإمام ساجد، وتدركه والإمام جالس بين السجدتين، وهو يتشهد، فعلى أي حالة أدركت الإمام فصلِّ رحمك الله، وادخل مع الجماعة، فهذا هو نص السنة. فإذا صلى مع الجماعة الأولى أدرك فضل أول الوقت وأدرك فضيلة الجماعة الأولى، وإن كان لم يدرك حكم الجماعة، وفرق بين قولنا: أدرك حكم الجماعة، وبين قولنا: أدرك فضل الجماعة، فقد نص العلماء على أن من أدرك الإمام قبل أن يسلم فإنه يكون مدركاً لفضل الجماعة الأولى، ولذلك قالوا في روايات فضل صلاة الجماعة على الفرد، كرواية:: (سبع وعشرين درجة)، ورواية: (خمس وعشرين درجة): إن رواية (سبع وعشرين) لمن أدركها كاملة، ورواية: (وخمس وعشرين) لمن أدركها في آخرها، ورواية: (ست وعشرين) لمن أدرك ما بينهما. فمن السنة أن الإنسان يدخل مع الإمام، وهذا هو الذي حرص الإسلام عليه لاجتماع الشمل، وكأن الإسلام يريد أن يجتمع الناس، وأن لا يتفرقوا، وأن لا يكون ذلك سبباً في زوال المعنى الذي من أجله قصدت صلاة الجماعة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.

مقدمة كتاب الجنائز [1]

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنائز [1] عيادة المريض من السنن التي حث الشارع عليها ورتب عليها الثواب العظيم، سواء أكان المريض مسلماً أم كافراً، ومقصد الشارع من العيادة أنها من المواساة لذلك المريض وتصبيره، والمريض الذي أوشك على الموت وعرف ذلك بالعلامات الدالة عليه ينبغي أن يذكر بالتوبة والوصية، كما يستحب أن يُحسن ظنه بالله، وأن يلقن الشهادة، ويستخدم معه الوسائل التي تيسر عليه النطق بها، مثل تعاهد بل حلقه بالماء أو بشراب؛ فإن ذلك مما يعين على سهولة نطقه وحديثه، وكذلك ذكر الآيات والأحاديث التي تبين سعة رحمة الله.

بيان أن عيادة المريض من السنة

بيان أن عيادة المريض من السنة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: يقول المؤلف عليه رحمه الله: [كتاب الجنائز]. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الجنائز]. الجنائز: جمع جَنازة أو جِنازة -لغتان- وقال بعض العلماء: جَنازةٌ (بالفتح) للميت نفسه، وجِنازة (بالكسر) للسرير الذي يُحمل عليه الميت. وقيل: إنها مأخوذة من جَنز الشيء إذا استتر، و (الجنائز) المراد بها: بيان الأحكام المتعلقة بالميت. ومناسبة هذا الكتاب لما تقدم: أن للعبد حالتين: الحالة الأولى تتعلق بدنياه، والحالة الثانية تتعلق بآخرته، فبعد بيان العبادات التي تتعلق بدنياه شرع -رحمه الله- ببيان جملة من المسائل والأحكام الشرعية المتعلقة بالمكلف عند موته أو بعد موته، وذلك من عيادته، وتلقينه، وتغسيله، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه. وهذا الباب يعتني به العلماء من المحدثين والفقهاء رحمهم الله، وقد اشتمل على جملة من المسائل والأحكام الشرعية، وختم به المصنف رحمه الله كتاب الصلاة، وكأنه لما عبر بالكتاب جعله وسطاً بين الصلاة والزكاة، والسبب في ذلك: تردد حالة الإنسان في العبادات بين كونها عبادة تتعلق بالدنيا، وعبادة تتعلق بالآخرة، فناسب التقسيم من هذا الوجه، كأنه حينما قال لنا: [كتاب الجنائز] كأنه يقول لك: في هذا الموضع سأذكرُ لك جملةً من الأحكام والمسائل المتعلقة بالميت، وما ينبغي على أهله وذويه إذا نزل به الموت، وكذلك ما ينبغي على المسلمين من الصلاة عليه ودفنه والدعاء له. يقول رحمه الله: [تُسن عيادة المريض]. هذه السنية دلت عليها النصوص المتضافرة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، وعيادة المريض من أجل القربات وأحب الطاعات إلى الله جل وعلا، والتي جمع بها بين قلوب المؤمنين والمؤمنات؛ لما تشتمل عليه من رحمةِ بعضهم ببعض؛ ولما فيها من معونة المسلم لأخيه المسلم في حالة هو أشد ما يكون إلى رؤية إخوانه، والتعزي بما نزل في جسده، وما أُصيبَ به في نفسه. وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه العيادة، وأمر بها أصحابه رضوان الله عليهم، وأمته من بعدهم، فكان عليه الصلاة والسلام يعود المريض، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه عاد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه وسلاه، وأخبره بمعجزة من معجزاته صلوات الله وسلامه عليه وهي أنه يعمر، وينتفع به أقوامٌ -وهم المسلمون- ويستضر به أقوامٌ -وهم الكافرون- وكان كما قال. وكذلك عاد عليه الصلاة والسلام جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وصبّ وضوءه عليه فشفي. وكذلك ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه عاد يهودياً. فالسنة بفعله عليه الصلاة والسلام تدل على مشروعية هذه العبادة الجليلة، وكذلك أمر بها عليه الصلاة والسلام، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث البراء أنه أمر بعيادة المريض وإبرار المقسم، وجعلها من السبع التي أمر بها أصحابه وأمته من بعده صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.

فضل عيادة المريض

فضل عيادة المريض ندب عليه الصلاة والسلام إلى عيادة المريض، وأخبر عما فيها من عظيم الأجر وجزيل الثواب عند الله سبحانه وتعالى، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من عاد مريضاً فهو في خرفة الجنة حتى يعود، قيل: وما خرفة الجنة؟ قال: جناها)، وللعلماء في هذا الحديث وجهان: الوجه الأول: أن قوله: (من عاد مريضاً فهو في خرفة الجنة) أي: شبه حال الإنسان وهو خارجٌ لعيادة أخيه المسلم بحال الرجل الذي جلس أمام ثمار البستان يجني منها ما لذّ وطاب، فالذي يعود المريض يجني ثمرة عيادته من عظيم الأجر والمثوبة عند الله سبحانه وتعالى، فكما أن صاحب البستان جالسٌ أمام خير من الدنيا، فمن عاد المريض جالسٌ أمام خيرٍ من الآخرة، وهذا يدل على عظيم الفضل، كأنه يجني الثواب بدون حساب؛ من كثرة ما في ذلك من الأجر والمثوبة عند الله سبحانه وتعالى. والوجه الثاني: أن قوله: (من عاد مريضاً فهو في خرفة الجنة حتى يعود) أي: أن الطريق الذي سلكه في عيادة أخيه المسلم حال مرضه أشبه بالطريق إلى الجنة، بمعنى: أنه سينتهي به إلى الجنة. وهذا كله يؤكد فضل عيادة المريض، ويدل على استحبابها وتأكد هذا الاستحباب. ويعظم حق المريض بحسب قربه؛ فإن كان من الوالدين أو من القرابات والأرحام فالأمر في حقه آكد وأشد، ولذلك كان من وصل مريضاً وله قرابةٌ به فإنه يؤجر من وجهين: الوجه الأول: من جهة عيادته للمريض، وله أجر عيادة المريض المطلق. والوجه الثاني: أنه يؤجر من جهة كونه وصل الرحم وبلها ببلالها، واتقى الله عز وجل فيها. فأفضل ما تكون عيادة المرضى، إذا كانت للأقرباء ومن لهم رحمٌ بالإنسان وصلة، فإن حقهم آكد وأعظم، والتقصير في حقهم لاشك أنه أكثرُ إثماً وأعظم جرماً.

مقصد الشارع من عيادة المريض المسلم والمريض الكافر

مقصد الشارع من عيادة المريض المسلم والمريض الكافر قوله: [تسنُ عيادة المريض] هذه العيادة تشمل المسلم، والكافر: أما بالنسبة للمسلم فلا إشكال في ذلك، وفي عيادتك للمسلم خيرٌ كثير؛ فبها تقوى نفسه ويرتاح، خاصةً إذا كان بينك وبينه ودٌ وحب؛ فإن المريض ربما نشط برؤية أحبابه وأصحابه أكثر من نشطه بالدواء والعلاج، فرؤيته لمن يحب أنسٌ له، وبهجةٌ لنفسه وراحةٌ لها، وطمأنينة لقلبه. وأما بالنسبة لغير المسلم فإنه إذا كان كافراً فإنك تعوده بقصد دعوته إلى الإسلام، كما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه عاد يهودياً ثم لقنه شهادة التوحيد، فنظر إلى والديه فقالا: أطع أبا القاسم، فأطاع النبي صلى الله عليه وسلم وتشهد، فحمد النبي صلى الله عليه وسلم ربه أنه أنقذه من النار بسببه. وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (عاد عمه أبا طالب عند حضور الموت، فقال: يا عم! قل: لا إله إلا الله؛ كلمةً أحاج لك بها بين يدي الله)، فهذا يدل على تأكد جواز ومشروعية عيادة المريض الكافر؛ وذلك بسبب تأليفه للإسلام. أما المسلم فإن له حق العيادة، سواء كان براً أو فاجراً، صالحاً أو طالحاً؛ وذلك لأنه حقٌ للمسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) فكونه يقصر فيما بينه وبين الله لا يمنع من أداء حقه في الإسلام من عيادته، ولربما عاد الصالحون الفجار فذكروهم بما عند الله؛ فكان سبباً في حسن الخاتمة لهم وتوبتهم وإنابتهم إلى الله عز وجل. وهذا مما يقصده الشرع، فإنه تكثيرٌ لسواد الأمة في الخير، وكذلك طاعةٌ للمطيع لربه، فإن المطيع إذا عاد أمثال هؤلاء وذكرهم بالله عز وجل، فإن هذا يعود بالخير عليه؛ لأنه يؤجر، وهو من الدعوة إلى الله عز وجل. ولكن إذا كان الإنسان يغلب على ظنه أنه إذا زار الفاجر أو العاصي أنه سيتأثر وأنه سيتغير، فإنه قد يجب عليه أن يعوده؛ لأن دعوة الناس إلى الخير وهدايتهم متأكدة، فإذا غلب على الظن أنه يرجى نفعها فالأمر آكد.

آداب عيادة المريض

آداب عيادة المريض قوله: (تسن عيادة المريض) هذه السنية مطلقة، لا تتحدد بزمان ولا بمكان، والأمر يختلف باختلاف العوائد، ولا يحدد لها زمانٌ لا بالليل ولا بالنهار، فتعود المريض بالليل وتعوده بالنهار، على حسب ما يجري في العادة ويقتضيه العرف، وعلى حسب استعداد المريض لتقبل هذه الزيارة وارتياحه لها وحصول المقصود. وإذا عاد المسلم أخاه المسلم، فإنه ينبغي عليه أن يحفظ الحقوق في هذه العيادة، فالسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم والهدي عنه كان أكمل الهدي وأكمل السنة، فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا عاد مريضاً يتوخى أفضل الأمور وأحبها إلى الله عز وجل، وهذا هو المقصود من العيادة. ولذلك قرر العلماء كما نبه عليه جمعٌ منهم: الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه النفيس -الزاد- عند كلامه عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادة المريض، أن ذلك الهدي أكمل الهدي وأحسنه وأجمله وأفضله، فكان يندب أصحابه إلى إفساح الأجل للمريض، فإذا عاد الإنسان المريض أفسح له في الأجل. ومما يدل على مشروعية ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عاد سعد بن أبي وقاص أفسح له في الأجل، وقال له -لما أخبره سعد أنه مريض وأنه يخشى الموت-: (لعلك أن تعمر فينتفع بك أقوامٌ ويستضر بك آخرون) وكان ما كان، فقد نفع الله به الإسلام بخروجه رضي الله عنه للجهاد في سبيل الله، وكسر الله به شوكة الكافرين، فهذا إفساحٌ في الأجل منه عليه الصلاة والسلام، وهو يشهد لحديث ابن ماجة: (من عاد مريضاً فليفسح له في الأجل). وإفساح الأجل فيه حسن ظنٍ بالله، وفيه فألٌ حسن، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن؛ لأن الإنسان إذا أحسن ظنه بالله عز وجل قويت عقيدته وكمل يقينه، وكذلك -أيضاً- حينما تفسح له في الأجل فذلك أدعى إلى أن تطول حياته، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (خيركم من طال عمره وحسن عمله).

أمور ينبغي التذكير بها عند عيادة المريض

أمور ينبغي التذكير بها عند عيادة المريض وهناك حقوقٌ لله عز وجل وحقوقٌ للعباد ينبغي الإنسان أن يتوخاها عند قيامه بعيادة المريض، ولا يشق على المريض بطول الجلوس وكثرة الحديث وكثرة السؤال، وإنما ينظر إلى الأرفق والأحسن والأفضل بالنسبة لحال ذلك المريض. قال المصنف: [وتذكيره التوبة والوصية]. فهذا من حقوق الله عز وجل التي ينبغي للمسلم أن يحفظها إذا عاد أخاه المسلم.

التذكير بالتوبة

التذكير بالتوبة قوله: [وتذكيره التوبة] أي: ينبغي للمسلم إذا عاد أخاه المسلم أن يذكره بالتوبة إلى الله عز وجل، وذلك أن المرض من مقدمة الموت، وقد يكون طريقاً إلى الموت، خاصةً إذا ظهرت أمارات المرض الذي لا يرجى له شفاء، فيذكره بالتوبة إلى الله عز وجل. والسبب في ذلك: أن المرضى ربما انشغلوا بالعلاج وأخبار المرض، وما يفعلونه في مواجهة ما يعانونه من مشقة المرض، فينشغلون عما هو أهم وما هو مقصود من نزول المرض، فإن نزول المرض بالعبد إنما هو تخفيف للسيئات ورفعةٌ للدرجات واستكثار للحسنات، فينبغي للمسلم إذا زار أخاه المسلم أن يذكره التوبة والإنابة إلى الله عز وجل، والتحلل من مظالم الناس عامها وخاصها، ويذكره بحقوق الناس. وإذا كنت تعلم أنه ظلم إنساناً ذكرته مظلمته، وقلت له: يا فلان، تب إلى الله من أذية فلان، يا فلان، إن لفلانٍ عليك حقاً فتحلل منه، إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كانت له عند أخيه مظلمة فليتحلله منها قبل ألا يكون دينار ولا درهم)، فهذا من أساليب الدعوة إلى التوبة من حقوق العباد. وأما بالنسبة لحقوق الله جل وعلا فيذكره التوبة من الذنوب كبيرها وصغيرها، وجليلها وحقيرها، ويحسن ظنه بالله عز وجل أنه الغفور الرحيم، وأنه الجواد الكريم، وأنه اللطيف الحليم، ويقوي بهذا الأمر -حسن الظن بالله عز وجل- عزمه على التوبة، فإن الإنسان إذا ذكرته بالتوبة وعطفت -مع تذكيرك بالتوبة- بذكر سعة مغفرة الله وعفوه وحلمه؛ قويت نفسه على التوبة، وقويت نفسه على الرجوع إلى الله؛ لأن المذنب ربما يأتيه الشيطان فيعظم له الذنب، وكلما فكر الإنسان في التوبة جاءه الشيطان من باب إعظام الذنب، فقال له: أنت فعلت وقلت، ولا يمكن لهذا الفعل أو القول أن يغفر، فهو فعل عظيم وقول عظيم، فلا يزال يتعاظم ذنبه على الله حتى يحجب عن التوبة والعياذ بالله! وهذا من القنوط من رحمة الله واليأس من روح الله، فلا ينبغي للمسلم ذلك، فعلاج هذه الوساوس التي تكون في صدر الإنسان من الذنوب: أن يحسن ظنه بالله عز وجل، ولذلك وردت الآيات والأحاديث التي ترغب في التوبة، مذيلة بصفات الله التي تدل على سعة رحمته، وسعة حلمه وعفوه وكرمه وجوده، وأنه سبحانه وتعالى لا تضره معصية العاصين ولا تنفعه طاعة المطيعين، فإذا كان الإنسان أثناء بيانه للتوبة، أو دعوته للتوبة يعطف بذكر سعة رحمة الله؛ قويت النفوس على طلب هذه الرحمة، واشتاقت الأرواح إلى رحمة الله جل جلاله، وكان عندها مع هذا الشوق قوة اليقين بالله سبحانه وتعالى. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يندب أمته إلى حسن الظن بالله عز وجل، خاصةً في هذا الموطن العظيم التي تزل فيه القدم بعد ثبوتها نسأل الله السلامة والعافية. والإنسان إذا تاب إلى الله عز وجل توبةً صادقة تاب الله عليه ولو أتى ربه بقراب الأرض خطايا، فإن الله سبحانه وتعالى إذا تاب العبد توبة نصوحاً تاب عليه، قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر:49]، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، وتتلى مثل هذه الآيات التي تقوي اليقين بالله سبحانه وتعالى عند المريض. فمن حق الله عز وجل الذي ينبغي عليك إذا عُدت المريض أن تذكره بهذا الحق، والناس قد تساهلوا في هذه الأمور، فكثير منهم عندما يزور أخاه ويجلس عنده، ينهمك في الأحاديث عن فضول الدنيا، وقل أن يذكره بالتوبة والإنابة إلى الله، بل قد تجد من قرابة المريض من يتذمر ويتسخط إذا حدثت المريض بهذه الأمور، وكأنك إذا قلت للإنسان: تُبْ إلى الله، أو إن هذا المرض ينبغي على الإنسان أن يستحضر معه التوبة، وأن ينكسر فيه لله عز وجل؛ إذا قلت له ذلك كأنما جنيت عليه جناية -نسأل الله السلامة والعافية- فهو يظن أنك تسيء الظن به، وأن هذا البلاء نزل به بسبب ذنوبه ومعاصيه، والواقع كذلك؛ فإن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون، وما علينا إلا أن نقوم بالسنة. والأفضل للزائر أن يذكر المريض فيما بينه وبين الله بالتوبة، ولا يخاطبه أمام الناس إذا خشي إساءة الظن، فإذا دنوت إلى المريض ومسحت برأسه -إذا كان يحتمل ذلك ويحب ذلك- ثم همست في أذنه بالكلمات الطيبة مما يذكر بالتوبة إلى الله والإنابة إليه، مثل يا فلان! إنا نكثر الذنوب، فتب إلى الله، وهذه الحالة حالة طيبة تقرب الإنسان من الله، والعبد إذا نزل به الضر فإن الله يحب منه أن يقرع بابه: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43]، فيكلمه بهذه الكلمات الطيبة، وبهذا النصح الذي يكون بينه وبينه؛ حتى لا يسيء الناس الظن بالزائر ولا يكون مدعاة لسخط قرابة المريض. والتوبة من الذنوب مشروعة في كل حال وزمان ومكان، والله جل وعلا أمر عباده أن يتوبوا إليه، ولم يقيد ذلك بحال، لكن العلماء رحمهم الله ذكروا ذلك في مثل هذه المواطن؛ لأن الأمر أدعى، فقد يكون هذا البلاء أو المرض نزل بسبب دعوة مظلوم، أو لربما نزل بسبب أذيته لقريب، ولربما نزل بسبب ضره بالناس، فإذا ذكرته ربما تاب إلى الله عز وجل وغير من حاله، فأصبح المرض نعمةً عليه. يقول بعض أهل العلم: إن الإنسان قد يلتبس عليه التفريق بين المرض إذا كان بلاءً، أو رفعة درجة. والواقع أن المرض يكون بسبب الذنب، وقد يكون بلاءً يقصد منه رفع الدرجة، فيشكل على الإنسان أن يعرف هل هذا البلاء لرفعة درجة، أم بسبب بذنب. قالوا: فينبغي على الإنسان إذا نزل به المرض أو نزل به البلاء أن يعتبر أنه بسبب الذنب؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]، فالأصل أن الله لا يظلم الناس شيئاً وأن الناس أنفسهم يظلمون، وأن ما نزل من الأسقام والآلام إنما هو بسبب قليل من الذنوب، وإلا لو أخذ الله الإنسان بذنبه لكان الأمر وأشد، كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45]، فالإنسان إذا تفكر في هذا، دعاه ذلك إلى أن يصلح حاله مع الله عز وجل، فإذا تاب وأناب، وأحس أن هذا البلاء نزل بسبب الذنب، فأخذ يستغفر ويسترحم، ويعاهد الله على التوبة والإنابة إليه سبحانه وتعالى؛ فإنه رفعة درجة. ولذلك يقولون: قد ينزل البلاء بسبب الذنب؛ فيكون طريقاً إلى الرحمة والفوز بمغفرة الله عز وجل، وصلاح العبد في دنياه وآخرته.

التذكير بالوصية

التذكير بالوصية قوله: [وتذكيره التوبة والوصية]: أي: تذكر المريض أن يوصي إذا كانت عليه حقوق، والوصية تكون واجبة، وتكون مندوبة مستحبة. أما الوصية الواجبة: فإذا كان على الإنسان حقوق، كأن يكون عليه دين، أو يكون لإنسان عليه حق، فعليه أن يكتب هذه الحقوق كاملة لأصحابها، ويأمر بردها لأصحابها، ولا يجوز للإنسان أن يتساهل في هذا. وكل إنسان ابتلي بالدين قليلاً كان أو كثيراً فالواجب عليه أحد أمرين: إما أن يكتب هذا الدين ويشهد عليه ويعطي الكتاب لصاحب الدين؛ لأمر الله عز وجل بذلك في كتابه المبين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282]، فأمر بكتابة الدين. وإما أن يكتب الوصية المشتملة على حقوق الله وحقوق العباد، فإذا كتب الدين في وصيته فقد برئت ذمته إن شاء الله تعالى. وإذا كانت عليك حقوق لله، مثل الحج إلى بيته الحرام، إذا كان الإنسان قد قدر على الحج ولكنه قصّر فلم يحج، فعليه أن يكتب أنه لم يحج، وإذا كانت هناك كفارات واجبة عليه كتب أن عليه كفارات من أيمان أو نحو ذلك، ويكتب عددها، وما هو واجبٌ لله عز وجل في هذا، وهكذا بالنسبة لبقية الحقوق المالية لله عز وجل. أما الوصية المندوبة، فهي أن توصي لقريب ضعيف، كأن يكون لك ابن عم، أو ابن خال، أو قريبٌ فقير ليس عنده مال، وأنت ستترك لورثتك مالاً، فتأخذ من وصيتك في حدود الثلث فتوصي لأقاربك؛ إذا لم يكونوا من أهل الإرث، أما إذا كانوا وارثين فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فقال: (لا وصيةَ لوارث). وقد أعطى الله الحقوق لأصحابها في الميراث، فإذا كان القريب وارثاً فلا توص له، وإنما توصي للقريب الذي لا يرث، كابن عمٍ محجوب، أو ابن أخت أو ابن خالة أو ابن عمة، وتعلم أنه محتاج فتوصي له، فهذه وصيةٌ مندوبة مستحبة. وقد تصدق الله عز وجل على العباد بثلث أموالهم، وذلك هو الحد الذي يوصي الإنسان به، لما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الثلث والثلثُ كثير)، حينما كان سعد يريد أن يوصي بكل ماله. فالثلث هو الذي يوصي به الإنسان، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (لو أن الناس غضوا من الثلث). يعني: إذا أردت أن توصي فلا تصل إلى الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والثلث كثير)، وسيأتي إن شاء الله بيان أحكام الوصايا في كتابها وبابها. والحاصل أن من حقوق المريض أن تأمره بالتوبة وتأمره بالوصية، وتقول له: يا فلان! إذا كانت عليك حقوق أو ديون فاكتبها، فهذا المرض الذي نزل بك يوجب عليك أن تحتاط لنفسك، وتستبرئ لذمتك، فتكتب ما عليك من الحقوق للعباد ولله. وإن كان على الإنسان صيام أيام كتبها، أو نحو ذلك من الحقوق والواجبات التي تقضى عنه بعد موته.

استحباب ولاية أمر المريض لأحب الناس إليه وأصبرهم عليه

استحباب ولاية أمر المريض لأحب الناس إليه وأصبرهم عليه يقول المصنف رحمه الله: [وإذا نُزل به سن تعاهد بلّ حلقه بماءٍ أو شراب]. قوله: (وإذا نزل به) أي: نزل به الموت، وللموت أمارات وتكون قبل سكرات الموت، ثم تفضي بالإنسان إلى السكرات، ثم تنتهي به إلى الممات، فمن أمارات الموت وعلاماته: أن يكون المرض ميئوساً منه، أو يكون مرضه من الأمراض التي لا يرجى شفاؤها، ولله عز وجل سنن كونية جعلها تدل على ما ينشأ أو يقع، فإذا كان هناك أطباء قرروا أن المرض الذي أصيب به المريض قد ثبت بالتجربة والعادة والاستقراء أنه لا يبقى صاحبه، فهذه من علامات الموت. ومن العلامات التي تدل أن الإنسان سينتهي به مرضه -في الغالب- إلى الموت أن يشتد به المرض، أو يحصل له من الحوادث أو الوقائع ما يدل على أنه لا يرجى برؤه ولا يرجى بقاؤه، فهذه كلها من الأمارات التي تسبق الموت وتدل عليه. فإذا كان الإنسان قد رأى علامات الموت، أو اطلع الأطباء على أن المرض الذي معه لا يرجى برؤه؛ فينبغي على الإنسان أن يتهيأ، وعلى أقرباء المريض إذا رأوا أن المرض لا يرجى برؤه، فعليهم أن يتركوا أمر المريض إلى أحب الناس إليه وأرفقهم به؛ وذلك لأن هذه الساعات الأخيرة من الدنيا يكثر فيها شكاية المريض، ويكثر فيها توجعه، ويكثرُ تفجعه وتألمه. فإذا كان الذي يتولى أمره معروف باللطف والإحسان في المعاملة، فإنه يتسع صدره في تحمل هذه الأمور، ويكون أدعى إلى الرفق بالميت. ولذلك نبه العلماء رحمة الله عليهم والسلف الصالح -منهم الإمام الشافعي - على أنه يستحب أن يترك أمر ولاية المريض في آخر حياته إلى أرفق الناس به، وقد يكون أرفق الناس به ابنه، وقد تكون إحدى بناته، وقد تكون إحدى زوجاته، وقد يكون أحد أقاربه من أبناء الأعمام أو أبناء الأخوال، فالشخص الذي يُعرف ارتياح المريض له، وكذلك حبه له وأنسه به، هو الذي يترك له القيام على شأنه. ويُتأكد ذلك حينما تكون هناك الأسباب والعواقب الحميدة لهذه الولاية؛ منها: الرفق بالمريض وعدم التضجر والسآمة، بخلاف ما إذا وليه من هو دون ذلك، فإنه ربما يضجر ويسأم، فالمريض في شدة المرض إذا رأى السآمة والملل من الذي يليه وقع بين نارين، لا يدري أيصبر على مرضه فيكتوي بنار المرض، أم يبوح بسره أنه يحتاج إلى أمر فيكتوي بنار المذلة والمهانة والتضجر والسآمة، خاصةً إذا كان عزيزاً كريم النفس، فإنه ربما لو رأى الموت لا يسأل الناس؛ من شدة كرامة نفسه عليه وأنفته. فينبغي أن يترك أمر ولاية المريض إلى أرفق الناس به، وألطفهم في معاملته وأحلمهم به، ويجب على المسلم أن يتقي الله في المريض، فإن المريض ممن يرحم ويستحق الرحمة؛ ولذلك لما سُئل أحد الحكماء العقلاء من العرب في الجاهلية: من أحب ولدك إليك، وأكثر عطفك عليه؟ قال: (الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ) فالمريض يحتاج إلى العطف والرحمة والشفقة. وينبغي للإنسان مهما رأى من الأذية والضجر أن يتسع صدره، خاصةً إذا كان المريض أحد الوالدين، أو ممن له حق أو فضل كالعالم؛ لأن المريض أثناء المرض تضيق عليه الأرض بما رحبت، بل وتضيق عليه نفسه التي بين جنبيه، ومن شدة وطأة المرض قد لا يستطيع أن يترفق في أسلوبه ولا في كلامه ولا في معاملته، وقد يغلب عليه الجفاء، وقد يكون فظاً في كلامه وحديثه، فينبغي للإنسان أن يتسع صدره.

أمور تعين من يلي المريض على سعة الصدر

أمور تعين من يلي المريض على سعة الصدر ومما يوسع الصدر: العلم بسعة ثواب الله جل وعلا، خاصةً إذا كان من الوالدين ومن القرابة؛ فإن الله يعظم أجرك ويجزل ثوابك، فترحمه. فاستشعار عظم الثواب عند الله عز وجل، فإنه مهما تضجر المريض منك وآذاك وثقل عليك؛ إذا تذكرت ما لك عند الله من المثوبة، هان عليك كل ما يكون منه، ولذلك كلما تذكر المسلم عظم الثواب هانت عليه مشقة الطاعات وعناؤها وكدرها. ومن ذلك أن تنزل نفسك منزلته، فإنك حينما ترى ما هو فيه من الألم والمشقة والعناء؛ فإنه يتسع صدرك لتحمل ما يكون منه، وتقول: لو كنت مكانه لفعلت أشد، ولقلت ما هو أسوأ من هذا. ومن الأمور التي تعين على سعة الصدر: أن تذكر حقه عليك إن كان والداً ونحوه، فإن تذكُّر الحقوق يدعو إلى الصبر؛ فتتذكر اليد والنعمة والإحسان حتى تصبر على ما يكون من أذية وامتهان، ومن شأن الكرماء والعقلاء أنهم لا ينسون الفضل. قال الإمام الشافعي رحمه الله: الحر من حفظ وداد لحظة وتعليم لفظة. فلا يزال الإنسان مملوكاً لمن أحسن إليه، وكأنه رقيق يملكه؛ بسبب ما كان منه من إحسان. فإذا تذكرت ما للوالد من فضائل، وأنه كلما مرضت داواك وقام عليك، وتحمل مشقتك وعناءك، والأم في ذلك أشد وأكثر، فإنه يهون عليك ما تراه من الأذية والضجر. والعلماء رحمهم الله نبهوا على أنه ينبغي أن يلي أمر المريض من هو أرفق وألطف به. ثم إذا وليه ينبغي له أن ينتبه لحقوق الله وحقوق العباد التي سبق ذكرها، ويهيئه لما فيه الخير.

أمور ينبغي الإلمام بها لمن ولي أمر المريض

أمور ينبغي الإلمام بها لمن ولي أمر المريض من الأمور التي ينبغي على من ولي أمر المريض أن يكون على إلمام بها إذا رأى أمارات الموت: أن يذكر سعة رحمة الله عز وجل، فعند قرب الأجل ينبغي دائماً الاستكثار من ذكر الآيات والأحاديث وقصص السلف الصالح التي تقوي يقين الإنسان بالله جل وعلا، وتحسن ظنه بالله سبحانه وتعالى، فيتلو آيات الرحمة وآيات المغفرة، وآيات الجنة وما أعد الله فيها لعباده من رفعة الدرجات والنعيم المقيم والرضوان العظيم، فهذه تُحسن الظن بالله سبحانه وتعالى. ورد عن بعض السلف أنه لما حضرته الوفاة، أمر ابنه أن يقرأ عليه الأحاديث التي فيها ذكرُ التوبة، فكان السلف الصالح رحمهم الله يحبون ذكرها عند الموت؛ لأنها تحسن الظن، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل أن يموت بثلاث ليال: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل). والسبب في هذا: أن الميت إذا نزل به الموت، وكان قد تهيأ له بحسن الظن بالله، أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه؛ والمرء يختم له بما كان عليه من خيرٍ أو شر، فنسأل الله العظيم أن يختم لنا ولكم بخاتمة الحسنى. ورئي سلمان الفارسي رحمه الله بعد موته -كما روى أبو نعيم في الحلية- فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: ما وجدت مثل حسن الظن بالله. فحسن الظن بالله عز وجل من الفأل الحسن، وهو يقوي يقين الإنسان بالله سبحانه وتعالى، ولما شُكي للنبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان ربما يتفجع ويكره الموت قال: (إنما ذلك العبد الصالح، إذا حضرته الملائكة فبشرته بما عند الله من المثوبة؛ أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، والعبد الفاجر إذا نزل به الموت فبشرته الملائكة بما عند الله من العقوبة؛ كره لقاء الله فكره الله لقاءه) نسأل الله السلامة والعافية. وقد ذكر العلماء رحمهم الله -ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى في الجزء الثامن عشر- أن السلف الصالح تسامحوا في بعض الرؤى والقصص والمنامات، بشرط ألا تعارض الأصول الشرعية، وألا تشتمل على محاذير؛ فبعض الرؤى التي تتضمن ما دلت عليه النصوص في الكتاب والسنة من حسن الظن بالله، لا حرج أن يحكيها الإنسان ويخبر عنها ما لم تعارض كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ما عند الله فوق ما فيها من البشارة؛ فإنه مهما كان في نفسك من حسن الظن بالله، فاعلم أن الله فوقه دون أن يخطر لك على بال. أثر عن الإمام مالك رحمه الله أنه مرض مرضَ الموت، فأغمي عليه ثلاثة أيام، ولما أفاق في اليوم الرابع -وكان آخر أيامه من الدنيا- قالوا له: كيف أنت يا أبا عبد الله؟ قال: أرى الموت -أي ما أظن إلا أني ميت- ولكنكم ستعاينون من رحمة الله ما لم يخطر لكم على بال. وهذه بشارةٌ عظيمة من هذا الإمام العظيم رحمة الله عليه، ولذلك إذا رأى المؤمن دلائل البشائر، ورأى أمارات السرور من الملائكة التي تتلقاه؛ لو خيّر ساعتها بين الرجوع إلى الدنيا وما عند الله لاختار ما عند الله على أهله وماله وولده والناس كافة. فلا شك أن حسن الظن بالله مطلوب، فمن يلي المريض يقوي مثل هذه الأمور في نفسه، ويقص عليه من قصص السلف الصالح وأخبارهم، وكيف كانت خواتمهم؛ فإن ذلك مما يقوي يقينه بالله سبحانه وتعالى؛ ويعينه على ما هو فيه من شدة الموت وسكراته.

استحباب تعاهد بل حلق المريض بماء أو بشراب وبيان العلة في ذلك

استحباب تعاهد بل حلق المريض بماء أو بشراب وبيان العلة في ذلك قول المصنف رحمه الله: [سن تعاهد بل حلقه بماء أو شراب]: المراد به أن يقوى المريض على قول لا إله إلا الله، وهذا من الرفق بالمريض؛ وذلك أنه إذا خُتِمَ له بهذه الكلمة العظيمة دخل الجنة، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة). قال بعض العلماء: أي قالها بقوة إيمانٍ ويقين كامل؛ فإنه سيدخل الجنة. بمعنى: أنه لا يسبقه على ذلك عذاب من الله سبحانه وتعالى، وهذا إذا كمل توحيده، وكَمُل إخلاصه، فإنه يقولها عند الموت بقوة يقين؛ لأنه قد ترك الدنيا وراء ظهره، وأقبل على الآخرة؛ ولذلك تجده في هذه الحالة أصدق ما يكون، ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه لما بلغ هذا المبلغ عند ذكر وصيته قال: في ساعةٍ يؤمن فيها الكافر، ويوقن فيها الفاجر، وذلك بسبب ما يرى الإنسان من إمارات الحق لدار الحق والصدق وهي الآخرة، فإذا قال الإنسان هذه الكلمة خُتِمَ له بخاتمة السعداء، وهذه من علامات حسن الخاتمة.

علامات حسن الخاتمة

علامات حسن الخاتمة للخاتمة الحسنة علامات في الأقوال والأفعال، وظواهر الموتى، فمن علامات حسن الخاتمة القولية: قول "لا إله إلا الله"، والموت على ذكر الله جل جلاله، ومن هنا قال العلماء: (من أكثر من شيء في الدنيا فإنه يُختمُ له به)، أي: في الغالب، فإن كان كثير الطاعة لله جل جلاله، كثير الصلاة، كثير الصيام، كثير القربة؛ فإنه يأتيه الموت وهو ساجد بين يدي الله أو راكعٌ أو صائم، أو يأتيه وهو ذاكرٌ تال للقرآن، أو يأتيه وهو على تسبيح أو على استغفار أو تهليلٍ أو تحميد، أو غير ذلك من الطاعات والقربات. ومن أكثر من الصلة والبر والإحسان إلى الضعفة والمساكين؛ ربما جاءه الموت وهو خارجٌ في صلةِ رحم، أو بر والدين، أو طاعةٍ لله سبحانه وتعالى على حسب ما استكثر. وأما من استكثر من الحرام والفحش، فإن الله عز وجل يختم له بما كان له من غالب حاله، حتى لربما ذُكّر بلا إله إلا الله فامتنع عن قولها، ولربما تكلم بالحرام، ولربما تكلم بالغناء والفُحش والدعارة وهو في آخر لحظاته من الدنيا فيختم له بخاتمة السوء، نسأل الله السلامة والعافية! وفي حوادث الناس وأخبارهم ما تشيب له رءوس الولدان مما كان من حسن الخاتمة وسوئها، فالإنسان إذا أكثر من الخير فإن الله يختم له بخير، ومن هنا قال بعض العلماء في قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]؛ قالوا: الإنسان لا يملك أن يموت على الإسلام، بمعنى أنه لا يستطيع أن يقطع أن يموت مسلماً، ولكن المراد من الآية وكونوا على الإسلام، حتى إذا جاءكم موت جاءكم وأنتم على طاعة الله جل جلاله وعلى محبته ومرضاته؛ فيُختم للإنسان بالخاتمة الحسنة. ومن علامة حُسن الخاتمة التي تكون في الأفعال: أن يموت وهو في صلاة، أو يموت وهو في حج، أو يموت وهو في عمرة، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الرجل الذي وقصته ناقته: (اغسلوه بماءٍ وسدر، وكفنوه في ثوبيه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً). فقوله: (إنه يبعث يوم القيامة ملبياً) أي: يبعث على هذه الحالة التي مات عليها من طاعة الله تبارك وتعالى، ولذلك ينبغي للمسلم -كما قلنا- أن يكون على خصال البر حتى يختم الله عز وجل له بالخاتمة الحسنة، ومن هنا شدد العلماء في تعاطي المحرمات التي قد تفضي إلى الموت -كشرب الخمر والعياذ بالله- فإن الإنسان إذا تعاطى مثل هذه المحرمات قد يُختمُ له بها، فقد يموت شارباً للخمر فيهوي في النار لزوال عقله، فيحرق بنار الدنيا قبل نار الآخرة، وقد يكون شارباً للخمر فيتردى من فوق بيته أو من شاهق، أو يطعن نفسه أو ينتحر والعياذ بالله، فهذه من علامة سوء الخاتمة في الأفعال، فكما أن حسن الخاتمة يكون في الأفعال كذلك -أيضاً- سوء الخاتمة يكون بهذه الأفعال. ومن علامات حسن الخاتمة: رشح الجبين، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن موت المؤمن يكون بعرق الجبين)، فإنه يرشح جبينه، وتكون على المؤمن الصالح البر التقي علامات الطمأنينة وعلامات الاستبشار، حتى أن بعضهم يموت وهو مبتسم؛ مما يرى عند الله عز وجل من البشائر الحسنة، فتجد ثغره باسماً يتهلل. بل إن بعض الأموات من الأخيار والصالحين لا ترى في وجوههم وحشة الموت، ولقد رأيت أحد الفضلاء وقد كان كثير الصدقات، كثير الإحسان، بعيداً عن أذية الناس، كثير الخير للضعفاء والمساكين، رأيته بعد موته فوالله ما رأيت أشرق منه وجهاً تلك الساعة، ولقد كنت أتمنى ألا يحجب وجهه عن رؤيته من لذة ما تراه، فو الله الذي لا إله إلا هو لكأنك تنظر إلى شمسٍ تتهلل من النور والضياء، وكأنه حيّ، لا ترى عليه وحشة الميت؛ وهذا كله بفضل الله عز وجل؛ ثم بما كان من الإنسان من الأعمال الصالحة. أثر عن عبد الله بن المبارك رحمه الله أنه لما حضرته الوفاة، لقنوه قول "لا إله إلا الله" ثم نظر إلى السماء فتبسم ثم قال: لمثل هذا فليعمل العاملون. وهذا يدل على أنه رأى خيراً من الله سبحانه وتعالى، وهي بشارةٌ حسنة، وكم في قصص الأخيار والصالحين من حسن الختام، والبشائر التي تدل على لطف الله عز وجل بأوليائه وأحبابه! ولا شك أن الإنسان إذا عمل العمل الصالح، فإنه ينتظر من الله أن يرحمه ولا يعذبه، وينتظر من الله عز وجل أن يعزه ولا يذله، وأن يكرمه ولا يهينه، وألا يخزيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، فمن عاجل ما أعد الله للأخيار الصالحين: أن الله لا يخزيهم في الدنيا ولا يخزيهم في الآخرة؛ ولذلك تكون خاتمتهم على أحسن ما تكون عليه الخواتم، وترى من ثناء الناس ودعائهم وتفطر القلوب على فراقهم، ما يشهد بالقبول من الله جل وعلا، فإن الله إذا وضع القبول للعبد في السماء وضعه له في الأرض. قوله: [تعاهد بل حلقه بماء أو شراب] أي: حتى يسهل عليه النطق بهذه الكلمة، وحتى يكون آخر ما يقول "لا إله إلا الله"، وإذا قال: "لا إله إلا الله" (مرة) سكت عنه حتى لا يضجر، فإن تكلم بعدها بكلام من الدنيا أعيدت عليه بعد فراغه من كلام الدنيا وقضاء حاجته. وفي تلقين الأموات أحوال: فبعضهم قد تخاف منه السآمة والضجر، وبضعهم لا تخشى منه شيئاً، بل إن بعضهم يفرح حين يجد من يلقنه التهليل ويستبشر، وتجد عليه الأنس والسرور، فهذا لا إشكال فيه. أما إذا كنت تخشى منه الضجر أو تخشى منه السآمة فعليك أن تلقنه بطريق غير مباشر، كأن تذكر شيئاً من عظمة الله عز وجل، ثم تقول: لا إله إلا الله، أو تقولها بلسان خاشع وقلب خاشع إذا رأيت منه الغفلة؛ فإن هذا يدعوه إلى التأسي بك والاقتداء بك، فإن ذكر الله يحث على ذكره سبحانه وتعالى، ويشوق إلى ذكر هذه الكلمة الطيبة. يتعاهد بل حلقه بالماء أو بالشراب إذا كان هناك عصير ونحو ذلك مما يعين على سهولة نطقه وحديثه. وكذلك بل الحلق بالماء فيه فائدة ثانية، وهي أنه ربما يحتاج المريض إلى شيء، فإذا احتاج إلى هذا الشيء لا يستطيع أن يتكلم وحلقه جاف، وفي جفاف الحلق عسر عليه وأذية ومرض، فمن اللطف والرحمة به أن يبله، وهذا يدخل في عمومات الشريعة التي تدل على الرحمة والإحسان. يقول المصنف رحمه الله: [وندي شفتيه بقطنةٍ]. قوله: [ويندي شفتيه بقطنة] كل ذلك من أجل أن يسهل عليه الكلام والحديث، وهو أيضاً أرفق؛ لأنه إذا اخشوشن حلقه ربما تضرر، وحصلت له المشقة إذا طلب شيئاً أو سأله، وربما تعذر عليه أن يتكلم بما يحتاج. قال المصنف: [وتلقينه "لا إله إلا الله" (مرةً) ولا يزد على ثلاث، إلا أن يتكلم بعده فيعيد تلقينه برفقٍ]. هذه من علامات حسن الخاتمة، وقد تقدم الحديث عليها، ومنها أن يختم للإنسان بقول "لا إله إلا لله"، ومن قال: "لا إله إلا الله" في آخر حاله من الدنيا؛ فإن الله عز وجل يحجبه عن النار على أحد الأقوال. وقال بعض العلماء: قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) أي: أنه إذا كان عاصياً أو عنده كبائر ذنوب وأراد الله أن يعذبه، فإن الله لا يخلده في النار، وأن أمره سينتهي به إلى الجنة. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يجعل أسعد اللحظات وأعزها لحظة الوقوف بين يديه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

تكرار عيادة المريض

تكرار عيادة المريض Q هل من السنة تكرار عيادة المريض، خاصةً إذا طال مرضه أثابكم الله؟ A لا يخلو تكرار عيادة المريض من أحوال: الحالة الأولى: أن يكون المريض محتاجاً إلى هذا التكرار فلا إشكال في مشروعيته، وقد يتأكد، وقد يجب وذلك إذا كان المريض شديد القرابة كالوالدين والأبناء والبنات والإخوان والأخوات، فهؤلاء جرت العادة أن الإنسان يعودهم، بل قد تجري العادة في بعض الأحيان ألا يفارقهم إلا عند الحاجة والضرورة؛ فلذلك يتأكد على الإنسان أن يكرر عيادتهم ويتفقد أحوالهم. الحالة الثانية: أن تكون تكرار عيادة المريض موجبة للسآمة والملل والضجر، فهذا ينبغي للإنسان أن يتقيه، وفيه مضرة وأذية للمريض، وأذية لأهل المريض، بل ينبغي على الإنسان أن يخفف عنهم، حتى في حال الزيارة لا يطيل القعود، ولا يطيل المكث، إلا إذا كان المريض يرتاح لذلك، وغلب على ظنك أنه يأنس بك، وأما إذا كان إنساناً ثقيلاً فإنه ينبغي عدم الإطالة، وإذا رأيت من المريض السآمة والملل، فإنه يشرع لك أن تقيم هذا العائد بأسلوب ليس فيه طرداً له، خاصةً إذا رأيت تعب المريض وضجره، فإن بعض الناس يمل ويثقل ويؤذي، وربما يدخل في العيادة بعض المشاكل أو بعض الفتن التي تقع بين القرابات أو تسبب خصومة، فمثل هذا يرى بعض العلماء أنه يشرع حجبه إذا كان في تكراره ما يوجب ذلك، أو يحصل به هذا المكروه؛ فإن درء المفاسد مطلوب، وما يتوقف عليه درء المفاسد يعتبر لازماً؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فدرء المفاسد واجب، وما لا يتم تحقيق هذا الواجب إلا به فهو واجب. أما الحالة الثالثة: فهي أن يطول العهد بينك وبين المريض، أو تريد أن تطمئن عليه فلا ترتاح نفسك، كحبك وصديقك، فتريد أن تتفقد حاله؛ لأنك لا ترتاح حتى تراه وتطمئن عليه، فهذا تؤجر عليه، وهو -إن شاء الله- يعتبر من الإحسان الذي نُدب إليه، والله تعالى أعلم.

قياس أجر زيارة المريض بصاحب الهم والمصيبة

قياس أجر زيارة المريض بصاحب الهم والمصيبة Q هل تقاس زيارة المهموم وذي المصيبة على زيارة المريض من حيث ثواب الزيارة والعيادة أثابكم الله؟ A أما الثواب فهو أمرٌ غيبي لا يعلمه إلا الله علاّم الغيوب، ليس هناك نص معين يدل على مقدار ما للإنسان إذا واسى مصاباً أو عزى من له ميت، فهذا مما يسكت عنه ويوكل الأمر إلى الله جل جلاله، فقد يكون ثوابه أكثر من عيادة المريض، وقد يكون مساوياً له، وقد يكون أقل، فعلم ذلك إلى الله جل وعلا، وهذه الأمور يسميها العلماء بالأمور التوقيفية، ويسمونها بالسمعيات؛ لأنه يتوقف فيها، ولا يتكلم المفتي فيها إلا بحدود النصوص، وليس في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على تحديد مقدار الأجر في ذلك، هل هو أكثر من العيادة أو مثلها أو دونها، ولذلك يتوقف في هذا الأمر، والظن بالله حسن والله تعالى أعلم.

نبش القبر إذا قبر الميت دون غسل

نبش القبر إذا قبر الميت دون غسل Q هل ينبش قبر الميت ويغسل إذا قبر قبل غسله؟ A نعم، هذه من الأحوال التي تبيح نبش القبور، إذا أُمن التغير ودفن قبل أن يغسل أو قبل أن يكفن، فإنه في هذه الحالة يطلب نبش القبر وتغسيله وتكفينه والقيام بحقه، والسبب في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالقيام بحق الميت من تغسيلٍ وتكفين، فقال -كما في الصحيحين من حديث ابن عباس - في الذي وقصته دابته: (اغسلوه بماءٍ وسدر -هذا أمر، والأمر للوجوب- وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه، ولا تمسوه بطيب، ولا تخمّروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) فأمر صلوات الله وسلامه عليه بهذه الأوامر، ونهى عن هذه النواهي، وهذا يدل على اللزوم والوجوب. وكذلك قال في ابنته: (اغسلنها بماءٍ وسدر) (اغسلنها): أمر، فذلك في الرجال وهذا في النساء، فهذا يدل على وجوب القيام بتغسيل الميت وتكفينه ورعاية حقه، فإذا قبر الميت قبل أن يغسل، أو قبل أن يكفن فإنه يشرع نبش القبر وتغسيله وتكفينه. وهكذا إذا غسله ولم يتم تغسيله على الوجه الذي يحصل به القيام بالواجب، كأن يكون ترك عضواً من أعضائه، فحينئذ ينبش ثم يغسل مرة ثانية ويكفن وهكذا إذا قُبر عارياً بدون كفن، فإنه يشرع أن ينبش ثم يكفن ويقام بحقه على الوجه المعتبر والله تعالى أعلم.

حكم كشف وجه الميت في القبر

حكم كشف وجه الميت في القبر Q هل يصح كشف وجه الميت في القبر أثابكم الله؟ A هذا ذكره العلماء في الكشف عن وجه الميت، قالوا: لأن التكفين إنما هو للجسد، ويكشف بمكان الحساب، ولا أحفظ في ذلك نصاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجرى به عمل الناس، ولكن لا يحكم ببطلانه إلا بدليل، خاصةً وأن بعض العلماء -رحمة الله عليهم- أشاروا إليه، وقالوا: إنه تحل عن الميت الأربطة، ويكون حل الأربطة في القبر لمكان الإقعاد، وفي الصحيح (يأتيان ملكان فيقعدانه) قالوا: فتحل الأربطة ويكشف عن الوجه؛ وذلك لمكان السؤال والحساب والله تعالى أعلم.

حكم صلاة الجنازة على المحدود في حد من حدود الله عز وجل

حكم صلاة الجنازة على المحدود في حد من حدود الله عز وجل Q ما حكم صلاة الميت على المقتول حداً، أو كان مقتولاً بحد الحرابة أثابكم الله؟ A الميت المسلم إذا قتل بحد، كأن يكون زانياً محصناً، ثم رجم حتى مات، أو قتل عمداً وعدواناً، ثم اقتص منه فقتل، أو قتل حرابةً؛ فإنه يشرع تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، ويُصلى عليه ويدعى له ويستغفر له ويترحم عليه؛ لأنه من المسلمين، وهو أحق بالاستغفار والترحم؛ لمكان حاجته إلى توبة الله عز وجل عليه، وإن كان قيام الحدود بالمذنبين كفارةٌ لهم في الدنيا، وكفارةٌ لهم في الآخرة، ولكن كونه على جرم أو كونه على فسق؛ أدعى أن يستغفر له الإنسان وأن يترحم عليه، وهكذا إذا كان مبتلى بالمسكرات والمخدرات يشرع أن يصلى عليه، وأن يعزى أهله، وليس هناك دليل يخرجه من الإسلام حتى يحكم بمعاملته معاملة الكافر. فبعض من الناس -أصلحهم الله- يغلو، فتجده لا يعزي أهل الميت إذا مات في شرب خمر، أو مات في معصية من كبائر الذنوب، وهذا خطأ! فإن المسلم العاصي إذا لم تبلغ معصيته به إلى الكفر يشرع معاملته معاملة المسلم المطيع. ولكن الذي ذكره العلماء رحمة الله عليهم: أنه لا يصلي الإمام العام ومن له تقدم كأهل الفضل، على أهل المعصية؛ زجراً للناس أن يفعلوا فعلهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على ماعز. والصحيح: أنه يشرع أن يصلى عليه، وخاصةً إذا اعترف بذنبه وأقر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له عمر: (أتصلي عليها وقد فعلت ما فعلت -المرأة التي زنت-؟! قال: والذي نفسي بيده! لقد تابت توبةً لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم) وأثنى عليها عليه الصلاة والسلام، لأنها تابت وأقرت. قالوا: كما أنها تابت وأقرت، كذلك من أقيم عليه الحد، فإنه في حكم ذلك، وهذا هو الصحيح، فإذا أقر بذنبه وأقيم عليه الحد شرع أن يصلي عليه حتى الإمام الراتب؛ لأنه تاب وخرج من ذنبه، فبقي على الأصل العام، بل إنه إذا صلى عليه الإمام الراتب، دعا أن يسلكوا مسلكه ليتوبوا إلى الله وينيبوا من ذنوبهم. أما لو أقيم عليه الحد بدون إقرار منه، فبعض العلماء يقول: إنه لا يصلي عليه الإمام الراتب، زجراً للناس، فإن كان هذا المعنى -وهو الزجر- يتحقق، قد يشرع له على هذا القول، أما إذا كان لا يتحقق فإنه لا مانع أن الإمام يصلي عليه؛ لأنه يفوت على نفسه فضيلة القراءة في الصلاة عليه والاستغفار له والترحم عليه. ولذلك يشرع أن يصلى على أموات المسلمين عموماً، وأن يقام بحقوقهم، وأن يدعى لهم، ويستغفر لهم، وكونهم أذنبوا فيما بينهم وبين الله لا يمنع أن نقوم بحقهم من الدعاء والاستغفار لهم؛ ولذلك قالوا عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: إنه كان يغبط الحجاج على أمرين -وكان الحجاج كثير المعصية لله عز وجل بما كان منه عمل- فكان عمر بن عبد العزيز يغبطه على أمرين: الأمر الأول: أنه كان يعتني بكتاب الله عز وجل، وكانت عنايته بالكتاب عجيبة. وأما الأمر الثاني الذي غبطه عليه: أنه قال قبل أن يموت: اللهم اغفر لي؛ فإنهم يزعمون أنك لا تغفر لي. أي: إن مغفرتك وحلمك وعفوك أوسع من هؤلاء، وإني أسألك -مع أنهم يقولون إنك لا تغفر لي- أن تغفر لي، فإن يقيني بك أنك ستغفر لي. فغبطه على هذه الكلمة، حتى إن الحسن البصري رجا له الخير حينما سمع عنه أنه قال هذه الكلمة. فالعصاة والمذنبون ربما يكون بينهم وبين الله عز وجل توبة، وقد يكون بينهم وبين الله عز وجل عمل، فيغفر الله لهم ما كان منهم. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المخطئين والمذنبين من الأئمة: (فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم -أي: عملكم الصالح- وعليهم -أي: خطؤهم عليهم-) فهذا مذنب وذنبه عليه، ولكن كونك أنت مسلم تحس بما بينك وبينه من حقوق، فلا يمنع أن تترحم عليه، وتستغفر له وتدعو له بالخير، ولعل الله عز وجل أن يرحمه بشفاعتك، فيكون هذا من الخير لك في دينك ودنياك وآخرتك؛ فإن الله عز وجل يرحم من عباده الرحماء، فيستغفر لهم ويترحم لهم، ويُذكرون بما كان منهم من صالح الأعمال، ويكف عن سيئاتهم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

مقدمة كتاب الجنائز [2]

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنائز [2] هناك أمور ومستحبات ينبغي فعلها عند من حضره الموت، منها ما يفعل عند معالجته للسكرات، ومنها ما يفعل بعد قبض روحه، كغسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، ويسن الإسراع في تجهيزه، وإنفاذ وصيته، وقضاء دينه.

من أحكام المحتضر

من أحكام المحتضر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فيقول المؤلف عليه رحمة الله: [ويقرأ عنده: يس]. لا زال المصنف رحمه الله يبين جملةً من المسائل والأحكام المتعلقة بالمحتضر؛ وذلك أن الفقهاء -رحمهم الله- من عادتهم أن يبينوا بعض السنن والآداب والأحكام المتعلقة بالمرضى والمحتضرين في باب الجنائز، وقد سبق بيان جملة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم في الشخص المحتضِر، وما ينبغي عليه من التهيؤ في قدومه على الله عز وجل، والمحافظة على حقوق الله سبحانه وتعالى وحقوق عباده من الوصايا ونحو ذلك من الأمور التي سبق التنبيه عليها.

قراءة يس عند المحتضر

قراءة يس عند المحتضر وهنا قال رحمه الله: (وتقرأ عنده (يس)). وقد ورد بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسنه غير واحد من أهل العلم، وذكر بعض أهل العلم -رحمهم الله- أن السبب في ذلك: أنها تسهل خروج الروح من جهة كون الإنسان يسمع فيها ذكر الجنة، وما أعد الله عز وجل لعباده المحسنين من حسن الثواب والعاقبة، فيحب لقاء الله عز وجل، وكلما كان الإنسان في مثل هذا المقام يحسن الظن بالله عز وجل واليقين فيه سبحانه وتعالى، كان ذلك أرجى لرحمة الله له، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله). فلهذا قالوا: لقد ورد الخبر بقراءة هذه السورة لاشتمالها على ذكر الجنة، وما فيها من إحسان الله عز وجل لعباده المؤمنين. وأما بالنسبة لما قاسه بعض العلماء على هذه السورة، فقال بعض أهل العلم: يقرأ (الفاتحة) لفضلها، ويقرأ سورة (تبارك) لأنها المنجية. والصحيح: أن تخصيص (الفاتحة) وتخصيص سورة (تبارك) لا أصل له في هذا الموضع؛ ولذلك لا يقاس على (يس) غيرها من السور، بل ينبغي أن يعبد العبد ربه بما شرعه له، فإن ثبت الخبر بـ (يس) اقتصر عليها. وسورة الفاتحة لا شك أنها من أفضل القرآن وأعظمه وأجله، ولكن لا يخص هذا الوقت وهذا الزمان بفعلٍ ولا بقراءةٍ إلا بدليل شرعي، وعلى هذا يقتصر على قراءة (يس). وأما قول بعض العلماء: إنه يقرأ سورة (تبارك)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصفها بكونها منجية، فالخبر ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم في قراءتها عند النوم: (أعرف في القرآن سورةً ثلاثون آية، ما زالت بصاحبها حتى أنجته من عذاب القبر) ثم ذكرها وهي {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] فهذا يدل على تخصيصها في هذا الموضع، فيقرؤها في هذا الموضع، وأما ما عدا ذلك فإنه يقتصر على الوارد، وهذا هو الأصل والسنة وينبغي المحافظة عليه.

توجيه المحتضر إلى القبلة

توجيه المحتضر إلى القبلة قال رحمه الله: [ويوجهه إلى القبلة]. هذه الأمور -قراءة سورة (يس) والتوجيه- تتعلق بالشخص الذي عند المحتضر، ومن عادة العلماء أن يبينوا الأمور التي يقوم بها الإنسان في حق نفسه، وكذلك الأمور التي ينبغي على الغير أن يقوم بها في حق ذلك المحتضر، فذكروا بالنسبة للشخص الذي عند المحتضر فعليه أمران: أحدهما: قولي، وهو قراءة السورة. والثاني: فعلي، وهو توجيه المحتضر إلى القبلة. وللسلف رحمهم الله في توجه المحتضر قولان: قال جمهور العلماء بمشروعيته، وأنه يستحب أن يوجه عند الاحتضار. وقال بعضهم: بأنه لا يوجه، وهو المأثور عن سعيد بن المسيب رحمه الله، وأنكره على ابن أخيه. والصحيح: أنه يشرع؛ وكونهم فعلوه بـ سعيد بن المسيب رحمه الله دل على أنه كان معروفاً في زمانه، وقد قال عليه الصلاة والسلام في القبلة: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً) وأفضل ما يوجه إليه هو القبلة، ومن هنا: لا حرج في تقبيل الميت وتوجيهه إلى القبلة، وهذا التوجيه يكون على صورتين: الصورة الأولى: أن يرفع صدره قليلاً، وتكون رجلاه إلى جهة القبلة، فيكون مستقبلاً للقبلة بصدره وبوجهه. والصورة الثانية: أن يكون مستقبلاً للقبلة كحال من ألحد في القبر، بأن يضجع على شقه الأيمن على جهة القبلة. والأرفق به الصورة الأولى: وهي أن يرفع صدره قليلاً، ثم يكون وجهه إلى جهة القبلة، على خلاف ما يفعله بعض العوام من وضع رأسه جهة القبلة، فإن هذا على عكس القبلة، وإنما التقبيل أن توضع قدماه أو رجلاه جهة القبلة، ويرفع صدره قليلاً، والدليل على ذلك: أن الإنسان إذا صلى وهو مضطجع، يصلي على هذه الحالة، ولذلك يكون التقبيل بهذا الوجه.

من أحكام الميت بعد قبض روحه

من أحكام الميت بعد قبض روحه قال المصنف رحمه الله: [فإذا مات سن تغميضه].

تغميض عيني الميت

تغميض عيني الميت ذكرنا أنه إذا كان الإنسان في حالة الاحتضار والنزع يلقن "لا إله إلا الله"؛ لما فيها من الفضل، ولأن الإنسان إذا كان آخر كلامه من الدنيا "لا إله إلا الله" دخل الجنة، ومن هنا قالوا: يلقن هذه الكلمة، فإذا فعل مَنْ عند المحتضر ما ذكرناه من الأقوال والأفعال ومات الإنسان، فالسنة أن يبدأ أول ما يبدأ بإغماض عينيه، فتغميض عيني الميت من الآداب والسنن التي تفعل بالميت إذا مات. بعد أن بين لنا رحمه الله الأمور التي تُفعل قبل الاحتضار في حال المرض، والأمور التي تفعل أثناء الاحتضار شرع رحمه الله في بيان الأمور التي تُفعل بعد خروج الروح، فإذا قضى الإنسان، وخرجت روحه، فهناك حقوق وواجبات وآداب وسنن ينبغي على من حضر الميت أن يفعلها، وهي من حق الميت على الحي: أولها: تغميض عينيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غمض عيني أبي سلمة، وكذلك جاء في حديث شداد بن أوس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإغماض العينين، وقال: إن الروح إذا قبضت تبعها البصر) فلذلك يشخص بصر الميت عادةً إلى السماء، فالسنة: أن يبدأ أول ما يبدأ بتغميض عينيه، فيطبق الجفنين على بعضهما.

لزوم الصبر على المصيبة

لزوم الصبر على المصيبة وبعد تغميضه للعينين يشرع أن يقول الوارد من الاسترجاع، وذكر الله عز وجل، وأن يبتعد عن التسخط والجزع، وأن يرضى بما أنزل الله به من بلاء، فإن الله تعالى يمتحن عباده بمثل هذا، فمن رضي في مثل هذه المواقف أرضاه الله عز وجل، وهي المواقف التي يسميها العلماء بمواقف الزلزلة؛ لأنه يزلزل فيها المؤمن، ويمتحن ويختبر ويبتلى. فإذا أراد الله أن يلطف به ثبت قلبه، فقال: (إنا لله وإنا إليه راجعون) أي: ما نحن إلا ملكٌ لله سبحانه وتعالى، ومآلنا ومصيرنا إليه جل وعلا، (إنا لله) أي: ملكٌ له، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا يرد له قضاء سبحانه وتعالى، فإذا قال هذه الكلمة (إنا لله وإنا إليه راجعون) صلى الله عليه ورحمه وغفر له، ولربما أن الله عز وجل أعَظَم منه هذه الكلمة فبوأه بها درجة أو منزلة في الجنة؛ وذلك لعظم هذا الموقف؛ ولما فيه من ابتلاء الله سبحانه وتعالى لعباده، خاصةً إذا كان الميت عزيزاً عليه كوالديه أو ولده. وفي الحديث الصحيح أن الله تعالى إذا ابتلى عبده فحمده واسترجع، فإن الله سبحانه وتعالى يعظم له الثواب، ويخلف له خيراً مما فقد، كما في الصحيح من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما من عبدٍ تصيبه مصيبةٌ فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلفني خيراً منها! إلا آجره الله في مصيبته، وأخلفه خيراً منها). فأول ما ينبغي عليه: الصبر، والصبر أمرٌ يرجع إلى القلب، فهو عملٌ قلبي، وأعمال القلوب قد تفوق أعمال الجوارح الأخرى، وهي من أحبها إلى الله سبحانه وتعالى وأقربها إليه؛ لأنها تتصل بالعقيدة، فإذا رضي وصبر فهذه أول منزلة، وأول نعمة، ورحمة يرحم الله بها المبتلين بمثل هذه المصائب. فيظهر أثر الصبر على لسانه، فيذكر الله عز وجل؛ لأن المؤمن إذا نزلت به المصيبة لا يتوجه إلاّ إلى الله، وهذا من كمال إيمانه، ولكن الكافر وضعيف الإيمان يتسخط ويجزع ولا يدري أين يذهب، فمن رحمة الله عز وجل بالمؤمن أن الله يثبته في مثل هذه المواقف، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ويقول الوارد في ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام.

الرضا بما قدر الله عز وجل

الرضا بما قدر الله عز وجل ثم بعد ذلك يصحب هذا الصبر الرضا، فإنه قد يعطى الإنسان الصبر ولا يعطى الرضا؛ أي أن الإنسان قد يصبر على كره ويبقى في نفسه متسخطاً جزعاً. وينبغي أن يصحب صبره بالرضا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الترمذي وغيره: (إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضاء. ومن سخط فعليه السخط) فالناس إما راضٍ وإما متسخط. فالأمر الثاني الذي يصحب الصبر عمل قلبي وهو رضاه بما أنزل الله به من مصيبة، فلا يجزع ولا يتسخط. قال العلماء: ومن الرضا عند المصيبة إحسان الظن بالله عز وجل، فالإنسان إذا فقد أباه سلط عليه الشيطان ابتلاءً واختباراً، فيقول له: قد فقد من يعولك! وقد فقد من يقوم عليك! وقد فقد كذا وكذا فإذا أراد الله أن يجعل له الرضا على أتم وجهٍ أحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، فقال: ما هذا الأب إلا رحمة من الله عز وجل، وكما أن الله رحمني بأبي فسيرحمني بغيره، ولن يكلني إلى أحدٍ سواه، فيصبح فقري إلى الله وغنائي به، وكفى بتلك نعمة. فإذاً لا بد من هذين الأمرين: أن يصبر ويرضى، ويظهر الأثر بذكر ما ينبغي من الاسترجاع، وذكر الله عز وجل، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأمر الثالث فقال: (إن الملائكة يؤمنون على ما تقولون) وذلك لما قبض أبو سلمة رضي الله عنه وصاح من في الدار، نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأمرهم أن يقولوا خيراً، وبين أن الملائكة تشهد المؤمن، وأنها تؤمن على ما يقال. فإذا رزق الله العبد الصبر والرضا عند المصائب التي لا تختص بالموت من مصائب الدنيا وفجائعها، فقال: اللهم ثبتني! اللهم ارحمني! اللهم وفقني! فدعا الله أمنت الملائكة على دعائه، وكان ذلك أدعى للإجابة، فإذا قال قال خيراً، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قبض أبو سلمة قال الدعاء المأثور: (اللهم اغفر لـ أبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين! وافسح له في قبره، ونور له فيه) وهذا هو الذي يفيد؛ وهو الكلمات الطيبة، والدعاء المأثور، وذكر الله سبحانه وتعالى الذي يعود بالخير على المتبلى، ويعود بالخير حتى على الميت وأهله. فجمع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الدعوة الخير من جميع وجوهه، فهو يقول: (اللهم اغفر لـ أبي سلمة) فهذا خيرٌ للميت، (وارفع درجته في المهديين) فجعل ما يقدم عليه أبو سلمة في الآخرة رفعة درجة، وهذا من أفضل ما يكون وما يرجوه الإنسان من ربه، وبقيت حاجة أبي سلمة التي يحزن عليها من فراق أهله، فقال: (واخلفه في عقبه في الغابرين) بمعنى أن يتولى الله ذرية الإنسان وما خلف وراءه، ثم قال: (واغفر لنا وله يا رب العالمين): لأن الإنسان إذا دعا لأخيه وأشرك نفسه معه في دعائه؛ فإنه يؤمن الملك على دعائه، فقوله: (واغفر لنا وله يا رب العالمين) أي: ليس أبو سلمة وحده الذي يحتاج إلى الدعاء، بل نحن أيضاً نحتاج إلى المغفرة والرحمة، فكما يدعو الإنسان لغيره يدعو لنفسه، فيعطي الحق لنفسه ولغيره. ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وافسح له في قبره، ونور له فيه) فهذا هو الدعاء المأثور عند نزع الروح، فإذا نزعت روح الإنسان، أو بُلِّغت خبر إنسان كريم أو إنسان من عباد الله المؤمنين توفي أو قضي أو حضرت موته قلت هذا الدعاء، وإذا كنت لا تعرف اسمه تقول: (اللهم اغفر له، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين) فتنال عدة أمور كما ذكر العلماء: أولاً: تصيب فضل الدعاء. ثانياً: تصيب أجر الإحسان إلى أخيك بهذه الدعوة. وثالثاً: أن الله سبحانه وتعالى يأجرك على الاتباع والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قالوا: هذه الدعوة من أفضل الأدعية التي تقال عند قضاء الروح وبعد نزعها؛ لما فيها من التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم. كذلك يشرع له إذا كان في الدار أناس ضعاف أو متأثرون أن يذكرهم ويعظهم ويثبتهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت آل أبي سلمة، فإذا كان من طلاب العلم، أو كان من الصالحين الأخيار ذكرهم بما عند الله من المثوبة، وأن البكاء والجزع والسخط لا يرد غائباً؛ ولذلك إذا قال هذه الكلمات أحسن إلى أهل الميت، وكان فيها خيرٌ له ولهم من جهة التواصي بالحق والأمر بطاعة الله عز وجل.

شد اللحيين

شد اللحيين قال رحمه الله: [وشد لحييه]. إذا قبضت الروح قد يبقى فم الإنسان مفتوحاً، وحينئذٍ لا يؤمن من دخول الهوام، خاصةً إذا احتاج إلى وقت لكي ينقل ويغسل، فينبه العلماء على أمور هي من باب المحافظة على حرمة المؤمن، فشد اللحيين وإن لم يرد به نصٌ معين لكنه داخلٌ في الأصول العامة، والعلماء ذكروه ونبهوا عليه؛ لأن الميت إذا بقي فمه مفتوحاً فإنه يبقى حتى في قبره، وحينئذٍ تدخله الهوام ويؤذى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كسر عظم الميت ككسره حياً) أي: في الإثم، فجعل حرمته ميتاً كحرمته حياً؛ ولهذا قالوا: يرفق به. وشد اللحيين يكون بإطباق الفم، ثم بعد ذلك يجعل عصابة تجمع اللحيين؛ لأنه بعد مضي فترة يصعب رد الفم إلى طبيعته، وقفله، ولذا يبادر بذلك بعد الوفاة مباشرة؛ لأن المفاصل لينة، وتستجيب أعضاء الميت لما يفعل به من قفل الفم.

تليين مفاصله

تليين مفاصله قال رحمه الله: [وتليين مفاصله]. لأنه يحتاج لذلك عند تغسيل الميت وتكفينه، وحينئذٍ إذا مات فإنه تُلين مفاصله، حتى يسهل عند التغسيل أن يدير الماء على جميع أعضائه، والمفاصل إذا لينت بعد الوفاة مباشرة لانت عند الغسل، ولكن إذا بقيت على حالتها يابسة لم تلن عند الغسل؛ ولذلك قالوا: يلين مفاصل الميت، فيبدأ -مثلاً- باليدين يجمعها من ساعده إلى عضده، ثم يردها حتى تلين، ثم بعد ذلك يضمها إلى صدره، وبعد أن ينتهي من مفاصله العليا يأخذ رجله فيلين مفاصل الرجلين، فيضم الساق إلى الفخذ، ثم الفخذ إلى الجنب، ثم يكرر ذلك مرتين أو ثلاثاً على حسب ما تقتضيه الحاجة، فإذا لانت مفاصله سهل غسله، وسهل تفقد المغابن والمواضع الخفية أثناء الغسل، وهذا يحقق -كما ذكرنا- مقصود الشرع من القيام بغسله على وجهه. ولأنه لو ترك دون تليين فقد يكون منقبضاً أو منحنياً، فحينئذٍ يصعب تكفينه ووضعه على وضعه الطبيعي ممدوداً، لذلك لا بد من التليين حتى يبقى مستوي الأعضاء، ويمكن بعد ذلك حل ثيابه وتكفينه، والصلاة عليه، وإنزاله في قبره ووضعه بالصفة الشرعية التي ينبغي وضعه عليها في اللحد.

خلع ثيابه وستره

خلع ثيابه وستره قال المصنف: [وخلع ثيابه وستره بثوب]. وبعد أن يغمض عينيه، ويشد لحييه، ويلين مفاصله يقوم بستره بثوب، ثم ينزع عنه الثياب؛ لأن الثياب إذا بقيت سَخُنَ الجسم، وحينئذٍ ينتن ويتفسخ، ولذلك تخفف الثياب التي عليه، فإذا أمكن نزع الثياب عنه نزعت ولا شيء في ذلك. ثم يسجى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي سُجي ببرد حبرة، وهذه سنة، وفي هذا إكرامٌ للميت، فإن بقاءه مكشوفاً أمام الناس منظر غير حسن، وربما يكون أكمل وأستر وأولى له أن يغطى ويسجى، فإذا احتيج لكشف وجهه لتقبيل ونحو ذلك فلا حرج، فهذا أكمل في هيبته ورعاية حرمته. وقد فُعل برسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وأخذ العلماء من هذا دليلاً على سنية التسجية، وأنه لا يبقى مكشوفاً أمام الناس، ويوضع في مكان أرفق بجسمه وأبعد أن ينتن هذا الجسد ويتضرر بذلك النتن.

وضع حديدة على بطنه

وضع حديدة على بطنه قال رحمه الله: [ووضع حديدةٍ على بطنه]. لأن عادة الموتى أنه إذا تُرِك أحدهم ربما انتفخ، وهذا الانتفاخ يعيق في الغسل، وكذلك ربما يكون أسرع في نتنه، وتضرر من يحمله ويصلي عليه بوجود رائحة كريهة خاصة إذا انتفخ فماذا يفعل؟ يوضع شيء على بطنه، والمحفوظ عن أنس رضي الله عنه في الأثر أنه كان يأمر بوضع الحديدة، ومن هنا نجد بعض الفقهاء ينصون على أنه توضع الحديدة كمرآة ونحوها على بطنه، ولكن ذلك ليس بمقيد بالحديث، فلو وضع أي شيء يكون ثقيلاً نوعاً ما على بطنه فلا بأس.

وضعه على سرير الغسل متوجها منحدرا نحو رجليه

وضعه على سرير الغسل متوجهاً منحدراً نحو رجليه قال رحمه الله: [ووضعه على سرير غسله متوجهاً منحدراً نحو رجليه]. فيوضع على سرير؛ وذلك أنه إذا وُضع على الأرض أسرعت إليه الهوام، وخاصةً في الزمن القديم، فإن الضرر أكثر، وإن كان في عصرنا -والحمد لله- قد يكون آمناً، ولكن لا يزال الجسم إذا وضع على حالةٍ معينة يتضرر، ولذلك قال تعالى عن أهل الكهف: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18] هذا التقليب لأنهم لو بقوا على حالةٍ واحدة لتآكل الجنب، ولكن الله سبحانه وتعالى قلبهم حتى لا يحدث التآكل في الجنب، وإن كان سبحانه وتعالى قادراً على أن يجعلهم على حالةٍ واحدة لا تآكل معها، ولكن هذا من باب الإشارة إلى الأسباب؛ ولذلك قالوا: يوضع على سرير، فلا يلي الأرض؛ لأنه ربما يحمي الجسد، ثم إذا سخن الجسد وليس ثم روح فيه تسارعت الأعضاء والأطراف والجلد إلى التلف؛ لأن الجسد يبقى بروحه، فإذا نزعت منه الروح ضعف عن مقاومة الأذية، والهوام ونحوها من الجراثيم التي تصيب الإنسان. وكل هذا ليس بواجب وإنما هو من باب الكمالات، ولا يشترط التعيين في مثل هذه الأمور، إنما المراد الرفق، فلو كان على الأرض حديدٌ -مثلاً- يوضع عليه ويؤمن منها الضرر فلا حرج، ولو كانت الأرض طبيعية، فإذا وضع عليها أسرع إليه الهوام رفعناه عنها على بساط أو على مركبة أو نحو ذلك ولا حرج، فلا يشترط السرير بعينه، وإن كان صلى الله عليه وسلم سجي عليه، لكن كل ذلك من باب الأسباب، فليس بأمر إلزامي ولا واجب، خاصةً إذا كان غسله قريباً فالأمر فيه واسع والحمد لله. ثم يرفعه فيجعل صدره مرتفعاً قليلاً إذا وضع على السرير ليسهل خروج ما في بطنه، ولذلك يجعله على هذه الحالة حتى يكون أدعى لخروج الفضلات الباقية، فيسهل غسله بعد ذلك ونقاؤه، فلا يتعب من يقوم بتغسيل الميت.

الإسراع بتجهيزه

الإسراع بتجهيزه قال رحمه الله: [وإسراع تجهيزه إن مات غير فجأةٍ]. بعد هذه الأمور -إذا هيأ الإنسان الميت، وقام بحقهِ بعد قبض روحه بالأمور التي ذكرناها- ينبغي عليه أن يسرع بتجهيزه، وذلك بتغسيله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة)، فأمر عليه الصلاة والسلام بالإسراع، ونص أهل العلم رحمةُ الله عليهم على وجوب ذلك، بمعنى: أن الأصل أن الإنسان يجب عليه أن يبادر بالميت، والسبب في هذا أن بقاء الميت مظنة أن يتغير وأن يتضرر جسمه، وأن يتضرر جسده؛ ولذلك قالوا: ينبغي أن يبادر ويحسم إليه في التغسيل والتكفين والقيام بحقه. ومن هنا: لا يجوز حبسه وتأخيره إلا لضرورة وحاجة، فإن وُجِدت الضرورة والحاجة -كما في الحالات الاستثنائية- كأن يكون به أمر يحتاج إلى كشفه كما في الجرائم ونحوها، أو يحتاج إلى أن يؤخر حتى تعرف ملابسات الجريمة والاعتداء عليه، فلا حرج أن يؤخر، ويكون تأخيره بقدر الحاجة والضرورة. كذلك أيضاً لو خشي أنه لو دُفن يتضرر من أقربائه، فيؤخر من أجل دفع المفسدة ولا حرج، أما أن يؤخر من أجل أن يحضر الأقرباء بدون وجود ضرورة ولا حاجة فلا؛ لأن حق الميت مقدمٌ على حقهم، وحينئذٍ ينبغي أن يُبادر بدفنه، ولأن حضورهم لا يزيد في الأمر ولا ينقص منه شيئاً، فقد نفذ القضاء ومضى قدر الله عز وجل، ولا يستطيعون أن يردوا من قدر الله عز وجل ما كان. وعلى هذا: لا مصلحة في تأخير الميت، وفيه حديث -وقد تكلم في سنده- (لا يحل لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله) وهذا يعتبره العلماء ويقولون: متنه صحيح، والأصل أن أهل الميت ممنوعون من تأخير جنازة الإنسان بدون حق وضرورة، والتوسع في مثل هذه الأمور لا يخلو الإنسان فيه من تبعة ومسئولية أمام الله عز وجل. فتأخير الموتى بدون حاجة يبقي لأهلهم الإثم والمسئولية أمام الله عز وجل؛ لما فيه من الإضرار بالميت، وعلى هذا لا يؤخر، بل ينبغي أن يسرَع في تجهيزه؛ فتبحث عن من يقوم بتغسيله، فتسرع بإحضار المغسل، وتحضر ما يحتاج إليه لكفنه، وكذلك أيضاً: تسرع بالقيام ببعض الأمور التي تتصل به من حقوقه قبل دفنه؛ من إخبار خاصة قرابته وإعلامهم حتى يشهدوه ويدعوا له بالمغفرة، وحينئذٍ إذا قام الإنسان بهذا على الوجه المطلوب فقد أحسن إلى الميت وأحسن إلى قرابته، وذلك مطلوبٌ ومرغوب. وأما قوله: [غير فجأة]: فالذي يموت فجأة لا يؤمن أن يكون حياً، كما في حالة السكتات، فيموت في الظاهر ولكنه في الحقيقة لا يزال به حياة، فالاستعجال بتغسيله وتكفينه ودفنه ربما أفضى إلى قتله وهو حيّ، وعلى هذا إذا مات فجأة -بمعنى: أصابته سكتة، والعياذ بالله، أو جاءه شيء طارئ من فجعة ونحوها ظُن معها موته- فلا يبادر بتغسيله وتكفينه، بل ينتظر، والمَرَدُّ في هذا إلى أهل الخبرة كالأطباء ونحوهم، خاصةً في هذه الأزمنة التي تيسر فيها معرفة الموت بالعلامات الدقيقة. فلا يبادر أهل الميت بدفن الميت إذا كان موته فجأة، وقد وقع حتى في زمن السلف رحمة الله عليهم قصص عجيبة في المبادرة بدفن من مات فجأة، حتى إن بعض من يقوم بنبش القبور وحفرها ربما يجد الميت جالساً في بعض الأحيان، وذلك إذا أصابته سكتة، ثم دفن، ثم بعد أن يفيق يجلس في مكانه ولا يجد أحداً فيموت جالساً في نفس القبر، وهذا أمر جد خطير! خاصة إذا حصل فيه التساهل والتسيب فإنه لا يؤمن معه من التبعة والمسئولية.

حكم الحياة على التنفس بالأجهزة بعد موت الدماغ

حكم الحياة على التنفس بالأجهزة بعد موت الدماغ وهنا مسألة، وهي: مسألة موت الدماغ، فإنها حيرت الأطباء: هل إذا مات دماغ الإنسان يعتبرُ ميتاً أو ليس بميت؟ وهي التي يسمونها (الموت السريري) وقد عمت بها البلوى خاصةً في هذا الزمان، وصورة المسألة أن جذع الدماغ يموت، ويقرر الأطباء أن جذع الدماغ قد مات، فلا يتحرك الإنسان ولا يستجيب لأي حركة، حتى ولو غرز بالإبرة أو أوذي فإنه لا يتضرر ولا يحدث أي استجابة في جسمه، غاية ما في الأمر: أن قلبه ينبض، وأن نفسه ظاهر، يتنفس تنفس الحي بواسطة الأجهزة، حتى لو أن هذه الأجهزة سحبت عنه يموت من ساعته. ف Q هل هذه النوعية من المرضى تعتبر ميتة، وينبني عليها ما ينبني على الحكم بموت الإنسان، من شرعية سحب الأجهزة والحكم بكونه ميتاً حتى يورث، ونحو ذلك من التبعات الفقهية المترتبة على الحكم بموت الإنسان، أم أنه ليس بميت؟ في الحقيقة هذه المسألة أولاً: تحتاج إلى بحث من جهة إثبات موت الدماغ، فالأطباء أنفسهم لم يتفقوا على صيغة معينة وشروط معينة تُبين أو تحدّد بالدقة الموت الحقيقي للدماغ، وهناك قرابة ثلاث مدارس للأطباء في حقيقة إثبات موت الدماغ، والمشكلة ليست هنا، المشكلة أن معرفة موت الدماغ، والتأكد أنه قد مات لا يمكن التوصل إليه في أقوى المدارس الطبية إلا بواسطة أجهزة دقيقة لا تتيسر في غالب الأمكنة. ولذلك: فالاستعجال بالحكم، بكون هذا موتاً يحتاج إلى نظر، والأصل الشرعي يقتضي أن من به حركة يحكم بحياته؛ لأن الحركة دالة على الروح، والجسم كانت فيه الروح التي هي الحقيقة، وأثرها التي هي الحركة. وعلى هذا فإننا نقول: (الأصل بقاء ما كان على مكان)، ولم أجد دليلاً شرعياً صحيحاً يدل على أن موت الدماغ يدل على موت الإنسان، بل وقعت حوادث تخالف هذا، حتى إن من الأمور التي حدثت بسبب هذه المسألة أنهم اختلفوا في امرأة، هل هي ميتة أو ليست ميتة في منطقة من مناطق الخارج، فحكم الأطباء بموتها، وأصر آخرون على أن موت الدماغ لا يجيز لهم سحب الأجهزة، واختلفت الكنائس في الخارج في الحكم بموت هذه الفتاة، حتى بقيت عشر سنوات تحت الأجهزة ثم أفاقت بعد عشر سنوات! وهذا أمر يؤكد أن الاستعجال في مثل هذه القضايا يحتاج إلى نظر؛ ولذلك فالأصل أنه حي، والأصل أنه لا يجوز الإقدام على سحب الجهاز عنه إلا بمبرر شرعي، فيبقى على هذه الحالة، فالذي تطمئن إليه النفس أنه حي. وهناك مسألةٌ فقهية قديمة يمكن أن نخرج عليها هذه المسألة، وهذه المسألة تُعرف عند العلماء بالقاعدة التي نبه عليها الإمام النقري في القواعد، وكذلك غيره كـ الزركشي في المنثور، وهي القاعدة التي تقول: (الحياة المستعارة، هل هي كالعدم أو لا؟). تكلم العلماء على هذه المسألة، في مسألة ما إذا ما هجم الذئب على شاةٍ أو غنمة فبقر بطنها، فإنه إذا بقر بطنها الغالب أنها ميتة، فلو أنك أدركتها قبل أن تموت وهي تتحرك -ترفس بقدميها- وأسباب موتها قد وجدت، فذكّيتها في هذه الحالة، فإن قلنا: الحياة المستعارة -يعني: التي هي في الأخير- حقيقية فذكاتك مؤثرة والشاة يجوز أكلها، وإن قلنا: إنها حياةٌ كالعدم؛ حينئذٍ ذكاتك في هذا الوضع لا تأثير لها. فإذاً: كأنهم يفصلون على مسألة الحركة، فالذين يقولون: إنها حية، والذكاة مؤثرة يقولون: لا زالت الروح حية، فوقعت التذكية على حيّ، وكل تذكيةٍ لحيّ موجبة لحله إذا كان مما يحل أكله. وبناءً على ذلك عندنا أصل من العلماء يعتبر الحياة المستعارة، وإن كان بعض أهل العلم خرج هذه المسألة على مسألة إنفاذ المقاصد، كأنهم يقولون: إن الذئب إذا قتل الشاة بالبقْر، فقد أُنفذت مقاتلها، بمعنى: أنها استنفذت بالهلاك بهذه الوسيلة، فيخرجها عن المسألة التي معنا، لكنها تصلح للاستشهاد. والذي يعنينا: أن الميت الذي مات دماغه لا يزال محكوماً بحياته، خاصةً وأننا لو فتحنا هذا الباب تحت الأجهزة، وعلى هذا لا يتيسر معرفة موت الدماغ إلا بصعوبة وفي أماكن خاصة، وربما يفتح هذا الباب الإقدام -حتى عند بعض المتساهلين من الأطباء -على سحب الأجهزة- ممن لا يصل إلى درجة القطع بموت دماغه، وهذا أمر ينبغي أن يحتاط فيه لأرواح الناس كما هو الأصل الشرعي. لكن هناك مسألة: لو فرضنا أن رجلاً كبير السن في آخر عمره وضع الجهاز عليه، أو رجلٌ شاب في شبابه لكنه أصيب بحادث أو نحو ذلك، والغالب أنه يهلك، وقد مات دماغه في كلام الأطباء، وجاءت حالة ثانية لإنسان ترجى حياته أكثر، وليس عندنا إلا جهازٌ واحد، فهل يشرع سحب الجهاز عن هذا الذي قد غلب على الظن هلاكه لكي نبقي هذه الروح أو لا يشرع؟ A نعم، يشرع أن يسحب منه في هذه الحالة، فهذه هي الحالة التي تعتبر مستثناة في سحب الأجهزة: أنه إذا وُجدت حالات أحوج يجوز حينئذٍ سحبها، وهذا مقرر على الأصل الشرعي في ازدحام الحقوق: أنه إذا ازدحم حقٌ يمكن تداركه مع حق لا يمكن تداركه أو مع مصلحة لا يمكن تداركها، قُدّمت المصلحة والحق الذي يمكن تداركه. هذا بالنسبة لمسألة من مات فجأة، وموت الفجأة بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رحمة من الله بالمؤمن، ونقمة عاجلة من الله بالكافر، وموت الفجأة استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه؛ لأن موت الفجأة يحول بين الإنسان وبين خير كثير، يحول بينه وبين الوصية في أمور ربما تكون من فضائل الأعمال، يحول بينه وبين تنبيه أهله وذويه على أمور قد يكونون محتاجين إليها، خاصةً أن الأب إذا أوصى في آخر حياته كان لوصيته في قلوب أبنائه وبناته وقعاً كبيراً، فلذلك كان موت الفجأة يحول بين الإنسان وبين خيرٍ كثير، ومن هنا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه. لكنه أخبر في الحديث الآخر أن موت الفجأة رحمة بالمؤمن؛ لأن الإنسان إذا مات ربما تألم وتأوه في مرضه وإن كان تأوهه وتألمه يرفعه درجة، حتى ورد في الحديث أن الله يشدد على العبد: (إذا أحب الله عبداً من عباده غفر له ذنوبه، فإذا بقيت له ذنوب خفف عنه بالبلاء قبل الموت) فشدد عليه في سكرات الموت، وشدد عليه في مرض الموت، حتى يوافي الله عز وجل بلا ذنبٍ ولا خطيئة. فموت الفجأة رحمة من جهة كونه يحول بين الإنسان وبين الألم والضرر الذي في ظاهره عناءٌ وعذاب به، وأياً كان: إذا مات الإنسان يجب مراعاة هذه الأمور؛ لكن لو قرر الأطباء أنه ميتٌ فعلاً فحينئذٍ يحكم عليه بالموت.

إنفاذ الوصية

إنفاذ الوصية قال المصنف رحمه الله: [وإنفاذ وصيته]. أنفذ الشيء: إذا أتمه وقام به، وإنفاذ الأمر: المضي به، فقد يوصي الإنسان بحقوق عليه لله عز وجل وحقوق لعباده، فيعمل بهذه الوصية، وهناك وصايا معجلة لا تحتمل التأخير، كأن يقول مثلاً: إذا أنا مت فيتولى تغسيلي فلان من أهل العلم أو من أهل الصلاح والخير، فيأمر بأن يغسله، وهذا شيء درج عليه السلف رحمة الله عليهم، وقد أوصى أبو بكر أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس رضي الله عنها، وكذلك أوصى أنس بن مالك رضي الله عنه أن يغسله محمد بن سيرين الإمام الجليل من أئمة التابعين، فتكون هذه وصية فتنفذ. وتقرأ وصيته قبل أن يغسل؛ لأنه ربما تكون هناك أمور ينبه عليها في تجهيزه، كأن يوصي أولاده بالصبر واحتساب الأجر، فَتُقرأ وصيته وينفذ ما يمكن تنفيذه عاجلاً خاصةً الحقوق التي ينبغي المبادرة إلى قضائها كالديون ونحوها، ولو أمكن أن تقضى ديونه قبل الصلاة عليه فهذا أولى، بل واجب إذا أمكن ذلك؛ لأنه لا يجوز تأخير ديونه، وهذا أمر يتساهل فيه كثير من الناس إلا من رحم الله، فيؤخرون ديون الأموات، وقد كان صلى الله عليه وسلم لا يصلي على الميت إذا كان عليه دين ولم يترك وفاءً؛ لعظم أمر الدين. ولذلك لو توفي وعنده سيولة نقد وعليه دين، وتعلم أنه مكتوب لفلان ألف وللآخر ألف فينبغي أن تقوم بأخذ الألفين قبل أن تغسله أو تكفنه إذا أمكن، وتعطيها لأصحابها، إنفاذاً لوصيته، وهذا من أبلغ البر وأفضله؛ حتى يوافي الله عز وجل سالماً من حقوق عباده. كذلك أيضاً وصاياه بالأقربين، من الإحسان المبادرة بها ولو بعد وفاته مباشرة، وإنفاذ وصيته بالحقوق التي لله عليه كالحج عنه والعمرة عنه، والصدقة عنه، إذا أوصى بها، فهذا كله ينفذ.

الإسراع في قضاء دينه

الإسراع في قضاء دينه قال رحمه الله: [ويجب الإسراع في قضاء دينه]. ومن هنا يأثم الورثة بتأخير سداد الديون، فإذا مات الوالد أو القريب وقد ترك مالاً أو ترك بيتاً وعليه دين فيجب على الورثة أن يبيعوا البيت لسداد دينه، وهم يستأجرون أو يقومون بما يكون حفظاً لهم من الاستئجار أو الانتقال إلى مكانٍ آخر، أما أن يبقى الدين معلقاً بذمته وقد ترك المال والوفاء فهذا من ظلم الأموات، وإذا كان بالوالدين فالأمر أشد؛ وقد ورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن نفس المؤمن معلقةٌ بدينه) قال بعض العلماء: إن الإنسان إذا كان عليه دين فإنه يمنع عن النعيم حتى يؤدى دينه، ولذلك قال: (نفس المؤمن مرهونةٌ بدينه) وفي رواية (معلقةٌ بدينه) بمعنى: أنها معلقة عن النعيم حتى يُقضى دينه. ويؤكد هذا حديث أبي قتادة رضي الله عنه في الصحيح، فإنه لما جيء برجلٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (هل ترك ديناً؟ قالوا: دينارين. فقال: هل ترك وفاءً. قالوا: لا. قال: صلوا على صاحبكم. فقال أبو قتادة: هما عليّ يا رسول الله! فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو قتادة: فلم يزل يلقني ويقول: هل أديت عنه؟ فأقول: لا بعد. حتى لقيني يوماً، فقال: هل أديت عنه؟ قلت: نعم. قال: الآن بردت جلدته) فهذا يدل على عظم أمر الدين، فينبغي المبادرة بقضاء الديون وسدادها، خاصةً ديون الوالدين فالأمر في حقهم آكد. والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم قراءة يس بعد الدفن

حكم قراءة يس بعد الدفن Q هل يقتصر قراءة سورة (يس) أثناء الاحتضار، أم يجوز قراءتها على قبره بعد دفنه، أثابكم الله؟ A السنة قراءتها عند الاحتضار، وأما بعد موته أو بعد دفنه فإن ذلك مما لا أصل له، وهو بدعة كما نص العلماء رحمهم الله على ذلك، فقراءة (يس) على القبر، أو قراءتها عند إنزاله في القبر، أو قراءتها أثناء تشييع الميت؛ كل ذلك مما لم يرد به النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حدث وبدعة والله تعالى أعلم.

فضل تغسيل الميت

فضل تغسيل الميت Q هل ورد فضلٌ معين في تغسيل الميت أثابكم الله؟ A هناك أحاديث لكنها ضعيفة (ما من مسلم يقوم بغسل أخيه المسلم فيحسن غسله وتكفينه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) ولكن هذا الحديث ضعيف، إلا أن القيام بهذا العمل يعتبر قربة وطاعة لله عز وجل؛ لأنه امتثال للأمر، وامتثال الأوامر يجعلها في مقام القيام بالواجبات، والواجبات لها فضل، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقول: (ما تقرب إليّ عبدي بشيءٍ أحبُّ إلي مما افترضته عليه) وهذا مما افترض الله، والقيام به قربة وطاعة وحُسبة، مع ما فيه من إحسان المسلم إلى أخيه المسلم خاصةً إذا كان من القرابة والله تعالى أعلم.

هل يعذب الميت ببكاء أهله عليه

هل يعذب الميت ببكاء أهله عليه Q كيف نوفق بين حديث: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) وبين قول الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء:15] أثابكم الله؟ A هناك وجوه: أولها: أن يكون الميت قد وصّى بذلك، وهذا كان من عادة أهل الجاهلية، وأشعارهم في ذلك مشهورة، وكانوا يوصون بالنياحة والبكاء والجزع، والإشادة بالفضائل وما كان عليه في حياته، فهذه الحالة لا إشكال عند العلماء رحمة الله عليهم أنه إذا وصى أنه يعذّب؛ لأنه تسبب، فيكون قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء:15] أي: لو كان غير متسبب، فلما تسبب فإنه يتحمل مسئولية ما تسبب فيه. الوجه الثاني: أن يكون عالماً أنهم سيفعلون ذلك فيرضى ولا ينهاهم، فالرضا بالشيء كفعله؛ ولذلك وصف الله بني إسرائيل بأنهم فعلوا المحرمات، مع أن الذي فعلها بعضهم، ولكن رضا الآخرين كأنه فعلٌ منهم؛ ولذلك قالوا: الرضا منزلٌ منزلة الفعل، ومن هنا قالوا: من علم أو غلب على ظنه أن أهله يفعلون ذلك، أو يتسخطون ويجزعون، أو ينوحون عليه، فسكت فإنه يعذب بهذا ويؤذى. والوجه الثالث: صرفوا قوله: (يعذب) عن ظاهره، فقالوا: هو العذاب المعنوي وليس المراد به العذاب الحقيقي، فيعذب بمعنى: أن الله يسمعه بكاء أهله؛ فيتألم لهذا البكاء؛ لأن الإنسان يشفق على قريبه خاصةً أهله، والميت دائماً عنده الجزع والحزن كما قال تعالى عن أهل الإيمان: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30] لأن الإنسان يحزن على فراق أهله، فإذا كان الأهل يبكون أسمعه الله بكاءهم؛ ولذلك جاء في الخبر: أنه لما ذُكرت مآثر أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد أغمي عليه بعد موته، فصارت المرأة تثني عليه، قال: فما زال الملك يغمزه ويقول له: هل أنت كذلك؟ هل أنت كذلك؟ فلما استيقظ قال لهم: إنه كان من أمركم كذا وكذا، فما زلت أغمز على كل ذكرٍ ذكرتموه. قال العلماء: هذا عذابٌ معنوي، بمعنى أن الإنسان يُسمع بكاء أهله، لا أنه يعذب حقيقة، فتكون الآية: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء:15] أي: في تحمله للعذاب، وهذا ليس بمتحمل لعذاب منفصل، إنما هو إسماعٌ من الله له لبكاء أهله فيتألم، كالشيء العارض الذي يكون في أمور الدنيا. فهذه ثلاثة أوجه هي من أقوى ما ذكره العلماء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في تعذيب الميت ببكاء أهله.

الحزن لا ينافي الرضا بقضاء الله

الحزن لا ينافي الرضا بقضاء الله Q هل ما يجده الإنسان من الحزن وألم الفراق يكون من السخط وعدم الرضا أثابكم الله؟ A إن القلوب تحزن، ولا شك أن فراق الأحبة له وقع عظيم في القلوب، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه دمعت عيناه وقال: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليخشع، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) فدل هذا على أن ما يكون من الحزن، وما يكون من الشجى في النفس أنه أمرٌ جبلي لا يمكن للإنسان أن يدفعه، ولكن إذا كمل الإيمان، وقوي اليقين في الرحمن، وتذكر العبد ما عند الله من الإحسان؛ هان عليه المصاب، ورجا عند الله حُسن الثواب؛ فبدد الله أحزانه؛ وأذهب أشجانه؛ ورفع في الجنة مكانه. ولذلك ينبغي للإنسان أن يستذكر في مثل هذه المواقف عظمة الله سبحانه وتعالى الذي فيه خلفٌ عن كل فائت، وفيه عوضٌ عن كل ذاهب، فإن الله سبحانه وتعالى إذا نظر إلى قلب الإنسان وقد توجه إليه وأقبل عليه عوضه خيراً مما فقد، فمهما كان الحبيب والصاحب والقريب فإنه لا يزن شيئاً أمام عظمة الله سبحانه وتعالى، وهو الذي القلوب بين إصبعين من أصابعه، فإن نظر الله إليك وأنت في حالة الحزن والشجى والأسى ولوعة الفراق تتجه إليه، وتعزي النفس بما عنده سبحانه وتعالى من حسن الجزاء والثواب، وما تنتظره من حسن القدوم إليه والمآب؛ أفرغ عليك الصبر، وثبتك وربط على قلبك، وكان ذلك من عاجل ما يكون من إحسانه ولطفه بعبده والله تعالى أعلم.

حكم الوقوف للجنازة

حكم الوقوف للجنازة Q هل يشرع الوقوف لجنازة الميت إذا أُتي بها للصلاة عليها؟ وكذلك لو شهدت جنازة الكافر فهل يوقف لها أثابكم الله؟ A هذه المسألة فيها خلافٌ بين أهل العلم رحمهم الله، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه سلم أنه وقف لمرور الجنازة، وقال: (إن للموت لفجعة) أي: أثرٌ وهيبة، والصحيح أن هذا القيام منسوخ، ولذلك مُر على النبي عليه الصلاة والسلام بجنازةٍ ولم يقم، وهذا صنيع بعض المحدثين رحمهم الله؛ فإنه ذكر الأحاديث التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقيام بالجنازة عند مرورها، ثم أتبعها بالأحاديث في نسخ ذلك، فدل هذا على أنه كان هذا أولّ الأمر والله تعالى أعلم.

حكم نقل الميت من بلد إلى بلد

حكم نقل الميت من بلد إلى بلد Q ما حكم نقل الميت من مدينةٍ إلى أخرى لدفنه، خصوصاً إذا أوصى بذلك؟ A لا يشرع انتقال الميت من مكان إلى مكان، فإذا قبضت روح الإنسان في مكان، شرع أن يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في ذلك المكان الذي مات فيه. أما إذا كان المكان بلاد كفر لا يقام فيها بحق المسلم، وأراد أن ينتقل وأوصى أن ينقل من هذا المكان، فإنه ينتقل إلى أقرب بلاد المسلمين، تحصيلاً للأصل في المسارعة بالجنازة، وحينئذٍ يكون هذا هو الأصل المعمول به. أما إذا كانت بلاد المسلمين عنه بعيدة، وكان ذلك يؤخر ذلك جنازته، فإنه لا يرخص إلا بقدر الحاجة، ويجتزأ بأقرب المواضع إليه من بلاد المسلمين، ولا يشرع النقل إلا في هذه الحالة، وهي: أن يتعذر وجود من يقوم بحقه من تغسيلٍ وتكفينٍ والصلاة عليه، فحينئذٍِ لا حرج أن ينقل، ولا مانع في هذه الحالة من تعاطي أسباب نقله، وما عدا ذلك تكلفٌ وخروج عن الأصل والسنن والله تعالى أعلم.

حكم الوضوء لمن حمل الجنازة والغسل لمن غسل ميتا

حكم الوضوء لمن حمل الجنازة والغسل لمن غسل ميتاً Q هل من السنة لمن حمل الجنازة أن يعيد وضوءه، ولمن شارك في غسل الميت أن يغتسل، أثابكم الله؟ A في ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ). وهذا الحديث اختلف العلماء رحمهم الله في صحته، والأقوى ضعفه، وإن كان قد حسن بعض العلماء إسناده، لكن هناك أحاديث أصح منه وأقوى تدل دلالة واضحةً على أن حمل الميت لا ينقض الوضوء. وعلى هذا فلو قلنا بحسن الحديث -كما يميل إليه بعض المحدثين- فإننا نحمل الأمر على الكمال لا على الوجوب واللزوم والله تعالى أعلم.

ترك الغسل والتكفين لشهيد المعركة دون غيره

ترك الغسل والتكفين لشهيد المعركة دون غيره Q هل الشهادة الواردة فيمن مات بالبطن أو الطاعون، تنزل منزلة الشهيد فلا يغسل، أم الأمر خاص بشهيد المعركة فقط أثابكم الله؟ A شهادة المبطون والطاعون والنفساء وغيرهم ممن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله! الشهيد شهيد المعركة. قال: إذاً إن شهداء أمتي لقليل، ثم ذكر عليه الصلاة والسلام المبطون والغريق وصاحب الهدم والحرقى والنفساء والطاعون) وهذا إنما هو في فضل الشهادة المطلق، أما بالنسبة لأحكام الشهيد فإنها تختص بشهيد المعركة، فشهيد المعركة هو الذي لا يغسل، ولا يصلى عليه؛ لمكان الفضل، ولا يفتن في قبره، وله الفضائل التي وردت في السنن الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينها الله عز وجل في كتابه، وأثنى على أهل منازلها، وكل ذلك إنما هو خاصٌ بشهيد المعركة دون غيره. أما المبطون فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويقبر، وكذلك بالنسبة للحرقى والهدمى، وإنما يختص الحريق إذا كان جلده لا يحتمل الغسل بأن ييمم، وأما بالنسبة لفضل الشهيد من كل وجه فهؤلاء لا يبلغون فضل الشهادة من كل وجه، وإنما لهم الفضل النسبي، وفرقٌ بين الفضل النسبي والفضل الكلي والله تعالى أعلم.

حكم الصلاة على الغائب

حكم الصلاة على الغائب Q هل تجوز الصلاة على الميت الغائب أثابكم الله؟ A أما الصلاة على كل ميت غائب فهذا مما لا أصل له، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أصحابه في مواضع متفرقة، وقد مات كثيرٌ منهم رضي الله عنهم وأرضاهم في حياته عليه الصلاة والسلام، وما صلى عليهم صلاة الغائب، إنما صلى صلاة الغائب على النجاشي؛ ولذلك قال العلماء: تشرع الصلاة على الغائب إذا أمر بها ولي أمر المسلمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها أصحابه، وتكون لرجلٍ مات في موضعٍ لا يصلى عليه، كمن يموت في بلاد كفر؛ فـ أصحمة النجاشي مات في بلاد الحبشة وكانت بلاد نصارى. كذلك -أيضاً- لمن له شأنٌ عظيم في المسلمين، كالإمام العادل، والعالم الفاضل، والعبد الصالح الذي له بلاء في الدين، يشرع أن يصلى عليه صلاة الغائب، وهذا خاصٌ بمن ذكرنا. وأما تعميم الأمر والصلاة على كل أحد فذلك ليس من السنن، وعلى هذا يختص الحكم بما ذكرناه؛ إعمالاً للأصول والنصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنزالها منازلها والله تعالى أعلم.

بدعية رفع الصوت مع الجنازة بالتهليل والتكبير

بدعية رفع الصوت مع الجنازة بالتهليل والتكبير Q هناك من يشيع الجنائز، ويكثر من التهليل والتكبير أثناء التشييع، فما هو الحكم الشرعي في ذلك أثابكم الله؟ A نص العلماء على أنه لا يرفع الصوت بالذكر في الجنازة، وأن رفع الصوت بالتهليل والتكبير، وأَمْر الناس بذلك من البدعة والحدث، وإنما يشرع أن يمشي معها، ويلتزم الأصل الوارد من هديه عليه الصلاة والسلام دون تكلف، أما أمر الناس بتهليلٍ أو تكبيرٍ، أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، أو ذكر ألفاظ التفجع والتوجع ونحو ذلك كله من الحدث، وقد ذكر العلماء ذلك في كتبهم، ونبه الفقهاء والأئمة على أن ذلك مما لا أصل له، بل السنة أن يمشي معها، ويكون ذلك بالدعاء للميت والاستغفار له والترحم عليه، وقد ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا قبر الميت قال: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل) هذا هو المحفوظ من هديه صلوات الله وسلامه عليه، وأما رفع الصوت فمما لا أصل له والله تعالى أعلم.

وجوب التفريق بين المتراضعين إذا تزوجا

وجوب التفريق بين المتراضعين إذا تزوجا Q لي ابنة عمٍ رضعت معي رضعات كثيرة أكثر من شهر، والحليب لوالدي، وقد تزوجها أخي من أبي وله منها أولاد، فما الحكم في ذلك أثابكم الله؟ A هذه أختٌ لأخيك من أبيك، وعلى هذا: يفرق بينه وبينها، والأولاد يعتبرون شرعيين، وحينئذٍ ينسبون إلى أخيك، ولكن ما بعد اليوم وما بعد علمه بأنها أخته من الرضاعة، لو وطئها فحكم ذلك حكم الزنا الذي حرمه الله ورسوله. ولذلك: ما مضى يعذر فيه بالجهل، ويستأنف الحكم، وتعتبر أختاً له من الرضاعة، وحينئذٍ الأولاد ينسبون إلى أمه وينسبون إلى أبيهم، فهم أولاد شرعيون لمكان الجهل وعدم العلم بالحكم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب الغسل والتكفين [1]

شرح زاد المستقنع - باب الغسل والتكفين [1] غسل الميت ودفنه وتكفينه فروض كفائية، وفي غسل الميت أحكام ينبغي معرفتها، كالترتيب بين الأقارب في استحقاق تولي الغسل، وكذا ما يجوز وما يمنع من غسل الرجال للنساء والعكس، وهناك شروط ينبغي توافرها في المغسل، كالعلم والثقة والأمانة.

الحقوق الواجبة على الأحياء تجاه الميت

الحقوق الواجبة على الأحياء تجاه الميت بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول رحمه الله: [فصلٌ: غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه فرض كفاية]. تغسيل الميت من فروض الكفاية، أما كونه فرضاً فلورود الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (اغسلنها بماءٍ وسدر) وهذا أمر في ابنته لما توفيت رضي الله عنها وأرضاها. وقال في الرجل الذي وقصته ناقته كما في حديث ابن عباس في الصحيحين: (اغسلوه بماءٍ وسدر) وهذا أمر، والأمر يدل على الوجوب والفرضية. وهذا الوجوب فرضٌ كفائي بمعنى: إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وإذا لم يقم به البعض، فإنه يتعلق وجوبه بالجميع، بحيث يأثمون إذا قصروا جميعهم ولم يقم أحدٌ بتغسيله. ويتولى التغسيل من يكون على علمٍ به، فلا يجوز أن يتولى تغسيل الميت من لا يُحسن تغسيله؛ لأن من لا يحسن التغسيل ولا يقوم بحقوق التغسيل كما ينبغي، فوجود تغسيله وعدمه على حدٍ سواء، ولربما ضيع أموراً واجبة وأخل بالغسل، ولذلك لا يلي التغسيل إلا من يعلمه. ومن هنا يجب على طالب العلم ومن يبتلى بمثل هذه الأمور أن يكون على علم وإلمام بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم في تغسيل الميت، وأمره بالأمور التي ينبغي مراعاتها في هذا التغسيل. الميت الأصل أنه يُغسّل؛ لكن يسقط تغسيل الميت في مواضع: أولها: إذا كان شهيداً كما سيأتي، فالشهيد لا يغسل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ادفنوهم بدمائهم) فأمر بدفن الشهداء بدمائهم، وذلك لأن دماءهم شهادةٌ لهم بين يدي الله عز وجل، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من كلمٍ -يعني جرح- يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دماً، اللون لون دم والريح ريح مسك) فهو شهيدٌ له بين يدي الله. ثم إن هذا الدم فضلة طاعة وقربة لا تشرع إزالتها، ومن هنا قالوا: إنه لا يغسل، ولا يعتبر داخلاً في هذا الأصل، لكن يختص هذا الحكم بشهيد المعركة، أي: الذي قتل في نفس ساحة المعركة، أما لو أنه خرج وفيه الحياة، وبقي بعد ضربه ثم توفي بأثر الجراح، فإنه يغسل ويكفن ويعامل معاملة الأصل؛ لأن سعداً رضي الله عنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتغسيله، فغسل وكُفّن وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد أصيب في سبيل الله ثم مات بعد ذلك فشهيد المعركة لا يغسل. ممن يستثنى في التغسيل: أن يكون الميت قد احترق، بحيث لو غسل نفط جلده، أو يكون به مرض كالجدري ونحو ذلك -أعاذنا الله وإياكم من الأدواء- فلو غسل لتضرر، أو يكون معه مرض لو قام مغسله عليه، لم يأمن بتضرره بتغسيله، بحيث إنه لا يمكنه أن يغسله؛ لأنه لو غسل انتقلت العدوى، أو به أشياء تنتقل بمباشرة التغسيل فهذه أحوال تستثنى من التغسيل. أيضاً: سيذكر المصنف رحمه الله حالة الرجل بين النساء، فالرجل إذا توفي بين النساء وليست هناك زوجة له منهن ولا أمة؛ فإنه حينئذٍ ييمم ولا يغسل، كذلك العكس: لو أن المرأة توفيت بين الرجال، وليس لها زوجٌ منهم، ولم تكن أمة معها سيدها فحينئذٍ تيمم ولا تغسل. هذه الأحوال هي التي تستثنى من هذا الفرض والأمر الواجب. وتغسيل الميت المراد به: تعميم جسده بالماء، وهذا الحكم يشمل جميع أعضاء الجسد بالتفصيل الذي سيذكره المصنف رحمه الله. قوله: [وتكفينه]. سيبين رحمه الله تفصيل التكفين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين) فقوله: (كفنوه) أمر، والأمر يدل على الوجوب، وكذلك أمره عليه الصلاة والسلام بتكفين ابنته، فأمر صلى الله عليه وسلم بتغسيلها فقامت النساء بتكفينها، ومن هنا يقول العلماء: إن حديث ابن عباس يدل على أن تكفين الميت واجب وفرض. وهذا التكفين فرضٌ كفائي، لكن التكفين ليس كالغسل، فالغسل يكون بالماء وهو غالباً يتيسر؛ لكن -مثلاً- لو كان هذا التكفين يحتاج فيه إلى وجود النفقة التي يكون بها مئونة التكفين، وحينئذ تتصل بميراث الميت، وهي من الحقوق التي تخرج قبل قسمة التركة من تغسيلٍ وتكفين ونحوه، فهذه المئونة التي يحتاج لها لشراء الكفن تخرج من مال الميت، وتعتبر سابقة للميراث، وهذا حق من حقوق الميت في تركته. أما لو كان الميت ليس عنده مال، فحينئذٍ ينظر إلى تجب عليه نفقته فيقوم بتكفينه، وإذا عجز فحينئذٍ يكون كفنه من بيت مال المسلمين، ولذلك يتعلق حقه بنفسه، ثم بمن يلي القيام عليه من حقوق النفقة، ثم بعامة المسلمين كما لو لم يكن له قريب وليس له مال. هنا مسألة أيضاً: إذا تعذر الغسل وتعذر التكفين فإنه ينتقل من الغسل إلى التيمم، وتعتبر هذه الحالة تابعة للحالات التي ذكرناها مستثناة من الوجوب، وكذلك إذا لم يوجد الكفن إلا اليسير فإنه تغطى عورتاه إذا لم يجد ما يستر به إلا العورة، وإذا كان هناك فضل على العورة ستر بقية البدن على حسب الموجود من الفضل. قوله: [والصلاة عليه]. الصلاة عليه أيضاً من الفروض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يصلوا على أصحمة النجاشي رضي الله عنه وأرضاه لما توفي، وقال عليه الصلاة والسلام: (توفي اليوم عبدٌ صالح، ثم أمر الصحابة أن يخرجوا وصلى بهم)، فمن حق المسلم على إخوانه المسلمين أن يصلى عليه ويُدعى له بالمغفرة والرحمة، وعلى ذلك هديه صلوات الله وسلامه عليه. ولذلك لما توفيت المرأة السوداء التي كانت تقم المسجد فدفنوها ليلاً ولم يخبروه، وكأنهم تقالوا شأنها انطلق عليه الصلاة والسلام حتى وقف على قبرها -وهذا من خصوصياته- فصلى عليها وقال: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم) ووجه التخصيص قوله: (بصلاتي) كما في صحيح مسلم. فهذا يؤكد أهمية الصلاة؛ ولذلك يقول العلماء: إن من فضائل الصلاة على الميت: أنها تذهب ظلمة القبر ووحشته، وذلك لقوله: (ينورها بصلاتي عليهم)، فكأنه يشير إلى العلة من الصلاة على الميت، ولذلك شُرعَ أن يدعى للميت بالرحمة والمغفرة، وقد ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ما من ميتٍ يقوم عليه أربعون يشهدون أن لا إله إلا الله فيشفعون فيه إلا شفعهم الله)، وهذا إذا كان الدعاء بإخلاص وصدق، ولذلك أمر عليه الصلاة والسلام بالإخلاص، وسيأتي إن شاء الله تفصيل هذه الصلاة وكيفيتها، لكن المراد التنبيه على هذه الأمور: (تغسيل الميت وتكفينه والصلاة عليه) فإنها فرض كفاية. وعلى هذا: لو أن الميت لم يغسل ولم يكفن ولم يُصل عليه وقبر، فإنه يشرع نبشه ثم يغسل ويكفن ويصلى عليه، لكن مشروعية النبش تتقيد بأن يؤمن تغيره، بمعنى: أن يغلب على ظننا أنه لا زال جلده قابلاً للغسل، أما لو مضت المدة التي يغلب على الظن إسراع الدود إليه وذهابه فحينئذٍ لا ينبش، وهذا طبعاً على قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم: أنه إذا قُصّر في حق الميت ودفن دون تغسيله، أو دون تكفينه، أو دون الصلاة عليه، قالوا: يشرع أن ينبش ويغسل ويكفن ويصلى عليه، وقد أمر عليه الصلاة والسلام بالقيام بهذا الحق، وأمر من كفن أخاه أن يحسن إليه. [ودفنه فرض كفاية]. وهذا أيضاً مما يتبع ما سبق من تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، فالأصل في الآدمي أن يقبر ويدفن: {قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة:31]. فلذلك يقول العلماء: إن الأصل يدل على أن الآدمي يقبر ولا يبقى عرضة للسباع ولا للهوام ولا للطيور تنبشه وتأكل من لحمه كسائر البهائم، فهذا من التفضيل والتكريم الذي فضل الله به بني آدم، ولذلك قال تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21] فمضت السنة على أنه يشرع قبر الميت الآدمي. حتى ولو كان كافراً فإنه يوارى فلا يبقى في العراء؛ لأن بقاءه في العراء أذيةٌ للآدميين، وأبلغ في النتن، وأذهب لحرمته، فإن هناك حرمة عامة للآدمي؛ لأن الله لم يفرق بين آدمي كافر ومسلم في المواراة، ولذلك يقول العلماء: إن هذا التفضيل من جهة الآدميين، فيوارى الكافر؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لما أخبره علي أن أبا طالب قد مات، قال: (اذهب فواره)، ووارى عليه الصلاة والسلام قتلى بدر من المشركين في القليب، فدل على أن السنة قبر الميت، ولا يترك للسباع والهوام ونحوها كالطيور الجارحة تنهشه وتؤذيه.

الذي يتولى غسل الميت

الذي يتولى غسل الميت قال رحمه الله: [وأولى الناس بغسله وصيه]. بعد أن بين لنا رحمه الله أن الغسل لازم، شرع في التفصيل، فذكر من يلي تغسيل الميت. أولاً: ينبغي أن يكون الذي يلي تغسيل الميت عالماً بصفة التغسيل، فلا يجوز أن يتولاه الجاهل، فإذا كان الشخص عنده علم وإلمام بالطريقة التي يغسل بها الميت، فحينئذٍ يشرع له أن يتولى تغسيله، وأما إذا كان جاهلاً فلا يشرع له أن يقوم بهذا الأمر؛ لأن جهله ربما أوقعه في البدع، وربما أوقعه في الأمور التي يخل فيها بحق الميت في تغسيله وتكفينه؛ ولذلك قالوا: إنما يتعلق القيام بهذا الحق -أعني التغسيل- بمن يعلم لا من لا يعلم. ثم هل يشترط أن يكون مكلفاً؟ المجنون لا يلي تغسيل الميت، واختلفوا في الصبي، فإذا كان مميزاً عالماً بطريقة الغسل ويمكن أن يقوم بحق الميت، قالوا: لا حرج أن يلي التغسيل. وضيق بعض العلماء من جهة النية فقالوا: إن الصبي لا يلي الغسل لمكان نية الغسل، وسيأتي إن شاء الله التنبيه على النية، وإن كان الأقوى أن الصبي إذا عقل -وكان يحسن القيام بالتغسيل- أنه يلي التغسيل ولا حرج في قيامه، وهو مقدم لا شك خاصةً إذا لم يوجد الكبير، فإنه يلي تغسيله.

شروط المغسل

شروط المغسل والأصل في المغسل أن يراعى فيه أمور: أولها: العلم. ثانيها: الثقة. ثالثها: الأمانة. فهذه ثلاثة أمور لا بد من وجودها في المغسل. أولاً: علمه بطريقة التغسيل ولو كان من عوام الناس، فيقدم ويكون أحق. ثانياً: الثقة؛ لأن الإنسان قد يكون عالماً بطريقة التغسيل، ولكنه فاسق والعياذ بالله، والفاسق كما أنه جريء على حدود الله قد يجرؤ على ترك حق الميت، وقد يجرؤ على كشف عورته أو على أمورٍ لا تُحمد؛ ولذلك قالوا: لا يلي تغسيل الأموات إلا من عُرِف بالثقة، فيكون ثقة مأموناً، والسبب في ذلك أن ما يتصل بتغسيل الميت من الأمور التي لا تنبغي يجب أن يكون سراً، فلربما يطلع على أمور خفية، من البشائر الطيبة، والبشائر السيئة، فقد يكون الميت عبداً صالحاً، فيرى بشائر صالحة، من تهلهل وجهه وإشراقه، وهذا معروف ومألوف. وأذكر أنني دخلت على أحد أهل الفضل -رحمة الله عليهم- فلم تمل العين النظر إلى وجهه وهو يغسل! وتراه بصفة هي أشرق وأجمل من حاله وهو حي، ولا ترى فيه وحشة الأموات، وهذه من عاجل بشرى المؤمن: أنك ترى وجهه مشرقاً، خاصةً في حالة النزع والتغسيل. ربما تظهر أمور، وهذا أمرٌ متضافر ومشهور عند العلماء رحمة الله عليهم، ومضت به السنن من الله سبحانه وتعالى، وهو أن الأخيار يظهر في هذه المواطن لطف الله عز وجل بهم. وكان الإمام أحمد رحمة الله عليه يقول لأهل البدع: (بيننا وبينكم الجنائز)، أي: أن الأمور تنكشف في موت الإنسان، فيجعل الله له بعض البشائر عند موته، من ذكر الله عز وجل والختم بالخير، ويجعل له بعض البشائر في تغسيله وتكفينه حتى في قبره ودفنه؛ ولذلك ينبغي أن يكون الذي يلي التغسيل ثقة، فإذا حدّث الناس بالخير صدقوه، ويكون ذلك أدعى لانتشار الخير والإحسان إلى الميت بالترحم عليه وحسن الظن به. كذلك أيضاً: لا يحدث بكذب، ولا يكذب على الميت ولا يسيء إليه. مأموناً: أي مأمون النظر إلى عورة الميت، ومأمون التصرف. فهذه أمور لا بد من توفرها في الغاسل: أن يكون عالماً بالغسل، وأن يكون ثقةً، وأن يكون مأموناً، فيؤمن منه النظر إلى العورة، ويؤمن منه المس للعورة، ويؤمن منه الإخلال بحقوق الميت. كل ذلك مما ينبغي توفره فيمن يلي تغسيل الميت.

أولى الناس بتغسيل الميت

أولى الناس بتغسيل الميت يقول المصنف رحمه الله: [وأولى الناس بتغسيله وصيه]. يبين رحمه الله بهذه العبارة أن أحق الناس بتغسيل الميت وصي الميت، وهذه الوصية مشروعة؛ وذلك لأنه ربما كان ذلك الشخص الموصى إليه معروفاً بالعلم والاستقامة والسنة، والحرص على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والدعاء بالخير؛ فيكون أفضل من غيره وأولى وأحرى، وخاصةً في الأماكن التي يكثر فيها الجهل أو توجد فيها البدع والأهواء، ويكون هناك من عرف بالاستقامة والحرص على سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فتكون الوصية لمثله آكد وأولى وأحرى. وقد جاء عن أبي بكر رضي الله عنه أنه وصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس رضي الله عنها وأرضاها، وهذا يدل على مشروعية الوصية، وكذلك جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه وصى أن يغسله محمد بن سيرين، وكان مرهوناً في دين، فأخرج من سجنه لتغسيل أنس رضي الله عنه؛ لأنه وصى له بذلك. فالوصي مقدمٌ على غيره؛ لأن الميت اختاره من دون الناس، خاصةً إذا وُجد المبرر -كما قلنا- من علمٍ واستقامة وحرصٍ على الخير. وقوله: [ثم أبوه]. يلي الوصي الأب، فالأب أحق بتغسيل ابنه؛ وذلك لمكان عظيم الشفقة والقيام بحقه على أتم الوجوه. وهذا إنما يكون إذا تنازع القرابة فقال الأخ: أنا أريد تغسيله، وقال الابن: أنا أريد تغسيله، واختصم الأقرباء، فحينئذٍ يحتاج الفقهاء إلى وضع ترتيب للأقارب بحيث يُبين من الذي يقدم من الأقارب، فقال رحمه الله: [ثم أبوه] أي: الأب هو أول من يقدم من قرابة الميت، والأمر واضح؛ فإن أحق الناس هم الوالدان، ولكن الأم يتعذر غسلها لابنها، فبقي الحق للأب على الأصل في تغسيل الرجل للرجل. وقوله: [ثم جده]. الضمير عائد إلى الميت، أي: جدّ الميت: وهو أبو الأب، فالمراد جهة الأبوة، إذا قلت: يقدم الأب ستنظر إلى هذه الجهة، وتبدأ بالأب المباشر، ثم أبوه وإن علا، فيقدم الأب على الجد، والجد الأقرب على الجد الأبعد، فأبو الأب مقدم على جد الأب؛ وهذا لأن الجهة يقدم بها، فإذا تساووا في الجهة نُظِر إلى القرب: فبالجهة التقديم ثم بقربه وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا لو اختصم أبٌ وجد في تغسيل الابن فإنه يقدم الأب المباشر على الجد، وهكذا لو اختصم الجد وجد الجد، قدم الجد الأقرب على الجد الأبعد. وقوله: [ثم الأقرب فالأقرب من عصباته]: الآباء ثم الأبناء ثم الإخوان، فإذا لم يوجد له أب ولا ابن -الذي هو الفرع- ينتقل إلى جهة الإخوة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (عم الرجل صنو أبيه) والعم أخٌ للأب، فجعل الأخ مع أخيه كالشيء الذي خرج من أصلٍ واحد، فبعد الأب يقدم الابن، ثم إذا لم يكن للميت ابن يقدم الإخوة الأشقاء، ثم الإخوة لأب، ثم أبناء الإخوة الأشقاء، ثم أبناء الإخوة لأب، ثم الأعمام الأشقاء، ثم الأعمام لأب، ثم أبناء الأعمام الأشقاء، ثم أبناء الأعمام لأب، ثم بعد ذلك أقرب العصبات: فيقدم ابن ابنِ العم على ابن ابن ابنِ العم، على حسب الترتيب الذي سبق الإشارة إليه. وقوله: [ثم ذوو أرحامه]: أي: فيقدمون على حسب منازلهم، كابن بنت الابن مع ابن بنتِ بنت الابن؛ فإنه يقدم الأقرب على الأبعد، وذوو الأرحام في الفرائض هم الذين ليس لهم فرضٌ ولا تعصيب، كابن الخالة، فإنه ليس له فرض ولا تعصيب، ولهم ميراث خاص سيأتي -إن شاء الله- الكلام عليه في باب الفرائض. وقوله: [وأنثى وصيتها]. بعد أن بين الرجال فقال: نقدم الآباء ثم آباءهم وإن علوا، ثم الأبناء وأبناءهم وإن نزلوا، ثم الإخوة، ثم أبناء الإخوة، ثم الأعمام، ثم أبناء الأعمام على الترتيب الذي ذكرناه؛ شرع في الإناث، فقال: الحكم في المرأة كالحكم في الرجل سواء بسواء، فقال: [وصيتها] فلو أوصت امرأة أن التي تلي تغسيلها هي فلانة، ولو كانت أجنبية فإنها تقدم على قريباتها. وقوله: [ثم القربى فالقربى من نسائها]: أي: على نفس الترتيب، فتقدم الأم أولاً، فإذا وجدت الأم فهي أحق من يلي تغسيل ابنتها، ثم أمها وهي الجدة -أم الأم- وتقدم القربى على البعدى، فأم الأم مقدمة على أمّ أم الأم، وبعد جهة الأمومة ينتقل إلى البنوة، فالبنت إذا لم توجد أمها، أو كانت الأم لا تستطيع أن تلي التغسيل فننتقل إلى البنات، فبنتها أحق بتغسيلها، ثم بنت بنتها وإن نزلت، ثم بعد ذلك أختها الشقيقة، ثم أختها لأم، وقال بعض العلماء: أختها لأب. وإن كان من جهة الأم قالوا: نقدم الأم، على خلاف الذكور، فإنا نقدم من جهة العصبة والرجل والذكر. ثم بعد ذلك بنات الأخوات الشقيقات، ثم بنات الأخوات لأم، ثم ينتقل بعد ذلك إلى العمات؛ ثم بنات العمات على حسب الترتيب الذي عكسه في الرجال.

مسائل في غسل الميت

مسائل في غسل الميت

جواز تغسيل كل من الزوجين لصاحبه

جواز تغسيل كل من الزوجين لصاحبه قال المصنف: [ولكل واحدٍ من الزوجين غُسل صاحبه] أي: من حقه أن يلي تغسيل صاحبه، حتى قال بعض العلماء: الزوج يقدم على جميع الأقرباء، والزوجة تقدم على جميع الأقرباء. أما كون المرأة تلي تغسيل الرجل فهذا يكاد يكون كالقول الواحد عند العلماء رحمة الله عليهم. وأما هل الرجل يُغسّل المرأة؟ فللعلماء قولان: الجمهور يرون أن للرجل أن يلي تغسيل امرأته، ولا حرج عليه في ذلك، وعصمة الزوجية باقٍ حكمها، ولا تنفسخ بالموت. الحنفية رحمة الله عليهم لا يرون أن للرجل أن يغسل زوجته، ويرون أنه بمجرد أن تموت يحل له نكاح أختها، وكذلك أيضاً يحل له نكاحُ بديلٍ عنها إذا كانت هي الرابعة، قالوا: فحينئذٍ لا يلي تغسيلها؛ كأن العصمة شبه زائلة بالموت. والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور؛ فإن حديث ابن ماجة عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لـ عائشة: (لو أنك متّ فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ثم دفنتك) وهذا حديث حسنه غير واحدٍ من أهل العلم رحمة الله عليهم، وهو يدل على أن للرجلِ أن يلي تغسيل امرأته. كذلك أيضاً فعل السلف الذي صار كالإجماع بين الصحابة؛ وذلك أن علياً رضي الله عنه تولى تغسيل زوجته فاطمة رضي الله عنها، ولم ينكر أحدٌ من الصحابة رضوان الله عليهم ذلك، فصار كالإجماع السكوتي، ومن هنا قالوا: إن تغسيل الرجل لزوجته يعتبر مشروعاً، وهذا هو الصحيح. وقوله: [وكذا سيدٌ مع سريته]: أي: وكذا السيد مع سراريه، فالنساء اللواتي يتسرى بهن -وهن الإماء- من حقه أن يلي تغسيلهن؛ فإنه لا يزول ذلك بالموت، كما أن من حقه أن يلي تغسيل زوجته، وكذلك للأمة غسل سيدها.

جواز تغسيل الرجل والمرأة لمن دون سبع سنين

جواز تغسيل الرجل والمرأة لمن دون سبع سنين وقوله: [ولرجل وامرأةٍ غسل من له دون سبع سنين فقط]. بعد أن بين لنا رحمه الله مراتب القرابة بالنسبة لتغسيل الميت، وحكم الزوجين، وحكم الإماء، شرع رحمه الله في مسألةٍ ثانية تتصل بولاية تغسيل الميت. فالصبي الذي دون سبع سنين، إن وليته أمه أو وليه أبوه فلا حرج، وكذا لا حرج أن يلي تغسيله الرجال أو يلي تغسيله الإناث ولو أجانب، هذا بالنسبة للمولود دون سبع سنين. وابتدأ بالأقل والأخف الذي لا خلاف فيه وأمره يسير -وهو الصغير- لكي يتدرج منه إلى من هو أكبر؛ وذلك لأن تغسيل الأموات يختلف بعد السبع السنين بالنسبة للرجال والنساء، فالأصل: أن الذي يلي تغسيل الرجال هم الرجال، والذي يلي تغسيل النساء هم النساء، ما عدا مسألة الزوجين والسراري والإماء؛ وعلى هذا شرع رحمه الله في بيان مسائل تتعلق بهذا المبحث، فقال: إن من كان دون السبع السنين -وهو الصبي، وكذلك الصبية- فإن أمرهما خفيف، ولا حرج حينئذٍ أن يلي تغسيله الرجال أو يلي تغسيله الإناث.

حكم تغسيل رجل مات بين نسوة والعكس

حكم تغسيل رجل مات بين نسوة والعكس وقوله: [وإن مات رجلٌ بين نسوة أو عكسه يممت]. أي: وإن مات رجلٌ بين نسوةٍ وليس فيهن زوجة ولا أمه، أو ماتت امرأة بين رجال وليس فيهم زوج ولا سيد، فحينئذٍ تيمم المرأة وييمم الرجل، قالوا: ولا يلي الرجال تغسيل النساء إلا ما ذكرنا من الرجل مع زوجته وأمته، وأما ما عدا ذلك فإنه لا يغسل الرجل المرأة ولا تغسل المرأة الرجل، وإنما يلي الجنس الجنس، وذلك لعدم أمن الفتنة غالباً، لأن الرجل مفتون بالمرأة، والمرأة مفتونة بالرجل، وحينئذٍ يصار إلى الاحتياط، فلا يلي الرجال النساء ولا تلي النساء الرجال، وإنما ييمم الرجل إذا مات بين النساء، وتيمم المرأة إذا ماتت بين الرجال. والتيمم: أن يضرب الحي بكفيه الأرض ثم يمسح بهما وجه الميت وكفيه، فإن وجد محرم فهو الذي يلي ذلك؛ لأنه سيحتاج إلى المس، وأما إذا لم يكن من أقاربها فقال بعض العلماء: إنه يرخص في هذا اللمس لوجود الحاجة والضرورة، ومسح الكفين والوجه أخف من غسله لها ومرور يده على بقية أجزاء جسمها، ولو ولي الرجل المرأة لخلا بها، والأصل يقتضي حظر خلوة الرجل بالمرأة وخلوة المرأة بالرجل؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) وهذا يدل على أنه لا يلي الرجل تغسيل المرأة، والمرأة لا تلي تغسيل الرجل.

حكم تغسيل الخنثى

حكم تغسيل الخنثى قال المؤلف: [كخنثى مشكل]. الخنثى: هو الذي يكون له ما يدل على أنوثته ويدل على رجولته، وهو ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: خنثى مميز، أي: تميز حاله بأن ظهرت فيه أمارة الفحولة والرجولة، فهو رجل وملحقٌ بالرجال، أو ظهرت به أمارات الأنوثة والنساء فهو امرأة، وحينئذٍ لا إشكال. القسم الثاني: خنثى مشكل، ليس فيه أمارات تدل على فحولته ولا أمارات تغلب أنوثته، ولذلك لم يقتصروا على وصفه بكونه خنثى، وإنما أضافوا إليه وصف الإشكال، فأشكل أمره، أي: التبس، والشيء المشكل هو الذي أصبحت أشكاله كالشيء الواحد، فشكله امرأة وشكله رجل، -أي أن فيه شبهاً من الرجال وشبهاً من النساء، فهذا لا نستطيع أن نقول: يليه النساء؛ لخوفنا أن يكون ذكراً، ولا نستطيع أن نقول: يليه الرجال؛ لخوفنا أن يكون أنثى، فهذا الخنثى ييمم.

حرمة تغسيل المسلم للكافر أو دفنه

حرمة تغسيل المسلم للكافر أو دفنه وقوله: [ويحرم أن يغسل مسلم كافراً أو يدفنه، بل يوارى لعدم]. بعد أن بين لنا رحمه الله أن الطفل الصغير يليه الرجال والنساء على حدٍ سواء، ثم الرجل بين النساء والمرأة بين الرجال ييممان، ثم الخنثى ييمم؛ لأنه نظير ملحقٌ بما تقدم، والعلة بينه وبين من فقدت منه ما ذكرنا من الرجال والنساء واحدة، شرع رحمه الله بذكر الحكم بالنسبة للكافر. فلا يجوز للمسلم أن يغسل الكافر، فالكافر لا يغسل ولا يكفن وإنما يوارى جسده، وهذا فيه حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام لما جاءه علي بن أبي طالب وذكر له أن عمه أبا طالب قد توفي، قال: (اذهب فواره) وهذا الحديث متكلم في سنده، لكن أقوى منه ما فعله عليه الصلاة والسلام بقتلى بدر حيث أمر بهم في القليب، ولم يأمر بتغسيلهم ولا بتكفينهم، وحينئذٍ انعقد الإجماع على أن الكافر لا يغسل ولا يقام عليه كما يقام على المسلم.

باب الغسل والتكفين [2]

شرح زاد المستقنع - باب الغسل والتكفين [2] غسل الميت واجب على المكلفين، وصفته قد جاءت مفصلةً في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك أحكامٌ ومستحبات متعلقة بغسل الميت، لابد من العلم بها حتى يكون المغسل ملتزماً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.

أحكام غسل الميت

أحكام غسل الميت بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: وقوله: [وإذا أخذ في غسله ستر عورته وجرده]: بعد أن بين لنا -رحمه الله- من الذي يلي التغسيل، ومن له حق التغسيل، وفصّل في الجنسين، وفي المسائل المترتبة على فقد الجنس المماثل، شرع رحمه الله في صفة الغسل. وتغسيل الميت من المهمات التي ينبغي على الناس أن يكونوا على إلمام بها، فإن الرجل ربما فجع بقريبه ميتاً، وربما فُجع في سفرٍ بصاحبٍ له أو رفيقٍ له، فيحتاج أن يعرف أحكام غسل الميت، ولذلك كان بعض العلماء والمشايخ رحمةُ الله عليهم عندما يجلسون في المجالس مع العوام، بدلاً من أن يضيع الوقت دون فائدة يعلمون العوام صفة تغسيل الميت بالتطبيق الفعلي، ويطبقونها في المجالس؛ إحياءً لهذا الأمر اليسير، ولكن بعض الناس ربما يدخل عليه بعض التكلفات التي تجعل الناس يظنون أنه شاق، وأنه لا يليه إلا خاصةُ الناس، مع أن الأمر يسير والدين يسر، وهو رحمةٌ من الله عز وجل بعباده، وليس فيه حرج ولا مشقة. فالأمور التي يتكلفها البعض في تغسيل الميت وإحداث صفةٍ معينة فيها كلفة ومشقة، فكلها أقرب إلى الاجتهادات والآراء التي لا تستند إلى حجة من الكتاب والسنة، وهي أمور لا أصل لها، وإنما يقتصر على سماحة الإسلام ويسره في ولاية أمر الميت وتغسيله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يسر أمر الغُسل سواء كان الميت رجلاً أو امرأة، وقد أثر عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في المحرِم: (اغسلوه بماءٍ وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه، ولا تخمروا وجهه، ولا تغطوا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)، وهذا أمر في غاية الاختصار واليسر والسماحة. وكذلك أيضاً لما أمر بتغسيل ابنته زينب وتكفينها رضي الله عنها كما جاء في حديث أم عطية رضي الله عنها الذي هو أولى وأقوى من حديث ليلى الثقفية رضي الله عنها، وفيه يسر أيضاً، وإذا تأملته وجدت أن التغسيل وصفة التكفين كلها يسر، وليس بذاك الأمر الصعب الذي يظنه بعض الناس وأنه لا يتيسر إلا لخاصة طلاب العلم، بل الأمر على خلاف ذلك، فقد تجد من العوام من يُحسن ذلك لسهولته ويسره.

ستر عورة الميت قبل التغسيل

ستر عورة الميت قبل التغسيل قال رحمه الله: [وإذا شرع في تغسيله ستر عورته وجرده]. بعد أن بينا من الذي يلي التغسيل ومن هو أحق بالتغسيل -وهذا من ترتيب الأفكار- وبينا من الذي يُغَسّله من الرجال والنساء، ومن الذي تغسله المرأة من الرجال والنساء، حينئذٍ يرد Q كيف نغسل؟ فقال رحمه الله: [وإذا شرع]-أي: أراد أن يغسل-[ستر عورته] أي: ستر عورة الميت وستر عورة الميتة، لأن الأصل أن عورات الأموات والأحياء حرمتها واحدة، ولا يجوز كشف السوءات والعورات لا من حيّ ولا من ميت، إلا ما وردت الرخصة والضرورة به من علاج ونحو ذلك، وأما بالنسبة لتغسيل الميت، فالأصل: أن من يريد أن يغسل الميت فعليه أن يستر عورته. وبناءً على ذلك يكون ستر العورة على حالتين: الحالة الأولى: إما أن تدخل على ميتٍ عليه ثيابه، فحينئذٍ تخفف الثياب وتبقي عليه ما يستر عورته كالسراويل ونحوها؛ والسبب في ذلك أن درجة حرارة الجسم ترتفع، وإذا كانت الثياب على الميت فإنها تفسخ جلده، وخاصةً إذا كانت ثقيلة كما هو الحال في أيام البرد ونحوها. أما دليل تخفيف الثياب والاقتصار على ما يستر العورة، فهو ما ثبت في الحديث الصحيح أن الصحابة قالوا: (أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نجرد موتانا؟!) قالوا: إن هذا التجريد المراد به أن نزيل عنه جميع ما يلي بدنه، وتبقى العورة على الأصل من كونها محظوراً كشفها والنظر إليها. بناءً على ذلك: يُبقى عليه سراويل أو إزار يستر عورته، فمواضع العورة تبقى مستورة، ويبقى صدره ورأسه ورجلاه وساقاه مكشوفة؛ ثم إذا كان عليه ثياب بعد أن يجرده هذا التجريد يهيئه للغسل. الحالة الثانية: أن يكون الميت عارياً، وهذا يقع في بعض الأحوال، كما يحدث في بعض الأحيان إذا مات في المستشفى وعليه غطاء مسجى به، فحينئذٍ إذا أردت تغسيله بدأت بعورته، فلا تكشف الثوب عنه حتى تحتاط لعورته، فتلبسه ما يستر العورة، أو تضع على عورته ما يسترها، ثم تشرع في تغسيله.

ستر الميت عن العيون عند غسله

ستر الميت عن العيون عند غسله وقوله: [وستره عن العيون]. هناك أمران في الستر: الأمر الأول: الستر في الجسد نفسه، بأن تبقي على جسده ما يستر عورته على التفصيل الذي ذكرناه. والأمر الثاني: أن تهيئ موضعاً أبلغ في ستره وعدم تغسيله أمام الأعين؛ فإن ذلك أحفظ لحرمته وأرعى لها وأصون، وصورة ذلك: أن يختار الإنسان الغرف ونحوها، فلا يغسله في فناء واسع، وخاصةً إذا كان هناك أشخاص ينظرون إليه، أو فناء مكشوف تطل عليه البيوت الأخرى أو نحو ذلك، فهذا فيه حط من قدر الميت ومنقصة لمكانته، وحينئذٍ لا يفعل به ذلك. ثم في الغرف نفسها: فأضيقها مقدّمٌ على أوسعها ما لم يكن في السعة ما يعين على تغسيله، أو تكون هناك حاجة لإخراجه إلى مكان أوسع لكي يكون الماء قريباً منك، أو كان في الموضع الذي فيه الماء ولا تستطيع أن تنقله إلى موضعٍ آخر، فحينئذٍ لا حرج أن تغسله في ذلك الموضع ولو كان واسعاً. فتختار له الغرف الضيقة والمستورة من أعلاها، وهناك حديث تكلم العلماء في سنده، وهو: النهي عن تغسيل الميت في غرفةٍ ليس لها سطح، ولكنه ضعيف، والصحيح: أنه لا حرج أن يُغسل وهو إلى السماء، بمعنى أن يكون في غرفة أو فناء أو نحو ذلك، ولكنه خلاف الأولى.

كراهة حضور غسل الميت إلا لمن احتيج إليه

كراهة حضور غسل الميت إلا لمن احتيج إليه قال رحمه الله: [ويكره لغير معين في غسله حضوره]. وهنا ننبه على أمر! فمع أن المنكشف من الميت غير عورته، وهو صدره وساقاه ونحو ذلك، فلا ينبغي أن يحضره إلا من يلي تغسيله، وهذا يدل على الحفظ الأكمل للإنسان، حتى وإن قلنا بجواز أن يرى الرجل ساق الرجل وأن يرى صدره، ومع ذلك نقول: إن حفظ هذه الأمور أولى وأحرى. نفرع عليه المسألة المشهورة، وهي: أن بعض النساء -أصلحهن الله- يترخصن بقول بعض العلماء: إن عورة المرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل، فيقولون: لا حرج أن تبدو المرأة كاشفة الساقين أو الفخذين -نسأل الله السلامة والعافية- وكاشفة الصدر؛ لأن عورتها المغلظة السوأتان والفخذان كالرجل مع الرجل. ونقول: لو كشف الرجل عن عورته في مجامع الناس لسقطت عدالته وردت شهادته، وكذلك المرأة إذا جلست بين النساء مكشوفة الفخذين أو مكشوفة الساقين أو مكشوفة الصدر؛ فهي ساقطة العدالة ذاهبة المروءة -نسأل السلامة والعافية- ومثلها لا تقبل شهادتها، وهذا بإجماع العلماء: أعني أن من يرتكب ما يخل بالمروءة لا تقبل شهادته؛ لأنه ناقص العقل، والشهادة إنما تقبل ممن عنده عقل يعقله ويردعه. لذلك يقول العلماء: لحفظ كرامة الميت ينبغي ألا يحضر تغسيله -مع كونه محفوظ السوأتين- إلا من احتيج إليه، كأن يكونوا أعواناً يقومون بمعونته، أو يكون عالماً من أهل العلم يرشد أو يبين، فحينئذٍ لا حرج أن يحضر، وأما من عدا ذلك فلا. ورخص بعض العلماء في بعض القرابة للشفقة، كأن يكون ابنه فيحب أن يكون حاضراً لتغسيله، وقد يكون ذلك من بعض الأقرباء؛ حتى يكون أدعى لرضاه بقدر الله عز وجل، لأنه ربما رأى أمارات تبشره بالخير، ويكون ذلك أدعى لصبر الأقرباء، وهذا معروف: ربما غسل فظهرت أمارات طيبة في تغسيله، فتكون أدعى لصبر أقربائه واحتسابهم للأجر فيه.

رفع رأس الميت وعصر بطنه برفق عند غسله

رفع رأس الميت وعصر بطنه برفق عند غسله قال المصنف رحمه الله: [ثم يرفع رأسه إلى قرب جلوسه]: أي: بعد أن يهيئ الغاسل المكان الذي يريد أن يغسل الميت فيه، يختار بعض العلماء أن يكون الميت على سرير؛ لأنه إذا كان على الأرض يكون غسله من الصعوبة بمكان، ولذلك اختاروا أن يكون على سرير أو على شيء عالٍ؛ حتى يتيسر نزول الفضلات والأقذار؛ ويكون ذلك أدعى لسلامة الجسد منها، فيضعه على سريرٍ ونحو ذلك ويجعل صدرهُ مرتفعاً قليلاً، فيرفع صدره ورأسه حتى يتيسر خروج الخارج أثناء تغسيله. وقوله: [ويعصر بطنه برفق]: أي: بعد أن يرفعه من جهة صدره ورأسه يقوم بعصر بطنه عصراً رفيقاً، فإن هذا الرفع والعصر يسهل خروج الفضلة الباقية في ذلك الموضع؛ فتخرج الفضلة، وذلك أدعى لنقائه. ثم لا يعصر بمبالغة، ولا يضغط ضغطاً شديداً؛ وذلك لأن حرمة المؤمن ميتاً كحرمته حياً، كما ثبت في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عند ابن ماجة وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كسر عظم المؤمن ميتاً ككسره حياً في الإثم) قال العلماء: فيه دليل على أنه يأخذ الحرمة ميتاً كما كانت له حياً، وعلى هذا قالوا: لا يبالغ في عصره، ولا يبالغ في الإضرار به وأذيته. وقوله: [ويكثر صب الماء حينئذٍ]: هذه أمور كلها من باب الاستعانة على النظافة، ليس فيها نص أنه يجب أو يلزم الإنسان عبادةً أن يكثر الماء، إنما المراد أنه يكثر الماء حينئذٍ؛ لأن التجربة أنه إذا عصر البطن خرج الخارج، وحينئذٍ ينتن رائحة يتضرر منها من يلي تغسيله ومن عنده، فإذا أكثر الماء كان أدعى لخروج هذه النجاسة، وكذلك أدعى لسلامة البدن منها، وسلامة البدن مقصودة، وكذلك أيضاً الرفق بمن حضر بزوال الرائحة والنتن مطلوبٌ.

تنجية الميت بخرقة

تنجية الميت بخرقة [ثم يلف عليه خرقة فينجيه]. إذاً: أول ما يبدأ بقضية إخراج الفضلات، وإخراج الفضلات يستلزم منك أمرين: الأمر الأول: أن تقوم برفع الجذع الأعلى من جسده حتى يتيسر نزول الفضلة والعصر الرفيق على بطنه، يتكرر ذلك على حسب الحاجة. وبعد أن تعصر وتتأكد من خروج الخارج ويكون مع خروج الفضلات صبّ الماء حتى لا يؤذي برائحته، وأيضاً حتى لا يتضرر البدن ببقاء النجاسة، فكثرة صب الماء أثناء خروج الخارج أدعى لذهاب النجاسة والقذر، وهذا مطلوب شرعاً. فهذان أمران: العصر ووضع الميت في حالة تعينه على خروج الخارج، ثانياً: كثرة صب الماء لنقائه وتنظيفه. بعد هذا تكون مرحلة النقاء المقصودة، وذلك أن يأخذ خرقة فيلفها على يديه، ثم يصب الماء على السوءة ويبدأ بغسلها وإنقائها كالحي سواء بسواء، أي: كما أنه ينجي نفسه ينجي الميت كذلك. لكن قال بعض العلماء: لو تيسر وجود أي حائل، حتى ولو كان بالأكياس الموجودة الآن فلا حرج، فإنما العبرة بأن يُنقَى الموضع، سواء كان الحائل خرقة أو غيرها.

حرمة مس عورة من بلغ سبع سنين

حرمة مس عورة من بلغ سبع سنين وقوله: [ولا يحل مس عورة من له سبع سنين]: هذا دقة الفقهاء رحمة الله عليهم! فإنه لما ذكر غسل الميت، كان من المناسب لذلك أن يذكر فيها مس عورة الأجنبي مع وجود الحاجة للغسل، فقال رحمه الله: (ولا يحل مس عورة من له سبع سنين). والمس يكون بالمباشرة، أي: الإفضاء إلى الشيء بالشيء بدون وجود حائل؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من مس ذكره) وإذا وجد الحائل فلا يقال: مس؛ وربما يقال: لمس، وإن كان بعض العلماء يقول: اللمس يقتضي عدم وجود الحائل، لقوله تعالى: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام:7] فأياً ما كان: فالمس أن تباشر البشرة البشرة، لكن إذا وجد الحائل فلا يقال إنه مس، وإنما يقال: وضع يده، أو أدخل يده أو نحو ذلك. وحينئذٍ يضع على يديه اللفافة وينجيه إذا كان ابن سبع سنين فما فوق، وإذا كان دون السبع السنين فلا حرج على أمه وأبيه أن يغسلاه، إلا أن بعض العلماء فرق فيما يكون فيه شبه الرجال كبعض الأبناء الذين يبرز مبكراً في سنه حتى يشابه الرجال، وقد تفتن به المرأة ولو كانت قريبة، فهذا يحتاط فيه، وكذلك بالنسبة للصغيرة المشتهاة أو التي تكون أشبه بالكبيرة وفيها فتنة، فهذه مسائل مستثناة، نص العلماء على استثنائها بأعيانها.

استحباب مس سائر الجسد بخرقة

استحباب مس سائر الجسد بخرقة قال رحمه الله: [ويستحب ألا يمس سائره إلا بخرقةٍ]: أي: سائر جسد الميت. لقد بين لنا رحمة الله عليه أن أول ما يبدأ به الإنسان إنما هو إنقاء الموضع بعد خروج الخارج، وقال: إن هذا الإنقاء إذا كان الميت ابن سبع سنين فما فوق ينبغي أن يكون بحائل، فلما تكلم على الحائل من أجل العورة ناسب أن يذكر أن هذا الحائل الأفضل أن يكون هناك مثله لبقية الجسد؛ لكن ليس للعلة التي في العورة وإنما لعلة أخرى، وذلك أن وجود الخرقة يصبح بمثابة المعين على دلك الجسد ونقائه، بخلاف ما إذا باشرت اليد الجسد، فإنها لا تقوى على إزالة الوسخ والقذر كما لو كان بليفةٍ أو نحو ذلك من الأشياء. فقال: (يستحب)، أي: يستحب في سائر البدن أن يكون هناك شيء من القماش أو نحوه على اليد، حتى إذا مرت اليد على الجسد كان ذلك أدعى لمكان الخشونة أن يزيل الأقذار أو ما علق بجسد الميت مما هو غريب عنه.

صفة وضوء الميت

صفة وضوء الميت قال المؤلف: [ثُمَّ يُوَضِّئْهُ نَدْباً]. (ثم) هنا جاءت للترتيب، والمصنف رحمه الله ذكر لنا أنك تبدأ بإنقاء العورة من الفضلات وغيرها، ثم بعد ذلك قال: وتكون هناك خرقة لغسل سائر البدن، فأدخل مسألة الخرقة لسائر البدن بعد الطهارة، فكأنها فاصل فقال: (ثم) ولم يقل: (و) كأنه يشير إلى أن مسألة الخرقة لسائر البدن مسألة مقحمة ذُكِرت لنظيرها، وإلا فالأصل بعد انتهائك من تغسيل عورته وإنقاء الموضع من النجاسة أن تنتقل إلى توضئة الميت، فننبه على الترتيب: فيبدأ الإنسان أولاً بإنقاء الموضع من النجاسة، ثم يبدأ بتوضئة الميت، فبعد أن ينجيه كما ينجي الحي نفسه من النجاسة، ويرى حينئذٍ أنه قد انقطع الخارج النجس، وأن النجاسة قد زالت عن الموضع؛ ينتقل إلى الوضوء، وهذه هي السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما اغتسل بدأ صلوات الله وسلامه عليه بإزالة الأذى، قالت أم المؤمنين: (فغسل الأذى، ودلك بيديه الأرض بعد أن غسل الموضع)، وهذا يدل على أن السنة في غسل الميت كالحي: أن يبدأ بإزالة النجاسة ثم الوضوء. وتوضئة الميت هي أول ما يكون في غسله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما أمر النساء أن يغسلن بنته: (ابدأن بميامينها -يعني: جهة اليمين- وبأعضاء الوضوء منها)، فدل على أن السنة البدء بالوضوء، وكان عليه الصلاة والسلام: (إذا اغتسل ابتدأ بالوضوء)، فغسل كلتا يديه، ثم مضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، وبعد ذلك أخر غسل رجليه إلى آخر غسله؛ لكن هنا في الميت قالوا: لا يؤخر؛ لأن العلة التي في الحي ليست موجودةً في الميت، فيبتدأ بتوضئة الميت. وقوله: [ولا يُدخل الماء في فيه ولا في أنفه]: بعد أن بين لنا أن نوضئ الميت، قال: (ولا يدخل الماء في فمه ولا في أنفه) وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بتغسيله، وإنما يقتصر على غسل الشفتين، ولذلك قالوا: يبل يديه ثم يمر بهما على شفتيه؛ لأنهما من الخارج، وذلك يغني عن إدخال الماء إلى الداخل، وهكذا بالنسبة لمنخريه، قالوا: إنه يبل يديه ويدخلهما في المنخرين كأن الماء قد دخل، وإن كانت الصورة أشبه بالمسح؛ لكنهم قالوا: إن صب الماء على اليد ثم إدخالها أقرب إلى الغسل، فصار المسح أخف من الصورة التي ذكرناها، فكأن الصورة أقرب إلى الغسل. وعلى هذا: فبدلاً أن يمضمض الميت ويدخل الماء في أنفه يقوم بوضع الماء على شفتيه، بوضع إصبعيه مبلولتين على شفتيه، وإدخالهما في منخريه أيضاً، وهذا ما ذكره المصنف رحمه الله بقوله: [ويدخل إصبعيه مبلولتين بالماء بين شفتيه، فيمسح أسنانه، وفي منخريه فينظفهما، ولا يدخلهما الماء]: أي: لا يدخل الماء في فمه ولا أنفه. إذاً بهذا نكون قد بينا أن السنة توضئة الميت.

حكم البسملة والنية عند غسل الميت

حكم البسملة والنية عند غسل الميت قال رحمه الله: [ثم ينوي غسله ويسمي]. قوله: (ثم ينوي غسله): هذا فيه خلاف بين العلماء: فالحنفية لا يرون نية الغسل، والجمهور يرون نية الغسل وهو الصحيح، وأصل المسألة مفرعة على غسل الحي أيضاً؛ والصحيح وهو مذهب الجمهور: أنها تشترط، ولا يصح الغسل من الجنابة لحي إلا بنية، وقد قدمنا هذه المسألة وذكرنا الأدلة وخلاف العلماء والراجح فيها، فالصحيح أنك تنوي. وبناءً على ذلك: ما فائدة أن نقول: إنه لا بد من النية؟ فائدة ذلك: أنه لو أُخِذَ الميت ووضع في موضع عُممَ الماءَ على بدنه، كأن يوضع في بركةٍ صغيرة -بطريقة أو بأخرى- ويكون عالي الصدر، ويمر الماء على سائر جسده بقصد التنظيف، أو صبّ الماء عليه بقصد تنظيفه لا بقصد القيام بحق الغسل، فحينئذٍ نقول: هذا الغسل ليس تعبدياً؛ لأنه لم ينو، فحينئذٍ يلزم أن يعاد الغسل مرةً ثانية، هذا هو وجهه. وأما الدليل على اشتراط النية فقد قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] وقال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2] فأمر سبحانه وتعالى بإخلاص الدين له، والغسل من الجنابة دينٌ وعبادة، ولا يمكن للإنسان أن يقصد القربة بهذا العمل -أعني: الغسل- إلا بالنية؛ لأن الغسل يقع على صورة العبادة ويقع على صورة العادة، فيقع على صورة العبادة كما في غسل الجنابة وغسل النفساء، ويقع على صورة العادة كالغسل للاستحمام، فلما كان الفعل في حد ذاته صالحاً للعادة وصالحاً للعبادة؛ فإنه لا يمكن تميز العادة عن العبادة إلا بالنية، فأصبحت واجبة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) والغسل عمل. وقوله: (ويسمي) أي: يقول: (باسم الله) عند تغسيله. وقوله: [ويغسل برغوة السّدْر رأسه ولحيته فقط]: وذلك بأن يأخذ إناءً مخصوصاً ويضع السدر فيه ويضربه فيه حتى تصير له رغوة كرغوة الصابون، فيأخذ هذه الرغوة النقية من السدر ويغسل بها رأسه وشعر وجهه، والأصل في هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بماءٍ وسدر).

الشروع بتغسيل الشق الأيمن ثم الأيسر

الشروع بتغسيل الشق الأيمن ثم الأيسر وقوله: [ثم يغسل شقه الأيمن ثم الأيسر]: يغسل شقه الأيمن؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ابدأن بميامينها) ثم شقه الأيسر، إن كان مضطجعاً ووجهه إلى السماء فتبدأ بالشق الأيمن للميت لا للغاسل. وهذه المسألة لها نظائر، منها: لو أحرمت بعمرة وأردت أن تتحلل بعد انتهائك منها، أو بحج وأردت أن تتحلل منه، فهل السنة إذا جاء الحلاق ووقف قبالة وجهك أن يبدأ بيمينه الذي هو يسار لك، أو بيساره الذي هو يمينٌ لك؟ الصحيح: أن العبرة بك أنت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ناول الحلاق شقه الأيمن، فلما قال: ناول الحلاق شقه الأيمن؛ دل على أن العبرة بالميت الذي يُغسَّل، فيبدأ بيمين الميت لا بيمين الغاسل؛ لأنه ربما وقف الغاسل فكان يمينه يسار الميت، وكان يساره يمين الميت، فحينئذٍ العبرة بالميت نفسه؛ لأن الغسل متصل به، والعبادة كذلك متصلةٌ به، فحينئذٍ يُبدأ بيمين الميت، لقوله عليه الصلاة والسلام: (ابدأن بميامينها) فأسند اليمين إليها، والإضافة تقتضي التخصيص. وعلى هذا: تكون اليمين للميت لا للغاسل، فإن كان مضطجعاً إلى السماء تأتي إلى الناحية اليمنى وتصب الماء عليها، وتغسل أعلاه ثم أسفله، بأن تقلبه حتى يعطيك قفاه، فتغسل الجهة التي تلي الظهر من اليمين؛ تبدأ بهذا ثلاثاً. وبعض العلماء يرى: أنه عليك أن تبدأ بالغسلة الأولى بالشق الأيمن، ثم تقلبه على شقه الأيسر وتغسل الأيسر، ثم تعود ثانية إلى الأيمن، ثم تعود ثالثة بنفس الطريقة؛ كأنه يرى أن الغسلة تتم بالجمع بين اليمين واليسار، ولكنهم قالوا: الأرفق والأولى أن يبدأ باليمين فينتهي منه كليةً، فيغسله ثلاثاً، ثم بالشمال ويغسله ثلاثاً فينتهي منه بعد انتهائه من اليمين.

عدد الغسلات في غسل الميت

عدد الغسلات في غسل الميت وقوله: [ثم كله ثلاثاً]. أي: كل جسده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح بدأ بشقه الأيمن ثم بشقه الأيسر، وقالت أم المؤمنين: (ثم أفاض الماء على رأسه -وفي رواية- على جسده). ، فهذا يدل على أن الإفاضة تكون بعد البدء بالشق الأيمن؛ تشريفاٌ لليمين، ثم انتهائه من الأيسر. وقوله: (يفيض الماء على جميع جسده)؛ لا بأس باستعمال الوسائل التي يستعان بها في صب الماء كخرطوم المياه ونحو ذلك، فإن شئت أن تصب الماء عليه وتدلك بيديك فابدأ بشقه الأيمن، ثم اقلبه على الأيسر وادلكه بيدك، ثم عمم سائر الجسد، ويكون غسلك لسائر الجسد ثلاث مرات، والثلاث المرات أن تبدأ بأعلاه وتنتهي بأسفله؛ ثم تبدأ بأعلاه وتنتهي بأسفله؛ حتى يكون أدعى لضبطك؛ لأنك لو فرقت بدون إمعان ربما تكررت الثلاث متفرقة على البدن، فتكون غسلت بعض البدن ثلاثاً وبعضه مرتين وبعضه مرة. فالأولى: أن تبدأ بترتيب جسده، فتبدأ بأعلاه فتعتني بكتفيه وجهة رأسه، ثم إلى صدره ثم إلى ظهره، ثم بعد ذلك على ما أقبل من أسافل رجليه ثم ما أدبر. وبعض العلماء يقول: إنما يبدأ بالأعلى وهو منقلب على وجهه إلى السماء، فتبدأ بأعلاه ثم إلى أسفله، ثم تقلبه وتبدأ بأعلاه وهو مقلوب إلى أسفله. والأمر واسع، والعبرة أن الماء يعم الجسد سواء بهذه الطريقة أو بتلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلوه) ولم يحد في ذلك حداً معيناً. وقوله: [يمر في كل مرة يده على بطنه]: أي: يمر في كل مرة يده على بطنه برفق؛ حتى إذا كان هناك خارج يخرج ويبقى نظيفاً نقياً كما هو المقصود من غسله وتنظيفه. وقوله: [فإن لم ينق بثلاث زيد حتى ينقى ولو جاز سبعاً]. أي: فإذا كان بعد الثلاث قد نقي فلا إشكال، وإن لم تنقه الثلاث زيد وتراً، فيكون بخمس ويكون بسبع على حسب الحاجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأيتن) فهذا يدل على أن الأمر مرتبط بالنظافة؛ ولذلك يختلف الوضع في الصيف والشتاء، فقد يكون في الصيف أسهل وفي الشتاء أصعب، وقد يكون بعض الأجساد به من النتن والقذر ما يحتاج إلى غسله سبعاً أو تسعاً أو إحدى عشرة مرة؛ فالعبرة في هذا الأمر بتنظيفه وإنقائه.

وضع الكافور في الغسلة الأخيرة

وضع الكافور في الغسلة الأخيرة وقوله: [ويجعل في الغسلة الأخيرة كافوراً]: أي: لقوله عليه الصلاة والسلام: (واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور) والكافور ميزته أنه يطرد الهوام، فإذا وضع في قبره فإن الهوام لا تبادر بالهجوم على جسد الميت، وذلك أدعى لبقاء الجسد أكثر مدة، وقوله عليه الصلاة والسلام: (واجعلن في الآخرة كافوراً) يدل على أنه من السنة.

حكم استعمال الأشنان في الغسل

حكم استعمال الأشنان في الغسل وقوله: [والماء الحار والأشنان، والخلال يستعمل إذا احتيج إليه]: الماء الحار على ضربين: حرارة نسبية معقولة يستعان بها على خفة الماء على الجسد وسهولته، وكذلك تأثيره على القذر الموجود على ظاهر جسد الإنسان. وحرارة شديدة يتفسخ معها الجسد أو يتضرر منها الجلد. والعلماء رحمهم الله لا يعنون بالحرارة النوع الثاني الذي يضر بالبدن ويؤذيه، إنما المراد الماء الحار الذي يقصد به الرفق بالبدن، وسهولة إخراج القذر منه، والسبب في ذلك أن الجلد إذا غُسِل بماءٍ حار سهل إخراج ما علق به من الأوساخ والأقذار. فذكر رحمه الله أن الأصل أنه يغسل بماءٍ عادي غير حار ولا بارد ينفع الجسد بإنقائه وتطهيره وإزالة القذر الذي عليه، ولكن إذا وجدت الحاجة لوجود أوساخ أو أقذار عالقة بالبدن؛ فحينئذٍ يصب الماء الحار، ولكن بشرط ألا تكون حرارته شديدة بحيث تؤذي البدن وتضر به. و (الأشنان): كالصابون ونحوه، فيمكن أن يغسله بالصابون إذا احتيج إليه كما إذا كان شديد القذر، فبعض الموتى يكون على حالة يحتاج معها إلى وجود الطيب أكثر، كأن يغسل بالصابون وما في حكم الصابون من رغوة الأطياب الموجودة في عصرنا الحاضر، فحينئذٍ يوضع في الماء ويغسل برغوة الصابون ونحوه، وهو الذي يسميه العلماء بالأشنان. (والخلال): وهو تخليل أسنانه ومواضع الأذى بالأعواد، لكنها في الأصل تكون في الأسنان، ولو احتيج لتخليل الأسنان كأن يكون بينها أقذار أو أوساخ، كما يقع في بعض الحوادث، أو يكون هناك فضلة دم في الفم، فلا يستطيع أن يزيلها إلا بشيء من الأعواد الصغيرة التي تستعمل لتخليل المنافذ الموجودة بين الأسنان، فهذه تستعمل إذا احتيج إليها، وإلا فالأصل أنها لا تستعمل.

حكم قص شعر الميت وتسريحه وقص أظافره

حكم قص شعر الميت وتسريحه وقص أظافره وقوله: [ويقص شاربه ويقلم أظفاره]: أي: إذا أراد أن يغسل الميت يقص شاربه؛ لأن السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم قص الشارب، وهي من الفطرة كما في الصحيح في حديث: (خمسٌ من الفطرة، ومنها: قص الشارب) والشارب للعلماء فيه كلام من ناحية إحفائه وقصه، فبعض العلماء يرى أن العبرة في القص أن يبدو إطار الشفة؛ لأنه إنما ندب وعُدّ من الفطرة أن يقص الشارب؛ لأنه إذا نزل الشارب على الفم أنتن وتعلقت به فضلات الطعام، والأطباء يمدحون ويفضلون تخفيف الشارب؛ لأنه قد يضيق نفس الإنسان بكثرة وجود الفضلات المنتنة على شاربه وقد يتضرر، وسيأتي الكلام -إن شاء الله- على هذه الخصال. فلو كان شاربه طويلاً متدلياً على فمه، فتقص أطراف الشارب، وهذا من السنة، وذهب بعض العلماء إلى أن الميت لا يُقَصّ منه شيء؛ لأن أجزاءه تحفظ كما هي، وهذا القول هو الأقوى وهو الصحيح، أي: أنه لا يمس شيء منه إلا إن وجدت الضرورة والحاجة لإزالته بحيث يحكم بجوازه، كأسنان الذهب إذا أمكن إزالتها بدون ضرر، إما إذا وجد ضرر فتبقى. فلا يزال من جسده إلا ما دل الدليل على حرمة بقائه، وأما ما عداه فيبقى على الأصل، وإنما يكلف بقص شاربه لو كان حياً، أما وقد مات فقد انتهى التكليف، فلسنا مطالبين إلا بما قاله عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بماءٍ وسدر وكفنوه في ثوبين) فنحن مطالبون بالغسل والتكفين، وأما بالنسبة لقص الأظفار والشعر فلا. وقال بعضهم: إذا قصت أظفاره وضعت في الكفن، وإذا قص شيءٌ من شعره وضع في الكفن، كأنهم يرون أن الأصل أن يحافظ على كامل الجسد بما فيه، فهم يسلمون بهذا الأصل. ولذلك نقول: إن قص الشارب والأخذ من الأظفار الأولى تركه؛ فإن فعله أحد لم ينكر عليه، وله أجر إن شاء الله؛ لأن هذا أمر اجتهد فيه بعض العلماء، ورأوا ذلك من الإحسان إلى الميت، وإن كان الذي تميل إليه النفس وتطمئن إليه -بدلالة النصوص- عدم مس شيء من هذا. وقوله: [ولا يسرح شعره]. أي: ولا يسرح شعره خوف التساقط؛ ولذلك كرهه بعض الصحابة رضوان الله عليهم، فإذا غلب على ظنك تساقط شعره فلا تسرحه؛ لأنه سبب في زوال جزء من البدن. وقوله: [ثم ينشف بثوب]: بعد أن بين رحمه الله صفة الغسل وطريقة الغسل، ذكر أنه إذا تم الغسل، فإنه ينشف بثوب، فيؤخذ شيء من المناديل الكبيرة وتوضع عليه، وتمر على أعلى بدنه ثم على أسفله، حتى يتم تنشيف جميع البدن، ولا يوضع مباشرة بعد التغسيل في الكفن؛ لأنه لو وضع مبلولاً على الكفن قد ينتن؛ ولذلك ينشف حتى يكون أدعى لمس الطيب له وحصول المقصود من بقاء الكفن عليه دون وجود ضرر البلل. وقوله: [ويظفر شعرها ثلاثة قرون، ويسدل وراءها]. (ويظفر شعرها) أي: المرأة، (ثلاثة قرون) كما ورد في تغسيل زينب رضي الله عنها من حديث أم عطية رضي الله عنها. (ويرمى وراءها) أي: وراء المرأة ولذلك قالوا: إن هذا يؤكد أن المعروف في النساء إنما هو ظفر الشعر ورده إلى الخلف، وأما القصات الموجودة ونحوها مما يكون في تفصيل الشعر فهذا مما أخذه بعض الناس من العادات الواردة عليهم، ولكن يقول العلماء: إنه يظفر ويسدل وراءها، وهذا أفضل ما يكون في المرأة في تسريحها لشعرها.

حكم خروج شيء بعد الغسلة السابعة

حكم خروج شيء بعد الغسلة السابعة وقوله: [وإن خرج منه شيء بعد سبع حُشي بقطنٍ، فإن لم يتماسك فبطين حر]. بعد أن بين صفة الغسل، فبعد الفراغ من الغسل بتجفيفه وتهيئته للتكفين، ترد مسألة يعتني العلماء بها وهي: لو خرج شيء بعد تغسيله سبعاً فالحكم فيها: أن يحشى الموضع -وهو الدبر- بقطن، لكي يتماسك ويمنع الخارج، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للمرأة المستحاضة لما غلبها الدم: (أنعت لك الكرسف -والكرسف: هو القطن، أي: ضعيه في الموضع حتى يمنع خروج الدم- قالت: يا رسول الله! هو أشد من ذلك. قال: تلجمي). فإن لم يتماسك قالوا: فبطينٌ حر، كل ذلك من باب الأسباب التي تعين على حفظ طهارته. وقوله: [ثم يغسل المحل ويوضأ]: أي: ثم يغسل محله ولا يعاد الغسل. فإذا غسلته سبعاً وانتهيت منه، ثم بعد ذلك خرج الخارج فلا تعد الغسل، بل إذا انتهى الغسل بالسبع وخرج منه الخارج فإنك تحشي الموضع بالقطن، فإن لم يتماسك فبطين حر، ثم تغسل النجاسة الموجودة في الموضع نفسه، ولا تطالب بالزائد على ذلك. وقوله: [وإن خرج منه بعد تكفينه لم يعد الغسل]. أي: لا تلزمه إعادة الغسل، حتى قال بعض العلماء: إذا خرج بعد التكفين فإنه لا يلتفت إليه ولا يشتغل به ولا حتى يغسل؛ لأنه قد فعل ما وجب من تغسيله وتكفينه، وذلك يشبه ما لو وضع في قبره فإنه آيل إلى الفناء والتلف؛ فلو خرج الخارج لم يؤثر.

الأسئلة

الأسئلة

تحديد وقت نية الغسل

تحديد وقت نية الغسل Q هل تكون النية بعد غسل أعضاء الوضوء أم تكون قبل غسل أعضاء الوضوء، علماً بأن المصنف رحمه الله ذكرها بعد غسل أعضاء الوضوء؟ A النية تكون عند بداية توضيء الميت، وأما بالنسبة لإزالة نجاسته وقذره فلا تشترط له نية؛ لأن إزالة النجاسة من الوسائل، وإنما تشترط النية في المقاصد لا في الوسائل، فلو أن إنساناً- مثلاً- دخل إلى دورة المياه وقضى حاجته، ثم بعد ذلك غسل الموضع الذي خرج منه الخارج ولم ينو هذا الغسل للصلاة أجزأه؛ لأن مقصود الشرع تنظيف هذا الموضع بغض النظر عن كونك ناوياً للصلاة أم لا، فعلى هذا تكون النية عند ابتداء توضيء الميت إذا كان يريد أن يوضئه، وإذا كان يريد أن يغسله مباشرة فإنه يكون عند ابتداء غسله والله تعالى أعلم.

حكم خروج فضلات بعد إتمام الغسل

حكم خروج فضلات بعد إتمام الغسل Q لو أنه بعد غسل الميت وعند القرب من الانتهاء ولكن دون سبع غسلات خرجت منه فضلات، هل يعيد الغسل من الأول أم يبني في عدد الغسلات؟ A هذا فيه خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، منهم من يحد الثلاث، ومنهم من يحد الخمس، ومنهم من يحد السبع كحدٍ أعلى؛ فالذي يحد السبع يقول: إذا كان قبل السبع يعود ويغسل حتى يصل إلى السبع؛ فإن وصل إلى السبع فهي أقصى ما يصل إليه، وحينئذٍ لا يلزمه أن يعيد بعد هذا غسله، وإنما يغسل الموضع ويقتصر عليه.

حكم غسل العبد لسيدته

حكم غسل العبد لسيدته Q هل يغسل العبد سيدته؟ A العبد لا يغسل سيدته، وإنما يغسلها زوجها، وتغسل الأمة سيدها، والحكم مختصٌ بالسيد مع أمته لا بالسيدة مع عبدها والله تعالى أعلم.

حكم من أوصي إليه بالغسل وهو جاهل به

حكم من أوصي إليه بالغسل وهو جاهل به Q إذا أوصى الميت بأن يغسله شخص، وهذا الشخص معروفٌ بالجهل، هل يعمل بالوصية أم لا؟ A هذا فيه تفصيل: إن أمكن تعليم هذا الشخص، أو أن يكون بجواره من يعلمه الغسل، فهذا أبلغ في إنفاذ وصية الميت، وأما إذا لم يمكن، وأصر أن يغسله وحده فلا عبرة بتغسيله إذا كان لم يؤمن معه الإخلال بالواجبات والأمور المطلوبة، وحينئذٍ تكون الوصية في غير محلها، ويعتد بغسله على الوجه المعتبر والله تعالى أعلم.

مسألة في تغسيل ذوي الأمراض المعدية

مسألة في تغسيل ذوي الأمراض المعدية Q أشكلت علي مسألة، وهي ترك غسل من به جدري أو مرضٌ يخاف انتقال العدوى من الميت إلى المغسل وفي الحديث حديث (لا عدوى ولا طيرة) أثابكم الله. A مسألة العدوى وانتقال العدوى هذه فيها نصوص تكلم العلماء رحمهم الله عليها، وظن أنها متعارضة، وإن كان ظاهرها يوهم التعارض، فالحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا عدوى ولا طيرة) وصحت عنه الأحاديث بإثبات العدوى، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام قال -كما في الصحيح-: (إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تقدموا عليها، وإن وقع بأرضٍ فلا تخرجوا منها) وقال أيضاً: (فر من المجذوم فرارك من الأسد). فللعلماء في هذه الأحاديث التي ظاهرها التعارض أوجه: منهم من يقول: العدوى منفية، ويستثنى من ذلك المجذوم والطاعون؛ لأن التعارض ليس من كل وجه، فيقولون: تنتقل العدوى في الأمراض التي فيها عدوى، ويكون المجذوم والطاعون أصلين وما مثلهما ملتحقٌ بهما، فالمجذوم في الجلد والطاعون في داخل البدن، فكأنه ذكر أصل الأمراض المعدية الظاهرة، والأمراض المعدية الباطنة. وهذا هو أقوى الأقوال جمعاً بين النصين، ويكون قوله: (لا عدوى)، أي: أنها لا تضر بنفسها كما كانت العرب تظن وتعتقد في الجاهلية أن العدوى بذاتها مضرة، ويُغْفِلون مسبب الأسباب ورب الأرباب سبحانه وتعالى، فإن الله عز وجل هو الذي سبب كونها معدية، وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاعتقاد بقوله: (فمن أعدى الأول؟) فكأنه يقول لهم: لو كانت العدوى بذاتها لكانت أشبه بالأمور الطبيعية، فلا إله والحياة طبيعة؛ لكنه قال: (من أعدى الأول؟) أثبت أن الأول به عدوى، وأن العدوى قد وضعها الله عز وجل، ولم ينكر عليهم دخول الإبل المريضة على الإبل الصحيحة وعدواها، وقد قال: (لا يورد ممرضٌ على مصح). فإذاً: كأن الحديث ليس على ظاهره: (لا عدوى)، فليس المعنى أنها لا عدوى بالكلية، والنفي من النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون على ظاهره في أحاديث كثيرة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (لا إيمان لمن لا أمانة له) أي: لا إيمان كاملاً، وليس المراد: النفي الكامل من كل وجه الذي يقتضي نفي صحة الإيمان والحكم بالكفر. فإذاً: النفي يكون مسلطاً على العموم، ويراد به أمرٌ معين يقصده عليه الصلاة والسلام لاعتقاد ونحوه، فيكون قوله: (لا عدوى) راجع إلى العقيدة، أي: لا تظنوا أن العدوى بذاتها تؤثر، وهذا الصحيح؛ فإن الناس في العدوى على ثلاثة مذاهب: المذهب الأول يقول: لا عدوى بالكلية، وينفيها كليةً، ويخالف الحس والواقع الذي يشهد بوجودها. ومنهم من يقول: العدوى ثابتة وهي بنفسها تضر، كما كان عليه أهل الجاهلية. وجاء الشرع وسطاً بين الأمرين، فقال: العدوى موجودة؛ ولكن لا تضر بنفسها، فتوسط بين الإفراط والتفريط، فإن الحس شاهدٌ لانتقال العدوى؛ ولذلك قال: (لا يورد ممرض على مصح) وعلى هذا يكون الأمر في قوله: (لا عدوى) راجع إلى العقيدة، أي: اعتقاد أن العدوى تؤثر بنفسها. ولذلك ترى الرجل من قوة إيمانه ربما ورد على المريض -وهو قوي اليقين بالله سبحانه وتعالى- رغم أن مرضه معدٍ ولا ينتقل إليه، والعكس: أنه قد ينتقل من إنسان متحفظ خائف يتعاطى الأسباب، ومع ذلك ينقل الله إليه المرض، وقد أشار الله إلى هذا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243] قال الله لهم: (موتوا) لأنهم ظنوا أن الخروج من أرض الوباء نجاة، وأنهم يسلمون من الهلاك بالسبب نفسه، وهذه العقيدة يهدمها دليل الكتاب والسنة، وهي الغلو في الأسباب، والإسلام وسط يقرر الأسباب لكن يعطيها حقها دون إفراط ودون تفريط. فأنت تقول: العدوى مضرة وموجودة وثابتة، والحس شاهد، والله سبحانه وتعالى قد جعل الأسباب والمسببات، وسبحان من قدر وحكم وعدل، وهو أعلم وأحكم سبحانه، لكن لا نغلو في هذا الشيء. ومن هنا ترى أن بعض الذين يغلون في العدوى -كبعض الأطباء- يبالغ فيها حتى يعتقد أنه لو دخل إنسان صحيح على إنسان مريض فإنه سيصاب بالعدوى لزاماً، ويُغفل قضية العقيدة، وهو أنه مهما كان الأمر ومهما كان السبب فإن لله عز وجل قدرة تفوق هذا الأمر كله؛ ولذلك قال الله تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]. فالنار لو ألقي فيها الحي احترق وصار فحماً ورماداً، فقلبها الله لإبراهيم برداً وجعل بردها سلاماً، ولم يجعل بردها هلاكاً؛ ولذلك قال بعض العلماء: لو قال الله: (برداً) لأهلكته من البرد، ولكن الله سبحانه قال: (بَرْدًا وَسَلامًا). فالمقصود أن نكون وسطاً، ولا نقول لا عدوى بالكلية، ولا نبالغ في العدوى، فتجد الإنسان إذا دخل على صاحب مرض معد، ربما دخل والخوف يرجف في قلبه، وتجد عنده غلو في مثل هذه الأمور كما هو شأن بعض الأطباء أصلحهم الله، حتى يصير طبه وبالاً عليه، ولا تكون عنده العقيدة القوية في الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك ينبه العلماء على أنه لا ينبغي المبالغة في الأسباب. انظر الآن إلى أهل البادية: ربما جاء الرجل منهم على الأرض، وتجد الأرض مليئة بالتراب، والماء مليء بالتراب، وفيه من النتن ما فيه، ومع ذلك يشربه متوكلاً على الله معتمداً عليه ولا يضره، وتجد الرجل في الحضر، والماء نقي وفيه من وسائل المحافظة ما الله به عليم، ومع ذلك تجده خائفاً من كثرة ما يقولون في العدوى، حتى بالغوا في الأشياء وأصبح الإنسان لا يأمن في شيء يأكله أو يشربه، وهذا هو المحظور. المحظور أن يبالغ في الأسباب وتعد أنها هي المعوّل عليها، وأنها هي المؤثرة وهذا لا ينبغي، بل ينبغي ربط قلوب الناس بالله سبحانه وتعالى. فالمريض مرضاً جدرياً أو معدياً إذا قلنا للحي: اغسله. يقول العلماء: تعارضت مصلحتان: مصلحة حيٍ ومصلحة ميت، فمصلحة الميت بتغسيله، ومصلحة الحي بسلامته من ضرره، فإن قلنا له: اغسله. تعرض للضرر في الغالب، والغالب كالمحقق، والله تعبدنا بغلبة الظن، فقال: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة:10] فغالب الظن علم. ونحن بغالب ظننا بالاستقراء والتجربة أنه لو دخل ابتلي؛ فحينئذٍ نبني على هذا الغالب ونقول: فلو غسله، فقد حصلنا مصلحة الميت وفوتنا مصلحة الحي، فقالوا: ننظر في مصلحة الحي، فلو قلنا له: ييممه؛ فإنه يسلم من ضرر تغسيله؛ لأنه ربما علق به ما يؤدي به إلى الضرر، فينتقل إلى التيمم؛ لأن تغسيل الميت له بدل، وفوات روح الحي أو تعرضه للمرض المعدي لا بدل له، والقاعدة: أنه إذا تعارضت مصلحتان، مصلحة لها بدل ممكن أن تحقق به، ومصلحة لا بدل لها، دفعت المصلحة التي لا بدل لها بالمصلحة التي لها بدل. فنقول: ييممه؛ لأن التيمم بدل عن الغسل، وكما أن الذي لا يمكن غسله كالمحروق نظرنا فيه إلى مصلحة الميت، وكذلك أيضاً من باب أولى وأحرى أن ينتقل المرض إلى الحي كالأمراض الجلدية المعدية، وكذلك أيضاً الأمراض الوبائية التي تكون في أجهزة الإنسان، كل ذلك مما يشرع فيه أن ينتقل إلى التيمم، لكن إذا وجدت وسائل الحفظ فيجب تغسيله مع تعاطي هذه الأسباب، والله تعالى أعلم.

علة تخصيص غسل الرأس واللحية برغوة السدر

علة تخصيص غسل الرأس واللحية برغوة السدر Q لماذا خص المصنف غسل الرأس واللحية برغوة السدر دون سائر الجسد؟ A أشار بعض العلماء رحمة الله عليهم وبعض المعاصرين أيضاً إلى أن تفل السدر لو أنه غسل به وجه هذا لعلق في شعره؛ ولذلك يقتصر على رغوة السدر حتى لا تتخلل في الشعر فيصعب إخراجها ويتضرر الإنسان، والمعروف أن رغوة السدر تكون سالمة من تفل السدر؛ لأن السدر سيدق، ثم بعد ذلك يوضع في الماء، وهذا السدر لو أنه خلطه وحرك الماء وغسل الوجه به لعلقت فضلات السدر في الشعر وفي مغابن الوجه، ولذلك قالوا: لا يغسله إلا بالرغوة، فيأخذ السدر ويضربه بيده حتى تكون له رغوة، فيجمعها ثم بعد ذلك يغسل بها الوجه، والمقصود يتحقق بهذه الرغوة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

باب الغسل والتكفين [3]

شرح زاد المستقنع - باب الغسل والتكفين [3] من مات وهو محرم فإنه يعامل كما لو كان حياً محرماً، فلا يُطيب، ولا يلبس مخيطاً، ولا يغطى رأسه. إلى غير ذلك من محظورات الإحرام، ومن قتل شهيداً في أرض المعركة فإنه يدفن بثيابه التي قتل فيها، ولا يغسل ولا يصلى عليه؛ لعلو منزلته، ورفعة شأنه، ومن تعذر غسله كالمحروق والمجذوم فإنه ييمم، وأما من مات غير مقتولٍ ولا مدفوع من الكفار -حتى وإن كان في أرض المعركة- فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه.

أحكام غسل من مات محرما وتجهيزه

أحكام غسل من مات محرماً وتجهيزه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول المصنف عليه رحمة الله: [ومحرم ميت كحي، يُغسل بماء وسدر]: تقدم بيان الأحكام المتعلقة بغسل الميت، وبعد أن بين المصنف رحمه الله صفة الغسل وهي الصفة التي يمكننا أن نصفها بأنها عامة، شرع رحمه الله في بيان الصفة التي تتعلق بالنوع المخصوص، وهو المحرم، والمراد بالمحرم: من تلبس بالإحرام، فدخل في أحد النسكين، الحج أو العمرة. ثم إن المصنف رحمه الله لما بدأ بالصفة العامة، وأتبعها بالصفات الخاصة دلنا ذلك على المنهج الفقهي، وهو أن الإنسان إذا أراد أن يبين أمرين: أحدهما عام، والثاني خاص، أن يبين القاعدة العامة أولاً، ثم بعد ذلك يبين ما استُثني من هذا العموم، أو هذه القاعدة. فبعد أن بين لنا صفة الغسل عموماً قال رحمه الله: (والمحرم كحي) أي: أن المحرم حكمه حكم الحي إذا مات، وذلك من جهة كونه يُمنع من الطيب ويُمنع من إلباسه المخيط، كما سيأتي -إن شاء الله- تفصيله. قوله: [ومحرم ميت كحي]: المحرم وصف إنما يصدق على الإنسان إذا تلبس بأحد النسكين وهما الحج أو العمرة، ولذلك يقال: أحرم بالشيء إذا دخل في حرماته، كما يقال: أنجد إذا دخل نجداً، وأتهم إذا دخل تِهامة. فالعلماء -رحمهم الله- يقولون: أحرم إذا نوى أحد النسكين أو هما معاً. بناءً على ذلك: لو أن الإنسان نوى العمرة أو نوى الحج فخرج دون أن يصل إلى الميقات، أو قبل أن يصل إلى الميقات ثم توفي، أو كان في الميقات واغتسل من أجل أن ينوي، ثم توفي، فإننا نعامله معاملة الحي الذي ليس بمحرم، ونغسله بالصفة التي تقدمت، ولا يحضر علينا أن نمسه بالطيب وغيره من محظورات الإحرام. فيشترط أن يكون المحرم قد تلبس بالنسك، فلو خرج لأجل العمرة كأن يخرج من مكة إلى الحل سواءً التنعيم أو غيره، ثم في الطريق توفي، فإننا نعامله معاملة الحلال، والعكس بالعكس، فلو أنه نوى ثم بعد النية مباشرة توفي، كما إذا لبى بأحد النسكين أوهما معاً فقال: لبيك حجاً، أو: لبيك عمرةً، أو: لبيك عمرةً وحجاً، ثم توفي فإنه بعد دخوله في نسك الإحرام نحكم بكونه يعامل معاملة المحرم سواءً بسواء، كذلك أيضاً لو مضى فأتم عمرته، وقبل أن يتحلل ولو بلحظة واحدة توفي، كأن يكون طاف وسعى بين الصفا والمروة، ثم توفي قبل أن يحلق أو يقصر فإنه لا زال في حكم المحرم، ونعامله معاملة المحرم، كما سيأتي تفصيله إن شاء الله. ولو أنه في الحج رمى جمرة العقبة ثم توفي ولم يتحلل، أو توفي عشية عرفة كما وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو ليلة العيد، فإننا لا نحكم بمعاملته معاملة الحلال، بل نبقيه على حكم المحرم، ونحكم بالمحظورات في حقه كما نحكم بها في حق الحي. يقول رحمه الله: [ومحرم ميت]: يعني إذا مات المحرم. [كحي]: أي: حكمه حكم المحرم الحي، فلا نمسه بالطيب، ولا يخمر وجهه، ولا يغطى رأسه، وكذلك بقية المحظورات، والأنثى والرجل في المحظورات كل على تفصيل. والأصل في هذا الحكم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان واقفاً بعرفة، ووقف معه أصحابه رضي الله عنهم فسقط رجل من على دابته فوقصته فقتلته، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخبره، فقال عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا وجهه، ولا تغطوا رأسه) وفي رواية السنن: (ولا تمسوه بطيب فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) فلما قال عليه الصلاة والسلام: (فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) اعتبرها الأصوليون رحمة الله عليهم بمثابة التعليل، أي: أمرتكم أن تنزلوه بهذه المنزلة، وأن تحظروا عليه هذه الأمور؛ لأنه يبعث يوم القيامة ملبياً، فكأنه يقول لهم: حكمه حكم المحرم سواءً بسواء. فلذلك قال المصنف رحمه الله يجمل هذه الأحكام: [ومحرم ميت كحي] أي: في تغسيله وما يُحظر عليه كالحي. وقوله: [يغسل بماء وسدر]: لأنها السنة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بماء وسدر)، وللسدر خاصية في طرد الهوام وكذلك في جلد الإنسان وظاهر بدنه. قوله: [ولا يُقَرَّب طيباً]: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تمسوه بطيب) فهذا يدل على أنه لا يطيب، ولأن المحرم يحظر عليه الطيب، وهذا نص حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس) فنهى عليه الصلاة والسلام عن الطيب في البدن والطيب في الثياب. وقوله: [ولا يُلْبَسُ ذكرٌ مخيطاً]: ولا يلْبس الذكر المخيطَ، فالذكر محظور عليه المخيط، والمخيط: ما أحاط بالعضو، وليس المراد به أنه يُخاط، كما سيأتي تفصيله في الحج، فبعض الناس يظن أن المخيط: ما فيه خيط، وهذا خطأ، فما من ثوب إلا وفيه خيوط، وإنما المراد بالمخيط: ما أحاط بالعضو، ودليلنا على هذا الأمر الذي نص عليه جماهير العلماء أن المخيط أو الثوب الذي يحيط بالعضو محظور: أن النبي صلى الله عليه وسلم حظر إحاطة العضو في أعلى البدن، وإحاطته في أوسطه، وإحاطته في أسفله، وإحاطته كله، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تلبسوا القمص -والقميص كان لأعلى البدن- ولا العمائم -وهي تحيط بالرأس- ولا السراويلات)، فمنع من إحاطة أسفل البدن بقوله: (السراويلات) وأعلى البدن بقوله: (القمص)، وأعلى أعلاه بقوله: (العمائم)؛ لأن العمامة ليست مخيطة، وإنما تحيط بالرأس وتغطيه، ومن ثم قال العلماء: إنه إذا أحاط بالعضو فإنه يأخذ حكم المخيط، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ولا البرانس)، وهذا من دقته عليه الصلاة والسلام في اختيار المناسب للحكم، وهو من أمثل ما يكون في الشمولية في منهج التشريع. ووجه ذلك: أن الثياب منها ما يتعلق بأعلى البدن، ومنها ما يتعلق بأسفله، ومنها ما يجمع الجميع؛ فالبرنس فيه غطاء للرأس، وفيه غطاء لجميع البدن، ففصل كل جهة. وعلى هذا فإن من الأخطاء الشائعة الذائعة الآن والتي أصبحت تنتشر: تفصيل ثياب الإحرام بوجود ما يجعلها في حكم الفوط، وهذا النوع الذي انتشر الآن يُجعل له أزارير، فيأتزر بإحرامه ثم يظن أن هذا خارج عن المخيط، فوضعوا له زراً من الحديد، وهذا من وهمهم، فيظنون أن المخيط ما كان فيه خيط، والواقع أن المراد بالمخيط: ما أحاط بالعضو. ومن لبس المخيط فإن عليه الفدية، ومن لبس هذه الأزر التي يكون فيها الحديد فإنها تأخذ حكم ما فصل للبدن؛ لأنها تعتبر كالمحيطة بالبدن، لأنها فصلت على البدن تفصيلاً لا على سبيل الإزار المعهود المعروف. وقوله: [ولا يُغطى رأسه]: لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس العمائم، والعمامة تغطي الرأس، وسميت عمامة لأنها تعم الرأس بالغطاء. [ولا وجه أنثى]: هذا على الأصل في الإحرام في حديث عبد الله بن عمر في صحيح البخاري: (ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين) على أن المرأة في الإحرام إحرامها في وجهها وكفيها، فإذا رأت الرجال الأجانب سدلت، كما في حديث أسماء رضي الله عنها وكذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وحديث أسماء أقوى من حديث أم المؤمنين عائشة: (أنهن كن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا مر بهن الركب سدلت إحداهن خمارها)، فدل على أن السدل يستثنى من هذا، وعلى هذا فإنه لا يُغطى. وقوله: [ولا يغسل شهيد]: شرع رحمه الله في بيان الأحكام الخاصة بالشهيد، والمناسبة بين الشهيد والمحرم، أن كلاًّ منهما فضله الله عزَّ وجلَّ، وشرفه وكرمه وخصه بهذه الخصائص. فالمحرم لا يعامل معاملة الحلال، تشريفاً له وتكريماً وعاجل بشرى، ولذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: (فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) أي: يبعث على هذا الخير، وعلى هذه الطاعة التي قبض الله روحه وهو متلبس بها. كذلك فإن الشهيد به آثار طاعة، وآثار قربة هي من أحب القربات وأجلها عند الله تبارك وتعالى، وهي الشهادة في سبيل الله عزَّ وجلَّ. والشهيد سمي شهيداً: قيل: لأن الملائكة تشهده، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جابراً رضي الله عنه لما قتل أبوه يوم أحد جعل يكشف الثوب عن وجه أبيه ويبكي، فما زال يبكي، فقال له: (ابكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تظله حتى رفعته إلى السماء)، فقالوا: إنه لفضله سمي شهيداً. وقيل: لشهادة الخير له. وقالوا: إنه سمي شهيداً لأن الملائكة تشهده، بمعنى تحضره، ويقال: شهد الشيء إذا حضره، قال تعالى: {وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [القصص:44] أي: من الحاضرين، فشهود الشيء: الحضور.

حكم تغسيل الشهيد

حكم تغسيل الشهيد وقوله: [ولا يغسل شهيد]: الشهيد هو شهيد المعركة، ولذلك خصه المصنف رحمه الله بشهيد المعركة، أي: الذي قتل في المعركة، لأن هناك من هو في حكم الشهيد، كالمبطون والغريق والحريق والهدمى والنفساء والطاعون، وغيرهم ممن سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كمن قتل دون ماله أو عرضه أو أهله. فالشهادة من حيث هي -كما يقول العلماء رحمهم الله- مراتب، أشرفها وأكرمها وأقدسها: الشهادة في سبيل الله عزَّ وجلَّ بالقتل؛ لأن صاحبها قد باع أعز ما يملكه وهي نفسه التي بين جنبيه، ولذلك بشر أهل هذه الصفقة فقال: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة:111]. فالمقصود أن الشهيد هنا شهيد المعركة، وهو الذي يقتل في المعركة، ويشمل ذلك: أن يكون قد بقيت منه أجزاء أو بقي كاملاً، فيكون قد طُعن، أو بُقرت بطنه، أو ضرب في مقتل فمات، أو ذهبت أشلاء أو أعضاء منه وبقي جزء من بدنه، فالحكم كله سواء، سواء بقي البدن كاملاً أو بقي أكثر البدن، أو جزء من البدن، وكل ذلك يعامل هذه المعاملة، فلو أنه انفجر وبقيت منه أشلاء وأعضاء، فإنها تجمع كما هي، ثم تدفن بحالها، وهذا على الأصل في الميت أنه إذا تلف بحرق أو نحو ذلك، فإنه يؤخذ ما بقي من بدنه ثم بعد ذلك يعامل معاملة بقية الجسد، على تفصيل عند العلماء رحمة الله عليهم من حيث الغسل وعدم الغسل بالنسبة لغير الشهيد، وشهيد المعركة هو الذي يموت في ساحة المعركة. وعلى هذا فشهيد غير المعركة فيه تفصيل، فهناك الشهيد الذي يقتل دون ماله، ودون عرضه، ودون نفسه، والمقتول ظلماً كأن يعتدى عليه، فهؤلاء لهم أحكام تخصهم، وهم في حكم الشهداء. والشهادة أصلاً لا تكون إلا في القتال بين المسلمين والكافرين؛ لكن لو أن طائفتين من المسلمين وقع بينهما قتال تأويل وشبهة، كما وقع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في معركتي صفين والجمل، فإنه يعامل معاملة الشهيد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحسن: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين). أما بالنسبة لفئة الجماعة، وهي التي تكون مع إمامهم، فإن من قتل مع إمامهم فهو شهيد بدون خلاف بين العلماء، ويعامل معاملة الشهيد.

حكم تغسيل من قتل في فئة باغية

حكم تغسيل من قتل في فئة باغية ولكن اختُلِف في الفئة الباغية، لو أن قوماً خرجوا وقُتِلوا هل يعاملون معاملة الشهداء، بمعنى: أنهم لا يغسلون ولا يكفنون؟ اختلف العلماء في هذه المسألة، والذي مال إليه جمع من المحققين: أنهم يأخذون حكم الشهداء، والدليل على ذلك: إجماع الصحابة ومن حضر من التابعين في قضية صفين والجمل، فإنهم لم يغسلوا أحداً ممن قتل فيها، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في عمار: (تقتله الفئة الباغية)، كما في الحديث الصحيح، فوصف فئة معاوية بأنها باغية، ومذهب أهل السنة والجماعة أن الحق مع علي رضي الله عنه وأرضاه، وأن معاوية معذور في اجتهاده وله أجر واحد، ولـ علي رضي الله عنه الأجران، وعلى هذا فإن الصحيح أن من قُتِل في الفئة الباغية فإنه يعامل معاملة الشهيد، فلا يغسل ولا يكفن، وهذا اختاره جمع من المحققين، ومنهم الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني. وقوله: [ولا يغسل شهيد معركة ومقتول ظلماً إلا أن يكون جنباً]: قال العلماء: السبب في ذلك أن شهيد المعركة دمه وجراحه تشهد له بين يدي الله عزَّ وجلَّ. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما مِنْ كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دماً، اللون لون دم، والريح ريح مسك). أي: ما من إنسان يُطعن ولا يُجرح ولا يُخدش، قليلاً كان ذلك الكلم أو كثيراً. (إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دماً): أي: كأنه قتل من ساعته. وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام في السنن أنه قال في شهداء أحد: (زملوهم بدمائهم فإني شهيد لهم) أي: أشهد لهم بين يدي الله عزَّ وجلَّ أنهم قتلوا في ثيابهم، ولم يأمر عليه الصلاة والسلام بغسل شهداء أحد، فدلت هذه النصوص على أن السنة في الشهيد أنه لا يغسل، ولذلك يترك على حاله إلا إذا كانت به نجاسة، فلو أنه أثناء المعركة أصابته نجاسة أو بعد أن قتل جاءت النجاسة على طرف من أعضائه أو يده أو نحو ذلك، فإنها تغسل، فلو أنه قاتل كافراً ثم خرج عليه دم الكافر، ثم قتله الكافر، وأصبح أثر دم الكافر على يده، فإنا نغسل يده غسل تطهير من النجاسة، وليس المراد به غسل الميت المعهود.

حكم تغسيل من قتل ظلما

حكم تغسيل من قتل ظلماً وقوله: [ومقتول ظلماً]: أي: وهكذا المقتول ظلماً، هذا أحد القولين عن العلماء، كأن يُعتدى على إنسان في عرضه فدافع فقتله الباغي، فإذا قتل دون العرض فهو شهيد، وهو مقتول ظلماً، وهكذا لو أنه اعتدي عليه فلم يشعر إلا بإنسان قد هجم عليه يريد أخذ ماله أو يريد قتله، وفي الحديث: (يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلتُه؟ قال: هو في النار، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: أنت في الجنة). وقال صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون نفسه فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد) فالمقتول ظلماً هو الذي يقتل بدون حق، فإذا قُتِل بدون حق فللعلماء فيه قولان: قال طائفة من العلماء: المقتول ظلماً في غير ساحة المعركة يعامل معاملة الميت طبيعياً، فيغسل ويكفن ويصلى عليه. والقول الثاني: أنه لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، وإنما يدفن بجراحه كالشهيد. والصحيح: القول الأول؛ لأن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قتل، فغسلته أمه أسماء رضي الله عنه وعنها، فدل هذا على أن المقتول ظلماً باقٍ على الأصل، ولأن القاعدة في الأصول: (إعمال الأصل حتى يدل الدليل على الاستثناء)، فالأصل عندنا في كل ميت أنه يغسل حتى يدل الدليل على الاستثناء، فاستثنى الدليل الشهيد ولم يرد دليل باستثناء من قتل ظلماً. وإنما قاس بعض العلماء من قتل ظلماً على الشهيد، بجامع كون كل منهما فاتته نفسه بدون حق؛ ولكن هذا القياس محل نظر، وذلك لأن القياس في العبادات ضيق، فقد يكون في الشهيد معنىً ليس بموجود في المقتول ظلماً، ولذلك قالوا: إنه يختص الحكم بالشهيد في المعركة دون غيره. وهذا هو الصحيح، وعلى هذا يكون تشريك المصنف -رحمه الله- بين المقتول ظلماً مع الشهيد على المرجوح، والراجح أن المقتول ظلماً يغسل ويكفن ويصلى عليه.

حكم تغسيل الشهيد أو المقتول ظلما إذا كان جنبا

حكم تغسيل الشهيد أو المقتول ظلماً إذا كان جنباً وقوله: [إلا أن يكون جنباً]: أي: إذا كان الشهيد والمقتول ظلماً عليه جنابة، فحينئذٍ يغسل، وللعلماء في هذه المسألة قولان: القول الأول: أن الشهيد إذا كان جنباً أنه يغسل، بناءً على أن الجنابة قد وجبت عليه. والقول الثاني: أنه لا يغسل، وهذا مذهب الجمهور. وهكذا المرأة إذا قتلت في المعركة وكانت شهيدة، فإنها لا تغسل، وكذا لا تغسل غسل الجنابة إذا قتلت وهي جنب، أو قتلت وقد طهرت من حيضها لكنها لم تتمكن من الغسل، فالصحيح في هؤلاء كلهم أنه لا يغسلون، وذلك إعمالاً للأصل. وأما من قال بأنهم يغسلون فقد استدل بحديث حنظلة غسيل الملائكة، وذلك أنه رضي الله عنه: (لما سمع الهيعة -وهي: الصيحة- خرج إلى القتال فقُتِل، وكان قد جامع أهله، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم الملائكة تغسله، فأمرهم أن يسألوا أهله، فقالوا: إنه كان على جنابة، فسمع الهيعة فترك أهله -أي: لم يغتسل من الجنابة- ثم انطلق حتى قتل في سبيل الله شهيداً). قالوا: لما غسلت الملائكة حنظلة دل على أن من قتل في سبيل الله شهيداً أنه يغسل إذا كان جنباً، والصحيح: أنه لا يغسل؛ لأن حديث حنظلة حجة لنا لا علينا، فإنه يدل على أنه لا يغسل، حيث إنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة غسلته، ولم يأمر الصحابة أن يغسلوه، فدل على أن الأصل باقٍ في أن الشهيد لا يغسل، وأنه يُلَفَّفُ في ثيابه على الأصل الذي قررناه في كل شهيد.

حكم دفن الشهيد بثيابه التي قتل فيها

حكم دفن الشهيد بثيابه التي قتل فيها وقوله: [ويدفن في ثيابه بعد نزع السلاح والجلود عنه]: أي: سواء كانت الثياب يسيرة أو غالية، فالحكم واحد أنه يدفن في الثياب التي قتل فيها، وإذا لم يكن له ثوب قال العلماء: إذا جرد عن ثيابه أو احترقت ثيابه، أو نزعت عنه، فأصبح عارياً، قالوا: يشرع حينئذٍ أن يوضع شيء على عورته ثم يُنزل إلى قبره ويلحد، دون أن يكفن الكفن المعروف، وهذا على الأصل الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (زملوهم في ثيابهم)، فأمر في الشهداء أن يزمَّلوا في ثيابهم، وأن يكونوا بنفس الثياب التي لقوا بها العدو، لا يزاد عليها ولا ينقص منها. لكن يؤخذ من الثياب السلاح ونحوه، كمحامل الأسلحة ونحوها، ويؤخذ بثيابه ثم يلف فيها، قال صلى الله عليه وسلم في مصعب رضي الله عنه، وقد كانت له شملة إذا غطوا بها وجهه بدت قدماه وإذا غطوا قدميه بدا وجهه:: (غطوا بها وجهه، واجعلوا على رجليه إذخراً أو شيئاً من الإذخر)، وهذا فيه دليل على أنه إذا كانت ثيابه تسع أعلى البدن دون أسفله فإنه حينئذٍ يقدم ويشرف أعلى البدن ثم يترك الأسفل مكشوفاً، فإذا كان هناك إذخر فإنه يُستر بالإذخر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (واجعلوا على رجليه إذخراً أو شيئاً من الإذخر)، فدل على استثناء الإذخر وحده دون غيره.

حكم من قتل شهيدا ثم سلبت ثيابه

حكم من قتل شهيداً ثم سلبت ثيابه وقوله: [وإن سلبها كفن بغيرها]: قال بعض العلماء: تستر عورته. وقال بعضهم: بل يكفن الكفن الذي يكون ستراً لسائر بدنه، وهذا قول من يُعمِل الأصل، ويقول: إن الأصل أنه يحسن الإنسان في كفن أخيه المسلم، فلما كان الشهيد قد فاتت ثيابه واحترقت، أو زالت أو سلبها العدو أو أخذها، قالوا: حينئذٍ يُزَمَّل في ثياب ولو كانت جديدة، ثم بعد ذلك يدفن.

حكم الصلاة على الشهيد

حكم الصلاة على الشهيد وقوله: [ولا يُصَلِّى عليه]: هذا هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد، فإنه لم يصل عليهم، وهذا يدل على فضل الشهادة في سبيل الله عزَّ وجلَّ، فإن الصلاة على الميت فيها من الفضل والخير للأحياء والأموات ما الله به عليم، ولذلك: (ما من مسلم يقوم عليه أربعون يشهدون أن لا إله إلا الله، فيشفعون له إلا شفعهم الله فيه)، وهذا يدل على فضل الصلاة على الميت والدعاء له، فجعلها الله فضلاً للأحياء والأموات، أما الأحياء فجعل فيها القراريط من الأجر، وما يكون لهم من أجر الدعاء للميت. وأما الأموات فلأنه خير يكون لهم قبل أن يلقوا الله عزَّ وجلَّ بدعاء إخوانهم وسؤال الرحمة، وقد يتجاوز الله عن سيئات الميت بسبب خالص دعاء الأحياء، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخلاص الدعاء للأموات، وأن على الإنسان إذا دعا لأخيه الميت فعليه أن يخلص في الدعاء ويجتهد، فلما كانت الشهادة يُرجى لصاحبها من الخير والفضل ما يرجى، صار كأنه ارتفع عن هذا كله، لعظيم ما له عند الله من المنزلة، والدرجة، مع أن الصلاة فيها دعاء واستغفار له، فكأنه قد جاوز ذلك إلى رحمات وجنات وفضائل من الله سبحانه وتعالى تغنيه عن الدعاء. ولذلك لما سئل عليه الصلاة والسلام عن فتنة الشهيد في قبره: هل يُسأل الشهيد في قبره ويفتن بالفتان؟ قال عليه الصلاة والسلام: (كفى ببارقة السيوف فتنة)، أي: كفى ببارقة السيوف على رقبته فتنة، وذلك لأنه قتل في سبيل الله مقبلاً غير مدبر بائعاً نفسه لله عزَّ وجلَّ، فكأنه قد أقبل على الله سبحانه وتعالى بخير عظيم. ولذلك ورد في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (تكفل الله. وفي رواية: تضمن الله) والضمانة والحمالة والكفالة من الله سبحانه وتعالى تدل على ما له عند الله سبحانه وتعالى من الفضل العظيم والثواب الجزيل. وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر في الجنة، تشرب من أنهارها، تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش) وهذا يدل على فضل الشهادة في سبيل الله عزَّ وجلَّ، فلا يصلى عليه، لأنه في رحمة منذ أن تقبض روحه ويقتل في سبيل الله عزَّ وجلَّ. والشهيد لا يجد من قبض الروح وفتنة السكرات كقرصة النحلة، وتؤخذ روحه -كما يقول بعض العلماء- كأنه أشبه بطرفة العين، تؤخذ منه كأحسن ما يكون من سلت الروح دون أذى ودون ضرر، ثم ما إن تقبض روحه حتى يكون له الفضل الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر). وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه ذكر شهداء أحد وأنهم لقوا الله عزَّ وجلَّ فرضي عنهم ورضوا عنه). وفي الحديث الصحيح أن جابراً رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! أخبرني عن أبي، إن كان في الجنة صبرت، فقال له: يا جابر! إنها جنان، وإن أباك قد أصاب الفردوس الأعلى منها) وهذا يدل على فضل ما يكون للشهيد، وكلما أخلص وصدق مع الله، وكلما كان بلاؤه في الجهاد أعظم؛ كانت شهادتُه أرجى. وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن الله لا يكلم أحداً إلا من وراء حجاب إلا ما كان من أبيك فقد كلمه كفاحاً، وقال: تمن عبدي، فقال: أتمنى أن أعود فأقتل في سبيلك ثانيةً) مما رأى من فضائل الشهادة. فتبين أنه لا يصلى على الشهيد لعظيم ما له عند الله من الفضل والمثوبة. نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يبلغنا هذا الفضل الكريم.

حكم من سقط من دابته في المعركة

حكم من سقط من دابته في المعركة فقوله: [وإن سقط من دابته، أو وجد ميتاً ولا أثر به، أو حُمِل فأكل، أو طال بقاؤه عرفاً؛ غُسِّل وصُلِّي عليه]: هذه الصور تستثنى من الأصل في الشهيد، فعندنا أصل عام، وهو تغسيل كل ميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وعندنا ما استُثني الشهيد من الأصل العام في تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، بقي دفنه، ثم هذا الشهيد يفصل فيه، فلا يقال: إن كل من قتل أنه يحكم بكونه يعامل هذه المعاملة، بل الأمر فيه تفصيل، فالشهيد الذي لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه هو الذي تقبض روحه في أرض المعركة، وشرط ذلك أن يكون مقتولاً، بمعنى: أن نفسه تفوت بسبب القتل. فلو سقط من على دابته فإن السقوطَ قتل، ولكن لم يقتل شهيداً في هذه الحالة، وإن كان له فضل ومنزلة، وما من عبد يسأل الله الشهادة أو يأخذ بأسبابها -ولا تكون له- إلا بلغه الله منازل الشهداء. هذا من جهة الفضل؛ لكن من جهة الحكم شيء آخر، فإنه لو زلت به دابته فسقط، أو كان في المعركة ثم حصل أمر فاتت به نفسه دون قتل، فإنه وإن فاتت نفسه في أرض المعركة؛ لكن بغير شهادة، فحينئذ يعامل معاملة غير الشهداء؛ كما إذا سقط من دابته، أو قتل أو لم يوجد به أثر، كأن وجد بكامل أعضائه دون أن يوجد فيه ضرب أو طعن مما يدل على أنه قتل، فحينئذ يحتمل أن يكون مات قدراً، كأن يكون مات من فجعة أو صدمة، فيبقى على الأصل. فإننا متحققون أن الأصل فيه أن يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن؛ لكن لما شككنا هل مات بالشهادة أو مات بغيرها ولم توجد دلالة ظاهرة، قدم الأصل على الظاهر، وهذا من تقديم الأصل على الظاهر؛ لأنه ليست به علامة ولا أمارة ولا دليل يدل على أنه مات بسبب القتل، وبناءً على ذلك يحتمل أن يكون مات من فجعة أو صدمة، أو وافق قدراً فتوفي في أرض المعركة، أو رأى عزيزاً عليه قتل، أو رأى حالة قتل ففُجع بها ومات، وهذا محتمل، ولذلك قالوا: دلالة الظاهر من كونه في أرض المعركة، لا تكفي في الخروج والعدول عن الأصل، بل نبقى على هذا. لكن لو أنني رأيته بعيني أو رآه من يوثق بخبره أنه دفعه عدو من على دابته، فسقط بدفع العدو ومات، فإنه في حكم الشهيد، وحينئذٍ قالوا: لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه. وقال بعض العلماء: بل يغسل ويكفن ويصلى عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (زملوهم بدمائهم). فامتنع التغسيل عند أصحاب القول الثاني لمكان الدم، فإذا كان موته بدون جرح، كأن يكون دفع أو رُضَّ فمات بالرض، قالوا: إنه لا يعامل معاملة الشهيد، وهذا بناءً على أن منع التغسيل لأثر الدم، وليس المراد به للشهادة بذاتها. والقول الأول له وجهه من جهة الأصل من كونه شهيداً. هذا بالنسبة للصور التي ذكرها. بقيت معنا صورة. إذاً: عندك حالتان: الحالة الأولى: أن يوجد ميتاً في أرض المعركة ليس به دليل ولا عليه أمارة تدل على أنه قتل، فحينئذٍ تبقى على الأصل من كونه يحتمل أنه مات قدراً أو مات بفجعة أو بدفعة أو نحو ذلك، فحينئذٍ تغسله وتكفنه وتصلي عليه، وتعامله معاملة الأصل.

حكم من أكل أو شرب بعد طعنه الذي مات به

حكم من أكل أو شرب بعد طعنه الذي مات به الحالة الثانية: أن تجد به أثر القتل كأن يطعن أو -مثلاً- يكون به جراح ثم يحمل من أرض المعركة، لكنه يأكل أو يشرب، فحينئذٍ يعامل معاملة الأصل، فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن. أما بالنسبة لحالة كونه يأكل ويشرب، فإنهم يقولون: إذا أكل أو شرب بعد الطعن وبعد الأثر الذي كان به من الضرب، فإننا في هذه الحالة قد تحققنا حياته بعد طعنه، فيخرج عن حكم الشهيد، وموته بعد ذلك وإن كان بأثر القتل؛ لكنه تبع لا أصل، والموت وإن كان بأثر الضربة في سبيل الله عزَّ وجلَّ فإنه شهيد في الأصل؛ لكنه لا يعامل معاملة الشهيد. والدليل أن سعداً رضي الله عنه وأرضاه ضرب في أكحله، فسأل الله عزَّ وجلَّ أن يؤخر موته حتى يقر عينه من بني قريظة؛ لأنهم خانوا الله ورسوله، وهذا من شدة غَيرته رضي الله عنه وأرضاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى دين الله، وهو من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فسأل الله عزَّ وجلَّ ألَّا يموت حتى يقر عينه بما يشفي غيظه ويروي غليله فيهم، فكان الحاكم فيهم رضي الله عنه وأرضاه. فلما ضُرب في أكحله أخر الله أثر الجرح، وهذه آية من آيات الله عزَّ وجلَّ، فسلم رضي الله عنه حتى حُمل إلى بني قريظة في قصة التحكيم، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم فقال: (أحكم أن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى ذراريهم، فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لقد حكمت فيهم بحكم الجبار من فوق سبع سماوات). ثم انتقض عليه جرحه، فمات رضي الله عنه وأرضاه فغسله النبي صلى الله عليه وسلم وكفنه وصلى عليه، وعامله معاملة الأصل، مع أن الجرح الذي مات بسببه هو في الأصل من المعركة. فلذلك قال العلماء: لما حيَّ حياةً مستقرة بعد الجرح نُزِّل منزلة الأصل، فصار الحكم خاصاً بمن قبض في أرض المعركة، دون من جُلِب عن أرض المعركة، ودون من أكل أو شرب بعد طعنه وضربه الذي فاتت به نفسه.

حكم من طعن فطال بقاؤه عرفا ثم مات

حكم من طعن فطال بقاؤه عرفاً ثم مات وقوله: [أو طال بقاؤه عرفاً؛ غُسِّل وصُلِّي عليه]: من طال بقاؤه عرفاً فماله مما يُحتكم فيه إلى العرف، فإن قال أهل الخبرة والأطباء: إن حياته مستقرة، فحينئذٍ لا يعامل معاملة الشهيد، فيُغَسَّل ويُكَفَّن ويُصَلَّى عليه ويُدْفَن، أما لو قَصُرت مدته وبقي بعد الطعنات ينزف في أرض المعركة، ثم فاتت نفسه، فإنه شهيد، وعلى هذا: فالشهيد يستوي فيه أن يُضرب فيُقتل من ساعته، أو يُضرب ثم تسيل دماؤه فينزف وينزف لمدة ساعة أو ساعتين فإن هذا ليس بطول؛ لأن النزف القاتل يشمل مثل هذا، فحينئذٍ يعامل معاملة الشهيد، فلا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه.

حكم تغسيل السقط والصلاة عليه

حكم تغسيل السقط والصلاة عليه قال رحمه الله: [والسقط إذا بلغ أربعة أشهر غسل وصُلي عليه]: السقط: هو الذي تسقطه المرأة الحامل جنيناً، سواء كان ذكراً أو أنثى، هذا السقط إذا بلغ أربعة أشهر، (مائةً وعشرين يوماً)، لحديث ابن مسعود رضي الله عنه: (يُجْمَع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفةً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل الملك فيؤمر بكتابة أربع كلمات، عمرِه وأجلِه وعملِه، وشقي أو سعيد)، فهذا يدل كما يقول العلماء رحمة الله عليهم على أنه يُنفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر، وهذا ما تقرر على ظاهر الحديث، ويقولون: إذا بلغ هذا القدر فإنه يعامل معاملة الطفل الحي، فيُغسل ويكفن ويصلى عليه ويسمى -أي: يسميه أبوه- سواءً كان ذكراً أو كان أنثى.

التيمم لمن تعذر غسله

التيمم لمن تعذر غسله وقوله: [ومن تعذر غُسلُه يُمِّم]. بعد أن بين لنا حكم غسل المحرم، وحكم تغسيل الشهيد، وما يستثنى من الشهداء، شرع رحمه الله في بيان المسائل التي تلتحق بهذا. والمناسبة بين هذه المسائل وبين الشهيد والسقط ومَن تقدم، أن الجميع خارجون عن الأصل، فلهم حكم خاص يستثنى من الأصل. والذي لا يمكن تغسيله يشمل أصنافاً من الناس، منهم المحروق، فإن المحروق إذا غسل ينتفط جلده ويصعب في هذه الحالة أن يحصل النقاء الذي هو مقصود الشرع، بل إن صب الماء عليه فإنه يزيده ضرراً، وحرمة الميت المسلم ميتاً كحرمته حياً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (كَسْر عظمِ المؤمن ميتاً ككسره حياً في الإثم)، فجعل للميت المسلم حرمة، فلو أننا غسلناه أنتن جسده وأنتن جلده ونَفَط، وحصل من الضرر الشيء الكثير. كذلك لو كان به مرض في جلده بحيث إذا صُب عليه الماء نَفَط، وكما في المجدور فإنه لو غُسل فإنه يتضرر جلده. وكذلك أيضاً إذا كان توقع لحوق ضرر بمن يغسله، كما هو الحال في الأمراض المعدية إذا لم يمكن تغسيل أصحابها بطريقة يسلم بها المغسل من العدوى؛ ففي هذه الأحوال كلها استثنى العلماء رحمهم الله هؤلاء من الأصل وقالوا: إنهم لا يُغسلون، وإنما يُيَمَّمون. وهكذا لو فقد الماء فلم يوجد، كأن يموت شخص بالصحراء، فحينئذٍ ييمم؛ لأن الشرع جعل طهارة التراب قائمة مقام طهارة الماء، فهذا أصل، فإذا وجبت طهارة الماء ولم يمكن القيام بها عُدِل إلى البدل الشرعي وهو التراب، فيُيَمَّم الميت، والتيمم أن تضرب بيديك على الأرض، ثم تمسح بهما وجه الميت وكفيه، فإذا فعلت ذلك فإنه حينئذٍ يحصل المقصود، كما تقدم معنا في صفة التيمم الشرعية.

ما يجب على من يغسل ميتا

ما يجب على من يغسل ميتاً وقوله: [وعلى الغاسل ستر ما رآه إن لم يكن حسناً]: شرع رحمه الله في الآداب التي ينبغي على من قام بتغسيل الموتى أن يراعيها، فعلى الغاسل ستر ما رآه إذا لم يكن حسناً، فإن تغسيل الأموات تحصل فيه أمور غريبة، فربما غسل الإنسان ميتاً، فرأى من آثار وبشائر الخير ما يكون عاجل بشرى له في الدنيا قبل الآخرة. وقد يرى أموراً فظيعة تقع في وجهه وحاله أثناء تغسيله، فنسأل الله السلامة والعافية وأن يتولى أمورنا بالستر الجميل. ولذلك قالوا: على الغاسل أن يحسن إلى الميت، فإن وجد عورة سترها، كأن يرى وجهه بحالة لا تسر، أو يراه تغيَّر وجهُه، وإن رأى خيراً نشره، فإن بعض الأخيار إذا غسلته رأيت في وجهه من النور والبهاء ما لا ترى معه وحشة الأموات، وقد رأينا ذلك وهو أمر مجرب، وكثيراً ما يقع للعلماء والأخيار والصالحين أن ترى بشائر الخير عليهم في تغسيلهم. فما رأى من الخير نشره؛ لأن هذا يعين على الطاعة، كأن يكون عالماً أو صاحب سنة أو إنساناً له فضل على المسلمين، أو إنساناً فيه استقامة، أو عُرف بخَصلة من خصال الخير كالصدقات أو صلة الرحم أو القول بالمعروف والأمر بالطاعات، فمثل هذا إذا نُشر ما وقع أثناء تغسيله من البشائر يعين الناس على حب الخير، ويعينهم على إحسان الظن بأخيهم، وهو أدعى للترحم عليه وذكره بالجميل، والاقتداء به، وكل ذلك مقصود شرعاً. ومن هنا إذا رأى المغسل بشائر طيبة ذكرها لما فيها من الخير ولما فيها من الدعوة إلى الخير، وهذا يحقق مقصود الشرع. وإذا رأى غير ذلك ستره؛ إلا أن يكون صاحبُ هذا الأمر صاحبَ بدعة وسوء وشر، كأن يكون إنساناً معروفاً بأذية المسلمين والتربص بهم، فمثل هذا إذا نُشر ما وقع له من الشر انزجر الناس وخافوا وارتدعوا من فعله، أو كان صاحبَ بدعة وهوى، أو كثير الإعراض عن أوامر الشرع، أو فاسقاً متهتكاً مستخفاً بحدود الله؛ فحينما يُذكر ما يكون له من الأمور السيئة، فإنه يكون قد زجَرَ الناس وخوَّفَهم وردَعَهم، وكان عاجل بشرى الشر له، ولِمَا ينتظره عند الله عزَّ وجلَّ من العقاب وأعظم، إلا إذا رحمه الله برحمته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الخير والشر ببشارة، (. فمُرَّ عليهم بجنازةٍ فأُثني على صاحبها خيراً فقال: وجبت. ثم مُرَّ بجنازةٍ فأُثني على صاحبها شراً، فقال: وجبت. فقال عمر: يا رسول الله! مُرَّ بجنازة فأُثني على صاحبها خيراً فقلت: وجبت. ثم مُرَّ بالثانية فأُثني عليها شراً فقلت: وجبت، فما وجبت؟ قال: أما الأول فأثنيتم عليه خيراً؛ فقد وجبت له الجنة، وأما الثاني: فأثنيتم عليه شراً؛ فقد وجبت له النار، أنتم شهداءُ الله في الأرض). فانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وَجبت وجبت) فنَشَرَ الخير ونَشَرَ الشر، فنَشَرَ الخير لما ظهر عليه من آثار الخير من ثناء الناس عليه، وذكرِ ما يكون للآخر من عاجل العقوبة عند الله عزَّ وجلَّ على ما ذكر عليه بالسوء والشر، فقال: (أنتم شهداء الله في الأرض). فما وقع من الأمارات والعلامات على الميت إن خيراً ذُكر، وإن كان شراً سُتر؛ ولذلك قال العلماء رحمة الله عليهم: ينبغي أن يكون الغاسل ينبغي أن يكون أميناً؛ لكي يحفظَ الأسرار ولا يبثَّها، ولا يذكرَ ما يكون له من الأمور الغريبة في تغسيل الميت.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الصلاة على الميت في المقبرة

حكم الصلاة على الميت في المقبرة Q ما حكم الصلاة على الميت قبل الدفن أو بعده في المقبرة؟ A الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصلاة في القبور، والعلماء رحمهم الله يقولون: إن الأصل أن لا يصلى في القبر. ومذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم أن الصلاة في القبر من خصوصياته عليه الصلاة والسلام؛ لما ثبت في صحيح مسلم: (لما توفيت المرأة السوداء ولم يخبروه بشأنها ودفنوها ليلاً، فأمر عليه الصلاة والسلام أن يُدَلَّ على قبرها، فدُلَّ على قبرها فوقف عليه وصلى، ثم قال: (إن هذه القبور مملوءة ظلمةً على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم) فقوله: بصلاتي، يدل على التخصيص؛ ولذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم اختُصَّ بهذه الخاصية، وهذا مذهب طائفة من أهل العلم رحمهم الله. وذهب جمعٌ من العلماء إلى أنه يجوز للإنسان أن يصلي على الميت إذا كان على نعشه في المقبرة، ويصلي على قبره أيضاً إلى أربعة أشهر، ومنهم من يقول: إلى شهرين، ومنهم من يقول: ما لم يتغير أو يغلب على الظن تغيُّرُه. فهذه ثلاثة أقوال في المسألة، وإن كان الأقوى والذي تطمئن إليه النفس أنه لا يصلى عليه، وأن من شهده وصلى عليه فإنه يجزئ؛ لأنه لو فتح هذا الباب فما من جنازة تشيع إلا وفيها أقوام قد تكون فاتتهم الصلاة عليه، فيسترسل الناس في هذا، وكلما جاء إنسان يعيد الصلاة عليه حتى يتأخر في دفنه؛ ولذلك إذا صلي عليه في قبره فإنه يحبس ويؤخر عن دفنه، والمشروع في السنة: أنه بعد الانتهاء من الصلاة الصلاة العامة عليه فإنه يبادر بدفنه، كما في الحديث: (أسرعوا بالجنازة). ولذلك: فالذي تطمئن إليه النفس أن يبادر بالدفن، ولا يؤخر من أجل الصلاة عليه، وإنما يصلى عليه الصلاة العامة، فمن أدركها فالحمد لله، ومن فاتته فإنه لا يفوته أن يدعو له ويستغفر ويترحم عليه، ومن صلى فلا حرج إذا كان يتأول القول الذي يرى الصلاة عليه؛ لكن الأصل: أن المقابر تحفظ عن الصلاة، ويمنع من الصلاة فيها إعمالاً للأصل؛ لما ذكرناه من الأدلة التي دلت على حظر الصلاة في القبور، وتخصيصها بصلاةٍ دون صلاة محل نظر، خاصةً وأن اللفظ عام، والله تعالى أعلم.

مسألة الصلاة على شهداء أحد

مسألة الصلاة على شهداء أحد Q ذكرتم -حفظكم الله- أن الشهيد لا يصلى عليه، وقد أشكل عليَّ صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على شهداء أحد؟ A النبي عليه الصلاة والسلام صلى على شهداء أحد كالمودع، ما صلى عليهم بعد المعركة، ولم يثبت نصٌ صحيح أنه صلى عليهم بعد المعركة، إنما ثبت في الصحيح: أنه عليه الصلاة والسلام صلى عليهم بعد سنين، وكان -كما ذكر العلماء- كالمودع لهم عليه الصلاة والسلام، ومعنى الخصوصية فيه قوي؛ وللنبي عليه الصلاة والسلام من الخصوصيات ما ليس لغيره، ومن هنا يقوى القول الذي يقول: بأن هذا النص مما خرج عن الأصل، خاصة وأنه عليه الصلاة والسلام لم يفعل هذا مع غيرهم، ولذلك لم يفعله مع شهداء بدر ولم يفعله مع غيرهم، ويختص هذا الحكم بشهداء أحد. يقوي طائفة من العلماء أنه صلى كالمودع لهم، وإن كان ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه زارهم، وكانت زيارته مودعاً لهم كما في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام، ويرون أن هذه الصلاة من جنس التوديع كزيارته لهم عليه الصلاة والسلام؛ لكن كونه يدل على مشروعية الصلاة على الشهداء هذا محل نظر، فالنصوص واضحة في عدم مشروعية الصلاة على الشهداء. وجاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم وغيره في قصة الصحابي جليبيب الذي كان معه في الغزوة رضي الله عنه، أنه قُتل فقده النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إني أفقد جليبيباً فابحثوا عنه، فطلبوه فوجدوه مقتولاً، فدفنه عليه الصلاة والسلام ولم يصل عليه، وقال: إني شهيد له يوم القيامة)، فهذا يدل على عدم مشروعية الصلاة على الشهداء، وهو يؤكد ما قرره جماهير العلماء من أنه لا يشرع أن يصلى على الشهداء؛ وإنما شذ الحسن وسعيد بن المسيب فقالا: يشرع أن يغسل الشهيد ويصلى عليه، وهذا القول من مفردات المسائل، ويحتمل أنهما لم يطلعا على النصوص التي دلت على عدم تغسيل الشهيد وعدم الصلاة عليه، والله تعالى أعلم.

غسل وتكفين من وقصته دابته وإن كان مجاهدا

غسل وتكفين من وقصته دابته وإن كان مجاهداً Q الذي يكون في المعركة ثم سقط عن دابته أو وُجِد ميتاً ولا أثر للجراح به، لماذا لم يأخذ حكم الشهداء، والقاعدة: أن ما قارب الشيء أخذ حكمه، حيث إنهم خرجوا للجهاد وقاتلوا ولكنهم قتلوا بالسقوط ونحوه، فلماذا لم يأخذوا حكم الشهداء؟ A هم آخذون منزلة الشهداء، ومنازلُ الشهداء تختلف؛ لكن مسألة أنه لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يكفن، هذه تختص بما ورد، وذلك نظراً لأن الجراح فيها دماء والبلاء بها أعظم، والشهادة فيها أكثر أذيةً وضرراً وبلاءً في الغالب؛ فإنه يختص الحكم بمن كانت فيه الجراح وقتل بجراحه، وأما من قتل بالصعق وبغير جرح فهذا لا يشمله الحكم، وقد نص على هذا جماهير العلماء كما ذكرناه في المسألة التي تقدمت؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (زملوهم بثيابهم) ونهى عن تغسيلهم، وهذا يدل على أن المراد الدم، وفي نفس الحديث الذي أمر بتزميل الثياب قال عليه الصلاة والسلام: (فإنه ما من جرحٍ يجرح في سبيل الله ... ). فقوله: (فإنه) جملةٌ تعليلية، أي: أمرتكم بتزميلهم في ثيابهم؛ لأن جراحهم تشهد لهم؛ وهذه من العلل المنصوصة؛ لأنه أشار إليها بالنص، وإن كان العلماء رحمة الله عليهم استنبطوها بالمعنى، فإنه لما قال: (زملوهم) ثم قال: (فإنه) يدل على التعليل؛ لأن قوله: (فإنه) بمثابة تعليل لما قبلها، والجمل التعليلية تعتبر حجة في التعليل، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلها في الإناء؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يديه) أي: أمرتكم بهذا لأن أحدكم لا يدري أين باتت يده. وقال في الذي وقصته دابته: (اغسلوه بماءٍ وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه بطيب؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) أي: أمرتكم بهذا، فانظر إلى قوله: (لا تمسوه بطيب) وقوله: (فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) تجده دليلاً على أن هذه الجمل بمثابة التعليل؛ فكأنه يقول: لا تغسلوا الشهداء إذا جُرِحوا؛ لأن جراحهم تشهد لهم، والله تعالى أعلم.

حكم ستر العورة عن الزوج أو الزوجة عند التغسيل

حكم ستر العورة عن الزوج أو الزوجة عند التغسيل Q هل يجب ستر العورة إذا غسل الرجل امرأته أو غسلت المرأة زوجها؟ A إن نَظَرَ كلٍّ من الزوجين لعورة الآخر في الحياة إنما قُصِد به أن يحفظ الإنسان نفسه من الفتنة، وأن يكون سبباً لعصمته بإذن الله عزَّ وجلَّ من الوقوع في الحرام، وهذا المعنى ليس موجوداً في تغسيل الميت؛ ولذلك يقتصر على تغسيلها بالقيام بحقها دون نظرٍ إلى هذه الأمور؛ خاصةً وأنه لا يأمن من الوقوع فيما يحظر عليه. والله تعالى أعلم.

حكم إلقاء الميت في البحر

حكم إلقاء الميت في البحر Q ما حكم إلقاء الميت في البحر، والسفينة تبعد مسافةٍ طويلة عن جميع الموانئ؟ A يقول بعض العلماء في هذه المسألة: إنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، ثم يرمى في البحر. وهذا نوع من القبر له؛ لأن البحار تطوي من بها وتستره، والمقصود من دفن الميت: ستره؛ ولذلك جاء في كتاب الله: {قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي} [المائدة:31] فإذا رُميَ في البحر ستره البحر، وأُمن من النظر إلى عروته، وعلى هذا قال العلماء: إذا تأخر وصول السفن ونحوها كالبواخر الموجودة الآن إلى البر فإن البحر يكون مقبرةً له. وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه ذكر شهداء البحر: (أنه نام عند أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها وأرضاها، فاستيقظ وهو مسرور يضحك صلوات الله وسلامه عليه، فعجبت من أمره وذكرت له ذلك فقال لها: لقد رأيت أقواماً من أمتي ملوكاً على الأسرة -أو كالملوك على الأسرة- يغزون ثبج البحر -أي: أنهم شهداء البحر- فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم. فقال صلى الله عليه وسلم: أنتِ منهم)، فتوفيت رضي الله عنها حينما غزت، ونزلت بطرف لبنان إبان غزو الصحابة رضي الله عنهم للشام، فلما نزلت وقصتها دابتها فماتت رضي الله عنها، فتحققت فيها معجزة النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا يدل على أن البحر قد يكون قبراً لصاحبه؛ لأن المقصود من البر أن تتوارى العورة، والقبر يحقق هذا المقصود. أما إذا غلب على الظن الوصول قبل أن يتغير فبعض العلماء يقول: إنه يبقى على الأصل؛ لأن الأصل أن يوارى في التراب، ويكون حينئذٍ مما يستثنى من التعجيل في دفن الميت، والله تعالى أعلم.

حكم كشف رأس ووجه الميت

حكم كشف رأس ووجه الميت Q في قول المصنف رحمه الله: [ولا يغطى رأسُه ولا وجهُ أنثى] هل يُفهم من ذلك أن يظل رأسُ ووجهُ الميت مكشوفاً ينظر إليه أثناء حمل الجنازة والصلاة عليها وقبرها؟ أثابكم الله. A هذا هو الأصل، نص عليه العلماء رحمة الله عليهم، ولذلك قالوا: ولا حرج أن يظلل بشمسيةٍ ونحوها، ويبقى وجهه مكشوفاً ولا يغطى الوجه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تخمروا وجهه ولا تغطوا رأسه) فهذا نص يدل على أنه لا يغطى ويصلى عليه وهو مكشوف الوجه، وقالوا: لا حرج أن يظلل عن الشمس بشمسية ونحو ذلك كالحال في الحياة، هذا استثناه بعض الفقهاء؛ لكن الأصل أنه لا يستر وجهه، والله تعالى أعلم.

حكم الغلو في الخوف من القبر وعذابه

حكم الغلو في الخوف من القبر وعذابه Q هل الخوف على الميت من عذاب القبر وما آل إليه من نعيمٍ أو عذاب يُعَد من عدم الصبر والرضا؟ أثابكم الله. A إذا مات الميت وهو على إحسان وطاعةٍ وبرٍ لله عزَّ وجلَّ؛ فإنه يرجى له الخير والرحمة، والله تعالى يقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:223] فهو يقول لك: ستلقاني وأبشر؛ فالظن به حسن سبحانه وتعالى، ولو رأيت المؤمن وهو في سكرات الموت يرى ما عند الله من البشائر ومن الخير، فلو خُيِّر ساعتها بين أهله وماله وولده والناس كافة، وبين إقباله على ربه لاختار ما عند الله عزَّ وجلَّ؛ لما يرى من رحمته، والناس تفزع من هذا، ولكن هذا كله ضعف إيمان بالله سبحانه وتعالى، وإلا لو علم الإنسان مقدار رحمة الله وحلمه ولطفه بعباده سبحانه وتعالى، لكان أشد شوقاً إلى ربه من شوقه إلى أهله وولده. ولذلك لما قدم سليمان بن عبد الملك رحمه الله على المدينة قال: يا أبا حازم! كيف القدوم على الله؟ قال: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، فلو غاب الإنسان عن أهله وجاء من غربة وقدم عليهم فهو قدوم البشر والسرور والفرح والحبور، وما عند الله أجل وأسمى؛ فإن الله وصف الجنة ونعيمها وسرورها ولذة أهلها وبهجتهم، وما هم فيه من الرحمة والغفران من ربٍ راضٍ عنهم غير غضبان، ومع هذا كله يقول: (أعددت لعبادي ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر). مع هذا كله ومع ما وصف الله في كتابه سبحانه وتعالى من الصفات العظيمة والمنازل الجليلة الكريمة يقول: (ولا خطر على قلب بشر)، فمعنى ذلك أن عنده من الرحمات والفضائل ما الله به عليم؛ ولذلك كان شيخ الإسلام رحمه الله يقول: إن بعض المنامات التي تقوي أصول الشرع كان السلف الصالح يذكرونها لحسن الظن بالله عزَّ وجلَّ، وقد ذكر هذا في الجزء الثامن عشر من مجموع الفتاوى، قال: كانوا يتسامحون في بعض المنامات التي لا تعارض أصول الشرع. وقد ذكر الإمام أبو نعيم في الحلية عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه مات ورئي بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: ما وجدت بعد الإيمان أفضل من حسن الظن بالله عزَّ وجلَّ. فإن الإنسان إذا أحسن ظنه بالله فإن الله لا يخيبه، فإن العبد يقدم على الله وهو ضعيف فقير أسير، تخلى عن أهله وماله وولده وحوله وقوته، والله عزَّ وجلَّ أرحم بالعبد من نفسه بنفسه. فكيف يكون الظن إذا كان الإنسان يقدم وهو يحس أنه فقير إلى رحمة الله، وأنه فقير إلى عفوه ولطفه، أفيخيبه سبحانه؟! حاشاه، فهو سبحانه يرحم من لم يسأله، فكيف بمن سأله ورجاه! ولذلك ينبغي على أهل الميت أن يحسنوا الظن بالله عزَّ وجلَّ، وأن يعلموا أن ما قدم عليه ميتُهم من رحمة الله وعفوه ما دام مؤمناً مطيعاً لله سبحانه وتعالى أسمى وأسنى، ويصبح انصبابُ جهدِهم إلى ما هو أهم وهو الدعاء له بالمغفرة، فإنه ولو مات وهو على أفجر ما يكون ما لم يكن كافراً؛ فقد يدركه الله قبل موته -ولو بساعات ما لم يغرغر- بحسن الظن بالله؛ قال الحجاج لما حضرته الوفاة: (اللهم اغفر لي؛ فإنهم يزعمون أنك لا تغفر لي)، قال عمر بن عبد العزيز: والله ما غبطته إلا على أمرين: أحدهما: عنايته بكتاب الله. أي: حبه للقرآن وعنايته به، فقد كان الحجاج محباً للقرآن معتنياً به. وأما الثانية: فقوله عند موته: (اللهم اغفر لي؛ فإنهم يزعمون أنك لا تغفر لي). فالإنسان إذا أحسن الظن بالله عزَّ وجلَّ قد يدركه الله عزَّ وجلَّ بحسن ظنه، فيغفر الله له ذنوبه، ولا يستطيع أحدٌ أن يدخل بين العبد وربه، فقد ترى الإنسان وهو على فسق وفجور ويرحمه الله قبل موته وقبل سكرات موته. وأصدق شاهد على ذلك حديث أبي هريرة الذي فيه قصة الرجل الذي قتل مائة نفس وآخرها الرجل العابد، فهذا أمر من أشنع ما يكون من الإجرام والعتدي لحدود الله والأذية لعباده، ومع ذلك ما خاب ظنه بالله عزَّ وجلَّ، فغبر قدميه في آخر عمره مقبلاً على الله، فقبض روحه مع الصالحين. فما خاب ظنه بالله حينما قال له العالم: وما يمنعك من التوبة؟! يعني: من يحول بينك وبين الله؟! ومن يحول بينك وبين رحمة الله؟! فخرج إلى ربه تائباً منيباً، فكان تغبيره لهذه الأقدام عزيزاً عند الله سبحانه وتعالى، عظمت عند الله هذه الأقدام حينما تاب بنفسه وبفعله، فاجتمعت له توبة الظاهر والباطن، فتوبته ظاهرة حينما خرج إلى قرية الصالحين؛ لأنه ما خرج لقرية الصالحين إلا وهو يريد الصلاح، وما خرج لقرية المفلحين إلا وهو يريد الفلاح. فلما فعل هذا عظم عند الله عزَّ وجلَّ، فكيف إذا كانت من الإنسان الحسنات والخيرات؟! والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} [الأحزاب:45 - 47] و (كبيراً) من الله ليست بالهينة! {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} [الأحزاب:47]. ويقول عن أهل الجنة: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر:35]. فالإنسان إذا أحسن الظن بالله عزَّ وجلَّ، وأخذ بأسباب الإنابة إلى الله تعالى؛ فإن الله لا يخيبه. فينبغي على أهل الميت -ولو كان الميت على معصية- أن يستغفروا له، وأن يترحموا عليه؛ فإن الله ينفع الأموات، ولو مات وهو على المخدرات وعلى المعاصي والمنكرات، فإنه أحوج ما يكون إلى دعائك. بل إن من كان على المعصية قد يكون أشد حاجة لأن تدعو الله أن يغفر له ويرحمه، فهذا شيء من رحمة الله عزَّ وجلَّ ومما أبقاه الله من حسنات الإيمان للمؤمن بعد موته كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الله رحم المؤمن بإيمانه حتى بعد موته، ولذلك كانت الصلاة عليه والدعاء له بسبب إيمانه، فلولا أنه مؤمن لما صلي عليه ولما دعي له، فما دام أنه مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولم يأت بما يخرجه من ملة الإسلام، فهو إن شاء الله من أهل الجنة؛ لكن ما كان منه من زلات وهنات فإن عذبه الله فبعدله، وإن عفا عنه فبمحض فضله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحسن ظننا فيه، وأن يجعل لنا من رحمته وعفوه ومغفرته ولطفه ما لم يخطر لنا على بال. نسأل الله العظيم أن يتلقانا برحمته أحياءً وأمواتاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

باب الغسل والتكفين [4]

شرح زاد المستقنع - باب الغسل والتكفين [4] لقد كرم الله سبحانه وتعالى عباده المسلمين أحياءً وأمواتاً، ومن تكريمه جل وعلا لمن مات من المسلمين: أن يغسل ثم يكفن ثم يصلى عليه، وتكفين الميت أمر سهل، لكنه يحتاج إلى تعلم؛ وقد ذكر الفقهاء صفة الكفن، وكيفية تكفين الرجل والمرأة، وعلى من تكون قيمة الكفن، وغير ذلك من الأحكام التي ينبغي أن يعتني بها كل مسلم.

تقديم الكفن على قضاء الدين

تقديم الكفن على قضاء الدين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فيقول المؤلف عليه رحمة الله: [فصلٌ: يجب تكفينه في ماله]. فهذا الفصل يعتبر هو المقام الثالث الذي انتقل المصنف به إلى بعض الأحكام المتعلقة بالميت، وقد تكلم في الموضع الأول عن حكم عيادة المريض، وما ينبغي أن يصنع بالمحتضر إذا حضرته الوفاة، ثم ما ينبغي به أن يهيأ به لتغسيله، هذه هي الجزئية الأولى التي تحدثنا عنها في الموضع الأول. ثم أتبع ذلك بفصل خصه بصفة تغسيل الميت، ثم أتبعه بهذا الفصل والذي يتعلق بصفة تكفين الميت، وهذا كله من ترتيب الأفكار، فالأصل أن الإنسان إذا احتضر أن يبدأ بأحكام الاحتضار، ثم ما يتبع ذلك من أحكام غسل الميت، ثم تكفينه؛ لأن التكفين يقع بعد التغسيل، فبين رحمه الله أنه يجب تكفين الميت. وهذه العبارة دلت على أن تكفين الميت يعتبر فرضاً على ورثته؛ وكذلك على عموم المسلمين الذين يحضرون الميت. أما بالنسبة لوجوبه: فالأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الرجل الذي وقصته دابته يوم عرفة (اغسلوه بماءٍ وسدر، وكفنوه في ثوبين) فقوله عليه الصلاة والسلام: (كفنوه في ثوبين) أمر يدل دلالة واضحة على أن الكفن واجب، وأنه لا يجوز قبر الأموات بدون كفن. ومن هنا أخذ العلماء أنه لو وضع الميت في قبره بدون كفن فإنه يشرع نبش قبره وتغسيله ثم تكفينه، والقيام بحقه من الصلاة عليه، ثم دفنه، فهذا يؤكد على أن تكفين الميت لا بد منه. هذا الكفن يحتاج إلى مال، وهذا المال الذي يستحق دفعه في كفنه يكون من ماله، وهذا هو الأصل؛ وبذلك إذا مات الميت فإن مئونة التجهيز تؤخذ من ماله قبل قسمة تركته، فهذه من الحقوق المقدمة، ويعتبرها العلماء من الحقوق العاجلة التي ينبغي أن يبادر بها في أموال الموتى، وأهل الفرائض رحمة الله عليهم من الفقهاء حينما يتكلمون عن أحكام الفرائض، يقولون: من بعد القيام بحقه من تجهيزٍ. فمئونة التجهيز يدخل فيها المال المحتاج إليه للكفن، فلو أنه احتيج إلى لفافتين لتكفينه، وهاتان اللفافتان تكلفان مبلغاً، فإنه يؤخذ هذا المبلغ من ماله ولو ترك ورثة من أيتام وغيرهم، فهذا حق للميت في ماله. ثم لو أن هذا الميت كان عليه دين، وأصبح هناك ضيق بين أن نقضي دينه وبين أن نكفنه، قالوا: يقدم تكفينه على دينه، وحينئذٍ يكفن ثم ينظر الباقي فيقسم على أصحاب الديون على قدر حصصهم من أصل الدين كما سيأتي إن شاء الله في الوصايا. فالمقصود: أن تكفين الميت واجب، وأن هذا الوجوب يتعلق بمال الميت إن وجد، فإذا كان الميت ليس عنده مال يشترى منه الكفن وما يحتاج إليه في مئونة تجهيزه، فحينئذٍ ينتقل إلى الذي يجب عليه نفقة الميت، فإذا كان هناك والد أو ولد أو أخ عاصب أو نحو ذلك من القرابة الذين يقومون بحقوق النفقات، فإنه حينئذٍ يتعين على الموجود منهم أن يدفع مئونة التجهيز، فإذا لم يوجد عند قرابته انتقل الوجوب إلى بيت مال المسلمين. ويجب على من حضر أن يقوم بهذا الحق، فيكفنوه كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ويحسنوا إليه في كفنه، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الحديث. وقوله: [مقدماً على دينٍ وغيره]. أي: تقدم مئونة التكفين على الديون التي للناس، وغيرها من الحقوق الأخرى، فلو مات ميت ولم يحج، واحتيج لحجه إلى ألفين وترك ألفين، فحينئذٍ إن أردنا أن نكفنه ربما نقص المال عما يقام به الحج عنه، فحينئذٍ يقولون: يقدم التجهيز، ويؤخذ من هذا المبلغ ولو كان سبباً لعدم السداد والوفاء بحق الحج عنه.

من يلزمه تكفين الميت إذا لم يكن عنده مال

من يلزمه تكفين الميت إذا لم يكن عنده مال وقوله: [فإن لم يكن له مالٌ فعلى من تلزمه نفقته إلا الزوج لا يلزمه كفن امرأته]. أي: فإن لم يكن لهذا الميت مال فعلى من تلزمه نفقته، أي: أنه يجب تكفينه على الشخص الذي تلزمه نفقة ذلك الميت؛ لأن الأصل أن العبرة بالغرم؛ ولذلك الذي يلي النفقات من الورثة ويكون عاصباً يقوم بدفع المال المحتاج إليه لتكفين قريبه، فيكفن الوالد ولده، والولد والده، والأخ أخاه، ونحو ذلك من القرابات الذين يجب عليهم القيام بالنفقات. واختلف في الزوجة، فقال بعضهم: الموت يقطع حق النفقة على الزوج، فلا يجب على زوجها أن يشتري الكفن لها إذا توفيت، ومنهم من قال: إن الموت لا يقطع حق النفقة، وتسامح بعض العلماء وقال: إن العشرة بالمعروف تقتضيه، ولكن إذا نُظِر إلى الأصل، فالأصل يقتضي أن النفقة قائمة مقام الاستمتاع، لقوله سبحانه وتعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24] فهذا هو الأصل، وبناءً على ذلك يقولون: بالموت ينقطع الحق بالموت كما لو نشزت فإنها لا تستحق النفقة، وهذا يؤكد أن النفقة مرتبة على الاستمتاع كما سيأتينا إن شاء الله في باب الحقوق الزوجية، وحينئذٍ إذا قلنا: إن الزوجية تنفصل؛ فإنه ينتقل إلى بيت مال المسلمين، وإذا قلنا: إنها لا تنفصل؛ فينتقل إلى الزوج. فقوله: (إلا الزوج): استثناه لأن الذين تجب عليهم النفقة، منهم من تجب نفقته من باب القرابة: كالأب مع ابنه، والابن مع أبيه، والأخ مع أخيه، ومنهم من تجب نفقته لسبب كالزوجية؛ فإن الزوج يجب عليه أن ينفق على زوجته لمكان الزوجية، والدليل ما ذكرناه من الكتاب، وكذلك من السنة في أمره عليه الصلاة والسلام بإطعامها إذا طعمت، وكسوتها إذا اكتسيت، كما في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام. إذا ثبت هذا -وهو أن الزوج يجب عليه أن ينفق على زوجته- فحينئذٍ إن قلنا: إن الموت يقطع الزوجية فلا تجب عليه النفقة، وإن قلنا: إن الموت لا يقطع حق النفقة بالزوجية فيجب عليه أن يكفنها، واختار المصنف سقوط النفقة عنه، فقال: (إلا الزوج)؛ لأنه عندما قال: (فعلى من تلزمه نفقته) أدخل الزوج بهذه العبارة؛ لأن الزوج يجب عليه أن ينفق على زوجته، فلما أدخل الزوج احتاج أن يخرجه بالاستثناء بقوله: (إلا الزوج)، أي: فلا يجب عليه أن ينفق على زوجته إذا ماتت بتكفينها. وهذا هو الأقوى بظاهر النص، ولكن العشرة بالمعروف -كما ذكرنا- وعوائد النفس المحمودة تستبشع وتستبعد ألا يقوم الزوج بحق زوجته في تكفينها، إلا إذا كان عليه ضرر وكلفة، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

صفة تكفين الميت

صفة تكفين الميت [ويستحب تكفين الرجل في ثلاث لفائف بيض]. بعد أن بين لنا رحمه الله حكم الكفن، وأنه يجب عليك أن تكفن أخاك المسلم إذا مات، شرع في بيان ما يحصل به الكفن، وهذا يختلف باختلاف الجنسين، فالرجال لهم حكم والنساء لهن حكم. فالرجال لهم حكم يختص بهم لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قدر ما يكفن به المسلم، والنساء لهن حكم فيما يكفَّن به، فابتدأ بالرجال، فقال رحمه الله: (ويستحب تكفين الرجل في ثلاث لفائف بيض)، وهذه الجملة مبنية على ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام، كما جاء في حديث أم المؤمنين في الصحيحين: (كُفّنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة). والثلاثة الأثواب لها صور: إما أن تمد لفائف ويوضع الميت عليها، ويكون القميص والعمامة فضلٌ عن الثلاث في الأصل، فحينئذٍ تكون مجموع ما يكفن به خمسة في الحقيقة وثلاثة في الصورة، وذلك لأن القميص والإزار كانا عليه عليه الصلاة والسلام؛ ولم يجرد عليه الصلاة والسلام منهما، وبالنسبة للأكفان الثلاثة تبسط بالصورة التي سنذكرها، فيكون المجموع: القميص ثوب، والإزار ثوب، والثلاث لفائف ثلاثة أثواب؛ فأصبح المجموع خمسةً، هذا بالنسبة للأكمل والأفضل في تكفين الرجل. قال بعض العلماء: إنه يكفن في ثلاثة أثواب، ويكون منها القميص والإزار، فيكون القميص لأعلى البدن، والإزار لأسفل البدن، فحينئذٍ يكون كل منهما يعتد به ثوباً، فيصبح المجموع ثوبين، والثوب الثالث هو اللفافة التي تلف عليه، فتكفين الميت في ثلاثة أثواب له هاتان الصورتان: إما أن يكفن بقميصٍ وإزارٍ ولفافة، فالمجموع ثلاثة، أو يكفن بثلاثة أثواب فضلاً عن القميص والعمامة. وهذا التكفين على سبيل الاستحباب، وإلا فالأصل أنه لو تعذر تكفين الميت بحيث لم نجد إلا ثوباً واحداً يستر عورته فإنه يجزئ، ويكون محصلاً للواجب وموجباً لبراءة الذمة، فلو أنه كفن في ثوبٍ واحد يستر بدنه ويستر عورته أو يستر أغلب بدنه ومنه العورة؛ فإنه يجزئه. فلو أن قوماً مات عليهم رجل في صحراء، وليس عندهم ما يكفنونه به، ولكن هذا الرجل عليه قميصه وإزاره وثوبه الذي فوقه، فغسل ثم لبس ثوبه وصار كفناً له، قالوا: يعتد بذلك ويجزئ؛ لأن المقصود هو ستره. والدليل على أن العدد لا يشترط، وأن المقصود هو ستر الميت: ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه قُتِلَ يوم أحد وليست له إلا شملةٌ واحدة، إن غطوا بها قدمه بدا وجهه، وإن غطوا بها وجهه بدت قدماه، فقال صلى الله عليه وسلم: (غطوا بها وجهه، واجعلوا على قدميه شيئاً من الإذخر) فكونه عليه الصلاة والسلام يكتفي بثوب واحد يدل على أن مقصود الشرع هو ستر الميت وستر عورته، فإذا ضاق الحال ولم يتيسر إلا ثوب واحد كفاه. ولذلك كان عتبة بن غزوان رضي الله عنه إذا أراد أن يضرب المثل بفقر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من الشدة في عهده صلى الله عليه وسلم، ذكر قصة مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، وقال: (فمنا من مات ولم يهدب ثمرته، منهم مصعب من عمير، كانت له شملة إذا غطوا بها وجهه بدت قدماه، وإذا غطوا قدميه بدا وجهه، فقال صلى الله عليه وسلم: غطوا بها وجهه ... ) الحديث. فهذا يدل عل أن الثوب الواحد يكفي، ولذلك قال المصنف: (يستحب) فدل على أن الثلاثة ليست بواجبة، وإنما هي السنة والأفضل.

تجمير اللفائف وجعل الحنوط فيما بينها

تجمير اللفائف وجعل الحنوط فيما بينها وقوله: [تجمر ثم تبسط بعضها فوق بعض، ويجعل الحنوط فيما بينها]. تجمر هذه الثلاثة الأثواب بالند والعود أو بأي طيب، وذلك مبني على أمره عليه الصلاة والسلام بإحسان كفن المسلم، وقد أمر من ولي تكفين أخاه المسلم أن يحسن في كفنه. فيبدأ بتطييب هذه الثلاثة الأثواب، ثم يبسط الأولى ويكون أجملها وأفضلها مما يلي الناس؛ لأن حال الإنسان أنه يجعل الزينة في الظاهر، فيجعل أجمل الثلاث اللفائف مما يلي الناس، وهي الأولى تبسط على الأرض، ثم بعد أن يجمرها يجعل حنوطاً فوقها، ثم يأتي بالثانية ويبسطها فوق الأولى، ويجعل الحنوط فيها. والحنوط: هو أخلاطٌ من الأطياب التي توضع في الكفن لدفع الهوام وطردها عن جسد الميت، ولإبقاء الجسد مدة أطول، فيوضع الحنوط على الثوب الأول، ثم يوضع على الثوب الثاني، ثم تبسط اللفافة الثالثة ولا يوضع عليها شيء؛ ولذلك كره الصحابة رضي الله عنهم وضع الحنوط على اللفافة الثالثة، فاللفافة الثالثة لا يوضع عليها حنوط، وإنما تبقى على ما هي عليه، ثم بعد ذلك ينقل الميت إليها بعد الغسل.

استخدام القطن للميت في عدة مواضع

استخدام القطن للميت في عدة مواضع وقوله: [ثم يوضع عليها مستلقياً]. أي: ثم يوضع الميت على هذه الثلاث اللفائف مستلقياً، وجهه إلى السماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أُدرج فيها إدراجاً، فهذه هي السنة: أن يوضع في وسطها، ويكون نصفها عن يمينيه ونصف اللفافة عن يساره، والثلاث كلها مبسوطة إلى الأرض. وقوله: [ويجعل منه في قطنٍ بين إليتيه]. أي: ويجعل من الحنوط في قطن، ويكون القطن هذا لسد المنافذ إذا خرج شيء من النجاسة أو القذر فإنه يعالجه، ويكون أيضاً أنفع لدفع النتن إذا حُمِل أو أُريد وضعه في قبره، فيجعل الحنوط في قطنة وتكون بين الإليتين. [ويشد فوقها خرقة مشقوقة الطرف كالتبان تجمع إليتيه ومثانته]. هذه الصفة يذكرها العلماء من باب الكمال، وليست تشريعية توقيفية يلزم فعلها، وذكر العلماء رحمة الله عليهم لها مندرج تحت أصل عام وهو إحسان الكفن، وليس بأمر متعين بحيث إن الإنسان لو تركه يأثم، إنما ذكره العلماء رحمة الله عليهم على سبيل الفضل لا على سبيل الفرض. وتجعل كالتبان، التبان: السروال القصير الذي يصنع للملاحين ونحوهم، والمعنى: أنه تشق على صورة السراويل القصيرة تشد ما بين الفخذين وتمنع خروج الخارج، وذلك لتمنع النتن والرائحة أن تؤذي من يقترب من الميت فيتضرر بذلك إذا حمله أو أراد أن ينزله في قبره، فهذا كله -كما ذكرنا- على سبيل الفضل لا على سبيل الفرض، وهذه الأمور لا يقصد منها سوى الإحسان إلى الميت، فمن تيسر له فِعْلُها فعَلَها، ومن صعب عليه ذلك أو لم يجد الحنوط فله أن يستبدل بطيب آخر يطيب به الميت، ولا يشترط أن يوضع بين الفخذين بالصورة التي ذُكِرت، وإنما هو على سبيل الفضل لا على سبيل الفرض كما ذكرنا. وقوله: [ويجعل الباقي على منافذ وجهه ومواضع سجوده، وإن طيب كله فحسن]. أي: ويجعل الباقي من الحنوط والطيب على منافذ جسده، مثل الأنف، والمنفذ: هي الفتحة الذي ينفذ منها إلى البدن، ويشمل ذلك: الأنف والفم وجهة العيون ونحوها، فيجعل الحنوط عليها حتى يكون أدعى لدفع الهوام عن الدخول إلى البدن؛ لأن الهوام لا تقوى على رائحة الطيب؛ فيكون ذلك أدعى لبقاء البدن أو الجسد أكثر مدة وأطول، وهذا من الإحسان إلى الميت. فيجعل في منافذ بدنه، ومواضع سجوده، وإن طيب كله فلا حرج، وقد أثر عن بعض السلف الصالح أنه لما حضرت أنس الوفاة أوصى أن يغسله الإمام الجليل محمد بن سيرين، وكان محمد رحمه الله عليه دين ومسجوناً في دين، فأُخرج من سجنه للقيام بتغسيل أنس، فطيب أنساً كله. وهذا قد فعله بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه. لكن لو كان الطيب قليلاً أو لم يتيسر من الحنوط إلا اليسير، فإنه يوضع في أشرف المواضع، وهي مواضع السجود؛ تكريماً لها، وكذلك أيضاً المغابن، وهي مواضع النتن من الإنسان كالإبطين؛ وكذلك أيضاً المغابن التي تكون في أسفل باطن الركبتين، فهذه يوضع فيها الحنوط لأن الفساد يسرع إليها أكثر من غيرها.

كيفية لف اللفائف على الميت

كيفية لف اللفائف على الميت وقوله: [ثم يُرَد طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن]. بعد أن يوضع الميت على الثلاث اللفائف في وسطها كما ذكرنا، يرد طرف اللفافة على شقه الأيمن تشريفاً وتكريماً لليمين، لأنه إذا لبس الإنسان يشرع له أن يقدم اليمين، فيفعل به كما كان يفعل حياً، وقد قال عليه الصلاة والسلام في تغسيل بنته: (ابدأن بميامينها وبأعضاء الوضوء منها) فشرف اليمين وشرف أعضاء الوضوء؛ ولذلك لما ذكروا عن مواضع السجود أنها تطيب فذلك لشرفها شرعاً. فحينئذٍ يبدأ بشقه الأيمن ويقلب طرف اللفافة العليا، فإذا غطى شقه الأيمن قلب من شقه الأيسر بعد ذلك على لفافة الأيمن ويردها عليه؛ ثم اللفافة الثانية يبتدئ بجهتها اليمنى بالنسبة للميت ويقلبها على شقه الأيمن، ثم يأخذ يسراها ويقلبها على يساره، ثم الثالثة كذلك، فهذا من إدراج الميت في الكفن وهو سنة، ولما فيه من التيمن الذي فضله الشرع وثبتت به النصوص الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال المصنف رحمه الله: [ويرد طرفها الآخر من فوقه، ثم بالثانية والثالثة كذلك، ويجعل أكثر الفاضل عند رأسه]: وقوله: (ويجعل أكثر الفاضل عند رأسه) وذلك لكونه أبلغ في ستره وتشريفاً له؛ أما الدليل على أننا نجعل الفاضل جهة الرأس: فعندنا جهتان: إما أن نجعل الفاضل من جهة القدم أو جهة الرأس، فلما قال عليه الصلاة والسلام في الشملة: (غطوا بها وجهه، واجعلوا على قدميه شيئاً من الإذخر) دل على تشريف أعلى البدن وتفضيله على أسفله، ومن هنا قالوا: إنه يجعل الفاضل من جهة الرأس ولا يجعل من جهة القدم، ويتفرع على ذلك فوائد، منها أنه لو وجدت لفافة، ولكن هذه اللفافة تسع أكثر البدن، ولا تسع البدن كله، فإنها تلف عليه ويجعل النقص من جهة الأقدام لا من جهة أعلى البدن؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم في حديث مصعب رضي الله عنه وأرضاه. وقوله: [ثم يعقدها وتحل في القبر]. (ثم يعقدها): أي يربطها، والضمير عائد إلى اللفافة، فيعقد من رأسه ويعقد من وسطه؛ وكذلك من جهة قدميه على حسب ما يقتضيه الحال، والسبب في هذا هو خوف انتشار الثياب وانكشاف عورة الميت، خاصةً إذا دُلي في قبره، فإنه في هذه الحالة يحتاج إلى أن تكون اللفافة مربوطة، فلربما انسل من اللفائف إذا لم يكن مربوطاً فانكشفت العورة وحصل ما لا يحمد خاصة مع النساء؛ فلذلك جاءت الآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم بهذه الأربطة، وأنها تحل في القبر. وقوله: [وإن كُفِّن في قميص ومئزر ولفافة جاز]. (وإن كُفن في قميص): القميص يكون لأعلى البدن، كـ (الفنيلة) فهذه أشبه بالقميص، وفي حكمها الصدرية، وهكذا الجبة ونحو ذلك، كل ذلك يعتبر من ستر أعالي البدن ويعتد به ثوباً. ثم يجعل لأسفل البدن ثوباً أو إزاراً؛ لأن العرب تسمي ما يغطي الأعلى دون أن يكون مستحكماً رداءً، والذي للأسفل يسمونه إزاراً، وأوضح ما يكون هو يلبسه الإنسان في حجه وعمرته من ثوبي النسك، الأسفل منهما يسمى إزاراً والأعلى منهما يسمى رداءً. فلو أن إنساناً وجد له قميصاً وإزاراً ولفافة، فلا حرج، ويكون القميص ثوباً والإزار ثوباً، وتكون اللفافة ثوباً ثالثاً.

تكفين المرأة في خمسة أثواب

تكفين المرأة في خمسة أثواب وقوله: [وتكفن المرأة في خمسة أثواب]: تكفن المرأة في خمسة أثواب؛ لأن عورتها أشد فحشاً من الرجل، وفي ذلك حديثان: أما الحديث الأول: فحديث ليلى بنت قائف الثقفية، وهو متكلمٌ في سنده، وضعفه غير واحد من الأئمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهن بتغسيل ابنته وتكفينها، وكانت هي التي تولت غسلها، فذكرت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أول ما ناولها حقوه، وهو ما يكون لأسفل البدن كالإزار كما ذكرنا، ثم بعد ذلك أعطى صلوات الله وسلامه عليه الدرع، وهو لأعلى البدن، ثم ناولها الخمار وهو للرأس، ثم الملحفة، وهو ما تلتحف به المرأة، وهو يشمل الأعلى والأسفل؛ ثم أُدرجت في الثوب الآخر، فهذه خمسة أثواب، جاءت مفصلة في حديث ليلى المتكلم في سنده، ولكنها جاءت مجملة في حديث أم عطية الذي هو أصح سنداً من حديث ليلى؛ فإن حديث أم عطية أنها كفنت في خمسة أثواب، لكن حديث ليلى بنت قائف الثقفية رضي الله عنها فصل هذه الأثواب، وهو يدل على أن السنة إذا ألبست المرأة الخمسة الأثواب أن يبتدئ بستر الأسفل أولاً؛ لما فيه من غلظ العورة وعظم الحق فيه؛ ثم بعد ذلك أعلى البدن، ثم الخمار للرأس، ثم الملحفة التي تعم أعلى وأسفل البدن، ثم بعد ذلك أدرجت في الثوب الآخر، وهو خامس الأثواب، وهي اللفافة التي تلف فيها الميتة. وقوله: [إزار وخمار وقميص ولفافتين]: الإزار لأسفل البدن، والقميص لأعلى البدن، والخمار للرأس، وبالنسبة للفافتين لعموم البدن، وعلى هذا لو أن امرأة تيسر لها ثلاثة أثواب فإنه لا حرج أن تكفن فيها؛ فتبسط الثلاثة الأثواب وتوضع الميتة فيها على الصفة التي ذكرناها في الرجل، وترد عليها وتكون كفناً لها.

الواجب في الكفن ثوب واحد يستر الميت

الواجب في الكفن ثوب واحد يستر الميت وقوله: [والواجب ثوب يستر جميعه]. والواجب في تكفين الميت ثوبٌ يستر جميعه، وهذا من دقة المصنف، فبعد أن ذكر لك صفة الكمال شرع يبين لك ما هو اللازم؛ لأنه بعد أن بين ما هو الأفضل والأكمل ذكر أن الواجب ثوب واحد وأن ما عدا الواجب فضلٌ لا فرض، إن فعلته أحسنت وأجرت وإن تركته فلا حرج.

الأسئلة

الأسئلة

حكم غسل من مات وهو جنب

حكم غسل من مات وهو جنب Q لو مات الإنسان وهو جنب هل يغسل غسل الجنابة أم يكتفي بالغسل المعهود؟ A إذا مات الميت وهو جنب فإنه لا يغسل غسل الجنابة؛ لأن التكليف قد انقطع، وحينئذٍ يغسل وينوى في غسله غسل الميت ولا ينوى غسل الجنابة، وهذا هو الأصل على ظاهر الحديث الذي ذكرناه في حنظلة الغسيل، فإن حنظلة -رضي الله عنه وأرضاه- لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم يغسل أمرهم أن يسألوا، فسألوا امرأته فقالت: إنه سمع الهيعة والصيحة فخرج رضي الله عنه فقتل شهيداً قبل أن يغتسل من الجنابة، فهذا الحديث يقلب على من يقول: إنه يغسل، ويدل على أنه لا يغسل؛ لأنه غسل في الآخرة ولم يغسل غسل الدنيا، ولو كان غسل الجنابة واجباً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتغسيله، فالظاهر أنه لا يغسل والله تعالى أعلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

باب الصلاة على الميت [1]

شرح زاد المستقنع - باب الصلاة على الميت [1] صلاة الجنازة فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي سقطت عن الباقين، ولها فضلٌ عظيم، ولها كيفيةٌ خاصة، وأحكامٌ لابد من تعلمها. ويفرق بين الصلاة على الصبي والكبير من حيث الدعاء فقط، ويتفرع عن هذه المسألة: حكم أطفال المشركين، وهي مفصلة في هذه المادة.

صفة صلاة الجنازة

صفة صلاة الجنازة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: يقول رحمه الله: [فصل: السنة أن يقوم الإمام عند صدره، وعند وسطها]. لقد بين رحمة الله عليه صفة التكفين، وهي يسيرة، وليست كما يظن بعض الناس أن تكفين الميت يحتاج إلى شيء من الدقة ويحتاج إلى شيء من الكلفة، وهذا ولله الحمد من رحمة الله بهذه الأمة، وقد أشار الله إلى هذه الرحمة العامة فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فتكلف بعض الناس في بعض صفات التكفين وإلزامهم الناس بصفة معينة خطأ، لأنها ليست واجبة في أصل الشرع بحيث يعد أن من لم يفعلها كأنه أساء إلى الميت، فهذا مما لا أصل له. وشرع رحمه الله في بيان صفة الصلاة على الميت؛ لأنه بعد أن يفرغ من تكفين الميت يتجه الأمر بالصلاة عليه، وهذا هو الحق الثالث للميت، فأولاً: يغسل، وثانياً: يكفن، وثالثاً: يصلى عليه. أما الصلاة عليه فإنها واجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا على صاحبكم) فهذا أمر، والأمر يدل على الوجوب، ولذلك قالوا: من مات ودُفِنَ ولم يصل عليه ولم يكفن، شُرِع أن ينبش قبره ويخرج ثم يغسل ويكفن ويصلى عليه؛ قياماً بحقه. والصلاة على الميت لها صفةٌ مخصوصة واردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان من هديه أنه إذا جيء بالميت فإن كان رجلاً قام عند رأسه، وإن كانت امرأةً قام عند وسطها. وللعلماء تعليلان: بعضهم يقول: هذه السنة سببها أن فتنة الرجل أكثر ما تكون في قلبه بالوساوس والخطرات، فيقوم حيال صدره كما ورد في الحديث، والمرأة أكثر فتنتها تكون في الفرج والشهوة فيقوم عند وسطها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) فهم يقولون: إنها لفتنة المرأة في الشهوة. وقال بعض العلماء: إن السبب في ذلك أنه إذا قام في وسط المرأة كان أبلغ في سترها، وكأنه يسترها عن المأمومين؛ ويكون ذلك أدعى لتفرغ الناس للدعاء وبعدهم عن الفتنة؛ لأن الذي وراءه يباشر هذا الموضع لو أنه قام عند صدرها أو حيال رأسها. لكن الأولى: أن يتوقف في هذا؛ لأنه لا ينبغي تعليل الأحكام دون أن يكون هناك دليل يدل على تلك العلة صراحةً أو ضمناً، أما أن يتكلف استنباط العلل بالصورة التي ذكرناها فهذا محل نظر؛ ولذلك فالأفضل أن يقال: هذا شيء تعبدنا الله به وهو أعلم بعلته، ولا يسأل عن مثل هذه الأمور؛ لأن السؤال عنها من التكلف، وقد كان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يسألون عن مسائل من هذا النوع فكان يطرد السائل في بعض الأحيان، وربما ينتهره ويعنفه إذا كان من طلابه؛ لأنها من التكلف، وهذه المسائل التي يكون فيها تكلف وتنطع قد نهي عنها. فالإنسان إذا جاءه الأمر في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لا يسعه إلا السمع والطاعة والامتثال، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. فإذاً: لا بد من التسليم، يقوم بهذه الصفة التي ذُكِرت لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها، وثبت فعله عليه الصلاة والسلام لها في حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه لما قام حيال صدر الرجل ووسط المرأة فسئل عن ذلك فقال: إنها السنة؛ فدل ذلك على أنها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة

قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة وقوله: [ويكبر أربعاً يقرأ في الأولى بعد التعوذ الفاتحة]: (ويكبر أربعاً): هذا ثابت في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه كبر على النجاشي أربع تكبيرات) وكان بعض العلماء يقول: هي التي داوم عليها عليه الصلاة والسلام، وما جاء من غيرها فإنما يكون في بعض الأحوال، والأفضل المداومة على الأربع؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي داوم عليه. والخمس وردت عنه عليه الصلاة والسلام، وكان بعض العلماء يمتنع منها؛ لأنه حافظ عليها بعض أهل البدع، فكانوا العلماء يرون أن هذا الأفضل فيه المحافظة على الأربع؛ لأن الخمس ثبتت في صور الأفراد، والزيادة إنما ثبتت في قضية شهداء أحد مع أن الصلاة عليهم نفسها خارجةٌ عن الأصل، ومن هنا قال العلماء: إن الأفضل أن يداوم على الأربع، وهي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الغالب. وصلاة الميت ليس فيها ركوع ولا سجود، وهذا بالإجماع كما حكاه الإمام ابن حزم الظاهري رحمة الله عليه بل يقف فيها المصلي ويقوم على الصفة التي سنذكرها إن شاء الله تعالى دون أن يكون هناك ركوعٌ أو سجود، لكن اختلف في سجود السهو لها في الواجبات التي سنذكرها بعد. قال: (يقرأ في الأولى بعد التعوذ الفاتحة) هذا فيه فوائد: الفائدة الأولى: أن دعاء الاستفتاح ليس بمشروع في الصلاة على الميت، فصلاة الميت يكاد يكون بالإجماع أنه لا يشرع لها دعاء الاستفتاح؛ لكن بعض المتأخرين كان يقول: يستفتح في صلاة الميت لأن أم المؤمنين عائشة تقول: كان إذا استفتح الصلاة يقول. والصحيح أنه لا يشرع دعاء الاستفتاح في الصلاة على الميت، وإنما يقرأ مباشرةً، ويكون هذا من باب الفرق بين الصلاة المفروضة والنافلة وبين صلاة الجنائز. قوله: (بعد التعوذ) لعموم قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] فالأفضل أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وهو لفظ سورة النحل، وأما غيره من الألفاظ الأُخر فهو سنة ولا حرج فيه، مثل: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه) لكن الأفضل أن يقول الذي أُمر به في الكتاب لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]. قال بعض الفضلاء: ولفظه المختار ما في النحل وقد أتى الغير عن اهل النقل (ولفظه المختار ما في النحل) أي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ثم بعد ذلك يقرأ الفاتحة، وللعلماء في قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة قولان: منهم من يقول: يشرع أن تقرأ سورة الفاتحة، وهو مذهب الإمام الشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وطائفة من أهل الحديث، والدليل على ذلك عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وقوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب. الحديث) فإنك إذا تأملت هذا اللفظ وجدته من صيغ العموم، فقوله: (لا صلاة) نكرة في سياق النفي، والقاعدة: أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم. (أيما صلاةٍ) أيضاً يدل على العموم؛ لأن (أي) عند الأصوليين من صيغ العموم، فلما قال: أيما صلاةٍ لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، فقد عمم ولم يفرق بين صلاة الجنازة ولا غيرها، فدل على أن صلاة الجنازة يجب أن يقرأ فيها بفاتحة الكتاب. وتأكدت هذه العمومات بحديث ابن عباس رضي الله عنه أنه صلى على الجنازة وجهر بالفاتحة؛ لكي يعلم الناس أنها سنة، فدل هذا على أن السنة أن يقرأ الفاتحة على الميت. وخالف في ذلك الحنفية والمالكية رحمة الله عليهم، وقالوا: إنه يقتصر على الدعاء، لآثار وردت عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الصلاة على الميت، ذكر فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء، قالوا: فهذا يدل على أنه لا تقرأ الفاتحة. والجواب عن ذلك: أن المرفوع مقدمٌ على الموقوف، ويحمل كلام الصحابة على أن المقصد الأسمى والأعلى في الصلاة على الميت: أن يدعى له، فذكروه وتركوا غيره للعلم به بداهة، هذا مما يعتبر به. وأيضاً: يحتمل أنه لم يبلغهم النص بقراءة الفاتحة، وقد يخفى على بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من السنن ما لم يطلع عليه؛ ولذلك يُعمل بما ورد عنه عليه الصلاة والسلام ويقدم على غيره.

الصلاة الإبراهيمية في صلاة الجنازة

الصلاة الإبراهيمية في صلاة الجنازة قال رحمه الله: [ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية كالتشهد]. أي: يكبر بعد ذلك التكبيرة الثانية، ويصلي فيها على النبي صلى الله عليه وسلم كصلاة التشهد، وهي الصلاة الإبراهيمية المعروفة، وقد ثبت في ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وكذلك آثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن صلاة الميت يصلى فيها على النبي صلى الله عليه وسلم. قال العلماء: من فائدة ذلك أن صلاة الميت مشتملة على الدعاء والشفاعة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء مظنة الإجابة، والأحاديث في ذلك معروفة، أي: أن من أسباب قبول الدعاء الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك شرعت الصلاة قبل الدعاء لما فيها من الخير العظيم؛ ولأنها سببٌ في رحمة الله للعبد، فهو يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم مرة فتأتيه من الله عشر صلوات، ومن صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً، فَيُرحم بهذه الرحمة العظيمة ويكون أرجى لقبول دعائه.

الدعاء المأثور في صلاة الجنازة وشرحه

الدعاء المأثور في صلاة الجنازة وشرحه قال رحمه الله: [ويدعو في الثالثة فيقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، إنك تعلم متقلبنا ومثوانا وأنت على كل شيءٍ قدير، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنة، ومن توفيته فتوفه عليهما، اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار، وافسح له في قبره ونور له فيه]. هذه الجمل التي ذكرها رحمه الله تشتمل على مسألتين: المسألة الأولى: أن السنة في التكبيرة الثالثة أن يدعو، وهذا سببه أن الصلاة إنما شرعت من أجل الدعاء للميت والاستغفار له والترحم عليه، وهذه رحمةٌ من الله سبحانه وتعالى بعباده، حيث جعل للأموات حظاً عند الأحياء أن يذكروهم بصالح الدعوات. ولا شك أنه ليس هناك مسلم إلا وهو محتاج إلى من يدعو له، ولو كان عبداً صالحاً؛ فإن الصالح يزداد من رحمة الله عز وجل، وأما غيره فأمره أشد وحاجته أعظم أن يترحم عليه ويستغفر له، فمن رحمة الله عز وجل أن شرع هذه الصلاة، ولقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مسلم يقوم عليه أربعون يشهدون أن لا إله إلا الله، ويشفعون له إلا شفعهم الله فيه، وما من مسلمٍ يقوم عليه مائة يسألون الله له إلا وجبت) كما في صحيح مسلم، قيل: وجبت دعوتهم أو وجبت شفاعتهم، وهذا فضلٌ عظيم، فكيف إذا قام عليها الألوف؟! ومن هنا: يستحب كثرة المصلين على الميت؛ لكثرة الدعاء وسؤال الله عز وجل رجاء الإجابة، خاصةً إذا وُجدَ فيهم من هو حافظٌ لحدود الله، فهو أرجى أن يقبل الله عز وجل دعاءه. والسنة أن يكون عددهم كثير، فإذا نقص عددهم يُسن ألا يقلوا عن ثلاثة صفوف، فيجزؤهم الإمام ثلاثة صفوف، وفي ذلك حديث مالك رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل ثلاثة صفوف: (أنهم إذا شفعوا للميت شُفِّعوا) وكان مالك رضي الله عنه إذا استقل العدد جزأهم ثلاثة صفوف، حتى ولو كانوا ستة جعل كل اثنين صفاً، كل ذلك لفضل كثرة الصفوف على الميت. فهذا الدعاء كلما كان من عددٍ أكبر؛ كلما كان أفضل وأرجى. وعلى هذا قالوا: إنه يختار المساجد التي هي أكثر عدداً؛ لكثرة الشفعاء وكثرة المصلين والداعين له. وأما الأدعية التي ذكرها: فإنه نوع رحمه الله في الأدعية وأدخل بعضها في بعض، والمحفوظ عنه عليه الصلاة والسلام في حديث مسلم: (اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار -على رواية الشك- عذاب القبر أو عذاب النار) قال الصحابي: حتى تمنيت أن أكون ذلك الرجل. فإن كانت امرأة يقول: أبدلها أهلاً خيراً من أهلها، ولا يقول: زوجاً خيراً من زوجها؛ لأن المرأة لزوجها في الآخرة إذا ماتت عنه وهي في عصمته، أما لو تزوجت أكثر من زوج وتوفيت فقد سألت أم سلمة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة التي يكون لها أكثر من زوج لمن تكون يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (هي لأحسنهم خُلقاً) ولذلك يقولون: لا يقال في المرأة: (وأبدلها زوجاً خيراً من زوجها)؛ لأنها قد تكون لزوجٍ واحد، وإنما يكون الزواج للرجال، فيقال: (أبدله أهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه) إشارة إلى الحور العين، وما جعل الله من الكرامة فيها، وهو حكم الله الذي لا يعقب. وأما قوله: (اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وكبيرنا وصغيرنا، وذكرنا وأنثانا، إنك تعلم متقلبنا ومثوانا -إلى قوله:- إنك على كل شيءٍ قدير) زيادة (إنك على كل شيء قدير) ليست واردة، الوارد إلى قوله: (إنك تعلم متقلبنا ومثوانا) وهذا فيه مناسبة الحال، وهو أيضاً دعاءٌ محفوظ. وأما المقطع الأخير الذي ذكره رحمة الله عليه: (اللهم افسح له في قبره ونور له فيه) فهو قطعة من دعائه صلوات الله وسلامه عليه لـ أبي سلمة؛ فإنه لما دخل على أبي سلمة رضي الله عنه وقد جاد بنفسه فسمع صوت الصائح فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصياح، وقال: (لا تدعوا على أنفسكم فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون) أي: هذه الساعة تؤمن الملائكة على ما يقال- ثم قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم اغفر لـ أبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره ونور له فيه) وذلك إشارة إلى حال السعداء إذا نزلوا القبور، وذلك أن المؤمن يفسح له في قبره مد البصر؛ لأن إفساح القبر يزيد في فُسحة الصدر، وفسحه القبر. والقبر يضيق على الكافر والمنافق حتى تختلف أضلاعه، ومن هنا كان من رحمة الله بالمؤمن أن يفسح له في القبر. وفي قوله عليه الصلاة والسلام في الدعاء للميت: (افسح له في قبره) دليل على أن القبور تنفسح وتضيق، وأن هذا من عالم الغيب الذي لا يمكن للعقول أن تدرك كيفيته؛ فإنك لو نظرت إلى القبور رأيتها متجاورة، وقد يكون الكافر بجوار المسلم والمنافق بجوار الموقن، وكذلك الصالح بجوار الطالح، ولكن الله سبحانه وتعالى أعلم بما بينها من الدرجات والدركات، فكم من قبورٍ تراها في كهوفٍ مظلمة قد ملئت أنواراً ورحمةً على أهلها، وقد تكون في الفيافي والقفار الموحشة ولكن الله يؤنس أهلها بالفسحة والسرور، نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى أن يجعلنا وإياكم من أهل هذه القبور. وأما القسم الثاني فهم الذين تضيق عليهم قبورهم، فكم من قبور وهي في الضياء، والناس حولها يسرحون ويمرحون، ولكن أهلها في عذابٍ ونكد، حتى يأذن الله عز وجل ببعث الأرض ومن فيها. وأما المقطع الصحيح الذي أشرنا إليه: (اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه)، دعا له المغفرة؛ لأن الإنسان لا يأتيه الشر في آخرته ولا في دنياه إلا بذنبه؛ فإن غفر الله الذنب لم يؤاخذ العبد، وذهب عنه شؤم معصيته، وقد سميت السيئة سيئة لأنها تسيء إلى صاحبها في الدنيا؛ فإن سلمه الله من شرها في الدنيا فإنها تسيء إليه في القبر، فإن سلم من الدنيا والقبر فإن الله قد يجعل نكالها مجموعاً عليه في الآخرة؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر له) فجعلها مغفرةً قبل دخوله لقبره، وقبل معاينته لصالح عمله وطالحه، وكونه يسأل المغفرة قبل أن يدخل في قبره من الشفاعة له بألا يرى ما يسوؤه وهو قادمٌ على عمله؛ خاصةً ما يكون منه من المعاصي في أقواله وأفعاله. قوله: (اللهم اغفر له) فإن غُفِر للعبد أصابته الرحمة، ولذلك قال: (وارحمه) فإن الإنسان قد يغفر له ولكنه يحتاج إلى الرحمة، ثم قال: (وعافه) لأن القبور فيها فتن وأهوال وشدائد، فيحتاج الإنسان أن يعافى منها، والعافية: السلامة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يا عم رسول الله! سل الله العافية، يا عم رسول الله! سل الله العافية) وفي الحديث الصحيح: أنه كان إذا أمسى وأصبح يقول: (اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وآخرتي) فهذا يدل على فضل سؤال العافية. (وعافه واعف عنه) هذا بالنسبة للحقوق التي لله سبحانه وتعالى. (وأكرم نزله) وهذا يدل أن في القبر نزلاً، وقيل: المراد (أكرم نزله) أي: في الآخرة، وهذا إشارة إلى حال السعداء. (ووسع مدخله): أي في القبر. وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم افسح له في قبره، ووسع مدخله، واغسله بماءٍ وثلجٍ وبرد) فيه فوائد منها: أن الماء هو الأصل في التطهير، وبناءً على ذلك قالوا: الاستنجاء بالماء أفضل من الاستجمار بالحجارة؛ لأنه هو الأصل في التطهير، وفيه دليل على أن المائع هو الأصل في الإنقاء (واغسله بماء وثلجٍ وبرد). أما حقيقة الغسل فللعلماء وجهان: منهم من يقول: اغسله حقيقةً، فالميت يغسله الله جل وعلا على صفةٍ لا نعلمها، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يغسل. ومنهم من يقول: (اغسله بالماء والثلج والبرد) كنايةٌ عن المغفرة، فيجعل الأمر على المجاز لا على الحقيقة. والصحيح: أن (اغسله) على حقيقته، وأن حقيقة الغسل ترد إلى الله سبحانه وتعالى علام الغيوب. وأخذ بعض العلماء من قوله: (والثلج) أن الثلج يمكن أن يتوضأ به؛ وذلك أنه وصف الثلج بأنه يُغسل به؛ فدل على أنه لو أخذ الثلج ومر به على أعضاء الوضوء، وأصاب بلل الثلج الأعضاء ووجد بلله عليها فإنه قد توضأ. وبناءً على ذلك: لو وجد الثلج ولم يجد الماء فإنه لا يعدل إلى التيمم، وفي حكم الثلج البرد، لقوله: (واغسله بالماء والثلج والبرد). والذين يقولون: إن الثلج والبرد لا يغتسل بهما ولا يتوضأ بهما، يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسله بالماء) وأما الثلج والبرد فزيادة نعيم له، كما أن الكافر يعذب بزيادة الجحيم فالمؤمن ينعم بزيادة النعيم، فجعلون الثلج والبرد تبعاً للماء ولم يجعلوه أصلاً. والأصل في الرواية أنها تقصد الجمع؛ ولذلك يقوى قول من قال: إنه لو مر بالثلج على يده فقد حصلت الطهارة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس) في رواية: (ونقه من الخطايا). بعض العلماء يقول: هناك فرق بين الذنب والخطيئة، ومنهم من يقول: لا فرق بين الذنب والخطيئة، وهناك كلام فيه تكلف في هذه المسألة؛ فأحياناً تُجعل الخطايا دون الذنوب، وأحياناً الذنوب أعظم من الخطايا، وهذا في مذهب طائفة من العلماء رحمة الله عليهم. والتنقية من الذنوب والخطايا فيه إشارة إلى أن من يفعل الذنب فإن الذنب يتعلق ببدنه، وهذا له أصل، وهو الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أن العبد المؤمن إذا توضأ خرجت كل خطيئةٍ نظر إليها بعينيه من

مصير أطفال المسلمين والمشركين

مصير أطفال المسلمين والمشركين وقوله: [وإن كان صغيراً قال: اللهم اجعله ذخراً لوالديه وفرطاً وشفيعاً مجاباً، اللهم ثقل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وقه برحمتك عذاب الجحيم]. هذا الدعاء مقتبس، وليس باللفظ الوارد. أولاً: هناك أطفال المشركين وهناك أطفال المسلمين؛ أما أطفال المسلمين فحكى طائفة من العلماء أن الإجماع على أنهم يبقون على حكم المسلمين وأنهم في الجنة، والحديث الصحيح يقوي هذا، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: ذكر فضل المرأة التي يموت لها ثلاثة، ثم قامت له امرأة وقالت: يا رسول الله! واثنين؟ قال: واثنين. وأن الله سبحانه وتعالى يجعلهما حجاباً لها من النار. وسأل الرجالُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كما سأله النساء: هل لهم فضل مثل ما للنساء في موت أبنائهم، وسألوه عن صغار أبنائهم، فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (أولئك دعاميص الجنة، لا يزال أحدهم يأخذ بأبيه حتى يدخله الجنة) أي: يقول: يا رب! أبي أبي، فيأخذ بيده ويشفع له حتى يدخله الجنة، فهذا يدل على أنه يشفع، وأنه فرط لأبيه، والفرط: هو السابق، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (أنا فرطكم على الحوض) فالفرط: هو السابق؛ ففرطه على الجنة بمعنى: أنه يسبق أباه إلى الجنة. وأما أطفال الكفار ففيهم خلاف مشهور: فمن العلماء من قال: إنهم في النار، وهذا من أضعف الأقوال، قالوا لقوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه، فمآله إلى دين أبيه). أطفال الكفار لهم حالتان: الحالة الأولى: أن يكونوا دون البلوغ وهم أحياء، فهؤلاء حكمهم حكم آبائهم، فأنت لو دخلت بلاد كفار وعندهم أطفال، فالأصل في هذا الطفل أنه يعامل معاملة أبيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يهودانه أو يمجسانه) والعلماء يقولون: هذا من باب التقدير، وقد أشار إلى هذه القاعدة العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه النفيس "قواعد الأحكام" قال: التقدير يكون بتقدير المعدوم مكان الموجود، وينزل منزلة الموجود، والموجود مكان المعدوم، وهذا له نظائر. فتقدير المعدوم مكان الموجود من أمثلته أطفال الكفار، فإنهم في الحقيقة لم يكفروا؛ فقُدّر المعدوم فيهم وهو الكفر ونزّل منزلة الموجود، فهذا من تقدير المعدومات؛ لأن أطفال الكفار لا بد فيهم من حكم؛ ولذلك حكم سعد رضي الله عنه في أولاد يهود بني قريظة أن تسبى ذراريهم، فجعل السبي على الذراري؛ وذلك بإلحاق الأطفال بآبائهم، وهذا من حكم الشريعة؛ لأنه لابد للشريعة أن يكون لها حكم للصغير والكبير. فلو أن صبياً أبواه كافران فجئت به لكي يصلي معك: هل تصح صلاته أم لا؟ إن قلت: إنه على الأصل والفطرة، فقد صح أن يصلي معك وانعقدت صلاته، ولكن إذا كان على الكفر ولم يعلم الإسلام ولم يشهد؛ فإننا نقول: إنه على الأصل وآخذ حكم والديه. وهكذا في الجزية وأحكامها، فكلها مسائل تتفرع على الحكم بأنهم تبعٌ لآبائهم؛ للنص الذي يقول: (فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه) ولما حكم سعد رضي الله عنه في ذراري اليهود أن يسبوا، وعاملهم معاملة آبائهم الذين كانوا على الكفر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الجبار من فوق سبع سماوات) فقُدّر المعدوم -وهو الكفر- بمنزلة الموجود. ومن تقدير المعدوم بمنزلة الموجود: إذا نام المؤمن فإنه ليس في حالة إيمان؛ لأنه ليس معه عقل ولا معه إدراك، فتقول: يقدر المعدوم موجوداً ونحكم بكونه مؤمناً، وهكذا لو كان مؤمناً ثم جنّ فإننا نقول: إنه مؤمن؛ استصحاباً للأصل، فقدر المعدوم بمنزلة الموجود، وهكذا في أطفال الكفار قدّر المعدوم موجوداً، وهكذا أطفال المسلمين يقدر المعدوم -وهو الإسلام- موجوداً بالتبعية. فعلى القول بأنهم كفار لا إشكال أنه لا يصلى عليهم، ولا يأخذون الأحكام الشرعية، وحكمهم حكم آبائهم إذا ماتوا. القول الثاني: أنهم على الإسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مولود يولد على الفطرة) وهذا القول من القوة بمكان، فالأصل فيهم الإسلام من حيث الحكم في الآخرة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب بدون أن يكون هناك عمل من العامل يقتضي تعذيبه كما دلت النصوص من الكتاب والسنة: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] أي: حتى تقام الحجة، فالأصل في هذا الولد أنه على الإسلام لقوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولودٍ يولد على الفطرة) فجعل قوله: (فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه) بعد عقله وإدراكه، ومن هنا يقولون: إن الأصل فيه الإسلام. وهناك قولٌ ثالث: أنهم خدم المؤمنين في الجنة. وهناك: من توقف فيهم فقال: لا يحكم لهم بإسلامٍ ولا كفر، ولكل هذه الأقوال وجه، فكما ترون كلٌ منهم يتمسك بأصلٍ يدلّ على قوله. فإذا قلنا: إن أطفال الكفار مسلمون؛ فحينئذٍ لو أُسقط أو توفي وهو صغير فإنه يصلى ويعامل معاملة المسلم، وهكذا لو أن نصرانيةً توفيت وفي بطنها جنين، فإنه يجعل وجهها لغير القبلة وظهرها إلى القبلة؛ لأن الجنين يكون وجهه إلى ظهره أمه، فتحول أمه عن القبلة ليتوجه إليها هو، فينزل بمنزلة الأصل ويعامل بهذه المعاملة. قال بعض العلماء: إن أطفال الكفار الله أعلم بما يكون منهم من الخير والشر، واحتجوا لذلك بما ثبت بظاهر القرآن، وذلك بقوله سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف:80] فأخبر سبحانه وتعالى أن مآله سيكون إلى الأذية والضرر والكفر والبغي، ومن هنا قالوا: إنه لا يمتنع أن يكون حاله إلى خيرٍ أو شر، وعلى ذلك قرروا أن يتوقف في الحكم عليه لاحتمال أن يكون شقياً أو سعيداً. والصحيح: أن الطفل لا بد من الحكم عليه إما بخيرٍ أو شر، أو الحكم عليه بإيمانٍ أو كفر؛ لأن النص صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حديث عبد الله بن مسعود: (أنه يؤمر الملك بكتابة أربع كلمات)، وهذا دليل على أنه لا يخرج مولود من بطن أمه بعد نفخ الروح فيه إلا وقد كتبه سعيداً أو شقياً، وبناءً على ذلك: كونه يموت قبل البلوغ لا يمنع من الحكم عليه بالسعادة أو الشقاء؛ لأن الله أعلم بما يكون إليه أمره من سعادةٍ أو شقاء. وجعل بعض العلماء الصغار في حكم الممتحنين، وإن كان الأصل في ذلك أنه لأهل الفترة ومن في حكمهم كالمجانين والذين لم تبلغهم الدعوة، فإن الله يمتحنهم، والامتحان كما ثبت في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إنهم يحتجون على الله عز وجل، فيأمر الله عز وجل بعنق من نار، ويقول لهم: ادخلوه. فمن دخل الموضع -وهو العنق من النار- قلبه الله عليه جنة ونعيماً، ومن امتنع وتلكأ يقول الله تعالى له: ها قد عصيتم، كيف لو جاءتكم رسلي؟! فترسل عليهم النار فيعذبون بها) فالله أعلم بما يكون من مآلهم.

الوقوف قليلا بعد التكبيرة الرابعة ثم التسليم

الوقوف قليلاً بعد التكبيرة الرابعة ثم التسليم وقوله: [ويقف بعد الرابعة قليلاً]. أي: بعد التكبيرة الرابعة يقف قليلاً، وهي السنة، وقال بعض العلماء: كان بعض الصحابة يفهم من هذا أن وقوفه عليه الصلاة والسلام قليلاً بعد الرابعة لأجل أن يسمع التكبير منه عليه الصلاة والسلام، ولكي إذا انتهوا من التكبير سلّم صلوات الله وسلامه عليه، وهي التكبيرة الأخيرة، ومن هنا قالوا بعدم الدعاء بعدها. وقوله: [ويسلم واحدة عن يمينه]. وهي السنة: أن يسلم ويخرج الإنسان من الصلاة بالتسليمة الأولى، وقد ذكرنا أحكام التسليم في الصلاة مبسوطاً. وقوله: [ويرفع يديه مع كل تكبيرةٍ]. في هذه المسألة قولان للعلماء: منهم من يقول: يرفع يديه في جميع التكبيرات، وهو مذهب الشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع. ومنهم من يقول: إنه لا يرفع إلا في تكبيرة الإحرام، وهو مذهب المالكية والحنفية رحمة الله على الجميع. والأقوى: أنه لا يرفع؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح أنه رفع يديه بالتكبير على الجنازة؛ ولكن لو رفع الإنسان تأسياً بـ ابن عمر، أو قوي عنده أن ابن عمر وهو المعروف بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم وعدم مخالفته فرفع يديه؛ لأنه يعتقد أن ابن عمر لا يفعلها في الغالب إلا وله أصل، فلا حرج عليه في ذلك، فلا ينكر على من رفع ولا ينكر على من لم يرفع، وكلٌ على سنةٍ وخير.

الأسئلة

الأسئلة

حكم صلاة النساء على الجنازة

حكم صلاة النساء على الجنازة Q إذا أراد نساء من أهل الميت أن يصلين على ميتهن قبل خروجه إلى المصلى، فهل يجوز ذلك؟ A لا حرج في صلاتهن على الميت إذا كُنّ في الدار، ولكنه لم يجر عليه فعل السلف، والأولى تركه، أما من حيث الأصل من جواز صلاة النساء والرجال على الجنازة فلا حرج فيه والله تعالى أعلم.

مكان وقوف الإمام للصلاة على الطفل

مكان وقوف الإمام للصلاة على الطفل Q أين يقف الإمام بالنسبة للطفل؟ A بالنسبة للطفل قالوا: له حكم الرجل إذا كان ذكراً، وحكم الأنثى إن كانت طفلة، ولكن المعروف أن الأطفال فيهم من ضيق الحجم ما ليس في الكبار؛ ولذلك أمرهم أوسع من أمر الكبار.

باب الصلاة على الميت [2]

شرح زاد المستقنع - باب الصلاة على الميت [2] الصلاة على الجنائز فرض كفاية، ولها أركان، وتتعلق بها مستحبات وأحكام، وللعلماء رحمهم الله خلاف في الصلاة على الغائب، والصلاة على القبر، وكذا في الصلاة على أصحاب الكبائر. وفي هذه المادة ذكر الشيخ ما يتعلق بذلك مدعماً بالأدلة، مرجحاً للصحيح من الأقوال.

واجبات صلاة الجنازة

واجبات صلاة الجنازة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: قوله رحمه الله: [وواجباتها: قيامٌ وتكبيرات أربع]. (قيامٌ مع القدرة وتكبيرات أربع): أما القيام فلأصل الصلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: (صلِّ قائماً) فالأصل: أن يصلي الإنسان قائماً. وقال بعض العلماء: صلاة الجنازة من النوافل؛ ولذلك لو صلى الإنسان فإنه يصلي نافلة، فيجوز له أن يصلي وهو قاعد، وهذا القول لم يخل من نظر؛ لأننا قلنا إن ظاهر قوله: (صلوا على صاحبكم) يقتضي الوجوب، لأنه أمر، والأمر يدل على الوجوب ما لم يصرفه الصارف، ولا صارف. وقوله: [وتكبيرات أربع]: وهي واجبة، فإذا ترك التكبيرات الأربع لم تصح صلاته إذا تركها عمداً، وإذا نسي ومن عادته أن يكبر أربعاً فكبر ثلاثاً ونسي الرابعة وسلم، فللعلماء وجهان: منهم من يقول: يبادر بسجود السهو، ومنهم من يقول: صلاة الجنازة لا سهو فيها، أي: لا يسجد فيها لسجود السهو. وقوله: [والفاتحة]: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب). وقوله: [والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم]: أي: إعمالاً للأصل في الصلاة، وقد تكلمنا على مسألة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة والتشهد، وبينا هناك أرجح الأقوال من العلماء.

الدعاء للميت من واجبات صلاة الجنازة

الدعاء للميت من واجبات صلاة الجنازة وقوله: [ودعوة للميت]. هذا مذهب من يقول بالتنويع في الدعاء، لأن المقصود من الصلاة عليه الدعاء؛ ولذلك إذا وجبت الصلاة وجب الدعاء؛ لأنه المقصود من الصلاة وهو المعتبر، وعلى هذا قالوا: يجب أن يدعو للميت. والذين يقولون بعدم وجوب الفاتحة يقولون: إنه يدعو أقل الدعاء، يعني يدعو بأقل ما يسمى دعاءً، فلو قال: اللهم اغفر له، وكبر وسلم؛ صح، ولو قال: اللهم ارحمه، وكبر وسلم؛ صح، ولكن ينبغي أن يجتهد في الدعاء؛ لأن السنة أن يدعو ويجتهد، وأن يكون الدعاء مصحوباً بالإخلاص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من صلى على الميت أن يخلص في الدعاء. ومن الأسباب التي تعين على الإخلاص في الدعاء للميت: تنزيل الإنسان نفسه منزلة الميت، وكذلك رؤية حال الميت وما هو عليه من الإقبال على الآخرة وافتقاره؛ فإن هذا يعين الإنسان على الشفقة عليه والرحمة به. ومما يعين: تذكرك أن الله سبحانه وتعالى يجزي المحسن بإحسان، فكما أخلصت الدعاء لأخيك في هذه الحالة فإن الله سيقيض لك من يخلص لك الدعاء إذا ما مت غداً. إذا علمت أنك إن أخلصت لأخيك المسلم في الدعاء فإن الله سيسخر لك من يخلص لك في الدعاء، فإن ذلك أدعى أن تدعو له، وهذه من الأمور التي تعين على الإخلاص في الدعاء وكثرة الدعاء لموتى المسلمين والترحم عليهم، وذلك أن الإنسان إذا تذكر أنه سيئول إلى مآلهم، وأن الله سيجزيه ويشكر له إحسانه، ويقيض له من يدعو له ويستغفر له ويترحم عليه كما ترحم على أموات المسلمين؛ فإن هذا يدعو إلى كثرة الترحم عليهم والدعاء لهم سواء في الصلاة عليهم أو في غيرها. ولذلك ينبغي على الإنسان ألا ينسى هذا الفضل، وهو أنه يقيض له من يفعل به مثل ما فعل بإخوانه؛ لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30] فهو يجزيك في الدنيا والآخرة، فإنك إن أحسنت لإخوانك المسلمين بدعائك لهم حياً سيحسن الله لك بإحسان إخوانك إليك -أيضاً- في حال موتك. والعكس بالعكس: فإذا أصبحت صلاة الموتى شيئاً يغفل الإنسان عن معناه وعن مقصوده، ويدعو وهو غافل ساه لاهٍ؛ فإنه أحرى إذا صُلي عليه أن يصرف الله القلوب فلا تخلص له في الدعاء، فمثلما كان يقف على إخوانه المسلمين خاوي القلب ساهياً لاهياً يفكر في أمور الدنيا بعيداً عن الترحم عليهم والشفقة عليهم، والنظر إلى حالهم وهم في هذه الحالة أفقر ما يكونون إلى دعوة صالحة منه؛ فإن الله يقيض له أن يفعل به مثلما فعل بإخوانه، فإن الله سبحانه وتعالى يجزي الإنسان على قدر ما يكون منه من العمل. وينبغي للإنسان إذا مر على القبور أن يخلص في الدعاء لأهلها، وإذا ذكر أموات المسلمين خاصةً العلماء، فلا يقل: قال العلماء فقط، وإنما يقول: قال أهل العلم رحمهم الله. وإذا ذكر ميتاً من أهل العلم قال: قال العالم فلان رحمه الله. تصور إذا قلت: قال الحنفية رحمهم الله أو المالكية رحمهم الله أو الشافعية رحمهم الله، أو قلت: قال أهل الحديث رحمهم الله، أو أهل العلم رحمهم الله؛ يكون في ميزان حسناتك ملايين الحسنات؛ لأنك تترحم على أمم لا يعلم عددها إلا الله سبحانه وتعالى. فكيف إذا أمسيت وأصبحت وأنت تقول: رب اغفر لي وللمؤمنين والمؤمنات، كيف إذا أمسيت وأصبحت وأنت تذكر أموات المسلمين وأحياءهم بالرحمة، كم لك من الأجور! وكم من الرحمات ستغشاك إما عاجلاً أو آجلاً! ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الراحمون يرحمهم الله) فهذا من رحمة المسلم بأخيه المسلم، وأما الغفلة عن حقوق الأموات والدعاء لهم والترحم عليهم فسيبتلى صاحبها بمثلها، نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل. وقوله: [والسلام]. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) فالتسليم منها واجب للخروج منها، أي: الخروج من حرمتها، فيسلم تسليمةً واحدة يخرج منها.

حكم من فاته شيء من التكبيرات

حكم من فاته شيء من التكبيرات وقوله: [ومن فاته شيءٌ من التكبير قضاه على صفته]. هذه المسألة تأتي على صورتين: إما أن تكون الجنازة موجودة، وإما أن تحمل مباشرة وترفع؛ فإن كانت الجنازة باقية قضيت ما فاتك من الدعاء والأذكار، وللعلماء وجهان: بعضهم يقول: إذا دخلت في صلاة الجنازة تبدأ بصلاتك مرتبة. وبناءً على هذا القول: لو دخلت والإمام يدعو فإنك تقرأ الفاتحة، وكذلك لو دخلت وهو في التكبيرة الثانية أو وهو يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فإنك تقرأ الفاتحة، فحينئذٍ يرون أنه يعتد بصلاته مبتدئاً، بحيث إذا صار في آخر الصلاة صار إلى الدعاء. ومنهم من يقول: يدخل مع الإمام حيث كان، وهو أقوى، وهذه المسألة لها نظائر، منها: لو دخلت في صلاة ما فأدركت الركعة الأخيرة أو الركعتين الأخيرتين من الظهر فصليت وراء الإمام، فهل تقرأ الفاتحة وسورة بعدها؟ لأن السنة في صلاة الظهر أن تقرأ بعد الفاتحة سورة أما في صلاة العصر فلم يرد نص، وإن كان بعض الفقهاء قال: تقرأ سورة بعد الفاتحة، لكن الأفضل التأسي بقراءة الفاتحة وحدها. وهل العبرة بك أم بالإمام؟ فإن قلنا: العبرة بك، فإنك تقرأ الفاتحة وسورة بعدها؛ لأنها أول صلاتك، فإذا جلست للتشهد فإنك تتشهد التشهد الأول والإمام يتشهد التشهد الأخير، ولا تزيد في تشهدك على الصفة الواردة في التشهد الأول. والقول الثاني وهو الأقوى والأصح: أنك تعتد بحالتك كحالة الإمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، ويتفرع على هذا العمل في الأفعال كما في الأقوال، فلو أنك دخلت وراء الإمام -مثلاً- في صلاة المغرب، وهو في التشهد الأول، فقام إلى الركعة الثالثة، فعند ذلك سيرفع يديه -لأنه سيقوم إلى الثالثة- فهل ترفع يديك أم لا؟ قالوا: لا ترفع يديك إذا كنت تعتد بحالك، وترفع يديك إذا كنت تابعاً للإمام، وهو الأقوى والأصح، أنك إذا كنت وراء الإمام فعليك أن تعتد بحاله، لقوله: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به) قولاً وفعلاً، فعلى هذا القول تقرأ التشهد كاملاً، وتدعو وتستغفر كأنك في آخر الصلاة، حتى إذا ما سلم قمت لتتم ما فاتك من الصلاة، فأنت وراءه في ركنه متابعةً، وأنت منفردٌ مستقل إذا سلم الإمام وانفصلت عنه. أما بالنسبة لمن فاتته تكبيرة الجنائز: فإذا فاتتك التكبيرة على الجنازة فتنظر: إذا كانت الجنازة تترك قليلاً قضيت ما فاتك فتدعو وتترحم على الميت، وأما إذا رفعت مباشرة فعليك أن توالي بين التكبير ولا تدعو، فلو فاتتك تكبيرتان وقال الإمام: السلام عليكم، فقل حينئذٍ: (الله أكبر، الله أكبر، السلام عليكم). فهذا يعتبر من التأسي بالنسبة لحال الصفة في الصلاة، فإن الصلاة لا تصلى إلا على الجنازة الحاضرة ولا يصلى عليها قبل حضورها، فكما أنك لا تصلي على الجنازة قبل أن توضع، فلا تصلي عليها بعد أن ترفع. ومن هنا فالجماهير على أنك لا تقول الأذكار إذا رفعت مباشرة، وفرق بعض العلماء بين أن ترفع وتبقى تجاهك، وبين أن ترفع وتتوارى عنك، وهذا التفريق ذكره القرافي رحمه الله في "الفروق"، وفي "الذخيرة" وغيره من العلماء رحمة الله عليهم، لكن لا أحفظ له دليلاً؛ لكن كأنه يرى أنك إذا كنت ترى الجنازة أمامك ولو كانت خارجة كأنها أمامك، ولكن القول لا يخلو من نظر، ولكن الأقوى أنها إذا رفعت أنه لا يصلى عليها، كما أنها قبل أن توضع لا يصلى عليها والله تعالى أعلم.

حكم الصلاة على القبر لمن فاتته الصلاة على الميت

حكم الصلاة على القبر لمن فاتته الصلاة على الميت يقول المصنف رحمة الله: [ومن فاتته الصلاة عليه صلى على القبر]. بعد أن بين المصنف رحمه الله صفة الصلاة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، شرع رحمه الله في بيان حكم من فاتته الصلاة على الميت في المسجد، فقال رحمه الله: (ومن فاتته الصلاة عليه صلى على القبر إلى شهر). وهذه المسألة اختلف العلماء رحمهم الله فيها، هل يشرع له ذلك أو لا يشرع؟ ولها نظائر، منها: لو كان الإنسان مسافراً، ثم قدم بعد وفاة قريب له أو إنسان يعرفه، وأحب أن يصلي عليه بعد دفنه، فهل يشرع ذلك أو لا يشرع؟ للعلماء في هذه المسألة قولان: القول الأول: يشرع لمن فاتته الصلاة على الميت أن يصلي على قبره. وهذا القول يقول به فقهاء الشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع، وهو مروي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فروي عن علي وعبد الله بن عمر وأبي موسى الأشعري رضي الله عن الجميع. القول الثاني: لا تشرع الصلاة على القبر، وإنما تختص الصلاة بالصفة المعهودة التي تكون قبل دفن الميت، ولا يشرع لأحدٍ أن يصليها على أحدٍ بعد قبره إلا في حالة ما إذا لم يصل عليه، وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية رحمة الله على الجميع. فتحصل معنا أن العلماء -رحمهم الله- ينقسمون إلى طائفتين: طائفةٌ تجيز الصلاة، وطائفة تمنع، ومن الذين يمنعون من يستثني حالة ما إذا لم يصل على الميت، فيجيز الصلاة على الميت إذا لم يصل عليه. وبناءً على ذلك يكون محل الخلاف إذا صُليّ عليه قبل دفنه، أما إذا لم يصل عليه قبل دفنه فكلهم يقولون بجواز الصلاة عليه بعد قبره. أما بالنسبة للأدلة فقد استدل الذين قالوا بجواز الصلاة على الميت بعد دفنه، بحديث المرأة السوداء التي كانت تقم المسجد -تنظفه وتكنسه- فإنها توفيت في الليل، ولم يُعلم النبي صلى الله عليه وسلم بها، ثم إنه افتقدها صلوات الله وسلامه عليه، فسأل عنها رضي الله عنها، وكانت تسمى أم محجن، ثم إنه لما أخبر عليه الصلاة والسلام أنها توفيت، وأنهم صلوا عليها بالليل، قال: هلا آذنتموني؟! ثم انطلق إلى قبرها وقال: دلوني على قبرها، فدلّ صلوات الله وسلامه عليه على قبرها، فقام على قبرها وصلى. في هذا الحديث دليل على مشروعية الصلاة على الميت بعد دفنه، فأصحاب هذا القول يقولون: لو كانت الصلاة على الميت بعد دفنه ممنوعة لما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، واستدلوا كذلك بحديث في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أم سعد، وذلك أنه قدم المدينة بعد وفاتها فقام على قبرها وصلى عليها رضي الله عنها وأرضاها، قالوا: فبهذه النصوص يتبين أنه يشرع أن يصلى على الميت بعد دفنه. وهناك حديث ثالث أشار إليه البخاري رحمه الله، وهو حديث عبد الله بن عباس، وقد قيل إنه في الأصل حديث طلحة بن البراء رضي الله عنه وأرضاه، وقد كان بقباء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد زاره وهو مريض، فقال لأهله: (ما أظن طلحة إلا قد نزل به الموت، فإذا مات فآذنوني) يعني: أعلموني- فلما ذهب عليه الصلاة والسلام قال طلحة رضي الله عنه لأهله: إذا أنا متّ فلا تؤذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني أخاف عليه اليهود أن يمسوه بسوءٍ، ففعل أهله ما أمرهم به، فلم يخبروا النبي صلى الله عليه وسلم، فأُخبِر صلوات الله وسلامه عليه بعد دفنه، فذهب إلى قبره فقام عليه ودعا، حتى جاء في دعائه: (اللهم الق طلحة، تضحك إليه ويضحك إليك). فحمل بعض العلماء حديث ابن عباس في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: صلى على قبرٍ بعدما دفن) وفي روايةٍ: (على قبرٍ منبوت) -وهي الرواية المرسلة التي أشار إليها البخاري في صحيحه- على قصة طلحة، وقالوا: إن هذا يدل على مشروعية الصلاة على الميت بعد قبره، وبمجموع هذه الأحاديث يقول هؤلاء العلماء رحمةُ الله عليهم: إنه لا حرج إذا جئت بعد الصلاة على الميت أن تقوم على قبره وتصلي عليه. وذهب الحنفية والمالكية إلى عدم مشروعية الصلاة على القبر، وأن من خصوصياته عليه الصلاة والسلام: أن يصلي على الميت على قبره بعد دفنه إذا صُليّ عليه، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى على المرأة التي كانت تقم المسجد قال: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم) قالوا: فهذا نص من لفظه عليه الصلاة والسلام يفسر ما كان من فعله، ويدل دلالة واضحة على معنى الخصوصية؛ قالوا: ولذلك ما وقع منه صلى الله عليه وسلم هذا إلا في أحوالٍ مخصوصة، فصلى على أم سعد، تطييباً لخاطر سعد وذلك لمكان سعد وعظيم بلائه في الإسلام، كما صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي سلول تطييباً لخاطر ابنه عبد الله، وكما فعل في المرأة التي كانت تقم المسجد، ومع هذا قال: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم). فكأن النبي صلى الله عليه وسلم له خصوصية الصلاة، فكانت إعادة الصلاة منه عليه الصلاة والسلام لمعنىً يختص به، لا يشاركه فيه غيره من الصحابة، وقالوا: إن ما سبق في الحديث يؤكد هذه الخصوصية. ولكلا القولين وجهه، وإن كان التعليل الذي ذكره أصحاب القول الثاني من القوة بمكان، خاصةً وأنه لم يقع إلا في الأفراد، وهذا من كلامه عليه الصلاة والسلام الذي يدل دلالة واضحة على التخصيص؛ فإن قوله: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم) نصٌ صحيح وصريح، والعلة إذا جاءت منصوصة من كلامه لا بد من اعتبارها. ومن الأدلة التي تقوي القول الذي يقول بمنع الصلاة عليه: عموم النهي عن الصلاة في المقبرة، فإن الأصل عدم الصلاة في المقبرة، وذلك يشمل مطلق الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما فرق بين صلاةٍ وأخرى، ولذلك قالوا: لو فتح هذا الباب لاسترسل الناس، وأصبح كلما فاتت الصلاة على إنسان جاء ووقف على القبر وصلى، مع أن الشرع قد أعطى البديل عن ذلك، بالترحم عليه والدعاء له والاستغفار له. قالوا: فلما وجد البديل الذي لا شبهة فيه؛ فإنه يبقى على الأصل الذي يقتضي حظر الصلاة في داخل المقابر، خاصةً وأن السنة ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن الصلاة في المقبرة وفي الحمام. وإذا قلنا: إنه يشرع أن يصلى على الميت بعد قبره، فما هو الأمد الذي يشرع للإنسان أن يصلي في حدوده، فإذا جاوزه لم يجز له أن يصلي على الميت؟ للعلماء أقوالٌ في هذه المسألة: القول الأول: أنه إلى ثلاثة أيام، وهو وجهٌ يختاره بعض أصحاب الإمام الشافعي رحمه الله كما درج عليه الخراسانيون من أصحابه، وعليه الفتوى عندهم. والقول الثاني: أنه إلى شهر؛ وذلك على ظاهر حديث أم سعد رضي الله عنها، أنه صلى عليها بعد شهر. والقول الثالث: ما لم يتغير، فيشرع أن يصلى على الميت ما دام يغلب على الظن أنه لم يتغير وأنه باق، وهذا مبني على النظر؛ لأن الصلاة شرعت على الميت، فإذا كان موجوداً صُلّيَ عليه، وإن كان متحللاً. قد فني فإنه لا يصلى عليه كمن أكله السبع. والوجه الرابع: أنه إلى الأبد، وهذا من أضعف الأقوال عند العلماء رحمة الله عليهم.

حكم الصلاة على الغائب

حكم الصلاة على الغائب قال المصنف رحمه الله: [وعلى غائب بالنية إلى شهر]. (وعلى غائبٍ) أي: يشرع أن يصلى على الميت الغائب، والميت الغائب: هو الذي يتوفى في بلدٍ غير بلده، وقد اختلف العلماء رحمهم الله هل يشرع لك أن تصلي عليه صلاة الغائب أو لا يشرع؟ وهذه المسألة من المسائل القديمة، والخلاف فيها مشهور، فمن أهل العلم رحمة الله عليهم من قال: لا تشرع الصلاة على الميت الغائب، وهو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله. والقول الثاني: تشرع الصلاة على الميت الغائب، وبه يقول بعض أصحاب الإمام الشافعي وهو مذهب الحنابلة. ومن أهل العلم من توسط بين القولين، فقال: إذا كان الميت الغائب قد مات في بلدٍ لم يصل عليه فيها، كأن يموت في بلد كفار، أو كان ممن له بلاءٌ في الإسلام كالعالم العظيم الأثر، والوالي الذي عُرفَ بصلاحه وبلائه للمسلمين، فإنه يُشرع أن يُصلى عليه صلاة الغائب، وأما من عدا ذلك من أفراد الناس وآحادهم فلا يشرع أن يصلى عليهم صلاة الغائب. أما الذين قالوا بالجواز فاحتجوا بما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نعى النجاشي - أصحمة - رضي الله عنه وأرضاه يوم توفي، وقال: توفي اليوم عبدٌ صالح، ثم خرج صلوات الله وسلامه عليه بأصحابه وصفهم، ثم كبر وصلى عليه). قالوا: فهذه صلاةٌ على ميت غائب، لأن النجاشي توفي بالحبشة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فدل هذا على مشروعية الصلاة على الميت الغائب. والذين قالوا بالمنع قالوا: إن قضايا الأعيان لا تصلح دليلاً على العموم، وهذا أصل اعتبره العلماء رحمة الله عليهم؛ لكن عندهم خلاف في تطبيق القاعدة. وقضايا الأعيان: هي الصور التي ورد الشرع بآحادها، وفُهم من الشرع قصده لهذه الآحاد، فلذلك يقولون: قضايا الأعيان لا تصلح دليلاً للعموم. وضابط هذه القاعدة: أن يكون الأصل على خلاف ما ورد به النص، فالأصل عندنا: أن الميت لا يصلى عليه إلا بحضوره، ولذلك لو غسل وكفن ولم يشهد في المسجد لم يشرع لك أن تصلي عليه، فهكذا إذا كان غائباً، قالوا: لا يصلى على ميت قبل حضوره وشهود الإنسان للصلاة عليه، وبناءً على ذلك قالوا: ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قضية أصحمة يعتبر خاصاً به. فمنهم من يقول: إنه خاص؛ لأن النجاشي كان ببلدٍ ليس فيه مسلمون، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى عليه، وكانت صلاته بمثابة العوض عن المسلمين الذين يصلون على الميت حال حضوره. ومنهم من يقول: إنه تخصيص لفضل هذا الرجل، وعظيم بلائه في الإسلام، ولا شك أنه رضي الله عنه وأرضاه وقف مع المسلمين موقفاً عظيماً حتى ضحى بولايته في سبيل نجاة المسلمين، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا بالحبشة، ولذلك شُرّف بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وثنائه عليه، حتى قال: (توفي اليوم عبدٌ صالح) وهذه تزكية من النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه، ويعتبر من الصحابة على مذهب من يقول: إنه لا تشترط الرؤية؛ فإنه آمن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيعتبر صحابياً من هذا الوجه، ومنهم من يقول: إنه كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يوصف بكونه صاحباً مع كونه مؤمناً به، فيلغزون به ويعنون به النجاشي رضي الله عنه وأرضاه. أما القول الثالث فقال أصحابه: الأصل أن لا يصلى على الغائب، فلما جاءت واقعة النجاشي نظرنا فيها، فوجدنا أن النجاشي فيه معان: إما أنه عظيم البلاء في الإسلام؛ فيلحق به كل من كان مثله، فتكون مشروعية الصلاة على أمثال هؤلاء ليقتدى بهم في الخير، فإذا كان عالماً فإن ذلك يدعو غيره من العلماء أن يبلوا كبلائه، وهو من باب الوفاء له لما قدم من جميل الإحسان للمسلمين، وهكذا إذا كان والياً وكان له بلاءٌ على المسلمين؛ فإنه يشحذ همة غيره من الولاة أن يسيروا بسيرته وأن يقتفوا بأثره، وهكذا إذا كان مجاهداً. فقالوا: إن أصحمة النجاشي كان ممن له فضل على المسلمين؛ فكأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه صلاة الغائب لكي يرفع من منزلته؛ ويجل شأنه لما كان منه من نصرة الإسلام والمسلمين، فحفظ له هذا الفضل والجميل، فصلى عليه صلوات الله وسلامه عليه صلاة الغائب. ومن أهل العلم من قال: تشرع الصلاة على الميت الغائب إذا أمر بها ولي الأمر، وإذا لم يأمر بها فإنه لا يفعلها الأفراد، وهذا على ظاهر السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يصلوا عليه، فدل على أنهم إذا أُمِروا فإنه يشرع أن يصلى على الميت الغائب، ولا يشرع لآحاد الناس وكل من هب ودب أن يقوم ويصلي على الميت الغائب، هذا عند أصحاب هذا القول. وفي الحقيقة أن هذا التفصيل من القوة بمكان، فيقال: من كان عظيم البلاء في الإسلام صُلِّي عليه، أو إذا أمر ولي الأمر فيصلى عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة فصلوا. أما أن يقال: بجواز الصلاة على كل ميتٍ غائب، وكل من مات له قريب في بلد يصلي عليه، فهذا محل نظر، ألم تر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي أصحابٌ له في المدينة، وهو في غزواته وأسفاره، ومع ذلك ما صلى على واحد منهم صلاة الغائب، وبذلك يقوى القول: أن في النجاشي خصوصية من جهة المُصلي ومن جهة الأمر بالصلاة عليه، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة عليه، أو له فضل أو له مزية؛ فإنه حينئذٍ يشرع أن يصلى عليه صلاة الغائب، وأما أن يصلى على كل غائب فهذا مرجوحٌ من جهة النظر في الأدلة. قال المصنف رحمه الله: [بالنية إلى شهرٍ]. قوله: (بالنية إلى شهر)، أي: لأن الميت الغائب ليس بحاضر، وشرط ذلك أن يكون في بلدٍ غير بلد المصلي، أما لو كان معك في نفس المدينة فإنه يشرع أن يذهب الإنسان إلى مسجده، ويُصلى عليه في مسجده الذي يصلى عليه، أما لو صلى أهل حيّ على ميتٍ في بلدهم ينوون به صلاة الغائب فإن ذلك غير مشروع.

حكم الصلاة على الغال

حكم الصلاة على الغال قال المصنف رحمه الله: [ولا يصلي الإمام على الغال]. (الإمام) يطلق بمعنيين: إما أن يقصد به الإمامة الكبرى، وهي: أن ولي أمر المسلمين لا يصلي على الغال. والغال: هو الذي غلّ من الغنيمة. والغلول: هو الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها، ويكون أشبه بالسرقة، فيسرق من الغنيمة ويأخذ منها قبل قسمتها، وهذا هو الذي توعده الله، فقال: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161] فأخبر أنه يفضح على رءوس الأشهاد يوم القيامة. وأجمع العلماء على أن الغلول من الغنيمة من كبائر الذنوب التي توجب فسق صاحبها وسقوط عدالته ورد شهادته، وتوجب تعزير صاحبه، فلا يصلي الإمام العام عليه. والمعنى الثاني للإمام: الإمام الخاص، وهي التي يسميها العلماء الإمامة الصغرى، وهي إمامة الصلاة، ولا شك أن الإمام الراتب وإمام الحي ينزل منزلة الإمام العام، فإذا توفي في الحي من عُرف بفسقه وفجوره، وفيه هذا المعنى الذي هو الغلول أو ما هو مثله من المعاصي الكبيرة، فإنه لا يشرع أن يصلى عليه أهل الفضل كالعلماء ونحوهم ممن لهم فضل؛ زجراً للناس أن يكونوا على حالتهم. أما الدليل على عدم الصلاة على الغال فما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه أتي برجل ليصلى عليه، فامتنع عليه الصلاة والسلام وقال: صلوا على صاحبكم! فتغيرت وجوه القوم، فقال: إنه غلّ، ففتش رحله فوجدت فيه خرزات من خرز اليهود) وهذا يوم خيبر، وكانت الخرز لا تساوي درهمين، فحُرِم بسببها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، ودعاؤه واستغفاره له. وقال بعض العلماء: كل من اقترف الكبائر، وكان في حكم الفساق فإنه لا يصلي عليه الإمام، وعليه بعض فقهاء الحنابلة رحمهم الله إلحاقاً له بمن غل في الغنيمة، قالوا: لأن المعنى واحد، وإن كان الأقوى أنه يصلى عليه إعمالاً للأصل، ويستثنى من ورد النص باستثنائه وهو من غل من الغنيمة ومن قتل نفسه.

حكم الصلاة على قاتل نفسه

حكم الصلاة على قاتل نفسه قال المصنف رحمه الله: [ولا على قاتل نفسه]. أي: ولا يصلى على من قتل نفسه، وهو المنتحر، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيح: (أنه أتي برجل قتل نفسه بمشاقص فامتنع من الصلاة عليه، فصلى عليه الصحابة) وفي هذا دليل على أنه يترك ليصلي عليه الناس، أما الإمام -الذي هو إمام المسجد أو الإمام العام- فإنه لا يصلي عليه؛ زجراً للناس عن فعله. والقاتل لنفسه ثبت النص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعذب بما قتل به نفسه، فقال عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح البخاري-: (من تحسى سماً فمات منه؛ فهو في نار جهنم يتحساه خالداً مخلداً فيها، ومن طعن نفسه بحديدة فمات فهو يجأها في نار جنهم خالداً مخلداً فيها، ومن صعد إلى شاهق فتردى منه فمات، فهو في نار جنهم يتردى خالداً مخلداً فيها) نسأل الله السلامة والعافية. والخلود هنا للمستحل الذي استحل هذا الفعل، ولا شك أن الإقدام على الانتحار إنما يكون لضعف الإيمان، ولذلك ينبغي للمسلم أن يسعى في زيادة إيمانه، وأن يعود نفسه كلما ضاقت عليه الدنيا أن يلتجئ إلى الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن كثرة الضيق وكثرة الهموم والغموم توجب على المؤمن التسلح بالتعلق بالله عز وجل أضعاف ما نزل به من البلاء، وكلما كان التجاء العبد إلى الله أصدق، ويقينه بالله سبحانه وتعالى أكمل؛ كلما كان الفرج أقرب إليه من حبل الوريد، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:118] فلما بلغ الأمر مبلغه، ووصلوا إلى قوله: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:118]، جاء الفرج عند قوة اليقين أنه لا ملجأ ولا منجى ولا مفر ولا مهرب من الله إلا إلى الله؛ فإن بلغ العبد هذا المبلغ فقد نعمت عينه في البلاء، وهذا هو مقام اليقين في حال الكرب. فإن الإنسان تنتابه الهموم في نفسه وأهله وماله وولده، فإذا اطرح بين يدي الله عز وجل داعياً ضارعاً شاكياً مبتهلاً متضرعاً متخشعاً فإن الله يحب منه ذلك، ولعل الله أن يجعل هذا الابتهال والتضرع سبباً في زيادة قربه منه؛ لأنه كلما ابتهل وتضرع لله سبحانه وتعالى وصدق في يقينه كلما زاد قربه من الله، وكم من إنسان نزلت به المصيبة فكانت سبباً في قربه من الله جل وعلا، وهذا الذي يسميه العلماء: تحول النقمة إلى نعمة، أي: أنها نقمة في الظاهر لكنها آلت إلى نعمة في الباطن. فينبغي على المؤمن ألا يقدم على هذه النهاية التي هي أسوء النهايات، وهي من علامات سوء الخاتمة، والله عز وجل جعل النفس أمانةً في عنق كل الإنسان، فقال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]. يقول بعض العلماء: إن الله قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} ثم قال بعدها: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} كأنه يقول: أبشروا، مهما أصابكم من الهم والغم فإني رحيمٌ بكم، ولا يحتاج الإنسان لتفريج همه وإزالة غمه أن يقدم على تعذيب نفسه، بل عليه أن يقبل على الله سبحانه وتعالى، وأن يلتجئ إلى الله سبحانه وتعالى الذي لا ملجأ للعبد ولا منجى منه إلا إليه سبحانه وتعالى، وقد ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام من دعائه عند النوم أن يقول: (لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك). فإذا فوّض العبد أمره إلى الله ذاق حلاوة الإيمان ولذة العبودية، وصعدت كلماته ودعواته وابتهالاته ومناداته إلى الله سبحانه وتعالى، كلمات تفتح لها أبواب السماوات؛ لأنها تخرج من قلبٍ صادق متعلق بالله جل جلاله؛ فيرحمه الله عز وجل، ولكن إذا أراد الله أن يشقي عبداً أسلمه إلى الشيطان، وأسلمه إلى سوء الظن بالرحمن، فأصبحت تضيق عليه نفسه التي بين جنبيه، فأول ما ينزل به من الكرب في نفسه وماله وولده، تضيق دائرته عليه ويتسخط على القضاء والقدر، ولربما يتسخط على ربه، ويذكر الكلمات التي لا تليق بالله سبحانه وتعالى، وأن الله ظلمه، وأن الله نكد عيشه وأن الله، وأن الله، فلا يزال ربك يضيق عليه حتى يضيق من نفسه التي بين جنبيه، فيتسلط عليه الشيطان، فيقدم على قتلها وينتحر والعياذ بالله، نسأل الله السلامة والعافية. فهذا لا يكون إلا مع ضعف الإيمان، فمن قتل نفسه وأقدم على الانتحار فإنه لا يصلى عليه؛ لكن بشرط: أن يكون إقدامه على قتل النفس والانتحار بغير عذر، أما لو انتحر بعذر كإنسان مجنون رمى نفسه من شاهق، فإنه يصلى عليه ويترحم عليه، ويدعى له، وهو على خير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرأة السوداء التي كانت تصرع: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يشفيك. قالت: أصبر ولي الجنة). فمثل هذا إذا ابتلي ببلاء في نفسه من سحرٍِ أو مسٍ أو جنون فانتحر؛ فإن الله عز وجل يؤجره على ما كان منه، ويغسل ويكفن ويصلى عليه ويترحم عليه، لما له من الأصل، ويكون فعله هذا معذوراً به على حاله الذي بلي به. وهكذا يقول العلماء: لو شرب المسكر غير عالم به، ثم قتل نفسه؛ فإنه لا يكون في حكم المنتحر، كإنسان أعطي شراباً يظنه عصيراً أو ماءً فشربه، فإذا به مسكر، فسكر وقتل نفسه؛ فإن مثل هذا يصلى عليه؛ لأن سكره كان بعذر، وهكذا لو خدر في جراحةٍ ونحوها، وحصل منه شيء عند زوال إدراكه وعدم وعيه حتى مات وتَلِفت نفسه؛ فإنه في هذه الحالة يعتبر معذوراً، كما لو أقدم على سل شيء من نفسه لنفسه ونحوه فمات بسبب عدم وجود النفس؛ فإنه في هذه الحالة يعذر ويصلى عليه، ويصلي عليه الإمام، ويدعى له ويستغفر له. أما بالنسبة لغير هؤلاء من عموم العصاة فللعلماء فيهم قولان: من أهل العلم من يقول: كل من ارتكب الكبائر -خاصةً من يجاهر بها- فإنه يمنع من الصلاة عليه، أي: لا يصلي عليه الإمام، أما أفراد الناس فيصلون عليه، والسبب في ذلك: أنهم مطالبون بالصلاة على الميت، إضافةً أنهم يؤجرون عليها، فلا وجه أن تحرم نفسك القيراط في الصلاة عليه. فيصلى عليه. لكن بالنسبة للإمام فلا يصلى على هؤلاء للاستثناء الذي ذكرناه، والقول: بأنه يختص بما ورد من قاتل النفس والغال من القوة بمكان، ويبقى ما عداهم على الأصل الموجب لصلاة الإمام وغيره عليهم.

حكم الصلاة على الميت

حكم الصلاة على الميت قال المصنف رحمه الله: [ولا بأس بالصلاة عليه في المسجد]. (ولا بأس): أي لا حرج ولا جناح أن يصلى على الميت في المسجد، والضمير في قوله: (عليه) ليس عائداً على القاتل نفسه ولا على المنتحر، إنما هو عائد على الميت، وهي مسألة خلافية: هل يجوز أن تدخل الجنازة إلى المسجد أو لا يجوز؟ بعض العلماء يمنع من إدخال الجنائز إلى المسجد، وكان هذا القول يقول به بعض الصحابة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما أرادت عائشة رضي الله عنها أن تصلي على سعد -رضي الله عن الجميع- أمرت أن يدخل إلى المسجد فأنكر الناس ذلك، فقالت: (سبحان الله! سرعان ما نسي الناس، ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهل بن بيضاء إلا في المسجد). فأخذ العلماء من هذا دليلاً على أنه يجوز إدخال الجنائز إلى المساجد للصلاة عليها، وخالف في ذلك أصحاب مالك رحمة الله عليهم، ووافقهم بعض الحنفية فقالوا: لا تدخل الجنائز إلى المساجد، وإنما يكون للجنائز مصلى، وقد كان للجنائز مصلىً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا على سبيل الأفضل، وأما دخولها إلى المسجد فلا حرج فيه، وهذا الذي عناه المصنف بقوله: ولا بأس بالصلاة عليه في المسجد، أي: لا جناح ولا حرج؛ خلافاً لمن قال من أهل العلم رحمة الله عليهم: إنه لا تدخل الجنائز إلى المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل مصلى يصلى فيه على الجنائز؛ لكن الصحيح أنه لا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على سهل في المسجد، وهذا حديث صحيح ثابت عنه عليه الصلاة والسلام.

تشييع الميت ودفنه

شرح زاد المستقنع - تشييع الميت ودفنه للجنائز أ؛ كام متعلقة بتشييعها وحملها، ومن ذلك: صفة المشي بها، وكيفية حملها، وما يسن في المشي بها، وما يكره أو يحرم، ونحو ذلك، وهناك أحكام متعلقة بالدفن، منها: كيفية إدخال الميت إلى القبر، وأيهما أفضل الشق أم اللحد، وغيرها من الأحكام.

صفة حمل الجنازة

صفة حمل الجنازة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول رحمه الله: [فصلٌ: يُسَنُّ الترْبِيع فِي حَمْلِهِ]. في الواقع أن الحمل قد يسبق الصلاة؛ لأن الإقبال بالميت إلى المسجد يحتاج إلى حمل، وتأخير المصنف للحمل له وجه، فبعض العلماء يقدم أحكام الحمل على الصلاة، وبعضهم يؤخر أحكام الحمل عن الصلاة. فيكون وجه من قدم أحكام الصلاة على الحمل: أن الصلاة واجبة؛ فألحقت بالواجبات المتقدمة من تغسيله وتكفينه والصلاة عليه؛ فألحقت بالنظير من جهة مرتبة اللزوم. ثم الحمل بعد ذلك؛ لأنه يكون بعد الصلاة. وحمل الميت فيه فضيلة؛ وذلك أنه عملٌ يقصد به القربة، ويعتبر من الحسنات، أي: أن الإنسان يثاب إذا قصد به وجه الله عز وجل، والعلماء رحمة الله عليهم يتكلمون عليه ويبينون أحكامه؛ لورود السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحكام الميت، وكذلك الآثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا اعتنى المصنف رحمه الله ببيان هذه الأحكام والمسائل، فقال رحمه الله: (يسن التربيع في حمله).

التربيع في حمل الجنازة

التربيع في حمل الجنازة فقوله: (يسن التربيع): من المعلوم أن سرير الميت يكون على أربعة أعمدة يحمل الميت بها: عمودان في مقدمة الجنازة، وعمودان في مؤخرة سرير الجنازة؛ والأفضل والأكمل للإنسان أن يكون حمله من هذه الجهات الأربع، وفيه أثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ولكن فيه انقطاع، ولذلك يعتبر مرسلاً، لأن أبا عبيدة بن عبد الله لم يسمع من أبيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. والتربيع: أن يبدأ بمقدمة الجنازة ويأخذ باليمين؛ لفضل اليمين وشرفها؛ وقد كان صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن، ثم بعد ذلك ينتقل إلى المؤخرة في نفس جهة اليمين، ثم بعد ذلك يرجع إلى المقدمة فيحمل بالأيسر، ثم يتأخر المؤخرة للأيسر، فيكون قد ربع. هذا هو الذي يقصده العلماء من التربيع. أي: أن يكون حمل الإنسان للجنازة من جهات السرير الأربع، ولا يقتصر على جهةٍ دون جهة؛ للحديث الذي ذكرنا، ولو صح لا شك أنه يعتبر دليلاً على الفضيلة، لكن الأمر واسع إن شاء الله تعالى، ولا حرج أن يحمل الإنسان من أي جهة، ولا شك أن أن يبدأ بجهة اليمين تأسياً بتفضيل اليمين. فإن شق عليه لمكان الزحام وضرر الناس، بحيث يصعب عليك أن تنتقل إلى جهة اليسار، أو صعب عليك أن تتقدم حتى تنال المقدمة فالأمر واسع. وقال بعض العلماء: الأفضل أن يحمل بعمودي السرير، أي: أن يكون وسطاً في مقدمة السرير، ويرون هذا في المقدمة لا في المؤخرة، وتوضيح ذلك: أنه في المقدمة يمكن أن يرى من أمامه، فيحمل بطرفي عضادتي السرير، وفي ذلك حديث وراد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حمله لـ سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، فقالوا: إن هذا يدل على أن الأفضل أن يأخذ بهما. والذي يظهر أن الأمر واسع، خاصةً قي حال الزحام، ولأنه ربما أضر بغيره، وربما أجحف به، وربما لا يصل إلى الجهات على الطريقة التي ذكرناها إلا بأذية. أما بالنسبة للتثنية وحمل طرفي السرير من آخر السرير فهذا من الصعوبة بمكان؛ لأنه إذا حمل من مؤخرة السرير لا يأمن أن يطأ أحداً أمامه أو يؤذيه، وربما تكون هناك حفرة أو يكون هناك شيء لا ينتبه له؛ لأنه لا يرى الذي أمامه، فضيقوا في المؤخرة، بخلاف المقدمة فإنهم وسعوا فيها وقالوا: قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أثر في المقدمة. يفرق بين التربيع وبين التثنية: أن التثنية تكون من مقدمة السرير دون المؤخرة، وأما التربيع فإنه لابد فيه أن يكون من الأربع الجهات. وفي التثنية لا يشترط أن يضع طرفي السرير على كتفيه، بمعنى: أن يجعل الطرف الأيمن على عاتقه الأيمن، والطرف الأيسر على عاتقه الأيسر، إنما يعتبر أن يحمل، فإذا حصل الحمل فهو المقصود؛ لأنه في بعض الأحيان لا يتيسر لك إذا كان طرفا السرير متباعدين، فإن تيسر ذلك كما إذا كان للسرير حمالات ونحوها، فيمكن أن يضعهما على كتفيه؛ لكن هذا أمرٌ من الصعوبة بمكان، فيما لو كان السرير من الخشب كما هو موجود في حالنا ليوم، فحينئذٍ يخرج بطرفي السرير بيديه كأنه حامل، وينبغي عليه أن لا يؤذي الناس.

التداول في حمل الجنازة

التداول في حمل الجنازة وهناك مسألة وهي: لو أنك حملت على طرفي السرير، وجاء رجلٌ لكي يحل محلك، فهل تبتعد تمكيناً له من الفضل أو تصر وتبقى؟ للعلماء في هذه المسألة قولان: كان بعض مشايخنا يقول: تبقى؛ لأنه لا إيثار في القربات، فتبقى ممسكاً به لفضيلة الحمل، ولا تتركه لغيرك حتى تعيا، أو لا تستطيع أن تقوى؛ فحينئذٍ تترك لغيرك؛ فيرون أن الأفضل أن يتمسك الإنسان به حتى يصيب أكثر الأجر ولا يؤثر غيره بالفضل. ومن هنا قالوا: لا يجوز أن يقوم الإنسان من الصف الأول إلى الصف الثاني ولو لكبير سن؛ واختلفوا في الوالد، وإن كان الأقوى والأصح أنه يجوز أن تتأخر لوالدك؛ لأنك إذا تأخرت نلت مرتبة البر، وهي أفضل، وهذا له وجه، يعني يستثنى في الإيثار في القرب والطاعات أن يكون فيه بر للوالد. فهنا: لو كان إنسان له حق عليك كالعم والخال ونحوه ممن له حق القرابة، فيمكن أن تؤثر لمكان صلة الرحم، وأما غيرهم من عامة الناس فلا، فيصبح الأمر أشد إذا كان المحمول والداً أو قريباً، فيكون من البر أن تصر على البقاء ما لم تضعف، فيكون فيه الوجهان: كونه من بالغ البر، وكونه أيضاً يحصل عظيم الأجر؛ فيبقى قدر استطاعته في ذلك المكان ولو زاحمه غيره فيه؛ تحصيلاً لهذا الأجر والثواب. قوله: [ويباح بين العمودين]. فيه ما ذكرناه من حديث سعد.

صفة المشي بالجنازة

صفة المشي بالجنازة قال المصنف رحمه الله: [ويسن الإسراع بها].

الإسراع بالجنازة

الإسراع بالجنازة يعني: بالجنازة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة) وهو حديث تكلم العلماء في سنده، وفيه مسائل: الأولى: أن قوله: (أسرعوا بالجنازة) فيه دليل على أن السنة أن يكون المشي بها رملاً وإسراعاً، وهذا هو الأفضل، وقد جاء حديث آخر صحيح يدل على أن الصحابة كانوا يرملون بالجنائز، وهذا أفضل من المشي. وفيه دليل على خطأ بعض العامة الذين ينكرون على الناس إذا أسرعوا بالجنازة. وفيه أنه يرمل بها تحصيلاً لفضيلة ما ذكرناه من التأسي وإصابة السنة. والمسالة الثانية: أن السنة ألا تبقى الجنازة وأن يبادر بها، ولذلك لا تؤخر إلا لأمر ضروري، أو وجود ما يدل على استثناء شرعي يجيز لنا أن نؤخر الجنازة، وإلا فالأصل أن يبادر بها، ولا يجوز للأهل أن يؤخروا الجنازة إلا لوجود عذرٍ شرعي؛ لأنه أُمِر بالإسراع بها. فقوله: (أسرعوا بالجنازة) يشمل الإسراع في تغسيله، بمعنى أن نهيئ تغسيله في أقرب وقت، وليس المراد أن نعجل أثناء التغسيل؛ لأنه ربما إذا عجل أثناء التغسيل أضاع حقوقاً واجبة، وإنما المراد أن يسرع بالتغسيل. ويشمل الإسراع في تكفينه، فلا يتركه بعد تغسيله ممدداً في الفناء، بل يعاجل بتكفينه، ثم يسرع في حمله ثم الصلاة عليه، ثم يسرع في دفنه، فهذا معنى الإسراع بالجنازة. والمراد بالإسراع في الحديث إسراع المشي؛ لأنه هو السنة، ولأن الجنازة إذا كانت صالحة تقول: قدموني، قدموني. وهذا ثابتٌ في الصحيح، فكأننا إذا أسرعنا بالجنازة حققنا مقصود الشرع، وأرفقنا بالميت إن كان صالحاً. وإذا كان حديث: (أسرعوا بالجنازة) ضعيفاً، فإننا نقول: إن حديث الصحيحين (قدموني، قدموني) يدل على مشروعية الإسراع بالجنازة؛ لأنه يحقق مقصود الشرع من التعجيل بها، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى إلا لشرف تقديم المسلم من الأحياء على قبره والعجلة في ذلك.

موقع المشاة والركبان من الجنازة

موقع المشاة والركبان من الجنازة قال المصنف رحمه الله: [وكون المشاة أمامها والركبان خلفها]. قوله: (وكون المشاة أمامها) السنة أن يُمشى أمام الجنازة، وأن يكون الركبان وراءها، وفي ذلك الحديث المشهور عن ابن مسعود رضي الله عنه. ويقولون: إن الركبان يكونون في الخلف حتى لا يؤذى الناس؛ لأنهم إذا كانوا في الأمام أضروا بالناس وأجحفوا بهم، وفي حكم الركبان المركبات الموجودة الآن كالسيارات ونحوها؛ لأنها إذا كانت في الأمام ربما عطلت الجنازة عن المضي؛ فتكون في الخلف ليمكن المشي بالجنازة؛ وهو الأفضل. فإذا كانت الجنازة محمولة في المركبات كالسيارات ونحوها فحينئذٍ لا إشكال فإن الحكم أن يكونوا وراءها، لأنه لا يتيسر للمشاة أن يرافقوها، وإنما يكونون وراءها، ثم يبادر بها على الصفة المعهودة الآن. قال: [ويكره جلوس تابعيها حتى توضع]. فقد ثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجلوس حتى توضع، وهناك روايتان: رواية: حتى توضع على الأرض، ورواية: حتى توضع في القبر، فإذا خرجت في تشييع جنازة ودخلت المقبرة ثم وضع السرير، فعلى الرواية الأولى بل والثانية لا يجوز لك أن تجلس حتى يوضع السرير، وعلى الرواية الثانية: حتى ينزل الميت إلى القبر. والأقوى: أنه لا يجوز حتى توضع على الأرض؛ لأن رواية (على الأرض) أقوى من رواية (في القبر) ولأنه ثبت في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وهو حديث مشهور: (إن العبد المؤمن إذا احتضر حضرته ملائكةٌ بيض الوجوه معهم كفن من الجنة ... ) إلى آخر الحديث. في هذا الحديث يقول البراء: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة أنصاري، فجلس عليه الصلاة والسلام وجلسنا حوله حتى يلحد له) أي: حتى يحفر القبر ويلحد، فدل على جلوس النبي صلى الله عليه وسلم قبل وضع الرجل في قبره، وهذا يدل على أنه يشرع أن يجلس من شيع الجنازة قبل أن يوضع الميت في القبر، فإذا وضعت على الأرض جاز لك أن تجلس.

حكم تسجية قبر المرأة والرجل

حكم تسجية قبر المرأة والرجل قال: [ويسجى قبر امرأة فقط]. أي: لأنه أمكن للستر، وأثر ذلك عن بعض أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وأنكر بعض الصحابة تغطية القبر للرجال. والتسجية: أن يؤخذ بغطاء الجنازة أو يؤخذ لحاف ثم يوضع فوق القبر، أي: يغطى أثناء عمل الملحد للميت وقيامه على شأنه. فالتسجية: أن يغطى القبر. والتسجية تكون على حالتين: الحالة الأولى: أن تكون للنساء، فالمرأة إذا دُليت في قبرها شرع أن تغطى؛ لأنه أدعى لسترها وحفظ عورتها، لأنها وإن كانت ملفوفة في كفنها لكن جرمها وجسمها واضح أمام الناس من جهة تقاطيع الجسم، خاصةً في الأكفان؛ ولذلك تدلى حتى ولو وضعت في سرير حتى يكون أبلغ في سترها، وأبعد عن الفتنة بها، فتدلى في القبر ويسجى القبر، أي: يغطى ويترك بقدر الهوي ونحوه، فيوضع الساتر ويمسك الناس بأطرافه، ولا حاجة أن ينظروا إليها أثناء وضعها في لحدها. الحالة الثانية: أن يسجى القبر لشدة الحر والظهيرة ونحوها في الرجال، أي: إذا وُجِد الموجب في الرجال، فإذا كان في شدة ظهيرة أو كان المطر نازلاً وأريد تسجية الميت، فإنها ليست لستر العورة وإنما هي لدفع الضرر، وحينئذٍ لا حرج أن تكون التسجية لمعنى؛ وبعض طلاب العلم لا يفرق فينكر ذلك إطلاقاً، والواقع: أن فيه تفصيلاً: فإن كانت التسجية بمعنى الرفق بمن هو داخل القبر، من دفع حر الشمس عنه، فحينئذٍ لا حرج أن يغطى، بمعنى أنه يستر حتى يقيه حر الشمس وضررها، وأما إذا كان بمعنى التسجية فإنه بدعة، وقد أنكره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: مع عهدنا ذلك إلا في النساء، فدل على أنه يشرع في النساء دون الرجال.

أفضلية اللحد على الشق

أفضلية اللحد على الشق قال المصنف رحمه الله: [واللحد أفضل من الشق]. اللحد كان في المدينة، والشق كان بمكة، وللقبر صورتان: إما أن يلحد، وهو أن يوضع الميت ويحفر له في جانب القبر. وإما أن يشق وتحفر له الحفرة في وسط القبر، فيوضع فيها على جنبه. واللحد أفضل؛ لأن الله اختاره لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لما توفي عليه الصلاة والسلام اختلف الصحابة هل يلحد له أو يشق، وكان أبو عبيدة يشق، وكان أبو طلحة يلحد، فأرسلوا إليهما فسبق الذي يلحد، فعلموا أنه اختيار الله لنبيه صلوات الله وسلامه عليه، فكان اللحد أفضل لذلك، لأنه أمكن في الستر. الشق يكون في الجدار ونحوها كالأماكن الصلبة التي يصعب فيها حفر اللحود؛ لأنه أرفق وكذلك إذا كان في كهف فيشق، فلو أن الأرض كانت جبلية وتوفي الميت، وليس هناك مكان يمكننا أن نحفره، فحينئذٍ لا حرج إذا وجد كهف أو شق في جبل -صدع- وأمكن أن يوضع ثم يرص عليه، فإنه يفعل به ذلك، ويعتبر بمثابة القبر.

مشروعية وحكمة الدفن

مشروعية وحكمة الدفن والدفن واجب ولازم، وقد شرعه الله عز وجل بكتابه وبهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، والأصل في مشروعيته من الكتاب قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة:31]. وهذه قضية قابيل وهابيل؛ فإن قابيل لما قتل أخاه هابيل، وهو أول قتلٍ من بني آدم وقع في الأرض، أرسل الله الغراب يبحث في الأرض، أي: يحفر ليدفن حاجته، كأنه يشير له إلى ما ينبغي أن يفعله لأخيه من ستر عورته، فقال: {يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي} [المائدة:31] فهذا دليلٌ على شرعية الدفن، وهي أول قضية دفن كما يقول المفسرون رحمة الله عليهم. وقال تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21] فدل على مشروعية القبر. وثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من هديه بالقول والفعل. ويشرع قبر الموتى سواء كانوا كفاراً أو كانوا مسلمين، فلو أن كافراً مات فإنه يشرع أن يقبر، ولا يجوز أن تترك جثته هكذا؛ لأن الله كرم بني آدم فقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] وهذا يسميه العلماء التكريم العام الذي يشمل المسلم والكافر، فمن إكرام الله للآدمي أنه إذا مات فإنه يقبر وتحفظ عورته، بخلاف البهائم والوحوش والسباع وغيرها، فإنها تنبذ بالعراء، ومن هنا قالوا: إنه يقبر ولو كان كافراً، لكنه لا يقبر على صفة المسلم، بمعنى: أنه لا يلحد ولا يشق، وإنما يوارى، فتحفر له الحفرة ثم تواريه دون أن تراعي في ذلك شقاً ولا لحداً؛ لأنه لا كرامة له. وإنما يشرع أن يقبر الميت مسلماً كان أو كافراً، لحديث قتلى بدر، فإنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقليب فرموا فيه، فووريت أجسادهم، وعلى هذا لا حرج أن يوارى الكافر إذا مات، وأما المسلم فإنه يوارى بالصفة المخصوصة التي ذكرناها. وفي القبر حكمٌ عظيمة منها: أن الله سبحانه وتعالى دفع ضرر الأموات عن الأحياء؛ فإن الأحياء يستضرون برائحة الموتى، ويستضرون برؤية قراباتهم وذويهم أمواتاً أمامهم، ويحصل لهم من الهول والفاجعة ما الله به عليم، فإن بقاء الأموات فيه فزع، ورؤية الأموات تحدث في النفوس الفزع والخوف والرعب، ولربما يتنكد عيش الإنسان خاصةً إذا فقد العزيز والكريم عليه فرآه أمامه عشيةً وصباحاً، ولذلك رحم الله الناس بهذا، وجعل الأرض كفاتاً أحياءً وأمواتاً، فجعل الأرض ستراً لهم، وفيها أيضاً رحمة بالأموات؛ لأن عوراتهم تحفظ وسوآتهم تصان، عندما ينزلون في القبور. والأصل أن الإنسان بالنسبة للقبر له أحوال: بالنسبة للأنبياء فإن قبورهم في أماكن موتهم، كما ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قبر عليه الصلاة والسلام في حجرة عائشة لما قبض فيها، أما من عداهم فإنهم يقبرون في مقابر المسلمين العامة التي أوقفت. والقبر في مقابر المسلمين أفضل من أن يكون الإنسان في موضعٍ خاص؛ لأنه إذا كان في موضع خاص لا يؤمن أن ينبش، وإذا كان في موضع خاص وكان ملكاً له كأرضه أو مزرعته ونحو ذلك، فلا حرج أن يحفر له قبر ويدفن فيه، أما إذا كانت أرضاً لغيره فلا يجوز أن يحفر له فيها قبر إلا بإذن مالك الأرض؛ لأنها في أصل الشرع ملكٌ لأهلها، فلا يجوز لأحدٍ أن يقبر فيها أحداً بدون إذن أهلها، ولذلك لو قبر الإنسان في أرضٍ يملكها الغير وشرع للغير أن يطالب أهله بإخراجه فإنه يحرم عليه ذلك لمكان الغصب كما يقول العلماء، وفي حكم هذا أن يقبر في مسجد، فإن المسجد لا يملكه أحد؛ لأنه لله عز وجل، ولا يجوز أن يقبر أحد فيه حتى ولو كان صاحب المسجد؛ لأنه لما أوقفه للصلاة فيه فقد خرج عن ملكه، ولذلك من أوقف مسجداً فليس من حقه أن يملك هذا المسجد أو يبيع شيئاً منه؛ لأنه خرج عن ملكيته. ومن هنا لا يجوز أن يدفن فيه، مع أن الأصل الشرعي يقتضي حرمة أن تتخذ القبور مساجد، أو يكون القبر في مسجد، وهذا مجمعٌ عليه بين العلماء وهو من كبائر الذنوب كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها في قصة الكنائس التي كانت في الحبشة، ولعن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يفعله النصارى بعظمائهم من البناء على قبورهم.

كيفية إدخال الميت القبر

كيفية إدخال الميت القبر قال المصنف رحمه الله: [ويقول مُدخِلهُ: باسم الله وعلى ملة رسول الله]. السنة المحفوظة أن يسل الميت، بمعنى: أنه ينزل إلى القبر من رأسه. فالمكان الذي فيه الميت إن كان لحداً أو شقاً فإنه يُسَل، فيدخل من عند رجل القبر إلى أن يصل إلى موضع الرأس، فينزل شيئاً فشيئاً، على هذا يكون أول ما ينزل أعلاه -لشرف الأعلى- ثم بعد ذلك أسفله. ولا يدلى: بمعنى أن تُنزل رجلاه قبل رأسه؛ فيجعل السرير أو النعش عن يسار القبر، ثم بعد ذلك يدلى. وهناك وجهٌ آخر: وهو أن يجعل السرير في القبلة، ثم ينقل بعد ذلك إلى داخل القبر، وكلاهما جائز، فيأخذه اثنان من النعش ويناولان من بداخل القبر، فهذه صورة ثانية؛ لكن الأفضل السلّ، وهو الذي وردت به السنة. فإذا أراد أن يضعه يقول مُدخله: (باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولا يزيد على ذلك ولا ينقص؛ لأنه لفظ مخصوص في موضع مخصوص، لا تشرع الزيادة فيه ولا النقصان منه. اسم الله بركة، وهو فاتحة الخير، ولذلك قال تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن:78] وهو أدعى لرحمة الله بالعبد، ومعنى: (باسم الله وبالله) أي: مستعينين بالله، فالباء للاستعانة. قال بعض الفقهاء: التقدير: باسم الله أنزلك، وعلى ملة رسول الله أخلفك، ونحو ذلك من التأويلات، وهذا كله لم يرد به وجه صحيح، لكنه ذكرٌ مخصوص مناسبٌ للمقام؛ أي أن الإنسان قد وضعه على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أفضل الملل وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، والملة التي لا يقبل الله ملة دونها ولا غيرها، وهي ملة الإسلام، وهي الحنيفية التي لا نجاة للعبد إلا بها.

كيفية وضع الميت داخل القبر وحال الناس من حوله

كيفية وضع الميت داخل القبر وحال الناس من حوله قال المصنف رحمه الله: [ويضعه في لحده على شقه الأيمن مستقبل القبلة]. قبل أن ينزله في القبر يكون هناك على الأقل شخصان، وهذا أرفق بالميت: أحدهما يكون عند رجليه، والثاني عند رأسه. والسنة أن يوسع من جهة الرأس ومن جهة الرجلين، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بتوسيعه، فلا يكون اللحد ضيقاً بمقدار ما يسع جسد الإنسان، بل الأفضل أن يوسع الحفر في جانب القبر من جهة الرأس ومن جهة الرجلين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك. ثم يوضع على شقه الأيمن مستقبل القبلة، ففي الحديث الصحيح عن البراء: (إذا أويت إلى مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل: باسم الله ... ) الحديث. قالوا: والنوم هو الميتة الصغرى، وأما استقبال القبلة؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً) فهذا يدل على أن السنة أن يوضع الميت مستقبل القبلة، وهذا بالنسبة لمن مات من أهل الإسلام. وأما بالنسبة للكافر فإنه يوضع على حاله، إلا إذا كانت المرأة كافرة وفي بطنها جنين، فإنها توضع على شقها الأيسر؛ حتى يكون جنينها إلى القبلة، على القول بأن أولاد الكفار على الفطرة، وحينئذٍ يكون جنينها في هذه الصورة على شقه الأيمن مستقبلاً القبلة؛ لأن الجنين يستقبل ظهر أمه. وأما غير ذلك من أحوال الكفار فإنهم يوارون، ولا يقبرون على الصفة التي شرف الله بها أهل الإسلام. وإذا فرغ من وضعه في قبره فإنه ينصب اللبن عليه كما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن ينتهي من نصب اللبن يمكن الناس من دفنه وإهالة التراب عليه. وينبغي للإنسان في هذه الحالة أن يكون أقرب إلى الاعتبار والاتعاظ، فإن بعض العلماء رحمهم الله يقول: إن ورود القيراطين على الصلاة وشهود الدفن كائن لما فيه من المصالح العظيمة من التذكير بالآخرة، وذلك لأن شهود الدفن يذكر الإنسان بحاله، ويدعوه إلى الاتعاظ والاعتبار بغيره، فإذا وضع الميت في قبره فالأفضل للإنسان أن يكون قريباً من القبر، على خلاف ما ألفه بعض الناس من البعد عن القبر. الأفضل الاقتراب من القبر، لقوله صلى الله عليه وسلم: (فمن شهدها)، و (شهد) بمعنى: حضر. والأفضل أن ينظر إلى حال المقبور؛ لأنه أدعى لشفقتك عليه وترحمك عليه؛ فإن الإنسان إذا نظر إلى أخيه المسلم وهو يدلى في القبر، ونظر إلى قرابته كأبنائه وإخوانه وعشيرته، وما عليهم من الحزن وأمارات التفجع والتوجع؛ دعاه ذلك إلى أن يستغفر له وأن يترحم عليه؛ وتأثر تأثراً بليغاً حتى لربما تذكر أولاده من بعده وقرابته إذا نزل به مثل ما نزل بأخيه. فكونه يكون بعيداً عن القبر يفوت هذه المصالح العظيمة. وأما ما ورد من حديث البراء من كونهم تحلقوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا ليس فيه أنه دفن؛ لأنهم كانوا يحفرون القبر، وفرقٌ بين حفر القبر وبين التدلية للقبر. ومن كان قريباً من القبر، ناظراً إلى حال الميت متفكراً معتبراً، فإنه يكون أكثر حضوراً للقلب، وأكثر خشوعاً وأكثر تأثراً، وأكثر دعاءً واستغفاراً للميت وترحماً عليه. والعكس بالعكس: فإنه إذا ابتعد عن القبر ربما جاءه إنسان من أهل الدنيا، وشغله بفضول الأحاديث، ولربما تكلم في شيء من الدنيا يخرجه عن المقصود من شهوده للجنازة، وعلى هذا فإن الأفضل والأكمل أن يكون الإنسان مطلعاً على القبر قريباً من القبر، ولو أدى ذلك إلى زحام لا ضرر فيه، بل حتى ولو كان فيه ضرر على الإنسان فإنه يصبر؛ لأنه باب المزاحمة على الخير، وهي مشروعة، أي: كون الإنسان يزاحم ولا يؤذي غيره ولكن غيره يؤذيه، فإنك إذا لم تؤذ أحداً وتضررت بالزحام أجرت؛ ولذلك كان ابن عمر رضي الله عنه، يقف عند الحجر ولا يجاوزه حتى يقبله، ولربما يضرب من الناس ويرعف ثلاث مرات كما ورد في الروايات عنه رضي الله عنه. ولا شك أن الإنسان كلما أوذي في الطاعة كلما كان أعظم أجراً، وكان السلف الصالح رحمهم الله يحبون مثل هذه المقامات التي يستوي فيها رفعاء الناس ووضعاؤهم. أثر عن عبد الله بن المبارك رحمه الله أنه دنا إلى بئرٍ يريد أن يستقي، فقال له أصحابه: هلا كفيناك؟ فامتنع رضي الله عنه، فلما دخل في الزحام لكز وأوذي وضر في جسده وفي ثيابه، فلما خرج قيل له: ألم نقل لك: نكفيك هذا الأمر؟ قال: هكذا طاب لي العيش، دخلت وأنا ابن المبارك، وخرجت وأنا ابن المبارك. فالإنسان إذا دخل بين الناس وشعر أنه كواحدٍ منهم، وتأذى في الطاعة أو في الخير، فإن الله يؤجره. فإن رؤيتك لهذه الحال صلاح لك في دينك وأجرٌ لك في آخرتك، ولقد قصر البعض، خاصةً من طلاب العلم في مثل هذه المواقف، ولربما تجد بعض العوام في بعض المواقف أبلغ تأثراً من طلاب العلم، فإنك تجد من العوام من يبكي على القبر ويتأثر برؤية هذه المشاهد، ولكن ربما تجد طالب العلم بعيداً عنها، وربما يقف بمنأى عن القبر، وينتظر حتى يفرغ الناس، ثم يأتي ويحثو الحثوات دون أن يتعظ ويرى هذه المشاهد المؤثرة، والإنسان الذي يشهد هذه المواقف ولا يتأثر بها؛ فلأنه لم يجد من نفسه ما يدل على صدق رغبته في التأثر، ولو هيأ نفسه لذلك فخرج وهو يشعر أنه كواحد من المسلمين ودخل في حطمة الناس، فإنه سيشعر أنه كواحد من عوامهم ولو كان عالماً. وإنك لتعجب عندما يطوف الناس وتسمع عوام الناس يبكون ويخشعون في طوافهم، حتى إن الإنسان في بعض الأحيان يبكي على نفسه في علمه عندما يجد في عوام الناس من الخشوع في العبادات ما لا يجده من خاصة طلاب العلم، ولكن نسأل الله برحمته الواسعة أن يرحم قلوبنا من قسوتها وغفلتها، وأن يجيرنا من هذا البلاء العظيم. فإن الإنسان إذا حرم التأثر بالطاعة فقد حرم خيرتها وبركتها، فإن أفضل ما يكون في الطاعة أن تتأثر بها، وأعظم الناس أجراً في شهود الجنائز من رجع منكسر القلب خاشعاً، وقد أثر فيه المشهد والمنظر كأن ذلك الميت قريبه، وتجد بعض الناس من كمال خشوعه أبلغ تأثراً من أهل الميت؛ وذلك لأنه لا ينظر إلى فقد هذا الميت ولكن ينظر إلى فقده وحاله الذي نزل به. فينبغي لطالب العلم أن يهيأ نفسه إذا شهد الجنائز أن يكون في منظره وسلوكه ودله وحاله ما يدل على صدق تأثره بما يرى؛ حتى يكون علمه مترجماً بالعمل، فإذا رآه العامي أحس بأثر العلم في عمله، وأثر العلم في عبادته، ولا ينبغي له أن يكون في بعدٍ عن الأسباب التي تهيئ من خشوع القلب وفي مثل هذه المواضع التي كلما كان الإنسان فيها خاشعاً كلما كان أعظم أجراً، وكان أدعى لقبول سعيه في طاعته لله عز وجل. فإذا قبر الميت وأهيل عليه التراب؛ فإن السنة أن يهيل من حضر عليه التراب، والسنة أن يحثُو عليه ثلاث حثيات إذا لم يشارك في دفنه؛ والأفضل أن تشارك في دفنه؛ وجميل من طالب العلم أو من العالم إذا ساوى عوام الناس وأخذ بالآلة ودفن معهم، خاصةً إذا كان المدفون من أهل العلم والفضل، أو من له حقٌ عليك كقريبك؛ فإن مثل هذه المواقف تدل على التواضع، وتدل على البساطة والبعد عن العلو، وتدل على الحرص على الخير؛ فإن الناس إذا رأوا طالب العلم يدعوهم إلى الخير، ورأوه في هذه المواقف يشارك الناس في حصول الخير وينافسهم ويحرص عليه؛ فإن ذلك أدعى لقبول دعوته وحبه والتأثر به. وقد يكون داعياً بفعله دون أن يتكلم، وهذه هي الدعوة الصادقة التي يجمع الله للإنسان فيها بين دعوة الكلام والفعل. ومن فعل ذلك أجر مرتين: الأجر الأول: على الطاعة والفعل. والثاني: على تأثر الناس واقتدائهم به في ذلك؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلاً، اقتتل الصحابة على ذلك الفعل من تأثرهم به صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يدل على أنه ينبغي للداعية أن يكون قدوة. أما لو كان الإنسان عالماً وشغل بسؤال الناس، أو رأى أنه لو جلس فإنه يتأثر بالنظر وبحال الناس وهم يهيلون التراب عليه، وأنه أبلغ، أو كان به مرض يخشى أن يتضرر لو اقترب من الغبار، فهذا شيءٌ آخر، لكن انوِ في قلبك أنه لولا هذا البلاء لكنت مشاركاً لهم؛ حتى يبلغك الله منزلتهم؛ فإن الإنسان ربما يدخل الجنة بحسنةٍ واحدة؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون:102] فلربما استوت حسنات الإنسان وسيئاته بسبب مظالم الناس، فأخذ من حسناته حتى تستوي الحسنات والسيئات، فتأتي حسنة واحدة وربما هو التراب الذي تهيله على الميت فتنجيك من النار؛ ولذلك كان السلف الصالح رحمة الله عليهم يبحثون عن رحمة الله في كل عملٍ صالح، من قول أو فعل، ظاهر أو خفي، فإن فاته الفعل نواه بقلبه، فإن الإنسان لا يدري لعل الله أن يجعل نجاته في حسنة، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً مر على غصن شوك فقال: والله لأنحين هذا عن طريق المسلمين. فزحزحه؛ فزحزحه الله به عن نار جهنم). نقول هذا لأن مثل هذه المواقف مهمة جداً، خاصة لطلاب العلم، وفيها تربية، فقد كنا نتأثر بعلمائنا ومشايخنا حينما نراهم مع عوام الناس، ونرى الرجل منهم يحضر جنازة العامي، ولقد رأينا من مشايخنا رحمة الله عليهم من يشهد جنازة الرجل الذي لا يؤبه به لفقره، أو ضعف نسبه، فتجد من الحزن والبكاء عليه كأنه واحدٌ من قرابته، وهذا لا شك أنه يدل على كمال الإيمان وصلاح القلوب. فنسأل الله بعزته وجلاله أن يبلغنا ما بلغوه، وأن يزيدنا من فضله العظيم والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

عرض الأديان على الميت

عرض الأديان على الميت Q ما صحة القول بعرض الأديان على الميت، وهل يحصل هذا العرض لكل شخص أثابكم الله؟ A السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن فتنة القبر تكون بالسؤال: (من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟). فعند أحمد في مسنده من حديث البراء بن عازب: (إن العبد المؤمن إذا احتضر نزلت إليه ملائكة بيض الوجوه، معهم كفنٌ من أكفان الجنة، فيجلسون منه مد البصر، ثم يأتي ملك الموت ويقول: يا أيتها الروح الطيبة! اخرجي إلى رحمةٍ من الله ورضوان. فتسيل روحه كما تسيل القطرة من فيِّ السقاء، فلا يدعونها معه طرفة عين حتى يضعونها في ذلك الكفن، فتخرج منها كأحسن نفحة مسكٍ وجدت على وجه الأرض؛ ثم يصعدون بها إلى السماء، فلا يمرون بنفرٍ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ قالوا: روح فلان بن فلان بأحب أسمائه إليه، حتى تنتهي إلى ما شاء الله أن تنتهي إليه، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، ثم ردوه إلى الأرض فإني منها خلقته وفيها أعيده، ومنها أخرجه تارةً أخرى، فترجع روحه، فيأتيه ملكان فيقعدانه) ثم ذكر عليه الصلاة والسلام الفتنة، وقال: يسألانه عن ربه، ويسألانه عن دينه، ويسألانه: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمناً قال: هو عبد الله ورسوله، وشهد بالإيمان، وإن كان منافقاً قال: ها ها لا أدري -وفي رواية- فيقال له: لا دريت ولا تليت؛ لأن الإنسان ينال العلم بإحدى طريقتين: إما أن يدري لنفسه فيكون عالماً بالشيء، أو يتلو، فيتعلم، فقيل له: (لا دريت ولا تليت)، أي: ليس بك علم، لا بدراية ولا بتلاوة. قال: (ثم يضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة فيسمعه جميع خلق الله إلا الجن والإنس، ولو سمعوه لصعقوا)، أي: ماتوا من ساعتهم، وهذه هي الفتنة التي تكون في السؤال، وهي الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم والله تعالى أعلم.

حكم التلقين على القبر

حكم التلقين على القبر Q ما حكم التلقين على القبر أثابكم الله؟ A تلقين الميت بعد قبره، فيه حديث معاذ رضي الله عنه: (إذا وضع أن يقوم على قبره الرجل ويقول: يا فلان بن فلانة: اذكر ما كنت عليه في الدنيا من شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنك رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ نبياً، فيقول الملك: ما لك في رجلٍ يلقن حجته من حاجة، فيقومان عنه) وهذا الحديث ضعيف، وهو معارض لما هو أصح منه، فإن حديث البراء بن عازب ذكر المؤمن، ولا شك أن الله لا يظلم عبده، فإن المحسن سيجيب والمسيء لا يجيب ولو لقنه من في الأرض جميعاً، فمن مات على التوحيد والإيمان فإن الله هو الذي يثبته وهو الذي يلقنه، كما قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]. ثبت في تفسيرها كما جاء في حديث البراء أنه قول المؤمن: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمدٌ صلى الله عليه وسلم، عند جوابه بهذه الأجوبة الثلاثة، فهذا من تثبيت الله؛ لأنه إذا رأى الملكين فزع، وهاله المطلع في مكانٍ لم يعهده ولم يألفه، وهي أول ساعةٍ وأول منظرٍ يراه؛ فيكون من أشد الهول على العبد، وهي أول منازل الآخرة التي يفزع فيها العبد، فإن كان مؤمناً ثبت الله قلبه، وذلك على قدر ما فيه من الإيمان والخير؛ فإن كان على كمالٍ من الإيمان وكمالٍ من الصلاح فإن الله سبحانه وتعالى يثبته تثبيتاً كاملاً، ولا يخذله، والله عز وجل يوفق عبده ولا يظلمه. فلا داعي أن يلقن الإنسان، فإن الله عز وجل سيلقنه حجته، ويبين له سبيله ومحجته؛ فإن الله سبحانه وتعالى لطيفٌ بأوليائه المؤمنين: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس:62 - 64]. فالإنسان الذي يموت على الإيمان لا يضيعه الله عز وجل، والله تعالى يقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:223] فالمؤمن لا حاجة له إلى أن يُلقن. ولذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لقن ميتاً؛ فيقتصر على هذا الوارد، وهو السنة المحفوظة. وأما حديث معاذ فضعيف كما تكلم العلماء رحمة الله عليهم على سنده وبينوا ضعفه والله تعالى أعلم.

حكم قول الحاضرين عند إنزال الميت: باسم الله وعلى ملة رسول الله

حكم قول الحاضرين عند إنزال الميت: باسم الله وعلى ملة رسول الله Q هل يقول الحاضرون أيضاً مع مدخل الميت: (باسم الله وعلى ملة رسول الله)؟ A المحفوظ أن يقوله من يدخله ومن يضعه في قبره، أما بالنسبة للحاضرين الذين يشهدونه فإنهم يسكتون، ويقتصرون على الدعاء له والترحم عليه، وسؤال الله التثبيت، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بعد دفن الميت: (استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل) ولذلك كان الأفضل والأكمل بعد دفن الميت ومواراته أن يقتصر على سؤال الثبات في تلك اللحظة التي تلي الدفن، ويقتصر على سؤال الله له الثبات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل)، فيستغفر له لأنه يبتلى بذنوبه، فإذا غفرت ذنوبه أمن من البلاء في قبره، وقوله: (واسألوا له التثبيت) من دعاء المناسبة. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ووجهه الكريم؛ أن يجعل أسعد اللحظات وأعزها لحظة الوقوف بين يديه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

أحكام القبور وأحكام أهل الميت

شرح زاد المستقنع - أحكام القبور وأحكام أهل الميت إن كثرة البدع التي تشاهد في المقابر، ومخالفة السنن والآثار في تلك المواطن تحتم معرفة أحكام القبور على الخاصة والعامة، ومن تلك الأحكام: حكم رفع القبر من الأرض، وحكم تجصيصه والبناء والكتابة والجلوس والاتكاء والوطء عليه، وحكم دفن الاثنين أو أكثر في قبر واحد، وحكم قراءة القرآن عند الدفن، وحكم إهداء الثواب للميت، وحكم صنع الطعام من أهل الميت أو لأهل الميت.

الأمور المنهي عن فعلها بالقبر

الأمور المنهي عن فعلها بالقبر

حكم رفع القبر قدر شبر

حكم رفع القبر قدر شبر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول المصنف عليه رحمة الله: [ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر مسنماً]. ذكر المصنف رحمه الله الأحكام المتعلقة بدفن الميت؛ ثم شرع في بيان ما ينبغي أن يُفعل بظاهر القبر، فبين رحمه الله بهذه الجملة أن القبر يرفع شبراً، بمعنى: أن القبور لا ينبغي أن تكون مستوية بالأرض؛ لأن استواءها بالأرض يوجب الجهل بها، وعدم الرعاية لحرمتها، فكلما كانت معروفةً بينة كان ذلك أدعى لحفظها بعدم الوطء والجلوس عليها والصلاة إليها، وأما إذا كانت مستويةً بالأرض فالأمر على خلاف ذلك. وقوله: (شبراً): الشبر: من أعلى الإبهام إلى أعلى الخنصر، فهذا القدر يوصف في لغة العرب بكونه شبراً كما ذكر صاحب اللسان. وقد يطلق (الشبر) بمعنى العطية والهِبة، ومنه: تسمى المرأة الكريمة (مشبورة). وقوله: (يرفع شبراً) مأخوذٌ من السنة؛ لأن قبر النبي صلى الله عليه وسلم كان مرتفعاً عن الأرض، فلم يكن لاصقاً بالأرض ولا مبالغاً في رفعه؛ بل كان مرفوعاً قدر شبر كما ورد في بعض الروايات، وهذا القدر هو المأذون به: وهو ما يقارب الشبر؛ يزيد قليلاً أو ينقص قليلاً؛ لأنه تتحقق به الحاجة من العلم بالقبر، فلا يصلى ولا يجلس ولا يوطأ عليه، وغير ذلك من الأحكام التي ذكرناها. ومما يدل على مشروعية رفع القبر: ما ثبت في الصحيح من حديث علي رضي الله عنه: أنه قال لـ أبي الهياج: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تدع صورةً إلا طمستها، ولا تمثالاً إلا كسرته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) فدل هذا الحديث على أن السنة: ألا يترك القبر مشرفاً، وهو: أن يبالغ في رفعه على الأرض، وكذلك أيضاً لا يترك مستوياً بالأرض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص الإزالة بالمشرف، فدل على أن القبر غير المشرف، وهو الذي ارتفع ارتفاعاً معقولاً دون أن يكون فيه مبالغة؛ يترك على حاله. وكذلك ورد في صحيح البخاري عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم حينما كُشِف لبعض التابعين رحمهم الله، أنه كان مرتفعاً عن الأرض، لهذا كله نص العلماء على أن السنة في القبور أن ترفع عن الأرض، وذكروا هذا القدر -قدر شبر- كما ورد في بعض الروايات في قبره صلوات الله وسلامه عليه. قوله: (مسنماً) تسنيم الشيء رفعه، ومنه قوله سبحانه وتعالى: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:27 - 28] فقوله: (من تسنيم) قيل: إنها عين تأتي من أعلى الجنة، فلا يتكلف الإنسان في طلبها فأنهار الجنة تكون حاضرة للإنسان حتى إنها تصب عليه من علوٍ، فإذا اشتهاها وأرادها كانت أقرب ما تكون إليه، وهذا على أحد الأقوال في تفسيرها. وسنم الشيء إذا رفعه وأعلاه، وقوله: (مسنماً) أي: غير مسطح، وقد عرف أهل اللغة كما ذكر الإمام ابن منظور رحمه الله في لسان العرب: أن التسنيم ضد التسطيح، وكأنه رفع القبر، وذلك يكون باجتماع طرفيه، وقد ورد ذلك في حديث التمار بن التمار، كما أشار إليه البخاري رحمه الله في صحيحه: أنه لما كُشِفَ له عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم رآه مسنماً، ورأى قبر صاحبيه على هذه الصفة، ثلاثة قبور غير لاصقة بالأرض ولا مرتفعة، وهي مسنمة، وهذه هي السنة: أن يكون القبر مسنماً خلافاً لمن قال من العلماء: إن السنة أن يكون مسطحاً. فالتسنيم اجتماع الطرفين كسنام البعير.

حكم تجصيص القبر

حكم تجصيص القبر قال المصنف رحمه الله: [ويكره تجصيصه]. الكراهة تطلق عند العلماء على معنيين: الكراهة التحريمية، بمعنى: أنه لا يجوز فعل الشيء المكروه، ومن فعله أثم، ومن تركه أثيب. والكراهة التنزيهية، وهي التي يثاب تاركها ولا يعاقب فاعلها. فقوله: (ويكره) مترددٌ بين كراهة التحريم وكراهة التنزيه، والأكثر في تعبيرات السلف الصالح رحمةُ الله عليهم حمل الكراهة على التحريم، فقد تجد الأئمة كالإمام أحمد ومالك رحمة الله على الجميع يقول: هذا شيءٌ أكرهه، ومراده: أنه حرام، وإنما اتقى ويتقي كل منهم التعبير بالحرمة ورعاً وخوفاً من الله سبحانه وتعالى من التصريح بالحرمة، فيقول: أكرهه، فعبر رحمه الله بكراهية البناء على القبر، والكراهة تحريمية. وقوله: (ويكره تجصيصه) أي: تجصيص القبر، وهو وضع الجص فيه، وذلك يكون ببناء داخله، وهكذا يكون بتزويقه وتجميله ووضع الرخام ونحو ذلك في داخل القبر، فكل ذلك مكروهٌ كراهة تحريم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تجصيص القبر كما ثبت في حديث جابر وغيره، وهذا النهي الأصل أنه للتحريم حتى يدل الدليل على ما دون التحريم وهو الكراهة، ولا دليل يدل على أنه مكروهٌ كراهة تنزيه، فهو مكروهٌ كراهةً تحريمية. وعلى هذا: فإنه يعتبر من المحرمات، فلا يجوز تزويق القبور ولا تبطين داخلها ولا تطيينه ولا تجصيصه، وإنما يكون على حال الأرض وعلى هيئتها؛ إلا في أحوال مستثناة يشد فيها القبر كما في المواضع التي فيها الرمال ونحوها، فقد رخص بأشياء قدر الحاجة والضرورة على سبيل أن يثبت القبر على المقبور فلا ينهدم عليه، وليس على سبيل البناء. فقوله: (ويكره تجصيصه) شرع رحمه الله في الأمور التي لا يجوز فعلها بالقبر، فبعد أن بين ما هي السنة في القبر، وأنه يرفع ولا يترك مستوياً على الأرض، وأنه يسنم، فابتدأ بالتجصيص الذي يكون من الداخل، ثم سيذكر ما بعد ذلك من البناء والكتابة عليه، وهي تكون في الظاهر، وكل ذلك من ترتيب الأفكار وتتابعها على النسق المعروف، وابتدأ بالتجصيص؛ لأنه أول ما يكون بعد وضع الميت.

حكم البناء على القبور

حكم البناء على القبور قال المصنف رحمه الله: [والبناء عليه]: أي: أن البناء على القبر محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البناء على القبور، وقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه عتب على اليهود والنصارى بناء الكنائس على العبد الصالح إذا مات منهم، وقال: (أولئك شرار الخلق) فعدهم من شرار الخلق، والسبب في هذا: أن أعظم الأمور وأجلها عند الله سبحانه وتعالى، والتي أنزل من أجلها كتبه وأرسل رسله، هي التوحيد وإخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى. والبناء على القبور مفضٍ إلى التعظيم، وإلى الاعتقاد فيها والتعلق بأهلها وأصحابها؛ ولذلك كان البناء من كبائر الذنوب المحرمة التي لا يجوز فعلها، ولا شك أن الحي أولى بالبناء من الميت؛ أما الميت فعمران داره بالعمل الصالح، وبما يكون منه من الخير وما قدم لآخرته، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، أما البناء فإنه لا ينفعه بشيء. ولذلك لما افتتن الناس بالبناء على القبور حصلت الأمور المحظورة، فكان الأولون يبنون، ثم خلف من بعدهم خلوف اعتقدوا تعظيم القبور، ثم خلف من بعدهم خلوف طافوا بها واستغاثوا بأهلها واستجاروا بهم، حتى صرفوا ما لله لعباد الله، وكل ذلك من أعظم الأمور وأشدها؛ لأنه يمس عقيدة الإنسان وإيمانه بالله سبحانه وتعالى، ويفضي إلى الشرك بالله عز وجل. وقد أجمع العلماء والفقهاء رحمهم الله على اختلاف مذاهبهم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية على تحريم البناء على القبور، وأن هذا الفعل من كبائر الذنوب، وأنه لا يترك البناء على القبر لما فيه من فتنة الحي وصرفه إلى تعظيم المقبور، وهذا كما هو محل إجماعٍ بين العلماء رحمة الله عليهم، فالنص أيضاً ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم البناء على القبر.

حكم الكتابة على القبور

حكم الكتابة على القبور قال المصنف رحمه الله: [والكتابة]: أي: والكتابة على القبر، فقد ورد في الترمذي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكتابة على القبر)، والكتابة على القبر نوعٌ من الإعلان، والكتابة تأتي على صور: الصورة الأولى: الكتابة على القبر من باب المدح والثناء كما كان يفعله أهل الجاهلية، فيكتبون على قبور بعضهم بما فيه ثناء على صاحب القبر، وقد يكون ذماً له وتوبيخاً له، وقد تكون فيها شماتة، كأن يكتب أبياتاً على عظيمٍ لكي يشمت به بعد موته، وهذه الأحوال كلها محرمة؛ لأنه لا مصلحة في هذه الكتابة، بل الشماتة بالميت معتبرة، وكذلك مدحه لا يفيده، ولربما ضر كما في حديث الصحابي لما نُدِب، فلا خير في كتابتها مدحاً ولا ذماً. الصورة الثانية: الكتابة للإعلام وهي: أن يكتب اسم الشخص، وللعلماء فيها وجهان: من أهل العلم من يرى أن عموم النهي يشملها، وأنه لا يجوز كتابة اسم المقبور على قبره، وأنه يترك كسائر الخلق، حتى يكون ذلك أدعى للاتعاظ والاعتبار، وإذا زار الإنسان قريبه سلم عليه؛ فإن السلام يبلغه، فليس ثم حاجة لتخصيصه بالإعلام. ورخص بعض أهل العلم رحمهم الله في الكتابة فقالوا: إن المنهي عنه إنما هو الكتابة من أجل الذم والمدح، فخصصوا النهي ولا مخصص، وإنما خصصوه بما عرف في عادة الجاهلية. والذي يظهر أن المنع مطلقاً أولى، وأنه لا يشرع الكتابة على القبر لا إعلاماً ولا ندباً ولا مدحاً ولا ذماً، وإنما يفعل كما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالخلفاء الراشدين من بعده، فتترك القبور دون حاجة إلى ذكر الأسماء أو الإعلام بعلامات. الصورة الثانية: وضع علامة يتميز بها القبر لكي يزور الإنسان قريبة أو يدفن الأقارب بجانب هذا الميت، وقد ورد ما يدل على ذلك في حديث عثمان بن مظعون رضي الله عنه وأرضاه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبره أمر بحجرٍ عليه حتى يُعلّم، قال: فأدفن إليه أهل بيته أو قرابته. قال العلماء: في هذا دليل على مشروعية تعليم القبر للحاجة، حتى يدفن إليه القرابة، وفرقٌ بين التعليم وبين الكتابة، فالكتابة شيءٌ والتعليم شيءٌ آخر، ولا شك أن الكتابة فيها نوع من الإجلال والتمييز لهذا القبر عن بقية القبور، أما وضع العلامة التي لا تكلف فيها، فإنه لا حرج فيها إذا كانت على السنة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: حتى يدفن الإنسان إليه قرابته، كأن يكون والداً له أو ولداً، ويريد أن يدفن إليه قرابة فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك وفعله، فدل على أنه لا حرج أن يدفن الإنسان عنده قرابته بأن يضع علامةً على قبره. ومن هنا قالوا: حديث عثمان رضي الله عنه فيه دليلٌ على مسائل: المسألة الأولى: فضيلة عثمان وما له من منقبة؛ حيث خصه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الفضيلة إذ أضاف إليه قبر قرابته. والمسألة الثانية: أن فيه دليلاً على مشروعية إعلام القبر، وهي أن تضع علامةً عليه دون أن تكون شاخصةً بينة تصل إلى الحد الممنوع؛ بل تكون علامة واضحة بقدر، كالحجر الذي يوضع على رأس الرجل من باب الإعلام. والمسألة الثالثة: مشروعية الدفن بجوار الخير والصالح، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على ورود السنة به؛ فإن أبا بكر طلب أن يدفن إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر طلب أن يدفن إلى جوار صاحبيه، ومن هنا نص بعض العلماء على استحباب أن يكون الإنسان مقبوراً إلى جوار العلماء ونحوهم ممن عرف بالفضل والتمسك بالسنة والاستقامة على الطاعة، وهذا عُرِفَ من حال السلف رحمة الله عليهم، ونص شيخ الإسلام رحمةُ الله عليه على أنه درج على ذلك فعل السلف رحمهم الله، دون غلو ودون أن يعتقد أنهم ينفعوه أو يكون هناك غلو في الاعتقاد فيهم؛ وإنما يفعل هذا تأسياً بـ عمر؛ لأن عمر استأذن عائشة رضي الله عنها أن يدفن إلى جوار صاحبيه؛ فإذا كان قصد الإنسان أن يصيب ذلك فإنه لا حرج فيه. ولذلك قالوا: إنه لا حرج أن يطلب الدفن إلى جوار العالم ونحو ذلك ممن عُرِف بالتمسك بالسنة، وهكذا الشهداء من كانت خاتمته على الشهادة. وهكذا الأرض المقدسة التي لها فضل؛ ولذلك ثبت في صحيح البخاري أن موسى عليه السلام سأل الله أن يقربه إلى الأرض المقدسة؛ لأن القرب من الأرض المفضلة أولى من البعد منها، والدفن في المواضع المفضلة كبقيع الغرقد ونحوه من الأرض التي شُهِدَ بفضلها أولى من الدفن بغيرها، وهذا بالإجماع؛ فإن الدفن في البقيع أفضل لورود النصوص في تفضيله على غيره. وأما بالنسبة لضم القرابة بعضهم إلى بعض: فحديث عثمان واضح في الدلالة على هذا؛ لأنه قال عليه الصلاة والسلام: (حتى أدفن إليه قرابتي).

حكم الجلوس على القبور

حكم الجلوس على القبور قال المصنف رحمه الله: [والجلوس]. أي: ويحرم الجلوس على القبر، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (لأن يجلس الرجل على جمرة من نار فتحرق ثيابه وتخلص إلى جسده، أهون من أن يجلس على قبر) وقال: (لا تؤذه)، كما في حديث عامر بن حزم لما اتكأ على القبر، (فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن الاتكاء وقال: لا تؤذه) أي: لا تؤذ صاحب القبر ولا يؤذيك. ومن هنا نص العلماء رحمهم الله على حرمة الجلوس على القبور، وحرمة الاتكاء عليها، وحرمة النوم عليها، وهذه من الحرمة التي تتعلق بالقبر، وألحقوا بذلك الامتهان: كالبول وقضاء الحاجة بين القبور، ووطئها بالنعال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انزع يا ذا السبتيتين فقد آذيت)، وأما حديث: (إنه ليسمع قرع نعالهم) فهو إخبار، وقد كانت القبور على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ليست محوطة ولا محسورة؛ ولذلك يسلكون الفجاج بعد دفنهم. فقوله: (إنه ليسمع قرع نعالهم) فيه إشارة إلى السماع الخالي عن حكم القرع بالنعال على القبر، وفرقٌ بين الإشارة إلى حكم السماع وبين الحكم بجواز المشي بالنعال على القبور، فنهيه عليه الصلاة والسلام كما في السنن والمسند يدل على تحريم المشي على القبور بالنعال، إلا في أحوال مستثناه، ومن ذلك: أن يكون الحر شديداً يؤذي الإنسان، أو تكون الأرض فيها ضرر من شوك ونحو ذلك؛ يضطر الإنسان معه إلى لبس حذاءٍ ونحو ذلك، فلا حرج في هذه الحالة أن يلبس حذاءه، وأما ما عدا ذلك فإنه لا يشرع أن يمتهن القبر ولا أن يطأه بنعاله، وهذه من حرمة القبور وحرمة أهلها، فلا يشرع أن يسير بينها بالنعال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انزع يا ذا السبتيتين فقد آذيت) فنص على وجوب نزع السبتية. وقال بعض العلماء بتخصيص الحكم بالنعال السبتية التي لا شعر فيها، فيختص الحكم بهذا النوع من النعال. والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ناداه بوصفها، لا أن الحكم مختص بالسبتية، لقوله: (فقد آذيتَ)، فدل على أن العبرة بالمرور بالنعال بين القبور، لا أن الحكم متعلقٌ بنعلٍ مخصوص دون غيرهِ. وعلى هذا فإنه يحرم المشي بالنعال على القبور، ووطؤها بالنعال أشد، وإنما ينصح بحمل نعاله معه أو خلعه قبل دخول المقبرة. وأما الطرقات التي بين القبور: فإن كانت خالية من المقابر فيجوز أن يمشي بنعله فيها؛ لأن الحكم يختص بالقبور، وأما بالنسبة للتحريم فيختص في حالة ما إذا دخل بالجنازة بين القبور، أو أراد أن يقبرها بين قبرين، فإنه يشرع أن يخلع حذاءه قبل أن يدخل في هذا الموضع أو يمر عليه.

حكم وطء القبر والاتكاء عليه

حكم وطء القبر والاتكاء عليه قال المصنف رحمه الله: [والوطء عليه والاتكاء إليه]. أي: على القبر، وهذه من الأمور السمعية الغيبية، التي لا يستطيع الإنسان أن يعرف حكمتها وعلتها، فما على الله إلا الأمر، وما على رسولنا صلى الله عليه وسلم إلا البلاغ، وما علينا إلا الرضا والتسليم، والله أعلم بحقيقة الأمر. فقد يقول قائل: هذا ميتٌ مقبور، كيف يتضرر ويتأذى بالوطء على قبره؟ فهذا أمرٌ لا يبحث فيه بالعقل، فالعقل يقف عند حدٍ معين، والله سبحانه وتعالى لم يكشف لنا حقيقة هذه الأذية ولا كيفيتها ولا صفتها، فيتوقف المؤمن عند الحكم، ونقول: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] لا يزيد المؤمن على الامتثال؛ أما كيف يتأذى ويتضرر إذا وُطئ على قبره أو اتُكئَ عليه ونحو ذلك، فهذا أمرٌ لا يبحث فيه ولا يسأل عنه، وإنما يفوض علمه إلى الله علاّم الغيوب.

حكم دفن اثنين فأكثر في قبر واحد

حكم دفن اثنين فأكثر في قبر واحد قال المصنف رحمه الله: [ويحرم فيه دفن اثنين فأكثر إلا لضرورة]. أي: ويحرم في القبر دفن اثنين فأكثر إلا لضرورة؛ لأن سنة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، وهدي السلف الصالح؛ مضت على قبر المقبور في قبره دون أن يدخل عليه أحد أو يُجمع معه أحد، وهذا هو الأصل؛ فيكون القبر للمقبور وحده دون أن يُجعل معه آخر، ولو كان قريباً له. أما الضرورة فتقع في حالة الحروب والقتال، كما وقع في غزوة أحد، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قبر شهداء أحد الرجلين والثلاثة في القبر الواحد، والسبب أنه كانت تفنى الأنفس في الحروب في القديم، ولربما وصل القتل في بعض الوقائع إلى مائة ألف، وفي هذه الحالة يصعب أن يحفر لكل شخصٍ قبر، ولربما جلسوا أياماً وهم لا يستطيعون أن يواروا هذه الأجساد، فيضطروا إلى جمع الاثنين والثلاثة في القبر، وحينئذٍ يشرع أن يوسع القبر من داخل؛ حتى يصلح لجمع هؤلاء ولا يضيق؛ بمعنى أن يُجعل القبر الذي للواحد للاثنين والذي للثلاثة للأربعة أو الخمسة، فإن للأموات حرمة، فيختص التوسيع بقدر الحاجة رفقاً بالأموات، فيجعل القبر للاثنين إذا وسعهما وللثلاثة إذا وسعهما، على حسب ما ذكرنا. وقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه جمع شهداء أحد رضي الله عنهم وأرضاهم الرجلين والثلاثة، وإذا جُعل الاثنان والثلاثة والأربعة في القبر فالسنة أن يبدأ بأحفظهم لكتاب الله عز وجل وأعلمهم، فيُجعل من جهة القبلة لشرف البداية وشرف الجهة، فيقدم على غيره، ويكون ظهره إلى غيره لا ظهر غيره إليه، فيشرّف لأن الله شرفه بالعلم، وهذا يدل على فضل العلم والعلماء، وأن الله سبحانه وتعالى يكرم أهل العلم حتى بعد موتهم؛ فقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه كان إذا أراد أن يقبر الشهداء يوم أحد سأل عن أكثرهم قرآناً فقدمه في اللحد). وهذا كما يدل على فضيلة أهل العلم، فهو يدل على أنه ينبغي للناس أن يأتسوا بهذا، فإذا اجتمع القوم وفيهم من هو أحفظ لكتاب الله قدم وشرف بشرف العلم؛ حتى يكون ذلك أدعى لتعظيم شعائر الله عز وجل. وكذلك الحافظ للسنة، فلو كان أحفظ لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره فإنه يقدم، وكذا إذا كان أعلم بالأحكام الشرعية، أو كان أكثر بلاءً وجهاداً ودعوةً وتضحيةً، أو كان رجلاً معروفاً بالكرم والجود والإحسان إلى الناس وستر عورات المسلمين ونحو ذلك من الفضل؛ لأن تقديمه يدعو غيره إلى التأسي والاقتداء به؛ ولأنه تعظيمٌ لشعيرة الله عز وجل من جهة كون ما تخلق به واتصف عملاً صالحاً فإذا قُدّم قدم من أجله، فكأننا نعظم العمل الصالح وما كان منه من خير، وهذا أدعى لدعوة الناس إلى الائتساء والاقتداء به، مع ما فيه من الائتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به. وإذا كان يحرم أن يُجمع الاثنان في قبرٍ واحد، فذلك يأتي على صورتين: الأولى: إما أن يدخلهما معاً، أي: ندخل أحدهما ثم ندخل الآخر في نفس الوقت، فالحكم التحريم إلا من ضرورة وحاجة. الثانية: أن تدخل الأول فتقبره اليوم، ثم بعد ساعة أو ساعتين أو ثلاث، أو يوم أو يومين أو ثلاثة، أو أسبوع أو أسبوعين أو ثلاثة، يؤتى ميت آخر فيفتح القبر الأول لدفنه فلا يجوز. فالحكم يستوي فيه أن يدخلهما معاً كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بشهداء أحد، فلا يجوز أن يجمع بين الاثنين على هذه الصورة، وكذلك فتحه ونبشه للقبر لكي يقبر ميتاً فيه. وعلى هذا: لا يجوز إدخال ميتٍ على ميت، فلا يجوز إدخال الثاني على الأول، ولا الثالث على الثاني إلا بعد أن تبلى عظام المتقدم، وللعظام حُرمة، فما دام عظم الميت في القبر فإن الأرض موقوفة عليه مسدلة عليه محبوسة له، لا يجوز أن يقدم أحد على نقل عظامه ولا على إخراجها، إلا قبور المشركين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقبورهم فنبشت، ثم بنى مسجده صلوات الله وسلامه عليه، كما في الصحيحين. أما المسلم فلعظامه حرمة تدل على بقاء حرمة قبره، وحينئذٍ لا يجوز أن ينبش، ولا يجوز أن يدخل عليه غيره، ولا يجوز أن يبنى عليه وعظامه باقية، ولا يجوز أيضاً أن تتخذ الأرض مزرعة أو نحو ذلك ما دامت العظام ورمم الأموات باقية، فإنها دليل على تسبيل ذلك الموضع لهؤلاء الأموات، والميت أحق بقبره ما دام فيه، أي: ما دام ما يدل عليه باقٍ. لكن لو استحال الميت تراباً وفنيت عظامه وبلي، فحينئذٍ قال بعض العلماء: تذهب الحرمة، فيجوز أن ينبش وأن يدفن غيره في مكانه، وعلى ذلك درج عمل السلف الصالح رحمة الله عليهم، كما في قبور البقيع، فإنها نبشت، ومضى على ذلك هدي الصحابة رضوان الله عليهم، ودفن فيها الجديد من الموتى بعد أن بلي القديم. والنبش يشرع إذا بلي الميت أو غلب على الظن أن العظام بليت، ويستثنى من هذا أن يكون المكان ضيقاً كما في قبور مكة فإذا بقي شيءٌ قليل من العظام، فإنهم اغتفروها لمكان الضرورة؛ فقد نص بعض العلماء على استثنائها لصعوبة الحفر فيها وتعذر ذلك في الغالب. وإذا كان الموضع يشق كالمواضع السهلة التي بها الطمي والطين أكثر، ويصعب فيها وجود القبور، ويتعذر وجودها إلا بندرة، قالوا: إذا فنيت وبقي شيءٌ من العظام تغتفر، ويجوز قبر الثاني مع وجود بقيةٍ من عظام الأول إذا كانت يسيرة. أما والعظام باقية فالدليل يقتضي تحريم قبر الثاني على الأول وإدخاله عليه، وكذلك يحرم التصرف في هذا القبر بالبناء عليه أو الزارعة فيه أو نحو ذلك من التصرفات، وما فيه من التصرف فإنه لاغٍ، فلو أنه زرع على قبورٍ لا زالت باقية، أو غلب على ظننا بقاء الجثث فيها، فإن إحياءه باطل؛ لأنه إحياءٌ لمسبلٍ وموقوف وملك للغير، وإحياء المملوك للغير ليس بإحياء شرعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح: (من أحيا أرضاً ميتةً فهي له) فنص على كونها ميتة، فإذا كان فيها الميت فإنها ليست بميتة؛ لأنها قبر، وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم داراً، فقال: (السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين) فهي حية بوجود الأجساد فيها، وإن كانت ميتة في الظاهر، لكنها في حكم الدور وكأنها معمورة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف القبور بكونها دوراً. قال: [ويجعل بين كل اثنين حاجزاً من تراب]. أي: فإذا وجدت الضرورة لقبر الاثنين، فيجعل بين كل اثنين حاجزاً؛ حتى يكون أشبه بالفصل، قالوا: درج على ذلك عمل السلف رحمة الله عليهم، فكأنه فصل الموضع الأول عن الموضع الثاني، وحينئذٍ كأنه تعدد القبر كما لو قبروا بجوار بعضهم مع وجود الحائل من التراب.

حكم القراءة على القبر

حكم القراءة على القبر قال المصنف رحمه الله: [ولا تكره القراءة على القبر]. المراد بالقراءة: قراءة القرآن، وجمهور العلماء من السلف رحمة الله عليهم كالحنفية والمالكية والشافعية وطائفة من أصحاب الإمام أحمد -وهي الرواية الثانية عنه- على أنه لا تشرع القراءة على القبور؛ وأنها من الحدث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ على قبور أصحابه، ولا قرأ أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا من بعدهم من السلف الصالح من الأئمة ومن أُمرنا بالائتساء بهم، فحينئذٍ فإن هذا الفعل يعتبر من البدعة والحدث. وجاءت رواية عند الإمام أحمد أنه رخص في ذلك، وفي ذلك ما يحكى عن ابن عمر رضي الله عنهما. والصحيح مذهب الجمهور: أنه لا تشرع القراءة على القبر؛ فإن وقعت إجارةً كأن يستأجر مقرئاً يقرأ على القبر، فالإجماع قائم على المنع والتحريم، وإنما الخلاف في المحتسب، وهو الذي يقرأ على القبر تبرعاً، أما من استؤجر للقراءة فإن الإجماع منعقد على أنها إجارة باطلة، وفي ذلك حديث (يس)، أنه إذا قرئ على القبور (يس) أنه يخفف عنه ذلك اليوم، ويكون له من الحسنات والأجور على عدد الموتى، وهو حديثٌ ضعيف. والصحيح الذي هو من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن السنة إذا قُبِر الميت أن يقام على قبره، وأن يدعى له؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما انتهى من دفن الميت: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل) فدل على أن المشروع هو الدعاء، وهذا هو ظاهر التنزيل في قول الحق تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10] فدل على أن المشروع هو الدعاء، والدعاء أنفع وأصلح للميت والحي: أما للميت فلأنه رحمة جعلها الله للأموات عند الأحياء؛ ولما يكون بسبب هذا الدعاء من الخير له؛ فيفسح له في القبر وينور له فيه، خاصةًَ إذا كان الداعي مخلصاً لله عز وجل. وفيه مصلحةٌ للحي؛ لأن الحي يكتب الله أجره بإحسانه لأخيه المسلم ودعائه وترحمه واستغفاره له؛ ولذلك وصف الله الأخيار بأنهم يترحمون على إخوانهم الأموات الذين سبقوهم بالإيمان، ومن حق المسلم على المسلم بعد موته أن يترحم عليه وأن يدعو له وأن يستغفر له. أما بالنسبة للقراءة فقلنا: إن الصحيح أنها لا تشرع، لا تخصيصاً بسورةٍ معينة ولا تشرع عموماً، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتأمل لفعله صلوات الله وسلامه عليه وهديه يعلم علماً واضحاً بيناً أنه لا يشرع أن يقرأ على القبر؛ لأنه لو كان مشروعاً لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولفعله من بعده من الخلفاء الذين أمرنا بالاستنان بسنتهم، فحيث لم يفعل ذلك لا من رسول صلى الله عليه وسلم ولا من الخلفاء الراشدين، فإنه يبقى على الحظر؛ لأن أمور العبادة توقيفية، ولا يجوز لأحدٍ أن يجتهد فيها ولو كان الأمر مستحسناً.

حكم إهداء ثواب القربات لميت أو لحي

حكم إهداء ثواب القربات لميت أو لحي قال المصنف رحمه الله: [وأيّ قربة فعلها وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ذلك]. القربة: ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، ويشمل ذلك الطاعات، سواء كانت قولية أو فعلية، ظاهرة أو باطنة، لأن العبد إذا فعلها فإنه يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وإذا تقرب إلى الله سبحانه وتعالى أحبه ووفقه وسدده، وأحسن له العاقبة في الأمور. فكلما كان العبد أقرب لله كلما كان أقرب لرحمة الله وعفوه وتيسيره ولطفه له في الدنيا والآخرة؛ ولذلك فالوصف بالقربة وصفٌ شرعي، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي عن الله تعالى: (ما تقرب إليّ عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه) فهذا يدل على أن العبد يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى ويزداد قرباً من الله عز وجل على حسب ما يكون منه من الخير والطاعة والبر.

أقسام القربات في إهداء الثواب

أقسام القربات في إهداء الثواب فالقربات تنقسم إلى ثلاثة أقسام -قسمين يقبلان للانقسام إلى ثلاثة-: النوع الأول: القربة البدنية المحضة. النوع الثاني: القربة المالية المحضة. والنوع الثالث: القربة الجامعة بين البدن والمال. فأما القربة البدنية المحضة: فكالصلوات وكقراءة القرآن وكالصيام. وأما القربة المالية المحضة: فالصدقات، كأن يتصدق ذو مال على فقير أو معسر أو نحو ذلك، أو يذبح شاةً ينويها صدقة على أمواته، أو يضحي أضحية ينويها عن والده أو والدته، فهذه قربةٌ ماليةٌ محضة. والقربة الجامعة بين البدن والمال: الحج والعمرة؛ فإن الذي يحج يجمع في حجه بين عبادة البدن وعبادة المال: أما عبادة البدن: فبفعل المناسك والشعائر. وأما عبادة المال: فإنفاقه للوصول إلى هذهِ المناسك وبلوغ هذه المشاعر. فأما ما كان من القرب البدنية المحضة فإن الجماهير على أنه لا يشرع فعل قربةٍ بدنيةٍ للميت إلا ما استثنى الشرع، فلا يجوز أن يصلي الحي عن الميت، ولا الحي عن الحي، ولا أحدٌ عن أحد؛ لأنها قربةٌ بدنية لا تصح إلا من المكلف نفسه، وعلى هذا فلو صلى عن والديه ما صلى فإنها لا تصح أن تكون قربة للغير. وذهب إسحاق بن راهويه رحمه الله إلى القول بجواز أن يصلي الحي عن الميت، وينوي هذه الصلاة عن الميت سواء كانت فريضة أو نافلة، واحتج بدليلٍ دقيق وهو: مسألة الحج عن الميت، فإنه لما أنكر عليه: كيف تقول بجواز الصلاة عن الميت مع أنها قربة بدنية يكاد الإجماع يكون على منعها؟ قال: أرأيتم لو حج حيٌ عن ميت أيجوز ذلك؟ قالوا: نعم. قال: أرأيتم لو طاف أيصلي؟ قالوا: نعم. قال: أليست الصلاة عبادة بدنية؟ قالوا: بلى. فكأنه يرى أن ركعتي الطواف لما أذن بها الشرع عن الميت، دل على مشروعية الصلاة عنه؛ لأنه سيصلي عنه ركعتي الطواف، وركعتي الطواف من العبادات البدنية. والجواب عن هذا الدليل: بأن إجازة العبادة البدنية -أعني: ركعتي الطواف- جاء تبعاً ولم يأت أصلاً، وفرقٌ بين العبادة المقصودة وبين العبادة التبعية التي تقع تبعاً للشيء، ولهذا نظائر في الشرع، ولذلك يقولون: يجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل، ألا ترى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من باع نخلة قد أُبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع)، فجعلها للمبتاع بالشرط، مع أنها بعد التأبير لم يبد صلاحها، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه)، قالوا: ففي حديث ابن عمر: (من باع نخلة قد أبرت ... ) وقعت الثمرة تبعاً للأصول، فجاز الشيء تبعاً ولم يجز أصلاً، فالصلاة أصلاً لا تصح، لكنها تبعاً تصح، هذا مع وجود الخلاف فيما إذا صلى ركعتي الطواف، هل يقصدها على الميت أو يقصدها عن نفسه أصالةً ويكون ثوابها للميت. فهذا حاصل ما ذُكر؛ والصحيح أن العبادة البدنية لا تصح عن الميت، إلا ما استثناه الشرع من صيام النذر، قالت: (يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضية عنها؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى) فأجاز لها عليه الصلاة والسلام أن تفعل العبادة البدنية المحضة من الصيام عن أمها، وجعل ذلك بمثابة قضاء الدين، فدل على مشروعية فعل هذه العبادة البدنية عن الميت إذا مات ولم يفعلها. وهل تلتحق بذلك الكفارات كصيام الكفارات وصيام رمضان أو لا يلتحق؟ وجهان للعلماء: منهم من خصه بما ورد به النص. ومنهم من قال: النص على النذر معللٌ بعلةٍ نصية، وهي قوله: (أرأيت لو كان على أمك دينٌ) وهذه العلة النصية يستوي فيها سائر الواجبات، وهو الصحيح؛ أعني أن سائر الصيام الواجب يشرع لك أن تصومه عن الميت. هذا بالنسبة لما استثناه الشرع: استثنى ركعتي الطواف تبعاً من العبادات البدنية، واستثنى صيام الفريضة في النذر ورمضان والكفارات ونحو ذلك، وأما صيام النافلة عن الميت فلا؛ لأن الأصل الحظر في العبادة البدنية. وأما بالنسبة للعبادة المالية المحضة: فالنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشروعية ذلك كما في الصحيح من حديث سعد، قال: (يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها وما أراها لو بقيت إلا أوصت)، والشيء الذي ينفلت زمامه من الإنسان لا يتداركه، بمعنى: أن الموت نزل بها قبل أن تدرك نفسها فتتصدق، وهذا أشبه بموت الفجأة، فموت الفجأة لا يستطيع الإنسان أن يتدارك فيه، قال: أفأتصدق عنها؟ فأذن له صلوات الله وسلامه عليه أن يتصدق عنها، فتصدق بحائطه المخراف، وكان من أفضل بساتينه رضي الله عنه وأرضاه؛ وذلك لأنه من البر؛ ولعظيم حق الأم، فدل على مشروعية الصدقة عن الميت. وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه ضحى بكبشين أملحين أقرنين، وقال في أحدهما: اللهم هذا عن محمدٍ وآل محمد، وقال في الثاني: عمن لم يضح من أمة محمد) ومعلوم أن الذين لم يضحوا من أمة محمد فيهم أموات، منهم من مات قبل أن يضحي صلوات الله وسلامه عليه، كأصحابه الذين ماتوا من قبل، فوقعت هذه الأضحية عن الميت. فدل هذا الحديث كما نص العلماء والمحققون على مشروعية التضحية عن الميت، ولا حرج أن يضحي الإنسان عن والده ووالدته، وأن يتقرب إلى الله عز وجل في ذلك اليوم المفضل بالأضحية، فيريق الدم قربةً إلى الله عز وجل وصدقةً عن أمواته بالتشريك والإفراد؛ بالتشريك كأن تقول: هذه عن والدي وعن والد والدي إلى المنتهى مثلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرك بين أمواتٍ عديدين، فقال: (عمن لم يضح من أمة محمد) صلى الله عليه وسلم. وبالإفراد كأن يقول: هذه عن أبي، أو هذه عن أمي؛ فإنه إفراد. فإن أوصى الميت فلا إشكال وتكون واجبة، وأما إذا لم يوص فإنه إذا أحب الإنسان أن يتنفل بالصدقة عنه فلا حرج، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه اشتكى إليه صحابي أن أمه ماتت، وأنه يريد أن يتصدق فقال: (نعم، وعليك بالماء) ففضل له الصدقة بالماء، كسقي الظمآن، لما في ري الظمآن من الأجر، كما في الحديث الصحيح: (أن امرأةً زانية من بغايا بني إسرائيل مرت على كلبٍ يأكل الثرى، فنزلت فملأت موقها وسقته، فشكر اللهُ لها) أي: أن الله عظم منها هذه الحسنة والرفق بهذا الحيوان الضعيف؛ فشكر الله لها هذا الفعل فغفر لها زناها وذنوبها. وفي رواية: (فشكر اللهَ لها)، يعني: الكلب سأل الله أن يشكرها؛ لأنه لا يستطيع أن يوفي لها حسنةً أنقذته من الموت؛ فغفر الله لها ذنوبها، قالوا: فمن أفضل الأعمال سقي الظمآن، ففي ذلك إزالة لريه، فإطفاء حر الأكباد من شدة الظمأ والعطش، بحفر الآبار في البوادي والقرى والأماكن النائية التي يشق على أهلها جلب الماء إليهم؛ من أفضل القربات والطاعات، بل إن بعض العلماء قد يفضل هذا الأمر على بناء المسجد إذا كان إنقاذاً للأنفس، ويقولون: إن بهذا الأمر بقاء الصدقة والبر؛ لأنهم إذا شربوا تقووا على طاعة الله عز وجل، لأن البلاء بالعطش أعظم، فكان الرفق بعمل ما يدفعه أعظم في الأجر عند الله، فيفضلون مثل هذه القربات، فيقولون: لو تصدق عن الميت بماءٍ، كحفر بئرٍ وتسبيله فهو أعظم في المثوبة. ولو برد الماء فيما يوجد في عصرنا هذا من البرادات ونحوها ففيه تفصيل: إن كان قد اشتراه وبرده، فهو مأجورٌ على الاثنين: على الماء بعينه، وعلى تبريده وإطفاء ما في الأكباد من حر الظمأ بهذا الماء البارد. وأما إذا كان الماء من غيره، وهو قائم على تبريده، فيكون له أجر التبريد، وعين الماء المتصدق به لصاحبه الأصلي إن رضي بذلك. هذا بالنسبة للصدقة بالأموال، ويشمل ذلك الذبح، وإطعام الجائع، وغير ذلك من القربات المالية المحضة، وكذلك التصدق بالمال، فلو أخذ عشرة أو مائةً فنوى في قلبه أنها صدقةً عن أبيه، فهذا من البر الذي يبقى بعد الموت؛ ولذلك شرعه النبي صلى الله عليه وسلم وأجازه حينما سأله الصحابي. ومن هذا ما ورد النص فيه كالبساتين، فالتصدق بثمار البساتين يعتبر من القرب المالية المحضة؛ لأن البلح والرطب والتمر يعتبر مالاً، ومن هنا يقولون: لا حرج أن يتصدق بالأموال سواءً كانت عينية أو كانت أطعمة أو كانت أسقية. وهكذا الكساء، فلو أنه جلب كساء لبردٍ أو حرٍ فجعله ليتيم أو أرملةٍ أو نحو ذلك، ونواه صدقةً عن ميته، فهذا من القربات، حتى ولو زاد عن حاجة الإنسان، كأن تكون عند الإنسان ثيابٌ فاضلة يتصدق بها عن أمواته؛ فإنها من الحسنات، وهي من البر، كأن ينويها عن أبيه أو عن أمه؛ لأن النص ورد بإجازة هذا النوع من الصدقات.

إهداء الثواب للحي

إهداء الثواب للحي قوله: [أو حيّ نفعه ذلك]. الأصل: أن الإنسان يتصدق عن نفسه، ويكون ذلك من باب الإيثار للنفس بالقرب والطاعات، أما بالنسبة للميت فقد يكون ذلك لعظيم حقه كالوالدين والقرابة، وقد يكون صديقاً بينك وبينه الود والمحبة، فتحب أن تحسن إليه بعد موته بالصدقة عنه، لعل الله أن يجعل في هذه الصدقة رحمةً تغشاه في قبره، أو تجعلها صدقةً عامةً للمسلمين، فكل ذلك مما لا حرج فيه. وأما أن يكون من حي لحيٍ فهذا لا يحفظ فيه أصل، لكن بعض العلماء أجازه بالقياس، بإلحاق النظير بنظيره، وحكى بعضهم أنه لا خلاف فيه، ولكن لا أحفظ لهذا الإجماع مستنداً، فيتوقف في صدقة الحي عن الحي، بمعنى أن ينوي بأعماله الصالحة أن يكون ثوابها للحي. وأما بالنسبة لنية الأعمال الصالحة عن الأموات إذا قلنا بمشروعيتها، فإنه يستثنى من ذلك هبة ثواب الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي مسألة منع منها العلماء رحمةُ الله عليهم، وبعض الناس يفعلها جهلاً، فيقول: إن هذه الصدقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا باطل ولا أصل له، والسبب في ذلك أن حسنات الأمة كلها للنبي صلى الله عليه وسلم، سواء نويت أو لم تنو؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا إلى هدىً كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص من أجورهم شيئاً) سواء كانت عبادات بدنية أو مالية أو جامعةً بينها، فأجور الأمة كلها في ميزان حسناته بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، وهو ليس بحاجة إلى أن يتصدق أحدٌ أو ينوي صدقته عنه صلوات الله وسلامه عليه، فهو في مقام عظيم وفي منزلٍ كريم بأبي وأمي هو صلوات الله وسلامه عليه.

صنع الطعام لأهل الميت

صنع الطعام لأهل الميت قال المصنف رحمه الله: [ويسن أن يصنع لأهل الميت طعامٌ يبعث به إليهم]. أي: لأنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يُصنع لأهل الميت طعامٌ يبعث به إليهم، وهو محفوظٌ عنه في يوم موت جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، ففي السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً؛ فقد أتاهم ما يشغلهم) والسبب في ذلك: أن أهل الميت يفجعون بميتهم، فيشتغلون بالفاجعة والمصيبة عن تهيئة الطعام ونحو ذلك، فحينئذٍ كان من الرفق أن يصنع لهم الطعام، لقوله عليه الصلاة والسلام: (فقد أتاهم ما يشغلهم)، والمحزون والذي فجع بفاجعةٍ في ولده أو قريبه يذهل عن طعامه وشرابه، ولربما وضع الطعام بين يديه فلم يستسغه، وكذلك ربما وضع الشراب بين يديه فلا يستسيغه؛ مما يكون في كبده من ألم الفراق ولوعة الحزن وشدته عليه في نفسه، ولذلك يرفق به بصنع الطعام. وينبغي أن يكون صنع هذا الطعام من باب التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم لا من باب الرياء ولا المباهاة؛ وإنما يقصد به وجه الله تبارك وتعالى، حتى يثاب صاحبه ويؤجر. قوله: (يصنع لهم) للعلماء فيه وجهان: منهم من يقول: يصنع لهم يوماً واحداً، وهو يوم المصيبة والفاجعة، وأما اليوم الثاني والثالث فلا يصنع. ومنهم من يقول: الثلاثة الأيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحداد ثلاثة أيام؛ فلما سوغ لأهل الميت أن يحدوا على ميتهم ثلاثة أيام، فمعناه أنهم مشغولون في الثلاثة الأيام أكثر من غيرها، فيشرع أن يصنع لهم الطعام في الثلاثة الأيام، والأمر محتمل، لكن الوارد عنه عليه الصلاة والسلام أنه أطلق، فقال: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد آتاهم ما يشغلهم) فإن قيل باليوم فهو الأصل وهو الأقوى، وإن قيل بالثلاثة الأيام فله وجه؛ لأنه قال: (فقد أتاهم ما يشغلهم) فقد يكون شغلهم في الثاني والثالث كشغلهم في الأول، بل قد يشتد حزنهم أكثر في الثاني والثالث. وعلى العموم: الأقوى أن يقتصر على اليوم الأول.

ليس على أهل الميت إطعام الناس

ليس على أهل الميت إطعام الناس والسنة: أن يصنع لهم الطعام لا أن يصنعوه للغير، فتكليف أهل الميت بصنع الطعام خلاف السنة، وهو إلى البدعة أقرب، بل قد يكون حراماً إذا كان من أموال اليتامى والقصار كما يفعله بعض الجهال، حيث يقدمون على تركة الميت التي فيها حق اليتامى والأرامل، ويأخذون منها الأموال لوضع الفرش والبسط وكلفة العزاء وكأنه حدث عرس، فيتكلفون في ذلك ويضرون بآل الميت، فيكون هذا الطعام من أكل أموال اليتامى ظلماً، والفاعلون لذلك وصفهم الله بأنهم: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10] نسأل الله السلامة والعافية. فلذلك: لا يشرع أن يصنع أهل الميت للناس طعاماً، وإنما يصنع الناس لهم طعاماً، إلا أن هنا مسألة عمت بها البلوى، وهي مسألة الضيف إذا نزل على آل الميت، فإذا كان هناك ضيف، خاصةً من القرابات: كأبناء عمٍ أو إخوانٍ نزلوا وجاءوا من سفر ونزلوا على الإنسان، وهم ضيوف لهم حق الضيافة، فذبح لهم لا لأجل الموت ولا صدقةً على الميت، بل إكراماً للضيف فلا حرج؛ لأن هذا منفكٌ عن أصل مسألتنا، فليس من العزاء ولا هو متعلق بالعزاء، وإنما هو من باب إكرام للضيف الذي أمر الله به ورسوله، فيكرم الضيف ولا حرج. لكن الأولى ألا يكون في بيت الميت، وإنما ينتقل إلى بيوت الجيران أو نحو ذلك، والأولى أن يكون الجيران هم الذين يتولون شأن الضيوف، وهكذا القرابات كأبناء العم ونحوهم؛ لأن آل الميت مشغولون. وضيافة الضيف تكون على المستطيع القادر، إذا كان أهل الميت في شغل فإن ضيافة الضيوف تكون على قرابتهم أو جيرانهم، وهذا هو المنبغي أدباً وعُرفاً. ولو صنع أهل الميت الطعام لقرابتهم أو لضيوفهم الذين قدموا من سفر، فهذا لا حرج فيه؛ لأنه لا يقصد به العزاء، ولا يقصد به إقامة المأتم، ولا يقصد به المحظور، وإنما هو مبني على أصلٍ شرعي، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إنما الأعمال بالنيات) فهذا قد نوى إكرام الضيف، ولم ينو به الصدقة عن الميت، ولم ينو به إحياء العزاء، فهو باقٍ تحت أصلٍ شرعي يوجب الحكم باعتباره حتى يدل الدليل على إلغائه، ولا يوجد دليل يلغيه. فتبين أنه لا يشرع لهم أن يصنعوا للغير إلا في هذه الحالة، وما عداها فإنه ينص على أنه من البدعة والحدث، وفي حديث جرير أنهم كانوا يعدون الجلوس في بيت الميت وصنع الطعام فيه من النياحة، يعني: مما حظر الله من النياحة التي هي من كبائر الذنوب. قوله: (يبعث به إليهم): أي فلا يجتمع الناس عند أهل الميت، فإذا بعثنا بالطعام إليهم فلا يُجمع الناس على هذا الطعام، إنما يختص بآل الميت؛ والناس اليوم يشقون على أنفسهم ويخرجون من سماحة الإسلام ويسره، إلى كلفة ما أنزل الله بها من سلطان، فتجد أيام العزاء أثقل ما تكون على آل الميت، فهم ما بين داخل وخارجٍ في قيامهم على الضيوف الذين يتكرر توافدهم على البيت، ولربما يبقى الواحد منهم من الصباح إلى العشيّ ولا يفارق آل الميت، فيكون كلاً وعناءً عليهم، وهذا لا شك أنه لا يجوز؛ لما فيه من الضرر والأذية ولأن جلوسهم في بيت الميت عبء على أهل الميت؛ لأنهم سيضطرون إلى ضيافتهم. ثم هذا الجلوس قد يصحبه المحظور من الكلام في فضول الدنيا، وشغل آل الميت عما هم فيه من الحزن على ميتهم، وقد أذن الشرع لهم بالحداد ثلاثاً؛ حتى يذهب ما في النفس من لوعة الفراق وحزنها، فيطفأ ما في الأكباد من حرارة الفراق وألمه ولوعته، فيأتي هذا لكي يتحدث في فضول الدنيا، وقد يقصد من ذلك تسلية أهل الميت، فيكون قصداً مخالفاً للشرع؛ لأن الإنسان إذا فجع بقريبه ربما تاب من ذنبه، واعتبر بفراق القريب، وأحس أنه لاحق به إما عاجلاً أو آجلاً؛ فدعاه ذلك إلى الإحسان وإلى إمعان النظر، لكن إذا جاء هذا وشغله بحديث الدنيا ألهاه عن التفكر والاعتبار، وعن الاشتغال بما هو مقصود وبما هو أهم؛ ولذلك لا يشرع مثل هذا من الجلوس في بيت الميت، إنما يأتي الإنسان ويعزي.

جلوس أهل الميت لتلقي العزاء

جلوس أهل الميت لتلقي العزاء وهل يشرع لآل الميت أن يجلسوا في بيتهم يتقبلون العزاء؟ كان السلف يمنعون ذلك، وكان الإمام مالك رحمة الله عليه يشدد في ذلك كثيراً ويمنع منه، وعلى ذلك درج فعل السلف، لكن أفتى المتأخرون من العلماء والفقهاء أنه لا حرج في هذه العصور المتأخرة. والسبب في ذلك: أن العصور المتقدمة كان الناس قليلين، ويمكنك أن ترى آل الميت في المسجد، وأن تراهم في الطريق وأن تراهم في السابلة وتعزي، وكان الأمر رِفقاً، بل قل أن يموت ميت إلا وعلم أهل القرية كلهم وشهدوا دفنه، فكان العزاء يسيراً، لكن في هذه الأزمنة اتسع العمران، وصعُب عليك أن تذهب لكل قريب في بيته، ويحصل بذلك من المشقة ما الله به عليم، وفيه عناء؛ لذلك لو اجتمعوا في بيت قريبٍ منهم كان أرفق بالناس وأرفق بهم، وأدعى لحصول المقصود من تعزية الجميع والجبر بخواطر الجميع؛ ولذلك أفتوا بأنه لا حرج -في هذه الحالة- من جلوسهم، ولا يعتبر هذا من النياحة، بل إنه مشروع لوجود الحاجة له. فإذا وجدت الحاجة والضرورة جاز استثناؤها من الأصل، وقد يكون الشيء محظوراً ويستثنى لوجود الضرورة والحاجة، فلو أن امرأةً أصابها ألم واضطرت للكشف عن ساقها أو عن ساعدها أو عن صدرها للطبيب، فإنه ليس عندنا دليل يدل على مشروعية كشفها عن ساقها أو ساعدها للطبيب، لكن لما وجدت الضرورة والحاجة أُذِنَ لها في ذلك، فهو ليس بنصٍ عيني على المسألة، لكنه أصلٌ شرعي يُطرد في هذه المسائل. فإن وجدت ضرورة وحرج للناس فإن الله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] فلو قلنا للناس: عزوا كل إنسان في بيته، لتفرق الناس في ثلاثين بيتاً، ولربما حدث في المدن الكبيرة من ذلك فيه حرج ومشقة، ولربما لا تستطيع أن تستغرق عزاءهم خلال الثلاثة الأيام، وقد يكون بعضهم أحوج ما يكون أن تأتيه في اليوم الأول عند الصدمة الأولى، ولذلك لا شك أنه من الحرج أن نقول: إنهم لا يجلسون في مكانٍ معين، فلذلك رخص بعض المتأخرين في جواز جلوس آل الميت عند قريب منهم ويعزون؛ دفعاً للضرر عن الناس وعنهم. لكن بشرط: ألا يشتمل هذا الجلوس على محظور مما ذكرناه من المباهاة، أو وضع علامات معينة على البيت أشبه ما تكون بعلامات الزواج، أو نحو ذلك من الأمور المحدثة التي لا أصل لها، وإنما يكون الجلوس على السنن، ويدخل إلى آل الميت يسلم عليهم ويجبر بخاطرهم، ثم ينصرف المعزي. ولا يجلس أكثر من الحاجة، إنما يشرع له أن يدخل ويعزي، فإن كانوا بحاجة إلى كلمةٍ منه تسلي قلوبهم سلاهم، كالعالم وطالب العلم والحبيب والصديق المحب، الذي تعظم منه الكلمة ويكون لها أثر، ويكون لها قبول عند من يعزيه، فهذا لا حرج أن يجلس ليجبر بخاطر آل الميت، ولكن يعجل بالانصراف. وكان العلماء والأجلاء لا يجلسون في هذه المجالس ولا يطيلون المكث فيها إلا من حاجة، مثال الحاجة: كأن يحتاج آل الميت أن يستفتوك عن بعض المسائل، فتطيل اللبث عندهم لبيان السنة والهدي، ولكي تنصحهم فيما يجوز لهم وما لا يجوز، وأن تبين لهم بعض الحقوق التي يحتاجونها بعد وفاة الميت، وتوصي كبيرهم بصغيرهم، وتوصيهم بالأيتام وبالوالدين ونحو ذلك من الضعفاء، كل هذا لا حرج فيه، ويرخص فيه بقدر الحاجة والضرورة كما ذكرنا.

صنع أهل الميت طعاما للضيف

صنع أهل الميت طعاماً للضيف قال المصنف رحمه الله: [ويكره لهم فعله للناس]. أي: فعل الطعام للناس، وهذا يستثنى منه ما ذكرناه من ضيافة الضيف، فإنه لا حرج أن يدفعوا للضيف طعاماً، وينبغي على الضيوف أن يترفقوا بآل الميت، وألا يحملوا ما لا يطيقون، خاصةً وأنهم مشغولون بما هم فيه من العزاء وتحمل المصيبة وعنائها، لكنهم لو صنعوه للضيف فلا حرج، ويستثنى إذا كان بالمعروف. وأما بالنسبة لصنع الطعام من أهل الميت صدقةً عن موتاهم أو نحو ذلك مما ابتلي به بعض الناس في هذا الزمان فهذا هو الذي قال عنه العلماء: إنه لا يشرع، وإذا كان من أموال اليتامى فإنه أشد حرمة، ويجب على الولي أن يضمن المال الذي أنفقه، فإذا أنفق من مال اليتيم في مثل هذه الأمور فإنه يجب عليه الضمان؛ لأن اليتيم غير مسئول عن هذا الطعام، ولا يجوز أن يحمّل ماله هذه النفقة التي لا وجه لها في الشرع، فيجب على المنفق ضمان المال وعزمه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم رفع اليدين عند الدعاء والاستغفار للميت

حكم رفع اليدين عند الدعاء والاستغفار للميت Q عند الدعاء والاستغفار للميت هل يشرع رفع اليدين؟ وكيف يدعو: هل يتوجه إلى القبلة أم ماذا؟ A الدعاء للميت له صورتان: الصورة الأولى: أن يكون بعد دفنه مباشرة. والصورة الثانية: عند زيارة المقابر. أما إذا كان دعاؤه بعد دفنه مباشرة، فالسنة ألا ترفع اليد، كما نص على ذلك جمعٌ من العلماء رحمهم الله، وإنما يدعى له ويستغفر ويترحم عليه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح عنه: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل) ولم يرفع يديه صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك درج عليه فعل السلف، إلا أنه أثر ذلك عن ابن عمر، لكن لم أطلع على من صحح الرواية عنه في ذلك. أما بالنسبة لرفع اليدين عند الزيارة، كأن تزور القبور وتريد أن تدعو لأهلها، أو تزور قبراً معيناً كوالدٍ ووالدةٍ وقريب وصديق ونحو ذلك، فلا حرج أن ترفع يديك، بل هو السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أنه لما خرج بالليل قام على القبور قياماً طويلاً ورفع يديه واستغفر لهم ودعا لهم) وحينئذٍ يستقبل القبلة ويدعو للميت، ويترحم عليه، وعند السلام يستقبله من وجهه كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، فيأتي للقريب من وجهه ويسلم عليه، ثم يتوجه إلى القبلة ويدعو ويترحم على ميته وأموات المسلمين، هذا هو السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه من المواضع التي ورد فيها النص بمشروعية رفع اليدين في الدعاء. وأما ما ذكرناه في حال الدفن فلا يُحفظ فيه نصٌ صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم والله تعالى أعلم.

حكم التعزية بعد الدفن في المقبرة

حكم التعزية بعد الدفن في المقبرة Q ما حكم وقوف أقارب الميت في المقبرة بعد الدفن لتعزية الناس لهم، أثابكم الله؟ A لا حرج أن يعزى أقارب الميت عند القبر، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه عزّى عند القبر كما في الحديث الصحيح: (أنه صلى الله عليه وسلم مرّ على امرأةٍ وهي تبكي على قبرٍ، فقال: يا أمة الله! اصبري. فقالت: إليك عني، فلست أنت المصاب. فلما ولى قيل لها: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاءت تعتذر إليه، فقال صلوات الله وسلامه عليه: إنما الصبر عند الصدمة الأولى) فكان عزاؤه عند الصدمة الأولى، أي: لما صدمت وفجعت وبكت على ميتها، فعزّاها صلوات الله وسلامه عليه فقال: (يا أمة الله! اصبري)، فلا حرج أن يعزى في القبر. ولذلك أخذ بعض العلماء من هذا دليلاً على مشروعية التعزية عند القبر، وفيه رفقٌ بالناس؛ لأنهم يتكلفون الحضور إلى بيت الميت ثانياً، فالأولى أن يعزوا عند القبر؛ ولأن آل الميت أحوج ما يكونون إلى التعزية في مثل هذا الموضع الذي يشتد فيه حزنهم ويعظم فيهم مصابهم؛ لأنهم يرون أن الميت قد ووري وغاب عنهم، وحينئذٍ تكون الفاجعة به أشد، لكنه قبل دفنه يكون كأنه موجودٌ أمامهم يرونه فيتسلون برؤيته، ولربما تسلت الأم برؤية ابنها، وتسلى الأب برؤية ابنه، لكنه إذا دفنه وتحقق عندها موته؛ فإنه تكون الفاجعة به أشد. ولذلك يعتري كثير من الناس من الحزن والفاجعة في مثل هذا الوقت ما لا يكون بعده، ففي هذه الحالة يشرع أن يعزوا في القبر لشدة ألمهم، وما يجدونه من الحزن والوجد على فراق أقاربهم. ويعزى أهل الميت إذا عُرِفوا، وخفف بعض العلماء وتسامح في كونهم يقفون مصفوفين حتى يعلم الغريب أنهم قرابة للميت فيعزيهم، أما لو كانوا لا يتميزون؛ فإنه من الصعوبة بمكان أن يعرفهم الغريب؛ ولذلك رخص بعض المتأخرين من العلماء في هذا فقالوا: الأمر فيه واسع، لكن لا يعتقد أنه من السنة، إنما يقال: يفعل للحاجة، ولا يعتقد أنه لو تركه أحد أن يقال: إنه أساء؛ لأنه أمر فعل للحاجة، فلو تميز آل الميت وعُرِفوا فتركه أولى. أما إذا وجدت قرابة من الميت وهم بحاجة إلى أن يواسوا ويعزوا فاصطفوا لذلك، فهذا درج عليه كثير من العلماء ولم ينكروه؛ لأنه يحتاج إليه خاصة في هذا الزمان عند اتساع المدن، وقد يشهد الجنازة من لا يعرف أهلها، ولا يعرف قرابتها، فلو قيل له: اذهب وتخيّرهم بين الناس لصعُب، خاصةً إذا كان الميت قد شهد جنازته كثير، وقد تعرف الصديق والقريب ويخفى عليك قرابته، ويخفى عليك أهله وجماعته؛ فحينئذٍ تحتاج إلى من يميزهم. فمثل هذا ليس بعبادةٍ مقصودة، أعني: إذا اصطفوا ووقفوا، أنهم لا يفعلون ذلك بقصد العبادة، إنما بقصد أن يعرفوا ويميزوا، فخفف فيه بعض المشايخ رحمةُ الله عليهم ممن أدركناهم من أهل العلم من هذا الباب. أما لو اعتقد أنه من السنة، أو أنه لا بد من الوقوف، وأنه يكون على حالة معينة أو مخصوصة فهذا من البدعة والحدث الذي لا أصل له والله تعالى أعلم.

حكم شد الرحال للعزاء

حكم شد الرحال للعزاء Q ما حكم شد الرّحال للعزاء أثابكم الله؟ A شد الرحال للبقع نُهي عنه لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) فلا تشد للقبور ولا للمشاهد، لكن إذا كانت الأعمال الصالحة: كبر الوالدين، وطلب العلم، والحج والعمرة، فتشد لها الرحال؛ لأنها أعمال وليست بأماكن، وفرقٌ بين المكان وبين العمل، فإذا أراد أن يشد الرحل للعزاء فهذا فيه تفصيل: إن كان الميت قوي القرابة من الإنسان كأبيه، فكان يريد أن يشد الرحل إلى أهله وإخوانه وأخواته ليكون معهم ويثبتهم ويواسيهم ويصبرهم، فهذا لا إشكال أنه من صلة الرحم، وأنه لا حرج عليه أن يسافر من أجل أن يصبر أمّه ويصبر إخوانه وأخواته وأقاربه. أما أن يسافر لصديقه ويتكلف السفر لصديقه ونحو ذلك من المجاملات، فهذا لا أصل له، بل إنه قد يكون عبئاً وثقلاً عليه، والأحسن أن يعزيه بالاتصال هاتفي، خاصةً مع تيسر وسائل الاتصال الآن، أو يكتب له رسالة أو يبرق له، فيشعره بتأثره بما نزل به من بلية، وفي هذا الكفاية وفيه الخير والله تعالى أعلم.

حكم دفن الوالدة مع ولدها إذا ماتا معا

حكم دفن الوالدة مع ولدها إذا ماتا معاً Q إذا ماتت الوالدة في ولادتها هي وولدها، فهل يشرع دفنهما سوياً أثابكم الله؟ A الجمع بين الاثنين في قبر لا يشرع إلا من حاجة، والأصل أن الأطفال الصغار يقبرون على حدة، فإن وجدت حاجة من كثرة عددهم وصعوبة دفنهم منفردين فلا حرج أن يجمعوا، سواء جُمِعوا مع كبيرٍ بالغ أو مع صغارٍ مثلهم، ففي هذه الحالة لا حرج أن يقبر مع أمه. وأما ما يعتقده العامة من أن هذا الصغير يخفف العذاب عن الكبير فباطل ولا أصل له، والله تعالى لا يظلم عباده شيئاً، وهو سيتولى العبد بإحسانه إن كان محسناً، وبعدله إن كان مسيئاً، أو بفضله ورحمته وعفوه وكرمه إذا أحب أن يعفو عن إساءته. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرحمنا برحمته، وأن يشملنا بواسع لطفه وحلمه، إنه وليّ ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

زيارة القبور

شرح زاد المستقنع - زيارة القبور نهى النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الأمر عن زيارة المقابر، ثم أمر به واستحبه، وبين العلة من ذلك وهي أنها تذكر بالآخرة، فينبغي على المسلم أن يزور المقابر بين الفينة والأخرى، وأن يكون ملماً بالأحكام المتعلقة بها، كحكم زيارتها، وتعظيم خطر الغلو في القبور وما أحدث فيها من البدع، وحكم زيارة النساء للمقابر، ومعرفة آداب زيارة القبور وما يقال عند زيارتها.

حكم زيارة القبور

حكم زيارة القبور بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد بين المصنف رحمه الله الأحكام المتعلقة بالميت، حتى فرغ من بيان أحكام الدفن، وما يتبع ذلك من المسائل المتعلقة بالقبور، ثم شرع رحمه الله في هذا الفصل في بيان بعض الأمور المتعلقة بما بعد الدفن، فقال رحمه الله: [فصل: تسن زيارة القبور]. هذه السنية تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول والفعل، فأما القول: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في حديث ابن مسعود وأبي سعيد وأبي هريرة وأنس وعائشة رضي الله عن الجميع: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها؛ فإنها تذكر الآخرة). ولما سألته أم المؤمنين ماذا تقول إذا زارت القبور؟ فقال: (قولي: السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين ... ) الحديث. وأما الفعل: فإن النبي صلى الله عليه وسلم زار القبور ودعا لأهلها واستغفر، وأقر زيارتها، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه قام في جوف الليل، وتبعته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فقام قياماً طويلاً ودعا لأهل القبور واستغفر، ثم رجعت قبله صلوات الله وسلامه عليه)، فدل هذا على مشروعية زيارة القبور. وللعلماء تعبيران في هذه المسألة: فمنهم من يعبر ويقول: تُسن، ومثل هؤلاء أيضاً من يقول: يباح، ومنهم من يقول: تشرع، فهذهِ ألفاظٌ متقاربة وهناك قولٌ آكد وأقوى، وهو التعبير الثاني: تستحب. فأما من قال: إن زيارة القبور مباحة؛ فإنه نظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها) فقال: إنه أمرٌ بعد الحظر، والأمر بعد النهي والحظر يقتضي الإباحة عند هؤلاء. وأما من قال بالاستحباب والتأكد فقال: إنه أمرٌ مصروفٌ عن ظاهره الدال على الوجوب إلى الندب والاستحباب. فأما الذين قالوا: إنه أمرٌ بعد حظر، فإنه إذا ورد نهيٌ في الكتاب والسنة، ثم جاء بعده أمرٌ بذلك المنهي عنه فللعلماء أقوال: قال بعض العلماء: كل أمر بعد الحظر محمولٌ على الإباحة، وهذا يختاره جمعٌ من فقهاء الشافعية والحنابلة وكذلك المالكية رحمة الله على الجميع. والقول الثاني يقول: كل أمرٍ بعد الحظر محمولٌ على الوجوب، وهو مذهب الظاهرية. والقول الثالث: كل أمرٍ بعد الحظر محمولٌ على حالته قبل النهي. توضيح ذلك بالمثال: صيد البر حرمه الله على المحرم، ثم قال: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] فوقع قوله: (فاصطادوا) بصيغة الأمر التي هي بعد الحظر والتحريم، فهل نقول: إن الصيد واجب أو مندوبٌ أو مباح؟ فهذه هي مذاهب العلماء. فمن يقول: إنه للوجوب، يقول: لأنه أمر، حتى أن بعض الظاهرية يوجبون الصيد على ظاهر الآية، وهو من أغرب الأقوال وأكثرها شذوذاً. والذي قال: إنه للندب والاستحباب يقول: إن الأمر رفع النهي، فأصبح مصروفاً عن ظاهره المقتضي للوجوب إلى ما هو دون ذلك وهو الندب والاستحباب، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9]، فقوله: (وَذَرُوا الْبَيْعَ): نهي وتحريم وحظر، جاء بعده قوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] فقوله: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) أي: بالتجارة، كقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] فإنها نزلت فيمن يريد الحج والتجارة. فهل قوله: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) محمولٌ على ظاهره من الوجوب أو للندب والاستحباب، أو للإباحة التفاتاً إلى ما كان عليه الحال قبل ورود النهي؟ فأصح الأقوال في هذه المسألة: أن الأمر بعد الحظر يرجع إلى حالته قبل الحظر، فيرفع الأمرُ النهي، ويبقى الحكم للأصل، فلما كان الصيد في الأصل تعتريه الأحكام الخمسة: فيكون مكروهاً، ويكون مندوباً، ويكون واجباً ويكون حراماً، ويكون مباحاً؛ فإن الأمر بالتحلل في قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] يرفع الحظر والتحريم، ويرجع حكم الصيد إلى التفصيل وهي الأحكام التكليفية الخمسة: إن كان صيداً لمحرم فمحرم، وإن كان صيداً لمكروه فمكروه، وإن كان صيداً لإنقاذ نفسٍ فواجب، وإن كان من أجل أن يتقوى به على طاعة الله فمستحب، وإن خلي من الدوافع والموانع فهو مباح. كذلك أيضاً في قوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة:10] فلما كانت التجارة من المباحات التي ليست بواجبة ولا لازمة على المكلف، ولا بمحرمةٍ على الإطلاق، وإنما تحظر أحياناً وتباح أحياناً؛ فإن أمر الله عز وجل بالبيع والشراء بعد صلاة الجمعة يرفع الحظر الذي كان موجوداً أثناء الصلاة، ويبقى حكم التجارة على الأصل. فقوله عليه الصلاة والسلام: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها) فالذين يقولون: تباح الزيارة ولا يعبرون بالاستحباب يلتفتون إلى هذا الأصل، فيقولون: إنه أمرٌ بعد حظر؛ فيرجع إلى الإباحة، والذين يقولون: إنه للندب والاستحباب، يقولون: الأمر في قوله: (فزوروها) رفع التحريم، وبقيت زيارة القبور مستحبة، خاصةً وأن في الحديث كلمة تدلّ على الاستحباب والندب بقوله: (فإنها تذكر الآخرة) فقوي هذا المذهب، ولذلك كان التعبير عند بعض العلماء بقوله: (وتستحب زيارة القبور) أقوى من التعبير بقوله: (تسن). والإجماع منعقد من حيث الجملة على أن الزيارة سنة بالنسبة للرجال، أما بالنسبة لفضلها فإنها تستحب، والسبب في ذلك: أن الوسائل آخذة حكم مقاصدها، فما كان وسيلةً لواجبٍ فواجب، وما كان وسيلةً لحرام فحرام، وما كان وسيلة لمندوبٍ فمندوب، فلما كان تذكر القبور واستشعار الآخرة، وكون المكلف دائماً يستحضرها في قلبه مما يعينه على طاعة الله، ويقوي عزيمته على الخير، ويكفه عن كثيرٍ من الشر والمحارم والحدود، ويهذب أخلاقه ويقوّمُ سلوكه؛ كان هذا من جنس المستحبات لما له من الأثر العظيم. ويبقى النظر بالنسبة لزيارة القبور: هل هي لمصلحة الزائر، أو لمصلحته ومصلحة المزور وهو المقبور الذي يزار؟ فإن كانت لمصلحة الزائر فظاهر قوله: (فإنها تذكر الآخرة) متعلق بالزائر، وحينئذٍ تكون الزيارة لمصلحة الحي. والصحيح: أنها لمصلحة الحي والميت، أما الحي: فإنه ينتفع بالاتعاظ والادكار، خاصةً إذا صحب الزيارة حضور القلب، وهذا هو المقصود من قوله عليه الصلاة والسلام: (فإنها تذكر الآخرة) فهو ينظر إلى القبور متقاربة، ولكنها في الأجور والحسنات والنعيم والجحيم متباعدة، فقد يكون القبر إلى جوار القبر، ولكن هذا في غاية النعيم، وهذا في درك الجحيم، نسأل الله السلامة والعافية! وتراهم وهم جيران قربٍ لا يتزاورون، وغرباء سفرٍ لا ينتظرون، قد حيل بينهم وبين ما يشتهون. فإذا نظر الإنسان إلى حال القبور، خاصةً إذا كان على علمٍ بأهلها، فيعلم أهلها وأصحابها، وبالأخص إذا كانوا من الأقرباء والأصحاب والأحباب؛ فإن وقع ذلك في القلوب بليغ، ولذلك يتأثر الإنسان من مثل هذه الزيارات، ويصبح قصير الأمل في الدنيا، وإذا قصر أملُ الإنسان في الدنيا خشع قلبه، وإذا خشع قلبه صلُح، وإذا صلح القلب صلح سائر الجسد كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله) فلا شك أنها لمصلحة الحي من هذا الوجه، حيث تعينه على ذكر الآخرة، وتكسر كثيراً من الغرور، وتحول بينه وبين كثيرٍ من الشرور؛ فلربما زار قبر إنسان مسرف على نفسه كثير العصيان فنظر إلى حاله فاتعظ وادّكر، وكره عمله وما كان عليه من حال، وإذا زار عبداً صالحاً مستقيماً على طاعة الله عز وجل؛ فإنه يحمد ما كان منه من طاعة وبر؛ فيكون حريصاً على التشبه به والتخلق بأخلاقه؛ لعل الله أن يبلغه منزلته، ولذلك جاء في دعاء المقابر: (اللهم لا تحرمنا أجرهم) أي: لا تحرمنا ما كانوا فيه من الخير والبر والطاعة والاستقامة؛ حتى نكون مثلهم أو خيراً منهم. وقوله: (تسن زيارة القبور) هذا بالنسبة للتعبير العام، وإلا فالحكم يستوي أن تزور قبراً معيناً أو قبوراً، فلو أن إنساناً أراد أن يزور قبراً معيناً بدون أن يشد له الرحل، فزاره ووقف عليه وسلّم على صاحبه، ودعا له بخير؛ فإن هذا له أثر، لأن العلة واحدة، سواء زرت الجماعة أو زرت الفرد؛ ولذلك لما قال عليه الصلاة والسلام: (فإنها تذكر الآخرة) فهم العلماء من هذا أنه لا فرق بين زيارة قبر أو قبور، فكون الإنسان يزور قبراً ليتعظ لا شك أنه سيكون لمصلحته. بقي أن ينظر في مصلحة الميت المزور، فمصلحته بالدعاء والاستغفار له والترحم عليه؛ فمن زار المقابر وترحم على أهلها لا شك أنه سينال أجر هذه الدعوة الصالحة، فلربما مررت عليهم في ساعة يعذب فيها أقوام، فسألت الله لهم الرحمة فرحمهم الله، ورفع عنهم ما هم فيه من العذاب، وقد يكونون أمم لا يحصون، فيكون لك كأجرهم؛ لأنك نفست عنهم هذه الكربة العظيمة، لأنهم انقطعوا عن أعمالهم، فإذا دعوت لهم بالخير وترحمت عليهم، وسألت الله أن يفسح لهم في قبورهم وأن ينور عليهم؛ فإن الله عز وجل يثيبك على هذه الدعوة الصالحة: (ولك بمثل)؛ لأنك تدعو لأخيك بظهر الغيب. ومن هنا يعظم أثرها على الزائر ويتأكد ذلك في حق الوالدين والأرحام والقرابات والشيخ ونحوه ممن له فضل على الإنسان من العلماء والدعاة، ونحوهم ممن لهم فضلٌ على الأمة وفضلٌ على المسلمين؛ فهؤلاء لا شك أن زيارتهم أكثر خيراً في الدعاء لهم والترحم عليهم، ورد شيءٍ من جميلهم على الإنسان كالوالدين والأقرباء الذين لهم حقٌ عليه. (تُسنّ زيارة القبور): هذه الزيارة المقصود منها -كما قلنا- أن يصلح ا

حكم زيارة النساء للقبور

حكم زيارة النساء للقبور قال المصنف رحمه الله: [تسن زيارة القبور إلا للنساء]. النساء اختلف فيهن على قولين: القول الأول: تشرع زيارة القبور للنساء كما تشرع للرجال، وهو مذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع. القول الثاني: تحرم زيارة القبور على النساء، ويختص الجواز بالرجال دون النساء، وهؤلاء انقسموا على طائفتين: فمنهم من يقول: إنها محرمة وليست بكبيرة إلا إذا صحبها التكرار والعود؛ لقوله: (زوارات القبور). ومنهم من يقول: هي كبيرة مطلقاً. أما الذين قالوا: إن الزيارة مشروعة للنساء، فقد استدلوا بما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها) قالوا: وهذا عام، والقاعدة في الأصول: (أن الأصل في العام أن يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه). قالوا: ومن استدل بالتحريم بقوله: (لعن الله زائرات القبور)، فإن هذا الحديث ورد أثناء التحريم، وأما حديث: (قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور) فإنه نصٌ صحيح صريح، يدل على أن هذه الإباحة سبقها تحريم؛ ولذلك قالوا: إن ما ورد من التحريم محمولٌ على الزمان المنسوخ، وهذا بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (كنت قد نهيتكم) فلو كان النساء خارجين من هذا الحكم لقال: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها إلا النساء)، ولنص عليه الصلاة والسلام على استثناء النساء؛ فبقي التحريم منسوخاً. واعترض عليهم بأن هذا الحديث: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها) لا يعارض حديث: (لعن الله زائرات القبور) فقوله: (فزوروها) هذا خاصٌ بالرجال، والتحريم للنساء ورد به النص، قالوا: ولا يوجد دليل يدل على النسخ. وهذا الاعتراض أجيب عليه من وجهين: الوجه الأول: أن دلالة النسخ في النص ظاهرة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله: (كنت قد نهيتكم) وهذا عام، ثم قال: (فزوروها) وهذا أيضاً عام، فدل على أنه نهي تحريم في الأول، وإباحةٌ في الثاني، فالأول عام، والثاني عام، فلا وجه للتخصيص بدون مخصص. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه نص على النسخ، فقال: (كنت) ثم قال: (فزوروها) وهذه هي صيغة نص واضحة. أما الدليل الثاني: فقالوا: إن أم المؤمنين عائشة زارت قبر أخيها عبد الرحمن -كما في الأثر الصحيح عنها- بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا لها: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زائرات القبور)؟ فقالت رضي الله عنها: لكنه قال بعد: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها). وهذا الحديث ليس من كلام عائشة، إنما يكون أثراً عن عائشة يقدم عليه الحديث المرفوع لو كانت عائشة فهمت شيئاً، أما هنا فإنها تنقل النسخ بقولها: (لكنه قال بعد) فقد حضرت تحريماً وحضرت إباحة، ونصت على أن التحريم سابق والإباحة لاحقة، فمثل هذا لا إشكال في دلالته على النسخ وجهاً واحداً عند الأصوليين؛ لأنها حفظت الزمان، وحفظ الزمان في أصله تشريع، بخلاف ما لو اعترضت برأيها كقولها مثلاً: (بئس ما عدلتمونا به) في حديث الكلاب والحمير، فذلك واضح أنه اجتهاد. ثم إنها رضي الله عنها من أفقه الصحابة وأعلمهن بأحكام النساء، وما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يختلفون في أمرٍ من أحكام النساء إلا رجعوا إليها، ولا أفتت بحكم فراجعها أحد، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما اختلف الصحابة في مسألة الإنزال المشهورة، بعث إلى أم المؤمنين عائشة فحدثته بالحديث، فقال: (من خالف بعد اليوم جعلته نكالاً). ونحن نفهم النسخ من ظاهر قوله: (كنت قد نهيتكم) وهو نصٌ مرفوعٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تأكد هذا بدلالة الصحابي، حيث يعضد ذلك بالبيان في قولها رضي الله عنها: (لكنه قال بعد). وقد فعلت ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قال الجمهور: فهذا يدل على جواز زيارة النساء للقبور. واستدل الذين قالوا بالتحريم بقوله عليه الصلاة والسلام: (لعن الله زائرات القبور -وفي روايةٍ: زوارات القبور-) قالوا: إن اللعن لا يكون إلا على فعل حرامٍ أو ترك واجب؛ وبناءً على ذلك: تكون الزيارة بالنسبة للمرأة محرمة؛ وقوله: (زائرات القبور) يقتضي تخصيص الحكم بالإناث دون الرجال. ثم أكدوا ذلك من جهة النظر والمعنى، فقالوا: إن المرأة ضعيفة القلب، فلا تأمن إذا دخلت إلى القبور أن تتغير، ولربما تصرخ وتتكشف، خاصةً إذا زارت أقاربها، فإنها لا تأمن من شدة الفاجعة أن تذكر شيئاً أو تنظر إلى أحوال الميت، فيصدر منها الصوت أو يصدر منها الفعل على وجه محرمٍ محظور. قالوا: بناءً على ذلك فإنه لا يشرع لها أن تزور المقابر، سواء كانت قبوراً عامة أو قبوراً خاصة، لكنها لو مرت بالقبر مروراً وسلمت فلا حرج عليها في ذلك. والناظر في هذين القولين وأدلتهما يرى أن من قال بالتحريم له وجهٌ بالترجيح من جهة الأصول، والقائل بالجواز له وجهٌ وقوة من جهة الأدلة. أما الذين قالوا بالتحريم؛ فإن القاعدة في الأصول: (إذا تعارض حاظر ومبيح، يقدم الحاظر على المبيح) ولذلك يقوى قول من قال بالتحريم على قول من قال بالجواز من جهة وجود هذا الأصل؛ لأنه لو قلنا للمرأة الآن: لا تزوري المقابر. فإنه في هذه الحالة يفوتها فضل الزيارة الذي يمكن أن تعوضه بالدعاء والاستغفار للميت والترحم عليه؛ لكننا لو قلنا لها: زوري المقابر. فإننا لا نأمن أن تكون قد أصابت المحظور، أو على الأقل شيئاً مكروهاً؛ ولذلك يكون تغليب باب الحظر من هذا الوجه أقوى وأولى. ثم إذا نظرنا إلى واقع الناس وحالهم اليوم، وعدم انضباط كثير من النساء بالحدود والضوابط الشرعية؛ فإنه يقوي قول من قال بالحظر. واتفق العلماء على أنه لا تجوز زيارة المقابر إذا كانت المرأة ضعيفة أو لا تتمالك نفسها أو غلب على الظن أنها تفعل المحظور عند القبر، وإذا كانت شابةً فاتنة وذهبت إلى القبر فتنت غيرها أو فتنت نفسها أو جمعت بين الفتنتين فلا تجوز بالإجماع، فليست هذه مسألة خلافية، إنما الخلاف يكون في امرأة عاقلة حكيمة الغالب على الظن أنها تضبط نفسها، وتريد أن تتعظ؛ فهذا هو الذي يجيزه جمهور العلماء لها من الزيارة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر على المرأة وهي تبكي عند القبر لم يقل لها: لعن الله زائرات القبور، ولم يحظر عليها ذلك، قالوا: فقد أقرها عليه الصلاة والسلام؛ لكن الناظر في حال الناس اليوم قد يجد أغلب النساء -إلا من رحم الله- أنهن لا يطقن الزيارة، مع أنه بإمكانهن أن يعوضن هذا الأمر المشتبه فيه إلى أمرٍ لا شبهة فيه بالدعاء والاستغفار للموتى.

ما يقال عند زيارة القبور

ما يقال عند زيارة القبور قال المصنف رحمه الله: [ويقول إذا زارها أو مر بها: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم]. هذا هو الدعاء المسنون عن النبي صلى الله عليه وسلم والوارد عنه، وهو من رحمة الله عز وجل بعباده المؤمنين حيث جعل للأموات دعاءً عند الأحياء، وجعل للمسلم على أخيه المسلم أن يذكره بعد موته بالدعوة الصالحة، فإذا مرّ على هذه القبور أو دخلها يقول: السلام عليكم. السبب في هذا: أنه لما نُزّل الميت منزلة الحي، ودل النص على مشروعية السلام عليه؛ أخذ هذا السلام الأصل الشرعي، فأنت تسلم على من مررت به ومن جئته وجلست معه، فيشرع أن تسلم مارّاً ويشرع أن تسلم داخلاً. قوله: (السلام عليكم) المراد به السلامة من الآفات والشرور، وهو اسمٌ من أسماء الله تعالى، لكنك إذا قلت: (السلام عليكم) لا تقصد هذا الاسم، وإنما تقصد معناه، أي: سلمكم الله من الآفات والشرور وغيرها من المصائب. وأما بالنسبة للأموات فإن الأموات لا يأمنون في قبورهم من الفتن وعذاب القبر، وما في القبر من الأهوال والشدائد، نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعيذنا منها، وأن يلطف بنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه. فشُرِع أن تقول: السلام عليكم، أي: سلمكم الله، فإن كانوا معذبين سلمهم الله بدعائك، وإن كان ينتظرهم العذاب فإن الله سبحانه وتعالى يقيهم بصالح دعائك. قوله: (دار قومٍ مؤمنين) فيه فوائد: الفائدة الأولى: وصف القبور بكونها داراً، فيدل على أن الدور ثلاثة، كما هو مذهب السلف الصالح رحمة الله عليهم: الدنيا، والآخرة، والبرزخ. وقد أشار الله عز وجل إلى ذلك، أما الدنيا والآخرة فواضح، قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص:83] فجعلها آخرة وجعل الدنيا للعمل، وكذلك أيضاً قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16 - 17] فذكر دارين. أما الدار الثالثة -وهي البرزخ-: فقد أشار إليها: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100] فدل على أن البرزخ دار، وذلك في قوله: السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين. الفائدة الثانية: أنه لما قال: (دار) أخذ منه بعض العلماء أنه لو حلف وقال: والله لا أدخل داراً، فدخل القبر أنه يحنث، وقال بعض العلماء: لا يحنث؛ والسبب في هذا: أن الدار في العُرف هي الدار المعروفة ولا تشمل القبور؛ فانصرف هذا اللفظ اللغوي إلى المعروف عرفاً، وهذا من باب تعارض الحقيقة اللغوية مع الحقيقة العرفية. فإن قيل: إنه يؤاخذ على وصفه بالدار فيستقيم قول من قال: إنه يحنث؛ لأنه المقابر وصفت بكونها داراً. ومدة هذه الدار من يوم دفن الإنسان إلى أن يبعثه الله عز وجل؛ ولذلك ورد في حديث البراء (هذا مقامك حتى يبعثك الله) وبناءً على ذلك يقولون: حتى لو أن هذا الرفات نقلته الريح، وأشلاءه وأعضاءه أخذتها السباع ونحو ذلك فلا يزال الحكم للقبر الذي قُبِرَ فيه، ولذلك يقول بعض العلماء: إن العبرة بالقبر نفسه؛ لأنه داره ولو قُبر فيه الملايين. ثم لو قبر ملايين الصالحين في مكانٍ واحد لأفسح الله لكل صالح مد البصر، ولا يعجزه سبحانه وتعالى شيء، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] وهذه من الغيبيات والسمعيات، التي لا يخاض فيها بالعقل؛ لأن العقل لا يمكن أن يدرك هذه الأشياء، ولا يمكنه أن يدخلها، ولما دخل فيها الفلاسفة بالعقل والمنطق وقعوا في الحيرة والظلام، ووقعت منهم زلات وأخطاء عظيمة، حتى أن بعضها تمس اعتقاد الإنسان، حتى إن بعضهم يقول: إن هذه تخيلات -أي: لا حقيقة لها-!! حسبنا الله ونعم الوكيل، نسأل الله السلامة والعافية. وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خلق ومنه يركب يوم القيامة) وهو آخرك الذي تراه مثل الدائرة، فإنه إذا أذن الله عز وجل ببعث الناس تركب المخلوق وابتدأ خلقه من عجب الذنب، وقامت عليه أعضاؤه، فإذا هو قائمٌ بين يدي الله عز وجل. وقوله: (السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين): فالدار دار قومٍ كافرين، ودار قوم مؤمنين، ومن هنا نفهم أن الزيارة تختص بمقابر المسلمين، فلما قال: (دار قومٍ مؤمنين) فهمنا أنه لا تشرع زيارة قبور الكفار؛ لكن إذا زارها الإنسان للاتعاظ لا للدعاء ففي هذه الحالة التي أشار إلى العلة فيها: أنه إذا كانت لمصلحة الحي جاز له أن يمر بها متدبراً متأملاً، ويبشرهم بما عند الله من العذاب والعقوبة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من مر بقبور الكفار أن يبشرهم بما عند الله من العذاب والنكال؛ حتى يزدادوا غماً إلى غمهم وهماً إلى همهم، نسأل الله السلامة والعافية. فالزيارة تختص في الأصل بقبور المؤمنين، لكن بالنسبة لقبور الكفار: فإنه إذا نظر إليها متعظاً متدبراً أو موبخاً مبكتاً -كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في قليب بدر- فلا حرج في ذلك، أما لمصلحة المزور فلا، وهذا مما تختص به قبور المسلمين عن قبور الكافرين؛ قوله: (من المسلمين والمؤمنين) من باب التنويع؛ فإنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا ذُكر أحدهما شمل الآخر. وقوله: (السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين) المراد بذلك أهل الإسلام، سواءٌ كانوا من المؤمنين أو في درجة الإسلام أو الإحسان، فالكل داخل في هذا العموم، وأما رواية (من المؤمنين) فإنها عامة بالنسبة لأهل الإسلام. قوله: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) أي: متى شاء الله، وهذا تعليق بالزمان، ويجوز التعليق بالزمان، مثل: متى شاء الله أزرك، ومتى شاء الله آتك، ومتى شاء الله أعطك فهذا تعليقٌ بالزمان، ولذلك يقسم العلماء (إن شاء الله) إلى تحقيقية وتعليقية: فالتحقيقة: كقولك: (إن شاء الله أزرك) أي: أنك جزمت بأنك زائر فقصدت التحقيقية، كقولك: أنا إن شاء الله فاعلٌ كذا. بقصد أنه واقعٌ منك ولا بد بعد قدرة الله عز وجل لك. وأما التعليقية: فهي التي يعلق بها المكلف الفعل فيما يستقبل من الزمان. وهذا النوع الثاني -وهي التعليقية- تحظر في الدعاء، كأن يقول: اللهم اغفر لي إن شئت، لأنه يعلق مغفرة الله على مشيئة الله، فإن الله لا مستكره له، بل عليه أن يعزم المسألة ويقول: اللهم اغفر لي وارحمني. فتشرع التحقيقية بأن يقولها الإنسان تحقيقاً للأمور كقوله: إن شاء الله سآتيك، ويقصد التحقيق والتعليق. وهذا الحديث: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) تُحمَل فيه على التحقيقية إذا قُصِد بها الموت، فإنه لا محالة أننا ميتون؛ لأن الله يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] فأخبر أن الإنسان ميت، وأنه لاحق بهؤلاء القوم إما عاجلاً أو آجلاً، وكل ما هو آتٍ قريب؛ ولذلك يقول: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) أي: إن لحقونا بكم مؤكد، فلا يحول بين الإنسان والموت إلا عدم حضور أجله، وإلا فهو ميتٌ، إذا ثبت هذا على هذين الوجهين يكون التعليق لا إشكال فيه. وقوله: (لاحقون): اللاحق هو الذي يأتي تبعاً للإنسان، فلما تأخر موت الزائر عن المزور وصف نفسه بكونه لاحقاً له. قوله: (يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين) وفي بعض الروايات: (يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين). (المستقدمين): تَقدُّم الشيء على الشيء معلوم ومعروف، وقوله: (المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين) هذا عموم بذكر أفراد العام، حيث قسم الناس إلى متقدم ومتأخر، والناس إما سابق وإما لاحق، فقال: (يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين). ثم إن قوله: (يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين) هذه دعوة عامة تشمل الأحياء والأموات، فالأموات متقدمون والأحياء متأخرون. (اللهم) أي: يا ألله، والميم تأتي عوضاً عن حرف النداء (يا) ولذلك لا يصح أن يقال عربية: (يا اللهم) إلا في قريض الشعر؛ لأنه لا يجمع بين البدل والمبدل، وقد أشار ابن مالك إلى ذلك بقوله -رحمه الله-: والأكثر اللهم بالتعويض وشذ يا اللهم في قريض ومن هذا الشاذ الذي يكون في القريض والشعر قول الشاعر: إني إذا ما حدث ألم ناديت يا اللهم يا اللهم أي: يا ألله يا ألله. وقوله: (اللهم لا تحرمنا أجرهم) أي: لا تحرمنا ما كانوا فيه من الخير، والسبب في ذلك: أن الإنسان مع الميت على إحدى حالتين إذا كان الميت صالحاً؛ لأنك إذا زرت المؤمنين فالأصل أنهم توفوا على الإيمان فقد نجوا من الفتنة -أعني فتنة الكفر والخلود في النار- فإذا زارهم الزائر لا يخلو بعدهم من حالتين: إما أن يكون بقاؤه بعدهم لخيرٍ يزداد منه، وإما أن يبقى لشرٍ يزداد فيه، أو لفتنة تنتظره يكون بها شقاؤه نسأل الله السلامة والعافية. فإن بقي لخيرٍ فهو أفضل، حتى ورد في الحديث الصحيح في الرجلين الأخوين اللذين كان أحدهما أصلح من الثاني، فمات الصالح وتأخر من هو أقل صلاحاً أربعين يوماً فاختلفوا: أيهما أصلح؟ فخرج النبي عليه الصلاة والسلام قال: (وما يدريكم ما الذي تبلغ به صلاة أربعين يوماً) فلا شك أن الإنسان إذا بقي بعد الميت ولو يوماً واحداً فإن الله قد يبلغه في هذا اليوم ما لم يبلغه في سنوات ودهور، كما في الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسلم الرجل ثم حمل على القوم فقُتل شهيداً، قال صلى الله عليه وسلم: (عمل قليلاً وأُجر كثيراً). ومن هنا كان الأمران، فقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم لا تحرمنا أجرهم) أي: أحينا بعدهم حياةً طيبةً تبلغنا إن كانوا صالحين ما هم فيه من الصلاح، وزدنا من فضلك. فقوله: (لا تحرمنا أجرهم) أي: ما بلغوه من الخير والفضل. وقوله: (ولا تفتنا بعدهم) أي: لا تجعل بقاءنا بعدهم إلى فتنة ولا

تعزية أهل الميت

شرح زاد المستقنع - تعزية أهل الميت التعزية لمن أصيب قريب أو حبيب؛ جبراً لخاطره، وتسلية له، وليس لها لفظ مخصوص، بل تصح بكل لفظ يدل على التعزية، وهناك أمور مبتدعة محرمة لا يجوز فعلها عند التعزية، ويحرم على أهل الميت النوح والشق ولطم الخد وغيرها من أمور الجاهلية التي كانت تفعل عند الموت.

حكم التعزية لأهل الميت

حكم التعزية لأهل الميت بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وتسن تعزية المصاب بالميت]. التعزية: سلوان من العزاء، وهي كلمات يقولها الإنسان للمصاب يحدث بها طمأنينة قلبه وقوة يقينه وحسن ظنه بالله عز وجل؛ فيصبر بعد أن كان جزعاً، ويطمئن بعد أن كان قلقاً. والتعزية مسنونة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرأة لما مر عليها وهي تبكي عند القبر: (يا أمة الله! اصبري. فقالت: إليك عني، فلست أنت المصاب) فدل على مشروعية التعزية للمسلمين وأنها سنة. وتكون التعزية للمرأة الأجنبية والقريبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عزى هذه المرأة وهي أجنبية، فقال لها: (يا أمة الله! اصبري) ولكن بشرط: أن تؤمن الفتنة عند تعزية المرأة الأجنبية. ومن الأدلة أيضاً على مشروعية التعزية قوله عليه الصلاة والسلام: (إن لله ما أعطى، وله ما أخذ، وكل شيءٍ عنده بمقدار، فمرها فلتصبر ولتحتسب). والتعزية تكون قبل الدفن وبعد الدفن، فتكون قبل الدفن من باب التسلية كقوله لابنته حين أرسلت إليه وابنها يقضي ليأتيها فقال للرسول الذي جاءه هذه الكلمات: (مرها فلتصبر ولتحتسب، إن لله ما أعطى وله ما أخذ) إلى آخر الحديث. فهذا يدل على مشروعية الكلمات التي يعزى بها الإنسان قبل الدفن، لكنها في الأصل تكون بعد الدفن؛ لأنه بعد الدفن يتحقق من موت الإنسان، فلربما حدث له ما يظن معه موته كسكتةً قلبية ثم يزول عنه ذلك فيشفى ويقوم من بلائه، وحينئذٍ يقولون: لا يعزى إلا بعد الدفن؛ لأنه بعد الدفن قد تحقق من وفاته، وحينئذٍ يكون مصابه أشد؛ فإن الناس يفجعون بعد الدفن أشد من فجعهم قبل الدفن، فإن مناظر القبور والفراغ من دفن الميت يقطع الأمل فيه، بخلاف ما إذا كان قبل ذلك؛ فإنه لا يمنع أن يكون به سكتة ثم بعد ذلك يحيا أو يقوم، فهذا هو الذي جعل بعض العلماء يقولون: التعزية تكون بعد الدفن. وهذا هو الأصل والغالب؛ لكن إذا احتاج إليها فلا بأس أن يعزي أخاه المسلم قبل الدفن عند وجود الحاجة، كأن ترى أخاً لك أو قريباً أو زوجةً شديدة التفجع والتوجع، فتذكرها بالله عز وجل، وتصبرها بالّتي هي أحسن. وينبغي على من يعزي أن يترفق بمن يعزيه، وألا يكون شديداً عليه، وألا تكون عباراته فظة غليظة، فبعض الناس إذا جاء يعزي كأنه يوبخ من يبكي ويقرعه، وهذا لا ينبغي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان هديه الرفق؛ ولذلك لما أراد عمر أن يضرب النساء -كما في حديث السنن- نهاه عليه الصلاة والسلام عن ذلك، وأخبر أن الله لا يعذب إلا باللسان، يعني: بما يكون من النياحة ونحو ذلك من الأمور المحرمة، كشق الجيوب وغير ذلك من أفعال الجاهلية، فلا ينبغي أن تأتي لأخيك المسلم قد فجع بقريبه فتقول له: لا تبك كالمرأة. أو نحو ذلك من الألفاظ التي لا تجوز لما فيها من كسر الخواطر، وإهانة الميت؛ لأن هذا يدل على أنه ينبغي ألا تكون للميت عنده مكانة، لأن الإنسان يبكي على عزيزه كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليخشع، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) فالله سبحانه وتعالى خفف عن عباده أن يكون منهم هذا البكاء حتى يخرج ما في القلوب من أثر الحزن؛ وهذا مما يعتبر من إعجاز الشريعة: أنها جمعت بين طب الأرواح وطب الأجساد؛ فإن الإنسان إذا كُظم حزنه وتوالت عليه الأحزان، ومنع من إبداء أثر الحزن، فإن ذلك يؤثر عليه كثيراً، وربما يأتي على نفسه، ولذلك قال تعالى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] وهو نبي من أولي العزم، فالإنسان قد يستطيع الكظم، وقد لا يستطيع أن يكظم، ولما عاتبوه {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:85 - 86] فالإنسان في حال المصيبة يحتاج إلى من يترفق به ويحسن إليه، وتكون يده رفيقة وكلماته رقيقة، تخالج قلبه فتقوي يقينه، وتبعثه على الصبر والسلوان. وأما الجفاء والغلظة فلا يأتيان بخير، حتى أن بعض الناس يعتقد أن من بكى على ميته كأنه يعتبر ساقط الرجولة، وأنه ليس برجل، وأن من الرجولة أن تكون عصيّ الدمع، وألا تبكي على القريب، وبعضهم يعتقد أن البكاء على النساء كالأم والأخت والبنت أنه من العيب ومن الحرج، ولربما تجد أبناء العم يعتبون على ابن عمهم أنه بكى على بنته أو بكى على أخته! هذه من أفعال الجاهلية: أنهم ينتقصون النساء، ولا يقيمون للمرأة وزناً! وهذا لا يجوز، وينبغي نصح الناس وتذكيرهم في ذلك، كالخطيب يخطب خطبة يبين فيها أمور الحزن المشروعة على الأموات وأن التفريق بين الذكور والإناث من أدران الجاهلية الباقية، فإن العرب في جاهليتهم الجهلاء ما كانوا يقيمون للمرأة وزناً؛ ولذلك كانوا يدفنونها وهي حية، نسأل الله السلامة والعافية. فمن أدران الجاهلية: أنها لو ماتت وبكى عليها؛ فإن هذا نوع من الحط من مكانة الرجل! ولذلك لا يجوز مثل هذا الاعتقاد، وهو من اعتقاد الجاهلية؛ فإن الأخت ربما تكون عزيزة على الإنسان وقريبة إلى قلبه، وقد تكون صالحة، وقد يكون فيها من الخير ما لا يكون في رجال كثير، وقد تكون بنتك بنتاً صالحة، وقد تكون أمك، والأم لا يجحد فضلها ولا ينسى معروفها؛ فلذلك لا يجوز مثل هذه العقائد والأدران الجاهلية التي ما أنزل الله بها من سلطان. وينبغي على طلاب العلم أن ينتبهوا لمثل هذه الآفات في المجتمعات التي لا زالت فيها مثل هذه العقائد أو هذه الأفعال التي تخالف شرع الله عز وجل. فكون الإنسان يبكي ويحتاج إلى من يعزيه في امرأة أو في رجلٍ فإنه يشرع له ذلك، ولكن إذا وصل إلى حد الجزع والتسخط فحينئذٍ ينهى ويغلظ عليه؛ حتى يتقي الله عز وجل في نفسه ولا يذهب عليه أجره. وأعظم ما يكون الصبر عند الصدمة الأولى، وهو أحبه وأكمله، وأعظمه ثواباً عند الله سبحانه وتعالى، وكلما صُدِمَ الإنسان بالمصيبة فتلقاها بالصدر الرحب واللسان الصادق فقال خيراً؛ فإن الله يحمد منه ذلك الأمر، ولربما أن الله عز وجل يجمع له بين عوض الدنيا والآخرة، في الدنيا من عاجل ما كان له من ثواب العمل الصالح، ولما ينتظر عند الله أعظم. فإن الإنسان يفجع بابنه، أو الأم تفجع ببنتها، والأخ يفجع بأخيه، فإذا رضي بقضاء الله وقدره، وتلقاها بالصدر الرحب، وقال: الحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار، إنا لله وإنا إليه راجعون. فإن هذا من خير المنازل عند الله في المصاب، وإن الله تعالى يقول: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} [ص:44] فمن أراد أن ينعم الله عليه فليصبر عند المصيبة، ويحتسب الثواب عند الله سبحانه وتعالى، وكلما كان المصاب أشد والصبر أعظم كلما كان الثواب أكثر، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].

حكم تعزية المصاب

حكم تعزية المصاب يقول المصنف رحمه الله: (وتسن تعزية المصاب): أي: من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يعزي المسلم أخاه المسلم إذا أصيب بميته، بأن يذكر له ما عند الله عز وجل من الثواب إن صبر واحتسب الأجر، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه صبّر ابنته فقال: (مرها فلتصبر ولتحتسب) وهذا يدل على أن من السنة أن يكون في تعزية الإنسان ما يقوي نفس المصاب؛ فإن الإنسان عند المصيبة يعزب عنه رشده وتضعف نفسه، ولربما يتسلط عليه الشيطان بالخواطر الرديئة، فإذا وجد من أخيه المسلم كلمةً تثبته أو كلمةً تقوي إيمانه، فإن ذلك يعود عليه بالخير؛ لأن الصبر عند الصدمة الأولى، فيقول له: أعظم الله أجرك، وغفر لميتك، وأحسن عزاءك. ونحو ذلك. قال العلماء: ألفاظ التعزية موسعٌ فيها؛ لأن الشرع لم يأمرنا بلفظ خاص، والقاعدة في الشريعة: (أن ما أطلقه الشرع يبقى على إطلاقه)، فكل لفظٍ يقوي نفس المصاب، ويجعله على حسن ظنٍ بالله عز وجل فإنه يعتبر من التعزية، ما لم يشتمل على محظور شرعي، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه عزى امرأة فقال: يا أمة الله! اصبري) فقوله: (يا أمة الله! اصبري) يعتبر تعزية، ونحو ذلك من الكلمات والجمل، وقد حُفظ عنه عليه الصلاة والسلام قوله: (إن لله ما أعطى وله ما أخذ، وكل شيءٍ عنده بمقدار، مرها فلتصبر ولتحتسب) فهذه أيضاً يعتبرها بعض العلماء من الألفاظ الواردة في التعزية، والأمر في ذلك -كما قال أهل العلم- واسع، فليس هناك لفظٌ مخصوص يلزم الإنسان به.

حكم البكاء على الميت

حكم البكاء على الميت قال المصنف رحمه الله: [ويجوز البكاء على الميت]. لأن الله لا يعذب بدمع العين، فإذا كان الإنسان قد أصيب بعزيز من والد أو ولد أو أخ أو صديق حميم، فلا حرج أن يبكي وأن تدمع عينه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليخشع، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) فأثبت صلوات الله وسلامه عليه أن العين تدمع. وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه لما وضع إبراهيم دمعت عيناه، فقيل: ما هذا يا رسول الله؟! قال: رحمة أسكنها الله في قلوب عباده). فالإنسان إذا تأثر بفراق العزيز ودمعت عينه، فإنه لا يلام على هذا الدمع، بل إنه يكون من دلائل المحبة والرحمة التي أسكنها الله في قلبه، ولا شك أن الإسلام وسط بين الغلو والتقصير والإجحاف، فالإنسان الذي يموت له والد أو تموت له والدة ولا تدمع له عينه، فإنه قاسي القلب، جبار لا رحمة في قلبه. وكذلك أيضاً إذا بالغ وصاح وناحَ فإنه قد أسرف في هذا الأمر، وتجاوز الحدود في الحزن. فالشرع جاء وسطاً، فيخرج المصاب ما في قلبه من الألم بدمع العين؛ لأن هذا البكاء يخفف الألم الموجود في القلب، وهذا من رحمة الله بالعباد؛ فإن الإنسان إذا بكى خف وطء المصيبة على قلبه؛ وأصبح أثرها خفيفاً على نفسه؛ ولذلك لم يعاتب المسلم ولم تكن عليه الملامة إذا دمعت عيناه؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن العين لتدمع) وثبت عنه: (إن الله لا يعذب بدمع العين)، فدمع العين ليس به عذاب، ولا يعتبر الإنسان مقصراً إذا دمعت عيناه لفراق عزيزٍ عليه. (وإن القلب ليخشع)، أي: من أثر هذه المصيبة ووقعها فيه، وقد قال الله تعالى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84]. فالإنسان إذا بكى لا حرج عليه؛ لأن الله يخفف عنه بالبكاء بعض الحزن الذي يجده في قلبه، ولو أن إنساناً أصابته المصيبة ومنعته من البكاء؛ فإنه يتضرر، ولربما يصل إلى درجة لا يتمالك فيها نفسه، وقد يفقد عقله والعياذ بالله، فإنه إذا منع من البكاء كتم الحزن وكظمه، حتى تأتي ساعة لا يستطيع أن يسيطر فيها على نفسه، فيفقد عقله أو يتأثر أثراً بليغاً في نفسه، ولذلك: لا عتب على من يبكي، بشرط أن لا يكون بكاؤه على وجهٍ محظورٍ مشتمل على نياحة ونحو ذلك من المحرمات.

ما يحرم عند نزول المصيبة

ما يحرم عند نزول المصيبة قال المصنف رحمه الله: [ويحرم الندب والنياحة]. ومن الندب: واسنداه! واعضداه! ونحو ذلك من الألفاظ التي فيها ندبٌ للميت. وكذلك النياحة: وهي ذكر محاسن الميت. فكل ذلك مما حرم الله عز وجل، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرم النياحة وقال: (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية). وقد كانت المرأة في الجاهلية تنوح على زوجها، وتنوح على قريبها كأخيها ونحو ذلك؛ فحرم الله عز وجل النياحة، وهو أن المرأة إذا فُجِعت بزوجها أو ابنها صاحت بحزن، فهذا الصوت حرمه الله عز وجل، وهو الذي يعذب الله به من لفظ اللسان. قال المصنف رحمه الله: [وشق الثوب]. فقد كانوا إذا أصابتهم مصيبة لطموا الخدود وشقوا الجيوب، وذكروا المحاسن، وأثنوا على الميت وبالغوا فيه، وكل ذلك مما حرمه الله عز وجل، وجعل قلب المؤمن قوياً أمام المصيبة، فأوصاه بتحملها والصبر عليها، وعدم إظهار هذه الأمور؛ فإن النياحة وشق الجيوب ولطم الخدود يزيد من أثر المصيبة، ويحرك الغير للبكاء وللتأثر، ويكون من باب التحريض على التفجع. ومقصود الشرع: الصبر على المصائب؛ لأن المصيبة قضاء وقدر من الله عز وجل، فإذا تفكر المؤمن وتدبر ونظر أن الله هو الذي ابتلاه؛ رجع إلى عقيدته من حسن ظنه بالله عز وجل، وأن الله سيخلف عليه خيراً مما فقد، وأن الله سيكتب له الأجر في الآخرة؛ فاطمأنت نفسه واطمأن قلبه، وارتاح إلى ما عند الله عز وجل من حسن الثواب، فأصبح أثر المصيبة خفيفاً على نفسه. لكن لو سمح للناس بالنياحة والندب، وشق الجيوب ولطم الخدود؛ لتفجع الناس، وإذا رأى الإنسان إلى أمه وأخته وابنته وهي تلطم وجهها وتشق جيبها وتنوح، ربما لم يستطع أن يصبر بسبب ما يرى من أثر الحزن على أهله، خاصةً من النساء، فإن هذا فيهن أكثر؛ ولذلك حرم الله عز وجل هذه الأمور لكي يستقيم للعباد حسن ظنهم بالله عز وجل، ويقوى يقينهم في حسن الخلف من الله عز وجل وحسن الثواب في الآخرة. قال المصنف رحمه الله: [ولطم الخد ونحوه]. وهذه لا تختص بالموت، فبعض النساء إذا أصابتهن المصيبة لطمت خديها بكلتا يديها أو لطمت أحد الخدين، وهذه من صنيع أهل الجاهلية التي نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها؛ لأنها لا تليق بالمؤمن الذي قوي يقينه بالله عز وجل وخلص توحيده لله سبحانه وتعالى، فإذا رأى مثل هذه المصائب فإنه يتحملها؛ لكن لطم الخدود لا شك أنه يدل على عدم الرضا بقضاء الله وقدره وهو من صنيع أهل الجاهلية. والله تعالى أعلم. نسأل الله العظيم أن يرزقنا من اليقين أضعاف ما ينزل علينا من البلاء، إنه وليّ ذلك والقادر عليه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الوصية فيما لا يملك

حكم الوصية فيما لا يملك Q لقد توفي في بلدنا رجل وأوصى قبل موته بأن يدفن في الأرض التي ورثها هو وإخوانه من أبيه، وتصبح تلك الأرض مقبرة للمسلمين دون موافقة إخوانه؛ لأنهم لم يكونوا معه، فما حكم تلك الوصية أثابكم الله؟ A إن كانت هذه الأرض ملكاً له فإنه يجوز أن يُدفن فيها، وإذا امتنع الورثة نظر إلى قدر ما يدفن فيه من الثلث، فإن كان قد أوصى بثلثه فإنه تكون وصيته بعد الموت قد خرجت عن حد الثلث راجعةً إلى رضا الورثة، فمن برهم له أن يرضوا، وإن شاءوا صرفوه إلى المقابر العامة، فهذا من حقهم؛ لكنه يفوتهم البر. وأما إذا أوصى بأرضٍ هي ملكٌ لغيره فإن وصيته موقوفةٌ على حكم الغير؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يستبح مكانه من حجرة أم المؤمنين رضي الله عنها إلا بعد أن استأذنها، وخشي أن تكون أذنت له في حياته حياءً وخجلاً منه رضي الله عنه وأرضاه، فأمر ابنه عبد الله أن يستأذن بعد موته، وبعد أن يصلى عليه يقف على الباب ويستأذنها حتى يزول ما يكون في حال حياته من هيبته وخشيته، فقال: إن أذنت لك فادفني مع صاحبي، وإن لم تأذن فاصرفني إلى البقيع. فدّل هذا على أن من أوصى أن يُدفن في أرضٍ هي ملكٌ للغير استأذن الغير؛ فإن أذن له فبها ونعمت، وإن لم يأذن له فإنه يصرف إلى مقابر المسلمين والله تعالى أعلم.

حكم تكرار دعاء زيارة القبور لكل قبر في المقبرة

حكم تكرار دعاء زيارة القبور لكل قبر في المقبرة Q إذا دخل الزائر إلى المقابر فإن القبور تأتيه تلو القبور، فهل له أن يكرر الدعاء المأثور كلما مر على مجامع القبور؟ A السلام على القبر يكون عند دخول المقابر، ويشمل ذلك جميع من قبر في المقبرة، فلو أنه دخل على بقيع الغرقد -مثلاً- فإنه يشرع أن يكون دعاؤه عند دخول الباب، فيسلم على جميع من في المقبرة، ولا حاجة أن يكرر ذلك لكل فرد بعينه. فإذا زار قبر إنسان معينٍ من بين هذه القبور وكان قد سلم عليهم جميعاً، وخص قبراً بدعاء فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص قبر المرأة السوداء بالدعاء وبالصلاة عليها، وفرقٌ بين الصلاة وبين مطلق الدعاء، فالصلاة فيها وجهٌ بالتخصيص، وأما بالنسبة لكونه يقوم على القبر فلا حرج في القيام على قبور المسلمين، إنما يحظر أن يقام على قبور الكفار والمنافقين، لقوله تعالى: {وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84] وأما إذا كان مسلماً فإنه يقام على قبره ويدعى له، كالوالد والوالدة والقريب والابن والبنت. ونحو ذلك من القرابات، لا حرج أن يخصه ويأتي إليه ويسلم عليه ويدعو له. وإن شاء جمع الجميع بسلامٍ واحدٍ. ولو مر على قبرين أو على ثلاثة قبور يعرف أصحابها فهو بالخيار: إن شاء سلم سلاماً عاماً على الثلاثة القبور، وإن شاء سلم سلاماً خاصاً لكل مقبور بعينه؛ لأن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان إذا مر بالقبر سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: السلام عليك يا أبا بكر ورحمة الله وبركاته، ثم قال: السلام عليك يا أبتاه ورحمة الله وبركاته. ثم انصرف، فخص كل واحدٍ منهم بسلام. فلا حرج إن كانت القبور معددة أن يخص كل قبرٍ بسلام، وأما إذا كانت قبوراً كثيرة فإن سلامه الأول يغني عن تكراره للجميع والله تعالى أعلم.

أهل الميت يعرف زائره يوم الجمعة

أهل الميت يعرف زائره يوم الجمعة Q قال صاحب الروض رحمه الله: ويعرف الميت زائره يوم الجمعة بعد الفجر قبل طلوع الشمس، فما صحة هذا التحديد؟ A ليس في هذا حديثٌ صحيح، وإنما فيه ما تُكلّم في سنده، وكذلك أيضاً منامات وقصص لا تقوى على هذا الحكم، فالأحكام التوقيفية لا بد فيها من نصوص إما في كتاب الله وإما في سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإنسان إذا أفتى بذلك حاسبه الله عز وجل بين يديه، فلا يجوز للإنسان أن يأتي في مثل هذه الأمور الغيبية ويفتي بمشروعية شيءٍ إلا وعنده حجة؛ لأن الناس تأتمنه على دينِ الله عز وجل؛ فلا يجوز أن يخصص زماناً ولا وقتاً ولا ساعة إلا بحجة، وإذا وقف بين يدي الله حافياً عارياً يسأله: كيف أفتيت الناس وأمرتهم بذلك؟ يقول: قلت في كتابك أو قال نبيك صلى الله عليه وسلم. فهذه هي البينة والأثارة {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام:57] فليست من منام الإنسان ولا من رؤياه ولا من أحلامه ولا من كلام زيدٍ أو عمرو. فمن أراد أن يقف بين يدي الله عز وجل ببينة فليجعل أمامه كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وليس فيما ذكر شيء صحيح، ولو صح لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأموات مشغولون بما هم فيه؛ ولذلك لا فائدة في كونه يعرف من زاره أو لا يعرفه؛ إنما المقصود والأهم، والذي ينبغي أن تشتغل به النفوس وأن تصرف إليه الناس: أن يدعوا للأموات بقلوب خالصة، وأن يترحموا عليهم، وأن يعتبروا بحالهم. ليست زيارة القبور أن يعرفك أو لا يعرفك، حتى لو عرفك ما الذي يستفيده وما الذي تستفيده؟! المقبور أحد رجلين: إما منعم، فما فيه من النعيم والرضا المقيم فهو أعظم من أن ينظر إليك أو يلتفت إليك. وإن كان معذباً فما فيه من الجحيم والعذاب أحرى ألا يصرف معه إلى زيدٍ أو عمرو. ولذلك ينظر الإنسان إلى الأصل، وهو أنك تزور القبر لأمرين: مصلحتك في الدعاء وحصول الأجر والثواب والاتعاظ، وكذلك مصلحة الميت والترحم عليه والدعاء له والاستغفار له. وقد ورد حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الإنسان إذا زار الميت يأتيه من قبل وجهه، وحسن بعض العلماء إسناده، ويفتي بعض العلماء رحمة الله عليهم بذلك، حتى من مشايخنا من يفتي أنه من جاء يسلم على والده أو على قريبه فليأته من قبل وجهه، ولا يأتيه من وراء ظهره أو يأتيه من رجل القبر أو يأتيه من رأس القبر، وإنما يأتيه من جهة القبلة، يسلم عليه ويترحم عليه، وهذا لا حرج فيه. أما أن يخص زماناً معيناً من بعد صلاة الفجر في يوم جمعة، أو من بعد صلاة العصر أو بعد صلاة العيد أو نحو ذلك، فكل ذلك لا نحفظ فيه دليلاً من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والشرع اتباع لا إحداث بالآراء واستحسان للأهواء والله تعالى أعلم.

اعتبار زيارة قبر الوالدين من البر بهما

اعتبار زيارة قبر الوالدين من البر بهما Q هل زيارة قبر الوالدين من البر؟ وهل لها مدةٌ محدودة؟ ومن كان يكثر من الدعاء لوالديه ولكن لا يزور قبريهما، فهل هذا من العقوق؟ A زيارة القبور كقبور الوالدين والدعاء والاستغفار لهما، ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استأذن ربه في زيارة قبر والدته فأذن له، فلا حرج أن يزور الإنسان قبر والده ويسلم عليه؛ لأنه إذا زار قبر والده كان أدعى أن يترحم عليه وأن يحسن إليه بالدعاء الصالح، ولا شك أن الدعاء له وهو غائب ليس كدعائه وهو واقفٌ على قبره يتذكر إحسانه وفضائله. وهكذا إذا زار قبر الوالدة ووقف عليها، وتذكر ما لها من الحسنات والفضائل، وما كان لها عليه من الفضل، وترحم عليها واستغفر لها؛ فإن هذا له أثر كبير في النفس، ويكون الدعاء فيه بقلب أكثر خشوعاً وأكثر تأثراً. فلا حرج أن يزور الإنسان قبر والده ووالدته ويسلم عليهما ويدعو ويستغفر لهما ويترحم عليهما وهو من البر؛ لما فيه من الاشتمال على الدعاء والاستغفار والترحم، وقد عدّ النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء للوالدين والاستغفار لهما من البر، وفي الحديث: (يا رسول الله! هل بقي من بري لوالدي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما). وقوله: (الصلاة عليهما) لا شك أن الدعاء عند وقوفه على القبر أبلغ تأثراً، وأبلغ حضوراً للقلب واستشعاراً لحاجة الميت للدعاء، بخلاف ما إذا ذكره وهو بعيدٌ عن قبره، فلا حرج إذا زار أو خص قبر الوالد والوالدة بالزيارة والسلام عليه والدعاء له، وهو إن شاء الله مأجورٌ على ذلك والله تعالى أعلم.

نصيحة لطالب علم

نصيحة لطالب علم Q إن طلب العلم طريق طويلٌ شائك، قد تنتاب الطالب وهو في طريقه وسيره الآفات من الغرور والفتور وغيرها، فهلا تفضلتم بكلماتٍ علاجية؟ A إذا وفق الله الإنسان لطلب العلم فإن الله سبحانه وتعالى يرزقه الشكر إذا أراد الله أن يزيده من فضله، فمن أهم الأمور التي يوصى بها طلاب العلم: كثرة شكر الله عز وجل، ولا تقوم من مجلس إلا وأنت تحمد الله عز وجل على ما سمعت فيه من الخير من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله قرن المزيد بالشكر. فمن أراد أن يزيده الله من العلم، فعليه أن يكثر من شكر الله عز وجل وحمده، والثناء عليه سبحانه بما هو أهل، ولو كان مجلساً واحداً من الذكر، بل لو مررت على حلقة علمٍ فسمعت فيها آية أو حديثاً وفهمته، فإنه خيرٌ ترفع به درجتك؛ لأن الله يرفع أهل العلم درجات على قدر ما نالوا من العلم. فهذا المجلس الذي تجلسه وتسمع فيه الآيات والأحاديث، ويوفقك الله لمعرفة السنن والآثار؛ تحمد الله عليه وتشكره؛ فيتأذن الله لك بالمزيد. ومن آثار المزيد الذي يتأذن الله به لطالب العلم في بداية طلبه للعلم: أن يوفقه للعمل، فقل أن تجد طالب علم كلما قام من مجلسه حمد الله على ما سمع من الذكر والعلم النافع، وأثنى على الله بما هو أهل، إلا وجدته يوفق للعمل، ويعان على القيام بحق هذا العلم، ويوفق للدعوة إليه؛ لأنه يشكر نعمة الله عز وجل، فمن شكر تأذن الله له بالمزيد. ومن الأمور التي يجب أن يتنبه لها طالب العلم: غفلته عن الشكر، وغفلته عن ذكر نعمة الله عز وجل عليه، فلا يزال يغفل عن نعمة الله حتى ينسى فضل الله وفضل عباد الله، حتى إنه يجلس المجلس ويقوم منه لا يذكر لله فضلاً ولا لعباده خيراً، ولربما لا يبالي بمن أسدي إليه من الخير والمعروف، ولربما يقوم من المجلس لكي يغتاب من استفاد من علمه، نسأل الله السلامة والعافية! فهذه من الآفات التي تكون بسبب الغفلة عن ذكر الله، ولذلك جعل الله ذكرهُ مقروناً بذكره سبحانه، فقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] فمن شكر الله وذكره بعد الاستفادة من العلم والعلماء، وأخذ الحكم وفهمها وفقهها، وقال: الحمد لله الذي علمني ما لم أكن أعلم وأسدى إلي الفضل العظيم، الحمد لله على هذا الخير، الحمد لله الذي جعل هذه الساعة في ذكره وشكره، حفتنا الملائكة، ونزلت علينا الرحمة، وذكرنا الله فيمن عنده، ما كنا على حرام ولا على فجورٍ ولا على آثام، ويحمد الله على هذا الفضل؛ يوفقه الله للخير الكثير. فمن أعظم الأسباب التي ينبغي لطالب العلم أني يستشعرها دائماً، وأن يستحضرها بعد جلوسه في مجالس الذكر والعلم: أن يحمد الله على فضله، وإذا كان عندك الشعور بفضل الله عليك بهذا العلم أحسست بقيمته وأحسست بفضله فحفظته؛ فدعاك ذلك إلى أن تصونه وأن تراجعه وأن تضبطه، وأن تعطيه حقه من العناية والرعاية والتفقد؛ لأنك عرفت قدره بالشكر. ثم بعد ذلك تعرف قدره بالعمل، وتعلم أنه لا مكانة لك عند الله في علمك إلا إذا عملت به، فتكون عالماً عاملاً. فإذا علمت وعملت رضي الله عنك فوفقك للدعوة إليه، ووضع لك القبول بين العباد والحب بين الناس، وجعل لفتاويك وعلمك وأثرك وسمتك ودلك أثراً في قلوب الناس، وانتشر ذكرك بين الناس بما يعين على قبول علمك والعمل به وحبه والدعوة إليه بما تنال به من الأجور والحسنات. ولذلك: لا خير للإنسان في علمه إلا بقدر ما يضع الله له من القبول في الخلق، فإنه إذا وضع القبول للإنسان انتشر علمه، وكثر خيره وبره، وصارت له حسنات بين الخلائق والدعاء الصالح بين الناس، ولا شك أن في هذا من الخير الكثير. أما ما ذُكِر من خوف الآفات التي من أعظمها الغرور، فإن الغرور في طلب العلم لا يأتي إلا بسبب الجهل بالله سبحانه وتعالى، فإن المغرور جاهلٌ بنفسه جاهلٌ بربه، ومن أعظم الأمور التي تكسر الغرور من قلب الإنسان: كثرة ذكره للآخرة، وسؤال الله وحسابه له عن العلم؛ فإنك إذا علمت أن العلم مسئولية، وأنه أمانة، وأنه حقٌ لله عندك ينبغي أن تعلمه وتعمل به وتدعو إليه؛ خفت منه وهبته؛ فانكسر قلبك بدل أن تغتر به، وبدل أن تتباهى به، تصبح مشفقاً على نفسك، تعمل به وتعلمه وتنفع به الناس حتى تصيب الخيرية، قال عليه الصلاة والسلام: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). ولا يأتي الغرور إلا بسبب الحرمان، فإذا أراد الله أن ينزع البركة من علم الإنسان ابتلاه بالغرور. فإذا كان الإنسان كلما جلس في مجلس اغتر بعلمه واغتر بفهمه، محق الله بركة علمه؛ ولذلك قل أن تجد إنساناً مغروراً مباركاً له في علمه، بل تجد القلوب منصرفةً عنه، كلما تذكرت عجبه واختياله بنفسه كرهت العلم الذي يكون منه، وهذا من عاجل نقمة الله للعبد في الدنيا. فمن الآفات التي يبتلي الله بها المغرور أن الله لا يزال يسلط عليه الشيطان فيغتر بنفسه؛ حتى لا يجني الخير من علمه، فقل أن تجده يبارك له في العلم فينال منه حسنةً واحدة، بل إنه ربما اغتر حتى تجده يوماً من الأيام يتطاول على من علمه وفهمه؛ لكي يستدرك ويبدي الملاحظات ويأتي بالمناقشات، ويسيء الأدب، حتى يمحق الله البركة من علمه. لكن إذا أراد الله الرحمة بطالب العلم رأيته موطأ الكنف، وجدته أليفاً رحيماً رقيقاً رفيقاً قريباً من العلماء، ومن أسدى إليه الخير كان قريباً منه، يتأدب معه ويستفيد منه ويتلطف، وتجده يتحمل كثيراً من المشاق والمتاعب من أجل هذه الرحمة التي أسكنها الله في قلبه. لكن إذا أراد الله أن ينزع منه الرحمة جعله قاسي القلب، فتجده يغتر بنفسه، حتى إنه يجلس في المجلس لكي يتتبع العثرات والأخطاء، ولكي يحفظ أن فلاناً حدث بهذا الحديث الضعيف، أو أن الشيخ قال كذا أو فعل كذا، وقد لا يلتفت إلى عذر من حدثه بكونه يرى صحة ما يرى ضعفه، أو يرى حسن ما يرى عدم ثوبته. فلذلك: ينبغي للإنسان أن ينتبه، وأن يتقي الله في نفسه، وأن يحفظ حرمة هذا العلم، وأن يعلم أن هذا العلم قد يكون وبالاً على صاحبه؛ فإن إبليس عليه لعنة الله لما اغتر بعلمه أهلكه الله ومقته، وجعله نسأل الله العافية في سفال، وأحل عليه اللعنة إلى يوم الدين، فأشقاه وأشقى من تبعه ومن سلك سبيله ونهجه. فمن اغتر بعلمه حاق به ما كان به يستهزئ، والذي يتطاول على العلماء وعلى السلف الصالح من الأئمة الماضين، وتجده إذا جلس في مجلس العلم يجلس لكي يتتبع أخطاء الكتاب أو أخطاء المتن، ويتتبع عثرات العلماء الذين يستمع منهم، فإنه ممحوق البركة ونسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ بالله من هذه الشرور والآثام. والوصية بتقوى الله؛ فإن جماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، والله ثم والله ما احتقرت نفسك إلا رفع الله شأنك، وإذا وكلت أمرك إلى الله فلم تتكل على حفظك ولا على فهمك ولا على ذكائك، وقلت: أنا مقصر، ومن أنا؟ وما الذي عندي؟ فأصبحت تنظر إلى نفسك بالنقص؛ فإذا بالله يكمل نقصك، ويجبر كسرك ويستر عيبك؛ فإن الله إذا نظر إلى العبد نظر إلى قلبه، فإذا وجد في القلب اللين والرحمة والإشفاق على النفس؛ بلغه من الخير ما يأمله، وزاده من فضله سبحانه وتعالى. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل. والله تعالى أعلم.

هل الميت يعذب ببكاء أهله عليه؟

هل الميت يعذب ببكاء أهله عليه؟ Q كيف نجمع بين الحديث الذي في صحيح مسلم: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) وبين قول الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]؟ A حديث الصحيح (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) للعلماء فيه أوجه: الوجه الأول: أن المراد بقوله: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) إذا وصى بذلك، فإذا وصى بذلك فإنه يعتبر من كسبه وسعيه، فتكون الآية مستقيمة على هذا المعنى؛ لأنه تسبب في البكاء عليه بالوصية، وكان هذا البكاء من وزره وسعيه، ولا تعارض بين الآية والحديث من هذا الوجه. الوجه الثاني: أن يكون الشخص عالماً أن أهله سيبكون عليه ويبالغون في هذا البكاء، فيقرهم على ذلك ويحفزهم عليه، ولا يوصي بامتناعهم عن ذلك، قالوا: فحينئذٍ يكون قصر وألزم بعاقبة تقصيره. الوجه الثالث: ليس المراد عذاب العقوبة، وإنما المراد به عذاب الحزن والوجد، بمعنى: أن الله يسمعه بكاء أهله عليه فيتألم لذلك ويكون له نوعٌ من العذاب، وليس العذاب الحقيقي، والنبي صلى الله عليه وسلم قد سمى العذاب الذي ليس مشتملاً على العقوبة بعذاب، وهو الألم النفسي كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (السفر قطعةٌ من العذاب) مع أنه ليس بعذاب عقوبة، وإنما هو عذابٌ في النفس كما فسره بقوله: (يمنع أحدكم طعامه وشرابه وراحته، فإذا قضى نهمته فليرجع) فدل على أن قوله: (السفر قطعة من العذاب) أي: عذاب النفس وعنائها، فيكون قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) أي: أنه يجد الحزن والألم حينما يسمعه الله بكاء أهله عليه، وقد جاء في بعض الآثار عن بعض الصحابة ما يشهد لذلك: (أنه لما احتضر جعلت امرأته تثني عليه وتزكيه، فلما أفاق قال: إنه لكزني -أي: الملك- وقال: أأنت كذلك؟ أأنت كذلك؟ ما قلت شيئاً إلا لكزت عليه)، وقالوا: إن هذا إنما هو الألم النفسي. وهذا الجواب الأخير هو أقوى الأجوبة؛ أن المراد به أنه يسمعه الله بكاء أهله عليه فيتألم ويحصل له من الحزن والوجد ما يكون نوع عذاب نفسي، لا أنه عذاب عقوبة وألم جسد. ثم يليه في القوة: إذا وصى بذلك وأقر عليه؛ فإنه يقوى حينئذٍ أن يكون متحملاً لوزره، ولا تعارض بين الآية والحديث والله تعالى أعلم.

حكم إقامة العزاء في أكثر من بلد بعد موت الميت

حكم إقامة العزاء في أكثر من بلد بعد موت الميت Q ما حكم إقامة العزاء في أكثر من بلد، خاصةً إذا مضى زمن على موت الميت؟ A هذا من البدع، العزاء لا يكون إلا لأهل الميت، والزائد على ذلك لا أصل له، ويكون العزاء بتحري السنة والبعد عن البدع والمبالغة في العزاء، من إحضار الأشياء التي تكون أشبه بالعرس منه بالعزاء والحزن، كل ذلك من البدع التي أحدثها الناس، وإقامة العزاء على صور وأشكال معينة ما أنزل الله بها من سلطان، كل ذلك من المبالغات، إنما يكون العزاء لآل الميت، والزائد على ذلك كله لا أصل له، ولا يشرع فعله وإقامته والله تعالى أعلم.

الجمع بين تحريم ذكر مساوئ الميت وحديث الثناء على الجنازة بالشر

الجمع بين تحريم ذكر مساوئ الميت وحديث الثناء على الجنازة بالشر Q كيف نوفق بين تحريم ذكر مساوئ الميت، وبين الحديث الذي ذكر سيئات جنازة عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (وجبت)؟ A الناس يثنون بالخير والشر، بمعنى: أنهم يذكرون المحاسن والمساوئ، وهذا لا يستطيع أحد أن يحكم الناس فيه، فإن الناس بالجبلة والفطرة، إذا مات الميت سيذكرون محاسنه ومساوئه، فيكون كلام الصحابة بذكرهم لمحاسن المحسن ومساوئ المسيء خرج على أصل الفطرة؛ ثم جاء تعليق الشرع: بأن من أثني عليه خير فهو إلى خير، ومن أثني عليه شر فهو إلى شر. الوجه الثاني: أن المسيء يكون ظالماً لغيره، فيجوز للغير أن يتحدث بمظلمته لقوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148] فلو أن ميتاً أكل مالك أو أخذ حقك أو ظلمك في أمر، فلما توفي قلت: فلانٌ ظالم، فإنه من حقك أن تقول هذا؛ لأنك مظلوم. فإذا تحدث الإنسان بمظلمته فإنه مستثنىً من هذا، وأما المراد بقوله: (أن يكف عن مساوئ الميت)، فهو حديث الفضول الذي لا مصلحة فيه والله تعالى أعلم.

حكم إنزال الرجل للمرأة الأجنبية إلى القبر

حكم إنزال الرجل للمرأة الأجنبية إلى القبر Q ما حكم إنزال المرأة الأجنبية إلى قبرها من قبل الرجل؟ A المرأة يشرع أن يليها أقاربها؛ لأنه أبعد عن الفتنة وأصون للمرأة، وأحفظ لها أن يليها أخوها وأبوها وزوجها وقرابتها كابنها ونحو ذلك من القرابات؛ لأنه أصون للمرأة وأحفظ وأبعد من فتنة الغير، فإن نزل الأجنبي في قبرها وأراد أن يتولى دفنها، وأمنت الفتنة فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دفنت بنته قال: (أيكم لم يقارف أهله الليلة؟ فقال أبو طلحة: أنا يا رسول الله. فأمره أن ينزل) مع أنه أجنبي، وقد كان عثمان رضي الله عنه زوجاً لها ولم يأمره أن ينزل، فدل هذا -كما يقول العلماء- على أنه لا حرج أن يلي الأجنبي دفن المرأة، خاصةً في بعض الظروف التي لا يحسن أقرباء المرأة ما يُصنع بالميت في قبره. فمثلاً: لو كان للمرأة ابن أو أب أو أخ من محارمها، ولكنه لا يحسن طريقة وضعها في القبر، ولا يحسن إعداد أو إصلاح حالها في القبر؛ فإنه حينئذٍ قد يكون الأجنبي الذي خُصص لهذا الأمر أقدر على هذا الشيء وأقوى عليه، فنقول حينئذٍ: لا حرج أن ينزل، ولا حرج أن يقوم بتهيئتها ووضعها في لحدها، وليس ثم محظور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لـ أبي طلحة أن يتولى بنته مع أنه أجنبي عنها والله تعالى أعلم.

حكم حلق شعر العانة والإبطين من الميت

حكم حلق شعر العانة والإبطين من الميت Q هل يجب عند تغسيل الميت حلق شعر العانة والإبطين؟ A هذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمة الله عليهم: هل إذا مات الميت ولم يُنتف شعر إبطه، ولم تُقلم أظفاره، هل يجوز أن يقلم المغسل أظفاره وينتف شعر إبطه أو يحلقه؟ قال بعض العلماء: يشرع ذلك، وإن فعله وضعه في كفن الميت. وقال جمعٌ من أهل العلم: إنه لا يشرع أن يتصرف بجسده، فلا يقلم أظفاره ولا يقص شعره، وإنما يغسله بهيئته التي هو عليها. وهذا هو الصحيح: أنه يترك على حالته، ولا يتعرض لهذه الأشياء؛ لأن التكليف قد زال عنه، وأنت لست بمكلفٍ به، وإنما هو مكلفٌ في نفسه، وبناءً على ذلك فإنه يشرع تركه، فلو قلمت أظفاره وحلقت شعر إبطه فلا حرج. أما العانة فأمرها أشد؛ لأن موضعها ليس كموضع الإبطين؛ ولذلك قالوا: لو مات غير مختون، فلا يشرع أن يختنه؛ لأن التكليف قد زال. والصحيح: أنه لا يتعرض له، وإنما يغسل ويكفن بحالته التي مات عليها والله تعالى أعلم.

حكم دفن ميت مكان آخر قد بليت عظامه

حكم دفن ميت مكان آخر قد بليت عظامه Q من المعلوم أن عجب الذنب لا يبلى، فهل يدفن ثم يوضع ميت آخر في نفس القبر؟ A إذا ذهبت العظام وتلاشت ولم يبق إلا عجب الذنب؛ فإنه يشرع أن يوضع في القبر ميتٌ آخر، ولا يعتبر وجوده مانعاً من قبر الغير فيه، والذي نص عليه الأئمة رحمة الله عليهم: أن عظام الميت ما دامت موجودة في القبر فلا يزال مالكاً لقبره، لا يجوز أن يقبر عليه الغير، ولا يجوز أن يزرع أو يبنى عليه، ولا تملك أرضه للغير، فتعتبر لهذا الميت لحرمته، فلا يجوز البناء عليه، ولا يجوز أيضاً حفر القبر ولا نبشه؛ لأن وجود العظام كوجوده هو؛ فهذه من حرمة المقابر. أما لو أنها فنيت وذهبت وبقي عجب الذنب، فلا حرج حينئذٍ أن يقبر الغير عليه والله تعالى أعلم.

حكم قراءة سورة أخرى بعد الفاتحة في صلاة الجنازة

حكم قراءة سورة أخرى بعد الفاتحة في صلاة الجنازة Q هل يشرع في الصلاة على الميت أن يقرأ المصلي بعد الفاتحة سورة أخرى، أم يقف عند قراءة الفاتحة فقط؟ A السنة كما في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الفاتحة)، ولذلك لا يشرع أن يقرأ سورةً مع الفاتحة، وإنما يقتصر على قراءة الفاتحة.

مقدمة كتاب الزكاة

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الزكاة الزكاة فريضة من فرائض الله عز وجل، وهي الركن الثالث بعد الشهادتين والصلاة، وقد أوجب الله الزكاة وفرضها على عباده في كتابه المبين، وعلى لسان رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة على فرضيتها، وما فرضها الله إلا طهرة للأنفس والأموال، وتفريجاً وإحساناً إلى الفقراء والمساكين ومن كان من أهل مصارفها.

تعريف الزكاة

تعريف الزكاة بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [كتاب الزكاة]. الزكاة: أصلها من زكا الزرع والمال إذا نما وكثر، يقال: زكا الشيء إذا نما وكثر خيره، وقالوا: سميت الزكاة بهذا؛ لأن الله ينمي المال بها ويضع فيه البركة، فما نقصت صدقةٌ من مال، بل تزيده، والله عز وجل يجعل هذه الصدقة سبباً في حصول الخير في مال العبد. وقيل: إنها مأخوذةٌ من زكا الشيء إذا صلح، والعبد الزكي هو الصالح المستقيم على طاعة الله عز وجل البعيد عن الذنوب، ومنه قوله سبحانه وتعالى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} [الكهف:74] أي: لا ذنب لها فهي صالحة؛ لأن الصغار الأصل فيهم أنهم لم يبدر منهم الشر. وكذلك تطلق الزكاة بمعنى الطهارة والحرص على الخير، والبعد عن كل دنس وعن كل ما يشين الإنسان، ومنه قوله سبحانه وتعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7 - 10]. فقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} قالوا في تفسيره: طهرها بالخير والاستقامة على الطاعة والبر فهذه من معاني الزكاة. وسميت هذه الفريضة بهذا الاسم -من ناحية هذا الاشتقاق اللغوي- لأن الله يطهر بها المال، ويطهر بها نفس المزكي من الشح والبخل، فيؤدي الزكاة طيبةً بها نفسه، ومستجيباً لأمر الله عز وجل، فيكون أرفع من أن يملكه المال؛ فيصبح بذلك قوي النفس على إنفاق المال في وجوه الخير والطاعة والبر. والزكاة حقٌ واجبٌ في المال، ويعرفها بعض العلماء بقولهم: حقٌ مخصوص في شيءٍ مخصوص على صفةٍ مخصوصة في شخصٍ مخصوص. فالحق المخصوص قدره الله عز وجل بالمقادير، فيكون عشر المال، ويكون ربع العشر كما سيأتي إن شاء الله في قدر الواجب من الزكاة. وقولهم: في مالٍ مخصوص؛ وهي الأموال التي أوجب الله فيها الزكاة؛ ومن ذلك السائمة من بهيمة الأنعام، والنقدان وعروض التجارة، ونحوها من الأموال التي خص الشرع الزكاة بها. ولشخصٍ مخصوص: وهي الأصناف الثمانية الذين سماهم الله عز وجل بحيث تدفع الزكاة إليهم لا إلى غيرهم. في وقتٍ مخصوص: وهو الذي اعتبره الشرع من حولان الحول، أو إذا كان من الزروع ونحوها عند الحصاد.

مكانة الزكاة وحكمها

مكانة الزكاة وحكمها الزكاة فريضة من فرائض الله عز وجل، وهي ركنٌ من أركان الإسلام، وهي الركن الثالث بعد الشهادتين والصلاة، وقد أوجب الله عز وجل الزكاة وفرضها على عباده في كتابه المبين وعلى لسان رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة على فرضيتها، ففي الكتاب في أكثر من آية قال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] ولذلك قرنها مع الصلاة التي هي عماد الدين؛ إشارةً إلى علو شأنها وعظم أمرها، وقد رتبها النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة مباشرة، كما في الصحيح من حديث معاذ رضي الله عنه: (فإن هم أطاعوك لذلك -يعني: للصلوات الخمس- فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم). وكذلك أيضاً وردت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالزكاة وبين مجمل القرآن فيها، فذكر النصاب وقدره؛ وكذلك القدر الواجب في الأموال، وأرسل السعاة والمزكين إلى الناس فأخذوا الزكاة منهم، وكانت سنته صلوات الله وسلامه وهديه على ذلك، وفي الصحيح عنه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة ... ) وحديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه لما بعثه إلى اليمن -وكان في آخر حياته- (فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم). وهي حقٌ لله عز وجل جعله في مال الأغنياء، وأجمع المسلمون على وجوبه ولزومه.

حكم من أنكر الزكاة

حكم من أنكر الزكاة ومن أنكر وجوب الزكاة فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون عالماً بوجوبها وفرضيتها وينكر، فهذا كافر مرتد بإجماع العلماء رحمة الله عليهم؛ لأنه أنكر المعلوم من دين بالله بالضرورة، فمثلاً: لو قيل لرجلٍ: زك، فقال: ليس هناك زكاة، أو أنكر أن في الإسلام زكاة، وقال: الزكاة ليست بواجبة، وليس في دين الله زكاة، فهذا كفرٌ وردة، نسال الله السلامة والعافية. أما إذا كان جاهلاً، والجاهل له أمثلة: كرجلٍِ أسلم من الكفار، فلما أسلم أُمرَ بالصلاة فصلى، ثم قيل له: زك، قال: ما هناك زكاة، فأنكر الزكاة لجهله وعدم علمه؛ فهذا لا يكفر، وإنما يعلم وتقام عليه الحجة، ثم بعد ذلك إن جحد بعد تعليمه وإقامة الحجة عليه فهو كافر؛ فيعذر في هذه الحالة بجهله، وهي من مسائل العذر بالجهل. وهكذا لو كان في بادية بعيداً عن العلم وبعيداً عن العمران، فليس ثم عنده علماء يسألهم، فيعلم منهم أن هذه الزكاة فريضة من فرائض الله، فَسُئِلَ عن الزكاة أو أُمِرَ بالزكاة فقال: ليس هناك زكاة؛ عن جهلٍ منه؛ فإنه لا يكفر، وإنما يعلم وتقام عليه الحجة، ثم يحكم عليه بعد ذلك. واختلف العلماء -رحمة الله عليهم- في أهل الردة الذين منعوا الزكاة على عهد أبي بكر رضي الله عنه وقتال أبي بكر لهم، فأهل الردة فيهم ما يدل على جحدهم للزكاة، وهو يقتضي الحكم بكفرهم، ويظهر ذلك من قولهم: مات الذي أمرنا الله بأداء الزكاة إليه، وقال بعضهم: قد كانت صلاة النبي عليه الصلاة والسلام لنا سكناً، وصلاة أبي بكر ليست لنا بسكن، يعنون بذلك قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] فقالوا: إن نص الآية يدل على تخصيص دفع الزكاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر ليس داخلاً في هذا الحكم، فكأنهم بهذه المثابة قد أنكروا الزكاة وأنكروا فرضيتها؛ فاستقام تكفير الصديق رضي الله عنه لهم وقتالهم على هذه الردة. وقيل: إن الصحابة لم يحكموا بكفرهم بناءً على وجود التأويل. وإن كان الظاهر أن فيهم من أنكر الزكاة، فيحكم بكفره على ما ذكرناه من إنكار وجوب دفع الزكاة إلى أبي بكر الصديق، واعتقادهم أن الزكاة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم من منعها عناداً، وكلٌ منهما أخذ حكمه، وقد ذكر الأئمة رحمة الله عليهم أنه لما عضتهم الحرب ووجدوا حرها، قالوا: ندفع الزكاة، فامتنع أبو بكر أن يقبل منهم ذلك -كما ذكر الإمام ابن قدامة في "المغني"- حتى يشهدوا أن قتلاهم في النار وقتلى المسلمين في الجنة، فشهدوا بذلك، فقالوا: إن هذا يدل على أنهم كفار. وأجاب بعض العلماء: بأن كونه يحكم بكونهم في النار لا يقتضي الحكم بكفرهم؛ لأنه قد يعذب تارك الزكاة ومانعها بالنار كما في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم لارتكابه للكبيرة. فالحاصل: أن من أنكر الزكاة وقال: ليس في دين الله زكاة، أو ليست الزكاة بواجبة، فإنه حينئذٍ يحكم بكفره؛ لأنه أنكر المعلوم من الدين بالضرورة إذا كان عالماً، وأما إذا كان جاهلاً فلا.

مقاصد الشريعة من فرضية الزكاة

مقاصد الشريعة من فرضية الزكاة يقول رحمه الله: [كتاب الزكاة]. أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بفرضية الزكاة. والله تعالى قد أمر بالزكاة في كتابه وأجمل، حيث لم يبين ولم يفصل أحكام الزكاة، وإنما فصلتها السنة، ولذلك يعتبر الأصوليون رحمة الله عليهم الأمر بالزكاة في القرآن من المجملات، ويعتبرون أدلة السنة مبينة، ويذكرون من أمثلة المجمل إجمال القرآن للزكاة وتفصيل النبي صلى الله عليه وسلم لأنصبتها وشرائطها وأركانها مما يلزم للحكم بها؛ فلذلك يقولون: إن القرآن أجملها والسنة بينتها. لقد أوجب الله سبحانه وتعالى الزكاة وفرضها لحكمٍ عظيمة، ففيها الخير لمن يزكي ولمن تؤدى إليه، ولا يقتصر الخير عليهما، بل يشمل المجتمع كله، ففيها خير للإنسان الذي يزكي، إذ هي زيادة قربةٍ وامتثالٍ وطاعةٍ لله عز وجل، فإذا أداها زاد خيره وعظم أجره بالامتثال. ثانياً: أنها تقوي يقينه بالله سبحانه وتعالى من جهة كونه يُحسن الظن بأن الله سيخلف عليه، وأن الله سيعوضه خيراً. ثالثاً: أنها تطهر نفسه من أدران الشح والبخل، ومالك المال إذا جاد به وأنفقه وأحسن به إلى الناس أخرجه الله من رقه، فأصبح مالكاً للمال، ولم يكن المال مالكاً له، وإذا تعوّد الإنسان الإنفاق من ماله قوي على هذا المال، وإذا تعود على كنزه وحفظه، فإن المال يأسره -نسأل الله السلامة والعافية- حتى يأتي عليه يوم لا يستطيع أن ينفق من هذا المال حتى لصحته وصحة أبنائه وأطفاله وزوجته، كل ذلك لأن المال أسره، وحب المال -والعياذ بالله- فتنه، فإذا أدى الزكاة تعود أن يخرج من رق المال ومن أسر المال له. وكذلك أيضاً فيها خير له من جهة أن الله عز وجل يضاعف له المال وينميه، ولا تنقص هذه الزكاة من ماله، بل إن الله عز وجل يعوضه في هذا المال حساً ومعنى: يعوضه حساً، فتربح تجاراته وتعظم أمواله؛ ولذلك تجد المزكين بخير الأحوال ولربما يعوضه معنى، فيجعل البركة في ماله؛ فإذا كانت تجارته أقل من تجارة الغير عدداً فإنها أكثر بركةً، والعبرة بالبركة، فإن الله سبحانه وتعالى قد يغدق المال الكثير على العبد وينزع منه البركة؛ فيصبح كأفقر الناس -نسأل الله السلامة والعافية- ولربما تجد الإنسان قليل المال، ولكن وضع الله له فيه البركة، فيعود عليه بالخير كما لو كان عندهُ أضعاف هذا المال، ولذلك يقول العلماء: ليس المهم أن يجد الإنسان الخير في الدنيا، ولكن الأهم أن يضع الله له البركة فيما وهبه من خير الدنيا. فمثال ذلك: قد تجد عند الرجل التسعة والعشرة من الأولاد، ولكن الله ينزع منهم البركة، فيجد فيهم العقوق والأذية والضرر حتى يتمنى أنه عقيم لا ولد له -نسأل الله السلامة والعافية- فنزع الله منهم البركة، وجعلهم شقاءً عليه. ومن الناس من تجد عنده الولد الواحد ذكراً أو أنثى، قد وضع الله فيه سعادة الدنيا، فيكفي أباه همه، ويقوم على شأنه، ويجده في الشدائد عوناً بعد الله سبحانه وتعالى، فيجد فيه من الخير ما لا يجده صاحب العشرة والعشرين من الولد مما وضع الله من البركة في هذا النسل أو هذا العقب. فالعبرة في خير الدنيا الذي يهبه الله من الأموال والأولاد والتجارات ونحوها: أن يضع الله البركة فيها، وقد تجد الإنسان يملك الملايين ولكنها تذهب سداً، وقد تجده يملك مئات الألوف ولكن الله ينزع منها البركة، فزوجته مسرفةٌ في إنفاقها وأولاده يسرفون، فلا يجد بركةً لماله، خاصةً إذا اكتسب المال من الحرام؛ فإن أول شؤم الحرام أن ينزع الله منه البركة، فالزكاة سبب للبركة في الأموال، ويصلح الله بها حال المال، ولذلك تجد المزكي على خير دائمٍ في ماله وطمأنينة وانشراح صدر مع ما في الزكاة من دفع البلاء عن المال؛ فإن الله سبحانه وتعالى إذا وفى العبد له بحقه حفظ له ماله وبارك فيه. كذلك أيضاً فيها خير لمن تؤدى إليه الزكاة، فالفقراء والضعفاء ينجبر كسرهم وتفرج كرباتهم، والمديون يُقضى دينه، وغير ذلك مما يحصل من الخير للضعفاء والمساكين. هذا الضعيف والمسكين يرتاح قلبه بأداء الزكاة إليه؛ فتندفع نفسه عن التفكير في الحرام، وكذلك الحقد على إخوانه الأغنياء من المسلمين، فإذا وجدهم يحسنون إليهم أحبهم، وبناءً على ذلك يبتعد عن كثير من المفاسد، مع ما يحصله من المصالح، فيها خيرٌ للمجتمع؛ لأنها تقوي أواصر المحبة، فطبقة الأغنياء والفقراء لا بد منها؛ لأن الله رفع بعضنا على بعض وفضل بعضنا على بعض، وجعل بعضنا فوق بعض درجات ليتخذ بعضنا بعضاً سخرياً، ابتلاءً للأغنياء وللفقراء، فالأغنياء يبتلون كيف يعاملون الفقراء والضعفاء، والضعفاء يبتلون كيف يصبرون على أذية الأغنياء وإذلالهم لهم. فهذا الابتلاء من لازم وجود الأغنياء والفقراء أن يحصل التنافس بينهم، فلربما يحقد الفقراء على الأغنياء، حتى تأتي الساعة التي تسرق فيها الأموال وتغتصب، وذلك بسبب منع الأغنياء لأموالهم، فلو أن الله لم يفرض الزكاة وأصبح الفقير فقيراً فسيحقد الفقراء على الأغنياء؛ لأنهم يجدون أنهم في ضيق وشدةٍ؛ هذا الغني يتمتع بملاذ الحياة، والفقير لا يجد قوام عيشه فضلاً عن أن يتمتع في حياته، فيحقد الضعيف على القوي، ويحقد الفقير على الغني. فإذا جاء الغني وأعطى الفقير زكاة ماله، وأشعره كأنه شريكٌ له في هذا المال؛ اطمأنت نفسه، ودعا له بالخير والبركة، ولذلك تجد الفقراء يحبون الأغنياء بحسناتهم وصدقاتهم ويدعون لهم بالخير، حتى إنهم إذا سمعوا بالنكبة لهذا الغني دعوا الله أن يفرج عنه وأن يخفف عنه، فكم من بيوتٍ تقوم على إحسان الأغنياء، قد جعل الله هذا الإحسان سبباً في دفع البلاء عن هؤلاء الأغنياء، فترفع لهم الأكف آناء الليل وأطراف النهار بأن يحفظ الله أموالهم، وأن يحفظ الله أبناءهم وذرياتهم؛ فيعود الخير على أفراد المجتمع وتجتمع القلوب. إضافةً إلى أن السرقات والغصوبات ونحوها مما تكون بسبب الفقر لا تنتشر بين المسلمين؛ لأن الفقير يعطى من الزكاة نفقة العام كما سيأتي إن شاء الله الإشارة إليه، فكأنه كُفي، وبناءً على ذلك فإن انتظام الزكاة من صالح الأفراد والجماعات. ونظرة الإسلام إلى المال وسطية، لأن هناك نظرة مادية تعظم المال حتى كادت أن تعبده، كما هو منهج الرأسمالية، وهناك نظرة تنظر إلى المال كأنه لا قيمة له إلى درجة سوت بين الأغنياء والفقراء كما هي نظرة الاشتراكية، فجعلت الفقير يشارك الغني في كده وتعبه ونصبه وشقائه فظلمت الغني، وأولئك ظلموا الفقراء، والشريعة عدلت بين الفقراء والأغنياء، فجعلت في أموال الأغنياء حقاً معلوماً للسائل والمحروم، فبذلك حفظت الغني من بطره وأشره واكتنازه لماله، مع ما أعد الله للغني من الثواب في الآخرة. فجاءت نظرة الإسلام وسطية بين تعظيم الأموال والنظرة إليها أنها هي كل شيء كما هو منهج الرأسمالية، وبين إهانة المال والاعتداء على الملكية الفردية كما هي نظرة الاشتراكية، فأتى الإسلام بالوسطية: فجعل للمال حقه، وجعل للغني يده، ولم يظلمه في تعبه، فكيف يسوى بين الذي يتعب ويكدح آناء الليل وأطراف النهار، ويحصل الأموال بكده وتعبه -بعد توفيق الله عز وجل- وبين العاجز الخامل؟! فلو أنه سويّ بين الغني والفقير -كما يقال في مذهب الاشتراكية- فإن هذا يجعل المجتمع في بطالة، ويقوي على البطالة ويعين عليها، ولكن الإسلام لا ينظر إلى هذا، يقول: أعط الفقير، ولكن بشرط أن يكون عاجزاً عن الكسب، يكون قد ضاقت يده في ظروفٍ معينة وحدودٍ ضيقة، وكذلك أيضاً ملَّك الغني ماله، فأعطى كل ذي حقٍ حقه، وما ظلم الله عز وجل لا الأغنياء ولا الفقراء، مع أنه سبحانه وتعالى هو مالك الأموال ومن ملكها، ولو قال الله عز وجل لنا: أدوا أموالكم كاملة لأديناها؛ لأنها ما كانت لنا ولم تكن إلا بفضله سبحانه وتعالى، هو الذي أنفق على عباده وأغنى الغني بفضله وكرمه. يقول المصنف رحمه الله: [كتاب الزكاة]. من عادة العلماء رحمة الله عليهم أن يرتبوا مؤلفاتهم الفقهية، فهم يبدءون بكتاب الصلاة، وحين يبدءون بكتاب الصلاة يهيئون له بكتاب الطهارة، فيبينون الشروط المعتبرة للصلاة ومنها الطهارة، وبعد بيانهم للصلاة وما يتعلق بها يقولون: كتاب الزكاة. فبعد أن فرغ رحمه الله من كتاب الصلاة شرع في كتاب الزكاة، وعبر بـ (كتاب) ولم يقل: (باب)؛ لاشتمال هذا الكتاب على أبواب عديدة ومباحث متعددة تحتاج إلى تفصيل، ومسائل مختلفة تحتاج إلى بيان؛ ولذلك قال رحمه الله: كتاب الزكاة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه جمعين.

باب شروط وجوب الزكاة

شرح زاد المستقنع - باب شروط وجوب الزكاة من شروط الزكاة حولان الحول، لكن هناك أموال لا يشترط فيها الحول، كالحبوب والثمار ونحوها، وهناك مسائل متعلقة بالزكاة، منها: زكاة الدين ومتى تجب فيه الزكاة ومتى لا تجب، وزكاة الشيء المغصوب، وزكاة من ملك مالاً ونسي موضعه، وزكاة من ملك نصاباً وعليه دين، والأحوال التي تسقط فيها الزكاة، وهل تجب الزكاة في عين المال أم في الذمة.

شروط وجوب الزكاة

شروط وجوب الزكاة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [تجب بشروط خمسة]. تجب -أي: الزكاة- بشروط خمسة لا بد من توفرها للحكم بوجوبها ولزومها، وقوله: (خمسة) إجمالٌ قبل البيان والتفصيل، من فوائده: تهيئة السامع، وتشويقه إلى العلم بها أو بتفصيلها. قوله: [حرية]. الشرط الأول في وجوب الزكاة الحرية، والعبد بالإجماع لا تجب الزكاة عليه من حيث الجملة، فلا تجب الزكاة في أموال العبيد، وإنما تجب على الأحرار. أما الدليل على أنها لا تجب على العبد: فما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من باع عبداً وله مال؛ فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع). ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخلى يد العبد من الملكية، فقال: (من باع عبداً وله مالٌ -أي: للعبد مال- فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) فدلّ على أن العبد لا ملك له للمال، وإذا كان العبد لا يملك المال فإنه لا يتوجه إليه الخطاب بزكاته، وإنما يتوجه إلى سيده. وعلى هذا: فزكاةُ مال العبد واجبةٌ على السيد، وهذا مذهب الجمهور. وقال مالك رحمة الله عليه: لا تجب لا على السيد ولا على العبد، فأسقط الزكاة عنهما، وظاهر حديث ابن عمر يدل على أن الزكاة تتعلق بالسيد، وأنه تجب زكاة مال العبد لكن على سيده لا على العبد؛ وذلك لأنه مال، فهو داخلٌ في عموم الأدلة التي أمرت بأداء الزكاة. والعبد له أحوال: إما أن يكون مملوكاً بكامله لزيدٍ من الناس، أو يكون بعضه حر وبعضه عبد، فإذا كان نصفه حراً ونصفه عبداً فما الحكم؟ قالوا: تجب الزكاة بقدر ما فيه من حرية، وحينئذٍ يكون مالكاً لنصف ماله، فتجب عليه الزكاة في هذا النصف بما فيه من الحرية. المسألة الثالثة: إذا كان العبد مكاتباً -وهو الذي يسعى لحريته- فهل تجب عليه الزكاة أو لا تجب؟ للعلماء قولان: أبو ثور وداود الظاهري يوجبان على العبد المكاتب الزكاة، والجمهور لا يوجبون عليه الزكاة؛ لأنه لم تثبت حريته بعد؛ لأنه إذا عجز عن أنجم الكتابة رجع رقيقاً، فدلّ على أنه أثناء أدائه لثمن الكتابة لا يزال رقيقاً، وعلى هذا: فالمكاتب لا تجب الزكاة عليه، وإنما تجب على سيده. قوله: [وإسلام]. أي: ومن شروط وجوبها الإسلام، فلا تجب الزكاة على كافر؛ فمثلاً: لو أن اليهود والنصارى كانوا أهل ذمة عند المسلمين، فلا نأتي ونقول لهم: أدوا الزكاة؛ إذ لا تجب الزكاة على الذمي؛ لأنه كافر، أما لو كان مسلماً ثم بعد ذلك ارتد، فإنه لا تجب عليه الزكاة، لكنه يطالب بالزكاة الواجبة عليه أثناء إسلامه، فلو أنه وجبت عليه الزكاة مائة ألف، فارتد بعد وجوبها ولم يؤدها بعد، فمن حق الإمام أن يأخذ من ماله قدر المائة الألف؛ لأنه إذا ارتد حُبِسَ ماله في بيت مال المسلمين، يحفظه الوالي، ثم يؤخذ منه بقدر ما عليه من الزكاة قبل أن يرتد، هذه هي الحالة التي تجب فيها الزكاة في مال المرتد، أما إذا كان في حال ردته فإنه لا يطالب بزكاة ماله. واختلف في نصارى بني تغلب، وفيهم حكمٌ خاص قد يأتي إن شاء الله الإشارة إليه. قوله: [ومُلك نصاب]. ملكية النصاب شرط لوجوب الزكاة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة) وقال: (ليس فيما دون خمسٍ ذودٍ من الإبل صدقة) فجعل للصدقة حداً سماه العلماء بالنصاب، وهي العلامات؛ لأنها تنصب علامةً على الشيء، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة) كأنه يقول: هذه علامة الوجوب، وما دونها لا تجب فيه الزكاة من الأموال، وما فوقها تجب فيها الزكاة. وقوله: (ملكية النصاب): أن يكون مالكاً للنصاب، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة) (ليس فيما دون خمسٍ ذودٍ من الإبل صدقة) (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) هذا كله يدل على أن النصاب معتبر، وأن ما دون النصاب لا تجب فيه الزكاة بإجماع العلماء، فالزكاة لا تجب في كل مال، وإنما تجب في أموال مخصوصة؛ بشرط أن يكون الإنسان مالكاً لهذا الحد الذي نصبه الشرع وجعله علامةً على لزوم الزكاة. قوله: [واستقراره]. أي: واستقرار الملك، وكون المال ليس مستقراً كالوقف على غير معين، فلو أن شخصاً -مثلاً- أوقف بستانه بغلته على الفقراء والمساكين؛ فإن هذا المال مال، لكن ليس له يدٌ مستقرة، فيكون للفقراء في زماننا، وإذا ماتوا وجاء فقراء غيرهم فهو لهم، فيد الملكية ليست بمستقرة. إضافةً إلى أنه يكون وقفاً على فقراء، ثم هؤلاء الفقراء لو أنهم صاروا أغنياء انتفت عنهم الملكية، وانتقلت إلى غيرهم من الفقراء؛ فهو وإن كان موقوفاً عليهم لكنهم لا يملكونه، وإن كانت غلته يملكونها إذا أخذوها ولكنها ليست بمستقرة، وليست هناك يدٌ ثابتة على هذا المال، ولذلك من أوقف ماله فقد خرجت ملكية المال عنه لله سبحانه وتعالى. وعلى هذا قالوا: لو أنك بنيت مسجداً، وأوقفته صار ملكاً لله عز وجل، وليس من حقك بعد بناء المسجد أن تقول: لا يصلي فيه إلا فلان، ولا يدخل إلا فلان، ولا تفعلوا إلا كذا، أو اسمعوا كذا. لأنه ليس ملكاً لك؛ فهو بالوقفية خرج عن ملكية الإنسان، وأصبح وقفاً لله -أي سبيلاً لله- عز وجل، فملكيته لله سبحانه وتعالى بالنسبة؛ وإن كان في الأصل أننا وما ملكنا ملكٌ لله عز وجل. فالزروع وسائر الأشجار إذا نبتت في الفيافي، لو أن الشجر نبت في الفيافي والبراري فإنها أموال، لكن ليس هناك مالكٌ معينٌ لها، فلا تجب فيها الزكاة، وإن كانت مالاً وقد تبلغ النصاب، وقد يكون فيها خمسة أوسق من الحبوب، كأن يصيب الغيث أرضاً فتنبت الحب ويكون منها الخير، فإننا لا نوجب الزكاة؛ لأن الملكية هنا ليست بمستقرة وليست بثابتة على المكلف المخاطب بوجوبها. قوله: [ومضي الحول]. (ومضي الحول) الحول: هو العام الكامل مأخوذٌ من الحال، وشرطه: أن يكون بالسنة القمرية لا بالشمسية، فالحساب في الشرع بالقمرية لا بالشمسية، فمن ملك في يوم، فلا بد أن يعتبر سنة قمرية لهذا اليوم حتى يأتي مثلها في السنة القادمة، والإنسان إذا مكث سنة كاملة يتغير من حالٍ إلى حال، فسمي الحول حولاً لأن الناس تتغير أحوالهم بمضيه. ولا بد من مضي الحول، فلو أن المائة ألف التي معك ملكتها في اليوم العاشر من رمضان، وجاء اليوم العاشر من السنة القادمة من رمضان وهي معك فإنه تجب عليك الزكاة، فلو أنك قبل اليوم العاشر من رمضان في اليوم التاسع تلف هذا المال أو أوقفته، أو حصل له عارضٌ تزول به ملكيتك أو نقص عن قدر النصاب؛ فإنه تسقط عنك الزكاة ولا تجب ولو قبل غروب الشمس بلحظة واحدة، فلا بد من مضي السنة الكاملة على هذا النصاب. قال: [في غير المعشر]. قوله: (في غير معشر) أي: الزروع والثمار والحبوب ونحوها مما أوجب الله زكاته حال الحصاد؛ لأن الله تعالى يقول: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] فأوجب علينا في الجنات والزروع والنخيل أن نؤدي الزكاة إذا حصدنا، فدل على أنها قبل الحصاد لا تجب، ومن المعلوم: أنك لو حصدت الحب قد يكون مضى عليه أشهر ولم يمض عليه حولٌ كامل، فدل على أن زكاة الحبوب والثمار مستثناة من الحول، والإجماع منعقد على مضي الحول -وفيه حديث عند أبي داود وحسنه العلماء-: أنه ليس في الأموال زكاة حتى يحول عليها الحول؛ لكن هذا النوع من الأموال -الذي هو الزروع والثمار- أوجب الله زكاتها ولو لم يحل عليها الحول، فجعل الزكاة بالحصاد، فإذا حصد الحب وجلبه إلى مسكنه وبيدره، فإنه حينئذٍ يؤدي زكاته بالقدر الذي أوجب الله وسمى في زكاة الحبوب والثمار. قال المصنف رحمه الله: [إلا نتاج السائمة وربح التجارة]. قوله: (إلا نتاج السائمة) البهيمة: تكون -مثلاً- عندك أربعون شاة، الأربعون بلغت النصاب، هذه الأربعة نمت أثناء العام، والعبرة بمجيء الساعي في حولها، فإذا كانت عندك طيلة السنة مثلاً مائة وعشرون شاة، فيها شاةٌ، وفي الليلة التي جاء فيها الساعي ولدت شاة، فأصبحت مائةً وإحدى وعشرين، فتجب عليك شاتان، فالذي حال عليه الحول تجب فيه شاة واحدة، لكن هذا النتاج تابعٌ لرأس ماله وأصله؛ فحينئذٍ تجب عليك الزكاة بشاتين، ويسمونها الشاة المشئومة من باب الكناية؛ لأنها شاة صغيرة ولكن ضيعت ما هو أكبر منها. فلو ولدت شاة قبل مجيء الساعي -ولو بيوم واحد أو ليلة واحدة- وأصبح العدد مائة وإحدى وعشرين، وجبت عليك شاتان، فتلزم بدفع شاتين، مع أن الأصل أن في المائة والعشرين شاة واحدة. فلا يشترط حولان الحول على النتاج. وبناءً على ذلك قاس بعض العلماء الرواتب وما في حكمها. يقولون: في الأصل لك الحق أن تجعل الراتب كل شهر تجعل حوله بحوله، فشهر محرم تكتب عليه شهر محرم، وتنتظر إلى السنة القادمة تنفق من شهر محرم، إلى أن يأتي شهر محرم من العام القادم، فإن بقي من هذا الراتب شيء زكيته إذا بلغ النصاب، وإن لم يبق ما يعد به قدر النصاب لا تجب عليك الزكاة، هذا الأصل: أن كل راتبٍ تجعله بحوله المستقل. لكن إذا صَعُب عليك هذا، ولا شك أنه يفتح باب الوسوسة، ويؤدي إلى حصول الشكوك عند الإنسان وفيه ضيق على الإنسان أن يكتب على كل مبلغ وأن يجعله عنده بأرقامه وكتاباته، فهذا فيه عسر وتعب وعناء، قالوا: إذا لم يرد هذه الطريقة يزكي كسائمة بهيمة الأنعام. فنقول له: انظر إلى أول شهرٍ استلمت فيه الراتب فتنتظر إلى مثله في العام القادم وتجمع ما عندك، حتى ولو كان من شهر ذي الحجة الذي قبلها بأيام أو بشهر، يجب عليك أن تزكيه على الأصل، هذا بالنسبة إذا كنت تختار الحول لشهر واحد. أما الطريقة الأولى: فهي الأصل: أن كل راتب شهر بحسبه؛ لكن لو أحببت أن ترتاح، وأن تجعل حول رواتبك حولاً واحداً، في بداية المحرم -مثلاً- استلمت هذا الراتب الذي به يكون قدر الن

ذكر ما يستثنى منه الحول في إخراج الزكاة

ذكر ما يستثنى منه الحول في إخراج الزكاة قال المصنف رحمه الله: [ومضي الحول في غير معشّر إلا نتاج السائمة وربح التجارة ولو لم يبلغ نصاباً، فإن حولهما حول أصليهما إن كان نصاباً وإلا فمن كماله]. ذكر المصنف رحمه الله جملة من الشروط التي ينبغي توفرها للحكم بوجوب الزكاة، فإذا وجدت هذه الشروط فإن المكلف ملزمٌ بالزكاة، وإذا تخلفت هذه الشروط أو واحد منها، فإنها لا تجب، فما زال رحمه الله يبين لنا هذه الشروط، وكانت خاتمتها اشتراط الحول، وقد تقدم الكلام على هذا الشرط، وقد بيّنا أن إجماع العلماء رحمهم الله على أن الحول معتبر لوجوب الزكاة، ويستثنى من ذلك المعشّر؛ وهو الذي أوجب الله فيه العشر، والمعشّرات هي الزروع والثمار، والدليل على هذا الاستثناء أن الله سبحانه وتعالى قال في زكاة الزروع والثمار: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141]، ومن هنا نفهم أن من الأموال التي تجب فيها الزكاة ما يشترط فيه الحول كالذهب والفضة، ومنها ما لا يشترط فيه الحول كالزروع والثمار، فلو أن إنساناً زرع شعيراً، ثم كان القدر الذي استحصده منه بالغاً خمسة أوسق، فإننا نوجب عليه الزكاة إذا حصده وضمّه إلى البيدر، مع أنه لم يمض العام الكامل عليه، ولذلك يقال: إن هذا النوع من الأموال لا يشترط فيه حولان الحول، وحولان الحول أصل لكن له مستثنيات، منها ما ذكر المصنف رحمه الله. قوله: (إلا نتاج السائمة) ذكرنا أن النتاج: هو ما يكون من نتاج بهيمة الأنعام -وهو صغارها- فلو أن إنساناً ملك مائة وعشرين شاةً، فإن الله أوجب عليه فيها شاة واحدة، ولا يجب عليه أكثر منها، فلو فرضنا أنه طيلة العام كانت عنده مائة وعشرون شاةً، فلما كانت ليلة الساعي ولدت إحداهن شاةً، فأصبح الذي عنده مائة وإحدى وعشرين شاة، ففيها شاتان، ولا نقول: إنه يجب أو يشترط أن يحول الحول على هذا النتاج الذي لم يبلغ السنة الكاملة، وبناءً على ذلك نقول: إن نتاج السائمة لا يشترط فيه حولان الحول. أما لو اشترى غنماً وضمها إلى الغنم الأولى، فقال بعض العلماء: إنه يستأنف لهذه الغنم الجديدة الحول، ومنهم من يقول: إنها مضمومة إلى رأس ماله، ولهذا القول من الوجاهة قوة. قوله: (وربح التجارة). فلو كانت عند الإنسان مائة ألف اشترى بها تجارة من قماش أو غذاء أو غير ذلك، وعرضها للبيع، فإن هذه المائة الألف التي دخل بها للتجارة، إذا مضى الحول عليها فإنها تزكّى؛ فيجمع ما في الدكان أو البقالة أو المتجر ثم بعد ذلك يقدره بقيمته يوم تمام حوله ويخرج زكاة القيمة؛ فلو فرضنا أن هذه المائة ألف قامت على تجارة أكسية اشترى بها القماش، وما زال يبتاع ويشتري في هذا القماش، إذا برأس ماله الذي هو المائة ألف قد أصبح مائة وعشرين، فعنده نتاج وهو ربح لرأس المال وهو العشرون ألفاً؛ فإذا حال الحول فإنه يجمع المال كله فيؤدي زكاة مائة وعشرين، مع أن المائة والعشرين: منها ما حال عليه الحول وهو المائة ألف، ومنها ما لم يحل عليه الحول وهو العشرون التي تعتبر ربحاً للمائة، فهذا الربح لم يحل عليه الحول، ولكن الفرع تابع لأصله، فأصبح تابعاً لذلك الأصل الذي أنميته بالتجارة، فصارا كالشيء الواحد، وتزكيه زكاة واحدة. بناءً على هذا يقول الفقهاء: يشترط حولان الحول في المال الذي تجب فيه الزكاة إلا إذا كان ربح تجارة، فاستثنوا المعشّرات ونتاج السائمة وربح التجارة. فلو سألك تاجر وقال: قد ملكت كذا وكذا ألفاً وتاجرت بها السنة كاملة، وقبل نهاية السنة بيوم أو بأسبوع أو بشهر ربحت مثلها؛ فأصبحت المائة مائتين أو أصبحت العشرة عشرين، فهل في هذه الحالة يجب عليَّ زكاة الأصل وهو العشرة آلاف أو المائة ألف- أو زكاة الجميع؛ أعني مع ما حصل عليه من الربح؟ فالجواب أن تقول: عليك زكاة رأس مالك وكذلك نتاج رأس المال وهو الربح؛ لأنه تابع للأصل. هذا هو مراده رحمة الله عليه، وعليه نقول: إنه يجب على الإنسان أن يراعي الحول في ماله الذي وجبت فيه الزكاة إلا إذا كان من المعشّرات أو نتاج سائمة أو ربح تجارة. وقوله: (ولو لم يبلغ نصاباً). ربح التجارة في بعض الأحيان قد يبلغ النصاب، وأحياناً أخرى لا يبلغ النصاب، فلو أنه ربح مع المائة ألف مائة ألف أخرى، فقد بلغت النصاب قطعاً، ولو ربح خمسين ريالاً فإنها دون النصاب، فحينئذٍ نقول: ربحك لما بلغ النصاب ولما دون النصاب الحكم فيه سواء فتضمه إلى أصله، وتطرد القاعدة أن الفرع تابع لأصله، فزكاة الأرباح زكاة رءوس أموالها، ويستوي في ذلك أن تكون بالغة النصاب أو دون النصاب. قال المصنف رحمه الله: [فإن حولهما حول أصلهما إن كان نصاباً وإلا فمن كماله]. قوله: (فإن حولهما) يعني: حول الربح حول رأس ماله، فحينئذٍ تعتبر حولهما واحداً، فلو دخلت في التجارة من بداية محرم واكتسبت الربح في شوال مثلاً أو في رمضان، فإنك حينئذٍ تعتبر هذا الربح الطارئ في رمضان تابعاً لرأس المال الذي هو في محرم، ولا تقول: إنه ينبغي أن أستقبل به رمضاناً قادماً؛ لأنه في هذه الحالة يعتبر تابعاً للأصل. وقوله: (وإلا فمن كماله) هذا الحكم الذي ذكرناه وهو كونك تتبع الربح لرأس المال يكون شرطه أن يكون رأس المال قد بلغ النصاب، فلو كانت عندك خمسون ريالاً، وهذه الخمسون دون النصاب المعتبر كما سنبينه إن شاء الله في زكاة النقدين، لكنك دخلت بها في التجارة، فما زلت تربح حتى بلغت النصاب، مثلاً ثلاثةً وخمسين أو أربعةً وخمسين على جبر الكسر الذي فوق الثلاثة وخمسين، فإذا بلغت أربعةً وخمسين في ربيع، فإن حولها من ربيع، وحينئذٍ يكون هذا الزائد وهو الثلاثة أو الأربعة التي بلغ بها النصاب هو بداية الحول، وحينئذٍ تعتبر حولهما واحداً وتضمهما لتزكيهما زكاة مال واحد.

أحكام زكاة الدين

أحكام زكاة الدين قال المصنف رحمه الله: [ومن كان له دين أو حق من صداق أو غيره على مليء أو غيره أدى زكاته إذا قبضه لما مضى]. هذه المسألة مسألة يحتاج إليها الناس وتعم بها البلوى، وهي زكاة الديون، فأنت عندك مال أخذه منك إنسان، وحينئذٍ لا تبحث عن هذه المسألة إلا إذا أمضى حولاً كاملاً، أو مرّ حول مالك الأصلي والدين عند الشخص الذي أعطيته إياه، فلو فرضنا مثلاً: أنك أعطيت رجلاً مائة ألفٍ ديناً، أعطيته إياها في محرم، فهذا الدين لا يخلو من صور: الصورة الأولى: أن يحل أجله، فقلت له: هذا الدين توفيني إياه أو تعطيني إياه في نهاية رمضان، فهو سيوفيك المائة ألف قبل دخول الحول أو قبل بلوغ الحول، فإن كان أجل الدين قد دخل في الحول، فحينئذٍ تبحث عن حكم زكاته إذا لم يؤد الدين بعد تمام المدة، فأنت اشترطت عليه في نهاية رمضان أنه يعطيك المال، ولكن جاء رمضان وقال: لا أستطيع السداد، فبقي الدين عنده حتى شاء الله عز وجل ومضى إلى بداية حولك الذي هو محرم، فحينئذٍ إذا جاء محرم سألت: هل هذا الدين الذي لي على الرجل تجب علي الزكاة فيه، أو لا تجب؟ هذا الدين لا يخلو من حالات: الحالة الأولى: أن يكون الشخص الذي أعطيته الدين قادراً على السداد، وهو الذي يعبر العلماء عنه بالمليء، فإذا كان قادراً على السداد فحينئذٍ لا تخلو من حالتين: إما أن تستطيع مطالبته به ويعطيكه فحينئذٍ تجب عليك الزكاة؛ لأن الذي منعك من طلبه إنما هو الحياء، فقد يكون بينك وبينه مودة، أو قد يكون بينك وبينه معاملة فتترك الدين عنده، أو تريد أن يكون المال عنده؛ لأنه أحفظ لمالك؛ لأنه رجل أمين وتثق به، والسبب في وجوب الزكاة في هذه الحالة أن المال إذا كان على غني مليء بحيث لو طالبته أعطاك كأنه بيدك، فالمال وإن لم يعطِك إياه فإنه في حكم المال الذي بيدك، وتجب عليك زكاته، هذا إذا كان مليئاً وكنت قادراً على مطالبته ولا يماطل؛ بل يعطيكه في أي وقت تطلبه، ففي هذه الحالة يجب عليك زكاة المال، ووجه وجوبها أن المال وإن كان عند المدين، لكنه في حكم المال الذي بيدك، وعلى هذا الأصحاب فيما بينهم من مودة ومجاملات ربما يتركون الأموال عند بعضهم، وربما يغلبه الحياء عن مطالبته، فإذا كان الشخص تستطيع مطالبته ويوفيك عند المطالبة وهو قادر، فعليك زكاة مالك؛ لأنه وإن كان ديناً، ففي حكم المال الذي في يدك، هذه الحالة الأولى. الحالة الثانية: إذا حلّ الأجل أن يكون عاجزاً على السداد، وعدك نهاية رمضان وجاءت نهاية رمضان، ولكنه لم يستطع السداد؛ لفقره وعجزه، فإذا كان فقيراً أو عاجزاً عن السداد أو طرأت له ظروف، ولكنه لا يستطيع أن يعطيك، فحينئذٍ للعلماء قولان: منهم من يقول: عليك زكاته، فتجب عليك الزكاة في كل سنة؛ فلو بقي عنده الدين خمس سنوات؛ عليك زكاة خمس سنوات، ففي كل سنة تحسب هذا المال سواء كان على فقير أو غني لا يفرقون، ويجب عليك أن تزكي، هذا هو القول الأول. القول الثاني أنه إن كان عاجزاً عن السداد ولو طالبته بالدين لا يستطيع أن يوفيكه، فإنه لا تجب عليك زكاة المال، وهذا هو الصحيح؛ لأن المال غير موجود، وهو في هذه الحالة في حكم المفقود؛ فهو ليس بيدك، ولا تجب عليك زكاته، وإنما تنتظر، فلو جلس عشر سنوات أو عشرين سنة أو ثلاثين سنة، وبعد ثلاثين سنة جاء يوفيك فتزكيه لسنة واحدة، وبذلك أفتى علي وعائشة وعبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع؛ لأنه لم يصل المال إلى يدك إلا في تلك السنة، واليقين أنك مطالب بتلك السنة وغيرها شك؛ لأن المال كان غير موجود، وحينئذٍ لا تجب عليك الزكاة للسنوات التي مضت، هذا إذا كان عاجزاً عن السداد. الخلاصة لهذه المسألة: أنه إذا حلّ الأجل وكان عاجزاً عن السداد، ولا تستطيع أن تأخذ المال منه، فحينئذٍ لا تجب عليك الزكاة، ثم ننظر؛ فلو وفاك بعد عشرين سنة أو ثلاثين سنة، فلا تجب عليك إلا زكاة سنة واحدة فقط وغيرها لا تجب؛ لأن المال في حكم المفقود، وهذا الرجل الذي هو معسر -ولا يستطيع السداد طيلة السنوات التي كان المال في ذمته- لم يكن المال موجوداً عنده، ولا تجب زكاة المال المفقود، وحينئذٍ لا تجب عليك إلا زكاة سنة واحدة. فإذا قبضت المال منه ولو بعد عشر سنوات أو عشرين سنة تزكيه لسنة واحدة، فإذا كان المدين غنياً بَيَّنَّا حكمه، وإذا كان فقيراً بَيَّنَّا حكمه. الحالة الثالثة: أن يأتي الأجل ثم تطالبه وإذا به قادر على السداد ولكنه يمتنع، فيكون مليئاً غنياً ولكنه يماطل، وهذا ما يسميه العلماء بالمماطل -الغني القادر على السداد المماطل- فلا تخلو حينئذٍ في هذا المماطل من حالتين: إما أن تستطيع أن تقهره وتأخذ الحق منه سواء عن طريق القضاء أو عن طريق غيره من الناس ممن تستطيع أن تكلمه حتى يأخذ بحقك منه، فتجب عليك الزكاة؛ لأنه وإن كان مماطلاً لكنه في حكم من أنت قادر عليه والمال موجود عنده، فكونك تقصر في أخذ المال يلزمك بزكاته، هذا إذا امتنع عن السداد، وكان عندك قدرة على أخذه، فحينئذٍ يجب عليك زكاته. أما لو امتنع، ولا تستطيع أن تأخذه منه؛ لقهره إياك، أو تخشى منه الضرر والأذية، أو ليس عندك شهود على المال ولا تستطيع إقامة القضاء عليه، فحينئذٍ تنتظر ولو مائة سنة، فإن قدرت ولو بعد مائة سنة تزكيه لسنة واحدة؛ لأنك ما قدرت على مالك إلا في تلك السنة، ولا تجب عليك إلا زكاة سنة واحدة، وأما بقية السنوات فالمال وإن كان مالك لكنه في حكم المعدوم لعدم القدرة عليه. فإذا كان قادراً على السداد ويمتنع من السداد، فلا يخلو: إما أن تقدر على قهره، فتجب عليك الزكاة، وإما ألا تستطيع قهره، فحينئذٍ لا تجب عليك الزكاة إلا لسنة واحدة على التفصيل الذي ذكر. الحالة الرابعة: أن يكون المدين قادراً على السداد لكنه ينكر ويجحد مالك، وهذا يسمى بالجاحد -مثلاً: جاء الأجل وهو رمضان فقلت: يا فلان وفني حقي، فما بيني وبينك هو نهاية رمضان، فقال: لا شيء لك عندي، أو قال: ليس لك مال عندي- يقول: ليس لك عندي شيء، فالجاحد إذا جحد مالك يعتبر في حكم الغاصب، فلا تخلو من حالتين أيضاً: الحالة الأولى: أن تكون لديك بينة أو شهود أو تستطيع قهره وقسره على إعطائك الحق، فتجب عليك الزكاة؛ لأن المال في يدك. الحالة الثانية: ألا تستطيع إقامة القضاء عليه فيه، لخوف ضرر عليك أو لأنه غصبه بقوة وقهر، فحينئذٍ لا تجب عليك الزكاة، وتنتظر إلى أن تتمكن، فمتى ما تمكنت من مالك المغصوب أو مالك المجحود تجب عليك الزكاة لسنة واحدة؛ لأن المال في حكم المفقود، وإنما ملكت مالك حينما قدرت عليه، فإن لم تقدر عليه فإن الله لا يكلفك بزكاته. هذا حاصل ما يقال زكاة الدين إذا حلّ الأجل، فإذا حلّ الأجل فإن كنت قادراً، على أخذ المال وأخرّت المال عنده لمودة أو ثقة، وجبت عليك الزكاة، وإن كان غير قادر فلا تجب عليك الزكاة، وتنتظر حتى يسدد فتزكي لسنة واحدة، وإن كان قادراً على السداد ومطل أو جحد أو غصب، فإن كنت قادراً على إقامة الحق عليه، فتجب عليك الزكاة، وإن كنت غير قادر على إقامة الحق عليه، فلا تجب فيه الزكاة. إذاً: فقه المسألة في القدرة على المال، فإن كان المال كأنه بيدك وجبت الزكاة، وإن كان المال كأنه مفقود، أو كأنه غير موجود لعوزٍ وضيق يد أو جحدٍ مع عدم القدرة على المطالبة بالحق، فحينئذٍ لا زكاة عليك، ومتى ما سددك أو قدرت على حقك زكيته لسنة واحدة هذا حاصل ما يقال في الديون إذا حلّ أجلها. الصورة الثانية: ألا يحل الأجل، يأخذ منك الدين لعشر سنوات، فإنه في خلال العشر سنوات ليس من حقك أن تطالبه بهذا الدين، فالمال ليس بمالك، أو كأنه ليس بمالك ويعتبر مالاً له، وقد يأخذ منك المائة ألف أو المائتي ألف وينفقها، فلا تكون موجودة، فأنت تستحق المطالبة بعد عشر سنوات، فلا تبحث ولا تسأل عن زكاة هذا الدين إلا بعد العشر سنوات، فإذا مضت العشر سنوات، وحل الأجل، رجعنا إلى التفصيل الذي ذكرناه. إذاً: عندنا في الدين حالتان: حالة يحلّ فيها الأجل ونفصِّل فيها بين كون المال في حكم المال الذي في اليد؛ لقدرةٍ ومحبة ومودةٍ، فحينئذٍ تجب الزكاة، أو يكون في غير حكم المال الذي في اليد؛ لعوزٍ أو جحودٍ وعدم قدرة على مطالبة، فحينئذٍ لا زكاة، فإن قدرت زكيت لسنة واحدة. وأما إذا لم يحلّ الأجل، فالمال ليس لك؛ لأنك قد تنازلت عن هذا المال، وزكاته كونك قد أدنته وأعطيته إياه وفرجّت كربته، فذلك من زكاة المال، وهو من الخير الذي جعله الله لك في هذا المال، بل قال بعض العلماء: إن مسامحة المديون والعفو عنه والتيسير عليه والإنظار له من أفضل القربات وأحبها لله عز وجل، وقد جاءت الأحاديث في الترغيب فيها، والله يقول في كتابه: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، (فنظرة) أي: فانتظار، (إلى ميسرة) أي: إلى اليسار والغنى والقدرة على السداد، وعلى هذا فإن الديون لا يبحث فيها إلا إذا حلّ أجلها، وكان الذي عليه الدين قادراً على السداد وأنت تستطيع مطالبته بالدين، على التفصيل الذي ذكرناه.

صور الصداق وأحكام زكاته

صور الصداق وأحكام زكاته قال المصنف رحمه الله: [ومن كان له دين أو حق من صداق أو غيره]. قوله: (من كان له دين أو حق من صداق أو غيره) الدين شيء والحق من الصداق يختلف، الصداق للمرأة، وقد يقع الصداق ديناً، فيشبه الدين ويأخذ حكم الدين إذا كانت المرأة قد طالبته بالسداد، مثلاً إذا قال: زوجتك بنتي بعشرة آلاف مثلاً، فقال: قبلت، ثم بُتّ النكاح على أن العشرة آلاف تكون حالّة، فيكون الزوج مطالباً بالعشرة آلاف حالة، فقال الزوج: هذه خمسة آلاف، وإذا يسّر الله الباقي أعطي الباقي، فالدين الذي عليه خمسة آلاف، فحينئذٍ في هذه الحالة، يكون الزوج مديوناً للزوجة مطالباً بالوفاء عند القدرة، متى؟ إذا كان قد بتّ. وألزمه بالمهر بالعقد، فحينئذٍ قال: أنا عاجز الآن، ولكن إذا يسّر الله، هذا ثلث الصداق، هذا ربعه، هذا جزءٌ منه، هذا نصفه، فإن يسّر الله السداد أعطيتك، ففي هذه الحالة يكون في حكم الدين، إن كان الزوج قادراً على السداد والمرأة قادرة على مطالبته وقد تركت مالها لثقتها ببعلها وزوجها، فتزكيه لكل سنة؛ لأنه في حكم المال الذي في اليد، وكأنه مودع ومحفوظ عند الزوج، والودائع تزكّى، هذا إذا كان الزوج قادراً على السداد، والمرأة تستطيع أن تطالبه في أي وقت. لكن لو أن الزوج بعد دخوله بالزوجة قد أعطى نصف المهر، ثم إنه افتقر ولم يستطع أن يسدد النصف الباقي، فحينئذٍ نقول: إن هذا النصف الذي بقي يأخذ حكم المديون المعسر، فلا يجب على المرأة أن تزكي هذا الدين الذي لها على زوجها حتى يسددها الزوج ولو بعد مائة سنة، فإذا سددها ولو بعد عشر سنوات أو عشرين سنة فإنها تزكي لسنة واحدة، على التفصيل الذي ذكرناه، لماذا؟ لأن الزوج لما عجز عن السداد كانت العشرة آلاف التي هي دين عليه كأنها مفقودة، فهي وإن كانت ديناً للزوجة على زوجها لكنها في حكم المفقود، فلا يجب عليها أن تزكي حتى يستطيع السداد، فإذا استطاع السداد وطالبته وأعطى وسدد ولو بعد عشر سنوات وجبت عليها زكاة سنة واحدة، على الأصل الذي قررناه، فلو أنها بعد عشر سنوات تمكن الزوج من السداد، فقالت له: اترك العشرة عندك مثلاً، فمن حين قولها: اتركها عندك حينئذٍ تستقبل الحول، كل حول يأتيها يجب عليها الزكاة؛ لأن المال أصبح وديعة أو شبه وديعة عند الزوج، ولما كان الزوج قادراً على السداد كان المال وإن لم يكن بيد الزوجة لكنه في حكم الذي بيدها، نظراً لوجود الغنى والقدرة على السداد هذه حالة أولى للمهر. الحالة الثانية: أن لا يبتّ الزوج وإنما يعلق بقية الصداق على الطلاق والفراق، فيقول له: زوجتك بنتي بعشرين ألفاً، عشرٌ منها حالة ويجب عليك سدادها وإعطاؤها، وعشرٌ منها إذا طلقتها، فحينئذٍ تكون العشر الحالّة لا إشكال فيها، وحكمها حكم الأصل، حتى لو أنه عجز عنها يكون حكمها حكم ما ذكرناه من التفصيل السابق، لكن لو قال له: إذا طلقتها، فهذا فيه نظر، وهو: هل صداق المرأة مستحق بالعقد أو بالدخول؟ فإن قلنا: مستحق بالعقد أو بالدخول فقد وجب هذا الدين، وثبت على الزوج بمجرد دخوله بها أو بمجرد عقده عليها، ويسري فيه التفصيل الذي ذكرناه، ويكون الإنظار إلى الطلاق أشبه بالوديعة، كأنه تركه وديعة عنده، فتزكيه لكل سنة. وإن قلنا: إن بقية الصداق في حكم الدين المؤجل، فلا يجب عليها أن تزكي إلا إذا وقع الطلاق، فإن وقع الطلاق استقبلناه، فإن كان قادراً على السداد وجب عليها أن تزكيه، وإن كان غير قادر على السداد فإنها لا تزكي، حكمه حكم الدين سواءً بسواء، هذا من التفصيل الذي سبقت الإشارة إليه. إذاً: الصداق له حالتان: إما أن يبتّه ولي المرأة ويكون لازماً على الزوج بمجرد العقد، فحينئذٍ إذا بقي شيءٌ منه فهو دين وحكمه حكم الدين، إن كان الزوج قادراً على الإعطاء والوفاء، والزوجة تستحي أو لا تستطيع مطالبته بسبب الحياء، فحينئذٍ تجب عليها الزكاة؛ لأن الدين في حكم المال الذي بيدها، والمهر كأنه بيدها. وأما إذا كان هذا المال واجباً على الزوج، والزوج لا يستطيع وفاءه؛ لعوز ودين وفاقة؛ فلا يجب على الزوجة أن تزكيه حتى يصير الزوج قادراً على السداد، وتستقبل فيه حكم ما ذكرناه وهو القادر على السداد. وأما إذا كان المهر أو الباقي منه قد علّقه الولي على طلاق أو فسخ أو على أمد معين، فحكمه حكم الدين المؤجل على أحد الوجهين، وعلى الوجه الآخر يسري فيه ما يسري على الديون الحالة من جهة كونه غنياً قادراً على السداد أو غير قادر على السداد.

كيفية إخراج زكاة المال المغصوب والمفقود

كيفية إخراج زكاة المال المغصوب والمفقود قال المصنف رحمه الله: [أو حق من صداق أو غيره]. قوله: (أو غيره) هناك مسائل أخرى تلتحق بمسائل الدين، منها: لو أن رجلاً جاء وغصبك مزرعتك، وهذه المزرعة فيها حبوب وثمار وزروع، فهي من جنس الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومن اغتصبها منك أو أخذها قهراً، فهو يدخل تحت قول المصنف: (حقٌ على غيره)، فيكون قوله: (كصداق) مثال، فيدخل في ذلك المال المغصوب. فلو أن إنساناً اغتصب منك أرضاً زراعية فيها نخل أو حب، أو اغتصب منك ذهباً أو فضة، أو أخذ منك مائة ألف اغتصاباً، أو شخص سرق منك مالاً وعرفته، وتبين لك أنه سرق منك هذا المال، فلا يخلو من حالتين: إن كان هذا الغاصب تستطيع أن تنتزع حقك منه ببينة وشهود وقضاء، فحينئذٍ يجب عليك أن تزكي هذا المال. وإن كنت لا تستطيع أن تأخذ حقك، أو تخشى ضرراً أعظم، وأنت في حكم المكره، وانطبقت عليك شروط الإكراه، سقطت عنك الزكاة، حتى إذا ملكت هذا المال، ورجع إليك، زكيته لسنة واحدة. ويسري الحكم لبقية الأموال من ذهب أو فضة وحلي إذا غُصبت. وقد ألحق بعض العلماء بهذه المسائل مسألة لطيفة، وهي: لو أن إنساناً كانت عنده مائة ألف، فأراد أن يخبئها في مكان، ثم نسي المكان الذي خبأ فيه المائة ألف، فهذا مال، وهو ملك له، ولكن هذا المال لا يستطيع أن يصل إليه، ولا يستطيع أن يهتدي إلى مكانه، فبعض العلماء يقول: إن نسي مكانه، أُلزم بزكاته، ووجبت عليه الزكاة كل سنة؛ لأنه فرّط على نفسه وقصر، وهذا التفريط لا يضيع حق الفقراء والمساكين، والأصل أنها واجبة عليه. وقال بعض العلماء: لا؛ لأن هذا خلاف الشرع؛ لما فيه من الحرج والمشقة وتكليف الإنسان ما لا يطيق، فقد لا تكون عنده إلا هذه المائة ألف، والمال وإن كان ماله لكنه في حكم المفقود، ألا ترى من غُصب على ماله، ومن كان ماله على معسرٍ لا يستطيع سداده، قالوا: الناسي يستوي معه في الحكم، بل أشد منه ضرورة وأعظم منه بلية؛ لأنه إذا كان ماله على مدين فقير فإن يرجى له أن يجده، ولكن هذا ربما استغرق في النسيان إلى درجة لا يستطيع أن يتذكر موضع ماله، فقالوا: إنه لا تجب عليه الزكاة. والنفس تميل إلى أنه لا تجب عليه الزكاة، فإن تذكر المكان ولو بعد سنوات زكّى لسنة واحدة. وقوله: (على مليء أو غيره)، المصنف هنا اختار هذا القول. وقوله: (أدى زكاته إذا قبضه لما مضى) وقد أُثر عن علي بعض الروايات يفهم منه هذا، أن الدين لا تجب عليك زكاته إلا عند قبضه، ولا يفصلون التفصيل الذي ذكرناه، ولا يفرقون بين المليء ولا غير المليء، ويقولون: إن هذا المال يعتبر كمال غيرك، فهو سيزكيه، فلا تزكيه أنت، حتى لا يزكى المال مرتين، وحينئذٍ قالوا: لا تزكيه إلا إذا قبضته، فإذا قبضته وجبت عليك زكاة سنة واحدة. والصحيح: ما ذكرناه من التفصيل؛ لأن فقه المسألة يدور حول كون المال في يدك وفي حكم المال الذي في يدك، وبين كونه في يد الغير وفي حكم المال الذي للغير، وعلى هذا يكون التفصيل الذي اخترناه هو الأقرب والأولى بالصواب إن شاء الله تعالى.

حكم من ملك نصابا وعليه دين

حكم من ملك نصاباً وعليه دين قال المصنف رحمه الله: [ولا زكاة في مال من عليه دين ينقص النصاب]. بعد أن بيّنا حكم دينك إذا كان لك على الغير دين، يرد السؤال في العكس، إذا كان للغير عليك دين فكنت مديوناً للغير؛ كشخص له تجارة وهذه التجارة فيها دين للغير، فلا يخلو إما أن يستغرق دين الغير جميع التجارة فتسقط عنه الزكاة؛ لأنه لا يملك شيئاً؛ لأنه مال للغير، هذا مذهب الجمهور أن الدين يسقطها، وأثر عن عثمان رضي الله عنه ما يدل على ذلك حينما كان يفرض للناس أعطياتهم إذا حلّ أجلها، وكان يقول: (هذا شهر زكاتكم لمن كان له دين) ويسقطه رضي الله عنه، وكان يعتبر الدين مسقطاً للزكاة عن المال، وهو مذهب الجمهور. وقال بعض العلماء: الدين لا يسقط الزكاة؛ لأن هذا الرجل الذي له مال، وهذا المال ملك للغير يخيّر بين أمرين: إما أن يسدد الناس حقوقهم، وإما أن يزكّي، أما أن يبقي المال عنده لا هو زكّى وأعطى الفقراء حقوقهم من المال، ولا هو سدد أصحاب الأموال؛ فإنه حينئذٍ يكون ظالماً، وهذا الظلم يقع على الفقراء، والأصل وجوب الزكاة. ولا شك أن الإنسان الذي عليه دين: إما أن يوفي الناس ديونهم، وإما أن يؤدي زكاته، فالنفس تميل إلى هذا القول الذي اختاره بعض العلماء رحمة الله عليهم من أن الدين لا يسقط الزكاة.

تقسيم الأموال إلى ظاهرة وباطنة

تقسيم الأموال إلى ظاهرة وباطنة قال المصنف رحمه الله: [ولو كان المال ظاهراً]. قوله: (ولو كان المال ظاهراً) العلماء والفقهاء رحمة الله عليهم يقسمون الأموال إلى قسمين: أموال ظاهرة، وأموال باطنة، الأموال الظاهرة عندهم كالزروع والدواب والمواشي والعقارات ونحوها من المنقولات الأخرى، وهي تكون في المثمونات، وأما الأموال الباطنة فهي في الذهب والفضة، يسمون الأول ظاهراً وهو الزروع والمواشي والعقارات والأرضين والدور، كل ذلك يسمونه أموالاً ظاهرة، وأما بالنسبة للأموال الباطنة فهي كالذهب والفضة، ولذلك هي خفية والناس يؤتمنون عليها، يعني: حينما يأتي الشخص يكون عنده مائة ألف، قد لا تستطيع أن تفرض عليها الزكاة؛ لأن ماله خفي، لكن إذا كانت له عقارات وبقالات ومحلات تجارية، فإن هذه أموال ظاهرة مكشوفة أمام الناس، ولكن الذهب والفضة يكون باطناً خفياً عن الناس، ولذلك قالوا: الأول ظاهر، وقالوا في الثاني: باطن.

حكم من ملك نصابا وعليه حق لله

حكم من ملك نصاباً وعليه حق لله قال المصنف رحمه الله: [وكفارة كدين]. هذا من التسلسل والترتيب المنطقي في الأفكار، فقد بيّن لنا رحمه الله الحكم في حقوق العباد -إذا كان للإنسان على الإنسان دين- وأنه يختار رحمة الله عليه ما ذهب إليه جماهير العلماء من أن الدين يسقط الزكاة هذا إذا كان الدين لمخلوق، فما الحكم إذا كان الدين للخالق؟ القول الذي اختاره المصنف رحمة الله عليه أن الرجل لو كانت عنده مائة ألف، وهي مال للغير ودين للغير يستحقه عليه لا تجب الزكاة، فيرد Q لو كان عنده ألف ريال، وعليك ديون لله عز وجل فيها، أو عندك خمسة آلاف ريال وعليك دين لله من عتق رقبة في كفارة قتل، أو كفارة جماع في نهار رمضان، أو في ظهار، الرقبة قيمتها خمسة آلاف ريال، وأنت تملك خمسة آلاف ريال، فعليك دين لله عز وجل. فالمصنف رحمه الله بعد أن بين أن الديون تسقط الزكاة عن الأموال، قال رحمه الله: دين الله ودين المخلوقين سواء، فمن كان عليه دين للمخلوق يسقط به المال بحيث يستغرق المال كله أو ينزل به المال عن نصاب الزكاة فحينئذٍ يقولون: لا تجب عليه الزكاة، فلو كانت عنده خمسة آلاف وعليه عتق رقبة بخمسة آلاف ريال، فحينئذٍ يقول المصنف رحمه الله وجمهور العلماء: هذا المال وإن كان مما تجب فيه الزكاة، لكنه مستغرق لحق لله عز وجل، قالوا: نقيس حق الله على حق المخلوق، فكما أسقطنا الزكاة بحق المخلوق وهو الدين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فدين الله أحق أن يقضى)، وفي الصحيح: (ودين الله أحق بالوفاء)، قالوا: فمن كانت عليه كفارات مجتمعة أو متفرقة تستغرق بحقها من المال والنقد النصاب، أو تستغرق أمواله كلها فلا زكاة عليه، مثل من عنده خمسة آلاف وعليه عتق رقبة، أو عنده خمسة آلاف والرقبة قيمتها مثلاً ألفان وخمسمائة وعليه رقبتان تسقط عنه الزكاة، أو مثلاً عليه عتق رقبة كفارة، وعليه فدية أو عليه شاة جبراناً لواجب في الحج فوّته أو ضيعه، فحينئذٍ إذا جمعنا هذه الشياه الواجبة عليه في واجبات الحج، وجمعنا ما للرقبة من مال استغرق سبعة آلاف ريال وعنده سبعة آلاف ريال، أو عنده خمسة آلاف ريال وهي دون المبلغ المستحق عليه فلا زكاة عليه، هذا على القول الذي ذكرناه من أن الديون تسقط الزكاة، وقد ذكرنا ما هو راجح في هذه المسألة.

حكم زكاة من ملك نصابا من صغار الغنم ونحوها

حكم زكاة من ملك نصاباً من صغار الغنم ونحوها قال المصنف رحمه الله: [وإن ملك نصاباً صغاراً انعقد حوله حين ملكه]. قوله: (وإن ملك نصاباً صغاراً) الصغار كالسخلة من الغنم، فمعلوم أن الشرع إذا أوجب الشاة في الأضحية أو الهدي يشترط سناً معينة، الثني من الماعز والجذع من الضأن، فلو فرضنا أنك ملكت شياهاً دون القدر الذي يعتد به وهي الصغار، والشاة الصغيرة هي التي تسمى بالجفرة، لو أن إنسان عنده جفار مثلاً أربعين جفرة؛ فإنه تجب عليه الزكاة منذ أن ملكها، ولا يقال أن هذه الصغار دون الحد الواجب، ولا تجب عليه الزكاة؛ بل تجب عليه فيها الزكاة.

صور انقطاع الحول

صور انقطاع الحول قال المصنف رحمه الله: [وإن نقص النصاب في بعض الحول أو باعه أو أبدله بغير جنسه لا فراراً من الزكاة انقطع الحول]. لو كان عندك نصاب من إبل أو بقر أو غنم أو ذهب أو فضة، وهذا النصاب في أثناء حولان الحول وقبل تمامه غيرّته أو بدلته أو أنفقت منه فنقص، فإن هذه مسألة يُحتاج إلى بحثها. ما مناسبة هذه المسألة لما مضى؟ -حتى نعرف ترتيب العلماء للأفكار- الأصل في هذه المسائل التي نبحثها أنه تجب عليك الزكاة، وأسقطتها لحقوق الله عز وجل، فكأنه يبحث متى تجب وتسقط، فأنت في قاعدة وجوب الزكاة عليك وسقوطها لسبب؛ مثل ما ذكرنا؛ لديون أو حقوق، ففي حكم ذلك لو أن العوز والنقص اعتراك بحكم الشرع، فعندك نصاب وقبل تمام الحول نقص هذا النصاب، فلو فرضنا كانت عندك أربعون شاةً، وكان بداية ملكك لها في الأول من شهر المحرم، فأنت تستقبل بها حولاً كاملاً، جئت في ذي الحجة قبل تمام ذي الحجة ودخولك في المحرم حتى تجب عليك الزكاة ماتت من هذه الأربعين شاة، أو ذبحت لضيف منها شاة، أو بعت منها شاة أو شاتين أو ثلاثاً، فحينئذٍ نقصت عن النصاب، فتستقبل الحول من جديد، وإذا ملكت شاة أخرى فإنك تنتظر إلى أن يتم النصاب من جديد، ولو قبل حَوَلان الحول بيوم واحد. أي: في يوم تسعة وعشرين من ذي الحجة جاءك ضيف ونزل بك وذبحت له الشاة، فحينئذٍ يعتبر هذا المال قد خرج عن حكم الزكاة، ولا تجب عليك فيه الزكاة وتستقبل حولاً جديداً ولو بعد عشرين سنة، فإذا ملكت شاة أخرى فأصبحت هذه الشياه أربعين شاة؛ تبتدئ الملكية وتستقبل حولاً جديداً بالملكية، وحينئذٍ لا إشكال، هذه حالة، أن ينقص المال عن الزكاة، لكن يشترط في هذا النقص ألا يكون حيلة على الشرع، والحيلة على الشرع: الفرار من الزكاة ومن حق السائل والمحروم الذي أوجبه الله عليك في مالك زكاة له، فلو أن إنساناً عنده -مثلاً- مائة وإحدى وعشرون شاةً، الواجب عليه شاتان، وقبل أن يأتيه المصدِّق بيوم احتال في إعطاء هذه الشاة لشخص، فحينئذٍ أعطى شخصاً مثلاً شاة صغيرة السن كالجفرة مثلاً، فهذا من الحيلة بدل أن يدفع للمتصدق شاتين بالسن المعتبرة وهو الثني من المعز والجذع من الضأن، فإن كانت ضأناً فلا إشكال، وإن كانت من الماعز فماعز، لكنه قال: بدلاً أن أعطي شاتين من الثني من الماعز، فإنني آخذ هذه الجفرة وأهديها لجاري، فأهداها لجاره قبل مجيء المصدِّق، فهذه حيلة لا تسقط حق الله عز وجل في ماله، ويجب عليه أن يؤدي شاتين ولو كان الغنم دون النصاب المعتبر في الشرع، ولو أعطى ثلاث جفرات -مثلاً- فانتقص عن قدر الشاتين وجبت عليه شاتان، لماذا؟ لأنه احتال على الشرع، فهو يعامل بنقيض قصده، كمن طلّق امرأته وهو في مرض الموت ظلماً لها حتى يحرمها من حق الله، فهذا ظالم للمساكين قاصد حرمانهم من حق الله، كيف تثبت عليه؟ تقول: الأصل وجوب الشاتين عليه، ولكنه فرّ عن هذا الأصل بغير عذر شرعي، فكونه أعطى أو لم يعط عندنا على حد سواء؛ لأن إعطاءه افتيات على الشرع وظلم للناس، ولا يمكن للشرع أن يأذن بهذا الظلم، لأنك لو قلت: سقطت عنه الزكاة فقد أذنت بالظلم، وأجزت له أن يضيع حق الفقراء، وحينئذٍ خالفت مقصود الشرع، ولذلك يقولون: يجب عليه أن يؤدي الشاتين، ولو احتال بهذه الحيلة فوجودها وعدمها على حد سواء، فيعامل بنقيض قصده. فمن طلّق امرأته في مرض الموت، فإن هذا التطليق لا يؤثر، وتكون وارثة له؛ لأنه قصد حرمانها من حقها. لكن ما الدليل على أن الشرع يعامل المحتال بنقيض قصده؟ A لو أن إنساناً رأى أباه يملك مالاً كثيراً يقدر بالملايين مثلاً، فحبه للدنيا أغراه أن يقتل أباه، بحيث ينال ما عند أبيه من التركة والمال أو كان ابناً له، عنده مثلاً أموال كثيرة، فأقدم الأب على قتل ابنه، فإن الأب إذا قتل ابناً لا يقتل به؛ بشبهة الأدب، وهذه مسألة ستأتي -إن شاء الله- في كتاب القصاص، حيث نعلم أنه يمتنع قتل الوالد بابنه، فحينئذٍ إذا قتله وهو يريد الميراث منه، فإن الشرع لا يورث القاتل كما هو نص السنة: (لا يرث القاتل المقتول)، فحينئذٍ عومل بنقيض قصده، إذ لو فتح للناس أن القاتل يرث، فإن الإنسان يقدم على قتل قريبه وهو يعلم أن ورثته لا يقتلونه، فإن الابن قد يقتل أباه، وهو يعلم أن بقية إخوانه سيتنازلون؛ لأنهم لا يرضون أن يفجعوا بأبيهم وأخيهم، فسيتنازلون عن القصاص، فإذا تنازلوا عن القصاص فإنه سيرث، ولذلك سدّ الشرع الذرائع المفضية إلى سفك الدماء والوصول إلى الأموال بهذه الحيل، ونهى عن توريث القاتل ممن قتل، وبناءً على ذلك فإنه لا يرث القاتل المقتول، وذلك معاملة له بنقيض القصد، قال العلماء: ففهم من هذا أن من قصد قصداً محرماً، فإنه يعامل بنقيض قصده، ولذلك قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده موافقاً لقصده لا مخالفاً له. فإذا كان قد أعطاه الله مائة وإحدى وعشرين شاةً ويسرّها له، فقصد الشارع أن يعطي المسكين حقه من الشاتين، فإذا جاء يخالف قصد الشارع بنية منكرة، وجحود لنعمة الله عليه، وإضرار بالفقراء والضعفاء، عومل بنقيض قصده، فأوجبنا عليه الشاتين، مع أن ماله في الصورة ليس بمال تجب فيه الشاتان وإنما هو مال تجب فيه الشاة الواحدة. هذا بالنسبة لما يتعلق بمسألة المعاملة بنقيض القصد. قال المصنف رحمه الله: [أو أبدله بغير جنسه لا فراراً من الزكاة انقطع الحول وإن أبدله بجنسه بنى على حوله]. قوله: (أبدله) من بدّل ماله من غنم أو بقر أو إبل، أو ذهب أو فضة أو غير ذلك من أموال الزكاة، فإنه لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يبدّله بجنسه مع اتفاق النوع، مثلاً عنده إبل فأبدلها بإبل، كأن يكون -مثلاً- عنده عِراض فأبدلها ببختية؛ لأن الإبل العِراض هي التي لها سنام واحد، والبختية هي التي لها سنامان، فأبدل الإبل بالإبل، حينئذٍ لا إشكال؛ لأن الجنس واحد فيبقى الحكم واحداً، فكأن المال لم يختلف. الحالة الثانية: أن يبدله بغير جنسه، كأن يكون عنده ذهب وفضة، فاشترى بهما -مثلاً- عقاراً لكي يتاجر به، فحينئذٍ نقول: يستأنف الحول من شراء هذا العقار؛ لأنه خرج عن كونه ذهباً وفضة إلى كونه عقاراً، وخرج عن زكاة الأثمان إلى زكاة عروض التجارة، فحينئذٍ يستأنف الحول من جديد، لكن بشرط: ألا يكون قاصداً الحيلة على الزكاة، مثلما ذكرنا؛ فإنْ قصد الاحتيال على الزكاة؛ كإنسان يكون عنده مليون، فاشترى بها بيتاً قبل تمام الحول حتى يفر من زكاتها ثم باع هذا البيت -مثلاً- واشترى به بيتاً وهو واثق أن البيت سيأتي بقيمته ولا يتغير الحال ولا يقصد الربح ولا النماء ثم يبيعه بنفس القيمة، أو يشتريه وهو يعرف أنه سيخسر، ولكنه يقارن بين خسارته بهذا الشراء وخسارته في الزكاة، فيرى أن خسارته بالزكاة أعظم من خسارته بالشراء، فيشتريه ويبيعه بعد يوم أو يومين، فحينئذٍ نقول: هذا الشراء لاغٍ، وهذا التبديل لاغٍ، وعليه أن يبقى على الحول الأصلي، وذلك معاملة له بنقيض قصده. إذاً لا بد للفقيه والمفتي أن ينظر إلى قصده، وأن يعلم ما يريد من هذا التبديل، فإن كان تبديله بريئاً ليس خروجاً من الزكاة؛ فإنه حينئذٍ يؤثر إذا كان من غير جنسه، وإن كان من جنسه فإن المال مال واحد وتجب عليه الزكاة. وقوله: (بنى على حوله) يعني على حول الأصل.

تعلق الزكاة هل هو بعين المال أم بذمة مالكه

تعلق الزكاة هل هو بعين المال أم بذمة مالكه قال المصنف رحمه الله: [وتجب الزكاة في عين المال]. قوله: (وتجب الزكاة في عين المال) هذه مسألة خلافية الزكاة هل أوجبها الله في الأموال بعينها، أم أوجبها في ذمتك؟ إما أن تقول الزكاة واجبة في ذمم الناس متعلقة بالمكلفين، أو تقول: الزكاة واجبة في أموال الناس. فللعلماء وجهان: اختار المصنف رحمه الله مذهب من يقول: الزكاة واجبة في عين المال؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (في كل أربعين شاةً شاةٌ) فإنه عبر بـ (في) جعل في الظرفية، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25] (في أموالهم) فجعلها حقاً في عين المال. ومنهم من قال: حق في الذمة. ما الفرق بين قولك: في عين المال، وبين قولك: في الذمة؟ هذا تترتب عليه فوائد، من ألطفها: لو أن رجلاً امتنع من أداء الزكاة في الغنم، عنده أربعون شاةً، تجب عليه شاة واحدة، فامتنع السنة الأولى وامتنع السنة الثانية وامتنع السنة الثالثة، ثم تاب إلى الله وأراد أن يزكّي، فإن قلت: الزكاة في عين المال، حينئذٍ يكون الواجب عليه شاة واحدة، لماذا؟ لأنها لما كانت في عين المال، وجبت عليه شاة واحدة في السنة الأولى، فأصبح عين هذه الشاة محبّساً وديناً عليه، فأصبح الذي عنده تسع وثلاثون شاة، وإنما تجب الزكاة إذا كان الذي عنده أربعون شاة، والذي عنده تسع وثلاثون فتعلقت الزكاة بعين ماله، وأصبحت هذه الشاة ديناً عليه لا يملكها، فإذا جاءت السنة الثانية جاءت وعنده تسع وثلاثون، وليس عنده أربعون، فحينئذ يكون عليه زكاة سنة واحدة، ولو جلس على هذه الوتيرة عشر سنوات، فالواجب شاة واحدة. أما لو قلت: متعلقة بذمته، فحينئذٍ تجب عليه ثلاث شياه، الشاة الأولى للسنة الأولى، وهي دين في ذمته، وقد ملك أربعين، فجاءت السنة الثانية وقد ملك الأربعين فعليه شاة ثانية، ثم جاءت السنة الثالثة وعليه شاة ثالثة، فأصبح الواجب عليه ثلاث شياه. هذا يتفرع على مسألة الحلي، إذا قلنا: على المرأة في حليها زكاة، إذا كانت نصاباً فلو فرضنا أن عندها نصاباً، وحد النصاب تسعون غراماً على أحد الأقوال، التسعون غراماً وجب عليها ربع عشرها، فإن قلنا: يتعلق هذا بعين مالها وهو الحلي، فإنها إذا امتنعت السنة الأولى والثانية والثالثة والرابعة؛ فالواجب عليها زكاة سنة واحدة؛ لأنها لما وجب عليها ربع عشر التسعين جراماً انتقص النصاب عن الحد الواجب، وحينئذٍ تكون في السنة الثانية غير مطالبة بالزكاة وكذلك في الثالثة والرابعة، فإن تابت إلى الله وجبت عليها زكاة سنة واحدة، هذا إذا تعلق الحق بعين المال. أما لو تعلق حق الزكاة بذمة مالك المال، فحينئذٍ تجب عليها الزكاة في السنوات مضاعفة مرتبة، ولا نظر إلى تأثيرها في النصاب وعدم تأثيرها، وهذا معنى قوله رحمة الله عليه: أن الزكاة متعلقة بعين المال. قال المصنف رحمه الله: [ولها تعلق بالذمة]. قوله: (ولها تعلق بالذمة) هي المسألة التي ذكرناها آنفاً، وهذا ينبني على مسألة الدين، يقولون: لو قلت: إنها في عين المال سقطت عنه الزكاة، فإذا دخلت في ذمته يقولون: من جهة الاستحقاق بدليل إيجاب الزكاة على غير المكلف من الصبي واليتيم، فإنك أوجبتها في عين المال، وكذلك أيضاً تجب في الذمة من جهة الاستحقاق، وتفرّع على قول أنها متعلقة بالذمة أنها لا تصح بدون نية، ولا بد له من قصد العبادة، ولا بد له من التوكيل فيها وأن يقصد التوكيل، فلو أخرج إنسان زكاة عن رجل دون أن يأذن له ويوكله، فإنه لا تبرأ ذمته؛ لأنه لم ينو براءة الذمة، فهي عبادة متعلقة بذمته، فلو أن ابناً -مثلاً- تبرع عن أبيه بزكاة فإنها لا تصح؛ لأنها تعلقت بذمة الأب، وهذه الذمة لا بد وأن ينوي بها لإخراجه أصالة أو وكالة، فلما أوقعها الغير دون أن ينويها من تعلقت بذمته لم تجزه من هذا الوجه.

بيان الأمور غير المسقطة لوجوب الزكاة

بيان الأمور غير المسقطة لوجوب الزكاة قال المصنف رحمه الله: [ولا يعتبر في وجوبها إمكان الأداء ولا بقاء المال]. شرع المصنف رحمه الله في بيان الأمور التي لا تعد مسقطة لوجوب الزكاة، ومن ذلك عدم القدرة على الأداء، بعد استقرار وجوب الزكاة في ذمة الإنسان، ومثال ذلك: أن يحول الحول على المال، ويكون حوله مثلاً في أول محرم، ثم يُجنّ أو يغمى عليه، ولا يستطيع أن يقوم بأداء هذه الفريضة، فإن طريان الجنون والإغماء عليه يمنعه من القدرة على الأداء، فهذا الطريان لا يؤثر في استقرار الزكاة ووجوبها، كما نص رحمة الله عليه على ذلك، والأصل في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول)، كما في حديث السنن الصحيح، فهذا الحديث بيّن أن الزكاة واجبة في المال، وبناءً على ذلك كونه يغمى عليه ولا يقدر أن يتمكن من الأداء، لا يؤثر في استقرار الوجوب وثبوته، ولزوم مطالبته بهذا الحق، كما لو أنه أُغمي عليه، فإن الصلاة واجبة، فكما طولب بالصلاة يطالب بالزكاة وغيرها من الفرائض على الأصل، إلا ما قام الدليل على استثنائه بالإسقاط، وبناءً على ذلك نص رحمه الله على أنه لا يُسقط مثل هذا وجوب الزكاة عليه، فإن كان مجنوناً وأُقيم وليه مقامه، فإن هذا الولي يخرج الزكاة عنه نيابة؛ لأنه تعذر الأصيل، فأقيم عنه الوكيل، فيخرج عنه الزكاة كما هو الحال في مال اليتيم. قوله: (ولا بقاء المال). وصورة ذلك: لو أن إنساناً وجبت عليه الزكاة، ثم إن هذا المال استبدله بمال آخر بعد وجوب الزكاة عليه، أو حوّله إلى جنسٍ آخر، فلا تزال الزكاة واجبة عليه، ويعتبر مطالباً بهذه الزكاة؛ لأنه قد تعلّقت ذمته بهذه المطالبة، ولا دليل على إسقاطها، فلو أنه بادل هذا المال أو صرف عينه أو وهبه أو تصدق به بعد مضي الحول، فإنه يطالب بإخراج الزكاة.

تعلق الزكاة الواجبة على الميت بتركته

تعلق الزكاة الواجبة على الميت بتركته قال المصنف رحمه الله: [والزكاة كالدين في التركة]. قوله: (والزكاة كالدين) أي: حكمها حكم الدين، وتثبت في تركة الإنسان بعد موته، وهذه مسألة اختلف فيها العلماء رحمة الله عليهم: فمن أهل العلم من يقول: إن من لم يؤد الزكاة تعتبر ديناً عليه، تُخرج من ماله بعد وفاته، وأخذ بعموم قوله سبحانه وتعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:11]، والآية الثانية: {يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12]، والآية الثالثة: {تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12]، فقال: إن الزكاة دين لله عز وجل، لقوله عليه الصلاة والسلام: (أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى)، قالوا: فقد نزل النبي صلى الله عليه وسلم صيام النذر الذي تعلق بذمة الميتة وهي أم السائلة منزلة الدين، فإذا كان صوم النذر ديناً بوجوبه على المكلفة، فكذلك الزكاة صارت ديناً على المكلف بوجوبها؛ بتعلق ذمته بهذا الحق، وبناءً على ذلك، فلو مات ولم يؤد الزكاة، مقصِّراً في ذلك أو غير مقصر، فإنها تعتبر ديناً في ماله، ويُخرج هذا الدين من ماله، ولو تكرر لسنوات عديدة. ومن أهل العلم من يقول: إن الزكاة لا تبقى متعلقة بذمة الميت، بمعنى: أنه لا يطالب الورثة بإخراجها من التركة، والتركة قد صارت إلى ملكية الورثة، فهم الذين ملكوها بمجرد مرضه للموت، ولذلك لا يتصرف إلا في حدود الثلث، وعلى هذا القول، قالوا: لو فتحنا هذا الباب لأصبح ذريعة للإضرار بالورثة، وهذا يقول به بعض أئمة السلف، ويختاره الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس إمام دار الهجرة، فأصبح كل رجل يؤخر زكاة ماله إلى دنو أجله، فيصير ماله مستحقاً بكماله لسداد ديون الزكاة عليه، والأصل يقتضي رجحان قول الجمهور الذين يقولون: إنها متعلقة بالمال. ومن أهل العلم من فرّق فقال: إذا فرّط فإنه تجب الزكاة على ماله، وتؤخذ من تركته، وإذا لم يفرِّط فإنه لا تؤخذ من التركة ولا يُطالب بها الورثة، والأول أقوى.

الأسئلة

الأسئلة

حكم زكاة الجواهر النفيسة من غير الذهب والفضة

حكم زكاة الجواهر النفيسة من غير الذهب والفضة Q هل تجب الزكاة في المعادن الأخرى غير الذهب والفضة كالألماس والأحجار الكريمة؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن الحلي من الذهب والفضة تجب فيها الزكاة على أصح أقوال العلماء، فإن اشتمل حلي المرأة على ألماس وعلى جواهر أخرى، فإنه لا تجب عليها الزكاة فيه، وبناءً على ذلك يقولون: يختص الحلي بالذهب والفضة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها ... ). وأما بالنسبة للألماس والياقوت والمرجان واللؤلؤ؛ فهذه إن عرضها للبيع وكانت من عروض التجارة وجبت الزكاة في قيمتها، أما لو تحلّت بها المرأة أو كان فص خاتمها عقيقاً أو نحو ذلك، فإنه لا تجب على من ملكه الزكاة إذا اتخذه للبس وحلي. والله تعالى أعلم.

حكم زكاة العقارات إذا عرضت للبيع

حكم زكاة العقارات إذا عرضت للبيع Q من كانت عنده أرض يتربص بها السوق وينوي بيعها، فهل عليه فيها زكاة؟ A هذه المسألة وهي مسألة عروض التجارة إذا كانت من العقارات، عندك بيت أو أرض أو مزرعة عرضتها للبيع سنوات ولم تبعها إلا بعد عشر سنوات، فهل الواجب عليك أن تؤدي زكاتها في كل سنة، أم الواجب عليك أن تؤدي زكاة سنة واحدة؟ للعلماء قولان في هذه المسألة: فقال بعض العلماء: الواجب عليك أن تؤدي زكاة سنة واحدة عندما تبيعها، فإذا بعت الأرض أو بعت المزرعة أو بعت الدار وجبت عليك زكاة سنة واحدة، وبهذا قال سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وخارجة بن زيد وأبو بكر بن عبد الرحمن المخزومي والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، فهو مذهب الأئمة السبعة -فقهاء المدينة السبعة- واختاره إمام دار الهجرة أبو عبد الله مالك بن أنس، وهو إحدى الروايتين والوجه أيضاً عند الشافعية، يقولون: إنه تسقط الزكاة عنه وتجب عليه لسنة واحدة. وهذا هو أصح أقوال العلماء: أن ما عرضته للبيع من بيوتٍ أو عقارات أرضين ومخططات وزراعات كل ذلك لا تجب عليك الزكاة إلا عند البيع، فتزكيها لسنة واحدة ولو مضت عليها سنوات وأنت عارضٌ لها للبيع. والله تعالى أعلم. يقولون: أنه ليس مالكاً للمال أصلاً، ولم يثبت ملكه للمال إلا بالبيع، فإنه ربما عرضت للبيع ثلاث سنوات، ثم عدلت عن البيع إلى الملكية والقنية، ولذلك قالوا: إنه لا تجب عليك الزكاة، ثم إنك ربما -كما هو موجود الآن- ربما يكون قيمة العقار الآن مائة ألف ثم في السنة الثانية مائة ألف والثالثة مائة ألف والرابعة إلى عشر سنوات وقيمته مائة ألف، ثم ينزل هذا العقار حتى يباع بخمسة آلاف وقد يباع بعشرة آلاف، فتزكي طيلة هذه السنوات ثم تبيع ولا يبلغ قيمة بيعك ما زكيت. وهذا موجود، خاصة الآن ربما كان المكان مرغوباً لسبب، ثم يشاء الله عز وجل لأمر أو لآخر أن يصبح هذا المكان كأنه لا قيمة له، فبدلاً من أن تكون قيمته مئات الألوف ولربما تبلغ الملايين يصبح لا قيمة له، ولذلك قالوا: إنه لا يزكي إلا عند بيعه؛ لأنه لما باع تحققت ملكيته للأرض، وأصبح هذا المال أشبه بالديون وأشبه بالمال غير الموجود، حتى يتحقق من بيعه، ولأن نيته غير ثابتة؛ إذ لو طرأ عليه طارئ للسكنى والقنية ونحو ذلك، فإنه سيسكن ويقتني ويخرج عن كونه متاجراً. والله تعالى أعلم.

حكم زكاة الدين الذي لا أجل له

حكم زكاة الدين الذي لا أجل له Q ما حكم الدين الذي لم يسم له أجل، بل ترك أمره إلى المدين متى شاء سدده، هل تجب زكاته، أم لا؟ A إذا كان الدين لا أجل له، فإنه ينظر في صاحبه، فإن كان قادراً على السداد، فإنه يجب أن يحتسب وجوبه منذ قدرته على السداد، ويفصّل فيه كما فصّل في المليء، وأما إذا بقي عاجزاً عن السداد لسنوات طويلة فلا زكاة عليه حتى يسدده، وإذا سدده زكاه لسنة واحدة. والله تعالى أعلم.

زكاة الأنعام إذا تعدد الملاك ووقعت الخلطة

زكاة الأنعام إذا تعدد الملاك ووقعت الخلطة Q والدي ووالدتي لهما غنم تبلغ بمجموعها النصاب، ولكن كل واحد يطعم غنمه على حدة، ومبيتهما في حظائر متجاورة، فهل عليهما زكاة كلٌ على حدة، أم بمجموعهما؟ A هذه المسألة هي مسألة الشركة في بهيمة الأنعام، فشرط اعتبار المالين مالاً واحداً أن يكون مراحهما واحداً ومرعاهما واحداً وفحلهما واحداً، فإذا كان الأمر كذلك فإنه تجب الزكاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجمع بين مفترق، ولا يفرّق بين مجتمع خشية الزكاة). فإذا كان المال على هذه الصفة فإنه تجب فيه زكاة المال الواحد؛ فلو ملك أحدهما عشرين شاة، وملك الآخر عشرين شاة، وجبت عليهما شاة واحدة، يدفعها أحدهما، ثم نقدر قيمة هذه الشاة، ويجب على الآخر أن يدفع نصف قيمتها، فلو أن هذه الشاة أُخذت من أحد الشريكين وقيمتها خمسمائة ريال، فإننا نوجب على الشريك الثاني أن يدفع له مائتين وخمسين ريالاً، وقس على هذا. وأما إذا كان مراحهما مختلفاً، أو كان لكل واحد منهما حظيرة، ومرعاهما مختلف، أو كانت من المعلوفة كما ورد في السؤال، فإنه لا تجب زكاتهما، وليسا بمال واحد، وإنما هما مالان مختلفان. والله تعالى أعلم.

كيفية إخراج زكاة الدين المقسط

كيفية إخراج زكاة الدين المقسط Q لقد استدان مني أحد الناس مبلغاً وقدره عشرون ألفاً، وهو يدفع لي المبلغ أقساطاً؛ كل شهر مقدار تسعمائة، فهل في هذا المال زكاة؟ A إذا مضى على هذا الدين سنة كاملة وحلّ أجل مطالبته، فحينئذٍ تنظر إلى كل قسط وتزكيه على حدة، وتجب عليك زكاة كل قسط منفرداً، فتؤديه لسنة واحدة. والله تعالى أعلم.

حكم المطالبة بأداء الدين بعد إبراء المدين منه

حكم المطالبة بأداء الدين بعد إبراء المدين منه Q لو أن لي عند شخص مالاً، ثم أبرأته منه بسبب عجزه عن السداد في ذلك الوقت، ثم إن الله منَّ عليه بالمال وأصبح غنياً، فهل لي أن أطالبه به الآن؟ وما حكم ذلك؟ وهل له أن يرفض السداد؟ A إذا سامحت أحداً في الدين فقد وهبته المال، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس لنا مثل السوء: العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه)، مضى أجرك على الله، واحتسب ثوابك عند الله، ولا تفسد عليك آخرتك بدنياك. والله تعالى أعلم.

عقوبة تارك الزكاة

عقوبة تارك الزكاة Q ما عقوبة تارك الزكاة يوم القيامة؟ A عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفِّحت له صفائح من نار يكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيد عليها، فأحميت؛ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة أو إلى النار، وما من صاحب إبلٍ لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها فصيلاً، يجدها أوفر ما تكون، تطؤه بأخفافها، وتعضه بأنيابها، كلما مرّ عليه أخراها أعيد عليه أولاها؛ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) ثم ذكر ذلك في الغنم. فهذه هي عقوبته في الآخرة. وأما عقوبته في الدنيا، فمحق البركة من الأموال، وسوء العاقبة والمآل، ومن ضيّع حق الله ضيعه الله كما ضيّع حقه، ولينتظر كل من ضيّع أمانة الله وحقّه في الزكاة عقوبة عاجلة في نفسه أو ماله أو أهله وولده. والله تعالى أعلم.

تعلق الأحكام بغلبة الظن

تعلق الأحكام بغلبة الظن Q ما معنى قولكم: (إن الله تعبدنا بغلبة الظن)؟ A معنى ذلك أن الشرع جعل غالب الظن محكوماً به، وقد قرر ذلك العلماء، ومن أنفس ما كُتب في ذلك كتاب الإمام العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام ومصالح الأنام، قال: إن الشريعة بنيت على غالب الظن في كثير من المسائل، والدليل على هذا أمور: أولاً: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر واحد)، فالقاضي يقضي في الدماء ويقضي في الأعراض ويقضي في الفروج ويقضي في غيرها من حقوق الناس بشاهدين، مع أن هذين الشاهدين ربما نسيا، وربما أخطأا، وربما توهما، وربما كذبا وزورا والعياذ بالله، فقد يستباح دم الرجل إذا شهد شاهدان عدلان أنه قتل فلاناً، فإذا شهد الشاهدان أنه قتل فلاناً، فإنه حينئذٍ يستباح دم المشهود عليه، ويُحكم بالقصاص، وتثبت حقوق القتل سواءً بسواء، كمن أقر، مع أن هذين الشاهدين ربما أخطأا وربما دلّسا وكذبا، ومع ذلك نحكم بشهادتهما؛ لغلبة الظن في أنهما لمّا زُكّيا وعرفت أمانتهما وعدالتهما أنهما صادقان، فغلب على ظننا صدقهما وحكمنا بذلك، هذا بالنسبة لحقوق العباد مع العباد. وتعبّدنا الله بغلبة الظن فيما بيننا وبينه سبحانه وتعالى، فنحن نحكم بدخول شهر رمضان وخروج شهر رمضان، فنبني عبادة وركناً من أركان الإسلام، وكذلك حج الناس بشهادة الشهود على الهلال، مع أنه ربما كذب الشهود وربما أخطئوا وربما توهّموا، وأنت تدين الله عز وجل، وتتعبد الله عز وجل بغالب ظنك، مع أنه يحتمل أنه أخطأ، تسمع المؤذن يؤذن لصلاة الفجر فتمسك عن صيامك، وتسمعه يؤذن لأذان المغرب فتفطر من صيامك، وتعتد بذلك في عبادة هي ركن من أركان دينك، مع أن المؤذن يحتمل أنه أخطأ، ويحتمل أنه لم يصب الحقيقة في كون الشمس غربت أو كون الفجر قد طلع، ومع هذا جعل الله ذلك عبادة في الصلاة، وجعله عبادة أيضاً في الزكاة، فإن الإنسان يبني على غالب ظنه في الزكوات، فإن الإنسان إذا غلب على ظنه ملكيته لمال، بنى على غلبة الظن في ملكية المال، وبنى على غلبة الظن في الحول، وكل ذلك مما يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى به في زكاته، كذلك أيضاً في صومه وحجه، وقس على ذلك مما لا يُحصى كثرة. فلو تعبدنا الله باليقين لحصل على الناس من الحرج ما الله به عليم، فأنت حينما تخرج من بيتك لصلاتك وأنت على طهارة، فإنك ربما جلست ساعة فيما بين طهارتك وبين صلاتك، ولا تتحقق يقيناً أنك لم تحدث، فلربما خلال الساعة خرج منك شيء، لكن غالب الظن أنك على طهارة، وأن طهارتك باقية، فتحكم بكونك متطهراً، وتستبيح الوقوف بين يدي الله عز وجل بغالب ظنك، وقس على هذا سائر الأحكام. فإن الإنسان مثلاً لو قال لامرأته كلمة من كلمات الطلاق، وهذه الكلمة اختلف العلماء فيها، فمنهم من يقول: إنها طالق، ومنهم من يقول: إنها غير طالق، فلو ذهبت إلى عالم وفقيه معتدّ بفتواه ومعتد باجتهاده، فأفتاك أنها امرأتك، فقد جعل الله السماحة على لسانه، فتتعبد الله عز وجل بغالب ظنك من إصابة هذا المجتهد، مع أنه يحتمل أن يكون أخطأ وأنها ليست بامرأة لك، وأنها قد حرمت عليك. فقس على ذلك من المسائل ما لا يحصى كثرة، ولذلك يقول العز بن عبد السلام كلمة نفيسة، يقول رحمه الله: إن الشرع يبني على غلبة الظنون، ولا يبني على ضعيف الظن، وغالب الظنون كالمحقق، ولو ذهبنا نعتبر أن الظنون الغالبة فاسدة لفسدت أحوال العباد في دينهم ودنياهم وآخرتهم، فمن رحمة الله عز وجل أن تعبدنا بهذا الغالب على الظن. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد.

باب زكاة بهيمة الأنعام

شرح زاد المستقنع - باب زكاة بهيمة الأنعام من رحمة الله على عباده أن فرض عليهم زكاة في أموالهم من نقود وأنعام وغيرها، فهي طهرة للغني، وعون للفقير وبلاغ يتبلغ بها، وليعلم كل غني أن الزكاة حق للفقير، وأن المال مال الله سبحانه وتعالى، فلا يمن به على الفقير، وليعلم أن الله عز وجل استخلفه في هذا المال، فليؤد حق الله تعالى فيه.

أصناف الأنعام التي تجب فيها الزكاة

أصناف الأنعام التي تجب فيها الزكاة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [باب زكاة بهيمة الأنعام]. قوله: (بهيمة) فهي مأخوذة من أبهم الشيء، وإبهام الشيء استشكاله وعدم وضوحه، وقالوا: إن البهيمة سمِّيت بهيمة؛ لأنها لا تتمكن من النطق والكلام، ومن هنا يقال: كلامٌ مبهم، أي غير واضح، قالوا: لأن البهيمة لا تستطيع الكلام ولا الإبانة والإفصاح عما في نفسها، فسمِّيت بهيمة لذلك. وقوله: (الأنعام) من النعم، والأنعام تشمل: الإبل، والبقر، والغنم، كما قاله أئمة اللغة ومنهم: الأزهري رحمه الله، تشمل كلمة الأنعام هذه الأصناف الثلاثة: الإبل والبقر والغنم، فلا يدخل في ذلك الوعول ولا الظباء ولا الغزلان، ولا غير ذلك من بقية الحيوانات. فقوله: (باب زكاة بهيمة الأنعام) أي: في هذا الموضع سأذكر جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بالزكاة الواجبة في الإبل والبقر والغنم، وهذه هي التي أمر الله عز وجل بزكاتها، فالإبل تشمل الإبل العراض والبختية، والغنم تشمل الضأن والماعز، والبقر يشمل البقر المعروف والجواميس، فهذه كلها تعتبر من بهيمة الأنعام.

حكم زكاة ما تولد من الأنعام ومن غيرها

حكم زكاة ما تولد من الأنعام ومن غيرها ما تولَّد وكان أنثاه من بهيمة الأنعام، وذكره من غير بهيمة الأنعام أو العكس، ففيه تفصيل: قال بعض العلماء: ما تولد وكان أصله مما تجب فيه الزكاة، كأن تكون أمه بقرة، فإنه يأخذ حكم الزكاة، بمعنى أنه تجب فيه الزكاة، ويأخذ حكم أمه، لقوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر)، فأتبع المولود لأمه، فإذا كان الذكر (الفحل) لا تجب في جنسه الزكاة، والأنثى تجب فيها الزكاة، فإن المتولد منهما يتبع أمه، وتجب فيه الزكاة.

أسباب ذكر زكاة الأنعام قبل غيرها

أسباب ذكر زكاة الأنعام قبل غيرها ابتدأ المصنف رحمه الله بزكاة بهيمة الأنعام لأسباب، من أهمها: أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ بزكاة بهيمة الأنعام قبل زكاة النقدين في كتابه المشهور الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه، والذي يسميه العلماء: كتاب الصدقة، وهو أهم ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في أنصبة الزكاة، ابتدأ صلوات الله وسلامه عليه فيه ببيان الأنصبة المتعلقة بالإبل والبقر والغنم، ثم بعد ذلك ذكر نصاب الذهب والفضة وبينه صلوات الله وسلامه عليه. كذلك أيضاً من الأسباب الداعية لتقديم زكاة بهيمة الأنعام: أنها أعز ما كانت العرب تملكه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمُر النعم)، فكانت أعز ما يملكه الإنسان، وتتفاخر به العرب، لأنها كانت تحب هذا النوع من المال، ومن هنا قال سبحانه وتعالى في أمارات يوم القيامة: {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير:4]، وهي من أعز ما كانوا يملكونه، وهي الناقة العشراء، (عطلت) أي: لم يُحمل عليها، وقيل: (عطلت) بمعنى: أن الإنسان من شدة أهوال يوم القيامة لم يلتفت إلى أعز ماله وهي الناقة العشراء. سيتكلم رحمه الله عن على الثلاثة الأنواع وهي: الإبل والبقر والغنم، ويبدأ بالإبل ثم يتبعها بالبقر ثم يتبعها بعد ذلك بأنصبة الغنم.

شروط وجوب الزكاة في الأنعام

شروط وجوب الزكاة في الأنعام قال رحمه الله: [تجب في إبلٍ وبقرٍ وغنمٍ إذا كانت سائمة الحول أو أكثره]. أي: تجب الزكاة في إبلٍ وبقرٍ وغنمٍ بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، لورود النص في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس في بهيمة الأنعام خلاف، قالوا: إن الزكاة فيها واجب. وقوله: (سائمة) من السوم وهو الرعي، وقيل: إنه مأخوذ من السيماء وهي العلامة، كما في قوله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح:29]، فالسوم قالوا: توصف الغنمة به؛ لأنها تُعْلِمُ الأرض، والرعي الذي هو السوم يعتبر شرطاً لوجوب الزكاة في بهيمة الأنعام، فالبهائم: الإبل والبقر والغنم تنقسم إلى قسمين: إما سائمة ترعى، وإما معلوفة، ويتفرع على ذلك قسم ثالث ينبني عليهما وهو الجامع بين السوم والعلف، فما كان منها سائم، فإنه تجب فيه الزكاة بالإجماع، بمعنى: أن الإبل والبقر والغنم إذا كانت ترعى، فالعلماء متفقون على وجوب الزكاة فيها. أما المعلوفة: فهي التي يشتري الإنسان لها العلف، أو يأخذه من مزرعته، أو يذهب بنفسه يجنيه ويحشُّه من الأرض ثم يعطيه للبهيمة، ولا يخرجها من حظيرتها، فهذه معلوفة، سواءً اشترى أو ذهب وجمع لها ثم أطعمها، فإذا كانت البهيمة معلوفة، فللعلماء فيها قولان: منهم من يقول: البهيمة المعلوفة تجب فيها الزكاة كما تجب في السائمة؛ لأن الأصل يقتضي وجوب الزكاة في جميعها. والقول الثاني: أن الزكاة لا تجب في المعلوفة. فأصحاب القول الثاني وهم الجمهور، يقولون: إن المعلوفة لا تجب فيها الزكاة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من الإبل السائمة)، وقوله في كتاب الصدقة وفي السنن: (وأما الغنم ففي سائمتها في كل أربعين)، فقوله في سائمة الإبل، أو الغنم: في سائمتها، يدل بمفهومه على عدم وجوب الزكاة في المعلوفة، وهذا المفهوم هو الذي يسميه الأصوليون: مفهوم الصفة، فإن السوم صفة، والمفهوم له عشرة أنواع، ومنها: النوع الذي هو الصفة، فقوله عليه الصلاة والسلام: (في سائمتها) مفهومه: أن المعلوفة التي لا ترعى لا تجب فيها الزكاة، وهذا كما قلنا: مذهب جمهور العلماء، وهو الصحيح: أن البقر والإبل والغنم إذا لم ترع لا تجب فيها الزكاة. إذا ثبت أنه لا بد من السوم، يبقى النظر في النوع الثاني وهو الذي جمع بين السوم والعلف، فالذين قالوا باشتراط أن تكون سائمة؛ منهم من يقول: العبرة في السوم بأكثر الحول، وبناءً على ذلك فلو جمعت بين السوم والعلَف ننظر، فإن كانت أشهر السوم أكثر من أشهر العلف، فإنه تجب فيها الزكاة، وإن كانت أشهر العلف أكثر من أشهر السوم فلا تجب فيها الزكاة، مثال ذلك: لو كانت عنده أربعون من الغنم، وهذه الأربعون ترعى ثمانية أشهر وأربعة أشهر تكون في حظائرها ويعلفها، فإن الأكثر للسوم والرعي، فتجب فيها الزكاة، وأما إذا كان العكس وهو أنها ترعى أربعة أشهر وتُعلف ثمانية أشهر، فإنه لا تجب فيها الزكاة؛ لأنها معلوفة، هذا حسب ما قيل في اشتراط السوم، فإذاً العبرة في السوم بأكثر الحول. وقال بعض العلماء رحمة الله عليهم: إذا سامت ورعت ولو بعض الحول تجب فيه الزكاة، ولا يفرِّق بين كونه أكثر الحول أو أغلب الحول. والصحيح: أن الزكاة فيها إذا جمعت بين السوم والعلف تابع للغالب عليها، فإن كان الغالب عليها أن تعلف فلا زكاة إلا إذا كانت من عروض التجارة، فالزكاة في قيمتها، وأما إذا كانت تسوم وترعى أكثر الحول، فإن الزكاة تجب فيها؛ لأن الحكم للغالب منهما. إذاً: بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، فيها مسألتان بالنسبة لوجوب الزكاة فيها: المسألة الأولى: أنه لا تجب فيها الزكاة إلا إذا رعت، وكانت تسوم. المسألة الثانية: أن يكون السوم في أكثر الحول، فإذا كان أكثر الحول للسوم وجبت فيها الزكاة. وأما إذا كانت معلوفة؛ يُعلفها صاحبها ويطعمها أكثر الحول، أو كل الحول، فلا تخلو نيته من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون قصده منها أن يأخذ غلتها، وأن يستفيد من ألبانها وأصوافها وأوبارها وأشعارها، فإذا كان قصده نماء المنفصل منها، فإنه حينئذٍ لا تجب عليه الزكاة؛ كما إذا قصد منها أن يشرب من ألبانها، فيكون عنده أربعون من الغنم من أجل أن يشرب حليبها، وأن ينتفع من صوفها، وكذلك أيضاً يجعلها للضيف وللقرى ونحو ذلك، فهذا لا تجب عليه الزكاة. الحالة الثانية: أن يقصد منها التجارة، كأن تكون عنده أربعون من الغنم ويقصد منها أن يبيع ويشتري، فيأخذ منها مجموعة لكي يطعمها ويقيم عليها حتى إذا غلت أسعارها أو كبرت أسنانها ذهب بها إلى السوق وباعها، فهذا زكاته زكاة عروض التجارة. فخلاصة ما سبق: أن بهيمة الأنعام لها حالتان: إما أن تكون سائمة سواء كانت سائمة كل الحول أو أكثر الحول ففيها الزكاة بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، وإما أن تكون معلوفة، فإن كانت معلوفة: فإما أن تكون بقصد النماء لما يكون منها؛ من حليبها وأصوافها، وتكون طعمة للضيف وطعمة للبيت، فهذه لا زكاة فيها، وإما أن يقصد منها أن يبيعها ويستفيد بالمال الذي يبيعها به، فهذا حكمه حكم عروض التجارة، تقدّر عند كل حول وتكون الزكاة في قيمتها، فالفرق بين كونها تجب فيها الزكاة كسائمة وتجب فيها الزكاة كعروض التجارة: أننا إذا أوجبنا فيها الزكاة كسائمة، يُعتبر فيها النصاب وهو أربعون، وأما إذا أوجبنا الزكاة فيها كعروض تجارة فتكون العبرة بالقيمة، فلربما يكون عنده أربع شياه وتجب عليه الزكاة؛ لأن قيمتها تصل إلى نصاب زكاة عروض التجارة.

نصاب زكاة الإبل

نصاب زكاة الإبل قوله: [فيجب في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض]. ابتدأ رحمه الله بالأعلى وهي الإبل، تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما كتب كتابه الذي رواه عبد الله بن أنس عن أبيه أنس بن مالك رضي الله عنه أنه ابتدأ بالإبل، فبين عليه الصلاة والسلام أنصبتها والأسنان الواجبة فيها، فيكون ابتداء المصنف رحمه الله بها تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم. والإبل فيها حقان: الحق الأول ليس من الإبل نفسها وهو الحق الواجب، وإنما هو من الغنم، والحق الثاني يكون من الإبل نفسها، فأما الحق الذي يجب من الغنم فإنه يبتدئ بالخمس من الإبل، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: (ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة)، فإذا كان عند الإنسان خمس من الإبل فإنه تبتدئ فرضية الزكاة بهذا العدد، وما دونه كأن يكون عنده أربع من الإبل أو ثلاث أوناقتان أو ناقة فلا زكاة، إلا إذا كانت لغرض التجارة. فإن كانت عنده خمس من الإبل وجب عليها شاة، فإن بلغت عشراً ففيها شاتان، فإن بلغت خمس عشرة ففيها ثلاث شياه، فإن بلغت العشرين ففيها أربع شياه، فإن بلغت خمساً وعشرين ففيها بنت مخاض، فإذاً تبتدئ بالغنم في كل خمس منها شاة، هذه الشاة يشترط فيها ما يشترط في الأضحية من سلامتها من العيوب، وبلوغها للسن المعتبرة، فلا يجزئ إلا الثني من الماعز والجذع من الضأن، فلا يُخرج أي شاة، بل يشترط في الشاة التي تدفع زكاة عن هذه الخمس أن تكون قد بلغت السن المعتبرة؛ ففي الماعز يشترط أن تتم سنة كاملة، وتدخل في الثانية وهو الثني من الماعز، وفي الضأن تبلغ أكثر الحول؛ لأنه يكون جذعاً إذا فاق الستة الأشهر، خاصة إذا كان مرعاه طيباً. فالمقصود: أن زكاة الإبل تبتدئ في الشاة الواحدة في كل خمس، وما دون الخمس لا زكاة فيه، إلا إذا قصد بهذه النوق البيع والشراء، فتقول له: زكاتك زكاة عروض التجارة خارجة عن مسألتنا؛ لأننا نتكلم على زكاة الإبل من حيث هي بوجوب النصاب فيها، فإذا بلغت خمساً وعشرين يقول عليه الصلاة والسلام: (ففيها بنت مخاض)، والماخض: الحامل، وبنت مخاض أي: بنت ناقة حامل، ومعنى ذلك: أنه تمت لها سنة واحدة، ودخلت في الثانية، ويقولون لها: ماخض؛ لأن أمها قد حملت من بعدها فتكون ماخضاً، هذه تجب في كل خمس وعشرين إلى أن تبلغ ستاً وثلاثين، فمن خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين بنت مخاض، فإن بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون، وبنت اللبون: هي التي تمت سنتين ودخلت في الثالثة، واللبون: هي أم المرضعة ذات اللبن، فقد أنجبت ما في بطنها، وأخرجت ما في بطنها، فأصبحت ترضعه، فهي لبون، فبنت لبون أي: بنت ناقة لبون، فمعنى ذلك: أنه تمت لها السنتان. هذا إذا جاوزت الخمسة والثلاثين إلى ست وثلاثين، فمن ست وثلاثين إلى خمسٍ وأربعين فيها بنت لبون، ومن ست وأربعين إلى ستين فيها حقة؛ وهي طروقة الفحل، وصفت بذلك؛ لأنها استحقت أن يطرقها الفحل، وقيل: استحقت أن تُركب وأن يحمل عليها، الحقة تمت لها ثلاث سنوات ودخلت في الرابعة، فإن بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، والجذعة تمت لها أربع سنوات ودخلت في الخامسة؛ لأنها تجذع أسنانها، بمعنى أنها تسقط، إلى أن تبلغ خمساً وسبعين، فإذا جاوزت الخمس والسبعين إلى ست وسبعين، فمن ست وسبعين إلى تسعين فيها بنتا لبون، فيكون الواجب فيها بنتا لبون من ست وسبعين إلى تسعين، فإن جاوزت التسعين إلى إحدى وتسعين، فمن إحدى وتسعين إلى مائة وعشرين فيها حقتان طروقتا الفحل، هذا هو كتاب النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة لأنصبة الإبل التي بيّنها عليه الصلاة والسلام وفصلها، كما في حديث أنس. من خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين فيها بنت مخاض، ومن ست وثلاثين إلى خمس وأربعين فيها بنت لبون، ومن ست وأربعين إلى ستين فيها حقة، ومن إحدى وستين إلى خمس وسبعين فيها جذعة، ومن ست وسبعين إلى تسعين فيها بنتا لبون، ومن إحدى وتسعين إلى مائة وعشرين فيها حقتان طروقتا الفحل. هذا يحتاج إلى أن يحفظه طالب العلم ويضبطه على نفس الوصف الذي ذكرناه، ثم بعد ذلك يكون الحكم مختلفاً، إذا بلغت مائة وعشرين، من بعد مائة وعشرين إن زادت عليها، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة. بعد المائة والعشرين إذا جاوزتها بالعشرات فإنه للعلماء فيها قولان: منهم من يقول: تُستأنف الفريضة، واستئناف الفريضة يرى أنه بعد المائة والعشرين تنظر خمسة وعشرين ففيها شاة، ثم ثلاثين فيها شاتان، مائة وخمسة وثلاثين ثلاثة شياه، مائة وأربعين أربعة شياه، مائة وخمسة وأربعين، حينئذ تبدأ تضيف عليها أي: يستأنف الفريضة، وهذا قول مرجوح. والصحيح مذهب الجمهور: أنها إذا بلغت مائة وعشرين وجاوزت المائة والعشرين، ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة، والمسألة حسابية، فالمائة والثلاثون: إذا جئنا ننظر إلى مائة وعشرين قبلها ففيها حقتان حسب حكم الشرع الصريح، ولو اعتبرنا القاعدة الحسابية التي تنص أن كل أربعين فيها بنت لبون، لكان فيها ثلاث بنات لبون، فإذا كان لديك نصاب زكاته من بنات اللبون، ثم زدت فوق ذلك النصاب عشراً من الإبل، فأسقط واحدة من بنات اللبون وأدخل حقة، ثم إن زادت عشراً أخرى فأسقط بنت لبون أخرى وأدخل حقة، توضيح ذلك بالتطبيق: فمائة وثلاثون فيها بنتا لبون وحقة، فبنتا اللبون عن الثمانين والحقة عن الخمسين، فإن جاوزت إلى مائة وأربعين ففيها حقتان عن مائة وبنت لبون عن أربعين، فإذا جاوزت إلى مائة وخمسين فأسقط بنت اللبون، وضع مكانها حقة، فيكون فيها ثلاث حقائق عن مائة وخمسين، فإن وصلت إلى مائة وستين ففيها أربع بنات لبون؛ لأن مائة وستين إذا قسمت على أربعين كان الناتج أربعة، ففيها أربع بنات لبون، فإن وصلت مائة وسبعين فأسقط واحدة منهن وضع مكانها حقة، فيكون فيها ثلاث بنات لبون وحقة، أما مائة وثمانين ففيها بنتا لبون وحقتان، حقتان عن مائة وبنتا لبون عن ثمانين، وسر على هذا، حتى تجتمع في بعض الأحيان الفريضتان، وكلما زادت عشراً سقطت واحدة من بنات اللبون ودخلت بدلها حقة؛ لأن الفرق بين الحقة وبنت اللبون إنما هو العشر، وبناءً على ذلك تستقيم الفريضة بعد هذا بهذا التفصيل، في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة. [وفيما دونها في كل خمس شاة]. يعني: فيما دون الخمس والعشرين في كل خمس شاة، فالخمسة فيها شاة والعشرة شاتان، والخمسة عشر ثلاث شياه، والعشرون أربع شياه، وهذا أعلى ما يجب من جهة الغنم، فإن بلغت خمسة وعشرين فإنها تبتدئ بالواجب من الإبل نفسها، تبدأ ببنت المخاض، ثم تليها بنت اللبون، ثم تليها الحقة، ثم تليها الجذعة، ثم تجمع بين بنتي اللبون، ثم بين الحقتين على التفصيل الذي بيناه. [وفي ست وثلاثين بنت لبون]. دون الستة والثلاثين فيها بنت مخاض، ولاحظ أنه قال: بنت لبون وبنت مخاض، فلا يقبل إلا الإناث -إلا في بنت المخاض يمكن أن يقبل بدلها ابن اللبون الذكر- والسبب في هذا: أن وجوب بنت اللبون وبنت المخاض والحقة والجذعة، إنما هو لكون الأنثى تنجب ويكون منها النسل، ويكون منها الحليب فنماؤها خير لبيت المال، فجعلها الله عز وجل واجبة من الإناث وهي أحق، لكن لو كانت الإبل ليس فيها إلا ذكور، فللعلماء فيها وجهان: منهم من قال: ألزمه بالبحث عن أنثى وليخرجها. ومنهم من قال: إذا لم يكن عنده إلا الذكور يخرج ابن مخاض وابن لبون ونحو ذلك فيما ذكروه رحمة الله عليهم على نفس الترتيب الذي يكون في الإناث. القول الثاني هو الأقوى، وسيأتي أنه اختاره جمع من العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن كل مال تجب الزكاة فيه من نوعه. [وفي ست وأربعين حقة]. وهي كما ورد في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم: (فيها حقة طروقة الفحل)، قالوا: سميت حقة؛ لأنها استحقت أن تطرق بالفحل، واستحقت أن يُحمل عليها ويركب. [وفي إحدى وستين جذعة]. لأنها جذعت أسنانها. [وفي ست وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حقتان، فإذا زادت على مائة وعشرين واحدة فثلاث بنات لبون، ثم في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة]. اختلف العلماء فيما بين المائة والعشرين وما بين المائة والثلاثين، فقد ذكرنا بعض العلماء يدخل الشياه في كل خمس فيجعل الخمس فيها شاة والعشر فيها شاتان، وقلنا: إن هذا مذهب مرجوح. والصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن زادت ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة)، فبعض العلماء يقول: إذا كانت مائة وعشرين، وزادت واحدة فإنني أوجب ثلاث بنات لبون بدل أن كانت على المائة والعشرين مستقرة بحقتين، وبناءً على ذلك يرى أن بنات اللبون تكون بزيادة الأفراد فيما بين مائة وعشرين ومائة وثلاثين، وقال بعض العلماء: لا يجب فيما بين ذلك، وهذا الوقص الذي يكون بين الفريضتين لا يجب فيه شيء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في كل أربعين) و (في كل خمسين) فكأنه يشير إلى ما يقبل القسمة على الأربعين والخمسين، ويجمع ما بين الأربعين والخمسين، فمائة وإحدى وعشرين لا تعتبر جامعة بين الخمسين والأربعين، وبناءً على هذا فإن المائة والعشرين المائة والإحدى والعشرين والاثنتين والعشرين، والثلاث والعشرين، والأربع والعشرين، حتى تبلغ مائة وثلاثين، فما دون المائة والثلاثين يرى أن فيه حقتين على الأصل الذي نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث.

نصاب زكاة البقر

نصاب زكاة البقر يقول رحمه الله: [فصل: ويجب في ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة]. هذه زكاة البقر، وسمي البقر بقراً من البقْر وهو شق الشيء، قيل: سمِّي البقر بذلك؛ لأنه يشق الأرض بالحراثة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وتركتم الجهاد، واتبعتم أذناب البقر)، أي: بالحراثة والزرع، وزكاة البقر واجبة بإجماع العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص عليها كما في حديث معاذ حينما بعثه إلى اليمن. والجزيرة العربية يقل فيها وجود البقر، وإنما كان المشهور فيها الإبل والغنم، وأما البقر فكان قليل الوجود في جزيرة العرب، وذلك لكونه يطلب المرعى الأكثر، ولا يرتفق في الصحراء، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم حكم زكاته حينما بعث عامله معاذاً على اليمن، وكان البقر موجوداً هناك، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم هذا القدر من النصاب، في كل ثلاثين تبيع، وهو الذي تمت له سنة ودخل في الثانية، وُصِف بذلك؛ لأنه يتبع أمه، ويكون وراءها، هذا التبيع يجب في كل ثلاثين، واختلف العلماء فيما دون الثلاثين من البقر كخمس من البقر وعشر وخمس عشرة وعشرين، قال بعض العلماء: نقيسها على الإبل، ففي كل خمس من البقر شاة، وفي كل عشر شاتان، وفي كل خمس عشرة ثلاث شياه قياساً على الإبل، وهذا القول يقول به سعيد بن المسيب، والإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري رحمة الله عليهم، لكن جماهير السلف يقولون: لا يجب فيما دون الثلاثين من البقر زكاة، وهذا هو الصحيح؛ لأن معاذاً رضي الله عنه -كما في حديث الدارقطني والبيهقي وغيرهما، رحمة الله عليهم- قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ في البقر من كل ثلاثين تبيعاً)، فدل على أن ما دون الثلاثين لا تجب فيه الزكاة؛ لأن الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها ووجوب الحق فيها. قوله: تبيع، التبيع ذكر، أو تبيعة، وهي الأنثى، ولذلك يقولون: لا يؤخذ الذكر إلا ابن لبون، بدل بنت المخاض في الإبل، والتبيع أو التبيعة يخيّر بينهما في البقر، هذا بالنسبة لبهيمة الأنعام، وإلا فالأصل أنها تؤخذ من الإناث، فلا يؤخذ إلا الأنثى؛ لأنه أحب لبيت المال، وأحب للفقراء، وهو منصوص الشرع، فقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على الأنثى، ولذلك لا يخرج الذكر بدلها إلا في هذا الموضع، أو ما ذكرناه من كون ماله كله من الذكور. [وفي أربعين مسنة]. وهي التي تمت لها سنتان ودخلت في الثالثة، والمسنة من الإناث، ثم بعد ذلك في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة، فإذا بلغت ستين ففيها تبيعان، وإذا بلغت السبعين ففيها تبيع ومسنة، وإذا بلغت الثمانين ففيها مسنتان، وإذا بلغت التسعين ففيها ثلاثة أتبعة، وإذا بلغت المائة أسقط تبيعاً منها وأدخل مسنة، فتقول: فيها تبيعان ومسنة، وقس على هذا، التبيعان بالستين والمسنة بأربعين، أصبح المجموع مائة، وقس على هذا حتى تجتمع الفريضتان في مائة وعشرين، في مائة وعشرين من البقر يخيّر، نقول له: إن شئت أخرج أربعة أتبعة أو ثلاث مسنات، إن شئت أن تخرج هذه أو تخرج هذه، فالثلاث المسنات تعادل مائة وعشرين، والأربعة الأتبعة تعادل مائة وعشرين، يسمونه: اجتماع الفريضتين، حينئذٍ يخيّر، كمائتين في الإبل، يجتمع فيها بنات اللبون مع الحقاق، إن شاء أخرج في المائتين خمس بنات لبون أو أربع حقاق، ولا يلزم بواحدة منه إن شاء هذا أو ذاك. [وفي ستين تبيعان، ثم في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة، ويجزئ الذكر هنا، وابن لبون مكان بنت مخاض، وإذا كان النصاب كله ذكوراً]. هذا كله بيّناه، يعني: ابن لبون بدل بنت المخاض إذا لم يجد رب الإبل بنت مخاض فإنه يقول له الساعي: أخرج بدلاً منها ابن لبون ذكر؛ لأنه قد يستفاد منه فيكون فحلاً لهذه الإبل، وهذا منصوص الشرع، ولذلك لا يجتهد ولا يقال بالصيرورة إلى الذكور، إلا في حالة ما إذا كان المال كله ذكوراً، ويستوي البقر والجواميس في الزكاة.

نصاب زكاة الغنم

نصاب زكاة الغنم قال رحمه الله: [فصل: ويجب في أربعين من الغنم شاة]. هذه هي زكاة الغنم وهو النوع الثالث، والغنم هي الماعز والضأن، فالضأن ذكره وأنثاه والماعز ذكره وأنثاه يستوي فيه الزكاة، وكما قلنا في الإبل العراض والبختية، العراض: التي لها سنام واحد، والبختية: التي لها سنامان، هذه الأنواع كلها تعتبر داخلة في عموم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج الزكاة من هذه البهائم، حيث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الغنم، ولم يفرق بين الماعز والضأن، والعرب تسمي الماعز والضأن (الغنم) بهذا الاسم، فدل على دخولها في هذا العموم، ومن هنا قال العلماء: تجب الزكاة على من ملك ضأناً أو ملك ماعزاً أو جمع بينهما، ففي كل أربعين شاةً شاةٌ، فتجب على من ملك أربعين شاةً شاةٌ واحدة، وما كان دون ذلك فلا زكاة فيه إلا إذا كان عرض تجارة، كأن يملك ثلاثين شاة بقصد النماء للبيع والشراء، فهذا منفصل، وزكاته زكاة عروض التجارة، مثل ما يفعله تجار الغنم، فهؤلاء إذا حال الحول على أحدهم يجمع ما عنده من الغنم ويقدر قيمته ويزكيه، ولا يلتفت إلى أنصبة الغنم كما ذكرنا. [وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان وفي مائتين وواحدة ثلاث شياه، ثم في كل مائة شاة]. يستمر الفريضة من الأربعين إلى مائة وعشرين، فإن بلغت مائة وإحدى وعشرين ففيها شاتان، حتى تبلغ مائتين وواحدة، ففيها ثلاث شياه، ثم بعد ذلك تستقيم الفريضة في كل مائة شاة، هذا منصوص كتاب النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس بن مالك الذي ذكرناه، والإجماع على هذا.

خلطة الأنعام وأثرها في أحكام الزكاة

خلطة الأنعام وأثرها في أحكام الزكاة قال رحمه الله: [والخلطة تصيِّر المالين كالواحد]. بعد أن بين لنا الأنصبة، شرع في بيان الأحكام المتعلقة ببهيمة الأنعام، فقال: (والخلطة تصيِّر المالين واحداً) الخلطة: من الاختلاط، واختلط الشيء بالشيء إذا دخل فيه، تقول: اختلط الليل بالنهار إذا قارب طلوع النهار، وكذلك إذا قارب دخول الليل، فالخلطة أصلها دخول الشيء في الشيء، والعرب والناس عادةً إذا كانت عندهم البهائم لا يخلون من حالتين: إما أن ينفرد كلٌ منهم بغنمه وإبله وبقره، بالمرعى والمراح، فحينئذٍ لا إشكال، والمال للرجل والزكاة على التفصيل الذي ذكرناه، لكن هناك إشكال، وهو أن يكون عندي من الشياه والغنم ما لا يبلغ النصاب، وعندك مثله، فلو جُمع المالان بلغا قدر النصاب، وكان بين مالي ومالك خلطة؛ شراكة شيوع؛ كأن نملك ستين من الغنم لك نصفها ولي نصفها؛ كرجل توفي عن ابنين وله ستون من الغنم، تقسم بين الابنين الذكرين هذا له ثلاثون وهذا له ثلاثون، فالمال بينهم مشاع؛ فهذه خلطة، إن جئنا ننظر إلى الابن الأول فله ثلاثون، وإن جئنا ننظر إلى الثاني فله ثلاثون، وكل من الثلاثين عند كل واحد منهما دون النصاب، لكن الذي أمامنا من المال هو ستون شاة، وقد بلغت النصاب، فالخلطة سواءٌ كانت بالشركة لإرثٍ أو شراكة بينهما في المال لعلاقة من قرابة ونحو ذلك، أو كانت في المراح كما يقع في القبائل وأبناء العم، وأحياناً تكون القبيلة مرعاها واحد، ويجتمع الثلاثة والأربعة والخمسة في مرعى واحد، تذهب إبلهم مع بعضها، وترجع مع بعضها، ويكون مراحها ومكان ظعنها وبقائها واحداً، فهذه تأخذ حكم المال الواحد، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة)، فأعطى المالين المجتمعين حكم المال الواحد، فيشترط أن يكون المرعى واحداً، والسوم واحداً، والفحل واحداً، والمراح الذي تمرح فيه الإبل وتكون فيه واحداً فلا يختلف، والمحلب وهو المكان الذي تحلب فيه على أحد القولين عند العلماء رحمة الله عليهم واحداً، فهذا غالباً ما يكون في البادية، في البادية يتيسر فيه أكثر لسعة المكان، فتجد المالين كالمال الواحد، مرعاهما واحداً، والمكان الذي تسوم فيه الإبل واحداً، والفحل الذي يضرب واحداً، والمراح الذي تمرح فيه الإبل واحداً، والمكان الذي تحلب فيه واحداً، فإذا جمعت هذه الأوصاف فهي مال واحد، فإن كانت الغنم ستين شاة لكل واحد منهما ثلاثون، ففيها شاة واحدة، ولو نظرنا إلى ملكية كل واحد منهما لم تجب الزكاة فيه، هذا ثلاثون وهذا ثلاثون، لكن لأنهما بهذه الصفة وبهذه الحالة، فقد جعلا بمثابة المال الواحد، فتجب الزكاة عليهما، نقول لهما: أخرجا شاةً واحدة، لكن يرد Q هل يخرجها هذا أو ذاك؟ نقول: يخرجها أي واحد منهما، فإن أخرجها أحدهما طالب الآخر بنصف قيمتها، فإن كانت هذه الشاة قيمتها خمسمائة ريال، فعلى الآخر أن يدفع لمن دفع مائتين وخمسين ريالاً. فإذا اتحد المال بالأوصاف التي ذكرناها، فإنه يأخذ حكم المال الواحد، وتجب الزكاة عليه. ولا يفرق بين هذا المجتمع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يفرَّق خشية الزكاة)، فدل على أنه لا يجوز أن يقال: هذا مال وهذا مال، ويفرَّق بينهما حتى لا تجب الزكاة عليه، أو قبل تمام العام وقبل مجيء الساعي يحرص الاثنان على التفريق بين الغنم وبين الإبل وبين البقر حتى لا يطالبهم الساعي بزكاة، فإن اطلع الساعي على ذلك ألزمهما بزكاة المال الواحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزّل المالين المختلطين منزلة المال الواحد، فتجب عليهما الزكاة على التفصيل الذي ذكرناه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم زكاة الإبل التي تحتاج إلى العلف أحيانا

حكم زكاة الإبل التي تحتاج إلى العلف أحياناً Q أثابكم الله فضيلة الشيخ، وجزاكم الله خير الجزاء: إذا كانت الإبل سائمة أكثر الحول؛ وذلك لأن الرعي لا يكفي، فهو يطعمها مع الرعي، فهل يجب فيها زكاة؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهذه المسألة ذكرها بعض أهل العلم رحمة الله عليهم، إذا كان المرعى لا يكفي، وقد جعل الإنسان مع هذا المرعى علفاً يعلف به دوابّه، فهل نقول: إنها سائمة بناءً على أنها رعت، أو نقول: إنها معلوفة بناءً على أنه يعلفها ويقوم عليها؟ والجواب: أننا نقول: إنها سائمة؛ لأن العلف كان فضلاً وتقوية للطعام، ولم يكن أصل قوتها، فأصل قوتها كان على السوم، وبناءً على ذلك تجب فيها الزكاة وهي سائمة لثبوت الوصف. والله تعالى أعلم.

حكم إخراج القيمة في الزكاة

حكم إخراج القيمة في الزكاة Q أثابكم الله فضيلة الشيخ، إذا بلغ النصاب أربعين شاة، فهل يصح أن أخرج قيمة الشاة نقداً بدلاً من الشاة؟ A هذه المسألة للعلماء فيها قولان: هل يجوز إخراج النقد بدل هذه التي سمّى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأسنان؟ الجمهور على أنه لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدّد هذه الأسنان وعيّن من نفس الإبل والبقر والغنم، وقال الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه: يجوز؛ لأن معاذاً رضي الله عنه قال لأهل اليمن: (ائتوني بخميص أو لبيس فإنه أرفق لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قالوا: فأخذ العِدل أو أخذ المِثل من الثياب بدل العين الواجب في الزكاة، وهذا أصل للإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، يطرِدُه، بمعنى يجعله مطّرِداً، فيقول -مثلاً- في زكاة الفطر: يجوز أن تخرج بدلها النقود ونحوها من الكفارات. والصحيح: مذهب الجمهور أنه لا يجوز الإخراج إلا مما سمّى النبي صلى الله عليه وسلم وعيّن، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حدّد هذا وأقّته، وما حدّده الشرع لا يجزي إلا بعينه، ولأن المال النقد يأخذه المحتاج وغير المحتاج، وأما الطعام فلا يأخذه إلا المحتاج ولا يأخذه إلا الفقير، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده كان الذهب والفضة موجوداً في زمانهم، ومع ذلك ما أخرجوا زكاة الفطر من ذهب ولا فضة، وبناءً عليه فلا يجوز إخراج القيم؛ لا في الأعيان التي ذكرت في الزكوات، ولا في غيرها من الزكوات كزكاة الفطر ونحوها، وإنما يجب الإخراج على النحو الذي سماه الشرع، إن كان طعاماً فطعام، وإن كان إبلاً فإبل، وإن كان بقراً فبقر، وإن كان غنماً فغنم، وأما ما استدل به رحمه الله من حديث معاذ، فيجاب عنه بأن الحديث ورد في الجزية، والجزية يجوز الانتقال فيها إلى المثل والبدل، بخلاف الزكوات، فإن الزكاة سمّيت وحُددت، فوجب عين المسمى والمحدد. والله تعالى أعلم.

إذا وجبت الشياه على صاحب الإبل ولم يكن لديه غنم

إذا وجبت الشياه على صاحب الإبل ولم يكن لديه غنم Q فضيلة الشيخ لو كان عند شخص عشر من الإبل ولا يملك غنماً، فكيف يزكي بشاتين، أثابكم الله؟ A إذا وجبت الشياه على مالك الإبل فإنه يطالب بها، أما الطريقة والكيفية فذلك مردّه إليه، والشرع لا يتدخل في كيفية حصول الناس على القدر الواجب، وإنما يلزمهم بالأصل. والله تعالى أعلم.

حكم زكاة ذوات العاهات من الأنعام

حكم زكاة ذوات العاهات من الأنعام Q أثابكم الله فضيلة الشيخ، هل في بهيمة الأنعام ذوات العاهات زكاة؟ A إذا كانت البهائم فيها عاهات، أو كانت مريضة، فملك أربعين من الغنم كلها مِراض، أو ملك خمساً وعشرين من الإبل كلها سقيمة ومريضة، فإنه يُخرج مريضة، وتعادل هذا المال الذي يملكه، ولا يجب عليه أن يخرج صحيحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، هذا حديث معاذ في الصحيحين، فلا شك أن الصحيحة في المريضة كريمة المال، ولذلك لا يطالب بإخراج الصحيحة إذا كان عنده مِراض، وإنما يطالب بإخراج ما هو مماثل لماله، فلو كانت الغنم هرمة وكبيرة السن فإنه يخرج واحدة هرمة، وهكذا بالنسبة للإبل إذا كان بها عاهات، أو بها جرب أو غير ذلك، فإنه يطالب بالإخراج بمثل ما هو من ماله. والله تعالى أعلم.

تلف المال بعد وجوب الزكاة فيه

تلف المال بعد وجوب الزكاة فيه Q أثابكم الله فضيلة الشيخ، إذا احترق المال بعد وجوب الزكاة، هل يلزم صاحب المال دفع الزكاة؟ A يجب عليه أن يزكي، إذا احترق المال أو تلف فإنه يجب عليه أن يزكي، ولكن لا يُلزم بإخراج الزكاة من السعاة ونحوهم إلا إذا ملك، ففرق بين وجوب الشيء وبين الإلزام به، فتقول: يجب عليَّ أن أدفع لك الدين، ولكن لا يلزمني أن أدفع لك الآن؛ وذلك لأني معسر، فهذا الرجل يعتبر معسراً، فإذا أعسر، فإنه تسقط المطالبة إلى أن يكون قادراً على السداد، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، فإذا تلف المال أو احترق المال وليس عنده ما يسدد به الزكاة، تركناه حتى يملك المال ولو بعد عشر سنوات، ولو بعد عشرين سنة، حتى يملك هذا القدر الذي وجب عليه، وإلا صار ديناً عليه يؤديه متى أطاق القدرة عليه. والله تعالى أعلم.

زكاة الأنعام إذا كان بعضها سائما وبعضها معلوفا

زكاة الأنعام إذا كان بعضها سائماً وبعضها معلوفاً Q أثابكم الله فضيلة الشيخ، إذا كانت بهيمة الأنعام بعضها سائمة، وبعضها معلوفة، وذلك كأن تكون صغارها التي لا تستطيع المشي معلوفة، والبقية سائمة، هل تجب الزكاة في جميعها، إذا كانت أكثرها السائمة، أم في سائمتها فقط؟ A بالنسبة لصغار الغنم كالسخلة ونحوها، فإنها تعد وتحسب، وجاء في الأثر: (عد عليهم السخلة ولا تأخذها منهم)، كما أثر عن عمر رضي الله عنه وأرضاه، وبناءً على ذلك فإن كونها صغيرة لا يمنع وجوب الزكاة، ولا يمنع المطالبة بها، وهكذا إذا كان أكثرها يسوم والباقي تبع لهذا الذي يسوم، لكنه لا يرعى معه ولا يسوم معه، فإن الحكم للأكثر، ويكون الأقل تبعاً لهذا الأكثر، كما أن السخلة تبعت أصلها. والله تعالى أعلم. بعض العلماء يرى أنه يمتنع الحكم إذا لم يبلغ الأكثر الذي يسوم قدر النصاب، فلو كانت عنده أربعون شاة، وكان الذي يسوم ثلاثين، وكان الباقي لا يسوم لا تجب عليه الزكاة حتى يسوم الأربعون، لكن الذي ذكرناه من كونها تجب فيه إذا كان بالتبع، بمعنى أن تكون صغاراً وراء أمها ترضع، فهذه حينئذٍ تعتبر تبعاً، وتجب عليه الزكاة، ولا يؤثر وجود هذا العدد من الصغار، ويعتبر السوم للأمهات؛ لأن هذه الصغار في حكم التبع، فهي إذا رأت الأم شربت لبنها، فكأنها انتفعت من السوم الذي رعته، وهذا مذهب صحيح يرى أن حصول الارتضاع لهذه الصغار والانتفاع لها، إنما كان عن طريق السوم، وبناءً على ذلك يعتبر كأنه تابع للأصل، وتجب فيه الزكاة كما لو سام كله. والله تعالى أعلم.

حكم الأنعام السائمة المعدة للبيع

حكم الأنعام السائمة المعدة للبيع Q أثابكم الله فضيلة الشيخ، ما الحكم إذا كانت الأنعام سائمة، وجعلها من عروض التجارة، فأي الزكاتين فيها: زكاة بهيمة الأنعام، أم زكاة عروض التجارة؟ A إذا كان الشخص يملك الأنعام لنفسه، ثم طرأ له أن يتاجر فيها بالبيع والشراء، فيشتري الإبل بالبقر ويبادل، فمنذ أن نوى وغيّر نيته إلى التجارة يستأنف الحول، فإذا كان قد بقي على أصله إلى شهر محرم وحَوْلُه في صفر، فحينئذٍ نقول: منذ بداية محرم التي ابتدأ فيها نية التجارة يستقبل نية عروض التجارة، ويزكي زكاة عروض التجارة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه.

باب زكاة الحبوب والثمار [1]

شرح زاد المستقنع - باب زكاة الحبوب والثمار [1] الحبوب والثمار من الأصناف التي أوجب الله تعالى فيها الزكاة، ولها نصاب معلوم، وتجب عند الحصاد، وهناك أحكام ومسائل متعلقة بهذا الباب ذكرها الشيخ في هذه المادة.

وجوب زكاة الحبوب والثمار

وجوب زكاة الحبوب والثمار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب: زكاة الحبوب والثمار] هذا الباب عقده المصنف رحمه الله لبيان الأحكام المتعلقة بزكاة الحبوب والثمار. والحبوب والثمار من الأنواع التي أوجب الله عز وجل زكاتها، كما في قوله سبحانه وتعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] فأمر سبحانه وتعالى بإعطاء الحق وهو الزكاة يوم الحصاد، أي: حصاد الزروع والثمار، ويكون ذلك بضوابط بينتها السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفصّل العلماء رحمهم الله أحكامها. وزكاة الزروع والثمار أجمع العلماء رحمهم الله عليها، فهي من الأنواع المتفق عليها؛ لدلالة الكتاب والسنة في قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيح: (فيما سقت السماء والعيون العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر) فبيّن صلى الله عليه وسلم أن الزروع والثمار من جنس ما يزكّى. وقوله رحمه الله: (باب زكاة الزروع والثمار) أي: في هذا الموضع، سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بهذا النوع من أنواع الزكاة. والحبوب: تشمل البر والشعير والأرز والدخن والفاصوليا واللوبيا والعدس ونحوها من الحبوب، والثمار مثل التمر من النخل ونحو ذلك مما يخرج من الأصول الثابتة. والعلماء رحمهم الله يعبِّرون بهذا التعبير مراعاة لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنة، في قوله: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) وإنما تكال الحبوب وكذلك تكال الثمار، فخرج بقية المزروعات كالخضروات والفواكه التي لا تكال، فإنها لا تدخل في هذا الباب، وسيبين المصنف رحمه الله هذه المسألة عند بيانه للأنواع التي تجب زكاتها من الزروع والثمار.

الحبوب التي تجب فيها الزكاة

الحبوب التي تجب فيها الزكاة يقول المصنف رحمه الله: [تجب في الحبوب كلها ولو لم تكن قوتاً]. (تجب في الحبوب كلها)؛ لأنها من جنس ما يكال، ولأنها تكون أقواتاً على التعليل بالقوت والكيل، والتعليل بالكيل أقوى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) وهو حديث في الصحيحين، فكأنه بيّن لنا في هذا الحديث أن الزكوات في الحبوب إنما تجب فيما يُكال، وأما ما لا يكال فإنه لا تجب فيه الزكاة. وبالنسبة لقوله رحمه الله: (في الحبوب كلها) تشمل البر والشعير، وما عرف في زماننا كالأرز وغيره؛ فالحبوب كلها تجب زكاتها إذا بلغت النصاب المعتبر وهو خمسة أوسق. (ولو لم تكن قوتاً) اختلف العلماء رحمهم الله، هل يشترط في الحبوب أن تكون قوتاً أو لا يشترط؟ فيقع الخلاف إذا كانت الحبوب من جنس البهارات التي لا يقتات بها، وإنما يستصلح بها القوت، وكذلك ما يُتداوى به، فالذين يقولون أنه يشترط فيها أن تكون قوتاً كالأرز والبر والشعير فإنهم يوجبون الزكاة فيها دون ما لا يقتات كالحبة الخضراء -وسيذكر المصنف رحمه الله أنواعاً مما لا يعتبر من الأقوات- فبعض العلماء يمثِّل له بالحبة الخضراء وبذر القطن ونحو ذلك من الحبوب التي لا يقتات بها الناس، ولو كانت من جنس ما يستصلح به القوت كحبوب البهارات ونحوها، فهذه كلها لا تجب فيها الزكاة، وإنما تجب الزكاة فيما يُقتات على القول الذي ذكرناه باشتراط القوت، والمصنِّف هنا لم يشترط القوت التفاتاً إلى الحديث الصحيح: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) فكأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الكيل ولم يعتبر الاقتيات.

الثمار التي تجب فيها الزكاة

الثمار التي تجب فيها الزكاة [وفي كل ثمر يُكال ويدّخر]. مثل التمر، فإن تمر النخيل يكال ويدَّخر، ولذلك يرتفق الناس به الحول كله، فهو من جنس ما يُكال ويُدخر، فاشترط رحمه الله فيه الكيل مع الادخار، ومن أهل العلم من قيّد العلة بالكيل ولم يلتفت إلى الادخار، وهو أقوى على ظاهر الحديث الذي ذكرناه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الكيل ولم يعتبر الاقتيات، ولا الادخار. [كتمر وزبيب]. فالتمر يكون من النخيل، والزبيب يكون من العنب من الزروع، فمثّل بهذين المثالين لأنهما من جنس ما يُقتات ويُدَّخر، وعلى هذا فإن ظاهر كلام المصنف أنه إذا لم يكن مدّخراً، فإنه لا تجب فيه الزكاة. أما ما لا يُكال -مثل البرتقال والتفاح والموز والبطيخ- فلا تجب فيه الزكاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أوجب الزكاة في الزروع والثمار قيّدها بالخمسة أوسق، فكأنه يقيدها بما يُكال، والبرتقال لا يكال، وينبغي أن يُنبّه على مسألة مهمة: وهو أنه اشتُهر في زماننا هذا الكيلو غرام، فيفهم البعض أننا إذا قلنا: لا يكال أي: لا يوزن، الكيلو غرام من جنس ما يوزن، وتوضيحاً لذلك نقول: إن الشيء إذا بِيع إما أن يباع بالكيل أو يباع بالوزن أو يباع بالعدد أو يباع بالذرع، وقد يباع جزافاً، وهذه الأشياء كلها: الكيل، والوزن، والذرع، والعدد، تقديرات للمبيعات؛ فما يباع كيلاً مثل بيع التمر بالصاع وبالمد، فهذا من جنس ما يُكال، وفي حكم المكيلات ما يوجد في زماننا من بيع الحليب باللتر، فهذا يكال، فيعتبر من جنس المكيلات، والكيل يرجع إلى حجم الشيء والوزن يرجع إلى ثقله. والضبط بالوزن أدق من الضبط بالكيل، أي: من جهة تحرير الشيء، فالوزن من أمثلته الكيلو غرامات الموجودة الآن. فالشيء إما أن يباع كيلاً أو يباع وزناً أو يباع عدداً كالبطيخ، تقول: بكم هذه الحبة؟ وكذلك السيارات فإنك لا تكيلها ولا تزنها، وإنما تنظر إلى أعدادها. ونمثل بالأشياء الموجودة حتى يكون الضبط أبلغ، وإلا ففي القديم يقولون: كالإبل والبقر والغنم، هذه معدودات، فإن الإبل لا تباع وزناً ولا تباع كيلاً وإنما تباع بالعدد، فتقول: بكم هذه الناقة؟ أريد ناقة ناقتين ثلاثاً أربعاً فيرجع في بيعها إلى الأعداد، كذلك في زماننا هذا السيارات تعتبر معدودة. وأما المذروع فيشمل الأقمشة، وأيضاً يكون في العقارات مثل بيع الأرض، كل ذلك يعتبر من المذروعات، والذرع يكون لتقدير الأطوال والمساحات. فإذا باع الإنسان إما أن يبيع كيلاً أو وزناً أو عدداً أو ذرعاً، فالشيء إذا كان من جنس ما يكال وجبت فيه الزكاة إذا كان من الزروع والثمار، وأما إذا كان يباع بالعدد أو بالوزن مثل البرتقال، فإنه يباع بالعدد فتبيعه بالحبة، وتبيعه بالوزن، تقول: أعطني كيلو غراماً، فلا تبيعه كيلاً، وإنما تبيعه إما وزناً وإما عدداً، فهذا ليس من جنس ما تجب فيه الزكاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدد للزروع والثمار نصابها بخمسة أوسق، فكأنه نبه حينما قال: (ليس فيما دون خمسة أوسق) أنه إذا لم يكن مكيلاً أنه لا زكاة فيه، فلو سألك سائل وقال: عندي أرض أزرعها بكراث أو فجل أو نحو ذلك من البقول والخضروات؟ فلتقل: هذه لا تجب فيها الزكاة؛ لأنها ليست من جنس المكيلات، وإنما هي إما من جنس المعدودات أو من جنس الموزونات، وعلى هذا لا تجب فيها الزكاة، ومثلها ما كان من هذا النوع من الزروع. وكذلك ما كان يباع بالوزن كالبرتقال والتفاح والموز، فهذا لا تجب فيه زكاة، فلو سألك إنسان عن أرض يزرع فيها التفاح والبرتقال أو الليمون أو نحو ذلك مما لا يكال، فلتقل: هذا لا تجب زكاته؛ لأن الزكاة مخصوصة بما يكال.

نصاب زكاة الزروع والثمار

نصاب زكاة الزروع والثمار قال رحمه الله: [ويعتبر بلوغ نصاب قدره ألف وستمائة رطلٍ عراقي]. أجمع العلماء رحمة الله عليهم أن للحبوب والثمار نصاباً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن ذلك في الحديث الصحيح عنه بقوله: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) فهو صلوات الله وسلامه عليه يبيّن أن الخمسة الأوسق هي نصاب الزروع والثمار، فما بلغ الخمسة وزاد عليها تجب فيه الزكاة، وما كان دون ذلك فإنه لا زكاة فيه، وعلى هذا فقد رتب المصنف الأفكار، فابتدأ رحمه الله ببيان النوع الذي تجب زكاته من الزروع والثمار، وهو ما يكال، على التفصيل الذي ذكره من جهة الاقتيات والادخار واشتراط كلٍّ أو عدمه، وبعد أن بيّن لك أنه من جنس ما يكال شرع في بيان الحد الآن عرفت النوع الذي تجب زكاته، فورد Q ما هو الحد الشرعي الذي يطالب المكلف بالزكاة إن بلغ ما يملكه من الحبوب والزروع والثمار مبلغه؟ تقول: هو خمسة أوسق، فإن زكاة الحبوب والثمار محدودة بهذا الحد، فلا نقول لكل من ملك حبوباً وثماراً: زك ما عندك، وإنما ننظر في الذي يخرج من زرعه، فإن بلغ الخمسة الأوسق أوجبنا عليه الزكاة، ولو نقص عنها ولو يسيراً لم تجب عليه الزكاة، فلو كان عنده أربعة أوسق فقط، لم تجب عليه الزكاة. والوسق: ستون صاعاً، والصاع أربعة أمداد، والمد هو ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، فعندنا صاع، وعندنا مد، فالصاع النبوي الذي كان في زمانه عليه الصلاة والسلام يسع أربعة أمداد، والمد هو ملء الكفين المتوسطتين -يعني: ليستا بكبيرة ولا صغيرة، وإنما الكف المتوسطة- لا مقبوضتين لأنه يقل المحمول، ولا مبسوطتين لأنه ينتشر، وإنما يكون بالوسط، فهذا القدر إذا وضعته يعادل المد، فإذا عادل المد فإن أربعة منه تعادل الصاع. وهذا القدر الذي ذكرنا أنه المد هو الذي كان يتوضأ عليه الصلاة والسلام بقدره كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع) الصاع: أربعة أمداد، فيصبح المد هو ربع الصاع، فإذا قيل لك: ربع صاع أو قيل لك: مد نبوي فالمعنى واحد، ولا يزال الصاع موجوداً إلى زماننا هذا في المدينة يتوارثه الأصاغر عن الأكابر ويعتبر حجّة، ويحرّر فتأخذ الصاع من الصناع ثم تذهب إلى إنسان أخذ صاعه عن إنسان حرّره عن طريق أهل الخبرة، وبهذا تعلم القدر الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يكال به من هذا الجنس من المكيلات. فستون صاعاً من هذا الصاع النبوي تعادل الوسق، فالخمسة أوسق تساوي ثلاثمائة صاع، فقدر ثلاثمائة صاع هو الذي أوجب الله فيه الزكاة؛ فلو كان يملك مائتين وتسعين صاعاً أو مائتين وتسعة وتسعين صاعاً لم تجب عليه الزكاة حتى يبلغ هذا القدر بعد تصفيته وحصاده كما سيأتي إن شاء الله تعالى. والأصل في هذا التحديد السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) وبناءً على ذلك قال العلماء: إنه يرجع فيه إلى الكيل، وقد كان الوزن موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعتبر الوزن، وننبه على أن المكيلات لا تضبط بالوزن، فالتمر لا يمكن أن تضبطه بالوزن، توضيح ذلك: لو أخذت صاعاً من تمر العجوة مثلاً وأخذت صاعاً من تمر الصفا -وهو نوع آخر- أو تمر الحلوة أو الربيعة، فإنك لا يمكن أن تجدهما في وزن واحد، فإن العجوة أثقل من الحلوة، والحلوة أخف، ولو أخذت نوعاً ثالثاً كالعنبر، فإنك تجده أخف من الحلوة؛ فلو جئنا نقول: الصاع يعادل أربعة كيلو غرام، فهل يعادل من العجوة، أو يعادل من العنبر، أو يعادل من الحلوة؟ ولذلك قالوا: إنه لا يجوز بيع المكيل بالوزن؛ لأنه إذا بيع بالوزن لم تتحقق المماثلة التي اشترطها النبي صلى الله عليه وسلم في الربويات كما سيأتينا إن شاء الله في كتاب البيوع، وقد نبّه على هذه المسألة الإمام ابن قدامة رحمة الله عليه في المغني وغيره من الأئمة أن المكيلات لا تضبط بالوزن؛ لأن المكيلات العبرة فيها بالحجم، فقد يكون حجمها كبيراً وتسع فراغاً من الصاع بحيث لو وزنتها يكون وزنها خفيفاً، وقد تجد منها ما هو صغير الحجم ثقيل الوزن، فالعجوة صغيرة الحجم ثقيلة الوزن، والعنبر كبير الحجم خفيف الوزن، ولذلك لا ينضبط فيها الوزن. ثم إذا جئت تضبط الحبوب بالوزن تجد أنها يختلف بعضها مع بعض من حيث الجودة والرداءة، ولذلك تجدهم إذا ضبطوها بالوزن قالوا: كذا كذا (كيلو غرام) من البر الجيد أو من الشعير الجيد، والجودة أمير غير مستقر؛ فقد يكون جيداً في نظرك وليس جيداً في نظري، وقد يكون جيداً في عرف بلد ولكنه ليس بجيد في عرف بلد آخر، فالمكيلات لا تضبط بالوزن، ولذلك يحرِّر العلماء المكيلات بالكيل؛ لأن الشرع قصد الكيل فيها، وأما الموزونات فإنها تضبط بالوزن، وبناءً على ذلك لا تضبط الزكوات بالكيلو غرام، وإنما تضبط بالصاع، وإذا قلنا بلزوم ضبطها بالآصُع، وأكدنا على ضرورة ذلك ينبغي على طالب العلم أن يعلم، فإن هذا فيه إحياء للسنة؛ لأن الناس أصبحت تجهل الآصُع، ففقه الفتوى وفقه الفقه أننا نبقي الناس على هذا الأمر المسنون، فإن الناس قد نسوا الصاع، حتى أنك لو قلت لرجل في فدية الحج: عليك -مثلاً- ثلاثة آصُع تطعمها ستة مساكين، لم يدر ما الصاع، فإذا قلت له بالكيلو غرامات يدري، فعلى هذا تفوت السنة وتضيع، ومن هنا لزم رد الناس إلى الأصل وإحياء السنة، وهكذا في زكاة الفطر، فلو رد الناس إلى الكيلو غرامات فإنه يأتي زمان لا يضبطون الصاع، وقد يقرأ الرجل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرضية زكاة الفطر صاعاً فيقول: أي شيءٍ هذا الصاع؟! ولذلك ينبغي إحياء هذه السنة، وكان العلماء رحمة الله عليهم يقولون في حديث الصحيحين لقوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم بارك لنا في مُدِّنا وصاعنا) فلا ينبغي ترك المد والصاع لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم فيهما بالبركة. فإذاً لا بد من فقه الفقه أن تبقى هذه المكيلات، وأن تُحيا حتى يربط الناس بها، ويعرف الناس بها السنة، والكفارات ونحوها مما أوجب الله عز وجل لا يمكن ضبطها إلا بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يُصار إلى الكيلو غرامات ما أمكن، ومن ضبطها بالوزن فله ضبطه واجتهاده، ولكن الأصل من جهة إحياء السنة وبقائها بين الناس والمعروف في نصوص العلماء أنه ينبغي التأكيد على الكيل، ولذلك إذا قيل: إنها تعادل ثلاثة كيلو غرامات ونصفاً أو أربعة على اضطراب في هذا التقدير، فإذا قيل: إنها تعادل ذلك من الحب فحينئذٍ يرد السؤال: كم تقديرها من التمر؟ لو أراد أن يخرج الزكاة من التمر، وحينئذٍ لا يمكن للناس أن يصلوا إلى حد معيّن بالوزن. ثم انظر إلى الكيل فإن الكيل إذا جئت تضع الحب فإنه ينتشر ولا يثبت على الصاع؛ لأن الصاع يملأ حتى ينتشر ويتساقط، وهذا الانتشار يختلف؛ وذلك يؤثر في الوزن قطعاً، والذين يضبطونه بالوزن يغتفرون هذا التأثير، ويقولون: هو يسير مغتفر، ولكنه قد يكون مغتفراً لو اضطررنا إليه، وليس هناك ضرورة إلى الصيرورة إلى الوزن ما دام أن الشرع قصد الكيل. وخلاصة الأمر: ما دام أن الشرع حد الكيل فيما يكال مع وجود الوزن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ينبغي البقاء إحياءً لهذه السنة، وعلى هذا فلا يُلتفت إلى التقدير بالكيلو غرام، وإنما يقال كما قال العلماء والأئمة رحمة الله عليهم: إن الزكاة تجب في قدر ثلاثمائة صاع نبوي، وهذا هو الحد الذي تضبط به الزكاة وهو المعتبر.

وجوب ضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض لتكميل النصاب

وجوب ضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض لتكميل النصاب قال رحمه الله: [وتضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض في تكميل النصاب لا جنس إلى آخر]. (وتضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض) فلو زرع في نصف العام حباً، ثم زرع في نصفه الثاني حباً وجئنا ننظر إلى النصف الأول وإذا به قد بلغ مائتين صاع، والنصف الثاني قد بلغ مائة صاع، فإذا نظرت إلى زرعه الأول أسقطت عنه الزكاة، وإذا نظرت إلى زرعه الثاني مجرداً أسقطت عنه الزكاة، لكن ينبغي ضمهما إلى بعضهما؛ لأنهما في حكم الزكاة الواحدة في العام الواحد، وعلى هذا فالمعتبر أن يزرع في نفس العام، لكن لو زرع مثلاً في أواخر حزيران من العام الماضي، لأن الشهور الشمسية ينضبط بها الزراعة، ولذلك يقول الفقهاء: إذا زرع في حزيران، فلو زرع حباًَ في حزيران وحصد، ثم لما كان من العام القادم زرع في حزيران حباً بحيث لو نظرنا إلى زرعه العام الماضي وزرعه السنة، كل زرع مستقل لا تجب فيه الزكاة ولو ضممناهما وجبت، نقول: لا يضم؛ لأن زرع العام منفصل عن زرع السنة، ولكل سنة زرعها، فيشترط في ضم الثمرة أن تكون في نفس العام، كذلك أيضاً في النخيل، النخل يُطلِع مرة واحدة في السنة، ولكن إذا وضع الله فيه البركة، فإنه يطلِع مرتين، وفي بعض المناطق قد يطلِع مرتين إما لرِيِّه أو لحسن جوِّه، وهذا أمر يقع في بعض المناطق، كما ذكر عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم بارك له في ماله وولده)، وفي رواية (أكثر ماله وولده) فأُعطي كثرة الولد وكثرة المال، فمما ذكروا في ماله أنه كان له نخل يطلِع مرتين في العام، وهذا من غرائب ما يكون، فإن النخل يطلِع مرة واحدة في السنة كما هو معلوم. فإذا أطلع النخل مرتين ضم طلعه الأول إلى طلعه الثاني، ثم إن النخل نفسه يختلف، فالنخل بحكمة الله عز وجل إذا جاء فصله وزمانه الذي يكون فيه نضج ثمره، فإنه يختلف في النضج فشيءٌ منه ينضج في أول الصيف، وشيءٌ منه ينضج في منتصف الصيف، وشيءٌ منه ينضج في آخر الصيف، ثم الذي ينضج في أول الصيف يأكله الناس بسراً أو يأكلونه رُطباً، وأوساط الصيف غالباً يكون رطباً، وآخر الصيف يكون تمراً، فمن حكمة الله سبحانه وتعالى حتى يبين لعباده عظيم فضله عليهم وعظيم منته عليهم، فتجد الذي يؤكل في أول الصيف لا تستسيغ طعامه في منتصف الصيف، والذي يؤكل في منتصف الصيف لا تستسيغ طعامه في آخر الصيف، بل ربما يكون الإنسان قد أكل الثمرة أمس، فإذا طلع سهيل ثم جاء يأكلها اليوم يجد طعمها مختلفاً تماماً، حتى لا يجد لها النكهة التي وجدها أمس، وهذا دليل واضح على عظمة الله عز وجل، وأن لهذا الكون خالقاً سبحانه وتعالى، فمن حكمة الله عز وجل أن ثمر النخيل لا ينضج مرة واحدة وإنما ينضج متتابعاً على الترتيب، فشيءٌ في أول الزمان، وشيءٌ في أوسطه، وشيءٌ في آخره. فبالنسبة للثمرة فإن الإنسان قد يجذ الذي يكون في أول الصيف بعد تمامه ولم ينته الصيف بعد، ثم يجذه أوسطه، ثم يجذه آخره، فيُضم كل هذه الأنواع بعضها إلى بعض، ولا تقل: إنني أعتبر كل نوع على حدة، وأعتبر النصاب ثلاثمائة صاع لكل نوع على حدة، فلو نظرت إلى نوع منه يؤكل بُسراً في أول الصيف، ونوع منه يؤكل رطباً، ونوع منه يؤكل تمراً، فلا تفصل بعضه عن بعض، وإنما تضمها لأنها ثمرة عام واحد، فترى زكاتها العام الواحد، وترى أن بعضها يُضم إلى بعض حتى يصير الجميع نصاباً فتجب فيه الزكاة أو يكون دون النصاب فلا تجب فيه الزكاة.

أصناف الحبوب والثمار لا يضم بعضها إلى بعض في الزكاة

أصناف الحبوب والثمار لا يضم بعضها إلى بعض في الزكاة قوله: [لا جنس إلى آخر]. لو كان عنده حبوب جنس البر والشعير مثلاً، فإنه لا يضم البر إلى الشعير، ولا يضم الأرز إلى البر، وإنما ينظر لكل جنسٍ على حدة، واختلف في البر والشعير، وأصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم أنهما نوعان منفصلان، ودلت السنة على ذلك، ففي الحديث الصحيح عن عبادة الصامت رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، وموضع الشاهد في قوله: (إذا اختلفت هذه الأصناف) فأجاز لنا بيع البر بالشعير متفاضلاً، بشرط أن يكون يداً بيد، وذهب بعض السلف كما هو مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس، وكان يقول به معمر بن عبد الله الصحابي، يقول: إن البر والشعير بمثابة النوع الواحد؛ لحديث معمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام إلا مثلاً بمثل) وفسّره الراوي وهو معمر بالشعير بالبر، وجعلهما نوعاً واحداً، ولكن الصحيح أن معمر رضي الله عنه جعل البر والشعير بمثابة النوع الواحد التفاتاً للعموم في قوله: (الطعام بالطعام) وهذا الالتفات جاء ما يفسره ويبينه في قوله في حديث عبادة الذي ذكرناه: (البر بالبر والشعير بالشعير) وهو آكد وأبين في فصل كل منهما عن الآخر. يستفاد من هذا أنه لو كان عنده مائة صاع من البر ومائتان من الشعير، فإن قلت: هما نوع واحد؛ وجبت عليه الزكاة؛ لأنهما يُضمان إلى بعضهما، وإن قلت: إنهما نوعان مختلفان، لم تجب عليه الزكاة؛ لأن البر نوع والشعير نوع، ولم يكتمل النصاب في كل نوع على حدة، هذه فائدة هل نعتبر البر والشعير نوعاً واحداً، أو نوعاً مختلفاً؟ ولا يُضم جنس إلى جنس، فلا تقل: إذا كان عنده مائة صاع من الحب أُضيفها إلى مائتي صاع من التمر، وإنما ينظر إلى التمر على حدة وإلى الحب على حدة، والتمر نفسه أنواع بمثابة الجنس الواحد، فلو كان عنده الحلوة والعجوة والصفاوي كل واحد منها مائة صاع، فإنك تقول: أعتبرها نوعاً واحداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والتمر بالتمر) ولم يفصِّل، فدل على أن التمور كلها بأنواعها بمثابة النوع الواحد، بناءً على ذلك لو كان عنده مائة صاع تمراً من نوعٍ من أنواع التمور وعنده نوع ثان مائة صاع، ومن نوع ثالث مائة صاع، وجبت عليه فيها الزكاة، لأنها بمثابة النوع الواحد.

اشتراط ملكية النصاب وقت وجوب الزكاة

اشتراط ملكية النصاب وقت وجوب الزكاة قال رحمه الله: [ويعتبر أن يكون النصاب مملوكاً له وقت وجوب الزكاة]. هذا أمرٌ لا بد منه للحكم بلزوم الزكاة عليه، ووقت الوجوب هو وقت بدو الصلاح. وتوضيح ذلك: أن نقدم بمقدمة يتصور الإنسان بها حقيقة بعض الثمار والزروع. النخل -مثلاً- يمر بمراحل، فمن حكمة الله عز وجل أن النخل أول ما يكون منه في ثماره الطلع، والطلع: كيزان تحمل ثمرة النخلة، هذا الطلع يكون أول ما يبدو في زمان معين من السنة، يخرج ذلك الكيس الخشبي الذي بداخله الثمرة المخلوقة بقدرة الله عز وجل، مرتبة منظمة حتى أنك لو فتشت هذا الكيس تعجب من بديع صنع الله عز وجل في ترتيبها ودقتها وتناسقها، فإذا كنت تعجب من كيس واحد، فكيف بهذه البساتين التي تحمل البلايين بل بلايين من هذه الأكيسة بنظام بديع غريب يدل على عظمة الله جل جلاله؟! فإذا خرج هذا الطلع يكون تقريباً في الغالب في حجم الذراع، على هذه الصورة، يخرج شيئاً فشيئاً في جذع النخلة، من أعلاها بين الجريد الذي لم ييبس، وهو قلب النخلة كما يسميه العامة، وفي ذلك حكمة، فلو خرج في جذع النخلة من أسفل لانكسر؛ لأنه لا يجد ما يحمله، وإنما يكون في قلبها في أعلاه حتى يكون على الجريد، ويحمله الجريد بقدرة الله عز وجل، فإذا عبثت به الرياح أو ثقل وزنه مع الزمان لم ينكسر، وهذه من حكمة الله جل جلاله، فإذا خرج هذا الكيس يتشقق وذلك في زمان مناسب حتى أنك في زمان البرد تجد أسابيع معينة يكون فيها شيء من سكون الهواء وحرارة الجو حتى تخرج هذه الكيزان، مع أنك في فصل من الفصول الباردة، فإذا خرجت هذه الكيسان تشققت، فبداخلها الثمرة، يأتي الفلاح ويأخذ طرفي الكيس الخشبي ويقطعهما وتخرج الثمرة التي هي العرجون بشماريخه، فهذا العرجون بشماريخه تجد فيه حبات التمر، الواحدة تلو الأخرى منظمة مرتبة على أحسن ما أنت راءٍ من تنظيم وترتيب، وتبارك الله أحسن الخالقين، فيأتي الفلاح ويأخذ من الذكور؛ لأن النخل فيه الذكر وفيه الأنثى، فالذكور تطلع كيزان مثل كيزان الإناث، ولكن فيها اللقاح، وهذا اللقاح يؤخذ ثم يغبَّر به تلك الثمرة الخارجة في الكيس الذي ذكرناه، فيلقح الفلاح، فتأتي مرحلة ثانية وهي التي تسمى بالتأبير، وفيها أحاديث ينبغي لطالب العلم أن ينتبه لها؛ كحديث عبد الله بن عمر: (من باع نخلاً قد أُبِّرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع)، فهذه مرحلة التأبير، وتترتب عليها أحكام شرعية، ومرحلة التأبير هي التي ورد فيها حديث المدينة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم على أهل المدينة وجدهم يؤبِّرون النخل، فأمرهم أن يتوكلوا على الله، فتركوا الثمرة ولم يؤبروها ففسدت، فقال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) فهذه مرحلة التأبير. بعد التأبير تكون هناك فوق الشهرين مرحلة تسمى مرحلة العقد، مثل أيامنا هذه، فتبدأ الحبة تكبر؛ لأنها في بدايتها تكون قريبة من حبة الذرة، فهذه الثمرة التي تأكلها في نهاية العام والتي قد تبلغ في حجمها الإصبع الكامل، تكون بعد التأبير بقدر أصغر من حبة الذرة، فهذه الحبة الصغيرة تكبر شيئاً فشيئاً مع مرور الزمان بما يزيد على الشهرين، حتى يكتمل حجمها المعتاد وهي خضراء، فإذا اكتمل حجمها المعتاد، ضربها اللون بقدرة الله عز وجل، فاصفرّت أو احمرّت على حسب ما جعلها الله عز وجل من ذلك النوع، هل هو أحمر أو أصفر، {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} [النحل:13]؛ لأن اختلاف الألوان يدل على وجود الخالق، لأنه لو كانت الأمور طبيعية كما يقول أهل الطبيعة: أن الحياة وجدت صدفة، لكان كله أحمر أو كله أصفر، ولكن هذا أحمر، وهذا أخضر، وهذا أصفر، يدل على وجود من غيّر هذه الألوان، وهو سبحانه {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]. وهذه المرحلة -مرحلة اللون- تسمى في الشرع بالإزهاء، وهي التي ورد فيها حديث أنس في الصحيحين: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى تزهو، قالوا: يا رسول الله! وما تزهو؟ قال: تحمارُّ أو تصفار) وهي مرحلة الإشقاح، ومرحلة بدو الصلاح، كما ورد في الأحاديث: (نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها)، (نهى عن بيع الثمرة حتى تزهو)، (نهى عن بيع الثمرة حتى تشقح) فهي مرحلة اللون، ويكون اللون أحمر أو أصفر. بقي إشكال وهو: إذا كانت الثمرة لونها أخضر مثل النوع الذي يسمى بالخضري، يبقى أخضر، كيف يعرف صلاحه؟ قالوا: بالطعم؛ فإنه إذا جاء وقت بدو صلاحه صار حلو الطعم بعد أن كان مر الطعم، وهذا هو الذي عناه حديث ابن عباس في الصحيح: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر حتى تؤكل أو يؤكل منها) فردّ إلى الطعم، فهذه مرحلة بدو الصلاح، ولها ضوابط عند العلماء رحمة الله عليهم، فتكون باللون، وتكون بالزمان وهو طلوع الثريا، وفيه حديث أبي هريرة عند الطبراني وغيره وابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى يطلُع النجم، وتؤمن العاهة) وهو الثريا كما فسّره ابن عمر، وهذا التفسير أشار إليه الطبراني في معجمه الأوسط والصغير، وقال: إنه طلوع الثريا، وذلك لاثنتي عشرة خلت من مايو أيار. الشاهد: هذه المرحلة تسمى مرحلة بدو الصلاح، وهي المرحلة التي يحكم فيها بوجوب الزكاة، فلو أن الإنسان في هذه المرحلة كان غير مالك للثمرة، فإنه لا تجب عليه الزكاة، وينظر في تقدير فائدة هذا الحكم الذي ذكره المصنف رحمة الله عليه ما يترتب عليه من الحكم بإيجاب الزكاة. بعد هذه المرحلة وهي مرحلة بدو الصلاح تأتي مرحلة البُسر والبلح، فإذا ضربه اللون صار بُسَراً كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لما جاء إلى الصحابي وجز له عرجون نخل، قال: هلا أتيتنا من ثمره! قال: إنما أردت أن تتخير من بُسره ورُطَبه وتمره). فهذه مرحلة البُسر، يؤكل بعض الثمر الذي يكون من النخل، بعضه يؤكل بلحاً، ولا تستسيغه إلا بلحاً، وبعضه يؤكل رطباً. وبعد أن يصير بلحاً تمر عليه فترة الشهر والنصف وزيادة؛ يبدأ يذبل آخر الثمرة، ثم يذبل قليلاً قليلاً؛ ربع الثمرة ثم نصفها ثم ثلاثة أرباعها حتى يكتمل ترطيبها، فهذه المرحلة تسمى بمرحلة الرُّطَب، ثم تأتي المرحلة الأخيرة وهي مرحلة التمر، ويسميها العلماء بمرحلة الصرام؛ لأنه يصير كالصريم وعندها يستوي كمال الاستواء. هذه مراحل ثمرة النخل والذي يهمنا منها مرحلة بدو الصلاح، فلو أن هذه المرحلة وهي مرحلة بدو الصلاح كان النخل في ملك غيرك، ثم صار إلى ملكك بإرث ونحوه لم تجب عليك الزكاة، وإنما وجبت في ملك الغير. أوضح هذه المسائل: لو أن رجلاً كان له بستان فيه نخل، فلما بدا الصلاح توفي الرجل، وترك ابنين، الابنان يقسم البستان بينهما مناصفة، لهذا نصفه ولهذا نصفه، فلو فرضنا أن هذا البستان فيه ثلاثمائة صاع التي هي النصاب، فإذا قلنا: إن البستان في ملك الميت وجبت الزكاة؛ لأن النصاب كامل، وإذا جئنا ننظر إلى ملكية الابنين فقد ملك كل منهما مائة وخمسين صاعاً دون النصاب، فحينئذٍ يقولون: العبرة بوقت بدو الصلاح، إن جاء وقت بدو الصلاح والرجل لم يمت، فحينئذٍ الزكاة واجبة عليه، وتخرج من ماله وتركته قبل قسمة البستان، وإن جاء وقت بدو الصلاح كأن يكون أبّر النخل ثم توفِّي قبل بدو صلاحه، فحينئذٍ البستان في ملك الابنين، ولا تجب فيه زكاة؛ لأنه قد جاء وقت الوجوب ولم يملك كل منهما النصاب، هذه فائدة وقت بدو الصلاح. بالنسبة للحبوب والزروع الأخرى، ما هي علامة بدو الصلاح؟ لبدو صلاح الحب علامات: منها الاشتداد كالحب، فالحب علامة بدو الصلاح فيه أن يشتد، وفي حديث مسلم: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتد) وذلك: أن الحب أول ما يكون في خلقه يكون ليناً، وتكون خلقته لينة حتى إنك لو ضغطت بإصبعك على الحبة لخرج ماؤها، ثم تبدأ تشتد شيئاً فشيئاً حتى يكتمل اشتدادها، فإذا اشتدت واكتمل اشتدادها فتلك مرحلة بدو الصلاح، فمن باع النخلة قبل الإزهاء الذي هو اللون، أو باع الحب قبل أن يشتد فبيعه باطل ولا يجوز، فهذا الوقت وهو وقت اشتداد الحب، ولون ثمرة النخيل هو الحد الذي يفصل فيه لجواز البيع وعدمه، وهو الحد الذي يفصل فيه في ملكية الثمرة ووجوب الزكاة وعدم وجوبها. يقول العلماء: هناك علامات كثيرة لبدو الصلاح: أولها: اللون كما في النخل يحمار ويصفار. ثانياً: أن يكون شديداً بعد لينه، كالبر والشعير فيشتد بعد اللين. العلامة الثالثة: أن يلين بعد الشدة كالتين، فإن التين يكون شديداً أول ما يكون فإذا بدأ يلين بدا صلاحه، فهو عكس النوع الذي قبله، وألحق بعض العلماء بهذا النوع الثالث البطيخ عند بيعه، طبعاً ليس في البطيخ زكاة؛ لأنه ليس من جنس ما يكال، لكن في البيع يشترطون أن يلين؛ لأن البطيخ إذا بدا صلاحه لان، أما إذا كان شديداً فإنه لم يطب ولم يكن صالحاً لأكله. العلامة الرابعة: أن يكتمل حجمه بعد صغره، أي: يبدأ يكبر حجمه حتى يكتمل كالطماطم والباذنجان ونحوها، هذه علامة صلاحها. العلامة الخامسة: أن يكتمل طوله بعد قصره كالقثّاء والخيار ونحوها، فتحكم بجواز البيع إذا اكتمل حجمه. والعلامة السادسة: أن يحلو بعد مرارته كقصب السكر، فإن علامة بدو الصلاح فيه أن يكون حلواً بعد أن كان مراً. والعلامة السابعة: أن يتفتح من أكمامه فبعض الزروع يكون، بدو صلاحها عند بداية تفتحها كبذر القطن إذا ابتدأ تفتحه فهو علامة صلاحه، أو يكتمل التفتح كما في الورد إذا بيع بقصد الانتفاع به في مطعم ونحوه. هذه علامات بدو الصلاح؛ يترتب عليها أحكام في الزكاة، وتترتب عليها أحكام في البيوع، كما سيأتينا إن شاء الله في بيع الأصول والثمار، ولا بد لطالب العلم أن يلم بمثل هذه الأمور. ونحن ننبه إلى مسألة مهمة، وهي: أن من عادة فقهاء الإسلام رحمة الله عليهم والأ

لا تجب الزكاة فيما يكتسبه اللقاط أو يؤخذ كأجرة على الحصاد

لا تجب الزكاة فيما يكتسبه اللقاط أو يؤخذ كأجرة على الحصاد قال رحمه الله: [فلا تجب فيما يكتسبه اللقاط أو يأخذه بحصاده]. اللقاط: هو الشخص الذي يلتقط الثمار من تحت النخيل، من عادة الناس في القديم أنهم يتركون للضعفاء والمحتاجين إذا دخلوا البساتين أن يلتقطوا ما يتساقط من الثمر؛ لأن النخل إذا حمل تمره أو رطبه تتحرك به الرياح، فبتحرك الرياح يسقط شيء من هذا الثمر والرطب رزقاً قد ساقه الله عز وجل لهؤلاء الضعفاء، وكان من سنة الخلفاء الراشدين وقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه إذا دخل أحد إلى بستانك أو كنت في طريق في سفر، فمررت ببستان، جاز لك أن تأكل ما تساقط من ثمره بدون إذن صاحبه، لكن بشرط: أن لا تتمول، ولذلك قالوا: إنه لا يجوز له أن يرقى فيجني ولكن يأخذ ما تساقط، ففي هذه الحالة لا يُتعرّض للإنسان غالباً إذا أخذ هذا الشيء، فلو أن إنساناً يمر على البساتين، ويلتقط ما تساقط فبلغ الذي التقطه حد النصاب ثلاثمائة صاع، فهل تجب عليه الزكاة؟ A لا؛ لأنه بدا صلاح هذا الملتقط وليس في ملكه، وإنما في ملك غيره، فلا تجب عليه الزكاة. [أو يأخذه بحصَاده]. هذه مسألة فيها خلاف، عندك ثمر من النخيل مثلاً أو حبوب، فمن عادة المزارعين أنهم يستأجرون أناساً للحصاد وللجَذاذ، فعندك مائة نخلة وقال لك رجل: أنا أجُذُّ لك هذه المائة نخلة وآخذ منك مائة صاع، أو آخذ منك خمسين صاعاً، فهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، وهي من مسائل الإيجار. بعض العلماء يقول: لا يجوز أن تستأجر الأجير بجزءٍ من عمله؛ لأنه غرر، وتوضيح ذلك: أنه إذا قال له: جذ لي النخل وخذ منه مائة صاع، فإن المائة صاع متوقفة على الجذاذ، ويكون أخذه من عمله، ولذلك قالوا: إنه لا يجوز له ذلك، واحتجوا بحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل وقفيز الطحّان) وهذا الحديث ضعيف، ووجه قفيز الطحان قالوا: نهَى عنه؛ لأن الطحان سيطحن، سيقول له: اطحن لي هذا الحب وخذ منه نصف صاع أو خذ منه نصفه، فقفيز الطحان بمعنى: اطحن وخذ من طحنك، قالوا: لا يجوز، ومن أمثلتها: أن يقول له: اذبح الشاة وخذ جلدها، قالوا: لأننا لا ندري هل يخرج الجلد ثخيناً أو رقيقاً، وهل يسلم الجلد أثناء سلخه من الكشط والقد أو لا يسلم، ولذلك قالوا: هي إجارة غرر، فلو كان الحديث ضعيفاً فإن الأصول تقتضي منعها لوجود الغرر، وبناءً على ذلك قالوا: لا يستأجر الأجير بجزءٍ مما يقوم به، وإنما يُستأجر بمنفصلٍ عنه، وعلى هذا لا يصح هذا النوع من الإجارة. هناك قول آخر يقول: يجوز أن يستأجر الأجير بجزءٍ من عمله، وعلى هذا يقولون: يصح أن يقول له مثلاً: خذ السيارة واعمل بها يوماً وخذ مما تخرجه مائة ريالاً، ونحو ذلك من المسائل التي ذكرناها مثل مسألة قفيز الطحان، ومثل مسألة إجارة السلاخ بالجلد، وكذلك مسألتان، فإنه يقول له: جذ لي النخل وخذ ربع الجذاذ، واحصد لي الحب وخذ مائة صاع، فهذه إجارة بجزء من العمل. فقالوا: على القول بالجواز يصبح في هذه الحالة لو جذَّ النخل أو الحب وكان جذذه بثلاثمائة صاع، فمع أنها بلغت النصاب، لا تجب عليه الزكاة؛ لأن هذه الثلاثمائة وإن كانت قد بلغت النصاب قد جاء وقت وجوب الزكاة فيها وقد خوطب بها الغير، فلا تزكى مرتين، وإنما تزكى مرة واحدة، وذلك من المالك الحقيقي لها. [ولا فيما يجتنيه من المباح كالبرطم والزعبل وبزر قطونا ولو نبت في أرضه]. أي: حبوب المزروعات التي تنبت بنفسها، والمباحات التي تنبت بنفسها (الناس شركاء في الماء والكلأ والنار) ما ينبت من المباحات كالأعشاب ونحوها، هذه الناس فيها سواء، لذلك يقال لها إنها من المباحات، فإذا نبتت بنفسها في مزرعة، مثلاً: لو أن إنساناً كانت له أرض ثم هذه الأرض أرسل الله عليها المطر، فأنبتت عشباً، ولهذا العشب منه ما هو حب مثلما ذكر الزعبل والبرطم؛ وهي الحبة الخضراء، أنبتت نوعاً من الزروع التي لها حبوب وبلغت النصاب ثلاثمائة صاع، فهل نوجب فيها الزكاة؟ قالوا: هذا من جنس المباحات، ليس مما للمكلف فيه سعي، وإنما هو من جنس المباحات التي يملكها سائر الناس، فلا تجب في مثلها الزكاة، والسبب في هذا أنهم قالوا: إنه يبدو صلاحها وهي ليست ملكاً لأحد، وإنما يملكها بالجذ، فإذا جذها ملكها؛ لأن العشب والماء والنار مباحات لا تملك إلا بالقبض؛ مثلاً: لو أن الله عز وجل أنبت العشب في مكان، فليس من حق أحد أن يقول: هذا العشب لي، إلا إذا نبت في أرضه، أما لو نبت في مكان فملكيته تكون بعد الجني، ولأنه بدا صلاحه وليس ملكاً لأحد، فلا زكاة فيه، كما ذكرنا عن الأصل الذي قررناه. وقال بعض العلماء: إن نبتت في أرضه فهو ملكٌ له، ولذلك لا ينازعه أحد، فتجب فيه زكاة، وإن نبتت في غير أرضه فلا تجب عليه الزكاة؛ لأن الله أنبتها ولا مالك لها.

الأسئلة

الأسئلة

خرص الثمار والحبوب

خرص الثمار والحبوب Q في زكاة الحبوب والثمار هل في تحديد الخمسة أوسق لا بد من كيلها صاعاً تلو صاع، أم يكفي خرص أهل الخبرة، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإذا كان عندك نخل أو كانت عندك حبوب مزروعة، فالسنة أن يرسل الإمام الخارص على أصحاب البساتين عند بدو الصلاح في النخل. والخارص: هو الذي يخرص؛ من الخرص، والخرص: الظن والحدس والتخمين، والأصل في اعتبار الخرص ما ثبت في حديث عبد الله بن رواحة كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعثه إلى نخل خيبر يخرصُه؛ لأن نخل خيبر كان مناصفة بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود، نصفه لليهود ونصفه للمسلمين، فيحتاج أن يُخرص قبل أن يُجذ حتى يعرف كم للمسلمين وكم للعاملين والأجراء وهم الذين كانوا بخيبر. فالشاهد: أن هذا الخارص رجلٌ عنده خبرة، يذهب إلى النخيل وينظر في النخلة فيقول: هذه النخلة إذا جذت فسيكون بإذن الله فيها -مثلاً- ثلاثون صاعاً عشرون صاعاً عشرة آصع، بخبرته؛ لأنه مع الزمان والدربة والتجربة يستطيع أن ينظر في النخلة فيخرصها، وهذا شيءٌ أقرّه الشرع، فإذا نظر إلى النخلة حدد ما فيها، ثم ينطلق إلى الثانية والثالثة حتى يجمع ما للإنسان في نخله، وبعد أن يمر على البستان بكامله يقدِّر أن في هذا البستان تسعمائة صاع مثلاً، أو ألف صاع، فإذا قدّر ألف صاع يُسقِط منها الربع، والربع هذا سبب إسقاطه أن هناك ما يسقط بسبب الريح، وهناك ما يسقط بسبب الرقي على النخل، وهناك ما يأكله الطير، الذي هو نقر الطير، وهناك الهبة والعطية يهبها صاحب النخل، وهذه هي السنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الخرّاص أن يتجاوزوا في حدود الربع، فهذا الربع يُترك لصاحب المال، فيقدر بما دون ذلك، فيقول: هذا النخل فيه سبعمائة وخمسون صاعاً، لا يقول: ألف، مع أنها ألف صاع لكن يُسقط منها الربع إعمالاً لما ذكرناه من السنة الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه وصّى الخرّاص أن يُسقطوا هذا القدر؛ لأن في المال طعمة الطير، وفيه الساقط، وفيه الهبة والعطية ونحو ذلك، فهذا يعتبر في الخرص، أما أن ننتظر حتى يجذ ثم يكيل كل ما جذه فلا، وإنما يقدر قبل الجذاذ، وهكذا الحبوب تقدر وهي في سنابلها، ثم بعد ذلك إن جذ يطالب بإخراج القدر الواجب عشراً أو نصف عشر على التفصيل الذي سيأتي إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.

كيفية إخراج زكاة عروض التجارة

كيفية إخراج زكاة عروض التجارة Q بالنسبة للموزونات كالبرتقال والتفاح إذا كانت من عروض التجارة، هل تجب فيها الزكاة رغم أنها لا يحول عليها الحول، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإذا أدخل الإنسان مالاً لكي يتاجر به في الفواكه أو غيرها، فالعبرة بهذا المال، وتعتبر الأعيان المنتقلة من عروض التجارة، ولا يؤثر فيها كونها لا تبقى، فالعبرة بدخوله للمتاجرة بهذا المال، ويعتد بحول رأس المال الذي دخل فيه للتجارة، فلو كان عنده مائة ألف وأراد أن يدخل في بيع الفواكه، فإننا نقول: متى دخلت في بيعها؟ فإن قال: في أول محرم، نقول: حينئذٍ كلما جاء محرمٌ من كل عام، فانظر إلى ما عندك من عروض التجارة من الفواكه وغيرها وقدرة يساويه من القيمة، وزكه على الأصل المنضبط في عروض التجارة. وسيأتي إن شاء الله تفصيله وبيانه في موضعه، والله تعالى أعلم.

معنى التمول

معنى التمول Q قلتم: من مر ببستان فله أن يأخذ ما تساقط من الثمر، إلا أن يتمول، فما معنى قولكم: يتمول؟ A يقول بعض العلماء: يتمول أي: يأخذ معه، واغتفر بعض أهل العلم التموُّل وقال: إنه يجوز له أن يأخذ ما تساقط متمولاً أو آكلاًُ، يعني: يستوي أن يكون للأكل أو للتمول، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه -كما في الصحيح- كان له مالٌ في خيبر، فقال: يا رسول الله! إنها أحب مالي، فما تأمرني؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يوقفها وأن يحبس الأُصول وأن يتصدق بالثمرة، فتصدق بها على ابن السبيل غير متمول، يعني: أن لا يتمول منها، بمعنى: أن يأخذ بلغته وكفايته في طريقه ولا يأخذ ذلك على سبيل الارتفاق معه زائداً عن حاجته التي يأكلها أثناء الأخذ من تحت النخل، والله تعالى أعلم.

حكم الالتقاط من بساتين مكة

حكم الالتقاط من بساتين مكة Q هل يختلف الحكم في مسألة الالتقاط في مكة، أثابكم الله؟ A بالنسبة لمكة لا يختلف الحكم، من كان عنده بستان في داخل مكة ودخله إنسان يجوز له أن يأخذ؛ لأن هذا ليس باللقطة؛ لأنها في ملك الغير وصاحبها معروف، وهذا حكم شرعي أشبه بهبة شرعية في مال الإنسان، ليس لها علاقة باللقطة، اللقطة تكون مالاً ضائعاً لا يُعرف صاحبها، وأما هذا فهو مالٌ معروف وصاحبه معروف، وإنما هو حق واجب على الإنسان لأخيه المسلم عند وجود حاجته، والله تعالى أعلم.

حكم من مات وعليه زكاة ودين لا يكفي ماله لسدادهما معا

حكم من مات وعليه زكاة ودين لا يكفي ماله لسدادهما معاً Q إذا توفي رجل وعليه زكاة ودين، فأيهما يقدم إذا كانت التركة لا تكفي لسدادهما معاً، أثابكم الله؟ A هذه المسألة تُعرف بمسألة ازدحام الحقوق، فإذا ازدحم حق لله وحق للعباد، قدم حق المخلوق على حق الله عز وجل، وهذا من جهة أن الله عز وجل حقوقه مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة والمقاصة، وذلك أن الشريعة قدّمت حقوق الأنفس والآدميين على حق الله عز وجل، ولذلك إذا أصابت الإنسان المخمصة وهو في سفر أو في غربة أو في مكان ما، أصابته المخمصة فإن حق الله أن لا يأكل من الميتة، وقد حرم الله الميتة، فإذا خاف على نفسه جاز له أن يأكل منها إنقاذاً لنفسه، وأخذ العلماء من هذا وأمثاله من أحكام الشريعة أصلاً؛ وهو أنه إذا ازدحم حق الله وحق المخلوق قدِّم حق المخلوق؛ لأن المخلوق يطالب بحقه، والله عز وجل كريم يرحم عبده إذا ضاقت يده، أو فاته الوقت عن الأداء أو وُجد عنده العذر، ولذلك قالوا: إذا ازدحمت الزكاة والدين يقدَّم حق الدين على الزكاة، ويخرج من المال الديون، فإذا فضل فضل أخرج في زكاته، وهكذا إذا كانت عليه كفارات وحقوقٌ أخرى، فإنه يُخرج منها بعد أداء ديون العباد، والله تعالى أعلم.

حكم دفع المرأة زكاة حليها إلى زوجها

حكم دفع المرأة زكاة حليها إلى زوجها Q أريد أن أخرج زكاة الذهب والحلي الذي يلبسه أهلي، وأنا رجل عليَّ ديون، هل يجوز لي أن أسدد ديوني من مبلغ الزكاة، أثابكم الله؟ A بالنسبة لدفع الزكاة إلى الزوج فيها وجهان مشهوران لأهل العلم رحمة الله عليهم: فمن أهل العلم من يقول: يجوز دفع الزكاة من الزوجة لزوجها، لحديث زينب رضي الله عنها وأرضاها لما: استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر بلال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيُّ الزيانب؟ قال: امرأة عبد الله بن مسعود، ثم دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستفتته أنها تريد أن تتصدق، وأن أبناء عبد الله بن مسعود في ضيعة وحاجة، فأمرها أن تتصدق عليه، وأن الصدقة عليه لها فيها أجران: صلة الرحم، والصدقة. قالوا: إذا كان هذا أصلاً يدل على أنها إذا بذلت لزوجها أنها متصدقة، ولو كانت في النفل، فإنه يدل على أنه يجوز صرف الزكاة إلى الزوج، وبناءً على ذلك قالوا: يجوز أن تدفع المرأة زكاتها إلى زوجها، وهذا القول أقوى القولين. وقال بعض العلماء: لا يجوز للزوجة أن تدفع زكاتها لزوجها؛ لأنها ستستفيد من الزكاة؛ لأنه سينفق عليها. والذي يظهر كما ورد في السؤال أنه إذا كان الزوج مديوناً ومحتاجاً، ولم تحابه المرأة يجوز أن تدفع زكاة حليها إليه. والله تعالى أعلم.

كيفية إخراج زكاة العقارات

كيفية إخراج زكاة العقارات Q رجل لديه مال واستثمره في شراء العقارات من أراض وغيرها، وذلك بقصد المحافظة على رأس ماله من إنقاص الزكاة له، هل عليه شيءٌ في ذلك؟ وما الحكم إذا كان المال ليتامى، ويقصد بذلك المحافظة على مالهم كما هو، جزاكم الله خيراً؟ A هذا المال الذي يشتري به العقارات ويبيعها، إذا اشترى الأرض وعرضها للتجارة فالأرض تجب زكاتها إذا باعها، فلو اشترى أرضاً ومكثت عشرين سنة لم تبع ثم باعها بعد عشرين سنة فعليه أن يزكيها لسنة واحدة، وبهذا القول قال سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وكذلك قال به عروة بن الزبير وخارجة بن زيد بن ثابت، واختاره إمام دار الهجرة أبو عبد الله مالك بن أنس، وقال به بعض فقهاء الشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع. وبناءً على ذلك إذا اشترى الأرضين، فكل أرض يعتبر فيها الزكاة إذا باعها، إذا تمت لها سنة كاملة وهي معروضة للتجارة، فلو مكثت سنوات زكاها لسنة واحدة للأصل الذي ذكرناه، ولا تجب الزكاة في عين المال، وهناك فرق بين عرض التجارة بالعقارات، وعرض التجارة بالمنقولات، فعرض التجارة بالعقارات أشد لما فيه من الضيق والحرج الذي نفى الله عز وجل وجوده في الشريعة، فإن الرجل ربما عرض أرضه وهي تساوي الملايين ثم يبيعها بعد عشر سنوات بمائة ألف، وهو طيلة هذه العشر السنوات يزكيها على أن قيمتها الملايين، ثم بعد ذلك تنزل إلى هذا السعر وهذا موجود، ربما كانت الأرض في مكان وعليه الطلب والرغبة والإلحاح، فتبلغ الملايين والأسعار الخيالية، فيدفع زكاتها، ثم يشاء الله عز وجل أنها تنزل حتى تباع بالشيء الزهيد اليسير، وقد وقع هذا. وأعرف رجلاً من القرابة كانت أرضه تساوي تسعة ملايين ثم وصلت إلى عشرة، وما زال على ذلك قرابة عشر سنوات أو أكثر، ثم باعها بما يقارب المليون وشيء يسير، فلو أنه طيلة العشر سنوات وهو يزكي ربما يخرج قيمتها قبل أن يملك القيمة التي سيبيعها به، فالحرج موجود والمشقة حاصلة، وأفتى هؤلاء الأئمة من السلف من التابعين كـ سعيد بن المسيب وخارجة بن زيد والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وعروة بن الزبير، كلهم يقولون: إنه يزكيها لسنة واحدة، وذلك بعد قبضها، ولا تجب عليه الزكاة طيلة هذه السنوات. وأموال اليتامى تجب فيها الزكاة على الصحيح، وفي الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة) وهو مذهب جمهور العلماء.

باب زكاة الحبوب والثمار [2]

شرح زاد المستقنع - باب زكاة الحبوب والثمار [2] ما سقي من الحبوب والثمار بالمئونة ففيه نصف العشر، وما سقي بلا مئونة ففيه العشر، وتجب زكاته إذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر. وما وجد مدفوناً من عهد الجاهلية ففيه الخمس، وهو ما يسمى بالركاز.

إيجاب العشر فيما سقي بلا مئونة

إيجاب العشر فيما سقي بلا مئونة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المؤلف عليه رحمة الله: [فصلٌ: يجب عشرٌ فيما سقي بلا مئونة]. شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل ببيان المقدار الذي أوجب الله عز وجل في زكاة الحبوب والثمار، فبيّن أنه العشر، والعشر هو الواحد من العشرة، والأصل في ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فيما سقت السماء العشر). وهذا يدل على أن الحبوب والثمار تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما كان سقيه بمئونة. القسم الثاني: ما كان سقيه بغير مئونة. والمئونة: مأخوذة من المئن وهو التعب والنصب، وقالوا: (ما سقي بمئونة) أي: بتعب ونصب، وذلك هو شأن المزارع في غالب أحوالها، أنها تفتقد إلى خروج الماء واستنباطه من الأرض، ثم بعد ذلك توزيعه وتقسيمه على الأماكن التي يراد سقيها، فهذه مئونة وتعب وكلفة ومشقة، ويشمل ذلك ما كان بالآلات القديمة كالسواني ونحوها، وما كان بالآلات الحديثة كالمكائن الزراعية ومضخات المياه، فإن الإنسان إذا سقى بها يعتبر في حكم من سقى بما فيه مئونة ومشقة، وإذا كان الزرع يسقى بالمئونة والمشقة ففيه نصف العشر، وأما إذا كان يسقى بغير مئونة وهو القسم الثاني الذي لا تعب فيه، والمراد به ما تسقيه العيون والسيول، وما تسقيه الأمطار من السماء، فهذا لا مئونة فيه ولا تعب بالنسبة للماء، ولا مشقة في استنباطه واستخراجه، فجعل الله الزكاة الواجبة فيه العشر، أي: يجب إخراج عشره صدقة للفقراء والمساكين الذين سمى الله عز وجل من المستحقين، ولا شك أن الذي فيه المشقة والتعب أعظم كلفة من الذي لا مشقة فيه ولا تعب. والذي يُسقى بدون مئونة، وهو الذي تسقيه العيون والسيول والأنهار ففيه تفصيل، وله حالتان: الحالة الأولى: أن يحتاج إلى معالجة ما، وذلك بتحويله إلى مكان الزرع، ووجود مشقة في رفعه إلى ذلك المكان، فمن أهل العلم من قال: كل ما سقي بالسيول ما دامت تصيب الأرض -وكذلك العيون والأنهار- فلا كلفة فيه ولا مشقة، والواجب على صاحبه العشر، سواءً حوّل الماء وجعله في سواقٍ وتكلّف السواقي، أو أن الماء بنفسه سرى على الأرض كالرياض المعروفة في البادية، يجعلونها على أماكن جريان السيل، أو في شرائع الجبال، فهذه لا مشقة فيها؛ لأن الماء سينزل وسيصيب هذه الأماكن التي بُذر فيها الحب، فعند هؤلاء العلماء يستوي أن يكون السيل قد أصاب الأرض مباشرة، أو أدخلته أنت إلى الأرض فتكلفت في إدخاله، بأن تكون قد جعلت له حاجزاً أو صخرة يصطدم بها ثم يدخل إلى مزرعتك، فبعض العلماء يفرِّق بين الذي سقي من السماء، والذي يحتاج إلى معالجة بالسيل والأنهار، فيقول: هذا مئونة ومشقة، فيكون فيه نصف العشر. والصحيح: أنه لا فرق؛ لأنه سقته السماء، وداخل فيما سقته السماء. وأما ما سُقي بالنضح -كما ورد في الحديث- فهذا فيه كلفة ومشقة، ومعناه: أنه يستنبط الماء ويتكلف إخراجه، هناك حالة تستثنى من السيول والأنهار، وهي حالة المضخات المائية الموجودة الآن، فإذا احتاج المزارع لوضع مضخة على السيل من أجل أن يجذب بها الماء خفِّف عنه في الزكاة؛ لأنه في حكم النضح، أما لو دخل السيل بنفسه أو دخل بمعالجة، فإنه لا يصدق عليه أنه مما فيه المشقة، وإنما يجب فيه العشر، وعلى هذا ففرِّق بين ما سقي بمئونة ومشقة وتعب وبين ما سقي بدون مئونة ومشقة وتعب؛ وهذا يدل على سماحة الشريعة، ورحمة الله عز وجل بعباده، وحكمته في تشريعه جل شأنه؛ لأن الذي فيه المشقة سيحتاج الإنسان إلى كلفة من المال والجهد والوقت، ولذلك يكون حظه من زرعه أقلّ لو قلنا: عليه العشر، ولكن الذي لا كلفة فيه ولا مشقة فإن الأوجه أن يكون حظ الفقراء فيه أكبر، وهو نصاب العشر كما سنّ النبي صلى الله عليه وسلم.

إيجاب نصف العشر فيما سقي بمئونة

إيجاب نصف العشر فيما سقي بمئونة قال رحمه الله: [ونصفه معها]. أي: مع المئونة والكلفة والمشقة، سواء كانت بالسواني القديمة، أو كانت بالدلو والرشاء القديم، أو كانت بالمضخات الموجودة الآن من المكائن الزراعية وآلات الضخ، كل ذلك يعتبر مما فيه مئونة ومشقة، فيجب عليه نصف العشر، أي: نصف عشر ما يخرجه. فلو أن إنساناً ملك أرضاً يصبها المطر والسيل -وهي التي تسمى في العرف بالرياض التي تكون في البادية- فزرعها فأخرجت له -مثلاً- ألف صاع من الحب، فإذا كان قد زرعها وأصابها الماء من قطر السماء بدون كلفة ولا مشقة ولا مئونة، أوجبنا عليه عُشْر ألف صاع أي: مائة صاع، نقول: عليك مائة صاع كزكاة، وتسعمائة صاع لك، هذا بالنسبة للواجب. وبعض العلماء: يعتبر التخفيف على الأصل الذي ذكرناه، يسقط عنه الثلث أو الربع، ثم بعد ذلك يحسب الزكاة من السبعمائة والخمسين التي تعادل ثلاثة أرباع ما أنتجته الأرض، ويوجب عليه عشرها، فإذا كان يخرج ألف صاع، يقول: نسقط عنه ثلث ما تخرجه أرضه أو الربع كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا خرصتم فدعوا الثلث وإلا فالربع)، أقلّ ما يترك هو الربع، فربع الألف مائتان وخمسون صاعاً، ثم بعد ذلك من السبعمائة والخمسين الباقية يُخرج عشرها وهو خمسة وسبعون صاعاً.

مقدار الزكاة إذا سقي الزرع بمئونة تارة وبدون مئونة تارة أخرى

مقدار الزكاة إذا سقي الزرع بمئونة تارة وبدون مئونة تارة أخرى قال رحمه الله: [وثلاثة أرباعه بهما]. وثلاثة أرباع العشر إذا كان يسقى بالمئونة وبدون مئونة، وهذا إذا كان نصف السنة، مثلاً: إذا كانت هناك الأمطار والسيول، فترك الأرض للأمطار والسيول فسقتها، فمضت ستة أشهر وهي تسقى بالأمطار والسيول والأنهار، أو تكون هناك عين تجري ستة أشهر وتنقطع، فهذه الأرض نصف السنة تسقى بدون مئونة، ثم النصف الثاني يكون سقيها بالآلات والمكائن الزراعية؛ إذا جئنا ننظر إلى وجود المئونة فهي نصف السنة، وإن جئنا ننظر إلى فقد المئونة وعدم وجودها فهو نصف السنة كذلك، وليس لأحدهما أغلبية على الآخر، فقالوا: نوجب عليه العشر في النصف الأول من العام، فيكون حينئذٍ ثابتاً في ذمته هذا العشر في الستة الأشهر الأولى، ثم الستة الأشهر الأخرى نوجب عليه نصف العشر، فيكون عليه ثلاثة أرباع العشر؛ لأنك إذا حسبت في نصف العام الأول العشر ونصفه نصف العشر، وحسبت في نصف العام الثاني نصف العشر ونصفه الربع، أصبح المجموع ثلاثة أرباع. مثال ذلك: لو كان عنده مثلاً ألف صاع، هذه الألف صاع سُقي منه نصف عام بدون مئونة، الستة الأشهر الأولى، وسقي الستة الأشهر الأخرى بمئونة، فالواجب حينئذٍ نقول: عليه العشر في نصف العام الأول، وعليه نصف العشر في نصف العام الثاني، وحينئذٍ يكون ثلاثة أرباع العشر واجباً عليه؛ لأن العشر لم يستتم في نصف العام الأول، فيكون عليه حينئذٍ نصف العشر؛ لأن نصف العام إذا كان العام كله فيه عشر، فنصف العام فيه نصف العشر، ثم النصف الثاني عليه نصف العشر، ولم يستتم عاماً كاملاً فعليه ربع العشر، فحينئذ نصف العشر وربع العشر يصبح حينئذٍ ثلاثة أرباع العشر، فإذا نحن كنا قلنا: عليه ألف صاع فيه مائة صاع منها، وإذا قلنا: عليه نصف العشر فعليه خمسون صاعاً، والواقع نصف العشر لأنها نصف عام، فعليه حينئذٍ الخمسون، ثم تنتقل إلى النصف الثاني الذي فيه المشقة والعناء، فعليه نصف العشر، ونصف العشر خمسون، ولما كان نصف عام توجب عليه نصفها وهو خمس وعشرون صاعاً ثم تضيف الخمسة والعشرين إلى الخمسين ليصبح المجموع خمساً وسبعين صاعاً. [فإن تفاوتا فبأكثرهما نفعاً]. إن كان أكثر انتفاع النخل بالمئونة فنحسب نصف العشر، وإن كان أكثر انتفاع النخل بالسقي بلا مئونة وهو سقي الأنهار والسيول والعيون، فحينئذٍ عليه العشر، فينظر إلى ما هو أكثر نفعاً، هذا إذا تفاوتت بحيث لا يمكن أن ينضبط، إذا ضبطنا الأول بنصف العام وضبطنا الثاني بنصف عام فلا إشكال، فتعطي لكلٍ نسبته، أما إذا لم ينضبط، فينظر إلى أكثرهما نفعاً فحينئذٍ يغلَّب، والحكم للأكثر، والنادر لا حكم له. [ومع الجهل العشر]. إذن عندنا عدة أحوال: إما أنه يسقى بالنضح والمئونة والمشقة ففيه نصف العشر بلا إشكال، وإما أن يكون يسقى بلا مئونة ولا مشقة ففيه العشر بدون إشكال، وإما أن يكون مشتركاً بينهما معلومٌ نصاب كل واحد منهما كنصف ونصف، فحينئذٍ لهذا نصفه ولهذا نصفه، وإما أن يتفاوتا فالنظر إلى ما هو أكثر نفعاً، وإما أن يُجهل الحال -وهي الحالة الخامسة- بمعنى: لا نستطيع أن نعرف لا أكثرهما نفعاً ولا نعرف مقدار النضح، ولا نستطيع أن نميز ما هو بدون نضح، فحينئذٍ يرجع إلى العشر، وهذا مرده إلى الأحظ للفقراء؛ لأن الزكاة مبنية على حق لله عز وجل أوجبه للفقراء والضعفاء، فغلِّب حق الفقراء على حق الأغنياء، ولذلك قالوا حينئذٍ: إذا كان لا يدري ننتقل إلى العشر ونوجب عليه زكاة عشر ماله.

وقت وجوب الزكاة في الحبوب والثمار

وقت وجوب الزكاة في الحبوب والثمار قال رحمه الله تعالى: [وإذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر وجبت الزكاة]. قد بيّنا أن اشتداد الحبوب من علامة بدو الصلاح، فالحب أول ما يكون يكون ليناً في سنابله، ثم يبدأ يشتد، فإذا اشتد وابيضّ -كما في رواية الصحيح- بدا صلاحه وجاز بيعه حينئذٍ، أما قبل الاشتداد فلا يجوز البيع ولا يحكم ببدو صلاح، فإذا اشتد الحب يبعث الإمام الخُرَّاص، والخارص: هو الشخص الذي له خبرة في الحبوب والنخيل، بحيث ينظر إليها ويعلم مقدار ما فيها عن طريق التجربة على سبيل التقريب، فيقول: هذا النخل فيه مثلاً ألف صاع، ويبيِّن أو يقدر ما على كل نخلة، وهذا راجع إلى الخبرة وكثرة الابتلاء في هذا العمل، فذلك يجعل الإنسان من السهل عليه أن ينظر إلى النخلة، ويعلم ما بها. والدليل على مشروعية الخرص: ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر)، وخيبر لما فتحها النبي صلى الله عليه وسلم كان بها اليهود، فنظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خيبر وإذا بها أرض زرع، فالصحابة سيرجعون معه إلى المدينة، ولا شك أن هذا الزرع سيتلف ويهلك، فلا هو استفاد منها، ولا استفادت يهود، فسألوه أن يتركهم في هذا النخل يعملون فيه ويصلحونه حتى يثمر، وإذا أثمر قسمت الثمرة بينه عليه الصلاة والسلام وبين اليهود، فوافقهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. وفي الصحيحين من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ساقي أهل خيبر على الشطر -وهو النصف، فيكون لهم نصف الثمرة وللنبي صلى الله عليه وسلم نصف الثمرة- فكان يبعث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه لكي يخرص نخل خيبر) يخرص بمعنى: أنه يحدد كم في هذا النخل من الآصع، ثم يخلى بين اليهود والنخل- فيدفعون النصف الذي تبين أن نصف النخل على قدر ما بيّن عبد الله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا أصل في مشروعية الخرص، والعلماء مجمعون على مشروعية الخرص، وأنه إذا بدا الصلاح يبعث الإمام الولي من يخرص للناس نخيلهم وحبوبهم، ليقدر المقدار الذي أوجب الله وفرض في نخيلهم وحبوبهم. قال: [وإذا اشتد الحب وبدا الصلاح]. قوله: (اشتد الحب) علامة خاصة، وقوله: (بدا الصلاح) علامة عامة، ونحن بيّنا العلامات الخاصة والعلامات العامة في بدو الصلاح، فالحبوب والثمار إذا بدا صلاحها ينظر كم يحمل هذا النخل أو هذا الزرع من الحبوب والثمار ويحسب ويقدر، ثم يخلى بين الناس وبين الحبوب والثمار ينتفعون بها، فيترك لصاحب البستان بستانه، أن يأكله بلحاً ورطباً وتمراً، وأن يبيع وأن يتصدق وأن يهدي، يخلى بينه وبينه، حتى إذا انتهى وجذ جاء إلى الولي بالمقدار الذي حدد في زكاة المال، فيأتي الخارص ويخرص النخيل والحبوب والثمار والعنب وغيره، وقد ورد في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عتاب بن أسيد رضي الله عنه ليخرص العنب والنخيل) فهذا كله يدل على مشروعية الخرص عند بدو الصلاح، وإذا بدا الصلاح وحدد المقدار الواجب يترك الناس، يقال لهم: هذا نخلكم وهذا زرعكم افعلوا به ما شئتم، وإنما يجب عليكم أن تُخرجوا من الزكاة قدر كذا وكذا. قال المصنف رحمه الله: [ولا يستقر الوجوب إلا بجعلها في البيدر]. (ولا يستقر الوجوب) بمعنى: لا ويطالب الفلاح (إلا بجعلها) أي: بجعل الثمار والحبوب (في البيدر) وهو المكان الذي تجلب إليه الثمرة. والتمر إذا جُذَّ يكون فيه شيء من اللين، فيحتاج إلى أن يشمّس، فيبسط في مكان يسمى بالبيدر، فهذا المكان تضربه فيه الشمس حتى يقوى ويشتد؛ لكي يصلح لاختزانه، وكذلك أيضاً لكنزه في الآلات التي يكنز فيها، أما لو أُخذ قبل ذلك من النخلة مباشرة ووضع في الآلات فربما فسد فلم يصلح للأكل، ولذلك يحتاج إلى أن يشمس، فهذا البيدر هو المكان الذي يشمس فيه. وأما الحبوب فإنها تحتاج بعد أن تُجَذ إلى أن توضع ثم تفرش وتصفى، وبعد ذلك ينتفع الناس بها، وتخرج لأجل أن تكون في مصالحهم فيطعمونها ويرتفقون بها. فقبل جلبها إلى هذا المكان لا يستقر الوجوب على أحد قولي العلماء رحمة الله عليهم، منهم من قال: العبرة بالجذ، فإذا جذ، وجبت عليه الزكاة، واستقرت في ذمته؛ لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] فأمر الله عز وجل بإيتاء الحق عند الحصاد وحين الحصاد، ولذلك يجب عليه ذلك. [فإن تلفت قبله بغير تعدٍّ منه سقطت]. وهذا بناءً على القول الذي يَشْتَرِط أن تكون في البيدر، فهذا القول الذي يشترط هذا الشرط لا يطالب صاحب النخل بالزكاة ودفعها إذا تلفت قبل وضعها في البيدر، ولكن بشرط أن لا يفرط، فإن فرّط ضمن، فإذا أصابتها الآفة قبل جلبها إلى البيدر -ما بين الجذاذ وبين جلبها إلى البيدر- فأصابها إعصار وتلفت أو أصابها غرق -جاء السيل وأغرقها- فحينئذٍ لا يلزمه الضمان، فلا تجب عليه الزكاة، ولا يطالب بدفعها، هذا حسب القول الذي يشترط لاستقرار الوجوب أن تجلب للبيدر. أما على القول الثاني فإنه بمجرد جذِّه يعتبر في حكم الآخذ لها، وحينئذٍ إذا تأخر في دفعها للمستحقين يتحمل المسئولية. والأولون يقولون: كيف يدفعها للوالي وهي لم تستصلح بعد ولا يمكن أن يكيلها إلا بعد أن توضع في البيدر وتشمّس ثم بعد ذلك تُكال، ويمكن أن تخرج للناس؟! وهذا القول للجمهور رحمة الله عليهم، وهو من جهة النظر أقوى وظاهر التنزيل على القول الأول له وجهه، وبناءً على ذلك يقولون: إذا تلفت من غير تعدٍ لم يضمن، وإن تلفت بتعدٍ ضمن. وتلفها بتعدٍ كأن يأتي ويجذ الثمرة ثم يضعها في بيدر مكشوف أمام الناس، ومزرعته مفتوحة لكل من أراد أن يدخل، فجاء السارق وأخذ الثمرة؛ فهذه السرقة وقعت بتعدٍّ وتفريط منه، فإذا فرّط وتعدى أُلزم بعاقبة تفريطه، فيجب عليه ضمان الزكاة، ولا تسقط عنه الزكاة على هذا الوجه لأنه فرّط. (أو تعدى) أي: تعاطى أسباب الفساد، كأن يرسل الماء عليها، أو يضعها في الشمس على طريقة يفسد بها التمر، فحينئذٍ نقول: أنت الذي تعديت فتُلزم بما فعلت من التعدي، وتجب عليك الزكاة، فيشتري غيرها ويدفعها زكاة بالمقدار الذي وجب في ذمته.

حكم إيجار الأرض للزراعة

حكم إيجار الأرض للزراعة قال المصنف رحمه الله: [ويجب العشر على مستأجر الأرض دون مالكها]. إذا تبينت هذه الأحكام من وجوب العشر ووجوب نصف العشر، فالنخل والزرع لا يخلو من حالتين: إما أن تكون الأرض والزرع ملكاً للإنسان، فحينئذ لا إشكال، والكلام الذي مضى منصبٌّ على صاحب الأرض بما أنتجت أرضه من حبوب وثمار. الحالة الثانية: أن تكون الأرض لشخص، والزروع والثمار لشخص آخر، ومن أمثلة هذه الحالة أن يقول لك رجل: أجرّني هذه الأرض عشر سنوات، وهذه هي مسألة إجارة الأرضين للزراعة، وهي مسألة اختلف العلماء رحمة الله عليهم فيها هل تجوز إجارة الأرضين للزراعة، أو لا تجوز إلى ثمانية أقوال مشهورة: القول الأول: التحريم مطلقاً، كما هو مذهب الظاهرية، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليُزرعها أخاه ولا يؤاجرها) وهو حديث جابر في الصحيح. وهذا القول الذي يقول به الظاهرية قول ضعيف، وإن كان الحديث صحيحاً لكنه منسوخ؛ لأنه كان في أول الأمر حينما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكان بالمهاجرين ضيق في اليد وكانوا في فقر وشدة، فقال عليه الصلاة والسلام: (من كانت له أرض فليزرعها -أي: بنفسه- أو ليُزرعها أخاه -أي: يمكِّن أخاه من زراعتها- ولا يؤاجرها)، يعني: لا يؤجرها على أخيه المسلم، وهذا تعظيم لأخوة الإسلام وتقديم لها على مصالح الدنيا، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم في أول مقدمه إلى المدينة عن المؤاجرة، ثم رخص فيها كما جاء في حديث رافع بن خديج رضي الله عنه في الصحيحين. القول الثاني: تجوز إجارة الأرضين مطلقاً، وبه قال بعض السلف رحمة الله عليهم، وهذا القول يحتج بحديث رافع: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع) ثم بيّن رافع سبب هذا النهي وقال: (إنما كانوا يؤاجرون على الماذيانات وأقبال الجداول فيسلم هذا ويهلك هذا، وأما ما كان بشيءٍ معلوم فلا بأس) ما معنى هذا الحديث؟ أراد رافع أن يبيّن السبب في النهي عن زراعة الأرضين غير النهي الأول؛ لأن النهي وقع على صورتين: الصورة الأولى: النهي المطلق الذي اشتمل عليه حديث جابر في مقدمه عليه الصلاة والسلام على المدينة، وهو نهي متجه إلى الأنصار الذين كانوا يملكون أرض المدينة. والنوع الثاني من النهي: جاء لصورة مخصوصة من الإجارات، كان الرجل يقول للرجل: خذ أرضي وازرعها، فما يخرج من زرع بجوار الماذيانات وأقبال الجداول -والماذيانات هي التي تسمى الآن القناطر والجداول التي يجري فيها الماء- فهو لي؛ فمن ذكاء صاحب الأرض يعلم أن الذي بجوار الماء يعيش، وأن الذي هو بعيد عن الماء قد يعيش وقد لا يعيش، لمكان العطش والظمأ؛ وحتى لو عاش يكون أقلّ نتاجاً وأضعف، فلذلك يشترط رب الأرض أن يكون له الزرع الذي يكون على الجداول، ويكون للذي يستأجر ما هو بعيد عن الجداول، وفي هذا ظلم وغرر، فهو يتضمن محظورين شرعيين: المحظور الأول: الظلم؛ لأن هذا المسكين يتعب باستصلاح الأرض ثم يَسْلَم الذي لغيره ويهلك الذي له، فهذا من الظلم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أرأيت لو منع الله الثمرة على أخيك فبم تستحل أكل ماله؟) فهذا المؤجر -صاحب الأرض- يستغل تعب المستأجر -العامل في الأرض- وكدّه ونصبه ويأخذ من حبّه دون أن يستفيد الآخر شيئاً إذا لم يسلم البعيد. ثانيا: أنه من الغرر، كما قال رافع في نفس الحديث: (فيسلم هذا ويهلك هذا) والغرر هو المخاطرة؛ مأخوذ من: غرر فلان بفلان إذا خاطر به وعرّضه للخطر، فيقولون: (يسلم هذا ويهلك هذا) كأن رب الأرض يغرر بالمستأجر، فيجعله يستأجر على رجاء أن يجد مصلحة ولا يجد مصلحة، لكن رب الأرض يستفيد المصلحة. فأصحاب القول الثاني الذين يجوزون مؤاجرة الأرضين يحتجون بحديث رافع، ولكن الحديث لا يدل على قولهم؛ لأن القول أعم من الدليل، وإذا كان الدليل أخصّ من القول أو القول أعمّ من الدليل فحينئذٍ لا يصلح الدليل دليلاً لإثبات القول كله، وإنما يصلح في حدود ما ورد به الدليل، فحديث رافع يقول: (إنما كانوا يؤاجرون على الماذيانات وأقبال الجداول فيسلم هذا ويهلك هذا، وأما ما كان بشيءٍ معلوم فلا بأس). (بشيء معلوم) أي: محدّد. القول الثالث: تجوز إجارة الأرضين إلا بجزءٍ مما يخرج منها؛ بمعنى: يجوز أن يؤجر الأرض بالذهب والفضة، أما بالطعام الذي يخرج منها فلا يجوز؛ لأنه إذا كان بجزءٍ مما يخرج منها، فإنه يعتبر من باب الغرر؛ لأنه لو قال له: هذا النصف لي والنصف الثاني لك، يحتمل أن يسلم هذا ويهلك هذا، وتقع الخصومة بينهما، فمنعوا من ذلك، وهذا القول يضعف على حديث المزارعة؛ لأن المزارعة تكون في الجزء المعلوم من الأرض. والقول الرابع: أنه تجوز إجارتها إلا بالطعام، يجوز إجارتها بكل شيء إلا بالطعام، سواء كان منها أو من غيرها؛ والسبب في ذلك يقولون: إنه ربا؛ لأنه إذا استأجر الأرض وقال: أعطيك مائة صاع أو أعطيك مائتي صاع، فإنه حينئذٍ قد باع الطعام بالطعام، لأن حقيقة الأمر أنه استفاد من الأرض ألف صاع، وأعطاك في مقابلها مائتي صاع، فباع الطعام بالطعام نسيئة ومتفاضلاً، فقالوا: لا يجوز. القول الخامس: أنه تجوز إجارتها بالنقدين فقط، وهذا القول هو من أقوى الأقوال، وهو الذي عناه رافع رضي الله عنه: (وأما ما كان بشيءٍ معلوم فلا بأس به) وذلك لزوال العلة التي سبقت الإشارة إليها في الأقوال المتقدمة. وهناك أقوال ضعيفة، لكن هذه هي أشهر الأقوال المعتمدة على النصوص. إذا ثبت هذا فإن استأجر رجلٌ من رجلٍ أرضاً وقال: يا فلان! هذه الأرض لا يخلو الاستئجار لها من حالتين: إما أن يستأجرها للزراعة، أو يستأجرها لغير الزراعة، إن استأجرها لغير الزراعة فلا إشكال، وإن استأجرها للزراعة ففيه تفصيل عند العلماء: إن كانت الأرض فيها بئر ماء، ويغلب على الظن بقاؤه وبقاء مصالحه، وقصد منها الزرع فيجوز، وأما إذا استأجرها بقصد الزراعة ولم يكن بها بئر ماء، وقال: أحفر إن أخرج الله لي ماءً فالحمد لله، وإذا لم يخرج فأنا أتحمل المسئولية، فهذا من الغرر الذي لا يجوز. الخلاصة أنه إذا كان في الأرض ما يعين على زراعتها -وهو وجود البئر أو وجود العين- جازت إجارتها للزرع، فلو استأجرها عشر سنوات، وفي كل سنة يزرع فيها الحبوب، فزرع فيها في النصف الأول من العام وزرع فيها في النصف الثاني من العام، فهل تجب الزكاة على رب الأرض ومالك الأرض أو على المستأجر؟ A تجب الزكاة على المستأجر؛ لأن رب الأرض لم يملك هذا الزرع لا أصوله ولا فروعه، وحينئذٍ الواجب إخراج الزكاة على من ملك الحب أصله وفرعه، وبناءً على ذلك: يجب عليه أن يخرج الزكاة من حبه ونتاجه الذي يتحصّل عليه منه. فنقول: المستأجر هو المطالب بإخراج الزكاة، وتجب عليه الزكاة بنفس التفصيل الذي ذكرنا، ومن هنا قال المصنف: (ولا تجب الزكاة على رب الأرض وإنما تجب على المستأجر دون المالك). أما في النخل فيتأتى ذلك بأن يؤجره الأرض عشرين عاماً، على القول بجواز إجارتها العشرين عاماً والثلاثين عاماً، فلو استأجرت أرضاً عشرين عاماً وأحببت أن تزرع فيها النخل فيستقيم حينئذٍ الكلام على إجارتها إذا كانت في النخيل، وتقع مسألة إجارة النخيل وإجارة الأرض، وتكون النخيل ملكاً للمستأجر، وحينئذٍ يطالب المستأجر ولا يطالب ربّ المال، فلو زرع فيها نخيلاً عشرة أعوام أو عشرين عاماً وخمسة عشر عاماً، استأجرها وزرع فيها نخيلاً، فإنه حينئذٍ تتحقق مسألتنا، فنقول: إنه تجب الزكاة على المستأجر دون رب الأرض ومالكها. [وإذا أخذ من ملكه أو موات من العسل مائة وستين رطلاً عراقياً ففيه عشره]. العسل فيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفيه أثر عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصته مع رجلٍ من أهل اليمن سأله عن عسله. أما حديث عمرو بن شعيب فقد سأل سائل النبي صلى الله عليه وسلم أنه يملك عسل نحلٍ، فقال صلى الله عليه وسلم: (أد العشور، قال: احمها لي يا رسول الله، فحماها عليه الصلاة والسلام له لما أدى عشورها)، هذا الحديث تكلم العلماء على سنده، فمن قائل بثبوته كالإمام أحمد رحمة الله عليه ومن وافقه، وقوى هذا بما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما كتب له عامله عن العسل يسأله فيه، قال: (إن أدوا من كل عشر قرب قربة فاحمها لهم) وهذا يدل على أنه يرى الزكاة فيها بالعشر. وجمهور العلماء على عدم وجوب الزكاة في العسل؛ لأنه لم تثبت عندهم أدلة صحيحة، وحديث عمرو بن شعيب عندهم متكلّم في سنده، والأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، ولأن الذين قالوا بوجوب الزكاة في العسل لم يستطيعوا أن يبينوا دليلاً صحيحاً على تحديد نصاب العسل، أي: القدر الذي إذا بلغه العسل وجبت فيه الزكاة، فبعضهم يقول: ستمائة رطل، وبعضهم يقول: مائة وستون رطلاً، واختلفت أقوالهم، وكلهم ليس عنده أصل صحيح من الكتاب والسنة يحدد نصاب العسل، ومنهم من يقول: فيه العشر بغض النظر عن كونه بلغ أو لم يبلغ، ولذلك يقولون: هذا مما يدل على ضعف القول بوجوب الزكاة فيه. ولا شك أن من أدى عشر ما يخرجه النحل من عسله أفضل وأحوط وأبرأ للذمة، خاصة لما فيه من الاهتداء بسنة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

الركاز وأحكامه

الركاز وأحكامه قال المصنف رحمه الله: [والركاز ما وُجِد من دفن الجاهلية ففيه الخمس في قليله وكثيره]. أصل الركز الدفن، ولذلك يقال للرمح: إنه مركوز، إذا دُفِن في الأرض؛ ومعنى رُكِزَ: غُرِز في الأرض ودفن فيها، ويشمل وصف الثبوت، وقد يطلق الرِّكز للصوت الخفي، ومنه قوله تعالى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم:98] أي: هل تسمع لهم صوتاً ولو كان خفياً، فهذا أصل الركاز. وأما بالنسبة للمراد بالركاز في الشرع فهو دفن الجاهلية، والمراد بذلك ما يعثر عليه من النقود والأموال والجواهر التي كانت لأهل الجاهلية، ويعرف كونها من دفن الجاهلية إذا كانت عليها كتابات جاهلية أو عليها تواريخ جاهلية، فحينئذٍ تعرف بأنها من دفن الجاهلية؛ فيكون فيها الخمس؛ لقوله عليه الصلاة والسلام كما ثبت في الصحيح: (وفي الركاز الخمس) أُعطي حكم الفيء، ولذلك يجب فيه الخمس ويلحق بالزكاة، ومصارفه مصارف الفيء، وستأتينا إن شاء الله تعالى في كتاب الجهاد في مباحث الغنيمة. وهذا الركاز يشترط فيه أن يكون من دفن الجاهلية، أما لو وجدنا نقوداً وذهباً وفضة من دفن الإسلام، يعني: في زمان من بعد عصر النبوة، فإنه حينئذٍ يأخذ حكم اللقطة ويسري عليه ما يسري على اللقطة من أحكام. فإذا كان عليه أمارات الجاهلية ومن أموال الجاهلية، فإنه ركاز، وفيه الخمس؛ فبمجرد ما يأخذه يُخرج خمسه، سواء كان قليلاً أو كان كثيراً. فاختلف الركاز عن الزكاة بما يلي: أولاً: أنه لا يتحدد بنصاب، والزكاة تتحدد بنصاب. ثانياً: مصارفه مصارف الفيء، أما الزكاة فمصارفها هم الذين سماهم الله عز وجل من الأصناف الثمانية، الذين حددهم من فوق سبع سماوات: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60] وسيأتي إن شاء الله الكلام على هؤلاء الأصناف الثمانية الذين سماهم الله عز وجل في كتابه. فبالنسبة للركاز يؤدي الخمس عن قليله وكثيره، فلو حصل على ألف غرام منه، أو حصل على مائة غرام منه فالحكم واحد، بل حتى لو حصل على عشرة غرامات، وهي من دفن الجاهلية، فعليه أن يخرج خمسها ومصرفها مصرف الفيء. وذهب بعض العلماء -وهم الحنفية- إلى أن المعادن تأخذ حكم الركاز، والجمهور -المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية- على أن الركاز يختص بدفن الجاهلية. الحنفية يقولون: المعادن حكمها حكم الركاز، ويجب عليه أن يخرج زكاتها، فيخرج منها الخمس، سواء كانت ذائبة أو كانت مما يحتاج إلى إذابة أو كانت جامدة، فالذائبة مثل أن يؤخذ الذهب والفضة ويذوّب فيلحق بالركاز وعليه الخمس، والجامدة مثل النورة (الجص) وغيرها مما يكون من المعادن التي تستخرج، فهذه فيها الخمس عندهم. والصحيح: أن المعادن لا تأخذ حكم الركاز، وإنما لها حكم مستقل، ولا تدخل فيما سن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وفي الركاز الخمس). والركاز يشترط فيه وجود العلامة، أما إذا وجدت فيه علامة الإسلام، أو غلب على الظن أنه من دفن المسلمين، فإنه يأخذ حكم اللقطة، وسنبين هذه الأحكام بالتفصيل في باب اللقطة، وسيأتي إن شاء الله في باب المعاملات. [ففيه الخمس في قليله وكثيره]. (ففيه الخمس في قليله وكثيره)، فلو كان الذي حصل عليه ألف غرام فإننا نوجب عليه خمُس الألف، وهو مائتان من الغرامات، فيجب عليه أن يؤديها، وشأنه في الأربعة الأخماس يفعل بها ما شاء، والركاز يملكه من وجده، فمن وجده في برِّية أو عمران ملكه، فإذا كان في عمران وهذا العمران ملكاً له فحينئذٍ لا إشكال، وإن كان ملكاً لغيره فهو لذلك الغير؛ لأن من ملك أرضاً ملك ما بباطنها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ظلم قيد شبر من الأرض طُوِّقه يوم القيامة من سبع أرضين) فجعل سافل الأرض تابعاً لأعلاها، وبناءً على ذلك قالوا: يكون لصاحب الأرض.

الأسئلة

الأسئلة

إخراج الزكاة مما زرع للعلف

إخراج الزكاة مما زرع للعلف Q نحن نزرع الأعلاف للماشية ويأتي فيه الحب ويبلغ النصاب، ولكن نحصد الأعلاف ونعلف بها الماشية وفيها الحب في السنابل، هل يلزمنا الزكاة مع أننا لم نزرع للحب إنما للتعليف، وجزاكم الله خيراً؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فتجب الزكاة على من ملك الخمسة الأوسق سواء زرعها لنفسه أو زرعها لدوابه علفاً، وحينئذٍ يجب عليكم إخراج ما أوجب الله من الزكاة على ظاهر الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في وجوب الزكاة في الحبوب. والله تعالى أعلم.

حكم زكاة السويق

حكم زكاة السويق Q السويق الذي يحصد قبل أن يشتد حبه ثم يطبخ فيشتد حبه بالطبخ، هل فيه زكاة، ومتى تكون زكاته، أثابكم الله؟ A بالنسبة للسويق إذا جُذ قبل بدو صلاحه وهو قبل الاشتداد، فلا تجب فيه الزكاة، وبناءً على ذلك يكون حكمه حكم الثمرة إذا قطعت قبل بدو صلاحها، فالثمر إذا قطع قبل بدو صلاحه لم تجب فيه زكاة، كأن يقطع ثمرة نخيله علفاً للدواب، أو يقطعها لأجل أن يتقوى النخل، فكل ذلك لا تجب فيه الزكاة، وعلى هذا فلو قصه قبل بدو صلاحه لم تجب فيه الزكاة، والفرق بين المسألة الأولى والمسألة الثانية واضح، وذلك أن الحاصد في المسألة الأولى قد استقر وجوب الزكاة عليه؛ لأنه حينما بدا صلاح الحب واشتد، فإنه وجب عليه أن يؤدي الزكاة، واستقر عليه الوجوب بالحصاد، وأما الحالة الثانية -وهي ما ذكر في السؤال الثاني- فحينما جُذ الثمر أو الحب قبل بدو صلاحه، فإنه لم يخاطب بالزكاة ولم تجب عليه الزكاة أصلاً؛ لأن شرط وجوبها أن يشتد الحب في سنابله، فإذا حصد قبل اشتداده في سنابله، فإنه لا تجب عليه الزكاة. والله تعالى أعلم.

حكم الحب إذا وضع في البيدر فتلف

حكم الحب إذا وضع في البيدر فتلف Q إذا وضع الحب في البيدر وتلف بتعدٍ أو غير تعدٍ، فما الحكم، أثابكم الله؟ A إذا وضع في البيدر وتلف بتعدٍ وجب عليه الضمان، وأما إذا كان لم يتعدّ ولم يفرِّط فلا ضمان عليه، وقد بينا هذا التعدي، كأن يرسل الماء عليه، أو يتساهل في وضعه على طريقة تؤدي إلى تلف الثمرة، أو يتركه للدواب والهوام، ويكون المكان الذي فيه البيدر فيه دواب وهوام تفسده، فحينئذٍ تعدى؛ لأنه عالم بوجود هذه المفاسد، ولم يتعاط أسباب الحفظ والصيانة، فيلزم بضمان ما تعدى فيه، وأما إذا كان فرّط فالتفريط أن يتساهل في تعاطي الأسباب للحفظ، كما ذكرنا أنه ترك الباب مفتوحاً فجاء السارق وأخذ، أو جعل مزرعته مفتوحة لكل من يدخل ويخرج بدون أن يحفظ الثمرة ويصونها، ويكون البيدر عليه ما يحفظه، فحينئذٍ يلزمه الضمان ولا يسقط ذلك وجوب الزكاة عليه. والله تعالى أعلم.

حكم المزارعة بما يخرج من الثمر

حكم المزارعة بما يخرج من الثمر Q استأجر رجل أرضاً لزراعتها واتفق مع صاحب الأرض على ربع الخارج من ثمارها وحبوبها، فهل هذا جائز، أم لا؟ وما العمل فيما سبق، أثابكم الله؟ A استئجار الأرض بربع ما يخرج منها أو بنصف ما يخرج منها لا يجوز على أصح أقوال العلماء كما ذكرنا. الحلّ في هذه الحالة: إذا استأجر وتمّ العقد، فإن القاعدة في الإجارات الفاسدة أنها تُفسخ إن أمكن الفسخ، بمعنى: أنه يقال لكل منهما أن يجدد العقد، وإذا أمكن ذلك فلا إشكال، أما لو زرع وخرج الزرع ومضت المدة، فالحكم حينئذٍ في القضاء والفتوى أن ذلك يردّ إلى أجرة المثل، فنقول: أنتم اتفقتم على وجه فاسد، فننظر كم أجرتها بالمعروف، فننظر في العرف في هذه القرية والمدينة أو المحلّ الذي فيه الأرض، لو أُجرت أرض مثل هذه الأرض بكم ستؤجر. قالوا: كل شهر بألف -وقد مضت ستة أشهر مثلاً- فنقول للمستأجر: ادفع ستة آلاف وهي أجرة المثل، يجب عليك دفعها، وخذ الثمرة كاملة لك، فيكون حينئذٍ ليس لرب الأرض أن يشارك المستأجر في الثمرة، وتكون الثمرة بكاملها للمستأجر، وعليه أن يدفع لرب الأرض أجرة أرضه بالمعروف، ولذلك قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] فالعرف يُرد إليه عند وجود ما يقتضي ذلك من الخلل في الإجارات أو فساد عقدها، فنقول: كم مضى من الأشهر؟ قالوا: شهران أو ثلاثة أو أربعة، فنقول: ادفع أجرة هذين الشهرين بالمعروف، فحينئذٍ لا ظلمنا رب الأرض ولا ظلمنا من استأجر الأرض، وأعطينا الأرض حقها، وكان في ذلك تحقيق للمصالح كلها، فالعامل في الأرض استفاد بالأجرة وأخذ حقه، والمستأجر استفاد بحبه الذي زرع في أرضه وما يكون منه من نتاج، وأعطيت الأرض حقها بدون ظلم، وهذا هو عين العدل الذي أمر الله به ورسوله. والله تعالى أعلم.

الخراج بالضمان

الخراج بالضمان Q من اشترى بيتاً أو أرضاً ثم وجد فيها ركازاً، فهل هو للبائع، أم للمشتري، أثابكم الله؟ A من اشترى أرضاً أو اشترى بيتاً فوجد فيه ركازاً فالركاز لمن اشترى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أم المؤمنين عائشة عند أبي داود في السنن: (الخراج بالضمان) ومعنى الحديث: أن الربح لمن يضمن الخسارة، فكما أنه متحملٌ لخسارة أرضه؛ حيث إنه لو تلفت الأرض، أو جاءتها آفة، أو جاءها ضرر، لتحمّل المشتري المسئولية، فكما أنه يتحمل الغرم فله الغنم، والقاعدة في الشرع: أن الغنم بالغرم، تفريعاً على هذا الحديث الذي عمل به وأجمع العلماء على العمل به: (الخراج بالضمان) قال أئمة الحديث: أجمع العلماء على العمل بمتنه، أن الخراج بالضمان، وهي قاعدة الغنم بالغرم، فالذي يشتري أرضاً وبعد عقد البيع بلحظة واحدة افترقا ثم حفر ووجد الركاز، فإنه ملكٌ له، وهو الذي يأخذه ويستحقه. والله تعالى أعلم.

زكاة العسل

زكاة العسل Q على القول بوجوب الزكاة في العسل، فهل يعتبر الشمع الموجود في العسل في الوزن أم لا، أثابكم الله؟ A يقولون: لا بد من تصفيته من شمعه، وإنما يجب منه بعد تصفيته؛ كالحب لا يجب فيه مع وجود قشره وما يصاحبه، كذلك إنما تجب الزكاة من صافي العسل.

عدم جواز الإجارة في تأبير النخل على جزء مما يخرج منه دون المساقاة

عدم جواز الإجارة في تأبير النخل على جزء مما يخرج منه دون المساقاة Q استأجر رجلٌ عدداً من النخل يقوم بتلقيحها والمحافظة عليها في فترة الطلع فقط على عدد من الأقنية، قنوان لكل نخلة، فما الحكم فيها، أثابكم الله؟ A من يعمل في الأرض يسقيها ويؤبرها ويقوم على مصالحها بجزءٍ مما يخرج منها كربع الثمرة ونصف الثمرة، فهذه مساقاة شرعية، والأصل فيها حديث عبد الله بن عمر الثابت في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها) هذا أصل عند العلماء في مشروعية المساقاة. الحالة الثانية: أن يقول له: أبِّر النخل وقم بتأبيره ولك ربع الثمرة، فهذا لا يجوز؛ لأنها ليست بمساقاة شرعية، والمساقاة الشرعية يقول العلماء: إجارة مستثناة من الإجارة بالمجهول، فأصل المساقاة الجائزة استثناها الشرع من الإجارة بالمجهول، وتوضيح ذلك: أن الأصل في الإجارة في الشرع -وهذه قاعدة ينبغي أن يضعها كل طالب علم نصب عينيه- أنه لا بد فيها من تحديد العمل والأجرة، فيحدد العمل وتحدد الأجرة، يحدد العمل بالزمان وبالقدر، فتأتي للعامل وتقول له: اعمل عندي يوماً بمائة في زرع أو بناء، هذه تحدد بالزمان، فاليوم يرجع إلى العرف إن كان العرف ثمان ساعات استحق الأجرة بثمان ساعات، وإن كان العرف أن اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها، فإنه سيعمل من طلوع الشمس إلى غروبها، ويرتاح في وقت الراحة بالعرف، هذه إجارة محددة بالزمان، والعمل محدد بالزمان، كذلك تتحدد الإجارة بالمكان بالمسافات وبالأقدار، فتقول له: أستأجرك إلى مكة يعني: توصلني إلى مكة كالسيارات، فهذه إجارة بالمكان، وكما في الصحيحين من حديث عائشة: (استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً) فهذه إجارة للمكان، أنه استأجره لكي يأخذ به مكاناً بعيداً عن الأنظار حتى يبلغ به المدينة، وهذه إجارة محددة بالفعل. كذلك أيضاً الأجرة لا بد أن تكون معلومة، فلو قال له: تعال واعمل عندي في العمارة يوماً مثلاً، قال: بكم؟ قال: ما نختلف سنتفق، سيكون الذي يرضيك سيكون الذي يسرُّك ما يهمك، لا يجوز، لماذا؟ لأنها مجهولة، فقد يكون الذي يرضي الرجل عند مالك العمل غير الذي يكون عند المستأجر، فيخدعه، ولذلك يحصل الضرر والفتنة، فيقول له: خذ مائة، يقول: لا، الذي يرضيني مائة وخمسون، أو يقول له: خذ خمسين، فيقول: الذي يرضيني مائة، فتقع الفتنة، والشريعة تريد من كل متعاقد أن يكون على بينة من أمره، فلا بد أن تحدد العمل والأجرة التي ترتبت على العمل، ولذلك جاء في حديث عبد الرزاق في المصنف: (من استأجر أجيراً فليعلمه أجره) فلا بد أن يكون الأجر معلوماً، وأجمع العلماء على حرمة الإجارة بالمجهولات. نحن عرفنا أنك لا يجوز أن تستأجر إنساناً بشيء مجهول، لا على عمل مجهول ولا على أجرة مجهولة، مثلاً: لو قال له: ابن لي حائطاً، أو ابن لي بيتاً، لا يجوز حتى يحدد كم طول الحائط وكم عرضه، وكذلك أيضاً ما هي مواصفاته؛ لأنه لو بناه على طريقة فربما يقول صاحب البيت: كنت أريده على طريقة أخرى، وكنت أريده على وضع آخر، فتقع الفتنة، وكلّما تأملت منهج الشريعة في شروط الإجارات والمعاملات التي تقع بين الناس تجد تشديداً، لكن هذا التشديد حفظ لأموال الناس ولحقوقهم، فلا أحد يظلم أحداً، وكلما طُبقت هذه الشروط الشرعية وجدت الناس في مأمن، وكلٌ يعلم ما الذي له وما الذي عليه، لكن ابحث عن أي خصومة في الإجارات لا تجدها إلا إذا دخلتها الجهالة أو دخلها شيءٌ من الغرر والمخادعة، ولذلك تجد بعض العقود لا تصحح في الشريعة؛ لوجود الدَخَل والجهل. لابد أن نفرِّق بين الإجارة والمساقاة، فالمساقاة حينما قال رب الأرض للعامل: خذ نخلي -عنده مائة نخلة- اسقها وقم عليها وأصلحها وأبِّرها، فإذا أخرجت الثمرة فبيني وبينك، نصفها لك ونصفها لي، هذا في الأصل الشرعي لا يجوز، لماذا؟ لأن العمل مجهول، فلا ندري كم مدة الأيام، وكم مدة الشهور، وكم المدة التي سيستغرقها عمل العامل. أيضاً: نفس العمل لا ندري كم قدره، المائة النخلة كلها قد تُطلع، وقد يُطلع نصفها، وقد يطلع ثلاثة أرباعها، وقد يطلع الثلث، لا ندري كم القدر، ثم لو أطلعت قد تطلع الجيد وقد تطلع بعدد كثير، وقد تطلع بالعدد القليل، وإذا أطلعت العدد الكثير أو الجيد، لا ندري هل يبقى صالحاً إلى الجذاذ أو لا، فإذاً المسألة كلها مبنية على الغرر، ومن هنا قال العلماء: المساقاة نوع من الإجارات المستثناة من الأصول. لأن الأصول تقتضي عدم الجواز، فاستثنيت بقدر الحاجة، إذا ثبت أنه إذا قال له: اسق لي زرعي أو اسق لي النخل ولك نصفه أو ربعه، أن هذا في الأصل لا يجوز ولكن جاز لورود النص عن النبي صلى الله عليه وسلم رفقاً بالمزارعين وبالناس، وكأنه اغتفر وجود الجهالة في العمل لطيبة الأنفس، فهذا شيء ورد النص به. هنا مسألةٍ لو قال له: قم على النخل أبِّر نخلي وخذ نصف الثمرة، فحينئذٍ ليست بمساقاة؛ لأن المساقاة قائمة على السقي، وقائمة على تطييب النخل، وإزالة الشوك عن الجريد حتى يتهيأ وضع الأقنية عليه، هو أجره فقط على التأبير، والتأبير شيء واستصلاح النخل بالسقي والقيام عليه شيءٌ آخر، فحينئذٍ رجعت إلى الأصل الذي يقتضي التحريم؛ لأنها إجارة بالمجهول، وحينئذٍ لا يصح هذا النوع من الإجارات، فنقول: إذا قال له: أبِّر النخل ولك نصف ما يخرج وارتفعا إلى القاضي، فإن القاضي يحكم بفساد الإجارة، ويأتي بأناس من أهل الخبرة، ويقول: قدروا عمل هذا الرجل في التأبير، كم نخلة أبَّر؟ قالوا: مائة نخلة، يسأل أهل الخبرة: كم يكون قيمة تأبير النخلة الواحدة؟ قالوا: كل نخلة تؤبَّر بعشرة ريالات مثلاً، هذه مائة نخلة معناه أن له ألف ريال يقول لرب الثمرة: أعطه ألف ريال ولك الثمرة خالصة، فأخذ العامل حظه، وأخذ رب المال ثمرته، وألغى هذا النوع من الإجارة الفاسدة. فإذاً يشترط في صحة الإجارة بجزء الثمرة أن تكون مساقاة شرعية على الصفة المعتبرة، المساقاة الشرعية يتحمل تنظيف البئر واستصلاحه، ويقوم على جلب الماء من البئر سواء عن طريق الدلو أو عن طريق القيام على السواني ومراقبتها، وتشغيل السواني في الأوقات المعتبرة للسقي، ويعطي وجبات النخل بنفس القدر المعتبر في السقي، فإذا قام بالسقي يقوم بعد ذلك بتطييب النخل وتهيئته للطلوع عليه، ثم النخل تكون أعراشه وعراجينه على الجريد، وتحتاج إلى تنظيف الجريد من الشوك حتى يتمكن من جنيه، ثم يقوم على تأبيره، إلى غير ذلك مما يحتاج إليه لاستصلاح ثمر النخل، أما بالنسبة للإجارة على التأبير وحده فالحكم فيه ما ذكرنا. والله تعالى أعلم.

باب زكاة النقدين

شرح زاد المستقنع - باب زكاة النقدين الذهب والفضة -وهما النقدان- من الأموال التي تجب فيها الزكاة، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، والإجماع قائم على وجوب الزكاة فيهما، ومن الأحكام والمسائل التي تتعلق بالذهب والفضة: حكم إعطاء الأوراق النقدية منزلة الذهب والفضة، وحكم زكاة حلي النساء، وحكم اتخاذ الذهب والفضة للرجال والنساء، وحكم ضم النقدين بعضهما إلى بعض لاستكمال نصاب الزكاة، وغير ذلك من الأحكام.

حكم الأوراق النقدية

حكم الأوراق النقدية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: (باب زكاة النقدين) هذا الباب قصد المصنف رحمه الله أن يبين فيه الأحكام المتعلقة بزكاة الذهب والفضة، وهما المرادان بقوله: (النقدين)، ومن عادة العلماء رحمهم الله أنهم يفردون لكل نوع من أنواع الزكاة باباً مستقلاً، ولذلك ابتدأ رحمه الله بزكاة بهيمة الأنعام وبيّن أحكامها، ثم أتبعها بزكاة الحبوب والثمار، ثم أتبعها رحمه الله بزكاة النقدين؛ والسبب في ذلك تقديم النبي صلى الله عليه وسلم لبهيمة الأنعام، وقد أخّر زكاة النقدين في حديث أنس في كتابه صلى الله عليه وسلم، حيث ذكر زكاة الفضة بعد زكاة الإبل والبقر والغنم، ولذلك ناسب أن يرتب المصنف رحمه الله على ترتيب السنة، فابتدأ بزكاة بهيمة الأنعام كما بيّنا، ثم أتبع ذلك بزكاة الحبوب والثمار، ثم أتبعها بزكاة النقدين. والمراد بالنقدين: الذهب والفضة، وكان الناس في القديم يتعاملون بهما أصلاً، فكانت الدنانير من الذهب، وكانت الدراهم من الفضة، وما زال الناس يتعاملون بذلك إلى قبل قرنين من الزمان أو قرن ونصف، حيث نشأة فكرة قائمة على المستندات، فكان التجار يسافرون من أماكن بعيدة يخافون في أسفارهم من الغرق وضياع المال، فكانوا يأخذون أوراقاً بالحوالة إلى تجار في الأماكن التي يذهبون إليها، فيسافرون من المشرق إلى المغرب، فيدفعون أموالهم من الذهب إلى رجل في المشرق في البلد الذي هم فيه، يعطيهم حوالة إلى وكيل لهم في المغرب، فيسلمون من ضياع المال في الطريق، وحمل هم حفظه والقيام عليه، فإذا نزلوا بالمكان الذي هم مسافرون إليه وجدوا الوكيل فأعطوه الورقة والمستند، فأعطاهم ما يريدون، فاشتروا تجاراتهم وانتقلوا بها إلى المكان الذي يشاءون. ثم توسعت الفكرة من التجار حتى أصبحت شائعة ذائعة بين الناس وفي الجماعات، ثم بعد ذلك أصدرت الأوراق المعروفة المعهودة الآن بالنقد، فأصبحت هذه الأوراق من ناحية شرعية بمثابة المستندات لرصيد صاحبها، وهذا أمر ينبغي لكل طالب علم أن يضعه في الاعتبار، أن الورق بذاته ليس مأموراً بزكاته، ولكن رصيده في الأصل إما ذهب إن كان من الجنيه والدولار والدينار ونحوه، أو فضة كالريال، فلما أعطي هذا المستند نُزِّل منزلة الأصل وسمي باسمه، ولذلك كانوا في القديم يتعاملون بريال الفضة المعروف، ثم أُعطوا بدله المستند المكتوب قائماً مقام هذا الأصل، وبناءً على ذلك فمن الناحية الشرعية هي أشبه بمستند الدين والقاعدة: أن المستندات تأخذ حكم أصولها، أي: أنها تُنزَّل منزلتها إذا تعذر الأصل، فأصبحت من الناحية الشرعية منزّلة منزلة رصيده. ولما شاعت هذه الأوراق أصبح البعض يقول: لا زكاة فيها لأنها ورق، وأغفل الأصل -كون رصيدها من الذهب أو رصيدها من الفضة- ولا شك أن هذا يعتبر مرجوحاً وضعيفاً؛ لأنه يفوت حقوق الفقراء والضعفاء، ولذلك ضعِّف هذا القول -كونها ورقاً لا زكاة فيه- وبناءً على ذلك فالفقه يقتضي أن هذه الأوراق يُنظر إلى رصيدها، فإن كان رصيدها من الفضة وجبت عليها زكاة الفضة، وإذا كان رصيدها من الذهب وجبت فيها زكاة الذهب، بناءً على ذلك أصبح الناس يتعاملون بالفرع قائماً مقام الأصل، ويُنظر إلى رصيدها بحسب أصلها، ثم بعد ذلك ألغي الرصيد، وهذا الإلغاء بتعامل عام لا علاقة له بالأفراد، ومن الناحية الفقهية لا يؤثر هذا الإلغاء؛ لأنه في الأصل إذا أعطى إنسان إنساناً وثيقة عن دين، ثم قال له: ألغيت لك أصل دينك، فإن هذا الإلغاء من الناحية الشرعية واقع في غير موقعه، فلا يترتب عليه حكم، مثال ذلك: لو أن إنساناً أعطيته كيلو من الذهب، ثم كتب لك مستنداً عن هذا الكيلو، ثم قال لك: هذا المستند لا أعترف به، أو ليس لك فيه رصيد، فالأصل الشرعي يقتضي أن رصيده محكوم به شرعاً، وأنه منزلٌ منزلة رصيده، شاء المديون أو أبى، هذا من الناحية الفقهية، إذا ثبت هذا فالإلغاء لا يؤثر في حقيقة الورق، ولا يلغي قيمتها الشرعية، وبناءً عليه تنزل منزلة رصيده، إذا ثبت هذا، فإننا ننظر في كل عملة إلى أصلها، فما كان من الفضة كالريال فأصله فضة، ويحسب نصابه بالفضة بناءً على أن الورق القديم منزلٌ منزلته. أما لو قيل بإلغاء الرصيد وأن هذا الورق يُنظر إليه مجرداً، ويجوز التعامل به ولو بالفضل وبالزيادة، فهذا القول فيه نظر من وجوه: الوجه الأول: أنه قائم على إلغاء الرصيد الواقع في غير موقعه؛ لأن الشرع لا يلتفت إلى الإلغاء إلا إذا كان له مستند شرعي، لأنه دين ثابت شرعاً بحكم الشرع، فلو ألغاه المدين لا يؤثر هذا الإلغاء؛ لأنه لا تأثير له في الأصل، وبناءً على ذلك يكون كالمعجوز عنه كما لو جحده الأصل، وهذا الفرع منزَّل منزلة أصله. الوجه الثاني: أننا لو قلنا هذا لما وجبت زكاة في ريال، والسبب في ذلك: أن الله لم يأمرنا بزكاة الورق، وإنما أمرنا بزكاة ذهب وفضة، فإذا قلنا: إننا لا نلتفت إلى رصيدها، فلا زكاة فيها، وهذا لا شك أنه يضيِّع حق الله عز وجل، إضافة إلى أن هذا الريال سمي باسم أصله، ولذلك أصله من الفضة فسمي باسمه، فإذا ألغي الرصيد ونُظر إلى الريال مجرداً عن الورق، فإننا لا نلتفت إلى وجوب الزكاة فيه، فلو قال قائل: إن هذا الورق له قيمة في ذاته، فوجبت فيه الزكاة؛ لأن له رواجاً وله قيمة، أُجيب بأن قيمة الورق لا تستلزم وجوب الزكاة فيه، ألا ترى ورق العلم كتب العلم ونحوها، فإن لها قيمة وتباع بقيمة ولها ثمن، ومع ذلك لا تجب فيها الزكاة، وعلى هذا فإنه لا يُلتفت إلى القول بإلغاء الرصيد، وهذا الذي يقوى من جهة النظر، وأن هذه الأوراق منزلة منزلة رصيد، ولو قيل بإلغاء الرصيد وجواز التفاضل بين الريال الورق والريال المعدني لحل الربا نسيئة وفضلاً وزيادة، ووجه ذلك: إذا ساغ لرجل أن يعطي رجلاً مائة ألف من الورق ثم يقول: اقضها لي بالحديد مائتين أو مائة وعشرين، وهذا لا شك أنه فتح للقول بجواز ما حرّم الله عز وجل، وحينئذٍ يتمكن أهل الربا من المراباة دون أن يُحكم بحرمة تعامله؛ لأنه يقول له: خذها ريالاً وردها حديداً، وحينئذٍ يمكنه أن يفاضل ويقع الربا الذي حرم الله عز وجل، ونهى عباده عنه. فالذي يظهر أن هذه الأوراق منزَّلة منزِلة رصيدها، وإذا ثبت هذا؛ فإننا نقول: نصابها نصاب الرصيد، وكل ريال منزّل منزلة الرصيد، والحديد المعدني ينزل منزلة الريال الورق؛ لأن كل ريال من الحديد أو الورق إنما هو مقابل لريال من الفضة، فإذا صرفت مثلاً ريالين من الحديد بريال من الورق، كأنك صرفت ريالين من الفضة التي هي في رصيده مقابل ريال من الفضة، وهذا عين ربا الفضل، وعلى هذا فإنه لا بد من تنزيل هذا الفرع منزلة أصله، والحكم بكونها أموالاً منزَّلة منزلة أصولها، فتعتبر الريالات من الفضة، وزكاتها زكاة الفضة. أما على القول بعدم الالتفات إلى الرصيد، فهم نظروا إلى قيمتها أعني قيمة الفضة بالورق، فقالوا: إذا أراد أن يزكي فإنه ينظر إلى قيمة ريالات الفضة القديمة بريالات الورق، والواقع أن ريالات الفضة القديمة ينبغي صرفها بريالات الورق مثلاً بمثل يداً بيد؛ لأن ريال الفضة القديم كريال الورق سواءً بسواء؛ لأنه مستند عن أصل واحد، فلو اشترى إنسان ريال فضة قديم بعشرة ريالات من الورق فهو عين الربا الذي حرّم الله، لأنه كأنه صرف عشرة ريالات من الفضة في مقابل ريال من الفضة، وهذا عين الذي نهى الله عز وجل وحرّم، فلا يعقل أننا نقول في الزكاة: انظر إلى قيمة ريال الفضة القديم بالريال الورق؛ لأنه لو قيل بذلك لجازت أصل المعاملة وهي ربوية، وعلى هذا فالذي يظهر أن كل ريال من الورق منزل منزلة رصيده من الفضة، وكل ريال من الحديد والنيكل منزل منزلة رصيده من الفضة بناءً على ذلك فنصاب الفضة له حكم، ونصاب الذهب له حكم.

الأدلة على وجوب زكاة النقدين

الأدلة على وجوب زكاة النقدين وزكاة النقدين الأصل في وجوبها قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، فأمر الله بأخذ الزكاة من الأموال، والذهب والفضة مال، فدخل في هذا المأمور به، وعلى هذا فإنها فريضة من فرائض الله، ودلّت السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس في كتابه صلى الله عليه وسلم حينما قال: (وفي الرقة في كل مائتي درهم ربع العشر). فدل على أن الزكاة واجبة في الرقة وهي الفضة، والإجماع قائم على وجوب الزكاة في الذهب والفضة، وأنهما من الأموال التي ينبغي تزكيتها إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول، أعني الشروط المعتبرة للحكم بفرضية الزكاة. إذاً أوجب الله عز وجل زكاة النقدين، والعلماء رحمة الله عليهم يقولون: يستوي في ذلك ما كان منها مغشوشاً، وما كان منها خالصاً، وتوضيح ذلك أنهم في القديم كانوا يضربون الذهب دنانير، ويضربون الفضة دراهم، ويحتاج الذهب إلى شيءٍ من المعدن -من النحاس أو الحديد- يتقوى به، ولذلك لا يصفو الدينار ذهباً خالصاً؛ لأن الذهب ضعيف، فإذا كان الدينار مشوباً وفيه غش فللعلماء رحمة الله عليهم في هذه المسألة خلاف، بعض العلماء يقول: الدنانير ينظر إليها بالرواج، فإذا راج المغشوش منها كرواج الذي لا غش فيه وهو الخالص وجبت زكاة المغشوش كزكاة الخالص، مثال ذلك: إذا قلنا: إن خمساً وثمانين غراماً هي مقدار النصاب في الذهب، فإن الذي عنده من دنانير الذهب ما يبلغ هذا الوزن، يجب عليه أن يؤدي منها سواءً كانت مغشوشة أو كانت خالصة، فلا يلتفت إلى وجود الغش؛ لأنها بالرواج، أعني كون الناس يتعاملون بها كتعاملهم بالخالص نزِّلت منزلة الخالص فكأنه لا شائبة فيها، وهذا القول يقول به بعض الفقهاء، كما هو مذهب المالكية رحمة الله عليهم. وقال الحنابلة رحمهم الله، ويوافقهم الشافعية: يُنظر إلى الصافي والخالص، فالدنانير إذا كانت مشوبة، لا بد وأن يُنظر إلى خالصها من الذهب، والدراهم إذا كانت مشوبة لا بد وأن ينظر إلى خالصها من الفضة، فلا تجب الزكاة إلا في الخالص منها، فإن نقصت في الخالص عن قدر الزكاة، كأن يكون عنده عشرين ديناراً وفيها مشوب فحينئذٍ لا تجب عليه الزكاة؛ لأنها بالمشوب نقصت عن هذا القدر، وعلى هذا قالوا: إنه يلتفت إلى الأصل، فإذا كانت خالصة وبلغت النصاب وجبت الزكاة، وإن كانت مشوبة ولا يبلغ قدر الخالص منها نصاباً فلا تجب فيها الزكاة. ولا شك أن هذا القول الثاني أقوى من جهة النظر والاعتبار؛ لأنه إذا قيل: إن الزكاة وجبت في ذهب وفضة، فينبغي الالتفات إلى الذهب والفضة بذاتها دون ما خلطها من الشوائب.

نصاب الذهب والفضة

نصاب الذهب والفضة قال المصنف رحمه الله: [يجب في الذهب إذا بلغ عشرين مثقالاً، وفي الفضة إذا بلغت مائتي درهم ربع العشر منهما]. قوله: (يجب في الذهب إذا بلغ عشرين مثقالاً) هذا هو نصاب الذهب، والأصل فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ علي: (إذا كان عندك دنانير أو ذهب فبلغ عشرين ديناراً، ففيها نصف دينار)، رواه الإمام الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد، وهذا الحديث حسّن إسناده غير واحد من العلماء رحمة الله عليهم، وفيه كلام؛ لأنه من رواية عاصم بن أبي ضمرة عن علي رضي الله عنه، وفيه الكلام المعروف. فيقولون: إن الإجماع انعقد على هذا الحديث، أن العشرين مثقالاً هي نصاب الذهب، ولا شك أن العلماء سلفاً وخلفاً أجمعوا على أن عشرين مثقالاً هي نصاب الذهب، فما نقص عن عشرين مثقالاً لا زكاة فيه، وبناءً على ذلك، قالوا: ينظر إلى وزنها وعِدلها، وعدل عشرين مثقالاً خمسة وثمانون من الغرامات الموجودة حالياً، فإذا بلغ الذهب خمسة وثمانين غراماً فإنه تجب فيه الزكاة، وإذا كان دون ذلك فإنه دون النصاب المعتبر، وهناك خلاف في المثقال، مما جعل الأنصبة عند العلماء تختلف، خاصة مع وجود الشوب في الدنانير القديمة، فبعض العلماء يقول: إنها تصل إلى ستة وتسعين غراماً، والخلاف ما بين خمسٍ وثمانين وست وتسعين غراماً، لكنه بالخالص المحرر هو خمسة وثمانون غراماً، وهو ما يعادل أحد عشر جنيهاً وثلاثة أسباع الجنيه السعودي، وهذا هو قدر النصاب من الذهب، والإجماع منعقد على وجوب الزكاة في هذا القدر، وأن ما دونه لا تجب فيه الزكاة. قوله: (وفي الفضة إذا بلغت مائتي درهم)، أما بالنسبة للفضة، فربطها النبي صلى الله عليه وسلم بمائتي درهم، والإجماع قائم على ذلك أن مائتي درهم هي نصاب الفضة، ولا خلاف في هذا من جهة العدد. أما من جهة الوزن فخمس أواق، وفيها حديث الصحيحين: (ليس فيما دون خمس أواق من الفضة صدقة)، فهذا يدل على أن العبرة بخمس أواق وبمائتي درهم، إن كانت عدداً فبالدراهم، وإن كانت وزناً فبالأوقية، أما ضابطها بالغرامات، فهناك خلاف بين الجمهور والحنفية، والجمهور يقولون: إن مائتا درهم عربي تصل إلى خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً، هذا بالنسبة لقدرها بالغرامات. هذا القدر أجمع العلماء على اعتباره في الذهب والفضة، لورود السنة في الفضة في الصحيحين، وأما بالنسبة للذهب فالحديث الذي ذكرناه، وله شواهد منها ما ذكره الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه الأموال، وكذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فهذه الأحاديث هي أصل في نصاب الذهب ونصاب الفضة على الصورة التي ذكرناها. قوله: (ربع العشر منهما) أي: من الذهب ومن الفضة، فعشرون ديناراً عشرها ديناران، وربع الدينارين يعادل نصف دينار، ولذلك في كل عشرين ديناراً نصف دينار كما جاء في حديث علي رضي الله عنه. وأما بالنسبة للفضة ففي كل مائتي درهم خمسة دراهم، هذا هو ربع العشر لورود النص فيه: (في الرقة في كل مائتي درهم ربع العشر) ويسميه العلماء رحمهم الله القدر الواجب، وفي هذا العصر يقولون: يعادل اثنين ونصف في المائة، هذا القدر هو الذي أوجبه الله عز وجل في زكاة الذهب وزكاة الفضة.

حكم ضم النقدين إلى بعضهما

حكم ضم النقدين إلى بعضهما قال المصنف رحمه الله: [ويضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب]. قوله: (ويضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب) هذه مسألة خلافية، وصورتها: أن يكون عند الإنسان نصف النصاب من الذهب، وعنده فضة بحيث لو جمعت مع الذهب بلغت النصاب، سواء قلنا: عِدلها من نصاب الفضة أو عِدلها من نصاب الذهب، فحينئذٍ يرد Q هل كلٌ منهما ينظر إليه بانفراد، ويعتبر نوعاً مستقلاً، أم أنهما يضمان مع بعضهما؟ للعلماء في هذه المسألة قولان: منهم من يرى الضم، وهم الجمهور، ومنهم من لا يرى الضم وهم الشافعية، واحتج الشافعية بالأصل، قالوا: إن الشرع جعل الفضة نوعاً من الأموال، وجعل الذهب نوعاً من الأموال، ولا يمكن أن نضم النوع إلى النوع، كما أننا لا نضم الإبل إلى البقر، ولا نضم الغنم إلى الإبل، فنظراً لاختلاف الأنواع ننظر إلى كل نوعٍ على حدة، وهذا المذهب يستند إلى الأصل كما ذكر أن الذهب نوع والفضة نوع، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، سواء بسواء، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، وبالإجماع أنه يجوز بيع الذهب بالفضة متفاضلين، فدل على أنهما نوعان مختلفان، وهذا بالإجماع في الصرف، فإذا كان في نظر الشرع في الصرف أنهما نوعان مختلفان، فكذلك في الزكاة، وهذا القول هو أسعد القولين بالدليل، وأولاهما بالصواب إن شاء الله تعالى؛ أن لكل منهما نصاباً معتبراً، ولا بد أن تبلغ الفضة نصابها وأن يبلغ الذهب نصابه خلافاً للجمهور رحمة الله عليهم الذين يقولون بضم كل منهما إلى الآخر.

حكم ضم قيمة العروض إلى النقدين

حكم ضم قيمة العروض إلى النقدين قال المصنف رحمه الله: [وتضم قيمة العروض إلى كل منهما]. (وتضم قيمة العروض إلى كل منهما)، صورة المسألة: فلان من الناس عنده متجر، يتاجر فيه بطعام أو كساء أو دواء، أو نحو ذلك، وهذا المتجر له رأس مال مائة ألف، دخل بها فتاجر، فمن المعلوم أن البائع والمتاجر، تارة تكون عنده الأعيان من الأكسية والأغذية، ونحوها، وتارة تكون عنده النقود، وتارة يكون عنده الاثنان، فيكون الدرج فيه المال والنقد من الذهب والفضة، ويكون المحل فيه العروض، فإذا دخل برأس مالٍ للمتاجرة فيه، جُعِل هذا الشيء بمثابة الشيء الواحد، لأنه لما فرغ المائة ألف والمائتين للتجارة أعطيت حكم المال الواحد، فحينئذٍ ينظر إلى قيمة ما في المتجر من العروض المعروضة سواءً كانت من الأطعمة أو الأكسية أو الأغذية أو غيرها من العروض المعروضة، ويضيفها إلى ما في درج التاجر، فإذا بلغت النصاب وجبت الزكاة، ويقع ذلك إذا كانت العروض نصف النصاب، وكان الذي في الدرج يعادل النصف، فإذا قيل بالضم وجبت الزكاة؛ لأنه بضم بعضهما إلى بعض بلغا النصاب الذي أوجب الله فيه الزكاة، وهذا هو المعتبر لأنهما بمثابة المال الواحد أما لو كان الذي في الدرج مال مُرصَد لغير التجارة، كإنسان قبل الحول بيوم عنده مال استفاده من دين مائة ألفٍ -مثلاً- فجاء ووضعه في درج متجره للحفظ أو نحو ذلك، فالمائة ألف هذه التي جاءته من الدين لا نضمها إلى ما في المتجر عند حولان الحول، وإنما نضم المال المدار الذي احتكره للتجارة، أو جاءه عن طريق التجارة، وأما ما جاءه عن طريق إرث أو دين، فهذا له حكم المستقل، إلا إذا ضمه لرأس المال للمتاجرة به.

حكم اتخاذ الذهب والفضة للرجل

حكم اتخاذ الذهب والفضة للرجل قال المصنف رحمه الله: [ويباح للذكر من الفضة الخاتم]. قوله: (ويباح للذكر من الفضة الخاتم)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لبس الخاتم من الفضة، وسبب ذلك: أنه لما أراد أن يكاتب ملوك الأرض للدعوة إلى الله عز وجل، قيل له: إن الملوك لا يقرءون الكتب إلا إذا خُتمت، فاتخذ خاتماً صلوات الله وسلامه عليه، وكتب إليهم يدعوهم إلى الإسلام، فهذا الخاتم كان في يده صلوات الله وسلامه عليه، ثم بعد ذلك انتقل إلى أبي بكر ثم عمر ثم عثمان، وكان عثمان رضي الله عنه تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم يمر بقباء فيصلي فيه، ثم يجلس على قف بئر أريس، وكان أبو بكر وعمر يفعلان ذلك، فجاء عثمان وجلس على قف البئر وما زال يعبث بخاتمه حتى سقط الخاتم من يده في البئر، وطلبوه فلم يجدوه، وبئر أريس بئر بقباء من الجهة الغربية إلى الجهة الجنوبية من المسجد، ويعرف البئر ببئر الخاتم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجلس عليه، وكان من الفضة، كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من الفضة، وما عاش عثمان بعد سقوط الخاتم إلا يسيراً، قيل سنة، ثم قُتِل رضي الله عنه، فكان فقد الخاتم إشارة إلى ما يكون من الفتن التي افتتح بها البلاء على الأمة بعد ذلك، وهي من الأمور التي كانت من علامات الحوادث التي وقعت في زمانه رضي الله عنه وأرضاه. أما بالنسبة للخاتم فهو ثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان من الفضة. وأما بالنسبة للذهب، فإنه لا يجوز أن يتختم به الرجل، فإن تختم به الرجل، فهو جمرة من نار والعياذ بالله، يعذَّب بها يوم القيامة كما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه رأى رجلاً قد اتخذ خاتماً من ذهب، فقال: (يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في إصبعه)، وهذا يدل على أنه إذا تختم بالذهب عذبه الله يوم القيامة، قيل: يعذب في قبره، وقيل: يعذب في حشره، وظاهر النص الإطلاق؛ لأنه قال: (جمرة من نار)، وهذا لا تقييد له، لا بالبرزخ ولا بالآخرة. وأما بالنسبة للنساء، فيجوز لهن التختم بالذهب والفضة، وهذا بإجماع العلماء؛ لأن الله تعالى يقول: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، فالمرأة تتحلى وتتزين، وشرع الله عز وجل لها الزينة، وذلك لمقاصد اعتبرتها الشريعة الإسلامية، لما فيها من حصول الألفة في الزواج ونحو ذلك، وأما بالنسبة للرجل فالإجماع قائم على تحريم الذهب على الرجال، لكن استثنى بعض العلماء اليسير، وسيذكر المصنف رحمه الله بعضاً من ذلك، فمن هذه الاستثناءات صور ذكرها أهل العلم، منها ما ورد فيه النص بأصله، ومنها ما استثناه العلماء من باب الاستحسان، وفيه بعض الآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم، ومنها ما استثناه العلماء اجتهاداً. قال المصنف رحمه الله: [وقبيعة السيف]. قوله: (وقبيعة السيف) قالوا: إنها تستثنى، فيجوز أن تكون من الفضة؛ لأن قبيعة سيف النبي صلى الله عليه وسلم كانت من الفضة، وهذا ورد به النص، وعلل العلماء رحمهم الله بأن قبيعة السيف، وهي التي تكون على رأس المقبض أشبه بالكرة أو الدائرة التي تكون في آخر اليد حتى يستطيع الإنسان إذا أمسك بالسيف أن يحكم إمساكه فيقوى ضربه لمن يقاتل، فهذه القبيعة استثنيت أن تكون من الفضة، فيجوز اتخاذها من الفضة، وفيها حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال العلماء: إن الحكمة في ذلك إرهاب العدو، فإن العدو إذا رأى المسلمين في أحسن هيئة وأحسن حال هابهم، ويكون ذلك أدعى لحصول مقصود الشرع من كسرة شوكة الكفار، وهذا كما ذكرنا من باب التعليل للنص، ومن هنا قاس بعض العلماء على القبيعة صوراً الأصل يقتضي تحريمها، ولكنهم استحسنوها، وقالوا بجوازها اجتهاداً، وفي هذا الاجتهاد نظرٌ لا يخفى. قال المصنف رحمه الله: [وحلية المنطَقة ونحوه]. قوله: (وحلية المنطَقة) وهي التي يُشد بها وسط الإنسان، أشبه بالحزام وتكون لحاملة السيف تُحلّى ويوضع فيها شيءٌ من الفضة، استثنيت هذه وفيها بعض الآثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن يرى فعل الصحابي حجة يستثنيها، وليس فيها شيءٌ صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (ونحوه)، أي: ونحو ذلك، وهذا يقتضي القياس، أنه ينزل منزلة هذه الأشياء، ما كان في حكمها مما فيه إغاظة للعدو وكسرٌ لشأفته، مما يتحلى به على قصد الإغاظة لهم، ولكن الذي يظهر أن هذه الأشياء الأصل فيها المنع؛ لأن الفضة في الأصل فيها وجهان للعلماء: من أهل العلم من يقول: الفضة للذكر تجوز، فيجوز أن يتخذ ما شاء منها، لقوله عليه الصلاة والسلام: (وأما الفضة فالعبوا بها لعباً)، وللعلماء خلاف في قوله: (العبوا بها لعباً)، منهم من حمله على الحقيقة، وهو اللعب الذي يكون بخاتم الإنسان، إشارة إلى ما أبيح منها وهو التختم، والإنسان من عادته إذا تختم لعب بخاتمه، قالوا: فالمقصود به حقيقة اللفظ، ومنهم من يقول: هو مجازٌ كناية عن الجواز، فاتخذوا منها ما شئتم، فيجوز أن يتخذ السيف من فضة، ويجوز أن يتخذ الخنجر من فضة، ويجوز أن يتخذ الحزام من فضة، ويجوز أن يتخذ القلم من الفضة، ويجوز أن يتخذ الإزار من الفضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العبوا بها لعباً)، وهذا على سبيل التجوز، وإن كان الأصل حمل اللفظ على الحقيقة، وهو أقوى. ومما يقوي حمله على الحقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحائفهما، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)، قال العلماء: لما حرم النبي صلى الله عليه وسلم أواني الفضة، مع أن الأواني يُحتاج إليها للأكل، كأنه نبه بهذا الأعلى إلى ما دونه، وتوضيح ذلك: أن هناك أشياء ضرورية، وأشياء حاجية، وأشياء تحسينية، منها الكماليات والفضوليات، هذه ثلاث مراتب، فالضروريات هي التي تتوقف عليها حياة الناس، وهي التي يرخَّص فيها في مقام المحظورات والمحرمات، كالأمور التي تتعلق بحياة الإنسان وتتوقف عليها حياته كأكله وشربه ونحو ذلك، فهذه من مقام الضروريات، ومقام الحاجيات هي الأشياء التي لو منع الناس منها تضرروا، وحصل الضيق لكنهم لا يموتون، فيفضي إلى درجة الحرج والمشقة، فيقولون: إن وضع الطعام في أواني الذهب والفضة، نفس الأواني في مقام الحاجيات؛ لأنها تحفظ الطعام الذي يغتذي به الإنسان، ولو لم يحفظ الطعام، لا يستطيع الإنسان أن يغتذي، فهي بحكم الحاجيات، فإذا حرّم النبي صلى الله عليه وسلم وضع الذهب والفضة في الأواني، مع أنها في مقام الحاجيات، فمن باب أولى الفضول والتحسينات، كأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد بها أن ينبه بما هو أدنى، وهذا ما يسمونه التنبيه بالأعلى على ما هو أدنى منه، كقوله سبحانه وتعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23]، فإنه نهى عن أف فمن باب أولى أن لا يضرب الوالدين. ولذلك يقولون: إذا حرُم أن يأكل في آنية الذهب والفضة، مع أنه يحتاج إلى حفظ الطعام بالإناء، فمن باب أولى ما هو في مقام الفضول والزينة والتحسين، ولما في اللعب بالفضة من كسرٍ لقلوب الفقراء والضعفاء، وبذلك قالوا: إنها أقرب إلى الإسراف، فالإنسان إذا لبس ساعة من فضة أو اتخذ قلماً من فضة، مع أنه يمكنه أن يتخذ ما دون ذلك، لا شك أنه سيتكلف، وستكون قيمة الفضة غالية. وأما الذهب فلا يرخص فيه على الأصل حتى يدل الدليل على استثنائه. قال المصنف رحمه الله: [وما دعت إليه ضرورة كأنف ونحوه]. قوله: (وما دعت إليه ضرورة كأنف) مثال ذلك: أن يُجدع أنف الإنسان -يقطع- ثم يحتاج إلى وضع الذهب ستراً لهذا الأنف، هذا من باب الضروريات، والأصل فيه حديث عرفجة بن أسعد أنه جُدِع أنفه يوم كلاب، وقيل: الكلاّب، وكان بين تميم وكندة، ثم اتخذ أنفاً من فضة فأنتن، فاتخذ أنفاً من ذهب، ولذلك قالوا: ما كان من الأعضاء مُحتاجاً إليه أن يوضع فيه ذهب أو فضة، يجوز أن يتخذ منه ما شاء من الذهب والفضة بقدر حاجته، ويبنونه على حديث عرفجة رضي الله عنه وأرضاه، ويقولون: إن هذا من باب الحاجيات، ويؤكد ذلك أن الأنف إذا جُدع فإن الإنسان يستضر بدخول الجراثيم ودخول الأشياء الكبيرة التي قد تضر به، ولذلك اتخذ الأنف دفعاً لهذا الضرر، بخلاف ما إذا كان وضع العضو تحسيناً، كتجميل سنِّ بذهب فإنه لا يجوز؛ لأنه ليس بحاجي ولا ضروري، ولا آخذٌ حكم الحاجة ولا الضرورة، ولذلك فهو حرام، فإن مات ميت وسنه من ذهب، ولبّس بالذهب، أو اتخذ سناً من ذهب، فلا يخلو من حالتين: إما أن يمكن إزالة هذا الذهب دون إضرار بالميت، فتجب إزالته، كما نص العلماء رحمة الله عليهم على ذلك. وإما أن لا يمكن إزالته إلا بضرر من جرحٍ أو قلع للسن، وهي من أصل الخلقة، فحينئذٍ تترك، ولا يؤمن عليه أن الله يعذبه بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خاتم الذهب: (جمرة من نار)، حتى قال بعض العلماء رحمة الله عليهم: إنه إذا تحلى بالذهب في سن بدون حاجة لا يأمن أن يكون عليه جمرة من نار في فمه، نسأل الله السلامة والعافية. ولذلك اختص الحكم بقدر الضرورة، أما الأسنان التي يحتاج إلى سدها واحتيج إلى ذهب أو فضة، فإن كانت الفضة يمكن أن تؤدي المقصود، فلا يترخص بالذهب؛ لأن ما جاز للضرورة يقدَّر بقدرها، فلا يتجاوز إلى الذهب؛ لأن الفضة أهون من الذهب، والرخصة بالفضة أيسر من الرخصة بالذهب، والذهب أشد، ولأن الفضة قد أُذن للرجل بها، والذهب لم يؤذن للرجل به، فيبقى على الأصل المقتضي للتحريم، فيُيَسَّر في الفضة ولا يُيَسَّر بالذهب، فإذا أمكنه أن يدفع ضرورته بالفضة لا يعدل إلى الذهب، لكن لو كانت الأسنان من الفضة تنتن، وتكون لها رائحة، أو اتخذها من الفضة فأنتنت وآذت، فحينئذٍ يجوز له أن يعدل إلى الذهب ولا حرج عليه في ذلك، والشرط في جواز الذهب والفضة في السن أن لا يوجد البديل، فإن وجد بديل من مع

ما يباح للنساء اتخاذه من الذهب والفضة

ما يباح للنساء اتخاذه من الذهب والفضة قال المصنف رحمه الله: [ويباح للنساء من الذهب والفضة ما جرت العادة بلبسه ولو كثر]. قوله: (ويباح للنساء من الذهب والفضة ما جرت العادة بلبسه) كالأسورة والقلائد والأوشحة والحزام من الذهب والفضة، وغير ذلك مما جرت العادة بلبسه، قوله: (ولو كثر) أي: ولو كان كثيراً، وذلك لأن الله عز وجل وصف النساء بكونهن يتحلين بالحلية، وذلك من شأنهن، كما قال سبحانه وتعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، فجعل لهن هذا الحظ من الدنيا، وبناءً على ذلك لا حرج أن تتحلى المرأة باليسير والكثير، خاصة إذا جرى العرف بهذا اللبس، ولا يعتبر محظوراً في حقها.

حكم زكاة الحلي

حكم زكاة الحلي قال المصنف رحمه الله: [ولا زكاة في حليهما المعد للاستعمال أو العارية]. قوله: (ولا زكاة في حليهما) المعد للاستعمال، الحلي الذي تتحلى به المرأة للعلماء فيه قولان: منهم من قال: يجب على المرأة أن تؤدي زكاة الحلي قلّ أو كثر، بشرط أن يبلغ النصاب المعتبر، وهذا هو مذهب الحنفية رحمة الله عليهم. القول الثاني: لا تجب الزكاة في الحلي، وهذا هو مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة. واستدل الذين قالوا بوجوب الزكاة في حلي النساء بحديث الترمذي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة تطوف، وعليها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال: أتؤدين زكاتهما؟ قالت: لا، قال: هما حسبك من النار)، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بيّن وجوب الزكاة، إذ الوعيد فيه لا يترتب إلا على فعل محرم أو ترك واجب، ولا شك أن الواجب هنا هو الزكاة، فدل على أن الزكاة واجبة، فجعل قوله: (هما حسبك من النار)، مرتباً على قولها: لا، فدل على أنها لو زكت لما كان حسباً لها من النار، قالوا: فهذا الحديث يدل دلالة واضحة على وجوب الزكاة في الحلي، واستندوا أيضاًَ إلى الأصول، وذلك في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، ولا شك أن الحلي مال؛ لأن له قيمة، وقالوا: إنه تجب فيه الزكاة، سواء كان من الذهب أو كان من الفضة. واستدل الجمهور على إسقاط الزكاة بحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في الحلي زكاة)، وهو حديث ضعيف؛ لأنه من رواية أيوب بن عافية، وهو ضعيف، ولا يقوى على معارضة حديث الترمذي الذي صححه غير واحد. وبناءً على ذلك: يترجح القول القائل بوجوب الزكاة في الحلي، وحينئذٍ يجب على المرأة إذا حال الحول على حليِّها أن تنظر في زكاته إذا كان قد بلغ النصاب، فتُخرج ربع عشره، إن شاءت أخرجته من الذهب، وإن شاءت أخرجته من الفضة، أخرجت ربع العشر من الذهب، أو أخرجته بعدله من الفضة، توضيح ذلك: لو أن حليها زكاته عشرة غرامات، فحينئذٍ نقول لها: إما أن تخرجي عشرة غرامات من الذهب، وتعطى للمسكين ينتفع بها، يبيعها ويأخذ مالها، أو تنظري عِدل العشرة غرامات في يوم الحول بقيمتها من الذهب، فإذا كانت قيمة كل غرام من الذهب في يوم الحول ثلاثين ريالاً فإننا نعتبر الواجب عليها في عشر غرامات ثلاثمائة ريال، ونقول: أنت بالخيار إن شئت أخرجت عدلها من الفضة، وإن شئت أخرجت أصلها، أعني العشرة غرامات، فتُخيّر بين الاثنين، إن شاءت هذا أو هذا، لكنها إذا أرادت أن تنظر إلى عِدل الذهب من الفضة، فينبغي أن تنظر إلى اليوم الذي هو حولها، فلو كان غرام الفضة في يوم حولها يساوي أربعين ريالاً، ثم أرادت أن تخرج بعد يوم أو يومين، وقيمته خمسون أو ستون فالعبرة بالأربعين، لا بالزيادة ولا بالنقص الطارئ بعد يوم الحول، وعلى هذا لا بد أن تعرف قيمة الغرامات في يوم الحول، وتؤدي زكاته على هذا الوجه المعتبر، والعبرة بقيمة البيع لا بقيمة الشراء. وقوله: (المعدة للاستعمال أو العارية). بناءً على القول بإسقاط الزكاة في الحلي، كما يقول الجمهور هناك مسائل، يقولون: أولاً: ينبغي أن يكون الحلي معداً للاستعمال، فإذا كان بعضه معداً للاستعمال وبعضه لا يعد للاستعمال إلا نادراً، فإننا نوجب عليها الزكاة في النادر، وأما الغالب فلا زكاة فيه، ومن أمثلة ذلك: لو كان عندها ذهب تلبسه أكثر الحول، أو كل الحول، وذهب خاص للمناسبات بحيث لا يعادل أكثر الحول، تجب عليها الزكاة في النادر الذي تلبسه في المناسبات، ولا تجب عليها في الذي تتحلى به دائماً. ثانياً: وأيضاً يقولون: إن الحلي يشترط فيه أن يكون مباحاً للمرأة، فما زاد وكان محرماً فإنه تجب عليها الزكاة فيه، ولا يعتبر مستثنى؛ لأن التحريم يسقط الرخصة، وكأن الحلي الأصل وجوب الزكاة فيها، فرخص بإسقاط الزكاة فيها إذا كانت تتحلى بها، وبقي ما عداه على الأصل الموجب للزكاة. قال المصنف رحمه الله: [فإن أُعد للكراء أو للنفقة أو كان محرّماً ففيه الزكاة]. قوله: (فإن أعد للكراء) إذا قلت: إن الحلي لا زكاة فيه، فإنه قد يُعد الحلي للكراء، ومن أمثلة ذلك: أن يكون عند المرأة أسورة من الذهب، أو قلائد من الذهب، وتؤجرها على النساء، إذا صارت المناسبات تأخذ المرأة هذا السوار الليلة بمائة مثلاً، وكل سوار بمائة، وهذه المسألة فيها قولان للعلماء: من أهل العلم من يرى جواز إجارة الذهب والفضة للتجمل والزينة، ومنهم من يمنع من ذلك. والذين يجيزون يقولون: إن المنفعة وهي الزينة مقصودة، فصارت منفعة مقصودة، فحينئذٍ يجوز أن يُستأجر، وبناءً على هذا القول الذي يقول بالجواز، كما مشى عليه المصنف رحمه الله، حينئذٍ الذي يُعد للكراء تجب فيه الزكاة مع أنه حلي، ولا تسقط عنه الزكاة على أصل المذهب الذي اختاره رحمة الله عليه؛ لأنه لما أُعد للكراء خرج عن كونه حلياً مرخصاً بإسقاط الزكاة عن صاحبه. وقوله: (أو للنفقة) كامرأة تعد أسورة من أجل أن تبيعها، ثم بعد ذلك تنفق على نفسها وعلى عيالها، فلا تلبسها، هذا ليس بحلي ولا آخذٌ حكم الحلي وإن كان في أصله حلياً، لكنه ليس في مقام الرخصة بالحلي؛ لأنها لا تلبسه ولا تتحلى به ولا تتجمل. وقوله: (أو كان محرماً) اتخذته وكان حراماً عليها أن تتخذه كأواني الذهب وأواني الفضة، فهذا المعد للأواني يحرم عليها أن تستعمله، وحينئذٍ لا يرخّص ولا يقال بإسقاط الزكاة عنها، فلا يقول قائل: إن الذهب حلال للنساء، وهذه الآنية اتخذتها للزينة في بيتها لا تجب عليها الزكاة بل نقول: يجب عليها أن تزكي هذه الأواني من الذهب والفضة. والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم شراء طعام بمال الزكاة وتوزيعه على الفقراء

حكم شراء طعام بمال الزكاة وتوزيعه على الفقراء Q إذا كان يجب على المسلم قدر مالٍ معين من الزكاة فهل يجوز له أن يشتري بالمال طعاماً ويوزعه على الفقراء؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن الزكاة حق من حقوق الله جعله للفقراء والضعفاء في أموال الأغنياء، لا يجوز للغني أن يقدم على التصرف في هذا المال إلا بإذن شرعي، ولم يثبت في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم الرخصة للغني أن يتصرف في المال الذي أوجب الله عليه أن يؤديه زكاة، فلو وجب عليه أن يخرج خمسة آلاف زكاة، لم يأمره الله عز وجل بإخراجها طعاماً، وقد وجبت عليه نقداً، من ذهب أو فضة أو ما قام مقامهما، فإذا تصرّف بالشراء فاشترى بها طعاماً للفقير، أو اشترى بها أغطية أو أكسية فإنه حينئذٍ لم يؤد الزكاة التي أوجب الله عليه وخرج بالتصرف عن كونه مزكياً إلى كونه متصدقاً، ويجب عليه ضمان هذا المال، وإخراج الزكاة لأصحابها على الوجه الذي أمر الله عز وجل، ولا وجه للاجتهاد بإخراج الأعيان بدل النقود؛ لأن الله سمّى هذا الحق للفقراء، ولا شك أن الإنسان إذا استأجر أجيراً بمائة ريال، فجاء في نهاية اليوم فقال للأجير: هذه المائة ريال اشتريت لك بها طعاماً، لا شك أن الأجير لا يرضى، ويرى أنه قد ظلمه، وقد خرج عن هذا الحق بالتصرف في المال، إلا في حالة واحدة تستثنى، وهي: أن يكون هناك أيتام وهؤلاء الأيتام لا ولي لهم، أو أيتام ومن يقوم عليهم سفيه لا يحسن التصرف، أو هناك فقير أو مسكين ولكنه لا يحسن التصرف في المال، فأنت تعلم أنك لو أعطيته الألف أو الألفين أو الثلاثة أتلفها من ساعته، ولربما صرفها في أمور لا طائل تحتها ولا نائل، والله نهانا عن إعطاء السفهاء الأموال، فإذا نويت أنك قائم عليه، بشرط أن لا يوجد ولي، فحينئذٍ تعطيه على قدر حاجته، فتمر عليه بالشهر تعطيه نفقة شهره، أو تقول لصاحب دكان: أعطه طعامه، وأجمل لي حسابه وأنا أحاسبك، فتقوم على نفقته بالشهر، أو تقوم على نفقته بالأسبوع حتى توفي مال الزكاة، فهذا لا حرج فيه، وإذا كان الإنسان يريد أن يستخدم هذه الطريقة في أناس يستطيعون الإنفاق على أنفسهم، ولكن لا يأمن منهم حسن التصرف، فيمكنه أن يعجل الزكاة قبل وقتها ثم ينفق عليهم مقسطة بالأشهر والأيام. والله تعالى أعلم.

حكم ضم ذهب الزوجة والبنات ليبلغ النصاب

حكم ضم ذهب الزوجة والبنات ليبلغ النصاب Q عند زوجتي وبناتي ذهب، فهل أضم الذهب إلى بعضه لتكميل النصاب، أم ذهب الزوجة لا يضم إلى ذهب البنات أو زوجة أخرى؟ A هذا فيه تفصيل: لمن هذا الذهب الذي يلبسه البنات؟ فإن كان الذهب الذي تلبسه البنات لأمهن وهي زوجتك، فحينئذٍ ذهب الزوجة وذهب البنات بمثابة المال الواحد، وزكاته زكاة المال الواحد فيضم بعضه إلى بعض، إلا في حالةٍ وهي: أن تكون الأم قد نوت العطية، فأعطت ابنتها، فالبنت ذهبها مستقل، وكل بنت ينظر إلى ذهبها، ويعتبر النصاب فيها على حدة، وكذلك الحال بالنسبة للزوج، فإن كان الزوج قد أعطى زوجته ذهباً على سبيل أنها تلبس، ثم بعد ذلك يستبدله لها، لا أنها مالكة لهذا الذهب، فحينئذٍ تجب عليه زكاته، وينظر في زكاة ذهب بناته إذا كان قد أعطاهن من أجل أن يجدد لهن كل سنة، لا على سبيل العطية التي يُقصد منها التمليك. والله تعالى أعلم.

كيفية إخراج الزكاة مع اختلاف عيارات الذهب

كيفية إخراج الزكاة مع اختلاف عيارات الذهب Q من المعروف أن الذهب له عيارات مختلفة، فعند إخراج الزكاة هل يضم إلى بعض، أم يزكى كل عيار على حدة؟ A هذه المسألة، عيار واحد وعشرين وثمانية عشر وأربعة وعشرين، السبب فيه وجود الشوب من النحاس ونحوه، فخالص الذهب يكون أربعة وعشرين، وهو صافيه وأفضله وأجوده، وإذا خالطه المشوب نزل بحسب الدرجات التي تكون فيه، فيضم الذهب بعضه إلى بعض في الزكاة، والسبب في ذلك: أن الشرع جعل خالصه ومشوبه بمثابة المال الواحد في الربا، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة)، وقد أجمع العلماء رحمة الله عليهم على أن خالصها ومشوبها في العيارات واحد، والسبب في ذلك صعوبة الانفكاك، ومن هنا قال العلماء رحمة الله عليهم: أنه يُغتفر وجود النحاس في الذهب، وحكى ابن رشد الإجماع على ذلك، واغتُفر في الموازنة في الربويات، فإذا بادل ذهباً عيار واحد وعشرين بذهب عيار أربعة وعشرين، أو أربعة وعشرين بعيار ثمانية عشر، فيجب التماثل والتقابض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا سئل عن التمر، وقال عامله على خيبر: (إنا نبيع الصاع من هذا بالصاعين، قال: أوه! عين الربا)، فقوله: (إنا نبيع الصاع من هذا) يعني الجيد، (بالصاعين من هذا) يعني الرديء، فاعتبر المشوب موجباً للتفاوت، فقال: (أوه! عين الربا) أي: لا بد وأن تبيعه مثلاً بمثل، يداً بيد، سواءً بسواء، ولذلك حكي الإجماع على أن خالص الذهب ومشوبه في الوزن واحد، إلا إذا كان المشوب مما يمكن سحبه ويمكن فصله بدون مشقة وعناء، خاصة إذا كان في غير الضرب، كأن يكون أُدخل عليه فحينئذٍ يفصل، وهكذا بالنسبة للقلادات إذا كان فيها فصوص، فلا بد من فصلها وبيع الذهب بالذهب متقابلاً، ولا يغتفر وجود هذه الفصوص مثلما يغتفر في المشوب. الشاهد: أن الشرع حينما جعل الذهب خالصه ومشوبه بمثابة الشيء الواحد في الربويات نُزِّل هنا منزلة المال الواحد، على خلاف مسألة الخالص والمشوب في تقدير النصاب على الأصل الذي ذكرناه لوجود القدرة، وذلك أن المشوب أُدخل بخلاف المشوب الذي وجد في أصل الخلقة. والله تعالى أعلم.

كيفية إخراج زكاة الحلي

كيفية إخراج زكاة الحلي Q حسب علمي أن الكثير يخرجون زكاة الحلي بقسمة قيمة الذهب على اثنين ونصف في المائة، فهل فعلهم صحيح، أم لا بد من نصاب الفضة؟ A هذا مبني على الأصل الذي ذكرناه، أنه إذا اختار إخراجها من الفضة ينظر إلى قيمتها، سواءً قلت: يحسب الغرامات ثم ينظر إلى قيمة الغرامات الواجبة، أو يحسب غرامات الكل ويزكيها، فالنتيجة واحدة، فهي ابن أخت خالة التي قبلها، ما هناك فرق، وابن أخت الخالة هو الشيء نفسه، وهذا مثال عند العرب، يقولون: هو ابن أخت الخالة، أي الشيء نفسه، ما هناك فرق، سواء قلت: إنه ينظر إلى الغرامات وقيمتها من النقد، أو ينظر إلى مجموع الغرامات كلها ويضربها في الفضة، المعنى واحد.

حكم لبس الرجل خاتما من الألماس أو من الأحجار الكريمة

حكم لبس الرجل خاتماً من الألماس أو من الأحجار الكريمة Q ما حكم لبس الخاتم للرجال، إذا كان هذا الخاتم من الألماس، أو ما يسمى بالأحجار الكريمة؟ A لا حرج في لبس المعادن الأخرى من الألماس، والأحجار الكريمة، والعقيق، والمرجان، واللؤلؤ، وغيرها؛ لأن الله تعالى سخرها لبني آدم، وكما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13]، قال العلماء: هذه الآية أصل في جواز التحلي بالمجوهرات وغيرها ما لم يجر العرف باختصاص النساء بها دون الرجال، وأما بالنسبة للأصل، فالأصل يقتضي جواز الانتفاع بما في هذا الكون حتى يقوم الدليل على التحريم، فإذا قام الدليل على الاستثناء والتحريم فإنه محرم بحكم الشرع، ويعتبر خاصاً في التحريم على حسب مورد النص. والله تعالى أعلم.

حكم لبس الرجال الأشياء المطلية بالذهب

حكم لبس الرجال الأشياء المطلية بالذهب Q هناك بعض الساعات والأقلام يوضع عليها دهان من ماء الذهب بنسب مختلفة، فهل يجوز لبسها، أم لا؟ A الذهب خالصه ومشوبه، مطليّه وغير مطليّه واحد، وحكمه واحد، واستثنى بعض فقهاء الشافعية وبعض الحنفية رحمة الله عليهم المطلي، فقالوا: إذا كان الطلاء يسيراً يجوز، وهذا مبني على دليل يعرف بالاستحسان، والاستحسان: الاستثناء من أصل عام بدليل ينقدح في نفس المجتهد، والذي يظهر أن هذا ضعيف، ولا يستثنى من ذلك مطلي ولا غير مطلي إلا إذا قام الدليل على الاستثناء، والأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم حرّم الذهب وحرّم استعماله، وبناء على ذلك لا يُرخص للرجل أن يتسامح في اليسير من الذهب في ساعة أو قلم أو غير ذلك إلا ما استثناه الشرع. والله تعالى أعلم.

وصية قبل الاختبارات

وصية قبل الاختبارات Q كما تعلمون فإن الاختبارات على الأبواب، فهلا تفضلتم بوصية في ذلك؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهون علينا وعليكم اختبار الدنيا والآخرة، وألا يجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا غاية سؤلنا ورغبتنا. أما بالنسبة لهذه الأيام فأوصي إخواني من طلاب العلم بأمور: أولاً: أن يتوكلوا على الله عز وجل، وأن يفوضوا الأمور إلى الله سبحانه وتعالى، فما من أمر من أمور الدنيا ينزل بعبد من عباد الله أو بأمة من إماء الله، فينزله العبد بباب الله عز وجل متوكلاً على الله، مفوضاً أمره إلى الله، آخذاً بالأسباب التي شرع الله، إلا جعل الله له العاقبة على أحسن ما يبدو ويأمل، ولذلك قال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132]، وقال سبحانه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، فأول ما يوصى به طالب العلم أن يكون متوكلاً على الله، لا على ذكائه، ولا على حفظه، ولا على فهمه، ولا على نبوغه، ولا على ضبطه، ويحس أنه لا يملك من أمره شيئاً إلا أن يعينه الله، وكلما برئت من الحول والقوة في أي أمرٍ من أمورك الدينية والدنيوية، كمّل الله نقصك، وجبر كسرك، وكان لك معيناً وظهيراً، فما من إنسان يكون عنده هذا الشعور إلا وفِّق، ولا تعتمد على أي شيء غير الله سبحانه وتعالى، فمهما أوتيت من الحفظ والفهم، فلابد لك من عون الله، وقد ذكر الإمام الماوردي رحمة الله عليه -يحكي عن نفسه-: أنه دخل ذات يوم المسجد، وكان طلابه ينتظرونه، فكأنه دخله شيءٌ من نفث الشيطان حينما قال له: هل هنا مسألة في الفقه لا تعلمها؟ كان الإمام الماوردي عجيباً في الفقه، وهو صاحب كتاب الحاوي، وهو كتابٌ كاسمه، جمع فأوعى من المسائل أصلية وفرعية في الفقه، يعز وجود مثله، فضلاً عن أحسن منه، أجاد وأفاد رحمة الله عليه، فلما دخله هذا العجب يقول: دخلت على طلابي، فلما جلس بينهم جاءت إليه امرأة، وكانت معها صبية لأول مرة تحيض، فسألته عن مسألة من مسائل الحيض الواضحة، قال: فأظلمت الدنيا في وجهي. وكأنه لا يعرف شيئاً، هذا الإمام العظيم الذي فرّع وقعّد ونظّر، والإمام النووي رحمة الله عليه في المجموع كثيراً ما يعتمد على تخريجاته وتصحيحاته ونقولاته، رحمة الله على الجميع، قال: فإذا به لا يعي شيئاً، وكأنه لم يعلم شيئاً، يقول: فمن شدة ما هو فيه جعل يتصبب من العرق، والطلاب من هيبة شيخهم وإجلالهم له -كانوا يعظِّمون العلماء ويجلونهم ويوقرونهم- سكتوا وما استطاع أحد أن يجيب عن هذه المسألة الواضحة إجلالاً له، وذهولاً من الموقف، فما زالت المرأة تنتظر الجواب، وتردد عليه السؤال: رحمك الله كان كذا، رحمك الله، ما حكم كذا، وهو لا يجيب، فلما وجدت أنه لا يجيب، انصرفت عنه، فإذا بطالب علم حديث العهد بطلب العلم يدخل المسجد فسألته عن المسألة، فأجابها بكل سهولة، فقالت له: والله أنت خيرٌ من هذا الذي جلس، فضّلته على شيخه، لأنه رأى نفسه في العلو، فوضعه الله في السفول. هكذا الإنسان، الماء لعظم فضله، جعله الله في قرار الأرض: {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ} [المؤمنون:18]، والدخان لحقارته يتعالى ويتعاظم. فالإنسان الموفق الكامل يحتقر نفسه مهما أوتي، ولذلك تجد العالم الذي جعل الله علمه رحمة له وخيراً له يتواضع ولا يعد نفسه شيئاً. فطالب العلم إذا أراد أن يمضي إلى اختباره أو إلى امتحانه لا يُحس أن عنده شيئاً، إنما يعلق أمله على توفيق الله ومعونة الله، وعندها يكون له من الله على قدر ما كان من توكله ويقينه بالله سبحانه وتعالى. الأمر الثاني: ألا يضيع الإنسان حق الله عز وجل، فيسهر حتى يضيع صلاة الفجر، أو يجلس لترداد المواد ومراجعة الكلمات حتى يفوت صلاة الجماعة، أو يأتي متأخراً، فلا ينصرف الإنسان عن الله عند اشتداد حاجته إليه، بل حتى في الأمور التي تتعلق به في معيشته، المنبغي إذا نزلت بإنسان أيام عصيبة كأيام الاختبارات والامتحانات أن يحافظ على حق الله، وأن يحس أن مخرجه أن يوفِّي لله حقه حتى يعطيه الله عز وجل من معونته وتوفيقه، كما وفّى لله يوفي الله له، ولذلك ينبغي عليه أن يحرص كل الحرص على إقامة الصلاة، والله تعالى يقول: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، فجعل الصلاة قرينة الصبر، وهذا يدل على أن لها في النوائب والشدائد والمصائب فضلاً عظيماً وأثراً كبيراً في صلاح حال العبد، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول: (يا بلال! أرحنا بالصلاة)، فكانت قرة عينه صلوات الله وسلامه عليه وبهجته وسروره حينما يقف بين يدي الله. فإذا كنت في أيام الاختبارات لا يختلف حق الله عندك عن الأيام العادية، عظم شأنك وجلّ بإذن الله عز وجل؛ لأنك تُمتحن أنت في امتحان أُخروي، فإذا كانت امتحاناتك واختباراتك تجعلها تبعاً لامتحان الله لك في هذه الدنيا، وفقك الله وأعانك. الأمر الثالث: حق العباد، إخوانك وزملاؤك يحتاجون إلى ملخصات، يحتاجون إلى معونة، فأعنهم ولا تكن بخيلاً بالعلم، ولا تضن، وتمن لأخيك من الخير مثل ما تتمنى لنفسك أو أكثر، لا بد أن يربي الإنسان نفسه على المعاني الكريمة التي هذب الله بها المسلمين، نحن أمة مسلمة منقادة لله مستسلمة، فالإنسان ينبغي عليه أن يحب لإخوانه وزملائه من الخير مثل ما يحب لنفسه أو أكثر، حتى قال الإمام الشافعي: (والله ما ناظرت أحداً إلا وددت أن يُظهِر الله الحق على يديه)، وهذا شيء من النزاهة والنقاء والصفاء في قلوب الأخيار، وهو من رحمة الله عز وجل بالعبد، فالإنسان إذا كان خيراً صالحاً أحب للناس مثل ما يحب لنفسه أو أكثر، ولا تكره أن أحداً يسبقك، فهذه أمور الدنيا، والمعوّل على الآخرة، النبي صلى الله عليه وسلم يقول للأنصار: (إنكم ستلقون بعدي أثرة، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: اصبروا فإني فرطكم على الحوض)، الفضل هناك إذا قرعت الرءوس ومدّت من يده الشريفة صلوات الله وسلامه عليه شربة هنيئة مريئة لا تظمأ بعدها أبداً، ففضلت على غيرك، هناك الفضل بإذن الله عز وجل. فالإنسان لا ينظر إلى هذه الدنيا إلى درجة أن يكره لإخوانه الخير، فيحس أنهم إذا سبقوه غمطوه أو أهانوه، بل أحب لهم من الخير مثل ما تحب لنفسك أو أكثر. فلا ينبغي أن تكون الامتحانات وسيلة لحسد الناس، وكراهية الخير لهم، وإذا أحد سبقك أو فضُل عليك فقل: الحمد لله، اللهم إن فضّلته علي في الدنيا فلا تفضِّله عليَّ في الآخرة. تكون الآخرة هي مبلغ علمك وغاية رغبتك، وهي أكبر همك، وعندها تسعد وتفلح، وتحس أن أمور الدنيا تحت قدمك، ولا تبالِ بشيء أقبل أو أدبر، إن أقبل استعنت به على طاعة الله، وإن أدبر فلن تلو عليه، تستقم لك السعادة، وهذه من نعم الله عز وجل على العبد، وهي راحة النفس، لا تحسد أحداً على فضل الله عز وجل، وإن أوتيت الفضل بذلته وتمنيته للناس. كذلك أيضاً من الأمور التي ينبغي للإنسان أن يحافظ عليها: ذكر الله عز وجل من كثرة الاستغفار وسؤال الله المعونة ونحو ذلك {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]. ومن الأمور التي ينبغي على الإنسان أن ينتبه لها: حقوق الأبناء والبنات، فينبغي على الآباء والأمهات أن يرفقوا بالأبناء والبنات في أيام الاختبارات، ويعينوهم على طلب العلم، ويساعدوهم على المذاكرة حتى لا تنكسر نفوسهم بالتأخر عن زملائهم وقرنائهم، يكون للوالد فضل، أما أن تأتي مثل هذه الأيام وهو مهمل حقوق أبنائه وبناته فلا، كذلك أيضاً ينبغي أن يشملهم بالعطف والحنان والرعاية، وأن يحفظ مشاعرهم النفسية، والقلق الذي هم فيه، فيسليهم بالكلمات الإيمانية، ويثبت قلوبهم بالمواعظ الربانية، فالصبي إذا عودته من صغره على ذكر الله في الشدائد، فجاءت العواقب سليمة يحس أن ذكر الله هو الطريق للسلامة في العواقب، فينشأ منذ نعومة أظفاره وقد تعلّق قلبه بالله جل جلاله، وعندها يصلح حاله ويكمل ويشرف، ويكون له خير الدنيا والآخرة. وليرفق بهم فلا يحملهم ما لا يطيقون، وبعض الآباء والأمهات تزداد أذيته لابنه في أيام الاختبارات، فيكون الابن مشوش الذهن، ولا يحس أنه متقن لعدم تفرغه، فيأتي الأب ليشغله بمشاغل يمكنه بنفسه أن يقوم بها أو يقيم غيره مقامه، فيأتي ويضار به أو يضيق عليه أو يعنت عليه، وهذا لا ينبغي. كذلك على الآباء أيضاً غفران زلاتهم، والتجاوز عنهم في مثل هذه الأوقات العصيبة؛ لأن نفوسهم مشغولة، فينبغي للإنسان أن يكون مع أبنائه حليماً رحيماً، وهذا من الرفق الذي قال عنه عليه الصلاة السلام أنه: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيءٍ إلا شانه)، فالله جعلهم أمانة في عنقك، والله ما نظرت إليهم في أوقات الشدة والكرب من مرض أو سقم أو مشغلة من مشاغل الدنيا وعوارضها، فشملتهم بعطفك وإحسانك إلا لطف الله بك كما لطفت بهم، فالإنسان إذا عامل غيره بالإحسان عامله الله بالإحسان، فما {جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، ومن يسّر يسّر الله له، فإذا كان تيسيرك على أقرب الناس إليك، فإن الله ييسر عليك، وأفضل ما يكون الإحسان على أقرب الناس منك؛ لأنه أحوج ما يكون إلى عطفك وحنانك وبرك وإحسانك. وإذا جئت قادماً على صالة الاختبار، فتذكر قدومك على الله جل جلاله، وتذكر قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (أيها الناس حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وتهيئوا للعرض الأكبر على الله)، فالإنسان كما أنه يتهيأ لعرض الدنيا واختبار الدنيا، يجب أن يتهيأ لاختبار الآخرة، هذه ذكرى وعبرة، كما يقول بعض العلماء: المؤمن من فكرة إلى فكرة، ومن عبرة إلى عبرة. فالله جل جلاله ينبهك بمثل هذه

باب زكاة عروض التجارة

شرح زاد المستقنع - باب زكاة عروض التجارة عروض التجارة من الأموال التي أمرنا بإخراج الزكاة فيها، والعروض هي ما يملكه الإنسان بنية التجارة، وأما ما ملكه بنية الاقتناء فلا يدخل في ذلك. فمن ملك مالاً بنية التجارة وحال عليه الحول وبلغ النصاب وجب عليه إخراج زكاته، وينبغي عليه أن يقوِّمه عند إخراجه بالأحظ للفقراء والمساكين وألا يظلمهم حقهم.

زكاة عروض التجارة ومشروعيتها

زكاة عروض التجارة ومشروعيتها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب زكاة العروض]. العروض: جمع عرض، والعرض: هو المتاع، ومراده رحمه الله أن يبين حكم زكاة التجارة، وهي الأموال التي يعرضها الإنسان بقصد المتاجرة فيها، وذلك أن ما عند الإنسان منه ما يكون للقنية كسيارته وأثاث بيته ونحو ذلك، ومنه ما يكون معروضاً للبيع والمتاجرة. والأصل في وجوب الزكاة في عروض التجارة عموم قوله سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، ووجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى لم يفرِّق بين مال وآخر، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الزكاة من المال، وعروض التجارة مال، فالأصل وجوب الزكاة فيها، حتى يدل الدليل على الإسقاط. أما الدليل الثاني: فقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267]، قال مجاهد -وهو تلميذ عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن- في تفسيرها: إنها عروض التجارة، وأشار إلى ذلك الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، ففسر الآية: بأن المراد بها عروض التجارة، ولا شك أن مجاهداً رحمة الله عليه كان يأخذ التفسير من عبد الله بن عباس، وكان يستوقفه عند كل آية، يسأله عن حلالها وحرامها وما فيها من أحكام، فمثل هذا الغالب أنه أخذه عن ابن عباس رضي الله عنه، وعبد الله بن عباس مكانته عالية في التفسير والتأويل؛ وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، فهو معلَّم ملهم رضي الله عنه وأرضاه، وعلى هذا قالوا بوجوب الزكاة في عروض التجارة، وبذلك قال جماهير العلماء رحمة الله عليهم، وهو مذهب الأئمة الأربعة، وكان يقول به فقهاء المدينة السبعة: سعيد بن المسيَّب وخارجة بن زيد والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وغيرهم من فقهاء المدينة السبعة، ولا يشتهر هذا القول في المدينة غالباً إلا وله أصل عن الصحابة، ولذلك قال العلماء: القول بوجوب الزكاة في عروض التجارة هو الأصل، حتى يدل الدليل على الإسقاط. قال رحمه الله: (باب زكاة العروض) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بزكاة عروض التجارة.

شروط وجوب زكاة عروض التجارة

شروط وجوب زكاة عروض التجارة قال المصنف رحمه الله: [إذا ملكها بفعله بنية التجارة وبلغت قيمتها نصاباً زكّى قيمتها]. (إذا ملكها بفعله) أي: بفعل المكلف، كأن يشتري عروضاً من أغذية أو أكسية أو دواب -كالسيارات الموجودة الآن فهي حكم الدواب- فيملكها بفعله، أي: يشتريها، فلا تأتيه عن طريق الإرث، وتدخل عليه بغير محض الفعل، فاشترط العلماء رحمهم الله: أن يكون مالكاً لها بالفعل، أي: أنه أدخلها إلى ملكه قاصداً التجارة بها.

حولان الحول من حين نية التجارة

حولان الحول من حين نية التجارة قوله: (بنية التجارة) أي: لا بد في زكاة العروض من وجود نية التجارة، فالعبرة في حول زكاة العروض بالنية، فمتى ما نوى المتاجرة بهذا المال، فإنه يبتدئ الحول من هذه النية، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)، ولا شك أن الزكاة داخلة في هذا العموم، فلا يُحكم بوجوب الزكاة على إنسان في مالٍ على أنه من عرض التجارة حتى ينوي المتاجرة به؛ فإن المال حينئذٍ صدُق عليه أنه معروضٌ للتجارة. ولكن لو كانت نيته القنية، أي: أنه تملكه للقنية، أو للارتفاق به، فهذا ليس من عروض التجارة، ولا يدخل في هذه النية كون الإنسان عنده بيت أو عنده سيارة، وينوي في قرارة قلبه أنه إذا احتاج إلى بيعها أنه يبيعها، فإن هذه النية مترددة، ولا توجب الحكم بوجوب زكاة عروض التجارة؛ فالإنسان من حيث هو لو أصابته فاقة أو حاجة، فسيبيع ما يملك، فهذه النية عارضة ولا تؤثر، ولا بد من وجود النية المستقرة التي يقصد منها المتاجرة، سواء كان ذلك في العقارات أو المنقولات، والمنقولات كالأغذية، فلو اشترى مائة كيس من طعام، ونوى أن يتاجر بها، فإنها من عروض التجارة، وكذلك العقارات، فلو اشترى أرضاً أو اشترى داراً أو عمارةً، وقصد منها أن يربح بها الأكثر، فحينئذٍ تعتبر هذه الأرض وهذه العمارة من عروض التجارة، وزكاتها زكاة عروض التجارة.

بلوغ النصاب

بلوغ النصاب قوله رحمه الله: (وبلغت قيمتها نصاباً زكى قيمتها). هذا الشرط الثاني: أن تكون قد بلغت النصاب بالفضة، وهو -كما ذكرنا- ثلاثٌ وخمسون ريالاً، فإذا بلغت هذا القدر وعرضها للتجارة، فإنه لا بد من حولان الحول على هذه النية، فلو باعها قبل حولان الحول فلا زكاة فيها، مثلاً: لو عرض غذاءً أو كساءً كالأقمشة، لمدة ستة أشهر بنية التجارة، ثم بيعت أثناءها، واستُنفدت قيمتها، فهذه لا زكاة فيها، فلا بد في عروض التجارة أن يمر عليها حولاً كاملاً، ويستوي في ذلك أن تكون العين بنفسها أو ما قام مقامها مما تولد من أصلها، وذلك كأن يدخل للتجارة بمائة ألف ريال، فيشتري بها عشر سيارات ليتاجر بها، يشتري واحدة ويبيعها ثم يشتري أخرى ثم يبيعها، وهكذا فحينئذٍ الحول حول رأس المال، فهو متاجرٌ بالمائة ألف، فإذا حال الحول، وبقي من المائة ألف ما يساوي قدر النصاب وجب عليه زكاة ذلك القدر الباقي. قال المصنف رحمه الله: [فإن ملكها بإرث أو بفعله بغير نية التجارة ثم نواها لم تصر لها]. كما ذكرنا؛ لأن الأصل في أموال التجارة أن تكون متأصِّلة أو متمحضة النية بالتجارة؛ فلو أنها دخلت عليه بهبة أو بإرث، فلا تعتبر من عروض التجارة بالنية.

الاعتبار في تقدير الزكاة عند الحول

الاعتبار في تقدير الزكاة عند الحول [وتُقوَّم عند الحول بالأحظ للفقراء من عين أو ورِق]. (وتقوّم) أي: عروض التجارة. من المعلوم أن عروض التجارة في الغالب -سواء كانت من العقارات أو المنقولات- تحتاج إلى معرفة القيمة، فهناك قيمتان: القيمة الأولى: التي اشتريت بها، والقيمة الثانية: التي تعرضها أو تعرض بها الشيء المبيع، فلو أنك اشتريت عشر سيارات لعرضها للتجارة، وقيمتها -مثلاً- في الأصل حينما اشتريتها مائة ألف، ولكنك حينما عرضتها للبيع عرضتها بمائة وخمسين، فحينئذٍ يجب عليك اعتبار سعر البيع، وأما قيمة الأصل فإنها ليست بقيمة؛ والسبب في هذا أن الذي تعرضها به للبيع يعتبر مالاً في الحكم، أي: كأنك مالك لهذا القدر، وأما الذي اشتريت به فإنه لا يؤثر لكونه غير مستقر، وحينئذٍ يستوي أن يكون زائداً عما تعرض به، أو يكون ناقصاً عنه، فلو أنك اشتريت (بمائة ألف) وتريد أن تبيع (بخمسين ألفاً)، أو انخفض السعر حتى أصبحت تباع (بخمسين)، فالقيمة (خمسون)، ولو أنك اشتريت (بخمسين) ثم ارتفعت قيمتها، وعرضتها (بمائة)، فالقيمة مائة، وقس على هذا. وتقوّم بالأحظ للفقراء، فيُنظر إذا كان الأحظ أن تقوم بالدراهم قُوِّمت بالدراهم، وإن كان الأحظ أن تقوم بالدنانير قوِّمت بالدنانير. قال المصنف رحمه الله: [ولا يُعتبر ما اشتريت به]. (ولا يعتبر) أي: في القيمة والتقدير والتقويم (ما اشتريت به)، وفي ذلك أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه أمر أن تقوَّم عروض التجارة بقيمتها، أي: في حالها، وهذا يدل على أن العبرة في عروض التجارة بقيمة البذل لا بقيمة الشراء، وقد بيّنا أن السبب في هذا أنك إذا عرضت الدار -مثلاً- أو الأرض للبيع، وكانت القيمة التي اشتريت بها مائة وتعرضها بمائة وخمسين، فأنت في الحقيقة بمثابة المالك للمائة والخمسين، ولكن يرد Q لو أن هذا الشيء المعروض للتجارة فيه اضطراب، أي: لا يثبت على قيمة معينة، فأنت تقدِّر أن أقل ما تبيع به هذه السيارة هو مائة وخمسون، ولكنك إذا جئت تعرض تقول: مائة وسبعون أو مائة وستون، فهل العبرة بأكثر ما تطلبه، أم العبرة بأقل ما تطلبه أو ترضى به؟ أولاً: قضية سوم الأشياء بأعلى من قيمتها حتى تنزل، فيه حديث أم أنمار رضي الله عنها، فإنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أنها إذا أرادت أن تشتري الشيء سامته بأقل من قيمته، فلا تزال مع صاحبه حتى يبلغ قيمته فتشتريه، وإذا أرادت أن تبيع الشيء سامته بأكثر من قيمته حتى يبلغ القدر الذي ترضى به فتبيع، فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا، فكره بعض العلماء مثل هذا. ولكن الصحيح أنه يجوز؛ لأن هذا الحديث متكلّم في سنده، وقد ذكره الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه في الإصابة، وأشار إلى سنده، وله أصل في سنن ابن ماجة. والصحيح: أنه يجوز للإنسان أن يسوم بالأكثر والأقل، والأفضل له أن يجتزئ بأقل الأرباح حتى يضع الله له البركة فيما يأخذ، وهذا مبني على عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (رحم الله امرأً سمحاً إذا باع)، قالوا: السماحة في البيع أن يرضى بأقلّ الربح. ثانياً: إذا قلنا: إنه يشرع أن تسوم بالأكثر حتى تبلغ الأقل، فحينئذٍ نحن بالخيار بين ثلاثة أمور: إما أن نقول: العبرة بالأكثر لأنها تسام به، وعُرضت متاجرةً بهذا الأكثر، وكونه يرضى بالأقل، هذا شيءٌ رضي خسارته على نفسه، فلا نرضى خسارته على الفقراء والمساكين. وإما أن نقول: العبرة بالأقل؛ لأنه هو اليقين، والقاعدة في الشرع: (أن اليقين لا يزال بالشك)، فالأصل أن الذي يبيع به وتُقدَّر به السلعة ويرضى به المشتري في الغالب هو الأقل، فحينئذٍ نقول على هذا الوجه: العبرة بالأقل. وإما أن نقول: العبرة بما بينهما. والذي يترجح من هذه الثلاثة الأمور القول: بأن العبرة بالأقل؛ لأنه اليقين، وهذا أصل طرده العلماء رحمة الله عليهم في كثير من المسائل. وعليه: فإنه إذا كان يعرضه بمائة ويرضى بتسعين فالعبرة بالتسعين. وقال بعض العلماء: الورع أنه ينظر إلى السوق، فإن كان السوق رائجاً حتى يصير بالأكثر، فإنه يقدره بالأكثر، وإن كان بالأقل فلا حرج أن يقدره بالرخصة بالأخذ بالأقل. قال المصنف رحمه الله: [وإن اشترى عرضاً بنصاب من أثمانٍ أو عروض بنى على حوله]. أي: بنى على حول الشراء، ما دام أنه اشتراه بنية التجارة، وهذه المسألة الأصل فيها ما ذكرنا أن من دخل إلى التجارة برأس مال واشترى بها عروضاً ثم باعها قبل تمام الحول، فإن العبرة بالأصل، أي: بالثمن، ولا يلتفت إلى هذه العروض؛ لأننا لو قلنا بهذا لما استطعنا أن نزكي عرضاً للتجارة إلا في القليل النادر، وتوضيح ذلك: أن من دخل بمائة ألفٍ يريد أن يتاجر بها في شهر محرم، فاشترى بها عشر سيارات -مثلاً- فعرضها للبيع، فبيعت في منتصف العام، واشترى أخرى مكانها، فقد يقول قائل: الأول قد انقطع بالبيع، والثاني يستأنفه بالشراء من منتصف الحول، نقول: لا، العبرة بالأصل، فحينئذٍ هذه المائة ألف لما تمحّضت للمتاجرة فإننا نقول: العبرة بحولها، فإذا اشترى وأدخل وأخرج، فهذا كله تابع لأصله، يبني عليه، وتجب عليه زكاته كما ذكرنا. [وإن اشتراه بسائمة لم يَبْنِ] وهذا بناءً على أن زكاة السائمة غير زكاة الأموال المعروضة للتجارة؛ لأنه انتقل من أصل إلى أصل، فالسائمة إذا قطعها بالبيع لا يبني وإنما يستأنف، مثال ذلك: لو كان عنده من الإبل ما يبلغ النصاب، وتجب عليه فيه الزكاة، وفي منتصف العام باعها، ثم اشترى به سيارات أو أكسية أو أغذية، وعرضها للتجارة، فإننا نقول: السائمة لها زكاة مستقلة، وعروض التجارة التي هي الأكسية والأغذية لها حول مستقل، فيستأنف الحول من جديد، ولا يبني على الحول الأول لاختلاف الأصلين، فأصل السائمة شيء، وأصل عروض التجارة شيءٌ آخر. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

الأسئلة

الأسئلة

المعتبر في زكاة العملة الورقية

المعتبر في زكاة العملة الورقية Q ما هو نصاب المال المعتبر في العملة الورقية، هل المعتبر فيه نصاب الذهب، أم نصاب الفضة؟ ولماذا؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالعملة الورقية أصلها فضة كما ذكرنا، وبناءً على ذلك فزكاتها زكاة الفضة؛ لأنها عبارة عن أسناد توثيقية عن الفضة، فيقدر النصاب بهذا القدر الذي ذكرناه، وهو ثلاثة وخمسون ريالاً، وهي تعادل مائتي درهم، فما بلغه فإنه تجب فيه الزكاة، وما كان دونه فلا تجب فيه الزكاة، وأما تقديرها بالذهب فليس بسديد؛ لأنها إذا قدِّرت بالذهب خرجت عن أصلها، والأوراق لا يؤمر بزكاتها، وإنما أُمرنا بزكاة هذا الأوراق (العملة الورقية)؛ لأن رصيدها من الفضة، ولا يؤثر في ذلك كونه يحصل على الرصيد (الفضة) أو لا يحصل، أو يتمكن منه أو لا يتمكن؛ لأن هذا المستند ثابت من ناحية شرعية، وإلغاء الرصيد لا يؤثر في قيمته الحقيقية واعتباره من الفضة. والله تعالى أعلم.

زكاة المحلات التجارية

زكاة المحلات التجارية Q كيف يُخرج أصحاب المحلات التجارية كالدكاكين والبقالات الزكاة، وذلك لاختلاف البضائع فيها واختلاف أسعارها؟ A إذا حال الحول يحتاط صاحب (البقالة) و (المتجر) باليوم واليومين الذي يتمكن فيها من جرد البضائع، وحينئذٍ يقفل هذا المحل أو يتصرف بطريقة يمكنه بها أن يجرد في هذا اليوم الذي هو رأس حول المال، فإذا جرد أصناف البضائع وصنّف كل صنفٍ على حدة، حينئذٍ ينظر إلى قيمة عرضه في ذلك اليوم، فلو كان عنده ألف صنف، فيُنظر العدد الموجود من كل صنف، وقيمة كل شيءٍ منه، ثم بعد أن يجرد هذا بقيمته يزكي المحل بقيمة واحدة، ولا يجوز له أن يخمِّن ولا أن يقدر؛ لأن القاعدة: (أن القدرة على اليقين تمنع من الشك) وبعض الناس قد يتلاعب في هذا الأمر، بل قد يتسامح البعض في الفتوى، والواقع أنه ينبغي عليه أن يجرد، وينبغي أن يشعر الناس بأهمية الزكاة، والفقه أننا نطالبهم بالجرد؛ لأن الجرد يُشعر بأهمية الزكاة ووجوب هذه الفريضة، ولو أنه احتاج إلى هذا الجرد لمحاسبة شركائه لوجدته يجرد كل صغيرة وكبيرة، ولا يجد العناء، ولكن في حق الله يتلاعب الناس إلا من رحم الله، ويتساهلون ويبحثون عن الرخصة في الفتوى، فالواجب حملهم على الأصل؛ إلا إذا تعذر القيام بهذا الأصل. والله تعالى أعلم.

زكاة الدين في عروض التجارة، وإخراج الزكاة من العروض نفسها

زكاة الدين في عروض التجارة، وإخراج الزكاة من العروض نفسها Q عندي محل تجاري حال عليه الحول، وبه بضاعة بمبلغ مائة ألف ريال، وعلى المحل دين من البضاعة الموجودة بمبلغ وقدره خمسة وثلاثون ألف ريال، فهل أزكي على قيمة البضاعة كاملة، أم أزكي بعد خصم الدين؟ وإذا حال الحول ولا توجد عندي سيولة نقدية، فهل يجوز لي أن أزكي من البضاعة التي توجد عندي، أم تبقى الزكاة ديناً عليَّ، جزاكم الله خيراً؟ A للعلماء في الدَّين وجهان: منهم من يقول: إن الدَّين يُسقط، وحينئذٍ تُسقط هذا المبلغ الذي هو دين عليك. ومنهم من يقول: أنت بالخيار بين أمرين: إما أن تُسدد حقوق الناس قبل استتمام المدة وحولان الحول، وإما أن تُطالب بزكاة الجميع، وهذا أقوى والنفس إليه أميل؛ لأنه هو الأصل، ولا شك أن الإنسان إذا ملك هذا القدر وكان في ماله يمتنع من سداد حقوق الناس، ثم بعد ذلك يسقط الزكاة عنه، فهذا فيه ضعف، ولا يخلو من نظر، وعليه فإنه يقوى القول بأنك تُطالب بأحد الأمرين: إما أن تسدد للناس حقوقهم، أو يجب عليك زكاة المبلغ كاملاً. على هذا يجب عليك زكاة المال كاملاً، ولا يسقط منه شيء إعمالاً للأصل. والله تعالى أعلم. أما إذا حال عليك الحول وليس عندك سيولة؛ فإنه حينئذٍ يجب عليك أن تخرج هذا المال، إما ديناً من الغير، أو تتصرف بما تستطيع الحصول على حق الفقراء وتعطيهم حقهم كاملاً، أما إخراج الزكاة من نفس العروض فقول جمهور العلماء: أن ذلك لا يجزئ؛ لأن الله عز وجل أوجب عليك المال بعينه، فتُخرج من الفضة فضة وتخرج من الذهب ذهباً، وإن كانت من العروض تُخرج بقيمتها من الذهب والفضة، ولو أن إنساناً قيل له: اعمل شهراً، فإذا عمل الشهر جيء له بطعام وكساء ودواء، وقيل له: راتبك خمسة آلاف ريال، وهذه كلها مئونتك بالخمسة آلاف ريال، فلن يرضى، وسيقول: ليس من حق أحد أن يتصرّف في مالي، وهذا حق لي، لا آذن لأحد أن يتصرف فيه، فكذلك الفقير؛ لأن الله يقول: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25]، فليس من حق التاجر أن يتصرف في أموال الفقراء والضعفاء، بل إنه قد يحتال بهذه الطريقة، فيجد البضاعة لا تنفد، وسوقها كاسد، فحينئذٍ يدفع عن نفسه ضرر كساد السوق ويعطي الفقراء والضعفاء مما عنده من المعروضات للتجارة، وعلى هذا فإنه يجب عليه أن يؤدي حق الله في ماله، ويمكِّن الفقير من عين المال من الذهب والفضة، ولا يخرج الأطعمة وغيرها من عروض التجارة. والله تعالى أعلم.

زكاة مهر المرأة غير المدخول بها

زكاة مهر المرأة غير المدخول بها Q هل في المهر زكاة إذا أعطي للزوجة ولم يتم الزواج إلا بعد سنة؟ A إذا أخذت المرأة المهر فإنها حينئذٍ تزكيه، وتعتبر حوله من القبض؛ لأنها تستحق هذا المال بالقبض، ويبقى النظر في خوف وجود الطلاق قبل الدخول، ولذلك بعض العلماء يقول: هي مستحقة لنصفه، ولا تجب عليها زكاة النصف الثاني إلا إذا دخل بها، فإن دخل بها قضت زكاة ما مضى، وهذا له وجه، ولكن الأول أورع وأحوط؛ لأن الطلاق نادر، فأُعمِل الأصل من بقاء العقد. والله تعالى أعلم.

حكم من يشتري سلعة ليبيعها لغيره بالتقسيط

حكم من يشتري سلعة ليبيعها لغيره بالتقسيط Q إذا قال البائع للمشتري: اذهب واختر السلعة التي تريدها وأنا أشتريها لك وأقسطها عليك، فما الحكم في ذلك؟ A هذا عين الربا، فإذا قال له: اذهب واشتر ما شئت من متاع أو سيارات وائتني بفواتيره، ثم يشتريها ذلك الشخص ثم يقسِّطها عليه، فهذا عين الربا، بدل أن يقول له: خذ مائة ألف وردها مقسطة بمائة وعشرة احتال بإدخال السلعة، ثم يتفق هؤلاء مع التجار على أنه إذا رفض المشتري أنهم يردون البضاعة، وقد يقول البعض: بأن هذا جائز؛ لأن الطرف الذي ذهب إليه المحتاج اشترى السلعة ولم يلزم الطرف المدين أو الذي يريد هذه السلعة بالعقد، وبناءً على ذلك خيّره، وقال له: إن شئت فخذ وإن شئت فدع، نقول: إن الشريعة ألغت صورة العقدين مع صحتهما ظاهراً لذريعة الربا. مثال ذلك: بيع العينة، وصورتها: رجل جاء إلى تاجر فاشترى منه سيارة بمائة ألف مقسطة، فالسيارة قيمتها بالأقساط مائة ألف؛ لكن قيمتها بالنقد ثمانون ألفاً، فلما اشتراها بمائة ألف إلى أجل قال التاجر: أشتريها منك نقداً بثمانين، فإذا جئت تنظر إلى صورة العقدين فالأصل صحتهما، فالسيارة قيمتها الحقيقية بالأقساط مائة وقيمتها الحقيقية بالنقد ثمانون، فالأصل يقتضي أن العقد صحيح، لكن لما صُرفت السيارة للمشتري ثم عادت للبائع أُلغيت صورة العقدين، وصارت حقيقة الأمر كأنه أخذ النقد أي: الثمانين في مقابل المائة المؤجلة، فحرم الشرع هذا النوع من العقد، وألغى صورة العقد. كذلك هنا لما كان البنك أو الشركة أو مَنْ يشتري ليس مراده أن يستفيد بالسلعة أصلاً، وإنما يشتريها بناءً على طلب وتحديد وتعيين، فلما وجدت الرغبة ووجدت الحاجة حينئذٍ توجه بالشراء، فلما اشتراها آل الأمر إلى أنه بدل أن يعطيه الثمانين المعجلة ويقول: ردها مائة مؤجلة أدخل السلعة حيلة وحينئذٍ يعتبر من بيوع الربا، وشبهة الربا فيه ظاهرة. والله تعالى أعلم.

معرفة النصاب في المال

معرفة النصاب في المال Q عندما أريد أن أعرف ما عندي من المال هل بلغ نصاباً أم لا، فإنني أسأل الصاغة عن قيمة خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً من الفضة كم تساوي من الريالات، فهل فعلي صحيح؟ A هذا الفعل ليس بصحيح؛ لأن الريال مع الفضة لا بد فيه من التساوي والتماثل، فإذا قلت: خمسمائة وخمسة وتسعون غراماً كم تساوي بالفضة، فهذا عين الربا؛ لأن أصل الورق ريال من الفضة، وله وزن محدد، فعندما تشتري بريال الورق الفضة لا بد أن يكون مثلاً بمثل يداً بيد، فإذا أعطاك الصائغ قيمتها متفاضلاً فإنه قد بناها على الربا؛ لأن التفاضل محرم، وهذه مسألة تحتاج إلى دقة من طالب العلم، لأنه في هذه الحالة كأنه يبادل الفضة بالفضة، ولا بد من التماثل والتقابض، وحينئذ لا تلتفت إلى قيمة زنة الغرامات، وإنما تلتفت إلى تحرير الريال الفضي القديم بالفضة، ثم تنظر إلى عدلها من مائتي درهم، وقد كُفيت المئونة؛ فإن هذا يعادل ثلاثة وخمسين ريالاً، وبناءً على ذلك ثلاثة وخمسون من الفضة القديمة تعادل بزنتها هذا القدر، وحينئذٍ يجب عليك زكاة هذا القدر.

اعتبار الحول في زكاة العروض

اعتبار الحول في زكاة العروض Q رجل اشترى خمس سيارات في محرم، وعرضها للتجارة، ثم لم يلبث أن باعها في رمضان واشترى بقيمتها أغناماً وعرضها أيضاً للتجارة، فهل يبدأ الحول من جديد، أم يبقى على الحول الأول، أثابكم الله؟ A يقول بعض العلماء: إذا كانت تجارته من جنس وانتقل إلى جنس آخر فإنه يستأنف الحول، بشرط أن لا يقصد الفرار من الزكاة أو الاحتيال على الزكاة، وعليه فلو دخل في تجارة السيارات، ثم بعد ذلك تحوَّل إلى السائمة، قالوا: يستأنف الزكاة، بمعنى: يحسب حولاً جديداً من رمضان لهذا المال الجديد. والله تعالى أعلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

باب زكاة الفطر

شرح زاد المستقنع - باب زكاة الفطر فُرضت زكاة الفطر على المسلمين طهرة للصائم من اللغو والرفث، فهي مكملة للصيام، وطعمة للفقراء والمساكين وإغناء لهم عن السؤال في يوم العيد. وهي مفروضة على الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والحر والعبد، فمن كان عنده فضل عن قوته وقوت عياله فيجب عليه أن يخرج عن نفسه وعمن تلزمه نفقته صاعاً من طعام.

زكاة الفطر واشتقاقها ومشروعيتها

زكاة الفطر واشتقاقها ومشروعيتها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [باب زكاة الفطر]. تقدّم تعريف الزكاة، والفطر المراد به: الفطر من الصوم، وللعلماء رحمة الله عليهم في تسمية زكاة الفطر وجهان: الوجه الأول: أن الفطر هنا ضد الصوم، والمراد به الفطر من الصوم، أي: إكمال عدة رمضان، ودخول شهر شوال. الوجه الثاني: أن المراد بالفطر من الفَطْر وهو الخلق، ومنه قوله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] أي: خلقهم وجبلهم عليها، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة)، وقوله سبحانه وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1]، قال ابن عباس: (ما كنت أعلم معنى هذه الآية - {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ} [فاطر:1]- حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بئرٍ، فقال أحدهما: هي بئري وأنا فطرتها، فعلمت أن معنى فطر: خلق وأوجد)، ففي المخلوق أوجد وفي الخالق خلق. فقولهم: زكاة الفطر، أي من الخلقة، وبناءً على ذلك يعتبرونها من زكاة البدن. والأقوى: أن المراد بالفطر: الفطر من رمضان؛ لرواية ابن عمر في الصحيح: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان)، فأضاف الفطر إلى رمضان فصار مختصاً به، وخرج معنى الفَطْر وهو الخلق. هذه الزكاة شرعها الله عز وجل، فمن العلماء من يقول: هي مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع، ومنهم من يقول: هي مشروعة بالسنة والإجماع. فأما الذين يقولون: إنها مشروعة بالكتاب، فيحتجون بقوله سبحانه وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15]، قالوا: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] أي: أدى زكاة الفطر، (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) بالتكبير ليلة العيد؛ لأنه يشرع ذلك، (فَصَلَّى) أي: صلى صلاة عيد الفطر، فجعل الثلاثة الأمور مرتبة بعضها إثر بعض. وقال بعض العلماء: إنها مشروعة بالسنة، وفيها حديثان: أولهما: حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان)، وثانيهما: حديث أبي سعيد رضي الله عنه وأرضاه في الصحيحين أيضاً، قال: (كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكذلك حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عند الحاكم وغيره أنه قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر). فهذه الأحاديث دلّت على مشروعية صدقة الفطر، ولذلك أجمع العلماء على مشروعيتها، والخلاف بينهم هل هي واجبة، أم مستحبة؟ فمنهم من يقول إنها مستحبة وليست بواجبة. ومنهم من يقول: إنها واجبة. فالذين يقولون بالوجوب هم جمهور العلماء رحمة الله عليهم من السلف والخلف، وذهب بعض العلماء -وهو قولٌ في مذهب الإمام مالك وشهّره بعض أصحابه من المتأخرين - إلى أنها ليست بواجبة. والصحيح: أنها واجبة؛ لقول عبد الله بن عمر: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر)، والقاعدة: أن هذا اللفظ (فرض) يدل على الوجوب واللزوم؛ لأن الفريضة تعتبر لازمة لا خيار للمكلف في إسقاطها، فلا تعتبر في مقام المندوبات والمستحبات، وإنما هي في مقام الواجبات، ولذلك قال تعالى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء:11]، فالفرض يطلق بمعنى الواجب، ولا يطلق على المندوب والمستحب، فكان تعبير هذا الصحابي بقوله: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم) دالاً على الوجوب. لكن الظاهرية رحمة الله عليهم ينازعون في مثل هذا الحديث؛ ويقولون: يحتمل أن الصحابي فهم ما ليس بفرضٍ فرضاً، فلا يرونه دليلاً على الفرضية. وجمهور الأصوليين ومنهم الأئمة الأربعة على أن الصحابي إذا قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه يدل على الوجوب؛ لأن الصحابة أعرف بالخطاب وأعرف بلسان العرب ومدلولاته، وهم قد شهدوا مشاهد التنزيل، فهم أعرف بأساليب الكتاب والسنة، مع ما لهم من العلم والدراية بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الأمر الذي يجعل ما ذكره الظاهرية -من احتمال فهم الصحابي ما ليس بفرض فرضاً- ضعيفاً، والقاعدة: (أن الاحتمالات الضعيفة لا ترد على النصوص، ولا تبطل أدلتها). وعلى هذا فالصحيح أن قوله: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعتبر دالاً على الوجوب، وأن زكاة الفطر فريضة يثاب فاعلها ويعاقب تاركها، ويدل على هذا قوله بعد ذلك: (وأمر أن تُخرج قبل الصلاة)، كما في الصحيح، فقوله: (وأمر أن تخرج قبل الصلاة) يدل كذلك على وجوبها، وبناءً على ذلك تأكد القول بوجوب زكاة الفطر.

سبب مشروعية زكاة الفطر

سبب مشروعية زكاة الفطر للعلماء رحمة الله عليهم في سبب مشروعية زكاة الفطر أوجه، فمنهم من يقول: شرع الله زكاة الفطر طُهرة للصائم من اللغو والرفث، والسبب في ذلك: أن الإنسان ضعيف، يعتريه ما يعتريه من الجهل، كما وصفه تعالى بالجهل والظلم: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، فلا يأمن أثناء صيامه من الشتم، والرفث الذي يلغو به وغير ذلك من الخطايا التي لا تصل إلى حد الكبائر، فجعل الله صدقة الفطر مطهِّرة لهذا النقص الذي يعتريه في صيامه. ومن العلماء من قال: إن صدقة الفطر شُرعت من أجل الضعفاء والمساكين، والسبب في هذا: أنهم إذا أُعطوا صدقة الفطر أُعينوا على الفرح بالعيد والسرور به، ولذلك ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أغنوهم عن السؤال يوم العيد وليلته) ولكنه ضعيف؛ إلا أن العلماء يقولون: معناه صحيح، والشرع يقصد إغناء الفقراء، بدليل أنه فرض هذه الزكاة وخصّها للفقراء والضعفاء. ويقول بعض السلف رحمة الله عليهم: إن صدقة الفطر -بناءً على القول الأول- تكمّل الصوم وتجبر كسره، على ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس وقد حسنه غير واحد من العلماء: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر من رمضان طعمة للمساكين وطهرة للصائم من اللغو والرفث) فقالوا: إنه على هذا الوجه تكون صدقة الفطر بمثابة سجود السهو للصلاة، فإنه يجبر النقص فيها، وكالهدي في الحج، فإذا حج الإنسان متمتعاً أو قارناً فإنه يجبر النقص به، والسبب في ذلك: أن المتمتع كان ينبغي عليه بعد انتهاء عمرته أن يرجع إلى ميقاته ويُحرم بالحج؛ ولكنه أحرم بالحج من مكة فكان حجه نقصاً، ولذلك المكي لا يجب عليه دم؛ لأنه أحرم من الميقات في النسكين، فلذلك شُرع الدم جبراناً لهذا النقص، وهكذا القارن؛ لأنه في معناه، وعلى هذا قالوا: إنها -أي: زكاة الفطر- بمثابة الجبر للنقص في صيام المكلف على ظاهر الحديث الذي ذكرناه.

على من تجب زكاة الفطر

على مَنْ تجب زكاة الفطر قال المصنف رحمه الله: [تجب على كل مسلم، فضُل له يوم العيد وليلته صاع عن قوته، وقوت عياله وحوائجه الأصلية]. قوله رحمه الله: [تجب على كل مسلم] (تجب) أي: زكاة الفطر (على كل) (كل) من ألفاظ العموم، والعموم هذا يشمل صغار المسلمين وكبارهم وذكورهم وإناثهم، فالرجل يُخرج عن أهل بيته سواءً كانوا بالغين أو غير بالغين، كانوا ذكوراً أو إناثاً، أحراراً أو عبيداً، فيجب عليه أن يُخرج عنهم صدقة الفطر لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين) وقوله: (من المسلمين) حتى يخرج الكافر، فالكافر لا تجب عليه صدقة الفطر؛ لأنها شرعت للتطهير، والكافر لا يطهر، ويشمل هذا العموم في قوله: (كل) العاقل والمجنون، فلو كان في الأبناء أو البنات من هو مجنون وجبت عليه الزكاة وأُخرجت عنه، وفي الجنين وجهان: وقد أثر عن عثمان رضي الله عنه وسليمان بن يسار رحمه الله أنهم كانوا يخرجون عن الجنين، واستحب بعض السلف وبعض الأئمة كما نقل ابن الملقن وغيره في شرح العمدة: أنه يُخرج عن الجنين إذا تمت له أربعة أشهر؛ لأنه في حكم الحي حينئذ، ومنهم من اعتبر الأربعين يوماً، والأقوى الأول لما فيه من استتمام المدة لنفخ الروح لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيح. وكذلك أن يكون المكلف الذي نخاطبه بزكاة الفطر، مالكاً قادراً على إخراجها، فلذلك اشترط المصنف رحمه الله أن يكون عنده فضل عن القوت، والفضل: هو الزائد، ومنه فضلة الطهور: أي الزائد بعد وضوئك وطهرك، وفي الحديث: (أنه شرب فضلة وضوئه) أي: ما زاد، ومنه فضلة الطعام. وقوله: (فضل له يوم العيد وليلته صاع عن قوته وقوت عياله) فالرجل إذا كان وحيداً مسئولاً عن نفسه، نقول: لا تجب عليك زكاة الفطر إلا إذا ملكت ما تُخرج به زكاة الفطر زائداً عن قوتك، ولذلك يبدأ الإنسان بنفسه، فإذا كان المال الذي عنده لا يكفيه إلا لقوته، فليس من المعقول أن يطلب منه أنه يغني الفقير حتى يصير هو إلى الفقر، ولذلك يُبدأ به فيكف نفسه ويقوم بحوائج نفسه الأصلية، فإذا فضل بعد الحاجة شيء، حينئذٍ يُنظر في الزكاة ويُخاطب بها، وهكذا الحال إذا كان عنده أهل وعنده أسرة، فننظر في قوته وقوت زوجه وأولاده ومن تلزمه نفقته كالعبيد، فإذا كان هذا الرجل عنده -مثلاً- مائة ريال يحتاجها ليلة العيد لنفقته الأصلية، فحينئذٍ لا نطالبه بزكاة الفطر؛ لأنه لم يملك ما زاد عن قوته، بحيث يكلّف ويخاطب بالوجوب، أما لو كان يكفيه منها خمسون لحاجته الأصلية وقوته، فحينئذٍ نقول: أنت مخاطب بزكاة الفطر، فالشرط: أن يكون عنده فضلٌ عن القوت. قال المصنف رحمه الله: [ولا يمنعها الدين إلا بطلبه]. (ولا يمنعها الدين) قالوا: لأنها ليست متعلِّقة بالمال، وإنما هي متعلقة بالبدن، وبناءً على ذلك: إذا كان الإنسان مديوناً فإنه يجب عليه أن يُخرج زكاة الفطر إذا كان عنده فضلٌ عن قوته يمكنه أن يخرج به هذه الزكاة. (ولا يمنعها الدين، إلا إذا طولب به) هذا استثناء، أي: في حالة واحدة يكون الدين مانعاً، وهي: إذا طالب صاحب الدين بدينه، فحينئذٍ تعارض حقان: حق الله وحق المخلوق، وحقوق الله مبنية على المسامحة بإجماع العلماء، وحقوق المخلوقين مبنية على المشاحة والمقاصة، وبناءً على ذلك قالوا: يبتدئ بسداد دينه وتسقط عنه الزكاة.

إخراج زكاة الفطر عمن تلزمه نفقته

إخراج زكاة الفطر عمن تلزمه نفقته قال المصنف رحمه الله: [فيخرج عن نفسه وعن مسلمٍ يمونه ولو شهر رمضان]. فقوله: [فيخرج عن نفسه وعن مسلم يمونه] (عن نفسه)؛ لأنه مخاطبٌ بها أصالة، (وعن مسلمٍ يمونه) أي: يقوم على نفقته، وسيأتي إن شاء الله في باب النفقات بيان الضوابط التي يُحكم بها على الإنسان بوجوب النفقة على القريب، ونحو ذلك، والأصل في إيجاب زكاة الفطر على الإنسان فيمن تلزمه نفقته ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة إلا صدقة الفطر)، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (عبده) قال جمهور العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب على السيد أن يُخرج الزكاة عن العبد، ولا نعرف في العبد شيئاً من جهة الإيجاب إلا كون السيد قائماً على نفقته، فلما كان قائماً على نفقته كان هذا معنىً مناسباً لشرعية الحكم بوجوب صدقة الفطر، ومن هنا قال العلماء رحمة الله عليهم: تجب صدقة الفطر عن الإنسان إذا قام بنفقة غيره، فلا يُطالب ذلك الغير بزكاته وإنما يطالب من تلزمه نفقته، وعلى هذا يؤديها عن عبيده، ويؤديها عن زوجته بالتفصيل المعروف في الزوجة، وذلك إذا دخل بها أو مُكِّن من الدخول فلم يدخل، فحينئذٍ تلزمه النفقة؛ لأن النفقة تجب للزوجة بالدخول، لقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24]، فأمر بالإنفاق على الزوجات بعد الدخول والاستمتاع، وعلى هذا فالدخول على صفتين: إما أن يكون حقيقياً، وإما أن يكون حكمياً، فإن كان حقيقياً فلا إشكال، وإن كان حكمياً كأن يقول أولياء المرأة: خذ زوجتك، أو يمكنوه من الدخول بها، ولكنه امتنع من ذلك، فحينئذٍ تنزَّل الزوجة منزلة المدخول بها في النفقات، وتلزمه حينئذٍ نفقتها، وعلى هذا: فلو خرجت عن هذا الوجوب بعلة -كما سيأتي إن شاء الله في النشوز- فحينئذٍ يجب عليها أن تخرج صدقة الفطر عن نفسها، وخالف الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه، فقال: بعدم وجوب زكاة الفطر على الزوج لزوجته، وقال: الزوجة تطالب بإخراج صدقة الفطر عن نفسها. قال المصنف رحمه الله: [وعن مسلم يمونه ولو شهر رمضان]. (وعن مسلم) فخرج الكافر، (يمونه) أي: يقوم على نفقته ومئونته، (ولو شهر رمضان) فيدخل في هذا العامل، فلو أن عاملاً عند إنسان، فقال له: ألتزم بنفقتك، وحدد الطعام الذي يعطيه إياه مع الأجرة، فحينئذٍ قال بعض العلماء: تصح هذه الأجرة، ومن أهل العلم من قال: لا يجوز أن يقول للعامل أستعملك شهراً وطعامك عليَّ؛ لأن الأصل في الإجارة أن تكون الأجرة معلومة، فإذا قال له: وطعامك عليَّ. ولم يحدد ضوابط الطعام وقدره ونوعيته وقيمته، فحينئذٍ صارت الأجرة مجهولة؛ لأنه وإن أخذ -مثلاً- ألف ريال في الشهر؛ لكن هذا الطعام لا ندري كم يبلغ، فقد يظن العامل أنه من جيد الطعام فإذا به يعطيه من رديئه، أو من المتوسط، وبناءً على ذلك قالوا: قدر الطعام مجهول، فدخلت الجهالة في الأجرة؛ لأن الجهالة في الأجرة على ضربين: إما أن تكون في أصل الأجرة، كأن يقول له: ابن هذا الحائط وأُرضِيك، أو نتفق بعد ذلك، أو لا يكون إلا خيراً، فهذه جهالة متمحِّضة، لا يُدرى ما هو المال المدفوع، ولا تُدرى الأجرة ما هي؟ فهذه جهالة توجب فساد الإجارة بالإجماع. النوع الثاني من الجهالة: أن تدخل على المعلوم، ومن أمثلتها: أن يقول له: اعمل في هذا المحل شهراً ولك ألف ريال وربع الخارج أو نصفه أو (5%) من الخارج، فحينئذٍ تكون (الألف) معلومة؛ لكن دخلت الجهالة بالنسبة المضافة إليها، وهذا ما يقال في الطعام، فإذا قال للأجير: اعمل عندي وطعامك عليَّ، فحينئذٍ إذا قال: طعامك عليَّ، وحدّد الطعام على وجه ترتفع به الجهالة فلا إشكال، فالأجرة صارت معلومة، فعلى هذا الوجه لو كان طعامه عليه بحدٍ معين واشتغل عنده في شهر رمضان، فحينئذٍ تتفرع على الأصل المستنبط من حديث أبي هريرة من وجوب الزكاة عليه عند من ذكرنا من العلماء رحمة الله عليهم.

الترتيب في إخراج الزكاة عند العجز عن إخراجها عن الجميع

الترتيب في إخراج الزكاة عند العجز عن إخراجها عن الجميع قال المصنف رحمه الله: [فإن عجز عن البعض بدأ بنفسه]. أي: فإن عجز هذا الرجل الذي خوطب بالزكاة، وعنده جماعة تلزمه مئونتهم ونفقتهم. (إن عجز عن البعض) بمعنى: عنده زوجة وعنده أربعة أولاد ذكور وإناث، فحينئذٍ إذا جئنا ننظر إلى الزكاة وإذا بها تبلغ مائة ريال، والذي عنده خمسون ريالاً، فقد عجز عن البعض، وهذه هي صورة المسألة، فإذا عجز عن البعض، فكيف يرتب؟ وهذا من دقة المصنف رحمه الله، فبعد أن ذكر لك الأصل ذكر لك ما يطرأ على الأصل من وجود البعض دون الكل. قال المصنف رحمه الله: [بدأ بنفسه فامرأته فرقيقه]. أي: يجب عليه أن يُخرج على هذا الترتيب، فيبدأ بنفسه لقوله عليه الصلاة والسلام: (ابدأ بنفسك)، فيبدأ أول ما يبدأ بنفسه، ثم بعد ذلك بزوجته؛ لأن نفقتها متأصلة وليست بعارضة، بخلاف الأجير، أو المملوك، فإذا فضل بعد ذلك ينتقل إلى الرقيق. قال المصنف رحمه الله: [فأمه فأبيه]. وهما الوالدان. لكن هل يقدّم الأب، أم يقدّم الأم؟ الصحيح: أن الأم تقدّم، لما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه سأله رجل فقال: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)، قال العلماء رحمة الله عليهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم قدّم الأم على الأب، وجعل لها ثلاثة حقوق من أربعة، وجعل للأب ربعها، وذلك لعظيم ما للأم من فضل وإحسان وبر للولد، سواءً كان ذكراً أو أنثى، فعليه أن يبدأ بأمه قبل أبيه، وهذه مسألة مطردة، من أمثلتها: لو مات الوالدان ولم يحجا، فهل يبدأ بالحج عن أمه، أم عن أبيه؟ يبدأ بالحج عن أمه، ويقدمها على أبيه، وقس على هذا، ومنها: مسألة التعارض، فأمرته أمه وأمره أبوه، فأيهما يطيع؟ هذا يحتاج إلى تفصيل؛ لكن لو تساويا في المرتبة فالأم مقدمة على الأب، على تفصيل يذكره العلماء رحمة الله عليهم في باب البر. قال المصنف رحمه الله: [فولده، فأقرب في ميراث]. (فولده) أي: بعد ذلك يقدم الولد، سواءً كان ذكراً أو أنثى، فيخرج عن أولاده إذا فضل شيء بعد الوالدين. قال المصنف رحمه الله: [فأقرب في ميراث]. أي: بعد ذلك ينظر إلى الأقرب في الميراث، فابن العم إذا كان مشلولاً عاجزاً عن الكسب، ولزمتك نفقته، وهناك ابن عم ثان؛ لكن الأول ابن عم شقيق والثاني ابن عم لأب، فإن ابن العم الشقيق يُقدم على ابن العم لأب، وقس على هذا، فإن الإخوة الأشقاء يقدمون على الأعمام، فإذا كان هناك أخٌ شقيق عاجز عن الكسب وتلزمك نفقته وهناك عم شقيق، فتقدِّم الأخ الشقيق على العم الشقيق؛ لأن جهة الأخوة أقوى من جهة العمومة؛ ولأنه شاركك في أحد أصليك أو فيهما معاً، ولكن العم شارك أباك ولم يشاركك، ولا شك أن الأخ أقرب من هذا الوجه، ولذلك يقدم على العم، وغيره من مسائل الترتيب المعروفة، والتي تقدمت الإشارة إليها في باب الجنائز. قال المصنف رحمه الله: [والعبد بين شركاء عليهم صاع]. فلو كان هناك رجلان يملكان عبداً واحداً نصفه لزيدٍ ونصفه لعمرٍ، فحينئذٍ على هذا نصف صاع وعلى هذا نصف صاع.

إخراج الزكاة عن الجنين وعن المرأة الناشز

إخراج الزكاة عن الجنين وعن المرأة الناشز قال المصنف رحمه الله: [ويستحب عن الجنين]. لأنه فعل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه ولم ينكر عليه أحد، وفعله بعض السلف أيضاً، وكان يفتي به سليمان بن يسار رحمة الله عليه، وقالوا: إنه يستحب إخراجه عن الجنين على التفصيل الذي ذكرناه، وذلك إذا استتمت له المدة أما إذا كان ناقصاً عنها فلا يستحب. قال المصنف رحمه الله: [ولا تجب لناشز]. أي: ولا تجب صدقة الفطر عن ناشز وهي المرأة التي نشزت، والنشز: هو المرتفع من الأرض، كالهضبة ونحوها، والكدية ونحوها من الأشياء التي ليست على منبسط الأرض، ووصفت المرأة بكونها ناشزاً كأنها تعالت عن زوجها؛ لأن الله جل وعلا خصّ الرجال بفضائل وخصّ النساء بفضائل، فجعل للرجل فضل القيومية على المرأة، وذلك لما جعل فيه من الخصائص المعينة في ذلك، وجعل للمرأة ما جعل من اللين والرفق والدعة والسكون لكي يجبر الله نقص هذا بكمال هذا، ويكون في ذلك الخير للأولاد، بوجود الشدة إذا احتاج إلى شدة ووجود اللين والرفق إذا احتاج إلى اللين والرفق والحنان، فإذا كانت المرأة خرجت عن هذه الفطرة توصف بكونها ناشزاً، أي: تتعالى على زوجها، فإن أمرها لا تأتمر، وإن نهاها لا تنتهي، وإذا دعاها إلى فراشه امتنعت، والنشوز أبلغ ما يكون في الامتناع عن الاستمتاع، وهو الذي وردت فيه اللعنة -والعياذ بالله- فإذا نشزت عن زوجها أو ذهبت إلى بيت أهلها بدون إذن زوجها، وبدون إضرار من الزوج أيضاً، ففي هذه الحالة تسقط نفقتها، وحينئذٍ لا يُطالب الزوج بإخراج زكاة الفطر عنها، وإنما يطالب إذا كانت في طاعته وقائمة بحقوقه وتلزمه نفقتها.

إخراج الزكاة بدون الإذن ممن أمر بالإنفاق عليه

إخراج الزكاة بدون الإذن ممن أمر بالإنفاق عليه [ومن لزمت غيره فطرته، فأخرج عن نفسه بغير إذنه أجزأت]. هذه المسألة صورتها: أن يكون الإنسان مطالباً بالزكاة عن شخص، ثم يُخرج هذا الشخص عن نفسه بدون إذن من أُمر بالإنفاق عليه، كأن تُخرج الزوجة بدون علم أو استئذان من الزوج، أو يخرج الولد إذا كان في نفقة أبيه بدون علم أبيه وبدون استئذانه -أما إذا استأذن فلا إشكال، فلو قالت الزوجة لزوجها: سأخرج صدقة الفطر، فلا إشكال- فللعلماء رحمة الله عليهم وجهان: بعض العلماء يقول: صدقة الفطر متوجه الخطاب فيها إلى هذه المرأة -التي هي الزوجة- ولكن أُسقطت عنها فوجِّه الخطاب إلى الزوج لوجوب النفقة عليه، فإن أخرجت الزوجة أجزأها لأنه الأصل، وعلى هذا درج المصنف. ومنهم من يقول: الزكاة عبادة، والعبادة لا تصح إلا بنية، وحينئذٍ لا يجزيها أن تُخرِج حتى تستأذن المطالب بها وهو الزوج، وهذا أقوى إعمالاً للأصول، ولذلك لو أن امرأة تملك حلياً، ثم أراد الزوج أن يُخرج زكاة حليها بدون علمها، فهذا بالإجماع لا يجزئ؛ لأن الزكاة لابد فيها من النية، وهي لم تنو الإخراج، ولم توكله بذلك، فصارت صدقة محضة، وكذلك هنا، فإنه إذا أخرجها بدون إذن المخاطب بها أصلاً، صارت من محض الصدقات، والورع أنه لابد من الاستئذان، ولا تصح إلا بنية على الوجه الذي ذكرناه.

وقت وجوب زكاة الفطر

وقت وجوب زكاة الفطر [وتجب بغروب الشمس ليلة الفطر]. لقوله: (صدقة الفطر من رمضان) فأسند الصدقة إلى الفطر من رمضان، واختلف العلماء في وقت وجوبها: فقال بعضهم: تجب بغروب شمس آخر يوم من رمضان؛ لأنه إذا غابت شمس آخر يوم من رمضان فإن الليل محسوب لشهر الفطر، وهو شهر شوال. ومنهم من قال: تجب بطلوع الفجر من يوم العيد؛ لأن الفطر لا يتحقق إلا بطلوع الفجر، وبناءً على ذلك يبتدئ فطره بطلوع الفجر. ومنهم من يقول: بطلوع الشمس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفطر عند غدُوِّه إلى المصلى، وكان غُدُوُّه بحيث تكون الشمس قد ارتفعت على قدر رمحين، فكان يصلي بالناس صلاة العيد في ذلك الوقت، ومعنى ذلك: أن خروجه سيكون -كما هو معلوم لمن قدّر المسافة بين مصلاه عليه الصلاة والسلام وحجراته- بعد طلوع الشمس. وفائدة هذا الخلاف: أنه لو أسلم الكافر قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان فحينئذٍ تجب عليه صدقة الفطر، لماذا؟ لأنه يكون في حكم من أدرك رمضان، ويلزمه كذلك قضاء آخر يوم من رمضان إذا أسلم قبل غروب شمسه، وإذا قلنا: إن العبرة بطلوع الفجر، فحينئذٍ تتأقت بطلوع الفجر، فعلى هذا لو أسلم الكافر بعد غروب الشمس وقبل طلوع الفجر فلا تجب عليه الزكاة، وكذلك لو اشترى عبداً في هذا الوقت لا تجب عليه الزكاة أيضاً؛ لأنه دخل في ملكه ولم يوجد بعدُ سبب الوجوب أو سبب مخاطبته بالزكاة، وإنما تجب على سيده الأول، وقس على هذا بقية المسائل، فهذه فائدة الخلاف، هل تجب الزكاة بغروب شمس آخر يوم من رمضان، أم تجب بطلوع فجر يوم العيد، أم بطلوع الشمس فيه؟ والأقوى أنها تجب بغروب شمس آخر يوم من رمضان؛ لظاهر حديث ابن عمر: (صدقة الفطر من رمضان)، فأسندها إلى الفطر، لقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185]، فإن إكمال العدة إنما يكون بمغيب شمس آخر يوم من رمضان، وعلى هذا فالعبرة بمغيب شمس آخر يوم من رمضان. قال المصنف رحمه الله: [فمن أسلم بعده أو ملك عبداً أو تزوج أو وُلد له لم تلزمه فطرته]. لما ذكرناه في فائدة الخلاف في وقت الوجوب. قال: [وقبله تلزم]. لأنه وجد السبب الموجب للوجوب. قال المصنف رحمه الله: [ويجوز إخراجها قبل العيد بيومين فقط]. هذا ثابت في الصحيح أنهم كانوا يخرجون صدقة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين، ولا تجوز قبله بثلاثة أيام، وقال الإمام أبو حنيفة: يجوز إخراجها من أول رمضان؛ لأنه يرى أنها متعلقة بالشهر، وإذا وُجد السبب من أوله جاز الإخراج، والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن الأصل إخراجها ليلة العيد، ولأن مقصود الشرع إغناء الفقراء ليلة العيد ويومه، وبناءً على ذلك يكون إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين رخصة، والأصل إخراجها في ليلة العيد ويومه قبل الصلاة. قال المصنف رحمه الله: [ويوم العيد قبل الصلاة أفضل]. لأنه يحقق مقصود الشرع من إغناء السائلين، وإعفافهم عن المسألة. قال المصنف رحمه الله: [وتكره في باقيه]. أي: وتكره في باقي اليوم، يعني بعد الصلاة، والكراهة هنا إما أن تكون تنزيهية أو تحريمية، والأقوى أنها تحريمية، فإذا أخرجها بعد الصلاة فإنها تعتبر صدقة من الصدقات ويأثم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات). ولقول ابن عمر في الحديث: (وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة)، فدل على أنه يجب على المكلف أن يخرجها قبل الصلاة، وأن إخراجها بعد الصلاة يوجب الإثم للمخرج. قال المصنف رحمه الله: [ويقضيها بعد يومه آثماً].

القدر الواجب في زكاة الفطر

القدر الواجب في زكاة الفطر يقول المؤلف عليه رحمة الله: [ويجب صاع من بر أو شعير]. شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان القدر الواجب من زكاة الفطر، والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه قال: (كنا نخرج زكاة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعامٍ أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من زبيب أو صاعاً من أقط) وهذا يدل على القدر الواجب في زكاة الفطر، وهو الصاع، والصاع النبوي أربعة أمداد، والمد: هو ملء الكفين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، وهو الصاع الذي عنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بقولها: (وكان يغتسل بالصاع)، وأما المد فإنه ربعه، فيقال: مدٌ ويقال: ربع صاع، كل ذلك بمعنى واحد، فيخرج صاعاً -أربعة أمداد- من بر أو شعير أو تمر أو زبيب أو أقط، وإذا كان هناك طعام تعارف الناس عليه كالأرز في زماننا، فإنه يخرجه ويجزيه؛ لأن مقصود الشرع إغناء السائلين بالطعام في هذا اليوم، ولا شك أن الأرز يقوم مقام المطعومات الموجودة على عهده صلى الله عليه وسلم، وهو يحقق مقصود الشرع من إغناء السائل في يوم العيد، ولذلك يخرج الإنسان منه ولا حرج عليه في ذلك. قال المصنف رحمه الله: [أو دقيقهما أو سويقهما]. إذا طُحن الشعير والبر فأخرج من دقيقهما أو سويقهما الذي طُحن ثم لُتَّ واستوى على النار ونضج، ثم بعد ذلك صار سويقاً، فيجوز أن يخرج منه صاعاً، سواءً هذا أو ذاك، والسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم إخراج الصاع من الطعام نفسه. قال المصنف رحمه الله: [أو تمرٍ أو زبيب أو أقط، فإن عدم الخمسة أجزأ كل حب وثمر يُقتات]. فبيّن رحمه الله بهذا أن الحكم لا يختص بالإخراج من هذه الخمسة فقط، ولكن العبرة بالطعام، ويدل على ذلك حديث أبي سعيد: (كنا نخرج زكاة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام)، قالوا: وهذا يدل على العموم، وإن كان بعضهم يرى أن ما بعده مفسر له، والبعض يحمله على البر، وعلى العموم قال العلماء: العبرة بكونه يرتفق به مطعوماً، فإذا حصل ذلك فقد أجزأ. قال المصنف رحمه الله: [لا معيب ولا خُبز]. أي: لا يجوز أن يخرج المعيب من الحبوب، فلو أخرج شعيراً فيه السوس، أو تغيّر أو تعفّن فلا يجوز له أن يخرجه؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وقد نهى الله عز وجل المسلم أن يقصد إلى الخبيث، والمراد بالخبيث من الطعام الرديء منه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267]، فدلّ على أنه لا يجوز إخراج الرديء من الطعام، ويستوي في ذلك صدقة الفطر وغيرها من الصدقات الواجبة، فيخرجه من أوسط الطعام، لا يُطالب بالجيد الأعلى ولا يطالب بالرديء الأدنى، ولكن يخرج من المتوسط، والدليل على ذلك: أن الله نهى عن الرديء، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كرائم الأموال، فقال: (وإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم)، فيخرج من المتوسط، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا، فلا يجزئ أن يخرج صاعاً معيباً، كأن يكون تمراً فيه سوس، أو طالت مدته حتى تغيَّر. قال المصنف رحمه الله: [ويجوز أن يعطي الجماعة ما يلزم الواحد وعكسه]. فلو أنه أخذ الصاع فقسمه بين أربعة مساكين لكل مسكين ربع صاع أجزأه، وهكذا لو قسمه بين مسكينين فأعطى كل مسكين نصف صاع أجزأه، فيجوز أن يُخرج ما للواحد للجماعة، ويجوز أن يخرج ما للجماعة للواحد، فلو أنه هو وأهل بيته يجب عليه إخراج خمسة آصع، فوجد مسكيناً فأعطاه الخمسة الآصع أجزأه ذلك، ولكن بشرط ألا يتوسع في حق المسكين على حساب غيره. وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

الأسئلة

الأسئلة

وجوب زكاة الفطر على من أفطر في رمضان

وجوب زكاة الفطر على من أفطر في رمضان Q هل تجب زكاة الفطر على من أفطر شهر رمضان كاملاً لعذرٍ شرعي كالحامل والمرضع وغيرهما؟ وهل إذا قضى صيام شهر رمضان تجب عليه الزكاة بعد ذلك، أي: هل زكاة الفطر تتعلق بالصائم دون المفطر، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن من أفطر في شهر رمضان فإنه يجب عليه أن يؤدي زكاة الفطر، سواءً كان معذوراً أو غير معذور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان، والمراد بذلك الزمان، وعلى هذا فإنه يخرجها وتجب عليه، ونصّ على هذا أهل العلم رحمة الله عليهم. والقول بأنها تسقط عنه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (طعمة للمساكين، وطهرة للصائم من اللغو والرفث) ضعيف، والصحيح: ما نص عليه الجماهير من أنها شرعت طعمة للمساكين وغناءً لهم يوم العيد، وعلى هذا كونها تطهِّر الصائم من اللغو والرفث مشترك مع غيره من العلة الموجودة، ويجوز تعليل الحكم بعلتين على أصح أقوال الأصوليين، وحينئذٍ يستقيم أن يخاطب بها إعمالاً للأصل؛ لأنه أفطر من رمضان، والمراد أنه دخلت عليه ليلة العيد وهي ليلة الفطر من رمضان. ألا ترى أنهم نصوا على أنه لو أسلم الكافر قبل مغيب الشمس ولو بلحظة أنه تجب عليه زكاة الفطر مع أنه لم يصم، وبناءً على ذلك لا يشترط أن يكون قد صام، بل زكاة الفطر واجبة على من صام أو أفطر بعذر؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يُخرجوا زكاة الفطر، ولم يفصِّل، حيث لم يقل: (من أفطر شيئاً من رمضان فلا زكاة عليه)، ولم يقل: (من كان شيخاً كبيراً فأفطر فلا زكاة عليه)، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه، وبناءً على ذلك يجب عليه أن يؤدي الزكاة، سواءً كان مفطراً أو كان صائماً. وأما ما ذكرته من كونه يؤخرها إلى القضاء، فهذا لم يقل به أحدٌ من العلماء. والله تعالى أعلم.

إخراج القيمة في زكاة الفطر

إخراج القيمة في زكاة الفطر Q هل يجوز إخراج القيمة في زكاة الفطر، لا سيما وأنها أحياناً قد تكون أحب للفقير، أثابكم الله؟ A اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين: فجمهور أهل العلم على أنه لا يجوز أن يُخرج القيمة بدل الطعام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من الطعام؛ ولأن النقد كان موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأمر بإخراج النقد بدل الطعام؛ ولأن الطعام يأخذه المحتاج ولا يأخذه غير المحتاج، وأما النقد فيأخذه المحتاج وغير المحتاج؛ ولأن المقصود أن يغنيهم بالطعام، بخلاف ما إذا أعطاهم المال فبذَّروه في غير ما مصلحة، فلا شك أن أخراج الطعام أولى للأثر وللنظر، وقد كان الخلفاء الراشدون من بعد النبي صلى الله عليه وسلم يُخرجون صدقة الفطر ويأمرون بها، وما حُفظ عن واحد منهم أنه اجتهد فأمر الناس بإخراج القيمة، وبناءً على ذلك فإنه لا يجوز إخراج القيمة. وذهب الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه إلى جواز إخراج القيمة، واحتج بدليلين: أولهما: حديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا بعثه إلى اليمن قال لأهل اليمن: (ائتوني بخميصٍ أو لبيس فإنه أرفق بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) قالوا: فطلب البدل في الزكاة، فدل على جواز إخراج القيمة بدلاً عن الطعام، كما طلب الثياب بدلاً عن الورِق، إذاً: يجوز أن يأخذ الورق أو الذهب بدل الطعام، وهذا الدليل أُجيب عنه بأنه في الجزية، وقوله (ائتوني بخميص أو لبيس) إنما هو في الجزية وليس في الزكاة، وبناءً على ذلك لا يعتبر دليلاً على جواز إخراج البدل في الزكاة. وأما الدليل الثاني فحديث ابن عباس: (اغنوهم عن السؤال ليلة العيد ويومه)، وهذا حديث تكلّم العلماء في سنده، وقوله: (اغنوهم) لا يدل على التأقيت والتحديد بالنقد؛ لأنه لو أُخذ قوله: (اغنوهم) على ظاهره من النقد لعارض أمر النبي صلى الله عليه وسلم فلمّا قال: (اغنوهم) وأمر بإخراج الطعام دل على أن المراد بذلك الاستغناء والكفاية عن السؤال بوجود الطعام؛ لأنه إذا وجد الطعام اندفعت الضرورة، وهذا هو الصحيح. وعليه فلم يقم دليل قوي على إخراج النقد، وقد يقولون: إن النقد أرفق؛ لأن المسكين يأخذ الزكاة ويبيعها، فبدل أن يبيعها بقيمة قليلة فلنعطه القيمة الأصلية، فهذا أفضل. ولا شك أن هذا مردود عليه؛ لأن الثواب بالطعام أبلغ وأعظم أجراً من الثواب بالمال؛ لأن الطعام إذا أكله تحققت من حصول النفع له، وإذا باعه كان التفريط داخلاً منه، ولذلك قالوا: إنه يرتفق بالطعام أكثر من ارتفاقه بالنقد، وهذا صحيح؛ لأنه قد يأخذ النقد ويكون سفيهاً لا يحسن التصرف فيه. وبناءً عليه فإنه لا يجوز إخراج النقد بدل الطعام في صدقة الفطر. والله تعالى أعلم.

باب إخراج الزكاة

شرح زاد المستقنع - باب إخراج الزكاة الزكاة شأنها عظيم، ولذلك يجب على الإنسان أن يبادر بأدائها على الفور وألا يتأخر في ذلك، إلا إذا وجد الضرر، فيجوز له أن يتأخر إلى زواله. والزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، ولذلك فإن من منعها جاحداً لوجوبها وهو عارف به فقد ارتد عن دين الإسلام، ويجب أخذها منه وقتله، وأما منع الزكاة بخلاً بها فهو من كبائر الذنوب، وكفران لنعمة الله عز وجل، وهو مؤذن بزوال الأموال ومحق بركتها، ويجب على الوالي أخذها منه وتعزيره.

وجوب إخراج الزكاة في وقتها

وجوب إخراج الزكاة في وقتها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب إخراج الزكاة]. أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بصفة إخراج الزكاة الواجبة، وذلك أن إخراج الزكاة، فيه بعض المسائل التي تتعلق بالمُخرج، وكذلك بالنسبة لمن يُعطى الزكاة، فناسب أن يُفردها رحمه الله بهذا الباب. [ويجب على الفور]. أي: ويجب إخراج الزكاة على الفور، والفور: ضد التراخي، ومعنى هذه العبارة: أن المسلم إذا أوجب الله عليه زكاة ماله؛ فإنه يجب عليه أن يخرج الزكاة في وقتها، كما قال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141]، فلذلك يجب عليه أن يبادر، وأن يمتثل أمر الله عز وجل، فيُخرج الزكاة فوراً ولا يتأخر، قال العلماء: الأصل في الأمر أنه يقتضي الفور، إلا إذا دل الدليل على التراخي، فإنه إذا قال السيد لعبده: قم، فتأخر في القيام ساعة استحق أن يعاقبه، قالوا: فهذا يدل على أن صيغة (افعل) تقتضي الفورية، ولذلك نص الأصوليون على وجوب المبادرة بفعل الأوامر، وأنه لا يجوز التأخر إلا إذا أذن الشرع بالتأخير والتراخي. فمثلاً: إذا زالت الشمس توجه الخطاب بصلاة الظهر، ووجب على المسلم أن يصلي أربع ركعات، ولكن الأمر فيه شيءٌ من التراخي؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ما بين هذين وقت) فجعله مخيراً، وهذا يدل على أنه يجوز له أن يتأخر، إلا إذا كانت هناك جماعة ونادى المنادي، فيجب عليه السعي إليها. فالشاهد: أن الأوامر ينبغي أن يبادر المكلف بفعلها، والزكاة من جنس الواجبات والفروض التي أمر الله، فلا يجوز له أن يؤخرها؛ ولأنه إذا أخَّرها أضر بالفقراء والضعفاء والمساكين، ومن هنا تتفرع مسائل: منها: أن بعض الوكلاء يأخذون الزكاة بقصد إعطائها للفقراء والمساكين، فتمكث الزكاة عندهم بالأيام، بل بالأسابيع، بل بالشهور، وقد تتأخر إلى سنة كاملة، وهذا من الظلم وصاحبه آثم، والسبب في ذلك: أن من أخذ الزكاة يريد إنفاقها، فينبغي عليه أن يكون على بصيرة بالمستحقين، ويكون عنده ديوان أو كتاب يحدد فيه الأشخاص الذين يريد أن يصرف الزكاة إليهم، فإن كان الأشخاص المسجلون عنده يبلغون -مثلاً- خمسة أشخاص وتجزيهم الخمسة آلاف، فلا يجوز له أن يأخذ عشرة آلاف ويعطل ما تبقى منها حتى يبحث عن مستحق، بل يأخذ بقدر ما يعلم من الفقراء والضعفاء. وهذه المسألة يخلط فيها الكثير، وتضيع بسببها حقوق، وقد يبقى الضعفاء والفقراء محرومون من أموال كثيرة مجمدة، وهذا لا يجوز، بل ينبغي على الإنسان إذا توكّل بالزكاة أن يأخذ بيد وأن يعطي بأخرى، مبادرة للامتثال بأمر الله عز وجل، ولا يجوز التأخير إلا في حدود ضيقة، وكان بعض العلماء والفضلاء من مشايخنا رحمة الله عليهم ممن أدركناهم لا يستطيع أن ينام أحدهم ليلته وعنده شيء من الزكاة، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في قصة الدينارين أنه تخطّى الرقاب بعد صلاة الفجر مهموماً مغموماً، وقال: (ما ظني لو أني مت وعندي هذان الديناران؟!)، فهذا يدل على عظم أمر الزكاة، وكون الإنسان يأخذ العشرة آلاف والعشرين الألف ويجمدها في رصيده أو يضعها في بيته، والفقراء يكتوون بالجوع، والمديونون والمعسرون يُهانون ويُذلُّون بذل الدين وهوانه، فإن الله سيحاسبهم على ذلك كله، ولا يجوز له أن يفعل ذلك، بل ينبغي أن يتشدد في هذا الأمر على نفسه، ولا يأخذ الزكاة إلا وقد علم بأهلها، وإن استطاع أن لا يبيت وعنده شيءٌ منها، فذلك هو الحسن والأكمل، أما ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام من كونه أعطى الصدقة لـ أبي هريرة ليحفظها فهذا أمر يرجع إلى قسمته عليه الصلاة والسلام للضعفاء الذين كانوا يأتونه من القرى، وهذه أحوال استثناها العلماء. وكذلك بالنسبة لصاحب المال إذا أراد أن يُخرج زكاة ماله، فلو فرضنا أن زكاة ماله عشرة آلاف ريال، وهو يريد أن يُخرجها بنفسه، فعليه أن يتحرى قبل نهاية الحول، فيكتب الضعفاء والفقراء، حتى إذا انتهى الحول أوصل لكل ذي حق حقه، أما أن يبقيها مجمدة عنده، ويتحرى ويتأخر ويماطل، فهذا لا يبعد أن يكون كالذي قبله، ولذلك نبّه العلماء على أنه ينبغي على من توكّل بالزكاة أن يتقي الله في حقوق الضعفاء والفقراء، فإن الله جعل الزكاة حقاً، ولم يجعل لأحد فيها منّة على الضعيف والفقير، فقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25]، فجعله حقاً واجباً، حتى إن بعض العلماء يقول: لا ينبغي للغني إذا أعطى الفقير أن يرفع يده عليه، حتى لا يشعره بالذلة؛ لأن هذا حقٌ واجب، وليست بصدقة نفل. فالزكاة أمرها عظيم، فينبغي أن يبادر الإنسان بأدائها على الفور، وأن يُنصح كل من يأخذ الزكاة، سواء كان يأخذها على سبيل الأفراد أو على سبيل الجماعة ألا يتأخر فيها، وأن يبادر بإخراجها لأهلها.

جواز تأخير إخراج الزكاة للضرورة

جواز تأخير إخراج الزكاة للضرورة يقول المصنف رحمه الله: [مع إمكانه]. (مع إمكانه) الإمكان: ما في وسع الإنسان، فإذا كان يمكنه وفي وسعه أن يبادر بادر، لكن لو جاءه ظرف لا يستطيع معه أن يتمكن من إخراج الزكاة، وهو شيءٌ يقهره ويمنعه من المبادرة بها، فحينئذٍ له أن يتأخر إلى أن يتمكن، والأصل في ذلك أن الله عز وجل كلّف العباد بما في وسعهم، ولم يكلِّفهم بما هو خارج عن وسعهم، ومن هنا قعّد العلماء القاعدة التي تقول: (التكليف شرطه الإمكان)، وهذه قاعدة مستنبطة من قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فإن كان بإمكانه أن يبادر بالإخراج لزمه الإخراج فوراً، وإن كان لا يمكنه إلا بعد ساعات، أو بعد أيام، أو بعد أسابيع، فيعذر بقدر الضرورة التي ضيقت عليه أو منعته من المبادرة بامتثال أمر الله عز وجل بإخراج الزكاة. [إلا لضرورة]. أي: إلا إذا وجد الضرر، فإذا وجد الضرر جاز له أن يتأخر إلى زواله، كأن يعلم بأهل بيت هم مساكين أو فقراء، ولكن الطريق الذي يريد أن يذهب فيه بهذه الزكاة فيه ضرر، فيؤخِّر إلى زواله، حتى يعطي المستحق حقه، كأن يخشى من لصوص أو قطع طريق أو نحو ذلك من الأسباب، فحينئذٍ يجوز له أن يؤخر خوفاً من هذا الضرر، ويستوي في ذلك أن يكون الضرر متعلقاً به أو متعلقاً بماله أو متعلقاً بأهله وولده، فهذه الأحوال يجوز له أن يؤخر فيها، ولا يجوز له أن يؤخر إلا عند خوف الضرر الذي يصل به إما إلى مرتبة الحاجيات أو مرتبة الضروريات، ومرتبة الضروريات كأن يخاف على نفسه الهلاك، ومرتبة الحاجيات دونها، فلا يخاف الهلاك والموت، ولكن يخاف الضرر والإجحاف، كمذلة ومهانة لا تليق بمثله، ونحو ذلك، فإن نزلت نظرنا، إن وصلت إلى قدر الحاجيات ساغ ذلك للقاعدة: (الحاجة تنزل منزلة الضرورة)، وإن كانت دون مرتبة الحاجة والضرورة فلا يجوز تأخيرها، ومن توسع في تأخير الزكاة أثِم. والأصل في إسقاط الإخراج الفوري لوجود الضرر: أن الشريعة لا تأمر بالضرر، فلو كان هناك ضررٌ في الإخراج الفوري، وقلنا للمكلف: أخرجها فوراً، فقد أُمر بالضرر، والله لا يأمر بالضرر، ولذلك ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا ضرر ولا ضرار)، وهذا يدل على أن الضرر لا يأمر به الشرع، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، والضرر فيه حرج، ولذلك لا يأمر الله عز وجل بما فيه حرج، فإذا كان إخراجه للمال فوراً فيه حرج وضرر عليه، نقول أخِّر حتى يزول الضرر، للقاعدة: (أن ما شُرع لحاجة بطل بزوالها)، فإذا زال الضرر أو ذهب تزول معه الرخصة، فحينئذٍ يجب عليه الإخراج فوراً.

حكم من جحد وجوب الزكاة

حكم من جحد وجوب الزكاة قال رحمه الله: [فإن منعها جحداً لوجوبها كفر عارف بالحكم]. (فإن منعها) أي: الزكاة، (جاحداً لوجوبها) -نسأل الله السلامة والعافية- قيل له: أدِّ زكاة مالك، فإن الله فرض عليك الزكاة، فقال: لا زكاة، أو طرد الذي بعثه الوالي لجلب الزكاة، وقال: لا أريد أن أخرجها، وليست هناك زكاة، فقال له: اتق الله، فإن الله فرض عليك الزكاة، فقال: الزكاة غير مفروضة -نسأل الله السلامة والعافية-، فجحد أن الله أوجب على عباده زكاةً، فهذا يعتبر كافراً بإجماع العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن الإنكار للمعلوم من الدين بالضرورة يقتضي الكفر، فمن أنكر فرضية الصلاة أو فرضية الزكاة فإنه يعتبر كافراً بإجماع المسلمين، وهذا يسميه العلماء: إنكار المعلوم من الدين بالضرورة. وخصّ المصنف التكفير بحالة ما إذا كان عالماً كأهل الردة، فإنهم لما ارتدوا على عهد أبي بكر رضي الله عنه بعدما توفِّي النبي عليه الصلاة والسلام قالوا في سبب ردتهم حينما منعوا الزكاة: مات الذي أُمرنا بدفع الزكاة إليه، يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن الله يقول: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103]، وما كان لـ ابن أبي قحافة أن يصلي علينا. يستخفُّون بـ أبي بكر رضي الله عنه، يقولون: إن الزكاة إنما أوجبها الله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله يقول له: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [التوبة:103] فخصّ الخطاب به، وغفلوا أن هذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم والأمر له أمرٌ لأمته بالتبع، فأنكروا فرضية الزكاة على هذا الوجه، ومن هنا كفروا، ولم يكفروا لمنع الزكاة؛ لأن مانع الزكاة لا يكفَّر إلا إذا جحد، وأهل الردة جحدوا، ومن هنا قال أبو بكر: (والله لو منعوني عناقاً -وفي رواية: عقالاً- كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه)، فإذا منع وأنكر فقد كفر. لكن اشترط العلماء في تكفير من جحد الزكاة، أن يكون عارفاً بوجوب الزكاة، عالماً به، فإذا كان جاهلاً أن الزكاة مفروضة، وقال: ليس هناك زكاة، وأنكر لجهله لم يكفَّر. ومن أمثلة ذلك: حديث العهد بالإسلام، فلو أن رجلاً أسلم وعنده تجارة، ثم حال عليها الحول، فجاء المصدِّق والمزكي، فقال له: أد الزكاة، فقال: أي زكاة. ليست هناك زكاة، فأنكر الزكاة لجهله بالإسلام، وعدم علمه، فيعرَّف مثل هذا ويعلّم، ولا يحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة. [وأخذت منه وقتل]. أي: وأُخذت من الذي منع وجحد وقُتل، فهناك حكمان يتعلقان بمن منع جحوداً -والعياذ بالله-: أولهما: أخذ الزكاة منه؛ لأن الزكاة متعلقة بالفقراء، وحقٌ للفقراء والمساكين، فكونه يرتد، لا يمنع أن نأخذ الحق الواجب في ماله، كما لو ارتد وعليه دين للمسلمين، فإننا نأخذ من ماله سداداً لدين المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فدين الله أحق أن يقضى)، فالزكاة حقٌ لله عز وجل في ماله، وهو دين واجب عليه أن يؤديه، وقد صرّح النبي صلى الله عليه وسلم بكون الحقوق ديناً على المكلف، فإذا امتنع من أدائها قوتِل وأُخذَت منه، وإذا جحدها قُتل وأخذت منه، أي: من ماله؛ لأنها دينٌ للفقراء والمساكين، فوجب أن يؤخذ هذا الدين ويعطى لأصحابه المستحقين. الحكم الثاني: أنه يقتل، ويستتاب المرتد ثلاثاً -كما سيأتي إن شاء الله في أحكام المرتدين- فإن تاب وإلا قتل، وهل يشمل ذلك مانع الزكاة، أو لا يشمله؟ فيه كلام للعلماء رحمة الله عليهم، ووجّه بعض العلماء أنه يقتل مباشرة.

حكم من منع أداء الزكاة بخلا

حكم من منع أداء الزكاة بخلاً قال رحمه الله: [أو بخلاً أُخذت منه وعزر]. أي: (أو منعها بخلاً، فقال: الزكاة واجبة، فقيل له: أد الزكاة، قال: لا أؤديها، فهو مقرٌ بوجوبها، ولكنه بخل بها -نسأل الله السلامة والعافية-، وهذا من أسوأ ما يكون من العبد أن يكفر نعمة الله عليه، وأن يجحد ويبخل بما آتاه الله من فضله، ولذلك آذن الله أموال البخلاء الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله أن يمحق بركتها، وقد يسلبهم بها فيكويهم بنار سلبها في الدنيا: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127]، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفِّحت له صفائح من نار، يكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيد عليها فأحميت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها فصيلاً، يجدها أوفر ما تكون، تطؤه بأخفافها وتعضه بأنيابها، كلما مر عليه أخراها أعيد عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار). فمنع الزكاة والبخل بها من كبائر الذنوب، ولذلك يؤذن الله أهل المنع بمحق البركة من أموالهم، ويعذبهم بها، فتزهق أنفسهم. فما من إنسان يمتنع من أداء حق الزكاة إلا ضيق الله عليه كما ضيق على الفقراء، وتجده في ضيق ونكد من العيش، ولو كانت أموال الدنيا تصب في حجره؛ لأن الله أصابه بزهق النفس؛ بسبب بخله بما آتاه الله من فضله، وقد يعاقبه الله بعقوبة في دينه، فيفتنه أو يبتليه بنفاق، فيختم له بخاتمة السوء -والعياذ بالله-: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} [التوبة:77]، فهذا يدل على أن التمرد على الله وكفران نعمة الله عز وجل يؤذن بزوال الأموال، كما في قصة الأقرع والأبرص والأعمى؛ فإنه لما جحد الأقرع والأبرص وبخلا بفضل الله عز وجل عليهما وعندما: (جاء الملك إلى الأعمى في صورته وقال له: ابن سبيل منقطع، فقال له: دونك الوادي، وفيه الغنم فخذ منه ما شئت، فقد كنت فقيراً فأغناني الله، والله لا أرزؤك من مالي اليوم شيئاً -وهذا حال أهل الوفاء-، فقال: أمسك عليك مالك فقد هلك صاحباك)، فهذا يدل على أن من بخل -والعياذ بالله- فإن الله سبحانه وتعالى يؤذن ماله بالهلاك. ومن البخل: البخل بنعم الله الأخرى، فلا يختص الحكم بالبخل بنعمة المال فقط، بل حتى البخل بنعمة العلم، في تعليم الجاهل إذا سأل وتوجيهه، فهذا أيضاً من أعظم البخل، وقد كان بعض العلماء يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)، قال: فكيف بمن حبس طعام الروح؟!! والمراد بذلك تعليم الناس وتوجيههم. فالمقصود: أنه لا يجوز للإنسان أن يبخل بما آتاه الله من فضله، ومن ذلك البخل بالزكاة، نسأل الله السلامة والعافية! [أُخذت منه وعزِّر]. أخذت منه قهراً، أي: بالقوة والغصب، (وعزِّر)، للعلماء قولان: منهم من يقول: تؤخذ وشطر المال، عقوبة وعزمة من عزمات الله عز وجل. ومنهم من يقول: تؤخذ الزكاة وحدها. وجمهور العلماء يقولون: تؤخذ الزكاة وحدها؛ لأن الأصل في أموال المسلمين أنه لا يجوز أخذها إلا بحق، فهذا منع الزكاة وهي حق فنأخذ الحق وحده، ولم يروا ثبوت الحديث في التعزير بأخذ شطر المال. وأما من قال: يؤخذ شطر المال فلقوله عليه الصلاة والسلام عمن منع الزكاة أي: الزكاة، لما منعها قال: (إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا)، قالوا: فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأخذ الزكاة وشطر المال، وللعلماء في شطر المال قولان: منهم من يقول: شطر ماله كله، فلو كان عنده ذهب وفضة وإبل وغنم وبقر وعروض تجارة، فمنع إخراج الزكاة من عروض التجارة أو من الإبل، قالوا: نأخذ نصف ثروته كلها من عروض التجارة ومن غيرها، فلو كانت ثروته كلها عشرة ملايين فنأخذ نصفها وهو: خمسة ملايين، عزمة من عزمات الله عز وجل؛ لكفرانه لنعمة الله عز وجل عليه. ومنهم من يقول: يؤخذ شطر المال الذي منع إخراج الزكاة منه، فإن كان عنده -كما ذكرنا- عروض تجارة، وإبل وبقر وغنم وذهب وفضة، ومنع إخراجها من الذهب أُخذ نصف الذهب الذي عنده، وإن منع من عروض التجارة أُخذ نصف عروض التجارة التي عنده. والصحيح الأول: أنه يؤخذ من نصف المال كله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا آخذوها وشطر ماله)، وهذا يدل على أنه شطر المال كله؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص الأخذ من المال الذي منع منه المانع، فدل على أنه يؤخذ نصف المال كله، وهذا هو الأقوى. وبعض العلماء يقول: الأمر يرجع إلى الوالي، فإن رأى أن تعزير هذا لمنعه وجيه عزّره بشطر المال، وإن أراد أن يخفِّف عنه لمصلحة يراها فلا حرج عليه في ذلك.

زكاة مال الصبي والمجنون

زكاة مال الصبي والمجنون قال رحمه الله: [وتجب في مال صبيٍ ومجنون]. أي: (وتجب الزكاة في مال الصبي والمجنون) الصبي: من الصبا، والصبا: هو الطور الذي يسبق البلوغ، والبلوغ يكون بوصول الإنسان، بلغ الشيء إذا وصله، وسمي البلوغ بلوغاً؛ لأن الإنسان يصل فيه إلى طور العقل. فإذا كان الذي يملك المال صبياً، ومثال ذلك: لو مات رجلٌ وعنده ثروة، وخلّف ابنين، وقُسمت الثروة عليهما، ونصيب كل واحد منهما قد بلغ النصاب، وكان الصبيان دون البلوغ، فهما يتيمان، و Q هل نقول: إن اليتيم غير مكلّف، فكما أنه لا تجب عليه الصلاة لا يجب عليه أن يزكي، أم أننا نقول: إنه تجب عليه الزكاة في ماله؟ للعلماء قولان: الجمهور على وجوب الزكاة في أموال اليتامى، وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه: لا تجب، والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن الزكاة حق متعلق بالمال، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [التوبة:103]، وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وهو المأمور باتباع سنته- أنه قال: (اتجروا في أموال اليتامى، لا تأكلها الصدقة)، وهذا قد قاله بمسمعٍ ومرأى من فقهاء الصحابة؛ لأن عمر رضي الله عنه كان يمنع فقهاء الصحابة من الخروج من المدينة حتى إذا أرادوا أن يخرجوا للجهاد منعهم؛ خوفاً من نزول المسائل والنوازل، فإنه كان يستشيرهم، ومع ذلك قال هذه الكلمة ولم ينكر عليه أحد، فدلّ على أن الزكاة حق متعلق بالأموال، وليس متعلقاً بالمكلَّف نفسه، بمعنى: أنه يسقط على من كان غير مكلَّف كالصبي والمجنون. وعلى هذا فتجب الزكاة في مال الصبي ومال المجنون؛ لأن الصبي إذا كان عليه دين للمخلوق وجب عليه أن يؤديه، فكذلك الزكاة هي دين وحق لله في أموال الناس، فيجب عليه أن يخرجه، ولا تتعلق الزكاة بالبلوغ.

من يتولى إخراجها

من يتولى إخراجها قال رحمه الله: [فيخرجها وليهما]. الصبي والمجنون كلٌ منهما كما هو معلوم لا يُحسن التصرف في أمواله، فالصبي لو مات أبوه وترك له عقاراً فأراد أن يبيعه لما أحسن بيعه، وربما يبيع الذي (بمائة) (بعشرة) فهو لا يُحسن الأخذ لنفسه، ولو أراد أن يشتري شيئاً يشتهيه، وقيل له: هذا الشيء الذي تشتهيه لا نعطيكه إلا (بمائة)، وقيمته (عشرة) لاشتراه (بالمائة)؛ لأنه ليس عنده عقل يمنعه، ولذلك قالوا: لا يؤمن على ماله، فحجر الله على اليتامى، وعلى السفهاء رحمة بهم؛ لأنهم لا يحسنون الأخذ لأنفسهم ولا الإعطاء لغيرهم، وهذا النوع من الحجر يسميه العلماء: الحجر لمصلحة المحجور، وهناك نوع ثانٍ وهو: الحجر لمصلحة الغير كالمفلس. فإذا حُجر على الصبي أو على اليتيم أو على المجنون، فمن الذي يُخرج الزكاة من أموالهم؟ يُخرجها الولي، والولي: شخصٌ يقيمه القاضي للنظر في مصلحة مال اليتيم والمجنون، فمثلاً: إذا توفي الأب نظر القاضي في ورثته وفي أقربائه، فإن وجد عم الصبي عاقلاً حكيماً رشيداً ديِّنا أميناً، وضع الأموال عنده، وهذا العم الذي يُنصَّب من القاضي ولياً عن اليتيم، هو الذي يبيع له ويشتري له، فلو رأى المصلحة أن يبيع بيوته باعها، ولو رأى المصلحة أن يشتري له عقاراً اشتراه، فيتصرف في ماله فيما فيه المصلحة، ولذلك قال عمر: (اتجروا في أموال اليتامى)، فجعل الأولياء مكلَّفين، وخوّل لهم أن يقوموا بالتجارة في أموال اليتامى طلباً لمصلحة الربح والنماء، فعلى هذا يُخاطب الولي بإخراج الزكاة، وكلما حان وقت وجوبها نظر إلى قدرها فأخرجه من المال وزكاه.

بعض أحكام إخراج الزكاة

بعض أحكام إخراج الزكاة قال رحمه الله: [ولا يجوز إخراجها إلا بنية]. أي: ولا يجوز إخراج الزكاة إلا بنية، ولما كان الباب معقوداً لأحكام الإخراج يرد Q هل يصح الإخراج بدون نية، أو لا بد من النية؟ و A أنه لا بد من النية؛ لقوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2]، والزكاة عبادة، ولما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إنما الأعمال بالنيات)، والزكاة عمل، فدلّ على أن الزكاة لا تصح إلا بنية، وعلى ذلك اتفق العلماء رحمة الله عليهم، وبناءً عليه: فلو أن إنساناً وجبت عليه الزكاة ألف ريال، فمرّ عليه مسكين وشكا له حاجته، فأعطاه الألف ريال شفقة عليه، ولم يتذكر أن عليه زكاة ألف ريال، وبعد أن ذهب المسكين تذكّر أن عليه زكاةً وهي ألف ريال، فنوى أن هذه الألف الماضية، قائمة مقام الزكاة فهذا لا يجزئ؛ لأن شرط النية أن تكون مصاحبة للعمل أو سابقة عنه باليسير الذي لا يضر، بمعنى: لا يوجد الفاصل الذي يضر، وبناءً على ذلك فلا بد من النية.

الأفضل للمزكي أداء الزكاة بنفسه

الأفضل للمزكي أداء الزكاة بنفسه قال رحمه الله: [والأفضل أن يفرِّقها بنفسه]. أي: والأفضل والأكمل أن يفرق زكاته بنفسه؛ لما فيه من كمال الطاعة لله عز وجل، ولما فيه من المشقة والتعب الذي يأجره الله عليه، ولما فيه من الطمأنينة بوصول الحق إلى مستحقه، ولما فيه من خلو المسئولية بين يدي الله عز وجل، فإنك لو أعطيت زكاة مالك لرجل وقلت له: أخرج هذه الزكاة للفقراء. وهذا الرجل ضيَّع هذه الزكاة، فأنت مسئول بين يدي الله عنه، حتى ولو كان أميناً، فإن الله يسألك عن أمانته، لم أعطيته؟ ولذلك لا يجوز أن يوكِّل الإنسان بالزكاة إلا إذا كان على غلبة ظن بأمانة من يؤدي إليه وحفظه وقيامه بأداء الزكاة على وجهها، فلو كان أميناً ولكنه متباطئاً كسولاً يتأخر في أداء الحقوق، فأدّى الزكاة إليه وهو يعلم أنه متكاسل، فتباطأ وتكاسل، فإنه يأثم كإثمه؛ لأنه أعانه على الظلم وتأخير الحق عن مستحقه. إذاً الأفضل والأكمل خلواً من المسئولية وعظماً في الأجر أن يقوم بنفسه بأداء الزكاة، ولما فيه من تحصيل دعوة الفقراء والضعفاء، ولدعوات الفقراء والضعفاء لذة يعرفها من وجدها، فإنه لربما دعا له مسكين مستجاب الدعوة، أن يبارك الله له في ماله، ولما فيها من جمع القلوب، ولذلك يُحس الفقراء بعطف الأغنياء عليهم، ولكن إذا جاء وكيل الغني، وأعطاها إليه، لم يشعر بذلك العطف والحنان، ولكن أن يأتيه إلى داره، ويعطيه بنفس سمحة، ويُظهر له العطف والحنان، فذلك أبلغ في حصول الألفة والمحبة والترابط والتراحم بين المسلمين، وهذا مقصود شرعاً، ولذلك تجد الغني الذي يتولى زكاة ماله بنفسه مباركاً له، وكثيراً ما يجد من دعوات الخير، وكلّما فرجت الزكاة عن مكروب ومنكوب وتذكّر كربه قال: غفر الله لفلان؛ لأنه يذكر الساعة التي وقف عليه فأعطاه زكاته فيها، فلذلك الأفضل والأكمل أن يلي صاحب الزكاة إخراج زكاته لما فيه من تحصيل الأجور، وقد قال صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين: (ثوابك على قدر نصبك) أي: على قدر ما تجدين من التعب في الطاعة يثيبك الله جل وعلا، ولذلك قال العلماء: الأفضل أن يلي الإنسان إخراج زكاته بنفسه؛ لأنه إذا ذهب إلى بيوت الفقراء والضعفاء نظر في حالهم، فلربما وجد عورة، فزاد على الزكاة بالصدقة، ولربما كشف حاجة لمحتاج، وفرَّج نكبة لمنكوب، وكربة لمكروب، وهذا لا شك أنه أفضل، فهو يحصِّل وجوه خير كثيرة، مع ما فيه من احتساب الخطوات بمشيه في طاعة الله عز وجل، واحتساب الوقت، وغير ذلك من الأمور التي ذكرناها.

الدعاء لمن أخرج الزكاة

الدعاء لمن أخرج الزكاة قال رحمه الله: [ويقول عند دفعها هو وآخذها ما ورد]. الذي ورد أن الله تعالى قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103]، (وصل) بمعنى: ادع، ومنه قول الشاعر: تقول بنتي وقد قرّبت مرتحلاً يا رب جنِّب أبي الأوصاب والوجعا فدعت لأبيها فقال: عليكِ مثل الذي صليت فاغتمضي عيناً فإن لجنب المرء مضطجعا فقوله: (عليك مثل الذي صلّيت) أي: دعوتِ. فالصلاة في اللغة هي: الدعاء، فلما قال الله جل وعلا: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103]، أي: ادع لهم، وهذه هي السنة أن الإمام ومن يقوم مقامه كالسعاة الذين يأخذون الزكاة من الناس، يُسن لهم إذا أخذوا الزكاة أن يدعوا للمتصدق: أن يبارك الله له في ماله، وأن يبارك له فيما آتاه، وأن يقولوا له القول الحسن الذي يحمله على محبة الخير والزيادة منه، وهذا مقصود شرعاً، وورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال كما في الصحيح: (اللهم صلِّ على آل أبي أوفى)، قال بعض العلماء: أي: ارحمهم؛ لأن الصلاة تُطلق بمعنى الرحمة، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56]، فصلاة الله على نبيه صلى الله عليه وسلم هي الرحمة، وقيل: (صلِّ) أي: بارك لهم فيما أعطيتهم من المال والخير، وهذه نعمة عظيمة؛ لأنه ليس المهم أن يكون عند الإنسان مال، ولكن الأهم أن يبارك الله له في هذا المال، ولذلك يدعو له بالبركة، ويقول: اللهم بارك لفلان، والأفضل أن يشمله وأهله بالدعاء، فيقول: اللهم بارك لآل فلان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم صلِّ على آل أبي أوفى). وأما بالنسبة لمن يعطيها فقد جاء في حديث أبي هريرة أنه يقول: (اللهم اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً)، وهذا حديث ضعيف تكلم العلماء في سنده، والصحيح: أنه ليس هناك تقيد أو إلزام بذكر معين، والأمر واسع؛ لأن القاعدة: (أن ما أطلقه الشرع من الأذكار يبقى مطلقاً حتى يرد التقييد) ولم يرد تقييد في هذا بدليل ثابت في الكتاب والسنة، فبقي المطلق على إطلاقه.

إخراج الزكاة لفقراء البلد

إخراج الزكاة لفقراء البلد قال رحمه الله: [والأفضل إخراج زكاة كل مال في فقراء بلده]. هذه العبارة المراد بها أن أصحاب الأموال يُخرِجون زكاة أموالهم في البلد الذي هم فيه، وفيه تجاراتهم وأموالهم، وهذا من حكمة الله عز وجل أنه جعل فقراء البلد غناهم في أموال الأغنياء في نفس البلد، والأصل في الإلزام بهذا ما ثبت في حديث معاذ في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة -أي: زكاةً- تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) فقال: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) ولم يقل: (فأتني بها)، فدل على أن الزكاة تتعلق بالبلد، وهذا هو الصحيح على ظاهر السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيّد الزكاة بالبلد، وعلى هذا فلا يجوز نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر. ومن تأمل ونظر وجد أن نقل الزكاة يفوِّت مصالح عظيمة، وإن كان في بعض الظروف الضيقة قد يحصِّل مصالح أو يدرأ مفاسد؛ لكنه في كثير من الأحوال يُضر بأهل البلد، ولذلك تجد في البلد الضعفاء والفقراء، ويكون فيه أغنياء، فإذا قيل لأحد من خارج البلد: تصدّق على فقراء هذا البلد، قال: إن فيه من الأغنياء ما يكفيه، ويسد عوزه، فيمتنع من الصدقة عليهم. ومن هنا قال العلماء: ينبغي للإنسان إذا كان له أقرباء مستحقون للزكاة أن يبدأ بهم، وليس هذا من المحاباة، والسبب في هذا: أن أقارب الغني لا يُعطون إذا كانوا فقراء أو ضعفاء من الأجانب؛ لأن كل إنسان يقول: هذا قريب لفلان الغني، فيمتنع من إعطائه شيئاً، ولذلك تصبح قرابته وبالاً عليه بحرمانه الخير من الأجنبي ومن قريبه. ومن هنا قالوا: تعطى لفقراء البلد، حتى إذا سُدّت حاجتهم صُرفت إلى ما وراء ذلك البلد، وهذا هو الذي تميل إليه النفس؛ إذ لا يُعقل أن يصل الإنسان مكاناً بعيداً وحوله الفقراء يكتوون بالجوع والأسى والألم، وفيهم الأيتام والضعفاء والأرامل، أما في الأحوال المخصوصة كالنكبات والفجائع التي تحصل في البلدان والأمصار، فرخّص بعض العلماء في نجدتها، وإن كان بعض العلماء قال: إن هذا له أصل من وجوب المبادرة في سد عوَز المسلم؛ لكن الكلام إذا لم تكن هناك مثل هذه الأحوال الطارئة، فإذا كان الناس في بلد، وجب على أغنيائهم أن يسدوا عوزهم، لما فيه من رعاية حق الجوار، فإن الناس في البلد الواحد بمثابة المتجاورين، فإذا اكتفى بلده فحينئذٍ ينصرف إلى ما وراء مدينته وقريته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذاً فقال: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) وهذا خبرٌ بمعنى الإنشاء، أي: خذها من أغنيائهم وردها على فقرائهم.

نقل الزكاة إلى مسافة القصر

نقل الزكاة إلى مسافة القصر قال رحمه الله: [ولا يجوز نقلها إلى ما تقصر فيه الصلاة]. هذا هو الذي ذكرناه، وهو مذهب الجمهور، أنه لا يجوز نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر، والنقل المحرّم إلى مسافة تُقصر فيها الصلاة؛ لأن الذي دون مسافة قصر الصلاة يُعتبر من ضاحية المدينة، فلو كنت -مثلاً- في مكة وجاء ضعفاء من ضواحي مكة فإنك تعطيهم، أو خرجت إلى القرى المجاورة لمكة، ولم تكن على مسافة القصر فلا حرج؛ لأنها تعتبر ملتحقة بمكة وآخذة حكمها؛ لأن ما جاور الشيء أخذ حكمه. [فإن فعل أجزأت]. فإن خالف هذا وفعله، فصرف زكاته عن بلده إلى بلد آخر أجزأت، والله سائله عن ضعفاء بلده، وسائله عن محتاجيهم، ولذلك يكون غير خالٍ من المسئولية والتبعية في إخراجه لهذا الحق عن بلده؛ لأن الأصل يقتضي أن يخرج زكاته في بلده. [إلا أن يكون في بلدٍ لا فقراء فيه، فيفرقها في أقرب البلاد إليه]. هذا بالنسبة للأحوال المستثناة، أن يكون في بلدٍ سدَّت حاجته، وليس فيه فقراء، وهذا أمر يرجع إلى الحقيقة، أما المبالغة وكلام الناس، فلا يُعتد بكلامهم، بل عليه هو أن يتحرى ويتأكد من هذا الشيء، أنه لا يوجد فقير، ولا مسكين، ولا يوجد مديون، أو غيرهم من بقية الأصناف الذين سماهم الله عز وجل، فبعد ذلك ينقل الزكاة إلى غير هذا البلد، وللعلماء تفصيل: بعضهم يقول: ينقلها إلى أقرب البلدان إليه، ولا يجوز له أن ينقلها إلى ما هو أبعد منها؛ لأنه لمّا أمر الشرع بإخراجها في نفس البلد دلّ على أن العبرة بالبلد وما في حكمه، أي: ما هو أقرب إليه، حتى ينزَّل منزلته في الحكم. وبعضهم يقول: هو مخيّر. وفائدة هذا الخلاف: أنه لو كان الإنسان -مثلاً- في بلدٍ وهناك مدينتان، إحداهما: تبعد خمسمائة كيلو مترات، والثانية تبعد مائة كيلو، فاكتفى بلده، فعلى القول الأول: لا يجوز أن ينقلها إلى البلد الأبعد مع وجود البلد الأقرب، وعلى القول الثاني: هو مخيَّر، فإن شاء نقلها للأبعد وإن شاء نقلها للأقرب.

إخراج الزكاة في بلد المال

إخراج الزكاة في بلد المال قال رحمه الله: [فإن كان في بلد ومالُه في آخر أخرج زكاة المال في بلده]. للعلماء قولان في هذا: بعضهم يقول: العبرة ببلد المال. وبعضهم يقول: العبرة ببلد صاحب المال. والأقوى: إذا نظرنا إلى جهة المعنى ومقصود الشرع. مسألة: لو فرضنا أن عنده عشرة آلاف في المدينة، وعشرة آلاف في جدة، وعشرة آلاف في مكة، وهو في مكة، فعلى القول الثاني: يُخرج زكاة الثلاثين الألف في مكة، وعلى القول الأول: يجزئ زكاته أثلاثاً، فيجعل لمكة الثلث، وللمدينة الثلث، ولجدة الثلث الآخر، وهذا هو الأقوى والأوجه. [وفطرته في بلدٍ هو فيه]. أي: وأما زكاة الفطر فإنها تتبع الشخص، فلو كان -مثلاً- ماله في المدينة، وأفطر في جدة أو في مكة، فيخرج زكاته في البلد الذي أفطر فيه؛ لأنها وجبت عليه في البلد الذي هو فيه، إلا أهله وولده، فلو كان في المدينة، وأهله في مكة، ووجبت عليه زكاة الفطر، فهو مخيَّر بين أمرين بالنسبة لأهله: إما أن يوكلهم فيخرجونها في البلد الذي هم فيه، أو يخرجها عنهم في البلد الذي هو فيه، فالأمر واسعٌ في زكاة الفطر.

حكم تعجيل الزكاة

حكم تعجيل الزكاة قال رحمه الله: [ويجوز تعجيل الزكاة لحولين فأقل ولا يستحب]. التعجيل: المبادرة بالزكاة قبل أن يتم الحول، وشرط ذلك: أن يملك النصاب، فلو عجّل الزكاة قبل ملك النصاب فهي صدقة من الصدقات، وليست بزكاة واجبة، فلو بلغ النصاب فعجل لسنة أو سنتين فلا حرج عليه. والأصل في ذلك حديث العباس كما في السنن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تعجل منه الزكاة لعامين) وهو حديث حسَّنه غير واحد من العلماء رحمة الله عليهم، وعليه: فإنه يجوز تعجيل الزكاة لسنة أو سنتين، ولا يجوز لأكثر؛ لأن ما شُرع على سبيل التخصيص يختص الحكم بالصورة الواردة، فهنا الأصل أنه يخرج كل زكاة بعد تمام الحول، وكونه يؤذن له بالإخراج قبل تمام الحول يُعتبر خارجاً عن الأصل، فجاز بالصورة الواردة، فقالوا: يعجِّل سنة، ويعجِّل سنتين. وهذا قد تترتب عليه مصالح، منها: لو حصلت نكبة لفقراء وضعفاء، واحتيج أن يكون هناك مالٌ كبير، فقال: لو أني عجّلت زكاتي لسنتين لعظُم المال ففُرِّجت عليهم هذه النكبة العظيمة، فعجَّلها وفرج عليهم هذه النكبة العظيمة، فهذا حسن، وهكذا لو حصلت أحوال نادرة فعجَّل فيها الزكاة. أما إذا لم تحصل الموجبات، فقالوا: لا يستحب تعجيلها. والسبب في عدم الاستحباب: خوف أن يأتي زمان الزكاة، ويوجد من هو أحوج ومن هو أضعف، ولذلك قالوا: فلو يؤقت لوقتها، فهذا أفضل وأكمل، وفصّل بعض العلماء وتفصيله جيِّد: فقال: إن وُجِد موجب للتعجيل، واحتاج محتاجون للتعجيل عجَّل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي تعجّل العباس، فدل على وجود الموجب، فيُستحب التعجيل تفريجاً لهذه الكربة والنكبة، وإن لم يوجد موجب، إلا أن يتخلص من الزكاة، وأن يخفف عن نفسه التبعية، فقالوا: إنه خلاف الأولى والأفضل والأفضل له إذا وُجد الموجب أن يبادر، لما فيه من المبادرة بالخير، وتحصيل الأجر.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية تعزير مانع الزكاة

كيفية تعزير مانع الزكاة Q هل يقتصر التعزير بأخذ شطر المال فقط، أم للقاضي أن يعزر بالجلد أو السجن، أثابكم الله؟ A مسألة التعزير تأتي على وجهين: إما أن تكون مقيّدة. وإما أن تكون مطلقة. فالتعزير من حيث هو في القضاء راجعٌ إلى الوالي يعزر بما رأى، وقال بعض العلماء: يعزر ولو بالقتل في مسائل مختلفة، أي: من حقه أن يعزِّر ولو بالقتل، ومن هنا قال العلماء: -كما يختاره المالكية- واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقول عند الحنابلة، ويميل إليه الإمام ابن القيم رحمة الله عليه، وأشار إليه في كتابه النفيس الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، وكذلك أشار إليه ابن فرحون في تبصرة الحكام ومناهج الأحكام -إن التعزير لا يتقيد بشيء، وإنما يرجع إلى نظر الإمام بما فيه المصلحة. يبقى النظر في تعزير النبي صلى الله عليه وسلم للذي منع الزكاة، وهو يحتمل أمرين: - إما أن يقصد به التأقيت، وهذا يُفهم من قوله: (عزمة من عزمات ربنا). - وإما أن يُفهم منه مطلق التعزير، فحينئذٍ لا يتأقّت. والأول أقوى؛ لقوله: (عزمة من عزمات ربنا)، فدل على أن هذا التعزير مؤقت، لا يُزاد فيه على هذا الحد، وأنه يؤخذ ويُعاقب في المال الذي منعه. والله تعالى أعلم.

حكم إظهار الزكاة عند إعطائها

حكم إظهار الزكاة عند إعطائها Q هل يجب إظهار الزكاة، أي: هل يجب إخبار الفقير والمسكين بأن هذه زكاة؟ A يستحب العلماء رحمة الله عليهم ذكره لذلك؛ لأمور: أولها: لأنه إذا كان من غير أهل الزكاة أخبرك أنه ليس من أهل الزكاة، ولذلك قالوا: فيها احتياط لحقوق الضعفاء والفقراء، فلربما ترى الرجل تظنه فقيراً وهو ليس بفقير، ولذلك إذا أخبرته أنها زكاة احتطت للمستحقين، فكان أبلغ في الاحتياط. ثانيها: لدفع المنة، وذلك أن بعض الناس قد يستغل الزكاة لأغراض شخصية، يقصد منها أن يظهر أنه -نسأل الله السلامة والعافية- كريم وجواد، أو كونه صديقاً صادقاً في ودّه لمن يحبه، فيعطي الزكاة ولا يُظهرها، فيظن الذي أخذها أنها عطيّة منه، ولذلك قالوا: لا يجوز له أن ينتحل على هذا الوجه حق الله عز وجل وحق الفقير، وبناءً على ذلك لا بد وأن يُخبر، ولا شك أن هذه الأمور التي ذكروها لها وجاهة، إلا إذا كان الإنسان متأكداً من أنه فقير ضعيف، ولم يقصد الاستعلاء، واستثنى كذلك بعض العلماء: أن ترى أنك لو أخبرته أنها زكاة لامتنع وهو محتاجٌ، ولكن عنده عزة نفس، فحينئذٍ يجوز لك أن تخفي عنه فتعطيه دون أن يعلم أنها زكاة. والله تعالى أعلم.

من تعجل في إخراج الزكاة ثم زاد ماله وقت وجوبها

مَنْ تعجل في إخراج الزكاة ثم زاد ماله وقت وجوبها Q إذا عجَّل رجل إخراج زكاة ماله، فقد يأتي وقت وجوبها وقد زاد ماله، فماذا عليه عندها، أثابكم الله؟ A يخرج بقدر الزيادة، أي: يحتسب الزيادة ويخرج قدرها. والله تعالى أعلم.

حكم إعطاء الزكاة للأقرباء البعيدين

حكم إعطاء الزكاة للأقرباء البعيدين Q إذا كان للإنسان أقرباء يستحقون الزكاة؛ ولكنهم ليسوا في نفس المدينة التي هو فيها، فهل يعطيهم إياها، أم لا، أثابكم الله؟ A يجوز أن يعطيهم في حالة ما إذا قدموا عليه أو وكّلوا شخصاً يأتيه فيأخذ منه الزكاة في المدينة التي هو فيها، فحينئذٍ يكون ذلك مجزياً ولا حرج فيه. والله تعالى أعلم.

حكم إعطاء الزكاة للمديون

حكم إعطاء الزكاة للمديون Q لو كان على والدي دين يستطيع أداءه؛ ولكن بعد مدة من الزمن، فهل يجوز أن أعطيه الزكاة ليعجِّل قضاء دينه، أثابكم الله؟ A إذا لم يكن عنده مال يسدد منه دينه، ويفي لسداد دينه فتعطيه، والعبرة بالحال لا بالمآل؛ لأنك لا تضمن بقاءه إلى السداد؛ ولأن مقصود الشرع دفع هم الدين الذي هو ذل في النهار وهم في الليل، فالله رحم هؤلاء الذين ابتلوا بالدين، فجعل تفريج كربهم في الزكاة، فليس وجيهاً أن تتركه إلى أن يسدد دينه؛ لأنك لا تضمن بقاءه؛ ولأنه تضيق عليه مصالحه بسبب وجود الدين، ويهان ويذل بسؤال صاحب الدين، إلى غير ذلك من التبعات والآثار المترتبة على وجود الدين، فشُرعت الزكاة دفعاً لهذا الضرر، فعليك أن تبادر بتسديد دينه من الزكاة، ولكن يشترط: ألا يكون عنده مال يمكن بيعه سداداً لدينه. والله تعالى أعلم.

حكم إخراج الزكاة إلى السعاة وتأخيرها

حكم إخراج الزكاة إلى السعاة وتأخيرها Q قال صاحب الروض رحمه الله: (ويجب على الفور إخراجها مع إمكانه، إلا لضرورة كخوف رجوع الساعي). فهل نفهم من ذلك أنه لا يمكن للمزكّي أن يخرجها إلا بإذن الساعي، أثابكم الله؟ A إذا خصّص الوالي سعاة وجباةً يأخذونها، فإنها لا تُجزي إلا بدفعها للساعي، وقدوم الساعي معتبرٌ شرعاً، ففي الليلة التي قدم فيها الساعي لولد الغنم أو ولدت الإبل أو البقر، حُسِب من العدد، ولا يُشترط حولان الحول على هذا المولود الجديد، وبناءً على ذلك قدوم الساعي له آثار وله أحكام، فالزكاة لا بد من دفعها للساعي والجابي، ولا يجزيه أن يخرجها بنفسه، قالوا: لو عيّن الوالي من يأخذ الزكاة من الناس فجاء إنسان واجتهد وأخرج زكاته بنفسه وجب عليه قضاؤها؛ لأن الزكاة على هذا الوجه مؤقتة ومحددة، ولا يجوز له أن يُقْدِم بإعطائها إلا على الوجه الذي أمره الله من دفعها إلى الوالي أو من يقوم مقامه، وعلى هذا فلا بد من وجود الساعي لأخذ الزكاة. وينبغي على أصحاب الأموال أن يؤدوها إليه، سواء كانت من السائمة أو كانت من غير السائمة، كما ذكر العلماء رحمة الله عليهم، وخوف رجوع الساعي: أن يخاف أن يعطي الساعي الآن، ثم يرجع بعد ذلك ويطالبه مرة ثانية، فيؤخرها إلى ذهابه ورجوعه مرة ثانية حتى يستبرئ، فحينئذٍ لا حرج عليه، دفعاً للضرر الذي يأتيه من رجوعه مرة ثانية. والله تعالى أعلم.

حكم احتساب الدين من الزكاة

حكم احتساب الدين من الزكاة Q إذا كان لي دين على رجل، وعندي زكاة مال فأردت إخراجها، فقمت بإسقاط بعض الدين الذي لي عند الرجل، ويكون ذلك مقابل زكاة مالي، فهل هذا صحيح، أثابكم الله؟ A لا يصح هذا في مذهب جمهور العلماء، فلو كان لك على إنسان دين، وكان الدين -مثلاً- خمسة آلاف ريال وزكاتك خمسة آلاف ريال فلا يجوز أن تحسب هذا الدين من الزكاة، وبناءً على ذلك: يجب عليك إخراج زكاة مالك؛ لأن المراد من ذلك أن تدفع عن نفسك ضرر المطالبة، وعليه فإنه لا بد وأن يكون إعطاء الزكاة على وجه تنتفي فيه التهمة، وهذه يمثل العلماء بها بزكاة التهم، أي: يؤدي الزكاة على وجهٍ فيه تهمة، وبناءً عليه: فإنه لا يصح ولا يجزيه أن يؤدي الزكاة على مديون له عليه دين، ويحتسب ذلك من دينه، والله تعالى أعلم. ويقول بعض العلماء: هذا لا يصح؛ لأنه لم يخرج زكاةً أصلاً؛ فإن الإخراج لم يحصل، والإعطاء لم يحصل، وإنما حصل الإعطاء ديناً، ولا يمكن قلب الدين إعطاءً للزكاة؛ لأنه سابق لأوان الزكاة وغير معتد به، وهذا مستقيم أيضاً من جهة النظر، فاعتضد ذلك بوجود التهمة مع وجود السبق للإعطاء، وعليه فلا يجزيه أن يحتسب دينه من الزكاة. والله تعالى أعلم.

مقدار أخذ الولي من مال اليتيم إذا تاجر به

مقدار أخذ الولي من مال اليتيم إذا تاجر به Q إذا تاجر الولي بمال اليتيم، فهل يأخذ شيئاً على عمله؟ A إذا تاجر الولي بمال اليتيم فإنه يأكل منه بالمعروف، قال العلماء: يقدَّر له قدر التعب، فمثلاً: فتح متجراً لبيع طعامٍ أو كساءٍ أو غذاءٍ أو غير ذلك، وقام عليه وصار يتولى شئونه وأعماله، يقولون: ننظر إلى أجرة مثله، فلو أننا استأجرنا إنساناً يعمل مثل العمل الذي قام به هذا الولي، وكان يستحق كل شهر -مثلاً- ألف ريال، فيأخذ الولي من مال اليتيم بقدره، وقس على ذلك. إذاً: يُحسب له تعبه، ويعطى أجرة المثل، ومرد ذلك إلى العرف وأهل الخبرة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

باب أهل الزكاة [1]

شرح زاد المستقنع - باب أهل الزكاة [1] أهل الزكاة هم الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه، وهم: الفقراء، والمساكين، والعاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمون، وفي سبيل الله، وابن السبيل، فيجب صرف الزكاة إليهم، ولكن هل يجب استيعابهم كلهم؟ وما حكم صرفها لصنف واحد؟ وما حكم صرفها للأقارب؟ هذه مسائل خلافية مذكورة بالتفصيل في هذه المادة.

أهل الزكاة الثمانية

أهل الزكاة الثمانية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنِّف رحمه الله: [باب: أهل الزكاة ثمانية]. الأهل للشيء: هو المستحق له، تقول: فلان أهلٌ لكذا إذا كان مستحقاً له. وقوله رحمه الله: (أهل الزكاة) أي: المستحقون لها وهي فريضته في أموال المسلمين، وقد قسم الله عز وجل الزكاة من فوق سبع سماوات، ولم يكلْ قسمتها إلى نبيٍ مرسل ولا إلى ملكٍ مقرب، الأمر الذي يدل على عظيم أمرها، وما ينبغي من العناية بشأنها. وقد عقد المصنف رحمه الله هذا الباب في كتاب الزكاة لأهميته؛ لأنه بعد بيان الحق الواجب في الأموال، وبيان الأحكام المتعلقة بذلك الحق، شرع في بيان مصارفها، والعلماء يقولون: أهل الزكاة، ويقولون: مصارف الزكاة، والمراد بذلك بيان من المستحق لأخذ الزكاة. فقال رحمه الله: (أهل الزكاة ثمانية)، وهذا إجمالٌ قبل البيان، وهو أسلوب من أساليب القرآن والسنة، وفائدته تهيئة السامع والقارئ لما يُذكر، إضافة إلى إحداث الشوق بترتب الجمل بعضها على بعض. وعد أهل الزكاة ثمانية هو الذي ورد به النص في كتاب الله عز وجل في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60] أي: عليمٌ سبحانه وتعالى بأمر عباده، وعليم بما يشرِّعه لهم، وحكيم في حكمه سبحانه وتعالى وما يكون من تقديره، فختم الآية بما يناسبها، وهو العلم والحكمة؛ وكلتاهما من صفات الله عز وجل. وهذه الأصناف الثمانية، حصر الله مصارف الزكاة فيها، والدليل على الحصر أنه قال سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة:60]، (وإنما) أسلوب حصر وقصر، يفيد إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه، كأنه يقول: لا صدقة لغير هؤلاء، ولما قال: (إنما) فهمنا بهذا الأسلوب أنه سيخصِّص، وذلك يقتضي أن مصارف الزكاة خاصة، وهو يدل على ضعف تعميم الزكاة في وجوه الخير، وعدم رجحان القول الذي يقول: إن الزكاة تُصرف في وجوه الخير عموماً، إذ لو كانت الزكاة تُصرف في وجوه الخير عموماً؛ لما كان لقوله: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) فائدة، ولقال: إنما الصدقات في وجوه الخير، لكن كونه يخص ذلك ويقصره ويحصره في وجوه خاصة من البر، يدل على أنه ليس كل البر، بل أصناف معينة يخص الشرع إعطاء الزكاة بها، فوجب التقيد بها. ولأن الذي يقول بجواز صرفها في وجوه الخير عموماً يستدل بقوله سبحانه: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:60]، وهذا اللفظ إذا أُطلق في كتاب الله عز وجل فالمراد به في الأصل الجهاد في سبيل الله عز وجل، وهذا هو الذي وردت به نصوص الكتاب والسنة، ويعرف ذلك بالاستقراء والتتبع، ولذلك كان جماهير أهل العلم من الأئمة الأربعة وأتباعهم على أن الزكاة تختص بهذه الأصناف الثمانية، ولا تُصرف في مطلق وجوه الخير. وذهب بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، وبعض المتأخرين إلى ترجيح القول الذي يقول بصرفها في وجوه الخير عموماً، وهذا القول مرجوح؛ وذلك أنه يستند إلى قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:60]، وقد بيّنا أن قوله: (في سبيل الله) إذا أُطلق في الكتاب والسنة فالمراد به الجهاد، ومما يدل على ضعف حمل: (في سبيل الله) على العموم أن قوله: (وفي سبيل الله) يحتمل معنيين: إما خاص بمن ذكرنا وهم المجاهدون، وإما عام. فإذا قيل بعمومه، فإن العرب لا تعرف إدخال العام بين خاصَّين، وإنما تقدم العام وتعطف الخاص عليه، أو تقدم الخاص لشرفه وتعطف العام عليه، فتقول: دخل محمدٌ والناس، فتقدم الخاص وهو محمد لشرفه وفضله، ثم تقول: والناس وهو العام، أو تقول: دخل الناس ومحمدٌ، للدلالة على شرفه وفضله، كقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:4] فخصَّص بعد تعميم، وهذا هو أسلوب القرآن وأسلوب العرب. أما أن تقول: دخل الناس ومحمد والناس، أو تقول: دخل محمد والناس ومحمد، تؤكد ذلك، فهذا لا تعرفه العرب. وكذلك تقول: دخل الناس ومحمدٌ وعلي، أو تقول: دخل محمد وعلي والناس، أما أن تقول: دخل محمد والناس وعلي، فلا يستقيم؛ لأنك تدخل العام بين خاصين، فهذا لا يعرف في أساليب العرب، وإنما يعطف العام على الخاص، أو الخاص على العام كما هو معروف بالاستقراء. وعلى هذا فإن القول بالتخصيص بالأصناف الثمانية وهو مذهب الجمهور هو الظاهر؛ لما ذكرناه من استقراء نصوص الكتاب والسنة، ولأننا لو قلنا بالتعميم فإن هذا يفوِّت المقصود من التنصيص على الأفراد الخاصة. ويختص هؤلاء الثمانية بالمسلمين، فأما الكفار فلا تدفع لهم الزكاة، ولا يجوز صرفها إليهم ولو كانوا فقراء أو مساكين أو غارمين ولو كانت فيهم أي صفة من صفات أهل الزكاة، فإنما تدفع للمسلمين خاصة، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم. وقد جاءت الآية مطلقة شاملة في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60]، وهذا يدل على أن القرآن قد يُطلق ويريد الخصوص، وأنه ليس كل نص مطلقٍ في القرآن نحمله على إطلاقه حتى نتتبع ونعرف هل هناك إجماعٌ يخصص عمومه أو يقيد مطلقه، أم لا، فهذه الآية لو أخذ أحدٌ بإطلاقها لقال: تُدفع الزكاة للكفار، ولا أحد يقول بذلك، فدل على أن المطلق في الكتاب والسنة ينبغي الرجوع إلى ضوابطه، هل يوجد ما يخصصه إذا كان عاماً، وهل يوجد ما يقيده إذا كان مطلقاً.

الصنف الأول: الفقراء

الصنف الأول: الفقراء قال المصنف رحمه الله: [الفقراء]. وهو مأخوذ من الفقر؛ وهو شدة الحاجة، وأصح أقوال العلماء: أن الفقير أشد حاجة من المسكين، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة أنه استعاذ بالله من الفقر، كما في أذكار الصباح والمساء، فكان يقول: (أعوذ بك من الكفر والفقر) فاستعاذ بالله من الفقر، ثم قال: (اللهم أحيني مسكيناً) فدل على أن المسكنة أقلّ من الفقر، ولو كانت المسكنة فوق الفقر وأشد منه لما استقامت استعاذته عليه الصلاة والسلام وسؤاله الله عز وجل أن يحييه مسكيناً، فدل على أن المسكنة دون الفقر. ودل أيضاً دليل الكتاب على أن المسكنة دون الفقر، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] فوصفهم بكونهم مساكين مع أنهم مالكون للسفينة، ومن هنا قال العلماء: الفقر أشد من المسكنة. وقد أجمع العلماء رحمهم الله على جواز صرف الزكاة للفقراء بنص الآية الكريمة، وضابط الفقير: هو الذي لا يجد كفايته بالكلية، أو يجد بعضها ولا تصل إلى النصف فأكثر، هذا هو الفقير. ويُعرف الفقر بعدة دلائل: الدليل الأول: معرفتك الشخصية بذلك الفقير، بأن تعرف حاله، وتعرف شدة عوزه وفقره وضيق يده، فإذا كنت تعرفه بنفسك مطّلعاً على حاله، كأخيك وابن عمك وأختك وقريبتك، فلا حرج حينئذٍ في دفع الزكاة إليه. وضابط الفقر في هذه الحالة أن تطّلع على نفقته، فتجده لا يجد ما يُنفق على نفسه، وقد يجد ما يُنفق على نفسه لكن لا يجد ما ينفقه على أولاده، فإذا كان يجد طعاماً لنفسه ولا يجد الطعام لأولاده فهو فقير؛ لأن من احتاج فيمن تلزمه نفقته كان كحاجته في نفسه، وعلى هذا يُحكم بفقره، ويجوز لك حينئذٍ أن تدفع له الزكاة بسهم الفقير. الدليل الثاني الذي تعرف به فقره: أن يشهد عدلان على فقره وعوزه وشدة حاجته، فإذا شهد عدلان تثق بهما وبشهادتهما أن فلاناً فقير، حلّ لك أن تدفع الزكاة له. الدليل الثالث: الأمارات والعلامات الظاهرة التي يغلب على الظن فقره مع سؤاله، كأن يأتيك إنسان ويقول: إني فقير، وأنت تعرف ظواهر حال هذا الإنسان، فترى عليه أثر الجوع، وترى عليه ضعف البدن، وأحواله أمامك تدل على هذا الضعف، وإن كنت لا تعلم على الحقيقة نفقته مثل الحالة الأولى التي ذكرناها، ففي هذه الأحوال كلها تَصرِف الزكاة إليه بسهم الفقير. لكن لو أن هذا الفقير جاءك وسألك الزكاة وأنت لا تعلم حاله، فحينئذٍ لا تخلو من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن تقطع بكذبه، أو يغلب على ظنك كذبه، فحينئذٍ لا يجوز لك صرف الزكاة إليه قولاً واحداً، ولو قال إنه فقير، ولو ادعى الفقر ما دمت تعلم أنه ليس بفقير، فلا يحل لك أن تصرف الزكاة إليه، فإن صرفتها إليه بناءً على دعواه أنه فقير، فإنه يلزمك قضاء هذه الزكاة. وعلى هذا فلو أخبر الإنسان أنه فقير، وأنت تعلم من حاله أنه كاذب أو عنده ما يسد حاجته، ويخرج به عن وصف الفقر والمسكنة، فإنه حينئذٍ لا يجوز لك دفع الزكاة إليه، وإن دفعتها عن نفسك وجب عليك القضاء، وإن دفعتها وكيلاً عن شخص وجب عليك أن تغرم مثلها وتدفعها للمستحق. الحالة الثانية: أن تشك في حاله فلا تدري أهو صادق أو كاذب، وفي هذه الحالة لا يجوز لك أن تدفع الزكاة إليه إذا شككت من حاله، ووجِد ما يحتمل صدقه ويحتمل كذبه، حتى تتحرى وتتأكد أو يغلب على ظنك أنه محتاج، فإن دفعت الزكاة إليه وأنت تشك في فقره وحاجته، فحينئذٍ لا يُجزيك، ويلزمك قضاء الزكاة كما في الحالة الأولى، لأنه لا يجوز الصرف إلا مع اليقين أو غلبة الظن، فإذا كان الإنسان شاكاً، فإننا لن نتيقن صرف الزكاة لمستحقها، والأصل وجوبها، فوجب على من تولاها على هذا الوجه وصرفها على الشك أن يقضيها. فهذه حالتان: إذا تيقن الكذب أو شك في صدقه وكذبه. الحالة الثالثة: أن يغلب على ظنه صدقه، فإن غلب على ظنه صدقه بوجود دلائل وأمارات تدل على ذلك الصدق جاز له وحلّ أن يدفع الزكاة إليه. قوله: [وهم من لا يجدون شيئاً أو يجدون بعض الكفاية]: أي: وهم الذين لا يجدون شيئاً، فتجده يطوي يومه جائعاً، كقريب لك تراه لا يفطر ولا يتغدى ولا يتعشى ولا يجد طعاماً يأكله يوماً، وأنت تعلم أن السبب في عدم إصابته للطعام عدم وجوده، فيمضي عليه اليوم، وفي اليوم الثاني يصيب بعض الكفاية، ثم اليوم الثالث لا يجد، أو يجد بعض الكفاية، بشرط: أن لا تصل إلى أكثر الكفاية وهي النصف فأكثر، فمثل هذا يعتبر فقيراً، أو يكون عنده دخل، ولكنه نزرٌ قليل بحيث لا يكفيه إذا كان وحيداً، أو يكفيه ولكن لا يكفيه مع أهله وأولاده. فلو فرضنا أن دخله في اليوم خمسة أو عشرة ريالات، فإن هذه الخمسة أو العشرة إذا نظرت إليها في قوته في ذلك اليوم لو كان وحيداً فإنها لا تصل إلى أكثر السداد، فتحكم بأنه لو كان دخله العشرة أنه محتاج، لكن بشرط أن لا يكون له دخل آخر بحيث يغلب على ظنك أن هذا الدخل هو الوحيد الذي لا يجد غيره، فحينئذٍ يجوز لك أن تبني على هذا الدليل حاجته وفقره وتدفع الزكاة إليه. فضابط الفقير أن لا يجد شيئاً، أو يجد ولكن هذا الوجدان لا يقوم بأكثر الكفاية، فلو كان أكثر الكفاية خمسين ريالاً، وهو يجد الأربعين أو الثلاثين أو خمساً وأربعين ونحو ذلك، فهذا يعتبر فقيراً، وتدفع الزكاة إليه بسهم الفقر، فإن دفعت الزكاة إليه بسهم الفقر قدّرت حاجته إذا كان وحيداً، أو قدّرت حاجته وحاجة من يعول كأولاده وزوجه، فإذا كان خلال السنة احتاج إلى نفقة ثلاثة آلاف ريال، تعطيه من زكاتك ثلاثة آلاف ريال، وقس على ذلك.

الصنف الثاني: المساكين

الصنف الثاني: المساكين قال المصنف رحمه الله: [والمساكين يجدون أكثرها أو نصفها]. والمساكين هم الصنف الثاني من أصناف أهل الزكاة، والمساكين: مأخوذ من المسكنة، وهي الذلة. ويقول العلماء: ضابط المسكين أن يجد أكثر الكفاية، ولذلك وصف الله الذين يملكون السفينة بأنهم مساكين، مع أنهم مالكون للمال، فدل على أن الإنسان قد يملك المال ويُوصف بالمسكنة، فيجوز لك أن تُعطيه الزكاة على قدر ما يسد حاجته، فلو كان هذا المسكين عنده سيارة مثلاً، وهذه السيارة يعمل عليها، ولكنها لا تكفي دخلاً له، أو مصاريفها وكلفَتُها تحمِّله أكثر مما يدخل عليه، أو تستنفذ أكثر ما يدخل عليه حتى لا يصل إلى كفايته أو أكثر الكفاية، حلّ لك أن تُعطيه من الزكاة ما يسد كفايته. فلو كانت نفقته في العام ستة آلاف، ودخله أربعة آلاف استحق أن تعطيه ألفين؛ لأنه في هذه الحالة مسكين قد وجد النصف فأكثر، فتعطيه بسهم المساكين. والفرق بين المسكين والفقير: أن الفقير تقدِّر نفقته لأنه لا يجدها، فتعطيه نفقته للعام، فلو كانت نفقته في العام ستة آلاف أعطيته ستة آلاف، ولكن المسكين يجد أكثر النفقة، فتحتاج إلى تقدير وضبط، فلا تستعجل بأن تُخرج له نفقة كاملةً، إنما تنظر وتتحرى وتسأله، فإذا كان دخله ستة آلاف ومصاريفه عشرة آلاف فهو يحتاج إلى أربعة آلاف، فلو أعطيته خمسة آلاف فالألف زائدة عن حاجته، ولذلك يقولون: يغرم المقسِّم إذا أعطى أكثر من الحاجة في المسكين، أو أعطى أكثر الحاجة في الفقير.

الصنف الثالث: العاملون عليها

الصنف الثالث: العاملون عليها قال المصنف رحمه الله: [والعاملون عليها، وهم جباتها وحفاظها]. الصنف الثالث: العاملون عليها وهم جباتها وحفّاظها في القديم، ولا يزال إلى الآن يُحتاج إلى جباية الزكاة وجلبها ممن وجبت عليهم، الأمر الذي يحتاج إلى سفر السعاة إلى موارد المياه لعد الإبل والنظر في أموال الناس، وكذلك سفرهم إلى البساتين، وخرصها وتقديرها. فهؤلاء هم السعاة الذين يبعثهم ولي الأمر لمعرفة مقدار ما فرض الله عز وجل على الناس، فهم جباة يجلبون الزكاة، وحفّاظ لها يحفظونها. فالزكاة تحتاج إلى هذين الصنفين: من يجبي، ومن يحفظها ويقوم عليها، ففي جبي الزكاة يدخل الخارص، وهو الذي يقوم بخرص النخل، ويعرف مقادير ما فيه، وكذلك أيضاً الذين يقومون بجمع زكاة الحبوب والثمار، وعلى هذا فهؤلاء يُعطون نصيبهم، فالخارص لو كانت أجرته ثلاثة آلاف استحق أن يأخذ ثلاثة آلاف، ولو كان غنياً أو كان ثرياً؛ لأن إعطاءه هذا المال أشبه بالإجارة، ولا يُنظر فيه لا إلى فقر أو غنى. أما لو كان الساعي فقيراً، فإنه يحتاج إلى تفصيل، فنعطيه أجرته أولاً، ثم ننظر بعد الأجرة هل سدّت الأجرة فقره أو لم تسده، فإن كان يحتاج إلى نفقة ستة آلاف وأجرته كانت ستة آلاف أو سبعة آلاف فقد خرج بأجرة العمل عن وصف الفقر، وحينئذٍ لا يُعطى، وإن كانت أجرته ثلاثة آلاف وحاجته في العام ستة آلاف؛ أُعطي ثلاثة آلاف، ثلاثة آلاف أجرة لسعيه، وثلاثة آلاف لمسكنته أو فقره. وعلى هذا فإن السعاة يأخذون من باب الإجارة، ويقدر عملهم ولي الأمر أو من يقوم مقامه، نقدر كم يكون نصيب من عمل هذا العمل، فإذا كان جبى المال من مكان بعيد ومن مسافات بعيدة تحتاج إلى مئونة للسفر، وتحتاج إلى مئونة في الطعام، ومئونة في الحمل، ومئونة في النزول؛ فكل ذلك يقدر ويعطى حقه كاملاً. ثم الأموال التي تحفظ بعد جبايتها تحتاج إلى حراسة رعاية، وتحتاج إلى من يقوم على الإبل والغنم والبقر إذا جُبيت ويسوسها، وهم الرعاة، فهؤلاء الرعاة الذين يحفظون الإبل أو البقر أو الغنم التي جُبيت في الزكاة لهم سهم، ولهم نصيب يقدَّر عملهم بالمعروف، يقدَّر أجرة عمل مثلهم، فيعطون من الزكاة على قدر استحقاقهم. وهل يُعطى المقسِّم للزكاة، أو لا يعطى؟ قال بعض العلماء: يُعطى إذا نصّبه ولي الأمر، كأن يحتاج لتوزيع المال في بلد، فإذا تولى قاضٍ أو عالم هذا المال، وأراد توزيعه واحتاج إلى من يساعده، فإن هؤلاء الذين يساعدونه يستحقون نصيباً من الزكاة إذا كانوا مولَّون. أما لو كان وكيلاً عن شخص، فهذا لا يستحق، كأن يكون عندك زكاة خمسة آلاف ريال ثم تذهب وتعطيه لشخص من أجل أن يوزعها، فيقوم هذا الشخص ويأخذ من هذه الزكاة، فقالوا: لا يأخذ، ولا يستحق؛ والسبب في ذلك أن الواجب عليك أنت أصلاً أن تقوم بدفعها، فإذا دفعتها إلى شخص آخر، فإن احتاج نفقة أو سأل مالاً فأعطه من مالك، أما أن يكون دخيلاً على الفقراء والضعفاء ويُنقص حقّهم في مالك فلا، لأنه بإمكانك أن تقوم بهذا، والأصل فيك أن تتولى توزيعها بنفسك. قالوا: فإذا قام الغير بدون إذنٍ فإنه لا يستحق أن يأخذ المال في هذه الحالة، وعلى ذلك فإنه يختص الحكم في العاملين عليها بالجباية ومن يقوم بحفظها.

الصنف الرابع: المؤلفة قلوبهم

الصنف الرابع: المؤلفة قلوبهم قال المصنف رحمه الله: [والرابع: المؤلفة قلوبهم ممن يرجى إسلامه، أو كفّ شرِّه، أو يرجى بعطيته قوة إيمانه]. المؤلفة قلوبهم هم أقوام على الكفر يرجى إسلامهم، أو على الإسلام وتُخشى عليهم الفتنة، فلم تطمئن قلوبهم بالإيمان، فهؤلاء يعطون ما يكون في غالب الظن سبباً لثباتهم أو دخولهم في الإسلام. فأما الصنف الأول وهم الذين على الكفر، ويغلب على الظن أنك لو أعطيتهم من الزكاة أنهم يدخلون، قالوا: يعطون، ويقدِّر الوالي المال الذي يغلب على الظن تأليف قلوبهم به، وحينئذٍ يعطيهم إياه ولو كانوا أغنياء، ولو كانوا غير محتاجين، من باب إدخالهم في الإسلام وتأليفهم له. وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فقسم الغنائم، فأعطى أبا سفيان رضي الله عنه وأرضاه، وأعطى معاوية وأعطى عباس بن مرداس السلمي وعيينة بن حصن الفزاري والزبرقان بن بدر، كل هؤلاء أعطاهم مائة مائة من الإبل، وكل ذلك من باب تثبيتهم على الإسلام وتقوية عزائمهم على الثبات على الدين. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسقط هذا النوع من أصناف الزكاة، وقال: (إنما أُعطوا وكان الإسلام محتاجاً إليهم، واليوم الإسلام في عزة ومنعة، فمن أراد أن يسلم ومن أراد أن يكفر)، فكأنه رأى تخصيص ذلك بزمان النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن جماهير الصحابة وإجماع العلماء رحمة الله عليهم على مشروعية صرفها بعد زمان النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن بعض العلماء يرى أنه إذا كان الإسلام في عزة ومنعة ويمكنه كسر شوكة الكفار، أنه لا يصرف هذا المال حتى لا يضر بمصالح الضعفاء والفقراء، ويصبح من أسلم من الكفار أسلم ومن لم يسلم لا يعطى. والصحيح ما ذكرناه من العموم؛ لأن الناس على أقسام إذا كانوا كفاراً، منهم من يدخل للإسلام بالقوة ولا يدخله إلا رهبة الإسلام وقوته وشدته، فهؤلاء شرع الله لهم الجهاد، ومنهم من يدخل في الإسلام عن قناعة وعلم، كأن تقارعه الحجة بالحجة كعلماء الملل المخالفة، فإنك إذا ناظرتهم وأقمت عليهم الحجة قد يتقبلون الحق، وكذلك بالنسبة لمن يطلب الحق وينشده ولو كان على الكفر، فهذا تقام عليه الحجة بالبرهان، والأولون تقام عليهم الحجة بالسنان، فإما أن يسلموا وإما أن تضرب رقابهم. وأما بالنسبة للنوع الثالث فإنهم يدخلون الإسلام عن طريق المال والإغراء، كأقوامٍ تعلقت نفوسهم بالدنيا، خاصة إذا كانوا على الكفر، فإذا أُعطوا من المال طمعوا في الإسلام أكثر، ولذلك مضى الرجل إلى قومه وقال: (لقد جئتكم من عند رجل لا يخشى الفقر) يعني النبي صلى الله عليه وسلم لما أعطاه وأرضاه. وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فإنه لما أعطى عيينة بن حصن الفزاري والزبرقان وأعطى معاوية بن أبي سفيان وأباه أبا سفيان رضي الله عن الجميع، غضبت الأنصار وقالوا: (أيعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم) فبلغت المقالة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك اليوم من أشد الأيام على الأنصار، كانت فيه فتنة وامتحان وابتلاء من الله عز وجل لهم، ولكن جعل الله عاقبته إلى خير، حتى إن سعداً رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إنهم يقولون كذا وكذا، يريد مقالتهم: أيعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم، قال: أين أنت يا سعد؟ قال: الرجل مع قومه، فإني أجد في نفسي ما يجدون. أي: كيف نقاتل عن الإسلام وندافع عنه ثم تقسم الغنائم على أقوام هم حديثو عهد بإسلام، فقال: اجتمعوا لي يا معشر الأنصار. فاجتمعوا له في خيمة لا يوجد فيها غيرهم، ثم قال: أفيكم غيركم؟ قالوا: يا رسول الله لا، إلا ابن بنتنا وهو النعمان بن مقرن رضي الله عنه، فقال: ابن بنت القوم منهم. ثم قال: ما مقالة بلغتني عنكم؟ فقالوا: يا رسول الله -وكانوا قوم صدق- أما أهل العلم منا والحلم فلم يقولوا إلا خيراً، وأما سفهاؤنا وشبابنا فقالوا: أيعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار! أوقد وجدتم في لعاعة من الدنيا أعطيها أقواماً أتألفّ قلوبهم للإسلام. ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم حبه لهم، وقال: والله لو سلك الناس وادياً وشعباً وسلك الأنصار وادياً وشعباً لسلكت شعب الأنصار وواديهم، أما تحبون أن يرجع الناس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله لما تنقلبون به إلى رحالكم خير مما ينقلبون به إلى رحالهم، ثم قال: الأنصار شعاري، والناس دثاري إلى آخر الحديث. المقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قسّم الغنائم وتألف بها هذا النوع، وجعل لهم حظاً في القسم، ولذلك كأن الإسلام يقصد من هذا النوع الذي يرجى إسلامه أن يكون له مطمع في هذا الدين، فإذا دخل ورأى سماحة الإسلام وأخلاقه وشمائله والخير الذي فيه اطمأن قلبه بدون مال، وهذه هي حكمة الشرع، ولذلك يدخل للدنيا، ثم إذا رأى سماحة الإسلام وما في الإسلام من خير، عزف عن ذلك كله ورجا ما عند الله من الرحمة وخاف ما عند الله من العقوبة والعذاب. فمقصود الشرع تأليف قلوب أمثال هؤلاء. وكذلك لو كان مسلماً ولكنه على اضطراب في إسلامه، أو كان صاحب ثروة في حال الكفر ثم أصبح في حالٍ ضعيف بعد إسلامه، فتعطيه من أجل أن تقويه وتثبته على الدين، فهذا يعطى، ويكون التقدير بحسب الحال والمصلحة التي يغلب على ظنك أنه لو أخذها رُجي ثباته على الإسلام وتمسكه به. وقوله رحمه الله: (المؤلفة قلوبهم) لقوله تعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:60]، فنص سبحانه وتعالى على هذا الصنف، وهم الذين يرجى ثباتهم على الإسلام. وهناك نوع ألحقه العلماء بالمؤلفة قلوبهم لدفع شرهم عن المسلمين، فهؤلاء هم أقوام لهم مكانة ووجاهة، كأن يكونوا عشائر كفر، ورؤساؤهم هؤلاء إذا أسلموا رُجي إسلام من وراءهم، وإذا لم يرج إسلامهم كُفّ شرهم عن المسلمين، أو يغلب على ظنك أنك لو دخلت للدعوة وأعطيت هؤلاء المال سكتوا عنك وأعانوك على الدعوة مع أنهم على الكفر، فيعطون لمصلحة الدعوة ولمصلحة الإسلام، ولا حرج في ذلك.

الصنف الخامس: المكاتبون

الصنف الخامس: المكاتبون قال المصنف رحمه الله: [الخامس: الرقاب وهم المكاتبون]. وذلك لقوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:60] والرقاب: جمع رقبة، والمراد بهم المكاتبون كما نص المصنِّف رحمه الله، وهم الأرقاء المسلمون الذين يكاتبون أسيادهم للعتق. وقد جعل الله عز وجل من الأبواب التي يُفك فيها الرق عن الأرقاء أن يكاتب العبد سيده، وقد أمر الله عز وجل بذلك أمر ندب واستحباب: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33]، فهؤلاء يعطون من الزكاة لقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]. فيُعطون من الزكاة على قدر ما يكون سداداً لهم وسبباً في فك رقابهم من الرق، فلو كاتب عبدٌ سيده بستة آلاف ثم استطاع أن يسدد ثلاثة آلاف منها فبقيت ثلاثة آلاف، فيعطى ثلاثة آلاف لكي يتمكن من عِتق نفسه، وهكذا لو كانت الكتابة في بداية أمرها، بأن قال له السيد: كاتبتك باثني عشر ألفاً، تدفع في كل شهر ألفاً، قال: قبلت، فهذا عقد كتابة، ففي بداية كتابة العقد جاءك، وقال: كاتبت سيدي على كذا وكذا، جاز أن تعطيه كل ما كاتب عليه وتعتقه، وهكذا لو جاءك في أنصاف الكتابة أو جاءك في آخرها وقد بقيت عليه أنجم وأقساط، أي: أن الحكم لا يختص بحالة دون حالة، وإنما يعطون على نفس السبب الموجب للإعطاء وهو فكهم من الرق، سواءً كان ذلك في أول الكتابة أو في أثنائها أو في آخرها. وقوله: [ويفك منها الأسير المسلم]: قال بعض العلماء: قال الله: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:60]، وهذا يختص بالأرقاء، ولا يشمل الأسير. وقال بعضهم: يقاس الأسير على العبد إذا طلب العتق. وهذا القياس لا يخلو من نظر، والأقوى والأحوط أن الحكم يختص بالمكاتبين؛ لأن الله نص عليهم وقال: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]، وهذا هو المراد بقوله: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:60] ولذلك يختص الحكم به، وأما فك الأسير المسلم فإنه يفك من ماله إن كان عنده مال، وإذا لم يكن عنده مال فعلى جماعة المسلمين أن يسعوا في فكاكه على الأصل المعروف في الشرع، وإلا من بيت مال المسلمين على حسب وجود القدرة في فكه.

الصنف السادس: الغارمون

الصنف السادس: الغارمون قال رحمه الله: [السادس: الغارم لإصلاح ذات البين ولو مع غِنَى، أو لنفسه مع الفقر]. قوله: (الغارم لإصلاح ذات البين ولو مع غِنَى) أي: ولو كان غنياً وحالته حال غِنَى. والغارم: من الغُرم، والغرم هو الخسارة، ومنه القاعدة المشهورة: (الغنم بالغرم) وهي معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (الخراج بالضمان). والغارم هو الشخص الذي يدفع المال للصلح بين المسلمين، فقد كانوا في القديم عندما تقع الفتن بين الناس، وتقع بينهم جراحات، أو يقع بينهم قتل، يأتي رؤساء العشائر كأمراء القبائل ونحوهم للصلح، وقد يكون هذا الأمير من القبيلة كبيراً فيتحمل مائة رقبة، بمعنى أنه يريد الصلح بين الطائفتين، ويكون الذين قتلوا قرابة مائة شخص، فيقول: علي ديتهم، وهذا يعتبر غرماً ويستحق به أن يعان من الزكاة؛ لأنه فعل الخير، وأصلح ذات البين التي هي من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وأعظمها أجراً ومثوبة في الدنيا والآخرة. فهؤلاء كرؤساء العشائر وأُمرائهم الذين يتولون الصلح بين الناس يُعطون. وهكذا لو وقعت خصومة بين اثنين وخشيت أن يقع بينهما أمرٌ لا تحمد عقباه، وقد يكونان من الأرحام والقرابة فجئت تصلح بينهم، وكان سبب الخصومة تلف سيارة، أو تلف دار، وهذا التلف بخمسة آلاف أو ستة آلاف، فقلت: أنا متحملٌ لها، وتحمّلت الخمسة أو الستة الآلاف، فإنك تعطى من الزكاة؛ لأن هذا لإصلاح ذات البين، وحينئذٍ يشرع دفع الزكاة إلى من غَرِم على هذا الوجه. قال بعض العلماء: ومن الغارمين الذين يتحمّلون الديون، كشخصٍ ينفق على أهله وولده، فيتحمل الدين، فهذا الشخص محتاج وأصابه العوز حتى ركبته الديون، وعليه دين عشرة آلاف ريالٍ، أو عشرين ألف ريال، أو ثلاثين ألف ريال، وعندك زكاة، فيجوز دفع الزكاة إليه، لكن الذي يتحمّل الدين يحتاج إلى نظر، فلا تعطِ أحداً مديوناً حتى تسأل عن سبب الدين، وحينئذٍ لا يخلو سبب الدين من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون سبب الدين أمراً محرماً، كذهابه إلى أماكن الفساد وسفره إليها حتى تحمّل الديون، فهذا لا يعطى من الزكاة وجهاً واحداً؛ لأنها معونة على الإثم، والله عز وجل نهى عن التعاون على الإثم، والشرع لا يعين على المحرم، وبناءً على ذلك لا يعطى مثل هذا من الزكاة. الحالة الثانية: أن يكون أنفقها في شهوة حلال، أو على وجه السفه، في شهوة حلال كأن يشتري السيارات والبيوت، ويبالغ في الترف وهو ضيِّق المال ضيق اليد، ليس عنده قدرة، ولكنه يتوسع في الشهوات المباحة، وتجد عنده نوعاً من السفه، لا يُحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء لغيره، يشتري الشيء بعشرة آلاف وهو يباع بعشرة آلاف فيبيعه بتسعة آلاف، أو بثمانية آلاف، فهذا سفيه، ومثل هذا لا يعطى من الزكاة؛ لأنه أنفقها على وجه السفه الذي نهى الله عن إعطاء المال فيه، فقال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]، فلو قلنا بمشروعية سداد دينه فكأنه تشريع للسفه، وإعانة عليه، والسفه تبذير الأموال في الشهوات، كما أشار بعض العلماء إليه بقوله: والسفه التبذير للأموال في لذة وشهوة حلال ممكن أن يتزوج ويتحمل الدين، ويكون زواجه بثلاثين ألف ريال سعودي، ولكنه يسرف في زواجه حتى يصل إلى مائة ألف، ثم يقول: أنا مديون، ويزاحم الفقراء والمساكين، فهذا لا يعطى، وإنما يعطى بقدر الحاجة، وينظر إلى قدر حاجته، والدين الذي كان صحيحاً معتبراً شرعاً. الحالة الثالثة: أن يكون دينه على وجه معتبرٍ شرعاً، كإنسان يتدين في نفقته ونفقة عياله، جاءك رجل وقال: إني مديون، فسألته عن دينه، فقال: صاحب البقالة له عليَّ ثلاثة آلاف ريال، فتسأل صاحب البقالة وإذا به يقول: هذا الرجل كان يأخذ مني هذه الأموال طعاماً في نفقة أولاده، فهذا لا بأس أن تعطيه؛ لأنه من أهل الزكاة. كذلك أيضاً جاءك وقال: إني مديون، قلت له: كم دينك؟ قال: عشرة آلاف، سألت: هذه العشرة آلاف ما سببها؟ قال: استأجرت بيتاً لي بخمسة عشر ألفاً، سددت منها خمسة وبقيت عشرة، تنظر في هذا البيت، هل هذا البيت فيه بذخ وإسراف وكان بإمكانه أن يستأجر بما هو أقلّ، وأسرف واستأجر بما هو أكثر، فحينئذٍ تعطيه بقدر الحاجة، أم أنه قد وضع الشيء في موضعه، فالبيت الذي استأجره لائق به وبأولاده، ولا إسراف فيه ولا بذخ، فحينئذٍ تعطيه من الزكاة. الشاهد: أنه لا بد من التحري، وليس كل صاحب دين رفع إليك حاجته وأنه مديون يُعطى من الزكاة، بل ينبغي التحري والتقصي والسؤال، وإلا لو فتح هذا الباب لضاعت أموال الزكاة، وأصبح الرجل يسرف في شهواته وملذاته، ثم يأتي ويقول: إنه مديون. فإنما يعطى المديون الذي استدان لطعامه وشرابه وكسائه، أو جاءك مديون وقال: إني مرضت واحتجت إلى عملية، وفعلت هذه العملية، وكلّفتني عشرة آلاف ريال أو خمسة عشر ألف ريال، أو جاء الخبر أن فلاناً أجرى عملية وتحمّل بسببها عشرين ألف ريال، فيُعطى ويسدد دينه، هذه أمور محتاج إليها، وقد تصل إلى الضرورة، فمثل هؤلاء هم الذين يُعطون من الزكاة. أما إذا كان كل من قام يدّعي أنه مديون، أعطي من الزكاة لقوله تعالى: {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة:60] فهذا ليس بصحيح، وإنما يتقيد كما ذكر العلماء بأن يكون دينه على وجه معتبرٍ شرعاً، لا إسراف فيه ولا حرمة.

الصنف السابع: المجاهدون في سبيل الله عز وجل

الصنف السابع: المجاهدون في سبيل الله عز وجل [السابع: في سبيل الله، وهم الغزاة المتطوعة الذين لا ديوان لهم]. قوله: (الذين لا ديوان لهم) الديوان: هو العطاء كالراتب ونحوه، فهؤلاء ما دام أن لهم عطاء فلا يُعطون من الزكاة، أما لو تطوّع إنسان بالجهاد في سبيل الله عز وجل وخرج، فقال بعض العلماء: يعطى لسلاحه، وقال بعضهم: يعطى لنفقته وسفره وتجهيزه للغزو، فيجهّز في ملبسه ومركبه، وكذلك آلات جهاده، والقول الثاني أقوى، وشرط ذلك: أن لا يكون لهم ديوان. أما لو كان لهم ديوان بأن خصص لهم قدر معين من بيت المال، فإنهم لا يُعطون من الزكاة إلا إذا وُجدت فيهم حاجة من وجه آخر.

الصنف الثامن: ابن السبيل

الصنف الثامن: ابن السبيل قال المصنف رحمه الله: [الثامن: ابن السبيل المسافر المنقطع به]. ابن السبيل: نُسب إلى السبيل وهو الطريق، والمراد بابن السبيل المسافر، وشرطه: أن يكون منقطعاً، وتعطيه لرجوعه إلى بلده، لا لإنشاء السفر، ففرق بين إنشاء السفر وبين الرجوع عن السفر، ولذلك يعبّر العلماء فيه ويقولون: المنقطع، والمنقطع هو الذي يريد البلغة إلى داره، وحينئذٍ لا يخلو من حالتين: إما أن يكون ابن السبيل غنياً بحيث لو رجع إلى بلده كان عنده مالٌ ووفاء لما أعطيته، فقال بعض العلماء: يُعطى للبلغة، ثم يقضي هذا الدين الذي أُعطيه؛ لأنه احتاج بقدر ما يصل إلى بلده، ثم زالت حاجته فوجب عليه السداد. وقال بعض العلماء: يعطى وإن كان غنياً ولا يطالب بالقضاء. والأول أحوط. وأما إذا كان فقيراً هنا وفي بلده، بحيث لو سافر إلى بلده لا يملك السداد، فإنه يُعطى بقدر ما يوصِّله إلى بلده، ويُعطى شيئين: أحدهما: ما يتعلق بمركوبه، والثاني: ما يتعلق بزاده وطعامه ونفقة أكله وشربه ونحو ذلك، ويلتحق بذلك إذا كان في الطريق منازل ينزل فيها كالمحطات، فإنه يحتاج إلى الاستئجار فيها لنوم وراحة ونحو ذلك. هذا بالنسبة لابن السبيل، فإنه يعطى بقدر حاجته التي توصله إلى بلده. قال المصنف رحمه الله: [دون المنشئ للسفر من بلده، فيعطى قدر ما يوصله إلى بلده]. قوله: (دون المنشئ) فلو قال: أريد أن أُسافر؛ لم يُعط، وإنما يُعطى الذي انقطع عن أهله وولده، ويريد أن يرجع إليهم، كأن يكون في سفر ثم تضيع نقوده، أو يأتي بنقود ثم تستنفذ هذه النقود في الطريق ولم يحسب حسابه، أو يأتي وهو على عوز لأمرٍ ضروري ثم ينقطع. لكن فصّل بعض العلماء في السبيل، وفرّقوا بين السفر، فقالوا: يُنظر في سفره، فإن كان سفره سفر طاعة أو سفراً مباحاً لا إسراف فيه ولا سفه فإنه يعطى، أما إن كان سفره على وجه السفه أو على وجه الحرمة فلا يعطى. وتوضيح ذلك: أنه إذا سافر سفراً مباحاً كالتجارة، ثم لما جاء إلى البلد الذي سافر إليه ضاعت نقوده أو استنفذت بسبب طول البقاء، فهذا يعطى بقدر ما يبلغه. وقد يكون السفر واجباً، كأن يسافر لحج وعمرة، وهما عليه فريضة، فيسافر من أجل القيام بفرض الله عليه، فينقطع، فحينئذٍ يعطى. أما لو سافر لأمرٍ محرّم فيه عقوق أو ارتكاب محرم فإنه لا يعطى؛ لأنه إعانة على الحرام، والشرع لا يأذن بالحرام، فكأننا إذا أعطيناه أعناه على الحرام. وقال بعض العلماء: إنه يعطى إذا كان سفره إلى الحرام وأراد أن يرجع إلى بلده، وظهرت عليه آثار توبته ورجوعه إلى الله، أما إذا كان مستمراً على معصيته واعتدائه لحدود ربه فإنه لا يعطى؛ لأنه آثم في ذهابه ورجوعه، وحينئذٍ لا يعطى على هذا الوجه.

حكم إعطاء من يستحق الزكاة ما يكفيه هو ومن يعول

حكم إعطاء من يستحق الزكاة ما يكفيه هو ومن يعول قال المصنف رحمه الله: [ومن كان ذا عيال أخذ ما يكفيهم]. قوله: (ومن كان ذا عيال) بعد أن بيّن لنا الأصناف الثمانية، وأراد أن يبين لك أنك إن أعطيت الفقير لفقره، أو المسكين لمسكنته، فينبغي عليك أن تنظر إلى عياله، ومن تلزمه نفقتهم، فقال: (من كان ذا عيال) يعطى قدر نفقتهم. فلو أن رجلاً عنده خمسة أطفال وزوجة، وعندك زكاة، وتعلم أن نفقته وحده هي ثلاثة آلاف، ونفقته مع عياله تصل إلى اثني عشر ألفاً، فتعطيه اثني عشر ألفاً؛ لأن من تلزمه نفقته منزَّلٌ منزلته، ومن كان ذا عيال يعطى نفقته ونفقة عياله.

حكم إعطاء الزكاة لصنف واحد

حكم إعطاء الزكاة لصنف واحد قال المصنف رحمه الله: [ويجوز صرفها إلى صنف واحد]. أي: ويجوز صرف الزكاة لصنف واحد من هذه الأصناف الثمانية، وهذه مسألة خلافية، قال بعض العلماء: تعمِّم الزكاة على الأصناف الثمانية، فتقسم الزكاة ثمانية أسهم، فلو كان عندك ثمانية آلاف زكاة، تجعل ألفاً للفقراء وألفاً للمساكين وألفاً للغارمين إلى آخره. وقال بعض العلماء: يجوز أن تصرف الزكاة لصنف واحد، واحتجوا بحديث معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، فخصّ الفقراء وهم صنف واحد من أصناف الزكاة، ولم يذكر أصناف الزكاة الثمانية، فدل على مشروعية الصرف لوجهٍ واحد من الوجوه الثمانية، وهذا هو الصحيح.

حكم إعطاء الزكاة للأقارب

حكم إعطاء الزكاة للأقارب قال المصنف رحمه الله: [ويسن إلى أقاربه الذين لا تلزمه مئونتهم]. أي: كأخيه وأخته، فإن الفقير المحتاج من الأقرباء قد يمتنع الناس من الإحسان إليه لوجود قرابتك منه، فإنهم يقولون: هذا قريب لفلان الغني، ولا يتصوّرون أنك لا تعطيه، فلو حُرم من زكاتك، وحُرم من زكاة الناس فلن يعطى شيئاً، ولذلك يعطى القريب، وهو أحق من غيره وأولى. وقال بعض العلماء: إن صرف الزكاة للأقرباء فيه أجرٌ زائدٌ على أجر الزكاة وهو أجر الصلة والإحسان، ولذلك يبتدئ بالقرابة فيبدأ بهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحق للأقرباء مقدماً على حق الأبعدين، فيبدأ بالأقارب ويعطيهم، وهذا أفضل وأكمل.

الأسئلة

الأسئلة

حكم صرف زكاة الفطر إلى المساكين فقط

حكم صرف زكاة الفطر إلى المساكين فقط Q هل أهل الزكاة الثمانية يشملهم زكاة الفطر، أم هي مختصة بالمساكين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (زكاة الفطر طعمة للمساكين)؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فقد رجّح غير واحد من العلماء تخصيصها بالمساكين، وإذا كانت للمساكين فمن باب أولى أن تكون للفقراء، وذلك أنها شُرعت لإغنائهم عن السؤال يوم العيد وليلته، ومن هنا قالوا بتخصيصها بهذا الصنف من أصناف الزكاة. والله تعالى أعلم.

الفرق بين الزكاة والصدقة

الفرق بين الزكاة والصدقة Q ما الفرق بين الزكاة والصدقة؟ A الزكاة فريضة، والصدقة نافلة، وقد تُطلق الصدقة بمعنى الزكاة. وإنما سمِّيت الصدقة صدقة؛ لأن الإنسان يصدق فيها رغبته في طاعة الله عز وجل، والسبب في ذلك: أن الإنسان بالصدقات يتجاوز حدود الواجب إلى غير الواجب، فكأنه صدق في محبة الله عز وجل، وصدق في التماس ما عند الله من الأجر والمثوبة بإنفاق ماله أو نحو ذلك من وجوه الخير التي يفعلها. وعلى ذلك قالوا: إن الصدقة تكون نافلة، والزكاة تكون واجبة، ثم الصدقة تكون في وجوه الخير عموماً، والزكاة لا تصرف إلا لأصنافها الخاصة، والصدقة تكون من جميع الأموال، ولكن الزكاة لا تكون إلا من أموال مخصوصة. والصدقة لا تتقيد بوقت، والزكاة تتقيد بوقت، وبناءً على ذلك تفترق الصدقة عن الزكاة. وأمر الصدقة أعمّ من أمر الزكاة، ولذلك لا يشترط فيها ما يشترط في الزكاة، ولا تعتبر آخذة حكم الزكاة، حتى قال بعض العلماء: إنه قد يجوز الشيء في الصدقة ولا يجوز في الزكاة، كقول من يقول بجواز أخذ الهاشمي ومن كان من آل البيت من الصدقات العامة، ولا يجوز أن يأخذ من الزكاة، وإن كان الأقوى والأرجح أنهم لا يأخذون من عموم الصدقات. والله تعالى أعلم.

حكم إعطاء الفقير من الزكاة مع العلم باستخدامه بعضها فيما لا يجوز

حكم إعطاء الفقير من الزكاة مع العلم باستخدامه بعضها فيما لا يجوز Q إذا علمت أني إذا أعطيت الفقير من الزكاة أنه سيشتري ببعضها ما ينفعه، وببعضها ما لا يجوز شراؤه، فما الحكم في ذلك؟ A إذا أعطيت الفقير لفقره، وقدّرت المال لحاجته الأصلية التي هي مباحة مشروعة، فإنه يتحمل المسئولية أمام الله عز وجل في إنفاقه على غير ذلك، وقال بعض العلماء وكان بعض مشايخنا يميل إلى هذا القول: إنه يُجتهد في هذا الذي يُخشى أن يصرف المال في الحرام، فإن كان له قريب صالح ديِّن أمين بحيث يكون بمثابة الولي عليه، يستطيع أن يحجره عن هذا الحرام، فيُعطى المال لهذا القريب، ثم يُنفق عليه في حاجته الأصلية، ولا يعطيه عيناً، وإنما يقوم بشراء حوائجه الأصلية بمثابة الحجر عليه. والله تعالى أعلم.

حكم أخذ الوكيل الفقير من الزكاة

حكم أخذ الوكيل الفقير من الزكاة Q هل إذا كان الوكيل فقيراً وفي حاجة للمال، فهل يجوز له أن يأخذ منه؟ A هذا فيه تفصيل، إذا قال صاحب المال للوكيل: خذ زكاتي وأعطها فقراء بني فلان أو أعطها إلى فلان، فعليه أن يؤديها إلى هؤلاء الفقراء، ولا يجوز له أن يأخذ منها شيئاً؛ لأنه وكيل بالإعطاء، وليس له حظ النظر في الزكاة، ولا يجوز أن يخلِّف منها شيئاً. الحالة الثانية: أن يقول له: اصرفها للمحتاجين، أو لك النظر فيها، أو يفوضه في أمر الزكاة، فحينئذٍ يجوز له أن يأخذ منها إذا كان محتاجاً. والله تعالى أعلم.

المخاطب بالزكاة بعد بيع الحب بعد حصاده وبدو صلاحه

المخاطب بالزكاة بعد بيع الحب بعد حصاده وبدو صلاحه Q لو باع رجلٌ حبوب المزرعة وقد بلغت النصاب، وذلك عند الحصاد، فمن يدفع الزكاة البائع أو المشتري، أثابكم الله؟ A إذا باع المالك الحقيقي للمزرعة الحب فإن البيع لا يصح إلا بعد بدو الصلاح، وإذا بدا الصلاح وهو في ملكه، فإنه المخاطب بالزكاة، وحينئذ يجب عليه أن يؤدي زكاته، فالزكاة واجبة على رب البستان وصاحبه، وليس على المشتري؛ لأن رب البستان قد وجبت في ذمته الزكاة ببدو الصلاح في حبه. والله تعالى أعلم.

حكم زكاة من كان لديه أرض يريد بيعها ولم يبعها إلا بعد عشر سنوات

حكم زكاة من كان لديه أرض يريد بيعها ولم يبعها إلا بعد عشر سنوات Q رجلٌ لديه أرضٌ اشتراها منذ عشر سنوات بنية بيعها بعد فترة، ولم يعرضها للبيع مدة العشر سنوات، ثم عرضها بعد ذلك، فماذا يكون عليه من الزكاة؟ A إذا باعها وتحقق بيعها زكّاها لسنة واحدة على أصح قولي العلماء رحمة الله عليهم، وهو قول طائفة من السلف كـ سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبي بكر وخارجة بن زيد وغيرهم من فقهاء المدينة السبعة، واختاره الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس إمام دار الهجرة، واختاره بعض أصحاب الشافعي، وهو أقوى الأقوال، أنها تُزكى لسنة واحدة بعد البيع والقبض. والله تعالى أعلم.

حكم زكاة من معه تجارة وعليه دين ينقص النصاب

حكم زكاة من معه تجارة وعليه دين ينقص النصاب Q رجل عنده محل تجاري، ويقوَّم ما فيه بعشرين ألف ريال، وعليه دينٌ يقدّر بخمسين ألف ريال، فهل عليه زكاة في هذا المحل، مع أنه وقت الزكاة لا يملك مالاً ليزكي به؟ A هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، بعض العلماء يرى أن من كان عليه دين يسقطه مما يملك من الأموال، وبعضهم يرى أنه إذا حال الحول والمال عنده، فإنه مالكٌ لهذا المال، وبناءً على ذلك لا يُعقل أن يمتنع من سداد الناس لحقوقهم ويمتنع من أداء حق الله في ماله، فيخيّر بين أمرين: إما أن يسدد الديون قبل حولان الحول حتى يبرأ من الزكاة، وإما أن تلزمه الزكاة بحلول الوقت، وهذا القول هو أحوط القولين وأولاهما في النظر. والله تعالى أعلم.

حكم البيع في فناء المسجد وأروقته

حكم البيع في فناء المسجد وأروقته Q ما حكم البيع في فناء المسجد وأروقته؟ وهل هي في حكم المسجد؟ A فناء المسجد ورحبته لا تأخذ حكم المسجد، ولذلك لا تجب فيه تحية المسجد بالإجماع، ومن خرج إليه وهو معتكف بطل اعتكافه، ويجوز للمرأة الحائض أن تجلس فيه، فدل على أنه غير آخذ حكم المسجد، لكن إذا أراد أحدٌ أن يبيع فيه نظر: فإن أدى إلى الضرر، كأن يرفع صوته بعرض السلع وينادي ويصيح فيشوش على المصلين ويكون المسجد صغيراً بحيث يسمعه من بداخله فيمنع، أما لو كان بعيداً والمصلون بعيدون عنه، وهو ينادي بصوتٍ معقول، ولا يتضرر من بداخل المسجد، فيترك الرجل لينال رزقه، خاصة وأنه لا يقف في هذا الموقف إلا وهو محتاج، فمثل هذا لا يُمنع إذا كان لا يشوش على الناس ولا يؤذيهم، أما إذا ضيق عليهم وآذاهم، وأضر بهم، واجتمع الناس به فتضرر الناس في خروجهم من المساجد، ولربما تعثروا أو آذى بعضهم بعضاً، فحينئذٍ يعتبر آثماً شرعاً. والله تعالى أعلم.

حكم الدم الذي ينزل بعد الأربعين للمرأة النفساء

حكم الدم الذي ينزل بعد الأربعين للمرأة النفساء Q امرأة قضت الأربعين بعد النفاس ولم تطهر، وإذا طهرت نصف يوم عاد إليها الدم، وهكذا حتى وصلت اليوم السادس والأربعين، علماً بأن هناك علاجاً تستخدمه، فهل يكون هذا العلاج سبباً في استمرار الدم حيث إنه منظِّف لبقايا الدم؟ A هذا السؤال فيه جانبان: جانب شرعي، وجانب طبِّي: أما الجانب الشرعي: فالمرأة إذا أتمت أربعين يوماً في نفاسها فإنه يُحكم بطهرها، وبعد الأربعين إذا رأت الدم فهو دم استحاضة وليس بدم نفاس، إلا في حالة واحدة، وهي: أن ترى دم الحيض بصفاته، فيكون دخل الحيض على النفاس، فتنتقل من النفاس إلى الحيض بعادتها، أما إذا لم تر علامة الحيض والدم مستمرٌ معها فمُضي أربعين يوماً يعتبر دليلاً على انتهاء مدة النفاس، لحديث أم عطية رضي الله عنها أنه: (كانت النفساء تمكث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً)، فإذا خلّفت الأربعين فقد طهُرت. وأما بالنسبة للجانب الطبي؛ وهو: هل يكون هذا الدواء سبباً أو لا، فهذا مرده إلى الأطباء ولا يُسأل عنه العلماء، فهم أعرف بدوائهم وما صرفوا من علاجهم. أما من الناحية الشرعية فما زاد عن الأربعين فإنه يُعتبر استحاضة، إلا في حالة واحدة هي دخول الحيض على النفاس، فإذا دخل الحيض على النفاس حكمنا بانتقالها من النفاس إلى الحيض، وحينئذٍ تمكث أيام عادتها التي اعتادتها قبل نفاسها. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

باب أهل الزكاة [2]

شرح زاد المستقنع - باب أهل الزكاة [2] هناك أصناف لا يجوز دفع الزكاة إليهم، وهم: بنو هاشم وبنو المطلب ومواليهم، وأصول المزكي وفروعه، ومن تجب عليه نفقته، والزوج والعبد ونحوهم. ولا يجوز دفع الزكاة إلا لمن يستحقها بصدق، ومعرفة المستحق تتحقق بأمور ذكرها الشيخ في هذه المادة، وذكر فضل صدقة التطوع وبعض ما يتعلق بها من أحكام.

حكم دفع الزكاة إلى بني هاشم وبني المطلب ومواليهم

حكم دفع الزكاة إلى بني هاشم وبني المطلب ومواليهم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [فصل: ولا تدفع إلى هاشمي ومطّلبي ومواليهما]. فبعد أن بيّن المصنف رحمه الله الأصناف الثمانية الذين سمّى الله في كتابه، وأمرنا بدفع الزكاة إليهم، شرع في بيان هذا الفصل المهم، والذي يتعلّق بالصفات التي تمنع استحقاف أخذ الزكاة، فهذه الأوصاف التي سيذكرها المصنف رحمه الله تعتبر مانعة من أخذ الإنسان للزكاة ولو كانت فيه صفة من صفات أهل الزكاة، كأن يكون فقيراً أو مسكيناً، فإذا وُجد فيه مانع من هذه الموانع فإنه لا تُصرف الزكاة إليه. ولما قال المصنف رحمه الله: (ولا تدفع) لا نافية، أي: لا يجوز دفعها لهاشمي، وفيه مسائل: المسألة الأولى: أنه لا يجوز الدفع إلى هؤلاء الذين سيذكرهم رحمة الله عليه، ويكون هذا دالاً على تحريم الدفع، فمن كان يعلم أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى هاشمي فدفعها للهاشمي، فإنه يأثم. المسألة الثانية: أنه لما قال: أنها إذا دُفعت وعلم الإنسان أنه تحرُم الصدقة والزكاة على هذا النوع، فدفع إلى هذا الممنوع من دفعها إليه، فإنه لا تجزيه الزكاة، ويجب عليه أن يقضي، وتعتبر صدقة من الصدقات النافلة، أما بالنسبة للفريضة فلا تزال في ذمته، ولو كان جاهلاً ثم علم بالحكم؛ فإنه يلزمه القضاء، ويسقط عنه الإثم لمكان الجهل، ولكنه يُطالب بضمان حق الله عز وجل على الأصل المقرر في الجاهل، أن الجهل يوجب سقوط الإثم، ولكنه لا يُسقط الضمان في الحقوق. وبناءً على ذلك فإن المصنف رحمه الله حينما نص على حرمة الدفع لمن نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن دفع الزكاة إليه فكأنه يقرر هذين الأمرين: حرمة الدفع، وأن من دفع لا يجزيه ذلك عن زكاة الفرض وأن عليه القضاء.

تعيين بني هاشم

تعيين بني هاشم قوله رحمه الله: (إلى هاشمي): هو نسبة إلى هاشم بن عبد مناف، وهو جد النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل في تحريم دفع الزكاة لبني هاشم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الصدقة لا تحلّ لمحمدٍ ولا لآل محمد)، فأجمع العلماء رحمهم الله على حرمة دفعها لبطون بني هاشم، ويشمل ذلك: آل العباس، وآل عقيل، وآل علي، وآل جعفر، وآل الحارث بن عبد المطلب، واختلف في آل أبي لهب -وهم البطن السادس-، هل يجوز أن تصرف لهم الزكاة، أو لا يجوز دفعها إليهم؟ فقال بعض العلماء: آل أبي لهب يعتبرون من آل النبي صلى الله عليه وسلم الذين لا يجوز صرف الزكاة إليهم. وقال بعض العلماء: إن آل أبي لهب يخرجون من هذا المنع؛ لأن أبا لهب كان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه نزل ما ذكر الله عز وجل في كتابه من الوعيد الشديد له لتكذيبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأذيته له على رءوس الناس، فقالوا: خرجوا من هذا؛ لأن المنع للفضل والتكريم، وكان أبو لهب شديداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم معادياً للإسلام، فخرج من هذا. ولـ أبي لهب عتبة ومعتِّب وقيل: معْتِب، اللذان أسلما وشهدا فتح الطائف مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهل ذرِّيتهما يمنعان من الزكاة كما يمنع بقية الآل أو لا؟ هذان الوجهان للعلماء رحمهم الله، والأصل يقتضي أن تمنع الزكاة عنهم؛ لأنهم داخلون في آل النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا فهمنا من الآل النصرة مع القرابة، فحينئذٍ لا يدخلون، ولكن الأول أوجه بمقتضى لفظ النبي صلى الله عليه وسلم.

أقوال العلماء في دخول بني المطلب مع بني هاشم

أقوال العلماء في دخول بني المطلب مع بني هاشم قوله: (ولا لمطَّلبي): بنو المطلب هم نسبة إلى المطلب بن عبد مناف وهو أخٌ لـ هاشم، وله أخوان آخران وهما نوفل وعبد شمس؛ لأن عبد مناف له أربعة من الولد وهم: هاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس. فالنوفليون والعبشميون، وهم نسبة إلى نوفل وعبد شمس لا يدخلون في آل النبي صلى الله عليه وسلم ولا تحرُم الصدقة عليهم بالإجماع، بل يجوز دفع الزكاة إليهم، وآل هاشم يدخلون بالإجماع على التفصيل الذي ذكرناه. واختلف في المطلب بن عبد مناف، فظاهر النص عن النبي صلى الله عليه وسلم أن آل المطلب بن عبد مناف داخلون في المنع، وأنهم من آل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا القول يختاره فقهاء الشافعية، وهو قولٌ عند المالكية، ورواية عن الإمام أحمد اختارها المصنف رحمة الله عليه، فإن آل المطلب بن عبد مناف تحرُم عليهم الصدقة، ويدخلون في آل النبي صلى الله عليه وسلم. واستدل الذين قالوا بأن آل المطلب يدخلون في آل النبي بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيهم: (إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيءٌ واحد) وفي رواية: (لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام)، وهذا نصٌ صحيح صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم في اعتبار آل المطلب كآل هاشم، وإذا كان هذا من النبي صلى الله عليه وسلم ورد بسبب النصرة، فإن هذا لا يقتضي تخصيص الحكم؛ لأن القاعدة في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللفظ في مسألة الخُمس، فأدخلهم في خُمس الخُمس، وعدهم من آله وقرابته عليه الصلاة والسلام الذين يصرف لهم خمس الخمس، وقال: (إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد)، وقال: (إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام)؛ لأنهم حُوصروا في شعب أبي طالب مع آل هاشم، فدل هذا النص على أنهم مع بني هاشم كالشيء الواحد، وإذا كان الأمر كذلك فظاهر اللفظ أنهم يُمنعون. القول الثاني: ذهب طائفة من العلماء من فقهاء الحنفية وبعض فقهاء المالكية، وقيل: إنه هو المعتمد في مذهب الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد: أنهم لا يدخلون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص الحكم بدخول بني المطلب في مسألة خمس الخمس، وقالوا: إن هذا يدل على أنهم مع بني هاشم من جهة النصرة لا من جهة العموم. والصحيح هو القول الذي اختاره المصنف على ظاهر النص؛ لأن القاعدة في الأصول: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد) دل ذلك على أنهم شيءٌ واحد دون تفريق، وكونه يرد لسبب خاص لا يقتضي التخصيص. إضافة إلى أمر ثان: وهو أننا لو سلّمنا أن الحديث ورد في مسألة خمس الخمس، فإنه قد جاء في الرواية الأخرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يخاطب آله: (إني أرغب لكم عن أوساخ أيدي الناس، ولكم في الخمس غِنَى) أي: أنه جعل في وجود خُمس الخمس غنى عن الصدقات. فإذا تأملت هذا الحديث -أن خُمس الخمس غنى عن الصدقات- وآل المطلب هم داخلون مع آل هاشم في خمس الخمس دلّ على أنهم كذلك يمنعون؛ لأن المعنى موجود فيهم، فلو سلم النص الذي يستدلون به على التخصيص، فإننا نقول: علّته تقتضي التعميم. وعلى هذا فيحرم دفع الزكاة إلى: آل العباس بن عبد المطلب، وآل عقيل بن أبي طالب، وآل علي بن أبي طالب، وآل جعفر بن أبي طالب، وآل الحارث بن عبد المطلب، وكذلك آل أبي لهب، على أصح قولي العلماء رحمة الله على الجميع، وهؤلاء كلهم من بني هاشم، ثم يلحق بهم آل المطلب بن عبد مناف، وعلى هذا يحرم دفع الزكاة إلى هؤلاء.

العلة في تحريم دفع الزكاة إلى بني هاشم وبني المطلب

العلة في تحريم دفع الزكاة إلى بني هاشم وبني المطلب لقد علّل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأن الزكاة تعتبر طُهرة للناس وطهرة لأموالهم، كما قال سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] فأخبر أنها طُهرة، فإذا كانت طُهرة فإن آل النبي صلى الله عليه وسلم لهم من الشرف والمكان ما هم أرفع من أن يقبلوا هذه الطهرة، كما جاء في الخبر: (إنها أوساخ الناس). وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه رأى الحسن أو الحسين يتناول تمرة من تمرات الصدقة فقال: كخ كخ، إنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)، وعلى هذا فإن تحريم الصدقة عليهم لمكان الشرف؛ ولأن الله سبحانه وتعالى فضلهم بهذه المزية لمكان قرابتهم من النبي صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن لهم الحق ولهم الفضل الذي يجب على كل مسلم أن يحفظه لهم، وأن يرعى لهم الحرمة، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على تفضيل آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وإجلالهم وإكرامهم، وأن ذلك مما يُتقرب به إلى الله عز وجل، ولكن بشرط أن يكون في الحدود الشرعية بعيداً عن الغلو، فلا يجحِف الإنسان بحقهم فيساويهم بعامة الناس كما هو صنيع الجهال والرعاع، ولا يرفعهم عن مقامهم الذي يليق بهم، وإنما يعطيهم الحق، قالوا: إنهم يفضلون حتى في المجالس، فيُكرمون ويجلُّون ويقدَّرون؛ لمكان قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (والله لا آذن، والله لا آذن، والله لا آذن، إنما فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها)، فجعل آله عليه الصلاة والسلام ومن هم منه بمثابته هو عليه الصلاة والسلام قال: (إنما فاطمة بضعة مني)، ولذلك عظُمت حرمتهم ووجب حفظ حقوقهم.

شرف الانتساب إلى آل النبي صلى الله عليه وسلم

شرف الانتساب إلى آل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله رحمه الله: (ولا تدفع إلى هاشمي ومطّلبي) قلنا: إن المطّلبي يلحق بالهاشمي على الصحيح، وآل النبي صلى الله عليه وسلم يُعرفون بإثبات النسب، كأن تكون لهم الشجرة التي تثبت نسبتهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمن كان عنده الشجرة التي تثبت النسبة حلّ له أن ينتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرُم عليه أن يقبل الزكاة من الناس، وهكذا الصدقات النافلة على أصح قولي العلماء كما سيأتي. وكذلك يعرف كذلك آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، بالشهرة والسماع، والقاعدة عند العلماء: أن السماع يثبت النسب، فهناك شهادة تسمى عند العلماء بشهادة السماع والاستفاضة، وهي أن يُعرف أن هذا البيت من آل النبي صلى الله عليه وسلم، أو يكون هناك لقب معروف على مستوى الحي أو على مستوى المدينة يعرف أنه لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وينتسب الإنسان إليه، فهذا من القرائن الظاهرة. وتعتبر شهادة الاستفاضة والسماع موجبة لثبوت النسب، ولذلك يحكم العلماء رحمهم الله بها في القضاء كما قرر الفقهاء رحمهم الله في باب الشهادة، فإذا استفاض أن فلاناً ينتسب لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذ أحكامهم، ولا يجوز لأحد أن يطعن في آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أو يشكك في أنسابهم، فذلك من الخطورة بمكان، فإن هذا يعتبر من أشد أنواع القذف وأسوئها، أن ينفي نسبة إنسان إلى آل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثبوت نسبته أو اشتهاره بين الناس أنه من آل النبي صلى الله عليه وسلم، فيجمع بين كبائر: أولها: قذفه بإخراج نسبه عن الأصل الصحيح فينسبه إلى غير أهله. وثانياً: لما فيه من الأذية لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. وقذف غيرهم ليس كقذفهم، ولذلك جعل الله عز وجل عظيم الوعيد لمن قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وعلى هذا فإنه إذا ثبت واستقر عن الإنسان أنه ينتسب لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم سرت عليه الأحكام؛ فحرُم إعطاء الصدقة إليه، وحرُم دفع الزكاة له، وحرُم قبوله للصدقات.

أقوال العلماء في حكم إعطاء موالي بني هاشم وبني المطلب من الزكاة

أقوال العلماء في حكم إعطاء موالي بني هاشم وبني المطلب من الزكاة وقوله: (ومواليهما): يعني: موالي بني هاشم وموالي بني المطلب. المولى: هو العتيق، يكون عند الإنسان عبد ثم يعتقه، فإذا أعتقه فإنه يكون مولى له، وحينئذٍ يقال: مولى بني فلان، وينسب ويقال: الهاشمي مولاهم، يعني نسبته إلى بني هاشم من جهة الولاء. وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم هذا الولاء، وقال: (قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق)، فأخبر أن الولاء لمن أعتق، فإذا أعتق الهاشمي عبداً فإنه يعتبر مولىً لبني هاشم، ولو أعتق المطَّلبي عبداً فإنه يعتبر مولىً لبني المطّلب، وحينئذٍ فهؤلاء الموالي الذين أصلهم عبيد يعتبرون آخذين لحكم أسيادهم الذين أعتقوهم، فتحرُم عليهم الصدقة سواءً كانت فريضة أو كانت نافلة على الصحيح. والدليل على ذلك: أن أبا رافع وكان مولىً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصل ولايته لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة فتح الطائف حينما حاصرها عليه الصلاة والسلام، فنزل رضي الله عنه وأرضاه، ثم أعتقه فكان مولىً للنبي صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى أبي رافع رجلٌ من بني مخزوم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد استعمل هذا الرجل المخزومي على الصدقة، فقال الرجل المخزومي لـ أبي رافع: اصحبني كيما تصيب مما أصيب، يعني حتى يكون لك شيءٌ مما آخذه في عمالتي على الزكاة، فقال أبو رافع: لا، حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحرّم عليه ذلك وقال: (إن مولى القوم منهم). فهذا نصٌ صحيح صريح يدل على أن موالي آل البيت لا يجوز صرف الزكاة إليهم، ولا يحل أخذهم لهذه الزكاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مولى القوم منهم). ولما ثبت في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (الولاء لحمة كلحمة النسب)، فجعل الولاء لحمة كلحمة النسب، فلما كان آل بني هاشم يحرم عليهم بالانتساب للبيت فكذلك مواليهم يعتبرون منتسبين للبيت من جهة الولاء، فلا يجوز دفع الزكاة إليهم. هذا على القول الراجح وهو قول الجماهير؛ لأن بعض المالكية وبعض الحنفية يجيز دفع الصدقة للموالي، وهذا القول يعتبر مرجوحاً، ويعتذر لأصحاب مالك رحمة الله عليهم الذين يقولون بجواز دفعها للمولى بأنه ربما لم يطّلعوا على الحديث الذي دلّ على التحريم، وإلا فالأصل أن الحديث إذا استبانت حجّته للفقيه لم يجز له أن يخالفه. وعلى هذا فإنه لا يجوز دفع الصدقة إلى موالي بني هاشم وبني المطلب، وهذا هو أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم.

حكم إعطاء الهاشمي والمطلبي من صدقة النافلة

حكم إعطاء الهاشمي والمطلبي من صدقة النافلة من ظاهر قوله: (ولا تدفع لهاشمي ومطلبي) أنه لا يجوز دفع الزكاة، لكن يرد سؤال عن الصدقة النافلة، فللعلماء فيها وجهان: الوجه الأول: أنها تحرُم عليهم كما تحرم الزكاة الواجبة. والوجه الثاني: أنها تحل لهم الصدقة النافلة وتحرم عليهم الصدقة الواجبة. واستدل الذين قالوا بحرمة أخذهم من الصدقات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)، وهذا كلام عام يدل على أن الصدقة على الإطلاق لا يجوز دفعها إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. ولما في أخذهم الصدقة من الغضاضة والحط من قدرهم، ولذلك قالوا: إنه لا يُشرع أخذهم للصدقة والزكاة الواجبة، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، وهو اختيار جمعٍ من العلماء رحمة الله عليهم. وأما ما ورد من قوله: (إنما هي أوساخ الناس) فهذا ورد ورد تعليلاً لخاص، وإذا ورد التعليل لخاص لم يقتض ذلك تعميم الحكم، بل يُقصر، أي: إنني منعتك من هذه الزكاة الواجبة؛ لأنها أوساخ الناس. فالذي يظهر منعهم من الصدقة عموماً لفضل الانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما لهم من خمس الخمس؛ لأن الله جعل لهم في خُمس الخُمس غناءً عن هذه الصدقة. فلو قال قائل: إنه قد يأتي زمان ولا يوجد خمس الخمس؟ قالوا: إن هذا أصل شرعي، وقد كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يوجد خمس الخمس إلا في حالات الجهاد، وهي أحوال خاصة، ومع ذلك كانوا يعيشون في ضيق وشدة وحاجة، حتى جاءته بنته فاطمة تشتكي له أنها طحنت النوى بيدها حتى مجلت، ومع ذلك لم يحلّ دفع الزكاة إليها. وعليه فإنه لا تدفع الزكاة إليهم، وكذلك الصدقة النافلة. وبقي Q لو أنه افتقر حتى بلغ إلى مقام الضرورة، هل يجوز له أن يأكل من الصدقة، سواءً كانت نافلة أو واجبة؟ و A أما بالنسبة من بلغ إلى مقام الضرورة فقد رخّص له العلماء رحمهم الله إذا خشي الهلاك أن يطعم من الزكاة بقدر الضرورة، وأما إذا لم يبلغ هذا القدر، ولم يصل إلى هذه الدرجة، فإنه يبقى على الأصل الموجب لتحريم أكله لصدقات الناس.

حكم دفع الزكاة إلى فقيرة تحت غني

حكم دفع الزكاة إلى فقيرة تحت غني قال رحمه الله: [ولا إلى فقيرة تحت غني منفق]. الأصل في ذلك أن المرأة إذا كانت تحت زوج أن الزوج مطالبٌ بالإنفاق عليها، فإذا كان زوجها فقيراً وهي فقيرة جاز دفع الزكاة بالإجماع إليها وإليه؛ وذلك لوجود السبب الموجب لصرفها إليهما، لكن لو كانت هي فقيرة وهو غني فإنه لا يجوز دفعها إليها، أي: إلى هذه الفقيرة؛ لأن زوجها سيقوم بحقها. فلو أن هذا الزوج كان غنياً بخيلاً، لا ينفق على زوجته ويقتِّر عليها، فهل يجوز الدفع، أو لا يجوز؟ الجمهور على عدم جواز الدفع؛ لأنها إذا أرادت حقها فإنها تطالبه وتقاضيه. وقال بعض العلماء: إنه إذا كان بخيلاً جاز دفع الزكاة إليها؛ لأن وجود هذا الغني وعدمه على حدٍ سواء، فغناه لا يفيدها شيئاً، بل إنها تتضرر أكثر؛ لأن الناس يمتنعون من الإعطاء إليها لمكان غنى زوجها، وهم لا يعرفون أنه في الحقيقة مقتِّر ومقصر عليها. وقوله: (ولا إلى فقيرة تحت غني) يفهم منه أنها إذا كانت تحت فقير أنه يجوز الدفع إليه وإليها، والعكس يجوز، فلو كانت المرأة غنية والزوج فقيراً جاز دفع الزكاة إلى الزوج؛ لأن الزوجة لا تنفق على زوجها، ولذلك خصّ الزوجة ولم ينص على الزوج؛ لأن الزوج إذا كان فقيراً وكانت زوجته من أثرى خلق الله فلا يجب على الزوجة أن تعطيه من مالها ولا أن تغنيه وحاله حال فقر، فيجوز دفع الزكاة إليه؛ لأنها ليست مطالبة بالإنفاق على زوجها.

حكم دفع الزكاة إلى فرع أو أصل

حكم دفع الزكاة إلى فرع أو أصل قال المصنف رحمه الله: [ولا إلى فرعه وأصله]. أي: ولا يجوز دفع الزكاة إلى الفرع ولا إلى الأصل. والفرع: هو الذي ينبني على غيره، تقول: فروع الشجرة؛ لأنها منبنية على أصلها، وتقول: الجريد فرع النخلة؛ لأنه منبن على جذعها، فالفرع هو الذي انبنى على غيره، والأصل هو الذي ينبني عليه غيره، فالفرع مبني على غيره. والأصل مبنيٌ عليه الغير، وعلى هذا يقولون في الإنسان: أصوله آباؤه وأمهاته، الأقربون والأبعدون، فأبوه وجدُّه وإن علا يعتبر أصلاً له، وأمه وجدته وإن علت أصلٌ له، ويشمل ذلك المباشر وغير المباشر. الفرع: وهم الذين يلدهم الإنسان، فله عليهم ولادة كابنه وبنته، وإن نزل الابن وإن نزلت البنت كبنت بنت البنت، وابن ابن الابن، كل هؤلاء يعتبرون من الفروع. فلا يجوز دفع الزكاة لا إلى الأصول ولا إلى الفروع، والدليل على ذلك السنة الصحيحة التي دلت على أن الفرع مع الأصل كالشيء الواحد، وهذه المسألة نص عليها جماهير العلماء، حتى حُكي الإجماع على أنه لا يجوز صرف الزكاة لا إلى الفروع ولا إلى الأصول، والدليل على ذلك من السنة الصحيحة حديث فاطمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما فاطمة بضعة مني)، وبضعة الشيء كالشيء؛ لأنها قطعة منه، فدل على أنها وإياه كالشيء الواحد. وأخذ العلماء من هذا دليلاً على أنه لا يجوز أن يصرف الزكاة لأبنائه ولا لبناته؛ لأنه إذا فعل فكأنما يصرف لنفسه، لأنه قال: (إنما فاطمة بضعة مني)، وتأكد هذا أيضاً بالحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم)، وقال للرجل: (أنت ومالك لأبيك). فهذه نصوص صحيحة من السنة جعلت جماهير العلماء رحمة الله عليهم يحكمون بعدم جواز صرف الزكاة للأصول وكذلك للفروع؛ لأن السنة دلت على أن الأصل والفرع كالشيء الواحد، وعلى هذا فلو أعطى أباه أو أمه من الزكاة فكأنه يعطي نفسه، وإنما يجب عليه أن يقوم بحق والديه من الإحسان إليهما. ولا شك أنه من أعظم العقوق أن يكون الابن غنياً أو تكون البنت غنية -والمراد بالغني من عنده الفضل عن حاجته- ومع ذلك يرى والديه في الفقر والشدة ولا ينفق على والديه، فهذا من أشد العقوق الذي يؤذن بمحق البركة من المال، بل وبمحق التوفيق للإنسان، نسأل الله السلامة والعافية. فلن تجد إنساناً يحرم والديه من فضلٍ أعطاه الله إياه إلا محق الله له البركة فيما أعطاه، وقد يجعل ما أعطاه وبالاً عليه في دنياه أو قد يجمع له بين وبال الدنيا والآخرة، نسأل الله السلامة والعافية. ولذلك ينبغي على الإنسان أن لا يبخل بماله على والديه، وإذا استطاع أن يبادرهما بالإنفاق قبل أن يسألاه فذلك من أكمل البر، ولذلك قال الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83]، فأصل التقدير: أحسنوا بالوالدين إحساناً، وقال تعالى: {إِحْسَانًا} [البقرة:83] وهذا مطلقٌ في الإحسان، أي: قدر ما تستطيعون من بذل الإحسان، وما يحسُن به حال الإنسان، أي: ما يُحسِن به إلى والديه في حالهما، سواءً بالقول أو الفعل، ولذلك لا يجوز أن يكون عنده المال ويؤدي الزكاة ووالديه في فقر ومسكنة، فهذا يعتبر من العقوق، ونص العلماء رحمهم الله على وجوب قيام الابن بالإنفاق على والديه إذا احتاجا.

حكم دفع الزكاة إلى العبد

حكم دفع الزكاة إلى العبد قال المصنف رحمه الله: [ولا إلى عبدٍ]. أي: ولا تدفع الزكاة إلى عبد؛ لأن العبد لا يملك، ولو دفع له انصرفت إلى سيده، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع)، فهذا الحديث يدل على أن العبد لا يملك، وعلى هذا فقد أخلى يد العبد من الملكية، وجعل ماله إما للبائع وإما للمشتري، فدل على أنه لا يملك. وعلى هذا فلا يتأتى أن يصرف الزكاة إليه؛ لأنه لا يملك، وإذا صرفها إليه فكأنه يعطيها لسيده، فإذا كان السيد محتاجاً جاز دفع الزكاة إليه بوجود الحاجة التي يؤذن بصرف الزكاة بسببها. في حالة واحدة يستثنى فيها العبد، وهي إذا كان مكاتباً، وقد بيّنا هذا في قوله: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:60]، فإن الله عز وجل نص على دفع الزكاة للمكَاتَب كما في قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]، فتصرف الزكاة إلى العبد إذا كان مكاتباً لسيده، وأما غير ذلك فإنه لا تصرف الزكاة إليه.

حكم دفع الزكاة من الزوجة للزوج

حكم دفع الزكاة من الزوجة للزوج قال المصنف رحمه الله: [وزوج]. أي: ولا إلى زوج أي: ولا يجوز للمرأة أن تدفع زكاتها لزوجها، وهذا إذا وجد في الزوج ما يدل على حاجته وفقره ومسكنته، وهذه المسألة للعلماء رحمة الله عليهم فيها وجهان: بعض العلماء يقول: يجوز دفع زكاة الزوجة لزوجها، وأنه لا حرج عليها في ذلك، واستدلوا: أولاً: بعموم الآية الكريمة التي وردت في أصناف الزكاة. وثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ زينب امرأة عبد الله بن مسعود حينما استأذنته أن تنفق صدقتها على عبد الله وأولاده، فأخبرها أنها إذا تصدّقت على زوجها وأولاده أنها تكون حائزة لأجرين: الصدقة، وصلة الرحم، قالوا: فهذا يدل على أنه يجوز لها أن تدفع زكاتها إلى زوجها. والذين منعوا استدلوا: بأن الزوج ينفق على زوجته، وإذا كان الزوج ينفق على زوجته، فكأنها إذا أعطته الزكاة فهي مستفيدة من المال لا شك؛ لأن الزوج إنما يفتقر من أجل الإنفاق على نفسه وعلى من يعول، وزوجته ممن يعول، فكأنها إذا أعطته الزكاة أعطته لنفسها، فقال بعض العلماء: إنه لا يجوز إعطاء الزكاة لأجل هذه العلّة؛ لأن الزوج ينفق على زوجته من هذا الوجه. والذي يظهر والله أعلم أنه يجوز صرف زكاتها إلى زوجها: أولاً: لعموم آية الزكاة. وثانياً: أن هناك ما يدل على جواز الصرف عند اختلاف اليد: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما غلا القدر بلحمٍ أُعطي لـ بريرة صدقة، وأراد أن يأكل منه قالت عائشة: إنه صدقة، فقال: (هو لها صدقة ولنا هدية)، فأخبر باختلاف اليد. فعلى هذا فلها أن تعطيه الزكاة، ثم إذا أنفق عليها ينفق كان ذلك بسبب شرعي وهو الاستمتاع، قال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24]، فاختلفت اليد، والقاعدة: أنه إذا اختلفت اليد اختلف الحكم باختلاف اليد، وعلى هذا فإنه إنما يستقيم أن لو كان ينفق عليها بدون موجب، وعليه فإنه يجوز صرف الزكاة من الزوجة لزوجها. وأجابوا عن الوالد مع ولده بأن الاستحقاق وإن كان مختلفاً فورود السنة بالنصية على أنه مالٌ للأب ومالٌ للفرع، يدل على أنهما كالشيء الواحد، ولو أخذه باستحقاق، ففُرِّق بين الوالدين وبين الزوجين من هذا الوجه، فيجوز صرف الزكاة من الزوجة لزوجها ومن الزوج لزوجته، قالوا: ولا حرج في ذلك، وحينئذٍ إذا صرفت زكاتها لزوجها يشترط أن لا تحابيه في قدر الزكاة الذي تعطيه له، فإذا كان يستحق ثلاثة آلاف لم يجز أن تزيد عليها، فإن زادت رجعت الزيادة نافلة، فلو كانت زكاتها أربعة آلاف ريال وزوجها يستحق الألفين فأعطته أربعة آلاف، فألفان زكاة وألفان صدقة، ويجب عليها أن تقضي الألفين؛ لأنه لا يستحق أن تُصرف إليه.

حكم إعطاء الزكاة لمن لا يستحقها

حكم إعطاء الزكاة لمن لا يستحقها قال المصنف رحمه الله: [وإن أعطاها لمن ظنه غير أهلٍ فبان أهلاً أو بالعكس لم يجزه]. وذلك كأن يعطيها لإنسان يظنه فقيراً أو مسكيناً وهو غني، ثم بان بأنه ليس بأهل؛ فإنه يجب عليه أن يقضي. وهنا ينبغي أن ننبه على مسألة مهمة، وهي أن الواجب على الإنسان إذا وجبت عليه الزكاة في ماله أن ينظر في حاله، فلا يخلو من أحوال: الحالة الأولى: أن يعلم بوجود ضعفاء أو فقراء مستحقين للزكاة، أو أن يكون عالماً بأناس مستحقين للزكاة، علماً شخصياً بنفسه، كأن يعرف جيراناً له فقراء، أو يعرف أقارب له فقراء، ففي هذه الحالة لا يجوز له أن يصرف لأي شخص غيرهم؛ لأنه إذا صرفها للغير الذي يشك في حاله كأنه ينتقل من اليقين إلى الشك على وجه يشك في براءة ذمته. ولذلك يقول العلماء: إذا علم الإنسان فقراء محتاجين، وجاءه سائل يشك في أمره لم يجُز له أن ينصرف عن اليقين إلى شك، والقاعدة في الشرع: أن القدرة على اليقين تمنع من الشك، فما دمت قادراً على صرفها على وجه تستيقن منه أنها تصل إلى مستحقها فلا يجوز لك أن تعدل إلى وجهٍ تشك فيه. وتفرّع على هذه القاعدة مسائل كثيرة، ومنها هذه المسألة، أنه ما دمت تعلم أن البيت الفلاني فيه فقراء وضعفاء محتاجون، وتعلم حاجتهم وأنهم مستحقون للزكاة، وجاءك من تشك في أمره يسألك لدين أو حادث أو فقر، لم يجز لك أن تنصرف من الأمر الذي تستيقن به صرف الزكاة على وجهها إلى أمر تشك فيه. الحالة الثانية: أن لا يعرف الناس بنفسه، ولكن يعرفهم عن طريق الثقات، أو أناس فيهم أمانة وعدالة، ويغلب على ظنه أنهم يوصلون المال إلى مستحقه، فهؤلاء الأشخاص جاءوك وأخبروك أن هناك بيتاً من الفقراء أو المساكين، أو أن هناك شخصاً مديوناً، ويعلمون صدقه وحاجته وفقره، فحينئذٍ تنزّل هذه الحالة منزلة الحالة الأولى، ولا يجوز لك أن تعدل عن هذا الأمر الذي غلب على ظنك فيه وصول الزكاة إلى مستحقها إلى أمر تشك فيه، وتعتبر هذه الحالة لاحقة بالحالة الأولى. الحالة الثالثة: أن لا تعلم أناساً، وليس هناك أشخاص تستطيع أن تعتمد عليهم في الكشف والتحري، وجاءك من يسأل، فلا تخلو أيضاً من حالتين: إما أن يمكنك أن تتحرى وتتثبت في أمره؛ فلا يجوز أن تدفع له مباشرة قبل أن تتحرى وتتثبت. مثال ذلك أن يقول لك: إنه يسكن في حي ما، فتقول له: اذهب وأحضر لي شهادة من إمام المسجد أو أحضر لي من جيرانك من أعرفه يزكيك أو يشهد بأنك محتاج أو أنك فقير، ففي هذه الحالة إذا أمكنك بالتحري والسؤال أن تعرف جليّة أمره، كان من التساهل والتفريط في حق الله عز وجل أن يُدفع المال إليه مباشرة؛ والأمانة والصدق في القول من العدالة، والله عز وجل يقول: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] فأخبر بكونه ظالماً وجاهلاً، فكان الأصل أنه ينبغي أن يزكَّى، حتى يغلب على الظن صِدْقُه، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيمن كان على ظهر غنى وأصاب ماله جائحة أن يقوم اثنان من ذوي الحجى يشهدان بأن مال فلان قد أصابته جائحة. فعلى هذا يكون من التفريط والتساهل أن يأتي الإنسان إلى صدقة واجبة عليه فيعطيها لكل من سأل، ومن جاءه أعطاه، ومن أخبر له صدّقه، فهذا من التساهل والتضييع. بل قد تجد أجرأ الناس على السؤال من أكذب خلق الله وأكثرهم حيلة، بل قد تجده يملك من الأموال ما لا يملكه الذي يتصدق عليه، وقد رأينا ذلك بأعيننا، ولا نبالغ فيه، بل وجدنا من يملك العمارة والعمارتين وهو يسأل ويكذب ويدعي أنه محتاج، وقد بنى ثروته وأمواله على السؤال، خاصة في هذا الزمان، عندما تساهل كثير من الأغنياء. ولذلك لما تساهل الأغنياء في صرف الزكاة إلى المستحقين عظُمت حاجة الناس، ووجد الضعفاء والفقراء الذين هم في فقر وضعف ومسكنة لا يعلمها إلا الله عز وجل، وضاعت حقوقهم بسبب هؤلاء السؤَّال، والغني يحضر ماله وكل الذي يريده أن يخلص من هذه الزكاة، ويحس أنه من الورع أن يتخلص منها مباشرة، ويعطيها لكل من هب ودب، وهذا لا تبرأ به الذمة، وأنت تعلم أن هذا الزمان فيه الكذب وفيه الغش وفيه التدليس، فتأتي إلى حق الضعفاء والفقراء والمساكين والمديونين والمعسرين، فتتساهل فيه فتعطيه لكل سائل، وتعطيه لكل من يقف عليك، فهذا من التساهل. فإن كنت عاجزاً بحثت عمن تثق بدينه وأمانته، بأن تذهب إلى إمام مسجد أو تذهب إلى عالم تثق بدينه وأمانته، فتعتمد عليه بعد الله عز وجل في صرف زكاتك، أما أن تُعطى الزكاة لكل من سأل، ثم إذا بان غنياً عفي منها فلا، هذا من الصعوبة بمكان، ولا شك أنه يضيِّع حقوق الفقراء والضعفاء والمساكين، وعلى هذا فإنه ينبغي التفصيل. أولاً: إن كان الشخص بنفسه يعلم الضعفاء والفقراء لم يَجُز له أن يصرف المال للسؤَّال الذين يشك في أمرهم. ثانياً: إذا كان لا يعرف ولكنه يستطيع أن يعتمد على من يثق بدينه وأمانته من أهل العقل والحجى ويسلمهم زكاته وجب عليه ذلك، ولم يجز له أن يعطي الزكاة لكل سائل وهو لا يعرف أهو صادق أو كاذب. ثالثاً: إذا لم يمكنه الأمران، وأمكنه أن يعتمد على تزكية إمام مسجد أو تزكية جيران يثق بهم طولب بذلك. فإن تعذر عليه في هذه الحالة، ولم يستطع أن يستجلي الأمر بنفسه، ولم يستطع أن يطالبه كأن تكون حاجة نازلة، أو يكون غريباً منقطعاً، كابن السبيل، فحينئذٍ إن دفع له الزكاة على هذا الوجه فإنه يتحرى فيما في وسعه، كأن يسأله: متى قدمت، أو يسأله عن أمورٍ يظهر بها صدقه وكذبه. فإذا فعل ذلك وتحرّى وبان خطؤه، فمذهب طائفة من العلماء: أنها تجزيه؛ لأنه اجتهد وتحرّى ولم يكلّفه الله إلا ما في وسعه. ومذهب طائفة من العلماء: أنه يلزمه الضمان لأنه قصّر، ولو تحرى لتبيّن له الأمر، ومن قصّر يلزم بعاقبة تقصيره، والتفصيل في هذه المسألة قوي: فإن كان هناك ضعفاء غير هذا الفقير وتساهل في صرفها إلى هذا السائل المشكوك في أمره ضمن، وإلا قوي القول الذي يقول بالإسقاط وببراءة الذمة. وقوله: (وإن أعطاها لمن ظنه غير أهلٍ فبان أهلاً أو بالعكس لم يجزه). أي: إن أعطاها لمن ظنه أهلاً فبان أنه غير أهل، أو أعطاها لغير المستأهل كأن يعطيها لغني، فلو أعطاها لإنسان يظنه غنياً ثم بان فقيراً فهل تجزي؟ للعلماء قولان: قال بعض العلماء: تجزيه؛ لأنها وصلت للمستحق، وقال بعضهم: لا تجزيه، وهو الصحيح. والسبب في هذا: أنه إذا أعطاها لغني فهو مستهتر خارجٌ عن قصد القربة والعبادة بالزكاة، فتخلّفت نية الزكاة المعتبرة، وحينئذٍ تكون هبة لمحض الفضل منه، ولا تكون زكاة شرعية، ويلزمه قضاؤها. قال المصنف رحمه الله: [إلا لغني ظنه فقيراً]. والأصل في ذلك حديث الصحيح في قصة الرجل الذي تصدّق على الزانية وتصدق على الغني، فقيل له: (أما الزانية فلعلها أن تستعف، وأما الغني فلعله أن يتّعظ ويدَّكر)، قالوا: إن هذا يدل على أنه إذا تصدَّق على غني يظنه فقيراً أنه يجزيه. وقال بعض العلماء: لا يجزيه؛ لأنه قصَّر، والحديث شرع من قبلنا وهو شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، والأصل في الشرع أنه يجب عليه أن يتحرى ويسأل، وعلى هذا فلا يجزيه، والحديث وارد في صدقة النافلة، ولا يعتبر دليلاً على جواز الاعتداد بها في صدقة الفريضة.

فضل صدقة التطوع

فضل صدقة التطوع قال المصنف رحمه الله: [وصدقة التطوُّع مستحبة]. التطوُّع: تفعُّلٌ من الطاعة، ووُصِف التطوع بكونه تطوعاً؛ لأن الإنسان يزداد تقرباً وتحبباً إلى الله عز وجل بفعله. وكأنه بفعله لهذه الطاعة غير الواجبة ازداد امتثالاً للشرع؛ لأن الشرع أوجب عليه الفرائض ولم يوجب عليه النوافل، فكونه يفعل النوافل فيه دلالة على قربه من الله عز وجل وحبِّه لله سبحانه وتعالى، ولذلك سميت صدقة؛ لأن صاحبها يصدق في حبه لله عز وجل، ويصدق في قصد التقرُّب إليه سبحانه وتعالى. وقوله: (مستحبة) أي: مندوب إليها شرعاً، يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، والأصل في أنها مستحبة نصوص الكتاب والسنة. أما نصوص الكتاب: فإن الله شرّف الصدقات النافلة وفضّلها وعظّم شأنها، حتى وصفها بوصف قلّ أن يصف به غيرها، فقال سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245]، فجاء بأمرين: أحدهما: أنه وصف الصدقة النافلة بأنها قرض، والله أغنى الأغنياء، ولا غنى فوق غنى الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك وصف كون المتصدق بأنه يُقرض الله عز وجل، ولذلك لما نزلت هذه الآية جاء أبو الدحداح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أيستقرضنا الله وهو غني عنا؟!). وهذا يدل على أن الصحابة كانوا يتأملون ألفاظ القرآن، وكلّما تأمّلت ألفاظه وتدبرتها وجدت فيها معاني عجيبة، تزيد من خير الإنسان وتزيد من طاعته لله عز وجل. فكم من مرة يقرأ الإنسان قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] ولا يتأمل، لكنك لو تأملت أن الله ملك الملوك وأغنى الأغنياء سبحانه وتعالى يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245]، {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ} [التغابن:17]، هذا كله يدل على فضل الإنفاق، فقال: (يا رسول الله! أيستقرضنا الله وهو غني عنا؟! فقال صلى الله عليه وسلم: نعم؛ ليرفع من درجاتكم، ويكفر من خطيئاتكم) أي: يستقرضكم وهو غنيٌ عنكم، فلا تنفعه طاعتكم ولا تضره معصيتكم، ولكنه يستقرضكم لأمرين: يرفع من درجاتكم بالحسنات، ويكفر من خطيئاتكم والسيئات، فقال رضي الله عنه: (يا رسول الله! إن لي بالمدينة حائطاً فيه ستمائة نخلة، أشهدك أنها لله ورسوله). كان الجيش بكامله والسرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم تمشي بجرابٍ من تمر، فستمائة نخلة ليست بالهينة وليست باليسيرة، وقد تكون عناء حياته، وقد تكون رأس ماله. فانطلق رضي الله عنه إلى حائطه، فوجد امرأته وهي تجمع التمر من تحت النخل هي وصبيانها، فقال رضي الله عنه يخاطبها: بيني، أي: اخرجي. بيني من الحائط بالوداد فقد مضى قرضاً إلى التنادي أقرضته الله على اعتماد إلا رجاء الضعف في المعاد والبر لا شك فخير زاد قدّمه المرء إلى التنادي لكن من المرأة الصالحة المؤمنة، ما قالت له: ضيّعتنا، ولا قالت: أفقرتنا، ولا قالت: ما هذا الذي تفعله، ولا قالت: أمجنون أنت، بل قالت له: بشّرك الله بخير وفرح مثلُك أدى ما لديه ومنح قد متّع الله عيالي وفرح بالعجوة السوداء والزهو البلح والعبد يسعى وله ما قد كدح طول الليالي وعليه ما اجترح ثم ضربت أيدي صبيانها وخرجت من الحائط بلا تمرة واحدة. كان الصحابة رضوان الله عليهم رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، يشترون مرضاة الله عز وجل، ولذلك فضّل الله الصدقة. فخرج إلى الحائط، وقطّع عراجينه، وجاء إلى المسجد وعلّق فيه تلك العراجين، فخرج صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، فلما خرج نزل عليه جبريل من السماء بالوحي، فقال كلماته المشهورة عليه الصلاة والسلام: (كم لـ أبي الدحداح من دار فياح وعذق رداح في الجنة) أي: أن الله تقبل صدقته؛ لأنها خرجت بصدقٍ مع الله عز وجل. فمن أفضل ما يتقرب الإنسان به إلى الله عز وجل الصدقات، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تطفئ غضب الرب، ونصّ العلماء رحمة الله عليهم على أنه إذا نزلت النكبة بالعبد شرع له أن يتصدّق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الكسوف: (فصلوا وادعوا وتصدقوا)؛ لأن الصدقة تطفئ غضب الله على العبد، والبلاء ينزل بسبب الغضب. بل جعل الله عز وجل الصدقة سبباً في دفع بلاء الدنيا والآخرة، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن عدي: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة)، فإن الله قد يحجب العبد عن النار بسبب نصف تمرة، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: أنه دخل على عائشة فقصت له قصة المسكينة مع بنتيها: (دخلت امرأة مسكينة على عائشة فاستطعمتها فأعطتها ثلاث تمرات، فأخذت تمرة، وأعطت بنتها تمرة، وأعطت الثانية تمرة، فلما أرادت أن تطعم التمرة التي عندها، وقد أخرجت نواها وأرادت أن تأكلها استطعمتها إحدى البنتين، فأعطتها التمرة ولم تمتنع منها، فلما أعطتها عجبت عائشة رضي الله عنها من كرمها وجودها وإيثارها ورحمتها ببنتها، فلما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته، فقال صلى الله عليه وسلم: أوتعجبين من أمرها، إن الله حرّمها على النار بتمرتها تلك). فالصدقة فيها فضلٌ عظيم وثواب كريم، ولذلك ندب الله عز وجل إليها ونص العلماء على استحبابها وتفضيلها، وأفضل ما تكون الصدقة إذا كانت للمحتاج المضطر إليها كالمديون والمعسر، والذي يشتد به الأمر في مخمصة ومجاعة. وكذلك إذا كان بائس الحال في نفسه كاليتيم والأرملة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة واليتيم كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر)، وهذا يدل على فضل الإنفاق والصدقة. وقد ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث الصحيحة التي تدل على أن الإنسان إذا تصدق أخلف الله عليه، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً) قال العلماء: هذه دعوة ملكٍ لا تُرد؛ لأن الله ما أنزله لكي يدعو هذه الدعوة إلا لتستجاب، قالوا: والخلف له يأتي على وجهين: إما خلف يعجله الله عز وجل له في الدنيا، وإما خلف يدّخره له في الآخرة، والخلف الذي في الدنيا يعجِّله لا ينقص مما عند الله في الآخرة. فإذا كان كامل الإنفاق لوجه الله عز وجل ربما ادخر الله له الخلف في الآخرة، فيجده أوفر ما يكون، كما في صحيح مسلم قوله: (إن الإنسان إذا تصدّق بالصدقة تلقاها الرحمن بيمينه، وكلتا يدي الرحمن يمين، فيربيها له وينميها له كما يربي أحدكم فلوه)، ولذلك قالوا: إذا نويت الصدقة فلا تتأخر، لا تقل: إلى الصبح، لا تقل: إن شاء الله غداً يكون خيراً؛ لأن كل لحظة ودقيقة تعتبر زائدة في ميزان حسناتك، وبمجرد أن تضعها في يد الفقير، فإنك في هذه الحالة تعتبر معاملاً لله عز وجل حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فإذا قمت بين يدي الله كان خلفك عند الله عز وجل، وعِوضك من الله سبحانه وتعالى، فهي مستحبة، وقد أجمع العلماء على استحبابها، وأنها من أفضل الطاعات وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى.

حكم تصدق الإنسان بماله كله

حكم تصدق الإنسان بماله كله ولكن Q هل يجوز للإنسان أن يتصدق بكل ماله، أم أن هذا الاستحباب مقصور على بعض المال دون بعض؟ قال بعض العلماء: لا يجوز أن يتصدّق بكل ماله؛ لأنه إذا تصدق بجميع المال ضيّع أهله وضيّع نفسه، واضطر إلى الدين، واضطر إلى ذل سؤال الناس، والحاجة إليهم، ولا ينبغي للمسلم أن يورد نفسه هذه الموارد. وقال بعض العلماء: يجوز أن يتصدّق بجميع ماله، ولا حرج عليه في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل من أبي بكر أن يتصدق بجميع ماله. والصحيح: أن الناس يختلفون في اليقين، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءت عنه نصوص قبل فيها من بعض الصحابة كل المال، وجاءت نصوص لم يقبل فيها وردّهم إلى الأقل، فقبل من أبي بكر كل ماله كما في الحديث الصحيح عن عمر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى الصدقة، قال عمر: وكان عندي في ذلك اليوم فضل مال، فقلت: كنت سابقاً أبا بكر فسأسبقه اليوم، فمضى إلى ماله وقسمه قسمين، فجاء بنصفه يحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا تركت لأهلك؟ قال: مثله -يعني: أن هذا نصف ما أملك- قال فلم يشعر إلا وأبو بكر قد جاء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله -يعني: ما تركت لهم من شيء-، فعتِب عمر على نفسه وأنه لن ينافس أبا بكر بعدها في خير؛ لأنه يعلم أنه سيسبقه، بمعنى: أنه لا يعتقد أنه سيصل إلى منزلة أبي بكر فضلاً عن أن يفوقه. فأوتي أبو بكر رضي الله عنه من اليقين ما لم يؤته أحد من هذه الأمة بعد نبيه عليه الصلاة والسلام، ولذلك فضِّل رضي الله عنه وأرضاه على الأمة كلها، بعد نبيها، فهو أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك ليقينه بالله عز وجل. فإذا كان عند الإنسان يقين، وصبر وإيمان وتوكل على الله عز وجل، أن الله لن يخيِّبه، وأن الله سبحانه وتعالى سيربط على قلبه، وأن هذا المال حقيرٌ في عينه، وأنه يريد ما عند الله، ورأى نكبة أو فاجعة تستحق أن يضحي بكل ماله فضحّى؛ فهو على خير، وهذا يجوز، بل هذا من أفضل الطاعات. ولذلك أُثر عن بعض الصحابة والتابعين منهم الحسن أنه خرج من ماله مرتين، أي: أنه تصدّق بجميع ماله صدقةً لله عز وجل، خاصة إذا كان عند الإنسان اليقين وقوة الإيمان بحيث لا يندم ولا يضجر. أما إذا كان ضعيف الإيمان، أو يُخشى منه أن يندم، أو يُخشى منه سوء العاقبة بأن ينتكس والعياذ بالله فلا، ولذلك لما أراد سعد أن يوصي بماله كله، قال عليه الصلاة والسلام: لا، قال: (يا رسول الله! إن لي مالاً وليس لي وارث إلا ابنة، أفأوصي بكل مالي؟ قال: لا، قال فبثلثيه؟ قال: لا، قال: فبنصفه؟ قال: لا، قال: فبثلثه؟ قال: نعم، الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس). فإذا كان الإنسان عنده ذرية ضعيفة ويخشى عليها المسألة والدين، فحينئذٍ يبقي لهم حقهم الذي فرضه الله عليه أن ينفقه عليهم، ثم بعد ذلك يتصدّق بما زاد عنه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ابدأ بنفسك وبمن تعول)، ولما أخبره الرجل أن عنده ديناراً، قال: (أنفقه على نفسك، قال: عندي غيره، قال: أنفقه على أهلك فلما انتهى من الحقوق قال: عندي غيره، قال: شأنك به) أي: أنفق به حيث شئت، وعلى هذا فلا يجوز أن يعرِّض نفسه لأمرٍ يضعف به يقينه إذا كان ضعيف اليقين. ومن هنا خرّج العلماء قبول النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الصدقات دون بعضها؛ لأن الناس يتفاوتون في كمال الإيمان، وكمال اليقين في الله سبحانه وتعالى. ولا شك أنه إذا كمُل يقين الإنسان وعظُم إيمانه بالله جل وعلا فوالله لن يخيب، ولو أطبقت عليه السماوات والأرض وما فيها بالضيق والفقر والشدة لجعل الله له من بينها فرجاً ومخرجاً، والأمر كله مردّه إلى مرتبة الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، بمعنى: أن يكون عندك قوة إيمان أن الله لن يضيِّعك، وأن الله لن يخيِّبك، وقد رأينا هذا في مشايخنا وعلمائنا، أنه ربما ضاقت على الإنسان منهم الضائقة، ويأتيه المحتاج وليس عنده إلا قوته أو قوت أولاده، فيؤثر على نفسه وعلى ولده، ومع ذلك لا يلبث أن يأتيه الفرج من حيث لا يحتسب. ولذلك لما بات أبو طلحة رضي الله عنه مع الضيف كما في الحديث الصحيح، قال لزوجته أم طلحة: (عللي الصبية حتى يناموا، وأطفئي السراج حتى يظن الضيف أننا نأكل، فأكل الضيف حتى شبع، وهو يظن أنهما يأكلان معه ولم يأكلا، فلمّا أصبحا أصبحا طاويين فقيرين، جائعين، ولكنهما قد غفر لهما ذنوبهما، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لما مضى أبو طلحة إليه، قال له: (عجب الله من صنيعكما البارحة)، عجب الله من فوق سبع سماوات لهذا الإيثار، ولهذا الإيمان أكرمتما ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعجب صفة من صفات الله جل جلاله. وهنيئاً لمن عجب الله له، ولذلك عجب لشاب ليست له صبوة الحرام لعظيم ما قدم من العفة عن الحرام، وعجب لهذين الزوجين لأنهما آثرا على أنفسهما، ونزل قوله سبحانه وتعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، فأثنى عليهما من فوق سبع سماوات، فدل على أن من يقدم ماله ويؤثر على أهله وولده من غير مضيعة أنه على خير وأنه على طاعة وبر، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

استحباب التصدق في رمضان

استحباب التصدق في رمضان قال المصنف رحمه الله: [وفي رمضان وأوقات الحاجات أفضل]. في رمضان لفضل الزمان، فأفضل الشهور طاعة شهر رمضان، وأفضل الأيام والليالي طاعة عشرٌ من ذي الحجة، وأفضل الليالي طاعة العشر الأواخر من رمضان، وهذا هو أعدل الأقوال في مسائل التفضيل الزمانية. فأفضل الشهور شهر رمضان، والله اختاره من بين الشهور، وأفضل الليالي ليالي العشر، وأفضلها ليلة القدر، وأفضل الأيام العشر الأُول من ذي الحجة، وعلى هذا تستقيم النصوص، ويبقى لكل ذي فضلٍ فضله. وأما داخل الأسبوع فأفضل أيامه يوم الجمعة، وحينئذٍ لا يكون هناك تعارض بين النصوص، فيكون التفضيل نسبياً، ففي الأيام نقول: عشرٌ من ذي الحجة أفضل الأيام، وفيها يتقرّب الإنسان بعموم الطاعات والقربات، وأفضل الليالي ليالي العشر، والفضيلة فيها بالإحياء، يعني بالقيام والصلاة، ففضلت عشرٌ من ذي الحجة على العشر الأواخر؛ لأن الطاعات فيها مطلقة، وأما بالنسبة للعشر الأواخر فاختُصّت بالقيام، ولذلك قال: (من قام ليلة القدر) فاختُصَّت بنوع من الفضائل، ولم يبق لها المزية المفضلة المطلقة كعشرٍ من ذي الحجة. وأما بالنسبة لرمضان فهو أفضل الشهور، وأما أيام الأسبوع فأفضلها يوم الجمعة، وأفضل أيام السنة على الإطلاق يوم عرفة، وعلى هذا يكون التفضيل نسبياً كما ذكره المحققون من العلماء. فأفضل ما يُتصدق فيه شهر رمضان، وقد نص العلماء على فضيلة التصدق فيه لما فيه من فضيلة الزمان، والدليل على تفضيل الصدقات في رمضان ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) يعني أنه لا يتوانى، ولا يتأخر في الصدقات والخير، وإذا أرسل الخير كان أكثر من الريح إذا أرسلت، وهذا يدل على سرعة مبادرته عليه الصلاة والسلام للخير، وعلى هذا قال رضي الله عنه: (وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن). وهذا يدل على أن مدارسة القرآن تزيد من الطاعة والبر والخير، ومن اشتكى ضعفاً في هدايته والتزامه فلينظر ما بينه وبين القرآن في ختمه وتعاهده، فإنه ما نقصت هداية الإنسان إلا وبينه وبين القرآن فجوة، حتى ولو كان يختم كل ثلاث ليال، فتجده قد تغيّر في خشوعه وتدبره للقرآن. فـ ابن عباس ينبه على هذا المعنى، يقول: (وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن)، فدل هذا على فضيلة تخصيص رمضان بالصدقات، والصدقات هنا هي النافلة. أما الفريضة وهي الزكاة ففيها تفصيل: إن كان الحول يتم قبل رمضان فيحرم التأخير إلى رمضان؛ لأن بعض الناس عن جهل منهم تكون الزكاة واجبة عليه في رجب فيؤخر إلى رمضان، وهذا لا يجوز، بل يأثم بكل ليلة وبكل ساعة؛ لأنه يجب عليه أن يبادر بدفع الزكاة إلى مستحقها، أما لو كانت صدقته واجبة عليه في ذي القعدة، فيعجل في رمضان خاصة لوجود المحتاجين والفقراء، فهذا أفضل، ويكون له فضل التعجيل، وفضل الزمان، أما أن يؤخر الصدقة المفروضة إلى رمضان، وقد وجبت عليه قبل رمضان فإنه لا يجوز.

حكم الصدقة بما يضر النفس ومن يعول

حكم الصدقة بما يضر النفس ومن يعول قال المصنف رحمه الله: [وتسن بالفاضل عن كفايته ومن يمونه، ويأثم بما ينقصها]. قوله رحمه الله: (تسن بالفاضل عن قوته) أي: بالشيء الزائد عن قوته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابدأ بنفسك وبمن تعول)، فيبدأ الإنسان بنفسه وبقوته وقوت عياله، ثم بالنسبة لما وراء ذلك شأنه به. وقوله: (ويأثم) أي: يأثم في حال تفضيل الفقير على أهله؛ لأن الله أوجب عليه نفقة أهله وولده، فلا يجوز أن يصرف ما هم بحاجة إليه إلى غيره، ولأنه قد وجب عليه أن ينفق على أهله وذوي قرابته الذين تلزمه نفقتهم، وأما بالنسبة للفقير، فلا يجب عليه أن يتصدق عليه أو ينفق عليه، فحينئذٍ لا يسعه أن يبدأ بالنافلة ويترك الفريضة. ولكن استثني من ذلك من كان عنده يقين بالله عز وجل في حدودٍ لا تصل إلى حد الضرر بأهله وولده، كأن يصلوا إلى درجة المخمصة أو الضرورة، فهذا يُعتبر ممنوعاً، أما لو كان في الحدود المعقولة مع أنه يمكن أهله الصبر، أو نزلت فاقة وحاجة شديدة وأراد أن يفضلهم فلا حرج. وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن ادخار اللحوم فوق ثلاث ليال، ثم قال: (كنت نهيتكم عن الادخار فادخروا)، وقال: (إنما نهيتكم من أجل الدافة)، فجعل الدافة؛ وهم أقوام كانوا يأتون ضعافاً من خارج المدينة ويرتفقون في المدينة، فنهى الصحابة عن أن يدخروا فوق ثلاث ليال، وذلك حتى يواسوا إخوانهم الضعفاء، مع أن ادخار الثلاث فيه مزية بإنفاقه على الأولاد وعلى الأهل والتوسعة عليهم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

أحكام الهلال وأهل العذر في رمضان [1]

شرح زاد المستقنع - أحكام الهلال وأهل العذر في رمضان [1] صيام رمضان ركن من أركان الإسلام، وقد فرض لحكم جليلة، من أعظمها تقوى الله تعالى، وقد أوجب الله تعالى الصيام عند رؤية هلال رمضان، ومن المسائل المتعلقة بالرؤية: أنها تثبت بشهادة رجل مسلم عدل، ومنها: هل رؤية كل بلد خاصة به أم أنه يلزم الجميع أن يصوموا الرؤية أي بلد للهلال؟ اختلف فيها العلماء، كما هو مفصل في هذه المادة.

تعريف الصيام لغة وشرعا

تعريف الصيام لغةً وشرعاً بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الصيام]: تقدم تعريف الكتاب وبيان اصطلاح العلماء رحمة الله عليهم فيه، ومعنى قوله: [كتاب الصيام] أنه سيذكر جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بعبادة الصيام؛ فإنه بعد أن فرغ من بيان أحكام الصلاة وأحكام الزكاة شرع في بيان أحكام الصيام. وهذا الترتيب مستند إلى الشرع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الزكاة قرينة الصلاة ثم أتبعها الصيام، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيح.

تعريف الصيام لغة

تعريف الصيام لغة الصيام في اللغة: أصله الإمساك، تقول: صام عن الكلام إذا أمسك عنه، وصام عن السير إذا وقف، وصام عن الأكل والشرب إذا أمسك عنهما. فأصل الصيام في لغة العرب الإمساك، ومنه قوله تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26] أي: إمساكاً عن الكلام، ويقولون: صامت الخيل. إذا أمسكت عن الصهيل، ومنه قول الشاعر: خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللُجم فقوله: (خيل صيام): أي: ممسكة عن الصهيل.

تعريف الصيام شرعا

تعريف الصيام شرعاً أما في الشريعة: فالمراد بالصيام: إمساك مخصوص من شخص مخصوص بنية مخصوصة. فقولهم رحمة الله عليهم: الصيام إمساك مخصوص: وذلك لأن الإمساك يطلق ويقيد، فتقول: أمسك. بالمعنى المطلق، فيشمل كل إمساك، سواءً كان عن أكل أو شرب أو كلام أو سير، فلما قلت: إمساك مخصوص، فهمنا أنه يتقيد بشيء معين، وهو الإمساك عن شهوة البطن والفرج، فالصائم يمتنع عن الأكل وعن الشرب وما في حكمهما، وكذلك يمتنع عن شهوة الفرج، والأصل في ذلك قوله تعالى في الحديث القدسي: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي). فأصل الصيام الإمساك عن هذه الأشياء، ولذلك قالوا: إمساك مخصوص. ولم يقولوا: إمساك عن المفطرات لأنه قد يكون فيه إجمال، ومن هنا قالوا: إمساك مخصوص حتى يفهم من دلالة الخصوصية ما يقصده الشرع بهذا الإمساك المعين. من شخص مخصوص: وهو المكلف، والصبي يروض على الصيام كما في حديث أنس رضي الله عنه حينما كانوا يلهونهم باللعب إلى منتصف النهار. ولا يجب الصوم على الصغير؛ لأنه غير مكلف، وإنما يجب على المكلف، وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك. وقولهم: بنية مخصوصة، النية ترد بمعنيين: المعنى الأول: نية التعبد والتقرب لله عز وجل بإخلاص العمل، وهذا هو الذي يسميه العلماء: الإخلاص، والمقصود بذلك خلوص النية، بمعنى: ألا يقصد غير الله عز وجل. والعلماء رحمة الله عليهم لما قالوا: بنية مخصوصة. لم يريدوا قضية الإخلاص؛ لأن التعبد والتقرب معلوم بداهة، فإنه لما قيل: تعريف الصيام في الشرع فهمنا شرعاً أن المراد بذلك التعبد، ولذلك لا يقصدون هذا المعنى الخاص. وإنما يقصدون بقولهم: بنية مخصوصة. أن تبين هل تنوي الفريضة، أو تنوي النافلة، وإذا كانت نيتك بهذا الصيام الفريضة، فما هي هذه الفريضة؟ أهي صيام رمضان أو كفارة قتل أو كفارة ظهار أو كفارة جماع أو صيام نذر واجب. ثم إذا كانت النية نافلة، فما هي هذه النافلة؟ أهي عاشوراء أو عرفة أو الإثنين والخميس وهكذا. فمرادهم بقولهم: بنية مخصوصة. أي: تعيين المراد من هذا الصوم في الشرع؛ لأنك لما قلت: تعريف الصيام شرعاً، فالمراد بذلك: في حدود الشريعة؛ فإن الشريعة تقصد من هذا الصوم إما شيئاً مطلقاً أو تقصد به شيئاً مقيداً، فالمطلق كالتقرب إلى الله عز وجل بصيام النافلة المطلقة كصيام يوم وإفطار يوم، والنافلة المقيدة كعاشوراء والإثنين والخميس والثلاثة الأيام البيض من كل شهر. والفريضة إما أن تكون فريضة محددة كصيام رمضان، وإما فريضة يلزم الإنسان نفسه بها كالنذر، وإما أن تكون داخلة عليه بسبب الإخلال كصيام الكفارات والنذور ونحوها. يقول العلماء: الصيام: إمساك مخصوص. فلما قالوا: إمساك مخصوص على هذا الوجه المخصوص الذي هو النية المخصوصة بالفريضة والنافلة، فخرج الإمساك عن الطعام لمعنى الصحة، كأن يصوم الإنسان ويمتنع عن الأكل والشرب لتقوية بدنه، أو تخفيف وزنه، أو نحو ذلك من النوايا الدنيوية، فإن هذا ليس بصيام شرعي، فمن قصد من صيامه أن تقوى نفسه أو يستجم بدنه فإنه غير متقرب لله عز وجل. لكن لو نوى أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، ثم كانت نية الدنيا وهي صلاح بدنه وذهاب الأمراض عن جسده تبعاً فإن هذا لا يضر؛ لأن نية الدنيا إذا وقعت تبعاً لم تضر، كما لو قصد الإنسان عبادة كطلب العلم، وقصد منها أن يطلب العلم ثم بعد طلبه للعلم قصد أن تكون هناك حوافز مادية أو تكون هناك رواتب، فهذه لا تؤثر إذا كانت تبعاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7] فقال العلماء: إذا دخلت النية تبعاً فإنها لا تؤثر. فالمقصود: أن حقيقة الصيام في الشرع هي مخصوصة بهذا الوجه.

الأدلة على وجوب صيام رمضان

الأدلة على وجوب صيام رمضان فرض الله عز وجل الصيام بكتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة على أن صيام رمضان فريضة من فرائض الله عز وجل. أما دليل وجوبه من كتاب الله فقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] و (كُتِبَ) بمعنى: فرض، وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] أي: أوجبناه وفرضناه. وكذلك ثبتت السنة بفرضيته كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)، وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان) فنص عليه الصلاة والسلام على اعتبار صيام رمضان ركناً من أركان الإسلام. وفي مسند أحمد: (أن رجلاً ثائر الرأس دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يسمع لصوته دوي، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان) فدلت هذه النصوص على أن صيام رمضان فريضة. وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن صيام رمضان ركن من أركان الإسلام، وأنه من الفرائض التي أوجب الله عز وجل على عباده.

مراحل فرض الصيام

مراحل فرض الصيام في أول الأمر فرض على الناس صيام يوم عاشوراء، ثم نسخ صيام يوم عاشوراء بصيام رمضان، وقال بعض العلماء: لا، بل فرض عليهم صيام ثلاثة أيام من كل شهر وهي الأيام البيض، ثم نسخ ذلك بصيام رمضان. والصحيح: القول الأول، وهو: أن الناس كانوا مطالبين بصيام يوم عاشوراء فريضة، كما في حديث معاوية في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رقى المنبر وقال: (إن الله فرض عليكم صيام يومكم هذا في ساعتي هذه) فأوجب الله على الناس صيام يوم عاشوراء، ثم نسخ بصيام شهر رمضان. وهذا النوع من النسخ يعتبر أحد أنواع النسخ، وهو نسخ الأخف بالأثقل؛ لأن النسخ ينقسم إلى قسمين: الأول: نسخ إلى بدل. الثاني: ونسخ إلى غير بدل. والنسخ إلى بدل إما أن يكون: إلى بدل مساوٍ، أو إلى بدل أثقل، أو بدل أخف. فمثال البدل المساوي: كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى بيت الكعبة، فإن التوجه مساوٍ، وإن كانت فضيلة الكعبة أعظم من فضيلة بيت المقدس، فهذا يسمونه: نسخ إلى مثل. ونسخ الأخف بالأثقل منع منه بعض الأصوليين، وقالوا: إن الشريعة شريعة رحمة ولا ينسخ الأخف بالأثقل، والصحيح: أنه ينسخ الأخف بالأثقل بدليل فرضية شهر رمضان، فقد كان المفروض يوماً واحداً فنسخ بثلاثين يوماً، فأوجب الله على الناس صيام شهر كامل، وهذا دليل على جواز نسخ الأخف بالأثقل. وقد ينسخ الأثقل بالأخف، وهذا كثير، كما في مصابرة الواحد للعشرة، فنسخت بمصابرته للاثنين. وهذا النسخ -نسخ صيام عاشوراء- يعتبره العلماء من نسخ الأخف إلى الأثقل، فقد نسخه الله عز وجل بفرض الصيام ثلاثون يوماً، وقد يكون الشهر تسعاً وعشرين إذا كان ناقصاً، وسواءً كان كاملاً أو ناقصاً فإنه أثقل من صيام يوم واحد. وهذه الفرضية بصيام شهر رمضان وقعت في السنة الثانية من الهجرة، في اليوم الثاني، قيل: لليلتين خلتا من شهر شعبان من السنة الثانية، ففرض الله على المسلمين صيام شهر رمضان، وأوجب عليهم ذلك، وصام النبي صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات كاملة، وهذه السنة -السنة الثانية- هي السنة التي وقعت فيها غزوة بدر الكبرى.

من حكم الصيام

من حكم الصيام قال العلماء: فرض الله عز وجل صيام رمضان لحكم عظيمة وغايات جليلة كريمة؛ أعظمها وأجلها على الإطلاق: ما جعل الله في الصيام من معاني الإخلاص لوجهه الكريم؛ فإن الإنسان إذا تعود على الشيء وأصبح ديدناً له ارتاضت نفسه على ذلك الشيء خيراً كان أو شراً، فإذا عود على الخير كان على خير، وإن عود على شر -والعياذ بالله- كان على شر. فالصيام من أعظم حكمه وأجلها وأشرفها: أنه يعود الإنسان على الإخلاص لله عز وجل. والسبب في ذلك: أنه أخفى العبادات؛ فإن الإنسان يستطيع أن يتظاهر بالصيام أمام الناس ثم يفطر في بيته بعيداً عن نظر الناس، فإذا صام فكأنه يُعّود بهذه العبادة على إرادة وجه الله الكريم؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن الله تعالى أنه قال: (كل عمل ابن آدم له؛ الحسنة بعشرة أمثالها إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به) قال العلماء قوله: (فإنه لي) أي: أنه يقع خالصاً لوجه الله عز وجل. وسر قوة الإنسان إذا تغلب على نفسه، فإذا أردت أن ترى الإنسان القوي الذي يستطيع أن ينال الطاعة بيسر وسهولة بعد توفيق الله عز وجل؛ فانظر إلى من قهر هواه وأصبحت نفسه تحت أمره ولم يصبح تحت أمر نفسه، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40] فإذا أصبحت النفس تحت أمرك وتحت نهيك فقد ملكت كثيراً من الخير، وأصبحت نفسك مستجيبة لطاعة الله؛ لأنك تأمرها وتنهاها فتأتمر وتنتهي، لكن المصيبة إذا كان الأمر على العكس. فكأن الإنسان حينما يصوم تصبح نفسه تحته؛ لأن النفس تريد شهوة الأكل والشرب، والفرج، ومع ذلك يكبحها ويمنعها، فيقوى سلطان الإنسان على نفسه، وهذا يقع في كثير من العبادات، فالإنسان يشتهي -مثلاً- النوم، فتجده في لذيذ نومه وراحته واستجمامه يأتيه أمر الله أن يقوم إلى صلاة الفجر، فيقوم ويقهر نفسه، فإذا قهر نفسه استجابت نفسه لما بعد ذلك من الأوامر في سائر يومه. كذلك تأتيه لذة الأكل والشرب، فتأتي فريضة الله عز وجل بالامتناع عن طعامه وشرابه فيصوم، ثم تأتيه شهوة المال فيأتيها أمر الله بإخراج الزكاة فيخرجها، ثم شهوة الأهل والأولاد والأوطان فيأتيها أمر الله بالخروج عنهم والتغرب عنهم في الحج إلى بيت الله الحرام فيحج. فإذا انتزع الإنسان نفسه من الهوى وأصبحت نفسه تحت أمره ونهيه، استطاع أن يأمرها فتأتمر، وينهاها فتنزجر. ولذلك الناس على ثلاثة أقسام: القسم الأول: منهم من أصبح هواه تحت أمره، وهم صنف السعداء، كما أشار الله إلى هذا صنف السعداء في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41]. القسم الثاني: هواه غالب عليه، وقد أشار الله عز وجل إلى هذا القسم بقوله: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- لا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك؛ ولذلك تجد بعض أهل الشهوات عندما تقول له: يا أخي! هذا حرام هذا لا يجوز. يقول: أنا أعلم أنه حرام وأنه لا يجوز ولكن لا أستطيع أن أتركه. ومعنى أنه لا يستطيع أن يتركه: أنه قد بلغ مرتبة يأمر نفسه فيها فلا تستجيب له، فأصبح هواه هو الذي يأمره، وشهوته هي التي تحكمه، نسأل الله السلامة والعافية. القسم الثالث: هم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فهؤلاء إلى أمر الله عز وجل، فإن عذبهم فبعدله، وإن عفا عنهم فبمحض فضله، فهؤلاء هم الذين تارة يغلبون الهوى وتارة يغلبهم الهوى، وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، إن غلبوا الهوى كانوا على الصلاح، وإن غلبهم الهوى كانوا على الطلاح، ولذلك لا يأمن الواحد منهم أن تأتيه منيته وهو متبعٌ لهواه، أو تأتيه منيته وهو على طاعة ربه، ولذلك مثل هؤلاء على خطر إن لم يتداركهم الله عز وجل برحمته. فالمقصود: أن الصيام يربي في النفس القدرة على قهر الهوى، حتى تكون النفس مستجيبة، قال العلماء: من امتنع عن الطعام والشراب والجماع الحلال -فإن الله أحل له أن يطعم ويشرب ويجامع زوجته- كان أقدر على أن يمنع نفسه بتوفيق الله عن الحرام. فإذا مكث ثلاثين يوماً وهو لا يقترب من طعامه ولا شرابه ولا شهوة فرجه؛ فإنه قادر -بإذن الله عز وجل- إذا دعته نفسه للحرام أن يمتنع عن أكله أو شربه أو فعله. وفي الصيام خير كثير، فإنه يذكر الأغنياء بالفقراء والمحتاجين، فإن الإنسان إذا جاع وعطش مع قدرته أو علمه أنه في آخر النهار سيجد الطعام وسيجد الشراب، سيتذكر الفقير الذي لا يجد طعاماً ولا شراباً، ولذلك قالوا: إن هذا الصيام فيه مصلحة عظيمة للإنسان من جهة تذكره للضعفاء، وخاصة إذا كان من الأغنياء والأثرياء. فإن الغني ربما ينسى إخوانه من الضعفاء والفقراء بسبب ما فيه من الغنى، كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] فالإنسان إذا استغنى أصابه الطغيان، ولكن إذا جاع كما يجوع الفقير وضمأ كما يضمأ الفقير دعاه ذلك إلى أن يتذكر هؤلاء الضعفاء فيعطف عليهم. إن الصيام يذكر بالله جل جلاله ويذكر بالآخرة، ولذلك كان بعض العلماء رحمة الله عليهم يبكي إذا انتصف النهار؛ لأنه يتذكر الموقف بين يدي الله عز وجل واشتداد الحر وعظم ضمأ الناس في عرصات يوم القيامة. فلأجل هذه الحكم العظيمة والغايات الجليلة الكريمة شرع الله الصيام وأخبر سبحانه وتعالى أنه سبيل لأعظم وأحب الأشياء إليه وهو تقواه، فقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] أي: جعلناه سبباً للتقوى، وما خرج الإنسان بزاد من الدنيا أحب إلى الله من تقواه، كما قال سبحانه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197]. فإذا كان الصوم يزيد من التقوى فمعناه: أنه يزيد من أمرين وهما: الأول: تحصيل فرائض الله. الثاني: الانكفاف والامتناع عن محارم الله سبحانه وتعالى.

من أحكام الصيام المنسوخة

من أحكام الصيام المنسوخة كان الإنسان يصوم -في بداية فرضية الصيام- من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فإذا غابت الشمس أفطر، فإذا نام ولو بعد مغيب الشمس بلحظة واحدة حرم عليه الأكل والشرب إلى اليوم الثاني، فكانت هذه هي فرضية الصيام في أول الأمر، ثم إن الله خفف ذلك، فقال: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187] إلى قوله سبحانه وتعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187]. والسبب في ذلك: قصة الصحابي الذي أغمي عليه حينما جاء من عمله وكان في فلاحته وزراعته، فلما جاء آخر النهار سأل امرأته الطعام، فذهبت لتحضر الطعام له فأصابه غشي من التعب والعناء فنام، فجاءت فقالت له: ويلك! أنمت؟ فلما أصبح في اليوم الثاني أصبح مجهداً منهكاً فغشي عليه في منتصف النهار، فخفف الله عز وجل عن عباده، وهذا من نسخ الأثقل بالأخف. فخفف الله عز وجل الفرضية وجعلها من طلوع الفجر الصادق إلى مغيب الشمس، وهذا هو الذي استقر عليه حكم الله عز وجل لهذه الأمة إلى قيام الساعة. كان الصيام في الأمم الماضية بالإمساك عن الكلام، كما قالت مريم عليها السلام: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26] واختلف العلماء في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183]، فقال بعض العلماء: الشبه في قوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] من حيث الفرضية، أي: ألزمناكم بالصيام كما ألزمنا من قبلكم، وإن كان هناك فرق بينكم وبينهم في الصفة، وقال بعض العلماء: بل إن الفرضية في أولها كانت كفرضية أهل الكتاب، ثم نسخت بعد ذلك.

وجوب صوم رمضان برؤية هلاله

وجوب صوم رمضان برؤية هلاله قوله: [يجب صوم رمضان برؤية هلاله]: هذا الوجوب الذي نبه عليه المصنف على سبيل الفرضية هو الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وإذا ترك شخص صيام رمضان عامداً متعمداً فأفطر -ولو يوماً واحداً- لم يقضه ولو صام الدهر. بمعنى: أن الله لا يعطيه ثواب ذلك اليوم ولو صام الدهر كاملاً، لكن يجب عليه قضاء ذلك اليوم؛ لأن الله عز وجل فرض علينا صيام الشهر كاملاً، ولا يسقط هذا الشهر إلا بدليل، وأما حديث: (من أفطر يوماً من رمضان لم يقضه صيام الدهر) فقد خرج مخرج الوعيد، وهو المخرج الذي يسمى بالمبالغة، وله نظائر، كقوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة) فليس المراد به التحديد والقصر. بمعنى أن الحج فقط في عرفة وحدها، إنما هو على سبيل المبالغة وقوله عليه الصلاة والسلام: (لم يقضه صيام الدهر) معناه: أن من أفطر عامداً متعمداً لا ينال فضل صيام ذلك اليوم مهما صام، بخلاف من أفطر لعذر؛ فإنه إذا صام يوماً بدلاً عن هذا اليوم الذي أفطر فيه فكأنه صام رمضان نفسه؛ وهذا لوجود العذر، فإذا كان بدون عذر فإن الله لا يبلغه مرتبة من كان معذوراً. أما إسقاط الفرض عنه فإنه قول ضعيف ومخالف للأصل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن لنا أن الحقوق واجبة، وأن حقوق الله دين على المكلف، كما في الحديث الصحيح أنه قال: (فدين الله أحق أن يقضى) فهذا نص صحيح صريح على أن العبد إذا أخل بواجب فإن عليه ديناً يجب أن يقضيه، وأن يقوم به على وجهه، ولما كان الحديث محتملاً بقينا على الأصل من وجوب مطالبته بصيام رمضان. وقوله: (رمضان) اختلف العلماء فيه، فقال بعض العلماء: هو مأخوذ من الرمضاء، والمراد بذلك شدة الحر، والسبب في هذا: أن العرب كانت تسمي هذا الشهر في الجاهلية نائقاً يقولون: شهر نائق، وهو الشهر التاسع من الأشهر القمرية، ثم لما فرض الله صيام رمضان وافقت السنة الثانية سنة حر وشدة، فسموه رمضان من هذا. القول الثاني: أنه سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب، وفي ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب) بمعنى: يحرقها ويذهبها، ولكنه حديث ضعيف، بل فيه راوٍ كذاب، ولذلك لا يعول عليه. القول الثالث: إن اسم رمضان اسم من أسماء الله عز وجل، وفيه حديث ضعيف. وأصح هذه الأقوال القول الأول: أنه سمي رمضان من الرمضاء وهي شدة الحر؛ حيث إنه حينما فرضه الله على عباده وافق زماناً شديد الحر. وفي قوله رحمه الله: [يجب صوم رمضان]: للعلماء قولان: قال بعض العلماء: لا يجوز أن تقول: دخل رمضان وخرج رمضان وانتصف رمضان، واستدلوا بالحديث الذي تقدمت الإشارة إليه: (لا تقولوا: جاء رمضان، فإنه اسم من أسماء الله) وهذا حديث ضعيف. والصحيح أنه يجوز أن يقول: جاء رمضان ومضى رمضان وانتصف رمضان؛ لأن السُّنة دلت على جواز ذلك، وقد ترجم له الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، والدليل على جواز ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في الصحيح: (إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة). وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وفي الصحيح قوله أيضاً: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) فلأجل هذا دلت النصوص على جواز قولك: جاء رمضان، وخرج رمضان، وانتصف رمضان، ولا حرج عليك في ذلك، ولكن بعض العلماء يقول: الأفضل أن يقول: شهر رمضان. فيضيف لفظ الشهر؛ لأن الله سبحانه وتعالى نص على ذلك فقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] فقالوا: الأفضل أن يضيف كلمة الشهر، وهذا على سبيل الكمال والاستحباب لا على سبيل الحتم والإيجاب.

أحكام رؤية هلال رمضان

أحكام رؤية هلال رمضان قوله: [يجب صوم رمضان برؤية هلاله]. (الباء) سببية، أي: بسبب رؤية هلاله. والشهور تنقسم إلى شهور شمسية، وشهور قمرية، الشهور القمرية اثنا عشر شهراً، وهي السنة القمرية، وهذه الشهور هي التي رتب الشرع عليها الأحكام، ولم يرتبها على الشهور الشمسية، فالشريعة ترتب أحكامها على الشهور القمرية. فمثلاً: في عدة المرأة الآيسة من الحيض؛ إذا كانت ثلاثة أشهر فإنها تعتد بالشهور القمرية، ولا تعتد بالإجماع بالشهور الشمسية، وهكذا بالنسبة للمرأة المحتدة في الوفاة أربعة أشهر وعشراً؛ فإنها تحد بالشهور القمرية ولا تحد بالشهور الشمسية، وهكذا صيام شهرين متتابعين في كفارة القتل وكفارة الظهار وكفارة الجماع في نهار رمضان، تكون بالشهور القمرية، ولا تكون بالشهور الشمسية. والشهور القمرية تنقسم إلى شهور كاملة، وهي التي استتمت العدد ثلاثين يوماً. وشهور ناقصة وهي التي تكون رئي الهلال دالة على نقصانها، فتكون تسعة وعشرين يوماً، فالفرق بينهما يوم واحد، وهو الذي يسمى بيوم الشك. والسبب في ذلك: أن القمر له منازل ودرجات، فإذا غابت الشمس وسقطت قبل القمر، فمعنى ذلك: أن الهلال في هذه الليلة قد دخل الشهر التالي، وبناءً على ذلك تكون منزلته من منزلة الشهر التالي، أما لو سقط قبل الشمس، فمعنى ذلك: أنه قد بقيت له درجة، وحينئذٍ يكون الشهر كاملاً، وبناءً على ذلك: لا يمكن أن يحكم بدخول الشهر إلا بأحد أمرين في الشهور القمرية: الأمر الأول: كمال العدد للشهر السابق، فتتم له ثلاثون يوماً. الأمر الثاني: أن يرى الهلال ليلة الثلاثين، فتكون رؤيته دليلاً على أن الشهر الماضي ناقص، وأن عدة أيامه تسع وعشرون يوماً. وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39] فهو على منازل ودرجات، فإذا سقطت الشمس قبله وبقي فمعنى ذلك: أن الشهر كامل وأن هذه الليلة للشهر التالي. لكن لو سقط قبل الشمس فمعنى ذلك: أنه قد بقي له درجة فحينئذٍ لابد من الليلة الثلاثين التي تكون فيها درجة القمر كاملة. فإذا وجدت هاتان العلامتان حُكم بما يترتب عليهما، من القول بكمال الشهر، وحينئذٍ يحكم بوجوب صيام رمضان، فإذا رُئي الهلال ليلة الثلاثين فحينئذٍ يثبت عندنا أن شهر رمضان قد دخل، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) فاللام: في قوله صلى الله عليه وسلم (لرؤيته) تعليلية أي: بسبب رؤيته، فجعل الرؤية سبباً في وجوب الصوم، فمن رأى الهلال ليلة الثلاثين فإنه حينئذٍ يثبت دخول رمضان برؤيته على تفصيل عند العلماء؛ هل يشترط العدل أو لا يشترط.

إذا غم الهلال

إذا غم الهلال إذا لم ير الهلال فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إما أن تكون السماء ليلة الثلاثين صحواً، والسماء الصحو: هي الواضحة التي لا غيم فيها ولا قتر، والقتر: هو الغبار ونحو ذلك كالدخان الذي يجب الرؤية، فالسماء إذا كانت صحواً والرؤية ممكنة، وترائينا الهلال ولم نره؛ فحينئذٍ -بالإجماع- تعتبر الليلة من شعبان، ولا تعتبر من شهر رمضان ولا يحكم بدخول شهر رمضان. الحالة الثانية: وهي أن لا تكون السماء صحواً، أي: فيها غيم أو يكون فيها قتر من غبار، كما يقع في بعض الأحيان حين يأتي العجاج والريح بالغبار والأتربة فلا يتمكن الناس من رؤية السماء، أو يكون هناك حريق ودخان، فلا يتمكن الناس من رؤية السماء، فإذا حصل الحائل سواءً من غيم أو قتر أو دخان فللعلماء قولان: قال بعض العلماء: إذا كانت السماء مغيمة، أو كان بها قتر، فإننا نحكم بتمام شهر شعبان، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، ومنهم الحنفية والمالكية والشافعية والظاهرية وطائفة من أهل الحديث، أي: أنه إذا كانت ليلة الثلاثين ولم نر الهلال سواءً كانت السماء صحواً أو كانت مغيمة، فالحكم عندهم سواء، أي: أنهم يتمون عدد شعبان ثلاثين يوماً، واستدلوا بما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (فإن غم عليكم فأكملوا العدة) وفي رواية: (فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً). ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن غم عليكم) فنص على أنه إذا لم يُر الهلال -كأن يكون هناك غيم- فإننا نتم العدة ثلاثين يوماً. والدليل الثاني: قالوا: الأصل في الشهر أنه ثلاثون يوماً حتى يدل الدليل على أنه ناقص، فالنقص خلاف الأصل، والقاعدة في الشرع: أن الأصل بقاء ما كان على ما كان. فالأصل: أننا في شعبان، ونشك هل دخل رمضان أو لا، فلما كانت العدة ناقصة نقول: يجب علينا إكمال العدة لأنه الأصل، وعلى هذا فيجب إتمام شعبان ثلاثين يوماً. القول الثاني: قالوا: إذا كان هناك غيم أو قتر فإنه يصام ذلك اليوم ويحسب من رمضان، وهذا هو قول الإمام أحمد رحمة الله عليه واختاره طائفة من أصحابه، وهو أنه إذا كانت السماء مغيمة أو بها قتر فإنه يجب صوم ذلك اليوم لاحتمال كونه من رمضان، واستدلوا برواية: (فإن غم عليكم فاقدروا له) قالوا: قوله عليه الصلاة والسلام: (اقدروا) من التضييق، تقول العرب: قدّر الشيء إذا ضيقه، ومنه قوله تعالى: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11] حينما علم داود صنعة اللبوس التي تكون لمنع ضربات السيوف ونحوها، قال: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11] يعني: ضيق حلق السرد حتى لا يصاب الإنسان إذا طعن أو جرح، فالتقدير هو: التضييق، ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7] أي: ضيق عليه، ولذلك قال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:26] يبسط: بمعنى: يغني، ويقدر: بمعنى: يضيق، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (إن غم عليكم فاقدروا له) فمعنى ذلك: أننا نقدر شهر شعبان، أي: نضيق شهر شعبان ولا نعده كاملاً، ونجعله تسعاً وعشرين، ثم ندخل في شهر رمضان. واستدلوا أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين: (إنا أمة أمية) وهذا الحديث يحتاج إلى تأمل؛ فإن وصف الأمية لأمة النبي صلى الله عليه وسلم وصف شرف، وليس بوصف نقص، على خلاف ما يظن بعض الناس اليوم أن الأمية وصف نقص؛ فإن هناك فرقاً بين الجهل وبين الأمية؛ فالشخص قد يكون أمياً وهو عالم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً وهو أعلم من على وجه الأرض، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ} [الجمعة:2] فهو وصف شرف لا نقص، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إنا أمة أمية) يثبت هذا. ولذلك الأنسب أن يقال: محو الجهل. لا أن يقال محو الأمية؛ حتى لا يظن الناس أنها صفة نقص. قال عليه الصلاة والسلام: (إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا) قال الراوي: أشار بيديه ثلاثاً، يعني: ثلاثين يوماً، (وهكذا) أي: أشار ثلاث مرات، قال: ثم قبض إبهامه في الثالثة. أي: أن الشهر يكون ثلاثين ويكون تسعاً وعشرين. وقال أصحاب القول الثاني: إنه لما قال: (الشهر هكذا وهكذا) فمعناه: أن اليقين أن الشهر تسع وعشرون، والشك في الثلاثين، فالأصل في الشهر تسع وعشرون عندهم، وحينئذٍ يكون كمال الشهر بتسع وعشرين، ويكون اليوم الثلاثون مشكوكاً فيه، قالوا: فحينئذٍ نوجب على الناس صيام هذا اليوم؛ لاحتمال كونه من رمضان. والذي يترجح والعلم عند الله هو قول الجمهور: وهو أنه إذا حال بين الناس وبين رؤية الهلال غيم أو قتر أنه لا يجب عليهم صيام يوم الثلاثين، والدليل على ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين) وهذا يدل على أننا لا نصوم يوم الشك، وهذا نهي تحريم، وإذا ثبت أن الأصل أن يكون الشهر ثلاثين يوماً كما في الحديث الصحيح في قوله عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) فهذا نص صريح، فالقول الذي يقول: إن العدة تكمل ثلاثين يوماً أقوى؛ لأنه اعتمد الأصل، وأما رواية: (فاقدروا له) فإن القدر يطلق بمعنيين: الأول: إما أن يراد به التضييق. الثاني: وإما أن يراد به الحساب. تقول: قدِّر، يعني: احسب لي هذا الشيء، وبيّن لي حقيقته وأعطني قدره وحقه من العدد والحساب، فلما كان قوله عليه الصلاة والسلام: (اقدروا له) وكانت المسألة مسألة حسابية حمل قوله: (اقدروا له) على الحساب؛ لأن القاعدة تقول: (أن مبنى الحديث قرينة على معناه) فلما كان الحديث منبنياً على الحساب، وعندنا معنيان للقدر: معنى التضييق، ومعنى التقدير، وهو الحساب، حملناه على معنى الحساب؛ لأن القاعدة في الأصول أنه إذا تردد الحديث بين معنيين: معنى يخالف نصوصاً أخرى، ومعنىً يوافق، وجب صرفه إلى المعنى الموافق. فلما جاءنا حديث: (أكلموا العدة ثلاثين) فسّر المراد بقوله: (اقدروا له) أي: اجعلوا لشعبان قدره، فيكون قوله: (اقدروا له) أي: أعطوا شعبان قدره، بمعنى: أكملوا عدة شعبان، فاتفقت رواية التقديم مع رواية الإكمال، وبناءً على ذلك: فإنه إذا حال بيننا وبين رؤية الهلال في ليلة الثلاثين غيم أو قتر، فإننا نكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً.

رؤية الهلال فرض كفاية

رؤية الهلال فرض كفاية رؤية الهلال من الأمور المهمة التي ينبغي أن يحافظ الناس عليها؛ وذلك لأن الأحكام الشرعية تتوقف على هذه الرؤية، ومن هنا قال العلماء: إن رؤية هلال الشهور -كرمضان وذي الحجة ونحوها- تعتبر من فروض الكفاية، فلو قصر أهل بلد فيه أتموا جميعاً. فتساهل الناس في رؤية الهلال يعتبر من المنكرات، وينبغي على طلاب العلم أن يحيوا هذه السنة؛ فقد كان الناس -إلى عهد قريب- إذا كان يوم التاسع والعشرين وليلة الثلاثين خرجوا إلى الصحراء؛ لإحياء هذه السنة. وحبذا لو يسألون أهل الخبرة ويعرفون منازل القمر قبل مغيبه في الأيام التي تسبق أيام الرؤية، حتى يكون عندهم إلمام ومعرفة، ثم بعد ذلك يخرجون لرؤية الهلال، ويعرفون درجاته ومنازله حتى يمكنهم أن يثبتوا هذا الأمر؛ لأنه إذا لم يقوموا بذلك فإنه قد يوجد الهلال ولا يتراءاه الناس، فيضيع حق الله عز وجل، وصيام هذه الأيام مركب على وجود هذه الرؤية. وبناءً على ذلك قال العلماء: لا ينبغي التساهل في رؤية الهلال، بل إذا تساهل الناس أو انشغلوا فينبغي توصية أناس ولو بالأجرة؛ لأن فروض الكفايات إذا لم يوجد من يقوم بها شرع إعطاء الأجرة لمن يقوم بهذه بها؛ لكي يثبت به حق الله عز وجل من صيام الأيام المفروضة.

حكم صيام يوم الشك

حكم صيام يوم الشك [فإن لم يُرَ مع الصحو ليلة الثلاثين أصبحوا مفطرين]: وهذا بالإجماع؛ فإن هذا اليوم هو يوم الشك، وهو يوم يحرم صومه، ويوم الشك هو يوم الثلاثين، وسمي يوم الشك لأن ليلته تحتمل أن تكون من رمضان، وتحتمل أن تكون من شعبان، واليوم نفسه يحتمل أن يكون من رمضان فيصام، ويحتمل أن يكون من شعبان، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم هذا اليوم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه) وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه وعن أبيه أنه قال: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) وهذا يدل على أنه يحرم صيام يوم الشك. والعلماء مجمعون من حيث الأصل على كراهة الصوم، واختلفوا في التحريم، فكانت أسماء وعائشة رضي الله عنهن يرين الجواز، وأنه لا حرج على الإنسان أن يصوم يوم الشك، ويُعتذر لهما بعدم علمهما بالحديث الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم فيه عن صوم يوم الشك، وقال بعض العلماء: يجوز صومه مع الكراهة، ولكن ظاهر الحديث أنه حرام وأنه لا يجوز أن يصام، بل قال بعض العلماء: إنه يأثم بدل أن يؤجر. وهذا هو الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين) وهذا نهي، والأصل في النهي أنه يدل على التحريم. قال العلماء: حرم النبي صلى الله عليه وسلم صيام يوم الشك؛ لأنه ذريعة للتنطع والغلو، ولما فيه من مشابهة أهل الكتاب؛ لأن أهل الكتاب فرض عليهم صيام عدد معين من الأيام فزادوا فيها، فلما زادوا فيها ابتدعوا في دين الله ما ليس منه، وهذا على سبيل الشك والوسوسة. وقال بعض العلماء: إنما حرم صيام يوم الشك لما فيه من إدخال الوسوسة على الناس، وبناء الشريعة على الوسوسة؛ لأنه ليس من رمضان فيصومه وهو يعتقد أنه من رمضان، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه) فدل على أنه غير قاصد لرمضان، فكأنه يستثنيه إذا لم يقصد أنه من رمضان، وهذا هو الأولى. فالصحيح: أنه لا يجوز صيام يوم الشك، وأن صومه حرام على ظاهر النهي، إلا إذا وافق صوم إنسان، كأن يكون ممن اعتاد صيام الإثنين والخميس، فوافق يوم الشك يوم الإثنين أو يوم الخميس فإنه يصوم ولا حرج، أو يكون من عادته أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فأفطر يوم التاسع والعشرين ووافق أن الثلاثين شك وثبت أنه ليس من رمضان فإذا أحب أن يصومه؛ فحينئذٍ لا حرج. وعلى هذا فإن الإنسان إذا كان من عادته أن يصوم أو نذر نذراً فإنه يصوم ولا حرج عليه، وأما ما عدا ذلك فإنه باق على الأصل الموجب للحرمة والمنع. قوله: [وإن حال دونه غيم أو قتر فظاهر المذهب يجب صومه]: قوله: [وإن حال]: الحائل: هو الذي يمنع من رؤية الشيء، فإن حال بينه وبين رؤيته غيم أو قتر أو دخان -كأن يكون هناك دخان حريق ونحو ذلك فتملأ سحب الدخان السماء فتحجب رؤية الهلال، وخاصة إذا كان في جهة المغرب، أو كان هناك عجاج من غبار أو نحوه -فهذا كله على ظاهر المذهب- مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه أنه يصام. والصحيح: أنه لا يصام كما هو مذهب الجمهور لما ذكرناه من السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: [وإن رئي نهاراً فهو لليلة مقبلة]: رؤية الهلال نهاراً إما أن تكون قبل الزوال أو بعد الزوال، وقد اختلف السلف رحمة الله عليهم في رؤية الهلال نهاراً، فمنهم من قال: إذا رئي الهلال نهاراً قبل الزوال وجب قضاء هذا اليوم، وإذا رُئي بعد الزوال فإنه يكون لليلة التالية. ومنهم من قال: إذا رئي قبل الزوال أو بعد الزوال فهو لليلة التالية، وهذا هو الصحيح كما هو مذهب الحنابلة والشافعية وطائفة من أصحاب الإمام مالك رحمة الله على الجميع: أنه إذا رئي في النهار سواءً قبل الزوال أو بعد الزوال فإنه لليلة القادمة، وأنه لا يعد دليلاً على أن يوم الشك من رمضان، والأصل في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته) فجعل الصيام على الكمال، فمعنى ذلك: أن الرؤية قد وقعت بالليل؛ لأنه لو رئي في النهار فلا يمكن الصيام، وعلى هذا فيكون قوله: (صوموا لرؤيته) يدل على أن الرؤية إنما تكون بالليل؛ ولأنه إذا رئي نهاراً فلا شك أنه أقرب إلى الليلة التي تلي من الليلة التي مضت باحتساب البداية لا باحتساب النهاية.

لزوم أهل كل بلد برؤيتهم للهلال

لزوم أهل كل بلد برؤيتهم للهلال قوله: [وإذا رآه أهل بلد لزم الناس كلهم صومه]. إذا رأى الهلال أهل بلد لزم الناس في ذلك البلد أن يصوموا، فمثلاً: إذا رئي في مكة فيلزم جميع أهل مكة الصيام، وإذا رئي في المدينة فيلزم جميع أهل المدينة وهكذا بالنسبة لبقية البلدان، فإذا رئي في موضع لزم أهله، لكن السؤال إذا تعددت الأمصار كأن تكون رؤيته في المشرق، فهل يصوم أهل المغرب برؤية أهل المشرق أو لا؟ للعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول: كل أهل بلد يرجعون إلى رؤيتهم، فمثلاً: أهل الجزيرة يرجعون إلى رؤيتهم؛ فإن رأوه لزمتهم الرؤية في خاصتهم ولا تلزم أهل الشام ولا أهل المغرب، ولا أهل المشرق، والعبرة في كل مصر وقطر بحسبه، وهذا دليله: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قدم عليه كريب من الشام، فسأل كريباً: (متى رأيتم الهلال؟ فأخبره: أنهم رأوه ليلة الجمعة، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: لكنا رأيناه ليلة السبت، فقال: ألا تعتدوا برؤيتنا؟ فقال: لا. هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم). ، ففصل رؤية بلده عن رؤية غيرهم، فقالوا: فهذا يدل على أن كل قطر ومنطقة بحسبها، وهذا هو الذي تدل عليه الرواية الصحيحة في قول ابن عباس رضي الله عنهما ويدل عليه الأصل؛ لأن المطالع مختلفة، والمنازل متباعدة، بل قد يكون الفرق بين البلدين بقدر يومين؛ فحينئذٍ يصعب أن تلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب. ولما وجد التفاوت دل على أنه لا يمكن جعلهم بمثابة المكان الواحد، إذ لو قلت: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته) على العموم، فمعنى ذلك: أن يصوم أهل الأرض كلهم برؤية بلد واحد بل برؤية قرية واحدة، وهذا لا شك أنه غير مراد؛ لأنه قد يكون اليوم في بلد في المشرق ثمانية وعشرين، ويكون في بلد في المغرب يوم ثلاثين، فيكون الفارق يومين، ولا يمكن بحال أن نقول لأهل يوم الثمانية والعشرين أن يصوموا برؤية الذين هم من بعدهم، وعلى هذا قالوا: إن كل بلد يعتد برؤيته. القول الثاني: أن رؤية البلد الواحد رؤية للجميع، واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) قالوا: وهذا يدل على أن الجميع تكون رؤيتهم واحدة. القول الثالث التفصيل قالوا: إذا تقاربت الأماكن وكانت المنزلة واحدة فإنه يصام برؤية البلد الواحد والعكس بالعكس، وقالوا: لأنهم إذا كانوا في منزلة واحدة أمكننا أن نلزمهم بقوله: (صوموا لرؤيته) أي: نلزمهم بالعموم. والذي يترجح -والعلم عند الله- أن لكل أهل بلد رؤيتهم، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد من قوله: (صوموا لرؤيته) أن رؤية الرجل الواحد في البلد الواحد رؤية للجميع، وليس المراد: أنها رؤية لجميع من في الأرض، ولا يختلف اثنان أن النهار عند غيرنا قد يكون ليلاً عندنا، والنهار عندنا قد يكون ليلاً عند غيرنا، وأن الأماكن تتفاوت يوماً ويومين؛ ولذلك لا يمكننا أن نقول: إن حديث: (صوموا لرؤيته) على العموم. قال العلماء: إن العموم قد يخصص بدلالة الحس، ويمثل علماء الأصول لهذا بقوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] قالوا: وهذا العموم مخصص بالحس؛ لأنها ما دمرت كل شيء، فهي ما دمرت الأرض لأنه قال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف:25] وهذا عام يشمل كل شيء في الأرض، ومع ذلك قالوا: هذا العام مخصص بدلالة الحس وبدليل الوجود. وكذلك أيضاً دليل الحس عندنا هنا، فإنه لا يمكننا أن نقول: إن رؤية بلد رؤية للجميع، وهذه المسألة يقع فيها خطأ كثير وخلط كبير، ولذلك تجد المسلمين في مشرق الأرض ينقسمون قرابة ثلاث فرق: فرقة تقول: نصوم مع بلد كذا، وفرقة، ففرقه تقول: نصوم مع بلد كذا، وفرقة تقول: لا نصوم لا بكذا ولا بغيره، بل نصوم برؤيتنا. والصحيح الذي يظهر -والله أعلم- من خلال النصوص وسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي تقطع النزاع: أن كل أهل بلد ملزمون بالرؤية، فإذا رأوا الهلال فالحمد لله، وحينئذٍ يلزمهم ما يلزم الرائي من صيام ذلك الشهر، وأما إذا لم يروا الهلال فإنهم باقون على الأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) فإن غم الهلال فنجعل لكل بلد رؤيتهم، فمثلاً: يتراءاه أهل المشرق وأهل المغرب كذلك، فإن ثبت عندهم جميعاً فبها ونعمت، وإن لم يثبت أكملوا العدة والكل على خير، أما لو قلنا: إن رؤية بلد هي رؤية لغيره، فإن ذلك سيكون سبباً في النزاع: هل نتبع هذا البلد، أو نتبع هذا البلد؟ وهل نعتد بهذه الرؤية أو بهذه الرؤية؟ فتقع فتن كثيرة بسبب جعل الرؤية الواحدة رؤية للجميع. والذي يظهر من خلال السنة وخاصة حديث ابن عباس -الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل) -: (لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فصار تفسيراً لقوله: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) أي: صوموا -يا أهل الشام- لرؤيتكم، وصوموا -يا أهل الحجاز- لرؤيتكم، فجعل لكل أهل منطقة رؤيتهم، وهذا هو الذي يندفع به الإشكال ويزول به اللبس، وحينئذٍ إذا رأوا الهلال عملوا بالرؤية، وإذا لم يروه أكملوا العدة ثلاثين يوماً.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من مات وعليه صوم

حكم من مات وعليه صوم Q رجل مات وعليه صوم بعض أيام أفطرها في رمضان من غير عذر، فهل يجوز لورثته الصيام عنه؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فمن مات وعليه صوم سواء ترك ذلك متعمداً أو غير متعمد، فإنه يصوم عنه وليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) فهذا يدل على أنه يشرع أن يصوم الولي عن نيته، وهذا على العموم، سواءً كان الميت ترك الصيام ذلك متعمداً أو غير متعمد، والله تعالى أعلم.

حكم من أفطر أياما من رمضان لا يعلم عددها

حكم من أفطر أياماً من رمضان لا يعلم عددها Q رجل أفطر في رمضان سابق ولا يدري كم يوم أفطر فكيف يقضي؟ A من أفطر من رمضان أياماً لا يدري عددها، فإنه يبني على التقدير والخرص، نقول له: قدر، فلو قلنا: عشرة أيام؟ فقال: أكثر. نقول: عشرين يوماً؟ قال: أكثر. نقول: ثلاثين يوماً؟ قال: أكثر. نقول: أربعين؟ قال: أكثر. نقول: إذاً ستين؟ قال: لا أقل. إذاً نقول: خمسين. ولو قلنا: خمسين؟ فقال: كثير. نقول: أربعين؟ قال: قليل. إذاً: نقول: خمس وأربعون. وهكذا حتى يصل إلى القدر الذي يغلب على ظنه أنه قد أصاب به القدر الواجب عليه، وهذا يسميه العلماء الرجوع إلى التقدير. فإنه إذا تعذر علينا معرفة الحقيقة فإنه يرجع إلى التقدير، ويكلف الإنسان بالتقدير، والسبب في هذا: أن الشريعة تنزل التقدير منزلة اليقين عند تعذر الحساب، ولذلك شرع الخرص كما في النخل، وشرع في المزابنة لأنه يتعذر أن تنزل العرجون وتعلم ما بداخله، وهذا رفق من الله ويسر ورحمة بعباده، والله تعالى أعلم.

حكم من جامع زوجته وهو صائم تطوعا

حكم من جامع زوجته وهو صائم تطوعاً Q ما حكم من جامع زوجته في النهار وهو صائم صوم تطوع؟ بالنسبة للجماع للعلماء رحمهم الله فيه وجهان: فبعضهم يقول: إن الصيام إذا وقع فيه الجماع تجب فيه الكفارة فرضاً كان أو نافلة، ومنهم من يقول: النافلة أمرها أخف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المتطوع أمير نفسه)، فإذا كان هذا المتنفل قبل أن يجامعها استشعر أنه يريد الفطر وأنه قد عزف عن صيامه وجامعها، فإنه لا شيء عليه، وهذا على ظاهر الحديث، كما لو أكل وشرب، والله تعالى أعلم.

حكم صيام ست من شوال لمن عليه قضاء من رمضان

حكم صيام ستٍ من شوال لمن عليه قضاء من رمضان Q هل يجوز لشخص عليه قضاء من رمضان أن يصوم ستاً من شوال قبل القضاء؟ A لا حرج أن يصوم الإنسان ستاً من شوال قبل أن يقضي رمضان، والسبب في ذلك: أن قضاء رمضان انتقل إلى الأيام الأخر لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] وبناءً على ذلك يكون قوله: (من صام رمضان) خرج مخرج الغالب، وعليه فإنه لو صام هذه الأيام الواجبة عليه بعد أن يصوم الست فإن صيامه صحيح؛ لأنه قد صام ستاً وثلاثين. ولو قلنا: إنه يجب عليه القضاء أولاً وكان القضاء مثلاً عشرة أيام تقولون له: صم العشرة الأيام، ثم صم بعدها ستاً قلنا: لماذا؟ قالوا: حتى يصدق عليك أنك قد صمت رمضان، فإذا صام العشرة نقول لهم: هل تعتبرونه قد صام رمضان؟ قالوا: نعم، بعد أن يصوم العشرة يصوم الست، نقول: قد نزلتم العشرة التي هي من شوال منزلة رمضان بالقضاء. قالوا: نعم. نقول: إذاً لا فرق بين شوال وبين غيره، فهي في القضاء سيان كما أنكم تقولون: إذا صام العشرة من شوال فإنه يعتبر قد صام رمضان كاملاً، فكذلك إذا صامها من رجب أو صامها من جمادى أو صامها من غيره. ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة: (إن كان يكون عليّ الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان)، وقد كانت تصوم يوم عرفة -كما ثبت في الموطأ- وكانت تصوم الأيام الفاضلة، فدل هذا على أن قوله: (من صام رمضان) خرج مخرج الغالب، سواء قضاءً أو أداءً، ولو أخذ هذا على ظاهره، وهو أنه لابد وأن يصوم القضاء أولاً، ثم بعد ذلك يصوم الست فإن المرأة النفساء لا تنال هذا الفضل؛ لأن المرأة النفساء ربما تستغرق رمضان كله، فمتى تقضي؟ هل نقول: إنها لا تصوم الست لأنه لا يمكنها ذلك. وبناءً على ذلك نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (من صام رمضان) المراد به أن يصوم رمضان أصلاً أو يصوم ما يقوم مقام رمضان من القضاء، ويستوي ذلك في جميع شهور السنة. وغالب النساء عندهن نقص في رمضان، لمكان العادة إذا كانت تحيض، فإذا قلت: إذا صامت من شوال قضاءً لهذه الأيام تعتبر بمثابة الصائم لرمضان كاملاً، فنقول: شوال وغيره في ذلك على حد سواء، إضافة إلى ظاهر السنة في حديث عائشة رضي الله عنها. ثم إننا إذا نظرنا إلى جهة المعنى -كما جاء في حديث زيد رضي الله عنه- وجدنا أن المعنى أن ثلاثين يوماً بثلاثمائة؛ لأن الحسنة بعشرة أمثالها، وستة أيام بستين فأصبح المجموع ثلاثمائة وستين يوماً، فإذا كان هذا هو المعنى فإنه يستوي في الست أن تكون قبل القضاء أو بعد القضاء. والله تعالى أعلم.

حكم نزول المذي في نهار رمضان

حكم نزول المذي في نهار رمضان Q ما حكم نزول المذي في نهار رمضان؟ A المذي لا يخلو من حالتين: الأولى: إما أن يستدعيه الإنسان ويحرك شهوته ويتعاطى أسبابه بالنظر ونحو ذلك من الأمور التي تهيج شهوته حتى خرج منه المذي، فهذا ينقص الله به أجره، ويعتبر من اللغو الذي يؤثر في صوم الإنسان ثواباً، وأما بالنسبة لصيامه، فإن صومه صحيح حتى يخرج منه المني، فإن خرج منه المني فقد أفطر، سواءً أخرجه بمباشرة للمرأة، أو أخرجه باستمناء والعياذ بالله. فإن أخرجه بالاستمناء كان له حكمان: أحدهما: بطلان صومه. الثاني: حصول الإثم بمخالفة الشرع بالاستمناء. أما بالنسبة لبطلان صومه بالاستمناء فلظاهر السنة كقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي عن الله عز وجل: (يدع طعامه وشرابه وشهوته)، فقوله: (وشهوته) مطلق، وإن من الخطأ أن يقول بعضهم بجواز الاستمناء، وبجوازه في رمضان وأنه لا يؤثر في الصوم، ولا شك أن طالب العلم الذي يفتي بهذا: ليس عنده من الورع وخوف الله عز وجل ما يردعه عن أن يأمر الناس بأمر مشتبه؛ فإن طالب العلم إذا تقلد الفتوى وتوجيه الناس ينبغي أن يأخذهم بالورع، وأن يصونهم عن حدود الله عز وجل وأن يحفظهم وخاصة في المسائل التي يكون فيها خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، وتفضي إلى ضرر في دين الناس، فكون الإنسان يتساهل في شهوته على هذا الوجه، ويتعاطاها فإن هذا أمر يفضي إلى استرسال الناس إلى ما فيه الحرمة، ولذلك قالوا في قوله عليه الصلاة والسلام: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه) قالوا: وأقل درجاته الشبهة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) لأنه إذا لم يكن هناك ورع وخوف من الله عز وجل يردعه عن هذا المشتبه فلا يأمن أن يسترسل منه إلى الحرام. ولذلك لا يجوز فتح الباب للناس في مثل هذا، كقول بعضهم بجواز الاستمناء؛ لأنه ليس بجماع حقيقي، وبجواز شرب الدخان؛ لأنه ليس بأكل وشرب حقيقي، وأن هذا لا يفطر، وكل ذلك -نسأل الله السلامة والعافية- تبعات ومسئوليات على صاحبه، فينبغي على طالب العلم أن يتنبه إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) والتفقه: تفعل يحتاج إلى إمعان النظر في الأحكام ودقة النظر في مقاصد الشريعة ومعرفة مراميها، أما أن يأتي ويقول: لا أعلم نصاً، ولا أرى بأساً، وهذا يجوز، وليس فيه أمر ظاهر يدل على تحريمه، وهذا حسب علمه، ولكنه لو أمعن النظر كما أمعن من هو أعلم منه وأتقى لله منه وأورع لوجد الأمر جلياً، فإن الشهوة تحصل بالاستمناء ويجد به اللذة كما يجدها بالجماع، وإن كان في الجماع أشد وأكمل، لكنه يجدها في الاستمناء. ولذلك تجده إذا استمنى فإنه لا ينصرف إلى الحرام، ومن هنا قالوا: بإباحته عند الضرورة لا على سبيل أنه مباح بذاته، ولكن من باب ارتكاب أخف الضررين، قالوا: إذا خاف على نفسه الزنا، هل يستمني؟ قالوا: يستمني، لكنه إذا استمنى يكون حينئذٍ آثماً إثماً أصغر من وقوعه في الزنا، ففهم البعض أن الإذن به في حال الزنا إذن به على الإطلاق، وهذا من عدم إمعان النظر في كلام العلماء الأجلاء رحمة الله عليهم، وهذا له أمثلة: لو أنه خير بين حرام قليل وحرام كثير، فإنه لا شك أنك ستصرفه إلى الحرام الأقل، لكن مع ذلك تقول: يأثم بهذا الحرام الأقل، فالمقصود: أن العلماء رحمة الله عليهم لما قالوا: من يخاف على نفسه الزنا يستمني، فإنما هذا من باب ارتكاب أخف الضررين لا أنه يشرع ويجوز ومباح في دين الله عز وجل. وعلى هذا فإنه إذا خرج منه المني يعتبر مفطراً، والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أحكام الهلال وأهل العذر في رمضان [2]

شرح زاد المستقنع - أحكام الهلال وأهل العذر في رمضان [2] من الأحكام المتعلقة برمضان: معرفة دخوله وخروجه، وهذا يتعلق برؤية الهلال، لكن تحقق ذلك والعمل به يرتبط بصفات من قال برؤيته، من عدالة ونحوها، ويتفرع على ذلك أحكام مختلفة. وقد وضح الشيخ هذه الأحكام في هذه المادة، ثم ذكر من يجب عليه الصوم، ومن يكون معذوراً يحق له الفطر، ومن لا يصح صومه من أهل الأعذار، وغير ذلك من المسائل المتعلقة بأهل الأعذار.

صفة من يعتد برؤيته

صفة من يعتد برؤيته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويصام برؤية عدل ولو أنثى]: أي: يصام شهر رمضان إذا رآه شخص واحد، والعدل المراد به: من يجتنب الكبائر ويتقي في غالب حاله الصغائر. العدل من يجتنب الكبائرا ويتقي في الأغلب الصغائرا فإذا كان مجتنباً للكبائر وهي المعاصي الكبيرة كالقتل والزنا وشرب الخمر ونحوها فهو عدل. وقلنا: ويجتنب في غالب حاله؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يسلم من الصغائر، وقد أشار عليه الصلاة والسلام إلى ذلك بقوله في الحديث:: (إن تغفر اللهم تغفر جما، وأي عبد لك ما ألما؟). جماً: أي شيئاً كثيراً. وأي عبد لك ما ألما: أي: أي عبد من عبادك لم يصب اللمم وهي صغائر الذنوب. فلا يمكن لإنسان أن يسلم من صغائر الذنوب، وصغائر الذنوب لها أمثلة منها: مثل النظرة، وإن كان بعض العلماء يفاوتها بحسبها؛ فالنظر إلى العورة المغلظة ليس كالنظر إلى الوجه، ونحو ذلك. فالمقصود أنه إذا اتقى في غالب حاله صغائر الذنوب فهو عدل، أما لو أصر على الصغيرة وداوم عليها فإنه لا يكون عدلاً، ولذلك قالوا: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار. فإن صغائر الذنوب تهلك صاحبها، كما أن الجبال تكون من دقائق الحصى، فإن هلاك الإنسان قد يكون بصغائر الذنوب. ولذلك يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (لا تنظر إلى معصيتك، ولكن انظر إلى من عصيت)، فإذا كان نظر الإنسان إلى عظمة الله سبحانه وتعالى فإن الصغيرة تصبح في عينه كبيرة؛ لكن إذا استخف بذلك ونظر إلى أنها شيء يسير فقد تهلكه وتوبقه، نسأل الله السلامة والعافية. فالعدل هو الذي يتقي في غالب حاله صغائر الذنوب، ويمتنع من كبائر الذنوب، فإذا كان كذلك فهو العدل الذي تقبل شهادته، وهو الرضا الذي يعتد بشهادته، أشار الله إليهما بقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] فلا يرضى إلا العدل. وقوله: (شهد عدل) معناه: إذا شهد غير العدل لم تقبل شهادته، وغير العدل هو الذي يفعل كبائر الذنوب، سواء كانت قولية كأن يكون إنساناً نماماً، أو يكون كثير الاغتياب للناس، فهذا لا تقبل شهادته، وهذه من الكبائر القولية، وأما الفعلية فكشرب الخمر والزنا؛ ولهذا تسقط عدالته ويجب رد شهادته، والسبب ذلك كما يقول العلماء: أنه إذا كان جريئاً على هذه الكبيرة فمن باب أولى أن يجرؤ على الكذب، ومن هنا كان وجود هذه الكبيرة يعتبر دليلاً على أنه غير مأمون؛ لأنه إذا لم يؤتمن على حق الله فمن باب أولى ألا يكون أميناً على حقوق الناس. أما الحنفية رحمة الله عليهم فعندهم تفصيل في الفاسق، فيقولون: إن الفاسق ينقسم إلى قسمين: الأول: فاسق تحصل بفسقه التهمة. الثاني: وفاسق لا تحصل بفسقه التهمة. فالفاسق التي تحصل بفسقه التهمة: كأن يكون معروفاً بالكذب ومعروفاً بارتكاب كبائر الذنوب. والفاسق الذي لا تحصل التهمة بفسقه: كأن يكون إنسان يشرب الخمر ولكنه لا يكذب، وهذا موجود فإنك قد ترى بعض الناس على سمته أنه ليس بمطيع، وتجده من أبر الناس بوالديه، وتجده محافظاً على العهد لا يكذب ولا يغش، فتجد مظهره على أن عنده بعض الإخلال، لكن تجد في نفسه وفي قرارة قلبه مالا تجده عند من يوصف بكونه صالحاً، فقد تجد الإنسان على سمت ظاهره طيب لكنه كذاب أو غشاش أو خائن -والعياذ بالله- أو سارق أو شارب خمر في الخفية. فالحنفية رحمة الله عليهم يقولون: العبرة بالأمانة، فإذا عرف بالصدق ولو كان يشرب الخمر أو يزني فإننا نقبل شهادته؛ لأنه لما عرف بالصدق غلب على الظن أنه صادق فيما يقول؛ قالوا: فلا تقوى التهمة في رد شهادته. والذي يظهر أنه لا تقبل شهادة من طعن في عدالته، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] فأمرنا بالتثبت والتبين والتروي في خبر هذا النوع، فدل على عدم قبوله؛ لأن التثبت والتروي نوع من الرد؛ لأنه لم يقبلها مباشرة، وعلى هذا فالصحيح مذهب الجمهور: أنه لا تقبل شهادته، سواء كان ممن يغلب على الظن صدقه أو لا يغلب على الظن صدقة.

مسألة قبول شهادة الفاسق عند انتشار الفسق

مسألة قبول شهادة الفاسق عند انتشار الفسق هنا مسألة ذكرها شيخ الإسلام رحمة الله عليه وأشار إليها ابن فرحون في التبصرة والطرابلسي صاحب معين الأحكام الذي كتبه في مناهج القضاء وهذه المسألة تقول: لو حدث شيء في مكان لا تجد فيه العدل أو قد لا تجد العدل إلا بصعوبة، ثم جاء شهود من هذا المكان الذي أصحابه فساق، فهل نقبل شهادتهم أو لا؟ قرر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه إذا عم وانتشر فإنه يقبل أمثل الفساق، يعني: ممن يعرف بالصدق، أو يعرف بالانضباط. والحقيقة أن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أصل قوي؛ لأن الحاجة تدعو إليه، وهي التي يسمونها: مسائل عموم البلوى، وهي مفرعة على القاعدة المعروفة: أن الأمر إذا ضاق اتسع وإذا اتسع ضاق، فإذا كان الناس في سعة وكان العدول كثيرين فحينئذٍ نضيق على الناس في الشهادة، أما إذا كان الأمر على العكس، أي: كان العدول قليلين فحينئذٍ يتسع الأمر ونحكم بقبول شهادة من هو أمثل.

شهادة العدل الواحد برؤية الهلال

شهادة العدل الواحد برؤية الهلال فلو جاءنا رجل واحد وشهد أنه رأى هلال رمضان فهل يصام أو لا؟ للعلماء وجهان: الجمهور على أن شهادة الواحد تقبل، وأن هذا ليس من باب الشهادة وإنما هو من باب الخبر، لأن الشهادة لابد فيها من التعدد، ولا تقبل فيها شهادة الواحد، والشرع دائماً يقبل العدد. وبناءً على ذلك قالوا: تقبل شهادة الواحد لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه رأى الهلال وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فصامه وأمر الناس بصيامه؛ فدل ذلك على قبول شهادة الواحد في دخول شهر رمضان، وفي حديث الأعرابي أنه شهد عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: نعم. قال: يا بلال! قم فأذن بالناس أن يصوموا غداً) ولكنه حديث ضعيف، وحديث ابن عمر أقوى منه وصححه غير واحد من العلماء منهم الحاكم وغيره، وهو يدل على أن شهادة الواحد يثبت بها شهر رمضان. وإذا قلنا: إن قبول شهادته إنما هو من باب الخبر لا من باب الشهادة فحينئذٍ يقال بقبول شهادة الأنثى، فلو أن امرأة شهدت برؤية الهلال قبلت شهادتهها لكن من باب الخبر لا من باب الشهادة، والفرق بينهما: أن الشهادة يشترط فيها العدد وأيضاً لابد أن يحكم القاضي بها، فيأتي إلى مجلس القضاء ويشهد، ويثبت الدخول بشهادته. وكذلك تكون الشهادة بلفظ: أشهد أني رأيت الهلال ويصف رؤيته على وجه تنتفي به التهمة. وكذلك يشترط في الشهادة الذكورية، فلا يقبل فيها أقل من شاهدين ويشترط فيها الذكورية، فلا تقبل شهادة الأنثى؛ لأن الأنثى شهادتها على نوعين: إن كانت في الأموال وما يتبع الأموال قبلت شهادتها، وإن كانت في غير الأموال فالإناث لا تقبل شهادتهن؛ لحكمة من الله سبحانه تعالى، والدليل على ذلك: أن الله سبحانه وتعالى في آية النور أمرنا باستشهاد أربعة على الزنا فلو كانت المرأة تشهد لقال: أو ثمان، لكن في الأموال في آية البقرة قال سبحانه وتعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] فنزل المرأتين منزلة الرجل الواحد، وقال تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ} [البقرة:282] في قراءة (فتذكر إحداهما الأخرى) أي: أن شهادتها معها بمثابة الرجل، تذكرها، بمعنى: تنزلها منزلة الذكر. والسبب في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى جبلهن على العاطفة، وفيهن من الضعف واللين ما جعله الله عز وجل بحكمته لصلاح هذا الكون، فلا يستقيم الكون باثنين بصفات واحدة متماثلة؛ لأن هذا يفضي إلى مفاسد لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، ولكن جعل الله في المرأة العاطفة واللين حتى تقوم على الذرية، فهذا اللين والضعف في مكان كامل وفي مكان ناقص فإذا جاءت المرأة تشهد فإنها لا تستطيع لأن فيها العاطفة. ولذلك يقول العلماء: لو أن المرأة خاصمت الرجل فإنها تتكلم بكلمتين أو ثلاث ثم تبكي وتستولي عليها العاطفة، فلا تستطيع أن تكمل كلامها، والسبب في هذا: أن الله جبلها على هذا حكمة منه سبحانه ورفقاً بالأولاد وبالذرية، فتجد من حنانها وعطفها على ولدها ما لا يستطيع الرجل أن ينزل منزلتها وهذا لحكمة منه سبحانه وتعالى. ولما كانت الشهادة تحتاج إلى ترو وتثبت، فالشاهد يرى الدماء ويرى الأشلاء ويرى القطع، فإذا كانت المرأة ضعيفة القلب فإنها لا تستطيع أن تتحمل هذا، ولذلك بمجرد أن ترى هذه الأشياء فإنها تصرخ، ولربما تصاب بشيء في رؤيتها مما يؤدي إلى التأثير في شهادتها، ومن هنا منعت من الشهادة في غير الأموال، وعلى هذا جماهير العلماء رحمة الله عليهم، وظاهر القرآن يدل عليه، فلو كانت شهادة المرأة في غير الأموال مقبولة لنص سبحانه وتعالى على البدلية. فالصحيح: أن شهادتهن قاصرة على الأموال وما في حكم الأموال. ما في حكم الأموال كالشهادة على الوصية التي تتضمن إثبات مال، فهذه يمكن أن يثبت بها إذا شهدنا بأن الميت أوصى لفلان بنصف ماله أو بربع ماله، أو بثلث ماله، ونحو ذلك، فهذه شهادة وإن لم تكن مالية محضة لكنها آيلة إلى المال، وهي التي يسمونها الشهادة في حكم المال.

حكم إكمال رمضان عند تبين خطأ الشهادة

حكم إكمال رمضان عند تبين خطأ الشهادة يقول المصنف رحمه الله: [وإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً فلم ير الهلال، أو صاموا لأجل غيم لم يفطروا]. لا زال المصنف رحمه الله يبين لنا الأحكام المتعلقة برؤية الهلال، فبعد أن بين الأحكام المتعلقة بثبوت شهر رمضان ودخوله، شرع في بيان ما يتعلق بالخروج من شهر رمضان، والأصل أن الخروج من شهر رمضان يكون بتمام الشهر ثلاثين يوماً، وذلك أنهم إذا صاموا ثلاثين يوماً فقد تم الشهر، وحينئذٍ يكون ما بعده من شوال قطعاً. وأما العلامة الثانية: فهي أن يشهد العدلان لرؤية هلال شهر شوال، فإذا شهد العدلان أنهما رأيا هلال شهر شوال فإن الناس يفطرون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن شهد عدلان فصوموا، وإن شهد عدلان فأفطروا) فجعل رؤية العدلين موجبة لثبوت دخول شهر شوال وانتهاء شهر رمضان. لكن هنا مسألة، وهي: إذا شهد عدل واحد، ثم أكمل الناس العدة ثلاثين يوماً من رمضان ولم يروا الهلال، قال العلماء: هذه أمارة ودليل على خطأ الشاهد، ومن هنا فإنه يجب عليهم أن يتموا العدة لظهور خطأ الشهادة. وهكذا الحال في المسألة التي ذكرناها: لو كان هناك غيم ليلة الثلاثين من شهر شعبان، ولم يتمكنوا من رؤية الهلال، فإن المذهب -على ما قرره المصنف- أن يصام ذلك اليوم، وإن كان الصحيح: أنه لا يصام، لكن على القول بصيامه لو صاموا ثم أتموا العدة ثلاثين، وتراءوا الهلال ليلة الواحد من شوال على تمام الشهر فلم يروه، قالوا: هذا يدل على أن الشهر -أعني: شهر شعبان- يعتبر كاملاً، وحينئذٍ عليهم أن يتموا عدة رمضان ثلاثين يوماً ولا يفطرون. وعلى هذا هناك حالتان ذكرهما المصنف: الأولى: أن يشهد عدل واحد، ثم نحكم بدخول شهر رمضان، ثم بعد تمام العدة ثلاثين يوماً نتراءى الهلال ليلة شوال فلا نراه، وعلى هذا تبين لنا خطأ الشاهد الواحد؛ لأن الخطأ في الشاهد الواحد أكثر منه من الخطأ في الشاهدين، وحينئذٍ يلزمون بتمام شهر رمضان ثلاثين يوماً، وهذا على سبيل الاحتياط، وهذه قاعدة: أن بعض العلماء يحتاط في الخروج من شهر رمضان أكثر من احتياطه في دخول شهر رمضان، ولذلك يرون أنهم في هذه الحالة يتمون العدة ثلاثين يوماً حتى يخرجوا من الصوم بيقين. الثانية في قوله: (أو صاموا لأجل غيم لم يفطروا). هذا على المذهب المرجوح، وإن كان الصحيح: أنه إذا كان هناك غيم ليلة الثلاثين من شعبان أنه يجب إتمام عدة شعبان ثلاثين يوماً.

حكم من رأى هلال رمضان أو شوال وحده

حكم من رأى هلال رمضان أو شوال وحده وقوله: [ومن رأى وحده هلال رمضان ورد قوله، أو رأى هلال شوال، صام]. هذه مسألة مفرعة على الشاهد الواحد، فلو أن إنساناً رأى هلال شهر رمضان -أو رأى هلال شهر شوال، فجاء يشهد فلم تقبل شهادته وردت، وهو متأكد أنه قد رأى الهلال- فقد وقع في يقين نفسه أن رمضان قد دخل، ولكن في حكم الشرع الظاهر أن رمضان لم يدخل، فهل نوجب عليه في خاصة نفسه أن يصوم هذا اليوم أو لا يصوم؟ للعلماء مذاهب: منهم من يقول: نوجب عليه الصيام لأنه قد تحقق من دخول شهر رمضان؛ وهو متعبد لله عز وجل بما تحققه، وقد أوجب الله على من رأى الهلال أن يصوم، وهذا قد تحقق من رؤيته وأن هذه الليلة من رمضان، فلا وجه لإسقاط الصوم عنه، قالوا: فحينئذٍ يلزمه أن يصوم. القول الثاني: أن العبرة بجماعة المسلمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) قالوا: كما لو أنهم تراءوا الهلال فلم يروه -مع أنه رمضان حقيقة- قالوا: فقد تعبدهم الله عز وجل بالدخول، فحينئذٍ لا نوجب عليه هذا اليوم؛ لأنه ليس من رمضان حكماً. والقول الثالث يفصل فيقول: دخول رمضان يوجب عليه الصيام، وفي خروجه لا يفطر احتياطاً. وهذا المذهب من أقوى المذاهب -أي: التفريق بين الدخول وبين الخروج- والسبب في هذا: أن الدخول تقبل فيه شهادة الواحد كما ذكرنا، وأنه من باب الخبر. ولذلك نقول: من رأى هلال رمضان وحده -كما لو كان مسافراً فرآه وحده- فبالإجماع أنه يصوم، مع أنه في هذه الحالة لم يثبت شهر رمضان عند الجميع، فنقول: إذا رآه في الدخول وجب عليه أن يصوم؛ لأن الدخول تقبل فيه شهادة الواحد. أما الخروج فقد قال صلى الله عليه وسلم: (فطركم يوم تفطرون) فرد الأمر إلى جماعة المسلمين، ففي الخروج لا نقول له: إنه يفطر، وإنما يبقى مع جماعة المسلمين؛ لأن الفطر للجميع بخلاف دخول شهر رمضان، ولذلك نقول: إنه قد ثبت في ذمته صيام اليوم الأول من رمضان بيقين؛ لأنه قد استيقن برؤية الهلال بنفسه، وحينئذٍ نوجب عليه الصيام دخولاً، ولكننا لا نوجب عليه الفطر خروجاً؛ لأن الفطر مقيد بالجماعة، فيفطر إذا ثبتت رؤيته مع رؤية غيره وحكم بها، ولا يفطر إذا ردت شهادته أو كان شاهداً واحداً ولم تقبل شهادته. وهناك مذهب يقول: يفطر سراً، ولكن القول بالتفصيل اعتماداً على السنة أقوى وأظهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل شهادة ابن عمر وحده في دخول شهر رمضان، فألزم الجماعة بشهادة ابن عمر، فلئن نلزم الشاهد نفسه والرائي نفسه من باب أولى وأحرى، ولكن في الخروج ردنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى جماعة المسلمين فقال: (فطركم يوم تفطرون) فجعل الفطر لجماعة المسلمين كلهم، كما لو رأى هلال ذي الحجة -مثلاً- ليلة الخميس والناس لم يروه، ثم بعد ذلك أصبح وقوف الناس متأخراً عن وقوفه؛ فإننا نقول: لا يصح وقوفه لوحده؛ لأن الوقوف بجماعة المسلمين، وعلى هذا فإنه يصح أن يصوم وحده ولا يصح أن يفطر لوحده. وقد يشكل على هذا مسألة: كيف نحكم بالظاهر ونترك الباطن؟ و A أن الشرع يحكم بالظاهر، ويلغي الحقيقة والباطن. مثال ذلك: لو أن رجلاً -والعياذ بالله- رأى امرأة على الزنا، وقد رآها بعينه وشهد أنها زانية، أو شهد رجلان أو ثلاثة أنها زانية، فأتي بها إلى القاضي فلم تعترف وأنكرت، فإنه بالإجماع يجلد هؤلاء الثلاثة، ويعتبرون قذفه، والله تعالى يقول: {فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13] فوصفهم بالكذب بالنسبة للظاهر؛ لكنهم في الحقيقة والباطن صادقون، ولذلك يعطي الحكم للظاهر، والباطن مرده إلى الله عز وجل. ومن أمثلته: قوله عليه الصلاة والسلام: (إنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع) فدل على أن حكم الظاهر لا يبيح الباطن، كما أن الباطن لا يبيح حكم الظاهر، وعلى هذا فرقت الشريعة، فما كان الشرع معتبراً فيه بشهادة الواحد -وهو دخول شهر رمضان- فنعتبره ملزماً بالصيام برؤيته، كما لو رآه وحده في الصحراء فإنهم كلهم يقولون: عليه أن يصوم. أما بالنسبة لخروج رمضان فقد جاء النص باعتبار الشاهدين، ولم يأت استثناء كالدخول، فالدخول جاء فيه استثناء في حديث ابن عمر، فقبلت فيه شهادة الواحد، وأما الخروج فلم يأت فيه استثناء، فبقينا على الأصل من كونه مطالباً بصيام هذا اليوم الذي هو يوم الثلاثين، والأصل أن الشهر كامل، وعلى هذا يقولون: إنه يقيد بجماعة المسلمين؛ لورود النص بتأكيد الجماعة. ففي الخروج ورد النص بتأكيد الجماعة، وفي الدخول ورد النص بالاعتداد بشهادة الواحد، فخفف في الدخول ولم يخفف في الخروج، وهذا هو الذي يسميه العلماء مذهب الاحتياط. والاحتياط ينقسم إلى قسمين: الأول: احتياط ينبني على دفع الشبهة والبعد عن الريبة، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) وقوله عليه الصلاة والسلام: (دع ما يربيك إلى ما لا يريبك). الثاني: احتياط يكون مستنداً إلى النصوص، فلما جاء النص بقبول شهادة الواحد دخولاً؛ احتطنا وقلنا: يجب عليه الصوم، فكان الاحتياط أن يصوم، بخلاف ما لو قلنا له: أفطر؛ لأنه لو أفطر ربما أفطر يوماً من رمضان، ولكن في الخروج نقول له: يبقى على صيامه، فأصبح الاحتياط هنا مستنداً إلى أصل الشرع، فكان اعتباره أولى وأحرى مع الأصل الذي دل على أنه ينبغي للمسلم أن يخرج من الريبة والشبهة.

وجوب الصيام على كل مسلم مكلف قادر

وجوب الصيام على كل مسلم مكلف قادر [ويلزم الصوم لكل مسلم مكلف قادر]. يلزم: أي: يجب، وهو فريضة الله عز وجل على كل مسلم، فالكافر لا يلزمه صوم بالنسبة له، بمعنى أنه لا يخاطب ولا يصح منه صومه إلا بعد أن يحقق أصل الدين وهو التوحيد، فلو صام الدهر كله وهو لم يوحد الله فلا عبرة بصيامه، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] فالكافر لا يعتد بصومه ولا يعتد بطاعته حتى يسلم، فإن أسلم أثناء الشهر وجب عليه أن يصوم ما بقي، ولا يجب عليه قضاء ما مضى. وإن أسلم أثناء اليوم وجب عليه الإمساك بعد إسلامه وقضاء ذلك اليوم، وهذا مبني على حديث يوم عاشوراء الذي رواه معاوية رضي الله عنه وأرضاه كما في الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه لما كان يوم عاشوراء قال: إن الله فرض عليكم صيام هذا اليوم، فمن أصبح منكم صائماً فليتم صومه، ومن أصبح منكم مفطراً فليمسك بقية يومه) قالوا: فيجب على الكافر أن يمسك بقية اليوم، ثم يقضي هذا اليوم؛ لأنه لما أسلم ولو قبل غروب الشمس بلحظة فقد وجب عليه قضاء هذا اليوم، ولذلك يقولون: إنه يطالب بالقضاء، وأما بالنسبة للأيام التي مضت فإنه لا يطالب بقضائها لوجود الانفصال، وفرق بين المتصل والمنفصل، فإن إفطاره في اليوم نفسه متصل، وإلزامه بقضاء ما مضى من رمضان منفصل؛ فوجبت عليه العبادة المتصلة دون العبادة المنفصلة. وقوله: (على كل مسلم مكلف) ويشترط بعد الإسلام أن يكون مكلفاً، والتكليف يكون بالعقل والبلوغ. فإذا قيل: مكلف، تضمن ذلك كونه عاقلاً وكونه بالغاً، فلا يجب الصوم على صبي، ولا يجب الصوم على مجنون. أما الصبي فالسنة إذا أطاق الصوم أن يعود عليه من الصغر، كما في حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه (أنهم كانوا يروضونهم على الصيام، ويعطونهم اللعب يلعبون بها وهم صبيان)، ولكن ينبغي أن يكون مطيقاً لذلك. أما إذا كان صغير السن ويتضرر بالإمساك ولو بعض اليوم؛ فإنه لا يحمل فوق طاقته؛ لأن هذا يزعجه ولربما يجعله يكره هذه العبادة، فإنه إذا أطاقها ألفها وأحبها كما أمر الأولياء أن يأمروا صبيانهم بالصلاة لسبع؛ تعويداً لهم على هذه العبادة وترويضاً لهم عليها، فيعود الصبي الصيام من الصغر، كأن يكون ابن العاشرة أو الحادية عشرة، أو يكون دون ذلك إذا أحب هذه العبادة وألفها، وإذا صام فليشجعه وليه على ذلك ويعينه عليه؛ لما فيه من تحصيل مقصود الشرع من تحبيب العبادة لنفسه وتعويده عليها. وأما المجنون فلا نطالبه بالصوم، سواء بلغ مجنوناً أو طرأ عليه الجنون. وهكذا لو صار كبير السن فأصبح يضيع ويخلط، فإذا أصبح يضيع ويخلط أو كان مجنوناً وحصل له هذا التضييع والخلط أو الجنون أثناء الصوم، فإننا لا نلزمه بذلك اليوم، سواء كان جنونه مسترسلاً أو متقطعاً. وإذا كان جنونه متقطعاً بأن طرأ عليه الجنون في نصف رمضان، فالنصف الذي جن فيه ليس عليه قضاؤه، والنصف الذي كان فيه عاقلاً صحيحاً فإنه يطالب بصيامه. وإذا أفاق بعد ذلك فلا نطالبه بقضاء الشهر إن كان مجنوناً في الشهر كله؛ لأن المجنون حال جنونه غير مكلف.

حكم صيام المغمى عليه

حكم صيام المغمى عليه وهل المغمى عليه في حكم المجنون أو في حكم النائم؟ كما يقع الآن في موتى الدماغ فبعضهم ربما يستمر الشهر والشهرين وربما السنة بكاملها، وقد يستمر سنوات وهو تحت هذه الأجهزة وقد مات دماغه، فمثل هذا لا يطالب بصوم، بل لا يطالب أولياؤه لا بقضاء ولا بإطعام؛ لأنه لم يجب عليه الصوم أصلاً، إذا قرر الأطباء أنه قد فقد عقله، فإنه في هذه الحالة لا يطالب بقضاء، ولا يطالب أولياؤه أيضاً بالقضاء أو بالصيام عنه ولا بالإطعام؛ لأنه غير مكلف بالصوم أصلاً. وأما بالنسبة للجنون المتقطع فحكمه ما ذكرناه: في حال إفاقته يطالب بالصوم، ويطالب بالقضاء إن أفاق أثناء اليوم، وبالنسبة للأيام التي هو فيها عاقل فإنه يطالب فيها بالصوم.

اشتراط القدرة في الصيام

اشتراط القدرة في الصيام قوله: (قادر) أي: يشترط للصائم أن يكون قادراً على الصوم، فخرج بهذا المريض، فإن المريض لا يلزم بالصوم إذا كان لا يستطيع معه الصوم، سواء كان لا يستطيع بالكلية كأن يخشى على نفسه الموت، أو كان المرض يوجب الحرج والمشقة عليه إن صام. فهناك نوعان من المرض: النوع الأول: أن يقرر الأطباء أنه لو صام فإنه سيهلك، كما يقع في بعض الحالات التي يكون فيها فشل الكلى، بحيث يقرر الأطباء أنه في حالة خطرة بحيث لو انقطع عن الماء فإن مصيره إلى الموت والهلاك، وهكذا إذا كان فيه مرض قلب، أو كان حديث عهد بعمليات ويحتاج إلى الاستمرار على دوائها، فمثل هؤلاء يلزمهم ويجب عليهم أن يفطروا؛ لأن تعاطي الأسباب الموجبة للهلاك لا يؤمر به شرعاً، ولذلك قال العلماء: من ترك أكل الميتة وهو مضطر لها حتى مات، يحكم بكونه قاتلاً لنفسه والعياذ بالله؛ لأنه قد تحقق أو غلب على ظنه أنه سيموت فتعاطى أسباب الهلاك. وقد أشار شيخ الإسلام -رحمة الله عليه- إلى هذا القول: أنه لا يجوز للمسلم إذا توقفت نجاته على أمر أن يتعاطى أسباب فوات النفس؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] فليس في دين الله ولا في شريعته إلزام إنسانٍ بالصوم على وجه يوجب هلاكه، ولذلك أسقط الله الصوم في حال المرض لمكان المشقة الفادحة؛ فلأن يسقط في حال الخوف على النفس من باب أولى وأحرى. وعلى هذا: فإنه إذا كان المرض مخوفاً بحيث يخشى على صاحبه أن يهلك فإنه لا يصوم، وأما إذا كان يجد المشقة والحرج فإنه يخير بين الفطر وبين الصوم، والأفضل له أن يفطر؛ لما فيه من الأخذ برخصة الله عز وجل؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم عتب على الرجل أن شق على نفسه بالصوم، وقال: (ليس من البر الصيام في السفر) أي: على من يشق عليه ويحرجه. أما لو كان في حال مرضه يطيق الصوم، والصوم عليه يسير بدون حرج، فالأصل فيه أنه مطالب بالصوم، ولا يرخص له. مثاله: لو أن إنساناً كسرت يده، لكن كسر اليد لا يتأثر بالصوم، فنقول: إنه يجب عليه أن يصوم إلا في حالة ما إذا كان عنده ألم شديد وتوقف على علاج يسكن له هذا الألم، فرخص بعض العلماء -رحمهم الله- في تسكينه من باب دفع الحرج، والله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]. إذاً: لابد أن يكون المكلف قادراً، فإذا كان قادراً فإنه يجب عليه، والدليل على اشتراط القدرة قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وقوله عليه الصلاة والسلام (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون) فأمرنا أن نتكلف من الأعمال والعبادات ما نطيقه، وقال: (إن المنبت لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع) فالشخص الذي يصوم وهو غير قادر سينتهي به الأمر إلى أن يهلك، أو أن يؤدي العبادة على مضض وسآمة وملل، ولربما يترتب على ذلك ضرر أعظم من تركه للصوم.

وجوب الإمساك حال قيام البينة برؤية الهلال

وجوب الإمساك حال قيام البينة برؤية الهلال وقوله: [وإذا قامت البينة في أثناء النهار وجب الإمساك والقضاء على كل من صار في أثنائه أهلاً لوجوبه]. البينة: مأخوذة من البيان، يقال: بان الصبح إذا اتضح ضوؤه، والشيء البين هو الواضح، والبينة: هي الدليل الذي يظهر صدق الدعوى ويكشف وجه الحق، فلو أن اثنين اختصما عند القاضي، فادعى أحدهما على الآخر شيئاً، كأن يقول: لي على فلان ألف ريال ديناً. فقال فلان: ليس له عندي شيء، وأنكر. فجاء المدعي بشاهدين عدلين، فنقول: هذه بينة أظهرت صدق الدعوى؛ لأنه لما قال: لي على فلان ألف ريال. احتمل أن يكون صادقاً واحتمل أن يكون كاذباً، والأصل أن المدعى عليه بريء حتى يثبت أنه مدان بهذا الحق، فلما جاء بالبينة أظهرت صدق الدعوى. والظهور الغلبة، كما قال تعالى: {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14] أي: غالبين، فكأن صدق الدعوى وكذبها في منزلة واحدة عند الادعاء، فلما جاء بالبينة أظهرت صدق الدعوى وكشفت وجه الحق، لأنه لما قال: لي على فلان ألف. فقال فلان: ليس له علي ألف ريال، التبس وجه الحق، فلما قام الشاهدان انكشف أن الحق مع من قال: لي على فلان ألف ريال. فعلى هذا قالوا: إن البينة هي ما يظهر صدق الدعوى ويكشف الحق. والأصل في البينة أن تكون بشهادة العدلين على الشروط المعتبرة، لكن قد تكون البينة امرأة واحدة كالشهادة على الرضاعة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كيف وقد قيل؟!) فقد قبل شهادة المرأة الواحدة، فلو قالت امرأة: أرضعتك وفلانة، فإنه يثبت حينئذٍ أنها أخت لك، وهكذا لو أن امرأة قابلة -وهي التي تشرف على الولادة- شهدت بأن المولود استهل صارخاً، فإن المولود والجنين لا يرث إلا إذا تحققنا من حياته، ولا نتحقق من حياته إلا إذا عاش لحظة على الأقل بعد ولادته، فلو ولد ميتاً لم يكن له شيء، فنحتاج لكي نثبت الميراث له أن يستهل صارخاً، بمعنى: بأن يحدث منه الصوت أو الحركة التي تدل على الحياة حال ولادته على خلاف عند العلماء، فإذا شهدت امرأة واحدة أنه استهل صارخاً قبلت شهادتها في الاستهلال، لمكان الضرورة والحاجة، كما قبلنا شهادة المرضعة. وهذه من المسائل التي تكون فيها البينة قاصرة وناقصة، وعلى هذا فالبينة هي: شاهدان عدلان قاما بالشهادة على وجهها بأنهما قد رأيا الهلال ليلة البارحة، وإذا لم ير الناس الهلال فأصبحوا مفطرين في يوم الثلاثين من شعبان، فجاءت البينة وشهدت عند القاضي أنها رأت الهلال ليلة البارحة، وأن هذا اليوم هو الأول من رمضان، فيأمر القاضي بالنداء في الناس أن يمسكوا. والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله فرض عليكم صوم هذا اليوم -يعني: يوم عاشوراء- فمن أصبح منكم صائماً فليتم صومه، ومن أصبح منكم مفطراً فليمسك بقية يومه) فإن هؤلاء الذين أفطروا إنما أفطروا في أول الأمر وهم يظنون أن الصوم غير واجب، بل على يقين بأنهم يفطرون، وكان الصيام تخييراً لا إلزاماً، فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإمساك بقية اليوم، قالوا: فيعذر أهل البلدة إذا لم يروا الهلال أول اليوم؛ لمكان عدم العلم، فإذا علموا وتحققوا فقد تبين أن هذا اليوم يجب عليهم صيامه، فعذروا بالفطر بأوله ولا يعذرون بالفطر في باقيه، فيلزمهم الإمساك بقية اليوم على ظاهر حديث معاوية رضي الله عنه. ثم يلزمهم قضاء هذا اليوم؛ لأن القاعدة في الشرع: أنه لا عبرة بالظن البين خطؤه، أي: لا عبرة بالظن الذي بان أنه خطأ، فهم قد بنوا على غلبة الظن بأن شعبان كامل، ثم تبين أن هذا الظن خاطئ، وقد تحقق أن هذا اليوم من رمضان، فنعذرهم لأن الشيء إذا جاء لعذر يقدر بقدره. فجاز لهم أن يفطروا أول اليوم لأنهم معذورون بعدم العلم، فلما زال السبب الذي من أجله عذروا رجعوا إلى الأصل من كونهم مخاطبين بإتمام العدة، وعلى هذا قالوا: يلزمهم الصوم بقية اليوم، ويلزمهم قضاء هذا اليوم؛ لأن الله أوجب عليهم صيام رمضان كاملاً وقال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] فهؤلاء مطالبون بصيام رمضان كاملاً، وهذا اليوم من رمضان ولا وجه لإسقاطه. وقال بعض العلماء: لا يجب عليهم قضاؤه، بل يمسكون بقية اليوم ولا يقضون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الصحابة بقضاء يوم عاشوراء. وهذا مذهب مرجوح، والجمهور على أنهم يقضون، ووجه كونه مرجوحاً: أولاً: يجاب عن حديث معاوية من وجهين: الوجه الأول: أنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقضاء ويحتمل أنه لم يأمرهم، والسكوت عن النقل لا يدل على عدم الوجوب كما هو معلوم في الأصول، وعلى هذا قالوا: إنه قد يكون سكت للعلم به بداهة بأنهم مطالبون بالقضاء. الوجه الثاني: أن هناك فرقاً بين استئناف التشريع وبين ثبوته، فقالوا: إن التشريع استؤنف في أثناء اليوم بخلاف بقية الأمة، فإنهم مطالبون بصيام الشهر كاملاً لأن التشريع موجود، وإنما سقط عنهم القضاء لأن التشريع استؤنف؛ ففرق بين كون التشريع مستأنفاً وبين كونه ثابتاً. فعلى هذا قالوا: إنه يجب عليهم قضاء هذا اليوم؛ لأن الأصل أنهم مطالبون بصيام ثلاثين يوماً بخلاف أهل يوم عاشوراء، فإنهم لم يطالبوا به في الأصل، وعلى هذا فرق بين الإلزام بصيام اليوم إذا قامت البينة، وبين عدم ورود أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء في حديث يوم عاشوراء.

وجوب القضاء على من نوى الصيام مترددا

وجوب القضاء على من نوى الصيام متردداً وقوله: [والقضاء على كل من صار في أثنائه أهلاً لوجوبه]. معنى ذلك: أنه لو أصبح إنسان صائماً يوم الشك، ثم تبين أن هذا اليوم من رمضان، قالوا: يلزمه أن يقضي؛ لأنه صام يوم الشك على نية مترددة، والنية المترددة لا تسقط الجزم؛ فإن الإنسان إذا قال: يحتمل أنه من رمضان، ويحتمل أن يكون من شعبان، فأنا أصومه إن كان من رمضان ففرض، وإن كان من شعبان فنفل، فأصبحت نيته ليست بمتمحضة للفرض، وقد نوى النفل أثناءها؛ لأنه قال: إن كان من شعبان فنفل. فقد أدخل نية النفل عليه، ولا تصح نية الفريضة إلا متمحضة؛ فيلزمه القضاء. وقد ألزم النبي صلى الله عليه وسلم بالنية في الصوم؛ فقال عليه الصلاة والسلام: (من لم يبيت النية بالليل فلا صوم له) كما هو حديث ميمونة، وهو حديث صحيح، فلما ألزمنا بتبييت النية فكانت النية للفريضة فريضة، ولا تكون مترددة، وهذا قد نوى على التردد فلم تقع نيته وفق النية المعتبرة شرعاً، فألزمه الجمهور بقضاء هذا اليوم، وهذا معنى قول العلماء: يلزم القضاء للجميع. لكن لو أن إنساناً رأى الهلال وحده فأصبح ناوياً صيام رمضان، وقدم عليهم وهم مفطرون أول اليوم فأمسك، ثم ثبت بالبينة أنه من رمضان فإن صومه يجزيه، ولا يلزمه القضاء.

صيام أهل الأعذار بعد زوال الأعذار

صيام أهل الأعذار بعد زوال الأعذار وقوله: [وكذا حائض ونفساء طهرتا]. أي: وكذا المرأة الحائض والمرأة النفساء، فإنها إذا طهرت أثناء يوم رمضان فإنه يلزمها إمساك بقية اليوم وقضاؤه، وذلك أن المرأة الحائض سقط عنها الصوم أثناء تلبسها بالعذر، والقاعدة في الشرع: أن ما جاز لعذر بطل بزواله. فمثلاً: جاز للإنسان أن يسأل الناس إذا أصابته حاجة، فإذا تبرع له الناس حتى سدت هذه الحاجة حرم عليه أن يسأل، لقوله عليه الصلاة والسلام: (حتى يمسك قواماً من عيش) فلما أمسك القوام من العيش رجع إلى الأصل من كون السؤال حرام عليه. قالوا: كذلك ما جاز لحاجة وعذر، فإنه قد جاز للمرأة الحائض والنفساء أن تفطر لمكان العذر وهو الحيض والنفاس، فإذا زال العذر وطهرت رجعت إلى الأصل من كونها مطالبة بالإمساك، فيجب عليها أن تمسك بقية اليوم، ثم بعد ذلك تقضي هذا اليوم. وهكذا المسافر إذا قدم من سفره، فإن الله قد أباح الفطر للمسافرين إذا كانوا على سفر؛ فإذا قدموا وزال عنهم وصف السفر بقوا على الأصل من كونهم مطالبين بالإمساك بقية اليوم، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الإمساك بقية يوم عاشوراء. ولذلك فحكم المسافر والمرأة الحائض والنفساء حكم صيام يوم عاشوراء كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا وجه للتفريق بالتعليل والنظر، ولذلك يُبقى على الأصل الذي دل عليه حديث يوم عاشوراء، وهذا هو مذهب الجمهور، وهو أقوى المذاهب وأعدلها، إضافة إلى أنه يرجع إلى الأصل، ويكون أقوى الأقوال في الفقه هو ما يشهد الأصل باعتباره. فالأصل أنه مطالب بالإمساك، وهذا شهر إمساك وصوم، ولذلك لا يفرق بين أجزاء النهار كاملة أو ناقصة، فإذا جاز أن يفطر أو يأكل في حالة معينة على صفة معينه، ثم زالت هذه الحالة والصفة؛ وجب عليه أن يرجع إلى الإمساك الذي هو أصل الشهر، فالشهر إنما سمي بشهر الإمساك لكون الصائم يمسك فيه، فإذا جاز له أن يأكل بسفر أو مرض، أو جاز للمرأة أن تأكل لحيض أو نفاس، ثم زال الحيض والنفاس والسفر والمرض؛ رجع إلى الأصل من كونه مطالباً بالإمساك. وقوله: [ومسافر قدم مفطراً]. أي: وهكذا لو سافر إنسان وقدم من سفره أثناء اليوم؛ فإنه يلزمه أن يمسك بقية اليوم؛ لأنه جاز له الفطر أثناء السفر: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] فجعل المريض والمسافر معذوراً أثناء السفر والمرض؛ فإذا زال السفر وزال المرض رجع إلى الأصل من كونه مطالباً بالإمساك في هذا اليوم.

حكم من أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه

حكم من أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه وقوله: [ومن أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه، أطعم لكل يوم مسكيناً]. هذا النوع الثاني ممن يرخص له أن يفطر في شهر رمضان، وهو المريض الذي لا يرجى برؤه من المرض، والكبير أي: الشيخ الهرم الذي لا يطيق الصوم. فبالنسبة للمريض الذي لا يرجى برؤه كمن به فشل في الكلى، أو معه مرض مزمن لا يمكنه أن يمسك عن الطعام والشراب، فهذا يلزمه أن يطعم؛ فيعدل من الصوم إلى الإطعام، لقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] وفي قراءة: (وعلى الذين يطَيّقونه) وفي قراءة: (وعلى الذين يَطوّقونه) والمراد بهذه القراءة أنهم يجدون المشقة والعناء، ويتكلفون ما في طاقتهم ووسعهم للصوم، فهؤلاء أوجب الله عليهم أنه يطعموا المسكين؛ فيعدلون من الصيام إلى الإطعام، ولا يكون الصوم واجباً عليهم لا أداءً ولا قضاءً، فيسقط عنهم الصوم بالكلية. والمريض الذي لا يرجى برؤه؛ لأنه إذا أفطر لا يستطيع أن ينتقل إلى بدل، فالمرض معه والعذر مستديم معه، وهكذا الشيخ الهرم، فإنه يفطر ولا يلزمه أن يقضي، وإنما يعدل هذان النوعان إلى الفطر بدون قضاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى أوجب عليهم الإطعام ولم يوجب عليهم الصيام لظاهر آية البقرة التي ذكرناها. وقوله: (أطعم لكل يوم مسكيناً): إطعام المساكين له صور: إن شاء في كل يوم أن يرتب طعامه ويعطيه للمسكين، وإن شاء جمع في آخر رمضان ثلاثين مسكيناً وأطعمهم، أو مر على الثلاثين وأطعمهم دفعة واحدة؛ لكن لو أنه من بداية رمضان أخذ طعام الثلاثين وفرقه على ثلاثين ناوياً به الشهر كاملاً لم يجزه؛ لأنه لا يجب عليه الإطعام إلا بالإخلال، وذلك بفطره في اليوم، فلا يطعم إلا بعد فطره، ولذلك قالوا: لو أراد أن يطعم عن كل يوم فإنما يطعم بعد طلوع الفجر؛ لأنه يفطر بعد طلوع الفجر، وحينئذٍ يكون متوجهاً عليه الخطاب بالإطعام، أما قبل الفطر فإنه لا يطعم ولو كان قبل تبين الفجر الصادق. وإنما يطعم بعد طلوع الفجر؛ لأنه يتعين عليه حينئذٍ الإطعام، أما لو أطعم قبل فإنه يكون إطعامه حينئذ نافلة ولا يكون فريضة؛ لأن الله لم يوجب عليه الإطعام بعد، كما لو صلى قبل دخول الوقت، وبناء على ذلك قالوا: العبرة بوقت الصوم، فإذا دخل عليه وقت صوم هذا اليوم أطعم عن هذا اليوم، فلو أراد أن يقدم لم يصح ذلك منه، ووقع الإطعام نافلة لا فريضة. وأما لو أخر وأطعم عن ثلاثين يوم دفعة واحدة فيأتي على وجهين: إما أن يجمع طعام ثلاثين يوماً ويعطيه لمسكين واحد. وإما أن يجمع طعام الثلاثين ويفرقه على الثلاثين. فإن فرق طعام الثلاثين على الثلاثين أجزأه، فأما إطعام مسكين طعام ثلاثين يوماً فلا يجزيه إلا عن يوم واحد؛ لأن كل يوم يخاطب فيه بحسبه، فعلى هذا يجب عليه أن يطعم ثلاثين مسكيناً إذا كان الشهر كاملاً، وتسعة وعشرين مسكيناً إذا كان الشهر ناقصاً، والأولى والأحرى والأفضل أن يطعم كل يوم مسكيناً في يومه، لكن لو أخر إلى آخر رمضان فإنه يجزيه الإطعام، لكن هل يأثم أو لا يأثم؟ قال بعض العلماء: يأثم بالتأخير، ويصح إطعامه. وقال بعض العلماء: يجوز له التأخير، لكن القول بإثمه من الوجاهة والقوة بمكان، وبناءً على ذلك فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً.

أحكام الهلال وأهل العذر في رمضان [3]

شرح زاد المستقنع - أحكام الهلال وأهل العذر في رمضان [3] صيام رمضان واجب على كل مسلم مكلف قادر، ومن تعذر عليه الصيام فإنه يفطر ويقضي بعد رمضان، ومن أهل الأعذار في رمضان: الحائض، والنفساء، والمريض، والمسافر سفراً يقصر فيه، والحامل والمرضع إن خافتا على أنفسهما أو على ولدهما.

حكم فطر أهل الأعذار

حكم فطر أهل الأعذار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد

الفطر بعذر المرض والسفر

الفطر بعذر المرض والسفر فيقول المصنف رحمه الله: [ويسن لمريض يضره ولمسافر يقصر]. ويسن الفطر لمريض؛ لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] فأمرنا الله عز وجل أن نعدل في حال السفر والمرض إلى الفطر، لكن هل ذلك على سبيل الوجوب أو على سبيل التخيير؟ للعلماء قولان: قال جمهور العلماء: من كان مريضاً أو على سفر إن شاء أفطر وإن شاء صام، فهذا مذهب الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة. وقال بعض العلماء: المسافر لا يصح منه أن يصوم، ولو صام في السفر بطل صيامه ويجب عليه القضاء؛ لأن الله يقول: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] أي: أنه يجب عليه أن يفطر، ويكون صومه في عدة من أيام أخر، وهذا مذهب الظاهرية. والصحيح: مذهب الجمهور؛ وذلك لأن السنة فسرت القرآن وبينت المراد منه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه مسافراً، قال أنس: (فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم). وفي الصحيح: أن عمرو بن حمزة -رضي الله عنه- سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إني أطيق الصوم في السفر. فقال عليه الصلاة والسلام: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر) فخيره النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلزمه عليه الفطر؛ فدل على أن الإنسان مخير. لكن إذا حصل الحرج والمشقة للإنسان في السفر فإنه يعدل إلى الفطر، وقد يجب عليه ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صام حتى بلغ كراع الغميم، وهو موضع بين مكة والمدينة، أقرب إلى مكة منه إلى المدينة، وكراع الغميم هو كراع البحر، أقرب إلى جهة عسفان، المسافة ما بين المدينة وعسفان تقرب من سبع مراحل أو ثمان مراحل، والثمان المراحل: قرابة ثمانية أيام، وكلها كان يصومها عليه الصلاة والسلام، فاشتد الصوم على المسافرين من أصحابه فأفطر عليه الصلاة والسلام، وأخبر أن أقواماً لا يزالون صائمين، فقال عليه الصلاة والسلام: (أولئك العصاة أولئك العصاة) وهذا لأن اليوم كان شديد الحر، عظيم الضرر على المسافرين؛ فكان المنبغي عليهم أن يأخذوا برخصة الله عز وجل عليهم، فصار تكلفهم الصيام فيه حرج ومشقة على النفس. ومن هنا قال العلماء: نفرق في المسافر؛ فإذا كان السفر يحرجه ويتعبه ويشق عليه أن يصوم فيه؛ فإنه يعدل إلى الفطر، وقال بعضهم بالوجوب كما ذكرنا، وأما إذا كان يجد المشقة ولا تصل به إلى الحرج فهو مخير بين أن يفطر وبين ألا يفطر. أما الحالة الثالثة: وهي أن يسافر وهو مرتاح -كما هو الحال في وسائل السفر الموجودة اليوم- فلا يجد عناءً ولا مشقة، فهل يجوز له أن يفطر؟ A نعم، يجوز له أن يفطر؛ لأن الشرع علق العلة بالغالب، والقاعدة في الأصول في مثل هذه الرخص أنه لا يلتفت فيها إلى نادر الصور؛ لأن نادر الصور أن المسافر يرتاح، والواقع أن المسافر له عناءان وعليه مشقتان: مشقة ظاهرة، ومشقة باطنه. أما المشقة الظاهرة: فهي التعب في التحمل والنزول والغربة. وأما المشقة الباطنة: فهي مشقة التعب النفسي في بعده عن أهله، وتغربه عن وطنه، وإقدامه على المكان الموحش والأرض القفراء التي لا أنيس فيها ولا جليس، فهذا يرهق النفس ويتعبها وإن كان في الظاهر مرتاحاً مستجماً، فالشرع علق الرخصة بوجود السفر. فنحن نقول: من شاء أن يصوم ومن شاء أن يفطر، ولو كان في حالة من الراحة والاستجمام؛ لأن الله عز وجل جعل للمسافر أن يفطر بغض النظر عن كونه مرتاحاً أو غير مرتاح، ولا نفرق بين المرتاح وغيره؛ لأن التفريق بين المرتاح وغيره مبني على الاجتهاد والنظر، والقول باعتبار الظاهر من النص أولى وأحرى. ولذلك من الخطأ ما يقع فيه بعض الناس من الإنكار على المسافر المرتاح أنه يفطر، وهذا خطأ؛ لأن الله عز وجل أباح للمسافر أن يفطر ولم يفرق بين مسافر وآخر، ولذلك لا يجوز لأحد أن ينكر على مسافر إذا أفطر ولو كان في أقصى راحة واستجمام؛ لأن الله عز وجل أحل له ذلك، فلا نلزمه بما لم يلزمه الله عز وجل به، ونقول: هو بالخيار، إن شاء أفطر وإن شاء صام، والأفضل له إذا كان في سفر وكان مرتاحاً أن يصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر؛ ولأن ذلك يبرئ ذمته، وإبراء الذمة أولى من شغلها، فكونه يبرئ ذمته بالعاجل أفضل؛ ولأنه لا يضمن أن يبقى، ولذلك كونه يخلي نفسه من المسئولية والتبعة فهو أفضل له وأولى وأحرى، فعلى هذا قالوا: الأفضل له أن يصوم ولا يفطر.

الضابط في السفر المرخص فيه بالإفطار

الضابط في السفر المرخص فيه بالإفطار وقوله: [ومسافر يقصر]. أي: يباح الفطر للمسافر بشرط: أن يكون سفره سفر قصر، وسفر القصر هو: أن يكون المكان الذي يقطعه في سفره مسيرة يوم وليلة على الإبل المعتادة، وهذا يقرب من خمس وسبعين إلى ثمانين كيلومتراً، فمن قصد بلدة ومدينة تبعد عن مدينته ما بين خمس وسبعين إلى ثمانين كيلومتراً فإنه يباح له أن يفطر، وأما إذا كانت المدينة تبعد عنه أقل من ذلك كسبعين أو ستين كيلو متراً فإنه لا يفطر، ولو كان الفرق يسيراً ككيلومتر أو نصف كيلومتر عن المسافة المعتبرة فإنه لا يفطر، وقد استغرب بعض المتأخرين ذلك وقالوا: كيف تحدد مسافة السفر، فنقول لشخص قصد مدينة تبعد أربعاً وسبعين كيلومتراً لا يفطر، ومن قصد مدينة من خمسة وسبعين كيلومتراً يفطر؟ نقول: هذا تفريق من الشرع، ولذلك لما سئل عبد الله بن عباس عن القصر في السفر من مكة إلى مر الظهران والجموم، قال: لا، ولكن إلى جدة وعسفان والطائف. فأجاز رضي الله عنه القصر إلى جدة، وكانت تبعد مسافة القصر، والطائف لأنها تبعد مسافة القصر، وعسفان لأن عسفان كان بينها وبين مكة مرحلة، والمرحلة هي مسيرة اليوم الكامل، وهذه مرحلة كاملة كانت بين عسفان ومكة، فأجاز القصر في هذه المسافة ولم يجز دونها، وكان ابن عمر كذلك يقصر إذا ذهب إلى مزرعته بوادي ريم، وريم تبعد عن المدينة فوق السبعين كيلومتراً، وهي مسافة المرحلة الكاملة. وعلى هذا فإننا نقول: إن الله عز وجل أباح للمسافر أن يفطر، ولكننا لا نجيز في كل سفر الفطر ما لم يكن هذا السفر معتبراً شرعاً، والسفر المعتبر شرعاً هو ما بلغ مسيرة اليوم والليلة، والدليل على اعتبار الشرع له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة) فلو كان ما دون مسيرة اليوم والليلة يسمى سفراً لقال عليه الصلاة والسلام: لا يحل لامرأة أن تسافر يوماً، أو: لا يحل لامرأة أن تسافر ليلة، أو: لا يحل لامرأة أن تسافر نهاراً، أو: لا يحل لامرأة أن تخرج من المدينة، لو كان كل خروج من المدينة سفراً لقال: لا يحل لامرأة أن تخرج من المدينة، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (أن تسافر) وقيد السفر بقوله: (مسيرة يوم وليلة) أخذ منه جمهور العلماء أن السفر هو مسيرة اليوم والليلة. فمن قصد من بلده موضعاً يبعد مسيرة اليوم والليلة وقدره من خمسة وسبعين إلى ثمانين كيلومتراً فإنه يقصر ويفطر. ويشترط في هذا السفر ألا يكون سفر معصية؛ لأن سفر المعصية لا يجوز للإنسان أن يفطر فيه؛ لأنه ليس بسفر معتبر شرعاً، فإن بلغ به الحرج والمشقة والضيق حل له الفطر من باب آخر لا من باب السفر. والأصل في ذلك: أن الشرع لم يأذن له بهذا السفر، فصار كغير المسافر، وإنما يحل له أن يقصر وأن يفطر إذا كان سفره يعتبره الشرع سفراً، وأما ما لم يعتبره الشرع سفراً فإنه لا يفطر فيه، كالسفر إلى حرام وقطيعة رحم وعقوق والدين، فمثل هذه الأسفار لا يترخص صاحبها فيها، ولا يجوز له أن يفطر ولا أن يقصر الصلاة كما قررناه في باب صلاة المسافر.

حكم من نوى صيام يوم ثم سافر في أثنائه

حكم من نوى صيام يوم ثم سافر في أثنائه [وإن نوى حاضر صيام يوم ثم سافر في أثنائه فله الفطر]. هذا مذهب جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم: أنه إذا أقام ثم طرأ عليه السفر في أثناء اليوم، فإنه يجوز له أن يفطر، فلا يشترط في المسافر أن يكون قد بيت النية بالسفر، فلو طرأ عليك السفر أثناء اليوم حل لك أن تفطر بمجرد خروجك من المدينة. والأصل في ذلك أن الله تعالى يقول: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184]، فوصف الإنسان بكونه على سفر. وذهب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى جواز الفطر في داخل المدينة، وكان بعض العلماء يقول بجواز الفطر بالنية، وهذا من أضعف المذاهب؛ لأنه يخالف نص القرآن وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن نص القرآن الثابت في كتاب الله عز وجل أنه وصف الإنسان بكونه على سفر، والذي على سفر لا يكون مسافراً إلا إذا أسفر، والإنسان لا يقال: إنه على سفر، إلا إذا خرج وأسفر، والإسفار يتحقق بخروجك من آخر عمران المدينة؛ فإذا خرجت من آخر عمران المدينة حل لك أن تفطر، وأما إذا كنت داخل المدينة فإنه لم يتحقق كونك مسافراً. ولذلك يقولون: إنه لا يرخص له الفطر إلا إذا جاوز آخر العمران، وقد بينا ضوابط مجاوزة آخر العمران في باب صلاة المسافر في كتاب الصلاة، وبينا ضابط ذلك، وما أثر عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه من كونه أفطر وهو يرى البنيان، قال العلماء في جوابه: إن قوله: إن ذلك من السنة، مراده: أنه لا يشترط أن يغيب عن نظرك رؤية العمران؛ فهناك مسألتان: المسألة الأولى: خروجك من المدينة. والمسألة الثانية: إذا خرجت من المدينة هل يشترط أن تغيب العمران، بمعنى أن تبعد وتبعد حتى إذا نظرت لا ترى أثراً للعمران، أم أن العبرة بمجرد خروجك؟ فظاهر ما جاء عن أبي بصرة أنه حينما كان على مركبه وسفينته على دجلة أنه كان يرى العمران، فدل على أن رؤية العمران لا تسقط الرخصة، وهذا صحيح ويقول به الجمهور: أن العبرة بمجاوزتك للعمران، وأن رؤيتك له ولو كنت على متر من العمران جاز لك أن تفطر، فلا يشترط عدم الرؤية، وفرق بين مسألة الرؤية وبين مسألة النية. ومما يدل على أن الشرع رخص في السفر؛ أنه أعطى رخصتين: الرخصة الأولى: قصر الصلاة. والرخصة الثانية: الفطر في الصوم، وكلاهما من جنس العبادة، ومع هذا فإنه لا يقصر الصلاة بالإجماع وهو في المدينة، ولو كانت نيته السفر، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربع ركعات، مع أنه ناو للسفر لحجة الوداع، فصلى العصر بذي الحليفة ركعتين، فمعنى ذلك أنه إذا أصبح ذلك اليوم وهو ناو للسفر لم يقصر الصلاة، وكذلك في الصوم، لو أصبح وهو ناو للسفر لا يباح له الفطر ما لم يخرج من المدينة ويجاوز عمرانها على الصفة التي ذكرها في باب صلاة المسافر.

إفطار الحامل والمرضع

إفطار الحامل والمرضع وقوله: [وإن أفطرت حامل أو مرضع خوفاً على أنفسهما قضتاه فقط]. أي: قضتا ذلك اليوم، ولا يلزمهما إطعام. والحامل والمرضع لا يخلو في فطرهما من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون الخوف على أنفسهما. الحالة الثانية: أن يكون الخوف على الولد. الحالة الثالثة: أن يكون الخوف على النفس مع الولد. فإن كان خوفهما على أنفسهما أو على أنفسهما مع الولد فإنه يباح لهما الفطر والقضاء بدون إطعام، لأن العذر متصل بهما. وإن خافتا على الولد أفطرتا وقضتا وأطعمتا. وهذا على ظاهر آية البقرة، فإن ابن عباس -رضي الله عنه- كان يرى أنها باقية في الحامل والمرضع: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] قال: إن المرأة الحامل عليها أن تطعم المسكين، وهذا في حالة ما إذا كانت مفطرة عن نفسها؛ فخالف جمهور العلماء، والجمهور على أنه إذا أفطرت المرأة الحامل والمرضع خوفاً على أنفسهما فإن الواجب عليهما القضاء دون الإطعام كالمسافر والمريض، لأن العذر متصل بهما. أما إذا خافتا على الولد وحده ولم يكن الخوف على النفس؛ فإنه حينئذٍ يلزمهما الإطعام والقضاء عن ذلك اليوم، قالوا: الإطعام لمكان انفصال العذر، وأما بالنسبة للقضاء فلكون اليوم واجباً عليهما بالأصل. وقوله: [وعلى ولديهما قضتا وأطعمتا لكل يوم مسكيناً]. أي: إذا خافتا على الولد. المرضع في بعض الأحيان تكون صحتها طيبة، وهي قادرة على الصوم؛ ولكنها تخاف أنها إن صامت فلن يجد الولد اللبن ويتضرر بصيامها، فقالوا: حينئذٍ يكون فطرها لعلة منفصلة عنها وهو الولد. وهكذا بالنسبة للحامل، فإنها تطيق الصوم في نفسها، ولكنها تخشى أن يتضرر الولد، كأن يقول لها الطبيب: إذا صمت في هذا الشهر فإن الولد سيتضرر، فحينئذٍ يكون الخوف على الولد وليس على المرأة الحامل، فيكون العذر في كلتا الصورتين منفصلاً لا متصلاً بالمرأة نفسها.

حكم من صام ثم جن أو أغمي عليه

حكم من صام ثم جن أو أغمي عليه ذكر المصنف رحمه الله مسألة جنون الصائم وإغمائه، وصورة ذلك: أن ينوي الإنسان الصوم لفريضة كرمضان أو نذر أو كفارة، ثم إذا أصبح وهو مغمى، واستمر إغماؤه النهار كله، وهكذا لو أصابه جنون ولم يفق من جنونه إلا بعد مغيب الشمس، فإنه يبطل صومه بهذا الإغماء وبهذا الجنون؛ والسبب في ذلك -كما ذكر العلماء رحمهم الله-: أن النية تزول ويزول منه القصد ولا يستصحب، وإن كانت هناك مسائل يقال فيها باستصحاب الحكم في المغمى عليه والمجنون كالإسلام والردة ونحو ذلك، ولكن هذه المسألة لا يحكم فيها بالاستصحاب، وحينئذٍ يسقط عنه هذا اليوم، فلا يصح صومه ولا يعتد به؛ لمكان فوات النية بزوال الإدراك والشعور. وقوله: [لا إن نام جميع النهار]. اختلف العلماء في الصائم إذا نام جميع النهار: فمنهم من قال: إن النائم يصح صومه، وبناءً على ذلك فلو نام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فصومه صحيح، بخلاف المجنون وبخلاف المغمى عليه، وهذا التفريق مبني على الأصل؛ وذلك أن الصحابة كانوا ينامون؛ ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بانتقاض الصوم بالنوم، والإجماع قائم على أن النوم المعتبر -كالنوم بين الظهر والعصر، والنوم ضحوة، ونوم القيلولة- لا يبطل الصوم، ولكن الخلاف إذا نام أكثر النهار أو نام كل النهار. وصحح جمع من العلماء رحمهم الله التفريق بين الجنون والإغماء والنوم، فقالوا: إن النوم لا يبطل، بخلاف الجنون والإغماء. وقال بعض العلماء: إذا نام أغلب النهار أو كله بطل صومه؛ وذلك لأن المغتفر في النوم ما كان معتاداً، وما خرج عن العادة فإنه يرجع إلى الأصل، فيكون في حكم المجنون والمغمى عليه؛ فيبطل صومه. وقوله: [ويلزم المغمى عليه القضاء فقط]. أما بالنسبة للمجنون فبالإجماع أنه لا يطالب بالقضاء، فلو أن إنساناً يصيبه الجنون متقطعاً، فجن من طلوع الفجر إلى مغيب الشمس، فإن صومه لا يعتد به حتى ولو صام، ولا يلزمه قضاء هذا اليوم. وأما بالنسبة للمغمى عليه فللعلماء فيه قولان: من أهل العلم من يقول: إن المغمى عليه يأخذ حكم المجنون، وبناءً على ذلك لا يلزمه قضاء ولا يصح صومه. وقال بعض العلماء: المغمى عليه في حكم النائم، فصومه صحيح. والصحيح الذي يترجح -والعلم عند الله-: أن المغمى عليه في حكم المجنون، وبناءً على ذلك يطالب بالقضاء ولا يصح صومه. وعلى هذا فما اشتهر في هذه الأيام مما يسمى بموت السرير أو موت الدماغ، فيكون الإنسان قد زال شعوره وليس فيه إلا نبضات قلبه، وحكم الأطباء بموت دماغه، وقد يستمر في جهاز الإنعاش شهوراً وقد يستمر سنوات، فمثل هذا غير مكلف، ولا يلزم بالقضاء، ولا يلزم أهله بالقضاء ولا بالإطعام عنه، بل يسقط عنه التكليف بمجرد موت دماغه وتقرير الأطباء لذلك.

اشتراط النية في الصيام

اشتراط النية في الصيام وقوله: [ويجب تعيين النية من الليل لصوم كل يوم واجب]. شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان المسائل والأحكام المتعلقة بنية الصائم؛ والسبب في ذلك: أن الصوم عبادة، والعبادة لا تصح إلا بنية، وبيان أحكام العبادة التي لها نية يستلزم بيان حكم النية وحدودها وضوابطها. وينقسم الصوم إلى قسمين: صوم فريضة، وصوم نافلة. فكلا القسمين لا يصح إلا بنية، فلو أن إنساناً أضرب عن الطعام واستمر إضرابه يوماً كاملاً، فإننا لا نقول: إنه صائم، ولا يحكم بصومه لا نافلة ولا فريضة؛ لأنه لم يقصد التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بهذا الامتناع، وهكذا لو امتنع عن الطعام والشراب ليخفف وزنه، أو خوفاً من الطعام والشراب أن يضره في جسده، فمثل هذا لو استمر يوماً كاملاً لا نحكم بكونه صائماً؛ لأنه لم ينو التقرب لله سبحانه وتعالى. أما بالنسبة للصوم الذي فرضه الله على المكلف: فإنه لا يُجزئه ولا يصح منه إلا إذا بيت النية بالليل، والدليل على ذلك: قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] وقوله سبحانه وتعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2]. ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله أمر بإخلاص العبادة لوجهه، والإخلاص يتوقف على النية، فلا عبادة إلا بنية، والصوم عبادة لا يصح إلا بنية. وأما دليل السُّنة: فحديث أم المؤمنين حفصة -رضي الله عنها وأرضاها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يُبَيِّتِ النية بالليل فلا صوم له) وفي رواية: (من لم يجمع النية بالليل فلا صوم له). ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بعدم صحة الصوم إذا لم يبيت صاحبه النية بالليل. وثبت في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات) والصوم عمل. ومن أدلة السُّنة أيضاً: ما ثبت في الصحيح من الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) فقال: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) أي: قاصداً التقرب لي؛ فدل على أنه لا صوم شرعاً إلا إذا قصد أن يترك الطعام والشراب لوجه الله عز وجل. ولذلك فضل العلماء الصوم حتى قال بعض فقهاء الشافعية -وهو أحد الأوجه في مذهب الإمام الشافعي -: والصوم أفضل من الصلاة؛ والسبب في ذلك هذا الحديث، قالوا: لأن الله تعالى يقول: (إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به) قالوا: وأفضل الأعمال وأحبها إلى الله: الإخلاص، الذي هو التوحيد، فلما كان الصوم قائماً على الإخلاص وروحه ولبه للإخلاص قالوا: شرُف وفضل على الصلاة من هذا الوجه. والصحيح: أن الصلاة أفضل من الصيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة) ولما ثبت في الصحيحين من قوله: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها). والصوم ينقسم إلى قسمين: الفريضة، والنافلة: أما الفريضة: فلا تصح إلا بنية وجهاً واحداً. وأما النافلة ففيها قولان للعلماء رحمة الله عليهم: منهم من يقول: لابد من تبييت النية في النافلة، فلو أردت أن تصوم الإثنين أو الخميس تقرباً إلى الله عز وجل فلا بد أن تنوي الصيام في ليلة الإثنين وليلة الخميس. وقال جمع من العلماء: يصح أن يصوم النافلة وينشئ نيتها وهو لم يجمع النية بالليل، وهو الصحيح؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه قال: (هل عندكم شيء؟ قالت: لا. قال: إني إذاً صائم) وهذا في النهار؛ فدل على أن صوم النافلة يجوز أن ينشئ الإنسان صومه من النهار، ولا يجب عليه أن يبيت النية من الليل. فلو أصبحت يوم الإثنين وأنت لا تدري أنه الإثنين، ثم قيل لك بعد صلاة الفجر قبل أن تطعم شيئاً: هذا يوم الإثنين، فقلت: إني إذاً صائم؛ صح صومك. وهكذا لو أصبحت ولم تجد فطوراً، وكنت قد أصبحت من بعد طلوع الفجر لم تأكل شيئاً، فلما لم تجد طعاماً أو شيئاً تفطر به قلت: إني إذاً صائم أو أستمر بقية يومي صائماً، صح ذلك وأجزأك؛ لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتبر حديث أم المؤمنين عائشة مخصصاً لحديث أم المؤمنين حفصة. فنقول: الأصل تبييت النية بالليل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يبيت النية بالليل فلا صوم له) لكن يستثنى صيام النافلة لحديث أم المؤمنين عائشة الصحيح؛ فصيام النافلة يجوز لك أن تنشئه بعد طلوع الفجر ولا حرج عليك في ذلك.

أحكام تتعلق بالنية في الصيام

أحكام تتعلق بالنية في الصيام قوله: [ويجب تعيين النية من الليل لصوم كل يوم واجب]. في نية الصوم مسائل: أولاً: أنها واجبة، ودليل وجوبها ما تقدم من دليل الكتاب والسُّنة. ثانياً: هناك فرق بين صوم الفريضة والنافلة، فصوم الفريضة لابد فيه من تبييت النية بالليل، وصوم النافلة يجوز أن تنشئه ولو لم تبيت النية بالليل. المسألة الثالثة: إذا قلنا: لابد وأن تبيت النية بالليل، فمن المعلوم أن ليلة الصيام تبتدئ من مغيب الشمس، و Q هل تُبَيَّت النية بمجرد مغيب الشمس أم العبرة بما بعد منتصف الليل؟ بعض العلماء يقول: تبييت النية يكون من بعد منتصف الليل؛ لأنك لا تدخل في الليلة القابلة إلا من بعد منتصف الليل، ولذلك قالوا: صح طواف الإفاضة بعد منتصف الليل في ليلة النحر، ولا يصح قبل منتصف الليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أذن للظعن بعد منتصف الليل، وكذلك بالنسبة للمبيت، قالوا: لابد وأن يكون قد بَيَّتَ النية من بعد منتصف الليل، والعبرة بمنتصف الليل الثاني لا بمنتصفه الأول. وقال جمعٌ من العلماء -وهو الوجه الثاني-: إنه يجوز أن تبيت النية بمجرد مغيب الشمس لليوم السابق، وذلك على ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أم المؤمنين حفصة: (من لم يبيت النية بالليل ... ) والشخص يوصف بكونه بات وبيّت من بعد مغيب الشمس، ولذلك قالوا: لو نوى بعد مغيب الشمس أجزأته النية، وهذا هو الصحيح: فمن نوى قبل منتصف الليل الآخر والثاني فإن نيته صحيحة معتبرة. وفائدة هذا الخلاف: أنه لو نوى في النصف الأول ثم نام قبل النصف الثاني، واستيقظ بعد أذان الفجر، فعلى القول الأول الذي يشترط النصف الثاني: لا يصح، وعلى القول الثاني: يصح. وعلى هذا فلا بد من تبييت النية سواءً وقعت في النصف الأول أو النصف الثاني. المسألة الرابعة: التعيين: إذا عرفنا أن النية لازمة فأنت تقصد في قرارة قلبك أن تصوم هذا اليوم قربة لله سبحانه وتعالى، فهذه هي النية، ثم بعد النية شيء يسمى التعيين. والتعيين: أن تحدد صومك فريضة أو نافلة؛ فإن كان فريضة فهل هو عن رمضان أو عن كفارة أو عن نذر؟ فتحدد في تلك النية، فيكون تحديدك وتعيينك للنية ببيان نوعية هذا الفرض الذي تريد صيامه، فإن كنت في رمضان نويت أن تصوم الغد من رمضان، وإن كنت في كفارة نويته صياماً عن كفارة جماعٍ أو كفارة قتل أو كفارة ظهار أو غير ذلك. فالمقصود: أن المراد أن تعين هل نيتك لفريضة أو نافلة، ثم إذا عينتها فريضة هل هذه الفريضة لرمضان أو لنذر أو لكفارة أو نحو ذلك من الصيام الواجب، فمعنى تعيين النية: أنه يُعين ما هو المراد من هذا الصوم الواجب إن كان واجباً. وإن كان نافلة: هل هي نافلة معينة مقصودة كصوم الإثنين والخميس والأيام البيض من كل شهر، وعاشوراء وعرفة، أم أنه يريد نافلة مطلقة كأن يصوم تقرباً إلى الله عز وجل بغض النظر عن قصد ذلك اليوم المتنفل به، وهذا هو الذي يقصده المصنف بمسألة التعيين، كما أنك إذا صليت أربع ركعات عن فريضة فلا بد وأن تحدد هل هي ظهر أو عصر أو عشاء، فقالوا: يجب عليه تعيين الصوم كما يجب عليه تعيين فريضة الصلاة. وقوله: (لصوم كل يوم واجب لا نية الفريضة). هذا في رمضان، وقال بعض العلماء: إذا دخل رمضان تنوي من أول رمضان صيام الثلاثين يوماً ويجزئك، وهذا هو مذهب الحنفية رحمة الله عليهم، قالوا: كأن المحل لا يسع لغير رمضان، فعندهم أن صيام رمضان يجزئك أن تنويه من أول الشهر، وتجزئ نية لجميع الشهر؛ لأن رمضان لا يسع لصيام غيره، فالنية لا تنصرف إلا إلى رمضان، قالوا: فلا يحتاج أن يجدد النية كل ليلة. والصحيح: مذهب الجمهور؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يبيت النية بالليل فلا صوم له) فبين أنه لابد من تبييت النية في الصوم، وهذا شامل للفريضة كما ذكرنا، ولم يفصل النبي صلى الله عليه وسلم بين صيام رمضان ولا غيره. قوله: [لا نية الفريضة]: أي أنه لو نوى مطلق الفرض لا يجزيه؛ لأنه لو نوى مطلق الفرض احتمل أن يكون رمضان، واحتمل أن يكون صيام كفارة، واحتمل أن يكون صياماً عن كفارة قتل أو ظهار أو يمين أو نذر؛ ولذلك قالوا: إنه لا يجزيه أن يقول في نفسه: نويت أن أصوم هذا اليوم لأنه فرض، ولا يُبين هل هو فرض عن رمضان، أو فرض عن كفارة، عتق أو ظهار أو نحو ذلك، هذه النية يقولون: فيها نوع من الإبهام، فلابد أن يُعين ما هو مراده بالفرض.

حكم صيام النافلة دون تبييت النية

حكم صيام النافلة دون تبييت النية وقوله: [ويصح النفل بنية من النهار قبل الزوال وبعده]. النافلة: خلاف الفريضة، والمراد بذلك الصوم غير الواجب، وهو يشمل النافلة المقصودة أو المعينة، والنافلة غير المقصودة، وهي النافلة المُطلقة؛ لأن الصوم ينقسم نفله إلى قسمين: قسم مقصود، مثل: نافلة الإثنين، ونافلة الخميس، والأيام البيض من كل شهر، وعاشوراء وعرفة، ونحو ذلك من الأيام المقصودة لفضلها أو ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى صيامها. والنافلة غير المقصودة: هي النافلة المطلقة، كأن ينوي تقرباً إلى الله، مثاله: أصبحت في يوم شديد الحر، وذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله عن وجهه النار سبعين خريفاً) فأردت أن تصوم هذا اليوم قربة لله سبحانه وتعالى، فإذا فعلت ذلك فإنه يجزئك؛ لأنها نافلة مطلقة، فتنويها نافلة مطلقة ولا يلزمك التعيين. في النوافل المطلقة والمقصودة يجوز إذا أصبحت بالنهار أن تنوي، فلو أن إنساناً لم يعلم أن اليوم هو عاشوراء، أو لم يعلم أن اليوم هو يوم عرفة، وعلم بعد طلوع الفجر فأمسك -ولم يكن قد أكل أو شرب- ونوى أن يتم صومه، أجزأه ذلك؛ لأن النافلة لا يشترط فيها تبييت النية بالليل كالفريضة.

حكم التردد في النية

حكم التردد في النية وقوله: [ولو نوى إن كان غداً من رمضان فهو فرضي لم يجزئه]. هذه مسألة من مسائل النية، فالنية واجبة، ويشترط فيها التعيين، ويشترط فيها الوقت والزمان، على حسب تفصيل العلماء، فمن لا يشترط أن تكون في النصف الثاني من الليل يقول: أن تكون بالليل، بغض النظر عن كونها في النصف الأول أو الثاني، فهذا يسمى شرط الزمان. وهناك شرط وهو: الجزم. والجزم: ألا تكون النية مترددة، كأن يقول في ليلة الثلاثين من شعبان: إن كان غداً من رمضان فإنني قد نويت أن أصومه، وإذا لم يكن رمضان فإنها نافلة، أي: يقول في نفسه وقرارة قلبه: سأصبح صائماً؛ فإن كان هذا اليوم من رمضان فهذا فرضي، وإن كان من غير رمضان فهو نافلة وقربة لله سبحانه وتعالى. فهذه نية مترددة، والشك والتردد في النية يبطلها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات). والأصل في النية أن تكون بالجزم، لأن الشخص إذا تردد في نيته لم ينو ولم تثبت، وعلى هذا ليس بناوٍ للفرض ولا للنافلة؛ فلو أصبح واليوم من رمضان فإن نيته بالليل لم تتمحض لرمضان، ولو أصبح واليوم من غير رمضان فإنه يصح نافلة عند من يقول بجواز صوم يوم الشك، وقد بينا أنه لا يجوز ذلك. فالمقصود: أن التردد في النية يبطلها، وعلى هذا: لو سألك سائل وقال: لما كانت ليلة الثلاثين بيتُّ النية بالليل لصيام الثلاثين، وقلت في نفسي: إن كان من رمضان فهذا فرضي، وإذا كان من شعبان فهو نافلة وقربة لربي، قال: فأصبحت فإذا باليوم من رمضان، هل صومي صحيح؟ تقول: يلزمك القضاء؛ لأن النية شرط في صحة الصوم؛ لدلالة الكتاب والسُّنة، وثانياً: أن نيتك لم تقع على الوجه المعتبر شرعاً فكأنك لم تنو؛ لأن التردد في النية يبطلها.

حكم من نوى الإفطار

حكم من نوى الإفطار وقوله: [ومن نوى الإفطار أفطر]. هذه مسألة خلافية: قال بعض العلماء: إن نية الإفطار أثناء اليوم كالتردد في النية، فمن نوى أن يفطر فكأنه تردد في النية. وبعضهم يقول: لم يصبح متردداً، بل أبطل النية ورفعها، وقالوا: بناءً على ذلك يبطل صومه، وهو اختيار المصنف رحمه الله. ومن أهل العلم من قال: إن نية الفطر مغتفرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عفا لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم أو تعمل) فهذا قد حدثته نفسه ولم يتكلم ولم يعمل. وأُجيب عن ذلك: بأن هذا الحديث المراد به: ما يكون من جنس الأشياء التي تبطل بالأقوال والأفعال؛ لكن الإبطال هنا متعلق بعمل القلب، وإذا تعلق بعمل القلب خرج الحديث عن موضع النزاع كما لا يخفى.

الأسئلة

الأسئلة

حكم التتابع في صيام كفارة اليمين

حكم التتابع في صيام كفارة اليمين Q في كفارة اليمين هل يشترط التتابع في صيام الثلاثة أيام؟ A هذه مسألة خلافية بين أهل العلم رحمة الله عليهم، والسبب في الخلاف: هل القراءة الشاذة يثبت بها الحكم أو لا يثبت؟ فبعض العلماء يرى أن القراءة الشاذة توجب ثبوت الحكم، وهذا هو أصح القولين. والسبب في ذلك: أن قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) فهذه القراءة في آية المائدة التي في كفارة اليمين ورد فيها التتابع في قراءة ابن مسعود، وهي قراءة شاذة، وكونها شاذة فإن بعض العلماء يقول: إن القراءة الشاذة لا تقبل قراءة كما هو عمل القراء؛ لأن القراءة الشاذة تخالف العرضة الأخيرة التي جاءت من جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا يعتد بهذه القراءة عندهم في القراءة، ولا يعتد بها في الحكم. وإذا كانت القراءة شاذة فإنهم يقولون: لم يثبت كونها قرآناً ولا كونها سنة، وإذا لم يثبت ذلك فإنها لا توجب ثبوت الحكم، وهذا مذهب الجمهور. وذهب الإمام أحمد وطائفة من علماء الأصول إلى أن القراءة الشاذة يثبت بها الحكم. ومن أمثلة هذه المسألة: حديث أم المؤمنين عائشة: (كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن) فهذه قراءة شاذة، بل إنها قراءة منسوخة، وقولها: (وهن مما يتلى من القرآن) أي: كان بعض الصحابة يتلوها ويظن أنها من القرآن، ولم يعلموا بكونها منسوخة في العرضة الأخيرة، هذا معنى قولها: (وهن مما يتلى من القرآن). وهذا يقع كثيراً؛ لأن الصحابة كانوا يقرءون القراءات التي نسخت لعدم علمهم بنسخها، ولعدم ثبوتها في العرضة الأخيرة التي عرض فيها جبريل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، وهي آخر سنة من حياته صلوات الله وسلامه عليه، وعلى هذا نقول: إن القراءة الشاذة فيها جانبان: الجانب الأول كونها قرآناً، وهذا لا يثبت إلا بالتواتر بشروط معتبرة من كونها توافق اللغة العربية، وضوابط أخرى ذكرها أئمة القراءة في اعتبار القراءة، فقالوا: كونها قراءة لا نثبته، فبقي الجانب الثاني: وهو ثبوت الحكم بها، فكون الحكم موجوداً فيها يوجب ثبوته؛ لأنها ثبتت بالنص، فكما أن حديث الآحاد يوجب ثبوت الحكم مع كونه لم يبلغ مبلغ التواتر، كذلك القراءة التي جاءت من طريق الآحاد وهي شاذة توجب ثبوت الحكم، وإن كانت لا توجب ثبوت كونها قراءة. وهذا المذهب انتصر له شيخ الإسلام رحمه الله في المجموع، وتكلم عليه كلاماً نفيساً، وتكلم عليها في مسألة الخمس رضاعات وأجاد وأفاد كعادته رحمة الله عليه، وقرر أن القراءة الشاذة فيها جانبان: كونها قرآناً، وكونها توجب حكماً. أما كونها قرآناً فقال: إننا لا نتعبد إلا بما ثبت بطريق التواتر، وهي العرضة الأخيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما بالنسبة لكونها متضمنة للحكم فإنه يوجب ثبوت الحكم بها، وحينئذٍ نقول: بأن صيام كفارة اليمين يجب فيه التتابع، فيصوم فيه ثلاثة أيام متتابعة، والله تعالى أعلم.

حكم تعزير الشاهدين عند تبين الخطأ

حكم تعزير الشاهدين عند تبين الخطأ Q هل يعزر الشاهدان إذا تبين خطؤهما، سواء في شهادة دخول الشهر أو في خروجه؟ A الشاهد لا يعزر إلا في حالة واحدة وهي: أن يتبين كونه زور وكذب، ويتبين كونه شاهد زور أو كذب بإقراره على نفسه، كأن يأتي للقاضي ويقول: إنه شهد كذباً على فلان أنه فعل كذا وكذا وهو لم يفعل، فإذا شهد الإنسان على نفسه بكونه شاهد زور، فحينئذٍ يترتب على ذلك أحكام: أولاً: إسقاط الحكم الذي ثبت بهذه البينة على خلاف عند العلماء، فبعض العلماء يقول: إذا كان رجوعه بعد ثبوت الحكم وقبل التنفيذ فإنه ينفذ، قالوا: لأنه لما رجع عن شهادته طعن في عدالته، ونحن قبلنا شهادته للحكم وهو عدل، فلما رجع بعد ثبوت الحكم شككنا هل هو صادق أو غير صادق، فنبقي الشهادة الأولى؛ لأنه شهد بتزكية الشهود العدول أنه عدل، فقالوا: لا نقبل رجوعه. والصحيح وهو مذهب الجمهور: أنه إذا شهد على كونه مزوراً وكاذباً أنه ينقض الحكم. والأمر الثاني: يعزر، والتعزير يختلف باختلاف الأشخاص، فبعض الأشخاص يعزر بالقول وبعضهم يعزر بالفعل، فالذي يعزر بالقول كالتوبيخ، كأن يكون من ذوي الهيئات وممن يعرف بالاستقامة ولكن حصلت منه فلتة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) ففي هذه الحالة يخفف عليه القاضي، ويكون تعزيره بالتوبيخ، كالناس الذين يتألمون بالكلام؛ لأن بعض الناس ينجرح بالكلام أكثر من انجراحه بالضرب والأذية، فيوبخه القاضي ويقرعه. والنوع الذي يعزر بالفعل، كأن يأمر القاضي بجلده، فيجلد -مثلاً- عشر جلدات أمام الناس، أو يجلد في الملأ، فيؤتى به ويقيمه أمام باب المسجد ويضربه ويقرعه أمام الناس؛ حتى يكون ذلك تشهيراً له وزجراً لغيره. أما الحكم الثالث فهو: التشهير، والتشهير: أن يركب على دابة ويطاف به في الأسواق، وقد فعل هذا السلف الصالح رحمة الله عليهم وأفتوا به. فالتشهير أن يطاف به في الأسواق، ويقال: إن الشيخ فلان يقرئكم السلام ويقول: إنا وجدنا هذا شاهد زور؛ فلا تصدقوه، فيطاف به في الأسواق تشهيراً له وردعاً له عن العودة إلى مثل هذا الفعل، وزجراً لغيره أن يرتكب مثل ما ارتكب. فإذا تبين خطأ الشهود فلا نحكم بتعزيرهم ولا نحكم بأنهم شهود زور؛ لأنهم ربما أخطئوا، والخطأ محتمل في الشهادة، فقد يتراءى له الشيء فيظن أنه هلال، فيحتمل أنه أخطأ ويحتمل أنه زور، ولما وجد التأويل لا يجوز اتهام الناس والوقيعة فيهم مادام أنه يوجد مساغ للتأويل ومساغ لنفي التهمة عنهم. فحينئذٍ ما دام أنا وجدنا لهم المخرج من كونهم أخطئوا فإننا لا نوجب تعزيرهم، ولا الحكم بكونهم شهود زور، بل إننا نترك البينة على حالها؛ لأنها زكيت وعدلت وحكم القاضي بكونها على العدالة، فلا ننقض هذا الحكم ولا نوجب كونها زوراً إلا إذا جاء الشاهد وقال إنه تعمد الكذب، وإنه كذب من أجل أن يصوم الناس خطأً، فهذا حكمه حكم شاهد الزور سوءاً بسواء، والله تعالى أعلم.

لزوم التأكد من غروب الشمس عند الإفطار

لزوم التأكد من غروب الشمس عند الإفطار Q هل إفطار الصائم يتعلق بغروب الشمس أو بأذان المغرب، خاصة إذا رأى الغروب واستبطأ الأذان لاسيما وقد جاء الأمر بتعجيل الفطور؟ A إذا كان الإنسان في مدينة فلا يمكنه أن يتحقق من غروب الشمس، فإنه يعتمد الأذان؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) فجعل الأذان دليلاً على دخول الليل، وحينئذٍ يحل الفطر ويجوز للصائم أن يفطر. وأما إذا كان في موضع يمكنه أن يرى الشمس ويتحقق من غروبها فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم)، فإذا رأى إقبال الليل وإدبار النهار، وهو يعرف أمارات الغروب حل له الفطر. أما مجرد غياب الشمس فيحتاج إلى ضبط؛ لأن الله عز وجل يقول: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] وإلى الليل: أي مع الليل، وهو أن تمسك جزءاً يسيراً من الليل، وهذا الذي يضبطه البعض بذهاب الصفرة القليلة بعد المغيب، ولذلك قالوا: إن ذهاب هذه الصفرة يتحقق به من غروب الشمس، ولذلك يحتاج إلى إنسان عنده معرفة وعلم، فليس بمجرد أن يرى الشمس كادت أن تتوارى بالحجاب فيقول: غابت الشمس وحل الفطر، بل لابد أن يكون عنده إلمام بالتحقق من غروب الشمس بالصفة المعتبرة، فإذا تحقق بنفسه من مغيب الشمس بالصفة المعتبرة حل له أن يفطر، والله تعالى أعلم.

حكم الإفطار بالجماع أثناء قضاء صوم رمضان

حكم الإفطار بالجماع أثناء قضاء صوم رمضان Q إذا كان الصوم قضاءً لأيام من رمضان ووقع الجماع، فهل يلزم المجامع بالكفارة؟ A مسألة الفطر في قضاء رمضان بالجماع، بعض العلماء يقول: إن القضاء يحكي الأداء، والإخلال في القضاء كالإخلال في رمضان؛ لأن الله عز وجل قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] فجعل العدة من أيام أخر في منزلة رمضان، وعلى ذلك قالوا: إنه لو جامع فيها فإنه يجب عليه أن يقضي ويجب عليه أن يكفر كما لو جامع في رمضان نفسه. وقال بعض العلماء: إنه لابد بأن يكون الجماع في نهار رمضان، فإذا وقع الجماع في أي صوم في غير رمضان فلا يلزم بالكفارة؛ لأن الرجل قال: (هلكت وأهلكت! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما أهلكك؟ قال: جامعت أهلي في رمضان) فنص على رمضان، وإنما وجبت الكفارة في رمضان. قالوا: فلا ينزل غير رمضان منزلة رمضان لأن الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، وهذا المذهب هو أقوى من جهة النظر، والأول أحوط، والله تعالى أعلم.

لزوم جماعة المسلمين عند الفطر واجب شرعي

لزوم جماعة المسلمين عند الفطر واجب شرعي Q أشكل علي صوم واحد وثلاثين يوماً لمن ردت شهادته فصام لرؤية نفسه، مع حديث (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) وذكر فيه أن الشهر تسعة وعشرون أو ثلاثون يوماً، فكيف الجواب على هذا؟ A أما بالنسبة لكونه يصوم واحداً وثلاثين يوماً فبطبيعة الحال أنه إذا رأى الهلال في ليلة الثلاثين سيصوم هذا اليوم من يوم رمضان -الذي هو من رمضان- وأما بالنسبة للواحد والثلاثين -وهو يوم العيد بالنسبة له- فقد ألغي من كونه عيداً، وألزم بالبقاء تبعاً، وفرق بين أن نقول: إن شهر رمضان واحد وثلاثون وبين أن نقول: إنه ألزم به تبعاً. ومن أمثلة ذلك: من خرج من مدينة وكانت قد تأخرت في الصوم يوماً، وارتحل إلى مدينة أخرى، فإنه يعتد بهذه المدينة فطراً؛ لأنه ملزم بالجماعة، فإذا جلس معهم قد يكون صومه واحداً وثلاثين، فحينئذٍ يلزم بصيام هذا اليوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فطركم يوم تفطرون) فجعل الفطر لنا يوم يفطر الناس، فألغي حكم هذا اليوم، وصار واحداً وثلاثين تبعاً لا أصلا. أي: أننا لا نلزمه بذلك أصلاً من جهة أن رمضان واحد وثلاثين يوماً، وإنما ألزمناه في حالة فريدة، والقاعدة: أن الأصول العامة إذا ورد ما يستثنى منها فلا يعتبر قادحاً في الأصل. فأنت تقول: الأصل عندي أن الشهر ثلاثون يوماً أو تسعة وعشرون يوماً، لكن هذه الحالة ورد بها نص أنه لا يفطر في الثلاثين، وأنه ينبغي أن يكون مع جماعة المسلمين، فأبقيه أنا لحكم يقصدها الشرع. والاستثناء من القواعد العامة لا يعد قادحاً في تلك الأصول، ولا يعد معارضاً لها؛ لأنها أشياء وردت بأسباب معينة لمقاصد شرعية، فحينئذٍ نقول: إنه يلزمه أن يمسك يوم الثلاثين الذي هو واحد وثلاثون بالنسبة له ويتقيد بجماعة المسلمين، وهذا كله لمقصد في الشرع. وكان الوالد رحمة الله عليه يقول: إن الشريعة اعتنت بلزوم الجماعة أيما عناية، وأن أكثر البلاء الذي يجر الناس إلى الشقاء هو الخروج والشذوذ عن الجماعة، ولذلك كان الشرع يربي في الإنسان الانتماء إلى جماعة المسلمين وعدم الشذوذ عنها. قال صلى الله عليه وسلم: (فما أدركتم فصلوا) وقد تدخل المسجد والإمام في التشهد الأخير وقبل السلام بلحظة، فيجب عليك أن تدخل معه؛ لأنه لا يجوز لك أن تشذ عن جماعة المسلمين، فما دام أنها جماعة وهي قائمة في المسجد فأنت ملزم شرعاً بالدخول لظاهر قوله: (ما أدركتم) أي: أي شيء أدركتموه ولو للحظة واحدة قبل السلام فصلوا. ثانياً: لما صلى عليه الصلاة والسلام بخيف منى ورأى الرجلين لم يصليا قال: (علي بهما! ألستما بمسلمين -وهما على ظاهرهما وسمتهما ما دخلا المسجد إلا وهما مسلمان-؟ قالا: بلى يا رسول الله، ولكنا صلينا في رجالنا، قال: إذا حضرتما المسجد فصليا مع الناس) وجاء بالرجل حينما لم يصلِ فقال: (ألست بمسلم؟ قال: بلى، ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد الطيب فإنه يكفيك). وهو من حديث عمران في الصحيح. وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) وقال في الرواية الأخرى: (فلا تختلفوا علي) فكأن مقصود الشرع أن يربي الإنسان على ملازمة الجماعة، وهذا منهج علماء التربية فإنهم يقولون: إن تعويد الإنسان على وتيرة معينة من أقوى الأشياء التي تجعله يألفها بنفسيته؛ بمعنى: أن الإنسان إذا ربيت عنده الشعور بالانتماء للجماعة والحرص عليها، وعدم الشذوذ عن جماعة المسلمين؛ ألف ذلك وأصبح ديدناً له، فعندما تأتي في صيام رمضان وتقول له: إنه يفطر، ويكون العيد له وحده، ويشذ عن جماعة المسلمين في فطره وعبادته، وفي فرحته وسروره، وهو يحس أن عيده هذا اليوم من دون سائر المسلمين؛ فكأنه يتربى عنده إلف الشذوذ والانفراد، لكن حينما تقول له: أنت ملزم بالجماعة، ويجب عليك أن تبقى معها وأن تصوم معها؛ فإنك تربي فيه هذه الملكة. وكذلك إذا كان ثلاثين يوماً وهو يمتنع عن الطعام والشراب الذي أحله الله وأباحه له، وامتنع ولم يأكل ولم يشرب، فلو وقف على طعمة من حرام، وقيل له: إن هذا الطعام فيه لحم خنزير، يقول: لا آكل؛ لأنه صار عنده إلف أن يمتنع عن الطعام الذي حرم الله، وصار عنده إلف أن يمتنع عن الطعام الذي أحله الله له في الوقت حرم الله عليه فيه أن يطعمه، فمن باب أولى أن يمتنع عن الطعام الذي حرمه الله عليه بالكلية، وقس على هذا مما لا يحصى. وحينما نأمر أولادنا بالصلاة لسبع فليست القضية قضية صلاة فقط، بل إن الصبي إذا تربى من الصغر والوالد يأمره وهو يأتمر وينفذ أمر الوالد؛ يصبح عنده شعور بالطاعة لوالديه، وشعور بالتبعية للوالدين. لكن انظر إلى المجتمعات الغربية وبعض المجتمعات المسلمة التي تفرط في أمر الأبناء بالصلاة، فيأتي يوم من الأيام وإذا بالابن متمرد بالكلية على والده، وكثيراً ما تجد الشذوذ والعقوق في الابن الذي لم يروض على الصلاة من الصغر، فقل أن تجد إنساناً عنده ابن عاق إلا ووجدته من الصغر لا يأمره بالصلاة؛ لأنك إذا ربيته على الاستجابة لأمر الله عز وجل، والاستجابة لأمرك؛ فإنه يألف ذلك، فكأنها قضايا لها أبعاد لا تقف عند مسألة العبادة فقط؛ ولذلك قال سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] أي: هناك أمور لا تعلمونها، وهناك حكم وأسرار عجيبة غريبة تعود على الإنسان بالنفع في دينه ودنياه وآخرته. فكون الإنسان يربى على الارتباط والانتماء لجماعة المسلمين فذلك فيه مصالح عظيمة؛ لأنه وإن كان فرداً يتضرر بصيام واحد وثلاثين يوماً، لكنه يحقق غايات أعظم وأسمى من كونه يشق على نفسه، وقد تأمر الشريعة بمشقة للفرد لمصلحة تترتب للجماعة، ولذلك كان العلماء رحمة الله عليهم يربون في طلابهم الشعور بالانتماء للعلم ومحبة العلماء، وكانوا يكرهون من طالب العلم كثرة الاعتراضات؛ لأنه حينما يتعود طالب العلم على الاعتراض والنقد وعلى هذا الشعور؛ تجده جريئاً على أئمة السلف وعلى العلماء، صلفاً وقحاً -نسأل الله السلامة والعافية- لا يتورع في كلامه ولا يتورع في تخطيئهم؛ لكن إذا ربيت فيه الشعور بالأدب والإجلال والتقدير لأهل العلم أصبح إذا جاء ليرد على العلماء تحفظ وتوقى، وصان لسانه عن الوقيعة في أعراضهم؛ لأن لديه إلفاً وشعوراً بتعظيم وإجلال السلف الصالح رحمة الله عليهم. ولذلك كان بعض العلماء إذا وجد من الطالب هذا الشعور ربما طرده، ولربما أعرض عنه، وهذا معنى قول الإمام مالك رحمة الله عليه: (لا تعلموا أولاد السفلة العلم؛ حتى لا يستطيلوا على العلماء) لأن عندهم الإلف والشعور بذلك، فقد ألفوا ذلك في بيئاتهم وفي مجتمعاتهم، فالإلف له تأثير على نفسية الإنسان، ومن هنا كان من الخطأ الذي يقع فيه بعض المربين وبعض المدرسين أن يأتيه الطالب فينتقد شيئاً فيشيد به أمام الطلاب أنه انتقد، وأصبحنا نعود أبناءنا على الانتقاد، ولربما تجد البحث يقول لك: انقد كتاباً، فربينا فيهم الشعور على الجرأة. وقد كان الناس قبل مائة سنة يجلون العلماء، وما وجدنا أحداً من أهل العلم يأتي ويجعل من منهجية تعلميه نقد الكتب والعلماء، ولكن أصبحنا اليوم بمجرد أن يأتي الشاب وعمره ثلاث عشرة سنة أو أربع عشرة سنة- بل بعضهم حديث عهد بهداية- فنقول له: حضر كلمة انقد فيها كتاباً، أو لربما تكون مسابقة في عطلة صيفية أو مركز صيفي على نقد كتاب معين! من الذي ينقد؟! وما هذا الشعور الذي نربيه في الطالب؟ فالذي يتعود على النقد يصبح إلفاً له. وابحث عن عالم يكون درسه وعلمه قائماً على نقد العلماء والتجريح فيهم وتتبع عثراتهم، أو تكون كتبه قائمة على نقد العلماء والتجريح في العلماء، إلا وجدت طلابه يسيرون وراءه حذو القذة بالقذة، حتى إن الله ينتقم منه في الدنيا قبل الآخرة، فيسلط عليه من طلابه من ينتقده كما انتقد، ويسل عليه ما سله على علماء المسلمين، لكن من يربي في طلابه حب العلم، ويجعل عندهم الشعور بالانتماء لجماعة المسلمين، والانتماء للعلم والعلماء وإجلال السلف الصالح وإعظامهم وإكبارهم؛ تجد طلابه قد تربوا على حب الله ووده وإجلاله؛ لأنهم ألفوا ذلك وأحبوه واعتادوه؛ فصار ديدناً لهم شاءوا أم أبوا. فهذا المنهج ينبغي أن نعتني به كما اعتنى به الشرع، فهذا على شاهد قضية: أننا لا نفطر شذوذاً عن الجماعة، وهذا ابن مسعود رضي الله عنه كان يصلي وراء عثمان وهو يعلم أن عثمان قد زاد في الصلاة ما ليس منها، ومعلوم أن الزيادة في ركن من أركان الإسلام، ومع ذلك يصلي وراءه، قالوا له: ألا تجتزي بالركعتين؟ قال: الخلاف شر. أي: لا أريد أن أشذ عن جماعة المسلمين. وهذا عمر بن الخطاب يقف في وجه أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه ويقول له: كيف تقاتل قوماً يشهدون أن لا إله إلا الله، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)؟! فأصر أبو بكر وقال: (ألم تسمع قوله: إلا بحقها؟! والله لو منعوني عناقاً كان يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه) فقال عمر: (فما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال، فعملت أنه الحق) فما جاء يشذ ويقول: أيها الناس! أخطأ أبو بكر، أو يؤلف رسالة ويقول: إن أبا بكر قد أخطأ، ويشهر به، لكن اجتمعت الكلمة واجتمع الشمل واتحد الصف؛ فكانت قوة على أعداء الإسلام، فجعل الله رأي أبي بكر عزاً للإسلام والمسلمين. ولما أراد أن ينفذ جيش أسامة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والعرب مرتدة، فاختار أبو بكر أن ينفذه، فصارت الكلمة مع أبي بكر، فراجعه الصحابة فقال: (والله لا أحل لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: لا أستطيع أن أحل هذا اللواء وقد عقده الرسول صلى الله عل

باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة [1]

شرح زاد المستقنع - باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة [1] للصيام مفسدات من ارتكبها فقد بطل صومه، ومنها ما يوجب القضاء مع التوبة إلى الله تعالى، ومنها ما يوجب القضاء مع الكفارة، كالجماع في نهار رمضان، وقد شرعت الكفارة تكميلاً للنقص الذي يطرأ على أداء الفريضة، مع ما فيها من الزجر عن الوقوع في حدود الله ومحارمه.

مفسدات الصوم

مفسدات الصوم بسم الله الرحم الرحيم بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فيقول: المصنف رحمه الله: [باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة]. يقول رحمه الله: (باب ما يفسد الصوم) أي: يبطله، فبعد أن بين لنا أن الله فرض علينا صيام رمضان، وبين لنا المسائل المتعلقة بهذه الفريضة، شرع رحمه الله في بيان ما يوجب فساد الصوم ويبطله، ويوجب الكفارة؛ لأن ما يبطل الصوم يأتي على صور: الصورة الأولى: يفسد الصوم ويلزم صاحبه بالقضاء. الصورة الثانية: يفسد الصوم ويلزم صاحبه بالقضاء مع الكفارة. وبناءً على ذلك جمع بينهما؛ لأن الكفارة مترتبة على وجود الإفساد للصوم كما هو الحال فيمن جامع أهله في نهار رمضان وهو صائم، فإن إيجاب الكفارة عليه مرتب على كونه أفسد صيامه، فقال رحمه الله: (باب ما يفسد الصوم -أي: سواء كان نافلة أو فريضة- ويوجب الكفارة) أي: يوجب على صاحبه أن يُكَفِّر، والكفارة مأخوذة من الكَفْر، وكَفَر الشيء إذا ستره، وسمي الكافر كافراً لأنه يستر نعمة الله عز وجل عليه، والكَفْر: هو الستر، ومنه قول الشاعر: فِيْ لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا أي: ستر نجومَها غمامُها، وسمي المزارع كافراً لأنه حينما يبذر البذر يستره ويُغيبه في الأرض. وقوله: (الكفارة) عقوبة شرعية، اختلف العلماء رحمة الله عليهم فيها: فبعض العلماء يقول: إن الله شرعها عقوبة للمُخل بالطاعة، كما هو الحال في الصيام فيمن جامع أهله في نهار رمضان. ومنهم من قال: شرعها الله جبراً للنقص الموجود في العبادة. ومنهم من جمع بين الأمرين فقال: الكفارات تعتبر عقوبات وزواجر ومكملات، فهي عقوبة لمن فعل، وزجرٌ لغيره أن يفعل، وتكميل للنقص الموجود بسبب الإخلال في العبادة. ولذلك قالوا: إن من جامع أهله في نهار رمضان جعل الله كفارته عتق الرقبة، وهذا من أبلغ ما يكون، وقالوا: لأنه إذا أعتق الرقبة أعتقه الله من النار؛ وكأنه حينما تقحّم المجامعة لأهله متعمداً مخلاً بفريضة الله تقحّم نار الله عز وجل، فجعل الله الرقبة فكاكاً له من النار، ولذلك ثبت في الحديث: (أن من أعتق يُعتق بمن أعتقه حتى العضو بالعضو) يعتق كل عضو بعضوه. ومن هنا قالوا: اشترط الله فيمن قتل مؤمناً خطأً أن يعتق رقبة مؤمنة، ولم يشترط الإيمان في كفارة الظهار، وقالوا: لمكان العتق، كذلك أيضاً قالوا: نزَّل الله عز وجل عند فقد العتق صيام شهرين متتابعين مكانه؛ فكأن هذا اليوم يقوم مقامه ستون يوماً متتابعة، وهذا يدل على حرمة شهر رمضان، وحرمة الإفطار في شهر رمضان. قالوا: ومن هنا تكون الكفارة أشبه بالتكميل للنقص، مع ما فيها من معنى الزجر، فإن الناس ينزجرون، ولذلك جعلت هذه الكفارات جوابر، وجعلت عقوبة، وجعلت زواجر للمكلفين أن يقعوا في حدود الله ومحارمه بالإخلال بالفرائض والواجبات أو الانتهاك للحدود والمحرمات. يقول رحمه الله: (باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة) كأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بما يخل بصوم الإنسان ويوجب بطلانه.

الأكل والشرب عمدا من مفسدات الصيام

الأكل والشرب عمداً من مفسدات الصيام وقوله: [من أكل أو شرب أو استعط أو احتقن أو اكتحل بما يصل إلى حلقه، أو أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع غير إحليله، أو استقاء أو استمنى، أو باشر فأمنى أو أمذى، أو كرر النظر فأنزل، أو حجم أو احتجم وظهر دم عامداً ذاكراً لصومه فسد]. (من أكل أو شرب): أي: من أكل وهو صائم أو شرب، بشرط أن يكون ذاكراً لصومه، فلو كان ناسياً أنه صائم فالجمهور على أن صومه صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل أو شرب وهو ناسٍ فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه) فهذا يدل على أن الناسي إذا أكل أو شرب في نهار رمضان أو غيره فصيامه صحيح؛ والسبب في ذلك: أن النسيان يعتبر عذراً له بنص الشرع، وهذه من المسائل التي يُسقِطُ فيها النسيان الضمان. قال رحمه الله: (من أكل) سواءً وقع الأكل كثيراً أو قليلاً، ولو أخذ جزءاً يسيراً من الطعام وجاوز به اللهاة -اللهاة: هي اللحمة المتدلية في أعلى الحلق، وهذه اللهاة هي الفاصل بين أول الجوف وبين الفم- فإنه يحكم بفطره. وقوله: (أو شرب): الشرب للمائعات والأكل للجامدات، ويستوي في ذلك القليل والكثير، ولو بقطرة ماء فأحس أنها بلغت الحلق فإنه يفطر بإجماع العلماء رحمة الله عليهم. وعلى هذا (من أكل أو شرب) هذا فيه إطلاق، وهو شامل لكل ما يصدق عليه أنه أكل أو شرب، سواء كان قليلاً أو كان كثيراً، يغذي أو لا يغذي، يحصل به الارتفاق بالبدن أو لا يحصل، وفي حكم الأكل والشرب أن يدخله تداوياً، كما لو بخ على حلقه ذرات من الماء كالبخاخ المعروف للربو، فإن هذه القطرات -وإن قيل: إنها هواء لكنها ماء- تعتبر في حكم الماء، ورطوبتها واصلة إلى الحلق مندية له موجبة للفطر، وهذا قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم. وقال بعض المتأخرين: إنها لا تفطر؛ والسبب في ذلك قالوا: إن هذا هواء؛ ولكن بسؤال أهل الخبرة يقولون: فيه من المركبات ما هو غريب عن الهواء، ولذلك: لو كان هواءً لما كان دواءً؛ لأنه لو كان هواءً مجرداً لكان بإمكان الإنسان أن يتداوى بدونه؛ لأن الهواء داخلٌ إليه لا محالة؛ فدل على أنه دواء، ولذلك قالوا: إن مادته لها جرم كالدخان ونحو ذلك، وبناءً عليه قالوا: لو أنه بخ فإنه يعتبر غير مفطر، وبسؤال أهل الخبرة والرجوع إليهم أثبتوا أنها مواد مركبة تتحلل وتمتص، ثم بعد ذلك يحصل بها رفق البدن والتداوي، وعلى ذلك: فكل ما جاوز اللهاة من ماء أو جامد أو دخان له جرم كالعود والشراب المحرم، كل ذلك يوجب الفطر. ومن يفرق ويقول: هذا دواء وهذا هواء، فيحتاج إلى دليل؛ والسبب في ذلك: أن الإجماع منعقد على أن من أخذ قطرة من دواء وقطرها في حلقه فأنه يفطر، فدل على أن كونه يغذي أو لا يغذي لا معنى له، وأن العبرة بكونه يمسك، فإذا جاوزت قطرة واحدة حلقه فقد أفطر، دليلنا على ذلك: السُّنة الصحيحة في قوله عليه الصلاة والسلام في حديث لقيط بن صبرة: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) فأنت إذا لاحظت هذا الحديث وتأملته فإن الذي يبالغ في الاستنشاق يحصل منه الغلط اليسير ببلوغ الذرة اليسيرة لحلقه، ومع ذلك قال له: (إلا أن تكون صائماً) ومن هنا أخذ جماهير العلماء على أن قليل المفطر وكثيره على حد سواء؛ وكأن الشرع قصد أن هذا حد لحرمته، لا يجاوزها مطعوم ولا مشروب، بل ولا دخان له جرم، فإذا جاوزها فقد خرج عن كونه ممسكاً صائماً على الوجه المعتبر شرعاً، وعلى هذا حكم جماهير العلماء بفطره. وبناءً على ذلك: (من أكل أو شرب) الحكم هنا يشمل كل ما يحصل به الأكل أو الشرب ولو كان شيئاً يسيراً كما قلنا في قطرات الماء اليسيرة أو البخات التي لها ذرات؛ فإنها توجب الحكم بفطره. وقوله: (أو استعط) السعوط يكون عن طريق الأنف، فلو أنه استعط عن طريق أنفه سواءً بلغ إلى دماغه كما هو الحال في بعض الأمراض التي يتداوى منها، وكما هو موجود في القديم بحيث يضعون -مثلاً- السمن في أنف الإنسان علاجاً لخياشيمه، فهذا الجفاف الذي يعالج بهذه المادة لو أنه استنشقه إلى أن بلغ الدماغ قالوا: يعتبر منفذاً. ودليلنا على ذلك: حديث لقيط بن صبرة، وهذا مذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم من الأئمة الأربعة، على أنه إذا استعط من أنفه ونزل إلى حلقه ووجد طعمه في الحلق أنه يفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً). وفي هذا الحديث نقطة تحتاج إلى تأمل، وذلك أن العلماء المتقدمين رحمة الله عليهم ينظرون إلى علة الحكم، يعني: السبب الذي يحكم بكون الإنسان مفطراً به وما لا يعد فطراً، يعني: ما هو الشيء الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بالفطر في بعض الأحوال ولا يحكم بالفطر في بعضها؟ العلماء في حديث لقيط بن صبرة على ثلاثة خيارات: منهم من يقول: الشرع يوجب فطر الإنسان إذا تناول الشيء عن طريق معين وهو الفم والمنفذ، ولذلك هذا المذهب يقوم على اعتبار الجهة التي يدخل منها المفطر. وبعضهم يقول: لا. العبرة بما يدخل إلى البدن بغض النظر عن جهة دخوله، سواء دخل من أعلى البدن أو أسفل البدن، ما دام أنه مادة مفطرة كالمغذيات والأدوية فإنه يعتبر مفطراً. ومنهم من قال: يعتبر مجموع الأمرين. وفقه هذه المسألة: أنك إذا جئت تتأمل حديث لقيط بن صبرة الذي اعتمده جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم، وتجد كتب الفقهاء رحمة الله عليهم والفتاوى مشحونة بالفتوى بفطر من دخل جوفه شيء من غير طريق الفم والأنف، وقالوا: لأن حديث لقيط بن صبرة حكم النبي صلى الله عليه وسلم فيه بالتأثير في الصوم بغير المدخل المعتاد، فإن دخول الماء عن طريق الأنف مدخل غير معتاد، فلو قلت: لابد وأن يكون الشيء الذي يأكله الإنسان ويشربه يقوي البدن ويرفقه، فنرد عليك بقولنا: إن القطرات اليسيرة لا تقوي البدن ولا ترفق به، ونرد عليك أيضاً بقولنا: إن الإجماع حاصل على أن مجرد مجاوزة القطرة الواحدة للهاة يفطر، إذاً: كون المادة بذاتها مادة معينة غير وارد. بقي مسألة أن تقول: العبرة بالدخول، بغض النظر عن كون الداخل دواءً أو طعاماً قليلاً أو كثيراً؛ والسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من دخول القطرة اليسيرة عن طريق الأنف، فدل على أن الجوف ممنوع أن يصل إليه شيء، وعلى هذا تُفرع فتقول: يستوي عندي أن يصل للجوف من أعلى البدن أو من أسفله. وقد يعترض معترض فيقول: لو حقنه بحقنة في العضل فإنها لا تصل إلى داخل الجوف، والمراد بها علاج موضعي لالتهاب أو نحو ذلك. يرد عليك ويقول: القطرة إذا دخلت من الأنف في الاستنشاق لا تصل إلى الجوف، وإنما تمتص قبل وصولها إلى الجوف، فكأن الشرع قصد من الصوم الإمساك المطلق. ومن هنا نجد الفرق بين مسلك المتقدمين والمتأخرين، فنجد المتقدمين يشددون في وصول الشيء إلى البدن؛ لأن حقيقة الصوم: إمساك، وهذا الإمساك استنبطوه من جهة المعنى؛ فقد يخفى هذا المعنى على بعض العلماء ويقول: لا دليل على كون الكحل يفطر أو على كون القطرة تفطر. نقول: لو كان كل أمر يحتاج إلى دليل لم تكن هناك حاجة للعلماء؛ وإنما الفقه أن يفقه ويفهم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) فاجتهد العلماء في المسألة من نص، ولم يجتهدوا من رأي مجرد. إذ تأملوا حديث لقيط بن صبرة فظهر لهم أنه لا عبرة بالفم؛ لأن الأنف ليس بمدخل لطعام ولا شراب، ودائماً الشرع ينبه بالنظير على نظيره. ولذلك الفطر بالفم مدخل معتاد، والفطر بالأنف -أي: بالاستنشاق- مدخل غير معتاد؛ فكأنه لما استنشق ونزل إلى حلقه صار الوصول إلى البدن موجباً للفطر، فقالوا: إذا قَطّر القطارة في عينه فوجد طعمها في حلقه أفطر، وإن وضع الكحل في عينه فوجد طعمه في حلقه أفطر؛ لأنه قد وصل إلى جوفه، فهذا هو فقه المسألة. فليست المسألة كما يظن البعض أن هذا اجتهاد من العلماء دون وجود دليل عليه ولا نص، والحقيقة من لم يظهر له هذا المعنى ولم تظهر له هذه العلة لا يعده دليلاً حسب اجتهاده ورأيه؛ لكن الأئمة والعلماء المتقدمون رحمة الله عليهم الذين قرروا ذلك وبسطوه وبينوه وشرحوه إنما ركبوه من هذا الحديث، وهو حديث لقيط بن صبرة. ولذلك تجد من يقول: إن الإبرة لا تفطر إذا كانت في العضل، قيل لهم: فلو كانت مغذية؟ قالوا: تفطر، فتناقضوا؛ لأنهم إذا قالوا: إن الإبرة تدخل من غير المدخل المعتاد في العضل، نقضه قولهم: إن الإبرة المغذية تفطر؛ فإن قالوا: تفطر لكونها مغذية. رددنا بأن الوصول إلى البدن لا يلتفت فيه إلى كونه مغذياً أو كونه غير مغذ. وهذه المسألة من جهة النظر والإمعان في حديث لقيط بن صبرة تدل دلالة واضحة على رجحان مذهب جماهير السلف رحمة الله عليهم والأئمة المتقدمين الذين كانوا يفرعون هذه المسألة على حديث لقيط بن صبرة، ومن رجع إلى الشروحات والمطولات يجد ذلك جلياً، ولذلك تتعارض أنظار العلماء في تحديد الوصول إلى الجوف، وتجدهم يختلفون -كما سيأتي إن شاء الله- في ضوابط مفسدات الصوم. ومن هنا أقول: لا ينبغي الاستعجال في الحكم على كون الأئمة المتقدمين رحمة الله عليهم يقولون بالمسألة بدون دليل، فقد كان السلف رحمة الله عليهم أورع وأخشى وأتقى لله سبحانه من أن يقولوا في دين الله ما لا علم لهم به. وينبغي أن يعلم كل طالب أن الأئمة المتقدمين رحمة الله عليهم أصون وأحفظ لدين الله من أن يتجرءوا على تحليل حرام أو تحريم حلال بمحض الرأي أبداً، فهذا لا يمكن أن يكون من أئمة السلف رحمة الله عليهم، ومنهم الأئمة الأربعة رحمهم الله، وقد قرر ذلك شيخ الإسلام رحمة الله عليه في رفع الملام وفي مجموع الفتاوى، وتكلم كلاماً نفيساً في هذا، مبيناً أن الأئمة رحمة الله عليهم اجتهدوا، واجتهاداتهم كانت مبنية على النصوص. ولذلك فإن الشرع مبني على الفقه والفهم، قال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) فهم يفهمون العلل ويقولون: كيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وبالغ في الاستنشاق إ

الاحتقان من مفسدات الصوم

الاحتقان من مفسدات الصوم قوله: [أو احتقن] كأن تكون حقنة في الدبر، فهذه قالوا: إنها توجب الفطر؛ لأنها تصل إلى الجوف ويتغذى بها الإنسان ويرتفق بها دواءً وعلاجاً، وكما أنه يرتفق بالدواء من أعلاه، فهو يرتفق به من أسفله، ولذلك قالوا: إنه إذا احتقن بالحقنة من أسفل بدنه فإنه يعتبر مفطراً.

الاكتحال بما يصل إلى الحلق يفسد الصوم

الاكتحال بما يصل إلى الحلق يفسد الصوم وقوله: [أو اكتحل بما يصل إلى حلقه]. اكتحل: وضع الكحل في عينيه أو إحدى عينيه، (ووصل إلى الحلق) هذا هو الشرط؛ لأنه لو اكتحل قبل غروب الشمس بنصف ساعة ولم يجد طعم الكحل إلا بعد غروبها بنصف ساعة أو بساعة أو بلحظة، فإننا لا نحكم بفطره؛ لأنه لم يصل هذا المفطر إلى المكان إلا بعد انتهاء وقت الصوم، فصومه صحيح. ولو اكتحل بالليل ووجد الطعم بالنهار لم يفطر؛ وذلك لأن الدخول كان بالليل، ولا عبرة بالوصول ولا تأثير له؛ لأن الإمساك الذي خوطب به المكلف قد تحقق؛ ولأن حقيقة الصوم الإمساك، ولذلك نجد الجمهور يقولون بالفطر في هذه الأحوال لأنها ليست بإمساك، فالإنسان إذا أدخل الكحل فيعتبر مفطراً إذا وجد طعم الكحل في يومه، أما إذا وجده بعد اليوم أو وضعه في الليل ووجده في النهار فإنه لا يفطر.

دخول أي شيء إلى الجوف من مفسدات الصيام

دخول أي شيء إلى الجوف من مفسدات الصيام وقوله: [أو أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان غير إحليله]. أو أدخل إلى جوفه أي شيء كان، سواء كان مما يغتذي به البدن أو لا يغتذي به البدن. (من أي موضع) أي: سواءً من أعلى البدن أو وسطه أو أسفله، فكل ما وصل إلى الجوف فإنه يوجب الفطر، والدليل على ذلك: ما ذكرناه من حديث لقيط بن صبرة؛ فكأن حقيقة الصوم في الشرع هي الإمساك، ومن أدخل إلى جوفه شيئاً فليس بممسك، سواء كان الشيء يؤكل أو يشرب أو كان من غير ما يؤكل أو يشرب، فكل ذلك يوجب فطر الإنسان ويحكم بفطره. (غير إحليله) والإحليل: هو مجرى البول من الذكر، واختلف فيه، ولما قال: (الإحليل) فهو بالنسبة للرجل، وأما بالنسبة للمرأة فالإيلاج في فرجها يوجب الفطر كالدبر، بخلاف قُبُل الرجل، فاختلف العلماء في الإحليل، فقال بعضهم: إنه لا يصل إلى الجوف، وليس بنافذ إلى الجوف لمكان الرشح الذي يكون عن طريق الكلية، قالوا: وهذا لا يوجب فطره، ومن هنا استثنى المصنف رحمه الله الإدخال عن طريق الإحليل بالنسبة للرجل.

الأسئلة

الأسئلة

الإفطار بالنية إذا لم يجد شيئا يفطر به

الإفطار بالنية إذا لم يجد شيئاً يفطر به Q من لم يجد ما يفطر عليه فهل يفطر بالنية؟ A على القول بأن النية تعتبر موجبة للفطر؛ فإنه يجزيه أن يفطر بالنية، بل يجب عليه أن ينوي أنه مفطر، وحينئذٍ يعتبر مفطراً، وقد جاء في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: (أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً) فيصيب السنة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه من السنة والهدي تعجيل الفطر وتأخير السحور، وعلى هذا فإنه ينوي إذا لم يجد طعاماً وشراباً، كما لو خرج من بيته، وأدركه وقت الأذان وهو في سيارته، وليس عنده طعام ولا شراب؛ فإنه ينوي في قلبه أنه مفطر على هذا الوجه، والله تعالى أعلم.

حكم وضع الطعام في الفم ثم لفظه

حكم وضع الطعام في الفم ثم لفظه Q من وضع الطعام في فمه وتذكر أنه صائم فلفظ الطعام، ثم وجد طعمه في فمه، فما حكمه؟ A من وضع الطعام في فمه، ثم تذكر أنه صائم ولفظه؛ فإن صومه صحيح، ويجب عليه أن يتمضمض وأن ينظف فمه حتى لا يمازج اللعاب تلك المادة الغريبة عن الفم، ومن هنا: إذا استاك بالمعجون ونحو ذلك فإنه يجب عليه أن يتنظف حتى تذهب مادة المعجون، فإذا مازجت مادة المعجون اللعاب واختلطت به فإن هذا يوجب فطره؛ لأنها مادة غريبة كما لو وضع تلك المادة الغريبة قصداً. وعلى هذا: لابد له من المضمضة ومن التنظيف، فإن امتنع من المضمضة والتنظيف وبلع ريقه الذي فيه طعم ذلك الطعام، وفيه مادة ذلك الطعام وجرمه، أو حتى تحلل في ريقه، فإن هذا يوجب فطره، والله تعالى أعلم.

حكم من بالغ في الاستنشاق جاهلا بالحكم

حكم من بالغ في الاستنشاق جاهلاً بالحكم Q ما حكم من كان يبالغ في الاستنشاق وهو جاهل بالحكم، وكان يجد الماء في حلقه؟ A من كان يبالغ في الاستنشاق ويجد طعم الماء في حلقه فإنه مفطر، ويلزمه قضاء تلك الأيام، والعذر بالجهل عذر في زمان التشريع، وأما بعد استقرار الشريعة فإنه ليس بعذر لإمكان سؤال العلماء، وقد نص أهل العلم رحمهم الله على أن من بلغ ووجبت عليه عبادة فينبغي قبل أن يفعلها أن يسأل عن كيفية فعلها، فكونه يقصر في سؤال العلماء لا يعد جهله عذراً شرعياً، وعليه القضاء بالتقدير، والله تعالى أعلم.

حكم استعمال حبوب منع العادة في رمضان

حكم استعمال حبوب منع العادة في رمضان Q إذا تناولت المرأة ما يؤخر عادتها لكي تتمكن من صيام رمضان كاملاً، فما حكم ذلك؟ A ترد هنا مسألتان: المسألة الأولى: هل يجوز للمرأة أن تتناول الحبوب التي تؤخر العادة؟ الصحيح: أنه لا يجوز لها ذلك؛ لما فيه من إدخال الضرر على النفس، ولما فيه أيضاً من فوات المقصود شرعاً من حصول النسل، ولما فيه من إرباك العادة واختلالها على وجه قد تصبح المرأة فيه مضطربة العادة، حتى لا تستطيع أن تميز بين كونها حائضاً أو كونها مستحاضة، وتعاطي الأسباب للإخلال لا يجوز، وبناءً على ذلك: أرجح الأقوال في هذا أنه لا يجوز تعاطي مثل هذه الحبوب، وقد ثبت طبياً مؤخراً أنها تضر بالبدن، وأصبح وجود الضرر فيها موجباً لمنعها. المسألة الثانية: لو أنها استعملت هذه الحبوب، ومنعت الدم شهر رمضان كاملاً، فهل صومها صحيح؟ أصح الأقوال: أن صومها صحيح؛ وذلك لأن الشرع علق الإبطال بوجود الدم، والدم غير موجود، ولذلك أصح الأقوال أن صومها صحيح، وحجها وطوافها بالبيت على هذا الوجه صحيح، وهو أصح أقوال العلماء المتأخرين الذين تكلموا على هذه المسألة، وبناءً عليه: فإن الدليل على صحة صومها وحجها وصلاتها أن الشرع علق المنع والتحريم على وجود الدم، والدم غير موجود، وبناءً على ذلك يعتبر صومها وصلاتها وسائر عبادتها صحيحاً من هذا الوجه، والله تعالى أعلم.

حكم مباشرة الزوجة في نهار رمضان

حكم مباشرة الزوجة في نهار رمضان Q من باشر أهله في نهار رمضان من غير إنزال، فهل يعتبر مفطراً وعليه الكفارة؟ A من باشر أهله فإنه يعتبر متعدياً لحد الله عز وجل؛ وذلك لأن الغالب في المباشرة أنه لا يأمن معها الوقوع في المحظور، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) ولذلك قال العلماء: ينقص أجره في الصوم بقدر مباشرته، وعلى هذا فإنه لا يجوز له أن يتعاطى هذه الأسباب، وقد قال عليه الصلاة والسلام (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه) فالله عز وجل حرم على المكلف أن يجامع أهله، والحمى الذي حول الجماع للصائم أن يباشر أهله فيتجرد هو وزوجته على وجه يحرك الشهوة، وهو صائم في فريضة من فرائض الله عز وجل فلا يأمن معها الإخلال، ولا يأمن معها أن يقع في حد الله عز وجل وحرمته. ولذلك: لا يجوز له أن يتعاطى مثل هذه الأسباب، فإن حفظ نفسه ولم ينزل فإن صومه صحيح، ولكنه ناقص الأجر، وقال بعض العلماء: شرعت صدقة الفطر جبراً لمثل هذا النقص، وأما لو أنزل وحصل منه الإنزال دون إيلاج فللعلماء فيه قولان: قال الحنفية والمالكية: عليه القضاء والكفارة؛ لأن الكفارة مرتبة على كونه انتهك حرمة شهر رمضان. وقال الشافعية والحنابلة: عليه القضاء دون الكفارة -وهو الصحيح- وإنما يجب عليه أن يقضي ذلك اليوم؛ لأنه بإنزاله لم يمسك على الوجه المعتبر في صومه، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: (وشهوته) ومن أنزل بالاستمناء أو مباشرة الأهل أو النظر إلى الصورة التي تثير شهوته، أو النظر إلى زوجته، أو كثرة تعاطي الأسباب الموجبة للإنزال فأنزل فإن صومه يعتبر فاسداً، وعليه القضاء، والله تعالى أعلم.

معنى صيام يوم في سبيل الله

معنى صيام يوم في سبيل الله Q في قول النبي صلى الله عليه وسلم (من صام يوماً في سبيل الله) إلى آخر الحديث هل هذا الحكم خاص بالمرابط، أم هو على العموم؟ A للعلماء في هذا الحديث قولان: قال بعض العلماء: هذا الحديث خاص بالمجاهد في سبيل الله، سواء كان مرابطاً أو كان في حال القتال، وقالوا: السبب في ذلك: أن سبيل الله إذا أطلق المراد به الجهاد، وعلى ذلك نصوص الكتاب والسنة، فينصرف إلى الغالب المشهور، وقال بعض العلماء: إن قوله: (في سبيل الله) أي: ليس بواجب، وإنما صامه قربة ونافلة لله عز وجل، وقالوا: لأن المجاهد الأفضل له أن يتقوى بالفطر، ولذلك لا يكون صائماً في حال قتاله؛ حتى لا يضعف عن لقاء العدو، ويرجحون من هذا الوجه أن قوله: (في سبيل الله) المراد به النافلة، وكلا الوجهين له قوة وحظ من النظر، وكنت أرجح القول الذي يقول بالتخصيص، ولكن تبين أن الإطلاق أقوى، وإن كنت لا زلت متردداً في ترجيحه، والتوقف في هذه المسألة في نظري هو الذي ملت إليه. فالحديث محتمل لكونه في سبيل الله في الجهاد، ومحتمل أن يكون (في سبيل الله) أي: طاعة وقربة لله عز وجل، وكان الذي يترجح عندي من قبل أنه الجهاد؛ وذلك لأنه المعهود في إطلاق الشرع؛ ولأنه لو كان المراد به النافلة المطلقة لقال: من صام نافلة ولم يخص بقوله: (في سبيل الله). فهذان الوجهان يقويان أن يكون في الجهاد، ولما ظهر قول من يقول: إن المجاهد يتقوى بفطره على الجهاد، وكان ذلك أبلغ في حصول المقصود من جهاده تعارض القولان عندي، وتوقفت في هذه المسألة حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين. والله تعالى أعلم.

حكم من أخر قضاء رمضان حتى أدركه رمضان التالي

حكم من أخر قضاء رمضان حتى أدركه رمضان التالي Q إنسان لم يصم سنتين قديماً، وهو الآن شارع في القضاء، فهل القضاء كاف أم عليه القضاء والإطعام معاً، أم عليه الإطعام مع التوبة فقط؟ A من أفطر في رمضان فإنه يلزمه القضاء، سواء وقع فطره متعمداً أو لعذر؛ فإذا أفطر رمضان كاملاً لزمه قضاء رمضان كاملاً، ويعتبر القضاء مؤخراً في حقه، فيجوز له أن يؤخر القضاء ما لم يبق على رمضان الثاني بقدر ما عليه من القضاء؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: (إن كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني) أخذ العلماء من هذا دليلاً على أن قضاء رمضان موسع، فإذا ماطل الإنسان وأخر وقصر حتى دخل رمضان الثاني، فجماهير العلماء على أنه يلزمه القضاء مع الكفارة، فيكفر عن كل يوم ربع صاع، وعن كل شهر سبعة آصع ونصف، وعلى هذا: فإنه يحسب الرمضانات التي أخل فيها، ويلزمه القضاء مع التكفير على قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم. والله تعالى أعلم.

مسألة في حكم حياة الشخص بالتنفس الصناعي

مسألة في حكم حياة الشخص بالتنفس الصناعي Q من مات دماغياً واحتيج إلى الجهاز الذي يستخدمه لوصله بشخص آخر، فهل يؤخذ منه ولا يكون في ذلك إزهاق لنفس مسلمة؟ A هذه المسألة تعتبر من النوازل المعاصرة، وموت الدماغ مسألة تحتاج إلى نظر وعدم استعجال في الفتوى، وذلك لأن مسألة موت الدماغ نفسها لم يتفق فيها الأطباء على ضوابط معينة، فهناك تقريباً ثلاث مدارس في تحديد المفهوم لموت الدماغ، ومع هذا حصلت حوادث يحكم فيها على إنسان بأنه ميت دماغياً، ثم بعد ذلك يفيق، وقد حصل هذا ووقع، وقد اطلعت على بعض الحوادث التي نقلت بأنه حكم بموته دماغياً، وأعرف حتى من أهل العلم والفضل من حكم عليه بالموت دماغياً، وأرادوا أن يأخذوا منه أعضاء للتبرع، ثم تأخر الورثة وحصل بينهم شقاق خلال أسبوع، فشاء الله أن يفيق بعد أسبوع. فهذه مسألة ليست من السهولة بمكان، إضافة إلى أن التشخيص والضوابط التي اطلعت عليها من كلام الأطباء في مسألة الموت الدماغي أو الموت السريري، هذه الضوابط لا تتيسر إلا في أرقى المستشفيات، فكوننا نفتي وتكون الفتوى عامة فهذا أمر يحتاج إلى تريث؛ فإنه لابد من الاحتياط لأرواح الناس وعدم الاستعجال في مثل هذه المسائل. لكن لو أن شخصين أحدهما ميئوس منه؛ لأن الأمراض تتفاوت ودرجاتها مختلفة، فهناك أمراض ميئوس من علاجها كالسرطانات ونحوها، أو يكون الإنسان في سن يغلب على الظن هلاكه وأصابه مرض قل أن يشفى منه أو الغالب أنه لا يشفى منه، وهناك حالة طارئة طرأت لإنسان مرضه غير ميئوس منه، والغالب أننا لو وضعنا عليه الجهاز فإنه يشفى ويعافى، فحينئذ هل للطبيب أن يسحب الجهاز من هذه الحالة الميئوس منها إلى هذه الحالة التي يمكن علاجها؟ فالجواب: نعم، كما لو دخل مريضان على طبيب وقد أشرفا على الموت، وأحدهما أرجى نجاة من الآخر؛ فإنه ينصرف إلى الذي هو أرجى ويغلب على ظنه أنه يحيا، والسبب في هذا: أن اشتغاله بهذه الحالة الميئوس منها مفض إلى مصلحة مظنونة وضعيفة الحصول، مع فوات مصلحة متيقنة أو غالبة وهي مصلحة الشاب أو الشخص الذي مرضه غير ميئوس منه، لكن إقباله على هذه الحالة التي لا ييئس منها مصلحة غالبة ومصلحة راجحة، تعارضها مصلحة متوهمة، فكان الترجيح؛ لأن الشرع يقدم في المفاسد درء أقواهما وفي المصالح أرجحهما، فإذا تعارضت مصلحتان تقدم أرجحهما، وإذا تعارضت مفسدتان تدرأ أكبرهما، والدليل على ذلك أن الخضر كسر السفينة لخوف أن تؤخذ السفينة بكاملها، فقالوا: هذا يدل على أنه إذا تعارضت مفسدة فوات السفينة بكاملها، وكونه يكسر جزءاً منها ويعيبها، يدل على أن الضرر الأخف يَدْفَع ما هو أعظم منه، ويراعى ما هو أغلب ضرراً وأعظم. فمثل هذه الحالات التي يغلب على الظن الشفاء والعلاج فيها، مثل: حوادث السيارات، فيدخل المريض وهو في حالة من الخطر ويتوقف علاجه على الأجهزة؛ فإننا نقدمه على تلك الحالة الميئوس منها، ويجوز للطبيب في هذه الحالة خاصة، وهي التي توصلت إليها من خلال البحث -أي: هي الحالة التي يجوز فيها سحب أجهزة الإنعاش عن المريض- أن توجد حالات غير ميئوس منها أو الغالب على الظن علاجها، فإنها تقدم على الحالة الميئوس منها والتي كانت تعالج من قبل، والله تعالى أعلم.

مسألة الإنصات عند سماع القرآن

مسألة الإنصات عند سماع القرآن Q قال الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204] هل الحكم خاص بالصلاة، أم هو عام حتى خارج الصلاة؟ A هذا فيه تفصيل: إذا كان المكان مهيأ لتلاوة كتاب الله عز وجل، كأن يكون في حلق علم وحلق دراسة للقرآن فلا يجوز لأحد أن يجلس في الحلقة وهو يحدث صاحبه؛ حتى لا يشوش على إخوانه، بل ينتحي مع زميله ناحية بعيداً عن هذه الحلق. أما لو كان المكان غير مهيأ، كأن يكون الإنسان ماشياً في الطريق، أو سمعه عرضاً في دكان أو بقالة أو نحو ذلك فلا يلزمه أن يستمع، ولكن لو استمع فهو أفضل، والمرد بذلك أن يكف عن الكلام ويصغي، حتى ولو كان يمشي، وهكذا المرأة لو كانت في عملها وشأنها وتصغي لكتاب الله وتستمع له، وتتأثر بالآيات التي فيه فهذا خير، وهي عبادة السمع والقلب. فإذا كان الإنسان يريد الأفضل فليستمع، وأما بالنسبة لوجوب الإنصات فهذا في الصلاة من جهة تعين الإنصات، أما في الطريق أو أثناء المرور على حلقة علم لا يلزمه أن يجلس ويستمع، وإنما يلزمه الاستماع والإنصات في الصلاة، وأما خارج الصلاة فالعلماء يفصلون بين المكان المهيأ وغير المهيأ. ومن هنا ينبه على مسألة جلوس البعض في حلق العلم يتحدث بعضهم مع بعض وخاصة النساء، وقد اشتكت بعض الأخوات في بعض المساجد من أن بعض النساء يأتين في أثناء حلق العلم أو المحاضرات ويتكلمن ويتحدثن داخل مصلى النساء، ويشوشن على أخواتهن. وهذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الضرر، ومن أعظم الضرر أن يأتي طالب العلم أو تأتي طالبة العلم وقد تركت مصالحها وتفرغت لكلام ربها وكلام رسولها عليه الصلاة والسلام؛ تريد أن تستفيد وأن تتعلم، ثم تأتي هذه المرأة لكي تشوش على أخواتها، فهذا من أعظم الضرر، وإني أخشى على أمثال هؤلاء أن تصيبهم دعوة المؤمنين والمؤمنات، والإنسان إذا ظلم أخاه ودعا عليه فإنه لا يعود عليه بخير، فعلى الإنسان أن يبتعد عن أذية إخوانه المسلمين؛ فإذا كان يريد التحدث فليخرج من المسجد أو ينتحي ناحية بعيدة عن الحلق؛ حتى لا يشوش على إخوانه المصلين وكذلك على إخوانه الذاكرين لله عز وجل، سواءً كان ذلك في حلق علم أو في محاضرات أو في قراءة قرآن. أو نحو ذلك. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة [2]

شرح زاد المستقنع - باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة [2] مما يفسد الصوم ويوجب القضاء: القيء عمداً، والاستمناء، والمباشرة مع الإنزال، والإنزال بسبب تكرار النظر، وهناك خلاف بين العلماء في الحجامة هل تفطر أو لا؟ وهناك أمور لا تفسد الصوم ولا توجب القضاء، ومنها: من طار الى حلقه ذباب ونحوه، ومن فكر فأنزل المني أو احتلم في نهار رمضان ونحوها، وهناك مسائل متعلقة بالشكل في طلوع الفجر وغروب الشمس مبينة في موضعها.

من مفسدات الصيام

من مفسدات الصيام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول المؤلف عليه رحمة الله: [أو استقاء أو استمنى، أو باشر فأمنى أو أمذى، أو كرر النظر فأنزل، أو حجم أو احتجم وظهر دم عامداً ذاكراً لصومه فسد].

القيء عمدا مفسد للصوم

القيء عمداً مفسد للصوم لا زال المصنف رحمه الله يبين لنا ما يوجب فساد صوم الصائم، فقال رحمه الله: (أو استقاء) وقد تقدم أن طلب القيء يعتبر موجباً لفساد الصوم، والأصل في ذلك ما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استقاء فقاء فليقض) فقد دل هذا الحديث على أن الصوم يفسد بالقيء، وهناك فرق بين من استقاء وبين من ذرعه القيء؛ فالإنسان له حالتان: الحالة الأولى: أن يستدعي القيء، وذلك بإدخال إصبع أو نحو ذلك من الأفعال التي تحركه فيقيء ما في بطنه، فإذا استقاء بمعنى أنه تعاطى الأسباب التي يستدعي بها القيء فإنه حينئذٍ يعتبر مفطراً، وعليه قضاء ذلك اليوم. أما الحالة الثانية: بالنسبة لمن ذرعه القيء وغلبه، سواء سمع ما يكره أو رأى ما يوجب اشمئزازه ونفرته فذرعه القيء فقاء؛ فكل هؤلاء يعتبرون في حكم المعذورين، ولذلك لا يجب عليهم قضاء، وحكي الإجماع على هذه المسألة -أعني مسألة القيء- فقالوا بالتفريق بين من ذرعه القيء وغلبه، وبين من تعاطى أسباب القيء، فإذا تعاطى وجب عليه القضاء، وإذا غلبه القيء لا قضاء عليه.

الاستمناء من مفسدات الصيام

الاستمناء من مفسدات الصيام [أو استمنى]. الاستمناء: أن يطلب خروج المني، وهو على وزن (استفعال)، والمراد بذلك أن يحرك شهوته إما بيد أو بتحكك على أرض أو على جدار أو نحو ذلك، كل ذلك يعتبر استمناءً، وكانت العرب في الجاهلية تسميه (جلد عميرة) يكنون به عن استخراج المني، ومنه قول الشاعر: إِذَا حَلَلْتَ بِوَادٍ لا أَنِيسَ بِهِ فَاجْلِدْ عُمَيْرَةَ لا عَيْبٌ ولا حَرَجُ فجاء الإسلام بتحريم هذه العادة المشينة القبيحة، فقد قال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7] فبين سبحانه أن من طلب شهوته، وكان طلبه خارجاً عما أحل الله من الزوجة والسّرية؛ فإنه يعتبر متعدياً لحدود الله عز وجل. وهذا القول قال به أئمة من السلف وفسروا به الآية، وقالوا: إنها تدل على تحريم الاستمناء، وقد وردت أحاديث في تحريم هذه العادة؛ حتى إن بعض العلماء جمع طرقها وقال: إنها يقوي بعضها بعضاً، بحيث تدل على أن للحديث أصلاً في التحريم. والشاهد من هذه المسألة: أن من حرك شهوته بنفسه أو عن طريق زوجته: فاستمنى بها بمفاخذة أو نحو ذلك؛ فإنه يجب عليه قضاء ذلك اليوم إذا خرج منه المني. والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث القدسي عن الله تعالى في حق الصائم: (يدع طعامه وشرابه وشهوته) فلما قال: (وشهوته) أطلق، فشمل الشهوة الكبرى سواءً كانت عن طريق الجماع أو كانت عن طريق الاستمناء، فإذا أنزل المني فقد حصلت شهوته، وهي شهوة كبرى، وبناءً على ذلك يعتبر غير صائم؛ لأن الصائم يدع هذه الشهوة، ومن استمنى لم يدع هذه الشهوة. وبناءً عليه: فإن الاستمناء يعتبر من موجبات الفطر. وشذّ الظاهرية رحمة الله عليهم فقال بعض فقهائهم: إن الاستمناء ليس بحرام، ولا يوجب الفطر. ولا شك أن النصوص التي قدمنا تدل على حرمته، إضافة إلى ما ثبت في الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم) فلو كان الاستمناء جائزاً لقال: فعليه بالاستمناء، فدلت هذه النصوص من الكتاب والسُّنة على تحريم الاستمناء، ودل حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه -وهو ثابت في الصحيح- وفيه: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) على أن من استمنى أنه يعتبر مفطراً. وعلى هذا: فإنه يستوي أن يستمني بنفسه أو يستمني بواسطة الغير، فكل ما استدعى به خروج منيه يعتبر موجباً لفطره إذا خرج ذلك المني. والعبرة في المسألة بخروج المني، فلو استمنى ولم يخرج مني أو حرك شهوته ولم يخرج المني فإن الشهوة لم تقع على الصورة الكاملة، فلا ينتقض صومه ولا يلزمه قضاء، ولكنه يعتبر ناقص الأجر بمثل هذا كما ذكر ذلك بعض العلماء رحمة الله عليهم.

المباشرة المسببة لنزول المني أو المذي مفسدة للصوم

المباشرة المسببة لنزول المني أو المذي مفسدة للصوم [أو باشر فأمنى أو أمذى]. أو باشر امرأته فأمنى أو أمذى، والمباشرة (مفاعلة) من البشرة، والمراد بها: أن تلي بشرته بشرة المرأة فتتحرك شهوته فينزل، وهذا يكون فيه المضاجعة التي لا جماع فيها، فإذا باشر امرأته فكأنه تعاطى السبب للفطر كما لو استقاء أو استمنى، ولذلك إذا أنزل المني سواءً بمباشرة أو استمناء فإنه يعتبر مفطراً. والدليل على كونه إذا باشر فأنزل أنه يعتبر مفطراً ما تقدم من حديث الشهوة، حيث دلت هذه السُّنة الصحيحة على أن الصائم لا يقضي شهوته بإنزال المني ولا بالجماع، فإذا باشر زوجته وأنزل منيه فإنه حينئذٍ يعتبر مفطراً ويلزمه القضاء. لكن قوله: (أمذى) المذي: هي القطرات القليلة اللزجة التي تخرج عند بداية الشهوة، بخلاف المني الذي يخرج دفقاً عند الشهوة واللذة الكبرى، فإذا حصل المني أفطر لقول جماهير العلماء كما ذكرنا، أما لو باشر زوجته فخرج منه المذي قطرة أو قطرات فإنه يعتبر مفطراً في قول الحنابلة والمالكية. وذهب الحنفية والشافعية إلى أنه غير مفطر، والصحيح: أن من باشر أو نظر إلى شيء فأمذى أن المذي لا يوجب الفطر؛ لأن المذي ليس كمال الشهوة، وبذلك لا ينتقض صومه.

الإنزال بسبب تكرار النظر يفسد الصوم

الإنزال بسبب تكرار النظر يفسد الصوم [أو كرر النظر فأنزل]. أو كرر النظر إلى ما يُشتهى فأنزل؛ لماذا قال: (كرر)؟ التكرار يحصل بالمرة الثانية؛ وذلك لأن النظر في المرة الأولى عفي عنه؛ لأنه ومما يشق التحرز عنه، فلو نظر إلى زوجته فأعجبته وبمجرد نظره إليها أنزل قالوا: إن هذا ليس بيده، وغالباً يكون مثل من ذرعه القيء؛ فاغتفروه، وأما إذا كرر النظر وتابع النظرة بعد النظرة فإنه يحرك شهوته كما يحركها المباشر والمستمني، فإن حصل إنزال على هذا الوجه فإنه يجب عليه القضاء.

الحجامة من مفسدات الصيام

الحجامة من مفسدات الصيام [أو حجم أو احتجم وظهر دم]. أو حجم غيره أو احتجم لنفسه، فهناك حاجم وهناك محجوم، والحجامة تكون بمص الدم، وهي من الجراحات القديمة، وقد ثبتت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنها من الأدوية، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن كان في شيء مما تتعالجون به شفاء ففي شرطة من محجم، أو آية من كتاب الله، أو شربة من عسل، أو كية من نار، ولا أحب أن أكتوي). فالحجامة من أنواع العلاج، ولا تزال إلى يومنا هذا، وتسمى من تخصصات الجراحة العامة في عصرنا الحاضر، وقد أقرتها الشريعة وحمدت العلاج بها، وهي تقوم على مص جزء من الدم من الجسم، ويختلف العلاج بها فتكون في الرأس، وتكون في الظهر، وتكون في أسافل البدن، وتحجم المواضع على حسب الأمراض والأدواء، فلكل داء ومرض مكان معين، ولربما لو تحرك عنه أو عدل عنه جاء بداءٍ أعظم من المرض الذي يريد أن يعالج من أجله، ففي الرأس مواضع لو حُجمت شفي الإنسان من ثقل النوم ومن أمراض الصداع، وفيه مواضع لو حُجمت أصابه النسيان، ولربما ذهبت ذاكرته، ولذلك هي تعتبر من أنواع العلاج لكن بشرط: ألا يحتجم الإنسان إلا عند إنسان يعرفها، فهي خطيرة، فكما أنها تأتي بالنفع فقد تأتي بالضرر. وهذه الحجامة تعتبر محل خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، هل إذا احتجم الإنسان أو حجم غيره يعتبر مفطراً أو لا؟ ففي ذلك سنن وآثار مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في حديث أحمد وأبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفطر الحاجم والمحجوم) وهذا الحديث رواه بضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أوصلهم الإمام الحافظ الزيلعي رحمة الله عليه إلى ثمانية عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم روى عنه هذا الحديث. إلا أن أكثر هذه الأحاديث ضعيف ولا يقوى سنده؛ ولكن هناك أحاديث حكم بتحسينها، وجزم بعض العلماء والحفاظ بتصحيحها، فقد صححها الإمام أحمد رحمة الله عليه، والإمام البخاري يحكى عنه تصحيح حديث الحجامة في الفطر، وغيرهما من الأئمة رحمة الله على الجميع، والعمل على ثبوت قوله عليه الصلاة والسلام: (أفطر الحاجم والمحجوم) قالوا: فقوله: (أفطر الحاجم والمحجوم) يدل على أن من حجم أو احتجم يعتبر مفطراً. ووجه ذلك: أن الحاجم -وهو الشخص الذي يقوم بالحجامة- ولأن الحجامة تحتاج إلى مص الدم -فيُشرَّط الموضع ثم يُمص الدم الفاسد- فلا يأمن من أن يمص شيئاً من ذلك الدم. وأما المحجوم: فلأن الحجامة تضعف بدنه وتنهك قوته، ولذلك قالوا: إنه يعتبر مفطراً، ويستوي الحكم في الحاجم والمحجوم. وذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم -وهو قول طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ أنس وغيره- أن هذا الحديث منسوخ، ومنهم من يقول: إن حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) يُخرج على غير الفطر الحقيقي. واختلفوا في ذلك، فقالت طائفة: إن هذا الحديث ورد في سبب مخصوص، وذلك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بالبقيع -كما في بعض الروايات- على حاجم ومحجوم وسمعهما يغتابان الناس وهما صائمان، فقال عليه الصلاة والسلام: أفطر الحاجم والمحجوم) أي: أنهما بغيبتهما للناس قد أذهبا أجر صيامهما، فكأنهما أفطرا. والعرب تقول: أفطر، وتقول: أصبح، وتقول: أمسى، وهو لم يمس ولم يفطر ولم يصبح حقيقة؛ وإنما المراد: أنه تعاطى شيئاً يفوّت المقصود كما في حال الصائم هنا: لما تعاطى الغيبة كأنه ذهبت حسناته فكأنه لم يصم أصلاً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) هذا الوجه الأول. والوجه الثاني -وهو أقوى الوجوه-: أن قوله عليه الصلاة والسلام: (أفطر الحاجم والمحجوم) المراد به أنهما أوشكا على الفطر، كما تقول: أصبحتَ أصبحتَ. أي: ويحك كدت أن تصبح. كما في حديث ابن أم مكتوم (وكان لا يؤذن إلا إذا قيل له: أصبحتَ أصبحتَ). وهذا موجود في لغة العرب إلى يومنا هذا، فإنك تقول للرجل: هلكتَ هلكتَ! وأنت لا تقصد أنه هلك حقيقة، كأن يكون قريباً من نار أو قريباً من بلاء، فتقول له: احترقتَ احترقتَ! وهو لم يحترق حقيقة؛ وإنما المراد أنه في موضع يعرضه للاحتراق. قالوا: فقوله: (أفطر الحاجم والمحجوم) أي: أن الحاجم لا يأمن من دخول شيء من الدم إلى جوفه، والمحجوم لا يأمن من الضعف الذي يفضي به إلى الفطر، وهذا نسميه تأويل الحديث بما يدل عليه الحال، فإن الحال يدل دلالةً واضحةً على أنه سينهك بدن المحجوم، ولا يأمن الحاجم من ازدراد الدم، ولذلك لا تستطيع أن تقول: إن الحاجم أفطر حقيقة؛ لأن المفطر حقيقة يأكل أو يشرب أو يتعاطى شهوة توجب فطره، فلما كان الحاجم والمحجوم لا يأكلان ولا يشربان، وإنما فيهما معنىً يفضي بهما إلى الضعف الذي ينتهي إلى الفطر قَوِيَ حمل الحديث على هذا الوجه. وهناك وجه ثالث -وهو من أقوى الأوجه، واختاره جمع من الأئمة رحمة الله عليهم كما أشار إليه الإمام ابن حزم الظاهري وغيره- وهو: أن حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) كان في أول الإسلام ثم نسخ، وقد جاء ذلك صريحاً في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك قال: (إنما كان رخصة) وكذلك مثله حديث أبي سعيد الخدري قال: (ثم رُخص في الحجامة) قالوا: فقوله: (ثم رخص في الحجامة) يدل على أن الأمر كان في الأول عزيمة ثم خفف فيه، وهذا هو القول الأقوى والأوجه في هذه المسألة. إضافة إلى أنه ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم) وابن عباس من صغار الصحابة، ولذلك قالوا: إنه يقوى أن يكون حديث الناسخ متأخراً عن المنسوخ، وهو حديث الرخصة الذي ذكرناه عن أنس بن مالك وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما. وعلى هذا الوجه: فإن الحجامة كانت في أول الأمر موجبة لفطر الحاجم والمحجوم، ثم نسخ ذلك وأصبحت رخصة، كما قال أنس: (ثم رخص بَعْدُ في الحجامة) وعليه: فإنه إذا احتجم الإنسان أو حجم غيره فإنه لا يعتبر مفطراً. لكن على القول بأن الحجامة تفطر فقالوا: لا تكون مفطرة إلا إذا مص الدم - أعني الحاجم - فلو أنه فصده، بمعنى قطع منه العرق وجرى الدم، والفرق بين الحجامة والفصد: أن الحجامة تكون لأوعية الدم، فتمتص ما هناك من الدم الفاسد، وأما بالنسبة للفصد فإنه يكون للعروق، فالفصد لايعتبر موجباً لفطر الفاصد؛ لأنه لا يمص؛ ولكن هل يكون مؤثراً في صيام المفصود؟ قال بعض العلماء: الفصد يلتحق بالحجامة من جهة أنه ينهك بدن المفصود، بل قد يكون الفصد أقوى وأبلغ في التأثير على الجسم من الحجامة؛ لأنه يتصل بالعروق، وجريان الدم في العروق أشد من جريانه في الأوعية، وتضرر الإنسان بالفصد أعظم من تضرره بالحجامة. وعلى القول بأن الفصد يوجب الفطر فإن من تبرع بدمه يدخل في هذا؛ لأن الفصد إخراج للدم من العرق، والتبرع بالدم إخراج للدم من العروق. وعلى هذا فإنهم يقولون: إذا خرج منه الدم على هذا الوجه فإنه يعتبر مفطراً؛ لكن لو خرج الدم بغير اختياره كرعاف ونزيف من جرح ونحو ذلك قالوا: لا يعتبر مفطراً؛ لأنه هناك أدخل الضرر على نفسه، بخلاف ما إذا غلبه الرعاف أو طعن أو جرح؛ فإنه لا يعتبر مفطراً. [وظهر دم عامداً ذاكراً لصومه فسد]. يشترط في الحجامة -كما قلنا-: أن يظهر الدم، ومفهوم قوله: (وظهر دم) أنه إذا لم يظهر الدم فإنه لا يعتبر مفطراً. ومثال ذلك: لو أنه شرطه وأذن المغرب فخرج الدم بعد أذان المغرب فإنه لا يعتبر مفطراً؛ لأن خروج الدم الذي ينبني عليه الحكم بالفطر إنما وقع بعد الأذان، وعليه: فإنه لا يعتبر مفطراً من هذا الوجه. وأما لو شرطه وخرج الدم قبل الأذان ولو بلحظة فإنه يعتبر مفطراً على هذا القول. [عامداً ذاكراً لصومه فسد]. (عامداً): أي متعمداً للحجامة، فلو أكره عليها لم يؤثر. (ذاكراً لصومه): فلو كان ناسياً لم يؤثر، وقد قلنا إن الصحيح في هذا كله: أن الحجامة لا توجب الفطر. [عامداً ذاكراً لصومه لا ناسياً أو مكرهاً]. (لا ناسياً) أي: لا إن كان ناسياً؛ لأن النبي قال: (من أكل أو شرب في نهار رمضان وهو ناس فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه) فإذا كان الأكل والشرب مع النسيان لا يوجب الفطر، فكذلك الحجامة مع النسيان لا توجب الفطر. وقوله (لا ناسياً أو مكرهاً) المكره: ضد المختار وهو الذي يأتي الشيء بغير اختياره، والإكراه له شروط، فإذا تحققت شروط الإكراه المعتبرة شرعاً فإنه يسقط عنه التكليف في قول جماعة من أهل العلم رحمة الله عليهم، وأصول الشريعة دالة على ذلك، فقد قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] فأسقط الله المؤاخذة بالردة، وهي كلمة الكفر إذا كان الإنسان مكرهاً عليها؛ فمن باب أولى فروع الشريعة، فإذا كان الإكراه لا يوجب الكفر فمن باب أولى أن لا يوجب الفطر ولا غيره من الإخلالات.

الأشياء التي لا تفسد الصيام

الأشياء التي لا تفسد الصيام [أو طار إلى حلقه ذباب أو غبار، أو فكر فأنزل، أو احتلم، أو أصبح في فيه طعام فلفظه، أو اغتسل أو تمضمض أو استنثر، أو زاد على الثلاث، أو بالغ فدخل الماء في حلقه لم يفسد].

من طار إلى حلقه ذباب أو غبار لم يفسد صومه

من طار إلى حلقه ذباب أو غبار لم يفسد صومه [أو طار إلى حلقه ذباب]. كأن يكون الإنسان يتكلم فلا يشعر إلا والذباب قد دخل في حلقه، فقد غلبه، فهذا لا يؤثر. [أو غبار]. فالغبار إذا قصده فإن له جرم ومادة ويوجب هذا الفطر، وقد قررنا هذه المسألة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل قطرات الاستنشاق يحظر على الإنسان أن يتعاطى أسبابها في الأنف -في قوله صلى الله عليه وسلم: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) -؛ والسبب في ذلك: أن لها جرماً، ويستوي في ذلك القليل والكثير، ولذلك لو أخذ قليلاً من الطين وطعمه وجاوز اللهاة فإنه يفطر بلا إشكال، فكذلك لو قصد الغبار فلعقه، أو فتح فمه له قاصداً دخوله فإنه يعتبر مفطراً، فإذا طار الغبار أو الذباب فدخل حلقه فلا يفطر؛ لأنه مما يشق التحرز منه.

من تفكر فأنزل المني لم يفسد صومه

من تفكر فأنزل المني لم يفسد صومه [أو فكر فأنزل]. قوله: (أو فكر فأنزل) لا يفطر فإنه مما يشق التحرز والتوقي عنه، والأصل في الشريعة أنه لا حرج فيه، فإننا لو قلنا: إن الإنسان إذا فكر فأنزل يجب عليه القضاء فإن هذا مما يشق التحرز عنه كحديث العهد بالعرس ونحو ذلك، كما يكون حديث العهد بالجماع قبل الفجر، فمثل هذا إذا دهم عليه التفكير فإنه يعتبر مما يشق التحرز عنه كمسألة الغبار. والمصنف يقصد من هذا أن الفقهاء عندما يأتون بهذه الصور مرادهم أن تأخذ القاعدة والأصل، وهو: أن الفطر يكون بالاختيار، ولذلك انظر في قوله: (لا ناسياً أو مكرهاً) ثم بعد ذلك قال: (أو طار إلى حلقه ذباب أو غبار) تأمل قوله: (مكرهاً) ثم أتبع بعدها طيران الغبار والذباب، فتفهم من هذا دقة المصنف وأن مراده أن يجعلك في دائرة معينة، وهي: أن تفرق في الفطر بين ما يغلب الإنسان وبين ما لا يغلبه. فإذا سألك السائل عن شيء غلبه وشق التحرز عنه فإنه يعتبر في حكم المعذور، وأما إذا كان شيئاً يمكن توقيه وتحفظه منه فإنه يعتبر مفطراً.

الاحتلام في نهار رمضان لا يفسد الصوم

الاحتلام في نهار رمضان لا يفسد الصوم [أو احتلم]. والاحتلام: أن يرى الإنسان وهو نائم ما يحرك شهوته فينزل، فإذا احتلم على هذا الوجه فإنه لا يفسد صومه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم-: النائم حتى يستيقظ) وقد أجمع العلماء على أن من نام واحتلم أنه لا يجب عليه الفطر، وبناءً على ذلك: إذا تقرر هذا كأن الإجماع يدلنا على أن الشريعة تفرق بين ما يغلب الإنسان وبين ما لا يغلبه، فهذا الشيء الذي هو الاحتلام أو طيران الغبار كأن تمشي في صحراء أو نحوها ولا يمكنك التوقي منه، فهذا كله مما يعفى عنه.

من أصبح وفي فمه طعام فلفظه لم يفسد صومه

من أصبح وفي فمه طعام فلفظه لم يفسد صومه [أو أصبح في فيه طعام فلفظه]. وهذا يحصل بعد السحور، فيؤذن أذان الفجر ولا يزال بقايا الطعام في فم الصائم، وخاصة فيما يكون بين الأسنان، فإذا لفظه فإنه لا يؤثر في صومه، لكنه لو بلعه وازدرده فإنه يعتبر مفطراً.

الاغتسال في نهار رمضان لا يفسد الصوم

الاغتسال في نهار رمضان لا يفسد الصوم [أو اغتسل]. أو اغتسل بالماء، فإن الاغتسال بالماء لا يوجب الفطر، ولذلك اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع ابن عباس رضي الله عنه يجلسان في البرك بين مكة والمدينة يتنافسان أيهما أطول نفساً وهما ينغمسان في الماء؛ والسبب في ذلك: أنه ليس بشرب ولا بأكل حقيقة، ولا في حكم الأكل والشرب. وعلى هذا: فإن الانغماس في الماء والسباحة لا يوجب الفطر، وهكذا لو اغتسل فرش الماء وصبه عليه، فإن هذا كله مما لا يوجب الفطر؛ والسبب في هذا: أنه يصب الماء على ظاهر الجسد، وقد دلت الشريعة على أن صب الماء على ظاهر الجسد لا يوجب الفطر، ولذلك من تمضمض وهو صائم بالإجماع لا يفطر؛ لأن الفم من ظاهره، فكذلك إذا صب الماء على ظاهره.

المضمضة والاستنثار والمبالغة فيها لا تفسد الصوم

المضمضة والاستنثار والمبالغة فيها لا تفسد الصوم [أو تمضمض أو استنثر، أو زاد على الثلاث، أو بالغ فدخل الماء في حلقه لم يفسد]. لو أنه تمضمض أو استنشق فله حالتان: الحالة الأولى: أن يتمضمض ويستنشق بدون تكلف، فهذا لا يفطر عند العلماء رحمة الله عليهم في قول الجماهير. الحالة الثانية: إذا كان تمضمضه واستنشاقه بطريقة فيها تكلف ومبالغة فللعلماء وجهان: منهم من يقول: إذا بالغ أفطر وهذا يفهم من السُّنة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث لقيط بن صبرة (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) قالوا: ففي هذه الحالة يعتبر مفطراً، وهذا القول هو أحوط القولين، وهو خلاف ما اختاره المصنف رحمة الله عليه. وعليه: فإنه إذا بالغ في المضمضة فغرغر بالماء، فأحس بالماء في حلقه فإنه يعتبر مفطراً، وهكذا لو بالغ في الاستنشاق فوجد طعم ذرات الماء في حلقه فإنه يعتبر مفطراً على أصح قولي العلماء؛ لأنه تعاطى السبب للإخلال، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا السبب، فدل على أنه إذا ارتكب المحظور وخالف النهي أنه يعتبر مفطراً. [أو زاد على الثلاث] قالوا: لأن الزيادة على الثلاث تعتبر غير مشروعة، فكأنه إذا زاد عن الثلاث زاد وبالغ، فكما أنه لا يشرع له المبالغة في حال الصيام في الاستنشاق والمضمضة، كذلك أيضاً إذا بالغ فزاد على الثلاث فإنها محظورة شرعاً، كالمبالغة في الاستنشاق المأذون به شرعاً، فيفطر هنا كما يفطر هناك سواءً بسواء لتعاطي السبب.

من أكل شاكا في طلوع الفجر صح صومه

من أكل شاكاً في طلوع الفجر صح صومه [ومن أكل شاكاً في طلوع الفجر صح صومه]. استيقظ رجل من الليل فشك هل طلع الفجر فيمسك أو لا زال الليل فيأكل؟ فبالإجماع على أنه يعتبر نفسه بالليل ويأكل ويشرب، وحينئذٍ لا يخلو من أحوال: الحالة الأولى: أن لا يتبين له شيء، فإذا لم يتبين له شيء مثل أن يقوم في جوف الليل ولا يدري هل طلع الفجر أو لم يطلع، فيشرب أو يأكل ثم يرجع فينام، ويستيقظ بعد صلاة الفجر فلا يدري حينما قام فأكل أو شرب هل وقع أكله وشربه بعد تبين الفجر فيعتبر مفطراً أو وقع قبل الفجر فهو صائم؟ بالإجماع يعتبر نفسه أنه في الليل، ويحل له الأكل والشرب، وإذا لم يتبين له شيء فصومه صحيح. والدليل على ذلك: أن الأصل بقاء الليل حتى يتحقق من أن النهار قد طلع، والله أمرنا أن نبقى على اليقين، والشك لا عبرة به، وأصول الشريعة دالة عليه، ونصوص الكتاب والسُّنة تقتضي ذلك: أن العبرة باليقين، وأن الشك لا يلتفت إليه. ومن قواعد الشريعة: (اليقين لا يزال بالشك) وتفرع عليها قولهم: (الأصل بقاء ما كان على ما كان). فالأصل بقاء الليل، ونحكم بكونه يحل له الأكل والشرب والجماع حتى يتحقق أنه قد أصبح، فينتقل من يقين الحل إلى يقين التحريم. الحالة الثانية: أن يتبين له الأمر، فإن تبين له الأمر لا يخلو من صور: الصورة الأولى: أن يأكل ويشرب ثم يتبين له أن الفجر لم يطلع، مثال ذلك: استيقظت فأكلت أو شربت على أن الليل باقٍ، ثم نظرت في الساعة أو سمعت الأذان الأول فقد تبين لك أن الفجر لم يطلع، فحينئذٍ بالإجماع لا يؤثر؛ لأنه أكل وشرب في وقت مأذون به شرعاً. الصورة الثانية: أن يتبين له أن النهار قد طلع، فاختلف العلماء في ذلك، فقال بعضهم: صومه صحيح. وقال الجمهور: عليه القضاء؛ لأنه تعاطى سبباً فيه تقصير؛ فألزم بعاقبة التقصير، وتوضيح ذلك أنه لو تحرى لتبين له أن الفجر قد طلع، فلما قصر فإنه يُلزم بعاقبة تقصيره، ويلزمه القضاء؛ لأن الله تعالى أوجب عليه أن يمسك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهذا لم يمسك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس حقيقة؛ فيُلزم بالقضاء، وهذا هو أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم؛ لأنه قصر ويلزم بعاقبة تقصيره ويلزمه القضاء.

من أكل شاكا في غروب الشمس فسد صومه

من أكل شاكاً في غروب الشمس فسد صومه [لا إن أكل شاكاً في غروب الشمس]. لو غابت الشمس في الغيم، وفي الأزمنة التي لم يكن فيها ساعات، أو يكون الإنسان ليست عنده ساعة، فحينئذٍ يشك هل غابت الشمس أو لم تغب؟ فالأصل واليقين: أنه في النهار، فنقول له: يحرم عليك الأكل والشرب حتى تتحقق أو يغلب على ظنك أن الليل قد أقبل وأن الشمس قد غابت. بناءً على ذلك: إذا أمكن أن يرجع إلى ساعة ونحوها لا يجوز له أن يفطر حتى يتحقق عن طريق الساعة. وإذا لم توجد ساعة فإنه يُقدر الزمان، وذلك أن يحسب فيجلس إلى فترة يغلب على ظنه أن الشمس قد غابت، والدليل على ذلك حديث الدجال: (أنه يمكث أربعين يوماً، يوم منها كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامنا، قالوا: يا رسول الله! هذا اليوم الذي هو كسنة أتُجزينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، ولكن اقدروا قدره) قال العلماء: فيه دليل على أن الصائم يرجع إلى التقدير إذا تعذر عليه الضبط بالحقيقة، فتقدر زماناً يغلب على ظنك أن الشمس قد غابت فيه، فإذا قدرت هذا الزمان تفطر بعده. فإن أفطرت فلا تخلو من حالتين: إما أن يتبين لك الأمر أو لا يتبين -مثل ما تقدم معنا في السحور- فإن لم يتبين لك شيء، وغلب على ظنك أن الشمس قد غابت فصومك صحيح؛ لأن الله تعبدنا بغلبة الظن، ولم يظهر ما يدل على بطلان الصوم وفساده. ثانياً: الحالة الأولى: أن يتبين لك أن تقديرك صحيح، مثلاً: لو أنك أكلت في هذه اللحظة، ثم دخل عليك رجل فسألته: كم الساعة؟ قال: الساعة السادسة، وغروب الشمس يكون عند السادسة إلا ربعاً، أو عند السادسة إلا عشرة دقائق، فما بين أكلك ودخوله عليك وإخباره لك وقت يدل على أن أكلك وشربك قد وقع بعد الغروب قطعاً، فحينئذٍ تبين لك صحة اجتهادك، فصومك صحيح. الحالة الثانية: أن يتبين لك أن الشمس لم تغب، وأن النهار لا زال باقياً، وأن أكلك وشربك وقع في حال النهار، فللعلماء قولان مشهوران: قال بعضهم: إنه يلزمه القضاء؛ لأنه قصر فيُلزم بعاقبة تقصيره كمسألتنا في السحور، وكذلك فيه حديث البخاري وسئل هشام بن عروة رحمة الله عليه: (أَقضوا ذلك اليوم؟ قال: ليس في القضاء شك، أو ما من القضاء بُد). قالوا: فهذا يدل على أنه يُلزم بالقضاء، وهذا أقوى، ولذلك قال عمر: الخطب يسير. أي: قضاء يوم مكانه. وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس لما فيه من الورع، ولما فيه من إعمال الأصل من مطالبة الصائم بالضمان بسبب تقصيره؛ لأنه قصر نوع تقصير؛ إذ لو تحرى كمال التحري لتبين له أن النهار ما زال باقياً، والقاعدة: (لا عبرة بالظن البين خطؤه). وتوضيح ذلك: أن الصوم حقٌ لله، وحق الله دين على المخلوق، ودلت السنة الصحيحة على هذا الأصل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج: (أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنتِ قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى) فجعل الحج الذي هو ركن الإسلام دَيْناً، والصوم الذي هو ركن الإسلام دَينٌ على المخلوق. وعلى هذا: إذا كان الصوم دَيْناً وحقاً لله عز وجل، فإنك لو كنت في دين المخلوق وظننت أنك قضيته حقه، ثم تبين أنك لم توفه وأن هناك نقصاً ألزمت بكمال النقص، فحق الله أولى، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فدين الله أحق أن يقضى). فإذاً: قد دلت أصول الشريعة على أنه يطالب بالقضاء؛ لأنه لم يصم اليوم على وجهه؛ ولأنه قصر، إذ لو تحرى كمال التحري لتبين له أن النهار ما زال باقياً؛ ولأنه حق لله عز وجل لا يسقط بالظن الخاطئ، فيلزمه القضاء. قد يقول القائل: ما فائدة الخطأ؟ نقول: خطؤه يسقط الإثم عنه، وكونه لا إثم عليه لا يسقط الضمان، كما لو قتل إنساناً خطأً، نقول: قَتْلُه بالخطأ يسقط الإثم عنه؛ لكن الضمان لهذه النفس يجب عليه. ومن هنا نرى أن أصول الشريعة تجعل المخطئ يُلزم بالضمان، ولذلك حتى في قتل الخطأ تلزمه الشريعة بعتق الرقبة، فإذا لم يجد صام شهرين متتابعين لمكان الإخلال؛ لأنه ما من مخطئ إلا وقد قصر نوع تقصير، وعلى هذا قوي أن يقال: إنه يطالب بقضاء ذلك اليوم، ولما فيه من براءة الذمة والقيام بحق الله عز وجل على أتم وجوهه. [أو معتقداً أنه ليلٌ فبان نهاراً]. مثل ما ذكرنا في مسألتنا: أكل أو شرب ظاناً أن الشمس قد غابت، ثم تبين له أن الشمس لم تغب، فإنه يلزم بقضاء ذلك اليوم، خلافاً لما اختاره رحمة الله عليه بأنه لا قضاء عليه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الإفطار لظن الغروب خطأ

حكم الإفطار لظن الغروب خطأ Q إذا أذن المؤذن لصلاة المغرب في رمضان خطأً، وأفطر الناس على أذانه قبل الغروب، فهل عليهم القضاء أثابكم الله؟ A إن المؤذنين مؤتمنون على صيام الناس، ويتحملون هذه الأمانة ويسألون عنها بين يدي الله عز وجل، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في حديث أحمد وأبي داود في السنن عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن). قالوا: فقوله: (والمؤذن مؤتمن) أي: مؤتمن على صيام الناس؛ لأنه يؤذن للإمساك ويؤذن للفطر؛ فإذا تساهل المؤذن ولم يتحر ولم يضبط الوقت بأذانه خاصة في الفجر وفي المغرب فإنه يتحمل إثم كل من أفطر بأذانه، خاصة إذا كان ذلك على سبيل الاستهتار والتلاعب، وتجده يتسحر ويأكل، ولربما خرج من بيته وقد دخل الفجر ولا يؤذن إلا بعد الوقت المعتبر بعشر دقائق أو خمس دقائق. فمثل هذا آثم شرعاً، خائن للأمانة التي حمله الله إياها، خاصة إذا كان معيناً ويعطى راتباً على ذلك، فإنه يعتبر ماله فيه نوع من الحرمة؛ لأنه أخل بأمانته التي كوفئ عليها، ولذلك تجتمع عليه المظالم من وجوه: منها: أنه يعرض صيام الناس للفطر، وحينئذ يكون آثماً بإثم هؤلاء الذين أفطروا على أذانه، وهم معذورون إذا كانوا لا يعلمون بالحقيقة. وثانياً: أنه قد ضيع هذه الأمانة وأخل بها، والمال الذي يأخذه تجاهها -خاصة إذا كان منصباً، ويعطى راتباً على ذلك- يعتبر مالاً فيه حرمة بقدر ما حصل منه من إخلال مقصود. وعلى هذا: فالأمر على المؤذنين شديد، فينبغي على الأئمة أن يتفقدوا مؤذني مساجدهم، وأن ينصحوا لعامة المسلمين، وأن ينتبهوا لهذا الأمر، وألا يتساهل الإمام مع مؤذنه، فإذا رأى المؤذن يقصر في مثل هذا فإنه ينصحه ويذكره، فإذا لم ينتصح ولم يذكر فإنه يجب عليه أن يرفع أمره إلى من يردعه ويمنعه عن هذا. وهكذا أهل الحي فإنه يحرم عليهم السكوت على المؤذنين الذين يتساهلون في مواقيت الصلاة، فإذا سكتوا على ذلك فهم شركاء لهم في الإثم، إذ لا يجوز التساهل في مثل هذه الأمور؛ لأنها تضيع حقوق الله عز وجل، خاصة في نهار رمضان، بل ينبغي أخذ الأمر بالحزم والاحتياط في صيام الناس، وبذل جميع الأساليب لكي يقع الأذان في وقته المعتبر. وإذا كان عند المؤذن ظرف أو يخشى النوم فإنه يأمر من يوقظه، أو يعهد إلى شخص أمين إذا غاب أو تأخر يؤذن للناس، ويقيم لهم هذه الفريضة على وجهها، فهذا الأمر يعتبر أمانة في أعناق المؤذنين، وعلى الأئمة مسئولية، وعلى الجماعة الذين يصلون في هذا المسجد أو يسمعون الأذان أيضاً مسئولية ألا يسكتوا على تلاعب المؤذنين، وقد تساهل الكثير في هذا الزمان، ولقد سمعت بأذني حتى في المدينة، لربما تسمع الإنسان يؤذن قبل الحرم مع أن مسجده قريب من الحرم، وقد سمعت من يؤذن قبل الحرم بسبع دقائق، بل سمعت بأذني من أذن قبل أذان الحرم بربع ساعة! وهذا كله يدل على الاستخفاف وعدم المبالاة بحقوق الله عز وجل، وإلى الله المشتكى في ضياع هذه المسئوليات العظيمة. فلذلك ينبغي الحزم في مثل هذه الأمور، وعدم التساهل مع المؤذنين، وإذا كان المؤذن يتساهل في أذانه فيؤخر الأذان في السحور ويعجل الأذان في المغرب فإنه ينبغي نصحه وتوجيهه وتذكيره بالله، وتخويفه من عذاب الله، وأن هؤلاء الناس أمانة في عنقه، وأنه إذا تساهل وهو يعلم أن الوقت قد ذهب وفرط فإنه يلزم بهذا التفريط، ويحمل بين يدي الله إثم من أفطر على أذانه أو تسبب في فطره، سواء كان أذان الفجر أو كان أذان المغرب. أما بالنسبة للمؤذن: فالمؤذن إذا أخطأ ووقع منه الخطأ فيجب عليه أن يعلم الناس، وأن يبين لهم أنه في اليوم الفلاني أو في هذا اليوم قد أذن بعد دخول الوقت، وأن من أمسك على أذانه مباشرة أن عليه القضاء، وإذا سكت عن ذلك فإنه يتحمل مسئولية من أفطر على هذا الأذان، وقس على ذلك من المسائل؛ سواء كان في الصلاة أو غيرها، فعلى الإمام أن ينبه، فإذا أخطأ مؤذن وجب عليه أن ينبه على الأقل من في الحي، أنه يلزمهم أن يعيدوا هذا اليوم؛ لأنهم قد أفطروا، وذلك بوقوع الأكل والشرب بعد تبين الفجر، والله قد حرم الأكل والشرب. والله تعالى أعلم.

الجواب عن حديث أسماء من أن الصحابة لم يؤمروا بقضاء

الجواب عن حديث أسماء من أن الصحابة لم يؤمروا بقضاء Q بماذا يجيب الذين يوجبون القضاء على من أفطر ظاناً غروب الشمس على حديث أسماء رضي الله عنها، الذي جاء فيه: (أنهم أفطروا في يوم غيم ولم يؤمروا بالقضاء) أثابكم الله؟ A هذا يسميه العلماء (المسكوت عنه) فالحديث سكت: هل أمروا بالقضاء أو لم يؤمروا؟ لم يبين شيئاً، بعض العلماء الذين يقولون: لا قضاء، يقولون: لو أمروا بالقضاء لبين، ولو كان القضاء واجباً لأمرهم به. وكمسلك أصولي: الحديث مسكوت، وإذا كان مسكوتاً ترجع إلى الأصل، وهذا هو الفقه: أن النص إذا جاء يدل باللفظ الصريح قبلناه، أو فيه دلالة ظاهرة قبلناه، أما إذا كان متردداً بين الأمرين فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد يسكت عن القضاء للعلم به؛ لأنه إذا تبين أنهم قد أكلوا وشربوا في النهار فإنهم لم يصوموا على الوجه المعتبر، فيسكت للعلم به بداهة، وأما كونه لم ينقل إلينا، وقد يكون أمروا ولم ينقل، لكن الحديث مسكوت عنه. ولذلك يقول بعض العلماء: هو من رواية أسماء رضي الله عنها، والنساء قد يخفى عليهن حال الرجال، وقد يحصل في الرواية نقص، ومن هنا: يقوى القول أنه يرجع إلى الأصل، والأصل أنهم مطالبون بضمان اليوم كاملاً، والإخلال موجود، والأقوى والأحوط والأبرأ للذمة أن نأمرهم بالقضاء، ولا نستطيع أن نقول بأنه لا قضاء عليهم بأمر محتمل، فإن الأصول تقتضي أنهم مطالبون بحق الله كاملاً، وما وردت به الرخصة صريحة نرخص فيه، وما لم ترد به الرخصة صريحة واضحة فإننا نبقى على الأصل الذي يوجب القضاء. والله تعالى أعلم.

الفرق بين إنزال المني بالفكر وبالنظر

الفرق بين إنزال المني بالفكر وبالنظر Q هل يقاس من فكر فأنزل بمن كرر النظر فأنزل، من جهة كون كل منهما لم يتعاط ما يحفظ صومه أثابكم الله؟ A الفكر أضعف من النظر -قال بعض العلماء هذا- والفكر تهجم فيه الخواطر أكثر من هجومها بالنظر، والفكر مما يشق التحرز عنه أكثر من النظر، ففي حال النظر يمكنه أن يغض بصره ويصرفه، ولكن الفكر يقهر الإنسان، وقد يدخل عليه فجأة والنفس ضعيفة، فإذا دهم عليها فجأة فإنها قد تسترسل معه، ومن هنا فرق بين الفكر وبين النظر. لكن القول بأنهما بمنزلة واحدة له وجه، وله حظه من الاستدلال كما ذكرناه، وبناءً على ذلك: فإن التفريق بينهما من جهة كونه يدهم على الإنسان هو الأقوى في نظري، ولا يبعد القول الذي قال: بأنهما بمنزلة واحدة من القوة. والله تعالى أعلم.

الفرق بين الشك في طلوع الفجر أو غروب الشمس في رمضان

الفرق بين الشك في طلوع الفجر أو غروب الشمس في رمضان Q ما الفرق بين قول المؤلف رحمه الله: (من أكل شاكاً في طلوع الفجر صح صومه) وبين قوله: (أو معتقداً أنه ليل فبان نهاراً) أثابكم الله؟ A هناك فرق بين من يعتقد وبين من يشك، الشك: يستوي عندك الاحتمالان: هل طلع الفجر أو لم يطلع، هل أذن أو لم يؤذن، فأنت الآن ما عندك جزم؛ لكن إذا اعتقد أنه ليل فإنه غلب الظن أو جزم، فالفرق بين الاعتقاد وبين الشك: أن الشك استواء الاحتمالين، تقوم في جوف الليل ولا تدري هل هو ليل أو طلع الفجر فدخل النهار، فهذا يسميه العلماء (شك)، فإذا قلت: هو نهار، قلت: يحتمل أن يكون ليلاً، وإذا قلت: هو ليل، قلت: يحتمل أن يكون نهاراً، فبناءً على ذلك تكون في مرتبة كالحائر لا تدري هل هو ليل أو نهار، ولكن الاعتقاد تعتقد واحداً من الأمرين فتجزم به، وتقول: أعتقد أن الليل إلى الآن لا زال باقياً، فهذا اعتقاد وجزم، فحينئذٍ يكون أقوى من الحالة الأولى. فالشك: استواء الاحتمالين، فترجع إلى الأصل؛ فإن شككت في الليل هل هو باق أو لا فالأصل بقاؤه، وإن شككت في النهار هل غابت الشمس أو لم تغب، فالأصل بقاؤه، ففي الأول تأكل وفي الثاني تمسك، وهذا الفرق بينهما: أنه لا جزم في الشك، والاعتقاد فيه جزم إما على سبيل اليقين أو على سبيل الغالب. والله تعالى أعلم.

حكم من تبرع بالدم في نهار رمضان

حكم من تبرع بالدم في نهار رمضان Q من تبرع بدم في نهار رمضان لإنقاذ حياة مصاب، فهل يؤثر ذلك في صومه أثابكم الله؟ A التبرع بالدم بإنقاذ حياة المصاب قربة وطاعة وصدقة، وهو داخل في عموم قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] وقال بعض العلماء: من تسبب في حياة نفس وكانت صالحة، وقصد أن تعان على صلاحها، كان له كأجرها بعد إنقاذها. وهذا فضل عظيم! فتكون حسناته من الخير والبر لك مثلها، ولذلك إنقاذ مثل هذه الأنفس التي تكون في الحوادث أو النساء في الولادة إذا حصل لهن نزيف، التبرع في مثل هذه الحالات من أجل القربات، ولا شك أن تفريج كربة المسلم من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وقد غفر الله لزانية بسبب شربة ماء لكلب، فكيف بمن أنقذ نفساً مؤمنة أو تسبب في نجاتها؟! ولا شك أنها من أجل القربات وأفضل الطاعات. وأما بالنسبة لهذا التبرع: فإنه لا يوجب الفطر، فلو سحب منه الدم وقويت نفسه، واستطاع أن يبقى إلى آخر النهار وهو ممسك فإن صومه صحيح، لكن بعض العلماء يقول: يعتبر مفطراً من جهة إدخال الإبرة إلى منفذ في الجسم، وهذا فيه ضعف لا يخلو من نظر، وعلى هذا: فإن الأصح أنه لا يفطر. والله تعالى أعلم.

حكم من أكل مع سماع أذان الفجر في رمضان

حكم من أكل مع سماع أذان الفجر في رمضان Q ما حكم الأكل مع سماع أذان الفجر في رمضان أثابكم الله؟ A من سمع الأذان لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يتحقق من أن المؤذن قد أخطأ، كأن يكون عنده معرفة بالفجر الصادق، وينظر في السماء كما يحصل في البادية والأماكن البعيدة من المدن، فيمكنك أن تنظر وتعرف الفجر الصادق من الفجر الكاذب، فإذا كان النهار أمامك لم يطلع، فإنه يجوز لك في هذه الحالة -إذا كنت تعرف الفجر الصادق من الفجر الكاذب، وتحققت أن الفجر لم يطلع- أن تأكل وتشرب، وترجع إلى يقين نفسك، ولست مطالباً بظن غيرك. الحالة الثانية: أن يكون الإنسان ليس عنده وسيلة يتمكن بها من معرفة خطأ المؤذن، فيجب عليه أن يمسك بمجرد الأذان، فإذا أكل أو شرب بعد الأذان ولو بلحظة فإنه يعتبر مفطراً بنص الكتاب والسنة؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] فأمرنا أن نأكل إلى التبين، فعند بداية التبين يحرم على الإنسان أن يأكل، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) وقوله: (حتى يؤذن) أي: حتى يبدأ بالأذان. وعليه: فإنه إذا أكل أو شرب ولو بعد الأذان بلحظة واحدة فإنه يلزم بالقضاء، وهذا هو ظاهر الكتاب والسنة. وأما ما ورد عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الاجتهاد، حتى إن بعضهم يأكل وقد تبين النهار، بل بعضهم يأكل وقد اتضح الفجر واستبان الصبح، فكل ذلك اجتهاد من الصحابة، فكان بعضهم يجتهد في قوله: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) ويرى أنه غاية التبين فينظر إلى لفظ الآية، وقد خطأ النبي صلى الله عليه وسلم اجتهاد الصحابي كما في الصحيحين من حديث عدي، فإن عدياً مع كونه عربياً يعرف اللسان ويعرف دلالة الكتاب، أخطأ في فهم الآية كما هو ظاهر في رواية الصحيحين، وبين له النبي صلى الله عليه وسلم خطأ اجتهاده. فلا يمنع أن يكون غيره من الصحابة ممن لم يطلع على الأحاديث المبينة المفسرة للآية قد اجتهد كهذا الاجتهاد، وينبغي على طالب العلم دائماً أن ينظر إلى نصوص الكتاب والسنة الصريحة، فيعمل بها، ويلقى الله عز وجل بحجة بينة واضحة؛ فإن قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] وحديث السنة في الصحيحين، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الفجر قال: (لا أن يقول هكذا، وإنما يقول هكذا وهكذا) أي: ينتشر، كل ذلك يدل على أنه ينبغي عليك الرجوع إلى تبين الفجر، وأنه بمجرد تبين الفجر ودخول وقت الفجر يحرم على الإنسان أن يأكل أو يشرب. هذا هو الذي دل عليه ظاهر الكتاب والسنة، ويلقى المسلم ربه بنص صحيح صريح من الكتاب والسنة. وأما الأحاديث المحتملة المختلف في أسانيدها، وآثار الصحابة، فقد كان أئمة السلف وقول الجماهير كلهم على هذا، وعمل جماهير السلف رحمة الله عليهم على: أن العبرة بتبين الفجر، وأنه إذا تبين حرم الأكل والشرب. وبناءً على ذلك: نقول بهذا القول الذي درج عليه أئمة سلفنا الصالح، مع أنه أسعد بنص الكتاب والسنة، وأوفق دليلاً، وأرعى لأصول الشريعة، وهذا هو المنبغي على طالب العلم الذي يريد أن يلقى الله عز وجل بحجة بينة. وأما من احتج باجتهاد الصحابة فنعتذر لهم بأن الصحابي ربما لم يبلغه النص، ولا نستطيع أن نعدل عن نص كتاب ربنا وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه الصحيحة الصريحة في تحديد الأكل إلى حال التبين؛ لأن ذلك مما يعتبر خلاف الأصل. والله تعالى أعلم.

حكم من سافر إلى بلد متأخر في الصيام عن بلده الأصلي

حكم من سافر إلى بلد متأخر في الصيام عن بلده الأصلي Q لو أن رجلاً سافر إلى بلد تأخر صيامه بيوم أو يومين عن بلده الأصلي، فهل يفطر عند تمام الثلاثين، أم يعمل بميقات البلد الذي هو فيه أثابكم الله؟ A من سافر إلى بلد فإنه يعتبر حال أهل البلد الذي يسافر إليه، فإن كان البلد متقدماً أو متأخراً فعليك أن تفطر معهم تقدماً أو تأخراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فطركم يوم تفطرون) فجعل الفطر لعامة المسلمين. وبناءً على ذلك: تتأقت بهذا التأقيت الذي طرأ عليك، فإن كان هناك زيادة كأن يكون هذا البلد تأخر -كما ورد في السؤال- فحينئذٍ ستزيد يوماً أو يومين؛ لأن فطرك مع فطرهم، ويعتبر شهرك كشهرهم، والعبرة في فطرك بموافقتهم. وأما إذا كان هناك نقص فبلغ عدد الأيام ثمانية وعشرين يوماً، فإنك في هذه الحالة تقضي يوماً واحداً، فتفطر معهم يوم العيد ثم تقضي يوماً واحداً، ويعتبر على أصح قولي العلماء. وقال بعض العلماء: تقضي يومين؛ لأن الشهر يكون ثلاثين يوماً. وقال بعضهم تقضي يوماً واحداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشهر هكذا وهكذا) وعقد تسعاً وعشرين وثلاثين، فاليقين أنه تسع وعشرون، والثلاثون في بعض الأحوال، والأقوى: أنه يقضي يوماً واحداً، والأحوط: أنه يقضي اليومين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة [3]

شرح زاد المستقنع - باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة [3] مما يفسد الصوم ويوجب الكفارة: الجماع في نهار رمضان، فمن جامع امرأته في نهار رمضان وجب عليه الكفارة، وهي عتق رقبة، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين، وهناك أحكام ومسائل متعلقة بالجماع في نهار رمضان وكفارته ذكرها الشيخ وفصَّل فيها في هذه المادة.

مسائل في الجماع في نهار رمضان

مسائل في الجماع في نهار رمضان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: ومن جامع في نهار رمضان في قُبُل أو دبر فعليه القضاء والكفارة]. فإن الله حرم على الصائم أن يجامع زوجته، ولذلك يعتبر الجماع موجباً لفساد الصوم، وقد ذكرنا أدلة الكتاب والسُّنة وإجماع الأمة على تحريم ذلك على الصائم. وبقي Q لو وقع هذا الإخلال من الصائم فما حكمه؟

الجماع المعتبر في إيجاب الكفارة

الجماع المعتبر في إيجاب الكفارة فقال رحمه الله: (ومن جامع في نهار رمضان في قبل أو دبر). هذا الفصل خصه المصنف رحمه الله بالإخلال بالصوم من طريق الشهوة، وابتدأ بالشهوة الكبرى لورود النص بالعقوبة فيها، ثم تدرج بعد ذلك إلى المسائل المتفرعة على الجماع في نهار رمضان. أما بالنسبة لقوله: (ومن جامع) فلا يتحقق الجماع إلا بإيلاج القبل، والعبرة بالحشفة -وهي رأس الذكر- وقد فرع العلماء رحمهم الله على إيلاجها أكثر من ثمانين حكماً، ومنها وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان، وذلك بتحقق الإيلاج بالصورة التي ذكرناها. فقوله رحمه الله: (ومن جامع) سواءً كان جماعه لزوجته الجماع المأذون به شرعاً في الأصل، أو المحرم في الزمان في نهار رمضان، أو كان جماعه وطأً لشبهة كأن يجامع امرأة يظنها زوجته أو يظنها سريّته، أو يكون جماعه بالحرام -والعياذ بالله- كالزنا. فإن وقع الجماع في مأذون به شرعاً كزوجته، أو معذور به شرعاً من حيث وجود الشبهة كوطء من ظنها زوجة له، فيترتب الحكم بالقضاء إجماعاً، وكذلك بالكفارة. وأما بالنسبة للزنا -والعياذ بالله- فقد اجتمعت فيه موبقات: أولها: كونه أخل بهذا الركن من أركان الإسلام، وهو: صومه الذي فرضه الله عليه. الموبقة الثانية: كونه زنى والعياذ بالله. فيكون هناك عدة إخلالات: أولها: تعمده للفطر، ووقوع الفطر بأشنع صوره وهو الجماع. وثانياً: كونه والعياذ بالله حرام. وكذلك الحال لو وقع الوطأ في الدبر، فيستوي الجماع في القبل أن تكون المرأة حية أو ميتة، وهذا قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم: أنه لو حصل الإيلاج بامرأة وهي ميتة فإنه يحكم بكونه مجامعاً إعمالاً للصورة، كما لو جامعها وهي نائمة أو مجنونة، ولذلك يجب عليه القضاء والكفارة، وهكذا بالنسبة لوطء الدبر؛ فإنه يوجب القضاء والكفارة والحد الشرعي على الأصل الذي هو مقرر شرعاً في باب الجنايات كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

تخصيص الكفارة بجماع نهار رمضان

تخصيص الكفارة بجماع نهار رمضان قال رحمه الله: [ومن جامع في نهار رمضان]. الشافعية والحنابلة على أن الكفارة تختص برمضان، وأما ما عدا رمضان فإنه لا يأخذ حكم رمضان. وقالت المالكية والحنفية: إن الله عز وجل أوجب على من جامع في نهار رمضان الكفارة، والعبرة بكونه أخل بفريضة الله عز وجل وهو الصوم الواجب، فقاس بعضهم على ذلك قضاء رمضان، وصيام الكفارات، وصيام النذر الواجب، فقالوا: لو صام قضاءً عن رمضان، وجامع امرأته في اليوم الذي هو قضاء عن رمضان فإنه تلزمه الكفارة كما تلزم من جامع في نهار رمضان، وقالوا: إن الله عز وجل جعل هذا اليوم بدلاً عن يوم رمضان، ولذلك قالوا: إذا وقع الإخلال في القضاء فهو إخلال كإخلال الأداء، والقاعدة تقول: (القضاء يحكي الأداء) فإذا كان القضاء يحكي الأداء، والشرع نزّل القاضي منزلة المؤدي فإننا كذلك نحكم بأن الإخلال بالقضاء كالإخلال بالأداء. وأصح القولين والعلم عند الله: القول بعدم وجوب الكفارة على من جامع في قضاء رمضان، وأن الحكم يختص برمضان دون غيره؛ والسبب في ذلك ظاهر النص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه السائل يستفتيه وأخبره أنه واقع أهله في نهار رمضان وهو صائم، أي: والحال أنه صائم، فاجتمع فيه شرط الزمان وهو كونه مجامعاً في نهار رمضان، والأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، فالأصل ألا نوجب على المكلفين كفارة، ولا نعاقبهم بعقوبة، وتشغل الذمم بأدائها والقيام بها حتى يدل الدليل على ذلك. فلما دل الدليل على شغل الذمم في نهار رمضان بقي ما عدا رمضان آخذاً حكم الأصل من مطالبته بالقضاء، ولكنه لا يخلو من الإثم، فلو كان في نهار القضاء وجامع أهله أو أفطر متعمداً بدون عذر لا يخلو من الإثم كما نص على ذلك جمع من العلماء رحمة الله عليهم. قوله رحمه الله: [في نهار رمضان]. خرج من ذلك الجماع في الليل فإنه بالإجماع ليس فيه كفارة، والمراد بالنهار: من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، فإذا طلع الفجر الصادق فإنه يبتدئ حكم اليوم الذي أوجب الله صيامه. قال رحمه الله: [من جامع في نهار رمضان في قبل أو دبر]. وهذا كما ذكرنا أنه مذهب جمهور العلماء، وخالف بعض الأئمة فقال: من وطأ في الدبر سواءً زوجته أو غيرها فإنه يعتبر مخلاً بالصوم ولا تجب عليه الكفارة. والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور من وجوب الكفارة عليه، بل هو أشد وأشنع. ومن هنا يقول الأئمة رحمة الله عليهم: إن الله أوجب الكفارة على من جامع في نهار رمضان في فرج حلال، فنبه بالجماع في الفرج الحلال على ما هو أشد منه، وهو: الجماع في فرج حرام أو وطءٍ في الدبر.

حكم من جامع دون الفرج

حكم من جامع دون الفرج قال رحمه الله: [وإن جامع دون الفرج فأنزل]. هذه المسألة ينبغي لطالب العلم أن يتنبه لها وهي: ضابط الجماع من الناحية الشرعية؛ لأن مسائل الجماع تترتب عليها أحكام في العبادات وأحكام في المعاملات، فبعض من الناس يظن أن مجرد مس الفرج للفرج أنه يوجب الغسل، وأنه لو وضع العضو على العضو أنه يجب عليه الغسل، وبعضهم يعتقد أنه لو حصل مس للعضو بالعضو أنه يجب عليه الحد وأنه قد زنى، وهذا كله خلاف الأصل، فالأصل الشرعي: أنه لا يتحقق الجماع إلا بإيلاج رأس الذكر وهو الذي حده العلماء-رحمة الله عليهم- بقولهم: بإيلاج الحشفة، وهي رأس الذكر أو قدرها من مقطوعه، ولذلك لا يثبت حد الزنا إلا إذا سأل القاضي وتحقق أنه قد حصل إيلاج لهذا القدر. وبناءً على ذلك نبه الشرع على هذا بقوله: (إذا مس الختان الختان -وفي رواية: إذا جاوز الختان الختان. وفي رواية: إذا التقى الختانان- فقد وجب الغسل) وكل ذلك -كما يقول الأئمة رحمة الله عليهم- يُعتبر من باب التنبيه على إيلاج رأس العضو، فلو كان مقطوع الرأس فقدره حكماً؛ لأن الشرع ينزِّل الشيء بالتقدير عند العجز عن الشيء بعينه، فإذا كان يتعذر فيه ذلك الشيء لقطع أو خِلقة لم يوجد فيه فإنه يُنَزَّل قدرها من مقطوعه. بناءً على ذلك: إذا حصل الإيلاج لهذا القدر ثبت الحد وثبت الإحصان، بمعنى: لو أن رجلاً تزوج امرأة ودخل عليها، وحصل منه إيلاج برأس العضو فقط ولو لم تفتض البكارة فإنه يثبت كونه ثيباً (محصناً) ويعطى حكم الثيب، وإذا زنى يرجم ولا يجلد كالبكر، فهناك ثمانون حكماً كلها مفرعة على هذه المسألة، ونحن نذكرها ونبينها لترتب الأحكام الشرعية عليها، فلابد من حصول هذا القدر، فقوله رحمه الله: (ومن جامع) هنا المراد به تحقق هذا الشرط. وأما قوله: (ومن جامع في غير القبل والدبر) كما هو الحال في المفاخذة -كما يسميها العلماء- أو المباشرة دون إيلاج، فهذه في الأصل الشرعي لا تسمى مجامعة، فالمجامعة لا تتحقق إلا بالإيلاج لكنها في الصورة مجامعة؛ لأن الجماع سمي جماعاً من الاجتماع. المقصود: أن المصنف رحمه الله تجوز في هذه العبارة وقال: (ومن جامع في غير القبل والدبر) فلا يحصل الجماع في غير القبل والدبر، ولكنه تَجَوّز في العبارة، وإلا لو وقع الجماع لثبتت الكفارة، وإنما الصورة هنا: ألا يقع الجماع، كأن يضع العضو على العضو دون إيلاج، أو مثلاً يضعه مفاخذة كما ذكر العلماء رحمة الله عليهم، فهذا كله لا يوجب الكفارة، وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم. وذهب المالكية إلى أن من فاخذ امرأته أو استمنى بيدها أنه يعتبر منتهكاً لحرمة شهر رمضان، والشرع أوجب الكفارة على من جامع أهله في نهار رمضان ليس من الجماع فقط؛ وإنما للجماع ولكونه انتهك حرمة شهر رمضان، فاستوى عندهم أن يكون قد جامع أو يكون باشر امرأته ثم أنزل بمفاخذة أو غير ذلك حال المضاجعة. فعندهم يجب عليه في هذه الحالة أن يُكَفِّر؛ لأنه قد حصل المحظور من انتهاك حرمة الشهر بالفطر عمداً بالإنزال، وهكذا بالنسبة للمفاخذة وما في حكم ذلك من صور الاستمتاع. المصنف رحمه الله يتكلم على مسألة شرعية دلت النصوص عليها وهي: وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان، يلزمه حينئذٍ أن يتكلم عن الصور التي لا تتحقق بها المجامعة، وكأنه حينما يبين لك حكم المفاخذة والمضاجعة بدون إيلاج كأنه يضع لك الحدود التي إذا وصل المكلف إليها وجبت عليه الكفارة، وإذا لم يجاوزها ولم يصل إليها فإنه يعتبر مطالباً بالقضاء إذا حصل إنزال، ولا تجب عليه الكفارة لما ذكرنا. قال رحمه الله: [وإن جامع دون الفرج فأنزل، أو كانت المرأة معذورة]. هذا هو الشرط، لكن لو جامع دون الفرج كأن فاخذها وضاجعها ولكن لم يحصل إيلاج ولا إنزال فيعتبر صومه صحيحاً، ولو حصل منه مذي فإننا قدمنا أن الصحيح أنه لا يوجب الكفارة ولا يوجب القضاء، فالمذي والمني لا يوجب كفارة، ولكن يختص المني بإيجاب القضاء، وأما المذي فيه التوبة والاستغفار، ولا شيء على المكلف من جهة العقوبات والكفارات.

إذا كانت المرأة معذورة في جماع زوجها لها في رمضان

إذا كانت المرأة معذورة في جماع زوجها لها في رمضان [أو كانت المرأة معذورة]. إذا كانت المرأة معذورة في الجماع فإنه لا يجب عليها كفارة، وتعذر المرأة بالإكراه، والأصل أنه لا يجوز لها أن تمكّن الزوج منها في نهار رمضان؛ لأن الله حرم عليها أن تستمتع بهذه الشهوة، وحرم على الزوج أن يستمتع بها، وحينئذٍ إذا طاوعته أعانته على الإثم والعدوان، وعلى انتهاك حد الله عز وجل وإصابة حرماته، ومن هنا يجب عليها أن تدفعه، بل قالوا: تدفعه بقدر ما تستطيع، حتى ولو أنه حاول فرمته وألقته على الأرض لم يكن عليها شيء، وتنصحه وتذكره بالله عز وجل وتعظه بلسانها، فإن طاولها وأرادها بفعله فإنها تدفعه بيدها وبرجلها ما استطاعت؛ شريطة ألا يحصل الضرر، بل قال بعض العلماء: حتى ولو حصل ضرر؛ لأنه هو المتعاطي للسبب في الإخلال بحد الله عز وجل والانتهاك لحرمته، فيجوز لها أن تدفعه، ولو كان ذلك بدفعه برجلها أو بيدها ولو حصل ضرر، قال بعض الأئمة: إنها تعذر في هذا الضرر، وتعتبر هذه الصورة من الصور المستثناة في إعراض المرأة عن طاعة زوجها؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فهذه معصية لله سبحانه وتعالى، بل متعلقة بفرض وركن من أركان الإسلام وهو الصيام. ولذلك: ينبغي عليها أن تتعاطى الأسباب في دفعه، فإذا كانت مغلوبة على أمرها -كأن تكون نائمة أو مكرهة- فغالبها فوقع عليها ولم تستطع دفعه، فقالوا: إنها في هذه الحالة تعذر، وهذا أصل عند العلماء رحمة الله عليهم، وإن كان بعضهم يُفَصِّل ويفرق بين مسائل الجماع وبين مسائل الزنا في إكراه المرأة كما سيأتي إن شاء الله في ذكر الخلاف بين الجمهور والحنفية في ضابط إكراه المرأة في مسألة الزنا. فالمقصود: أنها تدفع وترد زوجها ما أمكنها، فإن غلبها فلا كفارة عليها؛ ولكن عليها القضاء لحصول الشهوة واللذة ولا تلزمها الكفارة.

حكم جماع من نوى الصوم في سفره

حكم جماع من نوى الصوم في سفره قال رحمه الله: [أو جامع من نوى الصوم في سفره أفطر ولا كفارة]. رجل سافر وكان قد نوى أول اليوم أن يصوم، فقال بعض العلماء: لماذا ذكر نية الصوم؟ لأن بعض العلماء يفرق في المسافر بين أن ينوي أو لا ينوي، فإذا نوى السفر ونوى الفطر فلا إشكال، لكن لو نوى الصوم ونوى السفر، قال: إنه مسافر غداً إلى المدينة مثلاً، فلما نوى أصبح وفي نيته أن يصوم، قالوا: يلزمه أن يتم صومه، ففي هذه الحالة لو تلبس بالرخصة -وهي حال السفر- وخرج من مكة وجاوزها وأفطر، ثم أراد أن يجامع زوجته وهما في حال السفر فلا شيء عليه؛ لأنه معذور، وفي هذه الحالة لا يعتبر مفطراً بالجماع على وجه محرم، وإنما أفطر على وجهٍ يعذر فيه شرعاً. لكن لو دخل المدينة -يستوي في ذلك أن يكون دخوله للمدينة آخر النهار أو وسط النهار- أو وصل إلى بلده فهل يُمسك ولا يجوز له أن يجامع أم يجوز له أن يجامع؟ جمهور العلماء على أنه يجب عليه الإمساك، وقد ذكرنا هذه المسألة وذكرنا دليلها الصحيح من حديث صوم يوم عاشوراء، وبينا الوجه الذي استند العلماء رحمة الله عليهم فيه على تحريم الأكل والشرب في هذه الحالة، فإذا أكل أو شرب فإنه يأثم، ولو جامع زوجته في هذه الحالة بعد أن استقر أو وصل إلى مدينته أو نزل، فقال بعض العلماء: إنه لا تلزمه الكفارة، ولكنه يعتبر آثماً على القول بوجوب الإمساك. أما عند من لا يرى وجوب الإمساك بقية اليوم ويقول: قد أفطر وأصبح مفطراً فإنه لا يرى عليه إثماً، ولا يلزمه بالاستغفار والتوبة. فتلخص من هذا: أن المسافر إذا قدم قبل نهاية اليوم وكان قد أفطر في سفره فإنه يلزمه الإمساك بقية اليوم، فإن وقع منه الجماع في هذه البقية من اليوم فللعلماء وجهان: منهم من يقول: لا حرج عليه ولا إثم، بل لو شاء أن يجامع اختياراً لا حرج عليه. ومنهم من يقول: إنه يجب عليه الإمساك، فإذا جامع أهله فإنه يعتبر آثماً شرعاً، وعليه التوبة والاستغفار، ولكن لا تجب عليه الكفارة؛ لأنه لم يفطر بجماع على الوجه المحظور.

كفارة من كرر الجماع في نهار رمضان

كفارة من كرر الجماع في نهار رمضان قال رحمه الله: [وإن جامع في يومين أو كرره في يوم ولم يكفر فكفارة واحدة في الثانية وفي الأولى اثنتان]. جامع امرأته متعمداً في اليوم الأول، وجامعها في اليوم الثاني، فهذا جماع تكرر في يومين وفي محلين مختلفين، قد أوجب الله عز وجل عليه صيام اليوم الأول وصيام اليوم الثاني، فانتهك الحرمة في اليوم الأول وانتهك الحرمة في اليوم الثاني فعليه كفارتان، سواء كفّر عن اليوم الأول أو لم يكفر، فعليه كفارتان. وأما لو جامع في اليوم الواحد وتكرر منه الجماع في اليوم الواحد فإنه لا تجب عليه إلا كفارة واحدة، سواء كفر عن الجماع الأول أو لم يُكَفِّر. مثال ذلك: لو جامع امرأته أول النهار، ثم جامعها وسط النهار، ثم جامعها آخر النهار قبل غروب الشمس، فهذه ثلاث مرات، فتجب عليه كفارة واحدة؛ لأنه قد أفطر وحصل الإخلال بالجماع الأول، وتلزمه الكفارة من ثم، وأما بقية اليوم فإنه لا تلزمه فيه كفارة هذا بالنسبة للجماع. من الصور التي ذكرها العلماء: لو جامع أربع زوجات في يوم واحد فإنه تلزمه كفارة واحدة بالنسبة لنفسه، أما بالنسبة للنساء فعلى التفصيل الذي ذكرناه في المرأة: أن المرأة إذا طاوعت واختارت فعليها كفارة غير كفارة زوجها، وأما إذا كانت دافعت ومانعت فمن العلماء من يقول: إنه يجب عليه أن يكفر عنها، ومنهم من يقول: لا تجب عليه الكفارة على ظاهر حديث الذي جامع امرأته في نهار رمضان وهو صائم. [أو كرره في يوم ولم يكفر، فكفارة واحدة في الثانية، وفي الأولى اثنتان]. قال بعض العلماء: إن جامع أكثر من مرة في يوم واحد نظرنا: فإن كفر عن الجماع الأول لزمته الكفارة عن الجماع الثاني، وهذا مذهب مرجوح. والصحيح: أنه إذا كرر الجماع في اليوم الواحد ولو عشر مرات فإنه تلزمه كفارة واحدة، ولكنه في إخلاله بحق الله عز وجل قد تكرر إخلاله عشر مرات، ولذلك عليه الندم والاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل من هذا الوجه، وأما بالنسبة للكفارة فلا تلزمه إلا كفارة واحدة، ولا يلزمه إلا القضاء والكفارة ليوم واحد. والذين يقولون: إنه تتكرر الكفارة يقولون: إذا كفر عن الجماع الأول، وحصل الجماع الثاني بعده فعليه كفارة ثانية، كأن يجامع في أول النهار في الساعة الثامنة صباحاً، ثم يكفر في الساعة العاشرة، ثم يجامع في الثانية عشرة وفي الواحدة وفي الثانية وفي الثالثة، قالوا: لما كفر عن الجماع الأول في الساعة العاشرة فإنه يلزم بتكرار الكفارة، وحينئذٍ تلزمه كفارة عن الجماع الثاني الذي وقع منه في بقية اليوم. والصحيح: ما ذكرناه أن اليوم الواحد له كفارة واحدة، سواء وقع الجماع مرة أو وقع مرات؛ وذلك لأنه إخلال واحد وقد أفطر ذلك اليوم بجماعه الأول، فكأنه بجماعه الثاني والثالث والرابع والجماع المتكرر قد وقع بعد جماعه الأول وهو مفطر ولم يقع وهو صائم، ولذلك لا تجب عليه الكفارة من هذا الوجه. قال رحمه الله: [وإن جامع ثم كفر، ثم جامع في يومه فكفارة ثانية]. الصحيح: أنه ليس عليه كفارة ثانية، وأن الكفارة الأولى تغنيه؛ لأنه قد أفطر ذلك اليوم، ووقع جماعه الثاني وهو مفطر، وشرطه: أن يقع جماعه وهو صائم.

حكم جماع من لزمه الإمساك بقية اليوم

حكم جماع من لزمه الإمساك بقية اليوم قال رحمه الله: [وكذلك من لزمه الإمساك إذا جامع]. كما ذكرنا في من وصل إلى مدينته وقد بقي شيء من اليوم، قالوا: يعتبر في حكم الصائم، فلو وقع منه جماع في بقية اليوم تلزمه الكفارة، والصحيح ما ذكرناه وأشرنا إليه سابقاً أنه لا تلزمه الكفارة؛ لأنه قد أفطر ذلك اليوم، وإنما تجب الكفارة على من صام لا على من أفطر.

حكم من جامع وهو معافى ثم مرض أو جن أو سافر

حكم من جامع وهو معافى ثم مرض أو جن أو سافر قال رحمه الله: [ومن جامع وهو معافى ثم مرض أو جن أو سافر لم تسقط]. بعد أن بين لنا رحمه الله وجوب الكفارة بالجماع، يرد Q لو تكرر الجماع ما الحكم؟ فقال لك: إما أن يتكرر في أيام متكررة أو يتكرر في يوم واحد، فإن تكرر في يوم واحد إما أن يكفر عن الجماع الأول أو لا يكفر، فبين حكم هذه الصور كلها. ثم شرع رحمه الله في مسألة وهي: لو أن إنساناً جامع امرأته في رمضان من أول النهار وهو غير معذور بالفطر، فجامع ووقع منه الإخلال على وجه تلزم به الكفارة، وقبل أن تغيب الشمس طرأ عليه عذر يُعذر فيه بالفطر كما لو جنّ أو سافر أو مرض، فهل نقول: بأن العبرة باليوم كاملاً إلى تمامه؟ فإن قلنا: العبرة باليوم إلى تمامه وكماله فحينئذٍ هذا اليوم يباح له الفطر بالجنون وبالسفر وبالمرض، ولم يوجب الله عليه صيامه؛ لأن أمره إلى الرخصة؛ فتسقط عنه الكفارة من هذا الوجه. وهذا وجه شاذ عند العلماء، يحكى في مذهب الشافعية رحمة الله عليهم؛ لكن عندهم تفصيل أشار إليه الإمام النووي رحمه الله في الروضة. والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور من أن من جامع في أول اليوم ثم طرأ عليه عذر يبيح له الفطر أنه تلزمه الكفارة؛ لأن الإخلال وقع في صورة هو مكلف فيها، وقد حصل الإخلال والانتهاك لحد الله عز وجل، وأنت ترى أن المجامع في نهار رمضان لما يعاقب هذه العقوبة إنما عوقب للزجر عما وقع منه من الجرأة على حدود الله، والجرأة قد وقعت في أول اليوم، ولا عبرة بطروء العذر بعد ذلك، ومن هنا طروء الأعذار لا يؤثر، وهذه من صور مسائل طروء الأعذار التي توجب زوال الحكم أو زوال الوصف، ولها نظائر كثيرة، منها: لو حكم القاضي ثم جن ولم ينفذ الحكم، ومنها لو أن الشهود شهدوا عند القاضي ثم ماتوا، أو شهدوا ثم جنّوا، أو شهدوا ثم فسقوا وطرأ عليهم فسق بعد الشهادة وثبوتها عند القاضي، هذه كلها مسائل تسمى مسألة طروء العذر، وهذه تقع في العبادات والمعاملات، فتارة يعتبر الطروء مؤثراً وتارة لا يعتبر مؤثراً، وسنذكر جملة من هذه المسألة إن شاء الله إذا جاء كتاب القضاء، وقد تتخلل هذه المسألة في بعض أبواب المعاملات المالية. لكن الذي يعنينا هنا: أن الشرع قصد عقوبة هذا المخالف بانتهاكه لحدود الله عز وجل، وقد انتهك حد الله عز وجل وجاوز الحدود بجماعه لامرأته في حال تكليفه وحال مؤاخذته؛ فثبتت وتعلقت بذمته الكفارة. أما كونه يطرأ له العذر آخر النهار أو يطرأ له العذر ولو بعد الإخلال بلحظة فهذا كله لا يؤثر؛ لأن العبرة بالحال والابتداء لا بالانتهاء في هذه الصورة، ومن هنا تلزمه الكفارة حتى ولو طرأ عليه العذر.

الإفطار بغير الجماع لا يوجب كفارة

الإفطار بغير الجماع لا يوجب كفارة قال رحمه الله: [ولا تجب الكفارة بغير الجماع في صيام رمضان]. فلا تجب بالاستمناء، ولا تجب بالمفاخذة وغير ذلك من صور الاستمتاع، فلا تجب إلا بالجماع، ولا تجب أيضاً إلا في صوم رمضان أداءً لا قضاءً، فلا يدخل في ذلك حكم الواجبات، وقد أشرنا إلى هذه المسألة والخلاف بين الحنفية والمالكية من جهة، وبين الشافعية والحنابلة من وجه آخر، ولذلك يأخذها طالب العلم كقاعدة أو ضابط، يقولون: لا كفارة على الصائم إلا إذا وقع جماع في رمضان. فلا تلزمه الكفارة إذا كان في غير رمضان ولو كان صوم فرض، ولو كان قضاءً عن رمضان، ولا تلزمه في غير الجماع كما لو قلنا في الاستمناء ونحو ذلك، فهذا لا تجب فيه الكفارة؛ لأن المذهب عندهم متعلق بصورة معينة، وهذه المسألة تعتبر من مسائل القياس في الكفارات، وهذه مسألة أصولية، فالشافعية والحنابلة لا يرون القياس في هذه المسألة، والمالكية والحنفية يرون القياس، والعلة عندهم انتهاك حرمة الشهر. فكأن الذين قالوا بوجوب الكفارة في غير رمضان يرون أنه إذا صام قضاءً أو صام واجباً فإنه ينتهك الحرمة كما ينتهكها من جامع في نهار رمضان، ولا فرق، فهذا صوم فرضه الله وهذا صوم فرضه الله، فاستوى أن يكون من رمضان أو غير رمضان. ثم قالوا أيضاً: لما كانت العبرة بالشهوة فيستوي أن يخرج منه المني، سواء كان ذلك بجماع أو مفاخذة أو غيرها كالاستمناء، وقالوا أيضاً: يستوي عندنا الجماع وغيره مما تحصل به اللذة أو يحصل به الإنزال، فنوجب عليه القضاء والكفارة من هذا الوجه. والصحيح: ما ذكرناه من الاقتصار على مورد النص؛ لأن الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها وإلزام الكفارة بها، وهنا قوي الدليل على البقاء على الصورة التي ورد السؤال عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وألزم فيها المجامع بالكفارة، فنقتصر عليها دون غيرها.

أحكام كفارة الجماع في نهار رمضان

أحكام كفارة الجماع في نهار رمضان قال المصنف رحمه الله: [وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فإن لم يجد سقطت].

عتق الرقبة وما يشترط فيها

عتق الرقبة وما يشترط فيها [وهي عتق رقبة] قوله: (وهي) تعود على الكفارة، والرقبة منهم من يشترط فيها الإيمان قياساً على رقبة كفارة القتل. وهذه المسألة من المسائل التي يختلف العلماء فيها، فالأمر بعتق الرقبة يأتي على صورتين: صورة يكون فيها مقيداً كما في صورة كفارة القتل: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] فاشترط الله عز وجل أن تكون الرقبة مؤمنة. وصورة ترد الرقبة مطلقة كما في آية المظاهر من امرأته، وكذلك أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (أتجد رقبة أو أعتق رقبة) كما في الروايات، فهذا الإطلاق للعلماء فيه قولان ومذهبان: منهم من يقول: المطلق هنا -في مسألة المجامع في نهار رمضان- أحمله على المقيد الوارد في كفارة القتل، فلا كفارة بالعتق إلا إذا كانت الرقبة مؤمنة. واستدلوا بما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام لما سأل الجارية فقال: (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة). فقوله: (فإنها) جملة تعليلية أي: لأنها مؤمنة، فكأنها لو لم تكن مؤمنة ما أمره بعتقها، وهذا من جهة النظر له وجهه، يعني: إذا جئت تنظر إلى النصوص وتراها له وجهه؛ لكن الأولين يجيبون عن هذا ويقولون: إن الرجل أراد أن يُعْتِقَ اختياراً لا إيجاباً وإلزاماً، فلما أراد أن يعتق باختياره فالأفضل والأكمل أن تكون الرقبة مؤمنة؛ حتى يكون عتقها معيناً لها على الطاعة والخير؛ فيتحقق المقصود من عتق النافلة. وأما عتق الفريضة فالمراد به حصول العتق والغرم المالي، فإن الإنسان يغرم بفوات عبيده؛ لأنه كانت العبيد بمثابة الأموال، وينتفع الإنسان بهم ويرتفق، فيتضرر بماله، كما أُلزم عند فقدها والعجز عن الصيام شهرين متتابعين بإطعام ستين مسكيناً، وهذا غرم مالي. فقالوا: المقصود أن يغرم، وحينئذٍ لا يحملون المطلق على المقيد، ويقولون: لو كان عتق المظاهر يشترط فيه الإيمان أو عتق الكفارة في نهار رمضان يشترط فيها الإيمان لنبه الشرع على ذلك ولم يسكت عنه، فكيف هناك يقول: (تحرير رقبة مؤمنة) وهنا يطلق؟! قالوا: فلو كان مقيداً بوصف الإيمان لقيده. وهذا المذهب يقويه أن عتق الرقبة المؤمنة في القتل له قصد وذلك أن من أعتق رقبة أُعتق بها من النار، حتى يعتق العضو بالعضو، كما جاء في الخبر، حتى إن الفرج يعتق بالفرج. ومن هنا قالوا: لما كان القاتل كأنه أورد نفسه النار بقتله لأخيه المسلم، فإنه حينئذٍ يكفر بعتق الرقبة المؤمنة، وكأنه يعتق نفسه من النار، وأشكل على هذا: أنها كفارة خطأ، والقاتل ليس بمتعمد، فقالوا: الخطأ لا يخلو من تقصير؛ لأن القاتل خطأً لو تحرى وتفقد لما وقع منه ذلك، ولذا لزمته الكفارة لوجود التقصير والإخلال. فمن هنا قالوا: يجبر هذا الإخلال بكونه يعتق الرقبة المؤمنة حتى يُعْتَق بها من النار، وأيّاً ما كان فالقول بعدم التقييد له قوة وله وجاهة لإطلاق النصوص، وحمل المطلق على المقيد أحوط القولين، لكن القول بالإطلاق من القوة بمكان، وعلى هذا فيلزمه عتق الرقبة. وعتق الرقبة يستوي فيه أن تكون صغيرة أو كبيرة، ويستوي فيها حتى لو كانت صبية صغيرة في عتق رقبة القتل، وإذا كانت مولودة من أم مؤمنة فإن الصبيان يلتحقون بأمهاتهم، فإذا كان والداها مؤمنين فإنه حينئذٍ يعتق هذه الرقبة وتكون موصوفة بكونها مؤمنة. وهذا الوصف لصبيان المسلمين بالإيمان يسميه العلماء الوصف التقديري، وقد تكلم على هذه المسألة الإمام العز بن عبد السلام في كتابه النفيس "قواعد الأحكام" في مسألة التقديرات، قال: التقدير تنزيل المعدوم منزلة الموجود، ومن أمثلته الصبيان إذا كانوا في ديار المسلمين فإننا نعطيهم حكم الإسلام، فمن وجد لقيطاً في بلد مسلم أعطاه حكم أولاد المسلمين، ومن وجد لقيطاً في بلد كافر أعطاه حكم أولاد الكافرين لماذا؟ من باب التقدير؛ ولكنه وإن لم يكن حقيقة أنه يحكم له بالإيمان لكنهم يقولون: من باب التقدير. إضافة إلى أن النص يقول: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه) فهم يقولون: إن الأولاد يتبعون الوالدين تقديراً من باب الأحكام الشرعية، فهنا لو أراد أن يعتق رقبة ولو كانت صغيرة فإنه يجوز عتقها. وهذا القول اختاره أئمة منهم الإمام ابن جرير الطبري رحمة الله عليه في تفسيره، وعلى هذا فيجوز عتق الصغار من أولاد المسلمين إذا كانوا أرقاء، ويكون لها وصف الإيمان بالحكم التقديري. وهنا لو جامع امرأته في نهار رمضان فأعتق صبياً أو صبية أجزأه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعتق رقبة. وفي رواية: أتجد رقبة؟) فهذا فيه إطلاق فشمل الذكر والأنثى، فالرقبة التي تعتق تشمل الذكور والإناث، فلو أعتق جارية صح وأجزأه، ولو أعتق ذكراً صح وأجزأه، فكل يجزئه؛ لأن الشرع أطلق. وهذه الرقبة اختلف العلماء: هل يشترط سلامتها من العيوب أو لا يشترط؟ فبعض العلماء يقول: لا يصح العتق إلا إذا كانت سالمة من عيوب النقص، وعيوب النقص تكون في الأخلاق وفي الجسد؛ لأن العيوب في الأرقاء تنقسم إلى قسمين: عيوب مؤثرة، وعيوب غير مؤثرة. فالعيوب غير المؤثرة هي العيوب اليسيرة التي لا يتوقف عليها مصلحة الانتفاع بالرقيق، وهكذا لو كانت عيوباً مثل أن يكون لا يعرف الكتابة ولا يعرف القراءة، فهذا ليس بعيب مؤثر؛ لأنه لا يمنعه من الانتفاع به في مصالح خدمته. لكن العيوب المؤثرة والتي هي النوع الثاني تنقسم إلى قسمين أيضاً: نقص الجسد أو العيب الخُلقي، فإما أن يكون عيباً خِلْقياً وهو نقص الجسد كالشلل والعمى والعرج، فهذا نقص خِلقي. والنوع الثاني: النقص الخُلقي، كأن يكون مجنوناً فإنه لا يستطيع أن يضبط مشاعره ولا أن يضبط أقواله وأفعاله وتصرفاته، فهذا النقص الذي هو الجسدي أو الخُلقي إذا وجد في الرقيق فبعض العلماء يقول: لا يجزئه، ويشترط أن تكون الرقبة كاملة سالمة من العيوب. وبعض العلماء يقول: لو أعتق مشلولاً أجزأه، ولو كان أعمى أو كان مجنوناً كل ذلك يجزئه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعتق رقبة) وهذا مطلق يشمل الرقبة الكاملة والناقصة. وفي الحقيقة: لا شك أن المذهب الذي يرى كمال الخلقة وسلامة الإنسان من العيوب المؤثرة هو أسلم وأحوط وأولى بالاعتبار.

صيام الشهرين المتتابعين وما يشترط فيه

صيام الشهرين المتتابعين وما يشترط فيه [فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين]. الرقبة إذا كان الإنسان لا يجد قيمتها وأعطيت له هدية ونحلة، فإنه حينئذٍ يكفر بعتقها، ولو جاءته على سبيل الهدية فإنها تجزئه، وإذا ملكها قبل أن يشرع في الصوم فإنه يجب عليه أن يكفر بعتق الرقبة؛ لأنه قال: (فإن لم يجد) فكفارة الجماع في نهار رمضان مرتبة، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم، وأفتى بعض العلماء بالانتقال إلى صيام شهرين متتابعين مع إمكان العتق، وفعل ذلك استحساناً كما حصل للإمام الحافظ المحدث يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس الليثي رحمة الله عليه في قصته مع عبد الرحمن الأموي والي الأندلس، فإنه استفتاه في الجماع في نهار رمضان، فقال: تصوم شهرين متتابعين. وكان إمام القضاة في زمانه، ولما أفتى بهذه الفتوى عجب العلماء الذين معه وسكتوا هيبة له، وظنوا أن له مساغاً من الاجتهاد، فلما خرج راجعوه فقال: إننا لو قلنا له: اعتق رقبة لجامع وخف عليه الأمر، وهان عليه كل يوم أن يجامع ويعتق رقبة، وأما إذا أمرته بالصيام فإنه يحفظ حدود الله ومحارمه أن ينتهكها، فأمرته بالصوم لعظيم مشقته عليه؛ ولأنه أمكن لزجره من الوقوع في هذا المحظور. والحقيقة: هذه الفتوى مردودة وباطلة، وقد نبه العلماء وأئمة الأصول على ذلك، حتى إن صاحب المستصفى ذكرها مثالاً للتعليل الباطل والفاسد؛ لأنها في مقابل النص، والشرع إذا أمر بالعتق نأمُر بالعتق، وليس لأحد أن يجاوز حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا وجه لهذا الاجتهاد ولمثل هذه الاستحسانات. ولا شك أن الأصل يلزمنا أن نأمره بالعتق ولو كان قادراً على العتق، ولو كان غنياً؛ لأن الله أعلم بخلقه وأحكم في حكمه سبحانه وتعالى، وهو يعلم أن هناك الغني الذي لا يضره أن يعتق الرقاب ولو جامع كل يوم، ولكننا نقول بما أمرنا الله عز وجل به من الفتوى، وما ثبت به النص الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن هنا ننبه على أنه ينبغي للإنسان أن يتجنب الاستحسانات والآراء المصادمة للنصوص، وأنه ينبغي على المسلم أن يتقيد بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة في الفتوى والقضاء ونحو ذلك من الأمور التي يكون فيها الإنسان مؤتمناً على شرع الله عز وجل. فليس لأحد كائناً من كان أن يُدْخِل في دين الله عز وجل ما ليس منه ولو كان برأي واستحسان، ولذلك قال الإمام الشافعي: (من استحسن فقد شَرَّع). وكان أئمة السلف رحمة الله عليهم يشددون على أهل الرأي من هذا الباب: إذا كان الرأي فاسداً مصادماً للنص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. لكن الآراء التي يفهمها الإنسان من النص فهذه آراء شرعية بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا اجتهد الحاكم) وبدليل قوله: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) فأنت تفهم من قوله: (يفقهه) أي: يفهمه، فمعنى ذلك أنه نظر في النص ففهم شيئاً، فهذا يدل على أن الرأي إذا استخلص من الشرع فحي هلاً ونعمَّا به، والإنسان مجزيٌ عليه خيراً؛ إن أصاب كان له أجران، وإن أخطأ كان له أجر واحد. أما أن يأتي شخص إلى نص عنده في الكتاب والسُّنة، ويرى الواقع أو الحياة تقتضي أن يغير النص، أو يأتي بشيء أثقل حتى يكون أزجر، فهذا كله من المصادمة لشرع الله عز وجل والتعدي لحدوده، ولا يجوز للمسلم أن يتقحّم النار على بصيرة، فيفتي بهواه ورأيه في دين الله عز وجل حيث يؤتمن على الفتوى أو يؤتمن على قضائه، فهذا أمر ينبغي الحذر منه، فأي شيء تعلم أن فيه نصاً في الكتاب والسُّنة، وأن الشرع ألزمك بهذا النص فلا تتقدم ولا تتأخر؛ لأنك كقاضٍ أو مفتٍ أو معلم لا يجوز لك أن تتجاوز ما علمت، والذي علمته من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تخبر به، فإن خرجت عن الكتاب والسنة إلى محض رأيك واجتهادك، وخالفت ما نص الله عليه في كتابه أو نص عليه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة، فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- عين الهلاك، والضلال، ولا يجوز للمسلم أن يترك هذه المحجّة التي دل عليها نص الكتاب والسُّنة. وهذا أمر مهم جداً لطلاب العلم، فينبغي عليهم دائماً أن يضعوا نصب أعينهم أنهم مؤتمنون على شرع الله عز وجل، ولا يجوز لطالب العلم أن يستحسن أو يصوب شيئاً ويجتهد فيه إلا إذا أذن له الشرع بالرأي والاجتهاد. قال رحمه الله: [فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين]. فإن لم يجد عتق الرقبة ولم يستطعها يصوم شهرين متتابعين. والشهران لهما صورتان: الصورة الأولى: أن يستفتح الشهر من أوله، كأن يبدأ من أول شهر محرم أو شهر صفر أو شهر ربيع، فإذا ابتدأ بأول محرم فحينئذٍ العبرة بالشهر ناقصاً أو كاملاً، فلو ابتدأ من محرم وتبين أن محرماً تسعة وعشرون يوماً فقد صام شهراً، وحينئذٍ إذا انتهى شهر صفر فقد تمّ صيامه وأدى الكفارة على وجهها ولو صام ثمانية وخمسين يوماً -تسعة وعشرين لشهر محرم، وتسعة وعشرين لشهر صفر- أجزأه ذلك، وهذا بإجماع العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا) فأشار بيده في الأول إلى الثلاثين، وفي الثاني عقد الإبهام تسعة وعشرين، فدل على أن من صام تسعة وعشرين يوماً ورئي الهلال للشهر الأول والشهر الثاني فإنه حينئذٍ يجزئه، ويكون صيامه ثمانية وخمسين يوماً يجزئه عن الكفارة. الصورة الثانية: أن يستفتح صيام الشهرين المتتابعين أثناء الشهر، كأن يبدأ في العاشر من محرم، فإذا ابتدأ في العاشر من محرم لا يتم شهره الأول إلا في العاشر من شهر صفر، ولا ينتهي شهره الثاني إلا في العاشر من ربيع الأول، وحينئذٍ يؤقت بالأيام، ويلزمه في هذه الصورة الثانية أن يصوم ستين يوماً كاملة. بقيت مسألة وهي: لزوم التتابع يعني: هذان الشهران يشترط فيهما التتابع، والتتابع: ألا يفطر فيهما، فلو أفطر قبل إتمامهما بيوم واحد لزمه أن يستأنف العدد من جديد، فلو جاء في يوم تسعة وعشرين من شهر صفر وأفطر فإنه حينئذٍ يلزمه أن يقضي، ويعود من جديد ويصوم الشهرين متتابعين، وذلك لنص النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك في حديث المجامع لأهله في نهار رمضان، إذ أمره أن يصوم شهرين متتابعين فقال: (يا رسول الله! وهل أوقعني فيما أنا فيه إلا الصوم؟!) وكان رجلاً لا يصبر عن النساء، فكأنه اعتذر لأنه لا يستطيع الصوم. فحينئذٍ يلزمه أن يصوم الشهرين متتابعين إذا كان قد أفطر ولو قبل تمامهما بيوم واحد. لكن بقي Q لو أنه ابتدأ صيام الشهرين المتتابعين في كفارة الجماع أو كفارة القتل أو كفارة الظهار في شعبان ودخل عليه رمضان فهل يقطع رمضان التتابع؟ A لا يقطع رمضان التتابع، ويصوم شهر رمضان كاملاً، فإذا انتهى شهر رمضان يرد السؤال: هل يفطر يوم العيد أو لا يفطره؟ فللعلماء وجهان: أصحهما أنه يفطر يوم العيد، ثم بعد ذلك يتم ويبني على ما مضى، فلو صام شهر شعبان كاملاً ثم صام رمضان، فإذا أفطر أثناء رمضان لسفر أو نحوه فلا يقطع التتابع ولا يؤثر فيه حتى يتم رمضان، فإذا أتم رمضان ودخل عليه العيد فإن يوم العيد محرم الصوم، وحينئذٍ لو صام يوم العيد لا يجزئه عن صوم التتابع، وإذا كان لا يجزئه بنص الشرع -لأن الشرع حرم صيام هذا اليوم- فحينئذٍ يسقط عنه صيام يوم العيد، ويصبح يوم العيد هذا وجوده وعدمه على حد سواء. فحينئذٍ يفطر فيه كما أفطرت المرأة الحائض، فإن المرأة الحائض لا تستطيع أن تصوم ستين يوماً متواصلة؛ لأن الحيض يأتيها في الغالب -أو غالب النساء- فحينئذٍ يكون وجود هذا العذر الشرعي ينزل منزلة العذر الحسي، فلما كان الحيض لا يقطع التتابع لدخوله بغير اختيار المكلف، كذلك دخول يوم العيد لا يقطع التتابع على من ابتدأ في شهر شعبان، فيفطر يوم العيد ثم يتم العدد من بعد يوم العيد، فإذا أتم العدد من بعد يوم العيد لم يقطع تتابعه فطره لذلك اليوم. والمسألة الثانية: المرأة الحائض والنفساء لا يقطع التتابع حيضها ونفاسها؛ فإنها تصوم الشهرين المتتابعين في كفارتها، وإذا صامت الشهرين المتتابعين وقطع ذلك الحيض فإنها تفطر في أيام حيضها، وصومها تبنيه بعد انتهاء أيام الحيض. لكن لو أن إنساناً ابتدأ صومه في شهر المحرم، ثم أصابه المرض أثناء صيامه، فهل يقطع المرض التتابع أو لا؟ وجهان للعلماء في ذلك: قال بعضهم: لا يقطع، كما هو الحال في المرأة الحائض، وهذا قوي من جهة النظر. وقال بعضهم: يقطع؛ لأن العبرة بالصورة وهي التتابع، فيلزمه حينئذٍ أن يستأنف العدد بعد صحته وقوته. والأقوى: أنه إذا كان المرض يضر به أن يصوم معه فلا يقطع، ويرخص له بالفطر على عدد الأيام التي مرضها، ثم بعد ذلك يبني بعد انتهاء هذه الأيام أعني: أيام فطره بعذر المرض. قال: (صوم شهرين متتابعين) يصوم شهرين كاملين متتابعين بالصورة التي ذكرناها، قال بعض العلماء: إن الشهرين بمثابة الفدية لهذا اليوم الذي أفطره، ولذلك وجب عليه أن يصوم، فإذا لم يستطع أطعم ستين مسكيناً، وكأن كل مسكين عن يوم، فأنت إذا نظرت إلى عدد الشهرين فإنه ستون يوماً، والمساكين الذين يلزم إطعامهم ستون مسكيناً، وكل مسكين يأخذ ربع صاع كما سيأتي، فكأنها فدية عن فطر ذلك اليوم، وكأن فطره ذلك اليوم يفديه بصيام الشهرين المتتابعين. قال بعض العلماء: وفي هذا دليل على تعظيم فرائض الله عز وجل، وأنه لا يجوز للمسلم أن يتساهل في أداء حقوق الله عز وجل، وأنه إذا تساهل فيها وأفطر من دون عذر أو ترك ما أوجب الله عليه من دون عذر، ولو قضى ذلك الشيء فإنه لا ينزل منزلته، خاصة إذا كان متعمداً، ومن هنا ورد حديث أبي هريرة: (من أفطر يوماً من رمضان لم يقضه صيام الدهر ولو صامه) أي: أنه لا ينزل منزلة ذلك اليوم من حيث الفضل وحصول الثواب.

إطعام ستين مسكينا

إطعام ستين مسكيناً قال المصنف رحمه الله: [فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً]. فإن لم يستطع صيام الشهرين المتتابعين، وعدم الاستطاعة إما لمرض كإنسان عنده فشل الكلى مثلاً، فهذا لا يستطيع أن يصوم، وقرر الأطباء أنه إذا صام يموت، فهذا يجوز له أن يعدل من الصيام إلى إطعام ستين مسكيناً، وهكذا الحال لو كان شديد الشهوة لا يصبر على النساء، فلو صام لا يستطيع الصبر ستين يوماً؛ رخص له أن ينتقل؛ لأن المجامع قال (وهل أوقعني فيما أنا فيه إلا الصوم؟!) وقالوا: إنه عدل عن الصيام إلى الإطعام لعدم القدرة على الصبر، وهو شديد الشهوة ومن به شبق، فإذا وجد العذر من المرض، أو وجد العذر من شدة الشهوة وعدم الصبر عن النساء انتقل إلى الإطعام. (إطعام ستين مسكيناً) يطعم كل مسكين ربع صاع، وذلك لما جاء في رواية الموطأ أن الذي جامع أهله في نهار رمضان أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يطعم ستين مسكيناً، فاشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجد، فجاء في الحديث: (أتجد ما تطعم به ستين مسكيناً؟ قال: لا). فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق -والعرق: المكتل، مثل ما يسمى في عرفنا اليوم القفّة، وهي القفة الكبيرة تكون من الخوص ونحوه، وهذه القفاف الكبيرة كان الناس في القديم يحملون فيها التمور والثمار، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق به. والعرق فيه خمسة عشر صاعاً، وهذا كما جاء في رواية الموطأ أن العرق كالمكتل فيه خمسة عشر صاعاً، فإذا كان هذا العرق فيه خمسة عشر صاعاً، فمعنى ذلك أنك لو قسمته على ستين مسكيناً فكل مسكين سيكون نصيبه ربع صاع، أي ربع الصاع الذي يخُرج في آخر رمضان، وربع الصاع يسمى المد، وهذا المد هو الصاع النبوي الصغير؛ لأن هناك صاعاً نبوياً صغيراً وكبيراً، فالصغير هو الذي ضبطه العلماء بقولهم: هو ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، وسمي مداً لهذا، فهذا القدر هو قدر المد النبوي الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ به، فإذا أطعم يطعم ستين مسكيناً، لكل مسكين ربع صاع، فإذا فعل ذلك فقد أجزأه.

حكم من عليه كفارة إذا لم يجد ما يكفر به

حكم من عليه كفارة إذا لم يجد ما يكفر به قال المصنف: [فإن لم يجد سقطت]. ولذلك إن لم يجد لفقر وعوز وليس عنده ما يشتري به الطعام ويتصدق به على الفقراء؛ سقطت عنه الكفارة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما اشتكى له المجامع لأهله في نهار رمضان، فلما أتي عليه الصلاة والسلام بعرق أمره أن يأخذه وأن يتصدق به، فقال: (يا رسول الله! أعلى أفقر مني؟! -جاء وهو يشتكي فأصبح الآن يسأل- والله ما بين لابتيها رجل أفقر مني، وفي رواية: أهل بيت أفقر منا). اللابتان: مثنى لابة، وذلك لأن المدينة بين حرتين، وهي التي تسمى في يومنا هذا الحرة الشرقية والحرة الغربية، فالحرة الشرقية كانت تسمى في القديم حرة واقم، وهي التي وقعت فيها الموافقة أيام يزيد، وفيها قول قيس الرُّقَّيات: فإِنْ تَقْتُلُونَا يَوْمَ حَرَّةِ وَاقِمٍ فِإنا عَلى الإِسْلاَمِ أَوَّلِ مَنْ قُتِلْ الثانية: حرة الوبرة، وهي الحرة الغربية، ومراده: ما بين لابتيها يعني ما بين الحرتين: الحرة الغربية والحرة الشرقية، كأنه يريد المدينة كلها، والسبب في ذلك: أن مساكن المدينة كانت لا تجاوز الحرتين، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذه ويطعمه لأهله، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده. لكن هذه المسألة من خصوصيات هذا الرجل كما نبه العلماء رحمة الله عليهم، وإلا لو أنه أُعطي مكتلاً فلا يصح للعالم أن يقول له: خذه إلى أهلك، ولو أن إنساناً جاء يسألك وعليه كفارة، ثم تصدق عليه أحد بمكتل، وقال: هو فقير، تقول له: تجب عليك الكفارة؛ لأن هذا -كما يقولون- صورة عين، وقضايا الأعيان لا تصلح دليلاً للعموم. فهذه سماحة من الشرع ويسر من الله عز وجل أجراه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، كما نبه الأئمة رحمة الله عليهم في شرح الحديث على أن هذا الحكم يختص بهذا الرجل. أما من أُهدي له هذا القدر الذي يستطيع به التكفير، أو أعطي مالاً يستطيع به التكفير فقال: أريد أن آخذه لنفسي. فإنه لا يستحل ذلك، ويجب عليه أن يكفر الكفارة التي أوجب الله وفرض عليه.

الأسئلة

الأسئلة

وجوب الكفارة لأجل الجماع هل وجبت على المرأة في حديث الأعرابي

وجوب الكفارة لأجل الجماع هل وجبت على المرأة في حديث الأعرابي Q في حديث الأعرابي لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم حكمه على امرأة الأعرابي من حيث مطالبتها بالقضاء أو الكفارة، فكيف نوفق بين هذا وبين القاعدة: (لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة)، وضحوا هذا الإشكال أثابكم الله؟ A هذه المسألة في الحقيقة للعلماء فيها كلام طويل -وهي مسألة المجامع في نهار رمضان- ولذلك لما تكلم العلماء على مسألة التعليل ومسالك التعليل كان هذا الحديث من أنسب الأحاديث لبيان صور التعليل، ولذلك تجد الأئمة رحمة الله عليهم وكتب الأصول تعتني بشرح هذا الحديث من جهة أصولية والتعليل به. هناك مسلكان للأصوليين فيه: مسلك اعتباره لطيف وجميل؛ لأنه يدفع كثيراً من الإشكالات، يقولون: الرجل جاء يسأل أول ما يسأل عن نفسه، فوقع السؤال أول ما وقع عن نفسه، فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقرر له وبين له، فتبين أن الرجل ما عنده شيء لنفسه، فسقطت عنه الكفارة، فسكت عن زوجه لأن الحكم واحد؛ لأنه إذا كان هو سقطت عنه الكفارة فمن باب أولى تسقط عن الزوجة التي يعولها. وهذا المسلك لا يعطي أي مدخل للاحتجاج في المسألة، فتبقى المرأة داخلة تحت حكم الأصل من كونها مطالبة بالكفارة كالرجل، يقولون: إن الرجل سأل أول ما سأل عن نفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يجيب السائل عما سأل عنه، ولا يتكلف في الإجابة عن شيء لم يسأل عنه، فأجاب وما زال مع الرجل يوجب عليه الكفارة وينتقل معه خصلة خصلة، حتى إذا انتهى من ذكر مراتبها منها إذا بالرجل ليس عنده شيء، وإذا بالكفارة ساقطة عنه بالحال، فإذا سقطت عنه بالحال من باب أولى أن تسقط عن زوجته وأهله ومن يعول، فقالوا: لذلك سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم وعن أن يتكلف مرة ثانية، خاصة وأن الرجل قال له: (والله ما بين لابتيها أهل بيت) فلما قال: (أهل بيت) شمله وشمل زوجه. وهذا الجواب من أدق الأجوبة، والذي يقفل جميع الاعتراضات، ومن هنا يقول جمهور العلماء: تبقى المسائل مسكوت عنها، كون الزوجة طاوعت أو لم تطاوع تبقى مسائل اجتهادية، وهذا من دقة الشرع، وهو أنه في بعض الأحيان ينص على شيء ويترك ما عداه لاجتهاد العلماء، حكمة من الله سبحانه وتعالى؛ يرفع بها درجاتهم، ويجعلها خلافاً بينهم؛ يبين بها فضل العالم على غيره، فتبقى المسائل المسكوت عنها في النص وتترك لاجتهاد العلماء يبينون حكمها، فمنهم من يلحقها بالأصل، وينظر أقوى شبه لها فيلحقها به؛ لأن الشرع ينبه بالشيء على مثله، وهذا الاجتهاد مستند إلى أصول الشرع. ومنهم من يقول: هي عفو، كما هو مسلك الظاهرية رحمة الله عليهم، وهذا المسلك يقول: هي عفو، فكل شيء لم يرد النص به عفو، والمرأة لا يجب عليها عندهم شيء، حتى ولو طاوعت زوجها ورضيت واختارت، يقول: لا يجب عليها شيء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أوجب على المرأة في هذا الحديث شيء. فإن قلت لهم: سكت. يقولون: السكوت عفو. والواقع: أن ما سكت عنه الشرع هو عفو من الله من جهة النص على حكم معين؛ لكن يبقى الفقيه مطالب بالاجتهاد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اجتهد الحاكم) فمعنى ذلك أن هناك مسائل تحتاج إلى نظر وبحث وتحتاج إلى بيان حكمها. فإذا بإعطاء الشيء حكم نظيره فقد اجتهد بالشرع، (وفقه) يعني: فهم من الشرع، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) يعني: يفهمه مقصود الشرع فيبني الحكم عليه، فأنت إذا نظرت إلى أن مقصود الشرع تحريم هذا الشيء فحينئذٍ تقول: لا يجوز. وإذا فهمت أن مقصود الشرع جوازه والتوسعة على الناس تقول: يجوز، وكل ذلك مبني على فهمك لأصول الشرع. وفي هذه المسألة كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الرجل هل طاوعته المرأة أو لم تطاوعه، وهل هي مكرهة أو غير مكرهة، معذورة أو غير معذورة. لا يقال: تأخير البيان عن وقت الحاجة، وأنسب شيء ما يذكره علماء الأصول بقولهم: (ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما استفصل من الرجل، وما قال له: هل امرأتك طاوعت أو لم تطاوع؟ هل امرأتك مكرهة أو غير مكرهة، راضية أو غير راضية؟ بل ترك الاستفصال في مقام الاحتمال. أي: في مقام يحتمل فيه أن تكون المرأة معذورة، ويحتمل أن تكون غير معذورة، فكونه لم يستفصل ينزل منزلة العموم. يعني: لا تجب كفارة إلا على الرجل، أما المرأة فلا تجب عليها سواء طاوعت أو لم تطاوع هذا معنى القاعدة. ولكن مثلما ذكرنا: أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ليس هذا موضعه، إنما موضعه في مقام السؤال حينما يسأل السائل عن الشيء بذاته، كأن يسأل الرجل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم امرأته فيقول: عليها الكفارة. ولا يستفصل طاوعت أو لم تطاوع، فتقول: ترك الاستفصال هنا مؤثر ودليل وحجة؛ لكن كونه لم يرد سؤال عن المرأة وسكت النبي صلى الله عليه وسلم عنه؛ فهذا مما يسع الاجتهاد فيه. فلا يعقل؛ لأن المرأة قد تغري الزوج على الجماع، وقد يقع منها الجماع ابتداءً بزوجها، وذكر هذا بعض العلماء رحمة الله عليهم، وإن كان الغالب أن الرجل تكون منه بواعث الجماع، لكن كونها هي التي تبعثه وتدفعه، يقولون: هذا يدل على أن المرأة تأخذ حكم الرجل إن طاوعت ورضيت وأغرت وقصدت وأرادت ذلك. فإذا كانت المرأة هي التي تريد الجماع، وحصل منها ذلك وطاوعت زوجها مختارة راضية؛ فالمرأة والرجل سواء، وتجب عليها الكفارة؛ لأن المعنى الذي عاقب الشرع به الرجل موجود في المرأة كما هو موجود في الرجل. هذا من ناحية فقهية ومن ناحية الأصول والضوابط والاجتهادات صحيح؛ لأن العلة الموجودة في الرجل موجودة في المرأة، فتجب عليها الكفارة كما تجب على الرجل؛ لكن إذا استكرهها وغالبها فحينئذ يكون كأنه أوقعها في هذا المحظور، فتجب عليه الكفارة؛ لأنه متسبب في ذلك كما هو الحال في الضمانات في الحقوق، ولما كان الشرع ينزل حقوق الله عز وجل قياساً على حقوق الآدميين بدليل الحديث الصحيح (فدين الله أحق أن يقضى) وجعل الحقوق مقضية تنزيلاً لشغل الذمم بها، كذلك هنا حق الله يضمن، فكما أن المرأة سقط عنها المؤاخذة بالكفارة لكونها مكرهة، فحينئذ من الذي أكرهها؟ ومن الذي قسرها؟ ومن الذي أوقعها؟ هو الرجل. فهناك محل تتعلق به الكفارة ويسع أن تتعلق به الكفارة الثانية، بخلاف ما إذا أكرهت المرأة فإنا لا نجد إلزاماً؛ لأن الإخلال غير موجود، وعلى هذا فهناك صورتان: الصورة الأولى: أن تكون المرأة مكرهة ومغلوبة، فبالنسبة للرجل ما عندنا إشكال، لكن بالنسبة للمرأة المحل -الذي هو المرأة المكلفة- غير قابل لإيجاب الكفارة؛ لأنها لم تتوفر فيه شروط الإخلال؛ لكن إذا كانت مكرهة فمعنى ذلك أن هناك إخلالاً من الرجل من ناحيتين: من ناحية نفسه، ومن ناحية إيقاعه للغير في الإفطار. وهذا الإفطار وقع بشهوة الجماع، فكما أن الجماع في حقه يوجب الكفارة، كذلك بالنسبة للمرأة. على هذا القول الذي يرى أن المكرهة يجب على زوجها أن يكفر، حينئذ يقولون: تجب عليه الكفارات المتعددة في اليوم الواحد؛ ولذلك يلغز بعض العلماء ويقول: على المذهب الذي يرى أن من جامع أكثر من مرة في يوم واحد ليس عليه إلا كفارة واحدة، فقد تجب عليه الكفارة متعددة في أي صورة؟ تقول: إذا قلنا: إن المرأة المكرهة -التي أكرهها زوجها- تجب عليه الكفارة، فحينئذ إذا جامع الجماع الأول وجبت عليه الكفارة لنفسه وكفارة لزوجه التي جامعها، فصارت كفارتان، فإن جامع الزوجة الثانية -وليس الزوجة الأولى- فقد حصل فطر وجماع ثان، فتجب عليه الكفارة الثانية، فإن جامع زوجته الثالثة وجبت عليه الكفارة الرابعة، وإن جامع زوجته الرابعة وجبت عليه الكفارة الخامسة. فهذه خمس كفارات تجب بجماع يوم واحد على رجل واحد، هذه المسألة يلغز فيها بعض العلماء، لكن محله أن ترى أن المرأة التي أكرهت على الجماع من قبل الرجل كأن يهددها أو يغلبها بقوة أو تكون نائمة ثم لا تشعر به إلا وقد أصابها، قالوا: هذه يجب عليه أن يكفر عن نفسه وعنها؛ لأنه وقع الإخلال بالصوم من وجهين: من جهته ومن جهة زوجه، فتتكرر عليه الكفارة من هذا الوجه. وبناءً على ذلك: فإن حديث المجامع في نهار رمضان يعتبر من المسكوت عنه؛ لأن السؤال لم يرد عن المرأة أصلاً، ولا يعتبر هذا من باب تأخير البيان عن وقت الحاجة. والله أعلم.

كفارة العبد إذا جامع في نهار رمضان

كفارة العبد إذا جامع في نهار رمضان Q هل كفارة الجماع في نهار رمضان على الحر والعبد سواء، أم أن الأمر فيه تفصيل أثابكم الله؟ A بالنسبة للعبد فإنه لا يملك؛ لكن قال بعض العلماء: لو ملكه سيده وأذن له بالعتق يعتق، وحينئذٍ تجزيه، ومذهب طائفة من علماء السلف أن العبد ينتقل إلى الصيام فيلزمه أن يصوم؛ فإن عجز عن الصوم سقطت عنه الكفارة؛ لأنه لا يملك، والدليل على أنه لا يملك: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) فأخلى يد العبد عن الملكية؛ فدل على أنه لا يملك، وهذا أصل عند العلماء، وقد سبق بيانه وبسط الكلام عليه في مسائل الزكاة. والله تعالى أعلم.

العبد المكاتب لا يجزئ في الكفارة الواجبة

العبد المكاتب لا يجزئ في الكفارة الواجبة Q من كان يدفع إلى سيده أنجم المكاتبة وبقيت بعضها، فأعتقه سيده بكفارة الجماع، فهل يجزئه ذلك أم لابد أن يرجع إلى عبده ما أخذ من المكاتبة أثابكم الله؟ A إذا اتفق السيد على الكتابة وأدى العبد أنجم الكتابة كاملة فإنه يجب على السيد أن يعتق عبده، وإذا لم يعتقه واشتكى العبد إلى القاضي فإن القاضي يحكم بعتقه، وهذا من العقود التي تكون لازمة في أول حال وفي آخر حال؛ لأن العقود منها ما يلزم في أول حال وفي آخر حال، ومنها ما يلزم في أول حال دون آخر حال، ومنها ما لا يلزم في أول الحال ويلزم في آخر الحال. فالمكاتبة تعتبر في أول الحال إذا تعاقد الاثنان، وفي الأصل السيد لا يلزمه أن يكاتب عبده على القول بعدم وجوب الكتابة عليه، ومنهم من يقول بوجوبها لظاهر قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور:33] فإذا قلنا بعدم الوجوب فهي غير لازمة في أول الحال على السيد، لكنه إذا وقع العقد وتم بينهما وافترقا فحينئذ يلزمه الوفاء بهذا العقد، وعلى الرقيق أن يسدد ما عليه، فلو قال له: كاتبتك بعشرة آلاف، تؤدي لي كل شهر ألفاً، فإذا أتممت العشرة فأنت حر. فإذا أعطى العشرة كاملة أعتق بآخر نجم منها، وأما إذا عجز عن سداد أنجم الكتابة يعود رقيقاً لسيده. وبناءً على ذلك: إذا عجز العبد عن السداد لبعض أنجم الكتابة وعاد رقيقاً لسيده فأعتقه سيده عن ظهار أو عن قتل أو عن جماع في نهار رمضان أجزأه؛ لأنه إذا عجز وثبت العجز رجع إلى ملكية سيده. أما إذا كان أثناء أنجم الكتابة ووصل إلى آخرها، فقال له السيد: أنت حر؛ فإن هذا العتق لا يعتبر عتقاً عن الواجب عليه في ذمته؛ لأن الأصل يلزمه بأداء أنجم الكتابة حتى يكون العبد حراً بأنجم الكتابة، لا بما عليه من فرض الله، كأنه يتخلص مما عليه من حق الله عز وجل فيعتق حتى لا يشتري رقبة ثانية، فكأنه يدفع الغرم عن نفسه لما أوشك العبد أن يسدد، فمعنى ذلك: أنه يريد ألا يتحمل رقبة ثانية ويشتريها، فهو يريد أن يعتق هذه الرقبة حتى يتخلص من تبعة الرقبة الثانية؛ ولذلك لا يصح العتق على هذا الوجه، ولا يجزيه في الكفارات، سواء كانت عن ظهار أو قتل أو أي عتق واجب آخر. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

باب ما يكره ويستحب في الصوم وحكم القضاء

شرح زاد المستقنع - باب ما يكره ويستحب في الصوم وحكم القضاء هناك أمور ذكر العلماء أنه يكره فعلها في الصيام؛ لأنها تخدش في الصيام وتنقص أجره، وهناك أيضاً مستحبات ينبغي على الصائم أن يعلمها ويحافظ عليها حتى يكون صومه تاماً صحيحاً مقبولاً عند الله تعالى. ومما يتعلق بالصيام: أحكام القضاء لمن أفطر في رمضان لعذر، وحكم من مات وعليه صوم وغيرها من أحكام ومسائل القضاء.

مكروهات ومستحبات الصوم وحكم قضائه

مكروهات ومستحبات الصوم وحكم قضائه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: يقول المصنف عليه رحمة الله: [باب ما يكره ويستحب وحكم القضاء]. يقول المصنف رحمه الله: (باب ما يكره) أي: ما يكره على الصائم أن يفعله حال صيامه، سواء كان لنافلة أو فريضة، والمكروه: هو الذي تعافه النفوس، وكره فلانٌ فلاناً إذا وجد فيه ما يوجب نفرته منه، وأما المكروه في الشريعة: فهو الذي نهى الشرع عنه نهياً غير جازم، وهذا المكروه يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، وكأن المصنف رحمه الله يريد أن يبين لنا بعض الأمور التي لا يستحب للصائم أن يفعلها، وإذا تركها بقصد التقرب فإنه يثاب شرعاً، ولكنها لا توجب فطره. وقوله: (ويستحب) ضد المكروه، فالأمر من الأقوال والأفعال إن كان جازماً فهو واجب، وإن كان غير جازم فهو مندوب ومستحب. وحكمه: أنه يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه. ومعنى: يستحب أي: يستحب للصائم أن يفعله أو أن يقوله؛ والسبب في ذلك: أن الصيام فيه أمور محرمة، وفيه أمور مكروهة، وفيه أمور واجبة، وفيه أمور مستحبة، وفيه أمور مباحة، ولذلك تكلم -رحمة الله عليه- في الأبواب الماضية عن الأمور المحرمة والأمور الواجبة، وبعد بيانه لكلا القسمين شرع في بيان ما يكره وما يستحب، ولكن Q لماذا قال: باب ما يكره فقدم المكروه على المستحب، والتقديم للشيء فيه دلالة على شرفه في الغالب؟ قدم المكروه؛ لأن الصيام يقوم على الترك، ولذلك المكروه ألصق بمادة الصيام من المستحب الذي يطلب فيه الفعل في الغالب. وقوله رحمه الله: (وحكم القضاء) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل المتعلقة بقضاء صيام رمضان، والسبب في ذلك أن المكلف لا يخلو من حالتين: إما أن يوقع صيام الفريضة في زمانه المعتبر على وجهه المعتد به شرعاً، فحينئذٍ لا إشكال، ويسمى هذا الصيام منه: صيام الأداء. وإما أن لا يوقعه؛ وذلك لوجود العذر الشرعي الذي يبيح له الفطر، من مرض أو سفر أو غير ذلك فيفطر؛ فإذا أفطر توجه إليه خطاب الشرع بأن يقضي أياماً أخر على عدد الأيام التي أفطرها من غير رمضان، وحينئذٍ ينتقل من رمضان إلى غير رمضان. ويرد السؤال عن هذه الأيام والأحكام المتعلقة بها، هل تنزل منزلة أيام رمضان أو لا تنزل؟ كذلك أيضاً من جهة كون الذي يقضي إذا أفطر متعمداً، هل يجوز له ذلك أو لا يجوز؟ وما الحكم في فطره إذا وقع على هذا الوجه؟ يقول رحمه الله: (باب ما يكره ويستحب وحكم القضاء) جمعها رحمة الله عليه في هذا الموضع لتجانسها، فإن المكروه والمستحب يتضادان في الغالب، وإن كان هناك صور يكون فيها المستحب لا يضاد المكروه.

أقوال العلماء في جمع الريق وبلعه لمن كان صائما

أقوال العلماء في جمع الريق وبلعه لمن كان صائماً [يكره جمع ريقه فيبتلعه]. أي: يكره للصائم أن يجمع ريقه، والريق: لعاب أوجده الله في الفم، ويكون في أصله لعاب قوي المادة أو يتحلل مع حركة الفم، وهذا اللعاب أوجده الله عز وجل لحكمة، وإذا أراد الإنسان أن ينظر إلى عظيم نعمة الله عليه بهذا اللعاب، فلينظر إلى حاله في شدة الظهيرة وقد جف حلقه من لعابه كيف يكون حاله؟ فلو أن الله خلقه على هذه الصفة لوجد من المشقة والعناء ما لا يخفى؛ ولكنه أحسن كل شيء خلقه سبحانه وتعالى وتبارك وهو أحسن الخالقين، فخلقه على هذه الصفة فجعل اللعاب في فمه؛ يمكنه من الكلام؛ ويدفع عنه مشقة يبس حلقه وصعوبة كلامه، ولذلك تجد من جف لعابه أو قل -خاصة في أحوال الصيام وشدة الظمأ- يصعب عليه الحديث ويصعب عليه الكلام. فهذا اللعاب والريق له حالتان: الحالة الأولى: أن يتركه المكلف على خلقة الله عز وجل فيرتفق به في حال يبس حلقه أو يبس فمه، على الوجه المألوف المعتاد المعروف. وهذه الحالة لا إشكال فيها بإجماع العلماء؛ لأن اللعاب يعتبر غير مؤثر في الصيام ولو بلعه الإنسان؛ لأنه مما يشق التحرز عنه، ولذلك يمثل العلماء له بما يشق التحرز عنه في الصيام، واغتفروا في حكمه اللعاب اليسير الذي يكون من فضلة الطعام إذا شق عنه التحرز عنه في الصلاة، وكذلك اغتفروا ما يكون بين الأسنان في الصلاة كوضر اللبن الذي يكون من دسامة مادة اللبن. وأما في الصيام فقالوا: إذا بزغ الفجر وانتهى وقت السحور، فإنه يتمضمض إن بقيت مادة الطعام في فمه؛ لأن اللعاب متصل بممنوع، وهو وإن كان لعاباً في أصله لكنه خرج عن الأصل؛ لامتزاجه مع المادة التي هي مادة الطعام، وعلى هذا قالوا: إن اللعاب في هذه الحالة يجب إزالته إما ببصاق، أو بغسل الفم بالمضمضة، ولذلك ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه تمضمض قبل الصلاة من وضر اللبن ودسومته. وأما الحالة الثانية للريق: فهي أن يجمع الريق فيبلعه وهو صائم، فهذا الجمع للريق يعتبر متردداً بين أصلين، فيحتاج تقرير هذين الأصلين إلى أمر مهم لابد من بيانه، حاصله: أن فم الإنسان يعتبر من خارج الجسد ولا يعتبر من داخل الجسد، وتوضيح ذلك: أنك في الصيام تحتاج إلى أن تفرق بين خارج البدن وداخل البدن؛ حتى تستطيع أن تفتي في مسائل الصيام، وهذا أمر مهم لطالب العلم وللعالم، ولا يستطيع أن يفتي في مسائل الفطر حتى يقرر ما الذي من خارج البدن، وما هو الذي من داخله بحيث إذا وصل إليه الغريب حكم بفطر الصائم بسبب ذلك. فالفم دلت الأدلة على أنه من خارج البدن، فإذا قلت: إنه من خارج؛ فأي شيء يصل إليه من المفطرات لا يضر ولا يؤثر ما لم يتجاوز الحد المعتبر شرعاً، وما هو هذا الحد؟ الحد: هو اللهاة، واللهاة هي: اللحمة المتدلية عند بداية الحلق، فهي فاصل بين داخل البدن وبين خارج البدن، وخارج البدن هو الفم، فما كان دون اللهاة فهو من داخل، وبناءً على ذلك لو استقاء فخرج القيء إلى فمه ورد ولو يسيراً من القيء إلى جوفه -إلى ما وراء اللهاة- فقد أفطر، وهذا بإجماع العلماء: أنه إذا رد مادة القيء إلى داخل البدن بعد وصولها إلى الفم أنه يفطر؛ لأنه بمجرد وصولها إلى الفم خرجت من البدن. إذاً تثبت أن هناك داخلاً وخارجاً؛ فالداخل ما دون اللهاة من جهة الجوف، والخارج ما قبل اللهاة من جهة الفم، وعلى هذا: إذا كان الريق موجوداً في الفم ليس عندنا إشكال، حتى ولو جمعه ثم أداره في فمه ثم بصقه لا إشكال؛ لأن الأمر كله في خارج البدن؛ لكن الإشكال لو جمع هذا الريق ثم ابتلعه بعد ذلك، فهذا الفعل يتردد بين وجهين: أحدهما: يقتضي الحكم بالفطر. والثاني: يقتضي عدم الحكم بالفطر. فأما كونه مقتضياً للفطر فهم يقولون: هذا اللعاب مادة متعلقة بخارج البدن، وكون الإنسان يبلع ريقه يسيراً يسيراً، قالوا: هذا على المعروف المألوف الذي يشق التحرز منه، فرخص الشرع فيه، لكن كونه يجمع ريقه باختياره وقدرته وتمكنه، ثم يبلع كما لو أفضل الجسم فضلة ثم بلعها، فهم يقولون: اللعاب فضلة الجسم، وهذا بالإجماع أنه فضلة من الجسم، فكما أن فضلة الجسم كالقيء إذا خرجت إلى الفم ثم ردت أنها تفطر، قالوا: اللعاب إذا جمع خرج عن الرخصة، فالرخصة فيه أن يكون متحللاً لترطيب الفم، لكن إذا جمعه فإنه يقصد ما يقصده الشارب أو من يريد بل حلقه، فخرج عن كونه مادة للفم إلى كونه مادة للحلق؛ فأفطر من هذا الوجه. قالوا: وأشبه ما لو إذا خرج القيء ثم رده إلى داخل البدن. وأما الوجه الثاني الذي يقتضي أنه لا يفطر: فهم يقولون: هذا اللعاب مادة تسامح الشرع فيها، والإجماع منعقد على أن اللعاب الذي في داخل البدن لو بلعه الإنسان قليلاً قليلاً أنه لا يفطر؛ فلا فرق عندي بين أن يبلعه دفعة واحدة وبين أن يبلعه شيئاً فشيئاً. إذاً عندك وجهان: أحدهما: يقتضي الحظر والحكم بالفطر. والثاني: يقتضي الإباحة، وأنه لا يوجب فطر صاحبه. والقاعدة عند بعض العلماء: أنه إذا تردد الفعل أو القول بين مأذون به شرعاً، وبين غير مأذون به شرعاً وهو المحرم، وأصبح فيه شبهاً من هذا وشبهاً من هذا فإنه يكره. هذا ضابط للمكروه عند بعض العلماء، ولذلك يمثلون بإسبال الإزار، قال صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار) وأجاز الأزر إذا كانت فوق الكعبين، وقد ثبت عنه أنه قال: (أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه) فإذا ارتفع الإزار عن الكعبين فالإجماع على حله، وإذا نزل عن الكعبين فإنه يعتبر داخلاً في قوله: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار). لكن لو أنه وصل إلى الكعبين ولم يجاوز ولم يرتفع عنهما وكان محاذياً للكعبين؛ فليس عندك نص يقتضي التحريم، وليس عندك نص يقتضي الإباحة، فإذا جئت تقول: أبيحه. أجابك المجيب بأن الشرع أباح ما فوق الكعبين، وإذا قلت: أحرمه. أجابك المعترض بأن الذي حرمه الشرع ما نزل عن الكعبين، قالوا: فيصبح بين الحظر والإباحة فهو مكروه، فيسكت عنه الشرع لتردده بين الحظر والإباحة، فيقولون: هو مكروه. فإذاً: كأن المكروه يتردد بين الحلال والحرام، ويتردد بين الحظر والإباحة، فجمع الريق فيه وجه لأن تجيزه، وفيه وجه لأن تمنعه، فإن قلت: الشرع رخص في الريق لمكان مشقة التحرز والتوقي؛ فإن الريق المجموع لا يشق التحرز عنه؛ لأنه بإمكانه أن يبصقه، قالوا: فحينئذٍ كأنه قصد الإخلال، فيعتبر هذا الوجه يقتضي الحظر. وتقول: الريق مأذون به شرعاً، فيستوي أن يكون مجموعاً أو متفرقاً، فهذا الوجه يقتضي الإباحة؛ فأصبح جمع الريق مكروهاً من هذا الوجه. فهذا هو وجه كون العلماء رحمة الله عليهم ينصون على كراهية مثل هذه الأمور، ويستشكل بعض طلاب العلم كيف يحكم بالكراهة بما لا نص فيه؟ وهذا من ورع السلف والأئمة رحمة الله عليهم، ولذلك لما تكلم العلماء عن ضابط المكروه قالوا: إن هناك صوراً للشيء المتردد بين الحظر والإباحة، يؤكد الشرع على قصد الترك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) ولذلك فالفقيه لا يستطيع أن يقول: هذا حرام، وإذا قال: هو حلال وجد في نفسه الشبهة فتردد، ولذلك إذا قال لك قائل: أجمع الريق وأبلعه. فستجد في نفسك الشبهة، لكن ما تستطيع أن تقول: إنه حرام؛ فالبر طمأنينة، قالوا: فوجود هذه الشبهة كونه يجمع الريق فستفهم منه أنه في حكم من يدخل على البدن الشيء الغريب عنه؛ لأن الذي ليس بغريب أن يترك اللعاب على طبيعته، لكن كونه يجمعه وكونه يبلعه قالوا: هذا يقتضي الشبهة. ومن هنا يقوى القول بكون جمع الريق من مكروهات الصيام. وخلاصة الكلام أن لبلع الريق ثلاثة أحوال: الحالة المعروفة المألوفة، ولا إشكال فيها، ولكن هناك حالتان يذكرهما العلماء، وهما: الحالة الأولى: أن يجمع الريق من داخل -أي: من داخل الفم-. والحالة الثانية: أن يخرج الريق المجتمع إلى خارج الفم. فأما إذا كان الريق في داخل الفم فجمعه وبلعه فمثلما ذكرنا أنه مكروه، لكن لو جمع الريق فأخرجه عن الفم بلسانه وجاوز شفتيه ثم رده فإنه يفطر في قول جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم؛ لأنه إذا أخرجه عن الفم فإنه حينئذٍ يخرج عن الرخصة قولاً واحداً عند أهل العلم؛ ولأنه يعتبر خارجاً عن اللعاب المأذون به أو المرخص به شرعاً؛ لأن الذي يشق التحرز عنه ما كان في داخل الفم، أما إذا خرج قالوا: إنه يفطر. ما فائدة قول العلماء رحمة الله عليهم: الريق يجمع من داخل أو يجمع من خارج؟ قد يقول قائل: إنه من القبيح من الإنسان أن يخرج الريق من فمه ثم يرده! وهذه المسائل يذكرها العلماء لأمور قد يحتاج إليها الفقهاء، فمثلاً في زماننا قد يوجد في بعض أحوال أن تقوم بعض الآلات بشفط ما في الفم وإعادته إليه لتكريره عليه، كما يكون في بعض من يكون في أجهزة الإنعاش، فإنه يحتاج إلى وجود بعض المواد التي تكون في فمه، فإذا كانت الآلة التي تشفط تشفط المادة إلى خارج الفم وتجاوزه ثم تعيده؛ فمثل هذا يرد فيه الكلام، وإن كانت في داخل الفم ولا تجاوزه فلا إشكال فيها. فالمقصود: أن مسألة جمع الريق لا تخلو من هاتين الصورتين: إن خرج الريق وجاوز حد الشفتين أفطر قولاً واحداً، وإن لم يجاوز فإنه يرد فيه ما ذكرناه من الحكم بالكراهة، ولا يحكم بفطر صاحبه.

حرمة بلع النخامة بعد وصولها إلى الفم

حرمة بلع النخامة بعد وصولها إلى الفم قال رحمه الله: [ويحرم بلع النخامة ويفطر بها فقط إن وصلت إلى فمه]. (ويحرم بلع النخامة) هناك مادة ثانية من فضلة الفم، وهو: المخاط الذي يكون في الخياشيم وفي الأنف، وقد يخرج من الصدر كالبلغم، فأما بالنسبة للمخاط الذي يكون في الخياشيم فإنه لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون سحب الإنسان له إلى الجوف مباشرة، كما لو استنشق ثم ذهب إلى جوفه دون أن يمر بفمه، هذا بالإجماع لا يفطر، ولو كان للنخامة جرم، كما هي القطعة الصغيرة التي تتجلط من المخاط، فهذا لا يفطر. الحالة الثانية: أن تكون النخامة قد خرجت إلى الفم، فإن خرجت إلى الفم وأدارها في فمه فلا يخلو من حالتين: إما أن يديرها في فمه ثم يبلعها، وهذا هو الذي حكم المصنف عليه أنه يحرم، وأنه يوجب الفطر إن بلعها، وهناك وجه ثان: أنه لا يفطر، ويرون أن الفم مغتفر كالأنف، والذي اختاره المصنف من القوة بمكان؛ لأن الأصول تقتضيه. وإما أن يخرجها إلى الشفتين كما ذكرنا، كأن يخرج لسانه وعليه النخامة ثم يزدردها، فإنه يفطر في قول جماهير العلماء رحمهم الله قولاً واحداً. على هذا يفرق في النخامة بين هاتين الحالتين. أما بالنسبة للبلغم الذي يكون من الصدر، فإن كح وأخرجه إلى حلقه دون أن يصل إلى فمه ويجاوز لهاته، فلا إشكال إن ازدرده مباشرة، وأما إذا أخرجه إلى فمه ففيه الكلام الذي ذكرناه، والصحيح والأقوى: أنه يفطر، كما لو أخرج القيء ثم رده. وبناءً على ذلك، فإن النخامة والبلغم يفصل فيهما هذا التفصيل.

حكم تذوق الطعام بلا حاجة

حكم تذوق الطعام بلا حاجة [ويكره ذوق طعام بلا حاجة] قوله: (ويكره ذوق طعام بلا حاجة) له حالتان: الحالة الأولى: إذا نظرت إلى ذوق الطعام، فأنت ترى أن الذي يذوق الطعام فيه شبهة؛ لأنه إذا ذاقه وازدرده لا إشكال أنه يفطر بالإجماع؛ كأن يتحسى شراباً أو يتذوق طعاماً، ثم بعد ذلك يزدرده ويجاوز اللهاة، فإنه بالإجماع يفطر. الحالة الثانية: أن يذوق الطعام ثم يغسل الفم مباشرة ويلقيه، فهذا فيه خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم والصحيح ما أفتى به ابن عباس رضي الله عنهما وطائفة من السلف: أنه لا حرج ولا بأس أن يذوق الإنسان الطعام؛ لكن بشرط أنه بعد تذوقه يغسل فمه، ويذهب المادة التي ذاقها، أما إذا لم تذهب المادة وبقيت وتحللت في اللعاب، ووجد طعم الطعام في حلقه فقد أفطر.

حكم مضغ الصائم للعلك وأنواعه

حكم مضغ الصائم للعلك وأنواعه [ومضغ علك قوي]. العلك: هو اللبان وهو أنواع: النوع الأول: ما يكون دواءً وعلاجاً كاللبان المر، فهذا له فوائد للصدر، وله فوائد للجوف. وهناك النوع الثاني الذي لا يقصد منه التداوي، وهو الذي يستعمل من باب الترفيه عن النفس، فهذا يشدد فيه بعض العلماء لما فيه من شبه بقوم لوط، ولا يحفظ في ذلك نص صحيح يدل على ثبوت هذا، لكنه من خوارم المروءة، يعني: إن الحياء والمروءة أن لا يستعمله من له مكانة، كالوالد أمام أولاده، وهكذا الأم أمام بناتها وصغارها، وهكذا طالب العلم والعالم ومن له مكانة بين الناس، فمضغ اللبان يسقط مروءته ويدل على قلة حيائه، قال صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى، إذا لم تستحي فاصنع ما شئت) وضابط ذلك أن يفعله أمام الناس كما أشار إلى ذلك بعض العلماء بقوله: وما أبيح وهو في العيان يقدح في مروءة الإنسان فكونه يمضغ اللبان أمام الناس، فهذا يوجب سقوط عدالته والجرح في شهادته، ويدل على نقص عقله؛ لأن العقل يمنع من فعل هذه الأمور أمام الناس. وبالنسبة للتحريم بأن أهل لوط يفعلون ذلك، هذا لم يثبت به نص صحيح، والأصل الجواز، ولا حرج في مضغه، وكون الإنسان يمضغ اللبان لا حرج؛ لكن لا يفعل ذلك أمام الناس، وأما لو كان صغير السن كالأحداث ونحوهم فهذا مما جرت العادة باغتفاره، والدليل على الجواز: أن الله سخر لبني آدم الارتفاق بالمطعوم والمشروب ما لم يدل الدليل على التحريم، وهذا مما يطعم، وأما اللبان الذي يتداوى به كمرضى السكر ونحوهم لكونهم يحتاجون إلى وجود اللعاب في أفواههم، وهكذا بالنسبة للبان المر الذي يتداوى به الإنسان فهذا لا إشكال فيه. فاللبان أو العلك له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون قوياً ومادته متحللة، وهذه الحالة أوضح ما تكون حينما يأخذ الإنسان في بدايته، فإنه يجد قوة المادة ويجد تحللها وأثرها في فمه، فتجد لعاب الإنسان يسيل بسبب قوة المادة؛ فإذا كانت المادة حلوة سال لعابه؛ فتجد قوة المادة مؤثرة، هذا هو المتحلل. الحالة الثانية: غير المتحلل: وهو الذي لا تجد له طعماً، فأنت إذا نظرت إلى هذا اللبان كاللبان المر إذا علكه الإنسان لمدة ربع ساعة تقريباً أصبح مادة يعلكها، لا يجد لها طعماً قوياً ولا تكون مؤثرة، والمقصود منها في الغالب أن الإنسان يريد منها جريان اللعاب. فهذا معنى القوي المتحلل، والضعيف غير المتحلل، فاللبان في بدايته يكون متحللاً قوياً. ما فائدة هذا التفصيل؟ فائدة هذا التفصيل: أنه لو كان قبل أذان الفجر يعلك اللبان فعلكه وذهبت قوته، ثم أذن عليه الفجر وهو في فمه، ولا يجد إلا إسالة اللعاب، ولا يجد لمادة اللبان أثراً؛ فهذا أضعف مما لو كان في بداية العلك، فيفرق بين الذي له مادة تتحلل والذي ليست له مادة، وتوضيح ذلك: أن الفم من الخارج كما قررناه، فكونه يجري اللعاب في داخل فمه عن طريق اللبان هذا لا يؤثر، ما لم يكن من لبان مادته قوية متحللة، ويكتسب طعم الريق فيها، ثم يزدرد هذه المادة فيفطر، وأما إذا كانت مادة اللبان جافة، خاصة لو شرب الماء بعد مضغ اللبان بربع ساعة تقريباً أو عشر دقائق فإن اللبان يصبح جافاً ومادته جافة ولا تتحلل؛ فحينئذٍ يضعف عن التأثير، بخلاف ما لو كان في بدايته.

إفطار الصائم بوجود طعم العلك والطعام في الحلق

إفطار الصائم بوجود طعم العلك والطعام في الحلق [وإن جد طعمهما في حلقه أفطر]. وإن وجد طعم العلك سواء كان قوياً أو ضعيفاً -يعني: المتحلل وغير المتحلل- إن وجد طعمه في حلقه أفطر قولاً واحداً؛ والسبب في ذلك: أنه بوصول هذه المادة إلى الحلق، فإنه يعتبر في حكم من طعم الطعام، ووجد الطعام أو أثر الطعام في حلقه. [ويحرم العلك المتحلل إن بلع ريقه]. قال: يكره إذا لم يكن قوياً، وأما إذا كان متحللاً فإنه يحرم إن بلع ريقه، أما لو أجراه في فمه ثم لفظه ولفظ ما فيه، فهذا لا يؤثر.

حكم القبلة بالنسبة للصائم

حكم القبلة بالنسبة للصائم [وتكره القبلة لمن تحرك شهوته]. وتكره القبلة للشخص الذي تحرك القبلة شهوته، فالشخص إذا قبَّل لا يخلو من حالات: الحالة الأولى: أن لا يأمن من نفسه أن تقوى شهوته، ويندفع إلى درجة لا يأمن معها أن يفسد صومه بالجماع. الحالة الثانية: أن تتحرك شهوته إلى درجة لا تصل إلى الجماع ولكن إلى أن ينزل، ويستطيع أن يحبس نفسه عن الجماع لكن لا يستطيع أن يحبس نفسه عن إنزال المني كأن يكون سريع الإنزال عند بداية شهوته. والحالة الثالثة: أن يكون قوياً مالكاً لإربه، فلا ينزل ويأمن أن يقع منه الجماع. هذه ثلاثة أحوال بالنسبة للشخص الذي تقع منه الشهوة: إما أن تحركه حتى يصل إلى غايتها من الجماع، وإما أن تحركه فيصل إلى الإنزال ولا تؤدي به إلى الجماع، وإما أن تحركه فيجد النشوة، ولكن لا يصل إلى الإنزال ولا يقع منه جماع. أما إذا كان لا تحرك القبلة شهوته فهو الشخص الذي لا يجد الانتشاء بالتقبيل، كأن يقبل لعاطفة، كأن يقبل أبناءه ويقبل بناته، فهي ليست بقبلة شهوة؛ لأن التقبيل يكون لمعانٍ: أن يقبل محبة وشهوة وهي قبلة الزوج لزوجته والعكس، وأن يقبل لرحمة كتقبيل الابن لأبيه والأب لابنه، ويقبل لعاطفة وهي صورة العكس الأب لابنه، ويقبل لهيبة وإجلال كأن يقبل جبهة العالم أو يده. فهذه أحوال للمقبل، لكن الذي يتكلم العلماء عنه: التقبيل للمرأة، وهو تقبيل الشهوة، أما لو رأى المرأة في حزن ورحمها وعطف عليها فقبلها من باب العطف والحنان، فإنه خارج عن مسألتنا، وحمل بعض العلماء عليه تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة قبل أن يدخل إلى المسجد، فقالوا: إن هذا التقبيل من النبي صلى الله عليه وسلم ليس تقبيل محبة، وإنما هو صدق مودة من النبي صلى الله عليه وسلم لها، ليس يقصد منه تحريك الشهوة، أو ما يكون بين الرجل وامرأته من باب الشهوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما قالت: كان إذا أذن عليه المؤذن لا يعرفنا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام يشتغل بأمر الصلاة. فالتقبيل الذي يبحثه العلماء في هذا الموضع: تقبيل الشهوة، ولا يريدون منه مطلق التقبيل، فلو قبل الأب ابنه فإن قبلته قبلة عطف وحنان وشفقة، كما قال أحدهم للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم. قال: أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟!) فوصف التقبيل بكونه رحمة، فهذا لا يتكلم العلماء عنه، وهكذا لو قبلت الأم بنتها إذا رأت عليها الحزن وقبلتها ونحو ذلك، فإذا كان التقبيل للشهوة فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبل وهو صائم، كما في الصحيحين من حديثٍ يرويه هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، أن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم، فسألها عروة رضي الله عنه وقال: ما أراه إلا أنت. قال: فضحكت رضي الله عنها وأرضاها)، ما فائدة سؤال عروة رضي الله عنه بهذا الأسلوب؛ لأنه قد يقول البعض: ما داعي أن يقول عروة ذلك؟ الواقع أننا استفدنا من هذا أنها رواية متصلة لا منفصلة؛ لأنه قد تحكي أم المؤمنين شيئاً من حاله عليه الصلاة والسلام عن غيرها من أمهات المؤمنين؛ لكن كونها تضحك هذا يدل على أنه وقع لها من النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون الرواية متصلة، ويكون الفعل بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة. هذا يدل على أنه لا حرج أن يقبل الصائم زوجه؛ لكن قالت أم المؤمنين رضي الله عنها: (ولقد كان أملككم لإربه -وفي رواية: لأرْبه، وقيل: لأرَبِه-) واختلف العلماء فيه على وجهين: قيل: الأَرَب هو العضو، أرادت أنه لا ينزل عليه الصلاة والسلام، وقيل: شهوته، يعني الشهوة مطلقاً؛ فإذا قلت: إن المراد بالأرب العضو، فيكون مرادها أنه يتحفظ من الإنزال، فيدل على حل أن يقبل للشهوة، ولكن بشرط أن يأمن الإنزال، وإن قلت: إن المراد بتقبيل النبي صلى الله عليه وسلم مطلق الشهوة، فحينئذٍ تشمل الشهوة المنبعثة من التقبيل، والشهوة التي يكون منها الجماع؛ فحينئذٍ تقول: إنه قبل لمعنى غير الشهوة، كأن يقبل لعطف أو لحنان أو نحو ذلك، والأول أقوى. وعلى هذا: فإنه لو قبل زوجته للشهوة لا حرج، لكن فيه تفصيل: إن غلب على ظنه أنه يجامع أو يقع في الجماع فلا يجوز له أن يقبل؛ لأن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها؛ فإنك لو قلت: الشرع يأذن للرجل أن يقبل زوجته، مع أنه يغلب على ظنك أنه سيقع في الجماع ويفسد الصيام، فهذا مما لا يأذن الله عز وجل به، وحينئذٍ يتناقض الشرع، ولذلك نبهت أم المؤمنين رضي الله عنها على هذا فقالت: (كان أملككم لإربه) وكأنها تريد أن تفرق بين من يملك ويقدر على حفظ نفسه، وبين من لا يملك ولا يقدر على حفظ نفسه. وقد دل الشرع على أن تعاطي السبب يوجب الضمان للإنسان، وأن الإنسان ينبغي عليه أن يتحفظ عن الأسباب التي تفضي به إلى الإخلال، سواء بالمأمورات أو بالمنهيات، وبناءً على ذلك إذا غلب على ظنه أنه يفسد صيامه بالجماع أو بالإنزال؛ فإنه لا يقبل. الحالة الثانية: فلو اعترض معترض وقال: هذا ليس بصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل، فلا داعي بأن نفرق بين من يقع وبين من لا يقع، نقول: إذا استدليت بفعله عليه الصلاة والسلام يلزمك الاستدلال به كاملاً، والذي وقع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئان: التقبيل مع التحفظ، والذي نتكلم فيه: التقبيل مع عدم التحفظ، فصورة القبلة منه صلى الله عليه وسلم فيها محافظة ولا إخلال فيها، والصورة التي ذكرها العلماء واستثنوها التي فيها الإخلال، فبقيت على الأصل الموجب للمنع، وهكذا لو أنه لم يأمن أن ينزل؛ لأن إنزاله يفضي به إلى الفطر، فاستوى أن لا يأمن الجماع وأن لا يأمن الإنزال، ففي هذه الأحوال يمنع منه. وأما بالنسبة لما ورد في حديث أبي داود، وتفريقه عليه الصلاة والسلام بين الشيخ وبين الشاب فهو حديث ضعيف؛ لكن متنه صحيح، وأصول الشريعة دالة على أن الذي لا يملك نفسه، وقصدنا الشاب الذي لا يملك نفسه فإنه لا يقبل، وأما بالنسبة للذي يملك نفسه ويقدر فإنه لا حرج عليه أن يقبل.

حرمة الكذب من الصائم وغيره

حرمة الكذب من الصائم وغيره [ويجب اجتناب كذب وغيبة وشتم]. ويجب على الصائم أن يجتنب الكذب، في الحقيقة الكذب محرم على المسلم سواءً كان صائماً أو مفطراً، ولكن لماذا يقول المصنف رحمه الله: ويجب اجتناب كذب؟ وتوضيح ذلك أن الكذب محرم في أصل الشرع، ولكنه في رمضان أو في حال الصيام المفروض إذا كذب عليه وزران وإثمان: الإثم الأول: من جهة كونه كاذباً، والإثم الثاني: عدم رعايته لحرمة صيامه، ولذلك يضيف العلماء في باب الصيام تأكيداً، وإلا فالكذب محرم مطلقاً. والكذب هو مخالفة الخبر للواقع، كأن يقول: محمد في الدار. والواقع أنه ليس في الدار، الواقع: يعني الذي حدث وحصل أو الخارج عن الكلام الذي يوصف به ذلك؛ فلو قلت: ومحمد موجود في حال النفي أو غير موجود في حال الإثبات، فهذا كذب، أي يكون كاذباً إن كان عالماً بأنه ليس بموجود فأخبر بالوجود، والعكس. فالكذب محرم مطلقاً، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] وقال صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح-: (عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر؛ وإن البر يهدي إلى الجنة) وقوله: (يهدي إلى البر) يعني: يهدي لكل خير، فقل أن تجد إنساناً لسانه صدوق إلا وجدته أكثر الناس حرصاً على الطاعة، وقل أن تجد إنساناً كذوباً ويوفق للخير، فغالباً ما تجد الصادق في قوله الأمين في خبره موفقاً للخير؛ لأنه قد سد عن نفسه إثم لسانه، ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصف كمال المسلم قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) فمن أذية المسلمين باللسان الكذب عليهم، فيكذب ويخبرهم بأمور ليس لها حقيقة، فهذا من الكذب، وأشد ما يكون الكذب إذا كان على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لتحليل الحرام أو تحريم الحلال، فهذا من أعظم الكذب نسأل الله السلامة والعافية! وهو من كبائر الذنوب التي توعد الله عليها باللعنة والغضب، نسأل الله السلامة والعافية. وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب حيث قال: (وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور؛ وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) فالإنسان الذي لا يبالي بالكلام الذي يخرج منه، ويتكلم بما لا حقيقة له؛ فإن هذا الفعل منه اعتداء لحدود الله في اللسان، فيفجر بلسانه. وقد ثبت في الحديث عن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ما أخوف ما تخاف علي؟ قال: هذا أي: لسانك) فإذا كذب لسانه وتحرى الكذب -نسأل الله السلام والعافية- اعوجت جوارحه، وهذا يشهد له ما جاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أن الأعضاء تكفر اللسان في صباح كل يوم، وتقول: (يا هذا! اتق الله فينا، فإنما نحن بك، إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا) وهذا يدل على خطر الكذب، ولذلك قال: (فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)، والكذب حرام سواء كان في الصيام أو غيره، ولكنه في الصيام أشد، وهو كبيرة من كبائر الذنوب. واختلف العلماء متى يكون الكذب كبيرة؟ فبعض العلماء يقول: الكذب كبيرة ولو بمرة واحدة، فمن كذب الكذبة الواحدة فإنه -نسأل الله السلامة والعافية- يعتبر فاسقاً مردود الشهادة مقدوح العدالة. وقال بعض العلماء: لابد وأن يتكرر الكذب ثلاث مرات، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) فالناس فيهم كاذب وفيهم كذاب وفيهم كذوب، فالكذاب والكذوب هو الذي يتكرر منه الكذب، وصيغة فعّال تدل على الكثرة من ذلك الشيء، فبعض العلماء يرى أنه لا يعتبر من كبائر الذنوب إلا بثلاث، ولكن الأقوى أنه يفرق في نوعية الكذب، فبعض الكذبات تعتبر كبيرة بمرة واحدة، وبعضها لا تعتبر كبيرة إلا بالتكرار، فالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو بحديث واحد يعتبر كبيرة، حتى ولو روى حديثاً وهو يعلم أنه ضعيف ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسكت على ذلك وأقره، أو عبر بصيغة تدل على ثبوته، وهو يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله فقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسأل الله السلامة والعافية! قوله: (ويجب اجتناب كذب) قال بعض العلماء: من كذب وهو صائم فقد أفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) قالوا: فإذا كذب فقد انتقض صيامه، وهذا مذهب بعض الظاهرية وبعض أهل الحديث رحمة الله عليهم، وجماهير السلف على أن الكذب لا يوجب الفطر، ولكنه ينقص أجر الصائم ويخل بثوابه الكامل، وقد يمنع من قبول الله لصيامه -نسأل الله السلامة والعافية-؛ لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] وقال تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] فجعل الصدق من تقواه سبحانه وتعالى من باب عطف الخاص على العام. وعلى هذا قالوا: إنه لا يأمن لو كذب مرة واحدة وهو صائم أن يرد الله صيامه عليه ولا يتقبله، وإذا لم يتقبل العمل فكأن الإنسان لم يعمله، نسأل الله السلامة والعافية!

حرمة الغيبة للصائم وغيره

حرمة الغيبة للصائم وغيره قوله: [وغيبة]. ويجب اجتناب الغيبة بالنسبة للصائم فلا يغتاب الناس، والغيبة حقيقتها أن تكون بالقول وتكون بالفعل. وعلى ذلك فالغيبة لها حالتان: الحالة الأولى: أن تكون باللسان. والحالة الثانية: أن تكون بالجوارح والأركان. فأما الغيبة باللسان: فهو أن يذكر أخاه بما يكره، فيقول مثلاً: فلان قصير، فلان سمين، فلان أعرج، فلان أعور، بشرط أن لا يكون من باب التمييز المحتاج إليه أو مما اشتهر به، فهذا يعتبر من الغيبة إذا ذكر نقصاً خَلقياً أو خُلقياً، والنقص الخلقي مثلما ذكرنا: فلان قصير، فلان كذا، بصفاته الخِلقية. أما النقص الخلقي فينقسم إلى قسمين: منه ما يتصل بالشرع، ومنه ما يكون من أحوال الإنسان ولا يتصل بالشرع، فالنقص الخلقي المتصل بالشرع: كأن يقول: فلان فاسق، فلان فاجر، نسأل الله السلامة والعافية! فيتهمه بالفجور وبالفسق، حتى ولو كان فاسقاً أو فاجراً فهي غيبة، أما إذا لم يكن فاسقاً ولم يكن فاجراً فإنه يعتبر جامعاً بين السوءتين والعظيمتين: الغيبة والبهتان، نسأل الله السلامة والعافية! فهذا من أعظم ما يكون، كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام عندما قيل له: (يا رسول الله! إن كان فيه ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) فهذا النقص المتعلق بالدين، أما النقص الخُلقي الذي لا يتصل بالدين: كأن يقول: فلان يستعجل في رأيه، فلان لا يشاور، فلان مستبد برأيه، فهذا عيب في الإنسان، لكنه لا يتصل بالدين ولا يعتبر قادحاً دينياً، فهذا يعتبر من الغيبة، لكنه ليس بعيب ديني، إنما هو عيب خُلقي، وهذا كله يندرج تحت الغيبة باللسان. أما الغيبة بالجوارح والأركان فقد تكون باليد، كأن يشير عند قوله: فلان قصير، وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (والذي نفسي بيده -لما أشارت أم المؤمنين أنها قصيرة- لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لأنتنته) أي: أن هذا الفعل منك تعيرين به هذه الأمة من إماء الله بالقصر، فيه أذية للمؤمنة، وأذية المؤمن عظيمة عند الله سبحانه وتعالى. فقوله: (لو مزجت بماء البحر) أي: لو كانت شيئاً حسياً يظهر قذره للعيان، ووضع هذا القذر في البحر الذي يعرف بكثرة الماء ولا يتغير، قال: (لأنتنته) أي: لوجد نتنه وضرره. فهذا يدل على خطر الغيبة، فهذه غيبة اليد. ويندرج تحت الغيبة بالجوارح غيبة اللسان: مثل أن يأتي الشخص يحكي لهجة الشخص، أو يحكي أسلوبه في الكلام؛ كأن يحاكي كلام رجل أعجمي فيتكلم كلاماً أعجمياً، أو يكون في لسانه رتق أو لثق، فيأتي بالرتق واللثق على أساس أنه يحكي كلامه، فهذا كله من الغيبة وآخذ حكمها -نسأل الله السلامة والعافية! - وكما تقع الغيبة بالكلام تقع كذلك بالجوارح والأركان؛ فبعض الناس يظن أن الغيبة لا تقع إلا بالكلام، والواقع أنها أعم من هذا كله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الإشارة غيبة، ومن هنا قال العلماء: إن الفعل آخذ حكم القول؛ لأن المراد أن تحفظ حرمة أخيك المسلم، ويستوي في ذلك أن يكون انتهاكها بالقول أو يكون انتهاكها بالفعل، بل إن انتهاكها بالفعل في بعض الأحيان أشد من انتهاكها بالقول. والغيبة لا خير فيها، فلا يغتاب الناس إلا إنسان دنيء؛ لأن الإنسان الكامل في خلقه، والكامل في أدبه مع الناس يحفظ لسانه عن أذية المسلمين، ويصونه عن الوقيعة في أعراضهم، وعلى ذلك يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، فكما أنه يكره أن يذكر عند الناس، كذلك يكره أن يذكر الناس بما لا يحبونه، فهذه الغيبة محرمة، وهي بالإجماع من كبائر الذنوب. واختلفوا متى تكون كبيرة، قال بعض العلماء: تعد كبيرة بحسب الأشخاص الذين يذكرهم المغتاب، فغيبة العلماء سواءً كانت باللسان أو كانت بالجوارح والأركان، يقصد منها تجريح عالم أو انتقاصه، فقالوا: هذا يعتبر كبيرة، فذكر العالم بما يكره في غيبته يعتبر كبيرة ولو مرة واحدة، وذلك لعظيم حرمتهم عند الله عز وجل. ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما قال المنافقون: (ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أجبن عند اللقاء، فأنزل الله عز وجل {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]) قالوا: لأن المنافقين وقعوا في أعراض القراء واغتابوهم، وهم قراء لكتاب الله؛ ولأن الأذية لهم من جهة الشرع فكذلك العلماء والقضاة. والناس يقعون في الغيبة وهم لا يشعرون، فتجد الواحد يقول: القضاة لا يعرفون، أو الدعاة لا يعرفون. فإذا قال: القضاة فإنه قد اغتاب جميع من يقضي على وجه الأرض بشريعة الإسلام، ويعتبر متحملاً لوزرهم، نسأل الله السلامة والعافية! وهكذا إذا قال: العلماء لا يحسنون الفتوى، فإنه يعتبر متحملاً لوزر جميع العلماء إذا وصفهم بكونهم لا يفقهون، ولذلك الأمر خطير جداً! فإذا ذكرت جنساً معيناً وقلت: جنس كذا لا يفهمون، جنس كذا يسرقون، جنس كذا يفعلون، جنس كذا يتركون، جنس كذا طوال أو قصار، فهذه غيبة لتلك الأمة كلها؛ لأنه وصفهم جميعاً، وشهد عليهم بهذا، فالأمر خطير جداً والله تعالى يقول: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19]. فالإنسان يتكلم وهو لا يدري، ويظن أن الأمر سهل، ومن هنا أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله: (والذي نفسي بيده! إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقي لها بالاً، يهوي بها أبعد مما بين المشرق والمغرب في نار جهنم) الكلمة الواحدة، فهذا أمر صعب، حتى قال بعض العلماء: إن العبد يبيت قائماً ويصبح صائماً وحسناته قد ذهبت بغيبة واحدة، كأن يغتاب أمة بكاملها والعياذ بالله! فالأمر جد خطير، وعلى طالب العلم والعلماء والدعاة أن ينصحوا الناس وأن يذكروهم، فهذا أمر حرمه الله عز وجل، إذا وقع فيه الصائم -قال بعض العلماء- فسد صيامه وأفطر ولزمه القضاء. وهو قول ضعيف، والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور أنه يأثم، وصيامه صحيح.

وجوب اجتناب الشتم للصائم

وجوب اجتناب الشتم للصائم قوله: [وشتم]. الشتم له حالتان: إما أن يكون شتماً يوجب النقص للمشتوم في دينه، كأن يشتمه شتيمة كفر -والعياذ بالله- فيصفه بالكفر، فهذا من أشد الشتم وهو الذي أشار النبي صلى الله عليه وسلم إليه أنه إذا قال لأخيه المسلم: يا كافر! إن كان كما قال وإلا حارت عليه، يعني: رجعت إليه والعياذ بالله! فهذا أعظم الشتم، وهو الشتم بالعيب الديني الموجب لخروجه من الملة. وبعده الشتم بالفسق، كأن يشتمه بعيب فيه فسق كشرب خمر أو زناً أو غير ذلك، فهذا من كبائر الذنوب، ومنه قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وهو الذي توعد الله عليه باللعنة والغضب والعذاب العظيم في الدنيا والآخرة نسأل الله السلامة والعافية! فهذا من أشد أنواع الشتم. ويليه بعد ذلك: الشتم بالمحقرات، أو قد يكون الشتم غير مباشر، فيكون بالتشبيه، كأن يصفه بوصف يقصد به المنقصة، فهذا من الشتم؛ لأنه يتضمن الانتقاص والعيب. هذا كله مما يحرم على الصائم، ولذلك كان بعض العلماء يكره ويتقي أن يعنف الطالب في رمضان أو وهو صائم؛ خوفاً أن يكون منقصاً لأجره وموجباً لذهاب كمال ثوابه، حتى كان بعضهم يتورع ويتقي أن يقول للطالب: أنت لم تفهم؛ لأنه عيب وانتقاص؛ ولأن أصل الشتم الانتقاص. وعلى هذا ينبغي للصائم أن يتحفظ ولا يؤذي إخوانه المسلمين بالشتم واللعن والسب، وقد ثبت في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة) اللعانون هم الذين يكثرون اللعن فهم لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة، نسأل الله السلامة والعافية! فهؤلاء حرمهم الله من هاتين المرتبتين الكريمتين اللتين يحتاجهما الإنسان أكثر ما يكون لقرابته كأبنائه وبناته، فهو يريد أن يشفع لهم بخروجهم من النار أو بعذاب استحقوه، فلا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة، والشهادة مرتبة شرف وكمال، وهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم أن يتحفظ من اللعنة. واللعنة إذا خرجت من الفم لا تعود، وإذا نطق بها اللسان إن كان الملعون كما ذكر أصابته، وأما إذا لم يكن كذلك رجعت في الذي قالها، نسأل الله السلامة والعافية!

ما يسن لمن شتم

ما يسن لمن شُتِم قال رحمه الله: [وسن لمن شتم قوله: إني صائم]. أما الدليل على أنه لا يسب ولا يشتم: قوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل) والجهل: أن يسب الناس؛ لأنه فعل الجاهلية والجهل من الجاهلية، فمراده بأن لا يجهل: يعني بأن لا يقول قولاً فيه جهل، كالسب والشتم ونحو ذلك من الغيبة، (ولا يجهل ولا يصخب -والصخب: رفع الصوت- فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم) هذه هي السنة التي تدل على أنه ينبغي أن يتحفظ، فإذا استفزه الغير وحركه للانتقام ذكره بالصيام، ويقول: إني صائم. أي: عندما يقول: إني صائم، فإنه يذكر أخاه المسلم أن يتقي الله فيه، وأن لا يجمع له بين ذنبين: بين كونه يسبه وينتقصه وبين أن يحركه لإفساد صومه، ويقول بذلك ويسمعه حتى يذكره أيضاً بتقوى الله عز وجل، خاصة إذا كان صائماً مثله. إذا وقع السباب والمخاصمة بين اثنين فهناك سنن تتعلق بالذي شُتِمَ وسُبَّ، وسنن تتعلق بالذي يتكلم ويشتم، فالأصل أن الإنسان لا يشتم الناس كما ذكرنا، وإذا كان صائماً فإن الأمر في حقه أشد، فإن تعدى وشتم سن للذي يُشْتَمُ أن يقول: إني صائم، إني صائم. وبعد أن بين لنا المصنف رحمه الله أنه يحرم على الإنسان أن يسب الغير ويشتمه في حال الصيام أو أن يصخب أو يجهل، شرع في بيان ما ينبغي على من خوطب بالجهل فَسُبَّ أو شُتِمَ أو انتُهِكَ عرضُه أن يقول بلسانه: إني صائم، إني صائم. لقوله عليه الصلاة والسلام: (فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم) والصحيح: أنه يقول ذلك بلسانه ويسمعها للشخص، وقيل: يقول ذلك في نفسه، وهذا ضعيف؛ لأن الأصل حمل اللفظ على الحقيقة حتى يدل الدليل على غيره، وقوله: (فليقل) القول: هو اللفظ، والكلام النفسي الذي بداخل الإنسان ليس بلفظ؛ لأنه لم يلفظه، وقد قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} [ق:18] ووصف القول بأنه يلفظ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (فليقل) معناه: فليلفظ هذا اللفظ فيقول: إني صائم، إني صائم. فإذا قال في نفسه: إني صائم، فمعنى ذلك: أنه لم يلفظ وحينئذٍ لم يقل، فلا يعتبر مصيباً للسنة من هذا الوجه.

يسن تأخير السحور

يسن تأخير السحور قال رحمه الله: [وتأخير سحور]. وسن له أن يؤخر السحور، والسحور: فعول من السحر، والسحر آخر الليل قبل الفجر بساعة، تزيد أو تنقص على حسب طول الليل وقصره في الشتاء والصيف، والسحر: هو السدس الأخير من الليل، فتقسم الليل على ثلاثة أجزاء: ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر، ثم بعد ذلك تأخذ نصف الجزء الأخير وهو السدس، فهذا السدس هو السحر الذي انتهى إليه وتره عليه الصلاة والسلام كما قالت أم المؤمنين عائشة كما في الصحيحين: (من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوله وأوسطه وانتهى وتره إلى السحر) وهو أفضل الأوقات لذكر الله عز وجل كما قال تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17]. وسمي السحور سحوراً لوقوعه في هذا الوقت، والعرب تسمي الشيء بزمانه، كما سميت صلاة الضحى؛ لأنها تقع في الضحى، وعيد الأضحى؛ لأن الأضحية تذبح في الضحى وهو أول النهار، فالمقصود: أن السحور سمي سحوراً بهذا، والسحور: فعل الأكل في وقت السحر، سواء كان قليلاً أو كثيراً، فمن أكل تمرة واحدة فقد تسحر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا فقال: (ولو بتمرة) فهو إذا أكل في السحور ولو تمرة واحدة فقد تسحر، والأفضل أن يؤخر الأكل إلى هذا الوقت؛ لأنه إذا أخر الأكل إلى هذا الوقت قويت نفسه على العبادات وعلى الطاعات؛ ولأنه يخالف شريعة من قبلنا من اليهود والنصارى؛ لأنهم كانوا لا يأكلون إذا استيقظوا من نومهم وإنما يمسكون، فكان في شريعتهم أنه إذا نام أحدهم حرم عليه الأكل إلى اليوم الثاني، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فرق ما بيننا وبينهم طعمة السحر) فهو يطعم ولو تمرة؛ حتى يخالف اليهود، وحينئذ تكون فضيلة وقربة لله عز وجل. والأكل في وقت السحور مما يعين على أداء فريضة الفجر؛ لأن الإنسان إذا وقام وحافظ على السحور؛ فإنه أدعى لأن يحفظ صلاته وأن يتمكن من أدائها، لكنه إذا تسحر أول الليل ربما تساهل وقصر حتى يذهب وقت الفجر عليه، أو تفوته الجماعة فلا يصلي معها. فالمقصود: أن الأفضل له أن يتسحر. لكن لو أكل من الليل ثم نام واستيقظ في السحر ولم يأكل، وواصل فإنه لا إثم عليه؛ لأنه سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، ولا تؤدي إلى الإخلال، فهذه من السنن ومن الفضائل. إذاً يؤخر السحور بحيث أنه بمجرد انتهائه من السحور يكون قد دخل وقت الفجر، وهذا من أفضل ما يكون، لكن ينبغي أن يكون ذلك مع حفظ وقت الفجر، أما إذا كان يتساهل ولا يضبط الوقت وعلى شبهة فيتحرى ويتحفظ؛ فالمقصود: أن تأخير السحور شرطه أن يضبط الوقت، أما إذا كان على وجه لا يأمن منه الإخلال فإنه يمنع منه؛ لأنه لا يعقل أن يطلب السنة على وجه يضيع به فريضة الله عز وجل، وهذا ركن من أركان الإسلام.

سنية تعجيل الفطر والمبادرة به

سنية تعجيل الفطر والمبادرة به قال رحمه الله: [وتعجيل فطر]. ويسن أن يعجل الفطر من صيامه، فبمجرد مغيب الشمس يبادر بالفطر، وقال بعض العلماء: بذهاب الصفرة التي تكون بعد المغيب حتى يقبل الليل، قالوا: وهذا هو السر في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] أي: مع إمساك جزء يسير من الليل، وعناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا أدبر النهار من هاهنا -وأشار إلى المغرب- وأقبل الليل من هاهنا -وأشار إلى المشرق- فقد أفطر الصائم) ويبادر بالفطر (وأحب العباد إلى الله أعجلهم فطراً)، كما ورد في الخبر عنه عليه الصلاة والسلام، فهذه من الفضائل؛ لما فيه من الأخذ برخصة الله عز وجل، وترك التنطع في الدين والتشدد؛ لأن التنطع لا خير فيه، والتنطع يهلك صاحبه كما قال عليه الصلاة والسلام: (هلك المتنطعون) ولا ينبغي للإنسان إذا وقت له الشرع شيئاً أن يجاوزه؛ فلما وقت له أن يبقى صائماً إلى مغيب الشمس، فينبغي له إذا غابت الشمس أن يأخذ برخصة الله عز وجل ويفطر.

سنية الفطر على رطب أو تمر أو ماء والحكمة من ذلك

سنية الفطر على رطب أو تمر أو ماء والحكمة من ذلك قال رحمه الله: [على رطب، فإن عدم فتمر. فإن عدم فماء] السنة أن يكون الفطر على رطب، والرطب أفضل من التمر، فإذا لم يجد الرطب فالتمر، فإذا لم يجد التمر حسا حسوات من ماء؛ لحديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه كان إذا أفطر أفطر على رطبات، فإن لم يكن أفطر على تمرات، فإن لم يكن حسا حسوات من ماء) صلوات الله وسلامه عليه. وكان بعض العلماء يذكر في الطب النبوي: أن للرطب خاصية طيبة للجسم، وأنه يقابل ما في جوف الإنسان من الشدة والحرارة، ويصلح بذلك البدن ويرتفق به، بخلاف الماء فإنه ينزل نزولاً سريعاً، ويفاجئ به أعضاء الإنسان في جوفه، فيستحبون أن يسبق بالرطب؛ لأن الرطب أقل انسياباً من التمر، والتمر أسرع انسياباً. ثم في التمر فضائل من جهة كونه هضيماً، كما أخبر الله عز وجل: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء:148] فهذا الطلع إذا كان رطباً فهو أفضل وأكمل، فإذا اكتمل استواؤه صار تمراً، ومن المعلوم أن أول ما يكون من ثمرة النخل هو البسر، ويسمى: البلح، وهو الذي يكون عند الإزهاء من اصفرار أو احمرار، فتبقى البلحة على حالها ويضربها اللون، وهذه مرتبة الإزهاء، فبعد أن تزهي تبدأ تستوي قليلاً قليلاً، فيبدأ طرفها الأسفل بالاستواء والنضج، وبعض التمرات تبدأ بالترطيب من أعلاها، وبعضها تبدأ بالترطيب من أوسطها؛ حكمة من الله سبحانه وتعالى، وهذا من أبلغ الآيات التي ترد على الطبيعيين الذين يقولون: هذا من خيرات الطبيعة. وما هذه الطبيعة التي ليست برازقة ولا خالقة؟! فلو كان للطبيعية دور في ذلك لكان الرطب إما أن يستوي من أسفله أو من أعلاه أو من أوسطه، فيتفق على حالة واحدة، فهذا الاختلاف في الألوان والأشكال والخلقة، والاختلاف في الصور، والاختلاف في الترطيب كما في الثمر، يدل على وحدانية الله عز وجل ووجوده؛ لأن هذا يدل على وجود من فرق بين هذه الأحوال، ولذلك جعل الله الاختلاف آية على وحدانيته سبحانه وتعالى. فالمقصود: أن الرطوبة تبدأ من أسفلها، فلو كان في بداية الرطب يكون آخذاً حكم هذه الفضيلة، إذا لم يجد غيره، أما إذا كان بلحاً فلا يستحب؛ لأن البلح ييبس في الحلق، وله أثر يضر بالإنسان؛ لكنه إذا كان رطباً فإن لين الاستواء يقابل خشونة ما فيه من البلح فيعتدلا، ويكون نزوله إلى الأمعاء برفق، وهذا يذكره بعض العلماء في الطب النبوي، ثم يأتي بعده التمر؛ لأن التمر ينساب أكثر من الرطب، والشيء إذا جاء برفق للبدن صلح وانتفع به البدن. يقولون: فإذا انساب برفق امتصته الأمعاء، ويكون هذا أكثر وأبلغ في الرفق بالبدن، فجاءت الشريعة بطب الأرواح وطب الأبدان، فكان هديه عليه الصلاة والسلام أن يبدأ بالرطب، ثم التمر، ثم الماء، وكرهوا أن يفطر على شيء فيه نار، وفيه حديث تكلم العلماء على سنده، والأطباء يؤكدون أنه لا يستقيم؛ لأن الجوف حار بسبب الصيام، فإذا شرب الحار لا يكون مما يحمد للبدن، وكان بعض الأطباء القدماء يذكرون هذا، وأشار إليه بعض الأئمة -رحمة الله عليه- في شرح حديث أنس رضي الله عنه، وبين السبب في كونه عليه الصلاة والسلام يفطر على هذا الوجه، فلا يستحبون الفطر بما فيه نار أو بالأشياء الحارة؛ لأنه لا يأمن منها الضرر لنفسه.

سنية الدعاء عند الإفطار والحكمة منه

سنية الدعاء عند الإفطار والحكمة منه قال رحمه الله: [وقول ما ورد]. (وقول ما ورد) أي: يسن أن يقول ما ورد: (ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله) وأما الحديث (اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا) فإنه ضعيف، وإنما يدعو الإنسان بما تيسر وليس في ذلك توقيف؛ ولكن الهدي على أنه إذا انتهى الإنسان من العبادة يرجى له القبول؛ وإذا انتهى من الصلاة قبل أن يسلم شرع له الدعاء، قال صلى الله عليه وسلم (ثم ليتخير من المسألة ما شاء) وجعل هذا الموضع موضع مظان الإجابة، كما قال عليه الصلاة والسلام لما سئل عن مواضع الإجابة: (أي الدعاء أسمع؟ قال: أدبار الصلوات المكتوبات) قيل: أدبار الصلوات المكتوبات، يعني: عند آخر الصلاة، فهذا من مواضع الإجابة، وبعد الصلاة الزكاة، ولذلك قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] فإذا أدى الزكاة دعا له النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكلما انتهى من الفريضة وقام بحق الله كأن الله سبحانه وتعالى يرحمه، ويكون ذلك عاجل المكافأة له في الدنيا. وفي الصيام إذا انتهى من صيامه رجي له القبول، وفي الحج تجده إذا انتهى من موقفه بعرفة، وأصبح في يوم العيد الذي هو تمام عشية عرفة، يصلي صلاة الصبح ثم يقف عليه الصلاة والسلام بالمشعر ويدعو. قال بعض السلف: شهدت هذا الموضع ستين عاماً أسأل الله أن لا يجعله آخر العهد به فيردني الله إليه، وإني لأستحيي أن أسأله، فرجع فمات من عامه. وورد مثله عن الثوري رحمه الله. المقصود: أنهم يقولون: إن انتهاء الإنسان من الطاعة والقربة مظنة الإجابة، ولذلك يقولون في الصيام: إذا انتهى من أداء صيامه يدعو وليس فيه توقيت، يعني: ليس هناك لفظ معين يحد به، وإنما يدعو بما تيسر.

استحباب القضاء متتابعا وفائدته

استحباب القضاء متتابعاً وفائدته قال رحمه الله: [ويستحب القضاء متتابعاً]. ويستحب أن يقضي رمضان متتابعاً، وهذا الاستحباب لما فيه من براءة ذمة الإنسان وأدائه لحق الله عز وجل؛ فإنه لا يأمن الموت، ووجه الاستحباب: أنه بادر بأداء حق الله عز وجل: (وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) فكونه يترك التأخير ويبادر بالتقديم، هذا أفضل وأكمل؛ ولذلك قالوا: الاستحباب أن يكون القضاء متتابعاً، وذلك بأن يبدأ بعد انتهاء أيام العيد بقضاء رمضان في اليوم الأول، أما لو أفطر بعده في اليوم الثاني فقد تأخر عن إبراء ذمته، فكان خلاف الأفضل، والأفضل والأكمل أن يبادر، وأن يكون قضاؤه متتابعاً، ولكن ليس بلازم، فلو قضى رمضان متفرقاً أجزأه؛ لأن الله قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] وبالإجماع على أن المراد بها أي أيام، ما دام أنها تصح للقضاء، فيستوي في ذلك أن تقع مرتبة أو تقع مع وجود الفاصل بالفطر. لكن هنا مسألة، وهي: أن البعض ربما يؤخر قضاء رمضان إلى أوقات يكون القضاء فيها أخف، كأن يؤخر إلى أيام الشتاء حيث يطول ليلها ويقصر نهارها، ويكون تأذيه بضرر الصيام والعطش أقل وأخف. قالوا: يفوته الأفضل والأكمل.

حكم من أخر قضاء رمضان إلى رمضان آخر من غير عذر

حكم من أخر قضاء رمضان إلى رمضان آخر من غير عذر قال رحمه الله: [ولا يجوز إلى رمضان آخر من غير عذر، فإن فعل فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم]. ولا يجوز أن يؤخر قضاء رمضان إلى دخول رمضان آخر من غير أن يوجد له عذر، أما لو وجد له عذر فإنه يجوز له ذلك. توضيح هذا: أن قضاء رمضان إذا أفطر الإنسان يوماً أو يومين أو أكثر لعذر فإنما نقول له: أنت بالخيار أن تقضي متى ما شئت، بشرط أن لا يدخل عليك رمضان الثاني وأنت لم تصم. وما الدليل على ذلك؟ حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح قالت: (إن كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني). فكانت تؤخر قضاء رمضان إلى شعبان، وهذا يدل على أن القضاء موسع، ولذلك يذكر العلماء هذه المسألة مثالاً على الواجب الموسع، ودل على هذا القرآن في قوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] لكن إطلاق القرآن يقيد بما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بما ذكرناه؛ وذلك بأن لا يدخل رمضان آخر. فإذا دخل رمضان آخر ولم يصم نظرنا، نقول له: أنت بالخيار في صيامك إن شئت أن تصوم من الشهر الأول أو الثاني أو الثالث؛ لكن إذا دخل شعبان فحينئذٍ ننظر فيه، إن بقي من شعبان قدر الأيام التي عليك من رمضان الأول وجب عليك الصيام، فلو كانت عليه عشرة أيام فإنه يجب عليه أن يصوم من اليوم العشرين؛ لأن يوم الثلاثين يحتمل أن يكون من رمضان، ويحتمل أن يكون من شعبان، وحينئذٍ يصوم يوم عشرين والواحد والعشرين ثم ما بعده حتى يتم العدة. وأما إذا كان عليه مثلاً خمسة أيام فنقول له حينئذٍ: صم من الرابع والعشرين، فيصوم اليوم الرابع والعشرين والخامس والعشرين والسادس والعشرين، حتى لا يصل إلى يوم الشك، لاحتمال أن يكون من رمضان؛ فإذا بقي على قدر الأيام التي عليه من شعبان تعين عليه الصوم، وهذا يمثل له العلماء فيقولون: الواجب الموسع يصير مضيقاً في آخره إذا بقي على قدر فعله. كالصلاة إذا دخل وقتها فإن الإنسان إذا لم يكن ملزماً بالجماعة، كأن يكون في سفر أو نحوه، فله أن يؤخرها إلى آخر وقتها ولا حرج، فحينئذٍ إذا بقي على قدر فعلها تعينت عليه، وانتقل الواجب الموسع إلى الواجب المضيق. فإذا بقي من شعبان على قدر الأيام التي عليه فلا يخلو من حالتين: إما أن يقول: لا أريد أن أصوم -نسأل الله السلامة والعافية- ويترك الصيام مع القدرة عليه؛ فهو آثم شرعاً، وسيأتي بيان الحكم. وأما الحالة الثانية: وهي أن يكون معذوراً كالمرأة الحائض يصيبها الحيض، أو تصير نفساء في هذه الفترة؛ فإذا كان معذوراً فحينئذٍ ينتقل قضاؤه إلى ما بعد رمضان الثاني بدون أن نطالبه، ولا إثم عليه. فمن سألك وقال: لم أستطع قضاء رمضان الأول حتى دخل رمضان الثاني، تقول: هناك تفصيل في مسألتك: إن كنت قد قصرت عند بقاء المدة التي عليك من رمضان الأول قبل رمضان الثاني فحينئذٍ أنت آثم شرعاً. وهل عليه الكفارة أو لا؟ فيه قولان: الجمهور على أنه يكفر، فيطعم عن كل يوم ربع صاع، وإذا كان عليه أربعة أيام يطعم صاعاً كاملاً، فكل مسكين يعطيه ربع صاع. وقال بعض العلماء: لا يجب عليه إلا القضاء والاستغفار. وهذا أقوى؛ لأن الحديث الذي دل على الكفارة ضعيف؛ ولكن العمل عند جماهير العلماء على المطالبة بالكفارة، وإذا كفر فهو أفضل حتى يخرج من الخلاف.

حكم من مات وعليه صوم

حكم من مات وعليه صوم قوله: [وإن مات وعليه صوم] إن مات المكلف وفي ذمته صوم واجب عليه، كصوم رمضان أو صوم نذر، فإنه يصوم عنه وليه؛ لما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه). فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الولي أن يحل محل مُوْليه إذا مات ذلك المولي ولم يصم، وهذا أصل عند جمع من العلماء رحمهم الله، إلا أن بعض أهل العلم فرّق بين صوم رمضان وصوم النذر، ورأوا أن الحديث خاص بصوم النذر. ولكن الصحيح: أن الحكم عام في كل صيام مفروض؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن صوم النذر نبه به على سائر الصيام المفروض. وثانياً: لأن القاعدة تقول: (إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) فكون السؤال ورد على النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام النذر لا يقتضي تخصيص الحكم به، إذ كانت العلة في النذر وغيره واحدة؛ والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في صيام النذر بالقضاء بعد الموت، وذلك لكون النذر ديناً كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (أرأيتِ لو كان على أمك دين) فدل هذا على أنه لا فرق بين صوم النذر وغيره، والمهم أن يكون الصوم واجباً على الميت، فيشمل صوم رمضان وصوم النذر. ويستوي في هذا الولي أن يكون ذكراً أو أنثى، ويستوي في الميت أن يكون ذكراً أو أنثى، فالرجل يقضي عن المرأة والمرأة تقضي عن الرجل، فالابن الذكر يقضي عن والدته، وكذلك البنت الأنثى تقضي عن والدتها؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) والمراد بذلك: جنس الولي.

حكم من مات وعليه حج

حكم من مات وعليه حج قال رحمه الله: [أو حج]. أي: من مات وعليه حج، سواء كان حج فرض كأن يموت ولم يحج، ومن مات ولم يحج فعلى حالتين: الحالة الأولى: أن يكون مستطيعاً الحج وفرّط في ذلك حتى مات، فحينئذٍ يجب أن يُخْرَج من ماله على قدر الحج عنه ويحج عنه. والحالة الثانية: أن يموت ولم يجب عليه حج؛ وذلك لأنه لم يتمكن؛ بسبب عجز مالي، ويكون معذوراً حينئذ ولا يجب عليه الحج، ومن ثم قالوا: إنه لا يجب عليه أن يُحج عنه، وهكذا لو كانت امرأة فلا يجب أن يحج عنها بعد الموت، فيستوي الرجال والنساء، المقصود أنه لا يؤمر الولي بالحج عن مُوليه إلا إذا وجب الحج على ذلك المُولي. وأما إذا كان الحج غير واجب عليه فلا يجب على ورثته؛ لأن القاعدة تقول: (إن البدل يأخذ حكم المبدل عنه) فالولي بدل عن الأصيل الذي هو الميت، فإذا لم يجب الحج على الميت، فمن باب أولى أن لا يجب قضاؤه على ورثته، وعلى هذا فإنه إذا وجب الحج على ميت ولم يحج وفرّط حَجّ عنه وليه. وهكذا إذا كان الحج واجباً بالنذر، كأن يكون حَجّ حجة الإسلام ثم قال: لله عليَّ أن أحج وَأَطْلَقَ ثم مات فيبقى النذر في ذمته على القول ببقائه بعد الموت، وإن كان بعض العلماء يسقطه؛ لأنه قد صار في عداد ما لا يملكه، ويسقط عنه كما يسقط النذر إذا لم يكن في ملك الإنسان. ففي هذه الحالة إذا لزمه الحج يُحج عنه إذا قصر وفرَّط فيه، ويؤخذ من ماله على قدر ما يحج به الغير عنه. وللعلماء تفصيل في مسألة المفرّط في الحج: فإذا كان الذي فرط في الحج وهو الميت قد وجب عليه الحج من ميقات بعيد، فإن وليه ومن يريد أن يحج عنه ينبغي عليه أن يحرم بالحج من هذا الميقات البعيد، فمثاله: لو أنه فرط في الحج وهو من أهل المدينة وقصر في ذلك، ومات ولم يحج، فإن وليه إذا أراد أن يحج عنه وكان من أهل الطائف، أو من أهل الرياض مثلاً، فإن ميقات أهل الطائف والرياض أقرب من ميقات المدينة، فحينئذٍ يلزمه أن يحرم من ميقات المدينة؛ لأن الحج وجب على الأصل من المدينة من ميقات الأبعد، فلا يحج من هو مُبْدَل عنه مما هو دون الميقات الأبعد الواجب.

حكم من مات وعليه اعتكاف

حكم من مات وعليه اعتكاف قوله: [أو اعتكاف]. أو كان عليه اعتكاف، كأن نذر أن يعتكف، قالوا: استحب لوليه أن يعتكف عنه، وهذا مبني على العبادات البدنية التي يدخلها التناوب، وأما إذا كانت العبادة بدنية لا تمكن فيها النيابة، فلا ينزل الولي منزلة الميت، كأن يموت وعليه صلاة؛ فإنه بالإجماع لا يقضي الولي الصلاة عن الميت؛ لأنها عبادة بدنية محضة. ورخص في الصوم لورود النص، وقيس الاعتكاف على الصوم ونزل منزلته، وإلا فالأصل أن العبادات البدنية لا ينزل فيها الولي منزلة الميت؛ وإنما جاز ذلك في العبادات البدنية المُشْتَرِكة مع المال، كالحج والصوم لورود النص باستثنائه، وبقي ما عدا ذلك على الأصل الموجب لعدم دخول النيابة فيه.

حكم من مات وعليه صلاة نذر

حكم من مات وعليه صلاة نذر قوله: [أو صلاة نذر]. أو كان عليه صلاة نذر، فللعلماء وجهان في الصلاة عنه: أصحهما أن الصلاة لا تقضى عن الميت، وبعض أهل العلم يفرق بين الصلاة المفروضة في الأصل وبين الصلاة التي فرضها المكلف على نفسه، ووجه ذلك: أنهم يسلِّمون بأن الأصل في العبادات البدنية أنه لا تدخلها النيابة. فلا يصلي حي عن ميت، ولا يصلي حي عن حي، لكن ورد الحديث أن المرأة لما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن وليّها الذي مات وعليه صوم نذر، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تصوم عنه، قالوا: فهذا يدل على أن العبادة البدنية المحضة وهي الصوم تدخلها النيابة إذا كانت نذراً؛ لأن السؤال وقع من المرأة عن النذر، فأبقوا الفريضة على الأصل، ثم قالوا: إن النذر ينزل فيه الولي منزلة مُوليه إذا توفي ولم يفعله. وبناءً على ذلك ألحقوا الصلاة المنذورة، فإذا نذر أن يصلي مائة ركعة أو يصلي عشرين ركعة ونحو ذلك، وتوفي ولم يقم بهذه الصلاة، يقوم وليه بالصلاة عنه، والأول أشبه وأقوى أنه لا تدخل النيابة في مثل هذا.

استحباب الصوم عن الميت من وليه

استحباب الصوم عن الميت من وليه قوله: [استحب لوليه قضاؤه]. استحب لوليه أن ينزل منزلة الميت فيقوم بقضاء ما على الميت، وفي بعض الأحيان لابد من الإفراد في الولي، وفي بعض الأحيان يمكن للأولياء أن يقتسموا ما على ميتهم، فلو كان على ميتهم صوم مائة يوم وهذا الصوم نذره مفرقاً، فإنه في هذه الحالة يمكن أن تفرق المائة على الأولياء، ويصوم هذا عشرة أيام وهذا عشرة أيام حتى يتم العدد. وأما إذا كان الصوم لا يدخله الاشتراك كأن ينذر صيام شهر بعينه، فإنه في هذه الحالة لا يمكن أن يتأتى القيام بهذا النذر إلا من واحد من الأولياء، فحينئذ ينتدب أحدهم ويصوم عن ميته.

الأسئلة

الأسئلة

حكم بلع ما علق بين الأسنان بعد طلوع الفجر

حكم بلع ما علق بين الأسنان بعد طلوع الفجر Q ما كان عالقاً بين الأسنان من أثر السحور فابتلعه الصائم هل يفطر أم لا أثابكم الله؟ A ما كان من فضلات الطعام بين الأسنان مما لا يشق التحرز عنه؛ فإنه إذا خلله وأخرجه -كبقايا اللحم أو بقايا الخبز- وقام وبلعها أو وجد طعمها في حلقه بعد طلوع الفجر الصادق عامداً لذلك؛ فإنه يفطر قولاً واحداً عند العلماء رحمة الله عليهم. وعلى هذا: فإنه يخرج هذه الفضلات ويتفلها، أو يستاك ثم يبصق ما استاكه وما بقي من وضر ذلك الطعام، والله تعالى أعلم.

حكم استخدام معجون الأسنان للصائم

حكم استخدام معجون الأسنان للصائم Q هل نستطيع أن نقيس معجون الأسنان على العلك بحيث نحكم بفطره إذا وجد طعمه في حلقه أثابكم الله؟ A نعم، بالنسبة لمعجون الأسنان إذا وجد طعمه في حلقه أفطر، أما لو استاك بالمعجون ثم تمضمض ونظف فمه حتى ذهبت مادة المعجون فحينئذٍ لا يؤثر؛ لأن الفم من الخارج كما ذكرنا، كما لو استاك بمسواك؛ فإن هذا لا يضر، لكن لو تحلل المعجون ووجد طعمه في حلقه فإنه يعتبر مفطراً، والله تعالى أعلم.

وجوب القضاء على المكرهة دون الكفارة

وجوب القضاء على المكرهة دون الكفارة Q أشكل عليَّ أن المكرهة لا كفارة عليها، وعليها القضاء علماً بأن الطارئ واحد وهو الإكراه، فلم لم نرفع الكل أثابكم الله؟ A بالنسبة للإكراه يسقط عنها ولا كفارة، والسبب في ذلك أن الكفارة بمثابة العقوبة على الجرأة، فإذا كانت مكرهة لم يوجد فيها الجرأة التي من أجلها وجدت الكفارة، أي أننا أسقطنا عن المرأة المكرهة على الجماع الكفارة لكونها لم تتعد حدود الله عز وجل، وحصل منها هذا الشيء وهي كارهة، فحينئذ لا وجه لأن تطالبها بالكفارة حتى تجبر ما في نفسها من الجرأة على حدود الله. لكن في القضاء من باب خطاب الوضع، فحينئذ تطالب بضمان حق الله؛ لأنه من باب حكم الوضع لا من باب حكم التكليف، والله تعالى أعلم.

حكم ماء المضمضة المتبقي في الفم بالنسبة للصائم

حكم ماء المضمضة المتبقي في الفم بالنسبة للصائم Q بعد الوضوء أحسست في فمي ماء المضمضة، ما حكم بلعه أثابكم الله؟ A بالنسبة لماء المضمضة إذا كان موجوداً في الفم، أو بقايا المضمضة موجودة في الفم فيجب إلقاؤها، فإن بلعها فإنه يكون في حكم الشارب. أما إذا كانت بقايا المضمضة، وهي التي تكون مع اللعاب فهذا مما العلماء اغتفره؛ لأنه يشق التحرز عنه، فلو أبقى بعض الماء من المضمضة ثم ازدرده، فإنه يفطر قولاً واحداً عند العلماء، أما لو بقيت بقايا الماء مما هو مع اللعاب ومصاحب للعاب فإن هذا لا يضر. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

باب صوم التطوع [1]

شرح زاد المستقنع - باب صوم التطوع [1] لقد شرع الصيام فرضاً ونفلاً، وما ذلك إلا لعظيم أجره وثوابه، ومما ندب إلى صيامه: صيام الست من شوال، وأيام البيض، والإثنين والخميس، ويوم عرفة، وعاشوراء، وشهر المحرم، وما ذلك إلا ليبقى العبد على صلة دائمة بالله عز وجل عن طريق الصيام، فالصيام يطهر النفس، ويكسر الشهوة، ويحصل التقوى التي هي الغاية والحكمة من مشروعيته.

فضل صيام التطوع

فضل صيام التطوع بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول عليه رحمة الله: [باب صوم التطوع] التطوع: تفعّل من الطاعة، والمراد بذلك زيادة الطاعة والتقرب لله عز وجل بفعل الصوم، وتوضيحه أن الصوم ينقسم إلى قسمين: قسم أوجبه الله عز وجل وفرضه على المكلف، كصيام رمضان، وصيام الكفارات، وصيام النذر، فهذا يلزم المكلف به نفسه فيجب عليه القيام به. وقسم ثانٍ لا يجب على المكلف وهو صيام النافلة. وصيام النافلة: منه ما هو مطلق، كأن يصوم من الأيام ما شاء، ومنه ما هو مقيد، ندب الشرع إليه وحث العباد عليه، وهذا أفضل من النوع الذي قبله. فالمؤلف لما فرغ من بيان أحكام الصيام الواجب، شرع رحمه الله في بيان أحكام الصوم الذي لا يجب على المكلف. يقول العلماء: إن صيام التطوع تجبر به الفريضة، فلو أن إنساناً أخل بصوم الفرض جبر الله نقص صيام الفريضة بصيام النافلة. واستدلوا لذلك: بما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (إن أول ما يحاسب عنه العبد من عمله الصلاة، فإن كان فيها نقص قال الله لملائكته: انظروا هل لعبدي من تطوع). قالوا: فهذا يدل على أن نقص الفرائض يكمل من النوافل والتطوع؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ثم سائر عمله على ذلك) قالوا: فهذا يدل على أن سائر الأعمال يفرق بين فرضها ونفلها، فيكون نفلها مكملاً لفريضتها. وعلى هذا فمن فوائد صيام التطوع من فوائده أن الله يجبر به تقصير العبد في الفرائض، ثم إن صيام التطوع زيادة قربة وامتثال وطاعة لله عز وجل، فتزيد من محبة الله للعبد كما في الحديث الصحيح: (ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه). فالتقرب بالنوافل يزيد من حسنات العبد ويرفع من درجته، ويوجب محبة الله للعبد، وبقدر حرص الإنسان على فعل النوافل والطاعات يكون أقرب لمحبة الله، فأولى الناس بمحبة الله من حافظ على النوافل وأكثر منها. والسبب في ذلك أنه يفعل شيئاً لم يلزمه الله به بل ترك له الخيار، فصدق في طاعته ومحبته لله عز وجل فتطوع، ويشمل ذلك الطاعات البدنية من صلاة وصيام، والنوافل المالية كالصدقات التي ينفقها الإنسان من ماله ونحو ذلك من القرب. كأن المصنف رحمه الله يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بصيام التطوع، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن أفضل الطاعات وأشرفها الصيام؛ والسبب في ذلك أن الصيام يقوم على الإخلاص، والإخلاص هو أحب الأعمال إلى الله عز وجل. حتى قال بعض أصحاب الإمام الشافعي رحمة الله على الجميع: إن الصيام أفضل من الصلاة؛ والسبب في ذلك أن الصلاة ربما دخلها الرياء، كما قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]. ولكن في الصيام قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) ففضلوا الصيام، وقالوا: إنه من أفضل الطاعات فريضة ونافلة، ففي الفرائض هو أفضل من بقية الفرائض، وفي النوافل نافلته أفضل من بقية النوافل. وعلى هذا خرّجوا أن الاستكثار من الصوم أفضل من الاستكثار من بقية النوافل إذا كانت تشغل عنه. والصحيح أن الصلاة أفضل من الصيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)؛ ولأنها عماد الدين؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل -كما في الصحيحين: من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه- (أي: العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها) فالصلاة أفضل من الصيام؛ لكن المراد هنا الإشارة إلى تفضيل صيام التطوع. ولا شك في أن صيام التطوع له فضيلة عظيمة، ومنزلة شريفة كريمة، ولا يحافظ على الصيام لوجه الله عز وجل إلا مؤمن، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من صام يوماً في سبيل الله شديداً حره باعد الله عن وجهه النار سبعين خريفاً) فهذا يدل على فضيلة الطاعة والتقرب لله سبحانه وتعالى بالصيام.

صيام أيام البيض وحقيقتها

صيام أيام البيض وحقيقتها قال رحمه الله: [يسن صيام أيام البيض]. أي: من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام أيام البيض، وأيام البيض هي: اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وقال بعض العلماء: هي الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر، والصحيح الأول. وقد ثبت بذلك حديث أبي ذر الذي رواه الترمذي حسنه غير واحد من الأئمة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بصيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر)، ووُصفت هذه الأيام بكونها أيام بيض؛ لأن السماء تبيضّ من شدة ضياء القمر؛ والسبب في ذلك اكتمال ضوئه، وقال العلماء: إن صيامها سنة ومستحب. وذهب الإمام مالك رحمة الله عليه وطائفة من أصحابه إلى المنع من صيام أيام البيض ومنع تحريها، ولعل الإمام مالكاً رحمه الله لم يبلغه الحديث في ذلك، وإن كان بعض العلماء يرى أن الإمام مالكاً كان يشدد في صيام أيام البيض أول الأمر، ثم لما ثبتت عنده السُّنة خفّف في ذلك، بل روي عنه أنه كان يصومها. وقال بعض أصحابه: إنما منع منها أول الأمر؛ لأنه لم تثبت عنده السُّنة، وهذا عذر للأئمة الذين ربما يؤثر عنهم القول بخلاف السنة؛ لعدم اطلاعهم عليها، كما قرر ذلك الإمام شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه النفيس: رفع الملام، وكذلك صاحب كتاب: الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف بين الأئمة، رحمة الله عليهم. فالصحيح أن صيام أيام البيض قربة ومستحب وأنه ليس بممنوع، وأيام البيض كما قلنا: هي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر. وللعلماء فيها وجهان: الوجه الأول: أن أيام البيض هي الأيام الثلاثة التي ندب إلى صيامها من كل شهر، كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث: أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أوتر قبل أن أنام، وبركعتي الضحى) فقوله: (ثلاثة أيام من كل شهر) الصحيح أنها هي الأيام البيض، وأن أفضل ما يكون من صيام ثلاثة أيام من كل شهر أن تكون الأيام البيض. وقال بعض العلماء: الأيام البيض غير الأيام الثلاث. والصحيح أنها هي الثلاث؛ لحديث أبي ذر رضي الله عنه: (إذا صمت ثلاثاً من كل شهر فصم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر). فهذا حديث صريح في أن الأيام الثلاثة من كل شهر أفضل ما تكون الأيام البيض، وقد جاءت السنة بخلاف تنوعي وليس فيه تضاد في الروايات والأحاديث، فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يصوم الثلاثة أيام من غرة كل شهر، وجاء في رواية أنه كان يصوم السبت والأحد والإثنين إذا وافقت أول الشهر، فإذا كان الشهر الثاني صام الثلاثاء والأربعاء والخميس. قال الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه: لعل الحكمة في ذلك أن يعدل بين الأيام صلوات الله وسلامه عليه، فكان إذا وافق بداية الشهر صام السبت والأحد والإثنين كما جاءت عنه الرواية، وإذا كان الشهر الذي يليه صام الثلاثاء والأربعاء والخميس. وجاءت الرواية أنه كان يصوم الثلاثة الأيام من غرة كل شهر، فيقول بعض العلماء: هذه الثلاث التي هي من كل شهر تنوعت السُّنة بها، فتارة تكون من غرة الشهر، وتارة تكون من أوسط الشهر في الأيام البيض، وتارة تكون من آخر الشهر. والخلاف هنا خلاف تنوع وليس بخلاف تضاد، بأن تحمل على أيام مخصوصة؛ فالصحيح والأقوى أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل جميع ذلك توسعة؛ لأن الناس يختلفون في أحوالهم. قالوا: إنما كانت الغرة؛ لأنها مبادرة بالخير؛ لأن صيام الثلاثة الأيام من كل شهر سنة مستحبة، فالأفضل أن تبادر بها في أول الشهر؛ لأنه مسارعة إلى الخير ومسابقة إلى الطاعة، وذلك مندوب ومرغوب فيه، ويكون صيام الإنسان له على هذا الوجه قربة وطاعة. وأما إذا لم يتيسر لك صيام الغرة، فإنك تصوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، أي: تنتقل إلى منتصف الشهر، فإذا لم يتيسر لك أوله وأوسطه صمت آخره، والأمر في ذلك واسع. وعلى هذا فإن صيام الثلاثة الأيام من كل شهر الأفضل أن تكون الأيام البيض، ولا حرج أن تكون من غرة الشهر لورود السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. وقد ذكر بعض العلماء -كما نبه بعض الأطباء- ومنهم الحكيم الترمذي في كتابه: المنهيات، إلى أن هذه الأيام وهي اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، يكتمل فيها ضياء القمر ويكثر فيها الأرق ويشتد فيها هيجان الدم، فالصوم يخفف من هذا ويكون فيه لطف بالبدن. فجمعت السنة بين خير الدين والدنيا، وعلى هذا ففي صيام الأيام البيض علة أخرى مع كونها قربة لله عز وجل، فإنها تتضمن الرفق بالبدن من هيجان الدم في ليالي البيض عند اكتمال واشتداد الضوء. ومن بعد الخامس عشر ينكسر ضوء القمر، ويكون الأرق أخف من أيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وهذا أمر معروف لمن جرّب ذلك في النوم تحت السماء مباشرة، فإن الأرق في هذه الأيام يشتد ويكون أكثر من غيرها كما لا يخفى.

صيام الإثنين والخميس

صيام الإثنين والخميس قال رحمه الله: [والإثنين والخميس]. أي: ويسن صيام يومي الإثنين والخميس، وهما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله عز وجل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم الإثنين والخميس، وقال -كما في الحديث الصحيح عنه-: (تعرض الأعمال على الله في كل إثنين وخميس). وجاء في الرواية الأخرى: (تفتح أبواب الجنة كل إثنين وخميس فيغفر لكل عبد مسلم لا يشرك بالله شيئاً، إلا اثنين بينهما شحناء، فيقال: أَنْظِرا هذين حتى يصطلحا) وهذا من شؤم القطيعة والعياذ بالله. قال بعض العلماء: يشمل هذا أن تكون القطيعة في حدود الأيام المسموح بها، وهي حدود الثلاثة الأيام، أو تكون قد جاوزت، قالوا: إذا كانت في حدود الثلاثة الأيام أن توافق يوم إثنين، فتكون بينه وبين رجل قطيعة فيقطعه يوماً ويوافق ذلك يوم إثنين، فيمنع من حصول هذا الخير من إصابة الرحمة له، نسأل الله السلامة والعافية. وقد جاءت في السُّنة ثلاثة أدلة تدل على شؤم القطيعة: أولها: حديث أبي داود: (هجر المسلم سنة كسفك دمه)، وقد صححه غير واحد من العلماء رحمة الله عليهم، يقولون: إنه إذا هجر المسلم أخاه سنة كاملة، فإنه تتراكم عليهم الذنوب حتى تصل في جرمها وقدرها جرم من قتل نفساً بدون حق؛ لأنه لا يأمن خلال هذه السنة من الحقد عليه والضغينة عليه، فتجتمع عليه مظالم القلب ومظالم اللسان، فلا يأمن من غيبته ولا يأمن من الوقيعة فيه، مع ما في القطيعة نفسها من إثم. وأما النص الثاني: فحديث ليلة القدر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أراه الله ليلة القدر، فأثناء بيانها له تلاحى رجلان واختصما، ووقعت بينهما الفتنة وهما: أُبي وأبو حدرد الأسلمي رضي الله عنهما في دَيْن لهما، فتخاصما وتشاجرا حتى ارتفعت أصواتهما في المسجد، فشوشا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورُفعت ليلة القدر. قال بعض العلماء: فمن شؤم الخصام والخلاف أن الله رفع هذا الخير العظيم عن الأمة. وأما الأمر الثالث: فهذا الحديث، وهو كونه تعرض الأعمال على الله في كل إثنين وخميس، فلا يغفر للإنسان إذا كان قاطعاً لأخيه. وأما بالنسبة لصيام الإثنين والخميس فمندوب إليه، ومفضّل لمكان عرض الأعمال على الله عز وجل، قال عليه الصلاة والسلام: (فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم) أي: والحال أني صائم. قال بعض العلماء: لأنه إذا عُرِضَ العمل وهو صائم فهو مظنة أن يُرحم العبد، وأن يتجاوز الله عز وجل عن إساءته، وأن يتقبل ما كان من طاعته فيحصل على الخيرين، فإن كان عبداً طائعاً فهو أحرى أن يتقبل الله طاعته، والقبول هو خير ما يطلبه الإنسان من ربه إذا عمل العمل. وأما إن كان مسيئاً فيكون مظنة أن يرحمه الله عز وجل ويغفر له.

أقوال العلماء في صيام الست من شوال والراجح منها

أقوال العلماء في صيام الست من شوال والراجح منها قال رحمه الله: [وست من شوال]. أي: يندب له صيام ست من شوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كمن صام الدهر) والست من شوال يستوي أن تقع مرتبة أو تقع متفرقة، ويجزئه أن يصوم الإثنين والخميس ينوي بها الست من شوال، وينوي بها أن يعرض عمله وهو صائم فيحصل على الفضيلتين؛ لأن المقصود من صيام الإثنين والخميس أن يعرض العمل والعبد صائم، وهذا يقع في حالة نيته عن ست من شوال. وتقع الست من شوال إذا كان الإنسان عليه قضاء من رمضان، فلو أخر قضاء رمضان ولم يصمه وصام ستاً من شوال قبل فإنه يجزئه، ويحصّل هذه الفضيلة والخير؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (من صام رمضان) خرج مخرج الغالب، يعني على الأصل من صيامه، أو يقال: إن قوله: (من صام رمضان) يشمل صيام رمضان بعينه وصيام القضاء. وقال بعض العلماء كما هو مذهب طائفة من الحنابلة والشافعية لا يجزئ أن يصوم الست قبل صيام رمضان؛ وذلك لأنه لم يصم رمضان؛ ولأنه لا يتأتى منه أن يتنفل وعليه فريضة. والصحيح أنه يجزئ أن يصوم ستاً من شوال قبل القضاء؛ لأن قوله: (من صام رمضان) لو أخذ بظاهره لم يدخل النساء في هذه الفضيلة؛ لأن المرأة لابد وأن يأتيها العذر أثناء رمضان، فلابد وأن يكون عليها قضاء. فإذا قيل: إنها إذا صامت بعد انتهاء يوم العيد صامت قضاءها ثم صامت الست، فإنها قد صامت رمضان وحينئذٍ يحصل لها الفضل، نقول: يستوي أن تصوم من شعبان أو تصوم من غيره، ويكون قوله عليه الصلاة والسلام: (من صام رمضان) على غير ظاهره؛ وإنما المراد أن يجمع العدد وهو ست وثلاثون، فإذا كان الإنسان قد صام ستاً وثلاثين، فإنه يستوي أن تكون أيام رمضان أصلاً أو قضاءً، ثم يصوم ستاً من شوال فحينئذٍ يكون محصلاً لهذه الفضيلة سواء سبق القضاء أو تأخر. ومن الأدلة على ذلك: أنه لو قيل بأنه لابد من تقدم القضاء، فإن المرأة النفساء يأتيها النفاس ويستمر معها شهر رمضان كله، وقد يستمر معها خمسة وعشرين يوماً مثلاً، فكيف ستصوم ستاً من شوال؟ لا يتأتى لها بحال أن تصيب هذا الفضل، فعلمنا أن المراد من ذلك إنما هو المبادرة بالخير بصيام رمضان أصلاً أو قضاءً، ويستوي في ذلك أن يكون قضاؤه من شوال أو يكون قضاؤه من غير شوال. أما كونه يتنفل وعليه فرض فهذا لا إشكال فيه؛ لأن الفرض إذا كان موسعاً فإنه لا حرج أن يتنفل صاحبه، بدليل ما لو أذن أذان الظهر فإنه يجوز للمسلم أن يصلي الراتبة القبلية مع أنه مخاطب بالفرض، لأن الوقت واسع، وقضاء رمضان وقته واسع كما ثبتت بذلك السُّنة الصحيحة في حديث أم المؤمنين عائشة: (إن كان يكون عليّ الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني) والإجماع على هذا. وبناءً على ذلك فلا حرج أن يصوم القضاء بعد صيام الست، وحديث عائشة: (إن كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان) يدل دلالة واضحة على أنها كانت تتنفل قبل الفريضة، ولذلك كانت تصوم الست؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يندب إليها، والغالب أنها كانت تصوم، وثبت عنها في الرواية أنها صامت يوم عرفة. وعلى هذا فإن الصحيح والأقوى أنه يجوز أن يؤخر القضاء إلى ما بعد الست، لكن الأفضل والأكمل للإنسان أن يقدم قضاء رمضان ثم يصوم الست من بعد ذلك، وهذا أكمل من عدة وجوه، فضلاً عن كونه خروجاً من الخلاف، فإنه أفضل لما فيه من المعاجلة والمبادرة بإبراء الذمة، وذلك مندوب إليه شرعاً. فصيام ست من شوال مندوب إليه، خلافاً للمالكية الذين يشددون في صيام ست من شوال، وأُثر عن الإمام مالك أنه كره صيام الست من شوال. وللعلماء خلاف في سبب كراهية الإمام مالك لصيام الست، فقيل: إن الناس كانوا بمجرد فطرهم بعد يوم العيد يبتدئون صيام الست كما يفعله البعض الآن، فأصبح الناس في أيام العيد يضيقون على أنفسهم مع أنها أيام عيد، ولذلك كره هذه المبادرة والمعاجلة بصيام الست بمجرد انتهاء يوم العيد. وقال بعضهم: إنما كره متابعتها بعد العيد؛ حتى لا يُظن أنها من رمضان، فيأتي زمان يعتقد الناس أنها كالفرض والواجب، فكان من باب سد الذرائع، ومن أصول مالك رحمة الله عليه التي بنى عليه مذهبه: القول بسد الذرائع، فكان يقول: بالمنع من الصيام على هذا الوجه سداً للذريعة. وقيل: إنه كان يكره تتابعها، وهي أن يصومها ستاً سرداً وراء بعضها؛ حتى لا يعتقد أن ذلك فرض، والصحيح أنه يُشرع أن يصوم ستاً من شوال سواء أوقعها متتابعة أو أوقعها بعد يوم العيد، أو فرقها؛ لأن السنة أطلقت، لكن الأفضل الذي تطمئن إليه النفس، أن الإنسان يترك أيام العيد للفرح والسرور. ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أيام منى: (إنها أيام أكل وشرب)، كما جاء في حديث عبد الله بن حذافة: (فلا تصوموها)، فإذا كانت أيام منى الثلاثة لقربها من يوم العيد أخذت هذا الحكم، فإن أيام الفطر لا تبعد فهي قريبة. ولذلك تجد الناس يتضايقون إذا زارهم الإنسان في أيام العيد فعرضوا عليه ضيافتهم، وأحبوا أن يصيب من طعامهم فقال: إني صائم، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما دعاه الأنصاري لإصابة طعامه ومعه بعض أصحابه، فقام فتنحى عن القوم وقال: إني صائم، أي: نافلة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أخاك قد تكلّف لك فأفطر وصم غيره). فحينما يدخل الضيف في أيام العيد، خاصة في اليوم الثاني والثالث، فإن الإنسان يأنس ويرتاح إذا رأى ضيفه يصيب من ضيافته، كونه يبادر مباشرة في اليوم الثاني والثالث بالصيام لا يخلو من نظر، فالأفضل والأكمل أن يطيب الإنسان يطيّب خواطر الناس، وقد تقع في هذا اليوم الثاني والثالث بعض الولائم، وقد يكون صاحب الوليمة له حق على الإنسان كأعمامه وأخواله، وقد يكون هناك ضيف عليهم فيحبون أن يكون الإنسان موجوداً يشاركهم في ضيافتهم، فمثل هذه الأمور من مراعاة صلة الرحم وإدخال السرور على القرابة لا شك أن فيها فضيلة أفضل من النافلة. والقاعدة تقول: (أنه إذا تعارضت الفضيلتان المتساويتان وكانت إحداهما يمكن تداركها في وقت غير الوقت الذي تزاحم فيه الأخرى، أُخرت التي يمكن تداركها)، -فضلاً عن أن صلة الرحم لاشك أنها من أفضل القربات فصيام ست من شوال وسّع الشرع فيه على العباد، وجعله مطلقاً من شوال كله، فأي يوم من شوال يجزئ ما عدا يوم العيد. بناءً على ذلك فلا وجه لأن يضيق الإنسان على نفسه في صلة رحمه، وإدخال السرور على قرابته ومن يزورهم في يوم العيد، فيؤخر هذه الست إلى ما بعد الأيام القريبة من العيد؛ لأن الناس تحتاجها لإدخال السرور وإكرام الضيف، ولا شك أن مراعاة ذلك لا يخلو الإنسان فيه من حصول الأجر، الذي قد يفوق بعض الطاعات كما لا يخفى.

فضل صيام شهر الله المحرم بعد رمضان

فضل صيام شهر الله المحرم بعد رمضان قال المصنف: [وشهر المحرم]. أي: لأن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إلى صيامه، وهو أول الشهور من السنة القمرية وهو شهر الله المحرم؛ والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن أفضل الصوم بعد شهر رمضان صوم شهر الله المحرم. والأفضل أن يستكثر من الصيام من شهر محرم، وأفضله يوم عاشوراء كما سينبه عليه المصنف رحمة الله عليه. قال العلماء: إن هذا الشهر اختص بفضيلة، ولذلك يحرص الإنسان على صيامه وهو من الأشهر الحرم، والأشهر الحرم ثلاثة منها سرد، وهي: ذو القعدة وذو الحجة وشهر الله المحرم، وواحد فرد وهو رجب كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم حجة الوداع.

الأقوال في صيام يوم عاشوراء والراجح منها

الأقوال في صيام يوم عاشوراء والراجح منها قال رحمه الله: [وآكده العاشر ثم التاسع] أي: وآكد صيام شهر الله المحرم أن يصوم اليوم العاشر، وهو يوم عاشوراء، وهو اليوم الذي نجى الله فيه موسى من فرعون، كما ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجد اليهود تصوم يوم عاشوراء، فسأل عن ذلك؟ فقالوا: إنه يوم نجى الله فيه موسى من فرعون، فقال صلى الله عليه وسلم: نحن أولى بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه). وللعلماء في عاشوراء قولان: منهم من يقول: إن يوم عاشوراء كان فريضة في أول الأمر ثم نُسخ برمضان. ومنهم من يقول: لم يكن فريضة وإنما كان سنة ولم يجب. والصحيح أنه كان فريضة ثم نسخت فرضيته برمضان وأصبح مستحباً. والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة قال: (هذا يوم كتب الله عليكم صيامه، فمن أصبح منكم صائماً فليتم صومه، ومن أصبح منكم مفطراً فليمسك بقية يومه) فهذا حديث صريح في الدلالة على أنه كان فريضة. وهذا في السنة الأولى من الهجرة، وفي السنة الثانية نزلت فرضية شهر رمضان فنسخت فرضية صيام عاشوراء، وبقي صوم يوم عاشوراء على الندب والاستحباب لا على الحتم والإيجاب، وصيام عاشوراء من شكر الله عز وجل على نعمته، فصامه عليه الصلاة والسلام شكراً لله عز وجل؛ لأن الله عز وجل دمغ فيه الباطل ونصر فيه الحق، وأظهر فيه أولياءه وكبت فيه أعداءه، فهو شكر لله عز وجل على عظيم نعمته وجزيل منته. والمسلم يفرح بما يصيب إخوانه المسلمون من الخير والنعمة، وتصيبه الغبطة بذلك، وهذا يدل على أن الأنبياء كانوا كالأمة الواحدة، وأن فرحه عليه الصلاة والسلام إنما هو تبع لفرح نبي الله وكَليِمه موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام. ثم لما صام عاشوراء بعد ذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع) أي: لأصومن التاسع مع العاشر؛ لأن الأصل بقاء العاشر، ولم ينص على رفع العاشر فقال: (لأصومن التاسع) بلفظ محتمل أن يصوم التاسع وحده أو يصوم التاسع والعاشر، فبقي ما كان على ما كان. فلما كانت النصوص تنص على العاشر، وتبين فضيلته وأن صومه يكفّر السنة الماضية كما جاء الخبر بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم بقي العاشر كما هو، فصار قوله: (لأصومن التاسع) أي: لأصومن التاسع مع العاشر مخالفة لليهود. وذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان في أول الأمر يحب موافقة أهل الكتاب خاصة حينما كان بمكة؛ لأن أهل الكتاب كانوا أهل دين سماوي، وكان المشركون على الوثنية، فكان يحب موافقة أهل الكتاب لإغاظة أهل الشرك والوثنية. فلما انتقل إلى المدينة كان اليهود يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزعمون أنه يأخذ من دينهم، فأصبحت الموافقة هنا محظورة، وقصد عليه الصلاة والسلام مخالفتهم، ومن ذلك قوله: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع) أي: لأصومن التاسع والعاشر مخالفة لليهود.

استحباب صيام التسع الأول من ذي الحجة

استحباب صيام التسع الأول من ذي الحجة قال رحمه الله: [وتسع من ذي الحجة]. أي: ويندب صيام التسعة الأيام، وهي اليوم الأول والثاني والثالث والرابع والخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع من أول شهر ذي الحجة. وأما اليوم العاشر فهو يوم عيد النحر، ولا يجوز صومه بالإجماع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يومين: يوم عيد الفطر، ويوم عيد الأضحى، وهما يوم ضيافة من الله سبحانه وتعالى وكرامة، ولذلك لا يصومهما المؤمن؛ ويجب الفطر فيهما حتى ولو كان الإنسان يصوم صيام كفارة، ككفارة القتل، فلو صام صيام كفارة القتل فابتدأ صيامه بشهر ذي القعدة وأتم شهر ذي القعدة، ثم شرع في شهر ذي الحجة، فإنه إذا كان يوم النحر وهو يوم العيد وجب عليه الفطر، ولا يقطع ذلك تتابع صيامه، فيصوم التسعة الأيام الأول من شهر ذي الحجة، وما ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من النفي لا يقتضي عدم السنية للصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله عز وجل من عشر ذي الحجة، قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟، قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع بشيء من ذلك). فدل هذا الحديث على فضيلة العمل الصالح المطلق في العشر، ولم يفرق صلوات الله وسلامه عليه بين الصوم ولا غيره، والأصل أن العام يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه، وما ورد عن أم المؤمنين من نفي صومه عليه الصلاة والسلام للعشر من ذي الحجة فهذا مبلغ علمها. وأياً ما كان فلا يبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم يترك صيام الشيء مع سنيته وفضيلته، ألا تُراه عليه الصلاة والسلام فضل صيام نبي الله داود ولم يكن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فندب إلى ذلك بالقول، فنقول: صيام تسع من ذي الحجة مندوب إليه بالقول ولا يفتقر إلى دلالة الفعل، فنفي وجود الصوم منه عليه الصلاة والسلام لتسع ذي الحجة لا تقتضي عدم الوجود، فهو مبلغ علم. ولأنه عليه الصلاة والسلام إن لم يكن يصمها فقد دل على فضيلة صيامها بالقول، فلم يفتقر ذلك إلى وقوع الفعل منه، ومثله صيام يوم وإفطار يوم، حيث ندب إليه وفضله وجعله من أفضل الصيام وأحبه إلى الله عز وجل، وهو صيام نبي الله داود، ومع ذلك لم يكن يفعل ذلك عليه الصلاة والسلام. ولأنه عليه الصلاة والسلام كان يحب أن يفعل العمل ويتركه خشية أن يفترض على الأمة، كما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وعلى هذا فإنه لا يكره صيام تسع من ذي الحجة، بل من الأفضل صيامها، فإذا كان يوم النحر فإنه يجب فطره ولا يجوز صومه.

فضيلة صيام يوم عرفة لغير الحاج

فضيلة صيام يوم عرفة لغير الحاج قال رحمه الله: [ويوم عرفة لغير حاج بها]. أي: ويسن صيام يوم عرفة لغير حاج بها. أي: أن فضيلة صيام يوم عرفة ثبتت بها السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن صام يوم عرفة فإنه يكفر السنة الماضية والسنة الباقية قال وفي الحديث: (أحتسب عند الله أن يكفر السنة الماضية والسنة الباقية). ولكن الحاج الأفضل له أن يفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قدح اللبن وهو واقف بعرفة صلوات الله وسلامه عليه، وذلك لما اختصم الصحابة هل هو صائم أو مفطر، فبُعث إليه بقدح من لبن فشربه صلوات الله وسلامه عليه وهو قائم يدعو عشية عرفة. فدل هذا على أن السُّنة والأفضل والأكمل أن لا يصوم، وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها كانت تصوم يوم عرفة، ولكن الأفضل كما روى مالك في الموطأ: (كانت تصوم يوم عرفة حتى إذا ابيض ما بينها وبين الحاج - يعني دفع الناس من عرفة وأفاضوا - دعت بفطورها فأفطرت). ولا شك أن الأفضل والسنة والأكمل للحاج أن لا يصوم يوم عرفة؛ والسبب في ذلك أنه إذا صام يوم عرفة فإنه يضعف عن الدعاء، ويضعف عن الذكر، وتأتي ساعات العشي التي هي أفضل ما في الموقف والإنسان منهك، وقد يشتغل بتهيئة فطوره قبل غروب الشمس، وهذا الوقت وقت دعاء وابتهال ومناجاة لله عز وجل، ولذلك كان التقوي بالفطر أفضل؛ لأنه يحقق المقصود من النسك من إصابة الدعاء ورجاء الإجابة في مثل هذا الموقف. ومن هنا كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم الفطر، قال العلماء: الأفضل أن يحج الإنسان راكباً مع أن الحج ماشياً أكثر مشقة وأكثر تعباً، والأصول تقتضي أنه أعظم أجراً؛ لكنهم قالوا: الأفضل أن يكون راكباً؛ لأنه إذا كان راكباً قوي على العبادة وتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم.

أفضل صوم التطوع صيام يوم وإفطار يوم

أفضل صوم التطوع صيام يوم وإفطار يوم قال رحمه الله: [وأفضله صوم يوم وفطر يوم]. أي: وأفضل صيام التطوع صوم يوم وفطر يوم، وبذلك ثبتت السُّنة الصحيحة كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أحب الصيام إلى الله صيام نبي الله داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) وهذا أقصى ما يكون من صيام النافلة، ولا أفضل من هذا الصيام، أي: لا يشرع أن يصوم الأيام كلها، ولذلك قال: (لا صام من صام الأبد). فلا يجوز صيام الدهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك؛ وإنما يصوم الإنسان يوماً ويفطر يوماً، وهذا يدل على سماحة هذا الدين ويسره، وأنه لا خير في التنطع والتشدد في العبادات. ولذلك لما قال الرجل: أما أنا فأصوم ولا أفطر قال عليه الصلاة والسلام: (هلك المتنطعون) فلا يجوز يسرد المرء الصوم؛ وإنما يصوم يوماً ويفطر يوماً، وهو أقصى ما يؤذن فيه من صيام التطوع؛ لأن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أنه يطيق أكثر من صيام يوم وإفطار يوم قال عليه الصلاة والسلام: (لا أفضل من هذا). فأمره أن يقتصر على هذه الفضيلة التي هي غاية الصوم، وهي أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، ويستوي في ذلك أن يوافق يوم الإثنين أو لا يوافقه، فإذا كان الإنسان يريد أن يصوم يوماً ويفطر يوماً فإنه يتمسك بذلك ويسير عليه، سواء وافق الإثنين والخميس أو خالفهما؛ لأنه يحصل على أعلى المراتب في الصيام. ولذلك يقولون: يغتفر ما دونها من الفضائل، وتصبح مندرجة تحت هذا الصوم تحقيقاً لفضيلة الشرع؛ لأنه لو أدخل الإثنين بأن يكون صائماً يوم الأحد ثم أتبعه بالإثنين فإنه حينئذٍ تفوته فضيلة هي أكمل من صيام الإثنين، لأنه إذا صام الإثنين فكأنه صام الأبد لأنه يعتبر كأنه سرد الصوم. وقال بعض العلماء: يجمع بين الفضيلتين فيصوم يوماً ويفطر يوماً، ويصوم الإثنين والخميس إن لم يوافقهما الصيام، وهذا القول الثاني له وجه، فلو صام يوماً وأفطر يوماً وصام الإثنين والخميس فلا حرج عليه، كما لو لم يوافق صومه يوم عرفة ويوم عاشوراء، فإنهم يقولون: يصوم ذلك اليوم ولا حرج عليه.

إفراد رجب بصوم وغيره

إفراد رجب بصوم وغيره قال رحمه الله: [ويكره إفراد رجب]. كانت العرب تعظم شهر رجب في الجاهلية، فبقيت هذه العادة في الإسلام، فنُهي عن إفراد رجب وتخصيصه بالعبادات، وكان عمر رضي الله عنه وأرضاه يضرب على أيدي المترجبين، أي الذين يفضلون شهر رجب ويخصونه بالصيام ويلزمهم بالفطر، وكان رضي الله عنه شديداً عليهم في ذلك، وحُق له ذلك إحياءً للسُّنة وإماتة للبدعة، فلم يكن عليه الصلاة والسلام يخص شهر رجب بفضائل. وتوسع الناس في ذلك حتى فضلوا هذا الشهر على غيره من الشهور، ولا شك أنه من الأشهر الحرم، ولكن لا يُخص بالعبادات، ولا يخص بالأذكار، ولا يخص بالصلوات، ولا يعتقد في أيامه ولا في لياليه؛ لأنه لم تثبت بذلك نصوص صحيحة لا في الكتاب ولا في السنة. والأحاديث التي وردت في تخصيص شهر رجب بالصيام والقيام والفضائل في منتصفه، وفي ليلة سبع وعشرين، كلها من الأحاديث الضعيفة، بل المكذوبة والموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي لا يجوز لمسلم أن يعتقد نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلاً عن أن يتدين ويتقرب إلى الله عز وجل بها. فلا يجوز له أن يفرد شهر رجب بالصيام، لكن لو صام فيه الإثنين والخميس، وكذلك أيام البيض فلا حرج؛ لأن هذا في رجب وغيره على حدٍ سواء.

إفراد يوم الجمعة بصوم

إفراد يوم الجمعة بصوم قال رحمه الله: [والجمعة]. أي: وكذلك الجمعة لا يجوز إفرادها بصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على أم المؤمنين وهي صائمة سألها: (هل صمت الخميس؟ قالت: لا، قال: وهل تريدين أن تصومي الغد؟ قالت: لا قال: فأفطري) فأمرها بالفطر. وهذا يدل على حرمة تخصيص يوم الجمعة بصيام، لأن هذا يؤدي إلى الغلو فيه. وقال بعض العلماء: بل النهي لأن يوم الجمعة يوم فيه صلاة فإذا صام ضعف عن الصلاة، والأقوى أن العلة هي الاعتقاد في اليوم والمبالغة فيه، بدليل أنه لو كان من أجل الجمعة لكان مشروعاً للنساء؛ لأنه لا جمعة عليهن. وبناءً على ذلك فالذي يقوى ويترجح أن العلة هي الغلو في اليوم، وهو يوم عيد للمسلمين، وهو أفضل أيام الأسبوع كما لا يخفى، وبعض العلماء يقول: إن العلة كونه عيداً والعيد لا يصام، لكن ما ذكرناه من خوف الغلو في هذا اليوم هو الأولى والأحرى. وإذا نذر المسلم صوم يوم من الشهر كالخامس عشر أو الثاني عشر أو الثالث عشر ووافق نذره يوم الجمعة جاز له؛ لأنه فرض، وهكذا إذا صام يوماً قبله وهو يوم الخميس أو يوماً بعده وهو يوم السبت فإنه لا حرج عليه.

إفراد يوم السبت بصوم

إفراد يوم السبت بصوم قال رحمه الله: [والسبت]. أي: وكذلك يحرم أن يخص السبت بصوم؛ وذلك لأن اليهود تعظم هذا اليوم، فإذا صام يوم السبت كان كما لو قصد الجمعة؛ لأنه إذا حُظر علينا أن نصوم يوم الجمعة وهو يوم عيدنا، كذلك يحظر علينا أن نخص يوم السبت بصيام لما فيه من معنى التعظيم كما ذكرنا في الجمعة. لكن لو أن يوم السبت وافق يوماً من الأيام البيض فإنه يشرع صيامه، وهكذا لو صام الجمعة وأحب أن يصوم معها السبت فلا حرج عليه، لأن النصوص صحيحة في الدلالة على ذلك. وأما نهيه عليه الصلاة والسلام في قوله: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) فهو حديث تكلم العلماء على سنده وفيه اضطراب، والعمل عند جمع من أهل العلم على ضعفه لقوة الاضطراب فيه، لكن على القول بتحسينه فإن القاعدة تقول: (إن الحديث الحسن لا يُعارض ما هو أصح منه). والأدلة صحيحة صريحة في صيام يوم عاشوراء ويوم عرفة، وهي ثابتة في الصحيحين، ولا شك أن الحديث الحسن لا يرتقي إلى معارضة الحديث الثابت الصحيح، كما قال بعض الفضلاء في الحديث الحسن: وهو في الحجة كالصحيح ودونه إن صير للترجيح فإذا جئنا ننظر إلى قوله: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) مع أمره عليه الصلاة والسلام بصيام يوم عاشوراء وندبه إلى صيام يوم عرفة، فإننا نرى أن هذه النصوص أقوى وأسعد وأوفق للسُّنة، وأما المبالغة في النهي إلى درجة أن البعض منع بعض الناس في الأعوام الماضية أن يصوم يوم عرفة؛ لأنه وافق السبت؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فهذا ضعيف؛ لأنه تقديم للحديث المختلف في إسناده على الأحاديث التي هي أصح وأثبت. إضافة إلى أن عمل جماهير السلف رحمة الله عليهم من الأمة والعلماء والأجلاء، على أنه لا حرج في صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء ولو وافقت يوم السبت، ولم يمنع ذلك أحدٌ منهم إذا وافقت يوم السبت ولم ينص على المنع منه. إضافة إلى أن السُّنة لم تنص على ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) ومن المعلوم أن صوم عرفة وعاشوراء قد يوافق السبت فقد ندب إلى صيامهما، ولم يقل: إلا أن يوافق السبت، وهو عليه الصلاة والسلام أرعى لحرمات الله. ومذهب بعض المحدثين وأئمة أهل الحديث كـ أبي داود وغيره: أن النهي عن صيام يوم السبت منسوخ، وقد أشار إلى ذلك بعد روايته للحديث.

النهي عن صيام يوم الشك

النهي عن صيام يوم الشك قال رحمه الله: [والشك]. المراد بذلك يوم الشك، وهو اليوم الثلاثين من شعبان؛ لأنه يشك فيه هل هو من رمضان أو ليس من رمضان، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة كحديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين) وفي الحديث الصحيح: (من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم). وأشار المصنف إلى هذه المسألة هنا؛ لأن صيام يوم الشك يكون على سبيل النافلة في حالة تحقق أنه من شعبان.

حكم صيام أعياد الكفار

حكم صيام أعياد الكفار قال رحمه الله: [وعيد الكفار]. أي: ولا يجوز صوم يوم عيد الكفار؛ لأنه تعظيم له، ولا يجوز للمسلم أن يشابه الكفار في تعظيمهم لأيام أعيادهم.

حرمة صوم العيدين فرضا ونفلا

حرمة صوم العيدين فرضاً ونفلاً [ويحرم صوم العيدين ولو في فرض]. أي: ويحرم على المسلم أن يصوم يومي العيد، والمراد بذلك يوم عيد الفطر ويوم عيد الأضحى؛ وذلك لأنهما يوم ضيافة من الله سبحانه وتعالى، فيوم عيد الفطر يفطر الناس فيه من الصوم، ويوم عيد الأضحى فإن المسلم يأكل من أضحيته التي تقرب فيها لله سبحانه وتعالى. ويحرم عليه أن يصوم يوم النحر ويوم الفطر ولو كان في صيام فرض، فلو كان عليه كفارة قتل فصام شهر شعبان كاملاً ثم صام رمضان ثم أراد أن يستتم الشهر الثاني بشوال فإنه يفطر يوم العيد ثم يصوم اليوم الثاني من العيد ويُتابع صيامه بعد ذلك. وعلى هذا فلو نذر وقال: لله علي أن أصوم يوم عيد الفطر أو يوم عيد النحر فإنه لا يصوم اليومين؛ لأنه معصية وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم هذين اليومين.

النهي عن صيام أيام التشريق لغير الحاج المتمتع والقارن

النهي عن صيام أيام التشريق لغير الحاج المتمتع والقارن [وصيام أيام التشريق إلا عن دم متعة وقران]. ولا يصام أيام التشريق كما في حديث عبد الله بن حذافة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن ينادي: (إن أيام منى أيام أكل وشرب) وفي رواية (وبعال) فهي أيام أكل وشرب فلا يصومها الإنسان، إلا الحاج الذي لم يجد دم المتعة ولا دم القران، فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله. فالثلاثة الأيام من الحج يصومها إذا أحرم بحجه في اليوم السادس كأن يصوم اليوم السادس والسابع والثامن، فإذا لم يتيسر له ذلك فإنه يصوم أيام التشريق، ويشمل ذلك اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر.

الأسئلة

الأسئلة

جواز جعل أيام البيض من الست من شوال

جواز جعل أيام البيض من الست من شوال Q علمنا أنه يجوز إدراج الإثنين والخميس تحت ست من شوال، ولكن ماذا عن الأيام البيض أثابكم الله؟ A لو صام الثلاثة الأيام البيض، ونواها عن ست من شوال فإنه يجزيه وحينئذ يحصل الاندراج، وقال بعض العلماء: إنها مقصودة لشهر شوال فلا يحصل الاندراج، لكن الأشبه والأقوى أنه يحصل الاندراج، وهذا آخر ما رجعت إليه في المسألة. والله تعالى أعلم.

حكم القبلة للمعتكف

حكم القبلة للمعتكف Q ما حكم القبلة بالنسبة للمعتكف أثابكم الله؟ A القبلة للمعتكف لا تجوز؛ لأن الله عز وجل قال: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] وهذا أمر يخطئ فيه بعض طلاب العلم، يظن أنه كما جازت القبلة للصائم أنها تجوز للمعتكف، وفي المعتكف شيء ليس في الصائم، ولذلك انعقد الإجماع على أنه لا يقبل المعتكف زوجه؛ لأن في الاعتكاف شغلاً عن الزوجة وغيرها. وقد قال تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] وقد كان عليه الصلاة والسلام يدخل بيته ولم يقبل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وإنما كان يمضي لحاجته فإذا فرغ انطلق إلى مسجده، فالمعتكف لا يجوز له أن يقبل المرأة ولا أن يباشرها، وإذا قبلها قال جمع من العلماء: فسد اعتكافه وبطل. والله تعالى أعلم.

حكم إفطار المؤذن قبل الأذان

حكم إفطار المؤذن قبل الأذان Q هل المؤذن يفطر قبل الأذان أو بعد أن يؤذن أثابكم الله؟ A هذه المسألة في الحقيقة تنبني على التقديم عند ازدحام الفضائل، فالسنة أن يبادر الإنسان بالفطر، فالمؤذن إذا بادر بالفطر فإننا نقول: يأكل التمرة أو يحتسي من الماء ثم يؤذن، فهذا وجه من يقول: يفطر ثم يؤذن؛ لأن ظاهر السنة تعجيل الفطر. هناك وجه ثانٍ: أنه يؤذن ثم يفطر؛ لأنه إذا أذن أصاب الناس السنة وتأخر فرد عن إصابة هذه السنة، فيقولون: الأفضل أن يبادر بالأذان؛ لأنه إذا بادر بالأذان كان تحصيل سنة التعجيل لأمة؛ لكنه لو بادر بالفطر، كان تحصيل هذه السنة لواحد وفرد. وهذا الوجه أقوى، ويعتبره العلماء مستثنى من قاعدة: (لا إيثار في القربات)؛ لأن الأفضل أن الشخص يصيب الفضيلة لنفسه، لكنه حينما يؤذن يحصل أجور من بادر بالفطر فيكون له مثل أجورهم، فحينئذ يزول الإشكال ولا يكون هذا من باب الإيثار في القرب. فالذي تطمئن إليه النفس أنه يبادر بالأذان، ثم بعد ذلك يفطر، لما ذكرناه. والله تعالى أعلم.

حكم من أفطر من النفل إبرارا لمن أقسم عليه

حكم من أفطر من النفل إبراراً لمن أقسم عليه Q إذا أقسم عليَّ إنسان أن آكل معه، وكنت صائماً صيام نفل، هل أبر بقسمه أم أواصل صومي أثابكم الله؟ A لاشك أن برك بالقسم أفضل، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث البراء: (أمرنا بسبع ونهانا عن سبع)، ومن السبع التي أمر بها كما في الصحيحين إبرار المقسم، فإذا أقسم عليك أخوك فإنك تبر قسمه وتنال الأجرين: أجر الصيام بوجود العذر، وأجر إبرار أخيك المسلم في قسمه، إضافة إلى ما تحصله من كسب وده ومحبته، وذلك مندوب ومطلوب شرعاً. والله تعالى أعلم.

حكم صيام من حاضت قبل المغرب بقليل

حكم صيام من حاضت قبل المغرب بقليل Q امرأة حاضت قبيل المغرب بقليل هل تواصل صومها أم تفطر أثابكم الله؟ A إذا حاضت المرأة قبل المغرب بقليل فإنها تفطر؛ وذلك لأن الحائض لا تصوم ولا يصح منها الصوم، وهي مفطرة شاءت أم أبت، وعلى هذا فإنها تعتبر في حكم المفطر ولا تتشبه بالصائم؛ لأنه لا وجه لها أن تتشبه بالصائم، بل الأفضل أن تفطر وتصيب الأجر حيث امتثلت أمر الله عز وجل لها بالفطر. والله تعالى أعلم.

تقديم طاعة الوالدين على صيام النوافل

تقديم طاعة الوالدين على صيام النوافل Q ما الحكم إذا تعارض صيام التطوع مع بر الوالد، وهل يجوز للوالد منع الابن من صيام النفل شفقة عليه أثابكم الله؟ A بر الوالدين من أفضل الطاعات وأجل القربات، وقد تتهم الناس إذا نصحوك أو نهوك عن أمر يريدون الخير لك، لأنك ربما اشتبهت في نصيحتهم، ولكن الوالد والوالدة لا يمكن أن تتهمهما في نصيحتهما، ولا في أي أمر يمنعانك أو يأمرانك به؛ لأنهما جبلا على محبة الخير لك، وخلق الله في قلبيهما من الرحمة والحنان والعطف ما يزيل الشبهة والشك والتهمة. وبناءً على ذلك فإن الوالد قد يمنعك من الصيام شفقة عليك؛ لما يرى من نحول جسمك أو ضعف بدنك، أو خوفاً عليك من أن تمل الطاعة، أو نحو ذلك من المقاصد التي قد يؤجر بحسن نيته فيها. وعلى هذا إذا وجدت من والديك العزيمة على أن تفطر فأفطر، فإنك تصيب البر، وهو آكد من صيامك؛ لأن صيامك نافلة، وتحصيلك لبر والديك فريضة، فقد دلت على ذلك السنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (لما نادت أم جريج العابد جريحاً وهو في الصلاة، فقال: ربي أمي وصلاتي، أي: لست أدري هل أجيب أمي أو أتم صلاتي، فأتم صلاته فدعت عليك. وقد بوب الإمام النووي رحمه الله: باب إذا دعاه والداه أو أحدهما وهو في النافلة قطعها وأجاب، والسبب في ذلك أن بر الوالدين فرض، والنافلة نافلة ليست بعزيمة، وأحب ما تتقرب به الفريضة، وهي مقدمة على النافلة. ولو كان البر نافلة لكان التنفل بالبر أفضل من التنفل بالنوافل الأخرى، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لما سئل عن أحب الأعمال إلى الله قال: الصلاة على وقتها قيل له: ثم أي؟ قال: بر الوالدين) ولم يفرق فيه بين الفريضة والنافلة، وعلى هذا فإنك تجيب والديك، فإن قال الوالد: لا تصم الإثنين والخميس؛ شفقة عليك وخوفاً على صحتك، فإنك تبره وحينئذٍ يكتب لك أجر الصيام لأنه حبسك عذر البر، ويكتب لك أجر البر، وأنت على خير، وكم من إنسان صرف عن طاعة لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى، فما من إنسان يبر والديه في الغالب ما لم يأمر بمعصية إلا كان عاقبته خيراً. والإنسان قد يغلبه حب الخير فيترك الفريضة بالنافلة، ولا شك أن بر الوالدين غالباً ما يأتي بأحسن العواقب وأفضلها، وقد تصرف عن النافلة بخير أعظم من ذلك، وقد يعلم الله عز وجل أنك لو داومت على خير لفتنت به بالعجب أو بالغرور. فذات مرة اتصل بي رجل وهو يريد أن يتزوج بامرأة صالحة، وقال: إن أمه لا ترضى عن هذه المرأة، وإنها تريد امرأة قريبة له ولكنها أقل صلاحاً من هذه المرأة، فقال: نفسي تميل إلى هذه المرأة الصالحة، ولكن الوالدة تلح على ابنة خالتي؛ لأنها بنت أختها، قال: فأجد في نفسي الضيق أن أترك هذه الصالحة وأبر والدتي. فقلت له: فيما يظهر من نصوص الشرع ما دام أن هذه بنت الخالة لا ترتكب الحرام، وأنها محافظة على أصول دينها ولكنها ليست في مرتبة الكمال، فبرك لوالدتك أفضل، فما زال يلح حتى تكرر منه السؤال ثلاث أو أربع مرات، وما زلت أحثه على بر والدته، وشاء الله أن يبر والدته وأن يترك المرأة التي كانت أصلح وعلى خير واستقامة، وانصرف إلى بنت خالته، وتزوجت المرأة الصالحة، ويشاء الله عز وجل بعد عام كامل أن ألتقي به في سفر وإذا به يكب عليَّ يسلم ويبكي، قال: والله يا شيخ! لقد سألتك عن أمر كذا وكذا إن كنت لا تذكره فإني أذكرك به، لقد شاء الله عز وجل أن تتزوج هذه المرأة الصالحة وأن أتزوج بنت خالتي، فوضع الله لي البركة في بنت الخالة، فصلحت واهتدت وحصل منها الخير الكثير، وشاء الله أن المرأة الصالحة أنه بعد زواجها بشهرين أن انتكست والعياذ بالله، وأصبحت من أفسق النساء حتى إنها اتهمت. فالله عز وجل لحكمة يوقفك على شيء تهواه وتحبه، وقد تتحمس لعاطفة الدين وأنت على خير وأنت تريد نية الخير، ولكن الله يقيض لك أماً تدعوك إلى برها ويقيض الله لك والداً يدعوك إلى بره، فقد ترى أن هذه المرأة صالحة، ولكن علم الله أن خاتمتها ليست بحسنة، أو تراها صالحة ولكن علم الله أن ذريتها ليست بصالحة، فيقيض الله لك الوالد أو الوالدة يقفان في وجهك ويصرفانك عما هو أجود، فقد ترى بنت الخالة أو بنت العم أقل صلاحاً، وقد تبتلى في آخر عمرك ببلية وتكون بنت العم أصبر على بليتك، وقد تكون بنت العم التي تراها أقل التزاماً أو أقل طاعة، قد يجعل الله لك منها ذرية ونسلاً صالحاً. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا البر وأن يعيذنا من العقوق، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضى. إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

باب صوم التطوع [2]

شرح زاد المستقنع - باب صوم التطوع [2] الدخول والشروع في الفرض الموسع يحرم قطعه، ويوجب إتمامه، أما إذا كان نفلاً فلا يحرم؛ ولكن الإتمام أفضل. وقد فضل الله شهر رمضان فاختصه بوجوب الصيام، وجعل فيه ليلة القدر التي هي خير ليالي العام، وفضائلها مشهورة، وهذه الليلة كما ينبغي الحرص عليها ينبغي معرفة آدابها وما يستحب من الدعاء والعمل فيها، ومعرفة الليلة التي يرجى أن توافقها.

يحرم قطع الفرض الموسع لمن دخل فيه

يحرم قطع الفرض الموسع لمن دخل فيه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [ومن دخل في فرض موسع حرم قطعه]. بين المصنف رحمه الله بهذه العبارة أن الشروع في الفريضة يمنع من قطعها، وهذا أصل قد دل عليه قوله سبحانه وتعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] ولا شك أن العبادة في الأصل إذا شرع الإنسان فيها فعليه أن يحرص على إتمامها وكمالها، وإذا أحب الله العبد ووفقه للطاعة والخير والبر فمن دلائل حبه له أن يعينه على فعل ذلك الخير، فإذا أراد أن يتمم عليه النعمة ويكملها أعانه على تكميل ذلك الخير. فالشروع في الفرض الموسع يحرم قطعه. والفرض ينقسم إلى قسمين: مضيق، وموسع. فالمضيق: يلزم فعله في وقته الذي ضيق الشرع فيه، ولا يجوز للمكلف أن يؤخره. وأما الموسع: كقضاء رمضان، فإنه يجب عليك أن تقضي ما فاتك من أيام رمضان، إلا أن هذا القضاء لا تطالب به مباشرة بعد انتهاء شهر الصوم؛ فقد وسع الله في قضائه إلى رمضان الآخر، فهو واجب موسع وفرض موسع. وهكذا لو أذن عليك أذان الظهر وأنت في أول الوقت فإنه فرض موسع، أي أنك بالخيار أن تؤخره ما لم يكن ذلك سبباً في تفويت جماعة أو نحوه، إذا كان يجب على الإنسان أن يشهدها. فالمقصود: أن الواجب الموسع ذكره المصنف لكي ينبه على أن الواجب المضيق من باب أولى وأحرى. بناءً على العبارة الأولى، فلو أن إنساناً كان عليه صيام يوم من رمضان، وقضاؤه موسع، فأنت بالخيار أن تصوم مباشرة بعد يوم العيد، وبين أن تؤخر القضاء إلى شعبان، فلو أنك بادرت وصمت هذا اليوم في شوال، فإنك بشروعك فيه لا يجوز لك أن تقطعه ولا أن تفطر فيه.

أقوال العلماء في قطع النفل بعد الشروع فيه

أقوال العلماء في قطع النفل بعد الشروع فيه قال رحمه الله: [ولا يلزم في النفل]. أي: إذا صام الإنسان صوم نفل فهل يلزمه بمجرد شروعه في صوم النفل أن يتمه أو لا يلزمه الإتمام؟ قولان عند العلماء رحمة الله عليهم، وتعرف هذه المسألة عند أهل العلم رحمهم الله بمسألة: الشروع في النوافل، وأوردوا عليها السؤال المشهور: هل الشروع في النوافل يصيّرها فرائض أو لا؟ فذهب طائفة من العلماء إلى أن الشروع في النوافل يصيرها فرائض. وذهب طائفة من العلماء إلى أن الشروع في النوافل لا يصيرها فرائض. ومحل الخلاف: إذا بدأ الإنسان بالنافلة. ومن أمثلة ذلك: لو أن إنساناً أحرم بنافلة في الضحى مثلاً، فإنه لا يجب عليه إتمامها، فلو أنه عرض له العارض فسلَّم منها ومضى، فإنه لا حرج عليه على القول الثاني، وأما على القول الأول فيأثم؛ لأن الشروع فيها ملزم بإتمامها، وهكذا في الصوم، فمن شرع في صوم نافلة كأن يصوم الإثنين والخميس، ثم طرأ عليه ما يوجب فطره من غير عارض لازم، فلم يكن ذلك لمرض أو عذر، فعلى القول بأن الشروع في النوافل يصيرها فرائض لا يجوز له الفطر، ويجب عليه أن يتم صوم ذلك اليوم، وعلى القول بأن الشروع في النوافل لا يصيرها فرائض، فإنه لا يجب عليك الإتمام، فإن شاء أفطر، وإن شاء أتم، وهو الصحيح. والدليل على جواز فطرك في صوم النافلة إذا شرعت فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المتطوع أمير نفسه) فدل هذا الحديث على أن الخيار لمن تطوع، ولكن الأفضل والأكمل للمسلم إذا بدأ خيراً أن لا يقفل بابه على نفسه، ولذلك ينبغي للمسلم دائماً أن يحرص على شكر نعمة الله عليه بالطاعة، فأي عمل خير يفتحه الله عليك من نافلة أو بر فلا تقطعه ما استطعت لإتمامه سبيلاً. وهذه المسألة يقع فيها بعض الأخيار خاصةً، إذا عرضت لهم أمور فيها خير ومصلحة، فتجد الإمام يتقدم بالناس ويؤمهم أو يعظهم ويخطب فيهم، فقلّ أن تجد الشيطان يترك مثل هذا، فيأتيه من باب الخير فيسوّل له ترك هذا العمل، أو الإعراض عنه بحجة الاشتغال بغيره. وهذا لا شك أنه يقفل على نفسه باب الخير، ويحرم نفسه من خير عظيم، وهكذا إذا فتح الله عليك باب خير في دعوة أو بر أو قربة ونحو ذلك مما يحتسب فيه الأجر عند الله، إياك أن تكون سبباً في قفل باب الخير عليك! فلو كنت مشتغلاً بالصدقات وتفريج كربات المسلمين وستر عوراتهم، فجاءك الشيطان وقال لك: اترك هذا، وأقبل على كذا وكذا؛ فانظر رحمك الله في أمرك؛ وارجع إلى العلماء ولا تستعجل؛ لأنه قلّ أن يوفق إنسان لباب خير فيقفله عليه ثم يوفق له ثانية؛ لأنه إذا تسبب في قفل باب الخير على نفسه كأنه أعرض عن نعمة الله، ومن أعرض عن الله أعرض الله عنه. ولذلك تجد الإنسان إذا كان مذبذباً في أموره، وكلما فتح الله عليه باب خير قفله على نفسه، قلّ أن تجده موفقاً، وقلّ أن يصيب الكمالات في أمور الطاعة والبر، فينبغي على الإنسان دائماً إذا وجد أن الله هيأ له باب خير، كالصلاة والصيام وقيام الليل أن لاّ يسعى في قفل هذا الباب على نفسه، فإن حال بينه وبين هذا الخير عذر كمرض أو شغل أو نحو ذلك مما هو آكد، فإنه يندم، ويشتكي إلى الله عز وجل أنه لو كان فارغاً لقام بهذا الخير حتى يجمع الله له بين الحسنيين، ويُبَلِّغه أجر الطاعتين، والله كريم وفضله عظيم، وكلما حسنت نية الإنسان بلغ من الخير الشيء الكثير. فهذه الجملة المقصود منها: أن الإنسان إذا بدأ بالطاعة، فإنه مخير بين أن يتمها، وهذا أفضل بإجماع العلماء، وبين أن يتركها، وهذا دون الكمال، ولا يجب عليه أن يتم؛ لأن الطاعات ليست بواجبة في أصل الشرع إلا شيئاً واحداً استثناه العلماء من النوافل فيجب إتمامه بمجرد الدخول فيه، وهو النسك، والمراد به الحج والعمرة. فمن أحرم بحج نافلة أو أحرم بعمرة نافلة فإنه يجب عليه إتمامهما، ولا يحل إلا بإتمامهما إلا في ما استثنى الله من المحصر وما في حكمه، فلو أن إنساناً أحرم بعمرة نافلة في رمضان مثلاً، ثم جاء فوجد الزحام، فقال: لا أريد أن أتمها، ولبس ثيابه ومضى، فقال: ما دامت نافلة فإني لا أتمها، ورجع إلى أهله، فإنه لا يزال محرماً حتى يتحلل من عمرته، وجميع ما يصيب من محظورات الإحرام فإنه يجب عليه أن يفتدي عنها، ولو مضت على هذه العمرة أيام وأسابيع وشهور، فإنه لا يزال مخاطباً بنص كتاب الله عز وجل بإتمامها، كما في قوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]. وقد أجمع العلماء على أن الحج والعمرة إذا كانا نافلة، أنه يجب على من شرع فيهما أن يتمهما، وعلى هذا: فإن العلماء استثنوا من مسألة الشروع في النوافل الحج والعمرة إذا كانا نافلتين، فيجب على الإنسان أن يتمهما ولا يخرج منهما إلا بالتحلل، أو بالصورة التي أذن الله فيها في مسائل الإحصار، كما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية.

عدم وجوب قضاء الفاسد من النوافل إلا نافلة الحج

عدم وجوب قضاء الفاسد من النوافل إلا نافلة الحج قال رحمه الله: [ولا قضاء فاسده إلا الحج]. أي: ولا يجب عليه قضاء الفاسد من النافلة. فلو أن إنساناً صلى ركعتين وتبين له فسادهما، فإنه لا يجب عليه قضاء الركعتين، وأما الحج والعمرة فإنه يجب عليه قضاء الفاسد. توضيح ذلك: لو أن إنساناً أحرم بالحج أو أحرم بالعمرة وقد نوى النافلة، ثم أفسد ذلك بالجماع، فيقال له: يجب عليك أن تمضي في هذا الفاسد وأن تتمه، ثم تنشئ بعد ذلك عمرة بدلاً عن هذه العمرة، أو حجاً بدل هذا الحج. وهذا هو ظاهر القرآن في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] قال العلماء: وردت الآية الكريمة عامة تأمر بالإتمام للفاسد والصحيح على حد سواء، فيجب عليه أن يتم عمرته الفاسدة ويتم أيضاً حجه الفاسد، وعليه القضاء. وبذلك أفتى عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر في الرجل الذي جامع أهله، وأصله قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال: عليه أن يمضي في حجه حتى يتمه، ثم يأتي بحج من عام قابل ويهدي، ويفترقا. يعني: أنه لا يحج مع امرأته في السنة القادمة عقوبة له، وخوفاً من الوقوع مرة أخرى، من باب تعاطي الأسباب لحفظ الحق لله عز وجل.

طلب ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان

طلب ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان قال رحمه الله: [وترجى ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان] حديث المصنف هنا عن الصوم، ولما بين أحكام الصوم المفروض والصوم النافلة شرع فيما يتبع الصوم من قيام رمضان. وقيام رمضان في الأصل يراد به تحصيل فضيلة الشهر كله، وفضيلة ليلة القدر على وجه الخصوص، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). وقال أيضاً في الصحيح: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). فقوله رحمه الله: (وترجى ليلة القدر في العشر الأواخر): أولاً: ليلة القدر سميت بذلك لعظيم قدرها ومكانتها عند الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك شرفها الله عز وجل فجعل قيامها خيراً من ألف شهر يقومها الإنسان، ولا شك أن هذا يدل دلالة واضحة على أن الله فضلها واختارها من بين الليالي، ولذلك قال الإمام ابن القيم رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68]: إن الله اختار من الليالي ليالي العشر الأواخر، واختار من الليالي العشر ليلة القدر. وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2]: هي ليالي العشر الأواخر من رمضان، أقسم الله عز وجل بها لشرفها وعظيم قدرها ومكانها؛ لاشتمالها على أعظم وأفضل ليلة وهي ليلة القدر. والله سبحانه وتعالى اختار من الناس، واختار من الجماد، واختار من الأزمنة، واختار من الأمكنة ما شاء سبحانه وتعالى، فاختار من أيام الأسبوع يوم الجمعة، واختار من ليالي السنة ليالي العشر، واختار من ليالي العشر ليلة القدر، واختار من الأيام أيام العشر من ذي الحجة، فأيام العشر من ذي الحجة أيام مفضلة، واختار من أيام العشر من ذي الحجة يوم عرفة، فكان اختيار الله عز وجل لجميعها. فإذا نظرت إلى الأيام كانت الأيام العشر من ذي الحجة أفضل، وفضيلتها في النهار آكد، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله عز وجل من عشر ذي الحجة) وخصت ليالي العشر الأواخر من رمضان بفضيلة الليل دون النهار، وهذا الذي دعا بعض العلماء إلى قوله: إن أيام عشر من ذي الحجة أفضل من العشر الأواخر؛ وذلك لأن العشر الأواخر فضيلتها في الليل، وأما عشر من ذي الحجة ففضيلتها عامة شاملة لليل والنهار؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ما من أيام) فشمل ذلك النهار والليل. وأما بالنسبة لليالي: فالفضيلة لليالي العشر، وبها ورد القسم، وأفضل ليالي العشر ليلة القدر بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، وأفضل أيام العشر من ذي الحجة يوم عرفة، وهذا التفضيل لله فيه الحكمة البالغة. والله سبحانه وتعالى فضل ليلة القدر وندب إلى إحيائها، وذلك في كتابه وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قوله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:1 - 3] فوصفها بأنها خَيْرٌ، وقوله: (خَيْرٌ) في لغة العرب بمعنى: أخير، فالعرب تقول: فلان خير من فلان. أي: أخير، وتقول: فلان شر من فلان. أي: أشر، كما في قول أبي طالب يمدح النبي صلى الله عليه وسلم في البائية المشهورة: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّا وَجدْنا مُحَمَّداً نَبِيّاً كَمُوْسَى خطَّ في أَوَّلِ الكُتْبِ وَأن عليه في العباد محَبَّةً وَلاَ خَيْرَ مِمَّنْ خَصَّهُ الله بالحُبِّ أي: ولا أخير ممن خصه الله بالحب، فمعنى قول الله في ليلة القدر: {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] أخير من ألف شهر، وهذا يدل على فضيلتها وعظيم شأنها عند ربها. وقال بعض العلماء: ليلة القدر من التقدير؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقدر فيها الأرزاق والأمور، وهي الليلة التي يكون فيها التقدير من عام إلى عام، والله أعلم بما يكتب فيها من سعادة السعداء ومن شقاء الأشقياء، ولذلك فضلت وَشُرِّفَت بهذا. وقوله: (ترجى ليلة القدر) أخفى الله ليلة القدر؛ وهذا لحكمة منه سبحانه وتعالى، وهذا الخفاء -كما يقول العلماء- لكي يجتهد الناس في الطاعة، فلا يقتصرون على ليلة من بين الليالي، ولا يجعلون طاعتهم مقصورة عليها، فإذا علموا أنها في العشر الأواخر اجتهدوا في العشر الأواخر كلها، وهذا هو مقصود الشرع.

تأكد طلب ليلة القدر في أوتار العشر الأواخر

تأكد طلب ليلة القدر في أوتار العشر الأواخر قال رحمه الله: [وأوتارة آكد] وعلى هذا: فإن الأفضل أن يحرص على قيام ليالي العشر لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف العشر الأواخر من رمضان. وأوتار العشر الأواخر آكد؛ وذلك لنص النبي صلى الله عليه وسلم عليه. وللعلماء في الوتر وجهان: منهم من يقول: الوتر بعدد الشهر، فيبتدئ بالليلة الحادية والعشرين، ثم بعدها ليلة ثلاث وعشرين، ثم ليلة خمس وعشرين، ثم ليلة سبع وعشرين، ثم ليلة تسع وعشرين. وقيل: الوتر لما بقي من الشهر، فيشمل ذلك ليلة الثلاثين، وليلة ثمانٍ وعشرين، وليلة ست وعشرين، وليلة أربع وعشرين، وليلة اثنتين وعشرين؛ وذلك بسبب كون الباقي وتراً إذا نظرت إلى العدد. ومن هنا قال العلماء: إنها تشمل الأوتار والأشفاع لاحتمال النص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في ثالثة تبقى، في خامسة تبقى) والثالثة التي تبقى هي: ليلة ست وعشرين، والخامسة التي تبقى هي: ليلة أربع وعشرين، وقس على هذا، ومن هنا قال العلماء: شمل الأمر بالوتر ما بقي وشمل عدد الشهر، ومن هنا بقيت محتملة للعشر الأواخر كلها. وأقوى الأقوال: أنها تنتقل؛ وذلك لأن النصوص قوية جداً في إثبات ليلة الحادي والعشرين وإثبات ليلة التاسع والعشرين، ولذلك لا يمكن التوفيق بين هذه النصوص إلا بمسألة الانتقال. وهذا قول جمع من السلف رحمة الله عليهم وجمع من الأئمة؛ بأنه لا يمكن الجمع بين هذه النصوص إلا على هذا الوجه، مع أن هناك بعض الأدلة يقوي ليلة خمس وعشرين، وهناك بعض الأدلة يدل على إحدى وعشرين، وهو ثابت في الصحيح، وليلة سبع وعشرين وهو آكدها وأقواها لورود كثير من الأدلة، فدل هذا على وجود مسألة الانتقال. والمسلم يتحرى هذه الليلة ويحرص على قيام العشر الأواخر طلباً لفضيلتها، ولا شك أن الله سبحانه وتعالى يختص بفضله من شاء، وإذا حسنت نية الإنسان وصدق مع الله فإن الله يصدق معه. هذان قولان للعلماء رحمة الله عليهم؛ لأن السُّنة وردت بهما في حديث: (التمسوها في الوتر من العشر الأواخر) وكذلك تفصيله في قوله: (في ثالثة تبقى، في خامسة تبقى) ومن قال: إنها ليلة إحدى وعشرين فقد استدل عليها بحديث المطر (أُريت أني أسجد صبيحتها على الماء والطين) فوكف مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة إحدى وعشرين، وأُري الماء والطين في جبهته صلوات الله وسلامه عليه في مسجده، فهذا يقوي قول من قال: هي ليلة إحدى وعشرين.

القول بأن ليلة القدر في ليلة سبع وعشرين

القول بأن ليلة القدر في ليلة سبع وعشرين قال رحمه الله: [وليلة سبع وعشرين أبلغ]. فإنه قد قال به جمع من السلف رحمهم الله، ويختاره بعض الأئمة كما نبه عليه المصنف رحمه الله عليه. والذي يظهر -والله أعلم- أن القول بانتقالها قول من القوة بمكان، أي: أنها تنتقل خلال العشر، وأن ليالي العشر محتملة؛ ولله في ذلك حكمة بالغة، فلو علم الناس ليلة القدر لأهلك بعضهم بعضاً بالدعاء، ولتسلط السفهاء بمسائل وحوائج الدنيا، ولخمل الناس عن إحياء العشر الأواخر، والعناية بغيرها، فمن حكمة الله سبحانه وتعالى: أنه جعلها مخفية، وقد أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم عليها ثم رفعت. وسبب رفعها: أنه تلاحى رجلان -وهما: أُبي وأبو حدرد الأسلمي رضي الله عنهما- فلما تلاحيا، أي: حصلت بينهما الخصومة داخل المسجد في الدَّين، كشف النبي صلى الله عليه وسلم الستار من قبته التي كان يعتكف فيها، فأمر عليه الصلاة والسلام بالوضع من الدَّين، وأمر المديون أن يقوم بالقضاء، وقال لأصحابه: (أُريت ليلتكم هذه فتلاحى رجلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً ... ) أي: عسى الله أن يجعل الخير في رفعها. ولا شك أنه خير عظيم إذ صرف الله عز وجل الناس إلى الاشتغال بإحياء الليالي العشر، وهذا أعظم في أجورهم؛ والإنسان إذا أحيا ليالي العشر كاملة فلا شك أنه مصيب لليلة القدر، وأنه سينال هذه الفضيلة بلا إشكال؛ لنص النبي صلى الله عليه وسلم على كونها داخل العشر.

دعاء ليلة القدر

دعاء ليلة القدر قال رحمه الله: [ويدعو فيها بما ورد]. أي: ويدعو في ليلة القدر إذا رآها بما ورد؛ والسبب في ذلك: أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (يا رسول الله! أرأيت لو أني رأيت ليلة القدر ما أقول. قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) استدل بعض العلماء بقولها: (رأيت) على أن السُّنة دالة على أن لليلة القدر أمارات وعلامات، وأن الإنسان يتبين بهذه العلامات أن الليلة ليلة القدر؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: (لو أني رأيت ليلة القدر). وتوسع العوام في ذلك وأحدثوا في ذلك بدعاً وأموراً لا أصل لها في الشرع، وذلك في الدلالة على ليالي القدر، والصحيح: أن هذا أمر مسكوت عنه، والله أعلم بالعلامات التي تكون والتي تقع. ولكن من أهل العلم رحمة الله عليهم من قال: إن الله وصف هذه الليلة بنزول الملائكة، والملائكة سكينة، والسكينة تغشى معها الطمأنينة للناس، خاصة في المساجد، قالوا: فالغالب أن الإنسان يجد من انشراح الصدر وطمأنينة القلب ما لا يجده في غيرها من الليالي؛ لأن الملائكة تتنزل، ولا شك أن السكينة إذا تنزلت فإن فيها الثبات وفيها الطمأنينة، ويجد الناس أثر ذلك. فهذه من العلامات التي استؤنس فيها بورود نص القرآن بقوله سبحانه: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ} [القدر:4] لكن ينبغي الوقوف في مثل هذا على مورد النص؛ لأنه هو الأصل.

الأسئلة

الأسئلة

الشروع في النافلة لا يصيرها فريضة

الشروع في النافلة لا يصيرها فريضة Q على القول الراجح بأن الشروع في النوافل لا يصيرها فرائض، فما معنى قول الله عز وجل: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] أثابكم الله؟ A أن ظاهر هذه الآية الكريمة المراد به: ما أوجبه الله وفرضه على عبده، فهذه الأعمال التي فرضها الله سبحانه وتعالى على العبد، لا ينبغي له أن يسعى في إبطالها وإفسادها باختياره. أما بالنسبة للنوافل وبالنسبة وما لم يوجبه الله عليه فإننا نقول: يجوز له أن يقطعه؛ والسبب في ذلك: أنه لو قيل: إن الآية عامة فإننا نقول: هذا العام مخصص؛ لأنك لو قلت: إن الشروع في النافلة يصيرها فريضة؛ أصبحت النافلة التي نص الشرع على كونها نافلة فريضة، والشرع إنما نص على كونها نافلة، ويدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) فدل على أن النافلة ليست بفريضة، إذ لو كانت النافلة فريضة بالشروع للزم إتمامها ولو فاتت الفريضة. فدلت هذه النصوص بمجموعها على أن النافلة نافلة، وأننا لو قلنا: إن الشروع فيها يصيرها فريضة فقد خالفنا أصل الشرع الذي جعلها ليست بلازمة، كما في الصحيحين عندما سئل عليه الصلاة والسلام: (هل علي غيرها؟ قال: لا؛ إلا أن تطوع) فوصفه بكونه متطوعاً من بداية العمل إلى نهايته، فدل على أن النافلة نافلة، وأنها لا تصير فريضة بالشروع. والله تعالى أعلم.

حكم من نذر أن يصوم يوما ثم أراد قطع الصيام

حكم من نذر أن يصوم يوماً ثم أراد قطع الصيام Q من نذر أن يصوم لله يوماً، ثم صام وأراد أن يقطع صومه ويصوم في يوم آخر، فهل له ذلك؟ A من نذر أن يصوم لله يوماً: إن سمّى اليوم وحدده فلا يجوز له أن يفطر قولاً واحداً؛ كأن يقول: لله علي أن أصوم غداً، فحينئذ لا يجوز له أن يفطر قولاً واحداً، لكن إذا قال: لله عليّ أن أصوم يوماً وأطلق، فهذا واجب موسع يصدق على أي يوم، لكنه بمجرد دخوله فيه صار مضيقاً عليه، وحينئذٍ هو فريضة في أصله، وبتحديده لذلك وابتداء الصيام يجب عليه الإتمام. والله تعالى أعلم.

باب الاعتكاف [1]

شرح زاد المستقنع - باب الاعتكاف [1] الاعتكاف سنة مستحبة، ثبت فضله في الكتاب والسنة، وذلك لما فيه من الخير الكثير، ولأنه تجتمع فيه فضائل وخصال حميدة، منها: لزوم المساجد، ومداومة ذكر الله سبحانه، وكثرة الصلاة، وتلاوة القرآن، وغيرها من الفضائل والقرب والطاعات، وأفضل الاعتكاف في العشر الأواخر؛ لأن فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، والمعتكف فيها هدفه إدراك هذه الليلة المباركة. وللاعتكاف شروط وأحكام وآداب يجب مراعاتها حتى تحصل الفائدة من هذه القربة العظيمة.

مشروعية الاعتكاف وفضله

مشروعية الاعتكاف وفضله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [باب الاعتكاف]. الاعتكاف: مأخوذ من قولهم: عكف على الشيء يعكف عكوفاً، إذا لزم ذلك الشيء، سواء كان خيراً أو شراً، كما قال سبحانه: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] أي: عليها عاكفون ملازمون لها، والاعتكاف: هو لزوم المسجد للطاعة والقربى والتقرب لله سبحانه وتعالى، فهو لزوم مخصوص، من شخص مخصوص، في وقت مخصوص. فهذا اللزوم المخصوص المراد به لزوم المساجد، وهذه القربة والطاعة مستحبة، ولها فضيلتها، وأجمع العلماء رحمهم الله على أنها من الطاعات والقرب المستحبة؛ لثبوت فضيلتها في كتاب الله عز وجل، وكذلك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الكتاب فقوله سبحانه: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125]، وهذا يدل على شرف وفضل العكوف والاعتكاف في المسجد. وكذلك أيضاً ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه اعتكف، واعتكف معه أصحابه رضي الله عنهم، فهي من السنن التي يقتدى ويتأسى فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم، واعتكف أزواجه رضي الله عنهن وأرضاهن، وأجمع العلماء على فضيلة الاعتكاف، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضيلة الاعتكاف نصوص صحيحة كما نص على ذلك الأئمة رحمة الله عليهم، ومنهم الإمام أحمد، قال: لا أعلم فيه شيئاً صحيحاً. يعني: في فضيلة الاعتكاف وما يكون فيه من الأجر. إلا أن هناك بعض الأحاديث التي تدل على الفضيلة، وما خلت من كلام وما خلت من مطعن. والاعتكاف: قربة وطاعة شرعها الله عز وجل لعظيم ما يحصل فيها من الخير والبر للإنسان، فالإنسان إذا اعتكف في بيت الله عز وجل لزم طاعة الله سبحانه، ولزم أفضل الطاعات وأشرفها وأحبها إلى الله عز وجل، ألا وهي ذكره عز وجل، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح عنه: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فيضربوا رقابكم وتضربوا رقابهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله) ولو لم يكن في فضل هذه الطاعة إلا قوله سبحانه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] لكفى، فإن الإنسان إذا لزم بيت الله فقد لزم أحب البيوت إلى الله سبحانه كما في الحديث الصحيح: (أحب البلاد إلى الله مساجدها). فهو يلزم أحب البلاد لفعل أحب الطاعات، ولا شك أنه سيصيب من ذلك الخير في دينه ودنياه وآخرته؛ فالإنسان إذا لزم المساجد معتكفاً على الوجه المعتبر، وأدى لهذه العبادة حقها، وقام بها وأقامها على وجهها؛ فإنه أسعد الناس بما يكون فيها من الخير. ولذلك من الناس من اعتكف فخرج من اعتكافه بصيام النهار وقيام الليل، ومنهم من خرج من الاعتكاف بختم كتاب الله عز وجل كل ثلاث ليال، ومنهم من خرج من الاعتكاف بلزوم ذكر الله عز وجل؛ لأنك إذا بَقِيْتَ عشر ليال وأنت في طاعة الله صائم النهار قائم الليل، والناس حولك يذكرون الله سبحانه، ويعينونك على الطاعة والذكر، حتى لو أنك سئمت أو مللت فنظرت إلى غيرك ووجدته مجداً مشمراً في الخير؛ قويت نفسك على الخير، وانبعثت على الطاعة والبر. وهذا يجعلك مستديماً للطاعة، فتمر عليك العشر الليالي وأنت محافظ على ختم كتاب الله كل ثلاث ليال؛ فتجد لذة العبودية لله والأنس بالله عز وجل، ولذة مناجاته وحلاوة دعائه وذكره سبحانه؛ فتخرج منشرح الصدر مطمئن القلب؛ وقد وجدت خيراً كثيراً غفل عنه الغافلون. فإذا كان الإنسان كامل العقل سوي الفطرة ووجد هذه اللذة فإنه لا يفرط فيها، ويقول: الله عز وجل ندبنا إلى الخير في كل زمان ومكان، وندبنا إلى الطاعة في كل زمان ومكان، فيخرج وهو أقوى ما يكون على العبادة، وأقوى ما يكون على الذكر، ولذلك من الناس من يحافظ على ختم القرآن كل ثلاث ليال؛ لأنه اعتاد ذلك في اعتكافه فقويت نفسه على ذلك بعد الاعتكاف. ومن هنا قال العلماء: إن الاعتكاف يعين على الخير، ويقوي النفوس على الطاعة والبر، وهذا هو الاعتكاف الحق الذي يخرج الإنسان منه وهو أقوى ما يكون على طاعة الله وأقرب ما يكون إلى الخير. وَذِكْرُ المصنف لهذا الباب في كتاب الصوم واضح؛ لأن الاعتكاف إنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في شهر الصوم، ولذلك السُّنة في الاعتكاف أن يكون في رمضان؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا بأس بالاعتكاف في غير رمضان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف عشراً من شوال. قال بعض العلماء: في هذا دليل على مشروعية الاعتكاف في رمضان وغير رمضان؛ ولأن الله سبحانه وتعالى قال: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} [البقرة:125] ولم يفرق بين اعتكاف وآخر، فالمعتكف في أي زمان هو على طاعة الله عز وجل وبره، ولا يخص ذلك رمضان على سبيل اللزوم، لكن الأفضل التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، والحرص على الاعتكاف في رمضان ما لم تكن هناك أمور آكد من الاعتكاف: كبر الوالدين، والقيام على الأهل في نفقاتهم، ونحو ذلك من الحقوق الواجبة، فإذا كان عند الإنسان والدان يحتاجان إليه، ويحتاجان إلى بره وقربه فإنه يقدم بر الوالدين على الاعتكاف؛ لأن بر الوالدين فريضة فرضها الله عز وجل وقرنها بتوحيده، وألزم عباده بها، وحثهم وحضهم عليها، وأكد هذا الحث والحض، وأما الاعتكاف فإنه سنة ومندوب إليه، ولا يشتغل بالمندوب على وجه يضيع به الحق الواجب بإجماع العلماء رحمة الله عليهم؛ وإنما يتقرب إلى الله بما فرض، ولذلك لا يعتكف الإنسان إلا بعد أن يكون قائماً بحقوق نفسه، وحقوق أهله، وحقوق الناس، فإذا كان على هذا الوجه فَنِعْمَ الاعتكاف! ثم إنه إذا دخل إلى معتكفه عليه أن يعلم أن هذا الاعتكاف ينبغي أن يتقيد بالضوابط الشرعية، وأن يكون قائماً فيه بالواجبات على أتم وجوهها وأكملها. فأول ما ينبغي على المعتكف: أن تكون نيته وطويته وسريرته خالصة لله سبحانه وتعالى، وأحب ما يكون عنده أن لا تسمع به أذن ولا تراه عين ولا يعلم أحد أنه معتكف؛ وذلك من كمال إخلاصه، وهذا هو الذي دعا بعض السلف لما سئل عن الإخلاص، قال: أن يتمنى العبد أن عمله بينه وبين الله لا يعلم به أحد. وهذا كمال الإخلاص، فتدخل إلى المسجد ولا يشعر أحد بك أنك معتكف على قدر استطاعتك. على خلاف ما يفعله البعض -أصلحهم الله- في هذا الزمان، فتجد الرجل يحدث بالاعتكاف قبل أن يفعله نسأل الله السلامة والعافية! ويقول: إذا كانت العشر الأواخر سنعتكف في مكة أو نعتكف في المدينة أو نحو ذلك. وهذا لا يأمن صاحبه من الغرور، ولا يأمن من الرياء، ولا يأمن من الإدلاء على الله عز وجل بطاعته، بل ينبغي على الإنسان أن يحفظ طاعته، وأن يجعلها خالصة لوجه الله عز وجل، وهذا هو أصل الدين الذي لا يقبل الله ديناً سواه. فإن الإنسان إذا راءى راءى الله به، وإذا سمّع سمّع الله به كما قال صلى الله عليه وسلم: (من راءى راءى الله به، ومن سمّع سمّع الله به) فإذا كان الإنسان يخرج إلى معتكفه وهو يريد وجه الله، فإنه ينال أجره حتى يعود إلى بيته؛ لأنه خرج في حسبة وطاعة وقربة لله عز وجل، فخطواته مكتوبة وأوقاته مكتوبة، حتى نومه في المسجد يكون عبادة له؛ لأنه قد اعتكف ولزم المسجد في طاعة الله سبحانه وتعالى، وهذا لا شك أنه مقرون بإخلاص النية لله عز وجل، وكلما خلصت نية الإنسان نال من التوفيق في الاعتكاف بقدرها. ولذلك تجد البعض من الأخيار إذا دخل الاعتكاف وقد حدث الناس باعتكافه، أو دخل وفي نيته أن يجلس مع زيد وعمرو، وأن يؤانس الأصحاب والأحباب ونحو ذلك؛ وجدته ينصرف كثيراً عن ذكر الله عز وجل، ولا يوفق إلا إلى النزر القليل من الخشوع والإنابة إلى الله عز وجل، ولا شك أن هذا كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] فمن كانت نيته خالصة لله، ثم غيرها فجعلها للأنس بالناس، ولإضاعة الأوقات بالجلوس مع زيد وعمرو؛ فإن الله يغير ما به من حلاوة طاعته ولذة مناجاته. وإذا علم المعتكف أنه سيأنس بالناس، فليعلم أن الأنس بالله أعظم من الأنس بالناس، وإذا كان جلوس الإنسان مع زيد وعمرو يدخل السرور عليه، فإن الصلاة وإحياء الوقت بذكر الله أعظم سروراً وأنساً وبهجة وطمأنينة في قلب من فعل ذلك، فليحرص الإنسان على أن يقوم بهذه العبادة على وجهها. كذلك أيضاً ينبغي عليه أن يحفظ هذه العبادة من العوارض التي تصرفه عن ذكر الله عز وجل، فلا ينبغي له أن يكون خاملاً مكثراً من النوم، ومكثراً من رغبات النفس التي تريدها، ومن شهواتها الكثيرة من مأكل ومشرب ونحو ذلك، بل عليه أن يحمل نفسه على العزيمة، وأن يقويها على الطاعة، وأن يعد أيامه التي يعتكفها، ويقول: يا نفس! -كأنه يناجي نفسه- كم نمت؟ وكم ارتحت؟ وكم استجميت؟ فاجعلي هذه الأيام من السنة في طاعة الله عز وجل خالصة لوجهه. والاعتكاف له شروط وله واجبات ينبغي توفرها، وسينبه المصنف رحمه الله على جميع هذه الشروط والواجبات، إلا أن المنبغي على الإنسان أن يحرص في اعتكافه على السؤال عن السُّنة وتحري هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.

حقيقة الاعتكاف ومحل وقوعه

حقيقة الاعتكاف ومحل وقوعه قال المصنف رحمه الله: [وهو لزوم مسجد لطاعة الله تعالى] الضمير (وهو) عائد للاعتكاف؛ كأنه يقول رحمه الله: حقيقة الاعتكاف عندنا معشر الفقهاء والعلماء لزوم المسجد. هذا المسجد مفهومه: المسجد مَفْعِل من السجود، والمراد بذلك المسجد المعهود، وليس المراد به كل موضع يسجد عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) فالمراد بالمسجد هنا: المعهود الذهني، وهو المسجد المعروف الذي إذا أطلق في الشرع انصرف إليه الحكم، فلا يشمل المصلى، والمصلى: هو الذي تفعل فيه بعض الصلوات دون بعضها. فالمُصَلَّى لا يعتكف فيه، أي: ليس محلاً للاعتكاف، ودليل ذلك قوله سبحانه: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] فدل على أن الاعتكاف يختص بالمساجد. وبناءً عليه قالوا: لو كان المعتَكَفُ مصلًّى فإنه لا يعتكف فيه؛ وإنما يعتكف في المسجد. ثم المسجد ينقسم إلى قسمين: هناك مسجد يجُمَّع فيه، وهناك مسجد لا يجمَّع فيه. والمراد بقولنا: (يجمّع فيه) أي: تصلى فيه صلاة الجمعة؛ فالمسجد الذي تصلى فيه الجمعة بالإجماع يعتكف فيه. وأما المسجد الذي لا يجمّع فيه، ففيه تفصيل: إن كان قد أوجب على نفسه أن يعتكف العشر الأواخر فحينئذٍ ينصرف إلى مسجد يجمّع فيه؛ والسبب في ذلك: أنه إذا نذر اعتكاف العشر الأواخر أو أوجبها على نفسه فإن هذه العشرة الأيام ستتخللها الجمعة قطعاً، وبناءً على ذلك لابد وأن يكون في موضع أو مسجد يجمّع فيه، ومن هنا يقولون: إنه لابد وأن يكون اعتكافه للعشر كاملة في مسجد يجمّع فيه؛ لأنه لو اعتكف في مسجد لا تقام فيه الجمعة فسيكون مضطراً إلى الخروج لصلاة الجمعة، وحينئذٍ يفسد اعتكافه بالخروج إذا كان قد نذر اعتكاف العشر كاملة. أما إذا كان اعتكافه اعتكاف طاعة وقربة ولم يقصد به العشر كاملة، فإنه يصح في المسجد الذي يجمّع فيه والمسجد الذي لا تكون فيه الجمعة، لكن بشرط: أن تكون فيه جماعة؛ لأنه مخاطب بشهود الصلاة مع الجماعة، وبناءً على ذلك لابد وأن يكون اعتكافه في موضع تقام فيه الجماعة بالصلوات الخمس. وبناءً على ما سبق: فلا يصح الاعتكاف في مسجد لا تقام فيه الجمعة إن كان مريداً لاعتكاف العشر كاملة، أو أوجبها على نفسه، وأما بالنسبة للمسجد الذي لا يجمّع فيه وتقام فيه الجماعة، فإن الاعتكاف فيه صحيح، إذا لم يكن قد أوجبه على نفسه وفرضه.

الغرض من الاعتكاف والأعمال التي يقوم بها المعتكف

الغرض من الاعتكاف والأعمال التي يقوم بها المعتكف قوله: (لطاعة الله) (اللام) للتعليل، أي: لزوم المسجد من أجل طاعة الله تعالى. والطاعة هنا نكرة شاملة لكل طاعة أي: لكل أمر مشروع، سواء كان من الأقوال أو الأفعال. أما الأقوال: فيشمل ذلك: قراءة القرآن، والتسبيح، والتحميد، والتكبير، والاستغفار، ونحو ذلك من القرب القولية. وكذلك أيضاً يشمل الطاعة التي هي القرب الفعلية: فيشمل ذلك الصلاة وهي أفضلها وأحبها إلى الله عز وجل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة) فمن أفضل الطاعات التي يداوم عليها المعتكف كثرة الصلاة، فإن كثرة الصلاة تزيد من صلة العبد بربه كما في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه: (وما تقرب إلىّ عبدي بشيء أحب إلىّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه) الحديث. فيحرص العبد على طاعة الله عز وجل سواء كانت قولاً أو فعلاً، وكذلك الاعتقاد، وهو الطاعة بالقلب؛ كذكر الله في قلبه، والنظر في ملكوت الله عز وجل، والتفكر في عظمة الله سبحانه وتعالى، كل ذلك يعتبر من الطاعة والقربة، كما أثنى الله عز وجل على عباده الأخيار من أولي الألباب الذين يذكرونه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ويثنون على الله عز وجل بما هو أهله، من ذكره وتعظيمه سبحانه وتعالى. قوله: (لطاعة الله) فخرجت المعصية، فلا يجوز للمعتكف إذا كان معتكفاً أو غير معتكف أن يرتكب معصية؛ لكنه في الاعتكاف أشد، فالغيبة في المسجد أعظم من الغيبة خارج المسجد، وهكذا أذية المسلم في المسجد بلسان؛ كَسَبِّ الناس وشتمهم، وهذا ما يقع فيه بعض الجهال -أصلحهم الله- حينما يحجزون الأماكن فهم يحجزونها بدون حق، فإذا جاء أحد وقعد فيها سبوه وشتموه، ونسوا حقوق المسلم على أخيه المسلم، ولم يرعوا فيه حق الإسلام، ولربما كان ذلك على سبيل الظلم، فتجده يحجز المكان الذي يسعه ويسع غيره، فإذا جاء الغير وجلس فيه أقام الدنيا وأقعدها، فانتهك حد الله عز وجل ومحارم الله بسبه وشتمه وأذيته وانتقاصه وعيبه. ولا شك أن هذا يعود على صاحبه بالوزر العظيم، فلا يجوز أذية الناس باللسان والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) فالمسلم يحفظ لسانه عن أذية المسلمين والنيل منهم والانتقاص لهم، وإذا زلّوا عليه وأخطئوا فزاحمه إنسان في الصف الأول أو نحو ذلك فليذكره بالله عز وجل، وليقل: يا أخي! اتق الله. لأن الله سائلنا ومحاسبنا عما نقول، فبدلاً من أن تبادر الإنسان بالأذية والسب والشتم والثلب وكشف عورته وأذيته، فبادره بالنصيحة، وذكره بالله عز وجل حتى تعذر إلى الله، فإذا أصر وأبى فحينئذٍ يخير الإنسان بين أمرين: بين أن يعفو عنه إذا أخطأ عليه، وهذا أحسن، وبين أن يقتص منه، وهذا حسن؛ ولذلك قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17 - 18] ففي القرآن حسن وأحسن، فالحسن: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] والأحسن: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] فهذا أكمل وأعظم، وهو أكثر قربة لله سبحانه وتعالى، وأرضى لله عز وجل. فإذا كان الإنسان معتكفاً، وجاء شخص وجلس في مكانه، جاءه برفق وقال له: يا أخي! هذا مكاني. وهذا إذا كنت خرجت من هذا المكان لقضاء الحاجة فقط، وأما ما عدا ذلك فلا يجوز حجز المكان، فإذا خرج الإنسان لقضاء حاجته ثم جاء ووجد الغير قد جلس مكانه فليقل: أصلحك الله يا أخي! هذا مكاني. فإذا أصر وأبى ذكره بالله، وقال له: يا أخي! لا يجوز لك أن تجلس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا قام أحدكم من مجلسه لحاجته فهو أحق به إذا عاد إليه) فتذكره بالسُّنة وتقيم عليه الحجة، فإن أبى فاعلم رحمك الله أن الأجر من الله، وأن الله يعلم أن هذا المكان مكانك، وأنك في الصف الأول ولو كنت في آخر الصفوف، فما دمت قد صرفت عن حقك بالظلم؛ فإن الله سبحانه وتعالى سيؤتيك أجرك، والله مطّلع على السرائر والضمائر، فلا يجوز لك أن تضيع الأجر عليك. فإذا كان الإنسان معتكفاً فليحذر من مثل هذه الآفات، وليعلم كما قال هذا الإمام الجليل: إن الاعتكاف للطاعة وليس للأذية ولا للتشويش على الناس ولا للتضييق عليهم، ولا شك أن أذية المسلمين عامة لا تجوز، فكيف إذا كانت في المساجد؟!

سنية الاعتكاف

سنية الاعتكاف قوله رحمه الله: [مسنون]. أي: أن هذا الاعتكاف الذي هو ملازمة المسجد لطاعة الله مسنون، أي: هو سنة، وقد دل على سنيته وشرعيته دليل الكتاب -كما قلنا- ودليل السُّنة من هديه عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال لأصحابه: (فمن كان معتكفاً فليعتكف معنا) أي: ليعتكف العشر الباقية كما في حديث أبي موسى في الصحيح حينما نزل عليه الوحي صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه اعتكف أول الشهر ثم اعتكف أوسطه، ثم نزل عليه جبريل بالوحي من السماء (إن الذي تطلبه -يعني: ليلة القدر- أمامك) أي: أمامك فاطلبه، فدل هذا على فضيلة العشر، وفيه دليل على مشروعية الاعتكاف وفضيلته.

جواز الاعتكاف بلا صوم

جواز الاعتكاف بلا صوم قال رحمه الله: [ويصح بلا صوم]. أي: ويصح الاعتكاف بلا صوم، وهذا له صور: الصورة الأولى: أن تعتكف في الليل مجرداً عن النهار، وقد ثبت بذلك الحديث الصحيح عن عمر رضي الله عنه كما في الصحيح لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نذر أن يعتكف ليلة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يوفي بنذره، فدل هذا على مسألتين: المسألة الأولى: أن الاعتكاف لا يشترط له الصوم، وهذا هو أصح قولي العلماء، خلافاً للحنفية والمالكية رحمة الله عليهم الذين يقولون باشتراط الصوم لصحة الاعتكاف. والأمر الثاني: أنه يجوز أن تعتكف أجزاء النهار؛ لأنه إذا لم يشترط الصوم فإنه يجوز لك أن تعتكف أجزاء النهار؛ لأن الليل جزء من اليوم، فدل على جواز اعتكاف جزء من اليوم، سواء كان ليلة كاملة أو كان نهاراً كاملاً أو كان ساعة كاملة، بل قال العلماء: لو أن إنساناً دخل الفريضة فنوى أن يعتكف مدة جلوسه في المسجد فإنه معتكف، ويكون له فضل الاعتكاف إذا نوى ذلك؛ وذلك لإطلاق الكتاب والسُّنة. والأفضل والأكمل: التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم بالاعتكاف الكامل خاصةً في العشر الأواخر.

وجوب الاعتكاف مع الصوم بالنذر

وجوب الاعتكاف مع الصوم بالنذر قال رحمه الله: [ويلزمان بالنذر]. ويلزم الاعتكاف والصوم بالنذر، هذا إذا كان اعتكافه نافلة، ولا ينتقل من كونه نافلة إلى الوجوب إلا في صور: منها: النذر، فإذا نذر وقال: لله عليّ أن أعتكف يوماً. فقال بعض العلماء: إذا قال: لله عليّ أن أعتكف يوماً، فلابد وأن يكون صائماً فيه. وقال بعض العلماء: يغنيه أن يعتكف اليوم بدون صيام. وهكذا لو قال: لله عليَّ أن أعتكف ليلة. فإنه يجزئه أن يعتكف الليل ولا يلزمه الصوم في هذه المسألة، إنما يلزمه الصوم إذا نوى النهار، فقال بعض العلماء: إذا نوى اعتكاف النهار كاملاً فإنه يصوم. والصحيح: أنه يلزمه الصوم ويلزمه الاعتكاف بالنذر، بمعنى إذا نذر وصرّح في نذره أن يكون صائماً، فإنه يلزمه الاعتكاف مع الصوم، وإلاّ أجزأه ولو جزء النهار، فلو قال: لله عليّ أن اعتكف في النهار. فإنه يصدق عليه أنه معتكف ويتم نذره ولو بساعة واحدة من النهار.

عدم صحة الاعتكاف إلا في مسجد جامع

عدم صحة الاعتكاف إلا في مسجد جامع قال رحمه الله: [ولا يصح إلاّ في مسجد يجمّع فيه]. ولا يصح الاعتكاف إلا في مسجد يجمّع فيه؛ لأنه إذا اعتكف في مسجد لا تقام فيه الجماعة، فإن معنى ذلك أنه سيترك فريضة الله من شهود الصلاة مع الجماعة. وكذلك أيضاً إذا اعتكف العشر الأواخر في مسجد تقام فيه الجماعة ولا تقام فيه الجمعة، فمظنة أن يترك الجمعة في يوم الجمعة. واستثنى بعض العلماء من ذلك: المريض المعذور في الجمعة، قالوا: يجوز أن يعتكف العشر الأواخر في مسجد لا يجمع فيه؛ لأنه إذا حضرت الجمعة صلاها ظهراً، ولا يجب على مثله أن يشهد الجمعة.

جواز الاعتكاف للمرأة في كل مسجد

جواز الاعتكاف للمرأة في كل مسجد قال رحمه الله: [إلا المرأة ففي كل مسجد سوى مسجد بيتها]. إلا المرأة فإنه يجوز لها أن تعتكف في كل مسجد، والأصل في جواز الاعتكاف للنساء: أن الله تعالى عمم في قوله سبحانه: (وَالْعَاكِفِينَ) فشمل هذا الرجال والنساء. وكذلك السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أقر نساءه على الاعتكاف معه صلوات الله وسلامه عليه، وإنما عاتبهن في الغيرة ومنافسة بعضهن لبعض وقال: (آلبر أردتن) وهذا يدل على مشروعية اعتكاف المرأة، ولكن بشرط أن لا يكون في النية دخن، كأن يكون ذلك على سبيل المضارة، كأن يكون بين الضرتين كما وقع لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن. واعتكاف المرأة جائز؛ لكن بشرط: ألا يؤدي إلى المحاذير الشرعية كمخالطة الرجال، وكذلك أيضاً وقوع الفتنة والمحظور. والأفضل للمرأة أن تلزم بيتها كما قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، والأفضل أن تصلي في مسجدها في بيتها وفي مخدعها، فهذا أفضل لها وأكمل وأفضل لغيرها؛ لأن الخير للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال، وكلما سُتِرَ النساء عن الرجال، كلما كان ذلك أحفظ لدين الرجال وأحفظ لدين النساء، فما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بعده فتنة أضر على الرجال من فتنة النساء، ولذلك الأفضل للمرأة أن تلزم بيتها. فإن أحبت أن تعتكف فلا حرج، لكن بشرط: أن لا يؤدي اعتكافها إلى فوات الحقوق الواجبة عليها، فإن كان هناك حق لزوج فإنها لا تعتكف، وإنما تؤدي حق زوجها؛ لأن الله فرض عليها القيام بحقه، ولا يعقل أن تنصرف من الواجب إلى النفل، فالله يُتَقَّربُ إليه بما افترض، وإذا نوت المرأة في نفسها أنه لولا شغل زوجها لاعتكفت كتب الله أجرها، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن بالمدينة رجالاً ما سلكتم شعباً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم شركوكم الأجر. قالوا: يا رسول الله! كيف وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر). فالمرأة التي يحبسها عذر زوجها والقيام بحقوق زوجها أجرها كامل، وهكذا لو حبسها تربيتها لأطفالها، وقيامها بحقوق أطفالها؛ فإن أجرها كامل، فكم من متمن للخير يبلغه الله درجته! ولعل الله لحكمة صرف المرأة عن شهود المساجد حتى تنصرف عن الفتنة، ويكتب لها الأجر بالنية. فلا يجوز للمرأة أن تخرج للاعتكاف وتضيع حقوق أولادها أو حقوق زوجها، فلا شك أنها مطالبة بالحقوق المفروضة قبل القيام بالنوافل والمستحبات.

عدم جواز اعتكاف المرأة في مسجد بيتها

عدم جواز اعتكاف المرأة في مسجد بيتها قال رحمه الله: [سوى مسجد بيتها]. أي: يجوز لها أن تعتكف في كل مسجد؛ لأنه لا تجب عليها الجمعة ولا تجب عليها الجماعة، إلا مسجد بيتها فلا يصح لها أن تعتكف فيه؛ لأن المراد بالمساجد: المساجد المعهودة، ومسجد بيتها يعني: مخدعها الذي تصلي فيه، فهو ليس بمحل للاعتكاف؛ لأن الاعتكاف إنما هو في المساجد المعهودة.

عدم الوفاء بالنذر إذا شدت الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة

عدم الوفاء بالنذر إذا شدت الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة قال رحمه الله: [ومن نذره أو الصلاة في مسجد غير الثلاثة، وأفضلها المسجد الحرام، فمسجد المدينة، فالمسجد الأقصى لم يلزمه فيه]. ومن نذر الاعتكاف فقال: لله عليّ أن أعتكف. فإنه لا يلزمه الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) ولذلك خص الله عز وجل هذه المساجد، فلا يجوز شد الرحال للقرب المتعلقة بالمواضع إلا إلى هذه المساجد، فلا تشد الرحال للمشاهد ولا للقبور ولا لزيارتها، ولا كذلك للدعاء عندها، ولا للذبح عندها، وكل ذلك مما يعتقد أنه قربة لا يجوز فعله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد). بل إن بعض هذه الأفعال يفضي إلى الشرك، والخروج من الملة -والعياذ بالله- وكفر صاحبه، كأن يشد الرحل للذبح عند القبر، أو دعاء صاحب القبر، أو التوسل بصاحب القبر بالذبح والاستغاثة والاستجارة به، مما وقع فيه كثير من الجهال في الأزمنة المتأخرة نسأل الله السلامة والعافية! ولا شك أن هذا الأمر تُنْقَضُ به عرى الإسلام، ويوجب خروج صاحبه من الملة نسأل الله السلامة والعافية! فالمقصود: أن شد الرحال للاعتكاف ولو أوجب ذلك على نفسه فقال: لله عليّ أن أعتكف في مسجد قباء، فإنه لا يلزمه أن يذهب إلى مسجد قباء وأن يعتكف فيه، فإذا نوى ونذر في أي مسجد فإنه يغنيه أحد هذه المساجد الثلاثة، إلا إذا نوى أفضلها فلا يغني المفضول عن الأفضل، فلو نوى أن يعتكف في مسجد بيت المقدس فإن الصلاة فيه بخمسمائة، فيجزئه أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أيضاً لو نوى أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يغنيه أن يعتكف في مسجد الكعبة. وهذا على الأصل الذي ذكرناه؛ لأن الأعلى يغني عن الأدنى، ولا يغني الأدنى عن الأعلى، فالعكس لا يصح، فلو نوى أن يعتكف في المسجد الحرام فإنه لا يجزئه أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ينتقل من الأعلى إلى الأدنى.

عدم جواز النقل في النذر من الأعلى إلى الأدنى

عدم جواز النقل في النذر من الأعلى إلى الأدنى قال رحمه الله: [وإن عين الأفضل لم يجز فيما دونه وعكسه بعكسه]. لقد بين المصنف رحمه الله في هذه المسألة حكم نذر الاعتكاف، فالشخص إذا نذر الاعتكاف في مسجد، وكان هذا المسجد أفضل من غيره، فإنه لا يجزئه أن ينصرف إلى ما دونه، ومثال ذلك: أن ينوي الاعتكاف في المسجد الحرام؛ فإنه لا يجزئه أن ينصرف إلى مسجد المدينة، وكذلك لو نوى الاعتكاف في مسجد رسول صلى الله عليه وسلم لم يجز له أن ينصرف إلى ما دونه من سائر المساجد، غير المسجد الحرام. والأصل في ذلك: أنه إذا نوى الأفضل أنه لا تبرأ ذمته إلا به أو بما هو أفضل منه، ولذلك إذا نوى الاعتكاف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وانصرف إلى المسجد الحرام، فإنه قد حصَّل فضيلة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وزيادة، حيث فضل الله المسجد الحرام على مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بمضاعفة أجر الصلاة فيه، وبوجود عبادة الطواف. إذاً المسجد الحرام اختص بهاتين الفضيلتين اللتين لا يشاركه فيهما غيره من سائر المساجد، فمن نوى الاعتكاف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جاز له أن ينصرف إلى المسجد الحرام، ولا يجزيه أن ينصرف من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأقصى، أو إلى غيره من سائر المساجد ما عدا المسجد الحرام، وفي ذلك سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث أمر الصحابي حينما نذر الاعتكاف في المسجد الأقصى أن يعتكف في مسجده صلى الله عليه وسلم.

جواز النقل في النذر من الأدنى إلى الأعلى

جواز النقل في النذر من الأدنى إلى الأعلى قال رحمه الله: (وعكسه بعكسه). أي: إذا نوى الأقل جاز له أن ينصرف إلى الأعلى -كما ذكرنا- ومن نوى الأعلى لا ينصرف إلى الأدنى، فالحكم في هذا على ما ذكرناه.

الأسئلة

الأسئلة

المراد من قوله عليه الصلاة والسلام: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة

المراد من قوله عليه الصلاة والسلام: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة Q هل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) يخصص الدليل العام في قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] فلا يجوز الاعتكاف إلا في هذه الثلاثة أثابكم الله؟ A ( لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) للعلماء فيه وجهان: يقولون: هذا نفي بـ (لا نافية) وهو نفي لحقيقة شرعية، والنفي المسلط على الحقيقة الشرعية عهدنا من الكتاب والسنة أنه يأتي على صورتين: الصورة الأولى: أن يقصد به نفي الكمال. والصورة الثاني: أن يقصد به نفي الصحة. أما مثال النفي المسلط على الحقيقة الشرعية لنفي الكمال: قوله عليه الصلاة والسلام: (لا إيمان لمن لا أمانة له) فأهل السنة والجماعة على أن هذا النفي نفي لكمال الإيمان، وليس المراد به نفي الإيمان كلية كما يقول الخوارج، وإنما قالوا: إنما هو نفي لكمال الإيمان؛ لثبوت النصوص الأخرى التي تدل على أن الإيمان لا يحبط بنقصانه عن الكمال. فقوله: (لا إيمان) نفي للإيمان، والإيمان حقيقة شرعية، فتسلط النفي على الحقيقة الشرعية وهي الإيمان، فحمل على الكمال لورود النصوص الأخرى التي تدل على أنه مراد للكمال. كذلك أيضاً: تنفي الحقيقة الشرعية للصحة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) فإن هذا نفي لصحة القبول من أساسه، فلا يحكم بصحة العبادة ولا بإجزائها -أعني الصلاة- إذا وقعت من غير طهارة؛ لأن النفي هنا مسلط على القبول المراد به نفي الصحة. وعلى هذا قالوا: إذا ورد النص بنفي حقيقة شرعية نظرنا: فإن دلت النصوص على العموم بالصحة بقينا على ذلك، كقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] فهذا يدل على إطلاق الاعتكاف في جميع المساجد، فصرف النفي عن ظاهره من إفادته لعدم صحة الاعتكاف إلى نفي الكمال. ثم في الحديث ما يدل على نفي الكمال: (لا اعتكاف -كامل- إلا في المساجد الثلاثة) لأن هذه الثلاثة المساجد فيها فضائل لا توجد في غيرها، فالمسجد الحرام الصلاة فيه بمائة ألف صلاة، مع فضيلة الطواف بالبيت، وأما مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فالصلاة فيه بألف صلاة، وأما المسجد الأقصى ففيه الصلاة بخمسمائة صلاة. فكأن المعتكف في هذه المساجد الثلاثة لا يمكن أن يوازيه غيره ولو بلغ ما بلغ من كثرة الطاعات؛ لأنه يحصل على فضائل اختصت بها هذه المساجد الثلاثة. والقاعدة في الأصول: (أنه إذا تردد الحديث بين معنيين: معنى يعارض به النصوص، ومعنى لا يعارض به النصوص، وأشعر معنى النص بأحد المعنيين وجب صرفه عليه) فلما كان في هذه المساجد مزية وفضل دل على أن قوله: (لا اعتكاف) أي: لا اعتكاف كامل؛ لمزية هذه المساجد ودلالة الشرع على وجود خصوصيتها بالفضائل. فقوي حمل الحديث على اعتكاف كامل، وهذا قول جماهير السلف رحمة الله عليهم، وبه أفتى الأئمة الأربعة، وهو أنه يجوز أن يعتكف في غير المساجد الثلاثة. وذهب مجاهد بن جبر رحمه الله -من أئمة السلف، وهو تلميذ ابن عباس رحمه الله- إلى القول بأن الاعتكاف لا يصح في غير المساجد الثلاثة، واختاره بعض المتأخرين من العلماء، وهذا قول له وجهه من ظاهر الحديث، فمن أخذ به فإنه لا يعتكف في غير هذه المساجد الثلاثة، ولكن الظاهر والأقوى: أنه يعتكف في غير هذه المساجد الثلاثة، وأن الفضيلة للمساجد الثلاثة ومن اعتكف فيها، فإن غيره لا يحصل فضله؛ لعظيم ما ورد فيها من الخصائص كما لا يخفى، والله تعالى أعلم.

حكم قطع صلاة الفريضة لمن سمع جماعة بقربه

حكم قطع صلاة الفريضة لمن سمع جماعة بقربه Q هل يجوز لمن دخل في الصلاة وسمع جماعة بقربه أن يقطع الصلاة ليصلي معهم أثابكم الله؟ A من دخل في صلاة وظاهر السؤال أنه دخل في صلاة الفريضة، كأنه يريد أن يصلي مع الجماعة بدلاً من أن يصلي لوحده، وهذا مبني على مسألة تسمى: ازدحام الفضائل. هل يقطع الصلاة ليدرك فضيلة الجماعة، أو يصلي وحده لإدراك فضيلة الوقت؟ هو كبر تكبيرة الإحرام؛ فأدرك وقتاً لم تدركه الجماعة التي كبرت بعده، فبعض العلماء يرى أن فضيلة الوقت مقدمة على فضيلة الجماعة. وبعضهم يرى أن فضيلة الجماعة أفضل من فضيلة الوقت؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة عن أول وقتها لاجتماع الناس، كما في الحديث الصحيح عن جابر رضي الله عنه قال: (والعشاء أحياناً وأحياناً، إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطئوا أخر) قالوا: فهذا يدل على الفضيلة، لكن أجيب بأن هذا الحديث في صلاة العشاء والتي الأفضل فيها التأخير، فكان طلب الجماعة لفضيلة الوقت. وعلى هذا: فإن الأقوى والأظهر أنه لا يقطع؛ لأنه بدخوله في الفريضة قد أوجب الله عليه الإتمام، فحينئذ لا ينتقل إلى النافلة ويقطع هذه الفريضة التي أوجبها الله عليه. وتوضيح ذلك: أنه إذا كبر في صلاة الظهر -مثلاً- يريد أن يصليها، وأحرم بها، فإن النصوص دالة على أنه يجب عليه الإتمام، فإذا كبرت بعده جماعة فإننا لو قلنا: ينصرف إلى الجماعة. فمعنى ذلك: أننا نرد النص الذي أوجب عليه الإتمام بفضيلة، وهي تحصيل فضيلة الجماعة، ولا شك أن هذا يضعف من جهة الأثر والنظر. والصحيح: أن يتم الصلاة منفرداً وقد أدرك فضيلة الوقت التي لها شأن لا يخفى لورود النصوص به، والله تعالى أعلم.

الفرق بين الصلاة مع الإمام حتى ينتهي وبين إحياء الليل كله

الفرق بين الصلاة مع الإمام حتى ينتهي وبين إحياء الليل كله Q هل إذا صليت مع الإمام حتى ينتهي، هل أعتبر أحييت ليالي العشر كاملة، أم لابد أن يصلي الإنسان في بيته ويحيي ليله أثابكم الله؟ A هناك فرق بين الإحياء وبين القيام نفسه، فقوله عليه الصلاة والسلام: (من قام مع إمامه حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) والمراد بذلك: فضيلة الاستمرار مع الإمام حتى يسلم وينتهي من آخر صلاته وهي الوتر، ومن فعل هذا يحصل على فضيلة قيام الليلة، أي: كأنه في الأجر والثواب قام الليلة كاملة، لكن هذا لا يتعلق بقيام الليالي المقصودة بذاتها؛ فإن التعبير المشعر بفضيلة الفعل لا يدل على تحقق الفعل بنفسه. ولذلك فرق بعض العلماء في الأدلة التي وردت بفضائل الأعمال التي ينزل الإنسان فيها منزلة الفاعل، فقالوا: قوله عليه الصلاة والسلام (من صلى الفجر في جماعة، ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين؛ كان له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة) قالوا: يكون له أجر الفعل، وهو أجر الحجة والعمرة في الأصل، أما من حج واعتمر وتكبد المشاق وتحملها فله أجر الفعل الأصلي، وأجر المتاعب والمشاق. ولذلك قالوا: إنه يفرق في هذا بين فضيلة قيام الليلة وبين كونه قد قام ليالي العشر حقيقة، فمقصود الشرع: أن يقوم ليالي العشر كاملة، وعلى هذا فإنه يكتب له قيام ليلة فضيلة، ولا يعتبر قائماً حقيقة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

باب الاعتكاف [2]

شرح زاد المستقنع - باب الاعتكاف [2] للاعتكاف أحكاما من جهة المكان ومن جهة الزمان، وأحكام الاعتكاف من جهة الزمان يندرج تحتها تحديد أول اليوم وآخره، وما يلزم المعتكف عند خروجه أثناء الاعتكاف، وكذلك تخصيص الأزمنة الفاضلة بالاعتكاف، كعشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان؛ لما تمتاز به من الفضيلة على سائر الأيام، ويلزم المعتكف اجتناب ما يفسد اعتكافه، ويستحب له الاشتغال بالطاعات وترك فضول القول والعمل.

أحكام الاعتكاف الواجبة من جهة الزمان

أحكام الاعتكاف الواجبة من جهة الزمان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [ومن نذر زمناً معيناً دخل معتكفه قبل ليلته الأولى وخرج بعد آخره]. لما بين لنا رحمه الله أحكام الاعتكاف المنذور من جهة المكان، شرع في بيان أحكام الاعتكاف الواجب من جهة الزمان، فالاعتكاف فيه جانبان: أولاً: من جهة المكان حيث يتقيد بالمسجد، وإذا تقيد بالمسجد فلا يخلو من أمرين: إما أن ينوي مسجداً مطلقاً فلا إشكال، وحينئذٍ يجزيه أي مسجد. وإما أن يعين، فإن عين إما أن يحدد ما هو أدنى فيجزيه ما هو أعلى، أو أعلى فلا يجزيه ما هو أدنى، على التفصيل الذي ذكرناه. ثانياً: من جهة الزمان فلو أن رجلاً نذر أن يعتكف يوماً كاملاً -أي: نهاراً بليلته- فإنه إذا قال: لله عليَّ أن أعتكف يوم الأحد أو الإثنين أو الثلاثاء. فإنه يدخل قبل مغيب الشمس من يوم السبت؛ وذلك لأن يوم الأحد يبدأ من ليلة الأحد، وليلة الأحد إنما تكون بمغيب شمس يوم السبت، فإذا أراد أن يعتكف الليلة كاملة فلابد وأن يكون بكامل جسمه في داخل المسجد من أول الزمان. ولا يتأتى ذلك إلا بالدخول قبل غروب الشمس، فإن دخل بعد غروب الشمس فإنه لم يعتكف الليلة كاملة، ولذلك من نوى العشر الأواخر فإنه يدخل قبل مغيب شمس يوم العشرين، وأما الدخول إلى المعتكف نفسه فيكون بعد فجر ليلة الحادي والعشرين، فقد كان يدخل عليه الصلاة والسلام إلى معتكفه بعد فجر ليلة الحادي والعشرين. فالشاهد من هذا: أن السُّنة لمن نوى الاعتكاف يوماً كاملاً أن يدخل قبل مغيب شمس اليوم الذي قبله، حتى يحُصِّل الليلة كاملة، وهكذا بالنسبة لآخر زمان الاعتكاف؛ لأن الاعتكاف فيه أول زمانه وفيه آخر زمانه، فأنت إذا ما ألزمت نفسك باعتكاف يوم كامل فإن الله فرض عليك أن تستغرق الزمان بكامله، فأوله قبل مغيب الشمس، وآخره بعد مغيب الشمس من اليوم الذي نويته، فإن كنت ناوياً للاعتكاف يوم الأحد فإنك تدخل قبل مغيب الشمس من يوم السبت؛ لتحصل على أول الزمان، ثم إذا غابت الشمس من يوم الأحد فقد تم نهارك، وحينئذ يجوز لك الخروج، فإن خرجت قبل مغيب الشمس لم يستتم اعتكافك على الوجه المعتبر. وعلى هذا فإن المعتكف للعشر الأواخر إذا ألزم نفسه بها ونذرها، فإنه يخرج بعد مغيب الشمس من آخر يوم من رمضان، وحينئذٍ لا يخلو الشهر من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون تاماً ثلاثين يوماً، فإن تم الشهر ثلاثين يوماً فحينئذ تنتظر إلى مغيب شمس الثلاثين، فإن غابت شمس يوم الثلاثين من رمضان تخرج بعد المغيب، فبمجرد أذان المغرب ينتهي الاعتكاف الواجب عليك، وحينئذٍ إذا صليت المغرب جاز لك أن تنصرف. وأما إذا كانت الليلة ليلة شك فتنتظر إلى ثبوت كونها ليلة الفطر، فإذا جاء الخبر أنها ليلة الفطر في الساعة التاسعة أو الساعة الثامنة أو الساعة العاشرة فتخرج بمجرد علمك أنها ليلة العيد؛ وذلك لأنك لما تحققت أنها ليلة العيد لم يجب عليك اعتكافها ولا تلزم بها.

عدم جواز خروج المعتكف من المسجد إلا لضرورة

عدم جواز خروج المعتكف من المسجد إلا لضرورة قال رحمه الله: [ولا يخرج المعتكف إلا لما لابد له منه]. المعتكف حبس نفسه لطاعة الله، وفر من الدنيا وشواغلها إلى مرضات الله ومحبته، فالمنبغي عليه أن يحقق هذه العبادة، وأن يقوم بها على الوجه الذي يرضي الله عز وجل؛ حتى يكون أسعد الناس بالقبول منه سبحانه وتعالى، فإنها نعمة من الله إذا وفق عبده لاغتنام هذا الاعتكاف بذكره وشكره وحسن عبادته، ثم تقبل منه، ولا يتقبل الله إلا من المتقين، الذين حفظوا حقوق العبادات، وقاموا بها على أتمّ وجوهها على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى. إذاً فالمعتكف في اعتكافه لا يجوز له أن يخرج من المسجد إلا لضرورة وحاجة، وهذا مجمع عليه بين أهل العلم؛ لأن حقيقة هذا اللفظ الشرعي -أي: الاعتكاف- المتضمن للعبادة الشرعية يدل على اللزوم وعلى المكث، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يخرج من المسجد إلا لحاجة وضرورة، كما ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (كان لا يخرج إلا لحاجته). والمراد بالحاجة: البول والغائط، فإذا احتاج إلى بول وغائط فإنه يجوز له أن يخرج؛ والسبب في ذلك: أن المساجد لا يجوز قضاء الحاجة فيها، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بال الأعرابي في المسجد وأنكر الصحابة عليه ذلك أقرهم، ولكن أنكر عليهم أنهم يريدون قطعه عن البول، أما كون البول في المسجد لا يجوز فهذا محل إجماع، والله تعالى نبه إلى ذلك بقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] فلا يجوز للمعتكف أن يقضي حاجته داخل المسجد، فإذا كان لا يجوز له ذلك فمعنى ذلك أنه لابد له من الخروج، فيصير الخروج مسموحاً وجائزاً. فلو قلنا: إنه يحرم على المعتكف أن يخرج لقضاء حاجته، لما استطاع إنسان أن يعتكف؛ لأنه ما من إنسان إلا وهو مضطر لقضاء حاجته، ولا يمكنه أن يحبس هذه الحاجة؛ لأن ذلك ربما أهلكه وأتلف نفسه، فإذا كان الأمر كذلك فإنه يجوز له أن يخرج لقضاء الحاجة من بول وغائط. وفي حكم ذلك ما يضطر إليه من الأكل والشرب، فإذا لم يجد أحداً يقوم بإحضار الطعام والشراب إليه -إذ لابد له من الأكل ولابد له من الشرب- جاز له أن يخرج. فإن قلنا: إن السُّنة قد دلت على جواز الخروج للحاجة، وأنه يجوز له أن يقضي حاجته، فإن الأصل يقتضي أن ما أبيح للحاجة والضرورة يقدر بقدرها، ومن هنا فصّل العلماء فقالوا: إذا اضطر للخروج لقضاء البول أو الغائط فلا تخلو أماكن قضاء البول والغائط من حالتين: إما أن تكون قريبة، وإما أن تكون بعيدة: فإن كانت قريبة فإنه يقضي حاجته فيها بلا إشكال؛ لأن قربها من المسجد ينفي الإشكال في جواز قضاء الحاجة فيه، كأن تكون لا تبعد عن المسجد إلا يسيراً، أما إذا كانت بعيدة فإنه يختار أقربها، ولا يجوز له أن ينصرف إلى المكان الأبعد مع وجود الأقرب. فلو اختار منزله أو شقته أو عمارته، وهو أبعد عن المسجد من دورة مياه قريبة لم يجز له ذلك؛ والسبب في هذا: أنه إذا خرج لقضاء حاجته فقد استغل الوقت الذي يجب صرفه في الاعتكاف لقضاء الحاجة، وما أبيح للحاجة يقدر بقدرها، فكأنه يترفه ويزداد في الوقت المسموح له، فلما سُمِحَ له أن يقضي حاجته في الأقرب، لم يجز له أن يقضي حاجته في الأبعد. (أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها) هي أصل عام عند العلماء، ولذلك قالوا: إذا أراد الشخص أن يطعن في أحد الشهود، وعلم فيه أكثر من جَرْح ترد شهادته، ويكون بعضها أشد من بعض، فإنه يختار أقل جرح ترد به شهادته؛ لأن كشف العورات غير مأذون به إلا بقدر الحاجة. وكذلك من أكل من الميتة بسبب المخمصة والمجاعة قالوا: إنه يأكل ويسد رمقه، ولا يجوز له أن يتزود؛ لأن الزاد زائد عن حاجته، والأصل أنه محرَّم، فأبيح له قدر الحاجة. فالأصل أنه لا يجوز للمسلم أن يخرج من المسجد ما دام معتكفاً، وأبيح له أن يخرج لقضاء حاجته، وعليه فلا يجوز للمعتكف أن يقضي حاجته في مكان بعيد؛ لأن الشرع إنما أجاز له الأقرب. إذاً لا يجوز الانصراف إلى دورات المياه البعيدة مع وجود القريبة إلا في حالات: الحالة الأولى: أن تكون شديدة الزحام، ويكون الإنسان شديد الحصر، أو يتضرر بالانتظار في الزحام لضيق نفس، أو يتضرر من وجود بعض الروائح الكريهة أو نحو ذلك، فيجوز له حينئذ أن يختار شقته أو يختار عمارته إذا لم يكن بعدها متفاحشاً. كذلك الحكم إذا كان محتاجاً للطعام والشراب، فلو كان يتيسر له أن يطعم في مطعم وهو قريب من المسجد فحينئذ ننظر: إن كان جلوسه في المطعم ينقص من قدره كالعالم وطالب العلم ومن هو قدوة، فتسقط مروءته بوجوده في هذا المكان، فإنه يجوز له أن ينصرف إلى شقته وبيته؛ لأنه يتضرر بالجلوس في هذا المكان، فوجود هذا المكان وعدمه على حد سواء. وأما إذا كان يمكنه أن يأكل فيه ولا يستضر بذلك، والمكان محفوظ ولا يجد غضاضة فيه، فإنه لا يجوز له أن ينصرف إلى مكان أبعد مع وجود الأقرب. فالقاعدة: أن هذا الشخص جاز له أن يفارق المسجد لضرورة، وإذا جاز له لضرورة لا يجوز له أن يتمادى أكثر منها. ومن هنا فرَّع العلماء أنه إذا خرج من أجل أن يستحم أو يغير ثيابه، ولم يستضر بالثياب التي عليه فإنه يفسد اعتكافه، لكن لو خرج لقضاء الحاجة وأخذ ثيابه معه من أجل أن يزيل العرق والنتن عنه، أو عليه جنابة فحينئذٍ لا إشكال، لكن أن يخرج من معتكفه من أجل أن يستحم، ومن أجل أن يترفه بالاستحمام لشدة الحر أو نحو ذلك فلا، وإنما يخرج بقدر الحاجة والضرورة؛ لقضاء الحاجة، أو إصابة الطعام ونحو ذلك. والدليل على هذا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت في حديث السنن: (أنه كان إذا خرج من معتكفه إلى بيته لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة، وإنما يكون لما لابد منه) وعلى هذا: فإنه لو تأمل الإنسان عيادة المريض وكذلك شهود الجنازة فإنها قد تصل في بعض الأحيان إلى مقام الحاجة، وقد يحتاج المريض منك أن تواسيه وتسليه، ومع ذلك لم يكن عليه الصلاة والسلام من هديه أن يُعَرِّج على المريض أو يجلس عنده، وإنما كان يسأل وهو مار: كيف فلان؟ وهذا أصل يخل به البعض بسبب الجهل بأحكام الاعتكاف، ولذلك تجد الإنسان يدخل إلى معتكفه ويخرج وقد تكون حالته هي هي لم يتغير؛ لأنه لم يستشعر أنه في عبادة تلزمه بالتقيد والانضباط بالحدود الشرعية، بحيث ينصرف عن هذه العبادة بقلبه وقالبه. فلذلك: ينبغي على المسلم أن يحفظ هذه الأحكام، وهي: أنه لا يجوز له أن يفارق المسجد إلا من ضرورة وحاجة، فإن وُجدت الضرورة والحاجة جاز له أن يخرج.

أقوال العلماء في اشتراط المعتكف الخروج لحاجة

أقوال العلماء في اشتراط المعتكف الخروج لحاجة قال رحمه الله: [ولا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة إلا أن يشترطه] أما إذا اشترط كأن يشترط أن يتفقد حال أهله أو يعود مريضاً أو يشهد جنازة، فللعلماء قولان: منهم من قال: الأصل الشرعي أن المعتكف لا يجوز له أن يخرج، ولا يجوز له أن يترفه، وقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم الاشتراط في الحج ولم يجزه للمعتكف، فُنْبقي الاعتكاف على ظاهر النصوص، ولا نجيز لأحد أن يشترط فيه، وأصحاب هذا القول يُضَعِّفون القياس في هذا. ومنهم من يقول: نقيس الاعتكاف على الحج، فكما أجاز النبي صلى الله عليه وسلم في الحج أن تشترط المرأة، فإنه يجوز للمعتكف أن يشترط. والقول الأول ألزم للأصل؛ وذلك لأنه أوفق، إلا أنه لو قال قائل: لو أن المعتكف في أثناء اعتكافه أو عند دخوله للمعتكف، كانت بنته مريضة أو أمه مريضة أو والده مريضاً وخشي عليهم، أو كان هو نفسه مريضاً وخشي على نفسه فاشترط، كان القياس هنا أقرب إلى الصواب؛ لحديث ضباعة رضي الله عنها حين قالت: (إني أريد الحج وأنا شاكية) فكأنها ألزمت نفسها مع وجود المرض، بخلاف من دخل العبادة وهو صحيح قادر. فكأن الشرع أعطى فسحة للمكلف الذي دخل العبادة وهو ضعيف؛ لأنه دخل فيها مع وجود الضرر، فألزم نفسه ما لم يَلْزَمْه، ولذلك يقوى أن يقال بجواز الاشتراط، إذا كان في حالة وجود العذر عند الدخول، تحقيقاً لدلالة النص الذي هو أصل في مباحث الاشتراط. فعلى القول الثاني: إذا كان عنده مريض من أهله له أن يسأل ويقول: كيف حالك يا فلان؟! وهو مار، ولا يعرج عليه، ولا يقصد إلى غرفته ولا يجلس عنده أو يسأل زوجته عن أبنائه فلا حرج، أما أن يقصد عيادته فلا، وفي حكم ذلك أن يخرج من اعتكافه بقصد الاتصال على أهله للاطمئنان على مريض، فإنه في حكم العيادة، ولذلك لا يعود، وهذا أصل، وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حينما بينت سنة المعتكف قالت: (أن لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يخرج إلا لما لابد له منه) هذه ثلاثة أمور مضت بها السُّنة في المعتكف: أن لا يعود المريض، وأن لا يشهد الجنازة، وأن لا يخرج من معتكفه إلا لما لابد منه، يعني الأمر الضروري.

مفسدات الاعتكاف

مفسدات الاعتكاف قال رحمه الله: [وإن وطئ في فرج فسد اعتكافه]. بعد أن بين رحمه الله حقيقة الاعتكاف، والأمور التي ينبغي على المعتكف أن يلتزم بها في اعتكافه، شرع في بيان ما يفسد الاعتكاف.

الجماع أعظم مفسد للاعتكاف

الجماع أعظم مفسد للاعتكاف يفسده الجماع، فإنه إذا حصل جماع بينه وبين زوجه، أو جماع محرم -والعياذ بالله- فقد فسد الاعتكاف بإجماع العلماء رحمهم الله. والأصل في ذلك: أن المعتكف لا يجوز له أن يجامع لقوله سبحانه وتعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] فحرم الله على المعتكف أن يباشر أهله، فدل على حرمة المباشرة، والمباشرة هنا بالإجماع إذا بلغت غايتها أي: المباشرة بالجماع فإنها محرمة. وقال بعض العلماء: إنها مُحَرِّمَة للمباشرة التي يراد بها الاستمتاع؛ إعمالاً للعموم في قوله: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187] كالتقبيل والهمز والغمز ونحو ذلك من الأفعال التي تكون مقدمات للاستمتاع بالمرأة، وهذا على ظاهر قوله: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187] ومن هنا تنقسم المباشرة إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون المباشرة مفضية إلى الجماع أو من مقدمات الجماع كالتقبيل ونحوه، فهذه بالإجماع لا تجوز، فلا يجوز للمعتكف أن يقبل زوجه ولا يجوز له أن يستمتع على سبيل إثارة الشهوة وهذا بالإجماع. القسم الثاني: أن تكون المباشرة لغير الشهوة، كأن تسرح المرأة شعر زوجها أو يدني رأسه من المسجد لزوجته لتسرح شعره أو تغسل يده أو نحو ذلك، ويحصل اللمس والمباشرة، لكنها ليست مقصودة للاستمتاع، فهذه جائزة بالإجماع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في الصحيح-: (كان يدني لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رأسه فترجله وهو معتكف في المسجد صلوات الله وسلامه عليه). فإن جامع بطل اعتكافه، وأما إن باشر ولم يجامع كأن يقبل أو نحو ذلك، فإذا باشرها ولم يجامع، وحصلت مقدمات الاستمتاع فلا يخلو من ضربين: الضرب الأول: أن ينزل فيفسد اعتكافه. الضرب الثاني: أن لا ينزل، فللعلماء فيه قولان، أصحهما: أن اعتكافه لا يفسد. وأما إذا جامع فللعلماء قولان: منهم من يقول: يفسد اعتكافه، ولا شيء عليه وهو مذهب الجمهور. ومنهم من يقول: يفسد اعتكافه، وتلزمه كفارة الجماع في نهار رمضان وهو رواية عن الإمام أحمد. والصحيح القول الأول: أن من جامع زوجته وهو معتكف أنه يفسد اعتكافه، ولا يجب عليه أن يكفر؛ لأن الكفارة خاصة بالجماع في نهار رمضان على ظاهر السُّنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، فالأصل أن ذمته بريئة من المطالبة بالكفارة، ولا دليل على شغلها بالجماع في الاعتكاف، إذْ لو كان الجماع في الاعتكاف موجباً للتكفير لما سكت الشرع عن ذلك. ومحل الخلاف في مسألة الكفارة وعدمها: إذا وقع الجماع ليلاً، أما لو وقع جماع المعتكف في نهار رمضان وهو صائم، فإنه تجب عليه الكفارة للإخلال بصيامه، لا من باب إفساد الاعتكاف، وفرق بين كونها تجب للإخلال بالصيام وبين كونها تجب من أجل الاعتكاف. على هذا لو سألك سائل وقال: اعتكف رجل وجامع زوجته فما الذي يجب عليه؟ تقول له: فسد اعتكافه بالإجماع. وأما الجماع فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إن وقع جماعه في نهار رمضان وهو صائم لزمته الكفارة؛ من أجل الصيام لا من أجل الاعتكاف. والحالة الثانية: إن وقع جماعه في الليل، فإنه لا تجب عليه الكفارة على أصح القولين، وهو مذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم.

مستحبات الاعتكاف

مستحبات الاعتكاف قال رحمه الله: [ويستحب اشتغاله بالقرب]

الاشتغال بالقرب من مستحبات الاعتكاف الاشتغال بالقرب

الاشتغال بالقرب من مستحبات الاعتكاف الاشتغال بالقرب قوله: (يستحب) أي: الأفضل والأكمل والأعظم أجراً للمعتكف أن يشتغل بالقرب، وهي كل ما يقرب إلى الله سبحانه وتعالى من الاعتقاد والأقوال والأعمال الظاهرة. فمن الاعتقاد: التفكر في عظمة الله سبحانه وتعالى، وكذلك استشعار عظيم فضل الله عليك، فإن الإنسان لو تفكر وتأمل وتدبر في نعم الله عز وجل المغدقة عليه؛ فعظّم الله وهابه، وخشي منه سبحانه، كان هذا منه عبادة وقربة، حتى قال بعض العلماء: أعمال القلوب أعظم من أعمال الجوارح، وأعمال القلوب تشمل تعظيم الله سبحانه وتعالى والخوف منه وخشيته وحبه وإجلاله، فهي أعظم من أعمال الجوارح. ولذلك غفر الله عز وجل لعبده لما عظمه كما في الحديث الصحيح: (أن عبداً قال لأبنائه: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، وذروا نصفي في البر ونصفي في البحر، فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين. قال: فلما مات صنعوا به ذلك، ثم ذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فقال الله للبحر: اجمع ما فيك، وقال للبر: اجمع ما فيك، فإذا هو قائم بين يدي الله، قال الله: عبدي ما حملك على ما صنعت؟ قال: خوفك يارب! قال: قد غفرت لك). قالوا: فهذه من أعمال القلوب، ولذلك أثنى الله على أهل هذه العبادة فقال: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:191] فالتفكر والتدبر من أعمال القلوب، فإذا كان الإنسان في معتكفه وتفكر في عظمة الله، وتذكر ذنوبه وإساءته وتفريطه في جنب الله، وذرفت عيناه من خشية الله فهذه قربة بقلبه. كذلك إذا سبح وهلل وحمد وكبر، وأثنى على الله بما هو أهله فهي قربة بلسانه، وهكذا إذا قام يصلي فركع وسجد وتلا كتاب ربه، فهي قربة بجوارحه، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله سبحانه وتعالى. فالمقصود: انصراف الإنسان في معتكفه إلى الله عز وجل، وهي عبادة مخصوصة المراد منها: أن يستكثر الإنسان فيها من طاعة الله عز وجل. لكن لو أن المعتكف تحدث وقتاً في شيء من الدنيا وكان ذلك منه بقدر، فإن هذا لا يفسد الاعتكاف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام مع أم المؤمنين صفية رضي الله عنها يَقْلِبُها، وكانت تأتيه وهو معتكف، فكان صلى الله عليه وسلم يتحدث معها ويباسطها، ثم يقوم يقلبها كما ثبت عنه ذلك في الصحيحين. فهذا من سماحة الإسلام، فالإسلام دين وسط، ليس فيه رهبنة بحيث يقبل الإنسان إقبالاً كلياً ينصرف فيه عن أموره الضرورية، وعن الأمور التي هي من جبلة البشر، فإن النصارى غلت في العبادة حتى أصبحت في مقام الرهبنة، والإسلام لا يريد هذا من المسلم، فلا رهبانية في الإسلام؛ وإنما يريد من المسلم أن يعبد الله، ولكن لا يصل إلى درجة الغلو ولا إلى درجة التنطع؛ وإنما إلى درجة معتبرة يصل الإنسان بها إلى مرضات الله عز وجل، متأسياً ومقتدياً بنبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين. فيستحب له الاشتغال بالقرب الظاهرة والباطنة التي يحبها الله ويرضاها، ويستجمع أمرين هامين: الأمر الأول: الندم على ما فات من الذنوب والعصيان؛ فإن الإنسان في أوقات مظنة أن يرحمه الله عز وجل برحمته، فإن مواسم الخير وساعات الطاعة والبر مظنة الرحمة؛ لأن الله فضلها وشرفها واختارها لحكمة منه سبحانه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة) كما في الصحيح من حديث أبي هريرة. قال بعض العلماء: وأعظم ما تكون الرحمة إذا كانت في العشر الأواخر؛ لأن الله اختار من الشهر العشر الأواخر، فإذا كان الإنسان معتكفاً في العشر الأواخر واستجمع نفسه في الإقبال على الله، فعليه أن يندم على ما فات من الذنوب والعصيان، لعله أن يخرج من معتكفه كيوم ولدته أمه. لأن المقصود من الاعتكاف: أن يصيب ليلة القدر، ومن أصاب ليلة القدر وقامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، فكم من أناس تشرق عليهم الشمس في صبيحة ليلة القدر وقد خرجوا من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم! فهذا هو المقصود من ليلة القدر، والمقصود من الاعتكاف: أن الإنسان يصيب رحمة الله عز وجل وعفوه ومغفرته. الأمر الثاني: الإكثار من الدعاء، وسؤال الله العافية فيما بقي من العمر، ويتضرع إلى الله عز وجل أن يحسن له الخاتمة في ما بقي له من عمره، كما قال تعالى: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15] فالإنسان إذا نظر إلى ما هو قادم عليه من عمره خاف من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وخاف أن يختم له بخاتمة السوء، وخاف أن تزل القدم بعد ثبوتها. فلذلك يخشى من الله عز وجل في ما هو قادم عليه، ويسأل الله عز وجل أن يلطف به، فإذا حصّل المعتكف الشعور بالندم على ما فات، احتقر نفسه؛ بسبب تفريطها في جنب الله، وأيضاً أحسن الظن بالله سبحانه وتعالى ورجا أن يرحمه وأن يغفر له. وهذه أمور تعين على شغل الوقت بذكر الله عز وجل: الأمر الأول: عليه أن ينصرف إلى الله بكليته، فإذا جاء من يشغله عن ذكر الله، أو جاءه أصحابه أو أحبابه، ورأى منهم الإفراط في الجلوس وإضاعة الوقت والتفريط في الأوقات، فلا يحرص على مثلهم، وإنما يفر منهم. ولذلك كلما كان الإنسان بعيداً عن الخلطة كلما كان آنس بالله عز وجل، ومن كان أنسه بالناس أعظم من أنسه بالله فلا خير فيه، إنما يكون الأنس بالله جل جلاله، وإذا كنت تستشعر أن أصحابك وأحبابك يدخلون السرور عليك، فوالله إن سرورك بهم لا يكون شيئاً أمام سرورك بالله عز وجل، وإذا أحس الإنسان بالأنس بالله عز وجل فإنه يقبل على الله بكليته. الأمر الثاني: أن يستشعر أنه ما ترك الوالدين ولا الأولاد ولا القَرابات؛ من أجل إضاعة الوقت في القيل والقال، ومن أجل شغل الأوقات في الأمور التي قد يكون فيها الغيبة والنميمة والأمور المحرمة، إنما ترك الوالدين والأولاد من أجل ذكر الله ومن أجل طاعة الله، فيستحب للإنسان أن يستشعر هذا الشعور؛ حتى يستفرغ همته للخير والطاعة والبر، ونسأل الله التوفيق! فإن العبد لا يستطيع أن يصيب الخير إلا بتوفيق الله عز وجل، فكم من محب للخير لا يوفق له، فيحال بينه وبين التوفيق للخير بسبب الذنوب، نسأل الله العظيم أن لا يحول بيننا وبين رحمته بما كان من ذنوبنا وإساءتنا.

اجتناب المعتكف وغيره لما لا يعنيه

اجتناب المعتكف وغيره لما لا يعنيه قال رحمه الله: [واجتناب ما لا يعنيه]. هذا أصل عام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) أي: من كماله وجلاله وفضله، ومن علو مرتبة الإنسان في الإسلام، وإذا أردت أن ترى المسلم الكامل فانظر إلى الذي يترك ما لا يعنيه، فالله عز وجل كلفك نفسك، وكلفك أن تأمر الناس بالخير وتنهاهم عن الشر؛ استجابة لأمر الله عز وجل، وما وراء ذلك من لمز الناس وأذيتهم، أو الاشتغال بفضول الدنيا فهذا مما لا يعنيك. ولذلك إذا فَرَّغ الإنسان نفسه لما يعنيه ساد، فهذا الأحنف بن قيس عندما قال له رجل: كيف سدت قومك وأنت قصير، دميم الخلقة؟ وكان الأحنف من سادات العرب ومن أهل الحلم والفضل، فقال كلمة عظيمة في جواب هذا السائل المحتقر له المزدري له في خلقته قال له: بتركي لما لا يعنيني كما عناك من أمري ما لا يعنيك. فهذا الأمر -وهو خلقة الله عز وجل- لا تعنيك، وأنت اشتغلت بها مع أنها لا تعنيك، فَسُدتُ قومي حينما تركت الفضول وتركت الاشتغال بالناس وهمزهم ولمزهم واحتقارهم والوقيعة فيهم، فالسيد الذي يتبوأ المنزلة العالية هو الذي يسلم الناس منه. وإذا سلم الناس منك أحبوك وهابوك، وكلما كنت عفيفاً عن أعراضهم وعن عيوبهم، فإنهم يعفون عن عرضك وعن عيوبك، كما قال الإمام مالك: أعرف أقواماً عندهم عيوب ستروا عيوب الناس فستر الله عيوبهم، وأعرف أناساً لا عيوب عندهم تكلموا في عيوب الناس وكشفوها؛ فكشف الله عيوبهم، أي: أوجد الناس لهم عيوباً ليست لهم. فلذلك على الإنسان ألاّ يشتغل بما لا يعنيه، خاصة الكلام في الناس، وتتبع عثراتهم والوقيعة فيهم، وخاصةً إذا كانت غيبة ونميمة، وأشد ما تكون إذا كانت في العلماء والأئمة وطلاب العلم والفضلاء. بعض الأحيان يجلس المعتكفون ويقعون في الغيبة وهم لا يشعرون، فلان طوّل بنا، وفلان قصّر، وفلان تلاوته أحسن من فلان، وفلان أفضل من فلان، وليت فلاناً قرأ بكذا ولم يقرأ بكذا، وفلان يخطئ، فهذه أمور من الغيبة يقع الإنسان فيها وهو لا يشعر، وفي الحديث (قال: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نقول؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم). فلذلك ينبغي على المسلم أن يعلم أن الاعتكاف لله لا لأي شيء سواه، فيشتغل بالأمور التي تعنيه، ويترك عنه فضول الحديث. وقد كان السلف رحمة الله عليهم يخافون من فضول الحديث كخوفهم من الأمور المحرمة؛ خوف الاشتغال بها فتوصلهم إلى الحرام، وينبغي للمسلم أيضاً أن يوطن نفسه على اجتناب فضول الكلام، سواءً كان معتكفاً أو غير معتكف، خاصةً طلاب العلم وأهل الفضل؛ لأن الناس تنظر إليهم على أنهم القدوة، والشاب الملتزم الصالح إذا كان بين أهله وإخوانه وقرابته ينظرون إليه أنه قدوة، فإذا وجدوه يكثر من ذكر الدنيا ومن العقارات والبيع والشراء سقط من أعين الناس واحتقروه وازدروه. ولذلك يقول العلماء: الأمر في أهل العلم وأهل الفضل آكد، كالأئمة والخطباء والوعاظ والدعاة والعلماء ونحوهم، هؤلاء ينبغي عليهم أن يحفظوا ألسنتهم، وأن يتحفظوا فيما يتكلمون فيه ويسمعونه، فإذا جلس الإنسان في المجلس ووجد فضول الكلام وفضول الأحاديث، اشتغل بما يعنيه من ذكر الله عز وجل والتسبيح والاستغفار، قال أحد الصحابة رضي الله عنه: (كنا نعد للنبي صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد أكثر من سبعين مرة: أستغفر الله، أستغفر الله) لأنه قدوة، ولأنه كان إماماً في الخير وكان معلماً للخير، فكان إذا جلس استغفر الله، فما كان يشتغل بما لا يعنيه صلوات الله وسلامه عليه، فالمنبغي على الإنسان أن يحرص على هذه الخلة. فالمعتكف إذا حافظ في هذه العشرة الأيام على أنه لا يشتغل بما لا يعنيه، قد يستمر على هذه الخصلة الكريمة طيلة حياته؛ لأن الاعتكاف مدرسة، فإذا كان وطن نفسه في خلال العشرة الأيام على أن يستجمع قواه فيضغط على نفسه وعلى شهوته، فينضبط في سلوكه وأقواله وأفعاله، فإنه يبقى أثر هذه الطاعة. ومن دلائل قبول الاعتكاف: أن تجد المعتكف يخرج بخصلة من خصال الخير، بل يخرج بخصال، فإذا تعوّد على أنه معتكف وأنه مراقب في أقواله وأفعاله، فإنه قد يبقى معه هذا الشعور. يقول العلماء: والمقصود من الاعتكاف أن المعتكف حينما يُلْزَم بمكان، ويستشعر أنه ينبغي أن يستفرغ جميع جهده، يحس كأنه في الدنيا من حيث هو مخلوق ينبغي أن يستفرغ وقته في ذكر الله عز وجل، فمثل هذه المواسم وهذه المواقف تعين الإنسان على أن يضبط شهوته، وأن يضبط نفسه، فلا يسترسل في الكلام وفي ما لا يعنيه. نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل في القول والعمل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين الاعتكاف وغيره من العبادات

الفرق بين الاعتكاف وغيره من العبادات Q أشكل عليّ مسألة عدم جواز نقل نية النافلة إلى الفريضة، أي: من أدنى إلى أعلى، بينما يجوز في الاعتكاف الانتقال من الأدنى إلى الأعلى، كمن نوى الاعتكاف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جاز أن يعتكف في المسجد الحرام، فما الفرق بينهما أثابكم الله؟ A أن النية إذا انعقدت بالنافلة فلا يجوز لك أن تصرفها إلى فريضة، فلو أن إنساناً كبر تكبيرة الإحرام، أو صلى ركعتي الوضوء أو راتبة الظهر ناوياً النافلة، ثم فكر وقال: لو أني قلبتها إلى الفريضة. فإنه لا يجزيه ذلك؛ لأن النية انعقدت للنافلة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما لكل امرئٍ ما نوى) والفريضة أعلى من النافلة، ولا يجزئ أن ينصرف من الأدنى فتبرأ ذمته بالأعلى، بدليل: أنه إذا صلى أربع ركعات نافلة ثم نواها عن الفريضة فإنه بالإجماع لا تنقلب فريضة. أما مسألة أنه لو نوى الاعتكاف في الأقل كمسجد النبي صلى الله عليه وسلم مع المسجد الحرام، وانصرف إلى الأعلى، فهذا من جهة الإسقاط، بخلاف الصلاة التي تنعقد بتكبيرة الإحرام، فإن الإنسان إذا كبر تكبيرة الإحرام نافلة فإنها لا تنصرف فريضة، بخلاف الاعتكاف، فإنه في الفضائل، ولأنك لما تعتكف في البيت الحرام فإنك تحصل الواجب وزيادة، ولكن إذا نويت النافلة فإنك تحصل ما دون الواجب، فلا تنتقل إلى الواجب. وتوضيح ذلك: أنه عندما يكبر تكبيرة الإحرام للنافلة، فإنها تقع من أول التكبير للأقل، فلا تنتقل للأعلى؛ لأنه أعلى بحكم الشرع وهو الواجب والفرض. وأما بالنسبة لمن اعتكف في البيت الحرام، وكان قد نوى الاعتكاف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الفعل الذي يقع منه يقع على الأكمل، فهو صورة عكسية تماماً، وكذلك إذا اعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد نوى الاعتكاف في المسجد الأقصى والذي تكون الصلاة فيه بخمسمائة صلاة، فمعناه: أنه قد حصل الفرض -وهي الخمسمائة صلاة وزيادة- فجاز له أن ينصرف من الأدنى إلى الأعلى. وأما إذا كبر تكبيرة الإحرام فقد دخل في الأدنى، ولم يجز أن ينتقل إلى الأعلى في النافلة؛ لأنه لا يحقق الفرض ولا يحقق الزيادة. وبناءً على ذلك اختلفت المسألتان فكان الحكم بالجواز في الاعتكاف، والحكم بالمنع في صلاة النافلة. والله تعالى أعلم.

جواز الطواف حول البيت للمعتكف

جواز الطواف حول البيت للمعتكف Q إذا كان الاعتكاف بالمسجد الحرام، هل هناك حرج إذا خرج إلى الطواف؟ A البيت الحرام كله مهيأ للاعتكاف، فمن اعتكف في الدور الأول أو الدور الثاني أو الدور الثالث، أو اعتكف في الساحات فإنه معتكف؛ لأن الله عز وجل أطلق البيت كله، ولذلك قال: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} [البقرة:125]. فإذا تأملت أن البيت كله مكان للاعتكاف صح أن ينزل للطواف؛ لأنه أثناء طوافه في حكم المعتكف، وأثناء طوافه واشتغاله بالطواف كاشتغاله بالصلاة أثناء الاعتكاف، لأن الطواف صلاة، وكونه ينزل إلى صحن بيت الله الحرام فهو في أفضل الأماكن وأشرفها، وهذا لا يضر ولا يخرجه عن كونه معتكفاً. ولذلك قال العلماء: من طاف في أي مكان من البيت، بحيث أنه لم يخرج عن حدود المسجد؛ فإن طوافه صحيح، لكن لو خرج عن حدود المسجد وجاوز المسجد، أو طاف من خارج المسجد بسيارة مثلاً لم يصح طوافه؛ لأنه قال: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [البقرة:125] فالطائف لا يصدق عليه أنه طائف إلا إذا كان في داخل البيت، وداخل حدود البيت، أعني: المسجد المبني. فالمقصود: أن هذا التعبير بقوله: (بيتي) شامل لجميع المسجد، فالمعتكف ما دام داخل المسجد فإنه لا يضره، وإذا نزل إلى الطواف فقد نزل إلى أفضل الأماكن، خاصة وأنه يجمع بين الاعتكاف وبين الطواف، وهو ضرب من الصلاة بنص حديث ابن عباس رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم.

حكم من اشترط الخروج من المعتكف ليصلي بالناس

حكم من اشترط الخروج من المعتكف ليصلي بالناس Q من اشترط الخروج من المعتكف ليصلي بالناس كأن يكون إماماً لمسجد غير المسجد الذي اعتكف فيه؟ A أما بالنسبة لمسائل الاشتراط في الاعتكاف فأنا أتوقف فيها؛ لأنها مبنية على القياس، وأنا أرى أن الأحوط للإنسان أن يبقى على السنة، وأن لا يعتكف إلا بالصورة المعتبرة شرعاً، والأفضل في مثل هذا أن يخرج من الخلاف فيجعل اعتكافه جزئياً، فينوي الاعتكاف ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، حتى إذا قارب وقت أذان الظهر خرج من المعتكف؛ تحصيلاً للواجب الذي عليه، فيصلي الظهر بالناس ثم يرجع، وينوي الاعتكاف بين الظهر والعصر، وهكذا يجزئ الاعتكاف، فهذا يخرج من الخلاف وهو أرفق به، والله تعالى أعلم.

عدم لزوم تجديد النية من البيت لمن فسد اعتكافه

عدم لزوم تجديد النية من البيت لمن فسد اعتكافه Q هل الذي يفسد اعتكافه يلزمه خروجه من المسجد ورجوعه إلى منزله وأهله لكي يجدد نية الاعتكاف؟ A من فسد اعتكافه وجدد النية صح ذلك وأجزَأَه، ولا يجب عليه الخروج إلى البيت لكي ينوي الاعتكاف من جديد من البيت، فهذا لا أصل له، وإنما يجدد نيته في المسجد، ويصح اعتبار اعتكافه المستأنف، فلو أنه فسد اعتكافه في الساعة الثانية ظهراً بخلل شرعي؛ كخروجه من المسجد من دون حاجة، ثم قال: أستغفر الله! ورجع إلى المسجد، فإنه يكون اعتكافه مستأنفاً بالرجوع الثاني، والله تعالى أعلم.

حكم الصفرة والكدرة قبل الحيض وبعده

حكم الصفرة والكدرة قبل الحيض وبعده Q أحياناً وقبل مجيء العادة الشهرية بيوم أو يومين تأتي صفرة وكدرة فما حكمها، أثابكم الله؟ A الصفرة والكدرة لا تخلو من ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تأتي قبل زمان الحيض الذي اعتادته المرأة، كأن تكون عادتها الستة الأيام من أول كل شهر، فإذا جاءتها في نهاية الشهر السابق فإنها تعتبر استحاضة لا تمنع من الصوم ولا تمنع من الصلاة، وتغسلها ثم تضع قطنة في الفرج ثم تصلي. الحالة الثانية: أن تكون الصفرة والكدرة أثناء أمد الحيض، فهي حيض على الصحيح من أقوال العلماء؛ لحديث أم عطية: (كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الحيض شيئاً) ومفهوم هذا الحديث أنها في الحيض حيض. وأما إذا جاءت الصفرة والكدرة بعد انتهاء أمد العادة، كأن تكون عادتها سبعة أيام فجاءتها بعد السبعة الأيام، فإنها استحاضة قولاً واحداً عند أهل العلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

مقدمة كتاب المناسك [1]

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب المناسك [1] الحج ركن من أركان الإسلام، وقد فرضه الله سبحانه وتعالى على عباده المؤمنين مرة واحدة في العمر، وذلك عند توفر الشروط وانتفاء الموانع. وللحج شروط عدة منها: الإسلام، والحرية، والتكليف، والقدرة والاستطاعة، فإن توفرت هذه الشروط وجب الحج. وهناك موانع تمنع من إيجاب الحج على الإنسان منها: الكفر، والجنون، والرق، وعدم البلوغ، وبعض هؤلاء قد يصح منهم الحج نفلاً لا فرضاً، وبعضهم لا يصح منهم الحج لا نفلاً ولا فرضاً.

مقدمة عن الحج وبيان أهميته

مقدمة عن الحج وبيان أهميته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول رحمه الله: [كتاب المناسك] هذا الكتاب المراد به بيان أحكام الحج والعمرة، وما يتصل بهما من بيان أحكام الهدي والأضاحي، وما أوجب الله عز وجل في هذه الفريضة العظيمة الجليلة الكريمة، التي هي الركن الخامس من أركان الإسلام. ذكر رحمه الله كتاب المناسك عقب كتاب الصيام؛ لأنها الركن الخامس من أركان الإسلام؛ مراعاة للترتيب كما في حديث ابن عمر: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً) فلما رتب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأركان بهذا الترتيب، اعتنى الفقهاء رحمة الله عليهم بذكرها مرتبة على هذا الوجه. المناسك: جمع منسك، والنسك يطلق ويراد به المعنى العام وهو العبادة وحملوا عليه قوله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162] قيل: النسك كل ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، فيكون قوله: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي من عطف العام على الخاص. وأيضاً يطلق النسك ويراد به العبادة الخاصة كالذبح، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (انسك نسيكة) كما في حديث كعب بن عجرة في الصحيحين، أي: اذبح ذبيحة، فالنسك يطلق بمعنى الذبح، وهو الوجه الثاني في تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162] أي: ذبحي. كما قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]. والمناسك المراد بها هنا: أفعال الحج والعمرة، ويشمل ذلك: الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، والمبيت بمنى وبقية المناسك، فهذه مناسك الحج. كذلك أيضاً مناسك العمرة من الإحرام والطواف بالبيت، والسعي بن الصفا والمروة، والحلق أو التقصير. في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل الشرعية المتعلقة بعبادة الحج وعبادة العمرة. لقد فرض الله عز وجل الحج على عباده بقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] وكذلك العمرة -على أصح قولي العلماء- فرضها الله سبحانه وتعالى على عباده، كما في الحديث الصحيح عند الإمام أحمد في مسنده، والنسائي في سننه: (أن عائشة رضي الله عنها لما سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل على النساء جهاد؟ قال عليه الصلاة والسلام: عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة). فقال: (عليهن) يعني: أنهن ملزمات، فهي صيغة إلزام، مثل: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [المائدة:105] أي: ألزموها. فدل هذا الحديث على أن العمرة واجبة، فتبين بهذا أن الحج والعمرة كل منهما واجب على الذكر والأنثى، بقيود وشروط سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى. فضل الله الكعبة البيت الحرام وجعلها قياماً للناس يقيمون فيها طاعته، ويتقربون إليه سبحانه بأفضل وأحب وأجل ما يتقرب إليه وهو التوحيد. والله سبحانه وتعالى جعل هذا البيت وهذه المشاعر والمناسك لشيء واحد وهو توحيده سبحانه وتعالى، فتكون العبادة خالصة لوجهه، فالمسلم يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة، وكذلك يقف بعرفة، ويبيت بمزدلفة، ويفعل سائر أفعال الحج؛ توحيداً لله سبحانه وتعالى؛ ولذلك ما من منسك من هذه المناسك إلا وفيه معلم من معالم التوحيد، بل معالم عديدة من معالم التوحيد، قصد منها أن يخرج الإنسان من هذه العبادة وهو أخلص ما يكون لله عز وجل في قوله وفعله وظاهره وباطنه. وعبادة الحج والعمرة فيها خير كثير من منافع الدنيا، كما أنها تحقق أعظم منفعة في الدين، فإن فيها منافع ومصالح عظيمة دينية ودنيوية. أما منافع هذه المناسك الدينية: توحيد الله عز وجل، وجمع المسلمين في صعيد واحد ليستشعروا به أخوة الإسلام، وما ألف الله به بين قلوبهم، حتى يحس المسلم أن الله جمع بينه وبين أخيه المسلم بهذا الدين. ورابطة الدين هي أعز وأكرم وأشرف عند الله سبحانه من رابطة النسب والقرابة؛ ولذلك يجمع الله المسلم مع جيرانه وأهل حيه في اليوم خمس مرات، فإذا تم الأسبوع جمعه مع أهل البادية وضاحية المدينة؛ حتى يأتلف الناس ويحسوا أنه لا فرق بينهم، وأن هذه الأشكال والصور والألوان والأماكن والبلدان لا فرق بينها في دين الله عز وجل، فيركعون ويسجدون خلف إمام واحد، ويتقيدون بهذا الإمام وينصتون إليه، فتجد المليون يستمعون إلى رجل واحد؛ حتى نشعر بالألفة وبالأخوة. ولا يجتمع على وجه الأرض المليون والمليونان ينصتون لرجل واحد وهو يتكلم؟! ولو اجتمع مائة ألف عجز الناس عن إسكاتهم، ولو جاءوا بعدد من الخلق من أجل أن يُسْكِتُوا هؤلاء المائة ألف لحظة أو ساعة مؤقتة، لكان من الصعوبة بمكان، ولحصل اللغط، ولكن في الإسلام يجتمع المليون والأكثر من المليون ويستمعون لخطيب واحد على صعيد عرفة، لا يتكلمون ولا يهمسون. وكذلك أيضاً عندما يجتمعون في صلاة الجمعة؛ من أجل أن يشعر المسلم بأخوة هذا الدين، وأن هذا الإسلام جمع بين القلوب وألف بين الأرواح، وهي دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك جعل الله عز وجل المسلمين بمثابة الجسد الواحد، وأشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (مثل المسلمين في توراتهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). فيجتمعون في الأسبوع على مستوى المدينة والأحياء القريبة من المدينة، فإذا كان يوم العيد اجتمعوا على أبعد من المدينة، وتجد الناس تأتي من أماكن بعيدة من أجل شهود العيد داخل المدينة. كل ذلك من أجل جمع القلوب وتآلف الأرواح: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63] وهذا هو مقصود الإسلام، ولذلك يقول بعض العلماء: إن الله امتن على عباده بالألفة والأخوة والتواد والتراحم قبل منَّةِ الدين، فقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103] فجعل نعمة الاعتصام والائتلاف والتواد والتراحم واجتماع الكلمة قبل قوله: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103] وهذا يدل على عظيم أمر الائتلاف والاجتماع والاعتصام بحبل الله عز وجل. وهذا مقصود ومراد في الحج، ولذلك يجتمع الناس بإمام واحد، ولا حج إلا بإمام، ويدفعون بدفع الإمام، وتراهم جميعاً بثوب واحد وزي واحد، وعلى هيئة واحدة، وفي مقام واحد وصعيد واحد، كل ذلك لكي يشعروا بأخوة الإسلام وما ربط الله عز وجل بينهم. كذلك من مقاصد الحج: أن المسلم يجتمع بأخيه المسلم، يسأله عن حاله وأشجانه وأحزانه، فإن وجد خيراً حمد الله، وأمره أن يشكر الله على فضله، وإن وجد غير ذلك ثبته وقواه، ودعاه إلى الاعتصام بحبل الله، وتواصى المسلمون بالثبات على الحق إلى الممات، والصبر على ما يكون من بلايا الدنيا ومصائبها، فتجدهم متآلفين متعاطفين متكاتفين متراحمين متواصلين كالجسد الواحد، فالمسلم الذي في مشرق الأرض يتأوه لأخيه المسلم الذي في مغرب الأرض؛ وما ذلك إلا برابطة هذا الدين. فالمقصود من الحج: جمع الكلمة وائتلاف القلوب. أما المنافع والمصالح الدنيوية من المناسك: التجارة وغيرها. ولقد فضل الله أهل البيت الحرام فساق إليهم الخيرات، وجعل بلدهم آمناً مطمئناً تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً منه سبحانه؛ لكي يشكروه ويحمدوه ويعظموه، فحق جيران بيت الله الحرام آكد من غيرهم، فلما رأوا الناس تتوافد عليهم، من كل حدب وصوب شعروا بحرمة هذا البيت، وشعروا بنعمة الله عليهم وفضل الله عليهم بأن جعل القلوب تهوي إلى هذا البيت! يُسأل المسلم في أقصى الشرق عن أمنية عزيزة عليه، فيقول: أتمنى أن أرى البيت الحرام، وأن أحج، وأن أعتمر. وهذا كله لاشك يدعو الإنسان أن يشعر بنعمة الله عز وجل عليه. ومن مصالح الحج الدنيوية أن يجتمع الناس ويتعرف بعضهم على بعض، وتتعرف على عادات وتقاليد، وترى أشياء وصنوف عجيبة غريبة من تصرفات الناس وأفعالهم، فترى الحكيم بحكمته والجاهل بجهله، فإن وجدت خيراً تعلمته، وإن وجدت غير ذلك حمدت الله على نعمته وفضله عليك. ففي الحج غايات عظيمة وأسرار كريمة، فليس المقصود أن الإنسان يحج من أجل أن يصيب هذه العبادات خالية عن هذه المعاني. وقال بعض العلماء: من أعظم معاني التوحيد في الحج أن الحج يذكر الإنسان بالآخرة، فإن الإنسان من أول لحظة في الحج إذا خرج من بيته يتوجه إلى الميقات، فيأتيه أمر الله عز وجل في الميقات أن يتجرد من ثيابه، وأن ينزع عنه المخيط. فإذا تجرد من ثيابه تذكر إذا جرده أهله من ثيابه حين يموت ليغسلوه، هو اليوم يجرد نفسه؛ ولكنه غداً يُجَرَّدَ. ثم إذا لبس ثياب الإحرام فإنه يتذكر لبس الأكفان، وعندما يلبس ثياب الإحرام فإنه يمنع من الطيب، ومن قص الشعر، ومن الترفه، فيتذكر أنه إذا صار إلى قبره يحال بينه وبين أي شيء من ملاذ الدنيا ومتعها وما فيها من الشهوات والملهيات، كذلك هو في حجه يُمنع من هذه الأمور لكي يتذكر الآخرة. ثم إذا صار إلى صعيد عرفات تذكر وقوف الناس بين يدي الله عز وجل حفاة عراة غرلاً، فيتذكر مثل هذه المواقف؛ ولذلك يقولون: الحج يعين على تذكر الآخرة. ومن غايات الحج وأهدافه وأسراره: أنه يقوي شكيمة المسلم، ولذلك وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بكونه جهاداً، فتتعود على التغرب عن الأوطان، ولذلك جعل الله عز وجل شهواتك تستجيب لك، ولس

مشروعية الحج والعمرة وحكمهما

مشروعية الحج والعمرة وحكمهما يقول المصنف عليه رحمة الله: [الحج والعمرة واجبان على المسلم الحر المكلف القادر] شرع المصنف رحمه الله في بيان حكم الحج والعمرة، وهما النسك. فبيّن رحمه الله أن كلاً من الحج والعمرة يعتبر فريضة من فرائض الله عز وجل. أما بالنسبة للحج فهذا محل إجماع واتفاق بين أهل العلم رحمهم الله؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]. وقال عليه الصلاة والسلام: (بني الإسلام على خمس) وذكر منها: حج البيت من استطاع إليه سبيلاً. وأجمع المسلمون على أن الحج ركن من أركان الإسلام.

أقوال العلماء في فرضية العمرة

أقوال العلماء في فرضية العمرة وأما بالنسبة للعمرة ففيها قولان مشهوران لأهل العلم رحمة الله عليهم: القول الأول: إن العمرة سنة وليست بواجبة، وبهذا القول قال فقهاء الحنيفة والمالكية، وهو رواية عن الإمام أحمد، وقول للشافعي رحمة الله على الجميع. والقول الثاني: إن العمرة واجبة، وبهذا القول قال الشافعية والحنابلة في المشهور. فأما دليل من قال: إن العمرة سنة وليست بواجبة فقد استدلوا بظاهر قوله سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] قالوا: ولو كانت العمرة واجبة لقال الله: ولله على الناس الحج والاعتمار، ولكن الله سبحانه وتعالى خص الفريضة بالحج، فدل على أن العمرة لا تأخذ حكم الحج. واستدلوا كذلك بالأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها حديث عبد الله بن عمر في الصحيح (بني الإسلام على خمس، وفيه: حج البيت من استطاع إليه سبيلاً) قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر العمرة مع الحج، فدل على أن الحج فريضة والعمرة سنة. وكذلك استدلوا بحديث عمر في الصحيحين حينما سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، فذكر شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، قالوا: ولم يذكر العمرة. وكذلك أيضاً استدلوا بحديث ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه، وذلك أنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله فقال: (زعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلاً. قال: صدق، فقال بعد ذلك: والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال صلى الله عليه وسلم: لئن صدق ليدخلن الجنة) فقال: لا أزيد على هذا. والعمرة زائدة على الحج، فدل على أن العمرة ليست بواجبة. كذلك أيضاً استدلوا بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله أعرابي عن العمرة أواجبة هي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا وأن تعتمر خير لك) وهذا الحديث رواه الإمام الترمذي في سننه، وقال: إنه حديث حسن صحيح، وكذلك رواه الإمام أحمد في مسنده. قالوا: فهذا الحديث الصحيح يدل على أن العمرة ليست بواجبة، حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله السائل: (أهي واجبة؟ قال: لا) وهذا يدل على أنها ليست بلازمة، ثم قال: (وأن تعتمر خير لك) أي: أنها سنة مستحبة وليست بفريضة واجبة. كذلك استدلوا بحديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج جهاد والعمرة تطوع) وهذا الحديث رواه ابن ماجة بسند ضعيف. هذه هي حاصل حجج من قال: بأن العمرة ليست بواجبة. أما من قال: بأن العمرة واجبة فقد استدل بقوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]. وجه الدلالة: أن الله قرن العمرة بالحج، فدل على أن حكمهما واحد، وهذه الدلالة تسمى عند العلماء: بدلالة الاقتران، وهي دلالة ضعيفة، والدليل على ذلك أن الله يقرن الواجب وغير الواجب كما قال سبحانه وتعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] فإن الله قرن الأكل بأداء الزكاة، فدل على أنه قد يقرن الواجب بغير الواجب. ثم إن هذه الدلالة في الآية محل نظر، وذلك أن الله تعالى قال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة:196] ففي قراءة (والعمرة لله) على العطف وهناك قراءة على الاستئناف (وأتموا الحج والعمرةُ لله) وعلى هذه القراءة لا يستقيم الاستدلال. وكذلك أيضاً استدلوا بالسنة، وذلك لما ثبت من حديث أبي رزين العقيلي رضي الله عنه وأرضاه: (أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيه حيث قال: إن أبي لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، فقال صلى الله عليه وسلم: حج عن أبيك واعتمر) وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، وكذلك الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وصححه غير واحد من الأئمة، قالوا: إن هذا الحديث أمر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أبا رزين أن يعتمر عن أبيه، فدل على أن العمرة واجبة. واستدلوا أيضاً بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وذلك (أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل على النساء جهاد؟ قال عليه الصلاة والسلام: عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة) فقوله: (عليهن) أي: يلزمهن كقوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [المائدة:105] أي: ألزموها، فهذه الصيغة صيغة إلزام، وصيغة الإلزام تدل على الوجوب، وبناءً عليه فإن هذا الحديث يدل على وجوب العمرة. وبناءً على ذلك قالوا: إن العمرة واجبة، وهذا القول أعني: القول بوجوب العمرة هو أصح القولين والعلم عند الله، وذلك لقوة دلالة الأدلة التي استدلوا بها، وأما الآية فدلالتها ضعيفة هي قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] لكن الأقوى حديث أبي رزين وحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. وكيف نجيب عن دليل القائلين بالسنة؟ الجواب عن ذلك من وجوه: أقواها ما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله من أن الحج ينقسم إلى قسمين: - حج أكبر. - وحج أصغر. وهذا هو الذي دل عليه القرآن في قوله سبحانه وتعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة:3] فهناك حج أكبر وهو الحج المعروف، وهناك حج أصغر وهو العمرة، فلما قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] شمل الحج الأكبر والأصغر. وكذلك ما ورد من الأحاديث في قوله: (وأن تحج البيت) فإنه يشمل حج البيت بالأكبر والأصغر؛ لأنه مطلق فيشمل الاثنين، وهذا هو أنسب الوجوه؛ لأن الله وصف الحج بكونه أكبر وأصغر. وأجيب أيضاً بأن سكوت الأدلة عن ذكر هذه الفرائض في العزائم والأركان لا يدل على عدم وجوبها، وأن وجوبها شُرِعَ متأخراً، وهذا الوجه يختاره بعض الأئمة رحمهم الله. وبناءً على ذلك فإنه يترجح قول القائل بوجوب العمرة. إذا ثبت وجوب الحج والعمرة فيرد Q هل هذا الوجوب وهذه الفريضة عامة أو خاصة؟ أما بالنسبة للحج فهو واجب وفريضة على المستطيع عموماً بالشروط التي سنذكرها، أما العمرة فللعلماء الذين قالوا: بوجوبها وفرضيتها مسلكان: منهم من يقول: العمرة واجبة على الجميع دون فرق بين أهل مكة وغيرهم. ومنهم من يقول: هي واجبة على غير أهل مكة، أما أهل مكة فإنه لا تجب عليهم العمرة. والصحيح فرضيتها على الجميع؛ وذلك لأنه لم يدل دليل على استثناء المكي وإخراجه من هذا العموم.

شروط وجوب الحج

شروط وجوب الحج وأما بالنسبة لقوله: (الحج والعمرة واجبتان على المستطيع): هذا الشروع الذي بدأه المصنف في كتاب المناسك، إنما هو في بيان حكم هذه العبادة. وهذه الفرضية وهذا الوجوب مقيد بشروط، بدليل قوله سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] فقال (حِجُّ) وفي قراءة: (حَجُّ البيت من استطاع إليه سبيلا) فقيد هذا الوجوب وهذا اللزوم بالاستطاعة، ولذلك قال العلماء: إن هذه الفرضية تتقيد بشروط.

الشرط الأول: الإسلام

الشرط الأول: الإسلام قوله: (الحج والعمرة واجبان على المسلم): أي: واجبان على المسلم أما الكافر فلا يجب عليه أن يحج، ولا يجب عليه أن يعتمر، حتى يحقق أصل الإسلام والتوحيد من شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم بعد ذلك يخاطب بفروع الإسلام، أما الدليل على أن الكافر لا يحج ولا يعتمر فلأن الله سبحانه وتعالى قال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] وقوله سبحانه: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة:3] فهذا يدل على أنه لا يجوز دخول المشرك والكافر إلى مكة، ويشمل ذلك الحج والعمرة. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه بعث علياً رضي الله عنه ينادي بندائه: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان)، ولذلك قالوا: لا يدخل الكافر لحج ولا لعمرة، ومُنِعَ المشركون من الحج والعمرة بعد نزول هذه الآية الكريمة.

الشرط الثاني: الحرية

الشرط الثاني: الحرية قوله: [الحر]: أي: يجب الحج وتجب العمرة على الحر، أما الرقيق فلا يجب عليه حج ولا عمرة؛ لأن الله قال: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] والرقيق ليس عنده مال، فشرط الاستطاعة ليس بمتوفر ولا متحقق فيه، والدليل على أن الرقيق لا يملك المال، ما ورد من حديث ابن عمر الذي ذكرناه في كتاب الزكاة، وبينا أن الشرع أخلى يد العبد عن الملكية، وإذا خلت يدُ العبد عن ملكية المال فإنه لا يتحقق فيه شرط الوجوب، فلا يخاطب بالحج، ولا بالعمرة حتى يعتق. لكن لو أذن السيد لعبده بالحج وبالعمرة، فحج أو اعتمر فحجه صحيح وعمرته صحيحة. وخالف الظاهرية جمهور العلماء، فقالوا: إن العبد يطالب بالحج لعموم الأدلة، ولكن يجاب عنهم بأن هذا العموم مقيد بشروط، وذلك في قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] والاستطاعة تشمل الاستطاعة المالية، والعبد لا يملك المال فلا يتوجه إليه الخطاب بوجوب الحج، لكن لو حج بإذن سيده فلا إشكال. والعبد الذي لا يجب عليه الحج يشمل العبد الذي هو متمحض الرق، والعبد المبعض، أي: الذي بعضه حر وبعضه عبد، فلا يطالب بالحج وذلك لوجود حق السيد فيه، وإذا ازدحم الحقان حق المخلوق وحق الخالق، قدم حق المخلوق لوجود المشاحة فيها.

الشرط الثالث: التكليف

الشرط الثالث: التكليف قوله: [المكلف]: والمراد بذلك شرطا التكليف: الأول: البلوغ. الثاني: العقل. والتكليف مأخوذ من الكلفة والمشقة؛ والسبب في ذلك أن شرائع الإسلام فيها مشقة مقدور عليها، وأما المشقة غير المقدور عليها فلا يكلف الله بها، فإذا كان الشرع فيه مشقة وكلفة ظهر المطيع من العاصي، ولذلك حفت الجنة بالمكاره حتى يظهر من يمتثل أمر الله ومن يترك. والتكليف شرطه العقل والبلوغ. وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل فلا يحكم بكون الإنسان مكلفاً بشرائع الإسلام إلا إذا كان عاقلاً، فالمجنون لا يكلف ولا يجب عليه الحج، وهل إذا حج المجنون وأحرم عنه وليه يصح حجه؟ للعلماء وجهان: الأول: من أهل العلم من قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان بفج الروحاء، وسألته المرأة وقد رفعت صبياً لها فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم ولكِ أجر) قالوا: والمجنون في حكم الصبي، كل منهما فاقد للحلم والعقل، فقالوا: كما صحح النبي صلى الله عليه وسلم حج الصبي يصحح أيضاً حج المجنون. وبناءً على ذلك إذا أحرم عنه وليه، واستقامت له أركان الحج وشرائط صحته، حكمنا باعتبار حجه وصحته. الثاني: ومن أهل العلم من قال: المجنون لا يصح منه الحج البتة، لا يحرم بنفسه ولا يحرم عنه وليه، وذلك أنهم يرون أن الصبي استثني بالنص وبقي المجنون على الأصل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم- المجنون حتى يفيق). والمجنون له حالتان: الأولى: إن كان جنونه مطبقاً فإنه لا يجب عليه الحج ولا العمرة، ولا تجب عليه الشرائع؛ لأنه قد رُفِعَ عنه القلم، وَسَقَطَ عنه التكليف. الثانية: أن يكون جنونه متقطعاً، وهو الذي يجن تارة ويفيق أخرى، فإنه إذا حج في حال الإفاقة وكان قادراً مستطيعاً في حال إفاقته، فإنه يجب عليه الحج ويصح منه. وأما بالنسبة لشرط البلوغ: فهو أن يبلغ الصبي طور الحلم، وقد بينّا ذلك في كتاب الصلاة، وبينّا تعريف البلوغ وضابطه. والمراد بذلك أننا لا نوجب الحج على الصبي، ولكن لو حج الصبي وأحرم عنه وليه صح حجه، ولكن لا يجزيه عن حجة الإسلام وفريضته، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، لأنه إذا حج في حال صباه كان له نافلة، والنافلة لا تجزئ عن الفريضة، والرقيق إذا حج حال رقه فإنها كذلك نافلة؛ لأن الله لم يوجب عليه الحج، فإذا عتق العبد وبلغ الصبي لزمهما أن يعيدا حجهما وعمرتهما.

الشرط الرابع: القدرة والاستطاعة

الشرط الرابع: القدرة والاستطاعة قوله: [القادر] وهذا هو الذي نص القرآن عليه بشرط الاستطاعة، فقال سبحانه: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] أي: من استطاع إلى بيت الله سبيلاً، وهذه الاستطاعة تشمل الزاد والراحلة، فلا يجب الحج على من ليس عنده زاد أو راحلة تبلغه البيت، هذا إن كان على مسافة القصر من مكة، أما من كان من أهل مكة فإنما يشترط وجود الزاد، أما الراحلة فلا تشترط؛ لأنه بداخل مكة ويمكنه أن يخرج إلى المناسك ماشياً على رجليه. وفي حكم أهل مكة من كان دون مسافة القصر، فهؤلاء يجب عليهم الحج إذا وجدوا الزاد، والمراد بالزاد طعامهم ومئونتهم التي تكفيهم لحجهم، بشرط أن تكون فاضلة عن قوتهم وقوت من تلزمهم نفقتهم كما سيأتي. وقد عبّر المصنف رحمه الله بالقدرة، وهذه القدرة تشمل الزاد والراحلة، وقد جاءت في ذلك أحاديث موصولة ومرسلة وموقوفة، قال شيخ الإسلام: إنها أحاديث حسان، وينضم بعضها إلى بعض، ويقوي بعضها بعضاً، وهي تدل على أن شرط الاستطاعة قائم على الزاد والراحلة. وبناءً على ذلك فإن العبرة في الزاد نفقة الذهاب ونفقة الرجوع، فيقدر كم يحتاج للسفر إلى مكة ذهاباً وإياباً، ومن أهل العلم من قال: العبرة بالذهاب، أما الإياب فلا يخلو من حالتين: الأولى: أن يكون رجوعه إلى بلده لازماً من أجل من يقوم عليهم من أولاده وأهله، فيكون الشرط بالرجوع لازماً، أي: أنه يشترط أن يكون قادراً على نفقة الذهاب والإياب. الثانية: أن يكون لا أهل له ويمكنه أن يبقى بمكة، فزاد الرجوع ليس بلازم. وفائدة الخلاف: لو كان الرجل الذي يسافر من المدينة إلى مكة محتاجاً إلى زاد يقدر بمبلغ خمسمائة ريال في الذهاب، وخمسمائة ريال للرجوع، فبلغ ماله خمسمائة وليس عنده ألف، فحينئذٍ إن كان له أهل، ورجوعه إلى المدينة متعين لم يجب عليه الحج، وإن كان لا أهل له ويمكنه البقاء بمكة فيلزمه الحج، ويعتبر مخاطباً بأداء الحج فوراً. هذا بالنسبة على القول بأنه تقدر نفقة الإياب كما تقدر نفقة الذهاب. ولقوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] يدخل في ذلك الطريق، فإذا كان الطريق مخوفاً لوجود السباع والعوادي، أو كان سفره إلى مكة يتوقف على ركوب البحر والسفر، وكان الزمان ضيقاً، بحيث لم يكن بينه وبين الحج إلا ثلاثة أيام أو أربعة أيام، وهاج البحر فيها، وغلب على ظنه أنه لو ركبه لهلك، لم يجب عليه الحج؛ لأن الله يقول: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] وقال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] فالله لا يخاطب بما فيه فوات الأنفس، إلا ما شرع من الجهاد، وأما ما عدا ذلك من الفرائض فإنها لا تكون لازمة على وجه يؤدي إلى فوات الأنفس. وبناءً على ذلك فإنه إذا خاف من الطريق لوجود السباع العادية، أو وجود ضرر كركوب البحر أو نحو ذلك من المسائل؛ فإنه لا يلزمه الحج. أما إذا أمن الطريق؛ فحينئذٍ لا إشكال. وفصّل العلماء: إذا كان الطريق مخوفاً بين أن يجد بديلاً أو لا يجد، فإن وجد بديلاً كأن يكون الطريق الأول فيه سباع عادية، والطريق الثاني أشق وأكثر كلفة، ولكنه آمن ويمكنه أن يسلكه، فإنه يلزمه أن ينصرف إلى الحج؛ وذلك لوجوبه عليه. هذا بالنسبة لشرط القدرة، أما المكي فالأمر فيه خفيف بالنسبة للحج والعمرة؛ والسبب في ذلك أنه لا يفتقر إلى سفر، ومن هنا قالوا: ينظر إلى زاده في الحج، بحيث لو كان عنده نفقة وأمكنه أن يحج، فإنه يجب عليه أن يحج.

الأسئلة

الأسئلة

أقوال العلماء في الإنصات لخطبة يوم عرفة

أقوال العلماء في الإنصات لخطبة يوم عرفة Q هل يجب الإنصات لخطبة يوم عرفة وتأخذ حكم خطبة الجمعة، وذلك استناداً لقوله صلى الله عليه وسلم قبل خطبته: (استنصت لي الناس)؟ A حديث جابر الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالإنصات إليه يوم عرفة، وفتح الله له قلوب الناس وأسماعهم، فبين شرع الله عز وجل فأحل حلاله وحرم حرامه، وبين نظامه صلوات الله وسلامه عليه، وأعذر إلى العباد، فأقام عليهم حجة الله، وأشهد الله على أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة. فبعض العلماء يقول: إن هذا الاستنصات لإقامة الحجة، ولا يلزم الإنصات في خطبة يوم عرفة، كلزومه في خطبة الجمعة. وبعضهم يقول: ظاهر الحديث أنه أمر بالإنصات فيجب. وفي الحقيقة لا ينبغي للمسلم أن يفرط في هذا الخير، والمسلم إذا استشعر أنه تغرب عن الأوطان وفارق الأهل من أجل هذه الطاعة؛ فلا يفرط في أي شيء ولو كان سنة، ولو كان غير واجب لا يفرط فيه. واعلم رحمك الله! أنك إذا جئت إلى خطبة يوم عرفة، وحضرتها كاملة على أتم الوجوه، وصليت في مسجد عرفة، وأصبت أفضل الأماكن كالصفوف الأول، وخشعت وخضعت وتأثرت بالخطبة، وأنصت لها وأحضرت لها سمعك وقلبك؛ فاعلم أن هذا من محبة الله لك، والله عز وجل لا يوفق لطاعته إلا من يحب؛ فإنه يعطي الدنيا من أحب ومن كره، ولكن لا يعطي الدين إلا لمن أحب. فاعلم رحمك الله! أن مسألة الإنصات لخطبة يوم عرفة ليست هي الأهم، إنما الأهم أن تعلم أنك ما تغربت إلا من أجل أن تطيع الله سبحانه وتعالى، وأنه بمقدار ما توفق للقيام بالسنن وتتبع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، تكون أحظى بالقبول من الله عز وجل، وهذا مجرب، فإن من أراد أن يجد لذة الحج وحلاوة الحج فليحرص على تطبيق السنة بحذافيرها، ولا يعلم شيئاً من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أحبه ولزمه وتأثر به وحرص عليه. ولا شك أن أداء المناسك تأسياً بالرسول صلى الله عليه وسلم له لذة يعرفها من وجدها، ولا شك أن الإنسان إذا قام بأركان الإسلام على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى سنته وعلى طريقته؛ فإنه يكون من الموفقين، وهذا لا شك أنه من محبة الله له، نسأل الله العظيم أن يجعلنا ذلك الرجل! فينبغي أن يحرص الإنسان على السنة، وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يحرص كل الحرص أن لا يزاحم الناس ولا يؤذي الناس، ولكن يحرص كل الحرص على أن يصيب السنة، فإذا لم يوفق لها أو غلبه الناس عليها، فإنك تجده يتمعر ويتغير وجهه، ويقول: إنا لله، أستغفر الله من ذنب حال بيني وبين سنة النبي صلى الله عليه وسلم. هكذا شأن أهل العلم الذين هم قدوة، والإنسان كلما حرص على السنة كلما أصابته الرحمة؛ لأن الله جعل الرحمة والهداية في التأسي به عليه الصلاة والسلام. تجد بعض الناس ينتهي من عمرته خلال نصف ساعة، وبعضهم ربما يتسابق مع أصحابه وزملائه على الانتهاء من العمرة، وكنا نصحب بعض العلماء فيبقى في عمرته الساعتين والنصف إلى الثلاث ساعات؛ لأنه يمشي بسكينة ووقار، ويتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أخذ الأشواط بين الصفا والمروة تضرع لله عز وجل، وكرر الدعاء تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر من المسألة والحاجة. إذاً تجد لذة العبادة، وتستشعر فعلاً أنك تؤدي عبادة، إذا قمت بها على وجهها؛ لكن بعض الناس كلما علم سنة تركها، وأصبح علمه بالسنة سبباً في تركها! بل قد تجد بعض العوام يحرص على السنة فلا يتركها، بينما تجد بعض طلاب العلم يرى أنها سنة فيتركها، حتى صار العلم وبالاً على بعض الناس وحرم من الخير. ولا ينبغي لطالب العلم أن يكون زاهداً في السنن، فالإنصات إلى الخطيب في يوم عرفة، بل الإنصات لكل مذكر بالله عز وجل فيه خير وبركة. وبالمناسبة: أن الإنسان إذا عظم الله عز وجل عظم كل شيء يدعو إليه، وكلما كمل التزام الإنسان وكملت هدايته وكمل إيمانه أحب كل شيء يقربه إلى الله. ولذلك تجد المهتدي كامل الاهتداء كثير الحب لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ولهديه، كثير الحب للعلماء والصالحين؛ لأنه يرى أن العالم يدعوه إلى السنة فيحبه، فينبغي على الإنسان أن يحرص على تعظيم شعائر الله عز وجل، وعلى تطبيق السنة، وأن لا يجعل علمه بالسنة سبباً في تركها والزهد فيها. نسأل الله العظيم أن يرزقنا التمسك بالسنة والثبات عليها إلى لقائه. والله تعالى أعلم.

دخول العمرة في الحج للقارن والمتمتع

دخول العمرة في الحج للقارن والمتمتع Q هل تندرج العمرة تحت الحج، وما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) وذلك في مسألة وجوب العمرة أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فتندرج العمرة تحت الحج في حج القارن وحج المتمتع؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت العمرة في الحج) والسبب في ذلك أن العرب أحدثوا في الجاهلية أحدثوا أموراً خالفت السنن، وخالفت الحنيفية، ومنها أنهم كانوا يحرِّمون على الناس أن يعتمروا في أشهر الحج، فإذا دخل شهر شوال، حرموا على الناس أن يحرموا بالعمرة، وألزموهم بالحج حتى ينسلخ صفر، وقد أشار إلى ذلك حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بقوله: كانوا يقولون -أي العرب في الجاهلية- إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، فقد حلت العمرة لمن اعتمر. فرفع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر وأبطله. ولذلك لما أمر الصحابة أن يفسخوا حجهم بعمرة، وأمر من لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة، (قالوا: يا رسول الله! أي الحل قال: الحل كله، -فاستبشعوا ذلك على ما ألفوه في الجاهلية- وقالوا: يا رسول الله! أنذهب إلى منى ومذاكرنا تقطر منياً؟!) لأنهم كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور. وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن العمرة دخلت في الحج، بمعنى: أنه يجوز للإنسان أن يعتمر في أشهر الحج، ولذلك اعتمر من الجعرانة صلوات الله وسلامه عليه بعد فراغه من فتح الطائف، وقسمته لغنائم حنين، وقد وقعت في أشهر الحج إبطالاً لهذه العادة، وتأكيداً وتقريراً لمبدأ الإسلام بجواز العمرة في أشهر الحج. فهذا معنى قوله: (دخلت العمرة إلى الحج، وشبك بين أصابعه، وقيل: يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟ قال: لأبد الأبد) أي: أن هذا الحكم بجواز العمرة في أشهر الحج لأبد الأبد، فهذا هو المراد بقوله: (دخلت العمرة في الحج) أي: أنه لا حرج عليك أن تأتي بالعمرة في أشهر الحج. فلو سأل إنسان وقال: هل لي أن أعتمر في شهر شوال ثم أرجع إلى بلدي ولا أريد أن أحج؟ نقول: لا حرج، وكذلك لو سأل أنه يريد العمرة في شهر ذي القعدة ثم يرجع إلى بلده لا حرج، ولو أهل شهر ذي الحجة وأراد أن يؤدي عمرته ثم ينطلق إلى بلده لحاجة أو نحو ذلك، كما لو مر بمكة وأراد أن يصيب العمرة نقول: لا حرج؛ لأن الشرع بيّن حكم دخول العمرة في أشهر الحج، وأن هذا الحكم لا يختص بحجته صلوات الله وسلامه عليه، وأنه باقٍ إلى قيام الساعة، لقوله: لأبد الأبد.

حكم حج من زال عنه المانع فأعاد الوقوف بعرفة

حكم حج من زال عنه المانع فأعاد الوقوف بعرفة Q إذا زال الرق والجنون والصبا بمزدلفة، ثم رجع إلى عرفة ودفع مرة أخرى فهل يصح فرضاً أثابكم الله؟ A يقول بعض العلماء: إذا وقع قبل انتهاء أمد الوقوف صح وأجزأ، وأما إذا وقع بعد انتهاء أمد الوقوف فإنه لا عبرة به ويمضي في حج النافلة حتى يتمه، ثم يحج من عامه الذي بعده إن توفرت فيه شروط الفرضية والوجوب. والله تعالى أعلم.

وجوب إعادة الحج لمن ارتد عن الإسلام ثم أسلم

وجوب إعادة الحج لمن ارتد عن الإسلام ثم أسلم Q من ارتدّ عن الإسلام -والعياذ بالله- ثم أسلم فهل يعيد حجه مرة أخرى أثابكم الله؟ A للعلماء في هذه المسألة قولان، إن وقعت منه الردة ثم أسلم ثانية فالصحيح أنه يعيد؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]. فالردة -والعياذ بالله- توجب حبوط العمل، ولو كان العبد من أتقى عباد الله عز وجل وارتد عن الإسلام، فإنه بكلمة الكفر وردته عن الإسلام قد أصبح صفر اليدين؛ لقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] يصبح كأنه لم يعمل خيراً قط، نسأل الله السلامة والعافية! فإذا ثبت بالنص أن العمل يحبط، فإنه يجب عليه إذا أسلم من جديد أن يعيد حجه وعمرته، وكذلك إذا كان ممن يلزمه أن يحج ويعتمر. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

مقدمة كتاب المناسك [2]

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب المناسك [2] فرض الله الحج على عباده مرة في العمر، وكذا العمرة، ومن رحمة الله أن جعل فرضيته على المستطيع دون العاجز، والاستطاعة إنما تتحقق بوجود الزاد والراحلة فائضاً عن نفقة ممونه حتى يرجع. ولذلك تفصيل لابد من معرفته.

وجوب الحج والعمرة مرة على الفور

وجوب الحج والعمرة مرة على الفور بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: [في عمره مرة على الفور]: قوله: (في عمره مرة) أي: يجب على المسلم الحر المكلف القادر أن يحج ويعتمر مرة في العمر، فهذه الفريضة تجب على الإنسان مرة في عمره؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف للناس في حجة الوداع، فقال: (أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فقيل: يا رسول الله! أفي كل عام؟ فسكت عليه الصلاة والسلام وقال: لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم) إلى آخر الحديث. وجه الدلالة من الحديث: أنه لم يقل: نعم. والصحابي عندما سأل: أفي كل عام؟ لم يجبه بنعم، وإنما قال: لو قلت نعم لوجبت، أي: لوجب عليكم الحج في كل عام، ولكنه لم يقل ذلك، فدل على أن الحج إنما يجب مرة في العمر، وهذا بإجماع المسلمين. قوله: [على الفور] فلا يتراخى ولا يتأخر، على أصح قولي العلماء رحمة الله عليهم.

أحكام تتعلق بحج الصبي ونحوه

أحكام تتعلق بحج الصبي ونحوه

صحة حج من زال رقه وجنونه وصباه قبل غروب شمس يوم عرفة

صحة حج من زال رقه وجنونه وصباه قبل غروب شمس يوم عرفة قوله: [فإن زال الرق والجنون والصبا في الحج بعرفة وفي العمرة قبل طوافها صح فرضاً] أي: لو خرج الرقيق من المدينة إلى مكة وهو يريد الحج، فإننا ننظر إن وقع عتقه قبل الوقوف بعرفة فللعلماء فيه أقوال: أصح الأقوال أنه يجزيه عن حجة الإسلام، ولا يجب عليه أن يرجع إلى الميقات. وقال فقهاء الحنفية: يجب أن يرجع إلى الميقات؛ لأنه وجب عليه الحج من ميقاته، فيرجع لكي يحرم منه، فإن لم يرجع لم يجزه، فقيل لهم: لماذا؟ قالوا: لأن نيته الأولى وقعت نافلة ولم يكن الحج واجباً عليه، فلما وقعت نافلة فلا ينقلب النفل إلى الفريضة. وقال بعض العلماء: يجب عليه أن يرجع إلى الميقات حتى يسقط عنه الدم، فإن حج من مكانه ومضى فإنه يصح حجه ولكن يجب عليه دم. فهذه ثلاثة أقوال لأهل العلم: منهم من يقول: يصح ما دام أنه قد عتق قبل الوقوف بعرفة، أو أثناء وقوفه بعرفة قبل أن يدفع، ويجزيه عن حجة الإسلام. ومنهم من قال: يلزمه الرجوع إلى الميقات حتى يخرج بنية الفريضة بدل نية النافلة. ومنهم من قال: إنه يلزمه الرجوع إلى الميقات حتى يسقط عنه الدم؛ لأنه سَيُحْرِمُ بالحج الفرض من موضع دون الميقات. والصحيح أنه يجزيه في حجه أن يمضي؛ وذلك لما ثبت في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً وهو يطوف بالبيت يقول: لبيك عن شبرمة، لبيك عن شبرمة، فقال عليه الصلاة والسلام: ومن شبرمة؟ قال: أخي -أو ابن عم لي- مات ولم يحج، قال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة). فهذا الحج الذي وقع من هذا الرجل كان في الميقات قد نوى عن شبرمة، فلو كان يلزمه الرجوع إلى الميقات لقال له: ارجع إلى الميقات وانوِ عن نفسك؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فاغتفر الشرع ذلك وصار من سماحة الشرع ويسره. وإلا فالأصول تقوي أن يرجع، فلما استثنى النبي صلى الله عليه وسلم هذا، دل على أن من طرأ له الحكم وانقلبت نيته أن ذلك لا يؤثر، وقد قال علي رضي الله عنه: أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد قدم من اليمن، فلم يقل له: ارجع إلى يلملم وجدد النية بما نويت به. يقول العلماء: إن هذا يدل على أنه لا يلزم الرجوع إلى الميقات، وأنه إذا عتق الرقيق وبلغ الصبي قبل الوقوف بعرفة، فإنه يجزيهما أن يمضيا في حجهما.

صحة عمرة من زال رقه وجنونه وصباه قبل طوافه

صحة عمرة من زال رقه وجنونه وصباه قبل طوافه أما في العمرة فتنظر إلى أول الأركان، وهذا مسلك الشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم: أن العبرة عندهم في العمرة بتغيير النية وانقلابها أن يكون قبل بداية الطواف، فإذا ابتدأ الطواف فقد تلبس بالنسك نافلة، أما لو غير نيته قبل الطواف فإنه يجزيه ذلك. ولذلك فمسائل الفسخ من حج إلى عمرة ونحوها من المسائل، إنما تكون قبل أن يتلبس بالطواف، فإذا وقع عتقه قبل طواف الركن، أي: طواف العمرة، فإنه حينئذٍ تجزيه عن عمرة الإسلام وتعتبر عمرته فريضة؛ لأنها وقعت قبل ركن الطواف. وذكرنا أنه إذا وقع بلوغ الصبي باحتلام وغيره قبل الوقوف بعرفة، أو أثناء وقوفه بعرفة قبل دفعه أجزأه وصحت حجته عن حجة الإسلام، وإن وقع بلوغه قبل طوافه بالبيت في عمرته أجزأه وانقلبت عمرته إلى فريضة الإسلام. قوله: (صح فرضاً): أي: أجزأه عن عمرة الإسلام وحجه.

الحج والعمرة من الصبي والعبد حال الصبا والرق لا تجزئ عن الفريضة

الحج والعمرة من الصبي والعبد حال الصبا والرق لا تجزئ عن الفريضة [وفعلهما من الصبي والعبد نفلاً] أي: أن الصبي والعبد إذا حج كل منهما أو اعتمر في حال الصبا والرق، فهي عمرة نافلة وحجة نافلة ولا تجزي عن الفريضة، هذا مراد المصنف رحمه الله، وفي ذلك حديث ابن عباس الذي ذكره الشافعي في مسنده وغيره أنه قال: (أيما صبي حج ثم بلغ فإنه يعيد حجه) وهذا أصل عند العلماء رحمة الله عليهم، فيقول جمع من السلف: إنه يلزمه أن يعيد حجه، ولا تجزيه الحجة النافلة ولا العمرة النافلة عن فريضة حجة الإسلام وعمرته.

وجوب الحج على من قدر وأمكنه الركوب

وجوب الحج على من قدر وأمكنه الركوب قال رحمه الله: [والقادر: من أمكنه الركوب] قوله: (والقادر) أي: الشخص الذي يجب عليه الحج لوجود شرط القدرة، والقادر من وجد راحلة، ومسألة وجود المركوب للعلماء فيها وجهان: الأول: لا يجب الحج إلا على من وجد الراحلة. وهذا في غير المكي كما سبق، فالخلاف بين العلماء في غير أهل مكة، فلا بد من وجود الراحلة لغيرهم، وهو قول الجمهور. الثاني: قال بعض السلف: إذا كان يطيق المشي لزمه الحج؛ لأن الله تعالى يقول: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج:27] فوصفهم بكونهم يأتون رجالاً. ولا شك أن اشتراط وجود الراحلة أصح؛ وذلك لوجود الأحاديث التي أشرنا إليها، وأنها بمجموعها تتقوى، وكما وصفها العلماء والأئمة أنها ترتقي إلى درجة الحسن بالاعتضاد، وتقوي شرط الراحلة. وبناءً عليه فإنه لا يجب الحج على من أطاق المشي، لكن لو مشى وبلغ مكة وحج فحجه صحيح، وليس هذا بشرط للصحة، وإنما هو شرط وجوب، فلا يجب عليه إلا إذا ملك الراحلة. والراحلة في زماننا تشمل أن يكون قادراً على الركوب بالبر أو بالجو أو بالبحر، بأن تكون عنده مئونة الركوب، فإذا كان عنده المال الذي يستطيع أن يكتري به سيارة لبلوغ مكة، أو طائرة أو نحو ذلك؛ فحينئذٍ يجب عليه الحج، فلو كان سفره إلى مكة يحتاج فيه إلى استئجار سيارة بمائتين؛ فحينئذٍ نقول: لا يجب عليه الحج إلا إذا ملك مائتي ريال لركوب سيارته، بحيث تكون زائدة عن حاجته وحاجة أولاده والحقوق الواجبة عليه. فلو كان مديوناً وعنده مال لا يفي بسداد دينه لم يجب عليه الحج؛ لأن هذا المال مستحق للغير، وإنما يجب عليه الحج إذا ملك ما فضل عن استحقاق الغير، كذلك أيضاً إذا كان يملك المائتين، ولكن هناك حقوق واجبة عليه: لنذر، أو كفارة، أو عتق، أو نحو ذلك من الحقوق الواجبة، فاحتاج المائتين لشراء طعام الكفارة، فحينئذٍ لا يجب عليه الحج، ويبدأ بهذه الحقوق الواجبة حتى يخاطب بعد ذلك بما فضل، إن كان يملك به القدرة للحج إلى بيت الله الحرام وإلا فلا. فلا بد من أن يكون المال الذي عنده فاضلاً عن حاجته وحاجة من تلزمه نفقته، كزوجته وأولاده، فلو كان الحج يكلفه ألف ريال، أو ألفي ريال، فحينئذٍ نقول: لا يجب عليه الحج إلا إذا ملك هذا المبلغ، فاضلاً عن الحقوق الواجبة عليه لنفسه ولأهله، وهكذا للناس كالديون والنذور والكفارات، أما إذا كانت لله عز وجل فيشترط لها القدرة والاستطاعة. إذاً لابد من الزاد، ثم بعد الزاد الراحلة التي يستطيع أن يركب عليها، فلو ملك الزاد وملك الراحلة فلا بد من شرط الاستطاعة البدنية، فقد يكون الإنسان غنياً، وعنده الزاد وعنده الراحلة، ولكنه لا يستطيع أن يركب السيارة، بل قد لا يستطيع أن يقوم بأعمال الحج، وذلك بسبب شلل أو نحو ذلك، فحينئذٍ لا يجب عليه الحج؛ لأنه لا يستطيع، وإنما فرض الله الحج على المستطيع. ولذلك لما سأل أبو رزين العقيلي رضي الله عنه وأرضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فريضة الحج التي أدركت أباه شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يحج ولا أن يعتمر، ولا أن يظعن -والظعن هو السفر ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} [النحل:80]- فأمره أن النبي صلى الله عليه وسلم أن يحج عن أبيه. قال العلماء: في هذا دليل على أن الشخص إذا كان عنده قدرة مالية، وعنده أيضاً راحلة يركب عليها، فإنه لا يكفي لوجوب الحج حتى يكون قادراً ببدنه، فإن كان مبتلىً بالمرض نظرنا فيه، إن كان المرض يمنع مثله من الحج، فحينئذٍ لا يخلو من حالتين: إما أن يكون مرضه مرضاً مزمناً فهذا ينظر في توكيله للغير بشرطه. وإما أن يكون مرضه مرضاً يرجى برؤه فيسقط عنه الحج في السنة التي مرض فيها، فإن شفي بعد ذلك لزمه أن يحج، وهذا مبني على وجود العذر، والعذر يسقط التكليف مادام موجوداً، فعندنا في شرط الاستطاعة أن يكون واجداً للزاد والراحلة، مع قدرة البدن، فلا يكفي أن يجد الزاد والراحلة، وهو غير قادر ببدنه. كذلك أيضاً يشترط أن يكون طريقه آمناً، فإن كان في طريقه من السباع ونحوها ما قد يؤدي إلى هلاكه أو تلفه أو حصول الضرر والبلاء عليه، فكما ذكرنا فيما سبق أنه يعذر حتى يزول عنه المانع.

أدلة اشتراط وجود الزاد والراحلة لوجوب الحج

أدلة اشتراط وجود الزاد والراحلة لوجوب الحج قال رحمه الله: [ووجد زاداً وراحلة صالحين لمثله]. وهذا مبني على أن العرف محتكم إليه؛ لأن الشرع جعل لكل ذي قدر قدره، فلو وجد سيارة تصلح لمثله، مثل أن يكون الشخص كبير السن، ولا يمكنه أن يحج إلا إذا كانت السيارة فيها وسائل الراحة التي تمكنه من بلوغ البيت، دون أن يصل إلى درجة الحرج والمشقة غير المقدور عليها، فحينئذٍ يجب عليه أن يحج إن وجد هذا النوع من السيارات، لكن إذا لم يجد إلا نوعاً لا يأمن معه زيادة المرض، ولا يأمن معه حصول المشقة الفادحة عليه، فوجود هذا النوع وعدمه على حد سواء، فلا يجب عليه الحج.

عدم وجوب الحج والعمرة لمن عليه نفقات وواجبات شرعية حتى يقضيها

عدم وجوب الحج والعمرة لمن عليه نفقات وواجبات شرعية حتى يقضيها قال رحمه الله: [بعد قضاء الواجبات والنفقات الشرعية والحوائج الأصلية] قوله: (بعد قضاء الواجبات والنفقات) كأن يكون عليه دين فيجب عليه أن يسدده. والمديون له أحكام تتعلق به تحتاج إلى تفصيل: فالشخص المديون ينبغي أن يبادر بسداد دينه ثم يحج، ولا يجوز للمديون أن يحج بدون إذن أصحاب الدين؛ لأن حقوقهم متعلقة به، والأصل أنه يطالب بسداد ديون المخلوقين، ثم بعد ذلك يوجب عليه الحج؛ ولأنه بتعلق الدين بذمته، أصبح غير مستطيع للحج، فيستأذن أصحاب الحقوق أن يسمحوا له بالحج، فإن سمحوا له بالحج صح حجه وأجزأه، وإن لم يسمحوا له بالحج صح حجه وأثم، فلو كانت عليه ديون ولم يرض أصحاب الدين أن يسافر، فحينئذٍ يأثم بإضاعة حقوقهم؛ لأنه كان المفروض أن يبدأ بسداد ديونه، ثم بعد ذلك يحج ويعتمر، فلما تجاوز هذا الحكم، فإننا نقول: يأثم ويصح حجه. وعلى هذا فإنه إذا أذن صاحب الدين باللفظ، أو كان هناك إذن ضمني فإنه يحج ويعتمر، يقول بعض العلماء: إن الديون المقسطة التي تكون على أشهر يجزيه إذا سدد الشهر الأخير الذي هو قبل شهر ذي الحجة أن يحج؛ والسبب في ذلك أنها ديون غير حالة بجميعها، وإنما حلت أقساطاً فيؤدي للناس حقوقهم في أوقاتها، لأنهم إنما أوجبوا عليه الأداء للزمان، فلما أدى قسط ذي القعدة، حل له أن يحج في ذي الحجة، وإذا أدى قسط شعبان حل له أن يعتمر في رمضان، وقس على هذا. فلو كان عليه دين خمسة آلاف ريال، ومقسطة في كل شهر ألف ريال، أو بكل شهر خمسمائة ريال فأدى قسط ذي القعدة وبقيت عليه الأقساط الباقية، فإننا لا نقول بوجوب الحج عليه وفرضية الحج عليه؛ لأن ذمته لا تزال مشغولة بهذا الحق حتى يؤديه كاملاً. وهكذا إذا كانت عليه حقوق واجبة لله عز وجل، كأن يكون عنده خمسة آلاف ريال، يكفيه لحجه ألفا ريال، فإذا كان يكفيه الألفان، فحينئذٍ ننظر في الخمسة آلاف، فلو كان عليه كفارات تقدر بثلاثة آلاف ريال، وعليه نذور تقدر بألف وخمسمائة ريال، فالباقي معه خمسمائة ريال، فحينئذٍ لا يجب عليه الحج؛ لأنه مطالب بحقوق لا يكون معها قادراً على الحج أو مستطيعاً الحج بماله. فإذا أراد أن يحج فعليه أن يترك عند أهله نفقتهم حال غيبته عنهم، فإذا كان يكفيه في حجه ألف وخمسمائة ريال مثلاً وعنده ألفا ريال مثلاً، ونفقة أهله في حال غيبته خمسمائة ريال، نقول: يجب عليه أن يحج؛ لأنه إذا أدى الخمسمائة فقد أدى الحقوق التي عليه، ففضل الفضل الذي يجب بمثله أن يحج. وأما إذا كانت الحقوق التي لأهله تحتاج إلى ألف ريال وعنده ألفان، وهو يحتاج لحجه إلى ألف وخمسمائة فقد سقط الحج عنه؛ لأنه لا يكفيه المال للقيام بهذه الفريضة. وكذلك الحوائج الأصلية من مأكل ومشرب وملبس، فلو كان الشخص مثلاً في نهاية ذي القعدة يريد أن يسافر للحج، وحوائجه الأصلية في بيته تقدر نفقتها بخمسمائة ريال، وعنده ألف وخمسمائة، وحجه لا يمكن أن يكون إلا بهذه الألف والخمسمائة فوجود العوز في الخمسمائة يسقط الحج عنه، فحوائجه الأصلية لنفقته ونفقة أولاده، وهكذا من تلزمه مئونته تسقط الحج عنه إذا استغرقت ماله على وجه لا يملك به الفضل الذي يجب معه الحج وتجب معه العمرة.

حكم من عجز عن أداء الحج بسبب كبر أو مرض مزمن

حكم من عجز عن أداء الحج بسبب كبر أو مرض مزمن [وإن أعجزه كبر أو مرض لا يرجى برؤه] أي: إن عجز عن الحج إلى بيت الله، وذلك بسبب الكبر، فإنه يكون من الحطمة، والدليل على أن الكبر من الأعذار حديث أبي رزين، وذلك عندما سأل النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع وقال: (إن فريضة الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستقيم على الراحلة) فهذا يدل على أن الكبر يعتبر من الأعذار؛ لأن الكبر يوهن الإنسان، كما قال سبحانه وتعالى حكاية عن نبيه زكريا عليه السلام لما سأل ربه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم:4] فذكر حال الكبر أنه وهن في الداخل ووهن في الظاهر، فقال: {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم:4] وهذا وهن الكبر في الداخل {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم:4] وهذا وهن الكبر في الظاهر. فالكبر يضعف الإنسان ظاهراً وباطناً، ولذلك لا يجب الحج على من أصابه الكبر، على وجه لا يستطيع معه أن يقيم الفرائض ويقوم بالأركان؛ فالحج يحتاج إلى جلد وصبر وتحمل، ولذلك وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بكونه جهاداً، والجهاد لا يجب على الشيخ الكبير الحطمة الذي يستضر. والكبر نسبي، فبعض الناس يكون كبيراً وهو أجلد من الشاب، فهذا يحج، وبعض الناس قد يعاجله الكبر؛ وذلك بسبب الهموم وما يصيبه ويعتريه من الأمراض، فهذا أمر نسبي لا يتأقت بزمان، فلا نقول: من بلغ خمسين سنة أو ستين سنة فهذا لا يجب عليه الحج، وإنما نرد ذلك إلى أحوال الناس، فقد ترى الإنسان كبير السن والله عز وجل أبقى له العافية، فهذا يجب عليه أن يحج، فليس الكبر عذراً إلا إذا استضر الإنسان ومنعه مانع من القيام بفريضة الحج والعمرة. قوله: (أو مرض لا يرجى بؤره): فالمرض يكون مانعاً من الحج إذا كان مزمناً، فإن كان المرض مزمناً مقعداً كالشلل ونحو ذلك من الأمراض والأسقام، وفي حكم ذلك الكسور التي تكون في الإنسان ويلزم بها فراشه فلا يستطيع أن يبرحه، فهذه تعتبر أعذاراً في حال وجودها، فإن انجبر الكسر حج من عام يليه، أما في العام الذي ينكسر فيه ويكون الإنسان لازماً لفراشه، فإنه يسقط عنه الحج في ذلك العام. فالمرض له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون مانعاً على الدوام، وهو المرض المزمن، قد يكون الإنسان مصاباً بمرض في قلبه، لا يستطيع معه أن يحج ولا يتحمل معه مشقة الحج، فهذا يسقط عنه الحج. الحالة الثانية: أن يكون المرض مؤقتاً؛ وهو الذي يحصل للإنسان في فترة زمنية، فهذا يكون مانعاً مؤقتاً، فالتفصيل في المرض على هذين الوجهين. وشرط كون المرض مانعاً من الحج والعمرة أن يكون مؤثراً، وإذا شك الإنسان في مرضه هل يستطيع معه الحج أو لا، فليرجع إلى قول الطبيب العدل المسلم. وأما الكافر فمذهب طائفة من السلف: أنه لا تقبل شهادة الطبيب الكافر في ترك النسك والعبادة؛ لأنه متهم في شهادته. ومذهب طائفة من العلماء: أن الطبيب الكافر إذا وثق فيه وعرف فيه الأمانة عمل بقوله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عمل بشهادة الكافر كما في استئجاره لـ عبد الله بن أريقط، وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المسألة في الفتاوى كلاماً نفيساً بيّن فيه أن هدي الشرع بالرجوع إلى مثله. الشاهد أن المرض إذا شهد به الطبيب العدل أو من يوثق بقوله فحينئذٍ يعتبر مانعاً، فإذا شك المريض في وجوب ذهابه إلى الحج فإنه يرجع إلى قول الأطباء الذين عرفوا بالخبرة، وعرفوا بكونهم مهرة في هذا الأمر، ولا يرجع لكل طبيب. فإن اختلفت أقوال الأطباء رجح بالأكثرية، فإن لم يستطع وتساوى عددهم رجح بالمهارة، يعني: أن يكون الإنسان معروفاً بمهارته، وهذا أصل ذكره بعض فقهاء الحنفية رحمهم الله في تعارض شهادة أهل الخبرة في مسائل العبادات والعادات.

إقامة العاجز عن الحج من يحج عنه وأنواع الإجارة في الحج

إقامة العاجز عن الحج من يحج عنه وأنواع الإجارة في الحج [لزمه أن يقيم من يحج ويعتمر عنه من حيث وجبا] أي: يلزم الشخص الذي لا يستطيع الحج والعمرة؛ لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أن يقيم غيره إن كان قادراً؛ لأن الله عز وجل فرض عليه الحج في نفسه إن استطاع، فإن لم يستطع فهو قادر على استئجار من يقوم بالحج عنه. والإجارة تنقسم إلى نوعين: النوع الأول: يسمى بإجارة البلاغ: وهي أن تأخذ من الشخص الذي تريد أن تحج عنه مقدار نفقتك وما يبلغك الحج، فلو كانت النفقة تقدر بثلاثة آلاف ريال للحج متمتعاً أو قارناً تقول: أعطيني ثلاثة آلاف ريال فتذهب وتسافر، فإن نقص المبلغ وجب عليه أن يكمله، كما لو حججت وسرت بالقصد، وعلى حسب الشرط وعلى حسب الاتفاق، فحصل عجز عندك بخمسمائة ريال، فحينئذٍ لزمه أن يدفع الخمسمائة، وإن كان متوفى فإنها تخرج من تركة الميت وتضمن. هذه الإجارة جائزة بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، لما فيها من المعونة على البر والتقوى، والإنسان لا يأخذ فيها حظاً لنفسه، وإنما يتقوى بها على عبادة الله عز وجل، وإسقاط الحق عن أخيه المسلم. النوع الثاني من الإجارة: يسمى بإجارة المقاطعة والمفاضلة، فيكون فيها الشيء أشبه بالسوم، يقول له: تحج عن ميتي بألفين، فيقول: لا، بل بثلاثة. أو قال: بثلاثة. فقال: لا، بل بأربعة. فيكون السوم بينهم والمقاطعة، كأنه يبحث عن ربح وفضل، فهذا النوع، للعلماء فيه قولان: القول الأول: لا يجوز هذا النوع من الإجارة؛ لأنه يتخذ العبادة وسيلة للدنيا، والحج إنما يراد به وجه الله عز وجل، ولا يراد به أي شيء سواه، وشددوا في هذا النوع من الإجارة. القول الثاني: يجوز؛ لأنها قربة ليست بفرض عين، والقرب التي هي من فروض الكفايات يجوز أخذ الأجرة عليها ولو فضلت، كما في الأذان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ألقى الأذان على أبي محذورة فلما أَذَّنَ ألقى عليه أسورة من فضة، قالوا: وهذا يدل على مشروعية المكافأة على الطاعة، إذا لم تكن فرض عين على الإنسان. فلما قام بها تفضلاً عن أخيه المسلم جاز له أن يأخذ الفضل والزيادة. وفي النفس شيء من هذا القول، فالأفضل أن الإنسان يأخذ أجرة البلاغ حتى يصيب الأجر من الله عز وجل، وهذا في حق طلاب العلم وأهل العلم آكد، لما فيه من صيانة وجوههم، وصيانة العلم وحفظ حقه الذي جعله الله عز وجل نوراً في صدورهم، من أن يكون مظنة الامتهان والابتذال واستخفاف الناس بهم. فالأفضل والأكمل على طلاب العلم ونحوهم من أهل الفضل أن لا يأخذوا مثل هذه الإجارة، إلا على سبيل البلاغ، فإن قدرت من نفسك أن تحج تفضلاً فهذا أفضل وأعظم أجراً، وثوابك على الله، ومن كان أجره على الله فنعم الأجر ونعم الثواب في الدنيا وفي المآب، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. ومن أعظم الإحسان أن تحسن إلى أخيك الميت أو أخيك المسلم فتسقط عنه فريضة، وبذلك يأجرك الله أجر الفريضة، خاصة إذا لم تأخذ عليها مالاً؛ فكأنك حججت فرضاً، وهذا لا إشكال فيه من جهة وجود العناء والتعب والنصب، إذا قصد الإنسان وجه الله عز وجل.

وجوب الإحرام على الوكيل من ميقات الأصيل

وجوب الإحرام على الوكيل من ميقات الأصيل قوله: [من حيث وجبا]: أي: من حيث وجب عليه الحج والعمرة؛ لأن الوكيل ينزل منزلة الأصيل، فلو كان من أهل المدينة فإن الذي يحج عنه لا بد وأن يحج من المدينة، وهذا أصل شرعي صحيح؛ لأن الحج فرض عليه من المدينة، وهذا الذي يريد الحج إنما يريد الحج عن غيره، فإذا أراد أن يحج عن غيره وجب أن يتقيد بذلك الغير، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، وهو أصح قولي العلماء. فالوكيل منزل منزلة الأصيل، وأصول الشريعة تدل على هذا؛ لأنهم أقاموا البدل مقام مبدله، فلما كان المبدل مطالباً ومخاطباً بالحج من حيث وجب عليه الحج، كأن يكون من أهل المدينة، فإنه إذا حُجَّ عنه من الجحفة، أو من يلملم، أو من السيل، فقد حُجَّ عنه من الأدنى، ولا يصح للإنسان أن يحج من الأدنى وقد وجب عليه الحج من الأبعد، وقد فرض الله عليه الحج من ميقات ذي الحليفة، فحينئذٍ يلزمه أن يحج من ميقات ذي الحليفة، وهذا أحوط وأبرأ للذمة وأبلغ في القيام بحق الله عز وجل وأدائه على وجهه. قال رحمه الله: [ويجزئ عنه وإن عوفي بعد الإحرام] أي: لو أقام وكيلاً عنه وهو معذور ثم شفي بعد إحرام الوكيل، فإنه يجزئ عنه حجة الوكيل، حتى وإن تغير الحال وزال العذر بعد الإحرام، فالعبرة عندهم بالإحرام. وبعض العلماء يرى أن العبرة بالطواف، فإذا طاف بالبيت في عمرته أو وقف بعرفة في حجه، فإنه حينئذٍ يمضي هذا الوكيل، ولا يلزم الموكل بإعادة الحج ثانية، ويجزئه هذا عن حجة الإسلام. وقال بعض العلماء: إذا شفي وعوفي أو زال العذر قبل نهاية حجه، فإنه يلزم بإعادة هذا الحج، والسبب في ذلك أنه عذر في حال العجز، فإذا زال العذر عنه رجع الأمر إلى وجوب الحج عليه، وهذه المسألة تعرف بمسألة: زوال العذر، ولها صور: الأولى: أن يزول العذر قبل الشروع. الثانية: أن ويزول العذر أثناء الشروع. الثالثة: أن يزول العذر بعد الانتهاء. فتارة يكون زوال العذر موجباً للقطع، ويكون الاستئناف من الأصل والرجوع إلى الأصل فيه خلاف، مثلاً مسألة المتيمم: إذا تيمم في أول الوقت ثم كبر تكبيرة الإحرام، فرأى الماء أو وجد الماء وقدر على استعماله، فالصحيح أنه يقطع صلاته؛ لأنه قد زال العذر الذي جوز له أن يصلي وهو على تيممه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته) فخوطب بالرجوع إلى الأصل، ولا يمكن الحكم بثبوت العذر إلا إذا تم العمل، حتى يوصف الإنسان بكون ذمته قد برئت على الوجه المعتبر. والفقه أنه إذا كان الأصيل مخاطباً بفعل العبادة، وأن هذا الوكيل منزل لحاجة وزالت الحاجة، وشككنا هل يمضي في العبادة أو لا يمضي، أن نرجع إلى الأصل من كون الأصيل أو الموكِّل مخاطباً شرعاً بالقيام بالحج بنفسه، فلما شككنا في إجزاء الوكيل عنه رجعنا إلى الأصل من مخاطبته بالفعل بنفسه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من جن بعد أن تلبس بالنسك ولم يتم

حكم من جُنَّ بعد أن تلبس بالنسك ولم يتم Q من أحرم بالنُّسك ثم جُنَّ وأفاق بعد زمن، فهل يعتبر ما زال متلبساً بالنسك فيجب عليه الإتمام أثابكم الله؟ A هذه المسألة تسمى مسألة: تنزيل المعدوم منزلة الموجود، وهي مسألة راجعة إلى التقديرات الشرعية. التقديرات الشرعية تنقسم إلى قسمين: - تنزيل المعدوم منزلة الموجود. - وتنزيل الموجود منزلة المعدوم. وتوضيح ذلك، أن من جُنَّ على حالة فإنه أثناء الجنون يعتبر فاقداً للحالة، مثلاً: لو جُنَّ وهو مؤمن فإنه قبل جنونه مؤمن؛ لكن لما جُنَّ فقد العقل وقد يتكلم بكلمات الكفر فننزل المعدوم من الإيمان منزلة الموجود، ونقول: لما كان مسلماً قبل جنونه فهو مسلم الآن وآخذٌ حكم المسلم، فلو مات دفن مع المسلمين ووُرث وأخذ حكمهم سواءً بسواءٍ، وهذا تنزيل للمعدوم منزلة الموجود، وهذا من باب التقديرات الشرعية وقد تكلم على هذه المسألة الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه النفيس: قواعد الأحكام ومصالح الأنام. لكن البعض يرى أن الإحرام يفسد بزوال العقل، وحينئذٍ عليه أن يعيد النسك كما لو أحرم بالصلاة، فيرى أن العبادة تبطل بزوال العقل وزوال التكليف ويرى أن عليه الإنشاء. لكن هناك مذهب لبعض العلماء رحمة الله عليهم وهو: أن المجنون يجوز لوليه أن يحجِّجه كالصبي، وحينئذٍ إذا جُنَّ بعد إحرامه صح من وليه أن يأخذه وأن يؤدي مناسك الحج فعلاً، ويكون الولي هو الذي ينوي عنه، وهو الذي يتلفظ عنه كما هو الحال في الصبي. قالوا: إنه لما رفعت المرأة الصبي وقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (ألهذا حج؟ قال: نعم. ولكِ أجر) والصبي لا عقل له فالمجنون مثله، ورد بعض العلماء هذا. وهذا القول موجود في مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه، وأشار الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني وكذلك الزركشي في المختصر إلى هذا القول، وأنه يمكن إتمام النسك في حال الجنون؛ وذلك أن النسك يقوم على شيئين: - الفعل. - والقول المستصحب للنية وقصد التقرب لله عزَّ وجلَّ. فلما فات في المجنون أن يتكلم ويقول بقصد النية ويعمل بنية معتبرة، قالوا: بقي الفعل، والمجنون بإمكانه أن يقف بعرفة، وبإمكانه أن يؤدي الأفعال، فيأخذه وليه ويجعله يؤدي أفعال الحج والعمرة ويتمها، ثم يتحلل كما هو الحال في الصبي سواءً بسواءٍ. والله تعالى أعلم.

صحة حج من كانت نفقته على غيره

صحة حج من كانت نفقته على غيره Q من حج مع رفقة قاموا بنفقة حجه، فهل له ذلك إذا كان حجه للفريضة، أم لا بد من الإنفاق من حر ماله أثابكم الله؟ A هذا حج غنيمة، ما دام أن الله عزَّ وجلَّ يسر له من ينفق عليه، وهذه رحمة ساقها الله إليه، وإذا جاء المال للإنسان من دون مسألة ومن دون استشراف فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أعطى عمر المال وأراد عمر أن يمتنع قال: (إذا جاءك من غير مسألة ولا استشراف فخذه وتموَّله) خاصةً إذا كان الذي حج معه له حق عليه، كعمه وخاله وقريبه، أو إنسان أعطاه الله بسطة من المال ويحب طلاب العلم ويكرم العلماء، ولا يقصد بهذا إذلالهم، ولا يريد شيئاً في نفسه من الرياء والفخر، وإنما أراد وجهَ الله ومحبةً لأهل العلم وطلابه، وإكراماً لهم. أما إذا وجدت عنده أغراض كأن يقصد مثلاً: الرياء والسمعة وأن ينظر الناس إليه، أو أراد أن يهين طلاب العلم بهذه الطريقة، أو أنك إذا حججت معه ربما يذلك ببعض التصرفات، فلا تُهِن العلم الذي في صدرك؛ فإن الله أكرمك بالعلم فلا تهنه، وحقٌ على من أكرمه الله بالعلم أن يكرم العلم، وهذا العلم الذي يرفعك على رءوس الناس في منبرك، وفي درسك، وفي موعظتك، وفي خطبتك، تكرمه كما أكرمك. ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما فحق على أهل العلم وطلاب العلم أن يترفعوا عن مثل هذه الأمور إذا وجدت شائبة، أما إذا لم توجد شائبة وكان الرجل قد عرف بالفضل والصلاح والتقوى، وأوسع الله له في الدنيا، فَأُحِبَّ أن تكون معه؛ تفتي الجاهل وتعلِّمه، وترشد الحائر وتدله، ويكون الخير له ولمن معه من الرفقة، وتكون معونة على البر والتقوى، كما قال صلى الله عليه وسلم: (نعم المال الصالح عند الرجل الصالح). فإذا وجدت رفقةً صالحة أو أناساً أثرياء وأغنياء فيهم الفضل، فلا بأس أن تذهب معهم، ففي الأغنياء أناس وضع الله عز وجل في غناهم البركة، فتجدهم يكرمون طلاب العلم، ويكرمون العوام، ويكرمون الضعفاء والفقراء، فأمثال هؤلاء الذين عُرِفوا بهذا الفعل وعُرِفوا بإرادة وجه الله عز وجل تُقبل منهم المكرمة، أما إذا وجدت الشبهة فلا. ومع هذا فإن الأفضل والأكمل دائماً لطالب العلم أن يتقي الله في علمه، وأن يكرم هذا العلم. وكانوا يقولون: إن من أسباب القبول في العلم الورع، فإذا كان الشخص ورعاً عن أموال الناس قذف الله في قلوب الناس حبه ووُضِع له القبول، ولذلك لا يستشرف إنسان من أهل العلم الدنيا إلا أهانه الله وأذله، ونزع من قلوب العباد القبول فلا تجد لمواعظه تأثيراً؛ لأن أكمل ما يكون العالم إذا كمل يقينه وزرع الله في قلبه عزة النفس، وتعوَّد من بداية طلبه للعلم أن يجعل فقره إلى الله وغناه بالله سبحانه وتعالى، وأحس أنه في نعمة عظيمة، وأنه أوتي شيئاً هو أفضل ما يؤتى، وهو كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فخاف من الله جلَّ وعَلا أن يهين هذا العلم الذي في صدره، فإن الله يكرمه كما أكرم هذا العلم، وإذا لقي الله عزَّ وجلَّ لقيه يوم يلقاه مُكْرِماً لدينه ومُعِزّاً له، ويَشْهَد الله له بأنه أراد وجهه وأراد حفظ دينه، وهذا مظنة المثوبة العظيمة من الله جلَّ جلالُه. وكم قرأنا في تراجم العلماء من السلف الصالح رحمة الله عليهم، أنهم لما تورعوا عن الدنيا ملأ الله قلوبهم بالغنى! وكان الرجل منهم يمشي مرقع الثياب؛ ولكنه أغنى الناس بما قذف الله في قلبه. وكم من أناس أهانوا العلم! وهذا موجود، فتجده كلما جاءه إنسان يريد أن يعطيه شيئاً من حظ الدنيا، أو تجده دائماً عند أهل المال يطلبهم حظوظ نفسه، فإنك تجده مهاناً مُذَلاً مَقِيتاً، نُزِع من قلوب الناس القبول له. نسأل الله السلامة والعافية! ونعوذ بوجه الله العظيم من غضبه وسخطه! فإذا فعل العبد بعلمه هذا وأكل به الدنيا مَقَتَه الله عزَّ وجلَّ. وأهل العلم هم أهل الآخرة: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً} [القصص:83]. ولقد بايع أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يسألوا الناس شيئاً، وكان الواحد منهم يسقط سوطُه فلا يسألُ أحداً أن يناوله، بل ينزل من على فرسه ويأخذ سوطه، وهذا يدل على ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من عزة النفس؛ لأن الله شرفهم بعلم الكتاب السنة، فأخذوا عن النبي صلى الله عليه وسلم. فمن مظنة الخير لطالب العلم أن تجده دائماً عفيفاً عن أموال الناس، عفيفاً عن الدنيا، مستغنياً بالله عزَّ وجلَّ، مع أنه مديون أو فقير؛ لكن لا يمكن أن يهين العلم الذي في صدره، وهو مع ذلك لا يضيع حقوق الناس، وكذلك تجده لا يمكن أن يريق ماء وجه لأحد من أهل الدنيا أبداً، حفظاً لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو والله ما ضاقت عليه الدنيا إلا جعل الله له فرجاً ومخرجاً، ولا أصبح في ضنك من العيش إلا جاءه الفرج من حيث لا يحتسب، وهذا موجود ومعروف ومعهود؛ لأنه لا أوفى من الله لعبده! وهذا بالمناسبة يشمل طلاب العلم وغيرهم؛ لكننا نؤكد على طلاب العلم؛ لأنهم أحق، والناس كلما وجدت أهل العلم على ورعٍ واستغناءٍ بالله عزَّ وجلَّ أحبتهم، وأحبت العلم الذي في صدورهم، وأحبت العلم من أفواههم، وشعرت أن هذا العلم يخرج من معدنٍ طيب ونفسٍ كريمة؛ لأن الذي يكرم دين الله عزَّ وجلَّ خليقٌ أن يُكْرَم، وخليقٌ أن يُحَب، ولا يمكن للإنسان أن يسيء ظنه بالله عزَّ وجلَّ، فوالله ما أرقتَ ماء وجهك لأحد من أهل الدنيا إلا عَظُم عليك أن ترد هذا الماء بعد إراقته؛ ولكن إذا جعلتَ فقرك لله عزَّ وجلَّ صان الله وجهك عن عباده، وصانه عن ذل المسألة، وهذا لا يكون إلا باليقين في الله جلَّ جلالُه. فإن طلاب العلم وأهل العلم يتأكد عليهم هذا الحق؛ لأنهم عرفوا الله بأسمائه وصفاته، ومن صفاته سبحانه وتعالى أنه الغني وأنه الكريم، يده سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة، فطالب العلم عنده اليقين أنه إن أغناه الله لا يفقره أحد، وأنه إن أفقره الله لا يغنيه أحد. فإذا أصبح أهل العلم يستشعرون هذه العقيدة، وهم أعلم الناس بالله، وهم أهل خشية الله، وأهل الإيمان بالله عزَّ وجلَّ رفع الله قدرهم بهذا، وصانهم وأجلهم وأكرمهم، وجعل حسن العاقبة لهم، وإذا رأيت الرجل يهين العلم، أو بمجرد ما يطلب العلم يريد أن ينال به حظوظ الدنيا، أو ينال به السمعة والرياء، فإنك لا تجده إلا في فقر وضيعة، حتى إنك تجد عنده الأموال الكثيرة الطائلة، ومع ذلك تجده يزداد كل يوم فقراً إلى فقر نسأل الله السلامة والعافية! هذا الشخص بعد أن أغناه الله وبسط له من رزقه، لا تجده يحمد الله عزَّ وجلَّ من كل قلبه، فيملأ الله عزَّ وجلَّ قلبه فقراً، ويملأ الله عزَّ وجلَّ نفسه شَرَهاً وطمعاً، نسأل الله السلامة والعافية! فالله الله يا طلاب العلم! وكان العلماء والمشايخ كثيراً ما يوصون بهذه؛ لأن هذه ثغرةٌ فساد عظيمة على طالب العلم. ولا يقتصر الأمر على كون الإنسان يقبل الشيء، بل حتى جلوس الإنسان مع إنسان من أهل الدنيا، من أجل أن يغنيه أو يحسن إليه، أو نحو ذلك من الأمور التي يفعلها بعض طلاب العلم طلباً للدنيا، فهذا كله مما يضر الإنسان ولا ينفعه: {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:13]. فالغنى من الله، والفقر من الله وإليه سبحانه. أستودع الله أموري كلها إن لم يكن ربي لها فمن لها لنا مليك محسن إلينا مَن نحن لولا فضله علينا تبارك الله وجل الله أعظم ما فاهت به الأفواه سبحان من ذلت له الأشراف أكرم مَن يُرجى ومَن يُخاف اختار الله منك قلبك، فهو محل النظر من الله عزَّ وجلَّ في كل لحظة، ونظره إلى قلبك لما فيه من توحيده والغنى به سبحانه، والافتقار إليه واليقين به سبحانه، فوالله ما ملأتَ هذا القلب بحسن الظن به إلا تلقاك برحمته وفضله ومنَّه وكرمه، ولا نزع عبد من قلبه اليقين بالله والغنى بالله والفقر إلى الله، إلا ملأ الله قلبه فقراً ولو كان من أغنى الناس، ثم لم يبالِ الله به في أي أودية الدنيا هلك. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل فقرنا إليه وغنانا به، ونسأله تعالى أن يرزقنا حسن الظن به، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وآله وصحبه أجمعين.

مقدمة كتاب المناسك [3]

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب المناسك [3] من الشروط المعتبرة للحكم بوجوب الحج على المرأة: وجود المحرم لها، وهذا من حكمة الله سبحانه وتعالى ورحمته وتيسيره على عباده، فلا يجوز للمرأة أن تحج بدون محرم، ومن باب أولى لا يجوز لها أن تسافر لغير الحج بدون محرم. وبناءً على ذلك فلابد من معرفة من هم المحارم الذين يجوز للمرأة أن تسافر معهم، فإن هذه المسألة من المسائل التي عمت بها البلوى. والمحرمية لها ثلاث جهات: محرمية بسبب النسب، ومحرمية بسبب الرضاع، ومحرمية بسبب المصاهرة.

عدم وجوب الحج والعمرة على من عدمت المحرم

عدم وجوب الحج والعمرة على من عدمت المحرم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فالمصنف عليه رحمة الله يقول: [ويشترط لوجوبه على المرأة وجودُ محرمها وهو زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب]. شرع المصنف رحمه الله في بيان شرط من الشروط المعتبرة للحكم بوجوب الحج على المرأة، فلا يجب الحج على المرأة إلا إذا وجدت المحرم، ولا يجوز لها أن تخرج لحج ولا لعمرة إلا إذا كان معها محرمها، هذا كله إذا لم تكن بمكة، أما إذا كانت بمكة أو من حاضري المسجد الحرام دون مسافة القصر، فإنه إذا أُمِنَت الفتنة وأمكنها أن تحج مع الرفقة المأمونة فلا بأس؛ لأن خروجها إلى البيت الحرام والمناسك ليس هو بسفر ولا في حكم السفر، وإنما أوجب الله المحرم فيما إذا كان سفراً؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم). فهذا الحديث الصحيح يدل على أن المرأة يجوز لها أن تخرج لما دون مسافة القصر بدون محرم؛ ولكن بشرط أمن الفتنة، ولذلك كان أمهات المؤمنين رضي الله عنهن يخرجن إلى المناصع من أجل البراز وقضاء الحاجة، وهذا خارج عن حجراته عليه الصلاة والسلام وبأطراف العمران بالمدينة. وثبت في الحديث: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! إني اكتتب في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي انطلقت حاجة، فقال عليه الصلاة والسلام: انطلق فحج مع امرأتك). قوله: (ويشترط لوجوبه محرمها)، والمحرم: أصله من حرم الشيء يحرم فهو حرام ومحرم، ووصف المحرم بكونه محرماً؛ لأن الله حرم عليه نكاح هذا النوع من النساء، فمن حرم عليه نكاح المرأة؛ بسبب النسب، أو بسبب الرضاعة، أو بسبب المصاهرة، فإنه يعتبر محرماً لهذه المرأة، إضافة إلى الزوج، فإذا حرَّم الله عز وجل عليه نكاحها للسبب المباح، فإنه حينئذٍ يجوز له أن يسافر معها وأن يختلي بها وأن يصافحها، وأن يرى وجهها ويديها ونحو ذلك مما لا فتنة فيه. ومسألة المحارم مسألة مهمة ويحتاجها الناس عامة، سواءً كانوا طلاب علم أو لم يكونوا من طلاب العلم. فينبغي على المسلم أن يعلم إذا بلغ ما الذي أحل الله له من النساء، أن يختلي بهن وأن يصافحهن وأن يعطيهن حكم المحارم، وما الذي حرم الله عليه الخلوة بهن والسفر معهن وكذلك النظر إليهن ولمسهن. وهذه مسألة -كما يصفها العلماء- من المسائل التي تعم بها البلوى، وينبغي تعليم أبناء المسلمين، وينبغي العناية بهذه المسألة خاصة من الخطباء والوعاظ والمرشدين، فالناس يحتاجون إلى بيان من هم المحارم، حتى يكونوا على بينةٍ من أمرهم، فيأتوا ما أحل الله ويذروا ما حرم الله عليهم.

جهات المحارم المؤبدة والمؤقتة وبيان أحكامها

جهات المحارم المؤبدة والمؤقتة وبيان أحكامها والمحرمية لها ثلاث جهات: الجهة الأولى: محرمية بسبب النسب. الجهة الثانية: محرمية بسبب الرضاع. الجهة الثالثة: محرمية بسبب المصاهرة. فأما الذين حرم الله على المسلم نكاحهن والزواج منهن من جهة النسب: فسبع. ويأخذ نفس الحكم مَن حرم الله من جهة الرضاعة. وأما المصاهرة: فأربعة أنواع من النساء كما سيأتي إن شاء الله تفصيله. وسنذكر هذه الثلاث الجهات من جهة النساء. فإذا قلنا: الأم فيقابلها الأب بالنسبة للمرأة، فإذا قلنا: أول المحارم الأم، فنحن نتكلم بالنسبة للرجل، أما المرأة فأول المحارم لها هو الأب. وإذا قلنا: الأخت بالنسبة للرجل، تعكس المرأة وتقول: الأخ. وإذا قلنا: بنت الأخ بالنسبة للرجال، فتعكس النساء ويقلن: ابن الأخ؛ لأنهن يسألن عن المحارم من جهة الذكور، والرجال يسألون من جهة الإناث.

أنواع المحارم من جهة النسب وحكم كل نوع منها

أنواع المحارم من جهة النسب وحكم كل نوع منها أما بالنسبة للجهة الأولى: وهي النسب، فهن سبع من النسوة: الأولى: الأم: والأم هي: كل أنثى لها عليك ولادة سواءً كانت مباشِرة أو كانت بواسطة فهي محرم لك، يشمل ذلك: - الأم المباشرة. - وأم الأم. - وأم أم الأم، وإن علت. - ويشمل أيضاً أم الأب. - وأم أب الأب، وإن علا. فأم الإنسان المباشِرة حرام، وأم أصوله أم له، فلو سألك السائل وقال: أم أب الأب هل هي محرم لي؟ تقول: نعم. ولا يجوز لك نكاحها، ويجوز لك مصافحتها والسفر معها، وأنت محرم لها. أما الدليل فقوله سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23]، فنص الآية الكريم جاء بالجمع، قال بعض المفسرين: تنبيه من الله سبحانه وتعالى على أن التحريم لا يختص بالأم المباشِرة، وإنما يشمل الأم المباشِرة والأم بواسطة كأمهات الأصول. الثانية: البنت: والبنت هي: كل أنثى لك عليها ولادة سواءً كانت مباشرة: - كبنت الصلب التي هي مباشِرة من صلبك. - أو بنت بنتك وإن نزلت. - أو بنت أبنك، وإن نزل. فجميع الإناث اللاتي ولدن منك أو من فروعك من الذكور والإناث فهن محارم لك. وهذا دليله قوله تعالى: {وَبَنَاتُكُمْ} [النساء:23] فجمعت الآيةُ الكريمة تنبيهاً على البنت المباشِرة والبنت بواسطة. الثالثة: الأخت: والأخت ضابطها هي: كل أنثى لأحد أصليك عليها ولادة، أو هما معاً، فيشمل ذلك ثلاثة أنواع من الأخوات: النوع الأول: الأخت الشقيقة: لأن الولادة من أصليك. والثاني: الأخت لأب: وقد شاركتك في أصل واحد وهو الأب. والثالث: الأخت لأم: وقد شاركتك في أصل واحد وهو الأم. فالأخت محرم لك سواءً كانت شقيقةً أو كانت لأب أو كانت لأم. أما دليل كونها محرماً فقوله تعالى: {وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء:23]. الرابعة: العمة: العمة هي: كل أنثى شاركت أباك في أحد أصليه أو فيهما معاً، فيشمل: - العمة الشقيقة. - والعمة لأب. - والعمة لأم. فكل أنثى اجتمعت مع والدك سواء من جهة أحد أصليه كالعمة لأب: وهي أختُ الأب من أبيه، والعمة لأم: وهي أختُ الأب من أمه، أو العمة الشقيقة: وهي أخته من أبيه وأمه شاركته في الأصلين معاً. العمة محرم، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَعَمَّاتُكُمْ} [النساء:23]. يستوي في العمات عماتك المباشِرة، وعماتك بواسطة من جهة الأصول: فعمة أبيك محرم لك، وعمة جدك محرم لك، وعمة جدتك محرم لك، وعمة أمك محرم لك، فاجعل العمات والخالات من جهة الأصول عمات وخالات لك. ولذلك إذا سألك السائل فقال: عمة جدي هل هي محرم لي؟ تقول: عمة أصلك عمة لك. ولو سألك عن عمة أمه أهي محرم له؟ تقول: عمة أصلك عمة لك، فهي محرم لك. الخامسة: الخالة: وهي: كل أنثى شاركت الأم في أحد أصليها أو فيهما معاً، فيشمل: - الخالة لأب: شاركت الأم في أحد أصليها وهو الأب. - والخالة لأم: لأنها شاركت الأم في أحد أصليها وهي الجدة أم الأم. - والخالة الشقيقة: وهي أخت الأم من جهة الأب والأم، شاركت الأم من أصليها معاً. فالخالة محرمٌ لك سواءً كانت خالةً مباشِرة وهي أخت أمك لأب أو أم أو لهما معاً، أو خالةً لأصلك. فلو سألك سائل عن خالة أبيه: هل يجوز له أن يختلي بها ويسافر معها؟ تقول: نعم. خالة أصلك خالة لك، وخالة أب الأب، وخالة جد الأب، كل هؤلاء من النسوة محارم. والدليل قوله تعالى: {وَخَالاتُكُمْ} [النساء:23] قال المفسرون بالإجماع: إن خالاتِ الأصول خالاتٌ للفروع، وعماتِ الأصول عماتٌ للفروع. السادسة: بنت الأخ: وضابط بنت الأخ هي: كل أنثى لأخيك عليها ولادة، ويشمل: - الأخ الشقيق. - والأخ لأب. - والأخ لأم. - ويشمل الولادة المباشِرة كبنت أخيك الشقيق. - والولادة بواسطة كبنت بنت أخيك الشقيق. - وبنت ابن أخيك الشقيق. فالفروع هنا يأخذن حكم ما تفرعن عنه، فبنت الأخ محرم لك سواء كان أخاً شقيقاً، أو لأب، أو لأم. والدليل: قوله تعالى: {وَبَنَاتُ الأَخِ} [النساء:23]. وأما السابعة: فبنات الأخت: وضابطهن: كل أنثى لأختك عليها ولادة، سواءً كانت مباشِرة أو كانت بواسطة، وسواءً كانت الأخت: - شقيقة. - أو لأب. - أو لأم. فجميع ما تنجبه الأخت يعتبر من محارمك من الإناث سواءً باشَر أو كان بواسطة. هؤلاء السبع تحريمهن جاء من جهة النسب. والنسب: مأخوذ من النسبة يقال: نسب الشيء إلى الشيء إذا أضافه، وسمي النسب نسباً؛ لأن الابن يضاف إلى أصله، فيقال: محمد بن عبد الله، وعبد الله بن عبد الرحمن، فيضاف الابن لأبيه، والأب للجد، والجد لأبيه وهكذا. فهؤلاء السبع إذا تأملتهن وجدت التحريم جاء من جهة القرابة، فتجد إما من جهة الأصول أو من جهة الفروع، أو من جهة فروع الأصول، أو من جهة فروع مَن شارك في الأصول. فهؤلاء النسوة من السبع الجهات يعتبرن محارم للرجل. والعكس في الإناث: فتقول في الأمهات: الآباء. وتقول في البنات: الأبناء. وتقول في الأخوات: الإخوة الذكور. وتقول في العمات: الأعمام. وفي الخالات: الأخوال. وفي بنات الأخ: أبناء الأخ. وفي بنات الأخت: أبناء الأخت. هذا بالنسبة للتحريم من جهة النسب، وكل واحد منا ينبغي أن يكون حافظاً لهؤلاء السبع؛ حتى يعلم أن الله أحل له الخلوة بهذا النوع من النساء ومصافحتهن والسفر معهن، وغير ذلك من أحكام المحرمية المعروفة.

أنواع المحارم من جهة الرضاع وحكم كل نوع منها

أنواع المحارم من جهة الرضاع وحكم كل نوع منها أما بالنسبة للجهة الثانية فهن المحارم من جهة الرضاع: وجهة الرضاع كجهة النسب سواءً بسواءٍ، فتقول: الأم من الرضاع، وأم أمها، وإن علت، وأمهات الأصول من الرضاع أمهاتٌ للفرع الرضيع. كذلك أيضاً: البنات من الرضاع وإن نزلن. فبنتك من الرضاع تعتبر محرماً لك، وبنت بنتها، وبنت ابنها، وإن نزل الجميع. كذلك أيضاً: الأخت من الرضاع: سواءً اجتمعت معك في المرأة المرضعة من الأصلين، فكان الزوج الذي ارتضعت هذه الأخت من لبنه، فهي أختٌ لك من الرضاع شقيقة، أو كانت بنتاً لهذا الرجل من هذه المرأة التي رضعت منها، فهي أخت لك من الرضاعة شقيقة. ولكن هذا الرضاع يعتبر فيه ما يعتبر في النسب، فلو أن هذا الرجل الذي رضعتَ من لبنه من هذه المرأة تزوج امرأة ثانية، أو كانت عنده امرأة ثانية فأنجبت، فجميع ما ينجبه هذا الرجل الذي ارتضعت من لبنه يعتبرون أخوة لك من الرضاعة. إن كان من المرأة نفسها فهو أخٌ شقيق وأخت شقيقة، وإن كان من غير المرأة قَبْل أو بَعْد فهو أخ من الرضاع لأب. ثم هذه المرأة التي ارتضعتَ منها جميعُ ما تنجبه من قبل هذا الرجل أو من غيره، فإنهم يعتبرون أخوة لك من الرضاع من جهة الأم فقط إذا كانوا من غير الرجل، وإن كانوا من الرجل فيعتبر أخاً شقيقاً من الرضاع وأختاً شقيقةً من الرضاع. هذا بالنسبة للرضاع. فالأخت من الرضاعة، وكذلك بنات الأخت والأخ من الرضاعة، والعمة من الرضاعة، والخالة من الرضاعة، كل هؤلاء السبع من جهة الرضاع يُنَزَّلن منزلة السبع من جهة النسب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) فدل هذا الحديث الصحيح على أننا ننزل الحكم في الرضاع منزلة الحكم الموجود في النسب.

أنواع المحارم من جهة المصاهرة وحكم كل نوع منها

أنواع المحارم من جهة المصاهرة وحكم كل نوع منها أما بالنسبة للجهة الثالثة فهن المحارم من جهة المصاهرة فيشمل أربعة أنواع من النساء. والمصاهرة: تقوم على الصهر وهو الزواج من الناس، والإنسان يصاهر القوم إذا تزوج منهم، وصِهْرهم زوج بنتهم أو زوج أختهم. أولاً: ما كانت المصاهرة في أصولك، وما كانت المصاهرة من جهة فروعك: - فتنظر إلى أصولك، وهم: آباؤك وإن علوا كالجد. - وتنظر إلى فروعك، وهم: أبناؤك وإن نزلوا. ثانياً: تنظر إلى المرأة التي تزوجتها: - أصلِها. - وفرعِها. فهذه أربع جهات: النوع الأول من المحرمات من جهة المصاهرة: زوجات الآباء وإن علوا: فزوجة الأب: هي المرأة التي عقد عليها الأب، وبمجرد عقده عليها تعتبر محرماً لك، سواءً دخل بها أو لم يدخل بها، طلقها أو مات عنها، ما دام أنه قد عقد على هذه المرأة فهي حرام عليك إلى الأبد، وهي مَحْرَمٌ لك إلى الأبد، يستوي في ذلك أن يكون أباً مباشِراً وهو الذي ولد الإنسانَ مباشَرةً، أو أباً لأبيه وإن علا. فلو سألك سائل: عن امرأة عقد عليها أبو الأم وهو جدك من جهة الأم أو امرأة عقد عليها أبو الأب. تقول: إنه لا يحل لك نكاحها وهي محرم لك. ما الدليل؟ قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:22]. والأبُ أبٌ تمحض بالذكور أو تمحض بالإناث، فإن جدك من جهة الأم كأبيك، يعتبر وفي حكم الأب، ولذلك قالوا: كل من عقد عليها الأب أو أبوه، وإن علا، والجد وجده، وإن علا، فهو محرم للفروع. الخلاصة: أن أي امرأة بمجرد ما يعقد عليها الوالد، أو يقع بينه وبين وليها الإيجاب والقبول بحضور شاهدين عدلين يصح بهما العقد، فإنه يحل لك أن تجلس معها، وأن تصافحها، وتختلي بها، وتسافر معها، وأنت محرم لها. هؤلاء زوجات الآباء. النوع الثاني: زوجات الأبناء: عرفنا أن اللاتي تزوجهن الأصول أنهن محارم، وعكسهن اللاتي تزوجهن الفروع. فكل امرأة عقد عليها ابنك أو ابن ابنك وإن نزل، بمجرد العقد تصير محرماً لك. فزوجات الأبناء وأبناء الأبناء وأبناء البنات، كل هؤلاء من النسوة محارم لك. والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23] أي: حرمت عليكم نكاح الحليلة للابن إذا كان من الصلب، ومراده (مِنْ أَصْلابِكُمْ) أن يُخرِج الابن من التبني، وقد كان في الجاهلية كـ زيد بن حارثة كان يقال له: زيد بن محمد، فقوله: (مِنْ أَصْلابِكُمْ) ليس المراد به قصر الحكم على الابن المباشر وإنما المراد به جميع ما كان من صلبك ومن ولدك، فالابن الذي من صلبك وولدك سواءً كان مباشراً أو كان بواسطة، تمحض بالذكور أو تمحض بالإناث، فإنه ابن لك، وزوجته التي عقد عليها محرمٌ لك، بمجرد ما يعقد الابن تحرم زوجته على أبيه وإن علا، فتحرُم على أبيه وعلى جده وجد أبيه وإن علا، سواءً كان من جهة الذكور أو من جهة الإناث. هذا بالنسبة لزوجات الأبناء. والدليل على أن مجرد العقد على زوجة الابن يحرِّمها: أن الله تعالى قال: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء:23] فقال: (حلائل) والمرأة حلال للولد بمجرد العقد، فلا يشترط دخول الولد حتى تصير محرماً لأبيه، وإنما بمجرد عقد الابن على هذه المرأة تصير محرماً لأصوله. النوع الثالث من المحرمات من جهة المصاهرة: أم الزوجة: هذه الأم تعتبر محرماً لك، وتكون أم الزوجة محرماً لزوج بنتها بمجرد العقد، فلا يشترط الدخول ببنتها، فكل امرأة عقدتَ عليها فإن أمها تعتبر محرماً لك بمجرد عقدك عليها، وحينئذٍ يحرم عليك نكاحها إلى الأبد، سواءً طلَّقتَ بنتها أو بقيت في عصمتك أو ماتت عنك فهي محرم إلى الأبد. والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء:23] والمرأة تكون من نساء الرجل بمجرد العقد عليها، ولذلك تقول: هذه من نسائي، بمجرد عقدك عليها ولا يشترط الدخول بها. هذا بالنسبة لأم الزوجة فهي محرم لك بمجرد العقد عليها. يستوي في ذلك أن تكون أماً مباشرة أو أماً بواسطة، فأم أم الزوجة، وأم أم أم الزوجة تعتبر محرماً لزوج بنتها، وسواءً تمحضت بالذكور أو تمحضت بالإناث فالحكم في ذلك سواء؛ لأن الله قال: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}. فأم أبي الزوجة تعتبر محرماً لك؛ لأنها أم لزوجتك، ويستوي في ذلك تمحضها بالذكور كأم أبي أبي الزوجة، أو تمحضت بالإناث كأم أم أم الزوجة، فهؤلاء النسوة جميعهن يعتبرن محارم بمجرد العقد على بناتهن. النوع الرابع: بنت الزوجة وهي التي تسمى الربيبة: وسميت ربيبة؛ لأنها تتربى عند زوج أمها، وجاء التعبير في القرآن متضمناً لهذا المعنى في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23] فقوله: (اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب إذا تزوج إنسان امرأةً، ولها بنات من رجل قبله أن يعطف عليهن وأن يربيهن كأنهن بنات له. فهذه الربيبة تحرم على الإنسان بشرط الدخول على أمها، وهي التي تنفرد من بين المحرمات بالصهر بشرط الدخول، فلو عقد على أمها فإنها لا تزال أجنبية حتى يدخل بأمها، فإن دخل بأمها حرُمَت عليه؛ وذلك لقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء:23]. إذاً الربيبة تنفرد من بين الأربع في المحرمات من الصهر، بحيث يشترط في تحريمها أن يدخل الزوج على أمها، فإن لم يدخل الزوج على أمها فلا تزال حلالاً، وهذا يدل على حكمة الله عزَّ وجلَّ ولطفه بالعباد، فإن أم الزوجة الغالبُ أن تكون أكبر ولا تُرْغَب، ولذلك حرُمَت بمجرد العقد، ولكن بنت الزوجة قد تُرْغَب، ولذلك لو كان مجرد العقد على أمها يحرمها؛ لكان فيه تضييق، فجعل الله في الأمر سعة، فلو عقد على أمها ثم نفر من أمها ورغب في الزواج منها كان الأمر أوسع، ولذلك قالوا: حتى يكون أدْفَعَ للفتنة؛ لأنه ربما افتتن بها أو تعلق بها، فكان ذلك أدعى لدفع الفتنة قبل أن يدخل بأمها. ولا يشترط أن تكون ربيبة في حجرك، وقال الظاهرية: يشترط، فلا تحرم عليك بنت الزوجة إلا إذا تربت في حجرك. والصحيح أنه لا يشترط، وهو مذهب الجمهور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أم حبيبة -لما عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أختها-: (أترضين ذاك؟ فقالت: إني لست لك بمخلية، وأحب من يشاركني أختي، إني سمعت أنك ناكح، بنت أبي سلمة؟! فقال عليه الصلاة والسلام: إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري لما حلت لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة)، ثم قال كلمة هي الحجة والفيصل في هذه المسألة يخاطب زوجته أم حبيبة (فلا تعرضن عليَّ أخواتكنَّ ولا بناتكنَّ) فقال: (بناتكنَّ) ولم يقل: اللاتي تربين في حجري، وإنما قال: (بناتكنَّ) وأطلق. ففُهِم من هذا أن تعبير القرآن في قوله: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23] خرج مخرج الغالب، والقاعدة في الأصول: أن النص إذا خرج مخرج الغالب لا يعتبر مفهومه. وعلى هذا: فلو كانت بنت الزوجة قد بلغت قبل أن تدخل بأمها، فإنها لا تكون محرماً لك إلا إذا دخلت بأمها، وهكذا لو تربت من باب أولى وأحرى وهي بالإجماع. هؤلاء أربع من النسوة من أربع جهات: فتقول: التحريم بالمصاهرة: من جهة أصلي، ومن جهة فرعي. فأما من جهة أصلي: فزوجات آبائي. وأما من جهة فرعي: فزوجات أبنائي، وإن نزلوا. وأما بالنسبة للثالث والرابع منهن: فأم زوجتي، وبنت زوجتي. فالأمر فيهن واضح، وجمعهن يكون على هذه الصورة؛ أن تنظر إلى أصولك، وفروعك، وتسند بالزوجية إليهما، وتنظر إلى أصل زوجتك، وفرع زوجتك، فيصبح المجموع أربعة أنواع من النسوة. ويضاف إلى المحرمات من جهة المصاهرة أربع من جهة الرضاع. هذا بالنسبة للمحرمات وكما قلنا: سبعٌ من النسب. وسبع من الرضاع. وأربع من المصاهرة. إضافة إلى أربع من المصاهرة من جهة الرضاع. فأصبح المجموع اثنتين وعشرين امرأة من جميع الجهات، فهؤلاء النسوة يعتبرن محارم بالنسبة للرجل. يضاف إليهن: الزوجة، وهي ليست من المحرمات؛ لكنها أبيحت له، ولذلك لا تتعلق بنسب ولا تتعلق برضاع ولا تتعلق بمصاهرة، لا من جهة الأصول ولا من جهة الفروع؛ ولكنها هي التي أحل الله. فأصبح عددُ النسوةِ ثلاثاً وعشرين امرأةً. هذا بالنسبة للمحرمات على التأبيد.

أنواع المحرمات على التأقيت وحكم كل نوع منها

أنواع المحرمات على التأقيت وحكم كل نوع منها هناك نوع من المحرمات حرم الشرع نكاحهن على التأقيت: أخت الزوجة: حرام على الإنسان أن ينكحها مؤقتاً، فلا نقول: إنها من المحارم، وهذا يغلط فيه البعض، بل بلغني عن بعض طلاب العلم أنه يجلس مع أخت زوجته، ويقول: إن الله عزَّ وجلَّ عدَّها في المحرمات، فهي كالأم وكالبنت، وهذا خطأ؛ لأن التحريم في حقها مؤقت، وإنما تثبت المحرمية في التحريم المؤبد. كذلك أيضاً: من التحريم المؤقت: الخامسة من النسوة: فمن كان عنده أربع من النسوة لا يحل له أن ينكح الخامسة، فليست الخامسة حلالاً له، بل يحرم عليه نكاحها؛ لكن تحريماً مؤقتاً. وكذلك: المحصنات من النساء: كما ذكر الله في القرآن، من المحرمات؛ لكنهن لسن من المحارم، فليُنْتَبَه إلى قولنا: من المحرمات، ومن المحارم، فالمحارم شيء، والمحرمات شيء آخر؛ لأن المحرمات أعم من المحارم؛ لكن وصف هؤلاء النسوة بكونهن محارم لوجود التحريم من جهة التأبيد. بقي إشكال؛ هناك نوع من النسوة يحرمن على التأبيد ولسن من المحارم، ويُلْغِز بعض العلماء في هذا ويقول: امرأة محرمة إلى الأبد ليست بمحرم؟ فجوابه: زوجة الملاعِن، فإن الزوج إذا لاعن زوجته -والعياذ بالله- فُرِّق بينهما فراقاً أبدياً، ولا تحل له إلى الأبد، وهذا التحريم يسمونه: تحريماً مؤبداً؛ لكنه لا يقتضي المحرمية وليست بمحرم له، وإنما هي أجنبية تبين منه بمجرد انتهاء المرأة من قولها -في اللعنة الخامسة والعياذ بالله-: أَنْ غضب الله عليها إن كان صادقاً فيما ذكر، فإذا قالت هذه الكلمة فحينئذٍ يفرق بينهما فراقاً أبدياً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ عويمر العجلاني بعد أن فرغت المرأة من اللعان وقالت الموجبة الخامسة-: (حسابكما على الله، الله أعلم أن أحدكما كاذب، فقال عويمر: كذبتُ عليها يا رسول الله إن أمسكتُها، فطلقها ثلاثاً، فقال: إنها لا تحل لك) يعني: إلى الأبد، فهذا يدل على أن التحريم إلى الأبد؛ لكن ليست بمحرم. وعلى هذا اختص التحريم بالمحرمات من جهة النسب، والمحرمات من جهة الرضاعة، والمحرمات من جهة المصاهرة، إلا أن التحريم من جهة الرضاع يشترط فيه ما يشترط في الرضاع المؤثر، وإن شاء الله سيأتي بيان حدود الرضعات المؤثرة، وضابط ذلك في كتاب النكاح. هؤلاء النسوة وما يقابلهن من جهة الذكور، يعتبر محارم للرجال وهم محارم لهن، على التفصيل الذي ذكرناه. فلا يحل للمرأة أن تسافر إلى الحج ولا إلى العمرة إلا مع محرم، ومن باب أولى السفر إلى غير الحج والعمرة، مع أن الحج والعمرة واجبتان. قد يقول قائل: سفر الحج والعمرة واجب عليها، وإن لم تجد محرماً فإنها تخاطَب بالخروج إبراءً للذمة، فما الدليل على أنه لا يجوز لها الخروج إلا مع المحرم؟ A أولاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم) وجه الدلالة: أن الحديث عام لم يفرق بين سفر وآخر، فشمل السفر الواجب وغير الواجب. ثانياً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له الصحابي: يا رسول الله! إني اكتُتِبت في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي انطلقت حاجة، فقال عليه الصلاة والسلام: انطلق فحج مع امرأتك)، فدل على أنه لا يجوز للمرأة أن تسافر وليس معها ذو محرم منها، ولو كان السفر واجباً على المرأة.

ضرورة توفر السبب المباح في المحرمية

ضرورة توفر السبب المباح في المحرمية قوله: [أو سبب مباح]. يخرج به السبب غير المباح كالبنت من الزنا، والأخت من الزنا والعياذ بالله! فهؤلاء وأمثالهن من النسوة لسن بمحارم للإنسان، أي: لا يسافر مع أخته من الزنا، كأن تزني أمه أو يزني أبوه والعياذ بالله! فتكون له أختٌ من الزنا لأب أو لأم، أو كأن يزني الرجل بالمرأة والعياذ بالله! ثم يتزوجها بعد أن تلد بنتاً، فالبنت التي وقعت قبل الزواج الشرعي بنتُ سفاح، وما كان من بعد ذلك فهو ابن نكاح وبنت نكاح، فلا تكون هناك نسبة بين الحلال والحرام، ولا يجوز لأحد -مثلاً- أن يسافر مع بنته من الزنا ويقول: هذه محرم؛ لأنها بنتي، بل إنها تعتبر أجنبية عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولد للفراش وللعاهر الحَجَر) فقطع الصلة بين الزاني وما كان من مائه الحرام. ولذلك لو تحقق أن هذه البنت بنته وأن هذه المرأة لم تزنِ بغيره، فهي ليست ببنته وليس له إلا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وللعاهر الحَجَر) كناية على أنه لا شيء له، ولا تنسب البنت إلا لأمها. والحرام لا يحلل، فلو وطأ امرأة بدون عقد وحملت ثم عقد عليها بعد انعقاد الحمل وهو يعلم أن هذا الحمل حمله وولدت بنتاً من الزنا، فهي بنت زنا، ويكون ما وقع من مائه بعد العقد سقيٌ للحرام بالحلال، وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم كما في سبي أوطاس لما رأى الرجل يريد أن يلم بالمرأة من السبي وهي قائمة على الباب، فقال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (أيغذوه في سمعه وبصره؟! لقد هممتُ أن ألعنه لعنةً تدخل معه إلى قبره). والمراد بذلك أن هذه المرأة السبي كانت قد حملت قبل الغزو، ثم أسرت فأصبح حملها للأول الذي كان يطؤها وهو زوجها، فلما وقعت في السبي حلت بالغنيمة لمن أخذها وأصبحت من سبيه ومن إمائه، ويجوز له وطؤها؛ ولكن لما كانت حاملاً فإنه لا يجوز له وطؤها إلا بعد الاستبراء، وحينئذٍ ينتظر حتى تضع حملها ثم يستمتع بها بما أحل الله؛ لكن الرجل استعجل فقال عليه الصلاة والسلام: (أيغذوه في سمعه وبصره؟!) يعني: أنه لو جامعها فأنزل الماء اغتذى الولد وانتشى بمائه، فهذا يدل على حرمة إدخال الماء على الماء. ولا يجوز ما يفعله بعض العامة بحيث إذا زنى فيهم الرجل بالمرأة زوجوه بها قبل أن تستبرئ، وهذا لا شك أنه من حكم الجاهلية ولا يجوز ذلك، وإذا أراد أن يتزوجها والعياذ بالله، فإنه لا يتزوجها حتى يتوب توبة نصوحاً، وكذلك حتى تتوب توبة نصوحاً، فإن تابا توبة نصوحاً، فلا يجوز له أن يعقد عليها ولا أن يدخل عليها إلا بعد أن يستبرئها من الحرام، حتى لا يخلط النكاح بالسفاح، وما أحل الله بما حرم الله. فالشاهد: أن البنت من الزنا ليست بمحرم لأبيها الزاني، وهكذا بالنسبة لفروعها من الإناث.

حكم من لزمه الحج ومات قبل أن يحج

حكم من لزمه الحج ومات قبل أن يحج قال رحمه الله: [وإن مات من لزماه أُخْرِجَاْ من تركته]. قوله: (وإن مات من لزماه): أي: من لزمه الحج ولزمته العمرة، أخرج من تركته بقدر ما يُحَجُّ ويعتمر به عنه، فإن كان موته بالمدينة وَوُجِدَ شخص يحج عنه ويعتمر عنه، نُظِر إلى كلفة ومئونة الحجة والعمرة فإذا كانت ألف ريال أو ألفين فيُخْرَج من تركته قبل قسمتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فدين الله أحق أن يقضى)، والميت إذا مات أول ما يقام به مئونة التجهيز من تغسيله وتكفينه وحمله ودفنه، ثم بعد ذلك تقضى عنه ديونه التي عليه إبراءً لذمته، فيشمل الديون التي للآدميين، والديون التي لله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الحج ديناً فقال: (فدين الله أحق أن يقضى). فعلى هذا تخرج الألف أو الألفان من تركته ويُحَجَّجُ عنه، فإن وجد من ورثته من يتبرع عنه المال، فيُتْرَك مالُه حظاً للورثة يقتسمونه بقسمة الله عزَّ وجلَّ في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. فقوله: (من لزماه): أن من مات ولم يلزمه الحج كأن يموت فقيراً، ولا يجد الزاد الذي يجب معه الحج، فحينئذٍ لا يجب أن يخرج من تركته ما يحجج به عنه، ولو صار غنياً بعد الحج، مثال ذلك: فقير جاءه شهر ذي الحجة من آخر عمره وهو على الفقر طيلة حياته، أي: لا يجد الزاد لكي يؤدي فريضة الحجة والعمرة عنه، فلما ولَّى شهرُ الحج اغتنى، فحينئذٍ إذا اغتنى ينتظر إلى السنة القادمة حتى يحج، فإن عاجله الموت قبل أن يأتي وقت الحج فإنه لا يُخْرَج من تركته ما يحج به عنه؛ لأنه لم يجب الحج عليه، وإنما يجب عليه الحج إذا دخلت أشهر الحج، فحينئذٍ يخاطَب بالحج إلى بيت الله الحرام.

الأسئلة

الأسئلة

خالة الزوجة وعمتها ليستا محرمين للزوج

خالة الزوجة وعمتها ليستا محرمين للزوج Q ماذا عن خالة الزوجة وعمة الزوجة أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه. أما بعد: فخالة الزوجة وعمة الزوجة محرمة على التأقيت، فلا يجوز للرجل أن يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك كما في الصحيح: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها) والسبب في ذلك: أن النكاح والزواج مظنة الغيرة، وحينئذٍ كأنه بهذا الزواج يقطع الأرحام؛ فتحصل القطيعة بين البنت وعمتها والبنت وخالتها، وفي هذا مفسدة عظيمة تُقَدَّم على المصلحة، فحرم عليه أن يجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، ولكن هذا التحريم يعتبر تحريماً مؤقتاً، والتحريم المؤقت لا يوجب المحرمية، فلا يجوز للزوج أن يختلي بخالة زوجته، ولا بعمة زوجته؛ لأنها ليست بمحرم له. والله تعالى أعلم.

اعتبار أم الزوجة من الرضاع محرما للزوج

اعتبار أم الزوجة من الرضاع محرماً للزوج Q هل أم زوجتي من جهة الرضاع أُعتبر محرماً لها أثابكم الله؟ A هذا مبني على قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وقد أشار إلى هذه المسألة الإمام ابن رجب رحمه الله في كتابه: جامع العلوم والحكم، وحكى الإجماع على أنه يُنَزَّل الرضاع منزلة النسب، فكما أن النسب في المصاهرة يوجب التحريم، كذلك أيضاً المحرمة بالرضاع تُنَزَّل منزلة النسب، وهذا مبني على أن المعنى واحد، فإننا إذا نظرنا إلى أن الرضاع مُنَزَّلٌ منزلة النسب، فالأب لو تزوج امرأة فإنه حينئذٍ تكون هذه المرأة محرماً لك، كذلك أيضاً الأب من الرضاع؛ لأنك ارتضعتَ لبنه نُزِّل منزلة الأب من النسب، وحينئذٍ تحرم زوجته كما تحرم زوجة النسب. كان بعض العلماء يقول: قياس النص يقتضي حِلها؛ ولكن لا قائل به، والسبب في هذا أن الله عزَّ وجلَّ ذكر التحريم بالنسب، ثم أتبعه بالتحريم بالرضاعة، ثم أتبعه بالتحريم بالمصاهرة ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] قالوا: هذا يقتضي أن ما كان من الرضاع من جهة المصاهرة حلال؛ وذلك لأنه وإن كان التحريم بالرضاع كالتحريم من النسب إنما هو في النسب، ولا يرى المصاهرةَ آخذةً حكم النسب، فيرى أن قياس النص يقتضي حلها. ولكن نقول: لا قائل بهذا، والمعنى واحد فيها. والله تعالى أعلم.

عدم حرمة الربيبة على ابن زوج أمها

عدم حرمة الربيبة على ابن زوج أمها Q الربيبة لا تحل للرجل وتعتبر محرماً له، فهل نفهم من ذلك أن أبناء الزوج محارم أيضاً للربيبة وكأنها أختهم أثابكم الله؟ A ليست الربيبة بمحرم لأبناء زوج أمها، فهي تحرم على زوج أمها ولا تحرم على أبنائه، فلو أراد الابن أن يتزوج الربيبة، وهي بنت زوجة أبيه حل له ذلك، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، فالربيبة حلال لأبناء زوج أمها وإذا كانت حلالاً فإنها ليست بمحرم، ولا يجوز لابن زوج أمها أن يجلس معها ويخلو بها، وليس بمحرم لها في السفر، ولا يجوز له أن يصافحها، فحكمه حكم الأجنبي سواءً بسواءٍ. والله تعالى أعلم.

اقتصار التحريم في الرضاعة على الرضيع دون إخوته

اقتصار التحريم في الرضاعة على الرضيع دون إخوته Q هل يجوز لأخي أن يتزوج من أخت أختي من الرضاعة أثابكم الله؟ A بالنسبة لأخيك يجوز له أن يتزوج أخت أختك من الرضاعة، بل يجوز أن يتزوج أختك من الرضاعة نفسها إذا لم يكن قد ارتضع معك، ولم تكن هذه الأخت قد رضعت من أمك، بمعنى أن الرضاعة منفصلة عن أمك، فإذا كانت أختك من الرضاعة فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إن كانت أختاً لك من الرضاعة، رضعت من أمك وأصبحت أختاً من جهة رضاعها للبن أمك فهي حرام على إخوانك كلهم، سواءً كانوا أشقاء لك أو كانوا لأم؛ لكن إذا كانت هذه الأخت لها أخت، فإنه يجوز لأخيك أن يتزوج هذه الأخت؛ لأن المحرمية اتصلت بهذه الأجنبية التي دخلت على لبن الأم، أما أختها فيجوز لأخيك أن يتزوجها، فأخت أختك من الرضاعة حل لأخيك من الرضاعة سواءً دخلت أو لم تدخل. - الحالة الثانية: أن تكون أختاً لك من الرضاعة برضاعك من أمها، فحينئذٍ ننظر في الأخ الذي يريد أن يتزوجها، إن رضع معك فهي أخته كما أنها أختك، وأما إذا لم يرضع فالتحريم يختص بك، ويجوز لأخيك أن ينكحها ويتزوجها؛ لأنه أجنبي عنها والتحريم مختص بك. - وهناك حالة ثالثة: وهي أن تكون أختاً لأختك من الرضاعة بمعنى: أنها أخت لها في الرضاعة من جهة منفصلة عن التي رضعتها كأن تكون هذه الأخت رضعت من امرأة ثم رضعت من امرأة ثانية، فحينئذٍ هي أخت لأختك من الرضاعة وليست بأخت لك، أختك من الرضاعة اسمها: خديجة، وخديجة رضعت من زينب، وأنت رضعت من زينب، فهي أختك من الرضاعة، وكلٌّ منكما قد ارتضع هذا اللبن، خديجة هذه التي هي أختك من الرضاعة لها أختٌ اسمها عائشة، خديجة رضعت مع عائشة من امرأةٍ ثانية عائشة لا تشترك معك في محرمية وليس بينك وبينها محرمية، وإنما دخلت أختاً على أختك برضاع منفصل، فيجوز لك أن تتزوج هذه الأخت لأختك من الرضاعة؛ وذلك لعدم وجود الاتصال في التحريم. فالتحريم إنما يتصل بمن يرتضع، فأنت لا تحرم إلا من رضع؛ لأن الأصل الحل حتى يدل الدليل على التحريم، فإذا شاركتك امرأة في الرضاع فهي محرم لك، وتعتبر حراماً عليك من جهة الزواج، وكل من شاركك في الأخوة من الأخوات إن اتصل بالغير بسبب منفصل عنك فإنه أجنبي، ووجود هذه الصلة وعدمها على حد سواء، فلما كانت الأخت من الرضاعة قد ارتضعت من امرأة أجنبية غير التي رضعتها، فقد أدخلت على نفسها أخوَّة غير الأخوَّة التي بينك وبينها، وحينئذٍ يجوز أن تتزوج من أختها من هذه الرضاعة الأجنبية ولا حرج عليك. والله تعالى أعلم.

جواز الجمع بين المرأة وبنت خالتها أو بنت عمتها

جواز الجمع بين المرأة وبنت خالتها أو بنت عمتها Q ما حكم الزواج من بنت خالة الزوجة أثابكم الله؟ A الجمع بين المرأة وبنت خالتها، والمرأة وبنت عمتها فيه خلاف بين أهل العلم رحمة الله عليهم. والأقوى والأصح أنه لا حرج في الجمع بين المرأة وبنت عمتها والمرأة وبنت خالتها؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى حرم الجمع بين الأختين، وحرم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وبقي ما عدا هؤلاء داخلاً في عموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]. ولذلك: فالأصلُ حِلُّه حتى يدل الدليل على التحريم. وعليه فإنه يجوز الجمع بين المرأة وبنت عمها، وبنت خالها، وبنت خالتها، وبنت عمتها، ولا حرج عليه في ذلك. والله تعالى أعلم.

تزوج الأم أثناء رضاعها لولدها لا يجعله محرما لنساء الزوج الثاني

تزوج الأم أثناء رضاعها لولدها لا يجعله محرماً لنساء الزوج الثاني Q تزوج خالي من امرأة لها ولد وعمره سنة، فدخل بها فأتم هذا الولد مدة الرضاع وهو تحت خالي، هل يعتبر ولداً لخالي من الرضاعة فيجوز لأمي أن تقابله وتصير عمة له أثابكم الله؟ A بالنسبة لهذا الولد الذي أتم مدة الرضاع بعد أن تزوجت أمه، فهو يرتضع من لبن أبيه؛ لأنه فضلة ما أبقى والده سواء كان ميتاً أو حياً طلق أمَّه، فهذا اللبن الذي ارتضعه الولد في السنة الأولى من الزوج الأول واضحٌ أنه أبوه؛ لأنه لا يمكن أن يكون هناك لبن إلا من أبيه؛ فإذا كان هذا اللبن الذي ارتضعه خلال السنة من اللبن الأول الباقي من أبيه فلم يدخل خالك عليه بماء جديد؛ لأنه إنما يكون ولداً لخالك لو حملت من خالك ثم وضعت ثم ارتضع اللبن بعد وضعها من خالك. أما هذا اللبن الموجود فيعتبر للزوج الأول الذي هو والده، وكون خالك عقد على هذه المرأة وهي تُرْضِع هذا الولد، فهذا لا يغير في اللبن شيئاً؛ لأن اللبن للفحل الأول، ولا يؤثر إلا إذا حملت بحمل جديد وولدت منه وثاب اللبن، فإن ثاب لبن من وطء خالك ثم ارتضع اللبن بعد الإنجاب فحينئذٍ هو محرم، وأما إذا لم يرتضع فلم يتغير في الحال شيء، وعقد خالك لا يغير من الحقيقة شيئاً؛ لأن الشرط في الرضاع أن يكون قد ثاب اللبن من مائه، أما إذا ثاب من ماء غيره فهو للأصل وهو والده، والولد أجنبي عن نساء الزوج الثاني، إلا من أمه. والله تعالى أعلم.

حرمة حلائل الأبناء من الرضاع كحرمة حلائل الأبناء من النسب

حرمة حلائل الأبناء من الرضاع كحرمة حلائل الأبناء من النسب Q يقول الله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23] هل هذا القيد يُخْرِج حلائلَ الأبناء من الرضاع أم أثابكم الله؟ A قوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23] المراد به إخراج ما كانت العرب في الجاهلية تفعله من ولد التبني، كان الرجل يتبنى ولداً لغيره ويقول: هذا ابني، فينسب إليه، ويقال: فلان بن فلان، وهذا هو الذي ألغاه الإسلام وحرمه الله عزَّ وجلَّ بقوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5]، وأمر المسلمين أن يردوهم إلى الأصل، ومن الظلم للأب الأول أن ينسب ولده إلى غيره. فالآية أخرجت هذا، وأما بالنسبة لمسألة الرضاع، فقد جاءت السنة تدل بعمومها على أن التحريم من الرضاع يُنَزَّل منزلة التحريم من النسب، فكما يسري التحريم من النسب مصاهرةً يسري كذلك رضاعاً. ثم هو من جهة النظر واضح: فإن الابن من الرضاعة بينك وبينه الاغتذاء بلبنك كالابن من النسب، وحينئذٍ تكون موطوءته كموطوءة النسب ولا فرق، ولذلك تجد قوة الرضاعة كقوة النسب، وصريح السنة يقوي ما ذكرناه. والله تعالى أعلم.

زوج الخالة أجنبي وإن رضعت ابنته من خالتها

زوج الخالة أجنبي وإن رضعت ابنته من خالتها Q تقول السائلة: ابنة خالتي رضعت من والدتي رضاعةً كاملة دون أن تقوم والدتها بإرضاعي، هل والدها وإخوانها وأبناؤها محارم لي أثابكم الله؟ A بالنسبة لبنت خالك إذا ارتضعت من أمك فإن والدها أجنبي عنك. زوج الخالة أجنبي؛ والسبب في هذا أن رضاعة بنته من أمك لا تقتضي سريان الحكم لكِ إليه، بل يبقى أجنبي، إنما يسري الحكم أنْ لو ارتضعت من الخالة فتكوني بنتاً له من الرضاعة، أما لو جاءت إحدى بناته، أو جاء واحد من أبنائه وارتضع من أمك، فالتحريم يتعلق بهذا الذي ارتضع من أمك، ويبقى زوج الخالة على أجنبيته، ولا يعتبر محرماً بدخول ابنه على الأجانب، فهن أجانب بالنسبة له؛ ولكنهن محارم لابنه. وقد تكون المرأة محرماً للأب ولكنها أجنبية للابن مثل: الربيبة هي محرم للأب لكنها ليست بمحرم لولده. المقصود: أن كون هذه البنت وهي بنت خالتكِ قد ارتضعت من أمكِ، فإنها بنت لأمكِ ولا يسري ذلك إليكِ، فلستِ ببنت للخالة، وإنما أنت بنت للأم، وهذه التي دخلت وهي بنت خالتكِ تعتبر محرماً لإخوانكِ من جهة أبيكِ الذي ارتضَعَتْ من لبنه، ويسري التحريم عليها، أما أبوها فإنه ليس بمحرم لكِ ولا بمحرم لأخواتكِ وإنما هو أجنبي؛ لأن زوج الخالة وزوج العمة يعتبر أجنبياً. والله تعالى أعلم.

باب المواقيت

شرح زاد المستقنع - باب المواقيت باب المواقيت من الأبواب الهامة التي لابد للحاج والمعتمر من الإلمام بها، فللحج ميقات مكاني وميقات زماني، وأما العمرة فليس لها إلا ميقات مكاني، وأما الزمان فإنها تؤدى في سائر أيام السنة، ويتناول هذا المبحث الكثير من الأحكام والمسائل المتعلقة بالمواقيت، ومنها: صور الإهلال، وكيفية إحرام من مر على الميقات بالطائرة، وحكم من أحرم بعد الميقات وغير ذلك.

معنى المواقيت

معنى المواقيت بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: يقول رحمه الله: [باب المواقيت]: المواقيت: جَمْع ميقات، وأصله: مِوْقات، ثم أبدلت الواوُ ياءً، فصار ميقاتاً. الميقات مأخوذ من قولهم: أقَّت الشيء يؤقته تأقيتاً إذا حدده، سواء كان الشيء المحدد بالزمان أو بالمكان، فإذا حُدَّ بالزمان فهو مؤقتٌ زماناً، وإذا حُدَّ بالمكان فهو مؤقتٌ مكاناً.

مواقيت الحج والعمرة نوعان زمانية ومكانية

مواقيت الحج والعمرة نوعان زمانية ومكانية عبادة الحج لها ميقات زماني وميقات مكاني، وعبادة العمرة لها ميقات مكاني، وأما الزمان فإن العمرة تؤدَّى في سائر أيام السنة ولا كراهة أن تؤدى في أيام التشريق، ولا حرج في ذلك خلافاً لمن قال من السلف إنها تكره. فالعمرة ليس لها حد معين بالنسبة للميقات الزماني ولكن لها ميقات مكاني، وأما بالنسبة للحج فله ميقات زماني وميقات مكاني. والأصل في المواقيت: الكتاب والسنة. فأما الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى قال في الحج: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]. وجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى جعل الحج الشرعي في أشهر معلومات، فدل على أنه لا حج في غير هذه الأشهر المعلومات التي أقَّتها الله عزَّ وجلَّ وحددها. وبناءً عليه فإنه يقال: إن الحج يصح في زمان ولا يصح في زمان آخر، وينعقد إحرامه في زمان ولا ينعقد في زمان، وأما بالنسبة للعمرة فإنه ليس لها ميقات زماني، ويدل على ذلك القرآن، فإن الله عزَّ وجلَّ قال: (الْحَجُّ)، ولم يقل: الحج والعمرة، ولذلك أجمعت الأمة على أن العمرة ليس لها ميقات زماني، بمعنى أنه يجوز أداؤها في سائر أيام السنة. وقد كانت العرب في الجاهلية تمنع من العمرة في أشهر الحج، ويعدُّون ذلك من أفجر الفجور، وكانوا يقولون: (إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، فقد حلت العمرة لمن اعتمر) وهذه يسمونها: مختلقات العرب في الجاهلية، أو مسائل العرب في الجاهلية التي أحدثوها على الحنيفية وبدلوا بها دين الله عزَّ وجلَّ، فاختلقوا أنه لا يُعْتَمَر في أشهر الحج، وكانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبطل ذلك وبيَّن أن العمرة صالحة في أشهر الحج كما هي صالحة في غير أشهر الحج. وأما بالنسبة للميقات المكاني فهي أمكنة حددها الشرع لا يجوز لمن مَرَّ عليها مريداً الحج أو مريداً العمرة أو مريدهما معاً أن يجاوز هذه الأمكنة إلا وقد أحرم، فهو مؤقت بمكان واحد معين لا يجوز له أن يجاوزه، وهذه المواقيت جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثين في الصحيحين: الأول: حديث عبد الله بن عمر، والثاني: حديث عبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع. يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرن المنازل، وقال: هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة). وهو في الصحيح. حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيح: (يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن المنازل، وأهل اليمن من يلملم). فهذان الحديثان أصلٌ في تأقيت وتحديد الحج والعمرة بالمكان؛ حيث لا يجوز لمن مر بهذه المواقيت وعنده نية الحج والعمرة أن يجاوزها إلا وقد أحرم منها.

المواقيت المكانية

المواقيت المكانية

ميقات أهل المدينة ذو الحليفة

ميقات أهل المدينة ذو الحليفة يقول المصنف عليه رحمة الله: [وميقات أهل المدينة ذو الحليفة] قد تقدم أن للحج والعمرة ميقاتين، الميقات الأول يُسمى بالميقات الزماني، والميقات الثاني يُسمى بالميقات المكاني. وابتدأ المصنف رحمه الله ببيان الميقات المكاني، وهي أماكن حدَّها الشرع لا يجوز لمن أراد الحج أو العمرة أو هما معاً قاصداً إلى مكة أن يُجَاوِز هذه الأمكنة حتى يُحرِم منها، وقد بيَّنت السنة هذه المواقيت، وذلك في حديثين هما أشهر ما وَرَد في المواقيت، حديث عبد الله بن عمر وحديث عبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع، بيَّن فيهما النبي صلى الله عليه وسلم المواقيت المكانية مفصَّلة. فابتدأ المصنف رحمه الله بميقات أهل المدينة، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: (يهل أهل المدينة من ذي الحليفة)، وهذا حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين وحديث عبد الله بن عباس: (وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدنية ذا الحليفة). والحلَيْفَة: واحدة الحَلفَى، وهو نوع من الشجر، والسبب في ذلك أن هذا الوادي -وهو ذو الحليفة- كانت فيه شجرة، أي في وسطه، وقيل إنه كان يكثر فيه هذا النوع من الشجر، وهو الوادي الذي يسمى في المدينة بوادي العقيق، ويسمى في عرف العامة اليوم وادي عُروة؛ لأن عروة بن الزبير رحمه الله كانت له مزارع في هذا الوادي، وهذا الوادي ثبت في الصحيح من حديث عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف هذا الوادي بكونه مباركاً، قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (أتاني الليلة آتٍ من ربي، فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة)، فأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فاجتمعت السنة القولية والسنة الفعلية على اعتبار ميقات المدينة وهو ذو الحليفة، وهذا الميقات هو أبعد المواقيت عن مكة، ولذلك يبعد عنها فوق عشر مراحل، وبينه وبين مكة ما لا يقل عن عشرة أيام بسير الإبل في الأزمنة الماضية. ويقع هذا الوادي أو المِهَل الذي أَهَلّ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحذاء جبل عَيْر، فيَحُدُّ هذا الوادي من الجهة الشرقية إلى الجهة الجنوبية جبل عَيْر وهو آخر حدود المدينة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما بين عير إلى ثور)، فهذا الجبل المعترض وهو جبل عير، يكون طرفه مشرفاً على وادي العقيق وعلى المِهَل مِهَل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يسميه الناس اليوم بأبيار علي. وهذا الميقات أجمع العلماء رحمهم الله على أنه ميقات أهل المدينة، ومن مر من غير أهل المدينة بالمدينة وفي نيته أن يحج أو في نيته أن يعتمر أو في نيته أن يجمع بين الحج والعمرة فيقرنهما معاً؛ أنه يجب عليه أن يهل من المدينة إلا الشامي فلهم فيه تفصيل.

ميقات أهل الشام إذا نزلوا المدينة

ميقات أهل الشام إذا نزلوا المدينة فأهل الشام خلاصة ما يقال فيهم إذا مروا بالمدينة ونزلوا بها كما هو موجود اليوم في الحملات التي تأتي من جهة الشام: أنهم يدخلون المدينة ويصلون بمسجدها، فحينئذٍ يتعين عليهم أن يُحرِموا من المدينة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)، فنصَّ على أن من أتى على هذه المواقيت من غير أهلها أنه يلزمه الإحرام منها. فأهل الشام إذا نزلوا المدينة ومرَّوا بها ولو ساعة فإنه يلزمهم أن يُحرِموا من ميقاتها، وهل إذا مروا بحذاء المدينة ولكنهم لم ينزلوا بها وأخذوا طريق الساحل الذي يُعرف الآن بطريق جدة القديم ولكنهم لم ينزلوا بالمدينة، مثل أن يأخذوا من أطراف المدينة أو من الشوارع التي بأطراف المدينة لكن لا يدخلون المدينة؛ فحينئذٍ ميقاتهم رابغ، والسبب في ذلك أنهم لم يأتوا على الميقات حقيقة فهم مارون بالمدينة وليسوا بنازلين بها حتى يأخذوا حكم أهلها، ولأنهم سيمرُّون بميقات ثانٍ على الطريق هو ميقات لهذا الطريق وهو الذي يسمى بطريق الساحل، فطريق الساحل إذا سُلِك من أهل الشام أو من أهل مصر أو من أهل المغرب فإنهم حينئذٍ يُحرِمون من رابغ، لكنهم إذا نزلوا بالمدينة ولو ساعة أو دخلوا المدينة، فقد وجب عليهم أن يُهلوا من ميقات المدينة ولو كانوا مارين بطريق الساحل.

صور الإهلال وبيان أفضلها

صور الإهلال وبيان أفضلها قال عليه الصلاة والسلام: (يهل أهل المدينة من ذي الحليفة)، هذا الإهلال يأتي على صورتين، الصورة الأولى وهي الأكمل والأفضل؛ لما اشتملت عليه من التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، وهي أن تَنْزِل في الوادي وتصنع ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاغتسال، ثم بعد ذلك تصلِّي الفريضة وتهل بعد الفريضة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بات، اغتسل وأصبح ينضخ طِيباً بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ثم أَهَلّ بَعْدَ الفريضة، وعلى هذا فالأكمل أن الإنسان يغتسل في الوادي، ثم بعد ذلك يُصلِّي الفريضة وينشئ عمرته أو ينشئ حجه. كذلك أيضاً إذا لم يتيسر له الفرض واغتسل وصلَّى ركعتي الوضوء يُهِل بعدها، وليس للإحرام صلاة مقصودة تُسمى سنة الإحرام، إنما هو يقع بعد الفريضة أو النافلة حتى ولو كانت نافلة مطلقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عمر في الصحيح: (أهل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة)، وفي رواية: (صلِّ في هذا الوادي المبارك ... )، فاستحبوا أن يقع الإحرام عقب الصلاة، ولا تُشترط صلاة مقصودة. هذا الأكمل والأفضل، ويكون الإهلال والنية والإنسان جالس في مصلاه، كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما. أما الصورة الثانية وهي صورة الإجزاء، فهي أن تمر بالوادي مروراً وتقول: لبيك حجاً، لبيك عمرة، ولا يُشترط النزول وليس بلازم ولا واجب، بحيث نقول لا بد وأن تنزل إلى الوادي ثم تحرِم، فلو مررت بمحاذاة الميقات وقلت: لبيك عمرة، لبيك حجاً؛ فقد انعَقَد إحرامك وصح، لكن فاتك الأفضل والأكمل الذي هو التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، على هذا إن تيسر لك النزول نزلت وإذا لم يتيسر لك النزول فحينئذٍ تعتبر المحاذاة.

كيفية إحرام من مر على الميقات بالطائرة

كيفية إحرام من مر على الميقات بالطائرة بقيت مسألة وهي مسألة الطائرة، إذا كان الشخص مسافراً بالطائرة من المدينة إلى جدة وهو محرِم بالحج أو العمرة أو بهما معاً، أو سافر من أي صقع من الأصقاع وهو يريد أن يصل إلى جدة، وهي ليست بميقات، وعلى هذا فإنه من أَحرم منها لا يُحرِم منها إلا إذا كانت نيته مبتدَأَة في جدة، أما إذا كان قد قدم على جدة وهو في نيته أن يحج ويعتمر فيعتبر المواقيت التي ذكرناها. فمن مر بالطائرة على الميقات فإنه لا يستطيع النزول فحينئذٍ بمجرد محاذاته للميقات يُلبِّي وينوي ويصح منه ذلك ويجزيه، فإذا لم يمكنه أن يطلع ولا يعرف الأماكن، فيحسِب بالزمان، فيكون له التقدير الزماني، ففي المدينة يكون إقلاعها على حالتين، في حالة يكون الإقلاع والطائرة متجهة إلى جدة فتكون المسافة قصيرة جداً، بمجرد إقلاعها لا تأخذ إلا في حدود دقيقة أو أقل من دقيقة أو دقيقة ونصف حتى يحاذي الإنسان أبيار علي، لكن إذا كان -مثلاً- إقلاعها على الجهة التي هي خلاف جهة مكة أو جهة القبلة؛ فإنها تأخذ وقتاً حتى تعتدل وتأخذ مسارها، وحينئذٍ قد تصل -كما يقول بعض المختصين- إلى ثلاث دقائق، فهذا لا بد من ضبطه ومعرفته على حسب المواقيت ولا يختص بالمدينة. فإذاً عندنا صورتان، الصورة الأولى: أن يتمكن الإنسان من النزول في الوادي وإصابة سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيغتسل ويتنظف ويتطيب تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصلي الركعتين ثم بعد ذلك يحرم، وإن كانت فريضة فإنه يحرم عقب الفريضة. ولا حاجة بعد الفريضة أن يصلي ركعتين لكي يَحرِم بعدها، بل إنه إذا فعل ذلك خالف السنة؛ لأن السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بعد الفريضة، وبعض العوام يفعل هذا الجهل، فإنهم يصلون الفريضة ثم بعد الفريضة تجدهم يقومون لركعتين لينشئوا الإحرام، وهذا مُصادِم للسنة تماماً، فإن الأفضل والأكمل أن يقع إحرامه في هذه الحالة بعد الفريضة مباشرة. وأما الإجزاء فإنه بمجرد مروره على الوادي يُحرِم.

حكم من خالف في الإحرام من الميقات

حكم من خالف في الإحرام من الميقات المسألة الثانية: عرفنا الآن أن الشخص يحرم من الميقات كمالاً وإجزاءً بقيت مسألة فرضية وهي: هل يُحرِم قبل الميقات أو من الميقات؟ أما إحرامه قبل الميقات فإنه خلاف الأفضل، فالأفضل والأكمل أن يُحرِم من الميقات، فلو اغتسل وتطيب في المدينة ولبس الإحرام ولبَّى، فللعلماء وجهان: بعضهم يقول إنه أفضل؛ لأنه سيكون تعبه أكثر، والقاعدة في الشرع أن ما كان تعبه أكثر فأجره أعظم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (ثوابكِ على قدر نصبكِ)، فهذا سيتعب أكثر؛ لأنه سيكون مانعاً نفسه من محظورات الإحرام من أكثر من سبعة أو ثمانية كيلو تقريباً قبل الميقات، هذه المسافة تقرَّب فيها إلى الله بطاعة زائدة فقالوا: هذا أفضل، وكما لو أَحرَم من مكانٍ أبعد من المواقيت الأُخَر، كأن يحرم -مثلاً- من الرياض، فإنه إذا أحرم من الرياض قبل ميقاته وهو قرن المنازل لاشك أنه ستمضي عليه مئات الكيلو مترات وهو متلبِّس بالطاعة والنسك، قالوا: فهذا أفضل. والصحيح ما ذهب إليه طائفة من السلف أن الأفضل والأكمل أن يؤخر إلى الميقات، وأن من أحرم قبل الميقات فإنه لا يُعتبر مصيباً للسنة، فالسنة والأكمل والأفضل أن يكون من الميقات. ولذلك سئل الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمة الله عليه، قال له رجل: يا أبا عبد الله إني أريد أن أحرم من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له الإمام مالك رحمة الله عليه: لا تفعل، فقال: إني أريد أن أفعل، قال: لا تفعل، قال: ولم رحمك الله؟ قال: إني أخاف عليك الفتنة، قال: وكيف ذاك؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من الميقات، وإنك إن أحرمت من المسجد خالفتَ أو ظننتَ أنك أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63]. فلا شك أن كون النبي صلى الله عليه وسلم يُؤخِّر إحرامه إلى الميقات يدل دلالة واضحة على أن الأفضل والأكمل أن يحرم من الميقات. إذا قلنا: أن الأفضل والأكمل أن يُحرِم من الميقات، فلو لبَّى قبل الميقات وعَقَدَ إحرامه؛ فإنه قد دخل في النسك، ويُعتبر حينئذٍ متلبساً بالنسك وعليه ما على مَن أحرم ويمتنع من المحذورات، فإن مر بالميقات جدد النية.

حكم من أحرم بعد الميقات

حكم من أحرم بعد الميقات ما هو حكم الإحرام بعد الميقات؟ الإحرام بعد الميقات -سواء ميقات المدينة أو غيره من المواقيت- يُعتبر خلاف الشرع، فيَأثم من قصده. فلو أن إنساناً تعمَّد وهو من المدينة وقال: لا أريد أن أحرم من ميقات المدينة وأخَّر إلى جدة، فإنه يأثم؛ لأنه خالَف الشرع وعصى، ثم يلزمه دم جبران لهذا النقص، وهذا الدم سيأتي إن شاء الله بيانه ودليله، وفتوى جماهير السلف والخلف والأئمة الأربعة رحمة الله عليهم به، ووجه استنباط حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنه له من كتاب الله عز وجل وعمل الأئمة في فتاويهم به. هذا الدم جبران للنقص، وحينئذٍ من جاوز الميقات لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تعقد النية وتصمم وتمضي فتحرِم من بعد الميقات ولو بكيلو واحد أو بنصف كيلو، فحينئذٍ يلزمك الدم الذي ذكرناه ويُعتبر إخلالاً بالنسك كما ذكرناه. الحالة الثانية: أن يتذكر الإنسان كأن يكون ناسياً، أو يتعمد مجاوزة الميقات فلا يلبِّي ولا ينوي، فيلزمه أن يرجع، فإن رجع إلى الميقات ونوى من الميقات سقط عنه الدم، وحينئذٍ يُعتبر متلافياً للإخلال ولا شيء عليه. إذاً هناك حالتان لمن جاوز الميقات: إما أن يستمر وينوي بعد الميقات ولو بيسير، فعليه الدم ويُعتبر آثماً بتعمده، وإما أن يتدارك ويرجع، فإن رجع وتدارك سقط عنه الدم.

ميقات من كان دون المواقيت

ميقات من كان دون المواقيت بقي السؤال في ميقات المدينة الموجود الآن، فخط الهجرة يَمُر بالمدينة ثم يمر بقرى دون ميقات المدينة كاليُتَمَة، ووادي الفرع، والمهْد ونحو هذه القرى؛ فهل يُحرِمون بمحاذاة رابغ، ويُعتَبرون بالميقات الأدنى أو يعتبرون دون المدينة لأنهم في سمت المدينة؟ A أنهم يُعتبرون دون المدينة، فمن كان من أهل اليُتَمة وأراد الإحرام فإحرامه من اليُتَمَة نفسها ولا يُحرِم من دون اليتمة بمحاذاة رابغ، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ)، والإشارة راجعة إلى المواقيت، فالذي يكون في المهْد أو يكون في اليُتَمَة أو يكون في وادي الفرع فليُحرِم من مكانِه، ولو أنه في وادي ريم والذي يبعد عن المدينة قرابة ستين كيلو فإنه يُحرِم من وادي ريم، وقد دل على ذلك فعل السلف الصالح فإن ابن عمر رضي الله عنهما وهو راوي حديث المواقيت كانت له مزرعة بوادي الفرع، فلما أراد الحج أنشأ النية منها، فأَحرم من وادي الفرع ولم يؤخر إلى محاذاة رابغ، فالتأخير إلى محاذاة رابغ خطأ بالنسبة لهؤلاء. لكن الذين هم على الساحل مثل أهل بدر ومثل القرى التي يكون مرورها بطريق الساحل، فإنهم دون ميقات المدينة لكن طريقهم على طريق الساحل، فهؤلاء ميقاتهم ما يُقدِمون عليه -رابغ- وإن أحرموا من موضعهم كأهل بدر يحرمون من بدر، وأهل الروحاء يحرمون من الروحاء فهذا حسن وأفضل، لكن لو أن البدري أو من بالروحاء يريد أن يمر عن طريق خط الهجرة الموجود الآن؛ فإنه يدخل بمحاذاة سمت المدينة فيحرم من موضعه، مثل أن يُحرِم من بدر، لأنه سيكون دون ميقات المدينة من بلده. هذا حاصل ما يقال بالنسبة لميقات أهل المدينة وهو ذو الحليفة، قال بعض العلماء: إنه أفضل المواقيت وفضله من جهة كونه أبعد، ولا شك أن الأبعد أكثر عناءً وأكثر نصباً وأكثر تعباً، والقاعدة أن الأكثر تعباً يُعتبر أعظم أجراً، وهذا لقوله عليه الصلاة والسلام: (ثوابكِ على قدر نصبكِ)، فعلى هذا قالوا إنه أفضل، ولأن الله عز وجل اختاره لنبيه فهو أبعد المواقيت عن مكة، وقد أحرم منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ميقات أهل الشام ومصر والمغرب الجحفة

ميقات أهل الشام ومصر والمغرب الجحفة قال رحمه الله: [وأهل الشام ومصر والمغرب الجحفة]. وميقات أهل الشام وأهل مصر والمغرب الجحفة. والجُحْفَة مأخوذة من قولهم: اجْتَحَفَ السيلُ القريةَ إذا أخذها بما فيها من بناءٍ ومن ماشيةٍ ومن زرع ونحو ذلك. سُمِّيَت بذلك لأنها كان بها قوم عصاة فأرسل الله عليهم السيل فاجتَحَفَهُم عن بكرة أبيهم -والعياذ بالله- إلى البحر فأغرقهم الله عز وجل فسميت الجحفة، وهذا الموضع كان معروفاً إلى ما قبل الإسلام، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل المدينة كانت المدينة فيها الحمَّى وهي التي تُسمى اليوم في عصرنا بالملاريا، كانت وبيئة والسبب في ذلك السيول التي تحيط بها والمستنقعات بها كثيرة، قالت أم المؤمنين عائشة: (قدمنا المدينة وبطحان نجلا) يعني كالمستنقعات، فلكثرة المياه فيها كانت وخيمة ووبيئة، فلمَّا قدم الصحابة على المدينة أصابتهم الحمى واستضر بها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وبلال وقصتهم في الصحيحين مشهورة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وهم يَحِنُّون إلى مكة فقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا لمكة أو أشد)، أي: وأشد؛ لأن أو بمعنى الواو، كقوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9]، أي: وأدنى، {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147]، أي: ويزيدون، فقال: (حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد)، فاستُجِيبت دعوته عليه الصلاة والسلام وإلا لقد كانت المدينة لا تُطَاق لا ينزل بها أحد إلا أصابته حُمَّى. ولذلك العرب في الجاهلية كانوا يسافرون بالعير إلى الشام فإذا قدموا من الشام ينهق كما ينهق الحمار وذلك خوفاً من حمى يثرب، كما أشار إلى ذلك بعض الفضلاء بقوله: واختلقوا التعشير أن يُعشَّر من النهيق بحذاء خيبراً واختلقوا يعني أهل الجاهلية وهي من المسائل التي أحدثوها. فكانوا يخافون من حُمَّى المدينة فيظنون ويعتقدون أن هذا النهيق يَعصِم صاحبه من حُمَّى المدينة، وهي من أمور الجاهلية التي كانوا يحدثونها، فكانت معروفة بالوباء، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بنقل الوباء إلى الجحفة، فالشاهد أنه لما نقل الوباء إلى الجحفة امتنع الناس منها -ولا تزال خربة- خشية أن يُصيب الإنسان الحمى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أن يُنقل الوباء إليها، وأصبح الناس يُحرِمُون من رابغ بحذاء الجحفة، ولذلك إذا سمعت الجحفة أو رابغ فالمعنى واحد والخطب يسير، إنما هو ميقات معدول به خوف الوباء، فالجحفة هو ميقات أهل الشام وميقات أهل مصر والمغرب.

سبب تفريق العلماء بين من سلك طريق الساحل ومن لم يسلكه

سبب تفريق العلماء بين من سلك طريق الساحل ومن لم يسلكه والسبب في ذلك أنه قبل شق قناة السويس كان حجاج أفريقيا وبلاد المغرب وبلاد الأندلس يأتون على مصر، ومن مصر يأتون من جهة العقبة على شمال المملكة، ثم يأخذون طريقاً يُسمى بطريق الساحل كان مَسْلكاً للتجارة والعير فيمرُّون برابغ ومنها يفيضون إلى قُدَيْد، ثم إلى عسفان، ثم إلى مكة، فهذا طريق في القديم فجُعِل ميقاتهم الجحفة، وهذا الذي جعل العلماء يفرقون بين من سلك طريق الساحل ومن سلك طريق غير الساحل، فأصبح من يسلك طريق الساحل كأنه يخرج عن حدود ميقات المدينة ويصبح كأنه صار في حكم الشامي والمصري الذي يَقدُم من الشام أو مصر، وحينئذٍ يكون ميقاتهم الجحفة، وهذا الميقات هو الذي يلي ميقات المدينة في البُعد عن مكة، وهو يبعد فوق مائتي كيلو عن مكة، وهذا الميقات ميقات من ذكرنا، وأشار إليه المصنف لحديث عبد الله بن عباس قال: (ولأهل الشام الجحفة)، وقال في حديث ابن عمر: (وأهل الشام من الجحفة)، أي: ويهل أهل الشام من الجحفة.

ميقات أهل اليمن وميقات نجد

ميقات أهل اليمن وميقات نجد قال رحمه الله: [وأهل اليمن يلملم]. أهل اليمن ميقاتهم يَلََمْلَم، وهي التي تسمى اليوم بالسعدية، وتبعد عن مكة مرحلتين، وهذا الميقات نصّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم: (ولأهل اليمن يلملم)، وهو ميقات في حكم ميقات قرن المنازل. من المواقيت الباقية قرن المنازل التي تسمى بالسَّيل الكبير، وذات عِرق، ويلملم، هذه الثلاثة المواقيت متقاربة في البعد؛ ولذلك تكون في حكم الميقات المتقارب، لكنها اختلفت في الجهات.

خطأ بعض المعاصرين في جعل جدة ميقاتا

خطأ بعض المعاصرين في جعل جدة ميقاتاً وبسبب قرب هذه المواقيت أخطأ بعض المعاصرين فجعل جدة ميقاتاً؛ لأنه سَامَت بها يلملم وسَامَت بها السيل الكبير فقال: إن المسافة واحدة فمن نزل بجدة فإنه يحرم منها؛ وهذا خطأ فاحش، فليست جدة بميقات لأن جدة كانت معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما سئِل ابن عباس عن قصر الصلاة إلى الجموم قال: (لا. ولكن إلى جدة وعسفان والطائف)، فجدة ليست بميقات ولذلك لم يسمِّها النبي صلى الله عليه وسلم ميقاتاً. والسبب الذي جعل بعض المتأخرين يقول إن جدة ميقات كما هو موجود عند بعض متأخري الحنفية هو وَهَمٌ وَقَع في بعض كتب المتقدمين من الحنفية، فإنهم ذكروا أن من قدم من البحر فميقاته من طرف جدة، وذلك إذا سامَت البحر قدر ما يَبْعُد عن مكة مثل بُعد الجحفة، وهم يريدون بذلك أن يُحرِم وهو في داخل البحر، مقدِّراً مسافة تساوي في بعدها الجحفة. فإذا كان قادماً من إفريقيا عن طريق البحر الأحمر، فحينئذٍ يُقدِّر المسافة التي هي في مثل بُعْد الجحفة من مكة، فيزيد عن بُعد جدة ما فَضَل من الفرق، فلو كان -مثلاً- بُعْد جدة يصل إلى خمسة وسبعين كيلو، وكانت الجحفة تَبْعُد مائتي كيلو؛ فتَحسِب مائة وخمسة وعشرين كيلو في البحر حتى تُسَامِت الجحفة، وهذا هو الذي عُنِي، وهو من باب الرأي والاجتهاد. فهذا معنى قولهم: غربي جدة -في بعض كتب الحنفية- أي: من داخل البحر في الغرب، بحيث يقدِّر مسافة قبل وصول الباخرة والسفينة إلى الميقات بقدر بُعْدَ المراحل الموجودة في الجحفة، وهذا يسمونه ميقات السَّمْت. أما القول بأن جدة ميقات فهو قول يخالف النصوص، فليست جدة بذاتها ميقاتاً. وعلى ذلك الفتوى قديماً وحديثاً، ولا زال علماؤنا ومشايخنا نسأل الله أن يحفظهم ويرعاهم يفتون أن جدة ليست بميقات، وهو الذي أدركنا عليه أهل العلم. وعلى هذا يمكن أن تكون ميقاتاً بالمحاذاة، وذلك إذا كان في عَرْض البحر، وقَدَّر مسافةً تُسَامِت الجحفة؛ لأنه في بعض الأحيان لا يتيسر لمن كان في البحر أن يُسامِت الجُحفة، كأن يأتي ولا يمكنه أن يُسَامِت الجحفة بالعرض، فإذا استطاع أن يسامت جدة مباشرة، مثل أن يأتي من شاطئ مِصر فيُقَدَّر المسافة الموجودة وهو في عَرْض البحر حتى يسامِت البُعْد الموجود في الجحفة عن مكة، فإذا كان بنفس السمت الموجودة فيه الجحفة فحينئذٍ يُحرِم. على هذا يتخرج أنه لو كانت الطائرة لا تمر بالجحفة، فعليه أن يُقَدِّر المسافة الزمنية التي تقطع بها المسافة المكانية التي يكون بها في حدود المواقيت، أعني ميقات الجحفة، فحينئذٍ له أن يُحرِم. قال المصنف: [وأهل نجد قرن، وأهل المشرق ذات عرق] ولأهل نجد قرن المنازل، وهذا الميقات نَصَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يُعرَف الآن بالسيل الكبير، فهذا الميقات ميقات أهل نجد، ومن جاء من المشرق كأهل خراسان وبخارى وسمرقند ونحوهم، كل هؤلاء كانوا في القديم يقدُمُون من جهة الشرق ويكون ميقاتهم هذا الميقات، ويكون في حكمها ذات عِرْق.

قرن المنازل وذات عرق سمتها واحد وبعدها متقارب

قرن المنازل وذات عرق سمتها واحد وبعدها متقارب وذات عرقٍ ميقات يسامت ميقات قرن المنازل، فقرن المنازل وذات عرق هي الضريبة سمتها واحد وبُعْدُها متقارب، وثَبَت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه وَقَّتَها، واختلف العلماء هل عمر هو الذي وَقَّتها أو النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم وقَّتها. وسُئِل عمر عن ميقات يُسامِت السيل الكبير الذي هو قرن المنازل، فوقَّت لهم ذات عرق، فوافق اجتهاده سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وقد كان رضي الله عنه وأرضاه محدَّثاً مُلْهَماً، فالصحيح أن ذات عرق تُعتبر ميقاتاً مؤقتاً من النبي صلى الله عليه وسلم وليس باجتهاد من عمر؛ لأن الحديث صحيح في توقيته عليه الصلاة والسلام لأهل المشرق ذات عرق.

الانتقال من الميقات الأقرب إلى الأبعد والعكس

الانتقال من الميقات الأقرب إلى الأبعد والعكس قال: [وهي لأهلها ولمن مر عليها من غيرهم]. لو أن رجلاً من أهل المدينة سافر إلى الرياض وهو يريد الحج فلا يخلو من حالتين: إن مضى من الرياض إلى مكة فميقاته قرن المنازل، فيحرم من قرن المنازل، ويُعتبر آخذاً حكم أهلها. وأما إذا كان يريد أن يرجع إلى المدينة فميقاته ميقات المدينة. ولو أن رجلاً من أهل الرياض أراد أن يسافر إلى الحج ولكن قال: أريد أن أذهب إلى المدينة ثم أحج؛ فحينئذٍ سفرته الأولى تمحَّضت إلى غير النسك فلا يلزمه أن يُحرِم من قرن المنازل وإنما يؤخِّر إلى أن يذهب إلى المدينة فيُحرِم من المدينة. لو كان ماراً على قرن المنازل وهو يريد المدينة: كأن ينزل من الرياض إلى الطائف ومن الطائف إلى المدينة؛ فحينئذٍ يكون ميقاته ميقات أهل المدينة. فله سفران: السفر الأول: تمحض إلى المدينة قَصْداً وليس بسفر النُّسك، وقَصَد به موضعاً آفاقياً خارجاً عن المواقيت؛ فأصبحت سفرة ليست للنسك بذاتها، أي ليست هذه السفرة آخذة حكم من مَرَّ بقرن المنازل حتى يُلزَم بالإحرام من قرن المنازل، فلا يلزمه إذا مر بالسيل الكبير أن يُحرِم، وإنما يتأخر إلى أن يأتي المدينة ثم يُحرِم، هذا يسمونه الانتقال من الأقرب للأبعد ولا إشكال فيه؛ لأنه لو انتقل إلى المدينة فسيُحصِّل المسافة التي في ميقاته وزيادة. لكن الإشكال لو أن طالباً يدرس في المدينة وأراد أن يسافر إلى أهله في الطائف، وعنده نية أن يحج هذه السنة، فحينئذٍ أراد أن يقصد إلى الطائف، ومن الطائف يريد أن ينزل إلى مكة، أو كان يريد مثلاً تَرَبَة أو يريد موضعاً بعد الطائف؛ فحينئذٍ نقول له: لك أن تسافر إلى أهلك ولا يلزمك ميقات المدينة؛ لأنه سيسافر إلى أُفُق وليست سفرته الأولى متمحضة للنسك، وإنما هي لخارج المواقيت. ومن سافر السفرة الأولى لخارج المواقيت فلا يلزمه أن يحرم من الميقات الذي يمر عليه، فيؤخِّر إلى أن يأتي الطائف لأنه في حِل وليس في حدود المواقيت، فإذا جاء إلى الطائف أَحرَم من ميقات أهل الطائف، وحينئذٍ يكون منتقلاً من الأبعد إلى ما هو أدنى. وهكذا لو كان في رابغ وأراد أن يسافر إلى المدينة ثم يحج فنقول له: أخِّر إِحرامك بالنسك إلى وصولك للمدينة حتى تأخذ حكم أهلها. والعكس لو أن طالباً يدرس في المدينة وعنده نية أن يحج، ولكن قال: أُرِيد أن أمر على أهلي بينبع أو أريد أن أمر على حاجة لي في ينبع، فحينئذٍ تمحض سفره إلى مكان هو من الأفق وخارج عن حدود المواقيت، وسفرته هذه ليست بسفرة النسك أصلاً، فحينئذٍ يكون ميقاته ميقات أهل الساحل ويُحرِم من رابغ؛ لأنه خرج عن حدود المواقيت فلم يأخذ حكم أهلها.

ميقات من كان دون الميقات أو آفاقيا أو في حرم مكة

ميقات من كان دون الميقات أو آفاقياً أو في حرم مكة قال رحمه الله: [ومن حج من أهل مكة فمنها وعمرته من الحل]. عندنا ثلاثة أنواع، النوع الأول: يسمى الآفاقي ومن كان في حكم الآفاقي، وهذا هو الذي يكون من حدود المواقيت فما فوق في الأصل، وفي حكمه من هو دون المواقيت لكن نعتبره نوعاً مستقلاً. والنوع الثالث: من كان من أهل مكة، فهؤلاء ثلاثة أنواع: - أن يكون فوق المواقيت. - أن يكون دون المواقيت وقبل مكة ولو بيسير كأهل النّوَارِية مثلاً. - الثالث أن يكون داخل حدود الحرم ومكة ويكون من أهلها. فأما بالنسبة للنوع الأول، وهم الذين يكونون في حدود المواقيت فما فوق فيلتزمون بالمواقيت والحكم على حسب الميقات الذي يمرون به. النوع الثاني من كان دون المواقيت، خارج حدود الحرم فيُحرِم من موضِعه، فيحرم أهل النوارية من النوارية، وأهل عُسفان من عُسفان، وأهل خُليص من خُليص، وأهل قديد من قديد، وقِس على هذا؛ فإنهم يَعتبرون المكان الذي هم فيه ميقاتهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الثلاثة الأنواع. قال عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس: (وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرن المنازل، وقال: هن لهن ولمن أَتَى عليهن من غير أهلهن). (فمن كان دون ذلك)، هذا النوع الثاني، (فمن حيث أنشأ)، ومن كان دون ذلك فينقسمون إلى قسمين: من كان ساكناً دون المواقيت كأهل قديد وعُسفان وخُليص والنُّوارية، فيُحرِمون من موضعهم. والنوع الثاني من هؤلاء: مَن كان مُنشِئاً النية -طرَأَت عليه النية- وهو دون المواقيت كرجلٍ خرج من المدينة لغرضٍ له في جدة، وهو لا يريد الحج ولا يريد العمرة، فخرج إلى جدة وهو يريد -مثلاً- معاملة له في جدة، أو رحماً يصله، أو والدين يبرهما، فلما وصل إلى جدة وجد الوقت متسعاً فقال: لو أني اعتمرت، أو قويت نفسه وعزيمته على الحج فقال: لو أني حججت، فطرأت له النية فيكون في حكم من كان دون المواقيت. فإذاً الذي دون المواقيت ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون ساكناً دون المواقيت ويحرم من موضعه فلا إشكال، وإما أن يكون شخصاً طرأت عليه النية وهو دون المواقيت؛ فحينئذٍ نقول له: حيث طرأت عليك النية يَلزَمك الإحرام. بناءً عليه أهل جدة يكون إحرامهم إذا أحرموا من المكان الذي أنْشَئُوا فيه، ولا يؤخِّرون إلى طرف جدة كما يفعله بعض العامة اليوم، حيث يؤخرون إلى المحطات التي تكون خارج جدة، ومن فعل فإنه يلزمه الدم. قال بعض العلماء: لو أنشأها في بيته لا يخرج من بيته إلا وهو مُحرِم، ولو أنشأها من مسجد فإنه لا يخرج من ذلك المسجد حتى يحرم، فيغتسل ويتهيَّأ وينوي من ذلك الموضع، ولا يؤخِّر إلا إذا كان سيذهب إلى بيته وهو أبعد، كأن يكون المسجد مثلاً في طرف جدة من جهة مكة وبيته في داخل جدة، حينئذٍ يذهب إلى بيته ويغتسل؛ لأنه ينتقل إلى أبعد ولا حرج. لكن لو أنه أنشأ النية وهو في مسجد -مثلاً- في طرف جدة من جهة المدينة، وبيته في طرف جدة من جهة مكة؛ فأراد أن يقترب وهو يأخذ بعض الأحيان عشرة كيلو وهو ناوٍ للنسك غيرَ مُحرِم به؛ فلا يصح له أن يعقد النية من الطرف الأدنى وقد انعقدت نيته من الطرف الأبعد، لأن السنة نصَّت وقالت: (إحرامه من حيث أنشأ)، وهذا يدل على التأقيت بالموضِع، وأنه لا يجوز له أن يجاوز ذلك الموضع إلى موضع أدنى منه، وأَنَّ من خرج إلى المحطات التي هي خارج جدة؛ يُعتبر مجاوزاً لميقاته ويَلزَمه ما يَلزَم المجاوز لميقاته ولو كان بفرق كيلو واحد بل ولو بنصف كيلو؛ لأنه حينئذٍ خالف النص الذي قيده بالموضِع: (فإحرامه من حيث أنشأ). بقي النوع الثالث: وهم أهل مكة، فقال عليه الصلاة والسلام: (حتى أهل مكة من مكة)، أي: حتى أهل مكة تكون نيتهم وإحرامهم من مكة، هذا في الحج، وجاء ما يُبَيِّن الحكم في العمرة وذلك بأمره عليه الصلاة والسلام لـ عائشة أن تخرج إلى الحل، ولذلك تقول عائشة في الرواية عنها: (والله ما ذكر التنعيم ولا غيره)، ولكنها طلَبَت التنعيم لأنه أرفق بها، والأصل أنه يخرج إلى أدنى الحل حتى يجمع بين الحِل والحَرَم. وبناءً على حديث عائشة أنت بين أمرين: إما أن تقول عائشة من أهل المدينة وأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تخرج إلى الحل، فيكون دليلاً على أن أهل المدينة يجوز لهم أن يتركوا ذا الحليفة وأن يحرموا من طرف مكة وأن يدخلوا مكة مُحرِمين، وهذا لا قائل به وهو خلاف السنة، فإما أن تقول إن عائشة آفاقية، وإما أن تقول إنها مَكِّية، وليس هناك فرضٌ ثالث، فأصبَحت إما مَكِّية وإما آفاقية. فلما أَمَرها أن تخرُج إلى الحِل فهِمْنا من هذا أن العمرة يُجمع فيها بين الحل والحرم، بخلاف الحج فإنه لو أحرم من الحرم سيخرُج إلى عرَفات، وهي خارج حدود الحرم فيجمع بين الحل والحرم في نُسُكه. فالحج يكون إحرامه من حيث أنشأه، واستُثْنِيَت العمرة لورود النص عنه عليه الصلاة والسلام في عائشة تنبيهاً من الشَّرع. ولذلك يقول بعض العلماء: لولا حديث عائشة لأشكل الأمر في عمرة المكي -هذا على القول بأن المكِّي لا يعتمر-؛ لأنه لو كان يُحرِم من مكانه وموضعه كان الأفضل له أن يطوف بالبيت، وهذا الذي جعل بعض علماء السلف كـ عطاء وغيره لا يرى لأهل مكة أن يعتمروا؛ لأنهم يرون أن عمرتهم أن يطوفوا بالبيت؛ لأنه إذا كان يُحرِم من نفس مكة فالأفضل بدل أن يذهب إلى بيته وأن ينوي من بيته ويرجع هذه الخطوات، الأفضل أن يقضيها وهو يطوف بالبيت. ولذلك قال: لا أدري هؤلاء الذين يذهبون إلى التنعيم -يعني يتكلَّفون الذهاب إلى التنعيم والخُطَى إلى التنعيم- هلا جعلوا هذه الخطى في الطواف بالبيت! فهذا أفضل وأكمل؛ لأن المقصود من العمرة أن يزور البيت وأن يطوف بالبيت. فهذا هو وجه تشديد بعض السلف في عمرة المكي، وهو يَقْوَى على مَذْهَب من يقول إن المكي يُحرِم من نفس موضعه من مكة، وهو قولٌ ضعيف، لكن لما أَلحَّت عائشة رضي الله عنها على النبي صلى الله عليه وسلم -وكان لا يرد سائلاً سأله بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- أَذِن لها، وهذا الإلحاح من عائشة كان فيه خير للمسلمين، فقد بَتّ في هذه المسألة، وبيَّن أن المكِّي إن نوى العمرة فإنه ينويها من الحِل، ولو قلنا: إن المكِّي لا يعتمر فإنه قد يعتمر ويُشرع له أن يعتمر، كأن يريد أن يعتمر عن أبيه؛ لأنه حينئذٍ يخرج إلى الحل. فحتى عند من يقول إن المكي لا يعتمر فقد تكون عمرة عن الغير، فيُحتَاج إلى أن يُعرَف ما ميقاته، فهو يقول: لولا حديث عائشة لأشكل الأمر. يعني: كيف أن المكي يُحرِم من موضعه، فيستوي حينئذٍ هو والطائف، فيمكن أي شخص وهو يطوف بالبيت أن ينويها عمرة وهو مكي. ولكن لما جاء حديث عائشة وأمرها أن تنزِل إلى حدود الحِل؛ دلّ على أن المكِّي في عمرته لا بد أن يجمع بين الحِل والحرم، كما أنه في نسك الحج قد جمع بين الحل والحرم. فهذا بالنسبة للثلاثة الأنواع، من كان آفاقياً، ومن كان دون المواقيت وليس من أهل مكة، ومن كان داخلاً في حدود حرم مكة. يستوي في المكي أن يكون من أهل المساكن -هذا في القديم- أو ضواحي مكة التي لا تخرج عن حدود الحرم، لأنه في القديم كان هناك المساكن، وهي مكة القديمة التي هي بمساكنها، وكان الإنسان إذا وصل إلى قبور المعلاه لم يجد مساكن، ويبدأ في مُنْقَطَع الطريق، ولذلك يقولون: أهل مكة ومن في حكمهم ممن هم داخل الحرم. أما يومنا هذا تكاد تكون مكة ممتلئة، ولهذا يقول العلماء أهل مكة وذي طِوى، وهو الوادي المعروف الذي يسمى الآن بالزاهر، فهذا الوادي كان قديماً فيه زروع ومساكن فكانوا يقولون: أهل مكة ومن في حكمهم ممن هم داخل حدود الحرم.

ميقات الحج الزماني وأحكامه

ميقات الحج الزماني وأحكامه قال رحمه الله: [وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة]. بعد أن فرغ رحمه الله من بيان ميقات الحج المكاني، شَرَع في بيان ميقات الحج الزماني، وميقات الحج الزماني دلّ عليه الكتاب في قوله سبحانه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]، وحَدَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداءً، فقال عليه الصلاة والسلام: (من صلَّى صلاتنا هذه ووقف موقفنا هذا)، وهذا في يوم عيد الأضحى صبيحة يوم النحر، فقوله: (من صلى صلاتنا هذه)، يعني بمزدلفة (ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار، فقد تم حجه وقضى تفثه)، فكأنه جعل ميقات الزمان ينتهي بطلوع الفجر من صبيحة اليوم العاشر، وفي الحقيقة عشرٌ من ذي الحجة ليست بكاملها داخلة في الميقات؛ لأنه لو أحرم بعد طلوع الفجر الصادق في يوم العيد لم يصح إحرامه بالحج. وهكذا لو أَحْرَم ولكن لم يدرك الوقوف بعرفة لحظةً قبل طلوع الفجر من صبيحة يوم النحر، فحينئذٍ يتحلَّل بعمرة ويقضي حجه من العام القادم، وعليه دم كما هو قضاء عمر في هبّار بن الأسود لما فاته الحج. الشاهد أن هذا الميقات ميقات زماني، وتعبير الفقهاء بذكر عشر من ذي الحجة ليس المراد أنه يمكن أن ينوي الحج في اليوم العاشر؛ لأنه لا يتأتى منه ذلك، لكن هذا من دِقَّة العلماء رحمة الله عليهم. فإنه ينتهي اليوم التاسع -يوم عرفة- بمغيب الشمس، فالأصل أن تسع من ذي الحجة تنتهي بمغيب الشمس، لكن لما مَدَّ الشَّرع الموقِف إلى طلوع الفجر دخل اليوم العاشر؛ لكن لم يدخل بكماله، وإنما دخل بصورة مؤقتة محددة معروفة معهودة. فكذلك يقولون: وعشرٌ من ذي الحجة، على سبيل التنبيه على ليلة النحر أنها داخلة في الإحرام فيجوز لك أن تُحرِم وأن تقف بعرفة وتكون مدركاً للحج، لا أن العَشر بتمامها وكمالها تُعتبر محلاً للنُّسُك، فهذا لا يقول به أحد. لو جاء صبيحة يوم العيد بعد طلوع الفجر وقال: لبيك حجاً لم ينعقد حجه، وهل تنقلب عمرة أو يَفْسُد إحرامه؟ وجهان مشهوران عند العلماء رحمة الله عليهم إذا لم يكن الزمان زمان حج. لكن قالوا: عشرٌ من ذي الحجة، لأن كل يوم عشيته في الليلة التي تسبقه. فاليوم تسبقه ليلته ثم بعد ذلك النهار، ولكن في يوم عرفة يكون العكس، حيث يكون النهار ثم بعد ذلك عشية عرفة، وهذا الذي دعا بعض العلماء أن يقول: رمي الجمار يستمر في أيام التشريق إلى طلوع الفجر، فسَحَب الليالي فجعل ليلة الحادي عشر لما بعد، لأن ليلة النحر تكون في ليلة التاسع حكماً، ولذلك صَحّ فيها الإحرام، ثم في يوم العيد ترمى جمرة العقبة إلى طلوع الفجر من صبيحة الحادي عشر وحينئذٍ كأنك سحبت ليلة الحادي عشر إلى العاشر، ثم تسحب ليلة الثاني عشر للحادي عشر، وتسحب ليلة الثالث عشر للثاني عشر، هذا بالنسبة لمن يقول بأن الرمي يستمر إلى طلوع الفجر، فكأنهم رأوا أن استمرار الوقوف إلى طلوع الفجر صبيحة يوم النحر يقوي هذا، وهذا هو السر في قول العلماء وعشرٌ من ذي الحجة فهذا بالنسبة لابتداء الحج. وانتهاء الحج له ميقات آخر: شوال وذو القعدة وذو الحجة بمعنى أنه إذا طاف طواف الإفاضة قبل مغيب شمس آخر يوم من ذي الحجة فإنه لا فدية عليه؛ لأن الركن وقع في الميقات الزماني، وأما إذا أوقعه بعد مغيب شمس آخر يوم من ذي الحجة؛ فحينئذٍ يكون أشبه بالقضاء ويَلزَمه دم جبران لهذا النقص. فحينئذٍ إذا قالوا أشهر الحج: شوال وذي القعدة وعشر من ذي الحجة؛ فقَصْدُهم الابتداء أي: الدخول بنية النسك، وإن أرادوا التمام والكمال أي: إتمام المنسك يقولون: شوال وذو القعدة وذو الحجة. فيقع بعض الأحيان لبس، حتى إن بعض طلاب العلم قد يستغرب يقول: كيف يقولون إنها شوال وذو القعدة وذو الحجة كاملة؟ وكيف يُقال إنها شوال وذو القعدة وعشرٌ من ذي الحجة؟ فوجهها أنه تارةً يُؤقَّت الحج ابتداء، وتارةً يؤقَّت الحج انتهاءً. وفائدة الخلاف فيمن أَخَّر طواف الإفاضة؛ لأن بعض العلماء يرى أنك إذا قلت: عشر من ذي الحجة تأقِيتاً، أنه يلزم أنه لو طاف طواف الإفاضة في اليوم الأول من أيام التشريق لزمه دم؛ لأنهم يرون أنه لا بد من إيقاعه في يوم النحر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أَوقَعه في يوم النحر، وحينئذٍ يرونه تأقِيتاً وإلزاماً بيوم النحر.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من أحرم بعد الميقات ثم عاد إلى الميقات وأحرم

حكم من أحرم بعد الميقات ثم عاد إلى الميقات وأحرم Q من أحرم دون الميقات ثم عاد إلى الميقات فماذا يفعل؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصبحه ومن والاه. أما بعد: من أحرم دون الميقات ثم رجع إلى الميقات وأحرم وجدَّد النية للعلماء فيه قولان: القول الأول: أنه لا يسقط عنه الدم وأن إحرامه انعقد من دون الميقات، وحينئذٍ لا يفيده الرجوع شيئاً، ولا يُسقِط عنه الدم سواءً كان ناسياً أو متعمداً. فلو نَسي وبعد أن جاوز الميقات تذكَّر فأَحرَم ثم رَجَع، أو قَصَد أن يجاوز الميقات فأَحرَم مُجَاوزاً للميقات، ففي كلتا الحالتين يلزمه الدم رجع أو لم يرجع، وهذا هو الصحيح؛ لأنه نوى وقد لزمه الإحرام بالنية؛ لأنه إذا لبَّى ونوى فقد دخل في النسك إجماعاً، فحينئذٍ يكون رجوعه بعد انعقاد الإحرام، وانعقاد الإحرام كان بعد الميقات، وبناءً على ذلك يلزمه الدم، ولا يفيده الرجوع شيئاً؛ لأنه لا يرفع الثابت، بدليل أنهم حكموا بكونه محرماً، والإحرام منعقد بالموضع الذي أحرم منه من دون الميقات. فبالإجماع أنه لو مضى لوجهه صح إحرامه، إذاً معنى ذلك أن الإحرام قد انعقد وأن الرجوع لا يغني شيئاً، وإذا كان الإحرام منعقداً فالإخلال موجود، فيكون رجوعه لما بعد ذلك لا يرفع الثابت والباقي، فلزِمه الدم من هذا الوجه. وقال بعض العلماء: إذا رجع ملبياً سَقَط عنه الدم، وهذا القول لبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة وهو قول مرجوح، والصحيح أن الدم لا يَسقط بأي حال ما دام أنه قد أحرم ونوى، سواءً رجع أو لم يرجع، وهو أصح أقوال العلماء. والله تعالى أعلم.

سبب إعمال المسامتة في المواقيت المكانية

سبب إعمال المسامتة في المواقيت المكانية Q أشكل عليَّ أن المواقيت أماكن خصَّصها الشرع ولكننا نُعمِل المسامته، فهل المسامته من باب القياس؟ A القياس حجة، والشرع اعتَبَر القياس، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما سأَلته المرأة أن تحج عن أمها قال: (أرأيتِ لو كان على أُمِّكِ دين أكنتِ قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى). فجاء رجل فقال: (يا رسول الله! إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، قال: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: حُمُر، قال: هل فيها من أورق؟ قال: إن فيها لورقاً، قال: فأنى كان ذلك؟ قال: لعله نزعها عرق، قال: فلعل ابنك هذا نزعه عرق) فقاس دفع الشبهة لإسقاط القذف على الحيوان، وهذا قياس صحيح. كذلك لما قال عليه الصلاة والسلام: (أرأيت لو وَضعها في الحرام أكان عليه ورز)، فهذا يدل على القياس. فالشاهد أن الشَّرع يعتبر القياس حجة، والرجل هنا في منطقة لا يستطيع أن يمر فيها بذي الحليفة، ولكنه يُسامِت ذا الحليفة تماماً، فحينئذٍ نقول: حكمه حكم من مرّ بذي الحليفة يَعتَبِر المسافة التي تسامت. ألسنا نقول: إنه إذا ركب الطائرة وركب السيارة أنه بمجرد المحاذاة يلبِّي؟ فالمحاذاة كالمسامته لا يوجد فرق ما دام أنه في نفس الجهة، فكأن الشرع قصد أن لا يمر من هذه الجهة إلا وقد أَحرَم، فيكون العبرة بالسمت والجهة، وحينئذٍ نقول بالسمت لأن الشرع يشهد له. وهذا نظر صحيح وقياس صحيح، فتصوَّر الآن لو أن الشَّرع أَراد أَن يُحدد المواقيت فهو -بالقسمة العقلية والفرض العقلي كتشريع- بين أمرين. مثلاً: بالنسبة للمدينة ميقاتها ذو الحليفة، وهي تبعد عن مكة عشر مراحل لعشرة أيام، فبالنسبة للأربعمائة كيلو التي بين مكة وذي الحليفة، فهو فيها بين أمرين: إما أن يحدد جهة المدينة ثم يذكر ما يسامت جهة المدينة من القرى والمنازل، فيأتي النص من النبي صلى الله عليه وسلم يُعدِّد هذه القرى والمنازل ويقول: المواقيت ذو الحليفة وكذا وكذا وكذا وكذا، حتى يذكر جميع القرى التي تسامتها. الطريق الثانية أن يقول: يلزم هؤلاء الذين يأتون من الجهات البعيدة أن يذهبوا ويتحولوا إلى المدينة، وحينئذٍ كأنه يقول: لا يصح إحرام لأهل المدينة ومن كان بجوارهم أو من سامتهم إلا من ذي الحليفة، والنص لم يأت بهذه الصفة، بل وَقَّتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، وسَكَتَ عن غيرهم حتى يَجتَهِد العلماء فيثابوا على اجتهادهم، فنزَّلوا غير المنصوص عليه على المنصوص عليه، وأَلَحَقوا المسكُوت عنه بالمنطوق به، ورأَوا أن الشَّرع نبَّه بهذا على هذا، وحينئذٍ يكون الحُكم واحداً، وتطمئن النفس إلى أنهم يأخذون حكم أهل المدينة. وبناءً عليه فإننا نقول: مَن سَامَت المدينة يَعْتَبِر سَمْتَ ذي الحليفة إذا كان في الطريق على السَّمْت. لكن لو كان في جهة غير جهة المدينة، مثلاً: المدينة واقعة شمال مكة، فهو في شمالٍ منحرف إلى الشرق -شمال شرق- ولكنه لا يمر بميقات المشرق؛ فحينئذٍ نقول له: أنت بين أمرين، إما أن يكون تدخل على محاذاة سمت المدينة فتُحِرم عند دخول الطريق، مثل الذين هم في شرق الخط السريع (خط المدينة) كالمَهْد فنقول: لا يلزمك الإحرام ما لم تدخل في الخط حتى تكون بسمت أهل المدينة فيلزمك حينئذٍ أن تُحرِم بدخولك، لقوله عليه الصلاة والسلام: (فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ). أما إذا كان على نفس السمت كاليتمة ووادي الفُرْع ونحوها، فقد بيَّنا حكمه وأنه يحرم من موضعه، والله تعالى أعلم.

ميقات أهل الطائف

ميقات أهل الطائف Q هل ميقات وادي مَحْرَم مسامت لقرن المنازل؟ وأهل الطائف بالخيار بأن يحرموا من قرن المنازل أو وادي مَحْرَم؟ A نعم هم يقولون أنه بالمحاذاة، خاصة بالمراحل على التقدير القديم أن المرحلة مسيرة يوم وليلة، وفي حكم بُعْد قرن المنازل وذات عرق عن مكة، وهؤلاء يعتبرون بالسمت والمحاذاة، فإن شاءُوا أحرموا من وادِي مَحْرَم وإن شاءوا أحرموا من السيل، ولكنهم إن أحرموا من وادي مَحْرَم فإنه ينعقد إحرامهم ويصح. والله تعالى أعلم.

حكم تجديد الإحرام عند الميقات لمن أحرم قبل الميقات

حكم تجديد الإحرام عند الميقات لمن أحرم قبل الميقات Q ذكرتم أن من أَحرم قبل الميقات فإنه يجدد إذا مر بالميقات، فهل التجديد واجب؟ A التجديد لازم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقَّت، وهذا التأقيت على سبيل التحديد، وفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (خذوا عني مناسككم)، فأقته وحدده، ولا يصح أن يمر بالميقات دون أن يجدد نيته بالإحرام بالعمرة والحج أو بهما معاً، والله تعالى أعلم.

ميقات من خرج إلى الطائف بعد أن نوى الحج في مكة

ميقات من خرج إلى الطائف بعد أن نوى الحج في مكة Q رجل نَوَى الحج من مكة ثم خرج إلى الطائف لزيارة أهله ثم أحرم من ميقات أهل الطائف ماذا عن هذا الإحرام؟ A أن المكي إذا نوى الحج ثم انطلق إلى الطائف فيجب عليه أن يحرم من ميقات أهل الطائف، والسبب في ذلك أنه يتمحَّض سفره الثاني للنسك وقد مر بالطائف فأخذ حكم أهلها، فيلزمه حينئذٍ أن يحرم من ميقات أهلها، وهكذا لو خرج إلى المدينة أو إلى جدة، فإنه يلزمه أن يُحرِم من ميقات المدينة أو أن يحرم من جدة؛ لأنه لا يصح منه أن يدخل إلى مكة بعد هذه النية إلا وقد أَحْرَم بالنسك الذي أراده. والله تعالى أعلم.

حكم من أحرم من الميقات ثم رجع إلى دون الميقات لعذر

حكم من أحرم من الميقات ثم رجع إلى دون الميقات لعذر Q هذا سائل يعرض مسألةً وقعت له: وهو أنه قَدِم من القصيم بالطائرة وأحرم فيها لما حاذى الميقات، لكن الطائرة لم تستطع الهبوط في جدة نظراً للأحوال الجوية وهبطت في المدينة، فماذا يفعل؟ A من أحرم ثم رجع إلى دون المواقيت فلا يزال مُحْرِماً وحينئذٍ يبقى بإحرامه، وإذا رجع إلى مكة يرجع بالإحرام الأول ولا يلزمه إحرام ثانٍ، ولذلك قلنا: إن من أحرم دون المواقيت ورجع ثانية لم يسقط عنه الدم، وهكذا الحال بالنسبة لمن أحرم فطرأ عليه العذر فرجع، فإنه لا يزال متلبساً بالإحرام الأول. أما الدليل على كونه لا يزال متلبساً فظاهر قوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أنه لما مر بالميقات في السفر الأول ونوى انعقدت نيته وصحت وثبتت، فتوجه عليه خطاب الشرع أن يُتِم هذا الحج ويتم هذه العمرة لله، فحينئذٍ لا تدخل عمرة ثانية ولا تدخل حجة ثانية، أي: لا تدخل نية عمرة وحجة ثانية فوق النية الأولى، بل يبقى بإحرامه الأول، ورجوعه إلى دون المواقيت لا يضرُّه بشيء. والله تعالى أعلم.

ميقات من نوى أن يحج عن غيره نافلة

ميقات من نوى أن يحج عن غيره نافلة Q هل يلزم من حج عن غيره نافلة أن يرجع من حيث فُرِض عليه الحج، أم يختص ذلك بالحج في الفريضة؟ A يختص ذلك بحج الفريضة أما بالنسبة للنافلة فإنه من حيث أنشأ، والسبب في ذلك أنه إذا نوى أن يحج عنه نافلة فمن حيث أنشأ نيتَه، فأصبحت النية بالنسك ناشئة بخلاف النية المستقرة في الذمة، فإنه إذا مات وقد قصَّر في حجه من المدينة فقد توجه عليه خطاب الشرع أن يحج من المدينة، وحينئذٍ يلزم من حج عنه أن يحج من ميقات المدينة ولا ينتقل إلى ما دون ذلك. والله تعالى أعلم.

المعتبر في محرم المرأة في السفر

المعتبر في محرم المرأة في السفر Q ما مقدار السن المعتبر في المحرم حتى يصح للمرأة أن تسافر معه؟ A العبرة في المحرم في السفر أن يكون قوياً على الدفع، أما إذا كان عاجزاً ومن الحُطَمة الذين لا يدفعون فهذا يُفَوِّت مقصود الشرع، فمثلاً لو كان مشلولاً فمثل هذا بعض العلماء يعتبره محرماً للسفر لكنه يُفَوِّت مقصود الشرع، قالوا: فلو سافرت بصبي صغير لا يَدْفَع فإنه لا يُعتَبر محرماً موجباً لحل السفر، والسبب في ذلك أن مقصود الشرع من وجود المحرم أن يدفع عنها، فإذا كان صغير السِّن وهو الذي دون البلوغ فإن وجوده وعدمه على حد سواء. ولا بد أن يكون المحرم من الرجال، ويكون قادراً على الدفع، بحيث لو طرأ على المرأة من يؤذيها أو يتعرض لها، أو تعبت المرأة واحتاجت إلى معونته أو أن يحفظها؛ فإنه يكون جلداً قوياً على ذلك أما إذا كان مشلولاً أو كان صغيراً فهذا وجوده وعدمه على حد سواء، ولا بد من وجود المحرم الذي يدفع، وعليه فالصغير لا يجزئ بالحج والنسك إذا لم تجد غيره ولا بد أن يكون المحرم بالغاً قادراً على الدفع عنها؛ لأن مقصود الشرع هو حصول دفع الضرر عن المرأة. والله تعالى أعلم.

حكم كون المرأة محرما للمرأة في السفر للحج

حكم كون المرأة محرماً للمرأة في السفر للحج Q ما حكم سفر العمة مع ابن أخيها وأن تصطحب معها بناتها، فهل تعتبر الأم بمثابة المحرم لبناتها وذلك في رفع الحرج ومشروعية السفر، ومثل ذلك سفر الزوجة مع زوجها بصحبة أختها ونحو ذلك؟ A نعم الأم تكون محرماً لبناتها إذا انقلبت ذكراً ورجلاً! كيف ندخل هذا في هذا؟! فالمحرم لا يكون إلا رجلاً فهذا من غرائب ما يكون عند بعض العامة، يقولون: يسافر مع عمته ومعها بناتها، فالأم محرم لبناتها وهو محرم للعمة، وهذا لا شك أنه من غرائب ما يكون من الفقه، ولم يقل أحد بهذا؛ لأن المرأة لا تكون محرماً للمرأة، المراد وجود الرجل: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا ومعها ذو محرم)، ما قال (ذات)، فإذا انقلبت الأم ذكراً فنعم. أما ما ذكره السائل فلا يقول به أحد، ولا يعتد به أحد، وقد انتشر عند بعض الناس اليوم أن المرأة للمرأة محرم، تسافر الزوجة ومعها أختها أو بنت أختها، فالزوجة محرم أختها أو بنت أختها، والزوج محرم للزوجة، على هذا يصح أن تسافر مائة امرأة وكل امرأة معها امرأة محرم، يعني يجوز لها أن تنكشف عليها وتصافحها وتكون معها، ثم يسافرون بذكر واحد محرم لواحدة، وتكون بقية النساء كل واحدة محرم لمن معها، هذا ما يقول به أحد. وعلى العموم فلا بد من وجود الذكر، الرجل مَحْرَم لعمته وأما بنات العمة فأجانب، ولا يصح سفرهن مع أمهن إلا بوجود أخ أو بوجود محرم منهن. والله تعالى أعلم.

حكم من اعتمرت ونسيت التقصير وهي متزوجة

حكم من اعتمرت ونسيت التقصير وهي متزوجة Q امرأة اعتمرت ونسيت أن تُقَصِّر ولم تذكر إلا بعد أسبوعين وهي متزوجة، فماذا تفعل؟ A من أحرم بالعمرة أو الحج ولم يتحلل ونسي أن يُقَصِّر ففي العمرة لا يزال متلبساً بمحظورات الإحرام حتى يتحلل كما سَنَّ الله عز وجل وشرع، فإذا تركت المرأة التحلل ناسية ثم أصابت المحظورات تفرع الحكم على الوقوع في المحظورات نسياناً، فما كان منها لا ينجبر كقص الأظافر وقص الشعر ونحو ذلك فهذا تلزم فيه فدية، وما كان منها منجبراً كالطيب يُغسل ويُزال فحينئذٍ يسقط بالنسيان على القول بأن النسيان يُنَزَّل منزلة الجهل لحديث الجعرانة. فعلى هذا لو جامعها زوجها فسَدَت عمرتها، وتُقَصِّر حتى تخرج من العمرة الأولى وتتحلل؛ لأن العمرة الفاسدة تُتَم؛ لأنه إذا وقع الجماع قبل التقصير فإنه يُفْسِد العمرة، ويدخل في ذلك أن تكون ناسية له أو متعمدة له، لأنها لا تتحلل من نُسُكها الذي دخلت فيه إلا بتقصير، وحينئذٍ كونها طافت وسعت لا يُخرِجها من الحرمة التي هي فيها، فإن وقعت إصابة زوجها لها قبل أن تُقَصِّر فإنها حكمها حكم من جامع أهله قبل أن يتحلل من العمرة، فتُتِم العمرة الأولى بالتحلل منها، وقد أجمع العلماء على أن فاسِد الحج والعمرة يُتَم، لظاهر قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، فُتتم هذه العمرة الفاسدة إن جامعها زوجها، ثم تأتي بعمرة بدلاً عن هذه العمرة، ويلزمها الدم جبراناً لوطئ زوجها لها. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

باب الإحرام

شرح زاد المستقنع - باب الإحرام شرع الله سبحانه وتعالى الإحرام وجعله نية لنسك الحج أو العمرة، وجعل له أحكاماً وسنناً بينتها سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أهمها: حكم الغسل والطيب قبل الإحرام، والمخيط المنهي عن لبسه للمحرم، واللباس الخاص بالمحرم. ومن رحمته تعالى بعباده أن نوّع لهم مناسك الحج لتكون ملائمة لأحوال العباد وقدراتهم، وبيَّن السبيل والطريق للمرأة الحائض إذا خشيت فوات الحج.

صفة الإحرام

صفة الإحرام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الإحرام] بعد أن بين لنا المصنف الأحكام المتعلقة بمواقيت الحج والعمرة، ناسب أن يبين هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يتفرع عليه من المسائل والأحكام المتعلقة بالإحرام؛ لأن الإنسان إذا خرج من بيته يريد الحج أو العمرة أو هما معاً، فإنه أول ما يكون من أمره أن يصل إلى الميقات، فبيَّن المؤلف أحكام المواقيت، ثم بعد أن بيَّن ما هي المواقيت شرع في بيان صفة الإحرام، وكيف يدخل الإنسان في نسك الحج ونسك العمرة، فقال رحمه الله: (باب الإحرام). والإحرام: مأخوذ من قولهم: أحرم الرجل يحرم إحراماً فهو محرم، إذا دخل في الحرمة، وأحرم الرجل إذا دخل في الحرمات، سواء كانت زمانية كالأشهر الحرم، أو كانت مكانية كحدود حرم مكة والمدينة، فتقول للرجل إذا دخل حدود حرم مكة: أحرم، بمعنى: أنه دخل داخل الحرم، وتقول: هو حرمي، أي: هو ساكنٌ داخل حدود حرم مكة. والعرب تقول: أحرم إذا دخل في الحرمات كأنجد إذا دخل نجداً، وأتهم إذا دخل تهامة. ومراد العلماء بقولهم (الإحرام): نية أحد النسكين أو هما معاً، إما الحج وإما العمرة، فإن كانت نيته أن يدخل في الحج فهو حاج، وإن كانت نيته أن يدخل في العمرة فهو معتمر، وإن نواهما معاً فهو حاج قارن لحجه. يقول رحمه الله: (باب الإحرام) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بكيفية الإحرام والدخول في نسك الحج ونسك العمرة، وذلك أن الدخول في نسك الحج والعمرة يفتقر إلى نية مخصوصة، وينبغي لمن دخل في هذه العبادة -أعني الحج أو العمرة- أن يراعي أموراً فرضها الله عز وجل عليه، وأن يتقي أموراً حرمها الله عليه، وهي التي تسمى بمحظورات الإحرام، فالإحرام كأنه حد للدخول في هذه العبادة.

أهمية الإحرام والتلبس بنية النسك

أهمية الإحرام والتلبس بنية النسك قوله رحمه الله: [الإحرام نية النسك]. الإحرام -في عرفنا معاشر الفقهاء-: نية النسك. أي: نية الدخول في الحج أو الدخول في العمرة أو هما معاً، وليس مجرد كون الإنسان يخرج من بيته للحج والعمرة كافٍ، فقد تخرج من بيتك وأنت تريد الحج والعمرة، ولكن لا يحصل بهذه النيةِ النيةُ المعتبرة، ولا يقال: إنك محرم. مثال ذلك: لو كنت في المدينة أو في الرياض فخرجت من المدينة إلى ذي الحليفة، فإنه منذ خروجك من بيتك قبل الميقات وأنت ناوٍ للحج أو العمرة أو هما معاً فليست هذه نية، ولكن الدخول لا يكون إلا في الميقات، وحينئذٍ يصدق عليك أنك قد تلبست بالنسك.

حكم الغسل للإحرام

حكم الغسل للإحرام قوله: [سن لمريده غسل أو تيمم] أي: من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل، فأول ما يبدأ به الإنسان إذا أراد الحج أو العمرة أن يغتسل لحجه أو عمرته؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه اغتسل في الوادي المبارك، وهو وادي العقيق، وهو الذي يسميه الناس اليوم بوادي عروة، وموضعه أبيار علي، فاغتسل في ذي الحليفة، وقد طاف على نسائه صلوات الله وسلامه عليه، ثم بعد ذلك تطيب واغتسل وتنظف صلوات الله وسلامه عليه. والسبب في الاغتسال: أن الإنسان إذا دخل في الحج والعمرة قد تمضي عليه أيام وهو متلبس بهذه العبادة ولا يتطيب، ولا يقلم أظافره ولا يقص شعره، فهو مظنة الشعث، ولذلك جاء في الأثر: (انظروا إلى عبادي، أتوني شعثاً غبراً)، خاصة في الأزمنة القديمة، حيث كان بين ميقات المدينة وبين مكة ما يقرب من عشر مراحل يسيرونها عشرة أيام بالإبل، وحينئذٍ يتضرر ويتضرر من معه، ويتضرر الناس من حوله، وإذا شهد الجماعات أو الصلاة مع الناس آذاهم برائحته وببخره، ولذلك سن له أن يغتسل. وهذا الاغتسال في حق الحائض والنفساء آكد، حتى ذهب جمع من العلماء رحمة الله عليهم إلى أنه يجب عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك أسماء بنت عميس رضي الله عنها وأرضاها، والسبب في ذلك وجود القذر كما سيأتي -إن شاء الله- ذكره. فيسن للمحرم أن يغتسل فيزيل ما يعلق ببدنه من الروائح الكريهة والأوساخ، فيكون طيباً في بدنه، ويدخل لهذه العبادة على أتم الصفات وأكملها. قال بعض العلماء: كأن الإنسان إذا أراد الحج أو العمرة ونزل في ميقاته، وأراد أن يغتسل وتجرد من مخيطه؛ يتذكر حينما يجرد من الدنيا ويخرج منها صفر اليدين إلا من رحمة الله عز وجل، فحينما يغتسل لإحرامه ويتجرد وهو بقوته واختياره كأن هذه بداية العظة له، إذ يتذكر حينما ينزع من الدنيا وينزع من بين أهله لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً. قوله: [أو تيمم لعدم] إذا لم يستطع الاغتسال لمرض أو لعدم وجود الماء، أو كان الزمان بارداً شديد البرد، ولا يستطيع أن يدفئ الماء، أو يستطيع أن يدفئ الماء ولكنه يخشى إذا اغتسل ولبس ثياب الإحرام أن لا يحسن الاستدفاء، فحينئذٍ يعدل إلى التيمم، وهو أحد قولي العلماء. وقال بعضهم: لا يتيمم؛ لأن المقصود من الغسل النظافة، والتيمم لا ينظف، حساً، بخلاف ما إذا اغتسل فإنه ينقي بدنه، ولكلا القولين وجه، فمن تيمم فلا حرج عليه، ومن ترك التيمم فلا حرج عليه.

كيفية التنظف للإحرام

كيفية التنظف للإحرام قوله: [وتنظف] التنظف يكون بتقليم الأظفار، وقص الشعر من رأسه إذا كان يخشى طوله، وهكذا بالنسبة للشعر الذي يكون في بدنه، فينتف إبطه ويحلق عانته، ونحو ذلك من الأمور التي يتهيأ بها البدن على أحسن وأفضل الهيئات وأكملها؛ تشريفاً لهذه العبادة وتأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

حكم التطيب للإحرام

حكم التطيب للإحرام قوله: [وتطيب]: أي: يسن له أن يتطيب، والطيب: ما طاب ريحه، وسمي الطيب طيباً لطيب رائحته، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أطيب الطيبين بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، طيبته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها في حله قبل حرمه، ولحرمه قبل أن يطوف بالبيت، فدل على أن السنة لمن أراد أن يحج أو يعتمر أن يتطيب. مسألة: هل يضع الطيب في بدنه قبل الغسل أو بعد الغسل؟ أجمع العلماء على أنه يجوز للإنسان أن يتطيب في بدنه قبل الغسل، ثم إذا غسل بدنه فإن بقي شيء من الطيب؛ فإنه مغتفر بإجماع العلماء، ولكن الخلاف فيما لو اغتسل ثم تطيب قبل أن ينوي، أي: قبل أن يدخل في النسك. فمذهب الشافعية والحنابلة وأهل الحديث أن من السنة أن يغتسل ثم يضع الطيب في بدنه، ولا بأس أن يكون الطيب في شعره أو صدره أو مغابنه. وذهب المالكية والحنفية إلى أنه يتطيب أولاً ثم يغتسل، فإن بقي بعد غسله شيء فهو مغتفر، وعلى هذا فإن أصحاب القول الثاني لا يجيزون أن يتطيب بعد الغسل، وكأنهم يرون أنه مغتفر بعد غسله. والصحيح أنه يجوز أن يتطيب قبل الغسل وبعده؛ لأن أم المؤمنين رضي الله عنها كما في صحيح مسلم قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل حرمه) وهذا يشمل ما بعد الغسل وقبل النية. ثم إذا وضع الطيب في بدنه فإن كان في أعالي البدن كالرأس، أو في المواضع التي لا يحتك بها الثوب فلا إشكال، ولا حرج عليه أن يبقى أثر الطيب في بدنه، كأن تبقى صفرة الطيب في شعره، أو على صدره أو نحو ذلك؛ وذلك لأن أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (كنت أرى وبيص الطيب في مفرق رسول الله عليه وسلم وهو محرم) -أي: لمعان الطيب- لأنه كان يفرق شعره نصفين، وقيل: مفرقه في أصل الشعر، فدل على أنه يجوز أن يبقى الطيب بعد الغسل وبعد النية، ولكن إذا سقط شيء من هذا الطيب وعاد إلى البدن بعد سقوطه، فحينئذٍ قال بعض العلماء: تلزمه الفدية. أما لو تطيب في صدره وعلق الطيب بثوب الإحرام -الذي هو الرداء- أو تطيب على أسفل بدنه ومغابنه فتعلق بالرداء، فحينئذٍ إن كان الرداء باقياً عليه ولم ينزعه فلا إشكال، ولكن إذا نزع الرداء عنه فإنه لا يعيده مرة ثانية؛ لأنه يغتفر استصحاباً ما لا يغتفر استئنافاً، لكن لو خلع الرداء المطيب عنه ثم أراد لبسه فكأنه يلبس بعد إحرامه ثياباً مسها الزعفران والورس، هذا عند من يقول: يغتفر إصابة الطيب للثوب، لأنه لما رئي على رسول الله صلى الله عليه وسلم دل على جواز أن يكون في ثوب الإحرام. ولكن الأحوط والأكمل أن يتحفظ من إصابة الطيب لثوبه؛ لأنها رخصة جاءت في البدن، فلا يقاس غير البدن عليه، وعلى هذا: فإنه إذا أصاب ثياب الإحرام الطيب فإن الأحوط له أن يغسله، وأن يخرج من العهدة بيقين ويستبرئ لدينه، فهذا أكمل. لكن من قال من العلماء إنه يغتفر ورأى فيه المسامحة قياساً على ما في البدن، فحينئذٍ يفرقون بين أن يكون الرداء على الإنسان، وبين أن ينزعه ثم يلبسه، فإنه إذا لبسه فكأنه يلبس ثوباً مسه الطيب. والدليل على أنه لا يجوز له أن يلبسه بعد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام للرجل لما لبس الجبة وعليها الطيب: (انزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الطيب، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما-: (ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس) فدل على أنه يتقي في ثيابه أن تصيب الطيب، والرخصة في البدن، وأما الثياب فإنه لم يرد التصريح بالرخصة فيها.

حكم لبس المخيط للمحرم

حكم لبس المخيط للمحرم قوله: (وتجرد من المخيط) المخيط هو الذي يحيط بالبدن، فالقميص يعتبر مخيطاً؛ لأنه يحيط بصدر الإنسان ويحيط بيده، ولذلك قالوا: قد يكون المخيط مخيطاً ولا خيط فيه، فلو أخذ رداء الإحرام وعقده بشوك فأحاط بالبدن حتى صار كيد الثوب فهو مخيط؛ لأنه محيط بالبدن، فالعبرة بالإحاطة بالبدن، لا بعدم وجود خيط، ولذلك كانت العمامة في حكم المخيط؛ لأنها تحيط بأعلى الرأس، مع أنها ليست مخيطة، مما يدل على أن المراد: الإحاطة بالعضو. أما بالنسبة للدليل على أن المحرم لا يلبس المخيط -أي: المحيط بالبدن جزءاً أوكلاً-: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله الرجل فقال: (يا رسول الله! ما يلبس المحرم؟ قال: لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف) وهذا الحديث إذا تأملته وجدت كمال بلاغته عليه الصلاة والسلام، وما أوتي من جوامع الكلم! فإنك إذا تأملت هذا الحديث وجدت أنه نهى عن العمامة: والعمامة تكون غطاء لأعلى الرأس، ثم (القميص): وهو يكون للصدر وأعلى البدن، ثم (السراويل): وهي لأسفل البدن، ثم (البرانس): وهي التي فيها غطاء الرأس وغطاء جميع البدن، فكأنه بهذا يمنع المخيط الذي يحيط بالبدن أجزاءً أو كلاً، فجمع قوله: (لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات) بين تغطية أعلى البدن وأوسطه وأسفله، ثم جاء بما يجمع الكل فقال: (ولا البرانس)، وهو جمع برنس، ولذلك قالوا: يحظر عليه أن يلبس ما يحيط بالبدن ولو لم يكن له خياطة، وهو مخيط إذا أحاط بالبدن. والإحاطة بالبدن جزءاً كأن يحيط بيده أو برجله كما في السراويلات ونحوها، فعلى المحرم أن يتجرد من السراويل، والفنايل التي تسمى بهذا في زماننا، وهي سترة الصدر، وكذلك يتجرد من القمص وما في حكمها مما يسمى اليوم بالكوت أو نحوه؛ لأنه يستر أعالي البدن، فجميع ذلك يلزمه أن يتجرد منه، ويتجرد مما يغطي الرأس من العمائم والغتر والأشمغة، وهكذا بالنسبة للطواقي ونحوها فإنها غطاء للرأس، فيتجرد من جميع ذلك. مسألة: لو كان الإنسان في طائرة، وعنَّ له وهو قادم من الرياض -مثلاً- أن يحرم بالعمرة، ولكن ليس عنده إزار يستر أسفل بدنه، وليس باستطاعته أن يتجرد، فحينئذٍ يجوز له أن يلبس السروال، ويكون السروال عوضاً عن الإزار؛ لأنه صح أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في يوم عرفة وقال: (السراويل لمن لم يجد الإزار) فحينئذٍ يتجرد من المخيط إلا إذا لم يجد ما يستره؛ فيجوز له أن يستتر بالمخيط حتى يجد غير المخيط، وهذا من كمال الشريعة ومن رحمة الله عز وجل بعباده، وهو من اليسر الذي بعث به نبيه صلوات الله وسلامه عليه.

لباس المحرم

لباس المحرم قال رحمه الله: [ويحرم في إزار ورداء أبيضين] كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: (خير ثيابكم البيض) وقال: (كفنوا فيها موتاكم)، وثبت في الصحيح عنه أنه كُفِّن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، وقد قالوا: إن إحرام الإنسان كالكفن، فمن هنا استحب جماهير العلماء رحمة الله عليهم البياض في إحرام الإنسان. لكن لو لم يجد إزاراً ورداء أبيضين، ووجد إزاراً ورداءً بلون آخر، فلا حرج أن يلبسه ولا عتب عليه، فالبياض من باب الأكمل والأفضل، ولكن إذا وجد الأبيض وغيره فإنه يستحب له أن يتحرى الأبيض؛ لما فيه من تحري السنة ولأنه خير ما لبس من الثياب.

حكم صلاة ركعتين قبل الإحرام

حكم صلاة ركعتين قبل الإحرام قال المصنف رحمه الله: [وإحرام عقب ركعتين] أي: والسنة أن يحرم عقب الركعتين، وهذا من ترتيب الأفكار، وهو يقول لنا: أولاً يتجرد من المخيط في ثيابه، ثم بعد ذلك يغتسل ويتطيب، وهذا بعد أن ينظف بدنه مما علق به، وينتف إبطيه ويحلق عانته، فإذا ما تم هذا كله؛ قال: وإحرام عقب ركعتين. فالسنة أن يقع الإحرام عقب صلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهلَّ بعد الفريضة، ولكن إذا كان الوقت ليس بوقت فريضة فحينئذٍ يغتسل، ثم ينوي ركعتي الوضوء، ويحرم عقب ركعتي الوضوء، وليس للإحرام سنة مقصودة، وإنما يغتسل أو يتوضأ ثم يصلي ركعتي الوضوء لما فيها من الفضل، ثم يحرم بعد ذلك؛ لأن فيه شبهاً بالسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهلَّ بعد الصلاة، وهذا قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم. وقد جاء في حديث عمر المشهور في صحيح البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال: (أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: أهِلَّ في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة)، والمعنى: أنه رأى رؤيا وقال بعض العلماء: بل أتاه حقيقة، أي: يقظة وليس بمنام وفي رواية: (صلِّ في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة) ولذلك ثبت في رواية الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان لا يمر بهذا الوادي -وادي العقيق- وهو مسافر إلا صلى فيه رضي الله عنه وأرضاه؛ تأسياً بهذه السنة. فأحرم عليه الصلاة والسلام عقب الفريضة، وهذا هو هديه، فإذا صلى الإنسان الفريضة وأراد أن يدخل بنية النسك فإنه يدخل عقب الفريضة، ولا يتكلف ركعتين؛ لأن هذا خلاف السنة، بل قال بعض العلماء: لو صلى الفرض ثم قام يصلي ركعتين خاصة لإحرامه فهو إلى البدعة أقرب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلف الركعتين بعد الفريضة، فلما تكلفهما وخالف هديه بالإحرام عقب الفريضة مباشرة كان هذا خلاف السنة، وكأنه يعتقد فيها مزية فضل، فكان أقرب إلى البدعة من هذا الوجه.

حكم النية والاشتراط في الإحرام

حكم النية والاشتراط في الإحرام قال المصنف رحمه الله: [ونيته شرط]. أي: أن نية النسك شرط في صحة الإحرام، وقيل: إنها ركن. ولا يصح الإحرام ولا ينعقد إلا بنية، فلو أن إنساناً مر بالميقات ولم يوجب الإحرام ولم ينو؛ فإنه لا يصح منه ذلك ولا يجزيه، ولا يزال حلالاً حتى يعود ويحرم من الميقات، فإن أحرم من دونه فعلى التفصيل الذي ذكرناه في مسألة من أحرم دون المواقيت. وقوله: [ويستحب قوله: اللهم إني أريد نسك كذا فيسره لي، وإن حبسني حابس؛ فمحلي حيث حبستني] هذا اللفظ جاء في حديث ضباعة رضي الله عنها وأرضاها، قالت: (يا رسول الله! إني أريد الحج، وأنا شاكية -يعني: مريضة- فقال عليه الصلاة والسلام: أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني). وللعلماء في هذا الحديث وجوه: الوجه الأول: أن هذا الحديث يعتبر أصلاً عاماً، وأن كل من يريد أن يهل فله أن يقول هذه الكلمة، ويجوز له أن يشترط؛ بل ويستحب له تلافياً لما يطرأ عليه، وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمه الله. الوجه الثاني: أن هذا الحديث خاص بـ ضباعة. فهو عكس الوجه الأول، فالوجه الأول يرى أنه عام في الحال وفي الأفراد، سواء وجد عذر أو لم يوجد عذر، والوجه الثاني يقول: هذه قضية عين، والقاعدة في الأصول: (أن قضايا الأعيان لا تصلح دليلاً للعموم)، ولا يوصف الحديث بكونه قضية عين إلا إذا كان الأصل خلافه، وتوضيح ذلك: أن الأصل في المريض أنه يفتدي إن أصابه المرض، وأنه إذا أحصر ومنع من البيت؛ فإنه حينئذٍ يتحلل كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قال الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، لكنه بالاشتراط يخرج من هذا كله: من الفدية ومن إراقة الدم في الإحصار، فصارت قضية عين من هذا الوجه. وتوسط بعض العلماء وهو المذهب الراجح، وبه يقول جمع من الشافعية والحنابلة: أن هذا الحديث مخصوص بالشخص الذي يكون مريضاً قبل الحج أو العمرة، فيكلف نفسه الحج أو العمرة، وكأن الشرع أعطاه بتكلفه مع المرض سعة، أما الصحيح القادر فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم على الميقات لم يقل للصحابة: أهلوا واشترطوا، ولا شك أن الاشتراط يخفف عنهم التبعة. فكونه يقال: إن كل من أراد أن يحرم يستحب له أن يقول هذا غير صحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به الصحابة، ولو كان سنة ماضية للجميع لأُمِر به الصحابة، والفقه أننا نعتبر كل نص بمورده وطريقته، ونحمل النصوص على مواردها، فلما كان الأصل في الإنسان الصحيح القادر أنه يحرم ويمضي لوجهه، فإن طرأ له عذر يمنعه من البيت صار محصراً، وأحكام المحصر معروفة، وإن كان مريضاً فأحكام المريض معروفة: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] فهذا هو الأصل. وأما إذا كان على صفة ضباعة، أراد الحج وتكلفه وهو مريض، فحينئذٍ يصح أن يشترط، وحينئذٍ نكون قد أعملنا النصوص على وجهها، فأبقينا الأصول كما هي، واستثنينا ما ورد به حديث ضباعة رضي الله عنها وأرضاها، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس: أن الاشتراط لا يكون إلا للمريض على صورة حديث ضباعة، وهو أعدل الأقوال في هذه المسألة، وأولاها بظاهر الحديث الوارد بالرخصة في ذلك. قوله: [ويستحب قول: اللهم إني أريد نسك كذا فيسره لي] والمسلم لا شك أنه يدعو ربه في أي عبادة أن ييسر له الخير، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (زودك الله التقوى، وغفر ذنبك، ويسر لك الخير حيث ما توجهت) فهذا من نعم الله على العبد أن ييسر له الخير، ولكن في مواطن العبادات لا يستحب شيء إلا بنص، فلا يستحب ذكر مخصوص ولا لفظ مخصوص في موضع مخصوص إلا بدليل يخص هذا اللفظ وهذا الموضع بهذا الذكر، ولذلك الأصل أن يقتصر على النية، فيقول: (لبيك حجاً، لبيك عمرة، لبيك حجاً وعمرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني الليلة آتٍ من ربي وقال: أهل في هذا الوادي المبارك، وقل: حجة وعمرة). فهذا نص يدل على أنه لا يزاد على هذه النية، ولذلك قال أنس رضي الله عنه: (ما تعدوننا إلا صبياناً، لقد كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها) أي: كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجه، لأنه كان ربيباً عند أبي طلحة زوج أم سُليم، وأم سُليم هي أم أنس، وكانت ناقة أبي طلحة مع ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يكادان يتساويان مع بعضهما، فكان أنس من أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يقول: (لقد كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها، أسمعه يقول: لبيك عمرة وحجة) فهذا يدل على أنه يقتصر على ذكر النسك، وأن في ذلك الكفاية.

أنواع النسك في الحج ومشروعيتها

أنواع النسك في الحج ومشروعيتها قال المصنف رحمه الله: [وأفضل الأنساك التمتع، وصفته: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج في عامه]. هناك أنساك ثلاثة لمن أراد الحج: فإما أن يفرد فينوي الحج وحده. وإما أن يذهب بعمرة في أشهر الحج يتمتع بها، ثم إذا قضى العمرة وانتهى منها تحلل وتمتع، ثم يحرم بعد ذلك بالحج. وإما أن يكون قارناً -وهو النسك الثالث- وهو أن ينوي الحج مع العمرة، فيجمع بين نية الحج والعمرة، يقول: لبيك عمرة وحجة. وقد أجمع العلماء على مشروعية الأنساك الثلاثة: الإفراد، والقران، والتمتع. ودليل هذا الإجماع ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أم المؤمنين عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى الميقات قال: (من أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بحج وعمرة فليهل) فخيرهم بين الأنساك الثلاثة. وخالف ابن عباس جماهير الصحابة رضوان الله عليهم، ومنهم الخلفاء الراشدون المأمور باتباع سنتهم، فقال رضي الله عنه وأرضاه: (إن من طاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، وكان لم يسق الهدي؛ فيجب عليه أن يتحلل بعمرة)، وهذا كأنه نسخ للإفراد؛ لأنه إما تمتع بالقران وإما تمتع بالتمتع المعروف، فكأنه نسخ للإفراد، وهي من المسائل التي انفرد بها ابن عباس رضي الله عنهما، وخولف في ذلك من جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم. ومن مفرداته التمتع بالنساء، وقوله بجواز ربا الفضل، ونحوها من المسائل التي انفرد بها رضي الله عنه وأرضاه. فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يسق الهدي أن يتحلل وأن يجعلها عمرة، فهم رضي الله عنه وأرضاه أن التخيير الذي وقع عند الميقات منسوخ بأمره عليه الصلاة والسلام بفسخ الحج بعمرة. وخالفه في هذا الفهم جماهير الصحابة؛ لأن السنة الصحيحة دلت على صحة الإفراد، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه عروة بن مضرس وهو في صبيحة يوم النحر قال: (يا رسول الله! أقبلت من جبل طيء، أكللت راحلتي وأتعبت نفسي، وما تركت جبلاً ولا شعباً إلا وقفت عليه، فقال عليه الصلاة والسلام: من صلى صلاتنا هذه ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار؛ فقد تم حجه) وهذا يدل على صحة حج الإفراد؛ لأن عروة كان مفرداً بالإجماع؛ ولم يدرك إلا الوقوف بالليل، فلم يكن هناك عمرة، ولم يستطع أن يتمتع، فخاطبه النبي صلى الله عليه وسلم باللفظ العام، ولم يقل: من كان مثله متأخراً عن الحج يجوز له، ومن لم يكن مثله فإنه يجب عليه الفسخ. وقد فهم الصحابة أن إيجاب فسخ الحج بالعمرة خاص، ولذلك قال أبو ذر كما في الرواية الصحيحة عنه: (متعتان لا تصلح إلا لنا أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم: متعة النساء ومتعة الحج)، أي: أن إيجاب فسخ الحج بعمرة كان في ذلك العام للتشريع، وتأكيداً على جواز العمرة في أشهر الحج؛ لأنهم كانوا حديثي العهد بالجاهلية، وكان الناس قد قدموا من كل صوب وحدب، وأقبلوا طائعين للإسلام، فكانوا على ما ألفوه أن العمرة في أشهر الحج فجور، وقالوا: أنذهب إلى منى ومذاكيرنا تقطر منياً؟! وقالوا: (يا رسول الله! أي الحل؟ قال: الحل كله) فلذلك كان الأمر بالعزيمة، وأمروا بفسخ الحج والعمرة، وبقي الأمر بعد ذلك على السعة. وقد حج أبو بكر جميع سنوات خلافته وهي سنتان من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها مفرداً، وهذا بإجماع العلماء، كما أن عمر رضي الله عنه وأرضاه في جميع سنوات خلافته -قرابة العشر السنوات- ما حج إلا مفرداً، وكذلك عثمان رضي الله عنه وأرضاه ما حج إلا مفرداً، وهذا على ما كانوا يختارونه، حتى كان عمر رضي الله عنه يرى أن إتمام الحج والعمرة بأن يحرم بهما من دويرة أهله. فالمقصود أن هذا وقع في الخلافة الراشدة، وكان أبو بكر رضي الله عنه هو الذي يقيم للناس حجهم، فلو كان الإفراد منسوخاً لما صح حج الناس؛ لأن الخلفاء وهم: أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كلهم حجوا بالناس مفردين، ولذلك قال العلماء: إن هذا من مفردات ابن عباس رضي الله عنه، وهو مأجور على اجتهاده وما أدى إليه قوله، ولكن قول جماهير الصحابة الموافقة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أولى وأحرى، والقول بوجوب فسخ الحج بالعمرة إنما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وأما من عداهم فقد بقي الأمر على التخيير.

ذكر الخلاف في أفضل الأنساك وأدلته

ذكر الخلاف في أفضل الأنساك وأدلته قال المصنف رحمه الله: [وأفضل الأنساك التمتع] مسألة: هل الأفضل أن يفرد أو يقرن أو يتمتع؟ قال الشافعية والمالكية: الأفضل أن يفرد. وقال الحنفية: الأفضل أن يقرن. وقال الحنابلة: الأفضل أن يتمتع. ولهم جميعاً حججهم رحمة الله عليهم، فمن قال: الإفراد. احتج بأن الأفراد ليس فيه دم الجبران؛ لأنهم يرون أن الدم الذي في التمتع والذي في القران دم جبران؛ قالوا: فكان المفروض على من تمتع بالحج والعمرة أن يرجع بعد العمرة إلى الميقات ويحرم من الميقات، ولذلك لو تمتع المكي سقط عنه الدم؛ لأنه أحرم من ميقاته، وهذا يدل على أن الدم لمكان النقص الذي وقع بين الحج والعمرة بالتمتع أو لكونه لم يرجع إلى الميقات؛ بدليل سقوط الدم عن حاضري المسجد الحرام؛ لأنهم أحرموا من ميقاتهم. فقالوا: الإفراد ليس فيه نقص، والتمتع فيه نقص. والتمتع بنوعيه: القران والتمتع المعروف، وقالوا: إن أبا بكر رضي الله عنه وعمر وعثمان، والخلافة الراشدة ظلت أكثر من عشرين عاماً والحج بالإفراد، وما هذا إلا لفضيلة الإفراد. وقال الحنفية: إن الأفضل القران؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة، وقد قرن عليه الصلاة والسلام منذ ابتداء نسكه إلى نهايته، ولذلك قال: (إني لبَّدتُّ شعري وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر)، وقد ثبت عنه الصلاة والسلام عن طريق أكثر من خمسة وعشرين صحابياً أنه قرن الحج بالعمرة. قالوا: ولو كان غير القران أفضل لما اختار الله لنبيه المفضول، فكونه عليه الصلاة والسلام لم يحج إلا حجة واحدة، ومع ذلك يختار الله له إحراماً من فوق سبع سماوات أن يقرن الحج بالعمرة يدل على أنه أفضل، وأكدوا هذا بما يلي: أولاً: لو كان الإفراد أفضل -وذلك أنكم تقولون: إن المفرد يأتي بسفر مستقل لعمرته وسفر لحجه- فإننا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتمر أكثر من عمرة، ومع ذلك لم يقع اختيار الله له للإفراد، وإنما اختار الله له القران، فلو كان الإفراد أفضل لما اختار الله لنبيه المفضول. وقالوا: إن القران كان أوحي به من فوق سبع سماوات ولم يكن باختيار النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: (أتاني الليلة آتٍ من ربي، وقال: أهل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة) فقرانه عليه الصلاة والسلام إنما كان بوحي وباختيار من الله، وهي حجة واحدة ولا يختار له إلا الأفضل. ثالثاً: إنه قد اعتمر أكثر من عمرة، ومع ذلك أمر أن يقرن عمرته مع حجه، فدل على فضيلة قرن الحج بالعمرة. رابعاً: أن القارن يفضل المتمتع؛ لأن المتمتع يشارك القارن في جميع ما ذكروه من هذه العلل، فقالوا: فينفرد القارن عن المتمتع بأن القارن بعد العمرة يبقى بإحرامه، ولكن المتمتع يتحلل فيتمتع بالنساء ويصيب الطيب، والقارن يبقى على إحرامه، والقاعدة: (أن الأكثر تعباً أعظم أجراً)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دل على هذه القاعدة كما في الصحيح: (ثوابكِ على قدر نصَبكِ)، قالوا: فإذا كان القارن لحجه بعمرته يوافق المتمتع في كون كلاً منهما يصيب النسكين، إلا أن هذا يتعب أكثر من المتمتع؛ لأنه يبقى على إحرامه بعد العمرة، وحينئذٍ يكون أفضل. رد أهل التمتع بأن هذا التمتع الذي يقع بين العمرة والحج إنما هو بإذن شرعي. وأما قولكم: إن الأكثر تعباً أعظم أجراً؛ فقد يكون الشيء أقل تعباً ويصيب به الإنسان ما هو أكثر فضيلة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لقد قلت من بعدكِ كلمات لو وزنت بما قلتِ لرجحتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته)، قالوا: فهذا يدل على أنه قد يكون الشيء أقل عملاً ولكنه أكثر أجراً. ثم أكدوا فضيلة التمتع بأن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى التمتع، وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة) قالوا: ولا يتمنى إلا الأفضل، وقولكم: إنه أحرم واختار الله له إحرام القران ينسخه ما بعده من التمني. رد الأولون بأن هذا التمني لم يقع ابتداءً وإنما وقع لسبب، وهو أن الصحابة لما أمرهم أن يتحللوا امتنعوا، فطيب خواطرهم بهذه الكلمة. وفي الحقيقة إن أعدل ما ذكر في هذه المسألة وهو اختيار بعض المحققين ومال إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أن في المسألة بالتفصيل: فإن كان الرجل يستطيع أن يأتي إلى البيت ويفرد حجه عن عمرته فالإفراد أفضل، وإن كان يستطيع أن يسوق الهدي معه فالقران أفضل، وإن كان لا يستطيع أن يسوق الهدي، أو يصعب عليه -كحال أكثر الناس اليوم حينما يقدمون من خارج المملكة- فالتمتع له أفضل؛ لأنهم لا يستطيعون أن يأتوا بسفر مستقل لعمرتهم، وبناء على ذلك يجمعون بين التمتع بالتحلل ثم يحرمون بعد ذلك بحجهم لصعوبة سوقهم للهدي، وعلى هذا يكون الجمع بين النصوص من جميع الأوجه، ففضل التمتع من وجه، وفضل القران من وجه، وفضل الإفراد من وجه، ويكون هذا جمعاً بين هذه النصوص والأوجه المختلفة.

خلاف العلماء فيمن يجوز له التمتع

خلاف العلماء فيمن يجوز له التمتع مسألة: من الذي يتمتع؟ ينقسم الناس في التمتع إلى قسمين: مكي، وغير مكي. حاضر المسجد الحرام وغير حاضر المسجد الحرام، أما الذين هم من حاضري المسجد الحرام فللعلماء فيهم أوجه، وأقوى ما قيل في حاضري المسجد الحرام أن المراد بهم: أهل مساكن مكة أو من كان دون حدود الحرم، أو من كان دون مسافة القصر، فالمكي ومن كان داخل حدود حرم مكة فهو من حاضري المسجد الحرام. وللعلماء قولان فيمن يجوز له أن يتمتع: قال جمهور العلماء: المكي وحاضر المسجد الحرام يتمتعون، وإن تمتعوا فلا دم عليهم، وعلى هذا فأهل مكة يجوز لهم أن يأتوا بالعمرة في شوال وما بعد شوال، ثم يحجون من عامهم فهم متمتعون، ويصيبون فضيلة التمتع ولا يلزمهم الدم. وقال الحنفية رحمة الله عليهم: المكي ومن كان من حاضري المسجد الحرام لا يتمتع، وإن تمتع فعليه دم. فلا يرون لأهل مكة أن يتمتعوا، وإن تمتعوا فعليهم الدم. وسبب الخلاف الآية الكريمة في قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]. فلما قال الله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196] اختلف في مرجع الإشارة: (ذلك)، فالجمهور يقولون: (ذلك) عائد إلى إيجاب الدم: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] فأعادوه إلى أقرب مذكور؛ لأن الإشارة تعود إلى أقرب مذكور، فيكون قوله: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) أول الآية منفصل عن آخرها، ويكون قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196] المراد به: إيجاب الدم، فيقولون: يصح التمتع لعموم قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ} [البقرة:196] ولا يجب الدم لقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196]. والحنفية يقولون: (ذلك) عائد إلى أول الآية، بدليل أنه اسم الإشارة (ذلك) للبعيد، فقالوا: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196] عائد إلى صدر الآية: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة:196] فالتمتع لمن لم يكن من حاضري المسجد الحرام. قالوا: والدليل الثاني عندنا على هذا أنه قال: {ذَلِكَ لِمَنْ} [البقرة:196] فلو كان الدم -كما يقول الجمهور- لقال (ذلك على من لم يكن). فدل على أن المراد مشروعية التمتع وليس وجوب الدم. رد الجمهور بأن (ذلك) جاء اسم إشارة لصيغة البعيد لوجود الفصل: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] فنظراً للفصل بالبدل عن الواجب جاء باسم (ذلك)، حتى لا يفهم منه أن هذا الإيجاب مختص بمن يكون على خلاف هذه الحال. وأجابوا عن قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ} [البقرة:196] أن (اللام) تأتي بمعنى (على) كما قال تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7] أي: فعليها، فيكون قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ} [البقرة:196] أي: ذلك الدم على من لم يكن من حاضري المسجد الحرام. ومذهب الجمهور أقوى، وعليه: فإن أهل مكة يتمتعون، وإن تمتعوا فلا دم عليهم. فالمتمتع إما أن يكون من حاضري المسجد الحرام، وإما أن يكون من غير حاضري المسجد الحرام، فيشمل الذين كانوا خارج حدود الحرم أو خارج مسافة القصر، فالآفاقيون الذين هم غير حاضري المسجد الحرام يشرع لهم التمتع بإجماع العلماء.

شروط التمتع بالعمرة إلى الحج

شروط التمتع بالعمرة إلى الحج قال المصنف رحمه الله: [وصفته أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج في عامه]. شروط التمتع: أن تكون هناك عمرة في أشهر الحج، فمن اعتمروا في أشهر الحج صح له أن يتمتع بهذه العمرة إلى الحج، بشرط البقاء بعد فعل هذه العمرة بمكة، وعدم الرجوع إلى الميقات أو ما يحاذيه أو إلى مسافة القصر، وأن يحج من ذلك العام، فهذه شروط لا بد من توفرها للحكم بصحة التمتع. أما الشرط الأول -أن يأتوا بعمرة في أشهر الحج- ففيه تفصيل: أشهر الحج تبدأ من ليلة العيد، فمن أوقع العمرة في ليلة عيد الفطر فما بعدها من شوال أو ذي القعدة فحينئذٍ يصدق على هذه العمرة أنها عمرة تمتع إن بقي بعدها وحج، لكن إن وقعت عمرته قبل ليلة العيد، ثم بقي بمكة وحج من عامه؛ فليس بمتمتع بالإجماع؛ لأن عمرته ليست في أشهر الحج، وعمرة التمتع يشترط فيها أن تكون في أشهر الحج. لكن لو أحرم قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان، وغابت عليه شمس آخر يوم من رمضان قبل أن يتم، فأوقع بعض أفعال العمرة في رمضان وبعض أفعالها في شوال، فهل نقول: العبرة بالابتداء، أم العبرة بالانتهاء، أم يفصل؟ خلاف بين السلف، قال بعض العلماء: العبرة بالنية، فإذا دخل في النسك ونواه قبل غروب الشمس ولو بلحظة؛ فإنه لا يعتبر متمتعاً، فهم يعتبرون أول لحظة من العمرة، وهي نية الدخول في النسك، فإن غابت عليه الشمس ثم نوى ولو بلحظة بعد مغيبها فإنه متمتع، وهذا مذهب الظاهرية. القول الثاني: العبرة بدخوله إلى مكة، فإن وقع دخوله مكة قبل غروب الشمس؛ فعمرته ليست تمتعاً، فهو مفرد إن حج من عامه، وإن وقع دخوله لمكة وحدود الحرم بعد مغيب الشمس، وبقي بعد هذه العمرة وحج فهو متمتع، فالعبرة عندهم بدخول حدود الحرم، وهذا مذهب طائفة من السلف ومنهم عطاء. القول الثالث: العبرة بابتداء الطواف، فننظر متى ابتدأ الطواف، فإذا ابتدأ طوافه قبل غروب الشمس ولو بلحظة، فهو مفرد إن حج من عامه، وإن ابتدأ طوافه بعد غروب الشمس ولو بلحظة؛ فهو متمتع إن حج من عامه، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة. القول الرابع: العبرة بأكثر الطواف، وهذا مذهب الحنفية، فيقولون: إن طاف أربعة أشواط قبل غروب الشمس؛ فمفرد إن حج من عامه، وإن طاف الثلاثة الأشواط قبل غروب الشمس والأربعة بعد الغروب؛ فإنه متمتع إن حج من عامه. فتجد أن مذاهب الأئمة اعتبرت بالطواف؛ لأن الطواف أول أركان العمرة. وهناك قول خامس: وهو أن العبرة بالتحلل، وهو مذهب المالكية، قالوا: ننظر متى يقص شعره أو يحلق رأسه، فإن وقعت حلاقته أو قصه لشعر رأسه قبل غروب الشمس فإنه مفرد إن حج من عامه، وإن وقع القص والتحلل بعد غروب الشمس ولو بلحظة فإنه متمتع إن حج من عامه. وأصح هذه الأقوال والعلم عند الله: أن العبرة بابتداء الطواف لما ذكرنا؛ وذلك لأنه يكون حينئذٍ قد دخل في ركن عمرته فإذا كان قد ابتدأ طوافه قبل غروب الشمس فإنه حينئذٍ يكون قد أوقع الركن -الذي هو ركن العمرة- قبل غروب الشمس، وحينئذٍ لا يصدق عليه أنه تمتع بعمرته إلى الحج. الشرط الثاني من شروط التمتع: بقاؤه بمكة وهذا هو نص القرآن: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة:196] فإنه يشترط في كونه متمتعاً أن يبقى بعد العمرة إلى أن يحج من نفس العام، فلو رجع بعد عمرته إلى بلده أو إلى ميقات بلده؛ فإنه لم يتمتع بسفره الأول -وهو عمرته الأولى- لحجه، وحينئذٍ كأنه أنشأ سفراً ثانياً، وعليه فيكون مفرداً ولا يكون متمتعاً على ظاهر القرآن. وشذ طاووس فقال: هو متمتع وإن رجع إلى بلده. والعلماء يقولون: شذ طاووس كما عبر به غير واحد من الأئمة رحمة الله عليهم في هذه المسألة، وإذا قال العلماء: شذ. فليس المراد تحقير العالم، ولكن الخلاف عندهم في المسائل على مراتب، فتارة يكون المخالف مصادماً للنصوص أو مصادماً لجماهير العلماء، فيقولون عنه: شذ؛ تنبيهاً إلى أن العمل عند الأئمة والسلف والعلماء وأكثر الأمة على عدم قبول هذا القول؛ لمخالفته للنصوص القوية، فيعبرون عن ذلك بالشذوذ مثلما يقولون: شذ ابن عباس فقال بالمتعة. وليس المراد منه تحقير ابن عباس رضي الله عنه، وإنما المراد أن قوله هذا خالف الأصول وخالف الجماهير، ولذلك فإن خلاف الشذوذ يكون في المسائل التي تخالف النصوص، كالقول بجواز ربا الفضل وبجواز المتعة، ونحوها من المسائل المفردة. فعند طاووس من سافر إلى بلده بعد عمرته وحج من عامه فإنه يعتبر متمتعاً، وهذا قول شاذ كما ذكرنا لمخالفته لظاهر الآية الكريمة، وجماهير السلف والخلف على خلاف ذلك، وأن من رجع إلى بلده أو أنشأ السفر بعد عمرته فإنه لم يتمتع على ظاهر الصفة التي نص عليها كتاب الله عز وجل. والشرط الثالث من شروط التمتع: أن يحج من عامه، ويحكى عن عبد الله بن الزبير: أنه لو أتى بالعمرة في هذه السنة، ثم أتى بالحج من العام القادم أنه متمتع، ولكن جماهير السلف رحمة الله عليهم على خلافه، والإجماع على أنه لا يكون متمتعاً إلا إذا حج من ذلك العام.

حكم من تمتع بالعمرة إلى الحج وليس من حاضري المسجد الحرام

حكم من تمتع بالعمرة إلى الحج وليس من حاضري المسجد الحرام قال المصنف رحمه الله: [وعلى الأفقي دم] أي: وعلى الأفقي دم إن تمتع، وفهم من ذلك أن غير الأفقي لا يلزمه دم. أما بالنسبة لإيجاب الدم على الأفقي فلقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] فأمر الله سبحانه وتعالى من تمتع بالعمرة إلى الحج أن يريق الدم، وهذا الدم ستأتي مباحثه ومسائله في الفدية، ونبين إن شاء الله ما هو المعتبر في هذا الدم، وأين محله، وما هو الواجب، والسن الواجب في هذه الدماء، سواء كانت في قران أو تمتع.

حكم المرأة الحائض إذا خشيت فوات الحج

حكم المرأة الحائض إذا خشيت فوات الحج قال رحمه الله: [وإن حاضت المرأة فخشيت فوات الحج أحرمت به وصارت قارنة]. هذا إذا كانت المرأة متمتعة، والمرأة الحائض في الإحرام قبل الحج على صور: الصورة الأولى: أن يأتيها الحيض قبل نية النسك، فحينئذٍ إذا كان هناك وقت قبل الحج ويمكنها أن تتمتع بالعمرة؛ فالأفضل أن تصيب فضيلة التمتع، فتحرم بالعمرة، ثم تتحلل من العمرة، ثم بعد ذلك تتم مناسك الحج، مثال ذلك: لو أن امرأة أقبلت على الميقات في شهر ذي القعدة، وجاءها الحيض، وحيضها ثمانية أيام، فقد بقي من الوقت ما يسعها أن تطهر ثم تؤدي العمرة قبل أن تتلبس بالحج أي: قبل أيام الحج، فحينئذٍ تحرم بالعمرة، ويجوز لها وهي حائض أن تنوي العمرة، ولكن تمتنع من الطواف بالبيت، لقوله عليه الصلاة والسلام لأم المؤمنين عائشة حيث كانت معه في حجه وأصابها الحيض فقال: (ما لكِ أنفستِ؟ قالت: نعم. قال: ذاك شيء كتبه الله على بنات آدم، اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت) فهذا يدل على أنه لا يجوز لها أن تطوف بالبيت، ولا يجزئها أن تطوف وهي حائض على ظاهر النص، فتمكث حتى تخرج من عادتها وتطهر، فتغتسل ثم تؤدي عمرتها وتتحلل منها، هذه الصورة الأولى. الصورة الثانية: أن يطرأ الحيض بعد نيتها للنسك، فإذا طرأ الحيض بعد نيتها للنسك فلا يخلو من حالتين: إما أن يمكنها أن تؤدي العمرة قبل أيام الحج، وإما أن يضيق الوقت ولا يمكنها أن تؤدي عمرتها قبل أيام الحج، كأن تكون عادتها ثمانية أيام، وبقي على الحج ثلاثة أيام أو أربعة أيام، فإذا طرأ عليها الدم وكانت قد دخلت في النسك فلا تخلو نيتها. إما أن تكون مفردة فحينئذٍ تمضي إلى عرفات، وتتم مناسك الحج، حتى إذا طهرت طافت طواف الإفاضة ولا إشكال. وأما إذا كانت متمتعة -أي: كانت معتمرة- فإنه لا يمكنها أن تؤدي عمرتها قبل حجها؛ لأنه وقت ضيق، فتنقلب قارنة لمكان الضرورة، لقول عليه الصلاة والسلام: (اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت)، فدل على أنها كانت متمتعة بمنعه إياها من الطواف بالبيت، وقد ثبت أنها كانت متمتعة، فحينئذٍ انقلبت إلى القران لقوله عليه الصلاة والسلام لها في آخر الحج: (طوافكِ بالبيت وسعيكِ بين الصفا والمروة كافيكِ لحجكِ وعمرتكِ) فدل هذا على أن الذي وقع منها إنما هو القران؛ لأنه لم يمكنها أن تتحلل، فلما منعها من الطواف دل على أنه يجوز لها أن تنقلب قارنة، وحينئذٍ تؤخر طوافها بالبيت إلى طهرها، وهذا هو قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها. وهكذا الحال إذا كان طرأ العذر، فإذا أحرمت بالتمتع فطرأ الحيض فإنها تحرم وينقلب نسكها القران، على ظاهر هذه السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

التلبية

التلبية قال المصنف رحمه الله: [وإذا استوى على راحلته قال: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. يصوت بها الرجل وتخفيها المرأة].

تحقيق الخلاف في وقت تلبية النبي صلى الله عليه وسلم في حجته

تحقيق الخلاف في وقت تلبية النبي صلى الله عليه وسلم في حجته قوله رحمه الله: (وإذا استوى على راحلته). السنة أن يلبي وهو في مصلاه، فقد أوجب عليه الصلاة والسلام وهو في مصلاه، وأوجب وهو على الراحلة، وأوجب وهو على البيداء، وهذا كله ثابت عنه، ولذلك فضل ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما ذلك فيما ثبت وصح عنهما، وكان ابن عمر يقول: (بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أهل إلا من عند الشجرة)، وقد بين ابن عباس السبب في ذلك، وهو أن الناس كانوا كثيرين. وقال أنس رضي الله عنه: (كنت أنظر أمامي فأرى الناس مد البصر، وأنظر عن يميني فأرى الناس مد البصر، وأنظر عن شمالي فأرى الناس مد البصر، كلهم يقولون: كيف يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلما نزل إلى الميقات وصلى عليه الصلاة والسلام أدرك أناس تلبيته وهو في مصلاه)، وأدرك أناس تلبيته وهو عند الشجرة، وأدرك أناس تلبيته وهو قد استوى على راحلته، وأدرك أناس تلبيته وهو على البيداء؛ لأن الميقات -وهو الذي يسمى بأبيار علي- واد، ومنخفض الوادي في بطنه المسجد والمصلى، هذا المنخفض يكتنفه شقي الوادي الأيمن والأيسر، أيسر الوادي من جهة جبل عير الذي هو حد المدينة، وأيمن الوادي الذي هو صفحته اليمنى بعد أن تخرج من المسجد وتصعد هذه الربوة التي هي أعلى الشط الأيمن للوادي وهي تسمى بالبيداء، وهي ما ارتفع من الأرض من مائتي متر إلى ثلاثمائة متر، وبعد البيداء وأنت في طريقك إلى مكة متجهاً إلى جهة جنوب غرب تقريباً تأتي منطقة تسمى ذات الجيش، وهي التي انقطع فيها عقد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وكان لـ أسماء، في قصة التيمم، فالبيداء هذه كانت هي الربوة العالية التي بعد الوادي، بمعنى أنك إذا خرجت من الوادي وصعدت فأول ما يواجهك البيداء، فكان الناس يعتقدون أن التلبية تبدأ من البيداء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رقى البيداء لبى؛ لأنه كان من سنته إذا علا النشز أن يلبي، فأدرك أناس تلبيته بالبيداء، فظنوا أن السنة هناك، وأدرك أناس تلبيته عند الشجرة فظن أن السنة هناك، وأدرك أناس تلبيته أول ما أوجب. فالسنة أنه يلبي وهو في مصلاه، ثم إذا ركب على راحلته -وفي حكمها السيارة الآن- يلبي، وإذا علا البيداء أو صعد من شط الوادي لبى؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، سواء صعد على الخط القديم -الذي هو طريق النبي صلى الله عليه وسلم في القديم- أو صعد على الخط الجديد -الذي يسمى بالهجرة-؛ لأن الجهتين اللتين تكتنفان الوادي بمثابة واحدة من حيث العلو والنشز، فالسنة فيهما واحدة، فكان ابن عمر يقول: (بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم) تكذبون: الكذب يطلق بمعنى الكذب المذموم، وبمعنى مخالفة الحقيقة، وليس المراد به ذم صاحبه، فقال: (تكذبون) يعني: أنكم تقولون بها أمراً غير الذي وقع منه عليه الصلاة والسلام، ولا يقصد أصل الكذب الذي ورد في الوعيد، فمراده: أن الأصل أن التلبية كانت في بطن الوادي، فالسنة أن تكون التلبية على هذه الصورة.

معنى التلبية

معنى التلبية أما قوله: (لبيك اللهم لبيك)، (لبى): اختلف العلماء في أصلها، قيل: (لبى) بمعنى أجاب، تقول: لبيت النداء، أي: أجبته، وهذا مبني على قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:27] حيث أوحى الله بذلك لإبراهيم فقال: (ربي وما يبلغ صوتي. قال: أذن وعلينا البلاغ، وهو حديث رواه الحاكم في مستدركه، وصححه غير واحد، فأذن وقال: (أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا) فمن كتب الله عليه الحج والعمرة فإنه يلبي هذا النداء بقوله: لبيك. أي: إجابة لداعي الله عز وجل، هذا على القول بأنها مشتقة من إجابة النداء. وقيل: (لبى) بمعنى: لب الشيء وخالصه، والمراد بذلك: إن إخلاصي لك يا ألله. فمعنى (لبيك): أي إخلاصي؛ لأنها كلمة التوحيد، ولذلك قال جابر: (أهل بالتوحيد). فقالوا: إن المراد بها إخلاص العبادة لله عز وجل، وهو الأصل الذي من أجله أمر الله عز وجل بالحج إلى بيته، فتكون أول كلمة من الإنسان بالتلبية شعارها التوحيد والإخلاص لله سبحانه وتعالى بالعبادة، وإفرادها له جل شأنه، فقالوا: إنها مأخوذة من لب الشيء، وهو خالصه. وقيل: مأخوذة من (ألب بالمكان)، إذا أقام به، أي: أنا مقيم على طاعتك طاعة بعد طاعة، أي: أنه ثابت على طاعة الله مستديم عليها. وقيل: إنها من (ألب) بمعنى: واجه، وتجاه الشيء وجهته تقول: (داري تلب بدارك) أي: تواجهها، كأنه يقصد بقوله: (لبيك اللهم) أي: اتجاهي لك يا ألله في كل صغير وكبير، فلا يسأل إلا هو، ولا يستعان إلا به، ولا يستغاث إلا به، ولا يستجار إلا به، فكأنه يقول: (وجهت وجهي لك كلاً) كما قال تعالى: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:79] فهذه أوجه ذكرها العلماء في معنى: (لبيك اللهم) أي: لبيك يا ألله.

صفة التلبية

صفة التلبية للتلبية صفتان: الصفة الواردة المشروعة، والصفة الزائدة من المكلف ثناءً على الله عز وجل. أما بالنسبة للصفة المشروعة: فالتي ذكرها المصنف: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) هذه الصفة الواردة، وهناك حديثان في السنن، أولهما: (لبيك حقاً حقاً، تعبداً ورقاً) وهو حديث أنس، والثاني: (لبيك إله الحق) وهو حديث أبي هريرة، والصحيح الأول، وأما الصيغتان الأخريان ففيها كلام وفي سندهما مقال، وبعض العلماء يحسن إسناد: (لبيك حقاً حقاً، تعبداً ورقاً). أما بالنسبة للصفة الزائدة عن الوارد، كأن يقول: لبيك يا رحمن، لبيك يا عظيم، لبيك يا كريم. ونحو ذلك، فللعلماء قولان: قيل: لا يجوز أن يحدث غير الصفة الواردة، وقيل: يجوز، وهذا هو الصحيح؛ لأنه ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع الصحابة يقولون: لبيك ذا المعارج) فلم يأمرهم بالتزام اللفظ الوارد، ولذلك قال جمهور العلماء بجواز الزيادة وهو فعل السلف، ولذلك كان ابن عمر يقول: (لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل) والأفضل: أن يقتصر على الوارد؛ لأنه إذا اقتصر على الوارد أجر بأجرين: الأول: أجر التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، والثاني: أجر اللفظ الوارد.

حكم التلبية

حكم التلبية الصحيح وجوبها، وهو أصح قولي العلماء، ولذلك من نوى ولم يلبِ حتى فرغ من نسك العمرة أو الحج، يلزمه دم جبراناً لهذا الواجب وهي التلبية، قال صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية). والدليل على وجوب التلبية: قوله عليه الصلاة والسلام: (أتاني الليلة آتٍ من ربي وقال: أهل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة) قالوا: إن هذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لبيك عمرة وحجة). كما في حديث أنس في الصحيح، قالوا: فقوله: (أهل في هذا الوادي المبارك، وقل) الإهلال: هو النية، وقل: المراد به التلبية، فيكون أمراً وهو دال على الوجوب.

حكم رفع الصوت بالتلبية

حكم رفع الصوت بالتلبية السنة رفع الصوت بالتلبية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية)، وهذا ثابت في الصحيح، فدل على أن السنة في التلبية أن يرفع بها الصوت، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الحج: العج والثج) أما (العج): فهو رفع الصوت بالتلبية، وأما (الثج): فهو نحر الهدي ونحوها مما يتقرب به إلى الله عز وجل في الأنساك في الحج.

وقت قطع التلبية للحاج والمعتمر

وقت قطع التلبية للحاج والمعتمر أما المعتمر، فقال طائفة من العلماء: يقطع التلبية عند الحرار التي تبدو قبل مكة، وهي الحرار التي قبل التنعيم، وهو المأثور عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقال به جمع من فقهاء المدينة. والقول الثاني: أنه يقطع التلبية عند دخوله لحدود الحرم؛ لأنه يلبي إلى الحرم، فإذا بلغ الحرم فإنه يقطع التلبية. والقول الثالث: أنه يقطع التلبية عند ابتداء الطواف. وهو أصح الأقوال في العمرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: (أنه لم يزل يلبي حتى استلم الحجر)، فدل على أن التلبية تنقطع عند استلام الحجر، يعني: عند ابتداء الطواف. وأما الحاج فقال جمع من العلماء: يقطع التلبية إذا مضى إلى الوقوف بعرفة، وذلك بعد الزوال؛ لأنه يبتدئ الوقوف بعد الزوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل خارج عرفة وذلك بنمرة، وهو المنبسط الذي قبل الوادي الذي بين حدود الحرم وبين الوادي الذي هو وادي عرنة، هناك منبسط يقرب من خمسمائة متر يسمى بنمرة، نزل فيه عليه الصلاة والسلام، فابتدأ وقوفه ومضيه إلى عرفات بعد الزوال، وبعد أن زالت الشمس ركب صلوات الله وسلامه عليه وخطب الناس، قالوا: فيقطع التلبية بعد الزوال من يوم عرفة، وكان يفعله علي رضي الله عنه وعائشة رضي الله عنها، وأكدوا هذا بأن التلبية للحج، والحج عرفة، ويكون وقوف عرفة بعد الزوال فيقطع عند الزوال. القول الثاني: أنه يقطع عند ابتداء رمي جمرة العقبة، وهو مذهب الجمهور. والقول الثالث: أنه يقطع عند آخر حصاة يرمي بها جمرة العقبة، وهو رواية عن أحمد وقول إسحاق بن راهويه وجمع من أهل الحديث، وهو الصحيح؛ لحديث الفضل أنه قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يزل يلبي حتى رمى آخر حصاة من جمرة العقبة). وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وعلى آله.

باب محظورات الإحرام [1]

شرح زاد المستقنع - باب محظورات الإحرام [1] الحج شعيرة عظيمة، يخرج فيها العبد عن أهله ووطنه، ويخرج كذلك عن إلفه ورفاهيته، ولذلك حظر على المحرم عدة أمور ما تحصل بها الرفاهية؛ ليكون أبلغ في التعبد لله، منها: الأخذ من الشعر والأظافر، وتغطية الرأس، ولبس المخيط للذكر، واستخدام الطيب.

محظورات الإحرام

محظورات الإحرام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

معنى محظورات الإحرام وعددها

معنى محظورات الإحرام وعددها فيقول المصنف رحمه الله: [باب: محظورات الإحرام]: المحظورات: جمع محظور، يقال: حُظر الشيء إذا مُنع، والمراد بهذا الباب أن يبين رحمه الله جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بما ينبغي على المحرم أن يجتنبه. والسبب في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى حرم على المحرم إذا أحرم بالنسك من حج أو عمرة أو هما معاً أن يفعل أشياء في بدنه أو متعلقة بالغير، وهذه الأشياء جاءت بها نصوص الكتاب ونصوص السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع العلماء رحمهم الله على أكثرها، ولا يجوز للمسلم إذا أحرم بالنسك أن يتلبس بها، وتوصف بكونها محظورات؛ لأن الله حظرها على المحرم؛ تعظيماً لهذه الشعيرة، وإشغالاً لعبده بما هو أهم، ولذلك يكون له الأجر والمثوبة بالامتناع والانكفاف عن هذه الأمور التي حرمها الله عليه. أما مناسبة هذا الباب لما قبله: فبعد أن بيّن رحمه الله الإحرام شرع في بيان ما ينبغي على المحرم أن يجتنبه، وهذا ترتيب صحيح؛ لأن أول ما يفعله الحاج والمعتمر أن يحرم، فإذا أحرم تقول له: لا تفعل أو افعل، فإذا قلت له: لا تفعل، فهذه هي المحظورات، فيكون الكلام عن المحظورات بعد وقوع الإحرام وبيان أحكامه. قوله: [وهي تسع]. أي: المحظورات تسع، وهذا أسلوب إجمال قبل البيان والتفصيل، يهيئ السامع ويشوقه إلى معرفة هذه التفاصيل، بخلاف ما إذا بدأ بها سرداً. وهذه المحظورات التسع منها ما يتعلق ببدن الإنسان، ومنها ما يتعلق بغيره، ومنها ما يعين على تفرغ القلب لذكر الله عز وجل، ومنها ما شرع الله عز وجل للمحرم أن ينكف عنه ابتلاء واختباراً.

المحظور الأول: حلق الشعر

المحظور الأول: حلق الشعر قال رحمه الله: [حلق الشعر]: وهو المحظور الأول، والمراد بذلك جزّه، وجزّ الشعر يكون بالموس ويكون بالسكين وما في حكمهما من الآلات. أي: يحرم على المحرم أن يحلق شعره، والأصل في ذلك التحريم قوله سبحانه وتعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196]، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إني لبدت شعري وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر)، فلا يجوز لمن أحرم بالنسك أن يحلق شعره. وعمم رحمه الله في الشعر، فشمل شعر أعالي البدن كشعر الرأس وشعر اللحيين والشارب، وكذلك شعر الصدر وشعر اليدين، وأسافل البدن، فيشمل ما يكون حول الفرجين، وعلى الساقين، فكل ذلك حظر على المحرم أن يزيله. وتقع الإزالة بالحلق كما تقع بالنتف، وكذلك بالتقصير، فهذه ثلاثة أوجه للاعتداء على الشعر: إما بالحلق، وإما بالتقصير، وإما بالنتف، فالحلق والنتف كلاهما في حكم واحد، والتقصير دلت السنة على أنه في حكم الحلق، أي: من ناحية التأثير وإن كان دونه من ناحية الفضل، ولذلك يصح أن تتحلل من العمرة والحج بالتقصير كما تتحلل بالحلق، فأنت منهي عن قص الشعر كما أنك منهي عن حلق الشعر، وهما في مرتبة واحدة من حيث الحكم، وإن كان الحلق أفضل من التقصير. وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم أن يحلق كما لا يجوز له أن يقصر؛ لأن الله عز وجل نص على هذا التحريم في كتابه، وكذلك نتف الشعر، كنتف شعر الإبطين ونحو ذلك، فهذا بالإجماع يعتبر محرماً، خلافاً لمن شذ في مسألة النتف، فإن النتف فيه إزالة أبلغ من إزالة الحلق، وعلى هذا فلا يجوز له أن يحلق، ولا أن يقصر، ولا أن ينتف، سواء كان التقصير لأغلب الشعر أو كان لأقله، فلو أخذ قدراً يسيراً من الشعر وقصه فإنه كأخذ الشعرة نفسها، فالتقصير في حكم الحلق سواء بسواء. فحلق الشعر محظور من محظورات الإحرام، والعلماء رحمهم الله أجمعوا عليه، لكن بينهم خلاف في بعض التفاصيل، أما من حيث كونه محظوراً فهذا ليس فيه خلاف بين أهل العلم رحمهم الله. قال بعض العلماء: إن الله عز وجل ابتلى الحاج بأن يكون على شعث وعلى حالة وهيئة تخالف حال المترفّه، ولذلك يترك الشعر حتى يكون أبلغ في تقربه لله سبحانه وتعالى، وأبعد عن الترفّه الذي يشغله عن العبادة.

المحظور الثاني: تقليم الأظافر

المحظور الثاني: تقليم الأظافر قال رحمه الله: [وتقليم الأظافر]: أي: المحظور الثاني: تقليم الأظافر، والمراد بذلك قصها، وقص الأظافر من خصال الفطرة، كما ثبت بذلك الحديث في الصحيحين، ولكن الله عز وجل حرم على المحرم أن يقلم أظفاره؛ لأنه من التفث، وقد نهي المحرم عن تقليم الأظفار لما فيه من الترفه، والدليل على ذلك قوله سبحانه: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29]، قال بعض السلف: إن التفث المراد به إزالة الأظفار بقص وتقليم ونحو ذلك، وعلى هذا جماهير أهل العلم. [فمن حلق أو قلم ثلاثة فعليه دم]. إذا كان المسلم مأموراً باجتناب حلق الشعر وتقليم الأظفار، فمتى يكون الإخلال كاملاً في قصه للشعر أو حلقه له أو نتفه له، وكذلك في تقليمه للأظفار؟ قال جمع من العلماء: إن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} [البقرة:196]، قالوا: ولا يمكن أن يكون مخلاً إلا إذا أزال ثلاث شعرات فأكثر، وهي أقل ما يصدق عليه الجمع، فمن أزال شعرة واحدة فليس عليه فدية ولكن عليه أن يتصدق بحفنة من طعام، ومن أزال الشعرتين فإنه يتصدق بحفنتين من طعام حتى يبلغ قدر الإخلال بثلاث شعرات، وهذا مذهب طائفة من أهل العلم كما درج عليه المصنف رحمه الله؛ والسبب في ذلك: صيغة الجمع في آية البقرة.

المحظور الثالث: تغطية الرأس

المحظور الثالث: تغطية الرأس قال رحمه الله: [ومن غطى رأسه بملاصق فدى]. أي: هذا هو المحظور الثالث: وهو تغطية الرأس حال الإحرام بالحج أو العمرة، فلا يجوز للمسلم أن يغطي رأسه بملاصق؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله السائل كما في حديث ابن عمر في الصحيحين قال: (يا رسول الله! ما يلبس المحرم؟ قال: لا تلبسوا القمص ولا العمائم)، قالوا: فقال قال عليه الصلاة والسلام: (ولا العمائم) والعمائم جمع عمامة، سميت بذلك لأنها تعم الرأس بالتغطية، قالوا: فكأن مقصود الشرع أن لا يغطي المحرم رأسه، ومن هنا قالوا: من محظورات الإحرام أن يغطي المحرم رأسه بملاصق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص عليه فقال: (ولا العمائم) وهي التي تلاصق، وكذلك نص عليه في قوله: (ولا البرانس) لأن البرنس يكون غطاء ملتصقاً بنفس الثوب، قالوا: فهذا النص الصحيح يدل دلالة واضحة على أن المحرم لا يجوز له أن يغطي رأسه، بل يضحى حتى يكون أبلغ في تذلله لله سبحانه وتعالى، ويكون رأسه مكشوفاً. فلا يجوز للمحرم الذكر أن يغطي رأسه بالإجماع، وإذا غطى رأسه بغير الملاصق كأن يأتي تحت جدار، أو يأتي مثلاً تحت غطاء السيارة الذي من أعلى يستظل من الشمس، أو جاء تحت شجرة، فلا حرج في ذلك؛ لأنه ليس بملاصق، وهو وإن غطى الرأس من جهة كونه يحول بين الرأس وبين السماء لكنه ليس بملاصق مؤثر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نص على تحريم الملاصق، ومن هنا تجد العلماء رحمهم الله يقولون: بملاصق، أي: أن يغطي رأسه بملاصق، فخرج غير الملاصق، ولو حمل على رأسه شيئاً فللعلماء وجهان: قال بعض أهل العلم: لا يجعل ذلك الشيء يلتصق برأسه، فلو حمل متاعاً قالوا: عليه أن يبينه عن الرأس، ولا يجعله ملتصقاً بالرأس. ومن أهل العلم من فصل فقال: إن وضعه على الرأس بقصد حمله فإنه يجوز؛ لأن التغطية جاءت تبعاً، ويجوز في الشيء تبعاً ما لا يجوز قصداً كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وكما لو أراد الطبيب أن يقطع من جلدة يده وعليها شعر، فإنه إذا زالت الجلدة والشعر عليها فليس عليه فدية؛ لأنه لم يحلق ولم ينتف ولم يقص، وجاءت إزالة الشعر تبعاً ولم تأت أصلاً وقصداً، ففرقوا بين ما كان أصلاً وبين ما كان تبعاً، فقالوا: يجوز له أن يضع المتاع على رأسه، ولا فدية عليه. ولكن المذهب الذي ينظر إلى صورة الظاهر أبلغ وأقوى؛ وذلك لأنه يوافق معنى النص في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

المحظور الرابع: لبس المخيط للذكر

المحظور الرابع: لبس المخيط للذكر قوله رحمه الله: [وإن لبس ذكر مخيطاً فدى]. هذا هو رابع المحظورات: والمخيط: هو الذي يحيط بالعضو، سواء كان لأعلى البدن كالقميص، أو كان لأسفل البدن كالسراويل وأمثالها، أو كان جامعاً بين أعلى البدن وأسفله كالثياب الموجودة اليوم، فهذا كله من محظورات الإحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس)، فدل على عدم جواز ستر أعلى البدن أو أسفله أو كله بالمخيط، وعلى هذا قالوا: إنه يعتبر محظوراً، وهذا محل إجماع بين أهل العلم رحمهم الله. والمراد بالمخيط كما ذكرنا سابقاً أن يكون محيطاً بالعضو. فلو ستر بغير المخيط، كأن أخذ الرداء فوضعه على كتفيه أو على عاتقيه فإن هذا هو شأن المحرم، وكذلك أيضاً لو التحف ببطانية أو نحوها على كتفيه فلا بأس، ولا نقول: إنه ستر بدنه بمخيط؛ لأن البطانية ليست مفصلة على الجسد، بخلاف ما إذا لبس عباءة أو بشتاً أو نحو ذلك، فإنه إذا وضعه يعتبر في حكم اللابس، وللعلماء وجهان في البشت: قال بعضهم: لو وضعه على كتفيه ولم يدخل يديه فيه لم يكن لابساً ولا تلزمه الفدية، وإنما تلزمه الفدية إذا حصلت الإحاطة، وذلك بإدخاله اليدين في الأكمام، أما لو وضعه على عاتقيه لشدة برد فلا يلزمه شيء؛ لأنه ليس بلابس حقيقة، وإنما هو مستتر به من شدة البرد فأشبه البطانية أو اللحاف، وهذا قوي وله وجهه، ولكن الورع والأفضل أن لا يفعل الإنسان ذلك، وإن كان لا يصدق عليه من جهة النظر أنه لابس حقيقة إلا بالإدخال، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلبسوا) ففرق بين الأمرين، ولذلك لو أخذ العباءة ووضعها دون تفصيلها على كتفيه فإنه لا تلزمه الفدية. فالمخيط ضابطه: أن يكون مفصلاً للعضو، فلا يصدق عليه أنه لابس إلا إذا أدخل يده في الأكمام، لأن الرداء لا يوجب الفدية بالإجماع، ولا يعتبر محظوراً من محظورات الإحرام لعدم اشتماله على الإحاطة بالعضو.

المحظور الخامس: استخدام الطيب في الثوب أو البدن

المحظور الخامس: استخدام الطيب في الثوب أو البدن قوله: [وإن طيب بدنه أو ثوبه]. هذا هو المحظور الخامس وهو: الطيب. والطيب حرمه الله على المحرم بالحج أو العمرة أو بهما معاً، والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين من حديث ابن عمر: (ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس)، فهذا الطيب في الثياب. وكذلك أيضاً حرم الطيب في البدن فقال في المحرم الذي وقصته دابته: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه) وفي رواية: (ولا تمسوه بطيب)، فهذا طيب البدن. قال العلماء: لا يجوز للمحرم أن يضع الطيب في بدنه بعد إحرامه، لكن لو كان الطيب في بدنه قبل أن يحرم فلا بأس به، ولا يلزمه ما يلزم من تطيب بعد الإحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُرى أثر الطيب في رأسه وهو محرم، قالت أم المؤمنين رضي الله عنها: (لقد كنت أرى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم)، فدل على أنه إذا كان الطيب قد وضعه الإنسان قبل أن يغتسل لإحرامه، أو بعد أن يغتسل للإحرام وقبل أن يلبي ويدخل في النسك فلا حرج عليه، ولا تلزمه الفدية، ويبقى الطيب. وهناك فرق بين استدامة الشيء وبين ابتداء وضعه، حيث تلزم الفدية في ابتداء الوضع ولا تلزم في الاستدامة، فلا يجوز له أن يتطيب في بدنه بعد أن يدخل في النسك ولا أن يتطيب في ثوبه، ولذلك ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتمر من الجعرانة بعد مرجعه من غزوه حنين، قال صفوان رضي الله عنه: (فجاءه أعرابي عليه جبة عليها الصفرة من أثر الطيب فقال: ما ترى يا رسول الله! في رجل أحرم بالعمرة وعليه ما ترى؟ فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يغط كغطيط البكر، ثم سري عنه، فقال: أين السائل؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: انزع عنك جبتك -هذا لبس المخيط- واغسل عنك أثر الطيب، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك)، فقال: (اغسل عنك أثر الطيب)، فدل على أنه لا يجوز للمحرم أن يضع الطيب في ثوبه ولا بدنه، وهذا محل إجماع بين أهل العلم رحمهم الله. [وإن طيب بدنه أو ثوبه]. يستوي أن يكون الطيب في البدن أو يكون في الثوب، ولكن لو أن إنساناً قبل الإحرام طيب بدنه وكان الطيب في إبطيه ثم اضطبع للطواف بالبيت، فصار طرف الرداء تحت إبطه، فربما أصابه الطيب، فإذا أصابه الطيب فحينئذٍ هذا الرداء إذا بقي عليه فإنه يستدام ويغتفر، لكن لو أنه نزعه لوضوء أو غسل ثم أراد أن يلبسه ثانية فلا بد أن يغسل عنه أثر الطيب في ثوبه. ففرق بين أن يكون مستديماً متصلاً بالبدن وبين كونه يرد على البدن بعد الإزالة؛ لأن الحكم يستأنف بعد إزالة الرداء، فيكون كأنه لبس الرداء مطيباً، وعلى هذا فلا يجوز له أن يلبسه بعد أن يخلعه، لكن أن يكون معه وعلى بدنه وفيه أثر الطيب، فهذا لا حرج فيه. أما لو أنه طيب لباس الإحرام قبل أن يلبسه فإنه لا يجوز له أن يلبسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس) قالوا: فنص على الزعفران والورس؛ لأنه كان موجوداً في زمانه، وهو دليل على أنه لا يجوز أن يضع المحرم الطيب في إحرامه قبل أن يحرم، لكن أن يعلق الطيب من بدنه في الإحرام فهذا من مغتفر، لأنه اتصل بالمغتفر، وما اتصل بالمغفرة كان آخذاً حكمه، فإن الثوب إذا اتصل بالبدن وما في البدن مغتفر كان آخذاً حكم البدن، وعلى هذا فيفرق بين أن يطيب ثوب الإحرام قبل أن يلبسه أو يطيبه بعد لبسه، وبين كون الطيب موجوداً في بدنه قد علقت رائحته بالإحرام، فهذا كله لا يؤثر. والطيب يكون في البدن، ويكون في الثوب، ويكون بالشم، ويكون بالادهان، وهناك حالة خامسة وهي: أن يأكل الطيب أو يشربه، فالأشربة التي فيها طيب كماء الورد وماء الكاذي ونحوها، أو المشروبات الساخنة التي يكون فيها الزعفران، أو الأكل الذي فيه الزعفران أو فيه الريحان، فهل هذا آخذ حكم التطيب في البدن؟ هذا كله مما يبحث في مسائل الطيب، فبين رحمه الله طيب البدن والثوب، ثم شرع بعد ذلك في حكم الصورة الثالثة من التطيب وهي الادهان به.

حكم استخدام الدهان للمحرم

حكم استخدام الدهان للمحرم قال رحمه الله: [أو ادهن بمطيب]. كأن يوجد معجون -كالموجود في زماننا- فيه طيب فادهن به، وفي حكم الادهان أن يغتسل بالطيب، كالصابون الذي يكون مطيباً، فإن الادهان والاغتسال كله إصابة لظاهر البدن، فالجميع لا يجوز، فلو كان هناك دهان شعر أو دهان بدن يحتاجه حتى ولو كان لمرض، وهذا الدهان الذي للمرض فيه رائحة طيب فلا يجوز، ويستوي في الادهان أن يكون الطيب قصداً، كأن تأخذ الورد وتدهن به، أو يكون مركباً مع شيء آخر، فإنه ككونه منفرداً، ويستوي الحكم في ذلك ما دام أن الرائحة موجودة والطيب موجود، وهو آخذ حكم التطيب كما ذكرنا. ويستوي أن يكون الطيب منفرداً كأن يأخذ الورد أو العود ويدهن به، أو يكون مخلوطاً بغيره كالصابون المطيب برائحة ذكية يقصد منها أن يكون له أثر، فهذا لا يجوز أن يغتسل به، ولو وجد في الدواء -كالأدهنة التي يتعالج بها- ما فيه رائحة طيبة فإنه يرجع للأطباء ويسألون، فيقال لهم: هذه الرائحة الطيبة هل هي نكهة مضافة للدواء؟ لأن الأعشاب أو المستخلصات الطبية تكون رائحتها نتنة، فيحتاج لإزالة هذه الرائحة بوضع طيب، فحينئذٍ تجب الفدية، فيجوز له لمكان المرض أن يستخدم هذا الدهان، وتكون الفدية لازمة له، فوجود الأذى ووجود الضرر لا يمنع من الفدية، ولذلك قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]، وكما لو حلق رأسه لضرر القمل كما في حديث كعب رضي الله عنه، وبسببه نزلت آية الفدية. الشاهد: أنه إذا كان الدهان دهان علاج وطب وسألنا الأطباء فقالوا: هذا الطيب موضوع في الدهان لتطييب رائحته، لزمت الفدية بلا إشكال؛ لأن الطيب موجود وأثره موجود، لكن لو كانت هذه الرائحة الذكية في نفس الدواء والدهن، فجاءت من خلط الأعشاب ببعضها وليست الأعشاب بذاتها، ولكن طبيعة خلطها أخرج هذه الرائحة، فليس هذا من جنس الطيب، ولا يأخذ حكم الطيب؛ لأنها لم تأت قصداً وليست بطيب حقيقة وإنما حصلت اتفاقاً، وعلى هذا فإنه لا يلزم في هذا النوع من الدهن الفدية، ويجوز له أن يضعه لعلاج أو نحو ذلك ولا فدية عليه. كذلك أيضاً: إذا كان الصابون الذي يغتسل به فيه طيب ورائحة فإنه حينئذٍ يتقيه ولا يغتسل به؛ لأن الله عز وجل حرم على المحرم أن يصيب الطيب، واستوى في ذلك أن يكون على سبيل الاغتسال أو يكون على سبيل الوضع مباشرة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ولا تمسوه بطيب) وأجمع العلماء رحمهم الله على عدم جواز أن يصيب المحرم الطيب ويدهن به. وفي حكم الادهان وضع اليد على موضع فيه طيب، كما لو وضع على الحجر الطيب، أو وضع على الركن اليماني الطيب ورأيته فإنك لا تلمسه؛ لأن اللمس سنة وإصابة لفضيلة، واجتناب الطيب وعدم مس البدن له واجب على المكلف أن يفعله بتعاطي الأسباب، فقدم ما يلزم المكلف على ما هو فضيلة ومستحب، وعلى هذا قالوا: لو رأى على الحجر أثر الطيب فإنه لا يلمسه ولا يقبله، وإنما يترك غيره من الحل يلمسه، فإذا لمسه وبقي أثر الطيب الذي هو الرائحة فذلك لا يضر، وإنما الذي يضر جلب الطيب ومادته.

حكم شم الطيب واستخدام الدهان المطيب للمحرم

حكم شم الطيب واستخدام الدهان المطيب للمحرم قال رحمه الله: [أو شم طيباً]: شم الطيب لا يجوز للمحرم؛ لأن الشرع لما نص على النهي عن مس الطيب، فهمنا من ذلك أن مقصود الشرع أن المحرم لا يترفه بالطيب، وهذا من باب التنبيه بالشيء على ما هو آخذ حكمه، فإن شم الطيب يترفه به الإنسان كما يترفه بوضعه، ألا ترى أن الشخص لو وضع الطيب في بدنه إنما قصد من ذلك أن يشمه ويشمه الغير، فاستوى في ذلك أن يكون موضوعاً أو يقصده بالشم. أما لو وقع شمه للطيب بدون قصد، كما لو طيب المطاف ووجدت فيه رائحة الند والعود فشممت هذه الرائحة من غير قصد، فإن هذا لا يؤثر، وكما لو مر بجوارك متضمخ بعود أو ورد أو طيب فشممته وأنت محرم فإن هذا لا يضر؛ لأنه حصل اتفاقاً ولم يحصل قصداً، ويجوز الشيء اتفاقاً ولا يجوز قصداً، وعلى هذا فإنه يعتبر شمه للطيب من محظورات الإحرام ولا يجوز له، سواء كان الشم بوضعه على البدن أو بوضعه على شيء والدنو منه، أو الدنو من الزرع والرياحين ونحو ذلك، كل ذلك مما حظر على المحرم أن يفعله. قال: [أو تبخر بعود أو نحوه فدى]. قوله: (أو تبخر بعود)، أي: استجمر بالعود، (أو نحوه) أي: من الأعشاب التي لها رائحة طيبة، فإنه حينئذٍ يلزمه أن يفتدي، وقوله: (فدى) عائد للجميع، يعني: جميع هذه الإخلالات بالطيب في البدن والطيب في الثوب، وهكذا شم الطيب والادهان به توجب الفدية. فلو ادهن بشيء لا طيب فيه كزيت الزيتون أو ادهن بدهان شعر، فهل يجوز له ذلك؟ جمهور العلماء: على أن الادهان لا يجوز للمحرم. وقال فقهاء الحنابلة رحمهم الله: يجوز للمحرم أن يدهن إذا لم يكن في الدهان طيب. واستدل الذين قالوا بالمنع بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: (من الحاج؟ قال: الحاج التفث) قالوا: إن نصه عليه الصلاة والسلام على التفث، والمراد بذلك أن لا يدهن؛ لأن الإنسان إذا بقي على حالته كان أبلغ في تذلله لله سبحانه وتعالى في عبادته، وكأن مقصود الشرع أن يخرج الإنسان عن إلفه من الترفه، خاصة إذا كان غنياً أو ذا ثراء ونعمة، فيحس بنعمة الله عز وجل عليه، ويحس بفضل الله سبحانه وتعالى عليه. فإذا أصبح يدهن ويتجمل كغيره فقد فات مقصود الشرع، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل مكة: (مالي أراكم تأتون مدهنين ويأتي الناس شعثاً غبراً، أهلوا لهلال ذي الحجة). والمراد بهذه الكلمة: أن عمر رضي الله عنه نظر إلى الناس يوم التروية فرأى أن الآفاقيين يذهبون إلى منى وعرفات وهم شعث غبر، ولكن أهل مكة لحدثهم بالإحرام يأتون مدهنين فقال: أهلوا لذي الحجة. قالوا: فدل على أن الصحابة فهموا أن مقصود الشرع أن يبقى الحاج على تفث وتفل في صورته حتى يكون أبلغ في تذلله لله سبحانه وتعالى. والذي يظهر من جهة النص: أنه يجوز له أن يدهن، وليس هناك نص يمنع؛ لأن الحديث متكلم في إسناده، وضعفه غير واحد من الأئمة رحمهم الله وقالوا: إن هذا الحديث لا يثبت مرفوعاً، والأشبه أن يكون موقوفاً على عبد الله بن عمر رضي الله عنه وعن أبيه، وعلى هذا فإنه يجوز أن يدهن، ولكن الأفضل والأكمل أن يترك ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدهن.

المحظور السادس: قتل الصيد للمحرم

المحظور السادس: قتل الصيد للمحرم قال رحمه الله: [وإن قتل صيداً مأكولاً برياً أصلاً]. أي: هذا هو المحظور السادس وهو قتل الصيد، وهذا المحظور أجمع العلماء رحمهم الله عليه؛ لأن الله نص عليه في كتابه، وكذلك بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95]، وقال سبحانه وتعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96] فنص سبحانه على أن المحرم لا يصيد. والصيد ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون صيد بر، وإما أن يكون صيد بحر، وأصل الصيد الحيوان المتوحش، ولذلك كان الحيوان في الأصل ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون مستأنساً، وإما أن يكون متوحشاً، فالحيوان المستأنس كالإبل والبقر والغنم، ومن الطيور كالدجاج والحمام إذا كان في منزل الإنسان، فهذه توصف بكونها مستأنسة؛ لأنها تأنس بالإنسان، وتألفه ويألفها، ولا تفر منه إذا جاءها، فهذا النوع من الحيوان يأمرك الشرع إذا جئت لتأكله أن تذكيه الذكاة الشرعية، إما بالذبح وإما بالنحر، أما الذبح فكالشاة والغنم، وأما النحر فكالإبل تطعنها في وهدتها وتنحرها، وما يكون جامعاً للأمرين فكالبقر يصلح فيه الذبح ويصلح فيه النحر، على خلاف بين أهل العلم رحمة الله عليهم، فهذا يسمى بالمستأنس، وذكاته ذكاة المستأنس. هناك نوع ثانٍ: وهو المتوحش، ولا يمكن لك أن تصيبه إلا باحتيال أو مغافصة ومغالبة وقهر، كأن تغلبه حتى تمسك به، أو تجري وراءه فتمسكه، أو تطلق عليه السلاح فتعقره أو تقتله، فهذا يسمى بالصيد، وهو الحيوان الذي لا يأنس للإنسان ويفر عنه. ويشمل الصيد الظباء والوعول والغزلان وبقر الوحش وحمار الوحش وتيس الجبل ونحوها مما خلق الله من الدواب التي يصيدها الإنسان ويحل له أكلها، وهذه من قسم المتوحش، وهو الصيد الذي أحله الله. وكما ذكرنا في المستأنس أن فيه من الطير كالحمام والدجاج ونحوها من الطيور، ويكون أيضاً من الدواب كالإبل والبقر والغنم، فكذلك المتوحش في الصيد يكون من الدواب على وجه الأرض، كالظباء والوعول والغزلان والريم ونحوها، ويكون من الطيور فيشمل الحباري ويشمل الطيور التي ليست بيد الإنسان فهذه كلها توصف بكونها متوحشة وصيداً، لكن بشرط أن لا تكون من الطيور من الجوارح ذوات المخلب، فلا يجوز أكل الصقر ولا الباز ولا الشاهين ولا الباشق ولا النسر ولا العقاب ونحوها، فانقسمت الحيوانات إلى هذين القسمين: الصيد ويكون للمتوحش، وغير الصيد الذي يكون من المستأنسات. وهناك نوع ثالث ليس من هذا ولا هذا، وهو الذي حرم الله من السباع العادية ذات الناب، كالأسد والنمر ونحوه، وذي المخلب من الطير كما ذكرنا في البواشق والنسور والصقور، فهذه كلها لا يجوز أكلها كما سيأتينا إن شاء الله في باب الذبائح. فانقسمت الحيوانات إلى هذين القسمين، والله عز وجل حرم على المكلف إذا كان مُحْرِماً أن يصيد المتوحش منها، فلا يجوز له أن يصيده سواء كان برياً أو كان من الطيور؛ لأنه لا يجوز له إذا كان محرماً أن يصيده ولا أن يصاد له، ومحل التحريم إذا كان برياً، والعلماء يصفون ما كان برياً مما ذكرنا من الريم والغزلان والظباء والوعول، ويصفون الطيور أيضاً بأنها برية وأنها صيد بر؛ لأنها تأوي في الليل إلى أكنانها، ولا تستطيع أن تنفك عن الإيواء إلى أكنانها، فتأخذ حكم صيد البر. هناك نوع ثانٍ: وهو صيد البحر، والمراد بذلك السمك والحوت، وهناك خلاف في غير السمك والحوت هل يدخل في صيد البحر، فيحل لنا جميع ما في البحر إلا ما كان ساماً أو عرف أنه يضر بالإنسان، أم أن الحكم خاص فقط بالسمك والحوت؟ أصح المذاهب في هذه المسألة مذهب الجمهور: أن الله أحل لنا ما في البحر، فيشمل جميع ما في البحر، إلا إذا كان ضاراً أو مستخبثاً، فهذا النوع من الصيد وهو صيد البحر حلال بإجماع العلماء لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة:96] ثم قال بعد ذلك: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} [المائدة:96] عطفاً على صيد البحر، فدل على أن صيد البحر في الأصل حلال، سواء كنت محرماً أو غير محرم، فالمحرم يجوز له أن يصيد صيد البحر، ولكن لا يجوز له أن يصيد صيد البر. إذا عرفنا هذه المقدمة، وأن الحيوان منه ما هو بري ومنه ما هو بحري، فيبقى السؤال عما جمع بين البر والبحر، وهو الذي يسمى بالبرمائي، هل يحرم على المحرم أن يصيده، أو لا يحرم؟ والبرمائي ينقسم إلى قسمين: منه ما لا يمكن له العيش والتكاثر والتوالد غالباً إلا في الماء كالضفادع ونحوها، فهذا يأخذ حكم ما في الماء، ويكون صيده صيد بحر، ومنها ما يكون تكاثره وغالب وجدانه في البر كالسلحفاة ونحوها فتأخذ حكم ما في البر، ويكون الحكم في حلها وحرمتها راجعاً إلى هذا التفصيل. إذا تبين هذا فصيد البحر جائز بالإجماع؛ لنص الآية، أما صيد البر فلا يجوز لك إذا أحرمت أن تصيده، ولا أن تعين على صيده كأن تقول لرجل: انظر إلى هذه الحمامة أو هذا الطائر، أو أدرك الحمامة، أو صد الحمامة، ولا يجوز أن تشير إلى مكان الصيد، كأرنب ونحو ذلك، فتقول له: هو في هذا الموضع، بل يجب عليك أن تسكت حتى ولو رأيته أمامك. ولا يجوز أن يصاد من أجلك؛ فلو صاد إنسان صيد بر وقصدك به وأنت محرم فلا يحل لك، ولا يحل أيضاً هذا الصيد الذي صيد للمحرم، وتكون تذكيته لاغية فيعتبر كالميتة، لا يجوز أكله ولا بيعه، فإذا صاد المحرم أو أعان على الصيد أو صيد من أجله فإن هذا الصيد يعتبر في حكم الميتة، لا يجوز أكله لا للمحرم ولا للحلال، فلو قلنا: إن المحرم لا يجوز له، كذلك أيضاً غيره؛ لأنه في هذه الحالة ينتقل إلى حكم الميتة على تفصيل عند أهل العلم رحمهم الله سيأتينا بيانه إن شاء الله في باب الأطعمة. كذلك أيضاً: لا يصاد للمحرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (أهدى له الصعب بن جثامة رضي الله عنه وأرضاه حمار وحش فرده عليه -لم يقبل الهدية، وقد كان بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه لا يرد الهدية- فلما ردها على الصعب تغيّر وجه الصعب رضي الله عنه وأرضاه، فقال عليه الصلاة والسلام يطيب خاطره: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) أي: لكوننا حرماً وأنت صدته من أجلنا فإن هذا اقتضى عدم حله لنا، فإذا قيل: ما الدليل على التفصيل بين كونه يصاد له، أو لا يصاد له؟ A أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدية الصيد مرة وهو محرم، ولم يقبله مرة وهو محرم، فقبله في قضية أبي قتادة وهي ثابتة في الصحيحين، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد عمرة الحديبية خرج من المدينة، فبلغه أنه ربما جاءت بعض الأرسال والبعوث من المشركين تريد أن تؤذيه وهو محرم بالعمرة، فأرسل سرية لـ أبي قتادة وقال: (خذوا ساحل البحر)، فأرسلها من الجهة الغربية للمدينة على جهة الساحل، فأحرموا كلهم إلا أبا قتادة لم يحرم، وهذا يدل على أن من جاء من المدينة وقصد جهة رابغ أو جهة ينبع، أنه لا يلزمه الإحرام من ذي الحليفة؛ لأن أبا قتادة أخر إحرامه. فأخذوا ساحل البحر، وقال: كونوا على ساحل البحر حتى نلتقي، وإذا حدث من العدو شيء يكون النبي صلى الله عليه وسلم على علم به، فلما أخذوا ساحل البحر كانوا كلهم محرمين إلا أبا قتادة فإنه لم يحرم، فسنح لهم حمار الوحش فجلس أصحابه ينظر بعضهم إلى بعض، ولم يخبره أحد بأن هناك صيداً، فالتفت أبو قتادة فإذا هو بحمار الوحش، فركب فرسه فسقط سهمه، فسألهم أن يناولوه فلم يعنه أحد ولم يناوله، فنزل عن فرسه وأخذه ثم عقر منها وصاد رضي الله عنه وأرضاه، فلما صاد هذا الصيد أكلوا، فلما أكلوا قالوا: أنأكل ونحن محرمون؟ فاشتبهوا، فتوقفوا عن الأكل حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (هل أحد منكم أشار إليه؟ قالوا: لا، قال: هل أحد منكم أعانه؟ قالوا: لا، قال: هل بقي عندكم منه شيء؟ فأعطي عليه الصلاة والسلام من فضلته وقال: كلوا)، وأذن لهم أن يأكلوا. فدل على أنه لا يعان الحلال من المحرم على الصيد، لا بإشارة، ولا بسلاح ونحوه، وأن المحرم يبقى ساكتاً مهما رأى، ولا يشير إليه بإشارة فعلية ولا ينبهه بالقول، فإذا نبهه بالقول حرم عليه الصيد، وإذا صاد المحرم فيحرم عليه أن يأكل الصيد أو ينتفع بما في الصيد، فلا يجوز له أن يأكل بيض الصيد؛ لأن هذا الصيد حرام عليه، والفرع تابع لأصله، ولا يجوز له أن ينتفع بفرعه إذا كان قد صاده هو، وإنما يرسل هذا الصيد حتى يأخذه على وجه شرعي معتبر، وحينئذٍ يحل الانتفاع به. قوله: (برياً أصلاً) أي: يكون الصيد برياً أصلاً، فخرج البرمائي، فإن البرمائي ليس ببري أصلاً، ولو كان أكثر عيشه في البر فإنه لا يوصف بكونه برياً أصلاً. وعلى هذا: خرج صيد البحر؛ لأنه ليس ببري أصلاً، وخرج ما جمع بين وصف البري والبحري معاً.

حكم قتل الحيوان المتولد من مأذون وغير مأذون

حكم قتل الحيوان المتولد من مأذون وغير مأذون قال رحمه الله: [ولو تولد منه ومن غيره]: هذه مسألة ما إذا تولد الحيوان من مأذون وغير مأذون، فهل نغلب جانب التحريم فنمنع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غلب جانب التحريم وقال: (إذا نهيتكم فانتهوا)، وقال عليه الصلاة والسلام: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)، والأصل أن هذا الحيوان يعتبر حراماً من جهة تذكيته وإعمال الذكاة به، حتى تتحقق أنه من جنس ما أحل الله أكله، هذا قول. القول الثاني: إذا تولد من الحرام والحلال حل أكله؛ لأن الأصل أن الله سخر لنا ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، فلما لم نتحقق من الخروج عن هذا الأصل فيحل لنا أكله. القول الثالث: ننظر إلى أم الحيوان، إن كانت أمه من الحلال فحلال، وإن كانت أمه من الحرام فحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)، فالشاهد أنه لا بد وأن يكون برياً أصلاً؛ لأن هذا أصل عند الحنابلة سنتكلم عليه إن شاء الله في باب الأطعمة. قال: [أو تلف في يده فعليه جزاؤه]. سنتكلم إن شاء الله على جزاء الصيد، إذا قتله المحرم، وما هي الفدية وجزاء الصيد الذي أوجب الله على من قتل الصيد سواء كان متعمداً، أو كان مخطئاً، أو كان ناسياً؟ وهل هذه الفدية تخييرية، أو ترتيبية؟ كل هذا سنتكلم عليه في باب الجزاء إن شاء الله.

حكم قتل الحيوان المستأنس إذا بقي على حاله وإذا شرد

حكم قتل الحيوان المستأنس إذا بقي على حاله وإذا شرد قوله رحمه الله: [ولا يحرم حيوان إنسي]. أي: كبقر وغنم، وقد تقدم إن الحيوان ينقسم إلى قسمين: إما متوحش فصيد، وإما مستأنس فحلال، لكن المستأنس من الإبل والبقر والغنم قد يخرج عن كونه مستأنساً إلى كونه متوحشاً، كما لو ندَّ البعير وكما لو شردت الشاة؛ فهو وإن كان مستأنساً في الأصل لكنه قد صار متوحشاً في الصورة، فهل هذا المستأنس إذا خرج إلى صورة المتوحش يعامل معاملة الصيد، أو لا؟ للعلماء قولان: القول الأول للجمهور: أن الحيوانات المستأنسة كالإبل والبقر والغنم والدجاج والحمام، لو فرّت وندت عن الإنسان عاملها معاملة الصيد، وإذا ضربها في أي مكان وقتلها فهي حلال، هذا مذهب جمهور العلماء، واستدلوا بحديث رافع رضي الله عنه وهو ثابت في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فندّ بعير -أي: شرد- فرمى رجل بسهم فعقره، فقال صلى الله عليه وسلم: إن لهذه الحيوانات أوابد كأوابد الوحش، فما ندّ منها فاصنعوا به هكذا)، فجعل المستأنس معاملاً معاملة الصيد والمتوحش بالنفور، قالوا: فإذا نفرت الشاة أو الدجاجة أو الأرنب أو البعير جاز لك أن تعامله معاملة الصيد، وعلى هذا: فلو إن إنساناً كانت عنده شاة ثم فرت فحينئذٍ لا يجوز له أن يعقرها؛ لأنه إذا عقرها كان صائداً لها. وقال فقهاء المالكية: المستأنس إذا توحش يبقى مستأنساً ويعامل معاملة المستأنس، وعلى هذا القول يجوز أن يعقر هذه الشاة وأن يحبسها. والقول الأول: أن المستأنس إذا ندّ وتوحش كان له حكم الصيد هو الصحيح؛ لأن المتوحش إذا أمسك به وقدر عليه الممسك صار في حكم المستأنس، ألا ترى أنك لو أمسكت بحمار وحش أو بقر وحش لم يجز أن تعقره وإنما تذكيه الذكاة الشرعية، فدل على أنه ينتقل من صفة المتوحش إلى صفة المستأنس باختلاف الصورة، وعلى هذا فإن الحيوان إذا ندّ وفر وهو مستأنس عومل معاملة المتوحش، فلا يحل للمحرم أن يعقره ولا أن يصيده.

حكم صيد البحر ومحرم الأكل

حكم صيد البحر ومحرم الأكل قال رحمه الله: [ولا صيد البحر]. أي: ويحل له صيد البحر، فإنه ليس بحرام بنص الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة:96] فدل على أن التحريم يختص بالبر دون البحر، وهذا بالإجماع. قال: [ولا قتل محرم الأكل]: ولا يحرم على المحرم أن يقتل محرم الأكل، كالسباع العادية، فلو قتل أسداً أو نمراً فإنه لا يضر؛ لأن هذا ليس بصيد ولم يسمه الشرع صيداً؛ لأن الأسد والنمر ليس من جنس الحيوانات التي أباح الشرع أكلها، فلو أن إنساناً سألك وقال: كنت محرماً فلقيت أسداً وقتلته، هل يلزمني شيء؟ تقول: هذا ليس بصيد، ولا يلزمك جزاء الصيد، سواء عدا عليه الأسد أو لم يعدُ، وكذلك بالنسبة كذلك للفواسق، لو قتل حيةً أو عقرباً أو غراباً أو فأرة فهذا كله ليست فيه فدية، وليس فيه جزاء الصيد، وليس عليه شيء لقتله.

حكم قتل الصائل للمحرم

حكم قتل الصائل للمحرم قوله: [ولا الصائل]. لو قتل صائلاً صال عليه، وهو الذي يهجم على الإنسان يريد أن يؤذيه في نفسه. وهذا الصائل له حكم خاص في الشرع، قال: (يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: يا رسول الله! أرأيت إن قتلني؟ قال: أنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار)، فالصائل الذي يصول على النفس أو يصول على العرض أو يصول على المال، فيأتي مشهراً سلاحه، سواء في بر أو غيره، هذا الصائل في الأصل فيه تفصيل: فإن أمكنك أن تفر عنه وتبتعد عنه، فلا يجوز لك قتله؛ لأن نفس المسلم محرمة، والأصل أنه محرم الدم، فلا يجوز لك أن تستبيحه إلا عند الحاجة، فإذا كان يمكن تلافي ضرره بالفرار فيجوز لك أن تفر، بل يجب عليك أن تفر، ولا يجوز لك قتله، فإن قتلته مع القدرة على الفرار كان الحكم كحكم قتل العمد في قول طائفة من العلماء؛ لأنه لا يرخص لك بقتله، وقال بعض العلماء: يسقط القصاص ويكون حكمه حكم شبه العمد وتغلظ الدية، على تفصيل يأتي -إن شاء الله- في باب القصاص. الحالة الثانية: أن يأتي وهو يريد العرض، فيمكنك الفرار أو يمكنك دفعه، يأتي -مثلاً- شاهراً سلاحه، فيمكنك أن تضربه في يده فتسقط السلاح من يده، أو تعقره بضربة لا يستطيع أن يقتلك بها، فحينئذٍ لا يجوز لك أن تعدل إلى قتله مع القدرة على عقره. فالحالة الأولى: أن يمكنك الفرار عنه، أو تضع شيئاً بينك وبينه لتأمن ضرره، فحينئذٍ لا يجوز لك قتله، أو تستطيع أن تصارعه أو تدافعه فتأمن ضرره، فتصارعه وتدافعه ولا تقتله؛ لكن إذا تعين ولم تستطع أن تدفع ضرره إلا بالقتل فحينئذٍ يحلّ لك قتله ودمه هدر؛ وذلك لأنه اعتدى، وباعتدائه على المسلم سقطت حرمة نفسه فإذا لم يمكنك دفع ضرره إلا بالقتل فإنه يقتل ويكون مهدر الدم، هذا إذا اعتدى على النفس. وكذلك إذا اعتدى على العرض، كأن يكون اعترض الإنسان في طريقه، فإن أمكنه أن يدفع ضرره فبها ونعمت، ولا يجوز له أن يقتله في هذه الحالة، لكن إذا كان معه من السلاح أو الضرر ما لا تستطيع معه دفعه ولا تستطيع معه الفرار، وغلب على ظنك أنه سيصل إلى الحرام، وأنه لا سبيل إلى كف ضره إلا بقتله حلّ لك قتله في هذه الحالة، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم أخذ الظفر إذا كان مؤذيا للمحرم

حكم أخذ الظفر إذا كان مؤذياً للمحرم Q من انكسر ظفره وتأذى من ذلك، فهل له أن يقلمه؟ A فرق جمع من أهل العلم رحمهم الله في الشعر والظفر بين أن يكون الأذى في نفس الشعر وفي نفس الظفر، فرخصوا في القلع والقص والحلق والإزالة، وبين أن يكون الضرر في شيء في الشعر كالقمل ونحوه، فتلزم الفدية إذا أزال الشعر، وتوضيح ذلك: أنه إذا كان ظفره منكسراً وكان يجرح، وكلما مشى آذاه وأضره، فالأذى والضرر في نفس الظفر، فيرخص له لمكان الضرورة، ولا فدية عليه إذا قصه، وهكذا لو تدلى شعره على عينه فأصبح يؤذيه في بصره أو يؤذيه في نظره أو نحو ذلك، جاز له أن يقص منه على قدر الحاجة ولا فدية عليه؛ لأن الضرر تعلق بنفس الشعر وبنفس الظفر. وأما إذا تعلق بشيء في الشعر كالقمل في داخل الشعر، فإن إزالة الشعر جاءت تبعاً ولم تأت أصلاً، وعلى هذا قالوا: تلزم الفدية إذا كان الشعر تابعاً لضرر وليس الضرر في نفس الشعر، وأما إذا كان الضرر من نفس الشعر والأذى من نفس الشعر فإنه يرخص له أن يزيله ولا فدية عليه. والله تعالى أعلم.

حكم وضع الأزرار على رداء الإحرام

حكم وضع الأزرار على رداء الإحرام Q ما حكم وضع الأزرار والمشابك على الرداء؟ وهل تأخذ حكم المخيط؟ A لا يجوز لبس الإحرامات التي لها أزارير، وينبغي تنبيه الحجاج والمعتمرين على ذلك؛ وذلك لأن الإحرام ينبغي أن يكون على الصفة الشرعية التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أن لا يكون مفصلاً، ولذلك قالوا: لو أنه جعل على الفوط كالأحزمة، فوضع فيها الحزام المطاط في داخلها كالفوط الموجودة الآن، فصارت أزرة لأسفل البدن، انتقلت عن كونها غير مخيط إلى كونها في حكم المخيط، وحينئذٍ لا يجوز له لبسها، وكذلك إذا كان مفصلاً بالأزارير الموجودة الآن لأعلى البدن وأسفله، فلا إشكال أنها آخذة حكم المخيط كالقميص والسراويل وغيرها، ولو لبس الثوب، فإنك إذا رأيت الثوب في أصله ولو كان قصير الكم فإنك تجد أنه يستر البدن تفصيلاً، فإذا كان الثوب أو الملبوس يفصل على البدن ويخاط أو يشبك على البدن ففيه الفدية، وعلى هذا فإنه ينبغي التنبيه على هذا النوع الذي ابتلي به بعض الناس في هذا الزمان من وجود التفصيل فيه والأزرار، فهذا يوجب الفدية على من لبسه. وأما بالنسبة لوضع المشابك فهو في حكم الأزارير في قول جمع من العلماء رحمة الله عليهم، ولذلك كان السلف رحمهم الله ينهون عن وضع الشوك، ففي القديم كانوا يضعون شوك النخل، إذ كانوا ربما يحتاجونه فيضعونه في الإزار، فنبهوا على أنه لا يجوز؛ لأنه إذا وضع الشوك كان أشبه بما يلتحف به على أعلى البدن، وحينئذٍ يكون في حكم المفصل ويأخذ حكم المخيط من وجوب الفدية فيه. والله تعالى أعلم.

حكم تذكية ما صيد قبل الإحرام بعد الإحرام

حكم تذكية ما صيد قبل الإحرام بعد الإحرام Q لو أن إنساناً صاد صيداً قبل أن يحرم، ثم أحرم والصيد معه، هل يجوز له أن يذكيه ويأكل منه؟ A إذا صاد الصيد وأمسكه وبقي عنده، ثم أحرم ولو بعد إمساكه بلحظة، فإن هذا الصيد مستأنس وآخذ حكم المستأنس، يحل له أكله والانتفاع به، ولا حرج عليه؛ لأنه لم يصده بعد الإحرام، وإنما صاده في حال الحلّ، فيجوز له أكله والانتفاع بما يكون منه. والله تعالى أعلم.

باب محظورات الإحرام [2]

شرح زاد المستقنع - باب محظورات الإحرام [2] تحقيقاً لمقصود الحج من ترك الدنيا وما يتعلق بها فإنه يحرم على المحرم عقد النكاح له أو لغيره، وكذلك الجماع، أو مباشرة زوجته، والمرأة كالرجل في كل المحظورات إلا في اللباس، فإنها تلبس ما تريد إلا أنه يحرم عليها أن تلبس شيئاً يغطي وجهها ويديها.

تابع محظورات الإحرام

تابع محظورات الإحرام

المحظور السابع: عقد النكاح للمحرم

المحظور السابع: عقد النكاح للمحرم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [ويحرم عقد نكاح ولا يصح ولا فدية]. ما زال المصنف رحمه الله يبين لنا محظورات الإحرام، فقال رحمه الله: (ويحرم عقد نكاح)، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز للمحرم أن يعقد النكاح، سواء كان في حج أو كان في عمرة، ولذلك يعتبر عقد النكاح المحظور السابع من محظورات الإحرام التي ذكرها المصنف رحمه الله. والعقد في اللغة: التوثيق، يقال: عقد الحبل إذا شد وثاقه، وكذلك يقال: عقد إذا أبرم الشيء، وأما في الاصطلاح: فإن المراد به الإيجاب والقبول، فالإيجاب هو قول الرجل: زوجتك، والقبول قول الزوج: قبلت، فإذا قال الولي: زوجتك، وقال الزوج: قبلت، فقد عُقد النكاح، وإذا قال الموجب: بعتك، وقال المشتري: اشتريت، فقد عُقد البيع، وإذا قال: أجرتك داري بمائة ألف لمدة سنة، فقال: قبلت، فهو عقد إجارة، وقس على ذلك. فإذا وجدت الصيغة المشتملة على الإيجاب والقبول فإنه يوصف ذلك بالعقد، وهذا في الاصطلاح عند العلماء رحمة الله عليهم، فإذا وجدت كتب الفقهاء ينصون فيها على كلمة العقد فمرادهم بها الإيجاب والقبول، وعلى هذا يقول المصنف: (يحرم عقد النكاح) أي: يحرم على الإنسان إذا أحرم بالحج أو العمرة أن يتزوج أو يزوج غيره، كأن يكون ولياً لبنت أو أخت أو امرأة من أقربائه، أو تكون المرأة المحرمة بحج أو عمرة منكوحة، بمعنى: أنه يراد تزويجها، فلا يجوز أن يعقد النكاح، سواء كان زوجاً أو كانت زوجة، خاصة على القول بأن للمرأة أن تلي عقد النكاح كما هو مذهب الحنفية، وكذلك أيضاً أن تكون ولياً. دليل التحريم ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب)، وهذا الحديث اتفق الشيخان على صحته وثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوله: (لا ينكح المحرم) لم يفرق بين محرم لحج أو عمرة (ولا يُنكح) أي: إذا كان امرأة، وهذا يدل على أنه لا يجوز له أن يكون في عقد النكاح لا زوجاً -وهو الأصيل- ولا وكيلاً، فلا يجوز للمحرم أن يكون وكيلاً في عقد النكاح بأن يقبل النكاح من غيره، أو يوجبه للغير. وهذه المسألة للعلماء فيها قولان: القول الأول يقول: لا يجوز للمحرم أن ينكح ولا أن ينكح ولا أن يخطب، وهذا هو مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية رحمة الله على الجميع، يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على المحرم عقد النكاح سواء كان زوجاً أو زوجة أو ولياً أو وكيلاً، وذلك هو نص الحديث الثابت عنه والذي ذكرناه. القول الثاني: ذهب فقهاء الحنفية رحمهم الله إلى القول بجواز أن ينكح المحرم وأن يُنكح، وأن يخطب، لكن بعضهم ينص على جوازه مع الكراهة، أي: أنه يكره له ذلك، ولكن يجوز، والعقد صحيح، واحتج هؤلاء العلماء بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم)، فأثبت أن الزواج من رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ ميمونة وقع وهو محرم، قالوا: فدل دلالة واضحة على أنه يجوز للمحرم أن يتزوج وأن يزوج الغير وأن يخطب، وأما ما ورد من النهي عن النبي صلى عليه وسلم فإن فعله صلوات الله وسلامه عليه يصرف النهي من التحريم إلى الكراهة، وهذا مسلك يعمل به جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم: وهو أنه إذا ورد النهي وجاء ما يدل على الجواز صرف ظاهر النهي من التحريم إلى الكراهة. والذي يترجح بنظري والعلم عند الله: هو القول بالتحريم، وهو مذهب جمهور السلف كما ذكرنا؛ وذلك لما يلي: أولاً: لصحة دلالة السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحريم. ثانياً: أنه يجاب عن حديث ابن عباس من وجوه: الوجه الأول: أن القاعدة: إذا تعارضت رواية أكابر الصحابة مع رواية أصاغر الصحابة قدمت رواية أكابر الصحابة على الأصاغر؛ والسبب في هذا واضح، وهو أن أصاغر الصحابة في الغالب يروون بواسطة، وأكابر الصحابة في الغالب يروون مباشرة، فتقدم رواية الأكابر؛ لقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمهم بحاله أكثر من أصاغر الصحابة. الوجه الثاني: أن حديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم) عارضته ميمونة صاحبة القصة، وعارضه أبو رافع السفير بين النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة، ومن المعلوم أن ميمونة رضي الله عنها -وهي خالة ابن عباس - أعلم بحال النبي صلى الله عليه سلم حينما تزوجها، فلما أثبتت أنه تزوجها وهو حلال، دل هذا على ضعف ما ذكره ابن عباس، ومن هنا قال الإمام أحمد: إن هذا الحديث خطأ، وهذا الخطأ قد يكون من الرواة أو يكون من سماع ابن عباس عن غيره من الصحابة رضوان الله عليهم. وهناك وجه ثالث في الترجيح: أن حديث ابن عباس رضي الله عنهما له معارض، وحديث التحريم صريح في التحريم لم ترد له صيغة معارضة، وإذا تعارض النصان أحدهما له وجه معارض، والآخر لا معارض له قدم الذي لا معارض له؛ لأن له مزية، وأنت إذا تأملت أحاديث النهي لم تجد ما يعارضها في الروايات نفسها، ولكن إذا تأملت حديث ابن عباس الذي يدل على الإباحة تجد أنه قد عارضه أبو رافع وعارضته ميمونة فلم يتمحض حديث ابن عباس في القوة في الدلالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حلالاً. الوجه الرابع في الترجيح: أن القاعدة أنه إذا تعارض الحاظر والمبيح أنه يقدم النص الحاظر على النص المبيح؛ لما فيه من زيادة العلم، ولما فيه من زيادة الاحتياط، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقديم نهيه على أمره، فكيف بتقديم نهيه على ما يكون من حاله محتملاً الخصوصية، فهذا من باب أولى وأحرى، ولذلك قال: (إذا نهيتكم فانتهوا)، وقال في الأمر: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)، فهذا يدل على قوة أدلة التحريم ورجحانها على أدلة الجواز. الوجه الخامس: أن حديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم) يحتمل أن يكون خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصيات حتى في النكاح، ولذلك قال سبحانه: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]، فالله خصه بخصائص كما نص على ذلك كتاب الله عز وجل: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41]. فلما خاطب عليه الصلاة والسلام عموم الأمة بقوله: (لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب) دل على أننا مطالبون بامتثال هذا النهي، ولما فعل هو عليه الصلاة والسلام -على القول بأنه تزوجها وهو محرم- فإننا نقول: هذا خاص به؛ لأن القاعدة: إذا تعارضت دلالة القول مع دلالة الفعل احتملت دلالة الفعل الخصوصية، فتقدم دلالة القول؛ لأنها تشريع للأمة. الوجه السادس: أن قول ابن عباس: (تزوج ميمونة وهو محرم) كما أنه ضعيف من جهة السند فلا يقوى على معارضة النص الصحيح الصريح فإننا نقول: هو في لفظه محتمل؛ وذلك أن قول ابن عباس: (تزوج ميمونة وهو محرم) يحتمل أن يكون مراده: (وهو محرم) أنه عقد عليها داخل حدود الحرم، وهذا له مغزىً دقيق، وهو من فقه ابن عباس، كأنه يريد أن ينبه على مسألة فقهية من مسائل الهجرة، وذلك أن من هاجر من بلد فإنه لا يرجع إليه إذا تركه لله ورسوله، ولذلك ثبت في النص الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكن البائس سعد بن خولة) يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة. ولذلك قال العلماء: من خرج من بلد كفر مهاجراً عنها فإنه لا يرجع إليها، ولذلك لم يرجع المهاجرون إلى مكة إلا بقدر الحاجة، وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهم في الإقامة فيها ثلاثة أيام فقط، فدل على أنه لا يجوز لمن هاجر من بلد أن يقيم فيها بعد هجرته؛ لأنه تركها لله عز وجل، ولو عادت بلد إسلام بعد ذلك، وإذا ثبت هذا ورد سؤال هو: هل يجوز له أن يتزوج من أهل هذا البلد؟ وهل زواجه من أهل هذا البلد وعقده فيه يعتبر بمثابة الإقامة؟ فرد ابن عباس رضي الله عنهما هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم، أي: داخل حدود الحرم، والعرب تسمي من كان داخل الحدود محرماً، ومنه قول حسان بن ثابت يرثي عثمان بن عفان رضي الله عن الجميع: قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً ومن المعلوم أن عثمان إنما قتل في حرم المدينة ولم يقتل وهو محرم بالحج أو بالعمرة، فدل على أن من كان داخل حدود حرم مكة أو حرم المدينة فإنه يوصف بكونه محرماً. فالعرب تسمي من دخل في الزمان الحرام -كالأشهر الحرم- أو دخل في المكان الذي له حرمة، تسميته محرماً، وعلى هذا يكون حديث ابن عباس له مغزىً خارج عن مسألتنا، أي: أنه لا يدل على أنه تزوجها حال إحرامه صلوات الله وسلامه عليه. وبناء عليه يترجح مذهب الجمهور الذين يقولون بأنه لا يجوز للمحرم أن ينكح ولا أن يُنكح ولا أن يخطب، وهذا الحكم يستوي فيه أن يكون المحرم أصيلاً عن نفسه، كأن يتزوج لنفسه، أو وكيلاً عن غيره، كأن يقول له رجل: اذهب واخطب لي فلانة، وأنت وكيلٌ عني، فإن الوكيل ينزل منزلة الأصيل، وعلى هذا فإنه يستوي أن يكون وكيلاً عن محلّ أو وكيلاً عن محرم، ويستوي في ذلك أن يكون الوكيل ذاته وكيلاً عن إنسان محرم، أو يكون في حال إحرامه كما ذك

حكم عقد النكاح إذا قام به المحرم

حكم عقد النكاح إذا قام به المحرم قال رحمه الله: [ويحرم عقد نكاح، ولا يصح، ولا فدية]. أي أنه لو وقع الإيجاب والقبول من المحرم زوجاً أو ولياً فإنه لا يصح، وهذا مذهب طائفة من العلماء، ويركبونه من أن النهي هنا استغرق زماناً لا يصح فيه الإيجاب والقبول، كأن الشرع جعل هذا مدة، إحرام الإنسان إلى أن يتحلل غير صالحة للإيجاب والقبول، فإذا وقع الإيجاب والقبول لم يقع معتداً به شرعاً، وحينئذٍ يكون من اللغو، فوجوده وعدمه على حد سواء، لكن لو عقد وهو محرم وتزوج المرأة ودخل بها وجاء له منها أولاد، فإن هذا يعتبر نكاح شبهة إذا كان يظن أن هذا جائز، ولكن لا يوجب حرمة نسله؛ لأن نكاح الشبهة كما هو معلوم تسري عليه أحكام النكاح الصحيح، ولكن يفسخ ثم يطالب بتجديده بعد ذلك. قوله: [ولا فدية]. أي: أن هذا المحظور ليست فيه فدية، فلو أن رجلاً سألك وقال: عقدت نكاحاً وأنا محرم بحج أو عمرة، فما الحكم؟ تقول له: إن النكاح لا يصح ولا فدية عليك، وإنما عليه الندم والاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل.

حكم مراجعة المطلقة حال الإحرام

حكم مراجعة المطلقة حال الإحرام قال: [وتصح الرجعة]: أي: إذا كان النكاح لا يصح، والخطبة لا تجوز، حيث لا يجوز للمحرم أن ينكح، ولا أن يُنكح ولا أن يخطب، ف Q لو أن رجلاً طلق امرأته طلاقاً رجعياً، ثم ارتجعها في عدتها، فهل الرجعة تأخذ حكم الابتداء؟ أولاً -حتى تكون الصورة واضحة-: إذا طلق الرجل امرأته فإن طلاقه لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون طلاقاً رجعياً. والحالة الثانية: أن يكون طلاقاً بائناً. فأما الطلاق الرجعي فهو: أن يطلقها الطلقة الأولى، فالشرط فيها: أن تكون الطلقة بعد الدخول، وأن تكون في غير خلع. فإذا طلقها طلقة واحدة بعد دخوله بها في غير خلع وفي غير طلاق من القاضي أو من الحكمين -على القول بأن طلاق القاضي والحكمين يوجب البينونة- فحينئذٍ تبقى المرأة في عدتها من الطلقة الأولى، ما لم تضع حملها، أو تستتم الثلاثة الأشهر إن كانت من ذوات الأشهر، أو تمضي عليها ثلاثة قروء إذا كانت من ذوات الأقراء، وخلال هذه المدة يجوز له أن يرتجعها ولو بغير رضاها. فلو أن رجلاً طلق امرأته بعد الدخول طلقة واحدة ثم أراد أن يراجعها في أي وقت، فما دام أنها لم تخرج من عدتها، فإنه تصح رجعته وتلزم المرأة بالرجوع بغير رضاها، حتى ولو كان يريد أن يرجعها بدون رضاها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228]. فمن حقه أن يرتجع زوجته ما دامت في عدتها، وإذا ثبت أن من حقه أن يرتجعها ما دامت في عدتها فهذا يسمى بالطلاق الرجعي، ويقع بعد الطلقة الأولى ويقع بعد الطلقة الثانية، أما لو طلقها الطلقة الثالثة فإنها تبين منه، وتكون البينونة هنا بينونة كبرى؛ لأن الطلاق البائن ينقسم إلى قسمين: طلاق بائن بينونة كبرى. وطلاق بائن بينونة صغرى. فالمطلقة طلاقاً بائناً بينونة كبرى هي التي لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وهذا بينه الله تعالى بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230] يعني: الطلقة الثالثة {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] فنص سبحانه على حرمة ارتجاعه لها، وأنه لا يجوز له أن ينكحها إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره، ويذوق عسيلتها وتذوق عسيلته، كما ثبت في السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم. والبينونة الصغرى تقع على صور: منها: أن يطلقها قبل الدخول، كأن يعقد على امرأة ثم يحصل بينه وبينها ما يحصل فيقول لها: أنت طالق، فإذا طلقها قبل الدخول فإنها تبين منه بينونة صغرى. والفرق بين البينونة الصغرى والكبرى: أن البينونة الصغرى يستحق فيها أن يرتجع المرأة لكن بعقد جديد، ولكن لا يلزمها أن ترجع إليه إلا برضاها، بمعنى أنها لو امتنعت أو امتنع وليها فمن حقها ذلك ولا يستطيع ارتجاعها، على خلاف الرجعية فلا خيار لها. ففارقت البينونة الصغرى الرجعية بأن الرجعية يردها على رغم أنفها حتى ولو أبت، وأما في البينونة الصغرى فإنه لا يمتلك ارتجاعها إلا بعقد جديد فهي كالأجنبية، ولكن يجوز له أن يرتجعها. والفرق بين البينونة الصغرى والكبرى: أن في الكبرى لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وفي البينونة الصغرى تحل له بعقد جديد ولا يشترط أن تنكح زوجاً غيره. وعلى هذا يرد السؤال في هذا النوع من الطلاق وهو الطلاق الرجعي: لو أن زيداً من الناس قال لامرأته: أنت طالق، ثم أحرم بحج وعمرة، فأراد أن يرتجعها، فهل يجوز له أن يرتجعها أثناء تلبسه بالإحرام بحج أو عمرة، هذه هي صورة المسألة. و A أنه يجوز له أن يرتجعها؛ لأن الاستدامة لا تأخذ حكم الابتداء، فاستدامة المحظور ليست كابتدائه، ومثل هذا أنه يجوز أن يستصحب الطيب في بدنه إذا تطيب قبل إحرامه، كذلك يجوز له أن يستديم النكاح؛ لأنه ثابت قبل إحرامه؛ لأن المرأة الرجعية في حكم المرأة التي في عصمة الإنسان، فإنه حينئذٍ يجوز له أن يرتجعها ولو كان في حج أو عمرة. فلو سألك سائل وقال: إن الله عز وجل حرم على المحرم أن ينكح أو يُنكح أو يخطب كما ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد طلقت زوجتي طلقة واحدة أو الطلقة الثانية، وأريد أن أرتجعها أنا محرم، فهل يجوز لي ذلك؟ تقول: نعم، يجوز لك ذلك؛ لأن الارتجاع ليس كالعقد، وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم النكاح ولم يحرم الارتجاع، فدل على أنه باقٍ على الأصل الذي يدل على جوازه ومشروعيته، فيجوز له أن يرتجع امرأته.

المحظور الثامن: الجماع

المحظور الثامن: الجماع قال المصنف رحمه الله: [وإن جامع المحرم قبل التحلل الأول فسد نسكهما]. هذا المحظور الثامن من محظورات الإحرام: وهو الجماع، وقد حرم الله عز وجل على المحرم ثلاثة أمور في النساء: الأول: أن يعقد. والثاني: أن يباشر بما دون الفرج. والثالث: أن يجامع. فهذه ثلاثة محظورات ذكرها المصنف مرتبة، فابتدأ بالعقد ثم أتبعه بالجماع ثم أتبعه بالمباشرة، وأعلاها وأقواها الجماع. فالجماع محرم بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، ولذلك قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، فحرم الله عز وجل الرفث الذي هو مقدمات الجماع، بل قالوا: إنه أقل ما يقال من الكلمات التي تثير النساء، فإذا حرم الله عز وجل الكلمة اليسيرة التي تثير الشهوة كما نص على ذلك جمهور السلف رحمهم الله فالجماع أولى. فسر ابن عباس وعطاء وغيره من تلامذته رحمة الله عليهم جميعاً الرفث، فقالوا: إن المراد بالرفث الكلمات التي تستثار بها غرائز النساء، فلا تحل ولا تجوز للمحرم، فهي من المحظورات؛ فإذا حرم هذا فمن باب أولى الجماع، ولذلك انعقد الإجماع على أنه لا يجوز الجماع في الحج ولا في العمرة، فلو وقع الجماع فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون قبل الوقوف بعرفة. والحالة الثانية: أن يكون بعد الوقوف بعرفة. فإن وقع الجماع قبل الوقوف بعرفة، أي: قبل أن يستتم وقوفه بعرفة وينصرف منها، فإن حجه باطل بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، فمن جامع أهله في يوم التروية وهو محرم بالحج أو جامعهم صبيحة يوم عرفة أو عشية عرفة قبل أن يدفع، فإنه حينئذٍ يفسد حجه. وبعض العلماء يقول: ما لم يقف بعرفة، وعلى هذا فإن الجماع إذا وقع قبل استتمام الوقوف والاعتدال به فإنه يعتبر موجباً لفساد الحج. وإذا فسد الحج فإنه يلزمه أن يمضي في هذا الحج الفاسد، والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، والحج والعمرة عبادتان لو أفسدهما المكلف ألزم بإتمامهما مع الفساد بإجماع العلماء؛ لأن الله أمر بإتمام هذين النسكين ولم يفرق بين فاسد أو صحيح. ولذلك قالوا: من جاء بعمرة ولبى وأحرم ثم بعد الإحرام ولو بلحظة قال: لا أريد العمرة، وأراد أن يفسخ عمرته فإنه يبقى محرماً إلى الأبد حتى يؤدي عمرته؛ لأن الله قال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، فهذا يدل على أن النسك لا بد من إتمامه على وجهه المعتد به شرعاً، قالوا: فإذا وقع جماعه قبل وقوفه بعرفة فإنه حينئذٍ يحكم بفساد الحج على الأصل، وهذا محل إجماع، ثم يطالب بإتمام وقوفه، والمضي في بقية مناسكه، ثم عليه الحج من قابل وعليه بدنة، وهذا قضاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المجامع. قضى به عمر وعلي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وبه قال أبو هريرة رضي الله عن الجميع، فهؤلاء الصحابة الأجلاء قالوا بهذا، وحكموا به، ولذلك نص العلماء رحمهم الله على أنه لو وقع الجماع قبل الوقوف بعرفة أنه يوجب فساد الحج، وعلى من جامع والمرأة التي جومعت المضي في حجهم الفاسد، ثم عليهم الحج من قابل، يستوي أن يكون جماعه لامرأة تحل له، أو بشبهة كخطأ في الوطء، أو بحرام كزناً، أو نحو ذلك من المحرمات فإنه يعتبر حجه فاسداً وجهاً واحداً عند العلماء رحمة الله عليهم. وأما إذا وقع الجماع بعد الوقوف بعرفة فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون قبل التحلل الأول. والحالة الثانية: أن يكون بعد تحلله الأول. فإذا وقع الجماع قبل التحلل الأول فقد أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله: [وإن جامع المحرم قبل التحلل الأول فسد نسكهما]. بأن وقف بعرفة، ثم مضى إلى مزدلفة، فوقع جماعه ليلة المزدلفة، فهذا يعتبر قبل التحلل الأول، فاختلف العلماء فيه على قولين: القول الأول يقول: إذا وقع الجماع قبل التحلل الأول فسد حجه، وبه قال الجمهور، كما يفسد قبل الوقوف بعرفة. والقول الثاني يقول: إذا وقع جماعه بعد الوقوف بعرفة وقبل التحلل الأول فحجه صحيح، وهو مذهب الحنفية. والقول: بأن حجه فاسد أقوى، وقد قال الحنفية، حجه صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة)، قالوا: فإذا وقف بعرفة ووقع جماعه بعد وقوفه فإننا لا نحكم بفساد حجه، وقد قال عليه الصلاة والسلام لـ عروة بن مضرس: (من صلى صلاتنا هذه، ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه). والصحيح ما ذهب إليه الجمهور؛ لأنه إذا كان قبل التحلل الأول فإنه في حكم ما إذا كان قبل الوقوف بعرفة؛ وذلك لبقاء الركن وهو طواف الإفاضة. وقد صحح بعض العلماء مذهب الجمهور: أنه إذا وقع جماعه بعد الوقوف بعرفة وقبل التحلل الأول فإن حجه يعتبر فاسداً؛ وذلك لأن الشرع قد جعل هذا التحلل لمعنى، ولذلك يستوي فيه أن يكون الإخلال قبل الوقوف بعرفة أو بعد الوقوف بعرفة؛ لأنه ما وصف بكونه تحللاً إلا وهو مؤثر في حل النكاح، وموجباً لجوازه، فكأن النكاح يتأقّت والجماع يتأقّت بهذا التحلل، فاستوى أن يقع الإخلال قبله مباشرة أو قبل الوقوف بعرفة. فمسلك الجمهور من جهة النظر قوي، ولذلك قال الله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] حتى يحصل التحلل الكامل، فقالوا: إن التحلل ينقسم إلى قسمين: تحلل أول، وتحلل عام، وهو الذي يقع بعد طوافه للإفاضة. فقالوا: إذا كان الشخص قد وقع منه الإخلال قبل التحلل الأول، فإنه في حكم من جامع قبل الوقوف بعرفة، وهذه المسألة توقفت فيها كثيراً، وكنت لا أفتي فيها لتعارض النظر فيها، ولذلك أحكي فيها مذاهب العلماء على ما ذكره أهل العلم رحمهم الله. قال: [ويمضيان فيه ويقضيانه ثاني عام]. هذا قضاء الصحابة: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم أجمعين.

المحظور التاسع: مباشرة المرأة

المحظور التاسع: مباشرة المرأة قال رحمه الله: [وتحرم المباشرة]. هذا هو المحظور الأخير، أشار إليه رحمة الله عليه بقوله: (وتحرم المباشرة) أي: لا يجوز للمحرم أن يباشر زوجته بتقبيل أو غمز أو نحو ذلك مما يستمتع به من المرأة فيما دون الجماع، لقوله سبحانه: {فَلا رَفَثَ} [البقرة:197] وهو يشمل الرفث بالقول والرفث بالفعل، لأن النفي المسلط على النكرة يفيد العموم. أي: لا رفث عموماً، سواء كان بقول أو كان بفعل، فلا يجوز للرجل أن يستمتع بامرأته بما دون الفرج على أي وجه كان. وقوله: [فإن فعل فأنزل لم يفسد حجه وعليه بدنة]. أي: فإن فعل المباشرة، فلا يخلو من حالتين: إما أن يفعل المباشرة ولا يقع منه شيء، وإما أن يفعل المباشرة ويقع منه شيء. فإن فعل المباشرة ولم ينزل ولم يمذِ فلا إشكال في صحة حجه، وعدم تأثير المباشرة في تلك الصحة، ولكنه آثم، ويعتبر نقصاناً في أجره، وإذا تاب تاب الله عليه. ولكن لو باشر فأنزل، فإن الإنزال لذة وهي تقارب اللذة الكبرى بالجماع، ولكن لا يفسد حجه؛ لأن الأصل صحة الحج حتى يدل الدليل على الفساد، وإنما وقع إجماع الصحابة وفتوى الصحابة على الفساد بالجماع، وبقي ما عدا الجماع على الأصل من كون الحج صحيحاً حتى يدل الدليل على الفساد؛ لأن الأركان والشرائط موجودة، فقالوا حينئذٍ: يحكم بصحة حجه؛ لأنه لم يصل إلى الجماع الذي يفسد الحج كما عليه فتوى الصحابة، وعليه العمل، فحينئذٍ يلزمه أن يجبر هذا النقص. وقضوا فيه بالبدنة، والأصل أنهم نظروا إلى أن فعل الصحابة رضوان الله عليهم حينما أفسدوا الحج أفسدوه بالجماع، وقضوا بالبدنة حينما نظروا إلى وجود الإنزال غالباً في الجماع، فقالوا: إذا حصل الإنزال فإنه حينئذٍ يلزمه أن ينحر بدنة؛ جبراً لهذا النقص، وهو مبني على النظر، وله أصل من فتوى الصحابة من جهة العلة كما ذكرنا، وبناء عليه قالوا: لا بد من وجود الإنزال، ويستوي أن يكون الإنزال بالمباشرة، وحقيقة المباشرة أن تفضي البشرة إلى البشرة، أو يكون الإنزال بالاحتكاك سواء كان بحلال أو بحرام، فإنه لو تحكك واستثيرت غريزته على الوجه المحظور فإنه حينئذٍ يلزمه ما ذكرنا من جبر النقص؛ لقول من قلنا من أهل العلم، ويختاره المصنف وفقهاء الحنابلة رحمهم الله. لو حصل منه إمذاء، والمذي دون الإنزال، وهي القطرات التي تخرج عند بداية الشهوة، فلو باشر امرأته فحصل منه الإمذاء فإنه لا يفسد حجه بالإجماع، ولا يلزمه بدنة، وإنما عليه الندم والتوبة والاستغفار. فهذه أحوال: الحالة الأولى: أن يباشر ويقع الجماع، وذلك إما أن يكون قبل الوقوف بعرفة أو يكون بعد الوقوف بعرفة، على التفصيل الذي بيناه. الحالة الثانية: أن تكون المباشرة بإنزال ولا يقع فيها جماع، فحينئذٍ يبقى الحج صحيحاً ويلزم ببدنة. وقال بعض أهل العلم: إذا وقع هذا قبل التحلل الأول فإنه ينزل إلى الحل ويأتي بعمرة حتى يقع طوافه للإفاضة على صورة معتبرة دون وجود نقص أو إخلال. الحالة الثالثة: إذا وقعت المباشرة ولم يحصل بها إنزال ولا جماع، وإنما وقع بها الإمذاء، فإنما عليه التوبة والندم والاستغفار. قال: [لكن يحرم من الحل لطواف الفرض]. فيمضي إلى التنعيم أو يمضي إلى عرفات أو غيرها مما هو خارج عن حدود الحرم ويأتي بعمرة، حتى يقع طوافه في نسك لا إخلال فيه.

الفرق بين إحرام الرجل وإحرام المرأة

الفرق بين إحرام الرجل وإحرام المرأة قال رحمه الله: [وإحرام المرأة كالرجل إلا في اللباس]. أي: إذا علمت هذه المحظورات فإن المرأة يحظر عليها أن تقص شعرها أو تحلقه، وكذلك حلقها للعانة، وكذلك نتفها للإبطين ونحو ذلك، فلا يجوز لها أن تزيل الشعر، ولا يجوز لها أن تقلم الأظفار، وكذلك أيضاً لا يجوز لها أن تتطيب لا في بدنها ولا في ثيابها، وكذلك أيضاً لا يجوز لها الصيد، ولا الإعانة على الصيد، ولا الأكل مما صيد لها إذا كانت محرمة، ولا يجوز لها أن يعقد عليها النكاح، ولا يجوز لها مباشرة الزوج، فكل ما يقال في الرجل يقال في المرأة، إلا أنها في اللباس لا تنتقب ولا تلبس القفازين، فمحظورها في اللباس ينحصر في تغطية وجهها ولبسها للقفازين في يديها. والأصل في هذين المحظورين حديث عبد الله بن عمر في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين) رواه البخاري في صحيحه. قالوا: نص عليه الصلاة والسلام على أن المرأة لا تنتقب، وإذا كان النقاب تكشف فيه المرأة عن إحدى عينيها لتنظر الطريق أو نحو ذلك محظوراً، فمن باب أولى البرقع فإنه أبلغ من النقاب، فإن النقاب أن تكون ساترة لوجهها ولكنها تكشف عن عينها حتى تنظر في طريق أو نحو ذلك، فقالوا: إن هذا من باب التنبيه بالأدنى على ما هو أعلى منه، والشرع ينبه بالأدنى على الأعلى، وينبه بما هو أعلى على ما دونه من باب أولى. وعلى هذا فلا يجوز للمرأة أن تلبس البرقع والنقاب، فكأن الشرع قصد أن لا تستر وجهها بالنقاب ولا ببرقع ونحوه، ولكن إذا مر بها الركب تسدل خمارها؛ لحديث أسماء رضي الله عنها: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا مر بنا الركب سدلت إحدانا خمارها فإذا جاوزنا كشفنا) وهذا هو الأصل، والسدل أن يكون هناك حائل بين الناظر وبين وجهها؛ لأنه حقيقة السدل كما تقول: سدلت الستار ونحو ذلك. وكذلك بالنسبة للبسها القفازين لا تلبس قفازين في حال الإحرام، وهذا يدل على مشروعية لبسه في غير الإحرام؛ لما فيه من كمال الستر، ولما فيه من كمال التحفظ من رؤية الأجانب، وهو يدل على أن إحرام المرأة كما يقول الجماهير في وجهها وكفيها.

ما يحرم على المرأة حال الإحرام

ما يحرم على المرأة حال الإحرام قال رحمه الله: [وإحرام المرأة كالرجل إلا في اللباس، وتجتنب البرقع والقفازين وتغطية وجهها، ويباح لها التحلي]. ويباح للمرأة أن تلبس الحلي؛ لأن الأصل جوازه حتى يدل الدليل على تحريمه، ولم يوجد دليل في كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم يدل على تحريم لبس الحلي للمرأة في حال إحرامها، بل ولا في حال حلها، قال الله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، فجماهير أهل العلم والسلف في تفسير هذه الآية على أن المراد بها المرأة، ولذلك تغلبها العاطفة فلا تبين خصامها، وقالوا: إن الله تعالى قال: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} [الزخرف:18]، وقال سبحانه وتعالى: {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر:12] فامتن سبحانه وتعالى باستخراج الحلي للبس، ولم ينه سبحانه وتعالى عن ذلك ولم يحرمه، ولم يفرق بين محلق ولا غيره. وكذلك ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة في حديث أم زرع المشهور: قالت أم زرع: (أناس من حلي أذني. قالت عائشة: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت لك كـ أبي زرع لـ أم زرع)، وثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: أنه لما ندب النساء إلى التصدق يوم العيد، قالت رضي الله عنها: (فجعل النساء يلقين من حليهن وأقراطهن)، فدل على أن هناك ذهباً غير الذهب المتعلق بالقرط وهو قولها: (من حليهن) حيث عممت، وهذا هو الأقوى. وقال بعض السلف رحمة الله عليهم كـ ربيعة الرأي: إنه يحرم لبس الذهب المحلق في حال الإحرام وفي حال الحل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه الوعيد في لبسه كما في الحديث المختلف في إسناده أنه قال: (من أحب أن يسور حبيبه بسوارين من نار فليسوره) قال: فهذا يدل على عدم جواز لبس الذهب المحلق. وقد أجاب العلماء: أن أحاديث التحريم أضعف سنداً من أحاديث الحل، وعلى فرض صحتها وثبوتها فإنها لا تقوى على معارضة ما هو أصح منها. ثانياً: أنها تعارض الأحاديث التي شهد الكتاب بصحتها واعتبارها، وهي أحاديث الحلي، مع أن ظاهرها أنها كانت في آخر عهده صلوات الله وسلامه عليه؛ لتأخر رواية الصحابة الذين رووها، وقالوا: إنها أقوى وأولى بالاعتبار، حتى قال بعض العلماء: إن هذا يدل على أن التحريم للذهب المحلق كان في أول الأمر، وهذا مسلك يقوله غير واحد من أهل العلم: أنه كان في أول الأمر يحرم لبس الحلي المحلق على النساء، ثم نسخ ذلك وجاءت الرخصة والتوسعة من الله عز وجل. والشاهد معنا: أن المرأة لا يحظر عليها لبس الحلي حال الإحرام أو غير الإحرام، وأن هذا لا يعتبر من محظورات الإحرام.

الأسئلة

الأسئلة

حكم شراء المحرم للإماء

حكم شراء المحرم للإماء Q علمنا أن عقد النكاح لا يجوز للمحرم، ولكن هل يجوز عقد شراء الإماء والسراري للمحرم؟ A يجوز للمحرم أن يشتري الأمة، ولو قصد من ذلك أن يطأها بعد انتهائه من حجه وعمرته؛ والسبب في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينكح المحرم ولا ينُكح ولا يخطب) وشراء الأمة ليس بنكاح، ولذلك فالأمة لا تعتبر منكوحة؛ لأن ملك اليمين ليس كالنكاح، والإماء إنما هن من السراري ولسن من الأزواج، والحكم إنما هو وارد في الزواج وليس في شراء الإماء، وعلى هذا فإنه يجوز له أن يشتري الأمة، -وهذا ليس موجوداً الآن- وإذا وجد فإنه يجوز له أن يشتري الإماء، وليس هناك نص يدل على حرمته. والله تعالى أعلم.

حكم الرجوع إلى الميقات عند قضاء العمرة الفاسدة

حكم الرجوع إلى الميقات عند قضاء العمرة الفاسدة Q إذا أبطل المحرم عمرته بالجماع فإنه يتمها ويأتي بأخرى، فهل يلزمه في الثانية أن يرجع إلى ميقاته أم يحرم لها من مكانه؟ A البدل يأخذ حكم مبدله، فإذا أفسد عمرته وجبت عليه القضاء من الميقات الذي أحرم منه بالعمرة الفاسدة، وعلى هذا قالوا: كأنه لما أحرم بهذه العمرة وجب عليه إتمامها بالشرط، فلما وجب عليه الإتمام فإننا ننظر إلى كمال العمرة، فإن أفسدها وجب عليه أن يقضي عمرة مثلها، لأن البدل يأخذ حكم مبدله فيحرم من ميقاتها. لكن أجازوا أن يكون إحرامه من الميقات الأبعد إذا كان إحرامه للفاسد من الميقات الأقرب، كأن يكون قدم من ميقات السيل، فأحرم بالعمرة الفاسدة أو بالحج الفاسد من ميقات السيل، فحينئذٍ لو أنه أراد أن يحرم بالبدل من ميقات المدينة وميقات رابغ جاز له ذلك، بل قال بعض العلماء: يجوز له أن يحرم من الميقات المساوي، كأن يكون أفسد عمرة من ميقات يلملم فيجوز له أن ينشئ العمرة التي هي محلها من ميقات السيل. والله تعالى أعلم.

الترجيح بتقديم أقوال النبي صلى الله عليه وسلم على أفعاله

الترجيح بتقديم أقوال النبي صلى الله عليه وسلم على أفعاله Q هل يعد من الوجوه المرجحة حديث (لا ينكح المحرم) على حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن الحديث الأول قول وحديث ابن عباس حكاية فعل، فنقول: القول مقدم على الفعل؟ A نعم هذا من المرجحات، توضيح ذلك: أنه قد يشكل على بعض طلاب العلم كيف نقول: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على فعله، وهذا أمر يرجع إلى مسألة مهمة عند العلماء، إذا جاء النص بقول أو جاء النص بفعل فالأصل أننا مطالبون بالائتساء والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، لا فرق بين قوله وفعله؛ لأن الله قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، والأسوة: أن نأتسي ونقتدي به صلوات الله وسلامه عليه في أقواله وأفعاله، فحينئذٍ لا فرق بين القول والفعل من جهة أن الله أمرنا وكلفنا أن نأتسي به عليه الصلاة والسلام، لكن الإشكال حينما يأتيك قول يبيح، وفعل يحرم، أو يأتيك القول يحرم والفعل يبيح، فإنه لا بد وأن تنظر؛ لأن القول والفعل صدرا من النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي قال وهو الذي فعل. فحينئذٍ إذا جئت تنظر إلى أقواله حينما يخاطب الأمة ويقول: أيها الناس، ويقول: (لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب) يخاطب الأمة، فلا تشك في أن هذا عام لجميع الأمة. فأنت ترى حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إشكال فيه -هذا من جهة أحاديث الأقوال؛ لأنها خطاب وتشريع للأمة، لكن إذا جئت إلى أفعاله عليه الصلاة والسلام وجدت أن الله عز وجل قد خصه بأفعال، حتى في باب النكاح الذي اختلف فيه فقد أجاز الله له أن ينكح تسعاً من النسوة، ولم يجز لأمته أن ينكح الواحد فوق الأربع، فتبين أن هناك خصوصيات في أفعاله عليه الصلاة والسلام. فأنت تنظر إذا جاءك النصان، وهذا الذي يسميه العلماء: باب التعارض، يأتيك نصان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما من أقواله التي لا تشك أنها تشريع للأمة، والثاني من أفعاله التي يدخلها احتمال التخصيص، فحينئذٍ تترجح كفة القول، وليس المراد أن نسقط أفعال النبي صلى الله عليه وسلم كما يظن البعض، إنما المراد أنك أمام نصين لو جئت تتعبد الله بهما معاً لما أمكن، وإذا أردت أن تتركهما لما أمكن أيضاً، فأنت بين هذه الخيارات الثلاثة: إما أن تقول: أعمل النصين، وهذا لا يمكن. وإما أن تقول: أترك النصين، وهذا -والعياذ بالله- لا يجوز؛ لأننا مأمورون باتباعه عليه الصلاة والسلام، ولم يرد ما يستثني هذين النصين. وإما أن تقول: أعمل بأحدهما وأترك الآخر، وإذا تعارض النصان فلا شك ولا شبهة أن الحكم في واحد منهما، لكن ابتلاء واختباراً من الله لعباده، وحتى ترتفع درجة العلماء فيختلفون ويتناقشون ويناظرون وتخرج الفوائد من هذه النقاشات والمناظرات، فيجتهد العالم الفقيه ويظهر فضل الله على العلماء ومزية ما خصهم به من العلم، فحينئذٍ يظهر الترجيح. فتقول: حديث القول خاطب به الأمة، وحديث الفعل احتمل الخصوصية به عليه الصلاة والسلام، فكأنني أرى أن النصين ليسا بدرجة واحدة، مع أن حديث الفعل جاء ما يعارضه، أي: أن الحديث الذي دل على الجواز عارضه الحديث الذي يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن محرماً وإنما كان حلالاً، فإذاً كأنك لا ترى أن الأحاديث استوت كفتها حتى تقول: هي متعارضة، فتقدم أحاديث الأقوال على أحاديث الأفعال لهذه القاعدة. ومن أمثلة ذلك أيضاً: حديث النهي عن استقبال القبلة واستدبارها، انظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط)، فهذا نص قولي واضح من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب به الأمة: ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الاستقبال ولا بين الاستدبار، ولم يفرق أيضاً بين البنيان وغير البنيان، قال: (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط). وجاء في حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبول على لبنتين مستقبل الشام مستدبر الكعبة). فحينئذٍ تقول: عندي قول يخاطبني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنني لا أستقبل ولا أستدبر، ولا يفرق هذا القول بين صحراء ولا بنيان، فأنا أبقى على هذا القول الذي خاطبني فيه، وأما فعله عليه الصلاة والسلام فيحتمل أن الله خصه بهذا، ويقوي هذا أنه لو كان تشريعاً للأمة لما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في الخفاء، ويطلع عليه ابن عمر فجأة بدون أن يعلم النبي عليه الصلاة والسلام وبدون أن يشعر، فهل يعقل أن الشرع يفصل في التفريق بين البنيان والصحراء ولا يُعْلم هذا حتى يأتي ابن عمر وهو حدث صغير يرقى على البنيان؟! فحينئذٍ تقوى عندك دلالة القول، فتقول: أنا أبقى على دلالة القول، وما ورد من فعله احتمل خصوصيته به عليه الصلاة والسلام، مع احتمال أن يكون سابقاً للنهي، فلا يخرجني عن دلالة القول، فحينئذٍ أبقى على دلالة القول؛ لأنها أقوى وأرجح. فهذا هو مسلك علماء الأصول حينما يقولون: إذا تعارض القول والفعل فإننا نقدم القول على الفعل؛ لأن القول خاطب به الأمة، والفعل يحتمل أن يكون من خصوصياته صلوات الله وسلامه عليه. والله تعالى أعلم.

حكم المحرم المضطر إذا اجتمع له ميتة وصيد

حكم المحرم المضطر إذا اجتمع له ميتة وصيد Q إذا اجتمع للمحرم صيد وميتة وكان على مخمصة فأيهما يقدم؟ A إذا اجتمع للمحرم الصيد والميتة، فحينئذٍ يكون من باب تعارض المحظورين، فإذا جئت تنظر إلى الميتة فإن الله عز وجل حرمها بإطلاق إلا في حال الضرورة، وإذا جئت إلى الصيد وجدت أن الله حرمه في حال الإحرام، والتحريم المؤقت أخف من التحريم غير المؤقت؛ لأن تحريم الميتة بالنسبة لحال الاختيار عام للأزمنة والأمكنة، ولم يستثن الله منه إلا حالة الضرورة والمخمصة، وهو يدل على شدة أمر الميتة. وأما المحرم فالصيد في حقه أخف تحريماً من الميتة، وعليه يرجح أكل الصيد على أكل الميتة، وذلك من جهة كون تحريم الصيد مؤقتاً وتحريم الميتة مؤبداً، وهذا وجه للترجيح، فتقدم الميتة على الصيد. وهناك وجه آخر يقدم فيه الميتة على الصيد، وتوضيح ذلك: أن الصيد اتصل بحالته، أي: أن تحريمه اتصل بحالته، ولكن تحريم الميتة عمَّ، وجاء حال الخصوصية في الاضطرار، فكأنها أخف من جهة الحال، أي: أن المحرم حرم عليه الصيد بدون تفريق بين كونه مضطراً وغير مضطر، ولكن الميتة حلّت عند الضرورة، فإذا جئت إلى حالته كمحرم تقول: إن الله حرم عليه الصيد، ولم يستثن حال الضرورة، ولكن حرم عليَّ الميتة واستثنى لي حالة الضرورة، فأقبل النص الذي دخله الاستثناء، ولا أفعل ما لم يدخله الاستثناء، فيقوى أن يأكل من الميتة، وكلاهما له وجه، وهذا يسمونه: التعارض. وهذا يشكل في بعض الأحيان، ومنه: إذا خرج من بيته وغلب على ظنه أنه لو مشى بقدميه فسيفوته الصف الأول وتفوته تكبيرة الإحرام، فهل الأفضل أن يمشي على قدميه ويفوته الصف الأول وتكبيرة الإحرام، أم أن الأفضل أن يركب سيارته وتفوته فضيلة المشي وتكفير الخطايا والذنوب؟ قالوا: الأفضل أن يركب ويدرك الفضيلة المتصلة بالصلاة، أعني: كونه في الصف الأول، وكونه يدرك تكبيرة الإحرام، لأن فضيلة الصف الأول وتكبيرة الإحرام متصلة بالعبادة، وفضيلة المشي منفصلة عن العبادة، والتفاضل يدخل في الفضائل وفي المحرمات والمسلك واحد، فإذا جئت تنظر إلى أن تحريم الصيد عليه كمحرم تقول: هذا أقوى؛ لأن الله حرم على المحرم أكل الصيد دون أن يستثني حالة الاضطرار، وأما الميتة فإن الله حرمها عليه واستثنى حالة الاضطرار، فمن جهة حاله تقول: الأفضل أن يأكل من الميتة ولا يأكل من الصيد. والله تعالى أعلم.

حكم التحلل بأخذ ثلاث شعرات من الرأس

حكم التحلل بأخذ ثلاث شعرات من الرأس Q هل يجزئ أخذ ثلاث شعرات من الرأس لمن أراد التحلل بناء على اعتبارها جمعاً؟ A مسألة الجمع في الإخلال، وهو أقل ما يصدق عليه الإخلال، لا تستلزم أن التحلل لا يكون إلا بثلاث شعرات، فهناك فرق بين المسألتين، فإن التحلل قال الله فيه: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} [البقرة:196] وهذا شامل لجميع الرأس من حيث التحلل، وقال صلى الله عليه وسلم: (إني لبدت شعري وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر)، فهذا يدل على تعلقه بالرأس كله، أما مسألة أن أقل الجمع ثلاثة، فهذه تتعلق بأقل ما يقع به الإخلال، وقد قالوا: إذا جز شعرة واحدة فإنه لم يحلق رأسه، لكن إذا وصل إلى أقل الجمع، وهي الثلاث من الرأس، فيصدق عليها أنها شعر للرأس، فكأنه حلق الرأس كله؛ لأن ابتداء الحلق يحصل بأقل ما يصدق عليه الجمع وهو الثلاث، فكأنه إذا حلق الثلاث أو قص الثلاث أو نتف الثلاث؛ كأنه شرع في الإزالة، وفرق بين كوننا نقول: كأنه شرع، وبين أن نقول: قد أزال فعلاً، فهناك فرق بين الابتداء وبين الكمال، وعلى هذا قالوا بأقل الجمع في الإخلالات؛ لأن الشرع قصد أن لا يمس شعره وأن لا يترفه بحلقه أو نتفه أو تقصيره، بخلاف مسألة التحلل فإنه لا بد فيها من تعميم الرأس قصاً وحلقاً. والله تعالى أعلم.

التوفيق بين سنة الجهر بالتلبية وسنة إخفاء الدعاء

التوفيق بين سنة الجهر بالتلبية وسنة إخفاء الدعاء Q كيف نوفق بين قول النبي صلى الله عليه وسلم حين أمره جبريل عليه السلام بأن يأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم في التلبية، وبين قوله عليه الصلاة والسلام: (أيها الناس أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً)؟ A الأصل في الدعاء وذكر الله عز وجل أن يكون بين العبد وربه، فهو أقرب للإخلاص، وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً)، فهذا يدل على أن السنة أن يخفض صوته وأن لا يرفعه، هذا أصل عام، وقد ورد التخصيص، والقاعدة: أنه لا تعارض بين عام وخاص، فاستثني منه ذكر الحج بالتلبية؛ لشرف هذه العبادة وفضلها وعظيم ما فيها من التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وكون هذا العبد وافداً على الله وضيفاً على الله، يرجو رحمته ويخشى عذابه، مجيباً لداعيه، فإنه شرف بأن يكون حاله وأن يكون مقاله واضحاً بيّناً للناس، ولذلك حتى الهدي إذا أهدي للبيت فإنه يشعر ويقلد وتكون عبادة واضحة أمام الناس؛ تشريفاً لهذه العبادات وتكريماً، وإظهاراً لحرمات الله وشعائره، ولذلك قال تعالى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} [المائدة:2]. فشرف الله عز وجل هذه العبادة، حيث إن الإنسان يقدم على بيت الله عز وجل تائباً منيباً يرجو رحمته ويخشى عذابه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في شرف هذه العبادة وفضلها: (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، وهذا يدل على فضل هذه الشعيرة وعلو منزلتها، فكونه يرفع صوته بها فإن هذا لا يقدح في الأصل؛ لأنه لا تعارض بين عام وخاص، كما أن الإمام يجهر بقراءته في صلاته، ونحو ذلك من الأذكار التي شرع رفع الصوت فيها، سواء كان في عبادة مخصوصة أو كان مطلقاً. والله تعالى أعلم.

حكم التمتع لمن اعتمر في أشهر الحج

حكم التمتع لمن اعتمر في أشهر الحج Q من اعتمر في أشهر الحج، فهل يكون التمتع واجباً عليه حتى ولو لم يكن ناوياً لذلك؟ A من اعتمر في أشهر الحج ثم حج من عامه فهو متمتع شاء أو أبى ما لم يرجع إلى بلده، أما لو اعتمر ثم رجع إلى بلده أو إلى ميقات بلده أو ما يحاذي ميقاته ثم أحرم بالحج من ذلك المكان، فإن إنشاءه السفر الثاني يسقط عنه دم التمتع، بدليل المكي، فإن المكي لما أحرم بالحج والعمرة من مكة سقط عنه دم التمتع وصح تمتعه. فدل على أن التمتع إنما هو بوجود الترفه والتمتع بسقوط السفر الثاني، كأن الإنسان إذا جاء بعمرة في أشهر الحج ثم بقي في مكة ثم أحرم بالحج من ذلك العام كأنه أحرم من دون ميقاته؛ لأنه أنشأ الحج من مكة نفسها، فاستوى أن يكون ناوياً أو غير ناو؛ لأن هذا الدم يجبر النقصان بالرجوع إلى الميقات، لأن الواجب عليه أن يرجع ويحرم بالحج من ميقاته. والله تعالى أعلم.

حكم الأخذ من الأظافر عند الإحرام لمن أراد أن يضحي

حكم الأخذ من الأظافر عند الإحرام لمن أراد أن يضحي Q علمنا أن من مسنونات الإحرام تقليم الأظافر وأخذ الشعر، ولكن هل هذا عام حتى لمن أراد الأضحية؟ A إذا أراد الإنسان أن يضحي وأراد أن يحج، وكان إيقاعه للإحرام بعد دخول شهر ذي الحجة فإن السنة أن لا يأخذ من شعره ولا ظفره، فلا يقدم السنة المستحبة على النهي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى من دخلت عليه العشر وأراد أن يضحي أن يمس ظفره وشعره، فدل على أنه يترك الشعر والظفر، فكونه يأتي إلى الميقات ويريد أن يصيب السنة بحسن الشرف والهيئة لا يسوغ ذلك، فلا تقدم السنة المستحبة على نهيه عليه الصلاة والسلام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا نهيتكم فانتهوا)، فقد نهانا بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فيلزمنا الامتثال، فلا يقص شعره ولا يقلم أظفاره، وحينئذٍ يكون له أجر السنة بالنية. والله تعالى أعلم.

حكم السعي بين الصفا والمروة في غير حج ولا عمرة

حكم السعي بين الصفا والمروة في غير حج ولا عمرة Q هل يشرع التطوع بالسعي بين الصفا والمروة في غير حج ولا عمرة قياساً على الطواف؟ A نص جمع من العلماء رحمة الله عليهم على مشروعية السعي بين الصفا والمروة ولو لم يكن الإنسان في حج أو عمرة؛ لأن الله قال في كتابه بعد ذكره لشعيرة السعي بين الصفا والمروة: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158] فأخبر أنه يشكر عمله، ولا شك أنه عام، وقد جاء بعد ذكره سبحانه وتعالى لشعيرة السعي بين الصفا والمروة: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158]، فكونه سبحانه يذكر التطوع بعد الحج والعمرة، أي: طف بين الصفا والمروة لحجك وعمرتك، وإن تطوعت خيراً فإن الله شاكر عليم، قالوا: فهذا يدل على أنه يجوز أن يسعى بين الصفا والمروة، ولو لم يكن ذلك في الحج والعمرة. والله تعالى أعلم.

توضيح قاعدة: (إذا خرج النص مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه)

توضيح قاعدة: (إذا خرج النص مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه) Q ما معنى القاعدة التي تقول: إن النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه؟ A للنص منطوق ومفهوم، المنطوق: هو دلالة اللفظ نفسه من حيث عمومه وخصوصه، فتنص السنة أو ينص الكتاب على حكم، كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، تقول: دلت الآية على وحدانية الله بمنطوقها: فوصف الله سبحانه وتعالى نفسه بكونه واحداً، وهذا نص من المنطوق. أما بالنسبة للمفهوم -وهو قسيم اللفظ المنطوق- فإنك إذا نظرت إلى لفظ الآية ولفظ الحديث تجد أن اللفظ يدل على معنى يسمى: المنطوق، وتجد خلافه، أي: عكس اللفظ هو: المفهوم. ومن أمثلة ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (في السائمة الزكاة)، فيصدق على البهيمة من الإبل والبقر والغنم إذا كانت ترعى وتسوم، هذا المنطوق، لكن المفهوم هو أنها (إذا لم تكن سائمة فلا زكاة فيها). كذلك أيضاً قال تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] هذا منطوق الآية، وهو أنه إذا بلغ اليتيم، وهو الشرط الأول، وكان رشيداً، وهو الشرط الثاني، {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6]، إذا بلغ وكان رشيداً يجب دفع المال إليه بمنطوق الآية ونصها، لكن مفهوم قوله: {آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء:6] أنه إن لم تؤانسوا منهم الرشد فلا تدفعوا إليهم أموالهم، فهذا يسمى المفهوم. وأقسامه: مفهوم صفة، وشرط، وعلة، ولقب، واستثناء، وعدد، وحصر، وظرف زمان، وظرف مكان، وغاية، هذه عشرة أنواع للمفاهيم: وقد جمعها بعض العلماء بقوله: صف واشترط علل ولقب ثنيا وعد ظرفين وحصر إنحيا هذه المفاهيم العشرة تعتبر عند العلماء على اختلاف فيما هو حجة منها وما ليس بحجة، فالمفهوم في بعض الأحيان يكون معتبراً وأحياناً يكون غير معتبر، فأنت إذا نظرت إلى قوله: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)، إذا كنت تعتبر أن مفهوم العدد حجة تقول: إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث، وإذا كنت تعتبر أن مفهوم العدد ليس بحجة فتقول قوله: (إذا بلغ الماء قلتين) لا مفهوم له، أي: لا أعتبر له مفهوماً، هذا بالنسبة لمفهوم العدد. لكن قوله: إذا خرج النص مخرج الغالب فلا مفهوم له، مثال ذلك: لما قال الله عز وجل: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23]، المرأة إذا تزوجتها وكانت لها بنت، فهذه البنت تسمى: ربيبة، والغالب في البنت إذا كانت مع أمها أن تتربى في حجر زوج أمها، فهو الذي يرعاها ويقوم عليها؛ لأن والدها قد طلق أمها، أو مات عن أمها مثلاً، ففي هذه الحالة تتربى في الغالب في حجر زوج أمها، وإذا ثبت أن الربيبة في الغالب تتربى في حجر زوج أمها فيكون قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء:23]، كأنه خرج مخرج الغالب، فتقول: لا أعتبر مفهومه؛ لأن مفهومه أنها إذا لم تترب في حجره -كأن يتزوج أمها وهي كبيرة- حينئذٍ يجوز له نكاحها كما يقول الظاهرية، لكن الجمهور يقولون: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23] لا مفهوم له؛ لأنه خرج مخرج الغالب. ومن أمثله -ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) فقال: (باتت) والبيتوتة لا تكون إلا بالليل، فتقول: الأمر بغسل اليدين قبل إدخالها الإناء عام، سواء كان مستيقظاً من نوم الليل أو نوم النهار، فيرد عليك الظاهري ومن يقول بالتخصيص فيقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (باتت)، فالحكم خاص بنوم الليل دون نوم النهار، فتقول له: (باتت) خرج مخرج الغالب؛ والقاعدة: أن الغالب في النوم أن يكون في الليل، ولذلك يقولون: إنه خرج مخرج الغالب فلا يعتبر مفهومه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

باب الفدية

شرح زاد المستقنع - باب الفدية من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام فيجب عليه الفدية، وهي واجبة على التخيير بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاةٍ، ومن قتل صيداً محرمٌ وجب عليه مثله من النعم؛ إن كان له مثل، وإن لم يكن له مثل فهناك تفاصيل ذكرها العلماء في هذه المسألة.

المحظورات التي تلزم فيها الفدية

المحظورات التي تلزم فيها الفدية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: يقول المصنف عليه رحمة الله: [باب الفدية]. (الفدية): ما يدفع أو يبذل لقاء الشيء، ومنه فداء الأسير، وكأن الإخلال بالمحظورات يوجب الضمان على المكلف فيما ورد الضمان فيه، كحلقه لشعره ونحو ذلك من المحظورات، فكأنه إذا أدى ما أوجب الشرع عليه لقاء هذا الإخلال قد فدى. وقوله رحمه الله: (باب الفدية) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالفدية، أي: ما يجب على المحرم بالحج والعمرة إذا أخل بالمحظورات. والأصل في هذه التسمية قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]، فسمى الله عز وجل ما يكون من الحاج والمعتمر لقاء إخلاله بحلقه لشعره فدية، فقال العلماء: باب الفدية. وقوله: [يخير بفدية حلق وتقليم وتغطية رأس وطيب ولبس مخيط بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين مد بر، أو نصف صاع من تمر، أو شعير، أو ذبح شاة]. فقوله رحمه الله: (يخير بفدية حلق) أي: أن الله عز وجل خير المكلف فيما يدفعه لقاء إخلاله بمحظور الحلق، فإذا حلق رأسه، أو نتف شعر إبطيه، أو حلق عانته، أو قص الشعر فإننا نقول: عليك الفدية. وهذه الفدية فدية تخييرية، والفدية منها ما يكون المكلف فيه مخيراً كفدية الأذى وفدية جزاء الصيد، وكذلك منها ما يكون على سبيل الترتيب كما أوجب الله عز وجل على من لم يجد الهدي أن يصوم عشرة أيام، ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. فقوله: (يخير بفدية حلق) الأصل في هذا التخيير قوله سبحانه وتعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] فجاءت (أو) للدلالة على التخيير، أي: إن شاء افتدى بالصيام، وإن شاء افتدى بالإطعام، وإن شاء افتدى بذبح النسيكة، وأكدت السنة هذا فيما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيحين من قوله: (انسك نسيكة، أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو صم ثلاثة أيام) فخير رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة، وجاء نص السنة موافقاً لما في الكتاب، ولذلك قال العلماء: (الفدية في الأذى تخييرية) فلو قال: أريد الإطعام. لا نلزمه بالصيام، ولو قال: أريد الصيام. لا نلزمه بالإطعام، فلو اختار أي واحد من هذه الثلاث فلا حرج عليه؛ لأن الله خيره.

التخيير في الفدية

التخيير في الفدية وقوله: [يخير بفدية حلق وتقليم]. يخير بفدية الحلق إذا حلق شعر رأسه أو قصه أو نتفه، أو حلق شعر سائر البدن أو قصه أو نتفه من أي موضع من البدن، هذا الحلق. (وتقليم) أي: تقليم الأظفار؛ لأن الله عز وجل جعل تقليم الأظفار من التفث، فقال سبحانه وتعالى في المتحلل: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] فلما قال: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:29] نبه على أنهم أثناء إحرامهم بالحج كان عليهم ذلك، بمعنى: أنهم تاركون لأظفارهم وأبشارهم وهيئتهم، ولذلك قال العلماء: يحظر تقليم الأظفار، كما تقدم معنا في المحظورات، فلما حرم الله على المحرم بالنسك أن يحلق شعر رأسه جعل الفدية لقاء الإخلال بحلق الشعر، ويعتبر هذا الدليل أصلاً في التنبيه على وجود الفدية فيه، فكأن الله عز وجل أورد الفدية لحلق الشعر لكي ينبه على المثل، وهي مسألة القياس، فكما أن المكلف أثناء إحرامه بالحج والعمرة إذا أحرم بالحج والعمرة وتلبس بالنسك، وحرم عليه أن يحلق شعره أو يأخذ شيئاً من شعر بدنه، وحظر عليه أن يقلم أظفاره، فإذا اعتدى بمخالفة الشرع هنا كان معتدياً في الآخر مثله سواء بسواء، فإذا خاطب الشرع بالضمان في قص الشعر وحلقه من سائر البدن فكأنه يقول: ألحقوا بهذا ما كان في حكمه. إذ لا يعقل أن تقول: محظور عليه أن يقلم أظفاره، ومحظور عليه أن يتطيب، ومحظور عليه أن يلبس المخيط، فإذا حلق شعر رأسه تقول: عليه الفدية، وإذا غطى رأسه أو لبس المخيط تقول: لا فدية عليه! فيكون هذا من التفريق بين المتماثلين، وقد عهدنا من الشرع أنه يسكت عن المثل حتى يؤجر المجتهد بالاجتهاد والقياس، ولذلك قد وردت النصوص في السنة بحجية القياس؛ لكي يكون هناك أجر للمجتهد بإلحاق النظير بنظيره، كما قال عمر رضي الله عنه لـ أبي موسى: (اعرف الأشباه، ثم قس الأمور بنظائرها)، وذلك في كتابه المشهور الذي بعث به إليه، وقد ذكره الإمام ابن القيم في (أعلام الموقعين)، وبين في أكثر من صفحة حجية القياس، وأورد أدلة السنة، وأن الشرع يسكت عن المثل حتى ينبه بعلة المثل على أنه آخذ حكم أصله. وعلى هذا فإنه لا يستقيم أن تقول: إذا حلق شعر رأسه عليه الفدية، وإذا تطيب ولبس المخيط وغطى رأسه وقلم أظفاره تقول: لا شيء عليه؛ لأن الكل محظور، والكل نهى عنه الله عز وجل وحرمه على المحرم كما ثبتت بذلك السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونبه الكتاب عليه كما في تقليم الأظفار، فإذا قلت: وجبت عليه الفدية هنا بنص الكتاب، فإن نص الكتاب يعتبر تنبيهاً على أن ما ماثل ذلك أخذ حكمه، كما نص على ذلك جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم، فقالوا: في حلق الشعر وتقليم الأظفار والطيب ولبس المخيط وتغطية الرأس الفدية؛ لأن الكل جاء بمرتبة واحدة في الشرع، حيث حرم الله عز وجل على المحرم أن يفعل هذه الأشياء، فإذا فعلها متعمداً فتلزمه الفدية. ثم لو نظرت إلى حديث كعب بن عجرة الثابت في الصحيحين أنه حمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر من على رأسه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما كنت أرى أن يبلغ بك الجهد ما أرى، ثم قال له: أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو صم ثلاثة أيام، أو انسك نسيكة) فهذا مريض ومعذور، ومع ذلك احتاج إلى حلق شعره وخاطبه الله بالفدية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة:196] فهو مع كونه معذوراً يخاطبه الشرع بالفدية، فما ظنك بمن اعتدى وتطيب عامداً متعمداً أليس هو أحرى بالفدية؟ ولذلك قالوا: إن قياس الأولى يقتضي إلحاق من أخل بهذه المحظورات بمن حلق شعر رأسه بدون إشكال أو ريب. وقوله: [وتغطية رأسه]. كأن يلبس عمامة أو طاقية أو يضع حائلاً على الرأس من سائر الغطاء فإنه يعتبر منتهكاً للحرمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تلبسوا العمائم) والعمامة سميت بذلك لأنها تعم الرأس بالتغطية، فلما نهى صلوات الله وسلامه عليه عن لبس العمامة، قالوا: من غطى رأسه فإنه قد وقع في المحظور الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيلزم بالفدية، فكما أنه إذا حلق رأسه مع وجود العذر لزمته الفدية، فلأن تجب عليه الفدية إذا غطاه من باب أولى وأحرى، خاصة إذا لم يكن له عذر. وقوله: [وطيب]. وهكذا الطيب سواء وضعه في بدنه أو في رأسه أو في مغابنه، فإنه تلزمه الفدية التي نص الله عز وجل عليها وهي فدية الأذى. وقوله: [ولبس مخيط]. وكذلك لبس المخيط، فجميع هذه الأشياء حظرت على المحرم، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا شيئاً من الثياب مسه الزعفران ولا الورس)، فحرم تغطية الرأس ولبس المخيط والطيب في البدن والثياب، فدل على أن هذه الأمور كلها تعتبر محظورة وهي في حكم واحد، فمن أخل بواحد منها كان كمن أخل بغيره سواء بسواء.

الفدية بصيام ثلاثة أيام

الفدية بصيام ثلاثة أيام وقوله: [بين صيام ثلاثة أيام]. يخير بين صيام ثلاثة أيام، نقول له: اختر، إما أن تصوم ثلاثة أيام حيث شئت فالصيام لا يتقيد بمكة، ولا يتقيد بحال إحرام، ولا يتقيد بزمان ولا مكان، لكن ينبغي عليه أن يبادر إبراء للذمة وخشية الاشتغال. ولا يجب أيضاً في هذا الصيام أن يكون متتابعاً، فلو صام في الوقت الحاضر يوماً، وفي الأسبوع القادم اليوم الثاني، وفي الأسبوع الذي بعده اليوم الثالث فلا حرج، سواء وقعت الأيام الثلاثة متتابعة أو متفرقة؛ لأن الله تعالى قال: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} [البقرة:196] وأطلق، وقال صلى الله عليه وسلم: (صم ثلاثة أيام)، والقاعدة: (أن المطلق يبقى على إطلاقه حتى يرد ما يقيده) ففي القرآن إطلاق في الصيام، وفي السنة إطلاق في الصيام، فإطلاق القرآن في قوله سبحانه: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} [البقرة:196] هذا إطلاق قيدته السنة بقوله عليه الصلاة والسلام: (صم ثلاثة أيام)، فقيدته في العدد ولم تقيده في الوصف، فلم يقل: صم ثلاثة أيام متتابعة، ولم يقيده بالمكان، فلم يقل: صم ثلاثة أيام في حجك، أو صم ثلاثة أيام في عمرتك، ولم يقيده بمكان كأن يقول: صم ثلاثة أيام بمكة، أو صم ثلاثة أيام في مكان إخلالك، فأصبح هذا الصيام له جملة من الأحكام: أولاً: أنه لا يتقيد بمكان معين فله أن يصوم حيث شاء. وثانياً: أن الواجب أنه مقيد بثلاثة أيام، وهذه الأيام الثلاثة لا يشترط فيها التتابع، فإن صامها متفرقة أو متتابعة فلا حرج عليه في ذلك. وهذا الصيام جعله الله عز وجل على الخيار، فإن اختاره فله أن يصوم لأكثر من فدية، فلو كانت عليه ثلاث فديات فأحب أن يصوم تسعة أيام فلا حرج.

الفدية بإطعام ستة مساكين

الفدية بإطعام ستة مساكين وقوله: [أو إطعام ستة مساكين]. هذا الخيار الثاني، نقول له: صم ثلاثة أيام حيث شئت، أو أطعم ستة مساكين، ولكل مسكين نصف صاع، وإطعام ستة مساكين الأصل فيها: قوله تعالى: {أَوْ صَدَقَةٍ} [البقرة:196] فإن (صدقة) نكرة؛ والقاعدة: (النكرة تفيد العموم) فهذا يشمل أي صدقة، ولذلك يقولون: إن القرآن لما ورد بالصدقة ورد بها على سبيل العموم أياً كانت قليلة أو كثيرة، فجاءت السنة وخصصت، والسنة تقيد مطلق القرآن وتخصص عمومه وتبين إجماله، {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] فهذا من بيان السنة للقرآن، فيكون بتقييد المطلقات وتخصيص العمومات وبيان المجملات، فلما قال سبحانه: {أَوْ صَدَقَةٍ} [البقرة:196] شملت الصدقة سواء أكانت قليلة أو كثيرة، فلو سكت القرآن على هذا وسكتت السنة عليه لكان أي صدقة تجزئ، لكن لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أطعم ستة مساكين) لكل مسكين قال: (أطعم فرقاً بين ستة مساكين) والفرق: ثلاثة آصع، فإذا كان الفرق ثلاثة آصع ويفرق بين ستة مساكين فمعناه أن لكل مسكين نصف صاع، وعليه قالوا: فدية الأذى يعطي نصف صاع من تمر، أو شعير أو بر أو غيره. فلذلك لما قال عليه الصلاة والسلام: (أطعم فرقاً بين ستة مساكين) دل على أنه يعطي لكل مسكين نصف صاع، لكنه لم يحدد صلوات الله وسلامه عليه الإطعام بمكان، فليس بواجب على من لزمته هذه الفدية أن يطعم ستة مساكين من مساكين الحرم، بل إنه إذا أطعم ستة مساكين في أي مكان أجزأه، ففدية الأذى بالإطعام والصدقة لا تختص بالحرم، ولذلك لو أطعم المساكين في الحرم وغيره فإنه يُبرئ ذمته بذلك الإطعام. وكذلك لو كانوا فقراء فإنه يجزيه إذا أطعم ستة فقراء، ولذلك قال العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أطعم ستة مساكين) لأن المسكين يعتبر أحسن حالاً من الفقير، فإذا جاز إطعامه للمسكين فمن باب أولى أن يطعم الفقراء، والسبب في ذلك: أن المسكين يصل به الضيق إلى أنه لا يجد قدر كفايته الكاملة، إنما يجد بعض الكفاية، ولكن الفقير قد لا يجد كفايته، ولذلك جعل الله المسكين أفضل حالاً من الفقير فقال سبحانه: {وأَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] فأثبت لهم وصف المسكنة مع كونهم يملكون السفينة، ولذلك يقولون: إن المسكين أحسن حالاً من الفقير. وهذا على أصح قولي العلماء، فالمسكين لا يجد كفايته، ولكن الفقير لا يجد لا قوته ولا أقل القوت في بعض الأحيان، بل قد لا يجد شيئاً، ويوصف بكونه فقيراً، ولكن المسكين يجد دون الكفاية فلا يجد قدر الكفاية، فيكون مسكيناً، وكان نص النبي صلى الله عليه وسلم على المسكين من باب التنبيه على من هو أدنى وأحرى، فكأنه على من هو أدنى يقول: أطعم ستة مساكين، وإن شئت أطعمت ستة فقراء. وقوله: [لكل مسكين مد بر، أو نصف صاع من تمر أو شعير]. يلاحظ أن المصنف رحمه الله فرق بين البر وبين غيره، فقال: (مد بر، أو نصف صاع من شعير أو غيره) والصحيح: أن نصف الصاع من أي طعام شاء، فيشمل التمر والبر والشعير، وأنه لا فرق بينها، والدليل: السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (أطعم فرقاً بين ستة مساكين) فإنه لما نص عليه الصلاة والسلام على الفرق دل على أن ما دونه لا يجزئ، إذا لو قلت: إن مد بر يجزئ لكل مسكين لكان الإطعام صاعاً ونصف من بر وثلاثة آصع من غير البر، والصحيح: أنه لا يجزئ أقل من ثلاثة آصع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (أطعم فرقاً بين ستة مساكين) دل على أن ما دون الفرق لا يجزئ، فلو قلنا: إنه يجزئ مد البر فإن هذا يؤدي إلى أن دون الفرق يجزئ، وهو خلاف ظاهر السنة، وقد قال به بعض الصحابة اجتهاداً كما هو فعل معاوية رضي الله عنه وأرضاه، وخالفه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأنكروا ذلك، ولا شك أن العمل يكون بما قال به جمهور الصحابة، بالإضافة إلى أنه هو الموافق لظاهر السنة؛ ولذلك لا وجه للتفريق بين البر وبين غيره.

الفدية بذبح شاة

الفدية بذبح شاة وقوله: [أو ذبح شاة]. الخيار الثالث أن نقول له: اذبح شاة، وفي الشاة مسائل: أولاً: أن هذه الشاة يشترط فيها أن تكون قد بلغت السن المعتبر، فلا يجزئ أقل من المسنة من الماعز، والجذع من الضأن، إذا أراد أن يذبح من الماعز فإنه لا يجزئ ما كان منها دون السنة، وإذا أراد أن يذبح من البقر فلا يجزئ ما دون السنتين -أي لابد أن يكون بلغ السنتين ودخل في الثالثة- وأما بالنسبة لجذع الإبل فلا يجزئ أقل مما أتم الرابعة وطعن في الخامسة، هذا بالنسبة للجذع من الماعز والبقر والإبل. أما بالنسبة للضأن فإنه يجزئ فيه الجذع، وهو ما تم له ستة أشهر فأكثر، فإذا أراد أن يذبح الشاة فإنه يخير بين أن يذبح مسنة من الماعز وبين أن يذبح جذعة من الضأن، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن) وعلى هذا: فليست كل شاة تجزي، فلو ذبح جفرة من المعز لا تجزي، ولو ذبح العناق لا تجزي؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديث البراء في الصحيح لما سأله أبو بردة رضي الله عنه أنه ذبح العناق فقال له: (تجزيك ولا تجزي غيرك) فدل على أنه لا يجزئ بالنسبة للماعز ما كان دون السنة التامة وهو المسن. وأما بالنسبة للبقر فيجزئ سبعها، وكذلك الإبل يجزي سبعها، فلو وجبت عليه الفدية وكانت عليه ثلاث إخلالات، فاشترى ثلاثة أسباع بعير أو ثلاثة أسباع بقرة فإنه يجزيه ذلك إذا بلغ البعير أو البقرة السن المعتبر. إذاً: تجزيه الشاة والسبع من البدنة والبقر لقاء هذه الفدية، ولو كان عليه أكثر من محظور وبلغت محظوراته السبع، فتكررت له في حج وعمرة وبلغت سبعاً، وأراد أن يذبح ناقة أجزأته عن جميع هذه المحظورات، وهكذا لو أراد أن يذبح عنها بقرة كما في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه: (أن الصحابة كانوا يشتركون السبعة في البعير) فدل على أن سبع البدنة يجزئ عن شاة، وكذلك ضحى رسوله الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقر، والبقر منزل منزلة البعير، وهذا عليه قضاء جماهير السلف والخلف رحمة الله على الجميع. فيجزيه في فدية الأذى أن يذبح شاة -وهو الخيار الثالث- أو يذبح سبع البدنة أو يذبح سبع البقرة، والذبح يجزيه في أي موضع، ومن هنا تختلف الفدية عن هدي التمتع والقران ودم الجبران، فهدي التمتع وهدي القران ودم الجبران لا يجزئ ذبحه إلا بمكة وداخل حدود الحرم، فلو ذبح هدي التمتع خارج حدود الحرم، كأن يذبحه في عرفات أو في التنعيم خارج حدود الحرم، فإنه لا يجزيه، ويكون صدقة من الصدقات، ويلزمه أن يكون ذبحه داخل مكة، ولذلك قال الله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95]. ومثل ذلك: جزاء الصيد؛ لأن الله نص فيه ببلوغه للكعبة، والمراد بقوله سبحانه: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] أي: بالغاً حدود الحرم، من باب إطلاق الجزء على الكل، كما قال سبحانه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد:1] والمراد: أطلق الجزء وأراد الكل، وكقوله عليه الصلاة والسلام: (لا سبق إلا في خف أو حافر) فأطلق الجزء وأراد الكل، وقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] أي: بالغاً حدود الحرم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (نحرت هاهنا، وفجاج مكة وشعابها كلها منحر) فدل على أنه يجزئ أن يذبح الشاة الواجبة عليه في الهدي، وهدي التمتع والقران وجزاء الصيد -كما ذكرنا- بمكة، وأما ما عداها من فدية الأذى ونحوها فيجزيه في أي مكان. أما الدليل الصريح الذي يدل على أنه يجزيه أن يذبح فديته في الأذى خارج مكة: ما ثبت في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة، أنه في عام الحديبية لما كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصابه ما أصابه، وهو دون الحرم لم يبلغ الحرم بعد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (انسك نسيكة) النسك: هو الذبح، ومنه قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162] أي: ذبحي، كما قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] فالنسك المراد به: الذبح، فقوله: (انسك نسيكة) أي: اذبح ذبيحة، ولم يقل له: بمكة، ولم يقل له: بالحرم، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلما أطلق صلوات الله وسلامه عليه قال العلماء: يجزيه أن يذبح الشاة في فدية الأذى والحلق والتقصير ونحوه في أي موضع شاء، ولا يلزمه أن يكون ذبحه بمكة، فإذا ذبحها فإنه قد أدى ما عليه.

حكم من قتل صيدا وهو محرم

حكم من قتل صيداً وهو محرم وقوله: [وبجزاء صيد بين مثل إن كان، أو تقويمه بدراهم يشترى بها طعاماً فيطعم كل مسكين مداً أو يصوم عن كل مد يوماً].

الحكم عند قتل المحرم لصيد له مثل

الحكم عند قتل المحرم لصيد له مثل فقوله: [وبجزاء صيد بين مثل إن كان]. نحن قدمنا أنه لا يجوز للمحرم بالحج والعمرة أن يقتل الصيد، وهذا ترتيب من المصنف رحمه الله، فبدأ بالمحظورات التي في جسد الإنسان وفي نفسه من الحلق والتقليم والتطيب وتغطية الرأس ولبس المخيط، ثم انتقل إلى ما يحتاجه لبدنه وهو جزاء الصيد فقال: (إذا أخل بجزاء الصيد)، ففي جزاء الصيد تكون الفدية تخييرية، والمراد بذلك: أن يقتل المحرم صيداً. ويشترط أن يكون الحيوان من الصيد، ولذلك بعض الناس اليوم يسأل: إذا كان في سيارة وهو محرم بالحج والعمرة، ثم يشاء الله أن يقتل شاة في الطريق، فالشاة ليست من الصيد، ونحن نتكلم على الصيد، فلو قتل حيواناً أصله من المتوحش الذي هي الصيود، وأما ما عدا الصيد من الحيوانات المستأنسة التي تكون مع الآدميين كالإبل والبقر والغنم فهذه لها حكم الضمان الشخصي، فلو صدمها بسيارته لا يجب ضمان الصيد في هذا؛ لأنها ليست بصيد، وإنما حرم عليه قتل الصيد، ولذلك يجوز لك وأنت محرم أن تذبح الشاة لضيوفك أو تذبح الشاة في سفر، أو تنحر البعير لك أو لضيوفك أو لرفقتك، فلا حرج عليك في هذا، فمحل الإخلال قتل الصيد. لكن مثلاً: لو كان في سيارته فارتطمت به حمامة أو عصافير فقتلها، أو دهس أرنباً أو نحو ذلك من الحيوانات سواء من الطيور أو غيرها من العوادي كتيس الجبل والوعول والظباء، فصدم مثل هذا وقتله، أو أطلق النار عليه فقتله، فحينئذٍ يقع Q قد أخل بما نهاه الله عز وجل عنه من قتل الصيد، فما الذي يلزمه؟ إذا قتل المحرم الصيد فينظر إلى الموضع الذي قتل فيه الصيد، ويبحث عن شخصين عدلين من الرجال دون النساء؛ لأن مثل هذه الأمور يطلع عليها الرجال أكثر من النساء، وحكمهم خاص بهم: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:106] فيأخذ اثنين من العدول الذين لهم معرفة في الموضع الذي قتل فيه الصيد، واختلف العلماء إذا لم يتيسر له ذلك، فقال بعضهم: يجزيه من أي موضع، بل حتى ولو تيسر له في موضع الصيد وذهب إلى غيره -كما أثر عن عمر رضي الله عنه في قضائه- فلا حرج. وقال بعض العلماء: الاثنان يمكن أن يكون هو واحد منهما مع آخر إذا كان عدلاً، فيحكم على نفسه، واستشهدوا بذلك في قضية عمر رضي الله عنه في الموطأ وغيره. فالمقصود: أن يأخذ هذين العدلين لينظرا في هذا الشيء الذي قتله من الصيد، وهذا الشيء الذي قتله من الصيد إما أن يكون له مثل من بهيمة الأنعام أو لا يكون له مثل من بهيمة الأنعام، فبهيمة الأنعام الإبل والبقر والغنم، فينظر الحكمان في هذا الشيء الذي قتله ما هو الذي يماثله من بهيمة الأنعام، فإن كان -مثلاً- تيس جبل فينظرون في حجمه، فيجدون أن الذي يماثله تيس من الماعز مثلاً، فيقولون حينئذٍ: مثله شاة من ماعز أو ضأن (طلي) مثلاً. ثم ينظرون أيضاً إلى مثله من البقر إن كان بقر وحش أو غزالاً أو ريماً، فإن قتل غزالاً أو ريماً أو وعلاً فينظرون فيه إلى ما يعادله، فقالوا: عدل حمار الوحش وبقر الوحش البقرة، فحينئذٍ يوجب عليك بقرة، أو ينظرون إلى أنه قتل نعامة، فيقولون: عدل النعامة البعير، فكل شيء من هذه الصيود التي لها عدل ومثل يحكم عليه بذلك المثلي. فالمرحلة الأولى: أن يبحث عن العدلين. الثانية: بعد وجود العدلين يقوم العدلان بالنظر فيما قتل وما الذي يماثل المقتول، فإن كان له مثلي من بهيمة الأنعام من إبل أو بقر أو غنم حكما عليه بذلك المثلي، فإذا أصدر الحكم أن عليه شاة فيقولان له: عليك شاة. ويحددان له هذه الشاة المطلوبة، فإذا حددت فيقولان له: أنت بالخيار: إما أن تذبح هذه الشاة بمكة وتتصدق بها على فقراء الحرم -هذا الخيار الأول- أو تقوم الشاة بالنقد، فقيمتها -مثلاً- مائة ريال، فالمبلغ الذي تبلغه يقدر به الطعام، فيُشترى به آصع من التمر، فرضنا أن الصاع بعشرة ريالات، فحينئذٍ إذا كانت قيمة الشاة مائة ريال فيكون عليه عشرة آصع، فيعطونه الخيار الثاني، يقولون له: إما أن تذبح الشاة بمكة، أو تطعم عشرة آصع لكل مسكين ربع صاع، وقيل: نصف صاع، على خلاف بين أهل العلم رحمة الله عليهم، فإذا قلنا بربع الصاع فنقول: إذا كان عليه عشرة آصع ولكل مسكين ربع صاع، فيكون عليه إطعام أربعين مسكيناً. فيقال له: إما أن تذبح الشاة بمكة، أو تطعم أربعين مسكيناً بمكة -على خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم- أو تصوم عدل كل مسكين يوماً، فإن قلت: نصف صاع يكون حينئذٍ عليه عشرون يوماً، وإن قلت: ربع صاع يكون عليه أربعون يوماً، فيقال له: إما أن تذبح الشاة بمكة أو تطعم المساكين الذي هو عدل قيمة الشاة، أو تصوم من الأيام عدل النصف أو الربع على قولي العلماء رحمة الله عليهم، ورجح أكثر من واحد الربع، أي: أن عليه ربع صاع لكل مسكين. وعلى هذا: يكون جزاء الصيد ليس بالترتيب وإنما هو بالتخيير، فيقال له: إن شئت أخرجت العدل والمثل، ولا نلزمك به عيناً، وإن شئت أطعمت وإن شئت صمت عدل المساكين الذين وجب عليك إطعامهم.

الحكم عند قتل المحرم لصيد ليس له مثل كالعصفور

الحكم عند قتل المحرم لصيد ليس له مثل كالعصفور إن لم يكن للصيد مثل، كأن يكون -مثلاً- عصفوراً، فالعصفور حينما تنظر إليه لا يعادل شاة ولا بقرة ولا بعيراً، فهذا مما لا مثل له من بهيمة الأنعام، والله تعالى يقول: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة:95] فإذا كان لا مثل له من بهيمة الأنعام فيقولون: ينقطع الخيار الأول -وهو بهيمة الأنعام- وحينئذٍ إذا كان قد قتل عصفوراً فنقول للحكمين: قدرا قيمة العصفور. فيقدران أن قيمة العصفور عشرة ريالات، فنقول له: أنت بالخيارين، إما أن تطعم بالعشرة وتشتري بها، فلو فرضنا أن العشرة تعادل صاعاً، فنقول له حينئذٍ: خذ الصاع وأطعم المساكين إما ربعاً أو نصفاً، وإن قلنا: النصف؛ فحينئذٍ كم مسكيناً يكون عليه أن يطعم؟ إذا كان الصاع الواحد بعشرة ريالات، فيكون عليه أن يطعم مسكيناً؛ لأن قيمة العصفور عشرة ريالات، والعشرة الريالات قيمة للصاع الواحد، فإن كان عليه نصف صاع لكل مسكين فمعناه أنه يطعم مسكينين، وإن قلنا: ربع صاع، فيطعم حينئذٍ أربعة مساكين؛ لأن لكل مسكين ربع صاع، فعلى هذا يقال له: إما أن تصوم يومين على أن الواجب النصف، أو تصوم أربعة أيام على أن الواجب الربع. هذا بالنسبة إذا لم يوجد للمقتول من صيد البر مثلٌ من بهيمة الأنعام، وعليه قالوا: إن قتل الصيد إما أن يكون بمثل فيخير بين ثلاثة أشياء: المثل، أو عدله من الطعام، أو عدله من الصيام. وأما إذا لم يوجد له مثل فإنه ينتقل إلى الإطعام أو عدل الإطعام من الصيام، هذا بالنسبة لجزاء الصيد. وقوله: [وبجزاء صيد بين مثل إن كان]. (بين مثل إن كان) أي: وجد له مثل. وقوله: [أو تقويمه بدراهم إن كانت]. (أو تقويمه) تقويم المثل على أصح أقوال العلماء؛ لأن هناك قولاً يقول: يقوم الصيد. والصحيح: أن الذي يقوم هو المثل؛ لأن المثل هو الذي وجب، والله تعالى يقول: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} [المائدة:95] وهناك فرق بين أن يقوم الصيد وبين أن يقوم بهيمة الأنعام، فلو فرضنا أنه: قَتل حمار وحش، فإذا عدلته ببقرة فإنك تجد قيمة البقرة -مثلاً- خمسمائة ريال، لكن حمار الوحش يكون غالياً، فقد تصل بقرة الوحش -مثلاً- إلى سبعمائة أو ثمانمائة ريال، فحينئذٍ يكون هناك فرق بين قيمة المثل وقيمة الصيد، ولذلك اختلف العلماء هل العبرة بقيمة الصيد أو العبرة بقيمة المثل؟ والصحيح: أن العبرة بقيمة المثل؛ لأن الله عز وجل أوجب عليه أن يخرج المثل الذي هو عدل ما قتل من بهيمة الأنعام، فلما وجب عليه أن يخرج العدل وهو من بهيمة الأنعام صارت ذمته مشغولة بالعدل من بهيمة الأنعام لا بالصيد؛ لأن هذا العدل وقع بدلاً عنه، فحينئذٍ يكون بدلاً عن ذلك الذي وجب عليه، فيُلزم بالنظر إلى قيمة المثلي من بهيمة الأنعام لا إلى قيمة الصيد المقتول. وقوله: [أو تقويمه بدراهم يشتري بها طعاماً فيطعم كل مسكين مداً]. وهذا يرجع في التقويم إلى قول أهل الخبرة، والأصل في الشريعة الإسلامية في القضاء، وفي مثل هذه المسائل في فصل الخصومات أنه إذا احتيج إلى التقديرات أنه يرجع إلى أهل الخبرة والنظر، فلا يقبل تقدير كل أحد، وإنما يسأل أهل الخبرة كم قيمة هذا العدل أو المثل من بهيمة الأنعام؟ فمثلاً: لو فرضنا أن المحرم يرى أن الشاة تساوي ثلاثمائة ريال، لكن أهل الخبرة قالوا: قيمتها أربعمائة ريال أو خمسمائة ريال، فلا يلتفت إلى تقديره هو، وإنما ينظر إلى قول أهل الخبرة؛ لأنه يرجع في كل فن وعلم إلى أهله، وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المسألة: (أن الشرع يأخذ بشهادة كل قوم فيما يختص بهم) فإذا شهد الشهود العدول أهل كل صنعة بصنعتهم اعتدَّ بشهادتهم وأخذ بها. وقوله: [فيطعم كل مسكين مداً]. المُد: وهو ربع الصاع، بمقدار ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، وهو مد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تكلمنا على هذه المسألة في الزكاة، فهناك ربع الصاع الذي يسمى بالمد النبوي، وهو أصغر المكاييل النبوية، وهو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ به، وهناك الصاع الذي يعادل أربعة أمداد، وهناك المد الكبير وهو موجود في زماننا، والمد الكبير يعادل ثلاثة آصع، فأصبح المد الكبير يعادل من المد الصغير اثني عشر مداً صغيراً، وهذا موجود إلى زماننا، ويقال للصغير: المد النبوي، ويقال للمتوسط: الصاع النبوي، وهو الذي كان يغتسل به صلوات الله وسلامه عليه. قوله: [أو يصوم عن كل مد يوماً]. سواء أوقع الصيام متتابعاً أو متفرقاً. وقوله: [وبما لا مثل له بين إطعام وصيام]. ويخير فيما لا مثل له بين إطعام وصيام؛ لأنه سقط المثلي لتعذره؛ ولأنه لا مثل له، فالله أوجب المثل إن وجد، فأما إذا كان عصفوراً ولا مثل له فحينئذٍ لا يلزمه إلا الإطعام وعدل الإطعام من الصيام.

وجوب الهدي في المتعة والقران

وجوب الهدي في المتعة والقران وقوله: [وأما دم متعة وقران فيجب الهدي]. هذا مما لزم بالترتيب، والأول لزم بالتخيير، ففي التمتع والقران يجب عليه أن يذبح شاة بالصفة التي ذكرناها، يشترط فيها: أن تكون بلغت السن المعتبرة، وأن تكون سالمة من العيوب، وأن يكون هدي القران والتمتع ذبحه ونحره بمكة، فهذه أمور لابد من توافرها للحكم ببراءة ذمته من هذا الواجب، فإذا لم يجد الشاة فإنه ينتقل إلى البدن، فليست بلازمة على التخيير وإنما هي لازمة على الترتيب؛ لأن الله رتبها في كتابه في آية البقرة في التمتع: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196].

كيفية الصيام إن عدم الهدي في المتعة والقران

كيفية الصيام إن عدم الهدي في المتعة والقران وقوله: [فإن عدمه فصيام ثلاثة أيام]. فإن عدم الهدي ولم يجده، كأن يكون ذهب وليس عنده مال يشتري به الهدي بالنسبة له وهو في الحج، والعبرة به وهو في الحج، فلو كان عنده مال ببلده لم يؤثر كما في المتيمم، فإن المتيمم إذا سافر وفقد الماء في السفر فإنه سوف يجده في بيته وفي الحضر، فوجدانه في بيته لا عبرة به إنما العبرة بحاله حينما خوطب وأُلزم، والعبرة في قدرته على الإتيان بالهدي، وللعلماء في هذه المسألة أقوال، أصحها: أن العبرة بصبيحة يوم النحر، فإذا أصبح يوم النحر وليس عنده قدرة على شراء الهدي وأصبح فقيراً فإنه لا يلزمه الهدي، وقيل: بمجرد إحرامه -العبرة بالإحرام- وفائدة الخلاف: أنه لو كان غنياً قبل يوم النحر ثم افتقر يوم النحر بسرقة ماله، أو وجود غرامة عليه فذهب ماله في تلك الغرامة، أو احتاج رفيقه إلى مال فأخذه واستنفده في سفره ونحو ذلك فحينئذٍ إذا قلنا: العبرة بإهلاله وجب عليه الهدي عيناً، وأما إذا قلنا: إن العبرة بصبيحة يوم النحر فحينئذٍ ينظر إلى حاله صبيحة يوم النحر؛ لأنه حينئذٍ يلزمه التحلل من نسكه بالهدي. وعلى هذا فإذا كان في صبيحة يوم النحر فقيراً أو معسراً فلا يلزمه الدم، وكذلك أيضاً لو لم يجد الدم، عنده المال ولكنه لم يجد الشاة ولم يجد سبع البدنة ولا سبع البقرة، فذهب إلى السوق فلم يجد شيئاً، فحينئذٍ يلزمه أن ينتقل إلى البدل ويسقط عنه الدم إذا مضت أيام التشريق ولم يجده. وقوله: [والأفضل صوم آخرها يوم عرفة وسبعة إذا رجع إلى أهله]. يصوم ثلاثة أيام إذا لم يجد في الحج، واختُلف هل العبرة بإهلاله للعمرة لأنها سبب في التمتع وسبب في لزوم الدم، أم أنها تكون من بداية إهلاله بالحج، فظاهر القرآن: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة:196] أنه يصوم بعد إهلاله بالحج، وقال به طائفة من السلف، وهو مذهب المالكية والحنفية، على أن الله عز وجل قيد هذا الصيام بالحج، فلا يجزيه أن يبدأ به وهو في العمرة، وتوضيح ذلك: أنه لما قيد بظرفية الحج: {ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة:196] دل على أنها لا تجزي في غير الحج، فقالوا حينئذٍ: يلزمه الصيام إذا شرع في الحج، وأما قبل الحج فلا يصح منه، وقال بعض العلماء -وهو رواية الإمام أحمد، اختارها جمع من أصحابه-: إذا أحرم بالعمرة أجزأه أن يصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت العمرة في الحج، وشبك بين أصابعه)، ولكن رد على هذا الدليل بأن الله تعالى فصل بين العمرة والحج في الآية التي أوجب فيها البدل، فقال: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] ففصل بين العمرة وبين الحج، وهذا القول -الذي يقول: إنها تكون بعد الإحرام بالحج- هو الذي تطمئن إليه النفس؛ لأن ظاهر القرآن فيه قوي، ودخول العمرة في الحج قصد منه النبي صلى الله عليه وسلم جواز العمرة في أشهر الحج، وهي مسألة خارجة عن موضوعنا. ولذلك يقوى أن يقال: إنه لا يصومها إلا بعد إحرامه بالحج، فإذا أحرم بالحج فيصوم الثلاثة الأيام، ويستحب أن يكون صيامه قبل يوم عرفة، وهذا هو قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعبد الله بن عمر، وكانت أم المؤمنين عائشة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما لا يريان الصيام عن دم التمتع قبل الحج -كما ذكرنا في مذهب من سمينا من العلماء- وكانا يريان ظاهر القرآن في قوله: (في الحج) فيصومها فيما بين إحرامه بالحج وقبل يوم عرفة، واختارا أن يكون إهلاله -مثلاً- بالحج من اليوم السادس ليصوم السادس والسابع والثامن، فإذا جاء يوم عرفة فتكون ذمته قد برئت، ولا يُدخل يوم عرفة في الصيام، وقال بعض السلف -كما هو قول طاوس ومجاهد والشعبي والنخعي وجمع من السلف-: (إنه يجوز أن يصوم ويجعل يوم عرفة آخرها) وهذا القول قول مرجوح، ولكن إذا احتاج الإنسان إليه بمعنى: أنه لم يستطع أن يصوم فيما قبل يوم عرفة فإنه يصوم يوم عرفة؛ لأنه صيام واجب عليه. واختلف العلماء: هل الأفضل أن يفطر يوم عرفة ويصومها من أيام التشريق، أو الأفضل أن يصوم يوم عرفة ولا يصوم أيام التشريق؟ والسبب في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيام منى أيام أكلٍ وشربٍ وبعال)، قالوا: فهذا يدل على أنه لا ينبغي للحاج أن يصومها، ولذلك قالوا: لا تصام أيام التشريق للحاج، فمن يقول بأفضلية تأخيرها عن يوم عرفة يقول: يجوز أن يؤخر هذا اليوم، والأفضل: ألا يصوم يوم عرفة ويؤخرها إلى أيام التشريق، فيجعل هذا اليوم الثالث من الأيام الواجبة عليه من أيام التشريق؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم ثبت عنهم أنهم كانوا يصومون أيام التشريق في دم التمتع، ولذلك قالوا: نفضل له أن يفطر يوم عرفة؛ لأنه الركن الأعظم، وقد قصد من هذا الركن أن يتفرغ للدعاء فيكون أبلغ وأقوى وأجلد له على الدعاء، ثم بعد ذلك يصوم هذا اليوم من أيام التشريق. وقال بعض العلماء بل يصوم يوم عرفة؛ وذلك لأن يوم عرفة له أصل من فعل الصحابة، فكانت أم المؤمنين عائشة تصومه كما جاء في الموطأ، حتى إذا ابيضت الأرض بينها وبين الحاج دعت بفطورها فأفطرت، قالوا: حينئذٍ يصوم يوم عرفة، وكان طاوس بن كيسان -وهو من تلامذة ابن عباس - وسعيد بن جبير وكذلك الحسن البصري والشعبي وإبراهيم النخعي -وهو قول طائفة من السلف- يرون أنه يصوم هذا اليوم -أعني: يوم عرفة- ويجعله ضمن الأيام. والذي يظهر -والله أعلم-: أنه يصوم السادس والسابع والثامن، ولا يصوم يوم عرفة، وإذا بقي عليه شيء من الثلاثة الأيام يؤخره إلى أيام التشريق؛ فإنه أفضل من صيام يوم عرفة لما ذكره أصحاب هذا القول، فإن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يصومون أيام التشريق، وحينئذٍ لما جاءنا عن الصحابة أنهم صاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أيام التشريق يقوى أن يقال: بأنه ينصرف إلى أيام التشريق ويقدمها على يوم عرفة. وقوله: [والأفضل كون آخرها يوم عرفة وسبعة إذا رجع إلى أهله]. وهذا لما ذكرناه من قول بعض السلف كـ طاوس وغيره، ولكن قلنا: إن هذا مرجوح، والصحيح: مذهب من سمينا أنه لا يصوم يوم عرفة؛ لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعبد الله بن عمر كانا يقولان: (يصومها فيما بين إحرامه بالحج وقبل يوم عرفة) وعلى هذا إذا شاء فإنه يحرم بالحج ليلة الخامس، فيصوم الخامس والسادس والسابع، وإن شاء يحرم بالحج ليلة السادس فيصوم السادس والسابع والثامن، فهذا أفضل له وأبلغ في إبراء ذمته وانصرافه إلى حجه متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم بفطر يوم عرفة وبفطر أيام التشريق. وقوله: [وسبعة إذا رجع إلى أهله]. ويلزمه صيام سبعة أيام إذا رجع إلى أهله، قال بعض العلماء: (العبرة في الرجوع بالشروع) فلو مثلاً: انتهى من الحج، وركب في السفر وهو راجع إلى أهله يجوز أن يصوم؛ لأنه راجع إلى أهله، وقيل: (إذا رجع) أي: إذا وصل إلى أهله، فإذا وصل إلى أهله صام السبعة.

حكم المحصر إذا لم يجد هديا

حكم المحصر إذا لم يجد هدياً وقوله: [والمحصر إذا لم يجد هدياً صام عشرة ثم حل]. والمحصر: الممنوع، الحصر: أصله المنع، والمحصر: هو الذي يمنع من البيت كما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، أهل بالعمرة فمنع من الوصول إلى البيت، فإذا أحصر بعدو فإنه ينحر هديه ثم يتحلل ولا شيء عليه، أي: ليس عليه قضاء عمرته أو حجة، وهذا على أصح قولي العلماء، فإذا منع بعدو من الوصول إلى البيت لا يقال بأنه ينحر مباشرة وإنما ينظر فيه، يقال: هل لك طريق غير هذا الطريق يمكن أن تصل به إلى البيت؟ قال: نعم. نقول: أنت لست بمحصر، ويلزمك أن تذهب إلى الطريق البديل، ولا يحكم بإحصاره إلا إذا منع بالكلية فليس له إلا طريق واحد أو طريقان، وهذان الطريقان لا يمكن أن يصل معهما إلى البيت. كذلك أيضاً يتفرع عليه أن المحصر الأصل في أنه يتحلل قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] فجعل للمحصر مخرجاً من إتمام حجه، وهذا يعتبر بمثابة الرخصة جعلها الله عز وجل للعزيمة في قوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]. فالأصل عندنا في الشرع أن من نوى الحج أو من نوى العمرة وتلبس بالنسك فإنه يجب عليه أن يتم هذا النسك، فإذا منع من الوصول إلى البيت وحيل بينه وبين البيت بأي حائل يمنع من وصوله إلى البيت فإنه حينئذٍ يعدل إلى هديه، وإذا نحر الهدي تحلل ولا شيء عليه، فلا نطالبه بقضاء عمرته ولا نطالبه بقضاء حجه على أصح قولي العلماء رحمة الله عليهم. وقوله: [والمحصر إذا لم يجد هدياً صام عشرة ثم حل]. قياساً على دم المتعة، وذهب المالكية والحنفية إلى أنه إذا لم يجد الهدي لا شيء عليه، وهذا هو الصحيح؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى جعل الصيام بدلاً في هدي التمتع، ولم يجعله في هدي الإحصار فقال: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] ولم يذكر البدل، لكن أصحاب القول الأول -كما يختاره المصنف- لهم حجة، قالوا: إن الله عز وجل ذكر حكم الإحصار، فقال: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، ثم قال بعدها: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] قالوا: ((فما استيسر من الهدي)) فنص على الهدي مع أن السياق واحد، فذكر الإحصار ثم أتبعه بالتمتع فكأن الحكم واحد، فكأنه ذكره في المتأخر حتى لا يحصل التكرار بعد ذكره في المتقدم، ولذلك قال بعدها: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196] ولذلك لا يقع إحصار لمن كان من حاضري المسجد الحرام، ولكن الصحيح أن المقصود بقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] المراد به: من كان متمتعاً دون من كان محصراً؛ لأن قوله: {ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] يدل على أنه قد حج، وأن الآية المراد بها المتمتع، والمحصر لم يحج بعد، فلا يستقيم أن تجعل هذه الآية بدلاً عما تقدم، ولذلك يقوى أن آية وجوب الهدي تختص بالمحصر ولا بدل عن الهدي، فإذا لم يجد الهدي فلا شيء عليه، كأن يكون ليس عنده مال فيذبح الهدي أو لم يجد الهدي حتى يذبحه؛ فإنه حينئذٍ يتحلل ولا شيء عليه على أصح قولي العلماء رحمة الله عليهم.

وجوب الفدية على من وطئ في فرج

وجوب الفدية على من وطئ في فرج وقوله: [ويجب بوطء في فرج في الحج بدنة]. تقدمت هذه المسألة: أنه إذا جامع في الحج فعليه بدنة، وبينا هذا، وذكرنا قضاء الصحابة رضوان الله عليهم. (بوطء في فرج) في قبل أو دبر من حلال أو حرام، وهذا قضاء من ذكرنا من الصحابة عن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأبي هريرة وعائشة رضي الله عن الجميع. وقوله: [وفي العمرة شاة]. قالوا: لأن الأصل في الإخلال بالوطء أن يجبر بالشاة، ولذلك جعل الله الشاة في دم المتعة؛ لأنها تقع بين الحج والعمرة، فجعل الشاة ضماناً للتمتع الواقع بين الحج والعمرة، فلما جعلت الشاة ضماناً لهذا الإخلال قالوا: إنه إذا وطِئ في عمرته فإنه يجب عليه دم وهو الشاة. وقوله: [وإن طاوعته زوجته لزمها]. يفصل في الزوجة: فإن أكرهت وغلبت فلا شيء عليها، كما هو الحال في كفارة الجماع في نهار رمضان، وأما إذا طاوعته ورضيت وأغرته فإنه يلزمها ما يلزمه.

حكم من كرر محظورا من جنس واحد

حكم من كرر محظوراً من جنس واحد وقوله رحمه الله [فصل: ومن كرر محظوراً من جنس ولم يفد فدى مرة]. كأن يكون كرر التطيب، فتطيب بعد لبسه للإحرام في اليوم السابع، ثم تطيب في اليوم الثامن، ثم تطيب في اليوم التاسع، فحينئذٍ كرر التطيب ثلاث مرات وهو محظور، فإذا لم يفد عن المرة الأولى ولم يفد عن المرة الثانية فعليه فدية واحدة، ولا يلزمه إلا فدية واحدة، وهكذا لو غطى رأسه في اليوم السابع والثامن والتاسع والعاشر ولم يفد عن المرة الأولى فعليه فدية واحدة، وهكذا إذا لبس المخيط في اليوم الخامس والسادس والسابع والثامن -تكرر هذا- فعليه فدية واحدة إذا لم يفد عن المرة الأولى. وقوله: [بخلاف صيد]. لو قتل بقر وحش، ثم صاد حمار وحش، ثم صاد يربوعاً أو ضبعاً فحينئذٍ يلزمه أن يفدي ثلاثاً، ويكون عليه جزاء الصيد مكرراً بتكرار الإخلاف؛ لأنه لا يتداخل، بخلاف الطيب، وبخلاف الترفه في البدن بحلق وتقصير وتغطية رأس ولبس مخيط ونحو ذلك.

حكم من كرر محظورات من أجناس مختلفة

حكم من كرر محظورات من أجناس مختلفة وقوله: [ومن فعل محظوراً من أجناس فدى لكل مرة رفض إحرامه أو لا]. هذا مبني -كما ذكرنا- إذا وقع المحظور بالطيب وغطاء رأسه ولبس المخيط، فنقول: لجنس المخيط فدية، وللمحظور بتغطية الرأس فدية، وللطيب فدية، فالطيب جنس، وتغطية الرأس جنس، ولبس المخيط جنس، فيلزمه ثلاث فديات، ولا تتداخل فدية إذا اختلفت أجناسها، وأما إذا تكررت من جنس واحد كطيب أو لبس مخيط، فتكرر الطيب أكثر من مرة، وتكرر لبس المخيط أكثر من مرة، ففدية واحدة لمكان التداخل. وقوله: [فدى لكل مرة رفض إحرامه أو لا]. إذا نوى الشخص أن يخرج من عمرته أو نوى أن يخرج من حجه فلا تؤثر فيه هذه النية، فبعض العوام مثلاً: إذا جاء في رمضان وهو محرم بالعمرة فرأى الزحام لبس ثيابه ورجع إلى بلده، فلا يزال محرماً، ويكون طيلة هذه الأيام -وهو رافض لإحرامه لابس لثوبه- محرم عليه ما على المحرم سواء بسواء، فمعنى الرفض: أن يقول: لا أريد أن أكمل عمرتي. ويلبس ثيابه، فتقول: هو محرم حتى وإن كرر المحظور مائة مرة، فإن فعل جميع المحظورات فيلزمه أن يفدي عن كل محظور بفديته، فالرفض لا يؤثر، والدليل على أن رفضه لا يؤثر، قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، فإذا شرع بعمرة أو بحج فإن الله يخاطبه بالإتمام، فإذا قال: خرجت من عمرتي فخروجه وجوده وعدمه على حد سواء؛ لأنه لا يخرج من عمرته ولا بحجه إلا بإتمام نسكه أو إذا كان محصراً فبهديه على الصفة الشرعية، وعلى هذا تقول: لو أنه لبس ثيابه فجامع امرأته فسد حجه وفسدت عمرته، فيمضي في فاسد الحج والعمرة، ثم يرجع إلى الإحرام مرة ثانية، ويمضي في فاسد الحج والعمرة، وتطالبه بضمان ما كان منه من إخلال. لو أنه -مثلاً- في يوم من رمضان أحرم بالعمرة فجاء فوجد الزحام فلبس ثوبه وتطيب وغطى رأسه وقتل الصيد، تقول: هو لازال محرماً، ويلزمه جزاء الصيد، ويلزمه فدية لتغطية رأسه ولطيبه وللبس مخيطه. فمعنى رفضه للإحرام: أن يلبس ثيابه ويقول: لا أريد العمرة، أو يلبس ثيابه ويقول: لا أريد أن أتم الحج. فهو محرم بالحج والعمرة حتى يتمهما على الوجه الذي أمر الله عز وجل.

حكم ارتكاب أحد محظورات الإحرام نسيانا

حكم ارتكاب أحد محظورات الإحرام نسياناً وقوله: [ويسقط بنسيان فدية لبس وطيب وتغطية رأس]. لأنه يمكن فيه التدارك، فلو أن إنساناً غطى رأسه وهو محرم ناسياً ثم تذكر وأزال الغطاء فلا شيء عليه، ولو تطيب ثم تذكر فغسل مباشرة فلا شيء عليه، ولو لبس ثوباً ثم تذكر فأزاله فلا شيء عليه؛ لأن محظور لبس المخيط وتغطية الرأس والطيب يمكن تدارك الخطأ فيه، ولكن لو قلم أظفاره وقص شعره وجامع امرأته ناسياً فإن الناسي والمتعمد سواء؛ لأن هذا القص للأظفار لا يمكن أن يعيد ظفره، وإذا قص شعره أو حلقه فلا يمكن أن يتدارك الإخلال، فالفرق بين ما يسقط بنسيان وما لا يسقط: أنه إذا كان مما يمكن التدارك فيه سقطت الفدية إذا تدارك، وأما إذا كان مما لا يمكن التدارك فيه لزمته الفدية متعمداً كان أو ناسياً. وقوله: [ويسقط بنسيان الفدية لبس وطيب وتغطية رأس دون وطء]. ذكرنا أن الوطء لا يمكن تداركه، وهكذا لو قلم أظفاره أو قص شعره أو حلقه، فما لا يمكن التدارك فيه يستوي فيه العمد والنسيان ويلزم فيه بالضمان. وقوله: [دون وطء وصيد وتقليم وحلق]. فالصيد إذا قتل لا يمكن أن تعاد الحياة له، وأما إذا غطى رأسه ولبس المخيط وتطيب فإنه يمكنه أن يزيل هذا الترفه، وحينئذٍ فرق بين الناسي في هذه الأشياء التي هي المحظورات التي يمكن التدارك فيها، وبين ما وقع فيه الإخلال فاستوى فيه عمده وخطؤه؛ لأن الله حينما أمر بضمان قتل الصيد قال: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة:95] فخرج مخرج الغالب؛ لأن الصيد في الغالب إنما يقصد؛ لأنه يحتاج إلى تنبه واحتياط، فالغالب أن الإنسان يقتله قاصداً، وإذا خرج النص مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه، فيستوي حينئذٍ أن يكون متعمداً أو يكون مخطئاً؛ لأن هذا الصيد حرم الله قتله كما حرم قتل الآدمي، ولذلك إذا قتل الآدمي بالخطأ لزمه أن يعتق الرقبة بدلاً عن هذا الذي قتله، فكما أن الآدمي إذا قتله لزمه أن يضمن حق الله -مع أن الحق لله عز وجل- فلزمه أن يعتق الرقبة، فإذا لم يجد صام شهرين متتابعين مع أنه مخطئ، قال العلماء: هذا أصل من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي. وهناك فرق بين الأحكام الوضعية والأحكام التكليفية، فالحكم الوضعي: هو الذي يلتفت فيه إلى الأسباب، فالشرع أوجب على المكلف أن يضمن هذا الصيد الذي قتله في حال إحرامه بغض النظر عن كونه قاصداً أو غير قاصد، كما أنه يضمن خطأه بقتل الآدمي بالخطأ مع أنه غير قاصد، فالقاتل للآدمي بالخطأ غير قاصد لقتله، ومع ذلك ترتب عليه حقان: حق لله عز وجل وحق للآدمي، فحق الآدمي بالدية، وحق الله عز وجل بعتق الرقبة، ثم إذا لم يجد صام شهرين متتابعين، قالوا: كما أنه ضمن هنا حق الله عز وجل من باب الأسباب، كأن الشرع أقامه سبباً وعلامة على الضمان بغض النظر عن القصد، فحينئذٍ يستوي أن يكون متعمداً لقتل الصيد أو غير متعمد له. هذا وجه من قال من العلماء -رحمة الله عليهم- وهو مذهب الجمهور: أن قتل الصيد يستوي فيه المتعمد والناسي من باب الأحكام الوضعية، وباب الأحكام الوضعية لا يرد عليه أن يقال: إن الناسي غير مؤاخذ؛ لأن الله تعالى يقول: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} [البقرة:286] فنحن نقول في قتل الصيد خطأ لا إثم عليه؛ لأن الله لا يؤاخذ الناسي، لكنه يضمن هذا الحق؟ كما لو نسي ففوت حق الله عز وجل بقصه لأظفاره وحلقه لشعره، فإنه حينئذٍ يلزمه أن يفتدي؛ لأنه مما لا يمكن التدارك فيه. يقول بعض العلماء مما يقوي هذا المسلك، وهو ضمان حق الله عز وجل مع وجود العذر: أنك إذا تأملت حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه وأرضاه فإن كعب بن عجرة كان مريضاً ومحتاجاً إلى حلق شعر رأسه، ومع ذلك أُلزم بالفدية أداء الحق لله عز وجل، فأصبح كأن مسلك الشرع أن الإخلالات التي يفوت بها من قص الأظفار أو حلق الشعر أو قصه أو نتفه كأنه في هذه الحالة مطالب بضمان حق الله، بغض النظر عن كونه معذوراً أو غير معذور، فلما نص على وجوب الفدية للمعذور المريض مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ كعب: (ما كنت أظن أن يبلغ بك الجهد ما أرى) فلو سقط حق الله في هذا لسقط في المريض؛ لأن المريض يفعل هذا المحظور بدون اختياره، وكأنه مكره عليه، ومع ذلك ألزمه الشرع بالضمان، قالوا: في هذا دليل على أن الحق يضمن لله عز وجل التفاتاً إلى الأسباب، والأسباب لا يلتفت فيها إلى القصد من باب الحكم الوضعي. الآن الرجل لو قال لامرأته وهو يمزح معها: أنت طالق. فإنها تطلق عليه: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعتاق) مع أنه لم يقصد الطلاق، قالوا: من باب الحكم الوضعي، كأن الشرع جعل التلفظ بالطلاق موجباً للطلاق بغض النظر عن كونه قاصداً أو غير قاصد. وهذا المسلك يختاره الإمام الشاطبي -رحمه الله- ويقرره في كتابه النفيس "الموافقات" في باب المقاصد، تكلم على هذه المسألة، وهو: أن الشرع قد يلزم المكلف بإلزامات من باب الأحكام الوضعية. ولذلك لما ورد الاعتراض في كتاب المقاصد على قاعدة (الأمور بمقاصدها) قيل لهم: إن الهازل إذا طلق غير قاصد، وأنتم تقولون: الأمور بمقاصدها. فيقال له: هذا من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي، فقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] هذا في التكليفات من جهة كونه يأثم أو لا يأثم، نقول: إذا أخطأ لا يأثم؛ لأن الله عز وجل أسقط عن المخطئ الإثم: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5] هذا الحكم التكليفي، لكن الحكم الوضعي: أنه إذا أخل بشيء من حق الله عز وجل لزمه ضمانه. فالمجنون مرفوع عنه القلم تكليفاً، لكن لو أتلف مال الغير ألزمناه في ماله بالضمان، ونلزم وليه بالضمان من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي، فهذا باب الضمانات، فلما كانت الفدية في باب الضمانات قالوا: لا يلتفت فيها إلى قاصد ولا غيره، فلو أنه قصر شعره أو حلقه أو نتفه فإنه قد أخل، والشرع ألزمه أن يبقي حالته وهيئته على ما هي عليه، فإذا أخل بهذا الشرعي فإننا نسقط عنه الإثم بالنسيان، ولكننا نطالبه في حق الله بالضمان، ولذلك نقول: حقوق الله تضمن، وكونها لله لا يقتضي إلغاؤها أو التساهل فيها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فدين الله أحق أن يقضى) فجعل دين الله أحق من دين الآدمي، إلا أن حقوق الله في أبواب دلت النصوص على أنها أخف والمسامحة فيها أوسع، وهذا شأن الفقيه أن ينظر إلى ما وسع الشرع فيه فيوسع، وإلى ما ضيق الشرع فيه فيضيق فيه.

تخصيص مساكين الحرم بالهدي والإطعام والفدية ونحوها

تخصيص مساكين الحرم بالهدي والإطعام والفدية ونحوها [وكل هدي أو إطعام فلمساكين الحرم]. يلزمه في هدي التمتع، وإذا كان الهدي على الإنسان لازماً أن يكون لمساكين الحرم؛ لأن الله سبحانه وتعالى شرف أهل مكة وسكان الحرم بأن أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، وجعله حرماً تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من الله عز وجل، فخص به أهل الحرم؛ ولذلك قال: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] وجعل في شرع الله عز وجل مما يتقرب إليه، وهذه سنة أضاعها الناس إلا من رحم الله، وهي: سنة الإهداء للبيت، أن يهدي الإنسان إلى البيت الإبل أو البقر أو الغنم، فكان الناس إلى عهد قريب يهدون إلى البيت، فالإهداء إلى البيت أن تنحر بمكة وتكون طعمة للمساكين، وهذه هي التي عظم الله أمرها: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} [المائدة:2] فجعلها مما لها حرمة، وهذا كله تشريف من الله عز وجل لأهل الحرم، فالمساكين -مساكين الحرم وفقراء الحرم- أحق بهذا الهدي، ولا يصرف إلى غيرهم إلا بعد سد حاجتهم، حتى على القول بجواز أن يطعم بها في الآفاق فإنه لا يجوز إخراجها من الحرم إلا بعد أن تُسد حاجة فقراء الحرم؛ وذلك لأن الله عز وجل أطعمهم بهذه الطعمة من فوق سبع سماوات فهم أحق وأولى، وإلا ما فائدة أن يبعث بالهدي إلى مكة، وقد كانوا في القديم يذبحونه بمكة ويكون فيه سد لعوز الفقراء والضعفاء والمساكين بالحرم، ولا يعقل أن يترك الفقراء والضعفاء بالحرم ويصرف لغيرهم، ولذلك ينبغي أن يكون طعمة للمساكين والفقراء وهم أولى بها؛ لأن الله عز وجل خصهم بهذا. فيكون في حدود الحرم، وقال بعض العلماء: يجوز أن يخرج عن حدود الحرم كأن يأخذ -مثلاً- كتف الشاة ويشرقها ناوياً أن يعطيها لمسكين من جيرانه، قالوا: لا حرج أن يشرقها ويعطيها لمسكين من جيرانه، أو أناس ضعفاء يعرفهم خارج حدود الحرم، قالوا: لا حرج عليه في ذلك. وقوله: [وكل هدي أو إطعام فلمساكين الحرم وفدية الأذى واللبس ونحوهما]. قد ذكرنا هذه المسألة: الإطعام الذي يكون في مكة كإطعام الفدية يكون بمكة وغيرها، وأما بالنسبة لجزاء الصيد فإن عِدله -وهو الإطعام- للعلماء فيه وجهان: منهم من خصه بالحرم وهو أوجَه؛ لأنه بدل عن المثلي الذي يكون هدياً بالغ الكعبة، فيكون البدل آخذاً حكم مبدله، فلابد وأن يكون لفقراء الحرم كما ذكرنا.

دم الإحصار حيث وجد سببه

دم الإحصار حيث وجد سببه وقوله: [ودم الإحصار حيث وجد سببه]. إن أحصر قبل مكة بأيام فيذبح في الموضع الذي أحصر فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه في الحديبية، وتحلل صلوات الله وسلامه عليه وتحلل أصحابه، ولم يبعث به إلى الحرم، وهذا خلاف ما قاله بعض العلماء من أنه يلزمه أن يبعث به إلى الحرم. وقوله: [ويجزئ الصوم بكل مكان]. ويجزئه أن يصوم في أي مكان ولا حرج عليه في ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى أطلق، وما أطلقه الشرع يبقى على إطلاقه، فيقال في الصوم: إنه يجوز أن يكون في مكة وفي غيرها؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يجعله مختصاً بمكة دون غيرها.

مقدار الدم الذي يجب في الفدية

مقدار الدم الذي يجب في الفدية وقوله: [والدم: شاة أو سبع بدنة، وتجزئ عنها بقرة]. (والدم) أي: ما وجب على المكلف فهو شاة، وهذه الشاة يشترط فيها أن تكون قد بلغت السن المعتبر للأضحية، فلا يجزي أقل من الثني، ويجزئ الجذع من الضأن وهو ما له أكثر الحول كستة أشهر فما فوق، وأما بالنسبة للإبل فإن سبع البدنة يجزئ عما تجزئ عنه الشاة، سواء كان الدم واجباً في تمتع، أو كان بسبب إحلال لواجب، وهو الذي يسميه العلماء رحمهم الله: بدم الجبران، كشخص أحرم دون الميقات فإذا قال العلماء رحمهم الله عليه: (دم) فالدم شاة. فقول المصنف رحمه الله: (والدم شاة) أي: اعلم رحمك الله أنك لو سمعت العلماء يقولون: عليه دم، أو الواجب دم، فمرادهم بذلك الشاة التي بلغت السن المعتبر وسلمت من العيوب. وقوله: (سبع بدنة) فالبدنة تجزئ عن سبع شياه، وقد ذكرنا حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في حجة الوداع، وأن البدنة كانت تجزئ عن سبعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا جماهير أهل العلم رحمهم الله: أن السبعة لو اشتركوا في بدنة فإنها تجزي عن الدماء الواجبة عليهم، فلو كان على كل واحد منهم إخلال؛ كأن يكون الجميع قد تركوا الإحرام من الميقات وأحرموا من دون الميقات ووجب عليهم الدم فاشتركوا في بدنة واحدة أجزأت عنهم جميعاً، فكل سبع يجزئ عن واحد، وهكذا الحال لو اشتركوا في أضحية فجمعوا أموالهم واشتروا بها بدنة فإنها تجزئ عن السبعة، وهكذا البقرة فإنها تجزئ عما تجزئ عنه البدنة. وعلى ذلك وردت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم حينما ضحى عن نسائه بالبقر، وجمهور العلماء رحمهم الله: على أن البقرة تنزل منزلة البدنة، وعليه: فإنه يجوز الاشتراك في البقر كما يجوز الاشتراك في الإبل، وأما الشاة فإنها لا تجزئ إلا عن واحد، إلا في الأضحية فإن الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهل بيته كما في الخبر الصحيح: (إن كانت الشاة لتجزئ عن الرجل وأهل بيته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

باب جزاء الصيد

شرح زاد المستقنع - باب جزاء الصيد من قتل صيداً وهو محرمٌ وجب عليه مثله من النعم، يحكم به اثنان ذوا عدلٍ، وهناك أقضية في جزاء الصيد قضى بها الصحابة رضوان الله عليهم، واختلف العلماء في كون بعضها ماضية إلى قيام الساعة أم أنها خاصة بذلك الزمان.

قضاء الصحابة في جزاء الصيد

قضاء الصحابة في جزاء الصيد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [باب جزاء الصيد]. أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بالتحكيم في قتل الصيد، وقد ذكرنا أن الصيد حرام على المحرم، وأنه يجب عليه الجزاء إذا قتل الصيد، وبينا طريقة هذا الجزاء، وذكرنا ما بينه العلماء رحمهم الله من المسائل المتعلقة بجزاء الصيد من حيث الجملة، وهنا سيذكر المصنف رحمه الله جملة من المسائل التي تتعلق بالأحكام المنصوص عليها إما مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو موقوفة على الصحابة، وتوضيح ذلك: أن جزاء الصيد يفتقر إلى حكم عدلين كما ذكرنا، فلو أن المحرم قتل غزالاً أو قتل ظبياً أو قتل حمار وحش أو قتل بقرة وحش فيجب عليه أن يحتكم إلى عدلين ينظران في الشيء الذي قتله المحرم وعدله من بهيمة الأنعام، فمثلاً: إن كان الذي قتله نعامة فعدلها بدنة، وإن كان الذي قتله حمار وحش فعدله بقرة، وإن كان الذي قتله تيس جبل فعدله الشاة، لكن هذا العدل يفتقر إلى حكمين عدلين ينظران في الشيء الذي قتله والشيء الذي يماثله ويشابهه، فلما كان الحكم الشرعي المجمع عليه في الأصل ينص على هذا فإنه من المعلوم أن الصحابة رضوان الله عليهم وقعت لهم حوادث في قتل الصيد من المحرم فاحتكموا إلى غيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهناك أقضية عن عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وعبد الرحمن بن عوف وهذه الأقضية وردت عن الصحابة، وقول الصحابي حجة عند طائفة من العلماء، فكأنهم رأوا أن ما قضى فيه الصحابة وما ورد فيه الخبر والأثر عنهم أنهم حكموا فيه فإن ذلك الحكم باق إلى قيام الساعة فلا يتغير، وهذه مسألة لها نظائر، فالمسائل: التي ورد فيها الحكم من الصحابة أو من النبي صلى الله عليه وسلم في الأقضية التي في أصلها تقبل الاجتهاد هل يبقى حكمها إلى قيام الساعة أم يتجدد؟ فمذهب طائفة من العلماء: أن ما قضى فيه الصحابة لا يتجدد، ولا يحتاج إلى عدلين، فمن قتل حمامة فإن الصحابة قضوا فيها شاة، فنقول له: عليك شاة، ولا نبحث عن مسألة الحكمين العدلين، كأنهم رأوا أن حكم الصحابة بعدل الشاة يعتبر حكماً باقياً إلى قيام الساعة، وهذا بالنسبة لقضاء الصحابة رضوان الله عليهم. أما بالنسبة للذي لم يقض فيه الصحابة، أي: الذي لم يرد عن الصحابة رضوان الله عليهم فيه حكم، فهذا يرجع إلى العدلين إعمالاً للأصل. وهناك أمثلة كما ذكرنا منها: الحِمى، فالنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه حمى ما يسمى اليوم بالعطن في المدينة وهو بجوار مسجد السبق، هذا الموضع حماه، وحمى وادي الفرع، وحمى كذلك صلوات الله وسلامه عليه بالربذة، فهل هذا الحِمى يبقى إلى قيام الساعة حمىً، أم أنه حماه لأنه كان محتاجاً إليه في ذلك الزمان؟ فمن أهل العلم من يقول: تبقى مسبّلة إلى قيام الساعة حِمىً. ومنهم من يقول: إنها تتغير بتغير الأزمنة والعصور. فإذا كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها فإنه يتغير الحكم بالنسبة لما جدّ وطرأ من العصور بعدها. هذا بالنسبة لمسألة قضاء الصحابة في صيد المحرم: هل يبقى إلى قيام الساعة، أم أنه قضاء اجتهادي يمكن أن يتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأشخاص؟ والذي عليه جمهور العلماء: أنهم كانوا يعتدون بقضاء الصحابة، ويرون أن الصحابة رضوان الله عليهم حجة في هذا القضاء؛ والسبب في هذا واضح فإن الصحابي حينما نظر إلى بقر الوحش ونزله منزلة البقرة وقضى فيه بالبقرة، فلا شك أنه أعلم وأعرف بالنص الوارد وبدلالته، فكونه يأتي إلى هذا الشيء وينزله منزلة نظيره من بهيمة الأنعام فإن حكمه واضح في إصابة الحق وقربه من الصواب، ولذلك يقوى القول بأن ما قضت به الصحابة يرجح أن يترك إلى قيام الساعة حكماً باقياً. وعلى هذا: فإن المصنف رحمه الله قرر لك الأصل في جزاء الصيد أنك تحتكم إلى عدلين، وأنهما يحكمان بالمثل إن وجد المثل ثم ينتقل إلى قيمته وعدله من الطعام بتلك القيمة ثم ينتقل إلى عدله من الصيام كما تقدم معنا شرحه في المجلس الماضي، بعد أن بيّن لك هذه القاعدة شرع الآن في بيان ما ورد فيه الأثر عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قضائهم به.

قضاؤهم في النعامة وحمار الوحش وبقرته

قضاؤهم في النعامة وحمار الوحش وبقرته وقوله: [في النعامة بدنة]. يقول رحمه الله: (في النعامة بدنة) أي: يجب على المحرم إذا قتل صيد النعامة بدنة؛ وذلك لأنه قضاء عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر قضوا: بأن النعامة إذا قتلها المحرم أنه يجب عليه أن ينظر إلى عدلها وهو البدنة، وعلى هذا يبقى القضاء إلى قيام الساعة كما ذكرنا. وقوله: [وحمار الوحش وبقرته]. (وحمار الوحش) وهو المعروف الذي له خطوط، بخلاف الحمار الأهلي سواء كان أبيض أو أسود فإنه لا يعتبر حلالاً ولا يعتبر صيداً، فلو أنه دهس حماراً من الحمر الأهلية فلا يعتبر صيداً، وهذا إن كان ملكاًَ لأحد وجبت قيمته، وإذا لم يكن ملكاً لأحد فإن دمه هدر لا يجب ضمانه؛ لكن لو أنه صار حمار وحش -وهو الحمار الذي يكون فيه الخطوط في الغالب- فعدله بقرة، وهذا قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وبهذا القضاء قال مجاهد بن جبر تلميذ عبد الله بن عباس، وقال به عروة بن الزبير من التابعين رحمهم الله، وقال به من الفقهاء الشافعية، وهو مذهب الحنابلة والشافعية: أن حمار الوحش إذا قتله المحرم يجب عليه ضمانه بالبقرة، فعدل حمار الوحش إذا نظرت من حيث الهيئة والجلد تعادله البقرة، فهو لا يرتقي إلى البدنة؛ لضعف حجمه عن ذلك، وكذلك أيضاً لا ينزل إلى الشاة، وإنما هو وسط بينهما، فكان عدله الوسط من بهيمة الأنعام، فتجب عليه بقرة مثلية لهذا الصيد إن قتله. وقوله: [وحمار الوحش وبقرته]. بقرة الوحش كذلك أيضاً يكون جزاؤها البقرة، فيجب فيها بقرة، وهو قضاء عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وبهذا القضاء قال عطاء بن أبي رباح تلميذ ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه ورحم الله عطاء؛ وهو فقيه مكة المشهور الذي كان يقال: لا يفتي الناس في الحج إلا عطاء. وحسبك به علماً وفضلاً رحمه الله برحمته الواسعة، وقال بهذا القضاء عروة بن الزبير قال: إن بقر الوحش فيه بقرة فيكون عدلها أو مثلها البقرة. وكذلك عمل به فقهاء الشافعية، فمذهب الحنفية والشافعية على أن بقرة الوحش عدلها البقرة من بهيمة الأنعام.

قضاؤهم في الأيل والثيتل والوعل

قضاؤهم في الأيّل والثيتل والوعل وقوله: [والأيّل]. (والأيّل) وهو نوع من الوعل. وقوله: [والأيّل والثيتل والوعل بقرة]. قيل: بالنسبة للوعل هو تيس الجبل، فيقال: يسمى بالأيّل، وقيل: إن الأيّل نوع من بقر الوحش، والوعل هو مما أحل الله من صيد البر، وله قرنان معكوفان، والوعول معروفة، فهذا الوعل عدله بقرة، وبهذا قضى الصحابة: عبد الله بن عباس وقضى به أيضاً عبد الله بن عمر، ولذلك جعل في أنثى الوعول البقرة. وأما قوله: (الثيتل) فهو الوعل المسنّ، نوع خاص من الوعول، والسبب في ذكره للثيتل بعد ذكره للأيّل ومع ذكره للوعل أن الثيتل يكبر حجمه، وقد يكون مسناً من الحطمة، ولذلك قالوا: فيه بقرة، وكأنه يقول: الوعول ما كان منها شديداً قوياً فإن فيه البقرة، وما كان منها في آخر سنه وقد طعن في السن ففيه البقرة، وما كان من إناثه فإن فيه البقرة كما هو قضاء عبد الله بن عمر.

قضاؤهم في الضبع

قضاؤهم في الضبع وقوله: [والضبع كبش]. من العلماء من يقول: الضبح نوع واحد، وهو أشبه ما يكون بالذئب، وإن كان يختلف في الوجه، فوجه الذئب أقرب إلى أن يكون مثلثاً من وجهه المستطيل، وهو يعدو على القبور وينبشها، وكذلك أيضاً يأكل الجيف والنتن، حتى ربما عدى على الحمار ونحوه، فهو من السباع العادية، وبعض العلماء يقول: هو نوعان: نوع منه عاد، ونوع منه أكثر ما يكون اغتذاؤه بالنباتات، وهو الموجود بالحجاز، ويقولون: هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الضبع صيد وفيه كبش)، وهذا الحديث رواه أبو داود وابن ماجة بسند صحيح. واختلف العلماء رحمة الله عليهم في قوله: (الضبع صيد): فقال بعض العلماء: لا يحل أكله، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له حكم الصيد، يعني: في الأصل ليس بصيد ولكن نُزّل منزلة الصيد. ومنهم من قال: يحل أكل لحمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الضبع صيد)، وهذا أقوى من جهة لفظ الحديث لما قال: (الضبع صيد) وأوجب فيه جزاء الصيد فدلّ على أنه يجوز أكل لحمه. ومن ناحية القياس كما يقول العلماء: من جهة النظر لا يقوى حلّه، ولذلك هو من السباع العادية، وإذا خلى بالإنسان فتك به وأهلكه، والأشبه من ناحية الأصول عدم حلّ أكل لحمه، وكأن الذين يقولون بتحريم أكل لحمه يقولون: إنه من السباع العادية، ويكون قوله عليه الصلاة والسلام عندهم: (الضبع صيد) يخرجونه على أنه مع كونه من السباع العادية أخذ حكم الصيد باستثناء من السنة، لا أنه صيد يؤكل، أي: أنه صيد يجب ضمانه، وقالوا: كونه ينص على الضبع ويوجب الفدية فيه على هذا الوجه يدل على أنه ليس بمأكول في الأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص على جزاء الصيد في غير الضبع، وإنما نص في جزاء الصيد في الضبع، وكأنه في هذه الحالة ينبه على أنه وإن كان الأصل عدم حل أكله لكن يجب الضمان فيه إن قتل. ولكن من المذهب الأول قلنا: إن له وجهاً من السنة. وعلى هذا لو قتله ففيه كبش، والكبش يكون من الضأن، فإن كان الضبع كبيراً ففيه كبش كبير، وإن كان وسطاً فوسط، وإن كان صغيراً فصغير، على حسب حالة الضبع، وهذا وجه التمثيل: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) [المائدة:95]، فينظر الحكمان في الشيء المقتول من الضباع، أو من الضبع المقتول من ناحية جِرمِه وحجمه ويوجبون فيه مثلياً في الحجم، مع كونه كبشاً لكن ينظرون إلى مثليته في الحجم، فإن كان الضبع كبير الحجم أوجبوا فيه كبشاً كبير الحجم والعكس بالعكس.

قضاؤهم في الغزال والضب والوبر واليربوع

قضاؤهم في الغزال والضب والوبر واليربوع وقوله: [والغزال عنز]. وفي الغزال عنز؛ قالوا: لأنه أجرد لا شعر له وهو أشبه بالماعز، ولذلك هو مقطوع الذنب بخلاف الضبع ولذلك قالوا: ينزل الغزال منزلة الماعز فيجب فيه ما ذكر، وقضى به بعض الصحابة رضوان الله عليهم. وقوله: [والوبر والضب جدي]. والوبر وهو ضرب من بنات عرس، وكذلك أيضاً الضب فيه جدي، والجدي له ستة أشهر قالوا: يقضى فيه بالجدي، والضب معروف ولكنهم شبهوه ونزلوه منزله الجدي قضاء لبعض الصحابة رضوان الله عليهم وقالوا: إنه يأخذ حكمه فيجب فيه الجدي، وإلا فالأصل من ناحية الحجم والجلد لا يستطيع أن يصل إلى درجة الجدي إلا إذا كان كبيراً، ولذلك بعض العلماء يقولون: ينظر في الضب نفسه، فلا يكون الجدي فيه محدداً مؤقتاً، فإن كان ضباً كبيراً فإنه حينئذٍ يصل للجدي وإن كان دون ذلك فإنه لا يقوى أن يأخذ حكم الجدي.

قضاؤهم في الأرنب اليربوع والحمامة

قضاؤهم في الأرنب اليربوع والحمامة وقوله: [واليربوع جفرة]. (واليربوع) ويقال له: الجربوع، وهي الجرابيع المعروفة، فيبدلون الياء جيماً وهي لغة معروفة في العرب، يقولون للرجل: ريل بإبدال الجيم ياءً، ومنه قوله الشاعر: إذا لم يكن منكن ظل ولا جني فأبعدكن الله من شيراتي أي: أبعدكن الله من شجراتي، فالعرب تبدل الجيم ياء، ويقولون: (ريّال) يعني: (رجال) ونحو ذلك، ويبدلون الياء جيماً، ومنه قوله: إن كنت قد قبلت حجتج لا زال بابل يأتيك بج وأصلها: إن كنت قد قبلت حجتي لا زال بابل يأتيك بي تقول: بج يعني: بي، هذا من إبدال الجيم ياء وإبدال الياء جيماً. يقال: يربوع وجربوع، هذا معروف عند العامة أنهم يقولون: جربوع، لكن يقال له: اليربوع. وفي اليربوع جفرة ويكون لها أربعة أشهر وهي من صغار الماعز. وقوله: [والأرنب عناق]. قيل: إنها تقارب الستة الأشهر، وقيل: يسمى بها صغار الماعز منذ أن يولد إلى أن يبلغ الستة الأشهر، وهذا هو مراد المصنف، أنه ما كان دون الأربعة الأشهر، أي: دون ثلث السنة، هذا بالنسبة للعناق، وهي التي ورد فيها حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم في قصته مع أبي بردة رضي الله عنه وأرضاه: (حينما ذبح شاة قبل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد النحر فقال: ليس عندي إلا عناق، قال: تجزيك ولا تجزي غيرك). وقوله: [والحمامة شاة]. وفي الحمامة شاة، قضى به جمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وشبهوا الحمامة بالشاة، وهذا القضاء كما قلنا يعتبرونه قضاء باقياً إلى قيام الساعة، فإذا قتل حمامة فإنه يجب عليه أن يضمنها بالشاة لوجه الشبهية.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الاستغناء بقضاء الصحابة دون البحث عن عدلين

حكم الاستغناء بقضاء الصحابة دون البحث عن عدلين Q بعد أن تقرر معنا العمل بأقضية الصحابة رضوان الله عليهم في جزاء الصيد، فهل من قتل نعامة -مثلاً- يخرج بدنة مباشرة، أم يأتي بعدلين ثم يخرجها؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: في الحقيقة هذا سؤال جيد! وفق السائل فيه، وأما الجواب: فأقول: نعم، يحتاج إلى وجود العدلين من ناحية تقدير جرم النعامة، فإن النعامة قد يكون جرمها عظيماً، فيطالبون ببدنة عظيمة الجرم، وقد يكون جرمها وسطاً فيطالبون ببدنة من أوساط البدن، وقد تكون دون ذلك فيطالبون بأصغر؛ لأنه لابد من المماثلة، وهذا لا شك أنه سؤال دقيق جداً؛ لأن ظاهر كلام العلماء أن قضاء الصحابة معمول به ويقتضي ألا يبحث عن العدلين، والواقع أنه يبحث عن العدلين من ناحية نوعية المثلية: هل هي من الخيار، أم من الأدنى، أم من الوسط؟ فأنت إذا قلت: عليك بدنة، هل تكون من خيار البدن، أو تكون من أوسطه، أو تكون من أدناه؟ فهذا يفتقر إلى وجود العدلين، ولذلك لابد من وجود العدلين لتحديد البدنة المطلوبة، ويعتبر قضاء الصحابة سارياً من وجه، وحكم الآية نافذاً من الوجه الآخر. والله تعالى أعلم.

حكم الفدية بالزيادة على الواجب

حكم الفدية بالزيادة على الواجب Q هل يجوز أن يفدي في الصيد بأعلى من مثله كأن يفدي عن الغزالة بدنة، أو عن الضب كبشاً؟ A أما هذه المسألة فقد ختلف العلماء رحمة الله عليهم في الزيادة على القدر الواجب، وإذا قلنا بمشروعيتها: هل يوصف الكل بالوجوب، أو قدر الواجب؟ وقد أشار إلى هذه القاعدة الإمام ابن رجب الحنبلي في كتابه النفيس: القواعد الفقهية، ذكر لهذه المسألة فروعاً، فإذا أدى فوق الواجب هل يوصف الكل بالوجوب، أو قدر الواجب؟ لهذه المسألة أمثلة، قال: لو أخرج بدنة عن شاة، فهل كل البدنة يوصف بالوجوب، أو فقط سبع البدنة؟ وإذا أخرج عن زكاة الفطر مثلاً ثلاثة آصع، فهل الثلاثة كلها توصف بالوجوب، أو الصاع فقط؟ وهكذا، هنا فائدة الخلاف: أنك إذا قلت: الكل يوصف بالوجوب، فحينئذٍ إذا أخرج بدل الشاة بدنة فيصبح تقدير الصيام بقيمة البدنة كلها، أي: الآن إذا جاء يخرج البدنة عن شاة واجبة عليه، فقيمة البدنة فرضنا ألف ريال، لكن قيمة الشاة فرضنا ثلاثمائة ريال، فهو أخرج بدنة بألف ريال، فإذا قلت: يوصف الكل بالوجوب، حينئذٍ يكون العدل من الطعام بقيمة البدنة كاملة، ويكون عليه في الصيام إذا أراد أن يخرج العدل، قال: أنا أرضى أن تحكموا عليَّ ببدنة عدلاً، فحينئذٍ يكون تقدير الحكمين برضاه أن يخرج عدلها مما هو فوقها، فيكون التقدير بما هو معتبر للواجب كله، يعني: البدنة بكاملها، وصحح جمع من العلماء: أن الواجب فقط قدر الإجزاء. ولها أمثلة أيضاً، منها: لو قلنا: إن المفترض لا يأتم بالمتنفل، كما هو قول بعض العلماء، فلو جاء في الركوع وسبّح الإمام فوق ثلاث فإن الواجب الثلاث وما فوق الثلاث نافلة، فإن قلت: الكل يوصف بالوجوب، حينئذٍ اقتدى مفترض بمفترض، وإن قلت: يوصف قدر الإجزاء فيكون اقتدى مفترض بمتنفل، وحينئذٍ يقولون: يسري عليه ما يسري على اقتداء المفترض بالمتنفل. الشاهد: أن هذه المسألة للعلماء فيها وجهان مشهوران، لكن بعض العلماء يقول: إذا حدد الشرع قدراً واجباً يجوز إخراج الزيادة، لكن ليس من باب اعتقاد الفضل أو التعبد، وإنما يكون منه تنفلاً، أما لو اعتقد وقال: لا، أنا ما تبرأ ذمتي إلا بالبدنة بدل الشاة، فحينئذٍ لا يجوز له ذلك، ويعتبر من البدعة والحدث؛ لأنه اعتقد وجوب ما لم يوجبه الشرع، واعتقد لزوم ما لم يلزم به الشرع، وحينئذٍ يكون بدعة وحدثاً. أما لو أنه أخرج الزائد على الواجب لجاز له ذلك، فكما كما لو تنفل بمطلق النافلة. والله تعالى أعلم.

الحكم في قتل الصيد خطأ

الحكم في قتل الصيد خطأ Q وردت أسئلة كثيرة عن الحكم فيما لو ارتطمت بعض الحيوانات أو الطيور بالسيارة، سواء كان السائق محرماً أو كان بمكة؟ A هذه المسألة ترجع إلى قضية قتل الخطأ؛ لأنه لو كان في سفر وهو محرم بالعمرة أو محرم بالحج فارتطمت الطيور أو ارتطم الحمام أو نحوها بالسيارة فقتلت فعند ذلك يجب فيها جزاء الصيد، على القول بأن الخطأ والعمد سواء، وقد بيّنا هذا وذكرنا دليله في المجلس الماضي، وحينئذٍ يكون فيه ما يكون في جزاء الصيد العمد على أصح قولي العلماء، وهو مذهب الجمهور. والله تعالى أعلم.

مفهوم القياس عند السلف الصالح

مفهوم القياس عند السلف الصالح Q هل مفهوم القياس عند السلف رحمهم الله هو مفهوم الموافقة وعدم الفارق، أو هو بالعلة المستنبطة؟ A القياس يعتبر بالعلة المستنبطة، أما مفهوم الموافقة والمخالفة فهذا له حكمه المستقل، ويسمى مفهوم الموافقة: دلالة اللفظ على ما وافقه، ويدعونها دلالة المطابقة، وهذه لها حكم خاص، أما القياس فلا يكون إلا بالعلة، وللعلة مسلك يفتقر إلى السبر والتقسيم، فتسبر الأوصاف التي يمكن أن تكون صالحة لتعليل الحكم، ثم بعد ذلك تبقي الصالح منها وتلغي غير الصالح. وقد تكلم العلماء في ذلك ومن أنفس مباحث علم الأصول وأدقها والذي يعين على فهم النصوص وفهم خلافات العلماء في الأدلة وردوده ومناقشاته مبحث التعليل، وهو من أدق المباحث وأصعبها وأعقدها، وقد ألف فيه بعض العلماء تأليفاً مستقلاً، حتى كتب فيه الغزالي كتابه المشهور: شفاء الغليل، بيّن فيه أوجه ومسالك التعليل من النصوص الواردة في التنزيل، كيف تستنبط العلة، وكيف تستخرجها، وما هي الأوصاف المعتبرة للتعليل، فهذا مبحث مهم جداً من مباحث القياس، ولا يمكن للإنسان أن يقيس حتى يعرف كيفية استنباط العلة، والعلة المعتبرة والعلة غير المعتبرة، هذا أمر لابد منه، فمسألة القياس شيء ومسألة المفاهيم شيء آخر. والمفهوم إما أن يكون مفهوم موافقة أو مفهوم مخالفة، على ما هو معروف في المفاهيم، وأما بالنسبة للقياس فإنه يفتقر للتعليل، فلابد من العلة، وتكون العلة منصوصاً عليها وتكون مستنبطة، فأقوى العلل ما كان منصوصاً عليها. قال عليه الصلاة والسلام: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذاً)، فلما قال: (أينقص الرطب إذا يبس؟) دل على أن سبب التحريم هو عدم وجود المماثلة التي هي معتبرة لبيع الرطب بالتمر، فما دام الرطب والتمر من أصل الأصناف الربوية فلابد فيه من التماثل والتقارب اللذان هما الشرطان المعتبران، فلما قال: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذاً)، أي: لا يجوز بيع الرطب بالتمر التي هي المزابنة، ورخص في العرايا صلوات الله وسلامه عليه، لكن الأصل عدم جوازها، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (أينقص) ثم قال: (فلا) نبه وأشار إلى العلة. وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلهما في الإناء؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) إن قوله: (فإن أحدكم) بمثابة التعليل، ولذلك من يرى أن العلة هي خوف النجاسة، قال: لو أنه حفظ يده ونام لم يجب عليه غسلها؛ لأن الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً، وهذه علة مستنبطة من النص. كذلك أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه بثوبين، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) فلما قال: (فإنه يبعث ملبياً)، كأنه يقول: أمرتكم بهذا الأمر لعلة وهي كونه يبعث يوم القيامة ملبياً، ففهم منه: أن المحرم لا يمس بطيب، وأن المحرم يجوز له أن يغتسل إلى غير ذلك من الأحكام التي استنبطت بناء على هذا التعليل. والمقصود: أن طالب العلم إذا أراد أن يرى مسألة القياس أو طريقة القياس فلا بد له من أن يضبط العلة. وللعلة ضوابط، ثم أيضاً العلة هذه لها مناقشات، فليست كل علة مسلمة، وهناك للعلماء رحمة الله عليهم ضوابط وأقيسة وهي الأركان المعروفة، ثم إن لهذه الأركان شروطاً، فهناك شروط للأصل، وشروط للفرع، وشروط للعلة. فلابد أن يعلم طالب العلم هذه الشروط حتى يكون قياسه صحيحاً، وأي قياس يقع فإنه يرد عليه أربعة عشر استفساراً، يسميها العلماء: قوادح القياس، وهذه الأربعة عشر استفساراً كل استفسار يوجه على جزئية معينة في القياس، فإذا صحت وثبتت وسلّم بها المناظر بطل قياسه، وهذه يسمونها قوادح القياس، فليس كل إنسان يقيس تأتي وتعترض عليه وتقول: هذا قياس غير صحيح، لا. هناك قياس من مسلك معين؛ لأنه دليل شرعي ومنضبط بضوابط، فلا يظن البعض أننا لما نقول: قياس. أن هذا فقط مجرد رأي وهوى، لا. بل هو أمر منضبط ومحدود بضوابط معينة؛ لأن هؤلاء العلماء وضعوا هذه الضوابط وهي ثمرة جهود قرون عديدة وأئمة على أزمنة مديدة وهم يدرسون هذا الأمر ويتفقهون في الشرع ويفهمون متى يصح هذا النوع من الأدلة ومتى لا يصح. والله تعالى أعلم.

نوع الإطعام في كفارة اليمين

نوع الإطعام في كفارة اليمين Q هل الإطعام الوارد في كفارة اليمين هو محدد بأنواع معينة من الطعام، خصوصاً وأن الآية قد عممت ذلك في قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة:89]؟ A لقد نص العلماء رحمة الله عليهم على أن هذا الإطعام يصرف إلى ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأطعمة الواجبة، فلو أطعم تمراً أو شعيراً، وكان التمر أوسط ما يطعم به أهله، أو أطعم الشعير وكان الشعير أوسط ما يطعم به، أو أطعم البر وكان البر أوسط ما يطعم أهله أجزأه، وحينئذٍ ينظر إلى حال الإنسان الذي يكفِّر، وهذا على أصح قولي العلماء. وقال بعض العلماء: بل أوسط البيئة التي يعيش فيها، فيعتد فيها بالأوسط. والصحيح: أن العبرة بالمكفِّر، أنه ينظر إلى أوسط ما يكون من طعامه. والله تعالى أعلم.

حكم التتابع في صيام من عدم الهدي

حكم التتابع في صيام من عدم الهدي Q هل يجب التتابع في صيام الثلاثة أيام إذا صامها في الحج وكذلك السبعة إذا رجع إلى أهله؟ A لا يجب التتابع في صيام الحج، ولكن الغالب لضيق الوقت أن يحصل التتابع، ويضطر الإنسان له، ولكن من حيث الوجوب فلا يجب، فلو فرقها فإنه يجزيه. والله تعالى أعلم.

حكم شراء فدية مذبوحة

حكم شراء فدية مذبوحة Q في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنسك نسيكة)، هل يجب على المفدي أن يتولى ذبحها بنفسه، أم لا حرج لو اشترى شاة مذبوحة؟ A لابد لهذه الشاة من أن تذبح، ويكون ذبحها فدية لهذا الشيء الذي كان منه في حجه أو عمرته، لكن لو اشترى مذبوحة لم تجزئ؛ لأنه عند ذبحها لم تقصد لجبر هذا المحظور الذي أخلّ به، ولذلك يذبحها على نية أنها فدية عما أتاه والنية وهي المعتبرة في ذلك، وعليه فإنه لا يجزئ أن يشتري شاة مذبوحة، وإنما يجب عليه أن يذبح، وتكون النية في الذبح عن هذا الدم الواجب، سواء كان في تمتع أو قران أو جبران لنقص أو كان فدية أذى. والله تعالى أعلم.

حكم القارن والمتمتع إذا لم يملكا الهدي

حكم القارن والمتمتع إذا لم يملكا الهدي Q على القول: بأن العبرة في عدم الهدي في دم المتعة والقران بصبيحة يوم النحر، وذلك إذا لم يملك الثمن، فكيف يصوم الثلاثة الأيام في الحج على هذا القول؟ A على هذا القول يقول العلماء: إنه إذا غلب على ظنه، مثلاً: كالشخص الذي عنده مال ويعلم أن ماله لا يكفيه لشراء الشاة وهو من بداية إهلاله للحج يعلم أن عنده مائة وخمسين ريالاً -مثلاً- وهذه لا تفي لشراء الشاة، فمثل هذا من بداية إهلاله للحج يعلم أن القيمة ليست عنده، فحينئذٍ يجوز له أن يصوم؛ لأن الغالب كالمحقق، وينزّل منزلة المحقق، وقالوا أيضاً: يجوز له أن يؤخر إذا أخر إحرامه ووقع إحرامه قبل يوم عرفة فأحرم يوم التروية ولم يتيسر له صيام يوم التروية ويوم عرفة صام أيام النحر؛ لما ذكرناه: من أنه يرخص فيها لمن لم يجد الهدي؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم صاموها. والله تعالى أعلم.

حكم جمع المساكين وإطعامهم من الآصع مجتمعة

حكم جمع المساكين وإطعامهم من الآصع مجتمعة Q هل يجوز في الإطعام جمع المساكين وإطعامهم من الآصع وهي مجتمعة، أم لابد من نصف الصاع والتوزيع؟ A لابد لكل مسكين أن تعطيه حقه، ولا تبرأ ذمتك حتى تعطيه حقه في يده، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نص: (أطعم فرقاً بين ستة مساكين)، وهذا يقتضي أنك تعطي المسكين حقه طعمة من الله عز وجل أطعمه إياها من فوق سبع سماوات، لا تتصرف في كيفيتها ولا طريقتها، وإنما تعطيه الطعام إن شاء أن يأكل اليوم أكل، وإن شاء أن يأكل الغد أكل، وإن شاء أن يعطيه لغيره فيؤثر به على نفسه فعل، أما أن تلزمه بأن يأكل عندك وتجعل طعامه عندك وتحاسبه على ما يطعم، وتكلفه مشقة الحضور إليك، والتعني بانتظار طعامك؛ فهذا ليس له أصل، وحينئذٍ عليك أن تعطيه الطعام بيدك؛ لأن الله ملك المسكين حقه فقال سبحانه: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19]، فنصه سبحانه على أن المال الواجب ملك للفقير: واللام هنا للتمليك، {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19] أي: ملك للسائل وملك للمحروم، فدل على أن الأموال التي هي زكاة أو أموال واجبة أنها ملك للفقراء والضعفاء. وقد توسع البعض باجتهاداته في هذه الأزمنة حتى بلغ ببعضهم أنه يشتري للفقير من الزكاة أكسية وأغذية ويذهب بها إلى المسكين، وهو قول ضعيف. والصحيح: أن المال يعطى للمسكين بيده؛ حتى يشعر بطعمة الله التي أعطاه إياها، إن شاء أن يبذله في طعامه بذل، وإن شاء أن يبذله في كسائه بذل، وإن شاء أن يعطيه لغيره من أقاربه فهذا أمره إليه، أما أن يتدخل الإنسان ويصرف المال، ويتصرف فيه، أو يصرف الطعام ويتصرف فيه، أو يجعله على صفة أو على هيئة فيلزمه بوقت أو زمان أو هيئة من طعام، فهذا خلاف الأصل الشرعي، ولذلك عليك أن تعطي للمسكين ما أوجب الله عليك. والله تعالى أعلم.

حكم إلحاق الحمار الأهلي بالوحشي

حكم إلحاق الحمار الأهلي بالوحشي Q إذا استوحش الحمار الأهلي فهل يأخذ حكم الحمار الوحشي؟ A لا يحلّ أكل الحمار الأهلي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنها رجس)، فهي رجس إلى يوم القيامة، استوحشت أو لم تستوحش وهذا السؤال يتركب على مسألة خلافية أخرى، تعرفون أن الإبل والبقر والغنم في الأصل تكون مستأنسة؛ لكن ربما شردت الشاة منك، وربما شرد البعير منك، وربما شردت البقرة، فحينئذٍ يقول العلماء: خرج المستأنس إلى المتوحش، فيجوز لك أن ترميه بالسلاح في أي موضع، فلو شردت الشاة فأخذت -مثلاً- السلاح ورميتها به في أي موضع -وأنت لا تستطيع إدراكها- فقتلتها، فيجوز لك أكلها، مع أن الأصل أنه لا يجوز؛ لأن الواجب أن تذكى ذكاة المستأنس؛ لكنها لما خرجت من صورة الاستئناس إلى الاستيحاش عوملت معاملة المستوحش؛ والدليل حديث رافع رضي الله عنه عندما كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فند بعير -يعني: فر- فأهوى رجل بسهم فعقره، فقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (إن لهذه الحيوانات -يعني: المستأنسة من الإبل والبقر والغنم والبهائم- أوابد كأوابد الوحش، فما ندّ منها فاصنعوا به هكذا)، فدل على أنه يجوز عقره. ومن أمثلة ذلك: لو سقطت الشاة في البئر، فأنت لا تستطيع أن تمسكها، فحينئذٍ ترمي بالسلاح الذي يجرحها في أي موضع من جسدها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلْ)، فترميها بالسلاح في أي موضع، فإذا رميتها في أي موضع وماتت قبل أن تصل الماء أو قبل أن تصل إلى قعر البئر إذا كان أرضاً فحينئذٍ يحل لك أكلها؛ لأنها ذكيت ذكاة الصيد. فقياساً على هذه المسألة ظن أن الحمار -أكرمكم الله- إذا استوحش يجوز أن يعامل معاملة الصيد، وأنه يجوز رميه في أي مكان ويؤكل، ولكن نقول: إن المستأنس حلال اللحم في الأصل، ولكن الحمار -أكرمكم الله- في الأصل محرم لحمه؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنها رجس) يعني: في لحوم الحمر الأهلية، وعلى هذا لو استوحش ما يؤثر، فالاستيحاش صفة عارضة لا توجب زوال الأصل بالحرمة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله.

باب صيد الحرم

شرح زاد المستقنع - باب صيد الحرم لقد حرم الله ورسوله مكة والمدينة فلا يقتل الصيد فيهما، ولا يقطع شجر مكة ولا حشيشها إلا الإذخر، فمن قتل صيداً في مكة فعليه دم مثل ما قتله، ومن قتل صيداً في المدينة لزمه الإثم، وفي كلٍ تعرض لسخط الله وعقابه لمن أصر على هذا الفعل.

حرمة مكة

حرمة مكة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [باب صيد الحرم]. لما فرغ من بيان حكم الصيد بالنسبة للمحرم شرع في بيان نوع خاص من الصيد، وهو الذي يشمل المحرم والحلال، وهو صيد مكة وكذلك صيد المدينة، وهذان الموضعان هما اللذان حرم الله ورسوله كما ثبتت بذلك النصوص في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: (باب صيد الحرم) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام المتعلقة بحكم من قتل الصيد داخل مكة أو قتل الصيد داخل المدينة، فإذا كان مراده العموم يصبح حينئذٍ قوله: (الحرم) أي: باب حكم صيد حرم المدينة ومكة، وهذا هو الذي ذكره في الباب أنه اعتنى ببيان حكم صيد مكة والمدينة، أو يكون قوله: (الحرم) حرم مكة، فيكون ذكره لأحكام حرم المدينة من باب التبعية؛ وذلك لأن تحريم المدينة إنما وقع بعد تحريم مكة شرفها الله.

حرمة صيد الحرم

حرمة صيد الحرم وقوله: [يحرم صيده على المحرم والحلال]. يحرم صيد الحرم على المحرم والحلال بإجماع المسلمين؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين: (إن هذا البلد حرم آمن)، وقال في المدينة: (إنها حرم آمن). وقال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس). قال بعض العلماء: قوله: (إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس) أي: أن حرمة مكة إنما كانت من الله تشريعاً ولم تكن شيئاً جبلياً في الناس، كأن يكون شيئاً كان الناس يألفونه ثم نشأ في الناشئة من بعد ذلك وهم على هذا التحريم، إنما هو تحريم من الله. وقيل: (إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس) أي: أن الله حرمها؛ ولكن الناس استهانوا بهذه الحرمة العظيمة، كأن النبي صلى الله عليه وسلم ينبه على عظيم ما للبيت والحرم من حرمة عند الله عز وجل، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن الله حرم هذا البلد يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة)، فهذا نص صريح يدل على أن مكة حرم، وأنه لا يجوز أن يعتدى فيها، وأن تصاب فيها حدود الله عز وجل، ومن ذلك ما نهى الله عز وجل عنه من الصيد. ففسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحرمة وبين وجهها فقال: (لا ينفّر صيدها، ولا يختلى خلاها، ولا يقطع شوكها، ولا تلتقط لقطتها، إلا من معرّف وفي رواية: إلا لمنشد)، فلما قال: (لا ينفّر صيدها) فانظر إلى تعبيره عليه الصلاة والسلام الذي يفيد أن تنفير الصيد واستثارته حرام، فكيف بقتله؟! وهذا كما يسميه علماء الأصول من باب التنبيه بالأدنى على ما هو أعلى منه، فإذا كان تنفير الصيد وهو تحريشه وتحريكه -كأن يرى حمامة فيهش عليها- حرام عليه، فكيف إذا قتلها؟! فإنه من باب أولى وأحرى يقع في حرمة أعظم. فالمقصود: أن تحريم مكة وتحريم الصيد فيها خاصة وتحريمها من كل وجه من جهة العموم، حتى نص العلماء رحمة الله عليهم بتفصيلهم لهذه الحرمة حتى بلغ ببعضهم أن قال: إنه لو قتل ولجأ إلى الحرم لا يقتل، وإن كان الصحيح: أن من قتل عمداً ولجأ إلى الحرم أنه يقتل؛ لكن الشاهد: أن العلماء رحمة الله عليهم عظموا هذه الحرمة ونصوا عليها؛ وذلك لثبوت الأخبار المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعظيم حرمات الحرم. وقوله: [وحكم صيده كصيد المحرم]. وحكم صيد الحرم بالنسبة لك كحكم صيد المحرم، أي: أن الصيد داخل حدود مكة حرام على المكلف سواء كان محرماً أو حلالاً، فكما أن المحرم لا يجوز له قتل الصيد، كذلك من دخل حدود مكة لا يجوز له قتل الصيد، وحدودها من جهة المدينة ثلاثة أميال وهي جهة التنعيم، وأما من جهة الطائف وجهة المشرق فهي سبعة أميال، ومثلها جهة اليمن، ومن جهة الجعرانة تسعة أميال، وأما من جهة جدة فعشرة أميال، هذا بالنسبة لحدود الحرم، وله أصل في حديث الحاكم في ذكر أثر ابن عباس رضي الله عنهما في نزول الحجر وانكسار شعبه -وقيل: إضاءته- فبلغت حدود الحرم، وأقيمت الأعلام عليها، وهي منصوبة معروفة ويعتبرها العلماء رحمة الله عليهم من نقل الكافة عن الكافة، فهذه المعالم والرسوم والأمارات التي بقيت وتوارثتها الأمة جيلاً بعد جيل ورعيلاً بعد رعيل تعتبر باقية ويعتبر وجودها ونقل الكافة عن الكافة دليلاً على ثبوتها، ولذلك نجزم بأن هذا هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا هو جبل أحد من باب نقل الكافة عن الكافة، وهذا ما يسمونه نقل التواتر الذي لا يقبل التكذيب، وعليه فهذه المعالم هي حدود الحرم، فإذا دخل الإنسان إلى هذا الحد من أي جهة كان فإنه يجب عليه أن يرعى هذه الحرمة، ويطالب بحفظ حدود الله عز وجل واتقاء محارمه، ومما حرم الله: قتل الصيد. كذلك أيضاً: لا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها، فحشيشها لا يحش ولا يؤخذ منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا يحتش حشيشها)، وفي رواية: (ولا يختلى خلاها) كل ذلك يدل على أنه حرم ينبغي اتقاؤه، وعدم التعرض لما فيه من الصيد والزرع.

حرمة قطع شجر مكة وحشيشها إلا الإذخر

حرمة قطع شجر مكة وحشيشها إلا الإذخر وقوله: [ويحرم قطع شجره]. ويحرم قطع الشجر، أي: بمكة وداخل حدودها، والشجر له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون نابتاً من الله عز وجل بدون أن يكون هناك فعل للآدمي، فهذا لا يجوز لأحد أن يقطعه، ولكن استثنى بعض العلماء وجود الضرورة، فإذا كانت ضرورة متعلقة بالكافة كمرور الناس في الطريق وهذه شجرة شوك ستسقط عليهم وتؤذيهم، قالوا: يجوز قطعها كما قطع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الدوحة بالمطاف. وقال بعض العلماء: إذا قطعت مع وجود الحاجة والضرورة لزم الجزاء فيها، وهو قضاء ابن عباس رضي الله عنهما، كما سيأتي إن شاء الله بيانه. وعلى هذا فإن الشجر الذي نبت وأنبته الله عز وجل وليس للآدمي فيه دخل فإنه لا يجوز قطعه، وأما إذا انكسر من نفسه وسقط فهذا شيء آخر، فإذا انكسر الغصن أو سقط، أو أن الشجرة يبست وسقطت من نفسها، أو اقتلعتها الريح ويبست، فحينئذٍ قالوا: يجوز أن يحتطب منها، ويجوز أن ينتفع منها، ولا حرج في ذلك، كالحشيش اليابس؛ لأن هذا ليس بعضد، فهو لم يعضدها، وحينئذٍ يجوز له أن ينتفع ويرتفق بها. أما إذا كان الشجر قد أنبته الإنسان كأن يزرع في بيته زرعاً ثم يريد جزّه وقصه أو عضده فلا حرج عليه أن يفعل ذلك إذا كان مما أنبته أو يكون اشتراه من رجل زرعه فصار في ملكه، فإن يجوز له حينئذٍ أن يحش، ويجوز له أن يقص، ولا حرج عليه في ذلك. وقوله: [وحشيشه الأخضرين]. والحشيش ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: إما أن يكون أخضر، كالمراعي النابتة، وذلك حين ينزل مطر أو تصيب السماء فينبت الرعي في مكة فهذا لا يحشّ، لكن لو كان عندك إبل أو بقر أو غنم ورعت فيه فلا حرج، فهناك فرق بين أن ترعاه البهيمة وبين أن تحش بنفسك، ولذلك كان للصحابة رضوان الله عليهم إبلهم ودوابهم حينما قدم عليه الصلاة والسلام مكة ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يكمموا أفواهها، ولم يحرم عليهم أن ترعى هذه الإبل داخل مكة، وإنما جعل التحريم من فعل المكلف، فدل على أنه يجوز أن يرسل إبله أو بقره أو غنمه للرعي، ولا حرج عليه في ذلك، وهذا إذا كان الحشيش أخضر. أما إذا كان الحشيش يابساً فيجوز لك أن تجزّه، وأن تأخذ الهشيم ونحوه، فإنه ليس بحشيش وإنما هو هشيم تذروه الرياح إن لم تأخذه أنت، وحينئذٍ يجوز للإنسان أن يأخذه. وقوله: [إلا الإذخر]. لما خطب الناس كما في حديث أبي شريح رضي الله عنه وأرضاه في حديثه الذي سمعته أذناه، وأبصرت عيناه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تكلم به، ووعاه قلبه حينما قام عليه الصلاة والسلام خطيباً في يوم الفتح فذكر حرمة مكة، وفيه قوله عليه الصلاة والسلام: (إن هذا البلد قد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة)، وفي الرواية الأخرى: (إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم رجعت حرمتها، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يقطع شوكها، ولا ينّفر صيدها، ولا يختلى خلاها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرف، قال العباس رضي الله عنه وأرضاه: يا رسول الله! إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر) فدل هذا على أن الإذخر يستثنى، ويجوز أن يجزّ، ولا حرج في ذلك.

حرمة المدينة والصيد فيها

حرمة المدينة والصيد فيها وقوله: [ويحرم صيد المدينة]. لما فرغ رحمه الله من أحكام الصيد بمكة، حيث أثبت أنه لا يجوز أن يصاد الصيد بمكة، وعلى هذا إذا صاد الصيد بمكة كما ذكر لك حكمه حكم صيد المحرم، فلو قتل بمكة تيس جبل أو مثلاً صاد غزالاً أو صاد حمامة ففيه القضاء الذي ذكرناه كصيد المحرم سواء بسواء ولم يفصل؛ لأنه تقدم التفصيل، لكن هنا بالنسبة لصيد المدينة فإنه لا يجوز، فالمدينة أولاً: محرمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إن عبدك وخليلك قد حرم مكة ودعا لها، وإني أحرم المدينة وأدعو لها: اللهم بارك في صاعها ومدها) وفي رواية: (اللهم اجعل مع البركة بركتين! اللهم اجعل مع البركة بركتين)، فبالإجماع فإن البركة في المدينة ضعف البركة في مكة، وهذا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فالأرزاق مباركة في مكة، ويجد الإنسان أثر هذه البركة في طعامه ورزقه وقوته، ولكنها في المدينة على الضعف فما في مكة يعتبر في المدينة بالضعف، وهذا من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم. ومن هنا قال بعض السلف بتفضيل المدينة على مكة؛ لأنه دعاء بالبركة عموماً، وقال: إن الله اختارها لنبيه صلى الله عليه وسلم، كما هو قول إمام دار الهجرة مالك بن أنس. وذهب جمهور العلماء: إلى أن مكة أفضل. واحتج الإمام بتفضيل الموت بالمدينة؛ لأن الله عز وجل اختارها لنبيه صلوات الله وسلامه عليه، وجعلوا لها من الفضائل، حتى كانت البركة فيها ضعف ما بمكة. والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور، أن مكة أفضل من المدينة، وهذا أمر واضح جلي، فإن النصوص ظاهرة في تفضيل الله عز وجل لهذا الحرم، وثبت في حديث الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله إنك لخير أرض الله، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت)، فالشاهد في قوله: (والله إنك لخير أرض الله) يدل على أنها أفضل؛ لأن قوله: (خير أرض الله) كما تقول العرب: فلان خير، أي: أخير، وشر: أشر، فقوله: (خير أرض الله) يدل دلالة واضحة على أنها أفضل، ولذلك جعلت الصلاة بالمسجد الحرام بمائة ألف، وبمسجد المدينة بألف وهذا يدل على أن مكة أفضل. وعليه فإن حرمة المدينة تشابه حرمة مكة، فلا يجوز قتل الصيد داخل حدود حرم المدينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح عن المدينة: (إنها حرم آمن)، وفي الصحيح من حديث علي رضي الله عنه: أنه لما سأله أبو جحيفة: (هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ قال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة! ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء إلا فهماً يؤتيه الله رجلاً في كتابه، وما في هذه الصحيفة، فأخرجها فإذا فيها: المدينة حرم من عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً يوم القيامة) هذا ثابت في الصحيح، وقوله: (لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً) قيل: لا يقبل الله منه فريضة ولا نافلة، وقيل: إن قوله: (صرفاً ولا عدلاً) أي: إشارة إلى أنه لا يقبل منه شيء، نسأل الله السلامة والعافية، وإذا لم يقبل العمل من العامل فهذا أمر عظيم؛ لأنه دليل على هلاكه، فهو مهما عمل فإن عمله لا يعود عليه بخير؛ لأن العبرة بالقبول. فالمقصود: أنه لعظيم حرمة الحرم صرف العبد عن القبول بالإحداث في مدينة حرم النبي صلى الله عليه وسلم، فحرمة المدينة تقتضي عدم جواز قتل الصيد، وعدم جواز تنفيره، ولذلك لما رأى سعد رضي الله عنه الغلام من بني مخزوم يصيد في المدينة أخذ سلاحه الذي يصيد به، فجاء مواليه وقالوا: رد للغلام آلته، قال: لا والله، لا أرد سلباً نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما رواه مسلم في صحيحه، فهذا من باب العقوبة، ولذلك من وجد يصيد في حدود الحرم فإنه يجوز أخذ آلته التي يصيد بها وتملك، وهذا من باب العقوبة التعزيرية، أي: التعزير بالمال. فالمقصود: أن حرم المدينة يقتضي عدم جواز الصيد فيه، وعدم جواز الحدث والبدعة داخل المدينة، وكذلك حرم مكة؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْم} [الحج:25]، بل إن حرم مكة أشد؛ لأنه جعله لمجرد الإرادة وتوجه العزيمة للشيء.

حدود حرم المدينة

حدود حرم المدينة حرم المدينة من عير إلى ثور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (المدينة حرم من عير إلى ثور)، وعير: هو الجبل الذي بحذاء الميقات، على يسار الذاهب إلى مكة مع طريق الهجرة الموجودة الآن، فطريق الهجرة الموجودة الآن إذا جئت إلى الميقات الذي يسمى بأبيار علي فإنك إذا كنت داخلاً المدينة يكون عير عن يمينك؛ وهو جبل طويل أزرق، وأما عن يسارك فيكون الميقات، فهذا الجبل الذي عن يمينك إذا كنت داخلاً المدينة أو عن يسارك وأنت خارج يسمى بعير، وهو حد المدينة من الجهة الغربية إلى الجنوب، وأما ثور فحدها من الجهة الشمالية إلى الشرق، وثور اختلف فيه على أقوال: فهناك قولان هما أشهر وأقوى وأصح الأقوال الواردة: إما أن يكون هو الجبل الصغير الأحمر المدور الذي خلف جبل أحد، وهو جبل معروف عند أهل المدينة، وأشار إليه الحافظ ابن حجر، وأشار إلى هذا السمهودي في كتابه النفيس: وفاء الوفاء. وهناك قول ثان: أنه الجبل الذي يسمى بجبل الخزّان؛ وهو على طريق المطار القديم، إذا انتهى جبل أحد، فيكون جبل أحد عن يسارك وأنت خارج من المدينة إلى المطار ويكون هذا الجبل عن يمينك، وقد أخذ الطريق طرف هذا الجبل ويسمى بجبل خزان، وهذا الجبل هو الذي تنطبق عليه صفات جبل ثور. هذا بالنسبة لحدّها من الجهتين اللتين ذكرنا. أما من جهة الحرة الشرقية المحضة والغربية المحضة، فإن الحرتين تعتبران حداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني أحرم ما بين لابتيها) ولابتا المدينة هما: الحرة الشرقية والحرة الغربية. أما الحرة الشرقية فهي في الجهة الشرقية لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وتسمى هذه الحرة في القديم بحرة واقم، وهي التي وقعت فيها موقعة الحرة المشهورة التي كانت أيام يزيد بن معاوية، وفيها يقول قيس الرقيات: فإن تقتلونا يوم حرة واقم فإنا على الإسلام أول من قتل فهذه تسمى بحرة واقم. أما الحرة الثانية وهي الحرة الغربية، فهي في غربي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وتسمى حرة الوبرة، وتسمى الآن بالحرة الغربية. هاتان الحرتان ما بينهما حرام، وهل الحرتان داخلتان في الحرم، أو ليستا بداخلتين؟ قولان، والصحيح: أنهما داخلتان. واختلف في وادي العقيق، ووادي العقيق من الجهة الغربية بعد الحرة، فبمجرد أن تقطع الحرة تنزل إلى وادي العقيق، والصحيح أن وادي العقيق من الحمى وليس من الحرم، فهناك أمران ينبغي التفريق بينهما وهما: الحرم، والحمى، أما الحمى فإنه يخرج خارج الحرم، والحمى لا يجوز فيه الصيد، وكان حمى -أيضاً- لإبل الصدقة لا يرعى فيه أحد، وحمى المدينة بريد في بريد، يعني: ثلاثة أميال في ثلاثة أميال، هذا بالنسبة لحمى المدينة من الجهات كلها، حماه النبي صلى الله عليه وسلم وكانت ترعى فيه إبل الصدقة؛ والتي كانت تتبع بيت مال المسلمين، فلما كانت تحتاج إلى رعي تركت لها هذه المساحة من الأرض، وهذا يسمى حمى المدينة. فهذا الحمى لا يجوز فيه الصيد، وأما بالنسبة لحدود الحرم فلا، فإن الحرم ينتهي عند الحرة، وهل الحرة داخلة، أو لا؟ على الوجهين اللذين ذكرنا. وقوله: [ويحرم صيد المدينة ولا جزاء فيه]. لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم المدينة، وفهم الصحابة ذلك كما ذكرنا في حديث مسلم في عقوبة من صاد في المدينة، فدل على أنه لا يجوز الصيد داخل المدينة، ولكن يختلف صيد مكة عن صيد المدينة أن صيد مكة فيه جزاء وصيد المدينة لا جزاء فيه، والجزاء في الصيد داخل حدود حرم مكة فيه خلاف، ولكنه فتوى ابن عباس رضي الله عنهما. وقوله: [ويباح الحشيش للعلف]. الدواب إذا جاءت ورعت فلا حرج في ذلك. وقوله: [وآلة الحرث ونحوه]. وكذلك آلة الحرث ونحوه في المدينة، وفيه حديث أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله: أن الصحابة رضي الله عنهم اشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم المشقة في تحريم المدينة في عدم جواز قطع شجرها. ولذلك انظر حينما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصنع المنبر الذي كان يخطب عليه لما كثر الناس بعد عام الوفود احتاج للمنبر؛ لأنه كان يخطب على الجذع، فاحتاج إلى المنبر حتى يعلو فيستطيع أن يبلغ صوته إلى آخر المسجد، فقال -كما في حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه في الصحيحين- لامرأة من الأنصار: (انظري غلامك النجار فليصنع لي أعواداً أكلم عليها الناس)، يقول سهل رضي الله عنه: (فصنعت من طرفاء الغابة)، والغابة هي التي تسمى اليوم بالخُليل، وهي خارج حدود المدينة، وقد تجاوز الحمى، فلما احتيج لخشب المنبر لم يستطع أن يأخذ من شجر المدينة، وإنما خرج إلى خارج حدود الحرم، فبالرغم من أن النبي محتاج إلى المنبر، وأحب الأشياء إلى الله هو الدعوة إليه سبحانه وتعالى ومع ذلك صنع هذا المنبر من طرفاء الغابة، كما في الرواية في الصحيح، ولذلك يقولون: لا يعضد شجرها، ولا يؤخذ منها، على التفصيل الذي ذكرناه، فاستثنوا الآلة كأن تؤخذ خشبة للفأس ونحوه، حتى يقدّ به أو المعول حتى يحفر به ونحو ذلك، قالوا: رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وخشبة البئر كما جاء في حديث أحمد في مسنده؛ لأنهم اشتكوا له المشقة. فالشخص إذا احتاج إلى هذه الخشبة لكي يصلح فأسه يخرج خارج المدينة ويجاوز الثلاثة الأميال ثم يقص الشجرة ويأخذ منها فهذا فيه مشقة، فلما شكوا للنبي صلى الله عليه وسلم هذا رخص لهم في ذلك، فهذا الذي جعل المصنف رحمه الله يقول: الآلات. وقوله: [وحرمها ما بين عير إلى ثور]. وحرم المدينة ما بين عير إلى ثور؛ لقوله: (المدينة حرم من عير إلى ثور)، وحد بعض المعاصرين ثور بالجبل الذي هو خلف جبل أحد بجوار الوادي الذي يسمى بوادي النقمي، وتسميه العامة وادي النكمى، المعروف في القديم باسم النقماء، وهو الذي جاء عنه في غزوة الأحزاب: (أتيت بغطفان فأنزلتهم بمجمع الأسيال من ذنب نقماء)، هذا الوادي يأتي من الجهة الشرقية من جهة المطار ويسمى الآن بوادي الأوينه، هذا الوادي إذا التقى مع مجمع الأسيال فهناك جبل يقولون: إنه جبل ثور، وهذا خطأ، فإن هذا الجبل ليس بجبل ثور، ولو جئت تقف وتجعل عيراً وراء ظهرك وتسامت هذا الجبل ناظراً إليه لوجدت المدينة في أقصى اليمين، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين عير إلى ثور)، وهذا يدل على خطأ هذا التحديد، ولذلك الصحيح: أن التحديد إما الجبل المدور الذي ذكرناه خلف أحد، وإما الجبل الذي يسمى بجمل الخزان، وهو الذي ذكره السمهودي في وفاء الوفاء، يقول: هو جبل صغير على يسار الذاهب إلى العراق. فكان على يسار هذا الطريق؛ لأنه كان طريق المشرق وينفذ منه إلى المشرق، وهذا هو أرجح الأقوال، إما هذا الجبل أو هذا الجبل، فكان الوالد رحمه الله يختار الجبل الذي يسمى بجبل الخزان، ويذكر شواهد من الشعر تدل عليه، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس وهو أنه جبل ثور. وتحديد جبل ثور مشكلة من المشكلات، حتى إن أبا عبيد القاسم بن سلام العالم الجليل والمحدث والمفسر رحمة الله عليه الفقيه المشهور كان يقول: أخطأ المحدثون. فكان يخطئ رواة الحديث في هذا الحديث الثابت في الصحيحين ويقول: ليس في المدينة ثور، وإنما هو بمكة. والصحيح: أن ثور بالمدينة، ولكن كان خافياً عن البعض، وخفاؤه لا يقتضي أنه ليس بموجود، بل موجود؛ لأن الرواية في الصحيحين، وقد رواه الثقاة العدول، وعلى التفصيل الذي ذكرناه. وعليه: فإنه يعتبر حد المدينة ما بين عير إلى ثور من الجهة الشرقية إلى الشمال والغربية إلى الجنوب، وأما بالنسبة للحرتين فقد ذكرنا أنهما حد للحرم لظاهر الحديث في الصحيح: (فإني أحرم ما بين لابتيها).

باب دخول مكة [1]

شرح زاد المستقنع - باب دخول مكة [1] لقد شرف الله تعالى بعض الأمكنة وفضلها بما وهبها من خصائص تميزت بها عن غيرها، ومن هذه الأماكن: المسجد الحرام ومكة المكرمة، ومن تشريف الله تعالى لها أن جعل لدخولها آداباً وسنناً ينبغي لمن دخلها أن يلتزم بها، والأولى والأفضل لمن دخلها أن يدخلها محرماً، فإن كان في الحج فبحج، وإن كان في غير موسم الحج فيحرم بعمرة.

كيفية دخول مكة

كيفية دخول مكة

السنة في جهة الدخول إلى مكة

السنة في جهة الدخول إلى مكة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المؤلف عليه رحمة الله: [باب دخول مكة]. هذا الباب قصد المصنف رحمه الله أن يبين فيه السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة دخوله في حجه وعمرته لمكة، وما هو الهدي الذي ينبغي على الحاج أن يحافظ عليه، وكذلك على المعتمر إذا دخل مكة -زادها الله شرفاً وكرامةً-، ونظراً لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبتت عنه هذه السنة، فقد اعتنى العلماء رحمهم الله بتخصيص الدخول إلى مكة ببيان جملةٍ من أحكامه ومسائله، وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه. قوله: (باب دخول مكة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل التي تتعلق بصفة الدخول إلى مكة، والدخول إلى البيت من أجل الطواف. قال رحمه الله تعالى: [يسن من أعلاها]. أي: يسنّ الدخول إلى مكة من أعلاها، والمراد بأعلاها من جهة ثنية كداء، وهي الثنية التي عند قبور المعلاة، ومنها ينصب الداخل على البطحاء، ثم يستقبل باب البيت، وهذا المدخل دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبتت عنه الأحاديث الصحيحة أنه دخل مكة منه. وللعلماء رحمهم الله في هذا الدخول وجوه: الوجه الأول: منهم من قال: هذا الدخول كما لا يخفى بالنسبة لأهل المدينة فيه رفقٌ بهم، فيأتي الحاج والمعتمر من جهة التنعيم، ثم إلى الحجون، ثم ينحرف ذات اليسار مع الحجون حتى ينصب إلى الثنية، ويدخل من جهة القبور، ولا يزال الطريق موجوداً إلى الآن، وهو الطريق الذي يفصل قبور المعلاة وينصب من بينها، فهذا هو مدخل النبي صلى الله عليه وسلم، وهي ثنية كداء. قال هؤلاء العلماء: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة من هذا الموضع، وهو أعلى مكة؛ لأنه خرج من مكة متخفياً بالليل، فدخلها من أعلاها إعزازاً للإسلام وإعلاءً لشأنه، فالتمس أرفع المواضع، وأعلى المواطن حتى تظهر شوكة الإسلام وعزته، وهذا يدل على أن الله تعالى تكفل بنصرة دينه، وإعلاء كلمته، فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ليلاً، فأدخله الله إليها في وضح النهار، في يومٍ أعز الله فيه دينه، ونصر فيه عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. فأدخله الله عز وجل في وضح النهار معززاً مكرماً، بين أصحابه الذين يفدونه بأرواحهم رضي الله عنهم وأرضاهم، خرج منها كالوحيد ليس معه إلا أبو بكر والدليل، وأدخله الله مع ثمانية آلاف يفدونه بأرواحهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فهذا كله يدل على ما كان لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا الدين عند الله عز وجل من شأنٍ. الوجه الثاني: ومنهم من قال: إنه دخل من هذا الموضع لأن حسان رضي الله عنه قال: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء في قصيدته المشهورة: عفت ذات الأصابع فالدلاء إلى عذراء موضعها خلاء ديارٌ من بني حسحاس قصرٌ تعفيها الروامس والدلاء فلما ذكر هذا الموضع -أي: كداء- أصدق النبي صلى الله عليه وسلم وعده، وحافظ على الدخول من جهة ثنية المعلاء. الوجه الثالث: التشريف، وهذا أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله بالشرح، وأشار إليه غيره، أن هذا الموضع إذا دخل منه الحاج والمعتمر يدخل على القبور، ومن جهة القبور على البطحاء، ثم على جهة الصفا والمروة، فيستقبل باب البيت، فكأنهم يرون وجه مكة من هذه الجهة، وحينئذٍ قالوا: إنه يستقبل باب البيت، ففي هذا تشريفٌ للبيت وتكريم، وكذلك أيضاً يستقبل وجه مكة، ولذلك لما خرج عليه الصلاة والسلام خرج من ثنية كداء، وهي بأسفل مكة، فكان مدخله من الأعلى ومخرجه من الأسفل، فلهذا يقولون: إنه تشريف للبيت، والملوك تُأتى من أبوابها، وهذا من باب التشريف لبيت الله عز وجل، فيؤتى من جهة بابه، ولذلك يُقصد الدخول من باب بني شيبة، كما ثبتت في ذلك الأحاديث الصحيحة في صفة دخوله عليه الصلاة والسلام. وهناك وجهٌ رابع أنه دخل هكذا اتفاقاً، أي: أنه تيسر له أن يدخل من جهة المدينة، فكان دخوله من هذا الموضع، ولكن هذا القول يشكل عليه دخوله عليه الصلاة والسلام في عمرة الجعرانة، وسلوكه عليه الصلاة والسلام في مدخله في جميع دخوله إلى مكة هذا الموضع، فدل على أنه مقصود وليس بأمرٍ اتفاقي. وفائدة الخلاف بين كونه مقصوداً أو اتفاقاً: أننا لو قلنا: إنه مقصود، فيشرع للحاج والمعتمر أن ينحرف إذا جاء من غير هذه الجهة، كأهل جدة -مثلاً- إذا أرادوا إصابة السُنَّة فإنهم ينحرفون إلى طريق المدينة، ويدخلون من جهة الحجون؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا غيرهم إذا قلنا: إنها سنةٌ مقصودة. أما إذا قلنا: إنها سنةٌ اتفاقية، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن هذا أرفق وأيسر له، فالأمر يسير ولا إشكال فيه. وقال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل من موضعٍ وخرج من موضع؛ تكثيراً للخطى في طاعة الله عز وجل، ولكي تشهد الأرض للعبد بما يكون له من الخير، ولذلك ذهب إلى العيد من طريق ورجع من طريقٍ آخر، ومضى إلى عرفاتٍ من طريق ضب -وهو الطريق الأيمن- ودفع إلى مزدلفة من طريق المأزمين بين الجبال، فقالوا: هذا كله لتكثير الخطا، ولكي تشهد الأرض له بالخير. فاستحبوا -على هذا الوجه الثاني- لمن دخل مكة من موضع أن يخرج منها من موضعٍ آخر، فتكون السنة إجمالياً من حيث تكثير الخطا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في نص الكتاب والسنة أن الأرض تشهد بما يُعمل عليها من خيرٍ وشر، كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:4 - 5]. قال العلماء: تتحدث بأخبارها، أي: بما عمل عليها من خيرٍ وشر، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12]. وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (يا بني سلمة! ديارَكم تُكتبْ آثارُكم)، وهذا يدل على أن الأفضل أن الإنسان يمضي في الطاعة من سبيل ويرجع من سبيلٍ آخر. فالسنة أن يدخل مكة من أعلاها -كما نص عليه المصنف- ويكاد يتفق العلماء رحمة الله عليهم أن مدخل الرسول صلى الله عليه وسلم كان من أعلى مكة، وهذا الدخول يستوي أن يكون بالليل ويكون بالنهار، فيدخل الحاج في الليل ويدخل في النهار، وأكثر دخوله -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه إلى مكة كان بالنهار، ودخلها ليلاً في عمرة الجِعرَّانة أو الجِعرَانة، لما فتح الطائف وقسم الغنائم -غنائم حنين-، ثم نزل واعتمر عمرته المشهورة، قالوا: وقعت ليلاً منه صلوات الله وسلامه عليه، ورجع إلى الجعرانة وبات بها، كما يقول أهل السير، فهذا هو مدخله بالليل. وأما بقية عمره عليه الصلاة والسلام، وكذلك فتحه لمكة، وكذلك حجة الوداع فكل ذلك وقع منه صلوات الله وسلامه عليه بالنهار. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه إذا كان الإنسان يقتدى به كالعالم ونحوه، فالأفضل أن يدخل في النهار، وهكذا طالب العلم؛ لأنه ربما وافق الجاهل الذي لا يعرف السنن فيعلمه، أو يراه يفعل السنة فيتأسى به، فاستحبوا له الدخول بالنهار؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أشارت أم المؤمنين إلى هذا، قالوا: فنظراً إلى حاجة الناس إلى معرفة هديه عليه الصلاة والسلام وقع دخوله نهاراً، ولم يقع ليلاً إلا في العمرة التي ذكرنا، فاستحبوا لطالب العلم وللعالم أن يكون دخوله بالنهار، وأن يكون إيقاعه لطواف عمرته، وكذلك طواف القدوم في حجه، أو طواف التمتع -إذا كان متمتعاً في حجه- أن يكون بالنهار؛ لكي يُتأسى به.

وقت الدخول وحالة الداخل

وقت الدخول وحالة الداخل ولا حرج أن يقع الدخول ليلاً، ولكن السنة المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بات بذي طوى، وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا قدم إلى مكة يبيت في ذي طوى كما ثبت عنه في صحيح البخاري، وموطأ مالك: أنه كان إذا دخل مكة قطع تلبيته عند الحرار، ثم بات بذي طوى، ثم أصبح واغتسل بذي طوى، ثم مضى إلى البيت، وكان يفعل ذلك وينسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال العلماء: قد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في عُمَرِه صلوات الله وسلامه عليه. والسنة إذا دخل مكة -آفاقياً أو غيره- أن يستشعر حرمة هذا البلد الذي حرمه الله عز وجل، وشرفه وكرمه، وجعل فيه بيته، وجعل فيه المسجد الحرام الذي جعل الصلاة فيه مفضلةً على سائر بقاع الأرض، ولا شك أن تخصيص الله تعالى لهذا البلد بهذه الفضائل يوجب على المسلم إذا دخله أن يستشعر هذه الحرمة، ولذلك لما دخل صلوات الله وسلامه عليه يوم الفتح وقد أعزه الله عز وجل، وأجله وأكرمه ونصره، طأطأ رأسه تواضعاً لله سبحانه وتعالى. وثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كانت لحيته تكاد تمس قربوس سرجه، وهو يوم فتح ويوم عزة وتمكين، كل ذلك إكراماً لهذا البلد الآمن، وتشريفاً له، واستشعاراً لحرمته، ولذلك لما خطب الناس في اليوم الثاني أكد هذه الحرمة فقال: (ومن ترخص لكم بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوا: إن الله أحلها لنبيه، إنها لا تحل لأحدٍ من بعدي، وإنما أحلت لي ساعةً من نهار)، وهذا يدل على عظيم حرمة هذا البلد، وأنه ينبغي لمن دخله زائراً أو كان من أهله أن يستشعر حرمته، وأن يرعى هذه الحرمة بفعل طاعة الله والبعد عن حرمات الله عز وجل، فيدخلها دخول المستشعر لحرمتها؛ حتى يكون ذلك أدعى لحفظ حدود الله، وأدعى أيضاً لمحافظته على طاعة الله عز وجل. فإن من دخل مكة وفي قلبه تعظيمها وإجلالها وهيبتها وفقه الله عز وجل للطاعة والخير والبر، ومن دخلها مستهيناً بحُرمتها أهانه الله عز وجل، وقد يبتلى -والعياذ بالله- بتعدي حدود الله والوقوع في محارم الله في حرم الله، نسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ بوجهه العظيم من الخذلان. قال رحمه الله تعالى: [يسن من أعلاها ودخول المسجد من باب بني شيبة]. أي: ويسن الدخول للمسجد من باب بني شيبة. فالسنة لمن دخل مكة وأراد دخول الحرم أن يدخل من باب بني شيبة، وهذا -كما ذكرنا- أن من العلماء من يقول: إنه شيءٌ اتفاقي، ومنهم من يقول: إنه شيءٌ مقصود، ولو فعله الإنسان متأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل من حيث دخل، وقصد التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على خير، ومأجور على ذلك؛ لأنه ما فعل ذلك إلا تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم. وباب بني شيبة هو الباب الذي بحذاء الصفا -جهة الصفا- وهذا الدخول ليس بواجب، أي: أن دخوله من هذا الباب ليس بلازم، والسنة له إذا دخل أن يقول ما ورد في الدخول إلى المساجد عموماً، وورد في بعض الأحاديث -ولكنهم تكلموا في سنده- أنه يكبر عند رؤية البيت، كما سيذكر المصنف رحمه الله، وسيأتي الكلام على هذا.

دخول البيت الحرام

دخول البيت الحرام

رؤية البيت ودخوله وما ورد في ذلك

رؤية البيت ودخوله وما ورد في ذلك [فإذا رأى البيت رفع يديه وقال ما ورد]. إذا دخل فالسنة أن يقدم رجله اليمنى ويؤخر اليسرى، كالدخول في سائر المساجد، ويسمي الله تعالى، ويسأل الله تعالى أن يفتح له أبواب رحمته، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم، وذلك بعد الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم- فإذا قال الدعاء الوارد في الدخول فليبتدئ بالطواف. والدعاء الوارد الذي يشير إليه المصنف جملتان: الأولى: (اللهم أنت السلام ومنك السلام، حيَّنا ربنا بالسلام)، وقد أُثر هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو مرفوع وفيه كلام. الجملة الثانية: (اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتكريماً وتعظيما ومهابةً وبراً، وزد من شَرَّفه وكَرَّمه ممن حجه واعتمره تشريفاً وتكريماً وتعظيماً ومهابةً وبراً)، وهذا الحديث رواه الطبراني، وكذلك الشافعي في مسنده، ولكن فيه كلام، وهو من رواية عاصم القوزي وهو كذاب، ولذلك فالعمل عند بعض العلماء أن يقول الدعاء المحفوظ في الدخول إلى المساجد عموماً، وما دام أن الحديث لم يثبت ولم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يتعبد بما هو من اختلاق الكذابين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يقول ما ورد في الدخول إلى المساجد عموماً. وأما التكبير عند رؤية البيت فقد تسامح فيه بعض العلماء، ونقله شيخ الإسلام رحمه الله عن الإمام أحمد، وعن بعض السلف، ولكن ليس فيه شيءٌ صحيح، وكان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يضعفه، ويقول: لا أستحبه ولا أكرهه، فقوله: لا أستحبه؛ لأنه لم يثبت فيه شيءٌ صحيح، وقوله: لا أكرهه، كأنه خفف فيه؛ لأن فيه رواية مرسلة، ورواية عن سعيد بن المسيب، ويروى أيضاً عن عمر رضي الله عنه وأرضاه. وإذا دخل البيت فإنه يمضي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقف عند دخوله، وبعض الناس يقف للدعاء، ويرفع يديه مستقبلاً البيت، وهذا لم يثبت فيه شيء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت، وحفظت سنته، وحفظ هديه صلوات الله وسلامه عليه، فتكلف الوقوف ورفع اليدين بالدعاء لم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام، والعلماء رحمة الله عليهم -خاصة السلف- يشددون في هذا فيرون أنه لا يشرع فعلُ أفعالٍ مخصوصة في المواضع المخصوصة، خاصةً في المناسك والمشاعر التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إن الصحابي كان يحفظ لنا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا اختلف عن عادته. كقول جابر رضي الله عنه لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم في الشعب بين عرفات ومزدلفة: (فتوضأ وضوءاً خفيفاً) فانظر إلى دقة الصحابة وحفظهم لكل شيء في هديه صلى الله عليه وسلم، حتى لو رفع إصبعه، أو رفع بصره ذكروا رفعه لبصره وإصبعه صلوات الله وسلامه عليه، وذلك لحفظهم ودقتهم، فثبتت الأحاديث الصحيحة كلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدخوله في عمرته وحجه، ولم يذكر عنه أنه عليه الصلاة والسلام لما دخل البيت وقف وقوفاً طويلاً، أو تكلف الدعاء، أو تكلف رفع اليد، أو تكلف فعلاً معيناً، وإنما دخل كما يدخل في سائر المساجد، وهذا يدل على أن السنة والهدي أن يُتأسى به عليه الصلاة والسلام في هذا، وألا يتعبد الإنسان ربه إلا بشيءٍ له أصل يعتمد عليه من كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

الطواف وأحكامه

الطواف وأحكامه

السنة في الطواف بعد الدخول وأحكام ما يزاحمه من الفرائض والواجبات

السنة في الطواف بعد الدخول وأحكام ما يزاحمه من الفرائض والواجبات فإذا دخل البيت فالسنة أن يبتدئ بالطواف؛ لأن الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل دلالةً واضحة على أنه لما دخل مكة لم يشتغل بأي شيء، وإنما انصرف إلى البيت وطاف صلوات الله وسلامه عليه، وقد ثبت عنه ذلك في عُمَرِه، وثبت عنه في حجة الوداع، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم)، وقد ذكرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة لم يشتغل بشيء غير الطواف بالبيت)، ولذلك قال العلماء: لا يسن للإنسان أن ينصرف إلى أي شيء غير الطواف، حتى كان بعض العلماء يكره للإنسان إذا دخل مكة أن يبحث عن السكن، أو عن المنزل قبل أن يطوف بالبيت؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ابتدأ فحيا مكة وحيا البيت بالطواف، فقالوا: السنة في الحج والعمرة أنه إذا دخل أول ما يبدأ يبدأ بالطواف، وما أقدمه من البلاد البعيدة، وقد نأت داره، وابتعد عن أحبابه وأولاده وفارقهم إلا من أجل طاعة الله تعالى ومرضاة الله تعالى، ومن أجل هذه القربة التي من أعظمها وأجلها أن يطوف ببيت الله عز وجل. فكان من هديه أن ابتدأ صلوات الله وسلامه عليه بالطواف بالبيت، فالسنة -كما نص العلماء- أن لا يشتغل بشيء بعد دخوله مكة غير الطواف بالبيت، فقد توضأ صلوات الله وسلامه عليه ثم دخل من باب بني شيبة، وابتدأ طوافه عليه الصلاة والسلام، هذه هي السنة. إلا أنهم قالوا: إنه قد يرخص للإنسان في أحوال خاصة، كأن يكون معه الضعفة والحطمة، أو يكون معه كبار السن، أو معه الأطفال، أو معه النساء، فهؤلاء إذا احتاج الإنسان أن يرفق بهم في دخولهم فينزلهم أو يتفقد مواضع نزلهم، فهذا لا بأس به من باب الرفق، ولا حرج فيه، ولكن السنة إذا كان الإنسان قوياً جلداً ومعه الرفقة أن يبتدئ -كما ذكرنا- بتحية البيت. فإذا ابتدأ يبتدئ بالطواف. ولو أقيمت الصلاة المفروضة، أو تذكر فائتةً مفروضةً عليه، ولو طاف فات وقتها، فهل يبتدئ بالطواف أو بالصلاة المفروضة؟ ذهب جماهير العلماء إلى أنه يبتدئ بالصلاة المفروضة؛ لأن الصلاة المفروضة قد ضاق وقتها، وقد قال الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] وفي قراءة: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِلذِكْرَى) وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك)، فلو كان ناسياً لصلاةٍ مفروضة وتذكرها عند دخوله للبيت، أو دخل في آخر وقت الظهر، أو دخل في آخر وقت أي صلاة مفروضةٍ وجبت عليه فإنه يبتدئ بالصلاة المفروضة، وأما النوافل فلا يبتدئ بشيءٍ منها. ولكن اختلف العلماء: لو أنه دخل وعليه فريضة ولم تقم، بمعنى أنك صليت الفريضة في المسجد الحرام، ودخلت بعد صلاة العصر مثلاً، فهل الأفضل أن تبتدئ بصلاة العصر أو تبتدئ بالطواف؟ قالوا: يبتدئُ بالطواف؛ لأن وقت العصر موسع، فيصيب سنة الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الابتداء بالطواف، ولأنه إذا طاف وركع ركعتي الطواف خرج من الخلاف، ثم بعد ذلك يصلي العصر، فيكون إيقاعه لركعتي الطواف قبل صلاة العصر، وإن كانت ركعتي الطواف قد استثنيت في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أي ساعةٍ شاء من ليل أو نهار). فيبتدئ بالطواف بالبيت -كما ذكرنا- ويقدمه على سائر الطاعات، إلا إذا أقيمت المفروضة، أو كانت هناك خطبة جمعة، فإذا كانت هناك خطبة جمعة فقد قال بعض العلماء: إنه يتعين عليه أن يجلس لاستماع الخطبة، ولا يبتدئُ بالطواف، وقال بعض العلماء: إن له أن يطوف بالبيت، وينتظر إقامة الصلاة، وذلك لأن الطواف بالبيت ركن عمرته، فلذلك يبتدئُ بالركن، ويقدمه على واجب الاستماع إلى الخطبة. قالوا: ثم بعد فراغه من طوافه يصلي، ثم يجلس وينصت لما بقي من الخطبة، ولا شك أن القول بأنه يجلس من أول الخطبة، فيصلي تحية المسجد، ثم يجلس يستمع الخطبة هو أولى وأحرى، ولكن لو طاف لمكان الركن، وانتظر إقامة الصلاة، فأتم طوافه وأشواطه ثم صلى الفرض فإنه لا حرج عليه؛ لأن الجمعة لم تجب عليه في الأصل، فإذا كان مسافراً فإنها لا تجب عليه، ولذلك لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم جمعة في سفره.

الاضطباع كيفيته ومحله

الاضطباع كيفيته ومحله [ثم يطوف مضطبعاً]. فإذا دخل البيت فإنه مباشرة يبتدئ بالطواف ويضطبع، والاضطباع: أن يجعل الرداء تحت إبطه الأيمن، ويلقي بطرفيه على عاتقه الأيسر. والاضطباع مأخوذٌ من الضبع وهو العضد، وذلك لأنه ينكشف بحسر الرداء عن العاتق، فقالوا: إنه اضطباع. والأصل في هذا الاضطباع أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم في عمرة القضاء، أو القضية، قال كفار قريش: يقدم عليكم محمد وأصحابه وقد وهنتهم حمى يثرب، فنزل جبريل بالوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بما قالوه من الشماتة به صلى الله عليه وسلم وبأصحابه رضوان الله عليهم، فقال عليه الصلاة والسلام: (رحم الله امرءاً أراهم من نفسه اليوم جلداً) فلما استفتح طوافه صلوات الله وسلامه عليه اضطبع، وذلك لمكان الرمل، ثم خَبَّ وَرَمل الأشواط الثلاثة الأول، فقالوا كما جاء في رواية السير: إنهم ينقزون نقز الظباء، أي: بقوتهم وجلدهم، والسبب في ذلك: أن المدينة كانت فيها الحمى، وكانت مشهورةً بذلك، حتى كان الكفار في الجاهلية إذا انتهوا من التجارة بالشام وأرادوا المرور بالمدينة يعشِّر الرجل منهم تعشير الحمار بخيبر، وذلك من عقائد الجاهلية التي كانوا عليها، كما أشار إلى ذلك الناظم بقوله: واختلقوا التعشير أن يعشر من النهيق بحذاء خيبر فكانوا يعشرون بخيبر خوفاً من حمى المدينة، ويظنون أن ذلك يحفظهم، وكانت المدينة معروفةً بالحمى، فلما قدم عليه الصلاة والسلام إلى المدينة أصابت الحمى أصحابه، فدخل على أبي بكر وهو محموم، وعلى بلال رضي الله عنه وهو محموم، وكان أبو بكر يحن إلى مكة وكذلك بلال، فقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا لمكة أو أشد -أي: وأشد؛ لأن (أو) بمعنى (الواو) - وصححها، وانقل حماها إلى الجحفة)، فصححها الله عز وجل، ونُقلت الحمى منها بقدرة الله عز وجل إلى الجحفة، فاستجيبت دعوته صلى الله عليه وسلم، فلما أرادوا دخول مكة أراد الكفار الشماتة بهم فقالوا: (وهنتهم حمى يثرب). أي أنهم سيقدمون ضعافاً هزيلين، ويريدون بذلك الشماتة بدين الله عز وجل، وإن كانت بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فلما استفتح النبي صلى الله عليه وسلم الطواف كشف عن ضبعه أو عن عضده ثم رمل الأشواط الثلاثة الأول فأراهم الجلد، وكانوا جلوساً جهة الحُجْر، فإذا توارى صلوات الله وسلامه عن البيت بين الركنين مشى هو وأصحابه، فإذا طلع عليهم من جهة الحُجر رملَ صلوات الله وسلامه عليه، وكان يمشي بين الركنين، فهذا الأصل في الرمل، ثم نسخ ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه، أنه أصبح الرمل لجميع الثلاثة الأشواط من أولها إلى آخرها. وهذا الاضطباع إنما يكون في طواف العمرة إذا كان الإنسان معتمراً، ويكون في طواف العمرة في الحج أيضاً، وهذا الطواف ركنٌ بالنسبة لعمرة الحج إذا كان متمتعاً. وكذلك أيضاً طوافه إذا كان قارناً، أو كان مفرداً فإنه يبتدئُ طوافه بالرمل مع الاضطباع في الثلاثة الأشواط الأولى، وذلك في الطواف الأول، أما بقية الأطوفة كطواف الإفاضة ففيه تفصيل، فالذي جاء مفرداً إلى عرفاتٍ مباشرة، ولم يطف قبل فإن من العلماء من نص على أنه يشرع له الرمل في طوافه بالبيت يوم النحر؛ لأنه يكون متحللاً وليس عليه إحرامٌ، ولكنه يرمل في طواف الركن وهو طواف الإفاضة. وأما بالنسبة للمتمتع والقارن، وكذلك المفرد الذي طاف طواف القدوم فلا يشرع لهم أن يرملوا في طواف الإفاضة والركن. أما بالنسبة لهذا الاضطباع فمحله للرجال دون النساء، فهو مشروعٌ للرجل ولا يشرع للمرأة اضطباع، ولا يشرع للنساء رمل، ولذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما: (ليس على النساء رمل)؛ لأن المرأة إذا رملت تكشفت، ولذلك لا يجوز لها أن ترمل لا في الطواف ولا في السعي بين الصفا والمروة.

النية في الطواف وكيفية ابتداء أشواطه

النية في الطواف وكيفية ابتداء أشواطه قال رحمه الله تعالى: [يبتدئ المعتمر بطواف العمرة، والقارن والمفرد للقدوم]. أي: يبتدئ فينوي طواف العمرة، إذا كان معتمراً، وهو طواف الركن، وكذلك بالنسبة للحاج ينوي طواف القدوم. قال رحمه الله تعالى: [فيحاذي الحجر الأسود بكله ويستلمه ويقبله]. (فيحاذي الحجر الأسود بكله)، يفيد أنه لا يصح الطواف إلا بالمحاذاة للحجر بجميعه، وإذا تقدم ولو خطوةً واحدة، فحاذى ببعض بدنه، وبقي بعض بدنه في المكان الذي هو ابتداء الطواف لم يصح الشوط الأول، وعليه أن يعيد ذلك الشوط؛ لأنه لابد في الشوط أن يستتم الطواف بالبيت بأجزائه الكاملة، فلابد أن يسامت الحجر بجميع بدنه، فلو سامته ببعض بدنه ككتفه، أو شقه الأيسر، وبقي شقه الأيمن في الجهة التي هي دون الحجر فإنه لا يصح شوطه -كما ذكرنا- ويلزمه أن يعيد ذلك الشوط. فعليه أن يبتدئ ويحاذي الحجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ أول ما ابتدأ فاستلم الحجر وقبله صلوات الله وسلامه عليه، وهذه هي السنة، فالأفضل والأكمل أن يبتدئ باستلام الحجر وتقبيله، والاستلام: أن يضع يده على الحجر كالمسّلم والمصافح. أما بالنسبة للتقبيل فهو معروف، وهو أن يقبل الحجر إذا أمكنه وتيسر له، أما إذا لم يمكنه، وحاذى الحجر فإنه يجزيه.

من عجز عن استلام الحجر وتقبيله، وما ينبغي أن يراعيه من يقبل الحجر

من عجز عن استلام الحجر وتقبيله، وما ينبغي أن يراعيه من يقبل الحجر قال رحمه الله تعالى: [فإن شق قبل يده]. فإن شق عليه أن يستلم الحجر -كما ذكرنا- ويقبله استلمه بيده وقبل يده، والاستلام ثبتت به السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استلمه بيده، وثبت بالأحاديث الصحيحة أنه كان إذا عجز عن التقبيل استلمه بيده وقبل يده، فالسنة أنه إذا عجز الإنسان عن التقبيل بفمه وضع يده وقبل موضعه، وكذلك أيضاً لو كان معه محجنٌ أو عصا، فاستلم به قَبَّل المحجن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استلم بالمحجن وقبله صلوات الله وسلامه عليه. وأما لو أشار بيده فإنه لا يشرع له أن يقبلها كما يفعل العامة، وإنما يشرع تقبيل اليد إذا لمس واستلم، أما إذا لم يستلم فإنه لا يقبل، فالتقبيل لا يكون إلا للحجر أو لما استلم به الحجر؛ كيده، أو محجنٍ متصلٍ به، ونحو ذلك، فيقبله. وهل يسجد على الحجر؟ السجود على الحجر أن يدخل رأسه بحيث تكون جبهته على الحجر، نقلها شيخ الإسلام رحمه الله، وثبت وصح عن جمعٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يسجدون على الحجر، بمعنى: أنهم يضعون الجبهة على الحجر، وصح هذا عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وعن عبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله رضي الله عن الجميع، صحت عنهم بذلك الأخبار، ولذلك نص العلماء على أنه لا حرج على الإنسان أن يفعل ذلك، والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم الاستلام والتقبيل، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للحجر: (لولا أني رأيت رسول الله صلى عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) وهذا يدل على أن السنة والأفضل أن الإنسان يحرص على تقبيل الحجر، ويتعاطى الأسباب التي لا ضرر فيها على الناس، وهذا إنما يكون للرجال في الغالب، وأما النساء فالغالب فيهن أنهن إذا قبلن الحجر زاحمنَ الرجال وفتنّ العباد، فالأفضل لهنّ أن لا يقتربن من جهة الحجر، خاصةً وأنهنّ قد ينحرفنَ في طوافهن، فإنهنّ إذا انحرفنَ عن الطواف، وأصبح البيت عن يمين المرأة بطل ذلك، ولزمها أن تعيد من أول ذلك الشوط؛ لأنها إذا انحرفت بيدها وجاء البيت عن يمينها -كما سيأتي إن شاء الله- لم يصح ذلك منها، ولزمها أن تعود إلى أول شوطها؛ لأنه لابد وأن يكون البيت عن اليسار، وقد طاف عليه الصلاة والسلام وجعل البيت عن يساره. ثم إذا أراد الإنسان أن يقبل، فلا يزاحم الناس ولا يؤذهم، أما لو زاحمه الغير، وصبر على أذيته فإنه أفضل؛ لما فيه من الصبر على طاعة الله، فلو كان هناك زحام فصبرت ولم تؤذ أحداً حتى تبلغ الحجر، فهذا لا شك أنه أفضل؛ لأن التعب والنصب في طاعة الله يعظم به الأجر للإنسان، وكون الإنسان يرى الزحام عليه ويتركه لغيره فلا إيثار في القُرب، فحرص الإنسان عليه لا شك أنه أفضل وأكمل، وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما لا يترك تقبيل الحجر منذُ أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله، ما ترك استلام الركن ولا تقبيل الحجر منذُ أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم ويقبل، ولذلك لما جاءه السائل وقال له: يا أبا عبد الرحمن! أرأيت إن كان عليه زحام؟ قال: (دع أرأيت باليمن، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله). وهذا يدل على حرصه رضي الله عنه وأرضاه وحبه لهذه السنة، ولكن الإنسان لا يؤذ الغير، فإذا استطاع أن يصل إلى الحجر من دون أذية، ومن دون إضرار فلا شك أنه أفضل وأكمل، وكان ابن عمر يقرأ في الشوط الواحد ما يقرب من خمسمائة آية، وذلك لأنه يصبر على الحجر وينتظر، وقد يكون في شدة الشمس والحر، وأثر عنه رضي الله عنه أنه كان الناس يزاحمونه حتى يدمون أنفه، فيصيبه الرعاف رضي الله عنه وأرضاه، وهو صابرٌ لا يفارق سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس بواجب، ولكن حبه للسنة، وحبه للتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم جعل من الصعب عنده أن يجاوز الحجر وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل شيئاً فيه فيجاوزه دون أن يفعله، فهذا من باب الأفضل، ولكن إذا كان الأمر فيه مشقة، أو فيه إضرارٌ بالغير فلا؛ فإنه لا تلتمس السنن بما فيه محظورٌ شرعي، وخاصةً إذا كان على الإنسان فيه فتنة. فالمقصود: أنه يحرص الإنسان على تقبيل الحجر، وإذا قبله فإنه يراعي الثبات في الموضع، يثبت في موضعه فيقبل، ثم بعد ذلك ينصرف حتى يستتم الطواف بالبيت في شوطه؛ لأنه في بعض الأحيان إذا قبل فإنه ربما ينحرف فيصرف بجذعه إلى ما بعد موضع الاعتداد ببداية الطواف، فحينئذٍ يلزمه أن يجعل البيت عن يساره، حتى يقع طوافه كاملاً. ومن الأخطاء التي قد يقع فيها بعض الناس: أنه إذا جاء لتقبيل الحجر وهو في حج، أو طواف ركن عليه في عمرة، ونحو ذلك، فإنه يصعد على الحجر الذي على البيت، وهذا الحجر من البيت، فيبطل شوطه؛ لأن الحجر الذي هو الشاذروان -وهي الزيادة الموجودة في أسفل البيت من البيت- وهو مأمورٌ بالطواف بكل البيت، فصعوده على هذا الجزء من أجل التقبيل -خاصة إذا كان عليه طواف ركن- يفوّت هذا الموضع، وقد نص جماهير العلماء رحمة الله عليهم على أنه لو ترك خطوةً واحدة من الطواف لم يصح؛ لأنه عبادة كالصلاة ينبغي أن تؤدى بصفتها مثل ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا الجزء من البيت؛ فلابد وأن يجعله في طوافه، بحيث يطوف به كاملاً، أما لو رقى عليه، ومشى فإنه في هذه الحالة كأنه لم يطف بالبيت كاملاً لهذا النقصان.

الإشارة باليد إلى الحجر وما يقوله، وأين يكون البيت منه؟

الإشارة باليد إلى الحجر وما يقوله، وأين يكون البيت منه؟ قال رحمه الله تعالى: [فإن شق اللمس أشار إليه ويقول ما ورد]. أي: إن شق عليه اللمس أشار إليه، فيشير إليه بكفه، ويقول ما ورد، والذي ورد هو ما في مستدرك الحاكم: (اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم)، فهذا الذي ورد في الحاكم، وسامح فيه العلماء رحمة الله عليهم أن يقوله في بداية طوافه. ثم بعد ذلك يدعو بما تيسر له من خيري الدنيا والآخرة، فيسأل الله عز وجل صلاح دينه ودنياه وآخرته، ويدعو لمن له حقٌ عليه كوالديه وذرياته وأهله وزوجه، يدعو لهم بالصلاح والخير، فيسعى بالدعاء، وسؤال الله عز وجل خيري الدنيا والآخرة. قال رحمه الله تعالى: [ويجعل البيت عن يساره]. أجمع العلماء على أنه لا يصح الطواف إذا جعل البيت عن يمينه، مع أن اليمين أشرف من اليسار، واعتبر بعض العلماء بأن اليسار فيه القلب، وأشرف ما في الإنسان قلبه؛ لما فيه من توحيد الله عز وجل، فهو أشرف ما في الإنسان، قالوا: لذلك يكون إلى جهة اليسار لمكان القلب، فهذا اعتبار لبعض العلماء، ولكن هذه أمور تعبدية، ولا يتكلف في بحث مثل هذه الأمور أو السؤال عنها، إنما يطوف على اليسار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف عن اليسار، والشرع أمره أن يطوف بهذه الصفة المخصوصة، فيتأسى بما ورد فيجعل البيت عن يساره.

مسائل في الطواف ينبغي مراعاتها

مسائل في الطواف ينبغي مراعاتها وفي الطواف مسائل، أهمها: أن الطواف يختلف بحسب الأحوال، فتارةً يكون طواف ركن، وتارةً يكون طوافاً واجباً، وتارةً يكون طواف نافلة. فطواف الركن: كأن يكون طواف عمرة، وكذلك طواف الركن في الحج، كطواف الإفاضة. ويكون الطواف واجباً كطواف الوداع في الحج. ويكون الطواف نافلةً كسائر الأطوفة التي يقصد بها التقرب إلى الله عز وجل في غير النذر. المسألة الثانية: إذا طاف فإنه ينبغي أن يدور بالبيت كاملاً، أي: أن يدور بجسمه كاملاً بالبيت، ويشترط أن يكون هناك استقبالٌُ للبيت، قالوا: الطائف بالبيت قبلته أن يجعل البيت عن اليسار، وعلى هذا فلو انحرف أثناء طوافه فأصبح البيت عن يمينه، أو انحرف لتقبيله فأصبح البيت عن يمينه، فلابد وأن يرجع من الموضع الذي انحرف فيه، حتى يستتم طوافه بالبيت عن اليسار. المسألة الثالثة: أن الطواف بالبيت لا يصح إلا داخل الحرم، فإذا طاف خارج الحرم -كأن يطوف خارج حدود الحرم- فإنه يبطل طوافه؛ لأن الله تعالى قال: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج:26] فهذا يدل على أن الطواف إنما يكون في المسجد، وعلى هذا إجماع العلماء رحمة الله عليهم: أن الطواف لا يصح إلا في المسجد، فلو طاف بسيارةٍ، أو طاف مثلاً بقدميه خارج بناء المسجد فإنه لا يصح طوافه بإجماع العلماء. ولو طاف في الدور الثاني فإنه يجزيه؛ لأنه طائفٌ بالبيت، فالطواف في الدور الثاني كالطواف في الدور الأسفل؛ لأن أعلى المسجد آخذٌ حكم أسفله، ولذلك لو اعتكف إنسانٌ فصعد إلى سطح المسجد فإنه بالإجماع لم يبطل اعتكافه، ويدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (من اغتصب قيد شبرٍ من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين)، فجعل المحاذي من أسفل له حكم الأعلى، وكأنه اغتصب الأرض بما سفُل، قالوا: كذلك أيضاً له حكم الأعلى، وعليه قالوا: إن الإنسان إذا طاف في سطح المسجد في الدور الثالث، أو طاف في الدور الثاني فإن طوافه صحيح؛ لأنه قد طاف بالبيت داخل البيت، وهو آخذٌ حكم من هو بداخل المسجد.

عدد أشواط الطواف، وحكم النقص منها، أو الإضافة عليها

عدد أشواط الطواف، وحكم النقص منها، أو الإضافة عليها قال رحمه الله تعالى: [ويطوف سبعاً]. قوله: (ويطوف سبعاً). أي: ويطوف سبعة أشواط كاملة، فلو انتقص منها خطوةً واحدة فإنه لم يصح طوافه حتى يتم هذه الخطوة، إذا كان في الداخل أمكنه التدارك، وإلا بطل طوافه، ولزمته الإعادة إذا خرج من المسجد. فإذا انتقص من هذه السبعة شوطاً، أو نصف الشوط أو قدراً من شوط فإنه يقضيه ما دام في المسجد، ما لم يطل الفاصل المؤثر، وقال بعض العلماء: يجوز له القضاء ما دام في المسجد، وهذا قوي، ثم إذا لم يقضه وخرج من المسجد بطل طوافه، ولزمه أن يرجع ويعيد الطواف ويستأنف، وحينئذٍ يقولون: يتدارك ما دام في المسجد، فإذا خرج من المسجدٍ قطع التدارك ولزمه الاستئناف. فيطوف سبعة أشواط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعة أشواط، وهذا في جميع الأطوفة، السنة فيها أن تكون سبعة أشواط. أما في طواف الركن فلا إشكال، وكذلك الواجب، لكن لو أن إنساناً أراد أن يجمع السبع إلى سبعٍ أخرى في نافلة، كأن يطوف سبعاً؛ ومن بعدها سبعاً، ومن بعدها سبعاً، ثم يجمع ركعات الطواف سرداً وراء بعضهن، كأن يطوف السبع الأولى، ثم يتبعها بنية السبع الثانية، ثم يتبعها بالسبع الثالثة، ثم يصلي ست ركعات، فقد أُثر عن بعض السلف رحمهم الله أنه كان يرخص في ذلك، ويفتي بأنه لا حرج أن يجمع الأطوفة وراء بعضها، خاصةً حين يكون هناك عذر، كأن يكون بعد صلاة العصر أو عند طلوع الشمس أو عند غروبها في ساعة النهي المجمع عليها، ويكون طوافه نافلة، فلا يحب أن يصلي في هذا الوقت، فيطوف سبعاً ثم يطوف من بعدها سبعاً، حتى يستتم الغروب ويدخل وقت الإذن فيجمع الصلوات. وكذلك أيضاً قالوا: قد يؤخر ركعتي المقام، كأن يطوف بعد الفجر، ويغلب على ظنه أنه إذا ارتفع النهار يفرغ الموضع الذي خلف المقام، فيريد -مثلاً- فضيلة الصلاة في هذا الموضع، فحينئذٍ قالوا: لا حرج أن يجمع السبع إلى السبع، ويضم السبع إلى السبع، ولو تكررت شفعاً أو وتراً.

الرمل في الطواف، صفته ومحله

الرمل في الطواف، صفته ومحله قال رحمه الله تعالى: [يرمل الآفاقي في هذا الطواف ثلاثاً ثم يمشي أربعاً]. أي: يرمل الآفاقي في هذا الطواف ثلاثاً، لما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم خبَّ الأشواط الثلاثة الأول، ومشى باقي الطواف)، وهذه -كما قلنا- سنة الرَّمَل، والرمل للعلماء فيه قولان: القول الأول: قال بعض العلماء: هو تقارب الخطى مع هز المناكب. والقول الثاني: أن يباعد في الخطى ولا يصل إلى درجة السعي، ولا يهز منكبه. وظاهر قولهم: (إنهم ينقزون نقز الظباء) -كما جاء في السير- أن هز المنكب فيه أوجَه، وهو أقوى وأدل على القوة والجلد، وكان المقصود من الرمل إظهار القوة والجلد، والسنة -كما ذكرنا- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رمل الثلاثة الأشواط الأولى في عمرة القضاء أو القضية والتي كانت بعد عام من الحديبية، فلما فتح الله عليه مكة، وجاء بعد فتحها في عمرة الجعرانة منصرفه من غنائم الطائف، اعتمر من الجعرانه صلوات الله وسلامه عليه، فخبَّ الأشواط الثلاثة كاملة، كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وأرضاهما، فقال العلماء: إنه لما شُرع الرمل في أول الأمر كان يمشي بين الركنين -بين الركن اليماني والحجر-، ولكن بعد أن زال السبب رمل الأشواط الثلاثة كاملة، ولذلك قال: (من الحجر إلى الحجر)، أي: أن رمله كان كاملاً صلوات الله وسلامه عليه. فيرمل الثلاثة الأشواط الأولى متتابعة، ولا يمشي بين الركنين، وهذا هو أصح القولين، أن المشي بين الركنين منسوخ، وأن السنة إذا رمل أن يستتم الرمل للثلاثة الأشواط كاملة، فإذا فعل ذلك فهي السنة، وهذه الثلاثة الأشواط يصحبها الاضطباع كما ذكرناه. قوله: [ثم يمشي أربعاً]. وهي الأربعة الأشواط المتبقية.

ازدحام الفضائل في الطواف وما يقدم منها

ازدحام الفضائل في الطواف وما يقدم منها إذا كان قربك من البيت يمنعك من الرمل للزحام، وبعدك عن البيت تتمكن معه من الرمل، فهل الأفضل القرب من البيت مع فوات الرمل؟ أو البعد عن البيت مع تحصيل الرمل؟ إن هذه المسألة تعرف عند العلماء بازدحام الفضائل، وقد تزدحم الفضائل وتزدحم السنن المؤكدة، وقد تزدحم الفرائض، فقال بعض العلماء -كما اختاره ابن عقيل -: الأفضل أن يبتعد عن البيت لكي يرمل؛ لأن فضيلة الرمل مؤكدة في الطواف، حتى أوجبها بعض العلماء، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم رمل وقال: (خذوا عني مناسككم)، فقالوا: إنها متصلة بالعبادة، وفضيلة القرب من البيت متصلة بالمكان لمكان العبادة، والمتصل بذات العبادة يقدم على المتصل بزمانها ومكانها، وتوضيح ذلك أنه إذا رمل فإن الرمل متصل بذات الطواف، ومن نفس أفعال الطواف، ولكن القرب من البيت متصلٌ بالمكان -بمكان العبادة- فاختار بعض العلماء أنه يبتعد من البيت للرمل، وهذا ما يميل إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وأشكل على هذا القول أنهم قالوا: لو قلنا بهذا -أي: تفضيل ما اتصل بالعبادة على ما اتصل بمكانها- لساغ للرجل -كما يقول ابن عقيل رحمه الله تعالى- أن يتأخر عن الصف الأول لفضيلة التورك! فإن الإنسان في الصف الأول في الرباعية لا يستطيع أن يتورك، فالتورك فضيلةٌ متصلةٌ بالعبادة ذاتها، والصف الأول فضيلةٌ متصلةٌ بالمكان، فقالوا: لو قلنا بهذا فإنه يلزم -بناءً عليه- أن يتأخر إلى الصف الثاني، ولم يقل أحد: إنه يشرع التأخر إلى الصف الثاني من أجل التورك. وقد أجاب شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن هذا بأجوبة نفيسة. أولها: أن الصف الأول من اللازم على المكلف أن يتمه بخلاف القرب من البيت، ولم يرد النص بالقرب من البيت وتأكُّدِ القرب أو الدعوة إليه، وإنما هو فُضِّل بصورة العبادة، وفرقٌ بين ما ورد النص به، كما قال عليه الصلاة والسلام: (يتمون الصف الأول فالأول)، ونص العلماء على أنه لو رأى في الصف الذي أمامه فرجة قبل إحرام الصلاة ولم يسدها أنه آثم؛ لأنه ترك المأمور، ولذلك قالوا: إنه يأثم بتأخره عن هذه الفرجة، بخلاف القرب من البيت. الأمر الثاني: أن الصلاة متصلةٌ بالجماعة في المسجد، فلابد من إكمال الصفوف، فاتصل الناس بعضهم ببعض، ولكن الطواف ليست له صفةٌ معينة تعين على الناس أن يتصل بعضهم ببعض، فقال: إن هذه الفضيلة -أعني: فضيلة البعد عن البيت مع الرمل- آكد من فضيلة التورك في الصف الأول، فقالوا: يترك التورك في الصف الأول ولو أنه متصل، ويكتب له أجره بالنية.

استلام الركن، وماذا يفعل من عجز عنه؟

استلام الركن، وماذا يفعل من عجز عنه؟ قوله: [يستلم الحجر والركن اليماني كل مرة]. يستلم الحجر والركن اليماني؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركن اليماني، وهل إذا عجز عن استلام الركن اليماني يشير إليه أو لا؟ جمهور العلماء على أنه لا يشير إذا عجز عن استلامه، وأنه يكفيه أن يقول الدعاء بين الركنين: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، وأنه لا يشير بيده وإنما تختص الإشارة بالحجر. وقال بعض السلف -وهو أيضاً عن الإمام مالك إمام دار الهجرة- إنه لا بأس أن يشير بيده إذا عجز؛ لأن كلا الركنين من البيت، ولما عجز عليه الصلاة والسلام عن استلام الحجر أشار بيده صلوات الله وسلامه عليه، ولكن لم يثبت عنه أنه عجز عن استلام الركن اليماني، فقالوا: إنه يغتفر في هذا لو أشار بيده. والأمر ما دام أن له وجهاً، وقال به بعض السلف فهو خفيف، فلو أنه أشار بيده لا ينكر عليه، ولكن قالوا: الأفضل والأكمل أنه لا يشير بيده، فإن أشار بيده فلا بأس، فيستلم الركن بيده، فإن لم يستطع لزحامٍ، ونحوه تركه كما ذكرنا.

مما يبطل به الطواف فعلا أو تركا

مما يبطل به الطواف فعلاً أو تركاً قال رحمه الله تعالى: [ومن ترك شيئاً من الطواف، أو لم ينوه، أو نسكه، أو طاف على الشاذروان، أو جدار الحجر، أو عريان أو نجس لم يصح]. قوله: [ومن ترك شيئاً من الطواف]. في هذه الجمل يشير المصنف إلى أمورٍ لابد من توفرها للحكم بصحة الطواف. أولها: أن الطواف لابد وأن يكون كاملاً، فإذا ترك شيئاً من الطواف -وشيئاً نكرةٌ- لم يصلح طوافه، فلو ترك -كما قالوا- خطوةً واحدة فإنه حينئذٍ لا يصح ذلك الشوط حتى يتم هذه الخطوة، فإذا لم يتمها بطل طوافه كله إن خرج من البيت، ولزمته الإعادة كما ذكرنا. والسبب في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف السبعة الأشواط كاملةً، وعليه فإنه إذا انتقص شيئاً منها لم يطف كما أمره الله تعالى، ويلزمه حينئذٍ قضاء هذا الشوط، أو التدارك إذا أمكنه التدارك. ويحصل التدارك لو كان الشخص -مثلاً- في آخر شوط، وبدل أن ينتهي مقابلاً للحجر انصرف قبل أن يستتم الطواف، فبقيت له خطوتان، أو ثلاث، أو أربع، فحينئذٍ يرجع من الموضع الذي انصرف منه ثم يتمه، فإذا فعل ذلك صح طوافه، وأما إذا لم يرجع، ولو كان القدر خطوة واحدة -كما ذكرنا- فإنه حينئذٍ يبطل الطواف إن خرج من البيت. قوله: [أو لم ينوه]. من شروط صحة الطواف: النية، قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2]، والطواف بالبيت من العبادة والقربة، ولا يمكن له أن يتحقق إلا بالنية، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)، أي: إنما اعتبار الأعمال وصحتها بالنية، فإذا لم ينو الطواف لم يصح طوافه، أي: لم يصح على الوجه الذي يريده، فلو دخل لطواف عمرة، أو دخل لطواف ركن في الحج ناسياً، فحينئذٍ لا يجزيه ذلك، وتلزمه الإعادة. قوله: [أو نسكه]. كشخصٍ أحرم إحراماً مبهماً، ولم يعين إحرامه قبل الطواف بالبيت؛ لأنه يصح -على أحد أقوال العلماء كما اختاره المصنف وغيره- أن يحرم بالعمرة والحج إحراماً مبهماً، ثم يعين قبل أن يبتدئ الطواف، فإذا ابتدأ الطواف ولم يعين فحينئذٍ لا يقع طوافه عن الفرض، ويبطل فرضاً، ويلزمه أن يعيده بعد تعيينه. قوله: [أو طاف على الشاذروان]. هي قمة قدرها ثلاثة أذرع ارتفاعاً من الأرض من البيت، وهي من البيت، ولابد لهذا القدر أن يطوف الإنسان عليه بجسمه، بحيث لو رقى عليه فإنه لم يستتم الطواف على الوجه الشرعي، فلا يصح طوافه من هذا الوجه. قوله: [أو جدار الحِجْر]. طبعاً الحجر ليس كله من البيت، وإنما قيل: قدر ثلاثة أذرع، فلابد أن يكون طوافه من وراء الحجر، فلو دخل بين الحِجْر وبين الكعبة لم يصح طوافه. وقال الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه: يصح طوافه، والصحيح أنه لا يصح، كما هو مذهب الجمهور، والدليل على أنه لابد وأن يطوف من ورائه: قوله سبحانه وتعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، فقال: (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، أي: القديم، إشارةً إلى أن العبرة ببناء إبراهيم عليه السلام، فلما تركت قريش من البيت قدر هذا، وهو من البيت، فإن جاء الطائف وطاف فيما بين هذا القدر بين الحجر وبين البيت، فإنه لم يطف بالبيت العتيق الذي هو بناء إبراهيم عليه السلام، الذي وضع بناءه عليه، وإنما تقاصرت النفقة بقريش، فكان بناؤها ناقصاً. فإذا طاف فإنما طاف بالبيت بالبناء، ولم يطف بالبيت العتيق، وعلى هذا قالوا: إن الله عز وجل نص على (العتيق)؛ تنبيهاً على استتمام الطواف بالبيت على ما كان عليه من بناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام. قوله: [أو عريانٌ]. أي: إن طاف بالبيت عريان، فإنه لا يصح طوافه، وقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه بعث مناديه ينادي -في سنة تسع-: ألا يحج بعد العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عُريان. فلا يصح الطواف بالبيت والإنسان عارٍ، بل لابد من أن يكون مستتراً، فإذا طاف عارياً لم يصح طوافه. وعلى هذا فلو انكشفت عورته أثناء الطواف ففيه تفصيل: قال بعض العلماء: إن انكشفت وتدارك؛ لغلبة الناس والحطمة والزحام، كأن تكون حطمةٌ من الناس وغلب على أمره، أو كان ضعيفاً، أو مريضاً فغلب على أمره، فانكشفت عورته أثناء الطواف، وتدارك فستر مباشرةً بعد الانكشاف، صح طوافه ولم يؤثر. وأما إذا ترك وتساهل، فإنه لا يصح طوافه كما ذكرنا، فلا يصح طوافه بالبيت إلا إذا استتر، فلابد وأن يكون ساتراً لعورته. قوله: [أو نجس لم يصح]. هو في الحقيقة (متنجساً)؛ لأن المؤمن لا ينجس، أي: إن طاف بالبيت متنجساً؛ لأن المؤمن لا ينجس، ولكنهم يقولون: والحال أنه نجس، أو وهو نجس، لكن على العموم فلفظ (متنجس) أنسب؛ لأن المؤمن لا ينجس، وإنما يقال: متنجس. والمتنجس: هو الذي عليه نجاسة في ثوبه، أو بدنه، فإذا كان في ثوبه نجاسة كرعافٍ، أي: إن رعفَ الدَمَ فنزل على ثوبه الذي هو إحرامه، أو نزل الدم على بدنه نفسه، فحينئذٍ لا يصح طوافه، إلا إذا كان معذوراً، كالشخص الذي معه الدم مسترسل، أو كان قدر الدم في حال العذر وهو ما دون الدرهم، أي: قدر الهللة القديمة فما دونها فهو معفوٌ عنه، فإذا كان الدم متفرقاً أو مجتمعاً بقدر الدرهم البغلي -وهو الدرهم الذي كان موجوداً في القديم، يقال له: البغلي، وهو يعادل الهللة القديمة الصفراء، وأقل من القرش الموجود في زماننا بقليل- فهو معفو عنه، فلو طاف وعليه هذا القدر فإنه بالإجماع يصح طوافه؛ لأن اليسير من الدم مستثنى إجماعاً.

أحكام ركعتي الطواف

أحكام ركعتي الطواف قال رحمه الله تعالى: [ثم يصلي ركعتين خلف المقام]. أي: إذا انتهى من طوافه صلى ركعتين خلف المقام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه، جاء إلى المقام، وصلى عليه الصلاة والسلام ركعتين، قال تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] فقوله: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ) قيل: هو المقام، والسنة لكل من طاف بالبيت أن يصلي خلفه، ويجعله بينه وبين البيت، فقد كان المقام في القديم متصلاً ملتصقاً بالبيت، ثم نظراً لوجود الأذية بالطائفين في الزحام أُخِّر عن البيت، فإذا صلى وجعل المقام بينه وبين البيت، فهذه هي السنة، فلو كان هناك زحام حول المقام فإنه يتأخر، حتى ولو في أروقة المسجد، فيجعل المقام بينه وبين البيت. وقال بعض العلماء: إذا تأخر بحيث لا يستطيع أن يصلي في جهة المقام إلا في الأروقة فالأفضل أن يصلي في صحن المسجد، ولا يتأخر إلى الأروقة، والسبب في ذلك أن قديم المسجد أفضل مما هو بعد؛ لقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108]، خاصةً وأن هناك قولاً يقول: إن المقام هو مكة كلها، فإذا كان مصلياً، أو صلى في أي موضع من مكة أجزأه، لذلك يقولون: إنه يصلي في أي مكان من صحن المسجد، والأفضل والسنة أن يجعل المقام بينه وبين البيت على ظاهر السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم. فيصلي هاتين الركعتين، يقرأُ في الأولى: (قل يا أيها الكافرون)، وفي الثانية: (قل هو الله أحد)، وهما سورتا الإخلاص؛ لاشتمالهما على أعظم الأشياء وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، التي من أجلها أنزل كتبه، وأرسل رسله، وهو توحيد الله عز وجل، ولذلك قرأها عليه الصلاة والسلام في صلاته كما ثبت في الحديث الصحيح عنه، يقرأ في الركعة الأولى (قل يا أيها الكافرون)، وهي براءة من عبادة غير الله عز وجل، ومن كل دينٍ سوى دين الله، ويقرأ في الثانية بـ (قل هو الله أحد) التي جمعت مقاصد التوحيد، ففيها النفي والإثبات، فقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2] هذا إثبات، وقوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4] هو النفي، وهذا هو أصل شهادة التوحيد (لا إله إلا الله)؛ لأنها تشتمل على النفي، وعلى الإثبات، وهما أساس التوحيد. ولا شك أن الحج والعمرة إنما شرعهما الله تعالى من أجل توحيده، فهذه المشاعر والمناسك ما أوجدها الله تعالى إلا من أجل الدلالة على التوحيد، ولذلك يقرأ الإنسان بهاتين السورتين، ويحرص على قراءتهما مستشعراً لمعانيهما العظيمة؛ لأن المقصود من حجه وعمرته أن يرجع بزاد التوحيد والإخلاص لله عز وجل، وينظر كيف أن هذه البنية أمر الله بالطواف بها، ولو طاف بغيرها فإنه لا يجوز، ومحرمٌ عليه، وقد يصل إلى الشرك والعياذ بالله، وهذا يدل على أنه عبدٌ مأمور تحت أمر الله عز وجل، وتحت حكمه، لا يقدم ولا يؤخر إلا بأمر الله سبحانه وتعالى، فيقرأ بهاتين السورتين العظيمتين مستشعراً لما فيهما من معاني التوحيد، وإخلاص العبادة لله عز وجل.

الأسئلة

الأسئلة

إدراج نية ركعتي الطواف مع نية السنة الراتبة

إدراج نية ركعتي الطواف مع نية السنة الراتبة Q هل تندرج ركعتي الطواف تحت السنن الرواتب؟ A لقد اختلف في ركعتي الطواف، فقال بعض العلماء: إنها واجبة إذا كانت في طوافٍ واجب، كأطوفة الركن، والأطوفة الواجبة في النذر، وطواف الوداع، ونحوها، وحينئذٍ لا تندرج؛ لأن الواجب لا يندرج تحت السنة كما لا يخفى. وعلى القول بأنها ليست بواجبة، فحينئذٍ يسوغ أن يقال باندراجها من جهة كون المقصود أن يقع تنفله بين أذان الظهر وإقامته بالأربع، فإذا صلاها ناوياً الركعتين القبلية في الظهر من الأربع، أو الركعتين البعدية في الظهر من الأربع ساغ ذلك وأجزأه، والأولى ألا يفعل ذلك والله تعالى أعلم.

حكم الإشارة باليد إلى الحجر عند الفراغ من الشوط السابع

حكم الإشارة باليد إلى الحجر عند الفراغ من الشوط السابع Q إذا انتهى الطائف من طوافه في الشوط السابع، فهل يسن له أن يرفع يده مشيراً إلى الحجر؟ أم يمضي ولا يشير؟ A هذه المسألة مبنية على مسألة المحاذاة للحجر: فهل الإشارة عند المحاذاة للحجر من أجل المحاذاة أو من أجل استفتاح الطواف؟ فقال بعض العلماء: المحاذاةُ عند ابتداء الحجر من أجل استفتاح الطواف، كرفع اليدين للتكبير استفتاحاً للصلاة، فكلما استفتح طوافاً يرفع يديه، وعلى هذا الوجه فإنه إذا أتم الطواف لا يرفع يديه. وعلى هذا الوجه أيضاً أنه إذا رفع يديه عند مواجهة الحجر إنما ينوي بها أن يكون استفتاحاً لطوافه. وأما الوجه الثاني فقالوا: إن رفع اليدين شرع من أجل أن يكون بدلاً عن استلام الحجر، فإذا كان الإنسان يستطيع استلام الحجر، أو تقبيله، فحينئذٍ لا يشير، وأما إذا لم يستطع تقبيله، ولا استلامه فإنه يشير بالمحاذاة، وعلى هذا الوجه ففي آخر الشوط السابع إن استلم فإنه لا يشير، وأما إذا لم يستلم فإنه يشير لمكان المحاذاة، وهذا يشهد له قوله: (كان يستلم الحجر، فإذا لم يستطع استلمه بمحجنٍ فقبله، فإذا لم يستطع أشار بيده)، فجعله مركباً على المحاذاة عند عدم الاستطاعة للتقبيل والله تعالى أعلم.

حكم الطهارة في الطواف

حكم الطهارة في الطواف Q ما حكم الطهارة في الطواف؟ A تجب الطهارة للطواف على أصح قولي العلماء رحمة الله عليهم، ولذلك منع النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين كما في الصحيحين، لما نفست وحاضت، وقال: (اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت). وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما والذي اختلف في رفعه ووقفه وصح موقوفاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطواف بالبيت الصلاة)، فقوله: (الطواف بالبيت الصلاة) يدل على أنه آخذ حكم الصلاة، ولذلك لا يطوف وهو متلبسٌ بنجاسة، وكذلك أيضاً يطوف وهو مستقبلٌ للبيت بالصفة التي ذكرناها، فقالوا: إنه يشترط له الطهارة، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما قالوا فيه: قد صح موقوفاً، وإذا صح موقوفاً، فإن ابن عباس رضي الله عنهما -وناهيك به علماً وفقهاً في الدين- دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، وهو قول صحابي جليل له مكانته في الفقه، مع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من السنة في حديث عائشة وذلك يقوي القول القائل بوجوب الوضوء للطواف بالبيت. ومما يؤكد هذا: أن الطواف بالبيت تتبعه أو يكون بعده صلاة الركعتين، ولا يمكن أن إنساناً يطوف بالبيت وهو محدث، ثم يذهب ويتوضأ من أجل أن يصلي الركعتين، فيفصل بين طوافه وسعيه بهذا الفعل الغريب، ولذلك قالوا: إنه إذا لم تدل الأدلة الصريحة فإن القرائن تقوي القول القائل بأنه لابد من الطهارة للطواف بالبيت والله تعالى أعلم.

طواف حامل النجاسة

طواف حامل النجاسة Q من طاف بالبيت وهو يحمل النجاسة، كمن يحمل طفلاً صغيراً قد أحدث، فما حكم طوافه؟ A أما بالنسبة لحمل الطفل، فحمل النجاسة يأتي على صورتين: الصورة الأولى: أن تتصل بالندى، كأن يكون حاملاً لطفلٍ فبال الطفل فندى على لباس الإنسان، فحينئذٍ يتنجس مَنْ حَمَله، وعلى هذا يحمل حديث فاطمة رضي الله عنها لما أتت بابنٍ لها صغير وأجلسته في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فبال على الرسول صلى الله عليه وسلم فرشه بماء، فهذا يدل على أن النجاسة تسري بالندى والرطوبة. وإذا كانت على هذا الوجه تكون النجاسة مؤثرة، ولا يصح له الطواف إذا حمله وبال وسرى البول إليه، ولابد له أن يتطهر، فينحرف عن الطواف، ويغسل ما به من علاقة النجاسة ويبني على ما مضى من طوافه، ولا حرج عليه في ذلك كما لو رعف في صلاته. وأما الصورة الثانية فهي: أن تكون النجاسة منفصلة، كأن يحمل طفلاً وفيه نجاسةٌ كبولٍ، ولكنه في حفاظةٍ، أو نحو ذلك، فلا تسري من المحمول إلى من يحمله، فهذه فيها خلافٌ معروف: هل حمل النجاسة يؤثر أو لا؟ فقال بعض العلماء: من حمل النجاسة فإن صلاته صحيحةٌ، إذا لم يكن ندىً ولا رطوبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حمل أمامة، والغالب في الصبية ألا تسلم، فقالوا: نظراً للغالب أنها لا تسلم وقد حملها عليه الصلاة والسلام. وقال بعض العلماء: حمل النجاسة يؤثر، فإذا لم تكن لها رطوبة، وحملها الإنسان واتصلت به وكانت على عاتقه، أو على رأسه، أو حملها بين يديه وصدره، فإنها تؤثر، والاحتياط ألا يفعل ذلك، إلا في حالة الاضطرار والحاجة، فلو حمل صبياً لا يستطيع أن يتركه، ويخاف عليه أن يؤذى، أو يخاف عليه أن يؤخذ، فحينئذٍ يصح له أن يطوف وهو حاملٌ له، مع وجود نجاسته لمكان الضرورة، كالمستحاضة إذا غلبها الدم، ولم تستطع أن تنفك عنه والله تعالى أعلم.

مكان استئناف الشوط بعد قطعه لنحو أداء الصلاة

مكان استئناف الشوط بعد قطعه لنحو أداء الصلاة Q إذا أوقف الطواف لأداء الصلاة، فهل يعيد الشوط من جديد؟ أم يبدأ من مكانه؟ A إذا قطع الطواف من أجل الصلاة فحينئذٍ يصلي ثم يعود، وللعلماء فيه وجهان: منهم من يقول: يرجع إلى بداية الشوط، ويعيد هذا الشوط الذي قطعه ولو بقيت منه خطوة؛ لأنه ألغي بالفصل. ومنهم من يقول: يرجع للموضع الذي قطع منه، وهذا هو الأصح والأقوى، والسبب في ذلك أن قول أصحاب القول الأول -الذين يقولون بإلغاء الشوط- ضعيف؛ لأنهم لو قالوا بهذا المعنى للزمه أن يعيد الطواف كله، فكونهم يقولون: يعود من أول الشوط، في حين يبقون بقية الأشواط، ويرون الفاصل غير مؤثر، يلزمهم ألا يلغوا ما مضى من الشوط، فكما أنهم لم يلغوا ما مضى من الأشواط يلزم منه ألا يُلغى ما مضى من الشوط نفسه؛ لأن الأجزاء تأخذ حكم ما تقدمها من الأشواط، فإذا قلت: إنه فاصلٌ مؤثر، أثر على الاثنين، أما أن تقول: فاصلٌ مؤثرٌ في الشوط، وغير مؤثر على بقية الأشواط، فهذا تفصيلٌ بدون دليل، وعلى هذا فإنه إذا قطع أثناء الشوط فإنه يعيد من الموضع الذي قطع منه، لكن الأفضل والأكمل أن يعيد من أول الشوط والله تعالى أعلم.

الفصل بين الطواف والسعي

الفصل بين الطواف والسعي Q ما حكم الفصل بين الطواف والسعي؛ لقضاء حاجةٍ من حوائجه؟ A هذه المسألة في الحقيقة كنت أتورع عنها ولا زلت، فالسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما فصل بين طوافه وسعيه، صلوات الله وسلامه عليه، فإذا كان الإنسان يريد السنة إذا اعتمر، أو أدى عمرته، فإنه لا يفصل، هذا إذا كان الفاصل بالخروج من المسجد، أما إذا كان الفاصل في داخل المسجد كأمر احتاج إليه، واضطر إليه ولم يتباعد، فالأمر يسير، كشخصٍ -مثلاً- بعد الطواف تعب والده، أو تعبت والدته، أو تعب أولاده، وجلس معهم يرفق بهم، وييسر لهم، أو احتاجوا في داخل المسجد أن يسقيهم، أو نحو ذلك، فالأمر يسير، لكن أن إنساناً يطوف، ثم يذهب ليستريح في نزله، فيطوف في أول النهار، ويأتي في آخر النهار يسعى، أو يطوف في أول النهار، ويأتي من اليوم الثاني يسعى، فتقصده هذه المخالفة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوقف فيه، وكان بعض العلماء يرى أن الطواف يلغى، ولابد من صلة الطواف بالسعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سعى بعد طوافه، ولم يفصل بين طوافه وسعيه إلا بأمرين: أحدهما شربه لزمزم كما جاء في مسند الإمام أحمد. والثاني: صلاته صلوات الله وسلامه عليه للركعتين مع تقبيله للحجر بعدها، هذا هو السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفاصل، ولكنه فاصل من جنس العبادات، وحتى شربه لزمزم إنما هو من العبادة؛ لأنه قصد به العبادة، وعلى هذا فإن الذي يظهر -والعلم عند الله- أنه يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا يفصل والله تعالى أعلم.

الدعاء على الصفا والمروة

الدعاء على الصفا والمروة Q ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو وهو على الصفا والمروة دعاءً طويلاً، ولكن هل يحصل تحقيق السنة بذلك القدر الطويل؟ أم يحصل بمجرد الدعاء، ولو لفترةٍ وجيزة، لاسيما عند الزحام؟ A في الحقيقة السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قرب من الصفا تلا الآية، ثم صعد وكبر، ثم هلل قائلاً: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. ثم دعا، ثم رجع ثانيةً وكبر ثلاثاً، وهلل ودعا، ثم رجع ثالثةً وكبر ثلاثاً، وهلل ودعا، فأصبح تكبيره تسعاً، وتهليله ستاً، ودعاؤه عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات، هذه هي السنة المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل على المروة مثل ما فعل على الصفا، وهذا الموضع كان بعض أهل العلم يقول: إنه من المواضع الفاضلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تحرى فيه الدعاء، وأكثر فيه الدعاء، وجعل فيه أفضل ما يتقرب به إلى الله عز وجل، بالثناء على الله عز وجل بتوحيده وتهليله سبحانه وتعالى. وقد فرج الله عز وجل عن هاجر في هذا الموضع -الذي هو بين الصفا والمروة-، وهي تسعى وتسعى، فقال: يجتهد في هذا الموضع قدر استطاعته، ويطيل. وكان بعض العلماء من مشايخنا -رحمة الله عليهم- ربما يجلس فوق نصف الساعة إلى قرابة الساعة على الصفا، وعلى المروة مثله، حتى نجلس الساعات الطويلة وهو في سعيه، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]. فمن يعرف فضل وشرف الوقوف بين يدي الله، ويجد لذة مناجاته، وحلاوة سؤاله سبحانه وتعالى، والتذلل له جل وعلا، لا شك أنه لا يسأم ولا يمل، حتى يحس أن ألذ الساعات، وأشرفها عنده حين يقف بين يدي الله عز وجل. فإذا استشعر الإنسان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرص على تطبيقه، وجد قيمة لذة عمرته، ووجد لها الأثر، ووجد أنه يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم ويسير على نهجه، ويقتفي أثره؛ فتصيبه الرحمة، وكفى بذلك فضلاً وشرفاً، ولذلك من اتبع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبادته فإنه يُهدى، كما قال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]. فمن حرص على اتباع السنة، والتأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم، كملت هدايته على قدر كمال متابعته للنبي صلى الله عليه وسلم. ولكن الناس -إلا من رحم الله- أصبحوا ينظرون إلى هذه العبادة نظرة شكلية، فتجد الإنسان يحمل هم منزله ويحمل هم طعامه وشرابه، وساعة خروجه، وساعة دخوله، وتؤقت الأشياء توقيتاً، كأن الإنسان يريد أن يخرج من هذا، وكأنه في سجن أو نحوه، من الضيق والهم، وكأنه يريد أن ينتهي من عمرته، وهذا لا يليق، بل الذي ينبغي للإنسان إذا جاء أن يستشعر أنه ما تغرب عن أهله، ولا ولده، إلا من أجل ذكر الله عز وجل، وأن الله تعالى بلغه، والله أعلم كم من قلوبٍ احترقت بالشوق والحنين لرؤية البيت، فضلاً عن الطواف به، والسعي بين الصفا والمروة، ولكن حيل بينهم وبين ما يشتهون، فالتقمتهم بحار، وذهبوا في الفيافي والقفار، وأدركتهم المنايا فيها قبل أن يصلوا إلى هذه الأمنية العزيزة، والله بلغك، ويسر لك وسهل، وأعطاك المال، وأعطاك الصحة والعافية والأمن والأمان، وأنت في نعم الله ترفل صباح مساء، فإذا جئت لذكره أحسست وكأنه ثقيل، وكأن فيه عناءً عليك، ولا شك أن هذا من الحرمان، نسأل الله السلامة والعافية. فينبغي على الإنسان أن يجتهد قدر استطاعته وقوته في ذكر الله عز وجل على الصفا، وسؤال الله عز وجل. وما يدريك؟! فلعلك أن تصيب باباً في السماء مفتوحاً فتستجاب دعوتك، وتفرج كربتك، وتكفى همك، وترجع وقد جبر الله كسرك، ورفع درجتك، وغفر ذنبك، فهذا لا شك أن الإنسان إذا استشعره هان عليه أن يطيل الوقوف، وأن يتلذذ بمناجاة الله عز وجل. ويروى عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما أنه كان له مطمعٌ أن يخطب إلى عبد الله بن عمر ابنته رمانة، فجاءه وهو يطوف بالبيت، فانتظر حتى دخل في شوطه فدخل معه، وحدثه بما يريد، فلم يجبه ابن عمر رضي الله عنهما بشيء، ولم يكلمه، وكأنه لم يسمع ما يقول، فلما انتهى عروة رضي الله عنه من كلامه، ورأى ما رأى من ابن عمر رضي الله عنهما، ظن أن ابن عمر لا يريد أن يزوجه، فمضى وهو منكسر الخاطر، حتى إذا رجع إلى المدينة مرض ابن عمر، فجاء عروة يزور ابن عمر، فقال له ابن عمر: إنك قد سألتني أن تنكح رمانة، أكما أنت -أي: أنيتك على ما هي-؟ قال: نعم. فدعا بابني عمٍ له، وعقد له عليها، وقال: (إنك قد سألتنيها في مقامٍ يتراءى للعبد ربُه). ومراده بذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، يعني: في هذا المقام وأنا مقبلٌ على الله في الطواف ليس المقام مقام زواج، ولا بحديث زواجٍ، ولا غيره، فكانوا إذا أقبلوا على الطواف، وعلى الذكر، وعلى العبادة يقبلون بقلوبٍ كاملة، وقوالب كاملة، تستشعر لذة مناجاة الله سبحانه وتعالى، وحلاوة ذكره، فإذا وجد الإنسان هذا الاستشعار أطال الدعاء، ولم يسأم ولم يمل. وأيوب عليه السلام لما نزل إليه رجل جراد من ذهب، وهو يجمع، فقال الله تعالى: ألم أغنك من رحمتي؟ قال: (ربي! لا غنى لي عن بركاتك). فأنت في موضع مبارك، في موضع تستجاب فيه الدعوة، وما يدريك أنك واقف في الموضع الذي وقف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وما يدريك أنها ساعة تستجاب فيها الدعوة، أو تفتح لها أبواب السماء؟ فعندها إذا استشعر الإنسان مثل هذا انشرح صدره، واطمأن قلبه، وكمال اللذة والسرور، والبهجة والطمأنينة، وسعادة الدنيا، لحظة مناجاة الله عز وجل؛ لأن الله جل وعلا جعل العبد في كبد، وفي هم وغم، فلا يزول همه، ولا يذهب غمه إلا إذا أقبل على الله عز وجل، فإذا أقبل على الله أحس أن الهموم تتبدد عنه، وأن الغموم تزول عنه، وأنه في سعادة، وفي أنس، وفي بهجة. نسأل الله بعزته وجلاله أن يذيقنا حلاوة مناجاته، ولذة مناجاته، والأنس به سبحانه وتعالى. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى وسلم على نبينا محمد.

باب دخول مكة [2]

شرح زاد المستقنع - باب دخول مكة [2] إن الله تعالى شرع لنا أن نؤدي العبادة بكيفية معلومة لا يقبل العمل بغيرها، وذلك لحكمة أرادها الله تعالى، ولهذا يجب على المسلم أن يعرف هيئات العبادات وكيفياتها، ومن جملة ذلك معرفة كيفية القيام بالسعي بين الصفا والمروة مشياً وسعياً وذكراً ومسافة وابتداءً وانتهاءً، وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بالسعي.

استلام الحجر بعد الركعتين، والسعي بين الصفا والمروة

استلام الحجر بعد الركعتين، والسعي بين الصفا والمروة

الشرب من زمزم، ثم استلام الحجر إذا تيسر

الشرب من زمزم، ثم استلام الحجر إذا تيسر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: ثم يستلم الحجر ويخرج إلى الصفا من بابه فيرقاه حتى يرى البيت ويكبر ثلاثاً، ويقول ما ورد]. ما زال المصنف رحمه الله يبين جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بنسك الحج والعمرة، فبين أن الهدي فيمن أتم طوافه بالبيت، وصلى الركعتين أن يستلم الحجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من صلاته ثبت عنه أنه شرب من زمزم، ثم استلم الحجر ومضى إلى الصفا، فبين رحمه الله أنه بعد انتهائه من الصلاة، وفراغه من طوافه، واستتمامه للركعتين يستلم الحجر، فإن تيسر له فالحمد لله وقد أصاب السنة، والأجر أعظم، وإن لم يتيسر له فليس ذلك بشيء واجب، فيمضي إلى الصفا.

متى يكون السعي؟

متى يكون السعي؟ والسنة أن يقع سعيه بين الصفا والمروة عقب طوافه بالبيت، ولا يكون هناك فاصل مؤثر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبتت عنه الأحاديث الصحيحة في حجة الوداع، وفي عُمَره أنه كان بعد فراغه من ركعتي الطواف يمضي إلى الصفا، ولم يثبت عنه أنه فصل بين طوافه صلوات الله وسلامه عليه وصلاته بعد الطواف وبين السعي بين الصفا والمروة، ولذلك نص العلماء على أنه ينبغي أن يصل سعيه بين الصفا والمروة بطوافه بالبيت.

الخروج إلى الصفا والأفضلية في باب دخوله

الخروج إلى الصفا والأفضلية في باب دخوله قوله: [ويخرج إلى الصفا من بابه فيرقاه حتى يرى البيت]. أي: يخرج إلى الصفا، وهو الجبل الأيمن إذا استدبر الإنسان الكعبة، فالجبلان أيمنهما إذا استدبرت الكعبة هو الصفا، والأيسر هو المروة، والصفا: هو الحجر الأملس، فالسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج إلى الصفا، وقول المصنف: (من بابه)، فهذا ليس بواجب، وإنما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم اتفاقاً لا قصداً، وعليه فإنه لو خرج من أي الأبواب أجزأه، والآن أصبح مكان السعي بين الصفا والمروة ليس بينه وبين البيت جدار، وإنما هناك الفتحات المعروفة، فمن أيها دخل فإنه لا حرج عليه، ولكن السنة: أن يكون من آخرها حتى يستقبل البيت؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

الرقي على الصفا، حكمه والأذكار الواردة فيه

الرقي على الصفا، حكمه والأذكار الواردة فيه قوله: [فيرقاه حتى يرى البيت ويكبر ثلاثاً]. أي: يرقى على الصفا؛ لأنه لا يستتم السعي بين الصفا والمروة إلا إذا رقى على الصفا، ورقى على المروة، حتى يصدق عليه أنه قد سعى بينهما وتطوف بهما، وأما لو كان سعيه بين الصفا والمروة دون الجبل فإنه لا يجزيه إذا لم يرق طرف الجبل. وقوله: (يرقاه)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رقى الصفا، يقال: (رقى الجبل) إذا صعد عليه، والسنة للرجال الصعود، وأما بالنسبة للنساء فيجتزئن بأقل الموضع، ولا يصعدن إلى الأعلى؛ لما فيه من التكشف والظهور أمام الناس، وكلما كُنَّ بين الناس كان أستر لهن، ولذلك نص العلماء على أن هذا الموضع من المواضع التي يختلف فيها الحكم بالنسبة للرجال والنساء، فالمرأة تجتزئ بأطراف الصفا وبأطراف المروة، والرجل يصعد إلى الصفا، ويصعد إلى المروة، وكذلك الرجل يرمل في طوافه وسعيه بين الصفا والمروة، والمرأة لا ترمل وإنما تمشي؛ لأنها إذا رملت تكشفت، وعلى هذا فإن الصعود سنة للرجال وليس بسنة للنساء، والهدي أن المرأة تختصر بأقل أطراف الجبل، ثم تمضي لوجهها. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنة أنه قبل أن يصعد الصفا خرج من باب بني شيبة، ثم بعد ذلك قرأ الآية: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158]، (وقال: أبدأ بما بدأ الله به)، ولذلك قال العلماء: فيه دليل على أن البداءة بالسعي لا تكون إلا بالصفا، فلو ابتدأ بالمروة لم يجزئه ذلك، ولم يحتسب شوطه الذي بين المروة والصفا، فلابد في البداية أن تكون من الصفا، فيقرأ الآية قبل صعود الصفا؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يبتدئ بما بدأ الله به وهو الصفا. فقوله: [فيرقاه حتى يرى البيت ويكبر ثلاثاً ويقول ما ورد]. أي: يرقى على الصفا، وكان من هديه صلوات الله وسلامه عليه: أنه إذا صعد النشز من الأرض، كالجبال والهضاب والأماكن العالية كبر الله، وإذا نزل إلى الوديان والوهاد سبح الله، وهذه هي السنة؛ لأن الله يذكر على كل شرف وعالٍ، فإذا علا ناسب أن يقول: (الله أكبر)، فهو سبحانه أكبر من كل شيء، وناسب أن يعظم الله، وأن يذكر الله عز وجل بالتعظيم والإجلال، وهذا من الذكر المناسب للحال.

استقبال البيت على الصفا، وما يقوله من أذكار

استقبال البيت على الصفا، وما يقوله من أذكار فالنبي صلى الله عليه وسلم كبر على الصفا ثلاثاً. والسنة أنه يستقبل البيت، قال العلماء: ثبتت الأحاديث الصحيحة كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه في منسك النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رقى الصفا واستقبل البيت)، ولذلك أجمع العلماء على أن السنة أن يستقبل البيت حتى يراه، ويجعله قبل وجهه، وهذا كما ذكر بعض العلماء -تنبيه على التوحيد، وإخلاص العبادة لله عز وجل، قالوا: وكما أنه إذا صلى جعل البيت قبلته، وإذا طاف بالبيت جعل البيت قبلته من جهة كونه يجعل البيت عن يساره، كذلك إذا سعى بين الصفا والمروة فرقى جبل الصفا، أو رقى جبل المروة، فإنه يستقبل البيت بالدعاء والمسألة والتضرع والابتهال لله سبحانه وتعالى. وقالوا: إنه تأكيد للتوحيد، فإنه يتوجه إلى البيت، ويوحد الله عز وجل، فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه ابتدأ دعاءه بالتكبير ثلاث مرات: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر)، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)، وهذه رواية الصحيح، وفي رواية للنسائي: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير)، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده). يقول بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على الصفا، فدعا الناس إلى توحيد الله لما أمره الله عز وجل أن يبلغ رسالة الله، وأن يؤدي أمانته، فأُمر بالجهر بالدعوة، فنادى في قريش فعمم وخصص، ثم دعاهم إلى التوحيد فقال: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) فقال له أبو لهب: تباً لك! ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله عز وجل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] الآيات. قال العلماء: كُذِّب عليه الصلاة والسلام على الصفا والمروة، وعلى رءوس الأشهاد؛ لأنه وقف أمام قريش عامها وخاصها، وإذا به في حجة الوداع أمام مائة ألف من أمته وأصحابه، كلهم يقول: كيف يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فما كان منه إلا أن أثنى على الله تعالى بما هو أهله، فقال: (لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)، فأنجز الله لنبيه عليه الصلاة والسلام ما وعده، ونصره وأعزه وأكرمه صلوات الله وسلامه عليه، ورفع ذِكْره، وأبقى له رفعة الذكر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، بل رفع له ذكره، حتى في يوم يجمع فيه الأشهاد، فيكون عليه الصلاة والسلام فيه الشافع المشفع، صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين، فقال: (لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده). ثم استفتح بالدعاء عليه الصلاة والسلام، فسأل الله عز وجل المسألة، ثم رجع وقال: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا، ثم رجع عليه الصلاة والسلام فكبر).

عدد مرات التكبير والتهليل والدعاء عند العلماء والسنة في حمد الله تعالى

عدد مرات التكبير والتهليل والدعاء عند العلماء والسنة في حمد الله تعالى وللعلماء في الدعاء والاستفتاح وجهان: الوجه الأول: قال بعض العلماء: يستفتح بالتكبير مع التهليل ثم يدعو، ثم يرجع مرة ثانية يكبر ويهلل ويدعو، ثم يختم مرة ثالثة بالتكبير والتهليل ولا يدعو، فعلى هذا الوجه الأول: يكون التكبير تسع مرات، ثلاثاً في الأولى، والثانية ثلاثاً، والثالثة ثلاثاً، ثم التهليل ستاً؛ لأنه يكون في المرة الأولى التي استفتح فيها المسألة مرتين، وهما: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده. إلخ)، فيكون التهليل ستاً، ويكون الدعاء مرتين، هذا هو أقوى الأوجه، وهو الذي يدل عليه حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وأرضاهما، وهي السنة في الحج والعمرة، أن الإنسان إذا صعد على الصفا كبر الله ثلاثاً، ثم هلل بالمرتين اللتين ذكرناهما، ثم يدعوه، ثم يرجع فيكبر ويهلل، ثم يدعو، ثم يختم دعاءه بالتكبير والتهليل، فيكون دعاؤه مرتين، ويكون تكبيره تسعاً، وتهليله ست مرات، هذا هو أصح الأوجه عند العلماء. الوجه الثاني: أن يبتدئ بالتكبير ثلاثاً مع التهليل مرتين ويدعو، ثم يكبر ويهلل ويدعو، ثم يكبر ويهلل ويدعو، فيكون التكبير تسعاً، والتهليل ستاً، والدعاء ثلاثاً، فالفرق بين هذه الصفة الثانية والصفة الأولى زيادة الدعاء، فكأنهم يرون أن هذا التكبير والتهليل والثناء على الله استفتاح للدعاء، وأصحاب القول الأول يرونه استفتاحاً وختماً للدعاء، وعلى هذا فإن الوجه الثاني يختاره جمع من العلماء -كما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- ومنهم القاضي أبو يعلى، وأصح الأوجه ما ذكرنا. وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الصحيح ذكر الحمد إجمالاً، ففيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رقى على الصفا، فحمد الله بما هو أهله) وهذا -كما يقول العلماء- للعلماء فيه وجهان: فمنهم من يقول: هذا الحمد الذي اشتمل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه هو الذي اشتمل عليه حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وبناء عليه فإنه يسن أن يقتصر الإنسان على هذه الصفة الواردة في حديث جابر رضي الله عنه، وهذا يختاره بعض العلماء المحققين، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فيرى أن الحمد الوارد في حديث أبي هريرة محمول على التفصيل الوارد في حديث جابر. وهناك وجه ثانٍ يقول: إنه يزيد الحمد لله إذا استفتح الدعاء؛ لأن السنة أن الداعي إذا استفتح دعاءه يستفتح بحمد الله. ولكن الوجه الأول أقوى؛ لأن القاعدة في الأصول أن المجمل يحمل على المبين، فـ أبو هريرة رضي الله عنه أجمل، وأما جابر رضي الله عنه فإنه بين وفصل، فيحمل ما أجمله أبو هريرة على ما فصله جابر بن عبد الله رضي الله عن الجميع. والسنة في هذا الدعاء -كما ذكرنا- أولاً: أن يستقبل البيت، وأن يكون واقفاً؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا إذا كان كبير السن، أو عاجزاً، أو نحو ذلك ولا يستطيع الرقي، فلو أنه ركب ما يحمل فيه، فاستقبل البيت، أو اتجه إلى جهة البيت إذا لم يستطع رؤية البيت، فإنه حينئذٍ يمكنه أن يدعو وهو جالس، ولكن إذا أمكنه أن يقف فإنَّه يقف عند الدعاء تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

الدعاء على الصفا والمروة والاستكثار منه

الدعاء على الصفا والمروة والاستكثار منه ثم يرفع يديه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه وهي السنة، وأجمع العلماء على سنية رفع اليدين في الدعاء على الصفا والمروة؛ لأن الأحاديث صحيحة، ولذلك قال العلماء: من المواضع التي يشرع فيها رفع اليدين في النسك في الحج والعمرة على الصفا والمروة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه، وسأل الله عز وجل من فضله، والسنة أن يجتهد في الدعاء، وكان عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما -وهو الذي عرف بالتأسي، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم- يطيل الدعاء ويطيل المسألة، حتى جاءت الرواية الصحيحة عنه أنه كان أصحابهَ يَملُّون من طول قيامه رضي الله عنه وأرضاه، ولكن قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]، فمن عرف الله، وأَجَلَّه بأسمائه وصفاته، وعظم شعائره، وأخلص في مواطن الدعاء، ومواطن الثناء على الله، وصبر واصطبر، فإنه يحس بلذة مناجاة الله سبحانه وتعالى، وحلاوة ذكره، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، فكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يثني على الله بما هو أهله، ويدعو، ويسأل الله عز وجل، ويلح في دعائه ومسألته. قال بعض العلماء: من المواطن التي ترجى فيها الإجابة الدعاء على الصفا والمروة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تحرى الدعاء هناك، قالوا: فيشرع له أن يستكثر من سؤال الله تعالى من خيري الدنيا والآخرة، ويجعل مسألة الآخرة هي الأصل؛ لأن أمور الدنيا يسيرة، والإنسان يأخذ من دنياه ما يبلغ به آخرته، فيجعل المسألة لآخرته في صلاح دينه، واستقامته على طاعة ربه، ويسأل الله عز وجل حسن الطاعة، وكمال الاستقامة، والثبات على ذلك إلى لقاء الله عز وجل، فالسنة أن يجتهد في الدعاء. فإذا فرغ من الدعاء نزل عن الصفا؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تنصب قدماه في الوادي.

كيفية النزول من الصفا والهرولة بين العلمين الأخضرين

كيفية النزول من الصفا والهرولة بين العلمين الأخضرين قال رحمه الله تعالى: [ثم ينزل ماشياً إلى العلم الأول]. أي: ثم ينزل ماشياً؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، إلى العلم الأول، فإن كان كبير السن، أو امرأة اجتزأت بأطراف الصفا، أو أطراف المروة، فإنها حينئذٍ تمضي لوجهها، ويمضي الرجل لوجهه. قال رحمه الله تعالى: [ثم يسعى شديداً إلى الآخر]. العلمان موجودان إلى الآن، والعلمان هما علامة على الوادي، أي: على طرفي الوادي؛ لأن جبل الصفا وجبل المروة كانت تمتد أجزاؤهما إلى أطراف الوادي، وكان الذي بينهما مجرى الوادي الذي ينصب على جهة البيت كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم:37]، فتفيض الجبال على الأبطح، ومن الأبطح تنصب على جهة الصفا، ومن جهة الصفا تنصب إلى البيت، فمكة أشبه بالمنكفئة، كالمدينة فيها أعلى وأسفل، فالمدينة عاليتها قباء والعوالي، وسافلتها جهة أحد، كذلك مكة، قالوا: عاليها جهة المقابر، جهة المعلاة، وأسفلها من جهة الجنوب، فمجرى الوادي بين الصفا والمروة، وكان في القديم واضح المعالم، لكنه لما وسع، وأُخذ من الصفا، وأخذ من أجزاء المروة أصبح هناك علمان ولا زالا موجودين إلى اليوم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمشي حتى يأتي العلمين، فإذا جاء إلى العلم هرول وسعى صلوات الله وسلامه عليه. وهذا السعي فيه مسائل منها: المسألة الأولى: أنه كان لـ هاجر حينما ابتليت بعطش ابنها إسماعيل، فإن الله سبحانه وتعالى ألهمها أن تسعى بين الصفا والمروة، فالسعي بين الصفا والمروة كان أصله منها، ويقول بعض العلماء: إن الله سبحانه وتعالى أبقاه من معالم الحنيفية، حتى يتذكر كل مكروب ومنكوب أن الله سبحانه وتعالى لكل كربة ونكبة، فإن هذه المرأة ضعيفة ومع طفلها الصغير، وكانت كما قال الله تعالى: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم:37]، لا أنيس ولا جليس، ولكن تركهم إبراهيم عليه السلام لله عز وجل، فقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟! قال: لله. قالت: (إذاً لا يضيعنا الله)، واستقبل الوادي، ودعا بدعواته، فبقيت هي وصبيها، وما شأنك بامرأة ضعيفة مع صبيها، وهو يصرخ ويستنجد يسأل الماء من شدة الظمأ؟ فسعت بين الصفا والمروة، فمن سعى بين الصفا والمروة تذكر مثل هذا الموقف، وتذكر أن الله فرج عن هذه المرأة الضعيفة، فأزال همها، وبدد غمها، وكشف كربتها، وجعل تفريج كربتها من تحت قدم ولدها، ولم يأتِ أحد يسقيها فيمتن عليها بالسقية، ولم يجعل تفريج كربتها لمخلوق يأتي فيسعفها، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل تفريج كربتها من تحت قدم ابنها الذي تريد أن تسقيه، وهذا لا شك أنه من أعظم الآيات، ومن أعظم الدلائل على توحيد الله عز وجل وعظمته سبحانه، وأن من الخذلان أن يرفع العبد كفه لمخلوق كما قال تعالى: {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:13]. فإن من أعظم الحرمان، ومن أعظم الخسارة: أن ينصرف المخلوق عن الخالق إلى مخلوق مثله، أو إلى من لا يملك له ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] فلا شك أنه من أعظم الحرمان وأعظم الخسارة. فالله تعالى جعل مثل هذه المواقف تحيي في القلوب، وتذكي في النفوس الالتجاء إلى الله تعالى والتوكل على الله تعالى والاستعانة بالله تعالى، التي هي مقاصد التوحيد، ومن أسس التوحيد الذي لا يمكن أن ينظر الله عز وجل إلى عمل العامل، وقول القائل إلا بعد تحقيقه، وما جعلت الصفا ولا جعلت المروة إلا من أجله. المسألة الثانية: فإذا انصبت القدمان في الوادي سعى؛ لأن هاجر عليها السلام سعت، واختار جمع من العلماء أن يكون السعي شديداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبتت عنه السنة أنه سعى سعياً شديداً، وجعل الإزار يدور على ركبتيه -صلوات الله وسلامه عليه- من شدة سعيه، وقال: (أيها الناس! إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا)، وهذا -كما يقولون- سمي سعياً؛ لأنه في هذا الموضع يسعى ولا يمشي، أما المرأة فإنها تمشي؛ لأنها إذا سعت تكشفت، ولا يجوز رمل النساء لا في الطواف بالبيت، ولا في السعي بين الصفا والمروة، وقد جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان إذا اشتد سعيه قال: (رب اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم، إنك أنت الأعز الأكرم) كما رواه عنه الإمام أحمد بن حنبل في المسند. وإذا انتهى إلى طرف العلم فحينئذٍ يمشي كما مشى حال انصبابه من الصفا إلى الوادي.

أفعال المروة صعودا أو نزولا

أفعال المروة صعوداً أو نزولاً قال رحمه الله تعالى: [ثم يمشي ويرقى المروة ويقول ما قال على الصفا]. بعد انتهائه من الوادي، وبلوغه إلى طرف العلم يمشي فيرقى المروة، وإذا رقى المروة استقبل البيت، فإذا كان لا يستطيع أن يراه -كما هو الحال الآن- فمن أهل العلم من قال: يجتهد في تحري جهة البيت، وهذا يختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأنه لما كانت الصفا لها جدار، وكانوا لا يستطيعون الرؤية قالوا: نص على أنه يحرص على استقبال جهة البيت كيفما كان، أي: يحاول قدر استطاعته أن يكون مستقبلاً لجهة البيت، فيرفع يديه، ثم يكبر ويهلل، ويدعو على الصفة التي ذكرناها على الصفا. قال رحمه الله تعالى: [ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه إلى الصفا]. أي: ثم ينزل ويمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه، ويعتَبِرُ في رجوعه ما اعتبره في نزوله، فالحكم لا يختلف في الشوط الذي يئوب به من المروة، أو الذي يذهب به من الصفا، فالحكم واحد، ويجتهد في الدعاء والمسألة، فيسأل الله عز وجل من فضله في سعيه، ولو قرأ القرآن فلا حرج، ولو دعا أو أثنى على الله بما هو أهله، فسبح وكبر وحمد ونحو ذلك فلا حرج عليه.

مسافة السعية، وحكم الابتداء بالمروة

مسافة السعية، وحكم الابتداء بالمروة [يفعل ذلك سبعاً، ذهابه سعيةٌ ورجوعه سعيةٌ]. أي: ذهابه من الصفا إلى المروة سعيةٌ، وإيابه من المروة إلى الصفا سعية، فيبتدئ بالصفا وينتهي بالمروة، ويقف على كلٍّ أربعاً على أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم، وهناك قول أنه إذا فرغ من الشوط الأخير لا يقف على المروة، والذي اختاره جمع من العلماء أنه يقف ويدعو؛ لأن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم صنع على المروة مثل ما صنع على الصفا، حتى انتهى من سعيه، فاختار جمع من العلماء أن يكون وقوفه عليها أربعاً. ويكون ذهابه شوطاً ورجوعه شوطاً، وكان بعض العلماء -وهو قول ضعيف- يرى: أن الذهاب والرجوع شوط واحد، فحينئذٍ يكون أربعة عشر مرة. والقائل بهذا توفي ولم يحج ولم يعتمر، حتى كان بعض أهل العلم يقول: لو حج أو اعتمر ما قال بقوله هذا؛ لأنه لو حج واعتمر، ووجد المشقة التي تكون في أربعة عشر شوطاً لما قال بهذا القول. قال رحمه الله تعالى: [فإن بدأ بالمروة سقط الشوط الأول]. السنة أن يبدأ بالصفا، فإن قال قائل: لو بدأ بالمروة قبل الصفا، فهل يحتسب تلك السعية أو لا يحتسبها؟ فالجواب أنه لا يحتسبها، ولا يجزيه أن يبتدئ بالمروة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ بالصفا، وقال: (أبدأ بما بدأ الله به)، وفي رواية للنسائي في السنن الكبرى: (ابدءوا بما بدأ الله به) بصيغة الأمر، وهذا هو الذي عليه المُعَوَّل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم)، فهذا هو منسكه، وهذا الذي فعله بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، أنه ابتدأ بالصفا، فاجتمعت دلالة الكتاب، ودلالة السنة على أن البداءة تكون بالصفا، ولو ابتدأ بالمروة فإنه يلغي ذلك الشوط ولا يعتد به.

أفعال مسنونة حال السعي

أفعال مسنونة حال السعي قال رحمه الله تعالى: [وتسن فيه الطهارة والستارة والموالاة]. قوله: (وتسن فيه الطهارة) يعني: في السعي بين الصفا والمروة، فيجوز للإنسان أن يسعى بين الصفا والمروة وهو محدث حتى ولو كان جنباً، ولو كانت المرأة حائضاً فإنه يصح سعيها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة رضي الله عنها لما حاضت: (اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت)، فلو كانت الطهارة شرطاً في صحة السعي لقال لها: اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت، ولا تسعي بين الصفا والمروة، ولكنه عليه الصلاة والسلام اقتصر على ذكر الطواف، فدل على أنه يصح أن يسعى الإنسان وعليه الحدث الأصغر أو الأكبر. والسنة والأفضل الطهارة، كما قال المصنف: (وتسن له الطهارة) يعني: أن الأفضل والأكمل أن يكون الإنسان على وضوء، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعاً، وصلى ركعتي الطواف، ثم مضى لوجهه ولم يُذكر له حدثٌ، فطاف بين الصفا والمروة، وسعى بينهما وهو على طهارة، فقالوا: تسن الطهارة، فهي الأفضل والأكمل، ومما يؤكد هذا أنه بين الصفا والمروة سيذكر الله، والأفضل في ذكر الله أن يكون الإنسان على طهارة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إني كنت على غير طهارة فكرهت أن أذكر الله)، فدل على أن الأفضل في حق ذاكر الله عز وجل أن يكون على طهارة، وأن هذا أكمل وأعظم لأجر الإنسان. ثانياً: ستر العورة: قوله: [وتسن فيه الطهارة والستارة]. المراد بالستارة: ستر العورة، أي: يسعى بين الصفا والمروة وقد ستر عورته. فلو أنه سعى بين الصفا والمروة فانحل إزاره في زحام، أو نحو ذلك، فانكشفت عورته في شوط، أو نحو ذلك، فإنه تجزيه تلك السعية، ولا يعتبر ستر العورة شرطاً لصحة السعي بين الصفا والمروة. ثالثاً: الموالاة: قوله: [والموالاة]. الموالاة تقع على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون سعيه عقب الطواف فيوالي بينهما، وهذه هي السنة كما ذكرنا. والصورة الثانية للموالاة، أو الموضع الثاني للموالاة: أن يكون سعيه متوالياً، فلا يفصل بين السعية والسعية، فإذا فصل بينهما فللعلماء قولان: منهم من قال: لا يصح سعيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والى، وقال: (خذوا عني مناسككم). وقال بعض العلماء: العبرة أن يَطَّوَّف بهما كيفما كان، فإن تَطَوَّف ثلاثة أشواط في ساعة، ثم تَطَوَّف أربعة أشواط في ساعة ثانية أجزأه، واختلفوا في الفاصل، والأقوى أنه لا يفصل بين السعي، وأنه يوقعه على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته.

ماذا يفعل بعد السعي

ماذا يفعل بعد السعي قال رحمه الله تعالى: [ثم إن كان متمتعاً لا هدي معه قصر من شعره وتحلل]. أي: إن كان متمتعاً لا هدي معه فإنه يقصر من شعره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم (ندب أصحابه، وأمرهم أن يفسخوا حجهم بعمرة فتحللوا، أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل، وأن يجعلها عمرة، فقالوا: يا رسول الله! أيُّ الحل؟ قال: الحل كله، قالوا: يا رسول الله! أنذهب إلى منىً ومذاكرنا تقطر منياً -فأثبت عليه الصلاة والسلام هذا الحكم- قال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة)، فرغب عليه الصلاة والسلام، وأكد في فسخ الحج بالعمرة، وجعله لازماً لأصحابه، وطيب خواطرهم بالقول فقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة)، وقال عليه الصلاة والسلام في اللفظ الثاني في الصحيح: (إني قلدت هديي ولبدت شعري، فلا أحل حتى أنحر)، فأمر أصحابه أن يتحللوا بعمرة. فإذا كان الإنسان لم يسق الهدي، وأراد أن يتمتع، فإنه حينئذٍ يتحلل بعد انتهائه من السعي كما تحلل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويُقَصِّر شعره حتى يجعل فضيلة الحلق لحجه، هذا إذا كان الفاصل قصيراًَ، ولكن استحب جمع من العلماء أنه يحلق؛ لأنه بإمكانه أن ينبت له الشعر فيما بين عمرته وبين حجه، فيُصيب الدعاء بالرحمة في الموضعين، وهذا لا شك له وجه، وأما إذا قَصُر الوقت فإن التقصير أفضل، وكونه يجعل الدعاء بالرحمة للحج قالوا: إنه أفضل، فيقصر من شعره، ويترك الحلاقة لتحلله من حجه. قال رحمه الله تعالى: [ثم إذا كان متمتعاً لا هدي معه قصر من شعره وتحلل، وإلا حل إذا حج]. قوله: (وإلا حل إذا حج) يعني: أنه يتحلل بعد حجه.

وقت قطع التلبية

وقت قطع التلبية [والمتمتع إذا شرع في الطواف قطع التلبية]. التلبية: فيها مسائل تقدمت معنا، وبينا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وأحكامها، ومن مسائلها: متى يقطع المحرم تلبيته؟ وجواب هذا السؤال أنه لا يخلو المحرم إما أن يكون بحج، وإما أن يكون بعمرة، فهناك موضعان: الموضع الأول: بالنسبة للحج، متى يقطع الحاج تلبيته؟ والموضع الثاني: بالنسبة للمعتمر متى يقطع تلبيته؟ قال بعض العلماء: المعتمر يقطع تلبيته عند دخوله للحرم، وقد جاء عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما -والسند صحيح- أنه كان إذا قدم من جهة المدينة، واستقبل من جهة التنعيم قطع التلبية. والقول الثاني: أنه يقطع تلبيته عند استلامه للحجر، أي: عند ابتدائه للطواف. والقول الأول للمالكية، والقول الثاني اختاره الشافعية والحنابلة، أن المعتمر يقطع تلبيته عند استلام الحجر، وهذا القول احتجوا له بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في عمرة الجعرانة وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتمر من الجعرانة بعد انصرافه من غزوة الطائف: (لم يزل يلبي حتى استلم الحجر)، قالوا: فيه دليل على أن التلبية تقطع عند استلام الحجر، ولأن أول الأركان يلي إحرامه ونيته إنما هو الطواف بالبيت، فشرع له أن يلبي حتى يبتدئ الطواف، وحينئذٍ يقطع التلبية، وهذا هو أصح أقوال العلماء؛ لأن السنة واضحة في دلالتها على صحته، أن المعتمر يقطع التلبية عند استلام الحجر. وحينئذٍ نقول: من اعتمر يقطع التلبية عند ابتداء الطواف إن استلم الحجر، فيؤخر حتى يستلم الحجر، وأما إذا لم يستلم الحجر في طوافه فعند استفتاحه الطواف يقطع التلبية. وعلى هذا لو حج، وكان قد نوى التمتع بعمرته، فحينئذٍ عند ابتدائه للطواف أو عند استلامه للحجر يقطع تلبيته لهذا الأصل.

الأسئلة

الأسئلة

مكان استئناف السعي بعد قطعه للصلاة

مكان استئناف السعي بعد قطعه للصلاة Q هل يأخذ السعي حكم الطواف، فيما إذا أقيمت الصلاة وهو يسعى، من حيث الاستئناف أو الرجوع إلى نفس المكان؟ A إذا أقيمت الصلاة وهو في السعي فإنه يقطع سعيه، ثم يمضي للصلاة ويصلي، ولا يقطع السعي إلا عند الفراغ من الإقامة إذا كان موضع صلاته قريباً؛ لأن ما شرع لحاجة يقدر بقدرها، فلا يقطع مباشرة، وإنما ينتظر حتى يفرغ من الإقامة، ثم بعد ذلك إذا كان الموضع قريباً قطع سعيه ودخل في الصفوف. وعلى هذا فلو قطع السعي فهل يعيد الشوط، أي: يعيد السعية من أولها؟ أو يبتدئ من الموضع الذي قطع منه؟ أصح الأقوال أنه يبتدئ من الموضع الذي قطع منه، والأفضل والأكمل أنه يعيد السعية من أولها، والله تعالى أعلم.

وقت رفع اليدين حال الدعاء على الصفا والمروة

وقت رفع اليدين حال الدعاء على الصفا والمروة Q علمنا أنه يرفع يديه في الدعاء على الصفا والمروة، ولكن هل يكون الرفع مع بداية التكبير والتهليل؟ أم يرفع إذا أراد الدعاء؟ A هذه المسألة تنبني على قولنا: هل كان تكبيره عليه الصلاة والسلام وتهليله من أجل المسألة والدعاء؟ وهذا يرجحه غير واحد من العلماء، فقالوا: إنه استفتح التكبير والتهليل من أجل الدعاء والمسألة، ولذلك جعله أثناء الدعاء. فقال بعض العلماء: على هذا الوجه يجعل رفعه لليدين من بداية التكبير. والوجه الثاني يقول: إن التكبير من أجل الرقي على المكان النشز والعالي، فكبر صلوات الله وسلامه عليه وهلل، ثم بعد ذلك دعا، فيكون الرفع عند الدعاء، والأول أقوى، والله تعالى أعلم.

محل قراءة قوله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله)

محل قراءة قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) Q هل يقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] إذا دنى من الصفا فقط؟ أم كذلك إذا دنى من المروة؟ A المحفوظ أنه إذا دنا من الصفا، ولا يكرر ذلك في بقية الأشواط ولا يكرره عند المروة؛ لأن هذا الذكر قصد منه النبي صلى الله عليه وسلم الاستشهاد لقوله: (أبدأ بما بدأ الله به)، فلما جعله للبداءة اقتصر على محله، فقالوا: إنه ذكر مقصود من النبي صلى الله عليه وسلم، من باب التنبيه على مراعاة ترتيب الكتاب، والاهتداء بهدي القرآن في تقديم ما قدمه الله عز وجل وتأخير ما أخره، والله تعالى أعلم.

حكم العجز عن استلام الحجر بعد ركعتي الطواف

حكم العجز عن استلام الحجر بعد ركعتي الطواف Q إذا لم يستطع المكلف أن يستلم الحجر الأسود بعد الركعتين التي بعد الطواف هل يشرع له أن يشير إليه، أم ينصرف إلى الصفا؟ A السنة أن يستلم، فإن عجز عن الاستلام انصرف، وأما الإشارة فلا يحفظ فيها دليل يدل عليها، وإنما ثبتت الإشارة عن النبي صلى الله عليه وسلم داخل الطواف، وأما خارج الطواف فتحتاج إلى دليل خاص، ولا دليل يدل عليها، والله تعالى أعلم.

حكم اضطباع الآفاقي والمقيم بمكة

حكم اضطباع الآفاقي والمقيم بمكة Q هل هناك فرق بين أهل مكة وغيرهم في الاضطباع والرمل والسعي بين العلمين؟ A اختار جمع من العلماء أن الحكم يختص بالآفاقي، وأن المكي لا يكون عليه رمل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعله هو وأصحابه وهم قادمون من المدينة، فخصوا الحكم بصورة السبب، وقالوا: إنه ليس على المكي أن يرمل، ومن هنا فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين طوافه الأول وطوافه الثاني، فلم يرمل صلوات الله وسلامه عليه في طواف الإفاضة، وهذا يدل على أن من أقام بمكة ونزل بمكة أنه لا يأخذ حكم من كان خارجاً عنها، وعلى هذا قالوا: إن سنة الرمل إنما هي لمن قَدِم، وهكذا المكي إذا كان إحرامه من خارج مكة، كأن يكون أتى المدينة فاعتمر منها، فإنه يأخذ حكم أهل المدينة، وحينئذٍ يرمل في طوافه عند قدومه، والله تعالى أعلم.

الحالة التي يشرع فيها التكبير عند الصعود، والتسبيح عند النزول

الحالة التي يشرع فيها التكبير عند الصعود، والتسبيح عند النزول Q هل التكبير عند صعود الجبال، أو التسبيح عند هبوط الوهاد خاص بالسفر أم هو مطلق في كل مكان؟ A السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم التكبير على النشز، والتسبيح إذا هبط وادياً، والمحفوظ عن أهل العلم رحمة الله عليهم أن الحكم عام، وأن هذا من دعاء المناسبات، كما أن قول دعاء الركوب: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) يستوي فيه أن أكون مسافراً أو مقيماً؛ لأن الله تعالى يقول: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} [الزخرف:13]، فجعله ذكراً مطلقاً، وقالوا: إنما أمروا بتسبيح الله عز وجل، وتوحيده عند الركوب على الدواب اعترافاً لله عز وجل بوحدانيته وفضله، وعظيم منته وإحسانه بعباده، وهذا أمر عام يستوي أن يكون في السفر وغير السفر، ولذلك يقولون: لا يختص بالسفر وإنما يكون دعاء مطلقاً. وفي حكم هذا جميع ما يكون من وسائل النعم التي يسرها الله سبحانه وتعالى من السيارات، والطائرات، والقطارات ونحوها، إذا ركبها الإنسان قال: سبحان الذي سخر لنا هذا. إلخ، فإذا كان الله عز وجل قد شرع لنا أن نذكر هذا الذكر عند الركوب على الدواب والبهائم من ذوات الأرواح، فإنه خليق بهذا الدعاء أن يكون في الجماد من بابٍ أولى وأحرى، فسبحان من حَرَّكه وصرفه ودبره، وجعله يجري بقدرته سبحانه وتعالى. فيثني العبد على الله، وينزه الله سبحانه وتعالى، وهذا قليل قليل من كثير يستوجبه سبحانه علينا؛ لعظيم نعمته، وجليل فضله ومنته، تبارك الله وهو أحسن الخالقين، والله تعالى أعلم.

كيفية تحلل محلوق الشعر والأصلع

كيفية تحلل محلوق الشعر والأصلع Q من كان بلا شعر، أو كان محلوق الشعر، فكيف يصنع عند التحلل؟ A من كان بلا شعر فقد قال بعض العلماء: لا تحلل له، فلا يلزمه حلق ولا تقصير؛ لأن التكليف شرطه الإمكان، وقد فات المحل، يعني: ليس بمحل حلق، ولا بمحل تقصير. واختار جمع من العلماء -ومنهم جمع من الأئمة المتقدمين- أنه إذا كان أصلع لا شعر له أنه يُمر الموس على رأسه، وهذا من باب إبقاء الفعل مع فوات الصورة، وذلك أن الشرع طلب من المكلف التحلل، فيكون التحلل بالحلق أو التقصير، فإذا فات الحلق والتقصير بقيت صورة الفعل، كما قالوا: إن الإنسان إذا طلب منه الفعل وصورته، فإذا فات الفعل بقيت صورة الفعل التأسي والاقتداء، فالأفضل والأكمل أن يمر الموس، قالوا: لاحتمال أن يكون هناك شيء من الشعر موجوداً، خاصة إذا كان حديث عهد بحلاقة. أما إذا كان محلوق الشعر فإنه يمر الموس؛ لأنه سينبت شيء من الشعر، وسيكون فيه فضلة الشعر، فيمر الموس، ويمضيه حتى يحصل به التحلل، والله تعالى أعلم.

رفع المرأة صوتها بالتلبية

رفع المرأة صوتها بالتلبية Q ما حكم رفع المرأة صوتها بالتلبية؟ A المرأة لا ترفع صوتها بالتلبية، وإنما تكون تلبيتها سراً، فالنساء لا أذان لهن ولا إقامة، ولا يشرع لهن الجهر؛ لما في أصواتهن من الفتنة، ولذلك قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32] قال العلماء: القول المعروف على حالتين في المرأة: الحالة الأولى: ألا ترفع صوتها إلا من ضرورة وحاجة. والحالة الثانية: ألا تتنغم وتتكسر في كلامها، وإنما يكون كلامها على الوجه المعروف الذي لا يطمع معه الذي في قلبه مرض، وعلى هذا فإن النساء لا يرفعن أصواتهن، ولم يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ألزم نساءه برفع أصواتهن، بل كان أمهات المؤمنين يلزمن الستر في أمور حجهن وعمرتهن، حتى كانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها -وهي أم المؤمنين الصالحة القانتة- تتستر حتى في طوافها، وكانت إذا أرادت أن تطوف بالبيت لا تطوف إلا بالليل، وإذا أرادت أن تطوف أوصت القائمين على البيت أن يطفئوا السُّرُجَ، ومضت في داخل طوافها حتى لا تُرى رضي الله عنها وأرضاها، وكل هذا من تحريها لمقصود الشرع، كما قالت فاطمة رضي الله عنها: (خير للمرأة ألا ترى الرجال ولا يراها الرجال) فسماع صوت المرأة ورؤية شخصها فتنة. والذي يقول: إنه ليس بفتنة يكابر بالمحسوس، فالمرأة والرجل جبلهما الله عز وجل فطرة وغريزة بميل كلٍّ منهما إلى الآخر، سواءً تكلمت أم خرجت وابتدئ، فالفتنة كل الفتنة في النساء، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)، فمما نص عليه العلماء أنها لا ترفع صوتها إلا لحاجة وضرورة، ولذلك تجد العلماء يقولون: في الحديث دليل على مخاطبة الأجنبية للأجنبي عند الحاجة، ويقيدون ذلك بالحاجة، وهذا هو المحفوظ والمذكور في كتب العلماء رحمة الله عليهم. والدليل القوي على أن المرأة لا تتكلم أنها في الصلاة لو أخطأ الإمام لا تفتح عليه مع وجود الحاجة، وإنما تصفق، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنما التسبيح للرجال والتصفيق للنساء) فانظر -رحمك الله- لو كان صوت المرأة مأذوناً فيه لفتحت، مع أنه قد يُحتاج إلى أن تفتح للإمام بالكلام، فقالوا: أبداً، تقتصر على التصفيق حتى يعجز، وحينئذٍ يجوز لهن الفتح، وهذا كله يؤكد أن مقصود الشرع أن تحفظ المرأة لسانها، وأن تمتنع من مخاطبة الرجال، ولو قيل بجواز مخاطبة المرأة للأجنبي لاسترسل النساء في ذلك، ولرأيتها تجلس مع الرجل تسأله عن حاله، كما يسأل الرجل الرجل، وتقول لك: لا دليل على التحريم! بل تقول لك: إن العلماء أفتوا بأنه يجوز كلام الأجنبية للأجنبي. ففي هذا فتح باب شر لا يخفى، فالمرأة لا تخاطب الرجال، ولا يسمع الرجال كلامها، ولا بيانها إلا عند الضرورة والحاجة؛ لأنه إذا كان في الصلاة التي هي من أعظم شعائر الإسلام، ويحتاج إلى كلامها، يقول عليه الصلاة والسلام: (إنما التسبيح للرجال والتصفيق للنساء)، فعدل إليه عن ذكر الله الذي فيه القربة وفيه الطاعة، فأين التصفيق من ذكر الله؟! فالرجل يسبح، وذكر الله أفضل وأكمل، ومع ذلك هي تعدل إلى التصفيق. وعلى هذا فإنها لا ترفع صوتها بالتلبية، والدليل على أن المرأة لا ترفع صوتها بالتلبية أن الأوامر التي جاءت برفع الصوت بالتلبية، كما في الصحيح من حديث جابر وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية)، وهذا خاص بالرجال لقوله: (أصحابي)، والأصحاب: جمع صاحب، والمراد به الرجل دون الأنثى، فلا يشرع للمرأة أن ترفع صوتها بالتلبية، وإنما تكون تلبيتها سراً، والله تعالى أعلم.

التمتع والقران وخلاف العلماء في أفضلية أحدهما على الآخر

التمتع والقران وخلاف العلماء في أفضلية أحدهما على الآخر Q أشكل عليَّ الجمع بين حديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله: (أتاني جبريل، وقال: يا محمد! أهل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة)، فدل على أن الله أمره بالقران، وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة)؟ A هذا الحديث يحتج به جمع من العلماء على أن القران أفضل؛ لأن الله تعالى اختاره لنبيه من فوق سبع سماوات، ولم يحج إلا حجةً واحدة، قالوا: فاختار الله له من فوق سبع سماوات أن يقرن. واختلف العلماء: هل القران من أول حجه، أو طرأ عليه؟ وذلك على ثلاثة أقوال: منهم من قال: إنه كان مفرداً ثم قرن. ومنهم من قال: كان مهلاً بعمرة ثم قرن. ومنهم من قال: إنه كان قارناً ابتداء وانتهاءً. وهذا هو أصح الأقوال؛ لأنه قد ثبت عن خمسةٍ وعشرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قرانه عليه الصلاة والسلام، قال أنس رضي الله عنه، كما في الرواية الصحيحة: (ما تعدوننا إلا صبيانا، لقد كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها، أسمعه يقول: لبيك عمرةً وحجاً)، والسبب في ذلك أن أبا طلحة كان مع النبي صلى الله عليه وسلم قريباً من دابته، وكانت دابته تسامت دابة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أنس رضي الله عنه -وهو ربيب أبي طلحة - من أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالصحيح أنه كان قارناً ابتداءً وانتهاءً. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت)، فللعلماء فيه وجهان: منهم من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى أن لو كان متمتعاً، فدل على أن التمتع أفضل؛ لأنه كان على آخر الأمرين، فدل على أن التمتع يعتبر أفضل من القران. ومنهم من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أصحابه بفسخ الحج بعمرة، أشكل على الصحابة هذا؛ لأن الصحابة ألفوا أن العمرة لا تقع في الحج، وكانوا يرونها من أفجر الفجور، وكان من عادة أمهات المؤمنين أنه إذا شق الأمر على الصحابة دعونه صلى الله عليه وسلم أن يبتدئ بنفسه، ولذلك لما دعاهم إلى الفطر تأخروا، فشرب عليه الصلاة والسلام من اللبن فشرب الصحابة وأفطروا، وفي يوم الحديبية لما دعاهم أن يتحللوا تلكئوا، ودخل مغضباً على أم المؤمنين أم سلمة رضي الله تعالى عنها، قال: (ما لي آمر فلا أطاع، فقالت له: ادعُ الحلاق، فلما دعا الحلاق وحلق رأسه صلى الله عليه وسلم، قام بعضهم يحلق لبعض يكاد بعضهم يقتل بعضاً). فأصبح الآن تطييب خواطرهم بالفعل مستحيلاً؛ لأنه قال: (إني قلدت هديي، ولبدت شعري فلا أحل حتى أنحر)، فقال تطييباً لخواطرهم بالقول: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة)، ولذلك قال الإمام أحمد رحمة الله عليه، وجمع من السلف: هذا يدل على اختياره صلوات الله وسلامه عليه وحبه للتمتع، وأنه لو استقبل من أمره ما استدبر لكان متمتعاً، فقالوا: هذا يدل على تفضيل التمتع، وأن أفضليته جاءت متأخرة، فحينئذٍ يدل على أفضلية التمتع. وأما الأولون فقالوا: إن هذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم لسبب، ولا يعقل أن الله تعالى يختار لنبيه إلا الأفضل والأكمل، والمسألة مشهورة والخلاف فيها مشهور، ومن رجح القران فله وجه من السنة، ومن رجح التمتع فله وجه من السنة، لا يُثَرَّبُ على هذا، ولا يُثَرَّب على هذا، ولكل وجه، ولكل سلفه من الأئمة والعلماء الأجلاء، ولكن الممنوع أن يعتقد الإنسان خطأ غيره، فتجد طالب العلم إذا رجح القران يحتقر من يرجح التمتع، وتجده يستهجنه، وربما يتقصده بالمناقشة، حتى إنه ربما يصبح الحج جدلاً، وأخذاً وعطاءً فيما هو الأفضل، وهذا لا ينبغي. فالإنسان إذا ترجح له دليل، وعرف أن السنة فيه، واعتقد ذلك وله سلف، وله وجه من هذا الدليل من كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو على خير وعلى هدى. وكذلك أيضاً إذا ترجح عند غيره غير قوله فلا يُثَرِّب عليه، ولا يعتقد ضلاله، ما دام أنه يقول بقول له وجهه من كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام رحمه الله، في معرض الكلام عن خلاف الصحابة: إنهم كانوا يختلفون، وتتباين أقوالهم في المسائل، فيصلي بعضهم وراء بعض، ويترضى بعضهم على بعض، ويترحم بعضهم على بعض، فلم يكن خلافهم مفضياً إلى حصول الفتنة بينهم، وإنما ينبغي على المسلم أن يلتزم هدي الكتاب والسنة، وألا يتعصب إذا تبين له الدليل، وتبينت له الحجة، ويرجع إلى كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن استبانت له السنة بترجيح شيء عمل به واعتقده، وأقنع الغير إن أمكن إقناعه، وإلا بقي على ما يرى أنه حق وصواب، وتعبد الله به، والله تعالى أعلم.

تطيب المرأة قبل الإحرام

تطيب المرأة قبل الإحرام Q التطيب الذي يسبق الإحرام، هل هو خاص بالرجال دون النساء، وذلك لمكان المشقة في التحرز من انتشار رائحة الطيب؟ A أما بالنسبة للمرأة فطيبها ما ظهر لونه وخفي ريحه، والرجال طيبهم ما ظهر ريحه وخفي لونه، ولذلك نهي الرجال عن الزعفران، وقالوا: إنه أكمل في خشونة الرجل، وأكمل في أنوثة المرأة. وهذا هو المنصوص عليه عند أهل العلم رحمة الله عليهم، فإذا تطيبت المرأة بالأطياب التي لها رائحة خفية، أو كانت محافظة وخشيت من طول نسكها أنها تتغير عليها الرائحة، فوضعت بعض الطيب مع المحافظة، وعدم فتنة غيرها، فإنه لا بأس بذلك، ونص العلماء على أنه لا حرج في هذا. لكن إذا كانت -مثل ما يقع الآن- تحرم في ساعة، وبعد ساعة، أو ساعتين، أو ثلاث، تدخل بين الرجال، وتخالط الرجال فلا شك أنهم سيشمون طيبها، ويكون حينئذٍ عدولها عن التطيب أبلغ وأكمل، والله تعالى أعلم.

شعث المحرم والمقصود منه

شعث المحرم والمقصود منه Q هل يفهم من الحديث: (إن عبادي أتوني شعثاً غبراً)، أنه لا يستحب للمحرم أن يغتسل عند شعثه؟ وماذا عن تبديل ملابسه؟ A الحديث القدسي (انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً) لا يستلزم عدم الغسل، فإن الشعث والغبرة تقع حتى ولو اغتسل الإنسان، والسبب في هذا: أن الشعث يكون من السفر، ويكون نسبياً، فإذا كان الإنسان اغتسل في حجه فإنه لا يؤثر هذا في وصفه بالشَّعِثِ، ولا يمنع أن يوصف بالغبرة؛ لأنه إذا انتفت الغبرة عن شعره وعن بدنه، لا شك أنه إذا خالط الناس ومشى في عرفات سيصيبه نوع من الشعث، ونوع من الغبرة، والدليل على ذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم أُثِر عنهم أنهم كانوا يغتسلون قبل زوال يوم عرفة، ولذلك كان ابن عمر رضي الله عنهما ينزل في نمرة، ثم يغتسل عند الزوال، ويمضي لصلاته، وقال بعض العلماء: إن الحديث (انظروا لعبادي أتوني شعثاً غبراً من كل فج) المراد به: الوصف الأعم، يعني: أنهم الغالب في حالهم أنهم يأتون شعثاً غبراً، ألا ترى أنه لو بلغ مكة، أو وصل إليها، يأتي وقد أنهكه السفر وتغيرت معالمه؟ فلا يشترط في يوم عرفة بخصوصه؛ لأن المراد به: مطلق الإتيان، وقوله: (أتوني شعثاً غبراً) لا يستلزم يوم عرفة بعينه، وإنما المراد به مطلق الإتيان، والشعث والغبرة مصاحبان للحاج حتى ولو اغتسل، ألا ترى أنه تصيبه الجنابة، وفي الحجاج من يجنب فيغتسل، فهذا كله لا ينفي وصفهم بالشعث والغبرة. وعلى هذا فإن العلماء رحمهم الله استحب بعضهم أن الإنسان إذا أصابه الشَّعَثُ ألا يزيله، وكذلك إذا أصاب الشعث إحرامه أو إزاره أو رداءه أنه لا يغسله، حتى يكون أبلغ في الذلة لله عز وجل، وأبلغ في إظهار الفاقة لله سبحانه وتعالى والتواضع، وقالوا: إنه كلما كان على هذه الحالة كلما كان أرجى للإجابة، ففي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟). يقول الإمام ابن رجب عليه رحمة الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم قصد أن يبين أبلغ حالات التضرع التي يُظن فيها الإجابة، فقال: (أشعث أغبر)، فقالوا: إن الإنسان كلما كان بعيداً عن الترفه والتكبر على الناس في ملبسه وزيه؛ كان أرجى للقبول عند الله عز وجل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره). وأما الأمر الثاني: إطالة السفر، وقد جاء أن المسافر له دعوة مستجابة كالمريض. كذلك أيضاً قوله: (يمد يديه إلى السماء)، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن الله حييٌ كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفراً)، فقالوا: إن الأفضل لموقفه في عرفة أن يكون على الشعث والغبرة، لكن ليس معناه: أن الإنسان يتكلف، ويبالغ في هذا، أو أن الإنسان يترك نعم الله عليه بلبس الثياب الطيبة، والارتفاق بنعم الله وطيباته التي أخرجها للعباد، إنما المراد أن العلماء قالوا: إن حصل هذا اتفاقاً للإنسان فإنه يترك شعثه وغبره، حتى يكون أبلغ في الذلة لله، وليس معنى ذلك -كما يفعله بعض الناس- أنك تجده على رائحة نتنة، وعلى حالة تؤذي الناس وتضر بهم، إذا صلى معهم شوش عليهم، وإذا جلس معهم آذاهم برائحته، فهذا ليس من الإسلام في شيء، إنما السنة أن يعتني الإنسان بنفسه، وللبدن على الإنسان حق، وقد كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يتطيب، وقال: (إن الله جميل يحب الجمال) وقال: (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده). فليس المراد بهذا التقصد، بأن يذهب الإنسان ويغبر نفسه ويؤذي نفسه حتى يأتي أشعث أغبر لا، إنما المراد أن الوصف الأعم للناس، أو الغالب للناس أنهم يأتون على هذه الصفة، حتى لو اغتسلت يوم عرفة، ومضيت إلى عرفة فإنك لا تأمن من الشعث بازدحام الناس، وبما يكون من خروج الإنسان للدعاء والمسألة بين يدي الله عز وجل، والله تعالى أعلم.

رفع الصوت بالدعاء في السعي والطواف

رفع الصوت بالدعاء في السعي والطواف Q هل يرفع الحاج والمعتمر الصوتَ بالدعاء في السعي والطواف أم يسر به؟ وما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك؟ A السنة في الدعاء أن يكون بين العبد وربه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أيها الناس! أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً)، والله أقرب إلى العبد من حبل الوريد، فلا حاجة إلى رفع الصوت بالدعاء، وإشغال الناس والتشويش عليهم، خاصة في الطواف، والسعي بين الصفا والمروة، والأدهى من ذلك والأمرُّ أن يكون هناك شخص يدعو جهرةً، ثم الذين من ورائه يرفعون أصواتهم، فهذا يؤذي الناس ويشوش عليهم، حتى إن الإنسان لربما لو دخل من أطراف الحرم لسمع صياح هؤلاء وهذا كله ليس من السنة، فإذا كان ولابد فيدعو الرجل أمام الناس والبقية يدعون في سرهم، ولا حاجة أن يرفعوا أصواتهم، فإذا احتيج إلى رفع صوت الداعي بقي من بعده يدعو فيما بينه وبين الله إذا احتيج إلى هذا، أما أن يصيح ووراءه الثلاثون، والأربعون يصيحون يشوشون على المصلي والراكع والساجد، فهذا كله لا شك أن فيه أذيةً للناس، وأذيةُ الناس في هذا الموضع لا شك أنها لا تخلو من إثم، وعلى هذا فإنه لا يسن، ولا يشرع أن يرفع الإنسان صوته على هذه الصفة التي تشوش على الناس وتؤذيهم، إنما يدعو الإنسان فيما بينه وبين الله تعالى، والله عز وجل سميع قريب مجيب، ولا حاجة إلى رفع الصوت بالدعاء. وقد كان عليه الصلاة والسلام يدعو ربه ويسأله، ولم يحفظ عنه أنه رفع صوته بالمسألة، وهذا -كما يقال- إلا في بعض المواضع المخصوصة، ولذلك لو جئت تتأمل هديه عليه الصلاة والسلام لوجدته على هذا. وتخصيص بعض الأطواف بأدعية مخصوصة، ويكون دعاؤها جهراً، كل ذلك مما لا أصل له، وقد كان عهده عليه الصلاة والسلام أنه دعا، وأطلق في الدعاء والمسألة، ولم يخص دعاءً معيناً لكل شوط، ولكل سعية بين الصفا والمروة، فكل ذلك مما لا أصل له، ونص الأئمة والعلماء على أنه لا يشرع تخصيص الأطواف والأشواط بأدعية مخصوصة، في الشوط الأول، والشوط الثاني، والثالث، والرابع، والخامس، والسادس، والسابع، كل ذلك مما لا أصل له، وإنما يُقْتَصَر على الدعاء فيما بين العبد وبين ربه. والسنة: أن يدعو الإنسان، ولا يحتاج إلى أحد من الناس ليدعو له، فإنه من أعظم المصائب أن لا يعرف الإنسان كيف يدعو ربه وكيف يسأله، فالإنسان يسأل الله من خيري الدنيا والآخرة، ولا حاجة أن يدعو أمامه الإنسان، أو يلقنه الدعاء إنسان، فأنت أعلم بحاجتك، وأعلم بشدة فقرك إلى ربك، فاسأله من خير دينك ودنياك وآخرتك، واسأله صلاح دينك، وصلاحاً لأهلك وذريتك، ورحمة لوالديك، ونحو ذلك من الأدعية التي هي من جوامع الدعاء، التي فيها خيري الدنيا والآخرة للعبد. وأما كونه يدعو وراء إنسان لا يفقه ما يقول، ولا يعلم ماذا يدعو به فلا ينبغي ذلك، حتى إن بعض الناس يسمع الأدعية ويرددها، وهو لا يدري ماذا يقال، والذي ينبغي: أن الإنسان يدعو فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يشرع الدعاء جهرةً، ولا يشوش على الطائفين، ولا على المصلين، خاصة في صلاتهم عند المقام بعد فراغهم من الطواف، ولو رأيت ذلك لوجدته، فإنك إذا فرغت من الطواف، ومر عليك الجمع وهم يدعون ويسألون لا تستطيع أن تخشع، ولا تستطيع أن تعرف كيف تسأل الله عز وجل، وهذا لا شك أن فيه أذيةً للطائفين، ولا ينبغي للمسلم أن يكون سبباً في أذية إخوانه، والله تعالى أعلم.

وصايا ونصائح لطلبة العلم عند الامتحانات

وصايا ونصائح لطلبة العلم عند الامتحانات Q كما تعلمون، فإن الامتحانات قد قرب موعدها، فهلا تفضلتم بوصية في ذلك؟ A نسأل الله أن يعيننا على كل حال في الدنيا والآخرة. أما الوصية الأولى: فأوصي نفسي وإخواني بتقوى الله عز وجل، ومن اتقى الله تعالى جعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، وأصلح له أمور دينه ودنياه، وانتهت أموره إلى خير، وما خرج الإنسان بشيء أحب إلى الله تعالى، ولا أكرم عليه من تقواه سبحانه؛ لأنها قائمة على أساس الدين وهو إخلاص العمل لله عز وجل، قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197]. أما الوصية الثانية: فأوصي إخواني طلاب العلم أن ينتبهوا للحقوق والواجبات، ومن أعظم هذه الحقوق أن يكون همهم إرادة وجه الله عز وجل فيما يطلبون من العلم، فإن العلم لا يراد للدنيا، وإنما يراد لوجه الله تعالى، فيخلص الإنسان لوجه الله تعالى، وما يناله من فضل الدنيا يجعله تبعاً لا أساساً. ومن الحقوق الواجبة: حقوق النفس، فبعض طلاب العلم يسهرون، ويحملون النفس ما لا تطيق، فتجده يسهر إلى ساعات متأخرة من الليل، لربما يفوِّت معها صلاة الفجر، وكذلك أيضاً ربما يصاب بالمرض، أو يضني جِسْمَه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن المْنبَتَّ لا ظهراً أبقى، ولا أرضاً قطع)، فكم من أناس حَمَّلوا أنفسهم ما لا تطيق فخرجت أجسامهم بالأسقام والآلام، ولم يظفروا بما يطلبون، فالذي ينبغي على الإنسان أن يتقي الله تعالى في نفسه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن لنفسك عليك حقاً) فطالب العلم الموفق يجعل وقتاً لنومه، ووقتاً لراحته، ووقتاً لاستجمامه، ووقتاً لمذاكرته ومراجعته، فإذا أعطى النفس حقوقها فإنها بإذن الله تستجيب له، وتعينه على الخير الذي يطلبه. الأمر الثالث الذي أوصي به: حقوق إخوانك من طلاب العلم، فينبغي ألا تجعل الاختبار وسيلة للتنافس غير المحمود، بل ينبغي عليك أن تكون سمح النفس، منشرح الصدر، تحب لإخوانك مثلما تحب لنفسك، بل تحب لهم أكثر مما تحب لنفسك، فالاختبارات هذه كما أنها امتحان للدنيا هي امتحان للآخرة، فإياك إياك أن تدخل في قلبك كراهية خير لإخوانك، فإن جاءك أخوك يحتاج إلى إعانة، أو يحتاج إلى شرح، أو يحتاج إلى مساعدة، أو سألك عن مسألة، أو تعلم أن هذا شيء مهم يحتاج إلى التنبيه نبهته عليه، كل ذلك حتى تتعود الإيثار، وتتعود مكارم الأخلاق، وتحمل نفسك على محاسنها، وتبتعد عن الأمور التي تغضب الله عز وجل والتي منها الحسد، ومنها كراهية الخير للمسلمين، وكلما كان الإنسان مستجمعاً في نفسه حب الخير للعباد، كلما كان أقرب للفضل في الدنيا والآخرة. ويدل على ذلك كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن رجلاً مر على غصن شوك بالطريق فقال: والله لأنحين هذا عن طريق المسلمين لا يؤذيهم، فزحزحه فغفر الله له ذنوبه). إن غصن الشوك إذا جئت تقارنه ببعض الحسنات، قد يكون يسيراً أمامها، لكن الرجل قال: (لأنحينه عن طريق المسلمين لا يؤذيهم)، فكانت حسنته ليست على رجل، ولا على رجلين، ولكن على أمة، فلما كان هدفه وباعثه أنه أشفق على المسلمين؛ لأنه لا يحب الأذية لهم، ولا يحب الإضرار بهم، كان هذا هو سبب المغفرة، إذ رحم المسلمين فرحمه الله، فلما كان في النفس هذا المعنى، وكان في النفس وفي القلب هذا الشعور، كان له من الله عز وجل من رحمته ما لم يخطر له على بال، في رواية: (فزحزحه عن الطريق؛ فزحزحه الله به عن نار جهنم). فالإنسان كلما كان نقي السريرة، سليم الصدر نال الخير، وأظهر الله عز وجل سلامة صدره في فلتات لسانه، وتصرفاته، وأفعاله، وكلما تعود كراهية الخير للناس، وكراهية الفضل لهم، كلما حرمه الله من الفضل، ولذلك حُرِم الناس -نسأل الله السلامة- كثيراً من الخير بسبب ما في القلوب، كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. فإذا وجدت الإنسان حريصاً على حب الخير للناس، حريصاً على نفعهم، سخي النفس، سمح النفس، يبذل ويعطي ويعين، تجده غداً أحرى بإمامة الناس، ودلالتهم على الخير، ونشر الخير بينهم؛ لأنه عود نفسه على ما فيه خير دينه ودنياه وآخرته، فيحرص طالب العلم على أنه يبذل الخير لإخوانه، وأنه يعينهم، وتكون هناك المعاني الإسلامية الكريمة من الإيثار والحب والتصافي والتواد. وكذلك أيضاً مما يوصى به طلاب العلم في أيام الاختبارات: أن يحافظوا على ذكر الله عز وجل، فإن الله عز وجل جعل تفريج الهم والغم مقروناً بذكره، فقال سبحانه وتعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] فوالله لا تزال القلوب في قلق وهم ونكد ونصب وتعب إلا إذا ذكرت ربها، والتجأت إلى الله خالقها، فأثنت عليه بما هو أهله فمجدته وعظمته وذكرته، ومن ذكر الله ذكره، ومن ذكره فلا تخشى عليه الضيعة، ولا تخشى عليه الفوات، وأمره إلى حسن العاقبة، وحسن المآل قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] * {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63]، فأولياء الله الذين هم على طاعته وعلى استقامة على دينه يذكرونه، خاصة في مواطن الشدة، فإن الله يثبت قلوبهم، ويجعل أمورهم إلى خير. فبعض من طلاب العلم إذا جاءت أيام الاختبارات يقصر في الصلاة، فيتأخر عن الصلاة مع الجماعة، ولا يأتيها إلا عن دبر، وربما إذا فرغ من الصلاة قام على عجالة، فلا يذكر الله تعالى، ولا يحافظ على السنة، وأشد ما تكون الحاجة إلى ذكر الله في مواطن الكرب، فعود نفسك كلما ضاقت عليك أمور الدنيا، وكلما عظمت عليك همومها وغمومها أن تتعود على ذكر الله تعالى، وتجعل صلاتك وذكرك وإنابتك لله عز وجل أكثر وأعظم في حال الشدة والبلاء قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43]، أي: فهلا إذا جاء البأس، وجاء الخطب كانت الضراعة، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال:45]. فالإنسان يحرص على أن يستديم ذكر الله عز وجل، وأيام الاختبارات ينبغي أن تكون أحرى بالمحافظة على الصلوات، وشهودها مع الجماعة، والمحافظة على ذكر الله عز وجل، والثناء على الله سبحانه وتعالى بما هو أهله، ولا تكون سبباً لما هو خلاف ذلك. فإذا تعود طالب العلم أنه إذا ضاق عليه الأمر حافظ على صلواته، وحافظ على ذكر ربه؛ لاستقامت له أمور دينه ودنياه وآخرته، والعكس بالعكس: فمن كان قليل الذكر لله تعالى، قليل الالتجاء إلى الله تعالى، يضيع الصلوات، ويتهاون بها في مثل هذه المواقف، فإنه -والعياذ بالله- إذا أصابته نكبات الدنيا تشتت أمره، وضاع حاله -نسأل الله تعالى السلامة والعافية-؛ لأنه حُرِم أساس فلاحه وصلاحه في الدنيا والآخرة وهو ذكر الله تعالى، فينبغي على طلاب العلم أن يحرصوا على هذا. وأذكر قصةً لأحد الفضلاء من الدعاة إلى الله تعالى، أنه دخل على رجل غني ثري في أمر ما من الأمور، وكانت عنده مصيبة في ماله، وهذا الرجل أوتي من المال شيئاً كثيراً، فقال: دخلت عليه، فلما حضرت الصلاة وهو يراجع معه القضية، وأذن المؤذن لصلاة المغرب قال: قلت له: نريد أن نصلي. قال: أي صلاة؟ نسأل الله السلامة والعافية، قال: نريد أن نصلي. وكان رجلاً موفقاً ديِّناً صالحاً -أحسبه كذلك ولا أزكيه على الله تعالى- وهو من الدعاة، فقال للرجل: لا يمكن أن أقول لك كلمة واحدة حتى نصلي، فإذا صلينا يكون خيرٌ، فقال: أي صلاة؟ نريد أولاً أن تحل لنا هذا الأمر، ثم نرجع إلى الصلاة. فقال له: أبداً، لن يكون شيءٌ حتى تصلي. قال: والله قام معي وهو لا يعرف كيف يتوضأ -نسأل الله السلامة والعافية- مشغول في دنياه، مشغول في ماله، رجل منغمس في المال من أخمص قدميه إلى شعر رأسه. قال: فنزل، فإذا به يتعلم كيف يتوضأ، وعمره فوق الخمسين سنة -نسأل الله السلامة والعافية- قال: فعلمته الوضوء، فذكر الله عز وجل، ونزل معي إلى المسجد فصلى، قال: فلما صلينا فإذا بالوجه غير الوجه، وإذا بالنفس غير النفس، قال: والله خرجت خارج المسجد أنتظره يخرج، وإذا بالرجل جالسٌ يذكر الله عز وجل، فعجبت من أمره، قال: انتظرت وانتظرت أن يخرج، حتى إنني استعجلت في أذكاري أنتظره أن يخرج فما خرج، وإذا بالرجل يجلس، حتى مللت. يقول: فدخلت عليه فقلت: يا فلان! قال: لقد وجدت راحة ما وجدتها في عمري، لا يمكن أن أخرج من المسجد حتى أصلي العشاء. قال: فيجلس وأجلس معه نذكر الله عز وجل، ونتذاكر ما فيه الخير، ومن كلمة إلى كلمة حتى أذن المؤذن لصلاة العشاء، وأقيمت صلاة العشاء فصلى معي العشاء، ورجع إلى بيته منشرحاً، وقال: غداً تأتيني إن شاء الله بعد العصر. قال: فلما اتصلت عليه من الغد إذا بزوجته تقول: ماذا فعلتم بفلان؟! قضى الليل كله وهو يصلي، ويذكر الله عز وجل، ويقول: شعرت بسعادة، ويقول: ما عدت أريد حلاً لمشكلتي، فذكر الله عز وجل هو ما كنت أبحث عنه، يقول: شعرت بسعادة ما وجدتها في مالي، ما وجدتها في ثرائي، ما وجدتها فيما أنا فيه. يقول هذا الداعية: سبحان الله العظيم، مضيت إليه بعد العصر، وإذا بفترة قليلة جلسنا فيها فحلت المشكلة، وانتهى الأمر الذي كان عائقاً له، وهو يحسب له الحسابات التي لا تنتهي، ولكن بذكر الله تعالى حلت مشكلته، ومن كان مع الله تعالى كان الله تعالى معه، ولو جلسنا نتذاكر في مثل هذا فإنه كثير من قليل مما يقع، فإن الله سبحانه وتعالى مع عبده، وإذا ذكر العبد ربه كان الله تعالى معه. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ووجهه الكريم أن يذيقنا حلاوة ذكره، ولذة مناجاته والإنابة إلى وجهه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

باب صفة الحج والعمرة [1]

شرح زاد المستقنع - باب صفة الحج والعمرة [1] ما من عبادة إلا ولها صفة وكيفية، قد تكفل الله سبحانه ببيانها، أو بينها رسوله صلى الله عليه وسلم، والركن الخامس من أركان الإسلام وهو الحج له صفتان: صفة كمال، وصفة إجزاء. ويشرع للحاج بعد وصوله إلى مكة المبيت بمنى يوم الثامن، وذلك استعداداً للوقوف بعرفة يوم التاسع، فالوقوف بعرفة هو أعظم ركن من أركان الحج، إذ تتوقف عليه صحة الحج من عدمه.

بيان أقسام صفة الحج والعمرة

بيان أقسام صفة الحج والعمرة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب صفة الحج والعمرة] صفة الشيء حليته، وما يتميز به عن غيره، وتكون الأوصاف بالشيء حسية وتكون معنوية، وقد تقدم بيان ذلك في تعريف الطهارة. قوله: (صفة الحج والعمرة) أي: بيان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجه وعمرته، ومن عادة الفقهاء والعلماء رحمهم الله أنهم يبتدئون ببيان صفة العبادة على سبيل العموم، فيذكرون ما يلزم وما لا يلزم، ثم بعد ذلك يبينون ما هو لازم وواجب على المكلف، ولذلك تنقسم الصفات في العبادة إلى قسمين: القسم الأول: يصطلح العلماء على تسميته بصفة الإجزاء. والقسم الثاني: يسمونه: صفة الكمال. فإذا بيّن العلماء صفة الحج فإنهم يذكرون صفة الكمال ثم يتبعونها بصفة الإجزاء. أما المراد بصفة الكمال فهي أن يذكر الهدي الكامل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادة، وحينئذٍ يكون في هذه الصفة ما هو ركن وما هو واجب وما هو سنة، ثم بعد ذلك يذكرون صفة الإجزاء التي يقتصر فيها على بيان الواجب واللازم. لماذا يقسمون الصفات إلى هذين القسمين؟ السبب في هذا: أنك إذا قرأت كتاباً في الفقه، أو أردت أن تتعلم الفقه؛ لكي تعمل به وتعلم غيرك، فإنك تحتاج إلى معرفة صفة العبادة من حيث هي، ثم بعد ذلك تعرف ما الذي يعد تركه إثماً وما الذي لا يعد تركه إثماً، فتعرف ما هو لازم وما هو غير لازم، فاللازم يعبرون عنه بالأركان والواجبات، وغير اللازم يعبرون عنه بالصفة العامة، فهو الآن يقول لك: باب صفة الحج، وسيأتيك بعدها: باب أركان الحج وواجباته. و Q أليس الأولى أن نبدأ بصفة الإجزاء التي فيها الأركان والواجبات، أم أن الأولى أن نبدأ بصفة الكمال؟ A أن الأفضل أن تبدأ بصفة الكمال فتذكر صفة العبادة كاملة، ثم بعد ذلك تقول: هذا يجب وهذا لا يجب، أما لو ذكرت صفة الإجزاء أولاً، ثم جئت تذكر صفة الكمال فإنك تحتاج إلى تكرار، ولذلك منهج الفقهاء والعلماء أنهم يذكرون صفة الكمال أولاً ثم صفة الإجزاء بعدها، انظر إلى كتاب الوضوء فهم ذكروا: صفة الوضوء كاملة، ثم بعد أن انتهوا قالوا: والواجب كذا وكذا وكذا. كذلك في باب الغسل ذكروا: صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم كاملة كما في حديث ميمونة وعائشة رضي الله عنهما، ثم قالوا: والواجب من ذلك النية، وتعميم بدنه بالماء، والمضمضة والاستنشاق. كذلك أيضاً هنا في الحج يذكرون الصفة الكاملة للحج، فيذكرون ما يفعله الحاج وما يفعله المعتمر، وبعد أن ينتهوا من ذلك كله يقولون: والواجب كذا وكذا وكذا، ويبينون ما هو ركن وما هو واجب ما هو ركن بحيث لو تُرك بطلت العبادة وما هو واجب بحيث لو تُرك لا تبطل العبادة، ولكنه يجبر إذا كان من جنس العبادات التي تجبر فيها الواجبات، أو يحكم ببطلان العبادة في بعض العبادات، كالصلاة إذا تعمد الترك للواجب. وعلى هذا سيذكر المصنف رحمه الله صفة الحج والعمرة الكاملة، ويبين في هذه الصفة الأفعال والأقوال التي يفعلها الحاج والمعتمر، ونحن بحاجة إلى هذه الصفة الكاملة؛ لأن من أوقع حجه وعمرته على أكمل الصفات وأتمها، مؤتسياً ومقتدياً بالنبي صلى الله عليه وسلم كان أحرى أن يتقبل الله حجه، وأن يتقبل عمرته، وأن يشكر سعيه وما كان من عمله.

صفة ومكان إحرام المتمتع وأهل مكة ووقت ابتدائه

صفة ومكان إحرام المتمتع وأهل مكة ووقت ابتدائه [يسن للمحلين بمكة الإحرام بالحج يوم التروية قبل الزوال منها ويجزئ من بقية الحرم]. أي: (يسن للمحلين الإحرام بالحج من مكة) من عادة العلماء رحمة الله عليهم أنهم إذا ابتدءوا صفة الحج أنهم يذكرون ابتداء النسك، أعني: نسك الحج بالنسبة للمتمتع؛ لأن القارن والمفرد كل منهما باق على إحرامه، ولكن الذي فصل عمرته عن حجه بالتمتع يحتاج إلى بيان ما الذي يلزمه، أما الذي هو حاج وباقٍ على إحرامه مفرداً أو قارناً فلا يزال في نسكه، ولا يزال في إحرامه، ولذلك يبتدئ صفة الحج بذكر متى ومن أين يحرم من كان متمتعاً؟ لأن الحاج على ثلاثة أنواع: إما أن يكون مفرداً، وإما أن يكون قارناً، وإما أن يكون متمتعاً، فأما المفرد والقارن فإنه إذا قدم إلى مكة وطاف وبقي بها إلى يوم عرفة فلا إشكال، أو إلى يوم التروية فلا إشكال، فإنه يمضي إلى منى مباشرة، وهكذا بالنسبة للقارن؛ لأنه لازال كل منهما متلبساً بالنسك، ولكن الإشكال في هذا المتمتع الذي أدى عمرته وبقي بمكة، فإنه محل فكيف يدخل في نسكه؟ فقال: إن السنة أن يحرم من مكة، جاء عن أصاحب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم أحرموا من مكة حينما تحللوا وأرادوا أن يدخلوا في نسك حجهم، فلما كان اليوم الثامن أحرموا بالحج، وللعلماء في هذه المسألة وجهان: قال بعض أهل العلم رحمة الله عليهم: إنه يحرم من أي مكان من مكة. وقال بعضهم: إنه يحرم من الحرم، أي: من داخل المسجد الحرام. والصحيح: مذهب جمهور العلماء: أنه يحرم من منزله، أو من أي موضع من داخل مكة قبل أن يصل إلى منى. ورخص بعض العلماء أن يؤخر إحرامه إلى منى، وفي النفس منه شيء، والذين رخصوا في تأخير الإحرام إلى منى، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أصحابه أن يحرموا قبل الخروج إلى منى. وهذا لا يخلو من نظر، فإن الأصل يقتضي أن من أراد المضي والذهاب إلى نسك حجه يقتضي أن يكون من موضعه، وبناء على ذلك فإنه إذا ذهب إلى منى فإنه ذاهب وقاصد لحجه، وبين مكة ومنى مسافة، خاصة في القديم فإنه كان هناك مسافة تفصل مكة عن منى، ولذلك أشبه بالرجل الذي يريد الإحرام من موضع من البلد، فإن الأولى والأحرى له أن يحرم من مسكنه الذي نوى منه. وقال بعض العلماء: البلد كله بمثابة الموضع الواحد. فعلى هذا القول الثاني في أن البلد كله بمثابة الموضع الواحد، فإنهم يرون أن له أن يؤخر إلى منى. ولكن الذي تطمئن إليه النفس أن يحرم من نفس مكة لإحرام الصحابة من الأبطح، وهذا هو الأولى والأحرى؛ لما فيه من زيادة العبادة، ولما فيه من الاحتياط لها، وكل منهما مندوب إليه ومطلوب شرعاً. وقوله: (المحلين) يشمل من كان متمتعاً ويشمل أهل مكة، فأهل مكة إذا أرادوا الحج فإنهم يكونون محلين في داخل مكة، ولذلك يمضون من مكة، فالأفضل لهم أن يحرموا من بيوتهم إعمالاً للأصل كما ذكرنا. قوله: (يوم التروية قبل الزوال منها) أي: أن السنة والأفضل والأكمل أن يقع إحرامهم قبل الزوال؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فرض الظهر والعصر من اليوم الثامن الذي هو يوم التروية بمنى، وصلى المغرب والعشاء والفجر وهما محسوبان من التاسع، أعني: يوم عرفة، وإن كان بعض العلماء يرى أن عشية عرفة لما بعد. على العموم فالسنة أن يصلي الخمسة الفروض بمنى، وإذا كانت السنة أن يصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر بمنى فالعبرة بوقت هذه العبادة، فلابد وأن يكون فعله للظهر بمنى. يحرم للنسك قبل الزوال، حتى إذا زالت الشمس ودخل وقت الظهر وهو بمنى، أمكنه أن يصيب السنة فيصلي مع الإمام، وهذا هو الأفضل والأكمل؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسمي يوم التروية بهذا الاسم؛ لأنهم كانوا يحملون فيه الماء إلى عرفة من أجل ريِّ الحجاج؛ لأن الناس كانوا في القديم كثيرين، وكان الماء قليلاً، فيحتاجون إلى أن يحتاطوا للحجاج بتهيئة الماء قبل يوم عرفة، فاليوم الثامن يهيئون فيه الماء، ويسمى: يوم التروية من أجل هذا، فإذا أحرم يكون إحرامه منها، والضمير في (منها) عائد إلى مكة، فدل على أن السنن منها: زمانية، ومنها: مكانية. أولاً: يكون الإحرام قبل الزوال على وجه يدرك به صلاة الظهر بمنى. ثانياً: يكون الإحرام من مكة كما ذكرنا، فيخرج إلى منى وهو حاج؛ حتى يكون أدعى لإصابة السنة، ولما فيه من الاحتياط كما ذكرنا. قوله: (ويجزئ من بقية الحرم) أي: يجزئ إحرامه من أي موضع من الحرم، وهذا فيه رد على من قال: إنه لا يحرم إلا من المسجد، أي: من مسجد مكة، والصحيح أنه يحرم من أي موضع من الحرم، ولكن يتحرى من بيته؛ لأن نيته أن لا يخرج من بيته إلا وهو محرم؛ لما فيه من الاحتياط.

مشروعية المبيت بمنى في يوم التروية

مشروعية المبيت بمنى في يوم التروية قال المصنف رحمه الله: [ويبيت بمنى] قوله: (ويبيت بمنى)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم باتوا بمنى، فصلوا الفروض الخمسة التي ذكرنا، وهذه سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها. قال بعض العلماء: صلاة الظهر يوم التروية للحاج بمنى أفضل من صلاته في المسجد الحرام. وهذا على القول بأن مضاعفة الصلاة تختص بالمسجد نفسه، فالجمهور خلافاً للشافعية يقولون: إن صلاة الظهر يوم التروية للحاج بمنى أفضل من صلاتها في المسجد الحرام، لماذا؟ قالوا: لأنه اتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا صلى الظهر بمنى تأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وفي الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم والتأسي به عليه الصلاة والسلام أعظم الأجر والثواب.

السير إلى عرفات بعد طلوع الشمس والدخول إليها بعد الزوال

السير إلى عرفات بعد طلوع الشمس والدخول إليها بعد الزوال [فإذا طلعت الشمس سار إلى عرفة] قوله: (فإذا طلعت الشمس) أي: في صبيحة يوم عرفة يذهب إلى عرفة، ولذلك قال أنس رضي الله عنه: (غدونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنا المهل ومنا المكبر ومنا الملبي، فلم يعب أحد منا على الآخر)، فالسنة: أن يغدو بعد صلاة الفجر من منى إلى عرفات، والسنة: أن يسلك طريق ضب الذي يكون من أسفل الجمرات من عند جمرة العقبة، ثم إذا مضى منه إلى عرفات يأتي طريق المأزمين الذي هو طريق الجبال عن يساره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من منى بعد أن صلى الفجر بمسجد الخيف، ثم لما صلى الفجر مضى عليه الصلاة والسلام وغدا إلى عرفات، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أن يمضي إلى عرفات راكباً، فلما سلك هذا الطريق وهو طريق ضب نزل بنمرة، ونمرة: هو الموضع الذي بين حدود الحرم وبين وادي عُرَنَةَ، فأنت إذا قدمت من جهة منى تريد دخول عرفات، فإنه تقابلك أعلام الحرم التي هي نهاية حدود الحرم، بعد أعلام الحرم يقابلك منبسط من الأرض فسيح يقرب من نصف كيلو، ويتقاصر ويضيق على حسب الوادي، ثم بعد ذلك يقابلك وادي عُرَنَةَ، ثم أرض عرفة. فكان من هديه عليه الصلاة والسلام أن جاء فضربت له قبة بنمرة، وكانوا لا يشكُّون أنه سيبقى في حدود الحرم؛ لأن قريشاً في الجاهلية كانوا يقولون: نحن أهل الحرم ولا نخرج من الحرم، فكانوا يبقون في داخل حدود مكة، ويتميزون عن الناس، وهذا هو الذي وردت فيه الآية: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199] فكانوا يقولون: إنهم الحمس وأهل الحرم، وهذا من مختلقات الجاهلية، وهي من مسائل الجاهلية التي خالفوا فيها دين الحنيفية، التي كانت عليها ملة إبراهيم عليه السلام، فنزل عليه الصلاة والسلام بنمرة، ولذلك قال العلماء: السنة أن لا يدخل إلى عرفات إلا بعد الزوال، لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمض إلى عرفات مباشرة، وإنما نزل في هذا المنبسط من الأرض وبقي فيه إلى قرب زوال الشمس، فلما زالت الشمس ركب ناقته القصواء صلوات ربي وسلامه عليه، وهذا يستفاد منه: أن الأفضل والأكمل أن ينزل الحاج قبل عرفة إن أمكنه ذلك وتيسر له، خاصة إذا كان من طلاب العلم وأهل العلم، فالأفضل له أن يتحرى هذه السنة، في أن يكون دخوله لعرفات بعد الزوال، فيبقى في هذا الموضع، ولا زال بعض طلاب العلم وبعض المشايخ يتحرون هذه السنة إلى يومنا هذا والحمد لله، فتراهم ينزلون في نمرة حتى إذا زالت الشمس مضوا إلى عرفات، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يفعله، وإذا زالت الشمس مضى إلى المسجد وصلى على الصفة التي سيذكرها المصنف رحمه الله، الشاهد: أنه يمضي بعد صلاة الفجر، ويكون نزوله دون عرفة، ويكون دخوله إلى عرفة بعد الزوال.

حكم الوقوف بعرفة وحدودها

حكم الوقوف بعرفة وحدودها [وكلها موقف إلا بطن عرنة]. قوله: (وكلها موقف) أي: كل عرفة موقف (إلا بطن عرنة) وهو الوادي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ارتفعوا عن بطن عرنة) فكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه لما زالت الشمس مضى على ناقته القصواء، وخطب الناس من بطن الوادي، فخطب الناس بشعائر الإسلام خطبته المشهورة التي أحل فيها الحلال وحرم فيها الحرام، وبيّن فيها شرائع الإسلام، وأوضح الحقوق صلوات الله وسلامه عليه، ودعا إلى أدائها، وحرم المحارم وحذر منها صلوات الله وسلامه عليه، فكان من هديه أنه وقف ببطن عرنة للخطبة، ولذلك قال بعض العلماء: إن بطن عرنة من عرفة، ولكنه ليس بموضع للموقف، ومن هنا قال بعض العلماء: إن الموقف يبتدئ من بعد الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خطب من بطن الوادي ثم نزل فصلى عليه الصلاة والسلام، ثم مضى إلى الموقف، ولذلك استفادوا من هذا أن السنة على النحو الآتي: أن ينزل دون عرفة -في نمرة- قبل الزوال، فإذا زالت الشمس مضى إلى المسجد وصلى مع الإمام، ثم بعد ذلك يبتدئ موقفه بعد انتهاء الصلاة، وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة، فمن كان في بطن الوادي أو كان بنمرة ما بين الوادي وما بين حدود الحرم، فإنه لا يصح حجه إذا لم يدخل إلى حدود عرفة.

مشروعية الجمع يوم عرفة بين الظهر والعصر وحكمته

مشروعية الجمع يوم عرفة بين الظهر والعصر وحكمته [ويسن أن يجمع بين الظهر والعصر] قوله: (ويسن أن يجمع بين الظهر والعصر)، وهذا الجمع جمع تقديم؛ والجمع ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: جمع التقديم وضابطه: أن يصلي الثانية في وقت الأولى، سواء كان الظهر مع العصر، أو المغرب مع العشاء، فيصلي العصر في وقت الظهر، فيبدأ بالظهر أولاً ثم العصر ثانياً. وكذلك المغرب والعشاء، فيصلي العشاء في وقت المغرب، فيبدأ بصلاة المغرب ثم يقيم ويصلي العشاء، فهذا يسمى: جمع تقديم. القسم الثاني: جمع التأخير وضابطه: أن يصلي الأولى في وقت الثانية، فيؤخر الظهر إلى وقت العصر، ويؤخر المغرب إلى وقت العشاء، ولا يتأتى ذلك منه إلا بالنية، فيكون في خلال وقت الأولى وهي الظهر ووقت الأولى وهي المغرب بالنسبة للعشاءين ناوياً الجمع، فلو كان على سفر ونسي وسها عن صلاة المغرب، ولم ينو الجمع حتى مضى وقت صلاة المغرب، ثم دخل وقت العشاء فتذكر، فحينئذٍ يصلي المغرب أولاً لكن بنية القضاء لا بنية الجمع؛ لأنه قد فاته وقت المغرب وهو لم ينو الجمع. ولذلك الجمع يكون جمع تقديم وجمع تأخير، وهنا الجمع في يوم عرفة جمع تقديم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم العصر إلى وقت الظهر، وهذا الجمع حكمته كما ذكر العلماء رحمة الله عليهم: التفرغ لما هو أهم وأعظم وهو ذكر الله عز وجل والثناء عليه بتوحيده ومسألته من واسع فضله؛ وذلك لأن هذا الموقف وهو موقف عرفة موقف عظيم، ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم الحج عرفة وقال: (الحج عرفة)؛ تعظيماً لهذا الموقف، فنظراً لهذا هيئت الأسباب ليفرغ وقته للذكر ويفرغه للعبادة، إلى درجة أن الصلاة التي هي من أعظم الأمور بعد الشهادتين وأجلها قدمت عن وقتها؛ حتى يتفرغ في وقت الثانية لذكر الله عز وجل وسؤاله من فضله.

سنية الوقوف عند جبل الرحمة مستقبل الصخرات راكبا

سنية الوقوف عند جبل الرحمة مستقبل الصخرات راكباً [ويقف راكباً عند الصخرات وجبل الرحمة]. الشيخ: (ويقف راكباً)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على ناقته القصواء، يقف راكباً وإن وقف بدون دابة فهذا يسمى: وقوفاً اعتبارياً: قال بعض العلماء: إن من السنة أن يكون على دابته، وفي حكم الدابة السيارة الآن، ولا يشكل على هذا أنه في السيارة كالراكب والجالس؛ لأنه على الدابة كالراكب والجالس، ولذلك السنة أن يكون على دابته إذا تيسر له ذلك، وإذا لم يتيسر وأراد أن يقف في خيمته أو في منزله أو داخل المسجد في حدود عرفة، ويحتاط أن لا يقف بمقدمة المسجد فإنه يجزيه، وهذا من باب الكمال لا من باب اللزوم والوجوب، أي: أنه ليس بلازم وليس بواجب، المهم أنه يمضي عليه الوقت ولو لحظة وهو داخل حدود عرفة في وقت الموقف. فإذا وقف قام عند جبل الرحمة مستقبل الصخرات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما مضى إلى الموقف استقبل الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، وتضرع صلوات الله وسلامه عليه من بعد صلاته إلى غروب الشمس، وهذا الموقف ليس بلازم وإنما هو من باب الكمال إن تيسر للإنسان، وأما إذا لم يتيسر ففي أي موضع من عرفة يجزيه أن يقف فيه، وأن يسأل الله عز وجل من فضله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وعرفة كلها موقف)، فأجاز للأمة الوقوف في أي موضع من عرفة، ولكن هنا أمر يفعله بعض الناس وهو صعود الجبل، وصعود الجبل ليس له دليل يدل عليه، حتى قال بعض العلماء: إن تكلف الصعود. يعتبر بدعة وحدثاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلف ذلك، ولم يتكلفه الصحابة، والغالب أن العامي يفعل ذلك لاعتقاد الفضل ومزية الأجر، ولذلك كان أشبه بالمحدث، والخير كل الخير في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والإقتداء به والتأسي به صلوات الله وسلامه عليه، فلا يشرع الصعود إلى الجبل، خاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولم يفعله أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم. ويجتهد في الدعاء وسؤال الله عز وجل من فضله، ويقول بعض العلماء: إن المسلم إذا نظر إلى حكم الشرع بتقديم العبادة عن وقتها من أجل التفرغ للدعاء والمسألة؛ دعاه ذلك إلى أن يحفظ هذا الوقت، وأن يحفظ هذه الساعات فيجتهد في سؤال الله عز وجل من فضله العظيم، ولذلك كره بعض العلماء أن ينام؛ لأن النوم يدل على الاستخفاف بعظمة هذا الموقف، خاصة إذا كانت نفسه قوية وعنده القدرة على أن يصبر إلى الغروب، ولا شك أنه قد فاته خير كثير، فالذي ينام مع قدرته على المواصلة إلى المغرب لا شك أن فيه غفلة، وهذا من ضعف الإيمان -نسأل الله السلامة والعافية- أن يأتي إلى هذا الموضع الذي تقطعت قلوب المسلمين حرقة أن يبلغوه، وهلكت الأنفس من أجل بلوغه والتمتع به، وإذا به يضع رأسه لكي يستريح وينام، ولا شك أن كل ذلك يدل على غفلته وموت قلبه نسأل الله السلامة والعافية! بل قال بعض العلماء: الأدهى من ذلك والأمر أن يضيع وقته في فضول الأحاديث، أو فيما حرم الله من الغيبة والنميمة. فينبغي على طالب العلم وعلى من كان قدوة كالعلماء ونحوهم، أنهم إذا فرغوا من الصلاة أن يروا الناس الاجتهاد في الدعاء، والإلحاح في المسألة والضراعة مع البكاء والخشوع، وسؤال الله عز وجل والثناء عليه سبحانه بما هو أهله، فهذا من شكر نعمة الله عز وجل على العبد، فالذي بلغ الإنسان لهذا المبلغ لا شك أنه يريد به الخير، ولو لم يرد الله بك خيراً لم يبلغك إلى هذا المكان، ولم يبلغك إلى هذا الموضع، فلذلك كان من الحري بالمسلم أن يشكر نعمة الله عليه؛ فيجتهد في سؤال الله والتضرع لله سبحانه وتعالى، وأفضل ما دعي به سبحانه وأثني عليه هو توحيده والإكثار من قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله). فالمقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم نبه بهذا الحديث على أن الأفضل أن يثني على الله بتوحيده، الذي من أجله شرع الله عز وجل هذا الركن العظيم، فأفضل ما يثنى به على الله أن يوحد ويهلل ويكبر سبحانه، فيشتغل المسلم بالدعاء إلى غروب الشمس، ويجتهد في المسألة وسؤال الله عز وجل من خيري الدنيا والآخرة.

استغلال يوم عرفة بكثرة الدعاء وتخير جوامع الدعاء

استغلال يوم عرفة بكثرة الدعاء وتخير جوامع الدعاء [ويكثر من الدعاء بما ورد] قوله: (ويكثر من الدعاء بما ورد) المراد هنا (بما ورد) يحتمل أمرين: إما بما ورد من دعائه يوم عرفة في حديث الطبراني وغيره، ولا تخلو هذه الأحاديث من كلام ومن ضعف. وإما أن يدعو بما ورد، يعني: يتخير في دعائه جوامع أدعية النبي صلى الله عليه وسلم، والتي منها: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمت أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر) ونحو ذلك من الأدعية، وكذلك يدعو بما ورد من توحيد الله عز وجل، أعني: التهليل كما ذكرنا، فالأفضل أن الداعي إذا دعا يدعو بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا دعا بالدعاء الوارد كان له أجر الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر بعض العلماء: أن من آداب الدعاء تخيّر جوامعه، وإذا تخيّر جوامع الدعاء متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم كان ذلك أقرب لأن تجاب دعوته، وتجاب مسألته، فهو أحرى بالقبول من الله عز وجل؛ لأن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم والاتباع لسنته فيه خير وبركة، وجعل الله اتباع رسوله صلوات الله وسلامه عليه سبيل هدى وطريق رحمة، فقال سبحانه: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، قال بعض العلماء: ما تحرى أحد سنة النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان هادياً مهدياً، أي: جعله الله مهتدياً في نفسه هادياً لغيره، ولذلك تجد طلاب العلم وأهل العلم الذين يتمسكون بالسنة ويحرصون عليها، تجدهم هداة مهتدين، وتجد ما يضع الله لهم من البركة والنفع عند المسلمين خيراً كثيراً، فلذلك يحرص الإنسان على أن يدعو بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما فيه من رجاء القبول، ولما فيه من الاهتداء والرحمة والخير الذي جعله الله عز وجل لمن تأسى واقتدى به صلوات الله وسلامه عليه.

مدة الوقوف بعرفات وابتداؤه وانتهاؤه

مدة الوقوف بعرفات وابتداؤه وانتهاؤه [ومن وقف ولو لحظة من فجر يوم عرفة إلى فجر يوم النحر]. قوله: (ومن وقف ولو لحظة من فجر يوم عرفة)، هنا مسألتان: المسألة الأولى: ما هو أقل الواجب في الوقوف؟ والمسألة الثانية: ابتداء الوقوف، متى يبتدئ الوقوف ومتى ينتهي؟ هاتان المسألتان متعلقتان بركن الوقوف بعرفة. المسألة الأولى: ذكر المصنف رحمه الله المضي من منى إلى عرفات، وبعد أن بيّن لك هدي النبي صلى الله عليه وسلم والصفة الكاملة في الوقوف، ف Q ما هو المعتبر للوقوف بعرفة؟ فقال رحمه الله: (ومن وقف ولو لحظة)، أي: فمن دخل إلى حدود عرفة ولو ماراً بها ولو مر بجزءٍ منها مروراً، وهذا هو المعبر عنه بلحظة، فإنه يعتبر واقفاً إذا كان في الوقت المعتبر والمحدد شرعاً، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (من صلى صلاتنا هذه، ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار) فقوله: (أي ساعة) أي: لحظة؛ لأن العرب تطلق الساعة على اللحظة كقوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ} [يونس:45] فالمراد به اللحظة اليسيرة، ومن هذا الحديث أخذ العلماء دليلاً على أن الوقوف بعرفة يجزئ ولو لحظة، إذا وقع في الوقت المعتبر، لكن لهذا الحكم ضوابط سيأتي إن شاء الله بيانها. المسألة الثانية: متى يبتدئ الوقوف بعرفة؟ وهذه مسألة فيها إشكال، فأنت إذا جئت تنظر إلى يوم عرفة ممكن أن تقول: من طلوع فجر يوم عرفة على أن النهار يبدأ من طلوع الفجر إلى طلوع فجر يوم النحر هذا ابتداء وانتهاء. من ناحية الانتهاء لا إشكال في أنه ينتهي بطلوع فجر يوم النحر، لكن الابتداء قال بعضهم: من طلوع الفجر، وقال بعضهم: من طلوع الشمس، وقال بعضهم: من زوال الشمس، وهذا القول الأخير من القوة بمكان، وفائدة الخلاف: أنه إذا وقف قبل الزوال ومضى إلى مزدلفة، أو وقف قبل الزوال ثم أغمي عليه، أو أصابه عذر وخرج من عرفة حتى فات زمان التدارك، فإنه على القول بأنه يبتدئ الوقوف من الزوال لم يصح حجه ويتحلل بعمرة؛ لأن الوقت المعتبر والحد المعتبر شرعاً يبتدئ من زوال الشمس، فإذا وقف قبل الزوال أشبه كما لو وقف قبل يوم عرفة، فلا يجزيه أن يقف قبل زوال الشمس، وهذا القول إذا نظرنا إلى ظاهر السنة في فعله عليه الصلاة والسلام، أنه لم يدخل عرفة إلا بعد الزوال فإنه يقوى، لكن من قال: بأنه يبتدئ من طلوع الشمس يقويه قوله عليه الصلاة والسلام من حديث عروة بن مضرس: (وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار) فإن ساعات النهار تبتدئ من طلوع الشمس، فحينئذٍ تستطيع القول: بأن السنة من الزوال، وما قبل الزوال دخل بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (من نهار) فإن نهاراً نكرة، والنهار يبتدئ من طلوع الشمس، فإن قيل: بأن النهار يبتدئ من طلوع الفجر، وهذا قول اختاره بعض العلماء. تقول: لو وقف من بعد طلوع الفجر من يوم عرفة ولو لحظة أجزأه وصح حجه. قوله: (من وقف) المراد أن يكون في الموضع المعتبر للوقوف، حتى ولو كان محمولاً، فلو حمل أو كان في سيارة فإنه يصدق عليه أنه واقف بعرفة، فليس المراد من الوقوف وقوف الصفة، يعني: أن يستتم قائماً، فإنه بالإجماع لو كان محمولاً كالمشلول ونحو ذلك فإنه يجزيه. قوله: (من فجر يوم عرفة) هذا مبني على ما قلناه: إن الليل ينتهي بطلوع الفجر، قالوا: فالنهار يبتدئ من طلوع الفجر. هناك قول ثانٍ: إنه يبتدئ من طلوع الشمس كما ذكرنا على أن النهار أصلاً تكون بدايته من طلوع الشمس، وهذا في الحقيقة أقوى. وهناك فوائد تترتب على هذا، منها: مسألة تقسيم الليل، متى تحدد نصف الليل وثلث الليل في قيام الليل، ففي قيام الليل تحسب إلى طلوع الفجر حتى تحسب الثلث الأخير، أما نصف الليل ووقت انتهاء نصف الليل يكون الحساب من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق. وهناك قول آخر: وهو أن يحسب من غروب الشمس إلى طلوع الشمس، وهذا قول مرجوح، ونبه شيخ الإسلام رحمه الله في المجموع إلى رجحان الأول. قوله: (إلى فجر يوم النحر)، أي: إذا طلع فجر يوم النحر فإنه بالإجماع لا يصح وقوفه، إذا طلع الفجر الصادق، وعرفنا الآن أنه يبتدئ الوقوف إما بطلوع الفجر الصادق، وإما بطلوع الشمس، وإما بالزوال، فمن ناحية الجواز مثل ما ذكرنا في هذه الحدود الثلاثة والأقوال الثلاثة، من حيث السنة: يبتدئ الوقوف من الزوال، أي: من بعد صلاة الظهر والعصر، وأن يحضر وينصت للخطبة فإنه يبتدئ وقوفه بعد ذلك، وهو السنة والأفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف إلى عرفات بعد صلاته وخطبته، فمن ناحية السنة الموقف يكون من بعد الزوال ومن بعد الصلاة، لكن عندما يقف بعد الزوال فمتى يدفع؟ هل يدفع بغروب الشمس، أو يدفع قبل الغروب؟ A أنه لا يدفع إلا بعد غروب الشمس، وهذا بإجماع العلماء، على أن الواجب عليه أن يبقى إلى غروب الشمس، وعليه فإن وقوف النهار يتقيد بغروب الشمس بخلاف وقوف الليل، فمن وقف نهاراً فإنه لا يستتم موقفه على الوجه المعتبر إلا إذا غربت عليه الشمس وهو بعرفة، فإذا كان الوقوف نهاراً فلابد وأن يمسك جزءاً من الليل، وسنبين السبب في ذلك ودليله من حديث جابر رضي الله عنه. أما لو وقف ليلاً فيجزيه أي لحظة، فقوله هنا: ولو لحظة ليس على إطلاقه، إنما المراد به هنا بيان الركن، فالوقوف الذي يتحقق به ركن الحج يبتدئ من هذا الزمان وينتهي بهذا الزمان، هذا قصد الركنية، أما من جهة الوقوف الواجب واللازم الذي ينبغي عليه أن يتقيد به، وإذا ضيعه لزمه الدم وجبره فسيبينه رحمه الله.

شروط أهلية صحة الوقوف بعرفات

شروط أهلية صحة الوقوف بعرفات [وهو أهل له صح حجه وإلا فلا]. قوله: (وهو أهل له) يشترط في وقوف الركن هذا أن يكون أهلاً، وللأهلية شروط: الأول: أن يكون مسلماً فلا يكون كافراً، ولو أن كافراً مثلاً كان بأرض عرفة قبل الزوال وأسلم بعد الزوال أو أسلم بعد غروب الشمس وقبل طلوع الفجر ولو بلحظة واحدة، وكان قد نوى حجاً فإنه يجزيه ويصح منه، إذاً لابد أن تكون الأهلية متوفرة وموجودة، فلو كان كافراً لم يصح وقوفه، فلو أسلم قبل طلوع الفجر كان واقفاً، كأن يكون رقيقاً يخدم سيده وهو كافر فحج مع سيده. أما لو مضى إلى عرفات -هو لا يدخل مكة على القول بأن الكافر لا يدخل مكة- مع سيده فبقي بعرفة يخدمه ويقوم على حاله، ثم طلع الفجر فأسلم، فبطلوع الفجر لا يجزيه وقوفه ولا يعتد بوقوفه؛ لأنه وقف وهو ليس بأهل. الشرط الثاني: أن يكون عاقلاً، فلو كان مجنوناً فإنه لا يصح وقوفه، أو كان سكراناً وهو خلاف شرط العقل؛ لأن العقل يزول إما بالجنون أو بالسكر أو بالإغماء؛ لأنه في حكم زائل العقل، ففي هذه الأحوال الثلاثة لو كان مجنوناً ودخل إلى حدود عرفة فإنه لا يجزيه، وهكذا لو كان مغمىً عليه فحمل إلى حدود عرفة في وقت الإجزاء ثم إنه لم يفق إلا بعد انتهاء الوقت لم يجزه ذلك الوقوف، وهكذا لو كان سكراناً -والعياذ بالله- فإنه لا يجزيه الوقوف إلا إذا كان مسلماً عاقلاً، وهو أهل للوقوف. الشرط الثالث: أن يكون داخلاً في النسك وهو الإحرام، فلو وقف وهو حلال، ثم نوى الإحرام بالحج بعد انتهاء وقت الوقوف لم يجزه، كما لو حج بعد الوقت.

حكم من وقف نهارا بعرفة ثم خرج منها قبل الغروب ولم يعد

حكم من وقف نهاراً بعرفة ثم خرج منها قبل الغروب ولم يعد [ومن وقف نهاراً ودفع قبل الغروب ولم يعد قبله فعليه دم] هذه صفة قدر الواجب، فبعد أن بيّن الصفة المعتبرة لتحقق ركن الوقوف شرع الآن فيما يجب: فقال رحمه الله: (ومن وقف نهاراً ودفع قبل الغروب). هذا شرط الوقوف النهاري الذي يجب على المكلف إذا وقف نهاراً أن يمسك جزءاً من الليل، فيقف إلى غروب الشمس، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر: (أنه عليه الصلاة والسلام اجتهد في الدعاء وسأل الله من فضله حتى غابت الشمس وذهبت الصفرة)، فهناك أمران: الأمر الأول: الغروب، والأمر الثاني: ذهاب الصفرة، وذهاب الصفرة يأخذ ما لا يقل عن ثلاث دقائق وهي صفرة الشمس بعد مغيبها، يعني: يبقى بعد الغروب بهذا القدر، حتى قال بعض العلماء: إنه يعتبر داخلاً في الحد الواجب؛ لأن جابراً رضي الله عنه قال: (وذهبت الصفرة) أي: ذهبت صفرة الشمس بعد غروبها، بل كان بعض العلماء يرى أن صلاة المغرب لا تصح إلا بعد ذهاب هذه الصفرة، وإن كان الصحيح أنه لا يشترط؛ لأن حديث جابر رضي الله عنه في الصحيحين: (والمغرب إذا وجبت) وقد بيّنا هذا في مواقيت الصلاة. فذهاب الصفرة هو السنة في الدفع من عرفات، والهدي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقف حتى غابت الشمس وذهبت الصفرة. لو سألك سائل وقال: كيف أوجبت عليَّ أن أقف إلى غروب الشمس مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار)، هذا قد وقف بعرفات ساعة من نهار وصدق عليه الحديث، تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن قوله: (أي ساعة من ليل أو نهار) بفعله حيث وقف حتى دخل عليه الليل، فصار حداً لازماً واجباً على الحاج إذا وقف بعرفة نهاراً أن يظل بعرفة حتى تغيب الشمس وتذهب الصفرة، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم)، قالوا: فدل فعله عليه الصلاة والسلام على وجوب إمساك جزء من الليل، فإذا أمسك الجزء من الليل حينئذٍ صح وقوف النهار، فلو وقف بعرفات نهاراً ثم دفع قبل غروب الشمس فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يمضي ولا يعود فعليه دم؛ لفوات الواجب عليه من إمساك جزء من الليل، وظاهر حديث جابر رضي الله عنه ووقوفه عليه الصلاة والسلام يدل على وجوب الدم عليه؛ لأن هذا الموقف كما ذكرنا على هذه الصفة وقع بياناً لواجب، وبيان الواجب واجب. الحالة الثانية: أن يرجع قبل الفجر ولو بلحظة، مثلاً: ثم أتى عرفات الساعة الثانية ظهراً ووقف ثم دفع قبل أن تغرب الشمس فَنُبِّهَ فرجع، فإن كان قد رجع فلا يخلو رجوعه من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يرجع قبل أن تغرب الشمس، فإن رجع قبل غروب الشمس وبقي إلى أن غابت الشمس فلا إشكال، وسقط عنه الدم وهو قول جماهير العلماء. الحالة الثانية: أن يرجع بعد غروب الشمس، فإذا رجع بعد غروب الشمس فبعض العلماء يقول: يسقط عنه الدم الواجب؛ لأن رجوعه إلغاء للموقف الأول في النهار، وقال بعض العلماء: قد وقع إخلاله ولم يمكنه التدارك بمغيب الشمس. وهذا القول من جهة الأصول توضيحه: أنه لما وقف نهاراً تعيّن عليه إمساك جزءٍ من الليل، فإن رجع في النهار فقد ألغى موقفه الأول بالرجوع قبل غروب الشمس، وصارت العبرة بالموقف الثاني لا بالأول، فصح وأجزأه أن يقف إلى غروب الشمس، أما لو رجع بعد غروب الشمس، فإنه لم يتدارك ما يجب عليه في الأول، وإنما تدارك الوقوف؛ لأن الوقوف يقع في الليل ويقع في النهار فقالوا: حينئذٍ يلزمه دم، فهذه الحالة الثانية أشبه بالصحة وأقوى؛ وذلك لأن الإخلال قد وقع بمجرد المغيب، أما لو رجع قبل غروب الشمس فقد صار رجوعه ملغياً للموقف الأول واعتد بالموقف الثاني لا بالأول؛ لأن الزمان الذي فيه الوجوب قد وقع على الصفة المعتبرة.

عدم لزوم الدم لمن وقف ليلا بعرفة ولو للحظة

عدم لزوم الدم لمن وقف ليلاً بعرفة ولو للحظة [ومن وقف ليلاً فقط فلا] قوله: (ومن وقف ليلاً فلا) أي: لا يلزمه دم؛ لأنه يجزيه حتى ولو وقف لحظة؛ لأن وقوف الليل لا يتقيد.

ما يفعله الحاج بعد غروب شمس يوم عرفة

ما يفعله الحاج بعد غروب شمس يوم عرفة [ثم يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة بسكينة ويسرع في الفجوة ويجمع بها بين العشاءين] قوله: (ثم يدفع بعد غروب الشمس إلى مزدلفة)، قيل: سميت مزدلفة: من الازدلاف وهو التقرب، ومنه قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء:90]، وقيل: سميت بذلك؛ لأنها موضع قربة وطاعة لله سبحانه وتعالى، وقيل: سميت بذلك؛ لأن الناس يأتونها زلفاً من الليل، وتسمى: المشعر الحرام، فبعد انتهاء موقفه بعرفة السنة أن يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة بسكينة ووقار.

العمل الأول: الدفع من عرفة إلى مزدلفة

العمل الأول: الدفع من عرفة إلى مزدلفة وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه إذا غابت عليه الشمس يوم عرفة دفع إلى مزدلفة وأخر صلاة المغرب إلى مزدلفة، وكان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص، أي: كان يسير سيراً خفيفاً فإذا وجد فرجة أرسل لناقته وأسرعت على قدر ما يجد من سعة، وكان يقول: (أيها الناس! السكينة السكينة) دفع صلوات الله وسلامه عليه حتى بلغ الشعب -وهو الشعب الذي دون المشعر- فدخل فيه وبال عليه الصلاة والسلام، ثم توضأ وضوءاً خفيفاً، والسنة: أن يكون مسيره من طريق المأزمين، وطريق المأزمين: هو الطريق الذي بين الجبلين حينما تخرج من عرفات، ويكون المسجد وراء ظهرك وتذهب إلى جهة مزدلفة. وهناك طريقان: الطريق الذي ينصب من بين الجبال، والطريق الآخر -الأيسر- هو طريق ضب الذي يقبل به من منى، وهو مقدمه عليه الصلاة والسلام. فطريق المأزمين هو الذي بين الجبلين، وهو مشهور وباقٍ إلى الآن، وهو طريق المشاة الآن، وفيه طريق للسيارات، لكن السيارات تتيامن فيه، وطريق المشاة الذي ينصب إلى داخل مزدلفة يسمى طريق المأزمين، وكلها من السنة، فحتى لو مضى من طريق السيارات الأيمن فإنه يصيب السنة؛ لأنه جزء من طريق المأزمين.

العمل الثاني: الجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة

العمل الثاني: الجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة فلما دفع عليه الصلاة والسلام إلى مزدلفة ولما قال له أسامة: (الصلاة يا رسول الله! قال: الصلاة أمامك) أخذ بعض العلماء من هذا دليلاً: أن السنة أن يؤخر صلاة المغرب ولا يصليها إلا بمزدلفة، حتى قال بعض العلماء: حتى ولو وصل إلى مزدلفة قرب الفجر، يعني: في أوقات الضرورة فإنه يؤخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة أمامك)، وهذا مذهب الحنفية، وكان بعض العلماء يشير به إلى تمسك الإمام أبي حنيفة بالسنة، ولذلك قالوا: إن الإمام أبا حنيفة رحمة الله عليه كان يجتهد كثيراً لقلة الأحاديث عنده، وكان يخاف الوضع على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان في المشرق، والأحاديث هناك قليلة، ولذلك قال الإمام الشافعي لصاحب أبي حنيفة محمد بن الحسن: أناشدك الله أصاحبنا أعلم بالسنة، أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم. فكانت السنة قليلة عنده رحمة الله عليه فكان يجتهد كثيراً. ولذلك لما جاء هذا الحديث وقال فيه أسامة: (الصلاة يا رسول الله! قال النبي صلى الله عليه وسلم: الصلاة أمامك) قال الإمام أبو حنيفة: لا تصلى إلا بالمزدلفة، وهذا يدل على أن الأئمة رحمة الله عليهم الظن بهم أنهم لا يتركون سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه تزكية لهذا الإمام الجليل رحمة الله عليه، وأن ما كان منه من اجتهادات إنما كان سببها عدم بلوغه النص، فالواجب على من تبعه ورأى اجتهاده يعارض النص أن يعدل إلى النص؛ لأن هذا من متابعته رحمة الله عليه. فقوله عليه الصلاة والسلام: (الصلاة أمامك) قال العلماء: إنه يؤخر المغرب حتى ولو وصل في وقت العشاء، ولكن لو وصل إليها مبكراً -كما هو الحال الآن- في وقت المغرب، فإنه يجمع جمع تقديم، والمسافة بين المزدلفة وبين عرفات طويلة وتأخذ وقتاً، والغالب أنه لا يصل إلى بعد دخول وقت العشاء، ولذلك قالوا: إن السنة أن يجمع سواء كان جمعه جمع تقديم أو جمع تأخير. قوله: (بسكينة) أي: بهدوء، وهي مأخوذة من سكن الشيء إذا استقر. قوله: (ويجمع بها بين العشاءين) هذا من باب التغليب كالقمرين والعمرين من باب التغليب، وكما ذكرنا إما أن يجمع جمع تقديم أو جمع تأخير.

العمل الثالث: المبيت بمزدلفة

العمل الثالث: المبيت بمزدلفة [ويبيت بها]. قوله: (ويبيت بها) أي: فيها، فالباء للظرفية؛ لأن الباء لها أكثر من عشرة معان، منها: الظرفية. تعدّ لصوقاً واستعن بتسببٍ وبدل صحاباً قابلوك بالاستعلا وزد بعضهم يميناً تحز معانيها كلها فمن معانيها الظرفية: (يبيت بها) أي: داخل حدود مزدلفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها، والسنة أنه يبادر بالمبيت ولا يشتغل بشيء آخر؛ حتى يستطيع الاستيقاظ للفجر في أول وقته، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها، ووقع فعله بياناً للمجمل، ولذلك فإن مذهب جماهير العلماء أن المبيت بمزدلفة يعتبر من واجبات الحج، حتى قال بعض العلماء: إنه ركن من أركان الحج، وإن كان الصحيح أنه واجب من الواجبات. وقوله: (ويبيت بها) كما قلنا، أي: في حدود مزدلفة؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات فيها، سواء كان بجوار المشعر أو بعيداً عن المشعر، ما دام أنه داخل حدود مزدلفة. والبيتوتة هنا مطلقة، يعني: لو أن إنساناً بقي بمزدلفة ولم ينم فإنه يعتبر قد بات بمزدلفة؛ لأن البيتوتة تتحقق حتى ولو لم ينم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64] فأخبر سبحانه وتعالى أنهم يبيتون مع أنهم قائمون الليل، فالمقصود: أن البيتوتة تتحقق حتى لو جلس في مزدلفة ولم ينم، ولكن السنة والأفضل أن ينام، قال العلماء: إنه إذا نام استيقظ مبكراً وهو قوي النفس مستجم الروح، فيكون أحضر لقلبه إذا دعا بالمشعر الحرام، وأخشع عند سؤاله لله عز وجل، وذلك من أسباب الإجابة.

الأسئلة

الأسئلة

حكم التلبية يوم عرفة

حكم التلبية يوم عرفة Q إذا تفرغ وانشغل يوم عرفة بما ورد من الدعاء، هل معنى ذلك أن يكف عن التلبية أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالسنة المحفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء، فيدعو الله عز وجل ويسأله من فضله، وليس هناك ما يدل على ذكر التلبية أو نفيها، إن قيل: يلبي أثناء دعائه فله وجه من جهة الاستصحاب، هذا يسمى: استصحاب الأصل. وقول جماهير العلماء: على أن عرفة موضع للتلبية، خلافاً للمالكية وطائفة من فقهاء المدينة، حيث قالوا: إن التلبية تنقطع بالمضي إلى الصلاة في يوم عرفة؛ لأن الحج عرفة، فإذا كان يلبي من أجل الحج فإنه ينتهي بمضيه إلى عرفة، وهذا قول مرجوح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه لبى بعد عرفة، وعلى هذا فلو قال قائل: بأنه يلبي أثناء دعائه، فهذا من باب استصحاب الأصل، ولو قال قائل: يشتغل بالدعاء، فهذا هو الأصل في الأدعية أنه يشتغل فيها بدعاء الله عز وجل وسؤاله من فضله. والله تعالى أعلم.

معنى قوله عليه الصلاة والسلام (خذوا عني مناسككم)

معنى قوله عليه الصلاة والسلام (خذوا عني مناسككم) Q كيف نفرق بين المسنونات والواجبات في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، علماً بأن الكل مندرج تحت قوله عليه السلام: (خذوا عني مناسككم)، وضحوا ذلك أثابكم الله؟ A المنسك يكون بالأفعال التي فعلها عليه الصلاة والسلام، هذا في الأصل، ولذلك سميت: المناسك يقال: عرفة ومنى والصفا والمروة، هذه من مناسك الحج، تطلق المناسك على الأماكن، قال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج:67]، وتطلق على الأفعال ومنها: الذبح، كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162]. وقوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم) وقع هذا على سبيل العموم، فهو يشمل الأقوال والأفعال من حيث الأصل، لكن المعتبر عند الجمهور رحمة الله عليهم، فيما ذكروه من الأركان والواجبات، إنما هو في الأفعال وهي الغالبة، فقد وقع منه عليه الصلاة والسلام بيان لما أجمل القرآن في قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] من جهة الأفعال، وأما بالنسبة للأقوال: فتأتي أدلة تخصص أو تدل على أن هذا القول سنة وليس بواجب ولا لازم، أما كيفية التفريق فهذا يرجع إلى ضوابط قررها العلماء في علم الأصول، سنذكرها إن شاء الله في باب أركان الحج وواجباته، ما هو الركن؟ وما هو الواجب؟ وما هو السنة؟ ونبين لماذا صرفنا هذا الفعل من كونه لازماً إلى كونه مسنوناً، ودليل الصرف؟ وهذا إن شاء الله سيأتي بيانه في موضعه. والله تعالى أعلم. وأظن السائل فيما يظهر لي والله أعلم أن مراده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عني مناسككم)، هذا أمر يدل على أن جميع ما فعله في الأصل واجب ولازم، فلماذا نقول: إن فِعْلُه هذا في الحج سنة، مع أنه عليه الصلاة والسلام قال: (خذوا عني مناسككم)؟! والواقع أن العلماء رحمة الله عليهم بينوا هذا، وأظن أن هذا هو الإشكال عنده فيما يظهر، وهو إشكال وارد من هذا الوجه، يعني: حينما تنظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم) هذا أمر يدل على أن جميع ما فعله وما وقع منه عليه الصلاة والسلام يعتبر واجباً، لكن العلماء رحمة الله عليهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قصد بالمنسك: أداء الشعيرة؛ والسبب في ذلك: أن الحنيفية بدلها المشركون من أهل مكة وغيرهم في الجاهلية، فزادوا ونقصوا وحرفوا وأحدثوا وابتدعوا، فجاء فعله عليه الصلاة والسلام لبيان أصول الدين في العبادة ذاتها، وبيان ما أمر الله عز وجل ببيانه من توحيده سبحانه، وحدود وضوابط العبادة التي هي الحج، فقوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم) المراد به بيان الهدي، بغضِّ النظر عن كونه في الأصل واجباً أو غير واجب، لكن العلماء يستأنسون بقوله: (خذوا عني مناسككم) على الوجوب؛ لأن الحديث يقول: (خذوا عني) ولم يقل: افعلوا فعلي، وفرق بين: (خذوا عني)، وبين قوله: افعلوا ما فعلت؛ لأن خذوا عني المراد به التعلم، والتعلم يشمل ما هو واجب وما ليس بواجب، فوقع بياناً للحنيفية وليس المراد به تعين الفعل منه عليه الصلاة والسلام، وأظن الأمر واضحاً؛ لأن اللفظ: (خذوا عني مناسككم) يدل على التعلم والتلقي، ولذلك قال: (فإني لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا)، فكأن المراد به جهة التعلم للشعائر، وهذا أعم من أن يكون دليلاً على الأركان، أو دليلاً على الواجب، أو دليلاً على اللزوم، يشكل على هذا لو قلنا: إن المراد به التعليم، كيف يحتج العلماء به على سنته وهديه في الحج؟ نقول: نعم؛ لأنه لما ذكر هذا الشيء بقوله: (خذوا عني مناسككم) تنبيهاً على مشروعية هذا الفعل وإقراره للحنيفية وما فيه من الهدي، وليس المراد به مسألة الإلزام وكونه ركناً أو كونه واجباً، بل هو أعم من ذلك، وعلى هذا الذي يظهر أنه لا إشكال في الحديث. وخلاصة الجواب أن يقال: إن لفظ الحديث في قوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم) لا يساعد على تعيّن أو وجوب أو لزوم كل ما كان في حجة الوداع، بل إن الإجماع منعقد على أنه ليس كل ما وقع في حجة الوادع واجباً، إذاً لو قلت بذلك للزم كل من حج أن تكون أفعاله وأقواله كاملة مثلما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، بحيث لو وقف على الصفا ولم يدع بطل وقوفه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على الصفا، وحتى لو وقف ودعا ولم يدع مثل دعائه الوارد المتقيد لم يصح أيضاً؛ لأنك ترى أنه لازم كالركن وكالواجب، ولا يقول أحد بهذا، وحينئذٍ يكون قد حمل الحديث في المعنى ما لا يحتمل وفوق ما يدل عليه، ولا شك أن المراد به الأخذ بمعنى التلقي عنه عليه الصلاة والسلام، وقد علل هذا بقوله: (فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) أي: تعلموا هديي وسنتي، التي هي أعم من كون هذا الشي واجباً أو ليس بواجب، وليس المراد به الإلزام والدلالة على الركنية والوجوب كما لا يخفى.

جواز الإحرام بالحج قبل يوم التروية

جواز الإحرام بالحج قبل يوم التروية Q هل يجوز الإحرام بالحج قبل يوم التروية مثل اليوم السادس أو السابع، أثابكم الله؟ A لا بأس ولا حرج في ذلك، ولكن السنة والأكمل أن يحرم يوم التروية إذا كان متمتعاً. أما بالنسبة لأهل مكة فالجمهور: على أنه يجوز لهم أن يؤخروا الإحرام إلى يوم التروية، ويجوز لهم إلى يوم عرفة، قال عمر رضي الله عنه بإلزام أهل مكة بأن يحرموا لهلال عشر من ذي الحجة، وهذا من فقه الفاروق رضي الله عنه وأرضاه؛ والسبب في هذا: أنه قال -كما روى مالك في الموطأ-: مالي أرى الناس يأتون شعثاً غبراً وتأتون مدهنين. يعني: أن الناس الآفاقيين يأتون إلى عرفة وهم متغيّرة ألوانهم ومصفرة، وهم في شعث وغبرة؛ بسبب طول العهد بالإحرام، وأهل مكة يكون إحرامهم يوم التروية، فيأتون مدهنين ومختلفين عن الناس، فيقول: مالي أرى الناس يأتون شعثاً غبراً وتأتون مدهنين، أهلوا لهلال عشر من ذي الحجة. فأمرهم بإهلال عشر من ذي الحجة، لكن هذا عند جماهير العلماء ليس بلازم، وإنما قصد به رضي الله عنه وأرضاه الكمال؛ لما لهم فيه من زيادة الأجر والمثوبة، قالوا: في هذا دليل على أنه يجوز أن يحرم قبل يوم التروية ولا بأس، كما لو وجب عليه دم التمتع فأحرم لليوم الثالث؛ حتى يصوم الرابع والخامس والسادس، أو أحرم في اليوم الرابع؛ ليصوم الخامس والسادس والسابع، أو أحرم لليوم الخامس؛ ليصوم السادس والسابع والثامن في حجه، وهذا لا بأس به، وظاهر القرآن يدل عليه في هدي التمتع كما لا يخفى. والله تعالى أعلم.

الفرق بين النائم والمغمى عليه من حيث فقدان الوعي

الفرق بين النائم والمغمى عليه من حيث فقدان الوعي Q هل يقاس النائم على المغمى عليه، وذلك بجامع كون كلٍ منهما فاقداً للوعي، وذلك في الوقوف بعرفة، أثابكم الله؟ A هناك فرق بين النائم وبين المغمى عليه والمجنون، ولذلك النائم من حيث الأصل إذا نبهته ينتبه وإذا أيقظته يستيقظ، ولكن المغمى عليه لو نبهته لا ينتبه ولو أيقظته لا يستيقظ، فالإغماء خارج عن الإرادة، والنوم يمكن أن يرجع الإنسان فيه إلى حالته، أما الإغماء فلا يمكن أن يرجع الإنسان إلى حالته، ولذلك فُرِّقَ بين النائم والمغمى عليه من هذا الوجه، ولا يأخذ النائم حكم المغمى عليه. والله تعالى أعلم.

وصايا عامة لمن أدرك رمضان

وصايا عامة لمن أدرك رمضان Q هلاَّ تفضلتم بكلمة عن قدوم شهر رمضان، وما ينبغي على المسلم في هذا الشهر المبارك، أثابكم الله؟ A نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا في شعبان وأن يبلغنا رمضان، وأن يكتب لنا فيه الرحمة والعفو والصفح والغفران، وأن يوفقنا فيه للهدى والبر والإحسان. الوصية الأولى: لا شك أن من نعم الله عز وجل على العبد أن يطول عمره ويحسن عمله، قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من طال عمره وحسن عمله)، فالمؤمن لا يرجو من بقائه في الحياة إلا زيادة الخير، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث: (واجعل الحياة زيادة لي في كل خير)، وندب أمته في كل صلاة أن يستعيذوا بالله من فتنة المحيا والممات، فإذا وفق الله العبد ويسر له بلوغ رمضان، فليكن أول ما يكون منه أن يحمد الله عز وجل على نعمته وجميل فضله وجليل منته، ويسأله سبحانه أن يبارك له في هذه النعمة؛ لأنك إذا شكرت نعمة الله بارك الله لك فيها، ولما غفل الناس عن شكر الله سلب الله بركة النعم، فاحمد الله، إذا بلغت رمضان وانظر إلى مقدار نعمة الله عليك؛ حتى تحس بفضل هذا الشهر، ويمكنك بعد ذلك أن تقوم بحقه. تذكر الشخص الذي كان يتمنى بلوغ رمضان فمات قبل بلوغه والله أعطاك الحياة وأمد لك في العمر، وتذكر المريض الذي يتأوه من الأسقام والآلام، والله أمدك بالصحة والعافية، فتحمد الله من كل قلبك وبملء لسانك، وتقول: الحمد لله الذي يسر لي وسهل لي، اللهم بارك لي في هذا الشهر، وأعني فيه على طاعتك، ونحو ذلك من سؤال الله الخير. الوصية الثانية: أن تبدأ هذا الشهر بنية صادقة خالصة، وعزيمة قوية على الخير، فكم من عبد نوى الخير فبلغه الله أجره ولم يعمل به، وحيل بينه وبين العمل بالعذر، فقد يكون الإنسان في نيته أن يصوم ويقوم، فتأتي الحوائل أو تأتي آجال أو تأتي أقدار تحول بينه وبين ما يشتهي، فيكون في قلبه وقرارته فعل الخير، وأن يكون رمضان هذا صفحات بر وإقبال على الله وإنابة إليه، فإذا نويت ذلك وحال بينك وبين ذلك شيء من الأقدار أو الآجال، كتب الله لك الأجر والثواب، كما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قالك (حبسهم العذر). الوصية الثالثة: فيا حبذا ويا طوبى لمن استقبل هذا الشهر بالتوبة إلى الله والإنابة إلى الله، فإن الله يحب التوابين، والله يفرح بتوبة عبده، فيبدأ شهر رمضان منكسر القلب منيباً إلى الله جل وعلا، يحس بعظيم الإساءة وعظيم التقصير والتفريط في جنب الله، ويقول بلسان حاله ومقاله: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56]، فإذا استقبلت رمضان وأنت منكسر القلب غيّرت ما بك فغيّر الله حالك: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. وعلى المسلم أن يستقبل رمضان بالتوبة والإنابة إلى الله؛ حتى ينال الرحمة من الله سبحانه؛ لأنه قد يحال بين العبد وبينها بسبب ذنب، فمن شؤم الذنوب والمعاصي أنها تحول بين العبد وبين رحمة الله، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة) أي: أن الله يفتح أبواب رحمته، فيرحم من يشاء بفضله ومنّه وكرمه، فإذا أريت الله من نفسك التوبة والإقلاع، وأنبت إلى الله سبحانه، فأنت أحرى برحمة الله، وأحرى بأن يلطف الله عز وجل بك، وأن يبلغك فوق ما ترجو وتأمل من إحسانه وبره. الوصية الرابعة: حتى تكون محققاً لهذه التوبة لابد وأن تتحلل من المظالم فيما بينك وبين الله، وفيما بينك وبين عباد الله، ويا طوبى لمن دخل عليه هذا الشهر وليست بينه وبين الناس مظلمة، وليس على ظهره حقوق ولا آثام لإخوانه المسلمين، فنستهل شهر رمضان بالمحبة والإخاء والمودة والصفاء، والنفوس منشرحة والقلوب مطمئنة، ونستهله كما أمر الله إخوة في الإيمان أحبة في الطاعة والإسلام، فإنه إذا وقعت الشحناء حجبت العبد من المغفرة، قال صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: (أنظرا هذين حتى يصطلحا) أي: لا تغفرا لهما حتى يصطلحا، فتذكر ما بينك وبين أقاربك، خاصة إخوانك وقرابتك: الإخوان والأخوات والأعمام والعمات وكل الآل والقرابات، تتذكر ما لهم من حقوق وما لهم عندك من مظلمة، فتتحلل منها، وتسألهم الصفح والعفو، وتستقبل شهرك وأنت منيب إلى الله سبحانه وتعالى، ليس بينك وبين الناس مظالم تحول بينك وبين الخير، ومن أعظم ذلك كما ذكرنا القطيعة، والمحروم من حرم، فإن خير الناس من ابتدأ بالسلام بعد وجود القطيعة والخصام، قال صلى الله عليه وسلم: (وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)، فيفكر الإنسان حينما يقدم على رمضان كيف يصلح ما بينه وبين الله، وما بينه وبين الناس، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]. كذلك أيضاً: يستقبل الإنسان رمضان ويهيئ من نفسه بواعث الخير، والدوافع التي تحمله على الطاعة والبر، ومن أعظم ذلك أن يحس من قلبه كأن هذا الرمضان هو آخر رمضان يعيش فيه، وما يدريه فلعل مرضاً يحول بينه وبين الصيام، فيكون ذلك اليوم أو ذلك الشهر هو آخر ما يصوم، أو لعل المنية تخترمه، فكم من إخوان وأحباب وخلان وأصحاب وجيران كانوا معنا في العام الماضي؟! وقد مضوا إلى الله فأصبحوا رهناء الأجداث والبلى، غرباء مسافرين لا ينتظرون، فالسعيد من وعظ بغيره، فإذا استقبلت رمضان وأنت تستشعر كأن هذا الشهر هو آخر شهر تصومه، أو آخر شهر تقومه؛ قويت نفسك على الخير وهانت عليك الدنيا وزهدت فيها، وأقبلت على الآخرة وعظمتها. ومن أعظم الأسباب التي تنكسر بها قسوة القلوب: الزهد في الدنيا والإعظام للآخرة، ولا زهد في الدنيا إلا بقصر الأمل، فحينما تحس أن رمضان هذا قد يكون آخر رمضان لك وآخر شهر تعيشه؛ دعاك ذلك إلى إحسان العمل وإتقانه. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأن يصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأن يصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، وأن يبلغنا رمضان مع صفح وعفو وبر وغفران. ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى! أن يجعلنا أوفر عباده نصيباً في كل رحمة ينشرها وكل نعمة ينزلها، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

باب صفة الحج والعمرة [2]

شرح زاد المستقنع - باب صفة الحج والعمرة [2] من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الحج المبيت بمزدلفة، وعدم الدفع منها إلا بعد الفجر، ويجوز للضعفة والعجزة الدفع من مزدلفة بعد مغيب القمر ليلة العيد، ويكون الدفع لغير المعذورين بعد الإسفار وقبل طلوع الشمس، وفي ذلك مخالفة لأهل الجاهلية حيث كانوا لا يدفعون إلا بعد طلوع الشمس. وبعد الدفع من مزدلفة إلى منى أول عمل يقوم به الحاج هو رمي جمرة العقبة، فرميها بمثابة التحية لمنى. وهناك أعمال يقوم بها الحاج عند وصوله إلى منى، فعليه أن يتحرى عند قيامه بها هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك أرجى لقبول الله عز وجل لحجه ونسكه.

حكم الدفع من مزدلفة بعد نصف الليل

حكم الدفع من مزدلفة بعد نصف الليل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وله الدفع بعد نصف الليل]. قوله: (وله) أي: يجوز أن يدفع بعد نصف الليل، وهذه مسألة خلافية: فبعض العلماء يرى أنه يجب عليه المبيت إلى الفجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات إلى الفجر ولم يأذن إلا للضعفة، وأصحاب الأعذار، وقالوا أيضاً: إن المقصود من مزدلفة الوقوف بالمشعر الحرام، فإذا كان يريد أن يمضي قبل ذلك فلم يتحقق المقصود، وفي الحقيقة هذا القول هو أقوى الأقوال، وهو أن يبقى بمزدلفة إلى الفجر ويصلي الفجر ثم يدعو بالمشعر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رخص للضعفة. والقاعدة في الأصول: أن الرخص لا يقاس عليها. فلا يعتبر ترخيصه للضعفة موجباً للإذن لكل الناس أن يمضوا من مزدلفة، لكن العلماء الذين أجازوا المضي بعد نصف الليل اجتهدوا وقالوا: إنه إذا بات بعد نصف الليل أو أكثر الليل فقد تحقق المبيت، ولكن من نظر إلى مقصود الشرع، وإلى العلة التي من أجلها شرع المبيت بمزدلفة وهو الوقوف بالمشعر والدعاء وسؤال الله من فضله، تبيّن له بجلاء أنه لا يرخص إلا لمن كان معذوراً، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد وقف عليه الصلاة والسلام وجاءه عروة بن مضرس وذكر له أنه وقف بعرفات، فقال رضي الله عنه: (أقبلت من جبل طي أكللت راحلتي وأتعبت نفسي، وما تركت جبلاً إلا وقفت عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: من صلى صلاتنا هذه، ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه) فانظر إلى قوله: (صلى صلاتنا ووقف موقفنا) فكأن المقصود من المبيت بمزدلفة أن يصلي الفجر وأن يدعو، ولذلك أمر الله عز وجل بذكره عند المشعر الحرام. وفي الحقيقة القول بالبقاء وعدم الإذن إلا للضعفة ومن يرخص لهم من القوة بمكان.

حكم الدفع من مزدلفة قبل نصف الليل

حكم الدفع من مزدلفة قبل نصف الليل [وقبله فيه دم كوصوله إليها بعد الفجر لا قبله]. قوله: (وقبله) أي: قبل نصف الليل، (فيه دم) يعني: أن الحاج لو جاء إلى مزدلفة ودفع منها قبل نصف الليل لزمه دم، وهذا بناء على أن العبرة عندهم بأكثر الليل، ولم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم للضعفة إلا بعد نصف الليل، ففي الصحيحين من حديث أسماء رضي الله عنها أنها دفعت بعد مغيب القمر، وقالت لابنها عبد الله رضي الله عنه وأرضاه: (هل غاب القمر؟ فقال: لا بعد، ثم قامت تصلي، ثم قالت: أي بنيّ أغاب القمر؟ قال: لا بعد، ثم قال لها في المرة الثالثة أو الرابعة: غاب القمر، فدفعت رضي الله عنها، ثم وصلت إلى مكانها بمنى بغلس، فقال لها رضي الله عنه: أي هنتاه ما أرانا إلا غلسنا، فقالت رضي الله عنها: يا بني! إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للظعن) أي: أذن للضعفة وأهل الأعذار، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كنت فيمن قدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله) فدل هذا على أنه إذا وجد العذر شرع التخفيف وأذن بالرخصة، وأن من عداهم من القادرين المستطيعين يلزمهم البقاء بمزدلفة.

أحكام الدفع من مزدلفة

أحكام الدفع من مزدلفة قوله: (كوصوله إليها بعد الفجر لا قبله). أي: من دفع من مزدلفة قبل نصف الليل فعليه دم؛ كوصوله إلى مزدلفة بعد الفجر لا قبله، هذه المسألة فيها ثلاثة أحكام: أن من تعجل ودفع من مزدلفة قبل نصف الليل عليه دم؛ لأنه لم يبت، وأن من وصل إليها بعد الفجر عليه دم؛ لأنه لم يبت، وأنه من وصل إليها بعد نصف الليل وقبل الفجر لا شيء عليه.

ما يفعله الحاج بعد صلاة الصبح بمزدلفة

ما يفعله الحاج بعد صلاة الصبح بمزدلفة [فإذا صلى الصبح أتى المشعر الحرام فيرقاه أو يقف عنده ويحمد الله ويكبره ويقرأ: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ) ويدعو حتى يسفر]. قوله: (فإذا صلى الصبح برغيبته أتى المشعر الحرام)، كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه لما كانت صبيحة يوم النحر أُذّنَ للصلاة بغلس، ثم أقيم لها وصلى عليه الصلاة والسلام بالناس، ثم وقف بالمشعر ودعا الله عز وجل وسأله من فضله حتى أسفر، وقبل أن تطلع الشمس دفع عليه الصلاة والسلام من المزدلفة، وكانت قريش في الجاهلية ومن معها من المشركين يقفون بالمزدلفة، ولا يمكن أن ينصرفوا منها حتى تطلع الشمس، ولذلك كان يقول قائلهم: (أشرق ثبير كيما نغير) وثبير: هو الجبل الذي بحذاء منى؛ لأن منى بين ثبير والصانع يكتنفانها، وهما جبلان: أحدهما يسمى: ثبيراً، والثاني يسمى: الصانع. فقولهم: (أشرق ثبير كيما نغير) يريدون بذلك أنهم لا يدفعون من مزدلفة إلا بعد طلوع الشمس، فخالفهم صلوات الله وسلامه عليه، ودفع قبل أن تطلع الشمس. قوله: (الحرام فيرقاه أو يقف عنده). السنة أن يقف عند المشعر، ولو وقف في أي موضع من مزدلفة أجزأه. قوله: (ويحمد الله ويكبره ويقرأ: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ)) لقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] قال العلماء: قوله: (عند المشعر الحرام)، قيل: إن المراد به مزدلفة كلها، وقال بعض العلماء: إنه الجبل الذي بحذاء المصلى الذي وقف عنده عليه الصلاة والسلام، وأما تلاوة الآية فلم يثبت في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص، ولا حاجة إلى التقيد بذكر آية أو دعاء مخصوص أو استحباب لذلك أو تعيينه إلا بدليل؛ لأن الشرع لم يرد فيه ما يدل على تلاوة ذكر معين، وإنما قال تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198]، والقاعدة: أن المطلق يبقى على إطلاقه. فيقال للناس: اذكروا الله عز وجل، كما أطلق الله عز وجل، من حمد وتسبيح وتكبير وتهليل بل وتلبية، كل ذلك جائز ومشروع؛ لأن الله أطلق، وكل ما صدق عليه أنه ذكر يذكر به سبحانه، لكن أن يقال: تُتْلَى آية معينة، أو يُذْكَرُ دعاء مخصوص، فإن ذلك يعتبر بدعة وحدث، وتوضيح ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من دعائه المأثور: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً)، فلو قال رجل لرجل: إذا صليت في المسجد فقل: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة:201]. نقول: إن هذا الدعاء مسنون، لكن كونك تلزمه به، أو تدعوه أن يقوله في هذا الموضع والمكان المخصوص هذا لا أصل له، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) فقد يقول لك قائل: إن تلاوة قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [البقرة:201] من الدين والشرع، تقول له: نعم، من الدين والشرع، ولكن الذي ليس من الدين والشرع أن يأمر بها في الموضع المخصوص، كأن يقول: قلها في هذا الوقت، أو قلها في هذا المكان، أو قلها في هذه الساعة، فكل ذلك يعتبر بدعة، ولا يلزم الناس بتلاوة آية معينة أو بدعاء مخصوص إلا إذا عين الشرع وخصص ذلك. لكن أن يقال للإنسان: اذكر الله عند المشعر الحرام، واحرص على أدعية النبي صلى الله عليه وسلم المأثورة، وجوامع كلمه التي ثبتت عنه، فذلك هو الهدي، وذلك هو الأفضل والأكمل، فيقال هنا: يقف بمزدلفة عند المشعر بعد صلاة الصبح ويضرع إلى الله، ويسأل الله من عظيم فضله، ويأخذ بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه؛ من استفتاحه بحمد لله والثناء عليه، وسؤال الله من خيري الدنيا والآخرة، مع اعتقاد عظيم الفقر إلى الله، والاستغناء بالله سبحانه وتعالى، وأنه هو الغني الذي لا تنفد خزائنه، وأن يده سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة. وكان العلماء رحمهم الله يعظمون الدعاء بالمشعر الحرام، حتى أثر عن بعض السلف أنه قال: وقفت هاهنا أكثر من ثلاثين حجة أسأل الله العظيم أن لا يجعله آخر العهد ويردني إليه، وإني لأستحي من الله أن أسأله، فرجع ومات من سنته. فالمقصود: أن هذا الموقف وهذا الموطن يعتبر ثاني المواطن تشريفاً وتكريماً بعد موقف عرفة، وكان العلماء يعظمونه؛ لأن الله عز وجل خصه وقال: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة:198]، فإذا وقف الحاج بهذا الموقف هيأ من نفسه أسباب الدعاء الخاشع الخاضع، الذي يكون سبباً لاستجابة دعائه، فيحس أن الله عز وجل أكرمه وتفضل عليه ببلوغ هذا المكان، وأنه ما كان ليبلغه لولا حول الله وقوته وتوفيقه له، ولذلك إذا استشعر ذلك خضع لله وخشع له ودعا من قلبه. قوله: (ويدعو حتى يسفر) أسفر الصبح إذا بان، والمراد بذلك أنه يقارب طلوع الشمس، ويسفر جداً؛ لأن الرواية: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بمزدلفة حتى أسفر جداً). ثم يدفع بعد الإسفار، فلما قال: إن الموقف إلى أن يسفر، فمعنى ذلك: أنه يدفع بعد الإسفار، والسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من دعائه ركب ناقته القصواء وأردف معه الفضل بن عباس، وهو ثاني من أردف في الحج؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أردف معه أسامة من عرفة إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى منى أردف معه الفضل بن العباس ابن عمه رضي الله عنه وعن أبيه، قال الفضل: (فلما مر في الطريق قال: القط لي سبع حصيات)، فالسنة أن يلتقط الحاج سبع حصيات من مزدلفة قبل أن يبلغ محسراً، وأثر عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (بمثل هذا فارموا، وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)، فدل على أنه ينبغي للمسلم أن يتحرى السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن لا يزيد في العبادات، وأن لا يتنطع ولا يبالغ فيها؛ لأنه لا خير إلا في اتباعه عليه الصلاة والسلام، والشر كل الشر في الزيادة على هديه ومجاوزته والغلو في الدين.

الإسراع لمن مر من محسر لكونه موطن عذاب

الإسراع لمن مر من محسر لكونه موطن عذاب [فإذا بلغ محسراً أسرع رمية حجر]. قوله: (فإذا بلغ محسراً) أي: وادي محسر، وهو الوادي الذي حسر الله فيه الفيل، فأنزل فيه نقمته وعذابه على من حادّه وأراد هدم بيته، وذلك في القصة التي ذكرها الله في كتابه حيث قال: ((وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:3 - 5]، فهذا الوادي إذا بلغه يعتبر موطن عذاب، والسنة: أن مواطن العذاب والسخط -والعياذ بالله- إذا مر بها الإنسان فعليه أن يسرع في مروره منها؛ وذلك لما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام، أنه لما مر بمدائن صالح -وهي المدائن التي أهلك الله فيها ثمود- أرخى على رأسه الثوب ثم ضرب دابته وأسرع، يقول بعض العلماء: كأنه يقول: إني مصدق ولو لم أر. فلما مر عليه الصلاة والسلام بموطن العذاب ضرب دابته وقال: (لا تدخلوها إلا وأنتم باكون أو متباكون)، أي: لا تدخلوا هذه المواطن إلا وأنتم معتذرون مدكرون، يصحبكم الخوف من الله؛ حتى لا يصيبكم ما أصابهم، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث الصحيح: (لا يصيبكم ما أصابهم)، ويعرف إلى الآن في بعض المواطن السخط والعذاب، وأن من دخلها قد يتغير عقله، وقد يصاب بمس، وقد يصاب بشيء من العذاب والعياذ بالله! خاصة إذا نزل فيها ضاحكاً لاهياً غافلاً عمّا أوجد الله فيها من العبرة والعظة، ولذلك قال: (لا يصيبكم ما أصابهم)، ولا زال يعرف إلى الآن مما يسمى عند العامة: لعنة الفراعنة، وقد تكون من عذاب الله، وليس للفراعنة لعنة، وإنما هي نقمة الله عز وجل التي يصيب بها من غفل عن آياته وعظاته، ولذلك فالمرور بهذه المواطن لا يجوز كما ذكر العلماء إلا وهو مصحوب بالخوف قال تعالى: {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [إبراهيم:45]، فورد هذا مورد الذم، فكل من دخل أماكن العذاب أو مر بها، فينبغي عليه أن يستصحب الخوف من الله عز وجل، والاستشعار لعظيم نقمة الله عز وجل، وأنه الجبار المنتقم، فأخذه أخذ عزيز مقتدر، فعلى العموم هذا الموطن موطن عذاب لا يجوز النزول فيه ولا يجوز المبيت فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب دابته وأسرع لما مر به، وهو قدر رمية حجر، أي: أنه ليس بعريض.

حكم أخذ حصى الرمي من مزدلفة وحجمها

حكم أخذ حصى الرمي من مزدلفة وحجمها [وأخذ الحصى وعدده سبعون بين الحمص والبندق] كان الأولى والأفضل أن يذكر أخذ الحصى قبل ذكر محسر؛ لأن السنة أن يؤخذ الحصى من مزدلفة، وهذا هو الوارد عنه عليه الصلاة والسلام حيث أمر الفضل أن يلتقط له سبع حصيات من مزدلفة، أما ما ذكره المصنف من سبعين حصاة فهذا لا أصل له، والسنة أن يلتقط سبعاً فقط، وهذا هو المحفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه السبع هي لجمرة العقبة، وأما بقية الجمرات فالسنة أخذ حصاها من منى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الحصى من منى، ولذلك ما يفعله العامة من أخذ جميع حصيات الرمي أيام التشريق ويوم العيد من مزدلفة لا أصل له، كما نُبِّه على ذلك. قوله: (بين الحمص والبندق)، أي: أنها ليست بكبيرة، فالحمص والبندق معروفان، ولا يبالغ فيها، فأخذ الحصى الكبير ليس من السنة، بل قال بعض العلماء: إنها إذا كانت كبيرة جداً ورمى بها لم يجزه؛ لأنها ليست من أصول الرمي المعتبر شرعاً، وعلى هذا قالوا: إنه يتقيد فيها بالوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا أخذ الحصى الكبير فإنه لا يأمن أن تنحرف يده فيصيب مسلماً، ويريق بذلك الدم الحرام في المكان الحرام في الشهر الحرام، ولذلك ينبغي أن يتقيد بالوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يزيد على ذلك ولا ينقص منه، فلا يكون الحصى كبيراً جداً ولا يكون صغيراً، بل لا يكون أكبر من الحصى الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: وحدُّه الذي تحمله باليد في الغالب ويمكن الرمي به، يعني: الخذف، بحيث يضعه بين أصبعيه ويخذف به، ولذلك قال: (بمثل حصى الخذف فارموا وإياكم والغلو) فهذا هو القدر الذي ينبغي أن يتقيد به، وينبغي أن يكون حجراً، أما إذا كانت من غير مادة الحجر كالطين الصلب أو كانت من الخشب أو كانت من الإسمنت أو الجص، فإنه لا يجزئ الرمي بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رمى بالحصيات ولم يرم بغيرها.

الأعمال التي يقوم بها الحاج عند وصوله إلى منى

الأعمال التي يقوم بها الحاج عند وصوله إلى منى [فإذا وصل إلى منى وهي من وادي محسر إلى جمرة العقبة رماها بسبع حصيات متعاقبات]

رمي جمرة العقبة

رمي جمرة العقبة قوله: (فإذا وصل إلى منى) أي: بلغها، فالسنة أن يبتدئ برمي جمرة العقبة، ولذلك قال العلماء: رمي جمرة العقبة تحية منى، أي: أنه إذا دخل منى فالسنة أن لا يشتغل بأي شيء غير رمي جمرة العقبة، فإذا ابتدأ برمي جمرة العقبة بعد ذلك تفرغ لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من السنن، ثم نزل إذا أراد النزول، أو مضى إلى مكة وطاف طواف الإفاضة، أما أن يبدأ بشيء قبل الرمي فذلك خلاف السنة، فلا يذهب إلى منزله ولا يشتغل بأغراضه، بل عليه أن يتجه مباشرة إلى رمي جمرة العقبة، فإن رميها يعتبر تحية منى، قالوا: كما أنه إذا دخل المسجد صلى ركعتين تحية المسجد، كذلك أيضاً تحية منى يكون برمي جمرة العقبة. وقوله: (وهي من وادي محسر إلى جمرة العقبة) أي: أن حد منى بداية ونهاية من وادي محسر إلى جمرة العقبة، ولذلك أثر عن عمر بن الخطاب: أنه أمر أن من وجدوه وراء جمرة العقبة أن يردوه إلى داخل منى؛ حتى لا يكون قد بات خارج منى، وكذلك بالنسبة لوادي محسر فهو الفاصل بين منى ومزدلفة، وأما بالنسبة للجانبين فيكتنف منى جبلان: أحدهما: ثبير، والثاني: الصانع، فما أقبل من الجبلين فإنه من منى، وما أدبر من الجبلين وهما الظهر يعتبر خارجاً عن منى، فمن بات في سفح الجبل من جهة منى فإنه يعتبر بائتاً داخل منى، ومن بات بالظهر فإنه لا يعتبر بائتاً بمنى. وسميت منى؛ لكثرة ما يمنى فيها من الدماء، أي: ما يراق فيها من الدم؛ لأنها موضع يتقرب فيه إلى الله عز وجل بنحر الهدي والأضاحي في يوم النحر. قوله: (رماها بسبع حصيات متعاقبات) فلا يفصل.

انقطاع التلبية عند آخر حصاة يرمى بها جمرة العقبة

انقطاع التلبية عند آخر حصاة يرمى بها جمرة العقبة كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يكبر ويلبي مع كل حصاة، واختلف العلماء على وجهين: فقال جمهورهم: انقطعت تلبيته في حجه صلوات الله وسلامه عليه عندما أراد أن يرمي الجمرة، فعند بداية الرمي انقطعت التلبية. وقال بعض أهل الحديث -وهو رواية عن الإمام أحمد، وقول إسحاق بن راهويه -: يرمي ويلبي أثناء الرمي، فيقول: الله أكبر ويرمي الحصاة، ثم يقول: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، ثم يرمي. فالمقصود أنه يواصل الرمي والتكبير والتلبية حتى ينتهي من آخر حصاة، وهذا هو الذي دل عليه حديث الفضل لما كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فلم يزل يلبي حتى رمى آخر حصاة من جمرة العقبة) فقوله: (آخر حصاة من جمرة العقبة) يدل على أن انقطاع التلبية كان عند آخر حصاة رمى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم جمرة العقبة. وعندها تنقطع التلبية، وبالإجماع على أنه لا تشرع التلبية بعد الانتهاء من رمي جمرة العقبة.

موضع رمي جمرة العقبة

موضع رمي جمرة العقبة كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي، وهذه هي السنة، فليس لجمرة العقبة موضع ترمى منه إلا بطن الوادي، ولذلك من رماها من الجهة المعاكسة التي تقابل الوادي بحيث تكون منى وراء ظهره، فإنه لا يجزيه ذلك؛ لأنه في القديم كانت هذه الجمرة في حضن الجبل، فلم يكن فيها إلا نصف الحوض الموجود، هذا النصف من الحوض هو موضع الرمي، فلما أزيل كأن هذا الزائد من الحوض في غير الموضع المعتبر، ولذلك لو رمى فإنه لا يعتد برميه إلا من بطن الوادي، بحيث يكون في النصف أو الحوض القديم المعهود، وما زاد عن ذلك فإنه في الأصل جبل وليس بموضع للرمي، ومن هنا يقيد العلماء رمي هذه الجمرة بهذا التقييد الذي وردت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

صفة الرمي المجزئ

صفة الرمي المجزئ [يرفع يده حتى يرى بياض إبطه]. لم يحفظ في صفة الرمي رفعه عليه الصلاة والسلام ليده، لكن قد يكون المصنف أراد من هذا أن الرفع لليد عند الرمي أبعد من مزاحمة الناس؛ لأنه إذا زاحمه الناس ربما سقطت الحصى من يده، أو ارتدت يده، فهذا هو السبب الذي يجعل بعض العلماء يوصي بأن تكون يده مرفوعة؛ حتى يتيسر له أن يلتقط باليمنى من اليسرى دون أن يسقط الحصى من يده، وحيثما كان فالأمر في هذا واسع، سواءً رفع أولم يرفع، وبعض العلماء يعلل رفع اليد حتى يرى بياض إبطه؛ حتى يستطيع أن يتمكن من الرمي بقوة، ولكن ليس ذلك بشيء؛ لأنه لو كان قريباً من الحوض ورمى بخفة أجزأه. والعبرة في الرمي أن تقع الحصاة في بطن الحوض، ولو لم تصب الشاخص، فالعبرة بوصولها إلى داخل الحوض، فلو ضربت الحصاة الشاخص وانحرفت فلم تسقط في الحوض لم يجزئ ولم يعتد بتلك الحصاة؛ لأن المراد بالرمي أن تقع في الحوض وهو محل الرمي وموضع الاعتداد. إن الرمي لا يكون إلا بالحذف، فلو جاء ووضع الحصاة في الحوض لم يجزه؛ لأنه لم يرم حقيقة. إذاً لابد من الأمرين: الأول: أن يحصل الرمي بالحذف فلا يجزئ الوضع. الثاني: أن تنتهي الحصاة وتستقر في الحوض، فلو رمى وخرجت عن الحوض فإنه لا يجزيه. والعبرة في وقوعها في الحوض بغالب الظن، فإن تيقن ورأى حصاته في الحوض فلا إشكال، وإن غلب على ظنه أجزأه؛ لأن الغالب كالمحقق كما هو معروف في القاعدة الشرعية. [ويكبر مع كل حصاة] وهو كما ذكرنا.

عدم إجزاء الرمي بغير الحصى أو بحصى قد رمى بها

عدم إجزاء الرمي بغير الحصى أو بحصى قد رمى بها [ولا يجزئ الرمي بغيرها ولا بها ثانياً]. قوله: (ولا يجزئ الرمي بغيرها) يعني: بغير الحصى، (ولا بها ثانياً) أي: لا يرمي بالحصى التي رمى بها أولاً مرة ثانية؛ لأنه قد تحقق بها المأمور. [ولا يقف]. أي: ولا يقف عند جمرة العقبة، وإنما يقف بعد الجمرة الصغرى والوسطى، وأما الكبرى (العقبة) فلا يقف عندها، ولذلك يقول العلماء: لا يشرع الدعاء بعد الرمي إلا إذا كان بعده رمي، توضيح ذلك: أن الجمرة الصغرى إذا رميتها فإن وراءها الوسطى ترمى فتدعو، ولذلك يدعو بعد الجمرة الصغرى، ويدعو بعد الجمرة الوسطى؛ لأن وراءها الكبرى (العقبة)، لكن الكبرى (جمرة العقبة) إذا رماها ليس بعدها شيء، فلا يشرع الدعاء بعد جمرة لا رمي بعدها، وهذا الذي جعل بعض العلماء يقولون: يدعو في كل جمرة بعدها رمي، وبعضهم يختصر ويقول: لا يدعُ عند جمرة العقبة، فيفهم من ذلك أنه يدعو عند غيرها. [ويقطع التلبية قبلها] قوله: (ويقطع التلبية قبلها) يعني: قبل رمي جمرة العقبة، والصحيح: ما ذكرناه أنه يستمر في التلبية حتى يرمي آخر حصاة من جمرة العقبة.

بيان وقت الكمال ووقت الإجزاء للرمي

بيان وقت الكمال ووقت الإجزاء للرمي قال المصنف رحمه الله: [ويرمي بعد طلوع الشمس، ويجزئ بعد نصف الليل]. قوله: (ويرمي بعد طلوع الشمس)؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الأكمل والأفضل، خرج عليه الصلاة والسلام من مزدلفة إلى منى، فما وصل جمرة العقبة إلا وقد طلعت الشمس، فرماها عليه الصلاة والسلام وحيا برميه منى. قوله: (ويجزئ بعد نصف الليل) وهي مسألة خلافية بين العلماء رحمة الله عليهم: فمن أهل العلم من يرى أنه يجوز الرمي بعد نصف الليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للضعفة أن يدفعوا من مزدلفة بعد نصف الليل، فدل على أن وقت الرمي يبتدئ من بعد منتصف الليل. وقال بعض العلماء: إنه لا يجزئ الرمي بعد طلوع الفجر. ومنهم من يقول: لا يجزئ الرمي إلا بعد طلوع الشمس، وإنما يرخص للحطمة والضعفة أن يرموا مبكرين، واحتجوا بما جاء في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لحق أصحابه وقال: (لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس) وفي رواية: (حتى يطلع الفجر) وهذا القول، أعني: أن يتأخر فلا يرمي قبل طلوع الفجر هو أقوى الأقوال، وهو أحوطها؛ لأن مجرد الإذن بعد منتصف الليل لا يستلزم أن يكون هناك رمي في هذا الوقت؛ لأنه سيأخذ مسافة، خاصة الحطمة والضعفة، إذا قدر مضيهم من مزدلفة إلى منى مع الثقل وكبر السن، ويكون الضعفة وصغار الأطفال معهم، فالغالب أنهم لا يصلون إلى وقت الفجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أذن بعد مغيب القمر، وما بين مغيب القمر وطلوع الفجر في ليلة العيد وقت يتسع إلى أن يكون وصولهم قرب طلوع الفجر كما لا يخفى، خاصة إذا كانوا من الحطمة وضعفة السن فإنهم يتأخرون في مضيهم.

جواز التوكيل في نحر الهدي

جواز التوكيل في نحر الهدي [ثم ينحر هديه إن كان معه]. النحر يكون للإبل والبقر، والذبح يكون للغنم، وفي البقر موضعين للذبح والنحر. قوله: (ينحر هديه)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة، ثم نحر ثلاثاً وستين بدنة بيده الشريفة صلوات الله وسلامه عليه، والأفضل والأكمل أن يلي الإنسان بنفسه ذبح هديه ونحره؛ لما في ذلك من بالغ القربة لله عز وجل، وذلك أفضل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله، ولا بأس أن يوكل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وكل فيما بقي، وهي تتمة المائة بدنة التي أهداها عليه الصلاة والسلام، وإنما نحر ثلاثاً وستين بدنة، حتى قال بعض العلماء: عجبت من نحره لثلاث وستين وعمره ثلاث وستون سنة، لكن لا يعني هذا أن كل بدنة مقابل سنة، فهذا مما لا ينبغي البحث فيه ولا التكلف ولا الخوض فيه؛ لأنه أمر يحتمل أن يكون اتفاقاً، ويحتمل أن يكون قصداً، والله أعلم، فلا يبحث الإنسان في مثل هذه المسائل، ولذلك قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]، فلا يتكلف الإنسان البحث في مثل هذه الأعداد.

وجوب تعميم الحلق أو التقصير للتحلل من الإحرام

وجوب تعميم الحلق أو التقصير للتحلل من الإحرام [ويحلق أو يقصر من جميع شعره] قوله: (ويحلق أو يقصر من جميع شعره) التحلل بالحلق أو التقصير لابد أن يعم جميع الرأس. وقال بعض العلماء: يجزيه ثلاث شعرات. وقيل: يجزيه ربع الرأس. وقيل: يجزيه ثلث الرأس. والصحيح: أنه لابد من تعميم الرأس كله؛ لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} [البقرة:196] فشمل جميع الرأس، ولا يقتصر على بعض الرأس دون بعض؛ لأنه إذا اقتصر على بعض الرأس دون بعض فقد ظلم، ولذلك (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع)، والقزع: أن يحلق بعض الرأس ويترك بعضه، قال بعض العلماء: القزع أن يحلق نصف الرأس ويترك نصفه، فيكون النهي من أجل الظلم، كأنه إذا حلق نصف الرأس وترك النصف الثاني ظلم النصف الذي لم يحلق في الصيف، وظلم النصف الذي حلق في الشتاء؛ لأنه يعتبر نصف المكشوف في الشتاء مستضراً أكثر من الذي غطاه الشعر. وقال بعض العلماء: إن القزع ليس حلق نصف الرأس، وإنما الحلق من أطرافه وهي القصة الموجودة الآن، وقد سرت -نسأل الله السلامة والعافية- إلى بعض أبناء المسلمين، وينبغي التنبيه عليها، ويُذكَّر الحلاق وهؤلاء بالله ويخوفون، وهي قضية حلق أطراف الشعر من الجانب الأيمن والأيسر ويبقى الشعر وفراً في منتصف الرأس، فهذه الحلقة أصلها حلقة اليهود، قالوا: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع) وهي هذه الحلقة؛ أن يحلق أطراف الشعر ويترك الوسط، وهي طريقة اليهود، ومن فعلها فإنه متشبه بهم نسأل الله السلامة والعافية! فينبه على من يفعلها ويذكر بالله ويوعظ؛ لأنه لا يجوز التشبه بالكفار، فالمقصود: أنه إذا حلق يعم جميع الرأس، وإذا قصر يعم جميع الرأس، ولا يقتصر على بعض الرأس دون بعض.

قدر أخذ المرأة من شعرها للتحلل

قدر أخذ المرأة من شعرها للتحلل [وتقصر المرأة من شعرها قدر أنملة] قوله: (وتقصر المرأة من شعرها قدر أنملة) فتجمع جميع شعرها في الأخير ثم تقص منه؛ لكن لا تقص لنفسها ولا يحلق الرجل لنفسه، وهذه من الأخطاء التي يقع فيها جميع النساء، حيث تقوم المرأة بجمع شعرها وتأخذ المقص وتقص لنفسها، فإن المتحلل لا يحلل لنفسه؛ لأنه محظور عليه أن يقص أو يتطيب حتى يخرج من نسكه، ولا يخرج إلا بحلق غيره، ولذلك كان من هديه عليه الصلاة والسلام أن يعطي الحلاق شقه الأيمن ثم الأيسر، فيحلق رأسه عليه الصلاة والسلام، والسنة أنه إذا أراد الإنسان أن يتحلل في الحج والعمرة أن يعطي الحلاق شقه الأيمن فيبدأ به، ثم ينتقل إلى شقه الأيسر، ولا يبتدئ بآخر الرأس أو بأعلى الرأس قبل الشق الأيمن؛ لأن السنة أن يبدأ بالشق الأيمن، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه أعطى الحلاق شقه الأيمن). واختلف العلماء: هل العبرة في التيمن بالحالق، أو المحلوق؟ وهذه المسألة تقع على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون الحلاق وراء ظهرك فلا إشكال؛ لأن يمينه يمين لك. الصورة الثاني: أن يكون الحلاق أمام وجهك، يعني: يستقبلك ويحلق أمامك، ففي الحالة يمينه يسار لك ويسارك يمين له، فحينئذٍ هل العبرة إذا وقف أمام وجهك وصار يحلق وهو مقابل لك بيمينك أو بيمينه؟ قال بعض العلماء: العبرة بيمين المحلوق. وقال بعضهم: العبرة بيمين الحلاق؛ لأن الفعل من الحلاق فيأخذ بيمينه لا بيمين المحلوق؛ لأن العبرة بفعله. والصحيح: أن العبرة بيمين المحلوق لا بيمين الحلاق؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الرواية: (أعطى الحلاق شقه الأيمن) فدل على أن العبرة بيمين المحلوق لا بيمين الحالق.

ما يباح للحاج بعد التحلل الأول

ما يباح للحاج بعد التحلل الأول [ثم قد حل له كل شيء إلا النساء] قوله: (ثم قد حل له كل شيء إلا النساء) فله أن يتطيب، ويلبس المخيط، ويحلق شعره، ويزيل التفث، قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، فإذا فعل ذلك فقد تحلل التحلل الأول، وهذا التحلل يباح فيه كل شيء كما ذكرنا إلا النساء، ولا يباح له جماع النساء إلا بعد أن يطوف طواف الركن وهو طواف الزيارة، أما الدليل على أنه قد تحلل التحلل الأول، فلما ثبت في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل إحرامه، ولإحرامه قبل أن يطوف بالبيت) فقولها: (لإحرامه قبل أن يطوف بالبيت) يدل على جواز الطيب قبل أن يطوف طواف الإفاضة، فلذلك قال العلماء: إن هذا التحلل هو التحلل الأصغر أو التحلل الأول.

حكم ترك الحلق والتقصير وتأخيره أو تقديمه على الرمي والنحر

حكم ترك الحلق والتقصير وتأخيره أو تقديمه على الرمي والنحر [والحلق والتقصير نسك ولا يلزم بتأخيره دم ولا بتقديمه على الرمي والنحر] قوله: (والحلق والتقصير نسك) أي: إذا تركه فعليه دم. قوله: (ولا يلزم بتأخيره دم) أي: أنه لو أخره عن يوم العيد لا دم عليه. وقال بعض العلماء: إن أخره عن أيام التشريق لزمه دم؛ وذلك لفوات المحل، وعلى هذا فإنه ينبغي التأسي بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، فمن أفضل ما يكون للإنسان في حجه وعمرته أن يفعل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرمي جمرة العقبة، ثم ينحر هديه، ثم يحلق رأسه، ثم بعد ذلك ينزل ويطوف بالبيت طواف الإفاضة متأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن ذلك أرجى لقبول الله عز وجل لحجه. قوله: (ولا بتقديمه على الرمي والنحر). أما تقديم الحلق على الرمي والنحر ففيه وجهان للعلماء: فمن أهل العلم من قال: أما التقديم والتأخير فإنه قد جاء حديث النسائي في الرواية الصحيحة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: (ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم أو أخر مما يَنسى -وفي رواية: مما يُنسى- إلا قال: افعل ولا حرج) فقوله: (مما يُنسى) فهو يدل على أنه فعل لا شعوري، ولذلك جاء في الرواية الصحيحة الأخرى وهي ثابتة وصحيحة قال: (لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر، فقال: انحر ولا حرج؟ فقال: يا رسول الله! لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج) فالمقصود: أنه قال: (لم أشعر) واصطحبت بعلة مناسبة للحكم. ولذلك قرر بعض المحققين -وهي الرواية الثانية عن الإمام أحمد رحمه الله عليه، ويقول بها جمع من العلماء-: أنه ينبغي الترتيب كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن حصل للإنسان عذر أو نسيان فإنه يعذر؛ لأن الأصل إيقاعها على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، وأن يفعل هذه الأفعال كما وردت؛ حتى يكون ذلك أبلغ في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، أما لو قدم وأخر وهو معذور فإنه لا يلزمه بذلك التقديم والتأخير دم، ولا يلزمه شيء، وإنما هو معذور بوجود النسيان والخطأ.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من رمى الجمرة قبل الفجر بلا عذر ثم رمى بعده

حكم من رمى الجمرة قبل الفجر بلا عذر ثم رمى بعده Q من رمى جمرة العقبة قبل طلوع الفجر بلا عذر، فهل يمكنه أن يستدرك بأن يرمي بعد طلوع الشمس مرة ثانية، أم أن الإخلال وقع بالرمي الأول ولا عبرة بالرمي الثاني، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فمذهب جمهور العلماء: أن الرمي يمكن فيه التدارك ما دام الوقت باقياً، فإذا رمى قبل الفجر فعلى القول بأنه لابد وأن يقع رميه بعد الفجر، فإنهم ينصون على أنه لو رمى قبل مغيب شمس يوم النحر، أو قبل طلوع الفجر من اليوم الحادي عشر، على الوجهين المعروفين في تأقيت الرمي أنه يجزيه ولا شيء عليه، وقد يقول قائل: ما الفرق بين مسألتنا ومسألة الإحرام دون الميقات أننا قلنا: إنه يلزمه دم حتى ولو رجع؟ والجواب: أنه هنا إذا رمى قبل الفجر فإن رميه الأول لاغٍ ولا يعتد ولا ينعقد؛ لأنه عند أصحاب هذا القول وقع قبل الوقت المعتد به، كما لو صلى الظهر قبل الزوال، فلا يعتد ولا ينعقد، وإنما يلزم لو أنه انعقد في وقت لا يختص إلا بمعذور وهو غير معذور، فيستقيم أن يلزمه الدم أو الضمان، ولكن نظراً لكونه رمى قبل الوقت فإن رميه وجوده وعدمه على حد سواء، ويلزمه حينئذٍ أن يعيد الرمي على القول بالتأقيت بالفجر أو بطلوع الشمس، ثم إذا رمى ما بين وقت طلوع الشمس، أو طلوع الفجر وغروب الشمس أو طلوع الفجر من اليوم الثاني فإنه يجزيه ولا شيء عليه؛ لأن الإخلال لم يتحقق، إنما يتحقق إخلاله لو أنه اكتفى بالرمي الأول ولم يعده حتى مضى وقت الرمي المعتد به شرعاً، فحينئذٍ يلزمه الضمان؛ لعدم وقوع الرمي المأمور به. والله تعالى أعلم.

عدم جواز رمي الجمرة قبل الفجر لمن كان مع الضعفة لحاجتهم

عدم جواز رمي الجمرة قبل الفجر لمن كان مع الضعفة لحاجتهم Q من كان مع ضعفة وعجزة وتعجل بهم من مزدلفة بعد مغيب القمر، فهل له أن يرمي الجمرة معهم بعد منتصف الليل، وكذلك بالنسبة لطواف الإفاضة، أثابكم الله؟ A إذا رخص لغير المعذور أن يكون مع المعذورين فيرخص له بقدر الحاجة، فالقاعدة في الشرع: أن ما جاز للحاجة يقدر بقدرها. فيجوز له أن يدفع ويصحبهم ويكون معهم إذا كانوا محتاجين له؛ لأن القاعدة: أن الإذن بالشيء إذن بلازمه. فلما كان هؤلاء الضعفة مأذوناً لهم بالدفع، وتوقف حصول الرخصة لهم بوجود من يعينهم ومن يساعدهم، ومن يرفق بهم وييسر لهم هذه الرخصة، كان مأذوناً لهم من هذا الوجه، فإذا وجد غيرهم من المعذورين ممن يستطيع أن يقوم بذلك ولا يحتاج لهذا القادر فيبقى على الأصل من كونه لا يدفع، فإذا دفع مع هؤلاء المعذورين فلا يترخص بالرمي، إنما يبقى على القول بتأقيت الرمي بطلوع الفجر أو بطلوع الشمس؛ حتى يتبين وقت البداية فيرمي. والله تعالى أعلم.

حرمة النكاح ولوازمه بعد التحلل الأول

حرمة النكاح ولوازمه بعد التحلل الأول Q هل يحرم كذلك عقد النكاح بعد التحلل الأول، أثابكم الله؟ A يحرم النكاح ولوازمه، فمحظور النكاح عقداً وخطبة ووطئاً كله مستصحب، ولذلك يعتبرون الجنس واحداً يحظر عليه أن يخطب وأن يعقد وأن يطأ، على التفصيل الذي ذكرناه في المحظورات، والله تعالى أعلم.

التحاق واجبات العمرة بواجبات الحج في الحكم

التحاق واجبات العمرة بواجبات الحج في الحكم Q هل يقاس من ترك واجباً من واجبات العمرة على من ترك واجباً من واجبات الحج في إيجاب الدم عليه، أثابكم الله؟ A من ترك واجباً من واجبات العمرة يلتحق بواجبات الحج، ولذلك العمرة هي الحج الأصغر، والدليل على أنها حج أصغر قول الله عز وجل: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة:3] فقال: {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة:3] فوصف الحج بكونه أكبر، لذلك قال شيخ الإسلام: الحج حجان: حج أكبر، وحج أصغر؛ لدلالة هذه الآية الكريمة، فإذا وقع الإخلال في الحج الأصغر والأكبر فالحكم واحد، فالواجب الذي يجبر في الحج يجبر بما يجبر به في العمرة والعكس، والواجب الذي في العمرة يجبر بما يجبر به الواجب في الحج، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (دخلت العمرة في الحج، وشبك بين أصابعه صلوات الله وسلامه عليه) وهذا يدل على أن حكمهما واحد، وعلى هذا فإنه يلزمه ما يلزم من أخل بواجب الحج، وانظر إلى الواجبات في العمرة ستجدها موافقة في كثير من المسائل لواجبات الحج؛ فإنك ترى الرجل إذا أحرم بالعمرة يلزمه أن يتقي المحظورات كما لو أحرم بالحج، سواء بسواء، وكذلك أيضاً بالنسبة لطوافه بالبيت وما يلزمه في الطواف الحكم فيهما واحد، وعلى هذا إذا أخلّ بواجب في العمرة يجبره بما يجبر به الواجب في الحج. والله تعالى أعلم.

دعاء الصائم عند تهيئه للفطر لا بعده

دعاء الصائم عند تهيئه للفطر لا بعده Q أشكل عليَّ مسألة الدعاء عند الفطر لقوله عليه السلام: (للصائم عند فطره)، فهل يكون وقت الدعاء بعد الأذان أم قبله، أثابكم الله؟ A الدعاء عند الفطر، أي: عند تهيئه للفطر، بمعنى: أن يكون قبل أن يفطر، وهذا ذكر العلماء له نظائر: أن العبد إذا قام بحق الله عز وجل وأداه، كان من كرم الله عز وجل أن يجعل له الخير العاجل باستجابة دعوته، فتجده في الصلاة إذا صلى وانتهى من التشهد، وقضى أذكار الصلاة ولم يبق إلا أن يسلم، شرع له أن يدعو؛ لقوله عليه الصلاة والسلام عندما سئل: (أي الدعاء أسمع؟ قال: أدبار الصلوات المكتوبات)؛ وذلك لأنه قام بفريضة الله، وأدى حق الله، فيرجى أن يستجيب الله دعاءه، ولما وفى لله يوفي الله له. وفي الزكاة إذا جاء ودفع ندب للإمام أن يدعو له؛ وذلك لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] فكان عليه الصلاة والسلام إذا تصدق المتصدق دعا له. وكذلك أيضاً في الصوم إذا فرغ من صومه وكاد أن يفطر، دعا وسأل الله في ختام يومه من خيري الدنيا والآخرة. وكذلك في الحج، فإن الإنسان في حجه يدعو في عرفات وقالوا: ويدعو أيضاً في مزدلفة لقربه من التحلل، فهو يدعو في صبيحة مزدلفة؛ لأنه ليس بينه وبين التحلل إلا اليسير. وهذا كله نبه عليه بعض العلماء، فإذا تأملت أركان الإسلام الأربعة هذه، وجدت أنه بمجرد ما يفرغ العبد من حق الله فإنه يرجى له إجابة الدعوة. من هنا قال العلماء: لا يدعو بعد أن يفطر، وإنما يدعو عند تهيئه للفطر، فيسأل الله عز وجل من خيري الدنيا والآخرة.

حكم الفطر لكبير السن ومن به مرض لا يرجى برؤه

حكم الفطر لكبير السن ومن به مرض لا يرجى برؤه Q رجل كبير السن وهو مصاب بمرض ولا يستطيع أن يصوم، فماذا يفعل، خصوصاً وأن عليه صياماً من رمضان السابق، أثابكم الله؟ A أما بالنسبة لكبر السن والمرض فكل واحد منهم إذا انفرد، وكان المرض مما لا يرجى برؤه فإن له الفطر، وكذلك لو كان كبيراً وصحته وعافيته طيبة لكنه لا يستطيع أن يصوم، ويجحفه الصوم ويرهقه، فإن من حقه أن يفطر، قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184] قال بعض السلف: (يطيقونه) يعني: يجدون المشقة، ولذلك في قراءة: (يَطْيَّقُونَهُ) وفي قراءة: (يَطَوَّقُونَهُ) أي: يجدون المشقة والعناء من صومهم، فهذا يفطر وعليه الإطعام، وهكذا إذا كان مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه، كمن به فشل في الكلى، أو أمراض في القلب مزمنة بحيث لا يستطيع أن يصبر، أو عنده أدوية لابد من أخذها في ساعات منتظمة، كمن كان حديث عهد بعملية جراحية أو نحو ذلك، واستدام المرض معه بحيث لا يمكنه القضاء، فهذا يفطر ويتحول إلى الإطعام مباشرة، أما لو كان مرض هذا الكبير مما يرجى برؤه، كأن تكون نزلة عارضة كزكام أو أمراض خفيفة عارضة، وهذه الأمراض ترهقه عن الصوم، ولكن بعدها قد يشفى ويمكنه القضاء، فإنه يفطر ثم يقضي متى ما تيسر له القضاء ولا إطعام عليه. والله تعالى أعلم.

حكم من أوتر مع الإمام وأراد أن يصلي من الليل

حكم من أوتر مع الإمام وأراد أن يصلي من الليل Q من أوتر مع الإمام في القيام وأراد أن يصلي من الليل فكيف يوتر؟ وما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا وتران في ليلة)، أثابكم الله؟ A قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وتران في ليلة) حديث الترمذي حسنه غير واحد من العلماء، ومعناه: أن الوتر ينقض الوتر؛ لأنه إذا أوتر في الليلة وترين أصبحت الصلاة شفعيه وأصبح العدد شفعاً، فهذا هو وجه النهي عن الوترين، والمقصود شرعاً أن يبقى عدد صلاتك بالليل وتراً، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)، فإذا صلى وتراً ثم أوتر بعده وتراً ثانياً فإن الوتر الثاني ينقض الوتر الأول، وعلى هذا فمن صلى مع الإمام وأوتر، أو صلى لوحده أول الليل وأوتر، ثم استيقظ آخر الليل وأحب أن يصلي فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يريد أن يصلي ركعتين كأن تكون ركعتي وضوء أو شيئاً خفيفاً فيصلي شفعاً ولا يوتر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بعدما أوتر، وهذا ثابت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة. الحالة الثانية: أن يريد أن يطول ويقوم، كما هو الحال لو أوتر في صلاة التراويح وأراد أن يتهجد، أو أوتر أول الليل وقام في آخر الليل وأراد أن يتهجد، ففي هذه الحالة يصلي ركعة ينقض بها الوتر الأول؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا وتران في ليلة) فنقض الوتر الثاني الوتر الأول، ثم يصلي ركعتين ركعتين ثم يوتر؛ السبب: أنه ينقض الوتر الأول؛ لكي يجعل آخر صلاته بالليل وتراً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)، فشرع له أن ينقض الوتر الأول، حتى يكون وتره في آخر الليل، وهذا هو فعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، واختاره جمع من الأئمة والسلف. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يمنّ علينا بالقبول، وأن يتجاوز عنا الزلل والخلل إنه المرجو والأمل. وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه، وآله وصحبه أجمعين.

باب صفة الحج والعمرة [3]

شرح زاد المستقنع - باب صفة الحج والعمرة [3] ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام بعد فراغه من رميه لجمرة العقبة يوم النحر أنه نحر، ثم حلق رأسه عليه الصلاة والسلام، ثم أفاض إلى مكة وطاف بالبيت طواف الإفاضة؛ فلابد من الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام في ترتيب مناسك الحج الواجبة والمستحبة، ولقد بين عليه الصلاة والسلام وقت كل منسك، وقال: (خذوا عني مناسككم).

بيان ما ينبغي على الحاج يوم النحر بعد فراغه من أعمال منى

بيان ما ينبغي على الحاج يوم النحر بعد فراغه من أعمال منى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ثم يفيض إلى مكة]. شرع رحمه الله في هذا الفصل ببيان ما ينبغي على الحاج يوم النحر بعد فراغه من رميه لجمرة العقبة، وقد كان من هديه صلوات الله وسلامه عليه: أنه لما فرغ من رمي جمرة العقبة نحر ثلاثة وستين بدنة؛ والسبب في ذلك: أنه كان قارناً الحج والعمرة، ثم إنه عليه الصلاة والسلام بعد أن نحر حلق رأسه، ثم نزل فطاف طواف الإفاضة. قوله: (ثم يفيض) الإفاضة: أصلها الكثرة، وفاض الخبر إذا شاع وانتشر، وفاض الوادي إذا سال بالماء الكثير، ويسمى هذا الطواف: بطواف الإفاضة، ويسمى: طواف الزيارة، ويسمى: طواف الركن، ويسمى: الطواف الواجب، ويسمى: طواف الصَدَر، بفتح الصاد والدال، كلها أسماء لهذا الطواف، وهذا الطواف يعتبر ركناً من أركان الحج، والأصل في وجوب هذا الطواف وركنيته قوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، فأمر الله سبحانه وتعالى بهذا الطواف، وأجمع العلماء رحمهم الله على أنه ركن من أركان الحج، إلا أن بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله يعبر عنه بالواجب، أما فرضيته ولزومه فهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله. ومعنى قوله: (ثم يفيض) أي: يذهب إلى مكة ويطوف طواف الإفاضة.

حكم طواف الإفاضة بالنسبة للمفرد والقارن

حكم طواف الإفاضة بالنسبة للمفرد والقارن [ويطوف القارن والمفرد بنية الفريضة طواف الزيارة]. قوله: (ويطوف القارن والمفرد بنية الفريضة طواف الزيارة) القارن والمفرد أفعالهما واحدة خلافاً للمتمتع؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأم المؤمنين عائشة: (طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة كافيك لحجك وعمرتك) وكانت متمتعة في الحج، فمن أفراد الحج فإنه يطوف بنية الركنية، وكذلك من قرن حجه مع العمرة فإنه أيضاً يطوف بنية الركنية، وأما بالنسبة للمتمتع فإنه قد سبقه الطواف والسعي؛ لأنه يتحلل بالعمرة. وطواف الإفاضة بالنسبة للمفرد والقارن يكون على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون المفرد قد قدم إلى مكة وطاف قبل يوم عرفة، وحينئذٍ يكون الطواف الذي يفعله يوم العيد طوافاً عن حجه، ولا يلزمه أن يرمل ولا أن يضطبع؛ وذلك لأنه قد حيا البيت ورمل واضطبع في طواف القدوم الأول. الصورة الثانية: إن كان المفرد إنما قدم إلى عرفة مباشرة أو قدم إلى منى مباشرة ولم يكن قد طاف، فقال جمع من أهل العلم: إنه يرمل في طواف الإفاضة ويضطبع؛ لأن طوافه حينئذٍ يصبح عن الإفاضة وعن القدوم كأنه تحية للبيت. والمفرد والقارن تقدم ضابطهما، فهما يطوفان طواف الإفاضة بنية الركن؛ والسبب في ذلك أن الطواف عبادة، والعبادة لا تصح إلا بنية، ومن طاف بالبيت ولم ينو أنه طواف ركن عن إفاضته فإنه لا يجزيه عن الإفاضة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، فدل هذا الحديث على أن من نوى الشيء كان له، ومن لم ينوه لم يكن له، فمن نوى الإفاضة كان إفاضة ومن لم ينوه لا يقع عن إفاضته.

بيان وقت طواف الإفاضة من حيث الابتداء والانتهاء والأفضلية

بيان وقت طواف الإفاضة من حيث الابتداء والانتهاء والأفضلية [وأول وقته بعد نصف ليلة النحر] أي: أن أول وقت طواف الإفاضة بعد نصف ليلة النحر، هذا هو أحد قولي العلماء، واحتجوا بحديث أم سلمة رضي الله عنها: (أنها دفعت من مزدلفة بعد منتصف الليل، ثم رمت جمرة العقبة، ونزلت وطافت وزارت البيت)، ولكن هذا الحديث حديث ضعيف، والذين قالوا: إن طواف الإفاضة يبتدئ من منتصف الليل احتجوا بهذا الحديث، واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للضعفة أن يدفعوا بعد منتصف الليل، ففهموا أن الإذن بالدفع بعد منتصف الليل، يستلزم الإذن بالطواف بعد منتصف الليل، وهذا القول خالفه جمع من العلماء وقالوا: إن طواف الإفاضة مختص بيوم النحر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف الإفاضة يوم النحر، ووقع فعله بياناً لواجب، وبناء على ذلك قالوا: لا يجزي أن يوقعه ليلة النحر، وإنما يبتدئ بطلوع فجر يوم النحر، وهذا القول الثاني أقرب إلى السنة وأقوى من جهة الدليل، خاصة وأن حديث أم سلمة فيه ما ذكرنا من الضعف الذي لا يقوى معه على الاحتجاج. بالنسبة لطواف الإفاضة هناك وقت أفضلية، وهناك وقت ابتداء، وهناك وقت انتهاء. أما وقت طواف الإفاضة فالسنة والأفضل والأكمل أن توقعه بعد طلوع الشمس وقبل زوالها من يوم النحر؛ وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فإن وقع طواف الإفاضة بعد الزوال فقد وافق وقت الجواز ولم يوافق وقت الأفضلية، هذا بالنسبة لوقت الأفضلية. أما وقت الابتداء ففيه قولان مشهوران: القول الأول: أنه يبتدئ من منتصف الليل وفيه ما فيه. القول الثاني: يبتدئ بطلوع الفجر من يوم النحر على ظاهر السنة الواردة عن رسول صلى الله عليه وسلم من طوافه يوم النحر.

أقوال العلماء في تأخير طواف الإفاضة عن يوم النحر

أقوال العلماء في تأخير طواف الإفاضة عن يوم النحر يبقى Q ما هو الزمان الذي يجوز للحاج أن يؤخر طواف الإفاضة إليه؟ قال بعض العلماء: إنه لا يؤخر طواف الإفاضة عن أيام التشريق، وإن أخره عن أيام التشريق كره له ذلك. ثم اختلفوا، قال بعض الذين يكرهون ذلك: إن أخره عن أيام التشريق لغير عذر فإنه يلزمه دم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف يوم النحر، وكانت أيام التشريق بمثابة الزمان المعتبر لإيقاع طواف الإفاضة، فإن تأخر عنها فإنه يلزمه دم؛ لأن أفعال الحج تتم بأيام التشريق. وقال بعض العلماء: لا يلزمه دم حتى ينتهي شهر ذي الحجة؛ لأن الله تعالى يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]، وأشهر الحج هي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة كاملة، ففائدة التعبير بالجمع في قوله: (أشهر) يدل على أن آخر ما يقع فيه هذا الركن إنما هو شهر ذي الحجة، وهذا هو أقوى الأقوال، وأن ما وراء ذي الحجة فيه الدم؛ جبراناً للواجب الذي تركه وقصَّر فيه إذا لم يكن له عذر. أما إذا كان عند الإنسان عذر في تأخير طواف الإفاضة، كأن تكون المرأة حائضاً أو نفساءَ فأخرت طواف الإفاضة عن يوم النحر إلى أيام التشريق، أو أخرته عن أيام التشريق إلى آخر ذي الحجة، أو أخرته عن ذي الحجة لعذر، فإنه لا يجب عليها شيء، ويلزمها أن تطوف طواف الإفاضة بمجرد طهرها. ويبقى السؤال: لو أن الإنسان أدى مناسك الحج كاملة، ولكنه رجع إلى بلده ولم يطف طواف الإفاضة، فما الحكم؟ A أنه ليس لطواف الإفاضة من الزمان حد ينتهي إليه، بل قالوا: إن لم يطف طواف الإفاضة يبقى في ذمته ولو إلى آخر عمره، فلو عاد ولو بعد خمسين سنة فإنه يلزمه أن يطوف طواف الإفاضة، ويبقى في ذمته؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] وأمر سبحانه بإتمام الحج، وهذا ركن من أركان الحج فيلزمه أن يوقع هذا الطواف وتبقى ذمته مشغولة بطواف الإفاضة ولو إلى سنوات، هذا بالنسبة لمن أخر طواف الإفاضة، وهذا هو الذي جعل العلماء يقولون: تبقى الذمة مشغولة به ولو إلى آخر العمر. أي: أنه لا بد له من أن يوقعه وأن يأتي به على وجهه.

أفضلية الطواف للإفاضة يوم النحر

أفضلية الطواف للإفاضة يوم النحر [ويسن في يومه وله تأخيره] أي: ويسن له فعل الطواف يوم النحر؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، والخير كل الخير في التأسي به صلوات الله وسلامه عليه، والخير في إيقاع أفعال الحج وأقواله على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحرص المسلم على أنه يوم النحر يوقع أفعال النحر مرتبة كما أوقعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينزل ويؤدي طواف الإفاضة على الهدي الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبتت عنه الأحاديث الصحيحة به، فذلك هو الخير كله، فيسن للمسلم أن يحرص عليه، أما جواز التأخير ففيه ما فيه من التفصيل الذي ذكرناه.

السعي بعد طواف الإفاضة للقارن والمفرد والمتمتع الذي لم يسع

السعي بعد طواف الإفاضة للقارن والمفرد والمتمتع الذي لم يسع [ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعاً أو غيره ولم يكن سعى مع طواف القدوم] قوله: (ثم يسعى بين الصفا والمروة)، وهذا السعي ركن إذا كان الإنسان مفرداً، فالمفرد كما لا يخفى عليه سعي، وهو سعي عن حجه، فإذا كان قد جاء إلى منى أو إلى عرفات مباشرة، فمعنى ذلك: أنه لم يؤد ركن السعي، فإذا طاف طواف الإفاضة أوقع السعي بعد الطواف؛ لأن السعي لا يصح إلا بعد الطواف، فيلزمه بعد فراغه من طواف الإفاضة أن يمضي إلى الصفا والمروة ويؤدي سعي الحج إن كان مفرداً، وإن كان قارناً ولم يكن سعى قبل فحينئذٍ يسعى سعيه، ويكون السعي للقارن على هذا الوجه عن حجه وعمرته، وهكذا إذا كان متمتعاً فإن المتمتع إذا قدم بعمرته وأدى العمرة وتحلل منها، فإنه يلزمه أن يسعى سعياً آخر لحجه، وهذا السعي الآخر للحج يوقعه بعد طواف الإفاضة، حتى يقع سعيه بعد الطواف معتبراً.

حقيقة التحلل الأول والثاني وما يباح فيهما

حقيقة التحلل الأول والثاني وما يباح فيهما [ثم قد حل له كل شيء]. قوله: (ثم قد حل له كل شيء) وهذا يسمى: بالتحلل الثاني، فالحج له تحللان: تحلل أول، وتحلل ثان، أما التحلل الأول فللعلماء فيه تفصيل: فمنهم من يقول: التحلل الأول يقع بمجرد رميه لجمرة العقبة، وفيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (إذا رميتم جمرة العقبة فقد حللتم). وقال بعض العلماء: إذا رمى أو حلق مع الرمي أو طاف فقد تحلل التحلل الأول. والتحلل الثاني إن كان قد طاف. فيقع تحلله بواحد من هذه الثلاث، وليس للنحر عند أصحاب هذا القول دخل، فلا يرون أن النحر مؤثر في التحلل، فإما أن يرمي ويحلق، وإما أن يرمي ويطوف، وعلى هذا قالوا: التحلل الأول يقع بالرمي مع الحلق، أو يقع بالرمي مع الطواف، وإذا رمى وطاف فقد تحلل التحلل الأول والثاني، هذا مذهب طائفة من العلماء، واختاره أئمة الشافعية والحنابلة رحمهم الله. والفرق بين التحلل الأول والثاني فالعلماء متفقون كلهم ومجمعون على أنه إذا تحلل التحلل الأول أنه لا يحل له وطء النساء. واختلفوا إذا تحلل التحلل الأول ما الذي يباح له بهذا التحلل؟ فقال جمع من العلماء: يحل له كل شيء إلا النساء، ثم اختلفوا على قولين: فقال بعضهم: يحل له كل شيء إلا وطء النساء، فيجوز له أن يقبل، ويجوز له أن يباشر، ويجوز له أن يعقد النكاح، ويجوز للمرأة أن تزوج -تنكح وتُنكح- ولكن لا يقع الوطء. هذا الوجه الأول، واحتجوا بحديث صفية رضي الله عنها وهو ثابت في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد منها يوم النحر ما يريد الرجل من امرأته، فقيل: يا رسول الله! إنها حائض؟ فقال: أحابستنا هي؟ ثم قال: ألم تكن طافت يوم النحر؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذنْ) قالوا: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد منها ما يريد الرجل من امرأته، وهذا المراد به مقدمات الجماع وليس المراد به الجماع، ولكن الصحيح أنه يحل له كل شيء إلا النساء خاصة، وحديث السنن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رميتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء)، فإن هذا الحديث قد جود إسناده غير واحد من أهل العلم وهو يدل على أن مسألة النساء عامة، فتشمل مقدمات النكاح وتشمل كذلك الوطء. هناك خلاف بالنسبة للقول الثاني في مسألة التحلل، قال بعض العلماء: يحل له كل شيء إلا النساء وقتل الصيد، فأضافوا إلى النساء الصيد كما هو مذهب الإمام مالك رحمه الله، فإذا تحلل التحلل الثاني حل له الجميع، والصحيح المذهب الأول، خاصة وأن السنة قوية في دلالتها على حلّ كل شيء إلا النساء، هذا بالنسبة للتحلل الأول والتحلل الثاني، ومن الأدلة الصريحة على أن التحلل ينقسم إلى هذين القسمين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تطيب بعد رميه لجمرة العقبة وتحلله التحلل الأول، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل حرمه -يعني: في الميقات-، ولحرمه قبل أن يطوف بالبيت) فلما قالت: (لحرمه قبل أن يطوف بالبيت) دل على أن محظور الطيب يرتفع برميه عليه الصلاة والسلام لجمرة العقبة وتحلله التحلل الأول، وأنه لا يلزم في التحلل الأول أن يطوف بالبيت لظاهر هذه السنة الصحيحة.

ماء زمزم لما شرب له

ماء زمزم لما شرب له [ثم يشرب من ماء زمزم لما أحب، ويتضلع منه ويدعو بما ورد] قوله: (ثم يشرب من ماء زمزم)، وهذه سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه لما فرغ من طواف الإفاضة أتى سقاية العباس رضي الله عنه وأرضاه، وشرب منها بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه. قال العلماء: في هذا دليل على أن من طاف طواف الإفاضة فالسنة له أن يشرب من ماء زمزم. قوله: (لما أحب) أي: من خيري الدنيا والآخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث -وصححه غير واحد من العلماء-: (ماء زمزم لما شرب له)، وقد اشتهر هذا الحديث عند العلماء رحمهم الله، حتى قال بعض أهل العلم: إن التجربة دلت على صحته فمن شربه للعلم آتاه الله العلم، وقال الإمام أبو بكر بن العربي المفسر المشهور: شربت زمزم وسألت الله العلم وندمت أني لم أسأله مع العلم العمل. وقال بعض السلف: اللهم إنه قد جاء عن نبيك صلى الله عليه وسلم أن ماء زمزم لما شرب له اللهم إني أشربه لظمأ يوم الآخرة. فزمزم ماء له فضل وشرف بثبوت الأخبار والأدلة، وقد كان عليه الصلاة والسلام يحب هذا الماء، وذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في الهدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث إلى واليه بمكة عتاب بن أسيد، ويأمره أن يوقر البعير بماء زمزم ويبعثه إليه بالمدينة صلوات الله وسلامه عليه. وقال جمع من العلماء: إن لهذا الماء مزية وفضلاً، حتى إنه عرف بالتجربة أنه يقوي القلب، مع ما فيه من فضائل من كونه: (لما شرب له) ولذلك كان بعض الأطباء يوصي به لضعيف القلب أن يشرب منه؛ لما جعل الله فيه من الخير والبركة. ومن الأدلة التي تدل على أنه: (لما شرب له) ما ثبت في الصحيح من حديث أبي ذر جندب بن جنادة الغفاري رضي الله عنه أنه لما آذاه المشركون واختبأ تحت ستار الكعبة كان يشرب زمزم وكان يستطعم به من الجوع حتى سمن رضي الله عنه وأرضاه فكان له طعام طعم كما قال عليه الصلاة والسلام: (وما يدريك أنه طعام طعم)، فماء زمزم ماء مبارك، ويشربه الإنسان وينوي به الخير، ونص العلماء والأئمة رحمهم الله على ذلك، وبثبوت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماء زمزم لما شرب له)، ويحرص الإنسان على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من طواف الإفاضة، بأن يأتي إلى ماء زمزم ويشرب منه، خاصة وأنه تيسر في هذا الزمان سهولة الشرب منه والارتواء منه، فيتضلع منه ويسأل الله عز وجل من خيري الدنيا والآخرة.

الدعاء عند شرب ماء زمزم

الدعاء عند شرب ماء زمزم (ويدعو بما ورد). لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم دعاء مخصوص لزمزم، وكان ابن عباس يسأل الله فيقول: اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاء من كل داء. فكان يسأل الله عز وجل هذا، والأمر في هذا واسع أن يسأل الإنسان من خيري الدنيا والآخرة.

وجوب المبيت بمنى

وجوب المبيت بمنى [ثم يرجع فيبيت بمنى ثلاث ليال] ثم بعد انتهائه من طوف الإفاضة وسعيه، يرجع إلى منى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى منى يوم النحر، واختلفت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل صلى الظهر بمكة، أو صلاها بمنى؟ وفي هذه المسألة خلاف مشهور، وأقوى ما ثبت حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمنى)، والرواية بصلاته بمنى أقوى، وعليه فيرجح القول بأنه صلى بمنى، وما ورد من الروايات بصلاته بمكة أجاب جمع من العلماء: بأن الرواية بكونه صلى بمنى اعتضدت بروايات أخر، حتى صارت الشهادة كاملة، بخلاف رواية جابر أنه صلى بمكة. وثانياً: أن حديث الصلاة بمكة يحمل على الإذن، أي: استؤذن عليه الصلاة والسلام فأذن بالصلاة بمكة، ولذلك قالوا: الأفضل والأكمل أن يصلي الظهر بمنى. وقال بعض السلف رحمهم الله: إذا كان يوم النحر موافقاً ليوم الجمعة، فإن الأفضل له أن يمضي إلى منى ويصلي الظهر بمنى؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمنى، وهي أفضل من الجمعة؛ لمكان الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. [فيرمي الجمرة الأولى وتلي مسجد الخيف بسبع حصيات]. يبيت بمنى ليلة الحادي عشر، والمبيت واجب، وهو مذهب جمهور العلماء، خلافاً لأصحاب الإمام أبي حنيفة حيث قالوا: إن المبيت ليس بواجب. والصحيح: مذهب الجمهور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح: (أنه رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل السقاية) وقوله: (رخص) يدل دلالة واضحة على أن الأصل عزيمة؛ لأن التعبير بالرخصة يدل على أنها استباحة للمحظور، فدل على أن المبيت بغير منى للحاج محظور عليه من حيث الأصل، فيجب عليه أن يبيت بمنى ليالي التشريق، ثم إذا وجد عنده العذر من اشتغاله بمصالح الحجاج العامة، كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم السقي والرعي، فحينئذٍ يجوز له أن يترخص، وأما من عدا هؤلاء فإنه يجب عليهم المبيت بمنى؛ لأن السنة واردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بات بمنى، وقد وقع فعله بياناً للواجب، والقاعدة: أن الفعل إذا وقع بياناً لواجب فهو واجب. فاجتمع هذان الدليلان القولي والفعلي، القولي: بالرخصة للعباس، والفعلي: بمبيته صلوات الله وسلامه عليه بمنى.

بيان وقت رمي الجمار وضرورة ترتيبها وأحكامها

بيان وقت رمي الجمار وضرورة ترتيبها وأحكامها إذا أصبح اليوم الحادي عشر فالسنة أن ينتظر إلى الزوال، كما ثبت في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظر حتى زالت الشمس، فابتدأ بالجمرة الصغرى التي تلي مسجد الخيف فرماها بسبع حصيات مثل حصى الخذف)، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (لما فرغ من رميها تياسر قليلاً واستبطن من جهة الوادي ودعا صلوات الله وسلامه عليه وسأل الله من فضله وقام قياماً طويلاً) حتى جاء في حديث ابن مسعود وغيره: (أنه يقارب سورة البقرة)، فوقف عليه الصلاة والسلام ودعا بعد رميه الصغرى، وأطال الدعاء وسؤال الله من فضله، ثم انطلق إلى الجمرة الوسطى ورماها بسبع حصيات أيضاً، ثم وقف ودعا ورفع يديه واستقبل القبلة عليه الصلاة والسلام، وأطال في دعائه أيضاً، ثم مضى إلى جمرة العقبة ورماها بسبع حصيات من بطن الوادي، ولم يقف بعدها وإنما انصرف صلوات الله وسلامه عليه، هذا بالنسبة لأفعال اليوم الحادي عشر: أولاً: بات ليلة الحادي عشر بمنى. ثانياً: أنه انتظر إلى زوال الشمس من يوم الحادي عشر. ثالثاً: أنه رمى الجمرات الثلاث. رابعاً: أنه رتب هذا الرمي وابتدأ بالصغرى قبل الوسطى، وبالوسطى قبل الكبرى، وعلى هذا فإنه لا يجوز له أن يرمي قبل الزوال؛ وذلك لأنها عبادة مؤقتة، والعبادات المؤقتة لا تصح قبل زمانها إلا بدليل شرعي، كما في الجمع بين الصلاتين إذا قدمت الثانية في وقت الأولى، ومن هنا نجد العلماء والفقهاء رحمهم الله حينما ذكروا الرمي قبل الزوال قالوا: لا يصح الرمي قبل الزوال كما لا تصح صلاة الظهر قبل الزوال، بجامع كون كلٍ منهما عبادة مؤقتة، فالرمي عبادة مؤقتة، وصلاة الظهر عبادة مؤقتة، كما أنه لا يجوز للمسلم أن يعتدي على الشرع بمجاوزته لهذا التأقيت بالسبق، فيصلي الظهر قبل زوال الشمس، أو يصلي المغرب قبل غروب الشمس، فإنه لا يجوز له أيضاً أن يعتدي على الشرع فيرمي قبل هذا الوقت المحدد المعين، وعلى هذا فإنه لا يجزيه الرمي قبل الزوال. وحكم الرمي قبل الزوال يطّرد في الثلاثة الأيام: اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر لمن لم يتعجل، وأما ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله: (إذا انتفخ النهار من اليوم الثالث عشر فارم)، فيجاب عن هذا الحديث سنداً ومتناً: أولاً: من جهة السند: فإن الحديث الذي دل على وجود الرمي بعد الزوال من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أصح وأثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وثانياً: من جهة المتن: فإن قوله: (انتفخ) فإن النهار لا يوصف بكونه منتفخاً، والشيء لا تصفه بكونه قد أخذ حظه إلا إذا جاوز النصف بحيث يصدق عليه أنه دخل في الكمال، وعلى هذا فإنه لا يصدق على النهار أنه قد استتم على الوجه المعتبر إلا من بعد الزوال، فكأن ابن عباس يريد أن يؤكد السنة التي وردت في هديه عليه الصلاة والسلام، وعلى هذا فإن القول الأخير بالرخصة أنه يجوز الرمي قبل الزوال قول مرجوح، والسنة على خلافه. وهنا ننبه على مسألة مهمة وهي: أننا إذا قلنا للناس: اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وارموا بعد الزوال في اليوم الأخير، وهو يوم النفر الأخير، تجدهم يقولون: إن الزمان قد تغيّر، وإن الناس يحطم بعضهم بعضاً، وكذا وكذا، وحينئذٍ يكون A إن هذه عبادات توقيفية، وأن مقصود الشرع من الحج هذا الزحام الذي تراه، ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة: (يا رسول الله! هل على النساء جهاد؟ قال: عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة)، فكأن الشرع قصد أن يقف الناس على هذا الوجه، وأن يجتهد المسلم، وأن يجد العناء والمشقة، حتى يأتي الغني والفقير، والرفيع والوضيع، والجليل والحقير، فيجد الزحام، ويحتك بإخوانه، فتجد الذي لا يعاشر الناس ولا يخالط الناس كالغني والثري يدخل في زحمة الناس وحطمة الناس، وهذا يدفعه وهذا يهينه، فيحس بلذة العبادة، ويشعر بقيمة التقرب إلى الله سبحانه وتعالى. فالمقصود من هذه العبادة: وجود المشقة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (عليهن جهاد)، والجهاد بذل الجهد والوسع والطاقة، فالحج بمثابة الجهاد، وليس المراد من ذلك أن نكلف الناس ما لا يطيقون، بل إن هذا الزحام وهذه المشقة إذا تأملتها فهي مقدور عليها، وليست بمشقة -والحمد لله- لا يقدر عليها، إنما الخطأ ليس في التشريع، وهذا أمر ينبغي أن يتنبه له، فكثير من الذين يحبون التوسعة على الناس، ولو على حساب النصوص تجدهم يقولون: إن هذا فيه أذية للناس وفيه ضرر وفيه وفيه، نقول لهم: ليس الخطأ في التشريع، وينبغي أن يفرق بين حكم الله وبين أعمال الناس، وطريقة أداء الناس للشعائر، وقيامهم بالمناسك، فإنك لو تأملت هذه العبادة، ولو أن كل مسلم حافظ على حرمة أخيه المسلم، ودخل لرميه أو طوافه أو سعيه متأدباً بآداب الإسلام، محافظاً على حقوق المسلمين، فإنك لا ترى إلا الخير، ولا ترى ما يسوء المسلم أو يؤذيه، ولكن الخطأ في أفعال الناس، وإذا أخطأ الناس في أفعالهم فإن هذا لا يدعونا إلى إلغاء شرع الله، أو التقديم لما حقه التأخير، أو التأخير لما حقه التقديم. فمسائل الفتوى في العبادات توقيفية، إلا فيما فتح الشرع فيه الاجتهاد، فمواقيت الرمي مواقيت تعبدية، وينبغي للمسلم أن يعلم أنه إذا قيل له: إن الاجتهاد يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، أن تقول في جواب هذا: إن الاجتهاد يتغير بتغير الأزمنة والأمكنة فيما هو محل للاجتهاد، أما العبادات التوقيفية والتي ورد الشرع فيها بالإلزام بزمان معين، أو مكان معين فإنه لا يجوز للمسلم أن يقدم على تغيير هذه الصورة المعينة إلا بدليل توقيفي، فكما أنها ثبتت بالدليل التوقيفي لا يجوز تغييرها إلا بدليل توقيفي، وعلى هذا فإننا نقول: لا نستدرك على الله في شرعه، والله أمرنا باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم والتأسي به، وقد ثبتت السنة عنه عليه الصلاة والسلام أنه رمى بعد الزوال في اليوم الثالث وهو يوم التعجل، فإننا لا نرخص للناس ولا نرى وجهاً للترخيص بجواز الرمي قبل الزوال؛ لأن السنة صحيحة وثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقعت بياناً لهذه العبادة الواجبة، والقاعدة في الأصول: أن بيان الواجب يعتبر واجباً. وعلى هذا نخلص إلى أن الرمي يعتبر من واجبات الحج، وهذا الرمي يدخل فيه يوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وينبغي على المسلم أن يراعي الزمان، وأن يراعي الترتيب، فلا يرمي الوسطى قبل الصغرى، ولا يرمي الكبرى قبل الوسطى والصغرى، ولو أن إنساناً رمى الجمرة الكبرى ثم الوسطى ثم الصغرى فإنه يقع رميه عن الصغرى ويلزمه أن يعيد الوسطى ثم يرمي بعدها الكبرى؛ وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقع الرمي مرتباً، قال جمهور العلماء: ومعنى ذلك: أنه لا يصح رميه للثانية إلا بعد فراغ ذمته من الأولى، ولا يصح رميه للثالثة وهي الكبرى إلى بعد فراغ ذمته من الوسطى وهي الثانية، فينبغي الترتيب وإيقاع الرمي على هذه الصفة المرتبة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك لو ابتدأ بالوسطى ثم رمى الكبرى ثم رجع للصغرى، فإن الحكم نفسه؛ يصح رميه للصغرى، ولا يصح رميه للوسطى ولا للكبرى، وعلى ذلك فإنه يلزمه أن يرتب على هذه الصفة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجزي رمي الجمرة إذا كانت مرتبة عن ما قبلها إلا بعد إبراء الذمة برمي التي قبلها؛ لأن الرسول الله صلى الله عليه وسلم أوقع الرمي على هذه الصفة.

جعل الجمرتين الصغرى والوسطى عن يساره بعد رميهما عند الدعاء

جعل الجمرتين الصغرى والوسطى عن يساره بعد رميهما عند الدعاء [ويجعلها عن يساره، ويتأخر قليلاً ويدعو طويلاً ثم الوسطى مثلها] قوله: (ويجعلها عن يساره) يجعل الجمرة عن يساره، أي: إذا أراد الدعاء ينحرف ذات اليسار، ثم قال بعض العلماء: يسهل، يعني: يكون إلى جهة السهل، وهذا قِبَلَ البناء وقِبَلَ البيوت، فيكون السهل ومجرى الوادي متياسراً عنك، فالسنة بعد فراغك من رميك للصغرى أن تمشي كأنك ماض إلى الوسطى وتأخذ ذات اليسار قليلاً، هذا هو الذي يعبر عنه العلماء: بالإسهال، ويعبر العلماء عنه أيضاً: بأخذ ذات اليسار بعد الرمي.

عدم الوقوف عند جمرة العقبة بعد رميها من بطن الوادي

عدم الوقوف عند جمرة العقبة بعد رميها من بطن الوادي [ثم جمرة العقبة ويجعلها عن يمينه، ويستبطن الوادي، ولا يقف عندها] جمرة العقبة سبق وأن ذكرنا أن لها موضعاً مخصوصاً من الرمي وهو بطن الوادي؛ والسبب في ذلك أن جمرة العقبة كانت في حضن الجبل، وعلى هذا لم يكن لها موضع للرمي إلا جهة واحدة، وهذه الجهة المعينة وهي نصف الحوض هي التي يقع فيها الرمي، فلو رماها من غير هذه الجهة قالوا: إنه إذا وقع حصاه خارجاً عن هذا النصف لم يجزه، ولابد من التقيد بهذا القدر الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محل الرمي؛ لأن العبرة في الرمي بالحوض، فإذا كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف الحوض بهذه الصفة فمعناه: أن البقية من الحوض والباقي من جهة الجبل ليس بمحل للرمي، فلو وقعت فيه الحصاة فقد وقعت خارجاً عن محل الرمي، ولذلك لا يجزي أن يرميها إلا من هذا الموضع، لكن قال بعض العلماء في القديم -قبل أن يزال الجبل-: إنه لو رقى الجبل ورماها من الجبل ووقعت حصاته بالجبل فإنه يجزيه، وهو قول طائفة من العلماء؛ لأن الرمي قد وقع، والعبرة بالرمي، وعلى هذا تبرأ ذمته بالإيقاع داخل الحوض، سواء كان من بطن الوادي وهو أفضل، أو كان من على الجبل وهو خلاف السنة، ولكن الأحوط والأفضل أن الإنسان يتحرى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم برميها من بطن الوادي ويكون مستقبل القبلة على الصفة التي ذكرها المصنف رحمه الله؛ لثبوت الخبر عنه عليه الصلاة والسلام في رميه يوم العيد وبقية أيام التشريق على هذا الوجه المعين. قوله: (ولا يقف عندها). أي: ولا يقف عند جمرة العقبة بإجماع العلماء، ولذلك بعض العلماء يقول: إنما يشرع الوقوف بعد الرمي إذا كان بعده رمي، وعلى هذا فالجمرة الصغرى إذا رماها فإنه يقف عندها؛ لأن بعدها رمياً وهو رمي الوسطى فيشرع له الوقوف، والجمرة الوسطى إذا رماها فإنه يقف عندها؛ لأن بعدها رمياً وهو رمي جمرة العقبة فيشرع الوقوف، وجمرة العقبة ليس بعدها رمي وإنما يكون بعدها فراغ من نسك الرمي، سواء في يوم العيد أو أيام التشريق، فلا يشرع الوقوف بعد رميها.

مشروعية استقبال القبلة عند رمي الجمار

مشروعية استقبال القبلة عند رمي الجمار [يفعل هذا في كل يوم من أيام التشريق بعد الزوال مستقبل القبلة مرتباً] قوله: (يفعل هذا) أي: يفعل هذا الفعل تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، مرتباً إياه على الصفة التي ذكرناها؛ لأن السنة وقعت بياناً لواجب، وبيان الواجب واجب.

حكم جمع الرمي إلى اليوم الثاني أو الثالث

حكم جمع الرمي إلى اليوم الثاني أو الثالث [وإن رماه كله في الثالث أجزأه] وإن رمى الجمرات كلها في الثالث أجزأه، استدلوا برخصته عليه الصلاة والسلام للرعاة والسقاة أن يجمعوا رمي اليومين في اليوم الثاني، وكذلك أن يجمعوا رمي اليومين الأخيرين في اليوم الأخير، قالوا: فلما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالجمع دل على أن الوقت يتداخل، وأنه يجوز أن يجمع، ولكن هذا على سبيل العذر دون غير المعذور كما يقول جمهور العلماء، وعلى هذا فلا يجوز للمسلم أن يخالف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بترك الرمي ليوم الحادي عشر أو اليوم الثاني عشر، ويجمع الرمي دفعة واحدة، وإنما عليه أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، فيوقع الرمي في الأيام الثلاثة، الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وجوب النية في الرمي مع الترتيب وجواز التوكيل فيه

وجوب النية في الرمي مع الترتيب وجواز التوكيل فيه [ويرتبه بنيته]. ويرتب الرمي بالنية؛ لأن الرمي عبادة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)؛ والرمي عمل تعبدي ولا يصح إلا بنية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)، فلابد وأن ينويه، وإذا كان وكيلاً عن الغير في الرمي كأن يكون مريضاً، ويكون الإنسان مثلاً عاجزاً كالمشلول، أو يكون مريض القلب الذي لا يمكنه أن يدخل في زحام ليرمي، أو مجروح اليد على وجهٍ لا يمكنه الرمي، فإن هؤلاء يوكلون، وهكذا الحطمة من الناس، الذين يغلب على الظن أنهم لو دخلوا في الزحام لماتوا، أو لتضرروا ضرراً لا يمكن الصبر عليه، أو تلحق بهم مشقة فادحة بحيث لا يكلفون بمثلها، فهؤلاء إذا وكلوا الغير فإنه يشترط في الوكيل أن يكون حاجاً، فلا يصح الرمي وكالة ممن لم يحج، فلو أخذ الحصى وقال لرجل: ارم عني، وكان هذا الرجل غير حاج فإنه لا يجزيه؛ لأن هذه العبادات لا تصح إلا من الحاج، بل لابد وأن يكون متلبساً بالنسك، فإذا كان متلبساً بالنسك وأراد أن يرمي يبدأ رمي الثلاث الجمرات عن نفسه أولاً؛ حتى تبرأ ذمته عن الرمي كاملاً، ثم يرجع ويرمي عن موكله الجمرات الثلاث، سواء كان واحداً أو أكثر من واحد، فلا بأس أن يتوكل عن واحد فأكثر، ولا بأس أن يتوكل الرجل عن المرأة والمرأة عن الرجل، على الأصل الذي ذكرناه في باب الوكالة في الحج.

حكم تأخير الرمي وعدم المبيت بمنى

حكم تأخير الرمي وعدم المبيت بمنى [فإن أخره عنه أو لم يبت بها فعليه دم] أي: إن أخر الرمي عن اليوم الثالث الأخير، أو لم يبت بمنى، الباء للظرفية، بمعنى: في منى؛ لأن من معاني الباء الظرفية، فتقول: محمد بالبيت، أي: في البيت، أي: في داخله. والمبيت بمنى ذكرنا أنه واجب، وحينئذٍ ينبغي أن يكون مبيته داخل حدود منى، ومنى حدها كما لا يخفى من جمرة العقبة إلى وادي محسر، وجمرة العقبة على أصح الأقوال لا تدخل في حدود منى؛ وذلك لأن عمر رضي الله عنه كان يأمر بطرد الناس وإدخالهم إلى منى، فمن وجدوه عند جمرة العقبة وبعدها أمروه أن يدخل إلى منى. أما وادي محسر ففيه وجهان مشهوران للعلماء رحمهم الله: - فمن يقول باتصال المشعرين مزدلفة ومنى يرى أن وادي محسر من منى. - ومن لا يرى الاتصال يراه فاصلاً، وأنه مكان غضب وسخط، ولذلك حرك عليه الصلاة والسلام دابته -كما ثبت في الحديث الصحيح- حينما دفع من مزدلفة إلى منى عندما مر بهذا الوادي. وأما بالنسبة للجهة الشرقية إلى الجنوب، والغربية إلى الشمال فيكتنف منى جبلان: أحدهما يسمى: جبل ثبير، والثاني يسمى جبل الصانع، وهذان الجبلان قد أجمع العلماء على أن ما أقبل منهما من منى وما أدبر منهما ليس من منى، والحد بالقمم، فقمم الجبال هي الفاصل، فإذا كان على القمة فهو على الشبهة، وإنما يكون دون القمة، يعني: دون منتصف الجبل من قمته، فما كان من هذا فما دون فإنه من منى، وما كان من القمة وما وراءها فإنه يعتبر خارجاً عن منى، ولا بد أن يتحقق المبيت بكل الليل أو بأكثر الليل، وأما إذا كان جزءاً من الليل فللعلماء فيه خلاف مشهور: قال بعض العلماء: من اضطجع ونام بمنى ولو سويعات فقد بات بها. وقال بعض العلماء: إن المبيت يتحقق بالثلث فأكثر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير). وإذا قلنا: أكثر الليل، فللعلماء وجهان في ضابط الليل: قال بعض أهل العلم: تحسب من غروب الشمس إلى طلوعها، ثم تقسم على اثنين، وتضيف الناتج إلى ساعة الغروب، فلو كان غروب الشمس في السابعة وطلوع الشمس في السادسة، فهذه إحدى عشرة ساعة، تقسمها على اثنين فتصير خمس ساعات ونصفاً، تضيفها إلى سبع، فيكون منتصف الليل حينئذٍ عند الساعة الثانية عشرة والنصف، هذا بالنسبة لنصف الليل الأول، ثم ما بعد ذلك إذا كان قد دخل إلى حدود منى قبل الساعة الثانية عشرة والنصف، فإنه يكون قد بات بمنى أكثر الليل، وأما إذا كان بعد الثانية عشر والنصف أو في الثانية عشرة والنصف فإنه لم يتحقق المبيت أكثر الليل. وقال بعض العلماء: يحسب أكثر الليل من مغيب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق، وهو أذان الفجر، فيرون أنه من مغيب الشمس، فإذا كان المغيب على السابعة وأذان الفجر على الخامسة مثلاً، فحينئذٍ تحسب ما بين السابعة وبين الخامسة وهي عشر ساعات تقريباً، وحينئذٍ تقسمها على اثنين وهي خمس ساعات، فتقول: إذا دخل قبل الثانية عشرة فإنه يعتبر قد أدرك أكثر الليل وسقط عنه الدم وإلا فلا، هذا بالنسبة لمسألة المبيت. ويتحقق المبيت بمضي أكثر الليل والإنسان في منى، سواء مضى عليه وهو نائم، أو مضى عليه وهو مستيقظ، فإن من كان في حدود منى فقد بات بها، سواء نام أو لم ينم، ولكن السنة أن ينام تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

حقيقة التعجل ووجوب المبيت والرمي لغير المتعجل

حقيقة التعجل ووجوب المبيت والرمي لغير المتعجل [ومن تعجل في يومين خرج قبل الغروب وإلا لزمه المبيت والرمي من الغد]. قوله: (ومن تعجل في يومين) المراد بذلك: أن يتعجل في اليوم الثاني عشر فيخرج من حدود منى قبل مغيب الشمس، فإذا غابت عليه الشمس وهو خارج حدود منى فقد تعجل، والعجلة تستلزم من المسلم أن يأخذ بأسباب التعجل، وذلك بالاحتياط والتحفظ؛ لأن التعجل ورد في صيغة القرآن، في قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203]، هذا اللفظ الذي نص عليه القرآن يدل على شيء من التكلف، وأخذ الحيطة والحزم في الأمر، أما لو أنه قصر وغابت عليه الشمس ولو كان مرتحلاً وعجل فللعلماء فيه وجهان: جمهور العلماء -والمنصوص عليه عند الأئمة-: على أنه يعتبر ملزماً بالمبيت؛ لأنه لم يتعجل حقيقة، وفرق بين تعجل الصورة وتعجل الحقيقة؛ لأن الله يقول: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة:203] وفي للظرفية، ومعنى ذلك: أنه قد حصلت العجلة والخروج من حدود منى في اليومين، واليومان المراد بهما: الحادي عشر والثاني عشر، بمعنى: أنه قد خرج من حدود منى قبل أن تغيب عليه شمس اليوم الثاني عشر، واشترط بعض العلماء: أن يكون تعجله وخروجه من منى على التقوى؛ وذلك لقوله تعالى: {لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203] والمراد بالتقوى كما يقول بعض السلف: أن لا يخرج سآمة من الحج وفراراً من كلفة الحج، كما يفعله بعض العامة، فإنه يريد أن يتعجل لا من باب التقوى وإنما يتعجل سآمة وفراراً من تكاليف الحج، وحينئذ ٍقالوا: لم يتحقق فيه الشرط، ولا يجوز للمسلم أن يسأم العبادة والخير والطاعة والقربة، ولذلك ينبغي لمن تعجل أن ينتبه لهذا الأمر، وهو أن لا يخرج من مشعر منى كارهاً العبادة -والعياذ بالله-، أو سائماً منها أو فاراً من كلفتها وتبعتها، وإنما يخرج على سبيل التقوى والاسترخاص برخص الله كما قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم برخص الله التي رخص لكم). قوله رحمه الله: (خرج) هذا يدل دلالة واضحة على أنه لابد وأن يتحقق الخروج، فإذا لم يحصل الخروج فإنه لم يتعجل، وهذا كما ينص عليه جماهير أهل العلم من السلف رحمهم الله ومن بعدهم: أنه لابد من حقيقة التعجل وذلك إعمالاً لنص القرآن على ظاهره: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203]، وحقيقة التعجل أن يخرج من حدود منى، فإذا خرج من حدود منى بمتاعه ورحله، وأدركه المغيب وهو خارج حدود منى ولو بخطوة واحدة فقد تعجل حقيقة، وحينئذٍ يسقط عنه مبيت اليوم الأخير والرمي عن اليوم الأخير، أما لو خرج عن حدود منى قبل المغيب ثم رجع بعد المغيب وأخذ متاعه فليس بمتعجل، وإنما هو محتال على الشرع ويلزمه المبيت الليلة الأخيرة ويلزمه الرمي لذلك اليوم؛ لأنه لم يتعجل حقيقة، وعبر المصنف بالخروج لكي يدل على أنه إذا لم يقع منه الخروج الحقيقي فليس بمتعجل، ويلزمه ما يلزم من لم يتعجل من مبيت الليلة الأخيرة والرمي إعمالاً للأصل الذي ذكرناه.

وجوب طواف الوداع وأن يكون آخر العهد بالبيت هذا الطواف

وجوب طواف الوداع وأن يكون آخر العهد بالبيت هذا الطواف [فإذا أراد الخروج من مكة لم يخرج حتى يطوف للوداع] قوله: (فإذا أراد الخروج) بمعنى: أنه تهيأ للخروج، لم يخرج من مكة حتى يطوف طواف الوداع، ويسمى: طواف الصَدَر أيضاً، وسمي طواف الوداع؛ لأن الحاج يودع به البيت، والأصل في هذا الطواف: أن الناس كانوا يصدرون من فجاج منى وعرفات إلى بلدانهم، قالت أم المؤمنين عائشة كما في الصحيح: (كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت الطواف)، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اجعلوا آخر عهدكم بالبيت الطواف)، هذا الطواف يسمى: طواف الوداع؛ لأنه آخر ما يكون من الحاج كأنه يودع البيت بالطواف عليه.

لزوم إعادة طواف الوداع لمن اتجر بعده

لزوم إعادة طواف الوداع لمن اتجر بعده [فإن أقام أو اتجر بعده أعاده] قوله: (فإن أقام) بمكة (أو اتجر) أي: إذا باع واشترى فإن عليه أن يعيد طواف الوداع؛ لأن طواف الوداع يشترط فيه أن يخرج مباشرة وقوله: (أو اتجر) فيه تفصيل: التجارة تقع بالبيع والشراء، ومن باع أو اشترى بعد طواف الوداع فله حالتان: الحالة الأولى: أن يقع بيعه وشراؤه على وجه يستعين به على الخروج، كأن يشتري زاداً لراحلته أو يشتري طعاماً لدابته، وفي زماننا لو توقف لوقود السيارة أو تغيير زيت السيارة مثلاً، فهذا التأخر في حكم الخروج؛ لأن المراد به الاستعانة به على الخروج، واغتفر العلماء مثل هذا في الرواحل في القديم، وهو مغتفر في زماننا في السيارات الموجودة ووسائل النقل الموجودة، ولو أراد أن يحجز وحجز لسفر في مركوب أو نحوه وتهيأ للركوب وأخذ يتهيأ له فظل ساعة أو ساعة ونصفاً وهو يتهيأ للسفر والذهاب إلى محطة السفر أو نحو ذلك، فهذا التأخر كله مغتفر إذا كان يسيراً، أما إذا تفاحش فإنه يلزمه الرجوع وإعادة طواف الوداع. الحالة الثانية: أن يتجر على وجه لا يقصد به الاستعانة على الخروج فإنه يُلْزَمُ بالرجوع لإعادة طواف الوداع، فلو خرج واشترى هدية لأولاده أو لزوجه أو لأقاربه، فإنه يلزمه أن يرجع بعد شرائه ويطوف طواف الوداع مرة ثانية؛ حتى يكون آخر عهده بالبيت الطواف، فإذا كان آخر عهده بالحج التجارة، فإنه يلزمه أن يرجع ويكون آخر عهده بالبيت الطواف، على الصفة الشرعية لمكان التعبد، ولذلك قال المصنف: (فإن أقام أو اتجر أعاده) أي: أعاد طواف الوداع بعد ذلك الفعل، الذي لا يعد من جنس الطواف ولا من جنس الخروج.

ترك طواف الوداع للحائض والنفساء

ترك طواف الوداع للحائض والنفساء [وإن تركه غير حائض رجع إليه]. هذا الطواف للعلماء فيه وجهان: أصحهما الوجوب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا آخر عهدكم بالبيت الطواف)؛ ولقول أم المؤمنين عائشة: (فأمروا) والأمر يدل على الوجوب، لكن يرخص للمرأة الحائض والنفساء، فالمرأة الحائض والنفساء تنفر وتصدر مباشرة دون أن تلزم بطواف الوداع؛ لقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (إلا أنه خفف عن المرأة الحائض والنفساء)، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه لما ذكر له أن صفية قد حاضت، قال: عقرى حلقى أحابستنا هي؟! ثم قال: ألم تكن طافت يوم النحر -يعني: طواف الإفاضة- قالوا: نعم، قال: فلا إذن -وفي رواية: انفري-)، فأمرها بالنفر مع أنها لم تكن قد طافت طواف الوداع، وهذا يدل على الرخصة في طواف الوداع بالنسبة للمرأة الحائض والنفساء.

لزوم الدم على من ترك طواف الوداع وشق عليه الرجوع

لزوم الدم على من ترك طواف الوداع وشق عليه الرجوع [وإن تركه غير حائض رجع إليه] وإذا خرج الإنسان من مكة وترك طواف الوداع أو نسيه، ثم تذكره فلا يخلو من حالتين: إما أن يتذكره قبل مسافة القصر فحينئذٍ إذا رجع سقط عنه الدم، وأما إذا تذكره بعد مسافة القصر فإنه يلزمه الدم، سواء رجع أو لم يرجع. [فإن شق أو لم يرجع فعليه دم] لأنه واجب، والواجب يجبر بالدم كما قررناه وذكرنا دليله غير مرة.

دخول طواف الوداع تحت طواف الإفاضة إن أخر

دخول طواف الوداع تحت طواف الإفاضة إن أخر [وإن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج أجزأ عن الوداع] قوله: (وإذا أخر طواف الزيارة) وهو الإفاضة، قوله: (طواف الزيارة) كره بعض السلف تسمية طواف الإفاضة بطواف الزيارة، وقد أُثر عن الإمام مالك رحمه الله أنه كره هذه التسمية، ولكن جمهور العلماء على جواز التسمية بطواف الزيارة؛ لأن مسلماً أورد في صحيحه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صفية: ألم تكن زارت يوم النحر؟ قالوا: نعم، قال: فلا إِذَنْ) فسمى طواف الإفاضة: زيارة، فدل على جواز هذه التسمية، وأنه لا مانع منها ولا كراهة. فإذا أخر طواف الزيارة، كالمرأة الحائض تؤخر طواف الزيارة عن يوم النحر إلى آخر أيام التشريق، ثم تطوف طواف الزيارة وتسافر مباشرة، فحينئذٍ يدخل طواف الوداع تحت طواف الإفاضة؛ لأن القاعدة في الشرع: أنه إذا اندرج الأصغر تحت الأكبر وتحقق المقصود فإنه يجزيه الفعل الواحد. ووجه ذلك: أن المقصود من طواف الوداع أن يكون آخر عهد الإنسان بالبيت الطواف، فإذا طاف طواف الإفاضة فإنه سيكون آخر عهده بالبيت الطواف، وحينئذٍ يجزيه طواف الإفاضة عن طواف الوداع، ويسقط عنه طواف الوداع ولا حرج عليه في ذلك، وعلى هذا قال العلماء إذا أخره مع العذر، أما إذا لم يوجد العذر فخلاف السنة، فالسنة أن يطوف الإنسان يوم النحر وأن يحرص على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به.

أقوال العلماء في وقوف غير الحائض بين الركن والباب

أقوال العلماء في وقوف غير الحائض بين الركن والباب [ويقف غير الحائض بين الركن والباب داعياً بما ورد]. هذا يسمى: الملتزم، وخفف العلماء فيه وقالوا: لا بأس أن يلتزمه الإنسان بأن يلصق صدره به ويدعو ويسأل الله عز وجل من فضله، وينبغي أن يكون خالياً من المحظور، كالتمسح بجدران الكعبة والاعتقاد في هذا الموضع، يعني: لا يجوز للمسلم أن يحدث في مثل هذه الأمور التعبدية زائدة عن الوارد، وإنما قالوا: أثر عن بعض السلف رحمهم الله وفيه حديث مرفوع لكنه تكلم في سنده، وأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن بعض الصحابة أيضاً، وأشار المحب الطبري في كتابه: القرى لقاصد أم القرى، إلى آثار في ذلك، فالوارد عند الملتزم قالوا: يلتزم ويدعو ويسأل الله من فضله، ولا بأس بذلك ولا ينكر على الإنسان إذا فعله، إما إذا كان هناك زحام وتأذى الطائفون بوقوف الإنسان في هذا فإنه يتقي هذا؛ لأنه لا يجوز أذية الطائف، والطواف في البيت هو المقصود، وهي عبادة مقصودة أكثر من الالتزام، ولا ينبغي للإنسان أن يحرص على شيء لم تثبت فيه سنة قوية ثابتة، ومع ذلك قد يؤذي فيه الطائفين، أو يقع في محظور، كمزاحمة النساء ونحو ذلك، فعلى الإنسان أن يتقي مثل هذا، وليس هناك دعاء مخصوص وارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا.

عدم مشروعية الوقوف بباب المسجد الحرام للمرأة الحائض

عدم مشروعية الوقوف بباب المسجد الحرام للمرأة الحائض يقول رحمه الله: [وتقف الحائض ببابه وتدعو بالدعاء]. قوله: (وتقف الحائض بابه) يعني: باب المسجد الحرام؛ لأن الحائض لا تدخل المسجد، وتدعو بما ورد، ووقوف المرأة هذا الوقوف فيه تكلف ولم يثبت به نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك حاضت صفية ولم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقف هذا الموقف، ولذلك لا وجه لهذا ولا أصل له، بل إن المرأة الحائض تصدر من مكانها، وليس لهذا الوقوف داعٍ، وتكلف المجيء إلى المسجد على هذا الوجه ليس له داع، فلا وجه للأمر به والتعبد به على هذه الصفة إلا إذا ثبت نص صحيح، وليس ثم دليل يدل على ذلك، وعليه فإنه لا يشرع للمرأة الحائض أن تقف على هذا الوجه، أو تتكلف المجيء إلى المسجد لهذا الدعاء وهذه المسألة.

عدم مشروعية شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره

عدم مشروعية شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره [وتستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه] قوله: (وتستحب) الاستحباب حكم شرعي، وقولهم: (تستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم) هذا الاستحباب لم يرد دليل عليه، بل ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)، فدل على أنه لا يجوز شد الرحال في السفر لزيارة القبور، سواء كان قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر صاحبيه أو قبر غيرهم من الصالحين أو أي قبر، فلا يجوز للمسلم أن يشد الرحال لزيارة القبور، ولا للدعاء عندها، ولا للذبح ولا للنذر، ومن نذر شيئاً من ذلك فلا يلزمه الوفاء به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شد الرحال، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)، فدل على أن النذر إذا لم يكن على الصفة الشرعية أنه لا يلزم الوفاء به، وعلى هذا فإن قوله: (يستحب شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه) خلاف السنة، وخلاف الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لا تشد الرحال)، وإنما المسنون أن يسافر وينوي من أجل زيارة المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) فينوي زيارة المسجد. وقد فضل الله مسجد نبيه وحبيبه صلوات الله وسلامه عليه على غيره من المساجد، عدا المسجد الحرام، فينوي زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وينوي الصلاة في المسجد ولا ينوي زيارة القبر، وإنما ينوي هذه الزيارة الشرعية ويشد الرحال من أجل المسجد، تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث رغب في ذلك بقوله: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، وإذا زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ينبغي له إذا دخل المسجد أن يبدأ بتحية المسجد قبل أن يبدأ بأي شيء، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح في قصة المسيء صلاته: (فإن المسيء صلاته لما دخل المسجد جاء وركع ركعتين ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال عليه الصلاة والسلام: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ارجع فصلِّ) قال العلماء: في هذا دليل على أن من دخل المسجد ينبغي أن يبدأ أول ما يبدأ بتحية المسجد؛ لأن الرجل ابتدأ بتحية المسجد ثم سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أن السنة أن يبدأ بتحية المسجد قبل السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فرغ من التحية مضى إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام الشرعي، ثم يسلم على أبي بكر، ثم يسلم على عمر وجزاهما عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وسأل الله لنبيه عليه الصلاة والسلام الوسيلة، ثم بعد ذلك ينصرف، ولا يستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الاستغاثة والاستجارة والدعاء كلها أمور لا يجوز صرفها لغير الله جل جلاله، فإن الله لا يأذن لعبده أن يدعو سواه، أو يستغيث بأحد عداه، أو يستجير به، فإنه لا يملك النفع أو الضر إلا الله جل جلاله، الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، فلا يجوز أن يقول: يا رسول الله! اشفني، أو يا رسول الله! عافني، أو يا رسول الله! أغثني، أو يا رسول الله! مدد، فإنه لا يشفي ولا يكفي ولا يجير ولا يدفع السوء إلا الله، ولا يقول: يا رسول الله! حقق لي سؤلي، أو اشفع لي عند ربي، أو نحو ذلك من الأمور التي لا يجوز صرفها إلا لله عز وجل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى بالشرك في مكان آخر، فضلاً عن يأتي الإنسان لزيارته والسلام عليه صلوات الله وسلامه عليه ويشرك عند قبره، فالحرمة أعظم، وعلى من زار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراعي الأدب، فلا يرفع صوته عند قبره وإنما يغض من صوته ويسلم السلام الشرعي، ولا يتكلف بطول القيام وهو يمطط العبارات وينمق الكلمات، أو يغلو في وصفه عليه الصلاة والسلام، وإنما يسلم سلاماً شرعياً كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيونه صلوات الله وسلامه عليه، وهذا هو الوارد، وهذه هي الزيارة الشرعية. وأما أن يقف الإنسان الوقفات الطويلة، وهو يمطط العبارات ويترنم بالكلمات، ولربما تكون -والعياذ بالله- مشتملة على صرف حق الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل أن يقول: يا مغيث الملهوفين! ويا ملاذ الهاربين! ويا أمان الخائفين! هذا كله ليس إلا لله جل جلاله، فلا أمان إلا من الله، فهو الذي يؤمِّن الخائف، وهو الملاذ للهارب والمعين للمستعين، والغوث للمستغيث، والمجير للمستجير: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] سبحانه لا إله إلا هو، فالله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم من أجل هذا الأصل وهو: أن يعبد الله وحده لا شريك له، وأن يفرده بالعبادة، وأن يصرف حق الله لله خالصاً، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يستهين بمثل هذه الأمور، فبين الإسلام والشرك كلمة واحدة، فلو قال: يا رسول الله! اشفني، فإنه شرك أكبر -نسأل الله السلامة والعافية-، أو قال: أغثني، أو أدركني، أو المدد؛ كل ذلك من الشرك الأكبر، الدعاء والاستغاثة والاستجارة بغير الله كائناً ما كان ذلك المغاث به، سواءً كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً، من الشرك الأكبر، قال الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57]، فالله عز وجل ذكر عن هؤلاء الصالحين الذين يُعْبَدُون من دون الله، قيل: إنها نزلت في عيسى بن مريم حين عبدته النصارى واتخذته إلهاً من دون الله، فقال الله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:57]، فهؤلاء الصالحون يدعون الله ويلتجئون إلى الله، فحري بالمسلم أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يعلم أن لله حقاً ولرسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً، ولا يجوز صرف حق الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام ما بعث ولا أرسل إلا من أجل هذا الأصل، وهو: إفراد الله بالعبادة، وصرف ما لله خالصاً لوجهه الكريم، والله يخاطب رسوله عليه الصلاة والسلام ويقول له: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66]، أي: كن من الموحدين المخلصين له سبحانه وتعالى. فينبغي على المسلم أن يفرد الله بالعبادة، وأن يصرف حق الله خالصاً لوجهه، مثل: الدعاء والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك من الحقوق التي لا ينبغي صرفها إلا لله سبحانه وتعالى لا شريك له، وخاصة إذا كان المسلم قد جاء إلى الحج، فبينه وبين الله عهد وهو يقول: لبيك لا شريك لك لبيك، فمعنى ذلك: أنه سيفرد الله بالعبادة ولا يصرف حق الله عز وجل لغيره كائناً ما كان ذلك الغير.

الأسئلة

الأسئلة

مشروعية صلاة ركعتي الطواف

مشروعية صلاة ركعتي الطواف Q لم يذكر المؤلف رحمه الله تعالى أن بعد طواف الإفاضة صلاة ركعتين، فهل تشرع الصلاة بعده، أم لا، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فلكل طواف بالبيت ركعتان، ويلزم بهاتين الركعتين في طواف الإفاضة وغيره بإجماع العلماء. والله تعالى أعلم.

وصايا عامة لمن وفقه الله للحج وما يكون عليه بعد الحج

وصايا عامة لمن وفقه الله للحج وما يكون عليه بعد الحج Q هل من كلمة أو وصية لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان بعد حجه، أثابكم الله؟ A من وفقه الله للحج إلى بيت الله الحرام، فأول وصية له: أنه ينبغي عليه أن يحمد الله جل جلاله، وأن يشكره على فضله، يشكر نعمة الله التي أنعم بها عليه، ومنته التي أسدى إليه، ويقول: اللهم! لك الحمد ولك الشكر اخترتني من بين الملايين من الأمم، وحملتني على ما يسرت لي، وهديتني وأعنتني، وسلمت لي بدني وصحتي، ووفقتني إلى أداء هذه المناسك والشعائر لا أحصي ثناء عليك، ومن شكر الله زاده، ومن حمد الله فإن الله يحب أن يحمد ويحب أن يثنى عليه ويحب أن يمجد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أهل الثناء والمجد) فيحمد الله عز وجل أولاً. الوصية الثانية: من حج إلى بيت الله الحرام فإن الله عز وجل أكرمه ويسر له بالوقوف في هذه المشاعر والمناسك، فحط الآثام ومحيت عنه الخطايا، وتقرب إلى الله عز وجل بإراقة دمعة الندم، وأحس بالألم لما كان مما سلف من الذنوب والعصيان، فهجر هذه الذنوب وقلاها، وبكى بكاء الندم بين يدي الله مستغيثاً مستقيلاً تائباً راجياً رحمة الله جل جلاله، الله أعلم كم في هذه الرحاب من ذنوب غفرت، وخطايا محيت، وسيئات أقيل أصحابها، وعثرات أقال الله من تلبس بها، فهي منازل الكرم ومنازل الجود من الله جل جلاله سبحانه، له الحمد وله الفضل لا نحصي ثناء عليه، فإذا أحس المسلم أن الله أنعم عليه بهذه النعمة، فليكن أيضاً من شكره أن يحسن فيما بقي من عمره، وأن يكسر قلبه لله، وأن يسأل الله أن يحسن له الخاتمة، وأن يحسن له فيما بقي من الأجل، ويقول: يا رب! أسألك فيما بقي من عمري عملاً صالحاً يقربني إليك، فيرجع بقلب جديد وقالب جديد وعمل صالح رشيد. الوصية الثالثة: عليه أن لا يفتخر وأن لا يرائي، وأن لا يدلي على الله بنعمته، بل عليه أن يقول: اللهم! إني أسألك القبول. الوصية الخامسة: من دلائل قبول الحج أن يكون حال الإنسان بعد الحج أفضل من حاله قبل الحج، ولن يكون ذلك إلا بفعل فرائض الله، وترك حدود الله ومحارم الله، والخوف من عذاب الله ولقاء الله، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ذلك الرجل، وعلى المسلم إذا رجع إلى أهله ورجع إلى وطنه وإلى بلده أن يرجع بعمل صالح جديد، وأن يحاول أن يغير من أخلاقه، فإن الإسلام أدبه وهذبه بهذه العبادة، فالذي حج إلى بيت الله الحرام، وامتنع من وطء ومباشرة زوجته -وهي حلال عليه- أيام الحج، حري به أن يتقي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والذي حج إلى بيت الله الحرام وعف عن الرفث والفسوق والجدال في الحج، حري به أن يرجع عفيفاً عن أعراض المسلمين، فلا يغتاب ولا يقع في النميمة ولا يؤذي المسلمين، يرجع بحال جديد ويصلح ما بينه وبين الله، وما بينه وبين عباد الله. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل حجنا مبروراً، وسعينا مشكوراً، وذنبنا مغفوراً، وعملنا صالحاً متقبلاً مبروراً. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

باب صفة الحج والعمرة [4]

شرح زاد المستقنع - باب صفة الحج والعمرة [4] ما من عبادة إلا ولها صفة شرعية، بينها الله عز وجل أو بينها الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن هذه العبادات: العمرة، والعمرة من أجل الطاعات وأحب القربات إلى الله عز وجل، وهي تقع على سبيل اللزوم وعلى سبيل النفل. ويستحب للمسلم أن يكثر من العمرة إلى بيت الله الحرام، وذلك لما فيها من الأجر والثواب، كما جاءت بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

بيان صفة العمرة وأحكامها وفضائلها

بيان صفة العمرة وأحكامها وفضائلها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فالمصنف رحمه الله تعالى يقول: [وصفة العمرة أن يحرم بها من الميقات أو من أدنى الحل] لقد شرع المصنف رحمه الله في بيان صفة العمرة، والعمرة من أجلّ الطاعات وأحب القربات إلى الله عز وجل، وكتاب المناسك يعتني فيه فقهاء الإسلام رحمهم الله ببيان أحكام الحج والعمرة، فبعد أن فرغ رحمه الله من بيان مناسك الحج وصفة الحج إلى بيت الله الحرام، شرع في بيان مناسك العمرة وصفتها، وهذا يعتبره أهل العلم رحمهم الله من باب التدرج من الأعلى للأدنى، فقد بيّن رحمه الله الحج الأكبر وبيّن صفاته وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، ثم شرع في بيان الحج الأصغر وهو العمرة. قوله: (وصفة العمرة) صفة الشيء حليته وما يتميز به عن غيره، والعبادات توقيفية، حيث أن المكلف فيها يتوقف على نص الشرع من الكتاب والسنة في كيفية أدائها والقيام بها على وجهها. فهو رحمه الله سيبين ما ينبغي على المعتمر أن يقوم به إذا أراد أن يؤدي هذا النسك، والعمرة أصلها في لغة العرب: الزيارة، وتطلق أيضاً بمعنى: القصد، ومن إطلاقها بمعنى الزيارة، قول العرب: جاءنا معتمراً، أي: جاءنا زائراً، وكذلك يقولون: اعتمر بمعنى قصد، ومن هنا قال أهل العلم رحمهم الله: إن العمرة في اصطلاح الشرع: القصد إلى بيت الله الحرام على الوجه المخصوص، والمراد بهذا الوجه المخصوص: أن يؤدي مناسك العمرة بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة.

وقوع العمرة على سبيل اللزوم والنفل وصور الوجوب

وقوع العمرة على سبيل اللزوم والنفل وصور الوجوب وهذه العبادة -أعني العمرة- تقع على سبيل اللزوم وعلى سبيل النفل، فتكون واجبة على المكلف وتكون نفلاً تطوعاً من المسلم غير واجبة عليه، فأما وجوبها فيأتي على صورتين: الصورة الأولى: أن يلزمه بها الشرع، وهذا إن توفرت الشروط المعتبرة ووجدت عند المكلف، وهذا القول -أعني: القول بوجوب العمرة- إنما هو على أحد قولي العلماء رحمهم الله، وقد ذكرنا نصوص الكتاب والسنة التي تدل على رجحان هذا القول، وأن الله فرض على المسلم أن يعتمر إلى بيته الحرام، كما فرض عليه الحج إلى بيته الحرام، وذكرنا هذا الخلاف، وذكرنا أدلة القولين وحجج الطائفتين، وأن الأقوى والأرجح هو القول: بوجوب العمرة، ولذلك وصفت بكونها حجاً أصغر؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة:3]، فجعل الحج منقسماً إلى حج أكبر وحج أصغر، وهي واجبة على المكلف بإيجاب الشرع مرة في العمر، كوجوب الحج، لكن هذا الوجوب يتقيد بشرائط، وقد تكلمنا على هذه الشرائط في مقدمة مناسك الحج، وذكرنا ما الذي ينبغي توفره من الشروط للحكم بوجوب الحج والعمرة. الصورة الثانية: أن يقوم المكلف بإلزام نفسه بها، وذلك إذا نذر بالعمرة إلى بيت الله الحرام فقال: لله عليَّ أن أعتمر في رمضان، أو لله عليَّ أن أعتمر هذا الأسبوع، فإنها تكون واجبة ولازمة عليه، ولكن هذا الإيجاب والإلزام إنما هو من نفسه وليس من الشرع. أما وقوعها على سبيل النفل ففي كل وقت، في أشهر الحج وغيرها، وكونها نافلة فهي طاعة وقربة من أجل الطاعات والقرب وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى؛ لاشتمالها على توحيد الله سبحانه، ونية التقرب له سبحانه وتعالى والإهلال بالتوحيد والتلبية، ثم الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، مع اشتمالها على ذكر الله عز وجل وإقامة شعائره، ولذلك وردت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم في استحباب العمرة وفضلها، حتى صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الصلوات الخمس، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة مكفرات ما بينهن ما اجتنبت الكبائر)، فجعل العمرة إلى العمرة مكفرة ما بينهما بشرط اجتناب الكبائر، ومعنى ذلك أنها لا تبقي صغائر الذنوب، وهذه نعمة ورحمة من الله سبحانه وتعالى، فإن الصغائر وإن كانت ذنوباً يسيرة إلا أنها إذا اجتمعت ربما أهلكت العبد والعياذ بالله! والله عز وجل يتدارك عبده بلطفه حينما جعلها مكفرة لذنبه، فإن هذا التكفير وإن كان من صغائر الذنوب رحمة من الله سبحانه، وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام، وصححه غير واحد من العلماء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب إلى المتابعة بين الحج والعمرة فقال: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الذنوب والفقر كما ينفي الكير خبث الحديد والفضة)، فبيّن هذا الحديث فضل الاعتمار إلى بيت الله الحرام، واستحب السلف رحمهم الله هذه الطاعة وفضلوها.

تحقيق العمرة وحصول أجرها وفضلها على وجهين

تحقيق العمرة وحصول أجرها وفضلها على وجهين يكون الإنسان معتمراً على وجهين: الوجه الأول: أن يعتمر اعتماراً حقيقياً فينال هذا الفضل. والوجه الثاني: أن يكون في حكم المعتمر من جهة الثواب وحصول الفضيلة، فيكون معتمراً فضلاً لا حقيقة، بمعنى: أن الله يعطيه ثواب العمرة، وذلك بطاعات ورد الشرع بفضلها والترغيب فيها، ومن ذلك التطهر في البيت وإتيان مسجد قباء والصلاة فيه، قال صلى الله عليه وسلم: (من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء وصلى فيه كان له كأجر عمرة)، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من صلى صلاة الصبح في جماعة ثم جلس في مجلسه -وفي رواية: في مقعده- يذكر الله حتى تطلع عليه الشمس ثم صلى ركعتين كان له كأجر حجة وعمرة تامة تامة)، فهذا الفضل من جهة التنزيل، أي: أنه ينال فضل الاعتمار والحج إلى بيت الله الحرام.

مشروعية تكرار العمرة في عام واحد على الصحيح

مشروعية تكرار العمرة في عام واحد على الصحيح هنا مسألة فقهية اختلف العلماء رحمهم الله فيها وهي: إذا كانت النصوص قد دلت على فضيلة الاعتمار إلى بيت الله الحرام وزيارته، فهل الأفضل أن يكرر المسلم ذلك الاعتمار، أو لا يكرره؟ فقال جمهور العلماء: يستحب للمسلم أن يكثر ويكرر من الاعتمار بالبيت، وبهذا القول قال فقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الظاهر والحديث، فقالوا: يستحب للمسلم أن يكثر من العمرة، وأنه لا بأس أن يعتمر أكثر من عمرة في عام واحد. وذهب بعض السلف، وهو قول الإمام مالك رحمه الله: إلى أنه لا يكرر العمرة في السنة أكثر من مرة، أي: أنه لا يشرع تكرار العمرة. واحتج الجمهور على مشروعية تكرار العمرة بقوله عليه الصلاة والسلام: (الصلوات الخمس، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة مكفرات ما بينهن) قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص في هذا الحديث على أن ما بين العمرتين يغفر بشرط ترك الكبيرة، ويفهم من الحديث الترغيب والندب للإكثار منها، فدل على الاستحباب ولم يرد ما يقيد ذلك بعام ولا غيره. أما الدليل الثاني الذي دل على مشروعية تكرار العمرة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تابعوا بين الحج والعمرة) قالوا: إن هذا يدل على مشروعية التكرار، فإن المتابعة بين الحج قد يكون الإنسان في حجه متمتعاً، وقد يكون في حجه قارناً، وعلى هذا يتابع بين عمرة حجه وعمرة مستقلة. وكذلك أيضاً من أنسب الأدلة وألطفها، والتي استدل بها على مشروعية تكرار العمرة، ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يأتي قباءً كل سبت)، فكونه عليه الصلاة والسلام كان يأتي مسجد قباء كل سبت، إنما هو لفضيلة العمرة، فلما تكرر ذلك منه دل على ندب واستحباب تكرار العمرة. وقد جاء عن طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كرروا العمرة في العام الواحد، أثر ذلك عن أبي بكر الصديق، وكذلك أثر عن بنته الصديقة عائشة رضي الله عن الجميع، وأثر عن عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عن الجميع، أنهم كانوا يعتمرون أكثر من عمرة في العام الواحد، وهذا هو القول الصحيح والأولى، خاصة وأن الأصل يدل على مشروعية ذلك. وقوى بعض العلماء هذا القول: بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما حجت معه أم المؤمنين عائشة كما في الصحيحين، وكان حجها تمتعاً، فلما أصابها الحيض قبل أن تتحلل من العمرة أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنقلب قارنة، فانقلبت قارنة لقوله عليه الصلاة والسلام في ختام حجها: (طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة كافيك لحجك وعمرتك) فحكم عليه الصلاة والسلام بأنها قد جمعت بين الحج والعمرة وذلك بالقران، ومع كونها قد جاءت بحج وعمرة قراناً فإنها أصرت على أن تعتمر، فأذن لها أن تعتمر من الحل فاعتمرت من التنعيم رضي الله عنها وأرضاها، وهذا بلا إشكال تكرار للعمرة بعد العمرة، فدلت هذه النصوص على مشروعية التكرار، خاصة وأن الشرع لم يقيد ذلك بحد كما لا يخفى.

أقسام صفة العمرة وحكم كل قسم

أقسام صفة العمرة وحكم كل قسم صفة العمرة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: صفة الإجزاء: وهذه الصفة هي التي يبين فيها أركان العمرة وواجباتها، بمعنى: أنه يجب على المكلف أن يوقع عمرته على هذه الصفة، ولا تجزيه عمرته إلا إذا وقعت على هذا الوجه المخصوص، الذي دلت النصوص الشرعية على لزومها. القسم الثاني من صفات العمرة: صفة الكمال: وهي الصفة التي يعتنى فيها ببيان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الكامل، فتذكر فيها الأركان والواجبات والسنن والمستحبات، فهذه الصفة الثانية فيها ما هو لازم على المكلف أن يأتي به: كالطواف، والسعي، والحلق أو التقصير، الذي هو التحلل، وابتداء النسك بالإحرام، ومنها ما ليس بلازم ولا واجب عليه، وإنما هو على سبيل الندب والاستحباب: كالأذكار المستحبة، وكيفما كان فأهل العلم رحمهم الله برحمته الواسعة يعتنون في كتبهم ببيان الصفتين.

حكم الإحرام للعمرة الواجبة والمستحبة ومكان الإحرام

حكم الإحرام للعمرة الواجبة والمستحبة ومكان الإحرام قوله: (أن يحرم بها) أي: بالعمرة، فإن كانت واجبة عليه أحرم ناوياً إبراء ذمته من الفرض، وإن كانت نذراً نواها نذراً، وإن كانت نافلة نواها نافلة، وإن كانت عن غيره أحرم بها عن ذلك الشخص. قوله: (من الميقات) أي: ميقاته الذي أوجب الله عليه أن يحرم منه، وقد تقدم معنا في أول كتاب المناسك بيان المواقيت التي وردت في حديثي الصحابيين الجليلين عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع وأرضاهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان حدود المواقيت، فهو بقوله: (أن يحرم بها من ميقاته) أي: أن العمرة كالحج، فكما أنه في الحج يلزم بالإحرام من الميقات، كذلك في العمرة يحرم من ميقاته، فإن كان دون الميقات فإنه يحرم بها من حيث أنشأ، حتى وإن كان قريباً من حدود الحرم وليس بينه وبين الحرم إلا اليسير، فإنه يحرم من موضعه، وهكذا لو دخل دون المواقيت ثم طرأت عليه العمرة، فإنه من حيث طرأت عليه وأنشأ العمرة يحرم وذلك ميقاته.

أقسام الناس في المواقيت والإحرام

أقسام الناس في المواقيت والإحرام قوله: (أو من أدنى الحل) الناس ينقسمون إلى قسمين: القسم الأول: أن يكونوا خارجين عن المواقيت، فهؤلاء يتقيدون بالمواقيت إن دخلوا مارين بها ناوين العمرة، فيحرمون منها كما تقدم. القسم الثاني: أن يكونوا دون المواقيت، وهؤلاء ينقسمون أيضاً إلى قسمين: القسم الأول: منهم من هو دون الميقات خارج حدود الحرم، فهؤلاء يحرمون من مواضعهم كأهل عسفان وقديد، وهكذا أهل اليتمة فإنهم دون ميقات المدينة فيحرمون من اليتمة، وهكذا أهل المهد يحرمون من المهد؛ لأنهم دون ميقات المدينة ولا يؤخرون لمحاذاة ميقات الجحفة؛ لأن ميقات الجحفة للساحل، وهكذا بالنسبة لمن كان بعسفان وقديد يحرمون من عسفان وقديد؛ لأنهم دون ميقات المدينة، فإذا بلغوا إلى قديد، فإن من جاوز قديد يكون قد تداخل الميقاتان في حقه، فيصبح دون ميقات المدينة ودون ميقات الجحفة فيحرم من موضعه. القسم الثاني: هم أهل مكة ومن كان قد طرأت عليه العمرة وهو داخل حدود الحرم، فهؤلاء ميقاتهم أن يخرجوا إلى أدنى الحل؛ لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لم تكن من أهل المواقيت حينما طرأت عليها العمرة؛ لأن العمرة -كما ورد النص- إنما طرأت عليها بمكة، وقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين-: (أيرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحج؟! فقال عليه الصلاة والسلام: طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة كافيك لحجك وعمرتك، فأبت)، فحينئذٍ تأمل قولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيرجع الناس بحج وعمرة) معناه: أنها تريد العمرة وخاطبته داخل حدود الحرم، فلما وقع خطابها لرسول الله صلى الله عليه وسلم داخل حدود الحرم، فإنها حينئذٍ تكون في حكم أهل مكة، فلما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى أدنى الحل، دل على أن المكي ينشئ العمرة من أدنى الحل، وهذا واضح وظاهر، وعلى هذا قالوا: إن المكي إذا أنشأ العمرة فإنه ينشئها من أدنى الحل؛ لأن أم المؤمنين رضي الله عنها لما أنشأت عمرتها داخل مكة أخذت حكم أهل مكة بالإجماع، فدل على أن ميقات المكي أن يحرم من أدنى الحل لكي يجمع بين الحل والحرم. قوله: [من مكي ونحوه لا من الحرم]. هذا من باب التنويع، فقال: من ميقاته، أو من موضعه، أو من أدنى الحل، فجمع الأحوال الثلاثة للطوائف الثلاث: من كان آفاقياً، ومن كان بين المواقيت والحرم، ومن كان داخل الحرم وطرأت له عمرته داخل الحرم.

إجزاء الإحرام لمن بمكة من التنعيم وغيره

إجزاء الإحرام لمن بمكة من التنعيم وغيره وليس الحكم متوقفاً على التنعيم، قالت أم المؤمنين: (والله ما ذكر التنعيم ولا غيره)، فلو أن إنساناً من أهل مكة أراد أن يحرم بالعمرة -أو آفاقياً جاء إلى مكة وأنشأ العمرة- فإنه يجزيه أن يصيب أدنى الحل، فلو خرج إلى عرفات أو أدنى الحل من جهة اليمن أو من جهة جدة التي هي الحديبية، فحينئذٍ لو خرج إلى أدنى الحل ولو خطوة واحدة وأحرم منه، وجمع بين الحل والحرم لصح وأجزأ، قال العلماء: لله الحكمة البالغة، فإن الناس إذا حجوا والمكي معهم، فإن المكي في حجه يجمع بين الحل والحرم، وذلك أنه يخرج إلى عرفات، ولا يصح حجه إلا بالخروج إلى عرفات، وعرفات خارج حدود الحرم، فهو في حجه يجمع بين الحل والحرم، ولكنه في عمرته لا يبقى داخل الحرم وإنما يؤمر بالخروج؛ لأن العمرة كالحج، ومن هنا قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة:3]، وقال عليه الصلاة والسلام: (واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك)، فهناك تداخل بين العبادتين، فقالوا: إنه يجمع بين الحل والحرم كما جمع في حجه بين الحل والحرم. فقد كانت قريش وأهل الشرك في الجاهلية يرون أن أهل مكة لا يخرجون عن حدود الحرم، فكان فعله عليه الصلاة والسلام يوم حجة الوداع إلغاء لهذا الأمر، الذي أحدثته قريش وأحدثه الحمس، حينما كانوا يقولون: نحن أهل الحرم، ولا يخرجون من حدود الحرم، وهو الذي عناه الله بقوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199]، وعلى هذا قالوا: إنه في العمرة يجمع بين الحل والحرم كما يجمع في حجه بين الحل والحرم.

الأعمال التي يأتيها المعتمر قبل التحلل

الأعمال التي يأتيها المعتمر قبل التحلل [فإذا طاف وسعى وحلق أو قصر: حل] أي: إذا طاف وسعى بين الصفا والمروة عن عمرته، وحلق أو قصر فقد حل من عمرته. وهناك أمور لازمة بالنسبة للعمرة: الأمر الأول: يحرم للعمرة، ولذلك عده جمع من العلماء ركناً من أركان العمرة، وقال بعض العلماء: الإحرام من الواجبات وليس من الأركان، وقد تقدم معنا هذا الخلاف. الأمر الثاني: أن يطوف بالبيت؛ لأن المقصود من العمرة زيارة البيت، ومن هنا كره بعض السلف لأهل مكة أن يعتمروا؛ لأن الأفضل لهم بدل أن يخرجوا إلى الحل أن يطوفوا بالبيت، والزيارة إنما هي للآفاقي، ولمن هو خارج حدود مكة، بخلاف المكي فإنه يتمكن من الطواف، ومن هنا شدد ابن عباس رضي الله عنهما وأصحابه في هذا، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله. وعليه فإن العمرة يلزم لها الطواف، وهذا الطواف يعتبر بقصد الزيارة إلى البيت وبه تتحقق زيارة البيت. الأمر الثالث: أن يسعى بين الصفا والمروة، وهو ركن من أركان العمرة كما سيأتي إن شاء الله. الأمر الرابع: أن يحلق أو يقصر، فإذا حلق أو قصر فقد تحلل من عمرته. هذه الأمور كلها لازمة، ولم يفصل رحمه الله في صفة الطواف ولا في صفة السعي، ولم يبين ذلك؛ لأنه سبق وأن بيّن صفة الطواف الكاملة في الحج، وعلى هذا اكتفى في العمرة بالإجمال فقال: يطوف، ثم يسعى، ثم يحلق أو يقصر، وقد بسط ذلك وبينه وبين هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطواف، وفي السعي بين الصفا والمروة، وكذلك في بيان أحكام الحلق والتقصير.

جواز العمرة في كل وقت عدا أيام التشريق للحاج

جواز العمرة في كل وقت عدا أيام التشريق للحاج [وتباح كل وقت وتجزئ عن الفرض] وتباح العمرة كل وقت؛ وذلك لأن الأصل الشرعي أن ما ورد مطلقاً في الشرع يبقى على إطلاقه حتى يرد ما يقيده، ولم يرد في الكتاب والسنة تقييد العمرة بزمان معين، لكن وردت النصوص بتفضيل بعض الأزمنة على بعض، فالعمرة في رمضان تعدل حجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (عمرة في رمضان كحجة معي)، فأفضل أوقات العمرة رمضان، قال بعض العلماء: ويلتحق برمضان عشر ذي الحجة، فإن الاعتمار بها فيه فضيلة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله عز وجل من هذه العشر، قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع بشيء من ذلك) قالوا: فهذا نص صحيح صريح يدل دلالة واضحة على فضيلة العمل الصالح، والعمرة من الأعمال الصالحة. وقال بعض العلماء: إن العمرة في أشهر الحج لها فضيلة، حتى لو لم يحج؛ والسبب في ذلك أن أكثر عُمَرِ النبي صلى الله عليه وسلم وقعت في أشهر الحج، وقد تكلم الإمام ابن القيم كعادته كلاماً نفيساً في الهدي النبوي، وذكر أن غالب عمره عليه الصلاة والسلام كانت في ذي القعدة وفي أشهر الحج، وأن ذلك من هديه صلوات الله وسلامه عليه، فإيقاع العمرة في أشهر الحج له فضيلة أيضاً، ومن هنا قال بعض العلماء بتفضيل التمتع لوجود هذه العمرة فيه؛ لأن المتمتع يأتي بعمرة في أشهر الحج، وقد كان من هديه صلوات الله وسلامه عليه إيقاع عمره في أشهر الحج في غالب أحواله. وكره بعض العلماء إيقاع العمرة في أيام التشريق، وهذا بالنسبة للحاج، وهو وجيه؛ والسبب في ذلك أنه لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا ينبغي عليه البقاء في نسك الحج حتى يتمه، فإذا أتم حجه فحينئذٍ يتفرغ لغيره من المناسك، أما أن يأتي بعمرة قبل أن يتم حجه في أيام التشريق، فهذا شدد فيه طائفة من العلماء، ونصوا على كراهيته؛ وذلك لمخالفته لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولإدخاله العبادة على العبادة، وهذا الوقت مما استثناه أهل العلم رحمهم الله من الأزمنة التي تؤدي فيها العمرة، وأما سائر أوقات العام فإنه يجوز إيقاع العمرة فيها، سواء وقعت بالليل أو وقعت بالنهار، وكانوا يستحبون إيقاع العمرة للنساء في الليل؛ لمكان الستر، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها إذا أرادت أن تطوف بالبيت انتظرت إلى الليل، ثم أمرت القائمين على المسجد أن يخفضوا من أنوار المسجد وشموعه، ثم تطوف رضي الله عنها وأرضاها طلباً للستر، لذلك قال بعض العلماء: الاعتمار والطواف للنساء في الليل إذا كان أستر لهن فهو أفضل وأكمل؛ لما فيه من البعد عن فتنتهن، وكذلك افتتان غيرهن بالنظر إليهن.

تأدية العمرة في أي وقت تجزئ عن الواجب

تأدية العمرة في أي وقت تجزئ عن الواجب قوله: (وتجزئ عن الفرض). أي: أنه لو أوقع عمرته في أي وقت من العام، فقد برئت ذمته إذا كان لم يعتمر، وتجزئ تلك العمرة عن عمرته الواجبة، وتسقط عنه فريضة العمرة.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من اعتمر ولم ينو بعمرته الفريضة

حكم من اعتمر ولم ينو بعمرته الفريضة Q ذكرتم حفظكم الله! في كلامكم: أن المريد للعمرة ينوي في عمرته فرضاً أو نفلاً، وقد اعتمرت كثيراً إلا أنني لا أذكر أنني نويت بعمرة الفريضة، فهل عليَّ أن أقوم بعمرة غيرها، أم لا، أفيدونا أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فمن نوى العمرة ولم يكن قد اعتمر من قبل فإنها تنقلب عمرته إلى الفريضة، هذا إذا توفرت فيه شروط الوجوب، وهكذا لو نوى عن غيره مع أنه لم يعتمر عن نفسه وتوفرت فيه شرائط الوجوب، انقلبت عمرته إلى نفسه، وهكذا لو كان عليه نذر ثم نوى النافلة فإنهم يقولون بانقلاب النافلة إلى النذر، على أحد قولي العلماء، وفيه نظر لا يخفى. فالمقصود: أنك حينما اعتمرت أول ما اعتمرت، فحينئذٍ تكون العمرة الأولى منصرفة إلى الفرض، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة)، فأوقع الفعل من ذلك المكلف عن الفرض اللازم له في حق نفسه، وعلى هذا قالوا: إنه تنقلب عمرته إلى الفرض، ويصبح في هذه الحالة قد أدى فريضته بأول عمرة. والله تعالى أعلم.

أقوال العلماء في المتابعة بين العمرة والعمرة

أقوال العلماء في المتابعة بين العمرة والعمرة Q هل هناك وقت محدد يكون فيه المتابعة بين العمرة والعمرة، أم أنه لا تحديد لذلك؟ A ليس هناك نص يحدد ما بين العمرة إلى العمرة، وقال بعض العلماء: الفصل بينهما نبات الشعر، فإذا كان الإنسان ينبت شعره في زمان يفصل به بين عمرته الأولى والثانية فإنه يأتي بالعمرة بعد، وكان بعض العلماء يقول: أن يكون له في كل شهر عمرة إذا تيسر له ذلك، وقد جاء ذلك عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لمن كان قريباً من البيت ولا يشق عليه إن فعل ذلك، وكان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: أستحب له أن يعتمر في كل شهر مرة؛ لأن الشعر غالباً ينبت خلال الشهر. وأثر عن علي رضي الله عنه قريب من هذا، واعتمر الصحابة رضوان الله عليهم، وورد عن بعضهم أنهم كانوا يعتمرون في السنة مرتين كأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وكذلك عبد الله بن عمر أثر عنه أنه كان يعتمر في السنة مرتين، وهذا الأمر ليس فيه تقييد معين، لكن ضبطه بنبات الشعر له وجهه، وهذا الضابط له علته التي لا تخفى لمكان التحلل.

مشروعية طواف الوداع لمن حج من أهل مكة ثم أراد الخروج منها

مشروعية طواف الوداع لمن حج من أهل مكة ثم أراد الخروج منها Q المكي إذا أراد السفر بعد الحج مباشرة، هل يجب عليه أن يودع البيت، أم لا، أفيدونا أثابكم الله؟ A قال جمع من العلماء: إن المكي إذا أراد أن يصدر وكانت له حاجة بعد الحج، فإنه لا ينفر حتى يطوف بالبيت؛ لأنه يكون في حكم الآفاقي، خاصة إذا كانت له تجارة أو كان له موضع ثانٍ، كأن تكون له تجارة بالمدينة أو تكون له مزرعة أو وظيفة في بلد غير مكة، فإنه يطوف عند صدوره بعد الحج مباشرة، فإذا صدر بعد الحج مباشرة أو بعد الحج بشهر أو شهرين أو ثلاثة، فعليه أن يطوف بالبيت لوداعه. والله تعالى أعلم.

جواز التحلل من الحج أو العمرة بالحلق قبل ذبح الأضحية

جواز التحلل من الحج أو العمرة بالحلق قبل ذبح الأضحية Q إذا أخّر الإنسان الأضحية في اليوم الثالث عشر، فهل يحلق رأسه بعد رمي العقبة، أفيدونا أثابكم الله؟ A الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه قال: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمسن شيئاً من شعره)، فدل هذا على أنه يمتنع من مس الشعر حتى يذبح أو ينحر أضحيته، لكنه إذا أراد أن يتحلل من حجه وحلق أو قصر فإنه مستثنىً من هذا الأصل، وكذلك لو اعتمر في داخل العشر، فاعتمر في اليوم الأول من العشر أو اعتمر في اليوم الثاني أو اعتمر في اليوم الثالث فهذا متعلق بالنسك، والتحلل من النسك من واجباته الحلق أو التقصير، فأنت إذا أتيت بالعمرة في خلال العشر أو أردت أن تتحلل من حجك في العشر أو في اليوم الحادي عشر ولم تضح فإن هذا يعتبر مستثنىً ولا تعارض بين الأمرين؛ لأنك هنا تؤدي نسكاً لموضع مخصوص بعبادة مخصوصة، فيجوز لك أن تقوم حينئذٍ بالتحلل من العمرة والتحلل من الحج؛ لأنه واجب عليك وفرض، وحينئذٍ لا يعتبر منهياً إذا تحلل في اليوم العاشر من حجه أو الحادي عشر وأخر أضحيته إلى الثالث عشر. والله تعالى أعلم.

وجوب الفدية على من حلق بصابون فيه طيب وهو راض

وجوب الفدية على من حلق بصابون فيه طيب وهو راضٍ Q المحرم لا يمس الطيب، فإذا أراد أن يحلق شعره فكثير من الحلاقين يضع على الشعر صابوناً معطراً أو نحو ذلك، فما رأيكم، أثابكم الله؟ A إذا كان الحلاق يعلم بهذا ووضعه فإن على الحلاق الفدية، وإن سكت المحلوق ورضي فإنها تكون على المحلوق، وإن أمره أن ينزعها مباشرة، يعني: ينزع الصابون فإنه حينئذٍ لا فدية عليه، ولا يجوز له إذا أراد أن يحلق شعر رأسه أن يضع الصابون المطيب، وإنما يضع صابون الزيت أو نحوه، أو يضع الماء مجرداً من الصابون ثم يحلق، أما لو وجد في مادة الحلاقة بما يبل به الشعر ويندى به جلد الرأس أي طيب كان، فإنه متلبس بالنسك حتى يحلق، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إني لبدت شعري وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر)، قال الله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196]، فلا يكون الإنسان متحللاً من النسك إلا إذا كان قد حلق وفرغ، فعلى هذا لو وقع الطيب في رأسه قبل أن يحلق أو أثناء الحلاقة أو تمهيداً للحلاقة، فما دام أنه لم يقع منه التحلل المعتبر فإنه يلزمه الفدية. والعلماء رحمهم الله يقولون: إذا وضع المحظور من شخص على المحرم، والواضع يعلم أنه محرم فتكون الفدية والكفارة على من وضع، وأما إذا أذن المحرم فإنها تكون على المحرم؛ لأن الأصل وجوبها على المحرم، ولكنها صارت على غيره بالاعتداء، ولذلك قالوا: لو حلق إنسان لمحرم قبل التحلل دون أن يعلم المحرم، لزم الحلاق أن يفتدي فدية الحلق، وأما إذا أذن له المحرم فإنه حينئذٍ تكون الفدية على الآذن؛ لأن الإذن بالشيء فعل له، وعلى هذا فإن المحرم إذا علم بأن الصابون مطيب ومكنه من ذلك وأذن له أو سكت فعليه الفدية، وأما إذا لم يعلم إلا بعد الحلق، فحينئذٍ تكون الفدية على الحلاق ولا شيء على المحلوق. والله تعالى أعلم.

جواز التوكيل بالرمي لمن عجز عنه

جواز التوكيل بالرمي لمن عجز عنه Q العاجز والشيخ الكبير هل الأفضل في حقه أن يؤجل الرمي، أو يجمع الرمي إلى اليوم الثالث عشر إلى أن يخف الزحام فيرمي بنفسه، أفيدونا أثابكم الله؟ A من كان عاجزاً ويغلب على الظن أنه يهلك بدخوله للرمي، كمن كان مريضاً بالقلب، أو كبير سن من الحطمة، أو كانت به عملية جراحية في مواضع حساسة، في ظهره أو في قدمه أو في صدره، ويغلب على ظنه أنه لو دخل في الزحام سيتضرر، أو أنه يعاق، وربما يقتل بسبب ركوب الناس بعضهم لبعض، فهذه الأعذار وشبهها توجب له أن يترخص بتوكيل غيره ليرمي عنه، ويشترط في هذا الوكيل أن يكون من الحجاج، فلو وكل حلالاً لم يصح الرمي، وإنما يوكل حاجاً، وعلى هذا يرمي الوكيل عن نفسه أولاً، ثم إذا أتم الرمي رمى عن غيره؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة)، فإذا وقع التوكيل على هذا الوجه فإنه يجزيه. والله تعالى أعلم.

وجوب طواف الوداع لمن طاف للإفاضة بغير نية الوداع

وجوب طواف الوداع لمن طاف للإفاضة بغير نية الوداع Q إذا أخرت طواف الإفاضة ثم سعيت بعده، فهل يلزمني أن أودع البيت بعد ذلك، أم أكتفي بطواف الإفاضة، أثابكم الله؟ A إذا طفت طواف الإفاضة فلا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون قد نويت طواف الإفاضة مجرداً فيلزمك بعد السعي أن ترجع لطواف الوداع؛ لأنك لم تنو الوداع، والواجب لا يقع إبراءً للذمة إلا بنية، فيلزمك أن ترجع إذا لم تنو؛ لأنك قلت: إذا طفت للإفاضة ولم تقل: إذا طفت للإفاضة بنية الوداع. الحالة الثانية: أن تطوف للإفاضة بنية الوداع، فإن طفت للإفاضة بنية الوداع، فبعض العلماء يرى: أن السعي بعد الطواف مغتفر، ولذلك قال من قال بوجوب طوف الوداع في العمرة: إنه إذا طاف وسعى ومضى مباشرة لا يجب عليه طواف الوداع. والذي يظهر والله أعلم أنه يحتاط بإعادة الطواف؛ لأنه أسلم؛ ولأن النص نص على إيقاع الطواف في آخر العبادة، ولذلك لو طاف ثم رجع ورمى ثم صدر لزمه أن يرجع ثانية؛ لأن أصل مشروعية طواف الوداع أن يكون آخر العبادات، قالت أم المؤمنين عائشة كما في الصحيح: (كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات) قال بعض العلماء: يصدرون من المناسك، أي: بعد أن يفرغوا من المناسك يمضون إلى ديارهم، فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت الطواف، فهذا لا إشكال في أن المراد به أن يوقع طواف الوداع آخر العبادة، والذي تطمئن إليه النفس: أن من سعى بعد طواف الإفاضة الأحوط له والأكمل أن يرجع إلى البيت ويعيد طوافه، والله عز وجل معظم له الأجر، والحج جهاد ومشقة، وهذا من مشقة الحج وجهاده، والأصل اللزوم. والله تعالى أعلم.

اختصاص الإطعام والهدي من الحاج بمساكين الحرم

اختصاص الإطعام والهدي من الحاج بمساكين الحرم Q قال المصنف رحمه الله: (وكل هدي أو إطعام فلمساكين الحرم) فلو ذبح المتمتع هديه وتركه مكانه، فهل يجزيه؟ A نعم، كل هدي أو إطعام فلمساكين الحرم؛ وذلك لقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95]، فالهدي الواجب على المكلف كما في حال قتل الصيد، فإنه يجب ذبحه بمكة وإطعامه لمساكين الحرم، وأن يكون مثلياً، أي: يقدر مثل بهيمة الأنعام، ولا يكون إلا بمكة، وإذا ذبح بمكة كان لمساكين الحرم، فحينئذٍ يلزم في الهدي أمران: الأول: أن يكون الذبح بمكة. الثاني: أن يكون مختصاً بمساكين الحرم؛ لأن الله عز وجل فضل مكة وفضل أهلها بالأمن وكذلك الإطعام، فقال تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص:57] فجعل الله لهذا البيت حرمة، ولأهله وسكانه مزية وفضلاً على غيرهم، ففيهم العاكف وفيهم العابد وفيهم من يرجو رحمة الله في هذا الجوار الطيب، فكأن ذلك من الإعانة له على الخير والطاعة والبر، حيث فرغ نفسه من أمور دنياه، فجعل الهدي والإطعام لمساكين الحرم طعمة خاصة. فلو ذبحه ومكن غيره ليوصله برئت ذمته، أما أن يذبح الهدي ويتركه حتى يضيع كما يفعل بعض الناس فيقوم ويذبح ولا يبالي بذبيحته ويتركها لكي تطأها الأقدام وتعفن وترمى، فهذا لا شك أنه ليس من شرع الله عز وجل في شيء، فإن الله لا يرضى بالإسراف ولا يرضى بإضاعة المال، وقد كره لعباده القيل والقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، فهذا من إضاعة المال، فإذا كنت تعلم أنك إذا نحرت أو ذبحت هذا الهدي أنه يفتقر إلى حمل وإلى توزيع للفقراء والضعفاء، فإنك تحمله وتوزعه للضعفاء والفقراء، أو تستعين بعد الله عز وجل بمن يعينك على إبراء الذمة على هذا الوجه المعتبر. والله تعالى أعلم.

عدم جواز الخروج من المسجد بعد الأذان

عدم جواز الخروج من المسجد بعد الأذان Q ما الحكم إذا ذهبت إلى مسجد قباء وصليت فيه ركعتين بعد الأذان ثم خرجت لأدرك الفرض في الحرم النبوي أيجوز ذلك، أم لا، أفيدونا أثابكم الله؟ A إذا أذن المؤذن فإنه لا يجوز الخروج من المسجد بعد الأذان، وإنما يحتاط الإنسان للخروج قبل الأذان، أما إذا أذن المؤذن فلا يجوز الخروج، ولو كان الإنسان يلتمس ما هو أفضل كمسجد مكة أو مسجد المدينة فإنه لا يجوز له أن يخرج، قال أبو هريرة رضي الله عنه لما رأى الرجل يخرج بعد الأذان: (أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم). وإنما يجوز الخروج بعد الأذان في حالة واحدة، وهي أن يكون الإنسان معذوراً بانتقاض وضوئه، فإذا خرج بعد الأذان فإنه يضع كفه على أنفه كمن أصابه الرعاف حتى يدفع عن نفسه التهمة والشبهة، وقال العلماء رحمهم الله: إن هذا مقصود من الشرع وهو حصول جماعة المسلمين؛ لأن المساجد إذا أذن فيها فإنه يدعى الناس إلى إقامة فريضة الله وأداء هذه الصلاة، فإذا كان الإنسان على هذا الوجه قد أذن عليه المؤذن وخرج، فإنه يوقع نفسه في الشبهة، وليس كل الناس يعلم عذره. فالمسلم إذا أذن عليه المؤذن في مسجد قباء أو غيره من المساجد، وأراد أن يخرج بعد الأذان فإنه لا يجوز له هذا الخروج. وجماهير العلماء رحمهم الله قد نصوا على ذلك؛ لصحة السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن الخروج بعد الأذان. وعلى هذا فإنه ينبغي للمسلم أن يحتاط، ولو كان الإنسان مرتبطاً بإمامة، فإنه إذا أذن عليه المؤذن لا يخرج من المسجد؛ لأن هذا يعتبر لازماً عليه وفرضاً عليه ولو ازدحم الفرضان، كونه يصلي بالناس وكونه مرتبطاً بالصلاة في هذا الموضع، فإن صلاته بالناس يقوم غيره مقامه، وأما هذا الموضع فقد تعين عليه أن يصلي مع جماعته ولا يقوم غيره مقامه، فلزمه أن يبقى لمقصود الشرع درءاً لفتنة الخروج من المسجد، وحتى لا يفتح باب التفرق عن الجماعة، وهو أصل قررته السنة في أكثر من مسألة من هذا الباب كنهيه عليه الصلاة والسلام من صلى فرضه أن يجلس في المسجد الثاني ولا يعيد الفرض إذا حضرت الفريضة مع الجماعة الثانية فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا أتيتما المسجد فصليا فإنها لكما نافلة)، وعلى هذا فإنه لا يجوز الخروج لا لمساجد أفضل ولا غيره، وإنما يجوز الخروج في حالة واحدة وهي وجود العذر لانتقاض الطهارة. والله تعالى أعلم.

عدم سقوط طواف الوداع عن غير أهل مكة

عدم سقوط طواف الوداع عن غير أهل مكة Q على قول من يقول: إن حاضري المسجد الحرام هم من كانوا دون مسافة القصر، ولم يكونوا داخل حدود الحرم فهل يلزمهم طواف الوداع أم لا، أفيدونا أثابكم الله؟ A طواف الوداع لا يتقيد بحاضري المسجد الحرام، وإنما يسقط عن أهل مكة فقط، وهم الذين داخل حدود الحرم، وأما من كان خارج حدود الحرم فإنه يدخل في عموم قول أم المؤمنين عائشة: (كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات -فهؤلاء يصدرون إلى أماكنهم التي هي خارج الحرم- فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت الطواف)، وعليه فإنه يطوف بالبيت سواء كان دون مسافة القصر أو فوقها؛ لعموم الخبر في ذلك، والله تعالى أعلم.

حكم استعمال حبوب منع الحمل خوف النفقة

حكم استعمال حبوب منع الحمل خوف النفقة Q ما حكم استعمال حبوب منع الحمل إذا تضرر الزوج من كثرة الإنفاق على الأولاد ونحوه، أفيدونا بارك الله فيكم؟ A لا حول ولا قوه إلا بالله، سبحان الله! الله المستعان! إذا تضرر من كثرة الإنفاق، الله سبحانه وتعالى تكفل بأرزاق عباده: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود:6]، والله سبحانه وتعالى أمرك أن تأخذ بالأسباب، وأن تحسن الظن بالله عز وجل، وما يدريك أن هذا الولد قد يكون سبباً في سعادتك في الدنيا والآخرة، وقد يفتح الله لك به أبواب الرزق، فإن حليمة لما أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم أجرى الله عليها من الخير ما الله به عليم، فإن الإنسان قد يرى المولود ولا يعبأ به ويجعله الله له خيراً في الدنيا والآخرة، فعلى هذا لا يجوز للإنسان أن يسيء الظن بالله عز وجل في كثرة الولد، والله عز وجل أمرنا بأخذ الأسباب بأن ننفق على أولادنا وذرياتنا غاية ما نستطيع. أما أن نتعاطى الأسباب لمنع الحمل خوفاً من كثرة الولد، وضيعتهم، وخوفاً من كثرة الإنفاق، فهذا بإجماع العلماء مقصد محرم، ويعتبر الإنسان مرتكباً لكبيرة من كبائر الذنوب، وهي عقيدة أهل الجاهلية لما قتلوا الولد: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31]، فالله عز وجل عتب عليهم أنهم قتلوا أولادهم خشية الإملاق والفقر. فينبغي للمسلم أن يحسن الظن بالله، وأجمع أهل العلم رحمهم الله: على أنه لا يجوز له أن يعزل عن زوجته إذا جامعها خشية من كثرة الولد من جهة النفقة، فإن فعل ذلك فإنه آثم شرعاً، ومرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب. أما أن يقول: إن كثرة الولد ترهق الأم، فهذا فيه الخلاف المشهور، والصحيح: أنه لا يجوز تعاطي حبوب منع الحمل بسبب كثرة الولد خوفاً من الإنفاق عليهم، ولا كثرة الولد بسبب تعب رعايتهم؛ لأن الله عز وجل جعل الولد كرهاً على أمه؛ لكي يرفع من درجاتها، ويكفر من خطيئاتها، ويعظم لها الأجر، وسبحان الله العظيم! كانت المرأة وهي ترعى غنمها في البرية حاملة لولدها في بطنها لا تأخذ حبوب منع للحمل، وإنما تحمل السنة تلو السنة وهي في عافية ومعونة وتيسير من الله، لا تشتكي، وقد تأتي بالعشرة من الأولاد، وقد تأتي بالعشرين ويبارك الله فيها، ومع ذلك لا تجد إلا الخير؛ لأن عقيدتها بالله حسنة، ولكن ما أن تسيء المرأة ظنها بالله إلا أساءها الله بسوء ظنها: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، فحين تغيّر الناس عظم البلاء واشتد البأس؛ وذلك بسبب سوء الظن بالله جل جلاله. كان الناس إلى عهد قريب يحبون كثرة الولد ويفرحون بذلك، وهم في أشد ما يكونون من الفقر، وكان الرجل يصبح فيطعم الطعام ويمسي ولا يجد طعاماً، وكان يمسي ويطعم فيصبح على غير طعام، والله تكفل بالأرزاق وعاش الناس في شدة الفقر، وإذا سألت عن القرابة وعن الأهل فتجد الرجل منهم عنده ومن الذرية من الأولاد والبنات الكثير، وما ضاقت الأرض بأهلها ولا ساءت ظنونهم بربهم جل جلاله، ولكن ما إن تغيّرت القلوب، وضعف الاعتقاد بالله جل جلاله، إلا أخذ الله الناس بنياتهم وحاسبهم بمقاصدهم، فإن هذه المقاصد شك في عظمة الله جل جلاله، وشك في قدرته سبحانه وتعالى، ولا يجوز للمسلم أن يسيء ظنه بالله، فالله عند حسن ظن عبده به. يا هذا! إن الله هو الذي أطعمك، وهو الذي كساك، وهو الذي رزقك، ولئن كنت تعلم أنك بهذا الفعل ترحم ولدك، فالله أرحم بك من رحمتك لنفسك، وبولدك من رحمتك به، فالله أرحم الراحمين. فلا يجوز للمسلم أن يتعاطى مثل هذه الأمور؛ لأنها من سوء الظن بالله، وهي مساس بعقيدته وإيمانه بالله، فلا خير له لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بسلامة إيمانه وصلاح معتقده، فهذه أمور عظيمة والله تعالى يقول: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] فهو خير من رزق، وخير من أعطى، وخير من كسا، وخير من أطعم وهو يُطعِم ولا يُطعَم، وقال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم -اللهم اهدنا- يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم -اللهم أطعمنا- يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم -اللهم اكسنا-) نسأل الله من واسع فضله وواسع رحمته، والله تعالى بعزته وجلاله أصدق قيلاً وأصدق حديثاً، وما وعد سبحانه وأخلف، فقال لك وهو أصدق القائلين: (كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم)، فإذا كان الله جل جلاله يقول ذلك وهو الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، ويعد سبحانه ولا يخلف، وهو أوفى من وفى بعهده سبحانه وتعالى يقول: (استطعموني أطعمكم) فمن أي شيء تخاف؟!! ومن أنت أيها الضعيف؟! فلو صُبَّت في حجرك الألوف والمئات والله لا تستطيع أن تطعم نفسك، فضلاً عن أن تطعم غيرك، إذا لم يطعمك الله. ولقد حدثني من أثق به من أهل العلم والفضل قال: دخلت على ثري من الأثرياء وعظيم من العظماء، والله أعظم من كل شيء، قال: دخلت عليه عشية ذات يوم في شفاعة، وما كان معي إلا رجل من أهل الفضل، فلما جلسنا على العشاء مد طعاماً يكفي عشرين رجلاً، وليس على المائدة إلا أنا وهو وهذا الرجل، قال: فلما وُضِعَ الطعام ورأيت هذا السماط وما عليه من الأطعمة عجبت، فما من نوع من الطعام إلا وهو موجود فيه، قال: فلما أراد أن يجلس معنا إذا به يؤتى له بكرسي فجلس على ذلك الكرسي، ويؤتى له بصحن صغير يحمله على كفه، قال: فنظرت فإذا به لا يطعم إلا من هذا النوع من الطعام، فقلت: لا إله إلا الله! غني ثري والله عز وجل أعطاه من المال إلا أنه لم يستطع أن يمد يده إلى هذا الطعام المختلف الأنواع والمختلف الأشكال؛ لأن الله لا يريد أن يطعمه. الله سبحانه وتعالى هو الذي يطعم، فلماذا يخاف الإنسان على أهله وولده؟!! توكل على الله، وأحسن الظن بالله، وفوض الأمور إلى الله: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]، فالله جل جلاله بصير بك وبصير بأهلك وولدك. فلا يجوز للرجل أن يعين امرأته على قطع الذرية أو منع الذرية أو تأخر الذرية؛ خوفاً من كثرة الإنفاق، أو يقول: إن راتبه لا يكفي، أو أن نفقته ستكون كبيرة، كل ذلك لا يجوز للمسلم، أحسن الظن بالله وتوكل على الله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]، والله عز وجل عند حسن ظن عبده به. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يملأ قلوبنا من حبه، وحسن الظن به، وصدق اللجوء إليه. اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً ويقيناً صادقاً. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

باب صفة الحج والعمرة [5]

شرح زاد المستقنع - باب صفة الحج والعمرة [5] إن مما يحتاجه الفقهاء والعلماء وطلاب العلم خاصة والمسلمون عامة معرفة ما هو لازم وما ليس بلازم في العبادات، ولا يتأتى ذلك إلا بمعرفة الأركان والواجبات والسنن والمستحبات لكل عبادة من العبادات، وبما أن الحج ركن من أركان الإسلام فإن له أركاناً وواجبات وسنناً ومستحبات لا يسوغ الجهل بها بحال، فيلزم المسلم لأداء هذه الفريضة أن يحيط بما يتعلق بها من أحكام حتى يؤديها بصورة مقبولة عند الله عز وجل.

أركان الحج: بيانها وأهمية معرفتها والأحكام المتعلقة بها

أركان الحج: بيانها وأهمية معرفتها والأحكام المتعلقة بها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وأركان الحج] قوله: (وأركان الحج)، الأركان: جمع ركن، وقد تقدم معنا غير مرة تعريفه وبيان ضابطه، ومناسبة ذكره رحمه الله للأركان هنا: أنه فرغ من بيان صفة الحج وصفة العمرة، فورد Q ما هو اللازم وما هو الواجب من هذه الأفعال والأقوال؟ وهل المكلف مطالب بجميع هذه الأقوال والأفعال وملزم بها، أم أن جميعها مستحبة ومسنونة، أم أنها واجبة عليه، أم أن بعضها واجب وبعضها مستحب ومندوب؟ فشرع رحمه الله في بيان الأركان والواجبات والسنن والمستحبات، وطلاب العلم والفقهاء والعلماء يحتاجون في العبادات إلى معرفة ما هو لازم وما ليس بلازم؛ والسبب في ذلك واضح وهو أنك إذا عرفت ما هو واجب في العبادة وما ليس بواجب فإنه حينئذٍ يمكنك أن تعرف ما الذي تبطل به العبادة إذا تركه، وما الذي يأثم صاحبه ولا تبطل به عبادته إن تركه، ثم هذا الذي لا تبطل به العبادة إن تركه ويأثم ما الذي يجب فيه الضمان، وما الذي لا ضمان فيه، كذلك أيضاً ما هو الذي لا شيء فيه على الإنسان إذا تركه، ولو كان الترك اختياراً، فهذه أمور يفصلها العلماء: الأركان، والواجبات، والمستحبات، حتى تتيسر الفتوى ويتيسر توجيه الناس، فلو أتاك سائل وقال: تركت الوقوف بعرفة، فإنه ليس كقوله: تركت الرمل بالبيت، وقوله: تركت السعي بين الصفا والمروة، ليس كقوله: تركت التلبية، وقوله: تركت الإحرام من الميقات، ليس كقوله: تركت المبيت بمنى. فالمقصود أن هذه الأمور منها ما يكون تركه إخلالاً بالنسك، ومنها ما يكون تركه إثماً، ولكن يمكن جبر هذا الترك ولا يخل بالنسك، ومنها ما يكون تركه لا يوجب الإخلال ولا يوجب الإثم، فإذاً لابد من التفصيل. وليست هذه الأحكام كما قد يظن البعض أن الفقهاء جاءوا بها من محض آرائهم، حاشا وكلا، فأئمة السلف وأهل العلم رحمهم الله حينما يجعلون الأركان والواجبات فهم إنما فرقوا بتفريق الشرع، والله تعالى قد جعل لكل شيء قدراً، وجاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادات: أن ترك البعض مما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم يبطل العبادة، وترك البعض الآخر مما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم لا يبطل العبادة، وإنما يكون فيها الجبر والتلافي. وعلى هذا علمنا أن هناك من الأمور ما يمكن تلافيها ومنها ما لا يمكن تلافيها، فصلى عليه الصلاة والسلام بالناس ركعتين في رباعية الظهر أو العصر، فلما سلم من ركعتين وأخبر أن الصلاة ناقصة رجع عليه الصلاة والسلام وكمل النقص وسجد. وصلى بأصحابه فقام عن التشهد الأول، فسبح له فأشار إليهم أن قوموا، ثم سجد ولم يقض هذا الذي تركه من فعل الصلاة، ففهم من هذا أن من الأمور ما هو لازم محتم لابد من الإتيان به، ولا تبرأ الذمة إلا بفعله، ومن الأمور ما ليس بلازم، ثم هناك أمور لازمة يمكن جبرها كما في الواجبات، تجبر في الصلاة بسجود السهو، وتجبر في الحج بالدماء إذا تركها الإنسان، ثم هذه الواجبات التي تترك وتجبر قد يتركها الإنسان ويغتفر له الترك لمكان العذر، وقد يتركها معذوراً ولا يغتفر له ذلك الترك، وهذا من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي، كما هو مقرر في مباحث الأصول. فلابد حينئذٍ من الاشتغال والعناية بمسألة الأركان والواجبات والمستحبات، حتى تعلم الهدي والسنة في هذه الأفعال والأقوال، وحتى تعلم ما هو الذي يلزمك وما ليس بلازم عليك. فقوله: (وأركان الحج) بدأ بالأكبر -كما ذكرنا- لأهميته.

الركن الأول: الإحرام حكمه وأهميته

الركن الأول: الإحرام حكمه وأهميته قال المصنف: [الإحرام] الركن الأول: وهو: نية الدخول في النسك، فلا يمكن أن نصف إنساناً بكونه حاجاً إلا إذا نوى، فلو لم ينو الحج فليس هناك حج، كما أنه لو لم يقف بعرفة فليس هناك حج، فالإحرام على أصح قولي العلماء يعتبر ركناً من أركان الحج، فالحج لا يتحقق إلا إذا نوى الدخول في النسك، وعلى هذا نص العلماء رحمهم الله بأصح القولين: على أن نية الدخول في النسك في الحج تعتبر ركناً من أركان الحج، هذا هو الركن الأول، وقد بيّنا دليل النية حينما تكلمنا على الإحرام، وبيّنا ما ورد في نصوص الكتاب والسنة بالإلزام في العبادات بالنية، ومن أشهر ذلك قوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2] فأمرنا سبحانه بإخلاص العبادة، والإخلاص لا يتحقق إلا بالقصد وصدق التوجه، والقصد وصدق التوجه يفتقر إلى نية، فأصبحت النية لازمة، وقد أمر الله بها وألزم العباد بها، كذلك أيضاً قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) والتقدير في قول جمهور العلماء: إنما صحة الأعمال واعتبارها بالنيات، فدل على أن الحج لا يصح ولا يعتبر إلا بنية.

الركن الثاني: الوقوف بعرفة حكمه وأهميته

الركن الثاني: الوقوف بعرفة حكمه وأهميته قال المصنف: [والوقوف] الركن الثاني: الوقوف بعرفة، الوقوف المراد به أن يمكث الإنسان بجسمه في عرفة، وليس المراد به صورة الوقوف، فلو كان الإنسان مشلولاً، أو كان صبياً محمولاً، وأدخل إلى حدود عرفة، ولو لحظة من ليل أو نهار، في يومه المعتبر وليلته المعتبرة، فإنه يحكم بكونه قد وقف بعرفة، أما دليل ركنية الوقوف بعرفة فقوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة)، وقوله في الحديث الصحيح من حديث عروة بن مضرس رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى صلاتنا هذه ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه) فجعل اعتبار الحج والاعتداد به موقوفاً على الوقوف بعرفة، وهو قضاء الصحابة رضوان الله عليهم أنهم أفتوا وقضوا: بأن من فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج، قضى في ذلك أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين: عمر بن الخطاب، فقد جاء هبار بن الأسود رحمه الله إلى عمر بعد يوم عرفة وقال: يا أمير المؤمنين! إني كنت أظن اليوم -أي: يوم العيد الذي هو يوم النحر- يوم عرفة فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ابق كما أنت، ثم انطلق إلى البيت وطف به واسع وتحلل به بعمرة، ثم إذا كان من العام القادم فاقض حجك وأهد للبيت. فأمره أن يتحلل بالعمرة ولم يأمره أن يتم مناسك الحج، وهذا هو قضاؤه رضي الله عنه. وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الوقوف بعرفة هو الركن الأعظم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة) قالوا: إنه الركن الأعظم الذي يفوت الحج بفواته، فمن لم يدرك الوقوف بعرفة فإنه لم يدرك حجه؛ وذلك لصراحة النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.

الركن الثالث: طواف الإفاضة حكمه وأهميته

الركن الثالث: طواف الإفاضة حكمه وأهميته قال المصنف: [وطواف الزيارة] قوله: (وطواف الزيارة) وهو طواف الإفاضة، وطواف الصدر، وطواف الركن، وكلها أسماء لهذا النوع من الطواف، والدليل على كونه فريضة قوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، فقال سبحانه: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] فأمر به وألزم، قال بعض العلماء رحمهم الله: أجمع المسلمون على أن المراد بالطواف في قوله سبحانه: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]: طواف الإفاضة، وأن المكلف لا تبرأ ذمته إذا حج إلا بطواف الإفاضة، فلو رجع إلى بلده قبل أن يطوف طواف الإفاضة، فإنه يلزمه أن يرجع لكي يطوفه، ولو بعد عشرين عاماً، فهو ركن لابد من الإتيان به، ولا تبرأ ذمته إلا بفعله، والإجماع قائم على أن هذا الطواف يعتبر ركناً من أركان الحج، وأنه لابد للمكلف من أن يأتي به، وقد سبق وأن بيّنا وقت الفضيلة ووقت الإجزاء، ومتى يلزم المكلف إذا أخر هذا الطواف أن يأتي به مع الدم.

الركن الرابع: السعي حكمه وأهميته

الركن الرابع: السعي حكمه وأهميته قال المصنف: [والسعي] والسعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج، ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: إن الله لا يتم حج من لم يسع بين الصفا والمروة. وقد ذهب جماهير السلف رحمهم الله إلى القول بلزوم السعي، وأنه لا يصح الحج بدون سعي بين الصفا والمروة؛ لأنه ركن من أركان الحج إلى بيت الله الحرام، وقال بعض العلماء: السعي يعتبر من الواجبات، وقوله هذا مرجوح، والصحيح: أن السعي يعتبر ركناً من أركان الحج إلى بيت الله الحرام.

واجبات الحج وما يتعلق بها من أحكام

واجبات الحج وما يتعلق بها من أحكام قال المصنف: [وواجباته: الإحرام من الميقات المعتبر له] شرع المصنف في بيان واجبات الحج، وهي التي لا يفوت الحج بفواتها، بخلاف الأركان على التفصيل الذي تقدم بيانه. قوله: (وواجباته) الضمير عائد إلى الحج، وقد تقدم بيان معنى الواجب في اللغة وفي الاصطلاح.

الواجب الأول: الإحرام للحج والعمرة من الميقات

الواجب الأول: الإحرام للحج والعمرة من الميقات قوله: (الإحرام من الميقات) أي: أنه يجب على من أراد الحج والعمرة أن يحرم من ميقاته، فإن كان آفاقياً نظر إلى ميقات موضعه الذي أنشأ فيه نية الحج، فإن كان في المدينة مثلاً فإنه يجب عليه الإحرام من ذي الحليفة، وكذلك إذا جاء من جهة المغرب فإنه يحرم من الجحفة، وإذا جاء من جهة المشرق فإنه يجب عليه أن يحرم من ميقات المشرق وهكذا، أي: على التفصيل الذي تقدم بيانه في باب المواقيت، وعلى هذا فإنه يعتبر الإحرام من الميقات من واجبات الحج، وهذا الواجب إذا لم يقم الحاج به على وجهه وأخلّ به، فإنه يلزمه الدم كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. قوله: (المعتبر له) فلو كان في موضع غير موضعه الأصلي، وطرأ له الإحرام بالحج من ذلك الموضع، أخذ حكم أهله، وهذا معنى قوله: (المعتبر له) أي: على حسب التفصيل الذي تقدم فكلٌ يلتزم بميقاته، وإذا لم يلتزم به فقد أخلّ بواجب من واجبات الحج. أما الدليل على هذا الواجب الأول فقوله عليه الصلاة والسلام في المواقيت: (هن لهن ولمن أتى عليهن) فقوله: (هن لهن) أي: يلزمهم الإحرام من هذه المواقيت، فدل على وجوبها ولزوم التقيد بها من أهلها، وأنه يجب على من مر بها من غير أهلها أن يحرم منها، هذا هو الدليل الذي اعتبره جماهير أهل العلم رحمهم الله، وقد نص العلماء رحمهم الله في المذاهب الأربعة: على أن الإحرام من الميقات يعتبر واجباً من واجبات الحج.

الواجب الثاني: الوقوف بعرفة حتى يتحقق مغيب الشمس

الواجب الثاني: الوقوف بعرفة حتى يتحقق مغيب الشمس قال المصنف: [والوقوف بعرفة إلى الغروب] أي: ومما يجب على الحاج إذا وقف في النهار أن يمسك جزءاً من الليل، والمراد بذلك أن يبقى إلى أن تغيب الشمس ويمسك جزءاً من الليل، والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف حتى أمسك جزءاً من الليل، وذلك بتحقق مغيب الشمس، وقد وقع فعله عليه الصلاة والسلام بياناً لواجب. والقاعدة: أن بيان الواجب واجب، وعلى هذا لما بقي عليه الصلاة والسلام وتكلف البقاء إلى المغيب، دل على أنه إذا وقف بالنهار لابد وأن ينتظر إلى مغيب الشمس، وأنه إذا دفع قبل مغيب الشمس وجب عليه أن يرجع، فإذا رجع قبل طلوع الفجر من صبيحة يوم النحر سقط عنه الدم؛ لأنه رجع رجوعاً يجزئه عما أوجب الله عليه، وأما إذا لم يرجع حتى طلع الفجر فإنه يلزمه الدم؛ لأنه أخلّ بواجب من واجبات الحج.

الواجب الثالث: المبيت بمنى ومزدلفة ودليل وجوبهما

الواجب الثالث: المبيت بمنى ومزدلفة ودليل وجوبهما قال المصنف: [والمبيت لغير أهل السقاية والرعاية بمنى ومزدلفة إلى بعد نصف الليل] المبيت ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: المبيت بمزدلفة، والأصل في وجوبه: أن النبي صلى الله عليه وسلم بات بالمزدلفة ورخص للضعفة من أهله ومن الناس، والقاعدة: أن الرخص لا تكون إلا في الواجبات؛ لأنها استباحة لمحظور، وعلى هذا قالوا: لما أذن صلوات الله وسلامه عليه للضعفة من أهله، وأذن للضعفة من الناس، دل على أن الأصل أن المسلم ملزم بالمبيت بمزدلفة، والجمهور على وجوبه، وعلى هذا فإنه إذا أخلّ بهذا المبيت ولم يبت بمزدلفة، فإنه يجب عليه الدم كسائر الواجبات. القسم الثاني: المبيت بمنى، والمبيت بمنى يكون ليلة الحادي عشر وليلة الثاني عشر وليلة الثالث عشر لمن لم يتعجل، والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رخص للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أن يبيت بمكة ليالي التشريق من أجل السقاية)، قال العلماء: لما رخص عليه الصلاة والسلام للعباس بن عبد المطلب، دل على أن الأصل أنه يجب على من حج البيت أن يبيت بمنى، والمبيت بمنى واجب وهو قول جمهور العلماء رحمهم الله، والقاعدة: أن الرخصة لا تكون إلا على وجه يستباح به المحظور، فدل على أن الأصل وجوب المبيت، وأن مبيته بغير منى محظور، لكنه جاز للعباس بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حكم العباس بن عبد المطلب كل من تعلقت به مصالح الحج ومصالح الحجاج، فمن يكون قائماً على شئون الحجاج وتتعلق به مصالح ومنافع للحجاج عامة، كمصالح علاجهم أو مصالح سقايتهم أو نحو ذلك من المصالح العامة، فإنه يجوز له أن يترخص بالمبيت خارج منى، إن كانت هذه المصلحة التي يقوم بها لعموم الحجاج تستلزم منه ذلك، ولهذا أذن النبي صلى الله عليه وسلم للرعاة، والرعاة كما لا يخفى تتعلق بهم مصلحة عامة للحجاج؛ وذلك أنهم يحتاجون إلى البهائم؛ وذلك لأداء الواجب والفرض على الحاج من الإهداء للبيت، خاصة في نسك التمتع والقران، فقال العلماء رحمهم الله: كل من تعلقت به مصلحة عامة للحجاج، فإنه يرخص له بالمبيت خارج منى، هذا إذا توقفت المصلحة والقيام بها على ذلك الترخيص. قوله: (إلى بعد نصف الليل) قد تقدم بيانه والكلام عليه، وذكرنا أن السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه عليه الصلاة والسلام أنه بات بالمزدلفة، وإنما رخص للناس الذين هم بحاجة للرخصة -من النساء وكبار السن والأطفال- أن يدفعوا بعد منتصف الليل لوجود ضرورة وحاجة، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه: (كنت فيمن قدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضعفة أهله) فظاهر السنة أنه يبيت بمزدلفة، ولو قلنا للناس: إن المبيت يتأقت إلى منتصف الليل، فمعنى ذلك: أنه سيخرج القوي الجلد لكي يؤذي ضعفة المسلمين، ولذلك قلنا: إن السنة على أنه يبقى، ولا يترخص إلا من أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفع، أما قياس غير المضطر وغير المحتاج وغير الضعيف على الضعفة والمحتاجين، فإن هذا يؤدي إلى مضايقة المحتاجين والضعفة، ويؤدي إلى مخالفة مقصود الشرع؛ لأن مقصود الشرع أن يمضي الحطمة والضعفة ويسبقوا الناس، ويتمكنوا من الرمي في وقته، قبل أن يدهمهم الناس، وعلى هذا فلو قيل: إنما يجب أن يبقى إلى منتصف الليل وللقوي الجلد أن يمضي، فإن هذا يؤدي إلى مزاحمتهم وأذيتهم للضعفة الذين قصد الشرع التخفيف عليهم، واستنباط كل معنىً يؤدي أو يعود إلى إلغاء المقصود الشرعي من أصل الرخصة يعتبر لاغياً؛ لأننا إذا قلنا: إن إذنه عليه الصلاة والسلام للضعفة أن يدفعوا بعد منتصف الليل، يدل على أن الواجب أن يمسك ولو جزءاً بعد منتصف الليل ثم يدفع، فإن هذا يؤدي إلى إلغاء معنى الرخصة؛ لأن معنى الرخصة التخفيف على الضعفة، ولو أننا ألزمنا الناس بالأصل والسنة في وجوب المبيت عليهم بمزدلفة، فإن هذا يمكن الضعفة من أن يتمتعوا برخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم والرخصة التي رخص الله لهم.

الواجب الرابع: رمي الجمار

الواجب الرابع: رمي الجمار قال المصنف: [والرمي] قوله: (والرمي) أي: رمي الجمار، وقد تقدم بيان الرمي وما يرمى به وضابط الرمي، والمراد بهذا أن الرمي يعتبر واجباً من واجبات الحج؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى، وقد وقع رميه بياناً لواجب فأصبح واجباً. وقال جمهور العلماء: إن الرمي يعتبر واجباً من واجبات الحج، والرمي رمي جمرة العقبة يوم النحر، ورمي الثلاث الجمار يوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر لمن لم يتعجل.

الواجب الخامس: الحلق أو التقصير

الواجب الخامس: الحلق أو التقصير قال المصنف: [والحلاق] قوله: (والحلاق) أي: أن الحلق أو التقصير يعتبر نسكاً من نسك الحج وواجباً من واجباته، ولذلك فرضوا هذا حتى في مسألة المحصر كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

الواجب السادس: طواف الوداع

الواجب السادس: طواف الوداع قال المصنف: [والوداع] قوله: (والوداع) أي: أنه يجب على من حج أن يطوف طواف الوداع، والدليل على وجوب طواف الوداع قوله عليه الصلاة والسلام -فيما ثبت في الصحيح عنه- (اجعلوا آخر عهدكم بالبيت الطواف)، وجه الدلالة من هذا الحديث: أن قوله: (اجعلوا) أمر، والقاعدة في الأصول: أن الأمر للوجوب حتى يدل الدليل على خلافه، وليس ثمّ دليل يصرف هذا الأمر عن ظاهره الدال على الوجوب، ولذلك قال جمهور العلماء: إن طواف الوداع يعتبر واجباً من واجبات الحج، إلا أن هذا الواجب يسقط عن المرأة الحائض والنفساء، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (إلا أنه خفف عن المرأة الحائض والنفساء)، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم من صفية ما يريد الرجل من امرأته، قالوا: يا رسول الله! إنها حائض فقال: عقرى حلقى أحابستنا هي، ثم قال: ألم تكن طافت يوم النحر؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذن -وفي رواية: فانفري-) فأسقط عنها طواف الوداع؛ وذلك لوجود العذر الموجب للإسقاط، وهو كونها قد أتاها الحيض، ومن هنا قال العلماء: يسقط الوجوب عن المرأة الحائض والمرأة النفساء، ويجب على سائر من حج أن لا ينفر ولا يصدر إلا بعد أن يطوف طواف الوداع، وقد بينا ضابط الوداع وما يتحقق أو تتحقق به موادعة البيت.

سنن الحج وضرورة العمل بها إلا من عذر

سنن الحج وضرورة العمل بها إلا من عذر قال المصنف: [والباقي سنن] قوله: (والباقي سنن) أي: أن ما وصفته لك من صفة الحج غير الأركان والواجبات التي ذكرتها لك يعتبر سنة، والسنة: ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، فهي من هدي رسول الله صلى عليه وسلم، جعل الله الخير والهدى والرحمة لمن التزم بها، وعمل بها واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم واقتدى به فيها، وأما إذا تركها المسلم فإنه لا ملامة عليه، ولا حرج عليه فهي على سبيل الندب والاستحباب لا على سبيل الحتم والإيجاب، والإنسان في السنة مخير بين أن يفعل وبين أن يترك، وهذه السنة من تركها لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يترك هذه السنة وهو يحب فعلها، ولكن طرأ عليه العذر وطرأ عليه ما لا يستطيع معه القيام بهذه السنة، فلو فرضنا مثلاً أن الإنسان سعى بين الصفا والمروة -وكان من هديه بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه أن يدعو على الصفا والمروة- فلما رأى الناس وشدة الزحام ذهب بسبب شدة الزحام ولم يستطع أن يقف، وهو في نيته ونفسه أنه لو تمكن لوقف، أو كان وقوفه يخشى معه الفتنة، ويخشى معه أذية الضعفة ونحو ذلك، وتحقق من وجود هذا الضرر، فانصرف عن الدعاء وفي نفسه أنه يحبه، وأنه لولا هذا العذر لوقف ودعا، فإن الله يبلغه أجر هذه السنة، ويبلغه ثواب من عمل بها لمكان العذر. الحالة الثانية: أن يتركها وهو قادر على الفعل، فإنه حينئذٍ لا يخلو من ضربين: الضرب الأول: أن يتركها ترخصاً برخصة الشرع، ورأى أنها سنة وتركها وهو يعتقد فضلها ويعتقد ما لها من مزية فلا إشكال، فهذا قد فاته الأفضل ولكن لا يلام ولا يذم. الضرب الثاني: أن يتركها -والعياذ بالله- زهداً فيها، فهذا هو الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (فمن رغب عن سنتي فليس مني)، فالزهد في السنن لا خير فيه، ولذلك ينبغي على طالب العلم أن لا يجعل من علمه بالسنة طريقاً للزهد فيها، فإنك ترى بعض الناس -أصلحهم الله- إذا طُلِبَ منهم أن يفعلوا أمراً من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودلوا عليه، قالوا: هذا سنة، ولا يقصدون من ذلك أنه لا يجب فعله، وإنما هو على سبيل التهكم أو على سبيل الرغبة عنها، نسأل الله السلامة والعافية! فمثل هذا نبه العلماء رحمهم الله على أنه لا خير فيه للإنسان. وقال بعض أهل العلم في قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63]: إنه عموم هديه، وإن المراد هنا بالمخالفة إما في الواجبات وإما على سبيل الرغبة عما ليس بواجب، وكل ذلك لا خير فيه؛ لأن الله توعد صاحبه بالفتنة نسأل الله السلامة والعافية! وكان بعض السلف يكرهون ترك السنن، خاصة لطلاب العلم ولمن هم قدوة وأهل فضل، فإن طلاب العلم وأهل العلم إنما فضلهم الله بالعلم وشرفهم به إذا عملوا به، ومن عمل بالعلم رفع الله قدره بهذا العلم، وطيبه وطيب العلم منه إذا عمل به وحرص عليه، فإن من عمل بعلمه ورَّثه الله علماً لم يكن يعلمه، قال بعض السلف: من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم. فمن عمل بالسنن وطبقها فإن الله يورثه بركة هذه السنن، وذلك بالانتفاع بعلمه، أما إذا كان طالب العلم تستوي عنده فعل السنن وتركها فهذا لا يخلو من نظر، حتى إن الإمام أحمد رحمه الله لما سئل عن رجل يترك الوتر؟ قال: لا خير فيه. وذلك على سبيل عدم الحرص على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعض العلماء: إذا ترك طالب العلم السنن الراتبة لا أقبل شهادته. أي: أن هذا يدل على أنه ليس على الحال الأمثل؛ لأن لطلاب العلم مزية على العوام وعلى سائر الناس، فالناس تقتدي بهم وتهتدي بهديهم، فعلى الإنسان أن يحرص خاصة إذا كان من طلاب العلم على السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسأل الله العظيم أن يجعلنا من أهلها وأن يحشرنا في زمرتهم.

أركان العمرة وما يتعلق بها من أحكام

أركان العمرة وما يتعلق بها من أحكام قال المصنف: [وأركان العمرة: إحرام]

الركن الأول: الإحرام للعمرة بنية الدخول في النسك

الركن الأول: الإحرام للعمرة بنية الدخول في النسك قوله: (وأركان العمرة: إحرام) تقدم هذا في أركان الحج، وأن مذهب طائفة من أهل العلم: أن الإحرام ونية الدخول في النسك يعتبر ركناً من أركان الحج والعمرة، فلا يحكم بدخول الإنسان في النسك إلا بها، كقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات) وهي ركن من أركان الحج وركن من أركان العمرة، وقد تقدم بيان ضابط الإحرام، وبيان ما ينبغي للإنسان أن يلتزمه إذا نوى الدخول في نسك الحج ونسك العمرة.

الركن الثاني: الطواف

الركن الثاني: الطواف قال المصنف: [وطواف] قوله: (وطواف)، فالطواف في العمرة يعتبر ركناً من أركانها، فلا يحكم للإنسان بكونه معتمراً إلا إذا طاف بالبيت، فلو جاء وأحرم من الميقات وسعى بين الصفا والمروة ورجع إلى بلده فإن عمرته لم تكتمل، ويلزمه أن يرجع ويطوف بالبيت، ثم يعيد السعي؛ لأن السعي لا يصح إلا إذا تقدمه طواف كما تقدم تفصيله في موضعه.

الركن الثالث: السعي بين الصفا والمروة

الركن الثالث: السعي بين الصفا والمروة قال: [وسعي] أي: السعي بين الصفا والمروة، فإن السعي يعتبر ركناً من أركان العمرة، وهذا على مذهب جمهور العلماء رحمهم الله.

واجبات العمرة وما يتعلق بها من أحكام

واجبات العمرة وما يتعلق بها من أحكام قال المصنف: [وواجباتها: الحلاق]

الواجب الأول: الحلق أو التقصير للمعتمر

الواجب الأول: الحلق أو التقصير للمعتمر أي: أن من واجبات العمرة الحلاق، والمراد بالحلاق هنا: أن يحلق أو يقصر، وسواء أخذ بالرخصة وهي التقصير، أو أخذ بالأفضل وهو الحلق، فالمراد بذلك أن يتحلل من عمرته.

الواجب الثاني: الإحرام من الميقات

الواجب الثاني: الإحرام من الميقات قال المصنف: [والإحرام من ميقاتها، فمن ترك الإحرام لم ينعقد نسكه]. أي: أن من واجبات العمرة: الإحرام من الميقات، فإن الإحرام من الميقات لازم في العمرة كما هو لازم في الحج كما لا يخفى. فمن ترك نية الدخول في العمرة وهو الذي عبر عنه بالإحرام لم ينعقد نسكه، فلو أن سائلاً سألك فقال: مررت بالميقات ولكنني لم أنو، ومضيت إلى مكة وطفت وسعيت؟ تقول: لست بمعتمر، وطوافك وسعيك نافلة ولا يعتد به، وإنما العمرة أن تنوي الدخول في النسك، وعلى هذا فإنه لا ينعقد الإحرام بدون وجود هذه النية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)، وقد تقدم بيان الأدلة على اعتبار النية بالدخول في العبادة حينما تكلمنا على مسائل الإحرام.

حكم من ترك ركنا من أركان العمرة غير الإحرام

حكم من ترك ركناً من أركان العمرة غير الإحرام قال المصنف: [ومن ترك ركناً غيره] أي: ومن ترك ركناً غير الإحرام لم ينعقد نسكه إلا به، فنحن نقول: إن المعتمر إذا ترك الطواف بالبيت أو ترك السعي بين الصفا والمروة فإنه ليس بمعتمر، ولو جامع أهله قبل أن يطوف الطواف المعتبر، أو قبل أن يسعى السعي المعتبر حكم بفساد عمرته، وعليه المضي في هذه العمرة الفاسدة إتماماً لها على ظاهر نص آية البقرة، ثم يلزم بقضاء عمرته الفاسدة بعد انتهائه منها كما سبق بيانه.

حكم من ترك النية في ركن من أركان الحج والعمرة

حكم من ترك النية في ركن من أركان الحج والعمرة قال المصنف: [أو نيته لم يتم نسكه إلا به] أي: أنه إذا لم ينو قبل أداء الركن، كأن يطوف بالبيت دون أن ينوي أنه عن طواف عمرته، أو لم ينو عن طواف الإفاضة فإنه لا يجزيه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وهذا مبني على قول طائفة من أهل العلم في أن الأركان تحتاج إلى نية، فأركان الحج ينبغي أن يستحضر الحاج النية عند الابتداء بها، ومن أهل العلم من اختار أن الحج له نية واحدة تجزي عن سائر أفعاله، ولا يرى أن النية تتجدد بتجدد الأركان أو الواجبات، والأول أقوى وأجزم للأصل، ولا شك أن المسلم إذا التزم به أنه أبرأ لذمته وأورع له في عبادته، وبناء على هذا القول فلابد إذا أراد أن يطوف طواف الإفاضة أن ينوي، فلو لم ينو عند طوافه بالإفاضة لم يجزه ذلك الطواف عن الإفاضة، ولم يقع ركناً على الوجه المعتبر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل اعتبار العبادة موقوفاً على وجود النية المعتبرة، فإذا لم ينوها فإننا لا نحكم باعتبار طوافه ولا باعتبار سعيه، ونحوها من الأركان اللازمة.

حكم من ترك واجبا من واجبات الحج والعمرة

حكم من ترك واجباً من واجبات الحج والعمرة قال المصنف: [ومن ترك واجباً فعليه دم] أي: أن من ترك واجباً من واجبات الحج أو العمرة فعليه دم، والأصل في ذلك فتوى ابن عباس رضي الله عنهما، وقال بعض أهل العلم: الأصل في ذلك حديث كعب بن عجرة، وهذا الحديث حاصله: أن كعب بن عجرة يوم الحديبية رضي الله عنه وأرضاه لما حُمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر من على وجهه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما كنت أُرى أن يبلغ بك الجهد ما أرى، أتجد شاة؟ قال: قلت: لا، ثم نزلت آية الفدية)، قالوا: فأمره بالدم أولاً، وكان هذا بمثابة الأصل، وهو أن الإخلالات أو الخروج من الواجبات أو الوقوع في المحظورات إنما يفتدى فيه بالدم، فنزلت آية الفدية استثناء من الأصل وبقي ما عداها من الواجبات اللازمة على الأصل الموجب لضمانها بالدم. ثم إن حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه وأرضاه، انتزع من آية التمتع وجوب الدم على من ترك الواجب، وتوجيه ذلك: أن الله سبحانه وتعالى أوجب على من جاء بالعمرة في أشهر الحج -وبقي بمكة ثم أحرم بالحج من مكة- إن كان آفاقياً أن يريق دماً، وبالإجماع على أن المتمتع يلزمه الدم بشروط التمتع المعروفة، على ظاهر آية البقرة في التمتع، قالوا: فوجب على الآفاقي إذا تمتع أن يريق دم التمتع، وهذا الدم إنما وجب عليه؛ لأنه كان الفرض عليه بعد انتهائه من عمرته أن يرجع ويحرم بالحج من ميقاته، فلما ترك هذا الواجب ألزمه الشرع بالدم ضماناً له، ويدل على هذا أن أهل مكة حينما يتمتعون من مكة يتمتعون بالحج والعمرة، فيوقعون العمرة في أشهر الحج ويهلون بالحج بعدها ولا يجب عليهم الدم؛ لأنهم أحرموا بالنسكين من الموضع المعتد به، وأما الآفاقي فإنه يلزم بالدم، فدل تفريق الشرع بين الآفاقي وبين المكي في الإلزام بالدم، أن ذلك مبني على وجود السفر من الآفاقي؛ والسبب في هذا السفر إنما هو الواجب عليه من كونه يحرم من الميقات، قالوا: وعلى هذا كانت فتواه المشهورة، ويروى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح: (من ترك شيئاً من نسكه فليهرق دماً). ثم قالوا أيضاً: إن الشرع أوجب على من كان به الأذى في رأسه، فهذا كعب بن عجرة يحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض معذور من الشرع، قد دلت الأدلة على أن مثله يستحق أن يخفف عنه، ومع ذلك ألزمه الشرع بالفدية، قالوا: فإذا كان هذا المعذور عند تركه لهذا المحذور وحلق رأسه، أو أخل بالمحذور الذي ينبغي أن يلتزم تركه في إحرامه، ألزمه الشرع بالفدية التي فيها الدم، فمن باب أولى من يتعمد الإخلال، إذ لا يعقل أن تقول لإنسان يترك الواجب من دون عذر: لا شيء عليك، وتقول لمن هو معذور: يجب عليك واحد من ثلاثة: أن تطعم ستة مساكين، أو تصوم ثلاثة أيام، أو تذبح شاة، مع أن الله عذره وقال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة:196] قالوا: فأصول الشرع تقوي فتوى ابن عباس. ثم إننا وجدنا جماهير السلف رحمهم الله، ومنهم الأئمة الأربعة، وأتباع الأئمة الأربعة كلهم يفتون: أن من ترك الواجب فعليه دم، ولا شك أن مخالفة هذا السواد الأعظم من الأمة مع فتوى ابن عباس رضي الله عنهما، وعدم وجود من خالفه من الصحابة رضوان الله عليهم أمر لا يخلو من نظر، وعلى هذا درج جماهير السلف والخلف رحمهم الله على إلزام من ترك الواجب بالدم، وعليهم انعقدت فتاوى أئمة الإسلام، فقل أن تجد من أسقط الدم عمن ترك الواجب، وهو الذي اشتهر وذاعت الفتوى به، خاصة وأن له منتزعه من دليل الكتاب وظاهر حديث كعب بن عجرة الذي ذكرنا. فقوله: (ومن ترك واجباً فعليه دم) أي: يلزمه دم، والدم هنا نكرة، وليس المراد به كل دم، وإنما المراد الواجب عليه شاة، وهذه الشاة تذبح بمكة ولا تذبح بغيرها؛ لأنه دم واجب، كما أوجب الله في قتل الصيد الذي هو إخلال في النسك، أن يكون هدياً بالغ الكعبة، فيجب عليه أن يكون بمكة، وهذا الدم يسمونه: دم الجبران في الواجبات، والأصل في إيجابه أنه منتزع من آية التمتع، والمتمتع لا يصح منه أن يريق دمه خارج مكة، قال صلى الله عليه وسلم: (نحرت هاهنا وفجاج مكة وشعابها كلها منحر)، فدل هذا على أنه ينبغي أن يتقيد بهذا الدم بمكة، ويكون طعمة للمساكين فهو دم واجب عليه كالهدي الواجب في قتل الصيد.

حكم من ترك سنة من مسنونات الحج والعمرة

حكم من ترك سنة من مسنونات الحج والعمرة قال المصنف: [أو سنة فلا شيء عليه] أي: من ترك السنة فلا شيء عليه؛ ولكن بشرط: أن لا يتركها رغبة عنها، فإذا تركها -والعياذ بالله- زهداً فيها وانتقاصاً لها ورغبة عنها فإنه يستغفر ويتوب إلى الله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل هذه الرغبة عن السنة مذمومة فقال: (من رغب عن سنتي فليس مني) والقاعدة في الأصول: أن الذم لا يستحق إلا على ترك واجب أو فعل محرم. فلما كانت الرغبة عن السنة محرمة قال صلى الله عليه وسلم: (من رغب عن سنتي) أي: زهد فيها (فليس مني) أي: ليس على هديي الكامل).

الأسئلة

الأسئلة

حكم من تجاوز الميقات

حكم من تجاوز الميقات Q من تجاوز الميقات ناسياً أو جاهلاً، فوصل إلى مكة في وقت ضيق لا يمكنه معه العودة إلى الميقات، فهل يسقط عنه الدم؟ وإذا كان ليس لديه قدرة مالية على ذبح الدم فماذا عليه؟ A باسم الله، والحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: ظاهر السؤال أنه تجاوز الميقات ناسياً، وعلى هذا ظاهره أنه لم يحرم، فإذا كان قد نسي ومضى وبلغ البيت وطاف وسعى فإنه ليس بمحرم أصلاً، وحينئذٍ لا تنعقد عمرته ولا ينعقد حجه. فإذا كان على هذا الوجه فإنه لم يحرم من الميقات؛ فالسؤال: ماذا يفعل إذا غلب على ظنه أنه لو رجع إلى الميقات يفوته الوقوف بعرفة؟ مثال: لو أن إنساناً خرج من المدينة ومرَّ بالميقات ولم يلبِّ -نسي أن يحرم- ثم وصل إلى مكة فتذكر، وكانت بينه انتهاء وبين وقت الوقوف ساعة أو ساعتين، فلو قلنا له: ارجع إلى المدينة، فاته الوقوف بعرفة. فالحل في هذه الحالة: أن ينوي ويلبي ويعقد النية من موضعه، ثم يلزمه الدم؛ لفوات الواجب الذي ذكرناه. وعلى هذا فإن الإحرام من الميقات الإلزام به من جهة الحكم الوضعي، ويستوي فيه الناسي والمتعمد، فإن أمكنه أن يتدارك تدارك، وإن لم يمكنه التدارك فإنه يجبره بالدم، وفوات الواجب أهون من فوات الركن، وعليه فإنه يحرم من موضعه ثم يدرك الحج وعليه دم الجبران، وإلا صام عنه على الأصل الذي ذكرناه في ضمان دم الجبران بالصيام. وأما إذا كان جاهلاً وعلم فإنه يلزمه الرجوع ثم يحرم من الميقات أيضاً، ويعقد نيته المعتبرة من الميقات، فإن رجع على هذا الوجه ولم يحرم دون الميقات سقط عنه الدم؛ لأن من مرَّ بالميقات ثم ذكِّر أو علِّم ورجع إلى الميقات وأحرم منه سقط عنه الدم. وهذا على قول جماهير أهل العلم رحمهم الله؛ فإن كان جاهلاً وتعلم ورجع إلى الميقات وأحرم منه سقط عنه الدم، وإن كان جاهلاً وتعلم وأحرم من دون الميقات فحكمه حكم الناسي إذا أحرم من دون الميقات سواء بسواء، إلا أنه في حال الجهل والنسيان يسقط عنه الإثم؛ لوجود العذر -على الظاهر- وإن كان في الجاهل نظر؛ لأنه في هذا العصر يتيسر سؤال العلماء والرجوع إليهم، وأهل العلم ينصون على أن من تلبس بالعبادة يجب عليه سؤال أهل العلم عن كيفية تطبيقها، فإذا قصر في السؤال لم يخل من نظر موجب للتبعية من جهة هذا التقصير. والله تعالى أعلم.

سبب اختيار ركنية الإحرام

سبب اختيار ركنية الإحرام Q لماذا جعل المصنف رحمه الله الإحرام ركناً للحج والعمرة، مع أن الإحرام هو نية، ومن المعلوم أن النية شرط وليست بركن؟ A هذا إشكال معروف ذكره العلماء رحمهم الله، ويتناظرون فيه بين القولين المشهورين: من يرى أن النية من الواجبات، ومن يرى أنها ركن، ولكن لما توقف اعتبار العبادة عليها كانت أشبه بالركنية من هذا الوجه، خاصة وأن من يقول: إنها ليست بركن يقول: الركن ما تتوقف عليه ماهية الشيء، فالركن لا تتوقف عليه الماهية من حيث الوجوب كأركان البيع كما هو واضح ولا يخفى، فقالوا: إن النية من هذا الوجه أشبه بالواجبات والشروط منها بالأركان، والقول بكونها ركناً مبني على أن فواتها فوات للعبادة، والعبادة لا تقع أصلاً بدونها، وكانت شبهيتها بالركن من هذا الوجه، وكأنهم نزلوا الصورة الحكمية في الشرع منزلة الصورة الوجودية في النظر، وقولهم قوي من هذا الوجه، وهذا هو الذي درج عليه المصنف، وإلا فهناك من أهل العلم من يرى أنها من الواجبات أو الشروط، لكن القول بالركنية له حظه من النظر الذي ذكرناه، وعليه فإنها تكون من الأركان لوجود الشبهية من جهة حكم الشرع بعدم الاعتداد بدونها، فنزل منزلة الفقد للاعتبار منزلة الفقد للوجود؛ فكانت أشبه بالركن، وتوقف الماهية عليها من هذا الوجه. والله تعالى أعلم.

وصية لطالب العلم

وصية لطالب العلم Q تألمنا كثيراً لغيابك عنا، فنرجو أن لا تقطع تواصلك بنا. وجزاكم الله خيراً؟ A الله يعلم إنا نحبكم كما تحبونا، ويعلم الله كم يحصل في النفس من شوق وحب للقائكم، ووالله إني لآتي في مشقة السفر وعنائه والله يعلم أنه يزول جميع ما بي حين أراكم، وأسأل الله بعزته وجلاله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى كما جمعنا في هذا البيت الطيب الطاهر المبارك أن يجمعنا في دار كرامته، وأن يجعل كل لقاء من هذه اللقاءات اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وأن لا يجعل فينا ولا منا ولا معنا أبداً شقياً ولا محروماً، ووالله إنه ليصيب الإنسان الهم والغم، ويجد من لأواء الفتن والمحن ما الله به عليم، ولم يبق سلوة إلا بذكر الله، والجلوس مع الأحبة والإخوان في الله، وأسأل الله العظيم أن يديم هذا التواصل، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم. وخير ما أوصي به: إرادة وجه الله العظيم، فإن الدنيا فانية، وكم من أحبة اجتمعوا وآلَ اجتماعهم إلى افتراق، وكم من أحبة تواصلوا وآلت صلتهم إلى فرقة وشتات؛ لأنها لم تقم على ذكر الله، والمحبة فيه، والتواصل في ذاته، ولقد وجبت محبة الله للمتزاورين والمتحابين والمتجالسين فيه، وتأذن الله لمن جلس مجلس ذكر لله وفي الله أن تغشاه السكينة، وأن تتنزل على هذه المجالس الرحمة، وأن يذكرها الله فيمن عنده. ومما ينبغي أن نتواصى به: شكر الله على نعمه، فإن الله عز وجل اختار الدنيا لمن أحب وكره، ومن أراد الدنيا صرفه الله إليها وفتح له من أبوابها وخيراتها وفتنها حتى لا يبالي به في أي أوديتها هلك -نسأل الله السلامة والعافية- ولكن الله لا يعطي الدين إلا لمن أحب، ومن أعظم الدين وأجله وأزكاه وأنفعه: العلم النافع، والجلوس في حلق الذكر، وغشيان حلق العلماء، وحبهم والتواصل معهم، وتكثير سواد مجالس الذكر لله وفي الله لا رياء ولا سمعة، ولكن لمرضاة الله عز وجل. ومما يوصى به طلاب العلم: شكر الله على نعمه وحمده سبحانه، فكل مجلس يمر عليك احمد الله على فضله، وقل: الحمد لله أنه لم يمر عليك هذا المجلس وأنت في صخب الدنيا ولغطها ولهوها وفتنها، الحمد لله أن اصطفاك واجتباك، وما يدريك فلعلك تقوم من هذا المجلس وقد بدلت سيئاتك حسنات، وما يدريك أنك بإخلاصك وإرادتك لوجه الله أن الله يقبل منك هذه النية الخالصة، فيغفر لك ما تقدم من ذنبك، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله غفر لعبد خطاء الكثير من الذنوب؛ لما مر على مجلس ذكر للصالحين فجلس معهم)، فنسأل الله العظيم أن يعيننا على هذا الخير، ويوفقنا لشكر نعمه، فإن من شكر الله زاده، وإذا زاد الله العبد في نعمته بارك له فيها. ومما يوصى به الأحبة في مثل هذه المجالس: إتباع العلم العمل، والحرص على السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تتعلم شيئاً إلا وعملت به ودللت الناس عليه. ومما نتواصى به حب الخير للمسلمين لنشر هذا العلم، وأن تكون قلوبنا مليئة بحب الخير لإخواننا المسلمين، فنتعلم هذا العلم، ونشهد الله من الآن أننا لا نريد به علواً في الأرض ولا فساداً، وإنما نريد به وجه الله وما عند الله من نفع المسلمين بدلالتهم على الخير، ومن نوى الخير فإن الله عز وجل تأذن له بأحد أمرين: الأول: إما أن يمتع عينه ويقرها في الدنيا قبل الآخرة برؤية الخير الذي نواه؛ فإذا نويت من الآن أن تحمل هذا العلم للأمة فتهدي ويهدى بك، وتدل الناس على الخير؛ ليأتين يوم يقر الله عينك لما نويت من الخير، وهذا مشهد لله -ولا نزكي أنفسنا في طلبنا للعلم- فما وجدنا الله إلا وفياً لعباده: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111]، والله تعالى يقول: {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} [المائدة:12] فالله مع عباده عامة، وخاصتهم من أهل العلم وطلاب العلم. فيحرص الإنسان أن تكون نيته فيها نفع أبناء المسلمين، وأن لا يبخل على الناس بهذا العلم، فإما أن يريك الله بأم عينك أثر هذه النية الصالحة، ويأتي اليوم الذي تنعم فيه عينك بحمل العلم عنك، فتأمر فتجد الناس حين تفتيهم يأتمرون بأمرك وينتهون بنهيك؛ لأن الله هو الذي يقلب القلوب ويثبتها، فإذا علم الله منك النية الصالحة قلب القلوب على حبك والثقة بما تقول، والناس تشتري السمعة بالأموال، والله تعالى زكى أهل العلم ووضع لهم من الحب والود في قلوب عباده ما لو بذلوا له أموال الدنيا ما استطاعوا أن يصلوا إليه، وهذا كله بفضل الله. الثاني: أن يبلغك الله الأجر بنيتك، ويصرف عنك البلاء بالعلم؛ لحكمته وعلمه سبحانه، فيبلغك أجر هذا العلم وأجر ما نويت من نشر العلم بنيتك. فعلى الإنسان أن يجعل من هذه لمجالس عوناً له على طاعة الله، ومحبته؛ فالدنيا فانية. وكم جلسنا مع علماء قرت عيوننا برؤيتهم فأمسينا وأصبحنا كأن لم يكن شيء، وسيأتي يوم لا يرى الإنسان فيه من يراه: كأن شيئاً لم يكن إذا انقضى وما مضى مما مضى فقد مضى ومما يوصى به أيضاً: الحرص على اغتنام العلم، واغتنام وجود العلماء وحلق الذكر، والحرص على الجد والاجتهاد، لا أن يأتي الإنسان إلى مجلس الذكر لكي يشغل وقت فراغه؛ إنما يأتي لكي يعلَم ويعمل ويعلِّم، ويحس أنها أمانة ثقيلة، وأن الله معينه ومسدده. ووالله ثم والله ما صدقت مع الله إلا صدق الله معك، وليفتحن الله لك من أبواب الخير والرحمة ما لم يخطر لك على بال، فإن أساس هذا الدين وأساس هذه الملة قائم على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الدين والوحي الذي أوحى الله إلى نبيه، فإذا تجرد طلاب العلم لحمله وصدقوا مع الله صدق الله معهم، وجعل فيهم الخير للأمة، ونفع بهم الإسلام والمسلمين، ووالله ما حملت علماً صادقاً تريد به وجه الله إلا بلغه الله عنك، والله عز وجل على كل شيء قدير. المهم أن هذه القلوب -التي تتقلب على العبد آناء الليل وأطراف النهار- تستشعر قيمة هذا العلم. وقد كان السلف لا يشتكون من شيء مثل قلوبهم، وقال سفيان رحمه الله: ما رأيت مثل قلبي -وفي رواية: ما رأيت مثل نيتي- إنها تتقلب عليَّ. والله عز وجل لا ينظر إلى عبده على كمال وجلال مثلما ينظر إليه وهو عالم عامل قائم بحجة الله عز وجل على خلقه، فهؤلاء هم ورثة الرسل والأنبياء (إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم)، فيشهد الله أن هذا التواصل نريد به وجه الله، ولا نزكي أنفسنا على الله، ولكن نتمنى من طلاب العلم ونحب لهم ما نحب لأنفسنا من الإحساس بهذه النعمة، والحرص على ضبط هذا العلم، وكل طالب علم شعر أن هذا العلم عزيز، وأعطاه ما ينبغي أن يُعطاه من الإجلال والمحبة فسوف ينفعه الله عز وجل به عاجلاً أم آجلاً. فإن الرجل إذا رأيته يعطي الشيء العزيز وهو يشعر بعزته فيحتضنه ويكتنفه، كانت العقبى بعزته ورفعته، فكم من أنفس زهقت في دفاع عن الأموال لما عزت على أصحابها، وكم من أنفس ذهبت في دفاع عن الأعراض لما عزت الأعراض على أهلها، فإذا عز العلم على أهله وعز العلم عند أصحابه بذلوا له ما ينبغي أن يبذل. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا وأن يسددنا، ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل هذا العلم حجة لنا لا علينا، وأن يغفر لنا ولكم ما يكون فيه من الزلل والخطأ، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

حكم طواف الوداع لمن أصابه مرض ويخشى فوات رفقته

حكم طواف الوداع لمن أصابه مرض ويخشى فوات رفقته Q رجل انتهى من جميع أعمال الحج عدا طواف الوداع، ثم أصيب بمرض لا يستطيع معه الطواف إلا بمشقة كبيرة، ومعه رفقة ولا يستطيع أن يتأخر عنهم، فهل يسقط عنه الطواف؟ A طواف الوداع واجب من واجبات الحج، أسقطه النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة الحائض والنفساء، ولا يُجري كثير من أهل العلم القياس في هذا ولا يطرده، ويقولون: إن أمكنه أن يأتي به ولو ببعض المشقة أتى به، وإن كان لا يستطيع أثناء المرض ينتظر حتى يذهب ما به من المرض ثم يطوف إذا أمكنه التأخير، وأما إذا لم يمكنه وصدر مباشرة فإنه يلزمه الدم وإلا صام عنه عشرة أيام. والله تعالى أعلم.

حكم التنفل بالسعي بين الصفا والمروة

حكم التنفل بالسعي بين الصفا والمروة Q هل يشرع التنفل بالسعي بين الصفا والمروة كما يشرع التنفل بالطواف؟ A قال بعض العلماء: إنه لا يشرع السعي بين الصفا والمروة إلا في الفرض، أي: في الحج والعمرة. وقال بعض العلماء: إنه يجوز أن يتنفل في سعيه بين الصفا والمروة؛ لعموم قوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158]، وحكى بعض العلماء الإجماع عليه، لكنه لا يخلو من نظر في حكايته الإجماع، وقيل: إن مراده التنفل بالسعي أثناء الحج: أنه لا يتنفل كما أنه لا يتنفل بالطواف تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد.

باب الفوات والإحصار [1]

شرح زاد المستقنع - باب الفوات والإحصار [1] لقد شرع الله عز وجل أحكاماً تخص من فاته الحج أو أحصر عنه بعدو أو مرض أو نحوه، وتشريع هذا دليل على رحمة الله عز وجل وتيسيره، والتي منها: قضاء الحج أو العمرة من قابل، وغيرها من الأحكام التي ذكرها الشيخ وفصل فيها، وهي أحكام تشمل الحج والعمرة جميعاً.

الفوات والإحصار في الحج والعمرة

الفوات والإحصار في الحج والعمرة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الفوات والإحصار] هذا الباب فيه مناسبة لطيفة؛ فبعد أن بَيَّن المصنف رحمه الله صفة الحج والعمرة الكاملة، ذكر أن الفقيه محتاج إلى بيان مسألة مهمة، وهي: هب أن إنساناً نوى الحج، وتلبس بنسكه، وأحرم به، ثم فاته الحج، أو نوى به العمرة، ثم صد عن البيت، ولم يتمكن من الوصول إليه؛ فما حكم الأول، وما حكم الثاني؟ وهذا ما يعبر عنه بالفوات والإحصار؛ فما موقف الشرع ممن فاته الحج، وما موقفه ممن أحصر عن حجه أو عمرته؟ من هنا كان العلماء رحمهم الله يعتنون بعد بيان صفة العبادات ببيان فواتها؛ فيتكلمون عن أحكام قضاء العبادة بعد أن يتكلموا عن أحكام العبادة في مواقيتها، والحج يكون الكلام عنه في باب الفوات والإحصار.

معنى الفوات والإحصار

معنى الفوات والإحصار الفوات مأخوذ من قولهم: فات الشيء، إذا ذهب ولم يستطع الإنسان أن يدركه. والإحصار مأخوذ من الحصر، وأصل الحصر: المنع، يقال: حصر عن الشيء، إذا منع منه، والحصر والقصر كلٌّ منهما فيه معنى الحبس عن الشيء والمنع منه. ومعلوم أن المكلف مطالب -في الأصل- بإتمام عبادة الحج والعمرة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر بذلك فقال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، ثم قال سبحانه: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، فقسم الله عز وجل العباد إلى قسمين: قسم يتم عبادة الحج والعمرة، وقسم يحصر عن حجه وعمرته، ومن هنا لزم بيان أحكام الفوات والإحصار. أما الفوات فمسائله متعلقة بالحج فقط، وأما العمرة فلا يقال: فيها فوات، إلا في حق من حج قارناً، فقرن حجه مع عمرته؛ لأن العمرة في حق القارن تكون داخلة في حجه، وحينئذٍ يقال: فاتته العمرة. فالفوات في الأصل يكون في الحج؛ والسبب في تعلق الفوات بالحج: أن العمرة يجوز إيقاعها في سائر أيام العام ولياليه، بخلاف الحج فله ميقات معين وزمان محدد، كما أخبر الله جل وعلا عنه بقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]، ومعلوم أن كل معين محدد أو مؤقت بزمان لا يتمكن كل المكلفين من إيقاعه في الزمان المعتبر له؛ كالصلاة، فإن الله جعل لصلاة الفجر مثلاً ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وليس كل الناس يتمكن من إيقاعها في هذا الزمان، فلربما نام عنها شخص ولم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، وحينئذٍ يرد Q ما حكم من فاتته عبادة الصلاة على هذا الوجه؟ وكذلك يرد السؤال: ما حكم من أحرم بالحج ولم يستطع الوصول إلى عرفة قبل فجر يوم النحر، وإنما وصلها بعد طلوع الفجر؟ وحينئذٍ يحكم بفوات حجه. يقول المصنف رحمه الله: (باب الفوات والإحصار). وكأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل الشرعية والأحكام المتعلقة بمن فاته الحج أو أحصر عن الحج والعمرة.

أحكام ومسائل تتعلق بالفوات

أحكام ومسائل تتعلق بالفوات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الفوات والإحصار] هذا الباب فيه مناسبة لطيفة؛ فبعد أن بَيَّن المصنف رحمه الله صفة الحج والعمرة الكاملة، ذكر أن الفقيه محتاج إلى بيان مسألة مهمة، وهي: هب أن إنساناً نوى الحج، وتلبس بنسكه، وأحرم به، ثم فاته الحج، أو نوى به العمرة، ثم صد عن البيت، ولم يتمكن من الوصول إليه؛ فما حكم الأول، وما حكم الثاني؟ وهذا ما يعبر عنه بالفوات والإحصار؛ فما موقف الشرع ممن فاته الحج، وما موقفه ممن أحصر عن حجه أو عمرته؟ من هنا كان العلماء رحمهم الله يعتنون بعد بيان صفة العبادات ببيان فواتها؛ فيتكلمون عن أحكام قضاء العبادة بعد أن يتكلموا عن أحكام العبادة في مواقيتها، والحج يكون الكلام عنه في باب الفوات والإحصار.

حكم من فاته الوقوف بعرفة

حكم من فاته الوقوف بعرفة قال رحمه الله: [من فاته الوقوف فاته الحج وتحلل بعمرة]. قوله: (من فاته الوقوف) أي: الوقوف بعرفة، و (أل) هنا للعهد، والمراد به العهد الذهني، أي: الوقوف المعروف الذي هو ركن الحج؛ فقد فاته الحج. والوقوف ينتهي بطلوع الفجر الصادق من صبيحة يوم النحر، وعلى هذا يكون مراد المصنف بقوله: (من فاته الوقوف) أي: أن الشخص إذا لم يدرك الوقوف بعرفة ولو لحظة يسيرة قبل طلوع الفجر الصادق يوم النحر؛ فحينئذٍ يكون قد فاته الحج، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة)، وعلى هذا أفتى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أنه أمر أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه لما فاته الوقوف بعرفة أن يتحلل بعمرة، وقال له: (إن كنت قد سقت الهدي فانحره، ثم تحلل بعمرة)، وجاءه هبار بن الأسود في صبيحة يوم النحر فقال: يا أمير المؤمنين! ظننت أن هذا اليوم يوم عرفة، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ابق كما أنت، وائت البيت وطف واسع، ثم حج من قابل، واهد إلى البيت). فهذا يدل على أن من فاته الوقوف بعرفة أنه يحكم بفوات حجه، ويؤمر بالانصراف إلى العمرة، وأن يتحلل من الحج بالعمرة، وهذا بإجماع العلماء؛ فمن طلع عليه الفجر الصادق من صبيحة يوم العيد -يوم النحر- ولم يدرك ولو لحظة من الوقوف بعرفة، فإنه يتحلل بالعمرة وقد فاته الحج.

ما يجب على من فاته الحج

ما يجب على من فاته الحج قال رحمه الله: [ويقضي]. فلو كان حجه نافلة ألزم بالقضاء، وكذا إن كان فريضة من باب أولى. وقوله: (ويقضي) أي: يلزمه أن يقضي هذا الحج؛ لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، فلما أحرم بالحج -ولو كان نافلة- لزمه الإتمام، وحيث لم يحج ولم يؤد الحج كما فرض الله عليه؛ لزمه أن يقضيه من عامه القادم إذا تيسر له الحج من العام القادم، وأما إذا لم يتيسر له أن يحج في العام الذي يلي العام الذي فاته فيه الحج وحبس عن البيت لمرض أو عذر، ثم حج بعد عام ثانٍ أو ثالث أو رابع؛ فإنها تجزيه حجته عن تلك التي حبس عنها؛ فيستوي أن يحج في العام الذي يليه أو في العام الذي بعده على الفور، ولا يجوز له أن يؤخر إلا أن يكون عنده عذر. قال المصنف رحمه الله: [ويهدي؛ إن لم يكن اشترط]. قوله: (ويهدي) أي: إلى البيت؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر هباراً أن يهدي. وقوله: (إن لم يكن اشترط) أي: إذا كان اشترط عند إحرامه أن محله حيث حبسه الحابس؛ فإنه يسقط عنه القضاء والدم، وهذا قول لبعض العلماء رحمهم الله: أن الاشتراط يسري على مثل هذه الحالة. والقول الآخر: بأن الاشتراط يتقيد بالصورة الواردة في حديث ضباعة رضي الله عنها، وهي المرض؛ فإن كان الإنسان مريضاً واشترط ذلك صح اشتراطه، وما عداها فإنه يبقى على الأصل، وقد بيّنا هذا القول، وبيّنا من خالفه، ودليل كلٍّ منهما، وبيّنا الراجح في مسألة الاشتراط، وأن الظاهر هو الاكتفاء بالوارد في صورة حديث ضباعة رضي الله عنها وأرضاها.

الإحصار وما يتعلق به من مسائل

الإحصار وما يتعلق به من مسائل قال المصنف رحمه الله: [ومن صده عدو عن البيت أهدى ثم حلَّ]. قوله: (ومن صده عدو عن البيت) هذا يسمى بالإحصار، وصورته: أن يريد شخص الحج ثم يحصر ويمنع من الوصول إلى البيت بعدو، كما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية؛ فإنه عليه الصلاة والسلام حصره المشركون عن عمرته، ومنعوه من الوصول إلى البيت، واشترطوا عليه أن يرجع من هذا العام وأن يأتي من العام القادم؛ فتحلل عليه الصلاة والسلام، ثم نحر هديه ورجع إلى المدينة. وللعلماء في تحديد صور الحصر أقوال: فمنهم من يقول: الحصر يتقيد بالعدو ذي القوة والغلبة والقهر، بحيث لا يستطيع الشخص الوصول إلى البيت؛ كما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية. ومنهم من يقول: يلتحق بحصر العدو كل ما في معناه، ثم قاسوا على ذلك مسائل: منها: أن يحصر بمرض؛ كأن يكسر، أو يصيبه عرج، أو يكون مريضاً ويفوته الوقوف بعرفة بسبب هذا المرض الذي لم يستطع أن يدرك معه هذا الركن، فيأخذ حكم المحصر. فلو أن إنساناً نوى الحج ثم خرج، فلما صار في الطريق أصابته الحمى، أو كسرت يده أو رجله، واحتاج للعلاج، وقيل له: لا يمكن لك أن تبرح هذا المكان قبل يومين أو ثلاثة، وليس بينه وبين عرفة إلا يوم واحد، ويلزمه الطبيب العدل أو أهل الخبرة من الأطباء بالبقاء، وأنه لا يمكنه العلاج إلا في هذا الموضع؛ فحينئذٍ يكون محصراً عند هؤلاء. ويدخل في حكم المحصر من أصابه المرض المعدي -كالكوليرا ونحوها- بحيث لو مشى بين الحجاج أهلك الناس وأضر بهم؛ فإن من حق ولي الأمر أن يحجر عليه، وقد ذكر العلماء رحمهم الله هذه المسألة تحت القاعدة المشهورة: إذا تعارضت مفسدتان روعي ارتكاب أخفهما دفعاً لأعظمهما. واستدلوا لذلك بالأدلة الصحيحة الكثيرة: منها: كسر السفينة من الخضر عليه الصلاة والسلام دفعاً لضرر أعظم. قالوا: فيجوز الحجر على هذا الحاج ومنعه من إتمام نسكه. وقد ذكر العلماء -من أئمة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة- جواز الحجر على من عنده مرض معدٍ، ومنعه من الخروج للقاء الناس، واعتبروها من مسائل الحجر على المريض، وذلك أن العدوى بقول الأطباء تقبل فيها شهادتهم، وينظر إلى الغالب، فمثل هذا يعتبر في حكم الحصر. ثم قالوا: يقاس على المحصور بالعدو من كان عنده عذر يحول بينه وبين بلوغ البيت؛ كذهاب النفقة، أو سرقة ماله وهو في الطريق، ولم يستطع أن يكتري ولا أن يستأجر أو أن يمشي على قدميه حتى يصل إلى عرفات ليدرك الحج، فهو في حكم المحصر، ويتحلل. ومثله أيضاً العاجز حسياً، وهو مثل العذر الشرعي، فيكون أيضاً في حكم الإحصار، ومثلوا لذلك بالمرأة التي مات محرمها في طريقها للحج، أو مرض أو انكسر ولا يستطيع أن يتم معها مناسك الحج، وهي على مسافة قصر بينها وبين مكة، فإذا بقيت مع محرمها فإن الحج يفوتها، فقالوا: إن هذا عذر شرعي؛ لأن المرأة لا يجوز لها أن تسافر بدون محرم، فينزّل العجز الشرعي منزلة العجز الحسي. ومن العجز الشرعي أيضاً: إذا توفي زوج المرأة؛ فإنه يلزمها الإحداد، وللعلماء في المرأة التي تبلغها وفاة زوجها أثناء الحج أو أثناء العمرة وجهان: الأول: منهم من يرى أنها إذا أحرمت بالحج أو بالعمرة ودخلت في النسك، ثم جاءها الخبر، فإنها تتم الحج والعمرة ولا ترجع، وقد قضى بهذا بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تفتي به، وهو الصحيح؛ فإن المرأة إذا أحرمت بالحج أو العمرة وبلغتها وفاة زوجها؛ لزمها إتمام الحج والعمرة، ولا يعتبر هذا بمثابة الإحصار، وإنما تبقى في نسكها؛ لتعارض الواجبين، الأول: ما يمكن تداركه، والثاني: ما لا يمكن تداركه، فيقدم ما لا يمكن تداركه على الذي يمكن تداركه عند ازدحام الفرضين والواجبين، فنقول لها: امضي وأتمي النسك، ثم ارجعي واعتدي عن بعلك عدة الوفاة. وقد اختلف في المرض، والقول باعتباره عذراً في الحج من القوة بمكان، ويقول به جمع من أهل العلم، كما هو موجود في مذهب الحنفية والحنابلة وغيرهم رحمة الله على الجميع. وقد جعل الله تعالى الإحصار رحمة للعباد، فإن الإنسان إذا حيل بينه وبين البيت وفاته الحج، فإنه لا يمكنه أن يتداركه، فلو أن الشرع ألزمك إذا أحصرت عن البيت أن تبقى بإحرامك حتى تحج من السنة القادمة، فيبقى الإنسان محرماً سنة كاملة محرمة عليه محظورات الإحرام، فلا شك أن هذا من العسر بمكان، فمن رحمة الله تعالى أن شرع هذا الأمر وهو الإحصار، فهو من دلائل يسر الشريعة، وصدق الله عز وجل إذ يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. إذا ثبت أن الحصر بالعدو يعتبر موجباً للرخصة، فهنا مسألة، وهي: أن من شرط هذا الحصر: ألَّا يتمكن الإنسان من طريق بديل، فلو كان لمكة أكثر من طريق، وحصر من طريق، وأمكنه أن يذهب من طريق ثانٍ ففيه تفصيل: قال بعض العلماء: إذا كان الطريق الثاني فيه مشقة، أو أنه يحتاج إلى نفقة أكثر من النفقة التي معه، أو فيه ضرر عليه؛ فإنه يكون في حكم المحصر. وقال بعض العلماء: إذا وجد طريقاً بديلاً يلزمه أن يسلكه ولو كانت نفقته لا تكفي، ولو كانت فيه مشقة عليه؛ لأنه من باب ارتكاب أخف الضررين، فإن فوات هذه العبادة أعظم من المشقة الطارئة على هذا الوجه، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الحج بكونه جهاداً، فلا يرون وجود المشقة على هذا الوجه موجبة للرخصة. وقولهم ألزم للأصل كما لا يخفى.

أحكام ذبح الهدي للمحصر

أحكام ذبح الهدي للمحصر قال رحمه الله: [ومن صده عدو عن البيت أهدى ثم حلّ] قوله رحمه الله: (أهدى ثم حلّ) أي: يهدي ويذبح ما معه من الهدي، كما قال تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، والأصل في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية نحر هديه وتحلل حينما صد عن عمرته، فأوجب الله عز وجل الهدي بظاهر القرآن، وكذلك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد اختلف العلماء: هل يلزمك أن تبعث بالهدي إلى مكة ليذبح فيها إذا تيسر لك ذلك، أم أنك تذبحه في الموضع الذي أحصرت فيه؟ على وجهين مشهورين، أصحهما: أنه يذبح الهدي وينحره في الموضع الذي أحصر فيه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحصر عن البيت ولم يكن بينه وبين حدود الحرم إلا خطوات، وذلك في الحديبية -وهي التي تسمى اليوم بالشميسي- وكان يمكنه أن يدخل ويصلي داخل حدود الحرم، ومع ذلك لم يتكلف أن ينحر هديه داخل حدود مكة، والله تعالى يقول: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح:25]، فقال: (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) أي: عن بلوغ محله، ومحله هو البيت العتيق -أعني: حدود الحرم- فدل على أنه لا يلزم المحصر بأن يبعث هديه إلى الحرم، وإذا تيسر له بعثه فإنه يبعثه، خروجاً من خلاف العلماء رحمهم الله. ثم قال رحمه الله: [فإن فقده صام عشرة أيام ثم حلّ] أي: إن فقد هديه فإنه يصوم عشرة أيام بدلاً عن هذا الدم. وقد طرد العلماء هذا الأصل في الدماء الواجبة، فقالوا: من وجب عليه دم التمتع ودم القران، أوجب الله عليه -إذا لم يجده- أن يصوم عشرة أيام، فكل دم واجب إذا لم يستطعه الإنسان صام بدلاً عنه عشرة أيام، وعلى هذا قالوا في المحصر: إذا لم يستطع ولم يتيسر له الهدي فإنه يصوم العشرة الأيام؛ على ظاهر آية البقرة؛ لشمولها للمتمتع والمحصر.

حكم المحصور عن عرفة

حكم المحصور عن عرفة قال رحمه الله: [وإن صد عن عرفة تحلل بعمرة]. أي أنه إذا كان قد بلغ البيت، ولكنه صد عن عرفة؛ فإنه يتحلل بعمرة بعد ذهاب وقت الوقوف، فلو صد ورجا أن يتمكن من الوقوف؛ فإنه ينتظر إلى آخر الأمد الذي يتمكن معه من الوقوف، ثم إذا خالف ظنه وتبين أنه لا يتمكن وطلع الفجر؛ مضى إلى مكة وتحلل بالعمرة، وذلك أشبه بفسخ الحج بعمرة، مثلما فسخ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حجهم بعمرة، ولذلك لا يرى بعض العلماء أن هذه الصورة من صور الإحصار؛ لأنه يراه فسخاً للحج بعمرة، كما هو القول عند الحنابلة رحمهم الله وطائفة من السلف؛ فإنهم يرون أن من منع من الوقوف بعرفة فإنه يمكنه أن يفسخ حجه بعمرة، ويتحلل بالعمرة على هذا الوجه الذي أشار إليه المصنف رحمه الله. وقوله: (تحلل)، ولم يوجب عليه الدم، فدل على أنه ليس بمحصر، كما اختاره المصنف. وهناك من أهل العلم من يقول: يتحلل بعمرة وعليه دم. فالفرق بين القولين: أن المصنف لا يراه محصراً، فإن قلت: لا أراه محصراً، فحينئذٍ لا يلزمه دم، وإن قلت: إنه يعتبر في حكم المحصر؛ أخذ حكم المحصر، وكان تحلله بالعمرة موجباً للدم؛ كما هو قول بعض العلماء رحمهم الله.

باب الفوات والإحصار [2]

شرح زاد المستقنع - باب الفوات والإحصار [2] استكمل الشيخ حفظه الله ما بقي من أحكام الفوات والإحصار، فذكر أحكام المحصر بمرض أو ما في حكمه من المسائل المعاصرة، ثم ذكر أحكام المحصر بذهاب نفقته، وختم حديثه ببيان مسألة الاشتراط في النسك.

حكم المحصر عن الحج والعمرة بمرض وما في حكمه

حكم المحصر عن الحج والعمرة بمرض وما في حكمه الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإن أحصره مرض]. ذكر المصنف رحمه الله مسائل الفوات والإحصار؛ فبين حكم من فاته الحج، وحكم من أحصر عن الوصول إلى البيت؛ سواء كان الإحصار في الحج أو العمرة، ولما فرغ رحمه الله من بيان أحكام المحصر شرع في بيان من أصابه المرض، وكان عليه شديداً؛ بحيث لا يستطيع أن يصل إلى البيت فيدرك الحج أو يأتي بالعمرة أثناء المرض، فهل يجوز له أن يتحلل مباشرة، فيكون حكمه حكم المحصر -كما تقدم- أم أنه ينتظر حتى يبرأ من مرضه أو يقوى على المسير إلى البيت فيؤدي نسك الحج إن أدركه وإلا تحلل بعمرة؟ وقد كثر في هذا الزمان وجود الحوادث التي تقع في الطريق، وهي في حكم المرض؛ فلو أن إنساناً أراد الحج ثم حصل له حادث في الطريق، فأصابه كسر أو مرض في جسده، فلم يستطع أن يخرج، أو كان تحت عناية في علاجه، بحيث يقرر الأطباء أنه لا يخرج قبل الحج، أو أنه لا يمكنه أن يقوم بمناسك الحج حتى فات وقت الحج، فما حكمه؟ قال رحمه الله: [يبقى محرماً] أي: أن من أصابه المرض فلا يحكم بكونه محصراً، وإنما يبقى بإحرامه حتى يبرأ من المرض؛ فإذا برئ من المرض فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون شفاؤه وبرؤه قبل الوقوف بعرفة؛ بحيث يمكنه أن يذهب ويتم مناسك حجه، فالحكم حينئذٍ: أن يمضي ويتم مناسك الحج. الحالة الثانية: إذا كان برؤه وشفاؤه بعد فوات الوقوف بعرفة؛ فإنه يتحلل بعمرة، ثم يلزمه الهدي، ويكون هذا الهدي بسبب فوات الحج، ثم يأتي بحجة من العام القادم؛ سواء كانت حجته لفرض أو لنافلة. والعمرة التي يأتي بها يقصد منها أن يتحلل من نسك الحج؛ وذلك لأن الحج قد فاته، فيتحلل منه بعمرة، ولأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر من فاته الحج أن يتحلل منه بعمرة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يفسخوا حجهم بعمرة. ثم عليه أن يهدي لفوات الحج، وعليه كذلك الحج من قابل؛ فهو في حكم من كان معذوراً بالمرض وفاته الحج لعذر آخر. وكان من الأعذار المشهورة قديماً: أن يظن الحاج أن الوقوف بعرفة يوم السبت، ويكون الوقوف يوم الجمعة، فيأتي إلى عرفة يوم السبت وقد فرغ الناس من الوقوف، ولا يمكنه أن يدرك الوقوف، فحينئذٍ يكون في حكم المريض، فيمضي إلى البيت ويطوف ويسعى ويتحلل بعمرة، ثم عليه الهدي والحج من قابل. وفي حكمه أيضاً: من نام عن الوقوف بعرفة؛ كرجل مشى إلى عرفات، ثم قبل أن يصل إليها وبسبب الإجهاد والتعب أراد أن ينام، فنام حتى ذهب وقت الوقوف، ولم يمكنه إدراكه، فحينئذٍ يكون حكمه حكم المريض أيضاً، فيبقى محرماً، ثم يمضي إلى البيت ويأتي بعمرة كاملة يتحلل بها من الحج؛ لأن الحج قد فاته، وقد قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بذلك لما جاءه هبار بن الأسود فقال: يا أمير المؤمنين! إني كنت أظن أن اليوم يوم عرفة -وكان اليوم الذي جاء فيه يوم النحر- فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ابق كما أنت -أي: بإحرامك- ثم ائت البيت وطف واسع، وتحلل بعمرة، ثم اهد وعليك الحج من قابل). قال العلماء: في هذا دليل على أنه لما أحرم بالحج فإنه يفسخ هذا الحج بالعمرة؛ لأنه لا يمكنه أن يصبر إلى السنة القادمة وهو محرم، فلو أن إنساناً أحرم بحج، ومرض أو أصابه عذر ولم يمكنه أن يدرك عرفة، فقلنا له: ابق بإحرامك إلى العام القادم؛ فإن هذا فيه حرج ومشقة عظيمة؛ لأنه سيبقى مجتنباً لمحظورات الإحرام وممتنعاً عنها شأنه شأن المحرم، فلذلك خفف الله عز وجل عن عباده. ومضت الفتوى عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: بأنه يتحلل بعمرة، وهذه الفتوى لها أصل شرعي؛ فمن فقه أمير المؤمنين -الذي أمرنا باتباع سنته- أنه انتزع هذه الفتوى من فسخ النبي صلى الله عليه وسلم حج أصحابه بعمرة، فأمر من لم يسق الهدي أن يتحلل بعمرة، ولذلك قالوا: ينصرف من حجه إلى عمرته؛ كأنه فسخ، لا أنه حقيقة قد فسخ حجه بعمرة، بدليل لزوم القضاء عليه من قابل. وقوله رحمه الله: (ومن أحصر بمرض)، هذا القول الذي اختاره المصنف هو مذهب جمهور العلماء، وهذا المذهب يقوم على أن المرض لا يعتبر الإنسان فيه محصراً، ولذلك قال رحمه الله: (بقي محرماً)، ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله قال: إن من أحصر بالمرض فحكمه حكم المحصر. وحينئذٍ فحكم المحصر بالمرض: أن يتحلل في مكانه، ويهدي إن كان معه الهدي، وإذا لم يكن معه الهدي صام، ثم يكون حكمه حكم من أحصر بالعدو ونحوه كما تقدم تفصيله. وقال الجمهور: إن الإحصار يتقيد بالحصر بالعدو -كما تقدم- لقوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، فجعل الله سبحانه وتعالى الأمن مرتباً على الحصر؛ فدل على أن الإحصار ليس مطلقاً، وإنما هو مختص بالحصر بالعدو، على التفصيل الذي تقدم بيانه. وقوله: (بقي محرماً) فإذا كان الشخص قد أصيب بمرض، ثم انتهى به هذا المرض إلى الموت؛ فإنه يكون محرماً عند الجمهور، وحكمه حكم المحرم عندهم، كما يحدث -نسأل الله السلامة والعافية لنا ولكم ولجميع المسلمين- في مسألة موت الدماغ، كأن ينقلب مثلاً في حادث، أو تأتيه ضربة في رأسه، ويصبح في عداد الموتى، ثم ينتهي به الأمر إلى الموت، أو يصاب بمرض يؤدي به إلى الوفاة، فللعلماء رحمهم الله تفصيل في هذا: فمنهم من قال: إن المريض يعتبر في حكم المحصر، فحينئذٍ لا إشكال في أنه يأخذ حكم المحصر ويتحلل، أما إذا قلنا: إن المريض لا يأخذ حكم المحصر، وإنما يبقى بإحرامه، ونحكم بكونه محرماً، فإنه إذا مات يعامل معاملة الميت الذي وقصته دابته، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن عباس، فيغسل ويكفن ولا يطيب، ويأخذ حكم المحرم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تغطوا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)، فيأخذ حكم المحرم. ومنهم من قال: إذا أصيب بمرض ينتهي به إلى الوفاة، وتوفي بعد الوقوف بعرفة؛ فحينئذٍ إذا تأملت حاله، وجدت أن الحج قد فاته، فبعض العلماء يرى أن عليه دم الفوات في هذه الحالة. وقال بعض العلماء: لا يجب عليه شيء، وإنما يغسل ويكفن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه)، ثم لم يأمر أهله بإتمام الحج عنه ولا بقضائه، وإنما أعطاه حكماً خاصاً، فمن هنا استثنوه من الأصل الذي ذكرناه.

حكم المحصر بذهاب نفقته

حكم المحصر بذهاب نفقته قال رحمه الله: [أو ذهاب نفقة]. هذا نوع آخر من أنواع الحصر، وذهاب النفقة يأتي على صور: منها: أن يسرق ماله، أو تذهب نفقته، بمعنى: أن يكون ظنه أن الحج يكفي له ألف ريال، ثم طرأت له أمور تستلزم منه النفقة، فأنفق حتى ذهبت نفقته قبل أن يصل إلى مكة وقبل أن يقف بعرفة. مثال ذلك: لو أن إنساناً عادته أن يكفيه لحجه ألف ريال، فلما مضى في طريقه تعطلت سيارته واحتاج أن ينفق عليها، فأنفق ثلاثة أرباع النفقة أو جلها لإصلاح سيارته من أجل أن يصل عليها، ولكنه لم يتيسر له ذلك، فهذا الذي ذهبت نفقته فيه تفصيل: إن كان قادراً مليئاً في بلده وأمكنه أن يستدين ويتم حجه، لزمه ذلك؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإن الله قد أوجب عليه إتمام الحج، فقال سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، فلما ألزمه الله بإتمام الحج وأمكنه أن يتم الحج دون حرج عليه وذلك بالاستدانة؛ فإنه يتم حجه ويستدين، قال بعض العلماء: بشرط أن لا يقع في حرج ومهانة ومذلة لا تليق بمثله. وأما إذا كان هذا الشخص لا يجد المال، وأمكنه أن يمشي على قدميه حتى يبلغ مكة، فقال بعض العلماء: إن الراجل يجب عليه الحج كما يجب على الراكب، بشرط أن يطيق المشي؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:27]، فذكر الراجل فيمن يأتي بالحج، وقوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] على سبيل الوجوب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا)، فهذا الذي فرضه الله من إتيان بيته والحج إليه قال الله فيه: (رجالاً)، فقدم الراجل على الراكب، قالوا: فإن أطاق المشي، ولم يكن فيه حرج؛ فإنه يلزمه أن يمضي ويتم الحج، أما لو لم يستطع المشي، ولم يمكنه أن يستدين؛ فإنه يبقى بإحرامه، فإذا تيسر له من ينجده ويتفضل عليه، وأمكنه أن يذهب ويدرك الحج، فلا إشكال في ذلك، وأما إذا حبس ولم يمكنه أن يدرك الحج حتى ذهب يوم عرفة، فحينئذٍ يبقى بإحرامه حتى لو رجع إلى بلده ليأخذ النفقة ثم يأتي بعمرة يتحلل بها من حجه، وحكمه حكم من فاته الحج. إذاً: من ذهبت عنه النفقة يفصل فيه بهذا التفصيل: إما أن يمكنه أن يستدين ولا يقع في حرج، وذلك بأن يستطيع سداد ذلك الدين دون حصول الحرج عليه فيلزمه ذلك؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإما أن لا يمكنه أن يستدين، ويمكنه أن يمشي ويطيق المشي ويدرك بمشيه الحج؛ فيلزمه المشي إلى مكة وإتيان المشاعر، وإما أن لا يمكنه المشي ولا يمكنه الاستدانة، ولا يتيسر له أحد يأخذه معه حتى فاته الحج؛ فإنه يبقى محرماً، حتى ولو عاد إلى بلده لكي يأخذ النفقة التي يبلغ بها، ثم يتحلل بعمرة، وعليه الدم والحج من قابل.

الاشتراط في الحج والعمرة

الاشتراط في الحج والعمرة قال رحمه الله: [بقي محرماً إن لم يكن اشترط]. الاشتراط في الحج سبق بيانه، وأنه قد ثبت به الدليل في حديث ضباعة رضي الله عنها وأرضاها حين قالت: (يا رسول الله! إني أريد الحج وأنا شاكية -أي: مريضة؛ لأن المريض يشتكي ما به؛ أي: يغالبه- فقال صلى الله عليه وسلم: أهلي -أي: ادخلي في النسك- واشترطي: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، فإن لك على ربك ما اشترطت)، قال العلماء: في هذا دليل على مسائل: المسألة الأولى: أنه يشرع الاشتراط في الحج إذا كان الإنسان مريضاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها به. المسألة الثانية: أن العمرة تأخذ حكم الحج؛ لأن العمرة هي الحج الأصغر، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمرها بذلك، ومن المعلوم أن الحج قد يكون تمتعاً وقد يكون قراناً، فدل على استواء الحكم في الحج والعمرة، وليس هذا من خصوصيات الحج. المسألة الثالثة: أن المرأة -وهي ضباعة - كانت مريضة، فقال بعض العلماء: يختص الحكم بمن كان مريضاً قبل الحج، كأنْ لما أصيب بالمرض وألزم نفسه بالحج، تحمل المشقة؛ فخفف عنه الشرع؛ لأنه التزم بما لا يلزمه، ولذلك قالوا: خفف عنه من هذا الوجه. وقال بعض العلماء: الحكم عام، سواء كان به المرض، أو خاف المرض، أو لم يكن به مرض لكن اشترط هكذا وهو صحيح، وهذا لا يخلو من نظر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتى ضباعة بهذا وهي بالمدينة قبل أن تهلّ، ثم لما بلغ الميقات لم يأمر الصحابة أن يشترطوا ولم يشترط في إحرامه، فدل ذلك على أن هذا الحكم يكون في حق من كان في حكم ضباعة وصورته صورة ضباعة؛ لأن القاعدة في الأصول: أن ما خرج عن الأصل يتقيد بصورة النص. وعلى هذا فلو اشترط أن محله حيث حبس، فإنه لا يخلو من أحوال ذكرها العلماء رحمهم الله: فتارة يشترط إن حبسه الحابس أن يهدي ويتحلل، فيلزم نفسه الإهداء، ويكون في حكم المحصر؛ فإن كان قد ألزم نفسه أن تحلله يكون بالهدي؛ فحينئذٍ يتحلل بهديه، كما اختاره جمع من العلماء، وهو مذهب الشافعية وبعض أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع، والدليل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لك على ربك ما اشترطت)، وقد اشترط على نفسه أن يتحلل بالدم كالمحصر؛ وذلك لطلب الفضيلة والأجر، وتشبهاً بالمحصر، فقالوا: لا بأس، وحينئذٍ يكون تحلله بالخروج من النسك مباشرة، ويلزمه أن يهدي؛ لأنه التزم ذلك، فكان في حكم من نذر. أما لو أنه قال: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، دون أن يقيد؛ فإنه يتحلل بمجرد أن يصعب عليه المرض ويشق عليه الذهاب، وليس له التحلل بمجرد المرض، وذلك أنه قيد نفسه فقال: إن حسبني حابس، فقال العلماء: يتقيد هذا بأن يكون المرض شديداً بحيث لا يمكنه أن يتم، أما لو كان المرض خفيفاً ويمكنه الإتمام، فإنه ليس بحابس ذي بال؛ لأن ضباعة رضي الله عنها أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تشترط إذا ضاق عليها الأمر، وهذا يفهم منه: أنها لا تحتبس إلا إذا اشتد عليها المرض وضاق بها الحال. والاشتراط لا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يشترط قبل أن يهل، وإما أن يشترط مقارناً لإهلاله، وإما أن يشترط بعد إهلاله. الحالة الأولى: إن وقع الشرط قبل الإهلال، وكان الفاصل مؤثراً، سقط اعتباره. مثال ذلك: لو أنه خرج من المدينة إلى ميقات ذي الحليفة، وبين المدينة وبين الميقات ما لا يقل عن عشرة كيلو مترات، فقال في المدينة: أشترط إن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني الحابس -وهو مريض- ثم مضى وانقطع بوجود الفاصل المؤثر من المسافة والزمن، ثم بعد ذلك لبى بحجه أو بعمرته، فإن هذا الفاصل مؤثر، ويسقط الاشتراط الأول ما لم يكن قد اشترط أثناء الإحرام، فلا بد في الاشتراط أن يكون مصاحباً للإحرام أو قريباً منه. الحالة الثانية: أن يصحب الاشتراط الإحرام، وذلك بأن يقول: لبيك حجاً أو لبيك عمرة، ثم يشترط، فحينئذٍ لا إشكال فيه، وهو صورة النص، كما جاء في رواية أبي داود وغيره من أصحاب السنن، وفيه ذكر التلبية مع الاشتراط، وهذا بالإجماع عند من يقول باعتبار الاشتراط، وهم الشافعية والحنابلة، يقولون: إنه مؤثر. الحالة الثالثة: أن يهل ويدخل في النسك، وبعد تمام الإهلال يشترط، فحينئذٍ يلغى اشتراطه، ويلزم بما يلزم به من أهلّ بدون اشتراط. وقوله: (إلا أن يكون قد اشتراط)، فالمشترط يتحلل مباشرة ولا يلزمه دم، وليس عليه شيء إذا ضاق به المرض وأضرّ به.

الأسئلة

الأسئلة

حكم المغمى عليه إذا أحضر إلى عرفة ولم يفق إلا بعد الوقوف

حكم المغمى عليه إذا أحضر إلى عرفة ولم يفق إلا بعد الوقوف Q امرأة أغمي عليها إلى ما بعد الوقوف بعرفة، إلا أن أهلها حملوها وهي مغمىً عليها إلى عرفة، وبعدما أفاقت أكملت شعائر حجها، فهل حجها صحيح، أثابكم الله؟ A هذه المسألة تنبني على مسألة: هل المغمى عليه مكلف، أو غير مكلف؟ فبعض العلماء يرى أن المغمى عليه كالنائم، وفي هذه الحالة لا يسقط عنه التكليف إلا في ضمانات النائم ووجود الإخلالات بالتروكات، أما مسألة صحة العبادة واعتبار العبادة فيرون أنها تأخذ حكم المكلف ولا تأخذ حكم المجنون. وقال بعض العلماء: الإغماء كالجنون؛ والسبب في هذا: أن المغمى عليه فيه شبه من الجنون، وشبه من النوم. فإذا شبه بالمجنون فإن هذا يوجب فساد الحج عند من يقول: إن المجنون لا يصح حجه. وأما إذا شبه بالنائم فإنه يصح حجه خاصة على القول الذي لا يرى النية للوقوف، وإنما يرى أن الركن يتحقق بوجود الجسد حتى ولو كان الإنسان نائماً، فقالوا: لو حمل وهو نائم أو مغمى عليه، فهي مسألة فيها الخلاف على هذا الوجه، وأنا كثيراً ما أتوقف في مسائل الإغماء؛ سواء من جهة العبادة وقضاء الصلوات إذا أغمي عليه شهوراً أو سنوات، ولكنني أقول: إن القول بالإجزاء من القوة بمكان، وأتوقف عن الترجيح. والله تعالى أعلم.

الحكم فيما إذا حاضت المرأة قبل التحلل من العمرة

الحكم فيما إذا حاضت المرأة قبل التحلل من العمرة Q قمت بأداء عمرة عن أبي رحمه الله، وبعد الانتهاء منها نسيت أن أتحلل من إحرامي، وبعد عدة ساعات جاءني الحيض، وفي خلال هذه الساعات حدث مني بعض المحظورات، كل هذا وأنا ناسية أني محرمة، ولم أتذكر إلا بعد مجيء الحيض، فهل عليَّ دم، أم ماذا أفعل، أثابكم الله؟ A أما بالنسبة لاعتمارك وأدائك النسك عن والدك فأسأل الله أن يثيبك عليه؛ لأن هذا من البر، وإذا توفي الوالد أو الوالدة ولم يحجا ولم يعتمرا وحج عنهما الولد، فهذا من أبلغ البر وأحسنه، فأسأل الله أن يحسن إليك كما أحسنت إلى والدك بهذا البر. أما المسألة الثانية: وهي وقوع الدم بعد انتهاء العمرة وقبل التحلل؛ فإن العمرة صحيحة، ولا يضر ورود الدم بعد الطواف، فإذا ورد الدم على المرأة بعد تمام طوافها فإنه لا يؤثر، حتى ولو كان أثناء السعي؛ لأن السعي لا تشترط له الطهارة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين لما حاضت: (اصنعي ما يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت)، فحظر عليها الطواف بالبيت، ومن هنا إذا وقع حيضها بعد تمام الطواف بالبيت صحت عمرتها وأجزأتها. وأما بالنسبة لوقوع المحظورات نسياناً؛ فلا تخلو المحظورات من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون محظورات يمكن التدارك فيها؛ كالطيب، فإنه يمكن غسله، وتغطيه الوجه في غير وجود الأجانب، فإنه يمكن إزالته -إزالة الغطاء- فهذه المحظورات التي يمكن تلافيها لا شيء عليك بالنسيان إذا أزلتِ المحظور عند الذكر. الحالة الثانية: إذا كان المحظور مما لا يمكن التدارك فيه؛ كتقليم الأظفار، وقص الشعر؛ فإنه تلزم فيه الفدية، فالعمد فيه والنسيان سواء، إلا أن النسيان يسقط الإثم دون العمد، فتلزمك فيه الكفارة أو الفدية، وعليه فينظر في هذا المحظور الذي وقع منك قبل التحلل. وأما بالنسبة لتحللك بعد فهو تحلل صحيح؛ لكن من أهل العلم من يشترط في التحلل وقوعه في الحرم، فإذا حصل التحلل خارجاً عن حرم مكة فإنه يرى فيه الدم؛ لفوات التوقيت المعتبر من الشرع، كما هو قول طائفة من أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله. والله تعالى أعلم.

باب الهدي والأضحية والعقيقة [1]

شرح زاد المستقنع - باب الهدي والأضحية والعقيقة [1] الهدي والأضحية والعقيقة دماء مشروعة، تختلف في بعض أحكامها عن بعض وتتفق في البعض الآخر، وكلها جاءت به الأدلة الشرعية الدالة على وجوبها أو على استحبابها، وهناك عيوب إذا وجدت في الذبيحة منعت من إجزائها، وكلها مبينة واضحة فيما ذكره الشيخ.

أحكام الهدي والأضحية والعقيقة

أحكام الهدي والأضحية والعقيقة قال المصنف رحمه الله: [باب الهدي والأضحية والعقيقة].

تعريف الهدي

تعريف الهدي قوله رحمه الله: (باب الهدي) الهدي: مأخوذ من الهدية، وهو ما يهدى إلى البيت الحرام، والله سبحانه وتعالى وصف ما يساق إلى البيت بأنه هدياً، فقال سبحانه وتعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95].

أقسام الهدي

أقسام الهدي الهدي يكون واجباً ويكون مندوباً؛ فأما الواجب: فإنه يكون في جزاء ما قتل من النعم وهو محرم، كأن يقتل بقر الوحش فيهدي إلى البيت بقرة من بهيمة الأنعام، أو يقتل نعامة فيهدي إلى البيت ناقة، ونحو ذلك. وأما غير الواجب، فهو في حكم الهدي الواجب؛ كأن ينذر ويقول: لله عليَّ أن أهدي إلى البيت، فإذا نذر فلا يخلو نذره من أحوال: الحالة الأولى: أن يقيد الهدي ويبين نوعه، وحينئذٍ يكون الهدي مقيداً بما ذكر، كأن يقول: لله عليَّ أن أهدي إلى البيت شاة، أو جذعاً من الضأن، أو ثنياً من المعز، أو تبيعاً، أو مسنة، أو نحو ذلك، فإذا عين وحدد فإنه يلزمه ما التزم به من التحديد. الحالة الثانية: أن يطلق فيقول: لله عليَّ أن أهدي إلى البيت. فإذا أطلق فقد بعض العلماء: من أطلق في هديه وقال: لله عليَّ أن أهدي إلى البيت؛ فإنه لا يجزيه إلا ما يجزي أقل دم واجب، وذلك هو الثني من المعز، أو الجذع من الضأن، فإذا أرسل جذعاً من الضأن أو ثنياً من المعز أجزأه، ولا يجزي ما كان دون ذلك. وقال بعض العلماء: يجزيه أقل شيء، ولو أهدى إلى البيت بيضة، أو صاعاً من تمر أو بر؛ والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من راح في الساعة الأولى فكأنما أهدى بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما أهدى بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما أهدى كبشاً) إلى آخر الحديث، وفيه: (كأنما أهدى بيضة)، والرواية في الصحيح: (كأنما قرب)، قالوا: وعلى هذا فإنه يجزيه أقل ما يصدق عليه أنه هدية، حتى ولو كان يسيراً من الطعام فإنه يجزيه ولا شيء عليه. وإن كان القول الأول أقوى وأرجح إن شاء الله تعالى؛ لأن الله تعالى قال: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95]، وخصص ذلك بقوله: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95]، فخص الهدي ببهيمة الأنعام، وعلى هذا فإنه لا يجزيه إلا ما يجزي في الدماء الواجبة على التفصيل الذي ذكرناه.

حكم الهدي

حكم الهدي وكان الهدي سنة قديمة، وكانوا في الجاهلية يهدون إلى البيت الحرام. والمراد بهدية البيت: أن يبعث الإنسان بإبله أو بقره أو غنمه؛ فتذبح في مكة وتكون طعمة للفقراء، وكانت العرب في جاهليتها الجهلاء وضلالتها العمياء إذا رأوا هذا النوع من بهيمة الأنعام لا يتعرضون له؛ تعظيماً لحرمة هذا البيت، ولذلك قال الله تعالى: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} [المائدة:2]، فوصف الله عز وجل ما يهدى إلى البيت بأنه من شعائر الله، وشعائر الله كل ما أشعر الله بتعظيمه، ومن ذلك ما يهدى إلى بيت الله عز وجل، وقد أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة على مشروعية الهدي للبيت، وهذه السنة أضاعها كثير من الناس إلا من رحم الله، حتى إنها تكاد تكون غريبة في هذا الزمن، ويسن للإنسان ويشرع له أن يبعث إلى البيت ويهدي إليه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى مكة وأهدى إلى البيت في حجته التي تخلف عنها حينما بعث أبا بكر رضي الله عنه وعلياً لينادي في الناس.

تعريف الأضحية

تعريف الأضحية قال رحمه الله: (والأضحية). الأضحية واحدة الأضاحي، وهي مأخوذة من الضحى؛ والسبب في ذلك: أنها تذبح في ضحى يوم النحر، وهذا من باب تسمية الشيء بزمانه؛ لأن الشيء يسمى بزمانه ويسمى بسببه وبوقته، فيقال مثلاً بالزمان: أضحية، ويقال بالسبب: صلاة الاستسقاء، من باب إضافة الشيء إلى سببه؛ لأن صلاة الاستسقاء سببها القحط وطلب السقيا، وصلاة الكسوف سببها كسوف الشمس وخسوف القمر. والأضحية سنة من سنن المرسلين، ولذلك ندب النبي صلى الله عليه وسلم إليها بقوله وبفعله، وأجمع المسلمون على شرعيتها، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في خطبته يوم النحر: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله).

حكم الأضحية

حكم الأضحية وقد اختلف العلماء رحمهم الله في حكمها: هل هي واجبة، أو ليست بواجبة؟ وذلك على قولين مشهورين: القول الأول: قال بعض العلماء: الأضحية واجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)، فألزمه بالقضاء، فدل على وجوبها ولزومها. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا)، وهو حديث مختلف في إسناده، وإن كان العمل عند جمع من المحدثين على ضعفه. وكذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى، وضحى من بعده الخلفاء الراشدون، ولم يؤثر عن واحد منهم أنه ترك الأضحية، ولذلك حُكم بوجوبها. ولما سئل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: هل الأضحية واجبة؟ قال: (ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحى المسلمون، فقال له السائل: يا أبا عبد الرحمن! إنما أسألك أهي واجبة؟ فرد عليه بقوله: أتعقل! ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحى المسلمون)، أي: كيف تتركها وهي بهذه المثابة؟ ولم يرخص للرجل في تركها، وهذا يؤكد القول بوجوبها ولزومها. القول الثاني: قال جمهور العلماء بعدم وجوب الأضحية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (ضحى بكبشين أملحين، وقال في أحدهما: اللهم هذا عمن لم يضح من أمة محمد)، وأجيب: بأن هذا الحديث يحتمل: (عمن لم يضح من أمة محمد) جبراً لنقصه، ويحتمل أن يكون المراد به: عمن لم يضح وهو مختار، ولذلك قالوا: إذا تطرق إلى الدليل الاحتمال بطل به الاستدلال. وأيناً ما كان فلا ينبغي للمسلم أن يفرط في هذا الخير العظيم والثواب الكبير؛ فيترك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده القدرة على الأضحية. وإنما تكون الأضحية على من قدر عليها ووجد السعة لكي يضحي، وينبغي للمسلم أن يحرص على وجود هذه السنة في بيته يوم النحر، وليس بالمستحب أن يترك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخلو بيته من هذه الشعيرة، ولذلك ما زال المسلمون يجدون هذه الأضحية في بيوتهم يوم النحر، حتى كان بعض العلماء يقول: أستحب للحاج أن يترك أضحيته في بيته، ولما سئل عن ذلك قال: لأن صغار المسلمين إذا ألفوا هذه السنة في بيوتهم اعتادوها ونشئوا عليها، ولكنه إذا اعتاد الحج وضحى في حجه؛ خلا بيته عن هذه السنة. وقد استحب بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أن من أراد أن يتفضل بالأضحية ويتصدق بها في غير بلده، فإنه يضحي عن نفسه في بيته، ثم إذا أراد أن يتصدق في خارج بلاده أو خارج مدينته، فإنه يجعل ذلك فضلاً عن أضحيته في بيته، ولا يجعل أضحية بيته صدقة خارجة عن بيته وبلده؛ والسبب في هذا كله: أن ينشأ أبناء المسلمين وبناتهم على هذه السنة وعلى هذه الشعيرة، فلا تخلو منها بيوت المسلمين، خاصة في هذا اليوم، ولذلك فإن عيد الأضحى يتميز بالأضحية، وقد سمي اليوم يوم النحر وعيد الأضحى لوجود هذه الشعيرة العظيمة التي لا ينبغي التفريط فيها. والأضحية لها سنن وآداب وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، واعتنى العلماء والفقهاء رحمهم الله ببيانها؛ فناسب أن يذكرها المصنف بعد الهدي؛ والسبب في هذا واضح: وهو أن الهدي يكون في الغالب في يوم النحر، ومتصل بالحج، فلما فرغ رحمه الله من أحكام الحج وأحكام الفوات والإحصار -وفي الفوات والإحصار الدم الواجب- ناسب أن يتكلم عن أحكام الهدي، وأن يبين ما الذي يجزي وما الذي لا يجزي في الهدي، ثم أتبع ذلك بالأضحية؛ لاشتراك الكل في الزمان، وأتبعه بالعقيقة؛ لوجود المناسبة من جهة تفصيل أحكام الدم في كلٍ.

أحكام العقيقة

أحكام العقيقة قال رحمه الله: [والعقيقة]. وهي ما يعق به عن المولود، ووصفت بذلك؛ لأن المولود يحلق شعره وتذبح عقيقته، والعقيقة: شعر المولود، فلما وجد الحلق لهذا الشعر وصفت بذلك وقيل لها: عقيقة، والعقيقة تعتبر أيضاً من سنن النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، فقد عق عن الحسن والحسين، وعق عن ولده صلوات الله وسلامه عليه، تشريعاً للأمة، وفيها نوع شكر لله عز وجل على نعمة الولد، وأن الله سبحانه وتعالى لم يقطع عن الإنسان الذرية، وفيها تضمن إثبات أنساب الناس، فإن الناس يعرفون الأنساب عن طريق العقيقة؛ إذ تذبح العقيقة ويدعى لها الناس، فيسألون: ما هذا المولد: أذكر أم أنثى؟ فيثبت للإنسان نسبه، ولكن إذا خلا هذا الاجتماع فإن الناس يتكاثرون ويتوالدون ولا تعرف أنسابهم، ولا تحفظ الذرية. كما أن فيها هذا المعنى العظيم الذي يشعر بالتفرقة بين السفاح والنكاح، فإن السفاح والزنا -والعياذ بالله- تكون ولادته خفية، وهي عار على من بلي به -نسأل الله السلامة والعافية- ولكن النكاح يشهر في ابتدائه، كما قال صلى الله عليه وسلم: لـ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه: (أولم ولو بشاة)، وكذلك جعل العقيقة عند وجود أثر النكاح من الولد، كل ذلك ليفرق بين ما شرع الله من النكاح وبين ما حرمه من الزنا والسفاح. وقول رحمه الله: (باب الهدي والأضحية والعقيقة)، كأنه يقول: سأذكر لك في هذا الموضع جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بالهدي والأضحية والعقيقة.

أفضل الذبائح

أفضل الذبائح قال المصنف رحمه الله: [أفضلها إبل، ثم بقر، ثم غنم]. الأفضل: هو الأعظم ثواباً والأكثر أجراً، والتفضيل إنما يكون بدليل الشرع، فلا تَفْضُل عبادة على عبادة ولا طاعة على طاعة إلا بدليل من الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة، وليس التفضيل بمحض الهوى واختيار الإنسان وحبه، وإنما هو من شرع الله عز وجل، ولذلك يتوقف في الفضائل، ولا يحكم بها إلا بدليل، وليس لأحد أن يحكم ويجزم بتفضيل طاعة على طاعة وقربة على أخرى إلا بدليل من الشرع، وعلى هذا ابتدأ المصنف رحمه الله ببيان أفضل الهدي وأفضل الأضحية وأفضل ما يعق به، فقال رحمه الله: (أفضلها) والضمير عائد إلى هذه الثلاث. قال: (أفضلها إبل) والدليل على تفضيل الإبل: أن الله سبحانه وتعالى امتنَّ بها على عباده، فقال سبحانه: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج:36]، فأخبر سبحانه أنها من شعائره، وهذا بسبب ما يكون فيها من الخير، كما قال تعالى: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج:36]، والخير الموجود في الإبل يدل على فضلها؛ لأنها أعظم جسماً وأكثر لحماً، وهي عند الناس أعز وأشرف، ولذلك لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذكر فضل الدنيا وفضل ما يكون منها اختار منها حمر النعم؛ وهي الإبل الحمراء؛ لأنها عزيزة، ولما أراد الله سبحانه وتعالى أن يصف أهوال الآخرة وشدائد ما يكون في الرجفة بين يدي الساعة قال سبحانه: {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير:4]، فالناقة العشراء الولود من أعز ما يكون على الإنسان، وعلى أهله. فالإبل هي أفضل بهيمة الأنعام من عدة وجوه: من جهة ما يكون منها من الخير في ركوبها، والوبر الذي يكون منها، وحمل الأثقال عليها: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل:7]، وهي السيارة التي يسيرون عليها، وجعل الله فيها من الخصائص والمميزات -بقدرته وعظمته جل جلاله- ما تحار فيه العقول من جهة صبرها على السفر، وتحملها لمشقة الظمأ والعطش أياماً عديدة، فيجد الناس فيها من قضاء المصالح ما الله به عليم، وأعجب ما يكون أنك تراها مع عظم جثتها وضخامتها يقودها الولد الصغير! فهو يأخذ بخطامها فتسير معه حيث سار، وكل ذلك بفضل الله سبحانه وتعالى، فلولا تسخير الله عز وجل لها لم يستطع هذا الغلام أن يقود هذه الدابة، ولربما فتكت به في طرفة عين، فإن البعير إذا هاج ربما يذعر القرية بكاملها؛ لأنه يفتك بالإنسان ويقتله، ولربما قتل صاحبه إذا كان به غل عليه، ينتظر نومه أو غفلته فيبرك عليه فيقتله، ولربما يعضه حتى يقضي ما بيده، ولربما ينزف حتى يموت، ويفعل الأفاعيل التي قد يعجز عنها العدد الكثير من الناس، ففيه قوة وبطش وحنق وغيظ، ولكن الله سبحانه وتعالى يلطف بلطفه. فهذا النوع من بهيمة الأنعام لا إشكال في أنه الأفضل؛ لما جعل الله فيه من الخصائص والمميزات، ولأنه أعز ما يملكه الناس، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن: (أعظم الرقاب أجراً أنفسها وأغلاها عند أهلها)، ثم إن الإبل أكثر ثمناً، والأغلى ثمناً أعظم أجراً؛ لأن فيه مشقة البذل ومشقة الصدق، ولذلك سميت الصدقة صدقة؛ لأن المسلم يصدق فيها، أو تدل على صدق محبته لله عز وجل، وإيثاره للآخرة على الدنيا. وأما الدليل الذي دل على تفضيل الإبل على البقر فصريح قوله عليه الصلاة والسلام: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في السعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً)، فجعل الساعة الأولى للإبل، والثانية للبقر، والثالثة للغنم، ومعلوم أن مشقة الساعة الأولى أعظم، ومن هنا دل هذا الحديث على تفضيل الإبل على البقر والغنم. وذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أن الأفضل في الأضحية الجذع من الضأن؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى به، ولا يختار الله لنبيه إلا الأفضل، ولحديث: (إن الجذع أفضل من الإبل)، وفيه أن الله تعالى اختاره فداء لنبيه إسحاق عليه السلام. فقالت المالكية: إن الضأن أفضل من الإبل في الأضحية فقط، وأما في الهدي فالإبل أفضل؛ فكأنهم رأوا خصوص ورود النص في الأضحية في الضأن. وهذا القول مرجوح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الإبل أفضل من البقر والغنم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد يترك الأفضل وهو يحبه -كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها- شفقة على الأمة، ولذلك قال الجمهور: لا يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بالكبش لأنه أيسر على الناس، ولذلك ففيه الجذع، والجذع أقل سناً من الثني من الماعز ومن الثني من البقر ومن الثني من الإبل، فكأنه يريد الرفق بالأمة، ومن هنا قالوا: إن هذا لا يستلزم أنه أفضل. وأما تفضيل الضأن على الإبل بحديث الفداء، فحديث الفداء ضعيف سنداً ومتناً، أما سنداً: فلأنه من رواية إسحاق الحنيني، وهو ضعيف. وأما بالنسبة للمتن: فلأن فيه: (أن الله اختاره فداء لإسحاق)، والذبيح إنما هو إسماعيل وليس إسحاق عليهما السلام، على أصح قولي العلماء كما لا يخفى؛ والسبب في ذلك: أن التي كانت بمكة إنما هي هاجر، والولد ولدها، ولو كان الذبيح إسحاق لكان النص يعتني بإيراده من الشام إلى مكة، وهذا واضح وظاهر، ومن الأدلة التي تقوي أن الذبيح إسماعيل: أن الله تعالى يقول في نفس الآية: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71]، فكيف يبشره بأن إسحاق سيلي يعقوب، ثم يأمره بذبحه؟!! ولذلك قالوا: إن الذبيح إنما هو إسماعيل؛ لأن الله ذكر البشارة بإسحاق بعد إسماعيل، وهذا يدل على أن الذبيح إسماعيل، فذكر قصة الذبح لإسماعيل، ثم بعد ذلك أتبعها بالبشارة: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:112]، ويدل عليه أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: (أنا ابن الذبيحين)، وذلك واضح من جهة أبيه عبد الله وجده إسماعيل عليه الصلاة والسلام. وعلى هذا فالذي يظهر أن الأفضل في بهيمة الأنعام -سواء كانت هدياً أو أضحية- أن نقدم الإبل ثم البقر ثم الغنم؛ لثبوت السنة بالتفضيل. قال رحمه الله: (ثم بقر)؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للصحابة أن يشترك السبعة في البعير والبقرة، وضحى عليه الصلاة والسلام عن نسائه ببقرة، فجعل البقرة منزلة البعير من جهة الاشتراك، لكن البقرة دون البعير في الفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الساعة الأولى للإبل، والثانية للبقر، ولأن الإبل أوفر لحماً من البقر -كما لا يخفى- وأطيب عند الناس، وأفضل من لحم البقر، وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن لحم البقر داء ولبنه شفاء)، وهذا صحيح، فإن لحم البقر خاصة في البلاد الحارة يضر بالبدن، وأما بالنسبة للحم الإبل فإنه أطيب، وليس فيه ما في لحم البقر. وقد ذكر الأطباء القدماء والمعاصرون هذا الكلام، فمما ذكره الأطباء القدماء: أن لحم البقر يثير السوداء، والسوداء: هي إحدى الخصائص الأربع الموجودة في البدن، فإذا هاجت في الإنسان فإنها تورث الوسوسة، وتؤثر في عقله، وفيها ضرر، فالأطباء لا يحمدون لحمه كما يحمد لحم الإبل، وفي لحم الإبل زهومة وقوة، ولذلك أمر بالوضوء منه؛ أو لما فيها من الشياطين، كما تقدم معنا في مباحث الوضوء ونواقضه. وقوله: (ثم غنم) يشمل الزوجين من الغنم: الماعز والضأن، والضأن هو الذي يسميه العامة (الطلي)، وقد اختلف العلماء هل الأفضل الضأن أو الماعز؟ والصحيح: أن الضأن أفضل؛ وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختاره من بين الغنم، ولأن لحم الضأن أطيب من لحم الماعز، ولذلك قالوا: إنه في الغنم يفضل الضأن على الماعز، مع أن سن الضأن دون سن الماعز؛ ولكنه فضل من جهة حب الناس له، وطيب لحمه، وقد يكون في كثير من الأحوال أوفر لحماً من الماعز.

ما يجزئ ذبحه

ما يجزئ ذبحه قال رحمه الله: [ولا يجزئ فيها إلا جذع ضأن وثني سواه]. الجذع: هو الذي أتم ستة أشهر، ويختلف بحسب اختلاف المرعى، فبعضه يجذع بعد الستة الأشهر؛ لقوة المرعى، وبعضه لا يكون جذعاً إلا بعد ثلاثة أرباع الحول إلى ثمانية أشهر، وبعضه يكون جذعاً قريباً من السنة، وهذا يختلف -كما ذكر أهل الخبرة- باختلاف المرعى، ولكن الغالب أن الجذع إذا أتم ستة أشهر ودخل في أكثر السنة فإنه يكون جذعاً من الضأن، وأما بالنسبة للثني فهو ثني ما سوى الجذع من الضأن، فالمراد به: ما أتم سنة من الماعز ودخل في الثانية، وما أتم الثانية ودخل في الثالثة بالنسبة للبقر، وأما بالنسبة للإبل فهو ما أتم الرابعة وطعن في الخامسة، هذا هو الثني من الماعز والثني من البقر والثني من الإبل، ويسمى بالمسن، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن)، فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تذبحوا إلا مسنة) يدل على أن الاعتبار بالمسنة إنما هو في الإبل والبقر والغنم، وكذلك أيضاً قوله: (إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن) قالوا: إن الجذع من الضأن يوفي ما يوفي منه المسن فيما سواه. ثم يقول رحمه الله: [فالإبل خمس، والبقر سنتان، والمعز سنة، والضأن نصفها]. على ما ذكرناه، فستة أشهر فأكثر بالنسبة للضأن، وسنة كاملة بالنسبة للماعز، وسنتان بالنسبة للبقر، واستتمام الرابعة والدخول في الخامسة بالنسبة للإبل. قال رحمه الله: [وتجزئ الشاة عن واحد، والبدنة والبقرة عن سبعة]. قوله: (تجزئ الشاة عن واحد)، هذا فيه تفصيل: أما الأصل فإنها تجزئ عن الرجل وعن المرأة، ولكن تجزئ عن الرجل وأهل بيته أيضاً؛ لأن أبا أيوب رضي الله عنه ذكر أن الشاة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تجزئ عن الرجل وأهل بيته، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم هذا عن محمد وعن آل محمد)، فأدخل عليه الصلاة والسلام آله، ولذلك قالوا: تجزئ عن الرجل وأهل بيته، والمراد بأهل البيت: الزوجة والأولاد، وفي الأولاد تفصيل: فمن استقل من الأولاد بنفقته فلا يدخل، وتكون له أضحيته، فيضحي عن نفسه، وأما إذا كان تبعاً في البيت وكأنه واحد من أهل البيت، فحينئذٍ لا إشكال في دخوله، وإذا ملك القدرة فإنه يضحي عن نفسه، خروجاً من الخلاف. وقوله: (والبدنة والبقرة عن سبعة)؛ لحديث جابر رضي الله عنه كما روى مسلم في صحيحه، وقد وقع هذا في صلح الحديبية، فكانوا يشتركون السبعة في البعير، والسبعة في البقرة، وعلى هذا فإن البقرة تجزئ عن سبعة، والبدنة تجزئ عن سبعة، فلو اشترك السبعة في بقرة واحدة أو بعير واحد أجزأهم ذلك.

أحكام عيوب الأضحية

أحكام عيوب الأضحية يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ولا تجزئ العوراء]. شرع المصنف رحمه الله في بيان جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالأضحية والهدي ونحوهما من الدماء الواجبة؛ حيث ابتدأ بهذه الجملة في بيان ما ينبغي أن تكون عليه البهيمة من السلامة من العيوب، فإذا أوجب الله على المكلف ذبحها؛ فينبغي أن تكون سالمة من العيوب. وقد نص رحمه الله على هذه الأحكام، وهي التي تسمى: أحكام عيوب الأضحية، ونص عليها بالأضحية لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على بيان العيوب التي تؤثر في الأضحية؛ ففي الحديث الصحيح عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيباً فقال: (أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عروها، والعرجاء البين ضلعها، والمريضة البين مرضها، والكسيرة -وفي رواية: الكبيرة- التي لا تنقي)، فبيّن عليه الصلاة والسلام ما ينبغي أن تكون عليه البهيمة من السلامة من العيوب، سواء كانت من الغنم أو البقر أو الإبل، فلا بد من أن تكون سالمة من هذه العيوب الأربعة. ولما نص عليه الصلاة والسلام على هذه الأربع نبه على ما هو أولى منها وأشد، وذلك أنه حينما بين أن العوراء لا يجوز أن يضحى بها فمن باب أولى العمياء، ولما نص على أن العرجاء لا يضحى بها فمن باب أولى المشلولة.

أقسام عيوب الأضحية

أقسام عيوب الأضحية وقد تكلم العلماء رحمهم الله عن هذه العيوب وفصلوا فيها؛ فقسمت إلى قسمين: القسم الأول: عيوب منصوص عليها، وهي العيوب التي بيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث البراء المذكور. القسم الثاني: مقيسة وملحقة بالمنصوص عليها، وهذا النوع المقيس والملحق إما أن يكون قياسه من باب أولى؛ كالعمياء والشلاء، وإما أن يكون قياسه عند تساوي العلة فيه، بمعنى: أن يكون العيب متحداً من جهة تأثيره في اللحم أو القيمة؛ على اختلاف بين العلماء في بيان تحقيق المناط في هذا القسم.

العوراء

العوراء قوله رحمه الله: (ولا تجزئ العوراء): المراد بالعور: ذهاب نور البصر في إحدى العينين، وأصل العور في لغة العرب: النقص، ولما نقص بصر البهيمة نقصت قيمتها. وأما كونه لا يجزئ أن يضحى بالأضحية إذا كانت عوراء، فذلك هو نص قوله عليه الصلاة والسلام: (العوراء البين عورها)، والشاهد: أنها إذا كانت عوراء فإما أن يذهب نور العين بالكلية، وإما أن يكون نور العين موجوداً ولكن بشكل ضعيف، فإن ذهب نور العين بالكلية بحيث لا تبصر ألبتة، ويعرف ذلك بطريقة ما، كأن تربط عينها المبصرة وتترك لتسير، فإن لم تسر كما كانت تسير، أو خبطت في مشيها، أو امتنعت وتوقفت؛ دل ذلك على أنها لا تبصر بعينها، فإذا كان بصرها قد ذهب في إحدى العينين فلا يجزئ أن يضحى بها. لكن العلماء رحمهم الله قسموا العوراء إلى قسمين: القسم الأول: ما كانت فيه العين قائمة. والقسم الثاني: ما كان تلف العين ظاهراً عليها. أما الذي تكون فيه العين قائمة؛ فإنك ترى البهيمة وكأنها مبصرة -وهي العين التي تسمى بالقائمة- ولا تستطيع أن تقول: إنها عوراء، أو أن بصرها قد ذهب. فهذا النوع يقول فيه بعض العلماء: إذا كانت العين قائمة فإنه يجوز أن يضحى بها؛ لأن قيام العين لا يمنع من الانتفاع من أكل العين، وكأن المنع من التضحية بالعوراء أنه لا ينتفع بالعين، وذلك عند طبخها وأكلها، فإنه يكون نقصاناً في خلقتها ونقصاناً في الانتفاع بها. وقال بعض العلماء: إنما أثر هذا العيب لكونها إذا كانت عوراء لم تستطع أن ترعى كأخواتها، فأضر ذلك برعيها وطعامها، ومن ثم تتضرر في لحمها، وينبني على ذلك مسائل: المسألة الأولى: الحكم في قوله عليه الصلاة والسلام: (العوراء البين عورها) يدل دلالة واضحة على أن البهيمة إذا كانت لا تبصر بإحدى العينين فإنه لا يجزئ أن يضحى بها، سواء كانت عينها موجودة أو غير موجودة، فإن قوله: (البين عورها) البين: من البيان، يقال: بان الشيء إذا اتضح، ومنه قولهم: بان الصبح، إذا اتضح وبدا ضوؤه، فقوله: (البين عورها) أي: التي يكون العور فيها مؤثراً، والمراد بذلك وجوده حقيقة، ومفهوم قوله: (البين عورها) أنها إذا كانت تبصر نوع إبصار ولو كان ضعيفاً، فإنه يجوز أن يضحى بها؛ لأن المراد بالعور ذهاب البصر، وهذا هو المقصود من قوله: (البين عورها)، سواء كانت العين موجودة أو غير موجودة. المسألة الثانية: إذا قلنا: إن العوراء لا يجوز أن يضحى بها، فما حكم العمياء؟ جمهور أهل العلم رحمهم الله على أن العمياء لا يجوز أن يضحى بها؛ وذلك لأن العين مما يستطاب ويؤكل، فهي ناقصة لعضو من أعضائها، ولذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن العوراء لذهاب جزء هذا العضو، فمن باب أولى إذا ذهب بالكلية. وقالت الظاهرية: الحكم يختص بالعوراء، والعمياء يجوز أن يضحى بها. وهو قول مرجوح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نبه بالأدنى على الأعلى، فلما قال لنا: إن العوراء لا يجوز أن يضحى بها -وهو صريح قوله في الحديث الصحيح- فإن هذا يدل دلالة واضحة على أن ذهاب البصر بالكلية يعتبر عيباً موجباً لعدم جواز التضحية. المسألة الثالثة: إذا كان بها بياض، أي: أن العينين قائمة وموجودة، ولكن فيها بياض يشينها، وتارة يضعف بصرها، فهل يجوز أن يضحى بهذا النوع من البهائم أم لا؟ للعلماء تفصيل في ذلك: قالوا: إذا كان البياض قد غطى البصر حتى أذهبه؛ لم يجز أن يضحى بها، وإن كان البصر باقياً ولو كان ضعيفاً؛ جاز أن يضحى بها. المسألة الرابعة: إذا كانت الشاة لا تبصر بالليل ولكنها تبصر بالنهار -وهو العشي- فإذا كانت على هذا الوجه هل يجوز أن يضحى بها أم لا؟ الصحيح: أنه إذا كانت تبصر بالنهار ولا تبصر بالليل فإنه يجوز أن يضحى بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على العوراء بقيد، وهو قوله: (البين عورها)، فإذا كان نقص البصر ليس ببين، بمعنى: أنه موجود في النهار وليس بموجود في الليل؛ فلا يؤثر. ومما يدل على أنها إذا كانت تبصر بالنهار ولا تبصر بالليل فإنه يجوز أن يضحى بها: أن الناظر في العلة في حال حياتها إنما هو لضعف أكلها ومرعاها، ومعلوم أن الرعي يكون بالنهار ولا يكون بالليل، فأصبحت العلة ضعيفة عن التأثير، وعلى هذا فإنه يجوز أن يضحى بالشاة إذا كانت تبصر بالنهار ولا تبصر بالليل؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيد المنع بالبيان، وإذا كانت الشاة تبصر بالنهار فإن عورها وذهاب بصرها ليس ببين وواضح؛ فافتقد القيد المعتبر للحكم بالمنع. قال بعض العلماء في العوراء: إن العين مما يستطاب في اللحم، وربما أُكرم الضيف بإعطائه العين إكراماً له وإجلالاً، وربما خصوه باللسان، على عادات تختلف بحسب اختلاف أحوال الناس وأزمنتهم، فقالوا: إن العور يذهب هذا المقصود بعد ذبح الشاة وبعد نحر الإبل ونحو ذلك، فقالوا: إنه يعتبر عيباً مؤثراً؛ لأنه نقص في اللحم، ونقص في الانتفاع، وبهذا كان مؤثراً وموجباً لعدم جواز التضحية بهذا النوع من البهائم.

الهزيلة العجفاء

الهزيلة العجفاء قال رحمه الله: [والعجفاء]. المراد بالعجفاء: الهزيلة، وهي كبيرة السن، وقد جاء تقييدها في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (والكسيرة التي لا تنقي) والمراد بذلك أمور: أولاً: أنها كبر سنها ووهن عظمها حتى ذهب المخ الذي في عظامها، والمخ الذي في العظم مما يستطاب، وله فوائد، وقد كانوا يستحبونه في الأكل؛ فذهابه ذهاب لمادة العضو، ولذلك قالوا: إن هذا يعتبر نقصاناً في الخلقة ونقصاناً في المادة؛ لأن المقصود من ذبح الأضحية أن تؤكل، فإذا ذهب مخها -وهو من أفضل ما يستطاب فيها ومما فيه المنفعة- فإن ذلك يؤثر في إجزائها. ثانياً: أنها إذا كانت كبيرة ولا مخ فيها فإن لحمها لا يستطاب؛ وذلك لأن الكبيرة يتغير لحمها مع الكبر، وحينئذٍ تكون في هذه الحالة قد ذهب المقصود من ذبحها من استطابة أكلها، وانتفاع الناس بها بعد الذبح. ثالثاً: قوله: (والكبيرة -وفي رواية: والكسيرة- التي لا تنقي) فإن الشاة أو البقرة أو الناقة تكون هزيلة لأسباب: الأول: أن يكون هزالها بالكبر؛ فحينئذٍ لا إشكال في ذلك، وقد ورد النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكونها لا تجزئ. الثاني: أن تكون هزيلة بسبب المرض؛ كأن تصاب بمرض ثم تضعف وتصير هزيلة لا مخ فيها، وهذه لا إشكال فيها أيضاً؛ لأنه قد اجتمعت فيها علتان: العلة الأولى: المرض، والعلة الثانية: ذهاب مخها ونقي عظامها. الثالث: أن تكون هزيلة الخلقة، فإذا كان هزالها من أجل أنها منذ أن وجدت وهي في الخلقة ضعيفة الجسم هزيلة ولكنها طيبة اللحم، بمعنى: أنها تطعم وتأكل المرعى، ولكنها لا تُقبل على الأكل كثيراً؛ فهي هزيلة في خلقتها، فمذهب طائفة من العلماء: أن هذا الهزال لا يؤثر، ويجوز أن يضحى بمثلها. الرابع: أن يكون الهزال بسبب الجوع وبسبب قلة الأكل والمرعى، كما يقع ذلك في السنين التي تكون شديدة على الناس، فقال بعض العلماء: إذا كانت هزيلة بسبب الجوع فإنه يجوز أن تذبح ويضحى بها؛ وذلك لأن هذا الهزال لا يؤثر في نقي عظامها صحيح أنه في بعض الأحيان يضعفه وقد ينقصه، ولكنه ليس ناشئاً عن داء ولا كبر؛ فيعتبر غير مؤثر ولا موجب لعدم الإجزاء.

العرجاء غير المجزئة في النسك

العرجاء غير المجزئة في النسك قال رحمه الله: [والعرجاء]. وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (أربع لا تجوز في الأضاحي -وذكر منها-: العرجاء البين ضلعها) -يعني: عرجها-، والعرج ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون خفيفاً، ولا يستطيع الإنسان تمييزه إلا بدقة النظر؛ فهذا لا يؤثر، وجهاً واحداً عند العلماء. القسم الثاني: أن يكون عرجها قوياً ومؤثراً وواضحاً بيناً، فحينئذٍ لا يخلو من أحوال: فتارة يكون ملازماً لها؛ كأن يكون خلقة، أو كسرت منها يد فأصبحت تعرج بعد كسرها، أو رجل فأصبحت تعرج بعد كسرها، ونحو ذلك، فإن أصبح ملازماً لها فإنه يؤثر، وأما إذا كان عارضاً يزول بزوال علته؛ فإنه لا يؤثر، ولا يوجب مثله المنع، لكن قال بعض العلماء: لا يضحى بها حال العرج؛ لأنها ناقصة وقت الأضحية. والعرج منع منه لعلتين: الأولى: أنه يمنع الشاة من اللحوق بصويحباتها عند الرعي، فيفوتها الرعي، وتأتي على آخره ولا تصيب منه إلا القليل؛ فيؤثر في طيب لحمها، وهي مقصودة من أجل أكلها. الثانية: لأن العضو قد انتقص، وهو اليد أو الرجل؛ فيكون تنبيهاً من الشرع على أن كل نقص في الخلقة يوجب المنع. وفي قوله: (العرجاء) تنبيه على أنها إذا كانت معاقة -كأن تكون مثلاً مشلولة اليدين أو مشلولة اليد- فمن باب أولى وأحرى أن لا تجزئ؛ لأنه إذا كان العرج لا يجزئ، وهو نقصان العضو وليس بذهاب له كله؛ فإنه من باب أولى إذا كانت مشلولة اليد كاملة أو كانت مشلولة الرجل أنها لا تجزئ، ولا يصح أن يضحى بها.

معنى الهتماء وعدم جواز النسك بها

معنى الهتماء وعدم جواز النسك بها قال رحمه الله: [والهتماء]. الهتماء: هي التي ذهبت ثناياها، وفيها وجهان للعلماء: الأول: إن ذهبت ثناياها ولم تستطع أن تأكل كصويحباتها، وأثر ذلك أيضاً في لحمها، فهو عيب ونقص أيضاً في عضو؛ لأن الأسنان من أعضاء البهيمة وأجزائها، فذهابها يعتبر مؤثراً وموجباً للمنع. الثاني: أن ذهاب ثناياها لا يمنع من رعيها وانتفاعها بالطعام، ثم إن هذا النقص للعضو لا يؤكل، وقالوا: إنه لا يؤثر؛ لأنه ليس بنقصان، وليس له تأثير على طيب اللحم كغيره من العيوب التي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها. وصحح غير واحد من أهل العلم رحمهم الله أنه يجوز أن يضحى بها، وفي النفس من هذا القول شيء، فالأولى والأحوط أن لا يفعل ذلك إلا إذا اضطر إليه.

صفة الجداء التي لا يجوز النسك بها

صفة الجداء التي لا يجوز النسك بها قال رحمه الله: [والجداء]. الجداء: هي التي جف ضرعها ويبس عن اللبن، فإن التي لا تحلب وجف ضرعها ويبس قد انتقص من عضوها، قالوا: فلما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من التضحية بالعرجاء والعمياء وذلك كله نقصان في الخلقة، نفهم من هذا أن كل نقص لعضو من أعضاء البهيمة يوجب المنع من التضحية والإجزاء.

المريضة

المريضة قال رحمه الله: [والمريضة]. كان الأولى به أن يقدم المريضة على الجداء والهتماء؛ لأنه منصوص عليها، فإن الإجماع قائم على أن المريضة البين مرضها لا تجزئ، والمرض يكون على أحوال: فتارة يكون على ظاهر البهيمة، وتارة يكون في باطن البهيمة، وما كان من المرض على ظاهر البهيمة فتارة يكون بعلامة بينة لا مجال للشك فيها كالجرباء، فإذا كانت الشاة أو الناقة أو البقرة جرباء لم يجز أن يضحى بها؛ لأنها مريضة بينة المرض، وأنت إذا رأيتها استبان لك مرضها، ولأنه لا يؤمن من الضرر عند أكل لحمها، ولذلك قالوا: إنه لا يجزئ أن يضحى بمثل هذه؛ لأن مرضها بين واضح. وتارة يكون بيان مرضها في داخلها. وتارة يكون مرضها بحصول أمارات تدل على وجود فساد في صحة البهيمة، وذلك بقول أهل الخبرة الذين لهم معرفة بالبهائم، فإذا قالوا: إن بها مرضاً، وهذا المرض مؤثر؛ فإنه حينئذٍ لا يضحى بها، أما لو قالوا: هذا شيء عارض وبسيط ولا يؤثر، كما لو أصيبت باستطلاق بطن، وهذا الاستطلاق يقول أهل الخبرة: لأنها أكلت نوعاً من الطعام، وسرعان ما تعود إلى طبيعتها ولا يؤثر؛ فهذا ليس مثله بموجب للمنع من الإجزاء. وعليه: فإن المرض إذا كان ظاهراً بيناً كالجرب ونحوه من الغدد المفسدة للحم، التي إذا ذكيت البهيمة ظهر فيها الخراج والغدد الواضحة التي تؤثر في لحمها، أو يرى الأطباء أنها مؤثرة في اللحم؛ فإنه لا يجزئ مثلها، وفي بعض الأحيان يكون مرض البهيمة سارياً إلى من يأكل لحمها، ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالمريضة البين مرضها؛ لما في ذلك من أذية الناس في صحتهم، وهذا يدل على عناية الإسلام بمبدأ الوقاية ورعايته بالصحة، وهذا مما يعين المسلم على طاعة الله عز وجل، ويقويه على مرضاته؛ لأنه إذا سقم ومرض فلن يستطيع أن يذكر الله سبحانه وتعالى، حتى ربما منع ولم يستطع القيام بفريضة الله في الصلاة ونحوها من الطاعات، ولذلك منع من التضحية بالمريضة البيّن مرضها؛ لما فيها من أذية البدن بأكل لحمها، ومقصود الشرع إنما هو الإحسان إلى الناس لا الإساءة إليهم. والمرض ينقسم عند بعض العلماء إلى قسمين: القسم الأول: المرض الملازم المصاحب. والقسم الثاني: المرض العارض الذي يمكن أن تشفى منه البهيمة إذا مضت فترة يحددها أهل الخبرة جرت العادة بقدرة الله جل جلاله أنها تشفى في مثلها. فأما إذا كان المرض ملازماً فلا يجزئ أن يضحى بمثل هذا النوع، وأما إذا كان المرض عارضاً فقال بعض العلماء: ينتظر إلى أن تشفى، ولا يجوز أن يضحى بها أثناء مرضها. وقال بعض العلماء: يجوز أن يضحى بها أثناء المرض وبعد المرض؛ لأن هذا المرض ليس ببين، بمعنى: أنه ليس مؤثراً تأثيراً بيناً في البهيمة. والصحيح: أنه ينتظر إلى شفائها وطيبها.

حكم العضباء في النسك

حكم العضباء في النسك قال رحمه الله: [والعضباء]. قال طائفة من أهل العلم: إذا ذهب قرن البهيمة فإنه لا يضحى بها؛ لوجود نقص في عضو من أعضائها. وقال بعض أهل العلم: يجوز أن يضحى بمقطوعة القرن، ومنهم من حَدَّه بالثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير)، ومنهم من حَدَّه بأكثر القرن إذا ذهب، وأما ما دون ذلك فإنه لا يؤثر، وورد عنه عليه الصلاة والسلام في حديث علي رضي الله عنه أمره الصحابة أن يستشرفوا العين والأذن والقرن، قالوا: فهذا أصل يدل على أنه إذا ذهب القرن أو أكثره فلا يجوز أن يضحى بمثله.

البتراء من النعم وحكمها في النسك

البتراء من النعم وحكمها في النسك قال رحمه الله: [بل البتراء خلقة]. البتراء: هي مقطوعة الذنب، والأبتر: هو المقطوع، ولذلك كان الكفار في الجاهلية يذمونه عليه الصلاة والسلام بذلك، وقالت إحدى نسائهم للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه أبتر، قالوا: عنت أنه مقطوع لا ذرية له، وقيل: مقطوع عن دين قومه، فكأنهم بتروه وخرج عنهم، كما يقال: الصابئ، من قولهم: صبأ إذا خرج، فلما قالت ذلك قال الله عز وجل: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3]، فرد الله عز وجل ما ذكروه من النقص والعيب، والبتر: القطع في الشيء. وقد قال بعض العلماء: لا تجزئ مقطوعة الذنب أن يضحى بها، وكذلك إذا كان الكبش مقطوع الإلية فلا يجوز أن يضحى به؛ وذلك لأنه نُقص عضو من أعضائه، والإلية تؤكل، ويستطاب أكلها، وينتفع بها، وقد تكون شفاء ودواء، ويحصل فيها من المنافع ما لا يخفى، قالوا: فإذا قطعت الإلية أو قطع أكثرها فإن هذا يعتبر عيباً مؤثراً وموجباً للحكم بعدم الإجزاء، ولأن هذا القطع يؤثر في البهيمة إذا أخرجت وأفضلت. وقال بعض العلماء -كما درج عليه المصنف-: إن البتراء تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: إن كانت بتراء خلقة، فإن هذا لا يؤثر. القسم الثاني: إن كان قطع منها بالقصد بعد وجود ذلك في خلقتها، فإنه يعتبر عيباً مؤثراً. وهذا التفصيل على أنها تجزئ هو الأقوى والأصح.

أحكام الجماء والصمعاء في النسك

أحكام الجماء والصمعاء في النسك قال رحمه الله: [والجماء]. الجماء: هي التي لا قرون لها، والبهيمة أو الشاة الجماء يجوز أن يضحى بها؛ لأنها خلقة قد ذهب قرنها، فليست كالتي يقطع أو يقص منها بعد وجوده، ففرق العلماء رحمهم الله بين كونها وجدت خلقة بهذه الطريقة، وبين كونها قطع منها ذلك. ثم قيس على هذه المسألة إذا ما ولدت الشاة لا أذن لها، فقال بعض العلماء: إذا كانت بدون أذن جاز أن يضحى بها، وهي الصمعاء، فقالوا: يجوز أن يضحى بها كالجماء، فإن ذهاب أكثر القرن لم يجزئ عندهم، وأما إذا كان خلقة غير موجود فإنه يجزئ، قالوا: فكذلك الأذن إذا قطع أكثرها أو كلها أثر، وأما إذا وجدت خلقة صمعاء لا أذن لها فإنه يجزئ أن يضحى بها.

أحكام الخصي في النسك

أحكام الخصي في النسك قال رحمه الله: [وخصي غير مجبوب]. وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين موجوءين، وقال العلماء: إن الوجاء يطيب اللحم، فإذا كان خصياً فإن هذا مما يزيد اللحم طيباً، ومن هنا قال العلماء: نقصان الخلقة ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون نقصاناً مؤثراً في الخلقة، كما ذكرنا في العوراء والعرجاء ونحوهما. فهذا يعتبر عيباً في أبواب الفقه، ويشمل ذلك باب الأضحية والبيوع، فلو باعه دابة ولم يخبره أنها عرجاء، فلما ركبها تبين عرجها؛ جاز له أن يردها، ويعتبر هذا عيباً مؤثراً. القسم الثاني: أن يكون النقص والعيب كمالاً؛ فهو في ظاهره نقص من الخلقة لكنه كمال فيها، كالخصى والوجاء، فإنه يعتبر مطيباً للحم؛ فحينئذٍ هو نقص من وجه وكمال من وجه آخر، فلا يعتبر موجباً للفساد والمنع في باب الأضحية، ولكنه قد يمنع ويوجب المنع في بيع الأرقاء في باب البيوع؛ وذلك لأنه قد يستفاد من إنجابه ونسله، وكذلك أيضاً يعتبر عيباً بالنسبة للبهيمة إذا بيعت من أجل الانتفاع بالفحل بالضراب، ثم تبين أنه موجوء؛ فإنه حينئذٍ يجوز له أن يرد المبيع ويبطل البيع ويفسخه.

أحكام ما بأذنه أو قرنه قطع

أحكام ما بأذنه أو قرنه قطع قال رحمه الله: [وما بأذنه أو قرنه قطع أقل من النصف]. هذا حد لبعض العلماء، وبعضهم يحده بالثلث، وأثر عن الإمام أحمد رحمه الله قوله بالثلث أيضاً؛ لأنه إذا جاوز النصف فكأن الشيء قد ذهب؛ لأن أكثر الشيء غالباً ينزل منزلة الكل، فقالوا: إذا قطع أكثر القرن أو أكثر الأذن فإن ذلك كقطع الأذن كلها.

الأسئلة

الأسئلة

حكم التضحية عن الميت

حكم التضحية عن الميت Q عندنا في عيد الأضحى نضحي عن الميت، فهل هذا له أصل من السنة، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالتضحية عن الميت فيها قولان مشهوران: قول جمهور العلماء، وهم على جواز التضحية عن الأموات، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضحى بالكبشين قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم هذا عن محمد وعن آل محمد)، قالوا: وفي آله الأحياء والأموات، وكذلك قال: (عمن لم يضح من أمة محمد)، فشمل أحياءهم وأمواتهم، وقد تكلم عن هذه المسألة شيخ الإسلام رحمه الله، وذكر أن هذا جائز ولا حرج فيه، ولا بأس به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وهذه السنة تدل على مشروعية التضحية عن الميت، خاصة إذا وصى بذلك، فقال: ثلث مالي يضحى عني منه، فحينئذٍ تكون الأضحية واجبة؛ لأنها وصية، وإذا كان ثلثه يسع ذلك فإنه يلزم إنفاذ هذه الوصية. وخالف في هذه المسألة بعض فقهاء المالكية، واحتجوا بقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث). أما الاستدلال الأول فقد أجاب عنه شيخ الإسلام رحمه الله بأجوبة عديدة، وذكر أن قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] من جهة كونه يستحق الثواب على عمله، أي: أن عمله يتوقف عند موته من جهة كونه يحصل الثواب، أما لو أنه بعد وفاته تفضل عليه الغير بالاستغفار والترحم له، أو الصدقة عنه؛ فإن هذا لا يمتنع؛ بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري وغيره لما قيل له: (يا رسول الله! إن أمي ماتت فجأة أفأتصدق عنها؟ قال: نعم)، ويدل له أيضاً حديث سعد رضي الله عنه في صحيح البخاري: أنه شكى لرسول الله صلى الله عليه وسلم موت أمه فجأة، فقال: (يا رسول الله! أفأتصدق عنها؟ قال: نعم، قال: فجعل لها حائطاً بالمخراف) أي: تصدق عنها بمزرعة، فدل على أن قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] لا يعارض الصدقة عن الميت. وبناءً عليه فإن هذا لا يعتبر محظوراً شرعاً، بل هو جائز، خاصة وقد وردت السنة بجوازه. وأما بالنسبة لقوله عليه الصلاة والسلام: (صدقه جارية)، فقد قال فيه العلماء: إذا وصى بالتضحية عنه فإنها صدقة جارية؛ لأنه هو الذي تسبب فيها، وهذا من سعيه. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: لولا أن الإنسان مؤمن، ولولا أنه مسلم، لما تصدق عنه أحد ولما ضحى عنه أحد. فكأن سبب الأضحية هو الإيمان، والإيمان من سعي الإنسان، فلا يكون قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] مآله من هذا الوجه، فيرى أن هذا من سعيه؛ إذ لولا الإيمان لما ترحم عليه المسلمون ولما دعوا له، وقد تكلم عن هذه المسألة بكلام طويل في مجموع الفتاوى، فحبذا لو يرجع إليه للاستفادة والاستزادة. والله تعالى أعلم.

جواز تضحية المرأة عن نفسها

جواز تضحية المرأة عن نفسها Q المرأة التي ليس لها قيّم هل تلزمها الأضحية؟ وهل تمسك عن شعرها وأظفارها، جزاكم الله خيراً؟ A إذا كان عند المرأة سعة فإنها تضحي، فالأضحية مشروعة للنساء كما هي مشروعة للرجال، وإذا وجدت المرأة القدرة فإنها تتقرب إلى الله عز وجل وتضحي كما يضحي الرجل، وتمسك عن قص شعرها وتقليم أظفارها كالرجل سواء بسواء. والله تعالى أعلم.

عقيقة الخنثى المشكل

عقيقة الخنثى المشكل Q ما هي عقيقة الخنثى المشكل؟ A أما بالنسبة للخنثى المشكل فهو مشكل، قال بعض العلماء: الأصل في الخنثى المشكل أنه امرأة، وهذا مبني على القاعدة الشرعية: اليقين لا يزول بالشك. فاليقين أنه في حكم النساء حتى يرتقي إلى درجة الذكورة والفحولة التي هي فوق الأنوثة، ولذلك قال تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36]، ومن هنا قالوا: إن الخنثى ينزل منزلة النساء، وعليه فإنه يأخذ حكم الأنثى سواء بسواء من جهة العقيقة، ومن جهة معاملته. والله تعالى أعلم.

حكم العقيقة بالبدنة عن سبعة

حكم العقيقة بالبدنة عن سبعة Q ما حكم العقيقة بالبدنة؟ وهل تجزئ عن سبع من البنات، أثابكم الله؟ A هذه المسألة مبنية على التداخل، والتداخل في الدماء الواجبة يقع في الهدي والأضاحي، وأما بالنسبة للعقيقة فإن مقصود الشرع أن يراق الدم عن المولود، وعلى هذا فإنه لا تداخل في العقيقة، بخلاف غيرها من الدماء، ولابد في العقيقة من وجود الدم المنفصل عن كل نفس بحسبها. والله تعالى أعلم.

حكم أخذ الأحكام من الكتب دون الرجوع للعلماء

حكم أخذ الأحكام من الكتب دون الرجوع للعلماء Q شخص حدثت له مسألة في الليل، ولا يستطيع سؤال أهل العلم، ثم فتح كتاباً من كتب المذاهب وأخذ بما فيه، فهل عليه شيء، أفتونا جزاكم الله خيراً؟ A أما بالنسبة للسؤال فينبغي أن يكون واقعياً، ويكون السؤال له حقيقة، فبالنسبة لمسائل الحج أنت ترى ونرى جميعاً توافر العلماء والدعاة والمشايخ، والكتب التي فيها توجيه للناس قد لا يحتاج إليها من كثرة ما يسمع من التوجيه والبيان، ولذلك فإن مسألة أن لا يتوافر عالم وهو يحج بين المسلمين هذا أشبه بقولهم: إذا لم تغب الشمس فينبغي أن يكون السؤال واقعياً، يعني أن هذه الأمة، والسواد الأعظم من أهل العلم، وما يسفر من وجود العلماء -وهي نعمة عظيمة من الله سبحانه وتعالى- ووجود مراكب لتوجيه الحجاج، وبيان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، ومع كل هذا يقال: أنه لا يوجد عالم! هذا لا يخلو من نظر، ولذلك فإن هذا السؤال فيه بعد، لكن لو طرأت مسائل على الإنسان قبل أن يأتي إلى الحج، أو أحرم بالحج، ثم وهو في الطريق طرأت عليه؛ فإن العامي والجاهل لا يفتي نفسه، وعلى هذا فإنه لا بد له من الرجوع إلى العلماء، والله تعالى يقول في كتابه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فأمرنا بالرجوع إلى العلماء وسؤالهم. قال بعض العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء) قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل قبض العلم بموت العلماء، ولم يذكر الكتب، ولذلك استنبط بعض العلماء أن العلم لا يؤخذ من الكتب وإنما يؤخذ من العلماء؛ لأن الكتب لا يؤمن فيها التصحيف ولا التحريف -تحريف الكاتب والمطبعة- ولا الفهم السقيم؛ فيكون الكلام له معنىً غير المعنى الذي فهمه، ولذلك لا تبرأ ذمته بصورة صحيحة إلا بسؤال أهل العلم والرجوع إليهم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب الهدي والأضحية والعقيقة [2]

شرح زاد المستقنع - باب الهدي والأضحية والعقيقة [2] شرع الله سبحانه وتعالى أحكاماً للذبح والنحر وهي ما يسمى بأحكام التذكية، فللتذكية طرق وشروط وسنن ينبغي على المذكي العلم والإحاطة بها، وللأضحية أيضاً وقت لا تجزئ إلا إذا ذبحت فيه، فلا يجوز تأخير ذبحها عن وقتها المحدد شرعاً.

أحكام التذكية

أحكام التذكية يقول المصنف رحمه الله: [والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى]. لما فرغ رحمه الله من بيان الأحكام المتعلقة بالعيوب، كأنه قد هيأ لك البهيمة التي يجوز أن يضحى بها، وكأن سائلاً يسأل: إذا تمكنت من الأضحية، وكانت سليمة من هذه العيوب التي ذكرت، فما هي السنة وما هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذبح والنحر؟

طرق التذكية الشرعية

طرق التذكية الشرعية هناك طريقتان للتذكية الشرعية، والحيوان ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون مستأنساً، وإما أن يكون متوحشاً. أما الحيوان المستأنس فكالإبل والبقر والغنم والطيور إذا أمسكتها، والدجاج الداجن، فهذه الحيوانات لها تذكية معينة، وهناك نوع ثان من التذكية الشرعية للحيوان الذي لا تقدر على إمساكه وأحلّ الله لك أكل لحمه، كالطير في الهواء، والوعل والظبي والغزال والريم ونحوها من صيد البر، فهذا النوع من الحيوانات له تذكية ثانية، ومن ثم اصطلح أهل العلم على تسمية الأول: بالمستأنس؛ لأنه يأنس بك وتأنس به، ولذلك فإن الشاة إذا جئت لتذبحها تكون في متناول يدك، وأما الحيوان الذي لا تستطيع إمساكه إلا بالغلبة وبالحيلة والقهر -وهو الصيد- فله تذكية خاصة؛ وذلك بأن ترميه بالسلاح في أي موضع من بدنه وتعقره، فإذا عقرته وأهلكته بهذه الرمية أو الطلقة من سلاحك فإنه حينئذٍ يكون حلالاً لك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنهر الدم وذكرت اسم الله عليه فكلْ)، وقال له عدي: (يا رسول الله! إني أصيد بكلبي المعلم وبكلبي غير المعلم، وبهذه الباز، فما يحل لي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ما صدت بكلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكلْ)، فجعل للصيد رخصة، وسنتكلم -إن شاء الله- عن مباحث ومسائل الصيد، وكيفية التذكية في هذا النوع الذي رخص الشرع فيه في باب أحكام الصيد، لكننا سنتكلم هنا عن كيفية هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الحيوان المستأنس الذي يضحي به الإنسان من الإبل والبقر والغنم. فالحيوان المستأنس من الإبل والبقر والغنم تنقسم تذكيته الشرعية إلى قسمين: فإما أن تذكيه بالنحر، وإما أن تذكيه بالذبح. فأما النحر: فهو أن تطعن البعير في الوهدة التي في أسفل عنقه عند التقائه بالصدر -تسمى في اللغة الوهدة- فتطعن بالسكين أو الخنجر أو نحوه من السلاح الذي ينهر الدم، وهذا يسمى: نحر. وأما الذبح فإنه يكون بإضجاع البهيمة على جنبها ثم ذبحها، وذلك بإنهار دمها من جهة عنقها، ويكون ذلك بقطع المريء والحلقوم وأحد الودجين، وهما العرقان اللذان في الرقبة.

السنة في تذكية الإبل

السنة في تذكية الإبل والسنة في الإبل أن تنحر ولا تذبح، ولكن إن فعله أجزأه؛ وذلك لأنه إنهار للدم مع ذكر اسم الله عز وجل، وأما الشاة فإنها تذبح ولا تنحر؛ إذ ليس فيها موضع للنحر، وإنما هي من جنس ما يذبح وليس من جنس ما ينحر، وأما البقر ففيه الموضعان، فيمكن أن ينحر أو أن يذبح، وبكلٍ قال جمع من العلماء رحمهم الله، وكلٌ جائز إن ذبح أو نحر، وأياً ما كان فقال رحمه الله: (والسنة أن تنحر الإبل قائمة). فإذا قلنا: إن الإبل تنحر، فالنحر يكون على حالتين: الحالة الأولى: أن تكون قائمة. الحالة الثانية: أن تكون باركة. فأما إذا كان الإنسان يريد تذكيتها ذكاة شرعية على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته الكريمة؛ فإنه يبعثها قائمة، ويعقل يدها اليسرى، ثم بعد ذلك يطعن في وهدتها وينحرها حتى تسقط، ولذلك قال الله تعالى في الإبل: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36]، أي: سقطت واستقرت على الأرض، يقال: وجب الشيء إذا سقط، ويقال: وجب الحائط إذا سقط، ومنه قول أبي بردة رضي الله عنه في الحديث: (والمغرب إذا وجبت)، أي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب إذا سقط قرص الشمس وغاب ضوؤها. فالمقصود: أن الله عز وجل جعل البدن -وهي الإبل- من جنس ما ينحر وهو قائم، ولذا قال المصنف: (والسنة) أي: هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تذكية الإبل نحرها قائمة. وقد مر عبد الله بن عمر رضي الله عنه على رجل يريد أن ينحر بعيره باركاً، فقال له: (ابعثها قائمة سنة نبيك صلى الله عليه وسلم). فقوله: (ابعثها قائمة)، أي: انحرها وهي قائمة، فإن ذلك هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: (معقولة يدها اليسرى) أي: تربط يدها اليسرى ولا تترك كما هي، ويذكر بعض الأطباء أن في هذا حكمة: وهي أن شرايين القلب في الجهة اليسرى تكون أقوى، وعندما تعقل اليد اليسرى يكون ضخ الدم عند النحر أقوى، فهو إخراج للدم الفاسد بصورة أبلغ، ولذلك حرم الله الميتة؛ لأن الدم ينحبس فيها فيكون فيها من الأضرار والمفاسد ما الله به عليم، ولذا كان إنهار الدم فيه حكمة عظيمة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ما أنهر الدم)، أي: أجراه. قال رحمه الله: [فيطعنها بالحربة في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر]. وهذا كما ذكرنا سابقاً؛ لأن هذا يسمى بالنحر، فيقول عند النحر: باسم الله، ويكبر، ثم يطعن في الوهدة، وينوي ما هو فيه من نسكه، كأن يكون دماً واجباً عليه في النسك، أو غير ذلك من الدماء الواجبة عليه، وقوله: (فيطعنها بالحربة)، ليس هذا الحكم خاصاً بالحربة، وإنما هو يشمل كل شفرة، حتى لو أخذ حجراً مدبباً مسنماً كالسكين وطعن به فإنه يجزيه، وهكذا لو أخذ حديدة وشحذها فإنها تجزيه؛ وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (هلمي المدية، ثم قال: اشحذيها بحجر)، والمراد بذلك السكين، فسواء طعن بسكين، أو خنجر، أو حتى بحجر؛ لأنه ثبت في الحديث الصحيح: (أن امرأة كانت ترعى غنمها جهة سلع -وهو جبل غربي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة- فعدى الذئب على غنمها، فصاحت بالناس، فأدركوه قد بقر بطن الشاة، فقامت إلى حجر فكسرته وذكت الشاة)، وقد أخذ العلماء رحمهم الله من الحديث عدة فوائد: الفائدة الأولى: أنه يجزئ أن يضحى بكل شيء له نفوذ وتأثير بالقطع من كل محدّد، ولا يختص ذلك بالحديد، فلا نقول: إنه لا تصح التذكية إلا بالسكاكين، بل يصح أن تكون التذكية بالحجر المسنن، لكن لا يجوز أن يذكى بالعظم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استثناه وقال: (إلا السن فإنه مدى الحبشة)، وقوله: (مدى الحبشة) كأنه من باب المخالفة لأهل الكتاب، وعلى هذا فإن الحديث دل على جواز التذكية بكل ما يقطع ويفري. الفائدة الثانية: جواز تذكية المرأة، على خلاف ما يعتقده بعض الجهال اليوم من أن المرأة لا تذبح ولا تنحر، وأن البهيمة إذا ذبحتها المرأة فإنها ميتة، وهذا كله -والعياذ بالله- من بقايا الجاهلية، ومن فعل ذلك أو اعتقده ففيه بقايا الجاهلية -نسأل الله السلامة والعافية- فالمرأة كالرجل في هذا في حكم الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يأكلوا الشاة، وأحلها لهم. الفائدة الثالثة: وهي ما يسمى بالحياة المستعارة، وهي أن تكون البهيمة في آخر رمق، كأن تصدمها سيارة، أو تسقط من مكان عال، فتدركها قبل أن تموت، وهي في آخر رمق ترفس، ثم تنهر دمها، فقال بعض العلماء: إذا كانت في آخر رمق، فإن هذه التذكية لا تجزئ؛ لأن القاعدة عندهم في الحياة المستعارة أنها كالعدم، والسبب في هذا: أن نفسها فلتت بسبب الضربة الموجبة لتحريم أكلها؛ لأنها إذا ضربت بسيارة فهي في حكم المتردية، وإذا سقطت من على جبل فأدركتها وهي ترفس فقالوا: إنها متردية، وعلى هذا قالوا: لا يجوز تذكيتها. ولكن هذا الحديث قد يقوي القول بأنه يجزئ أن يؤكل مثل هذا؛ لأن الذئب بقر بطن الشاة، وإذا بقر بطنها فالغالب أنها لا تعيش، وإن قال بعض العلماء: يمكن أن ترد لها أمعاؤها وتعيش، وهذا يقع في الآدميين وفي البهائم، وأياً ما كان فالمسألة محتملة. وقد تفرعت عن هذه المسألة مسألة معاصرة في زماننا، وهي التي تسمى: بموت الدماغ، فإنها حياة مستعارة، فنظراً لوجود الحركة اللإإرادية جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحياة المستعارة عند إنفاذ المقاتل ووجود الدلائل على إقدام النفس على الموت جعلها تأخذ حكم الحياة المستقرة، وتوضيح ذلك: أن الشاة لما بقر الذئب بطنها فإنها ستموت قطعاً فلما جاءت تذكية المرأة جاءت وكأن الشاة نفسها مختلفة، فهذا الذي فيها من الحركة إما أن تقول: نفس مستقرة. فتنزل المعدوم منزلة الموجود. وإما أن تقول: نفس غير مستقرة، فالذكاة لاغية، فلما أعمل الذكاة ورآها مهمة ومعتبرة أعمل الحركة، وأبقى الحياة المستعارة مؤثرة، وعلى هذا فإنه يقوي قول من قال من العلماء المعاصرين: إن موت الدماغ ليس بموت، وهذا هو الصحيح، كما بيناه غير مرة، وذكرنا أنه هو الأصل، والأدلة تقوي هذا، وعليه فإن الحياة غير المستقرة تكون حياة ثابتة. إذاً: فالتذكية تكون بكل محدد ينهر الدم على ظاهر السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

السنة في تذكية البقر والغنم

السنة في تذكية البقر والغنم قال رحمه الله: [ويذبح غيرها، ويجوز عكسها]. قوله: (ويذبح غيرها) يعني: غير الإبل، من البقر والغنم، فكأنه يرى أن السنة أن لا تنحر البقر، ويرى أن السنة في البقر الذبح، وهذا يختاره جمع من العلماء. وقال بعض العلماء: السنة في البقر النحر، ويجوز فيه الذبح. والصحيح: أنه يجوز فيه الأمران: الذبح، وفيه النحر. أما قوله: (ويجوز عكسها)، فلو أنه نحر البقر بدلاً من أن يذبحها، فإن هذا العكس يجزئ، ولو ذبح البعير بدلاً من أن ينحره؛ فإن هذا يجزئ.

ما يقوله المذكي حال التذكية

ما يقوله المذكي حال التذكية قال المصنف رحمه الله: [ويقول: باسم الله، والله أكبر، اللهم هذا منك ولك]. قوله: (ويقول: باسم الله) وجوباً؛ لأن الله تعالى يقول: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [الحج:36]، فأمر الله سبحانه وتعالى بذكر اسمه عليها، وقال: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:121]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكلْ)، هذا شرط، ومفهوم الشرط معتبر، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه)، وهذا شرط، ومفهوم الشرط معتبر، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكلْ)، فقوله: (فكلْ) يدل ويؤكد على أن التسمية واجبة، وأنه إذا نسي التسمية أو تركها عمداً فأصح الأقوال: أنه لا تجزئ ذبيحته، ولا يجوز أكلها. وقوله: (اللهم هذا منك ولك)؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم هذا منك، أنت الذي رزقتنا، وأنت الذي سخرته لنا)، ولا شك أن هذا من توحيد الله جل جلاله؛ أن يعترف المخلوق بنعمة الخالق عليه، والله سبحانه وتعالى يحب من عبده أن يثني عليه بنعمه الظاهرة والباطنة والدينية والدنيوية، فإذا تمكن من الشاة أو البقرة أو الناقة يريد أن يذكيها وقال: (اللهم هذا منك، أنت الذي رزقتنيه -فكم من فقير لا يجد السبيل إلى مثل هذا- وأنت الذي سخرته لي)، فلولا أن الله سخر له هذه البهيمة يذبحها وينحرها لما استطاع أن يذبح ولا أن ينحر، وقوله: (اللهم هذا منك ولك) أي: أن هذا الشيء تملكه، فاللام للملكية، (لك) أي: ملك لله سبحانه، فالله عز وجل مالك الملك وبيده ملكوت كل شيء، يطعم ولا يُطعم، ويرزق غيره ولا يرزق، سبحانه ذو القوة المتين. وما ألذ النعمة إذا كان الإنسان في ظاهره وباطنه يعتقد فيها الفضل لله جل جلاله، ولذلك يقول العلماء: شكر النعم يكون بالجنان واللسان والجوارح والأركان، فمن شكر النعمة بالجنان: أن تعتقد أن هذا من الله. وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم هذا منك ولك) فيه توحيد وإيمان وتسليم لله جل جلاله، فليس هذا بحولنا ولا قوتنا، ولذلك لما رأى سليمان عليه السلام عرش بلقيس بين يديه قال: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} [النمل:40] أي: ليس بشيء أستوجبه على الله، فهذا هو حال أهل الكمال والفضل والإيمان والتوحيد؛ أنهم يسلمون لله جل وعلا؛ فيعتقدون أن الفضل كله لله سبحانه وتعالى في نعمه الظاهرة والباطنة، وقد أشار الله إلى هذا المعنى بقوله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53] أي: اعتقدوا أن الفضل فيها لله. ثم نطق عليه الصلاة والسلام بما اعتقد فقال: (اللهم هذا منك) أي: يا الله هذا الذي بين يدي من بهيمة الأنعام أتقرب به إليك. وقيل: (لك) أي: أذبحه لك، وهذا من توحيد العبادة، فلا يجوز أن يذبح إلا لله عز وجل، ولا يستغيث ولا يستجير ولا يستعيذ إلا بالله سبحانه وتعالى؛ لأن من توحيد الألوهية أن لا يذبح إلا لله، ولذلك لعن الله من ذبح لغير الله، قال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من لعن والديه، لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من غيّر منار الأرض)، فهذه الأمور ورد فيها الوعيد الشديد؛ لعظم كفر العبد فيها، فإنه إذا ذبح لغير الله فقد كفر نعمة الله عز وجل وصرف ما لله لغير الله. فقوله: (ولك) أي: توحيداً لله عز وجل، فالذبح لا يكون إلا الله، فلا يكون لنبي مرسل، ولا لملك مقرب، ولا لعبد ولو كان من أصلح عباد الله، قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام:162 - 163] أي: أمر فرضه الله عز وجل عليَّ، وقال الله عز وجل: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، فلا يجوز الذبح ولا النحر إلا لله سبحانه وتعالى، ومن هنا قال العلماء: من ذبح لغير الله فقد أشرك؛ لأنه إذا ذبح لغير الله عبده، ولا يذبح لغير الله إلا رغبة أو رهبة أو هما معاً، فتجده يذبح للجن رهبة منهم وخوفاً، وإما أن يذبح رغبة في شيء يكون له؛ كذبحه على قبر ولي أو صالح أو نبي، وهذا لا شك أنه من الشرك؛ أن يذبح للنبي أو للولي من أجل أن تقضى حاجته أو تفرج -والعياذ بالله- كربته، ولا يقضي الحاجات ولا يفرج الكربات إلا فاطر الأرض والسماوات جل جلاله وتقدست أسماؤه، وصدق الله إذ يقول: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62]. وإذا كان له آل بيت يقول: اللهم هذا عني وعن أهل بيتي، أو يبين إذا كان ذبحه هذا عن فريضة واجبة عليه أو عن دم في نسك؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلفظ بنيته وقال: (اللهم هذا عن محمد وعن آل محمد).

استحباب تولي الذبح

استحباب تولي الذبح قال رحمه الله: [ويتولاها صاحبها، أو يوكل مسلماً ويشهدها]. قوله: (ويتولاها) أي: يقوم على ذبحها ونحرها (صاحبها)، وهذا الأفضل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر إبله بيده الشريفة بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ووكل علياً رضي الله عنه أن ينحر بقية المائة؛ لأنه نحر ثلاثاً وستين بدنة بيده الشريفة ثم ترك سبعاً وثلاثين لـ علي رضي الله عنه، لأنه أهدى إلى البيت في حجة الوداع مائة من الإبل صلوات الله وسلامه عليه، فجمع بين الأمرين: بين الأصالة والوكالة، فدل على جواز التضحية وقيام الإنسان بالتذكية أصالة بنفسه، وعلى جواز توليته وتوكيله لغيره، فإذا قام بها بنفسه فهذا أفضل وأكمل وأعظم أجراً؛ لما فيه من الذلة لله سبحانه وتعالى، ولما فيه من التأسي برسول الأمة صلى الله عليه وسلم، والأكثر تعباً أعظم أجراً. فالأفضل له أن يليها بنفسه، ويجوز أن يوكل غيره؛ لكن يشترط إذا وكل غيره بالذبح أن يكون عالماً بطريقة الذبح المجزئة، فلا يوكل أي شخص، وإنما يوكل من له علم وإلمام بكيفية الذبح، ولا تبرأ ذمته إلا بمثل هذا، أي: من يعرف التذكية الشرعية، وإذا وكله فإنه يعهد إليه بما يلزم في أضحيته. ومعنى قوله: (ويشهدها) أي: يحضر ذبحها على الكمال، وإذا لم يحضر فلا بأس، فلو أراد الحج وترك أضحيته في البيت، وقال لأحد أبنائه: اذبح هذه الأضحية يوم النحر، ووكله أن يقوم بذبحها، فلا إشكال، فلا يستطيع أن يترك حجه ليحضر ذبحها. والشهادة تعني الحضور، كما قال الله تعالى: {وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [القصص:44] أي: من الحاضرين، يقال: شهد الشيء إذا حضره. وقوله: (يشهدها) أي: يحضرها -على الأفضل- لأنه إذا حضرها فإنه أبلغ أن تبرأ الذمة، وأن يكون محتاطاً في توزيعها والقيام عليها على أتم الوجوه. وكذلك الوكيل يشهدها؛ لأن من تمام الوكالة أن يقوم عليها، ولذلك وكل رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً بذبح ما بقي من هديه وأمره أن يقوم عليها، وأن يتصدق بجلودها وأجلّتها، وأن لا يعطي الجزار منها شيئاً، فدل على أن الوكيل لا يعهد لغيره يذبحها، إنما يتابعها ويقوم بها؛ لأنه مؤتمن، ولا تبرأ ذمته إلا إذا أدى الأمانة على وجهها ونصح لصاحبها.

وقت ذبح الأضحية

وقت ذبح الأضحية يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ووقت الذبح بعد صلاة العيد أو قدره إلى يومين بعده]. بيّن المصنف رحمه الله جملة من الأحكام المتعلقة بالأضحية، ثم شرع في بيان تأقيت الأضحية؛ والسبب في ذلك: أن النصوص التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم بينت أن للأضحية ميقاتاً خاصاً ينبغي مراعاته عند ذبحها، فلا يقع الذبح قبل هذا الوقت المحدد من الشرع ولا بعده، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حينما خطب يوم النحر فقال صلى الله عليه وسلم: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله). وقوله عليه الصلاة والسلام: (من ذبح قبل الصلاة) المراد بالصلاة صلاة عيد الأضحى، والتي يسن إيقاعها بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، فالسنة في صلاة عيد الأضحى أن يخفف الإمام ويعجل؛ لأن الناس سيشتغلون بالأضحية، وهذا يحتاج إلى وقت لكي يصيبوا فضيلة إيقاع الذبح في ضحى يوم النحر، وما سميت الأضحية أضحية إلا لأنها تقع ضحى يوم النحر، ففضيلتها في هذا الوقت، والسنة أن يصلي بهم والشمس قيد رمح، أما في صلاة عيد الفطر فيوقعها والشمس قيد رمحين؛ لأن الناس يحتاجون إلى وقت أكثر قبل الصلاة من أجل إخراج زكاة الفطر، فاختلف الحكم بالنسبة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الأضحى وصلاة الفطر. وقد قالوا: إنه يوقع ذبح الأضحية بعد صلاة الإمام، والمراد بذلك الإمام الذي يصلي بالناس عيد الأضحى، فإذا تعددت المساجد ووجد أكثر من إمام؛ فبعض أهل العلم يرى تأقيت كل جماعة بإمامهم، فإذا كان في المدينة مصليان للعيد، فصلى مع الإمام بالناحية الشرقية أو الغربية فإنه -عند هؤلاء- يتقيد بالإمام، فإذا صلى مع إمامه انصرف وذبح أضحيته، وإذا كان مريضاً لم يتمكن من الخروج فإنه ينتظر فراغ إمامه من صلاة عيد الأضحى ثم يضحي. وقال بعض العلماء: يعتد بالأسبق منهما، حتى ولو كان غير إمامه؛ فلو كان هناك حيان، حي تقام فيه صلاة الأضحى في الشرق وحي في الغرب، والذي في الشرق من عادته أن يطول أو يتأخر، والذي في الغرب يبكر، فيعتد بصلاة المبكر منهما. فعلى هذا نخرج بحكم شرعي وهو: أن ذبح الأضحية ينبغي أن يكون بعد الصلاة لا قبلها. ولا يشترط انتظار فراغ الإمام من خطبة يوم النحر، بل العبرة بالصلاة وحدها، فإذا انتهت الصلاة وخرجت وذبحت أجزأك ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ذبح قبل الصلاة فشاته شاة لحم)، أي: أن شاته لا تقع أضحية على السنة، وإنما تنقلب شاة لحم، إن شاء تصدق بها، وإن شاء أكلها، فليست بأضحية، وقال بعد ذلك: (ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)، فأذن بالذبح بعد الصلاة؛ لأن هذا الكلام وقع في خطبته وهي من بعد صلاة الأضحى إجماعاً، فبيّن رحمه الله أن وقت الأضحية يبتدئ بما بعد الصلاة.

وقت انتهاء الذبح

وقت انتهاء الذبح وللأضحية وقت انتهاء، فبعد هذا الوقت لا تقع شاته أضحية، وقد اختلف العلماء في وقت الانتهاء على قولين مشهورين: القول الأول: أن وقت الأضحية ينتهي بثالث أيام التشريق؛ فإذا غابت شمس يوم الثالث عشر فلا تقع أضحية وإنما تقع صدقة من الصدقات، أو شاة لحم، كما قال صلى الله عليه وسلم فيمن سبق الوقت المعتبر. وهذا هو مذهب الشافعية ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليهم، وكان يقول به أكثر من سبعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يقولون: إنه يجوز أن ينحر الإنسان ويذبح في اليوم الثالث عشر، وهو اليوم الأخير من أيام التشريق. القول الثاني: وهو أشبه بمذهب الجمهور، وهو أن وقت الذبح يوم العيد ويومان من بعده، فآخر وقت الذبح عندهم بمغيب شمس اليوم الثاني عشر. والخلاف فقط في اليوم الثالث عشر الذي هو آخر أيام التشريق؛ لأن أيام التشريق ثلاثة كما لا يخفى، فقال بعض العلماء: إن اليوم الثالث يعتبر من أيام الذبح، وقال بعضهم: إنه ليس من أيام الذبح، وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (أيام منى أيام أكل ونحر) يدل على أنه يجزئ الذبح فيها، وهذا على ظاهر القرآن: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28]، فهذا نص عند العلماء في أن الذبح يتأقت بثلاثة أيام يدخل فيها اليوم الثالث عشر. وإخراج اليوم الثالث عشر لا يخلو من نظر؛ فإن جلّ الأحكام التي وقعت في أيام التشريق استوت فيها الأيام الثلاثة كلها، ولذلك فإن من ذبح هدي التمتع أو هدي القران فإنه يجزيه في أيام التشريق على القول بالتأقيت، وكذلك بالنسبة لمسائل الحاج، فإن الله جعل للحاج اليوم الثالث عشر كاليوم الثاني عشر، لكنه خفف بالتعجل في اليوم الثاني عشر، وهذا لا يسقط اعتباره إن تأخر. وعلى هذا فالذي يترجح: أن يوم العيد وثلاثة أيام من بعده هي أيام النحر والذبح. وإذا أراد الإنسان أن يذبح في الليل، فهل ليالي هذه الأيام كنهارها؟ للعلماء في هذه المسألة قولان: القول الأول: قال جمهور أهل العلم: يجوز للإنسان أن يذبح أضحيته بالليل والنهار، ولا فرق بينهما، وإن كان الأفضل أن يذبح نهاراً، حتى يخرج من خلاف أهل العلم رحمة الله عليهم. القول الثاني: أن الذبح يختص بالنهار دون الليل، وأنه لا يذبح ليلاً، واليوم إذا أطلق في لغة العرب فالمراد به النهار دون الليل، ويحمل قوله عليه الصلاة والسلام: (أيام منى) على النهار دون الليل، واستدلوا لذلك بقوله تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة:7]، ففرق الله تعالى بين النهار وبين الليل. واحتج من قال: إن الليل والنهار سواء -كما هو مذهب الجمهور- بأن قوله تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة:7] من باب عطف الخاص على العام، والعرب تعطف الخاص على العام والعام على الخاص، فتقول: يدخل محمد والناس، ومرادك بذلك تشريف محمد وتكريمه، أو أن النهار كان أشد عذاباً من الليل، أو أن الليل أشد إيقاعاً وأشد ألماً وعذاباً، فلذلك خص بالذكر. وظاهر الدليل: أن الليل والنهار سواء، وأنه يذبح بالليل والنهار؛ لقوله تعالى: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود:65]، وقوله: (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) بالإجماع أن هذا التربص شامل لليل والنهار، ولذلك قالوا: الأصل في اليوم أنه يشمل الليل والنهار، إلا إذا خصه الدليل بالنهار دون الليل، ولا دليل يخص هاهنا. وعليه: فإنه يجوز أن يذبح في الليل كما يجوز أن يذبح في النهار، ولكن الأفضل والأكمل أن يذبح في النهار، لكن لو أراد أن يصل رحمه، أو أن يكرم الضعفاء؛ فرأى أن ظروفه لا تساعده إلا بالذبح ليلاً، أو كما يقع بين القرابة أنهم يترقبون مجيء بعضهم، فتقع قرعة الإنسان وحصته بالليل، فحينها لا بأس أن يذبح ليلاً، ولا حرج عليه في ذلك، وإن ذبح قبل غروب الشمس ثم بعد ذلك يطبخها ويقدمها لضيوفه ولو بعد العشاء، فهو الأفضل؛ خروجاً من الخلاف.

حكم من فاته وقت الذبح

حكم من فاته وقت الذبح قال رحمه الله: [ويكره في ليلتيهما، فإن فات قضى واجبه]. بيّن رحمه الله بداية وقت ذبح الأضحية ونهاية وقت ذبحها، وما تخلل هذا الميقات الزماني من الذبح ليلاً، وعليه فإنه يرد Q لو أن إنساناً فاتته أيام التشريق وأراد أن يذبح بعد أيام التشريق، فما الحكم؟ إذا ذبح بعد اليوم الثالث عشر فشاته شاة لحم، ولكن يفصّل في هذا: فإن كان عينها فإنه يذبحها وتكون شاته شاة لحم، ولكنها تلزمه من جهة الإلزام، ولذلك قالوا: لو نذر وقال: لله عليَّ أن أذبح أضحية هذا العام، فإنه يذبح ولو بعد انتهاء أيام التشريق، ويأثم إذا قصر وتراخى فيها حتى خرج الوقت المعتبر.

الأسئلة

الأسئلة

ضابط المرض الذي لا تجزئ به الأضحية

ضابط المرض الذي لا تجزئ به الأضحية Q نرجو توضيح القول في المرض الذي يكون في باطن البهيمة من حيث المنع والإجزاء، أحسن الله إليكم؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فقد حَدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم المرض البيّن، والأطباء يقولون: المرض: هو خروج الجسد عن حَدِّ الاعتدال، ففي كل جسد طبائع، وهذه الطبائع إذا استوت ولم يغلب بعضها على بعض فإن الصحة تكون مستقرة بإذن الله عز وجل ولطفه، فإذا بغت إحدى الطبائع على البقية أو على غيرها اعتلت الصحة، فيخرج البدن عن حَدِّ الاعتدال إلى المرض والسقم. وعلى هذا فإنه لا يحكم بكونها مريضة مرضاً بيّناً موجباً لعدم الإجزاء إلا بالرجوع لأهل الخبرة الذين لهم معرفة؛ سواء كان عن طريق تربية البهائم، أو كانت الخبرة عن طريق معالجة البهائم، فالأطباء البيطريون الموجودون الآن قولهم حجة في هذا، وكذلك أيضاً أهل البادية الذين يرعون ولهم معرفة وخبرة قولهم حجة ومعتد به، فلو قال أحدهم: إن هذا مرض مؤثر، فإنه يعتبر مؤثراً، وإذا قال: إن هذا شيء عارض، فيؤخذ بقوله وهو حجة؛ فإن التجارب جعلها الله عز وجل سنناً في الكون، وقد يكون الرجل الذي له خبرة ومعرفة شخصية أفضل من الطبيب في بعض الأحيان؛ لأنه تمر عليه أحوال قد لا يتيسر للطبيب أن يراها؛ لأنه قد لا يأتيه إلا بعض الحالات، لكن هذا يعايش ويجد، وقد يربي فيرى ويصاحب الألم في البهيمة ويعرف ما بها. فالمقصود: إذا قال أهل الخبرة من الأطباء وأهل المعرفة في السوق وتربية البهائم: إن هذا المرض يعتبر مرضاً مؤثراً، فإن هذه البهيمة لا تجزئ، ولا يضحى بها، وأما إذا قالوا: إنه شيء عارض سهل وبسيط؛ فإنه يجوز أن يضحى بمثلها. وهناك ضابط عند العلماء في الفتوى، فإنهم يقولون: لابد على الفقيه أن يبين القاعدة، فمثلاً حينما نقول: إنه يجوز للمريض أن يفطر. فهذا شيء يرجع إلى ضابط الأطباء للمرض المؤثر، وليس الكلام لنا نحن؛ لأن هذا ليس بعلمنا ولا بمعرفتنا، وإذا كنا نقول: إن هذا الشيء مؤثر، ويرجع في معرفة تأثيره إلى إنسان له خبرة؛ فينبغي أن نرجع إلى ذي الخبرة. ومما يدل على فقه العلماء الأولين رحمهم الله: أن الإمام النووي لما جاء إلى مسألة: إذا نام الإنسان وسال اللعاب من فمه، قال: قال بعض العلماء: إن اللعاب نجس، وعليه أن يغسل ما أصاب الوسادة التي نام عليها؛ لأن اللعاب يخرج من المعدة، وحكمه حكم القيء، وقال بعض العلماء: اللعاب طاهر؛ لأنه مستحلب من الفم، ثم قال هذا العالم الجليل الفقيه في هذه المسألة: يسأل عن هذا أهل الخبرة، وقد سألت الأطباء فقالوا: إنه مستحلب من الفم، وعليه فإنه طاهر، والآن الطب الحديث يقوي كلامه، وأن هناك غدة للعاب مختصة به، وأنها في الفم وليس لها صلة بالمعدة أصلاً. فالرجوع إلى أهل الخبرة وأهل المعرفة في المسائل التي لها ضوابط وقواعد هذا هو المعوّل عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (المريضة البيّن مرضها)، فنرجع إلى أهل الخبرة من الأطباء ونحوهم ممن لهم معرفة بالدواب والبهائم، فإذا قالوا: إن هذا مرض مؤثر ومؤذٍ ومضر؛ فإنه يعتبر حينئذٍ موجباً لعدم الإجزاء وإلا فلا. والله تعالى أعلم.

حكم جلد الأضحية والدماء الواجبة

حكم جِلد الأضحية والدماء الواجبة Q عند القيام بسلخ الأضحية في المطبخ يأخذ السلاخ الجلد، فهل يجوز ذلك؟ وهل يعتبر من الأجرة أم لا، أفيدونا بارك الله فيكم؟ A جلد الأضحية والدماء الواجبة يجب أن يتصدق به، ولا يجوز أن يعطى ضمن الأجرة، ولا يعطى للسلاخ، ولكن إذا كان السلاخ فقيراً أو محتاجاً وطلب هذا الجلد، فلا بأس بإعطائه، أما إذا كان قوياً أو قادراً، أو كان ليس بحاجة لهذا الجلد؛ فإنه لا يجوز إعطاؤه، وهو حرام عليه، ويكون أخذه من السحت، وينبغي عليه أن يصرفه للفقراء، فإذا أُخذ من الإنسان قهراً ثم بيع لمن يصنّع الجلد، فإن هذا من الظلم، ولا يجوز له، وماله حرام، وهو سحت -نسأل الله السلامة والعافية- لأنه إذا كانت البهيمة قد نذرها لله، فجميع أجزائها التي يسعه أن يتصدق بها صدقة، وجلدها مما ينتفع به، فينبغي أن يمكَّن من التصدق به على من يحتاجه. أما إذا كان هناك شركة تشتري الجلد في نفس المسلخ، وأعطيته الفقير، ثم ذهب الفقير وباعه لهذه الشركة أو لهذه المؤسسة، فلا بأس، أما أن يؤخذ من الإنسان في دم واجب فإنه لا يجوز ذلك، وماله حرام؛ لأنه لا يجوز صرف ما كان وقفاً أو صدقة إلا في جهته التي سُبّل عليها وأوقف عليها وتصدق به عليها، وهذا أصل مذكور ومقرر عند العلماء. هذا بالنسبة للجلود التي تكون في الدماء الواجبة؛ كدم الجبران ونحوها من الدماء الواجبة، فإنه لا يجوز أن تجعل في الأجرة، ولا يجوز للسلاخ أن يأخذها. بل قال العلماء رحمهم الله: لو كانت عند الإنسان شاة -ليست بأضحية ولا هدي- وأراد أن يذبحها للبيت، فقال للجزار: اذبحها ولك الجلد، فهذه المسألة تعرف بمسألة استئجار السلاخ بالجلد، وهي المشهورة عند الفقهاء في باب الإجارة بمسألة: قفيز الطحان، والمراد بها: أن تستأجر العامل بجزء من عمله، وهو نوع من الغرر؛ والسبب في هذا: أنك حينما تتعاقد معه قبل الذبح والسلخ فلا يُعلم هل الجلد جيد أو رديء؟ وهل هو خفيف أو ثخين؟ وهل يخرج سالماً دون أن يقدّه ويؤذيه أم لا؟ ثم إنه قد يحيف على الجلد خوفاً من قدّه فيضر الشاة أكثر، ولذلك قالوا: إنه لا يجوز أن يستأجر بالجلد، وفيها حديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان)، ولكنه حديث ضعيف، وقد تكلم العلماء عليه سنداً ومتناً، وذكر شيخ الإسلام رحمه الله في مجموع الفتاوى: أن هذا الحديث في متنه ما يدل على ضعفه؛ لأن القفيز لم يكن موجوداً في المدينة، ولا يعقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب أهل المدينة ومكة بما لم يعرفوه ولم يعهدوه مما هو في غير بلدهم، ولذلك لم يصح هذا الحديث لا سنداً ولا متناً. لكن بالنسبة لحكم المسألة: أن تستأجر السلاخ أو الجزار على أن يأخذ الجلد؛ فالصحيح أنه لا يجوز ذلك، وهو من باب الإجارة بجزء من العمل، ولا يحل للمسلم أن يتعاقد معه؛ لأنه من عقود الغرر، والشريعة تحرم عقود الغرر. والله تعالى أعلم.

الفرق بين الحكم الوضعي والحكم التكليفي

الفرق بين الحكم الوضعي والحكم التكليفي Q أشكل عليَّ قول الفقهاء رحمهم الله: إن الأحكام الوضعية يستوي فيها العامد والناسي، أرجو إيضاح ذلك، أثابكم الله؟ A الحكم الشرعي ينقسم إلى: حكم تكليفي وحكم وضعي. فالحكم التكليفي يشمل: الواجب، والمندوب، والمباح، والمحرم، والمكروه، فهذه الخمسة الأحكام تكليفية، ويكلف بها الإنسان وهي في وسعه؛ لأن الشرع لا يرد بالتكليف إلا بما هو في وسع المكلف ومقدوره. أما الحكم الوضعي: فهي العلامات والأمارات التي نصبها الشرع وليس لك فيها دخل، فإن الشيء الذي أوجبه الشرع عليك يكون في وسعك، لكن الأمارات والعلامات، كزوال الشمس فإنه سبب في وجوب صلاة الظهر عليك، فهذا حكم وضعه الشرع، ومغيب الشمس جعله الشارع علامة على وجوب صلاة المغرب، ومغيب الشفق الأحمر علامة على وجوب صلاة العشاء. فهذا يسمى حكماً وضعياً ولا دخل للمكلف فيه، ولا يلتفت فيه إلى قدرة المكلف وعدمها. ففي بعض الأحيان يفرق العلماء في باب النسيان بين ما يكون من باب الأحكام التكليفية وبين ما يكون من باب الأحكام الوضعية، فمثلاً: لو أن إنساناً نسي أو أخطأ أو جهل، فتارة يجب عليه الضمان، مع أنه لم يقصد ولم يتعمد، وتارة تسقط عنه المؤاخذة، وتارة يجمع له بين الإسقاط والمؤاخذة، فمثلاً: لو أن إنساناً يريد أن يقول لامرأته: أنت طالعة، فقال: أنت طالقة، فأخطأ في اللفظ، فهذا لا يؤثر، ويسقط عنه، وإذا ظهرت قرائن المجلس وآماراته على أنه لا يريد الطلاق فليست بطالق. وأما كونه يجمع بين الإسقاط والمؤاخذة فمن أمثلته: إذا رأى صيداً وأطلق النار عليه فأصاب إنساناً وقتله، فإن هذا من باب قتل الخطأ، فنقول: إن خطأه يوجب سقوط الإثم عنه، فلا نؤاخذه، ولا نقول: إنه آثم، ولا نوجب القصاص عليه؛ لأنه لم يتعمد قتل أخيه، ولكن نوجب عليه الدية ضماناً لهذه النفس، ونوجب عليه الكفارة؛ لأنه لم يخطئ فيقتل بالخطأ إلا وهو مقصر بعض التقصير، ومن هنا لو تحرى وتعاطى أسباب الحفظ لما وقع في الإخلال، فحينئذٍ أسقط عنه الشرع المؤاخذة فلم يقتص منه، وأوجب عليه المؤاخذة بوجوب الدية ووجود الضمان، ومباحث هذا مشهورة في كتب أصول الفقه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على محمد.

باب الهدي والأضحية والعقيقة [3]

شرح زاد المستقنع - باب الهدي والأضحية والعقيقة [3] من أحكام الهدي والأضحية: أنهما إذا تعينا لزمت فيهما أحكام، منها: عدم جواز بيعهما أو هبتهما، وعدم جز صوفهما إلا إذا كان أنفع لهما، وإن تعيبت المعينة فلها أحكام ينبغي معرفتها، وهناك أحكام متعلقة بحكم الأضحية وحكم التصدق بثمنها، والسنة في تقسيمها وتوزيعهما، وما يحرم على المضحي فعله إذا دخلت أيام العشر ونحوها.

أحكام تعيين الأضحية

أحكام تعيين الأضحية قال المصنف رحمه الله: [فصل: ويتعينان بقوله: هذا هدي أو أضحية، لا بالنية]. قوله: (يتعينان) تعين الشيء مأخوذ من العين، والعين في لغة العرب تطلق عدة معانٍ، منها: العين الجارية، ومنها: كقولك رأيت محمداً بعينه، أي: بذاته. والذي يشتري الأضحية له حالتان: الحالة الأولى: أن يشتري الأضحية وفي نيته أنها أضحية، وسوف يدعها في بيته أو حظيرته أو عند رجل، ثم بعد ذلك يذبحها، دون أن يقول: هذه أضحية، بل ينوي فقط، ولكنه لا يعينها، فقد تتغير نيته إلى ما هو أفضل منها، أو إلى ما هو دونها مما هو مجزئ، ففي هذه الحال إذا جاء وقت التضحية إن شاء ذبحها وإن شاء ذبح غيرها، أي: ليس بملزم بها بعينها؛ لأنه لم يلزم نفسه بذلك إلزاماً شرعياً، وهو التعيين. الحالة الثانية: قال بعض العلماء: إن اشتراها وفي نيته أنها أضحية تعينت. وهناك أحكام تترتب على قولنا: إنها تتعين، وقولنا: إنها لا تتعين. أولاً: إذا تعينت الأضحية، فحينئذٍ لو حدث بها عيب أو صار عليها عارض يمنع من إجزائها، فحينئذٍ يجوز أن يضحي بها مع كونها معيبة؛ وذلك لأنها تعينت ولزم ذبحها بعينها، بشرط: أن لا يكون ذلك بالتفريط، كما سنبينه إن شاء الله تعالى. ثانياً: لو حدث بها عيب، ويده يد أمانة وليست بيد ضمان، فإنه لا يلزمه البديل عنها، وهكذا لو ماتت، أو حصل لها عارض وماتت قدراً؛ فإنه لا يلزم بضمانها. وقوله رحمه الله: (ويتعينان) أي: الهدي والأضحية، فلو أن إنساناً قال: هذا هدي وهذه أضحية، واشترى شاة وقال لأبنائه: هذه أضحية، أو هذا هدي، فإنه قد تعيّن، بمعنى: أنه يلزم بذبحه هدياً، أو أضحية، وحينئذٍ اجتمع ظاهر الإنسان وباطنه؛ لأن التكاليف الشرعية يكون النظر فيها إما إلى باطن الإنسان ونيته، وإما أن ينظر إلى ظاهره الذي يتكلم به ويفعله، وإما أن يجمع بين الظاهر والباطن، فمثلاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن آخذ بظواهر الناس)، فلو قال رجل: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فنقول: إنه قد دخل في الإسلام، ولو كان يقصد من ذلك الكذب والخداع، وقد يكون منافقاً، لكن نحن نقبل منه الظاهر، لكن لو أن إنساناً حمل المصحف، ثم فعل به فعلاً فيه إهانة للمصحف ولكتاب الله، ولكنه لم ينو ذلك ولم يقصده، فحينئذٍ نقول: إذا لم ينو لا يحكم بكفره، وإن كان ظاهر الفعل يوجب التكفير، لكن لما كان فعله متردداً بين قصده وعدم قصده فينظر إلى القصد؛ لأن الأصل عدم استباحة الدم إلا بيقين أو غالب ظن، ولما صار متردداً بين القصد المخلّ وغير المخلّ نظر إلى نيته. فلو كان رجل يتكلم مع زوجته في سياق مودة ومحبة، وكان قد ربطها، فقالت له: هل انفك الحبل أم لا؟ فقال: أنت طالق، فحينئذٍ دلالة المجلس تدل على أنه لا يريد الطلاق، فهذا اللفظ الظاهر نلغيه وننظر إلى نيته، وأنه لم يقصد الطلاق، وبعض الأحيان ننظر إلى لفظه ولا ننظر إلى نيته، فلو هزل معها وضحك وقال لها: أنت طالق، فإننا نؤاخذه بالظاهر، لحديث: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد)، فالشرع تارة ينظر إلى الظاهر، وتارة ينظر إلى الباطن، وتارة ينظر إليهما معاً. فلما اشترى الأضحية احتمل أن يكون اشتراها هدياً أو أضحية، ولو اشتراها أضحية احتمل أن يبدلها بغيرها، واحتمل أن يصرفها إلى نوع آخر، كأن يشتري إبلاً فيستبدلها بغنم، أو يشتري غنماً فيستبدلها بإبل، كأن يكون له مال قليل، وفي نيته لو وسع الله عليه قبل الذبح فسيشتري بعيراً وينحره، فهذا نقول له: إنها لا تتعين إلا بقولك: هذه أضحية، وهكذا الحال بالنسبة للهدي؛ فلابد من النية واللفظ. وقال بعض العلماء: تجزئ النية دون اللفظ، فلو اشتراها وفي نيته ذبحها فإن ذلك يجزيه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).

حكم بيع الأضحية وهبتها بعد التعيين

حكم بيع الأضحية وهبتها بعد التعيين قال رحمه الله: [وإذا تعينت لم يجز بيعها ولا هبتها]. هذه المسألة فيها قولان: القول الأول: إذا قال: هذه أضحيتي، أو هذا هديي، لم يجز بيعها، والبيع أصله: مبادلة المال بالمال بالتراضي، سواء كان بنقد أو بغير نقد، فلو أتاه شخص وقال له: أبدل لي هذه الشاة بأخرى، والتي عنده ماعز وسيعطيه كبشاً بدلاً عنها، فحينئذٍ لا يجوز؛ لأنها تعيّنت أضحية، ولو قال له رجل: بكم اشتريت هذه الأضحية؟ فقال: بسبعمائة، فقال: سأشتريها منك بثمانمائة واذهب واشتر غيرها، فلا يجوز له أن يبيعها؛ لأن يده خلت عن ملكيتها وأصبحت لله عز وجل، وهذا كما لو أوقف وقفاً، فكأنه سبّلها لله عز وجل حينما قال: هذه أضحية. فمن فوائد التعيين: أنه لا يجوز بيعها، ولا هبتها؛ لأن يد الملكية خلت منه، كما لو أوقف المسجد فإن يده ترتفع عنه ولا يملكه. فلا يجوز أن يأخذ العوض عليها، ولا أن يصرفها في غير ما خصصها له، إلا في حالة واحدة، وهي: أن يبدلها بأفضل منها، وهذا على قولين: القول الأول: أنه إذا عيّنها وجب عليه أن يذبحها بعينها، فإذا أبدلها بما هو أفضل منها فإن الشرع في الأشياء التي ألزم الإنسان نفسه فيها صرفه إلى ما هو أفضل، ولذلك فمن نذر أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جاز له أن يذهب إلى مكة ويعتكف بها؛ لأن مكة أفضل، وفضيلة الألف التي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يجدها في مكة أضعافاً، فلو أنه حددها وعينها أضحية صرفت إلى ما هو أفضل منها. القول الثاني: أنها إذا تعينت لم يجز أن تصرف إلى ما هو أفضل منها، وهذا القول من القوة بمكان، ولذلك يحتاط الإنسان إذا عينها فإنه لا يصرفها، ولو أراد أن يتصدق بما هو زائد فإنه يضحي بغيرها معها.

حكم جز صوف الأضحية المعينة ونحوه

حكم جز صوف الأضحية المعينة ونحوه قال رحمه الله: [ويجز صوفها ونحوه إن كان أنفع لها ويتصدق به]. إذا تعينت الشاة فإن فيها بعض المسائل المشكلة، فإن اشتراها في وقت الذبح أو قبل وقت الذبح بيوم أو يومين فليست هناك مشكلة في الغالب، ولكن المشكلة فيما لو اشتراها في شوال مثلاً، وحينئذٍ يبقى السؤال في فوائدها وما ينشأ منها، وهي المنفعة التي تكون فيها، مثل الصوف واللبن، فإذا كان عليها صوف فإن كان بقاؤه فيه ضرر عليها فإنه يجز ويتصدق به، كما هو الحال في وجود الصوف على البهيمة زائداً على الحد المعروف، وبذلك يؤذيها ويضر بها من وجود الحشرات أو نحو ذلك، فحينئذٍ هذا شيء يختلف باختلاف الأحوال، ويرجع فيه إلى أهل الخبرة، فإذا قالوا: إنه لو بقي بها هذا الصوف أضر بها، ولا تستطيع أن تصبر شهراً بهذا الحال؛ لأن المكان يصبح موبوءاً بالدود والجراثيم؛ فجز الصوف فيه مصلحة للبهيمة، وإذا جز فإنه يتصدق به. وقال بعض العلماء: إذا كان النفع في النقود باع الصوف وتصدق بثمنه. أما بالنسبة للبن؛ فإن كانت هذه الناقة أو البقرة حملت وقد نواها هدياً، فلما وضعت صار فيها لبن فإنه يكون لولدها، ولذلك قال علي رضي الله عنه وأرضاه: (اسقه ولدها، وما فضل فهو لك). فجعل الفضل الزائد له، وهذا مبني على مسألة لطيفة: وهي أن اللبن يختلف عن الصوف، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الرهن محلوب ومركوب بنفقته)؛ لأن الناقة ستكلفك طعامها وعلفها، فبما تقوم به من إعلافها والقيام عليها كان لك فضل في الانتفاع بلبنها، هكذا يخرّجه بعض العلماء، فكأنها مرهونة عندك حتى تخرج لله عز وجل هدياً أو أضحية.

أجرة الجزار للأضحية

أجرة الجزار للأضحية قال رحمه الله: [ولا يعطي جازرها أجرته منها]. فإذا استأجر المضحي إنساناً لذبح الأضحية، فالسنة أن لا يعطيه منها شيئاً. وأما الذي توكله وتقول له: اذبح هذه الشاة عني، أو انحر هذه الناقة عني -كابنك مثلاً- فإنه حينئذٍ وكيل بدون أجرة، ولا إشكال في هذه المسألة. أما إذا استأجرت من يقوم بالذبح أو النحر، فلا تعطيه شيئاً من الأضحية، ولذلك قال علي رضي الله عنه: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بُدنه، وأن أتصدق بجلودها وأجلّتها، وأن لا أعطي الجازر منها شيئاً، وقال: نحن نعطيه من عندنا) أي: نعطيه نقوداً، وهذا يدل على أنه لا يجوز أن تصرف شيئاً من الأضحية للجزار، مع أن الجزار يقوم بتمام الطاعة والقربة من كونه ينحر ويذبح، والأفضل والأكمل أن تتولاها بنفسك؛ لما فيه من المشقة والتعب والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم.

حكم بيع شيء من الأضحية

حكم بيع شيء من الأضحية ثم قال رحمه الله: [ولا يبيع جلدها ولا شيئاً منها؛ بل ينتفع به]. فلا يبيع جلد الأضحية، ولا حتى لحمها ولا عظمها، ولا حرج عليه في أن ينتفع به، أو أن يتصدق به، أو أن يهديه، أما أن يبيعه فلا يجوز، ولا يصح البيع؛ والسبب في ذلك: أنه لا يملك الأضحية؛ لأنه لما ذبحها لله عز وجل تصدق بها، وحينئذٍ فلا يجوز بيع جلدها ولا شيء من لحمها، وإنما يتصدق به أو يهديه أو يأكله، لكن لو أعطيت المسكين من الأضحية، فذهب أمامك وباعها لشخص وأنت ترى، فهل يصح هذا البيع؟ A نعم؛ لأن هذا الفقير قد ملكها بالقبض، واختلفت اليد، فحرم عليك البيع وجاز له، ولذلك لما دخل عليه الصلاة والسلام على أم المؤمنين والقدر يغلي بلحم وهو يريد أن يطعمه، فقالت له أم المؤمنين: يا رسول الله! إنه لـ بريرة أي: صدقة تصدق بها على بريرة، وبريرة كانت أمة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل الصدقات، فقال عليه الصلاة والسلام: (هو لها صدقة، ولنا هدية)؛ لأنه يأكل الهدية عليه الصلاة والسلام. وهذا هو ما يسمونه: اختلاف اليد، ولذلك أخبر عليه الصلاة والسلام: أن المال الواحد يهلك به جامعه وينجو به آخذه، فتجد الرجل يجمع الأموال من الحلال والحرام، ويكون أكثرها من الحرام ثم يموت عنها، فيخلّفه الله ذرية صالحة ويأخذ ولده المال ثم يتصدق به؛ فيدخل به ذاك النار ويدخل به هذا الجنة. فاليد هنا قد اختلفت، ولو أردت أن تبيعه لم يجز لك؛ لكن إذا أعطيت المسكين وأخذه بيده فقد ملك، وجاز له أن يبيع وأن يعاوض. وهكذا بالنسبة لزكاة الفطر، فإذا أعطيته زكاة الفطر وباعها فلا حرج؛ لأنه قد ملكها بالقبض، ثم بعد ذلك إن شاء أكلها وإن شاء باعها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أغنوهم عن السؤال)، فكونه يأخذها ليطعم غناء له عن السؤال، وكونه يبيعها أيضاً غناء له عن السؤال، فلا حرج في ذلك.

أحكام الأضحية المعينة إن تعيبت

أحكام الأضحية المعينة إن تعيبت قال رحمه الله: [وإن تعيبت ذبحها وأجزأته]. أي: إن تعيبت الناقة أو البقرة أو الشاة التي عينها أضحية أو هدياً، صح وجاز له أن يضحي بها. قال: [إلا أن تكون واجبة في ذمته قبل التعيين]. فلو قال: لله عليَّ أن أضحي هذه السنة بشاة، فاشترى شاة، وقال: هذه أضحية -أي: عن النذر- فتعيبت، فحينئذٍ كونه يعينها للأضحية لا يسقط لزوم ذمته؛ لأن هذه الشاة التي يريد أن يضحي بها أو يريد أن يبرئ ذمته قد تعينت، فإنه ينصرف إلى غيرها؛ لأن ذمته مشغولة بالحق، أما لو اشتراها وقصدها وعينها بإذن الشرع وبإيجابه، فإنه في هذه الحالة إن عينها فلا إشكال أنها لو تعيبت لا يلزمه بديل عنها، أما لو كانت واجبة عليه من قبل، فإن عينها أو لم يعينها فذلك لا يؤثر في الأصل؛ لأن ذمته لا تبرأ إلا بكاملها، فليست مثل الأضحية التي كانت ذمته بريئة منها قبل التعيين، وحينئذٍ يقولون: يفرق بين كونها معينة فيما لا نذر ولا إلزام فيه، وبين كونها معينة بالنذر والإلزام. لكن بالنسبة لمسألة الضمان؛ فإن اليد في الشرع تنقسم إلى قسمين: فهناك يد تسمى في الشرع: يد الأمانة، وهناك يد تسمى: يد الضمان. فإذا أخذت شيئاً وهو للغير؛ فإما أن تكون يدك يد أمانة، فلا تلزم بضمان ذلك الشيء إن تلف، وإما أن تكون يدك يد ضمان فتلزم بكل حال، مثال ذلك: إذا قلت لشخص: أريد منك مائة ألف ديناً إلى نهاية السنة، فإذا قبضتها فيدك يد ضمان، بمعنى: أن هذه المائة ألف إن تلفت أو ربحت فأنت المسئول عنها، فلو أخذت المائة ألف ثم خرجت من عنده فسرقت، أو سقطت في نهر وغرقت المائة ألف وذهبت، فلا يضمن هو بل أنت الذي تضمن، ولو أنك اشتريت بها عمارة، ثم أصبحت قيمتها مليوناً، فأنت الذي تأخذ المليون، فكما أنك تربح فإنك كذلك تضمن الخسارة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان)، ويقول العلماء في هذه القاعدة المعروفة: الغنم بالغرم. أي: أنه يأخذ الربح والنتاج من الشيء من يضمنه، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى، فإن الذي يتحمل مسئولية الشيء هو الذي ينبغي أن يأخذ مصلحته وثمرته ومنفعته، فصاحب البستان يبيع الثمرة بمائة ألف وبمائتي ألف، ولو احترق البستان لضمن هذا المال، فكما أنه يتحمل الخسارة يأخذ الربح. إذاً: هذا النوع من اليد يسمى يد الضمان، وسواء وقع التلف والضرر بيدك وبما هو في وسعك، أو وقع خارجاً عن إرادتك بالأقدار، ففي الجميع تضمن. النوع الثاني يسمى: يد الأمانة، أي: أن تأخذ الشيء ولا تلزم بضمانه إلا إذا فرّطت فيه أو قصرت، مثاله: جاءك رجل وقال: خذ هذه السيارة وضعها أمانة عندك، فوضعتها في مكان وحفظتها، ثم شاء الله أن تنزل عليها صاعقة تحرقها، أو تعطلت مكينتها دون أن يحركها أحد، فأنت هنا لا تضمن شيئاً؛ لأن يدك يد أمانة ويد حفظ، فلا تضمن إلا إذا قصّرت، أما لو أخذت هذه السيارة وقال لك: ضعها عندك، فأخذتها وقضيت بها حوائجك، فأي تلف يقع في السيارة فإنك تضمنه، ولو كان بآفة سماوية؛ لأن اليد أصبحت يد أمانة عندما قصر؛ ولذا ألزم بعاقبة التقصير. فهناك يدان: يد الأمانة، وهي لا تضمن، كما هو الحال في الودائع، كما لو جاءك شخص وقال لك: ضع هذه الشنطة وديعة عندك، فأخذتها ووضعتها في الخزانة، وعملت كل الأسباب لحفظها، ثم جاء سارق وسرقها بطريقة ذكية، فإنك لا تضمن؛ لأن يدك يد أمانة، وأما لو أخذت هذه الشنطة وفتحتها؛ ضمنت، بل قالوا: لو حل الرباط الذي على الكيس في الودائع فإنه يضمن؛ لأن يده خرجت عن الأمانة والحفظ وأصبحت يد ضمان. فالفرق بين يد الضمانة ويد الأمانة: أن يد الأمانة لا تضمن إلا إذا فرطت، ويد الضمان تضمن بكل حال، ولما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة واستعار من صفوان رضي الله عنه وأرضاه أدرعه وما يريده عليه الصلاة والسلام لجهاده، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (عارية مضمونة)؛ لأنه سيستخدمها عليه الصلاة والسلام في الجهاد، فدل هذا على أن يد الأمانة لا تضمن إلا إذا فرطت. فهذه الشاة الأضحية قد أخرجها الشرع عن ملكه، وأصبحت كأنها منذورة لله عز وجل وتعينت، فلا يضمن إن تعيبت؛ لكن لو أنه فرط فيها فعرّضها للخطر حتى كسرت يدها، أو أصابها مرض، أو حصل بها ضرر؛ فأصبحت عرجاء بيّناً عرجها، أو مريضة بيّناً مرضها، أو أصبح فيها شيء من العيوب الأربعة التي ذكرها عليه الصلاة والسلام في الحديث المشهور -فإذا وقع بها واحد من العيوب المؤثرة فإنه يضمن؛ لأنه تعاطى أسباب الإضرار. فقوله عليه رحمة الله: (وإن تعيبت ذبحها وأجزأه) شرطه: أن لا يكون مقصراً، وأن لا يتعاطى أسباب الإضرار، فإن فعل ذلك فإنه يلزم وتكون مضمونة.

مسائل متفرقة في الأضحية

مسائل متفرقة في الأضحية

حكم الأضحية

حكم الأضحية قال رحمه الله: [والأضحية سنة]. الأضحية سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، على ما اختاره المصنف. وقال بعض العلماء: الأضحية واجبة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ذبح قبل الصلاة فشاته شاة لحم، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)، فأمر عليه الصلاة والسلام بالذبح، ولحديث: (من وجد سعة فليضح ومن لم يضح فلا يقربن مصلانا)، واختلف في إسناده، وحسنه بعض العلماء. وقال المؤلف رحمه الله: إنها سنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في إحدى الكبشين: (اللهم هذا عن محمد وعمن لم يضح من أمة محمد)، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى عمن لم يضح، فلا يلزم الإنسان أن يضحي، وفعل الأضحية إنما هو سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها.

حكم التصدق بثمن الأضحية

حكم التصدق بثمن الأضحية قال رحمه الله: [وذبحها أفضل من الصدقة بثمنها]. الأضحية فيها أمران: الأمر الأول: قيمتها، والأمر الثاني: عينها وذاتها، وعليه: فهل الأفضل أن يذبحها ويتصدق بجزء منها، أو يقدر قيمتها ثم يتصدق به؟ جماهير العلماء على أن الأفضل أن يشتريها ويذبحها، ولذلك بيّن المصنف رحمه الله أن ذبحها أفضل من التصدق بثمنها. وقال بعض العلماء: إذا كان الفقراء يحتاجون إلى المال أكثر، فإن هذا أفضل من التضحية بها، وهذا كله على القول بأنها سنة، أما لو قلنا: إنها واجبة؛ فلن نبحث عن الأفضل؛ لأنها واجبة عليه. والصحيح: أن الأفضل ذبحها، وهذا ما يقول عنه العلماء: إن التعيين للشيء الوارد في الشرع أفضل من المبهم غير الوارد في الشرع، فمثلاً: تلاوة القرآن في يوم الجمعة من حيث الأصل أفضل، لكن كون النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أكثروا عليَّ من الصلاة فيها) -صلى الله عليه وسلم- يدل على أن الأفضل يوم الجمعة أن يكثر الإنسان من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال بعض العلماء: الذكر الخاص في الزمان الخاص المندوب إليه أفضل من سائر الأفعال التي تأتي مطلقة، ومن هنا قال بعض العلماء: إن صلاة الظهر يوم التروية -الذي هو اليوم الثامن- بمنى أفضل من صلاتها في المسجد الحرام -على القول بأن المضاعفة تختص بالمسجد الحرام- لأنه إذا صلى الظهر بمنى أصاب السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكونه في اليوم الثامن صلى الظهر بمنى ولم يصل بالمسجد الحرام دل على أنه أفضل؛ فكونه عليه الصلاة والسلام في يوم النحر يذبح ولا يتصدق بالثمن يدل على أن الذبح أفضل من التصدق بالقيمة، ولو كانت قيمتها باهضة؛ لأنك لو ذبحت الشاة فقد تتصدق بشيء يسير منها ويجزيك ذلك، لكن لو أخذت القيمة كلها وتصدقت بها فإن هذا من ناحية الرأي والاجتهاد قد يكون أن الأفضل القيمة، لكن كونك تأتسي برسول الأمة صلى الله عليه وسلم، وكون أولادك وأطفالك يوم النحر يفيقون على هذه السنة، ويرون أن هذا اليوم من بين أيام السنة كلها هو الذي يذبح فيه، فيشعرون بحلاوة هذا اليوم ولذته، ويشعرون بالتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فإذن هناك أمور كثيرة ترجح -حتى ولو قلنا بالسنية- أن الذبح أفضل؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

السنة في تقسيم الأضحية بعد الذبح

السنة في تقسيم الأضحية بعد الذبح قال رحمه الله: [ويسن أن يأكل، ويهدي، ويتصدق أثلاثاً]. اختلف العلماء في تقسيم الأضحية: فبعض العلماء يقول: الأفضل أن تقسمها نصفين، نصف لك ونصف تتصدق به؛ لأن الله تعالى يقول: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28]، فجعلها نصفين تقسم بينه وبين الفقراء. وقال بعض العلماء: الأفضل أن تقسم ثلاثة أثلاث: ثلث لك ولأهل بيتك تفعل به ما تشاء، وثلث للفقراء، وثلث تهديه وتعطيه للأغنياء على سبيل المودة والمحبة، مثل أرحامك ومن ليسوا بحاجة، ولكنهم يأتون إليك يوم النحر من أجل أن يأكلوا عندك، أو تصل رحمك بها؛ لأن الله تعالى يقول: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36]، فالقانع هو الغني، والمعتر هو السائل الذي يأتيك من أجل فقره وقلة ذات يده، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير). وقال بعض العلماء: تقسمها أربعة أقسام؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كلوا وتصدقوا وأهدوا وادخروا)، فجعلها أربعة أقسام: ربع لك، وربع تتصدق به، وربع تدخره، وربع تهديه وتعطيه للغير. والأمر في هذا واسع؛ لأنه ليس هناك تأقيت معين، لكن المهم أن تجعل منها قسماً للفقراء ولو كان شيئاً يسيراً، ولو جمعت الأرحام والقرابة وفيهم فقير أو ضعيف، ونويت أنه يصيب من أضحيتك لفقره، فلا بأس، وهكذا لو أخرجت منها قطعة من اللحم وأعطيتها لجار فقير أو مسكين فلا بأس. والأفضل إذا تصدق الإنسان بالأضحية أن يبتدئ بقرابته، وهم أحق من تصرف إليهم الصدقات، وهم أحق من ذكروا خاصة في هذا اليوم؛ لأن الناس إذا رأوا قريبك الفقير ربما امتنعوا من إعطائه لكونك غنياً، ولذلك ينبغي أن يتنبه الإنسان إذا فتح الله عليه بالغنى أن يصرف صدقاته ونوافله -حتى الزكاة- لقرابته الذين يجوز صرف الزكاة لهم؛ كالأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأعمام وأبناء الأعمام، وبنات الأخوال وأبناء الأخوال، فهؤلاء يقدمهم الإنسان في الزكاة والصدقات والبر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ملكت حفصة رضي الله عنها رقبة، فأعتقتها -كما في الصحيحين- دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أنها أعتقت هذه الرقبة تقرباً إلى الله، كما قال تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد:11 - 13]، فقال لها صلى الله عليه وسلم: (لو أنك أعطيتيها لأخوالك -يعني: قرابتك- لكان أعظم في أجرك)، فهذا يدل على أن القريب أفضل، وينبغي أن تصرف إليه الزكوات والصدقات؛ لأن الناس إذا رأوك ثرياً فإنهم لا ينظرون إلى قرابتك إذا كانوا فقراء أو محتاجين؛ لأن الكل يقول: إنك ستعطيهم، فحينئذٍ يبقى هذا القريب بين نارين؛ فقريبه لا يعطيه، والناس لا يعطونه. وعلى هذا فإنه يتصدق بها على قرابته، ففي يوم العيد لو دعا قرابته على اختلاف طبقاتهم ونوى بذلك الصدقة والهدية فإنه مأجور في صدقته بصلة الرحم وأجر الصدقة. قال رحمه الله: [وإن أكلها إلا أوقية تصدق بها جاز وإلا ضمنها]. هذا قدر يستثنيه بعض العلماء: وهو أن يخرج منها ولو قدر الأوقية، فيخرجها ويتصدق بها والباقي يأكله، لكن إذا كان قد عينها ثم أكلها ضمن كلها؛ لأنه في هذه الحالة أخرجها عن الصدقات، ومما يقصد في ذبحها ونحرها أن يتصدق بجزء منها. وقوله رحمه الله: (ضمنها) يحتمل أمرين: يحتمل ضمان الأضحية، ويحتمل ضمان الأوقية، أي: أخرج قدراً كقدر الأوقية للفقراء؛ لأنه حق واجب عليه.

ما يحرم على المضحي فعله

ما يحرم على المضحي فعله قال رحمه الله: [ويحرم على من يضحي أن يأخذ في العشر من شعره أو بشرته شيئاً]. قوله رحمه الله: (ويحرم على من يضحي)، أي: يحرم على الشخص الذي يريد أن يضحي أن يقص شعره، أو يقلم أظفاره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمسن شيئاً من شعره ولا ظفره)، فنهى عليه الصلاة والسلام عن مس الشعر ومس الظفر، وفي هذا الحديث مسائل: المسألة الأولى: أن هذا النهي للتحريم. وقال بعض العلماء: بل هو للكراهة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يحرم على نفسه شيئاً إذا فتل قلائد هديه). والصحيح: أن هناك فرقاً بين الأضحية والهدي، فمن أراد أن يضحي فلا يجوز له أن يمس شيئاً من الشعر ولا الأظفار حتى يضحي. المسألة الثانية: أن هذا الحكم يختص بالشخص نفسه، ولا يشمل الذين يراد أن يضحى عنهم، فأبناؤه وبناته وزوجته ونحوهم لا يمتنع عليهم أن يقصوا ويقلموا أظفارهم؛ والسبب في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي)، ولم يقل: أو يضحى عنه، وإنما خص الحكم بمن يضحي بعينه، فيختص الحكم بمن يضحي ولا يشمل قرابته وأهل بيته. المسألة الثالثة: يشمل هذا الحكم شعر البدن كله: شعر الرأس، واللحية، والإبطين، وشعر اليدين، والساعدين. المسألة الرابعة: يشمل هذا الحكم الرجل والمرأة، فالمرأة إذا أرادت أن تضحي فلا تمس شيئاً من شعرها ولا ظفرها؛ وللعلماء رحمهم الله في ذلك علل، قال بعض العلماء: لأنه إذا ذبح الأضحية كاملة أعتقه الله من النار كاملاً، وهو أمر غيبي يحتاج إلى نص، ولا أعرف فيه نصاً صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمراد بالعشر: عشر من ذي الحجة، فإذا أهلّ هلال عشر ذي الحجة فإنه يمتنع عما ذكر. وقال بعض العلماء: لا يمتنع من قص الشعر والظفر إلا إذا اشترى الأضحية، بمعنى: أنه عندما يشتري الأضحية ولو في اليوم السادس أو السابع فإنه يمتنع عليه قص الشعر والظفر من حين شراء الأضحية؛ لأنه لا يكون فعلاً مريداً للأضحية إلا إذا كان هناك أضحية حقيقية، وهذا قول مرجوح. والصحيح: أنه يمتنع من كل شيء ببداية ذي الحجة إذا نوى؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل العشر وأراد أحدكم)، فقال: (أراد)، والإرادة معروفة، وهي: توجه قصد الإنسان للشيء، فإذا كانت عند الإنسان إرادة فإنه يمتنع، لكن لو كان فقيراً ودخل عليه هلال ذي الحجة وهو فقير أو مديون وليس عنده ما يشتري به الأضحية، فقال: لا أستطيع أن أضحي هذه السنة، فدخل اليوم الأول والثاني والثالث والرابع والخامس، ثم في اليوم السادس يسر الله له بمال يمكنه أن يشتري به الأضحية، فيمسك من اليوم السادس؛ لأنه لم يُرد الأضحية إلا حينما تيسرت له في ذلك اليوم.

الأسئلة

الأسئلة

الراجح في حكم الأضحية

الراجح في حكم الأضحية Q ذكرتم حفظكم الله خلاف العلماء رحمهم الله في الأضحية: هل هي واجبة، أم سنة؟ لكن ما هو القول الراجح، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فقد سبق بيان هذه المسألة، وبيّنا أن أصح قولي العلماء القول بوجوبها؛ وذلك لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (فليذبح أخرى مكانها) إلزام، ولذلك لما قيل له: (يا رسول الله! ليس عندي إلا عناق، فقال صلى الله عليه وسلم: تجزيك ولا تجزي غيرك)، فجعل الأمر فيه شيء من الإلزام، وقد كان بالإمكان أن يقول له: إن الأضحية ليست واجبة عليك، إن فعلتها فقد أحسنت، وإن تركتها فلا بأس، ولكنه قال: (تجزيك)، فكأن الأصل أنه ملزم بها، وقوله: (ولا تجزي غيرك) أي: أن غيرك إذا أراد أن يضحي فإنه ينبغي أن يتقيد بالسن المعتبر. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم هذا عمن لم يضح من أمة محمد)، وكونه عليه الصلاة والسلام يضحي عمن لم يضح، فهذا يحتمل أن يراد به حصول الفضل والأجر لمن لم يضح من أمته صلوات الله وسلامه عليه، ولا يقوى لصرف الأمر عن ظاهره الذي يدل على اللزوم والإيجاب. والله تعالى أعلم.

حكم ولد الأضحية المعينة

حكم ولد الأضحية المعينة Q إذا عيّنت الأضحية وولدت، فما حكم المولود، أثابكم الله؟ A قال بعض العلماء: إن الفرع تابع لأصله، فإذا كان قد عيّنها وهي حامل، فإن الجنين يكون تابعاً لأصله، وحينئذٍ فإنه يذبح، ولكن يبقى الإشكال: هل يذبح في عامه، أو ينتظر بلوغه إلى السن المعتبر؟ قال بعض العلماء: إنه ينتظر ولا يذبح، فيكون متعيناً بنفسه أضحية إلى أن يصل إلى السن المعتبر ويذبح. وقال بعض العلماء: إنه لا يكون أضحية إلا الشاة نفسها، وأما فرعها فلا يتبعها. وأصول الشريعة تقتضي أن الفروع تابعة لأصولها، ولكن هناك مسألة مشهورة في الضمانات والمعاوضات، وهي: النماء المنفصل والمتصل. فيقولون: الفرع تابع لأصله ما لم يكن منفصلاً، فالجنين من الفرع المنفصل لا من الفرع المتصل، ولذلك قالوا: إن الأضحية إذا كانت بحال عند الشراء، ثم أحسن طعامها وعلفها والقيام عليها، فبدنت وكملت، فحالها من النماء المتصل بها تابع لها، لكن حينما تلد، ويخرج منها الشيء كاللبن ونحوه، فإن هذا النماء يعتبر نماء منفصلاً، ولا يلزم بذبحه أو نحره أضحية. وهذه المسألة مترددة بين كونه يتبع أو لا يتبع، وإن كان قد صحح غير واحد من العلماء رحمهم الله أنه لا يتبع، وأذكر من بعض مشايخنا رحمهم الله من قال: يفرق بين أن يقع التعيين قبل الحمل، وبين أن يقع التعيين بعد الحمل، فإذا عيّنها وهي حامل، فمعنى ذلك أن التعيين على الشاة وعلى ما في بطنها، كما لو قال له: أبيعك هذه الجارية وهي حامل، فإن البيع يكون للجارية وللجنين الذي في بطنها، وأما إذا كان قد عينها قبل أن تحمل ثم حملت، فإنه يكون نماءً منفصلاً. وأنا متوقف في الترجيح بين القولين، وكل منهما له حظه من النظر. والله تعالى أعلم.

حكم من كان له أضحيتان

حكم من كان له أضحيتان Q إذا كان عند الإنسان بيتان، كل بيت في حي من الأحياء، ويريد أن يضحي لكل بيت أضحية، فمتى يجوز له أن يأخذ من شعره وأظفاره: هل بعد ذبح الأضحية الأولى، أم لا بد أن ينتظر حتى يذبح الأضحية الثانية، علماً بأنه سوف يضحي لكل بيت في يوم غير اليوم الذي ضحى فيه للبيت الأول؟ أثابكم الله. A الذي ألزم به الشرع أضحية واحدة، وهذا الذي يلزم الإنسان في أضحيته، ولذلك يتقيد المنع بالأضحية الأولى، فإذا ضحى الأضحية الأولى فإنه حينئذٍ يجوز له أن يقصر وأن يحلق ويقلم. وقال بعض العلماء: إذا نذر أن يضحي مائة، فإنه لا يفتك من ذلك إلا بتمام أضحيته. والقول الأول أقوى. والله تعالى أعلم.

حكم شراء لحم الهدي من الجزارين

حكم شراء لحم الهدي من الجزارين Q في يوم النحر يقوم بعض الجزارين وغيرهم ببيع لحوم الهدي وغيره، فهل يجوز شراء تلك اللحوم؟ أفيدونا بارك الله فيكم. A ذكرنا أن الفقراء إذا أخذوا اللحوم وباعوها للجزار ثم باعها الجزار فلا بأس؛ لأن الفقير يملكها بأخذها منك، ثم إذا ملكها إن شاء أكلها وإن شاء أخذ ثمنها؛ لأن الله جعلها طعمة له، فإذا نظر أن مصلحته في الأكل أكل، وإذا نظر أن مصلحته في البيع باع؛ لكن لا ينبغي على الفقراء أن يتوسعوا أكثر من اللازم، فإنهم إذا توسعوا وأخذوا الأمر أكثر مما هو عليه، فوصل الواحد منهم إلى حد الغنى وزاد، فلا يخلو أن يكون ماله سحتاً من هذا الوجه -نسأل الله السلامة والعافية- لأنه لا يستحق الطعمة، أما لو كان فقيراً، وعنده ذرية وعيال، وأراد أن يأخذ هذا اللحم ويبيعه ويستفيد من ثمنه، فقد رخص جماعة من أهل العلم رحمهم الله في ذلك؛ لحديث بريرة السابق ذكره، وقد ذكرنا أن اليد تختلف، وأنه أخذ بيد وباع بيد أخرى، أخذ باستحقاقه كفقير فملك، فلما ملك جاز له أن يصرفها بدلاً ومعاوضة، وجاز له أن يصرفها على نفسه كأن يطبخها ويأكلها. ولكن في هذه المسألة شيء يسمى: العمل بالظاهر، فالجزار إذا اشترى من الفقراء وأعطاهم حقوقهم، ورضوا ببيعها له، فظاهر ذلك الحل، ولا داعي أن يوسوس الإنسان ويتشدد ويتنطع في هذه المسائل، فإن التشدد والتنطع لا خير فيه، فكونه يدقق ويجلس يفحص ويمحص، هذا لا ينبغي، بل إن الإنسان يعمل على الظاهر، فإذا كان ظاهر الحال أن الذين جاءوه فقراء، واشتهر ذلك، وعرف أنه لا يأتيه إلا المستحق الضعيف ويبيعه للجزار، واشترى منه الجزار وأعطاه حقه، وكل انصرف بحقه؛ فالظاهر أنها مملوكة للجزار. والله تعالى أعلم.

متى يترخص المسافر برخص السفر

متى يترخص المسافر برخص السفر Q فضيلة الشيخ أثابكم الله! القاعدة الشرعية التي تقول: الغالب كالمحقق. هل يمكن أن نطبقها على من بداخل المطار وهو يريد السفر بحيث يستبيح رخص السفر من الجمع والقصر وغيره؛ لأن الغالب أنه مسافر، نرجو الإفادة، أثابكم الله؟ A أولاً: المسائل تختلف، فالشخص الذي يريد أن يسافر بالطائرة، فإذا كان المطار خارج المدينة فإنه يقصر الصلاة بمجرد خروجه من المدينة، فإذا وصل إلى المطار فإنه يجوز أن يصلي الأربع ركعات ركعتين؛ وذلك لأنه مسافر، وقد تحقق سفره بخروجه من المدينة؛ لأنه قد أسفر، وهكذا لو أراد أن يركب الباخرة، فإذا وصل إلى الميناء في طرف المدينة أو بعيداً عن المدينة، فإنه قد انقطع، وهكذا لو كانت البواخر على الرصيف، فإن الرصيف يبعد عن عمران المدينة؛ وحينئذٍ بركوبه الباخرة يصلي الرباعية ركعتين، ويستبيح رخص السفر، ويفعل ما يفعل المسافر؛ لأنه قد سافر، وكونه قد تلغى الرحلة أو تتأخر، هذا لا يؤثر؛ لأن الغالب والذي يقع على الظاهر أنه مسافر، كما لو خرج بسيارته فإنه يحتمل أن تتعطل السيارة، ويحتمل أن يحصل للإنسان عائق يمنعه من السفر، وقد تتعطل السيارة بالكلية فلا يسافر، فإذاً هذه ظنون، والظنون ليست بمعتبرة ولا مؤثرة في الغالب، ولهذا يمكن تطبيق هذه القاعدة؛ لأن الغالب كالمحقق، وللإمام العز بن عبد السلام رحمه الله كلام نفيس في كتابه (قواعد الأحكام ومصالح الأنام)، بين فيه رحمه الله أن العمل على الغالب، وأن الظنون الضعيفة لا يلتفت إليها. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

باب الهدي والأضحية والعقيقة [4]

شرح زاد المستقنع - باب الهدي والأضحية والعقيقة [4] نعم الله على عباده لا تحصى، والواجب هو شكر المنعم سبحانه، ومن تلك النعم: نعمة الأولاد، ومن شكر الله على هذه النعمة: ذبح العقيقة بعد الولادة، عن الذكر شاتان متكافئتان، وعن الأنثى شاة واحدة، تذبح عن المولود يوم سابعه، وبها يفك رهن المولود، وهي سنة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد عق عليه الصلاة والسلام عن الحسن والحسين رضي الله عنهما، وهناك أمور مستحبة ينبغي فعلها عند ذبح العقيقة.

أحكام العقيقة

أحكام العقيقة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: تسن العقيقة عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة]. شرع المصنف رحمه الله في بيان الأحكام المتعلقة بالعقيقة، ومناسبة هذا الفصل لما قبله: أن الهدي والأضحية تعتبر دماء مشروعة؛ شرعها الله سبحانه في مناسبات معينة وحالات مؤقتة، والعقيقة -وهي الشاة التي تذبح عن المولود ذكراً كان أم أنثى- إنما شرعت بسبب وجود الولد، فكأنها دم واجب بسبب معين، فأشبهت الهدي والأضحية، فكأن الهدي والأضحية والعقيقة تشترك في صفة معينة، وهي: كونها دماء شرعها الله سبحانه وتعالى في كتابه وبهدي رسوله صلى الله عليه وسلم في مناسبات معينة. - فالهدي يكون في زمان معين، ويكون في حال مطلق، وحال مقيد. - والأضحية تكون في زمان معين. - والعقيقة تكون بسبب معين؛ فكلها دماء شرعت لأسباب مخصوصة.

معنى العقيقة

معنى العقيقة يقول رحمه الله: (تسن العقيقة)، أي: من هدي النبي صلى الله عليه وسلم العقيقة. والعقيقة أصلها: الشعر الذي يكون على المولود. ومنه قول الشاعر: أيا هند لا تنكحي بوهةً كأن عقيقته عليه أحسبا والمراد بذلك: الشعر الذي يولد به المولود، ولذلك ذهب بعض أئمة اللغة -وهم حجة في ذلك؛ خاصةً وأن البيت مشهور- إلى أن العقيقة مأخوذة من شعر المولود؛ لأنه يحلق في سابعه، وفي ذلك حكمة عظيمة، وقد قرر الأطباء في عصرنا الحاضر: أن حلق رأس المولود فيه نفع عظيم لخصائص الشعر، فإذا مُرَّ بالموسى على جلدة الشعر فإن ذلك ينشط الشعر ويقويه، إضافة إلى أنه يقتل كثيراً من الجراثيم التي قد توجد على جلدة الرأس أو بين الشعر، ومن هنا قالوا: وصفت بكونها عقيقة لوجود هذا المعنى، فشعر الرجل وشعر المرأة يقوى إذا حُلِق في حال الصغر بعد الولادة.

حكم العقيقة

حكم العقيقة وقوله رحمه الله: (تسن العقيقة) هذا الحكم بكونها سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن ذبح العقيقة من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في حديث الحسن عن سمرة بن جندب رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام مرتهن بعقيقته؛ تذبح عنه يوم سابعه ويسمى)، فهذا يدل على مشروعية العقيقة. وقد اختلف العلماء هل هذه السنة واجبة أو مستحبة؟ فذهب طائفة من العلماء إلى أنها سنة مستحبة، وبه يقول الأئمة الأربعة رحمهم الله برحمته الواسعة، وقال بعض فقهاء الظاهر وينسب القول لـ داود إمام الظاهرية: إنها واجبة، ويلزم الإنسان الذبح عن مولوده؛ لحديث الحسن عن سمرة الذي رواه أصحاب السنن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام مرتهن بعقيقته)، فقوله: (مرتهن)، المراد به: أنه مرهون، والمرهون هو المحبوس، ولذلك قالوا في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] أي: مرهونة، فهي فعيلة بمعنى مفعولة، ورهينة بمعنى: محبوسة بما اكتسبت من الخير أو الشر، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل غلام مرتهن بعقيقته)، دلَّ هذا على أنها واجبة. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور؛ لأن هذا الحديث من باب الإخبار لا الإنشاء، والأصل براءة الذمة عن الوجوب حتى يدل الدليل على وجوبها، والأفضل والأكمل أن تذبح العقيقة.

الحكمة من مشروعية العقيقة

الحكمة من مشروعية العقيقة ذهب بعض العلماء إلى أن العقيقة شرعها الله لحكمة عظيمة، ففي قوله عليه الصلاة والسلام: (كل غلام مرتهن بعقيقته) أنه محبوس بها، ومن ثم اختلفوا في هذا الحبس؛ فبعضهم يحمله على حبس الشيطان، وقيل عنه: حبس عن الخير ومكارم الأمور وفضائلها؛ فلا تتم له مكارم الأخلاق وفضائلها في الغالب إلا إذا عق عنه، وظاهر الحديث: أنه أخبر عن أنه مرتهن، وأمر ذلك إلى الله، حيث لم يأت ما يفسره، والأمر محتمل، ولذلك قال بعض العلماء: إن العقيقة يرتهن بها المولود، والله أعلم بكيفية هذا الرهن. وهناك حكمة أخرى: فهذه الشاة أو الشاتان اللتان تذبحان في اليوم السابع للمولود فيها حكم من الناحية الاجتماعية، فإن ذبح هذه الشاة وجمع الناس عليها، خاصة إذا طبخت وأصاب القرابة وغيرهم منها، أو فرق لحمها على الناس -هذا الأمر يثبت الأنساب، ويعرف الناس بعضهم ببعض، ولذلك فإن أنساب الناس تثبت عن طريق العقيقة، فتحفظ أنسابهم ولا تضيع، ومن هنا كان النكاح أمره مشتهراً ولم يكن بالسر، والسفاح على عكسه، فلما كان الولد ناشئاً عن النكاح الشرعي؛ شرع إظهار هذا الخير وهذه النعمة، والفرح والسرور بها، وكذلك يصل الناس بعضهم بعضاً بهذه العقيقة، فيهنأ والده وأمه وقرابته، وفي هذا لا شك مزيد بِرٍّ من الخير والصلة، فيتواصل الأرحام، ويشعر الناس بالمحبة والألفة، وزيادة الأخوة، وقوة الروابط الأسرية والاجتماعية، وفي ذلك خير كثير.

انشغال ذمة الوالد بذبح العقيقة

انشغال ذمة الوالد بذبح العقيقة والمراد بقوله: (العقيقة) أي: جنس العقيقة، ولذلك فصل وقال: (عن الذكر شاتان وعن الأنثى شاة)، أي: يذبح عن الولد الذكر شاتان، وذلك أن الأصل في التكاليف الشرعية أنها توجه إلى الوالد حتى يدل الدليل على شغل ذمة الوالدة، والأصل أن الوالد هو القائم على البيت والمسئول عنه، والغنم بالغرم، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34]، ومن هنا وجب عليه الحق في تعلق الأمور التي تكون للأولاد به سلباً وإيجاباً، نعمة ونقمة، غرماً وغنماً.

كراهة بعض العلماء تسمية العقيقة بهذا الاسم

كراهة بعض العلماء تسمية العقيقة بهذا الاسم وقد كره بعض العلماء تسمية ما يذبح في السابع بالعقيقة، والصحيح جوازه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (كل غلام مرتهن بعقيقته)، بل ذهب بعض العلماء إلى تحريمه؛ لأن العقوق لا خير فيه، فكرهوا هذا الاسم. والصحيح أنه ما دام قد ثبت به النص فلا بأس بالتسمية ولا حرج فيها، وقال بعض العلماء: يقال لها: نسيكة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انسك نسيكة) و A أن هذا ورد في دم الفدية وليس في العقيقة، كما ثبت في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة، والتسمية بالنسيكة -وهي فعيلة بمعنى مفعولة، أي: منسوكة- إنما هو من باب الذبح، أي: أنها شاة مذبوحة، وهذا الاسم مطلق وليس بمقيد. فالصحيح أنه يجوز تسميتها عقيقة، ويقول الرجل: عققت عن ولدي، وهل عققت عن ولدك؟ ونحو ذلك؛ وذلك لثبوت الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ما يذبح من العقيقة عن الغلام والجارية

ما يذبح من العقيقة عن الغلام والجارية وقوله: (عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة؛ تذبح يوم سابعه). هذا هو مذهب الجمهور رحمهم الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36]، فالنعمة بالذكر ليست كالأنثى، وهذا من تفضيل الشرع، ولا يستطيع الإنسان أن يقدم في ذلك أو يؤخر، وما عليه إلا أن يسلم، وإن كان في النساء خير كما أن في الرجال خيراً، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (إنما هن شقائق الرجال)، وقد فضل الله بين أنبيائه، ولم يكن لهذا التفضيل بين الأنبياء منقصة لمن هو مفضول، فكذلك تفضيل الرجل على الأنثى ليس فيه غضاضة أو حط لقدر النساء، كما يتذرع به بعض الجهلاء لذم الإسلام وأهله، إنما هو حكم الله الذي لا يسع المؤمن ولا المؤمنة إلا أن يسلم به ويرضى، وقد حمل الله عز وجل الرجال أحمالاً وأعباءً ثقيلة لم يحملها النساء، والله يحكم ولا معقب لحكمه. وقد جعل الله سبحانه وتعالى هذه الأحمال والأعباء متناسبة مع خلقته، ثم جعل للنساء ما جعل من اللين واللطف وحسن الرعاية والحلم والرقة ما جبر به كسر الرجل حينما يصيبه ما يصيبه بسبب ما هو فيه من قوة الشكيمة والبأس، فالله تعالى بحكمته جعل الخلق على هذا التفاوت لكي يكمل هذا نقص هذا، ويجبر هذا بإذن الله كسر هذا. وأياً ما كان فإن الأنثى يعق عنها بشاة، وأما الذكر فيعق عنه بشاتين؛ لحديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها -وقد حسنه غير واحد من أهل العلم- في التفريق بين الذكر والأنثى. وقال بعض العلماء: يعق عن الاثنين بشاة شاة، واستدلوا بحديث الحسن عن سمرة المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام مرتهن بعقيقته). و A أن قوله: (بعقيتقه) إنما المراد به الجنس، أي: جنس العقيقة، بغض النظر عن العدد، وحينئذٍ فلا يقوى على الدلالة على أن الرجل يعق عنه بشاة واحدة، فالنعمة بالذكر ليست كالنعمة بالأنثى، ولذلك قال تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36]، وقد ذكر هذا في سياق الامتنان بعد الولادة، فدل دلالة ظاهرة على أنهما ليسا بمتساويين، ولذلك فرق بينهما من هذا الوجه، كما هو الأصل في تفريق الشرع في كثير من الأحكام والمسائل. فيسن أن يعق عن الذكر بشاتين وعن الأنثى بشاة، ولا يدخل فيها التشريك، بل لابد أن تكون شاتين منفصلتين، وعلى هذا فلا يعق مثلاً عن ثلاثة من الذكور ببعير، وينوى أن يكون عن ست شياه؛ وذلك لأن العقيقة يقصد منها إراقة الدم، وذلك بالذبح، وعلى هذا فلابد فيها من خصوص الشاة دون الاشتراك.

وقت ذبح العقيقة وتسمية المولود

وقت ذبح العقيقة وتسمية المولود قوله رحمه الله: (تذبح يوم سابعه)، أي: تذبح هذه العقيقة في اليوم السابع؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (تذبح عنه يوم سابعه)، وللعلماء في سابع الولادة وجهان: فمنهم من يقول: لا يحسب يوم الولادة، فإذا ولد في يوم الأحد فإنك تعتد بيوم الإثنين وما بعده، وحينئذٍ فيكون بعد تمام الثامن إذا حُسب يوم الولادة؛ لأنه هو يوم السابع حقيقة، فإذا جئت من حيث تمام السبع فتمام السابع بإلغاء يوم الولادة. وقال بعض العلماء: بل يوم الولادة محسوب فيها؛ لقوله: (يوم سابعه)، والإضافة تقتضي تقييد الحكم بالمضاف إليه، والمعنى: أن هذا اليوم وهو السابع مضاف إلى يوم الولادة، وعلى هذا فيكون يوم الولادة هو السابع. وفصلوا في هذا وقالوا: إذا كان مولوداً بالليل فإنه يحتسب من اليوم الذي بعده؛ حتى يتم السبع، وإن كان مولوداً بالنهار فكذلك، ولو كانت ولادته في آخر النهار فإنهم يعتدونه يوماً كاملاً على هذا المذهب، وكلا القولين له وجه، وإن كان القول الثاني أقوى، ومن عمل بأحدهما فإنه لا بأس ولا حرج عليه في ذلك. ثم قال رحمه الله: (فإن فات ففي أربعة عشر، فإن فات ففي إحدى وعشرين). فالعقيقة تذبح عن المولود في يوم سابعه، وتكون التسمية في اليوم السابع، ويحلق شعره في اليوم السابع، ويجوز أن يسميه في يوم ولادته، كما ثبت في صحيح البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمى إبراهيم وقال: (لقد ولد لي الليلة ولد سميته باسم أبي إبراهيم)، فهذا يدل على مشروعية التسمية في يوم الولادة، ولا بأس أن تسمي قبل الولادة، كما يقع في الكنية، فيقال للرجل: يا أبا عبد الله، ولم يولد له بعد، ثم إذا ولد سماه عبد الله. والتسمية من حق الأب، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى؛ وفيه أسوة حسنة، وتسمي المرأة إذا كان لها مولود أو مولودة وأرادت أن تسميه. وكان من عادتهم في الجاهلية أن يغلظوا أسماء الرجال ويخففوا أسماء النساء والموالي، فقال رجل يتعصب من صنيعهم في الجاهلية: إنكم تسمون مواليكم بأسماء رقيقة، وتسمون بها النساء، وتمسون أنفسكم بالأسماء الغليظة، فقد كان الرجل يسمى: كلب، وصخر، وذئب، ونحو ذلك من الأسماء الخشنة، فقيل للعرب: لماذا تسمون أنفسكم بالأسماء الخشنة، وتسمون الموالي بالأسماء الرقيقة كيسار ونجاح ونحوهما؟ فقال يجيبه: أسماؤنا لأعدائنا، وأسماء موالينا لنا. أي: إننا نتسمى بالأسماء الغليظة حتى تكون هيبة لأعدائنا، فإذا قيل: هذا ذئب، هابه العدو، وإذا قيل له: أسامة، هابه كذلك، ومثله: صخر وكلب ونحو ذلك. ثم إن الإسلام جاء بالهدي الأكمل والأفضل في التسمية، فخير الأسماء وأفضلها ما اشتمل على تمجيد الله عز وجل وتعظيمه وحمده سبحانه، كأن يسمي ابنه: عبد الله، أو عبد الرحمن أو عبد العزيز، ونحو ذلك من الأسماء الطيبة التي فيها تعبيد لله سبحانه وتعالى، ولا شك أن أفضلها عبد الله، ثم بعد ذلك التسمية بأسماء الأنبياء، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم)، فسماه باسم نبي، فاستحب العلماء التسمية بأسماء الأنبياء؛ كموسى وعيسى وزكريا ونحوهم من الأنبياء. ويستحب أيضاً التسمية بأسماء الصالحين، كما ثبت من حديث المغيرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كانوا يسمون -أي: الذين من قبلكم- بأسماء أنبيائهم وصالحيهم)، والحكمة من ذلك: قالوا: لأنه إذا سمى بأسماء الأنبياء والصالحين؛ فإن المولود إذا شب وكبر وقرأ سيرة هذا النبي، أو هذا الإمام الصالح، أو العالم الفاضل؛ فإنه يتأثر به ويتخذه قدوة، وهذا شيء جبلي، وأفضل من يسمى به بعد أنبياء الله ورسله أسماء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فإنه إذا قرأ سيرة الصحابي أحب أن يكون مثله، وأن يقتدي به، فتكون في النفوس نوازع إلى الخير، وتكون الأسماء مدخلاً للخير. والعكس بالعكس، فإن التسمية بأسماء الأشرار والفسقة والفجار تحمل على الفساد. وأما التسمية بأسماء الكفار فإنها محرمة؛ لما فيها من التشبه بهم، وخاصة إذا لم يعرفها المسلمون، سواء كانت في الرجال أو النساء، فإن بعض النساء لا يحرصن على التسمية بأسماء أمهات المؤمنين، ولا شك أنها مصيبة عظيمة حينما عزف بعض النساء عن التسمية بأسماء أمهات المؤمنين، فتجد المرأة المسلمة التي تؤمن بالله واليوم الآخر يقول لها زوجها: نسميها بـ فاطمة، وهي من أفضل نساء الجنة، وأحب النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يقول لها: نسميها بـ خديجة وعائشة، فإذا بها تتمعر ويتغير وجهها، وتحس أنها منقصة إذا سمت بهذا الاسم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. مع أن هذه البنت لو أنها تسمت باسم من أسماء أمهات المؤمنين لرجت أن تكون مثلهن في الاقتداء بالخير، والاتساء بهن في الطاعة والبر، ولذلك ينبغي على المسلمة والمؤمنة أن تحرص على الأسماء الصالحة الطيبة؛ كمريم، وأسماء أمهات المؤمنين، ونحوها من الأسماء الفاضلة التي تشحذ الهمم، لعل الله أن يجعل فيها قدوة وأسوة بمن سبقها من الصالحات. ويحرم التسمية بالأسماء المحرمة التي فيها تعدٍ لحدود الله عز وجل، كالأسماء التي فيها تعالي وعظمة على الله تعالى، حتى إن البعض قد يسمى -والعياذ بالله- باسم الله عز وجل، وهذا لا يجوز، ومن هنا قالوا في تفسير قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، قيل: إنه هو اسم الله الذي لم يتسم به أحد، و (هل) هنا بمعنى: لا، فالمراد بقوله: (هل تعلم له سمياً) أي: لا تعلم له سمياً، والمراد بالسمي من الاسم قيل: من المساماة، وهي المشاكلة والمضاهاة. وأيهما كان فإنه ينبغي البعد عن هذا. كذلك الأسماء التي تشتمل على أمور محرمة من الخنا ونحو ذلك من الفحش، فإنه لا يجوز التسمي بها، ولا لمز الناس بها، فإن هذا محرم. إذاً: تكون التسمية في اليوم السابع، وإن سمى في اليوم الأول فلا حرج، وفي كل سنة، وإن كان الذي استحبه بعض العلماء أن تكون التسمية في أول يوم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عجل في تسمية ولده. وعند الخلاف في التسمية فإن مرد الخلاف إلى الأب، وينبغي على المرأة أن تتقي الله عز وجل، وأن تحسن إكرام بعلها، وتحسن الأدب معه؛ لأن هذا مطلوب من النساء مع الرجال؛ فلا تسترجل المرأة، ولا تحاول البغي على زوجها أو الاستهتار باسمه الذي يختاره أو ينتقيه لولدها، إلا إذا تضمن أمراً محظوراً، أو تضمن أمراً فيه إساءة إلى الولد؛ كالأسماء المستبشعة، أو التي تحمل نوعاً من المنقصة؛ كأن يسميه باسم يطابق الحالة التي جاء عليها؛ لأن البعض يستعجل في التسمية فيسمي ابنه بأسماء بشعة، وقد يقصد منها أنه جاء على حالته، فهذا كله لا ينبغي؛ لأنه يؤذي الولد ويضره، حتى قال بعض العلماء: إذا سمى الوالد ولده باسم مستبشع، فجميع ما يترتب عليه من الأذية والإساءة عليه وزره؛ لأنه أعان على ذلك، وهو السبب فيه، فمن حق الولد على والده أن يحسن اختيار ما يناسب لتسميته، كما يحب ذلك لنفسه. والله تعالى جبل الآباء على رحمة الأبناء، وجبل الأمهات على رحمة البنات، فالواجب الإحسان إليهم بهذه الأسماء الطيبة، خاصة أسماء الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين. وقوله رحمه الله: (تذبح يوم سابعه، فإن فات ففي أربعة عشر، فإن فات ففي إحدى وعشرين). أي: تذبح العقيقة في سابع المولود، فإن فات السابع ففي رابع عشر، كما في حديث عائشة رضي الله عنها، وقد تكلم العلماء في سنده وإن كان قد حسنه بعض أهل العلم، وهم يقولون: إنه تبع للإيتار، فيجعل السبع الأول، فإن لم يتيسر ففي السبع الثانية، أي: الرابع عشر، فإن لم يتيسر ففي إحدى وعشرين، وهذا قد استحبه بعض العلماء، ولا ينبغي للإنسان أن يفوت السنة عن السابع، وخاصة إذا لم يوجد موجب النسيان في ذلك، فالبعض ربما يؤخر عن السابع لموافقته لوسط الأسبوع؛ فيختار أن يكون يوم الخميس أو الجمعة، فيؤخر عن السابع ويفوت على نفسه السنة، بل ينبغي أن يحرص على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يكون ذبحها في اليوم السابع.

صفة ذبح العقيقة

صفة ذبح العقيقة قال رحمه الله: [وتنزع جدولاً]. المراد بقوله: (وتنزع جدولاً) أن يكون قطعها من المفاصل، فإذا أراد أن يقطع اليد ابتدأ بمفصل الكتف، ثم ينتقل بعد ذلك إلى مفصل الساق، وهكذا، ولا يكسر العظم. وهذا مبني على حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها، والعلماء رحمهم الله يستحبون هذا من باب الفأل؛ لأن هناك ما هو فأل، وهناك ما هو تطير وتشاؤم، والفأل مشروع، والتشاؤم محرم، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الطيرة وقال: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر)، فهو إذا نزعها جدولاً كأنه يتفاءل بسلامة الولد، والفأل كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم يحبه الله، والسبب في ذلك الفأل: أن تحسن الظن بالله عز وجل، فربما تكون في هم أو غم أو كرب، فإذا بك تسمع إنساناً يقرأ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]، أو تسمع قارئاً يقرأ: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:25 - 26] فتتفاءل أن الأمر سيكون إلى خير. فإن كنت تخشى على شيء أن يصيبه ضرر فتسمع رجلاً ينادي رجلاً ويقول: يا صالح، فتتفاءل أن الله سيصلح لك ذلك الأمر، أو تكون في حالة تسمع رجلاً يقول كلمة تتناسب مع حالك مما هو خير، فهذا أمر مشروع؛ لأنه من حسن الظن بالله عز وجل، وقد جاء في الحديث كما في مسند أحمد وغيره -وأصله في الصحيحين- أن الله تعالى يقول: (أنا عند حسن ظن عبدي بي)، لكن هناك زيادة في المسند: (فمن ظن بي خيراً كان له، ومن ظن بي شراً كان له)، فقوله: (فمن ظن بي خيراً)، أي: تفاءل الخير، فإذا كنت تريد أن تخرج في سفر وسمعت رجلاً ينادي رجلاً بيسر أو سهل، فتحس بالسهالة، ولذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الحديبية لما أرسلت قريش من يتفاوض معه وكان ثالثهم سهيل بن عمرو قال: من؟ قالوا: سهيل بن عمرو، قال: (قد سهل أمركم) فتفاءل عليه الصلاة والسلام، وكان ما كان. وقد ذكر الإمام ابن القيم قصة عجيبة في هذا: وذلك أنه فقد أحد أولاده في موسم الحج، قال: فما زلت أسأل الله أن أدركه -ومعلوم كثرة الناس في الحج- قال: فإذا بي أطوف في البيت طواف الإفاضة -يوم النحر- وأنا أدعو الله أن يبلغني رؤية ولدي؛ فسمعت رجلاً يصيح بكلمة من الفأل فتفاءلت، فلم أدر أيهما أسرع صوت الولد وهو يصيح أم انتهاؤه من كلمته؟! فقد تفاءل بها خيراً، وأحسن الظن بالله، فإذا بولده يصيح، ولا شك أن هذا يزيد الإيمان؛ لأنه يحسن العقيدة في الله، بخلاف التشاؤم، فإنه -والعياذ بالله- يصرف العبد عن الله عز وجل، فتجده إذا أراد أن يخرج لعمل فرأى مشلولاً، أو ذا عاهة؛ تشاءم من ذلك اليوم وتطير منه، وإذا فتح باب دكانه للتجارة فجاءه إنسان مريض أو به عاهة؛ تشاءم وتطير، وقال: هذا يوم نحس، أو نحو ذلك، وهذا لا يجوز، وهو أمر محرم، وفيه شرك أصغر إذا اعتقد تأثير هذه الأشياء، وربما يصل به إلى الشرك الأكبر -والعياذ بالله- كما في حال ظن الغيب بزجر الطيور ونحوها، نسأل الله السلامة والعافية. إذاً: فنزع الكتف والمفاصل من الشاة من باب الفأل، ولا بأس به؛ لأن المقصود من العباد أن يخلصوا العبادة لله جل جلاله، ويوحِّدوا الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى إن أحسنت به الظن كان لك حسن الظن وفوقه مما لم يخطر لك على بال، فإذا أحسنت الظن بالله عز وجل فإن الله يلقيك من رحمته وفضله وإحسانه فوق ما ترجو وتأمل، ولذلك ينبغي للمسلم أن يتفاءل بالخير، وأن يحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، فإن هذا من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال رحمه الله: [ولا يكسر عظمها، وحكمها كالأضحية]. قوله: (وحكمها كالأضحية)، أي: من حيث السن، فإنه يختارها بالسن المعروف في الأضحية، فلا يجزئ ما كان دون الثني، ويجوز أن يعق بالجذع من الضأن، وقد فصلنا هذه المسائل وبيناها في باب الأضحية، فإذا أراد أن يعق عن ابنه أو ابنته فإنه ينبغي أن يكون في الشاة التي تذبح شروط: أولاً: أن تكون بالسن المعتبرة. ثانياً: أن تكون سالمة من العيوب، فلا يذبحها إذا كانت معيبة، ولا تجزئ المعيبة، وذلك على التفصيل الذي ذكرناه في الأضحية. ثالثاً: أن لا تسبق العقيقةُ السبب، فالسبب هو الولادة، فلو ذبح العقيقة قبل الولادة لم يجزئ، كما لو ذبح الأضحية قبل صلاة يوم النحر فإنها لا تجزئ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)، فتتأقت العقيقة بالسبب، فلا يُذبح قبلها، كما لو قال له الأطباء: سيأتيك ذكر، فذبح قبل ولادته شاتين، أو قال: سأذبح هاتين الشاتين، فإن كان ذكراً فهما عنه، وإن كانت أنثى فالثانية صدقة؛ فإن ذلك لا يجزئه، فلابد أن يكون الذبح بعد الولادة.

حكم التشريك في دم العقيقة

حكم التشريك في دم العقيقة قال رحمه الله: [إلا أنه لا يجزئ فيها شرك في دم]. قوله: (إلا أنه) استثناء، والقاعدة: أن الاستثناء إخراج لبعض ما يتناوله اللفظ، فلما بين أن حكمها كحكم الأضحية، فإن الأضحية يشرع فيها التشريك، والتشريك مأخوذ من الشركة، يقال: شَرْكة وشُرْكة وشِرْكة، مثلث الشيء، والتشريك من الشركة وهي: الخلطة والاجتماع وضم الشيء إلى الشيء، والمراد بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز لأصحابه يوم الحديبية أن يذبحوا البعير عن السبعة، فاشترك في الجزور سبعة، كما في حديث جابر رضي الله عنه وغيره، ومن هنا قالوا: يجزئ في الأضحية أن يشتركوا، وهذا قد وقع في الإحصار، فهو يجزئ في الهدي والإحصار والدم الواجب، ولو أن إنساناً في الحج كانت عليه سبع واجبات في حج وعمرة؛ جاز له أن يذبح بعيراً ويجزيه عن الجميع، لكن في العقيقة لا يجزئه إلا أن يذبح شاتين متكافئتين، وينبغي له أن يراعي تساويهما على ظاهر حديث عائشة رضي الله عنها، ولا تكون إحداهما أفضل من الأخرى.

حكم الفرعة والعتيرة

حكم الفرعة والعتيرة قال رحمه الله: [ولا تسن الفرعة، ولا العتيرة]. الفرعة من عادات الجاهلية، فقد كانوا يعتقدون في المولود الأول من البهائم عقائد خاطئة، ولذلك كانوا يذبحونه، ولهم فيه أحكام، فلا يحملون عليه، ويخدمونه، وكل ذلك من أمور الجاهلية التي نهانا الله عز وجل عنها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (لا فرع ولا عتيرة)، وهذا من باب رد أمور الجاهلية وإنكارها، فإن فعلهم هذا هو من تحريم ما أحل الله، فقد كانوا يحرمون أول النتاج مما أنتجته البهيمة، ولذلك عتب الله عليهم الافتراء عليه وتحريمهم لما أحل الله، واختلاقهم ذلك على الحنيفية ودين إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقد كانوا يفعلون العتيرة في رجب.

الأسئلة

الأسئلة

من ينوب عن الأب في ذبح العقيقة

من ينوب عن الأب في ذبح العقيقة Q إذا كانت العقيقة واجبة في حق الأب، فهل إذا كان ميتاً أو غائباً ينتقل الحق إلى الأم؟ A اختلف العلماء رحمهم الله فيما إذا مات الأب: هل الأم هي التي تعق أو العصبة؟ والذي يظهر والله أعلم من ظاهر أحكام الشرع: أن العصبة ينزلون منزلة الأب والجد، فيقدم في هذا الجد، فإنه يعق عن ولد ولده، ولذلك عق عليه الصلاة والسلام عن الحسن والحسين، ثم يأتي في الترتيب أبو الجد ثم أبوه وإن علا، ثم بعد ذلك الإخوة الأشقاء، والإخوة لأب، وأبناء كلٍ، وينظر بعد ذلك إلى الأعمام وأبناء الأعمام كل على حسب قرابته، فيقدم بالجهات ثم بالقرب، فالعصبات أولى بالعقيقة، ولذلك نجد في أحكام الشريعة أن الغرم المالي متعلق بالعصبات، ومن هنا قال الله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233]، فجعل الأمر راجعاً إلى العصبة، والعقيقة فيها شيء من الغرم، ومن هنا عندما تقع الجناية والقتل الخطأ فإن القرابة والعصبة من بني العم ونحوهم على حسب الرتب هم الذين يعقلون، كما هو قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيأتينا إن شاء الله في باب الديات. إذاً: هذا الأمر ليس مما تدخل فيه الأم، ولا يدخل فيه القرابة من جهة النساء والأرحام، وإنما هو مختص بالعصبة، كما هو الأصل في المواريث، ويكون من باب الغنم بالغرم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (الخراج بالضمان)، والله تعالى أعلم.

حكم التصدق بوزن شعر المولود ورقا أو ذهبا

حكم التصدق بوزن شعر المولود ورقاً أو ذهباً Q هل يجوز التصدق بوزن شعر المولود ورقاً أو ذهباً؟ A نعم، لا بأس أن يتصدق بزنته ذهباً أو فضة، وقد نص عليه جماهير العلماء؛ وذلك لظاهر الخبر عنه عليه الصلاة والسلام، وقد تكلم العلماء في سند الحديث، ولكن استحب العلماء هذا الفعل، وجرى عليه فعل طائفة من السلف رحمهم الله، والله تعالى أعلم.

الأفضل من ذبح العقيقة وطبخها أو التصدق بثمنها

الأفضل من ذبح العقيقة وطبخها أو التصدق بثمنها Q هل الأفضل أن تذبح العقيقة ويفرق لحمها، أم تذبح وتطبخ ويدعى لها، وهل يجوز التصدق بثمنها؟ A هذه المسألة يصعب فيها البت وأن يقال: الأفضل كذا، ولكن يقال: كل جائز، إن شاء ذبحها وقسمها على الفقراء والضعفاء، وهو على خير، وإن شاء طبخها وأطعمها ودعا إليها المسكين والمحتاج والقرابة وجمع بين الجميع. وبعض العلماء يفصل فيقول: إذا كان المسكين ينتفع بأخذ اللحم أكثر من حضوره فالأفضل أن تعطيه اللحم؛ لأنه يبقى عنده اليوم واليومين والثلاثة والأربعة، فهو أرفق بحاله وأصلح، ومن هنا يكون ذلك أعظم في الأجر، ومنهم من يقول: إن كان الأفضل العكس؛ كأن يصعب عليه طبخ الطعام، ويجد الكلفة والمؤنة؛ فالأفضل أن تدعوه إلى ذلك، ولكن هذا فيه صعوبة، فإن الإنسان لو نظر إلى طبخ العقيقة وإحسان الضيافة إليها، ودعوة القرابة، وجمع الشمل، وصلة الرحم، وأنسهم في البيت، وكونهم ضيوفاً على الإنسان، وما يحصل باجتماعهم من المحبة، بخلاف ما إذا بعث لكل إنسان بلحم؛ فإننا نجد أن دعوتهم إلى البيت أعظم وأكثر عناء، وأبلغ في الإكرام، وأدعى إلى المحبة والألفة، ومن هنا يقوى أن يقال: إن طبخها وتهيئتها للضيوف أعظم أجراً؛ لما فيه من المصالح خاصة القرابة. وبالنسبة للمساكين فالأمر قد لا يبعد أن يكون فيه تفصيل، والبت في هذه المسألة وأن يقال: الأفضل؛ أمر يحتاج إلى ضوابط معينة، وقد تكلم العلماء على ضوابط الأفضلية، ولكنها متداخلة هنا، فبالنسبة للفقراء الله أعلم بالأفضل، فقد يكون اختلاف الأحوال يدل على الأفضلية، بحيث يرغب المسكين أن يأخذها وأن يطعمها أولاده في الوقت الذي يشاء وبالطريقة التي يريد، فهذا قد يكون موجباً للقول بأن الأفضل أن تعطى للمسكين. والعكس بالعكس فمثلاً: لو كان من أناس لا يتيسر لهم أن يطبخوا ويكون عليهم في الطبخ مشقة وكلفة وعناء، فالحكم بالعكس، والله تعالى أعلم.

حكم الزيادة عن الشاتين في العقيقة

حكم الزيادة عن الشاتين في العقيقة Q هل له أن يزيد أكثر من شاتين، وهل له أن يعق ببقرة أو بدنة، أم أن الأمر لا يجزئ إلا بما ورد؟ A بالنسبة لأكثر من شاتين فليس من السنة، ولا ينوي الإنسان العقيقة بأكثر من شاتين، ولكن لو دعوت القرابة فإنك تنوي الشاتين عقيقة، وتنوي البقية صلة رحم، وأجرك في صلة الرحم أعظم، فإذا نويت بها صلة الرحم فإن أجر صلة الرحم أعظم، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين لما كانت عندها جارية وأعتقتها: (لو أنك جعلتيها في أخوالك لكان أعظم لأجرك)، فلا شك أنه في هذه الحال يكون أعظم أجراً. فتختص العقيقة بشاتين، والزائد ينويه صدقة، أو ينويه صلة للرحم على حسب ما يتيسر له. أما إذا أراد أن ينحر جزوراً أو بقرة فإنه لا يدخل التشريك في العقيقة، إلا إذا كانت أنثى وأراد أن يذبح عنها بقرة، فقد رأى بعض العلماء التخفيف في ذلك، ورأوا أن هذا زيادة على الواجب، كما لو تصدق بصدقة أعظم من الصدقة الواجبة عليه، ولذلك رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، ففي الحديث الصحيح: (أنه بعث رجلاً على الصدقات ليأخذ الزكاة، فانطلق إلى رجل من الأنصار بجوار المدينة، فسأله الصدقة، فقال له: ليس عندي إلا ما هو أفضل، فقال: لا آخذه منك، إنما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ كذا وكذا -يعني: لم يأمرني أن آخذ هذا ولو أنه أفضل، فامتنع من أخذها- فانطلق الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكى إليه، فأمر الساعي أن يأخذها)، قالوا: فهذا مال واجب، ومع ذلك تصدق بما زاد عن الواجب في الزكاة التي هي من الفرائض والأصول المعينة، والدماء والبهائم عينت وحددت أسنانها، أعني: الواجب منها، ومع ذلك رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخذ الزائد، فدل هذا على جواز ذبح ما زاد في العقيقة ونحو ذلك، والله تعالى أعلم.

ضعف ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عق عن نفسه

ضعف ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عق عن نفسه Q هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عق عن نفسه وهو كبير؟ A لا أحفظ في هذا نصاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون هناك أخبار ضعيفة لم يصح سندها، فلا أحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنداً صحيحاً أنه فعل ذلك أو أخبر عنه، وقد ذكر بعض أهل السير هذا الأمر، والسير فيها تسامح، وفيها أشياء لم توثق أخبارها، لكن لم يثبت شيئ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا.

عقيقة الخنثى

عقيقة الخنثى Q إذا كان المولود خنثى فهل يعق عنه بشاة أم بشاتين؟ A الخنثى له حالتان: الحالة الأولى: أن يتميز حاله؛ فحينئذٍ يكون له حكم ما تميز، فإن تميز ذكراً فهو ذكر، وإن تميز أنثى فهو أنثى. الحالة الثانية: ألا يتميز؛ فإنه يحكم بكونه أنثى، وهذا أصل نص عليه جماهير العلماء رحمهم الله، فقد نصوا على أن الخنثى حكمه حكم الأنثى؛ لأن الأصل واليقين أنه أنثى حتى يستيقن ما هو أعلى، وهذا مبني على القاعدة الشرعية: اليقين لا يزول بالشك، ولذلك يقولون: يعطى الأقل؛ لأنه يقين، حتى يثبت ما هو أعلى، وهو أصل مطرد في كثير من المسائل، والله تعالى أعلم.

حكم الاستدانة للعقيقة

حكم الاستدانة للعقيقة Q هل للأب أن يستدين من أجل العقيقة؟ A الاستدانة من أجل الأضحية والعقيقة لا بأس بها، لكن كونه واجباً عليه فهو ليس بواجب، أما إذا أراد أن يستدين ويتحمل الدين ثم بعد ذلك يقضيه، خاصة إذا وثق بوجود راتب أو صفقة، أو رجا مالاً يقضيه من دين له على إنسان ونحو ذلك، فإنه لا بأس، وأحب أن يصيب الخير والبر ويصل رحمه؛ فلا بأس في ذلك، والله تعالى أعلم.

حكم ذبح الأضحية بعد اليوم الحادي والعشرين

حكم ذبح الأضحية بعد اليوم الحادي والعشرين Q إذا فات الذبح في السابع فإنه يذبح في رابع عشر، وإن فات ففي واحد وعشرين، فهل له أن يبني على ذلك سبعاً سبعاً أم في أي يوم بعد واحد وعشرين؟ A اجتهد العلماء في هذه المسألة وليس فيها نص معين، وأنا لا أرى فيما بعد الواحد والعشرين حداً معيناً، أي: لا أحفظ فيه شيئاً مبنياً على أصل شرعي، ولذلك أتوقف في الحكم فيه حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين، والله تعالى أعلم.

حق تسمية المولود

حق تسمية المولود Q هل تسمية المولود حق للأب أم للأم أم للكل؟ A أما لو كان للكل فهذه مشكلة ومصيبة، ففي بعض الأحيان قد يسمى المولود باسمين، اسم داخل البيت واسم خارجه، فإن اشتجروا فيجعلون اسم الأم في البيت، واسم الأب خارج البيت، وهذا يقع في بعض الأعراف، فيجعلون اسم اللطف في داخل البيت خاص بالابن، ثم يكون له اسم في الخارج أمام الناس، هذا إذا كان قد حصل شيء من سوء التفاهم بين الزوج والزوجة. لكن الأصل أن المرأة تتأدب مع زوجها، وقد كان النساء يحسن الأدب مع الأزواج، وكان الرجل يشعر بقيوميته، والمرأة بلينها وحنانها وعطفها تشمل الرجل، ولم يعرف الاسترجال في النساء إلا من قريب حينما لقن بنات المسلمين أن تقف المرأة في وجه أبيها، فتراجعه في نكاحها، وتستطيل عليه في رأيها، وقد يسمون هذا من حقوق المرأة، وهذا فيه جر ويلات عظيمة، ولربما حصل الطلاق وتشتت الأسر بتعليم البنات الاسترجال، وحقوق المرأة المرأة لها حق لكن في داخل الإطار الشرعي، لذلك تقول المرأة الحكيمة لبنتها: كوني له أمة يكن لك عبداً. أي: أنك إذا أحسنت اللطف مع زوجك، وأصبحت كما أنت بفطرتك وجبلتك من اللين والرقة والأنوثة الكاملة الفاضلة المبنية على الحياء والخجل والاحتواء للرجل؛ فإن الرجل يشعر بكونه رجلاً، ويشعر أنه قائم على البيت، ولذلك فإن المرأة التي تسترجل على زوجها وتغالطه في الأمور، وتكثر التعنت عليه في المسائل، تأتي في زمان وتعض على أصابع الندم حين لا ينفعها الندم، وتتألم حين لا ينفعها الألم؛ ولذلك فإن المرأة لا يصلحها إلا كمال الحياء والخجل. وقد كانت النساء يوم كانت البيئات المسلمة محافظة بعيدة عن هذا الدخَل كانت المرأة ربما بلغت سن الخامسة عشرة فتتزوج ولا تعترض أبداً، ولا تفتح لها فماً على أبيها، وتزوج الرجل ابن أربعين سنة ولا تعترض على أبيها، ويجعل الله لها من الخير والبركة وحسن الذرية، وحسن العاقبة، فيجد ذلك الرجل كبير السن فيها خيراً عظيماً، وهذا -طبعاً- إذا أعطاها حقها، وأقام ببيته كما ينبغي، ونحن لا نقول هذا الكلام ويفهم منه ظلم النساء، وإنما نقول: في الحدود الشرعية، ونحكي شيئاً وقع وجرى، وكنا نألفه إلى عهد قريب؛ فما كانت المرأة تراجع أباها ولا تقف في وجهه، أما اليوم فإنها قد تقول له: أنت تتدخل في مستقبلي، وتدمر حياتي، وأنت وأنت. فتضيق عليه، وتؤذيه وتعنته، حتى ينزع الله البركة منها في أي زواج بعد ذلك، ولذلك تتدمر البيوت، وتتشتت الأسر باسترجال النساء، والمرأة الحكيمة العاقلة الفاضلة عندما تشعر بأنوثتها وبقوة الرجل، تحاول بحكمتها وعقلها وبما وضع الله فيها من البصيرة أن تكون المرأة الحكيمة التي تحسن التدخل في الأمور حيث يصلح التدخل، فتستقيم أمور البيوت، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن المسترجلات، قال بعض العلماء: ومن الاسترجال كون المرأة تعنت الرجل وتقف معه في كل صغير وكبير، حتى إن بعض النساء يسألن أزواجهن عن كل دقيقة خارج البيت؛ بل بعضهن يتدخلن حتى في الأمور الخاصة التي تكون بين الرجال بعضهم مع بعض، وتبدي رأيها في هذه الأمور، وهذا كله استرجال وخروج بالمرأة عن المنهج السوي الكامل. إذاً: متى يختلف الرجل والمرأة؟ يختلفون حينما لا تدري المرأة أين تضع لسانها، فتتدخل في الأمور، وتحاول أن تكون هي سيدة البيت، والقائمة عليه، وكذلك إذا أساء الرجل إلى المرأة، فأصبح يتدخل في أمورها، ويؤذيها ويضطهدها ويظلمها، فإن هذا ينشأ عنه أذية لها، فينبغي العدل والقسط الذي أمر الله عز وجل به. فإذا أراد الرجل أن يسمي ابنته رجع إلى زوجته وشاورها، وأدخل السرور عليها؛ وإذا كان الخلاف على شيء يسير تافه فيحتمل طيب خاطر زوجته، ويجعلها هي التي تسمي ابنته ويكرمها ويتم لها فرحتها، ويقدر منها أنها الوعاء الذي حمل، والثدي الذي سقى، والحجر الذي حوى، وأن منها العناء والمشقة، وبذلك يكون قد احتواها بحنانه ولطفه، وكان خير بعل لزوجته، وتذكر وصية النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله)، فالأمور لا تستقيم إلا بالعدل الذي أمر الله به، فالرجل يبذل الحنان واللطف، والمرأة أيضاً تبدي من جانبها الضعف والانكسار أمام الرجل، أما أن تتعنت وتصبح واقفة في وجه زوجها حتى في الأسماء، فلا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فسميته باسم أبي إبراهيم)، فلم يشاور نساءه، ولم يأت إلى مارية ويقول لها: ماذا نسميه؟ مع أنها أمه. فهذا يدل على أن للرجال حقاً، وأن المرأة ينبغي أن تعرف أين مكانها، وإذا استقامت النساء على هذا الأساس واستقام الرجال على العطف والإحسان والإكرام للنساء والقيام بحقوقهن؛ فستستقيم بيوت المسلمين، أما إذا أصبحت المرأة تسترجل، وتدعي أن لها الحق في كل صغير وكبير حتى في الأسماء، وربما عيرت الرجل أمام أولاده وقرابته، فإن هذا لا ينبغي. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعيذنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يصلح أحوالنا إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

حكم ذبح الرجل العقيقة عن نفسه بعد الكبر

حكم ذبح الرجل العقيقة عن نفسه بعد الكبر Q لم يعق والدي عني، فهل لي أن أعق عن نفسي بعد الكبر؟ A يقول بعض العلماء: إن العقيقة تفوت إذا فات وقت ذبحها، وكما ذكرنا أنهم لا يرون ذلك بعد الواحد والعشرين، وبعض العلماء يرى أن للكبير أن يعق عن نفسه إذا علم أن والده لم يعق عنه؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام مرهون بعقيقته) قالوا: فيشرع له أن يفك رهنه، ولكلا القولين وجهه، والله تعالى أعلم.

حكم من عق بشاة ثم ألحق بها أخرى

حكم من عق بشاة ثم ألحق بها أخرى Q إذا لم تتوفر إلا شاة عن الذكر فإنه يؤديها، ولكن إذا توفرت فيما بعد أخرى فهل له أن يلحقها بالأولى؟ A هذا فيه التفصيل الذي تقدم، فإن تيسر له الوجدان قبل استتمام العدد -عند من يحد بالزمان- فإنه يشرع له أن يذبحها؛ لأن المراد أن يحصل الذبح وإراقة الدم قربة لله عز وجل، فالمقصود يتحقق إذا كان داخل الزمان المعتبر، وأما إن جاوز الزمان المعتبر، فعند من يمنع بعد استمام الأمد فإنه تجزيه الشاة الأولى، وأما الثانية فهي صدقة من الصدقات، والله تعالى أعلم.

حكم العق عن السقط

حكم العق عن السقط Q هل يعق عن السقط سواء نفخ فيه الروح أم لا؟ A السقط إذا لم ينفخ فيه الروح فإنه لا يعامل معاملة الكامل، وأما إذا نفخت فيه الروح واستتم المدة، فقال بعض العلماء: يعق عنه، وقال بعضهم: لا يعق عنه إلا إذا ولد واستهل صارخاً؛ لأن الأصل أنه متعلق بالولادة، والقول الثاني هو الأقوى؛ لأن العبرة بولادته حياً، وأما إذا لم يولد حياً فإنه لا وجه للعق عنه، والله تعالى أعلم.

صحة حديث (أعلنوا النكاح.

صحة حديث (أعلنوا النكاح ... ) Q جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف، واجعلوه في المساجد)، فهل هذا حديث صحيح؟ A الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بإعلان النكاح وإشهاره في أكثر من خبر، ففي رواية: (واضربوا عليه بالدفوف)، وفي رواية: (واضربوا عليه بالغربال)، والمراد بذلك: الدف المعروف الذي يكون من جلد البهيمة، ولا يكون بآلات العزف التي فيها الفتنة، ويتقيد بهذا النوع المعروف المشهور من (الطِّيران) ونحوها التي تكون من جلد البهيمة، وليس فيها فتنة بالضرب عليها كالزير ونحوه. وقصد الشرع من هذا: أن يفرق بين الحلال والحرام، والسفاح والنكاح، ومن هنا لم يجز أن يستكتم الشهود الخبر، فلا يجوز لأحد أن يقول لشهود النكاح: لا تخبروا أحداً، فإنه لو عقد على هذا الوجه فإنه يسمى: نكاح السر، وكان عمر رضي الله عنه إذا رفع له نكاح السر جلد الولي والشهود على ذلك؛ لأنهم يخالفون شرع الله من إعلان النكاح، والسنة في إعلان النكاح هو إشهاره وإظهاره حتى تثبت الأنساب، وتحفظ الحقوق، ويكون في ذلك جمع شمل الناس لحصول الوليمة، كما قال صلى الله عليه وسلم لـ عبد الرحمن بن عوف: (أولم ولو بشاة)، والله تعالى أعلم.

صيام الورثة عن الميت

صيام الورثة عن الميت Q إذا كان على الميت صيام شهرين، وذلك لقتله مسلماً خطأً، فهل يُلزَم الورثة بصيام هذين الشهرين؟ أثابكم الله. A اختلف العلماء رحمهم الله في الصوم عن الميت: فقال بعض العلماء: لا يصوم الحي عن الميت مطلقاً. وقال جمهور العلماء: يصوم الحي عن الميت من حيث الجملة. وهو الصحيح؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس في الصحيح لما سألت المرأةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمٍّ لها ماتت وعليها صوم نذر، فقالت: (يا رسول الله! أفأصوم عنها؟ قال: أرأيت لو كان على أمك دَين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فدَين الله أحق أن يُقضى)، فأمرها عليه الصلاة والسلام بالقضاء، والصوم صوم نذر. واختلف العلماء الذين يقولون بالمشروعية: فمنهم من يقول: يختص القضاء بالنذر، ولا يقاس عليه غيره؛ لأنها عبادة بدنية، والأصل في العبادات البدنية ألا يقوم مكلف عن مكلف، وأنها تجب عيناً؛ كالصلاة، فإنه لا يصلي أحد عن أحد، ولو مات وعليه صلاة فلا تقبل عنه الصلوات؛ لأنها عبادة بدنية والصوم مثلها. وقال بعض العلماء: إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء لهذه المرأة رُكِّب على علة، وهي قوله: (أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟)، فدل على أن العلة كون ذمة الميت شغلت بهذا الحق. وهذا هو الصحيح، وهو أن الصيام الواجب يُشرع قضاؤه من الورثة. والله تعالى أعلم.

الحكم إذا نسي الإمام سجدة

الحكم إذا نسي الإمام سجدة Q إذا نسي الإمام السجدة الثانية ثم تشهد وسلم، ثم أُخبر بالنقص، فماذا يصنع الإمام في هذه الحالة؟ وماذا يصنع المسبوق؟ A أما بالنسبة للإمام فإن فاتته السجدة الثانية من الركعة الأخيرة وتشهد ثم سلم ناسياً، وسبح له الناس أو نبهوه على الخطأ، وعلم أنه قد انتقص من الركعة الأخيرة سجدتها الأخيرة، فالحكم أنه يستقبل القبلة ويسجد السجدة الأخيرة، ثم يتشهد ثم يسلم ثم يسجد بعد السلام سجدتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر أنه سلم من اثنتين في الرباعية الظهر أو العصر، استقبل القبلة عليه الصلاة والسلام وأتم الركعتين ثم سلم ثم سجد بعد السلام. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

أسئلة وأجوبة في الحج

شرح زاد المستقنع - أسئلة وأجوبة في الحج

حكم من حج وهو صبي ثم بلغ

حكم من حج وهو صبي ثم بلغ Q شخص حج وهو صغير، لكنه بعد البلوغ شك في حجه، هل هو صحيح أم لا، فهل يسقط عنه الحج بهذه الحجة أم يعيدها، أرجو التوضيح أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن حج الصغير لا يجزيه عن حجة الإسلام، فإذا حج قبل أن يحتلم فإن حجه نافلة، ولا يجزئ عن حج الفريضة، ولذلك يطالب بإعادته بعد البلوغ. والله تعالى أعلم.

جواز قراءة القرآن حال السعي والطواف

جواز قراءة القرآن حال السعي والطواف Q هل يجوز قراءة القرآن حال السعي بين الصفا والمروة والطواف بالكعبة، أثابكم الله؟ A لا حرج في قراءة القرآن في الطواف والسعي، والسنة أن يدعو؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا، فإن قرأ القرآن فلا حرج، ولكنه إذا دعا وسأل الله من فضله تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم فذلك أبلغ في الاقتداء والائتساء. والله تعالى أعلم.

جواز الحج عن الغير مع نية التجارة

جواز الحج عن الغير مع نية التجارة Q إذا حججت عن امرأة متوفاة، وذلك مقابل مبلغٍ من المال، فما هي صيغة الدعاء لها؟ وهل يجوز لي أن أعمل بسيارتي بالإضافة للحج عنها، أثابكم الله؟ A ليست هناك صيغة معينة للدعاء، فيدعو الإنسان للميت دعاءً مطلقاً، ويدخل في هذا الدعاء ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من سؤال الله العفو والمغفرة له (قال: يا رسول الله! هل بقي عليَّ من بري لوالدي شيءٌ أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما). فالدعاء مطلق، وأما ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام من دعائه أبي سلمة حينما دخل فسمع أهله يصيحون لما قضى، فقال: (لا تدعوا على أنفسكم فإن الملائكة يؤمنون، ثم قال: اللهم اغفر لـ أبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، اللهم أفسح له في قبره ونور له فيه)، فإذا دعا الإنسان لوالديه أو دعا للميت، فيقول: اللهم اغفر لفلان، اللهم اغفر لفلانة، اللهم ارفع درجتها في المهديين، اللهم ارفع درجته في المهديين، واخلفها في عقبها في الغابرين، واغفر لنا ولها يا رب العالمين، وأفسح لها في قبرها ونور لها فيه. فهذا الدعاء يثاب صاحبه؛ لأنه تأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أرجى للإجابة؛ لما فيه من الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والائتساء به، وهكذا الدعاء له بالمغفرة العامة لذنوبه صغيرها وكبيرها، والتجاوز عنه ورفع درجته، إلى غير ذلك من الأدعية المطلقة، فلا حرج فيه، فإذا حج الإنسان عن ميت دعا له واستغفر له وترحم عليه، وخاصة في مواطن ومظان الإجابة. أما إذا حججت عن إنسان وأردت أن تعمل بسيارتك في الحج، فالصحيح أن الحج لا يمنع التجارة، لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198]، فإنها نزلت فيمن يريد الحج والتجارة، وهذا يدل على أنه إذا كانت نية العبادة هي الأصل، ونية الدنيا تبعاً، فإن ذلك لا يؤثر، ومن أمثلتها: إذا درس الطالب على أساس أن يكون موظفاً وينتفع بدراسته، فإنه إذا نوى أن يطلب العلم لنفسه ثم بعد ذلك ينتفع بمصلحة الدنيا فلا حرج؛ لأن الله تعالى يقول: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198]، فجعل نية الدنيا تبعاً لنية الآخرة، ولم يؤثر في الحج أن يكون قصد من ورائه التجارة، وعلى هذا فإنه لو سأل الله الرزق بسيارته أو دابته أو بنفسه، أو اشتغل في حمل متاع أو نحو ذلك، فلا حرج عليه، وهكذا إذا صنع طعاماً، ولكن لا يشغله عن المقصود الأهم من ذكر الله عز وجل وإقامة شعائره في حجه. والله تعالى أعلم.

معنى حديث: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)

معنى حديث: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) Q نرجو توضيح قول النبي صلى الله عليه وسلم فيمن تقبل الله حجه: (رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) أثابكم الله؟ A هذا الحديث يدل دلالة واضحة على أن من حج ولم يرفث ولم يفسق، وكانت نيته خالصة لوجه الله عز وجل، وأعطى لهذه العبادة حقها، وأقام لها حقوقها، فإنه يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، بلا ذنب لا صغير ولا كبير، وهذا حديث عام، وقال بعض العلماء بالتخصيص، ولكنه ضعيف، والصحيح: أنه لا يبقى له ذنب لا صغير ولا كبير على ظاهر النص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، قال العلماء: وهذا أمر عزيز، ولا شك أنه لا يمكن أن يكون إلا بجهد جهيد، وتوفيق من الله عظيم، والسبب في ذلك واضح، ولذلك قال تعالى: {فَلا رَفَثَ} [البقرة:197]، وفي الحديث: (من حج هذا البيت فلم يرفث)، وفي الحج تكون هناك من المناظر التي لا يستطيع الإنسان أن يحفظ بصره ويغضه إلا بخوف من الله شديد، ومراقبة لله سبحانه وتعالى، ويحفظ جوارحه؛ لأن الرفث يشمل كل ما يكون من دواعي الشهوة، فيشمل ذلك حركاته وسكناته وكلماته، وما يكون منه من أفعال، خاصة إذا كان معه أهله وزوجه، فإن هذا يحتاج إلى نوع من المجاهدة. والفسق هنا يشمل صغائر الذنوب وكبائرها، بمعنى: أنه لم تحدث منه أي زلة ولا خطيئة، إلا ما كان من اللمم الذي يغفره الله عز وجل بالصلوات الخمس، فإذا حفظ الإنسان نفسه، فحينئذٍ قالوا: إذا حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق؛ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فهو نصٌ صحيح صريح لم يستثن شيئاً، ولذلك القول: بأنه تغفر له جميع الذنوب صغيرها وكبيرها قول صحيح. لكن بعض العلماء يقول: إن الحقوق التي للناس لا تغفر، والسبب في هذا أنه يشترط في التوبة رد المظالم، والجواب: أنه يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فهو ويمكن أن يجاب: بأن الله يتحمّل عنه حقوق عباده، إذا كان لم يستطع القيام بها، وهذا اختاره بعض العلماء والأئمة إعمالاً للنص على ظاهره، أي: أنه يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وما كان من حقوق للعباد خاصة إذا عجز عن وفائها وأدائها فالله عز وجل يتحملها عنه، وكان بعض العلماء يقول: قلّ أن يحج إنسان ويوفق للحج المبرور إلا وظهرت عليه دلائل التوبة النصوح، ووفقه الله عز وجل حتى للخروج من المظالم، وهذه من رحمة الله، فإن الله إذا أراد أن يعفو عن عبده ويغفر له هيأ له أسباب العفو والمغفرة، حتى إنه ربما تكون بينه وبين إنسان مظلمة، ولم ير هذا الإنسان منذ زمن بعيد، فيشاء الله أن يراه في ساعة لا يتوقع رؤيته فيها، كل ذلك من حبه سبحانه للعبد، فإذا أحب الله العبد ورأى منه صدق التوبة والإنابة هيأ له كل أسباب القبول، ووضع له أسباب الزيادة من البر والإحسان والخير والطاعة، كما قال سبحانه وتعالى وهو أصدق القائلين يعد عباده المهتدين: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]. فالذي يصدق مع الله، ويقوم بالفرائض، ويؤديها على أتم الوجوه، يهيئ الله له من عنده بتيسيره وفضله ومنّه وكرمه ما يكون معونة له على القبول، وعلى حصول الخير المرجو من طاعته، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولذلك يقول العلماء: لهذا القبول أثر وله حلاوة يعرفها من عرفها، ويجدها من وجدها. نسأل الله بأسمائه وصفاته أن لا يجعلنا من المحرومين، وأن يجعلنا من عباده المرحومين. والله تعالى أعلم.

حكم من كان سريع النسيان فيقصر أو يترك من العبادات

حكم من كان سريع النسيان فيقصر أو يترك من العبادات Q من كان سريع النسيان وبه خلل عقلي، فهل يأثم على ما يتركه أو يقصر فيه، أثابكم الله؟ A من كان سريع النسيان أو به خلل في عقله، فهذا بلاء، والله عز وجل يبتلي من يشاء، وقد يحب الله عبداً من عباده فيختار له منزلة ودرجة في الجنة لا يبلغها بكثير صلاة ولا صيام، وإنما يبلغها بالبلاء، فيبتليه، فيصبح أصماً أو يصبح أخرس، فلا يتكلم في أعراض الناس، ولا يقع في غيبة ولا نميمة، ويسلمه الله من هذه الشرور والآفات لرحمة يريدها له في الآخرة. وهكذا إذا كان سريع النسيان، فإنه سبحانه وتعالى قد يبتليه بهذا الابتلاء لرحمة يريدها به، فما عليه إلا أن يحمد الله على بلائه، وكما في الحديث الصحيح: (فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط). وكان السلف الصالح رحمة الله عليهم يحبون البلاء، فإذا نزل بهم البلاء رضوا عن الله، وهذا هو مقام الرضا؛ وهو من أشرف المقامات وأحبها؛ لأن من كمال التوحيد لله عز وجل أن ترضى بقضائه وقدره، وأن تسلم الأمر له سبحانه وتعالى، فلا تصيبك مصيبة في نفسك ولا أهلك ولا مالك ولا ولدك إلا تلقيتها منشرح الصدر مطمئن القلب، راضياً عن الله سبحانه وتعالى؛ لعلمك اليقيني أن الذي كتبها وقدرها وأوجدها -وهو الله سبحانه وتعالى- أنه قدّرها جل جلاله لطفاً بك، فإن رضيت فلك الرضا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا حب قوماً ابتلاهم)، وكان السلف الصالح يكرهون زوال البلاء، بمعنى: أنهم يتحسرون على فوات الأجر إذا زال عنهم البلاء، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن الله إذا أحب قوماً)، فتأمل قوله: (إذا أحب قوماً ابتلاهم)، فيبتلي الإنسان بالضيق والنسيان، ويبتليه بالهموم والغموم في نفسه، فانظر إلى رجل أصابه الهم في نفسه، أو جاءه كدر في نفسه فقال: الحمد لله، ورضي عن الله عز وجل، وأحسّ أن هذا ابتلاء، وكما أنه يتقرب إلى الله عز وجل بركوعه وسجوده، فينبغي أن يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالحمد والطمأنينة، وانشراح الصدر بما ابتلاه الله به، ويقول: الحمد لله، ذنوبي كثيرة، ولو عاقبني الله بما أنا أهله لما أبقاني على وجه الأرض، ثم يقول: الحمد لله الذي صرف عني ما هو أشد وأعظم، ثم قال: الحمد لله الذي أعلمني أن هذا بلاؤه وقدره، ثم يقول: الحمد لله الذي أنزل بي هذا البلاء، ولم يجعلني من الغافلين، إذاً: الذي يبتلى يصبر ويذكر ويشكر، ويحتسب عند الله عز وجل، والذي يعطى ولا يبتلى ربما يصيبه النسيان، وتصيبه الغفلة، فيكون في زلة قدم والعياذ بالله، وأمن من مكر الله عز وجل به. فالمقصود: إذا تلقى الإنسان هذه الأمور بالرضا؛ وجدته في أحسن الأحوال وأتمها، ولربما وجدت الرجل مشلولاً لا يستطيع أن يتحرك، ولربما تجده كفيف البصر، فتقول له كيف حالك؟ فيقول: الحمد لله، وإذا بصدره أوسع من الدنيا بما فيها؛ وذلك مما أفرغ الله في قلبه من الرضا (فمن رضي فله الرضا)، وانظر إلى كل بلاء ينزل بك، فمجرد ما تنزل المصيبة تتلقاها بنفس مطمئنة، وخاطر راضٍ غير منكسر لحق الله جل جلاله، وتتلقاها بمحبة وإقبال على الله عز وجل، فتجد كل يوم يمر بك وكل ساعة، بل كل لحظة تمر بك وأنت في أنس ولذة، وقد كان بعض العلماء يحب مثل هذه المقامات التي فيها قرب من الله عز وجل، ولذلك تجد في أيام المرض من حلاوة ذكر الله ما لا تجده أيام العافية، وتجد أيام الضر والنكبات من الأنس بالله ما لا تجده في أيام الصحة والعافية. فلذلك إذا تلقى الإنسان هذه البلايا بقلب مطمئن وصدر منشرح وسّع الله عليه الضيق، وأُثِر عن بعض العلماء أنه كان مهموماً في يومه، وكان الطلاب عنده، فلما كان المساء جاء أحد عبيده ومواليه فكلمه بكلام، فسرِّي عنه وانبسط وانشرح، فقال أحد طلابه: رأيت منك اليوم أمراً عجباً، رأيتك مهموماً مغموماً مكروباً، فما هو إلا أن أتاك عبدك وأخبرك فانشرحت نفسك، وتغيّر وجهك، فقال: إني أصبحت ولم أر في نفسي ولا أهلي ولا مالي مصيبة، فقلت: ما ذلك إلا لأن قدري عند الله نزل، ولو كان لي عند الله قدر لابتلاني؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أحب الله قوماً ابتلاهم)، فلما أمسيت جاءني العبد وزعم أن عبدي فلاناً قد مات، فحمدت الله عز وجل أنه لا يبتلي إلا من يحب. ولذلك تجد أن أحب الناس إلى الله عز وجل هم أقلهم مالاً، وهم الفقراء والضعفاء، وتجدهم أكثر ذكراً لله، وأكثر طاعة وقرباً من الله سبحانه وتعالى، وأكثر إقبالاً على الله، وخوفاً منه سبحانه، وتجد الغني الثري أكفر الناس لنعمة الله وأغفلهم عن الله، وأكثرهم إعراضاً عن الله عز وجل، ولذلك من نعم الله عز وجل أن يبتلي العبد، فإذا تلقى الإنسان الابتلاء وكان سريع النسيان فعليه أن يقول: الحمد لله، واعلم أن الله لا يبتليك بابتلاء إلا وفيه نعمة من جهة أخرى، فإن الذي ينسى تذهب عنه الهموم؛ لأنه إذا نزلت به المصائب ينساها بسرعة، فالله يبتلي في شيء ويرحم في شيء، والذي يحفظ تجده يحفظ الأذية، ولربما تبقى في قلبه سنوات، ويتحسر ويتألم بها، ويكون من الصعب اجتثاثها واقتلاعها من قلبه، نسأل الله السلامة والعافية. إذاً: من رحمة الله عز وجل أن الإنسان يحمد الله، فإن سلبك الله الحفظ فقد يعوضك العبادة، وقد يعوضك خيراً من ذلك؛ كالخشوع والذكر والدعاء. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا ما يكون عوناً على طاعته ومرضاته ومحبته، ونسأله أن يلطف بنا فيما ابتلانا به، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مسائل في محظورات الإحرام

شرح زاد المستقنع - مسائل في محظورات الإحرام من أحرم بالحج أو العمرة فقد حرمت عليه عدة محظورات، فلا يجوز له أن يفعل شيئاً منها، ومن ارتكب شيئاً منها فهناك أحكام وكفارات مترتبة على فعله ذلك.

محظورات الإحرام

محظورات الإحرام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد نظرت في مسائل الحج ومباحثها فوجدت فيها مسائل تعم بها البلوى، وكان البعض يقترح أن نتحدث عن صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنعم بها وأكرم من صفة! ولا شك أن الأجر بها أعظم، خاصة وأننا نتعرض لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها الأجر والمثوبة، وهي الخير كله. لكن لما نظرت وجدت أن صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم لا تخفى على كثير من طلاب العلم، ولكن هناك مسائل تعم بها البلوى، ويكثر السؤال عنها، وقد تجد طالب العلم يحفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتيه السائل ويقول له: تطيبت ناسياً تطيبت جاهلاً لبست ثوبي ناسياً لبست ثوبي جاهلاً بالحكم قتلت الصيد قتلت ذئباً قتلتُ حيةً فما الحكم؟ فمسائل محظورات الإحرام مسائل تعم بها البلوى، ولذلك آثرت أن يكون حديثنا -إن شاء الله- عن مسائل من محظورات الإحرام. وخاصةً أن محظورات الإحرام نحتاجها لأنفسنا لكي ننقذ أنفسنا من الضلال، ونبتعد عن الأمور المحرمة إذا تلبسنا بمناسك الحج والعمرة، وكذلك فيها النفع الكثير للناس.

معنى محظورات الإحرام

معنى محظورات الإحرام وسنتكلم عن محظورات الإحرام في أمور ومسائل: أولها: ما معنى قول العلماء: محظورات الإحرام؟ المحظورات: جمع محظور، يقال: حظرت الشيء عليك إذا منعتك منه، ولذلك سميّت الحظيرة حظيرة؛ لأنها تمنع الدواب من الخروج، فالحظر: التحريم والمنع، والمحظورات جمعها العلماء؛ لأنها ليست بواحدة وإنما هي متعددة، فجمعت لاختلاف أنواعها. والإحرام: نية أحد النسكين أو هما معاً، فإذا قال العلماء: الإحرام، أو قالوا: لا يجوز لمن أحرم، أو قالوا: يجب على من أحرم، فمرادهم من نوى النسكين: الحج والعمرة كالقارن، أو أحدهما كالحج مفرداً، أو العمرة وحدها، فإذا نوى الإنسان العمرة، أو نوى الحج، أو هما معاً؛ فقد دخل في الإحرام، ويقال: أحرم، ولا يلزم الإنسان بترك محظورات الإحرام بمجرد لبسه للإحرام كما يفهم العوام، إنما تحرم محظورات الإحرام بعد نيتك للنسك، فلو لبست الإحرام ولم تلب بالنسك ولم تنو، جاز لك أن تصيب هذه المحظورات، وإنما تحرم عليك بعد الدخول في النسك بالنية.

لبس المخيط

لبس المخيط المسألة الثانية: ما هي محظورات الإحرام؟ المحظورات تسع: أولها: لبس المخيط، وثانيها: الطيب، وثالثها: تغطية الوجه، ورابعها: تغطية الرأس، ومنه الأذنان، وخامسها: حلق الشعر أو قصه أو نتفه، وسادسها: تقليم الأظفار، وسابعها: عقد النكاح، وثامنها: الجماع ومقدماته، وتاسعها: قتل الصيد. ومنهم من يقول: الصيد، ومنهم من يقول: إتلاف الصيد، والمعنى واحد، وإن كانت بعض التعبيرات أدق من بعض. أولاً: لبس المخيط، يقال: لبس الثوب إذا دخل فيه، والمخيط: يشمل المخيط المعتاد المفصل على الجسم، وما في حكمه؛ كالمحيط بالعضو كما سيأتي، قال بعض العلماء: يخرج من هذا الارتداء؛ كالقباء ونحوه، فاللبس: أن تدخل يديك، والارتداء: أن تضع الشيء على عاتقك دون إدخال، مثال ذلك: لو أخذت هذا البشت أو هذه العباءة ووضعتها على كتفيك وأنت محرم من شدة البرد، فإنه لا يصدق عليك أنك قد لبست، هذا إذا قلنا: إن اللبس لا بد فيه من الإدخال، أما إذا قيل بمطلق اللبس، فإنه يشمل من وضعه على كتفه سواءً أدخله أو لم يدخله، وهذا هو الفرق بين قولهم: الارتداء، واللبس. وهنا مسائل: أولاً: ماهو الدليل على أنه يحرم على الحاج والمعتمر أن يلبس المخيط؟ وثانياً: ما هي مسائل لبس المخيط؟ أما الدليل على تحريم لبس المخيط على المحرم سواءً كان بحجٍ أو عمرة، فقوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن عمر -وهو في الصحيحين-: (لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف، إلا أحدٌ لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين)، فالمخيط إما أن يستر أعلى البدن كالقميص، وفي حكمه ما يسمى الآن -وأنا أحب دائماً أن نمثل بالأشياء العصرية؛ لأن بعض طلاب العلم يسمع أسماء قديمة ثم ترد عليه مسائل عصرية فلا يحسن الجواب فيها؛ لأنه عرف القديم ولم يعرف تطبيقه على الجديد- فبعرفنا اليوم الفنيلة الموجودة الآن هذه سترٌ لأعلى البدن، والكوت سترٌ لأعلى البدن، فاللباس إما أن يكون ساتراً لأعلى البدن، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا القمص)، أو يكون ساتراً لأسفل البدن: (ولا السراويلات)، ومثله البنطلون الموجود الآن، وسواءً كانت طويلة أو قصيرة، ثم قد يكون اللباس جامعاً بينهما كالثوب، قال عليه الصلاة والسلام: (ولا البرانس)، وهذا من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على أن الفقه أن تنظر إلى معاني الأحاديث، وأن لا تقتصر على ظاهر اللفظ فقط؛ فلو كان ظاهر اللفظ هو المراد فقط لكان عليه الصلاة والسلام ذكر لبساً معيناً وقال: لا تلبسه، ولكن كونه يحدد المواضع ويأتي بأمثله -لكل موضعٍ بما يجانسه- فإن هذا يدل على اعتبار الرأي، وفقه معاني النصوص. والبرنس يغطي أعلى البدن وأسفله، وبناءً على ذلك نقول: نص النبي صلى الله عليه وسلم على تحريم ستر أعلى البدن بالقميص، وستر أسفله بالسروال، وستر جميعه بالبرنس، فلو سألك سائل عن الثوب الموجود الآن، فنقول: يحرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على تحريم البرنس والقميص والسروال، والثوب أشد من القميص والسروال، وهو في حكم البرنس، وإن كان لا يغطي الرأس. الدليل الثاني على تحريم لبس المخيط: حديث الأعرابي، وهو في الجعرّانة أو الجعرَانة، لغتان، وذلك لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم الطائف اعتمر من الجعرّانة، فجاءه أعرابي عليه جبة، فقال: (يا رسول الله! ما ترى في رجلٍ أحرم بالعمرة وعليه ما ترى؟ فقال عليه الصلاة والسلام: انزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الطيب، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك)، فحرم عليه لبس المخيط، وبهذه النصوص الصحيحة الصريحة نص العلماء على تحريم لبس المخيط، ويستوي في ذلك كما قلنا: أن يكون لأعلى البدن، أو لأسفله أو لجميعه.

ما يحرم على الرجال والنساء من المخيط

ما يحرم على الرجال والنساء من المخيط المسألة الثالثة: إنما يحرم لبس المخيط على الرجل، أما المرأة فإنها تلبس المخيط، ويكون إحرامها في وجهها وكفيها، ويكون المحظور عليها من اللباس أن تنتقب أو تلبس القفازين؛ لما ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين)، فثبت في هذا النص أن إحرام المرأة في الوجه والكفين، ولكن إن مرّ عليها أجانب أو اشتد عليها برد أو لفحتها ريح فسدلت خمارها -والسدل أن يكون غطاء للوجه دون أن يمس بشرة الوجه- فلا حرج ولا فدية عليها؛ بشرط عدم مماسة الغطاء لبشرة الوجه، وذلك لحديث أسماء، ويروى عن عائشة وقد تُكلم في سنده، ولكن الصحيح عن أسماء أنها قالت: (كنا إذا مر بنا الركب سدلت إحدانا خمارها، حتى إذا جاوزنا كشفت)، وهذا يدل على مشروعية السدل عند رؤية الرجال الأجانب. أما بالنسبة للرجال، فكما يحرم عليهم لبس المخيط في أعالي البدن، كذلك أيضاً يحرم عليهم ستر القدمين، ولذلك لا يلبس المحرم الخف ولا البلغة ولا نحوها من الأحذية التي تغطي أغلب القدم، أو تغطي الأصابع، والأصل في ذلك حديث ابن عمر في الصحيحين: (ولا الخفاف -أي: لا تلبس الخفاف- إلا أحدٌ لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين)، فدل هذا الحديث الصحيح على أنه لا يجوز للمحرم أن يلبس حذاءً يغطي قدمه أو أغلب قدمه، بل يلبس الحذاء الذي لا يغطي أغلب القدم، وإذا كان الحذاء يغطي جزءاً من القدم فإنه ينبغي أن تكون أصابعه مكشوفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وليقطعهما أسفل من الكعبين)، وبناءً على ذلك تكون الأصابع مكشوفة، وعلى هذا فلو كان الحذاء يغطي رءوس أصابع القدمين فإنه لا يجوز لبسه، كالبلغة التي تكون مستورةً أول القدم، فهذه لا تلبس، وهكذا الشراريب لا تلبس، قالوا: وعلى هذا لو نام المحرم فلا يغطي قدميه؛ لأنه أُمِرَ بكشفهما، فنهيه عليه الصلاة والسلام عن لبس الخفين يدل على أن مقصود الشرع إظهار القدمين، وعلى هذا الفتوى عند الجماهير رحمة الله عليهم.

حكم من لم يجد ثياب الإحرام

حكم من لم يجد ثياب الإحرام بقيت مسألة: وهي لو لم يجد الإنسان الإحرام أو الرداء والإزار، واحتاج إلى لبس السروال، أو لم يجد نعلين واحتاج إلى لبس الخفين، فكما قال صلى الله عليه وسلم: (السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفان لمن لم يجد النعلين)، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر: (إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين). وبناءً على ذلك: لو أن إنساناً في طائرة -كحالنا اليوم- مر بالميقات وعليه ثيابه، ولكن ليس عنده إحرام يأتزر به، أو ليس عنده حتى شال يأتزر به، فحينئذٍ إذا لم يجد من الثياب ما يأتزر به فإنه يجوز له لبس السروال والبنطال، لكن لا يجوز له أن يلبس تحت السروال والبنطال لباساً، وإن لبس لزمت عليه الفدية، ثم أعالي البدن يستره بأي ساتر ويعتبر محرماً، فإن نزل إلى المطار وأمكنه أن يشتري اللباس جاز له أن يترخص بقدر الحاجة، فإن تأخر عن الشراء مع القدرة عليه لزمته الفدية.

تشبيك لباس الإحرام بالشوك أو الأزرار

تشبيك لباس الإحرام بالشوك أو الأزرار وهناك مسألة: وهي تحليق العضو، وهي ما يسمى: حكم المخيط، فقالوا: لو لبس الرداء فلا يشبكه؛ لأنه إذا شبك الرداء كان بمثابة الملبوس، وأصبح لابساً له وداخلاً فيه، وعلى هذا قالوا: لا يضع المشبك في ردائه، وهذا أمر يقع فيه كثير من العوام، فقد كانوا في القديم يشبكون بشوك الشجر، فكانوا يضعونها حتى لا ينكشف الإزار، فنهى عنه العلماء رحمة الله عليهم، وفي زماننا هذا وضع المشابك البيضاء الصغيرة أو ما يماثلها، كل ذلك مما ينهى عنه. كذلك أيضاً: من المصائب العظيمة الآن تفصيل بعض الإحرامات ولها ما يسمى في عرف العامة: (الطقطق)، هذا الذي يكون فيه بمثابة الأزرار، فمجرد ما يضعها على كتفه يزررها بهذه الأزرار، وهذا عينُ الملبوس، وتلزمه الفدية، ومن رأى منكم حاجاً أو معتمراً بهذا فلينصحه، وليبين له أن هذا لم يأذن به الله عز وجل، ولذلك لما سئل ابن عمر رضي الله عنه عن عقد الرداء نهى عنه. وعلى هذا: فلا يجوز لبس مثل هذه الإحرامات، بل لا يجوز بيعها؛ لأنه معونة على ارتكاب المحظور، فكثير من الناس يجهل الحكم، فإذا باعها الإنسان أوقع الناس في المحظور، فعلى هذا ينبه الناس عليها. كذلك أيضاً: المحيط بالعضو كالسيور، فقد قالوا: السيور لا توضع في الإحرام، واختلف فيها: فبعضهم أجازها، وهو قول بعض الصحابة، فقد أجازوا أن يلبس الكمر وهو الهميان، فقد كان يسمى في القديم بالهميان، وهو الذي يضع يضع فيه الحاج نقوده، فقالوا: لا حرج فيه لمكان الحاجة، لكن لو كان يريده لشد الإحرام فلا يجوز؛ لأنه يكون كعقد الإحرام، ولذلك فإن مذهب طائفة من السلف رحمة الله عليهم: أنه لا يشد السير، وقد فرقوا بين الهميان وبين السيور، قالوا: لأن السيور يقصد بها العقد، فكانت في ضمن ما نهى عنه السلف رحمة الله عليهم، ومنهم ابن عمر، أما لو كانت لوضع النقود، أو وضع الحوائج الشخصية من بطاقةٍ ونحو ذلك مما يحتاجه الإنسان للتنقل ونحوه فلا حرج، وقالوا أيضاً: ما يكون في حكم السوار للرجل يمنع منه، فلو شد على يده خرقة لزمت عليه الفدية، وهذا يكاد يكون وجهاً واحداً أنه لو شد الخرقة على يده فغطى جزءاً منها كالجبائر ونحوها لزمته الفدية، قالوا: وكذلك الأسورة، وفي حكمها الساعة الآن، فإنها تحيط بالعضو، ولذلك لا يضعها. وعلى هذا قالوا: إن المحرم يتجرد؛ لأن مقصود الشرع خروج المحرم متجرداً من دنياه، وقد أمر بأن ينزع ثيابه حتى يتذكر الآخرة، ويكون أبلغ في الذلة لله سبحانه وتعالى، واستشعار سفره للآخرة، ولهذا قالوا: إن الحج فيه معانٍ تذكر بالآخرة، ومنها: التجرد عن المخيط، وفيه أيضاً حكم، منها: أن الإنسان يقوى على نفسه، حيث إن سر الإنسان في قوته أن يجعل نفسه طائعةً له ولا يكون طائعاً لها، فإذا أصبح الإنسان تطيعه نفسه ولا يطيع نفسه؛ سلِم من كثير من المعاصي والذنوب بسبب كونه قاهراً للنفس، وليست النفس له قاهرة، وهذا واضح جلي، قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40]، فمعنى ذلك: أن نفسه تحته، يأمرها وينهاها، يأمرها بطاعة الله وينهاها عن معصية الله، ولذلك نجد أن أوامر الشرع دائماً تجعل النفس طوعاً للعبد، فلذة النوم، ولذة الطعام والشراب، ولذة النكاح، ولذة اللباس، ولذة الوطن والأهل، كلها جاء في مقابلها عبادات، فلذة اللباس يقال لك في مقابلها في الحج: انزع عنك هذا المخيط، ولذة الطعام والشراب والنكاح، يقال لك في مقابلها: لا تأكل ولا تشرب ولا تنكح أهلك شهراً كاملاً، فإذا امتنعت من الطعام والشراب المباح كان ذلك أدعى إذا قيل لك بعدها: إن هذا الكسب حرام، أن تمتنع، وإذا قيل لك: إن هذا المنكح محرم، أن تمتنع؛ لأنك قد امتنعت عن الحلال فمن باب أولى أن تمتنع عن الحرام وتصبح نفسك طائعةً لك، وأما لذة الأوطان، فتجد أن الحج يخرج الرجل من بلده وأهله متغرباً لله عز وجل، ضاحياً لله في حجٍ أو عمرة، ولذلك قالوا: إن الحج جهاد من هذا الوجه، وكذا لذة الطيب، تجد الرجل يمتنع في حجه عن الطيب، وكذلك يمتنع عن اللباس المألوف، ويخرج بهذا اللباس على صورة معينة، مع ما في هذا الأمر -أي عدم لبس المخيط- من حكم أخرى، ككون الناس يجتمعون على وتيرة واحدة، لا يميز بين غنيهم وفقيرهم، وسوقتهم وجليلهم، وذليلهم وحقيرهم، فالمقصود: أن هذا الأمر فيه حكم عظيمة.

الطيب

الطيب المحظور الثاني: الطيب. يقال: طاب الشيء إذا لذّ، وأطيب كل شيء أفضله، وسمي الطيب طيباً؛ لأنه أطيب ما يشم، ولذلك يقولون: المال الحلال طيب؛ لأنه أطيب الكسب، والطيب معروف، ويكون منه الجامد والسائل والمبخر الذي يكون دخاناً وبخوراً، وكل ذلك داخل في اسم الطيب. وأما كون الطيب محظوراً فلما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس)، فقوله: (الزعفران ولا الورس) نهي عن الطيب. وحديث الأعرابي الذي ذكرناه: أنه اعتمر وعليه جبة فيها أثر الصفرة -وهو حديث صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه عند مسلم في صحيحه- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الطيب)، فقوله: (اغسل عنك أثر الطيب) يدل على أن الطيب محظور من محظورات الإحرام. ومن الأدلة على أن الطيب محظور: قوله عليه الصلاة والسلام في الرجل الذي وقصته دابته: (اغسلوه بماء وسدر، ولا تمسوه بطيب، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) فنهى عن مسه بالطيب، وهذا يدل على أن الطيب محظور من محظورات الإحرام.

أقسام الطيب المحرم على المحرم ووقت تحريمه عليه

أقسام الطيب المحرم على المحرم ووقت تحريمه عليه والطيب يشمل أن يكون مائعاً، كأن يجعله في يده أو في جسمه أو في صدره أو في أي موضع من مواضع بدنه، أو يكون مشموماً ودخاناً يتبخر به، وفرق الإمام أبو حنيفة بين المبخر وبين غيره، والصحيح: أن البخور وغيره كله محظور على مذهب جماهير العلماء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تمسوه بطيب)، والطيب عام، وقد كانوا يجمّرون أكفان الميت، فقوله: (ولا تمسوه بطيب)، يدل على أن البخور داخل في هذا، وأنه لا فرق بين السائل والجامد والبخور الذي يكون هواءً وله رائحة. المسألة الأولى: بعد أن عرفنا أن الطيب محظور، فليعلم أن هذا المحظور يشمل الرجال والنساء. المسألة الثانية: أن هذا الحظر يكون بعد الإحرام، بعد نية النسك، فلو اغتسلت للإحرام وقبل أن تنوي أردت أن تتطيب، فهل يجوز ذلك، أو لا يجوز؟ وجهان: قال بعض العلماء: من اغتسل للإحرام فإنه لا يضع الطيب إلى أن يتحلل، وهذا مذهب الحنفية والمالكية. وقال بعض العلماء: إذا اغتسل فإنه يجوز له أن يتطيب في بدنه، وأن يشم الطيب، ما لم يحرم. واستدل الذين قالوا بجواز ذلك بحديث أم المؤمنين عائشة في صحيح مسلم: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل حرمه، ولحرمه قبل أن يطوف بالبيت)، وهذا الحديث صحيح، وقولها: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل حرمه) أي: بعد اغتساله وقبل إحرامه، (ولحرمه قبل أن يطوف بالبيت) أي: بعد رميه وتحلله عليه الصلاة والسلام، وقبل أن يطوف طواف الإفاضة: وهذا أصح القولين. ولكن هنا إشكال: وهو أن الطيب يمنع عن الإنسان سواءً كان في البدن أو في الثياب، ولذلك لو أن الإنسان أخذ إحرامه ووضعه على البخور وبخره ثم لبس هذا الإحرام؛ لزمته الفدية؛ لأنه قد مسه بالطيب، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الرجل الذي كان على ثيابه أثر الطيب: (اغسل عنك أثر الطيب)، فدل على أن الأثر مؤثر، وأن وجود الأثر يؤثر؛ لكن الإشكال: أننا لو أجزنا لك أن تتطيب بعد الغسل وقبل الإحرام، فإنك إذا لبست الإحرام ستعلق الرائحة في الإحرام، وبناءً على ذلك: إذا وضع الإنسان في إبطيه وصدره العود، ثم لبس الإحرام فعلقت به الرائحة، فإن ذهبت مادة العود بحيث تبقى الرائحة فقط وتعلق، فهذا حالة، والحالة الثانية: أن تعلق مادة العود، بحيث ترى حمرة وصفرة الطيب في الإحرام، فحينئذٍ يلزمك غسلها؛ لأنه إنما رخص لك فيما قبل الإحرام أن يكون في بدنك، وهذا في ثيابك، كما لو طيبت الإحرام بنفسه، فيستوي أن تكون مطيباً بالوضع، وأن تكون مطيباً بالقصد، وعلى هذا فبعض الإخوة أصلحهم الله عن حسن نية يتطيب ثم يضع الإحرام مباشرة، فتعلق مادة الطيب في الإحرام، حتى إنك لو نظرت إلى إحرامه لوجدت أثر الطيب ولونه ورائحته، وهذا يؤثر؛ بل ينبغي عليه غسل الطيب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس)، فهذا نص يدل على أن الإحرام لو مسه الطيب حرم استعماله. لكن لو علقت به الرائحة فبقيت رائحة العود أو الورد مثلاً، فقالوا: إذا كان لابساً للإحرام حتى انتهى من عمرته وحجه فلا إشكال، لكن لو نزع إحرامه وأراد أن يلبسه ثانيةً لزمته الفدية، ففرقوا بين الاستدامة وبين الابتداء، فقالوا: إذا لبسه على حاله وعلقت به الرائحة كانت بإذن الشرع؛ لأنه تطيب عليه الصلاة والسلام بعد اغتساله، لكن لو أراد أن ينام فنزع الرداء وأخذ البطانية -مثلاً- والتحف بها، ثم لما قام أراد أن يلبس الرداء فقد لبس مطيباً، وبناءً على ذلك قالوا: إنه يفرق بين الاستدامة وبين الابتداء. إذاً: هذا حاصل ما يقال في الطيب، لكن هنا مسائل متفرعة منها:

حكم الطيب الموجود في الطعام والأدهان ونحوها

حكم الطيب الموجود في الطعام والأدهان ونحوها لو كان الطيب مما يؤكل، أو كان دهناً يدهن به الشعر وهنا ننبه على أن الصابون والشامبو كله يعتبر من محظورات الإحرام، وقد ذكرت أننا ننبه بأشياء موجودة حتى يكون طالب العلم أوعى، فالصابون مقيد: فإذا كان من الصابون الذي له رائحة وطيب، حرم على المحرم بالحج والعمرة أن يغتسل به؛ لأنه مطيب، والطيب محظور عليه أن يترفه به، والنص فيه واضح، وهذا بالإجماع، لكن لو كان من الصابون الزيتي الذي لا رائحة له، فيجوز له أن يغسل به يديه ولا حرج، أما الشامبو فلو أراد أن يغسل به بدنه فإنه لا يجوز إذا كان مطيباً، والغالب أن فيه الطيب، وبناء على ذلك: فلا يغتسل بشيء فيه الطيب، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تطيب المحرم فقال: (لا تمسوه بطيب، اغسلوه بماء وسدر). لكن السؤال الآن: لو كان الطيب في الطعام؟ فإن الزعفران يمكن أن يوضع في القهوة، ويمكن أن يوضع في الطعام بعض البهارات التي فيها شيء من الطيب، فإذا كان يوضع شيء من الأدهان المطيبة في الطعام، فما حكم الطعام الذي فيه طيب؟ نقول: الطعام الذي فيه طيب على قسمين: إما أن يكون الطعام قد استنفذ رائحة الطيب حتى امتزج وذهبت رائحته في الطعام، فهذا يجوز أكله، ويكاد أن يكون قول الجماهير، فلو طبخت الزعفران في طعام وذهبت رائحة الزعفران، بحيث لو أكلت الطعام لم تجدها، فيكاد أن يكون القول بالجواز قولاً واحداً؛ لأنه خرج عن كونه زعفران وعن كونه طيباً إلى مادة مستهلكة، ولذلك يعتبر تابعاً لغيره، ويجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل. الحالة الثانية: أن تكون رائحة الزعفران أو أثر الزعفران موجوداً، فللعلماء قولان: الحنفية والمالكية: على أنك إذا طبخت الطيب جاز لك أكله. والشافعية والحنابلة: على أنه لا يجوز، وهذا هو الصحيح؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وهذا طيب، ولأنه إذا أراد أن يأكل فقد مس الطيب، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يمس المحرم بالطيب، وبناء على ذلك لا إشكال في كونه مؤثراً، فلو وضع في القهوة فإنه لا يشربه؛ لأنه في حكم الارتفاق والترفه بالطيب الذي نهي عنه. بقيت مسألة ثانية: وهي الدهان. من المعلوم أن الأدهنة والزيوت تنقسم إلى قسمين: زيوت فيها طيب، وزيوت لا طيب فيها، والزيوت التي فيها الطيب، كالتي تكون فيها رائحة الورد، أو رائحة أي طيب آخر من الأطيبة، فهل يجوز لك أن تدهن بهذا الزيت، سواءً تدهن به الرأس أو تدهن به الجسد؟ A إذا كان في الدهن طيب فقول جماهير العلماء: أنه لا يجوز لك أن تدهن به، لا في الرأس، ولا في أي عضو من أعضاء البدن؛ لأنه مس للطيب، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم المحرم أن يمس بالطيب، وعلى هذا جماهير العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية، فإن داود الظاهري رحمة الله عليه يرى أن الدهن الذي فيه الطيب كالطيب بنفسه. أما لو كان هذا الدهن لا طيب فيه كزيت الزيتون والسمن، فالزيت غير المطيب يقع في موضعين: إما أن يقع في شعر الرأس، وإما أن يقع في بقية الجسد، فإن وقع في بقية الجسد، فيكاد أن يكون قول الجماهير، وحكى بعض العلماء كـ ابن المنذر وغيره الإجماع على أنه لو دهن غير الرأس بالدهن غير المطيب أنه لا حرج عليه، كزيت الخردل المعروف أو زيت الزيتون، فلو أخذه ودهن به رجليه وساقيه، فقالوا: لا حرج عليه، لكن عند المالكية تفصيل يستثنى من هذا الإجماع، فقد فصلوا بين الأعضاء الظاهرة والأعضاء الباطنة، وكأنهم يرون أن دهن الأعضاء الظاهرة فيه زينة وترفه، فيخرج عن مقصود الحج، والأعضاء الباطنة الخفية التي تستر كالصدر والظهر فقالوا: لا حرج عليه في ذلك. أما بالنسبة لو كان الدهن في شعر الرأس، فللعلماء قولان: فبعض العلماء يقول: لا يجوز للمحرم أن يدهن رأسه. وبعضهم يقول بالجواز. ويكاد أن يكون قول الجمهور: أنه لا يجوز له أن يدهن شعر رأسه؛ لما فيه من الترفه، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يأمر أهل مكة أن يهلوا بالحج لهلال ذي الحجة؛ والسبب في ذلك: أنه قال: (ما لي أرى الناس يأتون شعثاً غبراً وتأتون مدهنين، أهلوا لهلال ذي الحجة)، فكان يأمر أهل مكة أن يحرموا لأول ذي الحجة، وقد أحسن وأصاب، ومراده رضي الله عنه: كيف يأتي الناس شعثاً غبراً في الحج ويأتي أهل مكة مدهنين؟! لأنهم لا يحرمون إلا في اليوم الثامن، فتكون شعورهم نظيفة وتكون هيئتهم ظاهرة بارزة، فقال رضي الله عنه: (ما لي أرى الناس يأتون شعثاً غبراً وتأتون مدهنين، أهلوا لهلال ذي الحجة)، وهذا ليس بواجب، وإنما هو رأي عمر رضي الله عنه واجتهاد منه، والجماهير على أنهم يهلون من اليوم الثامن.

تغطية الوجه

تغطية الوجه المحظور الثالث: تغطية الوجه. والدليل على ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام في الذي وقصته دابته: (ولا تخمروا وجهه ولا رأسه)، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر أنه قال: (لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين)، فلا يجوز للمحرم أن يغطي وجهه، وهل يجوز له إذا وجد رائحةً منتنة أو مؤذية أن يضع على أنفه الغطاء فيتقيها؟ وجهان: مذهب طائفة من العلماء: أنه لا يضع كالنقاب؛ لأن المرأة أمرت بكشف وجهها، فلما قال: (ولا تنتقب)، دل على أن النقاب مؤثر، وبناءً على ذلك فتغطية بعض الوجه كتغطية كله، والذي يظهر أن الإنسان لا يغطي، ولو وجد الرائحة المنتنة فإنه يضع يده، وإذا أضرته غطى وافتدى، وعلى هذا فالكمام الموجود الآن الذي يضعونه لاتقاء بعض الروائح يجري فيه ما ذكرناه؛ ولأنه في حكم المحيط بالعضو، كما لو وضع لصقة ثم أدارها على رأسه، ولذلك يضعونه ثم يشدونه، وعلى هذا يكون في حكم الإحاطة بالعضو، فيتقى ويمنع منه الحاج وأيضاً المعتمر.

تغطية الرأس

تغطية الرأس المحظور الرابع: تغطية الرأس. ودليل تحريم تغطية الرأس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلبسوا القمص ولا العمائم)، فإن العمامة غطاءٌ للرأس، فمنع النبي صلى الله عليه وسلم المحرم أن يغطي رأسه، وقوله: (ولا البرانس)؛ لأن البرنس فيه غطاء الرأس كما هو معلوم، والبرانس إلى الآن موجودة، تلبس في أيام، ويلبسها بعض أهل المغرب، وهو الثوب الذي فيه غطاء الرأس، وقد كان موجوداً في القديم، فلذلك حظر عليهم لبس البرانس ولبس العمامة، وعلى هذا فلا يجوز للمحرم أن يضع الغطاء سواءً كان عمامة أو كان طاقية ونحوها، فإنه يحرم عليه أن يغطي رأسه، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي وقصته دابته: (ولا تغطوا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً). وهنا مسألة: لو أن الإنسان جلس تحت مظلة أو ركب محملاً؛ فإنهم في القديم كانوا يركبون المحامل، وفي العصر الحديث السيارات، فاختلف في المحمل في القديم وفي حكم السيارة الآن، هل يعتبر غطاءً أم لا؟ فمذهب جماهير العلماء: أنه لا حرج في ركوب السيارة وكذلك الأماكن التي لها أغطية، فلو أصابك حر الشمس فلا بأس أن تأتي تحت مظلة، واستدلوا بما ثبت في الحديث قال الراوي: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة ومعه بلال والفضل أحدهما يستره بثوب)، وهذا الحديث في الحقيقة محل إشكال، وقد اعترض عليه، فالذين يقولون -وهو قول لبعض السلف-: لا يجوز الدخول في المحامل، ولا هودج المرأة بالنسبة للرجل، ولا الجلوس تحت شجرة، حتى لو وضعت على الشجرة رداءً فلا يجوز أن تأتي تحتها، وفي حكمها -مثل ما ذكرنا- السيارات، يقولون: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن لا يغطي الحاج رأسه يوم الأضحى، ويقولون عن هذا الحديث: (إن حديث بلال والفضل كان في اليوم الثاني، وليس في اليوم الأول وهو يوم العيد، فهذا ضعيف؛ لأن الحديث: (يرمي جمرة العقبة)، قالوا: وجمرة العقبة رميت صباحاً، فالشمس ليست بشديدة، ولذلك لا حاجة إلى الغطاء. وهذا قول مردود، وقد ذكر المحققون ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه: أن جمرة العقبة رماها النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد وقد ارتفعت الشمس؛ لأنه دفع من المزدلفة قبل طلوع الشمس، وما بين المزدلفة إلى أن يصل جمرة العقبة مسافة طويلة، فلا شك أنه ما بلغها إلا وقد صار للشمس وهيجٌ وحر، ولذلك لا إشكال في مشروعية أن يأتي الحاج تحت غطاء كسيارة ونحو ذلك.

حلق الشعر أو قصه أو نتفه

حلق الشعر أو قصه أو نتفه المحظور الخامس: حلق الشعر أو قصه أو نتفه. والأصل فيه قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196]، وقد عبّر القرآن بحلق الرأس؛ لأنه الغالب، وهو من باب التنبيه على النتف والقص، ودليلنا على أن القص محظور: أن الله عز وجل جعله موجباً للتحلل؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارحم المحلقين، ثم قال في الثالثة أو الرابعة: والمقصرين)، فدل على أن التقصير يعتبر من المحظورات. فيحرم على المحرم أن يحلق رأسه أو يقص شعره. وفي حكم حلق الرأس حلق شعر بقية الأعضاء، فلا يجوز له أن يحلق الشعر من الإبطين ولا من العانة ولا من غيرهما من مواضع البدن، وعلى هذا فلو قص أو حلق فالحكم واحد، وهو أنه تلزمه الفدية؛ والسبب في هذا: أن الحلق والتقصير كلاهما يعتبر خروجاً من النسك، ولذلك قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، ولذلك لا يكون تقصير الشعر ولا حلقه إلا في هذا الأمد بالنسبة للحاج وفي حكمه المعتمر، وعلى هذا فالأصل أن تحلق، فلو أنه -مثلاً- احتاج لحجامته أن يحلق قفا شعر رأسه، فحينئذٍ يحلق ويفتدي، لكن لو أنه أصيب بعاهة أو جرح، فاحتاج إلى إزالة جلد من يده أو من ساقه، وفي الجلد شعر، فإنه لا تلزمه الفدية، إنما تلزمه الفدية بالحلق أو التقصير أو النتف، لكن لو أزال الجلد وفي الجلد شعر، فإنه لا تلزمه الفدية؛ لأنه لم يحلق ولم ينتف ولم يقصر. وهذه المسألة يسميها العلماء: حكم التابع، فهناك فرق بين الشيء أصالة وبين كونه تبعاً، وهذا يقع في العبادات والمعاملات، ففي العبادات مثلاً: الصلاة عن الميت لا تجوز قصداً، لكنها تجوز تبعاً، ألا ترى أنك لو حججت عن ميت أو اعتمرت عن ميت وطفت فإنك تصلي ركعتين، وهذه واقعة عن ميت، لكنها وقعت تبعاً لا أصلاً، وكذلك لو أن إنساناً -والعياذ بالله- اعتدى على غيره، فقلع الشعر الأسفل من العين، وهي الرموش السفلى؛ وجب فيها ربع دية، ثم لو قلع العليا وجبت عليه نصف الدية في الاثنتين، لكن لو أنه أزال الجفن وفيه الشعر فإنه يلزم بربع دية، مع أن أصل التقدير يقتضي أن الجفن له ربع وللشعر أيضاً ربع، لكن قالوا: الشعر وقع تبعاً له ولم يقع أصلاً، وهكذا بالنسبة للمسائل الأخرى المتفرعة على مسألة التابع، ولها نظائر؛ ولذلك قالوا: إنه هنا إذا قلع الجلد وفيه شعر لم تلزم عليه الفدية؛ لأنه لم يحلق ولم يقصر ولم ينتف، وهذا صحيح، ولذلك لا شيء عليه في هذا، إنما عليه الفدية إذا حلق أو قصر أو نتف.

تقليم الأظافر

تقليم الأظافر المحظور السادس: تقليم الأظفار. وتقليم الأظفار محظور في قول جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم؛ لأنه إزالة للتفث، ويحظر عليه أن يقص الظفر بكماله أو بعضه، ولكن لو كان في أصابعه ألمٌ من الظفر، كأن يكون انكسر ظفره -سواءً كان ظفر رجل أو يد- فأصبح يؤلمه، جاز له أن يقصه، ولا فدية عليه؛ لأن الأذى في نفس الظفر، بخلاف ما إذا كان الأذى في غير الظفر، ويكون الظفر محلاً للأذى، أو يكون الأذى في غير الشعر ويكون الشعر محلاً للأذى كالقمل؛ ولذلك فإن كعب بن عجرة لم يكن أذاه في الشعر، وإنما في شيءٍ في الشعر، فأزال الشعر لإزالة الأذى الموجود تحته، وليس لعين الشعر، ولهذا قالوا: إذا نبت في عينه شعر، أو نزل شعر حاجبه حتى آذاه في عينه، جاز له أن يقصه؛ وهذا لوجود الضرر، ولا يعتبر هذا من الإزالة التي يقصد بها الترفه، ولا شيء عليه فيها.

الجماع ومقدماته

الجماع ومقدماته المحظور السابع: الجماع ومقدماته. قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، فحرم الله عز وجل على المحرم الرفث، والرفث يكون بالكلام وهو تهييج النساء، ولو كانت محرماً له، ولو كانت حلالاً له كزوجه، فتهييج المرأة بالكلام أو بالفعل أو بالجماع نفسه كل ذلك محظور بالإجماع، فلا يجوز للمحرم بالحج والعمرة أن يقع في شيء من هذا، فإن جامع حينئذٍ وقع في المحظور، ولو نظر إلى امرأة سواء كانت محرماً أو غير محرم، كأن ينظر بشهوة إلى زوجته فينزل، فحينئذ وقع في المحظور، وكل منها له حكم، ونحن لم ندخل في مسائل الفدية حتى لا نشوش على طلاب العلم، إنما نتكلم عن المحظور فقط، أما باب الفدية، وما الذي يلزم على من أخلّ بهذه الأشياء؟ فهذا له باب آخر، ولكن أحببنا أن يكون الضبط للمحظور حتى يسهل بعد ذلك ضبط مسائل الفدية وما يتبعها. وعلى هذا: فإنه لا يجوز له النظر إلى ما يثير شهوته، ولا اللمس بما يثير الشهوة له أو لزوجه، وهكذا الجماع، سواءً وقع لحية أو ميتة، لحلال أو حرام، كل ذلك محظور على الحاج.

عقد النكاح

عقد النكاح المحظور الثامن: عقد النكاح. وعقد النكاح محظور في قول جماهير العلماء: المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث، يقولون: لا يجوز للمحرم أن يَنكح أو يُنكح أو يَخطب، أن يَنكح إذا كان رجلاً، أو يُنكح إذا كان امرأة، أو يَخطب أي: خطبة النكاح؛ وذلك لما ثبت في الصحيح من حديث عثمان رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المحرم أن ينَكح أو يُنكح أو يَخطِب)، قالوا: فهذا نصٌ صحيح يدل على التحريم. وذهب الحنفية إلى أنه يجوز للمحرم أن يعقد النكاح ولا يدخل، ويجوز له أن يخطب المرأة وأن يعقد عليها، ولكن لا يدخل بها، ويعتبر الإحرام مانعاً كالحيض والنفاس، فإنه يجوز له أن يعقد على الحائض والنفساء، ولكن لا يجوز له أن يطأها، واحتجوا بحديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بمكة وهو محرم)، وهذا الحديث فيه إشكال كبير عند العلماء، والصحيح: مذهب الجمهور، ويقدم حديث الجمهور من وجوه: الوجه الأول: أنه إذا تعارض الحاظر والمبيح قُدّم الحاظر على المبيح، فحديث الجمهور حاظر، وحديث أبي حنيفة مبيح، فيقدم حديث الجمهور. الوجه الثاني: أنه إذا تعارض القول والفعل، قدم القول على الفعل؛ لأنه تشريعٌ للأمة، والفعل يحتمل الخصوص. الوجه الثالث: أن قول ابن عباس: (وهو محرم) أي: في حرم مكة؛ لأن العرب تسمي من كان في الحرم مُحرِماً، ومنه قول حسان بن ثابت: قتلوا الخليفة ابن عفان بالمدينة محرماً. ومعلوم أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لم يكن محرماً لا بحج ولا بعمرة، وإنما قتل في حرم المدينة، وفي الأشهر الحرم، وبناءً على ذلك وصفه بكونه محرماً، فالعرب تسمي من دخل في الحرمات الزمانية والمكانية محرماً، فكأن ابن عباس يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم عقد على ميمونة في حرم مكة، وهذا من فقه ابن عباس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك مكة مهاجراً، والمهاجر لا يجوز له أن يرجع إلى البلد الذي تركه هجرة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لكن البائس سعد بن خولة)، يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة، فإذا ترك مكة هجرةً فكيف يعقد النكاح فيها؛ لأن عقد النكاح فيها بمثابة الإقامة؟!! فكأن ابن عباس أراد أن ينفي هذا المعنى، فقال: (تزوجها وهو محرم)، يعني: في داخل حرم مكة، وإن كان البناء قد وقع في سرف وهي المعروفة بالنوارية. فالمقصود: أن هذا الحديث يحمل على أن قوله: (وهو محرم) يعني: في الأشهر الحرم، أو في حرم مكة، والقاعدة: أنه إذا تعارض المحتمل والصريح قدم الصريح على المحتمل. الوجه الرابع: أنه إذا كان حديث ميمونة فيه معارضة لحديث ابن عباس، فقد روى أبو رافع وميمونة نفسها: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج وهو حلال، وابن عباس يقول: (تزوجها وهو محرم)، فـ ميمونة صاحبة القصة، وأبو رافع هو السفير بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين ميمونة، فأيهم يقدم؟ لا شك أن صاحب البيت أدرى بما فيه، فـ ميمونة هي التي عقد عليها، ويروى عنها أنه كان حلالاً، وكذلك أبو رافع يروي أنه كان حلالاً، وعلى هذا: فإنه يقدم مذهب الجمهور. أضف إلى ذلك أنه إذا قيل بالتعارض هنا فقد تعارضت رواية أصاغر الصحابة وأكابر الصحابة، والقاعدة: أنه إذا تعارض المروي عن أكابر الصحابة وأصاغرهم قدم المروي عن الأكابر على المروي عن الأصاغر؛ لاحتمال أن يكون ابن عباس رواه بواسطة، خاصة وأنه في ذلك الزمان لم يبلغ الحلم رضي الله عنه وأرضاه.

قتل الصيد

قتل الصيد المحظور الأخير: قتل الصيد. والصيد: هو الحيوان المتوحش المأكول اللحم، والصيد نوعان: صيد بر، وصيد بحر، أما صيد البحر فبالإجماع أنه يجوز للمحرم أن يصيد السمك والحوت ونحوها من صيد البحر، ولكن المحرم عليه هو صيد البر؛ لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96]. والدليل الثاني: قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2]، فمفهوم ذلك: إذا لم تحلوا فلا تصطادوا. وكذلك أيضاً قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95]. فهذه الأدلة تدل على أن المحرم لا يجوز له قتل الصيد، ولا أن يعين على الصيد، لا بالإشارة ولا بالدلالة، فلو كان معه إنسان حلال ولم ير الصيد، فلا يقول له: اذهب وصد كذا، أو انتبه هذه فريسة، أو هذا صيد. إذاً: لا يجوز له أن يصيد، ولا أن يشير للصيد، ولا أن ينبه الحلال على الصيد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي قتادة: (هل أحد منكم أشار إليه أو أعانه؟ قالوا: لا، قال: فكلوا)، فدل على أن المحرم لا يصيد، ولا يأمر بالصيد، ولا يشير، ولا يعين على الصيد، فلو كنت محرماً وعندك حلال يصيد وسقط سلاحه، فلا يجوز أن تناوله، حتى لو قال لك: ناولني، ولا يجوز لك قتل الصيد، ولا كسر جناحه، ولا كسر بيضه، ولا التعرض، له بالإثارة، إنما تمتنع عن ذلك كله؛ وهذا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هل أحد منكم أشار إليه؟ هل أحد منكم أعانه؟)، ولا تأكل الصيد إذا صدته، أو صيد من أجلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (أهدى له الصعب بن جثامة رضي الله عنه حمار وحش فرده، فلما رده تغير وجه الصعب، فلما تغير وجهه قال له النبي صلى الله عليه وسلم يطيب خاطره: إنا لم نرده عليك إلا أنّا حُرم)، فدل على أنه إذا كان الإنسان محرماً وصيد الصيد من أجله أنه لا يأكل ذلك الصيد.

أقسام الصيد بالنسبة للمحرم

أقسام الصيد بالنسبة للمحرم المسألة الأخيرة في الصيد، وهي: ما هو الشيء الذي يحرم على الإنسان أن يصيده؟ وللإجابة نقول: الحيوانات على قسمين: مستأنسة ومتوحشة، فالمستأنس: كالإبل والبقر والغنم والدجاج ونحوها، فهذا يجوز للمحرم أن يقتله، فلو ذبحت شاة أو نحرت بعيراً أو بقرة جاز بالإجماع، لكن المحظور هو صيد المتوحش، والمتوحش: هو الذي ينفر منك، سواءً كان من صيد الطيور، أو من صيد البراري الزاحفة أو الدابة، وهذا الصيد الذي في البر ينقسم إلى قسمين: فإما أن يكون مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم، فمأكول اللحم: كالظباء والريم والغزال وبقر الوحش وحمار الوحش وتيس الجبل، فهذه كلها متوحشة، والطيور: كالحمام والحباري والقماري ونحوها، وهذا كله يحرم صيده، هذا إذا كان مأكول اللحم. أما الدواب المتوحشة التي لا يؤكل لحمها فهل يجوز قتلها؟ نقول: إن الدواب المتوحشة تنقسم إلى ثلاثة أقسام في القتل: فمنها: ما يضر وينفع. ومنها: ما يضر ولا ينفع. ومنها: ما لا ينفع ولا يضر. فما يضر وينفع مثل الأسد، فإنه يضرك بالعدو عليك، وينفعك لو اتخذته وسيلة للصيد، والصقر يضرك، فيمكن أن يهجم على لحمك، أو يهجم على طفل صغير يؤذيه، وقد يهجم على الدواب أحياناً، وكذلك النسر والشاهين والباشق، فهذه تضر وتنفع، وقد قال العلماء فيها: لا يستحب قتلها ولا يكره، فلو قتلتها فلا حرج عليك. النوع الثاني: الذي يضر ولا ينفع؛ كالذئب والدب، فيجوز لك أن تقتله، بل قد يستحب إذا كان يضر ولا ينفع. النوع الثالث: الذي لا يضر ولا ينفع، مثل النمل فإنه لا يضرك ولا ينفعك، إلا أنه قد يضر أحياناً بالقرص، وكذلك مثل الهدهد فإنه لا يضر ولا ينفع ونحوها، فهل تقتل؟ قال بعض العلماء: لا تقتل، إلا من حاجة، فالنمل لا يقتل إلا إذا آذى، وهكذا الذباب والبعوض، قالوا: إذا آذت قتلت، فالحيوانات التي لا يؤكل لحمها يفصل في قتلها على هذه الصورة. فإذا تقرر أن الحيوان إذا كان بحرياً يجوز صيده، وإذا كان برياً يحرم صيده، فما حكم البرمائي، الذي يعيش في البر والبحر، مثل: الضفادع والتمساح، هل يجوز قتله للمحرم؟ A الذي يكون برمائياً ينقسم إلى قسمين: فإن كان غالب عيشه في البر فهو بري، ولو كان يأوي إلى البحر، وإن كان غالب عيشه في البحر فهو بحري، بمعنى: إذا كان تكاثره ووجوده في البحر فهو بحري، وإذا كان تكاثره ووجوده في البر فهو بري، وبهذا يحكم على البرمائيات. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب الجهاد [1]

شرح زاد المستقنع - كتاب الجهاد [1] شرع الله الجهاد لتبقى كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، وهذا يكون الجهاد في بعض الأحيان فرضاً عاماً دون تعيين، وتارة يتعين على بعض الأشخاص، بحسب الحاجة والمصلحة، وهذا كله مبين في النصوص الشرعية بضوابطه وقيوده.

تعريف الجهاد وأهميته ومشروعيته

تعريف الجهاد وأهميته ومشروعيته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الجهاد] الجهاد في اللغة: مأخوذ من مادة جَهَد، وأصل الجَهْد: بذل الوسع والطاقة في تحصيل الأمر، ولا يقال ذلك إلا لأمرٍ عظيم، فيقال: اجتَهَدَ في حمل الصخرة، ولا يقال: اجتهد في رفع الخردلة، فلا يكون الجهاد إلا في الأمر العظيم الذي يحتاج إلى مشقة وعناء. وأما في الاصطلاح: فهو بذل الوسع واستفراغه في قتال أعداء الله؛ لإعلاء كلمة الله عز وجل. وهذه الشعيرة من أعظم شعائر الإسلام، وهي ذروة سنام الإسلام كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت الآيات والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين فضل هذه الشعيرة، وما أعد الله لأهلها من ثواب في الدنيا والآخرة. وقول المصنف رحمه الله: [كتاب الجهاد] أي: في هذا الموضوع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بشعيرة الجهاد.

مناسبة وقوع كتاب الجهاد بين كتابي الحج والبيوع

مناسبة وقوع كتاب الجهاد بين كتابي الحج والبيوع لعل سائلاً يسأل: ما هي مناسبة كتاب الجهاد لكتاب الحج؟ و A أنك إذا تأملت كتاب الحج وجدته كتاباً متعلقاً بالعبادة فيما بين الإنسان وربه. وأما بالنسبة للجهاد فإنه عبادة؛ ولكنه يشتمل على شيء من المعاملة. ولذلك يرد Q ما وجه ذكر المصنف لكتاب الجهاد بعد الحج؟ والجواب: أن المناسبة في ذلك منتزعة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما سألته أم المؤمنين عائشة، فقالت: (يا رسول الله، هل على النساء من جهاد؟ قال: نعم. عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة). فلما فرغ من الحج -وهو العبادة التي تشتمل على المعاني العظيمة من الجهاد- ناسب أن يتبعه بالجهاد في سبيل الله عز وجل؛ لاشتمال هاتين العبادتين على بذل الوسع واستفراغه في طلب مرضاة الله سبحانه وتعالى، فهما عبادتان بالنفس وبالمال؛ ولكن الجهاد من أعظم الأعمال وأحبها إلى الله، وهو أفضل من الحج، ولذلك سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: إيمان بالله، ثم جهاد في سبيله، ثم حج مبرور) فجعل منزلة الحج بعد منزلة الجهاد في سبيل الله عز وجل. فلما فرغ -رحمه الله- من بيان مسائل الحج ناسب أن يعتني ببيان مسائل الجهاد. ثم انظر -رحمك الله! - إلى دقة هذا العالم الجليل، وفقهه، وحسن ترتيبه للأبواب، فإنه ذكر كتاب البيع بعد كتاب الجهاد، ومن تأمل كتاب البيع وجده مشتملاً على المعاملة المحضة؛ لأنه يتعلق ببذل السلع، سواءً كانت من المثمونات، أو من الأثمان بعضها ببعض، فهو معاملة محضة، والحج عبادة محضة، فلو أنه ذكر كتاب البيع بعد كتاب الحج، لكان البون شاسعاً بين البابين، فمن الصعوبة بمكان أن تنتقل من باب يتعلق بالعبادة المحضة إلى باب يتعلق بالمعاملة المحضة -لأن أمور البيع تتعلق بالدنيا كما لا يخفى، ولذلك لا يكون البيع قُربة إلا إذا قصد الإنسان الطاعة فيه والامتثال- فناسب أن يدخل بين الحج وبين البيع باباً متوسطاً، وهو باب الجهاد حيث إن فيه وجهاً من التعبد وفيه وجهاً من المعاملة، فينتقل الفقيه من العبادة المحضة إلى المعاملة المحضة بوسيط بينهما، وبعض العلماء يدخل باب النكاح لكي يكون رابطاً بين أبواب العبادات وأبواب المعاملات، ولكلٍ وجهة؛ ولكن إدخال كتاب الجهاد أنسب وأفضل، خاصة وأن السنة قد أشارت للترابط بين الحج وبين الجهاد.

فرضية الجهاد

فرضية الجهاد يقول رحمه الله: [كتاب الجهاد] هذه الشعيرة شَرَعَها الله سبحانه وتعالى لحكمٍ عظيمة، وأسرارٍ جليلةٍ كريمة، وبيَّن سبحانه وتعالى هذه الشعيرة ودعا إليها في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة على أن الجهاد يعتبر شعيرةً من أعظم شعائر الإسلام، وأحبِّها إلى الله سبحانه وتعالى، وشَرَعَ الله عز وجل الجهاد في المدينة، أما عندما كان المسلمون بمكة فلم يُفرض الجهاد عليهم، ولكنهم لما انتقلوا إلى المدينة فرض الله عليهم الجهاد، وإنما لم يوجب الله عزَّ وجلَّ عليهم الجهاد بمكة لضعفهم وعدم تمكُّنهم من ذلك، وإنما يكلف الله عز وجل العباد ما في وسعهم، والشريعة شريعة رحمة، وتيسير، وليست بشريعة عنت ولا تعسير، ولذلك لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة -دار الهجرة- وآزره ونصره الأنصار، واستقر عليه الصلاة والسلام بالمدينة، أذن الله له بالجهاد في سبيله، {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] فكتب الله عز وجل الجهاد والقتال، فقال سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] وهي آية من سورة البقرة المدنية، والسبب في ذلك أن الناس ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ممتنع عن الإسلام للشُّبَه والعوارض المتعلقة بفكره، فهذا يحتاج إلى قوة الحجة، وبيان السبيل والمحجة، فتكفل الله عز وجل ببيان ذلك في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وجهاد أمثال هؤلاء -غالباً- يتعلق بالعلماء وطلاب العلم؛ فعليهم أن يبينوا لهم سبيل الله عز وجل، ويبينوا لهم ما في الإسلام مِن سماحة ومِن يسر، وأن يزيلوا عنهم الشبه، حتى تطمئن قلوبهم لدين الله، وتنشرح صدورهم لكلمة الله، فينالوا سعادة الدنيا والآخرة. وأما القسم الثاني من الممتنعين عن الإسلام: فهم أقوام تغريهم المادة، يحتاجون إلى الدنيا ويطمعون فيها، فإذا أُغْرُوا بالمال أحبوا الإسلام وأقبلوا عليه، فبعدها إذا رأوا قوته وصدقه اطمأنت قلوبهم بدون الدنيا، وهؤلاء هم المؤلفة قلوبهم، وقد أعطاهم الله عز وجل حظاً في الزكاة، وجعل لهم سهماً من سهامها، وفعل ذلك نبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه -بأبي هو وأمي- يوم حنين، فأعطى عطاءَ مَن لا يخشى الفقر، فاطمأنت قلوب المؤلفة قلوبهم حتى وثقوا بدين الله، واستسلموا لشرع الله عز وجل. وأما القسم الثالث: فهم الذين يعاندون ولهم منعة وقوة، فيحتاجون إلى كسر الشوكة، وإرغام الأنوف، فإذا أرغمت أنوفهم على الإسلام ورأوا قوة الإسلام، أذعنوا وذلوا لله واستسلموا، فهذا القسم يحتاج إلى جهاد، ويحتاج إلى قوة وتضحية، وبيع للأنفس في سبيل الله عز وجل، وهي التجارة التي لا يبور أصحابها، وقد تكفَّل الله لمن خرج لها: إما أن ينال الشهادة فتقر عينه بجنة عرضُها كعرض السماء والأرض، وبما تكفَّل الله له به من رضوان مقيم، وهو أكبر من ذلك النعيم، وتكفَّل الله له بالفضائل في برزخه، وفي حشره ونشره، فينال بذلك البيع سعادةَ الدنيا والآخرة. وإما أن يرجع إلى أهله سالماً، نائلاً ما نال من الغنيمة وسهم الدنيا العادل، مع ما ينتظره عند الله سبحانه وتعالى من الأجر. وقد جاهد رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، وجاهد الخلفاء الراشدون، وجاهد السلف الصالح من هذه الأمة، ولم تزل هذه الشعيرة باقية، ولا تزال إلى يوم القيامة، ليجاهدوا مَن كفر بالله ورسوله، حتى يدين بدين الحق، و {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]. والإسلام دين سماحة ويسر؛ ولكن السماحة واليسر إذا وضعت في غير موضعها كانت جُبناً وخَوَراً، ولذلك هو دين رحمة ويسر وسماحة لمن يستحق الرحمة ولمن هو أهل أن يُرْأَف به، وأما من كفر بالله ورسوله وعادى الله ورسوله، وأعلن البراءة من دين الله، فقد كفر نعمة الله عز وجل عليه، واعتدى على حدود الله، وخرج عن الأصل الشرعي الذي من أجله أوجده الله في هذا الوجود، وهو توحيدُ الله وإفرادُه بالعبادة، فاستحق أن يُزال من هذا الوجود، لتبقى كلمة الله هي العليا. وفي هذا الجهاد حِكَمٌ عظيمة، وأسرار جليلة كريمة، فإن المسلمين إذا لم يغزوا أعداء الله غزاهم أعداء الله، فإن القلوب فيها حنق وغيظ على هذا الدين، وأصحاب الحق على مر الزمان وتعاقبه وتتابع الدهور لا يمكن أن يسلَموا من أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك جعل الله عزة هذه الأمة في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وجعل كرامتها في إقامة هذه الشعيرة العظيمة، ومَن تأمل حال المسلمين وجد أنهم إذا قاموا بهذا الأمر العظيم قام لهم أمر الدين والدنيا والآخرة، ونالوا سعادة الدنيا والآخرة، وأعزهم الله وقذف الرعب في قلوب أعدائهم، وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نصرت بالرعب مسيرة شهر -وفي رواية-: مسيرة شهرين) قال العلماء: إن هذا الرعب الذي يقذفه الله في قلوب أعداء الإسلام، هو للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده، فمن استقام على دين الله واستسلم لله ظاهراً وباطناً، فإن الله يُعِزُّه ويَرْفَعُ شأنَه، ويُعْظِمُ شأوَه، ويجعل له كرامةَ الدنيا والآخرة.

أقسام الجهاد

أقسام الجهاد والجهاد منقسم إلى أقسام: الأول: يكون بالجَنان. الثاني: ويكون باللسان. الثالث: ويكون بالجوارح والأركان. فأما جهاد الجَنان: فهو بغضهم في الله، وعداوتهم في الله عز وجل، فمَن أحب في الله وعادى في الله فقد ذاق طعم الإيمان وحلاوته، ولا يمكن أن ينال العبد ولاية الله سبحانه حتى يحب بحب الله، ويبغص ببغض الله، فإذا فعل ذلك فإنه ينال حلاوة الإيمان، ويجد طعم الإسلام الذي أسلم به لله عز وجل ظاهراً وباطناً. وأما الأمر الثاني: فهو جهاد اللسان، وهذا أعظم ما يكون وأكمل ما يكون من العلماء العاملين والأئمة الصديقين، الذين هم هداةٌ مهتدون، يقولون {بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:159] {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ} [الأحزاب:39]، فأعداء الله يحتاجون إلى جهاد الكلمة، ومما يدخل في جهاد الكلمة جهادُ الشعراء وقولُ الشعر، وتأليفُه ونَظْمُه لنصرة دين الله وإعزازه، ورفع كلمة الله عز وجل، وشحذ الهمم إلى مرضاة الله، وتقوية الإيمان في القلوب، وقد أثنى الله عز وجل على هذا الصنف، كما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (لما نزل قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] جاء كعب بن مالك وحسان بن ثابت رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: قد علمتَ ما أنزل الله في الشعراء، فأنزل الله عز وجل: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:227]) فاستثنى الله عز وجل هؤلاء؛ لأن هذا من جهاد الكلمة. وأما النوع الثالث: فهو جهاد الجوارح والأركان، وهذا هو المقصود هنا بقول الفقهاء: (كتاب الجهاد)، فإنهم يبينون الأحكام التي ينبغي للمسلم أن يلم بها إذا أراد القيام بهذه الشعيرة. فالجهاد في سبيل الله عز وجل له ترتيبه، وله ضوابطه، وله أحكامه ومسائله، وقد بيَّن الله عز وجل هذه المسائل والأحكام في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وبيَّن السلف الصالح ومَن بعدهم أحكامَ الجهاد، وفصَّلوها في كتبهم.

حكم الجهاد

حكم الجهاد يقول رحمه الله: [كتاب الجهاد]: أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بشعيرة الجهاد.

الجهاد فرض كفاية

الجهاد فرض كفاية [وهو فرض كفاية] (وهو) الضمير عائد على الجهاد، وأما حكمه (فرض كفاية). أما كونه فرضاً: فلأن الله أمر به، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:123]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم:9]، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اغزوا في سبيل الله)، والعلماء -رحمهم الله- مجمعون على فرضية الجهاد من حيث الجملة، وجماهيرهم على أنه فرض كفاية؛ ولكن ذهب بعض السلف إلى أنه فرض عين، وهذا القول احتج أصحابه بعموم الآيات التي فيها الأمر بالجهاد في سبيل الله عز وجل، والتي فيها الأمر بالنفير، وقتال أعداء الله عز وجل؛ ولكن هذا القول يعتبر مرجوحاً؛ لأن النصوص دالة على أن الجهاد ليس بفرض عين، وإنما هو فرضٌ على الكفاية، والدليل على ذلك ما ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن- أنه ذكر آيات النفير التي في سورة التوبة -وهي أقوى الحجج لمَن قال بفرضية العين، ويقول به أفراد من العلماء وبعضُ السلف، وهم قلة جداً- وقال: نسخها قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً} [التوبة:122] فإن هذه الآية الكريمة التي هي في آخر سورة التوبة قد بيَّن الله سبحانه وتعالى فيها أن الجهاد ليس بفرض عين، حيث قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً} [التوبة:122]، ولو قلنا بظاهر قوله تعالى: {انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] ونحو ذلك من الآيات الموجبة للجهاد، فإن معنى ذلك أن ينفر المسلمون كافة، ولذلك قال ابن عباس: نسخها قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة:122] فجعل النفير مختصاً بالبعض دون البعض، ولذلك ذهب جماهير الأمة من السلف والخلف إلى أن الجهاد يعتبر فرضاً على الكفاية، بمعنى: أنه لو قام به البعض سقط الإثم عن الباقين. وعلى هذا: فإن المعتبر به قيام مَن تنسد به الحاجة، وإنما يتعين الجهاد في أحوال ثلاث، وهذه الأحوال وردت النصوص في كتاب الله وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبيِّن فرضية الجهاد فيها على العين، وأن مَن كان مِن أهلها تعين عليه أن يجاهد، وسيأتي بيانها ويذكرها المصنف رحمه الله. قوله رحمه الله: (وهو فرض كفاية)، ابتدأ ببيان حكم الجهاد وأنه واجب على الكفاية أي: إذا وجد مَن يسد الثغر ويقوم به، سقط الإثم عن الباقين، وإلا أثم الكل. قوله: [ويجب إذا حضره، أو حصر بلده عدوٌّ، أو استنفره الإمام] قال رحمه الله: (ويجب إذا حضره) قوله: (ويجب) أي: يتعين. قبل أن ندخل في تفصيلات المسائل، يحسن بنا أن نبين على مَن يجب الجهاد؟

الشروط التي يجب بها الجهاد

الشروط التي يجب بها الجهاد يجب الجهاد ويفرض على من توفرت فيه الشروط التالية: أولها: الإسلام: لأن الله عز وجل خاطب به المسلمين دون غيرهم. وثانيها: البلوغ: فإن الصبيان لا يجب عليهم أن يجاهدوا في سبيل الله عز وجل، ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر عن الغزو لصغر سنه، ففي الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: (عُرِضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فلم يجزني -وفي رواية للبيهقي: ولم يرني قد بلغت- وعُرِضت عليه يوم الخندق، فأجازني. وفي رواية: ورآني قد بلغتُ) ولقد أخذ العلماء من هذا دليلاً على أن الجهاد لا يجب على الصبيان؛ ولأن الأحكام والتكاليف إنما تجب على من بلغ الحلم، قال عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة. -وذكر منهم- وعن الصبي حتى يحتلم) فدل على أن الصبي لا يتعين عليه فعل الواجبات ولا يجب عليه الجهاد، ولكن لو تطوع الصبي ودخل إلى المعركة، أو احتيج إليه فدخل فيها، فهذا لا بأس به؛ لكن أن يؤمر بذلك أو يُحمل عليه، فهذا تحميل له لما لا يطيقه، وهو من المستضعفين الذين استثناهم الله عز وجل وعذرهم في كتابه. الشرط الثالث: العقل: فلا يجب الجهاد على مجنون، فإن المجنون لا يستطيع أن يحصل مصلحة نفسه، فكيف بالقيام بالجهاد في سبيل الله، وإذا سقط التكليف عن المجنون بالإجماع وبقوله عليه الصلاة والسلام في الثلاثة الذين رفع عنهم القلم كما في الحديث الصحيح: (وعن المجنون حتى يفيق)، فبالإجماع لا يجب الجهاد على مجنون. الشرط الرابع: أن يكون ذكراً: وأما النساء فلا يجب عليهن الجهاد، ولا يقاتلن؛ ولكن إذا خرجن لنفع المجاهدين، بسقي العطشى، ومداواة الجرحى والمرضى بالضوابط الشرعية فلا بأس، ففي الحديث الصحيح عن أم عطية رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: (كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، نداوي الجرحى، ونسقي المرضى) ولذلك قال العلماء: إن المرأة تداوي الرجل في مثل هذه الحالة؛ لأنه من شدة الألم ووجود الجرح، يعزب عنه رشده، ويذهب عنه إدراكه، فيكون منشغلاً بالألم عن الفتنة، ومن هنا كان من مرونة الشريعة إباحة ذلك لوجود الحاجة، وتعلق ما يقصده الشرع من جلب المصلحة ودرء المفسدة بوجودها، كذلك أيضاً: ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما جُرِح، وشُجَّ -بأبي هو وأمي- يوم أحد، وجَعَل الدم ينزف، جاءت فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، فكانت تصب من الدرقة عليه صلوات الله وسلامه عليه والجرح ينزف، حتى أخذت حصيراً فأحرقته ثم سدت به الجرح فاندمل ووقف الدم، فهذا يدل على أنه لا بأس بشهود النساء الغزو لمصلحة، مع أمن الفتنة والمحافظة على الضوابط الشرعية. الشرط الخامس: الحرية: فالعبيد والإماء لا يجب عليهم الجهاد لانشغالهم بخدمة أسيادهم. الشرط السادس والأخير: القدرة على الجهاد في سبيل الله عز وجل:- فأما مَن كان مريضاً أو كان شيخاً كبيراً في السن، فأمثال هؤلاء لا يجب عليهم الجهاد، وهكذا إذا احتيج في الجهاد إلى مركب، وليس عنده مركب، ولا يستطيع أن يمشي على رجليه، {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92]، فكان الصحابة -رضوان الله عليهم- فقراء الأيدي؛ ولكنهم أغنياء في قلوبهم بالله عز وجل، وكان الرجل منهم قد لا يجد إلا لباسه الذي يواري به سوأته وعورته، وقد يمر عليه اليوم واليومان ولا يجد طعاماً، ولا يجد إلا قدر كفايته، فكان الرجل منهم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله أن يخرج إلى الجهاد، فيعتذر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لا يجد مركباً يُرْكِبُه عليه، فمن قوة إيمانه وحبه لله ورسوله وحبه لهذا الدين وحبه للشهادة في سبيل الله عز وجل يبكي بكاءً شديداً {تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا} [التوبة:92]، فجمع الله لهم في هذه الآية بين أمرين: بين حزن القلب. وحزن القالب. فحزن القلب في قوله: (حَزَناً)، وحزن القالب في إفاضة العين من الدمع، يقال: فاض الوادي إذا كثر ماؤه، فقال الله عز وجل: (تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ) ولم يقل: تدمع، وإنما قال: (تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ)، فهذا يدل على كمال حبهم لله عز وجل، وإيثارهم لمرضاة الله سبحانه وتعالى على حظوظ النفس. فإذا كان الرجل لا يجد الطاقة والقوة على أن يغزو راجلاً، ولم يجد ما يركبه، فإنه حينئذٍ يعتبر معذوراً، فإن خرج من لا يجب عليه الغزو، كشيخ كبير أو مريض، أو خرج مَن لا يجد المركب، فمشى على قدميه، فهذا فضل منه، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. فهذه الشروط ينبغي توفرها للحكم بفرضية الجهاد، فلا يجب الجهاد إلا إذا توفرت هذه الشروط، ولا يصير على الإنسان فرضاً إلا إذا استجمع هذه الشروط المعتبرة لفرضيته.

الحالات التي يصير الجهاد فيها فرض عين

الحالات التي يصير الجهاد فيها فرض عين وقوله رحمه الله: (ويجب إذا حضره) يقال: حضر الشيء إذا شهده، وهناك أحوال للجهاد في سبيل الله: منها حالة الخروج للجهاد. ومنها حالة شهود الوقعة.

إذا التقى الصفان وتقابل الزحفان

إذا التقى الصفان وتقابل الزحفان فأما الحالات التي يصير الجهاد فيها فرض عين: أولها: أن يشهد الوقعة، ويكون حاضراً فيها، وهذا يعبر عنه العلماء رحمهم الله بجمل مختلفة: فمنهم مَن يقول: (يجب إذا حضره)، أي: حضر الوقعة، كما عبر به المصنف رحمه الله. ومنهم مَن يقول: (إذا التقى الصفان). ومنهم مَن يقول: (إذا تقابل الزحفان). والمعنى واحد، وهو: أن يحضر الوقعة، ويقابل العدو، فإذا لقي العدو فإنه لا يجوز له أن يتولى، وهذا من التولي يوم الزحف، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16]، فحرم الله عز وجل على مَن لقي العدو أن ينكص على عقبيه، فإذا نكص على عقبيه فقد خسر الدنيا والآخرة، إلا فيما استثناه الله عز وجل. قال العلماء: إن هذه الآية الكريمة نصٌّ في وجوب الجهاد ووجوب القتال على من قابل العدو ولقيه، فما عليه إلا أن يصبر، وأن يتوكل على الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ} [الأنفال:45]، فأمر الله بأمرين: الأمر الأول: يتعلق بالقلوب: وهو ما عناه سبحانه بقوله: (فَاثْبُتُوا). وأما الأمر الثاني: فما يجمع بين القلب والقالب (وَاذْكُرُوا اللَّهَ) فإن رأيتم عظَمةً من عدو الله فاعلموا أن الله أعظم، وإن كبُر في أعينكم فالله أكبر وأجل سبحانه وتعالى، يَغلِب ولا يُغلَب وهو القوي العزيز. فإذا تقابل الزحفان، فإنه يتعين الجهاد بإجماع العلماء، وفي هذه الحالة إذا فر الإنسان أو عَدَل عن الجهاد، أو انخذل -والعياذ بالله- إلا فيما استثنى الله عز وجل -المتحرف للقتال، أو المتحيز إلى فئة- فإنه يبوء بغضب من الله، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اجتنبوا السبع الموبقات -أي: المهلكات، نسأل الله السلامة والعافية! فإنها تهلك صاحبها- وذكر منها: والتولي يوم الزحف)، فالتولي يوم الزحف فيه غضب الله وسخطه، قال العلماء: لأنه يدل على الخوف من أعداء الله، وخذلان دين الله؛ لأن العدو ينظر للإسلام بمن حظر الوقعة، فإذا كان أهل الإسلام على ثبات وقوة كان ذلك أرضى لله سبحانه وتعالى، وأعلى لدينه، وأقوى شكيمةً في وجه العدو، وأقوى بأساً في طاعة الله عز وجل ومرضاته، والله يحب الذين يجاهدون ويُظْهِرون القوة والجَلَدة في جهادهم، فإذا أظهر الخذلان، ونكص على عقبيه، فإن هذا -نسأل الله السلامة والعافية- خذلان لدين الله وخذلان لعباد الله، فإنه إذا تولى خذَّل غيره، وإذا جبُن فإنه يُضعِف غيره، بخلاف ما إذا ثبت، وذكر الله سبحانه وتعالى وقويت عزيمته على الخير وطاعة الله ومرضاته، فإنها تقوى عزائم مَن معه، وإذا تولى وكان قدوة للغير فالأمر أعظم وأشد: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13] نسأل الله السلامة والعافية! والعكس بالعكس، فإذا ثبت وثبت الناس بثباته، وقووا بقوته وصبره وجَلَده، فإنه ينال أجره وأجر من كان معه. فهذه هي الحالة الأولى التي يتعين الجهاد: إذا تقابل الزحفان والتقى الصفان، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله. وفي هذه الحالة لا يجوز له أن ينسحب أو يترك اللقاء إلا بإذن خاص من الإمام، فإذا كانت للإمام أو القائد مصلحة في أن يبعثه في طلب غوثٍ، أو نجدةٍِ، أو يبعثه في أمر يتعلق بمصلحة الجيش أو نحو ذلك، فإنه لا بأس أن يتخلف عن شهود هذه الوقعة والله يكتب له أجرها؛ لأنه تخلف لعذر، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة العسرة التي هي من أشد الغزوات على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها كانت في شدة الحر، وابتلى الله عز وجل فيها المسلمين بلاءً شديداً، فلما قطعوا المسافات الشاسعة وابتعدوا عن المدينة، ووصلوا إلى تخوم الشام، إذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بالمدينة رجالاً، ما سلكتم شِعباً، ولا قطعتم وادياً، إلا كانوا معكم وشاركوكم الأجر، قالوا: يا رسول الله! كيف وهم في المدينة؟ قال: حبسهم العذر) فمن حُبِس عن وقعةٍ لعذر فأجره كامل.

إذا دهم العدو بلاد المسلمين

إذا دهم العدو بلاد المسلمين قوله: [أو حصر بلده عدوٌّ] وهذه هي الحالة التي يسميها بعض العلماء: (حالة الهجوم) أن يهجم العدو على بلد أو على قرية أو على مدينة، فكل من في هذه المدينة يجب عليه أن يقاتل، وأن يدافع عن نفسه، فيقاتل الرجال وتقاتل النساء، ولا بأس عليهن في ذلك -إذا كن يحسنَّ القتال والنكاية بالعدو- أن يقاتلن، ويحمين حوزة الإسلام ويحفظن ثغره. وهذه الحالة هي حالة دهم العدو على البلد. ففي الحالة الأولى والثانية، وفي الحالة الثالثة التي سيذكرها المصنف، لا يستأذن الإنسان والديه، ولا المدين من دائنه، ولا العبد من سيده، ولا المرأة من زوجها، بل يدفع كلٌّ على قدر وسعه، وطاقته، وتكون هذه الحالة حالة ابتلاء، وهي من الأحوال المستثناة كما ذكرنا، ويكون الجهاد والقتال فرض عين كالصلاة، فكما أن الصلاة تجب على المسلم بعينه، فيجب عليه أن يقاتل كيفما استطاع وهذا كله من حكمة الشرع، فإن الأحوال تختلف، ولكل حالة حكمها. فلو قلنا في هذه الحالة: يستأذن والديه، لانعدمت ثغورٌ، وهلكت أنفسٌ، وفنيت الأرواحُ والأجسادُ، وكان ذلك أعظم ما يكون بلاءً على المسلمين، ولذلك يسقط الاستئذان في هذه الحالة، حتى أن الله سبحانه وتعالى أسقط عن المكلفين أركان الصلاة كالركوع والسجود في هذه الحالة، وهي حالة احتدام القتال وحالات الهجوم، فقال العلماء: إذا حاصر العدوُّ بلداً -سواءً حاصر، أو هجم على البلد وقاتل- ففي هذه الأحوال كلها يتعين على مَن في تلك البلدة أن يقاتل، وأن يدفع على قدر استطاعته، وعلى قدر وسعه: و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]. فإذا قال العلماء: (يتعين ويجب) فإنه يسقط -كما ذكرنا- استئذان الوالدين، واستئذان المدين من دائنه. والأصل في هذه الحالة، -إذا هجم العدو على البلد، أو حاصر مدينة- أنها في حكم تقابل الصفين، والتقاء الزحفين، فكما نصت الآيات على أن تقابُلَ الزحفين والتقاء الصفين يتعين فيه الجهاد على مَن شهد، كذلك إذا حاصر العدو بلداً، فإن الحصار مقابلةٌ من العدو للمسلمين، وهي بلا إشكال في حكم التقاء الصفين، وتقابل الزحفين.

من استنفره الإمام للخروج للجهاد في سبيل الله

من استنفره الإمام للخروج للجهاد في سبيل الله قال رحمه الله: [أو استنفره الإمام] السين، والتاء: للطلب، والنفير: طلب الخروج، والمراد هنا: طلب الخروج الخاص وهو الخروج للجهاد في سبيل الله عز وجل. وهذه هي الحالة الثالثة التي يصير الجهاد فيها فرض عين، وهي: أن يطلب ولي الأمر من المسلمين الخروج للجهاد، فيجب عليهم أن يخرجوا، ويتعين على كل من أطاق القتال أن يخرج، فيخرج بدون إذن والديه، ويخرج أيضاً بدون إذن دائنه ومَن له حقٌّ عليه، ويخرج كل من أطاق القتال على الصورة التي ذكرناها في الحالتين السابقتين. ولا يستنفر الإمام إلا في أحوال مستثناة، وهي الأحوال التي يكون الخطر على الأمة، أو الخطر على جماعة، ولذلك لا يستنفر، إلا لمصالح عظيمة، أو درء مفاسد أعظم، ولذلك تكون هذه الحالة من الأحوال التي يتعين فيها الجهاد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة:38] وهذا الاستفهام استفهام إنكاري، ولذلك يقول العلماء: إنه من القرائن والدلائل التي تدل على حرمة الفعل، فمن استُنْفِر للجهاد في سبيل الله وامتنع فإنه يعتبر مخالفاً لأمر الله عز وجل، مرتكباً لما حرم الله، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: (لا هجرة بعد الفتح؛ ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا). وفي حكم الاستنفار مَن رُتِّب للقتال، فجاء الأمر بخروجه، فإنه يتعين على جميع الأفراد أن يقاتلوا، ولا يجوز لهم أن يتخلفوا، ولا أن يحتالوا بالامتناع عن الخروج، ويأثمون إن فعلوا ذلك. فيصير الجهاد في هذه الأحوال فرض عين، يأثَم الإنسانُ بتركه، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله.

الرباط ومدته وفضائله

الرباط ومدته وفضائله قال رحمه الله: [وتمام الرباط أربعون يوماً] الرباط في سبيل الله هو: حراسة الثغور، والثغور هي التي تكون بين المسلمين وبين أعداء الإسلام وتحتاج إلى حفظ؛ لأن العدو لا يؤمَن غدرُه، ولا يؤمَن ضررُه، ولذلك لا بد من السهر في حماية الثغور، وهذا العمل من أجلِّ الأعمال وأحبِّها إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها) وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه)، أي: فيما سوى الثغر؛ لأن المرابط في سبيل الله عينه تحرس المسلمين، وتحرس عوراتهم وأعراضهم وأموالهم ودماءهم، فهو قائم على ثغر عظيم من ثغور الإسلام، فإذا سَهِرَت عينُه على هذا الثغر، فإن الله يحرِّمها على النار؛ فإن العين التي تسهر في حراسة الثغور، تُعْتَبر ساهرةً في مرضاة الله عز وجل، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل العيون باكية -أو دامعة- يوم القيامة، إلا ثلاثة أعين: عين بكت من خشية الله، وعين سهرت في سبيل الله، وعين غضَّت عن محارم الله)، قال العلماء: (كل العيون باكية، أو دامعة): إشارةٌ إلى بلائها وحزنها، (إلا ثلاثة أعين): إشارة إلى نجاتها وعظيم ما أعد الله لها من الثواب، فلا تبكي يوم القيامة ولا تحزن، وهذا يدل على أنه ينتظرها من الله مِن عظيم الثواب وعظيم الجزاء الخير الكثير، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها). وإنما يكون هذا الفضل الذي أعده الله للمرابط -وكذلك الفضائل التي وردت في الشهادة في سبيل الله عز وجل- لمن أراد وجه الله عز وجل، فلم يخرج من بيته للجهاد رياءً ولا سمعةً ولا تفاخراً، ولا حميةً عن نفسه، ولا عن أهله، ولا عن داره وبلده، وإنما خرج لله وفي الله، (قالوا: يا رسول الله! الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل ليُرَى مكانَه، والرجل يقاتل للمغنم، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ -أي: أيُّهم يكون له الفضل الذي ذكرته للمجاهد في سبيل الله؟ - فقال صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) فخص قوله: (في سبيل الله) بقصد وجه الله سبحانه وتعالى. فإذا ذكر الرباط وفضله، وما فيه من الخير والأجر والثواب، فإنما هو لمن أخلص، وأراد وجه الله سبحانه وتعالى، وأما مَن فعل ذلك حميةً، أو من أجل أن يُرَى مكانَه، أو ليثني عليه الناس، فإنه يتعجل حظَّه في الدنيا، فإذا وافى الله عز وجل، لم يوافِه بشيء، وفي الحديث: (أن العبد إذا أتى يوم القيامة بحسناته، قال الله عز وجل له: اذهب وخذ أجرك ممن عملت له) فالله سبحانه وتعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه، وفي الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي غيري، تركته وشركه)، وقال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]. فالرباط له هذا الفضل العظيم، إذا أخلص الإنسان فيه النية. وإذا تأمل المسلمُ الرباطَ، وجد فيه حفظ الثغور، ولذلك قال بعض العلماء فتفاضل أنواع الجهاد، حتى إن بعضهم يقول: إن حراسة الأنفس وتأمين السبل، قد يفضُل على جهاد الطلب؛ لأن الجهاد ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: جهاد الطلب. والقسم الثاني: جهاد الدفع. فأما جهاد الطلب: فهو الذي يُطْلَب فيه العدو في أرضه، ويغزو المسلمون فيه الكفارَ في أرضهم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعَلَ الصحابة مِن بعده، والسلف الصالح مِن بعدهم. وأما جهاد الدفع: فهو أن يدهم العدو بلاد المسلمين فيدفعونه، وهذا يسمى جهاد الدفع. فالرباط يعين على جهاد الدفع، وقد وردت فيه الفضائل، حتى ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن المرابط إذا مات في رباطه أجرى الله عز وجل عليه الأجر إلى أن تقوم الساعة) فله أجره وثوابه إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، وهذا لعظيم بلائه، ومن هنا قال العلماء: من سعى في حراسة المسلمين أثناء نومهم وحرس أعراضهم أو كان يعس في الليل، فإنه لا يبعُد أن ينال من الأجر ما هو قريب من الرباط؛ لأن مثل هذه الثغرات التي يخاف الناس فيها على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم بلاؤها عظيم، ومن هنا كان بعض السلف ويُروَى عن الإمام مالك -رحمه الله- أنه كان يرى أن تأمين السبل للحجاج والمسافرين خوفاً ممن يقطع الطريق عليهم أفضل من جهاد الطلب وذلك لعظيم البلاء فيه. وقوله: (وتمام الرباط) الرباط ينقسم إلى قسمين: الرباط الكامل والتام: وهو أربعون يوماً، وقد جاء فيه الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تمام الرباط أربعون يوماً) فمن رابط أربعين يوماً فقد تم رباطه، وينال فضائل الرباط التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث حسنه بعض العلماء رحمهم الله. و (تمام الرباط أربعون يوماً)، أي: أنه إذا رابط في الثغور أربعين يوماً، فإنه ينال هذه الفضيلة -أعني: فضيلة الرباط- فإذا زاد فوق ذلك فإنه يكون فضلاً وزيادةً له في الأجر، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من مات مرابطاً في سبيل الله عز وجل، فإن الله يؤمِّنه من الفتان، أي: أنه يؤمَّن من فتنة القبر، وهذا من أعظم ما أعد الله عز وجل له حيث يحفظ من فتنة القبر، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الشهيد: (هل يفتن في قبره؟ فقال -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه: كفى ببارقة السيوف فتنة له) أي: كفى أنه قتل في ذات الله جل جلاله، فإن هذا من أعظم الشهادة له بأنه مؤمن بالله عز وجل واليوم الآخر؛ لأنه باع نفسه لله وآثر ما عند الله على الدنيا.

استئذان الوالدين في الجهاد إذا كان فرض كفاية

استئذان الوالدين في الجهاد إذا كان فرض كفاية قال رحمه الله: [وإذا كان أبواه مسلمين لم يجاهد تطوعاً إلا بإذنهما] شرع -رحمه الله- في بيان المسائل التي يجب فيها الاستئذان قبل الخروج إلى الجهاد، وهذه المسائل وردت بها النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز للمسلم أن يخرج للجهاد إذا كان أبواه موجودين إلا بإذنهما، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أتيت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد، قال: أحيٌّ والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد) فدل هذا الحديث الصحيح على أن جهاد مَن له والدان، أو أحدهما هو البر به، وذلك هو جهاده، والسبب في ذلك أن للوالدين حقاً عظيماً على الولد، وأن الله وصى الولد بوالديه إحساناً، وأن الخروج للجهاد في سبيل الله فجيعةٌ لهما، وتعرضٌ للهلاك، فقد يهلك الوالدان بسببه إذا أصابهما الجزع والسخط على قضاء الله وقدره، فينجوَ الولد ويهلك الوالدان. والسبب في هذا أن الله قذف في الوالدين رحمة -وهي في قلب الوالد والوالدة- لا يستطيع أحدهما أن يملك نفسَه معها، أما الوالد فقد قص الله علينا في كتابه وبيَّن لنا ما يجده في نفسه لولده، وذلك في قصة يعقوب مع ابنه يوسف عليهما السلام، فإن هذه القصة لما ذكرها الله سبحانه وتعالى وبيَّنها في كتابه قال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [يوسف:111] فأخبر أنها عبرة، فتحتاج إلى شيء من التأمل. فانظر -رحمك الله- إلى نبي من أنبياء الله، لما فقد ابنه يوسف -وهو يعلم أنه سيعود إليه- حزن حزناً شديداً وابيضت عيناه من الحزن وفقد بصره، حتى قالوا له: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:85 - 86] أي: أنه يجد لوعة الفراق وألم الفراق، ومع أنه يعلم أن يوسف سيعود إليه، ومع أنه نبي ومِن أولي العزم، ومِن أهل الصبر والقوة، ومع ذلك لم يتحمل فراقه مع ثقته بعودته إليه، وقال {إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:96]. فهذا يدل على أن في قلب الوالد لولده من الحنان والشفقة ما لا يملكه الولد، ومن هنا كان مِن الخطأ أن يظن الشاب أن قضية استئذان الوالدين لحاجة الوالدين، وأنه إذا وُجِد من يقوم مقامه أن ذلك يكفي، وهذا من الرأي في مقابل النص، ومن عدم التأمل والفقه عن الله ورسوله؛ لأن الأمر راجع إلى الرحمة، فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن في قلب الوالد لولده رحمة، فعندما دمعت عيناه لفراق ابنه إبراهيم: (قالوا: يا رسول الله! ما هذا؟ قال: رحمة أسكنها الله في قلوب عباده)، فهذه رحمة أسكنها الله في قلب الوالد لولده، فمنهم مَن يتجلد ويقوى إيمانه ويصبر فيأذن لابنه، فإذا أذن لابنه فلا إشكال، فهو أدعى أن يصبر إذا فُجِع به؛ ولكن إذا خرج الابن من دون إذنه، فُجِع الأب به، وتعذَّب بفراقه، وتألم لذلك الفراق، فكأن الابن يتسبب في أذيته والإضرار به، شعر أو لم يشعر، فهذا راجع إلى ما أسكنه الله في قلب الوالد لولده. أما الأم فأمرها أشد، وحنانها أعظم، ورحمتها أكبر، ولذلك لما أراد رسول الأمة صلى الله عليه وسلم أن يضرب المثل في رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، ويبين عظيم ما أعد الله لعباده من الرحمة، قال صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا. قال: لَلَّهُ أرحم بعباده من هذه بولدها!). ففي الأم من الحنان والشفقة والرحمة ما الله به عليم، فإذا كان الأب وهو رجل، تفيض عيناه من الدمع، وقد يصاب بالعمى كيعقوب عليه السلام حين فقد بصره، فما بالك بالأم. ومن هنا يُعلم أن الأمر راجع إلى الرحمة، وكان فقه السلف على هذا، ففي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كان هلال بن أمية -أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا في غزوة العسرة وتاب الله عليه، وهو هلال بن أمية رضي الله عنه وأرضاه، ورضي الله عن جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -كان له ابن اسمه: أمية، وكان أمية من أبر الناس بأبيه، وأكثرهم عطفاً عليه، فلما جاءت الفتوحات أيام عمر خرج للجهاد في سبيل الله، فبكى عليه هلال رضي الله عنه، حتى كُفَّ بصرُه من كثرة البكاء، واشتاق وحنَّ إليه حنيناً عظيماً، وبلغ الخبر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فكتب إلى أبي عبيدة: (إذا بلغك كتابي هذا فابعث إليَّ بـ أمية بن هلال، فما هو إلا أن جاءه أمية رحمه الله، ووقف عليه، ولم يعلم بخبره إلا عمر رضي الله عنه وأرضاه، فقال: (يا أمية! ما حالك مع أبيك؟) فذكر له من البر شيئاً عظيماً، فقال: (اجلس ولا يعلم أحد بمكانك)، ثم دعا أباه، -وهو هلال رضي الله عنه- فجاء وهو شيخ حُطَمَة، قد كُفَّ بصرُه وخارت قواه، ثم جلس فقال: (يا هلال! ما بلغ بر ابنك بك؟) فذكر له بره، ثم أمر ابنه أمية أن يحلب له الناقة، فلما جيء له بالشراب، وأدنى الإناء إلى فمه، قال رضي الله عنه: (والله يا أمير المؤمنين، إني لأجد ريح أمية في الإناء)، وهذا كما أخبر الله عز وجل عن نبيه يعقوب: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [يوسف:94]. فهذه رحمة سكنت في القلوب، فليس الأمر باجتهاد، ولا برأي، ولا بمقابلة النصوص، ولا بعاطفة؛ ولكنه أمر يرجع إلى حكم الله، فالذي أمر بالجهاد هو الذي أمر ببر الوالدين، والذي نهى عن التخلف عن الجهاد في سبيل الله ينهى عن عقوق الوالدين، وعن التسبب في أذيتهم، والإضرار بهم. فيجب على المسلم أن يستأذن والديه في غير الأحوال التي يتعين فيها الجهاد في سبيل الله عز وجل، ويشمل ذلك الوالد والوالدة، وإذا أذِنَ أحدهما وامتنع الآخر، فإنه لا يكفي ذلك، ويجب عليه أن يبقى، وأمرُ الأم أشد من أمر الأب. وقد بينا أن هذا الأمر دلت عليه النصوص، ونص الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية -رحم الله الجميع- على أنه يجب على الولد أن يستأذن والديه قبل الجهاد في سبيل الله عز وجل ما لم يتعين عليه الجهاد.

اسئذان الوالدين الكافرين

اسئذان الوالدين الكافرين وظاهر العبارة التي ذكرها المصنف: (وإذا كان أبواه مسلمين)، مفهومها أنهما إذا كانا كافرين لا يستأذنهما. والواقع أن هذا الحكم فيه تفصيل: فالوالدان يجب استئذانهما، سواءً كانا كافرَين أو مسلمَين، وهذا مبني على حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه لما جاء الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (يا رسول الله! إني أقبلت من اليمن، أبايعك على الهجرة والجهاد، قال: أحيٌ والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد) أخذ جمهور العلماء من هذا الحديث دليلاً على أن الكافر والمسلم من الوالدَين يستأذن؛ لأن القاعدة في الأصول: (أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال)، فإنه قد أقبل من اليمن، وكانت اليمن لم تفتح بعد، ومن هنا قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل هل كان أبواه مسلمين أو كافرين؟ بل ترك الاستفصال، ثم إن سر المسألة مبني على البر، والبر يستوي فيه الكافر مع المسلم، ولذلك قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15]. لكن استثنى العلماء منعَ الوالدين الكافرين لابنهما إذا كان ذلك على سبيل الكراهية للإسلام، والحنق على الإسلام، فإنه لا يعتد بمنعهما، فهذا هو الذي استثناه العلماء من استئذان الأبوَين الكافرَين، وإلا فالحكم أنه يجب استئذان الكافر والمسلم، وأجمع العلماء على أنه إذا كان أبواه كافرين شيخين كبيرين في السن، وهما بحاجة إليه أنه يجب عليه البقاء معهما، والإحسان إليهما، وذلك لعموم النصوص التي نصت على وجوب البر، فإنها نصوص قطعية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا يقوى تخصيصها بالرأي والاجتهاد، ولذلك قال العلماء: إنه في هذه الحالة يجب عليه ويتعين أن يبدأ بالبر، وقد بينت النصوص الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن البر أفضل من الجهاد، وذلك فيما صح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال -والحديث في الصحيحين-: (قلت: يا رسول الله! أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال عبد الله: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني) فدل على أن بر الوالدين أفضل من الجهاد في سبيل الله عز وجل، والسبب في ذلك: أنه ما من قربة أعظم ولا أجل عند الله سبحانه وتعالى بعد توحيد الله والقيام بحقه من بر الوالدين، ولذلك قرنه الله مع التوحيد، فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36]، وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] فقرن الله سبحانه وتعالى حق الوالدين بحقه، ونبه على فضل البر وما فيه من عظيم العاقبة الحسنة في الدين والدنيا والآخرة، والنصوص في ذلك معروفة مشهورة. فالمقصود: أنه يجب عليه الاستئذان.

كيفية استئذان الوالدين

كيفية استئذان الوالدين تبقى المسألة الأخيرة: وهي كيفية الاستئذان؟ الاستئذان ضابطه عند العلماء أن يكون عن طواعية ورغبة، ولا يكون بكُره وتعنيف وأذية وإصرار، فإن الولد إذا أصر على والده، أو أصر على والدته، لم يمتنع الوالد والوالدة عن الإذن؛ لأنهما يحرصان على إدخال السرور على الولد ولو على حسابهما، ولو رأيت المرأة وهي في الطَّلْق تنازع الموت، لو قيل لها: تبقين أو يبقى الولد؟ لقالت: يبقى الولد وأهلك، وهذا من عظيم ما جعل الله في قلب الأم من الحنان، فإذا خُيِّرت بين حياتها وحياة ابنها لاختارت حياة ابنها على حياتها، وكذلك الوالد في كثير من الأحوال، فإنه يؤثر ابنه ويحب ابنه ويحب له الخير، ولذلك جعل الله عز وجل أمر الاستئذان فريضة. فلا بد في الإذن من مراعاة مشاعر الوالدين، فلا يصر الولد على والديه، أو يضغط عليهما، أو يضيق عليهما، أو يريهما الكره والتسخط إذا لم يأذنا له، ويعنفهما، ويوبخهما، ويتهمهما بعدم الحب للإسلام، وعدم الغيرة على أهله، كل ذلك مما يخالف شرع الله، وليس من الإذن المعتبر في شيء، ونص على ذلك العلماء: أنه إذا أكره الوالدين -وهم يعلمون حنان الوالدين، وشفقتهما على الولد- وضغط عليهما للإذن، فهذا الإذن وجوده وعدمه على حد سواء. ومن غرائب ما وقع أنه اتفق لبعضهم أنه سألني عن بر الوالدين، وهو يريد الخروج للجهاد، فقلت له: يا أخي! تريَّث، ولا تعجل على والديك، وعليك أن تتقي الله في برهما حينما تطلب الإذن، فما كان منه إلا أن استأذن والده، فأذن له والده، وجاءني فسألته عن كيفية الإذن، فإذا فيها دلائل واضحة على أنه شبه مستكرِه لوالده، فلما كان اليوم الذي يريد الخروج فيه جاء لأبيه وقال: عن رضا، قال له الأب: عن رضا، فخرج فبعد أن جاوز المدينة بما لا يقل عن خمسين كيلو، تذكر شيئاً احتاجه، قال: فرجعتُ إلى البيت فوجدتُ أبي في حالة يرثى لها من البكاء والحزن وشدة التوجع والألم، فقلت له: يا أبت! ألم تأذن لي؟ قال: يا بني! رأيتك تحب هذا الشيء وترغب فيه، وليس لي أن أمنعك مما ترغب، فإن جلستَ عندي جلستَ وأنت كاره للجلوس، فرأيت أن أؤثرك بالخروج، وإلا فعن نفسي فوالله ما طابت نفسي بذلك، فعلم أن والده لم يأذن بذلك طيبة به نفسه. فمثل هذه الأحوال يتقي الإنسان فيها ربه، فلعل الله له حكمة في أن يؤخره لشهادة أفضل، وما اتقى الله عبدٌ إلا جعل له فرجاً ومخرجاً. وهناك فرقٌ بين مَن يحب الجهاد للجهاد، وبين مَن يحب الجهاد ليبيع نفسه لله ليشتري مرضاة الله، فإن الإنسان إذا هوي شيئاً وأحبه كأن يهوى أن يجاهد ويهوى أن يستشهد -وهذا هوى تبعٌ لما جاء به رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، وهو هوى في الخير- لكن إذا عارضه إلزام شرعي حينئذ يأتي الامتحان والابتلاء، ويكون في علم الله عز وجل أنه سيتعرض لفتنة في هذا الخروج، وقد يؤخره لخيرٍ وطاعةٍ وبرٍّ وأجرٍ عظيم، فيبتليه بعدم إذن الوالدين، فإذا سلَّم وأخذ الأمر عن طواعية لله ورسوله اطمأن قلبه، وعلم أن الذي تشترى مرضاته في الجهاد هو الذي تشترى مرضاته في بر الوالدين، وأن بقاءه للبر رفعةٌ في الدرجة، وعظمة في الأجر، وغنيمةٌ له عند الله سبحانه وتعالى. فينبغي على المسلم أن يأخذ هذا الأمر بالنصوص الشرعية، ولا يأخذه بالهوى والعاطفة، وإذا كان الإنسان يسير بهواه على وفق الشرع، فإن الله عز وجل يسدده، ويوفقه، ويجعل له من أمره رشداً. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه، وعلى آله وصحبه.

كتاب الجهاد [2]

شرح زاد المستقنع - كتاب الجهاد [2] الجهاد عمل جماعي تقوم به جماعة المسلمين، ومثل هذه الأعمال الجماعية لابد فيها من وجود مرجعية تنظم هذا العمل وترتبه حتى لا يحصل الخلل والاضطراب، ولهذا كان من الواجب طاعة الإمام والصبر معه، وكان من واجبه إزالة جميع أسباب الخلل والاضطراب في هذا العمل العظيم.

آداب المسير إلى الجهاد

آداب المسير إلى الجهاد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويتفقد الإمامُ جيشَه عند المسير] شرع المصنف رحمه الله في بيان جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بآداب المسير للجهاد في سبيل الله عز وجل.

تفقد الإمام لجيشه

تفقد الإمام لجيشه فقال رحمه الله: (ويتفقد الإمام) أي: يتفقد الجيش عند الغزو، وهذا التفقد المراد به النظر في مصلحتهم، فما كان من نقص كمله، وما كان من خلل سده، فإن الله سبحانه وتعالى أمر عباده المؤمنين أن يعدوا العدة للجهاد في سبيل الله عز وجل، فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] فأمر سبحانه وتعالى بالإعداد، ومِن الإعداد: تفقد الجيش قبل الغزو في سبيل الله عز وجل. وكانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فكان يتفقد أصحابه قبل الخروج. وكانت هذه سنة للخلفاء الراشدين من بعده، حتى إن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه لما بعث جيش أسامة رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج أبو بكر يشيع أسامة وهو على فرسه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّره على ذلك الجيش، فقال أسامة: (يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم اركب، فقال: إني أريد أن أغبر قدمي في سبيل الله عز وجل)، فكانت سنة لمن بَعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتفقد المجاهدين في سبيل الله، وهذا التفقد -كما ذكرنا- تشحذ به الهمم لطاعة الله ومرضاته، فيوصي الإمام بالوصايا الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، حتى يخرج المجاهدون وهم على بصيرة من طاعة الله عز وجل ومرضاته، وما ينبغي أن يُتَّقى من سخطه وغضبه. وكان عليه الصلاة والسلام يوصي أمير الجيش في خاصته بتقوى الله عز وجل، التي هي جماع كل خير، وأساس كل فلاح وصلاح في الدنيا والآخرة، ويأمر أفراد الجيش أن يغزوا باسم الله ليقاتلوا مَن عادى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فكانت هذه الوصايا تقوي من همم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتشحذ عزائمهم على الخير. فيتفقد الإمام الجيش قبل المسير، فإذا رأى أخطاءً أو رأى نقصاً فإنه يقوم بسد ذلك النقص، وتصويب ذلك الخطأ، ومن هذا أنه إذا رأى مَن لا يصلح للخروج منعه، كصغار السن الذين لا حاجة إلى خروجهم، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعرض الصحابة يوم الخندق، ويوم أحد، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وعن أبيه: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) فقوله: (عرضت) يدل على أن المجاهدين يُعرَضون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا رأى من لا يصلح للغزو؛ لضعفٍ، أو لصغر سنٍّ، أو جنونٍ، أو نحو ذلك من الآفات والموانع، فإنه يمنعه، ويجب على ذلك الرجل أن يمتنع طاعةً لله وطاعةً لرسوله صلى الله عليه وسلم وطاعةً لأولي الأمر، فإنه لا صلاح للأمور إلا بذلك؛ لأنه إذا كُسِر أمام العدو قوَّى من عزمهم على المسلمين، فيمنع أمثال هؤلاء الضعاف، وإذا وجد إنساناً ضعيفاً في زاده، أو غير مستعد، أمره بأخذ العدة، وأوصاه كذلك بما فيه الخير له في دينه ودنياه وآخرته.

منع المخذلين والمرجفين من الخروج إلى الجهاد

منع المخذلين والمرجفين من الخروج إلى الجهاد قال رحمه الله: [ويَمْنَع المخذِّل والمرجف] [ويمنع المخذِّل] التخذيل: من أعظم الآفات في الجهاد في سبيل الله عز وجل، والتخذيل هو شأن أهل النفاق -نسأل الله السلامة والعافية- فتجدهم يُضْعِفون عزائم المسلمين لجهاد أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيهوِّنون الأمر، ويجعلونه أمراً يسيراً لا يحتاج إلى قوة وإعداد، فأمثال هؤلاء يُمْنَعون؛ لأن المصلحة في عدم خروجهم، والمفسدة في خروجهم، والشرع جاء بجلب المصالح ودرء المفاسد، قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة:47] والإيضاع: ضرب من السير، وهذا يدل على أنهم يريدون الشر والبلاء بالمسلمين، فمن عرف أنه يخذل عن الجهاد في سبيل الله، فهذا مريض القلب ضعيف الإيمان، لم يتشرب الإيمان في قلبه، فمثل هذا لا مصلحة في خروجه، وقد منع الله رسولَه صلى الله عليه وسلم أن يأذن لأمثال هؤلاء، {قُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوَّاً} [التوبة:83]. وأما النوع الثاني فهم المرجفون: وهم الذين إذا سمعوا الأخبار أرجفوا بها، فإذا سمعوا قوة العدو، أخذوا ينشرون بين المسلمين تلك الأخبار، فيجعلون المسلمين في قلق وخوف وفزع، فيفقدون الإعداد المعنوي؛ لأن الجهاد في سبيل الله عز وجل -كما ذكر العلماء- يحتاج إلى نوعين من الإعداد: النوع الأول: الإعداد الروحي. والنوع الثاني: الإعداد الحسي. فأما الإعداد الروحي فهو: قوة الإيمان، وقوة الشكيمة والعزيمة، وحب الشهادة في سبيل الله عز وجل، وجعل الآخرة أحب إليه من الدنيا، ولذلك كان أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم يخرجون وقلوبُهم متلهفة للشهادة، وكان يقول قائلهم: (إنها لحياةٌ طويلةٌ إن عشتُ حتى آكل هذه التمرات)، فيرمي بها حتى يقتل في سبيل الله عز وجل، فإذا خرج الإنسان بهذه الروح المعنوية، فإنه تقوى عزيمته للجهاد في سبيل الله، ويقوى كَلَبه على أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم، وحق لمثله أن يشهد ساحة الوغى، فللوغى رجاله، وللقتال في سبيل الله أهله، وليس كل إنسان يستطيع أن يصبر ويصابر ويرابط على طاعة الله ومرضاته في مثل هذه المواقف العظيمة، ولذلك وصف الله يوم الخندق فقال: {وإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10 - 11]. فلا بد من الإعداد المعنوي، والإعداد المعنوي -كما قلنا- يحتاج إلى شيء من العلم والبصيرة بما أعد الله من الثواب، وحسن العاقبة والمآب إذا فاز الإنسان بالشهادة في سبيل الله عز وجل، وقد سطر التاريخ الإسلامي للسلف الصالح لهذه الأمة مواقف عظيمة تدل على كمال إعدادهم روحياً، وبذلك كسروا أعداء الله وانتصروا عليهم بقوة النفس وقوة الإيمان بالله عز وجل، وكان الرجل إذا رجع من الغزو ولم يقتل بكى، فكان يُفْجَع بعدم القتل أكثر من فجيعته بأن يُقْتَل أو يؤذَى في سبيل الله عز وجل. فالإعداد المعنوي هو الذي أشار الله إليه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال:45]، فأمر الله بالثبات، ولا يمكن للمسلمين أن يجاهدوا في سبيل الله عز وجل وقلوبهم خاوية، ونفوسهم ضعيفة، فهذا الإعداد المعنوي يفسده المخذِّل والمرجف، فكل منهما يحطم معنوية المجاهد، ويخذِّله عن لقاء العدو، ولذلك ذكر العلماء رحمهم الله أنه يجب على الأئمة ونحوهم إذا أرادوا الغزو في سبيل الله عز وجل أن يمنعوا هذين الصنفين من الناس، فلا خير في خروجهم، ولا مصلحة في شهودهم للغزو في سبيل الله عز وجل. وأما الإعداد الحسي فهذا ما يتعلق بأخذ القوة من الرمي ومعرفة أساليب القتال والجهاد في سبيل الله عز وجل. فلا بد من الأمرين، وقد أشار القرآن إلى أساس الإعداد المعنوي فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ} [الأنفال:45]، وقال سبحانه أيضاً: {وحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:84]، فالتحريض إعداد معنوي؛ ويفسده ما يشتت القلوب، وهو النزاع والخلاف في الرأي، فهذا يفسد الإعداد المعنوي؛ لأن اتحاد وجهة الناس واتحاد هدفهم ومقصودهم يقوي شكيمتهم على الأعداء، وتكسر به شوكة الأعداء أيضاً، ولذلك قال الله عز وجل: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]، فقوله سبحانه: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [الأنفال:46] يدل على أن الأصل أن يكون الناس على وجهة واحدة، فإذا جاء المخذِّل والمرجف فإنهم يجعلون الناس أشتاتاً، فقسم منهم يقول: العدو أقوى منا، ولا نستطيع قتاله، وقسم منهم يقول: العدو ضعيف، ونحن بإذن الله غالبون، و: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249] كما قص الله علينا ذلك في كتابه. فهؤلاء المرجفون يفسدون ولا يصلحون للجهاد في سبيل الله، فيُمنَعون، والمصلحة في عدم شهودهم للغزو، ولذلك قال المصنف: (ويمنَع المخذِّل والمرجف)، وكلا الوصفين -التخذيل والإرجاف- لا خير فيه حتى في حال السِّلم، لما يُحدِث من الفتنة، وشتات القلوب، وتفريق الصفوف. وهذا الإرجاف غالباً ما يكون في المصالح العامة للمسلمين، وقد يقع في النيل من أئمة المسلمين وولاتهم والطعن فيهم، وكذلك الطعن فيمن يلي أمرهم، وتتبع العثرات والعورات، كل ذلك بقصد تشتيت شمل المسلمين وزعزعة الثقة بينهم، وقد يفعل البعض ذلك عن جهل وعدم قصد؛ ولكنه يفضي إلى ما لا تحمد عقباه. ولذلك لا خير في المرجف والمخذِّل، وإنما على المسلم أن يتوكل على الله، وأن يحسن الظن بعباد الله، وأن تقوى عزيمته على الخير، ولذلك كان سفيان الثوري رحمه الله يقول: (إذا سمعتم بالعائبة أو الفضيحة التي تكون فلا تنشروها؛ فإنها ثلمة في الإسلام)، فنشر مثل هذه الأمور يجعل الناس في شيء من الشتات والضيعة. ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف أمام الأحزاب، وهم فوق العشرة آلاف -على خلاف بين أهل السيَر في عددهم يوم الخندق- وكانت غزوة الأحزاب من أشد الغزوات على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، فلما رأى عليه الصلاة والسلام، ورأى المسلمون ما عليه أعداء الله من العدد والعدة، واجتماع كلمتهم على رمي الإسلام بقوس واحدة، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني قريظة قد خانوا العهد ونكثوه، فازداد البلاء على المسلمين، حيث إنهم لم يصابوا بمواجهة العدو بقوة فقط، بل إنهم أيضاً يُطعنون من الخلف من يهود بني قريظة، عَظُم الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل نعيم بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، لكي يتتبع الخبر، فكان من وصيته له، أنه أمره إذا وجد الخبر صحيحاً ألاَّ يصرِّح بما أقدم عليه يهود بني قريظة من نكث العهد، فقال له: (إن كان القوم كما زعموا، فالحن لي لحناً، ولا تفت في عَضُدنا)، فقوله: (فالحن لي لحناً) أي: قل لي كلاماً أفهم منه أنهم قد غدروا ونكثوا، (ولا تفت في عضدنا). فإذا كان الإنسان في جماعة المسلمين في سلم أو حرب فعليه أن يتقي الله عز وجل فيهم، فبعضُ الأمورِ نشرُها والإرجافُ بها وحملُها والتحدثُ بها يُحدِث شتات الشمل، وفرقة الصفوف، وهذا من أعظم ما يكسبه أعداء الإسلام من المسلمين. وكان علماء الإسلام يوصون الناس بعدم تفرق كلمتهم فيما بينهم، خوفاً من طمع العدو فيهم، فكلما كان المجاهدون في سبيل الله على قلب واحد، وعلى رأي واحد، كلما استقامت الأمور، وهذا هو هدي السلف الصالح رضي الله عنهم وأرضاهم ورحمهم أجمعين من الصحابة ومن تَبِعهم، فإن عمر رضي الله عنه لما اختلف مع أبي بكر في قتال مانعي الزكاة وكان عنده نص وعند أبي بكر نص، فما كان منه إلا أن سمع وأطاع لـ أبي بكر، فجعل الله الخير في رأي أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، مع أن لـ عمر رضي الله عنه وأرضاه دليله وحجته، ولكن استقامة الكلمة واتحاد الصفوف في وجه أعداء الله أمرٌ مطلوب. والإرجاف كما يكون بالأقوال يكون بالأفعال. فإرجاف الأقوال: كنقل الأخبار، وأعظمَ ما يكون الإرجاف -كما ذكر العلماء وهو أشد ما يكون ذنباً على الإنسان- أن لا يكون على بينة من نقلها فينقلها، دون تَرَوٍّ فيها ولا تثبُّت. وإرجاف الفعل: كالاضطراب والخوف والقلق وظهور علامات الفزع، فهذا من إرجاف الفعل. ولذا يُمنَع هذا الصنف من الناس لمصلحة الجهاد في سبيل الله عز وجل.

النفل أحكامه وأنواعه

النفل أحكامه وأنواعه قال رحمه الله: [وله أن ينفِّل في بدايته الربع بعد الخمس] (وله) أي: للإمام. (أن ينفِّل) شرع رحمه الله بهذه الجملة في بيان الأحكام المتعلقة بالغنيمة. فإن الجهاد في سبيل الله عز وجل وعد الله أهله بإحدى الحسنيين: - إما الشهادة في سبيل الله عز وجل. - وإما الغنيمة ونيل ما نالوا من أجر الدنيا. وقد ثبت الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: (ما مِن سرية تغزوا في سبيل الله ويغنموا، إلا كان هذا فيه نقص لأجرهم) أي: أن أجر الدنيا يُنقِص عظيم ثواب الآخرة؛ لأن الأعظم والأكمل لهم ثواباً أن يُقتَلوا ويستشهدوا في سبيل الله عز وجل، فإذا خرج المجاهدون وأصابوا العدو فإنه يَرِد السؤال عن حكم الغنائم التي تُكْتَسب من الجهاد في سبيل الله عز وجل. وهذا من ترتيب الأفكار، فبعد أن بيَّن رحمه الله على مَن يجب الجهاد، وما الذي ينبغي من الإعداد المعنوي للجهاد في سبيل الله عز وجل، كأن سائلاً سأل: لو وقع الجهاد في سبيل الله وغنم المسلمون فماذا يُفعَل بما غنموه؟

أقسام الغنائم

أقسام الغنائم والجواب أن الغنائم تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: المنقولات. والقسم الثاني: العقارات. فما يناله المسلمون من الأعداء: - إما أن يكون أرضاً ودوراً ونحوها، فهذه تسمى: العقارات. - وإما أن يكون من الأموال كالذهب، والفضة، والدواب، والسلاح، والكراع، ونحو ذلك، فهذا يسمى بالمنقول. فأما العقارات كالأراضي والدور، والمزارع، وغيرها، -كما لو دخلوا بلاد العدو وغنموها، وفتحوها- فلها حكم بينته السنة، وكان له هدي عليه الصلاة والسلام في ذلك، وكذلك عن الخلفاء الراشدين مِن بعده. وأما النوع الثاني: وهو المنقولات من الذهب، والفضة، والسلاح، والكراع، والدواب ونحوها مما يُغْنَم، فشرع المصنف رحمه الله في بيانه.

أقسام التنفيل

أقسام التنفيل فيُعطى الإمامُ أو القائد أو مَن له النظر في مصلحة الغنائم، والمنهج المعتبر في تقسيمها أنها تكون على أحوال: - قسم منها يكون سَلَباً، ويُستَحق لمن قتل قتيلاً ومعه بينة على ذلك. - وقسم منها يكون رضخاً وعطاءً، ويعطيه القائد على حسب المصلحة التي يقصدها من وراء العطاء. - وقسم منها يستحق بالشرط، كأن يشترط القائد ويقول: مَن فعل كذا وكذا فأعطيه كذا وكذا مَن فتح الباب، ومَن كسر كذا أو مَن أحدث الثغرة الفلانية، فإن له كذا وكذا، فهذا يسمى الاستحقاق بالشرط. وبطبيعة الحال أنه إذا غزا المجاهدون في سبيل الله، فالأحوال تختلف: فتارة يغزو الجيش بكامله، ويدخل بلاد العدو، أو يواجه العدو بقوته الكاملة، فحينئذ يواجه المسلمون الأعداء بيدٍ واحدة، وتكون الغنيمة لا نَفَلَ فيها للسرايا، أي: ليست هناك سرايا تُبعَث، وإنما يقابل الجيشُ الأعداء مرةً واحدةً. وتارة يبعث الإمامُ بعوثاً ويرسل سرايا، أو يرسل العيون لأخذ الأخبار، ثم يرسل بعدها السرايا، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يبعث السرايا للجهاد في سبيل الله عز وجل.

كيفية تنفيل السرايا

كيفية تنفيل السرايا والسرايا تنقسم إلى قسمين: السرية القبلية: أي: ما يكون قبل القتال، والجهاد، وقبل إتيان العدو، وهذا النوع من السرايا يمهد الطريق للجيش، ويستطلع حال الأعداء، ويستكشف أمرهم. السرية البعدية: وهي التي تكون بعد خروج الجيش، وانتهاء المعركة. فما كان مِن السرايا قَبْلُ فهذا بلاؤه أعظم، والضرر الذي يتعرض له والخطر أشد؛ لأنه يذهب في قوة العدو، فحينئذ قد يواجه جيش العدو، ولذلك يكون حظه من النَّفَل أكثر من حظ الذي يُبعَث بعد خروج المسلمين أو رجوعهم. أما السرية البَعْدية فهي التي يبعثها الإمام للاطمئنان من أن العدو قد كُسِرت شوكته، وأنه ليس له ظهير، وأنه قد انقطع أمرُه بانتهاء القتال؛ لأنه لا يأمن في بعض الأحيان أن يكون هناك كمين، يفاجئ المسلمين من حيث لا يشعرون. فلذلك فُرِّق بين السرية القَبْلية والسرية البَعْدية، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاًّ من الأمرين، فكان يبعث السرايا القَبْلية ويبعث السرايا البَعْدية، ولذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في حديث حبيب بن مسلمة: (أنه كان ينفِّل الربع والثلث) فيعطي ربع الغنيمة أو ثلثها للسرية القَبْلية، لعظيم بلائها كما ذكرنا، والعلماء رحمهم الله يقولون: إعطاء الثلث والربع يرجع إلى نظر الإمام واجتهاده وعلى حسب بلاء السرية، فإذا -بفضل الله عز وجل ثم بهذه السرية- فعلت فعلاً تمكن به المسلمون من كسر العدو ربما زادهم، حتى أوصلهم إلى الثلث، وإذا كانت مهمة السرية يسيرة، فله أن يعطيهم الربع، وهذا أمر يرجع إلى اجتهاد الإمام. وقد جاء في حديث حبيب بن مسلمة رضي الله عنه ومعاذ بن جبل رضي الله عنه عند أحمد وأبي داود في السنن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نفَّل الثلث والخمس، فكان إذا أرسل السرية قَبْلُ نفَّلها الثلث -يعني: قبل القتال- وإذا أرسل بَعْدُ نفَّلها الخمس) وهذا كله -كما ذكرنا- راجع إلى نظر الإمام ومعرفته بعظيم بلاء هذه السرايا.

تنفيل القاتل سلب قتيله

تنفيل القاتل سلب قتيله وقوله: (أن ينفِّل) النَّفَل في اللغة: الزيادة، فإذا زاد الشيء على الأصل فإنه يقال: هذا نافلة، أي: شيء زائد، ومنه سميت نافلة الصلوات؛ لأنها زائدة على الفريضة التي أوجب الله، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما سأله الأعرابي: (هل عليَّ غيرها -أي: غير الخمس- قال: لا. إلا أن تطَّوَّع) أي: تتنفل، ولذلك يسمى الحفيد بالنافلة، كما قال سبحانه وتعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء:72] فالنافلة تقال لولد الولد؛ والأصل أن الوَلَدَ للإنسان، وأما وَلَدُ وَلَدِه فزيادة. فالنَّفَل هو: زيادة على حظ الإنسان في الغنيمة، فإذا غزا المجاهدون في سبيل الله عز وجل، فلهم سهم من الغنيمة، وهذا القسم قد بينته السنة: للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، والأصل في الغنائم أن الإمام يفعل بها ما يلي: إذا انتهت المعركة واستقر الأمر، يقوم الإمام بأخذ الأسلاب، وإعطائها لأصحابها. وهذا النوع الأول مما يؤخذ من الغنيمة، وهو وأول ما يُفْعَل فيها، أي: أن يعطي سَلَب المقتول لقاتله، ومسألة سَلَب المقتول صورتها أو حقيقتها: أن كل مَن قتل رجلاً بعينه فإنه يستحق سَلَبه، والسَّلَب: هو ما هو عليه من سلاح -سلاحه الشخصي- وكذلك ثيابه ودابته، وكل ما عليه، فهذا الشيء يستحقه، وله أخذه، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (مَن قتل قتيلاً فله سَلَبُه)؛ لكن بعض العلماء -رحمهم الله- يقولون: سَلَب المقتول يُستَحق إذا أعطاه الإمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل الغزوة: (مَن قتل قتيلاً فله سَلَبُه) فإن لم يقل ذلك فإنه لا يستحقه، وبعضهم يقول: يُستَحق السَّلَب مطلقاً؛ لكن يُفَرَّق بين الجيش الذي له عطاء -وهو الذي يُسمَّى بالراتب- والجيش الذي لا عطاء له، فالجيش الذي له عطاء قالوا: لا سَلَب له، وليس له شيء لا من السلب ولا من الغنيمة؛ لأن عطاءه يرجع للإمام، وأما الجيش الذي لا عطاء له، وهم المتطوعون، فهؤلاء هم الذين فيهم الخلاف بين العلماء رحمهم الله، وللعلماء فيهم الوجهان اللذان ذكرناهما. فإذا قتل قتيلاً وله عليه علامة أي: بينة، فإن من حقه أن يأخذ سلبه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفَّل السَّلَب.

إخراج كلفة النقل من الغنيمة

إخراج كلفة النقل من الغنيمة أما النوع الثاني من النَّفَل: فيكون لنوع خاص فبعد أن ينتهي الإمام من إعطاء السَّلَب للقاتل، يقوم بعد ذلك بسحب أموال الغنائم من أرض المعركة، فيأمر الحمَّالين ونحوهم أن يقوموا بجمع الغنائم وحيازتها وحفظها ورعايتها، فإذا قام بذلك يقوم قبل قسمتها وقبل الرضخ منها بإعطاء أجرة أو تكاليف هذه الحيازة، وهذا نص عليه العلماء وذكروه: أنها لا تقسم الغنائم حتى يؤخذ منها كُلفَةُ حيازتها.

تنفيل أهل البلاء في القتال

تنفيل أهل البلاء في القتال بعد حيازة الغنيمة يقوم الإمام بالنظر فيمن له بلاء أثناء المعركة، وهم الأقوام الذي أبلوا إما بالشرط، وإما بدون شرط. فالنوع الأول: الذين أبلوا بشرط: كأن يقول الإمام -كما مَثَّل العلماء في القديم- فيما لو أن العدو تحصَّن من وراء كثبان رمل، أو من وراء سور فقال: مَن نَقَب هذا السور أو فَجَّر هذا السور فله كذا وكذا، فهذا يسمى العطاء المستحق بالشرط، فحينئذ يعطي مَن وعده عطاءً معيناً ذلك العطاء الذي وعده، سواءً تعين ذلك العطاء أو كان العطاء مبهماً بالنسبة، كأن يقول: لك الربع، لك الثمن،. إلخ، ومِن هذا: إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم سواري كسرى لـ أبي معبد رضي الله عنه وأرضاه. فإذا أبلى إنسان معين فمن حق القائد أو الولي أن يخصه بعطاء معين، وهذا هو النوع الثالث من النَّفَل. فأصبح عندنا ثلاثة أشياء: - أولاً: سَلَب المقتول وهو لقاتله. - ثانياً: مَن كان مستحقاً بالشرط، وهو الذي اشترط له الإمام فعلاً فقام به. - والثالث: مَن له بلاء أثناء المعركة، كإنسان أثناء المعركة فَعَل فعلاً دمر به العدو، أو كسر به شوكته، أو فتح به ثغرة كانت سبباً في نصر المسلمين، فهذا يُعْظِم له الجزاء ويخصه بعطية معينة.

الأدلة على تقسيم الأنفال وكيفية توزيعها

الأدلة على تقسيم الأنفال وكيفية توزيعها وهذه الثلاثة لها أصول: فالنوع الأول الأصل فيه: قوله عليه الصلاة والسلام: (مَن قتل قتيلاً فله سَلَبُه). وأما النوع الثاني -وهو الاستحقاق لعظيم البلاء- فالأصل فيه: حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه -وكان من أرمى الصحابة- فإنه في يوم ذي قَرَد -كما ثبت في الصحيحين- أبلى بلاءً عظيماً، فنفَّله النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أيضاً في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه أبلى بلاءً حسناً في جهاده، فنفَّله أبو بكر رضي الله عنه أمةً من الإماء، وأعطاه إياها لعظيم بلائه، فهذا يُستحق بدون شرط. فهذه ثلاثة أنواع. النوع الرابع مما يؤخذ من الغنيمة أو يقوم الإمام بأخذه: كلفة وأجرة حمل الغنيمة، وهذا ذكرناه في الأول. بعد هذا يقوم بقسم الغنائم بالصورة التي سيذكرها المصنف رحمه الله: (للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم). وأما مكان قسمة الغنائم للعلماء فيها قولان: - بعض العلماء يقول: تقسم في أرض المعركة، ولا بأس أن تقسم في أرض العدو. - وقال بعض العلماء: إنما تقسم بعد الحيازة -أي: بعد أخذها- ولا تقسم في دار الحرب، والسبب في هذا هو خشية أن يهجم الأعداء على المسلمين، وكأنهم يرون أنها لا تُستَحق ولا تُملَك إلا بعد رجوعهم إلى ديار المسلمين. والصحيح مذهب الجمهور: أنه يجوز للإمام أن يقسم الغنيمة في أرض المعركة، ولا بأس أن يقسمها حتى في أرض العدو؛ لأن النصوص دالة على ذلك، كما ثبت من هدية صلى الله عليه وسلم. قول: (وله أن ينفِّل في بدايته الربع بعد الخمس، وفي الرجعة الثلث بعده) كان الحكم بالنسبة لأهل الكتاب ومَن قبلنا أنهم لا يأخذون الغنيمة، وإنما كانوا يجمعون غنائم الحرب، ثم يرسل الله عليها ناراً من السماء، فإن كانت مقبولة حُرِقت، وإن كانت غير مقبولة لا تُحرق، وقد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه قال: (غزا نبي من أنبياء الله. وفيه: ثم جمعوا الغنيمة فأتت النار ولم تحرقها فقال: فليبايعني من كل قبيلة رجل، فبايعه من كل قبيلة رجل، فلصقت يد أحدهم بيده، فقال: فيكم الغلول، ليبايعني من كل بطن منكم رجل، فلصقت يده بيد رجلين منهما، فأمر بهما فأحرق رحلهما)، فصارت سنة في إحراق الرحل، وقالوا: إن الغلول لما وقع، كان من العقوبة لهم حرق الغنيمة. والثابت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله خص هذه الأمة بالغنائم، فقال صلى الله عليه وسلم: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي)، وهذا من رحمة الله بهذه الأمة، ومن تيسيره لها، ومن عظيم فضله وإحسانه إليها، فإن الله سبحانه اختصها بالخصائص التي منها: وضع الآصار عنهم. فالغنائم كانت لا تقسم، وإنما كانت تحرق، كما كان في بني إسرائيل وغيرهم من أهل الكتاب ممن مضوا.

لزوم طاعة ولي الأمر

لزوم طاعة ولي الأمر قال رحمه الله: [ويلزم الجيش طاعته والصبر معه] أي: يلزمهم أن يطيعوا إمامهم، والسمع والطاعة لولاة الأمور أصل وقاعدة من قواعد أهل السنة والجماعة، فلا بد للمسلم أن يكون مع جماعة المسلمين وإمامهم، وألا يشذ عنهم، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وعظ الصحابة وذكرهم بالله عز وجل قال: (عليكم بالسمع والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبدٌ حبشي) فأمرهم وألزمهم بالسمع والطاعة؛ لأن الله أوجب ذلك على عباده المؤمنين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] يقول العلماء: إن الله ناداهم باسم الإيمان؛ لأن الذي يطيع الله ورسوله إنما هم المؤمنون، والذين يستجيبون لأمر الله ورسوله إنما هم المؤمنون السعداء الموفقون، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] فقرن سبحانه وتعالى طاعته بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعل طاعة ولاة الأمر تابعة لطاعة الله سبحانه وتعالى وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام. وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني -وفي رواية-: من أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني). والسبب في ذلك: أن مصالح المسلمين تفتقر لمن يقوم بالنظر فيها، وهذا هو الذي جعل الحكمة في الشرع أن يكون لهم من ينظر في مصالحهم، فيرعى تلك المصالح، ويدرأ عنهم المفاسد، فإذا اجتمعت الكلمة عليه، فإنه يجب على المسلم أن يسمع ويطيع لولي أمره، في غزوٍ أو غير غزو؛ لأن الله أوجب عليه ذلك، وفرضه عليه، وإنما تكون السمع والطاعة في المعروف أي: فيما وأمر الله به أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا سمع ولا طاعة إذا أُمِر عبدٌ بمعصية الله عز وجل. فنبه المصنف رحمه الله على لزوم طاعة أمير الجيش، فإنه لا يستقيم أمر الجهاد في سبيل الله إلا بطاعته، فإذا أصبح الجند يتفرقون عنه، وكل له رأيه، وكل له قوله، فإن أمرهم إلى ضياع وإلى خذلان، ولذلك نص العلماء رحمهم الله على أن السنة قضت بلزوم الجماعة خوفاً من المفاسد والشرور، فقد يرى بعض الناس رأياً يختلف به مع جماعته، فإذا خالفهم وانفرد برأيه، وأصر عليه، فإنه مظنة أن يشتت الأمر، ويفرق الجماعة؛ لكنه إذا دخل في جماعة المسلمين وسمع وأطاع، فإن الله يثيبه على رأيه إن كان صواباً، وإن كان خطأً دفع عن المسلمين شر رأيه، وإلا جمع بين السوأتين: الخروج عن الجماعة، وفساد الرأي. ولذلك عظَّم النبي صلى الله عليه وسلم أمر السمع والطاعة، وأخبر أن صلاح الأمة في السمع والطاعة؛ خوفاً مما يترتب على الخروج والفرقة من البلاء العظيم. ولذلك لما قال الصحابة: (أفلا نناجزهم) وذلك عندما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بفساد الأئمة، قال عليه الصلاة والسلام: (لا. ما أقاموا فيكم الصلاة، لا. ما أقاموا فيكم الصلاة) فهذا نص صحيح صريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم الخروج عن الأئمة، حتى ولو كان الإنسان في سفر مع رفقة وفيهم أمير، فلا يخرج إذ من السنة أن كل ثلاثة في سفر ينصبون أميراً عليهم، وهذا يدل على حرص الإسلام على الكلمة الواحدة، وعلى الجماعة الواحدة، وما دخلت الشرور على الأمة إلا بتفرق الكلمة ووجود الحزبيات وتفرق الآراء والجماعات. وكلما فُتِح باب النقد فُتِحَت أبواب الأهواء على الناس، وذهبت مكانة أئمتهم، ومكانة علمائهم، ومكانة ذوي الرأي والوجاهة فيهم، فإذا وجدت الناس على كلمة واحدة يحترمون أهل العلم، ومن له الأمر، وجدتهم على خير، وعلى استقامة وبر؛ ولكن إذا دخلت الدواخل، تَشَتَّتَ الشملُ وعظُمت الفتنة، حتى يصبح الإنسان حائراً لا يدري ما الذي يفعل. فالمقصود: أنهم إذا خرجوا للجهاد في سبيل الله في جماعتهم فلا يجوز أن يخرجوا عن القائد، أو يعصوا أمره؛ لأن هذا يُذْهِب هيبته، ويذهب قوة المسلمين على عدوهم. وتنبيهه رحمه الله على لزوم الطاعة يعتبرونه من آداب الجهاد في سبيل الله، وهذا من الأدب الواجب، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة للأمير وإن جلد الظهر، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام (اسمع وأطع وإن جلد ظهرك وأخذ مالك) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وقد ورد عن الصحابة أنهم قالوا: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، وأثرة علينا) فبين الصحابة رضوان الله عليهم أن بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت على المنشط والمكره، أي: على ما يحبون وما يكرهون، ولذلك أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على من هذا حاله، فقال: (طوبى لعبد آخذٍ بعنان فرسه، إن قيل: في المقدمة ففي المقدمة، وإن قيل: في الساقة ففي الساقة) وهذا الحديث فيه حكمة عظيمة، توضيحها: أن هذا الرجل استحق الثناء من رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزومه للسمع والطاعة، فقال عليه الصلاة والسلام: (طوبى) قيل: هي الجنة، وقيل: شجرة في الجنة لو سار الراكب تحتها مائة سنة ما قطعها، (طوبى لعبد آخذٍِ بعنان فرسه) هذا في الجهاد في سبيل الله، (إن قيل: في المقدمة) المقدمة: مظنة الخوف، ومظنة الهلاك، فلو قال له الإمام: تقدم، وقال له: كن في المقدمة، فإنها أماكن القتل، وأماكن الهلاك، فيتقدم ولا يتأخر، (وإن قيل: في الساقة ففي الساقة) فقد يكون شجاعاً، فلو قيل له: في الساقة، يتألم؛ لأنه يريد الشهادة، ويريد أن ينكي بالعدو، ومع ذلك لا يقول: أنت لا تفقه أو لا تعلم أو كان ينبغي أن يضعني في الأمام، أو يجلس مع أصحابه لكي يخذِّل في رأي القائد، ويكون بذلك نزع الثقة من قلوبهم، وأفسد ما في نفوسهم، وحينئذ يتشتت شملُهم، وتذهب قوتهم. فالمقصود أنه لا بد من السمع والطاعة إذا كانت بالمعروف، لما فيها من صلاح أمور الناس في دينهم ودنياهم.

لزوم الصبر مع القائد والصبر عليه

لزوم الصبر مع القائد والصبر عليه (ويلزم الجيش طاعته) طاعة القائد والوالي وولي أمره. (والصبر معه) لأن الجهاد في سبيل الله يقع فيه امتحان وابتلاء للناس، ولذلك وقع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك شيء، فإن الصحابة يوم حنين ابتلوا ابتلاءً عظيماً، ومن ذلك ما ابتلي به الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم، فإن من تأمل غزوة حنين، وجد كيف أن الله ابتلى أنصار رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على حكم الشرع، فعندما انتهت غزوة حنين قسم عليه الصلاة والسلام الغنائم، فأعطى أبا سفيان مائة من الإبل، وأعطى عيينة بن حصن الفزاري مائة، وأعطى الأقرع بن حابس مائة كذلك، فقال بعض الأنصار: (أيعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم) أي: نحن الذين قاتلنا، ونحن الذين أبلينا، ثم يذهب ويعطي هؤلاء؟! فـ أبو سفيان حديث عهد بالإسلام، وكذلك الأقرع بن حابس، فكأنهم وجدوا في أنفسهم شيئاً، فانتشرت الأخبار حتى بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل بلغ ببعضهم -والعياذ بالله- وهو رأس الخوارج أن قال: (إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله). نسأل الله السلامة والعافية! أي: إن هذه القسمة حابى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاشاه! فلما قال هذه الكلمة، وبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله أخي موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، فلما كثر كلامهم نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، وقال له: (ما مقالة بلغتني عنكم؟ -أي: عن الأنصار، وكانوا لا يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله! أما أهل الحلم والعلم منا فلم يقولوا إلا خيراً، وأما سفهاؤنا -أي: الشباب أحداث السن- فقالوا: يعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم -أي: نحن الذين أبلينا وكان ينبغي أن يكون العطاء لنا-، فقال عليه الصلاة والسلام: أين أنت يا سعد؟ -هنا الابتلاء، إذا كان قومك قالوا هذا القول، فأين أنت؟ فما كان ليكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال: المرء مع قومه) وهذا من كمال الأدب، فلم يقل: ضدك، أو لست معك، وإنما قال: (المرء مع قومه)، وجاء بقاعدة عامة، يحتمل أن يكون قائلاً بها، أو ليس بقائل؛ لكن السياق دال على أنه يجد في نفسه، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن جمعهم في القصة المشهورة. إلى آخرها. فانظر إلى رسول الأمة صلى الله عليه وسلم وصحابته كيف ابتلوا! ففي الجهاد تقع أشياء من الابتلاءات والتمحيص، ليهلك مَن هلك عن بينة، ويحيا مَن حَيَّ عن بينة، ويظهر مَن أراد الله والدار الآخرة، ويظهر مَن يريد الدنيا، يقول الله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]، والله سبحانه وتعالى يبتلي في مثل هذه المواقف، فالمجاهد في سبيل الله عز وجل ينبغي عليه أن يصبر على مَن ولاه الله أمره، وإذا صبر عظم أجره، وحسن بلاؤه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للأنصار: (إنكم ستجدون بعدي أثرة، قالوا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟ قال: اصبروا وإني فرطكم على الحوض) لأن الإمام ربما اجتهد في شيء، فحمَّلك أن تقوم به، فلا تقل: كان ينبغي أن يأمر غيري وكان ينبغي أن يقوم به غيري. أو يعطي غيرك ويمنعك، فلا تقل: لماذا أعطى غيري ومنعني؟ إنما عليك أن تصبر؛ لأنك تريد الله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فلا بد من الصبر. ومراده بـ (الصبر معه) أي: في حال الابتلاء، وقد يأمر الأمير بأمر ثقيل، فتصبر وتتحمل؛ لأن هذا من كمال الإيمان، وهذا من قوة إيمان الإنسان، أنه يصبر على أميره، ويسمع له ويطيع، وإذا طلب منه أمراً قام به على أتم الوجوه وأكملها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الحق الذي لكم). فلابد من الصبر مع الأمير على الجهاد في سبيل الله عز وجل، وما يكون منه من النظر والاجتهاد، قال صلى الله عليه وسلم: (يصلُّون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم). قال رحمه الله: [ولا يجوز الغزو إلا بإذنه] أي: بإذن الأمير، فلا بد من السمع والطاعة لولي الأمر وللأمير، فإذا قال له: اغزُ، غزا، وإذا قال له: لا تخرج، يسمع ويطيع، فلا يخرج بدون إذنه، وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله: أن الغزو لا يكون لكل من هب ودب، بل ينبغي أن يكون تحت راية الإمام وبإذنه. قال رحمه الله: [إلا أن يفجأهم عدوٌ يخافون كَلَبَه] (إلا) أداة استثناء، والاستثناء: إخراجٌ لبعض ما يتناوله اللفظ، فلما بيَّن رحمه الله أن السمع والطاعة لازمان شرع في بيان الأحوال المستثناة، التي يجوز للإنسان أن يجاهد فيها ولا ينتظر الإذن، وهذه الأحوال ذكر العلماء منها: أن يفجأ عدوُّ يخافون كَلَبَه، فلو أن العدو هجم بغتة، فلا ينتظر حتى يأمره الإمام بالجهاد؛ وإنما يجاهدهم ويقاتلهم مباشرة، وهذه الأحوال المستثناة سبق الكلام عليها، وهي إحدى الحالات الثلاث التي يصير فيها الجهاد فرض عين، فيقاتل الرجلُ وتقاتل المرأةُ ويقاتل الصغيرُ، ويقاتل الكبيرُ. (يخافون كَلَبَه) الكَلَب بالفتح: هو الشر والضر. ومراده بـ (يخافون كَلَبه) أي: شرَّه وضرَّه، بمعنى: أن يكون قوياً ويغلب على ظنهم أنهم إذا لم يقاتلوه الآن، فإنه سيحصل بلاء وأن العدو سيفتك بهم، فحينئذ يجوز لهم أن يقاتلوه مباشرة ولا ينتظروا الإذن من الإمام.

الأسئلة

الأسئلة

معنى قوله تعالى: (في سبيل الله)

معنى قوله تعالى: (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) Q إذا مر قوله تعالى: (فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، فهل المقصود به الجهاد؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه. أما بعد: فـ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) إذا أطلق في الكتاب والسنة، فيراد به أحد معنيين: - إما أن يراد به المعنى الخاص، وهو الجهاد في سبيل الله عز وجل، وهذا هو الشائع والأكثر. - وإما أن يراد به عموم الخير والطاعة والبر، فتقول للإنسان: أنفق مالك في سبيل الله، أي: في طاعته ومرضاته؛ لأن السبيل المراد به: طريق الله، فالذي ينفق ماله في تفريج كربات المسلمين وستر عورات المعسرين والمحتاجين، فإن هذا السبيل الذي طرقه في إنفاق ماله هو سبيل الله؛ لأن الله يحبه، ودعا إليه، وهدى إليه، ورغَّب فيه، فتقول: هذا أنفق ماله في سبيل الله، ومن أمثلة ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (مَن أنفق زوجين في سبيل الله، نودي يوم القيامة: يا عبد الله! هذا خير، فمن كان من باب الصلاة نودي من باب الصلاة) إلى آخر الحديث. والأكثر والأشهر أن يُطلق سبيل الله ويراد به الجهاد في سبيل الله عز وجل، حتى أن العلماء رحمهم الله يقولون: من فوائد الجهاد: أن الله سبحانه وتعالى سَمَّى الجهاد سبيلاً له، لما فيه من عظيم المكرُمات، وجزيل الفضائل والحسنات، فجعله بهذه المثابة، ولذلك وصف القرآن بأنه طريقه فقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، قال جمعٌ مِن السلف مِن الصحابة ومَن بعدَهم: إن قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} [الأنعام:153] يعني: القرآن، ووصف القرآن بأنه هو صراطه، وأنه هو الصراط المستقيم، تعظيماً للقرآن، ووصف الجهاد بكونه سبيلاً لله عز وجل؛ لأنه الطريق الذي ينتهي بصاحبه إلى الله سبحانه وتعالى. ومن هنا: إذا أطلق (سبيل الله) فالمراد به: الجهاد في سبيل الله، وهذا هو السبب الذي اختلف من أجله العلماء في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60] فإن قوله: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) جماهير العلماء ومنهم الأئمة الأربعة وعلى أن المراد بهذا الصنف السابع إنما هم المجاهدون في سبيل الله، أي: أن الزكاة تصرف في الجهاد في سبيل الله. وقال طائفة من العلماء: إن المراد بقوله: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ): أوجه الخير والبر، وهذا ضعيف من وجهين: الوجه الأول: أن العرب لا تعطف العام على الخاص، ويليه بعد ذلك الخاص، وإنما تعطف العام على الخاص أو الخاص على العام، أي: تأتي بالعام أولاً ثم تخصص، لمزية في هذا الخاص، كقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ} [القدر:4]، فإن الروح -وهو جبريل- يعتبر خاصاً، فحينئذ ذكره على الخصوصية تفضيلاً له وتشريفاً. وإما أن تذكر الخاص أولاً، فتقول: ليأتني محمد والناس، فحينئذ يكون ذكرك لمحمد من باب التفضيل له، أو تقول لابنك: اعزم خالك وعمك وسائر القرابة، فلما ذكرت الخال والعم بينت أن لهما مزيةً وفضلاً، أو تقول: اعزم الناس وخالك وعمك، كأنك تؤكد عليه أن الخال والعم له حق آكد من الناس، فالعرب إما أن تقدم العام وتعطف الخاص عليه، أو تقدم الخاص وتعطف العام عليه؛ ولكن لا تدخل عاماً بين خاصين، فلو كان المراد بقوله: (في سبيل الله)، العموم لقال الله تعالى: (إنما الصدقات في سبيل الله للفقراء والمساكين ... ) إلى آخره، فيعطف الخاص على العام، وإما أن يقول: إنما الصدقات للفقراء والمساكين. إلى قوله:. وابن السبيل وفي سبيل الله)، هذا هو المعروف من سياق القرآن ومن لغة العرب؛ لكن أن تدخل العام بين خاصين، فهذا خلاف الأصل، ولا فائدة من هذا؛ لأنه يكون فيه شيء من اللغو الذي ينزه عنه القرآن، ففيه ركاكة في التعبير، كأن تقول: ليأتي محمد وعلي والناس وزيد وعمرو، وهذا لا يستقيم، إذاً: لا بد من ذكر الخاص قبل العام، أو العام قبل الخاص. الوجه الثاني: أنه لو كان المراد بقوله تعالى قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:60] العموم، لكان قال الله عز وجل: (إنما الصدقات في سبيل الله)، وما الفائدة أن يخص الأصناف الثمانية؟ قالوا: إنما خصت لأنها تنفرد من المعنى العام لسبيل الله، أي: تنفرد من سبل الخير، حتى تتميز الصدقة الواجبة عن الصدقة النافلة، فالصدقة النافلة تكون في أوجه البر والطاعة عموماً؛ ولكن الصدقة الواجبة تكون لأقوام مخصوصين، ولذلك لم يكل الله قسمة الزكاة لِمَلَك مقرب ولا لنبي مرسل، إنما قسمها من فوق سبع سماوات سبحانه وتعالى: {يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57]. فالمقصود أن (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) المراد به: - إما الجهاد. - وإما عموم الخير والطاعة والبر. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (مَن صام يوماً في سبيل الله). قال بعض العلماء: (يوماً في سبيل الله) المراد به: في الجهاد. وقال بعض العلماء: (يوماً في سبيل الله): أي: أنه يصومه في غير فرض، تنفلاً وبراً، ولهذا يختلف العلماء في المسائل التي ذكرناها؛ لأن معنى: (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) يتردد بين هذين المعنيين، والأصل حمله على الجهاد كما ذكرنا؛ لأن الله شرف هذه العبادة وفضلها. والله تعالى أعلم.

التعزير بالمال

التعزير بالمال Q هل في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحراق رحل من غل دليل على جواز التعزير بإتلاف مال المعزَّر المذنب؟ A استدل به من قال بجواز التعزير بأخذ المال، وقال: يجوز أن توضع الغرامة والعقوبة المالية من باب التعزير، واستدلوا على ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى أقوام لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) وتحريق البيوت إتلاف لها، وهذا تعزير بإتلاف المال. كذلك أيضاً استدلوا بما جاء عنه عليه الصلاة والسلام فيمن منع الزكاة، قال عليه الصلاة والسلام: (إنا آخِذوها وشطرَ مالِه) فعزره بالمال، وذلك لتضييعه الحق الواجب. وكذلك حرَّق عليه الصلاة والسلام على سبيل التعزير وذكر التحريق فيمَن قبلَنا وأقر، وشرع مَن قبلَنا شرعٌ لنا على سبيل التعزير. فقالوا: إن هذا يعتبر أصلاً في جواز التعزير بإتلاف المال. والله تعالى أعلم.

أنواع الرباط

أنواع الرباط Q ذُكِر النوع الأول من الرباط فما النوع الثاني؟ A هناك نوعان من الرباط: - الأكمل: أن يكون أربعين يوماً. - ودون الأكمل: أن يكون دون الأربعين. لكن الذي دون الأربعين: - إما أن يكون لحاجة، فانتهت الحاجة دون الأربعين، فصاحبه على فضل. - وإما أن يكون من الشخص نفسه، فإذا كان من الشخص نفسه فإنه يحرم الأجر. وأما تقسيم الرباط من حيث الضدين: - فهناك رباط في الثغر. - ورباط في غير الثغر، الذي هو في داخل المدن. فالرباط الذي يكون في الثغر: هو الذي يكون على الحد بين المسلمين والكفار. والرباط الذي يكون داخل المدن، أو على أسوار المدن كما كان في القديم، يدخل في هذا الفضل. وكل ذلك يعتبر من الرباط في سبيل الله، ويتفاوت أجره على حسب تفاوت البلاء؛ لأن الأكثر تعباً أعظم أجراً، لقوله عليه الصلاة والسلام: (ثوابُكِ على قَدْر نَصَبُكِ).

معرفة حال العدو في الجهاد والمصلحة في ذلك

معرفة حال العدو في الجهاد والمصلحة في ذلك Q هل معرفة أعداد العدو وعتاده يعتبر من الإرجاف، فقد أشكل علي كون النبي صلى الله عليه وسلم سأل غلمان المشركين عن عددهم يوم بدر؟ A أما بالنسبة لمعرفة حال العدو فهذا أمر يرجع إلى ولي الأمر، ومن يلي قيادة الجيش في الجهاد في سبيل الله عز وجل، فإن كان من المصلحة أن يُطْلع الناس على ذلك لكي تقوى عزائمهم أن العدو ضعيف، وأنه لا عداد له ولا عدة، أخبرهم بذلك، وأما إذا كان عددهم كبيراً، أو أن لهم قوة وشكيمة، وأن إخبارهم بذلك سيضر بمصلحة الجهاد، فإنه لا يخبرهم، ويمنع من نقل هذه الأخبار، تحقيقاً للمصلحة أو درءاً للمفسدة. والله تعالى أعلم.

معنى قوله تعالى: (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر)

معنى قوله تعالى: (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) Q في قوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72] هل قوله: (فَعَلَيْكُمُ) يدل على الوجوب العيني؟ A ( فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ): عليك كذا، أي: يلزمك، ومنه قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، وفي قراءة بعض العلماء يقف عند قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} [الأنعام:151] ويقولون: إن (عَلَيْكُمْ) تدل على الإلزام، عليك كذا، بمعنى: أنه يلزمك. وقوله سبحانه وتعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72] أي: يلزمكم النصر، وهذا في حال وجود حاجة إلى المسلمين، وتكون النصرة واجبة على المسلمين عموماً، وليست عينية، وإنما ذكر العلماء الواجب العيني في النصرة في حال الاستنفار، أي: إذا توقف إنقاذ إنسان على نصرتك له، بحيث لا يحتمل التأخير، فيلزمك أن تنصره دون أن تحتاج إلى إذن، وهناك أحوال مستثناة ذكرها العلماء، وإلا فالأصل أن مواجهة الأعداء إنما تكون راجعة إلى نظر الإمام فيما يراه من المصلحة، إذ لو فتح هذا الباب فإنه ربما أقدم إنسان على عدو فأضر بفرد منهم، فحمل العدو على جماعة المسلمين وأضروا بهم، ولذلك ينظر الإمام إلى ما فيه المصلحة، فإن كانت المصلحة لجماعة المسلمين أن يسكتوا عن العدو أمَدَهم، فإنه يسكتهم، حتى يرى الفرصة سانحةً للقيام بأمر الله وأداء الواجب الذي فرض الله، فيقوم بذلك على وجهه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الجهاد [3]

شرح زاد المستقنع - كتاب الجهاد [3] الغنائم ثمرة من ثمار الجهاد في سبيل الله عز وجل، وهي خصيصة من خصائص هذه الأمة، فإنها لم تحل لأحد قبلها. وقد جاء الشرع ببيان هذه الغنائم من حيث كيفية تقسيمها، ومن هم الذين يستحقونها، وما هي مصارفها، وما هي المخالفات التي ينبغي اجتنابها فيها، والعقوبات المترتبة على هذه المخالفات، وهكذا الحال في الأموال التي تؤخذ من المشركين كالجزية والعشر والفيء.

أحكام الغنيمة

أحكام الغنيمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وهي لمن شهد الوقعة من أهل القتال فيُخِرج الخمس] من عادة العلماء -رحمهم الله- أنهم إذا تكلموا على مسائل الجهاد، بينوا الأحكام المترتبة على الجهاد في سبيل الله عز وجل، ومن ذلك: ما يتعلق بالغنيمة، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الغنيمة حقاً للغازين في سبيله، وللغنيمة جملة من الأحكام والمسائل، ولذلك يعتني العلماء بذكرها في باب الجهاد، وبينا فيما تقدم من هم الذين يستحقون أن يقسم لهم من الغنيمة، وهم: الذين شهدوا الوقعة من المقاتلين الذين أبلوا، ويستوي في هذه الغنيمة الشجاع والجبان، على حد سواء ثم بين -رحمه الله- أن الغنيمة يخرج منها الخمس. فالحكم الشرعي أنه إذا انتهت الوقعة يقوم الإمام بجمع الغنائم، فيأمر المكلفين بجمعها وحيازتها، فإذا حيزت وضمت وجمعت قام أولاً بدفع تكاليف حمل الغنيمة وجمعها وما يلزم من حفظها وحراستها ورعايتها، إلى غير ذلك من الأمور التي يحتاج إليها لحفظ هذه الغنائم. الأمر الثاني: أن يقوم بعد ذلك بإعطاء الأسلاب والأنفال، وقد بينا أحكام الأنفال وقلنا: تعطي الأسلاب لمن قتل قتيلاً وله علامته، ثم بعد ذلك يقوم الإمام بإعطاء الأنفال، فيعطي بالشرط، كأن يقول: من فعل كذا أعطيه كذا، ويعطي أيضاً من باب التشجيع، ويعطي أيضاً تنفيل السرايا.

متى تملك الغنيمة

متى تملك الغنيمة قال رحمه الله: [وتُمْلَك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار الحرب] (وتُمْلك الغنيمة): بالجهاد في سبيل الله. (بالاستيلاء عليها في دار الحرب) وهذه مسألة خلافية: إذا غنم المسلمون في الجهاد في سبيل الله، فهل يشترط في قسمة الغنيمة حيازتها، أم أن الغنيمة تقسم في أرض العدو؟ وجهان للعلماء: فالجمهور على جواز قسمتها بأرض العدو، والحنفية على أنه لا بد من حيازتها، والصحيح مذهب الجمهور لثبوت السنة به.

المستحقون للغنيمة

المستحقون للغنيمة قال رحمه الله: [وهي لمن شهد الوقعة من أهل القتال] (وهي) أي: الغنيمة. (لمن شهد): (اللام) للاختصاص، أو للمِلْك؛ ولكن الظاهر أنها للاختصاص، أي: وهي مختصة بمن شهد الوقعة. (لمن شهد الوقعة): أي: شَهِد القتال، وهذا له أصل في السنة، حيث دلت عليه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن تُكُلِّم في بعضها. وعلى هذا: فإنه لا يستحق من الغنيمة المريض الذي تخلَّف ولم يشهد الوقعة، حتى ولو كان تخلفُه لمرضٍ أو كِبَر سن، مع أن نيته أنه لو كان صحيحاً لغزا؛ ولكنه مرض فامتنع من الغزو، فإنه لا يستحق، ووجود عُذْر لا يوجب أخذه للغنيمة، ولذلك يقول العلماء: مِن المواطن التي يفترق فيها أجر الآخرة والدنيا -أي: غنيمة الدنيا وأجر الآخرة- في الجهاد في سبيل الله: هذا الموطن، فإن المريض أجره في الآخرة كامل، قال صلى الله عليه وسلم: (إن بالمدينة رجالاً، ما سلكتم شِعباً، ولا قطعتم وادياً، إلا كانوا معكم، وشاركوكم الأجر) فهم في أجر الآخرة يشاركون الغازين؛ ولكنهم في أجر الدنيا -وهو الغنيمة- لا يأخذون منه، فالغنيمة مختصة بمن شهد الوقعة، إلا إذا كان هذا المريض له بلاء، كأن يكون خطط للمعركة، أو خطط للجهاد في سبيل الله، أو استعان به القائد، فأشار عليه برأي، فللإمام أن يكافئه وأن يدخله في الغنيمة؛ لأنه كالمجاهد، إذ برأيه وبمشورته كان له هذا البلاء. وكذلك النساء لا يأخذن من الغنيمة، فلا حق لهن فيها؛ وإنما يرضخ لهن، والرضخ: أن يأخذ الإمام شيئاً من الغنيمة ويعطيه لهن، إذا داوين الجرحى، وعالجن المرضى. كذلك أيضاً: المجنون والصبي، فإنهما لا يستحقان من الغنيمة، ولو شهدا الوقعة. فالمرأة، والصبي، والمجنون، هؤلاء الثلاثة لو شهدوا الوقعة فإنهم لا يأخذون سهماً من الغنيمة. وأما من تخلف عنها لعذر كما لو قال القائد لرجل: اذهب وانظر لي كذا وكذا، فأرسله لمهمة، وبسببها تعطل عن شهود المعركة أو شهود الوقعة، فإنه يأخذ من الغنيمة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب سهماً لـ عثمان رضي الله عنه في بدر؛ لأنه تغيب لعذر وثبت عنه عليه الصلاة والسلام إعطاؤه الحق للغائب بعذر، فقال العلماء: إن مَن تخلف بعذر من الإمام، كأن يرسله عيناً يتحسس الأخبار، أو يرسله لكي يحضر زاداً، أو يحضر عتاداً، أو يحضر الذخيرة، أو نحو ذلك مما يستعان به على الجهاد في سبيل الله، فهؤلاء في حكم من شهد الوقعة، ويأخذون من الغنيمة، فيعتبرون مستثنَون من الاختصاص في قوله: (لمن شهد الوقعة). اختصاراً: لا يعطى من الغنيمة: - النساء على أن لهن سهماً معيناً، وإنما يُعْطَين رضخاً. - ولا يعطى منها الصبيان. - ولا يعطى منها المجانين. - ولا يعطى منها كذلك المرضى، إلا مَن أرسل في حاجة لمصلحة الجهاد والقتال، أو في مصلحة الجيش، أو كان مريضاً وكان هناك نفعٌ من رأيه ومشورته، فهؤلاء لهم حق بالصفة التي ذكرنا.

الخمس ومن يستحقه

الخمس ومن يستحقه ثم بعد أن ينتهي من هذه الأمور، يقسم الغنيمة إلى خمسة أقسام، أو خمسة أجزاء متساوية، وهذا ما يسمى (بالتخميس) والخمس هو الواحد من الخمسة، وأول ما يبدأ به هو أن يحوز الخمس الذي لله ولرسوله ولليتامى والمساكين وابن السبيل ولذي القربى، فلو فرضنا أن الغنيمة بلغت مليوناً، فإن خمسها يساوي مائتي ألف، وتبقى ثمانمائة ألف، وهذه هي حظ المجاهدين، وهذا في المنقولات، أي: الحق المنقول؛ لأن الغنيمة في الغزو تنقسم إلى قسمين: إما عقار، وإما منقول، فالمنقول هو الذي نتكلم فيه الآن، أما العقار فسيأتي حكمه، فيقوم بضم الخمس ويقسمه كالآتي: 1 - الخمس الذي لله وللرسول: والمراد بالخمس الذي لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم: أن يوضع في مصالح المسلمين، وتهيئة المجاهدين في سبيل الله عز وجل، ويصرف في مصالحهم في الطرقات والأطعمة والمستشفيات، ونحوها مما يحتاج إليه من مصالح المسلمين العامة. 2 - ثم الخمس الثاني: لذي القربى، وهم آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فيشمل ذلك بني هاشم وبني المطلب على التفصيل الذي بيناه في كتاب الزكاة، وقد بينا فروعهم وأصولهم ومَن الذين يستحقون الخمس، وهم الذين لا يأخذون من الزكاة، وفصلنا هذه الأحكام في موضعها، وذكرنا نصوص الكتاب والسنة التي تدل على هذه المسائل. 3 - وخمس لليتامى. 4 - وخمسٌ للمساكين. 5 - وخمسٌ لابن السبيل. وقد بينا هذه الأصناف كلها في كتاب الزكاة، فبينا مَن هم الفقراء؟ ومَن هم المساكين، ومَن هو ابن السبيل، وبيَّنَّا ضوابط كلٍّ، فيعطى هذا الخمس للأصناف التي نص الكتاب على قسمتها عليهم. وفي قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41]: اختلف العلماء في قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41]: قيل: إن قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41]، المراد به: الاستفتاح، فالله عز وجل مالك كل شيء، وإنما استفتح الله عز وجل بنفسه تشريفاً وتكريماً. وقيل: إن المراد بقوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41]: هو السهم الواحد، الذي هو خمس الخمس. (وَلِذِي الْقُرْبَى) وهم آل البيت. (وَالْيَتَامَى) اليتيم هو: الذي فقد أباه وهو دون سن البلوغ، أما إذا فَقَدَ أباه بعد البلوغ فلا يسمى يتيماً، ويُعطى هؤلاء اليتامى على تفصيلٍِ عند العلماء: بعض العلماء يقول: يستوي في ذلك غنيهم وفقيرهم. ومنهم من يقول: يختص بفقراء اليتامى، فيشترط في اليتيم: - أن يكون دون البلوغ حين يفقد أباه. - وأن يكون محتاجاً، أي: فقيراً أو مسكيناً. (وَالْمَسَاكِينِ) وقد بينا أن المسكين هو الذي لا يجد تمام كفايته، وأن الفقير أشد منه حالاً، وعلى هذا يمكن صرف هذا السهم للفقراء؛ لأنه إذا أعطي المسكين فمن باب أولى الفقير؛ لأن الفقير فيه وصف المسكنة، ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يحييه مسكيناً، واستعاذ بالله من الفقر؛ لأن الفقر أشد من المسكنة، فيمكن أن تصف الإنسان بكونه مسكيناً مع أنه يملك، كما قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79]. (وَابْنِ السَّبِيلِ) ابن السبيل: هو المسافر المنقطع، واختلف العلماء في ضابطه -كما بيناه في باب الزكاة- هل يشترط أن يكون معدِماً في سفره وفي بلده، أم أنه يُعطى ولو كان غنياً في بلده؟ ذكرنا هذين الوجهين.

كيفية توزيع الغنائم على المقاتلين

كيفية توزيع الغنائم على المقاتلين بعد هذا يقوم الإمام بصرف الأربعة الأخماس وتوزيعها على المجاهدين أو المقاتلين، وهذا ينبني على ما ذكره المصنف: [للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم]. والفارس: هو الذي يقاتل على الفرس، ويكون له ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه، وسهم له، والسبب في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح من حديث ابن عمر وغيره (أنه أعطى الفارس ثلاثة أسهم، وأعطى الراجل سهماً واحداً) وهذا هو مذهب جمهور العلماء، وقضى به عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وكذلك قال به من أئمة التابعين: محمد بن سيرين والحسن البصري، وقضى به الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، وهو مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة، والصاحبَين، وأهل الحديث، أن للفارس ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه، وسهم له، وأن للراجل سهماً واحداً؛ ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يقول: إنه يكون له سهمان: سهم له، وسهم لفرسه، واحتج بحديث ضعيف. والصحيح: مذهب الجمهور؛ لدلالة السنة عليه. فإذا قلنا: للراجل سهم، ولكل فارس ثلاثة أسهم، فمن ناحيةٍ عقلية لا يخلو الجيش من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون جميعهم فرساناً، فحينئذ تكون القسمة قسمة الفرسان، بمعنى أن تحسب عدد رءوس المقاتلين، فلو فرضنا أنهم ألف، فتضربهم في ثلاثة، فحينئذ يكون المجموع ثلاثة آلاف، فلو أن الغنيمة تسعمائة ألف، فمعنى ذلك أنك تقسمها على ثلاثة آلاف، فيكون كل سهم تسعمائة ريال، فتعطي كل واحد منهم ثلاثة أضعافها، فتضرب التسعمائة في ثلاثة، فيصير المجموع (3×900=2700)، فتصبح ألفين وسبعمائة لكل واحد منهم. وهذا القسم ثابت دلت عليه السنة. الحالة الثانية: العكس؛ أن يكون جميعهم من الرجَّالة، وهذه غالباً ما تقع في الدفاع عن الحصون، فإذا كانوا رجَّالةً وقاتلوا فإن الغنيمة تقسم على عدد الرءوس، فلو فرضنا أن الغنيمة بلغت مليوناً، وهم ألف مقاتل، فمعنى ذلك أن سهم كل واحد منهم يكون ألفاً. الحالة الثالثة: أن يكون فيهم من يقاتل على فرسه وفيهم من يقاتل راجلاً، ففي هذه الحالة يحسب عدد الرجالة ويُحسب عدد الفرسان، ثم تضرب عدد الفرسان في ثلاثة، فلو كانوا ألفاً نصفهم رجَّالة ونصفهم فرسان، فمعنى ذلك أن الفرسان خمسمائة، فتضرب الخمسمائة في ثلاثة؛ فيصبح المجموع ألفاً وخمسمائة، ثم تضيف عدد الرجَّالة فيصبح المجموع ألفين، فتقسم الغنيمة على ألفين، والناتج من ذلك تعطي الفارس ثلاثة أضعافه، وتعطي الراجل عين الناتج، فلو فرضنا أنهم غنموا مليوناً، فالمليون تقسمها على ألفين، فيكون الناتج خمسمائة، يكون منها للفارس ألفاً وخمسمائة، ويكون للراجل خمسمائة. وقد ذكر العلماء هذه المسائل وبينوها في كتاب الجهاد في الكتب المطولة، والمصنف -رحمه الله- بيَّن تراكيب قسمة الغنائم لتعلقها بكتاب الجهاد كما ذكرنا. فالمجاهد على فرسه، إن كان الفرس له، فقال بعض العلماء: يستحق للفرس. فلو كان معه فرساً ثانياً؟ فبعض العلماء يرى أنه لا يعطى لأكثر من فرس. ومنهم من يرى أن الحد فَرَسان، فإن زاد عليهما لا يعطى، والسبب في هذا: أنه يقاتل على فرس، ويحمل متاعه وسلاحه على فرس آخر، فقالوا: إنه يعطى في حدود الفرسين، وفي هذا حديث تكلم العلماء رحمهم الله فيه، وعلى القول بثبوته فإنه يُعطى لكل إنسان في حدود الفرسَين، فإن كان عنده ثلاثة أو أربعة أفراس أو أكثر فلا يعطى عليها. وقوله:) ثم يقسم باقي الغنيمة؛ للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له، وسهمان لفرسه) هذا يستوي فيه الشجاع والجبان، ما دام أنه حضر القتال وقاتل، وفي زماننا إذا أعطي المجاهد راتبه فإنه لا يكون له حظ من الغنيمة؛ لأن هذا يسمونه (المرتب)، فإذا رُتِّب له عطاء فهو أشبه بالإجارة، وحينئذ لا يُستَحق، وتكون الغنيمة لبيت مال المسلمين إلا ما يكون منها رضخاً أو نَفَلاً، ولذلك يقولون: يشترط ألاَّ يكون الأجناد مرتبين، فإذا كانوا مرتبين فحينئذ لا إشكال، فتكون غنيمته لبيت مال المسلمين، وتصرف في مصالحهم. قال رحمه الله تعالى: [ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت، ويشاركونه فيما غنم] هذا من السنة، وهو مذهب الجمهور، فجماهير العلماء رحمهم الله يقولون: إن الجيش إذا بعثت منه سرية لأمر، كأن يبعث السرية لطلب أو لنجدة من يحتاجون إلى من ينجدهم ويسعفهم، أو يجعلونها كميناً للعدو، ثم فوجئوا بالعدو أمامهم، فلم تشهد السرية الوقعة -والأصل في الغنيمة أن تكون لمن شهد الوقعة- فحينئذ تشارك السريةُ الجيشَ في الغنيمة، فكأنهم حضروا؛ لأنهم غابوا فيما يعين على الوقعة، وفيما يقصد به حماية الجيش، والعكس، فلو أن هذه السرية ذهبت وقاتلت وغنمت، فإن الغنائم توزع على الجيش جميعاً، فيشارك الجيشُ سراياه، والسرايا تشارك الجيش فيما غنم.

الغلول وأحكامه

الغلول وأحكامه قال رحمه الله: [والغال من الغنيمة يُحرق رحلُه كلُّه، إلا السلاح والمصحف وما فيه روح] الغلول: هو الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها، وهو أشبه بالسرقة والعياذ بالله! فبعد أن بيَّن رحمه الله أحكام الغنائم؛ لأنها مترتبة على الجهاد، شرع في بيان الأخطاء التي تقع فيها، ومن ذلك الغلول، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161] والغلول من كبائر الذنوب، فإنه -والعياذ بالله- ما غل عبدٌ شيئاً إلا اشتعل عليه ناراً في قبره -نسأل الله السلامة والعافية- وعذبه الله به في برزخه، وفضحه به على رءوس الأشهاد، ويأتي يوم القيامة يحمل على ظهره ما غل، ولذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى ظهره بعيرٌ له رغاء، فيقول: يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً)، (يا محمد!) أي: كن لي، واشفع لي، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أملك لك من الله شيئاً) أي: إنني أعذرت وبينت أن هذا لا يجوز، وأن هذا خيانة لله ولرسوله ولعامة المسلمين ولأئمتهم، ولذلك يُعَد الغلول من كبائر الذنوب، ونص العلماء رحمهم الله على فسق صاحبه، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قُتِل رجل يوم خيبر، هنأه بعض الصحابة بالشهادة، فقال صلى الله عليه وسلم (كلا والله! والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلَّها يوم خيبر لتشتعل عليه ناراً) فهذا يدل على فظاعة أمر الغلول، نسأل الله السلامة والعافية! واستَشْكل العلماء رحمهم الله مسألةَ أن الشهيد يغفر له كل شيء، ومع ذلك تشتعل عليه الشملة؟ قيل: إنه ترجم بهذا الأخذ عن قصده للدنيا، فتكون شهادته ناقصة وفيها شبهة؛ لأنه إنسان مريض القلب، وحظه الدنيا دون الآخرة، وقال بعض العلماء: لا تعارض بين عام وخاص، فالغلول له عقوبة خاصة، ولذلك يعتبر مستثنىً من الأصل، أنه يُغفر للشهيد كل شيء إلا الدين.

إحراق رحل الغال إلا ما استثني

إحراق رحل الغال إلا ما استثني قوله: (يُحرَق رحلُه كلُّه إلا السلاح والمصحف وما فيه روح) هذا الفعل يسمى بالتعزير، والغال -والعياذ بالله- له حالتان: الحالة الأولى: أن ينكشف غلوله في الدنيا، فحينئذ يعاقب بالعقوبات التالية: أولاً: يجب عليه ضمان ما غل. ثانياً: أنه يُحرق رحلُه. ثالثاً: يعزره الإمام بما يردعه ويردع غيره عن فعله. أما العقوبة الثانية: وهي حرق الرحل، فقد جاءت به السنة، واختُلِف في رفعِ الحديث ووقفِه، ولكن ثبت عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما أحرقا متاع الغال، وهذا يسميه العلماء: العقوبة بالمال، أو التعزير بالمال، ومن الغرامات المالية ما ورد في السنة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في تحريق بيوت المتخلفين عن الصلاة، وأخذه عليه الصلاة والسلام لضعفي الزكاة ممن منعها، فهذا كله يسمى بالعقوبات المالية، وهي تفعل لمن خالف، أو فعل أمراً فيه معصية، أو فيه تعريض لنفسه أو لغيره للخطر، وهذا يراه ويختاره جمع من الأئمة، ومنهم شيخ الإسلام رحمه الله، والإمام ابن القيم في الطرق الحكمية، وغيرهم من العلماء، ذكروا أن السنة ثابتة بجواز التعزير بالمال، ومنه: إحراق رحل الغال من الغنيمة؛ وهذا الإحراق من باب الترهيب والمنع للغير أن يسلك سبيله، أو يرتكب جريمته. (إلا السلاح والمصحف، وما فيه روح) (إلا السلاح) للحاجة إليه في الجهاد في سبيل الله، فلا يُحرق. (والمصحف) لأن له حرمة، فلا يحرق كتاب الله عز وجل، وبعض العلماء يجعل في حكم المصحف كتب العلم فلا تحرق؛ لأن إحراقها فيه ضرر؛ لأنه يفوت العلم الذي فيها. (وما فيه روح) فلا تُحرق دوابُّه، أي: ما كان في رحله من الدواب، ونحو ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان، فلا يجوز قتل الحيوان بالحرق.

أحكام الخراج

أحكام الخراج قال رحمه الله: (وإذا غنموا أرضاً فتحوها بالسيف، خُيِّر الإمام بين قسمها ووقفها على المسلمين) قال رحمه الله: (وإذا غنموا أرضاً). هذه الجملة قَصَد المصنف منها أن يبين أحكام الخراج، أي: الأراضي التي تُمْلَك بعد الجهاد في سبيل الله، وقد قلنا: إن الغنيمة تنقسم إلى قسمين: الأول: إما أن تكون منقولات، كالذهب، والفضة، والدواب، والأسلحة، والأطعمة ونحوها مما يكون في الجهاد في سبيل الله. النوع الثاني: العقارات، فإذا دخل المسلمون بلاد الكفار، فإنهم يغنمون أموالهم وديارهم، ولذلك أورث الله الصحابة وامتنَّ عليهم في كتابه بأنه أورثهم أموال بني قريظة وديارهم. فهذه الغنيمة التي غنموها وهي أراضي الكفار، تحتاج إلى نظر، فإن المسلمين قد قاتلوا العدو فاستحقوا هذه الأرض، فيرد Q هل نقسم هذه الأرض بين المجاهدين في سبيل الله الذين شهدوا الوقعة فقط، مثلما نقسم الأموال العينية؟ أم أن هذه الأرض تبقى وتُسْتَصْلح ويقام عليها العدو من أجل أن يعمرها ويقوم عليها من باب الإجارة، فهل يجوز أن نبقيها في يده، ثم نأخذ مصالحها، ونضعها في بيت مال المسلمين؟ هذا هو الذي يبحثه العلماء في مسائل الخراج، والأرض الخراجية.

أقسام الخراج

أقسام الخراج قال رحمه الله: [وإذا غنموا أرضاً فتحوها بالسيف، خُيِّر الإمام] قوله: (خُيِّر الإمام) التخيير: النظر في خيري الأمرين، أن ينظر الإنسان في الشيء طلباً لخيري الأمرين فيه، والتخيير للإمام، أي: أن الإمام والقائد ينظر المصلحة، فإن كانت المصلحة أن يبقي الكفار في هذه الأرض لكي يستصلحوها ويزرعوها، ويكون نتاجها للمسلمين، ويعطيهم أجرتهم، فعل ذلك، وحينئذ تكون الأرض خراجية بالمقاسمة؛ لأن الخراج ينقسم إلى قسمين: النوع الأول: خراج المقاسمة وهو أن يقول لهم: ابقوا في هذه الأرض، وازرعوها، وقوموا عليها؛ لأنهم قد يكونون أعلم بمصلحة هذه الأرض، فيزرعونها ويقومون عليها، على أن لهم النصف وللمسلمين النصف، والأصل في هذا ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر بشطر مما يخرج من أرضها) وهو أشبه بالمساقاة، ولذلك بعض العلماء يعتبره أصلاً في المساقاة، ويُعْتَبر أيضاً إجارةً، ويعتبر خراجاً بالمقاسمة، فتُقسم الأرض أي: نتاج الأرض، أما الأرض بذاتها فتصبح ملكاً للمسلمين، فحينئذ ما ينتج منها يقسم نصفين، نصفها لهم ونصفها للمسلمين، وهذا هو الذي كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع يهود خيبر، وقد أخبرهم كما في كتاب العقد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يبقيهم فيها ما شاء الله، فلما جاء عمر أجلاهم عنها رضي الله عنه وأرضاه، فدل على أن الأرض ملك لبيت مال المسلمين، ففي هذه الحالة تكون الأرض ملكاً لبيت مال المسلمين، ويُبقي الإمامُ الكفارَ يعملون فيها لمصلحة بيت مال المسلمين، ويأخذون أجرة ما يقومون به من عمل، وهذا يحتاج إلى الرجوع إلى أهل الخبرة وأهل النظر، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم في كل سنة يبعث إليهم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه، من أجل أن يخرص نخل خيبر، وينظر كم فيه، ثم يفرض عليهم النصف، فيأخذه إلى بيت مال المسلمين، وهذا هو الذي يسميه العلماء رحمهم الله: خراج المقاسمة. النوع الثاني: خراج الوظيفة: وهو أن يقال له: تبقى الأرضُ بيدِك وكلُّ جريد منها، أو كل هكتار، أو فدان، أو كل مساحة معينة عليك فيها -مثلاً- ألف درهم، أو ألف ريال، أو عشرة آلاف ريال كل سنة، فهذا يسمى الخراج الوظيفي، وله ضوابط، وأصول، وله مباحث طويلة، تكلم العلماء رحمة الله عليهم عنها في كتب المطولات، وقد ألف الإمام القاضي أبو يوسف رحمه الله كتابه المشهور: الخراج، وتكلم عليه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه النفيس: الأموال، وكذلك ابن زنجويه في كتابه النفيس أيضاً: الأموال. وهذه ضوابط ترجع إلى تراكيب مالية تُعرَف في بيت مال المسلمين، فيُعطى فيها قدر معين يُرجع فيه إلى أهل الخبرة، فهم الذين يحددون هذا القدر، ويكون القدر سنوياً. لكن الخراج الوظيفي وخراج المقاسمة مرتب على مسألة بقاء الأرض دون قسمة.

تخيير الإمام في الأصلح في شأن الخراج

تخيير الإمام في الأصلح في شأن الخراج فإذاً: يقول المصنف رحمه الله: [خُيِّر الإمام] أي: ينظر الإمامُ الأصلحَ، هل المصلحة أن تبقى خراجية، ويؤخذ منها الخراج لبيت مال المسلمين، كما حدث مِن فعل عمر رضي الله عنه وأرضاه، وكذلك عثمان رضي الله عنه في الفتوحات، فكان هناك ما يسمى بالأرض الخراجية؛ والسبب في هذا الخراج أو الأصل فيه: أن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما فتح المشرق، ودخل المسلمون بلاد فارس وتوغلوا فيها، كان رأي عمر رضي الله عنه وأرضاه أن يُبقي الأرضَ لكي ينتفع بها المسلمون في عصرهم ومن يأتي بعدهم، فترك أراضي الحيرة في العراق، وكذلك أراضي فارس، فأبقاها لأجل مصلحة بيت مال المسلمين، حتى يبقى لبيت مال المسلمين خراج، يُدَرُّ عليه سنوياً، فيستقر بيت مال المسلمين، فهذا قضاء عمر بن الخطاب، وقد اختلف هو وبلال وعبد الرحمن بن عوف، وكان رضي الله عنه يقول: (اللهم أعني على بلال)، والسبب في هذا أنه كان بعيد النظر، فقد تأوَّل آية الحشر في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10] فإن هذه الآية جاءت بعد آية الفيء: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر:7] فهذه الآية: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر:10] يقول: إن الخَلَف الذين يأتون من بعدُ يترحمون على مَن قبلهم بما تركوا لهم من الخير في الجهاد في سبيل الله، فكان هذا من فقهه رضي الله عنه، فقضى بذلك، واستقر عليه العمل، ووافقه الصحابة بعد، ورجع بلال وعبد الرحمن إلى قوله. لأن بلالاً وعبد الرحمن لما فُتِحت العراق، وفارس، كانا يقولان: (اقسم على الجند أرضهم)، فامتنع عمر رضي الله عنه وأرضاه وأبقاها خراجية، فبقي حكم الخراج سنة عمرية، ومضت على ذلك جماعة المسلمين، فأصبح أصلاً عند العلماء رحمهم الله: أن الأرض يُرجَع فيها إلى نظر الإمام، فإن نظر أن من المصلحة أن تقسم قسمها، وإن رأى أن من المصلحة أن تبقى خراجية، أبقاها خراجية. وقد فعل عمر رضي الله عنه كلا الأمرين في فتحه بالمشرق، فإنه اختط الكوفة، وقسمها بين المجاهدين، والسبب في هذا: أنه ما كان يريد مخالطة المجاهدين للناس الذين كانوا بالعراق خشية أن تفسد أخلاقهم، فهذا يسمى بالإقطاع، وله أصل في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قسمها وأخذ كل مجاهد -مثلاً- قطعة من الأرض فباعها أو تصرف بها فهي ملك له، كما أنه إذا ملك الماء إن شاء انتفع به لنفسه، وإن شاء باعه على الغير. (خُيِّر الإمام بين قسمها ووقفها على المسلمين) (بين قسمها) أي: على الجند وعلى مَن شهد الوقعة، بالطريقة التي ذكرناها. وبين (وقفها على المسلمين) أي: تبقى وقفاً لمصلحة بيت مال المسلمين، فتبقى خراجية إلى الأبد. (ويضْرب عليها خراجاً مستمراً، يؤخذ ممن هي بيده) هذا على ما ذكرناه، ولذلك ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَنَعَت الشام مُدَّها، ومَنَعَت العراق قفيزَها) وهذا يعتبره العلماء أصلاً في الخراج الذي يؤخذ على الأرض؛ لأن المراد بالمُدِّ والقفيز، الإشارة إلى الفتوحات، وما يكون منها من خراج، فلما قال: (وعدتم مِن حيث بدأتم، وعدتم مِن حيث بدأتم) أي: أنه في آخر الزمان ينقطع هذا الأمر، وقد كان ما كان، وهو من معجزاته -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين. قال رحمه الله: [والمرجع في الخراج والجزية إلى اجتهاد الإمام] أي: كم يكون مقدار الخراج والجزية؟ وهذه مباحث ومسائل وأحكام تكلم العلماء عليها في كتب الخراج، وكتب الأموال، وهي تتعلق بمصلحة بيت مال المسلمين، ولا يمكن للإمام أن يقدم على مثل هذه الأمور إلا بالرجوع إلى أهل الخبرة، فإن كانت الأرض زراعية سأل عنها أهل الزراعة، وإن كانت الأرض تعمَّر أو يستفاد من عمرانها رجع إلى أهل المعرفة بذلك وهكذا. وكذلك الجزية: وهي الفريضة التي تفرض على أهل الكتاب إذا أبقاهم المسلمون في ديارهم، وسيأتي إن شاء الله بيان عقد الجزية وأحكامه ومسائله، والجزية تفرض بضوابط معينة على أشخاص معينين، من أهل الكتاب ومن في حكمهم، ويكون مقدار هذه الجزية راجعاً إلى نظر الإمام، ويختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، وهناك حد أعلى، وحد أوسط، وحد أدنى للجزية، مثلاً: لو فرضنا أن الحد الأعلى: ثمانية وأربعون ريالاً، فيكون الحد الأوسط: أربعةً وعشرين، ويكون الحد الأدنى: اثني عشر، فعلى هذا التقدير ينظر الإمام في حال الإنسان، فإن كان من أعلى الناس فرض عليه: ثمانية وأربعين، وإن كان من أوسطهم فرض عليه أربعة وعشرين، وإن كان من أدناهم فرض عليه اثني عشر، على تفصيل سيأتي إن شاء الله بيانه في كتاب الجزية.

حكم من عجز عن عمارة أرضه الخراجية

حكم من عجز عن عمارة أرضه الخراجية قال رحمه الله: [ومن عجز عن عمارة أرضه أُجْبِر على إجارتها، أو رفع يده عنها] قال رحمه الله: (ومن عجز عن عمارة أرضه): إذا كانت الأرض خراجية فمعنى ذلك أن المطلوب تحصيل المصلحة منها لبيت مال المسلمين، وهذا يسميه العلماء: موارد بيت مال المسلمين، فلا بد أن تبقى موارد بيت مال المسلمين ثابتة، حتى يمكن الصرف من هذه الأموال على مصالح المسلمين، فهذه الموارد ينبغي أن يحافظ على بقائها، فإذا كان الذي أخذ الأرض الخراجية لا يستطيع أن يقوم عليها، لعجز، أو لكِبَر سن، أو لمرض، أو نحو ذلك، فيُجبَر على إجارتها لمن يعمرها، أو تنقل وتؤخذ منه إلى غيره ممن يقوم على استصلاحها ونفع المسلمين منها. (أُجْبِر على إجارتها) الإجارة: عقد على منفعة بعوض. والعقود المالية تكون أحياناً على الذات وأحياناً على المنافع. فأنت إذا جئت إلى رجل وقلت له: بعني هذه الدار أو هذه العمارة بعشرة آلاف، فقال: قبلت، فإذا أخذ العشرة آلاف، فمعنى ذلك أنك تملك عين الدار التي هي العمارة، وعين الأرض، وتستطيع أن تسكن فيها، فالدار ومنافعها ملك لك، فإن شئت أن تنتفع بها في السكنى سكنت، وإن شئت أن تنتفع بأجرتها أجَّرتها على الغير وأخذت الأجرة، وإن شئت أن تهدمها فلا أحد يمنعك؛ لأنها ملكك، فقد ملكتَ العين والمنفعة. في الحالة الثانية: أن تقول: أجرني هذه الدار شهراً بألف، فمعنى ذلك أنك تملك المنفعة فقط وهي: السكنى فيها، فلا تستطيع أن تهدم هذه الدار، ولا أن تبيعها للغير، ولا أن تهبها، ولا أن تتصدق بها؛ لأن الذي تملكه هو السكنى فيها فقط. فالإجارة هي المنفعة، فمعنى ذلك: أن الأرض الخراجية ملك لبيت مال المسلمين، لكن منفعتها من زراعتها وحراثتها والقيام عليها وما يكون منها من نتاج هذا هو الذي يستأجر، وإجارة الأرض للزرع فيها خلاف بين العلماء، وجماهير العلماء على جواز ذلك خلافاً للظاهرية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأن ما كان بشيء معلوم فلا بأس) أي: في إجارة الأرض، فدل هذا على مشروعية إجارتها للزراعة مثل مسألتنا، لكن يشترط في إجارة الأرض للزراعة أن يكون فيها ماء؛ لأنه إذا استأجرها للزراعة ولا ماء فيها، فهذا من إجارة الغرر، وحينئذ لا يصح، إلا إذا كان يجلب الماء إليها، كأن يحمل الماء إليها، أو يجريه بقنطرة، أو غير ذلك. فالمقصود: أن الإجارة تكون على الأرض الخراجية، أي: أن يترك الغير ينتفع بها لأجل مصلحة بيت مال المسلمين كما ذكرنا. (أُجْبِر على إجارتها أو رفع يده عنها) (أو رفع يده عنها) حتى تعطى للغير ويقوم باستصلاحها ونفع المسلمين منها. (ويجري فيها الميراث) فإذا كانت هذه الأرض خراجية، وقام عليها إنسان ثم توفي، وجاء ورثته وقالوا: نريد هذه الأرض لنقوم عليها مثلما كان أبونا يقوم عليها، وندفع ما كان يدفع، فإنهم يرثونها وينزلون منزلة أبيهم؛ لأن الفرع آخذ حكم أصله.

الأموال التي تؤخذ من المشركين لبيت مال المسلمين

الأموال التي تؤخذ من المشركين لبيت مال المسلمين قال رحمه الله: [وما أخذ من مال مشركٍ كجزيةٍ وخراجٍ وعُشْرٍ وما تركوه فزعاً وخمس خمس الغنيمة ففيء يصرف في مصالح المسلمين] قال رحمه الله: (وما أخذ من مال مشركٍ) يريد المصنف أن يبين حكم الأموال التي تؤخذ في الجزية، وفي العشور والضرائب، وتؤخذ من الحربي ونحوهم، فهذه الأموال لمن تكون؟ فبعد أن بين أحكام الغنيمة وأحكام الخراج -وهذا مسلك الفقهاء رحمهم الله، أنهم يذكرون المسائل المشابهة في أماكن المناسبة- وأن الغنيمة فيها الخمس يرد إلى بيت مال المسلمين، وكذلك الفيء، إذا لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فإنه يرد إلى بيت مال المسلمين، فيرد Q كيف يكون حكم هذا المال؟ فقال: (وما أخذ من مال مشركٍ) بعض العلماء يقول: يُمْلَك مالُ الحربي بمجرد أخذه، وهذا يميل إليه طائفة من العلماء من أصحاب الإمام أبي حنيفة وغيرهم، وقال بعض العلماء: بل إنه يكون لبيت مال المسلمين، وبيت مال المسلمين تكون مصارفه مصارف الفيء، بمعنى: أنه يصرف في مصالح المسلمين، وهذا هو الذي عبر عنه المؤلف بقوله: (يصرف في مصالح المسلمين): المصالح: جمع مصلحة، مثل: بناء المساجد، وبناء القناطر للشرب، وإجراء المياه، وبناء المستشفيات للعلاج، ونحو ذلك من المصالح العامة بحسب ما يراه ولي الأمر مصلحة المسلمين. فهذه الأموال التي لا يعرف أصحابها، كأموال الغُيَّب، تُدْخَل إلى بيت مال المسلمين وتُصْرَف في عموم مصالح المسلمين، وهذا يعتبره العلماء رحمهم الله حينما يكون المال لغائب مسلم لا يعرف، فإنه يدخل إلى بيت المال، فكأن المسلمين كلهم لهم حق في ماله؛ لأن أخوة الإسلام نُزِّلت منزلة أخوة النسب، لأننا لا نعرف من صاحب هذا المال حتى نعطيه لقرابته، فحينئذ يشترك المسلمون في هذا المال، ويصرف في مصالحهم العامة. ففي بيت مال المسلمين ما يسمى بالموارد، وفيه ما يسمى بالمصارف، ويذكر العلماء في كتاب الجهاد، في باب الغنائم المسألتين: موارد بيت المال. ومصارف بيت المال. فهذا من باب ذكر الشيء عند مناسبته. فيبين رحمه الله مصارف الخمس (خمس الخمس الذي ذكرناه)، ومصارف العشور -العشور سيأتي بيانها- ومصارف الجزية، ومصارف أموال الغُيَّب التي لا يعرف مَن أصحابها، وبين أن كل هذا يصرف في مصالح المسلمين العامة. (وما أخذ من مال مشركٍ كجزية وخراج)

الجزية

الجزية (كجزية) الجزية: هي المال المقدر المفروض على الكافر إذا أقر في بلده على دينه من أجل حمايته، بقدر معين يحدده ولي الأمر، شريطة أن يكون من أهل الكتاب، وتكون مفروضة عليه في السنة، أي: الحول، ومن العلماء من يقول: تؤخذ منه مسبقاً، أي: في بداية الحول، ومنهم من يقول: تؤخذ عند تمام السنة، وهذا مذهب الجمهور: أنها تؤخذ بعد استكمال السنة، وهو أقوم. والجزية تفرض إذا دخل المسلمون إلى بلاد الكفار أو أرادوا غزو الكفار فيخيرون بين: أولاً: الإسلام، أي: أن يسلموا، فيكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين. ثانياً: أن يعطوا الجزية، فإذا قالوا: نعطي الجزية، فهذا له شروط وضوابط منها: أن يكونوا من أهل الكتاب؛ لأن الجزية لا تؤخذ إلا من أهل الدين السماوي، فلو كانوا مشركين أو وثنيين لا دين لهم، فلا تفرض عليهم الجزية؛ لأنه أشبه بإقرار الشرك؛ بخلاف أهل الكتاب فإن فيهم شبهة من وجود الدين، وهذا من رفق الله سبحانه وتعالى بعباده ولطفه بهم، ففرَّق بين أهل الكتاب وبين المشركين والوثنيين. فإذا أخذت الجزية إلى بيت مال المسلمين، فقد بين المصنف أنها تصرف في مصارف المسلمين العامة، كما ذكرنا.

الخراج والعشر وما ترك فزعا

الخراج والعشر وما تُرك فزعاً (وخراج) الخراج قد ذكرناه، سواء كان خراج مقاسمة أو كان خراج وظيفة، فإذا أخذ هذا الخراج فإنه يقسم أو يصرف في مصارف المسلمين العامة. (وعشر) العشر هو الواحد من العشرة، والعشر يؤخذ من الكفار إذا تاجروا في بلاد المسلمين، إذا كانوا حربيين، فإن الكفار ينقسمون إلى أقسام: النوع الأول: الحربيون، أي: بيننا وبينهم حرب، فهؤلاء يسمون عند العلماء بالكفار الحربيين، حتى ولو كانوا في هدنة مع المسلمين، فحكمهم حكم الحربيين على تفصيل في مسائلهم. النوع الثاني: الذميون، وهم الذين لهم ذمة من أهل الكتاب ممن تؤخذ عليهم الجزية، فهؤلاء لهم حكم خاص. النوع الثالث: المستأمَن، وهو الكافر الحربي الذي يدخل بلاد المسلمين بالأمان، من أجل أن يتاجر أو من أجل إبرام عقد أو لمصلحة معينة، عامة أو خاصة، فيؤمِّنه ولي الأمر أو يؤمِّنه أي مسلم، فالأمان يكون من أي مسلم ممن هو أهل كما سيأتي، ويأخذ حكم أمان المسلمين كلهم، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم حرب على من سواهم) ولذلك لما جاءت أم هانئ في فتح مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل وفاطمة تستره بثوب، وذلك حين أراد علي أن يقتل رجلاً من بني عمها، وكان من عادة العرب أنه إذا دخل المستجير إلى بيت إنسان فإنه يؤمِّنه كما يؤمِّن نفسه، وهذا من شيم الكرام، ومن علامة كمال الإنسان وفضله، أنه لا تُخْفَر له ذمة، ولكن بشرط ألا يكون مرتكباً لحدود الله عز وجل، ومرتكباً للحرمات؛ فمثل هذا -والعياذ بالله- لا يؤمَّن؛ لأن الشرع له حق عليه، فإذا أُمِّن أعين على الإثم والعدوان، وهذا هو الذي عناه الله عز وجل بقوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وكانوا في الجاهلية إذا دخل الرجل على الرجل ووطئ بساطه أو دخل بيته وقال: إني مستجير بك، أو مستعيذ، أو يطلب منه الأمان، فإنه لا يخفره؛ لأنه لما دخل بيته صار بمثابة الضيف، والضيف يُكرَم ولا يهان، ويعطى ولا يمنع، فكان يؤمِّنه ويكون دونه في خير أو شر، فجاء الإسلام بتهذيب هذه الأمور، إن كان في خير فخير، وإن كان في شر فشر، فإذا كان في شر كان شريكاً له في الإثم والعياذ بالله! فالمقصود: أن المستأمِن إذا دخل إلى بلاد المسلمين واستجار بمسلم فأجاره، فإنه في جوار المسلمين كلهم. وقد روي أنه في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه أبو موسى رضي الله عنه وأرضاه من الشام: أن الروم إذا دخلوا بلاد المسلمين لم يأخذوا عليهم شيئاً، وإذا دخل المسلمون بلادهم متاجرين أخذوا عليهم العشر، فأمره عمر أن يأخذ منهم العشر إذا دخلوا، وهذا ما يسمى (بالتعشير)، فهي ضريبة تؤخذ للمتاجرة في بلاد المسلمين، معاملة بالمثل، ومثل ما يسمى في زماننا: (بالجمرك) فهذا يُعتبر كالضريبة على الكافر، كما يعامَل المسلمون إذا تاجروا في بلادهم، فتكون مقابلة بالمثل، ففعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفعله بعده الخلفاء الراشدون، وأصبحت سنةً مُجْمَعاً عليها: أن الكفار إذا تاجروا في بلاد المسلمين أو كان لهم وكيل مسلم يورِّد سلعهم جاز أن يؤخذ عليهم كما يأخذون على المسلمين إذا ورَّدوا السلع إليهم، وهذا يسمى (بالتعشير) وله ضوابط معينة، وينظر فيه الإمام بضوابط المصلحة، فيفرض العشر على الحربي، ونصف العشر على الذمي، وربع العشر على المسلم إذا تاجر من بلادهم. (وما تركوه فزعاً): وهو الذي لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فهذا يعتبر فيئاً، ويؤخذ إلى بيت مال المسلمين، ويصرف في مصارف المصالح العامة.

حكم خمس خمس الغنيمة والصفي

حكم خمس خمس الغنيمة والصفي (وخمس خمس الغنيمة) نحن قلنا: إن الغنيمة تقسم إلى خمسة أقسام، والخمس منها يقسم أيضاً إلى خمسة: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41] قيل: هذا للاستفتاح، {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41] هذا تقسيم، فلما قال: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41] كأنه يُحال من الغنيمة، وهذا يسميه العلماء: خمس الغنيمة، وهذا يصرف في مصالح المسلمين العامة، وهو الذي عناه الله بقوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41] فللرسول عليه الصلاة والسلام خمسه، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم في الغنائم شيء يسمى (الصفي)، وكان من عادة الناس في الجاهلية أنهم إذا قاتلوا وكان لهم من يقودهم للقتال من شجعانهم، أنه يصطفي له ما شاء، ويأخذ من الأموال والنساء ما شاء عند الغنيمة، فهذا يسمى الصفي، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفي، والاصطفاء أن يأخذ من الأموال ما شاء، صلوات الله وسلامه عليه، ويضعه حيث شاء، ولذلك في غزوة بدر اختصم المسلمون في هذه الأنفال فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]. قيل: إن سببها أنه لما انتهت وقعة بدر اختصم كبار السن وصغارهم، فالصغار قالوا: نحن الذين أبلينا، وقال الكبار نحن الذين كانت لنا حمايتكم، فهؤلاء حموا وهؤلاء قاتلوا، فكان الشباب يقولون: الغنيمة لنا، والكبار يقولون: بل لنا، نحن الذين أعناكم؛ لأن حماية الظهر في بعض الأحيان تكون أعظم من غيرها، فوقعت بينهم الخصومة فنزلت الآية. وقيل: إنهم انقسموا إلى قسمين: قسم منهم كان يحرس النبي صلى الله عليه وسلم، وقسم منهم كان يقاتل، فكان الذين يقاتلون يقولون: الغنيمة لنا، والذين يحرسون الرسول صلى الله عليه وسلم يقولون: الغنيمة لنا؛ لأن حراسة النبي صلى الله عليه وسلم أعظم، فوقع بينهم الخلاف فنزلت الآية. وقد اختصم سعد رضي الله عنه مع رجل من الأنصار في سيف، فقال سعد: لي، وقال الأنصاري: بل لي، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ليس لك ولا له، إنما هو لله والرسول) فلما أخذه نادى سعداً، وأعطاه إياه، وقال: (هو لي وهو لك) فأعطاه إياه، وكان سعد رضي الله عنه عظيم البلاء. ومن الصفي: صفية بنت حيي رضي الله عنها وأرضاها، فقد اصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، وأعتقها وتزوجها. ومن الصفي أيضاً: أمواله في فَدَك بجوار خيبر، وهي من الحصون التي اصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه، قال بعض العلماء: هذه الأموال التي نُصَّ على أنها للرسول ترجع إلى بيت مال المسلمين. فأصبح لبيت مال المسلمين الخمس {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41]، وقال بعض العلماء في قوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال:41]: إن المراد به قرابة النبي صلى الله عليه وسلم -كما ذكرنا- وهو الصحيح، فالله حجب عنهم الزكاة وأعطاهم حظهم من خمس الخمس، وقال بعض العلماء: بل الخمس لقرابة الإمام، ويشكل على هذا فعل أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فإنهم لم يصطفوا هذا الخمس لقرابتهم. ومنهم من قال -وهذا القول الثالث وهو الذي نريده- الخمس الذي للقربى يرد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت مال المسلمين، فيصبح لبيت مال المسلمين كم؟ خُمُسان، فيكون في بيت مال المسلمين العشر، وهذان الخمسان يصرفان في مصالح المسلمين العامة. يقول رحمه الله: (ففيء يصرف في مصالح المسلمين) جواب الشرط، أي: حكمه حكم الفيء، يصرف في مصالح المسلمين كبناء المساجد، وعمارة الطرق، وغير ذلك من المصالح العامة، التي ينتفع بها المسلمون.

الأسئلة

الأسئلة

سهم الفرس إذا تعاقب عليه أكثر من واحد

سهم الفرس إذا تعاقب عليه أكثر من واحد Q إذا كان الجند يتعاقبون على ركوب الفرس فكيف تقسم الغنيمة؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه. أما بعد: فالحكم في ذلك أن العبرة بالوقعة، فإذا كانت الوقعة شهدها آخر رجل منهم، فيكون سهم الفرس له، مثال ذلك: تعاقب على الفرس ثلاثة، والثالث منهم هو الذي قاتل عليه، فيكون السهم له، هذه صورة. الصورة الثانية: أن يتعاقبوا أثناء القتال، فهذه المسألة اجتهد بعض العلماء فقال: يعطى للفرس السهمان، ثم تقسم بينهم على حسب البلاء، والله تعالى أعلم.

قياس البغال والجمال وغيرها على الفرس في سهم الغنيمة

قياس البغال والجمال وغيرها على الفرس في سهم الغنيمة Q هل تقاس البغال والجمال أو غيرها من الدواب على الأفراس، وذلك بأن تعطى سهمان؟ A لا يُعطى إلا للفرس، ولا يشمل هذا ما ذكر من الحمير والبغال، والسبب في هذا: أن للفرس والخيل معنى يخصُّها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) فالقتال عليها بركة، ولذلك خُصَّت، مع أنه في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كانت الإبل والبغال موجودة، ولكن الفرس فيه شيء ليس في غيره من الدواب، وكأنه مهيأ للقتال، بخلاف البغال والحمير والإبل، فالفرس يكر ويفر ويتعرض صاحبه للخطر أكثر، ولذلك عَظُم بلاؤه أكثر من غيره، ومن هنا قال: (وللفارس) فخصه بالفرس، ولا يركب الخيل ويقاتل عليه إلا الشجاع القوي الذي يحسن الكر والفر، ومن هنا اشترطوا أن تكون من الخيول العربية الأصيلة التي يكون بلاؤها أعظم، حتى يكون أقرب للسنة، وإن كان بعض العلماء خفف في هذا الشرط، وأخذ بعموم قوله: (وللفارس ثلاثة أسهم).

الفرق بين الغنيمة والفيء

الفرق بين الغنيمة والفيء Q هل الغنيمة والفيء بمعنى واحد؟ A الغنيمة والفيء بينهما عموم وخصوص، فالفيء أحياناً يدخل تحت الغنيمة وأحياناً ينفرد عنها، فالفيء يكون من غير قتال، كأن يأتي المسلمون إلى موضع فيه كفار فيسمع الكفار بالمسلمين فيفرون، ويتركون أموالهم وديارهم، فهذا يعتبر من الفيء، كما وقع في جلاء بني النضير وغيرهم، بخلاف الغنيمة، فإنها لا تكون إلا من وقعة، والغالب أنها تكون بالجهاد ومقابلة العدو وقتاله، فالغنيمة هي نتاج الغزوة، وبعض العلماء يقولون: الغنيمة تشمل الفيء، فكأن الغنيمة أعم من الفيء، فإن أصل الغنيمة من الغُنْم، والغُنْم: هو أخذ الشيء بلا بدل، والغنيمة: أخذ الشيء بلا عوض، فقالوا: يشمل بهذا المعنى ما كان بقتال، وما كان بدون قتال، فهو غنيمة؛ لأنه بغير بدل. وعلى هذا ينفرد الفيء بحكم خاص وهو: مصارفه وأحكامه الخاصة، وتبقى الغنيمة على الأصل العام. لكن أيَّاً ما كان فالمعروف في كتب الفقهاء رحمهم الله أنهم يجعلون الغنيمة أصلاً عاماً لهذا كله، والفيء فرع من الغنيمة، وعلى هذا دَرَج مصطلح الجمهور رحمهم الله. لكن الفيء له أحكام خاصة غير أحكام الغنيمة، منها أن له مصارف الخمس التي ذكرناها، بخلاف الغنيمة فإنها تخمَّس، فللمجاهدين أربعة أخماس، والخمس الأخير هو الذي يصرف في مصارف الفيء فقط، فمن هنا يقول بعض العلماء: إن بينهما عموماً وخصوصاً من هذا الوجه.

المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم في انتظار الصلاة: (خذلكم الرباط)

المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم في انتظار الصلاة: (خذلكم الرباط) Q ما المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر بعض الأعمال الفاضلة فقال: (فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) وهل يعادل أجر الرباط في الجهاد؟ A مادة: ربط، دائماً تكون للملازَمة، ولذلك إذا ربطت الشيء وعقدته، فإن هذه العقدة يُلزَم بها الشيء ويبقى، ومنه تقول: ربطت الفرس، وربطت الدابة، فإنها تلزم هذا المكان ولا تنفك عنه. والرباط له معنيان: رباط عام: وهو الرباط على الطاعة. ورباط خاص: وهو رباط الثغر في الجهاد في سبيل الله عز وجل. فأما الرباط العام على طاعة الله فهو الذي عناه الله عز وجل بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران:200] أي: يا من آمنتم بي وصدقتم بكتابي ورسولي صلى الله عليه وسلم (اصْبِرُوا وَصَابِرُوا) والمصابرة: غاية الصبر، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، غاية الصبر، (وَرَابِطُوا) أي: إذا صبرتم فابقوا على هذه الطاعة ورابطوا عليها، واجعلوا هذا دأباً لكم، فإن من صبر ظفر، وقد قرن الله عز وجل الخير بالصبر، فقال صلى الله عليه وسلم: (وما أعطي عبد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر) أي: ما أعطي عبد عطاء خيراً وأفضل من الصبر، وهذا يدل على أن الرباط على الطاعة من أعظم الأعمال، ولهذا يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (وجدنا ألذ عيشنا بالصبر). فالصبر على الطاعة والثبات عليها لا يكون إلا لأهل الكمال ولأهل الفضل، وهذا هو الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أحب الأعمال إلى الله قال: (ما كان ديمة، وإن قل) أي: ما دام عليه الإنسان، وإن كان شيئاً قليلاً. فالمرابطة على الطاعة من أفضل الأعمال، وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى. ولما كانت الصلاة هي أعظم الطاعات، وأجل القربات بعد توحيد الله عز وجل، فلا يحافظ عليها إلا مؤمن، ولا يتم ركوعها وسجودها وخشوعها إلا سعيد موفق في الدنيا والآخرة؛ لأن الله قرن بها الفلاح في الدنيا والآخرة، وصلاح حال العبد في دينه ودنياه وآخرته، وهي كذلك عماد الدين، والركن الثاني من أركان الإسلام، وكانت ولا زالت من أعظم ما يتمسك به الإنسان في دينه، فمن حفظها حفظه الله، فإذا كانت الصلاة بهذه المثابة فاعلم أن أكمل المؤمنين إيماناً من أحبها ورابط عليها، وتتفاوت مراتب الناس في صلاتهم: فمنهم من لا يصلي مع الجماعة وإنما يصلي لوحده، فهذا من أحرم الناس لأجرها. ومنهم من يصلي مع الجماعة؛ لكنه يأتي قبل التشهد بقليل. ومنهم من يصلي مع الجماعة فيدرك الركعة أو الركعتين أو الثلاث، فيدرك نصف الصلاة أو ربعها أو ثلثها، ولَمَا فاته منها خير من الدنيا وما فيها. ومنهم من لا يؤذن إلا وهو في المسجد. فإذا كانت الصلاة بهذه المثابة فالحفاظ عليها والصبر عليها من أعظم الرباط، فإذا ملأ الله القلب الزكي التقي النقي، وأحب صاحبه وأراد أن يوفقه في الدنيا والآخرة، جعل الآخرة أكبر همه، ومبلغ علمه، وغاية سؤله ومطلبه، فأصبح لا يفكر إلا في هذه الصلاة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يا بلال أرحنا بالصلاة) فإذا صلى -مثلاً- صلاة العصر، قال: إلى أين أخرج؟! إلى دنيا فانية، مليئة بالأمور اللاغية، فالخير لي أن أجلس، فنظر في دنياه ونظر في آخرته، فإن خرج ربما خرج إلى أمر يفوت به دينُه، وقد يخرج إلى فتنة، فقال: سأنتظر صلاة المغرب، فجلس بعد صلاة العصر ذاكراً لله، ومثنياً عليه، محباً ومؤثراً لمرضاة الله عز وجل، فإذا به قد رابط على خيرٍ مِن أحَبِّ الخيرِ وأعظمِه أجراً عند الله سبحانه وتعالى. فلما كان هذا النوع من الصبر على الطاعة، دخل في مسمى الرباط، فقال صلى الله عليه وسلم: (فذلكم الرباط) ثم انظر فإنه لم يقل: (ذلك) وإنما جاء بصيغة الجمع، ولم يقل: (هذا) أو: (هو الرباط) بضمير الغائب، لا. وإنما قال: (فذلكم) فأولاً: استخدام (ذلكم)، و (ذا) إشارةٌ إلى البعيد، وإذا أدخلت عليها الكاف، قلت: (ذاك) للبعيد، فعبر بصيغة البعيد؛ لعلو المرتبة والشرف، ومنه قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] إشارة إلى علو مكانته وعظيم منزلته عند الله جل جلاله. فقال صلى الله عليه وسلم: (ذلكم)، ثم قال: (الرباط) ما قال: (ذلكم رباط)، أو: (مِن الرباط)، إنما قال: (الرباط) و (ال) هنا تدل على الكمال، أي: أنه أكمل الرباط وأعظمه؛ لأنه في أكمل الطاعات، وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، وهي الصلاة. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يلهمنا فعل الخيرات، وترك الفواحش والمنكرات. ونسأل الله العظيم أن يَمْنُنَ بالعافية غدوَّنا وآصالَنا، وأن يختم بالسعادة آجالَنا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

باب عقد الذمة وأحكامها [1]

شرح زاد المستقنع - باب عقد الذمة وأحكامها [1] ميَّز الله سبحانه الأديان السماوية حتى بعد وقوع التحريف فيها، فكان من هذا أن أجاز عقد الذمة مع أهل الكتاب ومن أخذ حكمهم، وهذا فيه أسرار وحكم عظيمة، وهذا العقد لابد فيه من التزامات بين المسلمين وأهل الكتاب، ولابد له من أركان لا يصح إلا بها.

أحكام عقد الذمة

أحكام عقد الذمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتَمَّان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب عقد الذمة وأحكامها] هذه الترجمة قصد المصنف -رحمه الله- بها أن يبين جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بعقد الذمة، والأصل في ذلك أن المسلمين إذا غزوا العدو، فإنهم يخيرونهم بين ثلاث خصال: الخصلة الأولى: أن يسلموا، ويقومون بدعوتهم إلى الإسلام. الخصلة الثانية: أن يدفعوا الجزية، وهو الخيار الثاني، وهذا الخيار -وهو الجزية- يختص بنوع خاص من الكفار، وهم أهل الكتاب ومن في حكمهم كالمجوس، وأما غيرهم من الوثنيين والمشركين والملحدين، فإنه لا تؤخذ منهم الجزية، وإنما يخيَّرون بخيارين: - إما الإسلام. - وإما القتال. الثالثة: إن أبوا فإنه ينتقل معهم بعد ذلك إلى الخيار الثالث وهو القتال، وقد جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الخيارات الثلاث، وثبت ذلك أيضاً من هدي الصحابة رضوان الله عليهم، وهو ما كان يفتي به الخلفاء الراشدون -رضي الله عنهم وأرضاهم- أمراء الأجناد حينما بعثوهم للجهاد في سبيل الله عز وجل، وجاءت السنة مطلقة في حديث بريدة؛ ولكن قيدها القرآن في الجزية كما سيأتي. فلما كان الجهاد في سبيل الله عز وجل يحتاج إلى بيان الجانبين: الجانب الأول: كيف يجاهَد الكفار؟ وما هي الأمور والمسائل والأحكام المترتبة على شرعية الجهاد؟ والجانب الثاني: وهو الذي يتعلق بقبول الجزية، فإذا قبلوا دَفْع الجزية، فحينئذ تحقن دماؤهم، ويكونون أهل ذمة، على التفصيل الذي سنبينه. فكأن هذا الباب مرتب على الباب الذي قبله؛ لأن مَن يجاهد في سبيل الله، فإنه يحتاج إلى معرفة نوع خاص من الكفار، وهم أهل الذمة، فقال رحمه الله: [باب عقد الذمة وأحكامها]، كأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بالذمة وما يترتب عليها.

تعريف عقد الذمة

تعريف عقد الذمة قوله رحمه الله: (باب عقد) العقد في لغة العرب: التوثيق والإبرام، ومنه: عقد الحبل، ويطلق العقد على المحسوسات، كما تقول: عقدتُ الحبل إذا جمعتَ بين طرفيه وعقدتَه وأوثقتَه، وقد يطلق على المعنويات، فتقول: هذا عقد بيع، وينبني على الإيجاب والقبول، وقد ورد في كتاب الله عز وجل قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] والمراد به المعنوي. وإذا قال العلماء: عقد النكاح، عقد الإيجار، عقد الرهن، عقد الشركة، عقد المضاربة، فمرادهم بهذا اللفظ: الإيجاب والقبول على هذه الأمور، فإذا كان الإيجاب: بعتك، والقبول: قبلت واشتريت، فهو عقد بيع، وإن كان الإيجاب: أجرتك، وقال الآخر: قبلت واستأجرت، فهو عقد إجارة، وإن كان على نكاح فعقد نكاح، وهلمَّ جرَّاً. لكن لما قال المصنف هنا: (باب عقد الذمة) خصص عموم هذا اللفظ وبيَّن أن المراد به نوع خاص من العقود وهو عقد الذمة. والذمة في اللغة: الأمان والعهد، وأما في الاصطلاح: فهو أمان مخصوص، لطائفة مخصوصة، على هيئة مخصوصة، وهذا الأمان المخصوص المراد به: أن يؤمَّن من أعطي هذا العهد على نفسه وماله وأهله وعرضه، فالكافر إذا جرى بينه وبين المسلمين عقد الذمة فله ذمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما ثبتت بذلك الأخبار، فلا يسفك دمه، ولا ينتهك عرضه، ولا يؤخذ ماله، ويكون له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين. وأما قولهم: (لطائفة مخصوصة) فالمراد به: أهل الكتاب، ومن في حكمهم وهم المجوس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نسن بهم سنة أهل الكتاب، وذلك في الجزية، كما قرره الأئمة رحمهم الله. و (على هيئة مخصوصة) المراد بها: ضوابط عقد الذمة، وذلك بالصورة التالية: فالعقد في الأصل يستلزم جانبين: الجانب الأول: المسلمون. الجانب الثاني: الكفار.

أنواع الذمة

أنواع الذمة أما بالنسبة للمسلمين فيلي العقد عنهم إمامهم، كما سيبين لنا المصنف رحمه الله، وهذا أصل في قول جماهير العلماء: أن عقد الذمة لا يبرمه إلا الإمام؛ لأنه تتعلق به مصالح الأمة، وحينئذٍ لا يتأتى أن يقام على وجهه إلا عن طريق الإمام، أو من ينيبه؛ لكن هناك نوعان من الأمان، أو من الذمة: النوع الأول: الذمة الخاصة، وهي التي تكون لأفراد الناس، كأن يستجير مشرك أو كافر بمسلم، فيقول له: أنا في جوارك، وفي أمانك، وفي ذمتك، فإن قال له: أنت في ذمتي، فحينئذ يكون هذا الجوار والأمان خاصاً، فعلى المسلم أن يؤمنه حتى يسمع كلام الله، فإذا قبل الإسلام فالحمد لله، وإذا لم يقبل أبلغه مأمنه، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6]، فهذا يسمى بالذمة الخاصة، أو العهد الخاص، أو الأمان الخاص، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم حرب على من سواهم) فهذا الحديث الصحيح يدل على أن الكافر إذا دخل في جوار مسلم واحد فإنه في جوار المسلمين كلهم، ولا يجوز لأحد أن يتعرض له بسوء حتى يسمع كلام الله، أو يُبْلَغ مأمنه، ولذلك ثبت في الصحيح أنه لما دخل المشرك على أم هانئ وهي امرأة واستجار بها، وأراد علي قتله، انطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يغتسل، فقال: (من؟ قالت: أم هانئ، قال: مرحباً بـ أم هانئ، فقالت: يا رسول الله! زعم فلان أنه قاتل فلاناً، وقد أجرته، فقال صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ)، فدل هذا على أن ذمة المسلمين واحدة، وأن العهد إذا أخذ من مسلم لكافر، فهو عهد على جميع المسلمين لا يجوز لأحد أن ينقضه، أو ينكثه، حتى يكون الكافر على بينة. النوع الثاني من الذمة: الذمة العامة التي تكون مؤبدة، والفرق بينهما: أن الذمة الأولى خاصة مؤقته، أما الذمة التي نبحثها هنا فهي الذمة العامة المؤبدة، أي: التي تبقى إلى الأبد، فإذا أراد المسلمون فتح مدينة، وقالوا لأهلها: أسلموا فقالوا: لا نريد الإسلام، فقيل لهم: ادفعوا الجزية، فقالوا: ندفع الجزية وكانوا من أهل الكتاب ومن في حكمهم، فإنهم يبقون ما أبقاهم الله عز وجل، ويكون هذا العهد ذمة لهم إلى الأبد، ما لم يحدث النكث أو النقض، بالصورة التي سيبينها المصنف رحمه الله. فإذاً: عندنا ذمة عامة، وذمة خاصة. فالذمة الخاصة ينبغي حفظها ورعايتها، ولا يجوز لمسلم أن يقدم على قتل كافر في بلاد المسلمين، إذا كان قد دخل بأمان من واحد منهم، حتى قال بعض العلماء: حتى ولو دخل في أمان صبي، أو دخل في أمان امرأة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ). وعقد الذمة يكون بين المسلمين والكفار، فأما المسلمون فيعقد عنهم وليهم، أو من ينيبه، وأما الكفار فإنه يعقد عنهم أهل الحل والعقد، ومن يتولى أمورهم، فإذا جرى العقد بينهما فإن الأركان في العقد تستلزم: أولاً: العاقدان، فإذا قيل: عقد، فمعنى ذلك أن هناك عاقدين. ثانياً: المحل، وهو مورد العقد الذي يتعاقدان عليه، فمثلاً: البيع أركانه: البائع، والمشتري، ومحل يَرِد عليه البيع وهو السيارة مثلاً.

ما يلتزم به المسلمون في عقد الذمة

ما يلتزم به المسلمون في عقد الذمة فعندنا محل ورد عليه عقد الذمة، وهو التزامات من الطرفين، من المسلمين التزامات، ومن الكفار التزامات، فيرد عقد الذمة على هذين الجانبين. فيلتزم المسلمون: أولاً: بحقن دمه، فلا يُقتَل بدون حق. ثانياً: بحفظ عرضه، فلا يؤذى في عرضه. ثالثاً: بحفظ ماله. رابعاً: بحفظ أهله وعياله. فيدخل الأولاد والذراري بالتبع لآبائهم؛ لأنهم تابعون لآبائهم في هذا الحكم، كما ثبت من فعل الصحابة رضوان الله عليهم، فإن خالد بن الوليد رضي الله عنه لما كتب في الكتاب جعل الذراري تابعة للأصول، آباء وأمهات. ثم أيضاً يلتزم المسلمون بالدفاع عنهم، فإذا فتحت بلاد الكفار فنزلوا على حكم المسلمين بالذمة، فيجب على المسلمين نصرتهم وحفظهم، ولذلك لما نزل الروم بالشام -وكان أبو عبيدة رضي الله عنه قد فتح مع خالد أطراف الشام، وأخذ الجزية على بعضها- في معركة اليرموك، كتب أبو عبيدة إلى أمراء الأجناد، أن يردوا الجزية إلى أهلها حتى يقع النصر، فكانوا لا يلتزمون بالجزية إلا مع الالتزام بالنصرة، فيكون هذا الذمي له ما للمسلم وعليه ما على المسلم، فهو يلتزم بأمور، والمسلم يلتزم بأمور، فمن هذه الأمور التي يلتزم له بها المسلم: حفظ دمه -كما قلنا- وماله، وعرضه، وأهله، وولده، وكذلك أيضاً يكون له حق النصرة، فإذا اعتدى عليه الكفار، وجب على المسلمين نصرته ومنع الكفار من أذيته، كذلك أيضاً لا يعتدي عليهم المسلمون، فهم كالمسلمين لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وهذا فيه حكم وأسرار عظيمة، ذلك أن الذمة لا يصح إعطاؤها إلا لأهل الكتاب؛ لأن لهم ديناً سماوياً، فيكون حسابهم في الآخرة، فإذا رضوا بإعطاء الجزية يكونون مستثنين؛ لأن الله نص على ذلك، فأمر بأخذ الجزية من أهل الكتاب؛ لأن لهم ديناً سماوياً، فإذا بقوا بين المسلمين ورأوا تعاملهم، ورأوا دين الإسلام وسماحته، وما عليه المسلمون من التواصل والتراحم والتعاطف، أحبوا دينهم، ولربما نشأت ذراريهم وقد رأوا عزة الإسلام فيتأثرون به، حتى حفظ في البلدان التي فتحت على هذا الوجه أنه لم تمض ثلاثة أجيال إلى أربعة أجيال بالكثير إلا وقد أسلم منهم الكثير، فهذا نوع من الاستدراج للدخول في الإسلام ولو بعد حين. فالمقصود: أن يلتزم المسلمون بهذا، فإذا رأى الذمي أن له ما للمسلم وعليه ما على المسلم، وإذا وقف في المواقف المحرجة ورأى نصرة الإسلام له أحب هذا الإسلام، فإن النفوس جُبِلت على حب من أحسن إليها، وهذا الإحسان من المسلم فيه نوع من الاستمالة لقلبه والتأليف له للإسلام، وكل هذه أسرار عظيمة، وصدق الله عز وجل إذ يقول: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] فهو نوع من الحكمة البالغة في إقناع الناس بهذا الإسلام؛ فهم إذا لم يسلموا عن طريق مواجهتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ربما أثر فيهم تعامل المسلمين ووقوف المسلمين معهم ونصرتهم لهم، فيكون سبباً في دخولهم في دين الإسلام، ورضاهم به.

ما يلتزم به أهل الذمة

ما يلتزم به أهل الذمة الأمر الثاني: الذي يلتزم به أهل الذمة: يلتزمون بأمور كثيرة يجمعها أصلان: الأصل الأول: دفع الجزية. الأصل الثاني: التزام أحكام الإسلام، وعدم التعرض للإسلام أو أهله بضرر أو سوء. فهنا جانبان: الجانب الأول: دفع الجزية؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]. وأما الجانب الثاني: فهو تعظيمهم للإسلام، فيحفظون حرمة الإسلام، ويحفظون حق الإسلام، فلا يتعرضون لسب الله، ولا لسب رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا سب الإسلام، ولا يطعنون في القرآن، ولا في السنة، ولا يستهزئون بشيء من الإسلام، ولا بالمسلمين، مع أمور أُخر هي من لوازم عقد الذمة، حتى يستقيم عيشهم تحت الإسلام في ذلة وصغار، لا في عزة وقوة واستكبار، حتى لا تكون لهم شوكة على المسلمين، فيكون الأمر محقِّقاً لخلاف ما قصده الشرع أو عناه من هذا الحكم التشريعي.

أركان عقد الذمة

أركان عقد الذمة إذاً: أركان العقد: أولاً: عاقدان. ثانياً: محل العقد. ثالثاً: ولا بد من توفره: الصيغة، أو ما يدل أو يقوم مقامها. فهناك صيغة اللفظ: كأن يقول ولي الأمر للكفار أو من ينوب عنهم: (عاهدناكم على كذا وكذا)، فيقول الكافر: (قبلنا)، فإذا قال: عاهدناكم، وقال الطرف الثاني: قبلنا، فقد تمت الصيغة؛ الإيجاب والقبول. أيضاً: قد تكون هناك أمور أخرى تدل على الرضا، مثلاً: لو أن كافراً من أهل الكتاب دخل مع أهل الذمة الذين هم تحت حكم المسلمين، فإن هذا الدخول يعتبره العلماء دلالة ضمنية على الرضا بدفع الجزية للمسلمين، فيكون عقداً ضمنياً، كذلك إذا شب الصغار، وبلغوا سن الرشد والتمييز، فحينئذٍ لا يحتاجون إلى تجديد العقد؛ لأن سكوتهم ينزَّل منزلة تجديد العقد، وهذا أصح قولي العلماء: أن من نشأ من صغارهم، وسكت على العهد الذي كان عليه كبارهم، فإن هذا يعتبر إقراراً، وينزَّل منزلة الصيغة، ويكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين بالصيغة التي اتُّفِق عليها بين آبائهم وبين ولي أمر المسلمين، حينما كانوا صغاراً.

الجزية وأحكامها

الجزية وأحكامها يقول رحمه الله: [لا تُعْقَد لغير المجوس وأهل الكتابين ومن تبعهم] في هذا الباب يحتاج المصنف عند بيانه لأحكام الذمة لجملة من المسائل منها: المسألة الأولى: أن يبين من الذين يجوز لك أن تعقد معهم عقد الذمة؟ والسبب في ذلك: أن الكفار ينقسمون إلى أقسام -سنبينها إن شاء الله- فهل كلهم يجوز أن تأخذ منهم الجزية، أم من بعضهم دون بعض؟ المسألة الثانية: من الذي له حق عقد الذمة، وهل يمكن أن يقع من أفراد المسلمين، أم أنه خاص بولي الأمر ومن ينيبه؟ المسألة الثالثة: ما هي الشروط التي ينبغي توفرها لضرب الجزية على الفرد من أفراد الكفار؟ وإذا وقع عقد الذمة العام، فهناك أمور فرعية خاصة تتعلق بهذا العام، وهي: هل نضرب الجزية على صغارهم، وكبارهم، وذراريهم، ونسائهم، وشيوخهم، وضَعَفَتهم، والمسلمين منهم، ورهبانهم، وأحبارهم، أم أن الحكم يختص ببعضهم دون بعض؟ كذلك أيضاً ما الذي يترتب على قضية أخذ الجزية منهم، من وجوب النصرة، وحقن دمائهم؟ فهذه كلها مسائل تتعلق بالعقد من حيث هو.

شرعية أخذ الجزية

شرعية أخذ الجزية أولاً: ما هو الدليل على شرعية عقد الذمة وأخذ الجزية؟ دل دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على ذلك. أما دليل الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى قال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فدلت هذه الآية الكريمة على مسائل: الأولى: الأمر بالجهاد في سبيل الله عز وجل، وذلك لإعلاء دين الله، وكف أعداء الله، {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة. الثانية: أن الله سبحانه وتعالى خص هذا بأهل الكفر، فقال: {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29]، والذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر هو كافر، حتى ولو قال شخص: أنا أؤمن بالله، وأؤمن بالرسول وأؤمن بكل شيء إلا اليوم الآخر -والعياذ بالله- فلا أعتقد أن هناك يوماً آخراً، كما تقول الفلاسفة -والعياذ بالله- من ضلالاتهم: إنها أمور خيالية وليس لها حقيقة، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وهذا يعتبر كفراً بإجماع المسلمين، فمن لا يؤمن باليوم الآخر فهو كافر، فخص الله ذكر اليوم الآخر زيادة في بيان كفرهم والتغليظ عليهم، ثم قال: {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [التوبة:29] ثم خصص العموم فقال: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة:29] وهذا يدل على أن الجزية لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب، وأنها ليست بعامة لجميع الكفار، وهذا له حكمة؛ لأن أهل الكتاب لهم دين سماوي، فهم في الأصل يتفقون مع المسلمين من حيث تعظيم الله عز وجل، ووجود الله عز وجل، فبيننا وبينهم قواسم مشتركة، ولذلك قال الله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [البقرة:136] وقال: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران:84]، فهناك قواسم مشتركة، والدين الذي له أصل، ليس كالدين الذي لا أصل له. وقول الله عز وجل: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة:29] قال بعض العلماء: (مِن): للتبعيض، فدل على أن المراد أن الجزية لا تؤخذ إلا من قوم خاصين، وهم أهل الكتاب، ثم قال الله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة:29] فدل على أن الجزية تُحقن بها دماؤهم؛ لأنه قال في أول الآية: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29] ثم قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة:29] فدل على أنهم إذا أعطوا الجزية فلا يجوز استباحة دمائهم إلا بحق، ثم قال الله عز وجل: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] وسنبين معنى الصَّغار، وما هو المقصود منه، كما سيبينه المصنف -رحمه الله- في آخر هذا الباب. إذاً: فهذه الآية دلت على مشروعية أخذ الجزية. ثانياً: السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في حديث بريدة أنه بعثه في سرية وأمره صلى الله عليه وسلم عندما ينزل بدار الكفر أن يدعوهم بدعاية الإسلام: شهادة أن لا إله إلا لله وأن محمداً رسول الله، وأمره أن يخيرهم بين الإسلام، ثم أخذ الجزية، ثم قتالهم، فدل هذا على مشروعية أخذ الجزية، والحديث في الصحيحين، ومطلقه مقيد بالقرآن، كما سنبينه إن شاء الله تعالى. ثالثاً: الإجماع وقد ثبت إجماع السلف رحمهم الله، وهو فعل الخلفاء الراشدين المأمور باتباع سنتهم، أخذوا الجزية من أهل الكتاب، وذلك في فتوحات الشام وغيرها، ولم ينكر عليهم أحد، وفرضها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عن الجميع، ثم ما زال ذلك في عصور الإسلام كلها، ومن هنا أجمع المسلمون على شرعيتها من حيث الجملة، أما من حيث التفصيل، فهناك خلاف في بعض المسائل، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.

حكم وفوائد الجزية

حِكم وفوائد الجزية أما الحِكَم التي تستفاد من شرعية الجزية، فهناك حِكَم عظيمة: أولها: التفريق بين الكفار، وبيان حرمة الأديان السماوية دون غيرها، فإن الأديان السماوية لها أصول، ولذلك تفضل على غيرها، كما أن الله سبحانه وتعالى بيَّن ذلك في سورة الروم، فقال سبحانه وتعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:1 - 5] قال العلماء رحمهم الله: إن الله عز وجل قسم الناس في هذه الآيات الكريمات إلى حزبين، وطائفتين: طائفة لهم دين سماوي وهم الروم، قال: {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:2] ومعهم المسلمون في قوله آخر الآية: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:4 - 5] فجعل نصرة الروم من نصرة الله عز وجل لهم. وطائفة في ضدهم وهم طائفة المجوس، والوثنيين الذين يعبدون النار. فكان كفار قريش يفرحون بغلبة المجوس على أهل الكتاب وهم الروم؛ لأنهم يعبدون الأوثان، فكانوا مشتركين معهم في الوثنية، وكان المسلمون يفرحون بغلبة الروم على المجوس؛ لأنه دين سماوي، فكان هذا من باب التمييز بين الأديان. فجُعِل للدين الذي له أصل سماوي فرق عن الدين الذي ليس له أصل، فهناك الدهري الذي ليس له دين، وهناك الملحد الذي لا يعترف بالأديان أصلاً، وهناك الوثني الذي يقر بالله عز وجل؛ ولكن يعبد معه غيره، فيعبد وثنا أو صنماً، أو غير ذلك. المقصود: أن هذه النحل والملل والطوائف المشركة الوثنية ليست كالأديان التي لها أصل سماوي، فَفُرِّق بينهما. ثانياً: من حكم الجزية وفوائدها: أنها سبب في دخول الإسلام، فإن الكفار إذا نزل بهم المسلمون قد يكونون على جهل بشرائع الإسلام، ولا يعلمون حقيقة الإسلام، فينقسمون إلى طوائف: فمنهم من إذا ناقشته وناظرته اقتنع بالإسلام وأحبه وأسلم، فهذا تقنعه بالحجة والبرهان. ومنهم من لا يقتنع بالإسلام إلا إذا عاشر أهله -أهل الإسلام- ورأى الإسلام على طبيعته، وتطبيقه وواقعه، فلما يراه ويرى المسلمين على حقيقتهم يتأثر. وهناك من لا يرضى بالإسلام أصلاً، فحكمه أن يُجاهَد. فجعل الله لكل شيء قدراً، فإذا جاء المسلمون إلى أرضٍ فيها أهل كتاب، وأرادوا غزوهم، وقالوا لهم: اقبلوا بالإسلام، فقالوا: لا نقبل، فقالوا: ادفعوا الجزية، فقالوا: قبلنا، فإنهم سيعاشِرون المسلمين وسيَرَون محاسن الإسلام ومآثره وأحكامه وكيف أن الإسلام ينصفهم، فيكون هذا سبباً لإسلامهم. ولذلك أُثِر عن علي رضي الله عنه في القصة المشهورة التي ذكرها غير واحد من العلماء، وتروَى مسنَدَة، أنه لما أخذ اليهودي منه درعاً وقيل في بعض الروايات: أنه أخذ منه فرساً واستعاره، وكان من أهل الذمة، ثم جاء يطلبه الفرس فامتنع، وقال: بيني وبينك قاضيك الذي نصَّبته على الناس. فانطلق معه إلى قاضيه شريح، فقال له: هذه فرسي. فأنكره اليهودي. فقال له القاضي: بيِّنَتُك يا أمير المؤمنين. فعجب اليهودي، وقال: أمير المؤمنين ولا يستطيع أن يأخذ حقه مني إلا ببَيِّنة؟! فوجد سماحة الإسلام، وأن شرعه على الكبير والصغير، فشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. فمن خلال التعامل يقع هؤلاء الذميون في معاملات مالية مع المسلمين، فيحتكمون إلى قضاء الإسلام، فيجدون سماحته ويجدون حسنه وما فيه، مع ما للمسلمين عليهم من فضل النصرة، فيكون سبباً في قبولهم للإسلام، ورضاهم به. ثالثاً: من حكم الجزية: أنها مورد من موارد بيت مال المسلمين، وهذا المورد يُصرف في مصالح المسلمين العامة، ويكون فيه نفعٌ للمسلمين عامِّهم وخاصِّهم، على ما ذكرناه في أحكام قسمة الفيء.

عقد الذمة للمجوس

عقد الذمة للمجوس وقوله رحمه الله: [لا تُعْقَد لغير المجوس] (لا تُعْقَد) أي: لا يصح ولا يجوز أن تكون الذمة وعقد الذمة إلا للمجوس. والمجوس: هم طائفة من أهل الأديان يعبدون النار، ويعتقدون أن للكون إلهين -تعالى الله عما يقولون- إله الظلمة وإله النور، ويرون أن الخير منسوب إلى إله النور، وأن الشر منسوب إلى إله الظلمة، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30]! وهذه النحلة، بعض العلماء يقولون: إنهم كان لهم أصل من دين سماوي، ثم رُفع كتابهم؛ ولكن هذا لم يصح، والصحيح أنهم وثنيون؛ ولكنهم أُلحقوا بأهل الكتاب، لورود السنة المخصِّصة لذلك. أما الدليل على جواز عقد الذمة مع المجوس: فما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه أخذ الجزية من مجوس هجر)، وكذلك أيضاً ما ثبت في حديث عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المجوس: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم)، فدل على أن المجوس يعامَلون معاملة أهل الكتاب، في أخذ الجزية منهم، وعلى هذا قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ولم ينكره عليه أحد من الصحابة، فكان بمثابة الإجماع. ولذلك تؤخذ الجزية من المجوس بإجماع العلماء رحمهم الله.

عقد الذمة لأهل الكتاب

عقد الذمة لأهل الكتاب قال رحمه الله: [لا تُعْقَد لغير المجوس وأهل الكتابين ومن تبعهم]. أهل الكتابين المراد بهم: اليهود والنصارى، ووصفوا بذلك لأن لهم كتاباً سماوياً في الأصل، قال الله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام:156]، وعندما قال بعض العلماء: إن المجوس أهل كتاب، رُدَّ عليهم بهذه الآية؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ} [الأنعام:156] فدَلَّ على أن (أهل الكتاب) يختص حكمهم باليهود والنصارى، واختُلف في الصابئة، فقيل: إنه كان لهم كتاب، وهو الزبور. وقيل: إن شريعة يحيى كانت لهم، ويختلف العلماء فيهم، وهم على طوائف سنبينها. أما بالنسبة لليهود والنصارى، فهم أهل كتاب بالإجماع، ويدخل فيهم من تبعهم، (فالسامرة) يتبعون اليهود ويأخذون حكمهم، وهم يعبدون الكواكب، وللعلماء فيهم بعض التفصيل، وإن كان الصحيح أنهم يتبعون اليهود، وهو قضاء بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤكده أنهم يسبتون ويعظمون السبت كما تعظمه اليهود. كذلك أيضاً النصارى بجميع طوائفهم ومللهم، كما يوجد في زماننا: (الكاثوليك)، و (البروتستانت)، و (الأرثوذكس)، فهؤلاء كلهم يعتبرون في حكم أهل الكتاب، ويسري عليهم ما يسري على أهل الكتاب، كما نص على ذلك العلماء رحمهم الله؛ لأنهم في الأصل لهم كتابهم، سواءً كان: (إنجيل يوحنا)، أو (إنجيل برنابا)، أو (إنجيل لوقا)، أو غيرها من الأناجيل الأخرى، فكلها تعتبر من حيث الأصل على دين سماوي، ولذلك لم يفرق الصحابة رضوان الله عليهم بين طوائفهم، وإنما عاملوهم معاملة أهل الكتاب على الأصل العام الذي ذكرناه.

حكم عقد الذمة للصابئة

حكم عقد الذمة للصابئة وأما بالنسبة للصابئة فقد اختلف فيهم، والصابئة ينقسمون إلى طوائف: فطائفة منهم توجد بحران، في أقصى بلاد الشام، من جهة جزيرة العرب، وهؤلاء اختلف فيهم، فبعض العلماء يقول: إنهم أهل دين سماوي حرفوا دينهم وغيروه، كاليهود والنصارى، ورُفِع كتابهم، وهذا القول هو رواية عن الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، وفيه أثر عن علي رضي الله عنه وأرضاه؛ ولكنه لم يصح. وقال بعض العلماء: إنهم تابعون لليهود والنصارى، وقد روي عن ابن عباس القول: بأنهم يتبعون النصارى، وهذا القول اختاره الإمام أحمد في رواية عنه، ومنهم من قال: إنهم يعتبرون في حكم اليهود؛ لأنهم يسبتون، فقد كانت بعض طوائفهم تعظم السبت كما يعظمه اليهود، فأعطوا حكم اليهود. والصحيح أن الصابئة ينقسمون إلى قسمين: فقسم منهم يتبعون اليهود والنصارى -خاصة الذين هم في جهة حران- وعليه يُحمل أثر ابن عباس رضي الله عنهما. وأما القسم الذي يعبد الكواكب، ويعتقد في الكواكب منهم، فهذا على قسمين: قسمٌ منهم يعبد الكواكب في أزمة مخصوصة معتقداً أن المؤثر هو الله، فهذا قيل: إن استقباله للكوكب واعتقاده فيه لا يوجب كونه آخذاً حكم الوثنية؛ لأن لهم أصلاً من الدين السماوي، فقال طائفة من العلماء: إنهم يأخذون حكم أهل الكتاب من هذا الوجه؛ ولكن الصحيح أن عبدة الكواكب منهم كلهم يعتبرون في حكم الوثنيين، ولا يجوز عقد الذمة معهم. وهذا القسم الذي يعبد الكواكب يوجد في أطراف العراق، وهذا القسم هو الذي توعده المأمون، وكان قد نذر على نفسه إذا لم يدخلوا الإسلام أن يرجع فيقتلهم، وذلك حينما ذهب إلى الغزو، ولكنه مات قبل أن يدركهم، وهذا القسم هو الذي يعنيه طائفة من العلماء بأنهم يأخذون حكم الوثنيين. أما بالنسبة لبقية الطوائف فهناك الكفار الذين هم مشركون وعلى الوثنية كمن يعبد الأشجار والأحجار والنيران، وهناك من لا دين له، وهم الملحدون، الذين ليس لهم دين ولا يعبدون إلهاً، وإنما يعتقدون أن الحياة نشأت من الطبيعة ووجدت صدفة، وأن الكون هذا أوجد نفسه، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وهكذا بالنسبة للمرتدين الذي ارتدوا عن الإسلام، فهؤلاء كلهم لا يجوز عقد الذمة معهم.

الدليل على عقد الذمة لأهل الكتاب والمجوس فقط

الدليل على عقد الذمة لأهل الكتاب والمجوس فقط أما الدليل على تخصيص الحكم بما ذكره المصنف من أهل الكتاب والمجوس؛ فلأن الله سبحانه وتعالى قال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فخصص حكم الجزية بنص الكتاب بأهل الكتاب، ثم إننا وجدنا في السنة أن: عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما احتك بالمجوس ونزلوا على حكم الإسلام، قال: (ما أدري ما أصنع بهم). فاحتار رضي الله عنه في أمرهم، فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهم: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)، فـ عمر رضي الله عنه على فقهه وعلمه بالكتاب، فهم من آية القرآن تخصيص الحكم بأهل الكتاب، ولذلك لما جاء المجوس توقف فيهم واحتار فقال: (ما أدري ماذا أصنع بهم)، وكان معه الصحابة، فلم يُحْتَجَّ له بنص، وإنما قيل له: إن هؤلاء مستثنون من الأصل العام في الكفار، فدل على أن الجزية لا تؤخذ إلا من خصوص أهل الكتاب، ثم إننا إذا نظرنا إلى حكمة التشريع، فإن الله شرع الجهاد لكي يبقى التوحيد، فقال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193] قال جمع من السلف: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193] أي: لا يكون شرك، وأكد ذلك بقوله: {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193] أي: تكون العبودية خالصة لله عز وجل، فدل على أن أصل الجهاد إنما المراد به أن يبقى دين التوحيد، فلما اصطدمت الأديان والنحل والملل في الجهاد فُرِّق بينها، فما كان أصله ديناً سماوياً، فإن أهله عندهم قابلية لقبول الدين السماوي الآخر، والتنازل عن دينهم، عندما يجدون دين الإسلام لا يجرح عيسى بن مريم، ولا يجرح كذلك موسى بن عمران، وأن المسلمين يؤمنون بعيسى بن مريم، وموسى بن عمران عليهما السلام، فهم أدعى أن يقبلوا هذا الدين؛ لكن إذا جئت إلى المشرك الوثني الذي لا يدين بدين، أو الملحد الذي لا يدين بدين، فإنه لا يقبل الإسلام، وليس عنده أصلٌ أو قاسم مشترك بينه وبين المسلمين، فكان من الحكمة أن يفرق بين هذا وهذا، وأن يعطى كل ذي حقٍ حقه، فكأننا لو قبلنا من المشرك الوثني ذلك فقد أقررناه على شركه ووثنيته؛ لكننا إذا أقررنا أهل الكتاب فإننا نقر بأصل دينهم، وهو الدين السماوي، ففُرِّق بينهم لهذه الحكمة، ولذلك لو قيل بأخذ الجزية من الوثنيين فإن هذا يعين على بقاء الوثنية، ومقصود الإسلام أن لا تبقى الوثنية. لكن يبقى الإشكال في أهل الكتاب وقد صار منهم مشركون؟ قيل في هذا: إن الحكم على قسمين في الكفار: حكم الدنيا. وحكم الآخرة. فحكم الدنيا بالنسبة للوثنيين: أنهم يُقْتَلون أو يُسْلِمون، {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح:16]، وهذا هو الذي دلت عليه آيات الجهاد. وأما من عداهم ممن له دين سماوي، فإنه يكون حكمه في الآخرة، وأما في الدنيا فيبقى على دينه في الإسلام؛ لأن دينه له أصل سماوي، وهو أحرى إذا عاشر المسلمين أن يرى سماحة الإسلام فيقبل بدينهم، كما شهدت التجربة بذلك في عصور المسلمين، حينما عاهدوا أهل الذمة. فالذي يظهر: تخصيص الحكم في أهل الكتاب والمجوس؛ لأن النص خصَّهم فقال: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم)، قال الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: هذا في الجزية خاصة، أي: سنوا بهم سنة أهل الكتاب في الجزية فقط، ولذلك منع من أكل ذبائحهم، ونكاح نسائهم، ولم يبح مخالطتهم للوثنية التي فيهم، فدل على أن مقصود الإسلام أن يُفَرَّق بين الوثنية وما له أصل سماوي. إذاً: الذي يترجح -والعلم عند الله- أنه لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب، فإن الله سبحانه وتعالى ليس بعد نصه شيء حينما قال عز وجل: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة:29] بعد تعميمه لقتال المشركين، وأما حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وأرضاه، حينما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يخير أثناء الجهاد، فهذا -كما لا يخفى عند الجميع- يعتبر من المطلق المحمول على المقيد، فإن آية القرآن وردت في قضية الجزية بعينها، واشترطت أن يكونوا أهل كتاب، وأما بالنسبة لحديث بريدة، فإنه مطلق، ولذلك يقيد إطلاقه بالكتاب، وكم من أحاديث مطلقة قيدها الكتاب! وكم من أحاديث عامة خصصها الكتاب! وحمل المطلق على المقيد مذهب معتبر في الأصول، ولذلك مما نرى من مقاصد الإسلام العامة أنه لا يقر المشرك على شركه، ولا يقر الوثني على وثنيته، فيُنْصَر ويُعان على ذلك، بل إنه حينما كُتِب كتاب عمر في الشروط العمرية بينه وبين أهل الكتاب، مُنعوا من ضرب الناقوس، ومن إظهار شعائر دينهم، كل ذلك حتى يكون أبلغ في قبولهم للإسلام، فكيف بالوثني الذي ليس له أصل من دين سماوي، فإنه بعيد منه أن يقبل بدين الإسلام أو يرضاه. [ولا يعقدها إلا إمام أو نائبه] هذه هي الجزئية الثانية: مَن له حق عقد الذمة؟ للعلماء قولان في هذه المسألة: فجمهور أهل العلم على أنه لا يجوز عقد الذمة إلا من الإمام أو نائبه. وهناك قول عند الحنفية: أنه يجوز أن تعقد الذمة بالأفراد، فلو أن مسلماً تعاقد مع ذميين، وأمَّنهم بأمانهم العام، فإنه يمضي عقده. والصحيح مذهب الجمهور أنه لا يعقدها إلا ولي الأمر أو من يقوم مقامه.

شروط وجوب الجزية

شروط وجوب الجزية قال رحمه الله: [ولا جزية على صبي، ولا امرأة، ولا عبد، ولا فقير يعجز عنها]. قوله: (ولا جزية على صبي) بعد أن عرفنا من الذي تعقد له الذمة، ومن الذي يلي عقدها يَرِد السؤال الثالث: من الذي تجب عليه الجزية؟ إذا نزل المسلمون بالكفار من أهل الكتاب، وعقدوا بينهم عقد الصلح وعقد الذمة، فإنهم يكتبون أسماءهم ويعد بذلك سجل، حتى تؤخذ الجزية منهم، بنص الكتاب: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة:29] ويحتاج هذا إلى كتابة أسمائهم، وهذا له تراتيب إدارية معروفة في كتب التراتيب الإدارية، وكذلك أيضاً في كتب الاحتساب، وذكرها العلماء -رحمهم الله- في المطولات في الفقه، كالإمام ابن قدامة في المغني، فتسجل أسماؤهم، وحليتهم، وما يتميزون به، وأنسابهم، حتى تضبط بالكيفية، وحرفهم، وأعمالهم، حتى يُعْرَف من الذي تُضْرَب عليه الجزية ومن الذي لا تُضْرَب عليه الجزية، فحينئذٍ نقسمهم إلى قسمين: قسم منهم: توضع عليه الجزية. وقسم منهم: توضع عنه الجزية. فقسم يطالَب بها، وقسم لا يطالَب. فأما الذين يطالبون بالجزية فتشترط فيهم شروط: الشرط الأول: البلوغ. الشرط الثاني: العقل. الشرط الثالث: الذكورة. الشرط الرابع: الحرية. الشرط الخامس: القدرة المالية. الشرط السادس: ألا يكون من الرهبان، على خلاف فيه، وإن كان الصحيح أنه تجب الجزية حتى على الرهبان، وسنبين هذا. هذا بالنسبة لمجمل الشروط التي ذكرها العلماء في إيجاب الجزية على الذمي. الشرط الأول: البلوغ: فلا تضرب الجزية على الصغار والصبيان، ويدل على هذا حديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه، حينما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الجزية من نصارى نجران: (أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً) فقوله: (من كل حالم) الحالم: اسم فاعل من المحتلِم، وهو الذي بلغ الحلم، ومفهوم الصفة، أنه إذا لم يكن بالغاً -وهو الصبي- فلا تجب عليه الجزية، وهذا بإجماع العلماء، أن الصبيان لا تضرب عليهم الجزية، وقد كتب خالد بن الوليد رضي الله عنه، كتاب الذمة لأهل الحيرة، فأسقط الجزية عن الصبيان، وكتب إلى أبي بكر رضي الله عنه بذلك، فأقره على هذا، وهذا يدل على سماحة الإسلام. كذلك مما يدل على أن الصبيان لا تؤخذ منهم الجزية: أن الله تعالى قال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29] والصبي لا يقاتِل، والجزية إنما جعلت عوضاً عن قتالهم، فدل على أنه ليس من جنس من تجب عليه الجزية. الشرط الثاني: أن يكون عاقلاً: فالمجنون لا تجب عليه الجزية، وهذا بإجماع أهل العلم رحمهم الله، أن مجانين أهل الكتاب لا تجب عليهم الجزية، وهم غير مكلفين، فلا يكلفون بها. الشرط الثالث: الذكورة: فلا تجب على النساء، فالنساء لا تفرض عليهن الجزية، وهذا بإجماع أهل العلم رحمهم الله، فإن المرأة لا تقاتل، والجزية عوض عن القتال، وهذا ما كتبه خالد رضي الله عنه في كتابه، وفي الشروط العمرية أيضاً: (أن النساء لا تؤخذ منهن الجزية)، فالمرأة لا تكتسب غالباً، وهذا يدل على سماحة الإسلام ورفقه بالمرأة، فإنه أسقط الجزية عن نساء أهل الذمة. الشرط الرابع: القدرة المالية: بمعنى أن يكون قادراً على أداء الجزية، وهذا من ناحية المادة والمال، والأصل أن أهل الذمة تجب عليهم الجزية، ثم يصنفون: هناك الغني، وهناك الوسط، وهناك ضَعَفَة الحال، وينقسمون إلى قسمين: الضعيف الذي لا يجد شيئاً، كالمسكين والفقير. والضعيف الذي يجد قوام عيشه، وشيئاً زائداً على فضل قوته. فهذه ثلاث طبقات، فتفرض الجزية على الطبقة العليا بما يتناسب مع حالها، ويرجع هذا إلى اجتهاد الإمام وتقديره، وكان عمر رضي الله عنه له في ذلك ضوابط، فكان يفرض (48) ديناراً على الغني، و (24) ديناراً على المتوسط، و (12) ديناراً على الضعيف أي: على من كان دون المتوسط في معيشته. وهذه الثلاث المراتب قد فصلها العلماء في كتب الأموال، ككتاب الأموال لـ ابن زنجويه، وكتاب الأموال لـ أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله، وكذلك ذكرها الإمام ابن قدامة في المغني. فهذه الثلاث المراتب للقادر. ويبقى غير القادر. وغير القادر ينقسم إلى أقسام، منها: من لا يقدر لكبر السن، والخور، كالشيخ الكبير الفاني، الذي لا يستطيع أن يعمل، وليس عنده مال، وقد يكون شيخاً كبيراً وعنده أموال وتجارات، فإذا كان كذلك فرضت عليه، كأغنيائهم، أما بالنسبة للشيخ الهرم، الذي لا مال عنده ولا تجارة، فإنه تسقط عنه الجزية، وقد فعل ذلك خالد بن الوليد وكتبه في كتاب الصلح لأهل الحيرة: أنه ما من كبير سن يفتقر، ويتصدق عليه أهلُه -أي: وصل إلى حد الحاجة والعوز حتى تُصُدِّق عليه- إلا أدخله في عيال بيت مال المسلمين -أي: يدخله حتى مع ضَعَفَة المسلمين- وينفق عليه من بيت مال المسلمين. وهذا من سماحة الإسلام أيضاً، وهو يدل على سمو منهج الشريعة الإسلامية، وكيف أنها عاملتهم بنوع من المرونة، فالرفق في موضعه والشدة في موضعها؛ لأنه لا يصلح للكافر أن يرفق به مطلقاً، ولا يصح أن يشد عليه مطلقاً، وإنما الأمور تكون بالوسط الذي جاء به شرع الله، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] أي: عدولاً، والعدل هو المستقيم، الذي بين الإفراط والتفريط. فتُسْقَط الجزية عن الشيخ الهرم الذي لا مال له ولا تجارة. ويبقى النظر في الفقير: فلو كان هناك فقير؛ ولكنه يستطيع أن يعمل وأن يتكسب، لكنه جلس في بيته وافتقر، فهل تسقط عنه الجزية؟ الفقير ينقسم إلى قسمين: الأول: من كان منهم يستطيع العمل لكنه قعد وتقاعس، فهذا يُلزم بدفع الجزية، ويعتبر تقصيره لنفسه؛ لأنه هو الذي قصر، ويُلزَم بعاقبة تقصيره. الثاني: من كان منهم فقيراً، لا يجد الكسب فللعلماء فيه وجهان: جمهور أهل العلم على أن الجزية تسقط عنه مطلقاً، أداءً وقضاءً، بمعنى: أن هذا الفقير لا نطالبه بالجزية حال فقره، ولا نطالبه بالقضاء بعد يسره وغناه. وذهب بعض الفقهاء -كما هو عند الشافعية رحمهم الله- إلى أن هذا النوع من الفقراء نتركه، ولا نطالبه في الحال، فإن اغتنى بعد ذلك طالبناه بقضاء السنين التي مضت. والصحيح مذهب من ذكرنا، وهم الجمهور: أنه إذا سقطت عنه في الأداء سقطت عنه في القضاء، ولا يطالب بقضائها، وأن العبرة بحال أدائه. هذا بالنسبة للشروط العامة.

حكم أخذ الجزية من الرهبان

حكم أخذ الجزية من الرهبان وأما الرهبان ففيهم قولان مشهوران للعلماء، فمن أهل العلم من قال: لا تؤخذ من الرهبان والقساوسة، ونحوهم، وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه حينما بعث يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه لفتح الشام، قال له: (وستجد أقواماً قد حبسوا أنفسهم في صوامعهم، فدَعْهم وشأنهم، حتى يميتهم الله على ضلالتهم) أي: لا تتعرض لهم بشيء، فأخذ منه بعض العلماء سنةً عن أبي بكر رضي الله عنه أن هؤلاء لا يُتَعرض لهم بشيء، والواقع أن الرهبان ينقسمون إلى قسمين: القسم الأول: يقاتل، ويشارك في مواجهة المسلمين برأي أو مكيدة، أو يكون قائداً لهم، أو يحرضهم على جهاد المسلمين وقتالهم، فهذا يُقتل، وكذلك أيضاً تُضْرب عليه الجزية. والقسم الثاني: الذين انحصروا في صوامعهم، وأماكن عبادتهم، فللعلماء فيهم وجهان -كما ذكرنا- فمنهم من يقول بضرب الجزية عليهم، وهذا هو الصحيح؛ لعموم الأدلة؛ ولأن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، -وهو وإن لم يكن من الصحابة، لكنه خليفة راشد- ضرب الجزية على الرهبان، وعمل بعموم الآيات، وهذا هو الصحيح. (ولا عبد) العبد لا تجب عليه الجزية؛ لأنه لا يملك المال، والله تعالى يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ومن أهل العلم من قال: تجب الجزية على سيده إن كان كافراً، كما في حديث ضعيف رواه البيهقي في سننه، والصحيح أن العبد لا تؤخذ منه الجزية لما ذكرناه.

زوال موانع الجزية بعد انقضاء وقتها

زوال موانع الجزية بعد انقضاء وقتها قال رحمه الله: [ومن صار أهلاً لها، أخذت منه في آخر الحول] (ومن صار أهلاً لها) تقدم من الذي تُضْرب عليه الجزية، ويبقى Q لو أن هؤلاء الصبيان والمجانين والفقراء زال عنهم الوصف أثناء الحول، وكما تقدم: الجزية تؤخذ كل سنة، ومن أهل العلم من يرى تقسيطها، والأقوى أنها تؤخذ كل سنة، وللعلماء وجهان في وقت أخذها: بعضهم يقول: تؤخذ معجَّلة، أي: يبرم معهم العقد، ثم تؤخذ قبل استتمام السنة، وهذا أقوى، ويدل عليه كتاب أبي عبيدة رضي الله عنه وأرضاه، حينما صالح في بداية الفتوحات في الشام. ومن أهل العلم من يقول: تؤخذ في آخر السنة. والأقوى هو القول الأول، لكن لو أننا أخذناها في بداية السنة، ثم بلغ الصبي واغتنى الفقير أثناء السنة، أو أفاق المجنون أثناء السنة، فما الحكم؟ قال بعض العلماء: زوال الموانع فيه تفصيل: فمثلاً: المجنون إذا كان يجن تارة ويفيق تارة: فمنهم من يقول: العبرة بأكثر الحول، فإن أفاق أكثر الحول أخذنا منه الجزية كلها، وإن كان يجن أكثر الحول، لا تؤخذ منه الجزية. ومنهم من يقول: تقسط على حسب إفاقته. وهذا هو الأقوى والصحيح، أنه ينظر إلى مدة إفاقته، وتقسط، وكذلك بالنسبة للصبي، فإذا بلغ -مثلاً- في الشهرين الأخيرين من السنة، فإنه يدفع قدر الشهرين، وإذا بلغ في منتصف السنة، أخذ منه نصف الجزية، وقِسْ على هذا. إذاً: مسألة زوال الموانع يفصل فيها على حسب المدة التي يدركها بالأهلية، فالمدة التي يدركها بالأهلية يجب أخذ الجزية بحسابها وقدرها. قال رحمه الله: [ومتى بذلوا الواجب عليهم لزم قبوله وحرم قتالهم] الجزية تتعلق بالآثار المترتبة على عقد الذمة، فمتى أعطوا الجزية لزم قبولها، أي: يجب على الإمام أن يقبل الجزية، وهناك قول شاذ يقول: إن للإمام أن يمتنع من أخذ الجزية، والصحيح الأول لحديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن أعطوها فاقبلها منهم)، فأمره بقبول الجزية، فدل على وجوب قبولها حقناً لدماء من يُحقن دمه من أهل الكتاب. فإذا أعطوها ما الذي يترتب عليه؟ قال رحمه الله: (ومتى بذلوا الواجب عليهم لَزِم قبولُه وحَرُم قتالُهم) (لَزِم قبولُه) هذا للوجوب. (وحَرُم قتالُهم) حَرُم أن يقاتلوهم، وهذا في بداية الأمر. تبقى الآثار المترتبة بعد ذلك، وهذه لها تفصيلات سيذكرها المصنف -رحمه الله- فيما بعد. فتقرر أن الجزية يلزم الإمام قبولها إذا عُرِضت عليه من أهل الذمة، ولا يجوز أن يقاتلهم وقد أدوا الجزية؛ لثبوت النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.

امتهان أهل الذمة عند أخذ الجزية ومقاصده الشرعية

امتهان أهل الذمة عند أخذ الجزية ومقاصده الشرعية قال رحمه الله: [ويُمْتَهنون عند أخذها، ويُطال وقوفُهم، وتُجَرُّ أيديهم] (ويُمْتَهنون عند أخذها) المهانة ضد الكرامة، والله تعالى أهان أهل الكفر، فقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18]، وهذا نصٌّ في كتاب الله عز وجل، خبرٌ بمعنى الإنشاء، أي: من أهانه الله فلا تكرموه، ولذلك حرم إكرام الكفار وتبجيلهم وتعظيمهم، على الأصول المقررة في التعامل مع الكفار؛ لأن الله أهانهم بالكفر، وهذه الإهانة موضوعة موضعها، فلا كرامة للإنسان إلا بالإسلام. فقوله: (يُمْتَهنون عند أخذها) لأن الله سبحانه وتعالى قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، وينبغي أن يُعلم أن الإسلام دين الله عز وجل الذي ينبغي أن تُعْلَى كلمتُه، ويُرْفَع منارُه، ويُعَزَّ شأنُه، ولا يجوز أن يُقْرَن به غيرُه، كائناً ما كان ذلك الدين، بل كل ما عداه دونه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يعلو ولا يُعلَى عليه). فمن مقاصد الإسلام أنه إذا قُبِلت الجزية من أهل الكتاب، فينبغي أن يشعروا في بلاد المسلمين بالذلة والحقارة، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولا ينبغي أن يسوَّوا بالمسلمين ولا أن يفضَّلوا عليهم، وهذا بإجماع أهل العلم رحمهم الله. فقوله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] هذا نص، وهذا النص ورد في كتاب الله مطلقاً كما يقول الفقهاء والعلماء، وينبغي على طالب العلم أن يتأمل ذلك، فإن الله عز وجل قال: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] فجملة: (وَهُمْ صَاغِرُونَ) حالية أي: والحال أنهم في صغار، فنصَّ كتابُ الله على أن إعطاءهم يكون بهيئة تدل على ذلهم وصغارهم، فإذا كان صغارهم بإطالة الوقوف، فهو من شرع الله؛ لأن هذا منصوص عليه على وجه العموم، وترك الله الخيار لولي الأمر أن يمتهنهم بالصيغة التي يراها؛ لكن بطريقة لا تفضي إلى استباحة دمائهم ولا أعراضهم، فإذا أوقفناهم عند إعطاء الجزية، أو جاء يعطي الجزية فتشاغلت عنه، فهذا له مقاصد، ذكرها العلماء رحمهم الله وأشاروا إليها، وهو أنه إذا جاء يدفع المال لك، فإنك تشعره أنه لا يشتريك بهذا المال، وأنك لا تريد هذا المال منه، وأنه أعز من المال الذي يبذله، فلما جاء نص القرآن: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] دل على أنه ينبغي أن تكون الحالة والهيئة، دالة أن هذا ليس لطمع أو رغبة في ماله، حتى يعطي المال كما يعطيه المستأجر لمن يؤجر له؛ لأنه لو لم يكن بذلةٍ وصغار لصار كأنه يشتري المسلم، وكأنه يتعاقد مع المسلم على إجارة، أي: أنك تحميني وتصونني بهذا المال، لكن الله قال: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، أي: الحال أنهم في صغار وذلة، ثم ترك الله الصغار بالخيار، ولذلك يقول العلماء: إن هذا من المطلق المقصود، أي: أنه ترك إلى اجتهاد الحاكم، فعندما نجد الفقهاء -رحمهم الله- ينصون في كتبهم على ألوان من الصغار لهم، فإن هذا كله راجع إلى الاجتهاد والتقدير، وليس لأحد أن يتعقَّد في ذلك، كما يفعل بعض الكتاب المعاصرين فيقولون: إن هذا من الاجتهادات القديمة أو كذا، فهذا لا ينبغي؛ لأن هذا له أصل في كتاب الله عز وجل، وله مقصد شرعي، وكان العلماء في القديم يقصدون من هذا تحقيق النص المطلق في قوله سبحانه وتعالى: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]. فقال رحمه الله: (يُمْتَهنون عند أخذها) أي: لا تؤخذ منهم بكرامة. يقول بعض أهل العلم: ومن الامتهان عند أخذها: أنه إذا جاء يدفعها إلى المسلم فلا ترتفع يده، أي: لا يعطيها بيدٍ عالية؛ لأن اليد العليا خير من اليد السفلى، وإنما يعطيها بطريقة لا تُشْعِر بالكرامة، ومن هنا نص المصنف على كلمة: (وتُجَرُّ أيديهم) فما معنى (تُجَرُّ أيديهم)؟ فَهِم البعض أن معنى تُجَرَّ أيديهم أي: حتى تُخْلَع. ولا يقول أحد من أهل العلم أنها تُخْلَع أبداً. وإنما (تُجَرُّ أيديهم) لها معنى ومغزى دقيق، وهو أنك إذا جاء الكافر ليعطي الجزية بيده، فأخذت يده أثناء الإعطاء أشعرته بأنه ملك لك، وأن هذا الذي في يده مستحق تحت القهر والذلة، وهذا نوع من الإشعار بأنه لا منة له على المسلمين، وليس المراد بـ (تُجَرُّ أيديهم) أنهم يجرون كما تُجَر الدواب، لا. بل تُجَرُّ أيديهم -كما ذكر العلماء- لمعنى مقصود، وهو أنه قد يأتي يستفضل على المسلمين بإعطاء المال، فإذا جاء يرفع يده أرخيت يدُه، ثم إذا جاء يعطيها تمسك يده، كأنك تقول له: مالُك وما في يدك ملك لي، ثم لا يأخذها مباشرة، وإنما يمسكها بما يشعر بالذلة والصغار حين تؤخذ. إذاً: معنى: (تُجَرُّ أيديهم)، أي: أنهم يُشْعَرون بأنهم بهذا لا فضل لهم على الإسلام والمسلمين، وإنما المنة والفضل لله ولرسوله وللمؤمنين. والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

أحكام أهل البلاد المفتوحة عنوة

أحكام أهل البلاد المفتوحة عنوة Q إذا فتح المسلمون بلداً بها أهل كتاب ومشركون، فكيف يكون العمل؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالديار لها حكمان: الحكم الأول: ما يسمى بالفتح عنوة. الحكم الثاني: ما يكون صلحاً. فأما ما فتح عنوة -كما ورد في السؤال- فإنه يجوز أن يصالِح الإمام أو نائبه من في هذه الديار على دفع الجزية، وهذا يكون أشمل بالمؤقت، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، فقد فتحها عنوة، ثم صالح أهلها على أن يساقوا الزرع ويكون لهم شطر ما يخرج منها، أما بالنسبة للوثنيين في هذه الحالة، فيخيرون بين أمرين: إما أن يسلموا. وإما أن تضرب رقابهم. وللإمام أن يضرب عليهم الرق على حسب ما يرى المصلحة فيه؛ لأنهم يكونون في حكم الأسرى، فيجتهد، فإن رأى مصلحة المسلمين في الفداء فادى، وإن رأى مصلحة المسلمين في استرقاقهم استرقهم، وإن شاء ضرب رقابهم فعل، حتى يخوف أعداء الإسلام {فَإِمَّا مَنَّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4] إذاً: يخير الإمام وينظر فيهم إذا كان الفتح عنوة، ويكون هذا راجعاً إلى اجتهاد الإمام بما يرى فيه مصلحة المسلمين. والله تعالى أعلم.

أقسام الشهداء وأحكامهم

أقسام الشهداء وأحكامهم Q ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الغريق شهيد، وأن المطعون والمبطون شهيد) ولكن هل يأخذ حكم الشهيد في تغسيله وتكفينه؟ أم ما المقصود بالحديث؟ A الشهادة تنقسم إلى قسمين: الشهادة الخاصة بشهيد المعركة. والشهادة بالمعنى العام الذي وردت به النصوص، كالمبطون، والغرقى، والهدمى، والنفساء، وصاحب الطاعون، وصاحب ذات الجنب، ونحوهم ممن ورد الخبر فيهم. وشهيد المعركة ينقسم أيضاً إلى قسمين والأفضل منهما شهيد البحر فهو أفضل من شهيد البر، في قول طائفة من العلماء لحديث أم حرام بنت ملحان في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عندها وفيه: قالت: فاستيقظ وهو يتبسم، فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله! ما بك؟ فقال: أناس من أمتي ملوك على الأسرَّة أو كالملوك على الأسرة، يغزون ثبج هذا البحر، فقلت: يا رسول الله! ما أضحكك؟ فذكر لها ذلك، فقالت: يا رسول الله! ادعُ الله أن أكون منهم، فقال: أنت منهم) ثم إنها ركبت البحر رضي الله عنها وأرضاها في خلافة عثمان، ولما نزلت إلى شاطئ البحر، وَقَصَتْها دابتُها، فصدقت فيها معجزة النبي صلى الله عليه وسلم. أما بالنسبة للشهادة بالمعنى العام: الغرقى، والهدمى، والحرقى، والمبطون، والنفساء، فهؤلاء لهم منزلة الشهيد، والشهداء لهم منازل، وأعلى منزلة للشهيد: الفردوس، وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم حينما رأى جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه يكشف الثوب عن وجه أبيه ويبكي، وذلك يوم أحد، حين استشهد عبد الله بن حرام رضي الله عنه وأرضاه، فقال: (يا رسول الله! أخبرني عن أبي، إن كان في الجنة صبرت، وإن كان في غيرها كان لي شأن، فقال صلى الله عليه وسلم: يا جابر إنها جنان، وإن أباك قد أصاب الفردوس الأعلى منها)، وهذا يدل على أن من الشهادة ما يصيب الإنسان بها الفردوس الأعلى من الجنة. نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يبلغنا إياه بفضله وكرمه، وهو أرحم الراحمين. فهذا أعلى مراتب الشهادة، إذا كان شهيد المعركة. أما بالنسبة للشهداء: المبطون، والغرقى، والحرقى، فهؤلاء لا يعاملون معاملة الشهيد من حيث التغسيل والتكفين؛ إلا الحرقى، فالمحروق لا يغسَّل؛ لأن التغسيل يضرُّه ويؤثر على لحمه وما تبقى من حرقه، ولذلك يُجمع بحالته، ويرى بعض العلماء أنه يُيَمَّم، ويأخذ حكم من عجز عن استعمال الماء، حيث إنه لما كان الواجب تغسيله وعُجِز عن تغسيله فإنه يُيَمَّم، ومثله مَن به مرض مُعْدٍ كالجدري ونحوه، فإنه إذا جاء يغسله الغير تضرر، فحينئذ هؤلاء لا يغسلون إذا قال أهل الخبرة: إن تغسيلهم فيه ضرر، أو أن مَن به جدري، إذا جاء يغسل فإنه ينتفخ، أو مَن به حساسية شديدة بحيث لو غُسِّل ينتفخ جلده، فهؤلاء كلهم لا يغسَّلون. فالشاهد أن الحرقى لا يغسلون لعلةٍ أخرى، وليست لعلة الشهادة. وأما بالنسبة للهدمى والغرقى وغيرهم ممن ذكرنا، فهؤلاء حكمهم حكم الشهداء من حيث الفضل؛ لكن من حيث الأحكام الشرعية من عدم تغسيلهم وتلفيفهم في ثيابهم فهذا يختص بشهيد المعركة، حتى لو أن إنساناً دخل في معركة وقاتل وجرح، ثم خرج من المعركة، ثم مات بعد ذلك، فإنه يغسَّل ويكفَّن، ولذلك اختص الحكم بمن قتل على أرض المعركة، وأما من لم يقتل على أرض المعركة، فإنه يفعل به كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بـ سعد رضي الله عنه وأرضاه، حينما رمي في أكحله فانفجر عرقه ومات رضي الله عنه، وهذا يدل على أن أحكام الشهيد تختص بشهيد المعركة. والله تعالى أعلم.

فضل العين التي تغض عن محارم الله

فضل العين التي تغض عن محارم الله Q في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل العيون باكية يوم القيامة، واستثنى منها عيناً غضت عن محارم الله) فمن قارف ذنباً ثم تاب إلى الله فهل يحصل له هذا الفضل؟ وهلا تفضلتم بوصية حول هذا الأمر؟ A هذا الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل العيون باكية -أو دامعة- يوم القيامة، إلا ثلاثة أعين: عين بكت من خشية الله، وعين سهرت في سبيل الله، وعين غضت عن محارم الله)، والعين إذا غضت عن محارم الله، فإنما غضت بتوفيق الله عز وجل، وبقوة الإيمان في القلب، فلا يغض عما حرم الله عز وجل إلا المؤمن، وغَضُّ البصر عن محارم الله كمال في الإيمان ودليل على خشية الله سبحانه وتعالى، خاصةً إذا كان الإنسان لا يراه أحد، ويستطيع أن يرى إلى الحرام، ويستمتع به، فيخاف الله عز وجل، ويغض، فإن الله سبحانه وتعالى يُنِيْلُه هذا الفضل. واختلف العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (كل العيون باكية أو دامعة) قيل: المراد بذلك أن هذه العين لا يمكن أن يصيبها سوءٌ حتى تدخل الجنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل العيون باكية أو دامعة يوم القيامة، إلا ثلاثة أعين) فمعناه: أنها لا تحزن، وإذا كانت لا تحزن فمعنى ذلك: أنها لا يصيبها سبب الحزن وسبب البكاء، وهو العذاب، فدل هذا على أنها تُؤمَّن إلى دخول الجنة، وهذا فضل عظيم، وكأنه يشير بهذا إلى قوة الإيمان في القلب، فإن الإنسان إذا وصل إلى هذه الدرجة، أي: غَض البصر عن محارم الله، بحيث لا تقع عينه عليها، فإن هذا لا يكون إلا بقوةٍ إيمانه، والغالب أن من بلغ هذه الدرجة أنه يكون من السعداء الذين يدخلون الجنة. وقال بعض العلماء: (كل العيون باكية) إن عرصات يوم القيامة مختلفة، فهناك عرصات تأتي فيها أنواع من العذاب والبلايا، كما في طول الموقف، وانتظار الحساب، وكثرة العرق، وذهابه في الأرض سبعين ذراعاً من طول موقف الناس يوم القيامة في عرصاتها، ومن هذه المواقف موقف البكاء، وهذا الموقف يحفظ الله عز وجل صاحب هذه العين من البكاء فيه، فلا تحزن عينه ولا تبكي في هذه العرصة من عرصات يوم القيامة، وفي هذا الحديث دليل على فضل الطاعة بالعين. فإن الإنسان كما يطيع الله عز وجل بيده: - فينفق بها في سبيل الله. - ويضرب بها في الجهاد في سبيل الله. - ويكتب بها في طاعة الله. ويطيع الله عز وجل بقدمه: - بخروجه إلى المساجد. - وصلة الأرحام. - وعيادة المريض. - وتشييع الجنائز. ويتعبد الله عز وجل بقلبه: - بوجود الإيمان. - ومحبة الله. - وخشيته. - والخوف منه. - واعتقاد ما يجب اعتقاده. - والإيمان به. كذلك يتقرب إلى الله بعينه. فالعين لها طاعة، ومن طاعتها: - أنها تبكي من خشية الله. - وأنها تغض عن محارم الله. - وأنها تسهر في طاعة الله عز وجل، وفي سبيله. فدل هذا الحديث على طاعة العين، وأنها: - تكون بالبكاء. - وتكون كذلك بالسهر على طاعة الله. - وقيل: على الجهاد في سبيل الله، كسهر عين المرابط وهو يحرس الثغر. ومن أهل العلم من يرى في قوله عليه الصلاة والسلام: (وعين سهرت في سبيل الله) أنها شاملة لكل عين، فمن سهر وهو يتلو كتاب الله، أو سهر على طلب العلم وكتابته والجد والاجتهاد فيه، فإنه ينال هذا الفضل. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يلهمنا طاعته، وأن يوفقنا لمرضاته. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

باب عقد الذمة وأحكامها [2]

شرح زاد المستقنع - باب عقد الذمة وأحكامها [2] من الحكم والأسرار في عقد الذمة: أن يتأثر أهل الكتاب بالمسلمين، فيكون هذا سبباً في إسلامهم، وتحقيقاً لهذه الغاية فلا ينبغي أن يشعروا أنهم فوق المسلمين؛ بل ينبغي أن يشعروا أنهم أدنى منهم وأقل شأناً، سواء في لباسهم، أو مراكبهم، أو مساكنهم، حتى في عباداتهم وطقوسهم الدينية، ولا يسوى بينهم وبين المسلمين أبداً.

كيفية تعامل الإمام مع أهل الذمة

كيفية تعامل الإمام مع أهل الذمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام؛ في النفس والمال والعرض] شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان جملة من المسائل والأحكام التي تترتب على عقد الذمة بين المسلمين وأهل الكتاب ومن في حكمهم، وذلك أنه إذا وقع عقد الذمة بين المسلمين وأهل الكتاب، فهناك أمور يلتزم بها المسلمون، وهناك أمور يلتزم بها أهل الذمة، وقد بينا فيما تقدم جملة من تلك المسائل والأحكام، وشرع المصنف هنا في بيان ما الذي ينبغي على الإمام تجاه أهل الذمة في تصرفاتهم حينما يكونون في بلاد المسلمين؟ فقال رحمه الله: (ويلزم الإمام) أي: يجب عليه، وهذا من فرض الله الذي أوجبه أن يأخذهم بحكم الإسلام؛ لأن الحكم لله عز وجل، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] فالحكم لله سبحانه وتعالى، فينبغي أن يكون هؤلاء ملزَمون بحكم الإسلام في أمور وضوابط معينة، وعليهم أن يتقيدوا بها، وهي قد تتعارض مع شريعتهم وملتهم؛ لكن كونهم داخل بلاد المسلمين فهم ملزمون بشرعة الإسلام، وبما عليه المسلمون، ولهذا في عقد الذمة يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، والمسلمون يقومون بالدفاع عنهم وحفظ عوراتهم وأعراضهم ودمائهم، كأنهم في منزلة المسلمين، فيجب عليهم أن يلتزموا بما يلزم المسلمين. ولو أننا فتحنا لهم أن يفعلوا ما شاءوا وأن يتصرفوا كيفما أرادوا -ولو كان ذلك في دينهم ونحلتهم- لانتشر الفساد بين المسلمين، ولذلك قال بعض العلماء رحمهم الله: إنهم لو مُكَِّنوا من فعل بعض الأمور المحرَّمة -وإن كانت جائزة في دينهم- وإظهارها فإن هذا قد يدفع بالفَسَقَة لمجاراتهم والعمل بدينهم والميل إلى ما هم عليه، ولذلك وجب حفظ بلاد المسلمين وأهل الإسلام من منكراتهم ومحرماتهم التي يرتكبونها.

كيفية الحكم بين أهل الذمة

كيفية الحكم بين أهل الذمة (ويلزم الإمام أخذهم) ويلزم الإمام أن يأخذهم. (بحكم الإسلام) وإذا وقع الإخلال من الذمي، فإما أن يقع بشيء يوافق دينه، أو بشيء يخالف دينه، فهناك حالتان: الحالة الأولى: أن يفعل شيئاً نحن نعتقد حرمته، ولكن دينه وشريعته تقره على ذلك. الحالة الثانية: أن يفعل فعلاً نتفق نحن وهم على تحريمه وعدم جوازه. فأما ما كان من الأمور التي نتفق على تحريمها، فمن أمثلتها: - قتل النفس المحرمة. - الاعتداء على أموال الناس بالسرقة، أو الغصب، أو قطع الطريق. - الاعتداء على الأعراض بالزِّنا. فهذه اتفقت الشرائع على تحريمها وأنه لا يجوز ارتكابها، فهي محرَّمة عند أهل الكتاب وعندنا. وحينئذ لا تأويل له، فهو حينما يقدم على هذا الفعل فإنه يفعل فعلاً يعتقد حرمته، ونعتقد نحن حرمته، فإذا وقع منه -مثلاً- القتل، فلا يخلو قتلُه من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون قتلاً لمسلم. الحالة الثانية: أن يكون قتلاً لغير مسلم. فإن قتل مسلماً فإنه يُقتل به، وهذا بإجماع أهل العلم رحمهم الله، أن الكافر يقتل بالمسلم إذا قتله، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الأنصارية التي قتلها يهودي على أوضاح لها كان يريد أن يسرقها منها، فأبت وأصرت فاختلسها منها، فلما دافعت رض رأسها بين حجرين، فوُجدت في آخر رمق وهي مشرفة على الموت، فقيل لها: (مَن فعل بكِ هذا؟ فلان؟ فلان؟ فلان؟) حتى ذكروا اسم اليهودي، فأشارت برأسها: أن نعم، كما ثبت في الصحيح، فأُخذ اليهودي فأقر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوضع رأسه بين حجرين، وأن يُرَضَّ كما رُضَّ رأسُها، وهذا يدل على عدة مسائل: المسألة الأولى: أن أهل الذمة وأهل العهد ومن يعطَون الأمان إذا سفكوا دم مسلم فإنه ينتقض عهدهم ويستباح دمهم، ويؤخذون به. المسألة الثانية: مسألة التدمية البيضاء، وهي من فوائد هذا الحديث، والتدمية البيضاء يقول بها بعض أئمة السلف، كإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رحمه الله، فإنه يقول: إن من وجد في آخر رمق من الحياة، وهو مُشْفٍ على الموت، وقيل له: مَن قتلك؟ فقال: فلان، يقول: إن هذا لوث، ويوجب القسامة، ويوجب أخذ هذا المتهم، فإن أقر قُتِل به، وفقه مالك رحمه الله في هذا: أن من يُشْفِي على الموت يكون أقرب إلى الآخرة وأبعد عن الدنيا، فهو أقرب إلى الصدق وأبعد عن الكذب، فشهادته على أن فلاناً قتله تكون قوية، وقرينة قد تقارب البينة بقتله. وذهب الجمهور إلى أن هذا يوجب التهمة فقط، وهذا هو الصحيح؛ لأن اليهودي حينما أُخِذ أقر، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم بإقراره لا بمجرد قول المرأة، فينبغي أن يفرق بينهما. وأياً ما كان: ففي الحديث دليل على أن الذمِّي والمعاهَد والمستأمَن إذا غدر وقتل وسفك دم المسلم، فإنه يقتل القاتل بمن قتله؛ لكن Q لو أن كافراً قتل مسلماً، ثم قام الذميون ومنعوه، أو قاموا بحفظه والتلبيس وحفظه، والتمويه على جريمته بحيث لا يعرف، فكانوا معينين له على الجريمة أو مساعدين له، فإنه ينتقض عهدهم جميعاً، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في قصة عبد الله بن سهيل رضي الله عنه حينما قتلته يهود بخيبر: (أو تؤذنكم يهود بحرب، فإما أن يدفعوا رجلاً منهم، وإما أن تؤذن يهود بحرب) فكأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل سفك دم المسلم على هذا الوجه، الذي فيه التواطؤ أو يشعر بالتواطؤ مؤذناً بزوال العهد والذمة لهم. إذاً: يُفرَّق في مسألة القتل: فإذا قتل القاتل منهم فإنه يُقتَل، إذا كانت جريمة منفردة. أما إذا كانت جريمة عن تواطؤ، وكانوا ينظمون لذلك، أو يهيئون له، فإنهم حينئذ يتحملون جميعهم مسئولية ما أتى من جرم، ويكون هذا نقضاً للعهد، لما فيه من الخيانة والغدر بالمسلمين، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حينما غدر به اليهود وأرادوا أن يرموا الحجر عليه، حينما أمروه أن ينتظر، فعد ذلك ناقضاً للعهد بينه وبينهم. وأما إذا قتل الذمي كافراً، فإن أصل العقد حينئذ أننا نقرهم على دينهم، فإذا وقع القتل فيما بينهم فلا يخلو أمرهم من أحوال: الحالة الأولى: أن يترافعوا إلينا، فيأتون عن طواعية ويقولون: هذا قتل فلاناً، فيرفعون أمره إلى القضاء، بحيث يُحكم فيه بحكم الإسلام. الحالة الثانية: ألاَّ يترافعوا إلينا، بل يترافعون إلى حكامهم وقضاتهم. الحالة الثالثة التي تقتضيها القسمة العقلية: أن يترافع بعضهم ويمتنع البعض. فأما إذا رضي الجميع وترافعوا إلينا وجاءونا عن طواعية منهم، وقالوا: هذا قَتَل رجلاً أو قتل امرأةً منا، فنريدكم أن تحكموا بحكم الإسلام، فللعلماء في هذه المسألة خلاف مشهور: القول الأول: قال بعض أهل العلم: إن ترافع إلينا أهل الذمة، وجب علينا أن نطبق عليهم حكم الشرع، ولا نميل إلى دينهم، وإنما نحكِّم فيهم حكم الله عز وجل في عباده المسلمين. القول الثاني: أنه يخير القاضي، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم. القول الثالث: التفصيل في هذه المسألة. أما بالنسبة للقول الذي يقول: إنه يجب عليه أن يحكم بينهم بحكم الإسلام فهو أصح الأقوال، فإذا ترافعوا إلينا وجب على القاضي أن يحكم بينهم بحكم شريعة الإسلام وذلك بدليل الكتاب والسنة. أما دليل الكتاب: فإن الله عز وجل قال في كتابه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] فهذه الآية الكريمة محكمة ناسخة للتخيير الذي في قوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً} [المائدة:42] فخيره الله عز وجل بين الحكم بينهم والإعراض عنهم، ثم نسخها قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49] وقد قال مجاهد بن جبر وعطاء بن أبي رباح، وطائفة من أئمة السلف وأئمة التفسير رحمهم الله: إن التخيير في آية المائدة منسوخ، ومن هنا قال بعض العلماء: إن هذه السورة الكريمة -أعني: سورة المائدة- كلها مُحْكَمة إلا آيتين: الآية الأولى: قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42]. والآية الثانية: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} [المائدة:2]. فالمقصود أن أصح الأقوال: أنه يجب عليه أن ينفذ فيهم حكم الشرع؛ لكن المشكلة أنهم حينما يحتكمون إلينا في جرائمهم فإنه سيكون الشهود منهم؛ لأن المعاملات والحوادث التي تقع بينهم غالباً لا يشهدها إلا كفار منهم ومن نحلتهم، فهل تقبل شهادة بعضهم على بعض؟ هذا فيه تفصيل: فإما أن تكون شهادة بعضهم على بعض مع اتحاد الملة، كشهادة يهودي على يهودي، ونصراني على نصراني، ومجوسي على مجوسي، فلا إشكال، والصحيح أنه تقبل شهادتهم لوجود الضرورة، ومن هنا قَبِل الله عز وجل شهادة أهل الكتاب على وصية المسلم إذا حضره الموت لوجود الضرورة، وهذا يختاره جمع من الأئمة والسلف رحمهم الله. الحالة الثانية: شهادة بعضهم على بعض مع اختلاف الملة، كشهادة اليهودي على النصراني، والنصراني على اليهودي، أو يشهد بعض أهل المذاهب المختلفة عندهم والتي بينها عداوة، فإذا شهد أهل ملة على أخرى، فإن هنا شبهةً، وذلك لوجود العداوة بين المذهبين وبين الملتين، وسيأتي الكلام عليها -إن شاء الله- في باب الشهادات. الحاصل: أنه يجب على الحاكم أن يحكم بينهم بحكم الإسلام. ودليل السنة: حديث البراء بن عازب في قصة اليهوديين اللذَين زَنَيا وهما محصنان، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما فرُجِما، فحكم بينهم بحكم الإسلام، ولم يجعل ذلك على التخيير ولم يُعرِض عنهم عليه الصلاة والسلام، فدل على أنه تلزمهم أحكام الإسلام، وأنه يجب على الحاكم أن يقضي بينهم بشريعة الله فقط، دون غيرها من الشرائع والملل. أما إذا لم يترافعوا إلينا، فإننا نتركهم على دينهم وملتهم، وقد قرر العلماء والأئمة ذلك، فإننا حينما عقدنا معهم عقد الجزية وعقد الذمة، فإن هذا يستلزم ترك قضاتهم وأحكامهم، ولذلك تركوا على شرب الخمر، وأكل الخنزير، والصلاة في كنائسهم، وهي من أمور دينهم وملتهم، فلما كانوا يتعبدون ويتقربون إلى ربهم، ويعتقدون أن قضاتهم هم الذي يحكمون بينهم في شريعتهم، فإن المرد إلى حكامهم وقضاتهم؛ لأننا لو تدخلنا فيهم في هذه الحالة، فمعنى ذلك أننا جعلناهم كالمسلمين سواءً بسواء من كل وجه، وليس المراد أن يكونوا كالمسلمين من كل وجه، بدليل أنهم أقروا على دينهم، والله تعالى أمر بأخذ الجزية منهم من أجل أنهم تُرِكوا على دينهم يفعلون ما يعتقدونه في شريعتهم. وعلى هذا: إن ترافعوا إلينا حكمنا فيهم بحكم الإسلام على الصحيح. وإن لم يترافعوا تركناهم ودينهم. وإن رضي بعضهم بالترافع وامتنع البعض، فقال بعض العلماء رحمهم الله: إنه في هذه الحالة يُرْجع إلى الأصل من عدم التدخل في شئونهم، حتى تتفق كلمتهم على نقل الحكم إلى الإسلام. هذا إذا حصل القتل، فقد اتفق بين الشرائع على أنه لا يجوز سفك الدم الحرام، وكذلك أيضاً الاعتداء على الأنفس بالضرب والجرح، كأن يعتدي يهودي على آخر، فيقطع يده، أو يجرحه أو يطعنه، ولا يموت، فهذا اعتداء على الأنفس، فحينئذ يقتص منهم ويلزم الإمام أن يأخذهم بحكم الإسلام في هذا. فقوله رحمه الله: (ويلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام) أي: يلزمه أن يطبق وينفذ فيهم شريعة الإسلام.

الحالات التي يعاقب فيها أهل الذمة

الحالات التي يعاقب فيها أهل الذمة قوله: [ويلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام في النفس والمال والعرض] (في النفس والمال): النفس تطلق على معانٍ: - النفس بمعنى الروح. - وتطلق على الجسد والروح معاً. - تطلق ويراد بها: الدم، ومنه سمي النفاس نفاساً لوجود الدم فيه. - وتطلق النفس بمعنى: العين، تقول: رأيت محمداً بنفسه، أي: بعينه وذاته. فالمقصود أن قوله: (في النفس) يشمل هذا نوعين من الجرائم: النوع الأول: ما فيه إزهاق للأرواح. النوع الثاني: ما فيه إتلاف للأعضاء، كأن يطعن، أو يقطع اليد، أو يقطع الرجل، أو يفقأ العين، أو يفعل فعلاً يعيق مصالح البدن، فهذا من الاعتداء على الأبدان، وحينئذ يُقْتَصُّ منهم، وينفذ فيهم حكم الله عز وجل على التفصيل الذي ذكرناه. هذا بالنسبة للاعتداء على الأنفس. (والمال) الاعتداء على الأموال، كأن يسرق الذمي أو يغتصب المال، فإذا سرق مال مسلم، فحينئذ ينفذ فيه حكم الإسلام، وإن اغتصب حق مسلم نُفِّذ فيه حكم الإسلام، وإن فعل الحرابة وقطع الطريق وأخاف السبل، طلباً للأموال، فإنه حينئذ ينقض عهده ويباح دمه، ويصبح حكمه حكم الحربي، من وجده قتله، وهذا بالنسبة لحال نقضه للعهد في جمعه بين أخذ المال، وإخافة السبل. (والعرض) الاعتداء على الأعراض، كأن يعتدي على العرض بالزِّنا، فإن الزِّنا مجمع على تحريمه بين الشرائع، وحينئذ لا شبهة للذمي ولا تأويل له إذا فعل الزِّنا، سواء كان بمحرم أو بغير محرم، فالزِّنا متفق على تحريمه، فيؤاخَذ به، والدليل على ذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم حينما رجم اليهوديين الزانيين. إذاً: الخلاصة: إن وقع الذمي في محرم من المحرمات أو فعل جريمة من الجرائم، فإما أن تكون متفقاً على تحريمها بين المسلمين والذميين، فنفصِّل، ونقول: إن كانت على مسلم أقمنا حكم الإسلام عليه، وإن كانت بين بعضهم البعض فننظر: إن ترافعوا إلينا، حكمنا عليهم بحكم الإسلام، وإن لم يترافعوا إلينا تركناهم وشريعتهم، وما رضوا بحكمه فيما بينهم. هذا بالنسبة للذي اتُّفق على تحريمه. النوع الثاني: الذي فيه شبهة في دينهم، كأن يفعلوا من المحرمات ما فيه شبهة في دينهم، كشرب الخمر، فشرب الخمر محرم في ديننا، ومباح في دينهم، وحينئذ يَرِد Q هل نؤاخذهم بديننا أم نؤاخذهم بدينهم؟ فيه تفصيل: فما يفعله الذمي متأولاً لدينه ينقسم إلى قسمين: الأول: ما يكون بأصل سماوي، كشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، فهذه فيها أصل سماوي بإباحتها، فحينئذ يفعلها اليهود والنصارى، ونقول فيمن فعل ذلك من أهل الذمة: - إن فعلها في بيته مستتراً فلا إشكال، فقد تدين بما يعتقد حله ولا يؤاخَذ. - وإن ظهر أمام الناس ففعلها في السوق -مثلاً- أو شرب الخمر وخرج إلى الخارج، فحينئذ يطبق عليه حكم الإسلام، ويؤاخذ بذلك على تفصيل: فبعض العلماء يرى أنه يعزَّر، وبعض العلماء يرى أنه يُجْلد، كالمسلم إذا شرب الخمر. هذا بالنسبة للحالة الأولى، وهي: أن يفعل ما هو جريمة في ديننا دون دينه. الثاني: ما ليس له أصل سماوي، كمجوسي يطأ مَحْرَمه، فعند المجوس -والعياذ بالله- أنه يجوز نكاح المحارم، فيتزوج الرجل منهم بِنْتَه، وأمَّه، وأختَه والعياذ بالله! وهذا الفعل ليس لهم فيه أصل سماوي، ومن هنا فإن هذا الفعل -مع أنهم يعتقدون جوازه- لا نقرهم عليه، ولو كان في بيوتهم أو في أنكحتهم، ويدل على ذلك: أنه جاء في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد في الأمصار: أن يفرقوا بين كل مجوسي ومجوسية من ذوات المحارم فلا يقر المجوسي على نكاح ذات المحرم. فالخلاصة فيما يفعله أهل الذمة مما يتأولون فيه: أولاً: إما أن يتأولوا بما له أصل من دين سماوي، كشرب خمر، وأكل لحم خنزير، ونحو ذلك، فهذا نفرق بين أن يكون ظاهراً ومستتراً: - فإن كان مستتراً عذرناهم. - وإن كان ظاهراً آخذناهم. لكن هل نؤاخذهم بالحد كما يحد المسلم، أم أننا نؤاخذهم بالتعزير ويرجع الأمر إلى اجتهاد القاضي والحاكم؟ قولان للعلماء. ثانياً: إذا فعلوا ما يعتقدون حله مما ليس له أصل في دين سماوي، كوطء المجوسي لذوات المحارم، فإنه ليس له أصل سماوي، والسبب في هذا عندهم: أنه كان لهم عظيم من عظمائهم شرب الخمر، ووطئ ابنته أو أخته -والعياذ بالله- وهو سكران، فلما وطئها، انكشف أمره بعد أن صحا، فأرادوا قتله، فلما أرادوا قتله، قال الخبيث: ألا هل تعلمون شريعةً أفضل من شريعة آدم؟ قالوا: لا، قال: إن آدم كان ينكح الأخت من أخيها، فلما قال لهم ذلك، انقسموا إلى طائفتين: - طائفة أقرته. - وطائفة أنكرت، وبقيت على الإصرار على قتله، فاقتتلوا. وقد ورد في هذا أثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لكنه مُتَكَلَّمٌ في سنده. لكن أياً ما كان، فقد بقي هذا في دينهم، وبقي عندهم أن وطء المحارم جائز، وإذا فعل مسلم ذلك، واعتقد حله، وقال: إن وطء المحارم أو الزواج بهن مباح، فإنه يكفر بإجماع العلماء رحمهم الله. قال رحمه الله: [وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه، دون ما يعتقدون حله]. أي: يلزمه أن يقيم الحدود عليهم، فيما يعتقدون تحريمه، لا ما يعتقدون حله، فيقام عليهم حد الزِّنا؛ لأنهم يعتقدون أنه حرام، ولا يقام عليهم حد الخمر؛ لأنهم يعتقدون أن الخمر حلال. هذا الذي جعل المصنف -رحمه الله- يفرق بين ما يعتقدون حله، وبين ما يعتقدون حرمته.

لزوم تميز أهل الذمة عن المسلمين

لزوم تميز أهل الذمة عن المسلمين قال رحمه الله: [ويلزمهم التَّميُّز عن المسلمين] أي: يلزم أهل الذمة أن يتميزوا عن المسلمين، وهذه الأمور شرع المصنف في بيانها، ووردت في كتاب أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين المهديين -رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين- عمر بن الخطاب، وهذا الكتاب وقع في عدة حوادث في عصره رضي الله عنه وأرضاه، فقد كتب عبد الرحمن بن غنم كتابه في الصلح بينه وبين أهل الذمة، وكذلك خالد بن الوليد رضي الله عنه مع أهل الحيرة، وغيرهم من أمراء الأجناد، كتبوا كتباً أقرهم عليها عمر رضي الله عنه وأرضاه، فصارت أصلاً في معاملة أهل الذمة. وهذه الكتب فيها شروط بين المسلمين وبين أهل الذمة. والقاعدة التي ينبغي وضعها في الحسبان: أنه يتفق أهل العقول المستقيمة على أنه لا يمكن أن يُقَر من يخالفك إذا أعطيته أماناً وعهداً لكي يفعل ما يشاء؛ لأنه لم يحدث بينك وبينه ما حدث من عداوة وشحناء إلا بسبب ما بينك وبينه من الخلاف، فإذا رضي العدو لعدوه أن يبقى عنده، فهذا خلاف الأصل، فإن أراد أن يبقيه عنده على هواه، وعلى فكره وعلى عداوته، كان ذلك أشبه بالخَرَق والجنون، إذ ليس هناك إنسان له عقل وحكمة يأتي بمن يخالفه ويعاديه، ويتركه في حضنه وحجره، يدفع عنه ويقوم بحقوقه، مع أنه يدعو إلى خلافه وإلى أذيته والإضرار بكرامته ودينه. ومن هنا فإن أهل الكتاب في الأصل أعداء لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا يمكن أن يقرهم الإسلام على ما فيه ضرر بالإسلام أو بالمسلمين، والعقد الذي بينهم وبين المسلمين إنما يقوم على أن يحفظوا لنا حقوقاً، ونحفظ لهم حقوقاً، وتكون هذه بمثابة الذمة بيننا وبينهم، فإن أخلوا بها، فهناك ما يوجب انتقاض عهدهم، وهناك ما فيه تفصيل وخلاف بين أهل العلم رحمهم الله. وهذا الأمر واقع إلى الآن، فإن الأمم والشرائع والدول كلها ترى أن من حقها أن من وطئ أرضها أو نزل على محلها، أن تلزمه بما ترى، وأن تقيده بما تحس أن مصالحها مرتبطة به، وأن درء المفسدة عنها متوقف عليه، فتلزم كل من أتى إليها بذلك، فليس من الغريب أن نقول هذا الكلام، حتى نرد شبهة من يطعن في المسلمين حين ترد هذه الكتب، فيقال: انظروا كيف يتشدد المسلمون؟! حتى نجد بعض كتاب المسلمين يتسامح في هذه الشروط، بل تجد بعض كتب الشروط العمرية يعلق عليها مَن يشكِّك في صحة هذه الكتب، ويقول: إنها لا تتفق مع سماحة الإسلام، وكأنه يريد أن يجلس أهل الذمة مع المسلمين، لا فرق بينهم وبين المسلمين، فنصير بين أمرين: - إفراط. - وتفريط والقسط والعدل لا بد منه، فأهل الذمة نحفظ حقوقهم، ونحس أن لهم علينا حقاً علينا أن نحفظه، وذمة بيننا وبينهم لا ينبغي أن تُخفَر؛ لكن كذلك ينبغي أن يشعروا ما هو الإسلام، وأن يشعروا من هم المسلمون، وأن يكونوا على ذلة وصغار، وهذا هو الذي عناه الله بقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فلم يقل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة:29] وسكت، فليس الإسلام بجائع حتى يُطْعَم، ولا بفقير حتى يستَغْنِي بهذا المال، فهو في عزة من الله وكرامة من الله وغنى منه سبحانه وتعالى، وإنما فُرِضت هذه الأمور حتى يكونوا تحت طواعية الإسلام وتحت قهره. فإذاً: لا بد من الوسطية، فنلزمهم بحفظ حقوقٍ يشعرون معها بذلتهم وعزة المسلمين، ويشعرون معها بمهانتهم وكرامة الإسلام، ترغيباً لهم في دين الله، وإشعاراً لهم بكلمة الله، فيصير أهل الأرض حينئذٍ يدينون لله، وتحت كلمة الله من هذا الوجه، أما أن يبقى الذمي في بلاد المسلمين يفعل ما يشاء، ويفعل ما يريد، فهذا أبداً لا يمكن أن يكون، فأهل العقول في حياتهم وفي ظروفهم وفي معايشهم لا يمكن أن يتركوا لإنسان يعادي دينهم أو نحلتهم أو فكرتهم أن يفعل ما يشاء. ومن هنا: إذا بقي الكفار تحت سطوة المسلمين، فينبغي أن يُحفظ الإسلام من كيدهم ومكرهم وأذيتهم، وهذا يستلزم أمناً فكرياً وأمناً ذاتياً، والأمن الفكري يستلزم أن توضع شروط وضوابط يُمنع فيها أهل الكتاب من فتنة المسلمين عن دينهم، ويُمنع فيها أهل الكتاب من إحداث أمور تدعو المسلمين إلى متابعتهم أو الرضا بشريعتهم، هذا بالنسبة لما يكون من جهة الفكر. أما من جهة التصرفات والأفعال فهناك أمور سُنَّتْ سُنَّةً، وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبقيت في عهود الإسلام والمسلمين أُشْعِر فيها أهل الذمة بما ينبغي أن يُشْعَروا به، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأصل في قوله: (لا تبدءوا أهل الكتاب بالسلام) فنهى عليه الصلاة والسلام عن بداءتهم بالسلام، إشعاراً لهم بالصغار والذلة بين المسلمين، وحتى يتميز الفريقان، إذا لو نشأ الكفار بين المسلمين دون هذه الضوابط فستنشأ أجيال المسلمين ترى أنهم مع المسلمين كالشيء الواحد، وحينئذ لا يؤمَن أن يختلطوا، ولا يؤمَن -نسأل الله السلامة والعافية- أن ينجرف بعض المسلمين إلى دينهم، ويحصل خلاف مقصود الشرع، إذ أن مقصود الشرع من عيشهم بين المسلمين أن يأتي اليوم الذي يرون فيه سماحةَ الإسلام ومِنَّتَه وفضلَه ويدَه، فيدخلون فيه، ويكون سبباً في نجاتهم في الآخرة. يقول رحمه الله: (ويلزمهم التميز عن المسلمين) هناك أمور فكرية سينبه عليها المصنف مثل: ألا يظهروا كتبهم، سواءً بالقراءة أو بغيرها، فلا يقرءون كتبهم جهرةً، وتُسمع قراءتهم بين المسلمين، ولا يقرءون بها في مجامع المسلمين، إنما يقرءون بها في كنائسهم وفي بِيَعهم وفي صلواتهم، ولذلك في قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [الحج:40]، قال بعض المفسرين: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} [الحج:40] لولا دفع الله بالمؤمنين، ومن هنا أقر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن بعده من الخلفاء الراشدين كنائس أهل الذمة في بلاد المسلمين بضوابط معينة، وأصول معينة؛ لكي يقرءوا فيها، ويقوموا فيها بأذكارهم وصلواتهم، داخل هذه الصلوات والبِيَع والكنائس، ولا يظهرون شيئاً من دينهم، فهذا من جهة الفكر؛ لئلا يتأثر المسلمون. - كذلك أيضاً لا يُظهِرون شيئاً من عقائدهم، فلا يظهرون شركياتهم كقولهم: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ، وقولهم: إن المسيح ابن الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً! فلا يُظهِرون شيئاً من شركهم، حتى يأمَن المسلمون في عقيدتهم، فإنه لا بد من الأمن في العقيدة. - كذلك أيضاً لا يُظهِرون شيئاً من منكراتهم -كما ذكرنا- من شرب الخمر، وأكل الخنزير وإظهار الصليب، ونحو ذلك من الأمور التي فيها دلائل يتميزون بها بدينهم. - كذلك أيضاً لا تكون لهم صولة وعزة في بلاد المسلمين؛ لأن الله نفى ذلك، فقال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة:29] ثم وصفهم بحالة واحدة، فقال: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] فمعناه: أن عيشهم ووجودهم بين المسلمين موصوف بالصغار، وهذا يستلزم ألاَّ يعلو بناؤهم على بناء المسلمين، وألاَّ تكون لهم صدارة المجالس، وغير ذلك من الأمور التي وردت في الشروط العمرية، وكذلك في كتاب خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه لأهل الحيرة، وفي غيرها من العهود التي عقدت بين المسلمين وبين أهل الذمة. وقوله: (ويلزمهم التميز عن المسلمين) أولاً: في أبدانهم. ثانياً: في ثيابهم. ثالثاً: في بيوتهم، ومساكنهم. رابعاً: في مراكبهم.

تميز أهل الذمة في شعورهم وذواتهم

تميز أهل الذمة في شعورهم وذواتهم أما تميزهم في شعورهم وذواتهم: فإنه مما ورد في كتاب عمر رضي الله عنه وأرضاه، وجرى عليه العمل، فتُجَزَّ نواصيهم، أي: مقدمة رءوسهم، لأجل إذا رآهم المسلم لا يظنهم من المسلمين، فيُعرَفون ويتميزون، فتُجَز لهم النواصي، ولا يُفْرَق شعرهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سَدَل وفَرَق، وكان الفَرْق آخر ما كان من عهده عليه الصلاة والسلام وسنته، وفَرْقُ الشعر: أن يَفْرِق الشَّعَرَ من نصفه فيقسمه إلى فرقتين، خاصةً إذا طال الشعر، وقد كانوا في القديم لا يحلقون شعورهم غالباً، فأهل الكتاب لا يَفْرِقُون كالمسلمين، حتى يكون هذا تمييزاً لهم، ولا يجوز للمسلم أن يوافقهم في هيئاتهم في الشعر، ومن الأمور التي تميزهم: حلق أطراف الشعر، وكان هذا من شعار اليهود، فالحلق الموجود الآن الذي يُحْلق فيه طرف الشعر من جهة اليمين، وطرفه من جهة اليسار، وهو الذي يسمى بالقَزَع، أو تخفيف الشعر من الطرفين وإسداله من وسطه، هذا مما كان لأهل الذمة بين المسلمين، ويفعله اليهود، فيتميزون في شعورهم.

تميز أهل الذمة في مراكبهم

تميز أهل الذمة في مراكبهم ويتميزون في مراكبهم: فلا يركبون الخيل؛ لأن ركوب الخيل عزةٍ وكرامة، لذلك قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] وقد جاء في بعض كتب الشروط العمرية، منعهم من ركوب الخيل، فيركبون الحمير وغيرها من المراكب الأُخَر تميزاً لهم؛ لأنهم إذا ركبوا الخيل كانت لهم عزة وكرامة، والله يقول: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فهم بين المسلمين لا بد أن يصْغُروا، فإن قال قائل: إن عندهم مصالح وحوائج، نقول: إن البغال والحمير وغيرها من الدواب تقضي هذه المصالح، والخيل إنما تكون غالباً للجهاد في سبيل الله عز وجل، وقد جعلها الله عز وجل من متاع الدنيا ومن زينتها، فإذا تزيَّنوا تميَّزوا وعزُّوا وبزُّوا، وكان لهم شيء من الصولة على المسلمين.

تميز أهل الذمة في بيوتهم

تميز أهل الذمة في بيوتهم يتميزون في بيوتهم: فلا تكون بيوتُهم عالية على بيوت المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يَعْلُو ولا يُعْلَى عليه) وسنبين التفصيل في هذه المسألة بين أن يكون بناؤهم بين المسلمين وبين أن يكونوا منفردين ومنعزلين عن المسلمين.

تميز أهل الذمة في مجالسهم

تميز أهل الذمة في مجالسهم ويتميزون في مجالسهم: فلا يكون لهم حق الصدارة في المجلس، ولا يجلسون في صدر المجلس؛ لأنه موضع إكرام، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وجُعِل الصغار على من خالفني) فثبت في السنة الصحيحة أن مَن خالف ملة الإسلام، فينبغي أن يكون في صغار، فإذا جلس في صدر المجلس فإن هذا إكرام له، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه) والتكرمة: هي صدر المجلس، فإذا كان المسلم لا يجوز له أن يجلس في صدر المجلس إلا بإذن صاحب المجلس، فكذلك أيضاً لا يجوز إجلاس أهل الذمة من باب أولى وأحرى. لكن لو أن صاحب الدار أجلسه في صدر المجلس! لا يُجْلَس، ولو أذِنَ صاحب الدار؛ لأن الحق للإسلام وليس له هو، فليست قضية الجلوس في صدر المجلس قضية شخصية، وحتى لو أنه أراد أن يعلي بناءه وأذِنَ له جارُه المسلم، فليس من حقه؛ لأن هذا من حق الإسلام وليس من حق الشخص، فالحقوق تنقسم إلى قسمين: منها ما يكون شخصياً، فإذا تنازل عنه صاحبه فلا إشكال. ومنها ما يكون حقاً عاماً. ولذلك فإنهم إذا قطعوا الطريق، وأخافوا السبل بالحرابة، فقال أولياء المقتولين: سامَحْناهم، وقال الإمام: يقتلون، فإن من حقه أن يقتلهم؛ لأنه انتقل من الحق الخاص إلى الحق العام. ففي هذه المسائل التي ذكرناها الحق فيها للإسلام، لقوله عليه الصلاة والسلام: (وجُعِل الصَّغار على من خالفني) فكأن هذا الصَّغار مرتبط بمخالفة الإسلام، وليس بمرتبط بحق شخصي حتى يُبْحَث عن كونه يؤذَن له أو لا يؤذَن له، أو يتنازل شخص فيجلسه في مكانه في صدر المجلس أو نحو ذلك، إنما هو حق عام يرجع إلى الإسلام، فلا يُنْظَر فيه إلى التنازل.

عدم ركوب أهل الذمة الخيل المسرجة

عدم ركوب أهل الذمة الخيل المسرجة قال رحمه الله: [ولهم ركوب غير خيل بغير سرج بإكاف]. (بغير سرج بإكاف) وهو البرذعة، والمقصود من هذا: أن يكون لهم تميز، بحيث إذا رأيته في مركبه تعرفه، وكل هذا -كما ذكرنا- جاء في سنة عمر رضي الله عنه، وجرى عليه عمل أئمة الإسلام مع أهل الذمة، أنه لا بد من تميزهم في مشيهم؛ لأنهم إذا مشوا على مراكبهم كالمسلمين لم يتميزوا، فلا بد أن يتميزوا في دورهم، ولا بد أن يتميزوا في سيرهم على دوابهم، ولا بد أن يتميزوا حتى إذا دخلوا حمامات المسلمين للاغتسال، وقد ذكر هذا غير واحد من الأئمة، كالإمام ابن قدامة رحمه الله، والإمام الشيرازي رحمه الله من الشافعية، وغيرهم من الأئمة؛ لأن المراد أنهم إذا خالطوا المسلمين لم يشعر المسلمون أنهم منهم. وتطبق السنة عليهم؛ من عدم السلام عليهم، واضطرارهم إلى أضيق الطريق، وكل ذلك لا يكون إلا بعلامة مميزة، وهذا هو الذي جعل العلماء يجتهدون في تطبيق السنة بالتميز؛ لأن الأمر بالشيء أمرٌ بلازمِه، فإذا كنت لا تستطيع أن تطبق السنة في الذمي إلا بمعرفته، فلا بد من وجود علامة يتميز بها، ومن هنا قيل بلبس الغيار، وشدِّ الزِّنَّار، والمراد بلبس الغيار: أن يكون لهم لبس خاص غير لبس المسلمين، فيتميزون به، ويُعرفون، وهذا دَرَجَ عليه المسلمون رحمهم الله في القرون الأُوَل، فكانوا يلزمونهم بلباس معين، حتى لا ينخدع المسلم إذا رآهم فيظنهم من المسلمين.

تصدير أهل الذمة في المجالس والقيام لهم

تصدير أهل الذمة في المجالس والقيام لهم قال رحمه الله: [ولا يجوز تصديرهم في المجالس]. [ولا يجوز تصديرهم] تصديرهم: من الصدر، وصدر المجلس يأتي على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون في وجه عورة البيت، وهو مدخل المضيف من داخل بيته، فيستقبله ذلك الصدر، وهذا يسمى بالتكرمة والصدر، وهذا لا يجوز أن يجلس فيه الإنسان إلا بإذن صاحب الدار، ولا يجوز أن يجلس فيه الذمي. الصورة الثانية: أن يكون متميزاً بالفضل في الهيئة كالفراش ونحوه، أو في الحال، فصدر المجلس مثلاً: إذا كان الموضع هو أبرد وأفضل موضع في المجلس والفراش فيه وفير، فهذا هو صدر المجلس، ولا يجوز أن يُجلس فيه إلا بإذن صاحب الدار، ولا يجوز أن يُجلس فيه الكافر. فصدر المجلس فيه مسألتان: المسألة الأولى: أنه لا يَجلس فيه المسلم إلا بإذن صاحب الدار. المسألة الثانية: أنه لا يجوز إجلاس الذمي فيه. قال رحمه الله: [ولا القيام لهم] أي: للكفار؛ لأن القيام إجلال، والقيام للمسلم مشروع، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة مشروعية القيام عند السلام، وأما كراهيته عليه الصلاة والسلام للقيام، فهذا ثابت به النص الصحيح، ولكنه القيام المخصوص الذي يقوم فيه الغير دون أن يسلِّم، كما يفعله بعض الناس إذا دخل إلى المجلس حيث يقومون له دون سلام، وهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال عنه: (لقد كدتم تفعلون فعل الأعاجم) فقد كانوا يفعلونه من باب التعظيم، ونُهي عن ذلك لما فيه من الغلو، وسداً لذريعة الغلو. وعلى هذا: فإن النهي الوارد منه عليه الصلاة والسلام إنما هو عن القيام المجرد عن السلام، أما القيام للسلام أو القيام للضيف، وللعالم، أو لذي الحق، فإنه من شيم الكرماء، ومن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام من حديث عائشة: أنه كان إذا دخل على فاطمة قامت له فقبلت يده، وأجلسته مجلسها، وإذا دخلت عليه قام لها عليه الصلاة والسلام وأجلسها مجلسه، إكراماً لها، فقد قام عليه الصلاة والسلام لبنته، وهذا قيام الرحمة، وقامت البنت لأبيها، وهذا قيام الإجلال والإكرام، فشمل النوعين: - أن يكون القيام بسبب الرحمة، كقيام الوالد لولده، وقيام الكبير للصغير. - والقيام بسبب الإكرام والإجلال، كقيام الابن لأبيه، وقيام صغير المسلمين لكبيرهم؛ لأن هذا من إجلال ذي الشيبة المسلم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله: إجلال ذي الشيبة المسلم) وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقر طلحة رضي الله عنه حينما قام لـ كعب بن مالك -كما في صحيح البخاري- حينما نزلت توبة الله على كعب، قال: (فقام لي يَجُرُّ رداءه، فحفظتها له) ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على طلحة قيامه. وكذلك أيضاً ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال للأوس عندما جاء سعد: (قوموا إلى سيدكم) وقوله: (فأنزلوه) لا يقتضي التخصيص، كما لا يخفى في الأصول، فإن قوله: (فأنزلوه) إنما هو علة التشريك، وليس المراد به محض الحكم؛ لأن قوله: (قوموا إلى سيدكم) إشعار بالحق وإشعار بالفضل، فلما قال: (فأنزلوه) إشعار بالحاجة، فجمع بين الحاجة وبين الحق. وكذلك أيضاً يُقام لحَفَظَة كتاب الله عز وجل، ويقام للضيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه). والنفوس تستهجن أن يدخل ذو الشيبة المسلم على صغير من صغار المسلمين فيسلم عليه، وإذا به جالس والآخر قائم على رأسه، فهذا لا يمكن أن ترتاح له النفوس، بل إن الطباع تنفر من هذا الفعل، وليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم -فيما يظهر- أنه إذا دخل ذو الحق كالعالم، وحافظ كتاب الله، وكبير السن، ومن له فضل أن يصافحه الإنسان وهو جالس، فهذا من الصعوبة بمكان، خاصة وأن النص حينما ورد بالنهي عن القيام جاء ما يخصصه، وجاء عندنا في الشرع الأمر بإكرام الضيف مطلقاً، يقول العلماء: إن ما ورد من الشرع مطلقاً كإكرام الضيف ونحوه، فإنه يؤذَن به بما جرى به العرف والعادة واستقر الناس عليه، أو جرى تعامل الناس عليه، فهذا يعتبر من إطلاقات الشرع، ولا بأس على الناس في فعلهم وقيامهم به. وعلى هذا: فإنه لا يجوز القيام للذمي، ومن هنا كان سلامك على الذمي وأنت جالس احتقاراً له، وانتقاصاً له، وصغاراً له، ولا يجوز فعل الصغار بالمسلم؛ لأنه ليس من العدل، يقول الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] فأمر الله عند التحية بأحد أمرين: - إما أن نكافئ من حيانا بمثل ما حيانا به وزيادة. - وإما أن نرد بالمثل. فإذا جاءك يسلم عليك وهو قائم، فقد حياك قائماً، فتحييه قائماً كما حياك قائماً، فإن حييته جالساً فحينئذ لم ترد له تحيته كما حياك، وعلى هذا: إذا جاء الذمي حييته بما يشعره بالصَّغار، وإذا جاء المسلم حييته بما أمرك الله عز وجل وهو رد تحيته بالمثل، أو ردها بما هو أفضل، لعظم الأجر في ذلك.

حكم السلام على الذمي

حكم السلام على الذمي قال رحمه الله: [ولا بداءتهم بالسلام]. ولا يجوز أن نبدأهم بالسلام، والنص في ذلك صريح: (لا تبدءوهم بالسلام) والسبب في ذلك: أنه إعزاز لهم وإكرام لهم، واستُثْنِي من هذا، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سلام على من اتبع الهدى) في كتبه عليه الصلاة والسلام للملوك؛ لأن المراد بها الاستعطاف، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سلام على من اتبع الهدى) وهم لم يتبعوا الهدى، وإنما قال العلماء: هذا خاص ولا تعارض بين عام وخاص. بالنسبة للسلام: قيل للإمام أحمد رحمه الله: يقولون للذمي: كيف حالك؟ كيف أصبحت؟ كيف أمسيت؟ قال: هو أشد عندي من السلام؛ لأنه نوع من الاعتناء والاحتفاء، وأن حاله يوجب أن يشفق عليه حتى يسأل عن حاله وكيف أصبح وكيف أمسى، وكل هذا سداً لذريعة الموالاة لمن عادى الله ورسوله؛ لأنه لا بد أن يتميز المسلم عن الكافر.

منع أهل الذمة من بناء الكنائس وترميمها

منع أهل الذمة من بناء الكنائس وترميمها قال رحمه الله: [ويُمنعون من إحداث كنائس وبِيَع، وبناء ما انهدم منها ولو ظلماً]. (ويُمنعون من إحدث كنائس وبيع). ويُمنع أهل الذمة من إحداث الكنائس في بلاد المسلمين، وهذا نص عليه كتاب الشروط العمرية، الذي شرحه الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه المفيد (أحكام أهل الذمة)، وبين أنه لا يجوز لهم أن يحدثوا الكنائس في بلاد المسلمين، ولا أن يعيدوا بناء ما انهدم منها، وهذا يدل على أن المراد من عقد الذمة بيننا وبينهم أن يألفوا الإسلام، فلا تمضي فترة من الزمن إلا وقد دخلوا فيه، وهذا هو الذي قُصِد من إيجاد العقد بيننا وبينهم: أنهم يرضون بالإسلام؛ لأن بيننا وبينهم قواسم مشتركة، فدينهم أصله دين سماوي، ومن كان ذا دين سماوي فإنه إذا رأى سماحة الإسلام ويُسره وشريعته، فإنه أحرى أن يتبع ذلك وأن يلتزم به. (وبناء ما انهدم منها) أي: لا يجوز لهم بناء ما انهدم من الكنيسة. وهنا مسألة: إذا انهدمت الكنيسة، فلا تُجَدَّد، ولا يجوز إحداث كنيسة في داخل بلاد المسلمين، وقال أئمة الشافعية: إنهم إذا بنوها في الخراب، أي: بعيداً عن المساكن، وبعيداً عن المدن، فلا بأس وقد سكت عنه بعض العلماء، وقال: إنما يكون المنع إذا كان في داخل بلاد المسلمين، فيُمنعون من إحداثها ومن تجميلها وتزويقها، فلا يكون لهم بها شعار يتميزون بها في الظاهر، ولا تُجَدَّد ولا ترمم في الظاهر، حتى تكون جاذبةً للغير إليها، أو يكون لهم بها عزة، وقد أمر الله عز وجل أن يكونوا في صغار، فلا بد أن يكون الصغار شاملاً حتى لأمور طقوسهم وأمورهم التي يتعبدون بها. وهنا مسألة وهي: إذا آل الجدار إلى السقوط، وأرادوا أن يحفظوا كنيستهم فماذا يفعلون؟ قالوا: يبنى الجدار من داخل الكنيسة؛ لأن هذا ليس بتجديد، ولا يعتبر تجديداً لما انهدم، فيهدم الجدار الأول، ثم يبنى الثاني من داخله، ثم ينهدم الذي بعده، فيبنى من داخله، وهذا ذكره غير واحد من العلماء رحمهم الله، كل ذلك منعاً للإحداث، فيتقاصر أمرهم حتى يضيق عليهم، وكل هذا -كما ذكرنا- إعمالاً لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] فيكون الصَّغار في دينهم كما كان الصَّغار في أمور دنياهم. (ولو ظلماً) إشارة إلى خلاف مذهبي، أي: ولو هدمت ظلماً، فبعض العلماء يرى أنها إذا هدمت ظلماً فإنه يُسمح لهم أن يعيدوها، وهذا القول في الحقيقة له وجه من النظر والقوة، يقول بعض العلماء رحمهم الله: لأن بيننا وبينهم عقد عهد وذمة، وينبغي أن ننصفهم، فهم التزموا بأداء جزيتهم، وقاموا بالحق الذي يجب عليهم، فينبغي علينا أن نحفظ كنائسهم، فنترك لهم كنائسهم، ونترك بِيَعهم وصلواتهم، وهذا هو الوسط، فلا نقدم على هدمها بدون حق، فإذا هُدِمت بدون حق، فهذا يقوى فيه أنها تعاد لهم، وهو قول بعض العلماء، وأشار المصنف إلى هذا الخلاف بقوله: (ولو ظلماً).

منع أهل الذمة من رفع بنيانهم على المسلمين

منع أهل الذمة من رفع بنيانهم على المسلمين قال رحمه الله: [ومن تعلية بنيانٍ على مسلم، لا من مساواته له]. (ومن تعلية بنيانٍ على مسلم) لا يجوز أن يكون بناء الكافر الذمي فوق بناء المسلم، وإنما يكون بناؤه مساوياً له أو دونه، وهذا إذا كان جاره مسلماً، أما لو كانوا في حي للكفار أنفسهم أو لأهل الذمة، فتطاول بعضهم على بعض في البنيان، فهذا لا بأس به، ولا حرج فيه، ويُتركون على هذا؛ لأنه لا تنكشف به عورة المسلم، ولا يكون لهم به فضل على المسلمين، ومن هنا فُرِّق بين أن يكون بنيانهم بين المسلمين، وبين أن يكون بنيانهم لهم في داخل أحيائهم، أو مدنهم أو قراهم، فإنه حينئذ لا يكون فيه مخالفة للنص في قوله عليه الصلاة والسلام: (الإسلام يَعْلُو ولا يُعْلَى عليه) فإن فيه إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون المسلم أعلى من الكافر. (لا من مساواته له) في حكم مساواة الكافر للمسلم في البنيان قولان: قال بعض العلماء: ينبغي أن يكون أدنى من بناء المسلم. وقال بعض العلماء: يجوز أن يساويه، وهذا هو الذي صححه غير واحد من العلماء، واختاره المصنف رحمه الله.

منع أهل الذمة من إظهار المحرمات والجهر بدينهم

منع أهل الذمة من إظهار المحرمات والجهر بدينهم قال رحمه الله: [ومن إظهار خمرٍ وخنزيرٍ وناقوسٍ وجهرٍ بكتابهم] قوله رحمه الله: (ومن إظهار خمر) التقدير: ويُمنعون من إظهار خمر، كما ذكرنا، والخمر مأخوذ من خمَّر الشيء إذا ستره، وسميت الخمر خمراً لأنها تسكر العقل وتغيِّبه، والعياذ بالله! (ومن إظهار خمر): أي: أنهم إذا شربوا الخمر فيشربونها في بيوتهم، ولا يشربونها بين المسلمين، فإذا فعلوا ذلك فإنه حينئذ يكون الحكم فيهم ما سبق بيانه، من أنه يطبق عليهم ما يطبق على المسلمين على تفصيل؛ هل يقام عليهم الحد أو يعزرون؟ (وخنزير) فلا يظهرون الخنزير، وكذلك أيضاً لا يتظاهرون بأكله، وإذا كان لهم مطاعم يدخلها المسلمون فلا يجوز أن يكون فيها لحم الخنزير، فإن فعلوا ذلك أوخذوا عليه، وإن أظهروا الخنزير بين المسلمين وأظهروه علانيةً فإنه تسقط حرمة الخنزير، فلا ضمان عليه. (وناقوس) وهو الذي يضرب به لصلواتهم؛ فيضرب بالناقوس داخل بِيَعهم وكنائسهم فقط، وهذا هو الذي تضمنه كتاب الشروط العمرية، وكذلك غيره من الكتب الأخرى، فقد أُذِن لهم أن يضربوا بالناقوس داخل الكنائس لا خارجاً عنها. (وجهرٍ بكتابهم) التوراة والإنجيل، فكونهم يقرءونها، أو يجهرون بأفكارهم بين المسلمين كل هذا من الممنوع والمحظور عليهم، وإذا فعلوا ذلك فتنةً للمسلمين فإنه ينتقض عهدهم، كما سيأتي. قال رحمه الله: [وإن تهوَّد نصراني، أو عكسه لم يُقَر، ولم يُقْبَل منه إلا الإسلام أو دينه] أي: انتقل النصراني إلى اليهودية، أو اليهودي إلى النصرانية، تهوَّد نصراني، أو تنصَّر يهودي، فالحكم واحد أنه لا يُقَر، فإما أن يبقى على دينه، وإما أن يرجع إلى الإسلام، وإلا انتقض عهده.

ما ينقض عهد أهل الذمة

ما ينقض عهد أهل الذمة قال رحمه الله: [فصل: وإن أبى الذمي بذل الجزيةَ، أو التزامَ أحكامِ الإسلام، أو تعدَّى على مسلم بقتلٍ، أو زِناً، أو قطعِِ طريقٍ، أو تَجَسَّسَ، أو آوى جاسوساً، أو ذَكَرَ الله أو رسوله أو كتابه بسوء، انتقض عهدُه دون نسائه وأولاده، وحل دمُه ومالُه]

عدم التزام الذمي بالجزية أو أحكام الإسلام ينقض عهده

عدم التزام الذمي بالجزية أو أحكام الإسلام ينقض عهده يقول المصنف رحمه الله: (وإن أبى الذمي بذل الجزيةَ) أي: أبى أن يدفع الجزية، فهناك أمران لا بد من وجودهما في عقد الذمة، وهما: - دفع الجزية. - والالتزام بأحكام الإسلام. فإذا امتنع الذمي من هذين الأمرين لم يصح أن تُعْقَد معه الذمة، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله؛ لأن عقد الذمة يقوم على هذين الأساسين: أولهما: دفع الجزية، وهذا بنص كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والثاني: الالتزام بأحكام الإسلام، فلا يأتي بما يعارض الإسلام أو يتسبب في الأذية والإضرار بالمسلمين، من حيث الأصل والجملة، فبيَّن رحمه الله في هذا الفصل الأمور العظيمة التي إذا فعلها الذمي انتقض بها عهده، وصار حكمه حكم الأصل. فقال رحمه الله: (وإن أبى الذمي بذل الجزيةَ) أي: وَقَع العقد بيننا وبين أهل الذمة، ثم فوجئنا بهم أنهم قالوا: لا نريد أن ندفع الجزية، فإذا قالوا ذلك فقد انتقض عهدهم؛ لأن بيننا وبينهم التزامات، فهم ملزمون بدفع الجزية، والعقد أصلاً قائم على الجزية، فإذا منعوها فحينئذ ينتقض ما بيننا وبينهم من عقد الذمة. وإن أبى أحدهم وقال: لا أدفع الجزية، أو ماطل فيها على وجهٍ يريد به إضاعتها على المسلمين، يكون حكمه كذلك، فيطلبهم الحاكم، ثم يستوثق منهم، فإما أن يدفعوا، وإما أن يبقى في حل من ذمتهم. (أو التزام أحكام الإسلام) إذا قال: أدفع الجزية؛ ولكني أقول ما أشاء، وأفعل ما أشاء، وليس لأحد أن يتعرض لي -ويقع هذا أحياناً حينما يؤخذ ويقال له: كيف تجهر بكتابك؟ فيقول: أنا أفعل ما أشاء- فحينئذ كأنه خرج عن الالتزام بحكم الإسلام، وكأنه نقض ما بينه وبين المسلمين من الالتزام بالإسلام، إذ من الالتزام بالإسلام أن يتقيد بالحرمات والضوابط، وألاَّ يخل بها. وهذا يقع عند الشروط، فإن المسلمين إذا أرادوا أن يعقدوا بينهم وبين أهل الذمة عقداً، فقال أهل الذمة: نعقد ما بيننا وبينكم ونلتزم بحكم الإسلام؛ ولكن لا ندفع لكم الجزية، فلا يصح عقد الذمة، وهذا في قول جماهير العلماء، أنهم إذا قالوا: لا ندفع الجزية، فلا يجوز لأحد أن يعقد معهم الذمة. أما حديث أم هانئ فهذا أمان خاص، فقوله صلى الله عليه وسلم: (قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ) هذا يسمى بالجوار، والجوار غير الذمة، فينبغي أن يفرق؛ لأن جوار أم هانئ لا عوض فيه ولا جزية، فلا يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أقر على الأمان بدون عوض؛ لأننا نقول: هذا شيء وذاك شيء، فهناك الذمة وهناك العهد والأمان، وكل منهما له حكمه الخاص. ولذلك العهد والأمان يبقى مقيداً إلى سماع القرآن، فإذا سمع القرآن فإنه يُبْلَغ إلى مأمنه إذا لم يسلم، أما بالنسبة للذمي إذا سمع القرآن فلا يلزم به، ولذلك قال الله تعالى في الأمان والعهد: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] فجعل الأمان مقيداً بالسماع، ثم قال بعد ذلك: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6] أي: إذا أصر على كفره فليس له أمان عندنا، وإنما ينبغي أن يرد إلى مأمنه. وأما بالنسبة للذمة فإنه يبقى، ولا بد أن يلتزم بالأمرين. فإن قالوا: ندفع الجزية، ولكن نسميها: ضريبة، أو تسمى باسم آخر، فهذا لهم؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعل ذلك مع المجوس حينما امتنعوا وقالوا: لا تسمِّها جزية، قال: (سموها ما شئتم)، ثم فرضها عليهم رضي الله عنه وأرضاه، وهذا من باب المصلحة، وفيه بُعْد نظر منه رضي الله عنه، طلباً لما هو أعظم، ودفعاً لما هو أبلى.

اعتداء الذمي على المسلم ينقض عهده

اعتداء الذمي على المسلم ينقض عهده قال رحمه الله: [أو تعدى على مسلم بقتلٍ أو زِناً] (أو تعدى على مسلم بقتلٍ): فإذا قتل الذمي مسلماً، فحينئذ يخفر دَمُه، يصبح دمُه هدراً، ويقتل بالمسلم الذي قتله، كما لو قتل المسلم مسلماً عمداً وعدواناً. أما لو قتل مسلماً خطأً، فإنه لا يعتبر موجباً لانتقاض عهده، فهناك فرق بين قتل الخطأ وقتل العمد؛ لأن قتل الخطأ جاء بدون اختياره، ولا يوجب هذا نقض العهد له. (أو زِناً): إذا زَنا الذمي بمسلمة، وفَجَر بها، سواءً عن طواعية -والعياذ بالله- أو عن غصب، ففي كلتا الحالتين يُخْفَر دمُه، وينتقض عهدُه، وهذا قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه إذا فَجَرَ الذمي بالمسلمة، فإنه حينئذ ينتقض عهده، ويُقتل، وبعض العلماء يرى أنه يقام عليه الحد، كالمسلم سواءً بسواء، ولا يرجم وإنما يُجلد، ولكن الصحيح ما ذكرناه؛ لأنها سنة راشدة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وليس له مخالف من الصحابة، وقد كتب بذلك رضي الله عنه وأرضاه في كتبه. (أو قطعِ طريقٍ): إذا قطع الطريق على المسلمين فإنه في هذه الحالة ينتقض عهده، ويرجع إلى حاله الأصلي، ويصبح مهدر الدم.

تجسس الذمي أو إيواؤه الجواسيس ينقض عهده

تجسس الذمي أو إيواؤه الجواسيس ينقض عهده قال رحمه الله: [أو تجسَّسَ أو آوى جاسوساً] (تجسَّسَ) أي: تتبَّعَ أخبار المسلمين، فكان عيناً للكفار على المسلمين، وهذا فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي داود وغيره، أنه لما جلس مع أصحابه، فجاء عين من المشركين، فجلس يسترق الحديث، ثم قام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أطلبوه واقتلوه) فأمرهم بطلبه وقتله، فإذا ثبت عليه ذلك، يصبح ضرراً على الإسلام والمسلمين، ويكون قد أراد بعهده وذمته خديعة الإسلام والمسلمين، فيؤاخذ بذلك. وهكذا إذا آوى العين أو الجاسوس؛ فإنه يؤاخذ على ذلك، ويكون حكمه كحكم الأول. (أو ذكر الله أو رسوله أو كتابه بسوء) كأن يسب الله -والعياذ بالله- أو يسب الإسلام، أو يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه كلها ينتقض بها عهدُه، على أصح قولي العلماء، وهما: الأول: قول الجمهور: يرون أنه إذا سب الله وسب الإسلام وسب المسلمين، أي: سب دينهم وقصد بذلك المساس بالدين وعقيدة المسلمين، فإن هذا يوجب انتقاض العهد بينه وبين المسلمين. الثاني: وقول الإمام أبو حنيفة: لا ينتقض عهده؛ لأنه كافر، وليس بعد الكفر ذنب، فإذا كان من حيث الأصل يعتقد التثليث ويعتقد أن عيسى ابن لله، فإن هذا لا يمنع أن يُتْرَك على ما يعتقده من الكفر. والصحيح: مذهب جمهور العلماء، أنه إذا فعل هذه الأمور فإنه ينتقض عهده؛ لأن هناك فرقاً بين دينه الذي ورد الشرع باستثنائه، وبين غيره الباقي على أصل العموم؛ مع أن الأصل أنه يؤاخذ على الكل؛ لكن جاء الاستثناء في دينه وما يعتقده مما فيه شبهة الكتاب، لوجود التحريف في كتبهم، ويبقى ما عداه على الأصل من المؤاخذة. (انتقض عهدُه دون نسائه وأولاده): (انتقض عهدُه) أي: أصبح لا ذمة له. (دون نسائه وأولاده): وهذا من عدل الإسلام، والإسلام دين عدل ودين رحمة، فلم يؤاخذ أولاده وذريته ونساءه بما فعل من جريمة: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] فلذلك يقولون: ينتقض عهده، وأما أولاده وذريته فإن بقوا بين المسلمين ورضوا أن يبقوا بينهم فبها وأنعِمْ، وإن لم يبقوا بين المسلمين فحينئذ يُخرَجون إلى ديار الكفر ولا تبقى لهم ذمة ولا يبقى لهم عهد. فكونه يُقْدِم على هذه الأمور التي فيها إضرار بالإسلام والمسلمين، هذا موجب لزوال العهد وانتقاضه فيما بينه وبين المسلمين. (وحَلَّ دمُه) أي: أن الإمام يقتله؛ لأنه أصبح كافراً حربياً، إعمالاً للأصل، وإنما أُمِّن لوجود الذمة، فإذا تسبب في إزالة الذمة عن نفسه فقد خُفِر دمُه، وعاد إلى الأصل الموجب لحل سفك دمه، فيفعل به الإمام ما يرى فيه النكال به وبمن على شاكلته من أهل الكفر.

خلاصة أحكام أهل الذمة ودلائلها

خلاصة أحكام أهل الذمة ودلائلها بهذا نكون قد انتهينا من أحكام أهل الذمة، وهي في مجملها تدل على أمور مهمة: أولها: لطف الله عز وجل ورحمته بعباده في هذا الدين الذي جعله الله رحمة للعالمين، حتى إن الكفار يعيشون بين المسلمين لهم أمان ولهم عهد، ولا يجوز للمسلم أن يقدم على خيانتهم وخَتْلهم وأذيتهم. ولا يجوز لهم أيضاً أن يقدموا على المساس بحرمة الإسلام وحرمة المسلمين. الأمر الثاني: أن هذا العهد الذي بينهم وبين المسلمين مقيد بأهل الذمة من أهل الكتاب ومن في حكمهم كالمجوس، فلا يشمل المشركين وعبَّاد الوثن، ولذلك يقول الله في كتابه: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة:7] فاستثنى الله الذين عاهدهم الرسول عند المسجد الحرام، وأما غيرهم من أهل الشرك والأوثان فلا، فإن الله ساق هذا السياق للذم والاستبعاد، وعلى هذا فليس للمشركين من عباد الوثن هذا العهد الخاص والذمة الخاصة، وإنما هي خاصة بأهل الكتاب كما ذكرنا. الأمر الثالث: إن هذا العهد، وهذا العقد، وهذه الذمة مبنية على أصول وضوابط شرعية تدل على حكمة الله، وعلمه بخلقه، وهي أن أهل الذمة يعيشون بين المسلمين ويلتزمون بأمور وبحقوق وواجبات تفرض عليهم. وكذلك يلتزم لهم المسلمون بحقوق وواجبات يؤدونها إليهم، فلا يُظْلَم كلُّ ذي حق في حقه، فعلى المسلمين أن يقوموا بحفظهم، وحقن دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم، فلا يُقتلون، ولا تغتصب أموالُهم، ولا تسرق، وكذلك أيضاً لا تستباح بدون وجه حق، ويكون لأعراضهم ما لأعراض المسلمين من الحرمة، فلا يجوز لأحد أن يعتدي عليها، ولا أن يؤذيهم فيها. وهم يلتزمون بدفع الجزية التي تفرض عليهم في زمانها بالقدر المفروض على الصفة التي ذكرناها، والتفصيل الذي ذكرناه. فإذا التزموا بها، والتزم المسلمون بما عليهم على الصورة التي ذكرناها، يكون الإسلام قد حقق الأمرين: الرحمة. ووضعُها في موضعها. فهي رحمة؛ ولكنها وُضِعت في موضعها، وليس من الحكمة أن يأتي الإنسان بالرحمة ويضعها في غير موضعها؛ لأن هذا هو شأن الضعيف المتخاذل، وإنما توضع الرحمة لمن يستحقها، ويكون ذلك في الحدود والضوابط الشرعية التي ذكرناها. ومن الخطأ ما يفهمه البعض ممن يكتب عن حال المسلمين أو في تاريخ المسلمين، عما كانوا عليه مع أهل الذمة، فيحاول أن يجعل الأمور كلها نوعاً من المسامحة ونوعاً من التقارب ونوعاً من الرضا، وهذا ليس بصحيح، فإن الله سبحانه وتعالى حكم من فوق سبع سماوات بأنه لا بد من تميز المسلم عن الكافر، وأنه ينبغي للمسلم أن يحفظ حق دينِه، وأن يراعي هذا التميز الذي فرضه الله عليهم من فوق سبع سماوات، وليست هذه العقود التي بين المسلمين وأهل الذمة مشعرةً باتحاد الأديان، من جهة أنها كالشيء الواحد، فهي وإن كانت في أصلها من أصل واحد؛ لكنها متفاوتة ومتباينة، حتى في العقائد والأصول، فتجد عقيدة التثليث لا يمكن أن تجتمع مع عقيدة التوحيد، فيأبى الله ويأبى رسوله صلى الله عليه وسلم ويأبى المؤمنون أن يجتمع من يقول: (هو الله أحد)، ومن يقول: (إنه ثالث ثلاثة)، والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة:73] فالله عز وجل حكم بتباين هذه العقائد، وعدم اتفاقها. فينبغي للمسلم ألاَّ يفهم من هذه الأمور أن معناها أنه وهو والكافر كالشيء الواحد، بل إنها أمور مقيَّدة، ومقنَّنة، ومحدَّدة، وقُصِد منها مصالح الإسلام أولاً وأخيراً، وقُصِد مِن عيش هؤلاء بين المسلمين أن يرضوا بالإسلام، وأن يألفوا الإسلام، لعل الله أن يهديهم من ضلالتهم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وعلى آله وصحبه.

كتاب البيع [1]

شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [1] البيع معاملة من المعاملات التي بين الله حكهما، وفصل في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم جملة من قواعدها، فهي معاملة مهمة، وقلّ أن يمر على الإنسان يوم إلا وهو بائع أو مشتر، أو جامع بين البيع والشراء، ولهذا يعتبر البيع مما تعم به البلوى، وعلى ذلك فيلزم المسلم أن يعرف ما أحل الله له من البيوع فيتعامل بها، وما حرمه الله عليه منها فيجتنبها.

أهمية كتاب البيع

أهمية كتاب البيع بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب البيع]. هذا الكتاب يعتبر من أهم الكتب المتعلقة بالمعاملات، ومن عادة أهل العلم رحمهم الله في كتب الفقه والحديث أن يبدءوا بما ورد في أحكام العبادات، ثم بعد ذلك يذكرون أحكام المعاملات. والمصنف رحمه الله ابتدأ بكتب العبادات، فبين أحكام الطهارة والصلاة وأحكام الزكاة والصوم والحج، ثم بعد ذلك ذكر كتاب الجهاد، ثم قال رحمه الله: [كتاب البيع]، فكأن المصنف أراد أن يربط بين المعاملات المالية وبين العبادات؛ والسبب في ذلك أنه من الصعوبة بمكان أن ينتقل الإنسان من العبادة المحضة إلى المعاملة المحضة؛ لأن كتاب البيع فيه جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالأموال وبالدنيا، من بيع وشراء وأخذ وعطاء، ولكن كتب العبادات كالصلاة والزكاة والصوم والحج تتعلق بما بين العبد وربه في غالب صورها، ولهذا احتاج المصنف رحمه الله أن يربط بين العبادات والمعاملات، فلا ينقلك من الصلاة والزكاة والصيام والحج إلى البيع مباشرة، فمن فقهه وعلمه أدخل كتاب الجهاد؛ لأن كتاب الجهاد معاملة بين الخالق والمخلوق ومعاملة كذلك بين المخلوق والمخلوق، فجعل كتاب الجهاد وسطاً بين العبادة المحضة والمعاملة المحضة؛ لأن الفقيه وطالب العلم لو أنه بعد انتهائه من العبادات دخل في المعاملات لكان هناك شيء من التضاد، بعد أن كان في باب مليء بالنصوص إلى باب مليء بالاجتهادات والقياس على النصوص؛ ولذلك ربط رحمه الله بينهما بكتاب الجهاد. البيع معاملة من المعاملات التي بين الله حكمها، وفصل في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم جملةً من قواعدها، فهي معاملة مهمة، وقلَّ أن يمر على الإنسان يوم من الأيام إلا وهو بائع أو مشترٍ أو جامع بين البيع والشراء، ولهذا يعتبر مما تعم به البلوى، أي: أن الناس قلَّ أن يسلموا من هذا التعامل، والله تعالى أمرنا وشرع لنا نوعاً معيناً من البيع نتعامل به، وحرَّم علينا نوعاً آخر، فينبغي للمسلم أن يعلم ما الذي أحل الله فيفعله، وما الذي حرم الله عليه فيجتنبه. ومن هنا كان لزاماً أن تقرأ أحكام البيع، فهي من العلوم التي ينبغي لطلاب العلم أن يتعلموها إذا لم يوجد من يقوم بالكفاية، خاصةً في هذا الزمان الذي قلَّ أن تجد من يتقن مسائل المعاملات، وبالأخص مسائل المعاملات المالية، فقد تجده يتقن أحكام الصلاة وأحكام الصيام وأحكام الحج، وقد يبتلى بطعمة الحرام والتعامل بالبيع المحرم وهو لا يدري، فقد يكون من خيار عباد الله؛ ولكن الجهل يوقعه في الحرام؛ ولهذا ينبغي للمسلم أن يحتاط لدينه، ولطالب العلم أن يسد الثغر لأمته؛ فيرعى هذا الأمر العظيم، ويتعلم هذا الباب، حتى يحسن إلى الناس ببيان الأحكام الشرعية. والله جل وعلا جبل الناس على حب المال والافتتان به وزين لهم ذلك، فإذا كان الناس لا يجدون من يبين لهم الأحكام انهمكوا في الحرام، وأصبح الحلال ما حل بأيديهم، والحرام ما بعد؛ وعندها لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً إلا ما أشربوا من هواهم، فتنتشر بينهم المعاملات التي يظنون جوازها؛ لأنها سائدة ومعروفة والناس ألفتها، وقد تكون فيها أرباح تغر الناس حتى يألفوها، فيظنون أنه الحلال، وما هو إلا الحرام الذي يعذَّب الإنسان بطعمته، خاصة إذا فرَّط بمعرفة حكمه. يقول أهل العلم: يتعين على الإنسان تعلم مسائل البيع إذا كان يتعاطى التجارة ويبيع ويشتري، فيجب عليه أن يتعلم ما الذي أحلَّ الله له بيعه فيبيعه، وما الذي حرم الله عليه بيعه فيجتنبه ويتقيه، ومن هنا كان لزاماً على طلاب العلم أن ينتبهوا لهذه المسائل، فهو باب مهم جداً، وكان العلماء رحمهم الله إذا أرادوا أن يعرفوا فقه الرجل نظروا إليه في باب المعاملات، وإن كان باب العبادات له شأنه ومنزلته، ولكنهم يتميزون ويظهر الفرق فيما بينهم في باب المعاملات؛ لأنه يحتاج إلى شيء من الدقة وشيء من التركيز، يبرز فيه فقه الفقيه، وفضل الله عز وجل على عباده، والله فضل بين العلماء، ورفع بعضهم على بعض درجات، فإذا أحب طالب العلم أن يعظم أجره في هذا العلم فليتقن مثل هذه المسائل ومثل هذه الأبواب، وليتعب وليجتهد وليصبر على عنائها؛ لأنها قد تمل وقد تحدث عنده شيئاً من السآمة، لكنه يصبر ويصابر، ويعلم ما أعد الله من الثواب لمن أحسن وجد في طاعته ومرضاته، خاصة فيما يعظم فيه النفع للمسلمين. والعلماء رحمهم الله ذكروا أن البيع مما يحتاج المسلم إلى معرفته، ويتعين عليه ولو في آحاد الصور، فإذا كنت تتعامل بنوع من أنواع البيع، فيجب عليك أن تسأل عن هذا النوع، فهذا أقل ما يجب عليك، فلو فرضنا أن الإنسان يتبايع بالذهب والفضة، فعليه أن يسأل ما هي أحكام صرف الذهب والفضة، وما هي أحكام بيع الذهب والفضة، وكيف يمكنه أن يتقن تلك الأحكام، أو على الأقل عليه أن يلم بأصولها التي ينبني عليها بابها.

تعريف (كتاب البيع) لغة واصطلاحا

تعريف (كتاب البيع) لغةً واصطلاحاً يقول المصنف رحمه الله: [كتاب البيع]، عبَّر (بالكتاب) لسعة هذا الباب وعظيم ما فيه من المسائل الكثيرة والفروع المشتهرة. وقوله: (البيع) مصدر مأخوذ من قولهم: باع الشيء يبيعه بيعاً ومبيعاً فهو بائع، وهو مأخوذ من الباع؛ لأن كلاًّ من البائع والمشتري يمد باعه، فأنت -مثلاً- لو مررت على إنسان تريد أن تشتري منه كتاباً فقلت له: بعني هذا الكتاب بعشرة ريالات، فقال: بعتكه بعشرة، أو قبلت، فقدَّم لك الكتاب وأعطيته العشرة، فإنك تمد الباع بالعشرة وهو يمد الباع بالكتاب، فقالوا: سمي البيع بيعاً من هذا. أما في اصطلاح أهل العلم رحمهم الله، فهناك تعاريف كثيرة للبيع. وبالمناسبة: تجد العلماء يعتنون دائماً بمسألة التعريف الاصطلاحي، أو التعريف الشرعي، أو الحقيقة الشرعية، وقلَّ أن تجد باباً من الفقه إلا وله تعريف اصطلاحي، فالصلاة تعَرّف لغة واصطلاحاً وكذلك الزكاة الرهن الإجارة الشركة المضاربة، إلى غير ذلك من الأبواب والكتب، فما السبب في ذكر هذه التعاريف؟ السبب: حتى تتميز المعاملات بعضها عن بعض، فربما يأتيك شخص فتقول له: بعتك هذه السيارة بكذا فيقول: قبلت، فيقول شخص آخر: هذه إجارة، فتقول له: لا؛ لأن البيع حقيقته مبادلة المال بالمال تمليكاً بالتراضي، ولكن الإجارة مبادلة المال بالمنفعة، فتستطيع أن تعرف ما هو المراد بكلمة (بيع) فأنت تنتقل في كتب العلماء بأفكار مرتبة وعلوم متقنة، فإذا عرفت ما هو البيع يرد Q ما موقف الشرع من هذا البيع؟ ثم يرد السؤال: إلى كم قسم ينقسم؟ بيع حلال وبيع حرام. فما هي أوصاف الحلال، وما هي أوصاف الحرام؟ ثم يرد سؤال آخر: ما الذي يترتب على البيع الحلال؟ وما الذي يترتب على البيع الحرام؟ وعندها تكتمل الصورة في هذا الباب من أبواب المعاملات. فنحن نحتاج أولاً إلى معرفة مقدمات البيع، ومقدمات البيع تستلزم منك أن تعرف حقيقته لغة، وقد بيناها، وحقيقته اصطلاحاً، وثانياً: أن تعرف موقف الشرع من هذه المعاملة هل هي جائزة أم محرمة؟ ثم إذا كانت جائزة فهل هي جائزة على سبيل اللزوم أو على سبيل التخيير، أو على سبيل الفضيلة؟ ثم بعد ذلك تعرف ما هي أركان هذه المعاملة، وتعرف المقدمات التي يمكن أن تتصور من خلالها المعاملة، ثم تدخل بعد ذلك في التفصيلات والأحكام. وأكرر الوصية لطلاب العلم ألا يملوا ولا يسأموا؛ لأننا سندخل من هذا الكتاب إلى مباحث دقيقة ومسائل قد تكون بعض الشيء عويصة، وإن كنا لا زلنا في المقدمات، لكن ينبغي على طالب العلم أن يصبر وأن يأخذ من مجلس العلم ما استطاع أن يتوصل إليه من الفائدة. البيع في الاصطلاح: مبادلة المال بالمال تملكاً وتمليكاً، وبعض العلماء يقول: بالتراضي، وسنشرح هذا التعريف عند ذكر المصنف رحمه الله للجملة الأولى في كتاب البيع.

مشروعية البيع

مشروعية البيع أما بالنسبة لمشروعية البيع وما موقف الشريعة من هذا النوع من المعاملات، هل هو حرام، أو هو جائز؟ و A أن البيع جائز ومشروع، وأن الله عز وجل أذن بالبيع، وأقوى الأدلة على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] فإن كلمة: (أحلَّ) كما يقول علماء الأصول: تعتبر من صيغ الإباحة، فإذا قال الله (أحلَّ) بصيغة البناء للمعلوم أو بصيغة البناء للمجهول كقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187] {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة:96] فهذه الصيغ تدل على الجواز والإباحة. {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] نسب سبحانه التحليل له؛ لأنه هو الذي يحلل وهو الذي يحرم، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] {يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41]. {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] هذه الآية يقول العلماء: إنها أصل في جواز البيع، فما معنى قولهم أصل؟ يقول بعض العلماء إن هذه الآية عامة، بمعنى أن قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] الأصل أن كل بيع جائز، حتى يدل الدليل على حرمته وعدم جوازه، فأنت إذا جئت إلى أي بيع فإن من حقك أن تقول: لي الحق أن أتعامل بهذا البيع حتى أسمع دليلاً من الكتاب أو دليلاً من السنة يقول: إن هذا البيع حرام. هذا معنى قولهم: إنها أصل في البيوع، أو أصل في حلِّ البيع وجوازه. ثانياً: وبعض العلماء يقول: إن الآية مجملة. ومعنى قولهم: (مجملة): أنه يتوقف في الاستدلال بها حتى يرد البيان، وهذا الإجمال فيه خلاف بين العلماء، وهي مسألة أصولية، والصحيح أنها آية عامة، وأنها مبينة وليست بمجملة، والذين يقولون إنها مجملة -من باب الفائدة لطلاب العلم- اختلفوا في سبب الإجمال: فبعضهم يقول: أجملت لقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] فقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] فلما قال: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] الربا: أصله الزيادة، فأحل شيئاً وحرم شيئاً، فكانت الآية دالة على جواز البيع، لكن لما قال: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] لم ندر أي الربا المحرم، وأي الزيادات المحرمة، فأصبحت الآية فيها شيء من الإجمال، وتحتاج إلى تفصيل وبيان من السنة. هذا الوجه الأول. الوجه الثاني: إن الإجمال لم يأت من الآية، وإنما جاء من شيء خارج عن الآية، وهو دليل السنة، والسبب في ذلك: أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (أنه نهى عن بيع الغرر)، فلما ثبت عنه ذلك احتجنا أن نعرف ما هو الغرر؛ لأن الغرر أصله المخاطرة، بمعنى: أنه لا يجوز لك أن تتعامل مع أخيك المسلم ببيع فيه تغرير له، كأن تقول له: (اسحب هذا الرقم وادفع خمسين ريالاً)، وقد يخرج لك ما قيمته ألف ريال، وقد يخرج ما قيمته عشرة ريالات، فأنت تغرر به، فلا يجوز هذا النوع من البيع، والغرر بابه واسع، ومن هنا أصبح قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] مستثنىً منه نهيه عن الغرر، فاحتجنا أن نعرف ما هو الغرر المحرم، وما هو الغرر المعفو عنه؟ فمثلاً: حين تبيع البيت ينبغي أن يكون المبيع معلوماً، ولكنك لا تدري ما هو أساس البيت وهل قواعده سليمة، أم بها عطل؟ فأنت تبيع شيئاً مجهولاً، نقول: هذا غرر معفو عنه؛ لأن الشرع لو جاء يدقق في هذا لأحرج الناس، والشرع لا حرج فيه، فيغتفر مثل هذا الغرر. إذاً: عندنا غرر معفو عنه، وعندنا غرر محرم، فتصبح الآية محل إجمال من هذا الوجه. الخلاصة: أن الآية الكريمة: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] أصل في حل البيع وجوازه. الدليل الثاني: قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء:29] فإن هذه الآية الكريمة دلت على جواز البيع؛ لأن الله حرم أكل المال وأخذه، واستثنى وقال: أي: إلا أن يكون الأكل للمال بالتجارة فلا حرج، فدل على جواز التجارة، ومن هنا قال بعض العلماء: (أفضل المكاسب مكاسب التجارة)؛ والسبب في ذلك: أن التجارة فيها منفعة لكثير من الناس؛ فالتجار يجلبون الأرزاق للناس، ولولا الله ثم التجار لهلك الناس، فيجلبون أرزاق الناس وأقواتهم، ويجلبون ما فيه صلاح لأبدانهم، وقد يجلبون تجارة فيها معونة لطلاب العلم، كالكتب ونحوها من الأوراق والأقلام، فمن هنا فقالوا: التجارة أفضل. وقال بعض العلماء: الزراعة أفضل. المهم: أن قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} [النساء:29] يعتبرونه أصلاً في جواز البيع وحلِّه. الدليل الثالث: قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:9 - 10] فحرم الله البيع عند أذان الجمعة؛ وتحريم الله للبيع قد يكون لأسباب عديدة، منها: ظلم المسلم، كبيع الغش وبيع النجش. ومنها: ما يسبب قطع أواصر الأخوة، كبيع المسلم على بيع أخيه المسلم وسومه على سومه. ومنها: البيع في الوقت المستحق لما هو أهم، فهناك أوقات مستحقة لما هو أهم، كأوقات الصلوات المفروضة، فلما كان الوقت في يوم الجمعة مستحقاً لما هو أهم وآكد، وهو فريضة الله عز وجل بصلاة الجمعة حرَّم الله البيع، فقال: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ثم قال بعدها: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] (وَابْتَغُوا) أي: اطلبوا، و (مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)؛ لأن البيع والتجارة والأرزاق كلها من فضل الله سبحانه وتعالى، والأمر للإباحة، وقد كان بعض العلماء وبعض السلف يحب للمسلم أن يؤخر حوائجه ويشتريها بعد صلاة الجمعة؛ امتثالاً لقوله تعالى: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ). إذاً فقوله: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) دال على حلِّ البيع؛ لأنه نهى ثم أمر، والأمر بعد النهي يرجع إلى ما كان عليه، فإذا كان الشيء واجباً ثم نهي عنه، ثم أمر به رجع واجباً، وإذا كان الشيء مباحاً ثم نهي عنه ثم أمر به رجع حلالاً مباحاً مثلاً: حرَّم الله الصيد على المحرم: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96] {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95] ثم قال: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] فعلمنا أن هذا الأمر ليس للوجوب، وإنما هو دال على الإذن السابق للنهي، وعلى هذا قوله: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] لا يدل على وجوب البيع والشراء بعد صلاة الجمعة، وإنما المراد به حل البيع والشراء. الدليل الرابع: قوله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] والآية نزلت فيمن يريد الحج والتجارة، فأذن الله ورخص لهم في ذلك. والسنة دلت أيضاً على حلِّ البيع وجوازه: وذلك كقوله عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، وكقوله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) وهذا من دلالة السنة القولية. أما السنة الفعلية: فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم تعامل بالبيع، فاشترى من اليتيمين الحائط الذي بنى فيه مسجده وحجراته صلوات الله وسلامه عليه. وكذلك أيضاً: اشترى من جابر بعيره، وشرط جابر حملانه إلى المدينة. إذاً: تعامل النبي صلى الله عليه وسلم بالبيع، بقي عندنا السنة التقريرية، وهي النوع الثالث من السنة: فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم جاء والسوق قائم في المدينة، وهي مكان التشريع، ومع ذلك سكت، وأقر الناس على البيع والشراء، ولم يحرم عليهم إلا ما حرم الله، فدل على حلِّ البيع وحلِّ التجارة وجوازها. إذاً دلَّ دليل السنة بالقول وبالفعل وبالتقرير. وأما الإجماع فقد أجمع العلماء على أن البيع جائز ومشروع، وأنه مما أذن الله به ووسع به على عباده.

أنواع البيع

أنواع البيع البيع ينقسم إلى نوعين: بيع مأذون به شرعاً. وبيع غير مأذون به شرعاً. فأما البيوع التي أذن الله بها فهي لا تنحصر، وأما البيوع التي حرمها الله فهي منحصرة ومعدودة، والدليل على ذلك من الكتاب قول الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] فما قال سبحانه: (وأحل الله بيع السلم، وأحل الله بيع الخيار، وأحل الله بيع المرابحة)، وإنما عمم وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275]، ثم لما جاء إلى التحريم قال: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] وما قال: (وحرم البيع)، فلما جاء إلى الحلِّ عمم، ولما جاء إلى التحريم خصص وعين، فأصبح الذي أحلَّه أكثر مما حرمه، ومن هنا جاءت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بما يؤكد هذا المعنى، فأنت إذا تأملت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تجدها في النهي، ولذلك تجد المحدثين -وهذا من فقه علماء الحديث- يقولون: (باب البيوع المنهي عنها شرعاً)، ولم يقولوا: (باب البيوع المأذون بها شرعاً)؛ لأنها لا تنحصر، والذي ينحصر المحرم، ولذلك قالوا: باب البيوع المنهي عنها شرعاً، باب البيوع المحرمة: بيع الملامسة المنابذة الحصى حبل الحبلة بيع الغرر بيعتين في بيعة. إلخ. فهذه البيوع معدودة محدودة، وأما البيوع الجائزة التي لا تنحصر فمنها بيع السلم، والخيار، والمرابحة، والصرف، وبيع المقايضة من حيث الأصل، فهذه من حيث الجملة بيوع مأذون بها شرعاً، وسنبينها إن شاء الله ونتكلم عليها. وهناك ضوابط وضعها العلماء للبيوع المحرمة قلَّ أن تخرج عنها: الضابط الأول: أن يكون المبيع محرماً عيناً؛ كبيع الميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام، والنجاسات، ونحوها مما حرم الله عز وجل بيعه. الضابط الثاني: أن يكون من باب الربا؛ كأن يبيع الريال بالريالين، أو يصرف الريال بالريالين ورقاً كان أو حديداً، فهذا يعتبر من الربا، وسنبينه إن شاء الله ونذكر وجه تحريمه من اشتماله على الظلم وأكل أموال الناس بالباطل. الضابط الثالث: أن يكون من باب بيع الغرر، وبيع الغرر أن يعطيه الشيء وهو في الظاهر يحتمل السلامة ويحتمل عدم السلامة، كبيع السمك في الماء، والطير في الهواء، وبيع المجهولات، كبيع الأرقام والنصيب، ونحوها، فهذه بيوع تدفع فيها مالك ولا تضمن ما الذي تأخذه أو لا تدري ما هو، فقد يكون شيئاً غالياً وقد يكون شيئاً بخيساً لا يستحق المال الذي دفعته، فهو من أكل المال بالباطل، وسنبين جميع هذه الضوابط أو جلَّها، إن شاء الله تعالى. إذاً: عندنا بيع مأذون به شرعاً، وعندنا بيع محرم شرعاً. كذلك هناك مسألة مهمة: إذا كنا قد عرفنا أن الذي أحل الله أكثر مما حرم، ندرك سماحة الشرع ويسر الشريعة، وأنه إذا جاءك من يطعن في هذه الشريعة ويقول: أنتم تحرمون على الناس، فقل له: يا أخي! أخطأت، إن الذي حرم هو الله والذي أحل هو الله، والذي حرمه الله شيء مخصوص، والذي أذن الله لك أن تتعامل به وأن تأكله وأن تأخذه لا ينحصر، ولكننا نقول: هذا الشيء المعين حرمه الله فاتركه. فالمقصود: أن الله سبحانه وتعالى حينما حرم لنا فخصص، وأباح لنا فعمم، دل هذا على سماحة الشريعة ويسرها، وأن الله يريد التوسعة على عباده. ثم إن الله ما حرم شيئاً إلا لعلة، فقد يكون البيع سبباً في إفساد الأخوة بينك وبين أخيك المسلم، فقد يبيع المسلم أخاه شيئاً مغشوشاً، فإذا باعه شيئاً مغشوشاً لم يسكت المشتري، فيطالب بحقه فيصر البائع فتحدث بينهما الخصومة، ثم يدخل الإنسان إلى السوق منتزع الثقة، ولذلك تجد في البلاد غير الإسلامية عندما تدخل السوق لا تضمن شيئاً؛ لأنك تدخل على شيء لا تعرف ما هو، بيوع مختلفة، وكلها وسائل لأكل المال بطرق ملتوية، لكن في الإسلام تجد الشريعة توقفك على مبيع معين، وتشدد في الشروط وتضيق عليه من أجل الرحمة بك وبمن يعاملك؛ لأن الله يريد العدل بينك وبين المشتري، فلم يظلم الله البائع ولم يظلم الله المشتري، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، وإنما أعطى لكل ذي حق حقه، فإذا مد لك أخوك المال، فينبغي أن تعطيه حقه وترضيه، {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، فلا يؤخذ المال باللعب ولا بالغش ولا بالتزوير، ولكن يؤخذ بحقه، فتبقى مطمئن النفس للمال الذي أخذته والكسب الذي اكتسبته، ويبقى أخوك مطمئن النفس مرتاح البال للسلعة التي أخذها، وكل منكم يُبارك له في سلعته كما في الحديث: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما). وإن من الحكم المستفادة من شرعية البيع: أن الله سبحانه وتعالى جعل فيه جلب المصالح ودرء المفاسد عن العباد، فأنت إذا احتجت إلى شيء، وهذا الشيء موجود بيد أخيك وأنت لم تستطع أن تطلبه ذلك الشيء وهو لا يستطيع أن يعطيكه إلا بعوض، فشرع الله البيع حتى تحصِّل المصالح لنفسك وتدرأ المفاسد عن نفسك، ويحصل أخوك المصالح لنفسه ويدرأ المفاسد عن نفسه، ولذلك مما يعتبر دليلاً عقلياً ما ذكره الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني حيث يقول: إن المسلم أو الإنسان تتعلق نفسه بحاجة عند أخيه -كأن تحتاج إلى سيارة مثلاً؛ لقضاء حوائجك والقيام على مصالحك- وأخوك لا يعطيك هذا الشيء من عنده، ولا يمكنك أن تأخذه بالغصب والقهر، فانظروا إلى حكمة التشريع، فالمشرع سبحانه شرع البيع عدلاً بين العباد، وهذا يدل على الحكمة، وأن البيع موضوع في موضعه؛ لأنه إذا تعلقت نفسه بهذا الشيء كالطعام مثلاً: قد يتعرض للموت إذا لم تعطه الطعام، أو قد يضطر إلى القتل حتى يصل إليه، وحينئذٍ شرع الله البيع لكي يدرأ عن الناس المفاسد، فإذا شرع الله البيع فقد رحم البائع بأخذه لحقه ورحم المشتري لتحقيق مصلحته، وعلى هذا انتظم البيع في تحقيق المصالح ودرء المفاسد. وقوله رحمه الله: [كتاب البيع] بعض العلماء يقول: (كتاب البيوع)، وكلاهما له وجه، فمن يقول: (كتاب البيوع) ينبه على الشمولية لأنواع البيوع المحرمة والجائزة، وأما من يقول: (كتاب البيع) فقد عبر بالمصدر.

بعض أحكام ومسائل كتاب البيع

بعض أحكام ومسائل كتاب البيع المصنف رحمه الله حين قال لنا: [كتاب البيع]، كأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بمعاملة البيع. ويستلزم هذا: أن يعرف البيع كما ذكرنا، وأن يذكر شروط البيع، وأن يذكر بعد ذلك أنواع البيوع الجائزة والمحرمة. فهناك أمور ينبغي أن نضعها في الحسبان: الأمر الأول ما يسمى (بالمقدمات)، وهذا ما يتعلق بالتصور، والجزئية الثانية (بالأحكام) والقاعدة عندنا: (أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره)، فلابد أن تتصور الشيء ثم تحكم عليه، فإذا تصورت الشيء وعرفته حكمت عليه، سلباً أو إيجاباً. فأولاً: تعرف ما هو البيع، ثم بعد ذلك ما هي أحكام البيع، وإذا أردت أن تعرف البيع فعليك أن تعرّفه لغة وتعرفه اصطلاحاً، وتتعرف على موقف الشرع منه، وهذا كله انتهينا منه، وهذه جزئية التصور. والبيع نوعان: بيع مأذون به شرعاً، وبيع محرم شرعاً، وقد عرفنا هذا في المقدمة، فمعنى ذلك أن الكلام ينصب على جانبين: الجانب الأول تعرف فيه البيع الحلال، والجانب الثاني تعرف فيه البيع الحرام. ثم إذا عرفت البيع الحلال والحرام تسأل: ما الذي يترتب على هذا الحلال؟ وما الذي يترتب على هذا الحرام؟ بناءً على ذلك: تجدهم يتكلمون على أنواع البيوع المحرمة والجائزة، وإذا فرغوا منها يتكلمون على شروط الجواز وشروط التحريم، أو علامات الجواز وعلامات التحريم، فكأن الجزئية عندنا الآن أن يفرقوا بين البيع الحلال والبيع الحرام، حتى يتم بحث ما الذي يترتب على البيع الحلال وما الذي يترتب على البيع الحرام. فهذا ما يسمى بالشروط. والبيع من حيث هو يقوم على عاقد، ومعقود عليه، ومعقود به، فأما العاقد: فهما طرفا العقد البائع والمشتري، وأما المعقود عليه: فهو المحل الذي ورد عليه البيع، سيارة كتاب عمارة مزرعة إلخ، كأن تقول: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، فيقول: قبلت، نقول: وقع البيع، ومحل البيع (سيارة) في مقابل عشرة آلاف ريال، وهذا يسمى محل العقد، وسمي محلاً؛ لأن الصيغة وردت عليه، فعندنا العاقدان، وعندنا المعقود عليه، وعندنا المعقود به، والمعقود به: هي الصيغة التي تم بها عقد البيع، (بعتك) بعشرة آلاف، (قبلت) (رضيت) ونحو ذلك مما يدل على الرضا. بناءً على هذا: يضع العلماء شروطاً للبيع، وشروط البيع معناها العلامات والأمارات التي نصبها الشرع للحكم بجواز البيع، فإذا قالوا: شروط صحة البيع فمعنى ذلك: أنهم يضعون لك كطالب علم علامات وأمارات إذا سئلت عن هذا البيع هل هو جائز أم لا؟ فمثلاً: سألك رجل فقال: بعت هذا الصندوق بعشرة ريالات، فهل يصح البيع أم لا؟ تقول: عندي علامات وأمارات لصحة البيع، فتستذكر: الشرط الأول -مثلاً-: أن يكون المبيع معلوماً، فتنظر في محل العقد، فإذا به يقول: صندوق مقفل، تقول: ما الذي بداخله؟ يقول: لا أدري، تقول: إذاً المبيع مجهول، فالبيع في الشرع غير جائز حتى يعلم المشتري ما الذي بداخل الصندوق؛ لأن هذا من بيع المجهول، وبيع المجهول غرر، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، ولذلك حرم بيع الجنين في بطن أمه؛ لأننا لا ندري أحي هو أو ميت؟ وإذا كان حياً هل هو كامل الصفات أو ناقص الصفات؟ ثم إذا كان حياً لا ندري أيخرج حياً أو ميتاً؟ فإذاً عندي علامة لأحكم بصحة البيع ينبغي أن تتوفر، فإذا كانت ليست بموجودة في هذا البيع فالبيع غير صحيح. وهناك شروط تتعلق بالعاقد، فلو جاءك رجل وقال: بعت سيارة بعشرة آلاف، تسأله: هل تملك السيارة؟ قال: لا، السيارة لأخي، ولكنني أعلم أن أخي سيرضى، تقول: هل وكلك أخوك؟ قال: لا، إذاً تصير فضولياً، ثم تنتقل إلى أخيه وتقول: هل أذنت له؟ قال: لا، هل ترضى بالبيع؟ قال: لا، تقول: البيع فاسد؛ لأن عندي قاعدة في العاقد: وهي أن يكون مالكاً للذي في يده. وكذلك لو أنك في القضاء واختصم إليك رجل، وقال: اشتريت من هذا الصغير بيته بعشرة آلاف، وهذا الصغير ورث البيت عن أبيه، فجاء أولياء الصغير وقالوا: لا نريد البيع، ولا نوافق عليه، تقول: من البائع؟ قالوا: الصغير، الصغير هذا هل يملك؟ نعم يملك، لكن هل هذا الصبي أهلاً للتصرف؟ ليس أهلاً للتصرف، إذاً: هل شرط الصحة توفر، أو لم يتوفر؟ لم يتوفر، فترجع إلى ولي الصغير وتقول له: هل تقر هذا البيع؟ وهل هو من مصلحة هذا اليتيم؟ فإن قال: لا، ليس من مصلحته، بل من مصلحته أن يؤخر البيع إلى سنة أو في شهر الموسم رجاء ارتفاع السعر، فتقول: البيع فاسد؛ لأن العاقد ليس أهلاً للتصرف. هذا بالنسبة للشرط الذي يتعلق بالعاقد. بقي المعقود به أي: الصيغة، أيضاً لها شروط ولها ضوابط، فلو قال له: أتبيعني؟ قال: نعم، فالاستفهام عند بعض العلماء لا ينعقد به البيع، وسنبين هذا في الصيغة. إذاً تحتاج أولاً إلى معرفة علامات الصحة وعلامات الفساد، وهذا هو الذي سيذكره المصنف في الباب الأول، فأنا أحب من طالب العلم أنه عندما يقرأ هذه الكتب أن يكون عنده إلمام، فينبغي ألا نقرأ كتاب البيع هذا حتى نعرف ما الذي يراد من العبارات وما الذي يراد من الجمل؛ لأن أبواب المعاملات صعبة، وتحتاج إلى شيء من التركيز، فلابد أن تعلم إذا جاءك الشرط هل هو يتعلق بالعاقد أو المعقود عليه أو المعقود به، فتصنف الشروط ثم تحفظها، ثم بعد ذلك لن تسأل عن بيع إلا وجدته له علامات للصحة وعلامات للفساد، فتحكم بالصحة بالدليل وتحكم بالفساد بالدليل. لكن لو أننا عرفنا حقيقة البيع، وتصورنا ما هو البيع، ثم عرفنا ما هي علامات الصحة وعلامات الفساد، وعرفنا البيع الصحيح والبيع الفاسد، بعد هذا هل ينتهي كتاب البيع، أم أن هناك أموراً مهمة؟ نقول: هناك أمور مهمة، فكونك تعرف أن هذا البيع صحيح أو هذا البيع فاسد لا يكفي، بل لابد أن تعرف ما يسمى بالأثر المترتب على البيع الصحيح والبيع الفاسد، مثلاً: إذا باع رجل سيارة بعشرة آلاف، فأنت لو قضيت بأن هذا البيع صحيح، فما الذي يترتب على حكم الشرع بالصحة لهذا البيع؟ تقول: يجب على البائع أن يسلم المبيع، ويجب على المشتري أن يدفع الثمن، فمعنى ذلك: أنه لابد من وجود أثر يترتب على حكمك بالصحة وحكمك بالفساد، كذلك لو كان البيع فاسداً، فمثلاً: اشترى رجل مزرعة بمليون ريال، ثم بعد عشر سنوات تبين أن المزرعة مزور صكها، أو أن هذه المزرعة مغتصبة، أو تبين أن فلاناً يملكها، أو أن ورثة فلان يملكونها من مائة سنة، وظهر أن هذا البيع الذي وقع بيع لما لا يُملك، وأنت حكمت من الشرط أن يكون مالكاً للمبيع، والرجل أخذ هذه الأرض قبل عشر سنين وهي ميتة فزرعها وبنى فيها، أو أخذها مزروعة فهدمها، أو غير فيها فزاد أو نقص، فما الذي يترتب؟ لا يكفي كونك تقول: هذا البيع صحيح، أو هذا البيع فاسد، فلابد أن تعرف آثار الصحة وآثار الفساد. وبهذا: إذا عرفت ما هي البيوع الصحيحة وما هي البيوع الفاسدة، وذلك بمعرفة علامات الصحة وعلامات الفساد، بعد ذلك تتكلم على القواعد العامة المترتبة على صحة البيع وفساده. تبقى جزئية أخيرة وهي التي يسمونها البيوع الخاصة، مثلاً: بيع السلم، وبيع الصرف، وبيع الخيار، وبيع المرابحة، وبيع المواضعة؛ هذه كلها بيوع جائزة وخاصة، وهذه البيوع لها شروط خاصة، فبيع السلم -مثلاً- له شروط غير بيع الخيار، وبيع الخيار له شروط غير بيع المرابحة، فهناك شروط عامة للبيع، وهناك شروط خاصة للبيع، قال صلى الله عليه وسلم: (من أسلم -وفي رواية: من أسلف- فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم) هذا بيع السلم، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فيه بشروط: (فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم)، لكن هذه الشروط تتعلق بماذا؟ بنوع خاص فقال: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم) إلخ. وهذا ليس بشرط متعلق بالبيوع العامة وإنما هو متعلق بالبيوع الخاصة. كذلك أيضاً عندنا مسألة بيع الثمرة فقد: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، قالوا: يا رسول الله! متى يبدو صلاحها؟ قال: حتى تحمار أو تصفار). إذاً: عندنا بيع خاص وهو بيع الثمار، وبيع ثمرة النخيل لا يصح إلا إذا بدا الصلاح فيه، فما هو بدو الصلاح؟ ما هي الشروط المعتبرة لحكمنا بهذا النوع؟ إذاً: عندنا شيء عام وعندنا شيء خاص. فإذا انتهيت من البيوع الخاصة، سواء كانت مباحة أو محرمة تكون قد انتهيت من مادة البيوع. وهذا إن شاء الله سنتكلم عليه، ونسأل الله العظيم أن يرزقنا فيه السداد، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم موجباً لرضوانه.

تعريف البيع اصطلاحا وشرحه

تعريف البيع اصطلاحاً وشرحه يقول المصنف رحمه الله: [وهو مبادلة مال ولو في الذمة أو منفعة مباحة]. (وهو): الضمير عائد إلى البيع، وهذا -كما ذكرنا الجزئية الأولى في البيع- هو تعريف البيع، كأنه يقول: البيع عندنا معشر الفقهاء: مبادلة المال. فما معنى مبادلة؟ المبادلة: مفاعلة من البدل، ووزن مفاعلة في لغة العرب يطلق على الشيء الذي يستلزم شخصين فأكثر، مثلاً تقول: مقاتلة، مخاصمة، مشاتمة، فكم يوجد؟ رجلان يتشاتمان، أو يتضاربان، أو يشتركان في شركة مضاربة، فهذا كله يسمى بالمفاعلة؛ لأن الشخص لا يقاتل نفسه ولا يخاصم نفسه. وحينما قال رحمه الله: (المبادلة) معنى ذلك أن عندنا بائع ومشترٍ (مبادلة) مفاعلة من البدل، والبدل أصله العوض، تقول: هذا بدل عن هذا، أي: عوض عنه وقائم مقامه، فهذه هي المبادلة. وبعض العلماء يقول: البيع معاوضة، والمعاوضة والمبادلة معناهما واحد. والمبادلة تكون على صور: قد أبادلك سيارة بسيارة، فهذا له معنى. وقد أبادلك شيئاً على سبيل الهدية، فأعطيك ساعة فتعطيني بدلاً منها قلماً، فأكون أهديتك ساعة وأهديتني قلماً، فصار مبادلة. كذلك أيضاً: لو أن رجلاً جاء لرجل وقال له: زوجني بنتك، قال: قبلت، والمهر عشرة آلاف ريال، إذاً: تزوج لقاء عشرة آلاف {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24] فالنكاح فيه معاوضة. كذلك: لو جئت وقلت: يا فلان! أجّرني بيتك سنة بعشرة آلاف، فدفعت عشرة آلاف لأجل السكنى سنة، فهذا فيه مبادلة. فقال المصنف: (البيع مبادلة) والمبادلة هنا أهي عامة، أو خاصة؟ إذا تأملتها وجدتها عامة. فقال المصنف: [وهو مبادلة مال]، بعض العلماء يقول: (مال بمال)، فنريد أن نعرف ما معنى مال؟ وكيف تتم مبادلة المال بالمال في البيع؟ المال أصله من الميل، وسمي المال مالاً لأن النفوس تميل إليه وتهواه، قال الشاعر: رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال لأنه زين للناس حب الشهوات، فهم يميلون إلى المال، ولذلك قال تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128] ولذلك شحت بالمال، بل وسفكت الدماء من أجل المال، فالمال له مكانة في النفوس. وفي اصطلاح الشريعة إذا قيل: (مال) فهو كل شيء له قيمة، لكن في عُرف الناس وما يسمى بالاصطلاح الوضعي إذا قيل: مال، فهو يختص بالذهب والفضة وبالنقود، فتقول: هذا مال، وتعني النقود، لكن في اصطلاح الشريعة المال يشمل كل شيء له قيمة، سواء كان نقوداً أو غيرها، والدليل على أن الشريعة تسمي كل شيء له قيمة مالاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الإبل والغنم والبقر مالاً، فهل الإبل والغنم ذهب وفضة؟ ليست من الذهب ولا من الفضة، فقال كما في الصحيح من حديث أبي هريرة: (ما من صاحب مال لا يؤدي زكاته) ثم ذكر الإبل والبقر والغنم. فقوله: (ما من صاحب مال) وأطلقه على الإبل، ثم ذكر البقر، ثم ذكر الغنم، ثم ذكر الذهب، ثم ذكر الفضة، فدل على أن المال هنا عام. ثانياً: جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأقرع والأعمى والأبرص الذين ابتلاهم الله عز وجل وأُعطوا المال، قال صلى الله عليه وسلم في الأعمى لما جاءه الملك وقال: (ابن سبيل، منقطع، قال: كنتُ فقيراً فأغناني الله، وكنت أعمى فرد الله عليَّ بصري، فدونك الوادي فخذ منه ما شئت، فوالله لا أرزؤك منه شيئاً -أي: لا أمنعك منه شيئاً، فماذا قال له الملك؟ -قال: أمسك عليك مالك قد نجوت وهلك صاحباك) فسمى الغنم مالاً، فهذا يدل على أن المال لا يختص بالذهب وبالفضة. فقول المصنف: (مبادلة مال) بناءً على هذا، فلو أن رجلاً عنده شاة وآخر عنده قلم، فقال: بعني هذه الشاة بالقلم، نقول: هذا بيع؛ لأنه بادل المال بالمال، كذلك أيضاً لو أنه بادله مزرعة بمزرعة، أو بادله عمارة بعمارة، أو سيارة بسيارة، أو قلماً بقلم، أو كتاباً بكتاب، كل هذا نعتبره بيعاً؛ لأنه بادله المال بالمال. فلما قال المصنف رحمه الله: (مبادلة مال)، قصد أن المال إما أن يكون ذهباً وفضة، وإما أن يكون غير الذهب والفضة. وهذا اصطلاح ينبغي أن تحفظوه من الآن؛ لأننا سندخل في تفصيلات البيوع والمعاملات وكلها قلَّ أن تخلو من هذه المسألة. وغير الذهب والفضة ينقسم إلى قسمين: إما عقار، وإما منقول، فالذي يبيع الأرز تقول: هذا يبيع المنقولات، وكذلك الذي يتاجر في السكر أو الأودية أو السيارات، هذه كلها تسمى منقولات، والعقار: وهو كل ما يتعلق بالأراضي تقول: هذا عقار، وسمي العقار عقاراً من العقر؛ لأنه معقور في مكان لا تستطيع أن تنقله إلى مكان آخر، كالمزرعة والبيت، إلا البيوت الجاهزة الموجودة الآن، فهذا شيء آخر، وتعتبر منقولاً؛ لكنه يسمى عقاراً تجوزاً، لكن الأصل والغالب والشائع في العقار أنه يكون ثابتاً، فمن دقة العلماء رحمهم الله أنهم يقولون: يجوز هذا في بيع العقارات، فتفهم من هذا أنه في بيع الأراضي والدور والمزارع، وإذا قال لك: لا يجوز هذا في المنقولات، أي: في غير العقارات وغير الذهب والفضة، وهذه كلها مداخل نريد أن نتصور بها البيع. لما قال المصنف رحمه الله: (وهو مبادلة مال) والبعض قالوا: (مبادلة مال بمال)، إذا بادلت المال بالمال فمعنى ذلك أنك ستبادل كالآتي: الذهب، الفضة، المنقولات، العقارات. فأما الذهب والفضة فلهما اسم خاص وهو: الثمن أو الأثمان، وأما العقارات والمنقولات فاسمهما: المثمن، فعندما يقول العلماء رحمهم الله: باب زكاة الأثمان، نفهم أن هذا خاص بالذهب والفضة فقط، فلا يتكلمون على زكاة الخارج من الأرض، ولا يتكلمون على زكاة السائمة او غيرها من المنقولات، وعلى هذا عندنا الثمن وعندنا المثمن، فلو سألك سائل: المبيعات -أي: الأشياء التي يقع عليها البيع- إلى كم تنقسم؟ أو الأموال التي يقع عليها البيع إلى كم تنقسم؟ تقول: تنقسم إلى قسمين: ثمن، ومثمن، أما الأثمان: فهي إما ذهب وإما فضة، والمثمونات: إما عقارات وإما منقولات. فلما قال المصنف رحمه الله: (وهو مبادلة مال)، يقول أهل العلم رحمهم الله: تنقسم هذه المبادلة إلى ثلاثة أنواع: فإما أن يبادل ثمناً بثمن. أو مثمناً بمثمن. أو ثمناً بمثمن. النوع الأول: الثمن بالثمن: كبيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة، أو الذهب بالفضة، مثال على ذلك رجل عنده طقم ذهب يريد أن يبادله بطقم ذهب، فهذا يسمى بيع ثمن بثمن، أو عنده جنيهات ذهب فأراد أن يبادل مثلاً الجنيه الإنجليزي بجنيه مصري، أو يبادل الفضة بالفضة، سواء كانت من النقد، كأن تكون دراهم بدراهم، أو ريالات بريالات؛ لأن أصل الرصيد الريالات ورقاً كانت أو حديداً -وسوف نتكلم على هذه المسألة في باب الصرف- فحينما يصرف الريال بالريال ورقاً أو حديداً فإنما يصرف الفضة بالفضة في الأصل، ولذلك وجبت الزكاة فيها، والله لم يوجب زكاة الورق ولا زكاة الحديد (النيكل)، وإنما وجبت فيها الزكاة لأن رصيدها من الفضة، فإذا بادل الريال بالريال أو صرف الريال بالريال مثلاً بمثل يداً بيد، فيكون هذا بيع فضة بفضة، أو كان عنده طقم فضة وأراد أن يبادله بطقم فضة آخر، فهذا أيضاً يسمى بيع الفضة بالفضة، أما بيع ذهب بفضة فكأن تذهب الآن إلى بائع الذهب وتقول له: بكم هذا الطقم من الذهب؟ يقول لك: بعشرة آلاف، تقول: خذ، فأصبح الذهب في مقابل الفضة وهي العشرة آلاف ريال، وعلى هذا يكون من حقه أن يسمي بيع الثمن بالثمن: بيع الصرف، وهو يشمل جميع الصور الثلاث: الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، أو الذهب بالفضة، فإذا قال العلماء: لا يجوز هذا في بيع الصرف، فمرادهم مبادلة ماذا؟ الثمن بالثمن، أي: مبادلة الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، أو الذهب بالفضة. النوع الثاني: مبادلة المثمن بالمثمن، والمثمن ينقسم إلى قسمين: منقولات، وعقارات، فإذا بادل المثمن بالمثمن تكون عندنا ثلاث صور: عقار بعقار، منقول بمنقول، عقار بمنقول. الصورة الأولى: عقار بعقار: كأن تقول: أبيعك بيتي ببيتك بيتي بأرضك أرضي التي في المخطط الفلاني بأرضك مزرعتي بمزرعتك. الصورة الثانية: منقول بمنقول: مثل: سيارة بسيارة كتاب بكتاب قلم بقلم ساعة بساعة إلخ. الصورة الثالثة: العقار بالمنقول: مثل أبيعك مزرعتي بسيارتك أبيعك أرضي التي في المخطط الفلاني بسيارتك. إذا بعت العقار بالعقار، والمنقول بالمنقول، والعقار بالمنقول، فيسميه العلماء: بيع المقايضة، فإذا قال العلماء: ويجوز هذا في بيع المقايضة، نفهم أنه يشمل ثلاث صور: إما بيع عقارات بعقارات، أو منقولات بمنقولات، أو عقارات بمنقولات. النوع الثالث: وهو مبادلة الثمن بالمثمن، وهذا هو البيع الغالب السائد بين الناس، وهو أن يقع بثمن (ذهب أو فضة) في مقابل مثمن (عقار أو منقول) فمثلاً: إذا اشترى الأرض من المخطط بمائة ألف ريال، تقول: المائة ألف تعتبر الثمن والأرض المثمن، فهذا من بيع الثمن بالمثمن، وهذا يسمى بيعاً مطلقاً، فإذا قال العلماء: يجوز هذا في البيع المطلق، فاعرف أنه في الثمن بالمثمن، ولماذا سموه مطلقاً؟ لأن البيع إذا أطلق انصرف عليه، فهو الغالب والأكثر والأشهر في بيوعات الناس. إذاً: عندنا ثلاثة أنواع من البيوع: بيع الصرف: وهو الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والذهب بالفضة. وبيع المقايضة: وهو العقار بالعقار، والمنقول بالمنقول، والعقار بالمنقول. والبيع المطلق: وهو إما عقار بذهب، أو عقار بفضة، أو منقول بذهب، أو منقول بفضة، فأصبحت أربع صور في هذا النوع. فهذه ثلاثة أنواع ذكرها العلماء في مسألة مبادلة المال بالمال.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين قولهم: (تملكا) و (تمليكا) في تعريف البيع

الفرق بين قولهم: (تملكاً) و (تمليكاً) في تعريف البيع Q هل هناك فرق بين قولكم في تعريف البيع: (تملكاً) و (تمليكاً)، أم أن معناهما واحد؟ أثابكم الله. A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهناك من العلماء -كما نص عليه بعض فقهاء الشافعية رحمهم الله في تعريف البيع- من قالوا: معاوضة المال بالمال تمليكاً، فلما قالوا: (تمليكاً) خرج من هذا المعاوضة على سبيل العارية، وكذلك أيضاً قصد من هذا بيان ثبوت اليد على المبيع من الثمن مع المثمن، أو المثمن مع المثمن، أو الثمن مع الثمن، قالوا: ملك الشيء يملكه مَلكاً ومِلكاً ومُلكاً مثلث الميم، المراد به: ثبوت اليد؛ لأن البيع إفادته أنه يفيد ثبوت اليد له، فمثلاً: لو قال لك: بعتك أرضي هذه بعشرة آلاف، لو اشتريتها بعشرة آلاف من حقك أن تحفرها، ولا يقول لك أحد: لا تحفرها، إلا إذا كان حفرها فيه ضرر على الغير، ومن حقك أيضاً أن تبني فيها، وأن تزرعها، ومن حقك أن تفعل فيها ما تشاء؛ -كأن تهديها أو تتصدق بها- إذاً: معنى ذلك أن يد التصرف ثابتة لك على هذه الأرض، فهو يراد به إثبات الملكية بالمعاوضة. ولما قالوا: (تمليكاً) أُخرج عقد النكاح؛ لأن المعاوضة فيه والمبادلة لا يقصد بها التمليك، وإنما يملك فقط المنفعة ولا يملك الذات، فيملك منفعة الاستمتاع بالمهر؛ لأن الله قال: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24] فجعل المعاوضة على المنافع ولم يجعلها على الذات، لكن إذا اشترى رقيقاً فإنه يملك ذواتهم، فله أن يبيعهم، وله أن يهبهم، وله أن يعتقهم إلخ. فالمقصود: أن التمليك يقصد منه إثبات اليد، وليس بخالٍ عن معنى، وبعض فقهاء الحنابلة -كما في كشاف القناع وغيره- يقولون: (تملكاً) و (تمليكاً)، وهذا من باب التقسيم، تمليكاً بالنسبة لك لما تعطيه، فأنت إذا قلت للشخص: بعتك هذا بعشرة آلاف، فأنت تتملك العشرة آلاف وتملك الشيء الذي تبيعه، فيكون تملكاً بالنسبة لما تأخذ وتمليكاً بالنسبة لما تعطي، بائعاً كنت أو مشترياً. فهذا معنى قولهم: (تملكاً) و (تمليكاً). والله تعالى أعلم.

حقيقة الاختلاف في تعاريف البيوع

حقيقة الاختلاف في تعاريف البيوع Q ما صحة هذا التعريف للبيع، وهو: أنه مبادلة دين أو عين أو منفعة بمثل أحدهما على سبيل التأبيد غير رباً وقرض، هل هو سالم من النقص؟ أثابكم الله. A حقيقة تعاريف البيوع مختلفة، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، والتعريفات لها ضوابط، وقد تكلم العلماء على الطريقة التي تعرَّف بها الأشياء، وتعبت أذهان أهل العلم في سبيل ذلك، ومن قرأ كتب السلف وكتب الأئمة يعرف مقدار ما بذله هؤلاء العلماء الذين لا يستطيع أحد أن يكافئهم إلا الله جل جلاله، ويعلم علم اليقين أنه لا أعظم من هذه الشريعة، ولن يستطيع أن يبين للناس ما فيه مصالح دينهم ودنياهم وآخرتهم إلا هذا الشرع الحكيم المتقن؛ لأنه إذا كان الأصل صحيحاً فما انبنى على صحيح فهو صحيح، {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} [التوبة:109]، فالعلم مؤسس على تقوى من الله ورضوان، تلك القلوب التي صقلتها روحانية الكتاب والسنة، وسهرت عيونهم وكلّت أجسادهم ونحلت في طاعة الله ومرضاته، وكانوا يتعبون للتمحيص والتدقيق، حتى ذكر عن بعضهم أنه ربما أراد النوم من شدة العناء والتعب، فيتذكر الحكمة ويتذكر الفائدة فيضيء مصباحه لأجل أن يكتبها لمن بعده، حتى يكتب الله له ثوابها ويعظم الله له أجرها، فهذه التعاريف لم تأت من فراغ، ننظر إلى تعريف يذكره عالم له قدم راسخة في العلم، ثم يبقى القرن والقرنين والثلاثة والأربعة، بل قد تستمر أحد عشر قرناً ككتب المتقدمين، وخاصة القرون المفضلة، وهي تمر على أجيال تلو أجيال وهي تشرح وتنقح وتوضح، ولذلك لما قادت هذه الشريعة الأمة وقادت العالم من المحيط إلى المحيط لم يعجز الفقه الإسلامي يوماً من الأيام عن قضية أو نازلة، فتتقلب جميع النظم وما يستقر على وجه الأرض من التشريعات إلا تشريع الإسلام، وكلمة الله سبحانه وتعالى تامة {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115] فهي صدق وهي عدل {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115]. فهذه التعاريف لا يستهان بها، فينبغي لطالب العلم ألا يحقّر من هذه الأشياء؛ لأن هذ االفقه موزون وبدقة، فمثلاً: لما تأتي إلى علم السيارات تجدهم يبحثون أدق شيء في السيارة ويفتخرون بهذا، وقد تجد أبناء الإسلام يشيدون بهذه المعارف الدنيوية ويتحدثون بها، ويقولون: وجدنا من يدرس الهندسة والكيمياء ويفعل ويفعل، ويدقق وينقح ويفصل، ولو نظروا إلى تراث السلف وعلموا ما في بطون هذه الكتب وهذه الكنوز مما فيه سعادة الدنيا بأسرها وليست الأمة وحدها، لعجبوا وما انتهوا من العجب، واعجب فما تنفك من عجائب. فلا يستهان بهذه العلوم وهذه الأمور التي يذكرها العلماء، والفقه إذا أردت أن تشعر بقيمته فادخل إلى عمقه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، ومعنى ذلك: أنه دقة في الفهم وغوص في الأعماق، ولذلك تجد النص ينتزع منه أكثر من دليل وأكثر من حكم وأكثر من مسألة، ففي آية المائدة يقول الإمام ابن العربي رحمه الله: (اجتمع لها علماء من فاس -وكانت زاخرة بأهل العلم- فاستخرجوا منها ثمانمائة مسألة) هذه آية واحدة، لكنها من كلام الله الذي لا تنقضي عجائبه ولا تنتهي غرائبه وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر الخلق، وتراث السلف هذا ينبغي أن يعتنى به، وأن يحاول الإنسان أن يعتني به بعيداً عن الغلو، فلا يعتقد أن هذه النصوص وحي، وإنما يمحص ويدقق ويرجع إلى الأصول والأدلة، حتى يجد لذة هذا الفقه وحلاوته ويعرف ما الذي قدمه له هؤلاء العلماء والأئمة، ومن ذلك مسائل التعاريف. فتعاريف البيوع كما ذكر الإمام الزركشي رحمه الله في شرحه: إن جميع التعاريف لم تخل من نظر ومن اعتراضات، ولذلك تجد الحنفية يقولون: البيع مبادلة المال بالمال بالتراضي. والمالكية يقولون: عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة لذة، بمكايسة أحد عوضين، غير ذهب ولا فضة معين غير العين فيه. هذا بالنسبة لتعريف ابن عرفة رحمه الله في الحدود. وتجد الشافعية يقولون: معاوضة المال بالمال تمليكاً. وتجد الحنابلة يقولون: تملكاً وتمليكاً. كتعريف الشافعية. وكل هذه التعاريف شبه متقاربة، لما قال: مبادلة المال بالمال، أولاً قال: مبادلة المال، فمعنى ذلك: أنه يدخل عقد النكاح وعقد الإجارة وعقد البيع وعقد الشركات؛ لأنك تدفع نصف الشركة وغيره يدفع نصف الشركة، وعقد المضاربة، والهدية، فعندما يعطيك ترد عليه بهدية أحسن منها، وهذه تسمى هبة العوض، التي كانت محرمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أتى العلماء بقيد: فقالوا: مبادلة المال بالمال. فلما قالوا (بالمال)، خرج مبادلة المال بالبُضع، الذي هو النكاح، وخرج مبادلة المال بالمنفعة وهي السكنى أو ركوب الدابة أو الإجارة، وخرج مبادلة المال بالمال لا للتمليك كالشركات، هذا بالنسبة للشافعية والحنفية والحنابلة. لكن المالكية قالوا: (عقد معاوضة على غير منافع) والمعاوضة عام، فأرادوا أن يخرجوا الإجارة، فقالوا: (على غير منافع) ثم أرادوا أن يخرجوا النكاح فقالوا: (ولا متعة لذة) كذلك أرادوا أن يخرجوا الشركة والمضاربة فقالوا: (ذو مكايسة)، أي: بالمخاطرة؛ لأن العقود منها ما فيه خطر، ومنها ما فيه الرفق، ومنها ما يجمع ما بين الرفق والخطر، أي: أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: ما كان ضرراً محضاً أو غبناً محضاً. ما كان رفقاً محضاً. ما كان جمعاً للأمرين. فالغبن المحض: مثل البيع والإجارة، كأن يقول لك: أبيعك السيارة بعشرة آلاف، فتقول: لا، بتسعة آلاف بثمانية آلاف، كأن هناك ألفاً تريد أن تضع غبنها عليه، وهو يريد أن يضع غبنها عليك، أو تقول: أجرني دارك بألف، يقول: لا، بألف ومائتين، أو تقول: بعني هذه الشاة بستمائة، يقول: لا، بستمائة وخمسين بسبعمائة. إذاً فيه شيء من الغبن المحض، فكل منهم يريد أن يغبن صاحبه بالنسبة لعقد البيع وعقد الإجارة. أما الرفق المحض: كما لو جاءك وأعطاك ساعة هدية، فتذكرت أن من صنع إليك معروفاً تكافئه، فاشتريت له قلماً، هذه معاوضة، والهدية نوعان: - هدية يعطيها من أجل أن تعطيه أكثر، كأن يأتيك إنسان فقير ويقول لك: هذا القلم هدية مني لك، فهذا معناه أنه إنسان فقير يريد أن يلفت نظرك إليه، فتعطيه أكثر من هذه الهدية، فهذه يسمونها: هبة الثواب، وكانت محرمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تنقص من مكانة صاحبها، وفيها نوع من السؤال، فجعل الله فقر نبيه صلى الله عليه وسلم إليه: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6]، أي: لا تفعل المنة لكي تأخذ ما هو أكثر، وتمتن على الناس بالهدية تريد ما هو أكثر. فالشاهد أن هذا معاوضة، يعطيك وتعطيه، ولكنه يراد به الرفق المحض، ولا يراد به الغبن. - هناك عقود جامعة بينهما، كالشركات: كأن تعطي عشرة آلاف ويعطي عشرة آلاف، فتجتمعون في شركة وتكونونها، فأنت تريد أن تربح ماله وهو يريد أن يربح مالك، لكن تقول له: الربح بيننا بالأثلاث، ثلثان لي وثلث لك، يقول: لا، الثلثان لي والثلث لك، وقد يقول: ثلاثة أرباع لي وربع لك، إذاً فيه غبن وفيه رفق. كذلك عقد المضاربة الذي يسمى (الضراب): كأن تعطي العامل عشرة آلاف وتقول له: اضرب بها في الأرض والربح بيني وبينك، يقول: لا، لي الثلثان ولك الثلث، أو تقول أنت: لي الثلثان ولك الثلث لي ثلاثة أرباع ولك الربع، وقس على هذا. فلما يقول المالكي: (ذو مكايسة)، فمعنى ذلك ذو غبن وضرر، أو يحتاج إلى حذر، فأخرج عقد الشركة والمضاربة والهبة إلخ. إذاً تجد في تعاريف العلماء الألفاظ مختلفة لكن المضامين شبه متفقة؛ لأن الكل يريد نتيجة واحدة ويريد مضموناً واحداً، فهي وإن اختلفت عباراتها ولكنها غالباً تدور حول معنى متقارب. والله تعالى أعلم.

وصايا لطلاب العلم

وصايا لطلاب العلم Q نظراً لأهمية كتاب البيوع، هلا تفضلتم بذكر السبل المعينة على ضبطه؟ أثابكم الله. A أولاً: أوصي طلاب العلم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله فتح الله عليه، وإذا كان الإنسان مليء القلب من خشية الله سبحانه وتعالى، ومعمور القلب بحب الله وإرادة وجهه، دله الله على سبيله وهداه إلى طريقه، ومن تولى الله هدايته سلم من الضلالة وأمن من الغواية، قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62]، فأهم شيء أن تتقي الله عز وجل، ولا تخرج من بيتك إلى مجلس العلم إلا نقي القلب تريد ما عند الله عز وجل، فإذا أردت وجه الله فتح الله عليك، فإنه لا شيء أعظم ولا أجلَّ من إخلاص العمل لله، بل ما خلق الله الخلق إلا من أجل هذا وهو التوحيد، فهو أساس الدين، فهذا خير ما يوصى به طالب العلم. ولو أننا في كل مجلس نتواصى بهذه الوصية، والله! لا تملها أذن مؤمن ولا يسأم منها قلب؛ لأنها تحيي في القلوب حب الله وإرادة ما عنده سبحانه وتعالى، فلا تقصد بها الرياء والسمعة. واعلم أن الله معك إذا اتقيته، وأن الله يفتح عليك إذا أردته، ومن أراد الله كان الله له، فكن مع الله عز وجل يكن الله معك، قال الله تعالى: {إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} [المائدة:12] فالله معك ما أقمت حقه، وأعظم حق لله الإخلاص. ثانياً: الذي أوصيك به أخي الكريم: أن تحاول قدر المستطاع أن تركز وأن تضبط؛ لأن العلم ثقيل: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، فالعلم لا يأتي بالتشهي ولا بالتمني ولكنه يحتاج إلى تعب وعناء وشيء من الكدح، ولذلك أخذ جبريل رسول الأمة صلى الله عليه وسلم فغطه حتى رأى الموت: (فقال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ)؛ لأنه ابتدأ تعليمه وتفهيمه، وعلمه الله ما لم يكن يعلم؟ قال بعض العلماء: فيه دليل على أن العلم لا ينال إلا بشق الأنفس، والعلم لا ينال بالتمني والتشهي، وموسى بن عمران عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما أراد العلم قال الله له: (إن في مجمع البحرين عبداً علمناه من لدنا علماً) هل قال له: سيأتيك؟ وهو موسى عليه الصلاة والسلام، الذي كلمه الله، وقربه نجياً، وفضله وكرمه وشرفه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (وأكون أول من أفيق، فإذا بموسى واقف عند ساق العرش، فلا أدري أكان أول من أفاق، أم جوزي بصعقة الطور) صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين، فرغم هذا الفضل وهذه المكانة التي شرفه الله عز وجل بها إلا أنه جعله يذهب على قدميه ليبحث عمن يعلمه، وهذا يدل على أن طالب العلم ينبغي أن يجتهد ويحرص على طلب العلم، فما اغتر موسى عليه السلام أنه نبي يوحى إليه، بل لما أخبره الله وأعلمه أن هناك من له علم أو عنده علم سعى إليه، وتعب من أجله. ثالثاً: بعد الجد والاجتهاد يحتاج العلم منك إلى كثرة مراجعة، وكثرة متابعة، وإلى أن تتواضع له، وما الذي عندنا حتى نتواضع للعلم! ولكن العلم هو الذي له الفضل، وهو فضل الله عز وجل، والله يفضل العبد بالعلم، فليس بيننا وبين الله حسب ولا نسب، فمقام العلماء بعد مقام الأنبياء، فإذا أردت أن تكون من طلاب العلم متقناً لهذا الباب أو غيره فعليك أن تجد وتجتهد وتتعب، وتقدم الثمن الغالي، فتحضر إذا غاب الناس، وتشهد إذا ذهبوا، وتسمع إذا لم يسمعوا، وتجلّ وتعظم العلم إذا احتقروه، وهذا أبو هريرة رضي الله عنه الذي ما أسلم إلا في يوم خيبر، وحاز من العلم حتى قيل له: حافظ الصحابة، فما هو السبب؟ السبب أنه لزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطنه، حتى كان يصرع رضي الله عنه وأرضاه عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجوع، قال: (فيأتي الرجل ويضع قدمه على صفحة عنقي، يظن أن بي الجنون، وما بي الجنون، ما بي إلا الجوع)، فترك الدنيا وأقبل على الآخرة وجدّ واجتهد، حتى كان عنده من السنن ما لم يكن عند غيره، وحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يقل عن أربعة آلاف حديث، وقلّ أن تجد باباً من العلم إلا له فيه حديث، وهو الآن في قبره يتنعم بهذه الأحاديث وبهذه السنة، نسأل الله العظيم أن يجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأن يجعله في الفردوس الأعلى من الجنة بما كان له من الخير على الأمة، مما حفظ وشهد. يذهب الناس يمنة ويسرة وأنت تذهب إلى مجالس العلم، وتحرص على حفظها ولزومها، والله يبتليك فتجد التجارة وتجد مشاغل الدنيا، لكن تضحي للعلم، ووالله لن تقدم القليل إلا كافأك الله بالكثير، وما أعرض أحد عن العلم فأفلح، خاصة إذا كان الإنسان بحاجة إلى هذا العلم ويعرض عنه ولا يبالي فإن الله لا يبالي بمن لا يبالي بهذا العلم، فليس بيننا وبين الله إلا هذا الوحي، ومن علم فإن الله يفضله. رابعاً: التركيز على الأصول والضوابط، فكل درس تلخصه، وتحاول أن تلتقي بمجموعة من الشباب وطلاب العلم أسبوعياً لتراجع معهم الدروس، ثم تجعل أسئلة على كل باب وتجيب عنها، حينئذٍ يصبح كل درس عندك مهذب منقح بأسئلته وأجوبته متى ما رجعت إليه وجدته. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

كتاب البيع [2]

شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [2] لا يخلو يوم من أيام العباد من المعاملات المالية، سواء كانت تجارية أو غير تجارية، ومن ثم فقد يبتلى العبد بطعمة الحرام والخوض في البيوع المحرمة، وما ذاك إلا بسبب جهله بأحكام هذه البيوع، ومن هذا المنطلق لزم على الإنسان معرفة أحكام هذه البيوع وصيغ إبرامها ونقضها، ليكون على بصيرة من أمره فيما يدخل على أهله وعياله من هذا المال.

حقيقة البيع شرعا

حقيقة البيع شرعاً بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [وهو مبادلة مال ولو في الذمة]. لا زال المصنف رحمه الله يبين لنا حقيقة البيع في اصطلاح الشرع، وقد تكلمنا عن أهمية معاملة البيوع، وأن المسلم محتاج إلى معرفة مسائل البيع؛ لأنها مما تعمّ بها البلوى، وقلّ أن يمر يوم على الإنسان إلا وهو بائع أو مشترٍ أو جامع بين البيع والشراء، ومن عرف أحكام البيع وعرف ما يترتب على البيع من مسائل؛ فإنه حريٌ به أن يتقي الله عز وجل فيفعل ما أذن الله به ويترك ما نهى الله عنه، ومن كان على جهل بهذه المسائل فإنه لا يؤمَن عليه أن يقع في المحظور وهو لا يدري، ولذلك قال بعض العلماء رحمهم الله: إنه قد يشيب عارض الإنسان في الإسلام وهو يلعن صباح مساء بأكله للربا والحرام؛ وذلك لأنه قد يفعل ذلك عن جهل منه، ويصحب الجهل التقصير في سؤال العلماء ومعرفة ما أحلّ الله وحرّم. وباب البيوع من الأبواب التي تحتاج إلى شيء من العناء، كما ذكرنا ونبهنا على أنه ينبغي على طالب العلم أن يصبر ويصابر لضبط هذه المسائل؛ لأنها تحتاج إلى شيء من التركيز، وقد يحدث معها شيء من السآمة والملل، ولكن إذا صحت النية وصدقت العزيمة وصحب ذلك كله توفيق من الله فإن الله يعين العبد، ومن وراء ذلك خير كثير لمن احتسبه. المقصود: أن المصنف بيّن لنا حقيقة البيع، وقد ذكرنا أن هناك تعاريف مختلفة، ومن أنسبها قول الإمام ابن قدامة رحمه الله وكذلك غيره من الأئمة، قالوا في تعريف البيع: (البيع مبادلة المال بالمال تملكاً وتمليكاً). وقلنا: إن هذا التعريف يعتبر من أخصر التعاريف ومن أجمعها. والمصنف رحمه الله عرّف البيع ولم يخرج في تعريفه عن هذا التعريف، ولكنه أدخل بعض الأنواع للبيع ونبّه عليها، وهي مما اختلف العلماء في اعتبارها بيعاً. فقال رحمه الله: [وهو مبادلة مال ولو في الذمة]. (مبادلة مال) قلنا: المال هو الشيء الذي له قيمة، فكل شيء له قيمة فإنه مال، وبعض العلماء يقول: المال كل شيء فيه منفعة. وقوله: (مبادلة مال ولو في الذمة) (لو) إشارة إلى خلاف مذهبي، فبعض العلماء لا ينبه على هذا، ويقول: مبادلة المال بالمال، فشملت مبادلة المال بالمال تسع صور: مبادلة العين بالعين، أو مبادلة الذمة بالذمة، أو مبادلة العين بالذمة. وكل واحد من هذه الثلاث: إما ناجزاً من الطرفين، أو نسيئة منهما، أو ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر. وسنشرح هذه الصور بإذن الله.

صور البيع

صور البيع فعندنا في البيع شيئان: إما أن تبيع الشيء وتعيّنه فتقول: بعتك هذا الكتاب، وسنمثل بأمثلة معاصرة حتى يكون الضبط أكثر؛ لأن البعض من طلاب العلم إذا مثّل لهم بالدنانير والدراهم والدواب والجمال والعبيد ونحوها لا يركز إذا أراد أن يطبق ذلك على ما يعيشه ويجده، فالأفضل أن نختار أمثلة معاصرة، مثلاً: لو أردت أن تبيع الكتاب -عندك كتاب ليكن صحيح البخاري، وهذه النسخة من صحيح البخاري إما أن تكون موجودة أمامك فتقول للمشتري- فأنت على حالتين: إما أن تقول له: أبيعك هذه النسخة من صحيح البخاري بمائة، فقولك: (أبيعك هذه النسخة)، معنى ذلك أنك عينت، فهذا يسمونه بيع العين؛ لأنك بعت وورد البيع على محل معيّن لا ينصرف إلى غيره، لكنك لو قلت له -وهذه هي الحالة الثانية-: أبيعك نسخة من صحيح البخاري من طبع كذا في تاريخ كذا، أو من نوع كذا من الطباعة، فهذا القول الذي قلته يصدق على هذه النسخة وعلى كل نسخة تشاركها في الصفة، فيعتبر بيع ذمة؛ لأنك التزمت في ذمتك أن تدفع نسخة من هذا الكتاب موصوفة بهذا الوصف. إذاً: عندنا حالتان: إما أن تعين البيع ويرد البيع على العين فيكون بيع عين. وإما أن يرد البيع على موصوف في الذمة، فكأن ذمتك وأمانتك وعهدتك شغلت بشيء تلتزم بأدائه، فصار في ذمتك وأمانة عليك، وهذا معنى قولهم: (في الذمة) فإذا بعت شيئاً في ذمتك وصفته. لكن لماذا نحن نفصل هذه التفصيلات؟ من فوائد هذه التفصيلات، وهذا مما تمتاز به الشريعة الإسلامية في باب المعاملات: أنها تريد أن تعطي كل ذي حق حقه. فمثلاً: لو جئت وقلت له: أشتري منك هذا الدواء بمائة، ثم أخذت الدواء فوجدت فيه عيباً وقلت له: رد لي المائة، فهذا من حقك؛ لأنك اشتريت هذا الشيء المعين وظهر به عيب، فمن حقك أن ترده وأن تطالب بالثمن، فلو قال: أعطيك بدلاً عنه، ولا أردّ لك القيمة، فيلزمه شرعاً إعطاء القيمة؛ لأن البيع ورد على معين بطل ببطلان العقد عليه، فهذا بيع العين. لكن حينما تقول له: أعطني الدواء الفلاني، فأعطاك الدواء بصفته التي طلبتها، فلو وجدت به عيباً -انتهت مدة صلاحيته مثلاً- فجئت وقلت له: هذا لا أريده، أريد المال، من حقه أن يلزمك بالبدل؛ لأنك اشتريت موصوفاً في الذمة، وإذا لم يصدق الوصف على هذه فمن حقه أن يلزمك بما يصدق عليه من بدل. فالشريعة تقدر في البيع والمعاملات كل كلمة تخرج من المتعاقدين، ولا تريد أن الكلام والعقد الذي يتم بينك وبينه يذهب هدراً، وهذا التدقيق من العلماء من باب العدل بين الناس، وإعطاء كل ذي حق حقه، فأنت إذا قلت: (أشتري هذا)، فالبيع على هذا، ولا يقع البيع على غيره، وليس من حقه أن يلزمك بغيره، وإن قلت (أشتري كذا)، فإنه يصدق على كل ما وافق وصفك الذي طلبته في المبيع. إذاً: عندنا عين وعندنا ذمة، وبيع الأعيان إذا قلت له: أبيعك هذا الكتاب، فأنت إما أن تقول له: أبيعك هذا الكتاب بمائة حاضرة الآن، تعطيني وأعطيك، فيسمى بيع النجاز، نجز ونجزت، وهو ما يسمى في عرفنا ببيع النقد. وإما أن تقول له: أعطيك غداً وتعطيني غداً، فهذا نسيئة بنسيئة. وإما أن تقول له: أعطيك الكتاب الآن، ويقول: ليس عندي فلوس، أعطيك غداً، أو بعد شهر، أو بعد أسبوع، فهذا نسيئة من طرف ناجز من الآخر. إذاً: أصبح عندنا ثلاثة أشياء: عين بعين، وذمة بذمة، وعين بذمة. وقد قلنا: إن البيع إما بيع ثمن بثمن، أو مثمن بمثمن، أو ثمن بمثمن، فنريد هنا مثالاً على بيع العين بالعين في الثمن بالثمن، والمثمن بالمثمن، والثمن بالمثمن. نبدأ ببيع العين بالعين في الثمن بالثمن، مثل: صرف ريالات بدولارات، قال له: أصرف لك عشرة دولارات بمائتي ريال، قال: قبلت. إذا قال له ذلك صار عيناً بعين في ثمن بثمن؛ لأن الدولارات ثمن والريالات ثمن، أو قال: أبيعك هذه المائة جنيه بهذه العشرة آلاف ريال، فهذا بيع عين بعين في الثمن بالثمن. أما بيع العين بالعين في المثمن بالمثمن فمثاله أن يقول: أبيعك هذا الكتاب بهذا الكتاب أبيعك هذه (الفيلة) بهذه (الفيلة) فصار بيع عين بعين في مثمن بمثمن، أو هذه السيارة بهذه السيارة، فهذا أيضاً بيع مثمن بمثمن، وهو ما يعرف ببيع المقايضة. أما بيع العين بالعين في الثمن بالمثمن فمثاله أن يقول: أبيعك هذا الكتاب بهذه العشرة، فالمثمن الكتاب والعشرة هي الثمن. فهذا يسميه العلماء في جميع الصور الثلاث: بيع عين بعين. وإذا حددت وعينت، إما أن تقول: أعطيك الآن وتعطيني الآن، فهذا يسمونه ناجزاً من الطرفين، فالبائع نجز والمشتري نجز، وصار التقابض بينهما في نفس مجلس العقد، إذاً: هو ناجز وبيع نقدي كما يسمى في عرفنا اليوم. الصورة الثانية: أن يكون نسيئة من الطرفين، باعه عيناً بعين، لكن قال له: أعطيك غداً وتعطيني غداً، فهو نسيئة من الطرفين، من البائع ومن المشتري، وهي عكس الصورة الأولى. الصورة الثالثة: أن يكون ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر، كأن أقول لك: هذا الكتاب بهذه العشرة، لكن تقول لي: لا أعطيك الكتاب الآن، وإنما أعطيك إياه غداً، أقول: خذ العشرة الآن وأنا آتي غداً وآخذ الكتاب، فهذا ناجز من أحدهما نسيئة من الآخر. لاحظوا يا إخوان! نحن لا نتكلم الآن على الحلال والحرام في صور البيع، إنما هذه المرحلة تسمى مرحلة التصور، وهي أن تأتي بجميع البيوع الموجودة على وجه الأرض ويضعها الفقيه بين يديك، ثم بعد ذلك يقال: هذا حلال، وهذا حرام، نحن الآن فقط نريد أن نعرف ما الذي نتكلم عنه وهو البيع، وما هي صوره، حتى تستطيع بعد ذلك أن تحكم على كل صورة على حدة. ننتقل بعد ذلك إلى بيع الذمة بالذمة، وقد قلنا: الذمة هي وصف في الإنسان، كما يقول العلماء، يقبل الإلزام والالتزام، أي: تلتزم به في ذمتك، تقول: لك عليَّ عشرة، لك عليَّ مائة، لك عليَّ كتاب مثلاً: (نسخة من صحيح البخاري)، لك عليَّ نسخة من شرح العمدة وهكذا، ومعناه أنك التزمت في ذمتك، وهذا يسمى عند العلماء الذمة، وغالباً ما يقع في بيوع الآجال. وفي بيع الذمة بالذمة، نحتاج أول شيء إلى ضرب الأمثلة على بيع الثمن بالثمن، وبيع المثمن بالمثمن، وبيع الثمن بالمثمن. فأنت الآن قررت أن يكون البيع ذمة بذمة، ومعناه أنك لا تعين، فتأتي إلى بائع الكتب، ويقول لك: أبيعك نسخة من صحيح البخاري، من طبع -مثلاً- بيروت، بمائة ريال، فيها عشرة أجزاء خمسة أجزاء أربعة أجزاء، فلاحظ هل المائة معينة أم موصوفة؟ هذه مائة موصوفة؛ لأن أي مائة تدفعها يصدق عليها أنها محل للعقد، فممكن أن تأتي بالمائة برأسها، وممكن أن تأتي بالمائة، في صورة ورقتين من فئة الخمسين وممكن أن تأتي بالمائة من فئة العشرات أو الخمسات أو الريالات، ومن حقك أن تلزمه بالبيع، فلو جئت بالمائة وهي قطع معدنية وقال: لا أريد، يلزمه البيع شرعاً؛ لأن البيع على موصوف في الذمة، ويصدق على هذه القطع المعدنية أنها مائة، هذا فرق المسألة، أي: حينما يقول لك: أبيعك بهذه المائة، لو أراد أن يبدلها بمائة أخرى لا يجوز، وليس من حقه إلا أن ترضى، ويعتبر إنشاءً جديداً للعقد، لكن إذا قال لك: بمائة، يكون قد صدق الوصف على أي مائة: ريالات حديد (نيكل) أو أن تكون جامعة بين النيكل والريالات، وليس بوارد على شيء معين، ولذلك قالوا: ذمة، التزم في ذمته بمائة. والتزمت أنت له في ذمتك بمائة، فإذا قال لك: أبيعك نسخة من صحيح البخاري، وعنده مائة نسخة، فأي نسخة منها مما ينطبق عليها الشرط ممكن أن تكون محلاً للعقد، فلو أخذت هذه النسخة وبعد أن ذهبت إلى بيتك وجدت فيها صفحة مطموسة، فجئت إليه وقلت: لا أريد هذه النسخة، قال: أعطيك بدلاً عنها، فقلت له: ما دام بعتني شيئاً بهذه الصفة فلا أريد، من حقه أن يلزمك بالبدل؛ لأن البيع وقع على موصوف في الذمة، ولم يقع على معين يفوت بفواته. إذاً: بيع الذمة بالذمة يقع في العين بالعين، ويقع: ناجزاً من الطرفين، ونسيئة من الطرفين، ويقع ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر. وأيضاً: بيع الذمة بالذمة يقع في الثمن بالثمن، والمثمن بالمثمن، والثمن بالمثمن: ففي المثمن بالمثمن، كتاب بكتاب، تقول: أبيعك أو أعطيك نسخة من صحيح البخاري بنسخة من صحيح مسلم، التي عندي -مثلاً- من طبع كذا، والتي عندك من طبع كذا، فهذا بيع موصوف في الذمة بموصوف في الذمة في المثمن بالمثمن. وبيع الموصوف بالذمة في الثمن بالثمن، كقولك: أبيعك عشرة دولارات بمائة ريال، فهو صادق على كل عشرة دولارات وعلى كل مائة ريال. وقد يقع في الثمن بالمثمن، كقولك: أبيعك نسخة من صحيح البخاري بعشرة ريالات، فأصبح بيع ثمن بمثمن موصف في الذمة. فإذاً: عندنا ثلاث حالات في الذمة بالذمة: إما ثمناً بثمن كدولارات بريالات دون تحديد لها أو تعيين. أو مثمن بمثمن ككتاب بكتاب موصوفين في الذمة. أو ثمن بمثمن ككتاب بريالات، دون أن يحددا ويعينا المبيع في كل هذه الصور. بقي عندنا في بيع الذمة بالذمة: إما أن يكون ناجزاً من الطرفين. أو نسيئة من الطرفين. أو ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر. - فأما أن يكون ناجزاً من الطرفين، كأن تقول له: أبيعك نسخة من صحيح البخاري بنسخة من صحيح مسلم ناجزاً منا، تعطيني الآن وأعطيك الآن، فتعطيه في المجلس ويعطيك في المجلس، فهذا يسمى: ذمة بذمة ناجزاً من الطرفين. - وأما ذمة بذمة نسيئة من الطرفين، كأن يقول لك: أعطيك الكتاب غداً وتعطيني الكتاب أيضاً غداً، فهذا يسمى: بيع الذمة بالذمة نسيئة من الطرفين، هو أخّر وأنت أخّرت، فهذا معنى قولهم: نسيئة. وأما ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر، كأن تقول: خذ هذه النسخة الآن، فيقول: ليست عندي نسختي سأعطيك غداً، فهذا يعتبر ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر. إذاً: الآن فرغنا من ست صور: عين بعين، ذمة بذمة، وفي كلتا الحالتين: ناجزاً منهما، نسيئة منهما، ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر. بقي عندنا ثلاث صور: وهي بيع الذمة بالعين، فتبيع شيئاً معيناً بموصوف في الذمة، كقولك: أبيعك هذا الكتاب بمائة، فقولك: (أبيعك هذا الكتاب) عين، وقولك: (بمائة) موصوف في الذمة، ففي هذه الحالة إما أن يكون بيع الذمة بالعين في ثمن بثمن، أو مثمن بمثمن، أو ثمن ب

حكم بيع المنافع

حكم بيع المنافع قال رحمه الله: [أو منفعة مباحة]. النفع ضد الضر، والشيء الذي فيه منفعة المراد أن يكون فيه شيء يرتفق به الإنسان، مثلاً: السيارة منفعتها الركوب وحمل المتاع عليها، كما قال تعالى عن الدواب: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل:7] فهذه منافع: الركوب منفعة السكنى منفعة الحمل منفعة إلخ. والمنفعة المباحة مثّل لها بعض العلماء: أن يقول له: أبيعك طريقاً في أرضي، أي: تشتري فقط المشي في هذا الموضع من أرضي، كما كان يقع في القديم عندما تبنى الأحوشة للبيوت، فيحتاج الجيران إلى منفذ، فيفتح لهم منفذاً ويكون مثلاً من تحت الدار، أو يبني داره ويترك منفذاً وطريقاً. هذا الطريق اختلف العلماء فيه: فبعض العلماء يقول: لا يصح بيع المنافذ على هذا الوجه؛ لأنه ليس بمالك للأرض وإنما هو مالك لمنفعتها، فتكون الأرض عند شخص ومنفعة الأرض عند شخص آخر، وهذا لا يمكن، أي: أن هذه الأرض لا أستطيع أن أبنيها ولا أستطيع أن أنتفع بها من كل وجه، ولذلك بعض العلماء يمنع من مثل هذا البيع، ويعتبره من العقود غير الجائزة؛ لوجود الغرر فيه والغبن؛ لأنك قد تشتريه لمنفعة، وصحيح أن المنفعة موجودة، لكن لو أن الإنسان تأمل هذا البيع بضوابطه الشرعية، كأن يكون من اشترى الشيء من حقه أن يفعل فيه ما شاء كما لو شاء أن يهدمه، أو يحفر فيه، أو أن يحدث فيه مصلحة غير المصلحة التي اشتراها عليه، فإذا اشتريت أرضاً فالأصل أن من حقك أن تحرثها وتزرعها، ومن حقك أن تبنيها، ومن حقك أن تتركها مواتاً؛ لأنك ملكتها وملكت رقبتها، لكن لو اشتريتها على وجه منفعة المشي فقط، فلست بمالك لها من كل وجه ولست بخلوٍ من كل وجه، والمالك الحقيقي ليس بمالك من كل وجه وليس بخلوٍ من كل وجه، ولذلك يحدث فيها شيء من التعارض والتضاد على وجه يصعب معه التمييز، مع أن المشتري سيستفيد بالمرور في هذه الأرض، ولذلك يمنع بعض العلماء من مثل هذا البيع؛ لوجود الشبهة فيه، لكن المصنف قصد بيع المنافع على هذا الوجه. فقوله: (منفعة مباحة) يخرج بها المنافع المحرمة، فلو -مثلاً- اشترى آلة محرمة كآلة لهوٍ محرم فإنه لا يصح البيع ولا ينعقد؛ لأنه يشترط في المنافع أن تكون مباحة، فكأن المنفعة التي حرّمها الشرع سلبها الشرع القيمة، فلما أصبحت محرمة صار وجودها وعدمها على حد سواء، فإذا دُفع الثمن لقاءها كأنه يدفع لشيء لا قيمة له، ومن هنا كان من أكل أموال الناس بالباطل، وكان من البيع الممتنع شرعاً. والمنفعة المباحة تخرج غير الحاجة، ولذلك بعض العلماء يضيف قيداً، وهو قوله: (لغير الحاجة)؛ لأنها قد تكون مباحة لحاجة، ومع ذلك لا يجوز بيعها؛ لأن ما أبيح لحاجة يتقيد بها، فالكلب -أكرمكم الله- أبيح للصيد والحرث والماشية، فتصيد به وتجعله لحراسة الحرث ولحراسة الماشية، فإذا جاء شخص يبيع كلباً معلماً للصيد أو معلماً لحراسة الزراعة أو الماشية فإنه لا يصح البيع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل هذه المنفعة مباحة للحاجة، فكأنه إذا باع الكلب انتفع منفعة زائدة على المنافع المأذون بها شرعاً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من اتخذ كلباً إلا كلب صيد أو حرثٍ أو ماشية) فرخص في ثلاثة أشياء، فمن ملك الكلب لغير هذه الثلاثة الأشياء فإنه يأثم، فكأننا لو قلنا: يبيعه في هذه الأحوال كونه كلب صيد أو حرث أو ماشية، لأصبح هناك منفعة رابعة وهي اتخاذه للبيع والشراء، فيستفيد البائع له منفعة رابعة وهي منفعة الثمن، فصار محلاً للعقد، فتصبح منفعة زائدة على الرخصة، ولذلك لا يصح بيعه، وفي الصحيحين من حديث عقبة بن عامر وجابر بن عبد الله وابن مسعود رضي الله عنهم وأرضاهم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، وقال: ثمن الكلب سحت)، وقال كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أبي داود: (إن جاءك يريد ماله -أي: ثمن الكلب- فاملأ كفه تراباً) أي: ليس له شيء، فهذا يدل على أن المنفعة يشترط أن تكون لغير حاجة، فمنفعة الصيد مباحة، ومنفعة الحرث مباحة، ومنفعة حراسة الماشية مباحة، لكنها أبيحت لحاجة، فلا يجوز أن تبيعه لهذه المنفعة الزائدة عن الإذن الشرعي. قال رحمه الله: [كممر في دار]. كما ذكرنا. قال: [بمثل أحدهما على التأبيد]. (بمثل) هذا لقوله (مبادلة مال)، أي: تبادل المال، والباء هنا للبدلية والعوض، أي: عوضاً عن مثل. والمثل المراد هنا من جهة المالية، أي: مبادلة مال بمال، ولذلك بعض العلماء يقول: البيع مبادلة مال بمال، ويختصر هذه العبارات كلها. فقوله: (بمثل) المراد بذلك أن يكون مالاً، لنفس الشروط وهي: أن يكون فيما أذن به شرعاً، وألا تكون منفعته مباحة للضرورة والحاجة.

التأبيد في البيع

التأبيد في البيع قال رحمه الله: [على التأبيد غير رباً وقرض]. قوله: (على التأبيد)؛ لأن البيع ليس على التعقيب، فخرجت الإجارة؛ لأنها على التعقيب، فمثلاً: إذا جاءك رجل وقال: أجرني بيتك، فإنه يقول: شهراً أو سنة، ولا أحد يقول: أجرني بيتك مدى العمر؛ لأننا لا ندري كم العمر، ولا ندري كم المدة، بل منع بعض العلماء من إجارة البيوت -وسيأتي هذا إن شاء الله في باب الإجارة- والمساكن المدد الطويلة، التي لا يؤمن معها بقاء العين، ولا يؤمن معها تغير العين وتغير منافع العين؛ لأن هذا من الغرر، وقد (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر -وفي رواية-: نهى عن الغرر) كما في الصحيح، فهذا من الغرر، فإذا أراد أن يبيع فإن البيع إلى الأبد، وبناءً على هذا: لو قال له: أبيعك هذه الدار عشر سنين، أو أبيعك هذه السيارة خمس سنوات، أو أبيعك هذه التجارة سنة؛ لم يصح، وليس هذا ببيع، ولا بجارٍ على عقود المسلمين في البيع؛ لأن البيع يكون إلى الأبد ولا يكون مؤقتاً. وعلى هذا: فإنه لابد في البيع أن يكون على التأبيد، فلو قال قائل: نريد أن نحدث نوعاً من البيع، وهو أن نقول له: بعتك سيارتي أو بعتك داري عشر سنوات أو خمس سنوات، وحدد المدة، تقول: هذا ليس ببيع شرعي؛ لأن حقيقة البيع مبادلة المال بالمال على التأبيد وليس على التعقيب، وهذا ليس من البيع الشرعي، فلا يعتبر ولا يحكم بصحته.

الفرق بين البيع والربا والقرض

الفرق بين البيع والربا والقرض قال رحمه الله: [غير رباً وقرض]. فقوله: (غير رباً)، الربا أصله الزيادة، وهو في الشرع: زيادة مخصوصة في أشياء مخصوصة على صفة مخصوصة، ويشمل هذا زيادة ربا الفضل وزيادة النسيئة بالأجل، وسيأتي إن شاء الله بيانه وذكر ضوابطه. فلو سكت المصنف وقال: مبادلة مال لشمل الربا؛ لأن الربا يكون مبادلة، فلو قال له: اصرف لي هذه العشرة ريالات بتسعة، فهو رباً؛ لأنه زاد، ولذلك نقول: هذا في الأصل مبادلة فيدخل في البيع، بادله التسعة بالعشرة، وأكل المال بالباطل وهو الريال الزائد، ولذلك لن تجد أحداً يصرف العشرة بتسعة إلا وهو مضطر، والله يقول: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] والله لولا أنه محتاج لهذه التسعة لأجل ظرف نزل به ما صرف العشرة بالتسعة، وليس هناك عاقل حكيم يبذل العشرة مقابل التسعة؛ لأن هذا لا يمكن أن يكون، فهو زيادة، وهذه الزيادة تؤخذ على غير وجهها، فلو لم تحرم من جهة الربا لحرمت من باب أكل المال بالباطل؛ لأن الإنسان ليس فيه شرط الرضا، وقد قال الله عز وجل: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] فهو يعطي العشرة بشيء من الاضطرار والحاجة، فتجده يعطي وهو كاره، وإذا أعطى لا يرضى، ولو أنه ترك على رضاه واختياره ما بادل. فالربا من حيث هو مبادلة المال بالمال، فيدخل في مسمى البيع من هذا الوجه، فلما دخل في مسمى البيع احتاج المصنف أن يخرجه فاستثناه بقوله: (غير رباً)، والحنفية استثنوه بالتراضي، فإن الربا غالباً لا يقع فيه التراضي؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] فوصف بيع الحلال بأنه عن تراضٍ، ولذلك تجد الإنسان يعطي السلعة ويأخذ الثمن، ويعطي الثمن ويأخذ السلعة بالرضا، وغالباً ما يقع الربا في بيوع الصرف، ولذلك احترز المصنف رحمه الله بقوله: (غير رباً). وقوله: (وقرض) والقرض مبادلة، لكنها مبادلة على سبيل الرفق، وليس على وجه البيع؛ لأنه أخذه لا على سبيل المبادلة التي يراد بها البيع، وإنما المراد أن يرتفق بالمال لحاجته وما نزل به.

الإيجاب والقبول في البيع

الإيجاب والقبول في البيع قال رحمه الله: [وينعقد بإيجاب وقبول بعده وقبله متراخياً عنه في مجلسه]. قوله: (وينعقد بإيجاب). فبعد أن عرفنا حقيقة البيع، نحتاج الآن أن نعرف كيف يتم عقد البيع في الشرع، أي: ما هي الضوابط التي يحكم عن طريقها بوجود عقد البيع؟ وهذا يستلزم -كما سبقت الإشارة إليه في المجلس الماضي- وجود الصيغة، فإن عقود المعاملات تقوم على الصيغ، وهذه الصيغ هي الإيجاب والقبول، فإن كان الإيجاب وارداً على بيع والقبول وارداً عليه يقال: (عقد بيع)، وإن كان على إجارة فإجارة، وإن كان على نكاح فنكاح إلخ، والإيجاب هو أن يقول -مثلاً-: بعتك، أجرتك، زوجتك، والقبول: هو أن يقول الآخر: قبلت النكاح، قبلت البيع، قبلت الإجارة إلخ، والإيجاب غالباً ما يكون من الباذل وهو البائع، والقبول يكون من المشتري، فقول: (بعتك سيارتي بعشرة) هذا إيجاب من البائع، وقول: (قبلتها، اشتريتها)، هذا قبول من المشتري، أو قول: (رضيت، بارك الله لك) ونحو ذلك من الصيغ التي يعبر بها عن قبول البيع، والإيجاب والقبول يكون على الصيغة، وهي التي عبّر المصنف عنها بقوله: (وينعقد بإيجاب وقبول)، فالعقد عند العلماء يشتمل على الإيجاب والقبول، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فكأن الله سبحانه وتعالى ينبه عباده أن هذا الكلام الذي جرى في مجلس العقد من قوله: (بعتك، زوجتك، أجرتك)، هذه كلها كلمات رضيها المسلمون، وتواطئوا واتفقوا عليها، فينبغي أن تكون عند المسلم ذمة وأن يكون عنده عهد ويفي بهذه الصيغ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يا أهل الإيمان! يا من آمنتم بي وصدقتم برسلي وكتبي! (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، فهو هنا عظم الصيغة وأعطى لها منزلة في الإسلام، فهذا الكلام ليس هدراً، يقول شخص لآخر: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، قال: قبلت، فلما افترقا عن المجلس قال: ما بعتك. فهذا لا ينفع أبداً، فالمسلم له ذمة وله عهد ومنه الوفاء، ولذلك يلزم بالصيغة التي جرت بينه وبين الطرف الآخر، وإذا قضى القاضي أو أفتى المفتي فأول ما يلتفت إليه في البيع الصيغة، وإذا أراد الإنسان أن يفصل بين متخاصمين في معاملة فليبدأ أول ما يبدأ بالعقد، وليبدأ أول ما يبدأ بالاتفاق الذي جرى بينهما، ويأخذ الاتفاق من أول حرف فيه إلى آخره، ثم بعد ذلك يلزم كلا الطرفين بما التزم به، لا يظِلم ولا يُظلم، ولا يحمل كلامه فوق ما يحتمل، قال له -مثلاً-: بعتك سيارتي، فيقول: أنا قصدت السيارة وما عليها، فهذا لا ينفع؛ لأنه قال: بعتك سيارتي، ولم يقل: سيارتي وما عليها، فهذه الصيغ هذه والألفاظ محترمة، ومن هنا أمر بكتابة البيع إذا كان إلى أجل حفظاً وضماناً لمثل هذا؛ لأنه إذا كانت تجارة حاضرة فأمرها أهون والخصومة فيها أضعف؛ لكنها إذا كانت إلى أجل فيدخلها شيء من النسيان، وشيء من الزيادة والنقص، فالشريعة تريد معرفة ما الذي جرى بينك وبين الطرف الآخر، وما الذي قلته وما الذي قاله، وما الذي تم عليه العقد، فإن قال البائع: بعتك داري، ينصب البيع على داره، وإن قال: بعتك أرضي، ينصب على الأرض إلخ. قوله: (ينعقد بإيجاب وقبول) فإذا قال البائع: بعتك سيارتي بعشرة آلاف فهذا إيجاب، وإذا قال المشتري: قبلت حينئذٍ يتم البيع بهذه الصيغة، وهي صيغة الإيجاب والقبول. وعقد البيع إما أن يتم بالقول وإما أن يتم بالفعل، فإذا تم بالأقوال فهذه الصيغة -وهي: الإيجاب والقبول- تنقسم إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول: أن تكون بصيغة الماضي. النوع الثاني: أن تكون بصيغة الأمر. النوع الثالث: أن تكون بصيغة المضارع. أولاً: صيغة الماضي: قال له: بعتك سيارتي هذه بعشرة آلاف، يقول المشتري: اشتريتها، فقول (بعت)، و (اشتريت) كل منهما للماضي، والصيغة بالإجماع على أنها إذا وقعت بلفظ الماضي أنها أقوى أنواع الصيغ، (كبعت اشتريت رضيت) فهذه كلها ألفاظ معتبرة. ثانياً: صيغة الأمر، كقولك: بعني سيارتك بعشرة آلاف، فيقول البائع: خذها بعشرة آلاف، فـ (بعني) صيغة أمر. ثالثاً: صيغة المضارع، كقولك: أتبيعني سيارتك بعشرة آلاف؟ أو أبيع سيارتي بعشرة آلاف يقول البائع -مثلاً-: أبيعك سيارتي بعشرة آلاف، فقوله: (أبيعك) هذا تعبير للمستقبل، فيقول: أشتريها بعشرة آلاف، فقوله: (أشتريها) هذا تعبير للمستقبل. ففي الحالتين الأخيرتين: الأمر والمضارع، جماهير العلماء على أن الصيغة معتبرة، لكن يختلفون في مسألة هل يلزم إعادة الإيجاب مرة ثانية وإعادة القبول؟ ولكن العبرة بما دل عليه بساط المجلس وتعارف عليه الناس. والصيغ تنقسم إلى: صريحة، وظنية، فالصريحة: أن يصرح بالبيع، فيقول: بعتك، فتقول: اشتريت، فلما تتأمل كلمة (بعت) و (اشتريت) تجد أن لفظة (بعت) صريحة بالبيع ولفظة (اشتريت) صريحة بالشراء، وهناك ألفاظ غير صريحة، لكنها تدل بالعرف على أنه قد رضي البيع أو الشراء، قال له مثلاً: ملكتك سيارتي بعشرة آلاف، فقال: رضيت، ولم يقل: اشتريت، فهذا ضمناً كأنه قال: اشتريت، وفي بعض الأحيان، يقول له: خذ سيارتي بعشرة آلاف، قال: بارك الله لك، فـ (بارك الله لك) تدل على أنه رضي، والغالب عندنا في العرف أن هذا القول يدل على أنه رضي الكلام الذي قد قاله له. إذاً: إن كان اللفظ صريحاً أو بالنية فإنه يدل على انعقاد البيع، ونرجع إلى كل عرف بحسبه، فلا يتقيد الأمر بـ (بعت) و (اشتريت) وإنما يشمل كل لفظ دال على الرضا من الطرفين؛ لأن الله اشترط الرضا، والرضا أمر في القلب يدل عليه الظاهر، إما قولاً وإما فعلاً. ننتقل بعد ذلك إلى صيغة الفعل، أو دلالة الفعل على البيع، ودلالة الفعل مشكلة، أي: أن يقع فعل من البائع وفعل من المشتري يدلان على أنهما تراضيا على البيع، مثال ذلك: ما يجري الآن حينما تدخل بقالة وتجد فيها نوعاً من الطعام قد كتب عليه عشرة ريالات مثلاً، أو كتب عليه مائة ريال، فتأخذ هذا النوع وتأتي عند المحاسب أو صاحب البقالة أو العامل الذي هو وكيل عن مالك البقالة وتدفع نفس القيمة المكتوبة على السلعة، فيأخذ القيمة ولا تتكلم ولا يتكلم، فهذا بيع بالفعل، فما قال: (بعت) ولا قلت: (اشتريت)؛ لكنكما تفاهمتما عن طريق الفعل، وهذا البيع لا يمكن أن يمر يوم دون أن تفعله، خاصة في الخبز، والأشياء الحقيرة أي: التي قيمتها يسيرة سماها العلماء (المحقرات) -وستأتينا إن شاء الله- والمحقرات: هي الأشياء التي قيمتها زهيدة. فتأتي إلى الخبز وأنت تعلم أن الرغيف مثلاً بنصف ريال فتعطيه نصف ريال وتأخذ الخبز، فلم يقل: بعت ولم تقل: اشتريت، وليست هناك صيغة أبداً، إنما جرى العرف على أنك إذا وضعت نفس هذا المبلغ، وسحبت نفس الرغيف أنك راضٍ بهذا البيع. إذاً: الرضا بالبيع: إما أن يكون باللفظ: (بعت) و (اشتريت) أو يكون بالفعل، وهذا النوع من البيوع هو الذي يسمى ببيع المعاطاة، وسنتكلم عليه إن شاء الله ونذكر خلاف أهل العلم رحمهم الله فيه. أما إذا وقعت الصيغة باللفظ فلا إشكال، ولكن من حقك في الصيغة أن تتدخل وتلغيها، ومن حقه هو أن يتدخل ويلغيها، بشرط ألا تفترقا عن المجلس، فمثلاً: لو قال لك: بعتك سيارتي بعشرة آلاف ريال، فقلت له: قبلت، وأعطاك العشرة آلاف، وأعطيته مفاتيح السيارة، وجلستما خمس ساعات متواصلة، ثم في آخرها قال: لا أريد، فمن حقه أن يرجع في البيع، فالصيغة وحدها لا تلزم ما لم يكن بعدها الافتراق، وهذا ما سنتكلم عليه في خيار المجلس إن شاء الله تعالى. إذاً: انعقاد البيع يكون بالصيغة: الإيجاب والقبول، ولكن يتوقف لزوم العقد ولزوم الصيغة على الافتراق من المجلس، فلا يعتبر هذا اللفظ ملزماً إلا إذا افترقا من المجلس أو خيّر أحدهما الآخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، فجعل الخيار لهما ما لم يقع الافتراق.

الفاصل بين الإيجاب والقبول وحكمه

الفاصل بين الإيجاب والقبول وحكمه قال: [وينعقد بإيجاب وقبول بعده] (بإيجاب) هذا أول شيء، (وقبول بعده)، أي: بعد الإيجاب، فقوله: (بعده) أي: ألا يكون هناك فاصل بين الإيجاب والقبول، مثال ذلك: أن يقول له: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، قال: قبلت، فلما قال: قبلت وقع القبول بعد الإيجاب مباشرة، فالبيع صحيح وتام؛ لكن لو فصل فاصل، نقول: الفاصل ينقسم إلى قسمين: الفاصل المتضمن للعقد. والفاصل الخارج عن العقد، ويسمى: بالفاصل المؤثر. أما الفاصل الذي هو داخل العقد كأن يقول له: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، ثم قام إلى السيارة فقلبها ونظر فيها وفحصها ثم قال: قبلت، فإننا نعلم أن هذا الفاصل من الأفعال؛ لأن الفاصل يكون بالأقوال ويكون بالأفعال، فهذا الفاصل الفعلي ولو أنه طال لكنه يعتبر داخلاً ضمن مجلس العقد، وكأنه من متممات العقد، أي: كأنه انبنى عليه تمام العقد، فهذا لا يؤثر، ولا يحتاج أن يعود مرة ثانية ويقول: بعتك؛ لأنه فصل بفاصل مركب على قوله: بعتك، وكذلك أيضاً الفاصل الزمني، قال له: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، فجلس يتفحص ثم قال: عشرة آلاف، عندي كذا وعندي كذا، فجلس يحسب نفقته ويحسب ما الذي يترتب على قبوله البيع، ثم قال: قبلت، فهنا صح البيع، وهذا الفاصل يعتبر مما يعين على تحقيق البيع وتمامه. أما الفاصل المؤثر أن يأتي بقول أو فعل أجنبي، مثلاً: قال له: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، قال: كيف حال فلان؟ فهذا الكلام خارج عن عقد البيع، وكلام أجنبي، ثم قال: هل خرج من المستشفى أم لا؟ قال: لم يخرج، قال: لعل الله أن يشفيه، فدخلوا في كلام خارج عن مسألة البيع، ثم قال له: قبلت، فهذا لا يصح، ولا يتركب القبول على الإيجاب الماضي؛ لأن دخول الفاصل الأجنبي كأنه يقول: لا أريد البيع، فهو بمثابة الإعراض عن البيع، ولذلك يحتاجان إلى أن يعيدا مرة ثانية ويقول: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، حتى يقع القبول بدون وجود هذا الفاصل الأجنبي المؤثر في اعتبار الإيجاب وما يتركب عليه من قبول. قال رحمه الله: [وقبله متراخياً عنه في مجلسه]. (وقبله) أي: أن يقع القبول قبل الإيجاب، فيصح أن يقع القبول بعد الإيجاب وقبل الإيجاب، سواء سبق البائع أو سبق المشتري؛ لأن هذا كله يدل على الرضا، إلا أن الشافعية رحمهم الله يشددون ويشترطون سبق الإيجاب للقبول، ولذلك إذا قال له: أشتري منك سيارتك بعشرة آلاف ريال، فقال: بعتكها بعشرة آلاف ريال، فلابد أن يرجع المشتري مرة ثانية ويقول: قبلت، فيرون أنه لابد أن يتأخر القبول على الإيجاب، والجمهور من حيث الجملة لا يفرقون؛ لأن الله سبحانه وتعالى اعتبر الرضا، وهذا يدل على الرضا، سواء سبق أو تأخر، فكل منهما معتبر. قال رحمه الله: [فإن اشتغلا بما يقطعه بطل]. (فإن اشتغلا بما يقطعه) أي: من القول أو الفعل، (بطل) أي: بطل الإيجاب، ولم يتركب القبول بعده على الإيجاب. [وهي الصيغة القولية]. أي: هذا الذي قدمته لك وذكرته لك صيغة البيع القولية: (بعت) و (اشتريت)، كما ذكرنا، وبعد ذلك سينتقل إلى الصيغة الفعلية.

بيع المعاطاة وحكمه

بيع المعاطاة وحكمه قال رحمه الله: [وبمعاطاة وهي الفعلية] أي: وينعقد -وهذا أصل التقدير فالواو للعطف- البيع بالمعاطاة، والمعاطاة مأخوذة من قولهم: أعطى الشيء يعطيه إعطاءً، فهذا النوع من البيع -كما قلنا- يقوم على الأفعال، كأن تأتي إلى البقالة وتعطي المال ثم تأخذ السلعة، دون أن يحصل بينكما إيجاب أو قبول، وهذا النوع من البيع اختلف فيه العلماء على ثلاثة أقوال: القول الأول: ذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة وبعض أصحاب الشافعي كـ البغوي وغيره رحمهم الله إلى أن بيع المعاطاة يصح مطلقاً. ما معنى قولهم: يصح مطلقاً؟ معناه: يصح في الأشياء الحقيرة والأشياء الغالية، فلو أنك جئت ورأيت بائع الخبز يبيع الرغيف بنصف ريال ووضعت النصف ريال وأخذت الرغيف، صح البيع عندهم، ولو أنك مررت على صاحب ذهب ورأيت عقد الذهب بعشرة آلاف ريال فجئت وسحبت العقد دون أن يقول لك: بعت، ودون أن تقول: اشتريت، ودفعت العشرة آلاف وأخذت العقد صح البيع، وهذا في الغالي والكثير، والأول في اليسير والحقير، والبيع عندهم صحيح، المهم عندهم أن يحصل شيء يدل على الرضا، ولا يقيدونه بالقول، فأي فعل يدل على الرضا فالبيع عندهم صحيح، وهذا مذهب الجمهور. - وذهب الشافعية رحمهم الله إلى عدم صحة بيع المعاطاة مطلقاً، وأنك إذا اشتريت خبزاً بنصف ريال أو بربع ريال فلا يصح، حتى يقول لك: بعت، وتقول: اشتريت، أي: حتى يقع الإيجاب والقبول، فلا يصح هنا البيع بالأفعال، بل لا بد من القول. - وذهب الحنفية في رواية، والإمام أحمد أيضاً في رواية، وهو قول عند الشافعية إلى التفريق، فقالوا: يصح بيع المعاطاة في اليسير والحقير، ولا يصح في الكثير والجليل أي: الشيء الذي له قيمة لا يصح بيع المعاطاة فيه، والشيء اليسير الذي قيمته يسيرة يصح البيع فيه، ففرقوا بين القليل والكثير. أما الذين صححوا البيع وهم جمهور العلماء رحمهم الله فاحتجوا بدليل الكتاب والسنة والإجماع: أما دليلهم من الكتاب فقوله سبحانه وتعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] فالله عز وجل بيّن في هذه الآية صحة البيع دون أن يفرق بين بيع قائم على القول أو قائم على الفعل، فما فرق بين بيع وآخر. ثانياً: قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الرضا أمر متعلق بالقلب يدل عليه الظاهر بالفعل كما يدل عليه بالقول، فأنت الآن حينما تأتي وترى على السلعة قيمة عشرة ريالات وتأتي وتدفعها له وتأخذ السلعة، ما معناه؟ معناه أنك راضٍ ببذل هذه العشرة مقابل هذه السلعة، كما أنك تقول له: بعت ويقول: اشتريت، فحينما دفعت المال لا فرق بينهما، هذا بالنسبة لدليل الكتاب. أما دليل السنة: فحديث ابن حبان في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما البيع عن تراض) قالوا: إن الرضا -كما في دليل الكتاب- يدل عليه الفعل كما يدل عليه القول. والدليل من الإجماع: هذا الإجماع نقله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وله بحث نفيس حبذا لو يرجع إليه في كتابه النفيس (القواعد النورانية) فقد تكلم على هذه المسألة كلاماً نفيساً، وقرر أن الشرع لا يقيدنا بالألفاظ وأن العبرة بالرضا، سواء كان بالقول أو بالفعل، ونقل كلاماً نفيساً عن السلف، وأنهم كانوا ينزلون دلالة الأفعال منزلة دلالة الأقوال، فيقول في معرض كلامه: ألا ترى الرجل يبني المسجد ثم يفتح أبواب المسجد، ولا يصيح للناس: أيها الناس! قد أوقفت هذا المسجد لله أو كذا، فنفهم أنه حينما فتح باب المسجد أنه يقصد وجه الله عز وجل، أو يريد وقفه للطاعة والصلاة فيه، فلا يحتاج الداخل ولا يحتاج المصلي إلى استئذان، كذلك لو مررت على سبيل ماء وتجد صاحبه -كما ذكر رحمه الله- يشرع للناس الماء، ويضع كئوس الماء، تفهم من هذا أنه سبيل ووقف يراد به الخير، فتشرب ولا تنتظر من صاحبه أن يقول: أذنت لك أن تشرب، فجعل إخراجه (لصنبور) الماء خارج داره وإبرازه منزلاً منزلة الإذن باللفظ، وذكر على هذا أشياء كثيرة، وأن السلف رحمهم الله كانوا على هذا، وعليه قال: إننا نعرف من إجماع السلف وهديهم رحمهم الله أنه لا فرق بين دلالة الفعل ودلالة القول. وأما الذين منعوا بيع المعاطاة فيحتجون بقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] قالوا: إن الرضا أمر غيبي ولا نستطيع أن نعلمه إلا إذا صرح بدليل لفظه أنه راضٍ. واستدلوا أيضاً بالقياس، فقالوا: لا يصح البيع بالأفعال كما لا يصح النكاح بالأفعال، أي: كما أن النكاح يجب فيه الصيغة باللفظ، كذلك البيع تجب فيه الصيغة باللفظ. وأما الذين فرقوا بين القليل والكثير، فعندهم دليل الاستحسان، فيستدلون بدليل الشافعية على المنع ويستثنون اليسير من باب الاستحسان، والاستحسان: هو الاستثناء من الأصل العام بدليل ينقدح في نفس المجتهد. والذي يترجح -ختاماً- في هذه المسألة هو القول بصحة بيع المعاطاة في القليل والكثير أولاً: بدلالة الكتاب والسنة. ثانياً: أن قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاض} [النساء:29] دليل لنا؛ لأن الله لم يفرق بين رضاً وآخر، وأن الرضا كما يستفاد بالأقوال يستفاد كذلك بالأفعال. وأما القياس فإننا نقول: إن هناك فرقاً بين النكاح والبيع، ففي النكاح شدد الشرع أكثر من البيع؛ لأن النكاح يحتاط فيه للفروج، ولذلك ليس في النكاح خيار مجلس، ولكن البيع فيه خيار المجلس، فرخص الشرع في البيع أكثر من ترخيصه في النكاح، وشدد في النكاح واعتبرت الصيغة، ولأن الفرق بين النكاح والسفاح -الحلال والحرام- يحتاج إلى صيغة، فتقيد بالصيغة، وهذا بخلاف البيع، ومن هنا يترجح القول بصحة بيع المعاطاة، وهناك بعض العلماء يحتج بدليل عزيز غريب، وهو في الحقيقة أنفس ما استدل به في هذا الباب، وهو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] قال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى} [التوبة:111] وقال بعد ذلك: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة:111] فسماه بيعاً، مع أنه لا يقول: بعت ولا يقول: اشتريت، ولكن نزلت الأفعال -من خوضه في سبيل الله مقبلاً غير مدبر يحتسب الأجر عند الله- منزلة صريح القول، فقالوا: وهذا يدل على صحة بيع المعاطاة.

الأسئلة

الأسئلة

صور البيع

صور البيع Q ذكرتم -حفظكم الله- أن هناك ثلاث صور من صور البيع التسع محرمة عند العلماء، فما هي الثانية والثالثة؟ أثابكم الله. A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فنحن قلنا: عندنا بيع العين بالعين، والذمة بالذمة، والعين بالذمة، هذه ثلاث، وكل واحدة من هذه الثلاث تنقسم إلى ثلاثة أقسام: ناجزاً من الطرفين، ونسيئة من الطرفين، وناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر، فأصبح المجموع (3×3) تسع صور، ففي كل واحدة من هذه الثلاث نسيئة من الطرفين: عين بعين نسيئة من الطرفين، وذمة بذمة نسيئة من الطرفين، وعين بذمة نسيئة من الطرفين، فإذا جئت تحصرها تقسم البيع، وتجعله ثلاثة أقسام: عين بعين، وذمة بذمة، وعين بذمة، هذه الثلاثة الأقسام الرئيسية، ثم كل واحدة من هذه الثلاث تجعل تحتها ثلاثة أقسام: ناجزاً من الطرفين، ونسيئة منهما، وناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر، فجميع الصور التسع فيها ثلاث صور كقولك: العين بالعين نسيئة من الطرفين، والذمة بالذمة نسيئة من الطرفين، والعين بالذمة نسيئة من الطرفين، وصيغة العين بالعين نسيئة من الطرفين أن تقول: بعتك هذا الكتاب بهذا الكتاب أعطيك غداً وتعطيني غداً، فهذا نسيئة من الطرفين ولا يجوز. وصيغة الذمة بالذمة نسيئة من الطرفين أن تقول: أبيعك ساعة من نوع كذا وكذا بساعة من نوع كذا وكذا أو بمائة ريال أو بمائتين، فهذا يعتبر ذمة بذمة، وتقول: أعطيك غداً وتعطيني غداً، فهذا نسيئة من الطرفين، ذمة بذمة. وصيغة العين بالذمة نسيئة من الطرفين أن تأتي بواحد من الأول وواحد من الثاني فتقول: أبيعك هذه الساعة بمائة ريال، على أن أعطيك غداً وتعطيني غداً، فهي نسيئة من الطرفين في صورة عين بذمة، فهذا بالنسبة لمسألة الثلاث الصور. إذاً: أصبحت هناك ست صور: عين بعين، وذمة بذمة، وعين بذمة، فهذه ثلاث تضربها في القسمين الباقيين: ناجزاً منهما، ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر، فهذه الست فيها بحث وفيها تفصيل وفيها أحكام، وأما الثلاث الأولى فللعلماء كلمة واحدة أنها لا تصح، وأنها من بيع الدين بالدين المنهي عنه شرعاً، وأجمع العلماء على عدم صحته واعتباره. والله تعالى أعلم.

تعريف الثمن

تعريف الثمن Q هل يمكننا أن نعرف الثمن بأنه: كل ما دخلت عليه الباء فهو ثمن؟ أثابكم الله. A بعتك هذا الكتاب بهذا الكتاب، فـ (بعتك هذا الكتاب) مثمن، (بهذا الكتاب) مثمن، و (بعتك هذه الأرض) كذلك (بهذه الأرض) مثمن، فليس كل شيء دخلت عليه الباء ثمن؛ لأن الباء تدخل على الثمن وتدخل على المثمن، فلا ينضبط ولا يتأكد ولا يستقيم أن تقول: كل شيء دخلت عليه الباء فهو ثمن، لكن لو قيل: إنه في البيع المطلق: أبيعك السيارة بعشرة آلاف؛ لأن البيع المطلق هو بيع الثمن بالمثمن، وهو أحد الأنواع التي ذكرناها فهذا ممكن. فالمقصود: أن وضع الباء هذا لا أعرف أنه ضابط مطرد؛ لأنه يشترط في الضوابط أن تكون مطردة، والباء تدخل على الثمن وتدخل على المثمن بلا إشكال. والله تعالى أعلم.

حكم اقتطاع مال نقدي عند بائع واستهلاكه بعد ذلك

حكم اقتطاع مال نقدي عند بائع واستهلاكه بعد ذلك Q أنا إنسان أعطي صاحب البقالة مبلغاً وقدره مائة ريال في بداية الشهر، وأنا على مرور أيام هذا الشهر آخذ ما أريد من البقالة، وصاحب البقالة يخصم المبلغ من المائة التي عنده في بداية الشهر، فهل هذا الفعل جائز، أم أن فيه نوعاً من أنواع الربا؟ أثابكم الله. A هذه المسألة تورع بعض العلماء فيها، واعتبرها من باب بيع الدين بالدين، والسبب في هذا: أنه لما أعطاه المائة أصبح صاحب البقالة مديناً لك بالمائة، وهذه المائة أعطيت في لقاء دين آخر وهو السلع التي تريد أن يعطيكها؛ لكن رخص فيها بعض العلماء قياساً على السلم، ففي بيع السلم يعطي الثمن عاجلاً والمثمن مؤجلاً، لكن رد هذا القياس؛ لأن السلم رخصة، وما ثبت على الرخص لا يقاس عليها، والشبهة في هذا موجودة. لكن إذا كان من جنس المكيلات والموزونات والمعدودات فمرخص فيه؛ لأن فيه شبهة السلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، مثال ذلك: أن تأتي إلى بائع الحليب وتقول له: هذه مائة لعشرة أيام كل يوم آخذ منك (كيلو)، فهذا في كيل معلوم إلى أجل معلوم، وكذلك إذا كان موزوناً فإنه ينضبط، فهذا بعض العلماء يدخله في باب السلم من هذا الوجه. والله تعالى أعلم.

حكم البيع مع الضمان

حكم البيع مع الضمان Q اشتريت سلعة واشترط البائع ضمانها لسنة، فهل يصح ضمانه؟ أثابكم الله. A مسألة الضمان هذه ترجع إلى أصل شرعي وهو الذي يسمى: بيع العهدة، والعهدة قضى بها الصحابة رضوان الله عليهم، وأثر عن بعض الخلفاء الراشدين أنه قضى بالعهدة، فقد كانوا يبيعون الدواب وغير الدواب أيضاً ويجعلون العهدة ثلاثة أيام، وخلال الثلاثة الأيام هذه ينكشف فيها حقيقة المبيع، ويكون المبيع من جنس المبيعات التي لا تعرف إلا بالتجربة، ولا تعرف إلا بالاستهلاك، فهذا يسمونه بيع العهدة، والضمان في الحقيقة هو تفضل من البائع للمشتري، فهو يقول له: أنا أضمن لك بقاءها خلال سنة؛ لأن هناك عيوباً لا تنكشف ولا تعرف إلا بالاستهلاك، فكونه يلتزم الضمان فيه وجه شرعي، أي: من ناحية شرعية له أصل. وسنتكلم على هذا إن شاء الله في خيار العيب، فربما نعرج ونبين فيه بشيء من التفصيل، وبيع الضمان له وجه من العهدة، ومن أمثلة ذلك: أنهم كانوا يبيعون الرقيق به آفة وعاهة، ولا تنكشف إلا بعد شهر أو شهرين، وقد لا تنكشف إلا خلال سنة، فهذا كله يعتبره العلماء من باب ضمان حق المشتري. والأصل فيه أيضاً حديث المصراة كما في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين: إن شاء أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)، لاحظ النهي عن الغش: (لا تصروا الإبل والغنم)؛ لأنهم كانوا إذا أرادوا بيعها وهي أنثى وفيها حليب حبسوها يومين أو ثلاثة لا يحلبونها، فينتفخ ضرعها، وعندها فلن تستطيع أن تكتشف هذا العيب إلا إذا جلست عندك، ولذلك ثبت في الرواية الأخرى: (فأمسكها ثلاثاً) أي: يمسكها ثلاثة أيام حتى ينكشف حقيقة الحليب الموجود فيها، فهذا نوع من إعطاء الضمان ثلاثة أيام، حتى ينكشف حقيقة الحليب الموجود، فأنت لا تستطيع أن تكتشف هذا العيب إلا إذا جلست ثلاثة أيام، ففي اليوم الأول تراها كثيرة الحليب، وفي اليوم الثاني ينقص وفي اليوم الثالث يرجع إلى طبيعته أو عادته أو قريباً من الطبيعة أو العادة، فحينئذٍ إن شئت أمسكت وإن شئت رددتها وصاعاً من تمر ضماناً للعيب الموجود فيها. وعلى هذا: فإنه قد يقوى اعتبار الضمان من حيث الأصل، أما من حيث التفصيل فهذا يحتاج إلى نظر. والله تعالى أعلم.

حكم التفاضل في الأشياء التي لا يجري فيها الربا

حكم التفاضل في الأشياء التي لا يجري فيها الربا Q أريد أن أبيع ثلاجة قديمة بأخرى جديدة، مع دفع الفارق، دون قبض ثمن الأولى، فهل يصح هذا البيع؟ أثابكم الله. A بالنسبة لمبادلة الثلاجات والغسالات والثياب والسيارات، كأن يكون عندك سيارة قديمة تبادلها بسيارة جديدة، أو أجهزة كهربائية مستعملة بأجهزة جديدة أو بأجهزة مستعملة أخرى، سواء بادلت بدون فرق أو بادلت بالفرق، فكله جائز؛ لأن الأجهزة الكهربائية كأن تبادل غسالة بغسالة فإن الغسالات ليست من جنس الأموال التي يحرم فيها التفاضل؛ لأنها ليست من الموزونات، وشرط جريان الربا في غير المطعوم أن يكون موزوناً، والغسالة لا تباع بالوزن بل تباع بالعدد، وهكذا بالنسبة للآلات الأخرى كالسيارات فإنها تباع بالعدد لا بالوزن، ولذلك كل شيء من غير الطعام إذا لم يكن موزوناً فيجوز فيه التفاضل، فيجوز أن تبيع الثلاجة بالثلاجتين، أو تبيع الثلاجة بالثلاجة وتدفع الفرق ولو كان نقوداً؛ لأنه ليس من جنس ما يمنع فيه التفاضل أو يجري فيه الربا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

كتاب البيع [3]

شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [3] للبيع شروط شرعية لا يحكم بصحة البيع ونفوذه إلا إذا توافرت فيه هذه الشروط، ومن أهم هذه الشروط: تراضي الطرفين -البائع والمشتري- وأهليتهما في التصرف، وأن تكون العين مباحة المنفعة لغير حاجة، فإذا فقد البيع أحد هذه الشروط فقد فُقدت شرعيته، وحينئذٍ يحكم ببطلانه، وعدم جوازه.

شروط صحة البيع

شروط صحة البيع بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويشترط التراضي منهما، فلا يصح من مكره بلا حق]. شرع المصنف رحمه الله في بيان الشروط التي ينبغي توفرها لكي يحكم بصحة البيع، ولا يمكن أن يحكم بجواز البيع ونفوذه إلا إذا توفرت هذه الشروط الشرعية، وذلك لأن الأصل في مال المسلم أنه محرم إلا أن يدل الدليل على استباحته، وعقد البيع عقد مبادلة ومعاوضة، وهذه المبادلة والمعاوضة لها أمارات معينة في الشرع يحكم بوجودها في صحة البيع واعتباره، ويسمي العلماء رحمهم الله هذه الأمارات والعلامات: شروط صحة البيع، فشرع المصنف رحمه الله في بيان الشروط التي ينبغي توافرها لكي يُحكم بكون البيع صحيحاً.

التراضي

التراضي قال رحمه الله: (ويشترط التراضي) أي: يشترط لصحة عقد البيع أن يكون البائع راضياً، وأن يكون المشتري راضياً، فلابد أن يكون كل منهما راضياً على عقد المبادلة والمعاوضة، فلو قال رجل لرجل: بعتك بيتي بمائة ألف، فيشترط أن يكون هناك الرضا من البائع وهو صاحب البيت، بحيث يرضى بالمائة ألف عوضاً عن بيته، ويشترط الرضا في المشتري، بحيث يرضى بدفع المائة ألف في مقابل هذه العين، أعني: البيت. والأصل في اشتراط هذا الشرط قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، فبيّن سبحانه وتعالى حرمة أكل مال المسلم بالباطل، والباطل هو الذي ليس فيه وجه حق، وعلى هذا فإنه يستحق مال المسلم في التجارة إذا وجد الرضا، ومفهوم ذلك: أنه لا يستحق مال المسلم إذا فقد الرضا، والله تعالى يقول: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، فاشتملت هذه الآية على اشتراط الرضا في الطرفين: في البائع وفي المشتري، ومفهوم ذلك: أنه لا يصح البيع إذا فقد الرضا. وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن من شروط صحة البيع وجود الرضا من حيث الجملة؛ لنص الله عز وجل عليه، ولذلك نجد فقهاء الحنفية رحمهم الله لما وصفوا البيع الشرعي قالوا: مبادلة المال بالمال بالتراضي، وقولهم: (بالتراضي)، الباء للمصاحبة، أي: مصحوباً بالتراضي من الطرفين، أعني: البائع والمشتري. وعلى هذا: فلو أن إنساناً هدد غيره أن يبيع فباع تحت هذا التهديد، أو أضر به أو قهره على البيع، فإذا توفرت شروط الإكراه لم يصح البيع؛ وذلك لأن الله عز وجل اشترط للحكم بجواز البيع وصحته أن يوجد الرضا، ومفهوم ذلك: أنه لا يحكم بصحة البيع واعتباره إذا لم يوجد الرضا، وقد جاء في حديث ابن عمر عند ابن حبان وغيره وحسن بعض العلماء إسناده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما البيع عن تراض)، فقوله: (إنما البيع) أسلوب حصر وقصر، كأنه يقول: البيع الشرعي هو البيع الذي وجد فيه التراضي، ومفهوم ذلك -وهو مفهوم الحصر كما يسميه الأصوليون-: أنه إذا لم يوجد الرضا فليس ثمّ بيع شرعي. وقوله: (فلا يصح من مكره بلا حق) الفاء في قوله: (فلا يصح) للتفريع، فرّع على اشتراط الرضا في البائع والمشتري أنه لا يحكم بصحة البيع إذا أكره البائع على البيع أو أكره المشتري على الشراء، فإذا أكره أحدهما أو أكرها معاً لم يصح البيع. وقوله: (من مكره) المكره: مأخوذ من الكره، وأصل الكره الشيء الذي انتفى فيه الرضا، والأصل في كون الإكراه مسقطاً للأحكام الشرعية قول الله سبحانه وتعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فهذه الآية الكريمة قال علماء التفسير فيها: إنها أصل في إسقاط حكم الإكراه، ووجه ذلك: أن الله سبحانه وتعالى بيّن أن المسلم إذا قال ما يوجب الردة -وهي كلمة الكفر- بالإكراه وقلبه مطمئن بالإيمان، فإن هذا القول لا عبرة به، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمار عندما أكره: (وإن عادوا فعد)، فأسقط بالإكراه الحكم بالمؤاخذة. وعلى هذا: فلو قال المكره: بعت، وقال المكره: اشتريت، فإن هذا اللفظ من البائع والمشتري وجوده وعدمه على حد سواء؛ لكن يبقى النظر: متى نحكم بكون الإنسان مكرهاً؟ هذه المسألة تكلم عنها العلماء رحمهم الله، ولكن فيها تفصيل وكلام طويل، وسيكون الحديث عنها إن شاء الله في طلاق المكره، وسنتكلم عن الشروط المعتبرة للحكم بكون الإنسان مكرهاً، فمثلاً: لو قال رجل لرجل: بع بستانك هذا بمليون وإلا ضربتك على يدك، فإن الضرب على اليد أهون من بيع البستان بهذا المبلغ، فلا نقول: إنه مكره بهذا القول، وإنما يحكم بكونه مكرهاً، إذا هُدِّد بأمر هو أعظم من الأمر الذي طلب منه. وهناك موازين وأمور معينة لا بد من وجودها للحكم بالإكراه. فالشاهد: أن من باع مكرهاً على بيعه لم يصح بيعه، ومن اشترى مكرها على الشراء لم يصح شراؤه، ولكن يبقى النظر إذا أكره بحق، ومثال ذلك: المفلس، فلو أن رجلاً استدان من الناس حتى أفلس، ووجدت أمتعة الناس عنده -ومعلوم أنه لا يحكم بكون الإنسان مفلساً إلا إذا كانت ديونه أكثر من تجارته، وغلب على الظن عدم نمائها، وعدم استطاعته أو قدرته على رد الحقوق إلى أهلها -فإذا كان الإنسان مفلساً، وعليه دين مثلاً مليون، وهناك أرض أخذها من شخص بمائة ألف، وهناك أرض ثانية بمائتين، وهناك سيارة بمائة، فإن أصحاب الأرض وصاحب السيارة إذا وجدوا عين السيارة وعين الأرض فمن حقهم أن يأخذوها، فيقول صاحب الأرض: أنا آخذ أرضي وأسقط حقي في الدين، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن: (من وجد متاعه عند من أفلس فهو أحق به)، قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبناءً على هذا: لو أن المفلس -مثلاً- كان عنده من السيارات والعقارات ما يساوي المائة ألف، والديون التي عليه ثلاثمائة ألف، فقرر القاضي بيع ما عنده من الأملاك وتسديد الديون، فإنه ستخرج منه هذه الأملاك دون طواعية ودون رضاً، وسيبيع بدون اختياره وبدون رضاه، ولكنه إكراه بحق، ولذلك يصح البيع وينفذ. فاحتاط المصنف رحمه الله وقال: (بلا حق)، فمن أكره بالحق فإن إكراهه شرعي، وهكذا لو احتيج إلى توسعة مسجد، أو توسعة طريق تضرر الناس بضيقه، وقيل لرجل: بع دارك لتوسعة الأرض أو توسعة المسجد، فأبى، فمن حق ولي الأمر أن يأخذه منه بالكره ويعوضه عليه بقدر ما للعين من قيمة، والأصل في ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هدم دار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وذلك حينما ضاق المطاف واحتاج أن يوسعه، فهدم دوراً، ومنها دار العباس رضي الله عنه وأرضاه، وكانت قريبة تطل على المسجد، فأكرهه على بيعها، وأكرهه على المناقلة فيها، فدل على مشروعية هذا النوع من البيع لوجود الحق، والقاعدة الشرعية تقول: (يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام)، ومن فروعها هذه المسألة، وكذلك الحجر على المريض بمرض معْدٍ ونحوها، كلها أضرار خاصة قصد منها دفع الضرر العام. فالبيع في مثل هذا بيع معتبر عند العلماء رحمهم الله.

أهلية التصرف

أهلية التصرف قال رحمه الله: [وأن يكون العاقد جائز التصرف]. وهذا هو الشرط الثاني: أن يكون العاقد جائز التصرف، والجائز التصرف: هو الذي ينفذ تصرفه، فهنا بيع وشراء، فيشترط لصحة البيع وصحة الشراء أن يكون تصرف البائع تصرفاً صحيحاً ونافذاً، أي: عنده أهلية التصرف -كما يقول الفقهاء- وهذه الأهلية تستلزم ألاَّ يكون صبياً، ولا محجوراً عليه؛ والسبب في ذلك: أن الصبي والمجنون والسفيه يحجر عليهم، فإذا تصرفوا في أموالهم فإن تصرفهم غير صحيح. إذاً: يسمي العلماء هذا الشرط بشرط نفاذ التصرف، أو يصفونه: بأهلية التصرف، بمعنى: أن يكون البائع والمشتري عنده أهلية تبيح له أن يأخذ وأن يعطي، فإذا فقد هذه الأهلية لوجود مانع يمنع من نفوذ تصرفه، فإننا لا نصحح البيع، فلو أن صبياً توفي عنه أبوه وترك له عمارة إرثاً، فجاء رجل إلى الصبي وقال له: بعني عمارتك التي ورثتها عن أبيك بمائة ألف، فقال: قبلت، فإنه مالك للعمارة وراض ببيعها، ولكنه غير أهل للتصرف في ماله؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]، وأمر سبحانه وتعالى بالحجر على الأيتام؛ والسبب في هذا: أن الصبي والسفيه والمجنون كل منهم لا يحسن النظر لحظ نفسه، وهذا يسميه العلماء: بالحجر على الإنسان لمصلحة نفسه، وإذا أردت أن تضبط هذا الشرط فتقول: نافذ التصرف هو غير المحجور عليه، والحجر إنما شرعه الله لأمرين: إما لمصلحة الإنسان نفسه، أو لمصلحة تتعلق بالغير. فأما الحجر على الإنسان لمصلحة نفسه فكالمجنون، فإن المجنون لو أعطيناه ماله فيوشك أن يتلف المال، ولا يحسن التصرف فيه، وهكذا الصبي لو أعطيناه المال فإنه يوشك أن يتلفه، ولا يحسن النظر فيه، ومن هنا يحجر على كل من الصبي والمجنون والسفيه ونحوهم لمكان المصلحة، أو لحظوظ أنفسهم. وأما النوع الثاني من الحجر: فهو أن تحجر على الإنسان وتمنعه من التصرف في ماله لمصلحة الغير لا لمصلحته هو، ومن أمثلة ذلك: المفلس، فإننا ذكرنا أن المديون يحجر عليه، فالذي عليه ديون -مثلاً- تعادل المائتي ألف، وأمواله تعادل خمسين ألفاً، فإن هذا يمنع من التصرف في أمواله وتباع سداداً للدين. ومن أمثلة من يحجر عليه لمصلحة الغير: المريض مرض الموت، فإن المريض مرض الموت يتصدق بأمواله؛ ولكن في حدود الثلث، أي: لا يستطيع أن يهب، ولا أن يتصدق، ولا أن يتنازل عن شيء من ماله إلا في حدود الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير)، وقال: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم)، فدل هذا على أن الثلثين ليس من حقه أن يتصرف فيهما، ومن هنا قالوا: إن الحجر على المريض في حدود الثلث يعتبر من باب مصلحة الغير؛ والسبب في هذا: أنه إذا مرض مرض الموت صار المال في حكم الإرث، وحينئذٍ كأن يده قد نقلت عن هذا المال، وأصبح له حظ النظر لمصلحة نفسه بالصدقات والهبات ونحوها من المجاملات التي يريد بها الإحسان إلى الناس. وقد قال بعض العلماء في هذه المسألة: وَزَوْجَةٌ فِيْ غَيْرِ ثُلْثٍ تُعْتَرَضْ كَذَاَ مَرِيْضٌ مَاْتَ فِيْ ذَاْكَ الْمَرَضْ فالمريض يحجر عليه فيما فوق الثلث، وقوله: (وزوجة في غير ثلث تعترض) هذا على مذهب المالكية رحمهم الله، فإنهم يرون أنها تتصرف في حدود الثلث، وسيأتي بيان هذه المسألة في باب الحجر. الشاهد: أن البيع لا يصح إذا كان البائع أو المشتري محجوراً عليه، فلو أن صبياً اشترى من رجل داره بمائة ألف، فإننا لا نصحح البيع؛ وإنما نقول: ليس للصبي أن يبيع ويشتري؛ وإنما النظر لوليه، فيأتي وليه وينظر في شراء الصبي؛ فإن كان شراء حكيماً، ومن المصلحة إمضاؤه أمضاه، وإن كان غير ذلك أبطله ورده. إذاً: معناه: أن البيع لا يصح إلا إذا كان الشخص الذي يبيع ويشتري أهلاً لأن يتصرف في ماله، ومن هنا قال بعض العلماء في تعريف الحجر: هو منع نفوذ تصرف قولي لا فعلي في المال. ومن هنا اشترط المصنف في العاقد: أن يكون جائز التصرف. وقوله: (العاقد) يشمل الاثنين: (البائع والمشتري)؛ لأن كلاً منهما عاقد، لكن لو جئت إلى دكان فوجدت صبياً يبيع في الدكان، وهذا الصبي هو الذي يتولى الأخذ منك والإعطاء لك، فهل يصح بيعه؟ وهل تعتبر مالكاً للسلعة بالإيجاب والقبول الذي بينك وبينه؟ نقول: إذا كان الصبي مميزاً ومأذوناً له بالتصرف؛ فإنه حينئذ يصح بيعه، أما الصبي غير المميز؛ فإنه لا يصح بيعه، وعلى هذا قال العلماء: إذا وكّل الصبي ببيع السلع ووجدته في دكان ونحوه، فإنه يصح أن تشتري منه، ولا بأس بذلك. يبقى Q إذا كان الصبي والمجنون والسفيه لا يصح بيعهم ولا شراؤهم إلا بإذن أوليائهم، فما هي الحكمة؟ A الحكمة أن الشرع منع من إعطاء هؤلاء الأموال رحمة بهم -كما ذكرنا- وحفاظاً على الأموال؛ لأنه لو أذن لهؤلاء أن يتصرفوا فإنه سيتضرر الناس بتصرفاتهم؛ لأنهم لا يحسنون النظر، لا للأخذ ولا للإعطاء، فلا يحسنون الأخذ لأنفسهم، فلربما اشتروا ما قيمته المائة بألف، وهذا لا شك أن فيه ظلماً، والشريعة جاءت بقفل أبواب الظلم والإضرار، كذلك أيضاً قد يبذلون للغير ما قيمته غالية بقيمة رخيصة؛ لأنهم لا يحسنون النظر في مصالح أنفسهم.

عدم صحة تصرف الصبي والسفيه

عدم صحة تصرف الصبي والسفيه قال رحمه الله: [فلا يصح تصرف صبي وسفيه بغير إذن ولي]. قوله: (فلا يصح تصرف صبي) أي: في بيع وشراء، ولذلك قال: (تصرف) حتى يشمل البيع والشراء، فلو أن رجلاً جاء واشترى من صبي أرضه، والصبي مالك لها، فجاء وليه وقال: البيع باطل، فقال المشتري: قد اشتريت، وهذا هو المالك، فنقول: لا يصح البيع إلا بإذن الولي. وقوله: (وسفيه) أصل السفه: الخفة، والثوب السفساف: الخفيف الذي يشف ما وراءه، ويطلق السفساف على الريح ونحوها، وهي تحمل الرذاذ والشيء الخفيف، فالسفيه: خفيف العقل؛ والسبب في هذا: أن الله جعل العقل في الإنسان لكي يعقله ويحجره عما لا يليق من التصرفات، فإذا جاء الإنسان يتصرف في ماله تصرفاً غير حميد، فمعنى ذلك أن عقله غير رشيد، ولا يحسن النظر، ومن هنا يقولون: إنه سفيه، أي: أن في عقله خفة. والسفيه له عدة ضوابط: الضابط الأول: هو الذي لا يحسن الأخذ لنفسه، ولا يحسن الإعطاء لغيره، ومعنى قولهم: (لا يحسن الأخذ لنفسه، ولا يحسن الإعطاء لغيره): أنه إذا أراد أن يشتري غُبِن في الشراء، وإذا أراد أن يبيع غُبِن في البيع، مثال ذلك: إذا كانت عنده سيارة قيمتها عشرة آلاف ريال، وأراد أن يبيعها فربما ماكسه المشتري، أو تلطف معه في العبارات، فيشتريها منه بستة أو بسبعة أو بثمانية آلاف ولا يبالي، ويقول له: أنت رجل طيب، وفيك خير، فهل تبيع هذه السيارة بثمانية آلاف أو بسبعة آلاف؟ فيقول: خذها، فمعنى ذلك أنه ليس عنده عقل، ولا عنده من الرشد ما يحجره ويمنعه لكي ينظر لمصلحة نفسه، فإذا نزل الإنسان إلى هذا المستوى ولم يكن قصده الآخرة، أما لو كان قصده الآخرة، وقصده أن يكون بينه وبين أخيه تآلف، فآثر ما عند الله عز وجل، وفضّل أخوة الإسلام على أن يكسب أخاه، فإن الله يجمع له بين ثواب الدنيا والآخرة؛ لكن نحن نتكلم على رجل أَخْرَق لا يحسن النظر لنفسه. وبناءً على هذا: لو أن رجلاً عنده أموال (عمائر) أو سيارات فاشترى (العمائر) بقيمة، ثم باعها بقيمة رخيصة جداً، مع إمكان بيعها بقيمة غالية، فطالب أولياؤه بالحجر عليه، وثبت عند القاضي أنه باعها بهذه القيمة الرخيصة، فإنه يحجر عليه ويمنعه؛ لأنه ثبت عند القاضي أنه لا يحسن الإعطاء للغير، فإذا وجد أحد الأمرين: إما أنه لا يحسن الإعطاء للغير، أو لا يحسن الأخذ لنفسه، فيحجر عليه، فلو اشترى داراً قيمتها مائة ألف، فاشتراها بثلاثمائة ألف، أو بمائتي ألف، أو بأربعمائة ألف، فتعلم حينئذٍ أنه أَخْرَق، وأنه يُضحك عليه، فلا بد من الحجر عليه صيانة لماله لحظ نفسه، كما حجرنا على المجنون وعلى الصبي. والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]، وقد جاء عن عثمان في قصة عبد الله بن جعفر وعلي بن أبي طالب رضي الله عن الجميع، في مسألة شراء أرض في الغابة بالمدينة، فإن عثمان رضي الله عنه لما بلغه شراء عبد الله لها أراد أن يحجر عليه، فقال علي رضي الله عنه: أنا شريكه. وعلى هذا: فالمقصود أننا نحجر على الإنسان إذا ثبت أنه لا يحسن الإعطاء للغير، أو لا يحسن الأخذ لنفسه. الضابط الثاني للسفيه: أن يكون مسرفاً في الشهوات، والمراد بهذا: أن يشتري الأشياء المباحة، ويبالغ في الكماليات، مع أنه مكفي الحاجة بما دونها. ومن أمثلة ذلك: أن يكون بحاجة إلى سيارة مثلاً، فيمكنه أن يشتري سيارة بخمسين ألفاً، فيذهب ويشتري سيارة بمائتي ألف، أو أن يكون بحاجة إلى ثوب، والثوب لمثله ومتوسط مثله من كان في قدره ومكانته يشتري الثوب بمائة، فيذهب ويشتري الأثواب بالمائتين والثلاثمائة والأربعمائة، فينقل نفسه إلى منزلة ليست له، ويتشبع بما لم يعط، فإذا أغرق في هذه المباحات، وأصبح يشتري الأشياء العالية الغالية، ويسرف فيها، مع أن مثله لا يليق به ذلك الشيء؛ فإنه يحجر عليه، ويوصف بالسفه، وهذا الضابط هو الذي أشار إليه بعض العلماء بقوله رحمه الله: وَالسَّفَهُ التَّبْذِيْرُ لِلأَمْوَالِ فِيْ لَذَّةٍ وَشَهْوَةٍ حَلاَلِ حتى قال بعض العلماء: إذا أسرف وأكثر من الزواج، فيكون رجلاً كثير الطلاق للنساء، ورجلاً لا يحسن العشرة الزوجية، وكلما طلّق هذه ذهب ونكح غيرها، فمثل هذا يحجر عليه إذا بلغ به الأمر إلى الدَّين أو الضرر في ماله؛ لأنه في هذه الحالة قد أسرف في اللذة -وهي لذة حلال- وجاوز الحد المعتبر، فحينئذٍ يحجر عليه ويمنع، وقد روي عن علي رضي الله عنه -وهذا يروى عنه أثراً- أنه لما أكثر الحسن الزواج قام على المنبر وقال: (إنه كثير الطلاق أو مطلاق للنساء)، وكأنه يريد أن يمنع الناس من تزوجيه، فقالوا: لَنُزَوِّجَنَّه وإن كان مطلاقاً. وذلك لشرفه رضي الله عنه وأرضاه، فهو ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنهم تعاظموا أنه قام في الكوفة وقال: (إن ابني هذا كثير الطلاق للنساء، فلا تزوجوه)، وكأنه يريد أن يؤدب الحسن، وقد قيل: إنه أحصن أكثر من مائة امرأة. الشاهد: أنه إذا أكثر الإنسان في المباح ولو كان في الزواج، وحفظ عنه أنه يفعل ذلك على سبيل الخرق، ولم يكن هناك موجب لفعله، فإنه يحكم بسفهه؛ لأنه أسرف في اللذة المباحة مع إمكانه أن يجتزئ بما هو أقل من ذلك.

أن تكون العين مباحة المنفعة

أن تكون العين مباحة المنفعة قال رحمه الله: [وأن تكون العين مباحة النفع من غير حاجة]. هذا هو الشرط الثالث، وهو: أن تكون العين مباحة النفع لغير حاجة، وبيان ذلك: أن البيع وقع على محل، وهذا المحل يشمل الثمن، والمثمن، أي: صور البيع الثلاث، سواءً وقع بيع صرفٍ أو بيع مقايضةٍ أو بيعاً مطلقاً، فينبغي أن يكون مباح المنفعة، وهذا أكثر ما يقع في المثمونات، فالذهب والفضة مباحا النفع، فلا إشكال فيهما بالنسبة للثمن، فيبقى الإشكال دائماً في المثمونات، فإذا باع شيئاً محرم المنفعة فإنه حينئذٍ لا يُحكم بصحة البيع. والمراد من هذا الشرط: أن الله عز وجل حينما أباح البيع أباحه لأمرين: الأمر الأول: جلب المصالح للعباد. الأمر الثاني: درء المفاسد عنهم. فأما جلب المصالح فإن الإنسان إذا احتاج للشيء وأراد أن يشتريه فإنه يجد مصلحة بحصوله على ذلك الشيء، فأنت إذا كنت محتاجاً إلى بيتٍ تسكنه وترتفق به، فإنك إذا اشتريته حصلت هذه المصلحة، كذلك إذا كنت محتاجاً إلى سيارة تركبها ونحو ذلك، فإنك تجلب المصلحة بهذا البيع، كذلك تدرأ عن نفسك المفسدة؛ لأنك إن بقيت بدون بيتٍ فستكون في العراء، وإذا بقيت بدون ثوبٍ أو بدون طعامٍ فأنت على ضرر، فإذاً: البيع فيه جلب مصلحة ودرء مفسدة، فهذه المصلحة التي يطلبها الإنسان أو المفسدة التي يدفعها لابد أن يشهد الشرع باعتبارها، والإذن بجلبها إن كانت مصلحة، والإذن بدرئها إن كانت مفسدة، فإذا اشتمل البيع على ما يضاد الشرع؛ فإنه حينئذٍ لا يمكن أن يحكم بكونه بيعاً شرعياً، فيقول الشرع حينئذٍ: لا يجوز هذا البيع، وعندي فيه أمارة أو علامة تقتضي الحكم بعدم جوازه، وذلك أن المنفعة التي قُصدت من هذا البيع منفعة محرمة. ومن أمثلة هذا: أن يبيع الخمر، فإن الخمر منفعتها محرمة، وعلى الأصل أن الله عز وجل سلب المنافع من الخمر بعد أن حرمها، لكن لو قال قائل: إنه -والعياذ بالله- يشربها لما يكون فيها مما يظنه من منافع، أو يشتري أو يبيع المخدرات لاستعمالاتٍ محرمة، فإننا نقول: الخمر والمخدرات منافعهما محرمة، وما يقصد منها محرم. إذاً: لا بد لصحة البيع أن تكون العين مباحة المنفعة، فإذا كانت منفعتها مضرّة فلا يجوز بيعها، ومن هنا قالوا باشتراط هذا الشرط؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يأذن لعباده بالضرر، ولا يُبيح سبحانه وتعالى لهم ما فيه ضرر عليهم، لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} [الحج:78]، فهذا حكم الشرع، ولو أن الشرع أجاز هذا النوع من البيع فإنه حرجٌ ومشقة. وفي هذا الشرط عدة فوائد وهي: الفائدة الأولى: لا يصحُّ بيع شيءٍ لا منفعة فيه، ومن أمثلة ذلك مما يذكره العلماء: لو قال له: أبيعك هذه التفاحة لشمِّها، أي: المنفعة الشم فقط، وبعض العلماء يدخل هذا في باب الإجارة، وهو صحيح؛ لأنه من باب المنافع أقرب منه للأعيان، لكن منهم من يذكره مثالاً على البيع، فلو قال له: أبيعك هذه التفاحة للنظر إليها، أو لشمِّها، فإن هذه ليست بمنفعة مقصودة، وليست بتلك المنفعة التي يشتغل بها، ومن هنا قال العلماء: لا يصحُّ بيع الحشرات؛ لأنهم في القديم كانوا لا يجدون فيها منفعة، فأبطلوا بيعها. الفائدة الثانية -وهي فائدة عكسية-: أنه لا يجوز بيع ما فيه ضرر؛ كالسمومات، فإنه لا يجوز بيعها ولا شراؤها؛ لأن السمَّ لا منفعة فيه بل فيه ضرر؛ لكن لو احتيح إلى السمِّ للعلاج أو لمنفعة، وكانت منفعة مقصودة، فإننا نقول بجواز البيع وصحته؛ لكن من حيث الأصل فإن السمومات ليست من جنس ما أحلَّ الله؛ لأنها مشتملة على الضرر، والله عز وجل لا يأذن لعباده بقتل أنفسهم، قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، وتحريم الشيء يقتضي تحريم وسائله، فحينما قال العلماء: يُشترط أن تكون هناك منفعة، خرج ثلاثة أمور: ما لا منفعة فيه كالحشرات، الأمر الثاني: العكس، وهو -مفهوم الشرط- ما فيه مضرة، فلو قال قائل: وُجدت المنفعة لكن هذه المنفعة محرمة، كالخمر فإن فيها منفعة الإسكار، والإسكار محرم، والمخدرات فيها منفعة التخدير، وهي محرمة، فعلى هذا نقول: لا يصحُّ البيع، ولا يجوز، وكذلك الميتة: وهي كلُّ حيوان مات حتف أنفه أو بغير ذكاةٍ شرعية، فإنه إذا قتل، أو كان يذكى بالصعق الكهربائي أو نحو ذلك، وبِيع، فإنه لا يصحُّ بيعه ولا يصحُّ شراؤه؛ وذلك لأن هذه الميتة منفعة الأكل منها محرمة شرعاً، إذاً: لا بد أن تكون المنفعة مباحة. الأمر الثالث: خرج أيضاً المنفعة المباحة لحاجة، فأنت إذا قلت: هناك شيءٌ له منفعة، وهذه المنفعة مباحة؛ ولكن أبيحت للضرورة، أو أبيحت للحاجة، مثل: الكلب، ففي الأصل أنه لا يجوز اتخاذه، ولا يجوز أن يكون عند الإنسان كلب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من اتخذ كلباً إلاّ كلب صيدٍ أو حرث أو ماشية نقص من أجره كلَّ يوم قيراطان)، فهذا يدل على حرمة اتخاذ الكلب، فإذا كان اتخاذه محرماً فإنه أذن للضرورة للصيد والحرث والماشية، وهذه ثلاث منافع، فلو قيل لك: هل أشتري الكلب للصيد أو للحراسة -حراسة الماشية والزرع-؟ فنقول: نعم، فهذه ثلاث منافع، وينطبق عليها الشرط بأنها منفعة، ثم هي منفعة مباحة؛ لأن حفظ الأموال مقصود شرعاً؛ لكنها مباحة للضرورة، فإذاً: لم ينطبق عليها الشرط، فاحتاط المصنف رحمه الله وقال: (من غير حاجة) أي: يشترط أن تكون المنفعة منفعة مباحة مطلقاً، وليست بمنفعة مقيدة بالضرورة والحاجة، فإن المنافع المباحة للضرورة والحاجة لا يجوز بيعها، ومن هنا يتفرع عدم جواز بيع المادة المخدرة للاستعمال المضطر إليه؛ وإنما يُعطى المال عوضاً كإجارة، ولا يعطى عوضاً عن العين، وفرقٌ بين المعاوضة على المادة المخدرة إذا كانت لعلاجٍ كبيع، أو تعطى كإجارة، فهناك فرق بين المسألتين؛ لأنها إذا كانت بيعاً فإنَّ معنى ذلك أنها منفعة مباحة لحاجة، ولا يجوز بيع المنافع المباحة لحاجة؛ لأنه ثبت في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر البدري رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب)، وثبت في مسلم من حديث جابر رضي الله عنهما: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه)، أي: عن ثمن الكلب، وقال عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أبي داود بسند صحيح: (إن جاءك يريد ماله فاملأ كفه تراباً)، فهذا كله يدل على حرمة بيع الكلب وشرائه، وقال: (ثمن الكلب خبيث) كما في الصحيحين، وقال: (ثمن الكلب سحت)، ولم يفرِّق بين كلب وآخر، فدلَّ على أن الكلب المأذون به لمنفعة مضطر إليها لا يجوز بيعه لهذه المنفعة، وسيأتي -إن شاء الله- بيان هذه المسألة وخلاف العلماء رحمهم الله فيها. الشاهد: أن عندنا شرطاً يقول: ينبغي أن تكون العين لها منفعة مباحة، فخرجت العين التي لا منفعة فيها كالحشرات، وخرجت العين التي فيها مضرة كالسموم، ثم أضاف رحمه الله قيد الحاجة، ففهمنا من ذلك أنه إذا كانت مباحة للحاجة فإنه لا يجوز بيعها؛ والسبب في هذا من ناحية فقهيّة: أن الشرع إذا أذن لك باتخاذ الكلب للصيد والحرث والماشية، فمعنى ذلك أنه مباحٌ لضرورة الصيد، وضرورة الحرث، وضرورة الماشية، فإذا أُبيح لهذه الحوائج وجاء الإنسان يبيعه، فمعنى ذلك أنه قد زاد عن الحاجة، والقاعدة: (ما أبيح للحاجة فإنه يقدَّر بقدرها)، فلو أُبيح أخذ ثمن الكلب الذي للصيد مثلاً وقيل: يجوز بيعه؛ لأن منفعة الصيد مباحة فنريد أن نبيعه؛ فمعنى ذلك أنه يستفيد منه في الصيد ويستفيد منه في البيع بأكل ثمنه، وحينئذٍ خرج عن مقام الحاجة إلى مقام التوسع، والأصل أنه لا يباح منه إلاّ ما اضطر إليه، أو إلاَّ ما نصّ الشرع عليه: وهو الإذن باتخاذه للصيد وحراسة الحرث والماشية.

ذكر بعض الحيوانات المباحة المنفعة

ذكر بعض الحيوانات المباحة المنفعة قال رحمه الله: [كالبغل، والحمار، ودود القزِّ وبزره والفيل]. قوله: (كالبغل)، فإن البغل فيه منفعة وهي منفعة الركوب، قال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8]، فنقول: هذه الأشياء ذكرها الله سبحانه وتعالى امتناناً على عباده، فذكر أنَّ الخيل والبغال والحمير تركب، وهذا الركوب منفعة مقصودة؛ لأن الإنسان يحتاج إلى الركوب للسفر، ويحتاج إلى الركوب للتجارة، وإلى غير ذلك من المصالح؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُس} [النحل:7]، والسياق سياق منَّة، وقد جعل الله سورة النحل التي وردت فيها آية الخيل والبغال سورة (النعم)، كما يسميها بعض العلماء رحمهم الله؛ لكثرة ما فيها من النعم التي امتنَّ الله بها على عباده، فالسياق سياق امتنان، فلمَّا امتن الله بركوب البغال دلَّ على أنَّ منافعها مباحةٌ مأذونٌ بها شرعاً، فإذا باع البغل فمعنى ذلك أنه يريد أن يشتريه لمصلحة الركوب، وهكذا لو باع الخيل، أو باع الحمار، فكلُّ هذه الأشياء يُقصدُ منها المنافع المباحة. وقوله: (ودود القزِّ وبزره)؛ لأنه يستخرج منه الحرير، وهي منفعة مباحة؛ لأن الحرير أحلَّه الله عز وجل لنساء الأمة، وهذا الحرير يُكْتسى ويُنْتفع به، وكذلك ينتفع به للمرض، فقد أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم لمن به حِكّة، كما في حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه، فهذه المنافع كلها مقصودة، فلو باع دودة القز فإن من يشتريها إنما يقصد من ورائها الانتفاع بما يكون منها من النسيج الذي يستخلص منه الحرير، كما لو اشترى بقرةً حلوباً؛ لأن البقر تباع للحليب، أو ناقةً حلوباً؛ لأن الناقة تباع للحليب، وتباع كذلك للحمها، وتباع لظهرها، وقد تباع لهذه الثلاثة الأشياء، فكلها منافع مباحة، فإذا باع بغلاً فإن معنى ذلك أنه يريد أن يركبه، وإذا باع دودة قز فمعنى ذلك أنه يريد ما يكون منها من نتاج القز الذي يستخرج منه الحرير، كما لو اشترى البهائم من أجل أن يجزَّ أصوافها أو أوبارها وأشعارها لكي يتخذ منها الأثاث واللباس. وقوله: (والفيل)، كذلك لو اشترى الفيل، فإن فيه مصالح، منها: الناب، حيث يتخذ من ناب الفيل أشياء، منها: الأمشاط التي تكون من العاج، ومنها: الأسورة التي تكون من العاج، وهو ناب الفيل، وكذلك أيضاً الركاب والرحال التي تحطُّ على الدواب يستفاد منها من عظم الناب، فهذه منافع يقصد منها، وكذلك الفيل يُركب في البلاد التي يركبون عليه كما يركب على البغال والحمير، وهذا في الأماكن التي توجد فيها الفيلة، وهذا من عظيم رحمة الله عز وجل وتفضيله لبني آدم، فإنك ترى الصبي الحدث يمتطي ظهر الفيل ويقوده حيث شاء، ولا يمكن للإنسان أن يتصور بعقله وإدراكه أن من كان في مثل هذا الحجم أن يقود هذا الحجم الكبير، ولكن الله عز وجل أذن، وإذا لم يأذن الله فلن يستطيع، فإن البعير يقوده الطفل الصغير ممسكاً بزمامه؛ ولكن إذا هاج البعير فقد يفتك بالقرية بكاملها، وقد ترى القرية بكاملها في ذعرٍ منه، وهذا يدلُّ على عظيم رحمة الله عز وجل وتفضيله لبني آدم، فاللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك؛ ولكن من الذي يعي ذلك؟! ومن الذي يقدر الله حقَّ قدره؟! وصدق الله عز وجل إذ يقول: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67]، فمن يتأمل في مثل هذه الأمور يدرك عظمة الله سبحانه وتعالى، ويدرك أن الله تعالى قد أحسن إلى العبد إحساناً غاية الإحسان، وليس بعد إحسان الله على عبده إحسان، ومن هنا كان الشكر لله وحده، فينبغي أن يكون على أتمِّ الوجوه وأكملها. فالمقصود: أن الفيلة تباع من أجل الركوب عليها، ومن أجل القتال عليها، كما كان في القديم، ومن أجل حمل الأمتعة عليها. قال رحمه الله: [وسباع البهائم التي تصلح للصيد]. قوله: (وسباع البهائم) أي: يجوز أن تباع سباع البهائم، والبهيمة مأخوذة من الإبهام، وأصل الإبهام الشيء غير الواضح، وقد قيل: سميت البهيمة بهيمة؛ لأنك لا تستطيع أن تفهم كلامها، وكلامها مبهمٌ عليك، ولا تستطيع هي أن تعبر لك بلغة تفهمها. والبهائم تنقسم إلى أقسام: فمن البهائم ما خلقه الله للأكل. ومنها ما خلقه الله للركوب. ومنها ما خلقه الله لأشياء عديدة، ومن أراد أن يتقصى ما في البهائم من الحكم والأسرار لحار عقله، وللإمام ابن القيم رحمه الله كلام جميل في (بدائع الفوائد)، فقد ذكر فيه نكتاً عظيمة في مسألة خلق البهائم للمقاصد، كأن يجعل هناك بهائم للأكل، وبهائم للشرب، وبهائم للركوب، وبهائم للقتال عليها، ولمصالح عديدة، وتجد أن هذه البهيمة لو جيء بغيرها مما هو أقوى منها لكي يقوم مقامها فلا يمكن؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]، فالله سبحانه وتعالى هداها لهذا الشيء المعين، ولا تستطيع أن تصرفها عن غير هذا الشيء، كأنها ما خلقت إلاّ لهذا الأمر. فالمقصود: أن الله سبحانه وتعالى جعل في كل بهيمة مقاصدها، فالسباع تعدو، والسباع العادية كالأسد والنمر واللبوة -وهي أنثى الأسد- ونحوها من هذه السباع، هذه تعلّم الصيد، فالأسد مثلاً يمكن تعليمه الصيد، وهناك طريقة اعتنت كتب الأدب بها، ومن أفضل الكتب التي تكلمت على هذه الفوائد كتاب (نهاية الأرب)، و (صبح الأعشى) للقلقشندي، فقد ذكر فيها طرق تعليم الحيوانات للصيد. وتنقسم هذه الحيوانات إلى قسمين: القسم الأول: الحيوانات التي على وجه الأرض، مثل السباع. القسم الثاني: الحيوانات الطائرة؛ كالصقر والباز والباشق والشاهين والعقاب، ونحوها من الطيور العادية. فسباع الطير وسباع البهائم يمكن أن يُسخر ويُذلَّل للصيد، فإذا باعه الإنسان أو اشتراه من أجل مصلحة الصيد به جاز؛ لأن الصيد مباح، ومنفعته مأذون بها شرعاً، قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4]، وكذلك قال عدي رضي الله عنه كما في الحديث الصحيح: (يا رسول الله! إني أصيد بكلبي المعلم، وبكلبي غير المعلم، وأصيد بهذه البزاة -وهي الباز- فماذا يحلُّ لي؟ فأنزل الله عز وجل آية الصيد: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4])، فدلَّت هذه الآية الكريمة على جواز تعليم السباع العادية الصيد؛ ولذلك قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4]، و (مُكلِّبين) مأخوذة من الكَلَب، وأصل الكَلَب القوة؛ لأن هذه البهائم فيها قوة وفتك بالفريسة، وسواء كانت من ذوات الطير أو كانت من ذوات السباع العادية من البهائم، فلو أنه اشترى أسداً من أجل أن يُعِّلمه الصيد صحَّ البيع وصحَّ الشراء، وكذلك لو اشترى لبوةً متعلمة للصيد صح كذلك، وهكذا النمر لو اشتراه معلماً الصيد وأراد أن ينتفع به للصيد فإنه يجوز له ذلك، وهذا هو الذي عناه المصنف رحمه الله بقوله: (وسباع البهائم). قال رحمه الله: [إلاّ الكلب والحشرات]. (إلاّ): استثناء، والاستثناء: إخراج لبعض ما يتناوله اللفظ، فقوله: (إلاّ الكلب) أي: لا يجوز بيع الكلب، مع أن فيه منفعة الصيد، وسنتكلم إن شاء الله على مسألة بيع الكلب؛ لأنها مسألة خلافية، وفيها ما يقارب خمسة أقوال للعلماء رحمهم الله، وفيها أدلة وردود ومناقشات. والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم بيع المساومة والمزايدة

حكم بيع المساومة والمزايدة Q ما حكم المساومة؟ وهل تقدح في شرط التراضي بين البائع والمشتري، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه وأفضل رسله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالمساومة: هي مفاعلة من السوم، والسوم: إعطاء القيمة في السلعة، كأن يعرض سلعة -كسيارة أو بهيمة- للبيع فتقول: أشتريها بعشرة، فإن قلت بعشرة فمعناها أنك سُمتها بعشرة، أو عرض أرضه أو عمارته للبيع، فقلت: أشتريها بمائة ألف، فسمتها بالمائة، فجاء غيرك وقال: بمائتين، إذاً: حصلت هنا منافسة وقد قيل لها: مساومة؛ لأنها مفاعلة من السوم، والمفاعلة في لغة العرب تستلزم وجود شخصين فأكثر، فلا يقال: مساومة، من شخص واحد؛ وإنما يقال: مساومة، إذا عرضت للمزاد، والمزاد: هو طلب الزيادة، بمعنى: أن يتنافس اثنان أو أكثر في سلعة ما، فيقول الأول: بعشرة، ويقول الثاني: بعشرين، ويقول الثالث: بخمسة وعشرين، ويقول الرابع: بثلاثين وهكذا، فهذا هو السوم. والسوم له أحوال: أما من حيث الأصل والمعروف والشائع أن السلعة توضع بين الناس، ثم يتساومون عليها أو يزيدون فيها، فهذا جماهير العلماء رحمهم الله وحكى غير واحد الإجماع على أنه جائز؛ لكن حُكي عن البعض أنه لا يجوز، واستدلوا بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المزايدة، وهذا الحديث ضعيف، فقد ضعفه الإمام البخاري وغيره، ولا يصح ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن المساومة، والمساومة التي حرمها عليه الصلاة والسلام إنما هي سوم المسلم على أخيه، والسوم الذي حرمه الله عليك على أخيك المسلم شرطه: أن يتراكن الطرفان، أما لو عرض سيارته للبيع في المعرض أو أمام بيته أو في السوق، فقال رجل: بعشرة آلاف، فقلت أنت: بعشرة آلاف وخمسمائة، فإن قولك هذا ليس من سوم المسلم على أخيه المسلم؛ وإنما هو مزايدة، وفرق بين السوم وبين المزايدة، وأما السوم على أخيك المسلم الذي حرمه الله، فهو أن يأتي رجل ويقول: اشتريتها بعشرة آلاف، فيقول البائع: قبلت، ورضي بهذه العشرة، وقبل أن يفترقا ويتم البيع قلت أنت: أعطيك عشرة وخمسمائة، فإذا تراكنا ورضيا فلا يجوز لأحد أن يدخل بينهما؛ لأنه يُقَطِّع أواصر الأُخوة، ومن هنا كأن الله يبيح لنا البيع؛ لكن بشرط ألا يهدم الدين، وألا تكون الدنيا سبباً لإفساد الدين، فحرم على المسلم أن يبيع على بيع أخيه المسلم، أو يسوم على سومه، وبيعه على بيع أخيه أن يتراكنا فيقول: أبيعك السيارة بعشرة آلاف، فيقول المشتري: رضيتها بهذا الثمن، وإذا بالآخر يقول: عندي سيارة مثلها أبيعها لك بتسعة آلاف، أو بتسعة وخمسمائة، فإن هذا من البيع على بيع المسلم، فيحرم على المسلم أن يسوم على أخيه المسلم وأن يبيع على بيعه. فإذا تراكنا فإنه تنقطع المساومة، والذي ينقطع به السوم إذا وقفا وكأنهما رضيا بذلك، فجاء الآخر يسوم في غير المزاد، فهذا محظور. وعلى هذا فإنه يجوز للإنسان أن يسوم ولا بأس به. وقد يقول القائل: لكن الإشكال في مسألة سوم المسلم على أخيه أن الرضا ليس موجوداً، فنقول: بالنسبة للبيع الرضا موجود، وليس في هذا إشكال، أي: بيع المساومة والمزايدة لا يمنع وصف الرضا؛ لأن الذي أتى بالسلعة إلى المعرض أتى بها باختياره وبرغبته ثم هو يضعها أمام الناس يسوموها، فإن أراد أن يبيع وإلاَّ امتنع، فليس هناك إكراه له على أن يبيع، وكذلك الذي يسوم ليس هناك أحد حَدّه وألزمه. وأما الإثارة التي تقع من كونك تقول: عشرة، والآخر يقول: خمسة عشر، فرزق ساقه الله إليك، فكونك أنت ترى أنها تستاهل العشرة فقلت: عشرة، فجاء غيرك وقال: اثنا عشر، وكأن السائل يقصد أنه لم يقلها برضا؛ وإنما قالها منافسة للغير من أجل أن يأخذ المال وكأنه مكره، فمثل هذا ليس بمؤثر، وأصل الرضا المعتبر لصحة البيع موجود وغير مفقود، وليس هناك أحد يلزمه أن يشتري هذه السلعة بقليل ولا بكثير، ومن هنا لا اعتراض. والله تعالى أعلم.

كيفية الحجر

كيفية الحجر Q كيف يكون الحجر؟ هل بسلب المال من يديه؟ أم بحبسه وعدم تمكينه من البيع والشراء؟ أثابكم الله. A هناك جانبان لمن يحجر عليه: الجانب الأول: أن يمنع من التعاقد على هذه السلعة، أي: لا يملك أن يقول لك: بعتك، ولا يملك أن يقول لك: اشتريت منك، فالمحجور عليه لا يبيع ولا يشتري إلا بإذن وليه، فإذا أذن وليه بالبيع والشراء صح ولزم ولا إشكال، والولي ينظر في بيعه وشرائه، فإن كان من المصلحة أن يمضيه أمضاه، وإن كان فيه ضرر ألغاه. وأما بالنسبة لقضية الحَجر بالفعل فلا يمنع المحجور عليه من الخروج من بيته، ومن هنا تجد دقة الفقهاء حينما قالوا: منع نفوذ تصرف قولي لا فعلي، فهناك فرق بين الاثنين؛ لأن العقود تقع بالأقوال وإن كانت الأفعال تابعة، كما قلنا في بيع المعاطاة: ينعقد البيع بما يدل على الرضا وإن تعاطى الكل فنحن نقول: إن الأفعال تابعة وليست بأصل في هذا، وأيَّاً ما كان فإن المحجور عليه يمنع من التصرف في قوله لا في فعله. أما بالنسبة للفعل المبني على القول كأن يهدي السيارة، أو جاءه مسكين فأعطاه، فإنه لا يصح هذا الإعطاء، ولا تصح هبته ولا تصح صدقته كذلك، فلا يُتَصَدَّق بمال اليتيم، وهناك خطأ تقع فيه بعض الأمهات -أصلحهن الله- أنه إذا توفي زوجها وترك إرثاً لأولادها وكانوا أيتاماً، وأرادت أن تتصدق عن الزوج بحكم العاطفة والمحبة، وهي مأجورة على هذا الشعور؛ لكن تأتي إلى مال اليتيم وتتصدق منه وتقول: هذا لأبيهم؛ وهذا خطأ؛ لأنها جُعِلَت ناظرة على مالهم وحاضنة لهم وقائمة على المال لمصلحة المال لا لضرره، وكذلك الولي لو قال: أريد أن أتصدق على نية اليتيم، فلا ينفذ ذلك التصدق ولا يصح، وعليه أن يضمن جميع المال، وإذا بلغ اليتيم يلزمه القاضي بإحضار المال كله. فينبغي أن يُفهم أن التصرف يمنع لمصلحة المحجور عليه، وتحقيقاً لمقصود الشرع من الرفق بالناس، حتى لا يسترسل من لا يحسن النظر في ماله في الإضرار بنفسه.

حكم بيع الحيوانات المحنطة

حكم بيع الحيوانات المحنطة Q ما حكم بيع الحيوانات المحنطة، أثابكم الله؟ A الحيوان المحنط له حالتان: الحالة الأولى: أن يذكى ذكاة شرعية ثم يحنط، فإذا ذكي الذكاة الشرعية ثم حنط وبيع، وكان في بيعه منفعة؛ كالتعليم، أو شيء يحتاج إليه، فحينئذٍ لا إشكال، وله وجه من الجواز، ومن قال بالجواز فقوله له أساس من النظر. الحالة الثانية: إذا كان الحيوان لم يذك، أو كان من جنس ما لا يذكى، فإنه إذا حنط فلا يجوز بيعه ولا شراؤه؛ لأنه ميتة، وقد جاء في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة: (إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة، والخنزير، والأصنام)، فحرم النبي صلى الله عليه وسلم بيع الميتة، والحيوان المحنط غير المذكى ميتة. ثم إننا لو تأملنا لوجدنا أن هذا الحيوان المحنط والذي يُشترى بمائة أو بمائتين أو بخمسمائة، وبعض الحيوانات النادرة إذا حنطت بطريقة ما فإن قيمتها قد تصل إلى الألف، وهذه الألف الريال قد تغني عشرة بيوت من فقراء المسلمين اليوم واليومين؛ بل إنه قد تكون عليهم فضلة في الأسبوع لو أنهم أحسنوا النظر، فكيف تذهب هدراً في لقاء حيوان محنط وميتة؟! وهذا كله ينبغي أن ينظر فيه المسلم، وأن يعلم أن الله سائله، وأنه -كما في الحديث-: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: وذكر منها: وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه). فالحيوان المحنط الذي فيه منفعة؛ كمصلحة تعليم الطب، أو تعليم الأشياء التي يحتاج إلى تعلمها، وتوجد مصالح للعامة في تعلمها، فإن بيعها وشراءها بعد تحقق الشروط التي ذكرناها جائز شرعاً إذا ذكيت الذكاة المعتبرة شرعاً، وأما بغير ذلك فإنها تعتبر ميتة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ونبيّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب البيع [4]

شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [4] الأصل في العين الطاهرة المباحة جواز بيعها، إلا ما استثناه الشرع فحرم بيعه، لنجاسته أو انتفاء المنفعة المقصودة منه، أو غير ذلك. وفي هذه المستثنيات أحكام وتفاصيل وتفريعات وخلافات ينبغي معرفتها لمن يريد أن يستبرئ لدينه ومعاملاته.

ما يحرم بيعه

ما يحرم بيعه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وأن تكون العين مباحة النفع من غير حاجة، كالبغل والحمار ودود القزِّ وبزره، والفيل، وسباع البهائم التي تصلح للصيد]، ثم استثنى فقال: [إلاّ الكلب، والحشرات، والمصحف، والميتة]. فشرع المصنف رحمه الله في بيان ما يستثنى من المبيعات، وهذه المبيعات التي تستثنى حُكم بحرمة بيعها، وقد بيّن لنا ما فيه منافع مباحة، وذكر الأمثلة على ذلك، وقد ذكر أمثلتها من الحيوانات والحشرات، فلما فرغ من بيان المباح شرع في بيان غير المباح. وإذا حكم بعدم جواز البيع للعين، فذلك إمّا أن يكون السبب نجاسة العين، وإمّا أن يكون السبب استثناء من الشرع لهذه العين، فحكم بعدم جواز بيعها، وإمّا أن يكون استنباطاً فهمه الفقيه من خلال نصوص الشرع، أو كان فيه أثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم باستثنائه. ولا بد أن نقعِّد قاعدة وهي: (أن الأصل في الأعيان الطاهرة أنه يجوز بيعها)، فلو سُئلت عن بيع القماش ف A هذه عين طاهرة فالأصل جواز بيعها، وإذا سُئلت عن بيع الخشب قلت: هذه عين طاهرة الأصل جواز بيعها، وإذا سُئلت عن جواز بيع الحديد والنحاس والنيكل والألمنيوم وغيرها من سائر المبيعات والأعيان الطاهرة فقل: هذه أعيان طاهرة يجوز بيعها. فالمصنف رحمه الله بعد أن بيّن لنا ما فيه منفعة مباحة شرع في الاستثناء، وإذا استثنيت الأعيان التي فيها منافع مباحة، فإنها: إمّا أن تستثني لورود نص من الشرع، فتقول: الشرع قال هذه العين لا تباع. وإما أن تستثني نظراً إلى المنفعة الموجودة في هذه العين لا يلتفت إليها الشرع، أي: لا يقيم لها وزناً لأنها غير مقصودة، فإذا لم يقم الشرع لهذه المنفعة قيمة، فمعنى ذلك أنه لا يجوز دفع المال في مقابلها؛ لأنك إذا دفعت المال لقاء الشيء الذي لا قيمة له فهو من السرف الذي نهى الشرع عنه، ومن السفه الذي لا يليق بالمسلم أن يتعاطاه ويفعله؛ لأنه من إضاعة المال. وإمّا أن تكون العين نجسة، فإذا كانت العين نجسة، وهي قسمان: النجاسة في الحيوانات، والنجاسة في غير الحيوانات، فلنأخذ هذه الأربعة الأقسام: - فأمّا ما استثني من الشرع، أي: ما كان أصله مباحاً ثم استثني، فإنه يشمل نوعين: الكلب والحشرات، فإن الأصل في الحيوانات جواز البيع؛ لأن الله سخرها لمنافع يُحصّلها الآدمي، وخلقها الله من أجل أن ينتفع بها الآدمي، فالأصل في منافعها الموجودة فيها أن الآدمي يرتفق بها، فلو دفع المال لقاءها فقد حصّل مقصود الشرع. فالإبل -مثلاً- جعل الله فيها منفعة الركوب، وجعل الله فيها منفعة الأكل من لحمها، وجعل الله فيها منفعة الصوف وما يكون عليها من الوبر، وجعل فيها منفعة حمل الأثقال، فإذا جئت تشتري الإبل لقاء هذه المنافع فأنت تدفع المال لقاء منفعة مقصودة معتبرةٍ شرعاً. إذاً: الحيوانات في الأصل سخرّها الله لمنافع للآدمي؛ ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13]، سخرَّه كلَّه لابن آدم؛ تكريماً وتشريفاً لهذا الآدمي حتى يحمده سبحانه ويشكره على ما أسدى، وقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13]. فالله عز وجل جعل لنا هذه الأعيان لننتفع بما فيها ونرتفق بتلك المنافع. فإذاً نضع قاعدة وهي: أن الحيوانات الأصل أنه يجوز بيعها لمنافعها، فتقول: استثني من الحيوانات الأحياء نوعان؛ لأن الحيوان: إمّا حيّ، وإمّا ميت، فاستثني الحيوان الذي ورد النص بتحريم بيعه وهو الكلب، كما جاء في الأحاديث الثابتة في الصحيحين وفي غيرهما عن عقبة بن عامر البدري وعن جابر بن عبد الله ورافع بن خديج وعبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع، وكلها أحاديث صحيحة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم ثمن الكلب، وحرم بيعه. إذاً نقول: الأصل في الحيوانات جواز بيعها؛ لكن يستثنى الكلب فلا يجوز بيعه. وفيه خلاف سنذكره، وهذا النوع الأول. والنوع الثاني: يُستثنى الحشرات؛ لأن الحشرات ليست فيها منفعة مقصودة، فهي لا تؤكل، ولا يُنتفع بها انتفاعاً مقصوداً، وهذا في الزمن القديم؛ لكن لو احتيج إلى نوع خاص، وهي الحشرات التي كانوا يستخدمونها عُلقاً للدم، أي: كان الأطباء يستخدمون نوعاً من الحشرات في الجروح الملوثة، يُدخلون فيها هذا النوع فيسحب الجراثيم الموجودة، ثم تُرفع هذه العلق الموجودة وعليها الجراثيم الموجودة فيتنظف الجرح، وهذا مما علمه الله عز وجل ابن آدم دفعاً لمفسدة الجرح وضرره على البدن. فهذا النوع من العلق لو بيع جاز بيعه؛ لأن درء مفسدة المرض مقصودة شرعاً. كذلك أيضاً: لو أنك اشتريت حشرات تريدها غذاءً للطيور فإنه يجوز؛ لأن حياة الطير مقصودة، ومنفعتك من بقاء الطير مقصودة. أو اشتريت حشرات طعاماً للأسماك فيجوز. المقصود: أن الحشرات من حيث النظرة الغالبة فيها أنه ليس فيها منفعة؛ لكن كونها في بعض الأحيان تستثنى فإنه يستثنى منها بقدر، فالعلماء يقولون: (والحشرات)، فجمعوا لنا بين صنفين: الكلب والحشرات. وهنا Q لماذا قدّم المصنف الكلب وأخّر الحشرات؟ الجواب: لأن النص الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في التحريم في الكلب أقوى منه في الحشرات، فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم نص في الحشرات؛ لكن العلة في تحريم بيع الحشرات أن تقول: أحرمها لأنه لا منفعة فيها، ودفع المال لقاءها سفه، وقد نهى الله عز وجل عن السفه وقال: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} [النساء:5]، فجعل السفه صفةً موجبةً للحجر، وذلك يدلُّ على حرمة إضاعة المال. إذاً عندنا نوعان: النوع الأول: الكلاب. والنوع الثاني: الحشرات. بعد هذا عندنا شيء يستثنى لمعنى قريب من معنى الحشرات: وهو أن تكون المنفعة التي تقصد قد منع الشرع من بيعها مع أن المنفعة موجودة في العين، كالمصحف؛ فإنه لا يجوز للمسلم أن يبيع كلام الله على أنه يأخذ الثمن لقاء هذا، أي: كمكافأة على كتاب الله عز وجل وكلامه، حتى قالوا في العلم والتدريس ونحو ذلك: إذا قصد أن تكون قيمةً لكلامه، فلا يجوز. لكن من حيث الأصل؛ حينما تنظر إلى ورق الكتاب الذي فيه المصحف وفيه كلام الله تجد أنه مما يجوز بيعه، فالكتاب بذاته يجوز بيعه؛ لكن لما كان المقصود من الكتاب قراءة ما فيه من الآيات، وكأن أمرها مغلظاً وحرمتها عظيمة، وليست من الأعراض التي تباع، بحيث يجعلها الإنسان ممتهنة مبتذلةً للبيع، فلذلك تقول: أمنعها لهذا المعنى. وهذا المعنى يلتفت فيه إلى المنفعة؛ لأن المقصود من المصحف -الأوراق- كلام الله عز وجل، والمقصود من كلام الله الاهتداء، والاهتداء لا يؤخذ عليه أجر: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان:57]. وقال الله عز وجل عن أنبيائه نوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب ولوط عليهم السلام؛ كلهم قالوا كما في سورة الشعراء: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:109]. فنفى سبحانه أن تكون الرسالة لقاء مال أو لقاء عرضٍ من الدنيا، والقرآن هو رسالة الله عز وجل إلى خلقه، فهو كلام الله عز وجل الذي تكلم به سبحانه وأوحى به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فهذا الكلام لا يجوز لأحد أن يبيع نفس الكلام قاصداً بيع الكلام نفسه؛ لأن مثله أعظم وأجل من أن يباع. فإذا ثبت هذا فإننا إنما نظرنا إلى جهة المنفعة، وهذا من الناحية الفقهية ومن ناحية الاصطلاح الذي رتبناه وذكرناه. فذكر المصنف رحمه الله بيع المصاحف بعد الحشرات من جهة المنفعة، فإن الحشرات منفعتها غير مقصودة، والمصاحف المنفعة منها أن يهتدي الخلق بكلام الله عز وجل، وهذه الهداية لا تباع ولا تُشترى، وليست محلاً للبيع والشراء. بقي النوع الأخير وهو الميتة والنجاسات: فالميتة والنجاسات ورد فيها النص، ولها أصول معينة سنتكلم عليها، فاستثنى المصنف رحمه الله هذه التي نصّ عليها: (إلاّ الكلب، والحشرات، والمصحف، والميتة). فقدم الكلب؛ لأن النصّ في تحريمه صحيح صريح، وهو حديث الصحيحين. ثم أتبع الكلب بجنسه وهي الحشرات لأنها لا منفعة فيها، ثم أتبع بالمصاحف؛ والسبب في هذا أن دليل تحريم المصاحف أضعف من دليل تحريم بيع الكلاب، وكذلك بيع الحشرات؛ لأنه إنما أُثر عن بعض الصحابة وهو عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه. وأتبع بالميتة؛ لأن لها تفصيلات في أنواع النجس والمتنجس، وسنذكرها إن شاء الله.

حكم بيع الكلب وذكر أنواعه

حكم بيع الكلب وذكر أنواعه

شروط الكلب المعلم

شروط الكلب المعلم أولاً: الكلب، وينقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما فيه منفعة مأذون بها شرعاً، وهو كلب الصيد والحرث والماشية، فجعل الله الكلب للصيد رفقاً بالناس، ولا يكون الكلب كلب صيد إلا إذا توفرت فيه ثلاثة شروط: الشرط الأول: أن يشليه فينشلي. الشرط الثاني: أن يدعوه فيجيب. الشرط الثالث: أن يزجره فينزجر. ومعنى (أن يشليه فينشلي) أي: يحرشه على الفريسة، فيكون بينه وبين الكلب صوت معين، فإذا صاح به انطلق الكلب على الفريسة، بحيث يكون الكلب جالساً، حتى لو مرت الفريسة من أمامه لا يتحرك من طاعته وتعلمه، ولا يمكن أن يرتسل إلى الفريسة إلاّ بإذن سيده، فإذا أشار سيده إلى الفريسة ذهب ليأتي بها، وإذا أشار له إلى قطعة قماش ذهب ليأتي بها. والإشلاء في لغة العرب يطلق بمعنى: التحريش، ويطلق بمعنى الدعوة، أي أنه من الأضداد؛ فمعناه: أن تدفع الشيء وأن تدعو الشيء، ومن هنا ورد استخدامه بمعنى التحريش، ومنه قول الشاعر: أَتَيْنَا أَبا عَمْرٍو فَأَشْلَى كِلاَبَهُ عَلَيْنَا فَكِدْنَا بَيْنَ بَيْتَيْهِ نُؤْكَلُ فهذا رجل بخيل جاءه أصحابه للزيارة، فإذا به خاف من كلفة الضيافة، فأشلى عليهم الكلاب، فقال قائلهم: أَتَيْنَا أَبا عَمْرٍو فَأَشْلَى كِلاَبَهُ عَلَيْنَا فَكِدْنَا بَيْنَ بَيْتَيْهِ نُؤْكَلُ (فأشلى) أي: حرّش الكلاب علينا. ويستعمل الإشلاء بمعنى الدعوة، ومنه قول الشاعر: أَشْلَيْتُ عَنْزِيْ وَمَسَحْتُ قعبي ثُمَّ انْثَنَيْتُ وَشَرِبْتُ قَأْبِيْ (أشليت عنزي) أي: دعوتها، يناديها حتى تأتي، (ومسحت قعبي) القعب: هو القدر الذي يريد أن يحلب فيه الإناء؛ لأنه يريد أن يحلب. (ثم انثنيت) أي: بعد ما حلبتها، (وشربت قأبي)، يقال: (قبّه) إذا لم يُبْقِ فيه شيئاً، هذا معنى البيت. الشاهد: استخدام الإشلاء بمعنى الدعوة. إذاً الإشلاء إذا ذكره العلماء فيقصدون به التحريش، ويقصدون به الدعوة، وهذان شرطان لا بد وأن يوجدا في الكلب. لكن متى يكون الكلب كلب صيد حتى يجوز لك بيعه -إذا قيل: بجواز بيعه عند من يستثنيه - ويجوز لك أكل صيده؟ يشترط أن تشليه ثلاث مرات ويطيعك، وتزجره ثلاث مرات ويطيعك، وتدعوه ثلاث مرات ويطيعك، فمثلاً: رميت شيئاً فحرشته عليه فذهب وجاء به، ثم رميت شيئاً آخر فذهب وجاء به، ثم رميت قطعة لحم مثلاً فذهب وجاء بها، فهذه ثلاث مرات، إذاً: تم الشرط الأول وهو الإشلاء أو التحريش. بعد ذلك تنتقل للشرط الثاني: وهو أن يكون في مكان ثم تدعوه فيأتيك، ثم تتركه ساعة أو نصف ساعة أو قدراً من الزمن ثم تدعوه بالصوت نفسه فيأتيك، ثم المرة الثالثة فيأتيك، فإذا جاءك ثلاث مرات انطبق الشرط الثاني: وهو أن تدعوه فيجيب. ثم بعد ذلك تنتقل للشرط الثالث وهو: أن تزجره فينزجر، كأن تضع أمامه قطعة لحم، فيأكل منها، فتصيح عليه صيحة معينة فيكف ويقف، فإذا فعلها المرة الأولى والمرة الثانية والمرة الثالثة تحقق الشرط الثالث. فلو سنح لك ظبي فأرسلته وذكرت اسم الله، فصاده، وجاء به ميتاً من صيده حلَّ لك أكله؛ لأنه قد انطبقت الشروط الثلاثة بالتعليم ثلاث مرات. وبعض الأحيان قد لا يأخذ تعليم الكلب إلا نصف ساعة، أو ساعة إلا ربع، وهذا يختلف بحسب نوعية الكلب المعلّم، وطريقة التعليم، وطبيعته في استجابته للإنسان، وحبّه أن يكون تحت يده وتحت سلطانه. وكذلك في كلب الحرث، وكلب الماشية، هذه الثلاثة أذن الشرع بها. القسم الثاني: الكلاب المطلقة.

أقوال العلماء في بيع الكلاب وأدلتهم

أقوال العلماء في بيع الكلاب وأدلتهم اختلف العلماء هل يجوز بيع الكلب، أو لا يجوز؟ وذلك على أقوال: القول الأول: لا يجوز بيع الكلب مطلقاً، وهذا القول هو مذهب التحريم المطلق، وبهذا القول قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهو مرويٌّ عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وقال به بعض التابعين: كـ الحسن البصري وحماد بن أبي سليمان شيخ الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وكذلك قال به ربيعة الرأي والأوزاعي فقيه الشام، وهو مذهب المالكية في المشهور، والشافعية والحنابلة وأهل الحديث والظاهرية. وتستطيع أن تقول: مذهب الجمهور أنه لا يجوز بيع الكلب مطلقاً، سواء كان كلب صيدٍ، أو حرثٍ، أو ماشيةٍ، أو كلباً مطلقاً، سواءً كان كلباً صغيراً، أو كلباً كبيراً، ولا يجوز دفع المال لقاء الكلب. القول الثاني: أنه يجوز بيع الكلب مطلقاً، أي: عكس القول الأول تماماً، وهذا هو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله: أنه يجوز بيع الكلب مطلقاً سواءً كان كلب صيدٍ، أو ماشية، أو حرثٍ، وسواء كان كلباً صغيراً، أو كبيراً، فيجوز أن تبيعه لما فيه من المنافع. القول الثالث: يجوز بيع الكلب إلاّ الكلب العقور، فيوافق القول الثاني؛ لكن يستثنى الكلب العقور، وهو الذي يهجم على الناس ويؤذيهم ويقطع عليهم طرقهم، فكلما أرادوا قضاء مصالحهم آذاهم وتحرّش بهم، وهذا النوع من الكلاب استثناه القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهما الله. القول الرابع: لا يجوز بيع الكلب إلاّ كلب الصيد والماشية والزرع التي هي الكلاب المرخص بها، وهذا القول مأثور عن بعض الصحابة، قال به جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه، وكذلك قال به إبراهيم النخعي، وزيد بن علي بن الحسين الفقيه المشهور. القول الخامس: وهو في مذهب الإمام مالك رحمه الله: يجوز بيع الكلب لمن يأكله؛ أي: لمن يريد أن يأكله، لأن هناك قولاً في مذهب الإمام مالك أنه يجوز أكل الكلب؛ لأنه طاهر. والمالكية يرون أن الكلب طاهر، ويستدلون على طهارته بجواز أكل صيده، قالوا: ولو كان غير طاهر لما حلَّ أكل صيده؛ لأنه ينهش بفمه، فلو كان نجساً لما حلَّ أكله. قالوا: وأمّا الأمر بغسل الإناء سبعاً منه فهذا أمرٌ تعبدي، ولو كان للنجاسة لكان ثلاثاً، وقد ذكرنا هذه المسألة في كتاب الطهارة، وبيّنا أن الصحيح أن الكلب نجس العين. فالحاصل أنه على الرواية التي تقول إن الكلب يجوز أكله، يجوز بيعه لمن يأكله؛ لأنه إذا اشتراه من أجل الأكل فإنها منفعة مقصودة، وليس مراده أن يبقيه، وهذا عند أصحاب الإمام مالك رحمه الله، وهي من مفردات مذهب المالكية، ولذلك يقول الزمخشري -عامله الله بما يستحق-: وإن مالكي قلت قالوا بأنني أبيح لهم لحم الكلاب وهمْ همُ إذاً: عندنا خمسة أقوال: قولٌ بالتحريم، وقولٌ بالجواز، وقولٌ باستثناء الكلب العقور من الجواز، وقولٌ بالتحريم باستثناء كلب الصيد والحرث والماشية من التحريم، وقول بجواز البيع لمن يريد أن يأكله. فأما الذين قالوا بالتحريم المطلق فاحتجوا بالأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولها: حديث عقبة بن عامر البدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثمن الكلب سحت)، وهذا حديث متفق عليه، ووجه الدلالة منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ثمن الكلب سحتاً، والسحت حرام، فلا يجوز بيع الكلاب، وأثمانها محرمة. الدليل الثاني: حديث رافع بن خديج رضي الله عنه وأرضاه، وهو في الصحيح أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثمن الكلب خبيث)، فهذا الحديث الصحيح نصَّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ثمن الكلب خبيث، ومعنى ذلك أن ثمن الكلب محرم؛ لأن الله حرم على هذه الأمة الخبائث، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم الثمن بكونه خبيثاً، إذاً فالبيع محرم، وهذا هو مقصود النبي صلى الله عليه وسلم من وصفه بالخبث. الدليل الثالث: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صحيح مسلم: أنه لما سُئل عن بيع الكلب والسِّنَور قال: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه) والسنور: هو القط، ويطلق على القط البرَّي والقط الأهلي المستأنس. فأمّا القط البرّي المتوحش فهذا يفسد الزرع، ويعدو على الدجاج وعلى الطيور، ويؤذي بني آدم، وإذا خلا بالإنسان فإنه يؤذيه، وقد يتغذى بالخبائث، ويؤذي الطريق كثيراً، فهذا النوع هو الذي قصده جابر عندما قيل له: (والسنور). أمّا القط الأهلي فقد نقل الإجماع على جواز بيعه، وجماهير العلماء على جواز بيعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات). الشاهد: أنه قال: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه)، أي: الكلب، وهي صيغة من صيغ التحريم عند الأصوليين، والزجر عن الشيء الطرد والإبعاد عنه، فمعنى ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن هذا الشيء، ولا يزجر إلاّ عن حرام. الدليل الرابع: حديث عبد الله بن عباس في سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لما نهى عن ثمن الكلب: (فإن جاءك يريد ماله فاملأ كفه تراباً) أي: إذا جاء يريد أخذ قيمة الكلب فاملأ كفه تراباً، وهذا يدل على حرمة ثمن الكلب، وأنه لا قيمة له، وعلى هذا قال الجمهور: لا يجوز بيع الكلاب مطلقاً. وقالوا: هذه الأحاديث حينما تأملناها ونظرنا فيها وجدناها لم تفرق بين كلبٍ وآخر، ولم تفرق بين حالةٍ وأخرى، فهي عامة في الكلاب ومطلقة في الأحوال. عامة في الكلاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين الكلب الصغير (الجرو) ولا الكبير، ولم يفرق أيضاً بين كلب الماشية والحرث والصيد وغيرها، وإنما عمم: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم)، (نهى النبي صلى الله عليه وسلم)، (ثمن الكلب خبيث)، (ثمن الكلب سحت)، وهذا كله عام. وكذلك في الأحوال: لأنك إذا قلت: أريده لحالة معينة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص في حالة دون أخرى. أدلة القول الثاني: الذين قالوا بجواز البيع مطلقاً وهم الحنفية فقد استدلوا: بأن الكلب مال، والقاعدة عندهم: أنه يجوز بيع المال، والأصل جواز بيع الأموال. والمال عندهم كل شيء فيه منفعة، فيقولون: الكلب كسائر الأموال، ففيه منفعة الصيد، ومنفعة حراسة الحرث والماشية، فلما كانت هذه المنفعة موجودة فيه وهي مقصودة شرعاً، فإنه يجوز أن تبيعه وتأخذ القيمة لقاء هذا الشيء الذي هو فيه من المنافع، وهذا دليل عقلي. القول الثالث: الذين يوافقون القول الثاني لكنهم يستثنون الكلب العقور؛ قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله كما في الصحيحين: (خمسٌ يقتلنَّ في الحلَّ والحرم، وذكر منها: الكلب العقور). القول الرابع: الذي استثنى كلب الصيد والماشية والزرع، وهو قول جابر بن عبد الله وإبراهيم النخعي وزيد بن علي رحم الله الجميع. يقولون: دليلنا ما جاء في حديث أبي داود والنسائي والترمذي والدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثمن الكلب إلاّ الضَّارِيَ سحتٌ) وفي رواية: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب إلاّ كلب الصيد) قالوا: هذا الحديث يدلُّ على استثناء الكلب الضَّارِيَ وكلب الصيد، وإنما خرجا لمنفعة مخصوصة أُذن بها وهي منفعة الصيد، فنقيس عليها منفعة حراسة الحرث وحراسة الماشية. القول الخامس والأخير: وهو مذهب الذين قالوا بجواز البيع لمن يأكله، وهم يقولون: إنه طاهر العين مباح المنافع، فيجوز بيعه لهذه المنفعة المباحة وهي أكله. قيل لهم: الشرع نهى عن اتخاذ الكلاب، قالوا: هذا لا يتخذه؛ لأنه يريد أن يأكله، فحينئذٍ يأخذه ويذبحه مباشرة، فليس هناك اتخاذ محرم.

القول الراجح في حكم بيع الكلاب

القول الراجح في حكم بيع الكلاب والذي يترجح في نظري من هذه الأقوال: القول بالتحريم مطلقاً، لعدة أسباب: أولاً: لصحة دلالة السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحريم، ودلالتها واضحة وصريحة، ولم تفرق بين نوع وآخر. ثانياً: أمّا قول الحنفية بأن الكلب مال، فنجيب عنه من وجهين: الوجه الأول: لا نسلم صحة هذا الدليل العقلي؛ لأن الكلب ليس بمالٍ من كل وجه، وإنما هو مال في أشياء معينة مخصوصة جاءت على سبيل الرخصة، فلا يجوز التوسع فيها، لأنك إذا قلت: إنه جاز للصيد وجاز للحرث والماشية، وقلت: يجوز بيعه لأن فيه هذه المنافع؛ فمعنى ذلك أنه جاز للصيد والحرث والماشية والبيع، فتزيد على استثناء الشرع، والشرع إنما استثنى ثلاثة أحوال: أن تجعله لحراسة حرث، أو ماشية، أو تصيد به. فإذا جاء يبيعه فمعنى ذلك أنه أصبح هناك منفعة رابعة وهي منفعة البيع، فهذا دليل عقلي يعارض الأصل الشرعي، فنقول: إن قولكم: إن فيه منفعة، لا نسلم لكم أن فيه منفعة من كل وجه، ففيه منفعة مخصوصة مرخص فيها ينبغي التقيد بها؛ لأن ما جاء على خلاف الأصل ينبغي أن يتقيد به بالنص الوارد: فالأصل عدم جواز اتخاذ الكلب، وتقيد بهذه الثلاثة الأحوال، فيجوز لمن يريد اتخاذه أن يتخذه على هذه الثلاثة الأحوال المعينة. أمّا الوجه الثاني فنقول: سلمنا جدلاً أن هذا الدليل العقلي صحيح، وهو أن الكلب مال وفيه منفعة؛ لكننا نقول: هذا اجتهاد مع النصّ، والقاعدة: (لا اجتهاد مع النص). أي: هذا وجه من القياس نسلم به ونقول: هو من ناحية الشكل صحيح لكنه معارضٌ للنص، والقاعدة: أن القياس يقدح فيه من أربعة عشر وجهاً يسمونها قوادح القياس. وقد ذكرها العلماء رحمهم الله في مبحث العلة في الأصول، وبينوا أوجه نقض القياس، ومنها: فساد الاعتبار، وهو أن يأتي المجتهد ويقيس شيئاً على شيء، فيحكم بالجواز في شيء ورد النص بتحريمه، فتقول: الكلب مال يجوز بيعه كسائر الأموال بجامع وجود المنفعة في كلٍ، وهذا قياس صحيح من ناحية الشكل وأركانه موجودة؛ ولكنه قياس مصادم للنص، والقاعدة: أنه لا اجتهاد مع النص، وهذا القادح يسمونه (قادح فساد الاعتبار)، أي: فسد اعتبار هذا القياس، وليس له قيمة ما دام أنه صادم النص من الكتاب والسنة. أمّا القول الثالث: الذي استثنى كلب الصيد، فاستثنوا للحديث الذي ذكرناه، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه في استثناء الكلب الضاري. وهذا الحديث نجيب عنه من وجهين: الوجه الأول: من جهة السند. الوجه الثاني: من جهة المتن. أمّا من جهة السند فهو حديث ضعيف، قال النسائي: إنه منكر، وكذلك ضعفه الإمام أحمد والإمام الترمذي رحمهم الله وهم أئمة الشأن، فقالوا: إنه حديث ضعيف؛ لأنه من رواية الحسين بن أبي جعفر الكرابيسي، وهو ضعيف الرواية، بل جزم النسائي رحمه الله بأنه منكر الرواية. ولو سلمنا صحة هذا الحديث من ناحية كونه حسناً لغيره بالطرق، أو أن السند قابل للتحسين فإننا نقول: عارضه ما هو أصح فيقدم؛ لأن الحسن لا يحتج به إذا عارض ما هو صحيح، ولذلك يقولون في الحسن: وَهوَ فِي الْحُجَّةِ كَالصَّحِيْحِ وَدُوْنَهِ إِنْ صِيْرَ للتَّرْجِيْح أي: لا يمكن أن تصادم حديثاً صحيحاً بحديث حسن، وفائدة تقسيم العلماء الحديث إلى صحيح وحسن هو: أنها إذا تعارضت قدم الصحيح على الحسن. ثم إن الصحيح قسموه إلى صحيح لذاته وصحيح لغيره؛ لكي يقدم الصحيح لذاته على الصحيح لغيره، وكذلك الحسن لذاته على الحسن لغيره إلى آخر مما هو مقرر في علم مصطلح الحديث. وأما الجواب على المتن: فلو سلمنا فرضاً أن الحديث صحيح من جهة السند؛ لكن من جهة المتن نقول: قوله: (نهى عن ثمن الكلب إلاّ الكلب الضَّارِيَ) (إلاّ) هنا بمعنى العطف (الواو)، وهذه لغة من لغات العرب وهو أنهم يستعملون حرف الاستثناء (إلاّ) بمعنى العطف، وحملوا عليها قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22] فقوله: (إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ) أي: ولا ما قد سلف، ويكون المعنى: أي: لا تبقوهن ولا تستديموا نكاحهن. ومنه أيضاً قوله سبحانه وتعالى، وهو وجه ذكره ابن العربي في أحكام القرآن في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً} [النساء:92] أي: (ولا خطأ) بمعنى: أنه لا يتعاطى أسباب التفريط، فمثلاً: لو جاء إلى موضع يريد أن يصيد فيه، وهو يعلم أنه هذا الموضع فيه أناسٌ يرعون، أو فيه خيام لأناس نازلين بهذا المكان، وبمجرد أن يرى فريسة يرميها، فلا يجوز، بل ينبغي أن يتحفظ؛ لأن القتل الخطأ هو أن يقتل بدون أن يقصد القتل كأن يرمي صيداً فيصيب آدمياً، فالله عز وجل يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً} [النساء:92] أي: (ولا خطأً)، بمعنى: ألا يتساهل، حتى ولو كان الخطأ معفواً عنه، فلا ينبغي عليه أن يتعاطى أسباب الخطأ، ومنه قول الشاعر: وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوْهُ لَعَمْرُ أَبِيْكَ إِلاّ الْفَرْقَدَاْنِ أي: والفرقدان. وعلى هذا يكون قوله: (نهى عن ثمن الكلب إلاّ الكلب الضاري) أي: والكلب الضاري، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا الكلاب، ولو كانت كلاب صيد) تأكيداً في التحريم، ويكون هذا من باب قلب الدليل؛ لأنه إذا كان في الدليل معنيان: معنىً يعارض، ومعنىً يوافق، فينبغي صرف الحديث إلى المعنى الذي يوافق الأحاديث الأخرى، وحينئذٍ نقول: إن الأصحّ من هذه الأقوال هو القول بعدم جواز بيع الكلب مطلقاً.

بيع الحشرات

بيع الحشرات وقوله: [إلا الكلب والحشرات]. (الحشرات) جمع حشرة، وهي الدويبات المعروفة على اختلاف أنواعها، وغالباً ما تكون صغيرة الحجم، سواءً كانت مما يرى أو كانت مما لا يُرى، فهذا النوع لا يجوز بيعه؛ والسبب في هذا -كما قلنا- أنه ليس في الحشرات منفعة مقصودة. وعليه: فإنه لو جمع حشرات وأراد أن يبيعها فإن البيع غير صحيح؛ لأنه من باب إضاعة المال، ولا قيمة للحشرات. لكن كيف تقرر التحريم بالدليل؟ تقول: الأصل أنه لا يجوز أكل المال بالباطل؛ لقوله سبحانه: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29]. ومعنى أكل المال بالباطل أن تأخذ المال بدون وجه حق، أي: بدون استحقاق، فإذا كانت الحشرات لا قيمة لها، وليس فيها منفعة مقصودة، ودفع لشرائها ألف ريال أو مائة ريال أو عشرة ريالات، فإنها أعطيت لغير شيء، وأعطيت لشيء لا قيمة له، فحينئذٍ تكون من أكل المال بالباطل. لكن إن وجدت فيها منفعة مقصودة كالطعم ونحو ذلك، فحينئذٍ يكون دفع المال لقاء منفعة مقصودة، وأُخذ المال لقاء شيء له قيمة. إذاً: وجه تحريم بيع الحشرات: أنها إذا كانت خلواً من المنافع وليس فيها منافع مقصودة، فقد خلت وعريت عن القيمة، فدفع المال لقاءها إنما هو من أكل المال بالباطل.

حكم بيع المصحف

حكم بيع المصحف قال: [والمصحف]. المصحف اختلف في بيعه، فمذهب الحنابلة على التحريم، وهذا من مفردات مذهب الحنابلة، والجمهور على جوازه، وإن كان الشافعية يكرهون بيعه؛ لذلك يعتبرون هذه المسألة من الفوارق بين الحديث القدسي والقرآن، فبعضهم أوصلها إلى عشرة، ويدخلون فيها منع البيع، وأشار إلى ذلك صاحب الطلعة في قوله: وَمَنْعُ بَيْعِهِ لَدَى ابن حنبل وَكُرْهُهُ لَدَى ابن شافع جَلِيْ (ومنع بيعه) أي: المصحف، (لدى ابن حنبل) أي: عند الإمام أحمد رحمه الله. (وكرهه) أي: كره البيع، فيصحّ البيع لكن مع الكراهة، (لدى ابن شافع جلي) أي: عند الإمام الشافعي رحمه الله؛ لأنه ابن شافع من بني المطلب بن عبد مناف، فيجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف. فالتحريم يعتبر من مفردات المذهب الحنبلي؛ لأن الجمهور في هذا النوع الثالث من المستثنيات على جوازه. واستدل الجمهور بالأصل والأدلة الدالة على جواز البيع، وأمّا ما أثر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (وددت أن الأيدي تقطع في بيع المصاحف)، فإن ابن عمر رضي الله عنهما كان شديد الورع، ولذلك كان يشدد في المسائل، حتى قال أبو جعفر المنصور مما يُحكى في موطأ مالك أنه قال له: (اجتنب رخص ابن عباس وتشديدات ابن عمر). فكان ابن عمر رضي الله عنه يشدد على نفسه وكذلك في فتواه؛ لأنه كان يأخذ بالعزائم، وهذا من ورعه وصلاحه وتقواه، وهناك مسائل معينة انفرد بها، ومنها هذه المسألة، وهي مسألة تحريم بيع المصحف. لكن الجمهور خرّجوا ذلك فقالوا: يحتمل أن ابن عمر قصد من هذا من يقصد بيع الآيات، ولا يكون قصده انتشار المصحف لنفع المسلمين، ولا قصده بيعه لرواجه، وأخذ الأجر في الآخرة، إنما مطمعه أو مراده أو مقصوده هو المال، ولا شك أن في هذا خوفاً على الإنسان إذا وصل إلى هذه الدرجة. وفي حكم المصحف بقية كتب العلم والأشرطة إذا باعها الإنسان وكان قصده تجارة الدنيا فقط، ولا يرضى أن يبذلها إلاّ للدنيا. ويظهر ذلك حينما يأتيه الإنسان المحتاج أو طالب العلم المحتاج يريد أن يشتري الكتاب -مثلاً- بعشرة والكتاب بعشرين أو بخمسة عشر، ويعلم أنه ضعيف اليد، وليس عنده طَوْل، فيصر على أنه لا يبيعه إلا بهذه القيمة مع أنه يجد أرباحاً ويجد عوضاً بالثمن المبذول، فكأنه -والعياذ بالله- يحبس الانتفاع من العلم والانتفاع بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لقاء هذا المال، وهذا شيء خطير. فينبغي لمن يبيع كتب العلم أو يبيع الأشرطة أن يجعل في حسبانه أن يكون همه الآخرة، وأن يجعل نية الدنيا تبعاً، ولا يجعلها أساساً، وإذا أراد وجه الله عز وجل والدار الآخرة وجعل الدنيا تبعاً فإن الله يأجره ويبارك له في صفقة يمينه، فيحوز خيري الدنيا والآخرة. فالمقصود: لعل ابن عمر رضي الله عنهما قصد: من يفعل ذلك لا للآخرة وإنما للدنيا.

الميتة وأنواعها وحكم بيعها

الميتة وأنواعها وحكم بيعها قال رحمه الله: [والميتة]. الميتة: هي كل حيوان مات حتف أنفه، أي: بغير ذكاة شرعية. والميتة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون ميتة الآدمي. القسم الثاني: أن تكون ميتة غير الآدمي.

ميتة الآدمي

ميتة الآدمي أمّا ميتة الآدمي فإنه لا يجوز بيع الآدمي لا حيَّاً ولا ميتاً، وهذا بالنسبة لبيعه بدون ملك اليمين؛ لأنه قد استثناه الشرع؛ لكن أن يباع الحر، فهذا مما ورد فيه الوعيد الشديد؛ ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة أنا خصمهم، ومن كنت خصمه فقد خصمته: رجلٌ أُعطي بي ثم غدر، ورجلٌ باع حراً ثم أكل ثمنه. الحديث)، فهذا يدل على الوعيد الشديد في بيع الآدمي الحر. فالأصل أنه لا يجوز بيع الآدمي لا حيّاً ولا ميتاً إلاّ ما استثناه الشرع من بيع الرقيق، والرق سببه الكفر، وله ضوابط سنذكرها إن شاء الله في الأبواب الآتية في المعاملات. إذا ثبت أنه لا يجوز بيع الآدمي فكذلك لا يجوز بيع أعضائه، فلا يجوز بيع اليد، ولا بيع الكلية، ولا بيع القرنية، ولا بيع الأجزاء ولو قصد نقلها إلى شخص آخر؛ لأن البيع مفرع على الملكية، والآدمي لا يملك نفسه؛ لأننا إذا قلنا: إن البيع شرعي فمعناه أن تكون مالكاً لما تبيع، والآدمي لا يملك نفسه، قال الإمام ابن حزم رحمه الله: أجمع العلماء على أن الآدمي لا يملك نفسه. وإنما هي ملكٌ لله عز وجل، أذن الله للمرء أن يحفظ هذه النفس، وأن يسعى في صلاحها، فيفلح من زكاها، ويخيب من دسَّاها. فإذا كتب الله للإنسان هذه النفس وكتب له الحياة فعليه أن يحافظ عليها، وينتفع بما جعل الله فيها من المصالح، فلا يتصرف فيها بشيء إلا بما أذن له الشرع، حتى لو أتلف جزءاً من نفسه لمصلحة البدن كله، فإنه على خطأ إلا فيما يستثنى، ومن ذلك حديث الطفيل بن عمرو لما هاجر ابن عمه معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خرج إلى الغزو، فجرح فاستعجل الموت، وضاقت عليه نفسه فقطع براجمه، فنزف ومات، فلما توفي رآه الطفيل فقال: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، قال: وما في يدك؟ وإذا به كأن على يده شيئاً، قال: قال الله لي: لن نصلح منك ما أفسدت من نفسك، قال: فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - والحديث في مسلم - فقصصت له ما كان منه، فقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم وليده فاغفر، اللهم وليده فاغفر، اللهم وليده فاغفر)، الشاهد: أن الله قال له: (لن نصلح منك ما أفسدت من نفسك)، فإنه قطع براجمه من أجل أن يرفق بنفسه، فكيف بمن يقطعها رفقاً بالغير. إذاً: لا يملك الآدمي التصرف في نفسه، فهذا الجسد وضعه الله أمانة عند الإنسان، لا يجوز أن يقدم على شيء إلا في أحوال مخصوصة كأن تأتيه (غرغرينة)، أو يأتيه تسممُّ في يدٍ ويقطعها، فهذا مستثنى؛ لأنه استصلاح للجسد كله، وليس استعجالاً للموت كما جاء في حديث الطفيل؛ وإنما هو قطع لإبقاء، كما يكسر من السفينة لوح لنجاة كل السفينة. فهذا أصل: وهو إتلاف البعض لاستبقاء الكل، وقد قرره العلماء في المذاهب كلها: المالكية والشافعية والحنفية والحنابلة، وذكروا: أنه يجوز قطع الجزء لاستبقاء الكل، وذكروا هذا في أموال اليتامى وغيرها، فحينئذٍ إذا أراد أن يقطع جزءاً منه لخوف التسمم أو نحو ذلك فلا بأس، لكن لو أتى مثلاً يخرج (اللوز) خوفاً أن تلتهب فليس من حقه؛ لأن الله لم يخلق هذه (اللوز) في الجسد عبثاً؛ لكن لو أنها تسممت وخيف على البدن جاز إخراجها، أمّا أن يكون إجراءً احتياطياً ونقول: نخشى أن يقع أو يحدث فلا يجوز؛ لأن الأصل عدم جواز التصرف في بدن الإنسان، فتتفرع جميع المسائل في الهبات والتبرعات ونحوها على هذا الأصل. إذا ثبت هذا فإننا نقول: لا يجوز بيع الآدمي حيّاً ولا ميتاً، ولا يجوز بيع أعضائه سواءً كان حيّاً أو ميتاً.

ميتة غير الآدمي

ميتة غير الآدمي يبقى النظر في ميتة غير الآدمي، فنقول: ميتة غير الآدمي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما كان برّياً. القسم الثاني: ما كان بحرياً. القسم الثالث: ما كان برمائياً أي: برّياً بحرياً.

ميتة البر

ميتة البر فأما ما كان برياً: فكشاة ماتت بدون ذكاة، فهذه ميتة بر، ويستوي في ميتة البر ما يكون من الزواحف أو يكون من الطيور كالعصفور الذي يموت حتف أنفه، فإن هذا كله من ميتة البر، فلا يجوز بيع ميتة البر بالإجماع. والدليل: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الغد من فتح مكة -هي خطبته في اليوم الثاني من فتح مكة- وقال: (إن الله ورسوله حرَّم بيع الميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام). فذكر أربعة أعيان محرمة، ومنها: (الميتة) فدل على عدم جواز بيع الميتة، لكن يستثنى منها نوع خاص، وهذا النوع هو الطاهر من ميتة البر التي هي الجراد، فإن الجراد طاهر يجوز أكله، ويجوز بيعه؛ لأن أصل تحريم الميتة -وهذا في قول جماهير العلماء- مركب على النجاسة، ومن هنا قالوا: يجوز أن يبيع الجراد؛ لأن الجراد يجوز صيده ويجوز قتله وتؤكل ميتته، قال صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان ودمان: أمّا الميتتان فالحوت والجراد) فذكر الجراد من الميتة، فلما قال: (أحلت لنا ميتتان) جعلها من حلال الميتة المحرمة؛ لأن الأصل في الميتة أنها محرمة، فيكون قوله: (حرم بيع الميتة) أي: الميتة التي هي في الأصل محرمة، وبقي ما أحلَّ من الميتة كميتة الجراد فيجوز بيعه. فلو أخذ كيساً من الجراد وعرضه للبيع فقال قائل: لا يجوز لأنه ميتة، نقول: نعم، هذه ميتة لكنها حلال، ويجوز بيعها. وفي حكمها الحشرات التي لا نفس لها سائلة، أي: التي ليس لها دم، مثل السوس الذي يوجد في الدقيق والتمر، فهذا النوع من الحشرات لا نفس له سائلة، ولو أكلته فهو طاهر كالجراد، وليس فيه بأس. والجراد مما لا نفس له سائلة، وأجمع العلماء على أن الجراد طاهر، بناءً على نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وسنفصل هذا في كتاب الأطعمة إن شاء الله، وسيكون التفصيل أوسع؛ لكن الشاهد: أنه لو جمع الدود أو السوس الطاهر وعرض للبيع صحَّ ولا بأس في ذلك.

ميتة البحر

ميتة البحر أما ميتة البحر، فتشمل السمك والحوت وسائر حيوانات البحر التي لا تعيش إلا فيه، فإذا كانت من النوع الذي لا يعيش إلا في البحر، ومنه ما يُسمى (بالجمبري) الموجود الآن، فجمهور العلماء على جواز أكله، وأنه لا بأس في أكل ميتة البحر، وأنها طاهرة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (هو الطهور ماؤه، الحلُّ ميتته) وهو حديث أبي هريرة في السنن. فوصف ميتته بأنها حلال، فيجوز أن يبيع السمك، والحوت، أو ما يُسمى (الجمبري)، أو غيره، وأنواع الأسماك كلها. ثم ميتة البحر إمّا أن تخرجها من البحر فتكون ميتة؛ لأنك لم تذكها، فمثلاً: الشاة تذكى، وكذلك الدجاجة، والطير؛ لكن بالنسبة للسمك والحوت لا يذكى؛ لأنه ليس له موضع ذكاة، فإذا أخرجت من البحر خرجت بغير ذكاة فتكون ميتة، فحينئذٍ يجوز لك أن تأكلها؛ لكن لو أنها ماتت حتف أنفها في البحر فهل نقول: إنها تؤكل بغير ذكاة كالذي صيد، أم نقول: إنها ماتت حتف أنفها فلا يجوز أكلها؟ للعلماء وجهان: جمهور العلماء على أن السمك إذا مات وطفا على البحر يجوز أكله وبيعه ولا بأس في ذلك، ويسمونه السمك الطافي، وكذلك ما جزر عنه البحر؛ لأن البحر له مدُّ وجزر، فإذا مدَّ قذف بعض السمك خاصة الصغار منه، فإذا جزر يكون على أطراف الشواطئ، وهذا النوع من السمك سواء كان طافياً أو كان مما جزر عنه البحر، فالصحيح جواز أكله، وهو مذهب الجمهور، وفيه حديث أبي عبيدة رضي الله عنه وأرضاه في سريتهم بسيف البحر، حينما أصابتهم المجاعة وجزر البحر عن الحوت، فأكلوه، وأتوا ببعضه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منه، فدلَّ على جواز أكل الطافي، وأكل ما مات حتف نفسه؛ لكن إذا كان هذا النوع فيه ضرر أو خمج أو أنتن بحيث لو أكله الإنسان تضرر فلا يجوز بيعه ولا يجوز أخذ المال لقاءه؛ لأنه من الميتة المتنجسة في هذه الحالة.

ميتة البرمائيات

ميتة البرمائيات النوع الثالث: وهو البرمائي، وقد اختلف فيه العلماء: فبعض العلماء يقول: الحيوان الذي يعيش في البر والماء ينظر فيه، فإن كان أكثر عيشه في الماء فميتته حلال، وإن كان أكثر عيشه في البر فميتته حرام؛ لأن الشيء يأخذ حكم غالبه. ومنهم من يقول: بل ننظر أين يكون توالده وتكاثره وإيواؤه، فإن كان أكثر توالدها وتكاثرها بداخل الماء، فحكمها حكم حيوان الماء، وإن كان غالب تكاثرها وعيشها وجريانها في البر، فتأخذ حكم ميتة البر، مثل السلحفاة، وهذا القول قوي، والنفس تطمئن إليه. [والميتة]. الميتة إذا بيعت بذاتها لا يجوز بيعها، ويشمل هذا ما كان محنطاً ولم يذك، إلا إذا كان من جنس ما يستثنى كالحوت والجراد، فهذا يجوز بيعه محنطاً. فلو أن شاة دهست ثم ماتت قبل أن تذكى وعرضت، وجاء شخص يريد أن يشتريها نقول: لا يجوز هذا البيع ولا يجوز شراؤها، ولو أُخذ ثعبان وحنّط قلنا: لا يجوز بيعه ولا شراؤه، وماله غير جائز، كذلك لو أُخذ ثعلب وحنط ثم عرض للبيع فله نفس الحكم؛ لأن الثعلب ليس من جنس ما يذكى، ولا تعمل فيه الذكاة.

ما قطع من حي

ما قطع من حي وما قطع من الحيوان في حال حياته أخذ حكم ميتته، مثلاً: لو أن الشاة قطعت منها رجلها أو قطعت إليتها، ثم جاء يريد أن يبيعها نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أبين من حيٍّ فهو ميتته) وفي رواية: (فهو كميتته)، فالشاة لو ماتت لا يجوز بيعها، إذاً هذا الجزء المقطوع من الشاة حال حياتها يأخذ حكم الجزء المقطوع حال موتها، فتكون الإلية نجسة، ولا يجوز بيعها، وحكمها حكم الميتة بأجزائها التي تقبل الحياة، لكن هناك أجزاء لا تحلها الحياة. فالحيوانات تنقسم أجزاؤها إلى قسمين: القسم الأول: ما فيه حياة الروح. القسم الثاني: ما فيه حياة النمو. حتى الآدمي فيه أجزاء حياتها حياة روح، وأجزاء حياتها حياة نمو، فمثلاً: اليد لو أنها لُسعت بنار تأذى الإنسان؛ لأن الحياة الموجودة فيها حياة روح وإحساس؛ لكن لو أنك أحرق طرف الشعر لم يحسُّ الإنسان؛ لأن الحياة التي في الشعر حياة نمو. فعندنا أعضاء تقبل حياة الحسِّ، وأعضاء تقبل حياة النمو. فما كان من الأعضاء يقبل حياة الروح فيعتبر نجساً إذا قطع في الحياة، كيدها ورجلها وإليتها وأذنها، وما كان لا يقبلها فلا، فمثلاً لو قُصَّ الشعر فإن الشعر من جنس ما لا تحله الحياة، فلو أنه قام على الناقة وجزَّ ما عليها من شعر وباع الوبر فإنه يجوز، قال تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} [النحل:80]. والشاة يحلق ما عليها من الشعر، وكذلك الناقة يحلق ما عليها ويباع ويتخذ في الثياب ويغزل منه، هذا الذي أخذ من الصوف والوبر والشعر يجوز بيعه، مع أنه قطع في حال الحياة؛ لكن هذا الذي قطع ليس من جنس ما تحله حياة الروح، وإنما هو من جنس ما تحله حياة النمو. أما جلد الميتة إذا دبغ ثم بيع، فإنه يجوز. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما إهاب دبغ فقد طهر)، وإذا كان طاهراً فإنه مستثنىً من الحرمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحلت لنا ميتتان)، فجعل من الميتة ما يَحلّ، فهذا الجلد إذا دبغ خرج عنه وصف الميتة بالنجاسة.

الأسئلة

الأسئلة

علم القواعد الفقهية

علم القواعد الفقهية Q هل يمكننا أن نقول: كل ما جاز الانتفاع به جاز بيعه، إلا ما ورد الشرع بتحريمه، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: الأفضل أن الإنسان لا يتدخل في القواعد ويتركها للعلماء الأجلاء الذين ألموا بنصوص الشرع في الكتاب والسنة وألموا بضوابط القواعد، فقد تأتي وتقعّد القاعدة لأنك تراها صحيحة، لكنها تصادم أصولاً أخرى. فمثلاً هذه القاعدة تقول: كل ما جاز الانتفاع به جاز بيعه، أولاً: البيع ينصب على الذات والمنفعة، فأنت عندما تبيع البيت تبيع ذاتها ومنفعتها، ولو بعت عمارة فقام المشتري بهدم العمارة، فليس لك أن تمنعه لأنه سيقول: بعتني الدار ذاتها ومنفعتها التي هي السكنى، فالبيع يقع على الذات والمنفعة، فقاعدة: كل ما جازت منفعته جاز بيعه، تختص بالمنافع، والبيع يقوم على الذات وعلى المنفعة. ثانياً: إذا كانت المنفعة جائزة لكن الذات محرمة، فقد تقدم الخلاف في الحكم، إذاً: فالتقعيد من الصعوبة بمكان. وهناك كتب متخصصة في القواعد، منها: الأشباه والنظائر للسيوطي، والأشباه والنظائر لـ ابن نجيم، وقد جعلوا قواعدهم في حدود مذهب معين، وما استطاعوا أن يجعلوا قواعد عامة، فتجد -مثلاً- الأشباه والنظائر في قواعد الشافعية، والأشباه والنظائر في قواعد الحنفية، وتجد أيضاً الفوائد لـ ابن مفلح الحنبلي رحمه الله، كذلك أيضاً القواعد لـ ابن رجب في مذهب الحنابلة، وتجد إيصال السالك إلى قواعد مذهب مالك للونشريسي المالكي، فتجدهم قعدوا من خلال مذهب معين؛ لأنه ليس من السهولة بمكان أن تضع قاعدة عامة متفق عليها. فمسألة التقعيد أولاً: تحتاج إلى سبر الأدلة الواردة في الباب؛ لأنه لا أحد يتكلم في القواعد الشرعية إلا من خلال النصوص، والفقيه مَنْ فقه عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يستطيع أن يضع قاعدة عامة تتفرع عليها مسائل كثيرة حتى يجمع النصوص الواردة في هذا الباب. ثانياً: بعد جمع النصوص ينظر هل هي قاعدة ثابتة، أو لها مستثنيات؟ حتى يأتي بالمستثنى منها، فيضع القاعدة وما يستثنى منها، فلا ينقض المستثنى القاعدة ولا يعترض به عليها، فينظر هل هي قاعدة مسلمة أو قاعدة فيها استثناءات ومحترزات. ثالثاً: ما هو اللفظ الذي تختاره للقاعدة، فهناك علم ألفاظ القواعد، ولذلك ليس كل فقيه يستطيع أن يقعّد، وليس كل محصّل للأدلة يستطيع أن يقعد؛ لأن التقعيد مخاطبة، والمخاطبة بالقاعدة يحتاج إلى ضابط ويحتاج إلى أسلوب فقهي معين، وقد يجلس العالم فترة طويلة حتى يقعد هذه القاعدة، أي: ما كان العلماء بمجرد أنه يقرأ أحدهم الباب يضع القاعدة. فاختيار الألفاظ في التقعيد لابد منه، وهذا ما يسمونه (ملكة التقعيد)، ولذلك عندما تبحث في كتب القواعد تجدها معدودة، والسبب في هذا ثقل هذا الباب وصعوبته. ولذلك نقول: ليس من السهولة أن نضع قاعدة عامة، إنما نقول: اقرأ الباب وانظر إلى نصوص الكتاب والسُّنة، فإذا وعيت رحمك الله ما ورد في الكتاب والسُّنة فخير وبركة، وإذا أردت أن تدرس علم القواعد فقد كفاك العلماء المئونة، فاذهب إلى كتب القواعد واقرأ فيها واضبطها وحصلها. وهناك قضية مهمة جداً كفائدة لطلاب العلم وهي: ما هي الحاجة إلى القاعدة؟ القاعدة لا توضع إلا إذا جاءت لها أدلة قوية متكاثرة في الكتاب والسُّنة، وقد يكون لها إجماع؛ لأن القاعدة قضية كلية تتفرع عليها المسائل الجزئية، فمعنى ذلك أنك لا تقعد قاعدة في مسألة معينة، وإنما تقعد قاعدة لكي تجمع مسائل، وبعض الأحيان القاعدة الواحدة تفرع عليها ثمانمائة مسألة والعلماء يسمونها (أمهات القواعد)، وقد تكون قاعدة تتفرع عليها قواعد، وكل قاعدة تحتها مسائل. فمثلاً: قاعدة (الأمور بمقاصدها) تتفرع عليها قواعد في إعمال الأصل، واستصحاب الأصل، وكذلك البراءة الأصلية وكذلك قاعدة: (اليقين لا يزول بالشك) تفرع عليها: (الأصل بقاء ما كان على ما كان) وغيرها. الشاهد: لماذا وضع العلماء القاعدة؟ وضعوها لأن الطالب بعد أن يقرأ الفقه بكامله، تكثر عليك المسائل، فتحتاج إلى ضوابط وقواعد. وهناك شيء يسمى قاعدة وهناك شيء يسمى ضابط، فالقاعدة لا تختص بباب، فمثلاً قاعدة: (المشقة تجلب التيسير) ممكن أن تجري في العبادات وفي المعاملات، ففي العبادات تستخدمها -مثلاً- في الطهارة " فيجوز لمن لم يجد الماء أن يتيمم، أو شقّ عليه الماء جاز له أن يتيمم، ويجوز لمن كان عليه جروح على ظاهر بدنه أن يعدل إلى التيمم، ويجوز لمن خاف على نفسه إذا طلب الماء أن يعدل إلى التيمم. وتستخدمها في الصلاة فتقول: من شق عليه أن يصلي قائماً صلى قاعداً، ومن شق عليه أن يصلي قائماً وقاعداً صلى على جنبه، ومن شق عليه أن يقرأ الفاتحة وكان حديث عهد بإسلام فلا يستطيع أن يتعلمها ولا يستطيع أن ينطق بها فيمكث قدر الفاتحة أو يمكث قدر الوقوف، على تفصيل عند العلماء فيمن تعذرت عليه الفاتحة. وتستخدمها بعد ذلك في الزكاة وفي الحج في الطواف وفي السعي ولما أذن للضعفة في الحج التوكيل في الرمي، فكلها تفرعها على قاعدة: (المشقة تجلب التيسير)، فوَسِعَت مسائل عديدة ولم تختص بباب ولم تختص بباب معين. إذاً: تستطيع أن تأتي بالقاعدة فتنثر من تحتها المسائل المتعددة؛ لكن الضابط يكون في باب واحد أو كتاب واحد، تقول مثلاً: في باب الكفارات كفارة الجماع في نهار رمضان، الضابط عند الحنابلة: أنه لا تجب الكفارة إلا بجماع في نهار رمضان، فأنت ألممت بمسائل لكن في مذهب الحنابلة، بحيث لو جاءك سائل وقال لك: لو أن رجلاً قضى يوماً من رمضان في شوال، فجامع أهله في هذا اليوم فهل تجب عليه الكفارة في قول الإمام أحمد؟ تقول: لا؛ لأن الأصل عند الإمام أحمد رحمه الله أنه لا يوجب الكفارة في الجماع إلا في نهار رمضان، ولا يُنزِّل القضاء منزلة الأداء، فهذا يسمى ضابط؛ لأنه متعلق بمسألة أو باب معين. فيفرقون بين الضابط والقاعدة من هذا الوجه، فتارة يقولون: ضابط، وتارة يقولون: قاعدة. المقصود أن العلماء احتاجوا إلى وضع علم القواعد؛ لأنك عندما تقرأ الفقه تتناثر عندك الأدلة وتكثر عليك المسائل، فوضعوا قواعد معينة تجمع كثيراً من المسائل، بحيث يمكن أن يفتى في أكثر من مسألة وأكثر من باب، وإذا جاءتك المسألة تستطيع أن تعرف ضابطها أو تعرف قاعدتها؛ فوضعوها تيسيراً للفتوى وتيسيراً للقضاء وتيسيراً للتعليم. فهذا أصل مسألة التقعيد، ولا يقدم عليه إلا من كان عنده إلمام بالأدلة من الكتاب والسُّنة، وعنده إلمام بأسلوب القواعد؛ لأن بعض الأحيان توضع القاعدة فيعترض عليها في اللفظ وفي العبارة التي تخُتار، وتجد بعض العلماء يقول: هذه عبارة مكررة، فحينما قالوا: قاعدة: (أن الشريعة قامت على جلب المصلحة ودرء المفسدة) قال بعض العلماء: هذه القاعدة فيها تكرار، قيل: لماذا؟ قال: لأن جلب المصلحة يتضمن درء المفاسد؛ لأن كل مفسدة تدرؤها تُحَصَّل بها مصلحة. وهذا فن وضع القواعد، فيحتاج إلى الألفاظ إلى العبارات إلى الجمل؛ لأنه لا بد أن يكون عارفاً بالمصطلحات، والمصطلحات هي كلمات وعبارات معينة يستخدمها العلماء للدلالة على أشياء مخصوصة في فن الفقه. فمثلاً: قوله: كل ما كانت له منفعة مباحة جاز بيعه، فحينئذٍ انصب الكلام على المنفعة وأهمل العين التي تولدت منها المنفعة، فهذه قاعدة قاصرة؛ لأنه ليس في الشريعة أن يبني جواز بيع الأعيان بناءً على المنافع، فهذا لا يطرد، فقد يكون الشيء مما تجوز منافعه ولا يجوز بيعه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب البيع [5]

شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [5] من شروط صحة البيع: أن تكون العين مباحة المنفعة، فلا يجوز بيع الأعيان النجسة؛ لأنها محرمة الانتفاع، ومن الأعيان النجسة: السرجين أو ما يسمى بالسماد النجس، فقد ذهب جمهور العلماء إلى حرمة بيعه، ومنها: الأدهان والزيوت النجسة، فإنه يحرم كذلك بيعها وشراؤها. ومن شروط صحة البيع: أن يكون البيع من مالك أو من يقوم مقامه، فمن باع أو اشترى شيئاً ليس في ملكه، فلا يصح منه ذلك ولا يتم حتى يجيزه المالك الحقيقي.

الأشياء التي لا يجوز بيعها

الأشياء التي لا يجوز بيعها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى في معرض بيانه للأعيان المحرمة البيع: [إلاّ الكلب والحشرات والمصحف والميتة والسرجين النجس]. ما زال المصنف رحمه الله في معرض بيانه لما لا يحلُّ بيعه، وهي الأعيان التي حكم الشرع بعدم جواز بيعها، فلا ثمن لها، فيكون إعطاء المال في مقابلها في البيع من باب أكل المال بالباطل؛ لأن الأصل في البيع أن يُدفع الثمن لقاء شيء له قيمة، فإذا كانت العين مما لا قيمة له في الشرع، فإنه حينئذٍ يكون دفع المال في مقابلها من الباطل.

الأعيان النجسة

الأعيان النجسة ذكر العلماء رحمهم الله أن الأصل في الأعيان النجسة عدم جواز بيعها، فلا يجوز بيع البول، ولا يجوز بيع العذرة -عذرة الإنسان النجسة- وهكذا في فضلات الحيوان النجسة. والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن النجاسات، كما في الصحيح: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الدم)، والدم نجس لقوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145]، وفي الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم فتح مكة: (إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام)، قال العلماء رحمهم الله: إن هذا الحديث اشتمل على أربعة أعيان نجسة: إمّا نجاسة حسية، وإمّا نجاسة معنوية، وإمّا نجاسة الحس والمعنى معاً، ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم النجس من الحيوانات الحية: الخنزير، والنجس من الحيوانات الميتة وهي الميتة، حتى تقاس النجاسات من الحيوانات الحية على الخنزير، والنجس من الحيوانات الميتة تتبعه لأصل الميتة، ويقاس الجماد النجس المعنوي على الأصنام، ويقاس المائع من النجاسات على الخمر، وعلى هذا قال غير واحد من العلماء: حديث جابر هذا أصل في تحريم بيع الأعيان النجسة، والنجس حرمه الله على العباد، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الله إذا حرم على قوم شيئاً حرم عليهم ثمنه)، وقد حرم الله النجاسات؛ فيحرم أخذ المال لقاءها. والمبيع من حيث الأصل العام -حتى تكون الصورة واضحة- إما أن يكون طاهراً، وإما أن يكون نجساً، فالمبيعات الطاهرة من حيث الأصل جواز بيعها، والمبيعات النجسة من حيث الأصل عدم جواز بيعها، ويبقى شيء يُسمى: المتنجس. فالنجس هو أن يكون نجس العين، مثل: الشحم المستخلص من الميتة، فإنه نجس العين، ونجس العين لا تستطيع تطهيره، فأصل عينه نجسة، فالخنزير لو غسلته مائة مرة فإنه سيبقى نجساً، فحينئذٍ يقال: نجس العين؛ لكن المتنجس تكون عينه في الأصل طاهرة ودخلت النجاسة عليه عارضة، بحيث يمكنك أن تزيلها، كثوب وقع عليه بول أو وقع عليه دم نجس فإنه حينئذ ثوب متنجس، انتقل عن أصله لعارضٍ وهو التنجس. فأمّا بالنسبة للزيوت والشحوم والأدهان فمنها ما هو طاهر كالإلية، فإنك إذا ذبحت كبشاً وذكيته فإنّ جميع ما فيه طاهر؛ لأن التذكية تجعله حلالاً وطاهراً، فحينئذٍ لو أخذت الإلية وأذبت شحمها فنقول: هذا دُهنٌ طاهر، أما لو مات الكبش أو الضأن وأُخذت إليته وأُذيبت فنقول: هذا شحم نجس أو دهن نجس. إذاً: هناك ما هو نجس العين، وهناك ما هو متنجس، والمتنجس يمكن تطهيره.

السرجين وأنواعه

السرجين وأنواعه يقول المصنف رحمه الله: (والسرجين)، وهو السماد، والسماد ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: السماد الطاهر، وهو فضلة ما يؤكل لحمه، على أصحِّ قولي العلماء، كما هو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة من حيث الجملة؛ لأن فضلة ما يؤكل لحمه -كالإبل، والبقر، والغنم، والطيور غير الجارحة- طاهرة، فلو أن إنساناً جمع زريبة من روث أو فضلة الإبل أو البقر أو الغنم فإنها طاهرة من حيث الأصل، فنقول: هذا سماد طاهر، والدليل على طهارته عدة أدلة: أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر العُرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل، وهي فضلة الإبل، فلو كان البول نجساً لما أمرهم أن يشربوه؛ لأن الله لم يجعل شفاء الأمة فيما حَرَّمَ عليها. ثانياً: الإذن بالصلاة في مرابض الغنم، وهذا ثابت وصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كانت فضلة الغنم نجسة لما أذن بالصلاة فيها، وأما المنع من الصلاة في معاطن الإبل فهو لحكمة أخرى -كما نبهنا عليه في باب الصلاة- وذلك لأنها مواضع الشياطين. وقد وصلى على بعيره، ومن المعلوم أن البعير ربما بال فلطخ ببوله فخذه وساقه، ومع ذلك صلى عليه، وطاف عليه، فدلَّ ذلك على طهارة فضلة ما يؤكل لحمه، وإنما خُصَّ البعير لأن البعير من حيث الأصل مما يؤكل لحمه، فقالوا: ما يؤكل لحمه فضلته طاهرة، وهذا يشمل الطيور كالعصافير والحمام وغيرها. والسماد الذي يؤخذ من الحمام تستصلح به الحمضيات كأشجار الليمون، فإنه إذا وضع لها (ذرق) الحمام تنفع وتصلح بإذن الله عز وجل، فهذا سمادٌ طاهر. وكذلك يؤخذ روث البقر لاستصلاح النخل، وهو من أفضل ما يكون لاستصلاح النخل. والسماد الطاهر يجوز بيعه، فلو أن رجلاً عنده زريبة غنم وجاءه من يريد شراء ما فيها من الروث سماداً، فما حكم هذا البيع؟ نقول: السماد طاهر مقصود لمنفعة مباحة، وهي استصلاح الزرع، ومأذون بها شرعاً؛ بل ومقصودة شرعاً، فيجوز البيع إذا كان مستوفياً للشروط الأخرى المعتبرة في البيع. وعلى هذا: فبيع السماد الطاهر جائز ولا بأس به؛ لأنه عينٌ مباحة، ومنفعتها مباحة ومقصودة شرعاً.

حكم بيع السماد النجس

حكم بيع السماد النجس القسم الثاني: السماد النجس، وهو يشمل فضلة الآدمي من بوله وعذرته، وكذلك يشمل فضلة الحيوان غير مأكول اللحم؛ كالحمر الأهلية ونحوها، ولذلك لما أتى عبد الله بن مسعود للنبي صلى الله عليه وسلم بالروثة -قيل: إنها من الحمر- قال: (إنها ركس)، وعلى هذا يقول العلماء رحمهم الله: إذا كانت الفضلة من غير مأكول اللحم فهي نجسة، لكن هل يجوز أن يباع السماد النجس، أم لا يجوز؟ اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين: القول الأول: لا يجوز بيع السماد النجس أو الزبل النجس أو الرجيع النجس، والمعنى واحد، وهذا القول هو مذهب المالكية في المشهور، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة في المشهور، وهو قول عند الحنفية رحمهم الله؛ لكن المذهب عندهم على الجواز. القول الثاني: يجوز بيع الزبل النجس والسماد النجس، وهذا هو مذهب الحنفية، وقال به بعض أصحاب الإمام مالك كـ ابن الماجشون. فالذين قالوا بالتحريم -وهم الجمهور- استدلوا بأدلة: أولاً: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29]، قالوا: إن الله حرم علينا أكل المال بالباطل، والباطل هو الذي لا وجه له ولا حقَّ فيه، فإذا كان السماد نجساً فإن النجس لا قيمة له -النجاسة لا قيمة لها- فدفع المال في مقابله يكون من أكل أموال الناس بالباطل. ثانياً: استدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله إذا حرم على قوم شيئاً حرم عليهم ثمنه)، والسماد نجس حرام فيحرم أكل ثمنه. ثالثاً: قالوا: إن الأصل عدم جواز بيع النجاسة، والزبل النجس من النجاسات، والأصل في هذا حديث جابر بن عبد الله كما قدمنا. واستدل الذين قالوا بالجواز بدليلين: الدليل الأول: الإجماع. الدليل الثاني: العقل. أما دليلهم بالإجماع فقالوا: إن الناس من العصور القديمة يتبايعون ويبيعون السماد والزبل النجس، ولم ينكر عليهم أحد، فيكون هذا بمثابة الإجماع. والدليل الثاني: قالوا: إن الحاجة داعية إلى بيع الزبل النجس، ولو لم نقل بجواز بيعه لكان في ذلك حرجٌ ومشقة، والشريعة لا حرج فيها ولا مشقة، وبناءً على ذلك يجوز بيع الزبل النجس، ومعنى هذا الدليل الذي قرروه بالنظر: أن الزبل النجس يستصلح النبات، وهذا يحتاجه الفلاح، ويحتاجه الناس، أمّا الفلاح فلأنّ إنتاجه ومحصوله لا يصلح إلا بهذا النوع من السماد، وأمّا الناس فإنه إذا تضرر الفلاح وكان نتاج الفلاحة قليلاً؛ فإن هذا سيضر بالسوق وسيضر بالناس، فحينئذٍ يكون في تحريمه حرجٌ ومشقة، والشريعة لا توقع الناس في الحرج. إذاً القول بعدم الجواز فيه حرج، فيجوز البيع دفعاً للحرج والمشقة، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]. والذي يترجح هو القول بعدم جواز بيع الزبل النجس، وذلك لما يلي: أولاً: لصحة ما ذكره أصحاب هذا القول، فإن الأصل عدم جواز بيع النجاسات، وهذا الأصل قرره حديث جابر رضي الله عنه، ولذلك سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شحوم الميتة -وهي متفرعة من الميتة-: (أنه يُطلى بها السفن ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: لا، هو حرام، قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه)، وفي رواية: (فاستحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل)، فدلَّ الحديث على أن الشيء النجس لا يجوز بيعه في الأصل. ثانياً: أما بالنسبة لاستدلالهم بالإجماع، فهذا الإجماع قد رده غير واحد من العلماء، حتى قال الماوردي في كتابه النفيس (الحاوي)، وهو من كتب الخلافيات، بل ومن أوسعها، قال فيه: إن هذا الإجماع إجماع العوام، إنما وقع بفعل الناس وليس بإجماع من يُعتدُّ بقوله ويُعتدُّ بإجماعه؛ لأن الإجماع إنما يكون من المجتهدين وليس من العوام، فالذي يبيعه ويأخذه هم العوام وليس العلماء الذين يُحكم بإجماعهم واجتهادهم. ثالثاً: استدلالهم بأن فيه حرجاً ومشقة، فيقولون: لو قلنا: لا يجوز بيع السماد النجس لكان فيه حرج ومشقة، هذا يحتاج إلى نظر؛ والسبب في هذا: أن الحرج والمشقة إنما يقعان في حالة عدم وجود البديل؛ لكن عند وجود البديل -وهو الزبل الطاهر وكونه يقوم بسدِّ الحاجة- فإنه حينئذٍ ينتفي قولهم: بأننا مضطرون إليه؛ لأننا نتكلم عن أصل عام؛ والأصل العام هو وجود الزبل النجس والطاهر: فالإبل، والبقر، والغنم، والطيور وغيرها موجودة فضلتها، وهي طاهرة ومباحة، وينتفع بها النبات كما ينتفع بالنجس؛ بل إن الطاهر آمنُ من النجس -كما سنبين إن شاء الله - فإذا وجد البديل -والبديل موجود وهو الزبل الطاهر- فإننا نقول بعدم صحة ما ذكروه من وجود الحاجة؛ لأن الحاجة شرطها: عدم وجود البديل، فالمرأة -مثلاً- إذا وجدت امرأة تقوم بعلاجها وتطبيبها فلا نقول: إنها مضطرة إلى الرجل؛ لأنه مع وجود البديل لا يحكم بالضرورة، ومع وجود البديل لا يحكم بالحاجة إذا سدَّ مسده. رابعاً: أن الحاجة هنا حاجة كمال، فإن الزبل النجس والرجيع النجس والسماد النجس فيه مضرة أعظم من منفعته، وهذا ثابت، فقد ثبت الآن طبيّاً وجود الأمراض والأضرار من اغتذاء النبات به؛ بل إن المذهب الصحيح من أقوال العلماء: عدم جواز أكل النبات المستصلح من النجس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح: (أنه نهى عن أكل الجلالة)، والآدمي قوته على دفع الضرر أكثر من قوة النبات، ومن المعلوم أنه لو وضع الزبل النجس سماداً للكراث والفجل، فإنه يغتذي منه مباشرة، وكذلك نحوه من المزروعات، فهذه من أعظم ما يكون، حتى ثبت طبيّاً الآن أنها من أعظم ما تكون ضرراً على صحة الناس، وأكثر ما ينشأ فيها من الأمراض مظنة العدوى -والعياذ بالله-، فحينئذٍ نقول: إنه لو لم يحرم بوجود الدليل لحرم لوجود الضرر، والمصلحة والحاجة التي تطلب إنما هي مصلحة كمال وحاجة كمال، وقولنا: (مصلحة الكمال) أي أن هذا النبات يكون بصورة أو بشكل أفضل، لكنه من حيث المضمون -لوجود الضرر فيه- أسوأ وأردأ من الطاهر، وعلى هذا نقول: إنها ليست بحاجة ضرورة، ولكنها حاجة كمال، وفرقٌ بين حاجة الضرورة الموجبة للترخيص، وبين حاجة الكمال التي لا توجب رخصة، خاصة مع وجود البديل. فالذي يترجح هو: عدم جواز بيع الزبل النجس. ومسألة الجلالة يقول بعض العلماء -حينما جاءت مسألة بيع النباتات أو اغتذاء النباتات بالنجاسات-: إنّ الجلالة -كالبقرة أو الشاة أو الدجاجة- تتغذى بالنجاسات وتأكل النجاسات، فحينئذٍ تتضرر وتتأثر بهذه النجاسات، ومع أنّ في جسم الإنسان من القوة على دفع الضرر أكثر من النبات -وهذا ثابتٌ طبياً: أن قوة جسم الآدمي على دفع السموم أقوى من غيره؛ وذلك لما خلق الله فيه وفضَّله على كثير ممن خلق، فجعل فيه خاصية أقوى من غيره- فمع هذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة حتى تحبس ويطيب لحمها بالمباح، فهذا يدل على التأثر بالاغتذاء بالنجس، وإذا كان هذا في البهيمة مع أنها أقدر على الدفع وقلة التأثر أكثر من الزروع التي تكون على وجه الأرض؛ فمن باب أولى ما هو دونها، وعليه: فإنه لا يجوز بيع الزبل النجس ولا شراؤه؛ وذلك لأن الأصل الموجب للتحريم يقتضي منع هذا النوع من البيع، وليس ثمَّ دليلٌ يوجب الترخيص.

أنواع الأدهان والزيوت وأحكام بيعها

أنواع الأدهان والزيوت وأحكام بيعها قال رحمه الله: [والأدهان النجسة والمتنجسة]. الأدهان: جمع دهن، وهو يشمل الزيوت والطيب وغيرها، فمثلاً: السمن نقول: هو دهن؛ لأنه يمكن أن يكون طعاماً، ويمكن أن يدهن به الإنسان، وكذلك زيت الزيتون، وزيت الذرة، وزيت السمسم، فكل هذه تسمى بالأدهان. والأدهان تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أدهان طاهرة. القسم الثاني: أدهان غير طاهرة. فالأدهان الطاهرة: كزيت الزيتون، وزيت السمسم، وزيت الذرة، وغيرها من الزيوت الطاهرة. والزيت غير الطاهر ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: زيتٌ نجس. القسم الثاني: زيتٌ متنجس. أمّا الزيت النجس فهو الذي يستخلص من عين نجسة، مثل: الزيت الذي يؤخذ من شحوم الميتة؛ فإنه زيتٌ نجس، أي: عينه نجسة، فمهما غسلته ومهما فعلت به فلا يمكن أن يطهر. وأما الزيت المتنجس، فأصله طاهر، كزيت الزيتون مثلاً؛ ولكن وقعت فيه نجاسة كقطرات بولٍ، فحينئذٍ يتنجس، ومن هنا حكمنا بتنجسه. أمّا بالنسبة للزيت الطاهر فلا إشكال في جواز بيعه، والزيت النجس لا إشكال في حرمة بيعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن شحوم الميتة وذكروا له: (أنه يُطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، قال: لا، هو حرام)، أي: بيعها؛ لأن أصل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ الله ورسوله حرم بيع الميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام، قالوا: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة فإنه يُطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟! قال: لا، هو حرام). وقد اختلف العلماء في قوله: (لا، هو حرام) هل الضمير عائد على طلي السفن ودهن الجلود والاستصباح بها -لأن السفن تمشي على البحار والأنهار، فوجود الزيت يدفع عنها الماء، ولذلك لا يتشرب الخشب للماء- فحينئذٍ يحرم أن يُطلى بها، ويحرم أن يدهن بها، ويحرم أن يستصبح بها، أم أن الضمير في قوله: (لا هو حرام) عائد على البيع؛ لأن أصل الحديث: (إن الله ورسوله حرم بيع الميتة)، فسألوه عن شحوم الميتة وقالوا: إن فيها منفعة، فهل يجوز بيعها؟ والقاعدة: (أن السياق والسباق محكم)، وسياق الحديث وسباقه كان في الكلام على البيع، فيقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن شحوم الميتة من جهة بيعها من أجل الطلاء والدهن والاستصباح فقال: (لا، هو حرام)، وهذا أقوى، وهو أنه عائدٌ على البيع، ومن هنا يعتبر الحديث أصلاً في تحريم بيع الزيت النجس، وأما الزيت المتنجس ففيه تفصيل سنذكره.

حكم الزيوت المشتقة من البترول

حكم الزيوت المشتقة من البترول إذاً: الزيوت المستخلصة من الميتة نجسة، لكن يبقى الكلام عن مسألة عارضة الآن يكثر الكلام حولها، وهي: مسألة الزيوت البترولية، وما يشتق من البترول، والسبب الذي جعل بعض طلاب العلم تلتبس عليه هذه المسألة: أنهم كانوا يقولون: إن أصل البترول من الحيوانات القديمة التي ماتت ثم ضغطت بين أطباق الأرض، ثم مع فعل الحرارة وسخونة الأرض تحولت إلى بترول، وهذا القول أنبه على أنه قول أهل الطبيعة الذين لا يؤمنون بوجود الله جل جلاله، كما أخبر الله عز وجل أن الإنسان كفور مبين، وكفره من أكفر ما يكون -نسأل الله السلامة والعافية- فالله تعالى يغدق عليه ويسكن له كنوز الأرض في الأرض، ويعطيها له سهلةً ميسرة ليقول: لا إله إلاّ الله، وليقول: الحمد لله، لكنه يقول: لا، منذ ألف مليون سنة كان يوجد حيوان اسمه (الديناصور)! ألف مليون سنة متى كانت؟! لا يوجد أكذب من الكافر إذا كذب على ربه؛ لأنه كفر بالله فطمس الله على قلبه وعلى بصيرته، ثم هذا (الديناصور) ما لقي أن يتوفى وأن يموت إلاَّ داخل المحيط! وممكن أن تقبل أنه توفي على وجه الأرض؛ لكن ما الذي ذهب به إلى أعماق المحيطات حتى يوجد البترول في أعماق المحيطات -تكذيباً لهم -؟ فهم لا يريدون أن يقولوا: إن الله هو الذي أوجده، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن في الأرض كنوزاً، وأن الله قدر في الأرض أقواتها منذ أن خلقها، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من علامات الساعة أن تخرج الأرض كنوزها)، وهذا يدل على أن الله أوجدها فيها، فنحن لا نقول بما يقوله الكفار، ولكن نقول: إن الذي أوجده هو الله، وهو نعمة من الله سبحانه وتعالى، والله على كل شيء قدير، ولو كان الأمر كما ذكروا وكما زعموا، فإن هذه المقابر الموجودة منذ سنوات عديدة مديدة ما وجدنا تحتها البترول، ولا وجدنا أنها تتحول إلى زيوت ولا إلى طبقات معينة من الأرض، لكن -كما ذكرنا- هو كفرٌ بالله وعدم تسليم بوحدانيته عز وجل، فيردون كل شيء إلى الطبيعة: وهو أن الأشياء وجدت صدفة! وأن الإنسان ينظر إلى هذه الأشياء على أنها أشياء طبيعية. ومن أجل ذلك نشأ عند البعض شعور بأنه ما دام أن (الديناصور) قد مات فيعتبر ميتة، وشحم الميتة نجس، فمعنى ذلك: أن البترول نجس، وأن كل ما يتولد من البترول نجس، وهذا خطأ، فإن البترول طاهر، وجميع ما يُشتق منه طاهر، سواءٌ كان زيتاً أو كان بنزيناً أو غير ذلك من المشتقات، فهي كلها طاهرة؛ لأن الأصل أنها طاهرة، وليس هناك دليل يدل على نجاستها. وبناءً على هذا: فلا يدخل في مسألة الزيوت النجسة والمتنجسة ما يشتق من البترول، فهو ليس بنجس ولا متنجس، وبيعه جائز وحلال، وهو مما سخره الله لابن آدم لينتفع ويرتفق به، والحمد لله على فضله، وله الشكر على نعمه، لا نحصي ثناءً عليه، جلَّ جلاله وتقدست أسماؤه، وتعالى الله عما يقول الكافرون علواً عظيماً.

أحكام الزيت المتنجس

أحكام الزيت المتنجس يبقى النظر في الزيت المتنجس، وفيه مسائل: المسألة الأولى: نحتاج أن نبحث في مسألة: كيف يتنجس الزيت؟ المسألة الثانية: ما هو نوع النجاسة إذا حكمنا بكون الزيت يتنجس؟ المسألة الثالثة: هل يمكن للزيت أن يطهر إذا حكمنا بنجاسته؟ المسألة الأولى: كيف يتنجس الزيت؟ الذي يجعلنا نبحث هذه المسألة أن في الزيت خاصية تختلف عن غيره، فمن الملاحظ أن الزيت إذا وقعت فيه قطرة ماء فإنها لا تدخل في الزيت وتتحلل فيه، بل لو صببت الماء على الزيت لانفصل الماء عن الزيت، وهذا أمر ملموس، فنجد أن للزيت خاصية تدفع ولا تمكّن غيره من الامتزاج به، ومن هنا قسّم العلماء وقوع النجاسة في الأشياء إلى قسمين: القسم الأول: أن تقع النجاسة فتتحلل في الشيء، كنجاسة الماء والخل والمرقة ونحوها من المائعات، فإن الماء إذا وقعت فيه قطرة البول انتشرت فيه وتحللت، فحينئذٍ يقولون: إن نجاسته نجاسة ممازجة، أي: امتزج الماء مع البول، وهذا أقوى صور التنجيس، ويتأثر الشيء الطاهر بوقوع النجاسة فيه على هذا الوجه. القسم الثاني: نجاسة المجاورة، وتكون هذه النجاسة بجوار الطاهر، وهي تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: إمّا أن تلتصق به. القسم الثاني: وإمّا أن تكون بجواره فقط، وتأتي الريح فتنقل رائحة النجاسة، فمثلاً: غدير الماء حينما يكون بجواره ميتة؛ كبعير أو بقرة أو شاة، فيأتي الهواء فينقل رائحة النجاسة إلى الغدير، فحينئذٍ يتنجس الغدير بالرائحة، أو ينقل أجزاءها فتقع في الغدير، إذاً: المجاور ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: مجاور ملتصق. القسم الثاني: مجاور غير ملتصق. فالمجاور الذي لا يلتصق بالماء لا يضر مطلقاً، لكن إذا التصق به ولم يكن متحللاً، وغير اللون أو الطعم، فإنه يؤثر وجهاً واحداً، وأما إذا غير الرائحة ففيه خلاف؛ لكن الصحيح عند طائفة من العلماء أنه يؤثر، وإلى ذلك أشار بعض العلماء بقوله: ليْسَ المجاَوِرُ إِذَا لَمْ يِلْتَصِقْ يَضَرُّ مُطْلَقَاً وَضَرَّ إِنْ لَصِقْ فِي اللَّوْنِ وَالطَّعْمِ بِالاتِّفَاقِ كَالرِّيْحِ فِيْ مُعْتَمَدِ الشِّقَاقِ نرجع إلى مسألة الزيت إذا وقعت فيه نجاسة: فيقولون: إنها نجاسة مجاورة ملاصقة؛ لأنها وقعت في داخل الزيت، لكنها لا تتحلل ولا تنتشر، فاختلف العلماء رحمهم الله في هذا النوع من النجاسة، وقد قلنا: إن الزيت تنجس، وحكمنا بأن نجاسته نجاسة مجاورة، وليست بنجاسة ممازجة ومخالطة. يبقى السؤال الثالث والأخير وهو الذي عليه مدار المسألة التي سنذكرها في البيع وهي: إذا تنجس الزيت فهل يمكن تطهيره، أو لا يمكن تطهيره؟ قال بعض العلماء: إذا تنجس الزيت فلا يمكن تطهيره، وعند هؤلاء تنتقل المسألة إلى المسألة الأولى وهي بيع الزيت النجس، فعندهم أن النجس والمتنجس حكمه واحد؛ لأنهم يرون أن الزيت إذا تنجس فلا يمكن تطهيره، وهذا هو القول الأول. القول الثاني: أن الزيت إذا تنجس فإنه يمكن تطهيره، ولتطهيره طريقتان: الطريقة الأولى: يسموها: طريقة الطبخ. الطريقة الثانية: يسمونها: طريقة الغسل. فأمّا طريقة الطبخ فهي أن توقد النار تحت الزيت فيغلي، وإذا غلى فإنه تتبخر النجاسة ويبقى الزيت، فإذا وقع فيه البول وغلي غلياناً شديداً فإنه يتبخر البول لخاصية في الزيت، ولو ترسب شيء قليل لكنه لا يؤثر، خاصة إذا كان الزيت كثيراً، فيقولون: إنه يحكم بطهارته في هذه الحالة. الحالة الثانية: أن يغسل الزيت، و Q كيف يغسل الزيت؟ أو كيف يمكن غسل الزيت؟ هل يعصر، أم يوضع في خلاطة؟ وهذا يحتاج إلى نظر، فقد قال بعض العلماء: غسل الزيت المراد به طهارة المكاثرة، فمثلاً: إذا وقعت قطرة من البول في الزيت، فتصب عليه ماءً طهوراً أضعاف أضعاف القطرة من البول، بحيث لو خالط ذلك الماء البول فإنه يذهب عنه وصفه بالنجاسة، وتطهر النجاسة بهذا الماء؛ لأنها ستختلط مع الماء، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم صبّ على بول الأعرابي ذنوباً من ماء، وقد كان البول قليلاً والماء كثيراً، فلما ورد الكثير من الماء على القليل من النجاسة طهرت النجاسة، فحينئذٍ قالوا: إذا كان في الوعاء قطرة من البول، فيأخذ (فنجاناً) مثلاً من الماء الطهور ويصبه، فيختلط مع النجاسة، فتصبح النجاسة منعدمة التأثير، ثم بعد ذلك تسحب بطريقة عند المختصين، فيسحبون الماء بالنجاسة، وحينئذٍ يبقى الزيت طاهراً على أصله. لكن لماذا ذكرنا هذه المسألة هنا مع أنها من مسائل الطهارة؟ ذكرنا هذه المسألة؛ لأن الصحيح أن الزيت إذا وقعت فيه النجاسة، وكانت نجاسته ليست عينية مثل زيت الميتات؛ فإنه يمكننا أن نطهره، فحينئذٍ لو باع رجلٌ زيتاً متنجساً فإنه يمكنه أن يزيل هذه النجاسة، فيصبح في حكم من باع ثوباً متنجساً، والمتنجس ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يمكن تطهيره. القسم الثاني: ألاَّ يمكن تطهيره. والذي يمكن تطهيره مثل الثوب، فلو جاء شخص وفي ثوبه دم نجس أو قطرة من البول، وقال: سأبيع هذا الثوب بعشرة ولكن فيه نجاسة، فنقول: بالإجماع أن البيع صحيح؛ لأن هذه النجاسة يمكن إزالتها، فليست مؤثرة في بيع الثوب، وليس هذا من باب بيع النجاسات؛ لأن العين طاهرة، ومن هنا فإذا قلنا: إن الزيت لا يتطهر، فلا يدخل في هذا؛ لأنه من باب بيع الأعيان النجسة؛ لكن إذا كان الزيت يمكن تطهيره بالطبخ وبالغسل، فحينئذٍ من باع زيتاً متنجساً، فإنه كمن باع ثوباً متنجساً، فكما أنه يأخذ الثوب ويغسله، كذلك يأخذ الزيت ويغسله، ومن هنا يقوى القول بأنه يجوز بيع الزيت المتنجس. والذي لا يمكن تطهيره ببقاء عينه مثل السكر، فلو أن السكر وقع عليه بول وتنجس، فإنه لا يمكن تطهيره؛ لأنه إذا صُبَّ عليه الماء ذاب، فلا يمكن تطهيره ببقاء عين السكر؛ لكن لو أنه أخذ ماءً كثيراً وصبه على السكر حتى تحلل، بحيث صار الماء أضعاف النجاسة الموجودة في السكر؛ فإنه يكون طاهراً، لكن أن تبقى عين السكر فلا يمكن. إذاً: هناك شيء يمكن تطهيره مع بقاء عينه، وهناك شيء لا يمكن تطهيره إلاّ بذهاب عينه، فبالنسبة للزيت يمكن تطهيره مع بقاء عينه مثل الثوب، وعليه فإنه يجوز بيع الزيت المتنجس؛ لكن بشرط: أن يُبين أنه متنجس، ولذلك نقل ابن رشد عن القائلين بجواز بيع الزيت المتنجس في البداية فقال: وقال أبو حنيفة: يجوز بيعه -أي: الزيت المتنجس- إذا بيّن، أي: قال للمشتري: إنه نجس؛ والسبب في هذا: أن الزيت يؤكل ويدّهن به، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (كلوا الزيت وادّهنوا به، فإنه من شجرة مباركة)، فلو أخذه وهو متنجس، فإنه مظنة أن يدهن به فيتنجس، ومظنة أن يأكله وهو متنجس، ولا يجوز أكل المتنجس، ومن هنا قال العلماء: شرط جواز بيعه إذا بيّن البائع للمشتري أنه متنجس.

حكم الاستصباح بالزيوت النجسة في المسجد وفي غيره

حكم الاستصباح بالزيوت النجسة في المسجد وفي غيره قال رحمه الله: [ويجوز الاستصباح بها في غير مسجدٍ]. الاستصباح: وضع الزيت في المصباح؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل في الزيت خاصية ومنافع، ومنها: أنه يستضاء به، ولذلك ضرب الله المثل بالمشكاة فيها مصباح فقال: {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُور} [النور:35]، وهذه من أغرب الآيات في الأمثال في كتاب الله عز وجل، حيث جعل الله عز وجل نور الوحي مع نور العقل: (نُورٌ عَلَى نُور)، ولا يمكن لأحد أن يبصر بأحد النورين دون الآخر، فمثلاً: لو أن إنساناً كفيف البصر جيء به أمام الشمس، فإنه لا يمكن أن يبصر؛ لأنه فقد النور الداخلي، ولو أنه جيء بمبصرٍ ووضع في كهف مظلم، فلا يمكن أن يبصر مع وجود النور الداخلي، لكن النور الخارجي غير موجود، فاحتاج المبصر إلى نور داخلي ونور خارجي، وكذلك الإنسان يحتاج إلى نور العقل -وهو داخلٌ فيه- ونور الوحي، ولذلك قال سبحانه: {نُورٌ عَلَى نُور} [النور:35]، فمن كان عاقلاً ولا يهتدي بالوحي فإنه لا يمكن أن يهتدي؛ لأنه يحتاج إلى وحي الرسل، ولو كان مجنوناً وجيء بالوحي فلا يمكن أن يقبل، ولا يمكن أن يفقه، ولا يمكن أن يعلم، ولا يمكن أن يهتدي؛ لأنه يحتاج إلى النورين. والله سبحانه وتعالى جعل الزيت نوراً، وجعله مما يستصبح به ويستضاء، فقال: (زَيْتُونِةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ)، قيل: إن البستان الشرقي يتعرض للشمس أكثر، والغربي يضعف تأثير الشمس عليه؛ لأنه لا تأتيه الشمس إلا عند الغروب وقد ضعف شعاعها؛ لكنه حينما يكون في الوسط فإنه يكون من أنفع وأصلح ما يكون، وقيل: إنها (لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ) إشارة إلى طور سيناء؛ لأنه أفضل منابت الزيتون، فهو ليس بشرق الأرض ولا بغربها، وإنما في وسط الأرض. الشاهد: أن الله سبحانه وتعالى جعل في الزيت منافع منها: الاستصباح، فذكر المصنف أنه يجوز الاستصباح بالزيت النجس في غير المسجد، ونحن الآن نبحث في مسألة البيع، فما الذي أدخل مسألة الاستصباح؟ A أنه كما ذكرنا غير مرة أن العلماء يذكرون المسائل بالمناسبات، فهنا يتكلم على الزيت النجس، فأدخل أو ألحق مسألة الاستصباح بالزيت النجس، وبعض العلماء يغتفر إدخال مسألة الاستصباح؛ لأنه قد يباع من أجل أن يوضع في المصباح وهو متنجس، فيرد Q هل يجوز هذا الزيت، أم لا؟ أما بالنسبة للاستصباح بالزيت النجس فإن كان في غير المساجد فإنه يجوز عند من قال بجواز الاستصباح به، وأمّا في المساجد فقد اختلف العلماء: فمنهم من منعه مطلقاً، ومنهم من أجازه؛ لأنه لا يرى أن دخان النجاسة نجس، ويرى أنه حكم متحلل إلى مادة غير المادة الأصلية، ومن هنا أجاز أصحاب هذا القول الطبخ بالنجاسات، فلو جمع نجاسة وأوقد النار فيها وطبخ عليها طعاماً فقد أجازوه؛ لأنهم يرون أنه إذا طبخ انتقل وتحول إلى مادة غير المادة التي منع الشرع الانتفاع بها. ومنهم من فصّل: فأجاز بشرط ألا يتحول الدخان إلى داخل المسجد، كأن يوضع في كُوّة من وراء زجاجة، فإن الكُوّة إذا هبَّ الهواء أخرج الدخان إلى الخارج، ويكون الفضل فضل الزجاج لوجود الضياء على داخل المسجد، والكوّة من الخارج لا من داخل المسجد، فهذا معنى الاستصباح به من خارج المسجد لا من داخله، وعلى هذا يقول المصنف: (ويجوز الاستصباح بها)، أي: وضع الزيت المتنجس في المصباح من أجل أن يوقد عليه.

من شروط صحة البيع: ملكية البائع والمشتري أو من في مقامهما

من شروط صحة البيع: ملكية البائع والمشتري أو من في مقامهما قال رحمه الله: [وأن يكون من مالك أو من يقوم مقامه]. هذا هو الشرط الرابع لصحة البيع: فقوله: (وأن يكون من مالك)، أي: أن يصدر البيع والشراء من مالك، وهذا يشمل الثمن والمثمن البائع والمشتري، فلابد أن يقع البيع والإيجاب والقبول من شخص مالك، بمعنى: أن الشيء الذي يبيعه ملكٌ له أو مأذونٌ له بالتصرف فيه الإذن الشرعي، والإذن الشرعي يشمل: الولاية العامة، والولاية الخاصة، فالولاية الخاصة من الشخص نفسه؛ كالوكيل والوصي، والولاية العامة كالقاضي إذا باع مال السفيه ومال اليتيم ونحو ذلك. إذاً: يُشترط في صحة البيع أن يكون من يبيع مالكاً، فيشترط أن يكون مالكاً للمال الذي يدفعه لك، أو أُذن له بدفعه والتصرف فيه، ويشترط إذا أعطاك سيارة أو أعطاك داراً أو أعطاك أرضاً أن يكون مالكاً للسيارة والدار والأرض؛ لأنه إذا باعك شيئاً لا يملكه فإنه يكون حينئذٍ قد تصرف في شيء ليس من حقه أن يتصرف فيه، فيكون إيجابه وقبوله وجوده وعدمه على حد سواء؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29]، وقوله: (بِالْبَاطِلِ) أي: بدون وجه حق، والذي يبيع مال أخيه المسلم بدون إذنه وبدون إذن من الشرع، فإنه قد باع المال بالباطل، وإذا أخذ في مقابله مالاً فقد أخذه بالباطل؛ لأنه بغير وجه حق. وقال الله عز وجل: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، فاعتبر رضا المالك الحقيقي، فدلَّ على أنه إذا لم يرض ولم يكن البيع منه أو بإذنه فإنه لا يصحُّ البيع، ووجوده وعدمه على حد سواء، وترجع السلعة إلى مالكها الحقيقي، فلو أن شخصاً أخذ سيارتك ليذهب بها إلى مكان فباعها، أو أجرته دارك فباع الدار، أو بعته ثمرة المزرعة فباع المزرعة، فالبيع في جميع هذه الصور باطل، وهكذا لو اغتصب مال أخيه المسلم ثم باعه فإن المال سحت، وإذا اطلع القاضي على هذا فإنه ينقض البيع ويرد المال إلى صاحبه، ويرد الأرض أو غيرها إلى مالكها الحقيقي. وقوله: [أو من يقوم مقامه]، أي: مقام المالك، ويشمل هذا من يقوم مقامه بالوكالة، فمثلاً: إذا أذنت لشخص أن يبيع سيارتك فهو وكيل. والوكيل ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: وكيل مطلق. القسم الثاني: وكيل مقيد. فالقسم الأول -وهو الوكيل المطلق- يكون مطلقاً إمّا في الثمن، وإما المثمن، وإما فيهما معاً، فمثلاً: إذا قلت لشخص: بع السيارة بمعرفتك أو بخبرتك، فقد جعلته وكيلاً مطلقاً يبيعها على حسب خبرته ونظره ومعرفته، فيكون مطلق التصرف لكن في حدود معرفته وخبرته، أو أن تقول له: بعها كيفما شئت، وبعها بما شئت، فقولك له: (بما شئت) هذا إطلاق في الثمن، أي: بأي ثمن شئت غالياً كان أو رخيصاً، وهذا يسمونه: الإذن بالثمن المطلق، أو الإذن بالبيع المطلق، وقولك له: بِعْ من مالي ما شئت، فلو باع السيارات لصحَّ البيع، ولو باع الأرض لصحَّ البيع، ولو باع الأقلام أو الكتب أو الملابس إلخ لصحَّ البيع؛ لأنك أطلقت له الإذن في المبيع، وأطلقت أيضاً في الصورة الأولى الإذن في الثمن، فإمّا أن تكون الوكالة مطلقة في الثمن، أو مطلقة في المثمن، أو فيهما معاً من البائع والمشتري. القسم الثاني: أن تكون الوكالة مقيدة، فتقيد الثمن، كأن تقول له: بِعْ هذه السيارة بعشرة آلاف ريال، فإمّا أن تقيد بمبلغ معين، أو تقيد بعرف معين، كأن تقول: بعها بسعر اليوم، فإذا قلت: بعها بسعر اليوم، فإنه لو باعها دون سعر اليوم بطل البيع، وليس من حقه أن يبيعها دون سعر اليوم، وهكذا لو قلت له: بعها بالمعروف، أي: على حسب العرف، فباعها بأقل مما يباع به مثلها، فإنه لا يصحَّ البيع. إذاً: هذا هو الوكيل المطلق والوكيل المقيد. كذلك أيضاً الولي يكون وصياً على يتيم، فمثلاً: رجل مات وترك ليتيمه مائة ألف، فإن اليتيم ليس له حق التصرف في ماله؛ لكن القاضي يقيم شخصاً ينظر في مصلحة هذا اليتيم، ويسمى: الولي، أو: ولي اليتيم، أو أن يكون والده قبل موته كتب وصيته أو وصى أشخاصاً وقال: فلان وصي على أيتامي، فحينئذٍ له حق النظر في أموال هؤلاء اليتامى، فيبيع ويشتري في حدود المصلحة. هذا بالنسبة للمأذون له بالتصرف في المال، ويدخل في هذا إذا أذن السيد لعبده، فإن العبد لا يملك، وكذلك إذا أذن الولي للصبي أن يبيع بمالٍ معين أو بطريقة معينة، المهم: أن يكون البائع والمشتري مالكاً، أو يكون مأذوناً له بالتصرف بولاية عامة كالقاضي، أو بولاية خاصة كولي الأيتام ومن يقوم عليهم، أو الوصي عليهم.

حكم التصرف في ملك الغير بالبيع أو الشراء

حكم التصرف في ملك الغير بالبيع أو الشراء قال رحمه الله: [فإن باع ملك غيره، أو اشترى بعين ماله بلا إذنه لم يصحّ]. قوله: (فإن باع) الفاء للتفريع، فإذا تقرر أنه يشترط أن يكون مالكاً فإنه يتفرع عليه إن باع ملك غيره لم يصحَّ البيع؛ لأن هذا المال لا يملكه، ومن هنا يكون قوله: (بعتك) لشيء لا يملكه، ولا يجوز بيع مال المسلم ولا استباحة مال المسلم بدون حق، ولذلك أجمع العلماء على أن من باع مال غيره بدون إذنه ولا رضاه ولم يرض المالك الحقيقي، فإن البيع لا يصح، وينتزع المال ويرد إلى صاحبه الأصلي، وهكذا من اغتصب أرضاً وباعها، أو اغتصب سيارة وباعها، فإن البيع فاسد، إلاّ إذا أجازه المالك الحقيقي -كما سيأتي-. وقوله: (أو اشترى بعين ماله) ذكرنا أن البيع والشراء إمّا أن يقع على معين، أو على موصوف في الذمة. فالمعين كأن يقول له: خذ هذه العشرة آلاف أمانة عندك إلى نهاية محرم، أو خذ هذه العشرة آلاف وأعطها إلى محمد، فحينئذٍ تكون العشرة آلاف معينة، وقد تكون في الذمة، فمثلاً: يقول له: خذ من الصندوق عشرة آلاف وأعطها محمداً، فحينئذٍ تكون موصوفة، فأي عشرة آلاف يصدق عليها؟ نقول: إذا قال له: خذ هذه العشرة، وحددها وعينها، فإن عين المال أمانة ووديعة عندك فلا يجوز أن تتصرف بعين المال هذا، بل تؤدي عين المال كما أمرت إلى صاحبه، فلو أنك تصرفت في عين هذا المال، فإنه يجب عليك أن ترجع عين المال، فلو طالبك بعين العشرة آلاف فإنك تذهب وتأخذ عين العشرة آلاف من البائع وتردها إليه، أو تعقد معه عقداً جديداً، على تفصيل عند العلماء في بيع الأعيان، ثم ترد عين المال؛ لأن عين المال لا تستحقه، وليس من حقك التصرف فيه إلاّ بإذن مالكه الحقيقي، ويدك يد أمانة فينبغي أن تحفظ المال كما هو، فلما تصرفت فيه ضمنت، وعليك أن ترد عين المضمون، ومن المعروف في قاعدة الضمان: أن من أتلف شيئاً وجب عليه ضمانه، فيضمن العين، فإذا تعذر عليه ضمان العين ذهب إلى المثل، فإذا تعذر المثل انتقل إلى القيمة، هذا هو الأصل في الضمانات، وسنتكلم عليه -إن شاء الله- في باب الضمان. وهذا هو الذي جعل المصنف يقول: (بعين ماله).

بيع وشراء الفضولي صورته وحكمه

بيع وشراء الفضولي صورته وحكمه قال رحمه الله: [وإن اشترى له في ذمته بلا إذنه ولم يسمِّه في العقد صحَّ له بالإجازة، ولزم المشتري بعدهما ملكاً]. هذه مسألة بيع وشراء الفضولي، وهذا من دقة العلماء رحمهم الله أنهم ذكروا شرط الملكية، فهنا مسألة وهي: أن يأتي شخص ويتصرف في ملكك بدون إذنك، ثم تنظر في تصرفه فإذا به تصرف حميد وتصرف رشيد، فترضاه، فهذا يسمى بمسألة بيع الفضولي وشراء الفضولي، فمثلاً: قال لك رجل: أعطني سيارتك لأذهب بها إلى الجامعة، فلما خرج جاءه رجل وقال: بعني هذه السيارة بعشرة آلاف، فقال: بعتكها بعشرة آلاف، وتم البيع بينهما بعشرة آلاف، ولما رجع قال لك: هذه عشرة آلاف قيمة السيارة، فقلت: قد رضيت، فهذا هو بيع الفضولي. مثال آخر: أعطيته عشرة آلاف وقلت له: ضعها في البنك، أو احفظها لي، فأخذ العشرة آلاف واشترى لك بها سيارة، وعلم أن السيارة تستحق ذلك، ورأى أن من المصلحة أن تستثمرها في السيارة، فاشتراها لك وجاءك وقال: العشرة آلاف التي أعطيتنيها قد اشتريت لك بها سيارة، فهذا هو شراء الفضولي، إذاً: فما الحكم في هذه المسألة؟ هذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله، وهي بيع الفضولي وشراؤه، والفضولي: هو الذي يبيع ويشتري بدون إذن شرعي، وهذا تعريف لبعض العلماء، فخرج بقولهم: (بدون إذن شرعي) من وكّل وكالة شرعية، أو كان وصياً شرعياً، أو كان وليّاً، فإن هؤلاء لهم إذنٌ شرعي، ويدخل في الفضولي بقولهم: (بدون إذن شرعي) بيع الغاصب، وعلى هذا فإنه إذا باع الفضولي أو اشترى فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: صحة البيع وجوازه إذا رضيه المالك الحقيقي، أي: يتوقف الأمر على المالك الحقيقي، فإذا رضي بالبيع وأقره صحَّ البيع ونفذ، وهذا هو مذهب المالكية، والشافعية في القول القديم، وهو مذهب الحنابلة في رواية قيل: إنها هي المشهورة في المذهب، وعليه فيجعلونه مذهباً للجمهور. القول الثاني: صحة البيع دون الشراء، أي: يصحُّ بيع الفضولي دون شرائه، وهو مذهب الحنفية. القول الثالث: عدم صحة بيع وشراء الفضولي مطلقاً، وهذا هو مذهب الشافعية. إذاً: في هذه المسألة ثلاثة أقوال فأين محل الخلاف؟ نقول: العلماء متفقون على عدم صحة البيع إذا لم يجزه المالك الحقيقي، وكلهم متفقون على أن البيع فاسد، ويبقى الخلاف فيما إذا أجازه المالك الحقيقي فهل يصحُّ، أم لا يصح؟ ثم ينحصر الخلاف بين قول التفصيل والقول بعدم الجواز وبالجواز مطلقاً في حدود الحالات التي ذكروا جوازها، أعني: صحة البيع دون الشراء. أما الذين قالوا: إن بيع الفضولي وشراءه صحيح إذا أجازه المالك الحقيقي، فقد استدلوا بما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أعطى عروة بن أبي الجعد البارقي ديناراً يوماً من الأيام وقال له: (اشتر لنا من هذا الجلب شاة، فذهب عروة فاشترى شاتين بدينار، ثم باع إحدى الشاتين بدينار، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدينار وشاة، فقال: يا رسول الله! هذه شاتكم وهذا ديناركم، فدعا له عليه الصلاة والسلام بالبركة، وقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه)، وهذا من باب المكافأة على المعروف؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكافئ من أحسن إليه، فعندما قال له: (هذه شاتكم وهذا ديناركم)، عرف ماذا قصد، فرضي البيع وقال: (اللهم بارك له في صفقة يمينه)، فكان هذا الصحابي لو اشترى تراباً لربح فيه، لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بالبركة في صفقة يمينه. وموضع الشاهد: أن عروة رضي الله عنه باع بدون إذن واشترى بدون إذن، فاشترى الشاة الثانية بنصف الدينار، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يشتري شاة واحدة، فحينئذٍ وقع شراء فضولي، وباع الشاة الثانية التي هي بنصف دينار بدينار، فوقع بيع فضولي، فصار بيعاً وشراءً من فضولي، فأقر النبي صلى الله عليه وسلم كلتا الصورتين، فدّل على صحة بيع الفضولي وشرائه إذا أقره المالك الحقيقي. وأيضاً جاء في حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه عندما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يشتري أضحية، فاشترى للنبي صلى الله عليه وسلم أضحية وباعها بضعف قيمتها، ثم اشترى بنصف القيمة أضحية أخرى مكان التي باعها، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالأضحية مع المال، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا حديث رواه الترمذي، وحسنه غير واحدٍ من العلماء. والذين قالوا بعدم صحة بيع الفضولي مطلقاً يستدلون أولاً: بالآية الكريمة: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29]، قالوا: الأصل عدم جواز بيع وشراء الإنسان لما لا يملك، وبيع الفضولي وشراؤه لما لا يملكه. ثانياً: حديث حكيم بن حزام أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الرجل يسألني المتاع أو الشيء ليس عندي، فأبتاعه له ثم أبيعه، فقال صلى الله عليه وسلم له: لا تبع ما ليس عندك)، فنهاه أن يبيع ما ليس عنده، قالوا: والفضولي يبيع ما ليس له وما ليس عنده، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان لما لا يملك بهذا الحديث. وأما الذين فرقوا وقالوا: يصحّ أن يبيع لك الفضولي إذا أقررته وأجزته، ولا يصحّ شراؤه مطلقاً، فاستدلوا بنفس حديث عروة البارقي. وباختصار: حديث عروة البارقي يقول الإمام أبو حنيفة: لقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اشتر لنا)، فأذن له بالشراء، وكونه يشتري شاة أو شاتين فعنده إذن مسبق، لكن أين وقع الفضول؟ وقع في بيعه للشاة بعد شرائه، فصار الحديث حجة على جواز بيع الفضولي دون شراء الفضولي، إذاً يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اشتر لنا من هذه الجلب شاة)، فعند عروة إذن مسبق بالشراء كقاعدة عامة، ولكن ليس عنده إذن مطلق بالبيع، بل حتى إذن خاص بالبيع، فتصرفه الفضولي الذي لا أذن فيه وقع في البيع ولم يقع في الشراء؛ لأن الشراء له إذن مسبق، وقد صح بيعه فضولاً. وعلى هذا قالوا: يصحّ بيع الفضولي دون شرائه، ثم قالوا: من جهة العقد حينما يبيع لك الشيء أفضل مما يشتري لك؛ لأنه إذا باع لك الشيء جاءك بالقيمة، والقيمة تستطيع أن تشتري بها نفس الشيء، وتستطيع أن تعوض بما هو أفضل منه، لكن حينما يشتري لك فإنه يأتي لك -مثلاً- بالسيارة وأنت لا تريدها، أو يأتي لك بأرض لا تريدها؛ إذاً حينما يبيع لك ويعطيك النقد فإن النقد يصلح لشراء الكل. والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- من هذه الأقوال: القول بصحة بيع الفضولي وشرائه؛ لأن حديث عروة البارقي صحيح في هذا، وقول الإمام أبي حنيفة: أنه أذن له بالشراء، محل نظر؛ لأننا نقول: إنما أذن له بالشراء مقيداً، ووقع تصرف عروة البارقي خارج المقيد، فكان فضولاً من هذا الوجه. ومن هنا يستقيم مذهب الجمهور: أن بيع الفضولي وشراءه موقوف على إجازة المالك الحقيقي، وأنه متى أجازه حكم بصحة البيع ونفوذه. والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية تطهير النجاسة الجامدة

كيفية تطهير النجاسة الجامدة Q ذكرتم طريقة تطهير الزيت من النجاسة المائعة، فكيف يطهر من النجاسة الجامدة، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالنجاسة الجامدة أهون من المائعة؛ وذلك لأن تحللها وذوبانها أيسر بكثير من المائع، والتصاقها بالغير أخف، والمائعات تنقسم إلى قسمين: فمنها ما يتجمد كالسمن، فإن السمن إذا وقعت فيه نجاسة جامدة تلقى النجاسة وما حولها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في السمن إذا وقعت فيه الفأرة وهو جامد أن تلقى وما حولها، فتأخذ ما لامس الفأرة أو ما لامس الجرم النجس الجامد وتحتاط ثم تلقيه، وبذلك يحصل التطهير؛ لأنها مستقرة في المكان ولا تتجاوزه، خاصة في حالة كون السمن جامداً. وفي هذه الحالة يكون الجامد من الزيت ما جاور النجاسة الجامدة، فتنتزع ويصب الماء في موضعها، أو يصب في حال وجود النجاسة المائعة حتى يحاذي ما حولها، والأمر أخف بكثير من النجاسة المائعة؛ لأن الجامد يمكن نقله؛ ولكن المائع يصعب نقله إلاَّ في أحوال مخصوصة. والله تعالى أعلم.

حكم بيع وأكل النبات المسقى بماء نجس

حكم بيع وأكل النبات المسقى بماء نجس Q ما حكم شراء وأكل النباتات التي تسقى بماء نجس، أثابكم الله؟ A ذكرنا أن النبات المتغذي بالنجس سواءً كان سماداً أو كان ماءً نجساً يسقى به، فهذا الأصل عدم جوازه، ولا يجوز أكله؛ لأنه متنجس على أصح قولي العلماء، والأطباء يذكرون أن هذا يضر بالصحة كثيراً، وينقل العدوى في كثير من الأمراض، فلو لم يحرم من جهة النجاسات لحرم من جهة الضرر؛ لأن شرط صحة البيع ألا يكون مشتملاً على الضرر، ولذلك نص العلماء على أن السم لا يجوز بيعه؛ لأنه لا منفعة فيه؛ بل فيه ضرر، فإذا كان المبيع فيه ضرر على الصحة وقرر الأطباء ذلك فإنه لا يحوز بيعه. والله تعالى أعلم.

فضل طاعة الوالدين

فضل طاعة الوالدين Q هل يجوز للوالد بيع سيارة ابنه من غير إذنه، أثابكم الله؟ A لو باع والدي لباركت بيعه ورضيته، ولا يستطيع الإنسان البار الموفق أن يقف في وجه والده، وأن يبلغ بالابن أن يسأل والده عن بيعه لسيارته، فالإنسان ينبغي عليه أن يتعاطى البر، وأن يعلم أن الخير كله بعد توحيد الله في بر الوالدين، وأنه إذا رضي الوالد ورضيت الوالدة فقد نعم عيشه وطابت حياته، وأنه يبلغ بالإنسان الخسة واللوم والدناءة ونسيان الفضل ونكران الجميل إذا أصبح يقف في وجه والده لعرض من الدنيا، والله تعالى قد يبتلى الإنسان بوالد يضيق عليه في الدنيا؛ ولكن الله يوسع عليه بهذا الضيق في الآخرة، والإنسان العاقل الحكيم يحفظ العهد، قال صلى الله عليه وسلم: (حفظ العهد من الإيمان)، ومن تذكر كم أنفق عليه والده، وكم تحمل من أجله، وكم أسدى إليه من الخير والمعروف؛ فإنه يحس أنه كالمملوك لوالده، وأنه لا يستطيع أن يجزي والده إلا بالدعاء، وأمور الدنيا أحقر وأهون من أن تقف بين الإنسان وبين رضوان الله عز وجل، وَمَنْ هذا الذي يستطيع أن يرفع وجهه في وجه أبيه ويقول له: لم بعت سيارتي؟! وقد ذكروا عن رجل أنه كان من أبر الناس بوالده، وفتح الله له من أموال الدنيا ما الله به عليم، وكان لا يشتري الصفقة بعض الأحيان بمئات الألوف إلا بإذنه، وقد يأتيه والده ويقول له: اكتب لي مزرعتك الفلانية، فلا يمكن أن يراجعه، بل يكتب له جميع ما يملك، وأصبح في رغد من العيش ونعمة ضافية، وخير كثير، مع ما حازه من رضا والده. ومما ذكروا أن رجلاً جمع مالاً قرابة الاثني عشر ألفاً، وكان هذا المال يحتاجه لزواجه، وكان والده منهمكاً في بناء عمارة، فدخل على والده يوماً فإذا به حزيناً، فقال: ما بك يا والدي؟ فقال: فلان -الذي هو المقاول- يطالب بماله، فما كان منه إلا أن ساورته نفسه أن يعطي والده ما عنده مما يريد أن يعف به نفسه عن الحرام ويرتفق به في حياته، فتردد وتلكأ، قال: حتى وفق الله سبحانه وتعالى وشرح صدري، فقمت إلى المال وقلت: هو أهون من أن يحول بيني وبين رضوان الله عز وجل، فجاء بالمال فوضعه بين يدي والده، فحلف الوالد أن لا يأخذه، وحلف هو أن يأخذه، حتى أصر على والده وهو بنفس طيبة، فلما رأى الوالد منه ذلك بكى وسأل الله عز وجل أن يرضى عنه، وأن يفتح له أبواب الخير، قال: فقمت من عند والدي وأنا أشعر بسعادة عظيمة، ومكث قرابة أسبوع، فإذا برجل ثري في المدينة يدعو صديقه، يقول: فحضرت معه، قال: فلما جلسنا بعد أكل الطعام، اشتكى هذا الثري لصديقه وقال -وكانت عنده أموال كثيرة-: أحتاج إلى وكيل، أي: شخص أمين يتوكل عن ماله، فقال له: لا أعرف لك أكثر أمانة من هذا الرجل -الذي هو البار- فما كان منه إلا أن عينه وكيلاً على أراضيه، وكانت أيامه في بيع الأراضي والعقارات، يقول: فأول صفقة جاءتني ربحت فيها مائة وعشرين ألفاً!! فانظر (اثنا عشر ألفاً) أعطاها لوالده فردها الله عليه عشرة أضعاف! مع ما له من الرضا من الله سبحانه وتعالى، ومع ما ينتظره من حسن العاقبة؛ لأن البار يفتح الله له أبواب الخير، ومن رضوان الله على العبد أن يفتح له أبواب البر، ولا يعطى البر إلا من رضي الله عنه؛ لأن من رضي الله عنه فله الرضا، نسأل الله العظيم أن يرزقنا هذا الرضا للوالدين أحياءً وأمواتاً، فإن كمال البر لا يقتصر على الحياة، بل أصدق ما يكون البر بعد الموت؛ لأن بعض العلماء يقول: إن أصدق البر بعد الموت؛ لأنه لا أحد يعلم أنك تقدم لوالدك هذا الشيء إلا الله جل جلاله. وقد جاء رجل إلى ابن عباس وهو يبكي فقال: لقد كنت أعق أبي عقوقاً كثيراً، فقال له: أكثر من الاستغفار له بعد موته والترحم عليه؛ فإن الله يبلغك بره بعد موته كما فاتك بره في حياته. فالإنسان الذي يريد الخير عليه أن يبر والديه، وقد تأذن الله بالرضا لمن رضي عنه والداه، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رضي الله على من أرضى والديه)، فهو في سعادة وفي حسن عاقبة. ولقد شهدت من العلماء والعقلاء والحكماء وأجد كلمتهم متفقة على أنهم ما وجدوا البار إلا في خير عيش، ولو كان فقيراً مرقع الثياب، فإنه يعيش في سعادة البر، وقال أحد من أثق به من العلماء رحمهم الله -وقد سمعتها من أحد كبار السن-: (والله ما رأيت باراً ساءت خاتمته). وذلك إن كان عن إيمان وإخلاص لله جل جلاله، وإلا فالكافر قد يبر، لكن قصدنا المؤمن الذي يبر لوجه الله ومرضاته، وطاعةً لله سبحانه وتعالى. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرضى عن والدينا، وأن يرحمهم كما ربونا صغاراً، ونسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يسبغ شآبيب الرحمات على أمواتهم. اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم اجعلهم في روضة من رياض جناتك، وأحسن الخاتمة لأحيائهم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب البيع [6]

شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [6] للبيع علامات تدل على صحته، منها: أن يكون للبائع والمشتري يدٌ على المبيع، أو يكون لهما إذن بالتصرف فيه بالبيع والشراء، ومنها: القدرة على تسليم المبيع، ومنها: بيع ما كان معلوماً سواء بالرؤية أو بالصفة، فإن لم تتحقق هذه الأمور في البيع صار بيع غرر، وبيع الغرر هو بيع الشيء المستور العاقبة، وهو مما نهى الشرع عنه، وما ذاك إلا لأنه طريق لأكل أموال الناس بالباطل، ويفضي كذلك إلى النزاع والخصومات، وبه تنعدم الثقة بين المسلمين.

الأرض الخراجية وحكم بيعها

الأرض الخراجية وحكم بيعها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ولا يباع غير المساكن مما فتح عنوة: كأرض الشام ومصر والعراق بل تؤجر]. لا زال المصنف في معرض حديثه عن الشرط الرابع من شروط صحة البيع وهو شرط الملكية، وقد بيّنا أن البيع لا يصحُّ إلاّ إذا كان البائع والمشتري لهما يدٌ على المبيع، سواءً كان ثمناً أو مثمناً، أو يكون لهما إذن بالتصرف في البيع أو الشراء، وبيّنا دليل ذلك من الشرع، وموقف العلماء رحمهم الله من مسألة بيع الفضولي، ثم ختم المصنف رحمه الله بمسألة بيع المساكن في الأراضي التي تفتح في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وقد بيّنا هذه المسألة، وهي أن الأراضي التي تفتح في الجهاد في سبيل الله عز وجل يخيّر الإمام في أمرها، وهي إمّا أن تفتح صلحاً، وإمّا أن تفتح بالقوة، فإن كانت صلحاً فتارةً يبقيها ويكون الصلح بينه وبين أهلها على إبقائها بأيديهم على أن يدفعوا الجزية والخراج للمسلمين، وكذلك في حالة العكس فإنها تكون ملكاً للمسلمين، ويكون خراجها أيضاً للمسلمين، وإذا فتحت الأرض عنوة فإن النظر فيها يكون للإمام إن شاء أبقاها خراجية بمعنى: أن يضرب عليها الخراج، وهو فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فإنه لما فتح الأمصار ضرب على الأرض الخراج، وأبقاها ينتفع بها أهلها، وينفعون المسلمين، وهذا الفعل من السنن العمرية التي أجمع المسلمون على اعتبارها والعمل بها على مرِّ القرون والعصور، وفي هذه الحالة إذا كانت الأرض خراجية فمعناها أنها وقفٌ على المسلمين، ولا يكون من يتصرف فيها مالكاً لعين الأرض، فله أن يبني، وله أن يزرع، وله أن ينتفع؛ لكنه ليس بمالك للرقبة الأصلية، فالرقبة الأصلية ملكٌ لعموم المسلمين، وكذلك يؤخذ الخراج إلى بيت مال المسلمين، وقد بيّنا وجه تقسيمه ووجه صرفه في كتاب الجهاد. فالمصنف رحمه الله يشير هنا إلى مسألة الملكية، فإذا كنت قد علمت أنه لا يصحُّ البيع ولا الشراء إلا بشيء يملك من البائع والمشتري، فيتفرع على ذلك Q ما الحكم إذا باع إنسان أرضاً خراجية؟ فتقول: الأرض الخراجية لا يقع البيع عليها؛ لأنها وقف، والوقف لا يباع ولا يوهب، وإنما يبقى إلى الأبد مسبلاً محبوساً؛ لكن لو أنه أراد أن يبيع المساكن التي على الأرض، أو يبيع الزرع الذي على الأرض ويخلي بين الغير وبينه لكي ينتفع به فلا بأس. فمعنى العبارة: أنه إذا خلت يد البائع عن ملكية الأرض وكانت له يد يملك بها ما على الأرض من بناء أو زرع وأراد أن يبيع في الأراضي المحبسة والموقوفة على المسلمين عامة، فإن البيع يكون على رقاب المحدثات على الأرض لا على الأرض نفسها. وبناءً على ذلك: كان من المناسب أن تذكر هذه المسألة في شرط الملكية، فالأرض الخراجية لا تملك، وإنما هي وقفٌ مسبّل على المسلمين، وحينئذٍ يباع ما عليها مما فيه المنافع ولا تباع العين. ويتفرع على مسألة الأرض الخراجية أن المسجد لا يباع؛ لأن المسجد أيضاً مسبّلٌ وموقوف على عموم المسلمين؛ لكن لو أن مسجداً ضاق على المصلين، أو انتقل الناس من حوله فأصبح مكانه خراباً ليس فيه أحد، ونظر القاضي فوجد الناس قد انتقلوا إلى منطقة أخرى وهم بحاجة إلى مسجد في المكان الذي انتقلوا إليه، والمكان الذي خلي من الناس وتركوه ليس فيه مصلون، أو ليسوا بحاجة إلى هذا المسجد، فرأى القاضي أن يبيعه فحينئذٍ لا يباع إلاّ بحكم القاضي؛ لأن الوقفية والتسبيل لا يمكن أن يجري عليها البيع ولا الهبة؛ لأنها ملك لله عز وجل، وشرط البيع والهبة أن يكون البائع والواهب مالكاً لما يبيع ويهب، وقد قررنا هذا، وبناءً على ذلك فإنه لا يصحُّ بيعه للمسجد ولا هبته؛ ولكن -كما قلنا- إذا نظر القاضي أن من المصلحة استبدال هذا المسجد بمسجد آخر فإنه من حقه أن يحكم ببيعه على تفصيل عند العلماء سيأتي بيانه إن شاء الله في كتاب الوقف.

حكم بيع آبار المياه وما ينبت على الأرض من الكلأ

حكم بيع آبار المياه وما ينبت على الأرض من الكلأ [ولا يصحُّ بيع نقع البئر]. ليس المهم هنا أن تحفظ المثال أو تحفظ الصورة التي يذكرها المصنف، إنما المهم أن تطبق المثال على القاعدة، ولذلك في كتب الفقه حينما تطبق الأمثلة على القاعدة فإنك تفهم، حتى ولو جاءتك مسألة عصرية تستطيع أن تخرجها على هذا الأصل ولا تتقيد بالأمثلة الجامدة؛ لأن البعض قد يقرأ الفقه جامداً فيحفظ (نقع البئر)، ويحفظ (الأرض الخراجية)، دون أن يفقه السر أو العلة أو السبب الباعث على الحكم، وحينئذٍ لا يستفيد؛ لأنه إذا طرأت عليه مسألة عصرية لم يستطع تخريج ما جدَّ ونزل على ما ذكره العلماء والسلف، وعلى هذا فإن مسألة نقع البئر كمسألة الأرض الخراجية؛ والسبب في ذلك: أننا قررنا أن اليد خالية من الملكية، فمثّل رحمه الله بالأرض الخراجية؛ لأنها موقوفة على المسلمين. فنقع البئر، والكلأ، والنار، هذه ثلاثة أشياء المسلمون فيها شركاء، للحديث الوارد في السنن: (المسلمون شركاء في ثلاثة: في الماء، والكلأ، والنار)، فجعلهم يشتركون في هذه الثلاثة أشياء، فإذا كانوا شركاء في الماء وهو (نقع البئر) وما في حكمه، فمعنى ذلك أن من أراد بيع نقع البئر فقد باع ملك غيره، كما أن من أراد أن يبيع الأرض الخراجية فقد باع ملك غيره، ووقع البيع ووقعت المعاوضة على شيء لا يملكه. وهذا وجه إدخال مسألة نقع البئر هنا، وأصل الآبار تأتي على صورتين: فتارةً تكون على عيون جارية في الأرض تنفجر ثم تنبع من هذه العيون التي تجري في الأرض، سواءً كانت عيوناً مالحة فآبار مالحة، أو عيوناً حلوة فآبار حلوة، أو جامعة بين الاثنين فيختلط فيها العذب بالمالح لكنهما يختلطان فوق ولا يختلطان في الأسفل، كما أخبر الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان:53]. فالمقصود: أن الله سبحانه وتعالى جعل العيون الجارية تتفجر فتكون في الآبار. وتارة يكون البئر بالجنة وهي جنة البئر، بمعنى: أن يحفر البئر بالطريقة القديمة، ويكون الماء الموجود فيه عن طريق التسرب الذي يكون في جنبات البئر لا عن طريق عين في ذات البئر، فيستوي الحكم في كلتا الحالتين، سواءً كان نقع البئر من عينٍ من الأرض فارت وصعدت، أو كان نقع البئر جنة مجموعة من أطراف البئر خاصةً في الأماكن الخصبة التي فيها ماء كثير، فإنه لا يحفر الإنسان إلى أمدٍ قريب إلاّ ويجد الماء بغزارة في الذي حفر، فسواء كانت البئر عادية منفجرة عن عين، أو كانت البئر مجتمعة من الجنة، وعلى هذا ففي كلتا الحالتين لا يصحُّ بيع نقع البئر. ونقع البئر يكون فضلاً من الماء، فإذا كان عندك بستان وأردت أن تستقي من بئر أحدثته فأنت أحق وأولى؛ لكن لو زاد من هذا الماء زائد وفضل وجاء إنسان يريد أن يشرب منه أو يسقي دوابه أو يريد أن يأخذ منه للسفر كما يقع في الآبار التي تكون على السبل والطرق فالأمر أشد، فمنع هذا الفضل فيه وعيدٌ شديد، ولذلك أخليت الملكية عن هذا، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن بيع نقع البئر، وفي الحديث الصحيح: أن من فعل ذلك -بمعنى أنه منع فضل مائه- فإن الله لا يكلمه يوم القيامة، ولا ينظر إليه، ويقول الله له -كما في الحديث القدسي الصحيح-: (كما منعت فضل مائك اليوم أمنعك من فضلي)، ومن منعه الله من فضله فهو على هلاك، ولذلك قال العلماء: منع فضل الماء عن المحتاج إليه وعن الناس كبيرة من كبائر الذنوب، ينبغي للمسلم أن يتقيها، وأن يمكن أخاه المسلم إن احتاج إلى هذا الماء، وهكذا العشب الذي ينبت في أرضه، إذا جاء إنسان يريد أن يحتش من هذا العشب لغنمه أو لدوابه فإنه يمكنه من ذلك، وهكذا لو كانت له أرض أو كان له حوش فنبت في هذا الحوش نبت ومرعى وأراد إنسان أن يأخذ منه لبهائمه فقال له: لا تدخل الحوش، فهذا لا يجوز؛ لأن هذا النبت مما يشترك فيه المسلمون، والله أنبته في أرضه وليس بيده ولا بوسعه أن ينبته، وكم من إنسان يلقي بذره ولا يجد منه شيئاً؛ لأن الله إن شاء أن تنبت الأرض أنبتت، وإن شاء ألا تنبت فإنها لا تنبت، فهي لا تنبت إلا بأمر الله وقدرته، فالله أخرج الماء وأخرج الكلأ، وكذلك الذي يحتطب من شجر الحطب فإنه يُمّكِّن الغير منه، ولو كان عند الإنسان أرض فنبت فيها السمر أو نبت فيها الشجر الذي تأكله الإبل ولو كان مما له شوك فإنه لا يجوز له أن يمنع من له إبل أن يرعى بإبله في هذا؛ لكن لو كان في هذا المكان عورة كأهله ونسائه ويخشى من دخول هذا الرجل عليه، ولا يمكنه التحفظ، فمن حقه أن يمنع مدة وجود العورة، لكن إذا وجد البديل بأن يُمَكنَه من أن يحتش بنفسه ويراقبه ويحفظ عورته فإنه يمكنه من ذلك. والشاهد من هذا كله: أنه لا يصح بيع الإنسان لشيء لا يملكه، أو لشيء يشترك فيه معه غيره، ويأتي الغير لكي يأخذ حقه فيمنعه أو يأبى إلا أن يبيعه عليه أو يأخذ المعاوضة، فإنه لا يجوز له ذلك. قال رحمه الله: [ولا ما ينبت في أرضه من كلأٍ وشوك]. من باب أولى إذا نبت في أرض الله الواسعة فالأمر أعظم، فإذا نبت في أرض الله الواسعة وجاء إنسان يريد أن يرعاه لغنمه أو يرعاه لإبله ودوابه أو يريد أن يحتش منه لبهائمه فإنه لا يجوز لأحد أن يمنعه؛ لأن هذا الحشيش مما يشترك فيه المسلمون بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله: [ويملكه آخذه]. ويملك هذا الحشيش من احتشه، ويملك هذا النقع من الماء من استخرجه، فلو أنك استخرجت من البئر ماءً ثم أخذت هذا الماء وبعته، فلا حرج كما يجري الآن من بعض أصحاب السيارات الذين ينقلون المياه، فإنهم يتكبدون المشقة بالذهاب إلى الآبار، وكذلك استخراج المياه ودفع القيمة لمؤنة رفع هذا الماء ووضعه في خزاناتهم التي معهم، فحينئذٍ يجوز لهم البيع؛ لأنهم لما أخذوه وحازوه ملكوه، ولو أتيت إلى أرض فضاء ثم أخذت منها العشب فإنك تملكه بالحيازة، وهذا ما يسميه العلماء بملكية الحيازة، فهم مشتركون فيه، بمعنى: أن لكلٍ أن يأخذه، فإذا سبقت إليه وأخذته وحزته فإنك تملكه، لكن لو أن إنساناً سبق إليه ثم وضع سياجاً عليه وقال: أنا سبقت، وهذا لي، نقول: هذا ليس لك، إنما يكون لك إن حصلت الحيازة، فشرط الملكية الحيازة التي تكون بالحش في الحشيش، وكذلك أشجار الحطب إذا قطعها، وكذلك الماء إذا استنبطه واستخرجه، بأن أخذ الدلو فنزحه، فإذا نزحه واستنبطه واستخرجه من البئر فإنه يكون ملكاً له، فحينئذٍ يجوز له بيعه، لكن إن كان على سابلة وجاءه المحتاج الذي لا يستطيع أن يستخرج كما استخرج، والماء زائدٌ عنه فلا يجوز أن يبيعه؛ لأنه من فضل الماء في هذه الحالة، وعلى هذا فإنه يجوز للإنسان أن يبيع الماء إذا حازه، وتتخرج على هذا مسألة ماء زمزم إذا أُخذ وحازه الإنسان ملكه وجاز له أن يشربه لنفسه، وجاز أن يهبه للغير؛ لكن هل تجوز فيه المعاوضة وبيعه على الغير؟ هذا فيه تفصيل: الورع أن يبيعه بكلفة الإحضار بمعنى: أن يكون بمثابة الأجير، يقول: هذا الماء أحضره لك بعشرة ريالات على كلفة الإحضار، لا أن يبيع نفس الماء، وهذا من باب الورع؛ لأن لماء زمزم خصوصية دون غيره. ولكن من أهل العلم من قال: إنه إذا حازه الإنسان، وكان الذين يبيعونه لا يضرون بالغير، بمعنى: أنه يمكن للغير أن يذهب بنفسه ويأخذ، وليس فيه مشاحة ولا أذية، فإنه يجوز البيع، وهذا له وجه؛ لأنهم قد ملكوه وحازوه، وتكبدوا مشقة استخراجه، ثم إن الغير يمكنه بنفسه أن يأخذ هذا الماء، فإن اختار أن يأخذه منهم فإنه له وجه أن يقال بجوازه، والورع ما ذكرناه.

تعريف بيع الغرر وأدلة تحريمه

تعريف بيع الغرر وأدلة تحريمه قال رحمه الله: [وأن يكون مقدوراً على تسليمه]. الآن سيشرع المصنف في الشرط الخامس والسادس، وقبل الدخول في الشرط الخامس والسادس لصحة البيع ننبه على أن كلاً من الشرط الخامس: وهو القدرة على التسليم، والشرط السادس: وهو العلم بالمبيع بالصفة أو الرؤية أو غير ذلك مما يعرف به المبيع، كلا الشرطين يتخرج على قاعدة في الشريعة، وهي نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وكل الذي سنتكلم عليه في الشرط الخامس والسادس مفرّع على قاعدة الغرر، وبناءً على ذلك نحتاج إلى معرفة: أولاً: ما هو الغرر لغة واصطلاحاً؟ ثانياً: ما هو الدليل على تحريم بيوع الغرر، أو ما هي الأحاديث والنصوص التي وردت في تحريم هذا النوع من البيوع؟ ثالثاً: ما هي الحكمة التي يمكن أن نستفيدها من تحريم هذا النوع من البيع، أو ما هي المقاصد والمصالح التي قصد الشرع تحقيقها من تحريم هذا النوع من البيع؟ ثم بعد ذلك نشرع في شرح ما ذكره المصنف رحمه الله في هذين الشرطين. أمّا الغرر: فأصله مأخوذ من غرَّ فلانٌ فلاناً إذا خدعه أو خاطر به. فالغرر فيه مخاطرة، ويوصف الإنسان بكونه غرّ غيره إذا لم يمحضه النصيحة، وعلى هذا فإن هذا البيع ليس فيه نصيحة، بمعنى: أن صور البيع في الشرط الخامس والسادس عند مخالفة الشرط كلها خداعٌ وختلٌ من البائع للمشتري، أو من المشتري للبائع، أو من كل منهما للآخر. وأمّا في الاصطلاح فإن بيع الغرر اختلفت فيه تعاريف العلماء، ومن أنسبها قول بعضهم: بيع الغرر هو بيع مستور العاقبة. أو هو بيع الشيء المستور العاقبة، بمعنى: أن يبيعك شيئاً لا تدري أيكون، أو لا يكون، كأن يقول لك: أبيعك ثمرة بستاني السنة القادمة، فإننا لا ندري هل يخرج البستان ثمرة في العام القادم، أو لا يخرج، فهو مستور العاقبة، ثم إذا أخرج فلا ندري أيخرج سالماً أم يخرج به مرض وآفة، ثم إذا خرج به المرض والآفة فلا ندري الآفة غالبة أو السلامة غالبة، وحينئذٍ كأن البيع في هذه الأحوال فيه مخاطرة، فكأن البائع يخاطر بالمشتري. ومثل أن يقول له: أبيعك ما تحمله هذه الناقة السنة القادمة، أو أبيعك حمل هذه الشاة الآتي، كل هذا من بيع الغرر مستور العاقبة، وفي العصر الحديث يقع بيع المستور العاقبة مثل بيع الرقم (واليانصيب): وذلك بأن يعطيه عشرة ريالات لقاء رقم لا يدري أيجد فيه شيئاً أو لا يجد ثم إذا وجد شيئاً لا يدري أيجد شيئاً غالي الثمن، أو يجد شيئاً عكس ذلك، أو يجد شيئاً مساوياً للثمن الذي دفعه، فالعاقبة مستورة، فيحتمل أن يربح ويحتمل أن يخسر، فيجعل البائع المشتري متردداً بين الأمرين، وربما أيضاً يخدع المشتري البائع فيقول له: أشتري منك هذا الكتاب بما في يدي، فلا ندري ما الذي في يده، أهو مثل قيمة الكتاب، أو هو دون، أو هو أكثر؟ فيقع التغرير من المشتري للبائع، وقد يقع منهما الاثنين، كأن يقول له: بعني شيئاً بما في يدي، فقال له: أبيعك شيئاً من أشيائي أو شيئاً من ممتلكاتي، أو أبيعك كتاباً من كتبي، فلا ندري أهذا الكتاب هو الكتاب النفيس، أو هو الكتاب الرخيص؟ فهذا كله من بيع الغرر. ومن حكمة الله سبحانه ولطفه بعباده أنه رحمهم بهذه الشريعة، وهي شريعة الإسلام، ومن أمثلة الرحمة في شريعة الإسلام أنها لم تقتصر على العبادة بل تناولت حتى المعاملة، فأنت إذا دخلت السوق تريد أن تشتري أو تريد أن تبيع فإن الشرع يريد أن يوقفك على ثمن معلوم وعلى مثمن معلوم، ويريدك إذا دفعت المال أن تدفعه لقاء شيء أنت مطمئن وراضٍ في نفسك أن تبذل مالك لقاءه، وكذلك العكس، تبذل سلعتك لقاء هذا المال الذي يدفع لك، ويكون المال معلوماً غير مجهول، منضبطاً بما يتحقق به الأصل الشرعي في الثمن أو شروط الثمن من العلم بجنسه وقدره وعدده -على التفصيل الذي سنذكره إن شاء الله-. فالمقصود: أن تحريم بيع الغرر إنما هو مبني على الجهالة. كذلك أيضاً في حكم الغرر أن يقول لك: أبيعك السمك الذي في الماء، أو أبيعك الحمام الذي في الهواء، فيقول: أرأيت هذه الثلاث الحمام؟ قال: نعم، قال: هذه كانت لي وفرّت عني، وأنا أبيعك كل واحدة بعشرة، فإن أمسكتها فهي لك، أو بعير شرد من عنده أو شاة شردت فقال له: أبيعك هذه الشاة أو هذا البعير بعشرة، فهذا كله من بيع الغرر؛ لأنه يحتمل أن يمسكه فيسلم، ويحتمل أن لا يمسكه فيخسر، ففي جميع هذه الصور يكون البيع مستور العاقبة، ولا يدري العاقد أهو يسلم أو يخسر؟ وقد حرّم الله عز وجل هذا النوع من البيوع، وثبتت النصوص والأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريمه. فأول هذه النصوص ما ثبت في الصحيح عن ابن عمر أنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر)، هذا الحديث يدلُّ دلالةً واضحةً على أنه لا يجوز بيع الغرر، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (وإذا نهيتكم فانتهوا)، فقد نهانا عن بيع الغرر، فدلَّ على أنه لا يجوز للمسلم أن يتبايع ببيع الغرر، لا آخذاً ولا معطياً. كذلك أيضاً ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (نهى عن بيع حَبَل الحَبَلَة)، وبيع حبل الحبلة يأتي على صور، منها: أن يبيعه ما في بطن الناقة، أي: حمل الناقة أو حمل الشاة؛ والسبب في هذا: أننا لا ندري هذا الانتفاخ أهو جنين، أو مرض؟ ولو كان جنيناً لا ندري أهو حيٌّ، أو ميت؟ ولو كنا نعلم عن طريق أجهزة وأمكن الآن أن يستطلع أو يستكشف أنه حي أو ميت فلا ندري أيبقى حياً إلى الولادة، أو يموت؟ ثم إنه لو بقي حياً إلى الولادة وخرج أيخرج كامل الخلقة، أو ناقص الخلقة؟ فإذاً: هذا النوع من البيوع حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع حَبَل الَحَبَلَة). كذلك أيضاً ثبت عنه عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث ابن عمر أنه: (نهى عن بيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها، نهى البائع والمشتري)، وأنت إذا تأملت نهيه -بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه- عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها ما هو إلاّ خوف الغرر؛ لأن الثمرة قبل بدو الصلاح يحتمل أن تسلم فتغنم وتكون رابحاً، ويحتمل أن تتلف ولا تخرج فحينئذٍ تغرم وتكون خسراناً، وبناءً على ذلك حرّم النبي صلى الله عليه وسلم بيعها قبل بدو الصلاح، وأكد هذا بالعلة في حديث أنس الثابت في الصحيح: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك فبم تستحل أكل ماله؟!) انظر إلى هذه الجملة: (أرأيت) أي: أخبرني، (لو منع الله الثمرة عن أخيك) أي: لو بعت أخاك المسلم الثمرة قبل بدو الصلاح، فمنع الله الثمرة ولم تخرج (فبِمَ تستحل أكل ماله؟) فمعناه: أن المال سيدفع لقاء شيء غير مضمون، أو لقاء شيء لا تُعْلم عاقبته. وثبت في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السنين والمعاومة)، وبيع السنين هو الموجود عند بعض الناس اليوم، وهو أن يبيعه ثمرة البستان ثلاث سنوات أو سنتين، والمعاومة: أن يبيعه ثمرة البستان عاماً أو عامين، وبيع السنين والمعاومة بيع للمجهول، وبيع لمستور العاقبة، فدخل في بيع الغرر. كذلك أيضاً ثبت عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه نهى عن بيع ما في الضرع)، وهذا النهي عن بيع ما في الضرع مبني على الجهالة بما فيه، فلا ندري أهو سالم أو ليس بسالم؟ ثم لو خرج اللبن لا ندري أهو قليل أو كثير؟ فهو مجهول. وقد يقول لك قائل: هذا الضرع ما دام منتفخاً فالغالب السلامة، والغالب أن فيه لبناً، تقول له: لو سلّمت لك أنه سالم وأنه لبن فهل سيخرج لبناً صحيحاً، وكم قدره هل هو كثير أو قليل؟ فلو كان كثيراً فإنه قد غبن البائع، ولو كان قليلاً فقد غبن المشتري، فإمّا أن يغبن هذا وإمّا أن يغبن هذا، وبناءً على ذلك عدل الله عز وجل بينهما -بين العاقدين- والشريعة بتفصيلاتها وأحكامها المتعلقة بالمعاملات أنصفت البائع وأنصفت المشتري، فلم تظلم هذا ولا هذا، وهكذا الشأن في المعاملات المالية وغيرها، ولذلك قال الله عز وجل: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]. وكما دلّت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم هذا النوع من البيع، سواء كان مجهول العاقبة فلا ندري أيسلم أو لا يسلم؟ أو كان مجهول القدر والصفة فلا ندري أهو كامل أو ناقص؟ جاء كذلك دليل الإجماع يؤكد هذا المعنى، فقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن بيوع الغرر لا تجوز.

الحكم المستفادة من تحريم بيع الغرر

الحكم المستفادة من تحريم بيع الغرر فإذا عرفنا أن دليل السنة والإجماع على تحريم هذا البيع. يبقى السؤال الأخير: ماذا نستفيد من تحريم هذا البيع؟ أو ما هي الحكم التي يمكن أن نستفيدها من تحريم الشريعة لهذا النوع من البيوع؟ و A إن الله عز وجل إذا أمر أو نهى فإنه الحكيم العليم الذي هو أعلم وأحكم بشرعه وأعلم بعباده، {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، {يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57] جل جلاله وتقدست أسماؤه وهو أحكم الحاكمين، فالله جلَّ وعلا قد ينهى عن الشيء في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وقد لا نُدرك الحِكَم؛ ولكن لا شك ولا ريب أن فيه حكمة، سواءً علم المسلم أو لم يعلم. ومما ذكره العلماء من الحكم في سبب تحريم هذا البيع: أن بيع الغرر طريق لأكل أموال الناس بالباطل، والشريعة لا تأذن بأكل أموال الناس بالباطل؛ لأنه لو أذن للناس أن يبيعوا الأشياء المجهولة، فإن معنى ذلك أن الشريعة بإجازتها لهذا النوع من البيع تفتح الباب لأكل أموال الناس بالباطل، ولو كان الريال لا قيمة له عندي فله قيمة عند الغير، فالشريعة لا تفرق بين الغني والفقير، ووضعت هذه القاعدة أنه لابد من الإنصاف في الحقوق والأموال المدفوعة وأن تكون لقاء ما دفعت دون ظلم للمشتري، وكذلك أيضاً دون ظلم للبائع إذا ظهر الشيء أكثر مما يظن به. ومن الحِكم: أن هذا النوع من البيوع مفضٍ إلى الخصومات والنزاعات، خاصة إذا كان المال له قيمة كبيرة، فإن الله عز وجل قال: {وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128]، فالنفوس مجبولة على شحها بالمال، وقال: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37]، فالأموال تعلقت بها النفوس، حتى إن الدماء سالت والأرحام قطعت والأعراض انتهكت بسبب الأموال -والعياذ بالله-، ففيها فتنة عظيمة، فإذا رأى الشخص أنه يدفع الألف والألفين والثلاثة والأربعة ثم لا يجد شيئاً فإنه ليس من السهولة أن يسكت، فلن يسكت عن هذا الذي أخذ منه، وسيقول مباشرة: قد أخذت مالي بدون حق، يقول له: بعتك، يقول: نعم اشتريت منك أظن أنه سيسلم، وتبين أنه لم يسلم، فحينئذٍ تقع بينهما الخصومة والنزاع، وإذا لم تقع الخصومة فإنه سيتربص لكي ينتقم منه كما أخذ ماله، ويبحث عن حيلة وعن طريقة لذلك، خاصة إذا كانوا تجاراً مع بعضهم فإنه ينتقم بعضهم من بعض، وتصبح أسواق المسلمين محلاً للشحناء والبغضاء، وكأن باب البيع أصبح هادماً لأصول الشريعة ومقاصدها العظيمة. وانظر إلى حكمة الشريعة فإنها تبيح لنا الدنيا؛ ولكن بشرط ألا تفسد الدين، ومن هنا تجد قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض)؛ لأنه إذا باع المسلم على بيع أخيه المسلم حصلت المنفعة الدنيوية، على حساب المفسدة الدينية، وهذا من أدق ما يكون في المنهج، وأحكم وأعدل ما يكون في حكم الله عز وجل وشرعه في المعاملات المالية، فإن هذا النوع من المعاملات يفضي إلى الخصومات، ويفضي إلى أكل الأموال بالباطل، ويفضي أيضاً إلى إضرار المسلمين بعضهم ببعض. ومن الحِكم أيضاً: أنه لو فتح هذا النوع من المعاملات المالية وهو بيع الغرر فإن هذا يفضي إلى انعدام الثقة وسلبها من النفوس، فتدخل إلى السوق وأنت لا تأمن على مالك، وكذلك لو مكّن التجار أو مكّن بعض التجار من بعض هذه المعاملات المحرمة فرأى غيرهم أنهم يربحون يتجه التجار كلهم إلى هذا النوع من المعاملات، فتدخل إلى السوق وأنت تريد شيئاً فلا تستطيع أن تصل إليه إلا بالمخاطرة، فتنعدم الثقة في التاجر، وهذا ضرر اقتصادي، فهو من نظرة اقتصادية مفسدة تضر بمعاملات الناس والتجارة نفسها، فحرص الإسلام على وجود الثقة، فالإنسان إذا جاء يريد أن يشتري الشيء يشتريه وهو على ثقة وعلى أمانة ونصيحة من أخيه المسلم، وحينئذٍ يكون هذا أدعى إلى طمأنينة الناس، وكذلك ثقتهم بالتجار، ولذلك تجد في أسواق المسلمين من الثقة والمحبة والخير ما لا تجده في أسواق غيرهم، وإذا نظرت إلى الأسواق التي تنبني على المعاملات الواضحة الخالية من الغرر تجدها أسواقاً رابحة رائجة، والناس فيها في طمأنينة وفي سعادة وفي خير كثير؛ لأن الله تكفل بهذا الخير لمن اتبع دينه وشرعه، وجعل الخير لمن عمل بهذه الأحكام التي شرعها لعباده سبحانه وتعالى، فالحمد لله على فضله ورحمته، لا نحصي ثناءً عليه سبحانه وتعالى.

من شروط صحة البيع: القدرة على تسليم المبيع

من شروط صحة البيع: القدرة على تسليم المبيع قال رحمه الله: [وأن يكون مقدوراً على تسليمه]. وهذا هو الشرط الخامس، أي: يشترط في صحة البيع أن تبيع الشيء المقدور على تسليمه، وهذا مبني على نفس الحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر)، فإذا باعه شيئاً لا يقدر على تسليمه، فإنه قد يعجز عن الإمساك به أو عن وجوده، فيكون أخذ المال حينئذٍ من أكل المال بالباطل، وقد قال الله عز وجل: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188]، وأيضاً: لو أنه باعه شيئاً غير مقدور على تسليمه فقد فوت مصلحة البيع؛ لأن مقصودك من شراء هذا الشيء أن تستفيد منه، فإذا باعك على وجه لا تتمكن من أخذه واستلامه فمعنى ذلك أنه فوت مقصودك من البيع بالكلية. ويحرم بيع الشيء الذي لا يقدر على تسليمه بإجماع العلماء رحمهم الله، ولهذا أمثلة: فقال رحمه الله: [فلا يصحّ بيع آبقٍ وشارد]. الفاء للتفريع، وهذا مفرع على الشرط، فإذا ثبت أنه لا يصحُّ البيع لشيء لا يقدر على تسليمه، فلا يصح بيع الآبق، وهذا في العبيد والإماء فإذا شرد العبد أو شردت الأمة فإنه لا يصح بيعه وبيعها إلاّ لمن يقدر على إمساكه وإمساكها، فإذا كان قادراً على إمساكه أو الإمساك بها فإنه حينئذٍ تفوت علة التحريم، وأصبح كأنه مقدورٌ على تسليمه، لكن إذا كان الشيء لا يقدر على تسليمه فإنه لا يصح البيع ولا يجوز؛ لأنه من الغرر. وأمّا (الشارد) فإنه يكون في الحيوانات مثل: أن يشرد البعير، أو الشاة، فإنه لا يصح بيعه؛ لأنه قد يعجز عن الإمساك به واللحوق به، وحينئذٍ يكون البائع قد أكل المال بالباطل، وهذا كمثال على الأشياء القديمة، وفي عصرنا الحاضر لو أن إنساناً باعك شيئاً لا تتمكن من إمساكه ولا تتمكن من أخذه والانتفاع به فإنه يعتبر في حكم بيع الآبق، وفي حكم بيع الشارد، ويكون أخذه للمال من باب أكل المال بالباطل، فمثلاً: لو كانت السيارة ضائعة، فقال له: يا فلان! سيارتك الضائعة أنا أشتريها منك بعشرة آلاف ريال، فإن وجدتها فأعطنيها، وإن لم تجدها فالعشرة آلاف ملك لك، فهذا لا يجوز. وقد يقول قائل: المشتري رضي بذلك وقال: العشرة آلاف ملك لك، نقول: رضا المشتري لا عبرة به، ولذلك لو أن شخصاً استدان من شخص مائة ألف ريال وقال: أردها مائة وعشرة، وأنا راضٍ أن أدفع العشرة آلاف فوق المائة، نقول: رضاك وجوده وعدمه سواء؛ لأن هذا النوع حرمه الله عز وجل، فلو قال: أنا راضٍ بالسيارة وجدتها أو لم أجدها، نقول: هذا سفه، وإنما لم يقبل رضاه لأنه يخاطر، وإذا خاطر كأنه يتصرف في ماله تصرف غير الرشيد وهو السفيه، فيحجر عليه الشرع ويقول له: رضاك وجوده وعدمه سواء فلا عبرة به، ولا يوجب الحكم بِحلِّ هذا النوع من المعاملات المحرمة. قال رحمه الله: [وطيرٍ في هواء]. كما قلنا أنه يقع في الحمام الذي يطير ويفر من الإنسان، فإنه لا يصح بيعه إذا كان طائراً في الهواء؛ لكن لو أمكنه أن يمسكه فإنه يصح البيع. قال: [وسمكٍ في ماء]. فلو قال له: هذا السمك الذي في البحيرة ملكٌ لي، أبيعك منه سمكة بعشرة، لا يصح لأمرين: الأمر الأول: الجهالة. الأمر الثاني: عدم القدرة على الإمساك به. لكن لو كان السمك في بركة، أو مستنقع محدود، أو كان في مكان يمكن الإمساك به وأخذه فلا بأس، فمثلاً: الآن بعض باعة السمك يجعل السمك في أحواض، حتى يكون طازجاً في متناول الإنسان، فيكون حديث العهد بحياته فيكون لحمه ألذ وأطيب، ويقول: إذا أردت -مثلاً- من نوع كذا فبعشرة أو من نوع كذا فبعشرين، فهذا جائز؛ لأنه يمكنك أن تمسك به، وإن لم تستطع إمساكه فبإمكانه هو أن يمسك به، فيجوز، لماذا؟ لأن العلة القدرة على التسليم، فلما كان الذي في الحوض مقدوراً على تسليمه واستلامه جاز بيعه وصح، ولما كان أصل العلة هي عدم القدرة فإنه لا يؤثر كونه في حوض مقدور على تسليمه أو مقدور على الإمساك به. قال رحمه الله: [ولا مغصوب من غير غاصبه أو قادرٍ على أخذه]. المغصوب مثل الشيء الضائع، فإنه لو جاء شخص وأخذ سيارتك بالقوة وغصبها منك، أو أخذ أرضك بالقوة واغتصبها منك، أو أخذ كتابك أو قلمك أو شيئاً لك بالقوة، وأنت لا تستطيع أن تأخذ هذا الشيء منه ولا أن تسترده، فلا يحلُّ لك أن تبيعه؛ لأن الخسارة والبلاء نزل بك، فلا يجوز أن تكون أنانياً شحيحاً تلقي بالبلاء على غيرك، فحينئذٍ تصبر، كما لو نزل بالإنسان مرض أو سقم فإنه يصبر على هذا البلاء، فكما أنه يُبلى في نفسه يُبلى في ماله: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:186] فيسعك الصبر، أمّا أن تحمل هذا البلاء على أخيك المسلم، ولو كان راضياً بسفهه، فإنه لا يصحُّ هذا، إلاّ إذا كان الشيء المغصوب يريد أن يشتريه مَنْ غَصبه، فلو قال الغاصب: هذه مائة ألف لقاء أرضك، فيصحّ البيع بشرط: أن تكون راضياً به، أمّا لو كنت غير راضٍ فحينئذٍ يعتبر من أكل المال بالباطل، ويعتبر ظالماً لك في أخذه وانتزاعه منك بالقوة، وأما إذا وجد شخص يقدر على أخذه من الغاصب فمثلاً: أخذ رجلٌ منك سيارة وأنت لا تستطيع أن تأخذها، وهناك رجلٌ قادر على أخذها منه، فقال لك: بعنيها وخلِّ بيني وبينه، فقلت له: أبيعكها بعشرة آلاف، صحَّ البيع وجاز؛ لأن العلة في المنع هي عدم القدرة وقد زالت، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.

من شروط صحة البيع: أن يكون المبيع معلوما بالرؤية أو الصفة

من شروط صحة البيع: أن يكون المبيع معلوماً بالرؤية أو الصفة قال رحمه الله: [وأن يكون معلوماً برؤية أو صفة]. وهذا هو الشرط السادس: أن يكون المبيع معلوماً برؤية أو صفة، فإذا بعت شيئاً أو اشتريت شيئاً فلابد وأن يكون الثمن والمثمن معلوماً إمّا برؤية أو صفة، وبعبارة أوضح: ألا يكون المبيع مجهولاً جهالةً مؤثرة، فبعض الأحيان يقول لك: أبيعك شيئاً بعشرة آلاف أو بمائة، وهذه جهالةٌ كلية، فلا تدري ما هو هذا الشيء؟ أهو من الأحياء أم من الجمادات؟ أهو غالٍ أم رخيص؟ فهذه جهالة مستحكمة من جميع الوجوه، فلا تدري بجنسه، ولا نوعه، ولا صفته، ولا قدره، ولا عدده، ولا تدري ما هو هذا الشيء، فالبيع باطل ولا يجوز. وفي حكم هذا البيع ما يوجد الآن من شراء الأرقام، فإنك تشتري رقماً لا تدري ما الذي فيه، ولربما دفعت العشرة أو المائة في رقم لا يخرج منه شيء، ففي هذه الحالة تكون الجهالة مستحكمة، وفي بعض الأحيان يكون المبيع معلوم الجنس لكن غير معلوم النوع، أو معلوم الجنس والنوع لكنه غير معلوم الصفة أو غير معلوم القدر أو غير معلوم العدد. ومثال ما كان معلوم الجنس مجهول النوع، كأن يقول له: أبيعك بهيمة بألفٍ، فإن بهيمة الأنعام: إبل وبقر وغنم، فلا ندري أهي من الإبل أم من البقر أم من الغنم، فجهل النوع، والجهالة بعد ذلك مستتبعة، فلا ندري من أي الأنواع، ونفس النوع لا ندري أجيّدٌ هو أم رديء؟ فإذا قال له: أبيعك حيواناً، فهذه جهالة، ولو: حددّ النوع، فقال: أبيعك إبلاً بمائةٍ أو بألفٍ، لم يصح؛ لأنه وإن حددّ النوع فإن الصفة غير معلومة، والعدد غير معلوم، فهذه جهالة للصفة والعدد، ولو حدّد العدد فقال: أبيعك بعيراً واحداً، فقد علمنا الجنس وأنه من بهيمة الأنعام، وعلمنا النوع أنه إبل، وعلمنا العدد أنه بعير واحد؛ لكن جهلنا الصفة، فلا ندري ما هي صفاته؟ أهو كبير السن أم صغير السن؟ ثم أهو متصف بالصفات الجيدة أو الرديئة أو وسط بينهما؟ كذلك أيضاً قد تعلم الجنس وتعلم النوع؛ لكن لا تعلم العدد والقدر، فلو قال لك: أشتري منك بيتك بذهبٍ، فأنت هنا علمت جنس المال ونوعه الذي هو الذهب، لكنك لا تدري كم قدره؟ فلا ندري أهو مائة جنيه أو مائتين أو جنيهاً واحداً؟ فحينئذٍ لا تدري كم قدره وعدده، فهذه جهالة مؤثرة، وأياً ما كان فالجهالة مؤثرة وموجبة لفساد البيع بشرط: أن تكون جهالة موجبة للغرر؛ لأن هناك أنواعاً من الجهالات لا توجب الغرر، وقد تغتفر للضرورة، فمثلاً: حينما يقول لك: بعتك هذا البيت بعشرة آلاف ريال، وأنت تعرف كم عدد غرفه، وتعلم ما هي أوصافه، والحي الذي هو فيه، أو تكون قد دخلت البيت ورأيته؛ لكن هناك جهالة، وهي أنك لا تعلم هل أساس البيت جيد أم رديء؟ لأنه مغيب عنك، فيحتمل أن يكون الأساس منهاراً أو غير منهار، ثم إذا كان غير منهار قد يكون جيداً وقد يكون رديئاً لا يعيش ولا يبقى إلى سنوات عديدة، أو أنه يتلف بكثرة الأمطار أو بالسيول، فهذه جهالة مغتفرة للضرورة، لكن المشتري لو اكتشف أو تبيّن له أن الأساس فيه عيب، واطلع على هذا العيب فإن من حقه أن يرده، فهي تغتفر لإعمال العقد، ولكن إذا تبيّن وجود ما فيه ضرر فمن حقه أن يطالبه بضمان الأرش، أو يطالبه برد البيع وأخذ الثمن الذي دفعه. قال رحمه الله: [فإن اشترى ما لم يره، أو رآه وجهله، أو وُصِف له بما لا يكفي سلماً لم يصح]. الجهالة ترتفع بالعلم بالشيء المبيع، وعليه فالأصل أن يكون المبيع معلوماً، ولذلك بعض العلماء يعبر عن هذا بعبارة أدق ويقول: أن يكون المبيع معلوماً، فلما يقول (معلوماً)، يحدد العلم الذي يشترط وجوده بالجنس والنوع والقدر أي: معلوم الصفات، وقصد المصنف رحمه الله أن يبين أن بيع المجهول لا يصح، فإذا اشترى ما يجهل فيه جهالة مؤثرة -ما لم يره ولم يعلم صفته- فإنه لا يصحُّ البيع، قال له مثلاً: أبيعك أرضاً في مخطط (20×20)، فإنّا لا ندري أهي في مخطط غالٍ أو رخيص؟ لا ندري أتكون في مكانٍ محمود ومرغوب أو في مكان غير محمود ولا مرغوب أو في مكان وسط بين ذلك؟ فحينئذٍ يبيعه شيئاً لم يره، ولم يوصف وصفاً تزول به الجهالة، فإذا باعه شيئاً رآه أو شيئاً وصفه له صفة تزول بها الجهالة صحَّ البيع، قال له: أبيعك أرضاً طولها كذا وعرضها كذا، في شارع كذا، تطل على كذا وكذا، حددّ أطوالها وجهاتها وصفاتها التي تزول بها الجهالة، فحينئذٍ يكون قد أزال الجهالة بالوصف، وكذلك إذا كنت تعرف أرضه أو بستانه ومزرعته، ولم يطل عهدك على وجه يتغير به البستان وقال لك: أبيعك بستاني الذي تعرفه بمائة ألف فقلت: قبلت، وأنت قد رأيت البستان من قبل صحَّ البيع؛ لأن الجهالة ارتفعت بالرؤية، وترتفع بالصفات -كما ذكرنا- فمثلاً: نمثل بأشياء موجودة الآن: كأن يقول له: أبيعك سيارة، فلا يصحُّ البيع؛ لأننا لا ندري ما نوع هذه السيارة، وكذلك لو حددّ نوعها فقال: من نوع كذا، هذا النوع من السيارات لابد أن يحدد -مثلاً- موديله والصفات التي عليه؛ لأن هذا شيء جرى العرف أن الجهالة ترتفع به، ولكنه قال: من نوع كذا، ولم يحدد صفاتها أو موديلها، فإنه لا يصحُّ البيع، ويعتبر هذا من الجهالة المفضية إلى الغرر؛ لأنك ربما ظننت أنها جديدة، فإذا به يبيعك ما كان قديماً، ولربما ظننت أنها من صنع هذه السنة، فإذا بها مصنوعة في العام الماضي أو الذي قبله، وكل ذلك من الجهالة المفضية للغرر، فلا يصح البيع، ولا يجوز على هذا الوجه الموجب للإضرار. قال رحمه الله: [أو رآه وجهله]. (أو رآه وجهله) فإنه لا يصحُّ البيع؛ فمثلاً لو قلت له: أبيعك هذه السيارة، فرأى السيارة ولكنه لا يعلم ما بداخلها، وما هي صفاتها؟ وحتى لو يعرف نوعها فالنوع هذا ينقسم إلى أنواع فهناك الجيد وهناك الرديء، والذي له صفات عالية وصفات دون ذلك، فحينئذٍ إذا باعه على هذا الوجه لا يصحُّ؛ لكن لو باعه شيئاً يجهل المشتري حقيقته، ولم يستفصل عن حقيقته، واشترى هذا الشيء، كمن يدخل بقالة ويرى كيساً فيقول: بكم هذا الكيس؟ قال: بعشرة، قال: خذ العشرة، فإنه يلزم ويجب على المشتري إمضاء البيع؛ لأنه هو الذي قصّر وهو الذي غرّر بنفسه، فإذا كان ذلك المبيع في العرف يستحق العشرة صحَّ البيع ولزمه، لكن لو كان في العرف يستحق الخمسة وباعه عليه بعشرة حينئذٍ يكون خيار الغبن في الثمن -وسيأتي الكلام عليه-. المقصود: أن من اشترى شيئاً يجهله، إذا كان هذا الشيء من باب التغرير -كما ذكرنا- كأن يبيعه الشيء في كيس أو يبيعه شيئاً ملفوفاً ولا يدري ما هو، فهذا قد رأى ولكنه جهل حقيقة المبيع، أو مثل (الكراتين) الموجودة الآن دون أن يكتب عليها الصفات ودون أن يبيّن ما هي نوعية هذا الصنف أو نوعية هذا المبيع، فإن البيع لا يصحُّ؛ لأن القاعدة عندنا الجهالة، وقد اشترى ما يجهله ولو أنه رآه، فكأن المصنف هنا يريد أن يقرر لك قاعدة: أن مجرد الرؤية ليس بكاف، وأن العبرة بزوال الغرر عنه، فلو قال له: أبيعك هذه السيارة وهو لا يعلم صفاتها الداخلية لم يصحّ البيع؛ لأنه وإن كان قد رأى المبيع لكنه لم يعلم حقيقته على وجه يزول به الغرر، فصار من البيوع المحرمة، لكن لو أنه باعه الشيء في كرتون أو كيس أو وعاء ومكتوب على الغلاف الصفات، أو أخرج عَيِّنَة من هذه الأشياء الموجودة في (القرطاس) أو في (الكرتون) وقال لك: من هذا النوع، ومن هذا الصنف، وهذه الصفات صحَّ البيع؛ لأنه وإن كان لم يكشف ما بداخل الكيس لكن الصفة الموجودة أمامه تتضمن ما فيه، فلو أخذه واختلف ما في الوعاء عما رآه كان له خيار الغبن؛ لأن هذا يعتبر خلاف المتفق عليه، وخلاف العقد المبرم بين الطرفين، ويعتبر من الغش إذا قصد البائع أن يغشه، وعلى هذا فإن بيع المجهول إذا أخرج له مثالاً أو أخرج صنفاً منه أو عينة -كما تسميه العامة- وقال: هذه عينته، صحَّ البيع وجاز. قال رحمه الله: [أو وُصِف له بما لا يكفي سلماً لم يصح]. أي: إذا كان من جنس المعدودات يبين عدده، وأن يبين وزنه إن كان من جنس الموزونات، وأن يبين الكيل إذا كان من جنس المكيلات بعد بيان جنسه ونوعه وصفاته، فإذا ذكر المبيع ووصفه وصفاً معتبراً شرعاً ببيانه حتى يزول الغرر عن المشتري صحَّ البيع، وحينئذٍ يكون لك الخيار الذي يسمى بخيار الرؤية، إذاً: إذا اشتريت السلعة وقد رأيتها أمامك فلا إشكال؛ لكن لو باعك شيئاً موصوفاً في الذمة فقد التزم في ذمته أن تنطبق الصفات على الشيء الذي يعرضه عليك، فلو اختلفت الصفات عن الشيء الذي عرضه أو وصفه لك فحينئذٍ يكون من حقك أن ترد المبيع، وهذا يسميه العلماء: (خيار الرؤية)، وخيار الرؤية يقع في بيع يسمى بـ (بيع الغائب). فقوله رحمه الله: [بما لا يكفي سلماً] هذا في بيع الأشياء الغائبة، والأشياء الغائبة هي التي ليست موجودة في مكان العقد، أو تكون موجودة في مكان العقد لكن لا يستطيع المشتري أن يعلم حقيقتها، فهذا كله من الغائب، حتى ولو كان حاضراً في مجلس العقد قد يكون غائباً؛ وذلك إذا كان مجهولاً، فعندنا مبيعٌ غائبٌ حقيقة، وعندنا مبيعٌ غائبٌ حكماً، فهو موجود لكنه في حكم الغائب، وهو الذي يكون مغلفاً أو محفوظاً في أوعية ولا تستطيع كشف ما بداخل هذه الأوعية، فحينئذٍ يكون غائباً حكماً، وحكمه أنه لا يصحُّ بيعه إلاّ أن يصفه وصفاً تزول به الجهالة وينتفي به الغرر.

حكم بيع الحمل في البطن واللبن في الضرع منفردين

حكم بيع الحمل في البطن واللبن في الضرع منفردين قال رحمه الله: [ولا يباع حملٌ في بطن]. هذا تطبيق للشرط الذي ذكرناه، وفيه حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: (نهى عن بيع حبل الحبلة)، وفي السنن: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضامين والملاقيح)، و (المضامين): ما في بطون النوق، و (الملاقيح) قيل: إنها ما في أصلاب الفحول، وهذه السنة تدل على عدم جواز بيع الأجنة في البطون، سواء كانت في الإبل أو البقر أو الغنم، فلو قال له: أبيعك ما في بطن هذه الناقة، أو ما في بطن هذه البقرة أو ما في بطن هذه الشاة، أو أبيعك ما في بطن هذه الأمة فهذا كله من بيع المجهول، ولا يجوز، ويعتبر من بيع الغرر، ويجب في هذه الحالة رد الثمن إلى صاحبه، وإلغاء البيع، ويتوقف حتى ينتهي أمد الحمل، ثم تضع الناقة، وينظر في صفة الموضوع الذي تضعه، ويجرى العقد بعد وجوده وخروجه. قال رحمه الله: [ولبن في ضرع، منفردين]. (ولبن في ضرع) أي: ولا يجوز بيع اللبن في الضرع، وقد جاء فيه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: (نهى عن بيع الصوف على الظهر، واللبن في الضرع)، وهذا الحديث رواه البيهقي في سننه وقد حسنه غير واحد من العلماء رحمهم الله، وفيه عمرو القتّاب وثقه غير واحد من العلماء، حتى قال بعض أهل العلم: حديثه مما يقبل التحسين؛ لأن البخاري ذكره وسكت عليه، ولم يضعفه، ولم يذكره بجرح، وبقية رجال الحديث ثقات. وفي الحديث النهي عن بيع ما في الضرع؛ والسبب في هذا: أن الذي في ضرع الناقة أو الشاة أو البقرة أو حتى في ضرع الآدمية مجهول لكن المرأة يجوز أن تدفع لها المال أجرة من أجل أن ترضع الولد، فلو قالت: أنا أبيع ما في ثديي من الحليب بمائة، فلا يجوز؛ لأنه لا يُدرى أقليلٌ هو أو كثير؟ ثم لا يُدرى أيخرج جيداً أم رديئاً؟ ولذلك يقول العلماء: بيع ما في الضرع من بيع المجهول. وندرك هنا دقة المصنف رحمه الله لما يأتي بأمثلة: تارةً الضرع، وتارةً الحمل، وهذا كله من باب تطبيق القاعدة التي ذكرها في الشرط وهي: وجود الجهالة، فإن الذي في الضرع مغيب وعلمه إلى الله عز وجل ولا ندري أقليل هو أو كثير؟ لكن لو أنه حلب ما في ضرع الناقة، أو ما في ضرع البقرة أو الشاة في إناء وعرضه للبيع جاز، إذا كان معلوم القدر؛ لأنه قد زالت الجهالة وانتفى الغرر، فالعلة الجهالة. وأما مسألة بيع لبن الآدمية إذا حلب، ففيه خلاف مشهور بين العلماء رحمهم الله، وهو هل يجوز بيع لبن الآدمية، أو لا يجوز؟ والصحيح جوازه؛ وذلك لأن الأصل جواز البيع حتى يدلَّ الدليل على منعه، وليس هنا دليل؛ ولأنه جازت الإجارة عليه فجاز البيع؛ ولأن الذين قالوا بتحريمه قاسوه على لبن الأتان -أنثى الحمار أكرمكم الله- فقالوا: الأتان محرمة الأكل، والآدمية محرمة الأكل، فيحرم بيع لبن هذه كهذه، وهذا قياسٌ مع الفارق؛ لأنه معلوم أن الحُمر لما حرم النبي صلى الله عليه وسلم لحومها قال: (إنها رجس)، ثم إن لحوم الأتن مذهب طائفة من العلماء نجاستها، حتى إنهم قالوا: لا يجوز شرب لبن الأتان إلاّ عند الضرورة، وقد نظم بعض العلماء هذه المسألة بقوله في الضرورات المباحة لوجود الحاجة: وَلَبنُ الأُتنِ لِلسُّعَالِ وَالجلْدُ لِلرِئْمَانِ فِيْهِ جالي (ولبنُ الأتن للِسَّعالِ) أي: لعلاج من به سعال ديكي، إذا لم يوجد له دواء غيره فيجوز. الشاهد: أن لبن الأتن محرم، لكن لبن الآدمية مباح، فحرم بيع لبن الأتان؛ لأنه محرم، وجاز بيع لبن الآدمية؛ لأنه مباح، فنقول: قياسه على لبن بهيمة الأنعام من الإبل والبقر أولى من قياسه على لبن الأتان. وقد قاسوا قياساً آخر فقالوا: ما دمتم تقولون: إن لبن الأتان محرم نعطيكم قياساً من الآدمية نفسها، ونقول: يحرم بيع لبن المرأة كما يحرم بيع أعضائها، فكما أنه لا يجوز بيع يدها ورجلها فكذلك لا يجوز أن تبيع حليبها؛ لأن الكل من البدن. ورُدَّ عليهم هذا القياس وقيل لهم: إن قطع الأعضاء مضرة وخروج اللبن مصلحة، فجاز بيع اللبن؛ لأن فيه المصلحة، وحرم بيع الأعضاء؛ لأن فيه مضرة، قالوا: نعطيكم شيئاً آخر، ونعطيكم سائلاً كاللبن، فإنه يحرم بيع لبن الآدمية كما يحرم بيع دموعها ورُدَّ عليهم: بأن الدموع لا منفعة فيها، واللبن فيه منفعة، فحرم بذل المال لما لا منفعة فيه؛ لأنه من أكل المال بالباطل، وجاز بيع اللبن؛ لأنه مما فيه منفعة ومصلحة للبدن. فمن ناحية الأقيسة التي يذكرونها لم يستقم لهم قياس على تحريم بيع لبن الآدمية. إذاً: الصحيح: أنه يجوز بيع لبن الآدمية كما تجوز الإجارة عليه، بل إن الحنفية أنفسهم الذين حرموا بيع لبن الآدمية يقيسون مسائل البيع على الإجارة، ويقيسون الإجارة على البيع؛ لأن كلاً منهما عقد معاوضة، والله تعالى يقول: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6] وقال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] فأمر الله عز وجل بكسوة المرضعة والإنفاق عليها وبذل المال لقاء الحليب الذي أخذ، فكما أنه تجوز الإجارة عليه كذلك أيضاً يجوز بيعه، وعلى هذا فإننا نفرق في مسألة اللبن التي ذكرها المصنف: وأنه إذا خرج من الضرع وعلم قدره جاز بيعه، ولا حرج ولا بأس بذلك. وقوله: (منفردين). أي: أن يبيعهما منفردين، وبشرط: ألاَّ يكونا قد خرجا وانفصلا عن البدن، أمّا لو خرجا وانفصلا وعلم قدرهما جاز، إذاً: عندنا شرطان: الشرط الأول: أن يبيع اللبن في ضرع الناقة أو الشاة أو البقرة منفصلاً عن الذات، أي: غير تابع للأم التي هي صاحبة اللبن. الشرط الثاني: ألاَّ يكون قد علم قدره إذا بان وانفصل. ففي كلتا الحالتين لا يجوز البيع. يبقى Q لو أنه بيع اللبن مع الأم؟ فإنه يجوز؛ لأنه هنا تابع، ويجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل، ولذلك قالوا: التابع تابع، ألا ترى ثمرة البستان إذا لم يبدو صلاحها لو بعت الرقبة والذوات -وهي النخل- جاز لك أن تبيع الثمرة تابعةً للأصل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من باع نخلاً قد أبِّرت فثمرتها للبائع، إلاّ أن يشترطها المبتاع)، فأجاز البيع ورخص فيه قبل بدو الصلاح؛ لأن مرحلة التأبير -كما سيأتي إن شاء الله في مسائل النخيل- إنما هي قبل بدو الصلاح، فدلَّ هذا على جواز بيع الشيء تبعاً. وكذلك الحمل في البطن، فلو بعت ناقة وهي عشَراء جاز البيع، لكن أن تبيع الجنين منفصلاً لا يجوز؛ لأنك إذا بعت الرقبة بما فيها فهو تابع لها، فهذا نماءٌ متصلٌ بالمبيع كما لو بعته سميناً بلحم وافر ونعمة سابغة جاز البيع، كذلك إذا بعت الناقة وولدها في بطنها؛ لكن أن تبيع ولدها منفصلاً عنها لا يجوز؛ لأنك إذا بعته كذلك تحققت الجهالة، والأصل عندنا: أن بيوع الغرر لا تجوز، وهذا يؤكد سماحة الشرع، وأن الإسلام كما أنه رحمة في تخفيف التشريع، كذلك هو رحمة في الاحتياط للمشتري في حقه، فلا يجوز للمسلم أن يأخذ مال أخيه المسلم على شيء مجهول، وكذلك لا يجوز للمسلم أن يدفع ماله على وجه لا يضمن فيه حقه.

حكم بيع المسك في فأرته

حكم بيع المسك في فأرته قال المصنف رحمه الله: [ولا مسك في فأرته] ذكر المصنف رحمه الله هنا مسألة المسك في الفأرة. والفأرة: هي وعاء المسك، وتكون من الجلد نفسه، وذكر بعض أئمة اللغة: أنه سأل من يعرف المسك فقال: إن الغزال ينبت في جهة أضلاعه وعاء المسك، وهو أشبه بالثألول أو شيءٌ من هذا، فيكبر قليلاً قليلاً حتى يصل إلى حجم معين، فإذا صاد الصياد الغزال فإنه يربط هذا الموضع، ثم بعد ذلك يقصه فيجتمع ويتخثر فيه الدم، وإذا تخثر فيه الدم وضع في الشعير حتى يطيب ويزكو؛ لأنه إذا تخثر الدم يكون نتن الرائحة، فإذا وضع في الشعير استصلح على طريقة يعرفها أهل (العطارة) فبعد استصلاحه تفوح منه الرائحة الطيبة الزكية، حتى قال من وصفه بهذا الوصف: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تطيب به ما تطيبت به؛ لأن من عرف أصله وهو الدم فإنه لا يتطيب به بل ينفر منه؛ لكن (المِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ) كما يقول الشاعر، فالله سبحانه وتعالى جعل في هذا الدم هذه الخاصية والرائحة، وقد تطيب به رسول الأمة صلى الله عليه وسلم. (ولا مسكٌ) أي: أصل التقدير: (ولا يباع المسك في فأرته)، وهي وعاؤه الذي يكون فيه من جلد الغزال نفسه؛ والسبب في هذا أن المسك في الفأرة كاللبن في الضرع وكالحمل في البطن، وكأنك تنظر إلى هذه الثلاثة الأمثلة كلها تشتمل على بيع شيء مجهول داخل وعاء محفوظ، لا يمكن أن يُطّلع معه على حقيقة المبيع، فلو سألك سائل: هل يجوز بيع الأشياء داخل أوعيتها؟ تقول: فيه تفصيل: فإن كان يمكن أن يطّلع على حقيقة المبيع وهو بداخل الوعاء صحَّ البيع، كأن يباع في زجاج ويكون وصفه من داخل الزجاج ظاهراً، كأنه واضحٌ أمام المشتري، يعلم جودته ورداءته ويعلم حجمه وقدره فيصحُ البيع، أمّا لو كان داخل وعاء مصمت لا يمكن كشفه ولا معرفة حقيقته تقول: يحرم بيعه، كما يحرم بيع المسك في الفأرة، والحمل في البطن، واللبن في الضرع.

حكم بيع النوى في التمر

حكم بيع النوى في التمر قال رحمه الله: [ولا نوى في تمره]. هذا المثال الرابع، أي: لا يباع النوى وهو داخل التمر؛ والسبب في هذا أن النوى والذي يسمى (بالفصي) يطحن ويكون علفاً للدواب، ويدرُّ به حليب البهيمة ويستصلح به، فهذا النوى إذا قال شخص: أبيعك نوى هذا التمر، أي: آكل التمر ثم أبيعك نواه لم يصحّ؛ والسبب في هذا أن النوى يختلف حجمه، فقد يكون كبيراً وقد يكون صغيراً، وإذا كبر الحجم عظم القدر وكان وزنه وكيله كثيراً، وعلى هذا ربما اشتريت النوى في هذا التمر ظاناً أنه من النوى الجيد فيكون من الرديء، وتظنه من الحجم الكبير فإذا به من الصغير، أو تجده يجمع بين الصغير والكبير، فالمسألة كلها تدور حول جهالة المبيع، فلا يهم أن تحفظ مسألة النوى وغيرها، إنما يذكر العلماء لك هذه الأمثلة لشيء يسمى في الفقه (بالتخريج)، والتخريج: أن تطرأ مسألة جديدة في عصرنا الحاضر وتقول: هذا الشيء الذي في وعائه ولا تُدرى صفته بيعه كبيع النوى في داخل التمر، وبيعه كبيع اللبن داخل الضرع، وكبيع الحمل داخل البطن، أي: أنك تخرّج الحاضر على الماضي، وهو الذي يسمى بتخريج الفروع.

حكم بيع الصوف على الظهر

حكم بيع الصوف على الظهر قال رحمه الله: [ولا صوفٌ على ظهر]. بالنسبة للأمثلة السابقة تلاحظ أن الجهالة مستحكمة فانظر إلى دقة المصنف: فقد ابتدأ بالحمل فقال: (وبيع حمل في بطن)؛ لأن الجهالة هنا تجمع عدة وجوه: أولاً: تجهل هل الحمل حيٌّ أو ميت؟ ثانياً: تجهل هل هو كامل الخلقة أو ناقص الخلقة؟ ثالثاً: تجهل السلامة وهي العاقبة، فحتى ولو كان حياً الآن فلا ندري أيخرج سالماً أو غير سالم؟ فاستحكمت الجهالة من أكثر من وجه فقدّمه، وأتبعه باللبن في الضرع؛ لأنه يجهل القدر ويجهل الحال، فهذان نوعان من الجهالة، فالأول فيه ثلاثة أنواع من الجهالة، والثاني فيه نوعان من الجهالة، ثم أتبعه بالنوى داخل التمر، فإنك وإن علمت عدد النوى فإنك لا تعلم صفته: أجيّد هو أو رديء؟ فهذا نوعٌ من الجهالة، ثم جاءك بالمنكشف الذي تراه أمامك، ولكنك تجهل ما يكون من عاقبته وهو الصوف، فالصوف على ظهر البهيمة لا تدري قدره؛ لأنه إذا جُزّ تكون له حال غير حاله وهو على ظهر البهيمة، فحينئذٍ لا تدري أيجز فيكون جزه كاملاً أو جزه ناقصاً؟ ثم لا تدري أجيداً يكون أو رديئاً؛ لأنه على ظهر البهيمة ربما أطبق بعضه على بعض ولا تستطيع أن تكشفه، وهنا تكون الجهالة أيضاً من وجه، فكأن الأمثلة مرتب بعضها على بعض على حسب قوة الجهالة، والعلماء كأنهم ينبهونك على الأشياء التي اجتمعت فيها الجهالة من عدة أوجه، وما كانت الجهالة فيها من وجهين، وما كانت الجهالة فيها من وجه واحد؛ لأنه لو ذكر المصنف الأمثلة الأولى -وهي بيع اللبن في الضرع، والجنين في البطن، والنوى في التمر- وسكت ربما جاءك شخص وقال: يجوز بيع الصوف على الظهر؛ لأن المصنف إنما ذكر المغيب المجهول ولم يذكر الظاهر المجهول، فكأن المصنف من دقته يريد أن يقول لك: لا يقتصر الحال على المجهولات التي تكون في بطن الأشياء، بل إن المجهول قد يكون على ظهر الشيء ولا يجوز بيعه، كالصوف والشعر على ظهر البهيمة، كلّ ذلك مما يجهل حاله ولا يدرى عاقبته، وكما لو باعه جلدها يقول له: هذه البهيمة أبيعك جلدها بعشرة، فهذا جهل السلامة؛ لأن الجزار إذا أراد أن يفصل الجلد عن البهيمة قد يَقُدُّ الجلد، ولا ندري حتى ولو خرج الجلد سالماً أهو من الجلد الثخين فيصلح في حفظ الأشياء التي لابد أن يكون الجلد فيها ثخيناً، أو يكون من الجلد (الرهيف) والرقيق، وهذا يختلف من بهيمة إلى أخرى، فإذاً: الأمثلة مرتبة من المصنف لمعنى ومغزى.

حكم بيع الفجل قبل قلعه

حكم بيع الفجل قبل قلعه قال رحمه الله: [وفجل ونحوه قبلَ قلعه]. لا يختص الأمر بالبهائم فقد يقول قائل: إن الجهالة لا توجد إلا في البهائم، فقال لك: (وفجل)، فإن الفجل -كما تعلمون- يكون في باطن الأرض، ويكون ما نبت منه على وجه الأرض الورق، وحينئذٍ أنت تريد الفجل، وهذا الفجل مغيب في الأرض، فلو باعه فجلاً داخل الأرض فإنه لا يجوز؛ لأنه لا ندري أهو من الحجم الكبير أو من الحجم الصغير؟ ولا ندري إذا قلعه أيقتلعه كاملاً أو ناقصاً؟ وعلى هذا فإنه لا يباع وهو في باطن الأرض، أمّا لو كشف وخرج على وجه الأرض وأمكن تمييزه، ومعرفة جيده من رديئه، ومعرفة قدره جاز بيعه وصحَّ.

الأسئلة

الأسئلة

الخرص كيفيته وحكمه

الخرص كيفيته وحكمه Q هل ما يسمى بالخرْص يُعد من الغرر، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فأول ما يقال في هذا السؤال: ما معنى الخرْص؟ الخرْص: هو الحدس والتخمين، وقد يطلق على الكذب، ومنه قوله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:10] أي: الكذابون، و (قتل) بمعنى: لُعن؛ لأن القتل يستعمل بمعنى اللعن، والخارص: هو الذي يقدّر الأشياء. والسؤال المراد به: إذا كان عندك نخل وأراد شخص أن يشتريه منك فجاء بخارص يخرص كم في النخل لكي يشتريه ويقول لك: هذا إن اشتريته بمائة ألف فأنت رابح، وإن اشتريته بمائة وخمسين فأنت خسران، ففي هذه الحالة الخارص مهمته أن يخرص النخلة، وبناءً على الخبرة والمعرفة قد يطلع على النخلة ويقول: هذه النخلة فيها مائة صاع أو مائتين، فهذا مبني على الخبرة، والخرص له دليل شرعي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه إلى خيبر لكي يخرص النخل، كما ثبت في الصحيح في قصته مع يهود خيبر، فكان يخرص النخل، ويبين ما لليهود وما عليهم في نخل خيبر وتمر خيبر، فهذا يدل على مشروعية الخرص، وهذا من حكمة الله عز وجل ولطفه بعباده؛ لأن القاعدة: أنه (إذا تعذر اليقين يصار إلى ما يقارب اليقين)، فلما كان يتعذر أن تنزل النخلة وتحسب ما فيها أُعطي الخرص ونزل منزلة الوجود. مثال ذلك في الزكاة: فإنه إذا بدا الصلاح في النخيل يبعث الخارص ويحدد كم في البستان من أردب أو كم فيه من أمداد أو من آصع، فيقول: هذا البستان -مثلاً- فيه مائة وسق، ففي هذه الحالة يقول لك: زكاتك كذا وكذا، فهذا التحديد يكون عند بدو الصلاح، وهو مبني على الخرص؛ لكن الشريعة أجازت ذلك؛ لوجود الحاجة، فلو قلنا لأصحاب الأموال وأصحاب البساتين الذين يحتاجون إلى الخرص لابد وأن يخرجوا التمر، فهذا فيه حرج وأنتم تعرفون أن النخل منه ما يؤكل بلحاً، ومنه ما يؤكل رطباً، ومنه ما يؤكل تمراً، ولا يمكن أن يقدر بالصاع إلا إذا كان تمراً، أما بالنسبة للبلح والرطب فهذا لا يوضع في الصاع ولا يكال عادة، إنما يكال التمر، فيعطى مجال لأهل التمر أن ينتفعوا به بسراً وزهواً الذي هو البلح، وكذلك ينتفعون به رطباً وينتفعون به تمراً، وقدم الخرص لوجود الحاجة، وهذا من عدل الله ولطفه بعباده أنه أعطى كل حالة من الحالات التي تقع فيها الحاجة والضرورة حكمها الخاص بها، فيعتبر الخرص خارجاً عن مسألة التقدير العيني؛ لأنه مبني على حالة الضرورة والحاجة. لكن لو أن إنساناً أراد أن يبيع حباً على الأرض أو أراد أن يبيع تمراً على نخلة واحدة وهو يقول: أبيعك هذا التمر مائة صاع وقدّره بالخرص لا يصح، لكن لو قال: أبيعك ما على هذه النخلة، جاز، أما لو قال: مائة صاع أو خمسة آصع وحدد العدد بالخرص فلا يجوز؛ لأنه قد يزيد وقد ينقص، وبإمكانه أن يجني التمر ويعرف حقيقته، والقاعدة: (القدرة على اليقين تمنع من الشك)، ولهذا فرق العلماء في هذه الأحوال، إلا في مسألة المزابنة، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله في حديث زيد الثابت في الصحيح. والله تعالى أعلم.

الفرق بين الغبن والغرر

الفرق بين الغبن والغرر Q ما الفرق بين الغرر والغبن، أثابكم الله؟ A بعض العلماء يرى أن الغبن يندرج تحت الغرر، والغرر أعم من الغبن؛ لأن الغبن يكون في شيء لا يستحق قيمته، وهذا غالباً ما يكون فيه نوع منفعة وهو نوع من أنواع الغرر، ولذلك تجد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر ولم ينه عن الغبن، أي: ما جاء الأسلوب بالغبن؛ لأنه أخف، وإنما جاء بالتعبير بالغرر؛ لأنه أعم. ومن الغبن: تلقي الركبان، فإن من يجلب إلى البلد السلع إذا تلقاه التجار لا يدري كم قيمة السلعة في السوق فيغبن بالقيمة، فيقع البيع من حيث هو على ظاهره صحيحاً، لكن في الحقيقة فيه غبن، ولذلك يمثل العلماء لبيوع الغبن بهذا النوع، ويجعلونه نوعاً مستقلاً ويفصلونه عن الغرر، لورود النصوص الخاصة به، فهناك فرق بين الغبن وبين الغرر. والله تعالى أعلم.

حكم بيع ما كان غير معلوم القدر

حكم بيع ما كان غير معلوم القدر Q ما الحكم لو قال بائع السمك للمشتري: لك نصف ساعة بمائة ريال فما تصيده من السمك الموجود في الحوض فهو لك، أثابكم الله؟ A إذا قال هذا فإنه يعتبر من بيع المجهول؛ لأننا لا ندري هل يصيد الكل، فقد يصيد كل ما في الحوض خلال نصف ساعة فيغبن صاحب الحوض؛ لأنه كان يظن أنه لن يستطيع أن يصيد هذا كله، فيحس بنوع من الغبن، وأنه قد ظُلم بدفع ما هو زائد عن القيمة الأصلية، وإذا أخذ ما هو أقل من القيمة غبن المشتري، ولذلك لا يجوز هذا النوع، وهكذا لو قال له: تدخل المطعم وتأكل حتى تشبع، فهذا لا يجوز، وقد ذكر العلماء أن هذا من بيع المجهول، وهو من أكل المال بالباطل على هذا الوجه؛ لأنه يريد أن يجبر نقص طعام هذا بزيادة طعام هذا، وهذا من أكل المال بالباطل، والشريعة تريد بيعاً واضحاً، حيث تدفع المال لقاء شيء معلوم القدر مستحق القيمة، أما أن يقول: لك ما تصيده من هذا الحوض، وتجلس نصف ساعة تصيد، أو ادخل المطعم وهذه أربعة أنواع أو خمسة أصناف كُلْ منها ما شئت حتى تشبع، فإن هذا كله يعتبر من بيع المجهول. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب البيع [7]

شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [7] لقد حرم الشرع البيوع التي فيها تغرير بالمشتري كبيع المجهولات، ومنها: بيع المسك في فأرته، والنوى في التمر، والصوف على الظهر، وحرم أيضاً بيع الملامسة والمنابذة وهما من بيوع الجاهلية. كما بين الشرع ضوابط الاستثناء في البيع، فإن كان معلوماً لا غرر فيه صحّ ولا حرج فيه، أما إن كان فيه شيء من الجهالة فيحرم.

حكم بيع الملامسة والمنابذة

حكم بيع الملامسة والمنابذة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ولا يصحُّ بيع الملامسة]. في الكتب الفقهية نكت لطيفة، وإذا تأملت ودققت في العبارات وفي الأمثلة وفي الترتيب تدرك فقه الفقيه، فانظر كيف رتب المسائل هنا، فذكر أولاً بيع الحمل في البطن، ثم بيع اللبن في الضرع، ثم بيع النوى في التمر، ثم بيع الصوف على الظهر، ثم بيع الفجل قبل قلعه، ثم بعد ذلك قال: (ولا يصحُّ)، وجاء بالعطف لجملة مستأنفة؛ لأن هذا له دليلٌ خاص، ووردت به السنة، وهو بيع الملامسة، والأول له دليل ويعتبر قاعدة عامة وهو حديث ابن عمر في الصحيح: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر)، فاندرجت كل الصور تحته، لكن هنا بيع الملامسة جاء فيه نصٌّ بعينه، فقال: (ولا يصحُّ بيع الملامسة) تأكيداً على التحريم، وقال: (لا يصحُّ) ولم يقل: ولا يجوز؛ لأنه قد يكون الشيء لا يجوز ولكنه يصحح بيعه التفاتاً إلى العقود، فيحرم البيع ويأثم البائع لكن البيع صحيح، كالبيع بعد أذان الجمعة فعند جمهور العلماء يصحُّ البيع ويأثم المتبايعان؛ لأن شروط البيع وأركانه متوافرة، فقال: (ولا يصحُّ) وهذا أبلغ ما يكون في البطلان؛ لأنك إذا قلت: (لا يصحُّ) فإنه يحكم ببطلان البيع وإثم البائع إذا علم أنه من المحرم فباع به واشترى. وقوله: (الملامسة): مفاعلة من اللمس، والمفاعلة في لغة العرب تستلزم وجود شخصين فأكثر، كأن تقول: مقاتلة ومضاربة ومشاتمة؛ فإن الرجل لا يقاتل نفسه ولا يشاتمها ولا يضاربها، فقال هنا بصيغة المفاعلة؛ لأنها تستلزم البائع والمشتري. وأصل اللمس: إفضاء البشرة إلى الشيء، يقال: لمسه بيده إذا أفضى بكفه وبطن راحته فالتمست البشرة بالشيء الملموس، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام:8] أي: أفضوا ببطن أيديهم أو بالراحة إلى ذلك الكتاب. وبيع الملامسة من بيوع الجاهلية، والله سبحانه وتعالى حرّم هذا النوع من البيوع لحكم عظيمة، تقوم على دفع الضرر عن المشتري لاشتماله على شيء من التغرير، وهنا في هذه الجملة شرع المصنف في نوع آخر من بيوع الغرر، فالأول الغرر بالجهالة، وهنا الغرر بالجهالة من جهة الاشتراط وذلك بالعرف، فقد كان من عُرْفِ الجاهلية: أن الرجل إذا جاء يبيع الثوب جعله مطوياً مطبّقاً، وقد كانوا في أسواق الجاهلية يضعون الثوب على الأرض فمن يريد أن يشتريه فليأخذه، فيأتي رجل فينظر في الثوب فإن أعجبه يأتي ويلمسه دون أن يفتشه، ودون أن يرفعه حتى ينظر جليّة ما في الثوب، إنما يقوم باللمس، وهذا يقع على صورتين: إن كان في الليل فلا إشكال؛ لأنه لا يُبصر المبيع، وهذا الذي جعل بعض العلماء يقول: بيع الملامسة أن يبيعه ليلاً، والبيع في الليل يقوم على اللمس دون استكشاف ومعرفة لجلية المبيع، أو يبيعه نهاراً ويقول له: هذا الثوب لا تفتشه، فيقول العبارة التي ذكرها العلماء: أبيعك على أن يقوم لمسك مقام نظرك. ووجه التحريم في هذا النوع من المبيعات: أن لمسه لا يكشف جليته، فلربما كانت طريقة التفصيل وطريقة العرض على وجه لا تحبه ولا ترغبه، فيختلك بتطبيقه ويزعم أن لمسك قائمٌ مقام نظرك، كذلك أيضاً من التغرير الذي يقع في هذا النوع من المبيعات أنه ربما كان العيب داخل الطي، أي: داخل الثوب في حال طيه، فإذا تفقدته باللمس لن تستطيع أن تصل إلى العيب، ومن هنا قال العلماء: إن هذا النوع من البيع يعتبر من بيوع الغرر؛ لأن البائع يريد أن يختل المشتري، إذ لو كان الثوب صالحاً ولا عيب فيه لما خاف أن يفتشه ويفتحه، فحرّم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هذا النوع من البيع، وهو أن أبيعك على أن يقوم لمسك مقام نظرك، وهذا نوع من أنواع الملامسة. هناك نوع ثانٍ من أنواع الملامسة، وهو أن يقول له: إذا لمست الثوب فهو عليك بعشرة، فيبقى الثوب أمامه، فبمجرد أن يمد يده وتفضي راحته إلى الثوب، وجب عليه البيع، وهذا أعظم غرراً من الأول، فالأول على الأقل يلمس ويستكشف؛ ولكن هنا بمجرد اللمس يلزمه بالبيع، وبعضهم يقول له: إذا لمست الثوب فلا خيار لك، أي: يقطع له خيار المجلس باللمس، وكل هذه الأنواع من البيوع مجمعٌ على تحريمها، وبالنسبة للصورة الأولى وهي: أبيعك على أن يقوم لمسك مقام نظرك، هذا بيع من بيوع الجاهلية، والذي يشبهها في عصرنا الحاضر أن يقول له: إذا فتشت هذا الكرتون أو فتحت هذا الغلاف فقد وجب عليك البيع ولا خيار لك، ويلزمه بالبيع بمجرد أن يفتح علبة المبيع أو يفتح الكرتون، وفي هذه الحالة كأن المشتري يلزم بالبيع في شيء لم يعرف حقيقته ولم يستكشف جليته، وهذا يعتبر من بيوع الملامسة المحرمة، وربما يقع أيضاً في الثياب فتكون الثياب داخل غلاف من (النايلون) أو الأكياس الموضوعة فيها للعرض، فإذا جاء المشتري وفتشه ألزمه بالبيع وحرّم عليه أن يرد المبيع، ويلزمه إياه فرضاً، وهذا مثل قوله: إذا لمست الثوب فلا خيار لك، فيقطع له الخيار، وكذلك لو فتش هذا الكيس فرآه فلم يعجبه فقال: لم يعجبني، يقول: ما دمت فتحته وكشفته فإنه لازم عليك، ويلزمه ويقهره على البيع، وهذا لا يجوز. لكن هنا إشكال: وهو أن البائع يقول لك: لو أنني سمحت لكل زبون أو لكل مشترٍ أن يفتش هذه السلع فإن الفتش يؤثر في طريقة عرض البضائع، وأتضرر إذا كانت بضائعي تفتش، ثم -كما هو معلوم- إن البائع والمشتري ما داما أمام بعضهما في مجلس واحد فالخيار لهما، حتى ولو قال له: لا أريد، فمن حقه. كأن تشتري سلعة بعشرة فتعطيه العشرة، ثم بعد ساعة أو ساعتين وأنتما واقفان في المكان قلت: لا أريد، فهذا من حقك، ويلزمه أن يرد، حتى ولو لم يكن عندك عذر، وهذا الذي يسمى بخيار المجلس، وسيأتينا أنه ما دمت أنت والبائع في مجلس واحد ولم تفارقه فالبيع ليس بلازم، ومن حقك أن ترجع، حتى ولو لم يكن عندك عذر، ولو اشتريت بالملايين وقلت له -مثلاً-: اشتريت منك العمارة الفلانية بعشرة ملايين؛ فقال: بعتك، وتم البيع، وأعطيته الشيك، وتمت الصفقة وكتبت، ثم قلت: لا أريد، فهذا من حقك ما دمتما في المجلس: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، هذا نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. الشاهد: أن البائع يقول: ما دام أن المشتري بالخيار مدة المجلس، فمعنى ذلك أنه سيفتش السلع ويردها، ويقول: لا أريدها. وإن أذنت لكل مشترٍ أن يفتش السلعة فمعنى ذلك أنني أتضرر؛ حيث إني أحسن طيها وكيها، فيأتي يفتش كل واحدة، وهذا يؤثر على عرض السلع، ويكون فيه ضرر عليَّ، فما الحل؟ تقول له: أخرج عينة واحدة منها، فإذا أخرج البائع العينة وجعلها للعرض، يقول له: هذا الثوب من هذا النوع، وطريقة تفصيله بهذه الصورة، أو يصوّر الثوب بصورة واضحة، وتوضع على الغلاف، أو على الكرتون، أو توضع المواصفات كاملة على الكراتين، أو على الأغلفة، عند ذلك يصحُّ البيع، لماذا؟ لأن العلة أن يجهل المشتري حقيقة ما في الكرتون، فإذا انطبقت الصفة الموجودة على الظاهر مع الباطن، أو انطبقت الصفة التي ذكرها البائع للمبيع الداخلي فإنه يلزمه البيع، أمّا لو اختلفت كان له خيار العيب، والذي يسمى خيار الرؤية؛ لأنه بيع غائب أو ما في حكم الغائب. قال: (ولا يصحُّ بيع الملامسة)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين: (أنه نهى عن الملامسة)، وللعلماء فيها أوجه: فقال بعض العلماء: الملامسة أن يقول: أبيعك على أن يقوم لمسك مقام نظرك. وقال بعض العلماء: أن يقطع الخيار باللمس، فيقول: إذا لمست الثوب فلا خيار لك. وقال بعض العلماء: أن يقول له: أي ثوب تلمسه فهو عليك بعشرة. تبقى مسألة وهي التخريج على بيع الملامسة الذي كان في الجاهلية: فقد خرّج الشافعية رحمهم الله على قوله: أبيعك على أن يقوم لمسك مقام نظرك، أنه لا يصحُّ شراء الأعمى؛ والسبب في هذا أن الأعمى يشتري السلع باللمس؛ لأنه لم يرها على حقيقتها. وقال جمهور العلماء: بصحة بيعه وشرائه، ثم يكون له الخيار إن كذب عليه أو ختل؛ والسبب في هذا: أن الأعمى يلمس الثوب ويفتشه، ولكن في الملامسة يلمس ولا يفتش. وهناك فرق بين اللمس دون الفتش، وبين اللمس مع الفتش، فالغرر مع الفتش أخف، ولذلك لا تنطبق عليه الملامسة من جميع الوجوه، فلا يصبح مندرجاً تحت التحريم. قال رحمه الله: [والمنابذة]. (المنابذة) ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها، والمنابذة كالملامسة: مفاعلة من النبذ، وأصل النبذ الطرح، ومنه سمي النبيذ نبيذاً؛ لأن صفته أن يُطرح التمر في الماء، أو يُطرح البلح في الماء حتى يستطيب ويعذب بطعم التمر والبلح، وهذا النوع من البيوع حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لاشتماله على ختل المشتري والتغرير به، وذلك أن البائع يقول للمشتري: إذا نبذت الثوب فهو عليك بكذا، أو يقول له: أي ثوب أنبذه لك -أي: أرميه- فهو عليك بعشرة، وبعض الأحيان يقول له: إذا نبذت الثوب فلا خيار لك، كل هذه الصور محرمة؛ والسبب في هذا: أنهم كانوا في القديم يأتي الرجل -كما ذكرنا- ويبسط ثوبه للبيع، ويمر رجل يريد أن يشتري، فإذا أعجبه الثوب الذي طُرح للبيع رمى ثوبه هو، فإن أعجب الآخر الثوب يقوم مباشرة وينبذ له الثوب، ولا يقول له: بعت، ولا يقول الآخر: اشتريت، وهذا وجه الغرر فيه وهو أنه لا يفتش، بل يجعلان النبذ ملزماً بالبيع. على هذا الوجه -وهو كون بيع المنابذة محرماً؛ لأن كلاً منهما ينبذ ولا يتكلم- فرّع الشافعية المسألة المتقدمة معنا وهي تحريم بيع المعاطاة، والمعاطاة قائمة على النبذ بدون صيغة، فقالوا: إن تحريم بيع المنابذة سببه عدم وجود الصيغة في قوله: بعت، وقول المشتري: اشتريت، وقد قدّمنا الكلام في مسألة بيع المعاطاة، وقلنا: إن الصحيح مذهب الجمهور وهو: أنّ المعاطاة تصحّ في الكثير والحقير؛ لعموم الأدلة الدالة على جواز البيع. أمّا حديث المنابذة فلا يشمل بيع المعاطاة؛ لأن المنابذة أن ينبذ له الثوب وينبذ الآخر الثوب دون فتش ودون

حكم بيع الشيء غير المعين

حكم بيع الشيء غير المعين قال رحمه الله: [ولا عبد من عبيده ونحوه]. أي: ولا يصحُّ بيع عبد من عبيده، وفي القديم كان بيع العبيد والأرقاء، وذكر بيع العبد من عبيده يدخل فيه بيع شاة من الشياه، وبيع بقرة من البقر، وبيع ثوب من الثياب، فأصل المسألة بيع المجهول، وإذا قال له: أبيعك عبداً من عبيدي، أو ثوباً من ثيابي، أو شاةً من شياهي، أو بقرةً من البقر الذي عندي، فهذه لها صورتان: الصورة الأولى: أن يكون الجميع بمنزلة واحدة، ولا تتفاوت واحدة عن أخرى، فيقول له: أبيعك عبداً من عبيدي وكلهم في مرتبة واحدة، وفي درجة واحدة، وفي صفة واحدة من حيث الجودة أو الرداءة، أو يقول له -كما هو موجود في عصرنا الحاضر-: أبيعك سيارة من سياراتي، وعنده ثلاث سيارات كلها بصفة واحدة، أو أنه لا يورِّد إلاّ نوعاً معيناً من السيارات وكلها بصفة واحدة، فإذا قال له: أبيعك عبداً من عبيدي، أو ثوباً من ثيابي، أو قلماً من أقلامي، أو كتاباً من كتبي، أو سيارة من سياراتي، أو عمارةً من عماراتي، وكلها بصفة واحدة، صحَّ البيع ولا إشكال؛ لأن البيع قد تردد بين أشياء متساوية، فلا غرر، إن أخذ هذا فهو كأخذه لهذا، وحينئذٍ يكون التغرير زائلاً إذا وصف أحدها صفة تزول بها الجهالة. أمّا لو قال له: أبيعك كتاباً من كتبي، وكتبه لا تعرف، فهذا قطعاً من المجهول، وهو محرم؛ لكن إذا قال له: أبيعك كتاباً من صحيح البخاري من النسخ الموجودة عندي، والنسخ كلها بمرتبة واحدة صحَّ، أو قال: أبيعك قلماً من أقلامي، وهو ليس عنده إلاّ نوع معين من الأقلام، وكله بصفة واحدة صحَّ، إذاً: ما دام أنّ المبيع يتردد على صفة واحدة فلا غرر ولا إشكال، فكل واحد منها قائمٌ مقام ما هو مثله. الصورة الثانية: أن يقول له: أبيعك عبداً من عبيدي، أو ثوباً من ثيابي، أو قلماً من أقلامي، أو سيارة من سياراتي، وهي متفاوتة، فأسعارها مختلفة، وصفاتها مختلفة، فحينئذٍ لا يجوز البيع، ولا يصح؛ والسبب في هذا: أنه إذا قال له: أبيعك سيارة من سياراتي، أو أرضاً من أراضيّ، أو عمارةً من عماراتي، فإنه قد ردده بين جيد ورديء، فتنصرف همة وقصد المشتري إلى الجيد، وتنصرف همة البائع إلى الرديء، فإن أخذ المشتري الجيد ظلم البائع، وإن ألزم البائع المشتري بالرديء فقد ظلمه، فكل منهما يريد أن يغرر بالآخر، وكأن البيع وقع على شيء لا يدرى أهو الجيد أو الرديء؟ فسر المسألة: أنه يجعله في مجهول، ويتردد بين مجهولين أو ثلاثة مجاهيل أو أكثر، فإذا جعله متردداً بين الرديء والجيد على الصفة التي ذكرناها حَرُمَ البيع.

الاستثناء في البيع وحكمه

الاستثناء في البيع وحكمه قال رحمه الله: [ولا استثناؤه إلاّ مُعيناً]. (ولا استثناؤه) الاستثناء: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، تقول: خرج القوم إلاّ محمداً، لما نقول: خرج القوم شمل الجميع ومنهم محمد، فلما قلت: (إلا محمداً) خرج مما يتناوله اللفظ السابق، فأنت تقول له: أبيعك سياراتي إلاّ سيارةً، وتكون سياراتك فيها الجيد وفيها الرديء، فيحتمل: (إلاّ سيارةً) يستثني منها الجيد، ويحتمل أن تنصرف إلى الرديء، وعلى هذا فالاستثناء يقع على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون الاستثناء في البيع واضحاً معلوماً لا غرر فيه، فحينئذٍ يصحُّ الاستثناء ولا حرج، كأن تقول له: أبيعك هذه السيارة وأستثني ركوبها اليوم إلى الساعة التاسعة ليلاً، فحينئذٍ استثنيت من بيعها منفعة الركوب إلى الساعة التاسعة، أو تستثني إلى المكان، تقول: أبيعك هذه السيارة -وأنتم في سفر- وأستثني وصولي إلى مكة، صحَّ البيع؛ لأن الثنيا معلومة، ومنه حديث جابر في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى منه بعيره فاستثنى جابر ركوب البعير إلى المدينة-، قال: واشترط حملانه إلى المدينة)، فهذا استثناء من البيع، فقد استثنى منفعة الركوب المعلومة والمقدرة، ووجه علمها أنه قدرها بالمكان فقال: (إلى المدينة)، فصحَّ هذا وجاز، كذلك إذا قدرتها بالزمان تقول: أبيعك بيتي وأستثني سكناه شهراً حتى أجد بيتاً آخر، أو أبني داراً أخرى، فاستثنيت بالزمان المعين أو المكان المعين فصحَّ البيع، والثنيا غير مؤثرة، لكن متى تحرم الثنيا، والتي ورد فيها الحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثنيا)؟ نقول: الاستثناءات المحرمة إن أدخلت الجهالة، أو أوجبت الجهالة، فجعلت في البيع شيئاً من الجهالة والغرر، حينئذٍ يحرم البيع على هذا الوجه، ومثّل لذلك المصنف، فقال رحمه الله: [وإن استثنى من حيوانٍ يؤكل رأسَه وجلدَه وأطراَفه: صحَّ]. (وإن استثنى من حيوانٍ يؤكل)، ماذا استثنى؟ (رأسه وجلده وأطرافه)، فاستثنى الرأس؛ لأن الحيوان يباع ويراد به الظهر، وهو الذي يسمى البهيمة المركوبة، أي: التي تباع من أجل الركوب، فإن الناس في القديم كانوا يشترون لأغراض محددة، فإذا دخل السوق يريد أن يشتري بعيراً، فإن البعير فيه منفعة الركوب، وفيه منفعة الأكل، وفيه منفعة الحليب -إن كانت ناقة-، فيقولون: اشترى الركوب، فدلّ على أنه قاصدٌ أن يركب، فإذا أراده للركوب يبحث في صفات معينة، وإذا أراده للأكل يقلبه على طريقة معينة، وإن أراد الناقة للحليب قلبها على طريقة معينة، فإذا اشترى الشاة مثلاً لأكلها فاستثنى البائع الرأس أو الجلد أو الأطراف، فإن الرأس لا يؤكل، والجلد لا يؤكل، والأطراف لا تؤكل -في الغالب- فالمصنف رحمه الله يقول: إن اشْتُريت للأكل واستثنى الرأس هذه حالة، وإن اشْتُريت للأكل واستثنى الجلد هذه حالة، وإن اشتريت للأكل واستثنى الأطراف هذه حالة، فهذه ثلاث حالات، فقال رحمه الله: (وإن استثنى من حيوانٍ يؤكل رأسَه وجلدَه وأطراَفه: صحَّ) أي: صحَّ البيع، بمعنى أن الغرر هنا زائل؛ لأنه استثنى المعلوم، ولا غرر على المشتري؛ لأنه لما اشتراها للأكل فالأكل موجود في الشاة لا غرر فيه؛ لكن لو استثنى جزءاً من المأكول، ربما اشترى الشاة رغبة في لحمها، وكان أطيب ما فيها هذا الذي استثني، ولذلك قالوا: إن الثنيا إذا كانت معلومة لا غرر فيها صحَّ البيع وجاز. [وعكسه الشحم والحمل]. قال: (وعكسه الشحم)، فإن الشحم يؤكل -إذا اشتراها للأكل- ويستخرج منه السمن، بل قد تطبخ البهيمة بشحمها، تؤخذ الإلية ثم تُصهر، ثم بعد ذلك تطبخ البهيمة بسمن أو ودك السنام ونحو ذلك، فإذا استثنى الشحم فإنه لا يجزيه ولا يصحُّ؛ لأن هذا -كما ذكرنا- استثناء ما قُصد بالبيع، فأدخل الغرر على المشتري من هذا الوجه. (والحمل) لأن ذكاة الجنين ذكاة أمه، فإذا كان في بطن الناقة ولد وذكيت الناقة فهل يصحُّ أكل الولد -أي: الجنين- أو لا؟ هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء -وستأتينا إن شاء الله في كتاب الأطعمة والذكاة، نسأل الله أن يبلغنا ذلك بعفوه وعافيته-، فعلى القول بأن ذكاة الجنين ذكاة أمه يصحُّ ويجوز أكله، بناءً على هذا إذا استثنى الحمل وقال: أبيعك هذه الشاة وأستثني حملها لم يصحّ؛ لأنك حينما تشتري الشاة وفيها الحمل، فإن الحمل يصورها لك كاملة ويصورها لك فاضلة، وترغب شراءها لوجود هذا السِّمَن الذي منه الحمل، فكأن الحمل متصل بالمبيع، وأنت تريدها للأكل، فإذا فوّت لك جزءاً من الأكل جُهل قدر المبيع، وكأن هذا الحمل إذا استثني أدخل الجهالة على قدر المبيع، وكذلك لو استثنى الشحم فإنه يدخل الجهالة على قدر المبيع، ففي كلتا الصورتين لا يصحُّ، ولذلك قال: (بخلافه) أي: العكس بالعكس، فلا يصح البيع على هذا الوجه، ولا تصحُّ الثنيا في هذه المسألة.

حكم بيع ما مأكوله في جوفه

حكم بيع ما مأكوله في جوفه قال رحمه الله: [ويصحُّ بيع ما مأكوله في جوفه: كرمانٍ وبطيخٍ]. عندما ذكر المصنف رحمه الله مسائل بيع المجهولات، قد يقول لك قائل: أنت تقول: لا يصح بيع الجنين في بطن أمه ولا اللبن في الضرع، فقد يشتري الإنسان البطيخ، والبطيخ تشتريه من أجل ما بداخله، والذي بداخله لا يدرى أهو من الجيد أو من الرديء؟ ولا ندري أهي سالمة أو غير سالمة؟ فقد تخرج وفيها مرض بداخلها -كما يقع في المبيعات من هذا النوع- وإذا خرجت سالمة لا ندري أكاملة أو ناقصة؟ أهي حمراء أو دون ذلك؟ وإذا كانت حمراء لا ندري أهي حلوة أو ليست بحلوة أو بينهما؟ فهذا كله من الجهالة، وأنت قررت في القاعدة الماضية: أن بيع المجهول المغيَّب لا يصحّ، فالمصنف: -وانظر إلى دقته رحمه الله؟! - قرر لك القواعد فيما مضى، ثم شرع الآن فيما يستثنى منها، فقال رحمه الله: (ويصحّ بيع ما مأكوله في جوفه كبطيخ). فالبطيخ يصحُّ بيعه، فإن اشتريته كان لك الخيار، فإن كان البطيخ قد انكشف معيباً رددته بالعيب، وإن انكشف رديئاً رددته بالرداءة، وإن انكشف صالحاً للأكل لكنه ليس بجيد ينظر إلى الشرط، فإن قلت: أشترط أنها على السكين كان لك الحق في الرد، وإن لم تشترط لزمك البيع، إذاً إذا باع بطيخاً فإما أن تظهر معيبة فيجوز لك ردها بالعيب، وهذا بالإجماع على أن المبيعات المعيبة ترد بعيبها لحديث المصراة وسيأتي، وإن ظهرت غير معيبة وكانت صالحة للأكل فحينئذٍ إمّا أن يشترط المشتري الكمال فيردها لعدم وجود الكمال، وإمّا ألا يشترط الكمال فيلزمه؛ لأنها تؤكل، والمنفعة موجودة فيها، وهو الذي قصَّر على نفسه في اشتراط الكمال؛ لكن بعض العلماء يمنع من قولك: أشترط أن تكون على السكين، وأنا أميل إلى هذا القول؛ لأن الذي على السكين يختلف الذوق فيه من شخص إلى آخر، ولذلك تقع الخصومة بين الناس والنزاعات، ويفضي إلى قطع أواصر الأخوة بين الناس، والبيوع إذا أفضت إلى النزاعات حرمت، كبيع الرجل على بيع أخيه، وسومه على سوم أخيه، فمقصود الشرع لا يوافق مثل هذه المبيعات؛ لكن الذي يظهر أنه لا يبيع البطيخ إلاّ وسكينه بجواره، يفتش البطيخ إن كانت على ما يريد المشتري مضى البيع وإلا فلا، أما أن يبيع هكذا فالنفس لا تطمئن إلى بيعه على هذا الوجه. يبقى النظر في الرمان، والفرق بين البطيخ والرمان وجود المشقة في الرمان أكثر منه في البطيخ، ولذلك الرمان يصحّ بيعه على وجه الجهالة لوجود الحاجة، كبيع أساس الأرض مغيباً؛ لأن المجهولات إذا غيبت جاز، ثم إن بعض العلماء يقول: جواز بيع هذه الأمور يختلف عن اللبن في الضرع، ويختلف عن الحمل في البطن؛ والسبب في هذا: أن الرمان جعل الله له صفات على ظاهره يعلم بها سلامته من عدم سلامته، ويعلم بها جودته من رداءته، فالمشتري كان من الواجب عليه أن يكون عالماً بهذه الصفات، فإذا اشترى كان ينبغي ألاّ يُقدم على أن يغرر بنفسه فيشتري شيئاً لا يعلم كيفية شراء جيده من رديئه، فيشتري على هذا الوجه، فالرمان فيه صفات ظاهرة؛ لكن في الحمل الذي في البطن لا تستطيع أن ترى الناقة من بعيد، وتقول: هذه حملها ذكر أو حملها أنثى، أو أن حملها حيٌّ الآن أو ميت، فإذاً: اختلف الرمان عن غيره؛ لأن الرمان له صفات وعلامات ظاهرة، حتى قال بعض مشايخنا رحمة الله عليهم: والبطيخ كذلك، فإن البطيخ يُعرف بكونه أملساً وسهلاً كالزجاج إذا كان من ظاهره، وما هو على خلاف ذلك، ثم بالضرب والقرع يعرف جيده من رديئه، فكأنه في هذه الحالة يُميز بالصفة كالبهيمة إذا جئت تلمس ظهرها عرفت منها اللحم من عدم اللحم، فتعرف الشاة السمينة من غيرها، وعلى هذا قالوا: إن وجود الصفات في ظاهر المبيع المغيب يؤذن ويبيح بيعه على هذا الوجه. [والباقلاء ونحوه في قشره]. كالفول وغيره من الحبوب إذا كانت مغيبة في القشرة، لكن الحبوب بيعها على صفتين: الصفة الأولى: أن يبيع الحب داخل سنابله قبل أن يُحصد، فهذا استثناه الشرع وأذن به كأن تشتري المزرعة وفيها الحب قد اشتد قبل أن يكتمل نضجه، ويكون بيعه هنا بالخرص، وهو مما أذن به الشرع على خلاف الأصل لحديث مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحب حتى يشتد)، وفي رواية لـ أحمد في المسند: (والعنب حتى يسود)، وأنتم تعرفون أن الحبوب إذا كانت في سنابلها تكون أولاً خضراء طرية بحيث لو أمسكتها خرج الماء منها، ثم تبدأ تشتد وتبيّض، ولذلك نهى عن بيع الحب حتى يبيّض، ويبيض ويشتد بمعنى النضج، يبيض لأن القشرة تميل إلى لون الصفار، وهذه شبه علامة الاستواء المكتمل، ويبيض يتموه بالماء، ويشتد أي تبدو فيه علامة الصلاح -كما تقدم معنا في كتاب الزكاة -، فإذا باع الحب بداخل سنابله مشتداً صح للضرورة، وهذا لورود المستثنى من الشرع كبيع التمر على النخل بعد بدو صلاحه بالزهو؛ لكن لو أنه حصد وفيه القشرة لم يصح بيعه؛ لأن القشرة تزيد في الوزن، وتزيد في الكيل، ولا يُعلم القدر مع إمكان زوال هذه الجهالة، لكن وهو في حبه لا نستطيع، فخفف في حال كونه في سنابله، ومُنع في حال كونه على الأرض؛ لأن القاعدة تقول: (القدرة على اليقين تمنع من الشك)، فلما كان قادراً على فصده ودرسه وتنظيفه حرم بيعه، ولذلك ما كان مغيباً داخل وعائه إذا كان على زرعه أو على عموده -كما في الحبوب ونحوها- صح إذا بدا صلاحه، للحاجة وورود النص، وإن كان على الأرض لم يصح لوجود الجهالة. قال: [والحب المشتد في سنبله]. (والحب المشتد) فخرج الحب الطري؛ لأن الحب إذا كان طرياً كان بيعه من بيع الغرر ومما حرم الشرع بيعه كبيع التمر قبل بدو صلاحه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الإقالة في البيع

حكم الإقالة في البيع Q لو اشترى رجل سلعة معينة ثم أراد ردها على البائع، فاشترط البائع لقبول إرجاعها ألا يرجع للمشتري حقه كاملاً، فما الحكم أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالواجب على المسلم إذا اشترى شيئاً أن يمضي البيع؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود} [المائدة:1]، فإذا اشتريت شيئاً ودفعت قيمته وتم العقد وانقطع الخيار لك لزمك البيع ووجب عليك أن تعطي الناس حقوقهم كاملة كما أخذت حقك كاملاً، فإن طرأ لك عذر يمنعك من إمضاء هذا البيع تستأذن البائع، فإن رضي أن يقيلك ويرد لك الثمن كاملاً فلا إشكال، وهذه تسمى (الإقالة) أما لو قال لك: أنا أشتري منك السلعة بثمن وحدد الثمن وكان أقل من الثمن الأول، فقال جمع من العلماء: إنها إقالة البيع، أي: تكون بيعاً جديداً، وحينئذٍ يجوز على هذا الوجه أي: أن تكون الإقالة بيعاً. والله تعالى أعلم.

حكم بيع ما لا يملك، والفرق بينه وبين الوكالة

حكم بيع ما لا يملك، والفرق بينه وبين الوكالة Q إذا طلب المشتري سيارة بمواصفات معينة، فقال له البائع: سأستوردها لك على أن تشتريها؛ لأني سأتكلف في إحضارها، فهل هذا من بيع المنابذة، أثابكم الله؟ A إذا جئت للمورِّد أو إلى أي شخص وقلت له: اشتر لي سيارة على صفة كذا وكذا في حدود عشرين ألفاً، قال: سأشتريها وآتي بها إليك، فهذا لا يصح إلاَّ إجارة، أي: أن تقول له: وكلتك أن تشتري لي سيارة بصفات معينة في حدود عشرة آلاف مثلاً وهذه يسمونها الوكالة الخاصة، فيذهب إلى البلد الذي فيه السيارة أو إلى الموضع الذي فيه السيارة، وتقول له: أعطيك عمولة وأجرة ألف ريال أو ألفين أو ثلاثة آلاف ريال على أن تحضرها لي إلى المدينة، ففي هذه الحالة هو وكيل عنك بالشراء، فإذا أحضرها لك وكانت على نفس الصفات ونفس الأشياء التي حددتها فالبيع لازم لك ويلزمك أن تعطيه أجرته التي اتفقتما عليها، أما لو قال لك: أنا أشتري لك سيارة بهذه الصفات وأبيعها عليك بعشرين ألفاً بثلاثين ألفاً فهذا حرام؛ لأنه باعك الشيء قبل ملكه، ولا يجوز بيع الشيء قبل أن يملكه، وفي الحديث عن حكيم بن حزام أنه قال: (يا رسول الله! إن الرجل يأتيني ويريد مني الشيء ليس عندي فأبيعه، ثم أذهب وأشتريه بأقل ثم أعطيه إياه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تبع ما ليس عندك)، فحرم عليه أن يعقد الصفقة في شيء لم يدخل في حوزته؛ ولأنه إذا باعك السيارة في هذه الحالة يقدر ربحاً له، وهذا الربح وقع على شيء لم يملكه، والقاعدة في باب البيوع -وستأتينا إن شاء الله-: (أن الربح لمن يضمن الخسارة)، فكأنه إذا اتفق معك على السيارة آخذاً ربحها فإنها في ضمان الغير، هو يأخذ الربح والغير يضمن الخسارة، ولا يصح البيع على هذا الوجه. بناءً على هذا: من وكّل أحداً أن يشتري له سيارة فإنه لابد وأن يحدد له أجرة الشراء ويحدد له قيمة البيع، وعلى هذا تتفرع المسائل، إذا قلت له: اشتر لي سيارة من صفات كذا وكذا بعشرين ألفاً وأعطيته هذا الثمن أو أخرته إلى أن يشتريها، وذهب واشترى السيارة ثم ركب البحر وشاء الله عز وجل أن هاج البحر وغرقت الباخرة بما فيها من السيارات، فالسيارة تلزمك، وأنت الذي تضمنها؛ لأنه قد ثبتت يدك على السيارة منذ أن اشترى لك الوكيل، وهذه فائدة أن نقول: إنه وكيل. وبناءً على ذلك: لو أن السيارة اشتراها لك بعشرين ألفاً، فلما أحضرها إلى المملكة وأنزلها -مثلاً- في الميناء إذا بهذا النوع قد أصبح بخمسين ألفاً فقال لك: أعطيك إياها الآن بخمسين ألفاً، تقول: ليس لك منها شيء؛ لأن السيارة ملكي منذ أن اشتريت، فانظر إلى عدل الشريعة، تضمن لك الخسارة والربح، لكن لو أنه باعك إياها قبل أن يملكها وأخذ الربح على هذا الوجه فإنه ربح لما لم يضمن وبيع لما لم يملك، فالبيع فاسد من الوجهين، ولا يصح إلا على الصورة التي ذكرناها. تبقى مسألة موجودة في عصرنا الآن: وهي أن تأتي إلى الوكالة أو إلى المورِّد وتقول: أريد سيارة من النوع الفلاني من موديل السنة القادمة، يقول لك: هذه مواصفات السيارات للعام القادم أو الموديل القادم فيعطيك المواصفات كاملة؛ لكن يقول: السيارات لن تنزل إلا بعد شهرين أو ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر، فحينئذٍ يكون داخلاً في عقود الاستصناع، وعقد الاستصناع يدخله بعض العلماء تحت السلم في بعض الصور، فيكون شراؤك لما هو قادم بصفته أشبه بالسلم، ويصححون هذا البيع من هذا الوجه، لكن لو أعطاه مائة ألف على موديل قادم لا يعرف صفته ولم تخرج صفاته فإنه يكون من بيع المعدوم، وبيع المعدوم المجهول لا يصح، وعلى هذا يفرق بين ما كان معلوم الصفة وبين ما كان غير معلوم الصفة، ويفرق أيضاً بين الوكيل الذي يورِّد على ضمان من وكله للتوريد وبين من طُلب منه إحضار السلع بصفات معينة على سبيل الوكالة والإجارة. والله تعالى أعلم.

حكم التأجير المنتهي بالتمليك

حكم التأجير المنتهي بالتمليك Q ما حكم التأجير المنتهي بالتمليك، أثابكم الله؟ A التأجير المنتهي بالتمليك من بيوع الغرر التي لا تجوز شرعاً؛ والسبب في هذا: أنه يقول لك: خذ هذه السيارة واستأجرها كل شهر بمائة أو بألف، فإذا استأجرتها عشرة شهور تدفع خمسة آلاف وتملكها؛ فأدخل عقدين في عقد واحد، أو صفقتين في صفقة واحدة، وهذا كالبيعتين في بيعة، وهذا منهي عنه لوجود الغرر في تداخل العقود، فلا هو بيع محض ولا هو إجارة محضة، فقد يشتري السلعة بقصد البيع فيكره على الإجارة، وقد يريدها إجارة ويكره على البيع بعدها، فتداخل العقود من هذا الوجه موجب للغرر، وهذا بسيط ويسير؛ لكن الأدهى والأمر أنه إذا استأجرها اختلف حالها حينما أخذها عن حالها بعد عشرة أشهر، ولا ندري بعد عشرة أشهر هل يتعطل فيها شيء؟ وهل تكون صفتها على الصفة الموجودة؟ ولا شك أن استنفاد الشيء خلال عشرة أشهر أو حتى شهر لا ندري كيف يكون حاله بعد ذلك، فيكون من بيع مجهول الحال، وعليه لا يصح البيع من كلا الوجهين ويعتبر من البيوع المحرمة، وهذه كلها بيوع دخيلة على المسلمين، والمسلمون إما أن يبيعوا وإما أن يؤجروا، والإجارة لها أحكامها والبيع له أحكامه، ولا يختل المشتري ترغيباً في عقد على عقد، ولذلك قالوا: من البيوع المحرمة: أن يقول له: أبيعك داري على أن تبيعني سيارتك، فكأنه يقول: أؤجرها لك على أن تشتريها، وكأن ذاك يقول: أشتريها منك على أن تؤجرها لي، وهذا من تداخل العقود، مع ما فيه مما قلناه من الغرر، وقد قلنا: لا يجوز بيع الجنين في بطن أمه، ولو ضمنا أن الجنين حي موجود الآن هل نضمن أن يخرج من بطن أمه حياً؟ لا نضمن، ولذلك تجد العلماء يقولون: تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيع الأجنة في حديث ابن عمر في الصحيح: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة) سببه الجهالة بالسلامة، والجهالة بالسلامة أي: أننا نجهل أن يسلم بعد خروجه من بطن أمه، كذلك السيارة مجهولة السلامة بعد إجارتها المدة المذكورة، فمثلاً: لو أنه خلال العشرة الأشهر حصل عليه حادث، أو تعطل جهازها الذي يتحكم في سرعتها ويتحكم في سيرها، ما الحكم؟ يقول لك: أعطيك جهازاً جديداً، فلا ترغب وتقول: أنا كنت آملاً أن تبقى على حالتها السابقة، وقد يأتي بعد عشرة أشهر وينظر إليها فإذا حالها مختلف، فيكون البيع حينئذٍ متردداً قد ينعقد وقد لا ينعقد، فأصبحت عقود مترددة، والبيع إذا وقع يتم ولا يصبح متردداً. إذاً فيه جهالة الحال، وفيه الجمع بين العقود على وجه التردد، وكذلك أيضاً فيه أن البيع ماض وغير ماضٍ. فمتى انعقد البيع؟ انعقد البيع أثناء الصفقة، ومع ذلك لا ندري هل المستأجر يتم الصفقة أو لا يتم؟ يقول: لا ألزمك بالبيع، إن شئت تشتريها، وإن شئت لا تشتريها فلا يلزمك، إذاً: البيع متردد أم لا؟ متردد، وعلى هذا لا يصح مثل هذه العقود؛ لمكان التداخل، ووجود الجهالة من الوجوه التي ذكرنا. والله تعالى أعلم.

حكم إسقاط خيار المجلس

حكم إسقاط خيار المجلس Q في مسألة المنابذة إذا قال البائع: لا أنزل لك هذا الثوب إلا بكذا، وكان عنده نوعية منها ورآها المشتري فرضي، فلما أنزل له الثوب قال: لا أريده. فهل يُلغى في هذه الحالة خيار المجلس بسبب الشرط، أم ماذا، أثابكم الله؟ A قال بعض العلماء: إذا اتفق المتبايعان على إسقاط الخيار في المجلس سقط الخيار، وذلك أن يقول له: اختر، فإن اختار إمضاء البيع لزمه، ومنه حديث: (عمّرك الله بيعاً)، ولذلك قال: (إلا أن يخير أحدهما صاحبه)، فإذا قطع الخيار واتفقا على أنه يشتري ولا خيار له: صح؛ والسبب في هذا: أنه بعض الأحيان ربما أنك تشتري في نفس المجلس وتبيع في نفس المجلس، فتريد أن تبتّ البيع الأول حتى يصح لك البيع الثاني، مثل: صرف النقود، فأنت إذا صرفت النقود من شخص وتريد أن تصرفها إلى شخص آخر حتى تربح أو تكسب، تقول له: لا خيار لك، يقول: لا خيار، عمّرك الله بيعاً، فالبيع لازم، باتفاقكم على إسقاط خيار المجلس. فمذهب طائفة من العلماء على قوله عليه الصلاة والسلام: (إلا أن يخير أحدهما صاحبه) وفي حديث السنن: (عمرك الله بيعاً) أي: اخترت البيع، فحينئذٍ ينقطع خيار المجلس، فإذا كان على هذا الوجه فإنه لا بأس به، أما لو أدخل إسقاط الخيار على وجهٍ لا يتمكن المشتري من معرفة حقيقة السلعة فلا يصح، فمثلاً: لو أعطاك العينة ففتشتها ورأيتها وعرفت جيدها من رديئها، ثم قال لك: إذا أنزلت الذي في الكرتون يلزمك، واتفقتما على البيع فيلزمك البيع؛ لأن الجهالة مرتفعة، والسبب الذي من أجله حرم بيع المنابذة منتفٍ والغرر زائل، فحينئذٍ إذا قطع الخيار لك يقطعه لمصلحته في أخذ الثمن، فيجوز ذلك إذا رضيت به على وجه تام. والله تعالى أعلم.

حكم تذوق السلعة والورع في ذلك

حكم تذوق السلعة والورع في ذلك Q هل يحق للمشتري أن يطعم من السلعة ليعرف جودتها كالتمر والعسل مثلاً، أم تكفي الرؤية؟ وهل للبائع منعه من ذلك، أثابكم الله؟ A هذه مشكلة، فبذلك يستطيع أن يفطر ويتغدى ويتعشى بأموال الناس، وهذا فيه تفصيل فبعض العلماء يجيز الذوق فيجعل البائع عينة للذوق، ويكون هذا بمثابة الحكم على الشيء الذي يتفاوت في جودته ورداءته من جهة حلاوة الطعم. وبعض العلماء يمنع من ذلك. فالعسل في بعض الأحيان لا تستكشف جيده من رديئه ومغشوشه من صالحه وخالصه إلا إذا ذقته، فيقول العلماء: إنه يمكنه من الذوق حين يكون المشتري فعلاً يريد الشراء، أما إذا لم يرد الشراء وجاء يذوق واغتنم تمكين البائع له من الذوق، فهذا يعتبر من طعمة الحرام، نسأل الله السلامة والعافية. وأذكر عن بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أنه كان يتورع في مثل هذه الأمور، وكان إذا ذاق شيئاً ولم يعجبه أعطى اليسير من المال ترضية لصاحبه، فإن أبى أخذه حينئذٍ يطيب نفسه، يقول: أنا الذي عليَّ فَعَلْتُه، بل أذكر من مشايخنا رحمة الله عليهم أنه كان يؤتى بالطيب والبخور من أجل أن يعرف جيده من رديئه، فإذا كان لا يريد الشراء امتنع من شمه، ويتورع عن هذا؛ لأنه لا يستبيح أموال الناس إلا وعنده رغبة صادقة، كما أنه لا يحب من أحدٍ أن يأكل من ماله أو ينتزع من ماله وهو لا رغبة له، فلو علم البائع أنك لا تشتري هل يعطيك؟ لو علم البائع أنك لن تشتري لما أعطاك، فهو راضٍ أن يعطيك لكي تشتري، ولذلك هذا هو الذي جعله رحمة الله عليه يقول: لابد أن أعطيه شيئاً من المال؛ لأنه أعطاني على رجاء أن آخذ، ولو علم أنني لا آخذ لا يعطيني، فلما ذقت الشيء الذي منه ولم أرغب فيه، فإني أعطيه المال الذي أطيب به خاطره أو أقدره شيئاً يسيراً بنفس الشيء الذي ذقته أو شممته، فالورع في هذا أفضل، فالشخص الذي لا يريد أن يطعم فإنه يتقي مثل هذا، خاصةً طلاب العلم وأهل العلم، وطعمة الحرام لها أثر على عبادة الإنسان، فإن العبد يقذف اللقمة لا يلقي لها بالاً يمنعه الله بها القبول في الصلاة وفي إجابة الدعاء ويقسو بها القلب، حتى لربما وقع في شبهة، ولربما وقع في فتنة -نسأل الله السلامة والعافية- وما طابت أقوال السلف إلا لما طابت أعمالهم وزكت نفوسهم وزكت أجسادهم عن الحرام، ومن زَكّى جسده وروحه عن الحرام زَكّى الله قوله وعمله، والله تعالى يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15]، والزكاة الطهارة كما قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة:103] فسميت زكاة لما فيها من الطهارة، فالذي يطهر نفسه عن أموال الناس يطهره الله عز وجل من تبعات الأموال، وقلّ أن تجد إنساناً جريئاً على مثل هذا إلا وجدت أثر الطعمة الحرام في قوله وفي فعله وسلوكه، فإن أراد أن يقصرها على نفسه اقتصرت عليه، وإن توسع في ذلك حتى أدخلها -نسأل الله السلامة والعافية- على أهله وولده فهو بشرّ الحال في نفسه وأهله وماله وولده، فالعبد يتقي الله عز وجل، فإن كنت لا تريد أن تشتري لا تدخل جوفك الطعمة، وتكون ناصحاً لأخيك المسلم، تقول: أنا لا أريد أن أشتري، قال لك: خذ، وتعلم أنه يجاملك، تعرض عنه وتقول له: لا أريد، وهذا هو أفضل ما يكون من طالب العلم وممن هو قدوة. وطالب العلم ينبغي دائماً أن يطبق العلم الذي يتعلمه على فعله، ومن هنا تجد العلماء رحمهم الله يقولون: العلم وبال على صاحبه فيما يضيّق عليه، ولكنه نعمة ورحمة فيما يئول إليه. (فهو وبال عليك فيما يضيق)؛ لأنك تعلم أنه لا يجوز لك أن تطعم هذا الشيء وأنت لا تريد الشراء، ولو كنت جاهلاً لطعمت، لكن بالعلم ضُيّق عليك، وجعل الله لك حسن العاقبة بسلامتك من أموال الناس. فالشاهد: أن العلم يضيق على صاحبه، ويتحمل به الأمانة والمسئولية فإذا كنت لا تريد أن تشتري فلا تأكل؛ لأن البائع لا يحب من أحد أن يطعم من ماله الذي يريد بيعه، والآخر لا يريد أن يشتري، فهذا أمر ينبغي للإنسان أن يتقيه. وهنا أيضاً مسألة أحب أن أنبه عليها وهي من الورع: في بعض الأحيان يأتي الشخص للعامل الموجود في المحل، ويأكل من العنب أو يأكل من الشيء الموجود من الخبز أو غيره ويستأذن العامل، والعامل ليس مالكاً للسلعة، وهذا ينبغي أن يوضع في الحسبان، حتى كان بعض مشايخنا رحمة الله عليه لا يقبل توصية العامل وزيادته ويتورع عنها، ويجعله يزيد فقط في قدر رجحان الميزان، وإذا جاء يزيد من عنده قال: المال مال غيره، وكما قيل في المثل: (الجلد جلد غيرك لا بأس إن جررت الشوك عليه)، فالعامل مأذون له أن يبيع ومأذون له أن يربح، وليس مأذوناً له أن يخُسِّر صاحب السلعة، فإذا كان الشيء فيه عرف وربّ المال قد أذن له فهذا شيء آخر، بل حتى والله أذكر منه -رحمة الله عليه- أنه كان يتورع عن الكيس من (النايلون)، يقول: هذا أذن له سيده وصاحب الدكان أن يعطيه لمن يشتري وأنا لم أشترِ، فيتورع عن كل شيء، وهذا يقتضي أن الإنسان ينتبه لحقوق الناس، سواءً كان عند ذوق الأشياء أو حين يأتي إلى شيء لا يريد شراءه فيقول للعامل: أعطني، والعامل إذا رآه استحى منه، أو ربما خاف منه؛ وهذا يعتبر من قلة الورع، لكن حينما تأخذ أموال الناس بحقها وتعطيها حقها رضيت وأرضيت، وحينئذٍ لا تقذف في جوفك مالاً حراماً، فهذا الذي ينبغي للمسلم أن يفعله، فإذا فعل ذلك زكت نفسه وزكت أقواله وأعماله، وما ضر كثيراً من الناس إلا التساهل في الطعمة، وكما قلنا: إن الطعمة من الحرام قد تؤدي بصاحبها إلى النار، خاصةً حقوق الناس، وأما فيما بينك وبين الله، كالزنا وشرب الخمر -والعياذ بالله- وغيرها من المحرمات فإنه يفعلها الفاعل ثم يتوب فيتوب الله عليه وإن كانت من كبائر الذنوب؛ ولكن لو أخذ طعمة من حرام، ولو كانت قدر أصبعه فلا يمكن أن تبرأ ذمته من هذه الطعمة أو هذا الحق لأخيه المسلم إلا إذا سامحه صاحب الحق. ومما ذكروا من غرائب ما وقع للسلف: أن رجلاً حضرته الوفاة فبكى، وقال لأبنائه: سلوا جاري أن يحللني من حقه، قالوا: وما حقه عليك؟ قال: إني أصبت طعاماً كثر ودكه -أي كثر السمن فيه- فاحتجت إلى التراب فحككت جدار جاري! فاسألوه أن يعفو عني! فالمسلم دائماً يخاف من حقوق الناس، ودائماً الأشياء الكبيرة تنتج عن الأشياء الصغيرة، فيتساهل في طعمته من هذا ومن هذا ومن هذا حتى تجتمع عليه حقوق الناس فيهلك، وكان بعض العلماء يقول في قوله عليه الصلاة والسلام: (نفس المؤمن معلقة بدينه) وفي رواية: (مرهونة) إن بعض الناس تجده مشتت الفكر بسبب كثرة الديون التي عليه، وبسبب كثرة مظالم الناس وحقوق الناس؛ لأنها أحاطت به خطيئته وأوبقته حقوق الناس وأصبح كالمرهون يريد الصلاة يريد الزكاة يريد النشاط للعبادة فإذا به مكبّل بحقوق الناس لم يتحلل أحداً من مظلمته، وهذا من أعظم ما يوجب الخسارة للإنسان. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يسلمنا وأن يسلم منا. اللهم سلمنا وسلم منا وتب علينا وتجاوز عنا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبيّه وآله وصحبه أجمعين.

كتاب البيع [8]

شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [8] دلت أصول الشريعة الإسلامية على أن معلومية الثمن عند البيع من شروط صحته، فإن كان مجهولاً -سواء كانت جهالة كلية أو جزئية- كالبيع بالرقم والتشريك في الثمن أو البيع بما ينقطع به السعر لم يصح؛ لأن هذه البيوع تفضي إلى الغرر المنهي عنه شرعاً. ومن البيوع التي تحتمل الصحة وعدم الصحة: البيع المعلوم والمجهول على تفصيل فيه، أما بيع الحلال والحرام، وبيع ما يملك وما لا يملك، وبيع المشاع، فإن البيع يصح في جزء منه ولا يصح في الجزء الآخر.

من شروط صحة البيع: أن يكون الثمن معلوما

من شروط صحة البيع: أن يكون الثمن معلوماً بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [وأن يكون الثمن معلوماً]. شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان الشرط الأخير من شروط البيع، وهو (أن يكون الثمن معلوماً)، وهذا الشرط دلت عليه أصول الشريعة الإسلامية، وذلك أن جهالة الثمن تُفضي إلى الغرر، وقد ثبت في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر)، فإذا كان الثمن مجهولاً فإمّا أن يكون مجهولاً عند البائع، وإمّا أن يكون مجهولاً عند المشتري، أو يكون مجهولاً عندهما، وفي جميع هذه الأحوال الثلاث لا يجوز البيع، ولا يصح؛ لأنه غرر نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: (وأن يكون الثمن معلوماً)، فيقول له: أشتري منك هذه السيارة بعشرة آلاف ريال، فيبين جنس الثمن، ويبين نوعه، ويبين قدره، ولا يجعله مجهولاً في أي حالةٍ من هذه الأحوال، فلا يجعله مجهولاً جهالة كليّة كأن يقول له: أشتري منك البيت، يقول له: بكم تشتريه؟ يقول: سأرضيك بما يرضيك نتفق لا يضرك سأعطيك ما تحب، ونحو ذلك من الألفاظ التي لا يبين فيها حقيقة الثمن، فإذا صار البيع بثمن مجهول فإنه لا يصح، وهكذا لو حدد له جنس الثمن ولكنه لم يحدد له القدر أو لم يحدد له النوع كقوله: أشتري منك هذه الدار بمالٍ، ولم يبين ما هو المال أشتري منك هذه الدار بذهب، ولم يحدد قدر هذا الذهب أشتري منك هذه الدار بفضة، ولم يحدد قدر هذه الفضة أشتري منك هذه الأرض بمئات الألوف، ولا يحدد أهي ثلاثمائة ألف أو أربعمائة ألف أو خمسمائة ألف، فقوله: (بمئات) وإن كان قد حدد النوع لكنه لا تبرأ به الذمة، ولا تزول به الجهالة، إذاً لابد وأن يكون الثمن معلوماً، ونحن قد ذكرنا أنه يُشترط أن يكون المثمن معلوماً، فكما أن الشيء الذي يباع ينبغي أن يكون معلوماً عند الطرفين؛ كذلك ينبغي أن يكون الشيء الذي يُدفع لقاء السلعة أو لقاء الصفقة معلوماً عند المتعاقدين، وحينئذٍ يكون كلا المتعاقدين على بينة من أمره، إن شاء أمضى البيع، وإن شاء رده. وقوله رحمه الله: (أن يكون الثمن معلوماً) هذا -كما ذكرنا- مبنيٌّ على نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الغرر، وبإجماع العلماء على أن هذا الشرط يشترط لصحة البيع، فلا يصحُّ البيع بالثمن المجهول.

حكم البيع بالرقم

حكم البيع بالرقم [فإن باعه برقْمه، أو بألف درهمٍ ذهباً وفضَّةً، أو بما ينقطع به السعر، أو بما باع به زيدٌ وجهلاه أو أحدهما: لم يصحّ]. قوله: (فإن باعه) أي: باع الشيء المعروض (برقمه)، بيع الرقم موجودٌ إلى الآن في زماننا، ويختلف من عصر إلى آخر، وأشبه ما يكون به في زماننا التسعيرة التي تكتب على الكتب، أو تكتب على الأقلام، أو على الساعات، فهذه التسعيرة رقم معين يذكر فيه المبلغ الذي يريده البائع في السلعة، فإذا كان الرقم معلوماً عند البائع غير معلوم عند المشتري لم يصحّ البيع، كأن يقول له: بكم تبيعني هذا الكتاب؟ فيقول: برقمه الذي عليه، والمشتري لا يدري كم هو؟ فيقول المشتري: رضيت، فإنه قد رضي بمجهول؛ لأنه قد يظن أنه ثمن معقول فإذا به يطلب ثمناً غير معقول، وقد يظنه بعشرة فإذا به بعشرين، وهكذا. فالمقصود: أنه إذا قال له: أبيعه برقمه، وكان الرقم مجهولاً عند المشتري، أو كان مجهولاً عند البائع، وهذا يقع في حالة ما إذا سعّروا الكتب، ثم مضت مدة من الزمان ونسي كم وضع على كتابه؟ فقال له: بكم تبيعني هذا الكتاب؟ قال له: برقمه، أي: التسعيرة التي عليه، فلربما أنه يرضى أن يعطيك الكتاب بتسعيرته، وإذا بها تسعيرة قد وضعها في زمان الكساد؛ لأن البيع يقع في حال الكساد والرخص وحال الزيادة، فلربما كان الثمن مكتوباً في حال الكساد، فيرضى به في حال الكساد، أما في حال الغلاء وحال الزيادة فلا يرضى البائع بهذا السعر، ومن هنا: لابد وأن يكون الرقم معلوماً عند البائع معلوماً عند المشتري، فإذا أخذت الكتاب، وقرأت تسعيرته وعلمت التسعيرة التي عليه، وجئت وقلت له: بكم تبيعني هذا الكتاب؟ فقال: بعشرة التي هي مكتوبة عليه، صحَّ البيع إذا علماه، ولم يصحّ إذا جهلاه أو جهله واحدٌ منهما. إذاً القاعدة: أن يكون الثمن معلوماً عند البائع معلوماً عند المشتري، فإن جَهل البائع بطل البيع، وإن جهل المشتري بطل البيع؛ لأن جهل البائع يفوت حقه في بذل السلعة بما يرضاه، وجهل المشتري كأنه أُخذ على غرة، ويكون من بيع المجهول؛ لأنه يُفضي إلى الغرر المنهي عنه شرعاً.

حكم التشريك في الثمن

حكم التشريك في الثمن [أو بألف درهم ذهباً وفضَّة]. والذهب يخالف الفضة، فهو أغلى وأنفس منها، ولا يمكن في زمان أن تستوي قيمة الذهب والفضة، بل إن قيمة الذهب دائماً أغلى من الفضة، وعلى هذا فإنه إذا أعطاه رقماً، وجعله متردداً بين الذهب والفضة، أو جعله جامعاً بين الذهب والفضة بدون تحديد النسبة لم يصحّ، كأن يقول له: بمائة من الدراهم والدنانير، فهذه مائة مشتركة فيها دراهم وفيها دنانير، أو يقول له: بمائة درهم أو دينار، فإن قيمة المائة درهم ليست كقيمة المائة دينار، هذا مثال ما كان في القديم، ونمثل بالموجود الآن، مثلاً: عندنا الريالات وعندنا الدولارات، فلو أن الدولار أصله ذهب، والريال أصله فضة، فيأتي ويقول له: أبيعك هذه السيارة أو أبيعك هذه الأرض بمائة ألف ريال ودولار، فإن المائة ألف ريال لا تساوي مائة ألف دولار، فلربما أن المشتري اشترى ونيته مائة ألف ريال؛ لأنها أرخص، فيقول له البائع: لا، بل قلت لك: أو دولار، أي: ألزمك إمّا بمائة ألف ريال، أو ألزمك بمائة ألف دولار، وهذا هو الذي جعل بعض العلماء يجعله في حكم بيعتين في بيعة، فهو يجعل له ثمنين مختلفين ليسا متكافئين، إمّا أن يدخلهما مع بعضهما بالتشريك ولا يحدد نسبة كل واحد منهما، وإمّا أن يجعلهما على المقابلة فيدمجهما مع بعضهما، كأن يقول: (بمائة دراهم ودنانير) -كما ذكرنا في القديم- وفي العصر الحديث يقول: (بمائة ألف ريالات ودولارات)، فقد يصدق على (99%) منها أن تكون ريالات، و (1%) تكون دولارات والعكس، ويصدق أن تكون مستوية، ويصدق أن تكون متباينة، إذاً: كأنه ردده بين أسعار متعددة مختلفة، فإن جاء المشتري يعطي القليل قال له البائع: لا بل نويت الكثير، فيصبح البيع متردداً بين القليل والكثير، وإذا شئت أن تحصرها أيضاً بصورة المقابلة أن تقول: أبيعك هذه السيارة بمائة ألف ريال أو بعشرة آلاف دولار، وتكون المائة ألف ريال لا تساوي العشرة آلاف دولار، أمّا لو ساوتها وردده بين قيمتين متساويتين كأن تكون المائة ألف ريال تعادل عشرة آلاف دولار صحَّ البيع؛ لأنه خيره بين مائة ألف ريال، وبين صرفها عشرة آلاف دولار، وهكذا لو قال له: بمائة دينار أو ألف درهم، أي: إن شئت أن تدفعها دنانير، وإن شئت أن تدفعها دراهم. الخلاصة: أن العلماء رحمهم الله لما قالوا: يشترط في البيع أن يكون الثمن معلوماً، يُفهم من هذا أنه لا يصحّ البيع بالمجهول، وإذا كان لا يصحّ بالمجهول فمعناه أنهم سيذكرون لك أمثلة، فإمّا أن تكون الجهالة كليّة أو جزئية، والكليّة مثلما قال: (برقمه)، فلا ندري كم الرقم؟ فأنت تجهل قدر هذا الثمن؟ أو جزئية مثلما يقول لك: بمائة ألف ريال أو عشرة آلاف دولار، وتكون المائة ألف ريال والدولارات ليستا بمتكافئتين، فحينئذٍ رددك، وصحيح أنه ذكر لك الثمن؛ لكنه جعلك على جهالة هل هو الثمن الغالي أو الثمن الرخيص؟ أو يُدخل سعراً من الثمن الغالي مع السعر الرخيص ويجعلهما معاً، ولا يحدد تمييز الغالي من الرخيص، فلو حدد الغالي والرخيص كأن يقول له: هذه السيارة أبيعها بعشرة آلاف دولار وألف ريال، معنى ذلك: أن قيمتها جامعة بين الأمرين، كما لو قال له: أبيعك بثلاثة دراهم ودينارين، فحينئذٍ يكون الثمن معلوماً، صارت خمسة، والخمسة منقسمة ما بين الدنانير والدراهم، وهكذا لو قال له: عشرة آلاف ريال وألف دولار، أو عشرة آلاف ريال وألف جنيه. إذاً التشريك في الثمن إمّا أن يفضي إلى الجهالة، وإمّا ألاَّ يفضي إلى الجهالة، فإن أفضى إلى الجهالة حرُم البيع، فإن لم يُفض إلى الجهالة بأن ردده بين ثمنين على سبيل التخيير أو دمج الثمنين مع بعضهما بصورة واضحة دون أن يكون هناك فرق في السعر صح البيع، كأن يقول له: بعشرة آلاف دولار أو بمائة ألف ريال، ويكون صرف العشرة آلاف دولار هو مائة ألف ريال، فحينئذٍ ردده بين ثمنين معلومين كما لو قال له: أبيعك إياها بعشرة آلاف دولار أو قال له: أبيعك إياها بمائة ألف ريال. أو أن يدخل القيمتين أو العُمْلَتين مع بعضهما، ويميز لكل عملة حظها، فيقول: أبيعها بعشرة آلاف ريال وألف دولار، ففهمنا أن الثمن يشتمل على نوعين من النقد: الذهب وهي الدولارات، والفضة وهي الريالات، فإذا جاء يشتري يدفع حظ الذهب الذي ذكره من الدولارات، وحظ الفضة الذي ذكره من الريالات فصح البيع. إذاً: القاعدة كلها تدور حول شيء معلوم، أي: أن يشتري الإنسان بشيء معلوم، فإن أدخل عليه الجهالة على وجه لا يستطيع الإنسان أن يميز فيه قيمة الصفقة بطل البيع، سواءً كانت جهالة كليّة أو جهالة جزئية.

حكم البيع بالمزاد العلني

حكم البيع بالمزاد العلني قال رحمه الله: [أو بما ينقطع به السعر]. وهذا أكثر ما يقع فيما يسمى في زماننا (ببيع الحراج) وهو بيع المزادات، حيث يأتي الرجل بسيارة يريد أن يعرضها للبيع، أو -مثلاً- قطعة أرض مخططة، فيقول له: أبيعك قطعة الأرض بالمبلغ الذي يصل إليه السوم، الذي هو بما ينقطع به السعر، ففي القديم كانوا يقولون: (بما ينقطع به السعر)، وفي الحديث، يقولون: (قيمة السوم)، أي: القيمة التي وصل إليها السوم؛ والسبب في هذا: أنه إذا قال له: بالقيمة التي يصل إليها السوم ربما كان الحاضرون في السوم أناسٌ من الأغنياء، والأغنياء دائماً يتنافسون، وموجب تنافسهم ربما يجعلهم يدفعون في الصفقة أكثر من قيمتها على سبيل التنافس، وحينئذٍ تظن أن هذه السيارة لو أنها عرضت للبيع لا يمكن أن تجاوز عشرة آلاف ريال، فيتنافس فيها تاجران ربما يوصلانها إلى ثلاثين ألفاً؛ لأنك أنت تريدها كسيارة، وهما وقع بينهما السوم على سبيل التنافس والغيرة، والعكس: ربما أن البائع ظن أن سيارته تصل بالسوم إلى عشرة آلاف ريال؛ لأنه يعلم أن هذا الحراج أو هذا المزاد الذي يقام الآن من عادته أنه يصل في السيارة التي مثل هذه السيارة إلى عشرة آلاف ريال، ففوجئ في ذلك اليوم أنه ليس فيه إلا أناس لا يعرفون قيمة السلع ولا يعرفون السوم أو أناس فقراء، فساموا سوماً ضعيفاً، ووقف السوم ولم يزد أحد، فإذا بها قد سيمت بثمانية آلاف ريال. إذاً: معنى ذلك: أنه إذا قال له: (بما ينقطع به السعر) صارت الجهالة على الاثنين: فالبائع لا يدري كم ينقطع به السعر! والمشتري لا يدري كم ينقطع به السعر! وخذها قاعدة: إذا صارت الجهالة في طرفي العقد البائع والمشتري فمعناه أن البائع يخاطر بنفسه والمشتري يخاطر بنفسه؛ لأن البائع يقول: بما ينقطع به السعر بما يقف به السوق بما يقف به الحراج بما يقف به المزاد، ويظن أنه يقف عند سعر معين، فإذا به يقف دونه، والمشتري يقول: بما ينقطع به السعر بما يقف به السوم، يظن أنه يقف عند سعر معين، فإذا به يقف عند أعلى منه، وهذا كله من رحمة الله عز وجل، فلا يريدك أن تدفع المال في شيء إلا وأنت تعلم ما الذي لك وما الذي عليك، والبيع على هذا الوجه بثمنٍ مجهول فيه خطر على البائع وفيه خطر على المشتري، وتوجب الشحناء والبغضاء؛ فالبائع يقول: لم أكن أظن أن الحراج يصل إلى هذا المستوى من الرخص، وعلى الجانب الآخر يتظلم المشتري ويقول: ما كنت أظن أن الحراج يصل إلى هذا المستوى من الغلاء والسعر الزائد، ومعنى هذا أنه سيفضي البيع إلى قطع أواصر الأخوة وحدوث النزاعات، وهذا غالباً ما يقع في بيوع الجهالات، ولذلك المجتمعات التي تنتشر فيها البيوع بالأثمان المجهولة غالباً ما يكون بينها الحقد وبينها الكراهية والبغضاء؛ لأنهم يرون أن هذا البيع قد أفسد ما بينهم، كلٌ يحرص على مصلحته، وكلٌ يظن أنه هو الفائز، فإذا به الخاسر، أو العكس فيظن أنه سيخسر وإذا به يربح، فيأتيه ما يخالف ظنه، وأيًّا ما كان لابد من الضرر على المتعاقدين، إمّا البائع وإمّا المشتري، وإمّا هما معاً.

حكم تقييد قيمة السلعة بمثيلتها مع الجهالة

حكم تقييد قيمة السلعة بمثيلتها مع الجهالة قال رحمه الله: [أو بما باع به زيدٌ وجهلاه أو أحدهما]. مثال ذلك: جئت إلى رجل وقلت له: بكم تبيعني سيارتك هذه؟ قال: سيارتي وسيارة فلان صفتها واحدة، وفلان باع سيارته، فالذي باع به سيارته أبيعك به سيارتي، فإذا كنت تعلم أنت القيمة وكان هو أيضاً يعلم صحَّ البيع، فمثلاً: لو كنتما معاً وذهبتما ورأيتما فلاناً باع سيارته بألف، أو كنتما معاً، وأخبركم فلان أنه باع سيارته بألف، فحينما يقول لك: أبيعك سيارتي هذه بمثل ما باع به زيد، كأنه قال: أبيعها بألف، وهذا -كما قلنا- إذا علم الاثنان القيمة، فهذه هي الحالة الأولى. الحالة الثانية: أن يجهلا معاً، يقول له: زيدٌ باع سيارته بالأمس وهي مثل سيارتي، والقيمة التي باع بها أبيعك بها سيارتي، ولا يعلم البائع بكم بيعت، ولا يعلم المشتري أيضاً بكم باع زيد سيارته، فحينئذٍ جهل البائع وجهل المشتري، والجهالة مستحكمة، فيبطل البيع. الحالة الثالثة: إذا جهل أحدهما، قال له: سيارتي هذه كسيارة زيد، وأبيعك سيارتي بمثل ما باع به زيدٌ سيارته، ويكون البائع يعلم أن زيداً قد باع سيارته بعشرة آلاف، والمشتري لا يعلم فلا يصح البيع والسبب في هذا: أنك قد تظن أن زيداً يبيع برخيص فإذا به عكس ذلك، فأنت إمّا مشترٍ وإمّا بائع، فتقول: أبيع بمثل ما باع فلان، أو تقول: أشتري بما باع به فلان أي: بنفس القيمة التي باع بها، فإن كنت بائعاً لعلك تظن أن القيمة تصل إلى حد، وإذا بها دون الحد الذي ظننته، وإن كنت مشترياً العكس، وذلك بأن تظن أن زيداً سيبيع سيارته بعشرة آلاف، وإذا به قد باعها بخمسة عشر، فهذه كلها أمثلة تنصب في غاية واحدة وهي الجهالة المفضية إلى النزاع وإلى الضرر، إمّا بالبائع وإمّا بالمشتري وإمّا بهما معاً، فهذا بالنسبة لمسألة (بما باع به زيد)، فاحتاط المصنف وقال: (بما ينقطع به السعر، أو بما باع به زيد وجهلاه أو أحدهما). فجعل صورتين: انقطاع السعر، وبما باع به زيد، واشترط أن يكون ذلك مجهولاً عند الطرفين، أو عند واحد منهما، ومفهوم ذلك: أنه لو كان معلوماً عند الطرفين وعلم الطرفان أنه ينقطع السوم عند حدٍ معين، أو أن فلاناً باع سيارته بكذا وكذا، صحَّ البيع وجاز. قال: [لم يصحّ]. أي: لم يصح البيع بهذه الصورة.

حكم بيع ما لا جهالة فيه ولا غرر

حكم بيع ما لا جهالة فيه ولا غرر قال رحمه الله: [وإن باع ثوباً أو صُبرة أو قطيعاً كلَ ذراع أو قفيز أو شاة بدرهم: صح]. قوله: [وإن باع ثوباً]. البيع وقع على الثوب بكامله (كل ذراع) ففي القديم كانوا يقولون: (ذراع)، فيأخذه ويُمتره بذراعه، أو (كلَّ متر) كما هو موجود في زماننا، فيقول له: كل متر بعشرة ريالات، أو باعه قطعة من القماش كل متر بعشرة، فالبيع وقع على القطعة بكاملها، ووقع على الثوب بكامله، وحينئذٍ أجزاء الثوب محددة، فالجهالة مرتفعة، فيصحّ البيع. قال: [أو صُبرة]. وهي الكوم من الطعام، كما ترى الآن البعض يجعل الطعام جيده ورديئه مع بعضه ويخلطه في بعض، ويقول لك: هذه الصُبرة أبيعكها كلها كل صاع بمائة أو بعشرة، فمذهب طائفة من العلماء: أنه لو قال له: هذه الصُبرة من الطعام أبيعكها -أي: كلها- الكيلو بمائة أو الصاع بمائة صحَّ البيع، لماذا؟ لأنه وقع على الجيد والرديء معاً، ولكن ستأتي صورة ثانية يُمنع ويُحظر فيها البيع، وهي التي يحتمل أن يأخذ فيها الجيد، ويحتمل أن يأخذ فيها الرديء. المقصود أنه إذا قال له: صبرة الطعام كلها، وانصب البيع على صبرة الطعام بكاملها وحدد جزءاً أو ما ينضبط به قدر الصُبرة صحَّ البيع. قال: [أو قطيعاً]. قطيعاً من الغنم أو من الإبل أو من البقر، قال له: كل واحدة بكذا، وهذا القطيع معلوم، فمثلاً: قال له: أشتري منك هذا القطيع من الغنم، فبكم تبيعه؟ قال: أبيعكه كاملاً على أن تدفع لي في كل واحدة مائة أو مائتين، فاستوى الجيد والرديء في البيع، ووقع البيع على الكل، فحينئذٍ لا جهالة ولا غرر. قال: [كل ذراع]. وهذا راجع إلى الثوب. قال: [أو قفيز]. في الصُبرة كل قفيز، والقفيز: نوع من أنواع المكاييل مثل الصاع، وهو أقل منه، وكان مشهوراً في المشرق. قال: [أو شاةٍ]. أي: كل شاةٍ من القطيع، فجعل ثلاثة أشياء: (الثوب، والصبرة، والقطيع)، ففي الثوب كل ذراع، وفي الصبرة كل قفيز، وفي القطيع كل شاة بكذا. قال: [بدرهم صحّ]. أي: أن يحدد له. فأولاً: أن يقع البيع على الكل لا على البعض، فيقول له: كل صُبرة الطعام، وكل قطيع الغنم، وكل الثوب، فوقع على الجيد والرديء معاً، فلا غرر ولا جهالة. ثانياً: أن يحدد قيمة كل جزء من أجزائه، وحينئذٍ لا جهالة في القدر ولا في الثمن، فأصبح قد باعه شيئاً معيناً منضبطاً بقدر الذي ذكره: الذراع والقفيز والشاة، فمثلاً حدد له بدرهم، فحينما قال له: (بدرهم). صحَّ البيع؛ لأنه ليس فيه جهالة لا في الثمن ولا في المثمن. قال رحمه الله: [وإن باع من الصُّبرة كل قفيز بدرهم أو بمائة درهم إلا ديناراً، وعكسه، أو باع معلوماً ومجهولاً يتعذر علمه، ولم يقل كل منهما: بكذا، لم يصح]. قوله: [وإن باع من الصبرة]. كما ذكرنا أولاً، هناك باع الصُبرة بكاملها -التي هي كوم الطعام- أمّا هنا يقول له: أبيعك القفيز أو الصاع أو الكيلو من هذه الصُبرة بمائة، ففي هذه الحالة سيكون في الصُبرة الجيد والرديء وفيها المتوسط، فلا ندري هل يقع البيع على الجيد أو يقع على الرديء أو يقع على المتوسط منه؟ وحينئذٍ يكون من باب الغرر؛ لأنه قد يظن البائع أنه سيأخذ الرديء فيأخذ الجيد فيغرر بالبائع في حقه، وقد يظن المشتري أنه يُمكَّن من الجيد فيصرفه إلى الرديء، وعلى هذا فإنه إذا قال له: أبيعك من الصُبرة، (من) للتبعيض، فمعناه: أن البيع انصب على جزء الصُبرة، وبعض الصُبرة ليس كلها، فهناك وقع البيع على الصُبرة كلها فأخذ غثها وسمينها، وجيدها ورديئها، وحسنها وقبيحها، فصحَّ البيع؛ لأنه لا غرر على البائع ولا غرر على المشتري؛ لكن حينما يقول له: أبيعك من هذه الصُبرة، فـ (من) للتبعيض، فلا ندري هل سيؤخذ الجيد أو الرديء أو الوسط؟ فبعض الأشياء التي تباع أكواماً أو أشياء متباينة، بعضها أفضل من بعض، فعندما تأتي لكي تأخذ الجيد ويدخل يختار معك، حتى لا يمكنك من اختيار الجيد، فإن قلت له: اتركني، قال: لا يمكن أن أتركك تأخذ الجيد وتترك لي الرديء، فحينئذٍ كأنه يريد أن يضر بك، وأنت أيضاً تريد أن تضر به؛ لأن كلاً منكما لا يريد أن يكون الضرر في حظه؛ والسبب في هذا (مِنْ) وهي للتبعيض؛ لأنه لما صارت أجزاء الصُبرة مختلفة وليست بمتساوية احتمل أن ينصرف إلى الجيد فضرَّ بالبائع، أو ينصرف إلى الرديء فضرَّ بالمشتري، وحينئذٍ لا يصح البيع على وهذا الوجه، هذا على ما اختاره طائفة من العلماء: وهو أن وجه الفساد التبعيض في أجزاء الصُبرة المختلفة. قال: [وإن باع من الصُبرة كل قفيز بدرهم أو بمائة درهم إلا ديناراً]. هذا إذا كان من الصُبرة صارت الجهالة في نفس المبيع؛ لأنه جيد ورديء، (بمائة درهم إلا ديناراً) كما ذكرنا سابقاً: أن يدخل عُمْلَتين مع بعض، ومعلوم أن قيمة الدينار صرفها بالدراهم تختلف، فأنت إذا قلت: (بمائة درهم إلا ديناراً)، لا ندري بكم يصرف الدينار، فإذا كان الدينار يصرف بعشرة فمعناه أنك بعت بتسعين، وإذا كان يصرف بخمسة فمعناه أنك بعت بخمسة وتسعين، فإذاً: ردده بين قيم مختلفة، فيحتمل أن تظن أن الدينار هذا يبلغ قيمةً رخيصة فإذا به بقيمة غالية، والعكس. وهذه كلها -كما ذكرنا- صور للتمثيل فقط، وغاية ما في الأمر أن المصنف يريد أن يقول لك: لا تبع ولا تشترِ إلا بثمن معلوم، ولا يجوز لك أن تبيع بالمجهول، سواءً كان مجهولاً جهالة كليّة أو كان مجهولاً جهالة جزئية، فهذا مراد المصنف رحمه الله. قال: [وعكسه]. أي: (بمائة دينار إلا درهماً)؛ لأن صرف الدرهم مختلف.

حكم بيع معلوم ومجهول بعقد واحد

حكم بيع معلوم ومجهول بعقد واحد قال رحمه الله: [أو باع معلوماً ومجهولاً يتعذر علمه]. كأن يعطيك شيئاً معلوماً، ويعطيك شيئاً آخر مجهولاً، ويجعلهما في صفقة واحدة، أي: في بيعة واحدة، وقد ذكر العلماء رحمهم الله مثالاً لهذا في مسائل تفريق الصفقة، كما ذكر صاحب المبدع وغيره أن يقول له: أبيعك هذه الناقة وما في بطن الناقة الثانية، فإن الناقة معلومة، ولكن الذي في بطن الناقة الثانية حمل مجهول فلا ندري أحيٌّ أو ميت؟ أكامل الخلقة أو ناقص؟ ثم هل يخرج حياً أو ميتاً؟ فهو مجهول، وقد وصفه المصنف رحمه الله بقوله: (يتعذر علمه) أي: لا نستطيع أن نكشف حقيقة أمره حال العقد؛ لأن هناك من المجهولات ما يمكن معرفة حقيقة أمره بعد العقد؛ لكن هذا النوع من المجهول لا يمكننا أن نكشف جليّة أمره ولا أن نكشف حقيقة أمره أثناء العقد. والآن دخل المصنف في مسألة الجهالة، ونحن قد قررنا أن الثمن لابد وأن يكون معلوماً، وحينئذٍ ربما كان مجهولاً في ذات الثمن، كما ذكرنا: أن الدراهم والدنانير قد تكون مجهولة الجنس أو النوع أو القدر، وفي بعض الأحيان تكون الجهالة في المبيع ثمناً كان أو مثمناً من جهة إدخال مجهول على معلوم، وقد تقدم معنا في الشروط: أن يكون المبيع معلوماً، سواءً كان ثمناً أو مثمناً، ففي هذه الحالة إذا كان المبيع معلوماً وأدخل البائع معه مجهولاً فإن جهالة المجهول تُدخل الجهل على المعلوم، لكن لما أدخلت الجهل على المعلوم هل أدخلته في المبيع أم في الثمن؟ أدخلته في الثمن؛ لأنك إذا قلت له: أبيعك هذه السيارة وما في بطن هذه الناقة انصبّ البيع عليه وانصبّ البيع على مجهولٍ آخر، حينئذٍ قد يقول قائل: ما الذي أدخل مسألة جهالة المعلوم مع المجهول في جهالة الثمن؟ قالوا: لأنه إذا قال له: أبيعك هذه السيارة وما في بطن هذه الناقة بمائة ألف أصبح الثمن مجهولاً؛ لأن السيارة معلومة، لكن لا ندري كم قدر المجهول من الثمن؛ لأنه لما صار مجهولاً ولم يَفْصِل له قيمة معينة أصبح الثمن مجهولاً، وعلى هذا قالوا: إذا جمع له بين معلوم ومجهول، إمّا أن يجمع بقيمة واحدة فلا يجوز، وإمّا أن يفرق ويقول: المعلوم له ألف، والمجهول بمائتين، فصحَّ في الألف وبطل في المائتين، وعلى هذا: جهالة الثمن تدخل في صورة تفريق الصفقة، فإنه إذا قال له: أبيعك سيارتي وثمرة بستاني السنة القادمة، وهذا مجهول يتعذر علمه، أو ما في بطن هذه الناقة، وهو أيضاً مجهول يتعذر علمه، فإنه في هذه الحالة يكون الثمن مجهولاً، ولو بيّنه وحدد قدره وجنسه، فلو قال: بعشرة آلاف، فلا ندري كم نصيب المجهول من العشرة آلاف؟ فإن فرّق بينهما وقال: السيارة بعشرة آلاف، وما في بطن الناقة أو ثمرة بستاني بخمسة آلاف بطل البيع في الخمسة وصحّ البيع في العشرة، وهذا ما يسمى (بتفريق الصفقة). قال: [أو باع معلوماً ومجهولاً يتعذر علمه]. (مجهولاً يتعذر علمه) لكن لو كان مجهولاً يمكن علمه، فلو قال: أبيعك سيارتي هذه وسيارتي الثانية، ويمكن أن توصف ويمكن أن ترى، فهذا أمره يسير؛ لأنه -كما ذكرنا في بيع الغائب- يصفه له، ثم بعد ذلك يتمكن من العلم به، ويكون له خيار الرؤية. قال: [ولم يقل كلٌ منهما بكذا لم يصحّ]. (ولم يقل -لاحظ هذا الشرط- كل منهما بكذا)، أمّا لو قال: المعلوم بكذا والمجهول بكذا، بطل في المجهول وصحَّ في المعلوم؛ والسبب في هذا: أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فلما كان المعلوم مستوفي الشروط حكمنا بصحة البيع؛ لأن شرط الصحة موجود، ولما كان المجهول اختصت به الجهالة وكان ثمنه معلوماً أي: محدداً ومقدراً وواضحاً من المتعاقدين بطل فيه البيع؛ لأن العلة للتحريم والبطلان وهي مختصة بذلك المجهول. قال: [فإن لم يتعذَّر: صحّ في المعلوم بِقسطه]. كما ذكرنا، فلو كان هناك شيء له أربعة أجزاء، ثلاثة منها معلومة والرابع لا يمكن علمه أو مما يتعذر علمه، فإننا نقول في هذه الحالة: يُجَزّأ الثمن أربعة أجزاء، ويكون لكل جزءٍ منها ربعاً، ثم نحكم بصحة الثلاثة الأرباع وإلغاء الربع الذي فيه الجهالة.

حكم بيع المشاع

حكم بيع المشاع قال رحمه الله: [ولو باع مشاعاً بينه وبين غيره، كعبد أو ما ينقسم عليه الثمن بالأجزاء: صح في نصيبه بقسطه]. قوله: [ولو باع مشاعاً بينه وبين غيره]. المشاع: هو الشيء المشترك، ويكون هذا أحياناً بسبب الميراث، مثل: رجل يتوفى عن ابن وبنت، يكون المال بينهما مقسوماً على ثلاثة، الابن له سهمان والبنت لها سهمٌ واحد، فلو كان الذي تركه داراً فثلثا الدار للولد الذكر والثلث للأنثى، فلو أنه باع هذه الدار نصيبه ونصيب أخته، حينئذٍ يكون بيع نصيب الأخت من بيع الفضولي فإذا لم تأذن لأخيها يكون من بيع ما لا يملك، فالمصنف تدرج معك في الأسباب: تارة يدخل لك سبب الفساد من جهة مجهول ومعلوم، وتارة يدخل لك سبب الفساد من جهة ما يملك وما لا يملك، وهذه كلها يسمونها الصفقة المجتمعة، فيبيعه صفقة مجتمعة بين حلالٍ وحرام، مملوكٍ وغير مملوك، معلوم ومجهول في صفقة واحدة، فإن تجزّأت -مثلما ذكرنا- تصحح في المعلوم وتلغى في المجهول تصحح في الحلال وتلغى في الحرام تصحح في المملوك وتلغى في غير المملوك، فمثلاً لو قال له: يا فلان! بعني بيتك الذي لك ولأختك، قال: أمّا الذي لي أبيعك -مثلاً- بألفي ريال، وأما الذي لأختي فأبيعك بألف ريال إن رضيت، حينئذٍ جزأ ولا إشكال، فيصحّ في حقه، وننظر في حق الأخت، فإن قالت: أمضيت، مضى البيع وصحّ في الجميع، وإن قالت: ما أمضيت، حينئذٍ صحّ في الألفين، وبقي في الألف لاغياً، وبقيت الأخت على ملكها لنصيبها في الدار. إذاً: المسألة مسألة حلال وحرام، فعندما تكون الصفقة واحدة، حينئذٍ إن جزَّأ الصفقة، وأعطى لكل من الحلال حظه والحرام حظه، تُصحح في الحلال بحظه، وفي الحرام تلغى بحظه وقسطه، وهذا بالنسبة لبيعه لما لا يملك، سواءً كان ذلك بسبب الإرث كرجل مع أخته، وَرِثا داراً، أو أنا وأنت اشتركنا في شراء سيارة، فأنت بعت نصيبك (النصف)، وبعت نصيبي (النصف) أيضاً دون أن تستأذنني، فحينئذٍ يكون بيعك من بيع الفضولي، وبيع لما لا تملك، والأصل يقتضي عدم صحة بيعك، فلو أنني لم أقبل البيع صحّ في نصيبك ولم يصح في نصيبي، وعلى هذا يُقسم المال الذي دفع بالنصف، فيكون لك نصفه، ثم يُلغى البيع في النصف الذي يتعلق بي، وأكون أنا وهذا الذي اشترى شريكين في هذه السيارة كما كنا سابقاً أنا وأنت شركاء. قال: [كعبد، أو ما ينقسم عليه الثمن بالأجزاء: صحّ في نصيبه بقسطه]. قوله: (صحّ في نصيبه بقسطه)، أي: البيع، وأمّا نصيب الآخر فإنه يبقى؛ لأنه باع شيئاً لا يملكه، فالقيمة التي طلبها في هذا الشيء الذي ليس ملكاً له، والصفقة التي أتمها على هذا الشيء الذي لا يملكه لا تتم؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] فهذا ملكي ومالي، بع مالك كيف شئت، ولكن مالي ليس من حقك أن تبيعه إلا بإذن مني، فإذا كنت غير راضٍ فمعنى ذلك أنني باقٍ على ملكية نصف العبد أو ثلثه أو ربعه على حسب الشيوع الموجود بيني وبينك، فيصحّ بالأجزاء، فإذا كان المبيع له أجزاء كأن اشتركنا -مثلاً- في كتاب واشتريناه بمائة، وهذا الكتاب ستة أجزاء فثلاثة منها لك وثلاثة منها لي، فحينئذٍ إذا بعت الستة الأجزاء التي لي ولك وعقدت الصفقة عليها صح البيع في الثلاثة الأجزاء التي لك، فمثلاً: لو بعت الكتاب بستمائة، فحينئذٍ نقول للمشتري: ادفع ثلاثمائة، وخذ نصف الكتاب، أي: خذ ثلاثة أجزاء من الكتاب فهي التي كان يملكها فلان، إذاً: هذا بالنسبة لما يكون له أجزاء، فيُقسم المال الذي اشترى به المشتري على جميع الأجزاء، ونعرف قيمة كل جزء، ثم نصحح في حدود أجزائك، وضابط المسألة: أن يجمع له بين حلال وبين حرام، ويكون الشيء الذي باعه قابلاً للتقسيط، أو قابلاً للفصل، بحيث يكون نصيب هذا معلوماً ونصيب هذا معلوماً، فنصحح في نصيب هذا ونلغي في نصيب الآخر.

حكم بيع الحلال والحرام وبيع ما يملك وما لا يملك صفقة واحدة

حكم بيع الحلال والحرام وبيع ما يملك وما لا يملك صفقة واحدة قال رحمه الله: [وإن باع عبده وعبد غيره بغير إذنه، أو عبداً وحراً، أو خلاً وخمراً، صفقةً واحدةً: صحَّ في عبده وفي الخلِّ بقسطه]. (وإن باع عبده وعبد غيره بغير إذنه). نلاحظ هنا دقة العلماء في الترتيب، ففي الصور الأولى يكون الاشتراك في نفس الشيء، أي: نفس العبد رقبة واحدة، ونشترك فيه، نصفه لك ونصفه لي، رقبة البقرة أو الشاة أو الناقة أو السيارة -كما هو موجود في زماننا- أو الأرض نصفها لك ونصفها لي، فالمبيع واحد؛ لكن هنا في هذا المثال المبيع يشتمل على شيئين: سيارتك وسيارة غيرك عبدك وعبد غيرك ناقتك وناقة غيرك، فحينئذٍ أصبح ليس من الشيوع، أي: ليس في الرقبة الواحدة؛ وإنما جعل الثمن على رقبتين، إحداهما ملكٌ له والثانية ليست ملكاً له، وضابط المسألة -كما قلنا- حلال وحرام، فقال: باع عبده وعبد غيره، باع خلاً وخمراً، والخل يجوز شربه مع أن أصله من الخمر، والخمر إذا تخللت وصارت خلاً جاز أن يشرب الخل وأن ينتفع به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيح-: (نعم الإدام الخل)، فالخلّ حلال لكن الخمر حرام، فالعلماء يذكرون هذا المثال (باع خلاً وخمراً)، فالخلّ يجوز بيعه والخمر لا يجوز بيعها، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر)، وقال صلى الله عليه وسلم في الخمر: (إن الذي حرم شربه حرم بيعه)، فلو باعه خلاً وخمراً فحينئذٍ تكون الصفقة جامعة بين الحلال وبين الحرام لا على سبيل الشيوع، لكن كلّ منهما منفصل عن الآخر، فنقدّر قيمة الخل ونقدر قيمة الخمر، ونقول: صحّ في الخل وحرم في الخمر، فلو كان -مثلاً- قسط الخمر النصف، فاشترى الخمر والخل معاً بألف ريال؛ وصفقة الخلّ تساوي خمسمائة ريال، فنقول: صح في الخل بخمسمائة وألغي في الخمسمائة الباقية التي هي قيمة للخمر؛ لأن الله حرم عينها، فلا يجوز بيعها ولا شراؤها. قال: [أو عبداً وحراً]. كذلك العبد والحر، فلا إشكال في المثال، فالمهم أن تحفظ القاعدة: أن يجمع له بين عينين إحداهما حلال والثانية حرام، أو من جهة التصرف: إحداهما يملك التصرف فيها والثانية لا يملك التصرف فيها، فمثال الأولى التي هي حرام العين وحلال العين: (خلّ وخمر، خنزير وبرّ)، فإن الخنزير حرام والبرّ حلال، ولو باعه عسلاً ومخدراً فالمخدر حرام والعسل حلال، وقس على هذا، وأمّا بالنسبة للملكية فمثالها أن يبيع عبده وعبد غيره، وفي عصرنا الحاضر سيارته وسيارة غيره أرضه وأرض غيره، وقس على هذا. قال: [صفقة واحدةً صحَّ في عبده، وفي الخلِّ بقسطه]. صح البيع في عبده، وصحّ في الخلّ بقسطه، وإن كان قسطه نصف القيمة صحّ بخمسمائة إذا كانت القيمة ألفاً، وكذلك أيضاً بالنسبة لبيعه لعبده وعبد غيره صحّ في عبده ولم يصحّ في عبد غيره. قال: [ولمشترٍ الخيار إن جهل الحال]. (ولمشترٍ الخيار) الخيار: مأخوذ من قولهم خَيَّرَهُ، إذا جعل له النظر بخيري الأمرين، والمراد من هذا: أنه إذا باعه على هذا الوجه حراماً وحلالاً، ولم يعلم أنه محرم كأن يقول له: أبيعك هذا العبد وهذا العبد، وكان لا يملك العبد الثاني، والمشتري يظن أنه يملك العبدين، نقول له: أنت بالخيار، إن شئت أمضيت البيع وأمضيت الصفقة، وإن شئت ألغيت الصفقة فيهما، فالخيار له في ذلك، لماذا؟ لأنه ربما اشترى عبده لمكان العبد الثاني. توضيح ذلك: الآن لو أن رجلاً جاء إلى رجل وقال له: أبيعك هذه السيارة -وسيارته رديئة- مع هذه السيارة بعشرة آلاف، فالمشتري قد يكون رغب في السيارة الجيدة وجعل السيارة الرديئة محمولة لوجود الجيدة، فلو جئنا نقول: صحّ في سيارته وبطل في سيارة غيره معنى ذلك أن المشتري سيتضرر، وهذا هو السبب الذي جعل المصنف يقول: (ولمشترٍ الخيار) أي: أن قولنا: يصحّ في قسطه وفي حقه، يُرد إلى خيار المشتري، ونقول لك: إن شئت أن تصحح العقد صححته في القسط الحلال فيما يملك، أمّا لو قلت: لا أريد، فإما أن آخذهما الاثنين أو أتركهما الاثنين فمن حقك وهذا يقع من المشتري، أنه يشتري الصفقتين من أجل أنه يحمل وكس هذه بكمال هذه والنقص في هذه بالجمال في هذه، فكأنه اشترى الاثنين معاً من أجل أن إحدى الصفقتين تحمل الأخرى، فإذا جئت تقول للمشتري: صحّ في قسطه فمعنى ذلك أنك تضر بالمشتري وتلزمه بشيء لا يريده، فهو يريد الصفقة كلها، فاحتياطاً للحقوق قال المصنف رحمه الله: (ولمشترٍ الخيار) أي: أننا حينما حكمنا بصحة العقد فإننا نجعل للمشتري الحق أن يمضي البيع أو يفسخه، وهذا من العدل؛ لأنه اشترى الاثنين معاً، فإن كان يريدهما معاً ولا يريد أحدهما دون الآخر كان من حقه ذلك، وليس من حقنا أن نلزمه بجزء مبيع أراده كله؛ لأنه اشترى الكل، ولم يشتر البعض، فهذا هو وجه إعطاء الخيار له، فنقول: إن شئت أمضيت الصفقة في حظ من باعك، وإن شئت اعتذرت عن البيع، فهذا من حقك، ولا تُلزم بذلك.

الأسئلة

الأسئلة

بيع المرابحة صورته وحكمه

بيع المرابحة صورته وحكمه Q ما حكم البيع إذا قال البائع للمشتري: أنا اشتريت السلعة بكذا فأربحني على ذلك ما شئت، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإذا قال البائع للمشتري: اشتريت السلعة بمائة ألف فأربحني فيها لأبيعها لك، هذا يسمى عند العلماء (ببيع المرابحة)، وبيع المرابحة له صورتان: الصورة الأولى: قديمة عمل بها العلماء والفقهاء. الصورة الثانية: حديثة ألحقت بالقديمة وزُعم أنها منها، وهي من صور الربا ويقال لها: (المرابحة الإسلامية)، وهي ربوية، ولا يجيزها تسميتها بأنها إسلامية، فإنه لا يحكم للشيء بكونه شرعياً إلا إذا دل الدليل على كونه مشروعاً. نبين الصورة المشروعة: وهي إلى الآن لا زالت موجودة، حتى إن كبار السن يتبايعون بها، وإذا جئت إلى رجل كبير السن تقول له: بكم هذه الشاة؟ يقول: رأس مالي ألف، أي: كم تربحني، فهذا معنى قوله: رأس مالي، فتقول له: أربحك العُشْر معناها أنك ستشتريها بكم؟ بألف ومائة؛ لأن عُشر الألف مائة، فهذا يسمى بيع المرابحة. لكن لماذا العلماء جعلوا لهذا النوع اسماً خاصاً وهو بيع المرابحة؟ السبب في هذا: أنه ربما قال لك: رأس مالي مائة ألف، وتبين أنه اشتراها بثمانين ألفاً، أو بخمسين ألفاً، فحينئذٍ أنت مظلوم، فاحتاج العلماء أن يجعلوا لهذا النوع من البيوع مبحثاً مستقلاً وهو كيف يفصل في حال ما إذا تبين كذب البائع -وهذه حالة-، أو خطأ البائع؟ ففي بعض الأحيان يخطئ البائع ولا يقصد الكذب، فيقول لك: رأس مالي مائة ألف وقد اشترى أرضين: أرضاً بمائة ألف وأرضاً بخمسين، فظن أن هذه الأرض التي باعك إياها أنها هي التي بمائة ألف وتبين أنها هي التي اشتراها بخمسين، فحينئذٍ يكون له نصف القيمة الأصلية، وإن شاء الله سنتكلم على هذا النوع في الفصل الذي بعد هذا، في بيع المرابحة والمواضعة والتولية، وهذه ثلاثة أنواع من البيوع، فالبيع الأول المرابحة: كم تربحني؟ والمواضعة: أن يضع من البيع بقدر أي: اشتراها بمائة فيقول لك: أنا رضيت أن أخسر فيها العُشر، فيضع من السعر، فيتفقان على الضعة من رأس المال، والتولية: أن يولي لك، فيقول لك: بكم تعطيني أنا قبلت، فيجعل لك التولية، أي: أن تتولى تقييم سلعته. أما المرابحة التي يسمونها اليوم مرابحة إسلامية: وهي أن تأتي إلى المؤسسة أو تأتي إلى الشركة تريد أن تشتري سيارةً أو أرضاً أو أثاثاً للبيت، فيقول لك: اذهب إلى أي شركة وخذ منها الفواتير، وحدد ما تريد أن تشتريه، وائتنا بالفواتير ونحن ننظر فيها، ثم بعد ذلك نشتريها ولا نلزمك بالبيع، وهذه يسمونها -كما قلنا- المرابحة الإسلامية، والواقع أنها من صور الربا؛ لأن حقيقة الأمر أن هذا المتاع الذي قيمته مائة ألف ريال بدل أن يعطيك المائة ألف ويقول: ردها أقساطاً مائة وعشرين أدخل السلعة حيلة في الصفقة، وهذا يحتاج إلى دقة في مسألة حقيقة العقد. وتوضيح ذلك: أنه في ظاهره حلال؛ لكن في باطنه تذرّع به إلى الربا، وانظروا إلى بيع العينة حتى تكون الصورة واضحة فيما يسمى بالمرابحة الآن، أن يقول: أبيعك هذه الدار بمائة ألف ريال إلى نهاية السنة، فإذا جئت تنظر إلى مائة ألف لقاء الدار إلى نهاية السنة القيمة صحيحة والبيع صحيح، ثم أشتريها منك بخمسين ألفاً نقداً، فلا توجد أي شبهة، هل تلاحظون أي شيء على مائة ألف لقاء سلعة إلى أجل؟ أو خمسين ألفاً نقداً لقاء سلعة تستحق الخمسين؟ أبداً ليس فيه أي إشكال؛ لكن الشريعة ألغت البيعتين الاثنتين، ونظرت إلى أن حقيقة الأمر أنه أعطاه الخمسين الألف النقد في مقابل المائة ألف إلى أجل. فالذي يقول بجواز بيع المرابحة، لا شك أنهم علماء ومنهم بعض الأجلاء، وهذا اجتهادهم، لكن الذي نحن نمنع منه قضية تسميته مرابحة إسلامية، وإدخال مصطلح له ضوابط معروفة عند العلماء على شيء لا يمتّ إليه بصلة، فالمرابحة مفاعلة من الربح وليس لها علاقة بمسألة اذهب واختر السلعة ثم بعد ذلك نشتريها نحن ونقسطها عليك، فهذا لا يسمى مرابحة، بل كأنه في هذه الحالة بدل أن يقول له: خذ المائة ألف وردها مائة وعشرين، قال له: أدفع لك المائة ألف إلى المؤسسة وتردها لي مائة وعشرين، فهذا حقيقة الأمر. وقد يتعذرون بأن البنك لا يلزم المشتري بالسلعة، وهذا ليس بمؤثر؛ لأن البنك ما اشترى إلا من أجل المشتري، ولا عرف هذه السلعة إلا بتعيين المشتري، بل الأدهى والأمر أن المشتري هو الذي جاءه بالفواتير، بل وحدد له المكان الذي يشتري منه، فالأمر واضح جداً، فالبنك لا يريد أن يشتري السلعة ولا يرغب فيها، وأعجب من هذا أن البنك يتفق مع من يتعامل معه أنه إذا لم يوافق (الزبون) أو المشتري أننا سنردها عليك، ولذلك تجد بعض من يتعامل بهذه (المرابحة الإسلامية) لا يتعامل إلاَّ مع محلات معينة؛ لأنه اتفق معها أنه إذا نكص المشتري عن الشراء فله الرد، وهذا أمر موجود وذائع، ولا شك أنه من بيوع الربا، وأقلّ ما في هذا النوع من البيع أنه من المشتبهات، والمشتبه: هو الذي فيه شبهة من الحل وشبهة من الحرمة. وعلى هذا: فإنه لا يصح البيع على هذا الوجه، أما إن كان البنك يشتري السيارة أو يشتري السلعة ثم يعرضها عليك مقسطة فلا بأس، لكن أن تأتي أنت وتحدد له سلعة معينة أو أثاثاً معين هذا لا شك أنه عين الربا؛ بل حينما يعطي البنك المائة ألف لشخص ويقول له: خذ المائة ألف وردها مائة وعشرين، فهذا -والله- أرحم من أن يلزمه بصفقة معينة؛ لأنه على الأقل أخذ المائة ألف وذهب يشتري ما يريد وربما يشتري شيئاً يربح فيه؛ لكن من ذكاء البنك أو المؤسسة أنه حين يتعامل معك بهذه الصورة يريد أن يضمن أنك قد أخذت بها شيئاً، ولذلك يجعلك تشتري السلعة ولا يدفع لك المال إلا إذا ضمن أنك تشتري بها سلعة، وأيّاً ما كان فهذا ليس من البيوع المباحة؛ إنما هو من بيوع الذرائع الربوية التي يتوصل بها إلى الحرام، فإن قالوا: إنها مرابحة؛ لأن البنك ربح أو قصد الربح من هذا النوع من البيوع، فلا إشكال في أنه ربح من جنس الفائدة الربوية. والله تعالى أعلم.

عدم القطع في الأجرة

عدم القطع في الأجرة Q إذا قال صاحب سيارة الأجرة للراكب: أوصلك بعشرة، وإن ركب أحد معنا فبخمسة، فهل تصح هذه الإجارة، أثابكم الله؟ A إذا قال له: أوصلك إلى دارك بعشرة، فهذه إجارة صحيحة بثمن معلوم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من استأجر أجيراً فليعلمه أجره)، فإن قال له: إن ركب معنا أحد أوصلك بخمسة وحدد المكان الذي فيه الركوب، فإن بعض العلماء يمنع من هذا؛ لأنها صفقتين في صفقة واحدة، فلا يُدرى هل يئول الأمر إلى الخمسة أو يئول إلى العشرة، فكان من باب البيعتين في بيعة، ومسائل الإجارة مفرعة على مسائل البيع. وقال بعض العلماء: إنه إذا قال له: إن ركب معنا أحد فآخذ منك خمسة فإنه يجوز ذلك؛ لأنه معلّق على وجهٍ لا يقطع بت البيع الأول. إذاً: إذا قال له: أوصلك بعشرة وإن ركب معنا راكب فبخمسة فهذا إذا حدَّد المكان أو عين المكان فلا إشكال كما ذكرنا، لكن هناك في بعض الأحوال يكون هذا النوع من الإجارة فيه جهالة وفيه غرر؛ وذلك أنك قد تركب من أجل أن تصل إلى مكانك المعين بعشرة وتريد أن تصل بسرعة فَيُدخل عليك راكباً ثانياً قد يتسبب في تأخيرك أو تعطيلك، وقد يضرك من يركب معه بدخان أو بكلام أو نحو ذلك مما فيه أذية وضرر، ففي مثل هذه الأحوال إذا كان السائق يريد أن يدخل على الراكب ما فيه غرر بمثل هذه الصور فلا إشكال في عدم الجواز، وأنه ينبغي على المستأجر أو الراكب أن يبتّ معه فإما أن يستأجره بعشرة وينهي الإجارة على عشرة ولا يركب معه أحد، وإما أن يعتذر عن أخذه إلى غيره، ومثال ما فيه الغرر كما لو جئت نازلاً من المطار فقال لك: أنزلك من المطار إلى وسط المدينة بخمسين إذا كنت لوحدك، وإن وجدت معك راكباً فسآخذ منك خمسةً وعشرين، لكن هذا الراكب الذي سيركب معك قد يقول: أنت تريد منتصف المدينة أو وسط المدينة وأنا أريد قبل منتصف المدينة. فمعنى ذلك أنه سينحرف عن طريقك إلى طريقه، وقد يستغرق توصيله ربع ساعة أو ثلث ساعة وقد يستغرق نصف ساعة، ومن جرب ذلك يعلم، فهذا النوع من الإجارات فيه مصلحة لسائق السيارة لكن فيه ضرر على الراكب، حتى إننا نذكر من بعض المشايخ حفظهم الله الذين يخرجون للدعوة في الخارج يقولون: نقع في أشياء من أغرب ما تكون إذا جئنا ننزل من المطارات إلى الفنادق، فيقولون: يركب معك أحد ونأخذ منك كذا، فنستهين بالأجرة، فإذا بالذي يركب معنا يذهب ويدور به المدينة كلها ولا يصل بنا إلى مكاننا. ومثل هذا يضر بمصالح المرء، خاصة إذا كان يريد أن يقضي حاجة أو يريد أن يدرك مريضاً أو أن يصل إلى غرض من معاملة أو نحو ذلك، فهذا يضر بمصالح الناس، ويوجب الشحناء والبغضاء بينهم، لأنه من بيوع الغرر. والعلماء دائماً يقيسون الإجارة على البيع. ومما ذكر بعض المشايخ حفظه الله يقول: ذات مرة نزلنا من المطار فوجدنا اثنتي عشرة رجلاً -أي: قائد سيارة- وكنا مستعجلين جداً -كانوا في مهمة دعوة- يقول: وقد كنا منهكين لبقائنا قرابة ساعة ونحن في السفر من منطقة إلى منطقة في الطائرة، الشاهد: أنه لما نزلنا قال لنا السائق: أوصلكم بكذا، فإذا بسعره مغر، قال: فقط أريد طلباً واحداً؟ قالوا: ما هو؟ فأشار إلى رجل وقال: هذا الرجل الذي ينزل والذي تلاحظوه معه دولارات -التي يسمونها العملة الصعبة- أريد أن أصطرف معه، وما أريد أن يسبقني إلى عقد الصفقة معه أحد، فكل الذي أريده منكم أنه إذا نزل نذهب وراءه حيث ينزل وأشتري منه وأعقد الصفقة ثم أوصلكم، يقول: فأصبحنا في داخل المدينة نذهب من مكان إلى مكان، بل ربما ما ترك مكاناً في المدينة إلا ذهب إليه؛ لأن هذا يريد أن يفرّ من هذا، وهذا وراءه، فجلسنا قرابة ساعة ونصف ونحن وراءه، حتى إنه من شدة حرصه كان يسرع حتى خفنا على أنفسنا، فصممنا وقلنا: أنزلنا واتبع صاحبك، قال: لا يمكن أن تضيع الأجرة التي بيني وبينكم، فقلنا: خذ الأجرة، قال: إذا أوقفتكم ذهب عني، أي: لم يقبل على الرغم من عرضنا عليه الأجرة كاملة على أن ينزلنا. فهو يقول: إذا أوقفتكم ذهبت الدولارات، وإذا ركبتم معي فإن هذا يضر بكم، لكن ما لكم إلا الصبر، فأيَّاً ما كان فهذا النوع من العقود كونه يقول أوصلك ويعلق شيئاً آخر على الإيصال فهذا الذي نريد أن نصل إليه أنه يوجب الشحناء ويوجب البغضاء، ويعرّض مصالح الإنسان وحوائج الإنسان إلى الضرر، فالأفضل والأكمل أن تكون الإجارة على البتّ خالية من الغرر. والله تعالى أعلم.

حكم بيع الشيء ومعه جائزة

حكم بيع الشيء ومعه جائزة Q لو قيل: اشتر سيارة -مثلاً- واحصل على سيارة ثانية من نفس النوع مجاناً، فهل يجوز هذا، أثابكم الله؟ A إذا قيل: اشتر سيارة من نوع كذا أو اشتر طعاماً أو شيئاً معيناً وتحصل على جائزة مجهولة، فهذا لا يجوز، وهو كما ذكرنا بيع معلوم ومجهول؛ لأنه اشترى السيارة ومعها شيء مجهول، واشترى وهو يريد الربح فإذا به لا يربح شيئاً، فإذا قال له: اشتر سيارة وتربح، حتى ولو سميت الجوائز: الأول له كذا، والثاني كذا، والثالث كذا، فهذا كله يعتبر من بيع الغرر؛ لأنه أدخل المجهول على المعلوم، وفي هذه الحالة كأنه باعه السيارة وشيئاً ما لا يُدْرى أهو الجائزة الأولى إذا فاز بها أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو لا شيء، فإذا كان لم يخرج له شيء فحينئذٍ كأنه غَرّر به، مثل (اليانصيب) ادفع مالاً وتربح، وعلى هذا فإنه لا يصح بيع الجوائز إذا كانت مجهولة أو كانت معلومة مقرونة بالمبيع. وتوجد حالة يصح فيها بيع الجائزة مقرونة بالمبيع، مثل: أن يعطيك (النيدو) -مثلاً- وعليه كأس، فالجائزة هنا معلومة ومعروفة، ويصبح كأنه باعك هذا الحليب مع الكأس، فهذا بيع معلوم وليس فيه أي إشكال؛ لكن إذا قال لك: تربح جائزة مجهولة، ووضع الجائزة داخل الحليب، فقد تكون ريالات، وقد تكون ذهباً، وقد تكون لعبة، أو لا يكون بداخلها إلا الحليب، فإذاً: معنى ذلك أنك تشتري على غرر، وهذا من بيع المجهول الذي لا يصح. والله تعالى أعلم.

مدة الإجارة وحكم إتمام عقدها

مدة الإجارة وحكم إتمام عقدها Q وقع عقد إيجار بيني وبين المستأجر لخمس سنوات واستلمت إيجار السنة الأولى، وبعد خمسة أشهر أبدى عدم رغبته في مواصلة الإيجار، فما الحكم في ذلك، أثابكم الله؟ A إذا أجر الشخص داره أكثر من سنة فلا تخلو الإجارة من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون إلى زمانٍ لا غرر فيه كالسنة والسنتين، وتكون الدار متحملة، بحيث يغلب على الظن بقاؤها إلى سنة وسنتين ومنافعها باقية، فتصح الإجارة ولا بأس. الحالة الثانية: أن تكون إلى مدة لا نضمن معها بقاء العين، وذكر العلماء من ذلك أمثلة، أن يقول له: أجرتك داري ثلاثين سنة، أو أجرتك أرضي للزراعة ثلاثين سنة أو خمسين سنة، فهذه العقود الطويلة لا يُدْرى فيها كيف يكون حال الأعيان فيكون من إجارة الغرر، فلا يصح في هذه الحالة. إذاً: لو قلت له: أجرتك الشقة أو العمارة أو الأرض لخمس سنوات وكانت الشقة أو العمارة تتحمل خمس سنوات فالعقد صحيح والإجارة صحيحة، فإن جاءك بعد العقد وبعد أن افترقتما ولو بلحظة يقول لك: رد عليَّ أو لا أريد، فليس من حقه، وأنت بالخيار -صاحب العمارة- إن شئت ألزمته وتأخذ الأجرة كاملة، وإن شئت عفوت عنه وقلت له: خذ المدة التي تريد على قدر ما دفعت واترك لي داري يعوضني الله خيراً منك، وإن فعلت هذا فهو أفضل وأكمل؛ لأنه من الإقالة، وهذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم من طلب الأجر؛ لأن الله سبحانه وتعالى إذا رفقت بأخيك المسلم وأقلته وهو نادم أقال الله عثرتك، وكان سبباً لتفريج الكربة عنك؛ لأنك كما فرجت عن أخيك يفرّج الله عنك كربة من كرب يوم القيامة، فإذا جاءك أخوك وقال لك: لا أستطيع، أو جاءتني ظروف، أو أصبح حالي عسيراً، فإنه في هذه الحالة يكون الأفضل والأكمل أن تعفو عنه، فإن أصررت وقلت: لا أريد، وطالبت بحقك، فمن حقك وتلزمه بدفع الأجرة في السنوات القادمة، ويلزمه أن يتم العقد؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب البيع [9]

شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [9] جاء الشرع بالنهي عن بعض البيوع، فتارةً ينهى عنها من أجل الوقت والزمان، فقد يكون الوقت ليس بوقت بيع وشراء؛ كالبيع بعد الأذان الثاني يوم الجمعة؛ لما فيه من مناقضة لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان من امتثال لأمر ربه والسعي إلى عبادته، وتارةً ينهى عنها للمفاسد المترتبة عليها واشتمالها على صورة توجب الضرر، وتارةً ينهى عنها لكونها ذريعة إلى ضرر أو مفسدة حرمها الشرع؛ كبيع العصير لمن يتخذه خمراً، وبيع السلاح في الفتنة.

حكم البيع بعد النداء الثاني يوم الجمعة

حكم البيع بعد النداء الثاني يوم الجمعة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصلٌ: ولا يصحُّ البيع مِمَّن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني]. (فصل) هذا الفصل مبنيٌ على ما تقدم من الأحكام المتعلقة بالشروط؛ والسبب في هذا: أن ما نهى عنه الشرع من البيوعات كأنه ينبه المتعاقدين أثناء تعاقدهما على الاحتراز والتوقي من أسباب أو من موجبات النهي، فصارت كأنها علامات وأمارات توجب اتقاء هذا النوع من البيوع، فهنا ارتبط الفصل بالشروط الماضية، إلا أن الأحكام التي تقدمت معنا في الفصل الماضي تتعلق بالشروط التي إذا توفرت حكمنا بصحة البيع، وإذا لم تتوفر أو سقط بعضها أو فات بعضها حكمنا بفساده، فكأن المنهيات أو البيوع المنهي عنها متعلقة بالشروط من جهة كون الشرع نهى عنها، إلا أنها تخالف الشروط من جهة كونها لا تستلزم الفساد، فقد يكون الشيء منهياً عنه ويأثم فاعله إلا أن العقد صحيح. وعلى هذا شرع المصنف رحمه الله في بيان جملة من البيوع التي حرمها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وبهذه المناسبة ينبغي أن يعلم أن ما أحلّ الله من البيوع أكثر مما حرمه سبحانه وتعالى؛ لأن الشريعة شريعة رحمة وشريعة تيسير، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وقال سبحانه وتعالى -وهو أصدق القائلين وأحكم الحاكمين تبارك رب العالمين-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، فجعل الله البيوع التي أباحها وأحلّها لعباده المؤمنين من الطيبات أكثر من التي حرم، ومن هنا يعتني المحدثون والفقهاء وأئمة الإسلام رحمهم الله برحمته الواسعة ببيان البيوع المنهي عنها، ويجعلون مباحثها ومسائلها وأبوابها مرتبة على مسائل الشروط وأبوابها. والآن سيشرع المصنف في جملة من البيوعات المنهي عنها، وهذه البيوعات المنهي عنها تارةً يُنهى عنها من أجل الوقت والزمان، فيقول لك الشرع: لا تبعْ؛ لأن هذا الوقت ليس بوقت بيع، وتارةً يمنعك الشرع من البيع والشراء للمفاسد المترتبة على بيعك وشرائك لاشتماله على صورة توجب الضرر، وتارة ينهاك عن ذلك تعبداً منه سبحانه وتعالى لأمرٍ حرمه أو كونه ذريعة إلى ضرر أو مفسدة حرمها الشرع، فمثلاً في قوله رحمه الله: [ولا يصحُّ البيعُ ممَّن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني]. (لا يصح) هذا يدل على نفي صحة البيع، بمعنى: أن البيع لو وقع بعد الأذان الثاني من شخص تلزمه الجمعة فإنه يحكم بعدم صحته، وهذه المسألة مبنية على قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:9 - 10]، هذه الآية الكريمة صدرها الله عز وجل بالنداء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... )، قال العلماء: لأن الذي يمتثل أمر الله عز وجل ويستقيم على ذلك الشرع الذي شرعه سبحانه إنما هم المؤمنون الكاملون في إيمانهم، الذين إذا أمروا من الله اِئتمروا وإذا نهوا من الله انكفوا وانزجروا فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... ) وهو نداء التشريف الذي يحرك في النفوس العزيمة على الامتثال والعمل بما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) قال: (إِذَا نُودِيَ) أي: إذا ابتدأ النداء للصلاة من يوم الجمعة، فالتحريم يبتدئ من قول المؤذن (الله)، فإذا ابتدأ بلفظ الجلالة من النداء الثاني بقوله: (الله أكبر) حرم البيع وحرم الشراء، (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) قوله سبحانه: (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) تخصيص يدل على أن غيره لا يشاركه في هذا الحكم، ثم ليس كل يوم الجمعة وإنما فقط في هذا الظرف من ابتداء النداء الثاني: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) وهي الصلاة المفروضة أعني: صلاة الجمعة فـ (أل) في الصلاة للعهد الذهني، أي: أنها الصلاة المعهودة المعروفة في يوم الجمعة وهي صلاة يوم الجمعة: (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) أي: في يوم الجمعة أو أنها جزء أو تبعيض للظرف: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) أمر بالمضي إلى الصلاة، ثم قال: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) (ذروا) بمعنى: اتركوا، وعلماء الأصول يقولون: إن من صيغ التحريم أن تأتي الآية بقوله: (ذر) بمعنى اترك، كما قال تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] أي: اتركوه، وهذا يدل على تحريم ظاهر الإثم مثل القول الظاهر: كالسبّ والشتم، وباطنه مثل: الحسد ونحو ذلك، (وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي: اتركوه، ومن هنا قال العلماء: يحرم البيع، ويتعلق التحريم بالطرفين: يتعلق بالبائع فلا يجوز له أن يبيع، ويتعلق بالمشتري فلا يجوز له أن يأخذ ويشتري، وقوله سبحانه: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) معناه: العقد، وهو صيغة البيع: بعت واشتريت. وعلى هذا فلو قال له: بكم هذا الكتاب؟ قال: بعشرين، قال: قبلت. فلما مدّ له العشرين وأراد الآخر أن يقبض أذن المؤذن، فإن العبرة بالصيغة، فلما وقعت الصيغة ووقع العقد قبل الأذان صحَّ؛ لأن قوله سبحانه: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي: عقد البيع، إذاً: إذا وقعت الصيغة التي هي الإيجاب والقبول قبل أن يبتدئ المؤذن بالأذان فقد أوجب البيع ولزمهما إمضاءه وإتمامه. وقوله سبحانه وتعالى: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) النداء في يوم الجمعة نداءان: أولاً: الأذان الذي هو الأصل في يوم الجمعة، والذي يقوم الخطيب ويخطب، وهذا النداء مجمع عليه، وقد ثبتت به النصوص الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنه كان يؤذن بين يديه، وهو الذي يسميه العلماء: الأذان بين يدي الخطيب، وهو الذي عليه المعوّل وهو نداء الفريضة. ثانياً: الأذان الذي هو من السنن المعمول بها؛ لأنها سنة خليفة راشد وهو عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، فإن هذا النداء وضعه عثمان رضي الله عنه وأرضاه ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، ولم ينكره أحد من السلف، ومضى على ذلك إجماع الأمة سلفاً وخلفاً على أن هذا الأذان سنة؛ والسبب في هذا: أن عثمان رضي الله عنه نظر إلى حاجة الناس؛ لأنهم كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم قلّة، ثم لما كثر الناس أصبح يؤذن الأذان الثاني وهم في خِضم البيع والشراء؛ لأنهم يفاجئون بالأذان فجأة، فشرع أو أحدث هذا الأذان الذي هو الأذان الأول، ومضت السنة عليه، وهذه السنة لا يفرق العلماء فيها بين وجود السبب أو عدم وجوده، أي: لا نعرف أحداً من أهل العلم لا من السلف ولا من الخلف يقول: إنه إذا وجد سبب يشرع وإذا لم يوجد لم يشرع؛ لأنه مثل الرمل، كان له سبب فلما زال سببه بقي سنة إلى يوم القيامة، ولذلك هذه سنة راشدة باقية، ومما يدل على ذلك أن هذا الأذان كان يحكم به العلماء رحمهم الله ولا يفرقون بين القرى الصغيرة والقرى الكبيرة ولا يفرقون بين ما يحتاج فيه الأذان الثاني أو لا يحتاج، إنما قالوا: هذا سنة، ويتعبد لله سبحانه وتعالى به ويُعمل به؛ لأن سواد الأمة الأعظم مشى على هذا، ولا يستطيع إنسان أن يشذ عن جماعة المسلمين أو يغيّر شيئاً مضت عليه السنة، خاصة في الأمور التعبدية: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [النساء:115]، فالإنسان إذا وجد سنة مضى عليها العمل لا يسعه إلا اتباع السلف والسير على منهجهم، فإن فصلوا فصلنا وإذا لم يفصلوا لا نفصل، فهو سنة باقية إلى قيام الساعة، كما أن الأذان الثاني باقٍ إلى قيام الساعة فإن هذا الأذان الذي أحدثه عثمان رضي الله عنه وأرضاه وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء سنة راشدة باقية. على هذا: الأذان الأول لا يتعلق به حكم، ولا يمنع فيه من البيع؛ لأن الآية نزلت في الأذان الثاني ولم تنزل في الأذان الأول، ولأنها لما نزلت في الأذان الثاني كان الوقت الذي بين الأذان الأول والثاني يشرع فيه البيع بظاهر النص والقرآن، فلما أُحْدِث الأذان الأول أُحْدِث في وقت مأذون بالبيع فيه بنص الآية الكريمة، فبقي الحكم على ذلك أنه يجوز أن يقع البيع بين الأذان الأول وبين الأذان الثاني، إنما يحرم البيع بشرط، وهذا الشرط أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله: (ممن تلزمه الجمعة). (تلزمه) أي: تجب عليه، وعلى هذا كأنه في هذا الوقت مطالبٌ بما هو آكد وألزم، يقول العلماء: من الأسباب التي منع الشرع بها البيع: أن يكون وقت البيع مستحقاً لما هو أهم، ويمثلون له بالبيع بعد الأذان الثاني، وقالوا: لأن هذا الوقت مستحق لما هو أهم وهو صلاة الجمعة، فكأنه حينما أوجب البيع وقال له: بعتك وقال: اشتريت، هو في هذه اللحظة مطالبٌ أن ينصرف إلى الصلاة وذكر الله لا إلى البيع، فوقع بيعه وشراؤه على وجه عصى الله عز وجل فيه. وقوله: (ممن تلزمه الجمعة) على هذا هناك صور يأثم فيها الطرفان، وصور لا يأثم فيها الطرفان، وصور يأثم فيها أحد الطرفين دون الآخر: فالصورة التي لا يأثم فيها الطرفان: كامرأة باعت لصبي، فإن الصبي لا تلزمه الجمعة والمرأة لا تلزمها الجمعة، أو امرأة باعت لامرأة فيصحّ البيع ولا إشكال في جوازه، فليس على النساء جمعة وليس عليهن جماعة، فلا يلزم الطرفين المضي إلى الجمعة، أو مسافر يبيع لمسافر، فإن المسافر لا تلزمه الجمعة. إذاً الشرط: أن يكون الطرفان ملزمان بالجمعة، فإن تعلق الإلزام بأحدهما أثم ذلك الذي تعلق به الإلزام، وبالنسبة للطرف الثاني فإنه إذا باعه وهو يعلم أنه ممن تلزمه الجمعة يأثم؛ لأنه يعينه على الإثم والعدوان، كامرأة تبيع

حكم النكاح وسائر العقود بعد أذان الجمعة الثاني

حكم النكاح وسائر العقود بعد أذان الجمعة الثاني [ويصحُّ النِّكاح وسائر العقود]. لأن الله سبحانه نهى عن البيع وحده ولم يسمِّ شيئاً غيره إذ لم يقل سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لا تتعاقدوا أو ذروا العقود)، إنما قال: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) فنهى سبحانه عن البيع وحده، وإذا خص النهي بشيء تعلق به وفُهم من ذلك أن ما عداه باقٍ على الأصل، فلو أن رجلاً قال لرجل وهما ماضيان للجمعة: زوجتك بنتي، قال: قبلت، وكان بحضور رجلين صحَّ العقد ولا يؤثر فيه كونه بعد النداء الثاني، وهكذا بقيّة العقود واختلف في الإجارة؛ لأن الإجارة تقاس على البيع في كثير من المسائل، والذي يقوى أن نفس المعنى الموجود في البيع موجود في الإجارة، فلو قال قائل بالتحريم لكان قوله من القوة بمكان.

الوسائل تأخذ حكم المقاصد

الوسائل تأخذ حكم المقاصد [ولا يصحُّ بيع عصيرٍ ممن يتخذه خمراً]. العصير يكون من الفواكه ونحوها من الثمار التي تعصر ويستخلص المائع منها، وهذا يشمل ما إذا كان من الفواكه وغير الفواكه. وهذه المسألة تعرف عند العلماء بسد الذرائع؛ والسبب في هذا: أن الله سبحانه وتعالى حرّم أموراً وحرّم الوسائل المفضية إليها، ومن هنا نجد العلماء يقولون بالقاعدة المعروفة: (الوسائل تأخذ حكم مقاصدها) والوسائل جمع وسيلة، والوسيلة: هي ما يتوصل بها إلى الشيء، فالسيارة وسيلة إلى بلوغ المسجد، فإن كان ركوبه من أجل أن يفعل واجباً فإنها طاعة وقربة، وإن كان ركوبه من أجل أن يفعل محرماً فإنها إثمٌ ووزر -والعياذ بالله-، فهناك مقاصد وهناك وسائل، والمقاصد في المنهيات كالجرائم: كالزنا، وشرب الخمر، والقتل -والعياذ بالله- أي: أنها نفس الحدود التي تقصد وتراد، وهناك أشياء يتوصل بها إلى هذا الحرام، فهذه الأشياء التي يتوصل بها إلى الحرام من زنا وشرب خمر وقتل -والعياذ بالله- تأخذ حكم مقاصدها، وعلى هذا جاءت نصوص الشريعة، ولذلك قال الله عز وجل: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31]، فلما صار ضرب المرأة برجلها حتى يسمع الصوت فتلتفت الأنظار إلى مصدر الصوت فكأنها تقصد النظر إليها، والنظر إلى المرأة يفضي إلى الحرام وهو الزنا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (العينان تزنيان وزناهما النظر)، فيحرم النظر إلى المرأة، والنظر ذاته ليس هو الجريمة، بل الجريمة هو الشيء الأعظم الذي هو الزنا، لكن النظر يهيئ ويهيج الشهوة والغريزة من أجل أن تقع في الحرام، فليس هو المقصود الأخير الذي من أجله حرّم الله سبحانه وتعالى النظر، وإنما هو وسيلة يتوصل بها إلى الحرام. وكالخلوة بالمرأة الأجنبية والجلوس معها فإن نفس الخلوة والجلوس معها بذاته ليس هو الجريمة لكن الجريمة الزنا؛ فإذا جلس معها دون رقيب ودون نظر من الناس ودون محرم فمعنى ذلك: أن نفسه تحدثه بالحرام ونفسها تحدثها -والعياذ بالله- بالحرام، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما خلا رجلٌ بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، وقال: (ألا لا يخلونّ رجلٌ بامرأة)، فنهى عن ذلك، والخلوة ليست هي الزنا بذاتها؛ لكنها وسيلة إلى الزنا، والسفر مع المرأة الأجنبية كذلك، فليس هو بذاته الزنا وليس بذاته فعل الحرام؛ لكنه إذا سافر معها تهيأت الأسباب مع وجود البواعث النفسية التي فُطر عليها الإنسان وجُبِل عليها من ميل الرجل للأنثى وميل الأنثى للرجل فحينئذٍ يقعان في المحظور، وكأننا إذا قلنا بالإذن لهما كأننا نهيئ السبب للوقوع في الحرام، فهذا كله يسمى في الشرع (الوسائل)، والوسائل تفضي إلى المحرمات، ثم هذه الوسائل كما قرر العلماء رحمهم الله تتفاوت درجاتها وآثامها على تفاوت مقاصدها في انتهاكها لحدود الله عز وجل، فالوسائل إلى الشرك أعظم من الوسائل إلى الزنا، والوسائل إلى الزنا أعظم من غيرها مما هو دونها من الجرائم. فإذاً: عندنا مقاصد وعندنا وسائل، ومن ما كُتب في هذه المسألة ما كتبه الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه النفيس: قواعد الأحكام ومصالح الأنام، فقد تكلّم كلاماً نفيساً على الوسائل، وأنها تأخذ حكم مقاصدها، وأنها تتفاوت بحسب تفاوت الدرجات، ولذلك نجد فعل السلف على هذا، فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما قطع الشجرة التي بايع الصحابة تحتها بيعة الرضوان، وهي البيعة التي أثنى الله على أهلها وشهد من فوق سبع سموات أنه اطّلع على قلوب الصحابة فوجد فيها حبّ الله وحبّ رسوله صلى الله عليه وسلم والصدق في العهد: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:18]، علم الخير والإيمان والصبر والثبات ونصرة الإسلام، فهذا المكان له شرف وله فضل من حيث الوصف، فلما مرّ عليها عمر أمر بقطعها، وقيل: إنه بعث من يقطعها. ما السبب؟ السبب في هذا أنه جاءت خلوف من بعد الصحابة رضوان الله عليهم خشي عمر أن يقول قائلهم: هذه الشجرة التي بايع تحتها الصحابة، فيصبحون يصلون عندها أو يتعلقون بها أو يتبركون بها أو يعتقدون الفضل في مكانها فقطعها، والقطع للشجرة إتلاف لها، وإتلاف الزروع والثمار والأشجار لا ينبغي إلا لوجود أمر هو أعظم من هذا الأمر، فنظر عمر رضي الله عنه إلى خوف الإفضاء إلى الشرك وخوف التعظيم الذي يفضي إلى العبادة فحينئذٍ سد الذريعة، وإذا أزيل هذا الأثر ليس هناك أمر مفروض سيزول؛ إنما هناك أمر عظيم وهو حق الله عز وجل الذي من أجله خلق الخلق سيستقيم وسيكون الناس في مأمن مما يلوثه ويدنسه من التعلق بغير الله عز وجل. إذاً هذه قاعدة: أن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها، فهنا العصير إذا كان الشخص يأخذ العنب فيعصره -والعياذ بالله- خمراً أو يأخذ التمر فينتبذه ويجعله نبيذاً إلى أن يصير خمراً، أو يأخذ أي شيء من الأشياء التي تعصر ويشتريها ثم يُصَنِّعْها خمراً، لا يجوز البيع له، وإن كان ذات البيع جائزاً من حيث الأصل، فالقضية ليست في البيع، إنما القضية أن البيع أصبح وسيلة إلى حرام، والوسيلة تأخذ حكم مقصدها، فلما كان مقصدها الحرام وكونك عندما تبيعه يعينه ذلك على الحرام أُمِرت أن تمتنع؛ لأنه من باب: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فواجب عليك أن تمنعه من الحرام، فإذا امتنعت من البيع له لم يستطع أن يعصر، وإذا امتنع الناس من بيع العنب لمن يعصره خمراً تعذّر عليه أن يُحْدِث الخمر وتعذر عليه أن يصنع الخمر، وفي حكم الطعام المُصنَّع بالآلات، فالآلات إذا اتخذت للحرام وكانت وسيلة إلى الحرام فإنه ينبغي المنع من الإعانة عليها بإعطائها أو بيعها أو إجارتها، وعليه فالوسائل تأخذ حكم مقاصدها، وقد جاء في الأثر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب ممن يتخذه خمراً)، وقال: (إنه إذا باعه فقد تقحم نار الله على بصيرة) والعياذ بالله! فعلى هذا لا يجوز للمسلم أن يبيع العصير ممن يتخذه خمراً. وفي حكم ذلك جميع الوسائل كما يقع في زماننا: فلو علم أنه يهرّب الحشيش، أو يهرّب المخدرات، أو يتخذ بيته للدعارة أو للفساد، فإنه يجب عليه في هذه الحالة أن يتعاطى أسباب الحفظ فيمتنع من إجارة البيت له، ويمتنع من إجارة السيارة له، ويمتنع من إعانته على هذا المحرم الذي يفضي إلى الإضرار بالناس والإضرار أيضاً بمن يأخذ ذلك المباح، فيتذرع به إلى الحرام. فالمقصود: أن المصنف رحمه الله شرع في بيان النهي بالوسائل، وهو أن البيع قد يحرم لكونه وسيلة إلى الحرام. قال رحمه الله: [ولا سلاح في فتنة]. أي: ولا يجوز بيع السلاح في الفتنة، وهذه نفس القضية، وهذا من باب التمثيل، فذكر أولاً العصير ممن يتخذه خمراً، ثم ثنى بالسلاح في الفتنة، فإذا وقعت فتنة بين المسلمين فتقاتلوا فحينئذٍ إذا بيع السلاح فإن معنى ذلك أنه سيستعين المسلم بهذا السلاح على قتل أخيه المسلم، فلو حدثت نعرة جاهلية بين طرفين -مثلاً- وتقاتلوا فجاء إنسان وباع السلاح لأحد الطرفين فإنه شريكٌ في الدم الذي يراق في هذه الفتنة جميعها، وكل ما ينشأ من سفكٍ لدم حرام بما باعه فإنه يكون شريكاً لصاحبه في الإثم والوزر -والعياذ بالله-، وهذا يدل على عمق الشريعة الإسلامية ومحافظتها على الناس، وأن القضية ليست قضية مادية، وأنه ينبغي أن ينظر إلى الدين أنه هو الأساس وأنه هو المعوّل، فلو قال قائل: نترك الناس يتبايعون، وأنا الذي يهمني أن أبيع، نقول: لا، الدين هو الأساس، فإذا أفضى الأمر إلى شيء فيه معصية لله ومعصية لرسوله صلى الله عليه وسلم وانتهاك لما حرّم الله فإنك شريكٌ في الإثم، والله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، فكأنه إذا باع السلاح لمن يقتل به إخوانه المسلمين فقد أعان على الإثم وهو سفك الدم الحرام، وأعان على العدوان؛ لأنه سفكٌ بدون حق، وهكذا بالنسبة لبقية الصور، فالعلماء يذكرون بيع العصير ممن يتخذه خمراً، والسلاح في الفتنة من باب التمثيل وقياس بقية الصور عليها، وانظروا إلى دقة المصنف رحمه الله في اختياره للمثالين، فقد يقول قائل: إن المثال الأول قد يغني عن المثال الآخر من جهة القاعدة، فنقول: في المثال الأول إذا نظرت إلى جريمة الخمر وجدتها اعتداء على العقل، فهي اعتداء من الإنسان على نفسه، ولكن السلاح في الفتنة اعتداء من الإنسان على غيره، وهذا يدل على فقه العلماء حتى في التمثيل، وقد كان العلماء يؤلفون في أزمنة أئمة فما يضعون مثالاً إلا بعد دراسة. وصحيح أن من شرب الخمر قد يقتل غيره -والعياذ بالله-؛ لكن نحن نتكلم على الأصل، وهو أن شارب الخمر في الأصل جنايته على نفسه، ولذلك يسميها العلماء: الجناية على العقول، فهي متعلقة في الأصل بالإنسان نفسه، ثم بعدما يجني على عقله يجني على الغير. فالمقصود: أن هذا التنويع في الأمثلة مقصودٌ من المصنف رحمه الله، ولم يأت من فراغ وعبث وإنما أراد أن يُنَظِّرَ به، فجعل الأول مثالاً للجناية القاصرة على الإنسان، والثاني مثالاً على الجناية المتعدية إلى الغير.

حكم بيع العبد المسلم للكافر

حكم بيع العبد المسلم للكافر قال رحمه الله: [ولا عبد مسلم لكافر إذا لم يعتق عليه]. ولا يجوز بيع العبد المسلم للكافر إذا لم يعتق عليه، فعندنا أصل وعندنا استثناء، فالأصل أنه لا يجوز بيع المسلم، وتعرفون أن الرقيق قد يكون مسلماً وقد يكون كافراً، فالرقيق الكافر ليس عندنا فيه إشكال؛ لأن أصل الرق الكفر، ولا يضرب الرق إلا بالكفر -كما قدمنا في الجهاد-، لكن إذا كان مسلماً كرجل أخذ في الأسر ثم بعد ذلك أسلم -وإذا أسلم فإنه يبقى رقيقاً؛ لأننا لو قلنا: إن كل من أسلم يزول عنه الرق ربما أسلموا لإزالة الرق عنهم- وأردت أن تبيعه فلا يجوز بيعه لكافر، ما السبب؟ أولاً: لأنه لا يجوز علو الكافر على المسلم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه)، فإذا بيع العبد المسلم لرجل كافر أو لامرأة كافرة فمعنى ذلك أنه أصبح عبداً لكافر فيعلو الكفر على الإسلام، ويصبح للكافر سلطان على المسلم يأمره فيأتمر وينهاه فينزجر. ثانياً: لأنه إذا بيع المسلم للكافر ربما فتنه في دينه فأكرهه حتى يكفر -والعياذ بالله- كما فعل أمية بن خلف لعنه الله في تعذيبه لـ بلال رضي الله عنه وأرضاه. فالمقصود: أن الرقيق إذا كان تحت الكافر فتنه في دينه، ومن هنا ندرك دقة الإسلام حينما أجاز زواج المسلم من الكافرة إذا كانت كتابية ولم يُجز أن ينكح الكافر المسلمة؛ لأنه إذا كانت الكافرة تحت المسلم كان الأمر للمسلم ولم يكن للكافرة، وحينئذٍ قد يكون قيامه عليها وتأثيره عليها سبباً في إسلامها، والعكس: فلو زُوِّجت المسلمة من كافر ولو كان كتابياً قد تغتر به وتحت ضغطه وقهره تصبح مفتونة في دينها فتكفر -والعياذ بالله! - فإذاً: مسألة بيع العبد المسلم للكافر هو خوف الذريعة وأن يفتنه في دينه، وأقل ما يكون وليس بقليل: أنه يعلو كعب الكافر على المسلم ويصبح الفضل للكافر على المسلم، ولا يجوز أن يُعلى كعب الكافر على المسلم ولا أن يُذلَّ المسلم للكافر. (إلاّ) هذا استثناء، (أن يعتق عليه) أي: إذا كان هذا الكافر ذا رحم من المسلم الذي سيباع بحيث إذا ملكه أعتقه، كأن يكون العبد والداً مسلماً يُباع لابنه الكافر، فإنه إذا ملك الابن أباه أعتقه، وعلى هذا يجوز؛ لأنه ستزول المفسدة ولا يفضي إلى الضرر الذي حرم الشرع من أجله بيع المسلم للكافر.

الحكم إذا أسلم العبد وهو عند كافر

الحكم إذا أسلم العبد وهو عند كافر قال رحمه الله: [وإن أسلم في يده أجبر على إزالة ملكه]. أي: إذا كنت تقرر أنه لا يجوز بيع المسلم للكافر، يرد Q لو أن كافراً ملك عبداً كافراً ثم أسلم هذا العبد الكافر، وفي القديم تعرفون أنه كان هناك أهل ذمة، وأهل الذمة يكونون تحت حكم المسلمين فكانوا يشترون العبيد ويملكونهم، فإذا اشترى عبداً كافراً ثم أسلم هذا العبد فمعنى ذلك: أنه سيبقى سلطان الكافر على المسلم. فيرد السؤال: هل التحريم يختص بالابتداء والإنشاء، أم يشمل حتى الاستدامة؟ فالمصنف ذهب إلى أنه يشمل حتى الاستدامة، فإذا أسلم العبد الكافر عند الكافر، صار عبداً مسلماً، فحينئذٍ لا يستديم العقد ونلزم الكافر ببيعه، ولا نظلم الكافر، وهذا يدل على سماحة الإسلام، فالإسلام لا يأمره بأن يعتقه؛ لأنه إذا اعتقه ظُلم؛ فلو كانت قيمة هذا العبد -مثلاً- ألف درهم أو دينار فهذه الألف ستضيع من ماله وهو يملكه، والإسلام يعطيه هذه الملكية، وهذا العبد هو ملك له، وإذا كان الذميون تحت حكم المسلمين فأموالهم محترمة؛ لأن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين -كما قدمنا في باب عقد الذمة وأحكامها-، فالإسلام جاء بالوسطية فلم يلزمه بالعتق خالياً عن العوض، ولم يبق المسلم تحت الكافر حتى لا يفتنه، وجاء بالوسط وقال له: يجب عليك بيعه، فيُلزم أن يبيعه، فإذا باعه بقيمته أنصفناه، فينتج أننا لم نجعل للكافر على المسلم ولاية، ورددنا للكافر حقه المالي، أمّا حقه الاعتباري أن يكون فوق المسلم فليس من حقه، فحرمناه من شيء ليس من حقه، وأعطينا العبد حقه حيث أزلنا الملكية مع رد القيمة إلى المالك الحقيقي وهو الكافر. قال رحمه الله: [ولا تكفي مُكاتبته]. تعرفون أن الرقيق يزال الملكية عنه بالعتق أو بالبيع أو بالمكاتبة، أمّا بالنسبة للعتق فكأن تعتقه كفارةً لقتل أو كفارةً لظهار أو كفارةً لجماع في نهار رمضان أو كفارةً ليمين أو نحو ذلك من الكفارات، أو تعتقه لوجه الله عز وجل، فيزول ملكك عنه ويبقى الولاء، وتارة تبيعه فإذا بعته للغير فإنه تنتقل الملكية منك إلى الغير وتصبح يدك خلواً عن ملكيته. كذلك هناك حالة ثالثة: وهي أن يشتري العبدُ نفسه. فإذاً هذه ثلاثة أشياء: أولاً: أن تعتقه أداءً لفرض واجب أو التماساً لمرضاة الله عز وجل. ثانياً: أن تبيعه. ثالثاً: أن يشتري العبدُ نفسه منك. فهذه ثلاثة أحوال لإزالة الملكية عن العبد، فإن قلنا: إن العبد إذا أسلم تحت كافر تجب إزالة الملكية ولا نستطيع أن نلزمه بالعتق؛ لأن هذا يضره، فيبقى الأمران: وقد قلنا: يلزم ببيعه ويقهر ويفرض عليه البيع؛ لكن يبيعه لمسلم ولا يجوز أن يبيعه لكافر. يبقى النظر: لو أن هذا العبد المسلم أراد أن يشتري نفسه نقول: لا تكفي مكاتبته، لماذا؟ لأنه قد يعجز عن الكتابة فيعود الأمر إلى ما كان، وكذلك يبقى طيلة أوقات الكتابة وأنجم الكتابة تحت القهر والعبودية، لأنكم تعلمون أنه لو كاتبه -مثلاً- باثني عشر ألفاً وكل شهر يدفع له ألفاً، فمعنى ذلك أنه سيبقى رقيقاً سنة كاملة، فإذاً: لماذا قال: لا تكفي مكاتبته؟ لأنه طيلة فترة المكاتبة سيبقى عبداً، أو قد يعجز ولن نمكنه أن يكون ذليلاً تحت الكافر لحظة واحدة، فنقول له: الآن تبيعه إلى مسلم، وحينئذٍ يقوم مسلم بشرائه، أو يُشترى لبيت مال المسلمين، على حسب الأحوال والمقتضيات التي يمكن معها تحقيق مقصود الشرع من إزالة ملك هذا الكافر عنه.

حكم الجمع بين البيع والكتابة وبين البيع والصرف في عقد واحد

حكم الجمع بين البيع والكتابة وبين البيع والصرف في عقد واحد قال رحمه الله: [وإن جمع بين بيعٍ وكتابةٍ، أو بيع وصرف، صح في غير الكتابة، ويُقسَّط العوض عليهما]. قوله: (وإن جمع بين بيع وكتابة). هذا أيضاً من البيوع المنهي عنها، وهو الصفقتان في صفقة واحدة، وهي في حكم البيعتين في بيعة واحدة؛ والسبب في هذا: أن الصفقات إذا دمجت مع بعضها كأن بعضها قام على بعض، فإذا حصل العيب في البعض يرد الإشكال والخصومة بين الناس، فالعقود التي تقوم على التداخل مثل أن يقول: أؤجرك السيارة سنة وتشتريها بعد سنة، أو خذ السيارة هذه ثلاث سنوات تدفع أجرتها ثم أبيعكها بكذا، فهذا التداخل يوجب الفتنة ويوجب الشحناء إذا تغيرت المبيعات أو حصل عيب في أحد العقدين أو خلل في أحد العقدين، فيسري الفساد إلى العقد الآخر، وهذا يدل على دقة منهج الشريعة، كأننا حينما نقرر الشروط والصفات التي ينبغي على المتعاقدين أن يتنبها لها في العقد فنحن بهذا نمهد للقاضي فصله بين الخصومات، ولذلك لو أُذن بالبيوعات مطلقاً لكثرت الخصومات عند القاضي، لكن حينما يقال للناس: اجتنبوا كذا وافعلوا كذا، فهذا ييسر للقاضي مهمته وييسر للمفتي فتواه، ولذلك تكون عقود البيع واضحة والحقوق واضحة وتفصل الحقوق على وجه بيِّن، لكن لو أدخلت ثلاثة عقود في عقد واحد كيف يفصل القاضي بين المتخاصمين؟ وكيف ينصف الخصم من خصمه؟ فهذا العقد مركب على هذا العقد، فإن جئت تفسد هذا العقد لأنه فاسد فالفساد في الأول وليس في الثاني أو في الثاني وليس في الأول. فهذا نوع من الدقة في المنهج، وينبني عليه حفظ وصيانة العقود الشرعية مما يفضي إلى الخصومات والنزاعات، فلا يجوز أن يجمع بين البيع والكتابة، كأن يقول لعبده: كاتبتك سنة باثني عشر ألف ريال وبعت عليك بيتي بخمسمائة ألف، فجمع بين البيع والكتابة، والمكاتب ملك لسيده حتى يعتق بالكتابة، فحينئذٍ كأنه يبيع لنفسه ويبيع لغيره، وهذا من تداخل العقود -كما ذكرنا-، وتداخل العقود قاعدته في المنع الغرر، ولذلك يعتبر من البيوع المحرمة التي نهُي عنها من باب الغرر، ولكونها تفضي إلى الخصومات والنزاعات، ومن هنا: لا يجوز الجمع بين البيع والكتابة؛ لأن البيع والكتابة بيعتان في بيعة، باعه نفسه واشتراها وباعه بيعة ثانية، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة. قوله: [أو بيعٍ وصرفٍ]. يجوز الجمع بين البيع والصرف، والبيع والصرف موجود إلى زماننا هذا، تأتي مثلاً إلى صاحب البقالة وتشتري من عنده بعشرة ريالات فتعطيه خمسين ريالاً، فإذا أعطيته الخمسين فمعنى ذلك أن هناك بيعاً: وهي العشرة في مقابل الطعام الذي اشتريته، والأربعون الباقية سيعطيك بدلاً عنها الصرف، وهي الأربعون المتبقية من رأس المال الذي هو الخمسون، فحينئذٍ جمعت بين البيع والصرف، والجمع بين البيع والصرف مرخص فيه بشرط: ألا تفارقه حتى تقبض؛ لأنك إذا صرفت الذهب بالذهب والفضة بالفضة فلابد أن يكون يداً بيد، فلو أنك اشتريت بعشرة وبقيت أربعون من الخمسين فقال لك: اترك الباقي عندي، أو قلت له: سآتيك بعد ساعة أو بعد نصف ساعة، أو أخذ الخمسين منك وذهب للصرف دون أن يستأذنك وقع ربا النسيئة، فينبغي أن يتنبه لهذا. وسيأتينا في باب الربا ما يسمى بربا النسيئة وربا الفضل، وهناك أصناف تسمى الأصناف الربوية وهي: الذهب والفضة والبر والتمر والشعير والملح، وهي الستة المنصوص عليها، وهناك أصناف مقيسة عليها، فهذه الأصناف الربوية يجري فيها ربا الفضل وربا النسيئة، فربا النسيئة يقول لك الشرع: إذا أعطيت هذا في مقابل هذا تعطي بيد وتأخذ بالأخرى، فإن أعطيته وأخّر في الإعطاء وافترقتما ولم يعطك وقع ربا النسيئة وهو التأخير، فهناك أشياء حرم عليك الشرع أن تؤخر قبضها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر حينما قال له: (إنه يبيع الإبل بالدراهم ويقتضي بالدنانير، قال: لا يحلّ لك أن تفارقه وبينكما شيء)؛ لأنه صَرَفَ الدنانير بالدراهم، وعلى هذا إذا صرفت الفضة بالفضة أو الذهب بالذهب أو الفضة بالذهب ينبغي أن يكون يداً بيد، فلو أعطيته خمسين ريالاً فإن أصلها فضة، فينبغي أن تُعطي وتأخذ في نفس مجلس العقد، فلو قال لك: ليس عندي صرف، فلو تأتيني بعد يوم، أو بعد ساعة، أو في أي وقت تأتيني أعطيك الباقي، فهذا يعتبر من الربا المحرم من جهة النسيئة وهو أشد نوعي الربا، وعلى هذا فلو أنه صرف المائة أو الخمسين ينبغي أن يعطيه بيد ويأخذ بأخرى، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (الذهب بالذهب رباً إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة رباً إلا هاء وهاء)، فاشترط عليه الصلاة والسلام أن يقبض بيد وأن يعطي بالأخرى، ويستثنى من هذا إذا قلت له: اذهب واصرف، أي: لو أن إنساناً جاء إلى محطة (البنزين) وعبأ بعشرة ريالات وأعطاه خمسين ريالاً وبقيت أربعون فقال لك: لا يوجد لدي صرف، تقول له: اذهب واصرف، فإذا قلت له: اذهب واصرف فقد وكلته بالصرف، فيذهب ويصرف ثم يعطيك ما تبقى لك، وهذا يعتبر وكالة منفصلة عن البيع الذي بينكما؛ لأنه لم يصرف من نفسه، وأما لو بقيت لك أربعون فقال لك: أعطيك الآن عشرين وأعطيك الباقي فيما بعد، تقول: لا، إمّا أن تعطيني الصرف كاملاً، أو يكون المبلغ الذي اشتريت به ديناً عليّ تسجله وأعطيك إياه في وقت ثانٍ. وكان بعض العلماء يقول: إن الرجل قد يشيب عارضاه في الإسلام وهو يتبايع بالربا صباحَ مساءَ وهو لا يدري، وكثير من الناس يقع في هذه الأشياء وهو لا يدري، فينبغي التنبيه على مسألة ربا النسيئة فيجب أن يشترط في الذهب بالذهب والفضة بالفضة أن يكون الصرف يداً بيد، فإذا اشتريت سلعة وبقي الباقي صار عقد بيع وصرف، بيع لقيمة السلعة التي تشتريها، وصرف بالنسبة للباقي، فينبغي أن يعطيك الباقي كاملاً. أما لماذا يشدّد الشرع في مسألة الصرف؟ فهذا سنتكلم عليه إن شاء الله في باب الربا، لكن من حكمة الله عز وجل أنك إذا جئت تصرف لابد أن يعطيك يداً بيد من أجل الحقوق، ولذلك يظهر لنا في مثل هذا سماحة الشريعة حينما تحفظ للناس حقوقهم من حيث لا يشعرون، فإذا جئت إلى بقالة أو جئت -مثلاً- إلى محل تريد أن تشتري من عنده بعشرة ودفعت له مائة ربما أخذ المائة منك ورماها في الصندوق فإذا قلت له: (أعطني الباقي)، قال: (أي باقي)، فينكر ويقول: لم آخذ منك شيئاً، وربما قال: هذه أربعون، تقول له: أعطيتك مائة والباقي تسعون، يقول: لا، أنت أعطيتني خمسين؛ لكن إذا كنت تعطي بيد وتأخذ بيد فحقك مضمون، والشريعة لا تريد أن يختل أحد أحداً أو يضر بأحد؛ لأنه ليس من العدل أن تدفع المائة ثم يظلمك ويقول: (ما أعطيتني) فهو بشر، وقد لا يقصد ذلك، وإذا رمى بخمسمائة ريال في الصندوق فكيف تثبت أنه أخذ منك خمسمائة، فالناس كلهم مشغولون عند الزحام، وهذا يقع، فالشريعة تحتاط للناس في حقوقهم، فإذا دفعت الخمسمائة وبقي لك الباقي تأخذ بيد وتعطي بأخرى، لماذا؟ لأنك تضمن حقك فلا تظلم ولا تُظلم، فإن أخذ منك ورماها ثم بعد ذلك قال: كم أعطيتني؟ حينئذٍ يقع الضرر فتذهب حقوق الناس ويختلون في حقوقهم المالية، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم في حديث عمر في الصحيح: (الذهب بالذهب رباً -أي حرام- إلا هاء وهاء) (هاء وهاء) مثل قولك: (هه)، لما تعطي فيقول هو: (هه)، هذا هو معنى قوله: (هاء وهاء) أي: تعطي بيد وتأخذ باليد الأخرى، وعلى هذا فيجوز الجمع بين البيع والصرف إذا كان يداً بيد بالشرط المعتبر في الأصناف الربوية. قال: [صحّ في غير الكتابة]. وهو البيع والصرف، ولكن الكتابة لا يصحُّ الجمع بينها وبين البيع كما ذكرنا. قال: [ويُقسَّط العوض عليهما]. إذا حصل الفساد وقلنا: لا يصحُّ الجمع بين الكتابة والبيع يقسط العوض عليهما على حسب قيمة الكتابة من السلعة المبيعة، لو قال له: أبيعك داري وأكاتبك باثني عشر ألفاً، فدمجهما في صفقة واحدة صحّ في الكتابة بقسطها وبحقها، وهذا من باب التفريق بين الصفقتين كما ذكرنا في المجلس الماضي.

حكم البيع على بيع المسلم والشراء على شرائه

حكم البيع على بيع المسلم والشراء على شرائه قال رحمه الله: [ويحرم بيعه على بيعِ أخيه: كأن يقول لمن اشترى سلعةً بعشرةٍ: أنا أعطيك مثلها بتسعةٍ]. هذا نوع من البيوع التي حرمها الله عز وجل وهو بيع المسلم على بيع أخيه، وهذا النوع من البيوع الأصل في تحريمه قوله عليه الصلاة والسلام: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض) فقوله: (ولا يبع) نهي، وفي رواية: (ولا يبع أحدكم على بيع أخيه) وهو: أن تعرض سلعة في مقابل سلعة عرضها أخوك، وحينئذٍ لابد من التفصيل: فإذا جاء أخوك ليشتري سلعة من جارك وعندك نفس السلعة، فلا تخلو المسألة من أحوال: الحالة الأولى: أن يتفق الطرفان على السلعة وعلى القيمة. الحالة الثانية: ألا يتفقا ولا يرضى المشتري بالقيمة ولا يتراكنا ولا يوجبا البيع. ففي الحالة الأولى وهي إذا تراكنا، فمثلاً قال له: بكم هذا الثوب؟ قال: بمائة، فرغبه المشتري وجلس يقلّبه قال: (لم لا تجعله بتسعين؟) قال: (لا بمائة)، قال: (بخمسة وتسعين)، قال: (بمائة)، قال هذا: (الثوب أعجبني)، فإذا جئت في هذه الحالة وقد تراكنا، أي: كاد أن يميل أحدهما للآخر، أو قال له: رضيت؛ لكن لم يفترقا حتى يتم البيع وقلت له: عندي ثوب مثله بتسعين أو بخمسة وتسعين، أو أنا أبيعك بأقلّ مما باعك جاري، فهذا مما حرّمه الله ورسوله؛ والسبب في هذا: أن البيع صار وسيلة لقطع أواصر الأخوة بين المسلمين، وهذا من الإضرار، ويجعل العلماء هذا الحديث وهذا الحكم مندرجاً تحت قاعدة: (الضرر يزال)، وليس من حقك أن تُضِرَّ بأخيك المسلم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث: (لا ضرر ولا ضرار)، فلا يرضى الإنسان لنفسه أن يُضَر من أخيه المسلم، وكذلك أيضاً لا يجوز له أن يضر بأخيه المسلم، وعلى هذا لا يجوز بيع المسلم على بيع أخيه لما ذكرناه. وهذا بالنسبة لحالة التراكن. لكن لو قال له: أبيعك هذا الثوب بمائة أو بعشرة -كما تقدم-، فقال المشتري: لا أريد، فقلت أنت: أبيعك ثوبي بتسعة أو بتسعة ونصف أو بثمانية صح؛ لأنه قال: لا أريد، فانصرف عن البيعة الأولى وانصرفت همته عن البائع الأول، فصرت أنت وإياه على حد سواء، ولا بأس في هذه الحالة أن تبيع وتعرض سلعتك؛ لأنه مأذون لك بالبيع إعمالاً للأصل. قال رحمه الله: [وشراؤه على شرائه: كأن يقول لمن باعَ سلعةً بتسعةٍ: عندي فيها عشرةً]. كما لا يجوز بيع المسلم على بيع أخيه كذلك لا يجوز شراؤه على شراء أخيه، أي: يسوم على سوم أخيه المسلم فمثلاً: هناك عمارة أو أرض عرضها رجل للبيع، ولما عرضها جاء الناس يشترون ويسومون، فالسوم لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تعرض العمارة أو الأرض ويترك الخيار للجميع يسومون ويزيدون، مثل بيع المزايدة أو ما يقع في حراج السيارات من عرض السيارات للمزايدة، فيجوز لك في هذه الحالة أن تزيد الثمن على أخيك؛ لأنه بيع مزايدة، ولم يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حرم بيع المزايدة. وهناك حديث ضعيف: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المزايدة)، لكنه حديث ردّه العلماء، وممن ضعفه الإمام البخاري رحمه الله، لكن يكون الإشكال إذا حصل البت بين البائع والشاري فيأتي آخر ويقطع بينهما، فلو عرضت السيارة مثلاً في الحراج وثبت السعر والمزاد، فلا يجوز لك أن تأتي وتقطع ما بين الطرفين، أي: إذا بتا ورضيا على أن السيارة تباع بعشرة آلاف فقد سام أخوك بعشرة آلاف ورضي البائع بيعها بعشرة آلاف، فلا يجوز في هذه الحالة أن تقول: أعطيك فيها خمسة عشر أعطيك فيها أحد عشر أعطيك فيها اثني عشر؛ لأنك سمت على سوم أخيك بعد التراكن، فبعد ركون البائع للمشتري وحصول الطمأنينة في الثمن لا يجوز أن تسوم على سوم أخيك، وعلى هذا حمل قوله: (ولا يَسِمُ المسلم على سوم أخيه)، (نهى أن يسوم الرجل على سوم أخيه)، أي: أخيه المسلم. يبقى السؤال بالنسبة للذمي الكافر: فلو أن كافراً عرض سلعته بمائة وأنت سلعتك عرضتها بتسعين، وجاء رجل يريد أن يشتري من الكافر فقلت له: أنا عندي نفس السلعة بتسعين فظاهر الحديث تحريم بيع المسلم على بيع أخيه، وهذا مفهومه أنه إذا كان كافراً وليس من إخوانه -كما يقوله بعض العلماء- أنه يجوز أن يبيع على بيعه، وأن يسوم على سومه. قال رحمه الله: [ليفسخَ ويعقد معه، ويبطل العقد فيهما]. أي: ليفسخ البائع الثاني بيع الأول ويعقد معه على سلعته وصفقته واللام للتعليل أي: من أجل أن يفسخ، ومراده بقوله (ليفسخ) أي: يفسخ البيعة الأولى لأخيه المسلم، أو من أجل أن يفسخ بالسوم الثاني السوم الأول، وهذا يدل على أن السوم الأول قد ثبت؛ لأنه قال: يفسخ، معناه: أنه إذا كان أثناء المزايدة وأثناء العرض أنه لا بأس به، فخِطْبة الرجل على خِطْبة أخيه المسلم، وبيعه على بيع أخيه المسلم، وشراؤه على شراء أخيه المسلم كله محرم، وشرطه إذا حصل التراكن، لكن لو أنهما امتنعا عن إتمام العقد فيجوز للثالث أن ينشئ عقداً جديداً، كما لو أن تقدم لها رجل فلم ترضه أو امتنعت فتجوز خطبة الثاني؛ لأنها لم ترض بالأول، وهكذا إذا لم ترغبه ولم تبت فيه ولم يحصل التراكن يجوز خطبة الثاني، لما ثبت في الصحيح من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: (يا رسول الله! إن معاوية بن أبي سفيان وأبا الجهم قد خطباني، فقال صلى الله عليه وسلم: أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو الجهم فرجل لا يضع العصا عن عاتقه، انكحي أسامة)، فأمرها صلى الله عليه وسلم بنكاح الثالث، وهذا يفسر معنى قوله: (لا يبع على بيعه، ولا يخطب على خطبته) وهذا يكون في حالة التراكن والميل، أمّا إذا كان السوق سوق عرض، فقام أحدهم يصيح: بعشرة، والثاني يصيح: بتسعة، والثالث يصيح: بثمانية، فهذه أسواق المسلمين كلٌ يبيع سلعته ويعرض، ويصبح التنافس تنافساً شريفاً أو يكتب على محله السلعة بكذا، أو البضاعة الفلانية بكذا، فهذا تنافس شريف لا إشكال فيه. فلما قال: (ليفسخ) دل على أن العقد الأول أوجب وتراكنا مع بعضهما، وأن الثاني دخل على الأول إمّا بيعاً وإمّا شراء ففي كلتا الحالتين يحرم، وهكذا بالنسبة للخطبة على الخطبة، كما سيأتي إن شاء الله في باب النكاح. قال: [ويبطل العقد فيهما]. اختلف العلماء إذا باع على بيع أخيه أو سام على سوم أخيه فقال بعض العلماء: البيع الثاني باطل، كما هو مذهب الحنابلة والظاهرية وطائفة من أهل الحديث. وقال جمهور العلماء: البيع الثاني صحيح، ولكنه يأثم ببيعه على بيع أخيه المسلم؛ لأن أركان البيع وشروطه تامة، وهذا ما يسمى بمسألة: هل النهي يقتضي فساد المنهي عنه؟ والصحيح -كما ذكرنا غير مرة-: أن النهي إذا لم يرجع إلى ذات المنهي عنه فلا يقتضي الفساد، وأن هذا يعتبر من باب انفكاك الجهة، فنقول: البيع صحيح؛ لأنه اشترى بالقيمة من مالك حقيقي برضا الطرفين في شيء معلوم وتوفرت شروط صحة البيع، فالبيع صحيح ومأمور بإتمامه؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، لكن كونه أساء إلى أخيه المسلم وظلمه بالدخول عليه فهو آثم بهذا الفعل، وعلى هذا لا يحكم بفساد الصفقة الثانية، وهذا هو الصحيح.

البيوع التي تفضي إلى الربا

البيوع التي تفضي إلى الربا قال رحمه الله: [ومن باع ربوياً بنسيئة واعتاض عن ثمنه ما لا يباع به نسيئة، أو اشترى شيئاً نقداً بدون ما باع به نسيئة لا بالعكس لم يجز]. قوله: [ومن باع ربوياً بنسيئة]. ذكر المصنف رحمه الله صورة من الصور التي يحرم فيها البيع لاشتماله على ما يفضي إلى الأمر المحرم وهو الربا، وصورة ذلك أن يبيع الطعام مثلاً بالنقد ثم يعتاض عنه بالطعام، والسبب في ذلك: أن الأصناف الربوية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما يحرم فيه التفاضل والنَّساء. القسم الثاني: ما يحرم فيه النَّساء ويجوز فيه التفاضل. القسم الثالث: ما يجوز فيه الأمران. والأصل في ذلك حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مِثْلاً بمِثْل يداً بيد) فهذه الأشياء الستة التي اشتمل عليها حديث أبي الوليد عبادة بن الصامت رضي الله عنه تسمى عند العلماء بالأصناف الربوية الستة، وهي تنقسم إلى الثلاثة الأقسام: فهناك ما يجب فيه التماثل والتقابض، كبيع ذهب بذهب وفضة بفضة، كأن يباع واحد من هذه الأصناف الستة بمثله، كبيع ذهب بذهب أو فضة بفضة أو بر ببر. إلى آخره، فيجب التماثل، فتبيع الكيلو الذهب بالكيلو الذهب، ويجب التقابض، يعطيك وتعطيه قبل أن تفترقا من المجلس، فهذا بالنسبة للنوع الأول. النوع الثاني: ما يجوز فيه التفاضل ولا يجوز فيه النَّساء، وذلك بمقابلة واحد من هذه الأصناف بواحد من جنسه، مع اختلافٍ في الصنف، كبيع الذهب بالفضة، فإنك إذا بعت الذهب بالفضة يجوز التفاضل، فتبيع الكيلو من الفضة بنصف كيلو من الذهب، ويجوز أن تبيع المائة غرام من الذهب بثلاثمائة غرام من الفضة، فلا يشترط التماثل؛ لكن يجب أن تعطيه ويعطيك في نفس المجلس، فلو اشتريت الذهب بالريالات الموجودة الآن وافترقتما قبل أن يقبض منك فحينئذٍ يكون الربا المحرم، وهو ربا النسيئة، كذلك لو بعت براً بشعير أو بعت تمراً بملح، فإنه يجوز أن تبيع الصاع بالصاعين وتفاضل في الوزن والكيل؛ ولكن يجب أن يكون يداً بيد. فلو باعه مائة صاع من التمر بألف ريال إلى أجل ما، فلما حضر الأجل قال له: ليست عندي المائة ريال؛ ولكن خذ بدل مائة صاع من تمر مائة صاع من شعير أو مائة صاع من بر، فإنَّ بيع الشعير بالتمر لا يجوز إلا يداً بيد، قالوا: فلو قَبِل منه الطعام عوضاً عن الذهب في هذه اللحظة لصار كأنه باع التمر الذي باعه أولاً بالمطعوم الثاني وهو البر؛ ولكن نسيئةً وهو أجل الدين الذي وقع بينهما. توضيح ذلك: جاء رجل إلى أخيه فقال له: بعني هذه المائة صاع. قال: بألف. قال: أشتريها منك بألف إلى نهاية الشهر أو إلى نهاية الأسبوع، فتم البيع وأوجبه، فيجوز أن تدفع الذهب لقاء التمر مؤجلاً، فلا بأس فيه، وأن تشتري بالفضة مؤجلاً أو بالذهب مؤجلاً ما دام أنه طعام لقاء الثمن؛ لأن الجنسين مختلفان، ففي هذه الحالة إذا باعه التمر نسيئةً بنقد من ذهب أو فضة جاز، فلو جاء وقت السداد وأراد أن يحوله من الذهب أو الفضة إلى طعام، فقد حوَّله إلى صنفٍ ربوي لا يجوز أن يبيع التمر به نسيئة؛ لأن البيع الأول الذي وقع بينهما لم يقع يداً بيد وإنما وقع بنسيئة، فلو قبل منه الطعام في ذلك الوقت -أعني: في المراضاة الثانية- فقد صار الأمر كأنه قد باع الطعام بالشعير نسيئةً، وهذا معنى قوله: [واعتاض عن ثمنه بما لا يباع به نسيئة]. أما لو اشتريت بالذهب وقلت له: أعطني مائة صاع بنصف كيلو من الذهب، قال: قبلت، قلت: أعطيك النصف كيلو من الذهب في نهاية الشهر، فلما انتهى الشهر قلت: ليس عندي ذهب؛ لكن أصرف لك بمثله فضةً، جاز إذا كان يداً بيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكى له ابن عمر أنه يبيع الإبل بالذهب ويبيع بالدراهم ويأخذ الدنانير قال: (لا يحل لك أن تفارقه وبينكما شيء) فأجاز له النبي صلى الله عليه وسلم صرف الذهب بالفضة؛ لكن بشرط أن يكون ذلك في مجلس العقد، هذا معنى العبارة، وحينئذٍ يكون هذا النوع من البيع من بيوع الذرائع الربوية؛ لأن الربا ينقسم إلى قسمين: الربا المحض، والذي هو الأصل، سواءً كان من الأصناف المنصوص عليها أو المقيسة. والربا الذي هو ذريعة، بمعنى: أن البيع يئول إلى الربا، وهذا كله إن شاء الله سنبسطه في باب الربا، نسأل الله التيسير، وأن يبلغنا ذلك.

بيع العينة

بيع العينة قال رحمه الله: [أو اشترى شيئاً نقداً بدون ما باع به نسيئة] هذا بيع العينة (اشترى نقداً بدون ما باع به نسيئة)، فمثلاً باع رجل سيارةً إلى نهاية السنة بخمسين ألفاً وقيمتها نقداً بأربعين، فلما تم البيع إلى نهاية السنة جاء البائع وقال له: أنا أشتريها منك نقداً بأربعين، فأعطاه الأربعين فكأنه عاوضه عن الخمسين التي سيدفعها في نهاية السنة بأربعين نقداً وألغيت صورة البيع، وهذا ما يسمى ببيع العينة، وهو الذي ورد فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع واتبعتم أذناب البقر سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم) وهذا النوع من البيع جمهور العلماء على تحريمه، وهو يدل على أن الشريعة تنظر إلى حقيقة الأمر، فهنا عندنا صفقة وهي السيارة، فلو جئت واشتريت سيارة بخمسين ألفاً إلى نهاية السنة، فقد ثبت له عليَّ إلى نهاية السنة خمسون، فجاءني وقال: أعطيك أربعين ثمناً للسيارة، والسيارة فعلاً تستحق الخمسين إذا كانت إلى أجل وتستحق الأربعين إذا كانت نقداً، فأعطاني الأربعين، وأعطيته الخمسين وظاهر هذا ليس فيه ظلم، فهو لم يظلمني ولم أظلمه؛ لأن السيارة قيمتها حاضرة بأربعين وقيمتها إلى أجل بخمسين، لكن الأمر في الحقيقة آل إلى أني أخذت الأربعين لقاء الخمسين التي سأدفعها مقسطة أو أدفعها نقداً في نهاية السنة، وهذا عين الربا. وعلى هذا فالربا منه ما هو ذريعة مثل الذي معنا، فإن صورة المسألة صحيحة؛ لأنك لو تأملت بيع العينة في الظاهر هو أنك تبيع السيارة بخمسين إلى نهاية السنة وتأخذ عنها أربعين نقداً فهذا ليس فيه إشكال؛ لكن الشريعة تنظر إلى ما آل إليه الأمر وهو أن اليد التي أخذت منها بخمسين وعاوضتك بالأربعين هي يد واحدة، فلو كانت مختلفة كأن تشتري من المعرض بخمسين ثم تذهب تبيعها نقداً بأربعين فلا بأس، وهذا سنبينه إن شاء الله. وبناءً على ذلك: نفهم أن الشريعة قد تلغي صورة العقد إذا آل إلى الحرام، كما لو جئت مثلاً إلى مؤسسة وقلت له: أريد أن أشتري أثاث الزواج أو سيارة وذهبت وحددت السلعة وأتيت بفواتيرها أو كشوفها على أن يقوم الطرف الثاني بشرائها لك، فإن حقيقة الأمر في الظاهر حينما ترى أنه اشترى ثم حاز ثم باع إليك، ليس هناك شيء، لكن في الحقيقة كأنه دفع عنك المائة من أجل أن يقسطها عليك مائة وخمسين، فبدل أن يقول لك: خذ مائة ألف وردها مائة وخمسين، قال لك: أدفعها مائة ألف قيمة الأثاث أو غيره، وتدفعها أنت مائة وخمسين ألفاً، فآل الأمر في حقيقته إلى معاوضة على جهة الربا أعني: ربا التفاضل والنسيئة. وعليه فإننا ننظر إلى حقيقة العقود؛ لأن المؤسسة حينما اشترت لم تشتر لنفسها، هذا أول شيء، ثانياً: أنها لم تشتر قبل أن يأتي هذا الرجل ويحدد لها السلعة ويأتيها بفواتيرها بل ويحدد لها المكان الذي تشتري منه، أو هي تحدد له المكان الذي يشتري منه، إذاً ليس هناك إطلاق لليد، ولو كان البيع على ثمنه وحقيقته لاشترته المؤسسة وأوجدت ذلك في مخازنها أو مستودعاتها ثم عاوضت مفاضلة وزيادة ولا بأس، لكن حينما يأتي المشتري ويقول: أريد السلعة الفلانية أو أريد السيارة الفلانية أو أريد المتاع الفلاني ويحدده ويحدد المكان الذي يشتري منه، ثم يقوم أو تقوم المؤسسة بالدفع عنه نقداً كانت حقيقة الأمر بدل أن يقول له: خذ المائة وردها بزيادة قال: سندفع المائة عنك على أن تردها بالزيادة، وعلى هذا فإننا لا ننظر إلى ظاهر الشيء دون أن ننظر إلى حقيقة ما فيه أو إلى ما يئول إليه أمره، وهو ما يسمى ببيوع الذرائع الربوية. قال: (أو اشترى شيئاً نقداً بدون -أي: بأقل- ما باع منه نسيئة -الذي هو بيع العينة- لا بالعكس) فمثلاً: لو باعه نسيئة بخمسين وأخذ منه نقداً أربعين صار كأنها أربعين في مقابل خمسين؛ لكن لو أنه اشتراها نقداً بنفس الثمن الذي سيدفعها الآخر نسيئة فلا بأس، وهذا مذهب بعض العلماء، قالوا: لأن حقيقة الأمر لم يفاضله في النقد، أي: لو جئت تنظر لوجدت أن الخمسين في مقابل الخمسين فصارت كالدين، والدين يجوز إذا كان المبلغ الذي سيرده هو نفسه الذي أخذه فقالوا: في هذه الحالة تنتفي شبهة الربا فيجوز العقد ولا بأس بهذا النوع من البيع. قال رحمه الله: [وإن اشتراه بغير جنسه أو بعد قبض ثمنه أو بعد تغير صفته أو من غير مشتريه أو اشتراه أبوه أو ابنه جاز]. وإن اشترى السلعة بغير جنسها، والأجناس عندنا جنسان: جنس أثمان، وجنس مطعومات، أو الأثمان والمثمونات، والمثمونات تشمل الأطعمة والعقارات والمنقولات الأخرى، فلو أنه باعه السيارة نسيئة إلى نهاية العام بمائة ألف ثم اشتراها منه ببيت أو بأرض فحينئذٍ لا توجد شبهة الربا؛ لأنه لا يئول الأمر إلى مبادلة أربعين بخمسين، وإنما آل الأمر إلى إدخال عين يجوز فيها التفاضل؛ لأن وجه التحريم وجود التفاضل بين الأربعين والخمسين؛ فإذا كان الذي اعتاض عنه وأدخله ثمناً مما يجوز فيه التفاضل حينئذٍ لا حرمة والأمر جائز. توضيح ذلك: قلنا: لو باعه سيارة بخمسين إلى نهاية السنة فهذا بيع الأجل، واشتراها منه بأربعين نقداً، فآلت الحقيقة إلى أن الأربعين في مقابل الخمسين، وهذا لا يجوز؛ لأنه ربا الفضل، أما لو أنه اعتاض في البيع الثاني أي: جعل الثمن في البيع الثاني أرضاً أو سيارة فإن الثمن حينئذٍ خرج عن جنس الربويات التي يحرم فيها التفاضل، فيجوز حينئذٍ أن يقول له: هذه السيارة أشتريها منك بأرضية، أو أشتريها منك ببيتي، أو بمزرعتي؛ لأنه حينئذٍ يجوز التفاضل بين الثمن المدفوع وبين المثمن، وعلى هذا تنتفي شبهة الربا على الصورة التي أشار إليها المصنف رحمه الله بقوله: [وإن اشتراه بغير جنسه]. قال: [أو بعد قبض ثمنه]. لو أنك اشتريت السيارة بخمسين ألفاً إلى نهاية السنة ثم سددت المال وتم البيع وانتهى كل شيء فجاء البائع وهو صاحب المعرض واشتراها منك بأربعين جاز؛ لأنه قد أوجب البيع الأول ومضى، وحينئذٍ يجوز أن يشتري؛ لأنه بيع مستأنف، لكن لو اشترى منك قبل أن تسدد فمعنى ذلك أن يقع الربا في صورة المعاوضة كأنه دفع لك الناقص النقدي في مقابل الزائد إلى أجل. قال: [أو بعد تغير صفته]. أي: تغيرت صفة المبيع، فمثلاً: باعه بيتاً بمائة ألف إلى نهاية العام وتغيرت صفة المبيع فأنقصت الثمن، فنقصان الثمن هنا ليس من أجل شبهة الربا وإنما من أجل نقصان المثمن فانتفت الشبهة، وبعض العلماء يمنع حتى ولو نقص عين المبيع لوجود عيب أو وجود ضرر فيه كتهدم الدار أو تغير السيارة أو حصل له حادث في السيارة فأنقص قيمتها فعاوضه عليها نقداً بقيمتها قالوا: إن النقص هنا ليس لقاء الأجل، وإنما من أجل ضعف السلعة أو قلة قيمة السلعة بما طرأ فيها من العيوب الموجبة للنقص.

حكم بيع التورق

حكم بيع التورق قال: [أو من غير مشتريه]. كأن تشتري من المعرض السيارة بمائة ألف إلى نهاية السنة أو بمائة ألف مقسطة ثم تذهب وتبيع لطرف آخر، وهذا ما يسمى ببيع (التورق) وهو أن تشتري السلعة لا لذات السلعة وإنما من أجل الورق، ومثاله: أن تطرأ عليك ظروف، كأن يكون الإنسان محتاجاً لزواج أو محتاجاً لسداد دين أو محتاجاً لعلاج فلا يستطيع أن يذهب إلى الناس ويطلب منهم الدين أو لا يجد من يدينه، فيذهب ويشتري سيارة ويقسطها ويأخذ هذه السيارة بمائة ألف مثلاً، ثم يبيعها نقداً إلى غير المعرض الذي اشترى منه أو إلى غير الشخص الذي اشترى منه، فيجوز حينئذٍ ولا بأس، سواءً باع بنفس القيمة أو بأقل أو بأكثر، والسبب في هذا أنه لا شبهة للربا في هذا النوع من البيوع؛ لأنك حينما تشتري السيارة بمائة ألف إلى نهاية السنة، فإنه يجوز زيادة المال لقاء الأجل في البيع، وبيع التقسيط جماهير السلف والخلف على جوازه؛ لأن هناك نصوصاً قوية تدل على جوازه، ومنها: مكاتبة العبيد في القديم، قال تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] والكتابة كانت بالأقساط، وتكون قيمته مفاضلة لقاء الأجل، والدليل حديث بريرة مع عائشة رضي الله عنها وأرضاها في قصتها فإنه كاتبها أهلها بالأقساط وقالت لها عائشة: (إن شئت نقدت الثمن)، وهذا بيع إلى أجل بأقساط، وعلى هذا فإننا نقول: لا بأس أن تبيع حاضراً وأن تبيع إلى أجل بالتقسيط؛ لكن بشرط أن يفارقك بعد أن يبت البيع، وسنبين هذه المسألة في مسألة بيعتين في بيعة، والتي سيذكرها المصنف في الباب الذي يلي هذا الباب، إن شاء الله. إذاً لو أن رجلاً باع السيارة إلى غير المعرض الذي اشترى منه، فإنه يجوز حينئذٍ؛ لأنه لا شبهة في هذا النوع من البيع، وقال بعض العلماء: بتحريم هذا النوع من البيع، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، قالوا: لأنه في هذه الحالة كأنه يأخذ المعجل الذي هو الأربعين ألفاً في مقابل المؤجل الخمسين، فيصبح كأنه يعاوض مع التفاضل؛ ولأنه لم يشتر السلعة لذاتها وإنما اشتراها من أجل المال، ولذلك سموها (مسألة التورق)، وجمهور العلماء على الجواز، وكان شيخ الإسلام رحمه الله يفتي بالتحريم، وروجع في هذه المسألة أكثر من مرة، والذي يظهر رجحان مذهب الجمهور لما يلي: أولاً: لعموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] وقد ذكرنا أن العلماء قالوا: إن هذه الآية عامة وهي حجة لكل من يقول: البيع صحيح وجائز حتى يقوم الدليل على التحريم. ثانياً: أما التعليل عند من يحرمه بأنه إنما يريد الخمسين المعجلة لقاء المائة المؤجلة فنقول: إن شراء السلعة من أجل الثمن لا بأس به إذا كان طرفا العقد في البيع الأول والثاني مختلفين. وتوضيح ذلك: أننا لو قلنا: إن العلة كونه يشتري من أجل المال لحرمت التجارات كلها؛ لأنه ما من تاجر يشتري السلعة إلا وهو يريد المال ولا يريد السلع، فهو حينما يشتري ألف كيس من الأرز مثلاًً، أو مائة كيس من البر فإنه لا يريد البر ولا الأرز؛ وإنما يريد أن يدفع الألف لقاء ألف وخمسمائة يكسبها، أو يشتري مثلاً سيارات بمليون وهو لا يريد السيارات ولا يريد أن يركبها كلها؛ وإنما يريد أن يبيع هذه التي اشتراها بالمليون بربح. فلو قلنا: إن شراء السلعة من أجل المال سواء كان بالأقل ومعاوضة بالأكثر أو بالأكثر ومعاوضة بالأقل يقتضي التحريم لحرمت التجارات، وعلى هذا: ضعفت هذه الشبهة وهي قولهم: إنه اشترى من أجل المال وأخذ الكثير وعاوض بالقليل، وهذه صحيح في حال لو كان الشخص الذي تشتري منه وتبيع له واحداً، لكن إذا اختلف الشخصان فحينئذٍ انتفت شبهة الربا، وحل لك أن تشتري بالكثير وتبيع بالقليل، كما حل للتاجر أن يشتري بالقليل ويبيع بالكثير؛ لأنك إذا اشتريت السيارة مقسطة تشتريها بالكثير، ويكون سعرها مقسطاً أعلى من سعرها نقداً، فحينئذٍ تبيعها وتأخذ القليل، فكأنك اشتريت بالكثير ورضيت بالقليل، اشتريت بالكثير الذي هو إلى أجل، وبعت بالقليل الذي هو النقد، والتاجر عكسك. والربا -كما تعلمون- إذا كان في النقد وهو الريالات يستوي أن يشتري بالقليل ويبيع بالكثير أو يشتري بالكثير ويبيع بالقليل؛ لأن الربا واقع في الاثنين وهو ربا الفضل، فلو قيل: إن هذا من الربا لاقتضى هذا تحريم التجارة؛ لأنه يشتري بالخمسين ويبيع بالستين، يشتري بالقليل ويبيع بالكثير، ولذلك ذهب جمهور العلماء رحمهم الله إلى جواز هذا النوع من البيع بشرط أن تكون الصفقة لشخصين مختلفين. لكن لو أنه اشترى السيارة من المعرض بمائة ألف إلى نهاية السنة، وجاء رجل هو وكيل لصاحب المعرض يريد أن يشتريها منه نقداً بأقل حرم البيع، فيستوي أن يبيع على صاحب المعرض أو يبيع على وكيل يوكله صاحب المعرض؛ لأنه من جنس ما ذكرناه من الربويات. قال: [أو اشتراه أبوه أو ابنه جاز] مثلاً: إذا جاء المحتاج واشترى سيارة من المعرض بمائة ألف إلى نهاية السنة، فإذا اشتراها منه صاحب المعرض قلنا: لا يجوز، يرد Q ما الحكم إذا اشتراها والد صاحب المعرض أو ابنه؟ والسبب في تخصيص الأب والابن أن الشرع جعل الأب والابن كالشيء الواحد، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما فاطمة بضعة مني) ولذلك لا تجوز شهادة الوالد لولده ولا الولد لوالده، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) فجعل الابن والأب كالشيء الواحد، فهل إذا باع إلى والد صاحب المعرض أو إلى والد الذي باعه نسيئة وأراد أن يشتري منه نقداً فهل يكون بمثابة بيعه على صاحب المعرض نفسه أم أن الأمر يختلف؟ قال بعض العلماء: إذا باع إلى والده أو باع إلى ابنه جاز، كما درج عليه المصنف رحمه الله.

الأسئلة

الأسئلة

قياس البيع بعد النداء في الصلوات الخمس على يوم الجمعة

قياس البيع بعد النداء في الصلوات الخمس على يوم الجمعة Q هل يصح أن نقيس تحريم البيع بعد النداء الثاني يوم الجمعة على جميع الصلوات الخمس؟ وهل نقول بحرمة البيع بعد الأذان، أم بعد الإقامة، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فأما إبطال البيع بعد الأذان للصلوات الخمس فلا يقول به أحد من العلماء رحمهم الله، والبيع صحيح في غير الجمعة، وهذا بإجماع العلماء. وأما بالنسبة لمتى يمضي فهذا فيه تفصيل عند العلماء: أنه إذا نودي للصلاة عليه أن يتعاطى الأسباب لإجابة داعي الله عز وجل وإدراك الجماعة، وأنه إذا تعاطى الأسباب المؤدية لفوات الجماعة عليه كان كالمتخلف عن الجماعة وحكمه في الإثم كحكم من ترك الجماعة؛ لأنه تعاطى أسباب التقصير فيتحمل الإثم من هذا الوجه. وأما مسألة هل يجيب بعد الأذان أو يجيب بعد الإقامة، أو يلزمه السعي بعد الأذان أو بعد الإقامة؟ فهذا يختلف باختلاف البعد والقرب إلى المسجد؛ لكن إذا نهُي الناس عن البيع بعد الأذان فمنعهم المحتسب أو ولي الأمر يأتمرون؛ لأن هذا يعتبر من المصالح المرسلة، ولولي الأمر ذلك في باب المصالح المرسلة تحقيقاً لفريضة؛ لأنه إذا كانت لأمر ضروري وفريضة واجبة صارت واجبة؛ لأنه لو فتح هذا الباب لتساهل الناس، ولربما أُقيمت الصلاة وهم يتبايعون ويشترون، ولا شك أن المصلحة العظيمة في إصلاح أمور العباد أن يقيموا فريضة الله عز وجل، والله أمرهم بإجابة النداء، وعلى هذا فإنه إذا نهُي الناس بعد الأذان أو نهُوا بعد الإقامة، فهذا أمر يرجع إلى المحتسب؛ لأن الوقت الذي بين الأذان والإقامة -في الغالب- يستغل للطهارة وللوضوء، خاصة وأن المساجد تزدحم في دورات المياه في هذا الوقت، وهذا يحتاج إلى احتياط وقت كافٍ، فكونه يقدر هذا الوقت من باب المصالح هذا أمر لا شك أنه إن شاء الله يراد به مصالح الناس وصلاح أمور دينهم، وهو من الغيرة على فريضة الله التي فرض على عباده. أما بالنسبة للبيع فالبيع صحيح بعد الأذان، وصحيح بين الأذان والإقامة. والله تعالى أعلم.

حكم البيع بأقل مما في السوق

حكم البيع بأقل مما في السوق Q ما حكم قول بعض التجار للمشتري: اذهب وانظر في السوق ولك أقل من السوق أو أقل منه بكذا، فهل هذا من بيع المسلم على بيع أخيه، أثابكم الله؟ A بالنسبة لهذا النوع لا يعتبر من بيعه على بيع أخيه، كما لو قال له: أبيعك إياها بعشرة وإنها في السوق لبعشرين، أو أبيعك إياها بتسعة وإنها في السوق لبعشرة، فبدل أن يخبره قال له: اذهب بنفسك؛ لأنه لو أخبره ربما شك في صدقه، فأراد منه أن يذهب بنفسه ويتأكد، فهذا لا بأس به، والبيع صحيح، ولا يعتبر هذا من بيعه على بيع أخيه؛ لأنه لم يقع بيع للأطراف الثانية، فهو الأول والبيع الذي بينه وبين الطرف الذي يريد أن يشتري هو البيع الحقيقي، وما عداه تبع ووقع بعده وليس بمؤثر ولا يضر. والله تعالى أعلم.

حكم بيع البلح مع عراجينه

حكم بيع البلح مع عراجينه Q ما حكم شراء البلح إذا وزن بعراجينه، أثابكم الله؟ A إذا بيع البلح وزناً لا يجوز أن يباع بالعراجين، ولا يباع في (الشماريخ) و (الشمروخ) الذي يكون من العرجون؛ والسبب في هذا أنه يزيد الوزن، وتصبح الثمار وهي حبات البلح مجهولة القدر؛ لأنه دخل عليها العذق ودخلت (الشماريخ) ووزنها مجهول، فلم نعلم كم وزن البلح؛ لأنك لا تريد (الشماريخ) ولا تريد العرجون وإنما تريد البلح نفسه وتريد التمر نفسه، فلا يجوز بيع البلح في (الشمروخ) وزناً، لكن لو قال له: هذا (الشمروخ) أبيعكه بمائة: صح؛ لأنه باعه عدداً ولم يبعه وزناً، فهناك فرق بين المسألتين: فإذا قال له: أبيعك إياه وزناً الكيلو منه بعشرة، ولا ندري كم وزن البلح من وزن (الشماريخ) والعرجون، فأصبح المبيع وهو البلح مجهول الوزن، كما لو قال له: أبيعك هذا الشيء الذي هو داخل العلبة أو داخل الكرتون الكيلو بكذا، فإن الكرتون لا ندري كم يزن، ولذلك تجدون في السلع دائماً يكتب -وهي من الأمور الطيبة المحمودة والموجودة هنا- الوزن الصافي كذا؛ لأنه لما يقول لك: الوزن الصافي أخرجك من الجهالة، لكن لو أعطاك وزن الماعون نفسه بالسمن الذي فيه، أو الماعون بالعسل الذي فيه صار جهالة للوزن، والجهالة للمبيع تقدم معنا أنها توجب الفساد. وأما إذا قال له: أبيعك هذا (الشمروخ) بمائة، فمعنى ذلك أنه وقع البيع على الكل؛ لأنه قد يأخذ (الشمروخ) وينتفع به، كأن يعطى علفاً للغنم فالبيع وقع على الاثنين معاً، فأنت تريد (الشمروخ) وتريد أيضاً العرجون ولم يدخل شيء مجهول في الوزن ولا في الكيل، وحينئذٍ البيع خرج عن الوزن والكيل وأصبح بالعدد فيجوز، ومن هنا يفرق في بيع التمر والبلح في (الشماريخ) بين أن يقال له: خذ هذا (الشمروخ) بمائة، فيقع البيع على الكل، وبين أن يبيعه إياه وزناً. والله تعالى أعلم.

الجمع بين قوله تعالى: (فاسعوا إلى ذكر الله) وحديث: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون)

الجمع بين قوله تعالى: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) وحديث: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون) Q كيف نجمع بين قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون)، أثابكم الله؟ A السعي في لغة العرب يطلق على معنيين: سعى إذا مضى، وسعى إذا اشتد في مشيه، فسعى بمعنى مضى تقول: سعيت إلى زيد، أي: ذهبت إليه ومضيت إليه، ولذلك القراءة الثانية تفسر هذه القراءة وهي قراءة: (فامضوا إلى ذكر الله) (امضوا) بمعنى اذهبوا، فيكون قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] أي: امضوا إلى ذكر الله، وليس المراد به الإسراع، الذي هو الرمل أو المشي باشتداد. وأما بالنسبة للمعنى الثاني: وهو السعي والجري والهرولة، فهذا منهي عنه كما في الصحيح من حديث أبي هريرة: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون)، (إذا أقيمت الصلاة -هذا عام- فلا تأتوها وأنتم تسعون، وائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)، هنا قد يقول البعض: إن الحديث يقول: (إذا أقيمت الصلاة) في الآية قال: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) فيكون السعي إذا نودي للصلاة أي: صلاة الجمعة عند الأذان الأول، والمنع من السعي عند الإقامة، وهذا ضعيف؛ لأنه إذا مُنع من السعي عند الإقامة والحاجة أشد فمن باب أولى أن يمنع عند الأذان؛ لأن من فاتته الخطبة وأدرك الصلاة صحت جمعته وأجزأته، فهذا من باب التنبيه بالأدنى على ما هو أعلى منه، فإذا كان يحرُم عليك السعي للصلاة وأنت عند الإقامة، فمن باب أولى أن يحرم عليك وأنت بين الأذان والإقامة ويحرم عليك أثناء الأذان، وهذا مبني على علة بينها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (فإن أحدكم إذا عمد إلى المسجد فهو في صلاة)، (فإن أحدكم) جملة تعليلية، فكأنك إذا خرجت إلى المسجد تريد أن تصلي فأنت في صلاة، والمصلي لا يعبث، وعليه أن يمشي وعليه السكينة ويمشي مشياً يليق بما هو قاصد إليه من الوقوف بين يدي الله وأداء الفريضة التي أوجب الله. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيّه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب الشروط في البيع [1]

شرح زاد المستقنع - باب الشروط في البيع [1] دلت الأدلة من الكتاب والسنة والآثار على مشروعية الشروط في البيع، والشروط في البيع منها ما هو صحيح وأذن الشرع به، فمنها ما يكون من مقتضيات العقد، أو مما يعين على إمضائه، أو مما اشتمل على منفعة لا دليل على تحريمها، سواء كانت منفعة للبائع أو منفعة للمشتري أو لهما معاً، أما الشروط غير الصحيحة فهي ما كانت مخالفة للشرع، وقد يترتب عليها أحياناً فساد البيع بالكلية.

تعريف الشروط وأقسامها

تعريف الشروط وأقسامها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الشروط في البيع] الشروط: جمع شرط، وقد بينا تعريف الشرط لغة واصطلاحاً. وقلنا: إنه في اللغة: العلامة، ومنه الشرطة وهي العلامة على الشيء. وأما في الاصطلاح: فالشرط هو الذي يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود، ومثلنا لهذا بالطهارة في الصلاة، فإنه إذا انتفت الطهارة انتفت الصلاة ولا يجوز لك أن تصلي، وإذا وجدت الطهارة فلا يستلزم من وجودها وجود الصلاة فقد تتوضأ ولا تصلي. وقوله: (باب الشروط في البيع) الشروط في البيع تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: شروط شرعية. القسم الثاني: شروط جعلية. أما الشروط الشرعية: فهي الأمارات والعلامات التي نصبها الشرع للحكم بصحة البيع، كما تقدم معنا ومنها: أن يكون البائع مالكاً للمبيع وأن يكون المشتري مالكاً للثمن أو مأذوناً له بالتصرف، فإذا تخلفت الملكية كما لو أن رجلاً باع شيئاً لا يملكه، فلا يصح البيع، وكذلك أيضاً إذا باع بدون رضاً كأن يكره أو غصب منه فلا يصح البيع. إذاً: الشرط كأنه علامة على الصحة متى ما وجد حكمنا بالصحة، وهذا النوع من الشروط شروط شرعية؛ لأن الكتاب والسنة نصا على علامات وأمارات ينبغي توفرها في البيع، فمثلاً: قال سبحانه وتعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] فقال: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] فاشترط الرضا، فهذا يدل على أنه لا يصح البيع إلا بالرضا، كذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر فنقول: من شرط صحة البيع أن يكون الثمن والمثمن معلوماً لا غرر فيه ولا جهالة. وهذه الشروط الشرعية سبق الكلام عليها، وتبقى الشروط الجعلية، والشروط الجعلية: هي الشروط التي يدخلها البائع أو المشتري أو هما معاً في صفقة البيع، فمثلاً يشترط المشتري ويقول: أشترط عليك أن توصل هذا الشيء إلى بيتي، كأن يشتري طعاماً ويقول لصاحب المطعم: أشترط أن تحضره إلى بيتي الساعة التاسعة مثلاً، فهذا بيع وفي هذه الحالة اشترط عليه أن يحضره إلى بيته، أو اشترى ثلاجة واشترط على البائع أن يحملها إلى بيته، أو اشترى سيارة واشترط على البائع أن يوصلها إلى مدينته، كأن يكون اشتراها في جدة وهو مقيم في مكة فيقول: أشترط أن توصلها إلى مكة. أو يشترط البائع على المشتري ويقول له: أبيعك هذه السيارة بعشرة آلاف بشرط أن تدفعها نقداً أو يقول له: أبيعك هذه السيارة أو هذه الثلاجات أو الغسالات أو الأثاث الذي تريد أن تشتريه بعشرة آلاف مقسطة، كل شهر تدفع ألفاً؛ ولكن بشرط أن تحضر كفيلاً مليئاً يكفلك، أو كفيلاً غارماً أو تحضر لي رهناً، بحيث لو تعذر السداد أبيعه وآخذ الذي لي عليك، فهذا شرط من البائع على المشتري. فعندنا شروط من البائع على المشتري، وشروط من المشتري على البائع، وقد تقع مقابلة، فيشترط البائع، ويشترط المشتري، ويسمي العلماء هذا النوع من الشروط بالشروط الجعلية، أي: هي في الأصل ليست موجودة في العقد وإنما جعلت في العقد، اشترطها كل منهما إما لمصلحته أو لمصلحة البيع إمضاءً له، كأن يشترط لمصلحته ويقول: أشترط أن يكون البيت فيه كهرباء، فهذا لمصلحته حتى ينتفع بالبيت، أو أشترط في هذه الأرض أن يكون لها صك، فهذا لمصلحته حتى إذا نوزع في هذه الأرض يستطيع أن يثبت ملكيته عليها، وغيرها من الشروط التي يقصد بها مصلحته، وقد تشترط الشروط لإتمام البيع وتكون لمصلحته كالرهن، كما سيأتي إن شاء الله، وقد تكون الشروط من مقتضيات العقد. فهذه الشروط لما كان الناس يتعاملون بها وتقع بين الناس احتاج العلماء عند بيانهم لأحكام البيع أن يبينوا أحكام هذه الشروط، فهناك شروط أذن الله بها ويجب على البائع والمشتري أن يمضياها، وهناك شروط حرمها الله عز وجل ولم يأذن بها، وهذا الذي حرمه الله عز وجل منه ما يوجب فساد البيع، أي: إذا وجد يفسد الشرط ويفسد البيع، ومنها ما يكون فاسداً في نفسه لكنه لا يفسد البيع، فنقول: البيع صحيح وعلى البائع أن يمضي الصفقة وعلى المشتري أن يمضي الصفقة؛ ولكن يسقط هذا الشرط فوجوده وعدمه على حد سواء. هذه الشروط الجعلية مهمة جداً وطلاب العلم يحتاجون إلى معرفة أحكامها وبيان ما الذي يترتب على الشرط المشروع، وما الذي يترتب على الشرط الممنوع، وعلى هذا قال المصنف رحمه الله: [باب الشروط في البيع] وهناك فرق بين قولنا: (باب شروط البيع) وبين قولنا: (باب الشروط في البيع)، فشروط البيع هي الشروط الشرعية، والشروط في البيع هي التي يدخلها المتعاقدان أو أحدهما، أو تقول: يدخلها أحد المتعاقدين أو هما معاً، ولذلك لو سئلت: ما الفرق بين شرط الشيء والشرط في الشيء؟ تقول: شرط الشيء: هو ما نصبه الشرع من أمارة وعلامة لصحته أو وجوبه، ومن الأمثلة على ما يكون لوجوبه: أن الزوال شرط لوجوب صلاة الظهر، ومن الأمثلة على ما يكون لصحته: أن الطهارة شرط لصحة الصلاة وأما الشرط في الشيء فتقول: هو ما يدخله المتعاقدان أو أحدهما، سواء المتعاقدان في بيع، أو المتعاقدان في نكاح، فالآن لو تعاقد شخص مع ولي امرأة قال له: زوجتك بنتي بعشرة آلاف، تدفع خمسة آلاف نقداً، وخمسة آلاف إلى أجل، فهذا شرط في النكاح، ويسمى: (شرطاً في النكاح) ولا يسمى: (شرطاً للنكاح)، فهذا معنى قول المصنف: [باب الشروط في البيع] كأنه يقول رحمه الله: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالشروط التي تكون بين المسلمين في بيوعاتهم. والشروط الكلام فيها في مواضع: الموضع الأول: ما هو موقف الشرع من الشروط في البيع؟ نقول: دلت الأدلة على مشروعية الشروط في البيع، والدليل الأول: قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فإن هذه الآية الكريمة ألزم الله فيها المتعاقدين بالوفاء بالعقد، والعقد هنا مطلق يشمل العقد المشتمل على الشروط والعقد الذي لا شرط فيه، فإذا اشترط عليه فكأنه من العقد، وعلى هذا يكون قوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] أي: أمضوها بشروطها إذا كانت مشروعة. الدليل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم) فهذا يدل دلالة واضحة على أنه ينبغي للمسلم أن يفي بشرطه، وأنه يلزمه أن يفي لأخيه المسلم بما اشترط على نفسه تجاهه، ولا يجوز له أن يختله ولا أن يخدعه ولا أن يغشه وعليه أن يمحضه النصيحة بالوفاء له. وكذلك أيضاً دل دليل الأثر فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في كلمته المشهورة: (مقاطع الحقوق عند الشروط)، أي: إذا أردت أن تقطع الحق فتعطي مال الناس للناس، وتأخذ مالك من هذه الحقوق فإنما يكون بالشروط، فإذا كان بينك وبين أخيك المسلم شرط ووفيت له الشرط على أتم الوجوه وأكملها فقد قطعت له حقه كاملاً، وعلى هذا (مقاطع الحقوق عند الشروط) معناه: أنه يلزم المسلم إذا أراد أن يؤدي حق أخيه المسلم أن ينظر ما الذي اشترطه على نفسه تجاهه فيؤدي له ذلك الشرط كاملاً تاماً. وأداء الشروط والقيام بها من النصيحة، والله عز وجل أوجب على المسلم أن ينصح لأخيه المسلم. ومن الغش أن يشترط عليه ويقول له: هل السيارة من نوع كذا؟ قال: من نوع كذا، فجاء فإذا السيارة ليست كما قال، فمعنى ذلك أنه غشه وأنه كذب عليه، والغش والكذب لا يأذن الله بهما، وإذا وفى له وأدى له الأمر كما اتفقا فقد صدق وبيَّن، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما) فالله يبارك لك في المال الذي تأخذه ويبارك لك في الصفقة التي تأخذها إذا وفيت بشروطها، وعلى هذا أجمع المسلمون من حيث الجملة على جواز الشروط في البيع. والشروط في البيع تنقسم إلى أقسام: القسم الأول: ما هو صحيح وأذن الشرع به. القسم الثاني: ما هو غير صحيح ولم يأذن الشرع به، بل هو يخالف الشرع ويضاده. فأما الشروط الصحيحة: فهي التي تكون من مقتضيات العقد أو مما يعين على إمضاء العقد، أو مما يشتمل على منفعة لا دليل على تحريمها وأذن الله عز وجل بها، سواءً كانت منفعة للبائع أو منفعة للمشتري أو لهما معاً، فهذه ثلاثة أنواع للشروط الصحيحة، والشروط الصحيحة هي الأساس، والأساس أننا إذا قلنا: إن الشروط مشروعة فالمراد منها ما لم يعارض الشرع، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) وذلك أن بريرة رضي الله عنها لما جاءت إلى عائشة رضي الله عنها وأرضاها وأخبرتها أن أولياءها قبلوا من عائشة أن تدفع الثمن -ثمن بريرة - ويكون ولاء بريرة لهم، وهذا خلاف الشرع؛ لأن الشرع أن من أعتق الأمة أو العبد فالولاء له؛ لقوله صلوات الله وسلامه عليه: (كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق، إنما الولاء لمن أعتق) فالولاء لمن أعتق، فهم خالفوا الشرع وقالوا: الولاء لنا وهم لم يعتقوا، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) فدل هذا الحديث على أن من الشروط ما ليس من كتاب الله عز وجل، ومفهومه: أن ما كان منها موافقاً لكتاب الله وموافقاً لشرع الله فليس بباطل بل هو صحيح، ومن هنا: اصطلح العلماء على تقسيم الشروط إلى: شروط شرعية، وشروط غير شرعية، وهي الشروط المشروعة والشروط الممنوعة.

الشروط الصحيحة في البيع

الشروط الصحيحة في البيع فقال المصنف رحمه الله: [منها صحيح كالرهن] [منها] أي: من الشروط ما هو صحيح، والصحيح ضد الفاسد والباطل، وهذا الصحيح لا يحكم بصحته إلا إذا وافق الشرع، ولا نحكم بصحة الشيء إلا إذا وافق الشرع ولم يشتمل على محذور يعارض كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والشروط الصحيحة تنقسم إلى الثلاثة الأقسام التي ذكرناها وهي:

الشروط التي تكون من مقتضيات العقد

الشروط التي تكون من مقتضيات العقد النوع الأول: ما يكون من مقتضيات العقد ومستلزماته، فالآن مثلاً: حينما تشتري السيارة من المعرض قال لك: أبيعك هذه السيارة بخمسين ألفاً نقداً، فقلت: قبلت، فالأصل يقتضي أنك إذا دفعت الخمسين تستلم السيارة، ويقتضي أيضاً أنك إذا استلمت السيارة تدفع الخمسين، فصاحب المعرض يطالبك بالخمسين وأنت تطالبه بالسيارة، فلو قال صاحب المعرض: أشترط أن تكون الخمسين نقداً وتكون يداً بيد، ولا أقبلها شيكاً، ولا أقبلها إلى أجل، ويشترط عليك في نفس المجلس، فحينئذٍ يجب عليك أن تحضر الخمسين وتعطيه إياها في نفس المجلس، فهذا شرط يقتضي تسليم الثمن، وتسليم الثمن من مستلزمات البيع، فإذا اشترط صاحب المعرض أن يأخذ حقه حالاً فقد اشترط شيئاً من مقتضيات العقد. كذلك لو قلت له: أنا أشتري منك هذه السيارة بخمسين ألفاً؛ ولكن بشرط أن أخرجها الآن، فإنه إذا تم البيع من حقك أن تأخذ السلعة مباشرةً، فكأن هذا الشرط هو موجود في العقد؛ لكن كونك تشترطه وتلزم به المعرَض؛ لأنه قد يجري العرف بتأخيرها يوماً، وقد يجري العرف بتأخير السيارة ثلاثة أيام في المعرض، والمعروف عرفاً كالمشروط لفظاً، وبناءً على ذلك: تريد أن تخرج من هذا العرف فتقول: أشترط أن أستلمها حالاً، فيكون اشتراطك لاستلام السيارة حالاً، أو اشترطت أن العمارة تستلمها حالاً -يُخْرِج منها متاعَه، ويخرج منها أغراضه، وتستلمها- فهذا من حقك، أو تقول له: أشترط أن يكون الإفراغ فورياً، والإفراغ الفوري من مقتضيات العقد فهو يمكنك من بيعها، ويمكنك من حقك، وتحس أن حقك بيدك؛ لكن لو تأخر الإفراغ وطرأ أي شيء على الصفقة تتضرر أنت، وأيضاً لو جئت تعرضها للبيع وعلم المشتري أنها لم تفرغ لك بعد، فلا يمكن أن يقبل، وقد يتأخر في القبول. إذاً: هذه الشروط التي تكون من مقتضيات العقد؛ كتسليم الثمن، والتعجيل به، أو تسليم المثمن، والتعجيل بالتسليم من الشروط المشروعة.

الشروط التي تكون من مصلحة إمضاء العقد

الشروط التي تكون من مصلحة إمضاء العقد النوع الثاني: الشروط التي يقصد منها مصلحة أو إمضاء العقد، أو تتضمن مصلحة العقد، فمثلاً: لو جاء رجل وقال لك: أريد أن أشتري منك هذه الأرض بمائة ألف إلى نهاية السنة، أو أعطيك خمسين ألفاً في منتصف السنة وخمسين ألفاً في نهاية السنة، فهذا بيع أجل، ومن مصلحة العقد حتى يتم ويستوثق صاحبُ الحق بحقه أن يقول له: قبلت؛ ولكن أشترط الرهن، أو أشترط أن ترهن لي شيئاً أستوثق به من حقي، فلو جاء الوقت المحدد ولم تسدد لي حقي أجد ما أسدد به الحق. فكأن الرهن إذا وُجِد من مصلحة العقد؛ لأن بيع الرهن يتمم الصفقة؛ لكن لو أنك أعطيته ديناً بدون رهن وجاء في نهاية السنة وصار معسراً ألْزِمت بالانتظار {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، وعلى هذا يكون الشخص حينما يشترط الرهن كأنه يستوثق من حقه، ويكون هذا من مصلحة العقد؛ لأن وجود هذا الرهن يمكِّن من إمضاء الصفقة، فإذا لم يستطع دفع الثمن عند انتهاء الأجل بعتَ الرهن وأخذتَ حقك فمضى البيع؛ لكن لو أنه أُنْظِر وطرأ ما يوجب فساد البيع فهذا يختل به العقد، فكأن شرط وجود الرهن من مصلحة العقد، أي: مما يعين على إمضاء العقد لا إلغائه. قال رحمه الله: [منها صحيح كالرهن] أي: منها شروط صحيحة كالرهن. وهنا مسألة: ذكرنا من أن الشروط المشروعة ما كان من مقتضيات العقد وما كان من مصلحة العقد، فلماذا اقتصر المصنف على قوله: (منها صحيح كالرهن) وذكر الذي هو من مصلحة العقد ولم يذكر الذي هو من مقتضيات العقد؟ و A أن الذي من مقتضيات العقد معلوم بداهةً؛ لأنه من مقتضيات العقد، فلو قال له: تسلم فوراً، أو أشترط أن تكون نقداً، أو قال المشتري: أشتري منك؛ لكن بشرط أن تمهلني شهراً أو شهرين أو ثلاثة، هذا يعتبر من الأمور المعلومة بداهةً إذا اشترط عليه النقد والفورية. قال: [منها صحيح كالرهن وتأجيل الثمن]. فعندنا مثالان: المثال الأول: الرهن. المثال الثاني: تأجيل الثمن. وهذا إذا تأملته وجدت فيه دقة للمصنف وحسن ترتيب؛ لأن قوله: (منها صحيح كالرهن) هذا نوع يتعلق بالبائع، أي: أن يشترط البائع على المشتري الرهن، أما قوله: (وتأجيل الثمن) يشترطه المشتري على البائع، فذكر النوعين، فلو قال: (منها صحيح كالرهن) وسكت، لظن ظان أن الشرط الصحيح يكون من البائع على المشتري فقط ولا يكون من المشتري على البائع، فجاء بالاثنين؛ جاء بشرط صحيح من البائع على المشتري من مصلحة العقد وهو الرهن، وجاء بشرط صحيح من مصلحة المشتري وهو قوله: (تأجيل الثمن)، أي: يشترط أن يكون الثمن مؤجلاً، والشرطان كلاهما صحيح وجائز، فإن باعه إلى أجل أو برهن صح. فلو قال البائع: بعتك هذه الأرض من هذا المخطط بمائة ألف، وقال له المشتري: أشترط أن تكون إلى نهاية السنة، فهذا شرط من المشتري على البائع، فقال له البائع: قبلت، بشرط أن تحضر لي كفيلاً غارماً، فصار الشرط من البائع اشتراط الكفيل الغارم، والشرط من المشتري اشتراط التأجيل، فاشترط البائع الكفيل الغارم استيثاقاً لحقه، واشترط المشتري تأجيل الثمن رفقاً بنفسه، وعلى هذا يكون كل منهما قد اشترط على الآخر شيئاً هو من مصلحته، ومما يعين أيضاً على إمضاء العقد والاستيثاق في العقد؛ لأنك عندما تشترط التأجيل فأنت تريد أن تدفع المال للبائع ولكن إلى أجل؛ لأنك تعلم أنك لا تستطيع أن تدفع، فحتى تخرج من الإحراج أو تخرج من المماطلة قلت له: إلى أجل وصارحته بحقيقة أنك لا تستطيع أن تدفعها نقداً وأنك تريد منه التأجيل، فيقول البائع: بشرط أن تحضر لي كفيلاً غارماً، وفي بعض الأحيان يقول: أشترط أن يكون الكفيل الذي يكفلك عنده سجل تجاري مثلاً، وهذا يجري كثيراً بين التجار، والسبب في هذا: أن التاجر الذي له سجل تجاري ليس كمن يكون دون ذلك، خاصة إذا كانت المبالغ كبيرة، وحينئذٍ كأن اشتراطه للسجل التجاري زيادة في الاستيثاق ويكون شرطاً شرعياً.

الشروط في الصفات

الشروط في الصفات قال رحمه الله: [وكون العبد كاتباً أو خصياً أو مسلماً] (كاتباً): كانوا في القديم إذا اشترى أحدهم أمة أو مملوكاً يحتاجه مثلاً للكتابة في دكانه أو تجارته فقال: أنا أريد مملوكاً يعرف الكتابة ولا أريده جاهلاً بالكتابة؛ لأن الذي يعرف الكتابة أحتاجه لكتابة ديون الناس فاشترط أن يكون كاتباً، وهذا من مصلحة المشتري، وبناءً على هذا الشرط: لو باعه على أنه كاتب ولم يكن كذلك كان من حقه أن يبطل البيعة ويفسدها؛ لأنه اشترط عليه وجود صفة وهي صفة كمال (كاتباً). قال: [أو خصياً] كأن يخشاه على عرضه، ولا يجوز أن يختصي؛ لكن لو وقع أنه صار خصياً أو مجبوباً، فقال: أشترط أن يكون من هذا النوع خوفاً على العرض؛ لأنه يحتاجه لخدمة النساء أو يكون حول النساء أو أنه إنسان يتاجر فيتركه في بيته أو يتركه في مزرعته فيخاف على عرضه، أو لا يريد منه النسل ونحوه فاشترط أن يكون خصياً، فهذا الشرط من مصلحة المشتري، فإذا اشترى على هذه الصفة تم البيع. وهذه أمثلة قديمة وسنمثل بأمثلة جديدة ومعاصرة، فلو قال له: أبيعك أرضاً في مخطط (20×20)، قال له: أشترط أن تكون على شارعين أشترط أن تكون على شارع أشترط أن تكون بجوار مسجد أشترط أن تكون -مثلاً- الكهرباء والماء قد وصلت إلى المكان، فهذه شروط كمالية، كما اشترط الكتابة في المملوك واشترط الإسلام فيه أو اشترى منه مزرعة قال: أشترط أن يكون لها صك شرعي حتى أستوثق بحقي، وأستطيع بيعها إن أردت ذلك، فلو أنه باعها بهذا الشرط وتبين أن الأرض لا صك لها أو أن المخطط الذي فيه الأرض لم يصله الماء والكهرباء كان من حقه أن يفسخ البيع؛ لأنه تم البيع بشرط ويلزم المسلمون أن يوفوا بالشروط، وهذا شرط شرعي وفيه مصلحة للمشتري ومن الظلم أن يدفع مائة ألف لقاء أرض على أن فيها هذه المصلحة ثم لا توجد فيها هذه المصلحة، وعلى هذا: إذا اشترط هذه الشروط الكمالية وجب على البائع أن يفي له، وإذا لم توجد كان من حقه أن يفسخ البيع ويبطله. قال رحمه الله: [والأمة بكراً] كأن يريد أن يتسراها فيعف نفسه عن الحرام فقال: أشترط أن تكون بكراً، فلو أنها ظهرت ثيباً كان من حقه أن يردها، وكان من حقه فسخ البيع؛ لأن هذا بيع بشرط، ومن حق المشتري إذا لم يجد المبيع على الصفة التي اشترطها أن يرد البيع ويفسخه.

الشروط التي فيها منافع

الشروط التي فيها منافع قال رحمه الله: [ونحو أن يشترط البائع سكنى الدار شهراً]. هناك شروط فيها منافع تتعلق بأحد المتعاقدين، كأن يبيعك البيت ويقول: اشترط أن أبقى في البيت سنة، حتى أجد أرضاً أبني عليها، أو حتى أتمكن من إتمام عمارتي التي أبنيها، المهم أنني سأسكن سنة كاملة، فاستثنى السكنى سنة كاملة، فهذا الاستثناء شرط من البائع وليس من المشتري، أما الشروط الأولى فكانت من المشتري، وهذا من البائع، والغالب أن شروط البائع تكون في المنافع. فكونه يقول: أستثني سكنى الدار شهراً أو سنة أو نصف سنة من حال البيع أو من العقد فإنه من حقه، والدليل على ذلك حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر وكان مع جابر بعير، وكان جابر رضي الله عنه قليل ذات اليد -أي: ليس من أثرياء الصحابة ولا من أغنيائهم- وكان على بعير قد أعياه السير، وكان صلى الله عليه وسلم إذا خرج للغزو أو خرج معه الصحابة يمشي في آخر القوم حتى يحمل الكل ويعين الضعيف ويتفقد أصحابه وهذا من فضله وبره وحلمه وشفقته، بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فكان أرحم بالناس من الوالد بولده، قال جابر: (فلقيني النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لي وضربه فسار سيراً لم يسر مثله وقال لي: -وكان صلى الله عليه وسلم كريم المعشر، دمث الأخلاق، موطأ الكنف لأصحابه وكان ينظر إلى جابر نظرة خاصة؛ لأن أباه قتل معه في أحد، وكان يحب جابراً ويعطف عليه كثيراً -فقال: بعنيه -أي: هذا الجمل الذي أصبح بهذه الصفة وبهذه المثابة، وكأنه يشعره بالنعمة التي أنعم الله عليه فيه- قال: يا رسول الله! هو لك -فساومه واشترى منه الجمل- فاشترط جابر حملانه إلى المدينة -لأنه ليس له جمل آخر- فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال: فلما قدمت المدينة أتيته بالجمل فنقدني ثمنه، ثم رجعت فأرسل في أثري، وقال: أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك. فهو لك). فالشاهد: أن جابراً اشترط حملان البعير إلى المدينة، وهذا شرط من البائع على المشتري، فاشتراط الحملان إلى المدينة يعني الظهر والركوب، كأن تشتري سيارة فيقول لك صاحب السيارة: أشترط عليك أن أصل بها إلى المنزل، ويتم البيع وتتم الصفقة ولكن توصله إلى منزله، فيركب السيارة ويصل بها إلى منزله ثم بعد ذلك شأنك والسيارة، فهذا شرط من البائع على المشتري وهو لا يخالف مقتضى العقد، ولا يتضمن الغرر، ولا يتضمن ضررك، فيصح هذا النوع من الشروط ويلزم. قال رحمه الله: [وحملان البعير إلى موضع معين] الحملان مصدر من الحمل، والمراد بذلك: أن تشترط ظهر البعير الذي يحملك أو ما على البعير من متاع تريد أن توصله إلى بيتك، كرجل يلقاك وأنت في سيارتك ويقول لك: بكم تبيع هذه السيارة؟ تقول: بعشرة آلاف، وعلى السيارة أغراض لك وأمتعة، فقال لك: أنا أشتريها منك بعشرة آلاف، قلت له: إذاً بارك الله لك وبارك لي؛ ولكن أشترط أنني أذهب بالسيارة إلى جدة -وعليها متاع لك وتريد أن توصله إلى جدة- فحينئذٍ يتم البيع ويكون الاستثناء فقط لإيصال المتاع إلى جدة، وقوله: (إلى موضع معين) أخرج الموضع المجهول؛ لأنه لا تجوز الجهالة، فالجهالة فيها غرر، فلو قال لك البائع: أعطيك السيارة بعد أن أفرغ المتاع منها، فتقول: متى؟ يقول: حتى أفرغ المتاع، قد يبقي المتاع عليها سنة ويقول: اشترطت عليك أن أبقيها حتى أفرغ، قد لا نقول: سنة؛ لكن في بعض الأحيان قد يبقي المتاع عليها شهراً أو أسبوعاً وتتضرر. فإذاً لما يقول لك: أشترط أن أبقي المتاع عليها فلا تصرح بالجواز ما لم يكن بشيء معلوم لا جهالة فيه ولا غرر، ولابد أن يكون الشرط واضحاً لا جهالة فيه ولا غرر، وبناءً على ذلك: إذا اشترط حملان السيارة أو ظهر السيارة فإنه يجوز له ذلك ويحدد الزمان أو يحدد المكان إلى موضع معين، ولو قال: بعد يوم أحضر لك السيارة -كما يقع الآن، يقول: أشترط أن تبقيها عندي يوماً أخرج منها أغراضي وبعد ذلك أسلمها لك- فلا بأس بذلك ما دام أنه لا يتضمن الضرر ولا الغرر.

حكم الشروط التي يشترطها المشتري

حكم الشروط التي يشترطها المشتري يقول المصنف رحمه الله تعالى: [أو شرط المشتري على البائع حمل الحطب أو تكسيره]. تقدم بيان مسائل الشروط في البيع، وأنها تنقسم إلى قسمين: منها ما هو مشروع ولا يؤثر في البيع، ومنها ما هو غير مشروع، وبَيَّنا أن الشروط المشروعة منها شروط تقتضيها العقود -أي: عقود البيع- كأن يشترط عليه تعجيل الثمن أو التمكين من الاستلام أو إفراغ الأرض أو العقار أو نحو ذلك من الشروط، وهناك شروط هي من مصلحة العقد، كأن يشترط الرهن والكفيل الغارم إذا كان البيع بالأجل ونحو ذلك من الشروط، ثم يتبع هذا ما كانت فيه منفعة لأحد المتعاقدين فيشترط البائع شرطاً لنفسه فيه مصلحة، ويشترط المشتري لنفسه شرطاً فيه مصلحة، وبَيَّنا أن هذا النوع من الشروط جائز ومشروع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع من جابر بعيره، واشترط جابر حملان البعير إلى المدينة، فهذه منفعة للبائع، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر في الصحيح: (من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع، ومن باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع)، فهذا يدل على أنه يجوز أن تشترط مصلحة ومنفعة في العقد، خاصة إذا كانت متولدة من المبيع، مثل مال العبد ومثل النخل المؤبر، ويلتحق بالنخل المؤبر بقية الزروع، على التفصيل الذي سيأتي إن شاء الله في بيع الثمرة والأصول، لكن بالنسبة للصورة التي ذكرها المصنف أن يشتري منه حطباً ويشترط على البائع أن يكسره، ففي هذه الحالة المبيع هو الحطب يقول لك: أبيعك هذا الكوم من الحطب بمائة ريال. تقول: اشتريت ولكن بشرط أن تكسره لي. جرت العادة أن تكسير الحطب يكون بطريقة معيّنة وصفة معيّنة فيقوم البائع بتكسيره للمشتري، إذا قلت: اشتريت هذا الحطب وأشترط عليك تكسيره فهذا شرط واحد. كذلك أيضاً لو قلت له: أشتري منك هذا الحطب ولكن بشرط أن توصله إلى منزلي، فحينئذٍ اشترطت منفعة لمصلحتك، فكأن المصنف حينما ذكر: (كأن يشترط حملان البعير)، فالمنفعة للبائع وليست للمشتري، يبيعك بعيراً ويقول: هذا البعير قيمته مائة؛ ولكن أشترط عليك أن أركب عليه إلى منزلي ثم تأخذه. كما فعل جابر مع النبي صلى الله عليه وسلم فقد اشترط أن يركب البعير إلى المدينة وأذن له النبي صلى الله عليه وسلم وأقرّه. إذاً: هذا الشرط الذي اشترطه هو من البائع والمنفعة للبائع، فالمصنف رحمه الله من دقته ذكر لك مثالاً على المنافع التي يشترطها البائع، ثم أتبع بتكسير الحطب كمثال على المنافع التي يشترطها المشتري؛ لأن تكسير الحطب من مصلحة المشتري، فتقول: أشتري منك هذا الحطب وأشترط أن تكسره لي، ومن أمثلة ذلك في عصرنا: كأن تقول للجزّار: بكم هذا الكيلو من اللحم؟ يقول: بعشرين، تقول: أشتري منك الكيلو على أن تكسره أو تفصل اللحم عن العظم، فحينئذٍ اشترطت منفعة لمصلحتك أنت المشتري. وفي حكم هذا -في زماننا- ما لو اشترى البضاعة من المحل واشترط توصيلها إلى منزله. لكن هنا أمر لابد من التنبيه عليه وهو: أنّه إذا اشترط المشتري على البائع منفعة زائدة في البيع فينبغي أن يبين حدود هذه المنفعة، فإذا قال له: أشترط أن توصله إلى منزلي، فلابد أن يحدد مكان منزله؛ وذلك لأنها منفعة لها قيمة وثمن، وعلى هذا فلابد وأن تكون معلومة، فيحدد أين منزله، فإن كان باستطاعة البائع أن يوصله قال: رضيت. وإن لم يكن باستطاعته قال: لا أرضى. ويتفقان أو يتراضيان على حسب ما يكون بينهما بالمعروف. قال رحمه الله: [أو خياطة الثوب أو تفصيله]. القماش الخام هو الذي يوجد في طاقة القماش ولم يفصل بعد، فعندما يشتري الإنسان هذا النوع من القماش فله أحوال: تارةً يشتري القماش خاماً ولا يطلب تفصيله ولا خياطته، فيشتري -مثلاً- طاقة من القماش، فيقول للبائع: بكم هذه الطاقة؟ يقول: بمائة، قال: اشتريت، حينئذٍ لا إشكال. لكن هناك صورة أخرى وهي أن يقول له: بكم هذا القماش؟ يقول له: هذا القماش متره بستة ريالات مثلاً، يقول: كم يكفيني من الأمتار؟ قال: ثلاثة أمتار، قال: إذاً أشتري منك ثلاثة أمتار، وبكم تفصلها؟ قال: بعشرين، حينئذٍ يقول: أشتري منك الثلاثة الأمتار، على أن تفصلها لي ثوباً بعشرين، فهذه الصورة التي يَفْصِلُ فيها قيمة الخام من القماش عن قيمة التفصيل فهذه لا إشكال فيها؛ لأن المشتري اشترى ما هو مباح بيعه وهو القماش وحدد المبيع وثمنه، وليس هناك أي إشكال في جواز هذا النوع من البيع، فوقع البيع على ثلاثة أمتار من هذا القماش، فإذا كان المتر بستة ريالات فمعنى ذلك أنه اشترى بثمانية عشر، ثم تعاقد معه إجارةً على التفصيل وذلك بعشرين، فيكون مجموع القيمة ثمانية وثلاثين ريالاً، إذاً: هذان عقدان منفصلان، البيع على حدة والإجارة على حدة. الحالة الثانية: أن يقول له: بكم هذا الثوب؟ والثوب قد فصل وهو جاهز -كما يوجد الآن عند بعض الخياطين، حيث يُجهَّز الثوب ويكون على المقاس الذي يريده المشتري- بمائة، قال: اشتريت، ولكن بشرط أن تكويه لي، أو يشترط أن يغسله، فيقوم الخيّاط بغسل الثوب وكيّه وإعطائه للمشتري وهذه كلها منافع تختلف أذواق الناس ومقاصد الناس فيها، حتى لو قال له: أشترط أن تضعه لي في ورق، هذا كله من شروط المنافع التي يقصد بها حفظ المبيع أو وجود المنفعة الناشئة عن المبيع، وهذا النوع من الشروط لا بأس به، لكن لو قال له: أشترط عليك أن تخيط الثوب وأن تغسله وتكويه فحينئذٍ أدخل أكثر من شرط في عقد البيع، وهذا سيأتي إن شاء الله في مسألة الشرطين في البيع.

حكم الجمع بين شرطين في البيع

حكم الجمع بين شرطين في البيع قال رحمه الله: [وإن جمع بين شرطين بطل البيعُ]. أي: وإن جمع المتعاقدان بين شرطين في بيع بطل البيع، وهذه المسألة دليلها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)، وهو حديث حسّنه غير واحد من أهل العلم، والعمل على ما تضمنه من دلالة. والعلماء رحمهم الله في مسألة الشرطين في البيع عندهم تفصيل وكلام، بعض العلماء يقول: أيُّ بيع اشتمل على شرطين فأنا أبطله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا شرطان في بيع) فنهى عن الشرطين في البيع، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، وبعض العلماء فَصَّل: وتوضيح ذلك: أن الشرطين في البيع إما أن يكونا مفضيان إلى الربا، أو مفضيان إلى الغرر، أو يتضمنان محظوراً شرعياً، أو يكون الشرطان لا بأس بهما، ولو أردنا أن نختصر هذه الأحوال نختصرها بنوعين من الشروط نقول: إمّا أن يكون الشرطان متفقين مع الشرع، وإمّا أن يكونا مخالفين للشرع، أي يتضمنان محظوراً شرعياً. فأما الشرطان اللذان يتفقان مع الشرع فكأن يقول لك: أبيعك هذه السيارة وأشترط عليك أن يكون بيعها مؤجلاً -أقساطاً-، وأشترط عليك كفيلاً غارماً، فاشترط عليك في العقد شرطين: البيع المؤجل وهو لا ينافي الشرع، والشرع أذن به كما أذن بالمعجل ما لم يتضمن غرراً، وكونه يشترط كفيلاً غارماً هذا من مصلحة العقد؛ لأنه إذا عجز المشتري قام الكفيل بالسداد فتمّ البيع، فهذان الشرطان دخلا في العقد على وجه يوافق الشرع وليس هناك أيّ معارضة للشرع، فإذا كانت الشروط موافقةً للشرع فتنقسم أيضاً إلى قسمين: تارةً تكون من مصلحة عقد البيع، كما ذكرنا في تأجيله وأيضاً اشتراطه للكفيل، وتارةً يكون الشرطان لا يخالفان الشرع لكن فيهما منفعة لأحد المتعاقدين، أي: أن يشترط شرطين لمصلحته هو بائعاً أو مشترياً. ففي الصورة الأولى اشترط شرطين، وصحيح أن فيهما مصلحة للبائع؛ لكن فيهما إمضاء للعقد وحفاظ على إتمامه؛ لأن الكفيل سيسدّد ويمضي العقد، وهذا أضمن للحقوق، وهذا يسمونه من مصلحة العقد، لكن في الصورة الثانية من الشروط التي لا تعارض الشرع أن يكون فيه منفعة للمشتري أو منفعة للبائع -كما ذكرنا- يشتري منه القماش ويقول: أشتري منك هذا القماش بشرط أن تخيطه وتغسله، فحينئذٍ تضمن العقد شرطين مشروعين بأصلهما؛ ولكنهما لمنفعة أحد المتعاقدين. إذاً: الصورة الأولى جائزة بالإجماع وهذا مثال آخر لها: أن يقول له: أبيعك هذه الأرض، فيقول المشتري: بشرط أن يكون لها صك، وأن يكون إفراغها فوراً، فإنّ الصك لاستيثاق البيع وضمان الحق، وإفراغها فوراً مما يمضي الحق ويمليه، فهذا لا إشكال فيه وهذه شروط مشروعة، وحكى الإجماع على ذلك غير واحد من العلماء: أنّه لا بأس بهذه الشروط؛ لأنها من مقتضيات العقد أو مما يعين على صحة العقد. والصورة الثانية من الشروط المشروعة والتي تتضمن منفعة لأحد المتعاقدين -كما ذكرنا- أن يقول له: أشتري منك هذا الحطب بمائة على أن تكسره وتحمله إلى بيتي -هناك في المثال السابق قلنا: تكسره فقط؛ لكن هنا: تكسره، وتحمله إلى بيتي -فأصبح عندنا شرطان، وهذه الصورة وقع فيها الخلاف بين العلماء رحمهم الله. فقال بعض أهل العلم: هذان الشرطان لا يعارضان الشرع، بل لو زاد شرطاً ثالثاً صح ولا بأس. واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل) فمنطوق الحديث يدل على بطلان الشروط التي تخالف الشرع، ومفهوم الحديث: أن الشروط لو كانت توافق شرع الله فإنه لا بأس بها وليست بباطلة، وهذا دليلهم الأول. الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون على شروطهم، أو عند شروطهم) قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين ما تكررت فيه الشروط وبين ما كان شرطاً، وعلى هذا فإن الاشتراط جائز للشرطين كما هو جائز للشرط الواحد. وأما الذين منعوا، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه ويقول به طائفة من أهل الحديث واستدلوا بظاهر السنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ولا شرطان في بيع) أي: لا يحلُّ الشرطان إذا وقعا في بيع، قالوا: فنأخذ بظاهر هذا الحديث، ثم قالوا: لو قلنا: إن الحديث المراد به: شرطان فاسدان -أي: يعارضان الشرع- لما كان للحديث معنى؛ لأن الشرط الواحد المعارض للشرع يبطل البيعن فمن باب أولى إذا كانا شرطين، فيكون ذكر النبي صلى الله عليه وسلم للشرطين خالياً من الفائدة. توضيح ذلك: أنه لو كان مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ولا شرطان في بيع) الشرطان المعارضان للشرع فإن الشرط الواحد منهما محرم فكيف يقول: (شرطان)، إنما يقول: شرط واحد وينّبه على ذلك، لكن كونه يقصد الشرطين يدل على أن الأصل فيهما الجواز ولكنهما حظرا لكونهما يوجبان شيئاً من الغرر أو الفتنة. مثال ذلك: نذكر المثال الذي ذكره المصنف: إذا اشتريت الحطب على أن يكسره ويحمله إلى بيتك، فقد أصبحت ثلاثة عقود: عقد بيع، وعقدان للإجارة: الأول: التكسير، والثاني: الحمل إلى البيت. فأصبح إجارةً بدلاً من كونه عقد بيع؛ لأن الحكم للأغلب فهو بيع وفي حقيقته تغلبه الإجارة، ولذلك قالوا: تداخلت العقود، وحينئذٍ لا نفرق بين كونه مشروعاً أو ممنوعاً، فإذا تضمن البيع شرطين لمنفعة أحد المتعاقدين فإنه لا يجوز، ولا شكّ أن هذا القول أشبه وأقوى من ناحية الدليل وظاهر الدليل أقوى. وكون أحد المتعاقدين يشترط منفعتين في شرطين لا شك أنه لا يؤمن من دخول الغرر. وأما الشرطان الممنوعان شرعاً: كأن يشترط شرطين محرمين موجبين للغرر، إذ لو انفرد شرط واحد محرم فإن هذا يقتضي فساد البيع، فكيف وقد اشتمل على شرطين محرمين؟! كأن يقول له مثلاً: أبيعك هذه الأرض على ألا تبيعها لأحد ولا تهبها لأحد، فإن قوله: هذا يعارض شرع الله عز وجل؛ لأن الذي يشتري الشيء من حقه أن يبيعه ويهبه، وقد حرم عليه ما أذن الله له به، فإن من ملك السلعة من حقه أن يبيعها ومن حقه أن يهبها وأن يتصرف فيها بالمعروف أو يقول له: أبيعك هذه السيارة على ألا تركبها، فإن السيارة تُشترى من أجل مصلحة الركوب. أو يقول له: أبيعك هذه السيارة على ألا تحمل عليها أحداً، أو على ألا تسافر بها إلى جدة أو إلى مكة، فهذه كلها شروط تخالف الأصل الشرعي، فالأصل أنني إذا اشتريت الشيء فأنا حرٌّ فيه أتصرف فيه كيفما أشاء، فما دام أن هذا البائع قد باع ذات الشيء، فكأنه يعارض شرع الله عز وجل بكلا الشرطين، وعلى هذا فهذان الشرطان محرمان بالإجماع، على أنه لو اشترط شرطاً واحداً يخالف مقتضى العقد فهو فاسد، فكيف إذا جمع بين شرطين، فإنه من باب أولى وأحرى.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين الشروط التي تفسد البيع والتي لا تفسده

الفرق بين الشروط التي تفسد البيع والتي لا تفسده Q متى يكون الشرط لاغياً والبيع صحيحاً؟ ومتى يكون الشرط لاغياً والبيع فاسداً، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالشرط الذي يفسد البيع هو الذي يتضمن غرراً يوجب بطلان البيع، وذلك كبيع الأشياء مشترطة بشروط تدخل الغرر عليها، مثلاً: لو قال: أنا أشتري منك البستان لكن بشرط أن تكون فيه ثمرة السنة القادمة، فأنا لا أضمن، ومسألة الثمرة ليست بيدي، أو اشترى منه الناقة أو الشاة واشترط أن تكون حاملاً السنة القادمة، فالحمل علمه عند الله سبحانه وتعالى، فهذه شروط يسمونها: شروط الغرر، وهي تستلزم فساد العقد كله؛ لأن العقد قام عليها وبني عليها، فكأنه اشترى من أجل هذه المنفعة المقصودة من المبيع، لكن هذه المنفعة المقصودة من البيع تارة تكون واضحة، فيشتري البعير بما فيه، أو الناقة بما فيها، أو البقرة بما فيها، أو الشاة بما فيها؛ لكن أن يشترط أن المزرعة تكون منها ثمرة السنة القادمة، فهذا ليس بوسع أحد، ولذلك ينص العلماء رحمهم الله على بطلان البيع وفساده؛ لأن هذا الشرط يوجب الغرر ولا يمكن أن تتم الصفقة إلا به؛ لأنه مركب عليه؛ لأن نفس الثمرة مقصودة، فلو قلت: نصحح البيع ونلغي الشرط ظلمت المشتري؛ لأن المشتري إنما أشترى من أجل الثمرة. وأما الشرط الذي يصح معه البيع ويفسد الشرط، فهذا مثل الشرط الذي لا يكون في صلب العقد، أي: ليس بمؤثر في صلب العقد، فلا يتضمن غرراً ولا يتضمن رباً، ولا يئول إلى غرر ولا إلى ربا، فمثلاً: لو اشترط أن يكون الولاء له كما في حديث عائشة رضي الله عنها، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قضاء الله أوثق، وشرط الله أحق، إنما الولاء لمن أعتق) فصحح البيع وألغى الشرط، مع أن أهل بريرة باعوها بشرط أن يكون الولاء لهم. ولذلك لابد من معرفة طبيعة الشرط، فما كان منها مبنياً على الثمرة المقصودة من العقد، فمن الظلم أن نصحح العقد فنلزم المشتري بشيء لم يرده ولم يقصده، وفي هذه الحالة نبطل البيع فنرد الثمن للمشتري ونرد المثمن للبائع إنصافاً ورداً للحقوق إلى أصحابها، والله تعالى أعلم.

حكم الشروط في النكاح

حكم الشروط في النكاح Q تكلمتم عن الشروط في البيع فهل تجوز الشروط في النكاح، أثابكم الله؟ A النكاح تجوز فيه الشروط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج) والشروط في النكاح تنقسم كما تنقسم الشروط في البيع، فتارةً تكون مشروعة وتارةً تكون ممنوعة، فالشروط المشروعة هي التي توافق مقتضى العقد، كأن يقول الولي للزوج: زوجتك بنتي بعشرة آلاف حاضرة، قال: قبلت، على أن يكون الزواج هذا الأسبوع، فإن استعجال الزواج يمضي العقد ويوافق مقصود الشرع من إمضاء العقد، أو اشترط أن يدخل على زوجته هذا الأسبوع، ويُمَكَّن منها، قال الولي: قبلت، فيلزم ولي المرأة أن يمكِّن الزوج من زوجته في الوقت الذي اتفقا عليه، فهذا الشرط يوافق مقصود العقد. كذلك أيضاً لو قال: زوجتُك بنتي بعشرة آلاف. قال: قبلت، بشرط أن تكون مطيعةً ولا تعصي لي أمراً إلا إذا عصيت الله عز وجل فلا طاعة لي، فإن كون الزوجة مطيعة لزوجها وتحت أمر زوجها هذا موافق لمقصود الشرع، أو أشترط ألاَّ تخرج من بيتها وألا تخرج من بيتي إلا بإذني؛ لأنها قد تخرج لبيع وشراء، وقد تخرج لمصلحة كالتعليم ونحوه؛ لكن قال: أنا أريدها أن تبقى في البيت، مصلحتي أن تبقى في البيت، كأن تكون في بيئة يخشى عليها الحرام أو يخشى عليها أن يؤذيها أحد، فقال: أشترط أن تبقى في البيت، في هذه الحالة هذا الشرط من حقه، وموافق لمقصود الشرع، فإذا نظر وليها أنه لا يُدْخِل الضرر على المرأة قبله، وإذا أدخل الضرر على المرأة قال له: ابحث عن زوجة، بنتي لا تصلح لك؛ لأني أرى أن بنتي لابد لها من الخروج. هذه الشروط التي تقع في النكاح لمصلحة العقد ومما يوافق مقتضى العقد معتبرةٌ، كأن يقول له: أشترط عليك أن تدفع المهر معجلاً. قال: قبلت. فهذا شرطٌ في عقد النكاح، ويجب عليه أن يبر بالشرط ويوفي له. وأما الشروط التي تخالف الشرع: كأن يدخل فساداً على العقد، كما لو قال: زوجتك بنتي بعشرة آلاف على أن تزوجني أختك بخمسة آلاف، فهذا نكاح شغار، وهذا يوجب بطلان العقد؛ لأنه ينبني عليه الشغار الذي حرمه الشرع وفي هذه الحالة يفسد العقد. لكن في بعض الأحيان يفسد الشرط ويبقى العقد كما لو قال: زوجتك بنتي بخمر، أي: على أن يعطيه خمراً صداقاً لها، فالخمر محرم، فيُلْغَى المسمى ويجب لها مهر المثل ويمضي العقد؛ لكن الشافعية يخالفون في هذا، ويقولون: إذا فسد المهر فسد العقد. الشاهد: أن الشروط في النكاح منها ما هو صحيح وشرعي ومنها ما هو غير شرعي، والغير الشرعي منه ما يوجب فساد العقد، ومنه ما لا يوجب فساد العقد، كالبيع سواءً بسواء، ويجب على المسلم أن يتقي الله، خاصةً إذا اشترطت عليه المرأة شروطاً وكان بوسعه أن يوفي بهذه الشروط؛ لأن الشرع أمر بالوفاء بالعقود. وبعض الأزواج ينتهك حدود الله ويغشى محارم الله بالتلاعب بهذه الشروط، فإن الله سائله، قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} [الإسراء:34]، فإذا أخذ عليك العهد والميثاق وكتب بينك وبينه الكتاب على شرط، فإن الله سائلك عن هذا الشرط حفظت أو ضيعت، ولذلك قال الله تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء:21]. وقد كان السلف إذا زوج الرجل ابنته يقول: أزوجكها على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أزوجها لك لتحملها أمانةً في عنقك على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الشرط والميثاق الذي وصفه الله بأنه غليظ يُسأل عنه الزوج، فكيف بالحقوق؟! إذا اشترطت عليه أن يعجل لها مهرها، أو اشترطت عليه أن يعطيها مؤخر الصداق، فتلاعب بمثل هذه الشروط فالله سائله، ومن خان وضيع فإن الله محاسبه، وقد يبتليه الله بنكبة في نفسه، من بلاء في جسده، وقد يبتليه الله بنكبة في دينه فيسلبه الخشوع في صلاته، وقد يحرمه إجابة الدعوة -والعياذ بالله- لأن الظلم ظلمات؛ ظلمات في الدنيا وظلمات في الآخرة، وقد تفسد على العبد دنياه وآخرته بسبب مظلمة، فإن المظلوم إذا اشتكى إلى الله فإن الله يقول: (وعزتي وجلالي لأنصرنكِ ولو بعد حين) فدعوة المظلوم مستجابة، والظلم في الحقوق والشروط شنيع خاصة ظلم النساء؛ لأن المرأة ضعيفة وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عظم حق المرأة وقال -كما في الصحيح-: (إني أحرِّج حق الضعيفين). وقد يغتنم الزوج ضعف المرأة وقد يرى أنها أصبحت الآن في بيته بعيدة عن والدها أو توفي والدها، فإن بعض الأزواج يفي بالشروط ما دام والدها حياً، ويخاف من والدها، فإذا توفي والدها لم يبالِ بأي شرط كان ويفعل ما شاء، ولا شك أنه إذا توفي والدها فإن ربها أعظم لها من والدها. فالله سبحانه وتعالى عظم أمر المرأة، قال صلى الله عليه وسلم: (إني أحرِّج -أي: أعظم الحرج والإثم- حق الضعيفين: المرأة، واليتيم) فجعل المرأة قرينةً لليتيم، وإذا تأملت المرأة وجدتها يتيمة؛ لأنها إذا دخلت بيت الزوجية جاءتها الضغوط النفسية وجاءتها الضغوط من ناحية أولادها، ولا تستطيع أن تحاسب زوجها ولا تستطيع أن تعترض على زوجها، وإذا جاءت تعترض تخاف على حقوقها، وتخاف أن يؤذيها في فراش أو مبيت، ولا تستطيع أن تبوح بكلمة واحدة خوفاً على أولادها، فحالها أشد من اليتيم، فإن اليتيم على الأقل يصرخ ويبدي ما في نفسه من الألم والحزن؛ ولكن المرأة لا تستطيع أن تبوح بما في نفسها. فإذا كان ولي المرأة قد أخذ العهد والشرط على الزوج أن يعطي شيئاً للمرأة أو يؤخر لها الصداق إلى وقت معين، أو يفي لها بأمور معينة في بيتها أو في أولادها فإن الواجب عليه أن يتقي الله وأن يعلم أن الله سبحانه وتعالى مطلع عليه ومحاسب له، والمظالم إذا كانت بين العبد وربه قد تُغْفَر للعبد في طرفة عين، فهذه امرأةٌ بغي زانية -والعياذ بالله- مرت على كلب فسقته وهو في شدة الظمأ فغفر الله ذنوبها؛ ولكن إذا كان الحق لمخلوق، فلا. حتى قال بعض العلماء في حديث القبرين: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، -قال في أحدهما-: أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة) لأن النميمة إفساد ما بين الناس، فالحق للمخلوق، فلما شفع صلى الله عليه وسلم لَمْ يُرْفع عنه العذاب، انتبهوا! ما رُفِعَ العذاب إلا بقدر أن تيبس الجريدة، ما ملك أن يشفع برفع العذاب بالكلية؛ لأنه حقٌ لمخلوق، وهذا أمر يُعَظِّم حقوق المخلوقين. ولذلك ينبغي للإنسان أن يتقي الله، خاصةً إذا كان المخلوق من ذوي القرابة؛ لأن ظلم القريب ذي الرحم يشتمل على مظلمتين: الظلم، وقطيعة الرحم، والله تعالى يقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1]. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا ويسلم منا، وأن يغفر لنا ويتوب علينا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

باب الشروط في البيع [2]

شرح زاد المستقنع - باب الشروط في البيع [2] الشروط في البيع منها ما هو صحيح ومشروع، ومنها ما هو غير مشروع، وعلى المتعاقدين عند إبرامهما لأي عقد أن ينظرا في هذه الشروط؛ لأن هذه الشروط إن كانت غير مشروعة فإما أن تفسد البيع بالكلية، وإما أن تلقى هذه الشروط ويبقى البيع على صحته.

الشروط الفاسدة في البيع

الشروط الفاسدة في البيع بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومنها فاسدٌ يُبطل العقد: كاشتراط أحدهما على الآخر عقداً آخر: كسلف]. قوله: (ومنها فاسد يبطل العقد). أي: ومن الشروط ما هو فاسد يبطل العقد، فبعد أن بيّن لنا رحمه الله الشروط الصحيحة شرع في بيان الشروط الفاسدة. والدليل على أن الشروط تنقسم إلى صحيحة وفاسدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله)، فدلّ على أنه إذا وقع الشرط بين المتعاقدين أن الواجب عليهما أن ينظرا في كتاب الله عز وجل، فما كان في كتاب الله فهو مأذون به شرعاً على التفصيل الذي ذكرنا، وما كان معارضاً للشرع فإنه محرم وممنوع. (ومنها) أي: من الشروط في البيع. (ما هو فاسد) وهذا النوع من الشروط ينقسم إلى أقسام، منها: أن يتضمن عقدين في عقد، كأن يضم إلى البيع عقداً ثانياً كإجارة وسلف وسلم وقرض ونحو ذلك، ومنها: أن يشترط عليه شرطاً يخالف مقتضى البيع.

الجمع بين عقدين في عقد واحد

الجمع بين عقدين في عقد واحد أمّا بالنسبة للنوع الأول فقد أشار إليه رحمه الله بقوله: [كاشتراط أحدهما على الآخر عقداً آخر: كسلفٍ]. يقول له: أبيعك هذه الدار بمائة ألف على أن تسلمني أو تسلفني مائة صاع من بر من مزرعتك، فجمع بين البيع وبين عقد السلم -وسيأتينا إن شاء الله بيان عقد السلم- وهو: تعجيل الثمن وتأخير المثمن؛ والسبب فيه: أنه رفق بالمزارع؛ لأن المزارع يأتيه الموسم -موسم الزراعة- ولا يكون عنده نقد وسيولة فيحتاج إلى المال من أجل أن يشتري البذر فيزرع، والثمر في هذه الحال ليس بموجود، فحينئذٍ يشتري منه الرجل الحبَّ الذي سينتجه أو تنتجه أرضه أو مزرعته فيشتري منه مائة صاع: (من أسلف فليسلف في كيلٍ معلوم، ووزنٍ معلوم، إلى أجلٍ معلوم)، فيعطيه النقد معجّلاً على أن يعطيه الحبَّ مؤجلاً فهذا سلم، فيركب عقد البيع ويشترط معه سلماً، وهذا محرم؛ لأنه يدخل الصفقتين في الصفقة الواحدة، وإذا دخلت الصفقتان في الصفقة الواحدة فإن هذا مما يوجب الغرر ويوجب الفتنة والشحناء، وإذا حصل اللبس والفساد في أحد العقدين أدخل الفساد على العقد الآخر، ومن هنا حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعتين في بيعة وعلى هذا فإنّه إذا أدخل السلف على البيع على هذا الوجه فإنه يعتبر شرطاً فاسداً. قال: [كسلفٍ وقرضٍ]. كأن يقول: بعتك على أن تسلفني، أو يقول له: بعتك على أن تقرضني، أو اشتريت منك على أن تقرضني، فمثلاً: عنده سيارة عرضها للبيع فقال له: هذه السيارة قيمتها مائةُ ألفٍ، قال: ليست عندي مائة ألف، دَيِّنيّ المال وأشتري منك السيارة، قال: إذاً أبيعكها بمائة وعشرة أعطيك إيّاها وتشتريها، فحينئذٍ كأنه ذريعة إلى الربا، وأصبحت حقيقة السلعة تكون بمائة فيزيد عليها العشرة، ولا يمكن أن يبيعه إلا وهو يقرضه من أجل أن ينتفع، ثم أيضاً لو خلا من الزيادة وكانت قيمة السيارة هي هي فإنه قد استفاد من إقراضه شراء السيارة. توضيح ذلك: أنك إذا عرضت البيت أو عرضت السيارة للبيع فمن مصلحتك أن تبيع، ولا شك أنّك إذا بعت تقدر ربحاً معيناً في بيعك، فإذا جئت تعرض سيارتك للبيع ربما تعرضها بمائة ألف فأنت إذا بعتها بمائة ألف تقدّر خمسة آلاف ربحاً لك من البيع، فإذا جاءك وقلت له: أبيعك بمائة ألف، قال لك: أشتري منك بشرط أن تديّنني قيمتها، فحينئذٍ كأنه دفع له خمسةً وتسعين لقاء الخمسة التي هي الربح الناتج من البيع وهذا عين الربا، ولذلك يسمونه: الذرائع الربوية فليس ببيع ربوي محض؛ ولكنه تضمن شرطاً مفضياً إلى الربا، والفساد في عقود البيوع إمّا أن يكون بسبب تحريم عين المبيع، أو الغرر، أو الربا، أو شرط يئول إلى الغرر أو الربا. فهذا شرط يئول إلى الربا. قال: [وبيعٍ]. كأن يشترط عليه بيعاً، يقول له: أبيعك بيتي بعشرة آلاف على أن تبيعني سيارتك بخمسة آلاف، فإنه ربما بنى غبن هذه الصفقة على ربحه في تلك الصفقة، وإذا فسدت إحدى الصفقتين دخل الفساد إلى الصفقة الثانية، وحمل بعض العلماء نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة أن يقول له: بعتك داري بمائة ألف على أن تبيعني أرضك بعشرة آلاف، قالوا: فإن هذا من البيعتين في بيعة، فهي بيعة واحدة ولكنها تتضمن عقدين، وإذا تضمن العقد الواحد عقدين فإنه يوجب التداخل ويوجب الغرر ويوجب الشحناء، فإذا حصل النقص في إحدى البيعتين تضررت في البيعة الثانية، وعلى هذا لا يجوز؛ لكن لو قال له: أبيعك داري بسيارتك جاز؛ لأنها بيعة واحدة، فجعل السيارة قيمة للدار أو البيت والآخر جعل البيت قيمة للسيارة، فكلاهما عوض عن الآخر، وليس هذا من العقدين في عقد. فالشاهد: أن المحظور أن يدخل عقدين في عقد. ومن هنا بطلت الإجارة المنتهية بالتمليك، فإذا قال له: خذ السيارة سنة استئجاراً ثم تملكها بعد السنة، فمعنى ذلك أنه قد جمع بين العقدين في العقد الواحد، ثمّ هو يبيع شيئاً لا يُدرى كيف حاله بعد حلول الأجل؛ لأن البيع مؤجل إلى ما بعد السنة، وبعد السنة لا ندري حقيقة السيارة هل تَسْلَم أو تخرب فتتغير؟ أو يأتيها حادث يذهب بها؟ فهذا كله مما يوجب الغرر، فلو أن السيارة تلفت أثناء السنة هل نعتبره مستأجراً، أو نعتبره مالكاً؟ إن قلت: أعتبره مستأجراً بناءً على أنه وقت إجارة، عارضك بأنه استأجر من أجل أن يملك ومن أجل أن تكون له الرقبة، فحينئذٍ هو مستأجر من وجه مالك من وجه، وهذا شيء من التداخل، ولذلك كأن الشريعة تريد عقود البيوع عقود بيوع، وتريد عقود الإجارة عقود إجارة، ولا تريد التداخل بينهما، ولا تريد أن يحدث شيء من الغرر، ومن هنا حُرّم بيع المجهول؛ لأنه يوجب الغرر في الثمن أو المثمن أو كليهما، فأيَّاً ما كان لا يجوز تداخل العقدين في عقد واحد، ولا يقول له: بعتك هذه السيارة بمائة ألف على أن تؤجرني أرضك سنة بألف، لأن فيه بيعاً وإجارة. إذاً: لا يجوز أن يدخل العقدين في عقد واحد، خاصة إذا أوجب الغرر، أو كان فيه شيء من التلاعب وشيء من الغبن يُقصد به جبر كسر هذه الصفقة بالربح في الصفقة الثانية. قال: [وإجارةٍ]. وهكذا إذا جمع بين البيع والإجارة كما ذكرنا في عقود الإجارة التي تنتهي بالتمليك، سواءً قدّم البيع وأخر الإجارة، أو قدم الإجارة وأخر البيع، وسواءً فصل بينهما فجعل للبيع عقداً وللإجارة عقداً، فإنّ هذا كله مما يوجب الغرر. قال: [وصرفٍ]. كأن يأتي الشخص ومعه خمسمائة ريال إلى صاحب البقالة ويقول له: اصرفها، يقول: لا أصرفها لك حتى تشتري مني شيئاً، فهذا صرف بشرط البيع، فمثلاً إذا اشترى بخمسة ريالات فمعنى ذلك أنه صرف له ما بقي من الخمسمائة الذي هو أربُعمائةٍ وخمسةً وتسعون لقاء المنفعة الموجودة في الصفقة، فإنه إذا اشترى من البقالة لابد وأن يربح صاحب البقالة؛ لأنه ما من شيء معروض للبيع إلا وله فيه ربح معيّن، أو مثلاً وضع التمر كحيلة فيقول لك: اشترِ وأنا أصرف لك، فهذا التمر الذي قيمته خمسةُ ريالاتٍ في الحقيقة قيمته أربعة ريالات أو قيمته ثلاثة ريالات فهو سيربح ريالين أو ريالاً. قد يظهر ببادي الرأي أنه حينما صرف لك الأربُعمائة وخمسة وتسعين، بادلك أربعمائه وخمسة وتسعين بأربعمائة وخمسة وتسعين فلا شيء فيه؛ لأنّ الصرف وقع فيما زاد عن الخمسة ريالاتٍ التي فيها صفقة البيع، لكن في الحقيقة أنه صرف لك أربعمائة وخمسة وتسعين بأربعمائة وخمسة وتسعين بزيادة منفعة البيع فصار صرفاً بمنفعة، ولم يكن مثلاً بمثل يداً بيد، بل قال لك: لا أمد لك الأربعمائة والخمسة والتسعين حتى تشتري مني، وهذا الذي جعل بعض العلماء يقول: إنّ الإنسان قد يشيب عارضاه في الإسلام وهو يقع في الربا وهو لا يدري؛ لأن بيوع الربا الخفية التي تسمى الذرائع قلّ أن يفقهها أحد وقلّ أن ينتبه لها، والعلماء رحمهم الله نبّهوا عليها كثيراً في تداخل العقود، خاصة في الشروط التي تئول إلى الربا، كأن يقول له: أبيعك إيّاها مؤجلة بمائة ألف، فيقول: بشرط أن تقرضني على أن أشتريها منك معجلة بخمسة وتسعين، فهذا شرط يئول إلى الربا كأنه أعطاه خمسةً وتسعين معجلة في لقاء مائة ألف مؤجلة، وهكذا لو قال: أصرفها لك على أن تشتري مني بخمسة ريالات أو تشتري مني قلماً أو تشتري مني كتاباً أو تشتري مني تمراً، فالصرف المبني على شرط البيع موجب أو مفض إلى الربا بوجود المنفعة التي تضمنتها صفقة البيع.

الشروط التي تخالف مقتضى العقد

الشروط التي تخالف مقتضى العقد قال رحمه الله: [وإن شرط ألا خسارة عليه، أو متى نفق المبيع وإلا رده، أو لا يبيعه ولا يهبه ولا يعتقه، وإن أعتق فالولاء له، أو أن يفعل ذلك بطل الشرط وحده إلا إذا شرط العتق]. فائدة: الشروط الفاسدة في البيع تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يوجب فساد البيع، وهو الذي ذكرناه سابقاً، وصفته: أن يدخل العقدين في عقد واحد، كأن يشترط سلماً أو إجارةً أو صرفاً إلخ، فهذه يبطل فيها الشرط ويبطل فيها البيع، فتلغى الصفقة بكاملها، وهناك وجه عند بعض العلماء أنه يصحّح البيع ويُلغي الشرط الفاسد، والأول أقوى. القسم الثاني: أن يدخل شرطاً لم يأذن به الشرع يخالف مقتضى العقد -كما ذكرنا- ومثاله أن أقول: أبيعك هذه الأرض بشرط ألا تبيعها لأحد أبيعك هذه الأرض على أن تجعلها دكاكين ولا تبنيها عمارة أبيعك هذه الأرض على أن تجعلها للزراعة ولا تجعلها للاستغلال التجاري أبيعك هذه الأرض على ألا تسكنها فيشترط البائع شروطاً تخالف مقتضيات عقود البيع، وعلى هذا إذا تضمّن البيع مثل هذا الشرط نصحّح البيع ونبطل الشرط. لكن فيه تفصيل فأولاً: نريد أن نعرف الضابط في هذا النوع -وهو أن يشترط شرطاً يخالف مقتضى عقد البيع- وقد مثّل له المصنّف بقوله رحمه الله: (وإن شرط ألا خسارة عليه). مقتضى عقد البيع أنك إذا اشتريت البيت وملكته ثم غلا أو رخص فلك غنمه وعليك غرمه، ويصبح البيت بيتك لا أتحمل أنا الخسارة بعد بيعه لك، وأيضاً إذا بعتك قماشاً أو بعتك تمراً أو بعتك أي شيء من المبيعات فأنت الذي تتحمل المسئولية، فيكون خراجه وضمانه عليك، فأنت الذي تأخذ نتاجه وأنت الذي تتحمّل خسارته، فمثلاً لو جاء الشاري وقال للبائع: أشتري منك هذه الأرض بشرط: أنها لو كسدت أو نزل سعرها في السوق أردها عليك، أو تدفع لي خسارة الوكس الذي يكون في القيمة، قال له: قبلت. فهذا لا يجوز، لماذا؟ لأن الأصل الشرعي يقتضي أنه إذا اشترى السلعة يتحّمل مسئوليتها كاملة غنماً وغرماً، قال صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان)، والسبب في تحريم هذا النوع من الشروط أنني إذا بعتك السيارة وقلت لي: إذا خسرت رجعت عليك، فمعنى ذلك أنك إذا ربحت أخذت الربح، وإذا خسرت رجعت عليّ بالخسارة، وهذا ظلم، والشريعة شريعة عدل. وتوضيح ذلك: أن الغنم بالغرم، وهي قاعدة من قواعد الشريعة دلّ عليها حديث عائشة رضي الله عنها في قوله عليه الصلاة والسلام في سنن أبي داود: (الخراج بالضمان)، أي: الربح لمن يضمن الخسارة، فليس من المعقول أن أتحمّل أنا البائع الخسارة وتأخذ أنت الربح، فهذا ظلم، ولو رضي البائع فقد رضي بما فيه سفه وظلم، كما لو رضي المدين أن يأخذ مائة ألف ويردها مائة وعشرة ويقول: أنا أرضى بهذا، نقول: إذا رضيت بالغبن على نفسك فالشريعة لا ترضاه، وعليه قال العلماء رحمهم الله: إنه إذا اشترط عليه الخسارة أي: قال المشتري: أشتريه، فإن ربحت فلي الربح، وإن خسرت فعليك الخسارة، فإنّه شرط باطل، لكن يبقى Q هل نبطل الشرط ونبقي العقد صحيحاً، أو نبطل الشرط والعقد؟ قال بعض العلماء: إذا اشترط مثل هذا الشرط فسد العقد وفسد الشرط، وعلى هذا: يبطل البيع من أساسه فترد القيمة ويأخذ هذا السلعة -أعني: البائع- ولكلٍ ماله وحقه. وقال بعض العلماء: إذا اشترط شرطاً يخالف مقتضى عقد البيع صحّ البيع وبطل الشرط. والذين قالوا: صح البيع وبطل الشرط استدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها وهي قصة حاصلها: أن بريرة رضي الله عنها كانت مولاة، فكاتبت أهلها ومواليها وعجزت عن الكتابة -والكتابة هي أن يشتري العبد أو تشتري الأمة نفسها من أسيادها- فجاءت تشتكي إلى عائشة، فقالت لها عائشة رضي الله عنها: إن شاء أهلك أن أنقدهم الثمن نقدتهم على أن يكون ولاؤك لي -أي: أن عائشة رضي الله عنها تريد أن تعتقها ويكون الولاء لها فأبى أهل بريرة إلا أن يكون الولاء لهم، مع أن الذي سيعتقها هي عائشة رضي الله عنها، فاشترطوا شرطاً ليس في كتاب الله عز وجل، وكان الأصل يقتضي أن من أعتق فله الولاء، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الولاء لمن أعتق)، فجاءت بريرة واشتكت لـ عائشة أنهم يصّرون على أنّ الولاء لهم، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تشتريها وأن تشترط الولاء، ثم رقى المنبر وقال: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق؛ وإنما الولاء لمن أعتق)، (قضاء الله أحق) أي: هو الذي ينفذ وهو الثابت الذي لا يُبدل ولا يُغير (وشرط الله أوثق)؛ لأنه مبني على العدل والإنصاف، (وإنما الولاء لمن أعتق)، فجاءت من النبي صلى الله عليه وسلم هذه الجُمل الثلاث فقرر بها العقد وهو عقد البيع وألغى بها شرط الولاء، فاستنبط بعض العلماء: أنَّ مَن اشترط شرطاً فاسداً أنه يبطل الشرط الفاسد ويصحّح العقد، وقالوا: على هذا إذا اشترط عليه وقال له: أبيعك هذه الدار بمائة ألف بشرط ألا تبيعها لأحد، نصحّح البيع ونلغي الشرط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صحح بيع عائشة رضي الله عنها وألغى شرطها. قال رحمه الله: [أو متى نفق المبيع وإلا رده]. (أو متى نفق) أي: في السوق، وهذا ما يسمى في عرفنا ببيع التصريف، والنوع الأول: الذي هو أن يشترط ألا خسارة موجود إلى الآن، فمثلاً بعض الثلاجات تباع ويقولون: خذها ونضمن لك ألا تخسر فيها، أو نعطيك هذه الثلاجة بشرط أن تؤجرها علينا، ففي هذا النوع قد تأتي الشركة وتقول: نبيعك هذه الثلاجة بخمسمائة ألف شرط أن تؤجرها علينا خمس سنوات، وفي بعض الأحيان يقولون: تؤجرها علينا خمس سنوات ونضمن لك أنك لا تخسر، وبعد خمس سنوات إن شئت رددنا لك نفس القيمة وإن شئت أخذت الثلاجة. فهذه كلها شروط فاسدة، فإن قال له: بشرط أن تؤجرها علينا فقد بطل البيع من أساسه؛ لأنه جمع عقدين في عقد واحد وصفقتين في صفقة واحدة فكانت كبيعتين في بيعة. وأمّا إذا قال له: نبيعك على ألا تخسر فهذه تكون صورة حاضرة لما جمع بيعاً بشرط عدم الخسارة. ثم انتقل إلى نوع ثانٍ من الشروط الفاسدة وهو ما يسمى (ببيع التصريف)، يأتي ويشتري منه البضاعة ويقول له: ما نَفَقَ منها أعطيتك قيمته وما لم ينفق أرده عليك، وهذا يقع في المواد الغذائية يقع في السيارات يقع في الثلاجات يقع في الأقمشة، وهذا لا يجوز؛ لأن الأصل يقتضي أنه يشتري منك إن ربح كان له ربحه وإن خسر تحمّل الخسارة؛ لأن فيه ظلماً على البائع، والشرع لا يأذن بالظلم ولو رضي به صاحبه؛ لأنه نوع من السفه، والسفيه محجور عليه في تصرفه؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يرضى للمسلم أن يدخل الضرر على نفسه باسم عقد شرعي، وهذا ليس من العقود الشرعية، وعلى هذا فما الحل؟ نقول: أفضل شيء في هذا أن تقول الشركة في المواد الغذائية أو غيرها: خذ هذه السلع واعرضها للبيع وكل مادة غذائية تبيعها لك فيها كذا وعلى هذا يصبح العقد عقد إجارة، فما نفد منها أخذت الشركة الأصلية أصل المبلغ الذي تريده وأعطت التاجر قدر الإجارة المتفق عليه، فهذا مخرج شرعي وليس فيه إشكال، وهو مثل بيع التصريف، إلا أنه في بيع التصريف يعقدونه بيعاً، والشرع لا يأذن به، فليعقدوا إجارة لكي يخرجوا من الإشكال، يقول له مثلاً: خذ هذه الخمسين سيارة واعرضها في المعرض، فما مشى منها فالحمد لله ولك في كل سيارة خمسمائة ريال، أو النوع الفلاني من السيارات إن بعته فالسيارة الواحدة لك فيها أجرة بقيمة معينة لما تقوم به من العرض ولتكن خمسمائة ريال، وأمّا الثمن الأساسي فتأتي به إلى صاحب المؤسسة أو صاحب الشركة، فهذا عقد إجارة إذا استوفى شروط الإجارة في تحديد الأجل أو تحديد طريقة البيع، أمّا لو قال له: خذ هذه الكتب وبعها على التصريف، أبيعك الكتاب بعشرين، ويأخذ صاحب المكتبة الكتاب ويبيعه بثلاثين ثم يعطيه عشرين فيأخذ الربح، مع أن الذي ضمن الخسارة هو البائع الأول، فيكون صاحب المكتبة ظالماً لمالك السلعة الأساسية من هذا الوجه فقد أخذ ربح ما لم يضمن، وعلى هذا فلو أن المكتبة احترقت سيقول صاحب المكتبة: أنا لم أشتر منك فأنت الذي تتحمل هذه الخسارة، يقول له البائع: لا، إنمّا تحمّلت لك خسارة ألا يباع ولم أتحمل لك خسارة التلف، فتقع بينهما الخصومة، ويصير من باب تداخل العقود، فلا تستطيع أن تقول: إنه بيع على الحقيقة، ولا تستطيع أن تقول: إنه ليس ببيع، فالعقد بينهما بيع ولكنه ليس على الصورة الشرعية، فأوجب الغرر وصار من العقود المشبوهة التي لا يأذن الشرع بها لوجود هذا الغبن. قال: [أو لا يبيعه]. أي: أن يبيعه الشيء على ألا يبيعه، كأن يقول: أبيعك هذه السيارة على ألا تبيعها لأحد، فالبيع صحيح والشرط باطل. قال: [ولا يهبه ولا يعتقه]. كقوله: أبيعك السيارة على ألا تهبها لأحد أبيعك هذا القلم على ألا تعطيه لأحد، فهذا كله لا يجوز؛ لأنه يخالف مقتضى العقد؛ لأن مقتضى عقد البيع أن صاحب السلعة حرٌّ فيها، إن شاء باعها وإن شاء وهبها أو تصرف فيها بالمعروف. قال: [ولا يعتقه، أو إن أعتق فالولاء له]. كقوله: أبيعك هذا العبد على ألا تعتقه، فإن أعتقته فالولاء لي، فيكون قد ظلمه من وجهين: أولاً: قال له: أبيعك هذا العبد على ألا تعتقه، فرفع يده في شيء مَلَّكَه الشرع أن يتصرف فيه، فَحَرَّمَ عليه البيع مع أن الله أذن له أن يبيع ما اشترى. ثانياً: منعه من الولاء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله)، وعلى هذا فإنّه يعتبر شرطاً فاسداً، فيلغى الشرط ويصحح العقد -كما ذكرنا-. قال رحمه الله: [أو أن يفعل ذلك: بطل الشرط وحده، إلا إذا شرط العتق]. قوله: (أو أن يفعل ذلك) أي أن يقول: أبيعك هذا العبد بشرط أن تعتقه، (أن يفعل ذلك) أي: يفعل العتق، فإذا قال له: أبيعك هذا العبد على أن تعتقه أبيعك هذه السيارة على أن تبيع

حكم بيع الرهن والعربون

حكم بيع الرهن والعربون قال رحمه الله: [وبعتك إن جئتني بكذا أو رضي زيد. أو يقول للمرتهن: إن جئتك بحقك وإلا فالرهن لك. لا يصح البيع]. [وبعتك إن جئتني بكذا]. وهذا كما ذكرنا أدخل شرطاً زائداً على مقتضى العقد، فهذا يعتبر من موجبات الغرر، ويكون فساده من جهة كونه تَضَمَّن شرطاً يوجب الغرر، وقلنا: إنه إذا تضمن عقد البيع ما يوجب الربا أو يوجب الغرر فإنه يوجب الفساد. قال: [أو رضي زيد]. وهكذا إن رضي زيد فلا ندري أيرضى أو لا يرضى؟ فأصبح مما فيه غرر. قال: [أو يقول للمرتهن: إن جئتك بحقك وإلا فالرهن لك، لا يصح البيعُ]. يعطيه الرهن ويقول له: (إن جئتك بحقك وإلا فالرهن لك). كأن يأتي شخص إلى بائع عنده سيارة أو عنده أرض. إلخ، فيقول له: بكم هذه الأرض؟ قال: بمائة ألف، قال: أنا أريد أن أشتريها، قال له: أنا لا أضمن، قال: إذاً أعطيك رهناً على أنني أريد أن أشتريها، فسأذهب وأُحْضِر المال ثم تعطيني الرهن ونتم الصفقة، فإن لم أُحْضِر لك المال فالرهن لك، فهذا من أكل أموال الناس بالباطل؛ لأن الرهن لا يوضع إلا من أجل ضمان الحق في البيع المؤجل. فإذا ملكت السلعة وعجزت عن السداد قام المالك الحقيقي ببيع الرهن وتسديد ماله، على ظاهر آية المداينة في آخر البقرة، فأصل الرهن للاستيثاق أن حقك يُضْمَن كبائع، فإذا جاء يقول لك: إنني أذهب وأُحْضِر المال فالبيع بيع معجل وليس بمؤجل، وليس على صورة الرهن الشرعي، فإن لم آتك بالنقد فالرهن لك، وأصبح الرهن يُعطى بدون مقابل، وبناءً على ذلك يكون من أكل المال بالباطل، قال صلى الله عليه وسلم في حديث أنس في الصحيح: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك فبم تستحل أكل ماله؟!!)، وبناءً على ذلك كأنه يأخذ هذا الرهن بدون مقابل. فمثلاً: قال لك: هذا القلم قيمته عشرون، أو هذه الساعة قيمتها خمسون، تقول: أنا أرغب أن أشتريها، قال: أعطني الخمسين، قلت: ليست عندي الآن ولكن أذهب وأحضرها، قال: لا أضمن، فقلت: إذاً خذ هذا القلم رهناً حتى أحضر لك الخمسين، فإن لم أحضر الخمسين فالقلم لك، فأصبح يأخذ القلم بدون مقابل، وهذا شيء لا يجيزه الشرع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، هذا الرهن لقاء ماذا؟ ليس له مقابل، فأصبح يأكل مال أخيه بدون حق، والشرع لا يجيز هذا، ثم إنّ هذا يُربّي في نفوس المؤمنين الأنانية بالتعامل المادي. فيصبح الشخص لا يتعامل إلا مادياً مع أخيه، فإذا قال لك أخوك: أحضر المال وجاءه ظرف أو جاءه شيء فإما أن تقيله أو تطالبه بأصل العقد الذي بينك وبينه، أمّا أن تأخذ منه شيئاً بدون حق فلا، ولك أن تقول له: أطالبك بإمضاء البيع فهذا من حقك؛ لأنه إذا اشترى منك وقال لك: سأحضر لك المال فقد أوجب البيع وافترقتما، فالبيع واجب والرهن ساقط تأثيره في حال العجز، فيبقى عقد الصفقة الأول -الذي هو البيع والشراء الذي تمّ بينك وبينه- ترفعه إلى القضاء وتطالبه بحقك، أمّا أن تأخذ الرهن بدون مقابل فهذا من أكل مال الناس بالباطل، ويدخل في هذا بيع العربون، وبيع العربون فيه قولان مشهوران للعلماء رحمهم الله، وربما يأتي إن شاء الله الكلام عليه. والصحيح: أنه لا يجوز، وهو مذهب طائفة من السلف رحمهم الله؛ لأنه من أكل المال بالباطل، فإذا جئت تشتري سيارة ودفعت عربوناً ألفاً أو ألفين أو ثلاثة آلاف ثم عجزت عن دفع الباقي فالأصل الشرعي أن المالك البائع من حقّه أحد أمرين: إمّا أن يسامحك ويقبل العذر ويرّد لك ما قدّمت من العربون، وإمّا أن يطالبك بإمضاء البيع، يقول لك: البيع لازم، ومن حقه شرعاً أن يطالبك، فتأخذ الصفقة على ما أتممتها من بيع ثم تبيعها مرة ثانية، أمّا أن يأخذ البائع الخمسة آلاف أو العشرة آلاف والتي ربما لا يراها البعض شيئاً، ولكن تكون من كدّ الإنسان، فربما يكون المشتري قضى سنوات وعرق جبينه دهراً طويلاً ليحصل هذا المبلغ، ثم العربون إذا قلت بمشروعيته في مائة أو خمسين أو عشرين أو ألف فما تقول حين يكون بالملايين؟ لأنك إذا أجزت العربون تجيزه في جميع الصور؛ لأنه إذا أعطاه عربوناً بمليونين أو ثلاثة ملايين وأخذها البائع فبأي حق يأخذ هذه المبالغ الكبيرة التي لا موجب لها. قد يقول قائل: فَوَّتَ السوق عليه، نقول: لم يفوته، إن شئت تقول له: خذ الصفقة وتلزمه بالدفع؛ لأن هذا من حقك شرعاً، فالبيع الأول تام ووجب. أمّا أن تتّخذ العربون بديلاً فهذا من أكل المال بالباطل، ويصدق عليه بدون شك قوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29]، والنبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذا في بيع الثمار: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك -مع أن الصفقة هنا لقاء شيء- فبم تستحل أكل ماله؟!!) فالعربون هذا -الخمسة آلاف والعشرة آلاف- لقاء أي شيء؟ إن قلت: فوّت عليّ السوق فحينئذٍ أمض الصفقة وطالبه أن يدفع لك المال كاملاً لا تَظْلِمه ولا تُظلم، ثم هو يتصرف؛ فلو جاءك وقال: أشتري منك هذه الدار بمائة ألف وأعطاك عربوناً عشرة آلاف فإنّه ملزم شرعاً أن يتم الصفقة؛ لكن لو جاءك وقال: عندي ظروف أو كذا تقول له: أنا أيضاً عندي ظروف، فإن كانت ظروفك أنت تسمح لك أن تساعده ساعدته، وإن لم تسمح فحينئذٍ ليس لك من شأن في ظروفه، وأنت شرعاً تدفع الضرر عن نفسك بعقد شرعي صحيح، وهو الذي غَرَّر بنفسه؛ لأنه لو ربحت الصفقة لأخذها، كذلك إذا خسرت، وعلى هذا: يلزم بدفع المبلغ كاملاً ويكون العربون ساقطاً ومحسوباً من أصل القيمة، أو يجب ردّه إلى صاحبه إن لم يوجبا البيع ولم يلزمه بإمضائه.

شرط البراءة صورته وأنواعه وحكمه

شرط البراءة صورته وأنواعه وحكمه قال رحمه الله: [وإن باعه وشرط البراءة من كل عيبٍ مجهولٍ: لم يبرأ]. ذكر المصنف رحمه الله جملةً من الشروط التي يتفق عليها البائع والمشتري، وقسَّم هذه الشروط إلى: ما اعتد به الشرع واعتبره وهي الشروط الجائزة الصحيحة، وإلى نوعٍ حرمه الشرع ومنعه وهي الشروط المحرمة. وقد بيَّنَّا ما يترتب على الشرط الصحيح، وما يترتب على الشرط الفاسد. وهناك نوع من الشروط يشترطه البائع على المشتري في بعض صور البيع، وهو الذي يسمى بشرط البراءة، والمراد بشرط البراءة: أن يتخلى البائع عن الالتزام بالعيوب الموجودة في السلعة، كأن يعرض أرضاً للبيع أو سيارةً أو طعاماً ويقول: أنا بريء من كل عيب فيها، وهذا النوع من الشروط موجودٌ في زماننا، حيث إن الناس يتعاملون به في بيوعاتهم، وكثيراً ما يقع في بيع المزاد العلني في السيارات -مثلاً- فإنه إذا بيعت السيارة صيح عليها أنها كومة حديد، أو نحو ذلك من العبارات التي يقصد منها أن يتخلى البائع عن المسئولية. وقبل الدخول في شرعية هذا النوع من الشروط أو عدم شرعيته ينبغي أن نقرر القاعدة الشرعية التي عليها الحكم بجواز الشرط وعدم جوازه. فالأصل أن المسلم إذا باع لأخيه المسلم أن ينصح له وألاَّ يغشه وأن يمحضه البيان الذي لا تدليس فيه. والأصل في هذا قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، فمن مقتضى أخوة الإيمان أن يرضى المسلم لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه، وأن يكره له ما يكرهه لنفسه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، قال بعض العلماء: وهذا يدل بالمفهوم على أنه لا يؤمن حتى يكره له ما يكرهه لنفسه، فالمسلم بطبيعته لا يرضى أن يغشه أحد في سلعة يشتريها أو عقار يشتريه، ولا يرضى أن يكتم عنه عيباً موجوداً في السلعة، بل ولا يحبه ويكره من يعامله بهذه المعاملة، وهذا هو الأصل؛ لأن النفوس جُبِلَت على حب النصح وكراهية ضده، وأكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى فقال: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة -ثم قال في آخر الحديث-: ولأئمة المسلمين وعامتهم)، فمن النصح أن ينصح لعامة المسلمين، فإذا باع لهم شيئاً بيّن لهم ما في ذلك الشيء من العيوب. وأكده عليه الصلاة والسلام حينما بيّن أن بركة البيع مقرونة ببيان العيوب. والدليل على هذا: قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث حكيم بن حزم وغيره: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)، فالله يمحق البركة من المال ويمحق البركة من الخير الذي يجنيه البائع أو المشتري من السلعة التي يبيعها أو يدفع الثمن لقاءها إذا كتم عيباً في الثمن أو المثمن، فالنصوص واضحة في الدلالة على أنه ينبغي النصيحة، وثبت في حديث جرير رضي الله عنه وأرضاه: أنه اشترى فرساً فأعجبه، فلما ركبه وجده يستحق قيمةً أكثر من القيمة التي اشتراه بها، فرجع إلى البائع وزاده في الثمن، ثم ركب الفرس مرة ثانيةً فأعجبه فرجع ثانيةً وزاد في القيمة، ثم ركبه مرةً ثالثة فأعجبه فرجع إلى البائع مرةً ثالثة وزاده، فكأن البائع ظن أن بـ جرير بلاءً أو خبلاً أو خفة فقال له جرير: (بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، والنصح لكل مسلم)، فجعل هذا من النصيحة، وهو أنني لا أرضى أن أقتطع حقاً لأخي المسلم بدون وجه حق. وتوضيح ذلك: أن السلعة إذا كان ظاهرها السلامة والبائع يعلم أن فيها عيباً لو علمه المشتري لما اشتراها، أو يكون ظاهرها السلامة وفيها عيب لو كان المشتري على علم به لأنقص الثمن، كأن تكون القيمة المتفق عليها عشرين ألفاً، وهذا العيب يُنقص ثمن السلعة إلى خمسة عشر ألفاً أو إلى عشرة آلاف، بل قد ينقصها ثلاثة أرباع القيمة فلا تستحق إلا خمسة آلاف، فكونه في هذه الحالة يعلم بهذا العيب ويكون على إلمام بوجوده وتأثيره بالسلعة ويسكت على ذلك، لا شك أنه خلاف النصيحة. ثم المشكلة ليست هنا، بل إن سكوته يفضي إلى أكل المال بالباطل، وتوضيحه: أن السلعة بسبب هذا العيب تكون قيمتها عشرة آلاف، وبدون العيب تكون القيمة عشرين ألفاً، فمعنى ذلك أن العشرة آلاف الزائدة تؤكل بالباطل، وعلى هذا لا يجوز أن يعرض سلعةً يعلم فيها عيباً ويكتمه عن البائع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن قيام الدين على النصيحة، وأن من لوازم الإسلام أن ينصح المسلم لأخيه المسلم، فيحب له ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه. ومن هنا اختلف العلماء رحمهم الله فيما يسمى ببيع البراءة، واختلفت صور بيع البراءة على هذا الأصل، فإن كان البائع قد برئ من عيب سماه للمشتري، فلا إشكال، وإن كان قد برئ من عيب لم يسمِه للمشتري فهذا فيه الإشكال، فأصبح بيع البراءة على حالتين: الحالة الأولى: أن يبرأ البائع من عيب يسميه للمشتري. الحالة الثانية: أن يبرأ البائع من العيوب مطلقاً ولا يسميها ولا يذكرها للمشتري. فأمّا إذا برئ البائع من عيب يسميه للمشتري فلا يخلو المشتري من حالتين: الحالة الأولى: أن يعلم العيب ويراه بالاطلاع، كأن يقول له مثلاً: بعتك سيارتي الفلانية، وأنت تعلم أن بها العيب الفلاني، فهذه براءة من عيب معلوم من الطرفين، وهذا يقع خاصة مع الأصدقاء والإخوان والأقارب فإنهم يعلمون عيوب السلع؛ لأن المداخلة وقرب بعضهم من بعض يوجب اطلاع بعضهم على عيوب السلع الموجودة عند البعض، فإذا برئ له من عيب سمّاه وعلمه المشتري فبالإجماع يكون البيع جائزاً. الحالة الثانية: أن يسمّي له العيب ولا يعلمه المشتري، ولا يعرف ما هو هذا العيب، كأن يقول له: بعتك هذه الساعة وفيها عيب كذا، ويكون المشتري جاهلاً بهذه العيوب وتخفى عليه، فالواجب على المشتري ألا يغرر بنفسه، وألا يقبل بالبراءة حتى يطلع أهل الخبرة ويرجع إليهم ويسألهم عن هذا العيب، فإن تقحم ورضي بذلك فقال بعض العلماء: إنه يلزم بالبراءة، فلو جاء يشتكي بعد ذلك وقال: هذا العيب أنا ما كنت أظن أنه بهذه الصفة، أو ما كنت أظن أنه بهذه المثابة؛ فإنه لا يقبل عذره؛ لأنه هو الذي فرّط وهو الذي قصر، والبائع قد برئت ذمته حينما سمّى له العيب وبيّنه له. وقال بعض العلماء: بل يبقى له الخيار، على تفصيل سيأتي في خيار العيب. وهذا بالنسبة إذا سمى له عيباً لا يعرفه المشتري. أمّا الحالة الثانية وهي: أن يبرأ له من العيوب ولا يسميها، كأن يقول له: هذا البيت أنا بريء من أي عيب فيه، سواء كنت أعلمه أو لا أعلمه، أو يقول له: هذا البيت أبيعكه كأرض تراب -أي ليس فيها شيء- فلا تلزمني غداً بعيب في البناء ولا بعيب في المنافع الموجودة في البيت، فأنا بريء من كل هذه العيوب وكما يقال في السيارات: (كوم حديد)، أو يقال في الخشب: (كوم خشب) أو نحو ذلك، وكل هذا يقصد منه التخلص من المسئولية، فهذا النوع من البيوع اختلف العلماء فيه على قولين: قال بعض العلماء: إذا برئ براءة مطلقة من العيوب لا يجوز ولا يصح البيع؛ لأنه من أكل أموال الناس بالباطل، فلا يجوز ولا يصح هذا الشرط ولا يلزم به؛ ولأنه يفضي إلى الغرر، فأمّا كونه أكلاً لأموال الناس بالباطل؛ فلأنه يشتري السلعة وهي تستحق القيمة، فلما ظهر فيها العيب نقصت قيمتها فأُكل الفرق بالباطل، كما لو كانت قيمة السلعة عشرين ألفاً بدون عيب، وبالعيب تصبح عشرة آلاف، فتؤكل عشرة آلاف زائدة بدون وجه حق. وأما أنه غرر، فالنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه: (نهى عن بيع الغرر)، فأنت حينما تشتري قلماً من أجل أن تكتب به فإذا به عيب يمنع من الكتابة، فبمجرد أن تطلع على هذا العيب لا تستطيع أن تنتفع بهذا القلم إلا إذا أصلحته، وقد يكون هذا العيب لا يمكن إصلاحه أو يكلف مالاً كثيراً لا تستطيع أن تقوم به فتعطلت منافعك، فأنت تغرر وتخاطر بنفسك، والبائع يغرر بالمشتري ويخاطر به، خاصة إذا نظر إلى المبيعات الغالية والمبيعات التي تتعلق بها مصالح الناس أو ترتبط بها أرواح الناس كأجهزة العلاج أو نحوها، فهذه أمور ليست بالسهلة حينما يبرأ البائع من كل عيب فيها ويخاطر المشتري بنفسه ويقبل بهذا الشرط ثم يلزم به شرعاً، ولا شك أن ما ذكروه صحيح، وبناءً على هذا: فإن هذا القول -أعني: المنع والتحريم- هو الصحيح؛ لأن الذي قال بالجواز استدل بقوله عليه الصلاة والسلام: (المسلمون على شروطهم)، ولكن يرد هذا الاستدلال بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله)، وتوضيحه: أنه إذا اشترط البراءة فمعناه أنه سيسقط حق المشتري في الرجوع بالأرش (أرش العيب)، والثابت في الصحيحين من حديث أبي هريرة: أن المشتري له حق في العيب كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها: إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)، فهذا النوع من الشروط يسقط لتعارضه مع ما ثبتت به السنة وهو خيار الرد، وحينئذٍ يكون من الشروط التي تعارض كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، إضافة إلى أنها تورث الأحقاد وتنزع الثقة بين المسلمين، فإن الإنسان إذا اشترى من أخيه شيئاً بهذه الصفة ثم وجد فيه عيباً يمنع من الانتفاع به لا شك أن هذا سيؤثر عليه فيكرهه أو يبغضه ويوجب ذلك القطيعة بين المسلمين، وقد حرم الله عز وجل بيع المسلم على بيع أخيه؛ لأنه يفضي إلى القطيعة، فلا شك في أن هذا النوع من البيوع وهذا النوع من الشروط يفضي إلى هذه المفاسد الدينية والدنيوية، وبناءً عليه: فليس من حق البائع أن يبرأ إلا من عيب معلوم يسميه للمشتري ويكون منه على بصيرة من أمره، إن شاء أمضى الصفقة وإن شاء ألغاها.

خيار العيب وحكمه

خيار العيب وحكمه قال رحمه الله: [وإن باعه داراً على أنها عشرة أذرع فبانت أكثر أو أقل: صح]. قوله: (وإن باعه داراً على أنها عشرة أذرع فبانت أكثر) كأن تبين خمسة عشر أو عشرين أو ثلاثين، (أو أقل) أي: لو باعه إياها على أنها عشرة فأصبحت تسعة أو ثمانية فإن البيع صحيح في أصله، ونركب الخيار للمشتري. فنقول له: أنت بالخيار إن شئت أن ترضى بهذه الدار بهذه الصفة وتأخذ أرش النقص -كما سيأتي إن شاء الله في خيار العيب- وإن شئت رددت الصفقة، وعلى هذا فهو بين أمرين: الأمر الأول: أن يمتنع لفوات غرضه. الأمر الثاني: أن يمضي ويأخذ الأرش. ففي الحالة الأولى: أن يمتنع لفوات الغرض. مثال ذلك: لو اشتريت أرضاً في مخطط على أن مساحتها تساوي أربعمائة متر مربع مثلاً، فتبين أن المساحة أقلّ من ذلك، فتقول: لا أستطيع إمضاء البيع؛ لأن الشيء الذي من أجله اشتريت هذه الأرض لابد وأن يكون بهذه المساحة، فإذا قلّ عنها فات غرضي من البيع، فلو أننا ألزمنا المشتري في هذه الحالة لكان فيه ضرر وفيه إجحاف، فحينئذٍ نقول له: لك الخيار أن تأخذ الثمن ثم ترد الأرض وتشتري ما شئت مما يتفق أو يعين على تحقيق غرضك. وأما في حالة العكس كأن تكون الأرض أكثر وأكبر من المساحة التي اتفق على شرائها. فمثلاً: لو كانت الأرض المتفق عليها أربعمائة متر فتبين أنها خمسمائة متر، فالمائة الزائدة ترد إلى البائع، وإذا أراد المشتري أن يشتريها فيشتريها بعقد جديد، وتكون مضافة إلى الأصل، ولا تصبح تابعة للبيع الأول. قال رحمه الله: [ولمن جهله وفات غرضه: الخيار]. قوله: (ولمن جهله وفات غرضه) أي: من جهل هذا العيب الموجود في السلعة -كما ذكرنا- في بيع البراءة أنه قال له: بعتك هذه السيارة على أنني بريء من عيب كذا وسماه، وهذا العيب يجهله المشتري فله الخيار. أو (فات غرضه) كأن يكون اشترى الأرض -كما ذكرنا- بأربعمائة متر ليبني عليها شيئاً، ولابد من وجود هذه المساحة للبناء عليها فبان أقلّ، فمعنى ذلك أن الغرض سيفوت، مثلاً: لو اشترى الأرض من أجل أن يأخذ عليها قرضاً، والقروض تشترط مساحة معينة، فاشترى الأرض على أن مساحتها تعادل مائتي متر مربع، وتبين أن مساحتها دون المائتين، فحينئذٍ غرضه أن يقترض ويبني، فلما نقصت مساحة الأرض فات غرضه الذي من أجله اشترى، فمن حقه -وله الخيار- أن يقول له: أعطني مالي وخذ أرضك، ثم يشتري ما يحقق أو يعين على غرضه الذي من أجله يشتري السلعة.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين الشروط الصحيحة والفاسدة

الفرق بين الشروط الصحيحة والفاسدة Q مر معنا سابقاً جواز اشتراط المشتري على البائع كون العبد مسلماً وكاتباً، أفليس هذان شرطان في البيع، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فقد قلنا: إنه يجوز أن يشترط أن يكون العبد مسلماً، أو كاتباً، أو يكون عنده صنعة كالحجام ونحوه من أجل أن يستفيد ربُّ أو سيد العبد بعد شرائه، وبيّنا علة ذلك، والمصنف رحمه الله ذكر هذا في الشروط الصحيحة، ومسألة أن العبد فيه صفتان أو ثلاث صفات فهذا ذكر العلماء رحمهم الله أنها قد تكون شرعية، مثل اشتراط الإسلام يُقصد منه معنىً شرعي، كما لو أنه اشترط أن تكون الأمة مسلمة من أجل أن يُسَهِّل نكاحها من الغير؛ لأنها لو كانت وثنية فإنه لا يستطيع أن يتزوجها عبد مسلم، فهذا يكون فيه معنىً شرعي، ويكون المقصود منه مقصوداً شرعياً، ليس بمتمحض المنفعة مثل مسائلنا التي ذكرناها في عقود الصفقات حينما يجمع بين منفعتين أو بين شرطين في عقد البيع، وعلى هذا يجوز أن يقول له: أشترط أن يكون العبد كاتباً، ثم إن هذا يرجع إلى الصفات وليس بشرط زائد عن العقد، فالشرطان في البيع -كما تعلمون حسب الشرح الذي شرحناه- أن يقول له: أبيعك هذا الحطب على أن تكسره وتوصله، فـ (الحطب) الذي هو العين موجود أو مفقود؟ موجود، والتكسير سيوجد، والحمل سيوجد، وللتكسير قيمته وللحمل قيمته؛ لكن إذا قال له: أشترط أن يكون العبد مسلماً، فهذا شرط البيع أصلاً، أي: قائم في صفة المبيع بذاته وليس بشرط زائد عن البيع كعقد إجارة مثل أن يكسره ويحمله، كما لو قال: أشترط أن يكون الكتاب لونه أخضر، وأن تكون صفحاته من لون كذا؛ لكن لماّ تعقد البيع وتأتي بشرط زائد عن البيع فلا ترضى بالحطب مثلاً كما هو وتقول: أريد أن يكون مكسراً، ولا ترضى باللحم كما هو وتقول: أريد أن يكون مكسراً أو مفصولاً عن العظم، فحينئذٍ أدخلت الصفات على المبيع؛ لكن صفة الكتابة موجودة في العبد منذ أن تشتريه، وصفة الإسلام موجودة في العبد منذ أن تشتريه، ويقصد منها المعنى الشرعي، فهو يقصد الإسلام لمعنى شرعي، ويقصد الكتابة من أجل الرفق في نفس المبيع الذي يريد أن يشتريه، وعلى هذا ليس هذا من هذا، والبابان مختلفان، ولذلك لا تعارض بين الصفقتين في هذا البيع ولا في هذا البيع، والله تعالى أعلم.

الجوائح وتأثيرها في العقود

الجوائح وتأثيرها في العقود Q في بيع السلم هل يجوز أن يشترط البائع على المشتري عدم رد المال إليه إن أصابت الثمار جائحة، أثابكم الله؟ A السلم -سيأتينا إن شاء الله-؛ لكن بالنسبة للذي يشترط ألا تكون هناك جائحة، الجوائح موضوعة، وحكم الجوائح لا إشكال فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجائحة، وبناءً على ذلك إن أصابت الجائحة المال فللعلماء وجهان: فبعضهم يرى: أنه يلزمه إحضار عين كالعين المعقود عليها، فلو اتفق معه على مائة صاع وأصاب هذه الأرض التي زرعها إعصار يعطي له مائة صاع من غيره، ويكون هذا من باب الانتقال إلى المعاوضة لوجود العذر الحسي؛ لأن الأعذار الحسية تمنع من نفاذ العقود وحينئذٍ لا يلزم صاحب الأرض؛ لأن الأرض أخرجت شيئاً وهلك فليس بوسعه أن يخرجها مرة ثانية في نفس الوقت المتفق عليه؛ لأنه قال: (إلى أجل معلوم)، فعقد السلم إلى أجل معلوم، وحينئذٍ يلزمه إذا فات منه أن يأتيه بمثل المتفق عليه من غيره، مثل الإجارة فإنه إذا قال: أريدك أن توصلني إلى مكة وتعطلت سيارته، يلزمه أن يستأجر سيارة مثلها في نفس الصفات فإن كانت هذه مثلاً مكيفة تكون هذه مكيفة، وكانت هذه تحمل الأغراض هذه تحمل الأغراض، ويستأجرها له من الموضع الذي فسدت فيه سيارته من أجل أن توصله إلى المكان المتفق عليه، وهكذا لو استأجره فأصابه عذر أقام غيره مقامه، وهذا أصل ذكره العلماء، وسيأتي معنا في باب الإجارة، والبيع في حكم الإجارة كما لا يخفى. والله تعالى أعلم.

حكم اشتراط المرأة عدم الزواج عليها في عقد النكاح

حكم اشتراط المرأة عدم الزواج عليها في عقد النكاح Q إذا اشترط الولي على الزوج ألا يتزوج على ابنته زوجة ثانية، فهل هذا الشرط معتبر، أثابكم الله؟ A قد تشترط المرأة أو يشترط وليها أنه لا سابقة ولا لاحقة، ولا بأس أن يشترطوا؛ لكن: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)، وهذه المسألة اختلف فيها السلف رحمهم الله. فبعض العلماء يرى أنه لو اشترطت ألا سابقة ولا لاحقة، أي: لا تكون له زوجة؛ لأنه في بعض الأحيان يخفي الزوج أمر زواجه، ويتزوج على زوجته القديمة فتشترط: (لا سابقة ولا لاحقة)، فهذا الشرط للعلماء فيه وجهان: فبعض العلماء: يقول: الشرط ماضٍ، فإذا وُجد عنده امرأة سابقة فإنه من حقها أن تفسخ النكاح، ويكون المهر لها، ويمضي العقد على الوجه الذي تمّ بينهما، وليس من حقه أن يبقيها، وتكون طلقة بائنة بينونة صغرى ولا تحل له إلا بعقد جديد. وقال بعض العلماء: إن اشترطت: (لا سابقة ولا لاحقة) فإن الشرط باطل والعقد صحيح، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس -ونسأل الله أن يتمم بخير-، وإن كان هذا لا يرضي النساء؛ لكن هذا حكم الله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل أخبرنا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)، والذي في كتاب الله: {فانكحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1]، فالله يندب ويحبب ويرغب؛ لأن هذا من الرفق بالنساء، فالمرأة قد تكون عانسة، أو مطلقة، أو مات عنها زوجها فتضم إلى بيت من البيوت تحت رجل يستر عرضها، ويقوم على شأنها ويرفق بها، فإذا جاءت هذه تقول له: لا سابقة ولا لاحقة، آذت المسلمين وأضرت بهم، ثم أيضاً أضرّت به هو فهو قد يقع في الحرام، وهذا موجود في بعض البيئات التي يرون نفاذ هذا الشرط فإنها تقع مصائب عظيمة، فالرجل يتزوج المرأة وتشترط عليه: لا سابقة ولا لاحقة ثم تنجب له عشرة أبناء، وقد يذهب جمالها فيخاف على نفسه الحرام وقد يصيبها شيء من العاهات والآفات فيخاف على نفسه الحرام، فلا يستطيع أن يطلقها ولا يستطيع أن يتزوج عليها؛ لأنه إذا تزوج عليها طلقت طلقة بائنة فذهب عليها أولادها، وإذا بقي ربما يقع في الحرام، فهذا الشرط لا شك أنه يضر بالزوج ويضر بالمرأة ويضر بالنساء، فمن باب الرفق بالجميع أنه لا يعتبر هذا الشرط ولا يعتد به، وهذا هو الذي تميل إليه النفس، وإن كان هناك من خالف، لكن الصحيح: أن هذا الشرط يخالف شرع الله. وأما من قال: إن هذا الشرط مشروع لقوله عليه الصلاة والسلام: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج)، فنقول: نعم بشرط أن يكون موافقاً لشرع الله لا معارضاً له، فمثلاً: تشترط عليه أن يكون لها بيت داخل المدينة، فهذا شرط استحلّ به الفرج فلابد أن يفي لها، أو يشترط وليها فيقول: أشترط أن تؤثث بيتها من الفراش الفلاني، أو أن تكون لها شقة، فيشترط شروطاً في كتاب الله وفيها رفق بالمرأة، وفيها أيضاً رفق بالزوج، فإذا كان على هذا الوجه فهذا من كتاب الله وموافق لشرع الله؛ لكن إذا اشترطت عليه: لا سابقة ولا لاحقة ويبقى على امرأة واحدة؛ فقد لا يأمن على نفسه الحرام إن حاضت، أو إن حملت، أو إن نفست، فهذا لا شك أن فيه ضرراً، وهو يخالف شرع الله؛ لأنه يفضي إلى تحريم التعدد عليه، وعلى هذا: فالذي تطمئن إليه النفس أن الشرط لاغٍ والعقد صحيح وتام. والله تعالى أعلم.

حكم بيع التقسيط والزيادة فيه

حكم بيع التقسيط والزيادة فيه Q ما الدليل على جواز الزيادة في بيع التقسيط؟ وهل يجوز للبائع إذا أتى موعد السداد وعجز المشتري عن السداد أن يزيد عليه في القسط، أثابكم الله؟ A أما المسألة الأخيرة وهي أن يزيد عليه في القسط فهذا ربا، فلو قال له: إما أن تسدد في الوقت فإذا لم تسدد في الوقت فعليك زيادة (6%)، فهذا عين الربا بإجماع العلماء رحمهم الله؛ لكن لو أنه اشترى منه بالتقسيط أو إلى أجل وزاد في القيمة فهذا لا بأس به؛ وذلك أولاً: لعموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275]، فإن بيع المؤجل قيمته ليست كالمعجل، وقد جعل الله لكل شيء قدراً، فإنك إذا بعت السيارة حاضرة قيمتها مائة ألف؛ لكن إذا بعتها إلى أجل تضررت بتأخر القيمة فجعلت القيمة المؤجلة غير القيمة المعجلة وزدت فلا بأس. وأما مسألة تقسيط الثمن فإن الشرع قد أذن بتقسيط الثمن كما في بيع المكاتب، فإن المكاتب يدفعها أقساطاً، وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لـ بريرة: (إن شئت نقدتك إياها) أي: نقدتك الأقساط المؤجلة، وبيع التقسيط بإجماع العلماء ليس فيه حرج. أما حديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة) فإنه لا ينطبق على بيع التقسيط إلا في صورة واحدة وهي أن يقول له: أبيعك هذه السيارة بمائة ألف نقداً وبمائتي ألف إلى نهاية السنة، ويفترقا ولا يحددا، أما لو حدد أنه اشتراها حاضرة أو اشتراها إلى أجل فليست من بيعتين في بيعة، فإذا قال له: اشتريت بمائة بالتقسيط فقد تمت صفقة واحدة ولم تتم صفقتين، ولذلك ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن الذي دعي له بالفقه في الدين فسّر الحديث على هذا الوجه: أنه إذا أوجب إحدى الصفقتين فليس من بيعتين في بيعة، وروى عبد الرزاق في مصنفه، وابن أبي شيبة في مصنفه عن طاوس وعن جماعة من السلف وعن ابن سيرين أنه حكى عن جماعة من التابعين أنهم لا يشكُّون ولا يختلفون أنه إذا أوجب إحدى البيعتين فليس ببيعتين في بيعة؛ إنما المحرم أن يقول له: اشتريت. ولا يحدد هل اشترى نقداً أو اشترى إلى أجل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فله أوكسهما -أي: أوكس القيمتين- أو الربا)، فجعله حائزاً إما على القليل أو حائزاً على الربا، وهذا إذا لم يحدد إحدى البيعتين؛ لأنه إذا حدد إحدى البيعتين لم يقع في التخيير ولم يقع في الربا، وعليه: فإن هذا -أعني: بيع التقسيط- جائز ومشروع، وحكى بعض العلماء أنه لا خلاف بين أهل العلم في جواز بيع الأجل -أي: المقسط- الذي يوضع على الشهور أو يوضع على السنوات. والله تعالى أعلم.

حكم البراءة من العيوب التي يعلمها المشتري

حكم البراءة من العيوب التي يعلمها المشتري Q إذا اشترطت على من يشتري السيارة أن يأخذها لأهل الخبرة كمهندس ونحوه ثم أبرأ بذلك عند ذكر العيوب التي يعرفها، فهل هذا جائز، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإذا عرض السيارة للبيع وقال للمشتري: خذها إلى من له خبرة ينظر فيها ويبين لك عيوبها، فأخذها ومضى بها إلى مهندس ونحوه فاكتشف أن بها عيوباً، وجاء إلى البائع وقال: وجدت فيها العيب الفلاني وسمى العيوب، فقال له البائع: أنا بريء منها، فإن البراءة صحيحة والبيع صحيح إذا أنعما وأطلع البائع المشتري أو مكّن المشتري من الاطلاع عليه على هذا الوجه، وهكذا لو قال له: هذه الأرض، وهذه مواصفاتها وهذا ما فيها فاذهب إلى أهل الخبرة فإن وجدوا بها عيباً فأخبرني، ثم لما وجدوا فيها عيباً أو عيوباً ذكرها له فبرئ منها وأوجب الصفقة على ذلك صح هذا؛ لأن المشتري يكون على بينة من أمره وليس فيه غرر ولا غبن. والله تعالى أعلم.

مدى صحة قولهم: (البضاعة لا ترد ولا تستبدل)

مدى صحة قولهم: (البضاعة لا ترد ولا تستبدل) Q بعض المحلات تشترط ويُكتب في الفاتورة: البضاعة لا تردّ ولا تستبدل، هل هذا الشرط صحيح؟ وهل يؤثر في العقد، أثابكم الله؟ A هذا الشرط يقصد منه أحد أمرين: الأمر الأول: إما أن يقصد صاحب المتجر أن البضاعة إذا خرجت من المحل فإني لا أردها ولا أستبدلها إذا جاءت كاملة بنفس الصفة، كأن تكون تبيع أطعمة أو تبيع ملبوسات أو أقمشة فتقول: من خرج من دكاني لا أردّ شيئاً مما اشتراه، من حيث الأصل الشرعي: من فارقك وقد اشترى منك شيئاً يُلزم بالصفقة وليس من حقه أن يرجع، فإذا رجع وطابت نفسك أن ترد له فهذا لك، ففي هذه الحالة إذا قُصد من قوله: (البضاعة لا ترد ولا تستبدل) دفع إحراج الناس، كأن يشتري منك نوعاً من القماش ثم يرجع بعد ساعة فيقول: أريد النوع الفلاني الثاني أو الثالث، وهذا يُحْدِث عندك ربكة ويحدث عندك تعطيل العمال ويضر بعملك ولا تريد إلاَّ أن تكون أعمالك منظَّمة مرتبة، بحيث إذا أخذت المال تستطيع أن تنتفع به وتستطيع أن تشتري به، خاصة بالنسبة للأشياء التي لها قيم غالية، فإنه يأخذ بيد ويشتري بيدٍ أخرى ولربما النصف ساعة هذه التي يملك فيها العشرة آلاف والعشرين ألف قد يشتري بها صفقة ثانية فإذا جاءه هذا يريد أن يستبدل أو يرد فإنه يضر به، فهذا النوع من الاشتراط، وهو أنه إذا رد لك السلعة كاملة ولا تريد أن تردها، فعندها من حقك أن تقول: لا أُقيل، وهذا يسمى الامتناع من الإقالة، وهو من حقك؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، فإذا أخذ الصفقة كاملة وليس فيها عيب يلزمه أن يمضي البيع. الأمر الثاني: أن يُقصد من هذه العبارة أنه حتى لو وُجد عيب فليس من حقك أن ترد وليس من حقك أن تستبدل، فهذا باطل، وليس من حق البائع أيّاً كان أن يشترط على المشتري أنه إذا وجد العيب ليس من حقه أن يرد، وهذا ما سميناه ببيع البراءة المطلقة؛ لما فيه من أكل أموال الناس بالباطل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين) (ابتاعها) أي: اشتراها. ومعنى الحديث أنهم كانوا في القديم يأخذون الناقة ويحبسون اللبن في ضرعها يوماً أو يومين فينتفخ الضرع، فمن رأى ضرع الناقة ظن أنها حلوب وزاد في السعر ورغب في الشراء، فلا ينكشف هذا العيب إلا بعد ثلاثة أيام؛ لأنه يحلبها في اليوم الأول الحليب المخزّن فيها فإذا به كثير، ثم في اليوم الثاني ينقص، وفي اليوم الثالث تتجلى الأمور في الناقة وفي الشاة أنها ليست بحلوب، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغش فقال: (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها) أي: اشترى هذا النوع من الصفقات المبنية على الغش (فهو بخير النظرين: إن رضيها أمسكها) إن أعجبته فأمسكها فلا إشكال، كأن تشتري الناقة وإذا بها مصراة وأنت تريدها للحم، فتقول: كونها حلوباً أو ليست بحلوب لا يهمني؛ لأنني أريدها أضحية أو غير ذلك فلا يضرك كونها ليست بحلوب، إذاً: فهذا العيب لا يضرك فتمسكها (إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر) فقوله عليه الصلاة والسلام: (ردها) أثبت الرد بالعيب، فلما يكتب على الفاتورة: (لا ترد ولا تستبدل) ليس من حقه الامتناع مع وجود العيب، فإذا كان فيها عيب فمن حقك أن ترد ومن حقك أن تستبدل إلاَّ في بيع العين -كما سيأتي-، فمن قال: أي سلعة تخرج من المحل لا ترد ولو كانت معيبة، نقول له: هذا باطل. وبناءً على ذلك: كلمة: (البضاعة لا ترد ولا تستبدل) فيها تفصيل: إن قُصد منها إسقاط الحقوق في العيوب، فباطلة وليست بشرط معتبر؛ لأنه ليس من الشروط التي في كتاب الله، وإن قُصد منها إمضاء البيوع مع تمام الصفقات وعدم وجود العيوب فيها فإنه شرط صحيح؛ لأنه يوافق مقتضى العقد، وهذا يندرج تحت القسم الثاني من الشروط وهو -كما ذكرنا- أن يوافق مقتضى العقد؛ لأن مقتضى العقد إتمام الصفقة، فإذا قال لك: لا ترد ولا تستبدل فمعناه أنه يريد أن يتم الصفقة، والأصل في البيع أن تتم صفقته ولا تنقض، وأن تمضي ولا ترد، وعلى هذا فهو شرط شرعي صحيح إذا كانت السلعة مستوفية لصفاتها التي بيعت عليها. والله تعالى أعلم.

الفرق بين (الفساد) و (البطلان)

الفرق بين (الفساد) و (البطلان) Q هل هناك فرق بين لفظ (الفساد) ولفظ (البطلان) وذلك في العقود، أثابكم الله؟ A يعبر العلماء رحمهم الله بفساد البيع ويعبرون ببطلانه ولا يفرقون بين الفساد والبطلان على مذهب الجمهور، لكن عند الحنفية رحمهم الله تفريق بين الباطل والفاسد، فيجعلون الباطل ما لم يشرع بأصله ولا وصفه، والفاسد ما بطل بوصفه دون أصله، فيكون البيع في أصله مشروعاً؛ ولكن صفة البيع والطريقة التي تم بها البيع هي التي أوجبت فساده؛ ولكنها لا توجب بطلانه من أصله، فمثلاً بيع الخمر والميتة والخنزير هذه يقولون: بيع باطل؛ لأن الشرع لم يجعل لقاء الخمر قيمة، ولم يجعل لقاء الخنزير قيمة، ولم يجعل لقاء الميتة قيمة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله ورسوله حرَّم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام) فهم يفرقون بين الباطل والفاسد من هذا الوجه، والصحيح مذهب الجمهور، وهو أنه لا فرق، وعند طائفة من العلماء أن الخلاف لفظي؛ لأن النتيجة واحدة والثمرة واحدة، ولكنه خلاف مصطلحات، وأيّاً ما كان فمن ناحية الحكم فإن الحكم واحد عند المذهبين؛ لكن الجمهور لا يفرقون بين الباطل ولا الفاسد، فيرون أنهما بمعنى واحد. والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب الخيار [1]

شرح زاد المستقنع - باب الخيار [1] من كمال الشريعة المطهرة أن شرع الله الخيار في بعض المعاملات التي قد يلحق العاقد منها ضرر لأي سبب من الأسباب، والعقود من جهة تعلق الخيار بها أقسام، والخيارات بحسب دواعيها أقسام أيضاً. وفي هذه المادة عرف الشيخ الخيار وذكر فوائده، ووجه دلالته على كمال الشريعة، كما بين أقسامه، وأقسام العقود التي يتعلق بها.

تعريف الخيار وأنواعه وحكمة مشروعيته

تعريف الخيار وأنواعه وحكمة مشروعيته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال رحمه الله: [باب الخيار]. يقول المصنف رحمه الله: (باب الخيار) الخيار مأخوذ من الخير. يقال: استخار إذا طلب الخير وسأله من الله عز وجل فيما هو قادم أو يريد القدوم عليه من أمور دينه أو دنياه. ومنه سميت الاستخارة استخارة؛ لأن المسلم يسأل الله عز وجل خير الأمرين من المضي أو عدم المضي. وسمي الخيار خياراً؛ لأن هذا النوع يكون فيه المتعاقدان أو أحدهما له حق الفسخ خلال مدة معلومة، أو له حق الفسخ ورد البيع لسبب معين خلال مدة معلومة مثل خيار الشرط، كأن يقول: أنا أشتري منك هذا البيت ولي الخيار ثلاثة أيام، فله أن يرد خلال هذه المدة المعلومة. وله أيضاً أن يرد لسبب معين كوجود عيب في الصفقة، وهذا يسمى خيار العيب. وخيار الغبن إذا غبنه. وخيار التدليس إذا دلّس عليه في السلعة. وهذا الباب يعتبر من أهم الأبواب المتعلقة بالمعاملات. والعلماء رحمهم الله يذكرون الخيار في البيع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا). ومناسبة ذكر المصنف للخيار عقب الشروط: أن الشروط فيها خيار، فحينما أقول لك: اشتريت منك هذه الدار على أن يكون لها صكّ شرعي، فمعناه أن لي الخيار في الفسخ إذا لم يظهر لها صك. أو: اشتريت منك هذه السيارة بعشرة آلاف على أن فيها صفة كذا وكذا، فمعناه أن لي الخيار إذا لم تظهر فيها الصفة، فكأن هناك صلة بين الخيار وبين الشروط. ومباحث الخيار تنبني على مباحث الشروط، أو تتصل بمباحث الشروط. فلذلك يعتني العلماء بذكر باب الخيار عقب باب الشروط. والخيارات أنواع منها: خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار التدليس، وخيار الغبن، وخيار العيب … إلى آخر ذلك من الخيارات التي سنبينها إن شاء الله ونوضحها في مواضعها. وقد شرع الله عز وجل الخيار لما فيه من دفع الضرر عن المسلمين، فإن المسلم إذا تبايع مع أخيه، أو تبايع مع الغير ربما ندم وأصابته الحسرة على هذه الصفقة التي أوجبها، فجعل الله عز وجل حداً معيناً يدفع فيه المسلم عن نفسه الضرر. فأنت مثلاً لو كنت جالساً مع أخيك المسلم فقال لك: هذه السيارة أبيعها بعشرة آلاف، ربما استعجلت وقلت له: وأنا اشتريت؛ لأنك ترى أن السلعة تستحق العشرة آلاف بل وأكثر من عشرة آلاف، فتتسرع في الإجابة؛ لكنك إذا أمعنت النظر وتدبرت وجدت أن دفعك للعشرة آلاف يجحف بحقوق واجبة عليك، ولربما يضر بأهلك ونفقة عيالك، ولربما لا تضمن دخلاً يعينك على سداد الأقساط إذا كان البيع مؤجلاً، فالمسلم بطبيعته بشر يعتريه ما يعتري البشر من التسرع في الأمور؛ فكأن الخيار يدفع هذا النوع من الضرر في حدود ضيقة: وهي أن يكون الإنسان مستعجلاً في بت البيع فأعطاه الشرع خيار المجلس. فما دمت مع البائع في نفس المجلس الذي تم فيه البيع، وانعقدت فيه صفقة البيع فمن حقك أن تقول: رجعت، ومن حقك أن تقول: لا أريد، وهذا النوع شرعه الله عز وجل دفعاً للضرر عن البائع ودفعاً للضرر عن المشتري، فكل منهما يدفع عن نفسه الضرر؛ لأنه ربما قال لك رجل: بعني سيارتك بعشرة آلاف، فإذا بك تستعجل وتقول: قبلت، فلما فكّرت ما هو البديل وما الذي ستشتريه بدل هذه السيارة، فوجدت أنك ستتضرر أكثر، فحينئذٍ تقول: لا أريد، وترجع عما قلت، وكان الأصل أنك ملزم بما قلت، لكن الشرع أعطاك هذا النوع من المهلة، وهو ما يسمى بخيار المجلس. كذلك من حكمة مشروعية خيار الشرط: أن المسلم يشترط على أخيه المسلم في صفقة البيع، وذلك من أجل أن يدفع الضرر الموجود في السلعة، أو يدفع الضرر الذي يتوقع حدوثه من المضي في البيع، أو نحو ذلك من الأسباب التي تدفعه إلى الشرط. مثال ذلك: لو أن رجلاً عرض عليك أرضه بعشرة آلاف، هذه الأرض قال لك: إنها طيبة وجيدة ويحتمل أنها في المستقبل تكون قيمتها أغلى، وهذا المكان الذي فيه الأرض له مميزات، فجعل يشرح لك الأمور التي ترغبك في شراء هذه الأرض، فبطبيعة الحال قد يكون الإنسان ليس عنده إلمام بمثل هذه الأمور، ويكون جاهلاً بسوق العقار، ولا يعلم كيف البيع والشراء كطالب علم لا يشتغل بمثل هذه الأمور. فالله عز وجل من حكمته جعل له خيار الشرط فيقول له: قبلت البيع؛ ولكن لي الخيار ثلاثة أيام أستشير فيها وأرجع إلى أهل الخبرة وأهل النظر، فإن أنعموا البيع أنعمت وأمضيت، وإن أشاروا عليّ بغيره فإني على خياري. فهو حينئذٍ يدفع عن نفسه ضرراً، خاصة أن البيع قد يكون بمبالغ كبيرة يتضرر الإنسان بدخوله في مثل هذه الصفقات، وقد تكون محتاجاً إلى هذه الأرض ولا بد لك من أرض أو لا بد لك من سيارة. فهذا النوع الثاني من الخيارات، فكما أن الأول يدفع عنك ضرر الاستعجال في بتّ البيع، كذلك هذا يدفع عنك ضرر ما يقال في السلعة أو يقال في الصفقة من المرغبات التي لا حقيقة لها، فيكون خيار الشرط سبباً في حفظ المسلم من أن يخُتل أو يضر به.

أقسام عقود المعاملات

أقسام عقود المعاملات ومن المعلوم أن عقود المعاملات تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: يقوم على الغبن المحض. القسم الثاني: يقوم على الرفق المحض. القسم الثالث: يقوم على الغبن والرفق. وهذا مدخل نريد أن نبين به حكمة مشروعية الخيار تأكيداً لما تقدم. والبيع يعتبر من العقود التي تسمى بعقود المعاوضات، ونظراً لأننا ندرس المعاملات المالية فلا بد أن نعرف أنواع المعاملات حتى يستطيع الإنسان أن يدرك الأسرار والحكم التي يفرق من أجلها الشرع بين المعاملات، فيشدد في نوع ويخفف في نوع. فإذا أدركت السبب الذي من أجله خفف الشرع في هذا النوع وشدد في هذا النوع أدركت أنه لا أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون، وأن هذه الأحكام الموجودة في البيوع لا يقصد بها التضييق على الناس وإنما المقصود منها أولاً وأخيراً خير الناس في دينهم ودنياهم وآخرتهم، وهذا يزيدك قناعة بحكم الشريعة وبصلاحيتها للفصل بين الناس وتوجيه الناس ودلالتهم على ما فيه صلاح أمور دنياهم، كما جاءت بما فيه صلاح أمور دينهم. وعقود المعاوضات: هي التي تدفع فيها شيئاً عوضاً عن شيء، وهذا يشمل البيع، فأنت تدفع -مثلاً- عشرة آلاف ريال عوضاً عن سيارة. ويشمل الإجارة، تقول له: أجرني بيتك أسكنه سنة بألف أو بخمسة آلاف. ويشمل أيضاً النكاح يقول له: زوجتك ابنتي بعشرة آلاف، فجعل الاستمتاع بالبنت لقاء العشرة آلاف وهي المهر: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24]. وكذلك يشمل الهبة إذا كانت هبة عوض، كأن يعطيه ساعة فيعطيه هدية في مقابلها أو هبة في مقابلها قلماً، فهذا أيضاً يعتبر من عقود المعاوضات. وكذلك الشركات حينما تقول: تدفع خمسين ألفاً وأدفع أنا خمسين ألفاً، ونشترك برأس مال مائة ألف على أن نتاجر، فهذا أيضاً من عقود المعاوضة؛ لأنه عاوضك بالخمسين الألف لقاء الخمسين الأف التي معه على أن يكونا رأس مال واحد. وكذلك المضاربة، وهي التي تسمى بالقراض؛ تقول للعامل: خذ هذه المائة ألف واضرب بها في الأرض وتاجر والربح بيني وبينك، فأصبح عمل العامل لقاء جزء من الربح. إذاً: ما يقصد منه الغبن المحض مثل: البيع والإجارة، فإن الرجل إذا قال لك: بعتك سيارتي بعشرة آلاف ستقول: بل بتسعة، أو يقول: بعشرة، وتقول: بتسعة ونصف، أو هو يقول: بتسعة ونصف، فكأن هناك مبلغاً فيه غبن إما عليك وإما عليه، فإن قوي البائع صار الغبن في حق المشتري، وإن قوي المشتري صار الغبن في حق البائع، وقد يتكافآن لكن هذا النوع من العقود يقوم غالباً على الغبن. والإجارة كذلك، فلو قال له: أجّرتك هذه الشقة بعشرة آلاف في السنة سيقول: بل أستأجرها بتسعة آلاف بثمانية آلاف، فيماكسه ويحاول أن يحدث نقصاً، ويكون الغبن فيها في طرف المؤجر لا في طرف المستأجر، وهكذا لو قلت لعامل: اعمل عندي في المزرعة كل شهر بألف، فيقول: بل أعمل في هذه المزرعة كل شهر بألف ومائة، فكأن هناك مائة بين الطرفين. فهذا النوع من العقود الذي المقصود منها الغبن يشدد الشرع في شروطه كما قدمنا في شروط البيع، ويشدد أيضاً في فتح باب الضرر على أحد الطرفين، ومن هنا جعل خيار المجلس في عقد البيع، وجعل خيار المجلس في عقد الإجارة؛ لأن المسلم يحتاج إلى شيء من الروية قبل أن يبتّ البيع ويلزم به. فالمقصود أن هذا النوع وهو ما يقصد به الغبن نجد الشرع يحيط البائع والمشتري بسياج متين يقصد منه حفظ الحقين: حق البائع، وحق المشتري، فحق البائع ألا يبذل سلعته إلا وهو مطمئن، وحق المشتري ألا يدفع القيمة إلا وهو مطمئن إلى الوصول إلى ما يريده أو يبتغيه من صفقته.

العقود التي يدخلها الخيار والتي لا يدخلها

العقود التي يدخلها الخيار والتي لا يدخلها ثم إن العقود تنقسم إلى أقسام: القسم الأول: ما لا يلزم الطرفين لا حالاً ولا مآلاً. القسم الثاني: ما يلزم الطرفين حالاً ومآلاً. القسم الثالث: ما يلزم الطرفين أو أحدهما مآلاً لا حالاً. فهذه ثلاثة أقسام للعقود. يتركب منها مسألة الخيار، فحتى نعرف أين محل الخيار في العقود والمعاملات المالية وما يتبعها، ينبغي أن نقسم بهذه التقسيمات: القسم الأول: ما كان من العقود غير لازم لا حالاً ولا مآلاً: وهذا يشمل الأنواع الآتية: أولها: عقد العارية. ثانيها: عقد الوديعة. ثالثها: عقد القراض أو ما يسمى بالمضاربة. رابعها: عقد الشركة. نبدأ بالعارية: وهي أن يأخذ يستعير منك شيئاً، كالسيارة مثلاً، فإنك لست بملزم بأن تدفع له السيارة، فلك أن تعطيه ولك ألَّا تعطيه. فإذا أخذ السيارة وجئت في أي وقت تقول له: أعطني إياها، فإنه يلزمه أن يعطيك. كذلك أيضاً إذا أخذها هو وأراد أن يردها لك في أي وقت فله ردها، فالأخذ في مقابله الرد لا يلزم لا حالاً ولا مآلاً، فهذا النوع يكون الخيار ثابتاً فيه للطرفين إلى الأبد، وليس من حق أحدهما أن يقطع الخيار على الآخر. وكذلك الوديعة: لو أن شخصاً جاءك وقال: هذه عشرة آلاف ضعها وديعةً عندك. فمن حقك أن تقول: لا أضعها، وتمتنع من ذلك، وإذا وضعتها فمن حقك بعد دقيقة واحدة أن تقول له: تعال يا فلان وخذ وديعتك، ولست ملزماً بأن تبقيها المدة التي اتفقتما عليها، وكذلك هو لو قال لك: ضعها وديعةً عندك شهراً، فجاءك بعد ساعة أو بعد يوم، فمن حقه أن يأخذها في أي وقت شاء. فإذاً: لا تَلزمك ولا تَلزمه لا حالاً ولا مآلاً. القسم الثاني من المعاوضات -وهو الذي يعنينا وهو المهم-: ما يلزم حالاً ومآلاً: وهو أن تتعاقد مع الطرف الثاني فتُلْزَم بالعقد حالاً، وتلزم به مآلاً، ويسمى هذا النوع من العقود: "العقود اللازمة"، ويعبر عنها بعض العلماء فيقول: تلزم في أول حال وثاني حال، مثل: البيع الإجارة النكاح الخلع. فمثلاً في البيع: لو قال لك: بعتك سيارتي بعشرة آلاف. فقلت: قبلت، فإذاً: "بعتك" إيجاب، و"قبلت" قبول، فتم العقد، فالأصل يقتضي أنك ملزَم بهذا البيع أن تدفع له العشرة آلاف ويدفع لك السيارة. كذلك لو قال لك: زوجتك بنتي فلانة بعشرة آلاف. فقلت: قبلت، فإنك ملزم بهذا النكاح، ويعتبر النكاح لازماً لولي المرأة ولازماً للمرأة ولازماً للزوج، أي: يعتبر لازماً لطرفي العقد أصالةً ووكالةً، فليس من حقك أن تقول: لا أريدها، فإذا قلت: لا أريدها فحينئذٍ هناك طريقة لفسخ هذا العقد، فالعقد لازمٌ وماضٍ، فإذا أردت أن تطلق طلقت، وهي إذا ظُلِمَت فلها أن تفسخ عن طريق القاضي؛ لكن العقد لازمٌ وماضٍ من حيث الأصل، فاللزوم ثابت فيه في أول العقد الذي هو الحال، ولازم في المآل، فهو باقٍ ولازمٌ إلى الأبد. كذلك أيضاً في الخلع؛ قالت له: خالعني بعشرة آلاف، فقال: قبلت، فإنه يُلزم بخلع المرأة منه ويلزمه قبول العشرة آلاف. فهذا العقد الذي تمّ بينهما وهو خلع النكاح وفسخه على هذا الوجه بعشرة آلاف، يلزم المرأة أن تدفع العشرة آلاف ويلزم الرجل أن يخالعها، إذاً: يلزمهم في الحال ويلزمهم في المآل. وهذا القسم الثاني من المعاملات الذي يلزم في الحال والمآل ينقسم إلى نوعين: النوع الأول: ما يدخله الخيار، وهذا هو الذي يعنينا هنا كالبيع والإجارة والسلم والصلح بعوض. النوع الثاني: ما لا يدخله الخيار، كالنكاح والرجعة والخلع، فهذه لا يدخلها خيار ألبتة. القسم الثالث: ما لا يلزم حالاً ويلزم مآلاً: فمن أمثلته: الجعالة، لو أن رجلاً قال: من وجد سيارتي الضائعة فله عليَّ عشرة آلاف ريال، فالناس غير ملزمين أن يذهبوا ليبحثوا عن سيارته، فإن شاءوا بحثوا وإن شاءوا لم يبحثوا، فليس بلازمٍ أن يقوموا بالعقد، فلو أن رجلاً ذهب وبحث ووجد السيارة لزم العقد، فهو ابتداء غير لازم، لكنه في المآل إذا وجد السيارة فإننا نفرض على صاحبها أن يدفع العشرة آلاف. ففي الابتداء لك الخيار أن تدخل وأن تبحث، لكن لا يلزم الطرف الثاني أن يدفع لك شيئاً ولا أن يتم الصفقة إلا إذا وجدت ما ركّب الشرط عليه، فهذا عقد الجعالة. كذلك عقد الاستهلاك بالضمان: فلو أن رجلاً معه شيء فيه ضرر، فقلت له: يا فلان! إن أتلفت هذا الشيء الذي فيه ضرر أعطيك عوضاً عنه مائة ريال، فعندئذ إن شاء هو اتلف وإن شاء لم يتلف، فهو بالخيار، وأنت لا تلزم بشيء في بداية العقد؛ لكن لو أنه أتلف ألزمت بدفع ما تكفلت به، فلو أنه أتلفه وتمت صفة الإتلاف في العين التي اشترطت إتلافها، لزمك أن تدفع المائة لقاءها، فهذا يسمونه الاستهلاك بالضمان. كذلك أيضاً في العتق بعوض: فلو أنه قال له: إذا أعتقت عبدك فلك عليَّ عشرة أو مائة، فهو مخير إن شاء أعتق وإن شاء لم يعتق؛ لكنه لو أعتق فإنه يُلزم الطرف الثاني بإعطاء العشرة والمائة، وهذا ما يسمى بالعتق بالبدل. فهذه العقود في ابتدائها ليست بلازمة في أول الحال؛ لكنها تئول إلى اللزوم في ثاني الحال. و Q إذا كانت العقود على هذه الثلاثة الأقسام ما يلزم حالاً ومآلاً، وما لا يلزم حالاً ولا مآلاً، وما يلزم في ثاني الحال ولا يلزم في أول الحال. فأين محل الخيار؟ أو في أي نوع من هذه العقود يدخل الخيار؟ و A العقود التي لا تلزم حالاً ولا مآلاً الخيار فيها مؤبّد لكلا الطرفين، مثلاً الشركة لو جاءك رجل وقال: لو أنني اشتركت مع زيد بمائة ألف، فدفع هو مائة ألف وأنا مائة ألف واشتركنا وتمت التجارة والصفقة، ثم أردت أن أفسخ الآن، هل من حقي هذا؟ فتقول: من حقك أن تفسخ في أي وقت، فأنت بالخيار: إن شئت فلك أن تبقي الصفقة وتبقي عقد الشركة، وإن شئت أن تلغيه في أي وقت فلك ذلك أيضاً، إلا في حالات مستثناة مثل: وجود الضرر على الطرف الثاني، فهذه فيها تفصيل، وسيأتي إن شاء الله في باب الشركة والقراض. والآن في بعض الشركات تشترك مع رجل ويقول لك: تدفع مائة ألف وأدفع أنا مائة ألف ونصير شركاء في هذه الشركة، ولا يجوز لك أن تنسحب من الشركة قبل سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات، فما الحكم؟ نقول: هذا الشرط باطل؛ لأنه يسقط الخيار الأبدي المجعول من الشرع، وما أدى إلى باطل فهو باطل، فليس من حقه أن يلزمه في الشركة ولا في القراض ولا في نحوها من العقود التي لا تلزم حالاً ولا مآلاً؛ لأنه يسقط خيار الشرع، فالشرع جعلها على الخيار وهذا يريد أن يجعلها على اللزوم، ويضر بأخيه المسلم فيما وسع الله عليه. فهذا النوع الأول يكون الخيار فيه أبدياً ولا إشكال فيه من حيث إن المتعاقدين أو أحدهما لو أراد أن يفسخ فله أن يفسخ، حتى ولو كان الطرف الثاني غير راضٍ. وأما النوع الثاني: وهو الذي يلزم في الحال والمآل فقد ذكرنا أنه ينقسم إلى قسمين: منه ما يدخله الخيار كالبيع والإجارة والصرف والسلم والصلح بعوض ونحوه، ومنه ما لا يدخله خيار كالنكاح والرجعة والخلع بعوض ونحوه. وأمّا النوع الثالث: وهو الذي لا يلزم في الابتداء ويلزم في المآل؛ فإن الخيار فيه في الابتداء للمتعاقدين، فإذا صار إلى اللزوم فإنه حينئذٍ يسقط الخيار بوجود اللزوم فيه؛ لأن الشرع ألزم المسلم بالعقد، فلما قال: سأعطيك عشرة آلاف إن أحضرت سيارتي أو أحضرت عبدي أو دابتي، فإنه يلزم بذلك بعد الوجود، ولا خيار له في الإسقاط.

الأسئلة

الأسئلة

خيار المجلس في البيع عن طريق الهاتف

خيار المجلس في البيع عن طريق الهاتف Q بالنسبة للبيع عن طريق الهاتف، هل للمشتري في هذه الحالة خيار مجلس؟ وكيف يكون، أثابكم الله؟ A في خيار المجلس يكون المتعاقدان في مكان واحد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، فإذا تفرقا فإنه ينقطع الخيار بافتراق الأبدان؛ لكن إذا تعاقد معه عن طريق الهاتف وكان المكان مختلفاً يرد السؤال: هل العبرة بانقطاع المكالمة؟ هذا يقول به بعض العلماء المعاصرين؛ يقول: إن الخيار يكون لهما حتى يقطع الاتصال. لكن المشكلة فيه أن القطع يكون من طرف أحدهما دون الآخر. فقال: هذا لا يضر، وهو كما لو قام أحدهما دون الآخر. وقال أيضاً: إنه يمكن للطرف الثاني أن يلقي بالسماعة ولو كان الخط ليس له، فإن إلقاءه للسماعة يمكنه من الدلالة على المضي وإتمام الصفقة. وكنت أتوقف في هذه المسألة ولا أزال أجد في نفسي منها شيئاً، ومهما كان فالنظر فيها محتمل: يحتمل أن يكون فيها الخيار بقطع المكالمة -كما ذكرنا- وله وجهه وعلته التي ذكرناها، ويحتمل أن يكون من جنس ما ليس فيه الخيار حتى يتواجها ويبتا الصفقة، فهذا أمر محتمل. والله تعالى أعلم.

حكم بيع الدين بأقل منه

حكم بيع الدين بأقل منه Q لي دين عند آخر قدره عشرة آلاف، فقال لي شخص: خذ تسعة ودعني آخذ العشرة من المدين متى استطاع على دفعها، فما الحكم، أثابكم الله؟ A هذا هو الربا، فإذا قال لك: لك على فلان عشرة آلاف، خذ مني تسعة آلاف وأنا آخذ منه العشرة، فهو الربا الذي لعن الله آخذه ومعطيه وكاتبه وشاهده، وهو الربا الذي حرمه الله ورسوله؛ لأنه دفع لك تسعة آلاف نقداً مقابل العشرة آلاف بالفاصل وهو فاصل المطالبة. وهكذا لو كان لك راتب على جهة وقدره ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، وأحلت على جهة تصرف لك ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، فجاءك شخص وقال: أصرف لك اليوم بثلاثة آلاف إلا ريالاً أو إلا خمسة أو إلا عشرة، فهو الربا الذي لعن الله آخذه ومعطيه وكاتبه وشاهده. إذا أردت أن تحال على دين فالدين أن تحال بنفس المبلغ، فهذا جائز ولا بأس به، ومن أحيل على مليء فليتبع، والأصل فيه الحوالة. أما أن يزاد وينقص في الدين الموجود، ويكون الشخص له وجه على آخر بزيادة أو نقص فإنه الربا -كما ذكرنا- ولا يجوز فعله لا من الأفراد ولا من الجماعات. والله تعالى أعلم.

حكم إسقاط الخيار في المضاربة

حكم إسقاط الخيار في المضاربة Q في المضاربة لو قال له: أعمل لك بمالك بشرط: ألا تطلب منه شيئاً قبل مرور سنة، هل هذا الشرط صحيح، أثابكم الله؟ A هذا الشرط لاغٍ، والمضاربة لا تتأقت، فعليه أن يقول له: خذ مائة ألف وتاجر فيها، فيذهب ويتاجر بالمائة ألف، وليس من حقه أن يقول: بعد سنة أو سنتين أو ثلاث، فالقراض مفتوح الأجل، والعامل يقوم بالمضاربة بالمال مدة مضاربته، ثم يدفع المال ربحاً أو خسارة على حسب ما اتفقا عليه. والله تعالى أعلم.

الفرق بين الجعالة والإجارة

الفرق بين الجعالة والإجارة Q في الجعالة: لو اجتهد شخص في البحث عن المفقود وطلبه ولم يجده، فهل له أن يطلب مقابل جهده، أثابكم الله؟ A هناك فرق بين الجعالة وبين الإجارة، وهذا الفرق يتلخص في أن الجعالة لا تستحق إلا إذا أتم الشرط كاملاً، فلو قال لك: إذا أحضرت سيارتي فلك كذا؛ فإنك لا تستحق الجعل إلا بعد أن تحضر السيارة، قال تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72]، فإذا تحقق الشرط الذي من أجله وجدت الجعالة ألزم الشخص المالك بدفع ما اتفق عليه مع العامل. أما في الإجارة: فإنها تتجزأ بأجزاء العمل، فلو أن عاملاً استأجرته شهراً، ثم في منتصف الشهر طرأ أمر لا يستطيع معه أن يتم الشهر، فحينئذٍ يستحق نصف القيمة المتفق عليها، وأما هل يقيم غيره مقامه؟ فهذه مسألة ستأتي إن شاء الله في الإجارة، وهو أنه إذا تم العقد، ولم يستطع طرف أن يمضي الإجارة لعذر شرعي أو عذر حسي، وسيأتي التفصيل في الأحوال التي لا يستطيع فيها أن يتم العقد -لكن أياً ما كان فالإجارة تتجزأ بأجزاء العمل. ومن هنا: لو جئت تحفر بئراً فقلت لرجل: احفر لي كل متر بعشرة، فإنه إذا حفر لك مائة متر استحق ألف ريال؛ لكن لو قال لك: سأحفر لك بئر ماء هنا، فقلت له: إذا استخرجت لي بئر ماء هنا فلك عليَّ مائة ألف أو خمسون ألفاً، فحينئذٍ لو حفر مائة متر ولم يجد ماءً فإنه لا يستحق شيئاً، فهذا هو الفرق بين الجعالة وبين الإجارة. فالإجارة تتجزأ بأجزاء العمل، والجعالة لا تتجزأ بأجزاء العمل ولا يستحق العامل فيها المال، أو لا يستحق الجعل إلا إذا أتم ما اشترط عليه، كإرجاع المسروق أو الشارد أو الإمساك بالعبد الآبق، ونحو ذلك مما تقع عليه الشروط في الجعالة. والله تعالى أعلم.

أحوال السقط وحكم الدم الذي يخرج بعده

أحوال السقط وحكم الدم الذي يخرج بعده Q السقط إذا خرج قبل ثلاثة أشهر، هل يكون الدم دم نفاس، أم دم حيض؟ ومتى تصلي المرأة، أثابكم الله؟ A السقط لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يكون فيه صورة الخلقة، فالدم الذي يخرج من بعده يأخذ حكم دم النفاس، على أصح قولي العلماء. الحالة الثانية: وإما أن تضع قطعة لحم وليست فيها صورة الخلقة، فحينئذٍ يكون الدم دم فساد وعلة، ويأخذ حكم الاستحاضة. فإذاً يفرق في هذا السقط ما بين أن يكون فيه صورة الخلقة، وما بين أن يكون مضغة أو قطعة لحم أو علقة أو نحو ذلك، فهذا ليس دمه بدم نفاس ولا يأخذ حكم النفاس. والله تعالى أعلم.

حكم وضع الجوائز مع السلع المباعة

حكم وضع الجوائز مع السلع المباعة Q ما حكم إعطاء جوائز عينيه مقابل الشراء بمبلغ معين؟ وكذلك ما حكم توزيع الهدايا ترغيباً في كسب الزبائن أثابكم الله؟ A نبه العلماء رحمهم الله في قاعدة: (الضرر يُزال) على أنه ينبغي في السوق ألَّا يتسبب البائع في أذية إخوانه، وألَّا يضر بمن ينافسه في السوق؛ والسبب في هذا: أنه إذا قُطع الباعة عن المغريات اتجه الناس لتفضيل التاجر من خلال أمانته وضبطه وصدقه، وأصبحت الشهرة من خلال المعاملة الشريفة النزيهة. لكن إذا دخلت المغريات الدنيوية أصبحت الشهرة بالمال، ولربما يكون من أكذب الناس، ولربما يكون أكثر غشاً؛ لكنه لقاء المغريات يُقْبِل عليه الناس ويُعْرَف محله ويشتهر، مع أنه لا يستحق هذا كله. فهذه القاعدة: (الضرر يُزال) تجعل أسواق المسلمين متكافئة، فلا يَفْضُل فيها إلا من عُرف بنزاهته، فالآن لو أنه لا توضع جوائز لأصبح كلٌ يبذل البيع لقاء معاملته مع الناس من حسن السمعة في الأمانة والثقة والدقة في المواعيد، والانضباط فيها، وعدم الغش، وسلامة المبيعات. ولو نظرنا قَبْل ثلاثين سنةً حينما لم تكن الجوائز موجودة لوجدنا أن التاجر الذي يشتهر بين الناس والذي يعرف بين الناس؛ هو من كان أميناً، ولا يعرف إلا إذا كان صادقاً، ولا يعرف إلا إذا كان نظيف المعاملة نظيف اليد في أخذه وعطائه، ولا يمكن أن يتعامل معه الناس إلا إذا عُرف بالنزاهة؛ لأنه ليس هناك ثقل دعاية، وليس هناك ثقل إغراء، وإنما هناك المعاملة، فيدخل إلى السوق لينافس إخوانه منافسةً شريفة، ليس فيها مغريات ولا دعاية؛ ولكنها قائمة على حق، ويستحق أن يأخذ هذه السمعة وهذا الصيت لقاء النزاهة والأمانة التي تَخَلَّق بها. ولا يمكن أن يشتهر هذا النوع من التجار إلا بعد خبرة وبعد طول زمان، فتصبح الأسواق قد أخذت حقها، والتجار أخذ كلٌّ حقَّهُ، ومن هنا منع العلماء أن يبيع الرجل ويُرْخِص في السلعة لكي يضر بالسوق؛ لأنه إذا جعل السعر عنده نازلاً جَذَب الناس دون إخوانه، فكأنه يريد الإضرار بالباعة الآخرين، وعليه حُمِل فِعْلُ عمر رضي الله عنه وأرضاه مع حاطب بن أبي بلتعة حينما مر عليه وقد أرخص في سلعته فقال له: (إما أن ترفع، وإما أن ترتفع عن سوقنا)، أي: إما أن ترفع السعر فتساوي إخوانك ولا تجذب الناس تحت إغراء مادي، وإما أن تقوم عن سوقنا. الشاهد: أن هذا كله مبني على دفع الضرر. فإذا فُتح باب الجائزة وباب المغريات اتجهت الناس للسمعة، وأصبح التاجر لو كان غير منضبط في تجارته يستطيع أن يصل إلى السمعة ويستطيع أن يبيع ويشتري لقاء المادة، وحينئذٍ لا يوجد فرق بين أسواق المسلمين وغيرهم. إذاً: الأسواق الشريفة في الإسلام تقوم على كسب الثقة بالمعاملة، وليس تحت دعاية ولا إغراء مادي. وأما بالنسبة لوضع الجوائز، فالعلماء رحمهم الله قالوا: إذا قُصد بها الإضرار، كأن يجذب الزبائن إلى محله أكثر من غيره فإنه آثم شرعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضرر ولا ضرار)، ولأن الجوائز ليست ربحاً له، بل فيها ضرر عليه فقد تكلفه العشرة آلاف والعشرين، بل وقد تكلفه مئات الألوف، فهذا الضرر يرضى به على نفسه من أجل أن يجذب الناس إليه دون إخوانه، فلا إشكال في وجود الضرر من هذه الناحية، وهو آثم شرعاً، ولا يجوز له أن يفعل ذلك للإضرار بإخوانه. أما لو أن ترخيص السلع أو وَضْعَ الحوافز مثل التخفيضات كانت مدروسة كما يقع الآن، حيث ترتب عن طريق الغرف التجارية ونحوها، ويعطى كل محل فترة من الزمان يخفض سلعته، ويكون كل محل له طريقته وله ضوابطه؛ فهذا أمر يندفع فيه الضرر؛ لأني سأصل إلى حقي كما وصل إليه غيري، وأخفض كما خفض غيري، فإذا حصل فيه التكافؤ بين المحلات على هذا الوجه، فهذا لا بأس به في التخفيض. أما لو قال لك: اشترِ مني وأعطيك جائزة، فهذا يدخله الغرر؛ لأنه باعك معلوماً ومجهولاً، فأنت لا تدري هل تحصل على الجائزة أو لا تحصل، فباعك معلوماً وهو الذي تريد أن تشتريه -مثلاً- بألف ريال، ومجهولاً وهو ما يسمى بالجائزة. وهكذا لو غيب الجائزة في المبيع، كأن يضعها في علبة، فلو قال لك: في داخل هذه العلبة حظ أو داخل هذه العلبة جائزة، فمعناه أنك اشتريت معلوماً وهو علبة الحليب مثلاً ومجهولاً وهو الذي بداخلها، ولا يُدْرَى ما هي هذه الجائزة، بل إن هذا النوع من الجوائز يفضي إلى مفاسد عظيمة، ومن أعظمها: إتلاف الأموال، فلقد رأينا بأعيننا ونقل لنا الثقات أنه إذا وضعت الجوائز على اللبن تجد الرجل يشتري علبة اللبن وهو لا يريدها ولا يشربها. بل لقد رأيت بعيني من سكبها ونصحته قلت: يا أخي! اتقِ الله! هل فَسَدَتْ؟ هل انتهت صلاحيتها؟ قال: لا. أنا أريد الجائزة الموجودة فيها؛ لأنه حينما توضع الجوائز بمئات الألوف فإنه لا يريد اللبن وإنما هو يبحث عن الجائزة، فمعنى ذلك أنها تؤدي إلى إفساد الأموال، وتؤدي إلى الإضرار بها، وتخرج عن المقصود شرعاً من وجود الرفق بالناس بوجود هذه المصالح. نسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يهدينا إلى سواء السبيل. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد.

باب الخيار [2]

شرح زاد المستقنع - باب الخيار [2] الخيار تارة يكون من الشرع كخيار المجلس، فقد جعل الشرع للمتبايعين الحق بفسخ العقد أو إمضائه ما داما في مجلس العقد، فإذا افترقا أو قطع أحدهما الخيار انتهى خيار المجلس. وتارةً يكون من المتعاقدين، وإن كان الشرع أذن به في الأصل؛ كخيار الشرط، فإنه يحق للمتبايعين أو أحدهما اشتراط مدة معلومة، فإذا انتهت ولم يفسخ لزمه العقد. وقد ذكر الشيخ أحكاماً كثيرة نافعة تتعلق بخيار المجلس وخيار الشرط، وما يتعلق بهما من فروع وتفصيلات.

الخيار وأهميته

الخيار وأهميته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب الخيار: وهو أقسام: الأول: خيار المجلس]: تقدم معنا أن الخيار هو طلب خير الأمرين: والمراد بالأمرين عند أهل العلم رحمهم الله إمضاء البيع أو فسخه، ولذلك يقولون: الخيار أن يكون لأحد المتعاقدين أو لهما حق إمضاء العقد أو فسخه، فالمشتري يكون له الحق أن يمضي الصفقة أو يلغيها. والبائع له الحق أن يمضي الصفقة أو يلغيها، وقد قدمنا أن الخيار يختلف بحسب اختلاف العقود، وأن الشرع إذا ترك العقد جائزاً للطرفين فإن من حقك أن تفسخ في أي لحظة، مثل الشركة والوكالة، فإن من حقك في أي لحظة أن تقول: أريد فسخ الشركة، أو أريد فسخ الوكالة، سواءً كان الموكل أو الوكيل أو كان الشريك أو شريكه المقابل له. فالعقود التي تكون غير لازمة يكون الخيار فيها للطرفين، وقد يكون الخيار لأحد الطرفين دون الآخر، كما في الجعالة، وذكرنا أن من حق أحد الطرفين أن يفسخ دون الآخر، وهذا مبني على أنها في الابتداء يكون الخيار فيها للطرفين، حتى إذا شرع ووجد الشيء الضائع أو المفقود، وجاء به إلى صاحبه، فإنه يصير العقد حينئذ لازماً، ويجب على مالك الشيء الضائع أن يدفع الجعل لمن جاء به. وقوله رحمه الله: (باب الخيار) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بتخيير المتبايعين، أو أحدهما في صفقة البيع، والسبب في هذا: أن الخيار تارة يكون من الشارع، وتارةً يكون من المتعاقدين أو من أحدهما. فما كان من الشارع مثل خيار المجلس، فقد جعل الله عز وجل لكلا المتبايعين الحق بفسخ العقد أو إمضائه ما دام في المجلس. وما كان من المتعاقدين مثل خيار الشرط، كأن تقول: أشتري منك هذه العمارة بشرط أن لي الخيار ثلاثة أيام، ويقول البائع: بشرط أن لي الخيار أربعة أيام، فأنت أدخلت الشرط على العقد، وأدخل البائع الشرط على العقد، فليس الخيار ناشئاً من حكم الشرع، ولكنه ناشئ من المتعاقدين وإن كان في الأصل أن الشرع أذن به وأجازه، كما سيأتي بيانه في دليل خيار الشرط. وقد يثبت الخيار بسبب أمر يخل بالعقد، مثل التدليس والكذب والغش، فلو باعك عمارةً أو أرضاً أو سيارةً مغشوشةً، فإنه يكون لك خيار العيب، وهذا راجع إلى حقك في الصفقة، فإنك إذا اشتريت العمارة كاملة وتبين أنها ناقصة، فإنك قد دفعت المال الكامل للشيء الكامل، أو دفعت المال على أن السلعة بصفة معينة، فلما تبين أنها معيبة، فحينئذٍ يكون لك الخيار في أن تفسخ البيع، وأن تأخذ مالك وتنشئ العقد من جديد، أو ترضى بإمضاء الصفقة وتأخذ الأرش، كما سيأتي إن شاء الله في خيار العيب.

خيار المجلس تعريفه ومشروعيته وأحكامه

خيار المجلس تعريفه ومشروعيته وأحكامه قال رحمه الله: [وهو أقسام] أي: يختلف بحسب اختلاف الموجبات، وهذه الأقسام منها ما اتفق العلماء على اعتباره من الخيارات، ومنها ما اختلف العلماء رحمهم الله فيه، ودلت السنة على رجحان اعتباره، ومنها ما يكون فيه الحكم بالتفصيل، فتارة يعتبر وتارة لا يعتبر. فقوله رحمه الله: [وهو أقسام] إجمال قبل البيان والتفصيل. وقوله: [الأول: خيار المجلس] المجلس اسم مكان من الجلوس، وهو المكان الذي يجلس فيه المتعاقدان، وسمي خيار مجلس؛ لأن لكلا المتعاقدين الحق في إمضاء صفقة البيع أو إلغائها ما داما جالسين في المكان الذي تعاقدا فيه، وإذا تفرقا فخرج أحدهما من الغرفة مثلاً وبقي الآخر، لزم البيع. وهذا النوع من الخيار، دلت عليه الأدلة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث ابن عمر، وحديث حكيم بن حزام، وحديث أبي برزة، وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين من حديث حكيم بن حزام:: (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما) ومعنى الحديث: أن البيعين لكل واحد منهما الخيار ما داما لم يفترقا، فلو جلست مع رجل، وقال لك: عندي سيارة نوعها كذا، وصفاتها كذا وكذا، فعرفت السيارة، أو تكون على علم بها مثلاً فقال لك: أبيعك السيارة الفلانية التي تعرفها، أو العمارة الفلانية أو الأرض الفلانية في المخطط الفلاني، فقلت: قبلت، أو قال: أبيعك هذا الشيء بعشرة آلاف، فقلت: رضيت، فتمت الصفقة فدفعت له العشرة آلاف وقبضها، وبعد ساعة أو بعد ساعتين قلت: لا أريد هذا البيع، أو أقلني من البيع، فإن من حقك أن ترجع عن صفقة البيع ما دمتما في مجلس واحد. وهذا يسمى خيار المجلس ولو جلستما عشر ساعات متواصلة فإنكما بالخيار ما لم يفارق أحدكما الآخر، فإذا خرج أحدكما ولو بعد إيجاب البيع بلحظة واحدة، فقد أوجب الصفقة، وليس من حقك أن ترجع إلا إذا أذن الشرع لك بالرجوع بأسباب معينة سنبينها. إذاً: خيار المجلس يكون لك فيه الحق ما دام أنكما في مكان واحد، ومن هنا ثبت في سنن أبي داود وغيره: أن رجلين من التابعين تبايعا فرساً، فقال أحدهما لصاحبه: بعني فرسك، فقال له: بكذا، فتبايعا وتمت الصفقة بينهما، وتم العقد، فناما في مكان واحد، فلما استيقظا قام صاحب الفرس وندم على البيع، ورجع عن بيعه، فقال له المشتري: لا يحل لك إني قد ابتعت وقد وجب بيعي، فاختصما إلى أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه، فقال: والله لأقضين بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا ورد الصفقة ورأى أنهما في مجلس واحد؛ لأنهما ناما في مكان واحد ولم يفارق أحدهما الآخر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا) أي: يفارق أحدهما الآخر، فمضى قضاء هذا الصحابي رضي الله عنه بظاهر السنة. ولذلك قال فقهاء الشافعية، والحنابلة، والظاهرية وأهل الحديث بمشروعية خيار المجلس، وأنه إذا تعاقد الرجلان في صفقة وهما في مجلس واحد فمن حق أحدهما أن يرجع وليس للآخر أن يلزمه، سواءً رجع بعذر أو بدون عذر، فهذا حق من حقوقه، فمن حقه أن يرجع ويقول: لا أريد البيع، وكنت أرغب فيه فأصبحت لا أرغب. وهذا القول قضى به عبد الله بن عمر، وكذلك أبو برزة وحكيم بن حزام، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفقهاء التابعين رحمة الله على الجميع. وخالف في هذا الخيار فقهاء الحنفية والمالكية، فعندهم أنه إذا قال: بعتك بكذا، وقال: اشتريت، وتمت الصفقة فليس من حقه أن يرجع، وأن البيع يتم بمجرد الإيجاب والقبول، وهو ما يسمى في الشرع: بالعقد. واستدلوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فقالوا: إن الله سبحانه وتعالى أمرنا معشر المؤمنين أن نفي بالعقد، والعقد: بعتك واشتريت، فإن قال له: بعتك سيارتي عمارتي أرضي داري، فقال: قبلت، وتم البيع، وجب على البائع أن يفي فيعطي السلعة، ويجب على المشتري أن يفي ويعطي الثمن الذي وعد في مقابل الصفقة. واستدلوا أيضاً بأدلة أخرى، وأوّلوا حديث حكيم بن حزام، وقالوا: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا) المراد به: تفرق الأقوال، فأنت إذا قلت: أبيعك سيارتي بعشرة آلاف سيقول لك: بتسعة آلاف بتسعة آلاف وخمسمائة بتسعة آلاف وسبعمائة، فقالوا: هذا الخلاف هو معنى قوله: (ما لم يتفرقا) أي: حتى يثبتا على قيمة معينة، والمراد بالتفرق هنا تفرق الأقوال، وليس بتفرق الأبدان. وهذا ضعيف، والصحيح المذهب الأول: أن خيار المجلس مشروع؛ وذلك أولاً: لصحة دلالة السنة على ذلك. ثانياً: أن دليل الآية عام مخصص بالحديث، والقاعدة: (لا تعارض بين عام وخاص). ثالثا: ً أن الأصل في التفرق أنه يشمل الأقوال والأفعال، لكنه المراد به هنا الأفعال، بدليل أن ابن عمر أحد رواة الحديث والراوي أدرى -بما روى- كان إذا اشترى صفقة فأعجبته مشى عن البائع، حتى يتم البيع. فدل هذا على أنه تفرق الأبدان، وليس بتفرق الأقوال. رابعاً: أننا لو حملنا قوله عليه الصلاة والسلام: (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا) على التفرق بالأقوال لم يصح لأنهما لا يسميان بيعين؛ لأنه لا يقع البيع إلا بعد أن يفصل القول، أما قبل أن يفصل القول فليس هناك بيع؛ لأن البيع إيجاب وقبول، فقوله عليه الصلاة والسلام: (المتبايعان) وفي رواية: (البيّعان) أي: اللذان باعا وأوجبا وتمت الصفقة بينهما. وعلى هذا فالصحيح مذهب من سمينا أن خيار المجلس مشروع. وهذا النوع من الخيار شرعه الله عز وجل لطفاً بالعباد، وتيسيراً على الخلق، ورحمة بهذه الأمة. وقد وصف الله هذه الشريعة بأنها شريعة رحمة، ووجه ذلك: أنك ربما تستعجل وتقول: أبيعك بيتي بعشرة آلاف، ثم تراجع نفسك وتتبين أنه ليس من مصلحتك أن تبيع، وقد تشتري فيقول لك: بعتك السيارة بعشرة آلاف فتستعجل وتقول: قبلت، ثم تفكر قليلاً، وإذا به ليس من مصلحتك أن تتم هذه الصفقة، فالله عز وجل خفف على العباد، ولذلك يقولون: خيار المجلس شرع من أجل التروي ومن أجل دفع الضرر بالعجلة في الإيجاب والقبول. وعلى هذا: فإنه خيار مشروع، وفيه خير كثير للأمة؛ لأنه يدفع آفة الاستعجال، والآثار السيئة والنتائج السلبية، المترتبة على استعجال الإنسان.

العقود التي يثبت فيها خيار المجلس

العقود التي يثبت فيها خيار المجلس قال رحمه الله: [يثبت في البيع] أي: يثبت خيار المجلس في البيع، كما قلت له: بعتك سيارتي داري مزرعتي كتابي قلمي ساعتي ثوبي إلى آخره، فيثبت في جميع أنواع البيوع، سواء كان بيعاً مطلقاً أو كان بيع الصرف أو بيع المقايضة، فكله يثبت فيه الخيار. وقوله: [والصلح بمعناه]: المراد به الصلح بعوض؛ لأن الصلح يكون أحياناً بعوض، وأحياناً يكون بدون عوض، والصلح بعوض يكون في حكم البيع. مثال ذلك: لو أن رجلين اختصما إلى قاضٍ فقال أحدهما لصاحبه: تنازل عن حقك أعطك كذا، أو يقول: أرضيك عن الحق الذي لك بكذا، أو هذه ألف ريال وتنازل عن دعواك، أو عن حقك الذي ثبت لك، فلما اصطلحا على هذا المبلغ فالألف في مقابل الحق، فيقول حينئذ: قبلت، فهذا صلح بعوض وهو في كم البيع؛ لأن البيع تكون فيه الألف في مقابل سيارة أو مقابل أرض، والألف في الصلح وقعت في مقابل حق شخصي، فكما أن المال يكون في مقابل الحق العيني، يكون أيضاً في مقابل الحق الشخصي، فلو أنه قال له: تنازل عنه، فقال: رضيت، وطابت نفسه مقابل هذه المراضاة التي أعطاه إياها، ثم إنه قبل أن يفترق معه قال: رجعت، لا أريد أن أتنازل، بل أريد حقي الذي أقررت به، ولن أتنازل لقاء ألفين أو ثلاثة. إلى آخره، فمن حقه أن يرجع ما لم يتفرقا، مثل البيع، فتبين أن الصلح بعوض كالبيع؛ لأن البيع معاوضة، والصلح معاوضة. قال رحمه الله: [والإجارة] وهي بيع المنافع، فلو أن رجلاً جاء إلى صاحب عمارة، وقال له: أريد شقةً تؤجرنيها سنة، أو نظر فيها فأعجبته، فقال: بكم تؤجرها، فقال: أؤجرها بعشرة آلاف، فقال: قبلت، فتم عقد الإجارة بينهما، فلو جلسا ثلاث ساعات أو أربع ساعات ثم قال: لا أريد، رجعت عن استئجار هذه الشقة، فهذا من حقه، ما دام أنهما في مجلس واحد، وليس لصاحب العمارة أن يلزمه. وكذلك العكس فلو أن صاحب العمارة رضي بعشرة آلاف ثم تفكر ونظر، فقال: لا أريد ورجع عن إجارتها، فذلك من حقه ما دام أنهما لم يفترقا عن مجلس العقد. قال رحمه الله: [والصرف] أي: لو كان عندك ألف دولار، وجئت إلى رجل وقلت له: اصرفها لي فقال: قبلت، وبينما أنتما جالسان في مجلس واحد، جئت تريد أن تخرج، فقال الصارف: رجعت، أو طالب الصرف، فإنه من حقه ما دام أنه قد رجع عن العقد قبل أن تفترقا، ويجب عليك أن ترد؛ لأن المتبايعين بالخيار ما لم يتفرقا، والصرف يسمى بيعاً، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد). فجعل صرف الذهب بالفضة بيعاً؛ لأنه قال: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة)، ثم قال (فإذا اختلفت هذه الأصناف)، أي: كذهب بفضة (فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد). ولقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد رضي الله عنه وأرضاه -وهو في الصحيحين-: (ولا تبيعوا منها غائباً بناجز) وهذا في صرف الذهب بالفضة (الدنانير بالدراهم)، فقال عليه الصلاة والسلام عن الصرف: (ولا تبيعوا) فدل على أن الصرف بيع، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (البيّعان بالخيار) والصرف بيع دخل في هذا العموم. [والسلم]: وهو بيع، والسلم: تقديم الثمن وتأخير المثمن -وسيأتي إن شاء الله بيانه- كأن تأتي إلى صاحب المزرعة، وهو يحتاج إلى البذر، ولا تكون عنده سيولة لشراء البذر، فمن رحمة الله عز وجل بعباده أن رخص في أن تعطيه قيمة لشيء ستشتريه منه، تقول له: أشتري منك مائة صاع من الحب الفلاني -الذي سيزرعه في أرضه- إلى أجل فأعطيته المبلغ لقاء كيل معلوم أو وزن معلوم، إلى أجل معلوم، فأوجبتما، فقال: إذاً: أنا سآخذ هذه الألف، وإن شاء الله عند حصاد الحب أعطيك مائة صاع، وقبل أن تفترقا قلت له: ما أريد، أو قال لك: لا أريد، فالرجوع من حقه ومن حقك ما دام أنكما في مجلس واحد، وهو مجلس العقد، ولم تفترقا. وقوله رحمه الله: [دون سائر العقود]: أي: فلا يشمل العقود الأخرى التي لم يسمها المصنف رحمه الله، فإن خيار المجلس لا يثبت فيها؛ لأن بقية العقود اللازمة لا يصدق عليها وصف البيع، فالصلح يمكن أن يكون بيعاً؛ لأنه إذا كان بعوض فهو معاوضة، والإجارة في حكم البيع؛ لأنها بيع المنافع، وبالنسبة للسلم والصرف، فهما أصلاً بيع، فهذا وجه التخصيص، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيّعان) فخرجت بقية العقود. فالخيار يختص بهذا النوع من العقود ولا يشمل العقود الأخرى، فلو اقترض منك مائة ألف، ثم قال: لقاء هذا المال رهنتك مزرعتي، أو داري، وقبل أن يفترقا، قال: رجعت عن الرهن، فلك أن تقول: ليس من حقك؛ فإن الرهن يعتبر لازماً، ويبقى إلى أن يسدد أو يباع ويسدد منه الحق الذي في ذمة المدين، وعلى هذا يختص الحكم بما سمى رحمه الله من العقود.

لمن يثبت خيار المجلس ومتى ينتهي

لمن يثبت خيار المجلس ومتى ينتهي قال رحمه الله: [ولكل من المتبايعين الخيار ما لم يتفرقا عرفاً بأبدانهما]: فللبائع الخيار، وللمشتري الخيار. وذكر هذا لأن الخيار في بعض الأحيان يكون للمشتري، ولا يكون للبائع، فلو اشتريت سيارة وظهر بها عيب، فإن الخيار لك وليس للبائع؛ لأن خيار العيب يكون للمشتري ولا يكون للبائع. وهناك خيارات للطرفين ومنها خيار المجلس، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (البيّعان) وفي رواية: (المتبايعان) فهذا يشمل البائع ويشمل المشتري، فلو رجع البائع فذلك من حقه، ولو رجع المشتري فمن حقه أيضاً، ولا يختص خيار المجلس بأحدهما دون الآخر. إذاً: المسألة الأولى في هذه الجملة، أن خيار المجلس يشمل الطرفين، فهو حق ثابت للبائع، وحق ثابت للمشتري، والدليل على هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (البيّعان) فلم يقل: (المشتري بالخيار)، ولم يقل: (البائع بالخيار)، وإنما قال: (المتبايعان) وفي رواية: (البيّعان). وقوله: (ما لم يتفرقا) هذه صريح قوله عليه الصلاة والسلام: (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا) والتفرق: تفرق أقوال، وتفرق أبدان، وتفرق الأقوال لا إشكال فيه، لكن الإشكال في تفرق الأبدان، فإذا كان لكلا المتعاقدين حق في إمضاء البيع وفسخه ما داما مجتمعين في مكان واحد، فمتى ينتهي خيار المجلس؟ ينتهي خيار المجلس بالافتراق أو بالقطع من أحدهما، أي: بأن يتفقا على أن يقطع أحدهما الصفقة، كما سنبين إن شاء الله، ففي حالة الافتراق، لا بد من ضابط وهو متى نحكم بكونهما افترقا؟ إن كانا في غرفة، وقع الافتراق بخروج أحدهما من الغرفة. إن كانا في فضاء، كصحراء ونحوها وليس هناك حد معين، فيكون الافتراق أن يعطي أحدهما ظهره للآخر، فبمجرد أن ينصرف عنه ويعطيه ظهره كأنه ذاهب عنه، فقد فارقه؛ ولكن ما دام أنه مقابله ومعه، فإنه لم يفارقه. إذا كانت الغرفة كبيرة جداً، ولا يمكنهما أن يخرجا منها، كسفينة أو نحوها، فالافتراق العرفي أن يذهب أحدهما إلى ركن والآخر إلى ركن، فلو أنهما تعاقدا في ركن، ثم قام أحدهما إلى أمر في آخر السفينة، فإننا نفهم أنه قد فارق أخاه، وبالعرف يصدق عليه أنه قد فارقه. وبناء على هذا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) ولم يجعل للتفرق ضابطاً معيناً لاختلاف الأعراف واختلاف الأماكن، ومن هنا يقول العلماء: تنطبق عليه قاعدة: (العادة مُحَكّمة)؛ لأن الشرع في بعض الأحيان يطلق، وما أطلقه الشرع يترك الخيار فيه إلى الناس فيرجعون فيه إلى ما تعارفوا عليه، وإلى ما انضبط عندهم بأعرافهم التي لا تخالف الشرع ولا تصادمه؛ لأن شرط اعتبار العادة والعرف ألا يكون مصادماً للشرع. وعلى هذا فالافتراق يكون على حسب ما يسميه الناس في أعرافهم افتراقاً، فيقضي القاضي أن البيع وجب وتم بثبوت الافتراق، إذا كان العرف يشهد بأن هذا التصرف من البائع أو المشتري يسمى افتراقاً، وهذا ما يسميه العلماء بالرجوع إلى أهل الخبرة، فيسأل أهل الخبرة في السوق كيف يكون ضابط الافتراق في عرفهم. وهكذا إذا اختلفت الأسواق، مثل: أهل السمك لهم عرف غير أهل القماش، وأهل الخشب لهم عرف غير أهل الحديد، فهذه أمور يرجع فيها إلى الأعراف الموجودة، فكل أهل صنعة يحتكم إليهم في صناعتهم، وهذا أصل قرره العلماء في مسائلهم، والله عز وجل إذا أطلق الشيء ورده إلى العرف رجع فيه إلى أعراف المسلمين، قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] وقال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] فيرد الأمور إلى العرف؛ لأن الشرع يأتي بالقواعد الكلية والضوابط الإجمالية ويترك للمسلمين ما ألفوه واعتادوه. والسبب في هذا: أنه لا يمكن أن تجتمع الكثرة في البيئة الواحدة، من عقلائها وحكمائها وكبار السن فيها على شيء غالباً إلا وفيه خير؛ لأن أهل الصناعات لهم ضوابط معينة درجوا عليها؛ لأن الغالب أن أهل العقول هم الذين يحكمون الأسواق، وهم الذين يتصرفون، والغالب في الناس أنها تجري معاملاتها بما يتفق مع العقول السوية، فهذه أعراف يحتكم إليها؛ لكن ينظر فيها إلى أهل الخبرة الذين لهم معرفة بها، فيرجع إليهم في ضوابط الافتراق على حسب ما تقرر في أعرافهم التجارية.

إسقاط خيار المجلس

إسقاط خيار المجلس قال رحمه الله: [وإن نفياه أو أسقطاه سقط]: أي: وإن نفياه بأن قال: أبيعك ولا خيار لا لك ولا لي. والسبب في هذا: أنه في بعض الأحيان يأتي شخص ويقول لك: أصرف لك هذه المائة ألف بعشرة آلاف دولار، وأنت تريد بعد أن تأخذها مباشرة أن تبيعها في نفس المجلس، وهذا كما يقع في الأسواق التجارية أو المحلات المتقابلة، أو الأماكن التي يجتمع فيها التجار مع بعضهم، فالتاجر يشتري من هذا مباشرة ويبيع على هذا، فإذا قلنا: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، لن يستطيع أن يبيع شيئاً؛ لأنه لم يتم بيعه. فحينئذٍ لا بد وأن يبت الصفقة، فيقول له: أشتري منك هذه العمارة القلم الكتاب الساعة الثوب؛ لكن بشرط أننا ننفي الخيار، فبمجرد ما نعقد فإن البيع قد تم ووجب ولا خيار لك ولا لي، فيتفقان على إسقاطه أو نفيه، أو يقرّا عند القاضي أنه لا خيار لهما، فحينئذ يسقط الخيار؛ لأن لهما الحق في هذا الخيار، ولهما الحق في إسقاطه، فإن الشرع أعطاهم ذلك، والشرع إنما قصد الرفق بهما، فقد يكون الرفق أن يتم البيع بدون خيار، فأنا أعرف الصفقة وهو يعرف المال، وقد رضي بالصفقة، ويريد أن يبيعها لآخر، أو يريد أن يتصرف فيها مباشرة، فنقول له: إنه يتم العقد مباشرة ويسقط الخيار. وعلى هذا: لو اشترى شخص طعاماً، فإنه ينبغي عليه أن يخرج عن الدكان قليلاً ولا يأكل أمام البائع؛ لأن السلعة لا يملكها إلا بالافتراق؛ لأنه ربما يرجع عن بيعه، فإذا أراد أن يتحلل فليخرج من الشبهة. لكن يبقى الإشكال في المطاعم، فالمطعم لا تستطيع أن تخرج منه، فقالوا: إن هذا أشبه بإسقاط الخيار، فهو إذا وضع الطعام بين يديه، ولم يدركه قبل أن يأكله، فقد فوت على نفسه الخيار، ويكون الأكل من الأكل إسقاطاً لحقه في الخيار، وسكوت صاحب المطعم وسكوته إسقاط لحقه في الخيار، أي: أنه ما دام قد وضع الطعام ولم يرجع، ورآك تأكل، فكأنه قد رضي بإيجاب الصفقة. وهكذا لو أنهما اتفقا من البداية على أنهما إذا أوجبا البيع أو تم الإيجاب والقبول في الصفقة، أنه لا خيار لواحد منهما، لي ولا لك، وعليه حمل حديث السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اشترى قال للأعرابي: (عمّرك الله بيعاً) فرضي الأعرابي وأوجب البيع، أي: حمل الحديث على إسقاط الخيار، وهذا أصل عندهم: على أنهما إذا اتفقا على إسقاط الخيار، فهذا لهما حق لهما إذا تراضيا بالمعروف، ولا حرج عليهما فيه، ولا بأس في إسقاطه على هذا الوجه. قال رحمه الله: [وإن أسقطه أحدهما بقي خيار الآخر]: أي: بأن قال: أريد الصفقة ولا خيار لي، وسكت الآخر، فإنه يبقى حق الآخر، فليس إسقاطك يلزمني، كما أن إسقاطي لا يلزمك، فإسقاطي حق لي، فيسري الإسقاط على ما أملكه، ولا يسري على ما تملكه، إلا إذا قلت: وأنا كذلك لا أريد. وعلى هذا لو قال لك: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، قلت: قبلت، فقال لك: لا خيار لي فأنا أريد البيع، فسكت، ثم بعد ساعة قلت: أريد أن أرجع عن بيعي، كان من حقك أن ترجع؛ لأن إسقاطه لا يتعدى إلى حقك في الخيار فيسقطه؛ ولأنه لو فتح هذا الباب لأسقط كل منهما حق الآخر أضر به. وعلى هذا: لا يملك الإسقاط إلا في حق نفسه دون حق الآخر. قال رحمه الله: [وإذا مضت مدته لزم البيع]: أي: إذا مضت مدة الخيار، فإنه في هذه الحالة يلزم البائع، ويلزم المشتري، ولا خيار لهما، وهذا على التأقيت بالزمان، ويكون العقد حينئذٍ لازماً للطرفين.

خيار الشرط ومدته

خيار الشرط ومدته قال المصنف رحمه الله: [الثاني: أن يشترطاه في العقد مدة معلومة ولو طويلة]: أي: النوع الثاني من الخيار، ويسمى بخيار الشرط. وهذا النوع من الخيار يخالف النوع الأول، فإن هذا النوع يمتد إلى ما بعد العقد وبعد الافتراق، ويكون معلقاً على شرط بعد العقد، ولكن خيار المجلس يكون أثناء مجلس العقد، فما دام أنهما في المجلس فهما بالخيار كما فصلنا. والأصل في خيار الشرط حديث حبان بن منقذ رضي الله عنه وأرضاه، وفيه: أنه كانت به لوثة، وفيه شيء أشبه بالارتجاج، والسبب في ذلك: أنه رضي الله عنه وأرضاه أصيب في يوم بدر بالمأمومة، وهي: نوع من الضربات تصل إلى أم الدماغ، وهذه أحياناً تحدث نوعاً من الارتجاج، فكانت عنده لوثة أثرت عليه في لسانه وأثرت عليه في عقله، فصار به نوع من الضعف في العقل، فهذا الصحابي اشتكاه أهله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه يذهب إلى السوق ويشتري ويُغْبَن، وهذا فيه ضرر عليه، فرفع أمره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنهم يسألونه أن يحجر عليه، أو يمنعه من البيع، ويمنع الناس من التعامل معه، فقال: (لا أصبر)، أي: أنه لا يصبر عن البيع. فالنبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى أن شكوى قرابته صحيحة، وأن استمراره على هذا الوجه فيه ضرر، ومن المعلوم أن من حكمة الشرع أنه في بعض الأحيان يمنع الشخص من التصرف في ماله لمصلحته هو، كالمجنون والصغير واليتيم، فاليتيم مثلاً: لو توفي أبوه وترك له مليوناً، فلو تركناه يتصرف فيها فإنه سيتضرر، والضرر يلحق نفسه، فنمنعه من التصرف في هذا المال مع أنه ملك له، خوفاً من الضرر عليه، وهذا ما يسميه العلماء: بالحجر لمصلحة المحجور. فهؤلاء جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكي يحجر عليه لمصلحته، فذكر هو أنه لا يصبر عن البيع، فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء بحل وسط، فقال له (إذا ابتعت فقل: لا خلابة، ولي الخيار ثلاثاً). (إذا ابتعت) أي: اشتريت؛ لأن العرب تقول: ابتاع بمعنى اشترى؛ لأنه من الأضداد يقال: اشترى بمعنى باع، واشترى بمعنى أخذ، كما قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف:20] أي: (باعوه بثمن بخس)، ويطلق الشراء بمعنى الأخذ، تقول: اشتريت داراً بمعنى: أنك عاوضت عليها وملكتها. (فقل: لا خلابة) أي: لا غبن ولا خديعة. (ولي الخيار ثلاثاً) أي: أني بالخيار ثلاثة أيام، إن شئت أمضيت الصفقة، وإن شئت ألغيتها، فخلال هذه الثلاثة الأيام، سيطّلع قرابته على فعله، فإن وجدوا تصرفه سليماً أمضوه، وإن وجدوه خطأً ردوه. فحقق صلى الله عليه وسلم المصلحة ودرأ المفسدة، وهذا من حكمته عليه الصلاة والسلام وسعة رحمته بالأمة، أن كان يوسع على الناس، فالرجل حينما يحجر عليه، فيه منقصة له وتضييق عليه، وإزراء عليه بين جماعته وقرابته، فجعله يبيع، لكن قال له: (إذا ابتعت فقل: لا خلابة، ولي الخيار ثلاثاً) فالذي اشتكاه قرابته دفعه بقوله: (ولي الخيار ثلاثاً). وبسبب الثقل في لسانه كان يقول: (لا خيابة) بدلاً من (لا خلابة). وقد كان الخلفاء يقضون بهذا القضاء، حتى زمن عثمان، لما كثر الناس لم يعرفوه؛ لأنه كثرت التجارة وجاء أناس غرباء عن المدينة لا يعرفون هذا الصحابي، ولا يعرفون قصته، وقد كانت المدينة صغيرة، على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فكان معروفاً مكشوفاً لا إشكال معه؛ لكن لما جاء عهد عثمان وجاء التجار الجدد الذين لا يعرفونه، فكانوا يختصمون معه، يقولون: ليس لك من خيار، فإذا رفعهم إلى عثمان قضى عليهم أن له الخيار ثلاثاً، بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا يسمى خيار الشرط، فإنه أوجب البيع ورضيه على أن له الحق أن يلغي الصفقة أو يتمها خلال ثلاثة أيام، فخلال هذه الثلاثة الأيام، يستطيع ورثته أن ينظروا في السلعة، فلهم أن يمضوها أو يلغوها، قال العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لـ حبان رضي الله عنه وأرضاه أن يشترط، فصار أصلاً في اشتراط الخيار، فلو اشترط ثلاثة أيام كان له، وإن اشترط يوماً كان له، وإن اشترط يومين كان له، واختلف فيما زاد على الثلاثة أيام: فقال بعض العلماء: لا يزيد الخيار على ثلاثة أيام، والسبب في هذا: أن الأصل تمام الصفقة، وأن الحديث ورد بثلاث، فلا يزاد عليها. وقال بعض العلماء: من حقه أن يزيد على ثلاث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعطاه رضي الله عنه ثلاثة أيام دفعاً للضرر، والصفقات تختلف، والناس تختلف حوائجهم، فهناك الذي يحتاج إلى مشورة تستغرق نصف شهر، أو تستغرق شهراً كاملاً، أو تستغرق الشهرين، فأصحاب هذا القول يقولون: من جهة اللفظ ثلاثة، ولكن من جهة المعنى والعلة الثلاثة وغيرها سواء. وهذا المذهب أقوى: فإننا إذا نظرنا إلى مقصود الشرع وهو دفع الضرر وجدنا أن البيوع تختلف، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم لـ حبان الثلاثة؛ لأن من كان مثله وفي وضعه وحالته فإنها تكفيه؛ لكن في زمننا هذا، قد تشتري مصنعاً، وهذا المصنع يحتاج إلى نظر من أهل الخبرة، ويحتاج إلى مشاورة أناس لهم معرفة، وقيمة المصنع ليست بالسهلة، فمثل هذا في الحاجة أشد من حبان، والضرر الذي يأتيه أعظم من ضرر حبان، فقالوا: لا يمكن أن نجمد على الثلاثة، ونلغي معنى الشرع؛ لأن الشرع أعطى حباناً رضي الله عنه الثلاثة دفعاً للضرر، ودفعاً للمفسدة، فأنت إذا احتجت مثلاً إلى هذا المصنع أو هذه المزرعة أو هذا الشيء الذي يحتاج إلى كثير من النظر والمشورة، فمن حقك أن تشترط الشهر والشهرين والثلاثة؛ لكن لابد أن تكون المدة معلومة. إذاً: خيار الشرط هو أن يشترط أحد المتعاقدين أو هما معاً، ويوجبا البيع بناء على تحقق هذا الشرط ويكون مدة معلومة.

وقت خيار الشرط

وقت خيار الشرط قال رحمه الله: [أن يشترطاه في العقد] هذا من دقة المصنف رحمه الله؛ لأن العقود يجب الوفاء بها في ذات العقد، أما بعد العقد وبعد الافتراق فقد تم العقد، فلا يجوز أن يشترط بعد تمام العقد، فلذلك قال: (يشترطاه في العقد)، أي: حال الإيجاب والقبول. فلو أن إنساناً بعد أن أوجبنا وقبلنا وانتهى خيار المجلس وافترقنا، جاء وقال: عندي شرط؛ فليس من حقه؛ لأنه قد تم البيع، ولو قلت له: لن أعطيك الشرط؛ فمن حقك. فقول المصنف: [في العقد] أي: أن الذي يملكه المتعاقدان من الشروط ما كان حال العقد؛ وكونهما بعد العقد وبعد الإيجاب والقبول يتراضيان هذا أمر آخر، فلو تراضيا على إسقاط البيع سقط، فالمراد الشرط الإلزامي، فلا يستطيع أن يلزمك بشرط إلا إذا كان أثناء العقد، أما لو تم العقد وافترقتما فإن البيع قد وجب على ظاهر السنة وظاهر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا) ولو فتح باب جواز الاشتراط بعد الافتراق لكان كل شخص يضر الآخر بذلك، وليس من حق المتعاقد مع أخيه أن يلزمه بشرط بعد تمام الصفقة وحصول التفرق، فإذا حصل التفرق ألزم بالعقد على صورته، وليس من حق أحدهما أن يدخل على الآخر شرطاً يلزمه به إلا إذا رضي، فإذا رضي فلا إشكال فيه؛ لأن هذا شيء يرجع إليهما، بل من حقهما إذا تراضيا على فسخ البيع أن يفسخاه، فهذا أمر آخر في التراضي لا نتكلم عنه، إنما نتكلم على الشرط الإلزامي وأنه لا يكون الشرط ملزماً إلا إذا كان في العقد أثناء الإيجاب والقبول. وقوله: [مدة معلومة ولو طويلة]: أي: أن يشترطاه مدة معلومة، وهذا يرجع إلى الزمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل خيار الشرط بالزمان. (ولي الخيار ثلاثاً) أي ثلاثة أيام، فهو خيار يرجع إلى الزمان وهذا أصل، فإذا كان مدة فيشترط في المدة أن تكون معلومة، ومفهوم الصفة في قوله: (معلومة) أنه لو كانت المدة مجهولة لم يصح، فمثلاً لو قال: لي الخيار إلى الأبد لم يصح، أو قال: لي الخيار حتى أقطع لم يصح؛ لأنها مدة مجهولة، ولا يصح أن يشترط الخيار بمدة مجهولة؛ لأنه بهذا يفوت عليك مصلحة التصرف في المبيع، وقد يأتيك بعد مدة طويلة ويغرر بك، فلا بد وأن يحدد المدة. ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الخيار محدداً، فوجب أن تكون صورة الشرط بهذه الصورة، أعني: أن يكون محدداً. وقوله: (ولو طويلة)، إشارة إلى الخلاف وهو: هل يشترط أن تكون المدة محدودة قصيرة، أو أنه يجوز أن تكون طويلة؟ وقد صحح غير واحد من العلماء أنه يجوز أن يشترط مدة طويلة لوجود الحاجة، أما إذا لم توجد الحاجة، فإنه يتقيد بالسنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويخرج من الخلاف بين أهل العلم رحمهم الله.

ابتداء وانتهاء خيار الشرط

ابتداء وانتهاء خيار الشرط قال رحمه الله: [وابتداؤها من العقد]: أي: لو قال: لي الخيار ثلاثاً، فإنهما إذا أطلقا كان ابتداء المدة من افتراقهما، وعلى هذا يكون الخيار من بعد وجوب العقد، ولو أنهما جلسا ولم يفترقا ليلةً كاملة وفي صباح اليوم الثاني افترقا، فإن المدة تبدأ من صبيحة اليوم الثاني. وقد جعلوها تلي العقد مباشرة دفعاً للغرر والضرر؛ لأنه إذا كانت مبهمة، دون أن يحكم بكونها من بعد العقد مباشرة، ودون أن تليه، فإن هذا يدخل الغرر على العقد، ولذلك يقولون: يشترط أن تكون معلومة للطرفين، ومحددة بأمد معين، أي: أن يكون الشرط معلوماً محدداً للطرفين، وأن يكون تلو العقد مباشرة، وهذا هو ما يسمى بشرط الموالاة، وقد نص عليه الجمهور الذين يقولون باعتبار خيار الشرط. وعليه: فإنه يتحدد من لزوم البيع ويحكم بلزومه للطرفين بعد الافتراق مباشرة. قال رحمه الله: [وإذا مضت مدته أو قطعاه بطل]: خيار الشرط يأتي على ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يشترط البائع ولا يشترط المشتري. الصورة الثانية: أن يشترط المشتري ولا يشترط البائع. الصورة الثالثة: أن يشترط كل منهما. فأما بالنسبة لما اشترطه البائع، فكأن يقول: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، فيقول: قبلت، قال البائع: لكن أشترط أن يرضى أبي، أو أشاور أبي، ولي الخيار يوماً أو يومين أو ثلاثة، فهذا اشتراط من البائع. والعكس من المشتري، كأن يقول: أشتري منك هذه العمارة بمائة ألف، قال: قبلت، قال: لكن لي الخيار يوماً، أو يومين أو شهراً أو شهرين، حينئذ يكون الخيار للمشتري. وأما أن يكون للمتعاقدين، فذلك كأن يقول أحدهما: أشترط أن لي الخيار يوماً، يقول الآخر: وأنا أشترط أن يكون لي الخيار يومين. وإذا حصل الشرط من الطرفين: فإما أن يتماثل الشرطان، أو يختلفا. يتماثلان كأن يقول: أشتري منك هذه السيارة بعشرة آلاف؛ لكن لي الخيار ثلاثة أيام، ويقول البائع: وأنا لي الخيار ثلاثة أيام، فجعل كل منهما شرطاً مثل شرط صاحبه، فحينئذٍ تكون المدة متفقة من الطرفين. أو يختلفا مثل أن يقول له: أشترط أن يكون لي الخيار ثلاثة أيام، وقال الآخر: أشترط أن يكون لي الخيار أسبوعاً، فاختلفت المدة، وسواء اشترط البائع أو اشترط المشتري أو اشترطا معاً، بما يتماثلا فيه أو يختلفا فيه، فإنه حينئذ يكون كل منهما على شرطه، وكل منهما له شرطه، فإذا اشترطت ثلاثة أيام فلك ثلاثة أيام تنظر فيها في صفقتك إن شئت أمضيت وإن شئت ألغيت، فلو أنك اشتريت مثلاً قطعة أرض في مخطط بمائة ألف، فقلت له: أنا أشترط أن يكون لي الخيار ثلاثة أيام، قال لك: قبلت، فصار الشرط من المشتري، فذهبت وشاورت أهل الخبرة في اليوم الأول، فأشاروا، وفي اليوم الثاني رزقك الله رجلاً يشتريها منك، فقال: أنا أشتريها منك بمائتي ألف، فأنت تريد أن تتم الصفقة الأولى حتى تعقد الصفقة الثانية، فتقول: أنا اشترطت ثلاثة أيام فأنا أقطع هذا الخيار، وأرضي بتمام البيع فيمكنك أن تتم البيع، فتتم البيع في اليوم الثاني أو تتمه في اليوم الأول، بل ولو بعد ساعة، فبعد أن ترجع عن شرط الخيار، وتوجب الصفقة الأولى يحق لك أن تبيع بالصفقة الثانية. فالحاصل أنه من حقك ومن حقه هو أن يقطع الخيار قبل تمام مدته، فمراد المصنف رحمه الله أنه إذا أسقطه من اشترطه بائعاً كان أو مشترياً كان من حقه. (وإذا مضت مدته) أي: المهلة، فلو قال: لي الخيار ثلاثة أيام، ومضت الثلاثة الأيام، لزمه البيع، ما دام أنه لم يرجع قبل تمامه، فلو جاء بعد ثلاثة أيام وقال: رجعت نقول: يلزمك البيع؛ لأن الخيار لك في ثلاثة أيام، ومفهوم الزمان وهو الثلاثة أيام، أنك بعدها قد رضيت البيع، سواءً جئت وقلت: رضيت أو ما جئت، فالبيع لازم وواجب عليك. قال: [أو قطعاه بطل]؛ فإن قطع أحدهما أو قطع الاثنان معاً شرطيهما كان لهما ذلك؛ لأن من حقهما أن يسقطا الخيار، كما ذكرنا في خيار المجلس.

العقود التي يثبت فيها خيار الشرط

العقود التي يثبت فيها خيار الشرط قال رحمه الله: [ويثبت في البيع والصلح بمعناه]: (ويثبت في البيع)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ابتعت، فقل: لا خلابة). (والصلح بمعناه)؛ لأن الصلح بمعنى البيع، وهو الصلح بعوض، كما بيناه. قال: [والإجارة في الذمة]: مثلاً: اتفقت مع مقاول أن يبني لك عمارة على صفة معينة، فقال لك: سأبني هذا البناء بصفة كذا وكذا، أو بهذه المخططات الموجودة للبناء بعشرة آلاف ريال، فقلت له: قبلت؛ لكن أشترط أن لي الخيار ثلاثة أيام، فحينئذ تتوقف الإجارة حتى تمضي الثلاثة الأيام، فهذه إجارة في الذمة. فمن حقك أن تعلق الإجارة في الذمة، مثل: بناء البيت، وحفر البئر، وخياطة القميص، فلو أن شخصاً جاء وقال: احفر لي في أرض بئراً، فقلت: أحفر لك مائة متر، كل متر بمائة ريال، فقال: قبلت، لكن لي الخيار ثلاثة أيام، يريد أن يسأل الناس ويسأل أهل الخبرة هل من مصلحته أن يمضي الإجارة أو لا، حق له ذلك كما ذكرنا في البيع. قال رحمه الله: [أو على مدة لا تلي العقد] أي: كأن استأجر منه الدار شهراً، أو سنةً لا تلي العقد؛ لأنه لو قلنا: إن الإجارة يثبت فيها خيار الشرط بعد العقد مباشرة، وتكون المدة بعد العقد، تداخل الإلزام وعدم الإلزام. توضيح ذلك: لو جئت إلى رجل، وقلت له: أجرني الشقة في العمارة بعشرة آلاف ريال لمدة سنة، فقال: قبلت، لكنك قلت: ولي الخيار ثلاثة أيام، فيشترط في السنة التي عقد عليها، ألا تجعلها بعد العقد مباشرة؛ لأنها لو كانت بعد العقد مباشرة لكان ابتداء العقد بعد الافتراق، وبالشرط يبتدئ العقد بعد ثلاثة أيام، فيصبح خلال الثلاثة الأيام، لا ندري هل عقد الإجارة لازم، بناء على ظاهر اتفاقكما أو غير لازم لوجود الشرط لاحتمال أن ترجع؟ وهذا بلا إشكال أنه غرر، ولا يصح، ولذلك احتاط المصنف رحمه الله، ونص العلماء على اشتراط ألا تكون المدة تالية العقد؛ لأنه سيحدث تداخل، إذ كيف يصح أن أقول: لك الخيار ثلاثة أيام، ثم تحسب الثلاثة الأيام من الإجارة، مع أن الإجارة ما لزمت خلال الثلاثة الأيام؛ لأن من المعلوم أنه لا يصح أن تقول: خلال مدة الشرط وهي الثلاثة أيام: إن العقد لازم. أي أنك إذا قلت: الإجارة تلي العقد، فمعنى ذلك أنها لازمة بعد العقد، وإذا قلت: إن الشرط لازم بناء على ما ورد في السنة فمعناه أن الإجارة لازمة، وهنا الإجارة غير لازمة إلا بعد ثلاثة أيام، فيصبح هنا تناقض. إذاً: عندنا أمران: الأمر الأول: عقد الإجارة. الأمر الثاني: الشرط. نوضح أكثر: لو أنك تريد أن تستأجر شقة ثلاثة أيام، فقلت له: أجرني هذه الشقة ثلاثة أيام، السبت والأحد والإثنين، فقال: أجرتك بثلاثمائة ريال، وهذا الاتفاق كان يوم الجمعة ليلة السبت، فقلت: قبلت على أن لي الخيار ثلاثة أيام، التي هي السبت والأحد والإثنين فهذه لا تصح إلا إذا كانت المدة التي اشترطتها غير مدة العقد، فحينئذ قال المصنف: (على مدة لا تلي العقد)؛ لأنك لو قلت: يضع الشرط بعد العقد مباشرة، صار تناقضاً خلال الثلاثة أيام، فالعقد لازم من وجه وغير لازم من وجه، والشرع لا يتناقض، ولذلك اشترطوا في المدة أن يكون فيها فسحة للنظر وإعطاء المهلة قبل لزوم العقد لكيلا يحدث تناقض، وهذا أمر لا إشكال فيه وهو أمر صحيح معتبر، خاصة إذا مثلنا بشيء يطابق الشرط المذكور، لكن لو قال له: أشترط رضا والدي، قد يتوهم البعض أنه لا فرق بين قوله: أشترط رضا والدي، وبين اشتراط مدة تلي العقد، فيتوهم أن هذا الشرط لا علاقة له بالمدة، لكن حينما تقول: إن خيار الشرط الأصل فيه مدد الزمان، والإجارة كذلك بمدد الزمان وهي المدة المعينة، فلا بد فيها وأن يكون العقد بعد نهاية مدة الشرط، فتكون الإجارة على مدة لا تلي العقد، أي: لا تكون بعد العقد مباشرة، حتى يصح خيار الشرط من هذا الوجه. قال رحمه الله: [وإن شرطاه لأحدهما دون صاحبه صح]: أي: يجوز في خيار الشرط أن يشترطه أحدهما دون الآخر، وقد ذكرنا أن له ثلاث صور: - أن يشترط البائع دون المشتري. - أن يشترط المشتري دون البائع. - أن يشترطا معاً. فيكون لهذا شرطه، ويكون لهذا شرطه.

الغاية في خيار الشرط

الغاية في خيار الشرط قال رحمه الله: [وإلى الغد أو الليل يسقط بأوله]: بعد أن بين رحمه الله برحمته الواسعة، أن خيار الشرط يقع في المدد، كقولك: ثلاثة أيام، أربعة أيام، شرع في بيان مسائل فرعية وهي إذا قال: إلى الليل، أو إلى يوم كذا، فهل العبرة بالغاية؟ أم العبرة بما بعد الغاية؟ فالأصل يقتضي أن الغاية لا تدخل في المغيا، إلا إذا كانت من جنسه، وهذا الأصل فيه خلاف بين العلماء، فمثلاً: حينما ننظر إلى الشرع يحد الأشياء بغايات، كقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] وكقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187]. فقوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] هل المراد أن نغسل إلى ما قبل المرفق ويعتبر المرفق غير داخل في الحد، أم أن الغاية تدخل في المغيا، فيجب غسل المرفق؟ فالذي عليه المحققون أن الغاية تنقسم إلى قسمين: أن تكون من جنس المغيا. أو تكون من غير جنسه. فإن كانت من جنسه دخلت، وإن كانت من غير جنسه لم تدخل، فلما كان المرفق من جنس اليد دخل، ولكن لما قال: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] وكان الليل ليس من جنس النهار، لم يدخل ولم يجب الصيام إلى الليل، وعلى هذا قالوا: إذا قال له: إلى الليل أو إلى الغد، انقطع الخيار بأول الليل وأول الغد. وبعض العلماء يرى أن إذا قال: إلى الليل أن يلزمه إلى صبيحة اليوم الذي يليه، فينتظر إلى انتهاء الليل لانتهاء الغاية، وإذا قال: إلى الغد، فإنه ينتظر إلى غروب الشمس، وليس إلى طلوع شمس الغد، والصحيح ما ذكرناه. فالقاعدة: أن الغاية إذا كانت من جنس المغيا دخلت، وإذا لم تكن من جنسه لم تدخل؛ لأن الأصل في الغايات أن لها مفاهيم، ولذلك ما بعد الغاية يخالف ما قبله في الحكم، وهذا ألفناه من الشرع، فمثلاً في حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه، قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها)؛ فقوله: (حتى يبدو) غاية في النهي، أي: حرمنا عليكم بيع الثمرة إلى الغاية، وهي بدو الصلاح، ففهمنا أن الغاية لا تدخل في المغيا، وقد ذكر علماء الأصول: أن من أنواع المفاهيم مفهوم الغاية، فقالوا: إن تحديد الشرع شيئاً بغاية يدل على أن ما بعد الغاية يخالف ما قبلها في الحكم. قال رحمه الله: [ولمن له الخيار الفسخ، ولو مع غيبة الآخر وسخطه]: أي: من اشترط وقال: لي الخيار ثلاثة أيام، فله الحق أن يفسخ في أي وقت، ما دام أنه في مدة الخيار، فإذا انتهت مدة الخيار فقد انقطع هذا الحق، فإذا جئت خلال ثلاثة أيام، وقلت: لا أريد، فذلك من حقك، حتى ولو لم تذكر سبباً ما دام أنك حددت بالزمان. وقوله: (ولو مع غيبة الآخر وسخطه) أي: يستوي إذا كان الآخر حاضراً أو غائباً، فمثلاً: لو أني اشتريت منك سيارة بعشرة آلاف وقلت لك: لي الخيار ثلاثة أيام، مثلاً: السبت والأحد والإثنين، ففي يوم السبت اخترت أنني لا أريد الشراء، فلا يلزمني أن أبحث عنك، حتى أقول لك: لا أريد، بل يكفي أن أشهد عدلين على أني لا أريد الصفقة، فإذا قلت لي بعد ذلك: لا ألغيها لأنك ما جئتني، فحينئذ أرفعك إلى القاضي وأقيم البينة بالشاهدين العدلين على أني أسقطت هذا البيع ولم أوجبه، أو أني فسخته، فيحكم القاضي بذلك. ثم قوله: (ولمن له الخيار الفسخ) أي: سواءً الطرفان أو أحدهما. وقوله: (ولو مع غيبة الآخر) أي: لا يشترط في الفسخ أن يكون حاضراً. وقوله: (وسخطه) أي: قلت له: خلال الثلاثة أيام لا أريد هذه الصفقة، فقال: بل تلزمك، فتقول: لكني قد اشترطت الخيار، فقال: لا أرضى. فنقول له: يلزمك أن تفسخ العقد ولو كنت ساخطاً. فلا يشترط رضا الآخر؛ لأن هذا هو المقصود من الشرط: أن يكون لي الخيار تاماً، فسواء رضي أو لم يرض وسواء حضر أو لم يحضر.

الأسئلة

الأسئلة

الحالات التي يسقط فيها خيار المجلس

الحالات التي يسقط فيها خيار المجلس Q ما معنى قول بعض العلماء رحمهم الله: (ويستثنى من خيار المجلس: تولي طرفي العقد، والكتابة، وشراء من يعتق عليه، وإذا اعترف بحريته قبل الشراء) أثابكم الله؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: هناك صور للبيع الذي يتولى فيه طرفي العقد شخص واحد، مثل النكاح، فقد يكون الرجل في بعض الأحيان ولياً وزوجاً، وكذا إذا تولى البيع والشراء شخص واحد، كأن اشترى لنفسه وكان وكيلاً عن غيره في البيع. فمثلاً: لو كان عنده أيتام لهم عمارة فأراد أن يبيعها لهم، ليشتري لهم ما هو أصلح، فعرضها للبيع فرأى أن من مصلحته أن يشتريها، فهو بائع من وجه: من جهة الولاية، ومشترٍ من وجه: من جهة الأصالة، فهو أصالة عن نفسه مشترٍ، وولاية عن الغير بائع، فكيف يكون خيار المجلس؟ لأن البائع والمشتري بالخيار، لكن هنا هو البائع وهو المشتري، فلا يستطيع أن يخرج من نفسه أو أن يفارق نفسه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قيد الخيار بأن يفارق صاحبه إن كان بائعاً أو مشترياً. فقالوا: إن هذه الصورة لا يكون فيها خيار، فبمجرد إيجابه للبيع يتم. ثم ذكر بعد ذلك الكتابة بين السيد وعبده، ومعلوم أن العبد لا يملك المال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (ومن باع عبداً له مال فماله للبائع، إلا أن يشترط المبتاع) أي: المشتري، فدل الحديث على أن يد العبد خلو لا تملك المال؛ لأنه إما للبائع وإما للمشتري، والسبب في هذا الكفر؛ لأنه لما كفر وضرب عليه الرق، كان عقوبة له أن لا يملك وأن يكون في حكم المملوكات؛ لأن الله جعل من كفر كالبهيمة وأسوأ {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) [الفرقان:44] فلما أشرك بالله وكفر بالله خرج عن مقام الإنسانية وأصبح في مقام المتاع الذي يباع ويشترى، وما ظلمه الله، بل هو الذي ظلم نفسه. فالشاهد: أنه أخذ يد العبد عن الملكية. لكن لو أن رجلاً عنده عبد فأسلم العبد وقال لسيده: أريد أن تكاتبني، والله تعالى يقول: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] فهذا العبد يريد أن يعتق نفسه والشرع يفتح أبواب العتق، فكونه رقيقاً يقتضي أن جميع ما يملك ملك لك، فهو إذا كاتبك لا يخرج عن ملكيتك إلا بعد أن يؤدي أنجم الكتابة، ولا يملك المال حقيقة إلا إذا صار حراً، فيصبح في هذه الحالة كأنك تعقد مع نفسك؛ لأن العبد وما ملك ملك لسيده، فعقد الكتابة لو جئت تتأمل لوجدت أنك في الأصل تملك العبد وماله، وهو لم يعتق الآن، فكأنك عندما تكاتبه تكاتب مع نفسك. وقوله: (شراء من يعتق عليه)، أي: كوالده، فلو أن إنساناً اشترى ذا رحمٍ منه، كوالده ونحو ذلك، فإنه يكون في حكم الحر، وفي هذه الحالة يخلو العقد من حقيقته؛ لأن الصفقة ماضية ماضية، والمالك الذي هو الابن مع أبيه، من عظيم حق الوالد عليه فكأنه يشتري نفسه، ويصبح العقد كأنه في يد الوالد، كأن إيجابه وقبوله للوالد، ولذلك يعتق عليه سواء رضي أو لم يرض، فدل على أن يده خلو من الملكية، فكأن العقد بيد الوالد، فيصبح في هذه الحالة لا إيجاب ولا قبول من حيث الأصل، فلا خيار في هذا. وقوله: (إذا اعترف بحريته قبل الشراء) كما لو اشترى من كان يقر بحريته، ثم اشتراه.

التواضع وفضله

التواضع وفضله Q إن التواضع مما يجب أن يتحلى به المسلم، وطالب العلم إلى التواضع أحوج، فهلاّ تفضلتم بتوجيهٍ حول هذا الأمر، أثابكم الله؟ A التواضع من أجلّ الأعمال التي يحبها الله جل جلاله، ومن تواضع لله رفعه، والتواضع لا يكون إلا بصلاح القلب؛ لأن الله سبحانه وتعالى من حكمته إذا اطلع على سريرة العبد ووجد فيها الخير، أن يظهر ذلك لعباده ويكشفه، وقلَّ أن يغيب عبد سريرة خير أظهرها الله في وجهه ولسانه وفلتات جوارحه وأركانه. ومن تواضع لله طاب معدنه، وطاب قلبه، وزكت نفسه؛ لأنه يريد الله والدار الآخرة، ولا يتواضع إلا من عرف الله وعرف مقدار نعمة الله جل جلاله عليه، ولا يكون التواضع بالتشهي ولا بالتمني ولا بالتكلف ولا بالرياء، ولا محبة للثناء؛ ولكنه شعور صادق نابع من نفس مؤمنة صادقة موقنة، تريد ما عند الله سبحانه وتعالى. وأحق من يتواضع العلماء وطلاب العلم، وأهل الفضل والصالحون، خاصة كبار السن، لقربهم من الآخرة، ودنوهم من الأجل، فهم أحق الناس بانكسار القلب لله، وتواضع القلوب لعباد الله، والعلماء يتواضعون لأن خشية الله سكنت قلوبهم، ومحبة الله والذلة له سبحانه وتعالى استقرت في نفوسهم، فأصبحوا لا يريدون في الأرض علواً ولا فساداً، {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]. التواضع خلق محمود؛ ولذلك تخلق به رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، فكان أكمل الأمة تواضعاً، وأقربهم للناس، حتى إن الناس بين يديه كأنهم هم الملوك وهو بين أيديهم من تواضعه صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة والخلفاء على ذلك، فقد كان أبو بكر رضي الله عنه يمشي في الناس، ويجلس بين الناس ولا يشعر بفضله على عباد الله، وهو خير الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وأعظمها زلفى وقربى عند الله جل جلاله. وكان عمر رضي الله عنه وأرضاه مثالاً في التواضع، وكذلك عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، وهكذا كان أئمة السلف ودواوين العلم. فقد كان الإمام محمد بن سيرين سيداً من سادات التابعين، وكان إذا جلس بين الناس باسطهم وألفهم وألفوه، حتى كأنهم لا يشعرون أنه عالم، وإذا جن عليه الليل سمع البكاء من بيته، فكانوا يتواضعون لعلمهم بالله، وتعظيمهم لحدود الله، وأنه مما ينبغي عليهم أن يشكروا نعمة الله، فيتواضعوا لعباد الله. وكان سفيان الثوري الإمام الجليل، والسيد العالم العابد رحمه الله برحمته الواسعة من تواضعه أنه يرفع قدر الفقراء في مجلسه، فكانوا يقولون واشتهر عنه ذلك: (ما كان أرفع الفقراء في مجلس سفيان)، فكان يقربهم إليه، ويباسطهم ويكون أليفاً ودوداً رحيماً بهم، ولذلك ينبغي للمسلم أن يتخلق بخلق الكرماء، الفضلاء، الأتقياء، الحلماء، ومن رزق التواضع فهو خليق به أن يكون قريباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟! أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذي يألفون ويؤلفون). تواضع تكن كالنجم لاح لناظر على صفحات الماء وهو رفيع ولا تك كالدخان يعلو بنفسه على طبقات الجو وهو وضيع إن كريم الأصل كالغصن كلما يزداد من خير تواضع وانحنى فالرمان والأشجار اليانعة كلما ازدادت من الخير تدلت أغصانها وقربت من القاطفين، وهذا هو شأن أهل العلم والصلاح، وشأن الأخيار المتقين. ومن الكبر العبوس في وجوه الناس، وعدم إلقاء السلام عليهم، واحتقارهم لألوانهم، أو أحسابهم، أو مناصبهم، أو مراتبهم، أو أشكالهم، أو عاهاتهم، الله الله أن تزدري عباد الله، فإنك إن تواضعت لخلق الله أحبك الله، فإن الله يحب منك أن تتواضع لعباد الله، ولذلك عاتب الله نبيه من فوق سبع سماوات حينما عبس وتولى على الأعمى، وكان جاءه يريد أن يتزكى، فقال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:3] * {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:4]. فهذا الذي تراه ضعيفاً عظيم عند الله بإرادة الزكاة، وبإرادة الخير والهدى، ولما أراد وجه الله عظم عند الله، لا لعينه التي ذهب نورها، ولا لحاله وبؤسه وفقره، فانظر إلى الناس بقلوبهم ودينهم، فإذا رأيت أخاك المسلم في المسجد، محافظاً على الصلوات الخمس، ثيابه مرقعة رث الهيئة فأحبه لله وفي الله، وسلمِّ عليه ولو كنت من أغنى عباد الله، فإن الله يحب أن يسمع منك هذه الكلمة، التي تشعره فيها بأخوة الإسلام، وإذا صلى بجنبك فالله الله أن تشيح بوجهك أو تصعر بخدك، أو تشعره بالأنفة أو السآمة أن يجلس بجنبك، وإذا جلس بجوارك الفقير أو صلى بجوارك من هو أضعف منك حالاً فتعامل وكأنك بجوار أغنى الناس وأكثرهم مالاً، واجعل عندك الشعور أنك تصلي أمام أعز الناس إن شعرت أنه ذليل. إذا فعلت ذلك فإن الله يحبك، فمن كان عنده هذا الشعور تواضع للناس، وأظهر الله من شمائله وآدابه وأخلاقه، قال عدي رضي الله عنه وأرضاه (حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم أتاه من الشام، وهو على دين النصرانية، وقد عاتبته أخته السفانة -؛ قال: أتيته فانطلقت معه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فاستوقفه صبي، فوقف له، حتى قضى حاجته، والله ما سئمه ولا مله -صلوات الله وسلامه عليه- فانطلقت معه، فاستوقفته امرأة، فوقف لها حتى قضت منه حاجتها، فقلت: والله! ما هذه إلا أخلاق الأنبياء، فلما دخلت بيته، رمى لي بعرض وسادة، فقلت: ما هذه إلا أخلاق الأنبياء، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله)، ملك صلى الله عليه وسلم العباد بالمحبة والتواضع، فلماذا يتكبر الإنسان؟ إن كان المال، فالله هو الذي أغناه، وإن كان القوة والعزة والصحة والعافية فالله هو عافاه، فمن شكر نعمة الله عز وجل أن يتواضع لعباد الله. والذي ينبغي للمسلم أراد أن يتواضع أن يكون تواضعه لله، لا من أجل مدح الناس، وأن يستوي عنده مدح الناس وذمهم، ولا ينتظر إلا أن الله يرضى عنه، وأن يرى الله منه أنه اغتنى وما تكبر في غناه، وأنه طلب العلم، وما تكبر في طلبه للعلم. وآخر ما أختم به هذه الكلمة: أن يتواضع الشباب الأخيار وطلاب العلم لإخوانهم ممن هم دونهم، فهذا أمر مؤكد أن تنتشر الألفة والمحبة بين طلاب العلم، وألا يقع بينهم تنافر أو تكبر، بل ينبغي عليهم أن يتواضعوا وأن يجعلوا هذا العلم رحمة بينهم. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدينا إلى سواء السبيل، وأن يعيذنا من منكرات الأخلاق والأدواء، وأن يهدينا لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها سواه. اللهم إنا نسألك الإخلاص لوجهك الكريم، ورضوانك العظيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

باب الخيار [3]

شرح زاد المستقنع - باب الخيار [3] من المسائل المترتبة على خيار المجلس وخيار الشرط: مسألة من يملك المبيع أثناء مدة الخيار هل هو البائع أم المشتري؟ وكذلك مسألة النماء المنفصل والمتصل في المبيع لمن يكون؟ ومسألة تصرف أحد المتعاقدين في المبيع مدة الخيار، وغيرها من المسائل. ومن أنواع الخيار: خيار الغبن، فينبغي معرفة متى يكون لك الحق في هذا الخيار؟ ومتى يثبت وكيف يثبت؟ وما هو الأثر المترتب على ثبوته؟

ملكية المبيع في مدة الخيار

ملكية المبيع في مدة الخيار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [والملك مدة الخيارين للمشتري]: شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان بعض الأمور المترتبة على خيار المجلس، وخيار الشرط، ومن ذلك: مسألة ملكية المبيع، فإذا وقع خيار الشرط، أو وقع خيار المجلس، فهل هذا المبيع يكون في مدة الخيار ملكاً للبائع أو ملكاً للمشتري. والسبب في هذا: أنه لو باع إنسان سيارة مثلاً لرجل آخر، وقال له: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، فقال: قبلت، فإن قوله: (بعتك بعشرة آلاف) إيجاب، وقول المشتري: (قبلت)، قبول، والعقد مركب من الإيجاب والقبول، فمعناه أن الأصل يقتضي أنه قد تم البيع، ولكن من رحمة الله سبحانه وتعالى وتيسيره على خلقه أن جعل الخيار للمتعاقدين مدة جلوسهما. فكأن الأصل يقتضي أن البيع قد وجب، وأن الملكية قد انتقلت إلى المشتري، فكما أن البائع قد ملك الثمن كذلك المشتري قد ملك المثمن؛ لأنه قال: بعتك، وقال الآخر: اشتريت، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فالأصل يقتضي أن صدور الإيجاب والقبول من الأهل في المحل القابل يتم به العقد، ولكن الخيار جعل فسحة من الله جل وعلا للبائع والمشتري، ولا يتركب إلا على عقد صحيح، فإذا صح عقد البيع لحقه الخيار والمهلة، ومدة الخيار والنظرة لا تقتضي بطلان العقد، ولذلك يقول بعض العلماء: الملك في مدة الخيار للمشتري كما اختاره المصنف وطائفة. والمُلك والمِلك والمَلك مثلث الميم، وكله صحيح. وقوله: [مدة الخيارين] أي: ما داما في فسحة الخيارين والخياران هما خيار المجلس وخيار الشرط، فأنت إذا قلت لرجل: بعتك هذه العمارة بعشرة آلاف وأنتما في المجلس، فقال: قبلت، وقلنا: بخيار المجلس، فإن الملك مدة جلوسكما في المجلس للمشتري وليس للبائع. كذلك في خيار الشرط لو قال له: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، فقال: قبلت، ثم اشترط وقال: قبلت على أنني بالخيار ثلاثة أيام، فإن الملك في هذه المدة للمشتري ومعنى ذلك أن العقد صحيح، فإنا لا نحكم بخيار على عقد فاسد؛ لأن الخيار إنما يكون في عقد صحيح ماض قد أوجبه المتعاقدان، ولذلك نبه المصنف رحمه الله بهذه الجملة على أن العقد قد تم، وأن نظرة الخيار لا تقتضي إلغاء العقد الأول بين المتعاقدين.

ملكية النماء المنفصل والمتصل بالمبيع

ملكية النماء المنفصل والمتصل بالمبيع قال رحمه الله: [وله نماؤه المنفصل وكسبه]: [وله] أي: للمشتري، [نماؤه] الضمير عائد إلى المبيع، [المنفصل] أي: دون المتصل. أصل النماء الزيادة، يقال: نما الزرع إذا زاد وكثر، والنماء يكون في المحسوسات ويطلق في المعنويات، والعلماء رحمهم الله يقولون: نماء المبيع المتصل، ونماء المبيع المنفصل، وهي عبارة يذكرونها في كتاب البيع، وتختلف الأحكام بحسب اختلاف النوعين من النماء. فالنماء المتصل: هو الذي لا ينفك عن المبيع، مثال ذلك: لو باعك رجل فرساً أو ناقة أو شاة، وكانت هذه الناقة كانت هزيلة حينما اشتريتها منه ثم اعتنيت بها وعلفتها، أو كانت سقيمة فسعيت في علاجها فشفيت بإذن الله عز وجل، فمعنى ذلك أن وضعها سيختلف، وأن حالها سيرتقي إلى الأحسن والأكمل، فلما أحسنت القيام على البعير، والقيام على الفرس، والقيام على الشاة، نمت وازداد حجمها، فحينئذ نقول: هذا نماء متصل؛ لأنه لا يمكنك أن تزيل السمن الذي في الدابة عنها، ولا يمكنك أن تزيل هذا الاستحسان الذي طرأ في بدنها عنها، فهو متصل بها، ولا يمكن فكاكه عنها. والنماء المنفصل عن المبيع، كرجل يبيعك البستان وله ثمر، فإن هذا الثمر يجنى وينفصل عن المبيع، أو يبيعك ناقة عشراء، أو بقرة أو شاة حاملاً، فإنه بعد مدة قد تضع هذه الناقة أو البقرة أو الشاة حملها، فينفصل النماء عنها. فيقسم العلماء رحمهم الله النماء في المبيعات إلى قسمين: النماء المتصل والنماء المنفصل. والسبب في هذا اختلاف الحكم، وتعذر الاستيفاء في أحد النماءين دون الآخر، ولذلك يختلف الحكم في النماء بحسب اختلاف نوعية النماء. أما سبب ذكر المصنف لهذه المسألة: فلأنك تقول: إن خيار الشرط جائز ومشروع، فلو أن رجلاً اشترى شاة وهي حامل على أن له الخيار شهراً، وفي أثناء الشهر ألقت هذه الشاة ما في بطنها فولدت، فهذا النماء كان متصلاً بالمبيع، ثم أصبح منفصلاً عنه، فحينئذ يرد Q ما حكم هذه الزيادة لو رد المبيع؟ هل يرد المشتري الشاة فقط؛ لأن العقد إنما كان على الشاة فقط، أم أنه يرد الشاة وولدها؛ لأنه باعه الشاة وفيها الولد؟ كذلك أيضاً ربما اشترى منه شاة وهي ضعيفة هزيلة، فقال له: بعتك هذه الشاة بخمسمائة، فأخذت الشاة، ثم قلت: لي الخيار شهراً أو لي الخيار أسبوعين، ففي مدة الخيار كنت تحلبها وتشرب من لبنها، ثم رجعت وقلت: لا أريد، فهو يقول لك: أنت استفدت من شاتي، واللبن الذي فيها تابع لعقد بيعنا، فما دمت لا تريد الشاة فأعطني قيمة اللبن الذي شربته، وأنت إذا جئت تتأمل تقول: من حقه أن يقول هذا الكلام مبدئيا، ً وله وجه؛ لأن الصفقة إنما كانت على المبيع، وهذا المبيع منه نتاج فينبغي أن يرد المبيع ونتاجه، أو يرد المبيع ويضمن النتاج، ففي هذه الحالة يكون الحق للبائع. وقد يكون الحق للمشتري، كأن تشتري الناقة هزيلة، فتردها سمينة، وتقول له: يا أخي! قد بعتني هذه الناقة وهي هزيلة ضعيفة، وأوجبنا البيع على مبيع بهذه الصفة الناقصة، وقد اعلفتها وأحسنت القيام عليها، أو داويتها وعالجتها فأعطني حقي ما دمت لا تريد إمضاء البيع، وهذا مما تقع فيه الخصومات والنزاعات بين طرفي العقد (البائع والمشتري) إذا اختار أحدهما في خيار الشرط عدم إمضاء الصفقة. ومن هنا يعتني العلماء رحمهم الله بهذه المسألة، ومن دقة الفقهاء أنهم إذا ذكروا الحكم ذكروا ما يترتب عليه من مسائل، واعتنوا بما يترتب عليه من مشاكل؛ لأن طالب العلم يحتاج الفقه للفتوى ويحتاجه للقضاء والفصل في الخصومات، فمن هنا يرد السؤال: إذا كان النماء متصلاً أو كان النماء منفصلاً فهو لمن؟ فقال المصنف رحمه الله: [وله] الضمير عائد إلى المشتري، [نماؤه] أي: نماء المبيع يكون للمشتري دون البائع. [المنفصل] مفهوم ذلك أن المتصل يكون للبائع؛ لأنه يرده، يرد المبيع بحالة أكمل، فقوله رحمه الله: [وله نماؤه المنفصل] أي: للمشتري، وعند العلماء في المتون الفقهية شيء يسمى: مفهوم الصفات أو مفاهيم المتون الفقهية. وهنا لما قال: [وله نماؤه المنفصل] مفهومه أن للبائع النماء المتصل؛ لأن السلعة تعاد إلى البائع، فقابل رحمه الله المنطوق بالمفهوم، فمنطوق العبارة: للمشتري نماء المبيع المنفصل، ومفهومها: وللبائع نماء المبيع المتصل، إذا ألغيا الصفقة، فأعيد المبيع للبائع؛ لأنه لا يمكن فكه عنه بحال، وكذلك العكس. [وله نماؤه المنفصل وكسبه] أي: للمشتري في مدة الخيار أن ينتفع بالنماء والزيادة الموجودة في المبيع منفصلة عنه، فيشمل اللبن إذا كان يحلب الشاة، أو يحلب الناقة أو يحلب البقرة؛ لأن هذا الحليب يكون نماءً منفصلاً ملكاً للمشتري دون البائع. وكذلك (كسبه)، وهو يكون من نتاج ينتفع به ويرتفق، ولو جز صوفها أو نحو ذلك مما ينتفع به كالثمرة الموجودة في البستان، فإنها تكون للمشتري، إذا استفاد منها أثناء مدة الخيار. لكن لو أن المشتري لم يجز الثمرة، ولم يتصرف بها، وأعاد المبيع كما هو، ثم قال: سآخذ هذا النماء؟ فيقال له: إنما كان لك قبل أن يتبين أن البائع لا يريد البيع، أما وقد تبين أن البائع يريد البيع، فحينئذ ليس لك من النماء المنفصل شيئاً.

حكم التصرف في مدة الخيار

حكم التصرف في مدة الخيار قال رحمه الله: [ويحرم ولا يصح تصرف أحدهما في المبيع، وعوضه المعين فيها بغير إذن الآخر بغير تجربة المبيع إلا عتق المشتري]:

حكم التصرف في المبيع مدة الخيار

حكم التصرف في المبيع مدة الخيار قوله: (ويحرم ولا يصح تصرف أحدهما في المبيع) هذه مسألة ثانية تتركب على مدة الخيار، فالآن حينما يبيع البيت، أو يبيع العمارة أو يبيع الحيوان أو يبيع المزرعة، ويكون الخيار للمشتري شهراً، أو شهرين، أو ثلاثة، ففي هذه الحالة خاصة إذا كانت المدة طويلة كالشهر والشهرين، بل حتى الأسابيع، يكون المبيع -سواء كان من العقارات أو المنقولات- محبوساً على الصفقة، فلا يتصرف لا البائع ولا المشتري، لا يتصرف البائع لأنه قد أخرج المبيع عن ذمته بعقد البيع، ولا يتصرف المشتري في المبيع لأن هذا العقد معلق، فحينئذٍ اتفق الطرفان على شرط بينهما، والمسلمون على شروطهم، فينبغي أن يفي كل منهما للآخر، فلو أنه قال له: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، فقال له المشتري: قبلت، على أن لي الخيار ثلاثة أيام، فإن الصفقة التي هي السيارة لا يجوز للبائع أن يبيعها لطرف ثانٍ؛ لأن الطرف الأول قد رضي بالصفقة، ولا يجوز للمشتري أن يتصرف ببيع هذه السيارة أو هبتها أو أي من التصرفات حتى تتم مدة الخيار، ويمضي الشرط على صورته، فإذا مضت مدة الخيار وتم الشرط بينهما على ما اتفقا عليه، فكل منهما وشأنه فإن كان تمت الصفقة فالمبيع ملك للمشتري، وإن لم تتم الصفقة فالمبيع ملك للبائع، أما أن يتصرف أحدهما مثلاً: لو أنه باعه عمارة، فقال له: بعتك هذه العمارة بمائة ألف أو بمليون، قال: قبلت، قال: ولي الخيار شهراً، فربما جاء قبل نهاية الشهر وقال: لا أريد، وربما جاء الشهر، ومضى وتم، والمشتري يريد الصفقة، فحينئذٍ لو جاء البائع يبيع، ربما باع والمشتري يرغب الصفقة، وكذلك لو جاء المشتري يبيع ويتصرف ربما تصرف والبائع لا يريد إمضاء الصفقة، فتصرف أحد الطرفين في المبيع ببيعٍ أو هبةٍ أو عتقٍ كما يقع في العبيد، أو ذبح الشاة أو نحر الناقة كل هذا مخالف للشرط الذي بين المتعاقدين، والله أمرنا بالوفاء بالشروط، وأمرنا أن يفي المسلم لأخيه المسلم، فليس من الذمة والعهد بين المسلمين أن يخفر المسلم أخاه، فيقول له: بعتك هذه السيارة على أن لي الخيار يوماً أو أسبوعاً، فيتصرف بالصفقة قبل تمام هذا الشرط الذي بينهما، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم، وهو يتعاقد مع المشركين بالشرط: (بل نفي لهم، ونستعين الله عليهم) فإذا كان هذا بين المسلم والكافر، فكيف بين المسلم والمسلم، فحينئذٍ ينبغي لكلا الطرفين أن يعظم الشروط، وعليهم أن يتقوا الله عز وجل، ولذلك يقول عمر رضي الله عنه: (مقاطع الحقوق عند الشروط)، فنحن لم نبع المبيع بيعاً، فلم نبع البيت ولا السيارة، ولا الأرض ولا المزرعة إلا معلقة على شرط، فينبغي أن يفي البائع للمشتري بإعطائه المهلة والنظرة ويفي المشتري للبائع بإعطائه المهلة والمدة، فكل منهم عليه الوفاء، والله تعالى قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] وهذه الآية الكريمة أصل عند أهل العلم، فقوله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) يلزم المسلم أن يفي لأخيه المسلم بما تضمنه العقد، فالعقد الذي بين البائع والمشتري إنما هو عقد معلق بشرط معين، ولا بد من وفاء كل منهم به للآخر، وعلى هذا: لا يجوز أن يتصرف البائع ببيع المبيع أو هبته، أو عتقه ولا يجوز للمشتري أيضاً أن يقول: أنا اشتريت وأعطيت المال، إذاً أبيع وأهب، وأعتق، نقول: لا، لا يجوز لك لأنك أنعمت بيعاً معلقاً، فوجب عليك أن تنتظر هل يئول هذا البيع إلى البت فتتصرف، أو يئول إلى القطع وعدم الإمضاء فترد الحقوق إلى أهلها؛ لأنه من الشرط، والعقد بينكما معلق على هذا الخيار، فيجب على كل واحد منكما أن يفي للآخر على هذا الوجه. [وعوضه المعين فيها]: وهذه الجملة صدَّرها المصنف رحمه الله بقوله: [ويحرم ولا يصح]. أما (يحرم) فإن من يقدم على التصرف في المبيعات في مدة الخيار، بائعاً كان أو مشترياً فإنه معتد لحدود الله عز وجل؛ لأنه ظلم أخاه المسلم، فمثلاً: إذا كان البائع والمشتري في مجلس واحد، فقال له: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، فقبل وأعطاه العشرة آلاف، وتم العقد بينهما، فالله قد جعل لكل منهما أن ينظر ما داما جالسين، فلو قال المشتري: يا فلان -يخاطب غيره- اشترِ مني هذه السيارة بأحد عشر ألفاً، فلا يجوز؛ لأنه لم يفترق عن أخيه حتى يتم البيع الأول. فالمعنى أنه يحرم ولا يصح في مدة الخيار تصرف أحد المتعاقدين بائعاً كان أو مشترياً؛ لأنه يخالف شرع الله عز وجل، فنص المصنف أولاً على الحرمة؛ لأنه ليس من شيمة المسلم أن يكذب على أخيه المسلم وليس من شيمته أن يغشه، ويختله أو يخدعه في بيعه فيقول له: بعتك، ويقول الآخر: اشتريت على أن لي الشرط ويتم البيع بينهما بشرط، فيتصرف قبل تمام الشرط بل على كل منهما أن يتم للآخر شرطه. وجمع المصنف بين (يحرم ولا يصح)؛ لأنه في بعض الأحيان قد يحرم الشيء ويصح البيع، مثلاً: البيع بعد آذان الجمعة الثاني حرام ولكنه صحيح عند جمهور العلماء؛ لأن الأركان تامة والشروط تامة، وجاء النهي من جهة الوقت والزمان، فهو ليس براجع إلى ذات البيع وإلى ما هو متعلق بعين المبيع ثمناً كان أو مثمناً، فأوجب الصحة. وعلى هذا يقولون: يأثم والبيع صحيح، فيأثم لأنه باع في وقت لا يأذن الشرع بالبيع فيه، والبيع صحيح لأنه تام الشروط تام الأركان. فعلى قوله: (يحرم ولا يصح) فإنه إذا تصرف فباع العمارة قبل تمام الشرط فسخ البيع الثاني، ولو تصرف بالعمارة فوهبها لغيره، فسخت هبته ولم تصح، والحكم للبيع الأول، فإما أن يمضي، وإما أن يلغي على حسب ما اتفق عليه المتعاقدان.

حكم التصرف في الثمن المعين مدة الخيار

حكم التصرف في الثمن المعين مدة الخيار قوله رحمه الله: [وعوضه المعين فيها بغير إذن الآخر]: (فيها) أي: في صفقة البيع. سبق في أول كتاب البيع معنى المبيع المعين، والمبيع المعين: أن تقع الصفقة على عين المبيع، فمثلاً: بعتك هذا الكتاب، فإذا قال: بعتك هذا الكتاب، فقد تعين، فلا يصح أن يأتي بكتاب ولو كان مثله وشبيهه تماماً؛ لأن البيع وقع على معين، ولا بد أن يكون الإمضاء على هذا المعين الذي اتفقا عليه؛ لأنه خصص البيع به، فليس بيعاً على موصوف في الذمة، وإنما هو بيع على حاضر أو على معين، فحينئذٍ يلتزم الطرفان بهذا الشيء المعين، فلا يجوز أن يتصرف أحدهما فيه في مدة الخيار. فمثلاً: لو قال له: بعتك هذا الكتاب بهذه العشرة، على أن لي الخيار يوماً، فيحفظ العشرة بعينها، فإن كانت برأسها -كما يقولون- حفظها برأسها، وإن كانت من فئة الخمسة يحفظ الخمستين بعينهما، ولا يتصرف في عين العشرة فيردها مصروفة مثلاً. ولو قال لك: بعني هذا القلم بهذه العشرة، فلما قال لك: بعني هذا القلم بهذه العشرة، فالعشرة تعينت، فلو أنك أثناء المجلس، أخذت العشرة ووضعتها وأردت أن تشتري بها شيئاً آخر، فقال لك: يا أخي هذه العشرة عليها خيار، فقلت: سأرد مثلها، نقول: لا يجوز؛ لأن البيع وقع على عينها. وهذا يدل على دقة الشريعة الإسلامية وحفظها حتى لألفاظ المتبايعين، وهذا يدل أيضاً على أن الشريعة تريد أن تنصف كلاًّ من البائع والمشتري في حقه، لماذا؟ لأني لو قلت: بعتك بهذه العشرة، فمعناه أنها بعينها، فإن كانت مصروفة فمصروفة، وإن كانت غير مصروفة وكانت كاملة برأسها فهي كاملة؛ لأنها إذا كانت كاملة برأسها فصرفها فيه مشقة، والعكس: فحينما يقع البيع على شيء معين، ينبغي أن يتقيد بذلك الشيء المعين، ولذلك لو جئت إلى (الصيدلية) مثلاً وقلت له: بكم تبيعني هذا الدواء، قال: أبيعك إياه بعشرة ريالات، فأعطيته العشرة ثم أخذت الدواء فوجدت فيه عيباً، فجئت ترده قال لك: أعطيك بدلاً عنه، ولا أرد لك المال، فليس من حقه؛ لأن البيع وقع على معين، ولم يقع على موصوف في الذمة، لكن لو أعطيته الورقة التي فيها وصفة الطبيب فالتزم أن يحضر لك ما تنطبق عليه صفات هذه الوصفة، فقد وقع البيع على موصوف في الذمة. وبناءً على هذا: إذا وقعت الصفقة بين المتبايعين على شيء معين، ينبغي أن يرد العين، ولا يتصرف في عينه؛ لأن بعض الأشياء إذا عينت وحددت وجاء الشخص ببدل عنها، لم يرض الناس بالبدل، ولو كان مثله. فهو مثلاً يريد هذا الشيء بعينه، ويريد هذا الكتاب بعينه، فليس من حقك أن تتصرف فتأتي له بمثله. فلو باعك نسخة من صحيح البخاري بمائة ريال، فقلت: قبلت على أن لي الخيار ثلاثة أيام، وهو أيضاً له الخيار ثلاثة أيام، فتم البيع بخيار شرط، فالنسخة هذه من صحيح البخاري التي لونها أخضر، وبهذه الصفات المعينة المحددة، لو أنك جئت بمثلها قبل تمام الثلاثة أيام وقلت: لا أريد هذا البيع وهذه نسخة مثل نسختك؛ فليس من حقك، بل عليك أن ترد له عين النسخة؛ لأن الشريعة تعظم العقود، والعقد الذي وقع بينكما وقع على معين، فإما أن يمضي على هذا المعين، وتوجبا وتمضيا ويختار كل منكما إمضاء البيع، وإما أن يرد كل واحد منكما للآخر عين ما أخذ منه، وهذا معنى قوله: (المعين)، لكن لو كان في غير المعين، فالأمر فيه أيسر وأخف مما عينه وأوجب العقد عليه. [بغير إذن الآخر]: أي: لا يجوز أن يتصرف في المبيع بدون إذن الآخر، فمثلاً عندما يبيعه العمارة، ويؤجرها، يقول له: بعتك هذه العمارة بعشرة آلاف، فقال: قبلت بشرط أن لي الخيار شهراً، فتم البيع على أن كلاً منهما له الخيار، فالمشتري اشترط الخيار، والبائع قال: وأنا كذلك لي الخيار، فخلال الشهر لا يجوز أن يؤجر العمارة، ولا يجوز أن يتصرف بالعمارة، دون أن يستأذن المالك الحقيقي لها، ويحرم ولا يصح، فهذا التصرف لا يجوز بغير إذن الآخر، فإذا أذن له فلا إشكال؛ لأنه حق له إن شاء ألزمه بحفظه ورده وإن شاء أذن له أن يأخذه فالمال ماله.

جواز تجربة المبيع في مدة الخيار

جواز تجربة المبيع في مدة الخيار قال رحمه الله: [بغير تجربة المبيع]: تجربة المبيع المراد بها أن يأخذ العينة يجربها هل هي صالحة له أو لا، بل إن بعض الخيارات في الشرط يقصد منها تجربة المبيع، فأنت مثلاً إذا باعك رجل سيارةً فقلت له: اشتريتها بشرط أن لي الخيار ثلاثة أيام، فإنك تنوي خلال الثلاثة الأيام أن تذهب بها إلى خبير يكشفها ويفحصها، وتسأل من له علم ومعرفة بالسيارات هل هذه القيمة تصلح وتليق لقاء هذا المبيع أو لا، فأنت تريد أن تشاور. بل حتى خيار الشرط حينما نظرنا في حديث حبان رضي الله عنه، وجدناه مبنياً على المشاورة، فكونك تأخذ المبيع وتجربه هذا من حقك؛ لأن أصل الخيار إنما هو من أجل أن تختار خير الأمرين، وتنكشف لك حقيقة المبيع، هل هو مما يرغب فيه، أو مما لا يرغب فيه؟! وعلى هذا يجوز لك أن تجرب المبيع، فلو ركبت السيارة وأسرعت بها من باب تجربتها ومن أجل أن تفحص فيها سرعتها وما فيها من آلات هل هي مريحة أو غير مريحة فلك ذلك؛ لأن رؤية الشيء ليس كتجربته وعلى هذا: فلو أخذ القلم وكتب به، فهذه تجربة، وهكذا لو ركب السيارة فهذه تجربة، لكن بشرط أن يكون التصرف من المشتري في المبيع على وجه المعروف، فلو كان لا يحسن قيادة السيارة، وقادها وهو لا يحسن القيادة فأتلف ما فيها، أو تسبب في تعطيل بعض المصالح الموجودة في المبيع، فإنه حينئذٍ يضمن لو تصرف على هذا الوجه، ويجب عليه أن يصرف ذلك إلى من له خبرة وله معرفة، ويقول: يا فلان! جرب لي هذه السيارة، أو يا فلان جرب لي هذا المبيع، ولا يقوم بنفسه؛ ضماناً لحقوق الناس، وصيانة لها من الضرر.

حكم العتق في مدة الخيار

حكم العتق في مدة الخيار قال رحمه الله: [إلا عتق المشتري]: فلو أن رجلاً باع عبداً، فاشتراه الآخر على أن له الخيار، فهذا الخيار يقتضي أن العبد يبقى مدة الخيار خالياً من التصرف من المشتري، فإذا أقدم المشتري وتصرف فأعتق العبد، فيقول المصنف في أول العبارة: [ويحرم ولا يصح]، فقوله: (ولا يصح) معناه لا ينفذ؛ لأن الصحة ضابطها عند العلماء ترتب الأثر على الشيء، فإذا قلت: صحت الصلاة فأثر ذلك أنه لا يعيدها بحيث تبرأ ذمته منها، وكذلك أيضاً يترتب الأثر من حصول الثواب الأخروي، فإذا قلنا: (لا يصح) فمعناه أنه لا يترتب الأثر، فإذا وهب، قلنا: لا تصح الهبة، ولو باع لم يصح البيع. فإذاً: معنى ذلك أنه لا يترتب الأثر على التصرف الذي يتصرفه أحد المتعاقدين في السلعة، إلا إذا كان التصرف عتقاً، فإن العتق لا يمكن تداركه، ولذلك لو هزل في العتق فقال لعبده: أنت حر، نفذ ومضى عليه: (ثلاث جدّهن جدّ، وهزلهن جدّ)، ولذلك قال عمر: (أربع جائزات إذا تكلم بهن: النكاح، والطلاق، والعتاق، والنذر)، فلو كان يمزح مع عبده فقال له: أنت حر، فإن هذا مما لا يمكن تداركه. ونحن أثبتنا أولاً قاعدة: وهي أن المبيع في مدة الخيار في ملك المشتري، فإذا جاء المشتري واجترأ على حدود الله، فأعتق العبد في مدة الخيار، فالحكم أنه يمضي العتق؛ لأنه ورد على ملكه، ولأنه لا يمكن تدارك العتق، وقال بعض العلماء: العتق لا ينفذ، والسبب في هذا: أنهم لا يرون أن المبيع في مدة الخيار ملك للمشتري، فكأنه أعتق مال غيره، ومن أعتق عبد غيره أو أمة غيره فلا ينفذ العتق إجماعاً، وهذا حكاه ابن هبيرة وغيره. وكنت أقول: إن العتق لا ينفذ؛ ولكن بعد التأمل وبعد النظر ظهر لي رجحان ما قاله المصنف رحمه الله من أن العتق ماضٍ ولا يمكن تداركه، ويضمن له إما بالقيمة وإما بالمثل على الأصل المعروف في باب الضمانات، وعلى حسب ما يريد مالك الرقبة الأصلية.

إسقاط الخيار وفسخه وبطلانه

إسقاط الخيار وفسخه وبطلانه قال رحمه الله: [وتصرف المشتري فسخ لخياره]: المصنف رحمه الله جاءنا بثلاث جمل بعضها مرتب على بعض: فقد بيّن مسألة ملكية المبيع أثناء مدة الخيار، وأنه لا يجوز أن يتصرف أحدهما في المبيع لا البائع ولا المشتري في مدة الخيار، ثم بين ما يترتب على التصرف لو وقع، فهذه ثلاثة أشياء بعضها مرتب على بعض، ثم ذكر رحمه الله هذه الجملة وهي أيضاً تابعة لما قبل فقال رحمه الله: [وتصرف المشتري فسخ لخياره]: والمعنى أن المشتري إذا تصرف فسخ خياره، وإذا تصرف في المبيع فقد أفسد الخيار ورفعه، فكأنه حينما تصرف أسقط حقه؛ لأن الإسقاط إما بالقول وإما بالفعل، وقد سبق وأن نبهنا وقلنا: إن الخيار يمكن لكلا الطرفين أن يسقطه أثناء المدة، فمثلاً: لو أنني اتفقت معك على أننا بالخيار ثلاثة أيام، ثم اتفقنا على إمضاء البيع وإسقاط الخيار بعد يوم، فإنه إذا مضى اليوم تم البيع، وحينئذٍ لا يلزمنا أن ننتظر إلى الثلاثة أيام، فإذاً: معنى ذلك أنه إذا اتفق الطرفان على إسقاط الخيار فإنه. فلو قال: بعني هذه الأرض بمائة ألف قال: قبلت، على أن لي الخيار شهراً، قال المشتري: وأنا أيضاً لي الخيار شهراً، فالبيع بينهما معلق على خيار لمدة شهر، فقبل تمام الشهر، بل ولو بعد ساعة من العقد واتفقا على أنهما يمضيان البيع، ويرفعان ما اتفقا عليه من الخيار، كان لهما، لكن بشرط أن يتفق الطرفان، فكما أن لهما أن يثبتا ذلك الخيار، فمن حقهما رفع الخيار. لكن لو أن أحدهما أسقط خيار نفسه فهل يسري الإسقاط إلى خيار الآخر؟ A لا، فأنا لو قلت لك: بعتك هذه العمارة بعشرة آلاف، فقلت: قبلت على أن لي الخيار شهراً، قلت: وأنا أيضاً لي الخيار شهراً، فجئت وقلت: يا فلان! إني قد أتممت الصفقة -والخيار قد عدلت عنه والذي اخترته إمضاء الصفقة وكان هذا في اليوم الثاني- حينئذٍ أسقطت الخيار الذي لي، وأصبح البيع لازماً لي؛ لكن تبقى أنت على خيارك شهراً كاملاً، ففي هذه المدة لو أنني مت، وبقيت أنت فإنك تبقى على خيارك شهراً إن شئت أمضيت وإن شئت ألغيت. وقد تقدم أن إسقاط الخيار يكون بالقول ويكون بالفعل، فلو أن المشتري تصرف في المبيع، فإن دلالة الفعل تنزل منزلة القول، ولذلك ذكرنا في بيع المعاطاة أن الأفعال تقوم مقام الأقوال، وأنها دالة -إذا لم تكن محتملة- وكانت صريحة في الدلالة تدل كما تدل الأقوال على ما تتضمنه من دلائل، فمثلاً: لو أن رجلاً أخذ منك العمارة على أنه بالخيار ثلاثة أيام، وجاء خلال الثلاثة أيام وتصرف تصرفاً ما، بهبة أو نحوها فهذا يدل على أنه قد أمضى البيع، ورضي بإتمام البيع، فكأنه يقول: أسقطت خياري، أو لا خيار لي، وعلى هذا قال: [وتصرف المشتري فسخ لخياره]. قال رحمه الله: [ومن مات منهما بطل خياره]: أي: إذا باعه سلعة على أنهما بالخيار أسبوعاً أو ثلاثة أيام، ثم مات أحدهما خلال المدة، فإنه يبطل الخيار في حقه ويبقى الخيار في حق الآخر، فالمصنف رحمه الله قال: (بطل خياره) والضمير عائد إلى الميت، ومفهوم ذلك أنه لا يبطل خيار الطرف الثاني؛ كما ذكرنا في المسألة الأولى أنه إذا أسقط أحدهما خياره فليس من حقه أن يلزم الآخر بإسقاط الخيار. وقد اختلف العلماء هل يرث الورثة الخيار، أو لا يرثون؟ فبعض العلماء يرى أن الورثة يرثون، وهذا القول قواه غير واحد، وقالوا: إن الملكية للأموال تنتقل إلى الورثة، ولذلك لا يتصرف المريض مرض الموت في ماله إلا في حدود الثلث، وكأن المال قد صار في حكم الملكية للورثة، وعلى هذا قالوا: كما أنهم يرثون العين يرثون الاستحقاقات، ومن الاستحقاقات الشفعة والخيار، ونحوها من الأمور التي يكون فيها حق للميت، فتنتقل إلى ورثته؛ لأنهم كما يستحقون المال بعينه يستحقونه بوصفه، ويستحقون العقد عليه إذا كان مرتباً على شرط بذلك الشرط الذي أوجبه مورثهم، فهم يملكون الخيار، فعلى هذا القول: يبقى الخيار للورثة إن شاءوا أمضوا الصفقة وإن شاءوا ألغوها.

خيار الغبن ومشروعيته

خيار الغبن ومشروعيته قال رحمه الله: [الثالث: إذا غبن في المبيع غبناً يخرج عن العادة]: النوع الثالث من الخيار: إذا غبن في المبيع. فالمصنف رحمه الله قال في الخيار: وهو أقسام، وذكر خيار المجلس ثم خيار الشرط، وهذا القسم الثالث وهو خيار الغبن. والغبن لا يكون إلا بخديعة وهو نوع من أنواع الإضرار التي تقع في البيوعات، ومن دقة هذه الشريعة وشموليتها أنها استدركت أخطاء الناس فيما يمكن فيه الاستدراك، فهناك أخطاء تقع في البيع توجب فساد البيع ولا يمكن استدراكها ويفسد البيع بوجودها، فهناك أخطاء لا توجب الفساد ويمكن استدراكها بإعطاء من له الحق أن يختار الإمضاء أو عدم الإمضاء. ووجه إدخال الغبن في الخيار أنه لو باعه وغبنه فإن المشتري يشتري بحسن نية، وهو لا يدري بالخديعة، فإذا اشترى الدار على صفة يظنها من بيع المسلم للمسلم، أي: ليس فيها غبن ولا فيها غش ولا ختل؛ فإن معنى ذلك أنه سيعطي الحق على هذه البراءة، فإذا تبين أن هناك غشاً أو غبناً أو نجشاً قصد منه استثارته، فحينئذٍ يبقى الحق لهذا المسلم، إما أن يمضي الصفقة ويختار أجر الآخرة، والله سبحانه وتعالى يعوضه، وإما أن يطالب بحقه، فالشريعة تبين حكم الحق في مثل هذا، فكأنه يخير بين الأمرين، بين أن يمضي الصفقة وبين أن يطالب بحقه، أو يفسخ البيع، فهذه ثلاثة خيارات: تارة يقول: سامحه الله قد غفرت لأخي وهذا لا شك أنه أعظم أجراً وأعظم ثواباً للمسلم. وتارةً يقول: أنا أريد هذه الصفقة؛ ولكن هذا النقص الذي غبنت به وهذا الظلم الذي ظلمني به أريد حقه وقسطه. وتارةً يقول: لا أريد أن أشتري هذه الصفقة بهذا النقص، أو يرى أنه لما خدعه وختله أنه لا يتعامل معه، فيكره التعامل معه ويقول: لا أريد الصفقة، وأريد مالي. مثال: باعه سيارة مغشوشة، فإذا اكتشف هذا الغش فمن حقه أن يمضي الصفقة ويختار أجر الآخرة، ومن حقه أن يلغي الصفقة كاملة ويطالب بحقه كاملاً، ومن حقه أن يطالب بالأرش ومقدار النقص الذي يستوجبه هذا العيب. كذلك أيضاً إذا غبنه فأدخل رجلاً يزيد في ثمن هذه السلعة وهو يظن أن هذا منافس شريف وأنه يرغب في السلعة، فنظر إليه فإذا به رجل من أهل السوق وأهل المعرفة والخبرة، فقال: لا يمكن أن هذا الرجل الذي له خبرة ومعرفة يزيد في هذه السلعة إلا وهي تستحق، فزاد فيها، ثم تبين أن هذا الرجل قد غشه وكذبه وأن البائع قد أضر به بغبنه على هذا الوجه، فهنا نقول: أنت بالخيار في هذا البيع؛ لأنه ليس على ظاهره من بيع السلامة، وبيع المسلم لأخيه المسلم الذي لا غش فيه ولا خديعة ولا غبن، وإنما هو من البيوعات التي لا يحبها الله ولا يرضاها، فلا بد وأن يضمن حق المبيع. فدخلت الشريعة بين البائع والمشتري للفصل في هذه المظلمة ورد الحق للمشتري، وهنا يكون الخيار للمشتري؛ ولكن في خيار الشرط قد يكون للمشتري وقد يكون للبائع وقد يكون لهما معاً كما بينا، وفي خيار المجلس يكون للطرفين، فالخيارات تختلف بحسب اختلاف أنواعها. فقال رحمه الله: [الثالث: إذا غبن] أي: النوع الثالث أو القسم الثالث من أقسام الخيار: الغبن.

الغبن الذي يثبت به الخيار

الغبن الذي يثبت به الخيار قال رحمه الله: [إذا غبن في المبيع غبناً يخرج عن العادة]: كما إذا جئت إلى بائع الطعام فقال له: بكم هذا الحب بكم الكيلو بكم الصاع، قال: الصاع من هذا بثلاثين، فقلت: أريد صاعاً، فأنت حينما دفعت الثلاثين دفعتها على أن الصاع يباع في السوق على المعروف والعادة بثلاثين، فلم تكاسر ولم تساوم؛ لأنك تظن أن السوق مستقر على هذا الثمن. فلما أخذت الصاع بثلاثين تبين أنه يباع بعشرة، فقد ظلمت بعشرين، فمن حقك في هذه الحالة أن تطالب بما ظلمك به ومن حقك أن ترد الصفقة، ولذلك يقول العلماء: إن الغبن يوجب الخيار بوجود الخديعة من البائع للمشتري، فسكوت المشتري عن المكاسرة والمساومة يدل دلالة واضحة على أنه ما رضي بهذه القيمة إلا لأن السوق مستقر عليها، فإذا تبين أن السوق مستقر على ما دونها كان من حقه أن يطالب. يبقى النظر في مسألة: وهي أن هذا النوع من الخيار يفتقر إلى إثبات أن المشتري ظلم، وهذا يتوقف على أهل الخبرة، فإن باعه طعاماً رجعنا إلى سوق الطعام وسألنا اثنين من أهل الخبرة على أنها شهادة، وبعض العلماء يقول: واحد من أهل الخبرة يكفي ثم نسأل: هل هذه القيمة غبن فاحش أو غبن يسير، فإن قالوا: هذه القيمة غبن فاحش رد الحق إلى صاحبه، وإن قالوا: غبن يسير، مثلاً الصاع بعشرة، باعه الصاع بعشرة ونصف، أو باعه الصاع بأحد عشر، والريال شيء يسير، ولو كان في العرف الريال له قيمة، والنصف ريال له قيمة، فإنه يعتبر غبناً فاحشاً. إذاً: الأمر يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فعندما يأتي عامل ضعيف، الريال عنده بمثابة المائة والألف عند الغني والثري، فنجد غبن العامل والضعيف الذي لا يملك المال إلا بجهد والفقير الذي لا يجد المال إلا بتعب ومشقة؛ ليس كغبن الغني والثري، فإذاً: يختلف الأمر باختلاف الأشخاص من هذا الوجه، ويختلف باختلاف الأزمنة، والأموال في الأزمنة تتفاوت. وعلى هذا: يرجع إلى أهل الخبرة، ويسألون عن هذا الغبن. فقيد المصنف الغبن بالفحش، وهو الذي يعظم فيه الضرر، أما لو كان الغبن يسيراًَ، فالبيوع تقوم على المنافسة وعلى الأخذ والعطاء، فالشيء اليسير مغتفر، مثل أن يبيعه البيت بعشرة آلاف ومثله يباع بتسعة آلاف وخمسمائة، أو يباع بتسعة آلاف، ويكون المقصر هو المشتري، وكان ينبغي أن يكاسر أو يساوم. لكن إذا كان الغبن فاحشاً فإنه لا يغتفر، مثلاً: لو جاء إلى معرض سيارات، فوجد السيارة تباع بخمسة آلاف، فاشتراها بعشرين ألفاً، أو اشتراها بخمسة عشر ألفاً، أي بثلاثة أضعاف قيمتها، وأثبت للقاضي بشهادة أهل الخبرة أنها تباع بخمسة آلاف ريال، فالقاضي يحضر صاحب المعرض ويطالبه بضمان الحق لصاحبه. فهذا خيار الغبن، ويتوقف على معرفة الظلم، وأن البائع قد اغتنم غفلة المشتري وأضر به ببيعه على غير سنن المسلمين، فيضمن البائع للمشتري حقه من هذا الوجه. قال رحمه الله: [غبناً يخرج عن العادة]: يغبنه (غبناً) فعل مطلق [يخرج عن العادة]، العادة سميت عادة من العود والتكرار،، وكأنه إذا كانت الصفقة تباع بخمسة آلاف في السوق، فإن البيع يتكرر على هذا الثمن، فأصبحت عادة الناس أن يشتروها بهذا الثمن، والعادة يحتكم إليها، وهي العرف، لكن بعض العلماء يقول: العرف، وبعضهم يقول: العادة، والمعنى واحد، والقاعدة عند العلماء وهي إحدى القواعد الكلية الخمس (العادة محكّمة) أي: أنه يحتكم إلى عوائد المسلمين، ولها ضوابط وقيود ذكرها العلماء رحمهم الله في كتب قواعد الفقه: فأولاً: يشترط في العادة أن تنضبط. وثانياً: ألا تكون مخالفة للشرع، ولا يكون هناك مصادمة للشرع، فلو اعتادوا أمراً محرماً لم تكن عادة يحتكم إليها. وعلى هذا: فالغبن يحتكم إلى العادة أي: عادة السوق، وهذا كما قلنا يفتقر إلى شهادة أهل الخبرة. مثلاً: لو أنه باعه السيارة بخمسة عشر ألف ريال، وهذه السيارة تباع بخمسة آلاف ريال، أو سبعة آلاف ريال، أو ثمانية آلاف ريال، لغالب الناس، وتباع بعشرة وخمسة عشر لأهل البذخ والإسراف، فحينئذ عندك عادتان: عادة مستقرة للعقلاء والذين يحتكم إلى مثلهم. وعادة لمن لا يعبأ بأمثالهم، وهم أهل البذخ واليسار، الذين لا يبالون بالمال، فمثل هؤلاء لا تعتبر عادتهم، ولا يعتبر وجود مثل هذه الصفقات، وهكذا في الإجارة -كما سيأتينا- لو أجره داره، وكان مثلها يؤجر بألف، فأجره بخمسة آلاف كما يقع في بعض المواسم، فيظلم المستأجر بجهله بالسوق، ويأتي بمن يستأجر في المواسم ويغتنم جهله بالمكان وجهله بقيمة المكان ليزيد زيادة فاحشة عن المثل، فحينئذ يكون له خيار الغبن؛ لأن الإجارة تتفرع على البيع، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. قال رحمه الله: [بزيادة الناجش]: وهي الاستثارة، والنجش مأخوذ: من قولهم: أنجش الصيد إذا استثاره، ومعلوم أن الصيد إذا كانت الفريسة في مكان فأثيرت فإنه يسهل صيدها عند التحريك وعند إثارتها، كأن يكون مع الإنسان كلب للصيد، أو جارحة كالصقر ونحوه فيستثير هذا الحيوان حتى يتمكن منه، أو يكون في موضع لا يستطيع أن يصيده، فينجشه ويرميه بحجر حتى يخرج عن هذا الموضع إلى موضع يمكن أن يصيده فيه. فالمقصود: أن أصل النجش الاستثارة والتحريك، ومعنى هذا أن يأتي رجل ويزيد في السلعة -كما ذكرنا- فيراه الغير ويظن أن السلعة لها قيمة، فلا يزال ينافسه ظاناً أنها تستوجب هذه القيمة، والأمر كله خدعة وغش وختل، فإذا ثبت عند القاضي أن الرجل زاد في السلعة من أجل أن يرغب الغير ويخدعه، كان من حق المشتري أن يطالب بالخيار. قال رحمه الله: [والمسترسل]: المسترسل هو الشخص الذي يشتري الأشياء ولا يكاسر ولا يساوم فيها، فمثل هذا إذا زيد عليه زيادة فاحشة، فإنه يكون في حكم من غبن، ويكون من حقه أن يطالب بدفع الضرر عنه بهذه الزيادة، والضابط في هذا -كما ذكرنا- وجود الزيادة الفاحشة، أما الزيادة اليسيرة والشيء اليسير، فإن شأن البيوعات لا تخلو من وجود غبن إما في حق البائع، أو في حق المشتري، ولذلك لا يعتبر مثل هذا الغبن موجباً للخيار، إذا كانت الزيادة يسيرة.

الأسئلة

الأسئلة

ملكية النماء المنفصل وتعارضه مع حديث المصراة

ملكية النماء المنفصل وتعارضه مع حديث المصراة Q أشكل عليَّ أن للمشتري النماء المنفصل، لتعارضه مع حديث (. ردها وصاعاً من تمر) أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فحديث أبي هريرة في الصحيح: (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر). فالإشكال الذي ذكره هو إشكال في محله من حيث الظاهر، ونحن قلنا في الخيار: إذا قال له البائع: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف ريال، فقال المشتري: قبلت، ثم اشترط الخيار يومين، فقال البائع: وأنا كذلك أشترطه يومين، فتم البيع بالإيجاب والقبول في المجلس، وبقي معلقاً بالخيار، وقد أثبتنا أن ملكية المبيع تكون للمشتري. فإذاً: الاستحقاق للمشتري ثابت، والصفقة تمت، والشيء الذي بيع ليس فيه غبن ولا غش ولا تدليس، بل هو تام، وشروط الصحة موجودة، فالبيع من حيث إنه تام الأركان تام الشروط لا إشكال فيه، لكن إذا اشترى شاة مصرّاة، فالعقد إنما وقع على شاة من صفاتها أنها حلوب، فإذا به يجد أنها غير حلوب، فكأن العقد ورد على غير مورده، ولذلك فكأن البيع لم يقع ولم يتم إذا اختار الفسخ، ولذلك قال: (وإن سخطها ردها وصاعاًَ من تمر) وهذا وجه للجواب. إذاً: يكون الفرق بين الأمرين، أن البيع في خيار الشرط والمجلس قد تم، وهو مستوفٍ لشروطه، وكأن في المسألة مهلة ونظرة فقط، فكان النماء للمشتري. لكن في المبيع الناقص وقع البيع على مبيع كامل، فإذا به قد وقع على مبيع ناقص، وكأنه ليس بمحل للعقد، فلا وجه لأن نقول: إن البيع قد تم؛ لأنه لو تم لألزم به، ولكنه وقع على مبيع كامل والحقيقة أنه على مبيع ناقص. والوجه الثاني: أن فيقال: إن صاع التمر في حديث المصرّاة ليس من باب الضمان من كل وجه، أي: ليس على قاعدة الضمان، والدليل أن الطعام ليس هو بمثلي ولا قيمي، والقاعدة في الضمانات أن تكون أولاً بالمثل إذا وجد، فإذا لم يوجد المثل ينتقل إلى القيمة، والتمر في لقاء الحليب ليس بمثلي ولا بقيمي. لو أن رجلاً أتلف سيارة لك، وأخطأ في هذا الإفساد والإتلاف، فإنه من ناحية شرعية يضمن، فنذهب إلى باب الضمان وننظر إلى قواعد الضمان: وقواعد الضمان تستلزم أن يعطيك سيارة مثل سيارتك التي أتلفها، وهذا يسمى الضمان بالمثل، فإذا جاءك بسيارة مثل سيارتك لزمك أخذها؛ لكن لو أنه بحث ولم يجد سيارة مثل سيارتك فإنه حينئذ ينتقل إلى القيمة، فنقدر السيارة بقيمتها يوم الإتلاف لا يوم الرد، فلو أنه أتلفها قبل خمس سنوات وقيمتها مائة ألف، ولما جاء يردها بعد خمس سنوات وهي تباع بألف نقول: تضمنها بقيمة مائة ألف: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فالضمان الذي يلزم به هو عند الأخذ والإتلاف؛ لأنه لما أتلف استقر الحق في ذمته، وبناء على هذا يكون الضمان بالقيمة. فعندنا ضمان مثلي وضمان قيمي، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ردّها) أي: يرد الشاة (وصاعاً من تمر) فالصاع ليس بمثل للحليب؛ لأن مادة الحليب من المشروبات، ومادة الصاع من الجامدات التي تؤكل، فهذا شراب وهذا أكل جامد، أو هذا مائع وهذا جامد، فليس بمثلي. حتى ولو كان شراباً، بأن رد خلاً مثلاً، فليس الخل من جنس الحليب الذي يشرب، فهو ليس بمثلي ألبتة. وليس بقيمي؛ لأن الصاع من التمر، ليس بنقود، والقيمة يقصد بها الذهب أو الفضة التي جعلها الله قيماً للأشياء. فهذا الضمان خرج عن الأصل فهو مستثنى من الأصل، ولذلك لما اعترض الحنفية على الجمهور -كما سيأتي إن شاء الله في حديث المصرّاة- باعتراضات، أجاب الجمهور بأن حديث المصراة خالف الأصول، بمعنى: أنه استثني من الأصول لورود السنة به، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أكل أو شرب في نهار رمضان فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه). وإذا جئت إلى القاعدة وجدت أن الشريعة توجب على من نسي الركن أن يأتي به، فلو أن رجلاً سلم من ثلاث ركعات في صلاة العشاء، فإنه يجب عليه أن يرجع ويأتي بركعة، فكونه نسي لا يسقط ضمان الحق لله عز وجل، فنسيان الأركان لا يجبر بسجود السهو، بل ينبغي أن يأتي بالفعل حقيقة. إذاً: أنت الآن في الصلاة تلزم بضمان الركن والإتيان به، وركن الصوم الإمساك عن شهوتي البطن والفرج، فلو نسي وأكل أو شرب فحينئذ فات الركن، ولذلك قال المالكية في هذا الحديث: قوله: (إنما أطعمه الله وسقاه) أي: فأسقط الإثم ولكن لا يسقط الضمان ولذلك لم يقل: فلا يقضي؛ لأن القاعدة عندهم أن النسيان للأركان لا يسقط الضمان. ولكن قال الجمهور -وهذا موضع الشاهد- حديث رمضان في الأكل والشرب استثني من الأصل لورود السنة به، ويجوز الاستثناء من القواعد الكلية بآحاد الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنحن نقول: القاعدة في الخيار أن النماء المنفصل يكون للمشتري، وجاء حديث المصراة مستثنى من الأصول، وانتهى الإشكال، والقاعدة: أنه لا تعارض بين عام وخاص، فهذا عام ودارج على القاعدة العامة، وهذا خاص، وبهذا يزول الإشكال، والله تعالى أعلم.

يد المشتري في زمن الخيار

يد المشتري في زمن الخيار Q هل يمكننا أن نقول: إن يد المشتري في زمن الخيار يد أمانة، أثابكم الله؟ A بالنسبة للمشتري، يده يد أمانة في حفظ المبيع، فيحفظ المبيع للبائع بالنسبة للرد؛ لكن بالنسبة للضمان يضمن، أي: يده يد ضمان، فهي أمانة من جهة أنه لا يبيع السلعة ولا يهبها؛ لكن من جهة الضمان يده يد ضمان، والفرق بينهما: لو فرضنا أن السيارة التي بيعت في مدة الخيار أهلكتها آفة سماوية، أو جاء سيل واجترفها، فالضمان على المشتري؛ لأنه لا يحسن أن يأخذ النماء وتكون الخسارة على غيره؛ لأن هذا ظلم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد وضع (الخراج بالضمان) فإذا كان له النماء المنفصل فمعناه أنه مالك، ولذلك لا يصح أن تقول: يده يد أمانة؛ لأن يد الأمانة لا تضمن إذا لم تفرط، فإذا فرطت ضمنت، والواقع أنه لو تلفت هذه السيارة بآفة سماوية فإنه يضمن، ولذلك لا يصح أن نقول: إن يده يد أمانة من هذا الوجه، لكن نقول: يد أمانة بمعنى: أنه لا يجوز له أن يهب، ولا يجوز له أن يبيع، ولا يجوز له أن يتصرف في المبيع بالعتق ونحوه. أما من ناحية اليد الحقيقية فهي يد ضمان، له في المبيع غنمه وعليه غرمه. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

باب الخيار [4]

شرح زاد المستقنع - باب الخيار [4] من أقسام الخيار: خيار التدليس، وهذا الخيار فيه عدل من الله سبحانه وتعالى ولطف بعباده، ويقع هذا الخيار إذا دلس البائع على المشتري، فيظهر له الشيء كاملاً والحقيقة أنه خلاف ذلك. ومن أقسام الخيار أيضاً: خيار العيب، وقد شرع هذا الخيار دفعاً للضرر عن المسلم، وفيه توبيخ وقرع لأهل الغش. والعيوب منها ما هو مؤثر في المبيع ويستحق به الرد، ومنها ما هو يسير يتجاوز عنه أو لا يستحق إلا بالشرط، وقد تكون العيوب حسية وقد تكون معنوية. وإذا ثبت العيب فله أحكام مترتبة على ثبوته.

خيار التدليس تعريفه ومشرعيته

خيار التدليس تعريفه ومشرعيته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [الرابع: خيار التدليس]: شرع المصنف رحمه الله في النوع الرابع من أنواع الخيارات، وهذا النوع يتعلق بالتدليس، وأصله من الدلسة وهي الظلمة. ويقع هذا الخيار إذا دلس البائع على المشتري، فأظهر له حسن الشيء المبيع وجماله وكماله، وكان الواقع والحقيقة أنه بخلاف ذلك، فإذا دلس عليه وأوقعه في لبس من أمره، فاشترى الشيء على أنه كاملٌ فبان ناقصاً، واشترى الشيء على أنه سالِمٌ فبان معيباً، فإنه حينئذ يكون للمشتري الخيار، فيقال له: إن شئت قبلت، وإن شئت رددت. وخيار التدليس فيه عدل من الله سبحانه وتعالى، ولطف بعباده، وذلك أن المبيعات ربما اغتر المشتري بظاهرها، وظن أنها سالمة فدفع فيها القيمة على أنها تستحق ما دفع، ثم يتبين له أن الأمر بخلاف ذلك، وحينئذٍ لطف الله عز وجل به، فشرع له أن يرد المبيع؛ لأنه اشتراه كاملاً فبان ناقصاً، واشتراه سالماً فبان معيباً، ولم يقع البيع على شيء معيب، وإنما وقع البيع على شيء سالم من العيوب، فشُرِع له أن يرده. وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الواجب على المسلم أن ينصح لأخيه المسلم، وألَّا يغشه ولا يدلس عليه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من غشنا فليس منا) والسبب في ذلك: أنه دخل السوق، فوجد رجلاً يبيع الطعام، فأدخل يده صلى الله عليه وسلم في طعامه، فأصابت يدُه البلل، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما هذا يا صاحب الطعام؟ فقال: أصابته السماء يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: هلَّا وضعته فوق الطعام حتى يراه الناس؟! من غشنا فليس منا). فدل هذا الحديث الشريف على حرمة التدليس على المسلم. ويقع التدليس بوضع الشيء الطيب من أعلى ووضع الرديء من أسفل. ويقع التدليس بتسوية الأشياء، فتُرى على أنها جميلة وكاملة وعلى أنها فاضلة، ثم يتبين أن الأمر بخلاف ذلك. وقد ذكر المصنف رحمه الله لهذا أمثلة، تعتبر بمثابة التطبيق لما ذكر من نص.

صور لخيار التدليس

صور لخيار التدليس قال رحمه الله: [كتسوية شعر الجارية وتجعيده]: وفي بعض النسخ: [كتسويد شعر الجارية] وقد كانوا في القديم يشترون الجواري والإماء، ويحصل التدليس في صفة الجواري فيسرح الشعر، فترغب الناس فما كان أسود الشعر، ويكون شعرها أشقر فيضرب بلون السواد، أو يكون شعر الجارية أحمر فيصبغ بلون السواد، كل ذلك ترغيباً للمشتري في الصفقة، فإذا فعل هذا وصبغ شعر الجارية على لون يحبه الناس، ثم تبين أن الأمر بخلاف ذلك، شرع حينئذٍ خيار التدليس. وكذلك على النسخة الأخرى [كتسوية شعر الجارية] وهذه التسوية تكون بتسريحه على وجه يكون فيه التواء، وهذا النوع من الشعر إذا كان ملتوياً، كان فيه دليل على قوة البدن وصحته، بخلاف ما إذا كان الشعر رقيقاً فالغالب أنه يدل على ضعف البدن، فحينئذٍ إذا سواه بهذه الصفة، رغب المشتري في الجارية، وظنها قوية وظنها جميلة الشعر، ثم يتبين أن الأمر بخلاف ذلك. هذه أمثلة قديمة، وفي عصرنا الحاضر ربما فعل البائع شيئاً في صفقته التي يعرضها للبيع، فجملها وحسن صورتها من الظاهر وهي في الباطن بخلاف ذلك، فيثبت خيار التدليس كما يثبت فيما ذكره المصنف رحمه الله من الأمثلة القديمة. قوله: (وتجعيده) وهكذا التسوية والتجعيد، ومن التسوية تسوية الثياب، وقد ذكرها العلماء رحمهم الله، وهذا بالمبالغة في كيها وتنظيفها حتى تبدو كأنها جديدة، وهي قديمة، أما لو كانت قديمة، وكويت وعرضت للبيع فلا بأس، لكن أن تكون قديمة ثم يحسن ظاهرها فإذا رآها الإنسان ظنها جديدة، والواقع بخلاف ذلك، فهذا يعتبر من التدليس كما ذكر المصنف في تجعيد الشعر، فإن تجعيد الشعر إذا سرحه على وجه يبدو فيه ملتفاً، فإنه يرغب في الجارية أكثر، فهذا من التدليس والغش والكذب ويوجب للمشتري الخيار. قال رحمه الله: [وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها]: وقد كانت المزارع في القديم يستقى لها، وإذا جمع الماء وأرسل أمام الزبون أو أمام المشتري رغب في البستان وظن أن الماء كثير، وهكذا في زماننا ما يوجد من (المكائن)، ففي بعض الأحيان تدار (المكينة) فيكون الماء قوياً عند إدارتها في الأول، ثم يبدأ يضعف فيضعف حتى يصل إلى مستواه المعتاد، بعد ساعة أو بعد ساعتين، أو بعد ثلاث، فإذا جاء المشتري يريد أن يشتري المزرعة، فإنه يدير (المكينة) أو نحوها، فينظر فإذا بالماء كثير؛ لأنه في بداية الصب، فيظن المشتري أن ماء المزرعة كثير، ويرغب فيها، ويعتقد أنها متوفرة الماء، فيشتريها وإذا بالماء قليل، فإذا فعل البائع هذا الشيء، فإنه يثبت للمشتري خيار التدليس، وقد كان الواجب على البائع أن يقول له: هذا الماء كثير، ولكنه بعد ساعة أو بعد ساعتين، يبقى مثلاً (بوصتين) أو يبقى (ثلاث بوصات)، أو يبقى (بوصة) أو (نصف بوصة) كما هو متعارف عليه في أعراف الناس اليوم، فإذا لم يبين له ذلك على هذا الوجه فقد ظلمه ودلس عليه، وحينئذ يثبت خيار التدليس.

تعريف خيار العيب وصوره

تعريف خيار العيب وصوره قال المصنف رحمه الله: [الخامس: خيار العيب]: يذكر المصنف رحمه الله: القسم الخامس من أقسام الخيار، وهو خيار العيب. والعيب في اللغة: النقص، يقال: عابه عيباً ومعيباً إذا انتقصه، والمراد بالعيب في البيع: نقصان المالية نقصاً مؤثراً. (نقصان المالية): والمالية: تأتي على وجهين: فيراد بها القيمة، فمثلاً: أنت تشتري السيارة على أنها سالمة من العيب، فتكون قيمتها عشرة آلاف، وبهذا العيب تنقص قيمتها إلى تسعة آلاف، فمعنى ذلك: أنها انتقصت عشر قيمتها، وحينئذٍ يقولون: إن وجود هذا العيب أنقص المالية والقيمة، فالعيب هو الذي ينقص المالية أي: القيمة. وقال بعض العلماء: المال هو كل شيء فيه منفعة. وعلى هذا يكون نقصان المالية: إما نقص المنفعة الحسية أو نقص المنفعة المعنوية. ونقص المنفعة الحسية كأن يشتري دابة مقطوعة القدم، تبدو شلاء أو بها عرج أو نحو ذلك. أو نقصان النفع بحيث يكون العيب راجع إلى النفع، مثل الجنون في الأرقاء. وهكذا بالنسبة للعيوب الخلقية الموجودة في الدواب، فقد كانت الدواب في القديم، لها عيوب خَلقية وخُلقية. فمن العيوب الخُلقية: إذا أراد أن يركب على الدابة جمحت ونفرت، وفي بعض الأحيان ربما أسقطت الرجل من على ظهرها، والجنون أيضاً في البهيمة، فهذه عيوب كلها تؤثر في نفسية المبيع. وتارةً يكون العيب راجعاً إلى الذات، فإذا رجع إلى ذات المبيع -كما ذكرنا- كالشلل، فباعه عبداً فبان مشلولاً أو باعه دابة فبانت مشلولة، أو بان بها عمى أو مرض في جسمها، أو نحو ذلك، فهذه العيوب الجسدية تنقص المنفعة، فأنت إذا أردت أن تنتفع من دابة جموح فإنها تضر بك، وتعطل مصالحك. وإذا كانت الدابة مريضة واشتريتها على أنها سليمة، فإذا جئت تركبها فإنك تتعطل عن مصالحك وتتأخر عن منافعك ووجود المرض فيها قد يضر في لبنها وحليبها، وقد يضرك بلحمها إذا أكلتها. فنقصت المالية من جهة نقص المنفعة، فالمنفعة إذا قلنا: نقصان المالية نقصان القيمة فلا إشكال، وإن قلنا: نقصان المالية نقصان المنفعة سيتم تأوليها على هذا الوجه.

العيوب التي تؤثر في المبيع والعيوب التي تستحق بالشرط

العيوب التي تؤثر في المبيع والعيوب التي تستحق بالشرط والعيوب تارة تكون عيوباً في ذات المبيع، أو تكون عيوباً مستحقة بالشرط. فالعيوب التي تكون في ذات المبيع هي التي تعطل منافع المبيع أو تنقص قيمته، وهي ترجع إلى ذات الشيء فيبدو ناقصاً بعد أن ظنه كاملاً، وهذا العيب ينقص المنفعة أيضاً فلا يستطيع أن يجد منه من المنافع والمصالح ما كان يرجوه ويأمله. وكذلك أيضاً تكون العيوب عيوب كمال، والعيوب الكمالية: هي التي لا يستحق فيها المشتري الخيار، إلا إذا اشترطها على البائع، فمثلاً: إذا اشترى الإنسان سيارة، واشترط شيئاً في السيارة، والسيارة بذاتها كاملة، فمنفعة السير موجودة، ومنفعة الركوب عليها ممكنة، لكنه اشترط أن يكون فيها (مسجل)، فهذا شرط كمال، إذ يمكن أن تباع السيارة بدون مسجل. فلو بيعت بدون مسجل وجاء المشتري يقول: هذه السيارة معيبة، قلنا: ما عيبها؟ قال: ليس بها مسجل، نقول: عدم وجود المسجل ليس بمؤثر في منافع السيارة، وليس بعيب في ذات السيارة، فالسيارة تراد للركوب غالباً ومنافع الركوب فيها ممكنة، وحينئذ نقول: هذا ليس بعيب. لكن لو قال عند الشراء: أشترط أن يكون بها (مسجل)، فإن عدم وجوده عيب. أو باع بيتاً. فإذا قال لك: أبيعك بيتي، وصفته كذا وكذا، وصف لك طوله وعرضه، وصفاته الكاملة، لكنك قلت له: أشترط أن يكون فيه -مثلاً- الهاتف أو الماء أو الكهرباء، فهذه منافع، والبيت لذاته إنما يعد للسكنى. فلو أن رجلاً اشترى بيتاً، ثم لم يجد فيه الهاتف، وقال: هذا عيب، قلنا: ليس بعيب؛ لأن البيت يراد للسكن، ولا يراد للاتصال فعدم وجود هذا الجهاز فيه لا يقتضي نقصانه ولا يقتضي كونه معيباً؛ لكن لو أنه اشترط عليه وجود هذا الجهاز فيه فإنه يعتبر عيباً، ويجوز له أن يرد إذا لم يجد هذه الصفة فيه. لو اشترى أرضاً فقال للبائع: أشترط أن يكون لها صك شرعي، فقال البائع: وهو كذلك، أي: لها صك شرعي، وتم العقد بينهما على هذا الأساس، وتبين أن الأرض لا صك لها، أو أنه لا يملكها بصك، فحينئذ من حق المشتري أن يرد الأرض ويعتبر هذا العيب. إذاً: العيوب الكمالية لا تكون عيوباً إلا إذا اشترطت. وفي بعض الأحيان تكون الكمالات عيوباًَ إذا لم تشترط إذا جرى بذلك العرف، فمثلاً: لو قال لك: أبيعك هذه السيارة بعشرة آلاف، فنظرت في السيارة وإذا بها على ما تريد وترغب، وجميع أوصافها وما تريده منها من الانتفاع ممكن ومتيسر، لكنك لما دفعت العشرة آلاف وركبتها، إذا بها لا يوجد بها المكيف -مثلاً- فجئت وقلت: هذا عيب. ففي هذه الحالة ننظر: لو جرى العرف أن هذا النوع من السيارات الغالب أن يكون فيها مكيفاً، فحينئذٍ: (المعروف عرفاً كالمشروط لفظاً). فنقول: صحيح أنه لم يقل: أشترط أن يكون بها هذا الجهاز؛ ولكنه معروف بالعرف أن هذا النوع من السيارات يوجد به هذا الكمال فهو كالشرط، أي: جريان العرف به كالشرط، وإنما سكت المشتري لأنه سيشتري شيئاً معروفاً. الخلاصة: هناك عندنا عيوب مؤثرة في ذات المبيع، وعندنا عيوب تستحق بالشرط، وهذا ما مثلناه في العصر الحديث وفي القديم كأن يقول لك: أشتري منك العبد بشرط أن يكون كاتباً، أي: يعرف الكتابة؛ لأنهم يحتاجونه في كتابة الرسائل ونحوها، حتى يستأجره الناس وينتفع من وراء ذلك. أو أشترط أن تكون له صنعة إلى آخر ذلك من الشروط، فالرقيق بذاته منفعته موجودة؛ لكن اشتراط الكتابة فيه يستحق به الرد، متى ما وجد على خلاف الشرط. وهكذا بالنسبة للدابة -كما مثلنا في الحديث- فقد كانوا في القديم يشترطون أن تكون الدابة هملاجة، أي: السريعة، أو أن يكون الفرس سريعاً، أو أن يكون البعير سريعاً؛ لأنه يريده للركوب ولأن الدواب في القديم تارةً تشترى للحم، ويسمونها: الشاة الأكولة، الناقة الأكولة، البقرة الأكولة، أي: أنها اشتريت من أجل لحمها لكي تؤكل. وتارةً تشترى للركوب، فيقال: دابة ركوب، ناقة ركوب، أي: اشتراها من أجل أن يركب عليها. وتارةً تشترى من أجل الحليب، فيقال: شاة حلوب، وبقرة حلوب، وناقة حلوب. فهذه الكمالات: كونها حلوباً، وركوباً، أو سمينة طيبة اللحم؛ لا تعتبر عيوباً إلا إذا اشترطها المشتري. وبهذا يتبين أن العيب في قول العلماء: هو نقصان المالية، وذلك إما أن يكون نقصاً في الذات، أو نقصاً في النفع، ثم هذان النوعان -نقص الذات ونقص النفع- يعتبر منها العيب المؤثر أي: الذي يعتبر نقصه قوياً. وأما النوع الثاني من العيوب: وهي العيوب التي تستحق بالشروط، وهي التي يسميها العلماء رحمهم الله: عيوب الكمالات، فلا تستحق بالطلب والدعوى، ولكن إذا جرى العرف بوجودها ولم توجد في المبيع، كان من حق المشتري أن يرد المبيع، ويثبت له خيار العيب، وهذا من حيث الإجمال. من حيث التفصيل: المبيعات تارة تكون عقارات. وتارة تكون منقولات. وتارة تكون من الأثمان. فإذا باع الإنسان أو اشترى فإما أن يبيع ثمناً، ويشتري ثمناً، وإما أن يبيع مثمناً ويشتري مثمناً، أو يبيع ثمناً ويشتري مثمناً، كما ذكرنا في تقسيمات البيع الثلاثة: - مثمن بمثمن، وهو بيع المقايضة. - ثمن بثمن، وهو بيع الصرف. - ثمن بمثمن وهو البيع المطلق. ففي الثمن يكون النقص في الورق النقدي والعيب في الورق النقدي، كأن يبيعه ورقاً أو يصرف له ورقاً مزوراً أو مزيفاً، وفي القديم كانوا يقولون: (دراهم زيوف ودنانير زيوف). في عصرنا الحاضر يصرف له دولارات مزيفة، هذه الدولارات المزيفة إذا ثبت زيفها، كان من حقه أن يردها وأن يأخذ عين ما دفع. وكذلك أيضاً بالنسبة لنقص القيمة الشرائية لها، فهذه ليس لها قيمة شرائية أصلا، ً ما دامت زيوفاً. في بعض الأحيان يكون الورق الموجود دولارات، قال لك: أصرف لك هذه المائة دولار بألفين ريال مثلاً، فقلت له: قبلت، فأخذت المائة دولار فوجدتها مقطعة، وهذه المقطعة لا يمكن أن تسري في السوق، ولا تقبل ولا تروج، فمن حقك أن تردها؛ لأن هذا نقص يؤثر في الانتفاع من هذه الدولارات؛ لأنك حينما أخذتها إنما أخذتها من أجل أن تكتسب بها وتنتفع بها، فتتعطل منفعتك بهذا النقص، فحق لك أن تردها وتستبدلها أو تلغي العقد نهائياً. الحالة الثانية: أن يكون البيع في المثمونات، والمثمونات إما عقارات وإما منقولات. فالعقارات مثل البيوت، ومثل الأرضين، ففي البيوت يبيعه بيتاً فيه عيب، وعيوب البيوت تنقسم إلى قسمين: - إما عيوب في ذات البيوت ومنافعها والانتفاع بها من السكنى تحتها والاستظلال ونحو ذلك. - وإما عيوب نفسية تؤثر في سكنك في البيت، فتزعجك وتقلقك ولا تريحك. فإن كانت العيوب في ذات البيت، كانكسار سقفه، فإنه إذا باعك البيت ثم تبين أنه منكسر السقف، أو لا تأمن أن يسقط السقف عليك، فهذا نقص في المالية، من حقك أن ترد به البيع، أو باعك عمارة وتبين أن فيها دوراً كاملاً مشقق، أو جميع أدواره مشققاً، بحيث قال أهل الخبرة: هذا ضرر فادح أو فيه خطر على السكنى في مثل هذا، فمن حقك أن ترد. كذلك أيضاً إذا باعك وكانت الغرف مقسمة على وجه لا يمكن معه الانتفاع، كأن تشتريها للسكنى، وقلت له: أريد عمارة فيها شقق من أجل أن أؤجرها، أو من أجل أن أسكنها، وتبين أن هذه العمارة كانت سكناً للعمال، ونظامها في التقسيم لا يصلح أن تصير به شققاً، فهذا مضر لمنفعتك ويمنعك من الارتفاق بها، فيحق لك الرد، فهذه كلها عيوب حسية في ذات المبيع. وهناك عيوب في العقارات، فقد يكون العقار أيضاً فيه عيب حسي إذا كان من الأراضي والمزارع، مثل: أن يبيعه مزرعة في مجرى السيل، فإن المزرعة في مجرى السيل عرضة إلى أن يأتي السيل ويأخذ ما فيها من زرع وحرث وما فيها من ماشية، بل وما فيها من أنفس، فإذا تبين أن مكانها مهدد بالسيل، كان من حقه أن يرد؛ لأن هذا العيب يضر به، وقد يؤدي إلى هلاكه وذهاب أمواله. وحينما ذكرنا عيوب العمائر، أو عيوب البيوت من انشقاق السقف، أو انكسار خشبه، أو وجود الأرضة التي كانت تأكل السقف في القيديم، فهذه كلها عيوب حسية. لكن قد يكون العيب في البيت معنوياً، وذلك مثل سكن الجن في البيت، أي: إذا كان البيت مسكونا، ً وهذا معروف بالمشاهدة والتجربة، وقد نبه الإمام ابن قدامة رحمه الله والمتقدمون على مثل هذه العيوب، فلو كانت الدار مسكونة، وهذا له علامات، ففي بعض الأحيان ينفتح الباب بدون وجود شخص، وفي بعض الأحيان ينطفئ المصباح بدون أن يطفئه آدمي، وفي بعض الأحيان تسمع الأصوات، فلابد أن توجد دلائل بشهادة أهل الخبرة أن هذا البيت مسكون، ففي هذه الحالة من حقه أن يرد البيت. كذلك أيضاً: الجار السوء، فجار السوء الذي يؤذي الإنسان، قال بعض العلماء: إنه عيب معنوي، فذات الدار كاملة، وصفاتها كاملة؛ لكن إذا تبين أن جارها جار سوء يؤذي الإنسان في عرضه، ويؤذيه في نفسه بالكلام عليه، ولا يأمنه إذا غاب على أهله، ففي هذه الحالة قال بعض العلماء: إن جار السوء يستحق به الرد، خاصة إذا كان شريراً ومضراً. إذاً: العقارات يكون عيبها حسياً، ويكون عيبها معنوياً. فإذا كانت البيوت فيها عيب السكن، وعيب جار السوء، فكيف يكون في المخططات والأرضين؟ يكون في المخطط بعدم القيمة للأرض، وذلك بعدم وجود الصك الشرعي لها، فلو باعه أرضاً وتبين أن صكها مزور، أو أن الصك ليس لها إنما هو لغيرها، ففي هذه الحالة من حقه أن يرد، فكل هذه الصفات وهذه العيوب مؤثرة في المبيع، إما أثرت في عين المبيع، أو أثرت في قيمة المبيع والانتفاع به. وأما عيوب الدواب فكما ذكرنا، فيكون العيب في ذاتها، الذي هو العيب الحسي، مثل مقطوعة القدم، ومقطوعة الرجل، مقطوعة اليد والشلاء، ومقطوعة الأذن، مثلاً: لو اشتريت شاة للأضحية، وتبين أنها مقطوعة الأذن، فحينئذٍ من حقك الرد؛ لأن مثلها لا تستطيع أن تضحي بها، على قول من قال: في حديث عدي رضي الله عنه: إن مقطوعة الأذن لا يضحى بها. في زمننا الحاضر مثلاً: لو اشتريت شاة وتبينت فيها الأورام والغدد، التي قد تضر بالإنسان إذا أكل من لحم هذه الشاة، فإذا تبين أن فيها هذا العيب وفيها هذا الضرر، كان من حقك أن ترد. وعيوب الدواب المعنوية مثل: إذا جاء يركب على الفرس ينفر منه، إذا جاء يركب على الناقة نفرت منه

مشروعية خيار العيب

مشروعية خيار العيب ذكر المصنف رحمه الله خيار العيب، و Q ما هو الدليل على كون المسلم يستحق عند وجود العيب رد المبيع؟ الدليل على ذلك: كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإجماع أهل العلم. أما كتاب الله: فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] هذه الآية الكريمة وجه الدلالة منها في قوله: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29] و (الباطل) أكل المال بدون وجه حق. وعلى هذا: لو باعك السيارة كاملة بعشرة آلاف، وظهر بها عيب ينقص قيمتها إلى ثمانية آلاف، فمعناه أنه قد أخذ منك الألفين بدون وجه حق. ولذلك يقولون: بيع المعيبات وسيلة لأكل أموال الناس بالباطل؛ لأنك تدفع القيمة كاملة في شيء كامل، والواقع أنه ناقص، فكأن ثمن المبيع على النقص يعتبر مأكولاً بالباطل، فهذا وجه الدلالة من الآية الكريمة. وأما من السنة: فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في حديث المصرّاة أنه قال صلى الله عليه وسلم: (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين، إن شاء أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر) وهذا حديث عظيم، فقد فرع عليه العلماء رحمهم الله مسائل العيوب، وحاصله: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى فيه المسلم عن أن يصر الإبل والغنم، وفي حكمهما بقية الدواب. ومعنى (تصرية الإبل والغنم): أنهم كانوا في القديم يأخذون الناقة، ويمتنعون من حلبها ثلاثة أيام أو يومين أو أربعة، فينتفخ اللبن في ضرعها، فإذا رآها رجل ظنها كثيرة اللبن، فاشتراها على أنها حلوب، ثم تبين أن حليبها ليس بالصفة التي اشتراها إذاً: فالتصرية أن يمتنع من حلب الشاة أو الناقة مدة حتى يكثر أو يعظم اللبن في ضرعها، قال صلى الله عليه وسلم لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها أي: من اشترى شاة أو ناقة مصراة (فهو بخير النظرين) أي: هو بين أمرين وإن شاء أمسكها، أي: إن رضيها وقال: رضيتها، والله عز وجل يعوضني في الآخرة، وسكت عن العيب، فهذا حقه، كما لو سامح المسلم المسلم في حقه، وإما أن يسخطها ويردها على صاحبها، فقال صلى الله عليه وسلم: (وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر) أي: رد الناقة أو الشاة ومعها صاع من تمر، جبراناً لذلك النقص الذي استفاده من حلبها في الأيام الماضية. إذاً: حديث المصراة دليل على إثبات خيار العيب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن ابتاعها -أي: اشتراها- فهو بخير النظرين)، فقوله: هذا يدل على أن من اشترى شيئاً معيباً، أنه بخير النظرين إما أن يمسك وإما أن يرد. وفي هذا الحديث دليل أيضاً على حرمة التدليس والغش؛ لأنه قال: (لا تصروا) والنهي للتحريم؛ لأن القاعدة: (أن النهي يحمل على ظاهره الموجب للتحريم، حتى يدل الدليل على خلاف ذلك). وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء رحمهم الله على إثبات خيار العيب من حيث الجملة، فكلهم متفقون على أنه إذا باعه شيئاً معيباً واشتراه المشتري دون أن يعلم بالعيب، أن من حقه أن يرد، على تفصيل سنذكره إن شاء الله، يختلف بحسب اختلاف مذاهب العلماء رحمهم الله. وفي خيار العيب حكم عظيمة منها: دفع الضرر عن المسلم. فقد شرع الله خيار العيب دفعاً للضرر عن المسلم، ولذلك أمر من اشترى المعيب أن يرده إذا لم يرد، أو يبقيه إن رضيه، وأذن الله عز وجل له أن يرد المعيب، وهذا يدل على مشروعية أخذ المسلم بحقه إذا تبين له أنه مظلوم، فقد قال عليه الصلاة والسلام وإن سخطها ردها، فمن حقك أن ترد المعيب لأنك ظُلمت، وقد اشتريت الكامل ولم تشتر الناقص، ودفعت ثمن الكامل ولم تدفع ثمن الناقص فقط، وكأنك حينما اشتريت الشيء على أنه كامل وتبين أنه ناقص فكأنك عقدت العقد الذي بينك وبين البائع على شيء غير هذا الشيء، وبناء عليه تستحق الرد. وفي خيار العيب -أيضاً- قرع وتوبيخ لأهل الغش وصيانة لأسواق المسلمين من الكذابين والغشاشين، ولو أنه كلما ظهر عيب ردت المبيعات لعُرف الغشاشون، ولم يستطيعوا أن يتسلطوا على المسلمين، ولكن إذا لم يعط المسلم خيار العيب، فإن معنى ذلك أن يتسلط الغشاشون ولا يجدون من يردعهم عن غش المسلمين، فتصبح الأسواق مليئة بالغش والكذب، حتى لا يأمن الإنسان في تجارته وبيعه وشرائه.

العيوب الحسية والمعنوية وتأثيرها في المبيع

العيوب الحسية والمعنوية وتأثيرها في المبيع قوله رحمه الله: (خيار العيب) أي: من أقسام الخيار التي دل عليها دليل الشرع خيار العيب. وقوله: [وهو ما ينقص قيمة المبيع كمرضه]: وبعض العلماء يقول: (نقصان المالية)، والمالية هي القيمة فلا إشكال. فقوله: (ما ينقص قيمة المبيع): أي: الشيء المبيع، سواء كان ثمناً أو مثمناً. (كمرضه): الكاف للتمثيل أي: مثل المرض، والمرض ينقص قيمة المبيع؛ لأن المبيع المريض منفعتُه أقل من المبيع الصحيح؛ ولأن المبيع المريض يكلف المشتري كلفةَ دوائه وعلاجه والقيام عليه؛ ولأن المبيع المريض قد يدخل الضرر على الإنسان، كما لو كان به مرض معدٍ، أو نحو ذلك، فذكر المرض في العيب يشمل المرض الذي هو حسي، والمرض المعنوي. فالمرض الحسي: مثل الأمراض التي تُرى وتُشاهد كالجرب ونحو ذلك. والأمراض المعنوية: مثل أن يكون به مرض نفسي مما يوجب أو يمنع الانتفاع به على الوجه المطلوب. قال رحمه الله: [وفقد عضو أو سن أو زيادتهما]: (وفقد عضو): كاليد، كما إذا باعه رقيقاً، وتبين أنه مشلول اليد، وهكذا، هذا في القديم. وفي الحديث: لو باعه سيارة ليس لها عجلات مثلاً، والسيارات تراد للركوب، فلو باعها بدون أن يكون لها فهذا في حكم فقد العضو؛ لأنها لا يمكن أن تسير ولا أن ينتفع بها إلا بوجود هذا الشيء الذي هو (إطارها) الذي تسير عليه. (أو سن) فقد السن يؤثر في الدواب، ويؤثر أيضاً في الأرقاء، والسبب في هذا: أن السن يؤكل به، وفقده يضعف أكل الدابة فتضعف، وكذلك أيضاً فقد السن ربما يدل على مرض كما يقع في بعض الأمراض من تساقط الأسنان، وكذلك أيضاً فقد السن ينقص الجَمال في الأمة، إذا اشتراها من أجل أن يعف نفسه عن الحرام؛ لأن الله أحل له وطأها. فالمقصود: أنه مثل رحمه الله من بيئته بما كان موجوداً في القديم. (أو زيادتهما) أي: زيادة الأعضاء فإن هذه الزيادة تنقص المالية؛ لأن بعضها يؤثر في المبيع؛ لأن بعض الأسنان إذا زيدت تحدث الألم، وهذا يضر بالمبيع. وبعض الأعضاء إذا زيدت يمتنع الارتفاق، ويمتنع الانتفاع بالرقيق بالوجه الكامل، أو بالوجه الأفضل والأكمل. قال رحمه الله: [وزنا الرقيق]: هناك عيوب حسية، وعيوب معنوية إذا أردت أن تقسم العيوب. العيوب الحسية: هي التي تكون النقص فيها في الخِلقة في الآدميين والدواب، أو النقص في أركان البيت، وفي منافعه. لو باعه بيتاً بدون دورة مياه مثلاً، فهذا يعتبر نقصاً مؤثراً، فهذه عيوب حسية، وهي تشاهد وترى. وهناك عيوب معنوية، والعيوب المعنوية لها ضابط عند العلماء: وهي ما كانت راجعة إلى الخلُق، والنفس، وهذه العيوب النفسية أو المعنوية منها ما هو ديني، ومنها ما هو دنيوي. فالعيوب الدينية مثل زنا الرقيق، والسبب في هذا: أنه إذا كان الرقيق قد عرف بالزنا، فإنه لا يؤمن على العرض، وكان الأرقاء يحتاجون لقضاء مصالحهم، وربما دخل البيت لقضاء المصلحة، كحمل المتاع ونحو ذلك، وربما غاب السيد عنه وسافر، فوجود الزنا في الرقيق عيب، وهذا مذهب جمهور العلماء. وخالف الإمام أبو حنيفة النعمان عليه من الله الرحمة والرضوان، فقال: الزنا في الرقيق ليس عيباً، واحتج بما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد، ولا يثرّب عليها، ثم إذا زنت الثانية فليجلدها الحد، ولا يثرّب عليها، ثم إذا زنت الثالثة فليجلدها الحد ولا يثرّب عليها، ثم ليبعها ولو بظلف شاة) قال: فإذا بيعت وهي زانية، فهذا يدل على أن الزنا ليس بعيب. قال: ولأن الزنا قد يقع بسبب التساهل في البيئة، فتكون زانية عند زيد وليست بزانية عند عمرو، فزيد يتركها تتعاطى ذلك أو يتساهل في حفظها، وعمرو يحفظها، فهو يقول: ليس بعيب؛ لأن هذا الشيء يحتاج إلى تحفظ ويحتاج إلى صيانة، وهكذا بالنسبة للذكر. وهي مسألة خلافية مشهورة، والأقوى أنه عيب كما ذهب جمهور العلماء، وحديثنا وهو قوله: (ثم ليبعها ولو بظلف شاة) لا يمنع أن تباع ويبين أنها زانية؛ لأن هذا من العيوب التي تبين، فإذا بين أنها زانية ارتفع الاستدلال بالحديث، ولم يستقم استدلاله رحمه الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان بالخيار. -ثم قال-: فإن صدقا وبينا) لأن من المعلوم أنها إذا كانت زانية وجاء يبيعها، فإنه يجب عليه أن يبين أنها ليست بمستقيمة وأنها تقع في الزنا، فإذا بين ذلك انتفى كونه عيباً، ومن هنا لا يقوى اعتبار هذا الحديث حجة على جمهور العلماء رحمهم الله، والصحيح أنه عيب. قال رحمه الله: [وسرقته]: هذا من دقة المصنف، فقد ذكر رحمه الله العيوب التي هي نقصان في الخِلقة: (كمرضه، وفقد عضو، أو سن أو زيادتهما) وفقد الأعضاء من العيوب الحسية، ثم جاء بالعكس وهي زيادة الأعضاء، فإن زيادة الأعضاء تنبئنا أو تشير إلينا وتخبرنا أن الأمر لا يختص بالنقص، بل بعض الأحيان تكون الزيادة عيباً، فليس العيب فقط بالنقص، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له، وهو أن العيب قد يكون بالزيادة، وعلى هذا انتهى رحمه الله من العيوب الحسية، وشرع في العيوب المعنوية فقال رحمه الله: [وزنا الرقيق] فهذا راجع إلى العيوب المعنوية. فقوله: (وسرقته): السرقة خسة في الطبع، ولؤم في النفس أن يسرق من مال سيده، أو يسرق من أموال الناس، فهذا راجع إلى وازع نفسي، فالعبد إذا كان فيه هذه الصفة فإن معناه أنه سيء الخلق، وهذا من سوء الأخلاق الجامعة بين الدين والدنيا؛ لأن الدين لا يرضى مثل هذا، وأيضاً الناس بعقولهم وفطرهم السوية ينفرون ممن يسرق، فالسرقة تعتبر عيباً؛ لأن هذا يدخل الضرر على السيد. وعلى هذا قالوا: إنه إذا تبين أن العبد سارق أو معروف بالسرقة، جاز له أن يرده، فلو اشترى منه عبداً بثمانمائة دينار، ثم تبين له أنه زانٍ، أو تبين له أنه سارق، أو شهد شهود أن هذا العبد معروف بالسرقة أو بالزنا، وأثبتوا ذلك عليه، حينئذٍ يأتي إلى القاضي ويثبت هذا العيب ويرد القاضي المبيع ويعطيه قيمة ما دفع فيه. قال رحمه الله: [وإباقة]: الإباق كثرة الفرار، كأن يشتري عبداً كثير الهروب، فإن الهروب عيب، وهذا العيب يمنعه من الانتفاع به، ويضر بمصالحه؛ لأنه ربما وضعه على مصلحة فهرب عنها، فهذا فيه ضرر عليك، فإذا تبين أنه كثير الهروب، أو أنه يهرب عن سيده، فمن حقه أن ترد بهذا العيب. قال رحمه الله: [وبوله في الفراش]: هذا من العيوب، وقد ذكروا عن أعرابي أنه اشترى عبداً، فقال له البائع: فيه عيب، قال: ما عيبه؟ قال: يبول في الفراش، وهذا في القديم يعتبر عيباً؛ لأن هذا يفسد المتاع، ووجود النجاسة أيضاً تضر بمصالح المشتري.

الآثار المترتبة على وجود العيب

الآثار المترتبة على وجود العيب قال رحمه الله: [فإذا علم المشتري العيب بعد أمسكه بأرشه]: في هذه الجملة شرع المصنف في بيان الأحكام المترتبة على وجود العيب: فيشترط في العيب شروط لا بد من وجودها، فمتى نحكم بأن من حق المشتري أن يرد بالعيب؟ ومتى يثبت خيار العيب؟ نقول: الشرط الأول: أن يكون العيب مؤثراً، فخرجت العيوب غير المؤثرة، ومثال ذلك: لو أن رجلاً اشترى سيارة، فوجد خدشاً بسيطاً في مفارشها، فقال: هذا عيب، وأريد أن أرد السيارة، نقول: هذا عيب لكنه ليس بمؤثر. أو وجد غباراً في فراشها، نقول: هذا ليس بمؤثر، فحينئذٍ نقول: إن وجود العيب لا يكفي بل يشترط أن يكون العيب مؤثراً. الشرط الثاني: أن يكون المشتري غير عالم بالعيب، فلو اشترى سيارة وفيها عيب، فقال له البائع: هذه السيارة عيبها كذا وكذا، فقال المشتري: رضيت، ثم بعد أن ركب السيارة وتفرقا قال: فيها عيب لا أريدها، نقول: علمك بالعيب وإخباره لك، يسقط حقك في الرد. والثالثة: أن يكون حدوث العيب قبل البيع، أو مقارناً للبيع، أي: قبل صفقة البيع، أو مقارناً لصفقة البيع، أما لو أن العيب طرأ وجدّ بعد انتهاء العقد وبعد التفرق فإنه لا يثبت على البائع، وإنما يثبت على المشتري؛ لأن المشتري إذا تفرق عن البائع وحدث في المبيع عيب بعد ذلك، فإنه يكون قد حدث في ملك المشتري، وليس في ملك البائع. إذاً: يشترط أن يكون العيب موجوداً قبل العقد، أو أثناء العقد؛ لأنه قبل الافتراق لا تزال الصفقة في ذمة البائع ولم تنتقل بعد إلى ذمة المشتري. وعلى هذا: فإنه لا يحكم بالعيب إلا بهذه الأمور التي ينبغي توفرها للحكم باعتبار العيب وتأثيره. فقوله: (فإذا علم المشتري العيب بعد أمسكه بأرشه) أي: إذا علم المشتري العيب بعد تمام العقد والتفرق فلا يخلو من حالتين، فنقول له: إن شئت رددت المبيع، وإن شئت أبقيته، فإن قال: لا أريد أن أرد، بل أريد أن أبقي هذه السيارة، ولكن أريد حقي الذي هو أرش النقص، فله ذلك. فالحالة الأولى: أن يرد ويقول: أريد مالي، وخذ سيارتك، فهذا من حقه. الحالة الثانية: أن يكون المشتري راغباً في السلعة، ويريد أن يمسكها، ولكنه يريد حقه، الذي هو حصة العيب، فحينئذ يكون له الأرش، والأرش: أن تقدر السلعة كاملة، وتقدرها معيبة، وتنظر الفرق بينهما فتسقطه من قيمتها بنسبته من قيمتها معيبة. مثال ذلك: لو باعه السيارة بعشرة آلاف ريال، وظهر فيها عيب يجعل قيمتها تسعة آلاف ريال، فمعنى ذلك: أن القيمة انتقص منها قدر ألف ريال، فتنظر الفرق بين قيمة السيارة كاملة وقيمتها معيبة، بأن تسأل أهل الخبرة عن قيمتها كاملة، وعن قيمتها معيبة، ثم تنظر قدر الفرق بين القيمتين، فإذا كانت قيمتها كاملة عشرة آلاف، وقيمتها معيبة تسعة آلاف، فالفرق ألف، فانظر نسبتها من القيمة كاملة، وهي أنها تعادل عُشر القيمة. فإذا علمت أن نسبة النقص تعادل عشر القيمة، فعليك أن ترجع مرة ثانية وتقدرها بقيمتها وتنقص هذه القيمة من العشرة، وحينئذٍ يكون أرش السيارة أن يدفع له هذه القيمة -أعني: الألف ريال- التي انتقصها من مبيعه، وقد ذكر ذلك المصنف رحمه الله بقوله: [وهو قسط ما بين قيمة الصحة والعيب]. فقد يكون قيمة العيب العشر، وأحياناً يكون الربع، وأحياناً الثلث إلى آخره. قال رحمه الله: [أو رده وأخذ الثمن]. أي: رد المبيع، وأخذ الثمن، فمثلاً: إذا اشترى سيارة وفيها عيب، ثم قال: لا أريد هذه السيارة، قلنا له: نعطيك الأرش، فإذا قال: لا أريد الأرش، وأريد قيمة سيارة كاملة والسيارة بهذا العيب لا أريدها، نقول: من حقك رده، أي: رد المبيع وأخذ الثمن كاملاً. قال رحمه الله: [وإن تلف المبيع، أو عتق العبد، تعين الأرش] بعد أن بين لنا رحمه الله أن الخيار للمشتري يبقى Q هذا الخيار يثبت لو كانت السيارة موجودة، ويثبت لو كان المبيع كما هو، لكن في بعض الأحيان يكتشف العيب بعد أيام، أو بعد سنوات، أو شهور وقد تغير المبيع. أو يكتشف العيب بطريقة فيها تغير للمبيع، كأن يكسر البيض أو يفتح البطيخ مثلاً، فحينئذٍ إذا فتح البطيخ أو كسر البيض، وأراد أن يرد فإنه لا يستطيع أن يرد المبيع. وهكذا لو اشتريت رقيقاً ثم أعتقته، وبعد أن أعتقته وجدته ناقصا، ً أو وجدت فيه عيباً، فحينئذٍ لك حق، ولكن لا تستطيع أن ترده؛ لأنه قد عتق. فقال: (وإن تلف المبيع) كأن اشترى سيارة، ثم وجد بها عيباً، وتلف المبيع على ضمان المشتري، فحينئذٍ إذا تلف المبيع استحق المشتري الأرش فقط، فلو جئته واشتريت طعاماً، وكان في هذا الطعام عيب، وأنت اشتريته بعشرة آلاف ريال، والعيب الموجود فيه تستحق به ألف ريال -الذي هو عشر القيمة- حينئذٍ إذا كنت تستحق عشر القيمة، يكون من حقك أن تأخذا الأرش إذا اكتشفت العيب بعد أن تصدقت به؛ لأنه تلف وأخذه الفقراء وأكلوا منه، فحينئذٍ يكون لك عند البائع حق وهو الألف، فتلف الطعام بالاستهلاك والأكل، لا يسقط حقك في الأرش. فيبين لنا رحمه الله أن العيب يوجب ثبوت الحق لك في الأرش، وأنه لو تلف المبيع عندك وفي ضمانك بأن استنفذته وأكلته أو أعطيته الغير، وثبت بالبينة أنه كان ناقصاً معيبا، فإنك تستحق الرجوع عليه بالأرش، فمثلاً: لو اشتريت لدابة برسيماً، أو علفاً، فأكلت الدابة العلف أو البرسيم، وتبين أن فيه مرضاً، أو فيه عاهة، وأثبت الطبيب أن هذا العلف الذي أكلته من نوع معين فيه ضرر، وأنت اشتريت هذا العلف على أنه يكون سالماً من هذا العيب، فحينئذٍ يقدر لك هذا الأرش، ويكون من حقك أن ترجع عليه بهذا الأرش الذي تضمن به حقك عند البائع.

الأسئلة

الأسئلة

الوجاء وعده من العيوب

الوجاء وعدّه من العيوب Q هل وجاء البهائم يعد من العيوب؟ علماً أن وجاءها يكون أنفع بلحمها، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالوجاء يطيب اللحم، ولذلك ضحى عليه الصلاة والسلام بكبشين أملحين أقرنين موجوئين، والوجاء هو الخصاء وخصاء البهيمة يطيب لحمها. والعلماء يذكرون الوجاء ويقولون: قد يكون النقص في المبيع كمالاً، والكمال ينقسم إلى قسمين: 1 - كمال طبيعي. 2 - كمال شرعي. والكمال الطبيعي: مثل الوجاء، والكمال الشرعي: مثل الختان، فإن الختان كمال شرعي، ولذلك يعتبر هذا النقص -الذي هو الختان- نقصاً في الخلقة لكنه كمال في الشرع، فالمقصود: أن الوجاء بعض العلماء لا يعتبره عيباً؛ لأنه يطيب اللحم، ويكون نقصانه في الظاهر ولكنه كمال في الباطن، والله تعالى أعلم.

حكم الامتناع من رد أرش العيب للمشتري

حكم الامتناع من رد أرش العيب للمشتري Q هل يجوز للبائع أن يمتنع من رد الأرش، ويقول للمشتري: إما أن ترد السلعة أو تمضي البيع فيما حصل به الاتفاق؟ A ليس من حق البائع أن يمنع المشتري من حقه إذا ثبت أن السلعة معيبة، فإذا طالبه بالرد رد، وهكذا إذا طالبه بالأرش، على أصح قولي العلماء رحمهم الله، والسبب في هذا: أن العقد قد تم بينهما ويكون وجود النقص موجباً للضمان في الشرع فيبقى إمضاء العقد على ظاهره، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فيتم البيع على صورته، ويلزم بدفع الأرش؛ لأن الله سبحانه وتعالى نهى عن أكل المال بالباطل، والأرش حق للمشتري عند البائع يجب عليه أن يدفعه ولا يماطله فيه، والله تعالى أعلم.

رد المبيع بالعيب بعد التصرف فيه

رد المبيع بالعيب بعد التصرف فيه Q من اشترى شاة، وتبين له بعد ذبحها وسلخها أن فيها عيباً في أكلها فكيف يرجعها، أو كيف يكون الحال في هذه المسألة؟ A إذا كان العيب الموجود في الشاة يمنع من أكلها، فحينئذٍ يرجع القيمة كاملة، ويجب على بائع الشاة أن يرد له القيمة كاملة؛ لأنه لا يمكنه الانتفاع بها، أما لو كان يمكن الانتفاع بها، بحيث كان العيب يمنع من شيء في اللحم، أو في مواضع من اللحم، ولا يمنع من بقيتها، فمذهب طائفة من العلماء أنه يرد له القيمة الأصلية ناقصاً منها قدر ذبحها الذي هو فرق ما بين كونها حية وكونها ميتة. والسبب في هذا: أنه قد أتلف الشاة فأزهق روحها، ويبقى الانتفاع للبائع بقدر ما بقي للشاة من أعضاء، وحينئذٍ يكون العدل بين البائع والمشتري من هذا الوجه، كما في بيع الجوز، فجوز الهند إذا كسر، يرده مع ضمان أرش الكسر، كما سيأتي إن شاء الله. لكن إذا كانت الشاة لا ينتفع بها أصلاً، أو تبين أن بها مرضاً لا يمكن بحال أن ينتفع بها فالمرض معدٍ، ولا يمكن أن تطعم، لا لآدمي ولا لسباع ونحوه، فحينئذ من حقه أن يرجع عليه بالقيمة كاملة كالبيض، بيض الدجاج إذا باعه ثم كسره فوجده فاسداً يرجع بالقيمة كاملة، وهنا يفرق بين ما يكسر وتزهق روحه؛ لأن الشاة إذا ذبحت لا يمكن أن يردها إلى حالتها الأولى، كما لا يمكن أن يرد البيض إلى حالته الأولى. فحينئذٍ ينظر بنفس التفصيل الذي ذكرنا، إن كان اللحم فاسداً، بحيث لا يمكن الانتفاع بها كلياً، رجع عليه بالقيمة كاملة. وإن كان يمكن الانتفاع بها في قدرها، فحينئذٍ يكون حصة الإزهاق والإتلاف؛ لأنها من كسب المشتري، وسيأتي إن شاء الله بيانه وكلام العلماء رحمهم الله فيه، والله تعالى أعلم.

حكم بيع ما كان معيبا

حكم بيع ما كان معيباً Q من أراد أن يبيع سيارة بها عيوب بسعر رخيص، مع أن هذه السيارة لو كانت سالمة من العيوب فستباع بضعف الثمن الذي يريد أن يبيعها به، فما حكم هذا البيع، أثابكم الله؟ A يجوز للبائع أن يبيع الشيء المعيب إذا بيّن العيوب الموجودة فيه، فإذا بيّن للمشتري أن هذه السيارة بها العيب الفلاني -ويسمي العيوب ويبرأ منها- فحينئذٍ يبارك له في صفقته، ولا يكون للمشتري عليه وجه حق، ولقوله عليه الصلاة والسلام: (فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما) فالبيع يبارك بالبيان وتمحق بركته بالكتمان، والله تعالى أعلم.

حكم طلب الزيادة في المبيع وفضل الاستغناء بالله وعدم سؤال الناس

حكم طلب الزيادة في المبيع وفضل الاستغناء بالله وعدم سؤال الناس Q إذا اشتريت من محل مثلاً فاكهة أو خضروات وطلبت قليلاً من الزيادة، وأخذتها برضا البائع، فهل يجوز لي هذه الزيادة، أثابكم الله؟ A بالنسبة لطلب الزيادة فيه تفصيل: فإن كان المالك الحقيقي للمحل تطلب منه الزيادة فهذا ماله، يعطيك منه ما شاء، ولكن لا خير في سؤال الناس، فسؤال الناس إذا لم توجد حاجة لا خير فيه؛ لأنه يريق ماء الحياء من الوجه، والأفضل والأكمل لعبد الله أن يجعل فقره إلى الله، وغناه بالله سبحانه وتعالى، ومن يستعفف يعفه الله، وما أعطي عبد عطاءً أفضل من الغنى بالله جل جلاله. فمن استغنى بالله أغناه، ومن استكفى بالله كفاه، ومن استغنى بخلق الله لم يزده الله إلا فقراً، وجعل هم الدنيا بين عينيه، يلهث وراءها ويطلب ما فيها، فلا يشبع ولا يهنأ ولا يطيب حاله، ولو صبت أموال الدنيا بين يديه؛ لأن الله نزع البركة من قلبه، ونزع البركة من ماله، ونزع الرضا من قلبه. فاعلم رحمك الله! أن الخير أن تستغني بالله عز وجل، ولذلك عتب النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابي حينما سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، فقال: (ما يكون عندي من خير فلن أبخل به) وبين أن الإنسان لا يزال يسأل حتى يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم. فلا ينبغي سؤال الناس خاصة لطالب العلم، فإن من حمل كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في صدره، عليه أن يتورع، وأن يستغني بالله، وأن يحس أن هذه النعمة التي أنعم الله بها عليه أنه أغنى الناس بها، ومن أعطي كتاب الله عز وجل وظن أن غيره قد أعطي خيراً مما أعطي فقد ازدرى ما عظم الله، فينبغي على طالب العلم، ومن هو قدوة كالعالم ألا يمد يده للناس، وألا يريق ماء وجهه لأحد غير الله جل جلاله. وهذا أمر من الأهمية بمكان أن يعتني به طالب العلم، وليس في قضية الخضروات وغيرها، الأمر عام، فينبغي أن يجعل غناه بالله سبحانه وتعالى. ومن قرأ أحوال السلف رحمهم الله، وكيف كان الاستغناء بالله جل جلاله شعاراً لهم ودثاراً، وكيف أن الله عز وجل أعطاهم خير الدين والدنيا والآخرة، وجمع لهم الفضائل، ويسر لهم المكارم، فعاشوا بأحسن عيشة، فكانت ثيابهم مرقعة، وفرشهم بالية، ولكن قلوبهم غنية زاكية بالله جل جلاله. والعبد إذا استغنى بالله جل جلاله، لم يضره ما يلبس، ولذلك قال علي رضي الله عنه: (إنك إن اتقيت الله لم يضرك ما لبست)، لبست لباس الغني أو لبست لباس الفقير، فلا يضرك ما دمت تتقي الله في قلبك. المقصود: أن الأفضل والأكمل ألا يسأل العبد غير الله جل جلاله، وكانوا يقولون: إن سؤال الناس وكثرة اللهث وراء الدنيا يمحق بركة العلم، وبركة الاستقامة، فلذلك تجد الشخص الذي يكثر من سؤال الناس ويلح فإذا دخل السوق سأل البائع، وإذا جاء في عمله ووظيفته سأل، حتى لربما سأل فوق حاجته وفوق ما يستحق، فلا يزال يسأل ويسأل حتى تذهب مكانته من قلوب الناس، فيرتفع وهو وضيع، ويكرم وهو مهان، مجاملة ينظر إليه في ظاهره؛ لكنه إذا استغنى بالله جل جلاله وكان على العكس، فيكون عند الناس عزيزاً كريماً، ولو كان في أضعف المراتب وأدنى المناصب، وذلك باستغنائه بالله سبحانه. والشيء بالشيء يذكر! فقد ذكروا عن رجل أنه كان من أهل المدينة فأصابته والحاجة، فأراد أن يذهب إلى ابن عامر وكان أميراً على البصرة، وكان من أجواد العرب، ومن أهل السخاء والجود، المعروفين بالمكرمات، فجاء هذا الأعرابي إلى أحد أبناء جابر بن عبد الله رضي الله عنه وقال له: يا فلان! إني أريد منك أن تذهب معي إلى ابن عامر فقد أصابتنا الفاقة كما ترى، فلو ذهبت إلى ابن عامر معك رجوت أن يحسن إليّ، فخرجا من المدينة، حتى دخلا البصرة، فلما دخلا البصرة قال جابر لهذا الرجل: أولا أدلك على خير مما نحن فيه؟ قال: وما هو؟ قال: أن نصلي ركعتين ونستخير الله فإن كان الخير في دخولنا دخلنا، وإن كان الخير غير ذلك صرفنا الله إليه، فصلى هذا ركعتين، وصلى هذا ركعتين، فقال جابر: يا فلان! ماذا وجدت؟ فقال الرجل: وجدت أننا ندخل عليه، فقال ابن جابر: أما أنا فقد طابت نفسي أن أرجع إلى المدينة، فإن الذي أعطى ابن عامر هذا الخير الكثير هو الله، وكما أغناه يغنيني، وكما سد فقره يسد فقري -فقال كلاماً حسناً- ثم رجع إلى المدينة، ودخل الأعرابي على ابن عامر، فلما دخل عليه، وكان البريد يأتي من المدينة، فيه أخبار الناس الذين يسافرون، فبلغ ابن عامر أن فلاناً خرج مع فلان، فلما رآه قال له: أين جابر؟ فقال: رحمك الله! إنه كان من أمره كيت وكيت. فقال ابن عامر: يا فلان! أعطِ فلاناً -أي: ابن جابر - مائتي درهم، وأعط فلاناً مائة درهم، فقال هذا الأعرابي أبياتاً من الشعر تدل على فضل الاستغناء بالله جل جلاله، والتوكل على الله سبحانه وتعالى، فقال وهو يخاطب زوجته وكان اسمها: أمامة أمامة ما سعي الحريص بزائدٍ فتيلاً ولا عجز الضعيف بضائر خرجنا جميعاً من مساقط روسنا على ثقة منا بجود ابن عامر فلما أنخنا الناعجات ببابه تأخر عني اليثربي ابن جابر وقال ستكفيني عطية قادر على ما أراد اليوم للخلق قاهر فإن الذي أعطى العراق ابن عامر لربي الذي أرجو لسد مفاقري فلما رآني قال أين ابن جابر ومن كما حنت طراب الأباعر فأضعف إذا غاب عبد الله حظه على حظ لهفان من الجوع فاغر فالله جل جلاله إذا صدقت معه صدق معك، وإذا كان في قلبك أنك تستغني بالله سبحانه وتنصرف من المخلوق إلى الخالق، فإن الله يسوقك إلى خير الدين والدنيا والآخرة، واقرأ في تراجم السلف والعلماء تجد الأمر جلياً واضحاً، وكون الإنسان يبلغ إلى أن يأتي عند الميزان ليحرج هذا في قبضة من طعام أو في حبة من فاكهة، فهذا أمر يزري بالإنسان كثيراً، فلا ينبغي للمسلم أن يوقف نفسه مثل هذه المواقف ويحرج الناس في أموالهم وبيعاتهم، فالأفضل له أن يعف نفسه فإن أعطاه ذلك بطيبة نفسه فالحمد لله، وإذا لم يعطه فإن الله سبحانه يغنيه من واسع فضله. أما إذا كان الذي في المحل أو المتجر عاملاً، فالعامل لا يملك هذا المال، وليس من حقه أن يضر بمال سيده، فهذا لا يجوز، وحينئذٍ قال بعض العلماء: من الورع ألا تقبل من العامل الزيادة؛ لأنه كريم بمال غيره، وقد يضر بسيده، أي: يعلم أن سيده يؤذيه، فيؤذي سيده بمثل هذه التصرفات، فالورع والأكمل والأفضل للمسلم ألَّا يفعل هذا. وكنت أرى بعض مشايخنا رحمة الله عليه يتورع عن الكيس الذي يعطيه البائع زائداً عن حاجته، يكون الكيس -مثلاً- صغيراً يمكن أن يكفي لحاجته فيعطيه كبيراً، فلا يقبل، ويقول: هذا ليس ماله ويقول: هذا من الورع. وإذا تعود طالب العلم الورع، وتسربل بسربال التقوى، وأخذ يحمل نفسه في مثل هذه الأمور، خاصة في أمور الدنيا التي فيها فتنة، وفيها رغبة وشهوة، والنفوس جُبلت على حبها وطلبها؛ إذا صرف همته لله مع وجود هذه الرغبة وهذه الشهوة، فإن الله يغنيه من واسع فضله، والله ذو الفضل العظيم، فإنها والله لسعادة للمؤمن ألَّا يمسي ولا يصبح إلا وهو غني بالله جل جلاله. وكم من أشياء يظن الإنسان أنها تأتي بخير، فيلهث وراءها، ويسعى وراءها، فلا تزيده إلا هماً وغماً ونكداً! وكم من إنسان سعى لتجارة من الدنيا، جعل الله حتفه فيها! وكم من إنسان سعى إلى رزق من الدنيا بالَغَ في طلبه، حتى فرَّط في صلاته وفي خشوعه، فمحق الله بركة تلك التجارة. فالعبد دائماً يجعل الآخرة نصب عينيه، وليس معنى هذا أن نترك الدنيا؛ ولكن المراد ألَّا نغلو، وألَّا نبالغ في التمسك بالدنيا، حتى إنك قد تجد الرجل إذا لم يجد هذا الشيء ولم يصل إليه، كأنه يفوته كل شيء. فعلى المسلم أن يحمد الله على فضله، ويعلم أن الله سبحانه خلق الخلق فأحصاهم عدداً، وقسم أرزاقهم فلم ينسَ منهم أحداً، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود:6]، فالله جل جلاله متكفل بعباده. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يغنينا من واسع فضله العظيم. اللهم إنا نسألك أن تغنينا من واسع فضلك العظيم، وأن تفتح لنا من بركاتك ورحماتك ما تغنينا به عن خلقك، وألَّا تجعل لنا إلى لئيم حاجة يا رب العالمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

باب الخيار [5]

شرح زاد المستقنع - باب الخيار [5] هناك مسائل متعلقة بخيار العيب، ومن هذه المسائل: إذا كان الشيء المبيع لا يمكن أن يطلع المشتري على العيب فيه إلا بعد كسره، ومن هذه الأشياء ما ينتفع به بعد الكسر ومنها ما لا ينتفع به، فيختلف الحكم في ذلك. ومنها: مسألة التراخي والفورية في رد المبيع المعيب، ودلالة التراخي على الرضا بالعيب، ومنها: إذا اختلف المتعاقدان في وقت حدوث العيب. فهذه مسائل تقع في معاملات الناس ومبايعاتهم، ومن واجب كل مسلم يتلبس بالبيع والشراء أن يتعلمها.

العيوب التي لا تعرف إلا بكسر المبيع

العيوب التي لا تعرف إلا بكسر المبيع بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإن اشترى ما لم يعلم عيبه بدون كسره كجوز هند وبيض نعام، فكسره فوجده فاسداً فأمسكه فله أرشه]: قوله رحمه الله: [وإن اشترى ما لم يعلم عيبه بدون كسره]: في هذه الجملة شرع المصنف رحمه الله في بيان ما يتعلق ببيع الشيء المعيب الذي لا يمكن أن يطّلع المشتري على عيبه إلا بعد كسره، وقد تقدم معنا بيان ما يتعلق بخيار العيب، وأن من وجد في المبيع عيباً استحق به الرد إذا لم يكن على علم به أثناء العقد. وبناءً على هذا يرد Q لو اشترى شيئاً ولم يستطع أن يطلع على عيبه إلا بعد كسره، فما الحكم؟ هذه المسألة لها صورتان: الصورة الأولى: أن يمكن أن ينتفع به بعد الكسر. الصورة الثانية: أن يكون المبيع فاسداً، بحيث لو كسره المشتري أو فكه أو فتحه لا ينتفع به بحال، إذا تبين أنه فاسد. فمثال الأول: جوز الهند، فإنه إذا فتح يمكن أن ينتفع به بعد فتحه ولو كان ما بداخله معيباً. ومثال الثاني: بيض الدجاج ونحوه، فإنه إذا كان فاسداً وكسر فإنه لا ينتفع به بعد الكسر. فإن كان الشيء المعيب أو الشيء المبيع الذي فيه عيب يمكن أن ينتفع به بعد كسره، فحينئذٍ يكون البائع قد باع شيئاً فيه فساد، ولا يمكن أن ينتفع به أو ينتفع به على وجه النقص، إلا أن له حقاً في هذا الشيء؛ لأنه لا زالت فيه منفعة، فيجب على المشتري أن يرد ذلك الشيء وأن يضمن قيمة الكسر، فإذا قال: لا أريد بيض النعام، أو جوز الهند، فنقول له: رده ورد أرش الكسر، والدليل على ذلك: أن المشتري أخذ هذه الصفقة -أعني: جوز الهند وبيض النعام- وهي على صورة مغلفة كاملة القفل، فاعتدت يده بكسرها، فلما انكشف له الحال، قال: لا أرغب، فنضمّنه ما فعلته يده. والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الشاة الْمُصَرّاة: (وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر) فالصاع هو ضمان ذلك الشيء الذي استهلكه المشتري، واعتدت يده عليه بالأخذ، فإذا اعتدت يد المشتري على السلعة بالتصرف بفتح المقفل وكسر البيض ونحو ذلك، فإن العدل أن نقول له: رد ذلك؛ لأن من حقك أن ترد إذا كان معيباً، ولكن رد أرش كسره، فيكون البائع قد ارتجع سلعته، وقد ضُمن حقه كاملاً، ويكون المشتري قد دفع الضرر عن نفسه. وبناءً على هذا قرر العلماء أن الشيء الذي يكسر أو يفتح ويكون كسره مخلاً به، ويمكن الانتفاع به بعد الكسر، ووجد المشتري فيه العيب، فإننا نقول: من حقك أن ترده بالعيب، ومن حق البائع أن يضمنك ما أتت عليه يدك، فنلزمه بضمان ذلك الكسر. أما لو كان المبيع كبيض الدجاج ونحوه مما لو كسر لم ينتفع به بعد الكسر، كما إذا كسر بيض الدجاج ووجده فاسداً، فحينئذٍ يكون غير منتفع به بوجه، فلا يبقى إلا ضمان القيمة كاملة، فيجب على البائع أن يرد للمشتري قيمة البيض كاملة؛ لأنه لا يمكن أن ينتفع بهذا المبيع بحال. وقد يسأل سائل لماذا لا يضمن الكسر؟ و A أنه إذا باعه بيض الدجاج، وتبين أنه فاسد، فإن الصفقة ليست محلاً للمال، أي: لا تستحق شيئاً من المال، فإذا أتلفها فإنه يتلف شيئاً فاسداً، ولو اعتدت يده عليه فإنه لا يرد بحيث ينتفع به بعد الاعتداء، بخلاف جوز الهند، وبخلاف بيض النعام، فإنه يمكن أن ينتفع به بعد الكسر. وبناء على هذا، قالوا: إذا باع البيض وهو فاسد ثم تبين ذلك بعد كسره فإنه لا يمكن أن ينتفع بالبيض بعد كسره بحال، فلا يلزم المشتري أن يرد؛ لأنه فاسد لا قيمة له، ولو قيل: إنه كسره فقد كسر شيئاً فاسداً لا قيمة له، فالمعاوضة ودفع المال على هذا الشيء الفاسد، توجب رد المال كاملاً لصاحبه أعني: المشتري. ومن هنا فرق أهل العلم رحمهم الله بين الشيء الذي يمكن أن ينتفع به بعد كسره وفتحه وفكه، وبين الشيء الذي لا يمكن أن ينتفع به بعد الفك والفتح، ويقاس على ذلك الأشياء الموجودة في عصرنا، فإذا كان الشيء مقفلاً في صندوق، أو موضوعاً في كرتون بطريقة معينة، يتكلف البائع وضعه في هذا الصندوق أو في هذا الكرتون، فإنه يجب ضمان ذلك الشيء الذي أتلفه المشتري، ويرد للبائع عين السلعة ويضمن ما أتلفه من ذلك الغلاف، كما قرر العلماء رحمهم الله، وأصل هذه المسألة في جوز الهند، وبيض النعام. قوله: [كجوز هند وبيض نعام، فكسره فوجده فاسداً، فأمسكه فله أرشه، وإن رده رد أرش كسره]: [فأمسكه] أي: المشتري، بأن قال: هذا الجوز -جوز الهند- فاسد، وسأنتفع به وهو فاسد؛ ولكن أريد أن يضمن لي حقي من الأرش، فنقدر جوز الهند كاملاً، ونقدره ناقصاً ويدفع الأرش بالصفة التي سبق بيانها. إذاًَ: إذا اشترى المشتري جوز هند أو بيض نعام، ووجده معيباً، فإنه يخير بين أمرين، بين أن يبقي الصفقة كما هي ويأخذ أرش النقص، وبين أن يرد الجوز ويدفع هو أرش الإتلاف لذلك الجوز وذلك البيض، فما ظُلم البائع ولا ظُلم المشتري. والعلماء اختاروا جوز الهند بيض النعام؛ لأنهم يريدون أن يمثلوا لك بشيء كان في زمانهم يمكن أن ينتفع به بعد كسره، فقد كان ينتفع به ويرتفق به، وبناءً على ذلك: ليست القضية مختصة بالجوز إنما القضية كقاعدة فقد تجد في كتب الفقهاء أمثلة غريبة؛ وهي بمثابة الأصول التي يمكن أن يقاس عليها غيرها ويمكن أن يخرج عليها غيرها، ولذلك قالوا: (جوز الهند)؛ لأنهم وجدوا بالتجربة أنه إذا بان شرابه فاسداً، فإنه ينتفع بقحطه ووعائه، وكذلك أيضاً بالنسبة لبيض النعام، فاختلف الأمر: فاحتاجوا أن يأتوا بمثال لشيء يكسر ولا ينتفع به بحال، فذكروا بيض الدجاج. ومثال ذلك اليوم الشيء الذي يباع داخل زجاجة، وإذا أردت أن تصل إلى هذا الشيء لا بد أن تكسر الزجاجة لكي تتوصل إلى هذا الشيء، وقد توجد أمثلة في أشياء مبيعة سواءً كانت كهربائية أو غيرها، تكون على صورة معينة بحيث لا تستطيع أن تصل إلى ما تريد إلا بالكسر، فتكسر الزجاج، فإذا كسرت الزجاج فإننا ننظر: إن كان فاسداً بحيث لا يمكن أن ينتفع به بحال، نقول: هذا ككسر بيض الدجاج، فكما أن العلماء رحمهم الله نصوا على أن من كسر بيض الدجاج ووجده فاسداً بحيث لا يمكنه أن يطبخه أو ينتفع به للبهائم فيجب على البائع أن يضمن القيمة كاملة، وترد إلى المشتري، فإن قال البائع للمشتري: أريدك أن ترد لي هذا الزجاج كما كان، نقول: هذا ليس من حقك؛ لأنه كسر شيئاً كان من حقه كسره بيد الملكية، فلما تبين أنه معيب، كان من حقه أن يرجع عليك بالمال، وليس من حقك أن تعجزه بما لا يمكنه من رد الزجاج كما كان، وعلى هذا لو قال له: أعد الزجاج كما كان، فهمنا أن المقصود الإضرار والتعجيز، حتى يأخذ ماله بالباطل. قد يقول قائل: إن المشتري قد كسره، فلو طالبناه بالرد كان شيئاً صحيحاً، ولا دخل لنا هل يمكنه أو لا يمكنه، نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في حديث أنس في الصحيحين في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، قال يخاطب البائع: (أرأيت أخيك فبم تستحل أكل ماله)، فنحن نقول: لو كان بيض الدجاج فاسداً، فمعنى ذلك أن قيمته -مثلاً- خمسة، فلو كسره ولم يجد به شيئاً صالحاً، فلو قلنا: إنه بكسره له غنمه وعليه غرمه، ظلمنا المشتري؛ لأنه دفع الخمسة في شيء لا يستحق قيمة، هذا إذا قلنا: إنه يضمن وله نفعه وعليه ضرره، وإن قلنا: يرده كما كان، فهذا تكليف شرطه الإمكان، وقد تبايع مع أخيه المسلم على شيء صالح، وهذا الشيء فاسد، فهذا ليس بمحل للعقد، ولا بمورد للعقد، ومطالبته برده إلى ما كان تعجيز، ويؤدي إلى باطل وهو استحلال المال بدون حق، فكان باطلاً؛ لأن ما أدى إلى باطل فهو باطل. وبناءً على هذا: فليس من حق البائع أن يقول له: رد لي بيض الدجاج كما كان، أو رد لي الطبق كما كان، فلو أقام شاهدين عدلين أو شاهداً وحلف معه اليمين أن هذا الطبق فاسد، كان من حقه أن يرد له القيمة كاملة، ولا يطالبه بضمان عين البيض المنكسر. [وإن رده رد أرش كسره]: وإن رد المشتري المبيع رد أرش كسره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر) فأوجب عليه الصلاة والسلام أن يدفع ما أتلفت يده وهو اللبن، وذلك بالصاع من التمر، وهذا من ضمان الطعام بجنسه، وعلى هذا قالوا: إنه إذا أتلف المشتري شيئاً من المبيع، وكان مما يمكن أن ينتفع به بعد الإتلاف، رد المبيع مع ضمان النقص الذي أدخله بالتصرف، فحينئذٍ لم نظلم البائع، ولم نظلم المشتري. أما البائع فقد رجع له المبيع وضمن له النقص. وأما المشتري فقد رجع له ماله الذي دفعه، وأُخذ منه مقدار ما جنت يداه. قال رحمه الله: [وإن كان كبيض دجاج رجع بكل الثمن]: هذه الحالة الثانية: أي: وإن كان المبيع مثل بيض الدجاج لا يمكن أن يطلع على عيبه إلا بإتلافه، وإذا اطلع على عيبه وكان فاسداً لم يمكن أن ينتفع به بعد ذلك، فيجب على البائع أن يرد القيمة كاملة.

شروط خيار العيب

شروط خيار العيب قال رحمه الله: [وخيار عيب متراخ ما لم يوجد دليل الرضا]: خيار العيب لا بد فيه من شروط: أولها: أن يكون العيب مؤثراً، بألا يكون العيب يسيراً ليس له بال، فلا تستحق الخيار إلا إذا كان العيب مؤثراً ينقص المالية، وكان يمنع الانتفاع كما تقدم معنا في ضوابط العيوب المؤثرة. ثانياً: أن يكون العيب موجوداً حال العقد، فإذا وجد قبل العقد أو حال العقد فإنه يؤثر، أما لو طرأ بعد العقد فليس من حقك أن ترد؛ لأنه طرأ والمبيع في ملكك، فحينئذٍ لك غنمه وعليك غرمه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان). فالشرط الثاني أن يكون العيب موجوداً حال العقد، وإذا قلنا: (حال العقد)، فإنه يشمل الصورتين، أن يطرأ حال العقد، أو يكون العيب وجد من قبل العقد، ففي كلتا الصورتين يعتبر عيباً مؤثراً. الشرط الثالث: ألا تكون على علم بهذا العيب. فإذاً: لا بد أن يكون العيب مؤثراً، وأن يكون سابقاً لتمام العقد ولو كان مصاحباً، وألا يكون عندك علم بهذا العيب، فلو أخبرك به ثم جئت لترد، قيل لك: قد أخبرك وبرأ ذمته بالإخبار، وليس من حقك أن ترده ما دام أنه قد أخبرك. ولا يشترط أن يكون العيب معلوماً أو أن يكتشف العيب بعد العقد مباشرة، فالعيب لو اكتشف بعد سنة أو بعد سنتين، بل ولو بعد عشر سنوات كان من حقك أن ترد. مثال ذلك: لو باعك رجل أرضاً على أنها بالصك، ثم بعد عشرين سنة تبين أن الصك مزور، أو أن الصك ليس على هذه الأرض وإنما هو على أرض أخرى، أو أن في الصك خطأً، وحينئذٍ إذا ثبت هذا كان من حقك أن ترد ولو بعد عشرين سنة، فالعيب لا يتأقت، أي: من حقك الرد في أي وقت تعلم به، فلا يشترط أن يكون قريباً من وقت البيع، ولا يشترط أن يكون في نفس السنة، أو في نفس الشهر أو في نفس الأسبوع أو نفس اليوم، فهذا حق ثابت لك ولو بعد حين.

التراخي في خيار العيب ودلالته على الرضا

التراخي في خيار العيب ودلالته على الرضا بناءً على هذا يرد السؤال بالنسبة للمطالبة بخيار العيب: إذا اشتريت سيارةً أو اشتريت أرضاً أو عمارةً، وتبين لك أن بها عيباً، فإنه من حقك أن تطالب برد المبيع الذي بان عيبه مباشرة، وهذا يسمى المطالبة بالفور، من حقك أن تطالبه فوراً، ومن حقك أن تتراخى بما تعذر به، فإن كان التراخي يشعر بالرضا، سقط حقك في المطالبة بأرش العيب ورد المبيع. إذاً: يشترط أن يطالب الإنسان على وجه لا يسبقه ما يدل على الرضا، فإن سبقه ما يدل على الرضا من تراخٍ دالٍ على الرضا، أو صريح قول، أو دلالة فعل، فإنه يسقط حقه في رد المبيع، ويسقط حقه في المطالبة بالأرش. فلو قال: قد رضيت، فهذا الرضا باللسان، ويعتبر إقراره بالرضا حجة عليه؛ لأن الإقرار أقوى الحجج، ولذلك يقول العلماء: إنه سيد الأدلة، والسبب في هذا: أنه لا أقوى من شهادة الإنسان على نفسه؛ لأنه لا يعقل أن يشهد العاقل على نفسه بما فيه الضرر إلا وهو صادق، ولذلك إذا قال: إني رضيت، أو حينما علمت بهذا العيب رضيت من نفسي، سقط حقه في المطالبة. ومسألة التراخي والفورية، بعض العلماء يقول: خيار العيب على الفور، فلو أخره سقط حقه، فمثلاً: اطلع على العيب الساعة التاسعة، وكان بإمكانه أن يذهب إلى البائع، فتأخر إلى اليوم الثاني؛ سقط حقه؛ لأن تأخره إلى اليوم الثاني وسكوته في هذه المدة يدل على الرضا. وبناءً على ذلك قالوا: لا بد وأن يطالبه فوراً، وهذا المذهب في الحقيقة أحوط المذاهب وفيه قوة، وأما التراخي فإن وجد عذر لتراخيه قبل، أما إذا لم يوجد عذر فإنه يقوى القول أن التراخي مشعر بالرضا؛ لأن الدلالة على الرضا تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: دلالة الأقوال. القسم الثاني: دلالة الأفعال. وأقوى القسمين: دلالة الأقوال، كأن يقول له ابنه: إن السيارة معيبة، أو وجدت في السيارة عيباً، أو جدت في الدار عيباً، فقال: لا بأس، رضيت، فهذا يدل على أنه رضي، أو اشترى من ابن عمه سيارة أو أرضا، ً فجاءه من يقول له: إن السيارة معيبة، أو هذه الأرض بها عيب، قال: هذا ابن عمي وقد رضيت، فهذا اللفظ: (قد رضيت) يدل دلالة صريحة على أنه لا يطالب بحقه، فيسقط حقه في المطالبة برد المبيع. ودلالة الفعل، تقدم معنا في بيع المعاطاة أنها تنزل منزلة القول في الرضا، ولذلك قلنا: إن البيع ينعقد بالأفعال كما ينعقد بالأقوال. والله اشترط في البيع الرضا، فقال سبحانه: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] فأوجب الله عز وجل أن يوجد الرضا في التجارة أعني: البيع، وبينا هناك أن دلالة الفعل تدل على الرضا كدلالة القول: ينعقد البيع بما يدل على الرضا وإن تعاطى الكل فما قالوا إن البيع ينعقد بالأفعال كما ينعقد بالأقوال؛ إلا لأنهم نزلوا دلالة الأفعال منزلة الأقوال. ومن هنا قالوا: إذا وجد منه تصرف يدل على الرضا بعد العلم، سقط حقه في الرد، فإنه إذا قال له فلان: السيارة معيبة، فقال لغيره: بكم تشتري مني هذه السيارة المعيبة؟ فإنه لما باعها للغير دل على أنه راضٍ عن العيب الموجود فيها، وإذا رضي سقط حقه في المطالبة برد المبيع المعيب. قال رحمه الله: [ولا يفتقر إلى حكم ولا رضا، ولا حضور صاحبه] أي: ولا يفتقر خيار العيب إلى حكم القاضي؛ لأن هناك أشياء تتوقف على حكم القاضي: فمثلاً الخلع، قالوا: يتوقف على حكم القاضي، فالأشياء التي تتوقف على حكم القاضي لا يثبت فيها الحق إلا بعد الرفع إلى القاضي، فيثبت القاضي الحق ثم يحكم به، لكن خيار العيب لا يفتقر إلى حكم القاضي، فأنت إذا علمت العيب في المبيع كان من حقك أن تأتيه، وتقول له: يا فلان! هذه السيارة بها عيب، وأنا لا أريدها ما دام هذا العيب موجوداً فيها، فحينئذٍ مطالبتك برد المبيع لا تتوقف على أن ترفعه إلى القاضي، لكن لو أصر وقال: بعتها لك بدون عيب، وأنت تقول: يا فلان! ما كذبتك، ولا غششتك، وهذا المبيع معي، فقال لك: لا أرد، فاختصمتما إلى القاضي، فحينئذٍ يفتقر الأمر إلى حكم القاضي؛ لأنه لم يصدق، فلو أقمت البينة والشهود على وجود العيب، كان من حقك أن تلزمه بالرد ويجب عليه شرعاً أن يرد، وأما إذا لم تقم البينة ففيها تفصيل، وهو الذي سنذكره إن شاء الله في مسألة اختلاف البائع والمشتري. وقوله: (رضا) أي: ولا يفتقر إلى رضا الطرف الثاني، فلا يتوقف خيار العيب على رضا البائع، فلو جئت إلى البائع وقلت له: هذه السيارة التي بعتنيها فيها عيب كذا وكذا، وأنا لا أريدها، فإنه يجب عليه شرعاً أن يرد، ولا يشترط رضاه بالرد، بل يلزم شرعاً بالرد. فإذا وجد العيب فإنه يلزم شرعاً بإعطاء الناس حقوقهم ورد أموالهم إليهم، وإذا شاء المشتري أن يأخذ الأرش ويقبل المبيع على التفصيل الذي تقدم بيانه، فإنه لا حرج عليه في ذلك. وقوله: (ولا حضور صاحبه) أي: ولا يشترط أيضاً حضور صاحب المشتري وهو البائع، فيمكن أن يرده إلى وكيله أو العكس، فلو أنك وجدت في السيارة عيباً، فأرسلت رجلاً فقال: يا فلان! فلان يقرأ عليك السلام ويقول: سيارتك التي بعته إياها معيبة، ويقول لك: رد هذه السيارة فهو لا يريدها، فقال: لن أرد حتى يحضر لم يكن له ذلك، فلا يشترط حضور الطرف الثاني. وهكذا عند القاضي لو أنك لا تستطيع الحضور عند القاضي فنصّبت وكيلاً، أو محامياً يدافع عن حقك في العمارة التي ظهر بها العيب، أو الأرض التي ظهر فيها العيب، كان من حقك، فلا يقول خصمك: أريد خصمي أن يحضر فليس من حقه هذا، إنما يقضى عن الشخص أصالة عن نفسه وكذلك وكالة عن غيره، ولا يشترط حضور خصمه بعينه.

اختلاف المتبايعين في وقت حدوث العيب

اختلاف المتبايعين في وقت حدوث العيب قال رحمه الله: [وإن اختلفا عند من حدث العيب فقول مشترٍ مع يمينه]: العيوب منها ما يدل الدليل على أنه سابق للعقد. ومنها ما يحتمل أن يكون سابقاً، ويحتمل أن يكون طارئاً. وعلى هذا فما كان قبل العقد أو ظهرت الأمارات على أنه لا يكون إلا قبل العقد، كزوائد الخلقة، وهكذا بالنسبة للعاهات الخلقية التي حتى ولو كانت مغيبة فإنها تكتشف في ذلك المبيع، فإنه يعتبر دليل الظاهر دالاً على صدق المشتري، ولا يحتاج أن يحلف ويلزم البائع بالرد؛ لأن الدليل قام على أنها موجودة حال العقد، فإن نبات الأصبع الزائد، ووجوده ليس مثله يحدث في الزمن اليسير، وغالباً ما يكون مع الخلقة في الإنسان، وهكذا لو باع بهيمة فيها خلقة زائدة ونحو ذلك من العيوب التي يوجد الدليل أو تقوم الأمارة على أنها موجودة في المبيع من الأصل.

أهمية معرفة المدعي والمدعى عليه

أهمية معرفة المدعي والمدعى عليه هذه العيوب ليس بوسع البائع أن ينكر وجودها قبل العقد، فحينئذٍ إذا ادعى المشتري وقال: هذا العيب موجود، وقال البائع: لم يكن موجوداً، فإن دليل الظاهر دالٌ على كذب البائع، فيقبل قول المشتري ويلغى قول البائع، وهذا يسمونه: دليل الظاهر. إذا اختصم الرجلان في أمر، فأحدهما مدعٍ والثاني مدعى عليه، ولا بد لك إذا جئت تفصل بين اثنين في خصومة أن تعلم من المدعي ومن المدعى عليه، وإذا اختصم الرجلان ولا يُعرف من منهما المدعي ومن المدعى عليه، فإنه لا يمكن أن تحل هذه المشكلة. حتى طلاب العلم إذا تناظروا مع بعضهم واختلفوا في المسائل لا بد وأن يضعوا أصلاً يعرف به من المدعي ومن المدعى عليه؛ لأنه إذا علمنا من المدعي طالبناه بالدليل، وإذا علمنا من المدعى عليه بقينا على قوله، حتى يأتينا هذا المدعي بما يدل على خلاف ما ذكر المدعى عليه، ولذلك قال الله عز وجل: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] وقال صلى الله عليه وسلم: (لو يعطى الناس بدعواهم، لادّعى أناس أموال قوم ودماؤهم؛ ولكن اليمين على من أنكر) فإذاًَ: عندنا مدعٍ ومدعى عليه، المدعى عليه يكون عنده حجة تسند قوله، وضابطه أن يكون عنده دليل من أصل أو ظاهر. مثلاً: تجد طلاب العلم، يقول أحدهما للآخر: أعطني دليلاً على قولك، والآخر يقول: أعطني دليلاً على قولك، فكل منهما يطالب الآخر بالدليل، لكن لو علمنا من المدعى عليه، طالبنا المدعي بدليل يدل على صدق قوله؛ لأن هذا ظاهر القرآن وظاهر السنة، وبناءً على هذا: نستبين الحق في مسائل الاعتقاد وفي مسائل الفروع كلها. فمثلاً: نصوص القرآن أثبتت لله صفات، فأثبت لله: صفة اليد صفة السمع صفة البصر. إلى غير ذلك من الصفات، فنقول: هذه الصفات على الحقيقة، فأنت الذي تؤول العين وتخرجها عن ظاهرها، وتؤول: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] وتؤول النزول: (ينزل ربنا) وهذا خلاف الأصل، الأصل أنها على ظاهرها، فأعطني دليلاً على أن قوله: (ينزل ربنا) نزول رحمة؟ ولا يوجد دليل لا من الكتاب ولا من السنة، فأصبحت الحجة لمذهب أهل السنة والجماعة، فإذا جاء شخص يصرف هذا الظاهر عن ظاهره، علمنا أنه مدعٍ ولا نقبل قوله إلا بدليل من الكتاب والسنة، ولا دليل، فهذا بالنسبة لمسألة الاعتقاد. كذلك مسائل الفروع، لو جاء شخص وقال: هذا حرام، وقال الآخر: هذا حلال، فالأصل حل الأشياء حتى يدل الدليل على حرمتها، أو قال: هذا البيع لا يجوز، وقال الآخر: بل يجوز فأعطني دليلاً على التحريم، فقال المحرَّم: بل أنت أعطني دليلاً على أنه حلال، فإذاً: نقول: من قال: إنه حلال فهو على الأصل، ومن قال: إنه حرام فقوله خلاف الأصل فيطالب بالدليل. وهذه قاعدة.

كيف نعرف المدعى عليه والمدعي

كيف نعرف المدعى عليه والمدعي إذاً: فالحق مع المدعى عليه دائماً حتى يقوم الدليل على خلافه، لكن متى تحكم بكونه مدعىً عليه؟ هناك خلاف بين العلماء، بعض العلماء يقول: المدعي: هو من تجرد قوله عن الأصل والظاهر، والمدعى عليه من اعتضد قوله بالأصل أو الظاهر. أما الأصل: فمثاله: لو أن شخصاً اتهم شخصاً بتهمة، فنقول: المدعى عليه هو المتهم، والمدعي هو القاذف، فحينئذٍ نطالب القاذف بالدليل؛ لأن الأصل البراءة، والأصل أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. إذاً: حكمت بكون فلان مدعى عليه؛ لأن الأصل معه، إذ الأصل أنه لم يفعل هذا الحرام، فإذا جاء شخص وقال له: بل فعلت هذا الحرام، نقول: عليك الدليل، ولذلك قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] فجعل الأصل خلاف من قال بالتهمة. وبناءً على ذلك نقول: المدعى عليه، من عضّد قوله الأصل كما ذكرنا؛ لكن ما هو الأصل؟ قالوا: الأصل أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، فإذا قال شخص: أنت فعلت هذا، فالأصل أنه لم يفعل حتى يثبت أنه فعل. وكذا لو قالوا: أنت الذي ضربته، فقال: ما ضربته، فقوله: (أنت الذي ضربته) خلاف الأصل، حتى يثبت أنه ضرب، وقس على هذا. أما دليل الظاهر، فكرجلين اختصما في سيارة أو في بعير أو في بيت، فجاء شخص لشخص وقال: هذا البيت بيتي، وقال الآخر: بل بيتي، فنظرنا فوجدنا أحدهما ساكناً في البيت والآخر خارج البيت، فدلالة الظاهر تدل على أن الذي في البيت مدعىً عليه، وأن الذي خارج البيت مدعٍ؛ لأن الأصل أن يسكن الإنسان في ملكه، ولو أن رجلين على بعير، أحدهما في المقدمة والآخر في المؤخرة، وكلاهما يدعي البعير فنقول: إنه للذي في المقدمة؛ لأن الذي في المقدمة هو صاحب الدابة على الظاهر، وقس على هذا. ولذلك يقولون: تمييز حال المدعي والمدعى عليه جملة القضاء وقعا فالمدعي من قوله مجرد من أصل أو عرف بصدق يشهد وقيل من يقول قد كان ادعى ولم يكن لمن عليه يدعى من يقول: حدث كذا فهو المدعي، ومن يقول: لم يحدث فهو مدعىً عليه، وعلى هذا نطبق في مسألتنا: لو أن رجلاً اشترى عمارة فوجد فيها عيباً أو اشترى سيارة فوجد فيها عيباً، فقال المشتري: كان العيب موجوداً في السيارة، وقال البائع: هذا العيب طرأ وحدث عندك بعد أن اشتريت السيارة، ولم يحدث في ملكي، فأنا لا علاقة لي بهذا العيب، وإنما بعتك بيع المسلم لأخيه سالماً من العيب؛ فحينئذٍ من المدعي ومن المدعى عليه، وعليه فإذا قال العلماء: القول قول فلان، فمعناه أنه مدعى عليه، ومعنى ذلك أننا نطالب من خالفه بالبينة.

دليل القائلين بأن القول قول المشتري

دليل القائلين بأن القول قول المشتري بناءً على هذا ننظر: فإذا قال المشتري: إن العيب كان موجوداً في الصفقة قبل البيع، أو أثناء عقد البيع، فبعض العلماء يقول: القول قوله، فإذا قلنا: القول قول المشتري فمعناه أن المشتري مدعىً عليه، ومعناه أن البائع مدعٍ. والسبب في هذا: أن الأصل أن هذا المبيع حينما دفع المشتري فيه القيمة كاملة ينبغي أن نعلم أن المبيع كامل، فإذا ثبت أنه ناقص ورأينا نقصانه، فالمال الذي دفعه لا يستحقه البائع، فمثلاً: اشترى عمارة بخمسمائة ألف، وظهر بها عيب يسقطها إلى أربعمائة ألف، فإذاً لا نستطيع أن نقول بحل الخمسمائة ألف للبائع، إلا إذا تبين أن الصفقة كاملة، فإذا قال المشتري: بها عيب، وقال البائع: لم يكن بها عيب، فالثابت أمامنا أنها معيبة، وأن المال المدفوع الذي هو خمسمائة ألف ليس مدفوعاً في شيء يستحقه على هذا الوجه، فنطالب البائع بدليلٍ وبينةٍ على أن العمارة أثناء البيع لم يكن بها هذا العيب الذي يدعى عليه. فهذا وجه من يقول: إن القول قول المشتري. لأن الأصل عدم الخمسمائة ألف أو المال المدفوع حتى يكون المبيع سالماً من العيب، فلما شككنا فرأينا المبيع أمامنا معيباً، فإن الأصل ألا يعطيه إلا شيئاً كاملاً كما أنه أخذ الثمن كاملاً، فينبغي أن نتحقق أن المبيع كاملاً فنطالب البائع بما يثبت أن المبيع كان كاملاً أثناء البيع، فهذا وجه من قال: إن القول قول المشتري.

دليل القائلين بأن القول قول البائع

دليل القائلين بأن القول قول البائع وهناك من يرى أن القول قول البائع؛ لأنه لما بيع المبيع وأخذ المشتري الصفقة فإن المشتري يقول: قد كان، والبائع يقول: لم يكن، وقد قلنا: إن من ضوابط المدعي والمدعى عليه. وقيل من يقول قد كان ادعى ولم يكن لمن عليه يدعى فيقولون: المشتري يقول: قد كان، والبائع يقول: لم يكن، فالبائع ينفي والمشتري يثبت، وحينئذٍ يطالب المشتري بالدليل على قدم العيب؛ لأن الأصل عدم وجود العيب، بدليل أن الصفقة تمت بينهما، ولا تتم في الغالب إلا وهي كاملة، فقالوا: الظاهر أن المبيع لم يكن به عيب. وأياً ما كان فقول من قال: القول قول المشتري أقوى، لما ذكرنا؛ لأن أموال الناس لا تستباح إلا بوجه معتبر، والصفقة على هذا الوجه لم يثبت أنها كاملة، فيطالب البائع بدليل يدل على أن المبيع لم يكن معيباً أثناء العقد. فقوله: (وإن اختلفا عند من حدث العيب فقول مشترٍ مع يمينه) هذه اليمين يسمونها (يمين التهم)، وتكون في المواطن التي تحصل فيها الريب كالشهادة على الوصية في السفر وفيها الأيمان، وهي أصل عند العلماء رحمهم الله في أيمان التهم، وبها يقول فقهاء المالكية، وكذلك الحنابلة والشافعية في مواضع يحكمون بها، وأيضاً فقهاء الحنفية رحمهم الله في بعض الصور ويسمونها يمين التهمة، فيقولون: يعتضد قول المشتري بيمينه، يقال للمشتري: احلف أن هذا العيب كان موجوداً أثناء العقد.

يقبل قول من لا يحتمل إلا قوله

يقبل قول من لا يحتمل إلا قوله قال رحمه الله: [وإن لم يحتمل إلا قول أحدهما قبل بلا يمين] وذلك كما ذكرنا في الأصبع الزائد، والعيوب التي يشهد أهل الخبرة أنها لا يمكن أن تحدث وتطرأ في زمن قريب، ويوجد الآن في بعض الآلات أن يدعي صاحب المؤسسة أو صاحب الشركة التي باع الآلة أن هذا العيب ما كان موجوداً، فيأتي خبير ويقول: بل هذا النوع من العيوب لا يمكن أن يحدث إلا من سنة، إذا أثبت أهل الخبرة أن هذا العيب لا يمكن أن يحدث إلا من سنة أو أنه موجود مثل الأصبع الزائد أو عيوب الخلقة، فحينئذٍ يطالب بالرد وليس على المشتري يمين، لدلالة الظاهر على صدقه.

خيار التخبير بالثمن

خيار التخبير بالثمن قال رحمه الله: [السادس: خيار في البيع بتخبير الثمن]: مذهب الحنابلة رحمهم الله من أوسع المذاهب في باب الخيار، ولم يتكلم الفقهاء رحمهم الله في مسائل الخيار بالتفصيل والاستيعاب كفقهاء الحنابلة رحمهم الله، فقد توسعوا في الخيار وذكروا صوره، خاصة وأنهم يقولون بأنواع لا يقول بها غيرهم كفقهاء الحنفية والمالكية رحمة الله على الجميع، وهنا نوع من الخيارات وهو خيار التخبير بالثمن. وهو أن يأتي الإنسان إلى البائع يريد أن يشتري سلعة، فحينئذ لا يخلو البائع من حالتين: الحالة الأولى: أن يقول لك مثلاً: أبيعك هذه السيارة بعشرة آلاف، أو أبيعك هذه العمارة بمائة ألف، ولا يذكر لك رأس المال الذي اشترى به، فحينئذٍ لا إشكال. الحالة الثانية: أن يقول لك: هذه السيارة رأس مالي فيها مائة ألف، أو هذه العمارة رأس مالي فيها مليون ريال، فهذا الإخبار بالثمن فيه عهد من المسلم إلى المسلم ألا يكذب وألا يغش وألا يزور؛ لأنه إذا قال لك: رأس مالي في هذه العمارة مليون فمعنى ذلك: أنه إما أن يبيعك برأس المال وقد صدقته أنه اشترى بمليون، وإما أن يقول لك: كم تربحني؟ فتربحه العشر مثلاً، فيبيع بمليون ومائة، أو يقول لك: رأس مالي مليون، أسقط عنك عشر رأس المال، أو يقول لك: رأس مالي مليون، أدخلك شريكاً معي بالنصف. فإذا أخبرك برأس المال، فإقدامك على السلعة مركب من علمك بهذا القدر وهذه القيمة، فلا يخلو: إما أن يكون صادقاً فلا إشكال، وإما أن يكون كاذباً، أو يكون مخطئاً، هذه ثلاثة أحوال: إما أن يكون صادقاً، فلا إشكال، على حسب ما اتفقتما عليه. وإما أن يكون كاذباً فيقول: هذه العمارة اشتريتها بمليون، كم تربحني فيها؟ فتقول له: أربحك النصف، فمعناه أنك ستشتريها بمليون ونصف. فإذا شاء الله عز وجل أن دفعت له المليون والنصف، ثم تبين أنه اشتراها بنصف مليون، وأنه كذب عليك حينما أخبرك أنه اشتراها بالضعف، فيكون حكم الشرع بإعطائه قيمة ما أخذ من المغشوش بالنسبة، وسنبين هذا. كذلك أيضاً لو قال لك: رأس مالي فيها مليون ريال، ادخل معي شريكاً بالنصف، فأعطيته نصف مليون وتبين أنه اشترى بنصف مليون، فحينئذٍ كان من حقك أن ترجع عليه بربع مليون؛ لأنك دخلت بالخمسمائة ألف على أن رأس المال مليون ريال، وتبين أن رأس المال خمسمائة ألف، فمعناه أنك تدخل معه شريكاً بمائتين وخمسين ألفاً، ومن حقك أن تسترد منه المائتين والخمسين ألفاً المتبقية. لقد أبدع فقهاء الحنابلة رحمهم الله باعتبار هذا النوع من الخيارات وتكلموا عليه وفصلوا في أحكامه، وهذه ميزة من ميزات الفقه الحنبلي، وإن كان غيرهم نبه على هذه المسائل؛ لكن لماذا دخلت هذه المسألة في الخيار؟ قالوا: لأنه إذا ظهر كذبه، فقد صار للمشتري الحق في أن يطالب بضمان ما خدع به، ومن حقه أن تغفر. إذاً: كأنك مخير مثل العيب، فلما ظهر العيب الحسي في المبيعات واستحققت به الرد، والعيب المعنوي الموجود في المبيع واستحققت به الرد، كذلك العيب في الثمن حينما يظهر أن البائع كذب عليك فإن من حقك أن ترد وأن يضمن لك فضل ما بين القيمتين. قد ذكرنا صورة الصدق وصورة الكذب، ولكن في بعض الأحيان قد يكذب البائع تورية، ويقول لك: رأس مالي في هذه السيارة عشرة آلاف تشاركني فيها؟ قلت: أشاركك بالنصف، دفعت خمسة آلاف، وتبين أنه اشتراها بعشرة آلاف ولكن بالتقسيط، وليس بالنقد، ولم يخبرك أنها مقسطة، فحينئذٍ يكون قد غشك وورى عليك، فهو اشتراها بعشرة آلاف ولكنه إلى أجل، والأجل تقع فيه زيادة الثمن على المشتري، فلك أيضاً حق المطالبة إن تبين أنه قد خدعك أو ختلك من هذا الوجه. هناك صورة ثالثة وهي الخطأ، فمثلاً: قلت له: بكم اشتريت هذا القماش؟ وهذا كثيراً ما يقع في تجار الجملة، وكثيراً ما تقع مسألة البيع برأس المال، والمرابحة برأس المال بين التجار في الصفقات التي تقع بينهم في الجملة، وفي بعض الأحيان قد تشتري شاة -ولا يزال كبار السن يتعاملون بهذا النوع من البيوع- ويقول لك: رأس مالي بكذا، وتصدقه وتشتري إما برأس المال، أو تزيد على رأس المال، سواءً وقع هذا في بيع الجملة أو بيع المقطع. الذي يعنينا الآن أنه أخطأ في القيمة، قلت له: بكم اشتريت هذه الثياب؟ قال: انتظر حتى أنظر: فواتيرها أو مستنداتها، فنظر في الفواتير وقال: بعشرة آلاف، فقلت له: أنا أربحك العشر، بأحد عشر ألفاً، فدفعت المبلغ، ثم تبين أن هذه الفواتير ليست لهذه الثياب وإنما لثياب أخرى، فالرجل ما كذب ولكنه أخطأ. أو قال لك: هذه العمارة رأس مالي فيها مليون ريال، وتبين أنه كان يظن أنها عمارة أخرى اشتراها بالمليون، ولكن هذه اشتراها بثمانمائة ألف، فإذاً: من حكمة الله عز وجل أنه أعطى كل ذي حق حقه، والحكيم من يضع الأشياء في موضعها، فما دام أن المسلم قد أمن أخاه المسلم حين أخبره برأس المال، فمعناه أن له عليه حقاً أن يصدقه ولا يكذبه، وأن ينصح ولا يغش، ولذلك يقولون: بيع المسلم للمسلم لا كذب فيه ولا خيانة ولا غش ولا تدليس، فإذا ظهر أنه كاذب فله يضمن الحق، والقاضي يعزره، إذا ثبت عنده أنه كذب على فلان في رأس المال، فيعزره بما يناسبه ويناسب من كذب عليه. وكذلك أيضاً إذا ثبت أنه أخطأ فإنه يعذر، وحينئذٍ يبقى استحقاق صاحب الحق برده بما فضل. فإذاً: نحتاج أن نبحث مسائل في خيار التخبير: أولها: بيع المرابحة. ثانيها: بيع المواضعة. ثالثها: بيع التورية. رابعها: بيع الشركة. فهذه أربعة أنواع من البيوع. فبيع المرابحة: اصطلح العلماء رحمهم الله على أن بيع المرابحة أن تشتري الشيء ويأتي من يرغب فيه ويقول لك: كم رأس ماله؟ تقول: رأس مالي مائة، يقول: أو أربحك العشر، أو الربع، أو النصف، أو المثل، فلو اشتريته بعشرة، وقال لك: أربحك المثل، فمعناه أنه سيشتريه بعشرين، ولذلك يسمونه بيع المرابحة، ومنه القصة المشهورة ل عثمان رضي الله عنه وأرضاه في عام الرمادة، حين جاءت إبله من الشام محملة بالزيت والطعام إلى المدينة، فجاءه التجار وقالوا له: بع يا عثمان، قال: كم تعطونني؟ قالوا: نعطيك بالدرهم درهمين، أي: نربحك الضعف، قال: أعطيت أكثر، قالوا: نعطيك ثلاثة، أي: ثلاثة أضعاف، قال: أعطيت أكثر، قالوا: نربحك أربعة إلى خمسة، قال: أعطيت أكثر، قالوا: من أعطاك وليس بالمدينة تجار غيرنا؟ قال: أعطاني الله بالدرهم عشرة إلى سبعمائة ضعف، هل عندكم هذا؟ قالوا: لا قال: أشهدكم أنها للفقراء، وتصدق بها رضي الله عنه وأرضاه. فكان معروفاً عند التجار أن التاجر يأتي لأخيه ويقول له: صفقتك -مثلاً- من الزيت سأربحك الضعف، فيعرفون أنه سيدفع ضعف رأس مالها. لكن هنا سؤال وهو: هل في بيع المرابحة تحتسب رأس المال الأصلي، أو تحتسب الكلفة؟ هذا أمر يحتاج إلى نظر، فمثلاً: لو اشتريت طعاماً وقيمة الطعام مائة ألف، لكنك نقلته من جدة إلى مكة، وكلفك النقل عشرة آلاف، فهل نقول: رأس المال المائة ألف أو نقول: رأس المال مائة وعشرة آلاف؟ الصحيح أنها مائة وعشرة، وأن عليه أن يبين ويقول: رأس مالي بكلفته مائة وعشرة، أي: كلفتني هذه الصفقة مائة وعشرة. إذاًَ: بيع المرابحة يشترط فيه أن تملك السلعة وأن تكون في حوزتك حتى تبيعها؛ لأنك لو بعتها قبل أن تملكها فقد بعت ما لم تملك، ومن هنا يتبين خطأ من يقول: يدخل في بيع المرابحة أن تذهب وتختار السيارة ثم تأتي إلى المؤسسة لكي تشتريها لك، ثم تأخذها منها بالتقسيط بعد أن تدفع المؤسسة ثمنها نقداً، وهذا عين الربا، وليس من المرابحة في شيء، فبيع المرابحة صورته معروفة ومعهودة ومشهورة عند العلماء: وهي أن تشتري الصفقة بقيمتها، دون أن يدلك عليها أو يخبرك أحد أنه سيشتريها منك مستقبلاً سواء كانت عقاراً أو منقولاً، وبعد أن نشتريها يأتيك من يساومك بعد أن حزتها وتبين رأس مالك فيها لكي يخبرك بما سيدفعه لك ربحا، ً ولذلك قال: ولا تكون المرابحة إلا بعد الملكية؛ لأنك ترابح في شيء قد ملكته، ولا ترابح في شيء ليس في ملكك.

الأسئلة

الأسئلة

ضمان التصرف في المبيع المعيب بعد رده

ضمان التصرف في المبيع المعيب بعد رده Q في حديث المُصَرّاة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد المشتري المبيع وصاعاً من تمر، وذلك لمنفعته في الحليب؛ ولكن في كسر الجوز لم ينتفع المشتري فيه بشيء، فلماذا يرد أرش ما انكسر؟ أثابكم الله. A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإنك حينما تلزم الإنسان بضمان شيء إنما هو مركب من الاعتداء ومركب من التصرف، بغض النظر عن كونه انتفع أو لم ينتفع، فلو أن إنساناً جاء وكسر زجاجاً للغير، ولم ينتفع بهذا الكسر، قلنا له: يدك كسرت فعليك أن تضمن لصاحب الحق حقه، ولو أنه أتلف طعاماً ولم يأكله، فإنه يجب عليه الضمان، وكأن الأمر مركب على كسر اليد، فلما اعتدت اليد، بغض النظر عن كونها ارتفقت أو لم ترتفق، أو قصدت الارتفاق أو لم تقصد، فقاعدة الضمان مطردة. وعليه فإننا نقول: يجب عليه الضمان ويلزمه أن يرد من هذا الوجه، وحديث الْمُصَرّاة مركب من هذا، فإنه احتلب الشاة وهذا الحدث كان من يده، سواء احتلب وشربه هو أو شربه غيره، أو حلب الحليب ثم أراقه فإن الحكم يلزمه، فكأن القضية مركبة من وجود الإتلاف ووجود التصرف، فعلى اليد ما أخذت حتى تؤدي. فلما أخذت شيئاً كاملاً وجب أن ترده كاملاً إن أمكن، وإن لم يمكن ردت ضمان ذلك الكامل، وهذا من عدل الله بين عباده، وقد بينا وجه ذلك، والله تعالى أعلم.

التراخي في رد المعيب وحق الأرش

التراخي في رد المعيب وحق الأرش Q بعد أن تقرر أن التراخي قد يسقط حق المشتري في الرد، فماذا عن حقه في الأرش، أثابكم الله؟ A بالنسبة لوجود العيب فمن حقه أن يطالب بالأرش، لكن الرد أهون من الأرش، فإبطال العقد الأول وفسخ العقد الأول ليس كاستدامة العقد وضمان النقص، وسكوته إن كان لا يدل على الرضا بالعيب على وجه الإسقاط للأرش والرد، فلا شك أن من حقه أن يطالب؛ لأن الأصل أن الشرع أثبت له حق المطالبة بصاع الْمُصَرّاة، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة، فحينئذٍ نقول: من حقه أن يطالب بالأرش وضمان ما انتقص من قيمته، ويكون تراخيه إذا لم يفهم منه الرضا عن إسقاط الأرش غير موجب لإسقاط الحق الثابت بأصل الشرع، والله تعالى أعلم.

الضمان في التصرف في المبيع لأجل معرفته

الضمان في التصرف في المبيع لأجل معرفته Q بعض تجار العسل يبيعون العسل بداخل ما يسمى بـ (القدر)، ولا يظهر منه إلا واجهته، ولا يدرى ما بداخله، فما الحكم، أثابكم الله؟ A ليس العسل وحده، بل العسل والفواكه كلها تباع على هذا الوجه، فلو اشتريت من الفواكه الرمان، مع أنه كبير الحب كبير الجذر فإنك لا تستطيع إلا أن تنظر إلى واجهته، أو اشتريت الرطب فإنك لا تستطيع إلا أن تنظر إلى ظاهر الصندوق، فمن حقك من ناحية شرعية أن تقلب أعلاه وأسفله، لكنه لا يمكّنك من هذا. فلو أخذته وقلبته أمامه ووجدت فيه عيباً فمن حقك أن ترده، ولو أخذت الصندوق وقلبته فوجدت باطنه غير ظاهره فمن حقك أن ترده. فالعسل لو قال لك: لا تفتشه أو قال لك: هذا عسل جيد وممتاز ومن نوع كذا، فلما أخذته إلى البيت وفتحت قرطاسه أو وعاءه إذا به ليس من النوع الذي ذكر، فمن حقك أن ترده، ثم هذا الفتح إن كان مثله يضمن ضمن، وإن كان مثله لا يضمن لم يضمن. فمثلاً: القدر إذا فتح ليس فيه إخلال ولا ضرر، لكن لو كان العسل له وعاء معين لا يمكن فتحه إلا بالإتلاف، فحينئذٍ يضمن هذا الإتلاف الذي ذكرناه في جوز الهند، وهكذا بالنسبة لبيض النعام، لأنه أصل عند العلماء. فالمقصود: أن من حقك الرد، إن تبين أنه غير النوع الذي اشتريته، فمثلاً: قال لك: هذا عسل السدر، وتبين أنه ليس من عسل السدر، وإنما هو نوع آخر، أو قال لك: هذا الرمان من نوع كذا، وتبين أنه من نوع آخر، فمن حقك أن ترد متى اتضح وجود العيب ومخالفة الصفقة لما تم بين البائع والمشتري. وحينئذٍ فمسائل الضمان يفرع فيها على نفس التفريع الذي ذكرنا، فإن كان العسل في غلاف بحيث إذا فتح تضرر البائع بفتحه، كان من حقه أن يطالبه بأرشه، وإن كان لا يتضرر فإنه ليس من حقه أن يطالب بالأرش، لكن مسألة العسل من حقك أن تقلبه وتذوقه من باب العلم بما فيه، وذلك حتى ترتفع الجهالة ويطمئن إلى حقه، وليس من حق البائع أن يمنعه من ذلك، إنما من حقه أن يمنعه من وسيلة تضر بالعسل، أو تضر به هو. فمثلاً: لو أدخل يده، فيده قد تكون ملوثة تؤذي العسل، ولو جاء بملعقة كبيرة يريد أن يذوق العسل، فهذا يضر، فحق المشتري أن يفعل ما تستبين به حقيقة الصفقة، فلو باعه إليك مغلفاً، وقال لك: أضمن أنه من النوع الفلاني أو الصنف الفلاني، أو باعك الورد الطيب والمشهور مثلاً في أوعية من النحاس مغلفة مختومة لا تستطيع أن تعرف حقيقة هذا الورد إلا بفك الختم، فحينئذٍ تفك الختم، وإذا فككت الختم وشممت الورد، وتبين أنه فاسد أو تالف فلك أن ترده، فإذا كان هذا الختم ليس فكه ينقص العلبة نفسها أو يؤثر فيها، فليس من حقه أن يطالبك بالأرش، فعلبة الورد معروفة، وهذا الختم ليس له أي قيمة إنما هو من باب الاستيثاق أنه من المؤسسة ومن الشركة، لكنه لا يؤثر في ذات العلبة، فذات العلبة تقفل وتحكم الإقفال، كالقدر إذا رفع ثم غطي، فلا يعتبر هذا مما يوجب الضمان، لكن الذي يوجب الضمان الأشياء التي تستهلك وتستنفذ وتكون اليد متصرفة بالإضرار فيها، فتضمن بحقها وهو قدر الأرش، والله تعالى أعلم.

حق الفسخ في الإجارة

حق الفسخ في الإجارة Q استأجرت داراً لمدة سنة، ودفعت الإيجار مقدماً، وبعد بضعة أشهر أحببت الخروج من الدار، فهل لي أن أطالب المالك بإرجاع ما تبقى لي من قيمة أشهر السنة، أثابكم الله؟ A هذه المسألة مفرعة على مسألة وهي العقود اللازمة والعقود الجائزة. فالعقود اللازمة مثل البيع والإجارة ليس من حق أحد الطرفين أن يفسخ دون رضا الآخر، فالبيع عقد لازم، فليس من حق المشتري بعد أن تفترقا أن يأتيك ويقول: لا أريد؛ لأنك تقول له: هذا عقد يلزمك، وليس من حقك أن تفسخ هذا البيع إلا بإذني ورضاي، كذلك إذا استأجرت سيارة لتذهب بها إلى الحرم بعشرة ريالات، فركبت معه فإذا ركبت معه، وشرع يمشي فبمجرد مشيه لزمتك الإجارة، وحينئذٍ تمضي معه، فإن أتم لك المشوار استحق الأجرة، وإن امتنع أن يتم لك المشوار أو تعطلت سيارته فعليه أن يقيم غيره مقامه، ولو لم يجد الغير الذي يقوم مقامه، فعليه أن يقدر المسافة من الموضع الذي أخذك منه إلى الموضع الذي تعطلت فيه السيارة، فإن كان نصف المشوار استحق خمسة ريالات، أي: يقدر بقدر ما عمل. لكن لو جئت تقول له: أريد أن توصلني إلى المدينة، ثم لما مضى بك كيلو أو كيلوين أو نصف كيلو قلت: لا أريد، فذلك ليس من حقك فقد مضت الإجارة ولزمت. هذا بالنسبة لإجارة الركوب. وكذلك إجارة السكنى: فلو استأجرت داراً سنة بعشرة آلاف ريال، ثم بعد شهر أو شهرين، أو بعد أن افترقتما مباشرة جئت وقلت: لا أريد، يلزمك أن تدفع الأجرة كاملة إذا لم يقبل منك الإقالة، فإذا كنت لا تستطيع أن تستأجرها فيمكن أن تقيم غيرك مقامك. وهكذا الطبيب: فلو تعاقدت معه على أن يأتيك للكشف أو الفحص، فجاء الطبيب ومكنك من نفسه، وجلس ولم يكشف شيئاً ولم تأمره بالكشف حتى مضت المدة، يجب عليك أن تدفع الأجرة كاملة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] والإجارة عقد، والمسلم إذا اتفق مع أخيه المسلم على إجارة فليس من حقه أن يفسخها إلا برضا الطرف الثاني، فإذا لم يرض الطرف الثاني، فإن العقد لازم وعليه أن تتمه. وهناك أحوال مستثناة للفسخ منها: - العجز الشرعي. - العجز الحكمي. فالعجز الشرعي مثلاً: لو استأجرت من مؤسسة سيارةً تذهب بك للحج، ولما تحركت السيارة تعطلت، وكان خروجك من المدينة في يوم عرفة، بحيث لا يمكنك أن تدرك الحج، فهذا التعطل يفسخ الإجارة؛ لأن المقصود منها الحج، فهذا يعتبر عجزاً شرعياً، وكأن المنفعة الشرعية التي تريدها ليست بموجودة وليست بمحصلة، وحينئذٍ من حقك أن تفسخ الإجارة، وتطالبه بدفع القيمة أو رد الأجرة كاملة إليك. وهكذا بالنسبة للعجز الحكمي، فمثلاً: ما يقع في المستشفيات بأن يقع العقد بين المريض وبين المستشفى على إجراء عملية، فقبل أن يدخل المريض للعملية توفي، فالإجارة تمت والعقد تم، والأطباء مهيئون، لكن قبل الشروع توفي المريض، فحينئذٍ ليس من حق المستشفى أن يطالب الورثة بدفع القيمة؛ لأن هذا عجز، ولا يمكن للمستأجر بحال أن يتم العقد، كما أنه في العجز الشرعي لا يمكن أن يتم العقد بحال، كذلك أيضاً في العجز الصوري أو الحكمي. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

باب الخيار [6]

شرح زاد المستقنع - باب الخيار [6] مذهب الحنابلة رحمهم الله من أوسع المذاهب في باب الخيار، ولم يتكلم الفقهاء في مسائل الخيار بالتفصيل والاستيعاب كفقهاء الحنابلة، خاصة وأنهم يقولون بأنواع لا يقول بها غيرهم. ومن هذه الأنواع: خيار التخبير بالثمن، فما هو هذا الخيار؟ وما هي أحواله وصوره؟ ومتى يقع؟ وما هي البيوع التي يثبت فيها وكيف يثبت؟ هذا ما وضحه الشيخ في هذه المادة.

تعريف خيار التخبير بالثمن وصوره

تعريف خيار التخبير بالثمن وصوره بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [السادس: خيار في البيع بتخبير الثمن متى بان أقل أو أكثر]: ذكر المصنف رحمه الله هذا النوع من الخيار وهو الذي يسمى بخيار التخبير. والتخبير: تفعيل من الخبر، والخبر لذاته يحتمل الصدق والكذب. والمراد بهذا الخيار: أن يخبرك البائع بقيمة الشيء المبيع أنه اشتراه بكذا، ثم بعد ذلك يتبين أنه أخطأ أو كذب عليك، فإن تبين صدقه فلا إشكال، وهذا النوع من البيوع في الأصل إنما يقع عند الإخبار بالقيمة. وبناءً على ذلك: فإن من أراد أن يشتري سلعة ما، فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يقع البيع بالسوم، دون النظر إلى أصل المال الذي اشترى به أو قدر القيمة التي اشترى بها البائع، فلو قال له: بكم تبيعني هذه السيارة؟ قال: بعشرة آلاف، فقال: اشتريت، فحينئذٍ لا إشكال، ولا يبحث في هذا النوع من الخيار؛ لأنه لم يتركب ثمن الصفقة الثانية على الإخبار بالصفقة الأولى. الحالة الثانية: أن يخبر البائع المشتري بالقيمة التي اشترى بها السلعة، والأصل أن المسلم يجب عليه أن يصدق فيما يقول مطلقاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] فأمرنا الله سبحانه وتعالى أن نتقيه وجعل من التقوى أن نكون من الصادقين، فإذا أخبر المسلم بشيء أياً كان فالواجب عليه من حيث الأصل أن يبين الأمر على حقيقته دون زيادة أو نقص. وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا في البيع؛ لأنه يترتب عليه حقوق، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي بين فيه أن بركة البيع مقرونة بوجود هذا الأمر العظيم وهو الصدق فقال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما) فبين صلى الله عليه وسلم أن البركة في البيع مقرونة بالصدق، وأن الواجب أن يكون المسلم صادقاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق) أي: الزموه، ومن هنا فالأصل الشرعي أن يصدق البائع. فهذه الحالة الثانية، وهي أن يقول البائع. هذه السيارة رأس مالي فيها عشرة آلاف ريال مثلاً، فإذا أخبرك برأس المال، فإن الإخبار برأس المال تترتب عليه أمور مهمة منها: أن المشتري ربما يتفق مع البائع على ربح مبنيا ًعلى رأس المال كما في بيع المرابحة، فيقول له: بكم اشتريت؟ فيقول: بعشرة آلاف، فيقول: أربحك العشر، أي: أنني اشتريها منك بأحد عشر، أو أربحك الخمس، وهذا لا شك أنها زيادة مبنية على الإخبار برأس المال، فيشتريها باثني عشر، ولربما أنقص من رأس المال فقال له: رأس مالي في هذه السيارة عشرة آلاف أسامحك في خُمسها، فأبيعها بثمانية آلاف، فزادت رغبة المشتري في السلعة؛ لأنه يرى أن البائع قد ضحى بكثير وأن السلعة فيها تستحق أكثر مما دفع، فاشترى. أو قال له: هذه السيارة رأس مالي فيها عشرة آلاف هل تدخل معي شريكاً بالنصف؟ أو هذه الأرض اشتريتها بمائتي ألف هل تدخل معي شريكاً بالنصف؟ فيقول: قبلت، فيدفع له مائة ألف، أو هذه العمارة اشتريتها بمليون، هل تدخل معي شريكاً بالنصف أو الربع؟ وهكذا. والعلماء يبحثون هذا النوع من الخيار؛ لأن المشتري اشترى بناءً على خبر معين من البائع، وركب على هذا الخبر قيمة الصفقة، وترتب على هذا الخبر الرغبة في الصفقة، فهناك حقوق للمشتري من الإنصاف والعدل أن ترد له إذا ظلم فيها. وبناءً على هذا: فإنه إذا أخبر البائع المشتري بالقيمة الأولى، فلا يخلو من ضربين: إما أن يخبرك وتبين أنه صادق. وإما أن يخبرك ويتبين أنه أخطأ: إما عمداً وهو الكاذب والغشاش. وإما خطأً على سبيل يعذر فيه، بأن كان يظن شيئاً وتبين خلافه، أو كان يظن أنها الصفقة الأخيرة وتبين أنها الصفقة قبل الأخيرة. إلى آخره. ففي الضرب الأول من الحالة الثانية: وهو أن يتبين صدق البائع فيما أخبر فلا إشكال، فلو قال لك: اشتريت هذه العمارة بعشرة آلاف، فقلت: أربحك نصفها فأشتريها بخمسة عشر، فلا إشكال إذا تبين أنه اشتراها بعشرة آلاف. وهكذا لو أنه لم يتبين شيء، فالعلماء لا يبحثون في هذا، وإنما يبحثون فيما إذا تبين الخطأ، فأنت -مثلاً- اشتريت منه العمارة بعشرة آلاف، أو اشتريت منه السيارة بخمسة آلاف، ثم وجدت البائع الأول فقال لك: قد بعتها بأقل مما أخبرك به، فحينئذٍ يكون المشتري قد ظلم في ترغيبه في السلعة، وظلم في القيمة نفسها حيث رتب عليها ربحاً أو نسبة معينة بناءً على القيمة، فإذا ثبت أنه قد كذب أو أخطأ فحينئذٍ يكون للمشتري الخيار. فاصطلح العلماء على تسمية هذا النوع من الخيار خيار تخبير الثمن.

متى يقع خيار التخبير بالثمن

متى يقع خيار التخبير بالثمن ثم قال المصنف: [متى بان] أي: اتضح أنه اشترى [بأقل أو أكثر]، وتبين أن هذا الثمن ليس بصحيح. فإذاً: لو سأل سائل متى يقع الخيار؟ ف A يقع الخيار إذا تبين الخطأ سواء كان مقصوداً كما في حالة الكذب -والعياذ بالله- أو غير مقصود كما في حالة الخطأ، ففي هذه الحالة يبحث العلماء هذا النوع من الخيار. وهناك مسألة تتبع هذه المسألة وهي: متى يكون من حقك أن تضيف على رأس المال الأصلي أو تسقط منه؟ فأنت قد تشتري الصفقة بمائة ألف، ثم تبين أن هذه الصفقة بها عيب، فأسقط القاضي لك بسبب هذا العيب كأرش عشرين ألفاً، فأنت في الحقيقة اشتريت بمائة، ولكنك برد هذا الأرش إنما دفعت ثمانين، فهل تخبر بالمائة أو تخبر بالثمانين؟ إذاً: هذه مسائل شرعية يبحثها الفقهاء، ومن عادتهم أنهم يرتبون المسائل المتجانسة والمتقاربة والتي تندرج تحت أصل واحد أو يجمعها قاسم مشترك. فكل هذه المباحث والمسائل التي ستأتينا، إنما هي حول الإخبار بالثمن، وما هو الواجب على المسلم إذا أراد أن ينصف المشتري في إخباره بالثمن، وما الذي تحسبه وما الذي تسقطه؟ فالسيارة -مثلاً- إذا اشتريتها ربما حملتها إليك، أو الطعام إذا اشتريته تحملت تكاليف نقله إليك، فهل تحسب هذه التكاليف مع رأس المال أو لا تحسب؟ فهذه كلها مسائل تحتاج إلى نظر وبحث. فشروط خيار التخبير: أولاً: أن يخبر البائع المشتري برأس المال: فلا يقع هذا الخيار إذا بت لك البيع وقال لك: هذه العمارة أبيعها لك بمائة ألف، وحينئذٍ فإذا تبين أنه اشتراها بعشرة أو بخمسة أو بمائة، فليس من حقك أن تعترض عليه؛ لأنه لم يخبرك برأس المال، ولم يرتب أرباحه أو استحقاقه على رأس المال، إنما باعك بيع المسلم لأخيه على البت دون ذكر لرأس المال، فإذا اشتريت السلعة بقيمة ورضيت هذه القيمة لقاء السلعة ودفعتها برضاك واختيارك فإنه تلزمك هذه القيمة. قول المصنف: (متى بان) أي: إذا ثبت أنه قد اشترى بأقل، والإثبات إما بإقرار البائع، كأن يأتي ويقول للقاضي: نعم أنا اشتريتها بثمانين وأخطأت حينما قلت له: بمائة، والإقرار سيد الأدلة كما يقول العلماء؛ لأنه شهادة من الإنسان على نفسه، والأصل أن الإنسان لا يشهد على نفسه بالضرر. وإما أن يثبت بشاهدين عدلين، كما إذا باعك رجل عمارة بمائة ألف، وقال لك: إنه اشتراها بثمانين ألفاً، فأربحته فيها عشرين، ثم تبين أنه اشتراها بخمسين ألفاً، فأقمت شاهدين عدلين على أنه اشتراها بخمسين ألفاً، فحينئذٍ يثبت القاضي الخيار لك. فتبين أن الإثبات إما إقرار وإما بشاهدين عدلين، وقد يتوفر شاهد واحد فتتم البينة بيمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد مع اليمين في الحقوق المالية. مثال ذلك: لو اشتريت من رجل عمارة أخبرك أنه اشتراها بمائة ألف، فأربحته العشر، ودفعت له مائة وعشرة، ثم تبين لك أنه اشتراها بثمانين، فجئت عند القاضي وقلت: إن فلاناً أخبرني أنه اشتراها بمائة ألف، فسأله القاضي قال: نعم أخبرته أنها بمائة ألف، قال: وما الذي تدعي؟ قال المشتري: بل اشتراها بثمانين، فسأله القاضي: هل اشتريتها بثمانين؟ فأنكر وقال: بل اشتريتها بمائة، فقال لك القاضي: أثبت، فأتيت بالبائع الأول الذي باعه وشهد أنه قد باع إليه بثمانين، حينئذٍ تستحق إذا حلفت مع هذا الشاهد يميناً فإن الحقوق المالية تثبت بالشاهد مع اليمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد مع اليمين. إذاً: قضية (متى بان) تحتاج إلى إثبات إما بإقرار البائع وهذا في حالة الورع، كشخص يبيعك شيئاً، ثم يتبين أنه أخطأ فجاء وقال لك: نعم. أنا أعترف أنني قد أخطأت في القيمة التي ذكرتها لك. أو بشاهدين عدلين، أو بشاهد ويمين، أو امرأتان تشهدان بأنه باع بهذه القيمة ويمين، أو أربع نسوة يشهدن بهذه القيمة التي ذكرت. بناءً على هذا: فمتى بان أنه اشترى بأقل أو أكثر: بأقل كما ذكرنا في المائة والثمانين، أو أكثر، كأن يكون في حال الخطأ، إذا أخطأ البائع وقال: إنه اشتراها بثمانين، فلما رجع إلى حسابه وجد أنه اشتراها بمائة، كما إذا قال لك: هذه العمارة أبيعها لك بمائة ألف، رأس مالي فيها ثمانون، قلت له: اشتريتها منك على أني أربحك عشرين، وهي ربع الثمانين، ثم تبين أنه أخطأ في تقديره وحسابه، وهذا أيضاً على وجه يعذر فيه، وهذا مما يثبت الخيار له.

البيوع التي يثبت فيها خيار التخبير بالثمن

البيوع التي يثبت فيها خيار التخبير بالثمن يقول رحمه الله: [ويثبت في التولية]: أي: هذا النوع من الخيار يثبت في التولية. والتولية: يقال: ولاه الشيء إذا أسند إليه أمره، والمراد بالتولية، أن يقول له: هذه العمارة أو هذه السيارة اشتريتها بكذا والأمر إليك، والعامة اليوم يقولون: رأس مالي كذا والنظر لك، أي: أنت الذي تبت في الأمر، فولى البائع المشتري النظر، فإذا أخبره برأس المال وولاه النظر، فحينئذٍ يكون هذا البيع تولية. قال رحمه الله: [والشركة]: المصنف هنا يريد أن يثبت محل الخيار، وهذا النوع من الخيار في الأصل لا يقع إلا إذا أخبرك برأس المال، ورأس المال يخبر به في بيع التولية، وفي بيع الشركة، وبيع الشركة: كأن يقول لك: اشتريت أرضاً بمائة ألف، هل تدخل معي شريكاً بالنصف؟ أو اشتريتها بمائتين شاركني في النصف شاركني في الربع وقس على هذا، فيذكر لك رأس المال، ويدخلك شريكاً فيه. قال رحمه الله: [والمرابحة]: المرابحة مفاعلة من الربح، والربح أصله النماء والزيادة، وقوله: (المرابحة) هذا النوع من البيوع حقيقته أن تشتري الصفقة وبعد أن تثبت ملكيتك على الصفة تعرضها للبيع، فتقول: رأس مالي فيها مائة، كم تربحني؟ فهذا بيع المرابحة الذي تكلم عليه العلماء وسموه بهذا الاسم وبينوا أحكامه وفصلوا ما يتعلق به من المسائل. أما ما يسمى اليوم ببيع المرابحة في المعاملة الموجودة والشائعة في بعض المؤسسات، من كونه يأتي إلى الشركة أو إلى المؤسسة أو إلى المصرف ويقول له: اشتر لي سيارة من نوع كذا، أو السيارة من فلان، وقسطها عليَّ، وفي بعض الأحيان يذهب العميل ويحضر فواتير السلعة التي يرغب في شرائها، ثم يدفعها إلى البنك، فيقوم البنك بدراستها ثم يشتريها ويبيعها بالأجل على الذي يرغبها من العملاء، فهذا النوع من البيوع لا يعتبر مرابحة وليس في حكم المرابحة أصلاً؛ لأن المرابحة التي تكلم العلماء عليها، تكون في سلعة مملوكة وتحت يد البائع من حيث الأصل، أما هذا النوع من البيوع في العصر الحديث أو الموجود في زماننا هذا، لم يشتر البنك أو المصرف إلا بعد دلالة العميل، فالبنك لا يريد لنفسه، وإنما يريد أن يأخذ زيادة على غرم المال الذي دفعه، فبدل أن يعطي العميل مائة ألف على أن يردها مائة وعشرين، أدخل السلعة حيلة على الزيادة والنماء، ولذلك يعتبر من الربا. وجه ذلك: أن الشريعة لا تلتفت إلى صورة العقد المفضي إلى الربا، ودليل ذلك بيع العينة، فإنك لو جئت إلى بيع العينة: وهي أن تشتري سيارة بمائة ألف، وهذه السيارة التي اشتريتها بمائة ألف اشتريتها مقسطة على عشرة أشهر -مثلاً- كل شهر تدفع فيه عشرة آلاف، فإذا اشتريت السيارة بمائة ألف، وقال الذي باعك: أنا أشتريها منك نقداً بثمانين، آل الأمر إلى أنه أعطاك الثمانين نقداً بالمائة إلى أجل. فلو جئت تتأمل بيع العينة الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدت صورة البيعين صحيحة، أعني أنه حينما تكون السيارة إلى نهاية السنة تجد أن قيمتها في السوق مائة ألف، فحينما تنظر إلى قيمتها في السوق مائة ألف، فالشريعة لا إشكال أنها تصحح عقداً إلى نهاية السنة على هذه الصورة بمائة ألف. وأيضاً لو جئت تسأل عن هذه السيارة بالنقد وجدتها بثمانين، فكلا البيعين ليس فيه شبهة من حيث الصورة والشكل، ولذلك فالعلماء لا يعتبرون هذا النوع من البيوع -الذي هو بيع العينة- رباً محضا، ً وإنما يعتبرونه ذريعة إلى الربا، وبيع الذريعة صورته شرعية ولكن حقيقته ومآله إلى المحرم، فأنت إذا تأملت تعيين المشتري للصفقة واختياره لها، بل وأخذه حتى لفواتيرها وذهابه إلى المصرف كأنه يقول للمصرف: أرد لك هذه المائة ألف بزيادة، غير أن المصرف حتى يضمن أن المال ذهب في مكانه أعطاه لصاحب السلعة، بدل أن يعطيه بيده أعطاه إلى صاحب السلعة. وأعجب من هذا وأغرب أن يكون هناك اتفاق بين المصرف والمؤسسة أنه إذا رجع الزبون أنه ترد له سلعته، فإذا رجع وغير رأيه ردوا السلعة إليه. فإذاً: لا إشكال أن هذا النوع أولاً ليس بمرابحة حقيقة؛ لأن المرابحة يملك فيها السلعة ويحوزها وحينئذٍ تكون يده يد ملكية، فإذا جاء يشتري إلى أجل فالبيع إلى أجل متمحض وليس فيه أي شبهة؛ لكن في بيع الصورة المحرمة التي ذكرناها لم يشتر البنك ولم يشتر المصرف إلا بإيعاز من العميل، وبدل أن يأخذ العميل المال الذي هو المائة ألف نقداً ويردها مائة وعشرة، لأنه الربا المحض، أدخلا الصفقة احتيالاً على هذا المحرم. ومن هنا كان ابن عباس رضي الله عنه يرى أن تحريم بيع الطعام قبل قبضه بشبهة الربا؛ لأنه إذا اشترى الطعام بمائة ألف حاضرة، ودفع المائة ألف، ولم يقبضه ولم يأخذه ثم باعه في نفس المكان إلى شخص آخر، كأنه يدفع المائة ويأخذ مائة وعشرة، وهذا كله من العلماء إلغاء للصورة ورجوع إلى الحقيقة؛ فلما كانت الصورة صورة بيع، ولكن في الحقيقة أن البنك لم يأخذ السلعة له ولم يردها له، وإنما أخذها بإيعاز من المشتري وطلب منه، ولا إشكال أن هذا من باب دفع المال بالزيادة، إلا أنه بدل أن يعطيه للمشتري وللعميل، قام بإعطاء الطرف الثاني وهو صاحب السلعة المرغوب في شرائها. قال رحمه الله: [والمواضعة]: المواضعة مفاعلة من الوضع، والوضع الطرح، ولذلك يسمى هذا النوع من البيع (بيع الحطيطة)، يقال: حط من الثمن إذا انتقص منه، والمواضعة عكس المرابحة كأن يقول لك: اشتريتها بمائة ألف أضع عنك الربع، بمعنى أنني أبيعها لك بخمسة وسبعين، أو اشتريتها بمائة أضع عنك خمسها، أي: أبيعها لك بثمانين، وقس على هذا. قال رحمه الله: [ولا بد في جميعها من معرفة المشتري رأس المال]: أي: من اللازم في هذه البيوعات كلها معرفة المشتري لرأس المال؛ لأنه لا يستطيع أن يطالب بحقه الذي ظلم فيه في هذا البيع إلا إذا علم أن البائع قد اشترى بأقل، فإذا ثبت عنده أو أثبت عند القاضي أن البائع اشترى بأقل، حق له الخيار، وحينئذٍ يثبت له أن يطالب بالصفة التي سيبينها المصنف رحمه الله.

صور يثبت فيها خيار التخبير بالثمن

صور يثبت فيها خيار التخبير بالثمن قال رحمه الله: [وإن اشترى بثمن مؤجل، أو ممن لا تقبل شهادته له، أو بأكثر من ثمنه حيلة، أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن، ولم يبين ذلك في تخبيره بالثمن، فلمشتر الخيار بين الإمساك والرد]: قوله رحمه الله: [وإن اشترى بثمن مؤجل]: أي: بأن اشترى البائع السلعة بثمن إلى أجل، وجئت تشتري منه فأخبرك بالثمن، ولم يقل لك: مؤجلاً. وذلك لأن القيمة المعجلة ليست كالقيمة المؤجلة، فمثلاً: أنت جئت تريد أن تشتري منه العمارة، قال لك: هذه العمارة اشتريتها بمائتي ألف، وقيمتها في الحقيقة مائة ألف، لكنه اشتراها بمائتي ألف مقسطة، ومن المعلوم أن بيع التقسيط أغلى من بيع النقد، فلما قال: اشتريتها بمائتي ألف وسكت فإن سكوته يقتضي أنه اشترى بالنقد؛ لأن الأصل في البيوعات أن تكون نقداً، فإذا قال لك: اشتريتها بمائتي ألف، وأبيعها بمائة ألف، الذي هو بيع المواضعة، أضع لك نصف القيمة، فحينئذٍ يكون قد ظلمك، وذلك يوهمك أنه قد حط عنك مائة ألف، وهو في الحقيقة لم يحط عنك هذا المبلغ وإنما حط عنك نصفه، وهو خمسون ألفاً، وعلى هذا فإذا قال لك: اشتريتها بمائتي ألف أو بأربعمائة ألف وهو اشتراها بثمنٍ مؤجل فإنه يكون من حقك الخيار؛ لأنه ختلك بذكر القيمة مطلقة، وهي منصرفة إلى النقد، وحقيقة البيع الذي ابتاع به أنه إلى أجل. وقوله: [أو ممن لا تقبل شهادته له]: كأن اشترى العمارة ممن لا تصح شهادته له؛ لأن هناك مستثنيات من الشهادة لا يقبل فيها الشاهد ولو كان عدلاً، وهذا مبني على التهمة، ومن هذه الشهادات شهادة الأصل للفرع والفرع للأصل، فلو قال لك: اشتريتها بمائة ألف، وكان قد اشتراها من أبيه، أو اشتراها من ابنه، فحينئذٍ لا يوثق بهذا الخبر ولا يوثق بشهادة الابن لأبيه ولا بشهادة الأب لابنه. والسبب في هذا: أن شهادة الابن لأبيه وشهادة الأب لابنه فيها إجماع على عدم القبول عند المتأخرين من العلماء رحمهم الله، لكنَّ أهل العلم لما أجمعوا على عدم قبول شهادة الابن لأبيه والأب لابنه اختلفوا في سبب منع هذه الشهادة، فبعض أهل العلم يقول: هذه الشهادة في أصل الشرع غير مقبولة، وعلل ذلك ودلل له بدليل من السنة ودليل من النظر، أما دليله من السنة فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيحين-: (إنما فاطمة بضعة مني) فقوله: (بضعة) أي: قطعة وبضعة الشيء قطعة منه، وإذا كانت فاطمة رضي الله عنها قطعة من أبيها، فمعناه أن الابن والولد قطعة من والده، فإذا كان الولد قطعة من والده، فإذا شهد له فكأنما يشهد لنفسه، والعكس إذا شهد الوالد لولده كأنه يشهد لنفسه، ومن هنا لم تقبل شهادة الوالد لولده ولا الولد لوالده. ثم أيضاً هناك دليل ثانٍ وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) وهو حديث صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوله: (وإن أولادكم من كسبكم) جعل فيه الولد من كسب والده وكأنه راجع إليه، فإذا شهد له كان بمثابة الشاهد لنفسه. أيضاً هناك دليل من النظر: وهو أن الولد والوالد كل منهما تغلبه عاطفة القرابة، والشهادة إنما قبلت من صاحبها لغلبة الظن بالصدق، وإذا غلب على الظن خلاف الصدق، واتهم الشاهد، كان موجباً للرد، ولذلك جاء في الحديث الذي رواه الحاكم وصححه غير واحد من العلماء: (لا تقبل شهادة خصم ولا ضنين)، و (الضنين): المتهم، كقوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24] أي: متهم. فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تقبل شهادة خصم ولا ضنين) دل على أن الشهادة في الرد مبناة على التهم، فإذا شهد الوالد لولده والولد لوالده، فإنه هنا تهمة قوية، ولذلك قالوا: إن هذه الشهادة من حيث الأصل لا تقبل. وبعض العلماء يقول: شهادة الوالد لولده والولد لوالده في الأصل كانت مقبولة، ولكن نظراً لاختلاف الزمان وتغير الزمان تغيرت الفتوى، فكان السلف يقبلونها ثم ردت، وهذا يروى عن الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، إمام السنة في زمانه رحمه الله، يقول: إن السلف كانوا يقبلون شهادة الولد لوالده، والوالد لولده، وقصة علي رضي الله عنه كانت أصلاً عندهم، وهي ترد هذا الذي ذكره الإمام الزهري رحمه الله، وتقوي القول الأول، خاصة وأن السنة تقوي أن الولد من والده. وسواء قلنا: إنها مردودة بالشرع وهو الصحيح، أو قلنا: إنها مردودة بالإجماع وهو المرجوح، فالمهم أنها لا تقبل لا شهادة الوالد لولده، ولا الولد لوالده. لكن لو شهد الولد على والده، أو شهد الوالد على ولده، فحينئذٍ تكون الشهادة مقبولة؛ لأن هذا لا يكون إلا عن حمية للدين وصدق، خاصة إذا عرف الولد بالصدق والأمانة والعدالة، وكذلك الوالد، فإن المسلم الصادق لا تأخذه في الله لومة لائم، ومن كمال الإيمان أن يكون الإنسان قائماً بالقسط، فيشهد ولو على أقرب الناس إليه. فبناءً على هذا: شهادة الولد لوالده، والوالد لولده فيها تهمة، فلو أنه أخبرك بالثمن واشترى ممن لا تقبل شهادته له، فحينئذٍ يكون لك الخيار. والسبب أننا لا نستطيع أن نتوصل إلى حقيقة القيمة، لوجود الشبهة في صدقه فيما قال وفيما أخبر به، ولذلك يعتبر من موجبات الخيار على الوجه الذي ذكره المصنف رحمه الله. قال رحمه الله: [أو بأكثر من ثمنه حيلة]: أي: أو اشترى بأكثر من ثمنه حيلة. رحمة الله على العلماء، إن من لذة الفقه أنك قد تقرأ المسائل هكذا فتشعر بالسآمة والملل، لكن إذا أردت أن تبحث عن العلل والأسباب وجدت أنهم يرتبون هذه العلل ترتيباً دقيقاً، فهم يبحثون عن شيء يوجب الخيار، وتحصل به التهمة، ويبحثون عن إنصاف المشتري من البائع، وأيضاً إنصاف البائع من المشتري؛ لأن البائع ما جاءك إلا للعدل، ولا بنيت هذه الشريعة إلا على العدل: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115] فالله عز وجل حكم بهذه الشريعة للعدل. فالمسألة عندنا هنا يكون فيها صدق في الظاهر وحيلة في الباطن، ولما ذكر المصنف رحمه الله القاعدة: (أن يشتري بأكثر حيلة)، ذكر ضابطاً، وهذا له صور وله أمثلة، لكن من أشهرها أن يأتي رجل إلى شخص يحبه كأخيه وقريبه، أو ابن عمه، أو ابن خاله، ويقول له: أشتري منك عمارتك هذه بمائة ألف، والعمارة في الحقيقة تستحق ثمانين ألفاً، وهو يضع في ذهنه أنه سيبيعها مرابحة ولكنه يحتال على المرابحة فيخبر بصدقٍ حقيقتهُ الخداع والغش، فيأتي إلى هذا القريب ويقول له: ما رأيك يا فلان! لو تبيعني عمارتك بمائة ألف، والعمارة قيمتها ثمانون ألفاً، وبطبيعة الحال قد يعلم أن القريب يريد أن يبيع أو لا يريد أن يبيع، لكن القريب بمجرد أن يعلم هذا السعر المغري سيوافق، فاشترى منه العمارة بمائة ألف، هذه العمارة وضعها في الحسبان أنه سيبيعها مرابحة، فجاءه المشتري وقال له: بكم اشتريت هذه العمارة؟ قال: رأس مالي فيها مائة ألف، فهو صادق ولم يكذب؛ لكنه في الحقيقة ختل المشتري وخدعه، وفي الحقيقة كان يبني على ما يرجوه من الزيادة والنماء على طريقة كسب مودة القريب، وأيضاً كسب الربح من الغريب، فهو ينفع القريب بالزيادة التي سيعطيها، وأيضاً ينتفع من الغريب بما يخبره وهو صادق في الظاهر، ولكنه غشاش أو كذاب في الحقيقة؛ لأنه لا يريد أن يخبره أن قيمة السلعة ثمانون ألفاً، ولكنه زاد العشرين من أجل أن يكسب نماء المرابحة، ويثبت هذا عند القاضي بالقرائن. وهذه الصورة مشكلة، فإذا أقر على نفسه فلا إشكال؛ لأن هذا يوجب الخيار، فلو جاء عند القاضي وتاب إلى الله عز وجل، وقال: نعم أنا اشتريت من أخي هذه العمارة، أو اشتريتها من ابن عمي وأعطيته مائة ألف، وأنا أريد أن أبيعها على فلان مرابحة بمائة وخمسين، حينئذٍ إذا ثبت عند القاضي هذا أثبت به الخيار، لكن لو أنه أنكر، وامتنع أن يثبت أنه قصد ختل المشتري فحينئذٍ يصعب على المشتري أن يثبت ذلك؛ لكن يثبت بالقرائن، فيسأل أهل الخبرة، فإذا سأل أهل الخبرة ووجد أن قيمة هذه العمارة في الحقيقة خمسون ألفاً، ووجد أنه اشتراها من قريبه بسبعين ألفاً، أو بثمانين أو بمائة، عند ذلك نعلم أن هناك محاباة وأن هناك قصداً بإدخال النفع إلى القريب، فمن حق القاضي أن يثبت الخيار بشهادة أهل الخبرة في مثل هذا. قال رحمه الله: [أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن]: وهذه كلها صور عجيبة جداً تبين كيف كان العلماء رحمهم الله يعيشون حال الناس ويدخلون إلى أسواقهم، بحيث يدققون في كيفية خداع البائع للمشتري، فهذه الصورة تستغرب كيف استطاع البائع أن يختل المشتري ويخدعه بذكر قسط الثمن الذي فيه غرر في بيع المرابحة. صورة المسألة: أن يشتري ثلاثة أشياء والمسألة هذه لا تقع إلا في أشياء متعددة، كأن يشتري سيارتين، أو عمارتين، أو قطعتين من الأرض، ويبيع إحدى القطعتين ويخبر المشتري على أنها نسبة من أصل البيع، فيجعل المرابحة على أصل الثمن. فمثلاً: اشترى ثلاث سيارات: السيارة الأولى قيمتها أربعون، والسيارة الثانية قيمتها عشرون، والسيارة الثالثة قيمتها ثلاثون، أصبحت القيمة تسعين ألفاً، فيقول: رأس مالي في هذه السيارات الثلاث تسعون ألفاً، ويبيع إحدى السيارات التي هي -مثلاً- بعشرين، بربح، فإذا جاء المشتري وضع في حسبانه أن الباقي يعادل الثلثين، وأن السيارة التي بيعت بيعت على أنها بثلاثين، وحظها من أصل القيمة ثلاثون، فباعها بالربح ثم أخذ أيضاً فضل الربح فيما بقي. صورة ثانية: اشترى ثلاث قطع من الأراضي، فلو فرضنا أنه اشتراها بستين ألفاً، وكانت قيمة القطعة الأولى: أربعين ألفاً، والقطعة الثانية: عشرة، والقطعة الثالثة: عشرة ثم يبيع الأغلى والأنفس والتي قيمتها أربعون، وتبقى له قطعتان قيمتهما عشرون ألفاً، فيأتي ويقول: هذه الصفقة قيمتها ستون ألفاً بعت منها قطعة، كم تربحني في القطعتين؟ فيتوهم المشتري أن القطعتين الباقيتين قيمتهما الأساسية أربعون ألفاً نمثل بال

ما يلحق برأس المال ويخبر به وما لا يلحق

ما يلحق برأس المال ويخبر به وما لا يلحق قال رحمه الله: [وما يزاد في ثمن، أو يحط منه في مدة خيار، أو يؤخذ أرشاً لعيب، أو جناية عليه، يلحق برأس ماله ويخبر به]: قوله: رحمه الله: [وما يزاد في ثمن]: أي: في مدة الخيار، وهذا يقع في خيار المجلس، وقد يقع في خيار الشرط، لكنه يقع في خيار المجلس وجهاً واحداً من جهة أن من حق المشتري أن يرجع، وذلك أنه إذا اتفق معه على أن القيمة الأولى لا تكفي فرضي أن يزيد فلا إشكال. صورة المسألة: كنت مع رجل فقال لك: عندي عمارة أبيعها لك بمائة ألف، فوصف لك العمارة وصفاً كاملاً، أو قال لك: عمارتي التي تعرفها في المكان الفلاني أو في الشارع الفلاني، أبيعها بمائة ألف، فقلت له: قبلت -وقد بينّا فيما مضى أنه ما دام البائع والمشتري في مجلس واحد، فهما بالخيار -ففي أثناء المجلس قال لك: رجعت عن المائة ألف أريد عشرين زيادة، فإما أن تعطيني عشرين أو فسخت، فقلت له: هذه عشرون، أو من باب حثه على أن يمضي البيع، قلت له: رضيت أن أزيدك عشرين ألفاً. فهذه الزيادة التي طرأت على أصل العقد، قد يخبر البائع الثاني المشتري بالقيمة المحصلة فيقول: هذه العمارة اشتريتها بمائة وعشرين، وهو في الحقيقة اشتراها بمائة، والعشرون قد زادها في مجلس العقد، وهذه العشرون التي زادها فيها شبهة، فربما زادها بسبب ضغط البائع لعلمه بجهل هذا المشتري، فحينئذٍ ينبغي أن يخبر بحقيقة هذه العشرين، فيقول: أنا اشتريت بمائة، وكنا في مجلس العقد فألزمني بعشرين، فرضيت بها، فهذا الرضا يحتمل أني أنا رضيت من باب أنني أرغب في هذه العمارة لمصلحتي الخاصة، وربما أنني أرغبها لشيء في ذلك الزمن، فزدت العشرين لا لمصلحة البيع، وليس من أجل البيع. وذلك حتى يكون من حق المشتري الثاني النظر فإن شاء اعتبر القيمة على وجهها، وإن شاء نكص وامتنع من الشراء. إذاً: إذا زاده وهو في حال الخيار في القيمة أو انتقص منها، كان من حق المشتري أن يعلم بذلك ويجب على البائع أن يعلمه بذلك. قوله رحمه الله: [أو يحط منه في مدة خيار، أو يؤخذ أرشاًَ لعيب]: [أو يؤخذ أرشاً لعيب]: لو أنه اشترى العمارة بمائة ألف، وجاء وقال لك: هذه العمارة رأس مالي فيها مائة ألف، وهو صادق أن العمارة بيعت بمائة ألف؛ ولكنه في الحقيقة وجد في العمارة عيباً، وهذا العيب يحط من المائة عشرين، فلو قال لك: أنا اشتريتها بمائة ألف فهو صادق أنه اشتراها بمائة ألف، ولكن العيب الذي وجد في العمارة حط الثمن إلى ثمانين، فيجب أن يخبرك أن هناك عيباً أخذ به أرشاً وهي العشرون، لكي تصبح الحقيقة أنه اشترى بثمانين، فلو قال لك: اشتريت بمائة وسكت عن الأرش، وثبت ذلك عند القاضي، فإن هذا يثبت الخيار للمشتري. قال رحمه الله: [أو جناية عليه]: أي: جناية على المبيع، فإن المبيع إذا جني عليه خاصة إذا كان في مدة الخيار فإنه ينقص من القيمة، فمثلاً: اشترى سيارة بمائة ألف، فصدمها شخص وهي واقفة، ولما صدمها ضمن التلف الذي أحدثه فيها، فأعطى صاحبها أرشاً، فأخذها وأصلحها ثم قال: هذه السيارة رأس مالي فيها كذا، أو جاء بها بوضعها الراهن، وهي مصدومة، وقال لك: هذه السيارة اشتريتها بمائة ألف، فهو صادق أنه اشتراها بمائة ألف، لكن هذا العيب الموجود فيها، والذي طرأ فأنقص القيمة وكان فيها الأرش، فكأن السيارة اشتريت بمائة ألف، والأرش قيمته عشرون ألفاً، فمعناه أنه تكلف في السيارة ثمانون ألفاً، وأن القيمة الحقيقية لهذه السيارة بعد الأرش إنما هي الثمانون. وبناءً على ذلك: فكأن أحكام هذا النوع من الخيارات تدور حول مسألة الحقيقة، وأنه لا يجوز أن يستفضل البائع عن طريق المرابحة أو طريق التولية أو طريق المواضعة شيئاً زائداً عن حقه، وكل المراد أن يصل هذا إلى حقه، وكما قررنا في الأول، أنها قائمة على العدل، بحيث يأخذ البائع حقه والمشتري حقه. قال رحمه الله: [يلحق برأس ماله ويخبر به]: أي: يلحق برأس ماله ويقول: نعم أنا اشتريت هذه السيارة بمائة ألف، ووجدت فيها عيباً فرد لي القاضي أرشاً لقاء هذا العيب عشرين ألفاً، أو رد لي أرشاً لقاء هذا العيب عشرة آلاف، وقس على هذا. قال رحمه الله: [وإن كان بعد لزوم البيع لم يلحق به]: لأنه بعد لزوم البيع من ضمان المشتري إنما يكون في مدة الخيار، ويقع هذا كما ذكرنا في خيار الشرط على أصح الأوجه فإذا قال: إذا قال: لي الخيار ثلاثة أيام، ثم وقع حادث سيارة بالنقص خلال الثلاثة أيام، فلا بد من العلم بالنقص، وفي ظاهر هذه العبارة أنه لو طرأ النقص بعد العقد أو بعد تمام العقد أنه لا يخبر، مع أن هناك صوراً ينبغي فيها الإخبار والتي تسمى بصور الزيادة وصور النقص، ففي بعض هذه الصور يجب عليه أن يخبر. من أمثلة ذلك: لو اشترى دابة وهي سمينة بمائة، ثم أخذها فاعتلت وتغيرت وجاءها النقص من جهة مرض أو من جهة سوء تدبير، أما الأصل أن قيمتها مائة، فإذا جاء وقال: رأس مالي فيها مائة، فرأس ماله فيها بمائة حينما كانت كاملة صحيحة، لكن هذا النقص ولو كان طارئاً بعد لزوم البيع، فينبغي أن يخبر به، وأن يقول: هذا النقص طرأ عنده. وأشار في الشرح أنه ليس هناك خلاف بين أهل العلم رحمهم الله أنه ينبغي أن يخبر في هذه الحالة، كنقص الأمراض ونقص العيوب التي تطرأ بعد لزوم البيع، ولا يجوز له في هذه الحالة أن يسند الثمن الأصلي إلى الأول دون أن يكشف حقيقة الأمر؛ لأنه بعد وجود هذا العيب، الصفقة في حقيقتها تستحق ما دون رأس المال المذكور، فلو قال له: أنا اشتريت هذه الدابة بمائة، فقد ظلمه؛ لأنه اشتراها كاملة وهي في حالها حين البيع الثاني ناقصة، فيكون فيه ختل للمشتري الثاني، فيجب عليه أن يخبره. كذلك مما يلتحق بهذا ما ذكره بعض العلماء: وهي الزيادة المنفصلة، كأن يشتري ناقة عشراء، بمائة، وتلد بعد ذلك، فيأتي المشتري ويقول: كم رأس مالك؟ فيقول: مائة، وهو صادق أنه اشتراها بمائة؛ لكنه اشتراها بمائة وهي حامل، فمثل هذا يشدد فيه طائفة من العلماء ويقولون: يجب عليه أن يبينه على حقيقته، حتى لا يختل المشتري بثمن زائد عن استحقاق السلعة. قال رحمه الله: [وإن أخبر بالحال فحسن]: هذا بالنسبة لمسألة الزيادة التي تطرأ بعد لزوم البيع؛ ومن أمثلة الاستحقاقات التي تكون بعد لزوم البيع: أن تكون الزيادة لقاء كلفة ومشقة، مثل أن يقول: بكم هذه السلعة من الطعام؟ قال: بمائة، قال: أريد أن تصل إلى بيتي، فيقول: فلان يحملها لك بعشرة، فتم البيع على مائة، ويكون عقد الإجارة بعد لزوم البيع، فهو ليس راجعاً إلى البيع وليس بأساس البيع، فحينئذٍ يخبر ويقول: هذه السلعة اشتريتها بمائة، ولكنها كلفتني مائة وعشرة، فإني جلبتها إلى مخازني أو حفظتها في مخازني فكلفني هذا عشرة آلاف، فأصبح رأس مالي فيها من القيمة ورأس مالي فيها من التعب والعناء مائة وعشرة.

الأسئلة

الأسئلة

يمين القضاء ومستندها

يمين القضاء ومستندها Q مر معنا أن المشتري إذا ادعى عند القاضي أن البائع اشترى السلعة بأقل مما ذكر له، فأقام المشتري شاهداً واحداً وهو البائع الأول مع يمينه أنه يستحق الخيار، والسؤال: ما هو المستند الذي يستند إليه المشتري حتى يحلف على ذلك؟ أثابكم الله. A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: هذه المسألة وهذا السؤال يرجع إلى قضية الحلف بيمين القضاء، ويمين القضاء هي من أعظم الأيمان التي شدد الشرع فيها، والسبب في هذا: أنها تقتطع بها الحقوق، وهي أيمان عظيمة، ومن حلف يميناً في القضاء كاذباً، لقي الله وهو عليه غضبان، ومن حلف يميناً ليقتطع بها مال امرئ مسلم لم يزده الله بها إلا فقراً وضيعاً، فهي يمين غموس تغمس صاحبها في النار، وهي اليمين التي تسمى بيمين الصبر، وقد جاء في قصة الكندي والحضرمي لما اختصما في البئر وارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (ليس لك إلا يمينه قال: يا رسول الله! الرجل فاجر يحلف ولا يبالي، فقال صلى الله عليه وسلم: ليس لك إلا يمينه، فقال: يا رسول الله! الرجل فاجر يحلف ولا يبالي، قال: من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم وهو كاذب لقي الله وهو عليه غضبان) نسأل الله السلامة والعافية! ومن لقي الله وهو عليه غضبان فقد هوى، قال تعالى: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81] فمن أعظم ما يكون أن يجرؤ على أن يحلف بالله في القضاء على أن هذا حقيقته كذا، وعلى أن هذا الأمر صورته كذا، والواقع أنه كاذب، أو يحلف إذا قيل له: احلف على أنك ما فعلت، فحلف. وكانوا يقولون: إن من السنن التي وجدوها بالاستقراء والتتبع، أن من حلف يمين القضاء لا يمر عليه الحول وهو بخير، نسأل الله السلامة والعافية!! فإن كان صاحب التجارة فإن الله يمحق البركة من تجارته، وقد يبتليه الله في عافيته، وقد يبتليه الله سبحانه وتعالى في ماله، ومما كان يحدث به كبار السن أن من أغضب الله عز وجل في شيء ظهرت السنن والدلائل على أن الله يؤاخذه ببلاء، وهذا مما يزجر الناس ويمنع الناس؛ لأن السيئة تسيء إلى صاحبها في الدنيا والآخرة، نسأل الله السلامة والعافية! فكانوا يقولون: من يحلف اليمين الفاجرة متعمداً، أي: وهو يعلم أنه كاذب فيها، فالغالب أنه لا يسلم. ومن أشدها أيمان القسامة التي تكون على الدم، وأصل الأيمان في القسامة أنهم لما حلفوا في الجاهلية في قصة الرجل الذي قتل بمكة، فجاء أولياؤه إلى عبد المطلب وطالبوه، فقسم الأيمان على خمسين من أقرباء المدعى عليه أنه قاتل، فكان منها يمين يتعلق بيتيم، فجاء وليه ودفع حظه من الدية، ثم حلف التسعة والأربعون أيمانهم، وكان الرجل هو القاتل، وكانوا يعلمون أنه قاتل، فحلفوا اليمين الفاجرة، فما مر عليهم الحول وفيهم عين تطرف، وهذا ذكره العلماء رحمهم الله في سبب مشروعية القسامة، وهي من قضاء الجاهلية الذي أبقاه الإسلام، لما فيه من تعظيم الحرمات وزجر الناس عن الدماء والاعتداء على الحقوق. الشاهد: يبقى الإشكال الآن إذا كنا في مسألة المرابحة نقول: إنه يحلف المشتري مع شاهده الذي يقيمه، أي: على أي شيء يستند في حلفه؟ فإن كان قد اطلع بنفسه ورأى الصفقة وتذكرها أو تذكر أنه حضر وأن هذه الصفقة التي كانت في المجلس الفلاني بين فلان وفلان هي على عمارته التي اشتراها الآن، فتذكر ذلك، فهذا يسمونه الحلف على العلم واليقين، أن تحلف على علم ويقين، وبالإجماع يجوز لك هذا الحلف. النوع الثاني: الحلف على غالب الظن، والحلف على غالب الظن، للعلماء فيه قولان: والمذهب الصحيح أنه يجوز لك أن تحلف على غالب ظنك، فإذا وجدت قرائن ودلائل أو وجدت وثائق كتابية لم يقتنع بها القاضي، وأنت على غالب الظن مقتنع بها، وتعرف خط الرجل أو أخذتها من خزينة الرجل، أو أخذتها من يد الرجل، أو اطلعت على ذلك عن طريق قرائن ممن يعلم معه، ولا يستطيعون أن يشهدوا مخافة منه، وشهدوا عندك وأنت تعلم أنهم صادقون، هذه كلها قرائن تقوي غلبة ظنك بصدقهم، فإذا غلب على ظنك هذا كان من حقك أن تحلف، والحلف على غالب الظن ليس بيمين غموس، ولذلك قال العلماء: لو أن رجلاً أعطاك ألف ريال ديناً ثم غلب على ظنك أنك رددتها، فقال لك: لم تردها، وأنت لا تستطيع أن تجزم، لكن غلب على ظنك أنك رددتها، فيجوز لك أن تحلف بالله إذا أنكر ذلك. وهكذا لو أنك ادعيت على رجل مالاً، أعطيته هذا المال ثم طالبته فادعى الرد، وأنت على غالب ظنك أنه لم يرد، فيجوز لك أن تحلف على أنك لم تستلم ولم تأخذ، إذا غلب على ظنك ذلك. الشاهد: أن اليمين التي يسأل عنها، يمكن أن يحلفها الخصم بناء على غالب الظن، وهذا على أصح قولي العلماء رحمهم الله، وينسب بعض العلماء إلى جمهور أهل العلم أن الحلف على غالب الظن لا بأس به وليس فيه حرج، ولكن الورع ألا يحلف إلا على مثل الشمس، فإذا أراد أن يسلم له دينه وأن يحفظ دينه وأن يبارك الله له في ماله، فلا يحلف إلا على شيء كالشمس، وإلا ترك وعوضه الله عز وجل خيراً مما فقد، والله تعالى أعلم.

حكم الإجارة بجزء من العمل

حكم الإجارة بجزء من العمل Q من أراد أن يبيع أرضاً بمائة فقال له آخر: أبيعها لك بمائة وعشرين، وسأخبر المشتري أن صاحب الأرض يريد مائة وعشرين، وتم البيع فأعطى البائع مائة، وأخذ هو العشرين إلى جانب نسبته من المشتري، فهل هذا يصح، أثابكم الله؟ A هذه المسألة فيها أكثر من سؤال: أولاً: بالنسبة للمالك الحقيقي للأرض إذا قال لك: بعها بمائة، فإنك تراعي حقوق إخوانك المسلمين، خاصة إذا وجدت أنهم يحتاجون إلى هذه الأراضي، أو أن الأشخاص الذين سيشترون منك أشخاص يعوزهم المال، فعليك أن تتقي الله، فهذا من النصيحة لعامة المسلمين. ولا ينبغي للإنسان أن يكون كثير الجشع كثير الطمع دون أن ينظر إلى حقوق إخوانه وحوائجهم، ولو فعل غيره به ذلك لما رضي بهذا، والمسلم يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، ويكره لإخوانه ما يكره لنفسه، فلا ينبغي له أن يبالغ بالأرباح مع إمكان البيع بالأقل. ثانياً: إذا قال له: أنا أبيع لك هذه الأرض بمائة وعشرين، وآخذ عشرين من المائة، فهذه المسألة تعرف عند العلماء بمسألة (قفيز الطحان) وضابطها الاستئجار بجزء من العمل، فإن العشرين سيأخذها من عمله، والإجارة يمنع بعض العلماء أن يستأجر الأجير بجزء من عمله؛ لكن الصحيح أن فيها تفصيلاً، فإن قوي وكثر الغرر حرم هذا النوع من الإيجارات، وإن قل الغرر وكان يسيراً، فإنه يجوز. من أمثلة ما كان فيها غرر كثير أن يقول له: اذبح لي هذه الشاة وخذ جلدها، فإن هذا الغرر فيه كبير، لأننا لا ندري هل الجلد ثخين، أو رقيق؟ ولا ندري هل يخرج سالماً أو معيباً؟ لأنه ربما قده أثناء سلخ الشاة، فإذا استأجره بجزء من عمله مع جهالة أو غرر أكبر فلا يجوز، لكن لو كان مثل أن يحدد له قيمة، يقول له: بعها بمائة وعشرين ولك عشرون جاز. إذا قلنا بجوازها صح له حينئذٍ أن يبيعها بمائة وعشرين، والأفضل أن يتقي الله في إخوانه، وألا يجعل أرباحه الخاصة على وجه الإضرار بالسوق. تبقى مسألة نسبة السمسرة، ونسبة السمسرة أن يقول له: أبيع لك هذه العمارة أو أبيع لك هذه الأرض، وآخذ (6%)، أو (7%)، أو (2%)، أو (2. 5%) أو (5%) وهذه المسألة لها صور، ففي بعض الأحيان لا يصح أن يقول له: أبيعها وآخذ نسبة كذا منها، لأننا لا ندري بكم يبيع، فتصبح النسبة فيها جهالة، فلو قال له: بع هذه العمارة وخذ ثمن دلالتك (السمسرة) (10%)، فلا ندري هل يبيعها بمائة ألف، أو بمائتين، فإذا باعها بمائة كانت الـ (10%) عشرة آلاف، وإذا باعها بمائتين، تكون الـ (10%) عشرين، فأصبحت الإجارة مجهولة والأجرة مجهولة، ولا تصح الإجارة بمجهول بالإجماع. الحالة الثانية: أن يحدد له القيمة ويقول له: بعها بمائة ألف، ولك (5%) و (10%) فهذا جائز؛ لأن النسبة معلومة والقدر معلوم، والغرر مندفع بما ذكرناه، من أنه آيل إلى العلم، ولا إشكال في جواز هذه الصورة إن شاء الله. المسألة الثالثة: أن تصبح السمسرة فريضة على كل من جاء إلى المكتب، بحيث يكون ملزماً بدفع هذا المبلغ سمسرة ودلالة بناءً على الورق الذي يدفعه، فهذا لا يجوز، وهذا من أكل المال بالباطل؛ لأن السمسرة دلالة المشتري وهي من باب الجعل، وليس من حقه أن يطالبه بالسمسرة ولم يقم بشيء، كأن تأتي بالزبون الذي يريد أن يشتري فيقول لك: ما دمت أنك وضعته عندي في المكتب فعليك تدفع كذا وكذا، فهذا ليس من حقه؛ لأنك إنما وضعته في المكتب حتى يأتي بالمشتري، لكن إذا جئت بالمشتري بنفسك فإنه ليس من حقه أن يأخذ من المشتري ولا من حقه أن يأخذ من البائع؛ لأن هذا مالي، أبيعه إلى من شئت بما شئت، وكيف شئت، فإذا جاء وقال في هذه الحالة: يجب عليك أن تدفع هذه النسبة أو تدفع هذا القدر، فإنه يكون من أكل أموال الناس بالباطل. وآخر دعوانا أَن الحَمد لله رب العالمينَ. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

باب الخيار [7]

شرح زاد المستقنع - باب الخيار [7] من أنواع الخيار: خيار لاختلاف المتبايعين. والخلاف إما أن يقع في قدر الثمن، أو في صفة المبيع، أو في صفة عقد البيع، وإذا وقع الخلاف فإما أن يعتبر قول البائع وإما أن يعتبر قول المشتري أو يسقط القولان أو يتحالفا، وإذا تحالفا فحينئذٍ يكون الفسخ. ولهذا الخيار مسائل مهمة، وله أحوال وصور ينبغي معرفتها والاطلاع عليها.

الخيار لأجل اختلاف المتبايعين

الخيار لأجل اختلاف المتبايعين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [السابع: خيار لاختلاف المتبايعين] أي: النوع السابع من أنواع الخيار خيار يقع لعلة اختلاف المتبايعين. والسبب في ذلك: أن المتبايعين إذا وقع بينهما خلاف إما في قدر الثمن، أو في صفة المبيع، أو في صفة عقد البيع، فإنه في هذه الحالة لا بد من الفصل بينهما، فإما أن يعتبر قول البائع وإما أن يعتبر قول المشتري، وإما أن يسقط القولان، أو يتحالفا فيكون لكل واحد منهما فسخ البيع. ونظراً لوجود التخيير في حال الحلف أو في حال سقوط القولين، فإنه من المناسب أن يذكر هذا في باب الخيار، ومن المعلوم أن البيع يفتقر للإلزام به إلى رضا الطرفين، فإذا تراضى الطرفان على بيع السلعة وشرائها بثمن معين، فقد لزم البيع للباذل وهو البائع، ولزم البيع للمشتري وهو الآخذ. وعلى ذلك لا يكون لأحدهما خيار بناءً على الأصل، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، فالأصل أنه إذا بيعت السلعة فأوجب البائع وقبل المشتري، أننا نلزم البائع بالبيع ونلزم المشتري بدفع الثمن، لكن إذا حصل الخلاف بينهما فإن الخلاف يمنع الرضا الذي على أساسه حكم بصحة البيع، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] فأحل الله لنا البيع والتجارة بشرط وجود الرضا، فإذا اختلفا انعدم الرضا، فهذا يقول: بعت السلعة بعشرة، والثاني يقول: اشتريتها بثمانية، وهذا يقول: بعت العمارة بعشرة آلاف، والآخر يقول: بل اشتريتها بتسعة آلاف، فمعناه: أن البائع قد بذل هذه الصفقة -العمارة مثلاً- بعشرة آلاف، ورضي أن يأخذ العشرة في مقابل سلعته، فإذا قال المشتري: بل بثمانية، فمعنى ذلك أن الذي حصل الرضا عليه ليس بموجود، ومن هنا يكون الخيار في البيع على تفصيل سيذكره المصنف رحمه الله. وإذا وقع الخلاف بين المتعاقدين فهناك أحوال: الحالة الأولى: أن يوجد الدليل الذي يرجح قول البائع أو قول المشتري، بأن قال البائع مثلاً: بعتك سيارتي هذه بعشرة آلاف، وقال المشتري: اشتريتها بثمانية آلاف، فوقع الخلاف بينهما، فقال المشتري: عندي شاهدان عدلان يشهدان أنك بعتها لي بثمانية آلاف، فأقام البينة بالشاهدين العدلين، فحينئذٍ الحكم سيكون لقول المشتري، والبيع تام بثمانية آلاف ويلزم البائع بدفع السلعة بثمانية آلاف، ولا خيار؛ لأنه قد قام الدليل على ترجيح قول المشتري، والحق حقه. والعكس: فلو أن البائع قال: بعتها بعشرة آلاف، فقال المشتري: بل بثمانية آلاف، قال البائع: عندي شهود يشهدون أنك قد رضيت شراءها بعشرة آلاف، فأقام شاهدين عدلين، على أنه اشترى منه بعشرة آلاف، فحينئذٍ يكون القول قول البائع، ويلزم المشتري بدفع عشرة آلاف، وهكذا لو أقام أحدهما شاهداً وحلف اليمين معه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد مع اليمين. فهذه الحالة الأولى: أن توجد البينة التي ترجح أحد القولين على الآخر. الحالة الثانية: أن يحصل الصلح والتراضي فيرضى البائع بقول المشتري، أو يرضى المشتري بقول البائع، فمثلاً: قال البائع: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، قال المشتري: بل اشتريتها بثمانية آلاف، قال البائع: أنا متأكد أنني بعتها بعشرة آلاف، فقال المشتري: أنت ثقة عندي وقد رجعت إلى قولك بعشرة آلاف. فرضي المشتري بقول البائع. أو العكس: قال البائع: بعتك السيارة بعشرة آلاف، فقال المشتري: بل اشتريتها بثمانية آلاف، فقال البائع للمشتري: أنت عندي ثقة وقد رضيت بثمانية آلاف، فإذا رضي أحد الطرفين بقول الآخر، نقول: يحكم بالبيع بما تراضيا عليه؛ لأن حقيقة البيع قائمة على الرضا، فإذا تراضيا واصطلحا بعد الخلاف فلا إشكال؛ لكن الإشكال إذا وقع الخلاف بينهما ولم توجد بينة، ولم يوجد الصلح والتراضي بينهما. وفي بعض الأحيان قد توجد البينة من الطرفين، هذا عنده بينة، وهذا عنده بينة وإذا تعارضت البينتان سقطتا على تفصيل سيأتي إن شاء الله في باب القضاء والبينات، لكن الذي يهم هنا أنه يقع الخلاف بينهما على وجه لا يمكن الترجيح، أي: أن نرجح أحد القولين على الآخر. فقال رحمه الله: [خيار لاختلاف المتبايعين] أي: النوع السابع من أنواع الخيار أن يقع الخلاف بين البائع والمشتري، في قدر الثمن أو جنس أو نوع الثمن، أو صفة البيع أو صفقة المبيع، هل هو عاجل أو آجل، بالتقسيط أو بالنقد إلخ. فيقع الخيار على تفصيل سيذكره المصنف رحمه الله.

اختلاف المتبايعين في قدر الثمن

اختلاف المتبايعين في قدر الثمن قال رحمه الله: [فإذا اختلفا في قدر الثمن تحالفا، فيحلف البائع أولاً: ما بعته بكذا، وإنما بعته بكذا، ثم يحلف المشتري: ما اشتريته بكذا، وإنما اشتريته بكذا، ولكلٍ الفسخ إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر]: قوله رحمه الله: [فإذا اختلفا في قدر الثمن تحالفا]: هذا النوع الأول من الخلاف، وهو أن يقع الخلاف في قدر الثمن، فأنت تقول: اشتريت هذه العمارة بعشرة آلاف ريال، والبائع يقول: بعتها لك باثني عشر ألفاً، أو بعتها لك بعشرين ألفاً، والغالب إذا وقع الخلاف بين البائع والمشتري بقدر الثمن أن يدعي البائع الأكثر، والمشتري الأقل؛ لأن الأحظ للبائع الأكثر، والأحظ للمشتري الأقل، وتقع الكثرة والقلة إما من جهة القدر، وإما من جهة النوع، فمن جهة القدر أن يقول البائع: بعتها بعشرين، يقول المشتري: اشتريت بعشرة. ومن جهة نوع الثمن، مثلاً: لو كان هناك عملتان: الريالات، والدولارات، فلو قال له: بعتك بعشرة آلاف فيتفقان على القدر، ويختلفان في النوع، يقول: بعتنيها بعشرة آلاف، قال: نعم بعتك بعشرة آلاف، لكن دولارات، قال الآخر: بل ريالات، فالذي يدعي الأكثر: وهي الدولارات هو البائع، والذي يدعي الأقل هو المشتري. ففي هذا النوع وهو خلاف الثمن، يتحالفان، والأصل في ذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اختلف المتبايعان تحالفا) وهذا الحديث اختلف العلماء في سنده، ورجح غير واحد من مجموع الطرق أنه حسن قابل للاحتجاج والعمل به عند أهل العلم رحمهم الله، وقد فعل ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، كما روى سعيد بن منصور: أن عبد الله بن مسعود باع إلى الأشعث بن قيس رضي الله عنهما رقيقاً، فقال الأشعث: بعتني بعشرة، قال عبد الله بن مسعود: بل بعتك بعشرين، فلما اختصما ولم يفصلا رده عبد الله رضي الله عنه إلى هذه السنة، فالسنة إذا اختلفا في قدر الثمن أن يرجعا إلى التحالف، وإن أمكن الفصل عن طريق البينة فذاك، لكن الإشكال ألا توجد بينة لأحدهما، أو توجد بينتان متعارضتان، ولا يمكن ترجيح إحداهما على الأخرى، فحينئذٍ يتحالفان، يحلف البائع ويحلف المشتري، ثم بعد ذلك يفسخ البيع بينهما، وإذا أحبا أن يعقدا عقداً جديداً، أو صفقة جديدة فذلك لهما. قوله: [فيحلف البائع أولاً: ما بعته بكذا، وإنما بعته بكذا] الحلف واليمين حجة في القضاء، وهذه الحجة تستعمل في مواضع، ولذلك جعلت أولاً لجانب المنكر، وفي الحديث: (فإن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر)، فلو ادعى رجل على رجل مالاً، ولم يكن للمدعي بينة، فإنه يطالب المدعى عليه بالحلف. والمدعي مطالب بالبينه وحالة العموم فيه بينه والمدعى عليه باليمين في عجز مدعٍ عن التبيين فالمدعى عليه مطالب باليمين إذا عجز المدعي عن البينة، فاليمين حجة في حال الإنكار. وكذلك أيضاً حجة في بعض المواضع التي خصها الشرع، مثل تقوية الشاهد، كقضائه صلى الله عليه وسلم بالشاهد مع اليمين، وهي حجة في دفع الحد عن الزوج والزوجة كما في اللعان فشهادة الرجل تكون أربعة أيمان بالله إنه لمن الصادقين، {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7 - 8] ثم تشهد الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، هذا كله رجوع إلى اليمين، كذلك القسامة حينما يوجد اللوث والعداوة بين المقتول وبين جماعة، ثم يدعي أولياء المقتول أنه قتله فلان من أعدائه فيحددون الشخص الذي يتهمونه بالقتل، ثم يحلفون خمسين يميناً، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية خيبر، حينما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحلف خمسين يميناً لإثبات دعوى قتل يهود للصحابي رضي الله عنه وأرضاه، فقال صلى الله عليه وسلم: (تحلفون خمسين يميناً، فتستحقون دم صاحبكم) فإذا كانت حجة في الدماء وحجة في الإنكارات وحجة في الحقوق المالية فإنها كذلك حجة هنا، فيحلف البائع أولاً أنه ما باع بكذا، أي: الذي ادعاه المشتري، وإنما باع بكذا، وهو الذي يدعي أنه أمضى البيع أو أوجب البيع عليه. فمثلاً: إذا اختلفا في عمارة قال البائع: بعتها بعشرين، وقال المشتري: بل اشتريتها بعشرة، فيحلف البائع أنه والله ما باعها بعشرة -إذا قال المشتري: إنها عشرة- وإنما باعها بعشرين، هذا بالنسبة ليمين البائع. قوله رحمه الله: [ثم يحلف المشتري: ما اشتريته بكذا، وإنما اشتريته بكذا]: أي: فإذا انتهى البائع من الحلف، طولب المشتري بالحلف، فلا يخلو المشتري من حالتين: إما أن يتورع فيقول: ما دام أنه حلف اليمين فأنا أقبل اليمين، فحينئذٍ يلزمه ما حلف عليه البائع. ويسمى هذا (نكولاً)، أي: إذا نكل وامتنع من الحلف، أو رضي اليمين من البائع، ثم أمضى البيع وحينئذٍ يلزمه الثمن الذي حدده البائع. مثال ذلك: قال البائع: والله ما بعتها بعشرة، وإنما بعتها بعشرين، قيل للمشتري: احلف أنك اشتريت بعشرة، ولم تشتر بعشرين، فقال: لا أحلف. فهذا نكول، فيقضي عليه القاضي بالنكول. أو يقول: ما دام أن فلاناً قد حلف فقد رضيت يمينه، وهذه اليمين أنا أقبلها وأصدق بها، فحينئذ تلزمه العشرون. وجملة: [ثم يحلف المشتري] دلت على أن حلف البائع يسبق حلف المشتري، فيبدأ أولاً البائع ثم يتبعه المشتري. واليمين في البائع والمشتري تتضمن جملتين، جملة للنفي، وجملة للإثبات، فالبائع يثبت ما يدعي وينفي ما يدعيه المشتري، والمشتري بعكسه، فإذا كان الخلاف بين العشرة والعشرين، فالبائع يحلف أنه ما باع بعشرة أولاً، وإنما باع بعشرين، والمشتري يحلف أنه ما اشترى بعشرين، وإنما اشترى بعشرة، فإذاً: كلا اليمينين قائمة على نفي وإثبات، وإنما يجعل الإثبات بعد النفي؛ لأنه ينفي أولاً، حتى يثبت بعد ذلك ما يدعي، فيكون نفيه لما يدعيه خصمه موجباً لإثباته لما يدعيه بعد ذلك. قال رحمه الله: [ولكلٍ الفسخ إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر]: أي: لكل من البائع والمشتري حق فسخ البيع، إذا لم يرض بقول الآخر، فإذا حلف الاثنان ثم لما تحالفا لم يرض البائع بقول المشتري ولا المشتري بقول البائع، حينئذ يفسخان البيع.

اختلاف المتبايعين بعد تلف السلعة

اختلاف المتبايعين بعد تلف السلعة قال رحمه الله: [فإن كانت السلعة تالفة رجعا إلى قيمة مثلها]: قوله: [فإن كانت السلعة تالفة] الفاء هنا للتفريع، إذا قلنا: إنهما يتحالفان فلا يخلو الحال أيضاً من صورتين: إما أن تكون السلعة موجودة. مثال ذلك: لو أن رجلاً باع عمارة ثم اختلف مع المشتري في القيمة، والعمارة موجودة، فيحلف البائع ويحلف المشتري ونرد العمارة للبائع، والثمن المدفوع للمشتري. لكن لو أن الخلاف وقع بعد التلف، وهذا كثيراً ما يقع في بيع الأطعمة، كأن يبيعه طعاماً ويكون الثمن إلى أجل، كأن يقول مثلاً: تدفع في نهاية الشهر أو بعد أسبوع أو أسبوعين، قال: رضيت، فذهب المشتري فأكل الطعام، أو تصرف فيه فتلف أو نفذ، ثم جاء يدفع العشرة التي في ظنه أن الاتفاق كان قائماً عليها، فلما أراد أن يدفع العشرة قال: ما بعتك بعشرة، وإنما بعتك بعشرين، فيختلفان، والسلعة مفقودة، وهو الذي عبر عنها المصنف بقوله: (تالفة) أي: إما استهلكت بالأكل، وإما تلفت حقيقة، وإما أنها لم تعد موجودة بأي وسيلة كانت. فحينئذٍ يرد الإشكال: إذا حصل التحالف بين البائع والمشتري، والطعام قد أكل، كأن يكون علفاً للدواب أو طعاماً للناس، فهو لا يستطيع أن يرد الطعام ولا يستطيع أن يعيد العلف إلى حالته فيرده؛ والبيع قد فسخ، وإذا فسخ البيع وجب رد المبيع، والطعام لا يمكن رده في هذه الحالة، فحينئذٍ إن كانت السلعة تالفة، وجب ضمان قيمة السلعة، كما قال: [رجعا إلى قيمة مثلها] أي: لأن الضمان في المتلفات إما أن يكون بالعين إذا كانت موجودة، أو يكون بالمثل إذا كانت العين مفقودة، ثم بعد ذلك النظر إلى قيمة مثلها، فالطعام الذي استنفذ وأكلته البهائم أو أكله المشتري، ننظر إلى أوصافه، ثم نسأل في السوق عن قيمة المثل؛ لأن قيمة المثل يرجع فيها إلى السوق وأهل الخبرة، فيسأل أهل الخبرة هذا الطعام الذي صفته كذا وكذا، كم قيمته؟ فحينئذٍ يلزم بدفع قيمة المثل. وعلى هذا: يكون المشتري مطالباً بدفع القيمة التي هي مثل الشيء المستهلك، سواء كان من الطعام أو من العلف أو غيره؛ لأنه إذا تلفت العين وجب ضمان قيمتها على الأصل الذي سبقت الإشارة إليه.

حكم الاختلاف في صفة السلعة

حكم الاختلاف في صفة السلعة قال رحمه الله: [فإن اختلفا في صفتها فقول مشترٍ]: انظر كيف يرتب المصنف الأفكار: فعندما تكون السلعة قائمة يجب الرد، وإذا تلفت السلعة وجبت القيمة، لكن إذا اتفقا على صفات الطعام، ثم من عادة الفقهاء رحمهم الله أنهم إذا أعطوا حكماً ذكروا ما يترتب عليه، وهذا من فضل الله عز وجل عليهم، وهذه الكتب ألفها علماء، وهؤلاء العلماء منهم من يؤلف بعد أن يتعلم ويعلم ويقضي ويفتي ويدرس، فهي حصيلة خبرة ومعرفة طويلة، وفي الأزمنة القديمة كان التأليف حجراً على العلماء الذين هم أهل التأليف؛ لأنه لو ألف من ليس بأهل كشف عواره، فكان لا يستطيع أحد أن يكتب متناً، أو يؤلف إلا بعد أن يكون أهلاً لذلك، فهو يذكر لك الأمور مرتبة؛ لأن خبرة القضاء والفتوى تكسب المرء مهارة في الترتيب. والقسمة العقلية للترتيب هنا: إما أن يكون المبيع موجوداً، أو غير موجود. فإن كان موجوداً ترادا. وإن كان غير موجود ينظر إلى القيمة، لكن لو نظرنا إلى القيمة فقال البائع: الطعام من النوع الجيد، وقال المشتري: هو من النوع الرديء، فما الحكم؟ لأنهما إذا اتفقا على صفة فلا إشكال فلو قال: اشتريت منه حليباً من نوع كذا، وهذا الحليب الذي اشتراه منه قيمته في السوق عشرون ريالاً، فيلزمه أن يدفع العشرين، لكن لو ادعى البائع حليباً جيداً والمشتري حليباً أردأ منه أو أقل جودة، فما الحكم؟ فقال رحمه الله: [فإن اختلفا في صفتها فقول مشترٍ]. أي: إذا اختلفا في صفة السلعة، فقول مشترٍ، فالخلاف بين البائع والمشتري، فإن كان المشتري هو المدعي طولب بالبينة، ويكون القول قول البائع، وإن كان البائع هو المدعي فالقول قول المشتري، ويطالب البائع بالبينة. فالآن مثلاً: إذا جاء اثنان واختلفا في صفة السلعة، فقال البائع: بعتك سيارة جيدة من نوع كذا وكذا، وقال المشتري: بل رديئة من نوع كذا وكذا، فالقول قول المشتري؛ لأنهم متفقون على أن ذمة المشتري ملزمة بقيمة الرديئة. فمثلاً: السيارة الرديئة قيمتها عشرة آلاف، والسيارة الجيدة قيمتها خمسة عشر آلفاً، فإذا قال له: بعتك سيارةً بقيمة خمسة عشر ألفاً، وقال المشتري: اشتريت سيارة بقيمة عشرة آلاف، فعندنا يقين أن المشتري في ذمته عشرة آلاف؛ لأن الخمسة عشر ألفاً تتضمن العشرة آلاف، فنحن على يقين من العشرة آلاف، لكننا نشك في الزائد على العشرة آلاف وهي الخمسة الزائدة المختلف عليها. فالقول قول المشتري؛ لأن البائع يدعي عليه أمراً زائداً، فنحن على يقين بالعشرة آلاف، وهو القدر الأقل، فيطالب البائع بالبينة على الزائد، وإلا فالقول قول المشتري؛ لأن اليقين في الأقل، والشك في الزائد، فيكون القول قول من يدعي الأقل، ومن يدعي الأكثر والزائد يطالب بالبينة والدليل على أن الأمر زائد على ما اتفقا عليه. وهذا ما اختاره المصنف رحمه الله؛ وهناك من يقول: القول قول البائع، وهناك من يسقط القولين، ويرجع إلى قيمة المثل. وبعض العلماء يختار الرجوع إلى السوق، فيقول: إذا قال المشتري: بعشرة آلاف، وقال البائع: بخمسة عشر، وجئنا نبحث في السوق ووجدنا أن السلعة تباع بعشرة آلاف، يقول: فإننا نجد السوق يشهد بصدق قول المشتري، وهذه يسمى (شهادة العرف)، فإذا كان السوق يشهد بقول المشتري، فحينئذٍ يصبح البائع مدعياً. وإن كان العرف يشهد بقول البائع يكون المشتري مدعياً، ولذلك يقولون: شهادة العرف تجعل من شهدت له مدعىً عليه، ولذلك قال: فالمدعي من قوله مجرد من أصل او عرف بصدق يشهد فقوله: (من أصل او عرف بصدق يشهد) أي: أنه إذا جرى العرف ببيع مثل هذه السلعة بعشرة آلاف والبائع قال: بعتك بعشرة، فإنه حينئذٍ يكون العرف شاهداً لقول البائع، لكن هذا الضابط الذي ذكروه قد يقوى في مسائل القضاء، وقد يضعف هنا؛ لأنه غالباً ما يكون التبايع بين الطرفين فيه شيء من الرضا، فمع المكاسرة يخرجان عن العرف، وكثيراً ما يخرج البائع والمشتري عن العرف بسبب المزايدة والمكاسرة، فقد يشهد العرف بخمسة عشر، لكن المشتري كاسر إلى عشرة، فحينئذٍ لو اعتبرنا العرف شاهداً على هذا الوجه لكان مشكلاً. وإنما قالوا: القول قول المشتري؛ لأن البائع يدعي عليه غرماً، والغارم دائماً يكون مدعىً عليه؛ لأنه متهم، فإن شئت أن تخرجها على أن اليقين عشرة آلاف والزائد محل شك، فهذا وجه لكي تجعل المشتري مدعى عليه. وإن شئت فخرجها على أن المشتري غارم؛ لأنه مطالب بالزيادة، والقول قول الغارم؛ لأن الأصل براءته من المطالبة. وإن شئت أن تجعلها من جهة كون الأصل واليقين بالعشرة والزائد فيه شك فيلغى الشك ويبقى على اليقين، فإنه وجه صحيح.

معنى انفساخ العقد ظاهرا وباطنا

معنى انفساخ العقد ظاهراً وباطناً قال رحمه الله: [وإذا فسخ العقد انفسخ ظاهراً وباطناً]: أي: لو تحالفا وانفسخ العقد، هل ينفسخ ظاهراً وباطناً، أو ينفسخ ظاهراً لا باطناً؟ نحتاج إلى مقدمة لكي نفهم به قول العلماء رحمهم الله (الظاهر والباطن). الخلاف الذي وقع بين البائع والمشتري يقع أمام القضاء، أو يقع في الفصل في الخصومة، وإذا وقعت الخصومة بين البائع والمشتري، فإنه إذا قضي بينهما فإنه يقضى على حسب الظاهر، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع، فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقطع له قطعةً من النار) أي: أن حكمي على الظاهر لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً. وبناءً على ذلك: فإن الشهود إذا شهدوا عند القاضي أن هذه الأرض لفلان، وكانت شهادتهم شهادة زور، وقضى القاضي أن الأرض لفلان بهذه الشهادة المزورة التي لم يعلم القاضي بتزويرها، فإنه يحكم في الظاهر أنها لفلان، ولكن في الباطن ليست له. وهكذا لو أن رجلاً قال لامرأته: أنتِ طالق، كان جالساً معها وكانت مقيدة، ثم قال لها: أنت طالق، يقصد أنها طالق من الحبل، هذا الذي في قرارة قلبه ونيته، فقالت له: أنت قلت: أنا طالق، فإذاً أطلق عليك، فرفعته إلى القضاء، فقال القاضي: هل قلت: أنت طالق؟ قال: نعم أنا قلت: أنت طالق وقصدت من حبل، فإن القاضي يقضي عليه بأنها طالق؛ لأنه لو فتح الباب لكل شخص يطلق امرأته يقول: أنا أقصد أنها طالق من حبل لوقع الفساد، فعلينا الظاهر والله يتولى السرائر، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس). لكن لو أن المرأة صدقته فيما بينهما وهما جالسان أنه قال: أنت طالق أي: من حبل، فلها أن تصدق على أنها طالق من حبل، لكن لو رفع إلى القضاء فالقاضي لا يحكم إلا على الظاهر: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس، وأن أكِلَ سرائرهم إلى الله). وهكذا المدهوش، لو أن رجلاً من شدة الفرح جاءته امرأته بخبر فقال لها: أنت طالق، ثم قال: والله ما قصدت ولم أكن أعلم من شدة الفرح؛ لأنه في بعض الأحيان قد يسبق لسانه بشيء من قوة الصدمة فأراد أن يقول لها: أنت مباركة، أنت فيك خير، فقال لها: أنت طالق، فقال بعض العلماء: إن المدهوش لا ينفذ طلاقه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي هريرة: (لله أشد فرحاً بتوبة أحدكم من رجل ضلت ناقته وعليها طعامه وشرابه، فلما يئس منها استظل بشجرة فنام تحتها، ثم استيقظ فإذا هي قائمة على رأسه، فأخذ بخطامها وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) فقوله: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك) هذه كلمة كفر لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخطأ من شدة الفرح) أي: بسببه فلو أن المدهوش أراد -مثلاً- أن يقول لامرأته: أنت طالعة، فقال: أنت طالقة، سبق لسانه، فكل هذه أمور ترجع إلى الظواهر، وهناك تفصيل: فالمرأة لو صدقت الرجل ووثقت به، فحينئذٍ لا إشكال، لكن لو رفعته إلى القضاء وسأله القاضي: هل قلت: أنت طالق؟ قال: نعم قلت: أنت طالق، لكني لم أقصد الطلاق، فالقاضي يمضي عليه الطلاق على الظاهر، ثم تبقى في حقيقة الأمر زوجته فيما بينه وبين الله، ولذلك يقولون: ينفذ الطلاق قضاءً ولا ينفذ ديانةً، أي: هي زوجته فيما بينه وبين الله، ولكنها في الظاهر مطلقة عليه، وسيأتينا إن شاء الله مزيد بيان في هذا في كتاب الطلاق، ونفصل في بعض هذه المسائل. الشاهد: قضية الظاهر والباطن، فإذا حكم القاضي بحكم بناء على أدلة صحيحة، لا خطأ فيها ولا تزوير، فحينئذٍ ينفذ القضاء ظاهراً وباطناً، كرجل ملك داراً عن أبيه، ثم جاء رجل يخاصمه، فشهدت الشهود وهم عدول ثقات بأن الدار داره، وأثبت القاضي ذلك وحكم به، فإننا نقول: ينفذ قضاؤه ظاهراً وباطناً؛ لأن هذا الحكم موافق للحقيقة، وإذا كان الحكم موافقاً للحقيقة فإنه ينفذ ظاهراً وباطناً. لكن المسألة التي معنا هنا: البائع والمشتري اختلفا، فإذا وقع الخلاف بين البائع والمشتري، فتارة يكونان بريئين من التهمة، فالبائع نسي بكم باع، لكن في غالب ظنه أنها عشرون، والمشتري في غالب ظنه أنها عشرة، فكل منهما لم يزور ولم يكذب، وهو في حقيقة نفسه مطمئن إلى أنه قال الحقيقة، ويجوز للمسلم أن يحلف على غالب ظنه، ولا يقال: كيف يحلف وهو لم يتحقق أنه باع بعشرين؟ نقول: يجوز إذا غلب على ظنك الشيء أن تحلف على غالب الظن، وهذا أصح أقوال العلماء. واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز للأنصار أن يحلفوا أيمان القسامة بناء على غلبة الظن فقال: (أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟) وهذا لا يكون إلا بغلبة الظن أن فلاناً هو الذي فعل، فالحلف على غالب الظن مشروع، فإذا حلف البائع على غالب ظنه أنها بعشرين وحلف المشتري على غالب ظنه أنها بعشرة فلا إشكال. لكن لو أن البائع علم أنه قد باع بعشرة، وكذب وفجر فحلف اليمين، وإذا كانت في القضاء فهي يمين غموس، وسميت بذلك لأنها تغمس صاحبها في النار، ولو كان الشيء الذي يحلف عليه شيئاً يسيراً، -كما في الحديث- قال: (يا رسول الله! الرجل فاجر يحلف ولا يبالي، قال صلى الله عليه وسلم: ليس لك إلا يمينه، من حلف على يمين هو فيها كاذب ليقتطع مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان، قالوا: يا رسول الله! وإن كان شيئاً يسيراً، قال: وإن كان قضيباً من أراك) أي: ولو كان مسواكاً، نسأل الله السلامة والعافية! فهذه اليمين التي تسمى يمين الصبر، ويمين عند مقطع الخصوم فإذا حلف وهو يعلم أنه كاذب فيرد الإشكال: لو حلف أنه باع بعشرين ثم حلف خصمه بأنه سيفسخ البيع، فسيأخذ السلعة ويبيعها مرة ثانية، فهل ينفسخ البيع في حقه ظاهراً وباطناً، أو ينفسخ ظاهراً لا باطناً؟ بالنسبة للمظلوم ينفسخ ظاهراً وباطناً، وبالنسبة للظالم ينفسخ له ظاهراً ولا ينفسخ له باطناً وهو آثم، هذا وجه إدخال قوله: (انفسخ ظاهراً وباطناً). فمثلاً إذا باعه عمارة بعشرين ألفاً، فتم البيع وانتقلت العمارة إلى ملك المشتري، فحكم الشرع حينئذٍ أن العمارة لزيد الذي اشترى، فلو جاء بعد مدة البائع وادعى أنه باع بثلاثين، وحلف عند القاضي أنه باع بثلاثين وحلف المشتري أنه اشترى بعشرين، فالحلف والأيمان من البائع وقعت على ملك الغير، وحينئذٍ إذا فسخ البيع فكأنه يسترد مالاً ليس من حقه، فحينئذٍ بالنسبة للظالم ينفسخ له ظاهراً ولا ينفسخ باطناً، ويبقى في ذمته، ويبقى آثماً غاصباً لا تبرأ ذمته إلا بتحلله من صاحب الحق. فإذاً بالنسبة للمظلوم ينفسخ له ظاهراً وباطناً، وإذا طلب المشتري وقال: لا أريد وفسخ، فهذا لا إشكال، وحينئذٍ ينفسخ ظاهراً وباطناً، لكن إذا وقع بينهما التحالف ووقع الاحتيال فالذي اختاره جمع من العلماء، كما في "الشرح الكبير" أنه ينفسخ للظالم ظاهراً ولا ينفسخ له باطناً، وهو الصحيح.

حكم الاختلاف في الأجل والشرط

حكم الاختلاف في الأجل والشرط قال رحمه الله: [وإن اختلفا في أجل أو شرط فقول من ينفيه]: هذه الحالة الثانية من الخلاف: وهي أن يقع الخلاف في صفة العقد، يقول البائع: بعتك بعشرين ألفاً نقداً، ويقول المشتري: اشتريت منك بعشرين ألفاً ولكن إلى نهاية السنة، فيدعي المشتري أنها مؤجلة، والبائع يقول: نقداً، فاختلفا في تعجيل الثمن وتأجيله. فهذا اختلاف في إثبات الأجل ونفيه. وتارة يكون الاختلاف بطول الأجل وقصره، فيقول البائع: بعتك بعشرين ألفاً إلى نهاية هذه السنة، فيقول المشتري: بل اشتريت بعشرين ألفاً إلى نهاية السنة القادمة أو السنة التي بعدها، فحينئذ إما أن يقع الخلاف في التعجيل والتأجيل من حيث الأصل إثباتاً ونفياً، أو يتفقا على التأجيل ولكن يختلفان في أمد التأجيل، فحينئذٍ كيف يفصل بينهما؟ هل نقول: القول قول البائع؛ لأنه هو الذي باع السلعة وبذلها وهو أدرى بما بذل، ولا بد أن نجد الرضا منه حتى يصح البيع؟ أم نقول: القول قول المشتري؟ أم نفصل؟ و A التفصيل: فإذا اختلفا في التعجيل والتأجيل فالقول قول من ينفي التأجيل؛ لأن الأصل في البيع التعجيل، والتأجيل خلاف الأصل فالقول قول من ينفيه. ومعنى قول العلماء: القول قول فلان بمعنى أنه مدعىً عليه، فإذا عرفت أن هناك مدعياً ومدعى عليه، فالقول قول المدعى عليه، ويُطالب المدعي بالبينة. فالعلماء حينما يذكرون الخلاف بين البائع والمشتري لا بد أن يقرروا أولاً من المظلوم فهو المدعى عليه، فيقولون: القول قول المشتري، أو قول البائع، أو قول من ينفيه، فإذا قال له: بعتك معجلاً، فقال: بل مؤجلاً، فالبائع ينفي الأجل، والمشتري يثبته، فنقول: القول قول البائع أنها معجلة، حتى يثبت المشتري أنها مؤجلة، وهذا بالنسبة للتأجيل والتعجيل. كذلك أيضاً حينما يختلفان في شرط، فقال له: بعتك هذه العمارة بعشرين ألفاً، فقال: اشتريتها منك بعشرين ألفاً بشرط أن يكون فيها -مثلاً- الماء، أو بشرط أن يكون فيها الكهرباء، أو أن يكون فيها منافع معينة اشترطها، فقال البائع: لم تشترط عليّ هذا الشيء. فالشرط يدعيه المشتري وينفيه البائع، فالقول قول البائع حتى يثبت المشتري بالبينة أنه قد اشترى على وجه متضمناً الشرط، هذا معنى قوله: (فالقول قول من ينفيه). والقاعدة عندنا: وقيل من يقول قد كان ادعى ومن يكن لمن عليه يدعى فالذي يقول: حدث كذا، فإنه المعني بقول الناظم: (قد كان ادعى) فهو (مدعٍ)، والذي يقول: لم يكن (مدعى عليه) هذا الأصل. لكن في هذه الحالة اختلفت صورة الأصل، فإنه في مسألتنا حينما يقول: بعتك مؤجلاً، فالأصل المعجل، وقبلنا قول من يقول بالتعجيل؛ لأن الأصل يشهد به، والأصل أن يبيع البائع نقداً، ودعوى الأجل خلاف الأصل، فحينئذٍ نطالب من يدعي الأجل بالدليل والبينة. فمن يقول -مثلاً-: هذا العبد اشترطت أن يكون كاتباً، نقول: هذه صفة زائدة فائت بالبينة؛ لأن الأصل أن البيع وقع على هذه الحالة الموجودة عليها الصفقة، فإذا ادعيت أمراً زائداً فعليك البينة وعليك الدليل

الأسئلة

الأسئلة

الكفارة في الحلف على غالب الظن

الكفارة في الحلف على غالب الظن Q من حلف على غالب ظنه ثم تبين له خطؤه، فهل عليه كفارة، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: من حلف على غالب ظنه ثم تبين له خلاف ما حلف عليه، فإنه ينبغي عليه أن يرد الحق إلى صاحبه. وأما لتكفير هذه اليمين فمذهب طائفة من العلماء أن الحلف على غالب الظن لا يوجب الكفارة وأنه يكون في حكم لغو اليمين، ومن أمثلة ذلك قالوا: أن يرى رجلاً من بعيد، يظنه فلاناً من الناس، فيقول: والله إنه لفلان، ثم يتبين أنه ليس بفلان قالوا: لا كفارة عليه، ويعتبر هذا من لغو اليمين، والله تعالى أعلم.

حكم رد السلعة بعد بيعها إذا انتهت صلاحيتها

حكم رد السلعة بعد بيعها إذا انتهت صلاحيتها Q أنا صاحب متجر ويأتيني تجار بعض السلع، فإذا انتهت صلاحيتها استبدلوها بغيرها، فهل هذا من بيع التصريف، أثابكم الله؟ A إذا اشترى أحد منك سلعة، وتم البيع وانقطع خيار المجلس، فإن البيع يلزمه ويلزمك، بعد هذا لو رد إليك السلعة بعد انتهاء الصلاحية ولم يكن هذا بشرط بينكما، فجاء وقال: انتهت صلاحية السلعة، فأرجوك أن تردها لي، والتمس منك أن تردها له، فإن رضيت وكان بطيب نفس منك أن توسع عليه، وأن تقيله من البيع، فإنك تؤجر، وهذا جائز ويعتبر في حكم الإقالة، وهي مستحبة عند العلماء رحمهم الله، ويثاب البائع إذا أقال المشتري لما فيه من تنفيس كربة المسلم. وأما لو رفضت وقلت له: لا أردها فإنه من حقك. والسبب في هذا: أن الله عز وجل عدل بين البائع والمشتري، فإذا اشترى منك السلعة فإنه يتحمل المسئولية، فلو أن هذه السلعة بعد أن اشتراها منك أصبحت قيمتها ثلاثة أضعاف لم يأتِ إليك ولم يردها، ومن حقه أن يتمتع بهذه المنفعة وبهذا الربح والزيادة، فكما أنه يغنم فإنه يغرم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان) فكما أنه يأخذ الربح ولا تستطيع أن تنتزع منه الربح بعد مضي العقد، كذلك ليس من حقه أن يسقط عليك الكسر، إلا إذا رضيت؛ لأنه لا يعقل أن يأخذ الربح ويجعل الخسارة على البائع فهذا ظلم، لكن لو طابت نفس البائع بذلك فإنه لا بأس به، وهو من إقالة النادم. لكن لو وقع ذلك بالشرط فإنه من بيع التصريف المحرم، والله تعالى أعلم.

النكول في اليمين وما يترتب عليه

النكول في اليمين وما يترتب عليه Q ما هو النكول؟ وماذا يترتب عليه، أثابكم الله؟ A النكول: الرجوع، نكل عن اليمين إذا رجع عنها أو امتنع منها، فمثلاً: لو جاء رجل وقال: فلان استدان مني ألف ريال، فقال القاضي للخصم: هل استدنت منه ألف ريال؟ أو ماذا تقول فيما يدعيه عليك؟ قال: لم أستدن منه ألف ريال، فحينئذٍ يقول القاضي للمدعي: هل لك بينة؟ هل لك دليل على أنك أعطيته الألف؟ عندك شهود قال: ليس عندي شهود، وليس عندي بينة، يقول القاضي: ليس لك إلا يمينه، فإذا قال: ليس لك إلا يمينه، يحلف الخصم، أنه والله ما أخذ ألفاً، فإذا قيل له: احلف أنك ما أخذت ألفاً، فإما أن يحلف فيبرأ ولا إشكال، وإما أن يمتنع، ويقول: لا، لا أحلف. فإذا قال: لا أحلف فحينئذٍ يكون قد نكل، ويقع النكول في الأيمان المخصوصة كأيمان اللعان، فلو أن رجلاً أدعى أنه رأى امرأته تزني وليس عنده شهود فإنه يرفعها إلى القاضي، بناءً على مسألة اللعان، كما حدث لـ عويمر رضي الله عنه وأرضاه، قال: (يا رسول الله! إني أتيت أهلي عشاء فوجدت رجلاً) وفي حديث أيضاً هلال بن أمية حينما قذف امرأته بـ شريك بن سحماء، قال: (يا رسول الله! إني أتيت أهلي عشاء فوجدت عندهم رجلاً والله لقد سمعت بأذني ورأيت بعيني، فقال صلى الله عليه وسلم: إنه قد أنزل فيك وفي صاحبتك القرآن فاذهب فأتِ بها، فجاء بها، فأمر بالحلف، فحلف الأيمان، ثم حلفت هي أيضاً الأيمان)، والسنة في اللعان أن يبدأ الرجل، فيحلف أربع شهادات بالله، فإما أن يحلف أنها زانية -والعياذ بالله- أو يحلف على أن هذا الولد ليس بولده، يقولون: نفي الحمل، ويشير إليه أن هذا الولد الذي في بطنها ليس بولده، أو ليس مني، أو يحلف على مجموع الأمرين: أنها زانية، وأن هذا الولد ليس مني، فإذا حلف وبلغ عند الخامسة يوقفه القاضي. إذاً يحلف أربع أيمان، يقول: والله أنها زنت، فإذا حلف أربع أيمان وجاء عند الخامسة، يوقفه القاضي، ويقول له: اتق الله، إنها الموجبة، ومعنى الموجبة أي: أنها توجب لعنة الله عليه؛ لأن الله يقول: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7] فإذا وصل إلى الخامسة هدده القاضي وذكره بالله، وخوفه فإذا نكل حينئذٍ يجلد حد القذف. فالنكول -أي: أثره- ينبني عليه جلد حد القذف في اللعان، ولو أن الرجل حلف الأيمان وأتمها ثم ثني بالمرأة قيل لها: احلفي، قالت: ما أحلف، فحينئذٍ ترجم؛ لأنها نكلت عن اليمين وكأن كل يمين من الرجل مقام شاهد،: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:8] حتى تدفع الأربع التي شهد، فإذا نكلت عن اليمين وامتنعت فحينئذٍ يقضى برجمها، فإذا جاءت عند الخامسة التي هي -نسأل الله العافية- الموجبة، يوقفها القاضي ويقول لها: اتقي الله إنها الموجبة، أي: أنها توجب غضب الله عليكِ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة) أي: أن تنال الحد في الدنيا أهون من عذاب الآخرة -نسأل الله السلامة والعافية- وأن تفضحي في الدنيا أهون من فضيحة الآخرة، (فكادت تعترف المرأة -كما في حديث هلال بن أمية - ثم قالت -نسأل الله السلامة والعافية-: لا أفضح قومي سائر اليوم، فحلفت)، الذي هي الخامسة والأخيرة). فالنكول عن اليمين يوجب الحكم، والقضاء على ذلك، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالنكول، وسيأتي إن شاء الله مزيد بيان في هذه المسألة، وذكر خلاف العلماء فيها في كتاب القضاء، والله تعالى أعلم.

قبول أيمان الكفار وكيفيتها

قبول أيمان الكفار وكيفيتها Q عند التبايع مع الكفار، هل يطلب منهم الحلف وذلك عند الخلاف، أثابكم الله؟ A اليمين من الكافر تقبل؛ لكن الكفار يكون لهم ضوابط في يمينهم، لذلك تعتبر اليمين من حيث الأصل مقبولة من المسلم والكافر، والكفار يعظمون الله عز وجل بالنسبة لمن لهم دين سماوي، فيحلفون كما في قضية شهادة الوصية على السفر، فإنها تقبل شهادتهم فيها، والشهادة أعظم من اليمين، ولذلك يُحَلّف إذا كان ممن له دين سماوي يعظم الله عز وجل، ولا يحلف بغير الله عز وجل، فلا يجوز تحليف النصراني بعيسى، ولا يجوز تحليف اليهودي بموسى، إنما يحلَّف بالله، وقد قضى بذلك أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، في القصة المشهورة حينما كان بالشام، والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

باب الخيار [8]

شرح زاد المستقنع - باب الخيار [8] شرع الله عز وجل الخيار لما فيه من دفع الضرر عن المسلمين، ومن ذلك أنه إذا اختلف العاقدان في عين المبيع، فإنهما يتحالفان ويترادان، ولكن قد يأبى كل من الخصمين أن يرد ما بيده، أو يكون الثمن غير حاضر في المجلس، أو يكون غائماً عن البلد، وغير ذلك. والفقهاء رحمهم الله قد فصلوا أحكام ذلك، وافترضوا خصومات وخلافات بين المتعاقدين، فاستخرجوا لها أحكاماً شرعية تحفظ الحقوق، وتنصف المظلوم. وهذه الأحكام ينبغي على المسلم أن يتعلمها حتى يعرف ما له من حقوق وما عليه من واجبات، وكيف يتعامل المعاملة الصحيحة المطابقة للشرع.

الاختلاف في المبيع وصوره

الاختلاف في المبيع وصوره بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

الاختلاف في عين المبيع

الاختلاف في عين المبيع فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإن اختلفا في عين المبيع تحالفا وبطل البيع]: كان حديثنا في المجالس الماضية عن الأحكام المتعلقة بالخيار، وهذه الجملة التي بين فيها المصنف رحمه الله اختلافَ كل من البائع والمشتري، في عين المبيع، تعتبر من مسائل الخيار. ووجه دخولها في الخيار: أنك إذا قلت: اشتريتُ منك سلعة كذا، وقال البائع: بل اشتريتَ مني سلعة كذا؛ فإنه إذا اختلف المتبايعان في عين المبيع، فلا وجه لأن نُلْزِم البائع بأن يبذل شيئاً لم يقصده، ولا وجه أن نُلْزِم المشتري بأخذ شيءٍ لم يقصده. وحينئذٍ يكون الحكم كالآتي: أولاً: عندنا اختلاف في عين المبيع. ثانيا: ً عندنا التحالف. ثالثاً: عندنا الحكم بالفسخ، والتراد. فأما مسألة الاختلاف في عين المبيع كأن يقول البائع: بعتُك شيئاً وتقول: بل اشتريتُ شيئاً آخر، فلا تخلو هذه المسألة من صور: الصورة الأولى: أن يتفقا على الجنس ويختلفا في النوع. الصورة الثانية: أن يتفقا على النوع ويختلفا في العين. الصورة الثالثة: أن يختلفا في الجنس. مثال الصورة التي يختلف فيها الجنس: أن يقول البائع: بعتك سيارة، فهذا من المنقولات والمعدودات، ويقول المشتري: بل اشتريت طعاماً. ومن المعلوم أن جنس السيارات غير جنس الطعام، فاختلفا في جنسين غير متفقين. كذلك أيضاً ربما قال: بعتك عقاراً، وتقول: بل بعتني منقولاً، كأن يقول: بعتك أرضاً، وتقول: بل اشتريت سيارة، فهذا من الاختلاف في جنس المبيع. مثال الصورة التي يتفقا على الجنس ويختلفا في النوع، يكون -مثلاً- جنس البهائم، يختلفا في نوعه، فالبهيمة عندنا الإبل والبقر والغنم، فيقول: بعتني ناقة، ويقول: بل بعتك شاة، أو يقول: بعتني بقرة، فيقول: بل بعتك شاة، فيختلفا في نوع الجنس. وتارةً يتفقا على الجنس والنوع، فالجنس بهيمة، والنوع من الشياه، ويختلفا في تعيين الفرد من أفراد هذا النوع، فيقول: بعتني هذه الشاة، فيقول: بل بعتك تلك الشاة، فالجنس واحد، والنوع واحد، ولكن الخلاف في تحديد المراد أو عين المبيع. وربما يقع في العقار، فيتفقان في جنس العقارات يقول: بعتني الأرض التي رقمها مائة، ويقول: بل بعتك الأرض التي رقمها مائتان أو رقمها مائة وعشرة في المخطط، فهذا كله من الأمثلة القديمة والحديثة في ألا يتفقا على عين المبيع. وصورة المسألة تعود على أنهما لا يتفقان على شيء معين أنهما تبايعا عليه. أيضاً: إذا اختلفا إما أن يختلفا في ثمن المنقود المدفوع، فيستلم مثلاً البائع المال، ثم يأتي بالسلعة فيقول المشتري: هذه السلعة لم أتفق عليها معك. فقد حصل القبض بالثمن، وتعين الثمن. وتارة يقول له: هذه أرض في المخطط الفلاني في المكان الفلاني بمائة ألف، قال: قبلت، وتم البيع وأوجبا، ثم اختلفا، هل هي الرقم هذا، أو الرقم ذاك؟ فإذاً: عندنا اختلاف في عين المبيع مع اتحاد الأجناس، وعندنا اختلاف الأنواع مع اختلاف الأجناس وعندنا اتحاد الأجناس والأنواع مع الاختلاف في تحديد العين والذات. هذه كلها تدخل في مسألة اختلاف المتبايعين، فإذا عرفنا صورة الخلاف، فنقول: ثانياً: ما الحكم؟ A إن رضي أحدهما بقول الآخر، فلا إشكال، مثل: قال له: بعتك أرضاً، قال: بل بعتني سيارة، أو قال: بعتك مزرعتي قال: بل دفعت لك مائة ألف لقاء سيارتك هذه، قال: إذاً خذ السيارة بمائة ألف، أي: فما دمت لا تريد الأرض فخذ السيارة بمائة ألف، إذاً: فلا خلاف، وإذا اتفقا وارتفع الخلاف، فالحكم أنه يثبت البيع على ما اتفقا عليه. وأما إذا لم يتفقا، فيقول: اشتريت منك السيارة، فيقول: بل بعتك المزرعة، قال: إما أن تعطيني سيارتك على ما اتفقنا عليه، وأدين الله أنك تبايعت معي عليه، وإلا فأعطني مالي. فيصر المشتري على قوله، ويصر البائع على قوله، فحينئذٍ يلجأ إلى القاضي، ويلجأ إلى المفتي الفقيه، ويلجأ إلى الحكم الذي ينصب بين الطرفين لحل الاختلافات.

الحكم المترتب على الاختلاف في عين المبيع

الحكم المترتب على الاختلاف في عين المبيع قال رحمه الله: (تحالفا) أي: حلف البائع: والله ما بعتك أرضي أو مزرعتي الفلانية، وإنما بعتك سيارتي الفلانية، فيحلف على النفي والإثبات؛ لأن الطرفين متفقان على وجود بيع، ولكن الخلاف في تحديد المبيع. فإذاً: لا بد أن يحلف على إثبات شيء ونفي ما أثبته خصمه، والخصم يحلف على نفي ما أثبته البائع، وإثبات ما يدعيه هو. فيبدأ البائع ثم المشتري، على خلاف بين العلماء رحمهم الله. وبعد التحالف يقع عندنا الآتي: إذا حلف البائع وحلف المشتري، كل منهما حلف على النفي والإثبات تعارضت البينتان، فلا تستطيع أن تلزمني أنا المشتري، بما حلفت عليه، ولا أستطيع أن ألزمك بما حلفت، فإذاً يمينك تسقط يميني، ويميني تسقط يمينك، ودعواك تسقط دعواي، وكلا القولين يسقط، فنرجع إلى الأصل فنرد لكل ذي حق حقه، هذا بالنسبة لصورة المسألة. إذاً: حينما حصل عندنا ثلاثة أمور: أولاً: أن يقع الخلاف بين الطرفين فلا يتفقان، بجميع الصور التي ذكرناها. ثانياً: الحكم أنهما يتحالفان بالنفي والإثبات على الترتيب الذي ذكرناه، يحلف البائع لأنه يلزم المشتري، ثم بعد ذلك المشتري يحلف بالنفي والإثبات. فإذا حلف البائع والمشتري جاءت المرحلة الثالثة وهي الحكم بفسخ البيع، ثم يترتب على ذلك الأمر الرابع، وهو رد المبيع ثمناً ومثمناً. إذاً: عندنا الشيء الأول: وقوع الخلاف وهو أن يختلفا في عين المبيع، وقد يختلفا في قدر الثمن وصنفه، فهذا نوع ذكرناه وبيناه؛ لكن الخلاف هنا في عين المبيع، فكأن المسألة هنا أصعب؛ لأنك تثبت بيعاً، لا يسلم خصمك به، فأولاً: يقع الخلاف. ثانياً: يتحالفان. ثالثاً: إذا حلف البائع أو حلف المشتري حكمنا بانفساخ البيع، فلا يثبت بيع هذا، ولا يثبت بيع هذا. رابعاً: يترادان، فهذه أربعة أمور لا بد من ضبطها. فإذاً: وقوع الاختلاف بصوره التي ذكرناها، ثم يتحالفان إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر، وهذا الحلف -كما سبق وأن بيناه- يسمى يمين التهم، ثم يحكم بفسخ البيع، ثم يترادان. وهذا من عدل الله بين عباده، فإن فسخ البيع بينهما عدل بين قول البائع والمشتري، ثم لماذا نحكم بفسخ البيع؟ لأنك إذا قلت: إن البيع منفسخ يترتب عليه آثار، فالسلعة بنتاجها وما عليها تعود إلى البائع، والثمن يعود بكامله إلى المشتري، فلا يثبت بيع على هذا لقول هذا، ولا العكس. قال رحمه الله: [تحالفا، وبطل البيع]: أي: تحالف الطرفان، وهذا سبق وسماه العلماء يمين التهم، ويمين التهم لها أصل في آية الشهادة على الوصية في السفر. [وبطل البيع]: هذا هو الحكم الثالث.

إذا اختلفا في عين المبيع ورفضا تسليم ما في أيديهما والثمن عين

إذا اختلفا في عين المبيع ورفضا تسليم ما في أيديهما والثمن عين قال رحمه الله: [وإن أبى كل منهما تسليم ما بيده حتى يقبض العوض، والثمن عين، نصب عدل يقبض منهما ويسلم المبيع ثم الثمن]: قوله: (وإن أبى كل منهما تسليم ما بيده) أي: إذا اختلفا في عين المبيع تحالفا، وحكمنا بفسخ البيع، وبقي وجوب رد الثمن والمثمن، وإذا حكمت بوجوب رد الثمن والمثمن، لا يخلو المتعاقدان من حالتين: الحالة الأولى: أن يتفقا وتكون مسألة رد الثمن والمثمن سهلة ويسيرة ويتراضيان ويرد كل منهما للآخر، بأن يثق كل منهما بالآخر، يقول: يا فلان أعطني مالي، وقال الآخر: إذاً أعطني ساعتي أو قلمي. إلخ، فيترادان، فلا إشكال في هذا. لكن المشكلة في بعض الأشياء المبيعة التي يقع عليها التنازع، ولا يثق أحد الطرفين بالآخر، وقد يثق لكن يخشى جريان الحكم بالفلس، فلا يتصور الطالب أن مسائل الفقه تقف عند الريال والريالين، بل قد تصل إلى ملايين، فالشريعة كما أنها تحتاط للملايين تحتاط للريال الواحد. فهي تريد أن تعطي كل ذي حق حقه، فلو جئنا إلى مسألة رد الثمن والمثمن، فالثمن قد يكون مبالغ طائلة، قد يتفقان على بيع أرض في مخطط، قيمتها مليون ريال، فيستلم البائع المليون، ثم ينقله إلى أرض أخرى، ويدعي أنه باعه أرضاً أخرى، فإذاً المبلغ ليس باليسير. ففي هذه الحالة، لو تأخرت يوماً واحداً ربما حكم بالحجر على صاحبك الذي تتعامل معه، فتكون أسوة الغرماء. فالأمر ليس بالسهل، في مسألة رد الحقوق، وخاصة في القديم لما كان الناس يتشددون في الأحكام، وكانوا يسألون عن كل مسألة صغيرة وكبيرة في المعاملات، يقف الأمر على رد الحقوق لأصحابها في الأعيان، وفي الذمم. ونحن سبق وأن ذكرنا أن المبيعات إما أن تكون عيناً، وإما أن تكون في الذمة، وقلنا: العين أن تقول: بعتك هذا القلم، بهذه المائة، فهذا باع عيناً بعين. فإذا قلت: بعتك هذا القلم بمائة، صار البيع عيناً بذمة. وإذا قال له: بقلم من نوع كذا، فمعناه أنه موصوف في الذمة، والتزم في ذمته أن يدفع قلماً موصوفاً بهذه الصفات. وهكذا لو قال: بعتك هذا القلم بعشرة، فإذا قال: بعشرة، فهو موصوف في الذمة، لكن إذا قال: بهذه العشرة صارت معينة. أي أنه إذا قال لك: بعتك هذا القلم بهذه العشرة، فمعناه أن الحق تعلق بالعشرة بعينها. وانظر إلى عدل الشريعة، ودقة الفقهاء رحمهم الله، حتى في الثمن الذي دفعه، إذا كان عيناً لا بد أن ترد نفس العشرة، إن كانت برأسها برأسها وإن كانت كما يقول العلماء: (تفاريق) رد (التفاريق) وإن كانت جملة ردها جملة، فهنا -مثلاً- لو أنه قال له: بعتك، واختلفا في عين المبيع، فأردنا أن نعطي البائع المثمن، ونعطي المشتري الثمن، فلا يخلو المتعاقدان من حالتين: الحالة الأولى: أن يتفقا ويرد كل منهما للآخر وقلنا: لا إشكال في هذه المسألة وهي أن يرد لكل منهما حقه. الحالة الثانية: أن يصر أحدهم فيقول: ادفع أولاً، فيقول الآخر: بل أنت ادفع لي أولاً، أو قال: أنا لا أعطيه ولا أثق في فلان بعد أن دلس عليّ في بيعي، فيتهمه بالخيانة، والآخر أيضاً يتهم المشتري بالخيانة فلا يثق كل منهما بالآخر. فمن دقة الفقهاء أن ذكروا هذه المسألة، فقالوا: ينصب عدل، وتنصيب العدل أن يختار القاضي أو يختاران رجلاً عدلاً؛ فهذا الرجل يقف بينهما وينصف كلاً منهما من الآخر، فيأخذ من البائع ويأخذ من المشتري. لكن هنا مسألة مهمة وهي مسألة الثمن، قال المصنف: [والثمن عين] أي: فهناك فرق بين كون الثمن عيناً وبين كون الثمن موصوفاً في الذمة. فمثال كون الثمن عيناً: قوله: بهذه المائة، بهذه العشرة، بهذه الألف، بهذه الخمسمائة، فالثمن عيناً هنا عين، فيجب رده بعينه. فحينئذٍ عندنا مسألة دقيقة وهي مسألة الاستحقاق في العين والذمة، وهي مسألة تحتاج إلى مدخل لكي يتصور طالب العلم، لماذا نص المصنف على مسألة (عين)؛ لأن هذه الكلمة من ورائها مغزى فقهي، وهو أن الحقوق التي في الذمة أخف من الحقوق المعينة، بدليل أنك لو جئت بمثال للقلم أو ببديل عن القلم في الحقوق المعينة، لم يجز حتى تعلم القلم بعينه، لو قال: أبيعك هذا القلم، وتفاسختما وجب عليك أن ترد عين القلم، ولا ترد مثله. ولو باعك كتاباً بعينه وجب رد عين الكتاب. وقد ذكرنا هذه المسألة حينما ذكرنا صور البيع: العين بالعين، والذمة بالذمة، والعين بالذمة. لكن الذي نحب أن ننبه عليه هنا مسألة الاستحقاق في العين والذمة، وعندنا حديث يحتاج أن نتأمله وننظر إلى معانيه والأحكام والمسائل الموجودة فيه، والحديث ثابت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره) نريد أن نصور هذا الحديث حتى نعرف لماذا استنبط العلماء هذا الحكم الدقيق، وهو أن الحقوق العينية مقدمة على الحقوق في الذمم. الحديث يقول: (من وجد متاعه بعينه) مثاله: عندنا رجل تاجر دخل في تجارته بمليون، ثم انتكست تجارته، وخسر، فأصبحت التجارة الموجودة عنده بنصف مليون، فمعناه أن ديونه أكثر من رأس ماله، وإذا زادت الديون على رأس مال التاجر واشتكاه غرماؤه وهم أصحاب الحقوق، حكم القاضي بالحجر عليه، وهذا ما يسمى بالحجر على المفلس. فالنبي صلى الله عليه وسلم قضى بالحجر على المفلس كما في حديث معاذ رضي الله عنه، الذي أصله من حيث الإجمال متفق عليه. فلو فرضنا أن النصف المليون الموجودة عنده تقوم على شيئين اثنين: عمارة قيمتها مائتان وخمسون ألفاً، وسيولة أو تجارات أخرى قيمتها مائتان وخمسون ألفاً، لكن العمارة أخذها منك، والعمارة اشتراها منك، فهذا المفلس إذا كان دينه مليوناً، والذين يسألون الدين أربعة أشخاص لكل شخص ربع مليون، فالأربعة الأشخاص يستحقون النصف مليون الموجودة، فمن حيث القسمة الشرعية تقسم النصف مليون الموجودة على أربعة أقسام، ويعطى كل غريم قدر حصته من الدين الأساسي، فالذي له نصف الدين يأخذ ربع المليون، والذي له الثمن يأخذ الثمن، والذي له الثمن الآخر يأخذ الثمن الباقي. إذاً: إذا عرفنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالحجر على المفلس، وأنه يجب عليه رد الحقوق إلى الغرماء، وبين أن من كان له عين المتاع، كصاحب العمارة فإنه يأخذ العمارة بعينها، ويلاحظ أنه إذا أخذ العمارة كان أفضل له من أن يدخل شريكاً للغرماء الباقين، فانظر كيف فضل النبي صلى الله عليه وسلم من كان له حق عيني على من له حق في الذمة. ومن هنا نص العلماء على هذا، وذكروا أن مسألة الحقوق العينية مقدمة على الحقوق في الذمة، فعرفنا لماذا قال المصنف: [والثمن عين]؛ لأنه إذا كان الثمن عيناً، قابل المعين من المبيعات، وحينئذٍ لا بد أن يقبض العيني حتى يقبض ما يقابله من المبيع ويدفع لكل حقه. وبهذا تقرر أن الحقوق العينية مستحقة ومقدمة على التي في الذمة، فإذا كان الثمن عيناً، والمثمن المبيع مختصاً فيه ولم يتعين، هذا يقول كذا، وهذا يقول كذا. فإذا حكمنا بالرد؛ فإنه يرد Q أننا لو نصبنا رجلاً عدلاً يأخذ من الطرفين، فكيف يكون العدل بين الخصمين؟ بحث العلماء مسألة كيف يأخذ العدل؟ قالوا: يأخذ من الطرفين معاً؛ لأن الحقوق متساوية، وهذا اختاره غير واحد من أصحاب الإمام أحمد كـ ابن حمدان، كما أشار إليه البعلي رحمه الله في المبدع، أنه يأخذ منهما معاً من باب العدل بين الطرفين. قوله: [نصب عدل يقبض منهما، ويسلم المبيع ثم الثمن]: فالعدل ينصبه القاضي؛ لأنهما إذا اختلفا في عين المبيع، وأردنا أن نحكم بالفسخ، فلا بد أن نرد لكل ذي حق حقه، فإذا اختلفا، فقال كل منهما: لا أرد فلا بد للقاضي أن يفصل، والقاضي لو جاء بنفسه يستلم من هذا ويعطي هذا، نكون قد أشغلنا القاضي عن قضاياه وأشغلناه عما هو أهم، وأشغلناه عن أمر يمكن للغير أن يقوم به، فينصب القاضي العدل؛ لأن هناك أشياء لا يمكن إحضارها إلى مجلس القضاء، فإنهم إذا اختلفوا في ثمن في بيوع المقايظة فدفع أحدهما للآخر -مثلاً- طناً من نحاس والآخر دفع له طناً من حديد، فيصعب أن يحضرونها إلى مجلس القاضي، أو يذهب القاضي ويخرج معهما لكي يسلم لهذا حقه وهذا حقه. فلذلك قال العلماء: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) فالواجب العدل بين الخصمين، ولا يتأتى للقاضي أن يخرج بنفسه في غالب الأحوال لانشغاله بما هو أهم، فحينئذٍ ينصب العدل، فهذا وجه ما نص عليه العلماء رحمهم الله من تنصيب العدل، فهو من القاعدة المعروفة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فلما وجب العدل بينهما، بالقبض منهما معا، ً وتسليمهما إبراءً للذمة، وجب تنصيب العدل من هذا الوجه.

إذا اختلف المتبايعان والثمن موجود في المجلس

إذا اختلف المتبايعان والثمن موجود في المجلس قال رحمه الله: [وإن كان ديناً حالاً أجبر بائع ثم مشتر إن كان الثمن في المجلس]: [وإن كان ديناً حالاً، أجبر بائع ثم مشتر إن كان الثمن في المجلس] في بعض الأحيان يتعامل الطرفان بالدين الحال الذي هو الموصوف في الذمة، يقول: أشتريها منك بمائة ألف، فهذا بيع ذمة. فإذا كان الثمن موصوفاً في الذمة، فهل تساوى الطرفان من حيث الحق والعين أو تفاوتا؟ A تفاوتا، فبعض العلماء يرى أن الدنانير والدراهم والنقود تتعين بالتعيين، وهذه مسألة قد تأتي في الصرف إن شاء الله. فعلى هذا الوجه لو قلنا إن الدين حال، بمعنى أنه أعطاه في المجلس، فهو موجود عند البائع في المجلس [أجبر بائع ثم أجبر مشترٍ] أي: على التسليم، بخلاف الصورة الأولى، لتفاوت الحقين؛ لأنه هنا حق عيني وذمي، وفي الصورة الأولى تساويا معاً.

إذا اختلفا والثمن غائب

إذا اختلفا والثمن غائب قال رحمه الله: [وإن كان غائباً في البلد حجر عليه في المبيع، وبقية ماله حتى يحضره] هذه المسألة كثيراً ما تقع في حال ما إذا أعطاه مثلاً مليون ريال. لو فرضنا أنه باعه بمائة ألف ريال، فقال له: بعتك سيارة من نوع كذا وكذا بمائة ألف، أو سيارتي هذه بمائة ألف، فقال: قبلت، فهذا الثمن في الذمة، فإذا أعطاه إياه، فأخذ البائع المائة ألف، ثم بعد ذلك اختلفا، هل هذه هي السيارة التي تعاقدا عليها أو غيرها، وحكمنا بالفسخ بين الطرفين، يصبح الثمن في هذه الحالة موصوفاً في الذمة، فيحتاج البائع الذي باع السيارة إلى أن يحضر الثمن من خارج البلد؛ لأن الثمن ليس موجوداً عنده حتى يتم فسخ البيع بصورته الكاملة، فيحتاج أن يسافر، ونحن لا نضمن أنه سيعود، أو لربما يحجر عليه أثناء السفر أو يأتيه عارض، أو يسرق منه المال، فإنه يحجر عليه أولاً في المبيع، فلا يتصرف فيه؛ لأنه هو المالك الحقيقي؛ فلا يتصرف في المبيع. فيحجر عليه في المبيع ويحجر عليه في أمواله، والسبب في هذا ما ذكرناه: أنه يخشى أن يدخل عليه الحكم بالفلس، والحجر بالفلس سيتضرر به صاحب الحق لتأخر حقه عنه، فهذا وجه ما نص عليه العلماء رحمهم الله من مسألة الحجر؛ ليتبين أنه ليس من باب الظلم، إنما من باب رد الحقوق لأهلها، فإن هذا الرجل لو سافر ربما غاب عنك غيبة طويلة، وهذا يضر بك، فنقول: كما أضر بك في حقوقك فجزاؤه أن يتضرر فيحجر عليه في ماله. والتلاعب قد يوجد بين التجار، فحينما تحجر عليه في جميع ماله، فإنه في اليوم الثاني سيضع المال عند القاضي، وقد حدث في بعض القضايا أنه امتنع رجل غني ثري من إعطاء عامل حقه، وجلس عنده ثلاث سنوات يكدح بعرق جبينه حتى أصبح ماله ثلاثين ألفاً، فادعى أنه مفلس، فأصبح يشتغل بثمانمائة ريال كذباً من باب الغش، ورفعت القضية إلى أحد القضاة الموفقين وهو الشيخ عبد العزيز بن صالح رحمة الله عليه، وتبين له الأمر جلياً، وأن الرجل كذاب ومخادع. وكان هذا الرجل الضعيف العامل الذي تضرر ليس عنده بينة ولا شهود، فقال له القاضي: إن شئت أن تحلف اليمين فإني أقبلها منك، ولكن ليس لك في ذلك خير، قال: أحلف اليمين، قال: إذاً: لا تحلف اليمين، وكتب إلى المسئول: أن هذا الرجل كذاب مماطل، وثبت عندي بالتحري أنه كذاب مماطل، والذي أرى أن يحجر عليه في جميع ماله، حتى يؤدي لهذا الرجل حقه، فقد عمل عنده ثلاث سنوات وهو غريب عن أهله، وهو الآن في أشد ما يكون من العناء. وذكر الشيخ عنه أنه كان يغمس كسرة الخبز اليابسة في (الشاهي) حتى لا ينفق من ماله الذي يكتنزه عند الرجل مؤتمناً عليه. فشاء الله أنه حجر عليه في يوم الأربعاء، ثم كتب إلى المسئول أن هذا الرجل يمنع حتى من زيارة الغير له، فكما آذى الناس يؤذى، فما جاء يوم السبت إلا والثلاثون ألفاً موضوعة على طاولة الشيخ كاملة، فمثل هذه الأمور لابد من الحجر فيها، والقضاء ما نصب إلا من أجل الفصل بين الناس. فحينما ينص الفقهاء رحمهم الله على الحجر فهو مما رأوا من خلال تجاربهم في القضاء والفتاوى، فهذه المتون خرجت من تجربة وخرجت من معاناة؛ لأنه ممكن أن يأتي شخص ويتعامل معك في قطعة أرض يبيعها لك بمليونين، ثم بعد أن يستلم منك المبلغ، يقول: ما بعتك هذه الأرض وإنما بعتك أرضاً أخرى، فتختصما إلى القاضي، فيقوم القاضي بطلب كل منكما أن يدفع، فيماطلك ويؤخرك ويستفيد منها شهوراً وربما دهوراً ثم يدفعها لك بعد ذلك، فأنت تستضر بهذا، لكن حينما يحجر عليه في ماله، ويحجر عليه في مبيعه، كما أضر بغيره أو أراد الإضرار بغيره، فإنه يسلم الحق ويندفع الضرر عن غيره. ولذلك لم يكن نص العلماء على الحجر من فراغ، وإنما نصوا عليه لوجود الاستحقاق، وهو استحقاق الأذى بالتضرر بالتأخر، وعلى هذا يشرع أن يحجر عليه كما يحجر على غيره. والحجر في اللغة: المنع، يقال: حجر عليه إذا منعه، ومنه قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:22] حينما كانوا يجعلون بينهم وبين القرآن مانعاً من أن يستجيبوا له، وكذلك قوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:53] أي: حائلاً يحول بينهما، ويمنع من دخول أحدهما على الآخر، فالمقصود أن الحجر المنع. وأما في الاصطلاح: فهو منع نفوذ تصرف قولي لا فعلي في المال، وبعض العلماء يعرفه بتعريف أدق، ويقول: الحجر في الاصطلاح: المنع من التصرفات المالية، وهذا أنسب. قال رحمه الله: [وإن كان غائباً بعيداً عنها، والمشتري معسر، فللبائع الفسخ]: هذه كما ذكرنا يقال له: لك الفسخ، أي: أنت بالخيار إن شئت انتظرت وإن شئت فسخت البيع، فإن قال: أريد الفسخ، فحينئذٍ يفسخ، وإن قال: أنتظره فذلك به. فوجه إدخال هذه المسألة في باب الخيار، أنه يترك له الخيار إن شاء أن يمضي الصفقة وإن شاء ألغاها، والأمر إليه.

خيار الصفة

خيار الصفة قال رحمه الله: [ويثبت الخيار للخلف في الصفة، ولتغير ما تقدمت رؤيته]: هذه المسألة يقصد منها إثبات خيار الصفة، فيثبت الخيار لاختلاف الصفة، وهذا النوع الأخير يسمى خيار الاختلاف في الصفة، وبعض العلماء يسميه خيار الصفة، وهو أنسب. وخيار الصفة يقع في نوع خاص من البيوع، وهو الذي يسمى ببيع الغائب. وبيع الغائب: كأن تأتي إلى رجل ويقول لك: عندي أرض، أو عندي سيارة، أو عندي طعام، وهذه الأشياء غير موجودة في مجلس العقد، ومعنى ذلك أن البيع سيقوم بينك وبينه على الصفة، وأصح أقوال العلماء: أنه يصح بيع الغائب، وهو مذهب الجمهور من حيث الجملة. فإنه قد وقع بين عثمان وطلحة رضي الله عن الجميع، ولم ينكر عليهما أحد من الصحابة. فإذا باعك رجل شيئاً غائباً -كما يقع الآن في بيع المخططات- ووصفه لك بوصف معين، فيكون لك الخيار عند الرؤية فتنظر في هذا المبيع، فإن طابقت الصفة المبيع، لزمك البيع وإن اختلفت فأنت بالخيار بين الإمضاء وبين الإلغاء. إذاً: صورة المسألة تقع في بيع الغائب عند من يقول بصحة بيع الغائب، ولذلك فالذين لا يرون صحة بيع الغائب لا يقع عندهم خيار بيع الصفة، وهم الشافعية رحمهم الله ومن وافقهم. ويخالف الحنفية فيقولون: لك الخيار مطلقاً سواء اتفقت الصفة أو لم تتفق، وهذا ضعيف، والصحيح مذهب المالكية والحنابلة، أنه يلزمك البيع إن طابقت الصفة المبيع، ولا خيار لك. لكن لو جئت فوجدت الصفة مختلفة، فلك الخيار، إن شئت رضيت بالموجود، وإن شئت أبطلت البيع ورددت الثمن.

باب الخيار [9]

شرح زاد المستقنع - باب الخيار [9] ضبطت الشريعة العقود التي تقع بين الناس بضوابط دقيقة، تضمن دفع الضرر عن المتعاقدين، وتتلاءم مع مصلحة الطرفين. ومن ذلك ما حددته الشريعة من كون الضمان في عهدة البائع أو المشتري في عقد البيع، وذلك يختلف بحسب اختلاف المبيع واختلاف الحال، وفيه تفصيلات ذكرها غفر الله له موضحة ميسرة، كما ذكر حكم الإقالة وفضلها.

الأشياء التي يحرم التصرف فيها قبل قبضها ومتى يحكم بصحة البيع ولزومه

الأشياء التي يحرم التصرف فيها قبل قبضها ومتى يحكم بصحة البيع ولزومه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: ومن اشترى مكيلاً ونحوه صح ولزم بالعقد] والأصل في هذا حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه)، وهذا النهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل القبض، مبني على علل وأسباب دعت إليه، فإنك إذا اشتريت الأرز على أنه مائة صاع، وأخذته قبل أن تكتاله، ربما بان ناقصاً، فبعته للغير على أنه مائة وإذا به دون المائة، هذا وجه. وعند ابن عباس رضي الله عنهما: أن بيع الطعام قبل القبض فيه ذريعة إلى الربا؛ لأنه إذا لم يقبض الطعام فمعناه أنه قد باع ثمناً بثمن متفاضل، فمثلاً: لو أن رجلاً اشترى الطعام بألف ريال، على أنه مائة صاع، ولم يكتل ولم يقبضه، ثم بعد ذلك باعه إلى رجل آخر، فمعناه أنه يبيع النقد الألف بألف ومائتين، أو يبيع الذي اشترى به وهو مائة ريال بمائة وخمسين، فيصير كأنه يبيع النقد بالنقد، فأصبحت عندنا علتان، العلة الأولى: ربما باعه فاختلفت صفته عن حقيقته. الثانية: أنه ذريعة إلى الربا، ثم هناك وجه ثان مبني على أصل شرعي، وهي قاعدة الضمان، حيث إن الضمان يفتقر إلى القبض، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخراج بالضمان) فجعل الربح على من يضمن الخسارة، ولا يمكن أن يضمن الإنسان إلا إذا دخل الشيء في حوزته وملكه، ومن هنا سنبحث في هذا الفصل مسألة: متى يجوز لك أن تبيع السلعة وتتصرف فيها؟ والمسألة التي معنا الآن: مسألة بيع الطعام قبل القبض، يقول رحمه الله: [ومن اشترى مكيلاً ونحوه صح ولزم بالعقد]. فعندنا أولاً: مسألة صحة البيع. ثانياً: لزوم البيع. ثالثاً: التصرف في المبيع. فهي ثلاث مسائل: فلو باع رجل داراً، أو باع طعاما، ً فإننا نحكم أولاً: أن البيع صحيح، ثم إذا حكمنا بصحته، نقول: يلزمك أن تدفع الطعام إلى الرجل أو تدفع الدار إلى الرجل، ونقول للمشتري: يلزمك أن تدفع الثمن للبائع، هذا بالنسبة للزوم. ثالثاً: متى يتصرف البائع في الثمن ومتى يتصرف المشتري متى يتصرف في المثمن؟ هذه هي المسألة التي يريد المصنف أن يقررها هنا. فأول ما تبحث في المسائل الفقهية إذا جاءك عقد بيوع، في القضاء أو في الفتوى أن تنظر أول ما تنظر هل البيع صحيح أم لا؟ وهذا يفتقر إلى أن تدرس شروط البيع، وقد بينا هذه الشروط وهي شروط الصحة. ثم إذا صح البيع، فهناك شيء يسمى اللزوم، واللازم: هو الذي لا ينفك عن الشيء، وقد يطلق لمعانٍ أخرى، مثل (لزاماً) بمعنى العذاب، وقيل: إنه عذاباً ملازماً: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان:77] أي: عذاباً لا يفارقكم ولا ينقطع عنكم، فأصل الملازمة عدم المفارقة، وملازمة الشيء بالشيء، مصاحبته له على وجه لا يفارقه. وأنت تجد العلماء يقولون في العقود المالية، كالبيوع والإجارات والشركات: عقود صحيحة، وعقود لازمة، وعقود نافذة، وعقود موقوفة، وعقود باطلة. فإذا قالوا: عقد صحيح، فضده الفاسد والباطل، على تفصيل بين الجمهور والحنفية، فالصحيح هو الذي تترتب عليه الآثار المعتبرة شرعاً، فإن قلت: بيع صحيح فمعناه أنه تترتب عليه الآثار الشرعية المترتبة على كل بيع صحيح. وإن قلت: إجارة صحيحة، فمعناه أنها تترتب عليها جميع الآثار المترتبة على الإجارات الصحيحة، والصحيح لا يمكن أن تصححه إلا إذا وافق الشرع. وضد الصحيح: الباطل والفاسد، فيقال: هذا باطل أو فاسد، أي: لا يترتب عليه أثر، ويحكم بانفساخه، بمعنى أنك لا تملك العوض، فلو بعت سيارة بيعاً فاسداً بعشرة آلاف ريال، وقبضت العشرة آلاف ريال، فليس من حقك أن تتصرف في العشرة آلاف، وليس من حق المشتري الذي أخذ السيارة أن يتصرف في السيارة، بل يجب رد الثمن والمثمن، فلا تترتب الآثار الشرعية، إذا كان فاسداً. وهناك ما يسمى باللزوم، والإلزام، والعقد اللازم: هو الذي لا يملك أحد الطرفين فسخه دون الآخر، والبيع عقد لازم. والدليل على أن البيع عقد لازم: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] دلت هذه الآية الكريمة على أنه إذا وقع العقد وهو الإيجاب والقبول، يجب الوفاء به، والبيع عقد. فـ (من باع مكيلاً ونحوه صح) أي: من باع شيئاً مكيلاً من الحلال الذي يباح بيعه كأرز وبر ودخن، وعدس. ونحو ذلك مما يكال. ونحو المكيل: الموزون والمعدود والمذروع. والموزون هو الذي يكون بالجرامات، أو بالأطنان، مثل البرتقال والتفاح والموز، فهذا موزون بالجرام، فلو باع مثل هذه الموزونات صح. والمعدود مثل القطع التي تباع بأعدادها، كقطع (الأبلكاش)، والدواب، والسيارات، فهذه كلها معدودات تباع بالعدد، فتقول: أعطني سيارة سيارتين بعيراً بعيرين شاة شاتين، فهذه كلها مبيعات بالعدد، ولا تباع الشاة بالوزن، ولا يصح بيع الشياه بالوزن. وكذلك أيضاً إذا باعه بطيخاً فيمكن أن يباع عدداً، وممكن أن يباع وزنا، ً فيجتمع فيه الوصفان، وكذلك أيضاً: يكون البيع بالذرع، مثل القماش، فالقماش يباع بالعدد ويباع بالذرع، وإن كان الأصل فيه الذرع، فيقول: أبيعك متراً مترين يارداً ياردتي، ن أو مائة ياردة، فهذا كله بالذرع. وكذلك المخططات من الأراضي والعقارات، بالذرع، تقول: أبيعك (20×20) (30×30) ونحو ذلك، فهذا كله يباع بالذرع. إذاً: عندنا مبيع بكيل ووزن وذرع وعدد. فقال رحمه الله: [من باع مكيلاً ونحوه صح] لأن الشرع أذن بهذا كله، فقال الله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] ولم يفرق بين بيع المكيل والموزون والمعدود والمذروع، فيصح بيع الكل؛ ولأنه ثبتت الأدلة بجوازها دون تفصيل وتفريق بينها. وقوله: (صح) هذا الحكم الأول، أي: إذا كان مستوفياً لشروط الصحة، بأن يكون عين المبيع مباحاً، ولا يكون عين المبيع محرماً كميتة وخنزير ودم ونحو ذلك. (ولزم بالعقد) أي: لزم الطرفين، واللازم -كما قلنا- هو الذي لا يملك أحد الطرفين فسخه دون الآخر. فعندنا إلزام، وعندنا تصرف. فإلزام الطرف يكون بالعقد، وهو الإيجاب والقبول، فلو قلت لك: بعتك بيتي الفلاني في المكان الفلاني بعشرة آلاف، فقلت: قبلت، فالإيجاب والقبول وقع، لكن الصيغة التي هي الإيجاب والقبول لا تكفي وحدها في البيع كما ذكرنا، بل يتوقف الأمر على الافتراق عن المجلس، فإذاً: صح العقد بشرطه، وهو الافتراق عن المجلس. فإذا قلت لك: بعتك بيتي بعشرة آلاف، وقلت: قبلت، فحينئذٍ يلزمك أن تدفع العشرة آلاف، ويلزمني أن أدفع البيت. وعلى هذا: (صح ولزم بالعقد)، فـ (الباء) سببية، أي: بسبب العقد، أو مصاحبة أي: لزم بمجرد انتهاء العقد، وهو الإيجاب والقبول. فإن الباء لها معانٍ منها: المصاحبة. ومنها السببية. فتقول: أتيت بمحمد، بمعنى: مصاحب له. تعدّ لصوقاً واستعن بتسبب وبدل صحاباً قابلوك بالاستعلا وزد بعضهم ظرفاً يميناً تحز معانيها كلها للباء اثنا عشر معنى، منها المصاحبة، فهنا لما قال: (صح ولزم بالعقد)، فالباء هنا للمصاحبة، أي: أن الإلزام مصاحب للعقد الصحيح في البيع فإذا صح عقد البيع، فإننا نقول: بالإلزام للطرفين. والالتزام هو المبني من الصيغة، فهناك فرق بين الإلزام والالتزام، فالإلزام يكون أثراً عن الإيجاب والقبول، والالتزام ينشأ أثناء الإيجاب والقبول. فالالتزام ينشأ من الطرفين، تقول: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، أي: التزمت لك إن دفعت العشرة أن أعطيك السيارة، وأنت أيضاً تقول: قبلت، أي: التزمت أن أعطيك العشرة آلاف إن أعطيتني السيارة، فهذا يسمى التزاماً. وفرق بين الإلزام وبين الالتزام، فالإلزام يكون من الشرع، والالتزام يكون من الطرفين المكلفين، فهذه جهة المكلف وهذه جهة المشرع سبحانه وتعالى. قال رحمه الله: [ولم يصح تصرفه فيه حتى يقبضه]: عرفنا أن العقد صحيح، وبعد أن تثبت أن العقد صحيح تبني عليه أنه لزم الطرفين، فإذا لزم الطرفين، فهل حق المشتري أن يتصرف؟ فمثلاً: جاءني رجل وقال: عندي عمارة في موقع كذا وكذا، ووصفها لي وصفاً تاماً، وأعطيته الثمن، وذهبت ورأيت العمارة فأعجبتني، لكنه لم يعطني مفتاحها، ولم يسلمها لي تسليماً كاملاً، فحينئذٍ تم الإيجاب والقبول، واستلم مني المائة ألف أو المليون، ولكني لم أقبض العمارة إلى الآن، فهنا شيء يسمى القبض والاستيفاء، فالشريعة لا بد أن تبت في مسألة انتقال الملكية ومتى يحكم بانتقال الشيء إلى ذمتك وملكيتك؟ صحيح أنه بالعقد التزمت والتزم، وصار بينكما الإلزام، فقد يتوهم متوهم إنه بمجرد العقد يحصل التملك وتترتب على ذلك آثاره. وهذا غير صحيح. فلو أن رجلاً دخل البقالة، فرأى علبة من طعام (مربى) أو غيرها، فقال: بكم هذه؟ قال: بخمسة، قال: اشتريت، فأعطاه الخمسة، فلما أراد الرجل أن يأتي بالعلبة، وضع السُّلم فتحرك الرف فسقطت الزجاجة وانكسرت، فقال له: خذ زجاجتك المكسورة، قال: يا أخي! أنا لم أستلم، قال: لكنك قد اشتريت ودفعت الخمسة، والإيجاب والقبول يقتضي الملكية لك، فأنت الذي تملكها وأنا لا أملكها. فهنا مسألة وهي مسألة الاستيفاء ومتى نحكم بانتقال الشيء إلى ذمتك وعهدك، بحيث تتحمل المسئولية عنه، سواء كان في الأطعمة أو كان في العقارات أو المنقولات أو غيرها، وذلك ما يسمى بالقبض. فلا يحكم بتحملك للمسئولية في الشيء إلا بعد قبضه، كما أنه لا يجوز لك بيعه والتصرف فيه إلا بعد القبض، فهذه العمارة إذا أردت أن تبيعها لا بد أن تقبضها أولاً، لماذا؟ لأنك إذا قبضتها فقد صارت إلى ذمتك، فلك غنمها وعليك غرمها، أما أن تدع العمارة عند غيرك، بحيث لو جاء عليها ضرر كان هو الذي يتحمل ذلك، ثم تبيعها أنت بأرباح، فهذا فيه ظلم. ففي بعض الأحيان، تبيع الشيء ويتركه المشتري عندك، كأن يبقى في مستودع عندك، فيحملك أعباء حفظه، والقيام عليه، ورعايته، فيحتاج إلى حراسة، وتخشى عليه السرقة والآفات، فحي

أحكام المبيعات التي تلفت قبل قبضها

أحكام المبيعات التي تلفت قبل قبضها قال رحمه الله: [وإن تلف قبل قبضه، فمن ضمان البائع]: أي: وإن تلف الطعام أو الكساء والقماش ونحوه قبل قبضه، فمن ضمان البائع. فمثلاً: أنت اشتريت من تاجر مائة طاقة قماش من نوع معين، وقال لك: هذه المائة بألف ريال، أو بألفين، أو بثلاثة، فقلت له: هذه الألف أو الألفان، فمتى أقبضها؟ قال: ائت غداً، فتلفت في الليل، أو عَدَتْ عليها أرضة فأتلفت شيئاً منها، أو تضررت، فجئت في الصباح فإذا بهذا المال الذي اشتريته بالأمس قد ذهب ثلثه، أو ذهب نصفه، أو ثلاثة أرباعه، فعلى من الضمان؟ سيقول البائع: بعتك، وهذا المال باسمك وليس باسمي، فتقول: صحيح أنني قد تعاقدت معك والعقد صحيح؛ لكن لا يدخل في ضماني حتى أقبض، وأنا لم أقبض. إذاً: مسألة الضمان متوقفة على القبض. فعلى هذا لا نحكم بانتقال الضمان من البائع إلى المشتري إلا بعد القبض. فهذه الزجاجة التي انكسرت سواءً انكسرت من الرف، أو سقطت بآفة سماوية مثل الرعد، أو بفعل المكلف، كعامل دفع الرف فسقطت هذه الزجاجة، فنقول: هذه الزجاجة من ضمان البائع، حتى يمكَّن المشتري من أخذها واستيفائها. لكن إذا قال له: هذا القماش جاهز، تعال فخذه، ومكَّنه من قبضه واستيفائه، فماطل المشتري وتأخر حتى جاءت الآفة السماوية وأتلفته، فإنه يكون مِن ضمان المشتري؛ لأنه قصَّر، فيُلزم بعاقبة تقصيره. ومن هنا: المرأة إذا مكَّنت الرجل من الدخول، ومكَّنه أولياؤها من الدخول، وجبت عليه النفقة؛ لأنها في حكم المدخول بها، والتقصير واقع مِن الزوج. فهذا أصل شرعي، وهو أنه متى مُكِّن ولكنه قصر فإنه يلزم بعاقبة تقصيره، ومن هنا حكموا بوجوب القضاء على من أكل يظن أن الفجر لم يطلع، ثم تبين أنه طلع، أو أن الشمس قد ظهرت؛ لأنه قصر ومن قصر يلزم بعاقبة تقصيره؛ لأنه لو احتاط لنفسه، لما وقع الذي وقع. قال رحمه الله: [وإن تلف بآفة سماوية بطل البيع]: معناه أنه لا يضمن المشتري، ومعنى (بطل البيع)، أي: صار في ضمان البائع، سواء قلت: بطل البيع، أو قلت: في ضمان البائع، فالمعنى واحد. قال رحمه الله: [وإن أتلفه آدمي خُيِّر مشتر بين فسخ وإمضاء ومطالبة متلفه ببدله]: قوله (وإن أتلفه آدمي) أي: قصداً أو بدون قصد. أتلفه آدمي قصداً، كإنسان اعتدى على بقالة فكسر ما فيها، أو اختصم صاحب البقالة مع رجل فكسر له ما ببقالته، وكان من ضمنها المبيع، فتلف بفعل آدمي. وأتلفه بغير قصد مثلاً: العامل يريد أن ينزل الزجاجة فتنزلق من يده فتنكسر، أو يأتي ليضع السلم فتسقط الأشياء الموجودة على الرف ومنها المبيع، فهذا بغير قصد، فسواء أتلفه الآدمي بقصد أو بغير قصد، فالقصد وعدمه واحد في باب الضمانات. لأن باب الضمان لا يلتفت فيه إلى القصد، فمثلاً: شخص جاء وصدم سيارتك وقال: لم أقصد، نقول: الحقوق لا يلتفت فيها إلى مسألة قصدت أو لم تقصد، فهذا في الإثم وهو بينك وبين الله، فتأثم إن قصدتني، ولا تأثم إن لم تقصد، لكن حقي في السيارة تضمنه كاملاً. ولذلك لو رأى أي فريسة وأطلق عليها فأصابت الرمية آدمياً فقتلته وجب عليه أن يدفع الدية، ولا يقول: إني أخطأت، قال تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء:92]. فتحرير رقبة هنا: ليس من باب المؤاخذة بالإثم، وإنما من باب أنه قصر، ولذلك ما من مخطئ إلا وهو مقصر، ومن هنا قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:92] قيل في قوله: (إِلَّا خَطَأً): ولا خطأ، بمعنى: ألا يتعاطى أسباب التقصير. فالشاهد: أنه إذا أتلف الآدمي السلعة بقصد أو بدون قصد، وقد عقد عليها، فالمشتري مخير، إما أن يقول: أريد مالي، ويفسخ البيع، أو يقول: أنا أطالب هذا الرجل الذي أتلف، ويكون توجهه على المتلف دون البائع، وهذا يختلف باختلاف الأحوال. ففي بعض الأحيان يكون بين تاجر مع تاجر، ولا يريد أن يحرج التاجر، فيتوجه على الذي أساء وأضر، فهذه أمور تختلف باختلاف الأشخاص، إن شاء أخذ حقه من هذا أو من ذاك، فالكل يراد به إيصال الحق إلى صاحبه. فإذاً يرد التقرير: إن قلنا: إنه يفسخ البيع، فلفوات المبيع، فإنه إذا فات المبيع على وجه لا يمكن تداركه، فحينئذٍ ينفسخ البيع. وإن قلنا: إنه قال: أريد أن أطالب الذي أتلف، فهذا مبني على أن البائع قد مكن من القبض، أو يكون في حكم التمكين من القبض، ولم يكن عنده مانع ويكون حينئذٍ خارجاً عن يده، وإذا أراد أن يطالب هذا الذي أتلف فإنه يطالبه. فقوله: (خير مشتر بين فسخ) أي: فلا يطالب المتلف، وإنما يطالب البائع، (وإمضاء ومطالبة متلفه ببدله) وهذه المسألة لها مغزى -كما ذكرنا- لأنه في بعض الأحيان يكون الأفضل له أن يطالب بالفسخ، وفي بعض الأحيان يكون الأفضل له أن يطالب بالبدل، مثلاً: لو أن هذا الشيء الذي اشتراه أتلفه متلف، وفي آخر النهار أصبحت قيمته غالية جداً، فيريد البدل، فوجود البدل أحظ له؛ لكن إذا فسخ البيع رد له البائع ثمناً أقل، فينظر الأحظ لأن له الحق في هذا، وله أن يأخذ حقه كاملا، ً كما ذكرنا فيمن وجد العيب في السلعة، إن شاء تنازل عن حقه، وإن شاء أخذ أرش النقص في المبيع، وإن شاء رد السلعة وأخذ الثمن.

ما يجوز التصرف فيه قبل قبضه وضمان تلفه

ما يجوز التصرف فيه قبل قبضه وضمان تلفه قال رحمه الله: [وما عداه يجوز تصرف المشتري فيه قبل قبضه]: (وما عداه) أي: ما عدا المكيل ونحوه، (يجوز تصرف المشتري فيه قبل قبضه). أولاً: إذا كان المبيع مكيلاً، أو موزوناً، أو مذروعاً، أو معدودا، ً فلا يجوز التصرف فيه، وتحريم الأول بالنص، والباقي بالقياس والإلحاق؛ لأن الشرع ينبه بالشيء على مثله، على تفصيل عند العلماء، وقد تكلمت على هذه المسألة وبينتها، وفصلت فيها كلام العلماء في شرح البلوغ. لكن نقول: على ما درج عليه المصنف رحمه الله: الكيل والوزن والعدد والذرع، إذا باع المكيل، فلا يجوز للمشتري أن يتصرف فيه قبل قبضه، فلا يبيعه ولا يحيل عليه، حتى يقبضه، وذلك بأن يكتاله أو يستوفيه، إذا كان كيلاً فالكيل، وإذا كان وزناً فبالوزن، وإن كان عدداً فبالعدد، وإن كان ذرعاً فبالذرع، وإن كان على طريقة الموزون ينتقل إلى الكيل. فالأصح أنه فإذا كان يجمع بين الوزن والكيل، فإنه ينظر إلى أصله، أو غالب عرف البلد، على تفصيل عند العلماء رحمهم الله فيه. بناءً على هذا: لو كان المبيع مكيلاً، وأردت أن تتصرف فيه فلا تتصرف إلا بعد القبض والحيازة، ولو باعه قبل أن يكتاله، فالبيع باطل، ولو وهبه فلا تصح هبته، ولو أحال عليه لم لا تصح حوالته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الطعام قبل قبضه)، فدل على أنه لا يصح أن يبيعه حتى يقبضه ويستوفيه، فأخلى يد المشتري عن التصرف في المبيع إلا بعد القبض، فدل على أنه فرق معتبر لصحة التصرف وأنه لا بد من القبض. ثم يرد Q إذا كان من الأشياء الأخرى التي تباع جزافا، ً ولا يجري فيها كيل ولا عد، ولا ذرع ولا وزن؟ فهذه في قول جماهير العلماء رحمهم الله -خلافاً لـ ابن عباس رضي الله عنهما- أنه يجوز بيعها قبل قبضها؛ لكن الاستيفاء يختلف عن المعدودات والمذروعات والمكيلات والموزونات، على حسب عرف القبض فيها. فمثلاً: عندنا الغنم والإبل والبقر، هذه معدودات، فلا يجوز لك إذا اشتريت شاة أن تبيعها إلا إذا قبضتها، ولكن: كيف يكون قبض هذا النوع وهو المعدود؟ لأنه قد يسألك تجار الغنم، ويقولون: نحن نشتري مائة رأس من الغنم من التاجر الفلاني، ونتركها عنده ثم نبيعها إلى تجار آخرين أو إلى أفراد مقطعة ونحيل عليه، هل يجوز هذا؟ تقول: لا يجوز حتى تقبضوها، فكيف القبض؟ الجاري في العرف أنه يخرجها من زريبة هذا إلى زريبته، وقد نص العلماء رحمهم الله، في بيع الغنم وبهيمة الأنعام، أن الزريبة معتبرة، وهكذا لو كانوا في البادية، والبادية معروف عندهم (المراح)، ومراح الإبل المكان الذي تمرح فيه الإبل، فيخرجها عن مراحها؛ لأنه بمجرد ما أخرجها من المراح يكون قد قبض، فيجوز له وهو يسوقها بعد أن أخرجها من مراحها أن يتصرف فيها، لكن ما دامت في الزريبة، فلا يجوز له أن يبيعها، وكذلك ما دامت في مراحها لا يجوز أن يبيعها. إذاً: في المعدودات من بهيمة الأنعام لا بد من القبض بهذه الصفة. كذلك أيضاً في أعرافنا اليوم، مثلاً: بيع الأشياء المغلفة، كالثلاجات والغسالات، فإذا جاء يبيعها فينبغي على المشتري أن يقبضها. أما كيف دخلت الثلاجة والغسالة في مسألتنا فقد جاءت من باب العدد، على أن المعدود حكمه حكم المكيل، ويدخل في النهي، على القياس الصحيح والنظر الصحيح، من باب إلحاق الشيء بمثله، ففي هذه الحالة لو اشترى ثلاجة لم يبعها حتى يقبضها، والقبض يكون بالحيازة، وعلى هذا لو غلفها له، وأخرجها من مستودع البائع، فقد قبض، لكن لو تلفت وهي في المستودع، أو تلفت قبل إخراجها من المستودع، أو أن العمال أرادوا حملها، فتلفت بأيديهم، أو سقطت فحصل لها ضرر، أو سقط منها شيء وتلفت، فما الحكم؟ الحكم أنها تكون في ضمان البائع. وكذلك أيضاً في بعض الأجهزة الموجودة، مثل: بعض الأشياء التي تباع في المختبرات وهي حساسة جداً، فلو أنها حركت أقل حركة ربما تسقط، وربما يحصل ضرر، فإذا جاء وأراد أن يقبضها وحصل هذا الشيء الذي أضر بها قبل إخراجها من المستودعات فالحكم أنها في ضمان البائع، إلا بعد خروجها من أماكنها على الصورة التي ذكرناها. فمثلاً: السيارة جرى العرف في المعارض أنه إذا دخل إلى السيارة وحركها وأدار السيارة، ثم مشى بها قليلاً على قول بعض العلماء من مشايخنا رحمة الله عليهم، أنه قد قبض، ويجوز له أن يبيع ولو لم يخرج من المعرض، ويقول بعضهم: بل لا بد أن يخرج من المعرض، ثم له بيعها سواء رجع إلى نفس المعرض أو باعها في معرض آخر، وذلك حتى تتحقق الحيازة الكاملة. ولكن أقوى أنه إذا ركب فيها وأدارها، ثم مشى ولو خطوة صح له البيع؛ لأنه في هذه الحالة قد قبض قبضاً كاملاً، ومسألة المعرض وعدمه غير مؤثر؛ لأن المعرض تكون فيه سيارات الأجانب، أي: ليس البائع الذي باعه السيارة هو الذي يملك المعرض. فإذاً: مسألة المحل بالمعرض لا يحتكم إليها خاصة في المزاد، فيقوى أنه إذا أدارها ومشى وقفل بابها قد قبض. قال رحمه الله: [وإن تلف ما عدا المبيع بكيل ونحوه، فمن ضمانه ما لم يمنعه بائع من قبضه]: أي: إن تلف ما عدا المكيل ونحوه، فمن ضمان المشتري؛ لأنه لا يشترط فيه قبض. بناءً على هذا لو سألك سائل: إلى كم تنقسم المبيعات من حيث الضمان بالقبض؟ فعليك أن تقول: تنقسم إلى قسمين: - إما أن تكون مكيلة وما في حكمها، فهذه لا ينتقل ضمانها من البائع إلى المشتري إلا بعد القبض بضابطه، على حسب أنواع المبيعات. - وإما أن تكون من غير المكيل، وما في حكمه، مما لا يشترط فيه القبض، فهذا النوع ينتقل فيه الضمان إلى المشتري بمجرد العقد الصحيح، وعلى هذا لا يشترط في مثلها القبض. قال رحمه الله: [ويحصل قبض ما بيع بكيل أو وزن أو عد أو ذرع بذلك] أي: بالكيل كيلاً وبالوزن وزناً وبالعد عداً، وبالذرع ذرعاً فمثلاً: الآن في المحل: باعك طاقة القماش، فأخذتها وذرعتها، أو ذرعها أمامك، ثم قلت: طبقها لي وضعها في الكيس، فوضعها في الكيس،، ثم أعطاك إياها، فحينئذٍ قد قبضتها، وعندما ذرعها أمامك فقد برئت ذمته، وإذا ذرعها أمامك جاز لك أن تبيعها، ويبقى القبض والاستيفاء الذي هو الصوري. قال رحمه الله: [وفي صبرة، وما ينقل بنقله، وما يتناول بتناوله، وغيره بتخليته]: أي: يحصل القبض في صبرة بالتخلية، بأن يخلي بينها وبينك، وما كان بالنقل ينقل، مثل الدواب -كما ذكرنا- تنقل من زريبة إلى زريبة، وهكذا إذا تعامل التجار في بيع الثلاجات والغسالات أنها تنقل لا بد من نقلها حتى يتم القبض كاملاً، هذه صورة الاستيفاء.

الإقالة وأحكامها

الإقالة وأحكامها قال رحمه الله: [والإقالة فسخ تجوز قبل قبض المبيع بمثل الثمن]: (والإقالة) الإقالة أصلها الفسخ، أقال عثرة النادم، إذا لم يؤاخذه، بما جنى بعد ندمه. وأما في الاصطلاح فهي: فسخ العقد بين الطرفين برضاهما. وبعضهم يزيد: مع عدم ترتب الآثار، وهذا متكلف لأنه إذا فسخ لا تترتب عليه الآثار، وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى التنبيه عليه. وقلنا: "برضا الطرفين" لأن الإقالة تكون برضا الطرفين، ولا يمكن أن نقيل أحدهما حتى يرضى الآخر؛ لأن البيع عقد لازم، والعقود اللازمة كما أنها تلزم الطرفين، فلا بد أن يكون فسخها من الطرفين، أي: كما أنها لا تثبت إلا من الطرفين فينبغي ألا يكون فسخها إلا من الطرفين، وهذا من العدل الذي حكم الله عز وجل به وجعله بين عباده. قوله: (تجوز) أي: تشرع، وعليه جماهير السلف والخلف. والمراد بالإقالة أن يشتري منك شيئاً ثم يأتيك ويقول: لا أريد هذا الشيء، أو طرأت علي أمور، أو أرجوك أقلني، ويلتمس منك الإقالة، فأنت بالخيار بين أمرين: إما أن تلزمه، وتقول له: لا أقيلك وهذا من حقك؛ لأنه قد يكون فيه ضرر عليك، أو قد لا تقتنع بالكلام الذي يقوله، أو ترى من المصلحة أن تمضي البيع له، فإذا رأيت ذلك فهو لك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فإذا كان هذا الأمر يدخل عليك ضرراً عظيماً، أو كنت متحملاً للمسئولية تجاه أناس، أو هذه الصفقة قد تترتب عليها حقوق لأناس، فتقول: لا أستطيع، فهذا لك: أن تلزمه بالعقد. وإن شئت قبلت إقالته، وهذا أفضل بإجماع العلماء، لما فيه من الترغيب الشرعي، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أقال نادماً، أقال الله عثرته، يوم القيامة) وهو حديث صححه الحاكم وأقره الذهبي وفيه كلام، لكن متنه صحيح؛ لأن الله سبحانه وتعالى ثبت عنه في الحديث القدسي: (أن رجلاً كان يدين الناس ويقول لعامله: إذا وجدت معسراً فتجاوز عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، قال صلى الله عليه وسلم: فلقي الله عز وجل فقال الله: يا ملائكتي نحن أحق بالتجاوز عن عبدي، تجاوزوا عن عبدي) فهذا يدل على أن الجزاء من جنس العمل، ولذلك يقول العلماء: من شدد على الناس شدد الله عليه، ومن خفف عنهم خفف الله عنه. فمن كان يعامل الناس بالتيسير يسر الله عليه، وانظر إلى التاجر تجد أنه إن كان سمحاً ميسراً وجدت أموره على السماحة واليسر، حتى أن الله يلطف به في النكبات والفجائع، وتجد من لطف الله عز وجل به ما لم يخطر على بال. والعكس بالعكس، حتى ولو كان أميناً، لكنه يأخذ حقه كاملاً ويعطيه كاملاً، والرجل يريد أن يضع كل شيء في نصابه، لكن ترى الله سبحانه وتعالى يأخذه فكما يشدد على الناس يشدد الله عليه، فما يأتي الناس يأتيه. فالذي يعامل الناس بالسماحة واليسر يدفع الله عنه، وهذا أمر جرت عليه الشواهد والأدلة، وسنن الله عز وجل ظاهرة عليه. وعليه: قالوا: إنه يستحب أن يقيل النادم، لما فيه من تفريج كربة المسلم، وخاصة إذا كانت عنده ظروف وكان فيه مشقة عظيمة عليه، فالإيثار محمود، خذ حتى ولو كان فيه ضرر عليك، فإن هذا البلاء الذي دخل عليك بهذا المسلم، لعل الله أن يدفع عنك به أبواب البلاء؛ لأنه ربما دفع الإنسان عن أخيه المسلم بلاء فيدفع الله عن ماله البلايا، فأجمع العلماء على استحباب الإقالة. قوله: (تجوز قبل قبض المبيع) أي: تجوز الإقالة قبل قبض المبيع وبعد قبض المبيع، بمثل الثمن، فإذا اشترى منه داراً بمائة ألف، ثم جاءه وقال: أقلني بيعتي، فقال: أقلتك؛ رد له المائة ألف، ورد المشتري الدار إلى البائع، فهذا جائز ومشروع. وهكذا بالنسبة لغير العقارات، كأن يشتري منه طعاماً بمائة ثم يأتي ويقول له: أقلني، فيقيله، فهذا جائز ومشروع. وقوله: (بمثل الثمن) أي: فلا يجوز أن يستقيله بما هو أكثر، على أصح قولي العلماء وهو أن الإقالة فسخ. وقد اختلف العلماء رحمهم الله في الإقالة على قولين. وهناك قول ثالث وهو التفصيل، لكن المشهور قولان: القول الأول: أن الإقالة فسخ. القول الثاني: أن الإقالة بيع جديد. نمثل بمثال واحد حتى تتضح الصورة: لو اشتريت سيارة من رجل بعشرة آلاف ريال، ثم بدا لك أن ظروفك لا تساعدك في شراء هذه السيارة، وأن المصلحة أن ترد هذه السيارة، فجئت إليه، وقلت له: يا فلان! خذ سيارتك وأعطني العشرة آلاف، فإذا رددتها بنفس الثمن فحينئذٍ لا إشكال أنه فسخ بالمثل، وهذا إذا قلنا: إنها فسخ، فحينئذٍ تكون رددت له نفس المال الذي له. وإن قلنا إنها بيع، فمعناه أنكما أنشأتما بيعاً جديدا، ً فيشترط فيه ما يشترط في البيع، من الافتراق عن المجلس فلو قال له: أقلتك، ثم قبل أن يفارقه قال: لا أريد أن أقيلك ورجع عن إقالته كان ذلك من حقه. وأما إذا كانت فسخاً فإنه لا يجوز له ذلك. وكذلك أيضاً لو قلنا: إن الإقالة بيع، فجاء وقال: أقلني هذه السيارة بعشرة آلاف، فقال: بل أقيلك بتسعة آلاف ريال، فمعناه أنه بيع جديد، فيجوز أن تقيل بالثمن، وبأقل من الثمن، ولا بأس بذلك ولا حرج على القول بأنها بيع. والصحيح أنها فسخ، وإذا كانت فسخاً فلا تجوز إلا بنفس الثمن، وحينئذٍ يخير البائع بين أن يمضي الصفقة وبين أن يرد نفس الثمن إلى صاحبه؛ لأن الحق الذي عنده إما أن يمضي فيه الصفقة على ما هو مقرر بالنص الشرعي في العقد من الإيجاب والقبول المركب منهما، وإما أن يرد عليه المال كاملا، ً ولا ينقص منه شيئاً. قال رحمه الله: [ولا خيار فيها ولا شفعة]: أي: أنها ليست ببيع وإنما هي فسخ. وإن كانت بيعاً ففيها شفعة، فمثلاً: بعت أرضاً في مخطط، وهذه الأرض لك فيها النصف، حيث كنت أنت وصديق لك قد اشتركتما في الأرض له نصفها ولك نصفها، فباع صديقك الأرض على طرف ثان بمال، فهذا الطرف اشترى منه، فأصبح حينئذٍ شريكاً لك، فإذا استقال من صديقك فأقاله لم يصح لك أن تشفع؛ لأنها ليست بيعاً وإنما هي فسخ، وحينئذٍ يرجع الأمر إلى ما كان، وليس من حقك أن تقول: هذا بيع وأنا شريك، ومن حقي أن أشفع؛ وإذا قلنا: إنها بيع، كان من حقك أن تشفع، وحينئذٍ بدل أن تكون شريكاً بالنصف، فإنك تدخل شفيعاً بمثل المبلغ الذي باعه إياه وتخرج صديقك من الأرض كلية. مثال: الأرض قيمتها مائة ألف، فعرضت للبيع، فاشترى محمد من شريكك بخمسين، فأصبح محمد شريكاً لك وأنت ساكت، ورضيت من محمد أن يكون شريكك، فاستقال محمد من البائع الذي هو الشريك الأول، فإن قلنا: إنها بيع، فمعنى ذلك أن محمداً الشريك الجديد سيبيع بيعة ثانية، والشريك من حقه أن يشفع في كل بيعة جديدة، حينما وقع البيع الأول ربما كان المشتري قريباً له فسكت، أو لم يكن آنذاك مال، لكن لما وقعت الإقالة كان عنده سيولة ومال، فقال: ما دام أنك أقلته، فهذا بيع وأريد أن آخذ حصة شريكي بثمنه وعليك تخرج من الأرض، فتبين أن فيها ضرراً، ومن هنا نقول: إن الإقالة في بعض الأحيان تدخل الضرر على الإنسان فلا يرضى بها. وعليه يقول العلماء: إنه يجوز للشريك أن يشفع إن قلنا: إنها بيع، ولا يجوز له أن يشفع إن قلنا: إنها فسخ، والصحيح أنها فسخ.

باب الربا والصرف [1]

شرح زاد المستقنع - باب الربا والصرف [1] الربا محرم بالكتاب والسنة وإجماع العلماء، وقليله وكثيره في التحريم سواء، إلا أن هناك من لبس عليهم الشيطان فاستجازوا لأنفسهم بعض صور الربا بشبه واهية ضعيفة رادين بذلك نصوص الكتاب والسنة الواضحة. والربا يجري في الأصناف التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، وهي: الذهب والفضة والبر والتمر والشعير والملح، ويقاس غيرها عليها بجامع الثمنية في الذهب والفضة، والطعم مع الكيل أو الوزن في المطعومات.

تعريف الربا وأدلة تحريمه

تعريف الربا وأدلة تحريمه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الربا والصرف]. الربا في اللغة: الزيادة، ومنه قوله تعالى: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل:92] أي: أزيد وأكثر عدداً. وأما في الاصطلاح فهو: زيادة مخصوصة في أشياء مخصوصة. والربا ينقسم إلى قسمين: 1 - ربا النسيئة. 2 - ربا الفضل. فأما ربا الفضل: فإنه يكون في الأصناف المنصوص عليها، والملحقة بالمنصوص عليها. وأما ربا النسيئة: فإنه يكون بزيادة الأجل فيما يجب فيه التقابض. وهذا الباب عظيم؛ لأنه يشتمل على محظور شرعي عظم الله أمره ونهى عباده عنه، وزجرهم عنه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278 - 279]، فنهى سبحانه وتعالى عن الربا وحرمه، وتوعد صاحبه بالحرب، ومن حاربه الله عز وجل فلا يسأل عن حاله، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعافينا من ذلك، وأن يعيذنا منه؛ لأن الله إذا حارب العبد ابتلاه في نفسه وعذبه في دنياه، فأشقاه في نفسه وماله وأهله وولده، فلم تقر له عين في دنياه، ثم ما ينتظره في الآخرة أشد وأعظم. لقد توعد الله تعالى على هذا الأمر بهذا الوعيد الشديد، ولذلك أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى حينما جعله من كبائر الذنوب، وكما نهى الله عز وجل في هذه الآيات من سورة البقرة.

شبهة وجوابها

شبهة وجوابها كذلك نهى الله عنه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، وهذه الآية فيها شبهة يحتاج طالب العلم إلى أن ينتبه لها K وهذه الشبهة هي: أن الله تعالى حرم الربا إذا كان أضعافاً مضاعفة، أما إذا كان يسيراً فلا بأس، وهذا هو المدخل الذي أجاز به بعض المعاصرين في فتواه حل شهادات الاستثمار من فئة (ج)، وهي الدرجة الثالثة من استحقاق الربوي، يقولون: لأن نسبتها ضعيفة، ولأن مالها يسير، وليس من الأضعاف المضاعفة، ويتذرعون بهذه الشبهة؛ بل تذرع بعضهم إلى أن الربا المحرم: أن يأخذ أجلين، أما لو أخذ زيادة على أجل واحد فلا بأس، وزين لهم الشيطان هذا كله، نسأل الله السلامة والعافية: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25]. فإذا انطمست البصيرة ينقاد صاحبها إلى الهوى، وإذا انقاد إلى الهوى أحل ما حرم الله، وحرم ما أحل الله، واستحل حدود الله بأدنى الحيل، ولذلك لعن الله بني إسرائيل وطبع على قلوبهم، حينما استحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل. وشهادات الاستثمار من فئة (ج) يدور عليها الكلام في بعض الأحيان كثيراً، وحاصلها: أن يتقدم المستثمر فتحدد أولاً النسبة المدفوعة للاستثمار في هذه الفئة، مثلا: ً من ريال إلى مائة ريال، أو من مائة ريال إلى خمسمائة، وغالباً في هذا النوع من الربا تكون المبالغ بسيطة جداً، لأجل أن تجلب العوام ويكون الاستثمار منها أكبر، والمشاركون فيها أكثر، فتجعل المبلغ الذي يدفع زهيدا، ً على فترة ثلاثة أشهر، أو ستة أشهر، فيقولون له: ادفع كل شهر مائة، ثم إذا تمت ثلاثة أشهر ودفعت مائة مائة، فأدخل اسم هذا المستثمر في القرعة، ثم إذا خرج اسمه فإنه حينئذٍ يعطى جوائز معينة لعدد معين، فهم يقولون: هذا ليس بربا؛ لأنه ليس ربحاً محضاً، مثل الاستثمار الذي يكون بالفوائد والعوائد الربوية المعروفة، فيقولون: هذا أشبه ما يكون بالمضاربة. والجواب عن هذه الشبهة من وجوه: الوجه الأول: أن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، فللآية منطوق ومفهوم، فمنطوق الآية: تحريم أكل الربا أضعافاً مضاعفة، والاستدلال الذي ذكروه من باب المفهوم وليس من باب المنطوق، ففهموا منه أنه يحل أكل الربا إذا كان بغير أضعاف، فنقول: هذا من المنطوق الذي لا مفهوم له، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون:117]، فإنه ليس معناه أن هناك من يدعو مع الله إلهاً آخر له برهان، وفي القرآن آيات لها منطوق ومفهوم، وآيات لها منطوق وليس لها مفهوم، وهذه الآية من ذلك؛ بدليل تصريحه سبحانه وتعالى بتحريم الربا عموماً. الوجه الثاني: لو سلمنا فرضاً أن الآية الكريمة لها منطوق ومفهوم، وأنه يحتج بالمفهوم على الجواز، فنقول: إن هذا المفهوم قد عارضه المنطوق من العموم في آية البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة:278]، ولم يفرق بين الأضعاف وغير الأضعاف، فإذا تعارض المنطوق والمفهوم، قدم المنطوق على المفهوم. الوجه الثالث: نقول: آية البقرة حاظرة، وآية آل عمران مبيحة، وهذا على قولهم بالمفهوم، والقاعدة: أنه إذا تعارض الحاظر والمبيح، قدم الحاظر على المبيح. وبناءً على ذلك نقول: إنه لا يحل الاستدلال بهذه الآية على هذا الوجه، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الربا، حتى عده من السبع الموبقات، فقال: (اجتنبوا السبع الموبقات -وذكر منها-: أكل الربا)، والعياذ بالله! وقد أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم الربا، وأنه من كبائر الذنوب، وأن صاحبه موعود بالنار إذا لم يتب، قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275]، قال طائفة من المفسرين: إنهم يقومون يوم القيامة ولهم بطون كالبيوت الضخمة، كلما وقف صاحبهم تكفأ على وجهه، والله على كل شيء قدير، فإن الله لا يعجزه شيء، إن شاء خلقهم على هذه الصورة، وإن شاء خلقهم على غيرها؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (الذي خلقه يمشي على رجليه يخلقه يوم القيامة يمشي على وجهه)، فالله على كل شيء قدير، كما قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [الإسراء:97]، فالله على كل شيء قدير، والمقصود: أنه محرم بهذا.

الفرق بين القراض المشروع والربا الممنوع

الفرق بين القراض المشروع والربا الممنوع وهنا مسألة: إذا كان الربا محرماً فنريد أن نتعرض لمسألة شبهات جواز الربا، وهي مسألة مهمة، حيث إن هناك شبهة تعتبر من أدق الشبهات التي يحتاج طالب الفقه إلى دراستها، ومعرفة جوابها، وهي باختصار أنهم قالوا: فوائد الربا كفوائد القراض، فتجوز فائدة الربا كما تجوز فائدة القراض وهذا يحتاج إلى شرح وتوضيح. وحاصله: أنهم يقولون: هناك عقد شرعي وهو المضاربة أو القراض، وهو جائز شرعاً، والفوائد المصرفية والبنكية والعوائد الربوية بمنزلة العوائد من المضاربة. وهذا يحتاج أولاً إلى أن نعرف ما هي المضاربة، ثم كيف قيست الأسهم والفوائد والعوائد الربوية على المضاربة. قالوا في المضاربة: حقيقتها أن يدفع رب المال مائة ألف مثلاً لعامل، ويقول له: اذهب واضرب بها، فإن ربحت فالربح بيني وبينك مناصفة، فإذا ربح خمسين ألفاً، فيأخذ خمسة وعشرين ألفاً، ويعطي صاحب المال مائة وخمسة وعشرين ألفاً، قالوا: فكما أن رب المال أخذ مائة وخمسة وعشرين ألفاً، فإنه يجوز لمن أودع مائة ألف أن يأخذ فائدة عليها عشرة آلاف، أو عشرين ألفاً، على حسب المتفق، فالبنك والمصرف بمثابة العامل الذي عمل بالمضاربة، والعميل بمثابة رب المال في المضاربة. وما الفرق بين الاثنين؟! واعجب فما تنفك من عجائب! حينما يأتي بعض من لا يحسن النظر في الفقه، ويتسمى بأنه فقيه، أو عنده إلمام بالفقه، ويقول: إن المضاربة عقد ليس فيه نص من الكتاب ولا من السنة، فيختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة! وحينئذٍ نقول: هذه العوائد البنكية هي مضاربة عصرية؛ لأننا اجتهدنا فيها باجتهاد العصر الملائم، وهذا كما قال تعالى: {زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [الأنفال:48]، انظر كيف يزين الشيطان لهم، وحينئذٍ نحتاج إلى أن ندرس هذه الشبهة باختصار. وحاصل ذلك أن نقول: إن المضاربة ثبتت بدليل السنة، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة، فقال: إن بعض الفقهاء يقول: المضاربة ليس فيها نص من الكتاب والسنة، وقد أخطأ في ذلك، فإن المضاربة كانت معروفة في الجاهلية، وأقرها الإسلام، فبسكوت النبي صلى الله عليه وسلم عليها كانت مشروعة بدليل أنه ضارب بمال خديجة، وهذا ثابت ولا إشكال فيه، وكان في القديم رحلة الشتاء والصيف، قال تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش:1 - 2]، فكانوا يتاجرون بالمضاربة، ويعطون من يقوم على هذه التجارة والعير، من وجهاء قريش كـ أبي سفيان ونحوه، فقد يخرج بها ويضارب ثم يأخذ نسبة من الأرباح على التجارة، وعلى هذا قال: إنها ثابتة بالسنة، فمن قال: إنه لا نص فيها بالكتاب والسنة، فهذا جاهل، هذه المسألة الأولى. المسألة الثانية: أن فيها إجماع الصحابة، وحاصلها قصة عمر المشهورة مع ابنيه عبد الله وعبيد الله، فإن عبد الله وعبيد الله خرجا إلى أبي موسى الأشعري في الكوفة، وكان أبو موسى والياً عليها، فقال لهما: ليس عندي من شيء، ولكن خذا هذه الإبل، واضربا بها، وأديا إلى أمير المؤمنين رأس المال، وخذا الربح، فمضيا وتاجرا في الطريق حتى قدما على عمر، فلما قدما على عمر، قال عمر رضي الله عنه: ما هذا؟ قالا: يا أمير المؤمنين! هذا لك وهذا لنا، فقال: سبحان الله! وكيف ذلك؟ قالا: إن أبا موسى فعل كذا وكذا، فقال: وهل أعطى كل المسلمين مثلما أعطاكما؟ قالا: لا، فقال: أديا المال إن كنتما ابني أمير المؤمنين، أما عبد الله فاستحى منه، وسكت ولم يعترض، وأما عبيد الله فقال: يا أمير المؤمنين! أرأيت هذا المال لو أنه تلف أكنت تغرمنا إياه؟ قال: إي ورب الكعبة، قال: إذن ليس من حقك؛ لأن الخراج بالضمان، فما دمنا نحن الذين نضمن، فالسنة ثابتة عن أن من يخسر يضمن، فقال الصحابة: اجعله يا أمير المؤمنين قراضاً، فقسم الربح بينهما وبين بيت مال المسلمين. فهذا قراض، وهو إجماع من الصحابة. إذا عرفنا مشروعية المضاربة، فإنه يرد Q هل أخذ الفائدة والعائدة منزل منزلة القراض؟ أولاً: لماذا شرع الله المضاربة؟ A شرع الله المضاربة؛ لأن عندك مثلاً مائة ألف، وأنت مشغول بطلب علم، أو مشغول بعمل آخر، وغير متفرغ لضربه، أو ليست عندك خبرة في التجارة، وهناك عامل عنده خبرة، فالشريعة رفقت بالمجتمع من هذا الباب، فهذا العاطل الذي ليس عنده عمل اتفق مع هذا الغني، فأخذ المال، فاستفاد الناس من عمله، وخبرته، وتجارته، واستفاد هو من النماء، واستفاد رب المال من الربح، فحصل الرفق للمجتمع بوجود التجارة، والرفق لرب المال بوجود جزء الربح، والرفق للعامل بوجود الكسب الذي يكون من جزء الربح، فشرعت من أجل هذه المقاصد العظيمة، واليسر والرحمة والتخفيف على الأمة. أما بالنسبة للمال الذي يدفع للبنك والمصرف إذا وردت عليك شبهة، وقيست على شيء، فقرر الأصل وادرسه من كل جوانبه، ثم انظر فيما قيس عليه، هل الشبه كامل أو ناقص؟ فنقول: أولا: ً بالنسبة للمضاربة يقول العلماء: أن يدفع رب المال للعامل المال على أن يتجر به، والربح بينهما على ما شرطا، فعندما يدفع العميل للبنك أو المصرف هل يقوم البنك بالعمل والتجارة؟ الجواب: لا. وليس هناك أي مادة تخول لهم أن يدخلوا إلى الساحة ويتعاملوا مع الناس؛ لأن أصل تجارة البنك تقوم على حفظ الأمانة، وإنما رخص لهم بالحفظ، ولا يؤذن لهم بأن يقوموا أنفسهم بالتجارة أو منافسة التجار، هذا معلوم وثابت، نتاجهم إنما يكون بأن يأخذوا منك مليوناً، ومن الثاني مليونين، ومن الثالث مائة ألف، ثم تؤخذ هذه وتعطى لأشخاص ديناً على أن يردوها بعوائدها، فأصبح لا حقيقة للعمل، أما المضاربة ففيها ضرب، وتجارة، ولكن الإيداع ليس فيه ضرب ولا تجارة، فأصبح قياساً مع الفارق. ثانيا: ً في المضاربة الشرعية يدفع رب المال للعامل المال على أن يتجر به، والذي يضمن الخسارة هو رب المال، لكن البنك إذا تاجر بمال العميل، فإنه يلتزم برده كاملاً، ولذلك فإن جميع المواد تنص على أن الوديعة المصرفية دين على البنك وليست بمجال للاستثمار، حتى في القانون ينصون على أنها تأخذ حكم القرض، وهذا موجود، ومن رجع إلى المواد يجد هذا جلياً واضحاً. إذاً: ليست بيد تجارة، وإنما هي يد ضمان، ويد العامل في المضاربة يد أمانة، وبالإجماع: لا يضمن العامل إلا إذا فرط، فلو أعطيت عاملاً مائة ألف وذهب وتاجر، ثم احترق المال بدون تفريط منه، فلا يضمن، كأن كسد السوق بدون تفريط منه، ونحو ذلك. لكن لو قصر، كما لو اشترى التجارة من أرض بعيدة، وبإمكانه أن يحضرها عن طريق البر وعن طريق البحر، وفي طريق البحر الموج هائج، وفي زمان شديد البرد، وكثير الرياح، فجاء وخاطر وأدخل السفينة في البحر فغرقت، فإنه يضمن؛ لأنه قصر. إذاً: العامل لا يضمن في المضاربة؛ لكن إذا دفع العميل المال للمصرف، فإن المصرف يلتزم برد المبلغ كاملاً إن خسر، إذاً: هناك شبه وفارق مؤثر. ثالثاً: حينما يعطي رب المال للعامل مائة ألف على أن يتجر بها، فإنه يدخل والربح محتمل؛ لكن بالنسبة للعقود المصرفية يلتزم المصرف بإعطاء هذا الاستحقاق الذي هو (5 %) أو (10 %)؛ حتى إن العميل إذا لم يأخذ الاستحقاق قاضاهم قضاءً وقانوناً في قانونهم، وطالبهم بهذا الذي تم الاتفاق عليه. إذاً: هناك اختلاف بين هذا وذاك. رابعاً: المضاربة يكون نتاجها من معاملة شرعية، فلو ضارب بحرام لحرمت الأرباح، وأما بالنسبة للمصرف فإنه يأخذ هذه العوائد من الديونات بالفوائد المركبة، فلو كانت مضاربةً فإنها ناشئة من معاملة محرمة، كما لو أخذ المضارب المال وتاجر به في الميتات، أو في المحرمات؛ لحرمت تجارة المضاربة. كذلك أيضاً لو سلمنا فرضاً أنها مضاربة، أو في حكم المضاربة كما يقولون: إن المضاربة تختلف باختلاف الحال؛ فلو قال: إن هذه الأحكام كلها اجتهادية، وليس فيها نص، فنقول: إذا كانت اجتهادية فأنت بالخيار بين أمرين: - إما أن تبقى على الأصل المجمع عليه بالمضاربة. - وإما أن تلغي المضاربة من أصلها. فإن بقيت على المُجْمَع عليه فلا يتفق مع ما ذكرت، وإن ألغيتها من أصلها فهو عقد تقيس عليه، وما قيس على باطل فهو باطل حقيقةً. وعلى هذا: فإن هذه الشبهة غير واردة؛ لأنه لا يصح لا من جهة تركيب أركان المضاربة وشروطها الشرعية، ولا من جهة النتاج، وما يؤخذ أو يركب على العوائد.

الأصناف التي يجري فيها الربا

الأصناف التي يجري فيها الربا لقد قامت مسائل الربا على أحاديث صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك أحاديث يعتبرها العلماء رحمهم الله أصولاً لهذا الباب، من ضبطها وألم بمسائلها فإنه يستجمع كثيراً من الأحكام المتعلقة بالربا. ومن أشهر هذه الأحاديث؛ بل هو أشهرها وأوسعها، ويعتبره العلماء رحمهم الله قاعدة هذا الباب، حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، والتمر بالتمر، مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد). وفي رواية أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن زاد أو استزاد فقد أربى)، وهذا الحديث يعتبر قاعدة لباب الربا. ونحتاج إلى مقدمة لابد من ضبطها حتى تسهل المسائل التي سنتكلم عليها إن شاء الله فنقول: هناك أصناف حرم الله عز وجل على المسلم أن يبيعها إلا إذا تماثلت، فإذا بعت هذا الصنف بمثله فلابد أن يكونا متماثلين، إما بالوزن إن كانا موزونين، وإما بالكيل إن كانا مكيلين، وهذه الأصناف يسميها العلماء بالأصناف الربوية. وهناك أصناف وسع الله على عباده، فيجوز أن تأخذ الشيء بأكثر منه، فتأخذ الواحد بالاثنين، وتأخذ الشيء بأضعافه، ولا بأس في ذلك ولا حرج. فإذا حرم الله عليك أن تبيع هذا الصنف بأكثر منه وزناً أو كيلاً فهذا يسمى بالصنف الربوي، وإذا أباح الله لك أن تأخذ هذا الشيء بأكثر منه وزناً أو كيلاً فهذا صنف غير ربوي، فانقسمت الأشياء التي يتبايع بها الناس إلى قسمين: 1 - أصناف ربوية. 2 - أصناف غير ربوية. والأصناف الربوية: هي التي لابد فيها من أمرين: 1 - التماثل. 2 - التقابض. فإذا بعت هذا الشيء بهذا الشيء من الأصناف الربوية فإن الشرع يوجب عليك أن تستلمه يداً بيد، فتأخذ بيد وتعطي بأخرى، وهذا ما يسمى بالتقابض. إذاً: كل ما يشترط فيه التماثل والتقابض يوصف بكونه صنفاً ربوياً، فإن أسقط الشرع المؤاخذة وأجاز لك أن تبيع الشيء بأكثر منه، وأجاز لك أن تؤخر أحد المبيعين، فهذا صنف غير ربوي. إذا عرفنا أن الأصناف منها الربوي ومنها غير الربوي، فإن الأصناف الربوية التي سنبينها لا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون أصنافاً منصوصاً عليها. الحالة الثانية: أن تكون أصنافاً مقيساً عليها، أو ملحقة بالمنصوص عليه. وتوضيح ذلك: أن الأصناف التي يحكم العالِم بعدم جواز بيع بعضها ببعض متفاضلة: إما أن يكون فيها نص عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سمى ذلك الشيء بعينه، فحينئذٍ يسميه العلماء صنف منصوص، أي: أنه من الأصناف الربوية المنصوص عليها. وهناك صنف ثانٍ ربوي لكنه قيس على هذا ولم ينص عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ألحق به. أما الأصناف المنصوص عليها فإنها قد جاءت مجتمعة في حديث عبادة السابق، ولذلك يسميه العلماء: حديث الأصناف الربوية، أو حديث الأصناف الستة، وهذا الحديث قاعدة باب الربا، فتفرعت عليه مسائل ربا النسيئة والفضل. وهذه الأصناف الستة هي كالآتي: الذهب، والفضة، والبر، والتمر، والشعير، والملح، وإذا جئنا نبحث مسائلها سنبحثها على مرحلتين: المرحلة الأولى: أن تباع مع اتحاد الجنس والصنف؛ كبيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح. المرحلة الثانية: نبحث في بيعها مختلفة الجنس أو مختلفة الصنف. وهذه الأصناف الستة سنقسمها إلى قسمين: القسم الأول: غير المطعوم، وهو جنس الأثمان الذهب والفضة. القسم الثاني: جنس المطعوم، وهو الأربعة الباقية.

الذهب والفضة

الذهب والفضة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب)، والذهب: هو المعدن المعروف، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعله قيماً وثمناً للأشياء، وهذا المعدن إذا بيع بمثله -كذهب بذهب- فلابد فيه من التماثل والتقابض، والذهب كما هو معلوم له حالات: الحالة الأولى: أن يكون على أصل خلقته، ويسمونه: الخام، وهو الذي استخرج من معدنه، والخام سواء صفي، وهو الذي يسمى بالسبائك، أو بقي فيه الشوب تابع لأصل خلقته. الحالة الثانية: أن يصنع فيضرب دنانير، فيعتبر نقداً مثلما هو موجود في الدنانير، أو يضرب جنيهات من الذهب، فتكون عملة. الحالة الثالثة: أن يكون حلياً، كالأسورة والقلائد ونحوها مما تتحلى به النساء، وفي جميع هذه الأحوال بيّن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لا يجوز بيع الذهب إلا مثلاً بمثل، يداً بيد. إذاً: هذا الصنف الأول من الأصناف الستة الربوية إذا بيع بمثله فلابد فيه من أمرين: الأمر الأول: التماثل. الأمر الثاني: التقابض. فإذا بعت الذهب بالذهب، سواءً كان خاماً أو مضروباً كالدنانير، أو كان حلياً، أو مصنعاً من حلي أو غيره؛ فلابد من التماثل والتقابض، فمثلاً: امرأة جاءت بحلي قديم وتريد أن تستبدله بحلي جديد، فنقول: لابد أن يكون مثلاً بمثل، ويداً بيد، فلا يجوز أن يبيعها غرامات أقل بغرامات أكثر، فيقول لها مثلاً: هذا الذي عندك قديم فأشتري المائة غرام منك بتسعين من الجديد الذي عندي، فلو استفضل غراماً واحداً آخذاً أو معطياً فهو ربا الفضل. كذلك لابد من التقابض، فلو قلت: سوف أعطيك الذهب الآن، فقال: وأنا سوف أحضر الذهب الذي عندي بعد ساعة، أو بعد خمس دقائق سأذهب وأحضره، فإنه ربا، ويسمى: ربا النسيئة. إذاً: لابد من الأمرين: الأمر الأول: التماثل: وهو يتحقق بالوزن، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (مثلاً بمثل)، وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (وزناً بوزن (، وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض). الأمر الثاني: التقابض: وذلك بأن تعطيه وتأخذ، فلا يفترقا عن بعض إلا وقد أخذ كل منهما السلعة من الآخر، أو المدفوع من الآخر. لكن هنا مسألة: وهي أن الذهب من حيث هو هناك عيار ثمانية عشر، وهناك عيار واحد وعشرون، وهناك عيار أربعة وعشرون، ففيه الأجود، وفيه الجيد، وفيه الرديء، وقد جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب)، وهذا اللفظ عام يشمل جميع أنواع الذهب إذا بودلت، فينبغي فيها التماثل. فلو قال قائل: إن هذا الذهب من عيار ثمانية عشر، وهذا الذهب من عيار أربعة وعشرين، فأنا سأدفع الفرق بين عيار أربعة وعشرين وعيار ثمانية عشر، فنقول: لا يجوز بيع الذهب بالذهب ولو اختلفا في الجودة إلا مثلاً بمثل، بدليل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه عامله على خيبر ومعه تمر، فلما وضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أعجبه، فقال صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله، إنا نبيع الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال صلى الله عليه وسلم: أوه -وهي كلمة التوجع- عين الربا، عين الربا، لا تفعل، ولكن بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً). ووجه الدلالة: أن التمر صنف ربوي، فنظر إلى التفاضل في الجودة والرداءة في التمر، فباع الرجل الجيد بالرديء متفاضلاً لقاء الجودة، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (عين الربا، لا تفعل)، ثم ذكر له الحيل الشرعية؛ لأن الحيل منها ما هو شرعي جائز، ومنها ما هو محرم، فأعطاه البديل، وقال له: (بع الجمع -أي: الرديء- بالدراهم، ثم اتبع بالدراهم جنيباً) أي: الجيد والصنف المطلوب. فهذا يدل على أنه إذا أراد أن يبادل صنفاً من الأصناف الربوية مطعوماً أو مثموناً، فلابد أن يكون مثلاً بمثل، ولو اختلفا في الجودة أو الصنعة أو العيار، فلابد من التماثل والتقابض؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم عتب على عامله أن فاضل من أجل الجودة، فدل على أنه لابد من التماثل بين الطرفين. والقول في الفضة كالقول في الذهب، فالفضة صنف من الأصناف الستة المنصوص عليها في الحديث، فإذا باعها بفضة مثلها فلابد من التماثل والتقابض، سواءً كانت الفضة خاماً، أو مضروبة دراهم، أو كانت مصنّعة حلياً أو غيره، فلابد من التماثل في جميع ذلك، ولا يجوز أن يستفضل فيبادل بعضها ببعض متفاضلاً. فيستوي في ذلك أن تكون الفضة معدناً، أو حلياً، أو نقداً يتعامل به كالدراهم، وفي زماننا الريال، فإن ريال الفضة القديم وجد بدله الريال الورق، فينزل منزلة أصله، ولذلك سمي باسمه، وأعطي مستنداً لأصله؛ بغض النظر عن المنتزع الذي يذكر من كونه يتوصل إلى رصيده أو لا يتوصل، فالعبرة بالأصل، فأصله دين، فيرد النظر عن القدرة على استيفائه أو عدم القدرة على ذلك. وبناءً على هذا: لو سأل سائل عن مبادلة الفضة بعضها ببعض؛ كامرأة عندها حلي من الفضة قديم، وتريد أن تستبدله بحلي من الفضة جديد، فنقول: لابد أن يكون مثلاً بمثل، يداً بيد. هذا بالنسبة للذهب والفضة، وبناءً على ذلك نكون قد انتهينا من جنس الأثمان.

المطعومات

المطعومات أما جنس المطعومات، فهناك أربعة أصناف نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي: البر، والتمر، والشعير، والملح. - فالبر والشعير جعلهما النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً للحبوب. - والتمر جعله أصلاً للحلويات؛ كالعسل والزبيب ونحوه. - والملح جعله أصلاً لما يستصلح به الطعام؛ كما يقع في الأدقة ونحوها. فهذه الأصناف تسمى بالأصناف المطعومة، فلو أخذنا البر، بأن يبيع البر بالبر، فينبغي أن يكون مثلاً بمثل، يداً بيد، سواءً كان كلا البرين جيداً، أو كان أحدهما جيداً والآخر رديئاً، أو كان أحدهما جيداً والآخر أجود منه، فلابد أن يبيع مثلاً بمثل. ولو قيل: كيف أبيع الجيد بما هو أردأ منه مثلاً بمثل؟ فيقال: إذاً بعه بالنقد، ثم اشتر بذلك النقد بديله وما تريد مقامه. فإذا قيل: هذا تعب وتكليف للناس، فيقال: هكذا جاءت السنة، ولا يسعك إلا أن تسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً)، فدل على أنه يعدل إلى الحيلة الشرعية التي نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكما قلنا في الذهب والفضة: يستوي الجيد والرديء، ولابد من التماثل والتقابض، فلو قال له: خذ البر الآن وأنا آخذ منك غداً، أو آتيك بعد ساعة، فإنه يعتبر ربا نسيئة، ولا يجوز إلا إذا كان يداً بيد مثلاً بمثل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (مثلاً بمثل، يداً بيد). وكذلك التمر: فإذا بادل التمر بالتمر فلابد أن يكون مثلاً بمثل بالكيل. والفرق بين التمر والذهب والفضة: أن الذهب والفضة تتحقق المماثلة فيهما بالوزن، وأما بالنسبة للتمر والبر والشعير والملح، ففي الأعراف المشهورة في العهد القريب تتحقق المماثلة فيها بالكيل، فلابد إذا باع طعاماً من تمر أن يماثله بصاعٍ مثله، فلو باعه الصاع بالصاعين أو الصاع بالصاع والنصف، فهذا هو الربا الذي حرم الله، وهو ربا الفضل.

اشتراط التماثل والتقابض في بيع الربوي بمثله

اشتراط التماثل والتقابض في بيع الربوي بمثله إذا علمنا هذا، وهو أن الأصناف الستة إذا بيع الصنف بمثله اشترط التماثل في الكيل كيلاً كصاع بر بصاع بر، أو صاع تمر بصاع تمر، وفي الوزن وزناً، كأن تقول: مائة غرام من الذهب بمائة غرام من الذهب، ولا يفاضل بينهما، سواءً اتفقت الصنعة أو الجودة أو اختلفت، فالحكم في الجميع واحد، فنقول: إن هذه الأصناف يشترط فيها التماثل والتقابض، ودليل ذلك ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (مثلاً بمثل، يداً بيد)؛ لأنه قال: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح) أي: بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح. فجعلها مقابلة لبعضها، فقال: (مثلاًَ بمثل) أي: بيعوها مثلاً بمثل، فدل على أنه لا يجوز بيعها عند فقد التماثل، كذلك أيضاً قال: (يداً بيد)، فلما قال صلى الله عليه وسلم: (مثلاً بمثل)، وقال: (يداً بيد)، أشار إلى نوعين من الربا: النوع الأول: ربا الفضل. النوع الثاني: ربا النسيئة.

وقوع ربا الفضل والنسيئة في الأصناف الربوية

وقوع ربا الفضل والنسيئة في الأصناف الربوية فأما ربا الفضل: فالفضل أصله الزيادة، وإذا قلت: فلان له فضل، أي: فيه زيادة من خير وطاعة وبر، فربا الفضل ربا زيادة، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: (مثلاً بمثل)، وقوله في معنى العكس: (ولا تشفوا بعضها على بعض)، أي: لا تزيدوا بعضها على بعض. وعلى هذا يتحقق ربا الفضل إذا كان الصنف واحداً من الأصناف الستة، سواءً بودل بمثله، أو بيع بمثله مع الزيادة في وزن أو كيل؛ كصاع بصاعين، وصاع بصاع ونصف، ومُدان بمُد، ونحو ذلك، والوزن مثل: مائة غرام بخمسين غراماً، أو مائة غرام بخمسة وسبعين، أو مائة بتسع وتسعين غراماً، كل هذا يعتبر من الربا، فلو نقص غرام واحد فإنه ربا. أما ربا النسيئة: فالنسيئة من النسأ، وأصله التأخير، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37]؛ لأنهم كانوا ينسئون ويؤخرون الأشهر الحرم عن مواقيتها، وسمي هذا النوع من الربا بربا النسيئة؛ لأنه يقوم على التأخير، فانظر إلى حكمة الشريعة وما جاءت به من العدل بين المتعاملين، فإنك إذا بعت الذهب بالذهب، فمن العدل إذا أعطاك مائة غرام أن تعطيه مائة غرام في مقابلها، ولا تؤخره كما لم يؤخرك، فالعدل يقتضي أن تنجز له وينجز لك. وبناءً على ذلك: لو بذل أحد الطرفين فقدم وأخر الثاني فإنه يقع ربا النسيئة، لكن بضوابط، فلو تأخر في الدفع فيقع ربا النسيئة بافتراق أحدهما عن الآخر قبل التقابض، فلو أنه قال له في مجلس العقد: عندي مائة غرام من السبائك، وأريدك أن تبادلني أو تبيعني بها مائة غرام من القلائد، فقال: قبلت، فهو لم يعطه شيئاً بعد، وتم الإيجاب والقبول، فمد له الحلي فتأخر الرجل يخرجها من بيته، أو يخرجها من شنطته، أو من كيسه، فلا يؤثر ما داما في مجلس العقد، على أصح قولي العلماء. وهناك قول آخر: وهو أنه لابد أن يعطي بيده ويستلم بالأخرى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عمر في الصحيح: (الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء)، أي: عندما تعطيه تقول: هه، وهو أيضاً يقول لك: هه، فمعناه: أنك تعطيه ويعطيك منابذة وحالاً، قالوا: فلو تأخر حتى ليدخل يده في جيبه لإخراج السلعة فإنه لم يتحقق قوله: (هاء وهاء)، فلابد أن يمد بيد ويعطيه بأخرى، وهذه المسألة يسمونها: مسألة صندوق التاجر، حيث كانوا في القديم يأتي ويكلم التاجر ومعه الحلي، فينزل التاجر إلى الصندوق ويخرج منه، كما هو موجود الآن في (البترينة) أو نحوها حين يقفلها ويفتحها حتى يستخرج منها المبيع، فقالوا: لا يجوز له أن يتعاقد معه إلا إذا نجز، وهذا المذهب فيه تشدد، لكن فيه رحمة.

الحكمة من تحريم الربا

الحكمة من تحريم الربا والناس قد ينظرون للحكم هكذا ويظنون أن فيه شدة وعسراً، لكن للشريعة حكم عظيمة؛ فإن هذا الاشتراط للتقابض يدفع عن الناس من الشر ما الله به عليم. وكثير من المظالم تقع بسبب عدم التقابض، حتى إن أحد خبراء الاقتصاد من الكفار المعاصرين لما قرأ شرط الشريعة في التقابض، قال: لو أن العالم طبق شرط الشريعة الإسلامية في التقابض في النقدين، فإن ثلاثة أرباع مشاكل الاقتصاد سوف تنتهي؛ لأن التعامل كله بالكلام، والنكسات التي تقع حينما يحدث السحب بالسيولة غير موجودة، فتحدث بسبب ذلك الديونات والإحراجات، ويحصل بسبب ذلك الظلم. ومن هنا اشترطت الشريعة التقابض؛ لأنه يدفع باب الاحتيال، فلو قال لك: أبيعك مائة دولار مثلاً من الذهب، وأعطيته النقد ولم يعطك إياها، فربما قال لك: أبيعها لك، وسجلها دون أن تكون موجودة في رصيده، بزعمه أنك إذا جئت تطلبها في أي وقت فإنه سوف ينجزها لك، فربما جئت تطلبها في أحرج الأوقات، فتصيبه النكسة، فيضر بنفسه. وأيضاً أضر بغيره؛ لأنه ربما وقف العاجز الذي لا يستطيع أن يسدد ديونه لقاء السحوبات، كما يقع في بعض المصارف نكسات بسبب عدم وجود السيولة، فالشريعة لم تشترط هذا من فراغ، ولنمثل لذلك بمثال في مسألة دفع الضرر على هذا النطاق العام وهو ضرر أخف، فمثلاً: إذا جئت إلى رجل وأعطيته خمسمائة ريال وأنت تريد صرفها، أو اشتريت مثلاً بعشرة ريالات وأعطيته خمسمائة ريال، فإنه يأخذها مباشرة ويرميها في الصندوق ثم يقول: كم أعطيتني؟ فتقول: خمسمائة، فيقول: لا، بل أعطيتني مائة. فتقول: أعطيتك مائة. فيقول: لا، بل أعطيتني خمسين. فتقول: خمسين. فيقول: بل عشرة، هذا إذا لم يقل لك: لم تعطني شيئاً؛ لأنه ينسى. فالشريعة تريد العدل، فإذا أخذ منك الذهب أعطاك مقابله باليد الأخرى؛ لأنك رضيت أن تبذل ذهبك لأجل العوض، فهذا كله مبني على حكمٍ عظيمة، فإن اشتراط التقابض وتحريم النسأ فيه دفع للضرر عن العامة والخاصة.

التفصيل في بيع الربويات بعضها ببعض

التفصيل في بيع الربويات بعضها ببعض وبناءً على ذلك فالأصناف الستة يشترط فيها التماثل والتقابض، وهذا كله إذا وقع التبايع بالصنف بمثله، كذهب بذهب، وفضة بفضة، وبر ببر، وتمر بتمر، وشعير بشعير، وملح بملح، لكن لو وقع التعامل مع الاختلاف، فإن الحكم يختلف، فإذا حصل الاختلاف اليسير اختلف الحكم يسيراً، وإذا وقع الاختلاف الكلي اختلف الحكم كلياً، وحكم بجواز التفاضل وجواز النسأ والتأخير. وتوضيح ذلك: أن الأصناف الستة إذا بعتها مختلفة، فإما أن تبيعها مع اتحاد الجنس واختلاف النوع، وإما مع اختلاف الجنسين، فنقسم الستة إلى أثمانٍ ومطعومات، فالأثمان الذهب والفضة، والمطعومات الأربعة الباقية، فالذهب والفضة إذا بيعا مختلفين فإن جنسهما واحد، أي: جنس أثمان، فإذا بعت مع اتحاد الجنس واختلاف الصنف فيشترط التقابض فقط، فيجوز أن تبيع الكيلو من الذهب بالكيلوين من الفضة، لكن بشرط أن يكون يداً بيد، ولا يجوز أن يؤخر أحد المتعاقدين، فإذا اتفق جنس الثمن واختلف الصنف، كذهب بفضة، قلنا: يجوز التفاضل ولا يشترط التماثل، ويجب التقابض، فلا يفترقان عن مجلس العقد إلا وقد أعطى كل منهما للآخر ما له عليه. مثال ذلك: لو جئت تشتري بالريالات الموجودة -ورصيدها فضة- ذهباً، وقال لك: الجرام بأربعين ريالاً، فاشتريت عشرة جرامات بأربعمائة ريال، أو مائة جرام بأربعة آلاف ريال، فيجب عليك أن تعطيه الثمن ويعطي لك الجرامات يداً بيد، فلا تفترقا عن مجلس العقد إلا وقد قبض كل منكما سلعة الآخر، أو ما عند الآخر. فلو أن أحدكما أخر وافترقتما، فقد وقع ربا النسيئة من وجه واحد، وعند الانسحاب من الوجهين يجري الربا من وجهين، وعند اتحادهما من وجه واحد يجري الربا من وجه واحد، فيجري النسأ فقط ويجوز التفاضل. أما لو اختلف الجنسان؛ كذهب بواحد من الأصناف الأربعة المطعومة، أو فضة بواحد من الأصناف الأربعة المطعومة، فيجوز التفاضل ويجوز النسأ، فيجوز أن تبيع الكيلو من الذهب بألف كيلو من التمر؛ لأنه لا يشترط التماثل، كذلك أيضاً يجوز أن تعطيه النقد الآن وتستلم منه التمر بعد يوم، أو بعد شهر، أو بعد سنة، ولا بأس بذلك؛ لأنه لا يوجد الربا لا من جهة التفاضل ولا من جهة التقابض. وعليه قال العلماء: إن الأصناف الستة يجري فيها الربا من وجهين بشرط اتحاد الجنس والصنف، كذهب بذهب، وفضة بفضة، وبقية الأصناف الأربعة على ذلك، ويجري الربا من وجه واحد وهو ربا النسيئة، إن باع مع اختلاف الصنف واتحاد الجنس، كأن يتحد جنسهما كالأثمان، فيبادل الذهب بالفضة، فيجوز التفاضل بأن يبيعه الكيلو بالكيلوين، ولا يجوز النسأ وهو التأخير. وكذلك لو باع البر بالتمر، فيجوز الصاع بالصاعين وبالثلاثة، ولكن يجب أن يكون يداً بيد، أما لو اختلف الجنسان كذهب ببر، أو تمر أو شعير أو ملح أو فضة بتمر أو شعير أو ملح، فإنه يجوز التفاضل ويجوز النسأ، ولا ربا في هذا النوع من البيع.

الربا في غير الأصناف الستة المنصوص عليها

الربا في غير الأصناف الستة المنصوص عليها أما الأصناف التي سكت عنها الشرع، فجماهير السلف رحمة الله عليهم ومنهم الأئمة الأربعة على أنه يجري فيها الربا ولكن بشروط، وخالف في ذلك الظاهرية رحمهم الله، فقالوا: لا يجري الربا إلا في الأصناف الستة. ومذهب الجمهور هو الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما ذكر هذه الأشياء ذكرها أصولاً لغيرها، فذكر البر والشعير أصلاً للحبوب، فتقيس الأرز الموجود في زماننا والدخن والعدس والفاصوليا واللوبيا وغيرها من الحبوب ونحوها على البر والشعير. كذلك أيضاً ذكر التمر لكي يقاس عليه الزبيب، والعسل، والحلوى، مما يباع كيلاً أو وزناً من جنس المطعومات، فجعلها أصلاً لغيرها. وجعل ذكر الملح لكي يقاس عليه ما يستصلح به الطعام؛ كالأدقة ونحوها مما يوجد من البهارات الموجودة في زماننا. إذاً: ليس من فراغ جاء قوله عليه الصلاة والسلام: البر والتمر والشعير والملح، إنما جاء تنبيهاً على المثل، ولذلك صح عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه قال: (وكذلك ما يكال ويوزن)، وهو صحابي جليل فجعل ما يكال ملحقاً بالأصناف الأربعة المنصوص عليها كيلاً، وجعل ما يوزن ملحقاً بالمنصوص عليه من الذهب والفضة؛ لأنه كان يباع وزناً. إذا علمنا أن الأصح أن الربا يجري في غير هذه الأصناف الستة، فلو سأل رجل عن الأرز الموجود في زماننا، أو سأل عن البرتقال أو التفاح أو الموز، وهذا من جنس المطعومات، أو سأل عن غير الطعام كالحديد أو النحاس أو الألمنيوم أو غيرها من المعادن، هل يجري فيها الربا أم لا؟ بمعنى: لو باع الرجل حديداً متفاضلاً؛ كطن من الحديد الصلب -وهو أجود أنواع الحديد- بنصف طن من الحديد الزهر، وهو رديء، فقال: أردت أن أبادل الحديد بالحديد متفاضلاً، فهل يجوز أم لا يجوز؟ كذلك يسأل الناس في زماننا هذا -ونحب أن نمثل بأمثلة موجودة الآن حتى يكون التطبيق واضحاً- فلو سأل عن ثلاجة بثلاجتين، أو سيارة بسيارتين، هل هذا من الربا؟ والسؤال عن الربا إنما يكون عند الزيادة؛ بل ربما يسأل: القلم بقلمين أو الدفتر بدفترين هل يجري فيه الربا أم لا؟ فكل واحد يسأل عما أشكل عليه أو وقع فيه، ومن هنا تسأل عن كل صغيرة وكبيرة موجودة في زمانك، فإن الموجود في زماننا أكثره غير منصوص عليه في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الذي لم ينص عليه النبي صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما كان من جنس المطعومات. القسم الثاني: ما كان من غير جنس المطعومات. مثال ذلك: لو أخذنا الحلوى الموجودة في زماننا وبعناها من جنس غير المطعومات، مثل الثلاجات أو الحديد أو النحاس، فهل يجوز بيع هذه الأشياء إذا اتحدت أصنافها متفاضلة؟ هذا يحتاج إلى تفصيل. وتوضيح ذلك أن يقال: نأخذ أولاً غير المطعومات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بها، فقال: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة)، فذكر لنا الأصل في غير المطعوم، وهو الذهب والفضة، فإن الله حرم بيع الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل؛ لمكان العدل، فإنه إذا باع الذهب بالذهب متفاضلاً، فهنا يوجد ظلم. ومن هنا قال طائفة من العلماء رحمهم الله، وهو رواية عن الإمام أحمد، وذكر المرداوي رحمه الله صاحب الإنصاف أن المذهب عليها، وهو مذهب الحنفية أيضاً: أن العلة في الذهب والفضة الوزن، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب وزناً بوزن، والفضة بالفضة وزناً بوزن)، فكأن مقصود الشرع حصول التماثل بالوزن، فما كان يوزن من غير المطعومات فلابد فيه من التعادل والتكافؤ في الوزن. ومن هنا إذا باع الموزون بالموزون مع اتحاد الصنف وقع الظلم، وقالوا: إن الموزونات من غير الذهب والفضة تقاس على الذهب والفضة، فلا يجوز بيعها متفاضلة مع اتحاد الصنف، فلو سأل رجل وقال: عندي عمارة وأريد أن أبنيها، فأخذ لها قطعة حديد من الرديء، وجاءه رجل وقال: هذا الطن الذي هو ألف كيلو عندك أريد أن أبادله بنصف طن من الصلب الذي هو أجود عندي، فهل يجوز أم لا يجوز؟ نقول: لا يجوز بيع هذا الحديد بمثله متفاضلاً؛ لأنه موزون، قياساً على الذهب والفضة. كذلك لو سأل عن النحاس -وقد جرى العرف ببيعه وزناً- عن طن منه بنصف طن، أو طن بطن ونصف، فنقول: لا يجوز؛ لأنه موزون؛ كما لا يجوز بيع الذهب بالذهب متفاضلاً. لكن لو أن غير المنصوص عليه -الذي قسناه على الذهب والفضة الذي هو الحديد والنحاس ونحوها من المعادن- لو دخلت فيه الصنعة فأخرجته عن كونه موزوناً إلى كونه معدوداً أو مذروعاً فما الحكم؟ من باب المناسبة حتى يكون الحكم واضحاً: الوزن مثل الغرامات، ومثل الكيلو والطن، ونحو ذلك، والكيل كالصاع واللتر، فإن اللترات تسمى كيلاً، فلا يفهم البعض أن الكيل هو الكيلو غرام؛ بل الكيل مثل الصاع والمد والرطل، ونحوها كاللترات الموجودة في زماننا. فهناك ما يباع عدداً كالسيارة، فإن السيارة لا تباع وزناً ولا كيلاً ولا بالذرع، وإنما تباع بالعدد، فتقول: أريد سيارة بسيارتين، والإبل والبقر والغنم كلها تباع بالعدد، فعندنا أشياء تباع بالوزن، وأشياء تباع بالكيل، وأشياء تباع بالعدد، وأشياء تباع بالذرع. والذرع مثل القماش فإنه يباع بالمتر، وكذلك المخططات في الأراضي تباع بالذرع، فالشيء الذي يباع بالوزن من غير المطعوم لابد أن يكون مثلاً بمثل، لكن لو دخلت فيه الصنعة فأخرجته عن كونه موزوناً إلى كونه معدوداً أو مزروعاً، مثال ذلك: لو أن رجلاً عنده طن من الحديد، ثم أخذ هذا الطن فقطعه قطعاً وأوصالاً بالأمتار، وأصبح يبيع مثلاً المتر بكذا، وحينئذٍ خرج عن كونه مباعاً بالوزن إلى كونه مباعاً بالذرع. كذلك أيضاً قد يباع بالعدد، كأن يبيع بالواحدة أو بالاثنتين أو بالثلاث، وكما لو أخذ الحديد فصنعه سيارة، أو أخذ الحديد فصنعه ثلاجة أو غسالة أو نحو ذلك، فأخرجته الصنعة عن كونه موزوناً إلى كونه معدوداً أو مذروعاً، فما الحكم؟ قالوا: إذا أخرجته الصنعة عن كونه موزوناً إلى كونه معدوداً أو مذروعاً جاز التفاضل وحرم النسأ، فيجوز أن يبيع القطعة بالقطعتين، والسيارة بالسيارتين وبالثلاث وبالأربع؛ لأن المعدودات قد يحصل العدل فيها مع اختلاف العدد، فالبعير الواحد قد يعادل ثلاثة أبعرة، ومن هنا قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ البعير بالبعيرين والفرس بالأفراس إلى إبل الصدقة)، وهي معدودات، فأجاز في المعدود التفاضل، وبناءً على ذلك قالوا: إذا أخرجته الصنعة عن كونه موزوناً إلى كونه معدوداً فإنه يجوز فيه التفاضل. ولو سأل سائل فقال: هل يجوز بيع السيارة بالسيارتين؟ فنقول: نعم؛ لأنها ليست من جنس الربويات فتأخذ حكم الربوي، أعني: أن التفاضل فيها مغتفر، كالغسالة بالغسالتين، أو الثلاجة بالثلاجتين، فأي شيء من غير المطعوم إذا كان غير موزون جاز فيه التفاضل. كذلك في الخشب: وهذا يقع حينما يشتري الخشب مثلاً بالوزن وهو خام لم يقطع ولم يفصل، فأراد أن يبادله بمثله، فهذا لا يجوز إلا مثلاً بمثل، لكن لو أن هذا الخشب يباع بالعدد، مثل ألواح الأبلكاش فإنها تباع بالأذرعة: المتر والمتر والنصف، وتباع بالعدد فيقول: اللوح واللوحان والثلاثة، وكل عشرة بكذا. فخرجت عن كونها موزونة، فعندما تأتي وتشتري ألواح الخشب فلا تسأل: كم وزنها؟ إنما تقول: أريد لوحاً أو لوحين من صنف كذا وكذا، فإنه صار من جنس المبيعات بالعدد، فإذا أخرجت الصنعة الموزون إلى كونه معدوداً أو مذروعاً، جاز التفاضل، وحينئذٍ فلا يكون من جنس الربوي المنصوص عليه من كل وجه. وهناك قول ثانٍ في ثبوت العلة في الذهب والفضة وهو أن العلة هي الثمنية، أي: كونهما رءوساً للأثمان، وقيماً للأشياء، والثمنية يسميها علماء الأصول: علة قاصرة، ولا يقاس عليها غيرها؛ لأن الله جعل في الذهب والفضة خصيصة، كما نبه على ذلك الإمام المقدسي رحمه الله في مختصر منهاج القاصدين. وهذه العلة يقول بها الجمهور من المالكية والشافعية، وهي رواية عن الإمام أحمد: أن الذهب والفضة جرى فيهما الربا لكونهما ثمناً للأشياء وقيماً لها، وهذه العلة القاصرة مختلف فيها عند علماء الأصول، فبعضهم لا يرى التعليل بها، ولذلك يقول صاحب المراقي: وعللوا بما خلت عن تعدية ليعلم امتناعه والتقوية ومذهب الجمهور على أنه يجوز التعليل بالعلة القاصرة، لكن إذا قلنا: العلة في الذهب والفضة هي الثمنية، بناءً على القول الثاني، فإن الربا عندهم لا يجري في غير الطعام أياً كان ذلك، ولو كان موزوناً، إلا في الذهب والفضة. فعلى مذهب الجمهور فبيع الطن بالطنين من الحديد يجوز، وبيع الطن بالطنين من النحاس يجوز؛ لأنهم لا يرون جريان الربا في غير المطعوم إلا في الذهب والفضة فقط. وأما بالنسبة للمطعومات فقد اختلف العلماء رحمهم الله في علتها على أقوال: - فقيل: الكيل، كما هو مذهب الحنفية، ورواية عن الإمام أحمد. - وقيل: الطعم، كما هو مذهب الشافعية، ورواية أيضاً عن الإمام أحمد. - وقيل: القوت والادخار، كما هو مذهب المالكية. - وقيل: الطعم مع الكيل أو الوزن، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال بها بعض السلف، كما هو قول سعيد بن المسيب وطائفة، وهو أرجح الأقوال. أما الطُعم فلنهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل، فهذا حديث معمر بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه يدل على قوة قول القائل: إن العلة هي الطعم مع الكيل أو الوزن. وبناءً على هذا القول -أن العلة هي الطعم مع الكيل أو الوزن- فكل طعام ينظر فيه: إن كان يباع كيلاً أو وزناً جرى فيه الربا من الوجهين عند اتحاد الصنف، وإن كان يباع عدداً لم يجر فيه الربا. فمثلاً: الطعام مثل الأرز الموجود في زماننا، يباع وزناً وكيلاً بأن تضعه في الصاع، فتقول: صاع من الأرز أو صاعان، ونحو ذلك. أيضاً يباع الطعام عدداً كالبطيخ، فتقول: أعطن

مسائل في الربا

مسائل في الربا ابتدأ المصنف رحمه الله بالقاعدة العامة، ثم ذكر تطبيقات لما يحرم فيه الربا من وجهين، ولما يحرم فيه الربا من وجه واحد، ثم بعد أن قرر أصول الربا انتقل إلى بيوع ذرائع الربا؛ لأن المحرمات الربوية تنقسم إلى: منصوص عليها، وملحقة بالمنصوص عليها، وهناك أشياء من البيوع في ظاهرها أو صورتها ليس فيها الربا، لكنها تئول إلى الربا، ويسمونها: بيوع الذرائع الربوية، كبيع ربوي مع الربوي وغير الربوي، وبيع العينة، ونحو ذلك مما سيبينه رحمه الله.

تحريم ربا الفضل في مكيل وموزون بيع بجنسه

تحريم ربا الفضل في مكيل وموزون بيع بجنسه قال المصنف رحمه الله تعالى: [يحرم ربا الفضل في مكيل وموزون بيع بجنسه] إذا باع براً ببر، فيحرم ربا الفضل، وإذا حرم ربا الفضل فاعلم أن ربا النسيئة حرام، وإذا قلت: يحرم النسأ فقد يجوز التفاضل وقد يحرم، إذاً: تحريم النسأ لا يستلزم وجود ربا الفضل، وتحريم الفضل يستلزم وجود ربا النسيئة، وهذا هو الذي جعل ربا النسيئة أقوى من ربا الفضل. وعليه حمل قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أسامة: (لا ربا إلا في النسيئة)؛ وذلك لأنه أغلب وأكثر نوعي الربا انتشاراً، فيكون قوله: (لا ربا إلا في النسيئة) ليس المراد به الحصر، وإنما المراد به التعظيم، كقوله: (الحج عرفة)، فلما كانت أكثر مقاصد الحج في عرفة جعل الحج كأنه الوقوف بعرفة، وكذلك لما كان أكثر الربا في النسيئة، كان هذا خارجاً مخرج التعظيم، وليس المراد به حصر الربا في النسيئة. وقوله: (وموزون) الموزون سواءً كان مطعوماً أو غير مطعوم، إذا بيع بجنسه فلابد أولاً أن يكون من الأصناف الربوية، فإن كان من جنس المطعومات، قلنا: العلة الطعم مع الكيل أو الوزن، وإن كان من غير المطعومات فإن العلة فقط هي الوزن. فجاء بالأصل العام الذي هو الكيل والوزن؛ لأن المصنف رحمه الله رجح أن المطعومات العلة فيها الكيل فقط، وهي رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، وقد بينّا أن الأقوى والأرجح أن العلة هي الطعم مع الكيل أو الوزن. وقوله: (بيع بجنسه) بناءً على ذلك فإن البر مع البر والتمر مع التمر والملح بالملح كله يجري فيه الربا من الوجهين، لكن لو خرجت عن المنصوص عليه فسُئلت عن الأرز أو الحلوى، أو غير ذلك من المكسرات الموجودة في زماننا؟ فتقول: فيها تفصيل: فإن كانت مكيلة أو موزونة فلا يجوز بيع الجنس الواحد بمثله إلا مثلاً بمثل، يداً بيد، وإن كانت تباع بالعدد جاز التفاضل، ولكن يجب أن يكون يداً بيد.

اشتراط الحلول والتقابض عند بيع الربوي بالربوي

اشتراط الحلول والتقابض عند بيع الربوي بالربوي قال رحمه الله: [ويجب فيه الحلول والقبض]: أي: أن يكون البيع حالاً، وأن يتقابضا في المجلس، وعلى هذا فلا يجوز بيع الربوي بالربوي مؤجلاً، كأن يقول له: تعطيني غداً، وأعطيك غداً، أو أعطيك بعد شهر، أو تعطيني بعد شهر، فإن هذا بيع الدين بالدين، والربا فيه من الوجهين ولا إشكال. وكذلك أيضاً: لو أخر أحدهما، فقبض أحدهما ولم يقبض الآخر، فإنه لا يجوز، بل لابد من التقابض بأن يكون ذلك حالاً، فيعطي هذا ويعطي ذاك. أما الدليل على هذا فقوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب رباً إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة رباً إلا هاء وهاء)، فنبه على لزوم التقابض في قوله: (هاء وهاء)، وهذا يستلزم أن يكون البيع على البت فيه دون أن يكون مؤجلاً من الطرفين أو أحدهما.

بيع المكيل والموزون بجنسه كيلا أو وزنا

بيع المكيل والموزون بجنسه كيلاً أو وزناً قال رحمه الله: [ولا يباع مكيل بجنسه إلا كيلاً]. هنا مسألة التماثل، وقد ذكرنا أنه لابد من التماثل في بيع الأصناف الأربعة المطعومة إذا كانت مكيلة، فإذا قلنا: إن العلة في المطعوم هي الكيل، فلا يجوز بيع المكيل من المطعومات كلها بمثله إلا أن يتساويا في الكيل، ولا يعدل إلى الميزان. مثلاً: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يباع التمر مثلاً كيلاً، فتبيع الصاع بالصاع، لكن لو قال لك قائل: أريد أن أبادلك مائة كيلو من التمر، فنقول: هذا ليس كيلاً إنما هو وزن، ولا يجوز في المكيل أن يباع بالوزن لمثله؛ لأن التماثل في الكيل يختلف عن التماثل في الوزن، ولذلك قالوا: لا يجوز بيع الربوي إذا كان مكيلاً بمثله إلا كيلاً. وهذا كله من باب تحقيق التماثل الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، فالتمر من حيث هو فيه الأقماع، والقمع الموجود في التمر يزيد من وزنه، وإن كان شيئاً يسيراً، لكنه في الغرامات تظهر زيادته، فلوكان هناك صاع من التمر بأقماع، فإنه يزيد في الوزن، ولو كان التمر مجرداً مفصلاً من القمع، فمعنى ذلك أن الغرامات تستوي ولا يتحقق التماثل. والتمر فيه الطويل وفيه القصير، ففي الكيل يكون التماثل بالجنس، ولكن في الوزن يكون التماثل بالثقل، والتماثل في الشريعة عندما جاء بالكيل يتحقق في المكيل كيلاً، وفي الموزون وزناً. وقوله: [ولا موزون بجنسه إلا وزناً]: كما ذكرنا على أنه في الكيل لا ينضبط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالذهب وزناً بوزن)، وعلى هذا فلا يجوز بيع المكيل بالوزن ولا الموزون بالكيل، تحقيقاً للتماثل، وخوفاً من وقوع التفاضل في الوزن، وحينئذٍ لا يتحقق مقصود الشرع من التكافؤ بين المدفوعين من الطرفين: البائع والمشتري.

بيع الجزاف

بيع الجزاف قال رحمه الله: [ولا بعضه ببعض جزافاً]. وهذا التطبيق الذي ذكره المصنف رحمه الله هو في الحقيقة تطبيق لقاعدة: (بالكيل كيلاً وبالوزن وزناً)، وما دام أن الشريعة أمرت بالتماثل في المكيلات وفي الموزونات، فمعنى ذلك: أن يتحقق التماثل في الكيل كيلاً وفي الوزن وزناً؛ لأننا ذكرنا أن المكيلات قد تختلف في الوزن. وبناءً على هذا يختلف مقصود الشرع ببيع المكيل وزناً والموزون كيلاً، وكذلك ببيع بعضها ببعض جزافاً، فالمخالفة تتحقق بإحدى: - إما أن تجعل هناك وحدة تخالف الكيل، إن كان يباع بالكيل، أو تخالف الوزن إن كان يباع بالوزن. - وإما أن يقع الجهل بالتماثل، ولذلك يذكرون قاعدة: (الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل)، وهذه القاعدة تنطبق على مسألة بيع بعضه ببعض جزافاً. والجزاف: كأن يأخذ منه كوماً، أو يقول: هذا الكوم بهذا الكوم، فقد يكون أحدهما أكثر من الآخر كيلاً إن كان من جنس المكيلات، أو وزناً إن كان من جنس الموزونات، كما يقع في خامات بعض المعادن، فلو أنه خالف في الموزون أو المكيل فخرج عن ضبطه بالكيل والوزن -سواءً مع المخالفة بالمقادير المعروفة أو بالجزاف- فإن بيع المكيل بالوزن فات التماثل وخشي أن يكون ذريعة لفوات التماثل، وكذلك أيضاً إذا لم يوجد العيار الذي هو الكيل والوزن فباع جزافاً، ككوم من الطعام بكوم من الطعام، بل حتى لو قال: أبيعك هذا الكوم من الذهب بهذا الكوم، ولا نعرف كم مقدار هذا الكوم وزناً ولا هذا الكوم وزناً؛ فإن هذا يوجب الوقوع في المحرم. ولذلك قالوا في القاعدة: (الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل) أي: إذا باعه جزافاً فقد جهلنا التماثل وما تحققنا أن الوزن واحد، قالوا: فإذا جهل التماثل في بيع الربوي بالربوي فكأنه تُحقق من بيعه متفاضلاً.

باب الربا والصرف [2]

شرح زاد المستقنع - باب الربا والصرف [2] مسائل الربا كثيرة ومتشعبة، وقد تخفى على الكثير من الناس، ومن تلك المسائل: بيع الربوي مع اتحاد الجنس أو اختلافه، وبيع لحم الحيوان بجنسه وبغير جنسه، وبيع الحب بدقيقه أو سويقه، وبيع الأصل بعصيره، وبيع الحب الخالص بالمشوب، وبيع الرطب باليابس، وبيع الربوي بجنسه إذا استويا وغيرها من المسائل المتعلقة بالربا.

تابع مسائل في الربا

تابع مسائل في الربا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

حكم بيع الربوي مع اتحاد الجنس أو اختلافه

حكم بيع الربوي مع اتحاد الجنس أو اختلافه قال رحمه الله: [فإن اختلف الجنس جازت الثلاثة] هناك ثلاث صور: - الصورة الأولى: أن يكون البيع مع اتحاد الجنس والصنف، فيجري فيه الربا من وجهين. - الصورة الثانية: أن يتحد الجنس ويختلف النوع، فيجري فيه الربا من وجه واحد. - الصورة الثالثة: أن يختلف الجنسان، فلا يجري فيه ربا التفاضل ولا النسيئة. فإذا اتفق الجنسان والصنفان حرم التفاضل والنسأ، وإذا اختلف الجنسان جاز أن يباع كيلاً، ووزناً، وجزافاً، فلا بأس بذلك ولا حرج فيه؛ لأنه لا يشترط فيه التماثل. وقوله: [والجنس ما له اسم خاص يشمل أنواعاً]: هذا الجنس الأخص. وقوله: [كبر ونحوه]: البر منه الشامي والحجازي، وغيرهما من الأنواع الأخرى، فهو جنس واحد ولكنه يشمل أنواعاً، وهناك بعض المطعومات يكون جنسها واحداً، وهناك الأجود والجيد والأوسط والرديء، فهو يشمل أنواعاً متعددة. فعندما نقول: البر يشمل عدة أنواع، والذهب يشمل جيده ورديئه، فيشمل: السبائك والخام والحلي والمضروب؛ فالجميع لابد فيه من التماثل والتقابض إذا اتحد صنفه وجنسه. وقوله: [وفروع الأجناس كالأدقة والأخباز والأدهان]. الدقيق يكون من البر ومن الشعير، فدقيق الشعير لا يباع بدقيق الشعير ولا يباع بشعير، ولو اختلف الدقيق؛ كدقيق من شعير مشرقي مثلاً بدقيق من شعير مغربي، فنقول: إن اختلاف نوعيهما لا يمنع من الحكم الأصلي من وجوب التماثل فيهما، فلابد من بيعها متماثلة، ويكون ذلك يداً بيد. وهكذا الأرز، فإن الأرز عدة أنواع، فلو أراد رجل أن يبادل كيساً من الأرز بكيس من نوع آخر، فنقول: فروع هذه الأجناس كل فرع منها إذا كان له اسم خاص وبيع بمثله فإنه يجب أن يباع يداً بيد، مثلاً بمثل، فالأرز أياً كان نوعه لابد فيه من التماثل، وهو جنس ويشمل أنواعاً عديدة، لكن يجب فيها التماثل جميعاً جيدها ورديئها وأوسطها. وقوله: [واللحم أجناس باختلاف أصوله]. فهناك لحم إبل، ولحم بقر، ولحم غنم، ثم هذه الأنواع تحتها أنواع، فالإبل مثلاً هناك لحم لصغار الإبل، ولحم لكبار الإبل، أو لحم من إبل عرابية ولحم من إبل بختية، فالجميع يجب فيه التماثل، لكن لو بيع لحم إبل بلحم غنم، فنقول: إن فروع الأجناس أجناس، فلحم الإبل جنس ولحم الغنم جنس، فيجوز أن تبيع لحم الإبل بلحم الغنم متفاضلاً في الوزن، ولكن يداً بيد؛ لأنه مطعوم موزون. فإذا سأل سائل عن بيع اللحم باللحم؟ فنقول: فيه تفصيل: فإن اتفقا فكانا من نوع واحد: كلحم إبل بلحم إبل، فيجب التماثل والتقابض، فهو صنف واحد، وأما إذا اختلف كلحم إبل بلحم بقر، أو لحم إبل بلحم غنم، فإن هذا جنس وهذا جنس، فيجوز التفاضل ويجب التقابض. وقوله: [وكذا اللبن]. فهناك لبن البقر، ولبن الغنم، ولبن الإبل، فمثلاً: اللبن الذي يباع يوجد منه في السوق بالألتار، ويكتب على العلبة: نصف لتر، أو لتر، وهذا اللتر يكون من جنس المكيلات، فلو سأل سائل عن مبادلة كرتون من هذا النوع من الحليب بكرتونين من نوع آخر من نفس الحليب، لكن هذا حليب مراعٍ والآخر نوع آخر فنقول: ما دام أنه لبن بقر فيجب فيه التماثل والتقابض، الكرتون بالكرتون مع التماثل في الكيل، كمائة لتر بمائة لتر، ويكون يداً بيد. لكن لو كان أحد الكرتونين من لبن البقر، والكرتون الآخر من لبن الإبل، فنقول: يجوز بيع الكرتون بالكرتونين والثلاثة؛ لأن الجنس واحد، ولكن النوع مختلف، فلا يشترط التماثل. وقوله: [والشحم]. الشحم المأخوذ من بهيمة الأنعام يختلف، فهناك الشحم الذي يؤخذ من الإبل أو البقر أو الغنم، فإذا باع شحوم الإبل فيجب التماثل والتقابض، إذا كان بعضها ببعض، وكذلك البقر والغنم. لكن لو أراد أن يبادل شحم الإبل بشحم الغنم، جاز التفاضل ووجب التقابض، إذاً: إذا ضبطت القاعدة فهذه كلها أمثلة تطبيقية على ما يشترط فيه التماثل والتقابض. وقوله: [والكبد أجناس]. فالكُبود التي تكون من الإبل لها حكم، والكُبود التي تكون من البقر لها حكم، والكُبود التي تكون من الغنم لها حكم، فإذا باع كبود الإبل فتقول: إذا كان بعضها ببعض وجب التقابض والتماثل، وإن كانت كبود إبل بكبود بقر جاز التفاضل ولم يجز النسأ.

حكم بيع لحم بحيوان من جنسه وبغير جنسه

حكم بيع لحم بحيوان من جنسه وبغير جنسه قال رحمه الله: [ولا يصح بيع لحم بحيوان من جنسه]. فلو ذبح الجزار شاة، وأتى رجل وعنده شاة حية، فرغب في هذه الشاة المذبوحة، وأراد أن يعطيه الشاة الحية ويأخذ المذبوحة، ومعلوم أن الشاة وهي حية من المعدودات، واللحم بعد ذبحه موزون. وبالمناسبة: فإن بيع الحيوانات بالوزن لا يجوز، وهذا نص عليه العلماء؛ وذلك لأنه من بيع الغرر؛ لأن الشاة قد تشرب الماء فيثقل وزنها، وقد يعطيها طعاماً فتثقل في الميزان، وهذا من الغرر، ومن ثم حرم العلماء بيع الحيوانات موزونة، لكن لو ذبحت فإنه يجوز بيعها موزونة. والشاة والبقرة والناقة لهن أحوال، فهناك ما تسمى بالشاة الحلوب، والناقة الحلوب، وهناك الناقة الركوب، وهناك شاة يراد منها الحليب، وهناك ناقة يراد منها الحليب، ويقال لها: ناقة حلوب، وهناك ناقة تراد للركوب، ويقال لها: ناقة ركوب، وهناك ناقة أكولة فيها لحم طيب، وهذا يرجع إلى أهل الخبرة، فإنهم يرون فيها أوصافاً معينة ويبنون عليها أنها صالحة للأكل. فهناك ما يطلب للأكل، وهناك ما يطلب للركوب، وهناك ما يطلب للحليب، ولذلك قال: (من جنسه). وبعض العلماء يقول: الأصل في تحريم بيع الحيوان باللحم نسيئة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الحيوان باللحم نسيئة)، وهو مرسل من مراسيل سعيد بن المسيب رحمه الله، وقد أجاز بعض العلماء بيع الحيوان باللحم، وقالوا: يجوز أن يبيعه متفاضلاً لا نسيئة؛ لأنه من جنس المطعوم، أما إذا باع الشاة المذبوحة بشاة أكولة، فإن المراد من الشاتين واحد، فحينئذٍ يمتنع، وأما إذا باع الشاة الأكولة بالشاة الحلوبة فإنه يجوز؛ لأن المقصود مختلف، وهذا وجه خرجه بعض العلماء، خاصة وأنهم يرون ضعف الحديث المرسل عن سعيد بن المسيب رحمه الله. وقوله: [ويصح بغير جنسه]: أي: إذا باع الحيوان بغير جنسه، فلو أن جزاراً قال لك: أعطني مائة رأس مذبوحة من الغنم وأعطيك بدلاً عنها خمسين رأساً من البقر، فنقول: يجوز؛ لأن جنس البقر غير جنس الغنم، فيجوز التفاضل، ولكن يجب أن يكون ذلك يداً بيد؛ لأن كلاً منهما من جنس المطعوم.

حكم بيع الحب بدقيقه أو سويقه

حكم بيع الحب بدقيقه أو سويقه قال رحمه الله: [ولا يجوز بيع حب بدقيقه]. عرفنا الضابط وهو اشتراط التماثل، وهنا صور يقع فيها التفاضل لعدم القدرة على التماثل والتكافؤ بين الصنفين في الصنف الواحد إذا بيع بعضه ببعض، فمثلاً: الحب بالدقيق، فإن الحب ليس كالدقيق، فالدقيق يقع بعضه على بعض فيكون مسدوداً بأجرام الدقيق أكثر من الذي يسد بالحبوب، ومن هنا لا يحصل التكافؤ بين الحب والدقيق. ولو سأل سائل وقال: أنتم تقولون: يشترط التماثل، والصاع بالصاع يجوز، فلو أنني أخذت حباً وطحنته، وأردت أن أبادله بحب غير مطحون صاع بصاع، فهل يجوز؟ فنقول: لا يجوز؛ لأنه لما طحن اختلف عن غير المطحون، وموقعهما في الصاع وفي الكيل ليس بمتكافئ. ومن هنا لا تتحقق المماثلة المشروطة شرعاً، فإنه إذا قال: صاع بصاع، أو مد بمد، فهذا لا يكفي وحده؛ بل لابد من التماثل على الصفة التي ذكرناها، فلو سأل عن بيع الدقيق بالحب؟ فنقول: لا يجوز، ولو اتفقا كيلاً؛ كصاع بصاع ومد بمد؛ بل لابد من التماثل بينهما. وقوله: [ولا سويقه، ولا نيئه بمطبوخه]. إذا لت السويق بالنار وحبس عليها فسوف يذهب جزء من الدقيق، حتى لو أخذ السويق وبودل بالدقيق فليس بينهما تكافئ، ومن هنا قالوا: لا يجوز بيعه بالحب، ولا بيعه أيضاً بالدقيق؛ لأنه يختلف؛ فإنه المحموس ليس كغير المحموس؛ لأن النار تستنفذ وتستهلك منه، وهذا وهو الذي جعله يقول: (ولا نيئه بمطبوخه)، فلو سأل سائل عن بيع اللحم وقال: هل نبيع اللحم المطبوخ باللحم الني؟ فنقول: لا يجوز؛ لأنهما وإن تماثلا في الوزن فإن اللحم المطبوخ قد استنفذ وأهلكته النار، فلا يصل إلى قدر الني إلا بأضعافه في بعض الأحيان، كالحب مع المطحون.

حكم بيع الأصل بعصيره

حكم بيع الأصل بعصيره قال رحمه الله: [وأصله بعصيره]. فلو قال قائل: أريد أن أبادل عصير البرتقال بحبوبه، فنقول: لا يجوز؛ لأن العصير خالص البرتقال، والحبوب فيها الخالص وفيها غير الخالص، فحينئذٍ الألياف الموجودة في البرتقال زائدة على العصير، فلا يقع التكافؤ في الوزن، حتى لو وزن العصير مع البرتقال موزوناً، وقال: نأخذ القشر ونضاعف البرتقال في الوزن، فنقول: لايجوز. وكذلك الجزر إذا كان يباع وزناً فهو مطعوم موزون يجري فيه الربا، فلو أراد أن يأخذ الجزر ويعصره ثم يبادله بغير المعصور، فإنه لا يجوز؛ لأن التماثل لا يتحقق.

حكم بيع الحب الخالص بالمشوب

حكم بيع الحب الخالص بالمشوب قال رحمه الله: [وخالصه بمشوبه]. فلا يجوز بيع الحب الخالص بالحب المشوب، وهكذا إذا لم يدس حصاد الحب، فإن الحب إذا حصد يجعل في (البيدر) وبعد ذلك يداس وينقح، فمثلاً: قبل أن يخلص من الشوائب جاء رجل وقال: أنا أشتري منك هذا الحب الموجود المدوس الذي لم يصف بعد بهذا الحب الموجود، نكيل هذا ونكيل هذا، ألستم تقولون: إن الشرط (الكيل والتماثل)؟ فنعطي مائة كيلة بمائة كيلة، فنقول: لا. إنهما وإن اتفقا كيلاً لكن وجود الشوب يمنع من التماثل. إذاً: وجود الشوب، ووجود النار كما في المطبوخ، وعدم التصفية، والعصر، كل ذلك لا يتحقق به التماثل، فقالوا: لا يباع إلا بمثله. لكن لو قال أنه يريد أن يبيع عصير البرتقال بعصيره، فهل يجوز أم لا؟ نقول: يجوز إذا تماثلا، فإذا كان العصير يباع مثلاً بالكاسات، والكاسات أشبه باللتر، وتحقق التماثل في الكاسات، فلا بأس. والبرتقال أنواع، فهذا حلو، وهذا وسط بين الحلو والحامض، فإذا بادل به فيجوز إذا كان يداً بيد؛ لأنه تحقق بيع هذا العصير بهذا العصير، لكن إذا كان بأليافه مع عصيره فإنه لا يتحقق التماثل.

حكم بيع الرطب باليابس

حكم بيع الرطب باليابس قال رحمه الله: [ورطبه بيابسه]. وهكذا الرطب واليابس؛ لأن الضابط هو عدم وجود التكافؤ؛ لأن اليابس تستهلكه الشمس، فالتمر إذا كان في بداية الاستواء قبل أن ينشف يكون رطباً، أو يكون على نصف استواء الرطب، لم يكتمل استواؤه بعد، فإذا أراد أن يبادل الرطب باليابس فلا يجوز؛ لأن اليابس تستنفذ الحرارة منه وتستخلصه، بخلاف الرطب، فإن الماء الموجود فيه أكثر من اليابس. والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن بيع الرطب بالتمر؟ قال عليه الصلاة والسلام: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم. قال: فلا إذاً) وهذا الحديث هو قاعدة هذه المسألة؛ فهكذا مسألة الني والمطبوخ، فإن المطبوخ إذا طبخ نقص، وفي بعض الأحيان يزداد المطبوخ إذا كان مخلوطاً بغيره، وإذا استنفد ذلك الغير فإنه يثقل، والعدل أن يكون على صفة يؤمن فيها التفاضل، فإذا كان نياً بني معاً مطبوخ بمطبوخ معاً، وهكذا بالنسبة لبقية الأشياء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (أينقص الرطب إذا يبس؟) نبه على العلة التي من أجلها حرم بيع الرطب بالتمر، وهو عدم وجود التماثل المطلوب.

حكم بيع الربوي بجنسه إذا استويا

حكم بيع الربوي بجنسه إذا استويا قال رحمه الله: [ويجوز بيع دقيقه بدقيقه] أي: دقيق الحب بدقيق الحب [إذا استويا في النعومة]، إذاً: مدار المسألة كلها في التماثل فقط، فإذا طحن الدقيق فإنه يطحن الطحنة الأولى والطحنة الثانية، فإذا طحن الطحنة الثانية فإنه يكون أخف بكثير، وأكثر نعومة من الطحنة الأولى، وربما طحن بآلات يكون الطحن فيها أكثر نعومة من غيرها، فالآلات القديمة ليست كالآلات الحديثة. إذاً: الدقيق بالدقيق يجوز بيع بعضه ببعض إذا كان مثلاً بمثل، يداً بيد، أما إذا اختلفا في النعومة، وكان أحد الدقيقين أكثر نعومة من الآخر، فإنه يقع فيه ما يقع في بيع الحب بالدقيق، فمثلاً: الجريش يطحن بعض الطحن وليس كل الطحن، وتبقى أجرام الحبوب فيه، فهذا الجريش لا يجوز بيعه بالدقيق، ولا يجوز بيعه بالحب، لكن إذا بيع بجريش طحن طحنة في مستواه جاز، وهكذا بالنسبة للدقيق الذي هو أكثر نعومة إذا طحن طحنة كاملة يفصل فيه: فإن طحن مرتين أو ثلاثاً وكانت نعومته أكثر، فلا يباع إلا بما هو ناعم أكثر؛ حتى يتحقق التماثل المطلوب شرعاً والمأمور به كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: [ومطبوخه بمطبوخه] أي: إذا تساويا في الطبخ [وخبزه بخبزه إذا استويا في النشاف] وذلك حتى يتحقق العدل، أما إذا اختلفا في الطبخ واختلفا في النشاف فإنه لا يجوز؛ لأنه يفضي إلى التفاضل المنهي عنه شرعاً. وقوله: [وعصيره بعصيره ورطبه برطبه]، أي: يجوز بيع العصير بالعصير إذا استويا في العصر، ويجوز بيع الرطب بالرطب إذا استويا رطوبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نبه في حديث المزابنة على تحريم المزابنة لعدم وجود التماثل، ومفهوم ذلك: أنه إذا وجد التماثل جاز، والعلة التي من أجلها حرم بيع المطبوخ بالني، وبيع العصير بغيره، وبيع الدقيق بالحب، إنما هي خوف التفاضل، لكن إذا زالت هذه العلة لاستوائهما نعومة أو طبخاً أو عصراً؛ جاز البيع وصح.

الأصناف التي يجري فيها الربا

الأصناف التي يجري فيها الربا الأصناف الستة المنصوص عليها تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يتعلق بالأثمان، وهي الذهب والفضة. القسم الثاني: يتعلق بالمطعومات، وهي: البر والتمر والشعير والملح. أما حكم التعامل بهذه الستة عند اتحاد الجنس والصنف، كأن يبادل الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، أو واحداً من الأربعة بمثله، فقد قلنا: لا بد من التماثل والتقابض، وإذا قلت بوجوب التماثل فمعناه: أنه يجري ربا الفضل، وإن قلت بوجوب التقابض فمعناه أنه يجري ربا النسيئة.

العلة في الأصناف الربوية

العلة في الأصناف الربوية أما العلة في الأصناف التي يمكن إلحاقها بهذه الستة فهناك علتان: العلة الأولى: تتعلق بالذهب والفضة. العلة الثانية: تتعلق بالمطعومات. أما علة الذهب والفضة فعلى أصح قولي العلماء أنها الوزن، فكل شيء من غير المطعومات إذا كان موزوناً فإنه يجري فيه الربا؛ كالحديد والنحاس والرصاص ونحو ذلك، وكل شيء من غير المطعومات إذا كان يباع عدداً أو جزافاً، فإنه لا يجري فيه الربا. وأما بالنسبة للمطعومات فأصح أقوال العلماء رحمهم الله أن العلة هي الطعم مع الكيل أو الوزن، على ظاهر حديث معمر بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل). أما كيفية القياس والإلحاق، فإن كل مطعوم يباع بالكيل أو يباع بالوزن فإنه يقاس على الأربعة، فإذا بيع بمثله وجب التماثل والتقابض، وهذا يجري في سائر المطعومات بهذا الضابط، فإن اختل الضابط لم يجر ربا الفضل.

أحكام اتفاق الأجناس الربوية واختلافها

أحكام اتفاق الأجناس الربوية واختلافها أما مسألة الأجناس فما كان جنساً واحداً متفق النوع؛ كالذهب -واتفاق نوعه كأن يكون عيار أربعة وعشرين بعيار أربعة وعشرين، واختلافه كعيار أربعة وعشرين بعيار واحد وعشرين- فهذا يجري فيه الربا على العموم، سواءً اتفق نوع الذهب أو اختلف. فهذا الضابط يكون فيه الجنس واحداً والنوع مختلفاً، فإذا كان من الأثمان، كالذهب والفضة، فقد يكون الذهب من عيارات مختلفة، وقد يكون حلياً بجنيهات، أو يكون هذا نقداً وهذا حلياً، فالنوعية لا تؤثر، بل ما دام أنه من جنس الذهب فإنه يجري فيه الربا عموماً. والدليل على أنه إذا كان من جنس الذهب فإنه يجري فيه الربا: عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب)، ولذلك نجد العلماء رحمهم الله يقولون: (تبرها ومصوغها)، أي: أن الذهب يجري فيه الربا سواءً كان تبراً بتبر، أو مصوغاً بمصوغ، أو كان تبراً بمصوغ. والفضة كذلك، ويدخل في حكمها ريال الورق؛ لأنه سند عن أصل من الفضة، فإذا بودلت الفضة بفضة وجب التماثل والتقابض، سواءً كانت ريالات أو حلياً، فتخات أو خواتيم أو أسورة من فضة، فإنه يجب التماثل والتقابض. إذاً: هنا جنس واحد مشتمل على أنواع يجري فيها الربا، وهي من المنصوص عليها، وهذا بالنسبة للذهب والفضة. أما بالنسبة للطعام فنفس الحكم، فمثلاً: التمر، منه العجوة والسكري والحلوى الربيعة والند، وأنواع كثيرة، فهل نقول: الحلوى الربيعة بالربيعة يجري فيها الربا، وإن اختلف النوع لا يجري؟ نقول: لا. بل جميع التمر يجري فيه الربا، سواءً اتفق النوع كبرحي ببرحي، أو سكري بسكري، أو ربيعة بربيعة، أو عجوة بعجوة، أو صفاوي بصفاوي، أو صيحاني بصيحاني فكله يجري فيه الربا سواءً اتحد النوع أو اختلف. وبناءً على ذلك: لو باع تمر السكري بالند وجب أن يكونا متماثلين؛ كصاع بصاع ومد بمد، ولم يجز التفاضل، بأن يكون أحدهما أكثر من الآخر، وهذا بالنسبة لما اتحد جنسه واختلف نوعه. أما إذا كان الجنس واحداً ولكن الأصل مختلف، فمثلاً: في النوع الأول الجنس تمر، والاختلاف في النوع، فعاد إلى أصل واحد، فإن التمور تعود إلى أصل واحد، فيجري فيها الربا؛ سواءً اتفقت أنواعها أو اختلفت، لكن لو كانت الأصول مختلفة والجنس واحد، مثل الأدقة والأجبان، فإن الدقيق عندنا مستخلص من البر، يقال: دقيق البر، دقيق الشعير، دقيق الدخن، فهو جنس دقيق، أي: يقال له: دقيق؛ لكنه في الأصل مختلف، بخلاف الأول، فإن التمر في الأصل واحد، ولكنه لما عاد إلى أصل واحد أخذ حكم العين الواحدة، لكن هنا إذا كان دقيق بر بدقيق شعير، فالجنس مختلف، فيجوز فيه التفاضل، لكن يجب أن يكون يداً بيد. ومن هنا بين المصنف قاعدة وهي: (وفروع الأجناس أجناس)، فبعد أن بيّن مسألة اتحاد الجنس واختلاف النوع، واتحاد الجنس والنوع؛ شرع في اتحاد الجنس واختلاف الأصل، وعلى هذا فلو صنع خبزاً من شعير، وخبزاً من بر، فتقول: الجنس واحد وهو الخبز، ولكن الأصل مختلف، فأصل البر ليس كالشعير على أصح قولي العلماء وهم الجمهور، خلافاً للمالكية، فيجوز أن يبيعها متفاضلة، ولكن يداً بيد، لكن لو أن الخبز كان أصله واحداً كخبز الشعير، فحينئذٍ لابد من التماثل والتقابض. إذاً. الجنس متحد النوع يجري فيه الربا إذا كان من الأعيان المنصوص عليها أو المقيس عليها، أما ما كان جنساً واحداً ومختلف النوع كالتمر بأنواعه، فإننا نقول: يجري فيه الربا ويعتبر كالأصل الواحد، فلا يجوز بيع بعضه ببعض، حتى قال ابن قدامة: لا نعلم خلافاً في هذا، أي: فيما إذا بادلت تمراً من نوع بتمر من نوع أنه يجري فيه الربا؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب)، فإن قال قائل: أثبت لي أن هذا الدليل عام؟ فنقول: نثبت ذلك من أوجه: الوجه الأول: اللفظ؛ لأنه قال: (الذهب بالذهب)، ولم يفرق بين الذهب النقدي الذي هو جنيهات ودنانير في القديم، ولا بين الذهب الذي لم يضرب كالتبر أو الخام، ولم يفرق بين الحليّ، إنما قال: (الذهب) فشمل الذهب بالذهب مطلقاً، سواءً كان متماثلاً كحلي بحلي، أو كان مختلفاً كدنانير بحلي، بل لابد من التماثل. وهنا مسألة تتفرع على هذا الأصل وهي: لو أن تاجراً يتعامل في الذهب جاء وقال: إني أبيع الذهب المصوغ، والذهب إذا صنع حلياً فإنه يكلف ويحتاج إلى إجارة وعمالة، وهذا يستلزم أن يكون أغلى وأكثر مئونة وعناءً من الخام الذي لم يصنع. ومن باب الفائدة: فإن الذهب يحتاج إلى شيء يقويه؛ لأن مادته ضعيفة ومعدنه ضعيف، ولذلك فإن السبيكة إذا قيل: إنها ألف غرام، فمعناه: أن تسعمائة وتسعة وتسعين وكسراً من الذهب، لكنّ فيها شوباً يقويها وهو النحاس، ولذلك اغتفر وجود النحاس، وقد حكى ابن رشد في بداية المجتهد الإجماع على اغتفاره. لكن لو أن رجلاً عنده ذهب من السبائك، وأراد أن يبادلها بذهب مصوغ كالحلي والقلائد، فقال التاجر: أعطيك هذا الذهب الذي صنعته وتعبت عليه بهذا الذهب غير المصنوع، وأقدّر التعب الذي تعبته، فإن كان الذهب المصوغ مائة غرام، فإن تعبي يكلف عشرة غرامات، فأشتري منك مائة وعشرة من السبائك بمائة مصوغة، وأستفضل بقدر التعب. هذا من ناحية عقلية نجد له مبرراً، وذلك مثل التمر الجيد بالتمر الرديء، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ألغى ذلك؛ لعموم قوله: (الذهب بالذهب). الوجه الثاني: أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم فهموا نفس هذا الفهم، فقد روى الإمام مالك رحمه الله في الموطأ عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه كان في المسجد وجاءه رجل صائغ، فقال: يا أبا عبد الرحمن! إني أصنع الذهب وأشتري به ذهباً وأستفضل قدر الصنعة -يعني: قدر تعبي- فهل يحل لي؟ قال: لا. إلا مثلاً بمثل. فأعاد عليه الرجل مرة ثانية؛ لأنه من ناحية عقلية قد لا يتصور ذلك، فقال: لا. فما زال مع عبد الله بن عمر حتى خرج من المسجد، وأخذ ابن عمر بخطام دابته وركب عليها، فأعاد له الرجل مرة ثالثة، فقال له: (عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا الذهب بالذهب، مثلاً بمثل)، فاستدل ابن عمر بالعموم. ولما كان معاوية رضي الله عنه في غزوة فغنم غنيمة، فأجاز للناس أن يبيعوا الأواني المتفاضلة لقاء الصنعة، فقام له أبو أسيد، وقال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب) وذكر الحديث، وقام أبو الدرداء وأنكر عليه، ولما بلغ عمر فعله كتب إلى معاوية ينهاه ويأمره بالرجوع إلى قول أبي أسيد وأبي الدرداء رضي الله عنهما. إذاً: فهم الصحابة على أن الذهب بالذهب عموماً لا يكون إلا مثلاً بمثل، فما هي الحيلة لو قال لك التاجر: أنا لا يمكن أن أبيع الذهب بالذهب مثلاً بمثل؛ لأنني أتعب على هذا المصوغ؟ فقل له: بعه بالريالات التي هي الفضة، وبعد ذلك ساوم معه بما شئت من الفضة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (بع الجمع بالدراهم ثم اشتر به جنيباً). إذاً: من حيث الأصل بينّا مسألة اتحاد الجنس مع اتحاد النوع، وأيضاً اتحاد الجنس مع اختلاف النوع، وأيضاً اتحاد الجنس مع اختلاف الأصل، ومن أمثلتها: الأدقة والأجبان. فإن الجبن إذا كان هناك جبن يتخذ من حليب الغنم، وجبن يتخذ من حليب البقر، فإن الجنس واحد وهي أجبان، لكن نقول: أصل الجبن الذي من الغنم غير أصل الجبن الذي من البقر، وكذلك اللحم، فلحم الغنم ليس كلحم الإبل وليس كلحم البقر، فيجوز أن تبيع لحم الإبل بلحم الغنم متفاضلاً على أصح قولي العلماء، كما درج عليه المصنف. أما المالكية فيقولون: تنقسم اللحوم إلى ثلاثة أقسام: لحوم بهيمة الأنعام، ولحوم الطير، ولحوم الأسماك، فيجعلون بهيمة الأنعام -الإبل والبقر والغنم- كلها واحدة، فلا يجوز أن تبيع لحم الإبل بلحم الغنم إلا مثلاً بمثل، يداً بيد. ولكن الصحيح أنها متفاوتة، وأنه يجوز أن تبيع لحم الغنم بلحم الإبل متفاضلاً، ولحم الغنم بلحم البقر متفاضلاً، لكن بشرط أن يكون يداً بيد. ومن يتأمل كلام العلماء يعجب من إعانة الله لهم وتوفيقه لهم على الفهم، فإنك إذا نظرت كلام المصنف وترتيبه للمسائل تجد أولاً أنه قرر القاعدة المستفادة من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وهي: النهي عن بيع الربوي بالربوي متفاضلاً إذا اتحد الصنف، ثم بعد ذلك قرر العلة في مسألة التمر بالتمر مع اختلاف النوع لما بيّن مسألة الجنس وقال: (الجنس ما له اسم خاص)، فقررها من الحديث وانتزعها من عموم الحديث، ثم بعد ذلك شرع في مسألة متفرعة على مسألتين. ولو قال قائل: إن الحديث أمرنا أن نعطي الصاع بالصاع من البر، وأن نعطي الصاع بالصاع من التمر، فسأعطي صاعاً بصاع من البر، ولكن أحدهما دقيق والثاني حب، فانظروا كيف أن العلماء رحمهم الله يضعون الأفكار مرتبة بعضها على بعض؛ لأن الحديث أمر بالصاع تجاه الصاع. فعندنا منصوص، وعندنا مفهوم من النص، فلما كان منطوق النص التماثل، وهو بيع الصاع بالصاع، فينبغي أن يكون المعنى موجوداً، فلا يكفي أن تقف عند كلمة الصاع بالصاع، فإذا أعطاه حباً بدقيق فهو صاع بصاع، لكن في الحقيقة الدقيق أكثر من الحب، وإذا جئت تنظر إلى أجرام الحب مع أجرامها تحدث الفراغ في الصاع، لكن الدقيق مع الدقيق يملأ الفراغ. ومن هنا فرّع العلماء رحمهم الله هذه المسألة على معنى الحديث، وجعلوا هذا تابعاً للأصل، وهو أن الصاع بالصاع يأتي باللفظ ويأتي بالمعنى، فاللفظ أن يتماثلا كصاع بصاع، لكن تكون الحقيقة والمعنى موجوداً، وهو مقصود الشرع أن يكون هناك عدل. فإذا كان أحدهما مطحوناً والآخر غير مطحون، أو كان أحدهما مطبوخاً والآخر غير مطبوخ لم يجر التماثل المقصود وإن قال لك: هذا صاع بصاع. وهكذا لو باع التمر بلا نوى بتمر فيه نوى، أو التمر الذي فيه لوز بتمر لا لوز فيه، فهذا كله في الظاهر أن الصاع بصاع، لكن ف

الأسئلة

الأسئلة

حكم بيع الذهب المرصع بغير المرصع

حكم بيع الذهب المرصع بغير المرصع Q هل يجوز بيع الذهب المرصع بفص أو بيع الماس بمثله متفاضلاً؟ وجزاكم الله خيراً. A أما بالنسبة للمسألة المذكورة وهي بيع الذهب المرصع بغير المرصع، أو بيع الذهب المرصع بالمرصع، فإذا كان الذهب أو الفضة مع جواهر أو ماس أو أشياء أخرى من الحلي فإنه لا يجوز بيعه إلا مفصلاً؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه وأرضاه أنه: (نهى عن بيع القلادة حتى تفصل)، وهذا يدل على أنه لا يجوز بيع الذهب بالذهب إذا كان فيه حلي من غيره إلا بعد تفصيله. وأصل هذه المسألة أن فضالة رضي الله عنه وأرضاه اشترى قلادة بعشرين ديناراً في يوم خيبر، ثم لما فصلها وجدها أكثر من عشرين ديناراً، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فنهى عن بيع القلادة حتى تفصل، وهذا من بيوع الذرائع الربوية؛ لأن دخول غير الربوي مع الربوي يفاوت في التماثل. وبناءً على ذلك: فلابد إذا بادل الذهب بالذهب أن يفصل الحلي، أو يعرف كم وزن الغريب الذي مع الذهب، فمثلاً: لو قال لك: هذا الذهب وزنه مائة جرام، والحلي الذي معه عشرة جرامات، فحينئذٍ يجوز أن يبادله بذهب مثله في نفس الوزن ونفس الحلي. أما لو جهل مقدار الحلي الموجود مع الذهب سواءً في الاثنين أو في واحد منهما، فالقاعدة: (أن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل)، وهي مستنبطة من هذا الحديث كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن الملقن رحمه الله. فأنت إذا بعت القلادة مرصعة بالحلي وجهلت كم نسبة هذا الحلي الموجود، بمثلها مرصعة بحلي مجهولة أو بمثلها معلومة، فإن الجهل في أحدهما أو فيهما معاً كالعلم بالتفاضل، وهذا يوجب المنع والتحريم. لكن لو أنه عرض عليك قلادة من ذهب وهي مرصعة بالحلي والجواهر، وقال لك: تشتريها بالنقد الذي هو الريالات، فيجوز ولا بأس أن تشتريها بالنقد، إنما المحرم إذا بادلت الفضة بالفضة أو الذهب بالذهب مع وجود حليّ آخر، أما لو كنت تريد أن تشتري ذهباً بفضة، كالريالات تشتري بها قلائد الذهب أو تشتري بها أسورة الذهب المرصعة بالحلي، فلا بأس بذلك ولا حرج فيه؛ شريطة أن لا يكون على وجه الجهالة الموجبة للغرض، والله تعالى أعلم.

حكم بيع الحديد بالتقسيط

حكم بيع الحديد بالتقسيط Q هل يعتبر بيع أطنان الحديد بالتقسيط داخلاً في ربا النسيئة؟ A بالنسبة لبيع الحديد بالحديد يجب أن يكون مثلاً بمثل، يداً بيد، فيبيع الطن بالطن، أما الطن بالطن إلا ربع أو بزيادة فإنه يوجب الحكم بالربا، أعني ربا الفضل، لكن لو باع الطن من الحديد بالطن من الحديد وتأخر أحد المتعاقدين في الدفع، فإنه يقع ربا النسيئة، فلا يجوز إلا إذا كان في مجلس العقد، ولا يؤخر أحدهما عن الآخر، بل يتقابضان، وإذا حصل التقابض والتماثل فإنه لا بأس بذلك، والله تعالى أعلم.

حكم بيع المطعومات جزافا

حكم بيع المطعومات جزافاً Q إذا اختلف الجنس جازت الثلاثة -أي: المكيل والوزن والجزاف- فأشكل عليّ جواز الجزاف، فمن باع صاعاً من بر بتمر جزافاً أليس فيه جهالة وغرر؟ بارك الله فيكم. A بالنسبة لمسألة بيع المطعومات أو غيرها لابد من العلم بقدر المبيع، لكن إذا جرى العرف في بيع بعض الأطعمة جزافاً، بأن كانت من جنس المعدود لكنها تباع بالأكوام وتباع جزافاً، وذلك مثلما يجري الآن في البطيخ فيقول: هذه السيارة بكذا، ويجري العرف بذلك، ويريد أن يبادل، مع أن البطيخ يباع بالعدد، لكن إذا جرى العرف ببيعه وزناً فلا يجوز، ويجري فيه الربا، لكن لو بيع بالعدد؛ فحينئذٍ لو بيع جزافاً مثلما يقع أحواض السيارات، فإن حوض السيارة يخرص ويقدر. ففي هذه الحالة يقولون: يجوز إذا كان يداً بيد؛ لأننا قلنا: جنس المطعوم لا يجوز إلا يداً بيد، وأما إذا كان من جنس ما يكال ويوزن فلابد فيه من التماثل في الكيل كيلاً، وفي الوزن وزناً. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب الربا والصرف [3]

شرح زاد المستقنع - باب الربا والصرف [3] من مسائل الربا: حكم بيع الربوي بجنسه ومعه من غير جنسه، وحكم بيع التمر إذا كان فيه نوى بالتمر الذي لا نوى فيه والعكس، وحكم بيع اللبن والصوف بشاة فيها لبن وصوف وغيرها من المسائل التي يدخل فيها ربا النسيئة الذي أجمع العلماء على تحريمه، أو ربا الفضل، وقد اختلف فيه الصحابة إلا أن الراجح تحريمه.

حكم بيع الربوي بجنسه ومعه من غير جنسه

حكم بيع الربوي بجنسه ومعه من غير جنسه شرع المصنف رحمه الله في مسألة جديدة فقال: [ولا يباع ربوي بجنسه ومعه أو معهما من غير جنسهما]. وصورة هذه المسألة أن يقول قائل: أبيع البر بالبر صاعاً بصاع، وأستفضل لشيء آخر غير ربوي معهما، فهل يجوز ذلك أم لا؟ ومن هذا المقطع نبدأ في حديث ثانٍ من أحاديث الربا، وهذا الحديث يقوم على حديث فضالة بن عُبيد رضي الله عنه وأرضاه. وأول الباب قام على حديث عبادة بن الصامت في الأصناف الستة، ثم بعد ذلك لما جئنا إلى الخالص والمشوب والني والمطبوخ فإن هذا قائم على حديث: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم. قال: فلا إذن)، ثم دخلنا في حديث ثالث وهو حديث فضالة بن عُبيد رضي الله عنه. وحديث فضالة: أنه في يوم خيبر اشترى قلادة، والقلادة عادة ما تكون مرصعة بالخرز؛ بالجواهر وبالأحجار الكريمة والمرجان واللؤلؤ والعقيق. إلخ، وتارة تكون من ذهب خالص، فاشترى قلادة وفيها خرز، فلما عرضت القلادة اشتراها باثني عشر ديناراً، وفي بعض الروايات أنه حضر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُسأل عن قلادة اشتريت بتسعة دنانير، وفي رواية: بسبعة دنانير. وهذا ليس بالاضطراب المؤثر، كما قرره الحافظ ابن حجر رحمه الله؛ لأن المعنى المستفاد من الحديث متفق عليه، وهو نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعها حتى تفصل وتميز، وهذا قد اتفقت عليه كل الروايات، وهذا من حيث الحكم، لكن كم كانت قيمة القلادة؟ حمل على أنها وقائع مختلفة، فهو رضي الله عنه ربما كانت له وقعة، وغيره ممن حضر سؤاله كانت له وقعة أخرى، فيكون الاختلاف باختلاف المسائل، وليس الاختلاف من باب الاضطراب في التحديد والحكم. حتى ولو كان اختلافاً من باب الاضطراب في التحديد، فكما ذكر الحافظ ابن حجر أن الرواة وإن كانوا ثقات فإنه ينظر إلى أوثقهم، وتكون رواية غيره بالنسبة له شاذة، ويبقى موضع الشاهد من الحديث -وهو الحكم- معمولاً به. إذاً: هذا الحديث وقع في أنه اشتراها باثني عشر ديناراً، فلما اشتراها رضي الله عنه فصلها فوجد فيها أكثر من اثني عشر ديناراً، والدنانير مضروبة من الذهب، فأصبح ذهباً بذهب مع وجود الزيادة، والسبب في هذا أنه لم يعلم قدر الذهب الموجود فيها من غير الذهب. ومن هنا صار من بيع الربوي بجنسه، ومع أحدهما ما ليس منهما، أي: من الربوي ما ليس بربوي، ومع أحدهما ما ليس بربوي، فأصبح هذا الحديث أصلاً في هذه المسألة. ولذلك نجد التوافق بين الفقهاء والمحدثين، فالمحدثون إذا ذكروا أحاديث الربا يبتدئون بحديث عبادة، ثم يذكرون ما يقرر معناه كحديث عمر رضي الله عنه في التقابض، وكذلك حديث أبي موسى الأشعري في التماثل والتقابض، ثم بعدما ينتهون من هذا يذكرون أحاديث الربا، كحديث فضالة بن عُبيد، وحديث النهي عن المزابنة. وهذا كله تقرير للأصول، فلما جاء هذا الحديث جاءنا في مسألة الربوي بالربوي ومعه غير الربوي؛ لأن حديث عبادة ذكر الربوي بالربوي، وهنا ربوي بربوي ومعهما ما ليس منهما، ويلتحق بهذه المسألة أن يكون ربوياً بربوي ومعهما ما ليس بربوي. وهذه المسألة على صور: الصورة الأولى: أن يعطي الربوي بالربوي ومع أحدهما ما ليس منهما من نفس النوع، ويحتمل أن يكون ربوياً، ويحتمل أن يكون غير ربوي، مثال ذلك: الأثمان والمطعومات. ففي الأثمان يصرف الدرهمين بدرهم وتمر، فيقول له: عندي درهم اصرفه لي، فيقول: سأعطيك درهماً لقاء الدرهم، وليس عندي درهم آخر، فأعطيك بدلاً عنه تمراً، وفي بعض الأحيان درهم بدرهم وتمر، فيقول له: هذا الدرهم عندي من النوع الجيد بكم سوف تصرفه لي؟ فيقول: أصرفه لك بدرهم. وذاك يقول: لا أرضى. فيقول: سأعطيك درهماً وتمراً. ففي هذه الحالة يكون الدرهم لقاء الدرهم تماثلاً، لكن وجود الزيادة هو من غير الفضة، فكأنه يقرر بهذا أن الزيادة سواءً كانت من الفضة أو من غير الفضة فإنها محرمة، فباعه إياها كذهب بذهب مع زيادة طعام، أو فضة بفضة مع زيادة طعام مشتركة في البيع، وهذا لا يجوز؛ لأن فضالة باع الاثني عشر درهماً بأكثر من اثني عشر درهماً، وجاء في الرواية الأخرى ما هو أقل مع وجود الخرز، فصار فضل الخرز زيادة على الأصل. فلو قال قائل: أصرف الدرهم بالدرهم وأعطي تمراً؛ لأن التمر ليس بفضة؟ فنقول: مقصود الشرع المعنى وهو التعادل. وانظروا إلى التجانس بين مسألتنا والتي قبلها، فإنه لما باع الخبز المطبوخ بالني، والدقيق بالحب؛ ففي الظاهر هناك تماثل، لكن صارت الزيادة في الصنعة، وهنا الزيادة من غير الربوي، أما الأول فإن الزيادة من الربوي؛ لقوله: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم. قال: فلا إذن)، فهي زيادة من مادة الربوي، وهنا زيادة من أجنبي دخل عليهما. فدرهم بدرهم وتمر، الدرهم بالدرهم تماثل، فلو قيل: إن ذلك جائز؛ لأنني أعطيت درهماً بدرهم، والتمر هذا من عندي، وأنا أريد أن أبيع الدرهم بدرهم وتمر، أليس الدرهم بالدرهم يكافئه ويعادله؟ فنقول: بلى، فيقول: إذاً التمر لا يضر؛ لأنه ليس بفضلة، ولا من نفس الربوي. فنقول: سواءً كان من الربوي أو من غير الربوي فالحكم واحد، وهذا هو الذي دعا المصنف ليقول: (ولا يباع ربوي بربوي بجنسه ومعه أو معهما من غير جنسهما). وعلى هذا يقال: لابد من التماثل، لكن هناك حالة تستثنى وهي: حالة الفصل، فلو قال له: عندي درهمان. فقال: سأشتري منك درهماً بدرهم صرفاً، وأشتري منك الدرهم الثاني بصاع من تمر. فيجوز؛ لأنه باع هذا على حدة، وباع هذا على حدة، واغتفر اجتماعهما في الصفقة الواحدة. إذاً: يفرق بين كونهما مجتمعين وبين كونهما منفصلين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث فضالة نهى عن بيع القلادة حتى تفصل، فدل ذلك على أنها إذا فصلت جاز البيع، وذلك بأن يقول له: اثنا عشر ديناراً في مقابل وزنها، فمثلاً: لو جئنا إلى قلادة وزنها مائة غرام، ودنانير عشرة وزنها مائة غرام، فقال: سأشتري منك هذه القلادة عشرة غرامات بعشرة غرامات، فيصح البيع، ولا إشكال. لكن لو كان مع القلادة خرز، فقال له: كم وزن الذهب الخالص؟ فقال: مائة غرام. فقال: والخرز الموجود؟ فقال: عشرة غرامات. فأصبح المجموع مائة وعشرة، فقال له: إذاً أشتري منك المائة غرام من الذهب بهذه المائة من الذهب، دنانير أو غيرها، وأشتري منك العشرة غرامات الخرز بجنيه، أو مثلاً بريالات موجودة، فلا بأس؛ لأنه فصل هذه البيعة عن هذه البيعة. وخفف في ذلك جمع من العلماء رحمهم الله، سواءً كان من جنس الربوي أو كان من غيره، قالوا: لأن البيعتين إذا فصلهما عن بعض جاز، فلا يجوز بيع الربوي بربوي ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسهما كدرهمين بدرهم وتمر. وفي عصرنا الحاضر نمثل بأمثلة على مسألة الربوي بربوي: عندما تأتي إلى الرجل وتريد أن تصرف عنده، فيقول لك: لا أصرف لك حتى تشتري، فقال بعض العلماء: تدخل في مسألة بيع الربوي بالربوي؛ لأنه إذا ألزمك أن تشتري -مثلاً- كيلو تمر وقيمته ريال، وقال لك: سأصرف لك الخمسمائة ريال بشرط أن تشتري هذا التمر، فإن قيمة الكيلو التمر في الأصل نصف ريال، وهو سيربح نصف ريال؛ فكأنه إذا صرف لك عشرة ريالات بتسعة ريالات -كأنه صرف لك تسعة ونصف ريال -التي هي حقيقة قيمة التمر- بعشرة كاملة، لكن لو جئت باختيارك وطلبت ذلك وابتغيته فقالوا: إن الأمر في ذلك أيسر. ومن هنا إذا جاء يعرض على الإنسان مناديل تتمة لصرفه أو كذا، قالوا: يتورع، حتى لا يكون فيه شبهة الفضل الذي سيربحه من قيمة المناديل، فيكون قد صرف العد بالعد مع فضل وزيادة. وهذه المسألة حتى تكون الصورة أقرب ليست من جلية الربا، إنما هي مما يسمونه: بيوع الذرائع، وهي في ظاهرها صحيحة؛ لكنها في الحقيقة تئول إلى الربا؛ كبيع العينة ونحوه. ولذلك يقولون: هذا من بيوع الذرائع الربوية، فهناك الربا المحض، وهناك ما هو وسيلة وذريعة إلى الربا، والشريعة تحرم المقاصد المحرمة ووسائلها المفضية إليها، ولذلك قُررت القاعدة أن (الوسائل لها أحكام مقاصدها)، فإن كانت الوسيلة إلى حرام فهي حرام، ثم تتفاضل الوسائل في الحرمة وفي الجواز بتفاضل مقاصدها، فما كان وسيلة إلى حرام أعظم فإنها محرمة بحرمة الحرام الأعظم؛ وعليه فما كان وسيلة إلى الربا فإنه محرم، ولا يجوز أن يتعاطاه، كما لا يجوز أن يتعاطى الربا. وقوله رحمه الله: (ولا يباع ربوي) سواءً كان من الأثمان، أو كان من المطعومات، وسواءً كان من المنصوص عليه، أو كان من الملحق بالمنصوص عليه، وقوله: (بجنسه) أي: من جنسه مع اتحاد النوع، لكن لو كان الربوي بربوي مع اختلاف الجنس، فيجوز التفاضل ولا إشكال فيه. وقوله: (ومعه) كمد ودرهمين بمدين ودرهم، (أو معهما) مع هذا وهذا من غير جنسهما كدرهمين في مقابل مد ودرهم، فإن الدرهم في مقابل الدرهم، والمد في مقابل الدرهم.

التفصيل في بيع التمر بلا نوى بما فيه نوى

التفصيل في بيع التمر بلا نوى بما فيه نوى قال رحمه الله: [ولا تمر بلا نوى بما فيه نوى] أي: ولا يجوز بيع تمر بلا نوى بتمر فيه نوى، وفي هذه المسألة صور: 1 - أن يبيع تمراً ونوى بتمر ونوى. 2 - أن يبيع تمراً بلا نوى بتمر بلا نوى. 3 - أن يبيع النوى بالنوى. 4 - أن يبيع تمراً ونوى بنوى. 5 - أن يبيع تمراً ونوى بتمر. 6 - أن يبيع تمراً ونوى بلا نوى. والتمر في أصل الخلقة يكون في داخله نوى، والنوى يستخلص من أجل أن يباع للبهائم لتطعمه وتسمن به كما هو معروف. فإذا كان التمر باقياً على أصل خلقته فهو تمر بنوى، وإذا نزع منه النوى وبقي التمر وحده، فهو تمر بلا نوى. إذاً: الصور هي كالآتي: 1 - تمر ونوى بتمر ونوى. 2 - تمر بلا نوى بتمر بلا نوى. 3 - نوى وحده. فهذه ثلاث صور إذا اتحد المثمونان. أما المقابلات فنقول: 1 - تمر ونوى بنوى. 2 - تمر ونوى بلا نوى. 3 - تمر ونوى بتمر. 4 - تمر ونوى بنوى. فأصبحت خمس صور، ثم خذ الاثنين منفردين: تمر بلا نوى بنوى وحده. فهذه ست صور. ثم مرة ثانية: 1 - تمر ونوى بتمر ونوى. 2 - تمر بلا نوى بتمر بلا نوى. 3 - نوى خالص بنوى خالص. فهذه ثلاث صور متكافئة، أي: يكون المثمونان متقابلين تماماً. ونقول: 1 - تمر ونوى بنوى. 2 - تمر بنوى بتمر بلا نوى. أصبحت خمس صور، ثم تأتي كل منها على انفراد: - تمر بلا نوى بنوى وحده. فهذه ست صور، ونريد أن نفصل في هذه الست: الصورة الأولى: إذا باع التمر مع النوى بتمر مع نوى، كرجل جاء بصاع من السكري مثلاً، وقال: أريد أن تبادلني به سواءً من السكري أو من غير السكري. فنقول: لابد من التماثل والتقابض، فلا يجوز التفاضل إذا كان تمراً بنوى بتمر فيه نوى، فيجب التماثل والتقابض. الصورة الثانية: أن يكون تمراً بلا نوى بتمر بلا نوى، الذي هو صورة التماثل، أي: تمر منزوع النوى بتمر منزوع النوى، سواءً اتحد نوعه أو اختلف، فنفس الحكم؛ لأنه لما نص عليه الصلاة والسلام: (التمر بالتمر)، وقال في آخر الحديث: (مثلاً بمثل، يداً بيد)، فهذا تمر بتمر، والتمر الموجود مطعوم، وغاية ما فيه أنه استخرج منه النوى الذي لا يأكله الآدمي. وبناءً على ذلك في الحالتين: التمر على أصل خلقته بالنوى بتمر على أصل خلقته بالنوى، أو تمر منزوع النوى بتمر منزوع النوى، يجب فيه التماثل والتقابض. الصورة الثانية: أن يكون النوى وحده بنوى، فنقول: النوى من غير المطعومات؛ لأنه تأكله البهائم، وإذا كانت تأكله البهائم فليس من جنس مطعومات بني آدم، وإذا كان من جنس غير المطعومات فالقاعدة فيه أن ننظر إلى الوزن، فأي شيء من غير المطعومات إذا سئلت: هل يجري فيه الربا أو لا؟ فانظر هل يوزن أم لا؟ فمثلاً: إذا سُئلت عن الكتب، أو الأوراق، أو الأقلام، أو الحديد، أو النحاس الأصفر، أو الرصاص، أو أي نوع من غير المطعومات، فإن كان لا يباع وزناً لم يجر فيه الربا. فهنا النوى من جنس ما لا يؤكل، فهل يباع وزناً أم كيلاً؟ نقول: فيه تفصيل: فإن كان العرف -أي عرف البلد- والناس الذين يسألون عن هذه المسألة يبيعونه وزناً، وجب التماثل فيه؛ لأنه موزون، فلا يجوز بيع صاع النوى بصاع النوى مطحوناً أو على أصله إلا مثلاً بمثل، يداً بيد، إن كان يباع وزناً بالكيلو جرامات مثلاً، وأما إذا كان يباع كيلاً بالصاع، فإنه لا يجري فيه الربا؛ لأنه غير موزون، فلا يلتحق بالذهب والفضة. هذا بالنسبة إذا باع النوى بالنوى خالصاً، أما إذا كان النوى يباع وزناً، فلابد من التماثل، فلو باعه صاعاً من النوى مطحوناً بصاع من النوى غير مطحون، فالحكم على ما درج عليه المصنف أنه لا يجوز؛ لأنه لا يجوز بيع الحب بالدقيق، فإذا كان النوى مطحوناً فلابد أن يكون الآخر مطحوناً، وهكذا إذا كانت طحونته ناعمة أو أخف، فلابد من التماثل من كل وجه. والخلاصة: أن بيع التماثل يقع في ثلاث صور: 1 - تمر بتمر في كل منهما النوى، فيجب التماثل والتقابض. 2 - تمر بتمر منزوع النوى منهما، فيجب التماثل والتقابض. 3 - نوى بنوى، وفيه تفصيل: - فإن كان يباع وزناً جرى فيه الربا. - وإن لم يبع وزناً لم يجرِ فيه الربا. الصورة الرابعة: بيع تمر فيه نوى بتمر ليس فيه نوى، فهل تتحقق المماثلة؟ نقول: أولاً: هل يجري فيه الربا أم لا؟ A يجري فيه الربا؛ لأن التمر الأول منصوص عليه، والتمر الثاني منصوص عليه، فكل منهما ربوي، فرجع إلى مسألتنا الأولى وهي أن يبيعه الربوي بالربوي ومع أحدهما من غير الربوي، قالوا: فلا يجوز؛ لأنه سيستفضل لو باع الصاع، فإن التمر الذي لا نوى فيه سيكون أدق، ولذلك لا تتحقق فيه المماثلة. وخفف بعض العلماء في هذا، فقال: إذا باعه تمراً فيه نوى بتمر لا نوى فيه لم يؤثر؛ لأن النوى غير مقصود، وقد جاء تبعاً ولم يجئ قصداً، لكن هذا يقول ضعيف، وسنبين مسألة التبعية والقصد، وأن الربا فيه قوية، فلابد في بيع التمر مع النوى بالتمر الذي لا نوى فيه من التماثل. الصورة الخامسة: بيع تمراً ونوى بنوى، وفيها تفصيل: فإن كان النوى مما يوزن فيجري فيه الربا؛ لأن الربا صار حينئذٍ من جنس ما يقابله، موزوناً بموزون، ومعهما من غيرهما بنفس الصورة، فقد صارت مثل صورة تمر بنوى بتمر، وذلك إذا كان النوى مما يوزن، أما إذا كان مما يباع كيلاً، وهذا هو الذي كان موجوداً في زمن المصنف رحمه الله وكان مشهوراً وإلى عهدنا الآن، فإن الأغلب في النوى أن يباع كيلاً. فحينئذٍ إذا كان يباع كيلاً فإنه يجوز، إذا باعه تمراً ونوى بنوى، فإن التمر الذي هو ربوي لم يعادله ربوي، وإنما تعادل غير الربوي بغير الربوي، فجاز التفاضل، وعلى هذا يفصل في مسألة التمر والنوى إذا كان ذلك مع التماثل أو مع الاختلاف. وقوله: (ويباع النوى بتمر فيه نوى) وقد ذكرنا ذلك؛ لأنه ليس من جنس الربويات.

حكم بيع لبن وصوف بشاة ذات لبن وصوف

حكم بيع لبن وصوف بشاة ذات لبن وصوف قال رحمه الله: [ولبن وصوف بشاة ذات لبن وصوف] المسألة من باب ترويض الذهن، وضبط القواعد والأصول، وقبل أن نبحث أي مسألة لابد أن نعرف جنس المبيع، هل هو ربوي أم غير ربوي؟ فاللبن أولاً: هل هو مطعوم أم غير مطعوم؟ هو مطعوم، وثانياً: هل يباع اللبن كيلاً أو وزناً أو عدداً أو ذرعاً أو جزافاً؟ A بالكيل، فيقال: لتر، أو نصف لتر، حتى الكراتين التي تباع في زماننا يكتب عليها: لتر، أو نصف لتر، وحتى الحليب كذلك، إذاً: اللبن يباع كيلاً، ولا يباع وزناً، والحليب يباع كيلاً وتارة يباع عدداً، كما هو موجود في علب النيدو. وحتى نقرر المسائل ونفهم مراد المصنف هنا: لو كان عندك حليب من الإبل وعندي حليب من الإبل، وأردنا التبادل، فلابد أن يكون مثلاً بمثل، يداً بيد حليب من الغنم بحليب من الغنم، مثلاً بمثل، يداً بيد حليب من البقر بحليب من البقر، مثلاً بمثل، يداً بيد. وإن اختلفا كحليب بقر بحليب غنم، فما الحكم؟ الجنس واحد وهو أنه حليب، لكن الأصل مختلف كاللحم، فحينئذٍ يجب التقابض، ويجوز التفاضل، ويحرم النسيئة. وبناءً على هذا فالحليب واللبن مكيل. كذلك الصوف يباع وزناً، وقد يباع جزافاً في بعض الأحيان، لكنه يباع بالوزن، فالصوف يعتبر من جنس الربويات؛ لأنه غير مطعوم، وعلته الوزن، فإذا كان يوزن، أو جرى العرف في وزنه، فحينئذٍ يصبح من الربويات. ولو باع اللبن والصوف بلبن وصوف، فما الحكم؟ نقول: فيه تفصيل: فإن كان اللبن متماثل الأصل؛ كلبن الشاة بلبن الشاة، فيجب التماثل والتقابض، وهكذا الصوف، لكن لو اختلفا؛ كلبن بقر بلبن غنم، جاز التفاضل ووجب التقابض. وبناءً على هذا: فلو اشترى اللبن باللبن والصوف بالصوف، فإنه يجري فيه الربا، لكن لو اشترى اللبن والصوف بشاة ذات لبن وصوف، ومعلوم أن اللبن والصوف في الشاة من جنس الربويات، فإن الصوف يجز من الشاة ثم يوزن، واللبن الموجود يحلب ثم يكال، فمن دقة المصنف رحمه الله حينما ذكر الأصل وهو بيع الربوي بالربوي، ومعهما أو مع أحدهما من غيرهما، قال: لا يجوز، فأراد أن يستثني مسألة التبعية، وهي أن يكون الربوي غير مقصود، وإنما جاء تبعاً، فقصد بشراء الشاة الشاة، ولم يقصد لا لبنها ولا صوفها، فحينئذٍ عاوض الشاة بقيمة اللبن والصوف. فالتبادل لم يقع بين لبن وصوف، مثل أن يبيع الربوي درهماً بدرهم، أو مداً بمد، وهذا المد مقصود بالمد، لكن هنا جاء الربوي تبعاً. وقد يقول قائل: ما هذا التنظير؟ وما هذه الأشياء التي يقولها العلماء تبعاً وقصداً؟ فنقول: الشريعة تفرق بين التبع وبين القصد، وقد يكون الشيء مقصوداً محرماً لكنه تابع زائد، والدليل على ذلك: أنه لا يجوز بيع النخل والثمر قبل بدو صلاحه، لكن لو اشتريت بستاناً وفيه النخل الذي لم يبدُ صلاحه، وقلت: أشترط أن تكون لي الثمرة، فإنه يصح؛ لأن الثمرة جاءت تبعاً لا قصداً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع). فإذا اشترطها المبتاع كانت له بالعقد والبيع، فجازت تبعاً ولم تجز استقلالاً؛ لأنه ثبت في الصحيحين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها) إذاً: الشريعة تفرّق بين التبع والاستقلال. فمثلاً: رجل توفي والده، وقال: أريد أن أصلي عن والدي العبادات البدنية كالصلاة، فبالإجماع أنه لا يجوز أن يصلي الحي عن الميت، ولا الحي عن الحي؛ بل لا تجوز الصلاة عن أحد إلا في أقوال شاذة وردت، لكن إذا حججت عن الوالد، أو عن قريب توفي ولم يحج، أو اعتمرت عنه، فستضطر لصلاة ركعتي الطواف، لكن هل ركعتا الطواف جاءت أصلاً أم تبعاً؟ الجواب: جاءت تبعاً. فهنا نقول: إذا باع الصوف واللبن بشاة ذات صوف ولبن، فإن مقصوده الشاة؛ بدليل أنه يقدر قيمة الصوف واللبن الذي معه ويكافئه بقيمة الشاة، ولا يكافئه بقيمة الصوف واللبن الموجود في الشاة. وعلى هذا فيجوز بيع الربوي بالربوي ومعهما ما ليس من جنسهما إذا كان الربوي تبعاً ولم يكن أصلاً.

العبرة في الكيل والوزن

العبرة في الكيل والوزن قال رحمه الله: [ومرد الكيل لعرف المدينة]. هذه مسألة مهمة، خاصة وأننا قد قررنا في باب الربا أنه لابد أن نعرف الموزونات والمكيلات حتى نقول: يجري الربا أو لا يجري. فأي شيء تسأل عنه من الطعام أو من غير الطعام فتنظر: هل يكال، أو يوزن، أو يباع بالعدد والجزاف والذرع إلى آخره؟ إذاً: أنت محتاج إلى مسألة الكيل والوزن. فهب أن رجلاً جاءك وقال: أريد أن أبيع العدس بالعدس جزافاً كوماً بكوم، فهل يجوز؟ وحينها ستضطر أن تسأل: هل العدس من جنس الربويات أم لا؟ وهذا يستلزم أن تعرف هل هو يكال ويوزن أم لا يكال ولا يوزن؟ فإذا كان طعاماً يكال أو يوزن جرى فيه الربا، كما قررنا ذلك على أصح أقوال العلماء؛ لكن لو كان الطعام يباع بالعدد، مثل الحلوى الآن، فإن منها ما يباع بالعدد؛ كحلوى العود. وكذلك المكرونة: هل هي من جنس ما يكال أو يعد أو يوزن أو يذرع؟ A مما يوزن، ولذلك تجد مكتوباً عليها مثلاً: مائتين وخمسين جراماً، وفي بعض الأحيان الأنواع الصغيرة قد تباع كيلاً بالصاع، لكن الموجود والشائع في أسواقنا أنها تباع بالوزن. كذلك الفستق: لو سألك رجل يبيع الفستق والمكسرات، وقال: أريد أن أبادل كيساً من الفستق بكيسين، وهذا الكيس من نوع، وهذان الكيسان من نوع آخر، فهل يجوز أم لا؟ فتقول: هل الفستق يباع بالكيل أو الوزن؟ الجواب: بالوزن، وبناءً على ذلك يعتبر من جنس الربويات، وقس على ذلك بقية الأمثلة. إذاً: لابد من الكيل أو الوزن في الطعام، ولنفرض أن شيئاً كان يباع بالكيل، فأصبح في زماننا يباع جزافاً بدون كيل ولا وزن، أو أن شيئاً كان يباع بالوزن، فأصبح في زماننا يباع جزافاً بدون كيل ولا وزن، أو أن شيئاً كان يباع قديماً بالجزاف فأصبح يباع في زماننا بالكيل، أو بالوزن، وهذه المسألة تحتاج إلى ضبط؛ لأنك تقول: لا أحكم بالربا إلا إذا كان مكيلاً أو موزوناً من الطعام، فمعناه: أنه لابد أن يكون السوق يتبايع بالوزن أو يتبايع بالكيل. إذاً: الربويات تنقسم إلى قسمين: الأول: ربويات منصوص عليها. الثاني: ما كان في حكم المنصوص عليها مما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فهناك أشياء كانت موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتباع بالكيل في زمانه أو تباع بالوزن، فهذه الأشياء لا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون موجوداً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فيكون إما مطعوماً أو غير مطعوم. الحالة الثانية: أن يكون غير موجود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم. أما الموجود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وهو مما يباع وزناً في زمانه كالذهب والفضة، فلو أنه في زماننا هذا بيع الذهب مثلاً بالذرع، فنقول: العبرة بزمان النبي صلى الله عليه وسلم، ولو اختلف الزمان، وهذا بالنسبة لغير المطعومات. أما بالنسبة للمطعومات، فنفس الحكم، فما كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم واختلف حال بيعه في زماننا، فالعبرة بزمان النبي صلى الله عليه وسلم لا بزماننا. فالتمر كان يباع كيلاً، لكن لو أنه في زماننا أصبح يباع بغير الكيل والوزن، فحينئذٍ نعتبر زمان النبي صلى الله عليه وسلم، ونقول: إنه منصوص عليه، ويجري فيه الربا، حتى ولو بيع بغير الكيل والوزن. أما غير التمر، فلو كان هناك شيء موجود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، مثل الزبيب، فقد كان موجوداً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يباع كيلاً؛ فحينئذٍ لو أصبح الزبيب يباع في زماننا وزناً فإن العبرة بزمان النبي صلى الله عليه وسلم، ويجري فيه الربا. إذاً: مسألة الكيل والوزن لابد لها من هذا الضابط، فإذا كانت موجودة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم من الطعام أو غير الطعام، فالعبرة بزمان النبي صلى الله عليه وسلم على حسب الحال، وهذا هو مذهب الجمهور. وهناك من العلماء من قال: العبرة بالعرف الذي طرأ بعد زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فلو أن البطيخ كان موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يباع مثلاً بالكوم، ولا ينظرون إلى وزنه، لكن في زماننا يباع البطيخ بالوزن، فإذا كان بالكوم فإنه لا يجري فيه الربا؛ لأنه مطعوم غير مكيل ولا موزون؛ لأنه بيع جزافاً، والجزاف يكون بالحصر والتخمين، وبناءً على ذلك نقول: ما كان من جنس الطعام وغير الطعام يوجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فالعبرة بزمانه كيلاً ووزناً، وما كان مما لم يوجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فالعبرة بعرف السائل، هذا وجه، أو العبرة بمكة إن كان موزوناً، وبالمدينة إن كان مكيلاً، وهذا وجه آخر. وقال بعض العلماء: أي شيء جرى فيه العرف ببيعه كيلاً أو وزناً تقيد بذلك العرف، فإن لم يكن له عرف رجعوا إلى مكة والمدينة بالكيل والوزن، وأما لو كان له عرف فالعبرة بعرف بلده، هذا هو الوجه الأول. وهناك وجه ثانٍ يقول: العبرة في المكيلات والمطعومات بكيل المدينة. فمثلاً: الطعام من جنس المكيلات، فأهل مكة يبيعونه بالوزن، وأهل المدينة يبيعونه بالكيل، فعند الحنفية الذين يرون الكيل، يقولون: يجري الربا؛ لأن العبرة في الكيل بكيل المدينة، والعبرة في الوزن بوزن مكة. فالوزن من غير المطعومات هوما يقاس على الذهب والفضة، فمثلاً: الحديد والنحاس والنيكل والرصاص والخشب، لو بيع وزناً في مكة وبيع ذرعاً في المدينة جرى فيه الربا؛ لأنه من جنس الموزونات، والعبرة بمكة في الوزن، ولا عبرة بالمدينة في الوزن. وعلى هذا يقولون: نعتبر في الوزن وزن مكة، ونعتبر في الكيل كيل المدينة، إذاً: عندنا ضابطان لا نص فيهما: العرف، والرجوع إلى مكيال مكة والمدينة. فإذا قلنا بالعرف الذي هو عرف البلد، فالأصل في الرجوع إليه القاعدة الشرعية المشهورة: (العادة محكمة)، فإن الله ردنا إلى العرف فقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، والأدلة على اعتبار العرف من الكتاب والسنة كثيرة. ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم المرأة إلى مهر مثلها لا وكس ولا شطط، إن كانت بكراً، فالبكر من مثلها سواءً كانت من أوساط الناس أو علية الناس أو الدون، وهذا كله من الرجوع إلى العرف {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] إلى غير ذلك من النصوص التي وردت في اعتبار العرف. لكن لو فرضنا أننا في المدينة، وقلنا بالرجوع إلى العرف، فمعناه أننا نرجع إلى السوق، فجئنا إلى الكمثرى، وهي مطعوم، لكن هل تباع كيلاً في سوقنا؟ أو وزناً؟ أو عدداً؟ لو أن عرفنا جرى على بيعها عدداً -بالحبة- لم يجر فيها الربا؛ لأنها مطعومة غير مكيلة ولا موزونة، وشرط جريان الربا أن يكون مطعوماً مكيلاً أو موزوناً. لكن لو كان في المدينة سوقان: سوق يبيعها بالعدد، وسوق يبيعها بالوزن، فإذا جئنا ننظر إلى الذين يبيعونها بالوزن حكمنا بالربا، وإذا جئنا ننظر إلى الذين يبيعونها بالعدد لم نحكم بالربا، فهل نقول: نغلب المحرمين؛ لأنه إذا اجتمع حاظر ومبيح قدم الحاظر، أو نقول: نغلب المجوزين؛ لأن الأصل الحل، والشريعة شريعة رحمة، وما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، أو أن الأمر في تفصيل؟ قالوا: فيه تفصيل: فإن كان السوق الذي يبيع بالوزن ويجري على وجهه الربا أكثر وأشهر وأغلب في المدينة، وأكثر ارتياداً من الناس، فالعبرة به والآخر لاغٍ، وإن كان الآخر هو الأكثر، فالعبرة به ولا ربا مثلما ذكرت. لكن إذا كان السوقان متماثلين: هذا السوق سعته مثل ذلك السوق، والمدينة منقسمة إلى قسمين: النصف منها يقضي في هذا السوق، والنصف الآخر يقضي في ذلك السوق، فما الحكم؟ قالوا: إذا اختلفا فإنه يجري الربا في السوق الذي يباع بالوزن، ولا يجري في السوق الذي لا يباع بالوزن، وهذا ليس بغريب؛ لأنك ربما تأتي الآن إلى حدود الحرم، فلو أن رجلاً في التنعيم دخل خطوة، فصلاته فيها بمائة ألف صلاة، ولو خرج لم تكن له هذه الفضيلة، ولو دخل وأراد فيه الإلحاد بظلم أذاقه الله من عذابٍ أليم، ولو تقهقر وخرج خطوة لم يكن له هذا العذاب. إذاً: مسألة التحديد لأن هناك وصفاً شرعياً مستنبطاً من النص، إذا وجد حكمنا به، وإذا فقد لم نحكم به، إذاً: هذه هي مسألة العرف. ولذلك قال المصنف رحمه الله: (ومرد الكيل لعرف المدينة)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العبرة بالكيل بكيل المدينة، والعبرة بالوزن بوزن مكة). وهذا الحديث صححه غير واحد من العلماء رحمهم الله، والعمل عند أهل العلم على هذا الحديث؛ لأن مكة والمدينة نزل فيهما الوحي، وكان التشريع ونزول الوحي في هذا المكان، فيقولون: يرجع إلى هذا العرف عند اختلاف أعراف الناس، فيحتكم إليهما في الكيل كيلاً بالمدينة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم بارك لنا في مدنا وصاعنا)، فكان الأشبه بهم كيلاً، والوزن يكون مرده إلى مكة، وعلى هذا يفصل بهذا التفصيل. وقوله: (زمن النبي صلى الله عليه وسلم)، فقد رجح المصنف رحمه الله هنا أن المكيلات والموزونات نرجع فيها إلى عرف المدينة ومكة، إذا كانت موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، مثل الزبيب، فقد كان موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في المدينة، وكان يباع كيلاً، فنقول: إنه يأخذ حكم المكيل ويجري فيه الربا؛ لأنه مطعوم مكيل. قال رحمه الله: (وما لا عرف له هناك اعتبر عرفه في موضعه) أي: ما لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم رجع فيه إلى العرف في بلده، كما ذكرنا أنهم يقولون: إن المطعومات التي لم تكن موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يرجع فيها إلى عرف بلادها، ويلغون عرف مكة والمدينة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

تحريم ربا النسيئة والفضل

تحريم ربا النسيئة والفضل قال رحمه الله: [ويحرم ربا النسيئة].

معنى ربا النسيئة

معنى ربا النسيئة النسيئة: مأخوذ من النسأ، كقولك: أنسأ الشيء إذا أخره، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} [التوبة:37]، حيث كانوا يؤخرون الأشهر الحرم عن مواقيتها؛ فلأجل هذا التأخير وصف بكونه نسيئاً. فالنسيئة إما أن تكون من الطرفين، وهذا أشد ما يكون، وإما أن تكون من أحد الطرفين دون الآخر؛ كأن يعجل أحدهما ويؤجل الآخر، فيعطيه درهمين بدرهم، ينقد أحدهما وينسأ الآخر.

الأدلة على تحريم ربا النسيئة

الأدلة على تحريم ربا النسيئة وقول المصنف: (يحرم ربا النسيئة) الدليل على التحريم قوله عليه الصلاة والسلام فيما ثبت في الصحيح من حديث عبادة رضي الله عنه وأرضاه: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد). فقوله عليه الصلاة والسلام: (يداً بيد) يدل على أنه لا يجوز بيع الربوي بالربوي مع اتحاد الصنف أو اختلافه إلا يداً بيد، وقوله عليه الصلاة والسلام في تتمة الحديث: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، منطوق النص واللفظ: أي: جاز لكم أن تبيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم، كيلو بكيلوين أو بثلاثة، إذا كان يداً بيد، هذا هو المنطوق. ومفهومه: لا تبيعوا الذهب بالفضة بالنسأ والتأخير إذا لم يكن يداً بيد. فالمنطوق: جواز بيع الذهب بالفضة، وبيع البر بالتمر، والشعير بالملح، الذي هو واحد من الأربعة بواحد آخر من الأربعة، بشرط أن يكون يداً بيد، ومفهوم الشرع: إذا كان يداً بيد؛ لأن المفاهيم عشرة، منها: مفهوم الشرع. فلما قال: (يداً بيد)؛ فهمنا أنه إذا لم يكن يداً بيد فإنه لا يحل، وقد ذكرنا حديث عبادة لأنه أصل، وإلا فهناك أحاديث أقوى وأصرح في تحريم ربا النسيئة. ومنها -الحديث الثاني- حديث عمر في الصحيح، وهو من أشد الأحاديث في تحريم ربا النسيئة وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء)، فقوله: (هاء وهاء) أي: هه هه، فتعطي وتأخذ، وهذا يدل على التنجيز والتعجيل والنقد والإعطاء حالاً. إذاً: فقوله: (هاء وهاء) معناه: أنه يقع في الربا إذا أخر ولا يقع فيه إذا عجل؛ لقوله: (إلا هاء وهاء)، فنص على كونه ربا إذا أخر، وهذا من المنطوق. الحديث الثالث: من أدلة المنطوق وهي أقوى: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أسامة: (لا ربا إلا في النسيئة)، فإنه من أقوى الأحاديث التي دلت على حرمة النسيئة، بل عظمت أمره حتى قيل: لا يجري الربا إلا في النسيئة. وهذا من باب التعظيم. الحديث الرابع: حديث أبي موسى رضي الله عنه وهو في الصحيح أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا -أي: لا تزيدوا، من الإشفاء- بعضها على بعض، ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض)، ثم قال -وهذا منطوق النص-: (ولا تبيعوا غائباً منها بناجز). فهذا نص على تحريم النسيئة وهو قوله: (ولا تبيعوا غائباً منها بناجز)، ومعناه: أنها وقت النسيئة من طرف، قالوا: فحرم النسيئة من طرف، فمن باب أولى أن تحرم إذا كانت من الطرفين، أي: لا يجوز بيع الغائبين: عين بعين مؤجلين، أو ذمة بذمة مؤجلين، نسيئة من الطرفين في ثلاث صور. إذاً: ربا النسيئة مجمع على تحريمه، ووقع الخلاف في ربا الفضل بين الصحابة، وخالف فيه بعض التابعين، وهنا نتعرض لمسألة هل ربا الفضل مجمع على تحريمه أم لا؟

الخلاف في حكم ربا الفضل

الخلاف في حكم ربا الفضل أولاً: ربا النسيئة مجمع على تحريمه، لكن نظراً لورود الحديث: (لا ربا إلا في النسيئة) نحتاج إلى بيان مسألة ربا الفضل، وهل هو مجمع على تحريمه أم مختلف فيه؟ وهل حديث: (لا ربا إلا في النسيئة) يدل على جواز ربا الفضل وانحصار الربا في هذا النوع وهو النسيئة، أم أنه لا يدل على ذلك؟ وهذه المسألة قد اختلف فيها الصدر الأول من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أواخر القرن الثالث تقريباً، ثم انقرض الخلاف وأصبح قولاً واحداً بتحريم ربا الفضل، لكن لابد أن نتعرض لهذا الخلاف ثم نفند الشبه في جواز ربا الفضل. وحاصل هذا: أنه روي عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وزيد بن أرقم، وأسامة، عبد الله بن الزبير، ومعاوية بن أبي سفيان، والبراء بن عازب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. أما عبد الله بن عباس فالرواية عنه في الصحيحين أنه كان يقول: (درهم بدرهمين لا بأس إذا كان يداً بيد)، فكان يجيز ربا الفضل ويحرم ربا النسيئة. وأما عبد الله بن عمر فصح عنه؛ لكن صح عنه أنه رجع. وكذلك عبد الله بن مسعود صح عنه، ولكن صح عنه أنه رجع. والبراء بن عازب كذلك صح عنه أنه قال بقوله في قصة أبي المنهال مع شريكه لما سأل البراء، ولكنه رجع؛ لأن هذا الحكم -وهو جواز ربا الفضل- كان جائزاً في العصر المدني في أول التشريع، فحفظ بعض الصحابة الجواز، ثم اطلع على أدلة التحريم فرجع. وأما معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وعن أبيه، فقد جاء عنه الخلاف في قصته مع أبي الدرداء وأبي أسيد الساعدي المشهورة، وأن أبا أسيد الساعدي عتب على معاوية ورد عليه أمام الناس، وقال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب ... )، وذكر الحديث، وهكذا أبو الدرداء راجع معاوية، فلما راجعه امتنع معاوية من قول أبي الدرداء، ثم رجع أبو الدرداء إلى عمر فسأله: ما الذي أقدمك من ثغرك؟ فقال: يا أمير المؤمنين! إنه كان كذا وكذا وأخبره الخبر، فقال له: ارجع إلى ثغرك، والله لا خير في قوم لست فيهم، ثم كتب إلى معاوية ينهاه؛ فالظن بأمير المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه معاوية إذا بلغه نهي عمر أن ينتهي؛ لأن بعض الصحابة كان يقول بالجواز على ما كان يعلمه من التشريع الأول، ثم نسخ ذلك التشريع. ثم عبد الله بن الزبير يُحكى عنه، ولكن لم يأتِ في رواية صحيحة عنه أنه قال بجواز ربا الفضل. وهكذا أسامة حكي عنه، ولكن لم تأتِ رواية صحيحة عنه. هذا مجمل الصحابة الذين حكي عنهم الخلاف، وقد رجعوا كلهم، وبقي ابن عباس وحده، هل رجع أو لم يرجع؟ اُختلف فيه على ثلاثة أقوال: فمنهم من يقول: إن ابن عباس رضي الله عنهما رجع عن فتواه بحل ربا الفضل، وهذا يرويه زياد أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما قبل وفاته بسبعين ليلة فأفتى بالتحريم. ومنهم من يقول: إنه توفي وهو يقول بهذا القول، واحتجوا بما روى سعيد بن جبير رحمه الله وهو من أقرب الناس إلى ابن عباس وأعلمهم بفتواه، أنه قال: (سألت ابن عباس قبل أن يموت بشهرين، فوالله ما رجع عن قوله بربا الفضل) وهذا ثابت في الصحيح. - وهناك قول ثالث بالتوقف. والصحيح أن ابن عباس رضي الله عنهما لم يرجع عن فتواه بجواز ربا الفضل، بل توفي وهو يقول بذلك؛ وكان يتأول حديث أسامة ويفتي به ويعمل به. ولذلك عتب عليه الصحابة حتى قال له أبو موسى الأشعري كما في صحيح مسلم: (اتق الله يا ابن عباس! أيأكل الناس الربا بقولك؟ فقال: أستغفر الله، فقال له: هل وجدت ذلك في كتاب الله؟ أو شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) فقال له ابن عباس: أما كتاب الله فلا)، أي: لم يجد في كتاب الله هذا الذي يقول به من الفتوى، قال: (وأما السنة فأنتم أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لا يعرف الفضل إلا أهله. فقد كان الصحابة يحفظ الصغير حق الكبير، وكان يحفظ من كان عنده علم من هو أعلم منه، كان يقدر بعضهم بعضاً، فمع كونها مسألة خلافية وفقهية لكنها ما أذهبت الحقوق، ولا أذهبت قدر الناس، ولا جعلت الإنسان عند مخالفته لغيره يحط أو ينزله من قدره، بل قال له أمام الناس: (أما السنة فأنتم أعلم بحديث رسول الله)؛ لأنهم أعلم وأكبر سناً وأكثر شهوداً لمشاهدة التنزيل. فهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم، وهكذا كان التابعون والتابعون لهم بإحسان، ولا زال أهل الفضل على هذا النهج الصالح الذي يدل على صفاء القلوب والإنصاف والعدل والتقوى لله سبحانه وتعالى. ثم قال: ولكن أخبرني أسامة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ربا إلا في النسيئة)، فاحتج بالسنة، وفهم ابن عباس أنه لا يقع الربا في الفضل، وأنه يجوز أن تصرف الريال بالريالين، والدرهم بالدرهمين، والدينار بالدينارين؛ لكن بشرط أن يكون يداً بيد، والواقع أن هذا الحديث يجاب عنه من مسالك: المسلك الأول: من ناحية النسخ. المسلك الثاني: الجمع. المسلك الثالث: الترجيح. فهذه ثلاثة مسالك أصولية في الجواب عن هذا الحديث ومناقشته، وتوهين الاستدلال به. المسلك الأول: دعوى النسخ، وهذا المسلك يميل إليه طائفة من العلماء وبعض أئمة الحديث، كالإمام الحميدي وغيره، ويقوون النسخ؛ لأن البراء قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وتجارتنا هكذا) أي: كنا نعطي الدرهم بالدرهمين، والدينار بالدينارين، أي: كنا نتعامل بالفضل، فلما قدم عليهم وتجارتهم هكذا وأقرهم عليها قال: (ثم جاءتنا أحاديث التحريم ففهمنا أن الأمر قد نسخ)، وهذا المسلك من أقوى المسالك. المسلك الثاني: الجمع، لكن يقول العلماء: لا يصار إلى الجمع متى كان أحدهما منسوخاً؛ لأنه لا يجمع إلا بين نصين محكمين، لأن النصين أحدهما منسوخ، ولا يصار إلى الترجيح مع إمكان الجمع. فأما مسلك الجمع بين النصين، فيجمع بينهما من وجوه: أولاً: قوله: (لا ربا إلا في النسيئة) يحمل على أن المراد به: لا ربا أكمل وأكثر وأشنع وأشد من ربا النسيئة، وهو من باب التهويل والتشديد، فلما كان ربا النسيئة هو ربا الجاهلية، وهو الذي يظلم فيه الفقراء من قبل الأغنياء قال: (لا ربا إلا في النسيئة)، وهو كقوله: (الحج عرفة) فإنه لا يسقط أركان الحج الباقية، فخرج من باب التعظيم والتهويل والتشديد في أمره. ثانياً: من مسالك الجمع ما اختاره الإمام الشافعي رحمه الله: أن الصحابي حضر الجواب ولم يحضر السؤال، فسُئل عليه الصلاة والسلام عن مسألة فيها ربا نسيئة، فقال له: (لا ربا إلا في النسيئة) أي: هذا الذي تسأل عنه هو عين الربا، فحضر الجواب ولم يحضر السؤال، وهذا يقع في بعض النصوص، فيعمم فيما هو مخصص، أو يطلق فيما هو مقيد، وقد ذكر هذا العلماء والأئمة. المسلك الثالث: الترجيح، والترجيح هنا من جهة السند ومن جهة المتن: فأما الترجيح من جهة السند: فأولاً: إن أحاديث التحريم، كحديث عبادة بن الصامت، وأبي موسى الأشعري، وعمر بن الخطاب رضي الله عن الجميع، وغيرها من الأحاديث التي أثبتت تحريم ربا الفضل، هي من رواية أكابر الصحابة، وحديث: (لا ربا إلا في النسيئة) من رواية أصاغر الصحابة؛ لأن أسامة بن زيد وعبد الله بن عباس من أصاغر الصحابة. والقاعدة تقول: (إذا تعارضت رواية الأكابر مع رواية الأصاغر؛ قدمت أحاديث الأكابر على أحاديث الأصاغر)، وهذا نفسه ابن عباس يسلم بذلك ويقول: (أنتم أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني). والسبب في هذا: أن الصغار ربما كانوا متأخرين، وقد تخفى عليهم بعض السنن، ويحكون البعض ويغفلون عن البعض، وهذا هو ما قرره العلماء، إلا في بعض المواطن التي تكون فيها رواية الأصاغر موثقة بدلالة الحال أو السياق، على حسب ألفاظ الأحاديث، كما قال أنس: (ما تعدوننا إلا صبياناً، لقد كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها أسمعه يقول: لبيك عمرة وحجاً). فهذا فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً برواية الأصاغر، لكنه جاء بمقطع واضح على أنه سمع بأذنه وعقل ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: نقول: إن أحاديث النهي من رواية الأكابر، وأحاديث الجواز من رواية الأصاغر، فترجح أحاديث النهي على أحاديث الجواز. ثانياً: إن أحاديث النهي متصلة؛ لأن عبادة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عباس يروي بواسطة، ويحتمل أن يكون أسامة روى بواسطة ولم يرو مباشرة، ولذلك قالوا: تقدم الرواية المباشرة على الرواية بواسطة. أما الترجيح من جهة المتن، فمن وجوه: الوجه الأول: أن الاستدلال بحديث: (لا ربا إلا في النسيئة) من باب المفهوم لا من باب المنطوق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ربا إلا في النسيئة)، ونحن نرى أن الربا يجري في النسيئة، ومفهومه: أنه سكت عن ربا الفضل، فجاء منطوقاً به في أحاديث أخرى، فيقدم المنطوق على المفهوم. ومن المعلوم أن حديث: (لا ربا إلا في النسيئة) لا يصح دليلاً لـ

باب الربا والصرف [4]

شرح زاد المستقنع - باب الربا والصرف [4] ربا النسيئة محرم بالكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة؛ لما فيه من الغرر والظلم، ويلحق به ربا الفضل؛ لأنه ذريعة إلى النسيئة، وكل بيع فيه جهل أو غرر أو ظلم فإنه محرم، وفي هذه المادة أنواع متفرقة ومسائل مختلفة من البيوع الربوية المحرمة، أو التي تكون وسيلة إلى الربا.

مسائل في ربا النسيئة

مسائل في ربا النسيئة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ويحرم ربا النسيئة].

الأدلة على تحريم ربا النسيئة

الأدلة على تحريم ربا النسيئة قصد المصنف رحمه الله بهذه الجملة أن يبيّن الأحكام المتعلقة بالنوع الثاني من أنواع الربا، وهو ربا النسيئة، وقد جاءت النصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي تدل على تحريمه، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الأصناف الستة: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد)، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (مثلاً بمثل)؛ دل على وجوب التماثل وتحريم التفاضل، ولما قال: (يداً بيد)؛ دل على وجوب التقابض وتحريم الافتراق قبل القبض من المتعاقدين أو من أحدهما. وقال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا غائباً منها بناجز)، فقوله: (لا تبيعوا غائباً منها بناجز) يدل على تحريم تأخير التقابض، وإذا حصل التأخير في القبض فقد وقع ربا النسيئة. وأجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز تأخير أحد الربويين إذا بيع بالآخر، وأنه يجب على المتعاقدين أن يتقابضا في المجلس.

الربا في بيع الذهب بالذهب

الربا في بيع الذهب بالذهب لو صرفت الذهب بالذهب، كرجل عنده جنيهات من الذهب فأراد أن يبادلها بجنيهات من الذهب، فقال أحدهما: هذه العشرة جنيهات من السعودي بالعشرين من الجنيهات الفرنسية، فيجب أن يتقابضا، وأن يكون ذلك يداً بيد، وشرطه محل العقد، فلو دفع أحدهما جنيهاته وتأخر الآخر، وخرجا وافترقا فقد وقع ربا النسيئة. وهكذا لو قال له: أعطيك الآن وتعطيني غداً فهو ربا. وكذلك لو باع الحلي بالجنيهات، فأعطى صاحب الحلي وأخر صاحب الجنيهات، وهكذا لو أن امرأة جاءت بحليها القديم، وأرادت أن تشتري به حلياً جديداً فتبايعت، ثم قال: لا أعطيك الآن ولكن غداً، فهذا كله من ربا النسيئة في الذهب.

الربا في بيع الفضة بالفضة

الربا في بيع الفضة بالفضة وكذلك إذا صرف الفضة بالفضة، فمثلاً: لو أنه بادل الريالات بالريالات، كخمسمائة يصرفها إلى مئات، أو المئات يصرفها إلى ريالات أو عشرات أو نحو ذلك، فلابد أن يكون ذلك مثلاً بمثل، يداً بيد، فلو أعطاه الخمسمائة الآن، وقال: بعد ساعة سأعطيك صرفها، أو أعطاه الخمسمائة حالاً بيد، فقال: إن شاء الله غداً سأعطيك صرفها، فكل ذلك من ربا النسيئة.

الربا في المطعومات

الربا في المطعومات ويدخل في هذا الطعام، فكما أن الربا يجري في الذهب والفضة فكذلك يجري في الطعام، فلو بادل طعاماً ربوياً بطعام ربوي مع الاتفاق، كما يقع في الذهب والفضة؛ كبر ببر، فلو جئت ببر أو تمر أو شعير أو ملح أو غيرها من الأصناف المنصوص عليها، أو جئت بشيء ملحق بالأصناف المنصوص عليها، ففي المنصوص عليه لو كان عندك مائة صاع من السكري، وأردت أن تبادله بمائة صاع من السكري أيضاً، فيجب أن يكون يداً بيد، وأن لا تفترقا وقد أخر أحدكما أو أخرتما معاً، فلو أعطاه المائة من السكري الآن، وقال الآخر: تأتيني بعد ساعة أو غداً، أو ترسل لي أحداً يحمل عنك، فافترقا قبل التقابض، فقد وقع ربا النسيئة. هذا مع اتحاد المبادلة كالذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح. ونحو ذلك.

الربا مع اختلاف الربويات

الربا مع اختلاف الربويات كذلك مع اختلاف الربويات؛ كأن يبادل الذهب بالفضة، فلو صرف الذهب بالفضة، كرجل عنده جنيهات وأراد أن يصرفها بريالات، فقال له: كل جنيه أبيعه منك بمائة ريال، فالريالات أصلها فضة، والجنيهات أصلها ذهب، فتبادلا، فقال له: أعطيك الجنيهات الآن وتعطيني غداً الريالات، أو العكس، فكل ذلك محرم؛ بل حتى لو قال له: بعد ساعة أحضرها لك، ثم افترقا قبل أن يحصل القبض، فيعتبر هذا محظوراً.

الربا عند تحويل العملات

الربا عند تحويل العملات وكذلك لو جئت إلى رجل ومعك ريالات وتريد صرفها بدولارات، كرجل معه مائة ريال يريد أن يحولها إلى دولارات، فينبغي أن يكون الصرف يداً بيد، فتعطيه الريالات ويعطيك الدولارات، فلو تأخر التقابض، وقال: أعطني الريالات الآن وأعطيك غداً الدولارات، أو يقول: ليس عندي الآن صرف، لكن مر عليّ بعد ساعة، ثم أخذ منك ولم تعطه، فقد وقع ربا النسيئة. ويدخل في هذا لو جاء بألف ريال وأراد أن يحولها إلى قريب له إلى دولارات مثلاً، فهنا حالتان: الحالة الأولى: أن يحولها مع اتحاد العملة، كأن يحول ريالات من المدينة إلى جدة أو مكة، فهذه العملة متحدة ولا إشكال فيها، فيصبح عندنا عقد واحد وهو عقد الحوالة. الحالة الثانية: أن يحولها مع اختلاف العملة، كأن يحول مثلاً من ريالات إلى دولارات، أو من ريالات إلى جنيهات، فإن الريالات فضة والجنيهات ذهب، فيجب عند تحويلك للريالات إلى جنيهات أن تنتبه لعقدين: العقد الأول: صرفك للريالات بالدولارات. العقد الثاني: تحويلك للمصروف من الموضع الذي أنت فيه إلى الموضع الآخر. فيجب أولاً: أن تقبض المحول، فتعطي المائة ريال التي معك وتستلم عدلها من الدولارات، أو من الجنيهات، أو من أي عملة أخرى، وبعد أن تقبض ويتم عقد الصرف تحول ما شئت. إذاً: لابد من القبض؛ لأنه إذا صرف الفضة بالذهب، أو الذهب بالذهب؛ كجنيهات بدولارات، دون أن يحصل التقابض، فإنه حينئذٍ يكون ربا النسيئة، فلابد أولاً: من التقابض، ثم بعد ذلك يكون عقد الحوالة.

علة الربا في الأصناف الربوية

علة الربا في الأصناف الربوية يحرم ربا النسيئة في الربويات، والربويات المنصوص عليها هي: الذهب والفضة، وعلتها الوزن، والمنصوص عليها في المطعومات علتها الطعم مع الكيل أو الوزن. وبناءً على ذلك: إذا بادل غير الطعام؛ كأن يبادل حديداً بحديد، أو نحاساً بنحاس، أو خشباً بخشب، فهذه الأشياء من غير الطعام، فإن كانت توزن ولو اختلفت، كأن يبادل طناً من حديد بطنين من نحاس، فإن النحاس والحديد كل منهما يوزن، فنقول: يجوز، ولكن لا بد أن يكون التقابض فورياً، فلا يتأخر أحد المتعاقدين؛ لأنه موزون ربوي، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الموزون الربوي والمكيل الربوي: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد). فبيّن صلى الله عليه وسلم أن الموزون والمكيل الربوي إذا اختلف وكل منهما يكال أو يوزن، فلابد أن يكون يداً بيد، وإذا تأملنا حديث عبادة بن الصامت (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة) فقد ذكر جنس غير المطعومات، ثم لما قال: (الذهب بالذهب) جعل كلاً منهما مثل الآخر: الذهب بالذهب والفضة بالفضة، فلما جاء في آخر الحديث قال: (فإذا اختلفت هذه الأصناف)، كذهب بفضة، وبر بتمر، وتمر بملح، وبر بشعير، وشعير بملح (فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد). فهذه الأصناف تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: الذهب والفضة. القسم الثاني: الأربعة الباقية. فالذهب والفضة العلة فيهما الوزن، فكأنه صلى الله عليه وسلم حينما قال: (فإذا اختلفت هذه الأصناف) أي: الذهب بالفضة: (فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، فإذا تأملنا الذهب والفضة وجدنا أن العلة فيهما هي الوزن، فكأنه قال: كل موزون من غير الطعام بيع بموزون الذي هو الربوي، -إذا قلت: إن العلة الوزن فمعناه أنه ربوي- فكل ربوي بربوي كموزون، بموزون لا يباع إلا يداً بيد، إن اتفق وجب التماثل والتقابض، وإن اختلف وجب التقابض وسقط التماثل. وبناءً على ذلك: لو سئلت عن بيع الموزون بالموزون من غير الطعام؟ فيكون A يجوز التفاضل إذا اختلفا؛ ولكن بشرط أن يكون البيع يداً بيد، لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد). ولما بينا أن العلة هي الوزن فهمنا ذلك من السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أجاز لـ عبد الله بن عمرو بن العاص أن يبيع الإبل بعضها ببعض متفاضلة وإلى أجل، فهمنا أن المعدودات لا ربا فيها، قال عبد الله رضي الله عنهما: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ البعير بالبعيرين، والفرس بالأفراس إلى إبل الصدقة). فجمع بينه وبين النسيئة، والبعير بالبعيرين جائز، لكن الصاع بالصاعين غير جائز، وفهمنا أن الصاع مكيل وأن البعير معدود. والسبب في هذا: أن المعدودات تتكافأ بالعدد، فلربما يكون الواحد يعادل العشرة، فسقط الربا فيها، ولكن المكيلات تتكافأ في الكيل، فوجب التماثل فيها. ومن هنا أخذ العلماء هذه العلة المستنبطة من النص، فقالوا: العلة عندنا الموزونات فهماً من هذه السنة، فإذا قلت: إن العلة الوزن؛ وجب التماثل والتقابض إن اتحد الموزون، مثل: حديد بحديد، سواءً كان جيداً أو رديئاً إلخ. ويجب التقابض إن اختلف الموزون، وهذا الذي جعله رحمه الله من كل ربويٍ بيع بجنسه، فمعناه: أنه لو بيع الموزون بالموزون اتفقا أو اختلفا وجب التقابض، هذا هو معنى قوله رحمه الله: (ويحرم ربا النسيئة في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل).

ربا النسيئة في بيع الجنسين

ربا النسيئة في بيع الجنسين قال رحمه الله: [في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل]: ذكرنا أنه إذا بيع موزون بموزون، سواءً كان من جنس الخشب أو من جنس الحديد أو النحاس أو الرصاص أو النيكل أو غير ذلك؛ فإنه ينبغي أن يكون يداً بيد. وقوله: (اتفقا في علة ربا الفضل) هنا يلاحظ مسألة الاختلاف، فقوله: (اتفقا في علة ربا الفضل) أي: الوزن في الموزون، وبالنسبة للطعام الكيل أو الوزن، فالمطعوم المكيل مع المطعوم المكيل، سواءً اتفقا أو اختلفا، يداً بيد، والمطعوم الموزون مع المطعوم الموزون، سواءً اتفقا أو اختلفا، يداً بيد. فإكان مطعوماً موزوناً متفقاً، مثل البرتقال فإنه يباع بالوزن إذا اتفقا، فبرتقال ببرتقال لابد أن يكونا مثلاً بمثل، فإذا باع الكيلو فيكون بكيلو، أو كيلوين بكيلوين، وأن يكون يداً بيد، وهكذا التفاح إذا بيع وزناً مع الاتفاق وجب التماثل والتقابض. أما مع الاختلاف؛ كتفاح ببرتقال، فإن التفاح يوزن والبرتقال يوزن، وكلاهما مطعوم، فيباع الموزون بالموزون من المطعوم، ويجب التقابض ولم يجب التماثل؛ لأنهما مختلفان، فلو قال قائل: أريد أن أبادل الصندوق من البرتقال بالصندوقين من التفاح؟ فنقول: التفاضل جائز؛ لأنهما ليسا بمتحدين في ربا الفضل، ولكن يجب أن يبادله التفاح بالبرتقال يداً بيد؛ لأن التفاح والبرتقال يعتبر كلاً منهما موزوناً مطعوماً. إذاً: في الطعام ننظر إذا كان مكيلاً أو موزوناً فلابد من التماثل والتقابض إذا اتحدا، ويجوز التفاضل ويجب التقابض إذا اختلفا، هذا بالنسبة للضابط على الأصل الذي بيناه.

حكم بيع الربويين المختلفين ببعضهما إذا كان أحدهما نقدا

حكم بيع الربويين المختلفين ببعضهما إذا كان أحدهما نقداً قال رحمه الله: [ليس أحدهما نقداً كالمكيلين والموزونين]: للحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد)، فلو أنه باع من الأربعة المطعومة: براً بتمر، أو شعيراً بتمر، أو شعيراً بملح؛ فإنه يجب التقابض على ظاهر السنة، وهكذا لو باع الفضة بالذهب؛ لكن لو باع الذهب بصنف من الأصناف الأربعة، أو باع الفضة بصنف من الأصناف الأربعة، فصار أحدهما نقداً فعندنا ستة أصناف كلها ربوية إن كان موزوناً بموزون، أو مكيلاً بمكيل من المطعومات أو من غير المطعومات، فإذا كان موزوناً فإنه يجب التقابض، لكن إذا بيع الذهب أو الفضة بواحد من الأصناف الأربعة، فهناك ربوي بربوي، ولكن إذا كان أحدهما نقداً فإنه لا يشترط التقابض ولا التماثل، كأن يشتري مائة صاع من بر بمائة ريال، وهكذا لو اشترى بالنقد ما هو موزون من برتقال أو موز أو تفاح أو نحو ذلك، فإنه لا يشترط التقابض. والدليل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم)، والسلف: تقديم الثمن وتأخير المثمن، بأن يعطيه الدراهم والدنانير معجلة على أن يأخذ منه الطعام مؤجلاً، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم تأخير المطعوم مع النقد. فدل على أنه إذا بيع المؤجل وكان أحدهما نقداً، جاز ولا بأس به، فلو جاء إلى صاحب البقالة، وقال له: سيأتي ولدي كل يوم ويأخذ من عندك أغراضاً فأعطه، وفي آخر الشهر سأعطيك دينك، فقد صار مطعوماً مما يشترى بنقد نسيئة، فالمطعوم الذي هو الطعام الموجود في البقالة، أو الأغراض التي سيشتريها من الطعام، بنقد نسيئة، فصار ولو كان من جنس الربويات، كأن يأتي إلى بائع تمر، ويقول له: ابني كل يوم سيأتي ويأخذ منك صاعاً أو نصف صاع فأعطه، وفي آخر الشهر سوف أحاسبك. فحينئذٍ أخذ الرجل الطعام الذي هو التمر، وقال: إلى آخر الشهر، فصارا ربويين؛ لأن الريالات أصلها فضة، والفرع آخذ حكم أصله، وبالنسبة للطعام الذي يدفع لقاء النقد الموعود به من جنس الربويات، فربوي بربوي، لكن أحدهما نقد، فإذا كان أحدهما نقداً فإنه يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم أسلف الطعام بالنقد إلى أجل وأباح ذلك. ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله من السلف والخلف على جواز تأخير أحد الربويين إذا كان أحدهما نقداً والآخر الذي هو الثمن والمثمن نسيئة، لكن لو كانا نقدين فلا يجوز، وهكذا لو كان نقداً بجنسه أو من جنس الأثمان، كأن يشتري مثلاً كيلو من الذهب بالنقد الذي هو الريالات، فلم يجز، لكن لو اشترى كيلو الذهب بألف صاع من تمر؛ جاز وصح؛ لأنه ثمن لمثمن، وأحدهما الذي هو الأول نقد ولا حرج في تأخيره على ظاهر حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وجماهير العلماء على أنه يجوز التأخير، ولا بأس بذلك.

إذا تفرق المتبايعان قبل القبض بطل البيع

إذا تفرق المتبايعان قبل القبض بطل البيع قال رحمه الله: [وإن تفرقا قبل القبض بطل]، وينبني على هذا أننا قلنا: إنه يحرم ربا النسيئة في الموزونين، والمكيل موزون بموزون ومكيل بمكيل، سواءً اتفقا أو اختلفا، فيرد Q لو أنهما تفرقا قبل القبض؟ قال رحمه الله: (بطل)، والباطل والفاسد عند جمهور العلماء هو الذي لا يترتب عليه أثر البيع الصحيح، فلا يملك البائع الثمن، ولا يملك المشتري المثمن، إذا كان بيعاً مطلقاً. فالبيع إذا حكمنا بفساده وجب رد الثمن والمثمن إلى البائع والمشتري، ويبطل البيع ويفسخ. وقوله: (بطل) هذا البطلان فيه تفصيل، وسيأتي التفصيل بين أن يبطل في الجميع أو أن يبطل في البعض؛ لأن التأخير في بعض الأحيان يكون من الطرف بجميع النقد، وتارة يكون بجزء النقد، وتارة يكون التأخير من الطرفين، وتارة يكون من أحد الطرفين.

حكم بيع المكيل بالموزون

حكم بيع المكيل بالموزون قال رحمه الله: [وإن باع مكيلاً بموزون جاز التفرق قبل القبض والنسأ]، أي: جاز نسيئة وجاز قبل أن يتقابضا، والمصنف رحمه الله يرجح في علة الذهب والفضة الوزن، وفي علة الطعام الكيل، كما هي إحدى الروايات عن الإمام أحمد، والصحيح أن العلة في الطعام هي الكيل والوزن مع كونه مطعوماً، على ما اختاره شيخ الإسلام، وهي الرواية الثانية عن الإمام أحمد، ويقول بها طائفة من السلف، وقد بينّا دليلنا من حديث معمر بن عبيد الله رضي الله عن الجميع. وقوله: (وإن باع مكيلاً بموزون جاز)؛ لأنه يرى أن الطعام فيه علة واحدة وهي الكيل، فقال: (مكيلاً بموزون)، ومعناه: أنه سيبادل ما هو من جنس الربا -الذي هو المكيل إذا كان طعاماً- بما ليس من جنس الربا من مطعوم موزون على ما رجحه؛ لأنه يرجح أن الطعام إذا كان موزوناً لا يجري فيه الربا. وحتى تتضح الصورة هنا أمران نريد بيانهما: الأول: اختار المصنف أن الطعام يجري فيه الربا إذا كان مكيلاً، ومفهوم هذا أنه إذا كان موزوناً أو معدوداً فإنه لا يجري فيه الربا، والموزون مثل: البرتقال والتفاح، فإذا قلت: إن العلة هي الكيل، فمعناه أنه لا يجري إلا في المكيلات، كالتمر، والرز يباع بالصاع، فهو مكيل، ويجري فيه الربا. لكن البرتقال يوزن ويباع أيضاً عدداً بالحبة، أو يباع بالصندوق، فإذا بيع بالعدد أو الوزن لم يجر فيه الربا على قول من يقول: بالكيل، وهذا هو مذهب الحنفية، ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع. فبناءً على القول بأن العلة هي الكيل: لو بادل المكيل بالموزون فمعناه: أنه بادل الربوي من المطعوم بالربوي من غير المطعوم، ومعناه: أنه بادل النقد بالمطعوم مثلاً، كذهب ببر، أو ذهب بشعير، أو فضة بتمر، فإن الأول -على ما اختاره المصنف- موزون والثاني مكيل. فحينئذٍ في هذه الحالة إذا باع المكيل بالموزون فإنه يجوز التفاضل، ويجوز النسأ والتأخير، ولا يشترط التقابض، وقد بينّا دليل ذلك من حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأنه لا يرى أن هذا من جنس الربوي، وهذا بناءً على أن المصنف يرى أن الطعام يختص بعلة الكيل، فإذا قال لك: مكيل بموزون، فمعناه: مطعوم بغير المطعوم والمطعوم، بغير المطعوم سواءً كان من جنس الربويات أو غير الربويات فإنه يجوز ولا بأس به. لكن على ما رجحناه في المطعومات، فإن الإشكال هو في المطعومات، فلو بادل الموزون منها بالمكيل، أو ما يباع وزناً بما يباع كيلاً على أن كلاً منهما -أي: الطعام الذي هو من جنس الربويات- علته الطعم مع الكيل أو الوزن، فحينئذٍ يجري الربا، فلو بادل البرتقال موزوناً بالتمر المكيل، وجب التقابض فيه؛ لأن جنس المطعوم المكيل، وجنس المطعوم الموزون كل منهما يحرص الشرع على إعطائه يداً بيد؛ بدليل تحريمه إذا تمحض كيلاً أو تمحض وزناً. ولذلك قالوا: إن كل مطعوم من كيل أو موزون يجب فيه التقابض، سواءً اتفقا: كبرتقال ببرتقال، وتفاح بتفاح، وتمر بتمر، وشعير بشعير، وأرز بأرز، ودخن بدخن، أو اختلفا: كتمر ببر، أو اختلفا كيلاً ووزناً، كتمر بتفاح، وقس على هذا. وعلى هذا يقال: إن العلة في النسأ الكيل مع الوزن، وبعض العلماء يقول: العلة وجوب الطعم، فلا يجوز بيع الطعام بالطعام نسيئة مطلقاً، سواءً كانا مكيلين أو موزونين أو غير ذلك، وعلى هذا يختلف إذا باعه من جنس المعدودات.

حكم النسأ فيما لا كيل فيه ولا وزن

حكم النسأ فيما لا كيل فيه ولا وزن قال رحمه الله: [وما لا كيل فيه ولا وزن كالثياب والحيوان يجوز فيه النسأ]. الثياب تباع بالعدد، فتقول: أعطني ثوباً أو ثوبين أو ثلاثة أثواب، فلو بادل ثوباً بثوبين، أو ثوباً بثلاثة، أو ثوباً بأثواب، أو ثوبين بثلاثة، أو غير ذلك؛ صح ولا بأس به، ولا يشترط التماثل ولا التقابض. فلو أعطاه الثوب الآن، وقال: غداً سأستلم منك الثياب، فلا بأس به؛ لأن هذا معدود، وكذلك لو كان طاقات القماش؛ لأنها تباع بالذرع، فليست بمكيلة ولا موزونة، وإنما هي مذروعة، فطاقات القماش إذا بيعت بالأمتار، فإنه يجوز أن يبيع الطاقة بالطاقتين، والطاقة بالثلاث؛ لأنها من جنس المعدودات، وليست من جنس المكيلات والموزونات. وكذلك أيضاً: لو بادله الكتاب بالكتابين؛ لأن الكتاب لا يباع كيلاً ولا وزناً، وإنما يباع عدداً، فتقول: أعطني كتاباً أو كتابين أو ثلاثة مجلدات أو أربعة مجلدات، فأنت تشتري الكتاب ولا تكيله ولا تزنه، ولو اشترى مثلاً الغترة بالغترتين، أو الطاقية بالطاقيتين أو الطواقي؛ جاز وصح البيع، سواءً اختلف أو اتفق قماشها، فكل ذلك جائز ولا بأس به. وهكذا لو بادله القلم بالقلمين، أو الدفتر بالدفترين، وغير ذلك مما هو موجود في زماننا، فكل ذلك جائز؛ لأنه من جنس المعدودات التي ليست مكيلة ولا موزونة. والدليل على أن المعدود يجوز فيه التفاضل والنسأ: قول عبد الله رضي الله عنهما: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ البعير بالبعيرين)، والبعير معدود وليس بمكيل ولا موزون، فقوله: (آخذ البعير بالبعيرين) هذا تفاضل، ثم قال: (إلى إبل الصدقة) أي: آخذ البعير الآن وأعطي البعيرين، فإذا جاء الناس ليدفعوا الزكاة أخذ من أبعرتهم ما يسد به الدين على بيت المال. فدل على جواز بيع المعدود بالمعدود سلفاً وديناً ونسيئة وتفاضلاً؛ لأنه أجاز البعير بالبعيرين تفاضلاً، وأجاز البعير بالبعيرين إلى أجل، فحصل النسأ والتأخير، ومن هنا قالوا: ما كان من غير الموزون والمكيل فإنه لا يجري فيه الربا، فيجوز التفاضل ويجوز النسيئة. وبعض العلماء يعلل ذلك ويقول: إن المكيلات العدل فيها أن تتساوى، فالصاع بالصاع يتساوى، لكن الصاع بالصاع إلا ربع أو بنصف صاع ظلم لصاحب الصاع الكامل، وقالوا: لو جاز في المكيلات تضرر الناس في أقواتهم، كما يقرر ذلك الإمام ابن القيم في الأعلام والزاد. لكن جنس المعدودات غالباً ما يكون العدل فيها بالتفاضل، فإذا جئت لتبيع الفرس بأفراس، فإنك تنظر إلى قيمة الفرس، ثم إذا قدرت الفرس بمائة أو بألف ريال مثلاً فتنظر إلى فرس صاحبك، فإذا كانت قيمته خمسين ريالاً فتقول: أقبل فرسي بفرسين من مثل هذا، لكن التمر حينما تأتي بكيلة متكاملة منضبطة مع كيلة متكاملة منضبطة، فلا تدخل حساباً بينهما. ولذلك انضبطت بالكيل كيلاً وبالوزن وزناً، لكن في العدد انضبطت بالتفاضل، فسقط الربا في المعدود وبقي في المكيل والموزون، وهذه خلاصة من يقول بهذه العلة، وقد أشار إليها القاضي ابن رشد في بداية المجتهد، وتكلم على هذا بكلام دقيق جداً في مسألة إسقاط الربا في المعدودات؛ لأنها إذا جاءت تتكافأ فإنها تتكافأ بالتفاضل، فأنت إذا بعت الثوب بالأثواب، فإنك تنظر إلى أشياء موجودة في الثوب من صفاته، وتحاول أن تقدر قيمته، ثم تنظر إلى عدله من الأثواب وتقدر قيمتها، فإن تكافأت رضيت، وإن تفاوتت طلبت الزيادة عدلاً للنقص الذي بينهما. ومن هنا تفاوت المعدود عن المكيل والموزون؛ لما فيه من الجبر حين التفاضل، بخلاف المكيل والموزون، فإنهما إذا تفاضلا انعدم المعنى المقصود من الشرع من حصول التساوي بين المبيعين.

حكم بيع الدين بالدين

حكم بيع الدين بالدين قال رحمه الله: [ولا يجوز بيع الدين بالدين]. قوله: (ولا يجوز) هذه من صيغ التحريم، (لا يحل -لا يجوز- يحرم) كلها من صيغ التحريم، ومن أقوى الصيغ: (لا يحل) فهي تدل على التحريم، كما قال تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب:52]، فنفي الحل عن الشيء يدل على تحريمه، وقوله: (لا يجوز) كذلك يدل على تحريمه. وقوله: (بيع الدين بالدين)، الدين المؤجل يقابل النقد المعجل، والمراد بهذا أن تبيع ديناً في مقابل دين، ولا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: حكم هذه المسألة مستفاد من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: (نهى عن بيع الكالئ بالكالئ). وهذا الحديث رواه الدارقطني والحاكم وصححه، وقال: هو على شرط مسلم، ولكن تعقب بأن فيه من تكلم في سنده، حتى قال الإمام أحمد رحمه الله عن بعض رواته: إنه لا تحل روايته. والعمل عند طائفة من العلماء على تضعيفه، لكن متنه صحيح، حتى إن الإمام أحمد لما ضعفه قال: إجماع الناس عليه، أي: الإجماع قائم على عدم جواز بيع الدين بالدين؛ لأن متن هذا الحديث يوافق الأحاديث الصحيحة؛ لأن بيع الدين بالدين يفضي إلى الربا والغرر والمخاطرة، فيدخل ضمن أصول عامة دلت الشريعة على اعتبارها، وقد أجمع العلماء والسلف رحمهم الله على العمل بهذا الحديث. وممن حكى الإجماع على عدم جواز بيع الدين بالدين الإمام أحمد رحمه الله، وابن قدامة، وابن المنذر، وابن رشد وغيرهم. ويبقى النظر: ما هي صور بيع الدين بالدين؟ نقول: لبيع الدين بالدين صور: فتارة بأن تبيع ديناً بدين على الشخص المدين نفسه، فيحصل بيع الدين بالدين بين المتعاقدين بأن يكررا البيع، فيكون من باب بيع الدين بالدين مع الشخص نفسه. وتارة يكون بيع الدين بالدين مع شخص غير الشخص المدين الأول. فأما بيع الدين بالدين مع الشخص نفسه فلا يخلو: إما مع اتفاق جنس الدين الأول، أو اختلافه. مثال ذلك: جاء رجل واستدان منك ألف ريال، ثم لما حضر التقاضي قال لك: هذه الألف ريال أعطيك في مقابلها مائة صاع من بر إلى نهاية العام، فالأول دين، والثاني دين، وقد باع الألف ريال في مقابل المائة صاع، فهو دين بدين. مثال آخر: كأن يقول: هذه المائة صاع أشتريها منك بألف ريال، أو بألف ومائتين، فحينئذٍ باع الثمن (الدين) الذي كان في الثمن الأول ببيع ثانٍ جديد، فالذي خاطب وتبايع معك هو نفس الذي وقع عليه الدين الأول، فوقعت صورة بيع الدين بالدين مع اتحاد المتعاقدين، فالعقد الثاني والبيع الثاني هو نفسه الذي وقع فيه الدين في البيع الأول. فهذه الصورة -وهي اتحاد المتعاقدين- تارة تكون بالثمن في مقابل الثمن، وتارة تكون بالمثمن في مقابل المثمن، وتارة تكون بالمثمن في مقابل الثمن، فهذه ثلاث صور. الصورة الأولى: أن تكون من بيع الثمن بالثمن: وهذا أشهر ما يقع فيه ربا الجاهلية، زد وتأجل، فيكون للشخص على الشخص عشرة آلاف ريال، فإذا حضر وقت المطالبة قال له صاحب الدين: أأخرك عن هذا الدين باثني عشر ألفاً، أي: بزيادة ألفين، فكأنه باعه العشرة آلاف الأولى باثني عشر ألفاً الثانية. أو يقول الذي عليه الدين لصاحب الدين: أنا أشتري منك هذه العشرة آلاف بمائة دولار أو بمائتين إلى بعد نصف سنة أو سنة أو شهر أو شهرين، فبادله النقد بالنقد نسيئة من الطرفين، وحينئذٍ يكون من بيع الدين بالدين المفضي إلى الربا. كذلك أيضاً -وخاصة إذا كان في الأثمان والنقود-: غالباً ما تقع الصورة ربوية مع اتحاد المتعاقدين، فتكون العلة فيها من أقوى ما تكون مفضية إلى الربا. إذاً: بيع الدين بالدين (ثمن بثمن) يقع بصورة الربا غالباً، إلا أنه يستثنى من هذا لو قال له: هذه العشرة آلاف لا أستطيع أن أسددها، فقال: أسقط عنك مائة منها وأعطيك أجلاً زائداً، فحينئذٍ هذا دينه، فالأمر خفيف، لم يقع فيه؛ لأن العشرة هي العشرة، ولم يقع بيعاً ثانياً. فهناك فرق بين مسألة الإسقاط والمسامحة وبين مسألة المعاوضة، فإن المدين في الصورة الأولى يقول: هذه العشرة آلاف أعطيك بدلاً عنها عشرة آلاف وخمسمائة، أو أعطيك بدلاً عنها عشرة آلاف ومائة، بشرط أن تصبر عليّ شهراً وأعطيك مائة فوق العشرة آلاف، فأصبحت عشرة آلاف ومائة، فصار ديناً بدين. هذه هي الصورة الأولى، وهي أن يكون ثمناً بثمن. الصورة الثانية: أن يكون مثمناً بمثمن، ويقع هذا في صور عديدة، منها: بيع السلم، كأن يأخذ منك ألف ريال معجلة مقابل مائة صاع مؤجلة، مع ملاحظة أن المائة صاع مثمن، فلما حضر أجل السلم قال: ليس عندي مائة صاع، فسأعطيك بدلاً عنها مائة وعشرة، فهو مثمن بمثمن، وهو عين الربا، وهذا مع الاتحاد. وقد يختلفان إلى ربوي، فيقول له: أعطيك عن المائة صاع البر مائة وعشرين من التمر، أو أعطيك مائة من التمر، فصار ربوياً بربوي بدون قصد، فتدخل شبهة الربا، فحرم بيع الدين بالدين لوجود شبهة الربا، مع ما فيها من المخاطرة في الديون. الصورة الثالثة: الثمن بالمثمن، قالوا: يقع بيع الدين بالدين (الثمن بالمثمن) إذا كان قد أعطاه ديناً عشرة آلاف ريال إلى نهاية السنة، فلما حضر الأجل، قال: أعطني العشرة آلاف، فقال: سأعطيك بدلاً عنها مائة صاع، من البر إلى نهاية الشهر أو إلى نهاية السنة، فعاوضة عن الثمن -الذي هو العشرة آلاف- بمثمن إلى نهاية السنة، أو هذه العشرة آلاف التي لك عليّ أعطيك بدلاً عنها سيارة في نهاية السنة من نوع كذا وصفة كذا، فعاوضه بالمثمن لقاء الثمن، فصارت البيعة الثانية ديناً في مقابل دينه الأول، فصار من بيع الدين بالدين. وعلى هذا وقع بيع الدين بالدين مع اتحاد المتعاقدين، كما في الصور التي ذكرناها في الثمن مقابل ثمن، ومثمن مقابل مثمن، وثمن مقابل مثمن. وقد يقع بيع الدين بالدين مع اختلاف المتعاقدين، وهنا قد تقع علة الربا، وقد يقع بيع الغرر، فيكون فيها نوع من المخاطرة، ومن هنا قال بعض العلماء: الأشبه بأن بيع الدين بالدين يدخل فيه علل كثيرة، فتارة يكون من ربح ما لم يضمن، وتارة يكون من بيع الغرر، وتارة يكون من الربا. فأصبح مشتملاً على المفاسد الموجبة لتحريم البيع؛ لأن قواعد تحريم البيع كما ذكرها ابن رشد وغيره والتي من أجلها حرم البيع: إما تحريم عين المبيع، وإما الربا، وإما الغرر، وإما الشروط التي تئول إلى الربا أو إلى الغرر أو هما معاً. وبناءً على ذلك قالوا: إذا باع الدين بالدين مع اختلاف المتعاقدين: فتارة يكون من الربا، وتارة يكون من الغرر، وتارة يكون من ربح ما لم يضمن، فإذا قال زيد من الناس: لي على عمرو عشرة آلاف، فقال له: يا فلان، دينك الذي على زيد -وهو عشرة آلاف- سأعطيك بدلاً عنه اثني عشر ألفاً إلى نهاية السنة، وأنا آخذ من زيد وفاء الدين. فحينئذٍ عاوضه ديناً بدين، فالاثنا عشر التي سيدفعها له سيدفعها بعقد دين؛ لأنه قال له: إلى نهاية السنة في مقابل العشرة آلاف التي يريد أن يأخذها من زيد، وهذه دين، فصار من بيع الدين بالدين رباً؛ لأنه اشتمل على التفاضل والنسيئة، فالعشرة آلاف باثني عشر ألفاً تفاضل، والعشرة آلاف ريال باثني عشر ألف ريال ربوي من جنسه نسيئة، فاجتمعت فيه علة الربا من جهتين. وتارة يكون من باب الربا الموجب للنسيئة، كأن يشتري رجل من رجل مائة صاع -كما في الثمن- إلى نهاية السنة، وقبل نهاية السنة يبيع المائة صاع بمائة من البر، فيقول المشتري الجديد: أنا أشتري منك المائة صاع سلماً لفلان من التمر، وأعطيك بدلاً عنها مائة صاع من البر، فالتمر مع البر كل منهما ربوي، ولكن وقع البيع نسيئة من الطرفين: نسيئة من هذا، ونسيئة من هذا، فصار من بيع الدين بالدين الذي حرمه الله ورسوله، ولا يجوز، وهذا يكون من المثمن بالمثمن. وكذلك قالوا: إنه يقع في الثمن بالمثمن، فلو قال له: هذه المائة ألف التي لك دين على فلان أعطيك بدلاً عنها سيارة من نوع كذا وكذا إلى نهاية هذا الشهر، ويكون الدين الأول حالاً في منتصف الشهر، فصار بيع الدين الأول -الذي هو العشرة آلاف والمائة ألف- بالسيارة الثانية، فالأول دين والثاني دين، وكلها من بيوع الغرر، أو المخاطرة، أو الآيلة إلى الربا، أو الجامعة بين الربا وبين الغرر. الخلاصة: أن بيع الدين بالدين لا يجوز، ومن هنا اختار العلماء وجوب التقابض فيما يشترط فيه التقابض، فإن دخل في بيع الدين بالدين؛ انضافت علة الربا إلى بيع الدين بالدين مع علة الغرر والمخاطرة.

باب الربا والصرف [5]

شرح زاد المستقنع - باب الربا والصرف [5] إذا صرف شخص عند آخر نقداً، فلا يجوز لهما أن يفترقا إلا وقد أعطى كل واحد منهما ما للآخر عليه، فإن افترقا قبل أن يقبض أحدهما حقه أو بعض حقه، فإن العقد يبطل فيما لم يقبض؛ وذلك لأن هذا يعتبر من ربا النسيئة المحرم، ويحصل الافتراق في كل مكان بحسبه، ولابد من التقابض قبل الافتراق.

افتراق المتصارفين قبل قبض الكل أو البعض

افتراق المتصارفين قبل قبض الكل أو البعض بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: ومتى افترق المتصارفان قبل قبض الكل أو البعض بطل العقد فيما لم يقبض]: فإذا صرف الريالات بالدنانير أو بالدولارات أو بالجنيهات، فإنهما متصارفان، كل منهما يريد أن يصرف ما عنده بالذي عند الآخر، فقال رحمه الله: (متى افترق المتصارفان) ولم يقبضا (بطل العقد) فيهما، سواء في الريالات أو الدولارات، لكن لو لم يقبض أحدهما جزء الثمن المدفوع في مقابل نقده، أو لم يقبض الآخر معه، فإنه يبطل في الجزء الذي لم يقبض دون الذي قبض. وبالمثال يتضح الحال: أولاً: إذا أراد أن يصرف فإما أن يصرف مع اتحاد العملة كما ذكروا، فمثلاً: معك خمسمائة ريال تريد أن تصرفها مئات أو خمسينات، فجئت إلى رجل وقلت له: اصرف لي هذه الخمسمائة، فقال: أصرفها لك بخمسمائة، لكن ليس عندي الآن، وسوف أعطيك بعد ساعة، فافترقتما ولم تتقابضا، فحينئذٍ بطل الصرف، ووجب عليه أن يرد لك الخمسمائة، فإن قبضت الخمسمائة في اليوم الثاني مصروفة وقع الربا الذي حرم الله ورسوله، فلُعن الآخذ والمأخوذ، نسأل الله السلامة والعافية. إذاً: ينبغي للناس أن يتنبهوا لمسائل الربا؛ لأن الربا لا يتوقف على ريال بريالين أو تسعة بعشرة، التي هي الزيادة والفضل، بل يشمل حتى ربا النسيئة الذي يخفى على الكثير، ومن هنا قال بعض العلماء: إن الرجل قد يشيب عارضاه في الإسلام وهو يأخذ الربا، فيلعن صباح مساء؛ لأنه قصر في العلم والفهم. فمسألة التقابض لابد منها، وللعلماء الوجهان المشهوران: الوجه الأول: لو صرفت الخمسمائة تأخذ بيد وتعطي بأخرى، وهذا أكمل ما يكون في الصرف، وهو العدل الذي لا يظلم فيه الصارف، ولا من أخذ منه، وهذا هو عين العقل والحكمة؛ لأنه ربما رمى الخمسمائة في صندوقه وقال: ما أعطيتني شيئاً، وأنكر؛ لأنه نسي؛ فقد تكون جئته أثناء شغله وأعطيته الخمسمائة فرماها في الصندوق، وقال: ما أعطيتني شيئاً. وفي بعض الأحيان يقول: كم أعطيتني؟ فتقول: خمسمائة، فيقول: لا؛ بل أعطيتني مائة أو أعطيتني خمسين أو أعطيتني عشرة أو خمسة. إذاً: العدل أن تعطي بيد وتقبض بأخرى، وهذا هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء). فأنت إذا أعطيت الخمسمائة بيد وقبضت الخمسمائة التي بيدك ضمنت حقك، ومن العدل مادمتما تتبايعان وتتعاوضان أنك كما أعطيته الخمسمائة يعطيك الخمسمائة؛ لأنك أعطيته حقه كاملاً، فوجب أن يعطيك حقك كاملاً. فلو قال لك: أنا آخذ الخمسمائة الآن وتأخذ مني غداً، أو آخر النهار، أو ليس عندي الآن صرف، فحينئذٍ يقع الربا ولو افترقا لحظة واحدة، فبمجرد أن يتفارقا يحصل المحظور الذي بيناه، فلابد إذاً من التقابض. وهذه الحالة بالنسبة لمسألة الافتراق، وهي أن يعطي بيد ويقبض بالأخرى. الوجه الثاني: أن يعطيك في مجلس العقد، ولم يؤخر -أي: لم يؤخر إلى ما بعد المجلس- فأنتما في الدكان أو في الغرفة، وقلت له: يا فلان! معي خمسمائة ريال اصرفها لي، فأخرج المئات وجلس يعدها، أو أخرج مثلاً صندوقه أو كيسه أو نحو ذلك فتأخر، وأنت قد أعطيته الخمسمائة، فربما قبضها، وربما وضعها في حجره، وربما وضعها في جيبه، ثم جلس يعد، أو يبحث عن نقده الذي معه، أو يفك خزنته أو صندوقه، ثم أخرج لك الخمسمائة، فلم يحصل التقابض لكنهما لم يفترقا، فمن العلماء من قال: يجب أن يعطي بيد ويأخذ بأخرى، وهذا مذهب من شدد، وهناك من خفف وهو الصحيح، فقالوا: ما داما في مجلس العقد فالأمر يسير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله ابن عمر أن يبيع بالدنانير ويقتضي بالدراهم، ويبيع بالدراهم ويقتضي بالدنانير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم، إذا كان بسعر يومه، ولا يحل لك أن تفارقه وبينكما شيء)، فجعل التحريم المنبني على عدم التقابض مركباً على الافتراق، فدل على أنهما إذا افترقا وليس بينهما شيء فلا بأس به. ومن هنا قال الجمهور: العبرة بمجلس العقد، فإذا أخذ منك الخمسمائة ثم تأخر قليلاً، ولكنه أعطاك الصرف قبل أن تفارقه وقبل أن تقوم من مجلس العقد، فالأمر يسير والحمد لله، وهذا هو الصحيح.

بماذا يحصل الافتراق بين المتصارفين؟

بماذا يحصل الافتراق بين المتصارفين؟ وقول المصنف رحمه الله: (متى افترق) الافتراق: إذا كانا في غرفة واحدة فالافتراق أن يخرج أحدهما من الغرفة، وإذا كانا في مكان منحصر كصالة أو موضع معين، فخرج أحدهما من هذا الموضع المعين، كما لو كانا داخل سيارة فخرج أحدهما من السيارة، مع أنها ليست بغرفة لكنها في حكم الغرفة، فبمجرد أن يخرج من بابها فقد افترقا. إذاً: الافتراق يختلف باختلاف الأمكنة والأحوال، وإذا لم يكن هناك محل منحصر كالصحراء، فيكون الافتراق بأن يعطي أحدهما ظهره للآخر، فلو أعطاك ظهره فقد تمت الصفقة الأولى في جميع المسائل، ولو تعاقد مباشرة مع آخر فقد أوجب البيع الأول وحل له أن يدخل في البيع الثاني. إذاً: افتراق المتصارفين في الموضع الواحد يكون بأن يغادره أحدهما، أو هما معاً، وفي المصارف الآن إذا فتح باب المصرف وخرج، لكن لو كانت المصارف لها مواضع معينة وكل صراف له غرفة مختصة به، فيكون الافتراق بالخروج من غرفة الصراف، حتى ولو كان داخل المحل فإنه قد فارق، وحل له أن يأخذ من الصراف ويخرج إلى صراف آخر، ويعقد معه عقداً ثانياً ولا بأس بذلك. إذاً: الافتراق يختلف باختلاف الأمكنة والأحوال، فقوله: (متى افترق المتصارفان) سواءً كان ذلك في النقد الواحد، أو في نقدين مختلفين. ومن الأخطاء التي تقع عند بعض الناس، مثلاً: إذا اشتريت الكتاب بعشرة ريال وأعطيته قيمته مائة ريال صار عندك عقدان، والشريعة أعطت كل شيء حقه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، فكل صغيرة وكبيرة لها حكمها في الشرع، فإذا أعطيته المائة ريال ليأخذ منها العشرة، فمعناه: أنك اشتريت بعشرة كتاباً، وأنه سيصرف لك التسعين بتسعين، فهناك عقد بيع كتاب بعشرة، وهناك عقد صرف تسعين بتسعين، فمسألة الكتاب ليس فيها إشكال، لكن الإشكال في التسعين، فينطبق عليها ما ينطبق على قواعد الصرف، فيجب حينئذٍ أن يعطيك تسعين بتسعين دون زيادة أو نقص. وأيضاً: ينبغي أن يكون التقابض قبل أن تفارقه، فلو خرجت من الدكان أو خرج هو من الدكان فقد وقع ربا النسيئة، فقوله: (ومتى افترق المتصارفان) أي: إذا افترقتما وبينكما شيء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لك أن تفارقه وبينكما شيء)، أي: في الصرف، فإذا أعطيته مائة فأخذها، وقال لك: والله ليس عندي الآن تسعون ولكن تعال غداً أو آخر النهار أو بعد ساعة وأعطيك التسعين. فستخرج من الدكان وتفارقه وبينكما شيء، وهذا الشيء في الصرف؛ لأنك لم تبع له إنما هو صرف، بادل الثمن بثمن، ويريد أن يعطيك تسعين في مقابل تسعين، أما مسألة بيع الكتاب فذاك بيع قد انتهى، فقل له إذاً: لابد أن تعطيني الآن، فإذا قال: ما عندي، فحينئذٍ أنت بالخيار، فلك أن تسحب المائة وتعطيه رهناً كساعة، وتقول له: ضع الساعة عندك رهناً للعشرة حتى أحضرها لك، أو هذا القلم، وهو جائز في الشريعة، فتعطيه الرهن ثم تذهب وتصرف المائة وتعطيه العشرة قيمة الكتاب. لكن لو قال لك: سأذهب إلى جاري وأصرفها منه، فالأصل يقتضي أنه لا يجوز أن يفارقك وبينكما شيء، فتقول له: اذهب واصرفها من جارك، فتأخذ المائة وتعطيه إياها، وتقول له: خذها واصرفها، فحينئذٍ صار وكيلاً بالصرف، وليس بمالك للمائة إلى الآن، ولا يملك حتى العشرة التي فيها إلى الآن. ونريد أن نمثل بأشياء موجودة حتى يكون الإنسان على علم بالقواعد، مثل ذلك: لو ملأ لك البنزين بعشرة، ثم أعطيته المائة فقال: لا يوجد عندي الآن، فتقول له: اذهب واصرفها، فإذا قلت له: اذهب واصرفها، فقد وكلته. والفرق بين كونه هو بنفسه يخرج وبين كونك توكله: أنك إن وكلته صار أميناً، فلو تلفت بدون تفريط تلفت على ضمانك ولا تطالبه، وفي هذه الحالة يكون وكيلاً عنك وحكمه حكم الوكيل، فإذا جاء بالمائة وأعطاك ثم بعد ذلك تعطيه العشرة وتخرج، فليس هناك ضيق على الناس أو حرج أبداً، بل أي شيء فقد بينته الشريعة، وقد تحرم الشيء لكن هناك بديل عنه أفضل منه وأزكى. وبناءً على هذا فلابد من الصرف يداً بيد، فمتى افترق المتصارفان، سواء الاثنان أو أحدهما، وولى ظهره للآخر فقد تحقق الافتراق بينهما، وإن كان بينهما شيء فإنه يقع ربا النسيئة.

صور افتراق المتصارفين قبل القبض

صور افتراق المتصارفين قبل القبض وقوله: (ومتى افترق المتصارفان قبل قبض الكل أو البعض بطل العقد فيما لم يقبض). مثال ما لم يقع القبض في الكل: إذا قال لك رجل: عندي مائة ألف ريال وأريد أن أبادلها بدولارات، فقلت له: إذاً أشتري منك هذه المائة ألف بعشرة آلاف دولار، فقال: إذاً أنا أعطيك غداً، فقلت: وأنا أعطيك غداً، فهو نسيئة بنسيئة، فافترق المتصارفان، ولم يحصل القبض من الكل، فلا هذا أعطى ولا هذا أعطى، فوقع فوات الشرط منهما معاً بالريالات، وكذلك صاحب الدولارات. ومثال ما إذا وقع القبض من أحدهما دون الآخر: لو قال رجل: عندي مائة ألف ريال وأريد أن أبادلك بها بعشرة آلاف دولار، فخذ المائة ألف وائتني بالعشرة آلاف، ففارقه ولم يعطه، بل أعطى أحدهما وأجل الآخر، فصار عيناً بذمة، إذاً: يقع الربا، سواءً حصل التأخير منهما أو من أحدهما. إذاً: التأخير إما أن يقع على الكل أو على البعض، أما التأخير للكل، فكما قلنا: أعطيك غداً وتعطيني غداً، فهذا تأخير للكل، وأما تأخير البعض: فكأن يقول له: عندي مائة ألف ريال، فاشترها مني بعشرة آلاف دولار، فيقول: سأعطيك الآن خمسة آلاف دولار، وأنت أعطني خمسين ألف ريال، وغداً أعطيك الخمسة آلاف الدولار الباقية، وتعطيني الخمسين ألفاً الباقية عندك، فصار هذا التأخير للبعض وليس للكل. فإذا وقع التأخير للبعض دون الكل فللعلماء وجهان: فقيل: يبطل العقد فيهما؛ لأن الصفقة واحدة. وقيل: يصح في المعجل ويبطل في المؤجل. أي: يصح في الخمسة آلاف المعجلة، وحينئذٍ فكل منهما ملك ما أخذ، فإن جاءوا في اليوم الثاني ليأتوا بالباقي فنقول: أنشئا عقداً جديداً، فقد بطل العقد الأول ولا يجوز. وفائدة هذا: إذا اختلف السعر، فإذا اشترى منه مثلاً عشرة آلاف دولار بمائة ألف ريال، فأعطاه الخمسة آلاف دولار بخمسين ألفاً وتقابضا، ثم قال: غداً سأعطيك الباقي، فارتفع سعر الدولار، أو ارتفع سعر الريال، فحينئذٍ نقول: العقد عقد جديد، وأنشئا عقداً جديداً، فلو باعه في اليوم الثاني بضعف بيعه في الأول، أو نزل السعر فباعه بأقل، فهذا عقد جديد. هذا بالنسبة للمقبوض، وقد مثلنا بالريالات؛ لأنها أنشط وتعين الناس أكثر، أما في الطعام، فلو قال لك: عندي مائة صاع تمر من السكري، وأنت قلت: وأنا عندي مائة صاع من البرحي، فيجب أن يكون يداً بيد، فإذا قال: ليس عندي الآن إلا خمسة وسبعون صاعاً، وقلت أنت: وأنا ليس عندي إلا خمسة وسبعون صاعاً. فأعطيته ثلاثة أرباع الصفقة، وأعطاك هو ثلاثة أرباع الصفقة، وبقي الجزء المتبقي، فيقال: يصح البيع بثلاثة أرباع الصفقة، ويلغى في الربع الذي وقع الربا فيه. وهذا معنى قوله: (بطل العقد فيما لم يقبض) فإن لم يحصل التقابض بالكل بطل بالكل، وإن حصل التقابض في البعض صح في البعض، وبطل فيما لم يحصل التقابض فيه. وبناءً على هذا: لو صرف لك المائة دولار بعشرة آلاف ريال، فأعطاك نصفها، ثم ارتفع السعر أو نزل، فقد تحمل كل منكما المسئولية بعد تصحيح العقد الأول، وصح في جزء ما حصل القبض فيه، وأما ما عداه فإنه يحكم ببطلانه.

حالات المبيع

حالات المبيع قال رحمه الله: [والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين في العقد فلا تبدل]. المبيع لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون عيناً. الحالة الثانية: أن يكون ذمة. وبناءً على ذلك فالبيوع لا تخلو: 1 - إما أن تكون عيناً بعين. 2 - أو ذمة بذمة. 3 - أو عيناً بذمة. وكل من هذه الثلاث لا يخلو كل واحد منها إما أن يكون: 1 - نسيئة من الطرفين. 2 - أو ناجزاً من الطرفين. 3 - أو نسيئة من أحدهما ناجزاً من الآخر. فأصبحت البيوع تسعة، ولذلك يقول بعض العلماء: لن تجد بيعاً على وجه الأرض يخرج عن هذه البيوع التسعة ألبتة. إما عيناً بعين، وإما ذمة بذمة، وإما عيناً بذمة. والعين بالعين إما أن يكون: 1 - ناجزاً من الطرفين. 2 - نسيئة من الطرفين. 3 - ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر. والذمة بالذمة إما أن يكون: 1 - ناجزاً من الطرفين. 2 - نسيئة منهما. 3 - ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر. والعين بالذمة إما أن يكون: 1 - ناجزاً من الطرفين. 2 - نسيئة منهما. 3 - ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر. فالعين بالعين: مثل أن يبيعك هذا الكتاب بهذا الكتاب، فإذا قال: أعطني الآن، وأعطيك الآن. فأعطى كل منهما عيناً بعين، ناجزاً من الطرفين. ولو قال: نتعاقد على أن أسلمك بعد شهر وتسلم لي بعد شهر، فهذا نسيئة من الطرفين. ولو قال: خذ الكتاب الآن وأعطيك غداً، فصار عيناً بعين، ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر. أما ذمة بذمة: فكأن يبيعك كتاباً من صحيح البخاري من طبعة كذا وعدد أجزائه كذا وكذا، بكتاب من صحيح مسلم عدد أجزائه كذا، من طبعة كذا، فأصبح ذمة؛ لأنه موصوف، فالتزم في ذمته أن يعطيك هذا الموصوف المقدر بهذه الأوصاف المعينة، فصار ذمة بذمة. وقد يكون ناجزاً من الطرفين، كأن يقول: الآن أنزله لك وأعطيك، وتقول أنت أيضاً: وأنا أنزله لك الآن وأعطيك، وأنتما في مجلس واحد، فصار ناجزاً من الطرفين، وهو ذمة بذمة. أما إذا قال: أعطيك غداً وتعطيني غداً، أو أعطيك بعد شهر وتعطيني بعد شهر، فهذا نسيئة من الطرفين. وإذا قال: سأعطيك الآن، فقلت: لا أستطيع أن أعطيك الآن، وإنما سأعطيك بعد غدٍ أو بعد شهر، فصار هذا ناجزاً من أحدهما ونسيئة من الآخر. أما عين بذمة: فكأن تأخذ واحد من الأول في مقابل واحد من الثاني، فتقول: أبيعك هذا الكتاب بنسخة من صحيح البخاري، فهذا الكتاب عين، والنسخة من صحيح البخاري موصوف في الذمة، أي: التزم في ذمته بهذه النسخة. وما فائدة قولهم: عين وذمة؟ فائدتها العدل وإعطاء كل ذي حق حقه، حتى نعلم أن الشريعة أعطت البيوع دقة لن تجدها في أي قانون على وجه الأرض من هذه الدقة المتناهية، حتى في المبيع، حينما تقول: بعتك هذا الكتاب، معناه: أن الإيجاب والقبول منصب على معين يفوت بفواته. فلو أن هذا الكتاب ظهر به عيب، أو وجد فيه صفحات مطموسة وجئت للبائع، وقلت له: رد لي هذا الكتاب؛ لأن هذا الكتاب فيه عيب، فقال لك: أعطيك بدلاً عنه، ولن أرجع لك الفلوس. فقلت: لا. أنا أرغب في هذا الكتاب بعينه، واشتريت منك هذا الكتاب بعينه فرد لي الثمن؛ لأن البيع يفوت بفواته. من تجده يفصل هذا التفصيل {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا} [المائدة:50] لكن لمن؟ {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، فالله تعالى أعطى كل ذي حق حقه في معاملات الناس في أمورهم الشخصية في أمورهم المالية في جميع الشئون والأحكام. ومنها ما ذكرنا في المبيعات، فقد دخل الفقهاء حتى في كيفية البيع، فقالوا: إذا انصب على معين فات بفواته، فلو باعك كتاباً واشتريته منه بعينه، ثم ظهر الكتاب مغصوباً، فإنه قد وقع على عين ليست ملكاً للبائع، فبطل البيع، ووجب رد العين إلى صاحبها، ولا يبدل هذا البيع ببيع آخر. لكن لو جئت إلى صاحب المكتبة وقلت له: أعطني نسخة من صحيح البخاري. فقال: بعشرة، فقد التزم في ذمته أن يعطيك نسخة من صحيح البخاري بعشرة، فإن وجدت النسخة الأولى التي أعطاك إياها معيبة، كان من حقه أن يقول: أنا التزمت لك، فإذا فاتتك الأولى أعطيك بدلاً عنها. ومن هنا نجد بعض الناس إذا وجد عيباً في السلعة يغضب، خاصة إذا وجد فيها شيئاً من التلاعب والغش، فإنه يقول: لا أريد أن أتعامل مع هذا الرجل، ولا أريد أن أعطيه ربح مالي، فإذا أصر المشتري على موقفه، وقال: أعطني مالي. وقال البائع: بل تأخذ بدلاً عنه؛ فلابد أن يرجع إليه ماله. ولو لم نضع هذه القواعد لما استطعنا أن نعدل بين اثنين، فالشريعة قد تجد فيها نوعاً من التشدد، لكنها في الحقيقة فيصل بين الناس. فهذا من تفصيل الأحكام أن كل إنسان يأخذ حقه، فإذا جاء القاضي وهو يريد أن يفصل في الخصومة، وقد وضعت الشريعة ضوابط المبيعات والعقود، لا يوجد أي عائق يعوقها عن إيصال الحق لكل ذي حق، فيوصل لكل ذي حق حقه. فهنا إذا وقع البيع على معين فات بفواته، فإذا صرف الدراهم والدنانير وقلنا: إن الدراهم والدنانير تتعين بالعقد، فحينئذٍ إذا ظهرت معيبة أو مغشوشة مزيفة فات العقد بفواتها.

حكم بيع المغصوب والمغشوش

حكم بيع المغصوب والمغشوش قال رحمه الله: [وإن وجدها مغصوبة بطل] ولا يستطيع أن يأتي ببديل عنها، لأنها تعينت ففات البيع بفواتها؛ لأنها ملك هذا المعين. وقوله: [ومعيبة من جنسها أمسك أو رد]. كأن يستبدل دنانير أو دراهم ويكون فيها عيب في نفس ذات الدينار والدرهم، فإذا وجد فيها عيباً فإن العيب ينقص المالية، وينقص قيمتها، كأن وجد فيها غشاً، ففي القديم كان الذهب فيه الخالص وفيه المغشوش، فكانوا ربما زيفوا الدنانير والدراهم، فأدخلوا فيها غشاً وشوباً، وهذا يؤثر في قيمتها؛ لأن المالية والثمنية الموجودة فيها من الذهب ناقصة فتنقص بنقصانها، فهذا عيب ينقص قيمتها، فلو كان هناك نوع من الدنانير المغشوش الناقص، فباعه كاملاً على أنه من النوع الجيد، فظهر أنها معيبة، فالمشتري يخيّر بين الأمرين: الأمر الأول: أن يمسكها ولا أرش. الأمر الثاني: أن يردها ويبطل العقد ويفسخه.

حكم التعامل بالربا بين المسلمين والكفار

حكم التعامل بالربا بين المسلمين والكفار قال رحمه الله: [ويحرم الربا بين المسلم والحربي وبين المسلمين مطلقاً بدار إسلام أو حرب]. التعامل بالمحرم يختص بالمسلم مع المسلم؟ أم أن التحريم يشمل المسلم وغير المسلم؟ فبعض العلماء يقول: إذا بعت الحرام من كافر، وكان مال الكافر ملكاً لنا، فإنه يصح ويكون ذلك جائزاً لنا؛ لأن أموالهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم وأعراضهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)، فجعل حرمة المال مقيدة بالإسلام، فإذا كان غير مسلم فإنه يمكن أن يأخذ الريال بالريالين؛ لأن أصل ماله ليس له حرمة، فهذا وجه إدخال مسألة غير المسلم. وغير المسلم إن كان ذمياً فإن الذمة تجعل ماله ودمه حراماً؛ لأن عقد الذمة يعطيهم حق الحفظ، والشريعة تحترم هذه المواثيق التي بين المسلمين والكفار، وأن الكافر إذا دخل بلاد المسلمين بأمان فله أمان الله ورسوله. ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ذمة المسلمين واحدة)، حتى قال بعض العلماء: لو أن امرأة أجارت رجلاً فهو في ذمة المسلمين كلهم، كما في الصحيح أن أم هانئ لما دخل ابن عمها عليها في يوم الفتح واستجار بها، وأراد علي أن يقتله، فمضت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكت إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ)، فجعل حرمة الدم بالأمان. فإذا دخل الكافر بلاد المسلمين كان له أمان في دمه وعرضه وماله، وهذا بأصل عقد الذمة التي بينه وبين المسلمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم)، فلو أن أصغر المسلمين أمَّن كافراً؛ بل حتى لو أمَّن أهل قرية بكاملها فإنها أمان من المسلمين كلهم، لا تخفر هذه الذمة ولا تنقض، ولا يجوز أن يعتدى عليها؛ لأنهم ما داموا قد دخلوا في أمان المسلم فينبغي حفظ هذا الأمان؛ لأن المسلمين لا يغشون ولا يخونون ولا ينكثون، حتى إن الإسلام إذا أراد أن يحارب من بينه وبينه عهد ينبذ إليه {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:58]، فالإسلام لا توجد فيه الخديعة؛ بل أمره واضح أشد من وضوح الشمس. فمن هنا إذا كان الكافر له ذمة في ماله فإنه يحرم التعامل مع الذمي بالربا؛ لأن الذمي له حرمة في ماله، وقد يحتال في غير الذمي ممن ليس له أمان كالحربي؛ فالحربي ماله حلال، فقال بعض العلماء: الحربي ماله حلال، ويجوز أن تأخذ ماله بالعقد وبغير العقد، فهنا لو تعاقد مع حربي وأعطاه مائة على أن يردها مائة وخمسين، حلت له الخمسون على أن ماله لا حرمة له. لكن الإشكال أن العقد حرمه الله على المسلمين، فلو قلنا بجواز هذا لأجزنا بيع الخمر لأهل الذمة، ومذهب جماهير العلماء على حرمة هذا العقد، أي: تحريم أخذ الربا من المسلم والكافر على حد سواء، وهذا مبني على عموم الأدلة؛ لأن الله عز وجل أنزل من فوق سبع سماوات على رسوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، فكل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر ويتلو كتابه، ويُلزم بهذا الكتاب، فإنه يلزم بتحريم الربا مطلقاً، ما فرق الله بين مسلم وبين كافر، وما فرق الله بين ذمي وغير ذمي، فالحكم عام. ومن الفوائد التي قد تستفاد من هذا: أنه إذا حرم الربا مع الذمي كان أبلغ في إحياء سنة الإسلام وإبطال ما خالفه؛ لأن الذمي إذا أخذ منك الدين مائة ورده لك مائة؛ أحب الإسلام، ونظر إلى الفرق بين معاملة المسلم ومعاملة غير المسلم. ومن هنا لو وضع ماله في مصرف كافر وأعطاه عليه فائدة فلا يأخذها؛ لأن الله أوجب عليه أن يأخذ رأس ماله فقط: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة:279]، ولو قيل بأخذ هذه الزيادة حتى لا يستفيد منها الكافر، لنظر الكفار إلى المسلمين على أنهم يتعاملون بالربا كما يتعاملون هم، ولم يحسوا بسماحة الإسلام وبمزيته، فنحن نصلح جهة ونخرب جهات، ونجد أن من يقول بأخذها يحتار ويقول: لا تصرف في بناء المساجد ولا في الأطعمة ونحوها، وإنما تصرف في أشياء بعيدة عن أجساد الناس، فمعناه أنه يحس أن هذا المال فيه شبهة. إذاً: لماذا لا نتمسك بالنص: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] ونترك هذا المال، ولو تركناه فعلاً فإن الكافر يشعر أن المسلم له مزية على غيره، ووالله لقد فعلها بعض أهل العلم من مشايخنا، قال: فوجدت لها أثراً بليغاً في نفسي؛ لأنه كان في سفر، واحتاج أن يجلس فترة في بلد كافر؛ فأعطوه فوائد زائدة عن المبلغ الذي معه، وكان مضطراً إلى حفظه عندهم، فلما قال: لا آخذ إلا رأس مالي، فحاولوا معه فما استطاعوا، ثم ذهبوا إلى مدير المصرف، فقال له: لماذا لا تأخذ الربح؟ قال: إن ديني لا يسمح لي أن آخذ إلا مالي، فظل مدهوشاً، ثم قال: ما هي ديانتك؟ فقلت: الإسلام. قال: الإسلام يفعل هذا! وتعجب! قال: ثم صرت أشرح له الإسلام، وأقول: إن العدل إذا أعطيتك عشرة آلاف ريال أن آخذ عشرة آلاف ريال فقط، فأصبحت أقنعه، فتعجب كيف أنه يأخذ من الناس العشرة بزيادة؟ وكيف يأخذ من الناس الزيادة؟ فأصبح هذا درساً له، وكما أن الدروس تكون قولية تكون أيضاً عملية، والدروس العملية قد تكون أبلغ؛ لأنك تترك له الفائدة فيحس بعزتك واحتفاظك بدينك، وأن الدنيا تحت قدميك إن عارضت دينك. فهناك عبر يمكن أن تستفاد، لكن عندما يلتزم بالأصل الذي قال الله: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] مع أن هذه الآية نزلت في بقايا ربا الجاهلية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278 - 279]، فدل على أنه يسحب رأس المال، {لا تَظْلِمُونَ} [البقرة:279] لو سحب الرصيد ناقصاً {وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]، فكما أنك لا ترضى أن ينقص رصيدك، فينبغي لك أن لا تطالب بالزيادة. إذاً: لم يفرق الله بين مسلم وبين كافر في هذه المسألة، ولو قلنا بهذه العلة في أخذ مال الكافر لدخلنا حتى للمسلم غير الملتزم وقلنا أيضاً: هذا غير الملتزم ربما يستعين بالفائدة، ثم نخوض في الرأي إلى ما لا نهاية، فالنص إذاًَ أحمد وأسلم وأدق، وإذا وجد الشخص في الرأي علة وفائدة، فإنه سيجد في النص والتزام الأثر والمنقول حكماً أعظم من علله التي يستنبطها، وصدق الله {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]. فالخلاصة: أن الربا لا يجوز بين المسلم والمسلم، وبين المسلم وغير المسلم أياً كان ذلك؛ للأمور والأدلة التي دلت في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. ومما يدل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص للصحابة أن يتعاملوا مع اليهود الذين كانوا في المدينة بالفضل والزيادة، وكان ذلك أربح لهم وأكثر تجارة لهم، ولكنه لم يبح لهم ذلك، ونزل النص عام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجب العمل بعمومه وعلى ظاهر ما ورد.

الأسئلة

الأسئلة

بذل المجهود في دراسة الفقه

بذل المجهود في دراسة الفقه Q يجد بعض طلاب العلم في أبواب المعاملات عامة وفي مسائل البيوع كصفة خاصة بعض الصعوبة وعدم الفهم لهذه المسائل والأبواب، فما هو الطريق الصحيح الذي يسلكه طالب العلم لكي يستطيع أن يفهم ويدرك ذلك؟ وجزاكم الله خيراً. A أولاً: ينبغي أن يعلم أن الله تعالى فضل العلم وشرفه وأعلى مقامه ومقام أهله، وأثنى عليهم في كتابه، وإذا كان العلم صعباً ويحتاج إلى عناء فاعلم أن الرحمة فيه أكثر، وأن الأجر فيه أعظم، وأن البلاء فيه يعلي درجة العبد أكثر من غيره. فإتقان المسائل المستعصية والصعبة يعلي الله عز وجل به قدر صاحبه، وهذه هي سنة الله، فإن الله تعالى إذا علم الإنسان وفتح عليه وتعب في تحصيل العلم، سيأتي اليوم الذي يجد فيه ثمرة ما تعلم، فيجد بلاءه في هذه المسائل المستعصية الدقيقة أعظم من المسائل السهلة، ويجد من نفع الناس وعظيم الخير الذي يترتب على هذه المسائل التي ضبطها ما لم يجده في واضح المسائل. نعم، إن مسائل المعاملات صعبة، وأصعب من ذلك أن يتركها طلاب العلم، حتى تصبح منسية ولا تدرى أحكامها، فيقع الناس في الحرام وهم لا يعلمون، فهذا من الجهاد في طاعة الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]. فمن جهاد طالب العلم صبره على المسائل الصعبة، ومن سنن الله تعالى أن يبتلي طالب العلم في بعض الأحيان بالسآمة والملل مما يجد من صعوبة المسائل، لكن إذا فتح الله عليه بطمأنينة الصدر، وأحس بفضل هذا العلم وحاجة الناس إليه، وقال: أصبر وأحتسب والله يعين، فتح الله له من أبواب رحمته ما لم يخطر له على بال. وإني والله أقولها وأشهد أن من تعب في هذا العلم فإنه سيجد من أثره وبركته ما لم يخطر له على بال، ولكل زمان رجال، وقد تأتي في بلدة أو قرية أو منطقة بل وفي مدينة لا يتقن هذا الباب غيرك، فتصبح الوحيد الذي تقام به حجة الله على عباده في ذلك المكان. وكفى بذلك شرفاً وفضلاً، أن يأتي طالب العلم فيقرأ باب الفرائض، ومسائل المواريث، ويأتي إلى القرية فيصبح هو الوحيد الذي يرجع إليه، فينال من دعوات الناس، وصالح ذكره، وجميل ذكرهم، ما يكون له به عاجل الخير في الدنيا، وما ينتظره عند الله أعظم وأجل. لا تسأم من العلم ولا تمله، بل أحب كل كلمة وجملة فيه، تحبها لله وفي الله، وابتغاء مرضات الله، وتحس أنك قد غفلت وفاتك، فإن التاجر الآن إذا جاء موسم التجارة عمل وكدح وتعب، ثم جاءه تاجر مثله وقد ربح أكثر من ربحه، وقال له: أين أنت عن التجارة الفلانية؟ تقطع قلبه حسرة على متاع الدنيا الزائلة الفانية، ولربما مرض لما يجد من الغبن والحرقة في نفسه أنها فاتته هذه الصفقة، فلا إله إلا الله ما أعظم صفقة الآخرة! وما أعظم ثوابها عند الله سبحانه وتعالى! ولذلك وصف الله يوم الآخرة بيوم التغابن، حتى أصحاب الخير يغبنون بما فاتهم من الخير، فمن كان ملتزماً مسجده وعبادته غُبن أنه لم يكن من أهل العلم، الذين تعدى خيرهم إلى الغير، وانتفعت بهم الأمة، مما يرى من مثاقيل الحسنات وعظيم الدرجات التي أعدها الله لصالح المؤمنين والمؤمنات الذين تعبوا في تحصيل هذا العلم. فأقول هذا الكلمة شحذاً للهمم، فالإنسان يشحذ همته للخير، واعلموا أنكم تعاملون الله، لا تتعلم هذا العلم لكي يقال: فلان عالم، أو فلان يضبط، أو فلان فقيه، ولكن لكي تعذر إلى الله أولاً بتعلمك وضبط هذا العلم، فتتقي ما حرم الله، وتفعل ما أحل الله لك، ثم تعلم غيرك، إن فعلت ذلك عظم أجرك. قال بعض العلماء: عجبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الرجل الذي جر غصن الشوكة عن طريق المسلمين: (مر على غصن الشوك، فقال: والله لأنحين هذا عن طريق المسلمين لا يؤذيهم، فزحزحه عن الطريق، فزحزحه الله به عن نار جهنم)، وفي رواية: (فغفر الله له ذنوبه). قال بعض العلماء: إذا نظرنا إلى الجهد في سحب غصن الشوك وجدناه جهداً يسيراً، قالوا: لكنه لما انطوى على نية الخير للمسلمين، فقال: أزحزح هذا الغصن عن طريق الناس لا يؤذيهم بالشوك، فكيف بمن تعلم مسائل الربا لكي يزحزح الناس عن نار جهنم؟ فهذا أجر من يزحزح غصن شوك من طريق المسلمين، فكيف بمن يتعلم هذه المسائل لكي ينقذ الأمة الحائرة الجاهلة ويعلمها ويوجهها؟ أرجو من الله أن يكون له الخير، بل حتى لو نوى بقلبه ولم يتم هذه المسائل، فإن المعامل كريم، الله الله أن يحتسب طالب العلم ويصبر، كم سهرنا من الليالي مع الأصحاب والأحباب! وكم لقينا من المشقات ونحن ننتظر تجارة من الدنيا، وننتظر أمراً من مباحات الدنيا، أو نبني منزلاً! كم سهرنا من الليالي في بناء المنازل! وكم وكم! ولا نسهر ولا نتعب على قال الله وقال رسوله، هذا العلم الذي قل من يطلبه ويبحث عنه. فلا تمل ولا وتسأم ولا تضجر، وإن وجدتها صعبة فقل: أصعب منها أن أولي ظهري لهذا العلم، وأصعب منها أن أتقاعس؛ لا بل تتعب، فإن كنت ضعيفاً في الحفظ فإن الله يفتح لك من أبواب رحمته، وكرر فربما كان طالب العلم ضعيف الحفظ، لأن الله يريد منه أن يكرر المرة تلو المرة، تلو المرة فيسطر في صحيفة عمله من الحسنات ما لم يخطر له على بال. قد يحفظ الحافظ في مرة واحدة، لكن أنت تجلس عشرين مرة أو ثلاثين مرة لكي تكتب لك ألوف الحسنات ومثاقيل الحسنات، ورب ضارة نافعة، لكن متى؟ إذا تعبت وجديت وكدحت، فإياك أن تجعل بينك وبين الخير حاجزاً، وصاحب الهمة الصادقة لا يبالي بالتعب؛ لأن هذا في مرضات الله تعالى ورضوانه.

باب بيع الأصول والثمار [1]

شرح زاد المستقنع - باب بيع الأصول والثمار [1] من رحمة الله تعالى بخلقه، ومن تيسيره لأسباب العيش في الحياة بالدنيا أن جعل حاجات بعضهم عند بعضهم الآخر، لتدور المنافع بينهم، وليستمر كل أحد لمنافع الآخرين، وليتم تبادل هذه المنافع على صور مختلفة منها البيع والشراء، ومما تكثر الحاجة إليه في البيع والشراء: بيع الأصول والثمار، وعندها ينبغي على المسلم معرفة أحكام بيع الأصول والثمار من صحة وفساد، وما يتعلق بها من شروط واستثناءات إلى غير ذلك، من الأحكام المتعلقة بهذا الباب.

تعريف الأصول والثمار

تعريف الأصول والثمار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب بيع الأصول والثمار]: الأصول: جمع أصل، والأصل ما انبنى عليه غيره، كأساس الدار يسمى أصلاً؛ لأن الدار تبنى عليه. والثمار جمع ثمرة، وثمرة الشيء: نتاجه، وما يكون منه. فقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب بيع الأصول والثمار]؛ لأن مما جرت به العادة أن البائع إذا باع شيئاً، أو اشترى شيئاً، فتارةً يقصد عين الشيء، وتارةً يكون مقصوده الشيء ونتاجه الموجود، ومن هنا قد يقع الخلاف بين البائع والمشتري، كرجل باع بستاناً وفيه ثمرة، فاشتراه المشتري بمائة ألف، ثم قال له البائع: بعتك البستان، ولم أبعك الثمرة، فالثمرة لي. وقال المشتري: بل اشتريت الأصل والثمرة؛ فالثمرة لي. فإنهما يختصمان فيرد Q هل الفرع يتبع الأصل، أو لا يتبعه؟ ومن هنا بينت الشريعة مسائل الفروع والثمار، ففي أحوال يحكم بكونها للبائع، وفي أحوال يحكم بكونها للمشتري، والأصل في هذا الباب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيحين، أنه قال: (من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع، ومن باع عبداً وله مال فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع) ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأصل والنتاج الظاهر الذي لا يُسْتَصحَب مع العين، ومن هنا لا بد من بحث مسألة الفروع، ومسألة ما يتبع الشيء، وما لا يتبعه. ومن سعة الفقه الإسلامي أنه بيَّن مسائل التوابع في البيع، وفصل الفقهاء رحمهم الله تعالى هذه المسائل، وبيَّنوا ما يتبع المبيع، وما لا يتبعه، سواء كان المبيع من العقارات أم كان من المنقولات، فإنك قد تشتري داراً، فإذا تم البيع بينك وبين البائع فهناك أشياء من حق البائع أن يأخذها من الدار، وهناك أشياء ليس من حقه أن يأخذها، ومن هنا فصل العلماء ما الذي يتبع البيع، وما الذي لا يتبعه؟ فلربما لو ابتعت داراً، وجاء البائع وقال لك: أريد أن آخذ متاعي الذي في الدار، فإن من حقه أن يأخذ متاعاً معيناً وضع العلماء رحمهم الله تعالى له الضوابط، وكذلك لو باع منقولاً كالسيارة مثلاً، فتارة يكون من حقه أن يأخذ المتاع الموجود، كالفرش غير الملتصق بالسيارة، وهو الفرش الخاص به، وهكذا ما يكون من المتاع المتعلق به، كأن يضع أشرطة له يستمعها، فإن الأشرطة ليست تابعة للرقبة؛ لأنه باعك السيارة، ولم يبعك ما فيها من الأشرطة، وهكذا لو كان له في داخلها لباس، أو حوائج تختص به، فإنك لا تقول: قد اشتريت منك السيارة بما فيها؛ لأن البيع وقع على السيارة، فيتبع البيع ما قد انصب العقد عليه، وما لم ينصب العقد عليه فإنه لا يتبع والعكس، فلو أنه باعك السيارة، ثم أراد أن يأخذ عدتها اللازمة الموجودة فيها، كالآلات الموجودة لاستصلاح السيارة ونحوها، فإنه يقال له: ليس من حقك إلا الأدوات الخاصة التي تستصلح بها السيارة من أجهزة وعدد لا تكون موجودة في الأصل في السيارة، وإنما اشتراها لنفسه، فإن من حقه أن يأخذها. أما الآلات التي توجد في طبيعة السيارة، كالآلة التي ترفعها عند استصلاح ما يكون فيها من عطل، فإنه ليس من حقه أن يأخذها؛ لأنها موجودة في المبيع أصلاً، وتابعة له من أجل الارتفاق. لكن لو أنه اشترى آلات معينة، وأجهزة معينة، لاستصلاح السيارة عند العطل زائدةً عن المعروف والمألوف الذي يتبع عين السيارة، فإن من حقه أن يأخذها عند البيع. إذاً هذه المسألة مسألة مهمة يُحتاج فيها لعلمك، فتعلم ما الذي لك وما الذي عليك بائعاً ومشترياً، وللناس أيضاً، فإنهم يختلفون ويختصمون ويحتكمون إلى العلماء، للفصل بينهم، فيدعي البائع أنه باع الرقبة ولم يبع ما فيها، والمشتري يدعي أنه اشترى الرقبة وما فيها، فتارة يكون البائع ظالماً، وتارة يكون المشتري ظالماً، ومن هنا وجب أن يعرف الحد الفاصل بين ملك البائع وملك المشتري، وهذا هو الذي يجعله العلماء في باب بيع الأصول والثمار.

علاقة باب بيع الأصول والثمار بباب الربا

علاقة باب بيع الأصول والثمار بباب الربا لعل سائلاً يسأل: ما علاقة هذا الباب بباب الربا؟ و A الربا فيه زيادة ظلم؛ لأنه إذا باع الدينار بالدينارين، فقد ظلم صاحب الدينارين، فأخذ زائداً عن حقه؛ لأن الذي من حقه الدينار، فإذا أخذ الزائد فهو الربا الذي حرم الله تعالى، فإذا باع الأصل والثمر وجب عليه أن يعرف ما الذي له، حتى لا يأخذ الزائد المحرم، فاتفق هذا الباب وتناسب أن يذكر بعد باب الربا؛ لأنه إذا بُيِّنَ ما الذي يتبع المبيع، وما الذي لا يتبعه، أمكن أن ينصف الناس بعضهم بعضاً بحكم الله عز وجل، وبما استخرجه العلماء من مقاصد الشريعة وأدلتها وقواعدها العامة، مما يدل على الحقوق في البيع والشراء، وهذا ما قصد المصنف بيانه في هذا الموضع. كأنه يقول رحمه الله: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام المتعلقة ببيع الأصول والثمار.

بيع الدور والبنيان وما يتبعها

بيع الدور والبنيان وما يتبعها

ما يتبع الدور والبنيان عند بيعها

ما يتبع الدور والبنيان عند بيعها قال رحمه الله تعالى: [إذا باع داراً شمل أرضها]: أي: إذا قال له: بعتك هذا البيت، أو هذه العمارة، أو هذه الغرفة، فإن البيع قد انصب على رقبة الدار، فذات الدار مملوكة بالبيع، ثم يشمل ذلك أصل الدار، وهي الأرض التي بنيت عليها، ويشمل سقفها وهواءها، أما ملكيتك لأرض الدار وما سفل منها فلظاهر قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من ظلم قيد شبرٍ من الأرض طُوِّقَه يوم القيامة من سبع أرضين)، فجعل الظلم في أخذ الأعلى ظلماً في أخذ الأسفل، وجعل الأسفل تابعاً للأعلى، ومن هنا قال جماهير العلماء: من ملك داراً ملك أسفلها، وعليه قالوا: إنه لو كانت له دار، فأراد أحدٌ أن يستحدث من تحتها معبراً لم يكن من حقه حتى يستأذنه؛ لأنه ملكٌ له، ومن حقه أن يأذن له، ومن حقه أن يمتنع، لما يرى من رفقه أو ضرره. فمن ملك داراً ملك أرضها، فالدار التي بيعت، والصيغة التي وقعت بين البائع والمشتري على هذا المكان المعين ملكه بالعقد فإن قال له: بعتك هذه الدار وعيّنها، وكان طول الدار عشرين متراً أو ذراعاً، وعرضها عشرة، فإن هذه الدار بهذا الطول المتفق عليه ملك للمشتري إذا أوجب البيع، وتمت الصفقة بينهم، وحينئذ يملك الدار، ويملك أسفلها، فإذا باع داراً، شمل أرضها وما سفل منها. ومن هنا خَرَّجَ بعض العلماء مسألة: أنه لو كان معتكفاً في مسجد فنزل في أسفله لم يبطل اعتكافه؛ لأنه لم يخرج عن المسجد، وجعلوا حرمة الأسفل والأعلى بمنزلة. ومن هنا -أيضاً- خرج بعض العلماء المسألة المعروفة: وهي عدم جواز بناء المسجد فوق المتاجر؛ لأن الأرض إذا كانت موقوفة ومسبلة للمسجد، كانت غير مملوكة، وغير مستصلحة للمعاوضات بالبيع والشراء، وليست محلاًّ للبيع والشراء؛ لأن حرمة الأعلى والأسفل واحدة. ومن هنا أيضاً: إذا قلنا ملك الأسفل والأعلى، صح أن يملك أعلاها، فإذا صعد إلى أعلى المسجد لم يكن اعتكافه باطلاً، ولو حلف أنه لا يخرج من المسجد، فصعد إلى سطحه فإنه غير خارج؛ لأنه ما زال في حدود المسجد. وعليه كأنه لما قال له: بعتك هذه الدار، فإن هذا هو حد الدار، وحد البناء الذي وقع عليه العقد. وقول العلماء: من ملك داراً ملك أرضها، من باب بيان الاستحقاق، فحقك بهذا العقد الدار وأرضها وأساسها وأسفلها ملك لك. قال رحمه الله تعالى: [شمل أرضها وبناءها] قوله: [وبناءها]، أي: البناء الذي عليها، فلو كانت الأرض فيها غرفٌ، فإنك تملك هذه الغرف، ولو كانت عليها عمارة ملكتها، أو كان عليها أي بناء، كرجل باع قطعة في مخطط عليها سور، فإن هذا السور ملك لك إذا اشتريته، فلو أنه باعك هذه الأرض في المخطط بضابطها وعينها، وأخذتها وضبطتها، وعلمت أن هذه الأرض الفلانية ذات الرقم الفلاني ملك لك فأعطيته مئة ألف وهي قيمة الأرض واتفقتما، وإذا بالأرض عليها سور، فجاء لكي يخلع السور الموجودة فيها، فإنك تقول له: ليس من حقك؛ لأنني أملك الأرض وبناءها، فليس من حقك أن تخلع هذا السور، أو تهدم هذا السور؛ لأنه صار إلى ملكي، ولا يستطيع أحد أن يحدث شيئاً في هذه السور، أو ينتفع بهذا السور إلا بأذني، ولذلك قال المصنف: [شمل أرضها وبناءها]. وهكذا بناء الدار، أي: البناء الموجود في الدار؛ فإنه يشمله البيع. وهنا مسألة عصرية -ونحن نحب دائماً أن نربط الموضوع بالوقائع الموجودة الآن- وهي أنه في بعض الأحيان يبيع الشخص داراً وهو لا يملك الأرض، وذلك في البيوت الجاهزة، والبيوت المتنقلة، فإذا قال له: عندي غرفة متنقلة، فإن هذا لا يستلزم أنه يبيعه الغرفة بما هي عليه من الأرض، فلو اتفقا على غرفة متنقلة -مثلاً- بطول معين وعرض معين من نوع معين، فاشتراها، ثم قال له: خذ غرفتك قال: لا، من ملك أرضاً ملك بناءها وأرضها، وهذه الأرض في حكم الدار، فأملك الأرض التي تحتها، نقول: لا، ليس لك هذا؛ لأنه باعك إياها على وصف التنقل، فأنت تملكها متنقلة، ولا تملكها ثابتة على الأرض. قال رحمه الله تعالى: [وسقفها]: سقف الدار كذلك، فإن السقف يملك، وعلى هذا قالوا: إنه إذا طاف في السطح الأعلى من المسجد، كان كمن طاف في أسفله؛ لأن الله تعالى يقول: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج:26]، وجماهير العلماء على أن الطواف لا يصح خارج البيت، فإذا طاف في داخل البيت صح طوافه. ولو صعد إلى الدور الثاني، أو صعد إلى الدور الثالث، قالوا: يصح طوافه؛ لأنه طاف في داخل البيت، ولم يخرج عن حرم البيت، ولو كان معتكفا وصعد من داخل المسجد إلى أعلى المسجد في الدور الأول والثاني فإنه لا يبطل اعتكافه؛ لأنه ما زال في حرم المسجد. فمعنى قوله: [وسقفها] أن السقف تابع للأسفل، وفرِّع على هذا مسألة السعي بين الصفا والمروة في الدور الثاني، فإنه مفرَّع على مسألة من ملك أرضاً ملك سماءها وبناءها. قال رحمه الله تعالى: [والباب الملصوق]: بعد أن بيّن لنا رحمه الله تعالى أنه يملك الأرض، ويملك البناء، يأتي السؤال الآن عن الأشياء الموجودة في جدران الأرض، كرجل باعك غرفة، وهذه الغرفة بطول معين، وعرض معين، وسمك معين، فاتفقتما، وتم البيع، ثم لما تم البيع ودفعت المال، جاء يريد أن يأخذ الباب والنافذة، ويقول: أنا بعتك الغرفة للجرم والذات، وما بعتك نوافذها، وأبوابها، ويقول: ما بعت لك إلا عين الرقبة، فهل من حقه أن يقول ذلك؟ نقول: لا، بل فيه تفصيل: فما كان من الأبواب مُسَمَّراً، في نفس الغرفة، فإنه يملك وينصب البيع عليه، وما كان منها منفصلاً، ولم يسمر، فإنه ليس من الرقبة، ولا يعتبر تابعاً للرقبة، وعلى هذا ليس من حقه أن يخلع الباب المسمر، ولا النافذة المسمرة، وعليه تكون تابعة للأصل وتابعة للدار. لكن لو كان الباب مخلوعاً، كما لو باعه الغرفة ونظر إليها وبابها مخلوع، فمعناه أنه اشترى حاضراً ناظراً بهذه الصفة، وحينئذ يتم البيع على أنها غرفة بدون باب. ولو كان عنده غرفة لها باب، وفي هذه الغرفة ثلاثة أبواب وضعها البائع في الغرفة، أي: استخدم الغرفة كمخزن، فجاء المشتري وقال: أنا أملك الغرفة والأبواب الموجودة، نقول: لا، فالأبواب فيها تفصيل، فما كان منها مسمراً يملك ويتبع العقد، وما كان منها غير مسمر فإنه لا يتبع العقد. قال رحمه الله تعالى: [والسلم والرف المسمرين]: السلم هو الذي يصعد عليه، وأما الرف فهو مثل الذي يوضع في دورات المياه، على المغاسل لتوضع عليه أشياء، ففي القديم كانوا يجعلونها في الغرف لأجل أن توضع عليها الأشياء، أو تكون في الصالات فإن المسمر منها في الغرفة لا يخرج، وليس من حقه أن يأخذه، لكن لو كان الرف مخلوعاً وموضوعاً في مخزن البيت، أو موضوعا في غرفة من غرف البيت كمخزن، فمن حقه عند البيع أن يأخذه؛ لأنه غير مسمر، وقد اشترى العين بصفاتها الموجودة، وحينئذ يجب عليه أن يترك المسمر، وأن يأخذ غير المسمر. والسلم ينقسم إلى قسمين -خاصة في القديم-: قسم من السلالم ثابت، كأن يبيعه داراً لها دوران، الدور الأرضي، والأول الذي فوق الأرضي، فالذي فوق الأرضي يحتاج إلى الصعود إليه بسلم، وهذا السلم ثابت موجود في نفس الدار، وهو -طبعاً- مسمر، ومحفور ومرتكز، فإنه إذا باعه يتبع المبيع، فلو جاء لكي يخلعه، نقول له: ليس من حقك خلعه، هذا مسمر وتابع للرقبة، وتابع للمبيع، وهناك قسم من السلام ليس بمسمر، مثل السلم الذي تضعه في المكتبة من أجل أن ترقاه من أجل أن تجد كتاباً في الأعلى، أو سلم تستصلح به -مثلاً- مصابيح الكهرباء ونحو ذلك، أو تتناول به الأشياء العالية، وهذا النوع من السلالم غير مسمر، فهذا من حقه إذا باعك الدار أن يستخرجه ويأخذه معه، فهو غير مسمر، ولا يتبع الرقبة، ولا يكون البيع منصباً عليه مع ذاته. وبناء على ذلك يفصل في السلالم، فما كان منها مسمراً فإنه يتبع العين والرقبة، ولا يجوز فكه، ولا يجوز أن يأخذه البائع معه، وإنما يبقى مع المبيع ويتبعه، وما كان منها منفكاً ومتنقلاً غير مسمر، فمن حقه أن يأخذه معه. هذا بالنسبة للسلالم، فما الحكم في المصاعد؟ كما لو باعه عمارة فيها مصعد كهربائي، واشتراها منه بنصف مليون مثلاً، ثم فوجئ بالبائع يريد أن يأخذ المصعد معه، فقال له: بعتني العمارة والمصعد تابع للعمارة، قال: لا، أنا بعتك العمارة، وما بعتك المصعد، فننظر: إن كان المصعد مسمرا، بمعنى أنه في نفس العمارة ويعمل فحينئذ يصبح تابعاً للعمارة، حتى ولو كان عاطلا، ً ما دام أنه مهيأ للعمل، ومثبت في العمارة، فإنه تابع للرقبة، فيكون الخطأ من البائع، فإذا أراد أن يستثني فليقل: أبيعك العمارة إلا المصعد، إذا أراد أن لا يبيع المصعد، فإذا لم يستثنِ ودخل المشتري ورأى المصعد، ورأى العمارة بمصعدها فكأنه يقول له: أبيعك العمارة بمصعدها، وعلى هذا تكون المصاعد في حكم السلالم المسمّرة، ونحوها. لكن لو أنه باعه عمارةً وفي حوشها مصعد معطل، أو جاهز للعمل لكنه غير مركب، فهل يكون المصعد تابعاً للعمارة؟ نقول: لا؛ لأنه غير مسمر، وغير موجود في العمارة، والبيع وقع على العمارة، وهذا ليس متصلاً بها ولا في حكم المتصل بها. قال رحمه الله تعالى: [والخابية المدفونة]: أي: وكذلك الخابية المدفونة تتبعها، ويشترط الدفن؛ لأنه كالتسمير في الأرفف.

ما لا يتبع الدور عند بيعها

ما لا يتبع الدور عند بيعها قال رحمه الله تعالى: [دون ما هو مودع فيها من كنزٍ وحجر] قوله رحمه الله تعالى: [دون] استثناء، أي: لا يشمل البيع ما كان مودعاً في المبيع، أي: محفوظاً فيه، فإذا كانت لك عمارة فيها غرفة لك أشبه بالمخزن، فما وضع في هذه الغرفة مما هو من حوائجك الخاصة والأشياء التي لمصالحك تريد أن ترتفق بها، فإنها ملك لك، إذا كنت البائع، وليس من حقه أن يقول: اشتريت العمارة كلها بما فيها. فما أودع في المبيع، فليس بتابع للمبيع، وإنما يكون البيع على ظاهره، والمودع يكون ملكاً لصاحبه الذي أودعه دون المودع فيها. والودع: أصله الترك، ومنه قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} [الضحى:3] أي ما تركك، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لينتهينّ أقوام عن ودعهم الجمعات -يعني تركهم صلاة الجمعة- أو ليختمنّ الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين)، نسأل الله السلامة والعافية، فالودع الترك، وسميت الوديعة وديعة؛ لأن صاحبها يتركها عند من استودعه إياها. و [مِنْ] في قوله: [دون ما هو مودع فيها من كنز وحجر] بيانية، كقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة:1]، فـ (من) هنا بيانية. وقوله: [دون ما هو مودع فيها من كنز]، أي: من أمثلة ما يودع فيها الكنز، كمثل رجل أخذ دنانير ذهب -وفي القديم كان الناس يخافون على أموالهم، وليس هناك أماكن يحفظون فيها الأموال- فربما وضع الذهب في صرة أو نحوها وحفر لها في الدار، ثم دفنها، كأنه يكتنزها لنفسه للحاجة، فهذا كنزٌ أو في حكم الكنز. كذلك في زماننا اختلفت الصورة، فلو أن رجلاً عنده خزنة، وفي هذه الخزنة -مثلاً- مائة ألف، أو فيها حلي، أو فيها ذهب، أو فيها جواهر، فهو يضع في هذه الخزنة أموالاً، فباع العمارة ثم جاء إلى الخزانة يريد أن يفتحها، فقال له المشتري: لا، هذه العمارة بعتني إياها بما فيها، فالكنز لي. فليس من حقه، فالبائع يقول: بعتك العمارة ولم أبعك كنوزها؛ لأن هذا الكنز ملك لي، فهذا معنى قوله: [من كنز]، أي: ما كان مكتنزاً في العمارة، محفوظاً ومودعا فيها، فإنه ملك لبائعها، ليس من حق المشتري أن يطالبه به. قال رحمه الله تعالى: [ومنفصل منها كحبلٍ ودلوٍ]: أي: كحبل الدلو، فقد كانوا في القديم يحفرون الآبار في البيوت حتى يستقون منها ويرتفقون بها، فالحبل يحتاجه من أجل أن يستقي الماء، وربما كان الحبل موجوداً في المخزن، فالحبل إذا كان موجوداً في الدار، للاستسقاء بالدلو، فهذا لا يعتبر تابعاً للبيع، وإنما باعه البئر، والبئر تابعة للرقبة، وهذا الحبل ليس بمسمر ولا بمتصل، وهكذا الدلو الذي يغرف به لا يعتبر تابعاً للمبيع. قال رحمه الله تعالى: [وبكرة]: وهكذا البكرة التي يجري عليها الحبل. قال رحمه الله تعالى: [وقفل]: القفل: واحد الأقفال، وكانوا في القديم يضعون الأقفال على الأبواب، يقفلون بها، فالباب له قفل يضعه البائع على داره، ثم لما باع الدار جاء وأخذ أقفالها، فهل من حقه ذلك؟ نقول: نعم؛ لأن القفل ليس متصلاً بالمبيع، فمن حقه أن يأخذ الأقفال، لكن في زماننا هذا تستخدم الأقفال المتصلة، فإذا كانت الأقفال متصلة فليس من حقه أن يأخذها، لكن الأقفال المنفصلة، ونحوها الضباب التي تعلق تعتبر ملكاً للبائع إلا أن يشترطها المبتاع، وهكذا السلاسل التي توضع على الأبواب تسفل بها لتقفل، فإنها تعتبر تابعة للبيع، فالمشتري إذا اشترى يشتري القفل الذي يناسبه، وهو يملك المتصل دون المنفصل، وهذا هو ضابطها كما قال رحمه الله: [دون ما هو مودع فيها. ومنفصل منها]. قال رحمه الله: [وفرش]. إذا باع عمارة أو غرفة فمن حقه أن يأخذ جميع الفرش الموجودة فيها، وحينئذ يقوم المشتري بفرشها من جديد، أو الاستغناء عن فرشها إذا كان يريدها لغير الجلوس، فالمهم أن الفراش يكون ملكاً للبائع، فإن الفراش ليس متصلاً بالرقبة، ولا يأخذ حكم المتصل، لكن في بعض الأحيان إذا كان الشيء المبيع مهيأً لكي ينتفع به المنتفع، كأن يبيعه شيئاً يقُصد به نفعٌ معين ولهذا المبيع تهيئة خاصة تتعلق به، مثل ما يوجد في المحلات الآن كما لو باعه -مثلاً- مطبخا، أو باعه على أنه مطبخ، فإن جميع ما يتعلق بهذا المطبخ من عُدَدِه وآلاته ووسائله إذا كان مهيأ مجهزاً بذلك يكون تابعاً للمبيع. لكن إذا باعه العمارة السكنية، أو باعه الغرفة، فإن هذا كله لا يعتبر فيه الفراش تابعاً، ويعتبر منفصلا عن المبيع فمن حقه أن يخلع الفراش ويقوم المشتري بفرشها بما يشاء. قال رحمه الله تعالى: [ومفتاح]: أي: والمفاتيح كذلك، وهذا في الأقفال، فإذا كان القفل ملكاً للبائع فمعنى ذلك أن المفتاح سيكون ملكاً للبائع، لكن الكوالين الموجودة الآن، تعطى بالمفاتيح للمشتري؛ لأنها متصلة بالمبيع، وهذا الذي ذكره المصنف رحمه الله كائنٌ في المبيعات القديمة، لكن نمثل بأشياء موجودة اليوم، فمثلاً: في زماننا لو باع سيارة،، وكانت رقبتها ليس فيها أشياء تخص المشتري فلا إشكال، فحينئذ يتبع السيارة ما هو فيها من آلاتها وعددها المعروفة بالعرف، لكن لو أنه -طالب أي البائع- بشيء موجود فيها بالعرف، كأن يكون باعه سيارة فأراد أن يستخرج مسجلها مثلاً، أو المكيف الموجود فيها، فهل من حقه ذلك؟ A ليس من حقه ذلك؛ لأنه متصلٌ بالمبيع ومسمرٌ في المبيع، ووقع البيع أثناء العقد على هذا الشيء بعينه، فإن أراد أن يستثني فعليه أن ينص على ذلك ويقول: دون مسجلها أو: أبيعك هذه السيارة وأشترط أن آخذ مسجلها، أو مكيفها، أو راديها، أو نحو ذلك من الأشياء الموجودة فيها مما هو متصل بها. كذلك أيضاً لو باع داراً وقام على أجهزتها الكهربائية واستخرجها وخلعها، وقال: هذه الدار المسلمة هي التي بعتك إياها، أما بالنسبة لما فيها من الأدوات الكهربائية فأنا ما بعتك إياها، فهل من حقه أن يستخرج هذه الأجهزة الكهربائية أو لا؟ فيه تفصيل: فما كان منها متصلاً مثل المصابيح الكهربائية، فهذه تبقى، وليس من حقه أن يستخرجها، أما ما كان منفصلاً، كالثلاجات والغسالات، فهذه تعتبر منفصلة، وفي حكم المنفصل، فمن حقه أن يأخذها؛ لأن ليست تابعة للرقبة. فلو باعه داراً فيها تلفون، فهل من حقه أن يأخذ التلفون معه؟ أو يترك له خط التلفون؟ نقول: إن التلفون ملكٌ لصاحبه؛ لأن التلفون في الأصل صفة كمال في المبيع، ولذلك الدور منها ما هو موجود فيها، ومنها ما هو غير موجود، لكن الكهرباء موجودة في المبيعات، وحينئذ نقول: هذا التلفون من حقه أن يستخرجه، لكن لو اشترط المشتري، وقال: أشتري الدار بما فيها من التلفونات، كان من حقه ذلك. وبناء على ذلك، يُفرق بين ما يكون متصلاً، خاصة بالعرف، وبين ما يكون منفصلاً عن الدار، فيتبع المتصل ولا يتبع المنفصل، وكذلك أيضاً من الفراش، فما يوجد من فرش الدار الموجود في عصرنا، فيحكم بكونه ملكاً للبائع، كما قرر العلماء رحمهم الله تعالى أن فرش الدار يكون ملكاً للبائع، ولا يحكم بكونه تابعاً للرقبة.

بيع الأرض وما عليها

بيع الأرض وما عليها

بيع الأرض مطلقا يشمل الغرس والبناء

بيع الأرض مطلقاً يشمل الغرس والبناء قال رحمه الله تعالى: [وإن باع أرضاً ولو لم يقل بحقوقها شمل غرسها وبناءها]: لو أن رجلاً قال لك: أبيعك مزرعةً طولها كذا، وعرضها كذا، في مكان كذا، فإنه حينئذ أوجب الصفق على هذا المبيع الموصوف في الذمة، أو المعين، كأن يقول: مزرعتي هذه، والمزرعة فيها زرع، فلما أوجب البيع وتمت الصفقة، قال لك: بعتك الأرض، فأنت تأخذ المزرعة، أي: الأرض الصالحة للزراعة، فمن حقي أن أخلع النخل، وأُخرج النخل، ومن حقي أن أخرج الزروع إلا أن تعوضني عنها، فيقال: من باع أرضاً شمل غرسها وزرعها، وليس من حق البائع أن يأخذ ذلك، إلا إذا اشترط على المشتري، فقال له: أبيعك هذه المزرعة على أن آخذ جميع ما فيها، فحينئذ لا إشكال، إما أن يخلع النخل أو يتراضى مع البائع على حسب ما يتفقا.

حكم الزرع الموجود في الأرض المبيعة

حكم الزرع الموجود في الأرض المبيعة قال رحمه الله تعالى: [وإن كان فيها زرع كبُر وشعير، فلبائع مبقي]: الحبوب إذا زرعها البائع فإن هذه الحبوب لا تبقى ولا تستديم، ولا تعتبر تابعةً للمبيع، وتكون للبائع، لكن يستبقيها إلى الحصاد، فيكون من حقه إذا باع الأرض أن يبقيها، ويطالب المشتري ببقائها وسقيها حتى يحصدها، فإن هذا الزرع مبقيٌ للبائع إلى الحصاد، فإذا جاء الحصاد وجب عليه أن يحصد، وتكون مئونة الحصاد، وكلفة الحصاد على المشتري، ثم بعد ذلك تبقى الأرض والرقبة للبائع. ثانياً: ما كان نتاجه مراراً: قال رحمه الله تعالى: [وإن كان يجز أو يلقط مراراً، فحقوله للمشتري، والجزة واللقطة الظاهرتان عند البيع للبائع]: الآن بيّن لنا أن الذي يبتاع الرقبة يملكها وما فيها مما هو متصلٌ بها، والزرع في الأصل متصلٌ بالأرض، وكان ينبغي أن يكون تابعاً للبيع، لكن العلماء رحمهم الله فصلوا في هذا؛ لأن السنة نبهت على ملكية البائع لزرعه إذا كان له ثمرة في ذلك الزرع، فتخرج في ملكه ولا تخرج في ملك المشتري. والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (من باع نخلاً قد أبرت)، فالأصل النخل، وقوله صلى الله عليه وسلم: (قد أبرت)، أي: الثمرة، فإذا أبرت النخلة فمعناه أن الثمرة حدثت في ملكي أنا البائع، فليس من حق المشتري أن يطالبني بها، إلا إذا اشترط، فإذا أبرت النخلة فمعناه أن هذه الثمرة التي أبرت حدثت في ملكي وضماني، فأنا أستحقها ويتم البيع على الأصل دون الثمرة. وبناءً على هذا تكون لي الثمرة في تلك السنة، لكن في السنة القادمة إذا أطلعَ النخلُ تكون الثمرة للمشتري؛ لأنها وقعت في ملك المشتري، أكد هذا النبي صلى الله عليه وسلم بالمفهوم، فلما قال بمنطوق النص،: (من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع)، فهمنا أن من باع نخلاً لم تؤبر فثمرتها للمشتري. وعلى هذا كأن الثمرة إن وقعت في ملك البائع فللبائع، وإن وقعت في ملك المشتري فللمشتري. وبناء عليه يُفَصَّل في الثمار، فلو أنه باعه نخلاً قد أبرت، وقلنا: إنها تابعةٌ للبائع، فإن الموجود عندنا أصل وثمرة، فالذي دلت عليه السنة أن المشتري يملك الثمرة لذلك العام وحده، ففرع عليهما ما كان يُجز ويُلقط مراراً، فما يجز مراراً مثل الكرّاث، ومثل البرسيم، فالبرسيم إذا جززته نبت مرة ثانية، والكرّاث إذا جززته نبت مرة ثانية، أو يلقط كالعنب فإنه يؤخذ ويلقط، والرطب والبلح ونحو ذلك، هذا كله يلقط، وقد يلقط ويتجدد، وقد يلقط على بطن ظاهر وبطن متخلف، كالقثاء، والباذنجان، ونحو ذلك. إذاً لا بد من التفصيل في هذه الأنواع كلها، فما كان له جزة واحدة كالحبوب، فإنه إذا باع أرضاً فيها زرع، كالحب، فإنه يكون قد حدث في ملك البائع، فليس من حق المشتري أن يطالبه بهذا الزرع الموجود، ويجزه البائع عند حصاده، ويكون ملكاً له، إلا إذا اشترط المشتري، وقال: أشترط أن آخذ الأرض بهذا الزرع الموجود فيها فهي ملكٌ له. الحالة الثانية: أن يكون مما يجز، ولاحظ أن الأول يجز فلا يعود، فجزَّته واحدة، أما الذي يجز ويعود، إن كان يجز مرة بعد مرة، كالبرسيم، فإنه ربما يبقى في الأرض خمس سنوات، وربما إلى عشر سنوات، على حسب أنواعه، وحسب جودة الأرض، فإذا كان هذا البرسيم يجز مرة بعد مرة فباعه والبرسيم فيه جزة ظاهرة فإنها قد حدثت في ملك البائع، فنقول: أصل البرسيم للمشتري والجزة الظاهرة للبائع، ولكن الأصل للمشتري، فإذا جز البائع الجزة الظاهرة أصبح الكل ملكاً للمشتري. قال رحمه الله تعالى: [وإن اشترط المشتري ذلك صح]: أي: إن اشترط المشتري ذلك، فقال: الجزة الظاهرة لي، أو قال فيما يلقط: هذا الملتقط لي، أو قال في ثمرة البستان هذا لي، فإنه يكون له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من باع نخلاً قد أبرت، فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع)، أي: أنها ملك للمبتاع إن اشترطها.

أحكام بيع النخل مع ثمره

أحكام بيع النخل مع ثمره قال رحمه الله تعالى: [فصل: ومن باع نخلاً تشقق طلعه فلبائع مَبقيٌ إلى الجذاذ، إلا أن يشترطه مشترٍ]: هذا الفصل ينبني على ما قبله، وانظروا إلى سعة هذه الشريعة ودقتها، وكيف أن الحديث الواحد يمكن أن تفرع عليه أبواب، وتبنى عليه فصول، وتبنى عليه قواعد وأصول؛ لأنها شريعة كاملة، نبهت بالقواعد العامة وبالأصول العامة، فهذا الحديث حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع، ومن باع عبدا له مال، فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) أصل عظيم في مسألة ما الذي يتبع المبيع وما الذي لا يتبعه، وكل المسائل تفرعت على هذا الأصل، وانبنت عليه. فالزروع تكون ملحقة بالمعنى، والمنقولات تكون ملحقة بالأصل، وهذا لا شك يدل على عظم هذه الشريعة، وأنها شملت، فما تركت صغيراً ولا كبيراً إلا بينته، ويدل أيضاً على أن القواعد الكلية في الشريعة أصل معتبر؛ لكي يحكم بشموليتها، وعلى هذا فما ذكرناه في الفصل السابق مفرع على هذا الحديث. يقول رحمه الله تعالى: [ومن باع نخلاً تشقق طلعه]: النخل: معروف طبعاً، وهذا النخل من حكمة الله سبحانه وتعالى، يراد لثمره وما يكون منه، وهو ينقسم إلى زوجين: الذكور والإناث، فذكور النخل هي الفحول التي يؤخذ منها اللقاح لكي يلقح به الأنثى، وهناك الإناث التي فيها الثمار المختلفة، اختلفت ألوانها، واختلفت أشكالها واختلف طعمها، والكل يُسقى بماء واحد، وهذا من أعظم الدلائل على وحدانية الله جل جلاله، فهو دليل على وحدانيته تعالى، ومن شواهد التوحيد أنك إذا تأملته وجدته مختلفاً أُكُله، ومختلفاً أشكاله، ومختلفاً حتى في مواسم خروجه. وثمره بعضه يؤكل بلحاً، ولا تستطيبه وتجده ألذ ما يكون إلا بلحاً، وبعضه لا تستعذبه ولا تجده لذيذاً إلا وهو رطب، وبعضه لا تستلذه إلا تمراً كامل اليبس، وأيضاً تجده مختلف الألوان، فإذا بدا اللون الأخضر فيه، الذي هو الأصل، ينقلب إلى أحمر، وينقلب إلى أصفر، وينقلب إلى أبيض أشهب، وقد يبقى على خضرته، وهذا كله يدل على وجود الله جل جلاله ووحدانيته؛ لأن هذه الأشياء لو حدثت بنفسها كانت حدثت بلون واحد، وحدثت بشكل واحد، وبطعم واحد، وتجدها تختلف باختلاف المؤثرات؛ لكن الله سبحانه وتعالى جعلها على حالة مختلفة مع أنها تسقى بماء واحد وفي أرض واحدة، كما قال تعالى: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد:4] فليست آيةً، بل آيات، لكن لمن يتأمل، فأعظم به سبحانه وتعالى! وهذا النخل من حكمة الله سبحانه وتعالى أن تطلع ثمرته من الأنثى، وتخرج ثمرته في وعاء كيزان تكون حافظةً للثمرة بإذن الله عز وجل، وتتخلق الثمرة فيما لا يقل عن شهرين، تستتم وتتخلق في داخل النخلة، ثم تخرج من بين الجريد وبين الجذع، وتستتم خروجها حتى تكتمل إلى القدر الذي تكتمل إليه، ثم ينشق هذا الوعاء بقدرة الله عز وجل، وقد يكون طلعه في زمان بارد، فيوافق عند التشقق حرارة تعتريه، وقد يكون الناس في شدة البرد، لكن يرسل الله عز وجل عليه من الحرارة ما يكتمه حتى يتشقق؛ لأن الله سبحانه وتعالى إذا قال للشيء: كن، فيكون، ولو كان في شدة البرد، فإن الله سبحانه وتعالى يخرجه، ولو كنت في شدة الحر، وأنت تتألم يفجر لك الأنهار من الجبال عذبة باردة، سبحانه! سبحانه! وأعظم به. فالشاهد أنه يخرج ذاك الكوز مكتملاً، فإذا اكتمل تشقق، ويتشقق بعد يوم، أو يومين، أو ثلاثة أو أسبوع على حسب المناطق، وعلى حسب النوعية، ثم إذا بدأ يتشقق يأتي الفلاح إلى الذكر، والذكر يطلع في الوقت الذي تطلع فيه الإناث، فتخرج كيزانه مغلفة، فتقص وهي مغلفة، ثم يزال الغلاف الخارجي، وبعض الناس يلقح به وهو طري، وبعضهم ينشره في الشمس؛ لأن الشمس تقوي اللقاح وتغذيه وتجعل فائدته أكثر، فيتركونه ينشر في الشمس ليستوي. وفيه غبار، ورائحته كمني الرجل الآدمي، سبحان الله! ولذلك تجد العلماء يقولون عن المني: رائحته كطلع النخل، سبحان الله تعالى! ويقولون: إن النخل تشبه الإنسان كثيراً، حتى إن فيها الكريم وفيها البخيل -سبحان الله تعالى! - أي: في الصفات، فيقولون: إنها من أشبه ما تكون بالإنسان، فمن هنا إذا وضع اللقاح خرجت وتشققت، ولا يمكن أن تصلح هذه الثمرة إلا إذا لقحت ووضع هذا الغبار. ثم انظر إلى أنواعه، فبعض الأنواع بمجرد ما تنشق تلقح، وبعضها الأفضل أن تبرد، وتنتظر يوماً أو يومين أو ثلاثة أيام، وإذا برزت ولقحتها بعد البروز كانت ثمرتها فاخرة، فإذا بادرتها باللقاح في أول شيء جاءت ثمرتها صغيرة، فلربما حشفت وجاء الشيط الذي لا نوى فيه، فتجد بعضها ليس فيه نوى؛ لأنه لم يلقح، أو بادره باللقاح قبل وقته. ثم منه العكس، فبعضه ما لم يبادر مباشرة بلقاحه صار إلى الشيص وتغير، يخالف بين الأحوال حتى يدل على وجود الله سبحانه وتعالى، وأن هذه الأمور وراءها أمر من الله جل جلاله، ومدبر يدبرها سبحانه وتعالى. فالشاهد إذا جاء الفلاح وغبر النخل، قالوا أبرها، فهذا هو التأبير. إذاً عندنا مراحل للنخلة: الكن الذي يكون قبل تخلق الثمرة، ثم بعد ذلك الطلع بداية الطلع، ثم بعد ذلك التشقق، ثم بعد ذلك التأبير، فإذا أبرت وغُبرت، فهنا جعل الشرع هذا الحد فاصلاً بين ملك البائع وملك المشتري، فقال صلى الله عليه وسلم: (من باع نخلاً قد أبرت، فثمرتها للبائع)؛ لأنها إذا أطلعت وتشققت ففي ملك من ظهرت الثمرة؟ A في ملك البائع، فإن حدثت الثمرة في ملكي، فإذا بعت فقد بعت الأصل، والثمرةُ لا زالت ملكاً لي! فإذا لم ينصب العقد عليها بالتبعية لم يحكم بتبعيتها. لكن لو أنه باع البستان، أو باع النخلة وهي لم تؤبر، أو بمجرد بدو الكيزان أو خروجها ولم تتشقق، فقالوا: إذا باعه قبل مرحلة التشقق والتأبير فإنها تتبع المبيع، وتصبح الثمرة حينئذ تشققت وتأبرت في ملك المشتري، وتصير ملكه، فهذا الفاصل بين مال البائع والمشتري. قال صلى الله عليه وسلم: (من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع). قوله رحمه الله تعالى: [إلا أن يشترطها مشترٍ]: إلا أن يشترطها المبتاع هو اللفظ الصحيح، أو المشتري بمعنى: المبتاع الذي اشترى، فلو قال له: بعتك بستاناً فيه نخلٌ مؤبر، فقال المشتري: أشترط أن تكون الثمرة تابعة للنخل، فقال له البائع: لك ذلك، فحينئذ يملكها بالشرط ولا يملكها بالأصل، وعلى هذا يتم البيع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون على شروطهم)، وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه: (مقاطع الحقوق عند الشروط)، أي: أنه إذا اشترط عليك فمن حقه أن تفي له بشرطه.

بيع العنب والتوت والرمان ونحوه مع ثمره

بيع العنب والتوت والرمان ونحوه مع ثمره قال رحمه الله تعالى: [وكذلك شجر العنب والتوت والرمان وغيره]: هناك نوع من الثمار يظهر من نَوْرِه، ومنها ما يتشقق من أكمامه، ومنها ما يظهر من الأرض، فهذا الشيء الذي تتفتح أكمامه تكون العبرة بتفتحه؛ لأنها تفتحت الثمرة على ملك البائع، وهذا الشيء الذي يكون في داخل النَّور كالتفاح ونحوه، إذا تساقط عنه نَوره، فإنه حينئذ تظهر الثمرة بعد تساقط الأنوار الذي فيه، وهكذا الليمون إذا تساقط زهره، فحينئذ تجعل لكل ثمرة ظهورها، وهذا يختلف باختلاف أنواع الثمار، فما كان منها له أكمام ويتفتح فإنه عند تفتحه عن كُمِّه يكون تابعاً للأصل، فإن وقع البيع قبله فإنه يكون ملكاً للمشتري؛ لأنه ظهرت الثمرة بعد البيع، وإذا ظهرت الثمرة قبل البيع يكون للبائع سواءً أظهرت بتفتح الكم أم بغيره؛ لأن الثمرات تخرج من أكمامها، كما قال تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا} [فصلت:47]، فهناك نوع من الثمرات يخرج من أكمامه، وبعضها يتشقق كذلك عن قشره، وبعضها يكون داخل وعائه مثل اللوز، والجوز، ونحوه، فهذا يرجع فيه إلى أهل الخبرة في ظهوره، إن ظهرت علامات وجوده فإنه يحكم بكونه ملكاً للبائع إن كان ظهوره قبل العقد، ويحكم بكونه ملكاً للمشتري إن كان ظهوره بعد العقد. قال رحمه الله تعالى: [وما ظهر من نوره كالمشمش والتفاح]: هذه كلها يحكم بكونها ملكاً للبائع إذا ظهرت من نَوْرها قبل العقد، وتكون ملكاً للمشتري إن ظهرت من نَوْرها بعد العقد. قال رحمه الله تعالى: [وما خرج من أكمامه كالورد والقطن]: الورد يظهر وهو مستغلق الأكمام، ثم بعد ذلك يخرج قلب الوردة من كمها، فتظهر ثمرة الورد، ومن المعلوم أن المزرعة قد تباع وتكون مزرعة ورد، والورد يباع وينتفع به، وله ثمن وله قيمة، فتشتري منه هذه المزرعة التي فيها ورود، أو فيها الفل والياسمين ونحوها من الزهور التي لها روائح وينتفع بها، فإذا كانت هذه المبيعات تفتحت وظهرت ثمارها من أكمامها أو من قشورها، فتقشرت أو ظهرت، أو خرجت من كيزانها -كما في النخل-، فإنه يحكم بكونها للبائع إن كان الظهور وهي في ملك البائع أي قبل العقد، ويحكم بكونها للمشتري إن كان جميع ذلك بعد العقد. قال رحمه الله تعالى: [وما قبل ذلك والورق فلمشترٍ]: قوله: [وما قبل ذلك] أي: ما كان قبل ذلك، يعن: ي قبل ظهور الثمرة، إما بتشقق الكيزان كما في النخل، إن قيل: العبرة بالتشقق، أو قيل العبرة بالتأبير؛ لأن الأول يختاره الجمهور والثاني يختاره الإمام أحمد رحمة الله عليه، أو كان بظهوره من نَوْره كالتفاح والمشمش ونحوه، أو كان بتفتح أكمامه كالورد ونحوه من الزهور، فهذا كله إن وقع فيه الظهور للثمرة قبل العقد كان في ملك البائع، وإن كان بعده كان في ملك المشتري وما كان قبل ذلك، أي: ما كان مبيعاً وحدث فيه ذلك، (قبل العقد) أي: قبل البيع، فإنه يكون ملكا ً للبائع؛ لأنه حدث في ملكه. قوله: [والورق] في بعض الأحيان يكون ملكاً للبائع مطلقاً، إذا كان الورق الظاهر مثل الحنا، فالحناء إذا بيعت يراد منها الورق، فالورق الظاهر للبائع، فينتف ورقها ثم تعيد ورقها مرة ثانية لملك المشتري؛ لأن الورق الأول كان في ملك البائع، فإذا باعه الحنا كان من حقه أن يقطف ورقها؛ لأن الورق مقصود. لكن هناك ورق غير مقصود، كورق الأغصان الذي ليس هو بذاته يباع مثل ما يقع في النباتات، فهذا من حيث الأصل أنه إذا بيع يكون تبعاً للمبيع، مثل الجريد، فالجريد يكون تابعاً للنخلة، فلو باعه نخلته ثم قام المشتري يريد أن يقص جميع جريدها، ويقول: الورق للبائع، نقول له: لا؛ لأن هذا الورق في الأصل للمبيع، لكن لو باعه شيئاً يراد منه الورق، فالورق الظاهر للبائع، والورق الذي هو البطن الذي بعده للمشتري، وذلك في الذي يتجدد ورقه. وكذلك ورق العنب يقطف في موسمه، ويكون ملكاً للبائع في هذه الحالة، ثم ما تجدد منه يكون ملكاً للمشتري. إذاً الورق فيه تفصيل على ما ذكرناه، وإطلاق المصنف يحتاج إلى نظر، وقد نبه بعض العلماء رحمهم الله تعالى على ذلك كالإمام الماوردي وغيره، فنبهوا على أن الورق منه ما يكون مقصوداً؛ لأن المبيعات منها ما يقصد منها ورقها، ومنها ما يقصد منها ثمرتها، ومنها ما يقصد منه الأمران: الورق والثمرة، أي: كون المنفعة في الورق والثمرة، وعلى هذا فإنه إذا باعه مبيعاً له ورق، والورق حدث في ملك البائع، ثم لما باعه قال: أريد أن آخذ هذا البطن من الورق الذي حدث في ملكي، كان من حقه ذلك، فلا يكون الورق للمشتري، وإنما يكون للبائع.

الأسئلة

الأسئلة

الدار المشتركة وحكم أرضها

الدار المشتركة وحكم أرضها Q إذا اشترك جماعة في بناء دار وأصبح لكلٍّ شقة من الدار، فلمن تكون الأرض؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإذا اشترك جماعة في أرض، وكانت مشاعة بينهم مناصفة، كرجلين يملك كل منهما نصف الأرض، أو أثلاثاً، أو أرباعاً، أو أخماساً على حسب الشراكة، وبنوها بنفس السهم الذي لهم، فبنوها -مثلاً- بنصف مليون، كلٌّ دفع مائة ألف وهم خمسة، فحينئذ تكون الأرض وبناؤها وما عليها بينهم أخماساً، كل يملك خمس الأرض، فإن أمكن قسمتها كأن تكون فيها خمس شقق، فلكلٍّ شقة ينتفع بها، فإن تنازعوا فقال أحدهم: آخذ الشقة السفلى؛ لأنها أخف مؤنة وأقل عناءً، وقال البقية: بل نحن نأخذها، فتشاحوا فيها، فإنهم يقترعون وتجري بينهم القرعة، ثم بعد ذلك تكون بينهم إذا أرادوا أن يسكنوها، أما لو أرادوا أن يؤجروها فإنها تؤجر، ويكون لكلٍّ خمس أجرتها. هذا بالنسبة للملكية، وبالنسبة لبيع الشقة بعد وجود العمارة فله حكم خاص، فإذا كانت العمارة فيها ثلاثُ شقق، وأراد صاحبها أن يبيعها على ثلاثة أشخاص، وقال: أبيع هذه العمارة بينكم الثلاثة. صح البيع، وحينئذ تكون الأرض بذاتها، وشققها مشاعة بينهم، لكن لو قال لأحد: أبيعك شقة من هذه العمارة، وباع للثاني شقة، وباع للثالث شقة، فهنا لا يصح البيع على أصح أقوال العلماء رحمهم الله تعالى. والسبب في هذا أننا لو قلنا: إن الشقة تملك وحدها، يكون ملك صاحب الدور الأول الشقة الأولى، وملك صاحب الدور الثاني الشقة الثانية، وملك صاحب الدور الثالث الشقة الثالثة، فيبقى السطوح لا شقة فيه، فيأتي ويحدث شقة رابعة، ويبيعها على رابع، ثم يأتي ويحدث شقة خامسة ويبيعها على خامس، ويصبح السطح ليس ملكاً لأحد، بل ملك له متى ما شاء بنى فيه؛ لأنه إنما باع الشقق، وهو يملك الأرض ويملك سماءها، فإذا قلنا بصحة البيع للشقة بذاتها، فمعناه أنه يملك بدرومها وأساسها وما فيها، ويملك أيضاً عاليها، فيتصرف في العالي كما شاء، وهذا لا شك يدخل فيه الغرر؛ لأنه يخاطر بأصحاب الشقق، فأنت إذا بنيت العمارة على أنها -مثلاً- ثلاث شقق، أو على أنها ثلاثة أدوار، ليس كما لو أحدثت أدواراً فوقها. ثم إن هذه الشقة لو قلنا: إنه قد باع الشقة ويملك المشتري الشقة فقط، فهذه الشقة كم ستبقى؛ لأنه سيملك الشقة وحدها، فلا ندري أيطول أجل العمارة وهي باقية فيطول أجل الشقة؟ أم يقصر أجل العمارة؟ وقد تكون العمارة محكوماً عليها أنها خلال عشرين سنة، أو ثلاثين سنة ستنتهي، فإذا تهدمت فلمن تكون الأرض؛ لأنه باعه الشقة وما باعه الأرض. فالعقود لا بد أن تحدد، فإن كان يريد أن يبيعه فيبيعه بالمشاع، كأن يقول له: هذه عمارة لك ربعها، فكل يعرف حقه، وكل يعرف نصيبه، لكن أن يقول له: أبيعك شقة من عمارة، ولا يدرى كم تبقى، فكيف يصح هذا؟ وصحيح لو أننا اشترينا العمارة كذلك، لا ندري كم تبقى؟ لكن حتى لو فنيت في أقرب أجل، فإني أملك أرضها، أما أني أملك شقة فقط! ويزول ملكي بزوال الشقة! ولا أدري أقريب أم بعيد، ولا أدري كم بقاؤها، ويخاطر البائع ويغرر بالمشتري فلا، لكن لو ملكت الأرض، أو جزءاً من الأرض، ويكون لي ربع الأرض، فإني أنتفع بشقة، كأنها ربع قسمة، كما لو مات ميت عن دار وقسمت بين الورثة فلا إشكال، لكن أن يقال: أبيعك الشقة بعينها فهذا غرر، وهذا على أصح قولي العلماء، واختيار طائفة من مشايخنا رحمة الله عليهم، أنه لا يصح بيع الشقة لما فيه من الغرر؛ لأن الملكية تنصب على الشقة، ولا يكون لذات الأرض فيها ملك. وإذا قيل بملكيتها كأن يقال: بيع الشقق المراد به أن يملك الشقة، فتقسم العمارة بحسب الشقق، فإن الدور الرابع ليس ملكاً لأحد، فلو كان هناك ثلاث شقق، فباع للأول شقة وللثاني شقة، وللثالث شقة، فإن قالوا: نحكم بأن لكلٍّ شقة، فتصبح الأرض أثلاثاً، نقول: السطح ليس بمبيع، بل السطح ملك للبائع، فإن قلت: أقسمها أثلاثاً، قلنا: كيف جعلت من لا شقة له يقاسم الذي له شقة؟ وكيف جعلت قيمة السطح الذي لا شقة فيه بقيمة الشقة؟ إن قلت: أدخل صاحب العمارة شريكاً فتكون أرباعاً؟ فحينئذٍ ليس هناك تكافؤٌ؛ لأن السطح ليس فيه بناء كما في الشقة! وإن قلت: أدخله بجزء، فكم هذا الجزء؟ وإن قلت: لا أدخله، فإن الأرض في الأصل ملك له بكاملها، وقد باع شقة ولم يبع سطحها، ولم يبع ما فيها، فإن قلت: إن سطح العمارة يكون تابعاً للشقق، نقول: حينئذ من باع شقة فإنه يكون ما فوق الشقق تابعاً لهذه الشقة، وهذا لا يستقيم من ناحية فقهية، فلا يستقيم أن نقول: إنه يجوز أن تجزأ العمارة، ولذلك تقع مشاكل كثيرة في بيع الشقق، وبيع أجزاء العمائر من الشقق المملكة. وهناك قول ثانٍ، ولهذا القول وجهته، ومن اشترى شقة يتأول على هذا القول الثاني فلا بأس، وهذا حكمٌ مثل ما يختلف العلماء على قولين، لكن نحن نبين ما ظهر لنا بالدليل؛ فإننا لا نعرف في زمن السلف رحمهم الله تعالى أنهم كانوا يبيعون دوراً من العمارة، أو دوراً من الأرض، أو غرفة من الدار، إنما تباع إما بنسبة مشاعة، كنصف العمارة، أو ربعها، أو ثمنها، فيقول له: أدخل معك شريكاً، فبكم تبيع هذه العمارة؟ فإن قال: بمليون، قال: أنا أدفع نصف مليون، ونصبح شركاء فيها، وحينئذ لا تجد أي شبهة أو لبس، حيث يدخلون سوياً في الغرم والغنم، وإذا جئنا نقسم الأرباح نعرف كيف نقسمها، فلهذا نصف ولهذا نصف، وإذا قسمنا الأضرار نقسمها بالنصف، لكن لو أن هذه العمائر التي لم تبع بنسبة مشاعة حدث ضرر في مائها، أو حدث عطل فيها، فلن تستطيع أن تقسم، لا الغرم ولا الربح، ويحدث إشكال، ولو أنه قال: أريد أن أبني على العمارة، فأنا بعتكم الشقق وشققكم موجودة، وأريد أن أبني على العمارة، وقرر المهندسون أن العمارة تتحمل عشرة أدوار، فتكون قد اشتريت الشقة من العمارة وفيها -مثلاً- ساكنان، الذي فوقك والذي تحتك، فإذا بك بعمارة فيها عشرة أدوار، وأدخل عليك عشرة ساكنين، فأنت إنما رضيت بالواحد ورضيت بالاثنين، لكن لن ترضى بالعشرة، وتستضر بكثرة الجيران، وتحدث أضرارٌ، فلا تتأتى ملكية الجزء على وجهٍ ليس بمحدد الملكية؛ لأنهم قالوا: من ملك أرضاً ملك سماءها مثل ما قرر العلماء، وحينئذ نقول: من ملك شقة، فحينئذ ملك الشقة بدون أرضها، وبدون سمائها، وما الدليل على أنه يملك الشيء بدون أرضه ولا سمائه، فهذا الذي نريد له الدليل، كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من اغتصب قيد شبر من الأرض طُوّقه يوم القيامة من سبع أرضين)، فجعل الأسفل تابعاً للأعلى! فهاتوا دليلاً يستثني هذا النوع من البيع، وأن من ملك الأعلى لا يملك الأسفل! هذا أمر يحتاج إلى تقرير أصل شرعي يمكن أن يبنى عليه جواز تجزئة العمارة بشققها؛ لأنه إذا قيل بصحة تجزئة العمارة بشققها، يقال بصحة تجزئة البيوت بغرفها. وعلى هذا فالذي يظهر، والذي يتبين أنه لا يصح بيع الشقق، ولكن نقول: هناك قول مخالف، ولهذا القول حجته ودليله لكنه لم يظهر لي؛ لأنهم يقولون، باعه جزءاً من العمارة، ويغتفرون هذا الجزء، وأقول: لا زال الإشكال قائماً، فإذا كانت العمارة من ثلاثة شقق كما ذكرنا، وقلت: تقسم أثلاثاً، عارضك صاحب الملك، فقال: السطح لي، وإن قلت: إن السطح ليس له، وإنما لصاحب الشقة الثالثة، فحينئذ صاحب الشقة الأولى يملك سطح شقته فلا يصح بيع الشقة الثانية، وصاحب الشقة الثانية يملك سطح شقته، كما ذكرت، وأظن هذا من ناحية فقهية لا يستقيم، فإذا قال: نقسم هذه العمارة أثلاثا بين الثلاث الشقق، عارض صاحب العمارة بأن له السطح، وإن قلت: ندخل صاحب العمارة شريكاً، قلنا: سبحان الله، شقة كاملة مبنية مدفوع فيها مئات الألوف، بسطح عارٍ لا بناء فيه ولا شيء، كيف تدخل؟ وما وجه الإدخال؟ وإن قلت: أدخله على أنه باع الأصل ولم يبع ما فوقه، نقول حينئذ: هذا الذي دفع قيمة الشقة ليست قيمتها كقيمة السطح؛ لأن الله تعالى جعل لكل شيء قدرا وحقا. فالذي يظهر أنه لا بد من وضع حلٍّ، والشريعة ما تركت شيئاً وليس في هذا ضيق؛ لأن المراد من هذا حفظ حقوق الناس، فالذي يشتري يعرف ما الذي يأخذه، وما الذي يعطيه. فنقول: الحل أن العمارة إذا كانت من أربع شقق يعرضها، ويقول: هذه العمارة معروضة للبيع، إن شاء شخص أن يشتريها بأربعمائة ألف وتكون ملكاً له فبها ونعمت، وإن جاء أربعة يشترونها فلهم ذلك، وبدلاً من أن تجزئ شققها، بِع بيعاً شرعياً لا إشكال فيه ولا شبهة، فلماذا نُحدث هذه البيوعات التي ما كنا نعرفها ولم تكن موجودة بيننا؟ والبيع الشرعي أن نجعل البيع كما هو، ونقول: يعرضها في أربع شقق على أربعة شركاء، كلٌّ له ربع الأرض، ثم إذا ملك هؤلاء الأربعةُ الشركاء كان لهم التصرف في العمارة كما يتصرف الشركاء في أموالهم، فهو بيع شرعي ومخرج شرعي لا شبهة فيه ولا إشكال، هذا ما ظهر، والله تعالى أعلم. أما لو باع الشقة قبل أن تبنى فهذا أمر أشد؛ لأنه باع المعدوم وباع الشيء قبل أن يخلق ويوجد، فحين يقول: سنبني العمارة، أو سنبني الشقة، فالشقة لم توجد، فإن قالوا: يصح هذا البيع قياساً على السَّلَم، نقول: السلم قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، فهو في الموزونات والمكيلات، واختلف في المعدودات. وأما الدُّور فإنها تباع بالذرع، فهي مذروعة، والبناء مذروع، ولذلك يقال: طوله كذا وعرضه كذا، ويحدد أجرامه سُمكاً وطولاً وعرضاً، فهذا لا يدخل في السلم. وعلى هذا فالذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنه من بيع الغرر، وبيع ما لم يوجد، ثم قد يقال: إننا سنبني هذه العمارة فيها مائة شقة، أو فيها مثلاً خمسون شقة، ثم تؤخذ الأموال، وبعد فترة إذا به قد قرر البيع على أنها كل شقة بمائة ألف، فلما أراد المنفذ أن ينفذ إذا بالأسعار قد غلت، وارتفعت قيمة المؤنة، فأصبحت بأضعاف القيمة التي رسمت، فهو بيع غرر؛ لأنك تدفع في زمان، وتنفذ في زمان، وإذا بالحقيقة تخالف الواقع، فيغرر الإنسان بنفسه، ولو قال المقاول أو المالك: أنا راضٍ، فالشريعة لا ترضى؛ لأن الرضا الذي يأتي على خلاف الشرع كبيع المخاطر

باب بيع الأصول والثمار [2]

شرح زاد المستقنع - باب بيع الأصول والثمار [2] من الأحكام المتعلقة بباب بيع الأصول والثمار: أنه لا يباع ثمر قبل بدو صلاحه، على تفصيل في بدو الصلاح وعلاماته واختلافه باختلاف أنواع الثمار والزروع، وإن باع قبل بدو الصلاح فلابد من شرط القطع، على تفصيل في اختلاف أنواع الثمار والزروع وما يجز منها وما يلقط.

بيع الثمار والزروع

بيع الثمار والزروع بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

اشتراط بدو الصلاح في بيع الثمار وعلة ذلك

اشتراط بدو الصلاح في بيع الثمار وعلة ذلك فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يباع ثمر قبل بدو صلاحه]: أي: ولا يجوز أن يباع ثمر قبل بدو صلاحه، والدليل على هذا ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمشتري)، أي: نهى البائع أن يبذل الثمرة على هذا الوجه، ونهى المشتري أن يدفع الثمن في هذا النوع من الثمار. وثبت في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى تزهي، قالوا: يا رسول الله! وما تزهي؟ قال: تحمارُّ أو تصفارُّ)، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه في السنن أن الناس كانوا يتبايعون الثمار، ثم إذا حضر تقاضيهم قال المشتري: أصاب الثمارَ الدمانُ -وهو نوع من الأمراض التي تصيب الثمرة فتتلفها- والدمان مثل ما يصيب البلحة حين يأتيها شيء مثل الحمار، أشبه بلون الدم إلى اللون البني، فتصبح يابسة لا طعم لها، وربما أفسد الثمرة بالكلية، فيقول المشتري: أصاب الثمرة الدمانُ، أصاب الثمرةَ القشامُ، لأمراض وعاهات يذكرونها، فلما كثرت خصوماتهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها.

علامات بدو الصلاح في النخل

علامات بدو الصلاح في النخل علمنا الحكم وعلمنا الدليل فنحتاج إلى شرح هذه المسألة، فنقول وبالله التوفيق: النخلة كما ذكرنا تُطلع، وإذا أطلعت وتشققت وأبّرها الفلاح، تبقى ما لا يقل عن شهرين، فأول ما يخرج الكوز فيه الثمرة، وتنظر إلى العرجون الذي تراه حاملاً للثمرة بعد استوائها ونضجها، وإذا أخرجها الفلاح وغبرها، فقبل ما يخرجها تنظر إليها وإذا بها حبات مرتبة منسقة بنظام عجيب بديع غريب، وتتعجب من بديع صنع الله عز وجل، فإذا حضر موسم التأبير والتغبير فاذهب إلى المزرعة وانظر؛ لأن هذا مما يزيد العبد إيماناً بالله جل جلاله، وتحار العقول في بديع صنعه، قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ طِينٍ} [السجدة:7]، حتى تحس بمعاني الآيات التي في كتاب الله جل جلاله، تنظر إليها وإذا بها في ذلك الكوز، وتنظر إلى الكوز نفسه فترى مادته الخشبية العجيبة في سماكتها وثخنها من الخارج، ولطفها ونعومتها من الداخل، وكيف أنه يحفظ الثمرة، وإذا بالثمرة تخرج بيضاء ناصع لونها نقية ليس فيها أي شائبة، أو أي خلل، أو أي ارتباك، بل متناسقة مرتبة منظمةٌ، الثمرة بجوار الثمرة بطريقة عجيبة بديعة، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء! سبحانه لا إله إلا هو! ووالله إن هذا يزيد من إيمان الإنسان، وينبغي لطلاب العلم أن ينظروا؛ لأن الله تعالى يقول: {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام:99] فالله تعالى ندبنا إلى هذا. فإذا نظرت إلى ذلك وجدته بهذه الطريقة، فيأتي الفلاح فيزيلها عن بعضها؛ لأنها مرتبة متناسقة، ويبعدها عن بعضها حتى يدخل الغبار فيما بينها، ويدخل لقاح الذكر فيما بينها، ثم يزيل هذا الوعاء، وتبقى مفتحة، وتبقى على مر الأيام بحساب دقيق عجيب غريب لا يمكن أن يتقدم أو يتأخر، فإذا به مدة زمنية معينة يكتمل كبر هذه الثمرة، ونضجها واستواؤها، لا يسبق زمانه ولا يتعداه أبداً. ومن أغرب ما يكون أن يكون لها موسم معين، يكتمل فيه جرمها وحجمها، وبعض النخل يكون طويلاً كالعنبرة -نوع من أنواع التمر طويل- وبعضها صغير الحجم كالعجوة، خاصة المسماة العجوة الثانية، وهي التي تنطبق عليها السنة، وهي الصغيرة، وهناك عجوة طويلة، وهي عجوة مستحدثة وقعت شبيهة بالعجوة، لكن العجوة التي ينطبق عليها السنة أكثر هي العجوة الصغيرة. فالشاهد أنك تجد هذه صغيرة الحجم، وتلك طويلة الحجم، ثم تجد الوسط بينهما، كالصفاوي، ثم تجد هذا حلواً شديد الحلاوة، بحيث إنك إذا أكلته لا تستطيع أن تتمالك نفسك من قوة الحلاوة، وكذلك العكس، فتجد منها ما عذوبته في حموضته، شيء من الحموضة فيه، وتجد ما هو وسط بين الاثنين. فهذا الاكتمال إذا مرت الأيام تبدأ هذه الثمرة تكبر شيئاً فشيئاً، وإذا رأيت الحبوب تجدها بقدر حبة الذرة على أطراف الشماريخ، وتمر الفترة الزمانية فتبدأ تكبر شيئاً فشيئاً، حتى يتناهى كبرها في الزمان المعين، فلا تتقدم ولا تتأخر، وفي مثل ذلك يقول تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس:40]، وكل شيء مقدر، والله تعالى قدر له لا يزيد ولا ينقص، فإذا جاء وقت اكتمال جرمه -وهذا أول شيء- فبعد أن يكتمل الجذر يأتي اللون، فيضربها الحمار ويضربها الصفار، فتنظر إليها في الأول وإذا بها خضراء في حالة الخضرة، وهذا يسمى في عرف الناس الصربان، أي: وهي في الخضار قبل أن يضربها اللون، فهذا الأخضر الغالب في الثمار لا يؤكل؛ لأنك إذا أكلته وهو في خضرته، كأن سقماً يضر الإنسان، ويعطى علفاً للدواب، ولكن مع كونه هكذا في الغالب فقد جعل الله تعالى منه شاباً، فمنه الأخضر الذي إذا جنيته أخضر يكون من ألذ ما يكون، وهو الذي يكون في صنف الحلوة المشهورة أخضرها عذب ويؤكل، وله نكهة ولذة كما تجد اللذة فيها وهي بسرٌ أو ربط أو تمر؛ لكي يختلف الشيء فيدل على أن الله سبحانه وتعالى خالقها، كما قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات:49] فلو الأخضر لا يؤكل لكن الله تعالى جعل بعض الأخضر يؤكل، حتى ينبه على أن الله تعالى هو الذي جعله لا يؤكل؛ وقادر أن يجعله يؤكل. فالشاهد: أن هذا الأخضر لا يؤكل، وليس بزمان يصلح فيه الأكل، ففي هذه المرحلة تكون مرحلة قبل بدو الصلاح، فإذا صار أخضر ضربه اللون، وضربة اللون تكون عند بداية الصلاح، فإذا ضربه اللون الحمار أو الصفار فإن الغالب أن يأمن العاهة بقدرة الله عز وجل ويسلم، وأكثر الخطر يقع ما بين التأبير والاحمرار والاصفرار، أما إذا احْمَرَّ أو اصْفَرَّ فالغالب أن يسلم ويحفظ، إلا أن تأتيه آفة سماوية كإعصار، أو يأتيه سيل. إلخ. فالمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وهذا يشمل مرحلة الطلع، ومرحلة التأبير، ومرحلة ما قبل الإزهاء، ولذلك لما سئل صلى الله عليه وسلم وما تزهي؟ قال: (تحمار أو تصفار)، فجعل بدوَّ الصلاح بالاحمرار، أو الاصفرار. ومن هنا أخذ العلماء رحمهم الله تعالى أن بداية الجواز لبيع الثمرة بعد بدو الصلاح بالاحمرار أو الاصفرار. هذا بالنسبة للنخلة تحمر أو تصفر، فإذا احمرت أو اصفرت أمنت العاهة غالباً، ولذلك قال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو -يعني يظهر، من بدا الشيء: إذا ظهر- يبدو صلاحها، نهى البائع والمشتري.

علامات بدو الصلاح غير الحمرة والصفرة

علامات بدو الصلاح غير الحمرة والصفرة قد يقال: فإذا كان بدو الصلاح باللون، ففي بعض الأحيان تكون النخلة خضراء، كالخضري الآن، فالخضري لا يحمر ولا يصفر؟ قلنا: اللون علامة بدو الصلاح الأولى، وقد أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: (حتى تزهي؟ قالوا: يا رسول الله! وما تزهي؟ قال: تحمار أو تصفار)، فإذا كان لونها واحداً قبل بدو الصلاح وبعد بدو الصلاح كالخضري، وهو نوع من التمر ونوع من النخل أخضرُ لا يحمار ولا يصفار، فمتى يحكم ببدو صلاحه؟ A يحكم ببدو صلاحه بطيب أكله، فإذا أصبح حلواً وطاب أكله، فحينئذ يكون قد بدا صلاحه، أما قبل الإزهاء فلا يمكن أن يكون حلوا، وفي بعض الأحيان يكون الفرق يوماً واحداً، بالأمس تمر على النخل فلا تجد فيها حبة صفراء، وتصبح في اليوم الثاني وإذا بها قد اصفرت أو احمرت، قال تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] سبحانه لا إله إلا هو! وفي بعض الأحيان عندنا في المدينة إذا طلع سهيل تكون الثمرة موجودةً ويكون البلح موجوداً، فتأكل البلح بالأمس له طعم، وإذا طلع النجم أكلتها في اليوم الثاني كأنها لم تكن مرّةً، وهذا شيء جربته بنفسي؛ لأن الله تعالى قدر كل شيء بوقته وزمانه. فالشاهد أنه ربما يكون الفرق يوماً واحداً في بدو الصلاح، فما كان بلونه فبلونه، وما لم يكن باللون يكون بالطعم، والدليل على ذلك الحديث أيضاً، وهو صحيح وثابت أنه نهى عن بيع الثمرة حتى تؤكل، فقوله: (حتى تؤكل)، وفي رواية: (حتى تُطعم)، وذلك بأن يكون طعمها صالحاً للأكل، وبناء على ذلك جاءت العلامة الثانية: أن يكون بدو الصلاح بالطعم. فهناك علامة بالطعم، وهناك علامة باللون، وهناك علامة ثالثة في النخل بالزمان، وهي طلوع الثريا؛ لحديث أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حتى يطلع النجم، وتؤمن العاهة)، أي: أن الله تعالى جعل طلوع النجم بداية لموسم صلاح الثمار، وهذا -كما ذكر بعض العلماء رحمه الله تعالى- من الاهتداء بالنجم الذي ليس بمحرم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]، والمراد بطلوع النجم: طلوع الثريا، وهذا في بعض الأماكن مثل المدينة والحجاز، فإذا طلعت الثريا، يبدأ الصلاح، وفي المدينة غالباً إذا طلعت الجوزاء فإنه يبدو الصلاح، ويبدأ الإزهاء في النخل فيحمر ويصفر، وهذا كما ذكرنا علامة زمان، فسبحان الله الذي بيده ملكوت كل شيء!

استباق العلامات وما الذي يعتبر به منها

استباق العلامات وما الذي يعتبر به منها إذا علمنا أن عندنا علامة باللون، وعلامة بالطعم، وعلامة بالزمان، فبالنسبة للطعم واللون والزمان فلا إشكال إذا اتفق الكل، بمعنى طلع النجم وجاء الزمان وبدا الصلاح فأزهت النخلة فاحمرت واصفرت، أو طاب طعم ما كان أخضر منها، لكن الإشكال لو سبقت علامة الزمان الاحمرار والاصفرار، أو سبقت علامةُ الاحمرار والاصفرار طلوع النجم، فهل العبرة بالزمان الذي وضعه الله تعالى سنة كونية؛ للسلامة من العاهة في الغالب؟ أم العبرة بالحال والصورة؟ قال بعض العلماء: العبرة بأي واحدة منهما؛ لأن السنة دلت على هذا كما دلت على هذا، فأيُّ العلامتين ظهرت أو سبقت فالعبرة بها، والغالب أنه لا يسبق إلا باليوم أو اليومين والشيء اليسير، وهذا بقول أهل الخبرة: إنه لا يسبق إلا بالشيء اليسير. فنخرج من هذا بالخلاصة: أن بيع الثمر إذا بدا صلاحه في النخل، سواء كان باللون أم بالطعم، أم بالزمان، فإنه يحكم بجواز بيعه، سواء اتفقت هذه العلامات أم سبق بعضها، فإنه يعتبر موجباً للحكم بالجواز. هذا بالنسبة للنخل، ويبقى غير النخل، وفي الحقيقة من المستحب والأفضل لطالب العلم دائماً أن يكون على إلمام بمثل هذه الأشياء إذا كانت المسألة تتصل بالزروع والثمار؛ لأنك تُسأل وتُستَفَتى، وقد تكون في المدينة لا ترى شيئاً من هذا، لكن افرض أنك يوماً سافرت إلى قرية، فجاءك الفلاحون يسألونك: ما حكم الشرع في بيع النخيل والزروع والثمار؟ فينبغي لطالب العلم أن يكون عنده إلمام بمثل هذه الأشياء، فإذا جاء فصل التأبير ذهب ونظر وعرف التأبير، وكان الشيخ ابن إبراهيم رحمه الله تعالى برحمته الواسعة يخرج مع طلابه، لكي يمتثل أمر الله عز وجل بقوله: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17] وكان رحمه الله تعالى يمسك بالبعير، ويجسه رحمه الله تعالى برحمته الواسعة، فيُعَوّد الإنسان نفسه على أنه يعرف الأشياء على حقيقتها، فإن كانت المسألة متصلة بالزروع والثمار سأل أهل الخبرة بالزروع والثمار. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، إذا ذكر المسألة أسهب فيها، كأنه يحسن هذا الفن والعلم، وقد ذكر مسألة الأهلة، فجاء يتكلم على منازل الهلال واختلاف المطالع حتى تكاد تقول: إنه فلكي، وفعلاً هو قد درس علم الفلك؛ لأنه لا يمكن أن يحكم بهذه الأشياء من كون المطالع تتفق أو تختلف، إلا إذا كان متقناً لعلمها، فإتقان العلوم وضبطها مهم، وعليه أن يرجع إلى أهل الخبرة وأهل النظر، ليصبح طالب العلم على بصيرة من أمره وعلى علم، حتى يمكنه ذلك من الترجيح في المسائل، فهذا أمر مهم جداً.

علامات بدو الصلاح في العنب وغيره

علامات بدو الصلاح في العنب وغيره إذا عرفنا المسألة بالنسبة للنخل، فتنتقل إلى العنب، فالعنب أول ما يخرج إذا خرج في عناقيده يكون صغير الحجم، وهذا الحجم الصغير لو أخذت منه حبة تكاد تكتوي من حموضتها، ثم يستتم يكبر شيئاً فشيئاً، حتى يبلغ قدره الذي قدره الله تعالى له، فيبقى على خضرته الغامقة، وإذا أكلته أكلته حامضاً، فإذا جاء وقت صلاحه تفتحت خضرته، وضربه الماء فإذا بلونه اليوم ليس كلونه بالأمس، وإذا بطعمه الساعة ليس كطعمه قبل أن يأذن الله تعالى بحلاوته، فيتموه، وهذا التموه هو بداية الصلاح. وإذاً يكون صلاح العنب بالطعم، وفي حديث عند أحمد رحمه الله تعالى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسودّ)، وهذا في نوع خاص من العنب، يكون باللون، لكن بالنسبة لضابطه يكون بالطعم؛ لأنه أخضر، فينظر الطعم بالنسبة للعنب إلا في بعض أنواعه، كالأحمر الذي يكون غامقاً؛ فإن بداية صلاحه تكون بالحمرة الغامقة. ومما يبدو صلاحه بالطعم -أن يصبح حلواً بعد مرارته ويكون سكرياً- قصب السكر، فقصب السكر إذا أُكل قبل بدو صلاحه لا يكون له طعم، ولا يوجد له طعم العذوبة السكرية الموجودة فيه، فإذ بدا صلاحه كان طعمه مستعذباً، فقالوا: بدو صلاحه أن يحلو بعد مرارته. وفي بعض الأحيان يكون بدو الصلاح بلينه بعد يبسه، ومن أمثلته التين، فإن التين يبدأ يابساً، وتكون حياته صلبة شديدة، ثم بعد ذلك يبدو صلاحها فتلين شيئاً فشيئاً، حتى البطيخ، إذا كانت صلبة شديدة فاتَّقها، لكن إذا كانت رخوة فمعنى ذلك أنها قد بدا صلاحها، ولذلك تجدهم يضربون عليها حتى يستكشفون ما فيها، فقالوا: كالتين والبطيخ، يلين بعد شدته. وهناك ما هو عكس -وانظر إلى قدرة الله تعالى- فهناك ما يطيب بشدته بعد لينه، وهي العلامة الرابعة، مثل الحبوب، في السنابل، كالبر والشعير، فإنه أول ما يبدأ يكون ليناً، ولو أخذتها وعصرتها لخرج مادته، ثم تبدأ تشتدّ شيئا فشيئاً حتى تيبس، كما في الحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتدّ)، فهذا الاشتداد، قالوا: اشتداده بعد لينه عكس الأول. وهناك ما يبدو صلاحه بانتهائه في الكبر، أو الطول، كالقثاء (الخيار) وكالبطيخ والخربز ونحوه، فإنه لا يمكن أبداً أن يباع وهو صغير، فهذا يتعاظم حتى يبلغ غاية عظمه، فمنه ما يكون بالطول مثل القثاء، ومنه ما يكون بالحجم كالدباء، فالدباء تكون بكبر الحجم وهو الذي يسمى بالقرع. كذلك أيضاً يكون من بدو الصلاح أن يتفتح عن أكمامه، كالورد، فالورد إذا تفتح من كمه بدا صلاحه، لكن قبل أن يتفتح وهو مصكوك كثيراً ما تهجم عليه الحشرات، أو تأتيه الآفات ولا يتفتح، ولا يغلب على الظن سلامته إذا لم يتفتح، إنما يغلب على الظن سلامته إذا بدأ يتفتح، فهذا يكون بتفتحه من أكمامه. فهذه من أشهر علامات بدو الصلاح. قال رحمه الله تعالى: [ولا زرع قبل اشتداد حبه]: أي: ولا يجوز بيع الزرع قبل اشتداد حبه، كالشعير ونحوه؛ لحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتد). وكذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الحب حتى يبيض، وإذا اشتدّ يبدأ ييبس غلافه الخارجي، وهذا هو البياض، أي: يشتدّ ويشتدّ حتى يتساقط ما عليه ويكتمل استواؤه.

البيع قبل بدو الصلاح

البيع قبل بدو الصلاح

بيع الثمر وما يجز ويلقط من الزرع

بيع الثمر وما يجز ويلقط من الزرع قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا رطبة وبقل ولا قثاء ونحوه كباذنجان، دون الأصل إلا بشرط القطع في الحال، أو جزة جزة، أو لقطة لقطة]: ذكرنا أن السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على تحريم بيع الثمرة قبل بدو الصلاح، ويشهد لذلك حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، نهى البائع والمشتري. وذكرنا حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أيضاً بمعناه. ومعناه أن الشريعة لا تجيز بيع الثمار، ولا بيع محاصيل المزروعات إذا كان بيعها على وجه فيه غرر وتغرير ومخاطرة على المشتري. وبناء عليه قلنا: لا بد من بدو الصلاح في الثمار، سواء أكانت من النخيل أم كانت من غيره من المزروعات، وبينا هذا كله. لكن السؤال يتعلق ببعض المزروعات التي تجز محاصيلها، وبعضها تلتقط، كالرطبة، فإن أصلها ثابت، ويجز ظاهرها، فتجز الجزة، ثم تنبت مرة ثانية، ثم تجز، وهكذا بعض أنوع الجزر الذي يؤخذ ورقه علفاً للدواب، يجز ظاهره ويبقى أصله، وكذلك أيضاً البرسيم يجز ظاهره ويبقى أصله في الأرض، فإذا باع رجل برسيماً، كأن يأتي رجل يريد حوض برسيم من صاحب مزرعة، فيقول له: بعني هذا الحوض من البرسيم، فقال له: أبيعك بمائة، قال: قبلت، فإنه في هذه الحالة قد اشترى البرسيم بالجزة الظاهرة، فلا يجوز أن يشتري البرسيم بأصله، وذلك لأنه لا يعلم، ولا ندري كم جزة ستكون فيه، ولا ندري كم سيكون بقاؤه في الأرض، فبعض البرسيم قد يبقى سنة، وبعضه قد يبقى ثلاث سنوات، وقد يبقى إلى فوق خمس سنوات، كما في البرسيم الحجازي، فإنه يجلس إلى أكثر من خمس سنوات، وربما إلى عشر سنوات، فلو أنه باعه البرسيم الظاهر شيئاً موجوداً، لأنه يكون في الظاهر في شيء موجود، لكن بالنسبة لما هو باطن في السنوات والشهور والأيام الآتية فإنه مجهول كبيع الثمرة في النخل سنين وأعواماً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه نهى عن بيع السنين والمعاومة، وبيع السنين والمعاومة كما فسره العلماء رحمهم الله تعالى: هو بيع الثمرة -أعني ثمرة النخل- سنوات، فيقول له: أشتري منك محصول مزرعتك من التمور ثلاث سنوات، فلا يجوز هذا؛ لأنه وإن كان في السنة الأولى قد باع ثمرة قد بدا صلاحها، ففي السنة الثانية مجهولة وفي السنة الثالثة مجهولة، فكذلك لو باعه البرسيم الذي يجز على مراتب، فلو كانت الجزة الأولى ظاهرة فإن ما سيأتي مجهول. وعلى هذا فإنه لا يباع من الشيء الذي يجز مرات مع بقاء أصله إلا الجزة الظاهرة، فتقول له: أبيعك هذا الحوض الموجود الآن بمائة، أو أبيعك هذه الخمسة الأحواض بخمسمائة، فاشتراها بخمسمائة ثم قام بجزها علفاً لدوابه، فلا حرج وهو جائز، لكن لو قال له: أشتري منك هذا البرسيم مدة بقائه في الحوض، لم يجز؛ لأنه بيع مجهول، ويغرر به، فربما ظن أن هذا البرسيم يبقى في الحوض سنة، فإذا به يبقى أقل، وربما ظن البائع أنه سيبقى سنة ثم سيبيع حوضاً ثانياً، فإذا به يبقى خمس سنوات، فهو من بيع المخاطرة، ثم هو بيع للمجهول، لا يدرى أيوجد أو لا يوجد، وهل يخرج جيداً أو يخرج رديئاً. والخلاصة: أن المصنف هنا يريد أن يطبق القاعدة في بيع الأصول والثمار، وهي أنه لا يجوز بيع الغرر. وبيع الغرر في بيع الأصول والثمار. فالبرسيم له أصل، وله ثمرة هي نتاجه الظاهر، والجزة الظاهرة، وكذلك الرطبة لها أصل، وهو الذي يسمى بالجزر، وهو غير الجزر المعروف الذي يعصر، وإنما الجزر السميك المتين هذا الذي يباع وله ورق يزحف على الأرض يقطع علفاً للدواب، هذا النوع من الجزر، وهذا النوع من العلف الذي هو البرسيم لا يباع إلا جزة ظاهرة، ولا يباع أصله مع ثمرته؛ لأننا لا ندري كم ينتج الأصل. لكن لو باع المزرعة وكان فيها صح تبعاً، ولم يصح أصلاً، وقد بينا القاعدة: أنه يجوز في التبع ما لا يجوز في الأصل، وبينا ذلك من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما. قوله رحمه الله تعالى: [ولا رطبة]. أي: ولا يجوز بيع الرطبة، وفي حكمها كل شيء مما يكون مستتر الأصل، ظاهر الثمرة فلا يباع إلا الثمرة، ولا يباع النتاج إلا على الظاهر، أن يأخذ ظاهره جزة جزة، أو لقطة لقطة، كما سيأتي في لفه ونشره رحمه الله. قوله: [وبقل]: البقول كما لا يخفى تستتر في الأرض، ولما قلنا: أنه لا يجوز بيع الظاهر من البرسيم إلا جزة جزة، لا يجوز أيضاً بيع البقول إلا لقطة لقطة، ومن هنا فلا يجوز بيع الفجل، ولا يجوز أيضاً بيع الكرّاث، إلا إذا كان قد استخرج الفجل من الأرض، وهكذا بالنسبة للكرّاث، تكون الجزة الظاهرة هي التي تباع؛ لأن الكرّاث كالبرسيم، إذا استتم طوله جزه، ثم ينبت مرة ثانية، ثم يجز فينبت مرة ثالثة، فلا يبيع أصل الكرّاث وفرعه، وإنما يبيع الجزة الظاهرة، وهذا على القاعدة التي ذكرناها: أنه لا يصح البيع إلا لشيء معلوم لا يغرر فيه بالمشتري، وإنما يكون المشتري على علم وبينة، حتى يعلم أن المال الذي يدفعه هل يُستحق لهذا الشيء، ويعلم ما الذي له وما الذي عليه، فلا يجوز إلا لقطة لقطة بالنسبة لما يلتقط، وجزة جزة بالنسبة لما يجز، وهذا كله دفعاً للضرر الذي اشتمل عليه هذا النوع من بيوع الغرر. قوله: [ولا قثاء]: القثاء معروفة، والقثاء إذا أثمرت يكون بعض الحبوب مستتم الخلقة، وبعضها صغيراً، وبعضها متوسطاً، فمنها ما استتم خلقه، ومنها ما لم يستتم، وبناء على ذلك يقولون: لا يبيع إلا الذي استتم خلقه، ومن هنا كما قلنا: لا يجوز بيع المجزوز إلا جزة ظاهرة، جزة جزة، كذلك الملتقط لا يجوز بيعه إلا ما كان متأهلاً صالحاً للالتقاط، أما الذي لم يصلح للالتقاط، فإن بيعه كبيع الحب قبل اشتداده، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، والقاعدة واحدة، والشريعة جاءت بقاعدة، وهي أن بدو الصلاح تؤمن معه العاهة غالباً. فإذاًَ بعد أن قررت القاعدة فوردت في النخل، ووردت في الحبوب، فأصبح النخل أصلاً لما ظهر، والحبوب أصلاً لما يحصد، هذا أصل، وهذا أصل، والمعنى في كل منهما أن لا يغرر بالمشتري، ومن هنا كانت الشريعة الإسلامية حافظة لحق البائع، حافظة لحق المشتري، فكل يشتري الشيء بيناً واضحاً دون أن يغرر البائع بأخيه المسلم، ودون أن يشتري المسلم شيئاً يجهله، فيغرر بماله ويخاطر بحقه. قوله: [ونحوه كباذنجان]: ذلك؛ لأن فيه الصغير والكبير، وما بدا صلاحه وما لم يبدُ، فلو قال له: أبيعك محصول الباذنجان هذا، فإنه لا يجوز. وقال بعض العلماء في القثاء والباذنجان، كما هو مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى وطائفة: يجوز بيع كله إذا بدا الصلاح في بعضه، قياساً على النخيل، ولا شك أن الغرر في الباذنجان والقثاء أعظم من الغرر في النخيل، فإن النخيل، إذا بدا الصلاح في بعضها فغالباً تؤمن العاهة فيها كلها، ولكن المحاصيل تختلف عن ذلك، وهذا معلوم بالتجربة، ورجح بعض العلماء قول من قال بالجواز، وقال: إن الذي هو صغير، أو لم يظهر في حكم الظاهر، ولكن هذا ضعيف، خاصة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علل النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بخوف الآفة والعاهة، وهذا المعنى موجود في المحاصيل التي لم يستتم خلقها.

البيع قبل بدو الصلاح بشرط القطع

البيع قبل بدو الصلاح بشرط القطع قوله: [دون الأصل إلا بشرط القطع في الحال]: بعد أن ذكر لنا الرطبة، وذكر لنا البقلة، وقال: لا يجوز بيع ما لم يبدُ صلاحه، وكذلك الباذنجان وما في حكمه، ذكر أن هذه الأشياء كلها، لا يجوز بيعها إلا بشرط القطع في الحال. وهنا مسائل سندخل فيها تتعلق ببيع الشيء الذي لم يبدُ صلاحه. قد قررنا أن الشيء الذي لم يبد صلاحه من التمور ومن المزروعات ومن الحبوب، لا يجوز بيعه، والشريعة دالة على هذا، والنصوص واضحة في هذا الحكم. لكن بيع الشيء الذي لم يبد صلاحه، له حالات: الحالة الأولى: أن يشتري ثمرة لم يبدُ صلاحها بشرط أن يقطعها في الحال، كأن يعطيها علفاً للدواب. الحالة الثانية: أن يشتريها من أجل أن يستبقيها لكي تصلح. فإن اشترى ثمرة بستان، لم يبدُ صلاحها، واشترط أن يقطعها فوراً، أو اشترط البائع على المشتري أن يجز ويقطع العراجين التي هي للثمرة فوراً فالبيع صحيح في قول جماهير العلماء، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة (الأئمة الأربعة)، وهو مذهب جماهير السلف والخلف: أن من اشترى ثمرة بستان قبل بدو الصلاح بشرط أن يقطعها فوراً، صح البيع؛ لأن السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن بيع الثمرة قبل بدو الصلاح بينت العلة، وهي أنه لا يؤمن على الثمرة أن تفسد، فإذا كان يريدها في الحال، ويقطعها في الحال علفاً للدواب، فقد زالت العلة. وإليك توضيح هذه المسألة: نحن ذكرنا أن النخل يطلع وبعد الطلع يتشقق ثم يؤبر، ثم يجلس فترة ما بين التأبير وما بين بدو الصلاح، فهذه الفترة التي ما بين التأبير وبدو الصلاح، هل يجوز فيها بيع الثمرة أو لا؟ الواقع أن هذه الفترة إذا وقع فيها البيع لا يخلو من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يبيع بشرط القطع. الحالة الثانية: أن يبيعها بشرط التبقية. الحالة الثالثة: أن يبيع بيعاً مطلقاً، أي: خالياً من شرط القطع والتبقية. فإذا بدت الثمرة فأبرها صاحبها، ولم يبدُ صلاحها، ثم باعها قبل بدو الصلاح، فإما أن يبيع بشرط القطع أو يبيع بشرط التبقية، أو يبيع بيعاً مطلقاً. أما الحالة الأولى: فهي أن يبيع بشرط القطع، كأن يكون عندك بستان فيه مائة نخلة أطلعت، ولكن لم يبدُ الصلاح في الثمرة، فالأصل الشرعي يقتضي عدم جواز البيع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة أنه نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، هذا الأصل الشرعي، لكن لو جاءك رجل، وقال لك: هذه الثمرة التي في البستان ثمرة مائة نخلة أريد أن أشتريها وأقطعها فوراً علفاً للدواب، وفي بعض الأحيان إذا أطلع النخل لأول مرة فبعض أهل الخبرة يقطعون الثمر، ويقولون: إن هذا يفيد النخلة كثيراً ويقوي النخلة، وفي بعض الأحيان حتى لو أطلعت وكان طلعها كثيراً، وفيها عراجين كثيرة، يقطعون بعض العراجين، ولو كانت في السنة الثانية أو الثالثة أو بعد سنوات، فيقطعون بعض العراجين؛ لأنه إذا قطع بعض العراجين قوي المحصول في الآخر، وبقاؤه قد يؤثر على النخلة؛ لأن كثرة المحاصيل تؤثر عليها، فربما أجهلت في السنة الثانية، أي: لا تطلع، فيقطعون المحصول عنها، حتى يخف العبء على النخلة الأم؛ لأنه مثل الحمل في الآدمية، فيخففون عنها، فهذا العرجون إذا قطعت ثمرته قبل بدو الصلاح هل يجوز بيعه أو لا؟ نقول: يحرم بيعه على النخلة بشرط التبقية، أو بيعاً مطلقاً، أما لو قطعه وباعه بعد قطعه، أو اشتراه رجل واشترط أن يقطعه، فإنه يصح البيع. والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، قال عليه الصلاة والسلام: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك، فبم تستحل أكل ماله). وتأمل الحديث فإنه نهى عن بيع الثمرة قبل بدو الصلاح، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين العلة، قال: (أرأيت أي: أخبرني، لو منع الله الثمرة عن أخيك)، يعني: لو بعت بستانك لرجل ولم يبدُ الصلاح -وقبل بدو الصلاح لا تؤمن الآفة- كما ذكرنا فقال صلى الله عليه وسلم: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك)، أي: جاءت الآفة فعلاً، وتلفت الثمرة، فبم تستحل أكل ماله، فالثمرة تلفت؛ لأنه قبل بدو الصلاح لا يؤمن التلف، فإذا تلفت الثمرة صار المال لقاء لا شيء، وأصبح حينئذ البائع يأخذ مالاً بدون ثمرة في مقابله، فقال صلى الله عليه وسلم: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك فبم تستحل أكل ماله)، فأخذ الجمهور من هذا الحديث دليلاً على أن العلة في تحريم بيع الثمرة قبل بدو صلاحها هو خوف فسادها، فإن كان يريدها حاضرة ناضرة بحالها هذا، لكي ينتفع بها علفاً للدواب، لا للآدميين الذين بسببهم منع البيع خوفاً من فسادها قبل أن ينتفعوا بها، جاز البيع، وهذا لا إشكال فيه؛ لأن السنة واضحة الدلالة عليه، وهو مذهب صحيح؛ لأن القاعدة أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، والعلة هنا جاءت منصوصاً عليها في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذا ثبت هذا فمن باع ثمرة من بستان قبل بدو صلاحها، فإنه يجوز إذا كان بشرط القطع، أو قطعها وعرضها للبيع فإنه جائز؛ لأن العلة في هذا التي من أجلها حرم البيع قبل بدو الصلاح غير موجودة، والأصل حل البيع، وهذا يريدها علفاً للدواب، ولا يريدها للآدميين. الحالة الثانية: أن يبيعها بشرط التبقية، كأن يكون عندك مائة نخلة ولم يبدُ صلاحها، فأطلعت وأبرتها، وبعد التأبير وقبل بدو الصلاح جاءك رجل، وقال: أريد أن أشتري منك صيف البستان في هذه السنة، قلت له: صيف هذا البستان في هذه السنة بمائة ألف، قال: إذاً أشترط عليك أن تبقيها لي حتى يبدو صلاحها، فهذا يسميه العلماء: شرط التبقية، عكس الأول، إذ الأول يشترط القطع والثاني يشترط التبقية، والتبقية تفعلة من البقاء، أي: يقول المشتري للبائع: أنا أشتريها، والآن لم يبدُ صلاحها، ولكن شرطي عليك أن تبقيها لي حتى آكلها بلحاً، أو آكلها رطباً، وآكلها تمراً، فهذا يسمونه شرط التبقية. ففي الحالة الأولى حالة اشتراط القطع فإن البائع هو الذي يشترط غالباً؛ لأن من مصلحته أن تقطع الثمرة حتى يرتفق النخل وينتفع بذلك. وفي الحالة الثانية حالة اشتراط التبقية فإن الغالب أن يشترط المشتري. ففي الحالة الثانية إذا اشترى قبل بدو صلاحها، واشترط في العقد أن تبقى إلى بدو الصلاح، فالإجماع على تحريم هذا البيع؛ لمخالفته لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي حرم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها)، فإذا باعها قبل بدو صلاحها، واشترط بقاءها فالعلة موجودة بخلاف الحالة الأولى التي فيها العلة مفقودة. لكن هناك وجه عند المالكية خرجه اللخمي من أصحاب الإمام مالك رحمه الله تعالى، يقتضي الجواز، ولكنه شاذ وضعيف. وشذوذه لمخالفته الإجماع، ومخالفته لنصِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً في الحالة الأولى إذا باع الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع، فالصحيح قول الجماهير ومنهم الأئمة الأربعة بصحة البيع، لظاهر السنة، وأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، والحالة الثانية: أن يبيع بشرط التبقية، فالإجماع على عدم الجواز، وهناك وجه شاذ عند المالكية يقتضي الجواز، وهو باطل لمخالفته السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحالة الثالثة: أن يشتري الثمرة قبل بدو صلاحها ويكون البيع مطلقاً. والبيع المطلق هنا: هو الذي لا يشترط فيه القطع ولا تشترط فيه، كأن يقول: عندي مائة نخلة، وهذه المائة نخلة لم يبدُ صلاحها، قال: أنا أشتريها منك بمائة ألف، وسكت البائع، وسكت المشتري، فلم يشترط هذا ولم يشترط هذا، هذا يسمى عند العلماء بالبيع المطلق؛ لأنه عري عن الشرط. فإذا باعه الثمرة قبل بدو صلاحها بيعاً مطلقاً، فما الحكم؟ جماهير العلماء على عدم صحة البيع؛ لأن السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم حرمت بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وقال الحنفية: يصح البيع، ولكن يجب على المشتري أن يقطع، فقالوا: نصحح البيع، ونلزم المشتري بالقطع فوراً، وهذا ضعيف؛ لأنه مصادم للسنة الصريحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي نهى فيها عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، ولم يفرق بين الذي فيه شرط التبقية، وبين الذي فيه شرط القطع، وبين الذي هو بيع مطلق، وجاء الاستثناء لشرط القطع بالعلة، فبقي ما عداه على الأصل الموجب للتحريم؛ لأن السنة: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها)، فجاءت السنة بالعلة وقيدت حال القطع، فبقي ما عداه على التحريم. إذاً الخلاصة: أن بيع ثمرات النخيل قبل بدو الصلاح، -وهو ما بين التأبير، وما بين بدو الصلاح الذي هو الإزهاء- له ثلاث صور: إما أن يبيعه بشرط القطع، فيصح في قول الجماهير، لظاهر حديث أنس رضي الله عنه: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك). أو يبيعه بشرط التبقية، فلا يصح بإجماع، وفيه شذوذ لا يعول عليه. أو يبيع بيعاً مطلقاً، فالجمهور على عدم الجواز لظاهر السنة، والحنفية مخالفون، والصحيح مذهب الجمهور.

تابع بيع ما يجز ويلقط

تابع بيع ما يجز ويلقط بعد هذا نرجع إلى مسألة بيع الرطبة والقثاء ونفرِّعها على بيع الثمرة، وانظر إلى دقة المصنف رحمه الله تعالى، حيث جعل بيع النخل بشرط القطع أصلاً، فألحقت به الزروع والثمار والمحاصيل التي تكون في نفس المعنى، فإذا كان الزرع مما يحصد مثل الكرّاث، أو الجُزر الذي يراد ورقه، أو البرسيم، الذي يراد علفاً، فلا يجوز بيع أصله وفرعه، لكن لو باعه بشرط القطع على الجزة الظاهرة صح له ذلك وجاز؛ لأن العلة من خوف الغرر غير موجودة، ويلحق بهذا ما يلتقط، فكما أن الذي يجز يباع فيه الجزة الظاهرة، كذلك الذي يلتقط كالقثاء والباذنجان، والقثاء يختلف؛ لأنه لا يبدو صلاحه إلا إذا تناهى في الطول، والباذنجان لا يبدو صلاحه إلا إذا تناهى في الجرم والحجم، ولذلك قد تبيع الباذنجان وهو أخضر، ثم يصير أحمر، فاللون ليس لذاته مؤثراً، ولكن المؤثر تناهي الحجم، والحجم إما في الطول كما في القثاء، وإما في العرض كما في الباذنجان، وانظر كيف اختار المصنف رحمه الله تعالى، حتى نعلم أن الفقهاء حين يأتون بالتمثيل والتقريب يراعون الأحوال المختلفة، فإن سئلت عن ثمرة طويلة كالقرع المديني تقول: تلتحق بالقثاء، فإن الفقهاء نصوا على عدم جواز بيع القثاء إلا ما تناهى كبره للَّقطة الظاهرة، فلا يباع القرع المديني إلا بعد تناهي طوله فيما تم طوله وتناهى. وأما ما كان من عرضه ممتلئاً فتقول: لا يصح بيعه إلا بعد تناهي كبره لبدو صلاحه في اللقطة الظاهرة، كالقرع غير المديني، وهو القرع الذي يكون مدوراً، فهذا يكون صلاحه بعد تناهي كبره، ويكون للقطة الظاهرة، فيبيع ما صلح للقط، وأما ما لم يصلح فإن البيع فيه بيع غرر، فينتظر إلى صلاحه. [أو جزة جزة]: ذلك كالكرّاث، وكذلك أيضاً البرسيم وأنواع العلف، والقصب. قوله: [أو لقطة لقطة]: وذلك كما ذكرنا في الأشياء التي تلتقط ويكون بعضها لم يصلح، ولم يستتم صلاحه، أو لم يتناه كبره، فإنه حينئذ يباع لَقطة لَقطة. ولاحظ عبارة المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا يباع ثمر قبل بدو صلاحه ولا زرع قبل اشتداد حبه، ولا رطبة وبقل، ولا قثاء ونحوه كباذنجان دون الأصل إلا بشرط القطع في الحال أو جزة جزة أو لقطة لقطة]. فأول شيء ذكر لنا بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وأعاد عليها قوله: [دون الأصل إلا بشرط القطع في الحال] فلا يباع ثمر قبل بدو صلاحه، وحينئذ تعيد إليها [إلا بشرط القطع]، أي: لا يباع ثمر قبل بدو صلاحه إلا بشرط القطع. ثم قال: [ولا زرع قبل اشتداد حبه ولا رطبة وبقل، ولا قثاء ونحوه كباذنجان] وأعاد عليها قوله: [أو جزة جزة أو لقطة لقطة]، فجعل القطع عائداً إلى النخل، فيقطع ما عليها من العراجين والشماريخ، والجز عائداً إلى الحب وإلى الرطبة، والحب يجز ويحصد ويقص من الأرض، سواء بالآلات أم بالوسائل الموجودة الآن، فالمهم أنه يحصد. وأيضاً كذلك الرطبة، قلنا أصلها باطن وفرعها مقصود، كالبرسيم يجز ظاهره، والكراث يجز، فلا يباع إلا جزة جزة، وبعد الجزة قال: [أو لقطة لقطة]، كقثاء وباذنجان ونحوه؛ لأنه يلتقط فأعاد اللقطة إلى الباذنجان والقثاء ونحوهما. وهذه أمور كانت من أوضح ما تكون، أي: الزروعات، وكان الناس عمال أنفسهم كما قالت عائشة رضي الله عنها: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عمال أنفسهم)، وهذه الأمور أصبحت تخفى. فيكون كلامه على هذا فيه لف ونشر، فتعيد القطع إلى النخل، والجز إلى الحب وإلى الرطبة، والالتقاط إلى القثاء والباذنجان. إذاً: هذه الأمور كلها مرتبة على حسب إيراد المصنف رحمه الله من الأنواع الأول.

باب بيع الأصول والثمار [3]

شرح زاد المستقنع - باب بيع الأصول والثمار [3] تبادل المنافع بالبيع والشراء حاجة من حاجات الناس، ولما كانت النفوس مجبولة على استيفاء حظوظها والنظر في مصالحها دون مصالح الآخرين، فإن هذا قد يؤدي إلى النزاع في البيع والشراء فيما يستحقه كل منهما بالبيع، أو وقوع الغبن على أحدهما، فاقتضت تعاليم الشريعة المحكمة أن تضع شروطاً وضوابط وموانع لما يباع، وبيان حقوق البائع والمشتري في البيع، وبيان بطلان البيع إلى غير ذلك مما يجب على المسلم علمه حال البيع، وفي هذه المادة بيان لبعض هذه التعاليم الغراء في بيع الأصول والثمار خاصة.

أحكام تتعلق بالبائع والمشتري

أحكام تتعلق بالبائع والمشتري بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلف الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [والحصاد والجذاذ واللقاط على المشتري]:

من يلزمه الحصاد والجذاذ واللقاط

من يلزمه الحصاد والجذاذ واللقاط ونبدأ بالنخيل، فإن اشترى ثمرة مائة نخلة في هذا الصيف بعد بدو الصلاح والشروط متوفرة، وبعد أن تم البيع، وحان وقت جني المحصول، قال المشتري للبائع: النخل نخلك، والثمرة اشتريتها منك، فاحصده لي، فأنت الذي تجذ النخل، وعليك الجذاذ. وكما هو معلوم النخل تارة يؤخذ بثراً، وهذا يحتاج إلى التقاط، ورطباً يحتاج إلى التقاط، وتمراً يحتاج إلى جذ، فيجذ العرجون كله ثم يحصد ما فيه، فقال: أنا اشتريت منك ثمرة بستانك فالذي عليك، أن تجذ لي النخل، وتلتقط لي الرطب، وتلتقط لي البثر، قلت له: يا أخي أنا بعتك الثمرة، والحصاد والجذاذ عليك أنت! وهذا النخل موجود فادخل وخذ ثمرتك، أما أنا فكيف أتكلف هذا؟ لأن الحصاد يكلف بعض الأحيان عشرات الألوف، خاصة إذا كان النخل كثيراً وفيه مؤنة ومشقة، وفي مثل مواسم الحصاد. فيأتي Q هل الحصاد والجذاذ على البائع، أو على المشتري؟ يقول رحمه الله تعالى: [والحصاد والجذاذ واللقاط على المشتري]، أي: أنت أيها المشتري عليك مؤونة جني الثمرة، فالثمرة ثمرتك وهو يمكنك من دخول البستان لجني المحصول، ويكون هذا بالمعروف، فإذا مكنك من ذلك فهذه ثمرتك، إن شئت تأخذها بلحاً وإن شئت تأخذها رطباً، وإن شئت تأخذها تمراً، فيخلي بينك وبين المبيع، أما أن تلزمه بالجذاذ، فهذا ليس من حقك. وقوله: [والحصاد]، الحصاد في الزروع، كحصد محصول الحب، والشعير، ونحو ذلك، فيقول البائع للمشتري: أنت الذي تحصد، فتأتي بمن يحصد لك هذا الحب الذي اشتريت مني. فتكون مؤونة الحصاد على المشتري لا على البائع. قوله: [والجذاذ]: كذلك جذ النخل، فإذا أراد أن يجذ نخله والثمرة التي اشتراها، تكون المؤونة والأجرة على المشتري لا على البائع. قوله: [واللقاط على المشتري] كذلك اللقاط، وهو الجني، مثل القثاء يلتقطها، ومثل الباذنجان والكوسة والباميا، ونحو ذلك من الأشياء التي تحتاج إلى التقاط، فإن مؤونة الالتقاط على المشتري، لا على البائع.

حالات يبطل بها البيع

حالات يبطل بها البيع قال رحمه الله تعالى: [وإن باعه مطلقاً، أو بشرط البقاء، أو اشترى تمرا ً قبل بدو صلاحه بشرط القطع، وتركه حتى بدا، أو جزة أو لقطة فنمتا، أو اشترى ما بدا صلاحه وحصل آخر واشتبها، أو عرية فأثمرت، بطل والكل للبائع] قوله: [وإن باعه مطلقاً]: تقدم أن البيع المطلق هو الذي ليس فيه شرط التبقية ولا شرط القطع، أي: يبيعه بيعاً خالياً من الشرط، وينبغي على طالب العلم أن يتنبه إلى أن سياق الكلام هنا في الثمرة التي لم يبدُ صلاحها؛ لأن الكلام متصل بقوله: [ولا يباع ثمر قبل بدو صلاحه]. فيرد Q الحكم أنه لا يجوز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، فلو حصل وباعه قبل بدو الصلاح؟ قال رحمه الله تعالى: [وإن باعه]، أي: قبل بدو الصلاح، [بيعاً مطلقاً. بطل]، فالأصل يقتضي عدم جواز البيع، خلافاً للحنفية، إذ يرون أنه لو باعه بيعاً مطلقاً فإنه يجوز، ويجب على المشتري أن يقطع فوراً. فلو باعه بيعاً مطلقاً وتم البيع بينهما مخالفا للسنة التي ذكرنا، ومضى الحال سواءٌ علم الحكم أم جُهل، ثم بعد أربعة أشهر لما بدا الصلاح سأل أهل العلم، فقالوا: هذا البيع لا يجوز، فماذا يكون حكمه؟ الثمرة الآن صالحة، فهل تكون الثمرة ملكاً للبائع، بناء على أن البيع فاسد، والأصل أنها ملك له ولم تخرج من يده؟ أم أنها ملك للمشتري بناء على أنه لم يتدارك الفساد؟ بين رحمه الله تعالى أنها ملك للبائع، وهذا هو الصحيح؛ لأن هذا البيع فاسد من أصله، فلما تبايع معه بيعاً غير شرعي، فمعناه أن الثمرة ما زالت باقية في ملك البائع، وأن المشتري لا يملك هذه الثمرة؛ لأن الإيجاب والقبول والصيغة وقعت على وجه غير معتبر، فوجودها وعدمها على حد سواء، لكن ما الحكم حينئذ؟ A يُلزم البائع برد الثمن، ويقال: هذا البيع منفسخ، ثم يقال للمشتري: الآن بدا الصلاح فإذا أردت أن تشتري فلتشتر من جديد؛ لأن البيع الأول فاسد، فإن أحببت أن تنصرف بمالك فلا إشكال، وإن أردت هذه الثمرة فادفع حقها الآن؛ لأن الإيجاب والقبول في بيعكما باطل لا قيمة له، فالثمرة ما زالت في ملك صاحبها، ولكن ما الفائدة في هذا؟ الجواب: في بعض الأحيان يبيعه الثمرة قبل بدو صلاحها، على أن السوق غالٍ، فتكون قيمتها -مثلاً- مائة ألف، ثم لما بدا الصلاح أصبح السوق كاسداً، فتنزل القيمة، فلربما اشتراها بخمسين ألفاً، فيكون أخف وأرفق بالمشتري، وربما يكون العكس؛ لأن فيها مخاطرة، فتكون القيمة أقل. فإذا بدا الصلاح قلنا: إذا أردتما أن تنشئا العقد فأنشئا من الآن، ولو أرادا أن لا ينشئا عقداً، أو قال البائع: لا أريد أن أبيع، أو رجعت عن بيعي وأريد أن آخذ الثمرة بنفسي كان له ذلك؛ لأن الثمرة ما زالت في ملكه وهو أحق بها، ويجب عليه أن يرد للمشتري ماله كاملاً. قوله: [أو بشرط البقاء]: هي الحالة الثانية، اشترى قبل بدو الصلاح، وقال له: أشترط أن تبقي لي الثمرة حتى يبدو الصلاح، فسواء علم الحكم أم جهله فالبيع فاسد، وحينئذ إذا رفع الأمر إلى القاضي فإنه يحكم بانفساخ البيع ووجوب رد المال إلى المشتري، ورد الثمرة إلى البائع. قوله: [أو اشترى ثمراً قبل بدو صلاحه بشرط القطع وتركه حتى بدا]: أي: لو جاءك رجل وأنت عندك مائة نخلة، لم يبدُ صلاح ثمرها، فقال: أشتريها منك، قلت له: أنا لا أبيعها إلا بشرط أن تقطعها، قال: قبلت، واشتراها منك بعشرة آلاف ريال على أنه يقطعها، ثم جاءته ظروف فلم يستطع القطع، أو تهرب وماطل، حتى بدا صلاح ثمرها، فما الحكم؟ الحكم حينئذ أن نقول: إن هذا العقد الذي وقع بينكما وقع بشرط القطع مصححا، وإلا الأصل عدم صحته، فلما فات الوصف الشرعي المعتبر للتصحيح فإنه يرجع إلى حكم الأصل ببطلانه، فترد له المال، ولا حق له بالمطالبة بالثمرة، وتنشئان بيعاً جديداً إذا أردت البيع. قوله: [أو جزة أو لقطة فنمتا]: أي: إذا جاء واشترى منه برسيماً وهو على طول شبر، فالبرسيم على شبر له قيمة، والبرسيم على شبرين له قيمة، ففي بعض الأحيان يأتي المشتري، وتأتيه ظروف فيقول: أريد البرسيم الآن، فتقول له: ليس عندي إلا هذا البرسيم الذي هو في نصف الاكتمال، فيقول: بكم أشتريه منك؟ فيقول البائع مثلاً: عشرة أحواض بمائة، قال: قبلت، وأعطاه المائة، ثم إذا به يماطل ويتأخر، أو جاءه ظرف، حتى أصبح البرسيم فوق ذلك بكثير، فيصبح المبيع الحاضر غير الذي أوجبا البيع عليه من قبل، وقد تكلف البائع مؤونة سقيه والقيام عليه، فحينئذ ينفسخ البيع الأول؛ لأن الجزة التي تعاقدتما عليها ليست بموجودة، ففاتت بتفويت المشتري، وحينئذ يتحمل مسئولية فوات البيع وترد له القيمة، وينُشئان بيعاً جديداً، وغالباً ما يكون البرسيم بضعفي قيمته؛ لأنه لما نما كان غير الذي اتفقا عليه. إذاً: الثمرة إذا صلحت وبدا صلاحها، فقيمتها غير قيمتها قبل بدو الصلاح، ولا شك أن المشتري إذا أراد أن يتلاعب، وفعل ذلك عن تلاعب لا شك أن هذا من خديعة المسلم، ولذلك يمثل بعض العلماء بأن الغش كما يكون من البائع للمشتري يكون كذلك من المشتري للبائع، ومن غِشِّ المشتري للبائع أن يشتري بشرط القطع، فإذا به يؤخر ويماطل حتى تكتمل الثمرة، فيأتي ويأخذها، ولا شك أن هذا إذا فعله على قصد التلاعب، فإنه معصية لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى حرّم أن يفعل المسلم بأخيه هذا، فيشتري منه الشيء بنصف قيمته على أن يأخذه فوراً، وهو يضمر ويريد منه ما هو أكمل، مما يستحق قيمة أكثر، وليس هذا من النصح للمسلمين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة)، فمما ينبغي للمسلم أن ينصح لأخيه، وهذا ليس من النصح. فقوله: [أو جزة]، أي: من كراث، أو برسيم ونحوه، [أو لقطة]، أي: من قثاء وباذنجان ونحوه، كالقرع والباميا، ونحو هذه الأشياء التي تلتقط، فاشتراها على هيئة ثم تركها حتى زادت، فالذي أوجب البيع عليه غير الذي صار إلى هذه الحالة، فوجب أن ينشأ العقد على الذي صار إليه الحال، ويلغى البيع في الأول. قوله: [أو اشترى ما بدا صلاحه وحصل آخر واشتبها]: أي: إذا اشترى ما بدا صلاحه، وحصل آخر، أي: زيادة على الذي اتفقا عليه، واختلطت الزيادة بالأصل، و [اشتبها]، فما استطاعا أن يميزا الذي اتفقا عليه من الذي لم يتفقا عليه، فحينئذ يصير المال ما بين حلال وحرام، والقاعدة أنه إذا اشتبه الحلال بالحرام، حرم الكل، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، في كلب الصيد إذا أُرسل للصيد، وأكل الكلب من الفريسة، قال صلى الله عليه وسلم: (وإن أكل فلا تأكل؛ فإني أخاف أن يكون إنما أمسك لنفسه)؛ لأنه إذا أكل من الفريسة فيحتمل أنه أمسك لك فصيده حلال، ويحتمل أنه أمسك لنفسه، فصيده حرام، فقال: (إن أكل فلا تأكل). فإذا أكل وجلس على الفريسة يأكل منها فهذا لا إشكال فيه؛ لأنه أمسك لنفسه، لكن إذا أكل منها، ثم جاءك بفضلته فحينئذ يحتمل أن يكون صاد لنفسه، ثم من باب الوفاء جاء لسيده بالباقي، أو أنه صاد لسيده، فلما ذاق حلاوة اللحم ولذة الفريسة نهش منها، كأنه يرى أن سيده لا يضربه ولا يؤذيه، فيحتمل أنه صاد لسيده فعلاً، لكن الكلب -أكرمكم الله تعالى- لا ينطق ولا يتكلم، وإنما يباح صيده إذا صاد لك، ويحرم إذا صاد لنفسه؛ لأن الله تعالى يقول: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] فدل على أنه إذا لم يمسك لك لا يجوز لك الأكل؛ لأن كلاب الصيد والجوارح، كالصقور، والبوازي، والشواهين والنسور ونحوها، يصح صيدها إذا لم تأكل، أما لو أكلت فلا، فالصقر -مثلاً- إذا أرسلته وأكل من الفريسة فحينئذ لا يؤكل منها؛ لأنه اختلط الحلال بالحرام، فهناك موجب يقتضي الحل، وهو كونك أنت الذي أرسلت، وذكرت اسم الله تعالى، وأنت الذي حددت الفريسة، وهناك موجب يقتضي الحرمة؛ لأن شرط حل صيدها أن لا يأكل، فلما أكل اشتبه أن يكون أمسك لنفسه ولم يمسك لك، فإذا اشتبه الحلال بالحرام، حرم الكل. ولذلك نقول: القاعدة أنه إذا اجتمع حاظرٌ ومبيح، قدم الحاظر على المبيح، والسبب في هذا أن الحاظر والحرام أمرك الله تعالى باجتنابه، والحلال لم يأمرك الله تعالى بأخذه، فحينئذ تعارض الأمر مع ما هو دونه، فقال العلماء: إذا تعارض الحاظر والمبيح، قدم الحاظر على المبيح. ومن هنا قالوا: إذا اشتبهت ميتة بمذكاة حرمتا، وإذا اشتبهت زوجة بأجنبية حرمتا، فلو كان هناك امرأتان متشابهتان تماماً وكانت إحداهما زوجة لإنسان، فجاء ودخل فوجد امرأتين كلتيهما شبه لزوجته، لا يدري هذه زوجته أو هذه، وقد يقع هذا في بعض الأحيان كما كان يقع في القديم في سفر القوافل، فقد كان يقع بعض اللبس، فإذا لم يتحرَّ ولم يتأكد أنها زوجته لم يجز له أن يقدم على غرة؛ لأنه ربما وطئ في حرام، والله تعالى أمره باجتناب الحرام. إذاً: اجتمع الحاظر والمبيح، قدم الحاظر على المبيح. وهنا إذا اشتبه ماله الذي اشتراه، وهو ملك للمشتري والمال الذي حدث في ملك المشتري وجب ترك الكل، وتصحيح العقد ما أمكن. قوله: [أو عرية فأثمرت]: العرية: من العرايا، سميت بذلك لأنها تعرى من البستان. والعرايا: أن يباع الرطب على رءوس النخل بخرصه تمراً، وليس الرطب بمجني؛ إذ المجني لا يباع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الرطب بالتمر، لكن يباع على رءوس النخل. فلو فرضنا أن رجلاً عنده تمر سكري، لكنه أحب أن يأكل بدلاً منه رطباً، ففي الأصل لا يجوز بيع الرطب بالتمر؛ لعدم وجود التماثل، فرخص النبي صلى الله عليه وسلم أن تباع العرايا بخرصها تمراً، في قدر خمسة أوسق، كما في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، فإذا كانت العرية في خمسة أوسق فما دون صح، أي: أن يؤخذ منه ثلاثمائة صاع؛ لأن الوسق ستون صاعاً، فيبيع نخلاً عرايا في حدود ثلاثمائة صاع، فإذا نقص عن ذلك جاز، ولو زاد لم يجز. فلو فرضنا أن النخلة فيها عشرون صاعاً، فخرصها الخارص وقال: هذا الرطب إذا صار تمراً يصير عشرين صاعاً، فقلت له: إذاً أعطيك عشرين صاعاً من التمر الذي في الأرض بهذه العريا التي فيها عشرون صاعاً، واتفقتما ع

ما يلزم البائع والمشتري عند بطلان البيع

ما يلزم البائع والمشتري عند بطلان البيع قوله: [بطل والكل للبائع] أي: بطل البيع، وقوله: [والكل للبائع] ذكرنا أن المشتري إذا أخذ الثمرة بشرط القطع فإن أبقى الكل فالكل للبائع، ويرد له الثمن، لكن لو أنه أخذ بعض التمرة وترك بعضها حتى صار تمراً، أو ترك بعضها حتى بدا صلاحه، فقال رحمه الله تعالى: [والكل للبائع]، أي: أنه يُلغى البيع كله، ويرد الثمن كاملاً، ويصبح المثمن كاملاً للبائع، فيقدر الذي أخذه بقيمته، ويلزم المشتري بدفع قيمة ما أخذ. وعلى هذا في العرايا لو اشتراها صفقة واحدة ثم أكل النصف رطباً وأبقى النصف تمراً، فمن العلماء من قال: تتجزأ الصفقة، فتصحح في النصف وتبقى في النصف، ومنهم من يقول: يبطل الكل؛ لأنها بيعت بصفقة واحدة. وعلى هذا الوجه يلزم البائع أن يرد الثمن كاملاً، ويضمن المشتري للبائع قيمة ما أخذه بحقه.

حكم البيع المطلق وبشرط التبقية

حكم البيع المطلق وبشرط التبقية قال رحمه الله تعالى: [وإذا بدا ما له صلاح في الثمرة، واشتدّ الحب جاز بيعه مطلقاً وبشرط التبقية]: أي: إذا بدا ما له صلاح في الثمر جاز بيع الكل بيعاً مطلقاً وبشرط التبقية، فإذا بدا الصلاح في النخيل فأزهت، فاحمَّرت واصفرت، فحينئذ يجوز بيعها بيعاً بشرط التبقية، وبيعاً مطلقاً. كرجل عنده مائة نخلة وبدا صلاحها، فقلت: يا فلان بكم تبيعني هذه المائة نخلة؟ فقال لك: أبيعكها بألف ريال، فقلت له: قبلتُ، فمن حقك أن تشترط عليه أن يبقيها، فتقول: قبلت بشرط أن تبقيها لي حتى تصير تمراً، وإذا بدا الصلاح تكون حبات التمر بلحاً؛ والنخيل منه ما لا يؤكل إلا بلحاً، ومنه لا يؤكل إلا رطباً، ومنه ما لا يؤكل إلا تمراً، وهناك ما يجمع الثلاثة الأحوال، كالتي تسمى أم جرذان، قيل: إنها التي ورد في السير أنه حين دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة -وكانت بقباء- أكل منها، وهذه من أبكر أنواع النخيل الموجودة في المدينة وتؤكل بسراً وبلحاً ورطباً وتمراً. فهذا النوع يؤكل بجميع الأحوال، لكن هناك نوع إذا اشتراه المشتري يشترط بقاءه إلى التمر، وهناك ما يؤكل بلحاً ورطباً وتمراً، لكن من مصلحة بيعها أن تؤخر حتى تصير تمراً، فقيمتها تمراً أغلى من قيمتها رطباً، وبعضها قيمتها رطباً أغلى من قيمتها تمراً، فالذي يحتاج إلى تأجيل من أجل ربح السوق، فحينئذ يشترط بقاءه إلى الحصاد والجذاذ. ومن هنا قال رحمه الله تعالى: إذا اشترى بعد بدو الصلاح يجوز أن يتم البيع بيعاً مطلقاً، دون أن يوجد شرط، ويكون من حق المشتري أن يبقيها إلى القطع، ويجوز أن يشتريها ويقول: أشترط عليك أن تبقيها لي إلى الجذاذ. وفائدة هذه المسألة: لو أن رجلاً اشترى منك مائة نخلة بعد بدو الصلاح، فقلت له: أنت اشتريت الحاضر الناضج، فألزمك بقطعها، لم يكن من حقك ذلك، بل تبقى إلى جذاذها، ولا يجوز لك أن تلزمه بالقطع قبل الجذاذ، فله حقٌّ أن يقطعها فوراً، أو أن يؤخرها إلى منتصف الموسم، أو إلى آخر الموسم، ولا يلزمه أن يقطعها فوراً. لكن الحنفية يخالفون الجمهور في هذه المسألة، فيرون أنه إذا اشترى الثمرة بعد بدو صلاحها يجب عليه القطع مطلقاً، سواء اشترط أم لم يشترط، وهذا مذهب مرجوح، والسبب في هذا أنهم يرون أن بيع الثمرة على أن تبقى إلى بدو الصلاح من بيوع الغرر، وبيوع الآجال، ولا يصححون هذا النوع من البيع بشرط التبقية، ولا يجيزون في البيع المطلق إلا أن يقطع فوراً، ويلزمون المشتري بقطعها فوراً، ولا شك أن مذهب الجمهور أصح.

حالات بدو الصلاح وآراء الفقهاء فيها وفي حق المشتري

حالات بدو الصلاح وآراء الفقهاء فيها وفي حق المشتري بناءً على ما سبق عندنا الأحوال التالية: الحالة الأولى: إذا بدا الصلاح بسراً فاحمَّرت الثمرة، أو اصفرت. الحالية الثانية: أن ترطب، فيكون النضج في نصفها، أو في ربعها، أو في أكثرها. الحالة الثالثة: أن يتم استواؤها ويكتمل، فتتهيأ للصرام والقطع. هذه ثلاثة أحوال بعد بدو الصلاح ينتبه لها. الحالة الأولى: أن تكون بلحاً، وبسراً. الحالة الثانية: أن تكون رطباً. الحالة الثالثة: أن تكون تمراً. فإن بيعت النخلة في هذه الثلاث الأحوال، إما أن تباع عند نهاية الاستواء، فإذا بيعت بعد اكتمال استوائها واكتمال نضجها، فبالإجماع يصح البيع ويقطعها فوراً، كرجل عنده مائة نخلة سكرية، وتركها وحفظها حتى صارت تمراً، ثم جاءه رجل وقال: أشتري منك هذه المائة نخلة بمائة ألف، فقال: خذها. فإنه يتم البيع بالإجماع ويصح. الحالة الثانية: أن تباع قبل أن تثمر، وقبل أن يكتمل استواؤها، فجماهير أهل العلم على جواز البيع وصحته، وخالف في هذه المسألة. رجلان عالمان، وكلاهما من التابعين، أولهما: عكرمة بن عبد الله، صاحب ابن عباس رضي الله عنهما، والثاني: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، الفقيه المشهور، فقالا: لا يجوز البيع، فلم يصححا بيع ثمرة النخيل قبل الاستواء الكامل، ولكن الصحيح مذهب الجماهير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها). ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النهي توقف عند بدو الصلاح فدل على أنه بعد بدو الصلاح يحل البيع، وهذا على القاعدة الأصولية المشهورة أن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها في الحكم، فلما قال: حتى يبدو صلاحها، فالغاية بدو الصلاح، فمعناه أن الحكم بعد بدو الصلاح يخالف الحكم قبل بدو الصلاح، وقبل بدو الصلاح قال: (نهى)، فمعناه أنه بعد بدو الصلاح، يجوز ولا بأس به. وإذا قلنا بقول الجمهور: إنَّه يجوز بيعها قبل أن تثمر، فهم على طائفتين: فالمالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية، رحمة الله تعالى على الجميع، على أنك إذا اشتريت ثمرة بعد بدو صلاحها يجوز لك أن تبقيها، ولا يجب عليك القطع. وقال الحنفية: يصح بيع الثمرة بعد بدو صلاحها، ونلزم المشتري بقطعها فوراً، فإن بيعت بُسراً وجب عليه أن يقطعها بسراً، وإن بيعت رطباً يجب عليه أن يقطعها حال كونها رطباً. والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشترط في حل ما كان بعد الغاية مفهوم القطع. وعلى هذا يكون الحكم أنه يجوز بيعها بعد بدو صلاحها بيعاً مطلقاً، وبيعاً بشرط التبقية، وبشرط القطع، لا بأس بذلك كله، على ظاهر السنة.

يلزم في بيع الحب ما يلزم في بيع ثمر النخل عند صحتها

يلزم في بيع الحب ما يلزم في بيع ثمر النخل عند صحتها قوله: [واشتدّ الحب جاز بيعه مطلقاً وبشرط التبقية]: الحب أول ما يظهر. يكون طرياً، حيث يكون فيه ماء السنبلة، ثم يبدأ ييبس قليلاً قليلاً، حتى يشتدّ ويكتمل استواؤه، فإذا اكتمل استواؤه جاز بيعه، وبيع الحب على حالتين: الحالة الأولى: أن يأتي المشتري يشتري منك الحب، كأن تكون زرعت مزرعة كلها حبوب، فيأتي فينظر إليها ويقدرها، وتتوافر شروط البيع من العلم بقدر المبيع ونوعه، وبعد ذلك قال: أنا أشتري منك هذا الحب الموجود في مزرعتك بخمسين ألفاً، فقلت له: قبلت، فإن كان الحب طرياً لم يشتدّ لم يجز، إلا بشرط قطعه فوراً، كالنخل، كأن يقول: أريده علفاً الآن، ولا أريد بقاءه حتى يُحصد، فلو اشتراه قبل بدو صلاحه واشتداده بشرط أن يقطعه فوراً، صح البيع. ولو أخذه منك في هذه الحالة بشرط أن يقطعه فأخره حتى اشتدّ، فما الحكم؟ A يبطل البيع على القاعدة التي ذكرناها، فإذا اشترى الحب قبل بدو صلاحه، بشرط القطع صح، وإن اشتراه بشرط أن لا يقطعه، بطل البيع، فإن بدا صلاحه، واشتدّ فحينئذ فيه تفصيل: فإن اشترى منك الحب وهو في سنابله وفي أرضه صح البيع، وهذا قول جماهير العلماء رحمهم الله تعالى، لكن لو أن هذا الحب حصدته، فأدخلته في البيدر، ومعه الشوك، ولم يصف الحب بعد، فهل يجوز أن يشتريه منك بالخرص قبل أن يكال؟ أو هل يجوز أن يشتريه بالكيل؟ أو يجوز أن يشتريه غير خالص؟ الجواب: لا؛ لأنه إذا حصد ووضع في البيدر، وأراد أن يأخذه بصفته فإنه يكون من بيع الغرر؛ لأننا لا ندري كم يصفى من هذا الحب، فلو قال قائل: هذا الحب يجوز بيعه، وهو في سنابله! قلنا: بالخرص، لكنه إذا خلط وأصبح محصوداً لا ينفع فيه الخرص، ولا يستطيع الخارص أن يحدد بدقة، أو بغلبة ظن ما هو أقرب للحقيقة، بخلاف ما إذا كان على رءوس زرع مشتدّ في سوقه، فإنه يمكنه أن يخرص، لكنه إذا دخل في البيدر، تكون السيقان الطويلة، والصغيرة، ويختلط الحب بغلافه، وبعد ذلك لا يمكن معرفته على الحقيقة أو قريب من الحقيقة إلا إذا صفي، فلا يجوز بيعه بعد الحصد إلا بتصفيته؛ لأنه يفضي إلى الغرر؛ فإنه حينما تشتري الصاع فإنك تشتري الحب مع الشوك، ولا يجوز بيع الشوائب لما فيها من الغرر، إلا بعد تصفيتها، ما دام أنه يمكن تصفيتها. قال رحمه الله تعالى: [وللمشتري تبقيته إلى الحصاد والجذاذ]: هذه هي الحالة الثانية: فإذا اشترى الحب بعد اشتداده، فإنه لا يجوز لك أن تقول له: احصد الآن، بل من حقه أن يؤخر إلى اكتمال الحصاد، حتى ينشف نشافاً كاملاً، ثم بعد ذلك يحصد، فإن اكتمل استواؤه، فقال: أريد أن أتأخر، فليس من حقه ذلك، أي: إذا تمت المدة وجاء موسم الحصاد يلزم المشتري بالحصاد؛ لأن هذا قد يضر بالبائع، ولذلك يلزم بحصده فوراً.

ما يلزم البائع بعد بيع الثمرة

ما يلزم البائع بعد بيع الثمرة قال رحمه الله تعالى: [ويلزم البائع سقيه إن احتاج إلى ذلك وإن تضرر الأصل]: بعد أن بين لنا رحمه الله تعالى مسائل البيع، شرع في مسائل الحقوق التي تتبع البيع، ولذلك الكلام على الفرع، وبيان الفرع بعد بيان الأصل والكلام عليه، وهذا كما ذكرنا أكثر من مرة من دقة العلماء، إذ قد تصح البيوع ويأتي الناس يتقاضون في الحقوق، فتختلف الأحوال فتارة يبيعه النخل بيعاً صحيحاً، ويبيعه الحب بيعاً صحيحاً، ولكن يفرط البائع في حق المشتري، أو يمنع البائع حقاً من حقوق المشتري، فيرد Q ماذا يكون من حق المشتري إذا اشترى الثمرة بعد كمال استوائها، أو بعد صلاحها؟ A يجب على البائع أن يحافظ على الثمرة، ويحافظ على الأسباب التي تحافظ على الثمرة، وأهم تلك الأسباب مسألة السقي، كسقي النخل، فإن الثمرة تتأثر بالماء، فإذا اشترى منه نخلاً، وجب عليه أن يقوم على سقيه، وبناء على ذلك لو أن المزارع الذي اشتريت منه تعطلت آلة الماء عنده وجب عليه أن يصلحها، فإن لم يمكنه أن يسقي بآلته، وجب عليه أن يستسقي لك ماء يبقي لك الثمرة، إلى أن يتم حصادها، فإذا قصر فإنه يتحمل مسئولية التقصير، فإذا قلت: إنه يجب على البائع أن يسقي الثمرة بالمعروف، معناه أنه لو قصر كأ، يكون النخل يسقى، النخل يسقى إلى ثلاثة أيام، أو إلى يومين، إذا كان سقيه بالري الكامل وبأحواض كبيرة، فأصبح يسقي كل أربعة أيام، أو كل خمسة أيام، أو كل أسبوع مرة؛ لكونه فيه كلفة على الآلة، وهذه أمور، كانت تكلف الناس، ولا زالت تكلف الناس، فيخفف على نفسه؛ لأن الثمرة لم تعد ثمرةً له، وإنما صارت ثمرة لغيره، فحينئذ لا يتضرر، ولا يضره شيءٌ، فيقوم بالتساهل في سقيها، فقال المصنف رحمه الله تعالى: يجب على البائع السقي، أي: أنه مسئول عن سقي النخل، ويلزم بالماء الذي يستبقى به النخل إبقاءً للفرع المشترى، وهو الثمرة، فلو أنه تساهل في السقي، ولم يستتبع النخل في السقي، أو تساهل عماله، فحينئذ يلزمه الضمان، فلو أن الثمرة تضررت حتى ذهب العشر بسبب ضعف السقي، يُلزم بضمان عشر القيمة. وهكذا لو أنه تساهل في السقي، وتلاعب في ذلك حتى ذهب نصف الثمرة، يلزم بضمان نصف الثمرة، فإذا ألزمناه بالسقي ألزمناه بما يتبع التفريق للتساهل إذا كان ذلك بتساهل منه. قوله: [وإن تضرر الأصل]: في بعض الأحيان يكون السقي مضرّاً بالأصل، فهل نقول: نقدم حق المشتري ويجب عليه السقي؟ أو نقول نقدم حق البائع؛ لأن الأصل الضررُ به أعظم من الفرع؛ لأن ضرر النخل ليس كضرر ثمرته، ففي بعض الأحيان يقول أهل الخبرة مثلاً: من المصلحة أن لا تسقي النخلة، وتحتاج أن تمسك الماء عنها أسبوعاً علاجاً لها من بعض الأمراض، والنخلة تمرض كما يمرض الآدمي؛ لأن لها أمراضاً تخصها، فإن قيل له مثلاً: الأرض مختمرة، ولا بد أن تمسك الماء عنها أسبوعاً، فحينئذ إذا أمسك الماء تضررت الثمرة، فنقول: إنه يلزم بالسقي بالمعروف ولو تضررت النخلة، لكن تضرر النخلة غالباً في مثل هذه المسائل ليس تضرراً سارياً إلى الثمرة، إنما هو في التضرر المستقل.

الآفات وأقسامها وعلى من ضمانها

الآفات وأقسامها وعلى من ضمانها [وإن تلفت بآفة سماوية رجع على البائع] أي: إن تلفت بآفة سماوية، كما لو اشترى بستاناً بمائة ألف، ثم أصابته جائحة، والجوائح هي من حيث الأصل: الآفات والأضرار التي تصيب المحاصيل، وتصيب الزروع والثمار، وتنقسم إلى قسمين: الأول: آفات سماوية، وهي التي لا دخل للمكلف فيها. الثاني: وآفات غير سماوية، ويكون فيها للمكلفين دخل. أما الآفات السماوية: فمثل الأعاصير، كأن يأتي إعصار فيه نار فيحرق محصول الحب، ومزارع الحب في بعض الأحيان إذا كان هناك إعصار تشتعل ناراً، خاصة إذا كانت متأهلة للحصاد، فإذا اشتعلت ناراً بالإعصار، أو الصواعق، أو جاء سيل فغمر المحصول كله وأتلفه، فما الحكم؟ إذا كانت الآفة سماويةً، ولا دخل للمكلف فيها، فالسنة مضت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح، فأخوك المسلم إذا اشترى منك ثمرة البستان، أو اشترى منك محصول الزرع، ثم أصاب ذلك المحصول، أو تلك الثمرة جائحةٌ سماوية ليس بيده ولا بيدك دفعها، فإنه يجب عليك أن تضع الجائحة عنه، بمعنى أنك ترد له المال، ويكون الضمان على حسب الجوائح، والدليل على وضع الجائحة حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صحيح مسلم وغيره، قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح)، فالسنة على أن الجوائح توضع. ومثل الحب النخل، فبعض المواسم يكون فيها: غبار كثير، والغبار يتلف ثمرة النخيل خاصة إذا كان عند التغبير، أو قبل بدو الصلاح، فتجد الثمرة منتفخة ليست بمليئة، وتصاب بأمراض بسبب الغبار، وتصاب بأمراض بسبب الأعاصير وسبب الرياح. وفي بعض الأحيان تهب رياح عاتية قوية، فإذا تحرك النخل تساقط التمر على الماء، ويفسد التمر؛ لأن التمر يصيبه الخمج إذا وقع في الماء، فتتحرك الرياح اليوم واليومين، وتلعب بجريد النخل فربما لا تبقي منه إلا ربعه، وربما لا تبقي منه إلا نصفه، وربما لا تبقي منه إلا ثلثه، فحينئذ إذا جاءت الجائحة فأتلفت الثمرة كاملة وضعت القيمة كاملة، وإن أتلفت نصفها وضع نصف القيمة، وإن أتلفت الربع وضع ربع القيمة. وكيف نعرف أنها أتلفت نصف المحصول، أو ربعه، أو ثلثه؟ A يرجع إلى أهل الخبرة، فينظر أهل الخبرة في البستان، ويقولون: هذا البستان تلف من محصوله الربع، فإذا اشترى منك بأربعمائة ألف. ترد له مائة ألف، وإن قالوا: تلف النصف، فحينئذ ترد له نصف القيمة، أي: أن الجائحة بالآفة السماوية تضمن وترد القيمة إذا تلف المحصول كاملاً، أو تلفت الثمرة بكاملها، وإن تلف الجزء فيرد بحسابه. هذا بالنسبة للآفات السماوية، أما الآفات غير السماوية وهي ما يكون بفعل المكلف، مثل أن تحصل بين الناس خصومة، فيتلف بعضهم محاصيل بعض، يكون فقد كان في القديم تقع الفتن والحروب فتتلف المحاصيل، فإذا جاء رجل واشترى منك محصول حب، ثم جاء الغزاة وأحرقوا هذا المحصول، فإن العلماء يقولون: آفات الآدمي تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما يكون بالغلبة والمغاصبة والقهر، مثل أن تأتي الجماعة التي لا تغلب، فتعيث في القرية أو في المدينة فساداً وتتلف محاصيلها، فهذا بالغلبة والمغاصبة. القسم الثاني: ما يؤخذ بالخلسة، كأن يكون محصولك جاهزاً، وإذا بسارق سرق ربعه أو نصفه أو ثلثه. فأما النوع الذي يكون من فعل الآدمي فجمهور العلماء على أنه لا توضع الجائحة فيه؛ لأنه يكون من تقصير من نفس الشخص غالباً، وإذا غُلب بالقهر فيكون هذا من باب الغنم بالغرم، وبعض أصحاب الإمام مالك رحمهم الله تعالى، يقولون: توضح الجائحة فيه، والأول أقوى، والثاني من ناحية العلة أظهر. أما لو أنك بعت ثمرة بستانك، فجاء السارق بالليل وسرق ممن اشترى منك، فالأفضل أن تخفف على أخيك، لكن لا يجب عليك ذلك، فهو الذي يلزم بالحفظ، ويلزم بالرعاية، وأنت لست بمسئول عن ضمان حقه. قال رحمه الله تعالى: [وإن أتلفه آدمي خير مشترٍ بين الفسخ والإمضاء ومطالبة المتلف]: قوله: [وإن أتلفه آدمي]: هذا في حالة خاصة غير ما ذكرنا أولاً، وهو أن يأتي شخص بعينه، كأن يكون صاحب المزرعة بينه وبين رجل خصومة، فجاء هذا الرجل وأتلف محصول المزرعة، ولم يبق فيها شيئاً، أو أتلف نصف المحصول، أو ثلاثة أرباعه، فما الحكم؟ الجواب: نقول للمشتري: أنت بالخيار، إن شئت فسخت البيع ورجعت بالمال كله على البائع إذا تلف المحصول كله، وهذا يعتبر كالعيب الذي طرأ في المبيع، وإن شئت طالبت المتلف بضمان حقك. وفي الأمرين فرقٌ: ففي بعض الأحيان، الأفضل له أن يسترد القيمة الأصلية، كأن يكون اشترى بقيمة غالية، فلما تم المحصول، ونزل إلى السوق وإذا بالقيمة رخيصة، فجاء المتلف في رخص السوق، فالأفضل له أن يفسخ البيع، وتارة يكون الأفضل له أن يطالب المتلف، فإنه قد يشتريها بعد بدو صلاحها بمائة ألف، فلما أتلفها المتلف كانت قيمتها مائة وخمسين، فإذا كانت قيمتها مائة وخمسين، فالأحظ له أن يطالب المتلف بالضمان، فالمقصود أنه إن شاء أخذ هذا، وإن شاء أخذ هذا.

استباق الثمار في بدو الصلاح وأحكامه

استباق الثمار في بدو الصلاح وأحكامه

صلاح بعض الثمرة دون بعضها

صلاح بعض الثمرة دون بعضها قال رحمه الله تعالى: [وصلاح بعض الشجرة صلاح لها ولسائر النوع الذي في البستان]: مما ينبغي علمه أن النخل إذا بدا صلاحه فيه لا يبدو دفعة واحدة، فأنت إذا نظرت إلى النخلة تجد أن فيها أكثر من عرجون، وإذا نظرت إلى البستان ففيه أكثر من نوع، وإذا نظرت إلى المدينة والقرية ففيها مئات البساتين، فحينئذ سنبحث مسائل جديدة: أولاً: بدو الصلاح في عرجون واحد، كأن تظهر فيه حبةٌ واحدة فقط حمراء أو صفراء، فإذا بدا الصلاح في حبة واحدة من عرجون واحد، فهل معناه أن العرجون كله يباع؟ فهذه مسألة. ثم إذا قلنا بجواز بيع هذا العرجون، فهل معناه جواز بيع النخلة كلها؟ وهذه مسألة ثانية. وإذا قلت: تباع النخلة، فهل يباع أمثالها من نفس النوع في البستان؟ وهذه مسألة ثالثة. وإذا قلت: إنه يباع هذا النوع في هذا البستان، فهل يجوز أن يباع في البساتين الأخرى هذا النوع نفسه؟ وهذه مسألة رابعة. وإذا قلت بجواز بيع هذا النوع في هذا البستان، فهل يقاس عليه بقية الأنواع؟ وهذه مسألة خامسة. هذه مسائل كلها تابعة لمسألة بدو الصلاح. وحتى تكون الصورة واضحة، فالنخل -كما سبق- إذا بدا الصلاح فيه يتفاوت، فهناك ما يبكر صلاحه، وهناك ما يتأخر ويصبح في آخر النخل، وهناك ما هو وسط بين المبكر والمتأخر. فمن أمثلة المتقدم في بدو الصلاح: اللونة والحليا، وهما من أبكر ما يظهر صلاحه من تمور المدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم. ويتأخر عنهما الربيع والروثان؛ لأن ثمرة الربيع والروثان صفراء، فلا تصفر إلا بعد وقت، وبقريب منها الحلوة، فلا تحمر إلا بعد وقت، وهي من الأنصاف، أي: المتوسط، وهناك ما يتأخر كالعجوة والصفاوي، ونحو ذلك، فعندنا نوع يبكر، وعندنا نوع يتأخر، وعندنا نوع وسط بينهما. فإذا بدا صلاح في حبة في عرجون، أو حبتين، وكان الزمان زمان صلاح فإنه يحكم ببدو الصلاح في النخلة كلها، وعلى هذا يجوز بيع ذلك العرجون وبيع سائر العراجين في النخلة، ويجوز بيع هذا النوع في البستان كله، فلو ظهر صلاحه في نخلة واحدة، فهو كبدو الصلاح في بقية النخل. وبالتجربة أنه إذا بدا الصلاح في أول النهار في نخلة، فغالباً لا يأتي آخر النهار إلا وقد بدا في نخلة أو نخلتين، أو ثلاث، ثم لا تأتي من الغد أو بعد الغد إلا وقد انتشر في البستان كله من هذا النوع، فتأخره قليل جداً، وعلى هذا يجوز بيع جميع النوع في البستان. لكن هل يجوز بيع بقية البساتين؟ أي: لو ظهر الصلاح عندك في بستانك، ولكن في بستان جارك لم يبدُ، فهل يجوز لجارك أن يبيع؟ A نعم؛ بزمان بدو الصلاح نفسه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما: (حتى تطلع الثريا وتؤمن العاهة)، فمن حكمة الله سبحانه وتعالى في هذا الزمان، أنه إذا بدا الصلاح في واحدة أن يكون للجميع، فهو زمان الصلاح وأَمْنِ العاهة غالباً، ومن هنا قال الجمهور: إنَّ بدو الصلاح في نخلة بدوٌّ في جميعها، وبدو الصلاح في ذلك النوع يوجب جواز بيع ذلك النوع في البستان كله، وكما جاز بيع ذلك النوع في البستان، يجوز بيعه في بقية البساتين؛ لأنه ربما كان جارك ليس بينك وبينه إلا الحائط، وقد تكون مزرعتك مائة متر، ومزرعته مائة متر، فلو قلنا: لا يجوز أن يبيع جارك، فكيف بالذي عنده مزرعة فيها مائتي مترٍ، وبدا الصلاح في نخلة واحدة؟ إذً العبرة بالزمان، والعبرة بغلبة الظن في السلامة وهي موجودة، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فيجوز أن تبيع النخلة، وأن تبيع نوعها في البستان، وأن يباع نوعها في بقية البساتين.

صلاح نوع دون نوع

صلاح نوع دون نوع هناك يقال: هل يجوز بيع المتأخر إذا بدا الصلاح في المبكر؟ A لا، والعبرة في كل نوع بحسبه، فلا نبيع تمر الحلوة، إلا إذا بدا الصلاح ولو في واحدة منه، لكن إذا بدا الصلاح في الحليا، لا نبيع في ذلك الحلوة، ولو بدا في تمر اللونة، لا نبيع العجوة، وإذا بدا في السكري لا يباع الصفاوي وقس على هذا. فكل نوع بحسبه، فإن من جرب النخيل، وجرب الزراعة يعلم أنها تتفاوت في طلعها، وتتفاوت في تأبيرها، وتتفاوت في بدو صلاحها. وعلى هذا فإنه لا يحكم بجواز بيع النوع إذا ظهر الصلاح في نوع غيره، وإنما يتقيد بالنوع نفسه، الذي بدا الصلاح فيه. قال رحمه الله تعالى: [وبدو الصلاح في زمن النخل أن تحمر أو تصفر]: هذه علامة بدو الصلاح، والأصل في ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه،: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى تزهي، قالوا: يا رسول الله! وما تزهي؟ قال: تحمار أو تصفار)، فهذا يدل على أن الحمرة والصفرة توجب الحكم ببدو الصلاح. قال رحمه الله تعالى: [وفي العنب أن يتموه حلواً]: العنب يبدو صغيراً، وبعد ذلك يبدأ يكبر شيئاً فشيئاً، حتى تكتمل حبة العنب في الحجم، وهي خضراء شديدة الخضرة، ثم يضربها الماء، فإذا تموهت وصار الماء عليه تفككت خضرتها، فبمجرد ما ينظر إليها صاحب الخبرة يعلم أنها قد نضجت، فإذا كانت شديدة الخضرة، فهي حامضة، وطعمها حامض، ويبدو صلاحها بذلك، وإذا بدا الصلاح في عنبة جاز بيع بقية العنب في ذلك البستان. لكن لو كان العنب أنواعاً، كالعنب الطائفي والحجازي والمشرقي، فهذه الأنواع يفصل فيها: فإذا تموه العنب من نوعٍ، فلا يحكم بجواز بيع غيره من نوع آخر إذا تفاوت في النضج. قال رحمه الله تعالى: [وفي بقية الثمار أن يبدو فيه النضج ويطيب أكله]: قد بينا فيما سبق علامات بدو الصلاح، فمن الأشياء ما يكون بدو صلاحه بلينه بعد اشتداده، كالتين والبطيخ. ومنها ما يكون باشتداده بعد لينه كالحب. ومنها ما يكون بحلاوته بعد مرارته كقصب السكر، والرمان ونحو ذلك. ومنها ما يكون بتفتح أكمامه، كما ذكرنا في الورد، ويقاس على ذلك بقية الأنواع.

بيع العبد وما يتبعه

بيع العبد وما يتبعه قال رحمه الله تعالى: [ومن باع عبداً له مال، فماله لبائعه إلا أن يشترطه المشتري]: هذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من باع عبداً وله مال، فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع)، فإن البيع ينصب على الرقبة، فيبقى المال ملكاً للبائع؛ لأن الأصل أنه مَلَكَ العبد والمال، فإذا وقع البيع على العبد، فإن المال ليس بمتصل به، فيحكم بكون المشتري مالكاً للعبد دون ماله، فإن أراد أن يأخذ ماله اشترط، وقال: أشترط أن يكون لي ماله، فإذا لم يشترط لم يكن له ذلك. قال رحمه الله تعالى: [فإن كان قصده المال، اشترط علمه، وسائر شروط البيع، وإلا فلا]: والمراد من هذا، أنه لو اشترى عبداً وله مال، وكان لدى العبد عمارة وقال للبائع: أشترط أن يكون ماله تابعاً له. فينبغي أن توصف هذه العمارة؛ لأنه اشترى الرقبة وما يقصد منها من الانتفاع بمالها، فينبغي أن يكون المال الذي قصده بالبيع معلوماً، والأموال إذا بيعت يشترط فيها العلم، فنعلم نوع المال وجنسه وقدره، وغيرها من الشروط المعتبرة في البيع. فيشترط فيه ما يشترط في البيع. قال رحمه الله تعالى: [وثياب الجَمال للبائع والعادة للمشتري]: إذا بيع العبد وعليه ثياب، فالثياب التي يلبسها في العادة تكون تابعةً للرقبة، وقد تكلمنا عند هذا في بيع المبيع وما يتبعه وما لا يتبعه، وبينا القواعد فيه والضوابط، لكن لو كان الثوب الذي عليه ثوبَ جمال، أي: ثوباً زائداً عن المعتاد، فحينئذ لا يكون المشتري مالكاً له بالبيع ولا يتبع؛ لأن المتصل بالعبد يتبعه، فإن كان المتصل له خصوصية، وهو ثياب الجمال، فإنه لا يتبع. فإذا باع عبداً وعليه ثياب فإنها تتبع الرقبة؛ لأن هذا هو الأصل في العادة، إذا كان ملبوسها بالعادة. وأما إذا كانت ثياباً فارهةً، وثياباً خاصة، كما كان في القديم، إذا كان الرجل له ملك يمين من الأرقاء، ويحتاجهم في معونته إذا ذهب إلى عمله أو نحوه، فكان يلبسهم لباساً معيناً لما يحتاجهم إليه، وهذه ثياب جمال يتجملون بها أثناء ذهابهم معه لعمله، أو لزيارة أناس، أو نحو ذلك، فهذه لا تتبع الرقبة في البيع، وأما بالنسبة لثياب العادة فإنها تكون تابعة للعبد؛ لأنها متصلة به. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل علمنا خالصاً لوجهه الكريم، وموجباً لرضوانه العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

باب بيع السلم [1]

شرح زاد المستقنع - باب بيع السلم [1] من العقود التي أحلها الشرع عقد السلم، الذي هو بيع معجل بمؤجل، وهو مما فيه توسعة على البائع والمشتري، ولابد فيه من انضباط صفات المسلم فيه من جهة قدره، ومن جهة جنسه ونوعه، ومن جهة أجله، وكذلك من جهة إمكان وجوده وقت التسليم، وهذا كله حتى لا يدخل الغرر والجهالة في هذا العقد.

عقد السلم

عقد السلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [باب السلم: وهو عقدٌ على موصوفٍ في الذمة مؤجلٍ بثمن مقبوض بمجلس العقد، ويصح بألفاظ البيع والسلم والسلف بشروط سبعة، أحدها: انضباط صفاته بمكيل وموزون ومذروع وأما المعدود المختلف كالفواكه والبقول والجلود والرءوس والأواني المختلفة الرءوس والأوساط كالقماقم والأسطال الضيقة الرءوس، والجواهر والحامل من الحيوان، وكل مغشوش، وما يجمع أخلاطاً غير متميزةٍ كالغالية والمعاجين: فلا يصح السلم فيه، ويصح في الحيوان والثياب المنسوجة من نوعين، وما خلطه غير مقصود كالجبن وخل التمر والسكنجبين ونحوها. الثاني: ذكر الجنس والنوع وكل وصف يختلف به الثمن ظاهراً وحداثته وقدمه، ولا يصح شرط الأردأ أو الأجود بل جيد ورديء، فإن جاء بما شرط أو أجود منه من نوعه ولو قبل محله ولا ضرر في قبضه: لزمه أخذه. الثالث: ذِكرُ قدره بكيل أو وزن أو ذرع يُعلم، وإن أسلم في المكيل وزنا أو في الموزون كيلاً: لم يصح. الرابع: ذكر أجل معلوم له وقع في الثمن، فلا يصح حالاً ولا إلى الحصاد والجذاذ ولا إلى يوم، إلا في شيء يأخذه منه كل يوم: كخبز ولحم ونحوهما. الخامس: أن يوجد غالباً في محله ومكان الوفاء لا وقت العقد، فإن تعذر أو بعضه: فله الصبر أو فسخ الكل أو البعض ويأخذ الثمن الموجود أو عوضه].

أموال البيع

أموال البيع قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب السلم] فيقول رحمه الله: (باب السلم)، هذا الباب يعتبر أحد أنواع البيوع المهمة والتي رخص الله عز وجل لعباده فوسع عليهم فيها، وقد بين العلماء رحمهم الله وجه التوسعة في هذا النوع من البيع وذلك أن الإنسان إذا باع السلعة لا يخلو من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يدفع المشتري الثمن نقداً، ويدفع البائع المثمن معجلاً. والحالة الثانية: أن يؤخر المشتري الثمن، ويقدم البائع المثمن. والحالة الثالثة: أن يقدم المشتري الثمن ويؤخر البائع المثمن. هذه ثلاثة أحوال للبيع، إذا دفعت المال حاضراً ودفع البائع لك السلعة حاضرة فإن هذا النوع من البيع يكون الثمن فيه مكافئاً للمثمن، فلو أردت أن تشتري سيارةً مثلاً أو داراً فقال لك: أبيعها لك بعشرة آلاف حاضرة، أي: نقداً، فإنك تراعي قيمة السيارة ويكون الثمن -غالباً- مكافئاً للمثمن، أي: أن السيارة تستحق هذا المبلغ دون زيادة أو نقص، الحالة الثانية: أن يكون المثمن مقدماً والثمن متأخراً كرجل أراد أن يستلم سيارةً، وطلب من البائع أن يؤخره سنةً كاملة فمعنى ذلك: أن المثمن معجل والثمن مؤجل، فإذا عجل البائع لك السلعة وقلت: لا أستطيع أن أعطيك المال حاضراً انتظرني سنة أو انتظرني سنتين، فالغالب أنه يثقل عليك في الثمن وتصبح القيمة قد زادت لقاء الأجل. وعليه: تكون التوسعة على البائع في زيادة الثمن توسعة على المشتري في إنظاره وتأخيره، فيأخذ السيارة عاجلاً ويخف عليه دفع القيمة آجلاً، ولا يعتبر هذا كالربا؛ لأن الربا جاءت الزيادة فيه لقاء الأجل المحض، ولكن هنا: جاءت الزيادة لقاء السلعة، وقيمتها حاضرة ليست كقيمتها مؤجلة وقد جعل الله لكل شيءٍ قدراً.

التوسعة في بيع السلم

التوسعة في بيع السلم تبقى الصورة الثالثة: وهي أن تدفع الثمن معجلاً ويؤخر البائع المثمن مؤجلاً، وهذا هو الذي يقع في بيع السلم، مثلاً: رجل عنده مزرعة، وهذه المزرعة يزرعها براً أو يزرع فيها شعيراً، أو فاكهةً أو غير ذلك، هذا المزارع ليست عنده سيولة وليس عنده مال، وجاء الموسم للزراعة، وليس عنده ما يشتري به البذر، وقد لا يوجد من يدينه، فيأتي الرجل ويقول: أنا أسلفك ألف ريال، وتعطيني مائة صاعٍ في نهاية رجب أو في نهاية شعبان، فيقدم الثمن ويؤخر المثمن، في هذه الحالة سيكون الرفق بهذا المزارع، وسيكون التيسير على هذا المزارع حيث إنه انتفع بأرضه وقام بزرعها واشترى ما احتاج من بذره، ثم انتفع المشتري؛ لأنه يحتاج إلى المائة الصاع، إلا أن هذه المائة صاع لو أنه جاء لهذا الفلاح بعينه ولم يستلف منه وجاءه في نهاية رجب يريد أن يشتريها بقيمتها لكان قيمتها ألفاً وخمسمائة، ولكنه لقاء التعجيل سيشتريها بألف فقط، فأصبح السلم أن يقدم المشتري لك الثمن وتعده بالمثمن بكيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم، ويقع هذا في المكيلات وفي الموزونات، وتقدم معنا ضبط المكيلات وضبط الموزونات، فلو جاءه وقال: هذه عشرة آلاف ريال لقاء مائة صاع -مثلاً- من التمر السكري في نهاية شهر شوال، فإن هذا البيع تعجل فيه الثمن وتأخر فيه المثمن، ولو جئت في نهاية شوال تبحث عن تمرٍ بهذه الصفات لوجدته بأحد عشر ألفاً أو باثني عشر ألفاً، ولكن الله وسع على المشتري وخفف عليه المئونة؛ لأنك ستشتري والموسم ليس بحاضر، وأنت لا تريد السلعة الآن إنما تريدها إلى أجل، وكثيراً ما يقع هذا البيع عند التجار، ويقع كثيراً ما بين التاجر والمورد، فيقول التاجر للمورد: أريد -مثلاً في المكيلات- مائة صندوق من التمر بوزن كذا وكذا أو مائة صندوق من العسل أريدها لصيف كذا وكذا، فيحدد الشهر ويحدد الأجل الذي يريد أن يدفع له هذا الملتزم هذه السلعة فيه، فيقول البائع: قد التزمت لك هذه المائة صندوق من العسل أو من التمر أن أحضرها لك في نهاية شهر شوال، وقيمتها عشرة آلاف ريال أو قيمتها ثمانية آلاف ريال، فتعجل الثمن وتؤجل المثمن، وذلك في موزونٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم، وكذلك إذا وقع في الكيل فتقول له: أريد مائة صاعٍ من شعير أو أريد مائة صاع من بر، أريدها في نهاية شهر شوال بكم؟ قال له: بألفين أو بثلاثة آلاف ريال، فقال: خذ هذه الثلاثة آلاف ريال وهذه المائة صاع أكتبها ديناً عليك تحضرها لي في نهاية شهر شوال، فأسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم بثمنٍ معلوم، ويعطيه الثمن نقداً، هذا بالنسبة للمكيلات والموزونات، والمعدودات مثل ما يقع في بيع السيارات الموجودة الآن، يأتي ويقول لك مثلاً: السنة القادمة هناك نوع من السيارة سواءً كانت من هذا الصنف أو من هذا الصنف قيمتها عشرة آلاف ريال، أو قيمتها مائة ألف ريال فتدفع المائة ألف ريال مقدماً، قبل أن يأتي ما يسمى بالموديل أو بأي اسم يعبر عن الصنف الذي يهيأ للسنة القادمة تدفع المعجل مائة ألف أو مائتي ألف تدفع القيمة ثم يعطيك أوصاف السيارة كاملة، هذا إذا قيل بجواز السلم في المعدودات؛ لأن السيارة من المعدودات؛ ولأن من العلماء من يرى أن السلم لا يقع إلا في مكيل أو موزون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أسلف فليسلف في كيلٍ معلوم ووزنٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم)، وهناك من يرى أن المعدود كالمكيل والموزون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نبه بالمثل على مثله، ولم يرد استثناء المعدود كما ورد في بيع الربا، ولذلك قالوا: يبقى المعدود منبهاً عليه بالنظير على نظيره، فإذا قلنا بأن المعدود يقع فيه بيع السلم، فحينئذٍ يمكن أن يعطيه -مثلاً- مائة ألف لقاء السيارة أو لقاء السيارتين أو الثلاث أو اشترى منه دفعةً من السيارات من نوعٍ معين أو من صنف معين قال: هذا النوع إذا حضر فأنا: أشتريه منك بمليون أو بنصف مليون، كذلك أيضاً ربما يقع في المعدودات من أدوات الكهرباء فيقول له: أريد منك مائة غسالة أو مائة ثلاجة -مثل ما يقع بين التجار بعضهم مع بعض- هذه المائة غسالة أو المائة ثلاجة أريدها إلى أجل معلوم وهذا ثمنها، فإذاً هذا البيع فيه توسعةٌ على البائع من جهة كونه استفاد بثمنٍ معجل أو استفاد بزرع أرضه وأخذ ثمنٍ معجل، وتوسعةٌ على المشتري بتخفيف القيمة عليه.

مشروعية السلم

مشروعية السلم والسلم والسلف لغتان، يقال: السلم ويقال: السلف، والسلف لغة أهل المشرق، والسلم لغة أهل الحجاز، والأصل في مشروعيته دليل الكتاب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282]، كان ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن يقول: (أشهد أن الله قد أحل السلم) ويتلو هذه الآية، وكأنه يرى أن هذه الآية نزلت في السلم؛ وذلك لأنها نصت على الدين، وبيع السلم يكون على إسلام الثمن وتعجيله والسلف في الْمُسلَّم وتأجيله، وأما دليل السنة فما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أسلف فليسف في كيل معلوم ووزنٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم)، فهذا الحديث -كما يقول العلماء- أصلٌ في مشروعية السلم، وكذلك حديث الأنباط من الشام أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسلفونهم في الحنطة ويعطونهم من الغنائم إذا غنموها إلى أجلٍ معلوم، وسئلوا: هل كان لهم زرع أو لم يكن لهم زرع؟ قال الراوي: ما كنا نسألهم عن شيء من ذلك. فاتفقت هذه الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشروعية السلم وجوازه، ومن هنا أجمع العلماء على جواز بيع السلم. ومناسبة ذكر بيع السلم بعد باب النسيئة أن باب النسيئة ثبت فيه التحريم لبيع الدين بالدين، وبينا فيه أنه لا يجوز بيع الدين بالدين ثم ذكرنا الصرف وبينا في الصرف حرمة النسيئة من الطرفين أو من أحدهما، فلما كان الكلام متعلقاً بالصفقات المشتملة على البيوع المؤجلة، وكان بيع السلم بيعاً مؤجلاً مرخصاً فيه ناسب أن يذكر المباح المستثنى من المحرم فيما سبق، ومحل بيع السلم إذا لم يكن في الربويات، فإذا كان في الصنف الربوي كأن يقول له: أعطيك مائة صاع من البر بمائة صاع من البر مع اتحاد الصنف لا يجوز، أو أعطيك مائة صاع بر الآن وتعطيني مائة صاع شعير، أو أعطيك مائة صاع بر الآن وتعطيني مائة صاع من التمر السكري، فهذا لا يجوز؛ لأنه لا بد في البر مع التمر أن يكون يداً بيد، سواءً اتحد الربوي أو اختلف، هذا حاصل ما يقال في مقدمة باب السلم.

تعريف السلم

تعريف السلم قال رحمه الله تعالى: [وهو عقدٌ على موصوفٍ في الذمة مؤجلٍ بثمن مقبوضٍ بمجلس العقد]. يقول رحمه الله برحمته الواسعة وأنار قبره بأنواره الساطعة: (وهو) أي: البيع السلم (عقدٌ)، العقد في لغة العرب: التوثيق والإبرام، يقال: عقد الحبل إذا أدخل بعضه في بعض، وعقدة الحبل معروفة، فيكون في المحسوسات كعقد الحبل وعقد العقال، ويكون في المعنويات، كعقدة النكاح وعقدة البيع فيقولون: عقد بيعٍ أو عقد نكاح قال تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة:235]، فالعقد يستعمل في المحسوسات ويستعمل في المعنويات، وأما في الاصطلاح فالعلماء إذا وجدتهم يقولون: هذا عقد، فاعلم أنه إيجاب وقبول، إيجاب من البائع وقبول من المشتري، إن كان الإيجاب والقبول على بيعٍ قلت: عقد بيع، وإن كان الإيجاب والقبول على إجارة قلت: عقد إجارة، وإن كان الإيجاب والقبول على رهن، قلت: عقد رهن. فقال رحمه الله عن بيع السلم: (هو عقدٌ) أي: إيجاب وقبول على السلف، أو إيجاب وقبول على السلم، وعلى هذا إذا قال: أسلمتك هذه العشرة آلاف بمائة صاعٍ من بر، قال: قبلت، فقول المشتري: أسلمتك هذه العشرة آلاف بالمائة صاع من البر إلى نهاية السنة، وقوله: قبلت، إيجاب وقبول، وهذا عقدٌ، والعقد يستلزم وجود الطرفين: الموجب والقابل، والعقد يتضمن الصيغة، والصيغة تستلزم وجود الطرفين: الموجب والقابل. وقوله رحمه الله: (عقدٌ على موصوفٍ في الذمة) الموصوف المراد به: محل العقد، وصفة الشيء: حليته وما يتميز به، سواء كانت من الأوصاف الحسية أو الأوصاف المعنوية، فقوله: (على موصوفٍ في الذمة) أي: أن الإيجاب والقبول ينصب على شيء موصوف في الذمة، فمثلاً: قوله: مائة صاع، يقول أولاً: مائة فيذكر القدر، ثم يقول: صاع، فيحددها ويميزها، سواءً من برٍ أو من تمر أو من شعيرٍ أو من زبيب. إلخ. فإذاً السلم يكون على موصوفٍ، وهذا الموصوف يكون في الذمة، فخرج العقد على المعين، كأن يقول له: هذه العشرة آلاف بهذا البر هذا ليس بسلم وليس بسلف؛ لأنه حاضر وهو بيع معجل، ولا يكون السلم إلا في البيوع المؤجلة، لذلك بعض العلماء يقول في تعريفه: بيع العاجل بالآجل وبيع المعجل بالمؤجل، وقوله رحمه الله: (على موصوفٍ في الذمة) هذا ينبني على ما ذكرنا في السابق أن المبيع إما أن يكون بالعين وإما أن يكون بالذمة، فالمعين أن تقول: هذا، وتحدده وتبينه، أو تقول: سيارتي، وهو يعلم أنه ليس لك سيارة غيرها، هذا معين، أما الموصوف في الذمة فهو أن يصف الشيء ويحدده والذمة محل في الإنسان قابل للالتزام والإلزام، أي أن هذا المحل قابل أن يلتزم، فيقول لك: في ذمتي عشرة آلاف، فالذمة ليست بشيء مشاهد كالرأس واليد، بل الذمة وصف اعتباري، فقوله: (موصوفٌ في الذمة): أي أنه في ذمته، أي: أدخل في ذمته وتعلقت ذمته بذلك الشيء أنه يحضره لك، وأنه يقوم بإنجاز ما وعدك به عند حلول الأجل. قال: (عقدٌ على موصوفٍ في الذمة مؤجل بثمنٍ). الباء للمقابلة والبدلية، تقول: هذا بهذا، وعقود السلم تقوم على الثمن المعجل لقاء المثمن المؤجل، فقال: (بثمن) والثمن هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (من أسلف فليسلف، -يعني: فليعطِ، وهو الثمن المعجل-، في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجلٍ معلوم) إلخ. وهذا الثمن يكون حاضراً في مجلس العقد، وسيذكر المصنف رحمه الله له شروطاً لابد من توفرها لكي يحكم بصحة العقد واعتباره، فابتدأ رحمه الله بتعريف السلف وبيانه، وهذا مبنيٌ على أن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، ومن عادة العلماء أنهم يبدءون أولاً بتعريف الأشياء ثم يبينون أحكامها.

ألفاظ السلم

ألفاظ السلم قال رحمه الله: [ويصح بألفاظ البيع والسلم والسلف بشروط سبعة]. يقول رحمه الله: هذا النوع من البيع -وهو بيع السلم- يصح بألفاظ: البيع والسلم والسلف، فإذا سألك سائل وقال لك: قد علمتُ أن بيع السلم عقد وعلمتُ أن العقد يقوم على الإيجاب والقبول، فهذا الإيجاب وهو قوله: أسلفت، هل له ألفاظٌ مخصوصة؟ والإيجاب يكون تارةً من البائع وتارةً يكون من المشتري -فالجواب أنه إذا أوجب بالسلم وابتدأ به عرضاً وقال: أسلفتك، أو قال: أسلفني، أو قال: أسلمتك، أو قال: أسلمني عشرة آلاف الآن أعطيك بها مائة صاع إلى نهاية السنة، قال: قبلت فالإيجاب يقع بلفظ السلم، ويقع بلفظ السلف، ويقع بلفظ البيع، هذه ثلاثة ألفاظ اختار المصنف رحمه الله أن عقد السلم يقوم عليها: السلم والسلف والبيع، وغير ذلك لا يصح به؛ لأن السلم رخصة وبيوع الرخص تتقيد بألفاظها.

شروط عقد السلم

شروط عقد السلم قال رحمه الله: [بشروط سبعة]. أي: لابد من توفر هذه الشروط لكي نحكم بصحة السلم، فهي شروط صحة، فإذا وجدت هذه الشروط صح العقد، فإذا سألك تاجر عن بيعٍ تتأمل البيع، فإن كان الثمن مدفوعاً لقاء مثمن معجل خرج عن كونه سلماً، لكن لو كان الثمن معجلاً والمثمن مؤجلاً فانظر رحمك الله هل هذا النوع من المعجل والمؤجل من جنس السلم المأذون به شرعاً أو لا، فإذا جئت تحكم بأنه سلم شرعي أو غير شرعي تحتاج إلى سبع علامات، وهي التي سماها العلماء بالشروط، وهذه العلامات إن وجدت حكمتَ بصحة السلم، وإن فقدت أو فقد أحدها حكمت بعدم صحته، فقال رحمه الله: (ويصح)، إذا قال: يصح بشروط، فمعنى هذا أنها شروط صحة، وإذا قال: يجب بشروط فمعنى هذا شروط وجوب، فهذا نوع من الشروط وهو: شروط الوجوب، وهذا نوع من الشروط يسمى: شروط الصحة، وشروط الصحة علامات وأمارات وضعها الشرع، إن وجدت حكمنا بصحة العبادة والمعاملة وإن فقدت حكمنا بعدم صحتها ولو فقد شرطٌ واحد، على تفصيل في العبادات والمعاملات، وهذه الشروط يأخذها العلماء من نص الكتاب والسنة، فالشروط علامات وأمارات نصبها الشرع، فإما أن تؤخذ من نص الكتاب أو من نص السنة أو يقع عليها إجماع أو كان ثم نظر صحيح، نبه الله سبحانه وتعالى في دليل كتابه أو سنة رسوله على اعتبار هذا الشرط بالمعنى.

الشرط الأول: انضباط الصفات

الشرط الأول: انضباط الصفات قال رحمه الله: [أحدها: انضباط صفاته بمكيل وموزون ومذروع]. يقول رحمه الله: (أحدها) وهو الشرط الأول (انضباط صفاته)، أي: صفات الشيء المسلم فيه، (انضباط صفاته بمكيل وموزون ومذروع)، أن يكون من جنس ما ينضبط بالصفات، والسبب في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أسلف فليسلف في كيلٍ معلومٍ أو وزنٍ معلوم)، فقيد الشيء المسلم فيه بكونه منضبطاً فقال: (في كيلٍ) ثم قال: (معلوم)، ثم قال: (في وزنٍ معلوم)، ومعنى هذا: أنه لا بد وأن يكون منضبطاً بطريقةٍ يندفع بها التنازع والاختلاف، مثلاً: لو جاء رجلٌ تاجر إلى رجل عنده مصنع أو -مثلاً- يقوم بتجارة الأواني -إذا كانت الأواني منضبطة وقلنا بالسلم في المعدودات- فقال له: أريد مائة وعاء أو كأس، أو مائة صندوق من الكأس من النوع الفلاني، إن كان هذا الكأس مثل ما هو في القديم يصنعونه ولا ينضبط، فإذا جاء الصانع يصنعه ربما كان واسعاً وربما كان ضيقاً وربما كان طويلاً وربما كان قصيراً، فما ينضبط بصفةٍ معينة، فإذا قلنا: يجوز، فمعنى هذا أنه سيعطيه العشرة آلاف مثلاً في شيءٍ قد يختاره المشتري حينما أعطاه العشرة آلاف على أنه متوسط أو جيد فإذا به يأتي بالأفواه الضيقة، أو يأتي بأكواب بعضها كبير وبعضها صغير، فيحصل الاختلاف ويقع التنازع وتقع الشحناء فيقول: لا. أنا ما قصدت هذا، فيقول هذا الآخر: أنت لم تقل إلا هذا، فهذا قد يحصل؛ لأنه شيءٌ غير منضبط، فالبيوع والمعاملات من قواعد الشريعة، ومن الأصول الشرعية أن المعاملات إذا أفضت إلى التنازع أو كانت على وجهٍ يفضي إلى الشحناء والبغضاء حرمت، لأنها تقطع أواصر الأخوة بين المؤمنين، والدنيا أحقر من أن تفسد الدين، ومن هنا حرم الله بيع المسلم على بيع أخيه، وحرم النجش، وحرم الغش؛ لأنه متى ما دخلت المعاملة المالية لإفساد الدين منع الشرع منها وحرمها، فإذاً لو أجزنا السلم وأجزنا للرجل أن يدفع مبلغ العشرة آلاف في شيء لا ينضبط فقد يظن أن التاجر سيعطيه شيئاً كاملاً فيأتيه به ناقصاً، فيقول له: يا أخي! هذا ناقص، فيقول: أليس هذا كأساً؟ فيقول: بلى، فيقول: أليس هذا يسمى طبقاً؟ فيقول: بلى، فيقول: أنت طلبت مني مائة طبق وهذه مائة طبق، فإذاً إذا لم يكن هناك انضباط بالكيل أو بالوزن ولا كان هناك وصف ينضبط به الشيء فإنه لا يندفع التنازع وتقع الشحناء وتقع البغضاء فحرم الشرع هذا النوع من المعاملات، فلا يصح السلم إلا إذا كان منضبطاً، وهذا شرطٌ أجمع عليه جماهير العلماء رحمهم الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نبه عليه بقوله: (في كيلٍ معلوم ووزنٍ معلوم)، فجعل المسلَّم فيه مما ينضبط، فلو سألك سائل: ما الدليل على اشتراط هذا الشرط؟ تقول: لأن الأصل حرمة السلف وجاء الشرع باستثنائه، ولكن فيما ينضبط، فوجب تخصيص الرخصة فيه بمحلها.

حكم السلم في الأطعمة غير المنضبطة

حكم السلم في الأطعمة غير المنضبطة قال رحمه الله: [وأما المعدود المختلف كالفواكه والبقول والجلود والرءوس والأواني المختلفة الرءوس والأوساط كالقماقم والأسطال الضيقة الرءوس والجواهر والحامل من الحيوان وكل مغشوش وما يجمع أخلاطاً غير متميزةٍ كالغالية والمعاجين: فلا يصح السلم فيه]. قرر المؤلف الشرط في صحة السلم أن يكون بما ينضبط، ومفهوم هذا الشرط أن الشيء الذي لا ينضبط لا يصح السلم فيه، فقال رحمه الله: (كالفواكه)، وتعرفون أن مفاهيم الشرط في المتون معتبرة، فلما قال: (كالفواكه) يعني: إذا باعه سلماً في فواكه فقال له: أسلمتك -مثلاً- في الموز، والموز من المعلوم أن فيه الصغير وفيه الكبير، خاصةً في القديم حين كان يباع بالعدد، وفي البرتقال أو في التفاح أو في الكمثرى أو نحو ذلك من الفواكه فقد كانت تباع عدداً وإن كانت في زماننا تباع وزناً، لكن هذا المسلم فيه وهو الفواكه لا ينضبط؛ لأن فيه الكبير وفيه الوسط وفيه الصغير، فهو مختلف الأحجام مختلف الرءوس، ولذلك قالوا: إذا كان من جنس الأطعمة ولا ينضبط كالفواكه: لم يصح. قال رحمه الله: [والبقول]. إذا نظرنا إلى المعدود من البقوليات والكراث ونحوها فإنها لا تنضبط؛ لأنها من ناحية الحجم فيها الكبير وفيها الصغير، وحينئذٍ يقع الاختلاف بين البائع والمشتري مثلما ذكرنا فيما لو أسلمه في معدود لا ينضبط، وهذا من جنس الأطعمة، وقد مثل المصنف بالفواكه والبقول، والأمر يشمل الأطعمة الأخرى فلا ينحصر الأمر في الفواكه أو في البقول، مثلاً: لو أسلمه في شيء من أنواع الأطعمة الأخرى التي لا تنضبط، مثلاً: الكمثرى أو الخيار أو القثاء أو الطماطم أو البطاطا أو البطيخ فإنه لا ينضبط فلو قال له: أسلفتك هذه الألف ريال في مائة من البطيخ، ويكون موسم البطيخ في أول رجب فإنه لا يصح؛ لأن البطيخ لا ينضبط، ولو أسلمها في قرع فالقرع لا ينضبط كذلك، إذاً لو سألك تاجرٌ خضروات عن بيع السلم على هذا الوجه تقول: لا يصح؛ لأنه لا ينضبط، والسنة قد دلت على لزوم الانضباط دفعاً للشحناء والتنازع كما يفهم من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يسلم في كيلٍ معلوم أو وزن معلوم إلى أجلٍ معلوم)، وهكذا لو سأل بائع البقول تقول: إن البقول لا تنضبط، أما لو انضبطت وكانت من الطعام المنضبط لأجزناه مثلما تقدم معنا، ومثلاً الآن نجد بعض شركات الأطعمة تتكفل بالطعام ويكون وزنه معلوماً وكيله منضبطاً، وتوضع في أغلفة معينة لأحجام معينة، فهم يعطون المشتري عينة قبل أن يعطوه الشيء المسلم فيقولون: هذه عينة هذا النوع ونعطيك من هذا النوع والصنف، وفعلاً إذا جاء الأجل يسلمونه بذلك النوع المعين أياً كان المطعوم، حتى ولو كان من الحلويات، فلو أنه أسلمه من الحلويات الموزونة وقال له: هذه ألف ريال في حلوى من النوع الفلاني مقابل عشرة صناديق منها -مثلاً- خمسة صناديق من النوع الفلاني والصنف الفلاني فيأتي التاجر إلى تاجر الجملة ويعطيه هذا المبلغ، في بعض الأحيان يعطيه إلى شهر ويقول: هذه البضاعة ليست موجودةً عندي، ولاحظوا أن أكثر ما يقع هذا النوع من البيع بين التجار في بيع الجملة؛ لأن هذا التاجر يحتاج إلى توريد هذا الشيء من أجل أن يعرضه على الأفراد، وقليلاً ما يقع في بيع الأفراد، فأكثر ما يقع بيع السلم في بيع الجملة وأكثر من يسأل عنه التجار إذا اشتروا صفقات كبيرة؛ لأنه غالباً ما يشتريها إلى أجل معلوم وتكون منضبطة بصفاتها ومنضبطة أيضاً بمواعيدها، فإذا كانت طعاماً فقد ذكرنا أن الطعام إذا كان من الفواكه أو البقول التي لا تنضبط لم يصح السلم.

حكم السلم في الجلود والرءوس

حكم السلم في الجلود والرءوس قال: [والجلود]، الجلد منه ما هو رقيق ومنه ما هو ثخين، ومنه ما يسلم من القد وما لا يسلم من القد، وبناءً على ذلك لا يصح السلم في الجلود؛ لأن الجلود لا تنضبط، ثم لا تنضبط أحجام الحيوانات نفسها، أي: أنه لو أن رجلاً في المسلخ يأتي -وكثيراً ما يقع هذا في تجارة الأحذية أكرمكم الله فالتجار يحتاجون إلى الجلود ليصنعوا منها حقائب وأوعيةً أو غير ذلك -يأتي إلى جزار ويقول لصاحب المجزرة: احفظ لي مثلاً مائة جلد من الغنم وهذه ألف ريال، أو مثلاً: أريد عدداً معيناً من جلد البقر وهذه ألف ريال، ويحدد له العدد، هل يصح؟ نقول: لا يصح؛ لأن الجلد من الشاة المذبوحة أو البقرة أو الناقة المنحورة لا نعلم أهو من النوع الكبير أم الصغير، فما تستطيع أن تضبط أحجام الحيوانات لكن بسنها قد تنضبط إذا كان المبيع داخلاً في البيع، لكن أنت تريد الجلد، ولا تريد المبيع حياً ولا تريد لحمه موزوناً، إنما تريد الجلد، والجلد فيه الصغيرة والكبير فلا ينضبط بوزنه؛ لأنه ليس من جنس ما يوزن إنما يراد به الحجم والجلد، ولذلك يمتنع السلم في الجلود، فلو سألك من يشتري الجلود: إذا طلبت من المسلخ -مثلاً- مائة جلد غنم، وأعطيته ألفاً حاضرة على أنه سلم فهل هذا جائز؟ تقول له: لا يجوز، قال: يا أخي! هذه تجارة، فما الحل؟ قل له: الحل يسير، وكل وكالة، وقل له: اشترِ لي الجلود في موسمها ثم لك عن كل جلدٍ تحضره خمسة ريالات أو ريالان أو ثلاثة ريالات، فتعطيه حقه وتكون إجارة؛ فحينئذٍ الناس لا تتعطل مصالحهم، ويكون هناك البديل الشرعي الذي يضمن فيه السلاخ حقه والجزار حقه ويضمن أيضاً فيه التاجر حقه. قال: [والرءوس]. مثلاً: الذين يبيعون الرءوس المشوية مثل المندي -وهذا يقع في الحاضر كما كان يقع في القديم، فكانوا يبيعونه بهذه الصفة وكانت هذه التجارة موجودة ومشهورة- يأتي الرجل صاحب الحفرة الذي يشوي الرءوس، فلا يستطيع أن يذهب ويحضر هذه الرءوس، فيقول للجزار: أريد مائة رأس من الغنم من أجل أن أطبخها وهذه ألف أسلمتكها في مائة من رءوس الغنم، فنقول: لا يصح؛ لأن الرءوس لا تنضبط وليست من جنس ما ينضبط، والحل أن يعدل إلى الإجارة؛ لأن الرأس ولو كان من الغنم وعلم جنسه وعلم نوعه لكن لا ينضبط فهناك رأس كبير وهناك رأس صغير فالرءوس لا تنضبط، وأحجامها ليست بمنضبطة فلا يصح السلمُ فيها دفعاً للتنازع.

حكم السلم في الأواني

حكم السلم في الأواني قال: [والأواني المختلفة الرءوس]. بعد أن بين رحمه الله السلم بالمطعومات وبالجلود شرع رحمه الله في غيرها كالأواني، والأواني تنقسم إلى قمسين: منها ما ينضبط ومنها ما لا ينضبط. أما ما ينضبط من الأواني فغالب ما في زماننا الآن، حيث وجدت المصانع وانضبطت الأواني سواءً كانت زجاجية أو نحاسية أو حديدية انضبطت بالصفات، حتى إنك تجد كل صنف من الأواني له رقم معين، وله وصف معين والتجارة به معلومة، والمصانع التي تقوم بصنعه ودقه ونقشه ونحو ذلك معلومة، فإذا كانت الأواني منضبطة جاز السلم فيها، فلو جاء تاجر الأواني وقال لصاحب المصنع: هذه عشرة آلاف ريال أعطيكها وأسلفها لك لقاء مائة صندوق من صنف كذا من الأواني الزجاجية أو النحاسية أو غيرها فيقول: قبلت. فإذا كانت الأواني معلومة النوع والصنف ولها أرقامها ولها صفاتها المنضبطة فيها صح السلم أجلاً؛ لأن المقصود أن يكون المسلم منضبطاً معلوم الصفات وهذا متحقق في السلم على هذا الوجه. أما لو كانت الأواني غير منضبطة ومختلفة الرءوس، مثل ما ذكر: القماقم من النحاس، ففي القديم كان النحاس إذا صنع صنعاً يدوياً يختلف بالصنعة، فتارةً يوسع فوهة الصاع وتارةً يضيقها، وتارةً يصنع المد فيضيق فوهته وتارةً يوسعها، فلا تنضبط في هذه الحالة، فمثل العلماء بالأواني المختلفة الرءوس، فهناك أوانٍ رءوسها ضيقة وأوانٍ رءوسها واسعة، ثم الأوساط، فبعضها أوساطها واسعة وبعضها أوساطها ضيقة، ومثل ذلك ما يسمى في عرفنا (الزير) المصنوع من الفخار وأواني الفخار ونحوها هذه مختلفة الرءوس مختلفة الأوصاف لا يمكن ضبطها أما لو صنعت على وجهٍ تنضبط به وأمكن ضبطها جاز السلم فيها على القول بجواز السلم في المعدود. قال: [والأوساط]، كذلك [كالقماقم والأسطال الضيقة الرءوس]. الأسطال: جمع سطل، والسطل من المعلوم أنه تكون له العروة، ويكون واسعاً ويكون ضيقاً، ومثلها: الطشت، فالأسطال تضيق وتتسع، ورءوسها تختلف، والقماقم أوساطها تتسع وتضيق، فهذه وأمثالها لا يصح السلم فيها، فالقاعدة كلها تدور حول الشيء المنضبط، ومثّل العلماء رحمهم الله بهذه الأمثلة وطالب العلم لا يحس بفجوة بينه وبين المسألة؛ لأن المسألة تقوم على التمثيل والتنظير وهم تارةً يحكون مثالاً من الطعام ومثالاً من الأواني؛ لأنه لو مثّل بالطعام ربما أعجزك سؤال في الأواني، لكن حينما يجعل لك مثالاً من الطعام ومثالاً من الأواني، والطعام نفسه يعطيك مثالاً على ما اختلف في خلقته، ومثالاً على ما يحصد مثل البقول بعد أن يحصدها ويحزمها، فحزمة واسعة وحزمة ضيقة فيعطيك أمثلة للتنظير حتى تستطيع أن تطبق هذه النظرية على أفرادها، وتضع القاعدة وتطبقها على فروعها، فالقاعدة كلها تدور حول الانضباط، فإن كان المبيع منضبطاً صح السلم فيه مكيلاً كان أو موزوناً أو معدوداً على القول بجواز السلم في المعدود، وإن كان غير ذلك فلا يجوز.

حكم السلم في الجواهر

حكم السلم في الجواهر قال: [والجواهر]. الجواهر لا تنضبط لأنها مختلفة الرءوس، ومختلفة الأحجام في القديم، لكن في زماننا اليوم أمكن تصنيعها ووضع ضوابط معينة، فتجار الجواهر يضعون مثلاً للألماس أحجاماً معينة بأرقام معينة، بل حتى إن الآلات التي تصنعها لها أرقام محفوظة ودقيقة، والتجار الذين يتعاملون بالجواهر يعلمون ذلك، فيأتي طالب العلم ويقول: الذي أدركنا عليه العلماء أن الجواهر لا يجوز فيها السلم، والسبب أننا قرأنا في الفقه أن الجواهر لا يسلم فيها، لكن حينما يعلم أن العلة هي الانضباط يعلم أن مدار الأمر على وجود هذا الوصف وهو الانضباط، فإن انضبطت الجواهر كما هو موجود وكان تجار الجواهر لهم فيها أرقام معينة يضبطونها بها صح السلم، وإن كانت الآلات التي تصنع بها يديوية لا تنضبط بها لم يصح السلم. وكذلك الأحجار الكريمة، حيث توجد الآن بعض الآلات التي تقص الأحجار الكريمة قصاً معيناً بأحجام معينة، فإذا انضبطت هذه الأحجام صح السلم وإذا لم تنضبط لم يصح. قال: [والحامل من الحيوان]. والحامل من الحيوان كذلك، فهو مجهول ولا يدرى قدره ولا يعلم ما فيه، فلو أسلم: في مائة شاة حامل في بطونها أولادها ما يصح، وهكذا الإبل وهكذا البقر؛ لأنها مجهولة لا يعلم ما فيها.

حكم السلم في المغشوش والمخلوط غير المتميز

حكم السلم في المغشوش والمخلوط غير المتميز قال: [وكل مغشوش]. من دقة المصنف ذكر لك ما اختلف في حجمه، فإذا قلت: إن مختلف الحجم لا ينضبط تأتي أمورٌ ملحقة بهذا المعنى ليست من جنس الأحجام كالسوائل، فالسوائل ممكن ضبطها بالوزن وممكن ضبطها بالكيل، مثلاً: عندنا العلبة التي يوضع فيها العود، لو قال له: أسلم في مائة علبة من العود، فهذا في حكم المكيل، وتكون معدودة بالعدد على القول بجواز السلم في العدد فلا إشكال، وهناك أنواع من العود: كالكمبودي أو الهندي، فالنوع المخصوص الذي يريده، إذا وضع له ضابطاً في هذا النوع من العود لا إشكال، لكن لو أن السلم وقع على نوع من الطيب مخلوط، فإنه لا ينضبط إذا كان مخلوطاً، فإن طيب الأخلاط كما سيأتي مثل مختلف الرءوس ومختلف القماقم من حيث المعنى، فالأمر لا يختص بالجوامد بل يشمل حتى السوائل. قال رحمه الله: [وما يجمع أخلاطاً غير متميزةٍ كالغالية والمعاجين]. جاء المصنف رحمةُ الله عليه بأمثلة من الجوامد، فأعطى مثالاً على الطعام، وأعطى مثالاً على غير الطعام، ثم بعد ذلك ذكر السوائل، قال: (وما يجمع أخلاطاً)، يعني: يجمع أكثر من نوع فلا ينضبط به، ولا يمكن أن تحدد كم نسبة هذا من نسبة هذا فلا يصح، ما السبب؟ لأنه يوجب الشحناء والنزاع، ولا يمكن به حفظ الحقوق، لا حفظ حق البائع ولا حفظ حق المشتري؛ لأن الأخلاط يقع فيها الخطأ في التقدير والضبط فيها يكون متعذراً أو متعسراً. قال: [أخلاطاً غير متميزةٍ كالغالية والمعاجين]. أما إذا تميزت جاز، فمثلاً لو عندنا صنف من الطيب كصنف يخلط من العودة والورد، وكان للعودة نسبة معينة في العلبة، وهي نصف العلبة، فيخلط بطريقة معينة يتميز بها، كأن يكون نصف التولة من العود ونصف التولة من الورد، ويخلط، وأهل الخبرة يضبطونه بذلك: صح؛ لأن مدار المسألة على الانضباط فإذا لم ينضبط: لم يصح. قوله: (كالغالية والمعاجين فلا يصح السلم فيه). فلا يصح السلم فيه للعلة التي ذكرناها.

حكم السلم في الحيوان والثياب المنسوجة من أنواع

حكم السلم في الحيوان والثياب المنسوجة من أنواع قال رحمه الله: [ويصح في الحيوان والثياب المنسوجة من نوعين]. أي: ويصح السلم في الحيوان وذلك بذكر جنسه ونوعه وسنه، فيقول مثلاً: أسلم في مائة من الإبل في سن البكر أو مائةٍ خياراً رباعياً، أو مائة جذعة قالوا: يصح، وهذا مبني على الخلاف المشهور، وهو هل المعدود يدخل في جنس السلم أو لا؟ وللعلماء في هذه المسألة وجهان، قال جمهور العلماء: يصح السلم في المعدودات؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الكيل والوزن تنبيهاً على العدد. قال: [والثياب المنسوجة من نوعين]. الثياب المنسوجة -أي: المخيطة- معدودة؛ لأن الثياب إذا لم تكن مخيطة فإنها مذروعة وليست بمعدودة، وحينئذٍ أدخل الثياب في جنس المسلم في باب العدد، والثوب لا يخلو من حالتين: إن كان من قماشٍ واحد فلا إشكال، مثل الموجود الآن عند تجار القماش، يأتي إلى تاجر ويقول له: هذه مائة ألف، أريد -مثلاً- بيعة من الثياب المفصلة من نوع -مثلاً- (الأصيل) الموجود الآن عندنا، لو طلب مائة ثوب من (الأصيل)، قال: أريدها -مثلاً- في موسم رمضان في نهاية شهر شعبان، صحت على القول بالعدد، فيصفه بأوصافه ويحدد الأوصاف الموجودة فيه، أو كما يوجد -مثلاً- الذي يسمى في عرفنا: (الفنائل) ونحن نمثل بأشياء موجودة الآن، فيكون التطبيق أوضح -قال له: أريد أن أشتري منك -مثلاً- بيعة الفنائل أو الشماغ أو الغتر ونحوها، فحدد نوعها وصنفها وعددها، وحدد الأجل الذي يستلم فيه وأعطاه -مثلاً- مائة ألف أو أعطاه مائتي ألف لهذه البيعة صح وجاز؛ لأن الثوب منضبط إذا كان من مادة واحدة وخام واحد ولا إشكال فيه، يقول: أريد ألوانها بيضاء أو ألوانها مختلفة أو أريد الألوان الآتية: الأبيض، الأخضر، الأصفر. إلخ، يكون هناك نوع من الانضباط التام ببيان الجنس والنوع والصنف والمقاسات والأطوال إلخ، هذا يصح، ولا إشكال عندنا فيه على القول بصحة السلم بالمعدود، والمصنف بعد أن انتهى من الأشياء التي تكون في الأطعمة وتكون في السوائل والجوامد شرع في الثياب، فإن كانت الثياب منسوجة من أكثر من نوع ونسجها لا يمكن أن ينضبط لا يصح السلم، كما ذكرنا فيما تقدم إذا كان لا يمكن أن ينضبط، لكن إذا كان نسجها ينضبط وكان تحديد كل خام وقدره معلوماً عند أهل الخبرة صح السلم فيه وجاز.

حكم السلم فيما خلطه غير مقصود

حكم السلم فيما خلطه غير مقصود قال رحمه الله: [وما خلطه غير مقصودٍ كالجبن وخل التمر والسكنجبين ونحوها]. أي ويصح السلم في الشيء الذي خلطه غير مقصود، ولو كان الشيء جمع أكثر من مادة، كالجبن، فمادته من اللبن مع الأنفحة، لكن هذا الخلط غير مقصود، فأنت عندما تشتري الجبن ما تريد الأنفحة ولا تريد اللبن منفصلاً، فالخلط فيه غير مقصود، فتشتري المادة من أجل الشيء الموجود دون النظر إلى الخلط الذي فيه، وهكذا خل التمر وهكذا الدبس، أو نحوه مما يكون فيه أكثر من مادة ولا يكون المخلوط مقصوداً بنسبه؛ لأنه إذا قصد بنسبه فمعناه أنه ينبغي أن نعطي كل نسبة حظها وحقها، لكن إذا كان الخلط فيه غير مقصود، أو كانت طبيعة صنعه تقوم على ذلك فإنه لا يؤثر ولا يضر؛ لأن خل التمر هو خل تمر، فلا تأتي تقول: خل التمر فيه مادة كذا ومادة كذا، فأريد خل تمر فيه نسبة (80%) من المادة الفلانية، وفيه: (20%) من المادة الفلانية، أي: أنه تختلف نسبه، فخل التمر صفةٌ واحدة وإن كان بعضه جيداً وبعضه أجود، لكن المادة واحدة، والخلط الموجود يراد بمادته ولا يراد بأجزائه وأفراده، لكن إذا اشتريت القماش مركباً من نوعين من الخام فإنه يراد لذلك، ولذلك تجد هناك ما فيه صوف وغير الصوف، وتجد الصوف له قيمة وغير الصوف له قيمة، كذلك الصوف له نسبته وغير الصوف له نسبته، فالمقصود أنه إذا كان الخلط غير مقصود جاز وصح. قال: [والسكنجبين ونحوها]. والسكنجبين: نوع من الدواء، لو سألك صيدلي -مثلاً- أنه يريد أن يسلم إلى تاجر في الأدوية يقول له: هذه مائة ألف أريد -مثلاً- من الدواء الفلاني عدد كذا، فيحدد العدد ويحدد صنف الدواء والأشياء الموجودة فيه، فإذا تميز صح وجاز، وإن كانت الأدوية في تركيبها أخلاطاً، مثلاً: لو طلب منه شراباً لعلاج السعال، أو حبوباً لعلاج القرحة فهذه الأدوية مخلوطة، لكن هذا الخلط غير مقصود، إنما انصب السلم على مادةٍ مكتملة هي التي تسمى بالأسبرين أو هي التي تسمى -كما ذكر العلماء- بالسكنجبين وغيرها من الأدوية الأخرى فهي أكثر من مادة، لكنها بالخلط صارت مادة واحدة وأريدت مخلوطة، فلا تقل: القاعدة عندنا أن المخلوط لا يجوز السلم فيه، والخلط في الأدوية غير متميز فلا يصح، لا، فقد ذكر رحمه الله السكنجبين أصلاً للأدوية التي تنضبط بأعدادها أو بأوزانها أو تنضبط مكيلةً، ففي هذه الحالة إذا انضبطت جاز وصح السلم فيها، فلو سألك صيدلي أنه يريد بيعة من دواءٍ معين من شراب، أو يريد بيعة من حبوب لعلاج، وهذه البيعة بمائة ألف، وذكر لك الشيء الذي أسلم فيه من الأدوية وتميز بصفاته، فذكره منضبطاً بكيله إن كان مكيلاً أو بوزنه إذا كان موزوناً أو عدده الذي لا يختلف بأشكاله إن كان معدوداً صح وجاز، والعكس بالعكس، إن كان الخلط يراد فيه المواد منفصلةً لم يصح ذلك ولم يجز إلا بعد الانضباط.

الشرط الثاني: ذكر الجنس والنوع

الشرط الثاني: ذكر الجنس والنوع قال رحمه الله تعالى: [الثاني: ذكر الجنس والنوع]. يقول رحمه الله: (الشرط الثاني: ذكر الجنس) أي: جنس المسلم فيه (ونوعه)، فجنسه -مثلاً-: بهيمة الأنعام، ونوعه: من إبل أو بقر أو غنم، فلو قال له: هذه مائة ألف أسلمتكها في مائة رأس من الحيوان، لم يصح حتى يبين نوع جنس هذا الحيوان، فإذا قال: من بهيمة الأنعام قيل: لابد أن تذكر نوع بهيمة الأنعام: الإبل أو البقر أو الغنم، فإذا قال: من الغنم، فإنه يُحدد: هل هي من الضأن أو من الماعز، وإذا قال: من الإبل، قيل: هل هي عرابي أو بختية، وكذلك البقر، هل هي من البقر أو من الجواميس، ففي بعض الأعراف يكون البقر والجواميس كالشيء الواحد، فإذاً لابد أن يحدد الجنس ويحدد النوع. قال رحمه الله: [ذكر الجنس والنوع وكل وصف يختلف به الثمن ظاهراً وحداثته وقدمه]. إذا الفرق بين هذا الشرط والشرط الأول: أن الشرط الأول يحدد لك مكان السلم، ويخرج ما ليس بمحلٍ للسلم، فإذا قلنا: مكان السلم المنضبط -فقد يسلم في منضبط فيقول: هذه في مائة رأس من الغنم- لكن لو لم يحدد كم عددها وما هو نوعها ومن أي أنواع الغنم، من الماعز أو من الضأن، أو يقول: من الإبل ولا يحدد نوعها عرابي أو بختية ولا يحدد سنها، إذاً لابد للشيء أن يكون من جنس ما ينضبط ثم يضبط، إذاً: الشرط الأول شيء والشرط الثاني شيءٌ آخر، والشرط الثاني مركب على الشرط الأول، فإنه إذا وجد الشرط الأول وهو كامل منضبط يرد Q هل يطلقه بدون أن يذكر ما ينضبط به أم لابد من ضبطه بالمكيل كيلاً والموزون وزناً؟

اشتراط ذكر الأوصاف التي يحصل بها الاختلاف في السلم

اشتراط ذكر الأوصاف التي يحصل بها الاختلاف في السلم قال: [وكل وصف يختلف به الثمن ظاهراً وحداثته وقدمه]. أي يشترط أن يذكر هذه الأمور والأوصاف التي يختلف فيها المبيع ثمناً وكذلك رغبةً فيقول -مثلاً-: العودة الكمبودي أو الهندي هناك نوعان منه: نوعٌ قديم ونوعٌ جديد، كذلك التمر السكري: يكون للعام الماضي وللسنة الحالية، فلابد أن يبين هل هو قديم أو حديث؟ ولابد أن يذكر هذه الأشياء؛ لأن القديم له قيمة والحديث له قيمة، وقد يكون القديم أغلى من الجديد، مثلاً دهن العود القديم منه أفضل من الجديد. أربعةٌ قديمهن أجود خِلٌ وخَلٌ دُهن عود عسجد الخِل: هو الصديق، فالقديم من الأصدقاء أجود من الجديد، وخَلٌ: الخَل القديم أفضل من الجديد، دُهن عودٍ: العود القديم أفضل من الجديد، عسجد: الذهب، الذهب القديم أفضل من الجديد، فهذه الأشياء تختلف في جودتها قدماً وحداثة، فإذا كان جديداً فإنه يكون أقل وأردأ، والعكس وارد فهناك أشياء جديدها أفضل من قديمها، كالتمور مثلاً، فإن التمور قديمها ليس كالجديد، فالجديد أفضل وأطيب، فحينئذٍ لابد أن يذكر: هل هو من القديم أو من الجديد دفعاً للتنازع، والقاعدة هي القاعدة، وخذ هذا أصلاً لا بد أن يسير عليه طالب العلم في المعاملات خاصةً بيوعات المعاوضات: أن كل شيء يختلف، سواءً قدماً وحداثة، كبراً وصغراً ونحو ذلك يختلف باختلافه الثمن، فلابد وأن يضبط البيع، ولا يمكن أن يصح البيع إلا إذا ضبط وحدد، أما لو أطلق فإن هذا مظنة التنازع ومظنة الاختلاف ومظنة لأكل أموال الناس بالباطل؛ لأنك تشتري وأنت تريد الجديد وتقصد لنفسك الجديد فيعطيك القديم، تقول له: اشتريت أواني جديدة، قال: وأنا بعت أواني قديم؛ لأنك لم تشترط عليه الجديدة، فإذاً لابد من بيان ما تنضبط به صفاته وما يختلف به الثمن ظاهراً بقدم وحداثة ونحو ذلك.

حكم اشتراط أجود أو أردأ شيء في السلم

حكم اشتراط أجود أو أردأ شيء في السلم قال رحمه الله: [لا يصح شرط الأردأ أو الأجود بل جيد ورديء]. إذا قلنا: إنه لابد أن تستوي الصفات فقال: هذه عشرة آلاف لقاء ألف صندوق -مثلاً- من التمر السكري من تمر هذه السنة، قال: وأشترط أن يكون أجود التمر السكري، لم يصح؛ لأن أجود أفعل، والأجود ما ينضبط، فأصبح المنضبط يئول بالشرط إلى ما لا ينضبط، فإن الأجود عندي ليس كالأجود عندك، والأجود عند البائع ليس كالأجود عند المشتري، وبناءً على ذلك إذا أدخل شرطاً يوجب الغرر فإنه لا يصح، فإذا قال: من الجيد، فالجيد وصف في السوق، وعندما يحصل التنازع بينهما نسأل أهل الخبرة ونقول: هل هذا جيد؟ فلو قال أهل الخبرة: نعم، هذا جيد، لزم المشتري أن يأخذه، لكن لو قال: أريد الأجود، فالأجود لا ينضبط؛ لأن الأجود عند المشتري ليس كالأجود عند غيره ومن هنا قالوا: يفرق بين الأجود والجيد؛ لأن الرديء وصف، وفي بعض الأحيان لا يقال: طيب ورديء وإنما يقال: رقم واحد، أو اثنين أو ثلاثة، أو درجة أولى، أو درجة ثانية، أو بالأماكن فيقال -مثلاً-: مشرقي أو مغربي أو جنوبي أو شمالي، فينضبط بالجهات ويضبط بالأوصاف، كل هذا يكفي إذا كان من جنس ما ينضبط، لكن إذا كان من جنس ما لا ينضبط ومما يوجب الغرر فإنه يئول إلى الأصل الذي ذكرنا أنه يوجب التنازع الذي يحكم بسببه بعدم صحة السلم.

حكم إتيان البائع بما هو أفضل من المتفق عليه أو قبل الوقت

حكم إتيان البائع بما هو أفضل من المتفق عليه أو قبل الوقت قال رحمه الله: [فإن جاء بما شرط أو أجود منه من نوعه ولو قبل محله ولا ضرر قي قبضه لزمه أخذه]. قوله: [فإن جاء بما شرط]. عرفنا أنه يشترط في المسلم فيه أن يكون مما ينضبط وأن تذكر صفات ضبطه، لو قال له: أريد من التمر السكري الجيد، يقولون: فاخر، وهذا في عرف الناس أن منه الفاخر، والفاخر يمتاز بكبر حجمه، وأيضاً: الري، فتكون الحبة من التمر ظاهرٌ فيها الريّ، وفي بعض الأحيان تراها كبيرة بسبب الكيماوي أو نحوه، لكن ما فيها ما يدل على الغذاء والري، فإذا جاءه به -مثلاً- من التمر الفاخر، وقال: هذا من جيد السكري، فإنه يكون قد جاءه بأفضل من الجيد وهو الأجود، فإذا قال المشتري: أنا اشتريت فاشترطت أن يكون من الجيد، فقال له البائع: جئتك بالجيد وزيادة، قال له: لا. ما أريد إلا الجيد، فما الحكم؟ يلزم بأخذه؛ لأنه أعطاه صفته وزيادة إلا إذا وجد الضرر في أخذه، مثلاً: لو أن رجلاً اشترى نوعاً من الطيب من العودة وقال له: أريد الصنف الرديء الذي هو الدرجة الثانية، فقال له: قبلت أعطيك مثلاً مائة علبة منه في نهاية شوال بألف ريال أو بألفين، قال: اتفقنا، ففي نهاية شوال جاءه بجيد أفضل من الرديء قال له: ما أريد؛ لأن هذا أجود من الرديء الذي طلبت وأنا أريد الرديء؛ لأنه هو المرغوب؛ لأنني أبيع بين أناس فقراء لا يعرفون كلمة الجيد ولا يرغبون الجيد وأنا أتضرر، فمع كونه جيداً، لكنه يتضرر، فنقول: إذاً يلزم البائع بإحضار النوع الرديء؛ لأنه وإن كان قد أعطاه الجيد إلا أنه يفوت عليه مقصوده من تصريف البضاعة من محله، فيلزم بإحضار المثل. إذاً ليست المسألة أنه إذا جاء بدل الجيد بأجود منه أنه ملزم بأخذه مطلقاً، وانظروا إلى العدل وكيف أن الفقهاء رحمهم الله يضعون الضوابط لرد الحقوق إلى أصحابها، فما دام أنه يريدها للتصريف والتجارة، ومثل هذا إذا كان أجود لا يتصرف فلا يلزم به، كذلك أيضاً ربما لو قال له: من تمرٍ رديء، والتمر الرديء يريد أن يبيعه علفاً للدواب فجاءه بتمرٍ جيد، فقال له: أنا لا أقبل هذا التمر؛ لأني أريده علفاً للدواب، ولا يمكن أن آخذ شيئاً طيباً يأكله الآدمي وأعطيه علفاً للدواب؛ لأن هذا لا أراه يرضي الله عز وجل، فالآدمي أحق به، فامتنع، كان هذا من حقه، وحينئذٍ يلزم البائع بإحضار الرديء الذي اتفق معه عليه. قال: [ولو قبل محله ولا ضرر في قبضه] (ولو قبل محله) لو أنه قال له: أريد هذا في نهاية شوال فجاءه به في نهاية رمضان، إذاً البائع لم يقصر مع المشتري، المشتري قال: أريد مائة غسالة أو مائة ثلاجة في نهاية شوال فجاءه بها في رمضان، فهو أحسن إليه، فبدل أن يتأخر عجّل، فقال له: لا أريدها الآن ولا أقبضها إلا في نهاية شوال، قلنا: يا أخي! هذه تجارة قد جاءت معجلة لماذا لا تقبضها؟ قال: لا، ليست هناك مصلحة، هذه المائة ثلاجة أريدها للحج والموسم، وأريد أن أبيعها، ولو أنني قبضتها الآن سأحتاج لمستودع أضعها فيه شهراً، وهذا يكلفني ويحملني عبئاً، فمع كون الأجل سبق، ومن المصلحة التعجيل، إلا أن هذا التعجيل يؤدي إلى ضررٍ للمشتري، فنقول: لا يلزم المشتري، وينبغي أن يبقى البائع إلى الأجل المحدد فيدفع له ما اتفقا عليه؛ لأنه يستضر بهذا، وقد يكون البائع في بعض الأحيان يريد أن يتخلص من ضرر وجود السلعة عنده وحينئذٍ يصرفها حتى يأتي بغيرها، ويكون هذا أخف مئونةً عليه؛ ولكنه يثقل على المشتري وحينئذٍ قالوا: إنه لا يلزم المشتري بالأخذ إلا في المحل، أي: في الوقت الذي اتفقا عليه والمكان الذي اتفقا عليه. قال: [ولا ضرر في قبضه لزمه أخذه]. انظر دقة الفقهاء رحمهم الله، والله تعجب كيف خرجت هذه القيود وهذه الاستثناءات؛ لأن بعض المتون الفقهية عصارة فهم العلماء من خلال مخاصمات الناس ومن خلال فتاويهم ومن خلال الأقضية، وهذا الجهد الموجود في المتون الفقهية حصيلة تعب وعناء لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولذلك تجد الترتيب في الأفكار والدقة في التصريف وحسن الترتيب في التنظير، وكل ذلك من فضل الله عز وجل عليهم، ولا شك أن هذا توفيق من الله عز وجل، وهذا كله يدل على دقة العلماء وحسن احترازهم بالقيود ونحوها من خلال ما عالجوه من مشاكل الناس، فقال رحمه الله: (ولا ضرر في أخذه لزمه) معنى هذا: أن القاضي لا يلزم المشتري بالأخذ حتى ينظر، هل هناك ضرر في قبضه أو لا، فيقول: يا فلان! هل هذه سلعتك؟ قال: نعم، قال: واتفقتما على هذه السلعة؟ قال: نعم، فإذا ثبت عند القاضي أن السلعة هي السلعة انتقل إلى المسألة الثانية: يقول للبائع: ما دعواك؟ قال: دعواي أني أريده أن يقبض السلعة، ما دام أنه اعترف أنها سلعته فليقبضها؛ فيسأل القاضي المشتري: هل أنت اشتريتها واتفقت مع فلان على كذا وكذا؟ وكان الوعد بينكما كذا وكذا؟ قال: نعم، قال: إذاً معنى ذلك أنه قدم بشهر، قال له: رحمك الله لماذا لم تأخذ؟ قال: إذا أخذتها ففيها ضرر عليّ، فالموسم لم يحضر بعد، ومعنى ذلك أنني سأتكلف حفظها، وإذا كانت دواباً سأتكلف علفها وسأتكلف مئونتها وحراستها والقيام عليها، فأنا لا أريد هذا الضرر، قال: هذا الضرر يقع عليك؟ قال: نعم، فسأل أهل الخبرة، فقالوا: نعم، الموسم لم يحل بعد، فوجد أن كلام المدعى عليه صحيح، قال: ثبت عندي أن المشتري يستضر وعليه تصرف الدعوى بإلزام القبض فوراً لوجود الضرر على المشتري. والقاعدة في الشريعة: لا ضرر ولا ضرار، وما ظلم البائع أبداً؛ لأن الاتفاق أن تسلم البضاعة في عشرين أو ثلاثين من شوال، هذا الاتفاق الذي بينهما وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، فإن خرج عن الاتفاق بقي النظر للمشتري، ويقول القاضي للمشتري: أنت بالخيار، إن شئت أن تقبض فاقبض وإن شئت ألا تقبض فلا تقبض، ويقول للبائع: ليس لك أن تلزمه بالقبول.

الشرط الثالث: تحديد قدر المسلم فيه يعلم كيلا ووزنا وذرعا

الشرط الثالث: تحديد قدر المسلم فيه يعلم كيلاً ووزناً وذرعاً قال رحمه الله تعالى: [الثالث: ذِكرُ قدره بكيل أو وزن أو ذرع]. قال رحمه الله: الشرط الثالث: ذكر قدر المسلم فيه بكيل إن كان مكيلاً أو وزنٍ إن كان موزوناً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أسلف فليسلف في كيلٍ معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، فبين أن المكيل يكون معلوماً، وأن الموزون يكون معلوماً، وقد تقدم معنا ضوابط العلم في شرط العلم بالمبيع، وبينا كيفية ضبطه من ناحية الجنس ومن ناحية النوع ومن ناحية القدر والصفات المعتبرة التي يندفع بها موجب الغرر، وقد شرحنا هذا في أول شروط البيع. قال: [أو ذرعٍ يُعلم]. إذا قلنا: إن السلم يقع في المذروع أيضاً، فالقماش مذروع -وطاقة القماش فيها -مثلاً- عشرون ياردة، أو مثلاً فيها تسعة عشر متراً- فإذا أراد تاجر قماش أن يشتري بالجملة، فأسلف له مائة طاقة من القماش إلى أجلٍ معلوم واتفقا على ذلك فلابد من تحديد جنسها ونوعها وقدرها والصفات التي فيها، مثلاً: لو بين أنها من نوع السلك مثلاً، هذا النوع السلكي، إذا كان نوعاً واحداً لا إشكال، وإذا كان درجات فيذكر هل هو من الدرجة الأولى أو الثانية أو الثالثة، ثم اللون هل يريد لوناً واحداً، أو ألواناً، فإذا كان يريد لوناً واحداً فليحدد اللون، وإذا كان يريد ألواناً يحدد الألوان ويحدد عددها فيقول: هي خمسون طاقة: عشرةٌ منها من لون كذا، وعشرة منها من لون كذا، إذاً لابد وأن يكون المسلَم فيه معلوماً منضبطاً بهذا الانضباط الكامل، في الكيل كيلاً -كما ذكرنا- وفي الوزن وزناً وفي العدد عدداً وفي الذرع ذرعاً.

حكم السلم في المكيل وزنا أو العكس

حكم السلم في المكيل وزناً أو العكس قال رحمه الله: [وإن أسلم في المكيل وزناً أو في الموزون كيلاً: لم يصح] تقدم معنا أن المكيل لا ينضبط بالوزن، وأن الموزون لا ينضبط بالكيل غالباً، فمن هنا تجدون العلماء في القديم لا يحررون الآصع في الفدية والكفارات بالوزن؛ لأن التمر يختلف وزنه، والحبوب يختلف وزنها، ومن هنا جعلوا الضبط في المكيل بالكيل، وأبقوا السنة كما هي؛ لأن الانضباط فيها بالكيل كيلاً وبالوزن وزناً، وهذا هو الأصل، أن يبقى الكيل كيلاً حتى من باب فقه الفتوى وفقه السنة حتى لا يميت الناس السنة فيأتي زمان لا يعرف فيه الصاع، فلو جاءك شخص عليه فدية في الحج، كم صاعاً يجب عليه؟ نقول: ثلاثة آصع يقسمها بين ستة مساكين، الناس اليوم لو جئنا نقول لأحدهم: عليك ثلاثة آصع، يقول: ما هو الصاع؟ نقول له يا أخي! الذي تخرجه في آخر رمضان تقسمه بين اثنين، يفهم، لكن لو أصبحنا نضبط الفديات بالوزن لجاء زمان لا يعلم الناس فيه ما هو الصاع، حتى ولو جاز ضبطه بالوزن لما كان هذا من فقه الفتوى، حتى لا يأتي زمان لا يعلم الناس ما هو الصاع، وتموت هذه السنة؛ ولذلك ينبغي أن يبقى المكيل مكيلاً والموزون موزوناً؛ لأن الانضباط في الكيل لا يكون بالوزن، والموزون غالباً لا ينضبط بالكيل، ومن هنا تجد العلماء المتقدمين يحررون الفديات والكفارات وصدقة الفطر ونحوها بما وردت به السنة، ويضبطون ذلك بالسنة، إن كانت صاعاً فصاعاً، وإن كانت نصف صاع فنصف صاع فيضبطونها بالمكيل كيلاً ويحددون ذلك، وعلى هذا قال: لا يسلم في المكيل وزناً ولا في الموزون كيلاً، ورخص بعض العلماء في الإسلام في المكيل وزناً وفي الموزون كيلاً، والأولى ما ذكرناه؛ لأننا ذكرنا أن بيع السلم رخصة، والذين يجيزون بيع المكيل وزناً والموزون كيلاً يرون أن بيع السلم ليس برخصة وإنما يرونه بيعاً قائماً برأسه، وجماهير العلماء رحمهم الله وعليه الفتوى في المذاهب الأربعة أن السلم جاء على خلاف الأصل، وهو رخصة واردة ثبت بها النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعتبر مستثناةً من الأصل؛ لأن فيها نوعًا من الغرر، وكذلك فيها نوع من الجهالة وبناءً على ذلك قالوا: إنها استثنيت لورود النص، وعليه يقدر المكيل كيلاً والموزون وزناً.

الشرط الرابع: تحديد الأجل

الشرط الرابع: تحديد الأجل قال رحمه الله تعالى: [الرابع: ذِكر أجل معلوم له وقع في الثمن]. أن يكون السلم إلى أجلٍ معلوم، فلابد أن يحدد هذا الأجل، فيبين السنة ويبين الشهر ويبين اليوم؛ فهناك سلم لا ينضبط إلا باليوم فيحدد الأجل، وهناك بعض البيوعات يكون التحديد فيها بالساعات، وقد يكون التحديد بأول النهار وآخر النهار، فكل شيء فيه غرر أو فيه ضرر في المواقيت والمواعيد وجب تحديده إن كان مما يلزم الدقة فيه لزم التدقيق، وإن كان مما يتسع فإن الأمر يبقى فيه على السعة، لكن لابد من ذكر الأجل، أما الدليل على اشتراط الأجل فقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عنه قال: (فليسلف في كيلٍ معلوم ووزنٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم)، فلابد وأن يكون السلم إلى أجلٍ معلوم، فلو قال له: أسلمتك هذه المائة ألف لقاء ألف صاعٍ من تمر متى ما جئتني بها: لم يصح، ولم يجز ذلك، بل لابد أن يحدد الأجل الذي يكون إليه السلم. قال: [له وقعٌ في الثمن]. أي: له أثر في الثمن، ولا يصح أن يقول له: أسلمتك هذه الألف ريال لقاء مائة صاع في آخر النهار، فإن آخر النهار أجل، لكنه أجل ليس له وقعٌ في الثمن، والسبب في قولهم: له وقعٌ في الثمن، حتى تتحقق الرخصة التي من أجلها جاء السلم؛ لأنه إذا كان له وقع في الثمن معناه حصلت الرخصة من الاتفاق بتعجيل الثمن فحينئذٍ يرخص المبيع، فصار هذا من رحمةِ الله عز وجل بالأسواق مما يؤدي إلى رخصها والرفق بالمشتري إذا اشترى على هذا الوجه. قال رحمه الله: [فلا يصح حالاً ولا إلى الحصاد والجذاذ]. (لا يصح حالاً) إذا كان مثل ما ذكرنا، لو قال: إلى نهاية اليوم أو بعد ساعتين أو بعد ثلاث فهذا بيع معجل وأما إذا قال: إلى نهاية الحصاد فإن الحصاد لا ينضبط، هناك حصاد معجل وهناك حصاد وسط وهناك حصاد مؤجل، فمثلاً إذا قال له: إلى حصاد النخل، فالنخل منه ما يجد مبكراً عند بداية استوائه تمراً، ومنه ما يتأخر إلى نشاف العرجون وقد يأخذ العرجون في النشاف ما يقرب من شهر كامل، فلو قال له: إلى الحصاد فيبس الثمر، فإنه يقول: أنا قصدت أول اليُبس، فيقول الآخر: لا. بل قصدت قطعه من على النخل، أو قصدت تمام اليبس، فيقع بينهما التنازع، فكما يقع النزاع الصفات وغير المنضبطة كذلك يقع في الآجال غير المنضبطة. قال رحمه الله: [ولا إلى يوم إلا في شيء يأخذه منه كل يوم كخبز ولحم ونحوهما]. (ولا إلى يومٍ) يقول: في غدٍ مثلاً، إلا في مثل خبزٍ يأخذه يومياً، مثلاً لو قال له: هذه خمسمائة ريال، كل يومٍ يأتيك فلان ويأخذ منك عشرة آصع من تمر كذا، ويكون شخصاً يتصدق على غيره، فيقول لوكيله: سأجعل لك عند بائع التمور الفلاني عشرة آصع لمدة عشرة أيام، هذه المائة صاع أريدك كل يوم تأخذ منها عشرة آصع وتفرقها على مساكين بني فلان، فهذا الوكيل الذي سيقبض، سيقبضها مقسطة. كذلك أيضاً في المكيلات، فالحليب -مثلاً- يباع باللتر، فقال له: يأتيك ابني كل يوم ويأخذ كيلو حليب، لمدة ثلاثين يوماً في الشهر، وهذه مائة وخمسون ريالاً لقاء الحليب، كل يوم تعطيه كذا وكذا، ويقع أيضاً في البقالات، مثلاً يجد شخص أيتاماً أو أرملة يحتاجون إلى طعام يوم، وهذا الطعام من جنس ما ينضبط، فيقول لصاحب البقالة -إذا رخص بمعدود كالخبز- هؤلاء الأيتام سيأتونك كل يوم فأعطهم مثلاً بعشرة ريالات، ثلاثة ريالات مثلاً لخبز من نوع كذا وكذا، وثلاثة ريالات للجبن من نوع كذا وكذا، فيحدد المعدود والموزون والمكيل، فيأتي كل يوم ويأخذ قسطاً، فهذا سلم مقسط في الأيام فحينئذٍ يجوز ولا حرج.

الشرط الخامس: وجود المسلم فيه وقت التسليم

الشرط الخامس: وجود المسلم فيه وقت التسليم قال رحمه الله تعالى: [الخامس: أن يوجد غالباً في محله ومكان الوفاء لا وقت العقد]. يشترط في صحة السلم أن يكون المبيع موجوداً في محله في غالب الظن مثلاً: عندنا التمر، فالتمر يكون رطباً ثم يتمر، والرطب لا يوجد إلا في زمان معين وفي موسمٍ معين، لكن التمر يمكن أن يوجد في زمان الصيف، ويمكن أن يوجد في زمان الشتاء إلا أنه في زماننا -بفضل الله عز وجل- لوجود الثلاجات والبرادات أمكن إيجاد الرطب في زمان غير زمانه، لكن في القديم الرطب غير موجود في حال إكنان النخل، وهو عدم وجود الطلع، وكذلك في بداية الطلع، فالرطب لا يوجد إلا في زمانه ووقته، فلو أنه أسلم له في شيء لا يوجد في زمان فحدده إلى نهاية شوال، وفي نهاية شوال لا يوجد هذا الشيء سواءً كان من جنس الأطعمة أو من جنس الأقمشة أو من جنس المبيعات الأخرى، لم يصح السلم، والسبب في هذا أنه على هذا الوجه يكون قد دخل في الغرر، وأصبح السلم غير غالب على الظن وجوده، فمن هنا لا يصح على هذا الوجه.

الحكم إذا تعذر الوفاء بالمتفق عليه في السلم

الحكم إذا تعذر الوفاء بالمتفق عليه في السلم قال رحمه الله: [فإن تعذر أو بعضه فله الصبر أو فسخ الكل أو البعض]. إذا كان الشيء يوجد في زمن الأجل، ثم لما جاء زمانه أصابت الناس جائحة -والعياذ بالله- فتلف التمر، وكان قد أسلمه تمراً إلى نهاية شهر معين يوجد فيه تمر، فجاء الشهر والتمر غير موجود، فإذا وقعت هذه الحادثة واختصم البائع والمشتري فقال البائع: إنني قد قبلت منك هذا المبلغ وأنا أظن أنه يوجد، فإذا به لم يوجد، أو جاءت جائحة وأخذت التمور وأتلفتها. فحينئذٍ يخير المشتري بين أمرين: إن شاء طالب البائع أن يأتي له بمثل ما اتفقا عليه فيدبر أمره فيقال للبائع: أنت اتفقت معه، فحينئذٍ تأتي بمثل هذا الشيء، فيذهب ويبحث حتى يجد مثل ما اتفقا عليه؛ لأنه حق من الحقوق، وإن شاء قال له: أصبر عليك هذه السنة، وإن شاء الله السنة القادمة تعطيني ما اتفقنا عليه، وأمهله وأنظره، وهذا هو الأفضل والأكمل له: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، فإن هذا من العسر. [فله الصبر أو فسخ الكل أو البعض]. (فله الصبر)، أي: للمشتري (أو فسخ الكل أو البعض) فسخ الكل إذا لم يوجد، (أو البعض) مثلاً: إذا قال له: أسلمتك بمائة صاع، فأعطاه خمسين ولم يستطع أن يوجد الخمسين الباقية فحينئذٍ نقول له: أنت بالخيار إن شئت أمضيت الصفقة في نصف المبلغ المتفق عليه، وتأخذ ما بقي أو تؤجله إلى سنة قادمة، وإن شئت ألغيت الكل فأنت بالخيار؛ لأنه في بعض الأحيان يتضرر إذا قلنا له: أمضِ البعض، فحينئذٍ نترك الخيار له، فهذا الخيار يختلف باختلاف الحال، ونظراً لاختلاف الحال والصفقة، والعقد ليس على هذا الوجه، فهو بالخيار بين أن يمضي ويعذر أخاه ويصبر عليه وبين أن يلغي العقد كليةً. قال رحمه الله: [ويأخذ الثمن الموجود أو عوضه]. إذا كان الثمن ليس بموجود ويوجد عوض عنه فإنه يأخذ العوض عنه، حتى ولو كان بالصرف، لكن بشرط أن يكون حالاً، كأن يكون أسلم له بريالات ولم يتيسر إلا وجود الدولارات عند فساد العقد والرد، فحينئذٍ يردها دولارات فيصرفها في ساعتها مثلاً بمثله.

الأسئلة

الأسئلة

حكم بيع المسلم فيه قبل قبضه

حكم بيع المسلم فيه قبل قبضه Q ما الحكم إذا باع المشتري المسلَم فيه إلى رجل آخر قبل أن يقبضه؟ A إذا اتفق البائع والمشتري على مسلَمٍ فيه لم يجز للمشتري أن يتصرف في الشيء المسلم فيه إلا بعد القبض، فلا يجوز له بيعه ولا يجوز له هبته ولا يجوز له أن يرهنه ولا يجوز له أن يحيل عليه، إلا بعد قبضه، مثال ذلك: لو أنك اشتريت -مثلاً- مائة صندوق من التمر السكري وبعد أن اشتريت هذه المائة صندوق بعشرة آلاف ريال جاءك رجل وقال: هذه الصناديق التي اشتريتها من فلان أنا أشتريها منك بعشرين، لم يصح حتى تقبضه، وبعد أن تقبضه يجوز لك البيع، أما قبل القبض فإنه لا يجوز، وهو من بيع الإنسان ما ليس عنده، وفي حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لا تبع ما ليس عندك)، ولأن هذا الشيء المسلم فيه لم يؤل إلى ضمانك، وقد بينا أنه لا يصح بيع الطعام قبل ضمانه وقبضه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الطعام قبل قبضه)، والله تعالى أعلم.

الفرق بين عقد الاستصناع وعقد السلم

الفرق بين عقد الاستصناع وعقد السلم Q ما الفرق بين عقد الاستصناع وعقد السلم؟ عقد الاستصناع أكثر من تكلم عليه وفصل فيه فقهاء الحنفية رحمهم الله، والفرق بينه وبين عقد السلم أن عقد الاستصناع يقارب الإجارة كثيراً، ويكون في بعض الأحيان الخام من البائع والعمل من البائع، ويقع مثلاً في صنع الخفاف، يقول له مثلاً: أريد مائة خف على أن تصنعها لي، قالوا: إنه يجوز أن يكون هذا من عقد الاستصناع، وهو أقرب إلى الإجارة منه إلى السلم، ولكنه دخل في بيع السلم وقارب بيع السلم لانصبابه على الذوات، وقارب الإجارة لانضباطه على المنفعة، فهو يجمع بين المنفعة وبين البيع للذات، فهو من ناحية الطلب يقول: أريد أن تصنع لي -مثلاً- مائة خف، فهذا إجارة، ومن جهة كون الخام من البائع ويلتزم به فهو أشبه بعقد السلم، ومن هنا شرك بين البيع وبين الإجارة، فأفردوه بقولهم: عقد الاستصناع، والله تعالى أعلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

باب بيع السلم [2]

شرح زاد المستقنع - باب بيع السلم [2] عقد السلم من العقود المؤجلة التي رخَّص الشرع فيها على خلاف الأصل، ولهذا اشترط له شروط خاصة، منها: أن يقبض الثمن وأن يكون معلوماً، وألا يكون السلم في معين، وتحديد مكان الوفاء إذا لم يمكن الوفاء في مكان العقد، كل هذا تقيداً بمحل الرخصة في عقد السلم، ودفعاً للنزاع، ولهذا لا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه ولا الحوالة به أو عليه لنفس العلة.

تابع شروط عقد السلم

تابع شروط عقد السلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

الشرط السادس: قبض الثمن تاما قبل التفرق

الشرط السادس: قبض الثمن تاماً قبل التفرق قال المصنف رحمه الله تعالى: [السادس: أن يقبض الثمن تاماً معلوما قدره ووصفه قبل التفرق]. فلا زال المصنف رحمه الله يبين الشروط المعتبرة لصحة السلم، ومن هذه الشروط الشرط السادس: وهو قبض الثمن، فيشترط في صحة السلم، إذا اشترى التاجر الصفقة، وتم العقد بينه وبين من يبيعه تلك الصفقة ووقعت سلماً فإنه يشترط أن يعجل له الثمن، أما الدليل على ذلك فهو ما ثبت في قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (من أسلف فليسلف في كيلٍ معلوم)، فقوله عليه الصلاة والسلام: (فليسلف) بمعنى فليعطِ. وعلى هذا استنبط العلماء رحمهم الله من هذا الحديث أنه يشترط في صحة السلم أن يقدم الثمن، وأن يعطيه في مجلس العقد، وهناك صورتان للإعطاء: الصورة الأولى: أن يكون الإعطاء عقب الإيجاب والقبول مباشرةً، والصورة الثانية: أن يتأخر الإعطاء عن العقد، أعني: عن الإيجاب والقبول، مثال الصورة الأولى: قال له: أسلفتك مائة ألفٍ لقاء سيارتين إلى نهاية رمضان من نوع كذا وصنف كذا، قال: قبلت، فأعطاه بمجرد القبول المائة ألف، فوقع الإسلام والإعطاء عقب العقد مباشرةً، أو يقول له أيضاً في هذه الصورة: هذه عشرة آلاف أسلمتكها لقاء مائة صندوق مثلاً من التمر البرحي أو من تمر العجوة أو من التمر السكري إلى نهاية رمضان، قال: قبلت وقبض، فحينئذٍ لا إشكال إذا وقع القبض والإسلام والإعطاء موافقاً للعقد ومصاحباً له. الصورة الثانية: أن يتراخى عن الإيجاب والقبول ويتحقق القبض قبل افتراقهما عن مجلس السلم كأن يقول التاجر للتاجر: أعطيك مائة ألفٍ لقاء ألف صندوق من تمر العجوة أو مائة صاع من التمر البرحي أو الشعير، فقال له: قبلت، فيتأخر في إعطائه ويحصل الإعطاء قبل أن يفترقا، فالإيجاب والقبول تم في الساعة الثانية، والإعطاء تم في الساعة الثالثة، لكنهما لم يفترقا إلا بعد أن أعطاه، صح ذلك وجاز. إذاً عندنا صورتان، الصورة الأولى: أن يقع الإعطاء مصاحباً للعقد أو بعد العقد مباشرةً وهذه بالإجماع جائزة، والصورة الثانية: أن يتراخى عن الإيجاب والقبول ويتأخر عنه ولكن لا يفترقان إلا بالقبض، وهي صحيحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صحح العقد ما دام أنهما لم يفترقا إلا بعد وجود القبض فيما يشترط له القبض. قال: [أن يقبض الثمن تاماً معلوما قدره]. ومفهوم هذا: أنه لو قال له: أسلفتك عشرة آلاف ريال لقاء مائة صاعٍ من التمر السكري، أو من التمر البرحي أو من تمر العجوة قال: قبلت، ولم يعطه العشرة آلاف، قال: أعطيكها غداً، أو أعطيكها الأسبوع القادم، أو أعطيكها بعد ثلاثة أيام: لم يصح؛ لأنه يصير من باب الدين بالدين، فلا يجوز أن يفترقا إلا بعد أن يعطيه الثمن، سواءً أعطاه إياه بعد الإيجاب والقبول مباشرةً أو أعطاه إياه متراخياً عنه قبل أن يفترقا عن العقد. قال رحمه الله: (يقبض الثمن)، الثمن يشترط فيه ما يشترط في الأثمان في البيوع، وأن يكون القبض تاماً، فإذا قال: عشرة آلاف، يعطيه العشرة آلاف كاملة، ولا يفترقان حتى يقبض منه العشرة آلاف تامة، وكذلك أيضاً أن يكون معلوماً، فإذا قال له: بعشرة آلاف، يبين نوعها؛ لأنه ربما مثلاً قال له: بعشرة آلاف، فيحتمل أن تكون دولارات وريالات إذا كان هناك أكثر من نوع من النقد، فلابد أن يبين نوع النقد وأن يبين جنسه وقدره. وعلى هذا: لو قال له أعطيك ريالات في مقابل مائة صندوق من العجوة أو أعطيك دنانير أو أعطيك دراهم لم يصح؛ لأنه لم يبين قدرها، فلابد من بيان القدر فيما ينضبط قدره، وكذلك يبين نوعها إذا كان هناك نوعان من النقد، كأن يذكر الجنيهات فيقول له: أعطيك مائة جنيه لقاء مائة صاع، أو ألف صاع من التمر السكري، فيحتمل أن تكون جنيهات سعودية وقيمتها غالية، ويحتمل أن تكون غير سعودية وقيمتها رخيصة، فيكون هناك جهالة، فلابد وأن يحدد نوعها وقدرها من حيث العدد كما ذكرنا في شرط العلم بالثمن والمثمن، وبينا دليل ذلك من أن الشرع لا يصحح بيع المجهول؛ لأنه يفضي إلى التنازع والتلاعب بحقوق الناس، ومن هنا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر لاشتماله على الجهالة المفضية إلى التنازع بين الطرفين. قال: [ووصفه قبل التفرق]. يصف هذا الشيء الذي أسلم فيه وصفاً منضبطاً، وقد بينا هذا كله في شرط العلم به؛ لأن السلم بيع، ويشترط فيه ما يشترط في البيع وزيادة، فللسلم شروط تسمى: الشروط العامة، وهي شروط البيع، وشروطٌ خاصة بالسلم، وهي التي بيناها في المجلس الماضي، ولا زال المصنف يذكر بعضها، فهنا: مسألة أن يكون الثمن معلوماً، فهذا من شروط البيع ويعتبر من الشروط العامة.

حكم السلم إذا تم قبض بعض الثمن

حكم السلم إذا تم قبض بعض الثمن قال رحمه الله: [وإن قبض البعض ثم افترقا بطل فيما عداه]. هذا الشرط يتركب من أمرين، الأمر الأول: أن يكون الثمن معلوماً، وحدود العلم كما ذكرنا أن يكون بالجنس والنوع والقدر، فلا يكون مجهولاً جهالةً مفضية إلى النزاع، فلو قال له: أسلمتك مائة ألف لقاء مائة صندوق، قال: قبلت، وقد قدمنا في البيوع أنه إذا حدد الثمن على هذا الوجه ما الحكم؟ فيه تفصيل: إن كان ليس هناك إلا نقدٌ واحد كالريالات، فنعرف أن قوله: خذ مائة ألف أو أسلمتك مائة ألف أنه منصب إلى الريالات فيصح، لكن لو كان هناك ثلاث عملات، الريالات والدولارات والجنيهات -مثلاً- لم يصح، فلابد أولاً من العلم بالثمن في جنسه ونوعه وقدره على ما ذكرناه، ثانياً: أن يحصل القبض للثمن حتى لا يكون من باب الدين بالدين؛ لأنهما متى افترقا عن مجلس العقد بدون أن يحصل القبض فقد باع الثمن ديناً بمثمنٍ ديناً، وقد: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ)، وبينا أنه على ظاهر هذا الحديث لا يجوز بيع الدين بالدين. وعلى هذا إذا قررت أنه يشترط في السلم القبض فتقول للتاجر: إذا عقدت صفقة سلم فيجب أن تعجل الثمن، ولا يجوز أن تعقد الصفقة سلماً في سيارات أو أطعمة أو أكسية أو نحو ذلك إلا إذا قدمت رأس المال ودفعته قبل أن تفارق مجلس العقد، فعندنا حالات: إما أن يدفع البعض ويؤخر البعض، وإما أن يؤخر الكل، أو يعجل الكل، فإذا عجل الكل صحّ، وإذا أخر الكل لم يصح ويلغى العقد، وإذا أخر البعض وقدم البعض ففيه تفصيل، مثال الأول -وهو أن يعجل الكل- قال له: خذ هذه عشرة آلاف، فحينئذٍ لا إشكال، حيث تم الشرط الذي اعتبره الشرع لصحة العقد، وإما أن يؤخر ويقول: أعطيك غداً أو أعطيك بعد أسبوع، أو أعطيك شيكاً على أنه سيصرف فيفترقان قبل القبض فلا يصح، بل لابد وأن يكون الثمن حاضراً في مجلس العقد ويسلمه إياه، ولو كان المبلغ كبيراً فإنه يمكن أن يذهب معه إلى البنك ويعطيه إياه، ولو كان بالنقلة. وعلى هذا لابد من القبض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط، وقال: (من أسلف فليسلف)، ولأن بيع السلم خارجٌ عن الأصل، وما خرج عن الأصل يقيد الحكم بجوازه بمثل الصورة التي وردت بالنص، والذي ورد في النص الإعطاء والإسلام الفوري، وذلك في رأس المال فلا يجوز مؤخراً، ويكون أيضاً ذلك الشيء الذي أسلم فيه معلوماً، فلو قال له: خذ هذه الصرة من الذهب أو خذ هذه الصرة من الفضة وما فيها لقاء مائة صندوق من العجوة أو مائة صاع من بر، أو لقاء سيارةٍ إلى نهاية شعبان أو نحو ذلك لم يصح؛ لأنه لا يدرك كم بداخلها، فلا يصح الإسلام بمجهول سواءً كان من الذهب أو الفضة ولو عُلِم نوعه ذهباً أو فضة إذا لم يعلم قدر ذلك الثمن المسلم. فتبين أنه إذا عجل الثمن كله صح، وإذا أجله كله لم يصح، لكن لو قال له: أسلفتك مائة ألفٍ لقاء ألف صندوق من العجوة، فأعطاه خمسين ألفاً معجلة، وقال له: الخمسين الألف الباقية أعطيكها غداً، أو بعد أسبوع أو بعد شهر، فقدم البعض وأخر البعض فما الحكم؟ للعلماء وجهان: فقال بعض العلماء: يبطل السلم؛ لأن العقد واحد والصحة لا تجزأ، وقال بعضهم: يصح في الخمسين المعجلة ويبطل في الخمسين المؤجلة؛ لأن الأصل إعمال العقود ما أمكن، فلما كان التأخير في بعض الصفقة فإنه يقيد الحكم بالبطلان بالمؤجل، ويحكم بالصحة على المعجل سواءٌ كان ذلك أنصافاً أو أثلاثاً أو أرباعاً، فأنصافاً كأن يقول له: أسلمتك مائة ألفٍ لقاء ألف صندوق -مثلاً- من تمر قال: قبلت، فأعطاه خمسين ألفاً وأخر عنه الخمسين الباقية، فيصح في النصف ويبطل في النصف، وأما أرباعاً فكأن يقول له: أسلمتك مائة ألف لقاء سيارة من نوع كذا وكذا إلى نهاية شعبان، وهذه خمسة وعشرون ألفاً وأعطيك الخمسة والسبعين الباقية بعد يوم أو بعد شهر، فحينئذٍ إذا كانت السيارات أربع سيارات ولكل سيارة خمسة وعشرون ألفاً حكمنا بصحة السلم في الربع وهو الخمسة والعشرون التي دفعها، وألغينا صفقة الخمسة والسبعين الباقية، متى ما فصل لكل سيارةٍ قيمتها، لكن لو كانت السيارة واحدة، وقال له أسلمتك المائة ألف في سيارة من نوع كذا وكذا، أو كانت الصفقة على سيارتين وأعطاه خمسة وعشرين وكل سيارة لها خمسون ألفاً، فحينئذٍ لا تقبل الصفقة التجزئة فيبطل في الكل. إذاً إذا جزأ وقال له: أسلمتك مائة ألفٍ لقاء مائة صاعٍ أو مائة صندوق وأمكنت التجزئة صححنا في الأجزاء، فإن كان قد دفع له خمسين ألفاً صححنا في نصف الصفقة وأبطلنا النصف الباقي، وإن كانت الصفقة لا تقبل التجزئة كما لو اشترى سيارة وأعطاه خمسة وعشرين ألفاً من قيمتها أو خمسين ألفاً من قيمتها أو خمسة وسبعين ألفاً من قيمتها أو حتى تسعين ألفاً من قيمتها فهي لا تقبل التجزئة ويبطل العقد، إذاً لابد وأن يكون معجلاً، فلو قدم البعض وأخر البعض وأمكنت التجزئة وتصحيح جزء العقد صح، وإن لم يمكن لم يصح.

حكم السلم في أجناس وآجال مختلفة أو متوافقة

حكم السلم في أجناس وآجال مختلفة أو متوافقة قال رحمه الله: [وإن أسلم في جنس إلى أجلين أو عكسه: صح إن بيَّن كل جنسٍ وثمنه وقسط كل أجل]. (إن أسلم في جنس إلى أجلين) بين رحمه الله صحة السلم والشروط المعتبرة له، فإذا كان مالاً في جنس واحد فلا إشكال، لكن لو أن المال في جنسين، أو كان لكل جنسٍ مثلاً حظه وقيمته، أو أعطاه في ثلاثة أجناس مختلفة الأجل، أو أعطاه في أكثر من جنس متفقة الأجل، هذه كلها صور، فتارةً يقول له: هذه مائة ألف أعطيكها، منها خمسون ألفاً في سيارة من نوع كذا، وخمسون ألفاً في تمرٍ من نوع كذا، فحينئذٍ أسلم بمالٍ واحد في جنسين مختلفين، وهذا كثيراً ما يقع من التجّار حينما يشترون البضائع، مثلاً: إذا جئنا إلى تجار السيارات، يأتي التاجر في بعض الأحيان فيشتري من نوعٍ واحد، ويقول: هذه مائة ألف لقاء عشر سيارات أو خمس سيارات من نوع كذا، فحينئذٍ يكون المال واحداً والجنس واحداً ولكن الأنواع مختلفة، فإذا كان النوع مختلفاً وحدد لكل نوعٍ قيمته، فتارةً يكون الأجل واحداً، وتارةً يكون الأجل مختلفاً فيقول: أريد خمس سيارات، السيارة الأولى في شهر محرم، والثانية في صفر، والثالثة في ربيع الأول، والرابعة في ربيع الثاني، والخامسة في جماد، فأسلم في نوعٍ واحد وفي أنواع متعددة، ولكن الآجال أيضاً متعددة، وتارةً يقول: خمس سيارات من نوع كذا ونوع كذا ونوع كذا ولكن إلى نهاية محرم، فالأجل واحد، فإما أن يسلم في أنواعٍ متعددة بآجال متعددة لكل سيارةٍ قيمتها فيصح، وله أن يسلم في أنواع بأجل واحد، فيستوي أن يكون في أنواع إلى أجل واحد أو آجال. والشرط يتوقف على صحة التجزئة، فإن أعطى كل نوعٍ حظه وحقه فلا إشكال، وهكذا إذا حدد الأجل لكل واحدٍ صح. قال رحمه الله: [صح إن بيَّن كل جنسٍ وثمنه وقسط كل أجل]. إن بيَّن كل نوع أو كل جنس وثمنه وأجله صح مثلما ذكرنا، وفي بيع الطعام يقول له: هذه عشرة آلاف ريال، خمسة آلاف منها لقاء مائة صاع من التمر في نهاية رمضان هذا، وخمسة آلاف لقاء مائة صاع من الشعير إلى ذي القعدة فيصح؛ لأنه بين لكل أجل قيمته، وحينئذٍ لا إشكال سواء اتحد الجنس واختلف الأجل أو اختلف الجنس واتحد الأجل، فكله جائز ما دام أنه قد جعل لكل مبيع حظه وحقه، فقد صححنا السلم إذا قال له: هذه مائة ألف لقاء سيارة إلى نهاية محرم، فلو أنه قال له: وهذه خمسمائة ألف في خمس سيارات، السيارة الأولى في محرم، والثانية في صفر، والثالثة في ربيع الأول، والرابعة في ربيع الثاني، والخامسة في جماد، فتأخذ نفس الحكم؛ لأن المسألة مسألة تفصيل، يعني سواء اتفق النوع واختلف الأجل، أو اختلف النوع واتحد الأجل، أو اختلف النوع والأجل، أو اتحد النوع والأجل، فاتحد النوع والأجل مثل أن يقول له: هذه عشرة آلاف ريال في مائة صاع من التمر إلى نهاية محرم، فاتحد النوع واتحد الأجل، وهذه واضحة. وأما مثال اختلاف الجنس مع اتحاد الأجل، تقول مثلاً: أريد تمراً وبراً وشعيراً وملحاً، إلى نهاية رمضان، فاختلفت الأجناس ولكن الأجل واحد، فإذا اختلفت الأجناس الأربعة أعط لكل صنف حظه وحقه، حتى يُعلم المائة صاع من البر كم لها وكذا التمر والشعير والملح، فاختلفت الأجناس واتحد الأجل. وأما مثال اختلاف الأجل مع اتحاد الجنس: لو وجد تاجر يبيع التمر السكري بالجملة، وأنت تريد أن تشتري منه من أجل أن تبيع بالتجزئة كما في البقالات ونحوها، فتقول له: يا أخي! أنا عندي موسمان، الموسم الأول: رمضان، والموسم الثاني: في ذي الحجة، موسم الحج، فأعطيك هذه المائة ألف في التمر، فأشتري منك بخمسين ألفاً مائة صاع أو مائة صندوق إلى نهاية شعبان، هذا الأجل الأول، والخمسين الألف الثانية إلى نهاية ذي القعدة أي: إلى موسم الحج، فعندنا الجنس واحد، والأجل مختلف. الصورة الرابعة: اختلف الجنس واختلف الأجل مثاله: كتمرٍ وبرٍ، فتقول: أسلمك في مائة صاع من التمر، ومائة صاع من البر أو من الملح، على أن تعطيني مائة صاع تمر في رمضان ومائة صاع بر أو ملح في ذي القعدة، فحينئذٍ اختلف الجنس واختلف الأجل، فهذه الصور الأربع: أن يتحد الجنس ويختلف الأجل، وأن يختلف الجنس ويتحد الأجل، أو يتحدا أو يختلفا، فإذا جزأ لكل واحد منهما حظه وحقه فلا إشكال.

الشرط السابع: أن يكون السلم في الذمة لا في معين

الشرط السابع: أن يكون السلم في الذمة لا في معين قال رحمه الله تعالى: [السابع: أن يسلم في الذمة فلا يصح في عين]. يقول رحمه الله: الشرط السابع من شروط السلم، والسلف (أن يسلم في الذمة)، ولذلك قالوا: لا يصح أن يسلم في المعين، وتقدم معنى بيان العين والذمة، فلو قال له: هذه مائة ألف لقاء هاتين السيارتين إلى نهاية رمضان: لم يصح؛ لأن بيع هذه السيارة بيع عين وليس بيع ذمة وإذا قال له: هذه مائة ألف لقاء هذه المائة كتاب إلى نهاية رمضان: لم يصح، والحل أن يقول: خذ هذه المائة الألف لقاء هذه الكتب وسآتي وآخذها إن شاء الله منك إلى نهاية رمضان أو نهاية شعبان، فيحدد الأجل للقبض، أما أن يجعله سلماً فلا، والسبب في ذلك: أنه لو باعه المعين سلماً لم يأمن أن يتلف المعين، وحينئذٍ قالوا: لا يصح السلم بالعين إنما يصح وصفاً في الذمة فيقول له: أريد مائة كتاب من نوع كذا وكذا ويصفها وصفاً منضبطاً كما تقدم معنا في المعدودات إن كان من المعدودات، والكيل إن كان من المكيلات، وبالوزن إن كان من الموزونات، وبالذرع إن كان من المذروعات على القول بصحته في المعدودات والمذروعات.

أحكام متعلقة بالسلم

أحكام متعلقة بالسلم

محل الوفاء في عقد السلم

محل الوفاء في عقد السلم قال رحمه الله: [ويجب الوفاء موضع العقد]. بعد أن بين رحمه الله المسائل المتعلقة بالشروط شرع في بيان ما يترتب على قضية العين والذمة، إذا كان السلم ينبني على بيع الموصوف في الذمة بالثمن المعجل فمعنى ذلك أنه سيكون من بيع الدين (بيع الآجال) وإذا كان من بيوع الآجال فترد مشكلة مترتبة على الحكم بجواز بيع الأجل وهي قضية القبض، فإذا اتفقت معك على صفقة وكان البيع بيع السلم وحل الأجل، فهل يجب علي أنا البائع أن أوصل المبيع إليك أم يجب عليك أن تحضر إلي لقبض المسلم فيه، أم أن الأمر يتوقف على مكان العقد ومحله؟ A أنه يجب الوفاء في مكان العقد، وقال: (الوفاء)؛ لأن بيع السلم يقوم على شيء من الدين، كأنني التزمت في ذمتي أن أعطيك التمر أو أعطيك السيارات المبيعة فلما التزمت هذا لقاء هذا المبلغ المعين لزمني الوفاء بهذا العقد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، وانظر كيف أن العلماء يتأدبون مع الشرع، فيختارون في المتون الفقهية المصطلحات القريبة من الشرع، فالعلماء رحمهم الله في فقههم -خاصةً فقه العلماء الذي يسير على منهج السلف- يتأدبون حتى في ألفاظهم، قالوا: يجب الوفاء؛ لأنه إذا صار العقد بالإيجاب والقبول ترتب عليه الوفاء، فالوفاء ينبغي أن يكون في مكان العقد، فإذا اختصم التاجران، فإن كانا من مدينةٍ واحدة فغالباً لا يقع إشكال، أي: إذا كنتما قد اتفقتما في مكة أو في المدينة أو في جدة فحينئذٍ الغالب ألا يقع إشكال، لكن يقع الإشكال في المبيعات التي تحتاج إلى مئونة وكلفة في حملها ويكون المتعاقدان من موضعين مختلفين، فيقول التاجر الذي اشترى: تحضر لي السلعة إلى بلدي، ويقول البائع: إنما التزمت إذا حل الأجل أن أعطيك، ومعنى ذلك أنك تحضر عندي وتأخذ السلعة، فحينئذٍ يقع التنازع بينهما، مثلاً: لو أعطيت رجلاً عشرة آلاف لقاء مائة صندوق من التمر السكري، وكان التبايع مثلاً في المدينة ومزرعته في المدينة وأنت من مكة، فلو وجب عليه الوفاء بحيث إنه يجب عليه أن يوفر لك السلعة فمعناه: أنه سيستأجر من يحملها من المدينة إلى مكة، ويتحمل أعباء هذه الإجارة، فقال: (يجب الوفاء في موضع العقد)، يعني: أنه ينظر إلى المكان الذي وقع فيه العقد إن كان في المدينة، فالوفاء في المدينة، وإن كان في مكة فالوفاء في مكة، وإن كان في القصيم فالوفاء في القصيم، وإن كان في الرياض فالوفاء في الرياض، فيجب عليه أن يفي في المكان الذي تمت فيه الصفقة، أي: الإيجاب والقبول. فإذا كان هذا واجباً في مكان العقد، فهل يشترط أن يكتباه في نفس العقد؟ الجواب: سواء كتبا أو لم يكتبا فإنهما يلزمان بمكان العقد، وهذا أصل في البيوع، إذا وقع البيع بين اثنين، فإن الوفاء يكون في مكان العقد؛ لو أنهما تعاقدا في طرف المدينة الشرقي وأحدهما -مثلاً- من جنوب المدينة والثاني من شمالها، فنقول: يكون الوفاء في مكان العقد الذي هو شرقها.

حكم اشتراط الوفاء في غير محل السلم

حكم اشتراط الوفاء في غير محل السلم قال رحمه الله: [ويصح شرطه في غيره]. أي: يصح ويجوز لكلا المتعاقدين إذا تعاقدا بالسلم أن يتفقا على أن التسليم يكون في غير مكان العقد، مثلاً الآن: لو أن رجلاً اشترى من رجلٍ مزارعٍ فقال له: أسلمتك عشرة آلاف ريال لقاء مائة صندوق من التمر السكري، وكان هذا الاتفاق -مثلاً- في مكة، وكلاهما من غير مكة، فصاحب المزرعة مزرعته في القصيم، -السكري لا يوجد إلا في القصيم غالباً، ولذلك نجعل التمثيل بالسكري؛ لأنه معروف ومشهور، ولا نمثل بالعدوي والبرحي، وإن كان البرحي مشهورا ًأيضاً- فقال: السكري موجود في مزرعتي، يعني: إذا حان الحصاد فإني غالباً أهيئه في مزرعتي في القصيم، فألزمك أو أشترط عليك أن تأتي وتأخذه مني قال له: قبلت، فيلزم بالذهاب وأخذ الصفقة من مكانها الذي اتفقا عليه، أو قال له -مثلاً-: هذه عشرة آلاف ريال لقاء سيارة من نوع كذا وكذا قال: قبلت، ولكن أشترط عليك أن أعطيك السيارة في جدة قال: قبلت، حينئذٍ الاتفاق وقع في مكة سواءً في التمر أو في السيارة، لكنهما اتفقا بالتراضي من الطرفين أن يكون الوفاء في موضع غير موضع العقد فيصح ذلك، وكأن المصنف يريد أن يقرر لك أن وجوب الوفاء في مكان العقد محله ما لم يتفقا على غيره، فإن اتفقا على غيره جاز، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (المسلمون على شروطهم)، فهما قد اشترطا أن يكون ذلك في موضعٍ غير موضع العقد برضاهما واختيارهما، وعلى هذا: يلزم الطرفان بما اتفقا عليه وحصل الشرط عليه.

محل الوفاء إذا كان العقد قد تم في مكان لا يضبط

محل الوفاء إذا كان العقد قد تم في مكان لا يضبط قال رحمه الله: [وإن عقدا ببرٍ أو بحرٍ: شرطاه]. هذا من دقة العلماء، إذا كنت تقرر أن العقد إذا وقع في مكانٍ وجب الوفاء فيه، فافترض أن العقد وقع في مكان لا يمكن ضبطه، كالبر: الصحراء التي ليست فيها معالم، فلا يمكن ضبط المكان، لكن في الصحراء لو أنهما اتفقا في موضعٍ معين ومعلمٍ معين مثل القرى التي تكون في الطريق، أو اتفقا في استراحة معينة في مكانٍ معين، وجب الوفاء في مكان الاتفاق، ما لم يتفقا على غيره، هذا إذا كان ببر، ومثل البر أيضاً: البحر، فلو كان في سفينة أو مركب وقال له: هذه عشرة آلاف لقاء مائة صاع من البر أو من التمر، قال: قبلت، وكان الاتفاق في البحر، فإنه في هذه الحالة لا بد وأن يحددا مكاناً غير المكان الذي اتفقا فيه؛ لأن المكان الذي اتفقا فيه لا ينضبط، وهكذا لو كان في الجو كما في زماننا، فلو أن تاجرين كانا في طائرة، وقال أحدهما للآخر: هذه عشرة آلاف ريال لقاء -مثلاً- نوع من القماش أو من المزروعات، أو نوع من الطعام من المكيلات أو من الموزونات، وتمت صفقة السلم كاملة وهما في الجو فهذا المكان لا ينضبط، إذاً لابد في العقد أن يتفقا على موضع للوفاء، فيقول له: نحن الآن مسافران فيكون وفاؤنا في المدينة، أو وفاؤنا في مكة أو في موضع كذا، فيحددان المكان ويتفقان عليه.

حكم بيع المسلم فيه قبل قبضه

حكم بيع المسلم فيه قبل قبضه قال رحمه الله: [ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه] إذا تمت هذه الشروط المعتبرة للسلم، فاعلم رحمك الله أنه يترتب عليها أحكام، ومن أحكام السلم أنه لا يجوز لمن عَقَد عَقْد السلم أن يبيع الشيء الذي اتفق عليه وأسلم من أجله قبل أن يقبضه، فلو أن رجلاً اشترى سيارةً سلماً بمائة ألف من الوكالة، ثم قال له رجل: هذه السيارة أرغبها هل تبيعها لي؟ فنقول: لا يجوز أن يبيعها قبل قبضها، وهكذا لو اشترى تمراً أو براً أو غير ذلك من المبيعات، لكن ما الدليل على أنه لا يصح أن يبيع؟ نقول: إن كان السلم وقع على طعام فإننا نقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الطعام قبل قبضه)، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أرى غير الطعام كالطعام)، وإن كان غير طعام، وقلت: النص خاص بالطعام، نقول: إنه قد ربح ما لم يضمن، فإذا اشتريت سيارةً من وكالة بعشرة آلاف إلى نهاية رمضان هذه السنة، وبعتها بأحد عشر ألفاً أو بعتها باثني عشر ألفاً أو بعتها بثلاثة عشر ألفاً، فمعنى ذلك أنك قد بعت شيئاً وربحت فيه قبل أن يكون في ضمانك، وهذا بيناه في مسألة: ربح ما لم يضمن، فتعلمون أن السيارة الآن لو تلفت فإنها تتلف على ضمان البائع الذي هو الوكالة، فلا يصح في الشريعة أن يتحمل غيرك مسئولية السلعة وأنت تأخذ الربح والنتاج، فانظروا إلى عدل الله عز وجل بين عباده، فلا يصح أن تتحمل الوكالة مسئولية هذه السيارة وحفظها وصيانتها والقيام عليها وتكون مسئولةً عنها، وأنت الذي تربح وتغنم، هذا شيء من الأنانية، ولذلك لا تجيز الشريعة أن تأخذ ربح شيء لم تضمنه، لكن تتحمل مسئوليته وضمانه وتأخذ ربحه ونتاجه، وعلى هذا: لا يصح أن تبيع السيارة قبل قبضها، ولا يصح أيضاً أن تبيع الطعام قبل قبضه، ولا يصح أن تبيع القماش إذا أسلمت فيه قبل قبضه، وهكذا الحديد والنحاس والرصاص وغيرها من سائر المبيعات لابد أن تقبض أولاً، ثم بعد قبضه بع وتصرف، ولأنه لا ينتقل إلى ملكيتك إلا بالقبض فاشترط القبض لصحة التصرف فيه.

حكم هبة المسلم فيه قبل قبضه

حكم هبة المسلم فيه قبل قبضه قال: [ولا هبته]. إذا كان لا يجوز لي أن أبيع حتى لا يحصل الربح قبل الضمان، فافرض أن شخصاً قال لك: هذا المسلم فيه أريد أن أعطيه بدون عوض، كأن أهبه لأخي، فأقول لأخي: يا فلان! هذه السيارة التي اشتريتها من الوكالة هبةٌ مني لك، لم يصح؛ لأن الهبة لا تصح شرعاً إلا بعد الملكية، والملكية تتوقف على القبض، ولا يصح التصرف في شيء بهبته إلا بعد قبضه وملكه، ومن هنا: هبة الأعضاء والتبرع بالأعضاء على القول بعدم جوازها، بني هذا القول على أن الإنسان لا يملك أعضاءه؛ لأن الهبة شرطها: أن تكون مالكاً للشيء الذي تهبه، والإنسان ليس مالكاً لجسده، فهو ممكن أن يهب ماله، وممكن أن يهب سيارته، لكن يده ليست ملكاً له، وكذلك كليته وأعضاؤه، وقرنية العين ونحو ذلك لا يملكها، فقالوا: يشترط في الهبة الملكية، ومن هنا قالوا: صحيح أنه قد تعاقد، ولكنه لم يصل إلى ملكيته الحقيقية التي تبيح له التصرف فيه، فاشترط القبض لهبته، فلا يصح أن يهب السيارة ولا أن يهب الطعام ولا أن يهب القماش ولا أن يهب أي شيءٍ وقع عليه السلم إلا بعد قبضه.

حكم الحوالة بالمسلم فيه أو عليه قبل قبضه

حكم الحوالة بالمسلم فيه أو عليه قبل قبضه قال: [ولا الحوالة به ولا عليه]. أي: أن يحيل بهذا الشيء الذي وقع عليه السلم، فلا يصح أن يحيل به، ولا أن يحيل عليه، لا يصح في كلتا الحالتين، فحينما تدفع مائة ألف لقاء سيارة، فإن المائة ألف هذه لا يصح للوكالة التي اتفقت معها على أن تعطيك سيارة أن تحيلك إلى مكانٍ آخر؛ لأنه لا يصح للشخص الذي تعاقدت معه سلماً أن يحيلك إلى شخصٍ آخر، وأنت أيضاً لا يصح أن تحيل غيرك إلى ذلك الشيء الذي يقع السلم عليه؛ لأن الحوالة تكون على دين مستقر، والسلم لا يستقر ديناً إلا بعد حلول أجله وقبضه، فأنت إذا دفعت مائة ألف لقاء سيارة وجئت تحيل شخصاً له عليك مائة ألف وقلت له: خذ هذا الدين الذي لي على الوكالة، لا يصح إذ الوكالة ليست بمدينة؛ لأن الأجل لم يحل أصلاً، وهذا بيع وصفقة خارجة عن الديون، والحوالة شرطها أن تكون على ديون كما سيأتي (من أحيل على مليء فليتبع) كما قال صلى الله عليه وسلم، فالحوالة تكون في الديون المستقرة، وأنت تحيل على شيء لا يستقر ديناً، وصحيح أن الصفقة أوجبته، لكنه لم يستقر ديناً، فلا يصح للوكالة أن تحيلك على وكالة ثانية، ولا يصح لتاجر الحبوب أن يحيلك على تاجر آخر، ولا يصح لتاجر التمر أن يحيلك على تاجر آخر، كذلك أيضاً لا يصح لك أنت أيضاً أن تحيل على هذا التاجر، فكما أنه لا يصح لهذا أن يحيل على هذا، فكذلك الطرف الثاني لا يصح أن يحيل غيره عليه. قال: [ولا أخذ عوضه]. أي: العوض عن هذا المسلم فيه، مثلاً: رجل تعاقدت معه على مائة صندوق من التمر في نهاية رمضان، فلما حضر الأجل قال لك: والله ما عندي مائة صندوق من التمر السكري الذي اتفقنا عليه، فأريد أن أعطيك عوضاً عنها تمراً برحياً، لم يصح، وإنما يجب عليه أن يحضر هذا الذي اتفقتما عليه وهو السكري، فإن كان ليس عنده يذهب ويحضره من الغير، ولكن بعض العلماء يقول: إذا عجز، كأن يكون هناك جائحة اجتاحت التمور وأصبح هذا الموسم ليس فيه تمر من هذا الصنف الذي اتفقا عليه، فينفسخ العقد، ويحكم بانفساخ عقد السلم، وفي هذه الحالة يطالب برد المال، ولا يطالب بالعوض؛ لأنه غير موجود، فلو قال له: أعطيك عوضاً من نوعٍ ثانٍ، أو أعطيك بدل السيارة طعاماً لم يجز، ولابد أن يعطيه نفس الشيء الذي أسلم فيه، وهذا كله -كما ذكرنا- مبني على أن السلم رخصة خارجة عن الأصل، والخارج عن الأصل يتقيد بالصورة الواردة والتي اتفقا عليها وأوجدا العقد عليها، ولا يجوز التصرف في هذه العقود لإخراجها عن حقيقتها؛ لأنه لو قلنا بجواز ذلك خرج عن كونه سلماً إلى بيع آخر، وأصبح بيع السلم ذريعة إلى بيوع أُخر، ومن هنا: الرخص لا يتجاوز بها محالها، فما جاء على سبيل الرخصة يقيد بصورته ولا يصح إلا بعقده.

حكم الرهن والكفالة بالسلم

حكم الرهن والكفالة بالسلم قال رحمه الله: [ولا يصح الرهن والكفيل به]. الرهن للاستيثاق، فإذا أخذ منك شخص ديناً مائة ألف ريال، تقول له: أعطني رهناً، فيعطيك رهناً مثلاً: أرضه أو عمارته، فيقول: هذه العمارة رهن حتى أعطيك المائة ألف، أو هذا كفيلي يكفلني في الديون، فلا يجوز أن يجعل السلم رهناً، وكذلك أيضاً قالوا: لا يجوز أن يجعل في السلم رهناً، وهذا فيه خلاف، فبعض العلماء يقول: يجوز أخذ الرهن في السلم، وبعضهم يمنع من أخذ الرهن في السلم، مثلاً: رجل تعاقد مع غيره سلماً في تمر، فقال له: هذه عشرة آلاف لقاء مائة صندوق من التمر السكري آخذها منك في نهاية رمضان، قال: قبلت، قال: أعطني رهناً لقاء هذه المائة ألف التي سأعطيك إياها، فمعناه أنه سيأخذ الرهن لقاء الوفاء بالسلم، فقيل: لا يجوز، وهذا مذهب بعض العلماء، وقال بعض العلماء بصحة الرهن فيه وهو أقوى، وذلك لظاهر آية الدين لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، فإذا كان الشخص لا يأمن ولا يستوثق قالوا: يجوز له أن يأخذ رهناً لقاءه، إلا أنه ضُعف، والحنابلة ومن وافقهم يجيبون بأنه إذا لم يمكنه الوفاء فإنه يلزم بالمثل، وإذا لم يكن المثل فإنه يلزم برد المال الذي هو الثمن الذي أسلمه إليه، فلا داعي لأخذ الرهن به، والصحيح والأقوى ما ذكرنا؛ لظاهر الآية الكريمة؛ لأنها نزلت في السلم، وكان ابن عباس رضي الله عنه يحلف أن آية الدين في السلم، وفي آية الدين ذكر الرهن؛ ولأنه قد يعجز عن الوفاء بالسلم، أو يتعذر وجود الشيء الذي اتفقا عليه ووقع عليه عقد السلم، وتصبح المائة ألف ديناً، فيكون حينئذٍ من حقه أن يستوثق للمال الذي دفعه إليه. قال: [والكفيل به]. كذلك لو قال له: أحضر لي كفيلاً ليكفل قالوا: لا يصح، والصحيح أنه يصح كالرهن. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين عقد السلم وبيع الثمر قبل بدو صلاحها

الفرق بين عقد السلم وبيع الثمر قبل بدو صلاحها Q أشكل عليّ بيع السلَم مع بيع الثمرات قبل بدو صلاحها وبين بيع الرجل ما لا يملك؟ A هذا إشكال جيد، فقد تقدم معكم أن من باع ثمرةً قبل بدو صلاحها، فإنه لا يصح البيع؛ لأنه لا يأمن فساد الثمر، وبناءً على ذلك يقولون كأنه باع شيئاً غير موجود؛ لأنه اشترى الثمرة، والثمرة أثناء العقد صلاحها مفقود، فكيف صححنا السلم مع أن المبيع مفقود وغير موجود؟ والجواب: أن بيع الثمرة ينصب على معين، وبيع السلم انصب على غير المعين، وهذا الذي ذكرناه: أنه يشترط في السلم أن يكون موصوفاً في الذمة، ومعنى ذلك: أنه لما باع الثمر انصب على معينٍ يفوت بفواته، ولكن في بيع السلم ينصب على غير معين، فهذا الفرق، وبناءً على ذلك إنما يرد الاعتراض أن لو اتفقا في الحكم، بحيث قلنا: يجوز هذا ويجوز هذا وهما متفقان أيضاً في الوصف، والواقع أن هذا شيء وهذا شيء، فلما كان الغرر في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها موجباً للتحريم حرمنا، ولما كان الغرر غير موجب في بيع السلم، أو كان موجوداً ولكنه يسير، وأجاز الشرع أجزناه، والفرق بينهما من هذا الوجه ظاهر، والله تعالى أعلم.

الفرق بين السلم وبيع الرجل ما لا يملك

الفرق بين السلم وبيع الرجل ما لا يملك Q ما الفرق بين بيع السلم وبيع الرجل ما لا يملك؟ A بيع السلم: بيع من الرجل لما لم يملك، ولكن هذا كما قال العلماء: عام وخاص، والقاعدة: لا تعارض بين عامٍ وخاص، فنقول القاعدة: عدم جواز بيع الرجل لما لا يملك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث حكيم بن حزام كما في حديث السنن: (لا تبع ما ليس عندك)، فلما نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عنده جاء حديث ابن عباس فقال: (من أسلف فليسلف في كيلٍ معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، فنقول: صح السلم؛ لأنه فردٌ من أفراد العام المنهي عنه، والقاعدة: لا تعارض بين عام وخاص، فبيع ما ليس عند الإنسان محرم إلا في السلم؛ لورود الرخصة فيه، وقال بعض العلماء: ليس بيع السلم من بيع الإنسان ما ليس عنده؛ لأنه من بيع الذمة، ولكن مذهب الجمهور على أنه من بيع الإنسان ما ليس عنده، والحق أن مذهب الجمهور أرجح والرخصة فيه واضحة، ولذلك قال: ورخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في السلم، والسلم مرخصٌ فيه من هذا الوجه.

حكم الكتابة والإشهاد في عقد السلم

حكم الكتابة والإشهاد في عقد السلم Q هل تجب الكتابة والإشهاد في السلم؟ A السلم من الديون، والديون يفصل فيها: فإذا كان الدين موثقاً والحق ممكن توثيقه لصاحبه بكتابةٍ، وثابت لصاحب الحق حقه فلا إشكال بأنه يجوز أن يتعاقد باللفظ دون حاجة إلى إشهاد. وأما إذا كان الحق لا يمكن الوصول إليه إلا بالاستيثاق فيجب الإشهاد، وإن كان الاستيثاق بالكتابة وجبت الكتابة، ومن هنا يفصل فيه، فإذا كنت قد اشترى منك رجل سلماً سلعة وكتبت في وصيتك: إن لفلان وفلان كذا وكذا سلماً وثبت حقه؛ فحينئذٍ لا إشكال، أما إن كان عدم الكتابة سيؤدي إلى ضياع الحق فإن الكتابة واجبة، والإشهاد عليه واجب، والكتابة استيثاق إن حصل بدونها فبها ونعمت؛ كالشهادة المجردة باللفظ، وإن كان قد حصل الاستيثاق بالكتابة مع الإشهاد فهذا أكمل وأفضل على ظاهر آية البقرة، وقد رخص بعض العلماء في ترك الإشهاد لحديث اليهودي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهون عند يهودي في صاعين من شعير)، قالوا: ولم يكتب في وصيته حقه، وإنما ترك ذلك لمكان الاستيثاق، ولكنه لا يخلو من النظر لما ذكرنا، والله تعالى أعلم.

حكم الاتفاق مع الخياط على خياطة ثوب

حكم الاتفاق مع الخياط على خياطة ثوب Q هل العقد الذي يتم مع خياط الثياب يعتبر من عقود السلم؟ A إذا قال له: أريد ثوباً من هذا القماش، بكم؟ قال: الثوب من هذا القماش بمائةٍ أو مائة وعشرين، فإنه حينئذٍ يكون عقد بيع وإجارة، فلو قال له: أريد ثوباً من هذا القماش، فكم متراً يكفيني؟ قال: ثلاثة أمتار، قال: وتفصلها؟ قال: وأفصل، قال: إذاً أشتري منك بمائة، لم يصح؛ لأنه جمع بين الإجارة والبيع مع الجهالة، فلم يعلم قسط الإجارة من قسط البيع، كيف؟ لما قال له: كم متراً يكفيني من هذا الثوب؟ قال: ثلاثة أمتار، فحينئذٍ رغب أن يعطيه من هذا الثوب ثلاثة أمتار، ثم قال له: وتفصل؟ قال: وأفصل، قال: كم تأخذ عليه؟ -يعني: على البيع وعلى التفصيل- فقال: مائة، فجمع بين الثلاثة الأمتار المبيعة أولاً وبين إجارة الخياطة ثانياً على وجهٍ لا يدرى فيه حق الإجارة من حق البيع، وهذا هو الذي دعا بعض العلماء أن يمنع منه؛ لأنه جمعٌ بين عقدين في عقد واحد على وجهٍ موجب للجهالة والغرر، أما لو قال له: بكم المتر من هذا؟ قال: المتر بستة ريالاً، قال: إذاً أعطني ثلاثة أمتار بثمانية عشر ريالاً، وبكم تفصل؟ قال: بثلاثين، قال: إذاً هذه ثمانية وأربعون، اقطع لي ثلاثة أمتار وفصلها لي، صح ذلك وأجازه العلماء وألحقوه بعقد الاستصناع.

باب القرض [1]

شرح زاد المستقنع - باب القرض [1] يعتبر القرض من المعاملات المالية التي يراد بها الإرفاق، وقد ثبت القرض بأدلة الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح، فيستحب لمن وسع الله عليه أن يوسع على إخوانه المسلمين بالقرض، فيوسع به على المكروب، ويفك به الغارم والمديون، ومن جانب آخر على المقرض أن يحذر من إقراض من يستعين بالقرض على حرام أو مكروه؛ لأنه حينئذٍ يكون شريكاً له في وزره.

مشروعية القرض

مشروعية القرض بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال رحمه الله تعالى: [باب القرض]. القَرض والقِرض، والأشهر: بالفتح، لكن يصح الكسر، وأصل قرض الشيء الاقتطاع منه، ومنه قولهم: قرضه فأر، إذا اقتطع منه، وسمي القرض قرضاً: لأن الشخص يقتطع من ماله جزءاً للمديون، فيعطيه إياه ديناً، وأصل القَرض: دفع المال للغير إرفاقاً ليرده عند حلول أجله المتفق عليه، وهذا النوع يسميه العلماء: إرفاقاً، وقد اعتبروه من عقود الرفق؛ لأن الشخص يعطي ماله يحتسب الثواب عند الله عز وجل ويريد الرفق بما أخذ منه، فيكون حينئذٍ عبادة، وقد يدفع المال له من باب العاطفة، فيكون عادة، كشخصٍ -مثلاً- جاءك وقال: أريد مائة ألفٍ قرضاً إلى نهاية السنة، فإنك قد تنظر إلى ظروفه وما ألمّ به من الحوائج فتعطيه المائة ألف، لكن لما أعطيته المائة ألف أعطيتها من باب الرفق، وقد تقدم في أول كتاب البيوع أن عقود المعاوضات تنقسم إلى ثلاثة أقسام: 1 - ما يقصد منه الرفق المحض. 2 - ما يقصد منه القبض المحض. 3 - ما يقصد منه مجموع الأمرين القبض والرفق. أما ما يقصد منه القبض المحض فمثل البيع، فإذا جئت تشتري من المعرض أو جئت تشتري من التاجر إذا عرض عليك السلعة فأنت تريد أن تغبنه وهو يريد أن يغبنك؛ فإن قال لك: هذه السلعة بمائة تقول له: بل بتسعين، وإذا قال بثمانين، قلت: بل بسبعين، هو يريد أن يكون الغبن عندك وأنت تريد أن يكون الغبن عنده، فهذه يسمونها عقود الغبن في البيع وكذلك في الإجارة، إذا قال: أجرتك داري هذا بعشرة آلاف سنةً كاملة، فقلت: بل بتسعة آلاف، فهو يريد أن يغبنك في الألف، وأنت تريد أيضاً أن تغبنه في الألف، فهذا يسمى عقد الغبن، كذلك لو اكتريت أحدهم من أجل أن يوصلك إلى الحرم فقال لك: من هنا أذهب بك إلى الحرم بعشرين، تقول: لا. بل بعشرة، فالغبن إما أن يكون في حق المستأجر أو الأجير، فهذا النوع من العقود يسمونها عقود الغبن والشرع يشدد في شروط هذا النوع، ولذلك تجد شروط البيع أشد من شروط غيره؛ لأنه ما دام أن هناك غبناً فالشرع يريد أن يحتاط للبائع وللمشتري، وبعبارة أخرى: يحتاط للمتعاقدين في حقيهما، فلا يصحح بيع المجهولات ولا يصحح بيوع الغرر بأحوالها، كل هذا احتياطاً لحق البائع، وحق المشتري. النوع الثاني: عقود الرفق، ومنها: الهبة، كما لو أن شخصاً جاءك وقال لك: يا فلان! إني أحبك في الله، وأهدى لك هدية، أو قال: هذا القلم هبةٌ مني لك، أو هديةٌ مني لك؛ فإنه يعطيك القلم ولا يريد الثواب إلا من الله عز وجل، أو يريد أن يكون ثوابه المحبة والمودة، فهذا يسمى عقد الرفق المحض، لا يريد أن يغبنك ولا تريد أن تغبنه، فليس هناك غبن من الطرفين أو أحدهما، إنما يراد الرفق، فيشمل هذا الصدقات والهبات بعوض. النوع الثالث من العقود: ما جمع الغبن والرفق، ومن أمثلة ذلك: الشركات، فلو أن رجلاً قال لك: ندفع مائة ألف، أنت تدفع خمسين وأنا أدفع خمسين، ويكون ثلاثة أرباع الربح لي، وربع الربح لك، تقول له: لا. بل ثلاثة أرباع الربح لي، وربعه لك، فهناك غبن في الربح، وهناك رفق في التقوي بكلا المالين؛ فإن المتاجرة بمائة ألف ليست كالمتاجرة بالخمسين، فأنت تريد أن تقوي ماله وهو يريد أن يقوي مالك، فترى رفقاً منك به وهو أيضاً يرى رفقاً منه بك، فصار رفقاً من الطرفين، ولكنه غبن من الطرفين، فإذاً: عقد الشركة جامع بين الغبن وبين الرفق (المضاربة والقراض)، كرجلٍ قال: خذ هذه العشرة آلاف واضرب بها في الأرض، ويكون لي ثلثا الربح ولك ثلث الربح، فتجد في المضاربة رفقاً من الطرفين؛ لأن العامل يأخذ المائة الألف المجمدة والتي لا تستطيع أن تعمل بها فيرفق بك بالمتاجرة، فأنت ارتفقت من هذه الناحية، والعامل ارتفق من جهة اكتساب صنعته وتنمية خبرته، واستفاد من جهة الربح الذي سيجده من المائة ألف، فإذاً: صار عقد المضاربة عقد رفق من هذا الوجه وهو عقد غبنٍ؛ لأنك ستقول: لي ثلثا الربح، وهو سيقول: بل لي ثلثا الربح ولك ثلثه، وكل منكما يريد أن يغبن الآخر في حضه من الربح، فصار عقد المضاربة والقراض جامع بين الغبن والربح. القرض والدين من العقود التي يقصد بها الرفق المحض، فإنه يعطيه القرض على سبيل أن يرفق به، جاءك رجل وعنده كربة أو نكبة لا قدر الله، وقال لك: يا فلان! إني في ضائقة وحاجة، كرجل يريد إيجاراً لشقته أو يريد علاجاً لمريضه أو علاجاً لمرضه؛ فإن هذا كله يقصد به الرفق من دفع الشدة والحاجة عن المحتاج، ولذلك قالوا: دفع المال للغير إرفاقاً -بقصد الرفق- على أن يرده، فلما قالوا: على أن يرده خرجت الهبة والصدقة، فصار القرض من عقود الهبات، والهبة من عقود الرفق.

أدلة مشروعية القرض

أدلة مشروعية القرض القرض مشروع بالكتاب والسنة وبإجماع الأمة، إذا أعطيت الناس أموالك قرضاً، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة:282]، وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] فجعل معاملة المخلوق للخالق مركبة على القرض، وشبهها بالقرض، فشبهها بالمعروف والمعهود فدل على السنن. كذلك دلت السنة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً على جواز القرض، أما القول: فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)، فهذا يدل على أن من أخذ القرض وفي نيته أن يرده -لا أن يتلاعب بحقوق الناس- فإن الله يعينه، قال بعض العلماء: قوله صلى الله عليه وسلم: (أدى الله عنه)، يحتمل أمرين: الأمر الأول: يحتمل أن يوفقه في الدنيا فيسدده، وقل أن تجد رجلاً يأخذ أموال الناس وفي نيته أن يردها إلا ويوفق للرد. الأمر الثاني: يحتمل أن يكون في الآخرة، أي: إذا مات ولم يسدد الدين، فإن الله لما علم من حسن نيته يتكفل بإرضاء خصمه والأداء عنه فضلاً من الله عز وجل وتكرماً لحسن نيته؛ لأن نيته كانت صالحة، والله هو المطلع على الضمائر والسرائر، أما لو كانت نيته سيئة، كرجل يُكثر الذنوب ولا يستطيع أن يسدد ويأتي إلى أخيه المسلم ويخدعه بالعبارات وبالكلمات الحسنة والوعود المكذوبة، والله يطلع على ضميره وسريرته أنه كذاب، سيأتي إلى الرجل، ويقول له: أعطني مائة ألف، وفي نهاية السنة تأتيني أموال ويعده وعوداً كاذبة ويمنيه والله يعلم أنه في قرارة قلبه ليس بصادق، وأنه ليس عنده ما يستطيع أن يسدد به، وليس صادقاً فيما يقول من أنه سيعطيه، بل بعض الأحيان يعلم أنه ستأتيه الأموال ولكن يبيت في قرارة قلبه أن يأخذ الدين ولا يرده، فمثل هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله)، ولذلك لا يوفق للسداد، فتتراكم عليه الديون حتى يشتكى ويطالب، فيلبس لباس الذلة في الدنيا، وما ينتظره من عذاب الآخرة أشد وأبقى، نسأل الله السلامة والعافية. فالدين جائزٌ ومشروع لظاهر هذا الحديث، وكانت أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها تكثر من الدين فيلومونها، وهي لم تكن تكثر من الدين من أجل أن تتاجر وتبيع إنما كانت تفرج به الكربات، فكانوا يقولون لها: ما هذا الذي تفعلينه؟ لماذا تتدينين؟ فقالت: لا أدع هذا الدين منذُ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه)، فهي تستدين للحاجة وتفريج الكربة. وأما دليل الإجماع: فقد أجمع العلماء على مشروعية القرض وجوازه وأنه من الأمور المستحبة والمندوبة، فيستحب لمن وسع الله عليه أن يوسع على إخوانه المسلمين بالقرض.

مراتب القرض من حيث الجواز والمنع

مراتب القرض من حيث الجواز والمنع والقرض يكون واجباً، ويكون حراماً، ويكون مندوباً، ويكون مكروهاً، ويكون مباحاً. أما أنه يكون واجباً: كرجلٍ تاجر عنده قدرة ومال، ويأتيه المكروب -خاصةً من الأقرباء- ويطلبه مالاً يسيراً، وهذا المديون الذي يريد الدَّين عنده كربة مثلاً فيه مرض خطير، وقد يهلك إذا بقي فيه هذا المرض، ويريد منه الدين من أجل أن ينقذ نفسه، أو يريد هذا القرض من أجل أن يشتري طعاماً، أو يشتري شراباً لابد منه لحياة نفسه، فإنه في هذه الحالة يجب على هذا الذي وسع الله عليه أن يفرج كربة أخيه المسلم، خاصةً إذا غلب على ظنه أنه إذا لم يفعل ذلك أنه سيهلك، والله عز وجل أمر المسلم أن ينقذ أخاه المسلم، ولا يجوز له أن يقتله، فإذا لم يعطه المال فكأنه قتله؛ لأنه تعاطى السبب لهلاكه ولحوق الضرر به، ومثل ذلك لو جاءك المديون يسألك العون، وعلمت أنك إذا لم تسدد دينه فإنه يتضرر، فيكون مثلاً احتاج إلى عشرة آلاف ريال؛ لأن رجلاً اشتكاه في عشرة آلاف ريال، وإذا لم يسدد العشرة آلاف سيسجن، ثم إذا سجن في هذه العشرة آلاف كحق واجب عليه فإن ذلك يعرض أسرته وأولاده للضرر، وقد تتعرض زوجته للزنا والحرام، فلابد أن يضع المسلم الأمر في حسبانه، فإذا كان المدين قريباً لك إما ابن عمٍ لك أو ابن خالٍ لك -بينك وبينه نسب- وأنت تستطيع تفريج كربته فإنه يجب عليك أن تقوم بسداد هذا الدين وتتحمل عنه، خاصةً إذا غلب على ظنك أنه سيسدد، قالوا: قد يكون واجباً عليك أن تدفع له القرض، فإن لم تدفع فإنك تأثم، وتتحمل وزر هذا المسلم، وهذا من كفر نعمة الله عز وجل؛ ولذلك لما جاء الملك للأقرع، قال له: ابن سبيلٍ منقطع، قال له: الحقوق كثيرة، سبحان الله! وهذا هو قول الناس اليوم: عندما تأتي لشخص يقول لك: الالتزامات كثيرة، رجل يكون عنده عشرات الألوف، بل مئات الألوف، بل قد يكون عنده ملايين، وتأتيه في حاجة يسيرة فيقول لك: الحقوق كثيرة، وعليَّ التزامات كثيرة، يعني: هذه الملايين وعشرات الألوف ومئات الألوف لا تفي لسداد هذا الدين الذي لا يعادل شعرةً في مقابل ما عنده، هذه النعمة التي أنعم الله عز وجل بها عليه والمحروم من حرم الخير، وهذا من كفر النعم نسأل الله السلامة والعافية، ولا يأمن من نقمة الله العاجلة والآجلة، فإن من كفر نعمة الله عز وجل فإن الله يلبسه ثوب الذلة، ويسلبه النعمة ويذيقه سوء العذاب الذي ذاقه غيره ما دام أنه يرى قريبه ويرى المحتاجين على تلك الحال ولا يعينهم، هذه كلها أمور ينبغي وضعها في الحسبان عند الحكم بالقرض. من جاء يطلب قرضاً وأنت تعلم أنه يريده لسكنه أو لطعامه ورزقه ورزق أولاده وأنت قادرٌ عليه ينبغي عليك أن تفرج كربته، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. كذلك يمكن أن يكون القرض حراماً، كما لو جاء يطلب القرض من أجل أن يفعل الحرام كأن يشتري به خمراً أو يسافر به لارتكاب الحرام، والمسئول الذي طلب منه القرض يعلم ويغلب على ظنه أن هذا المال سيصرف في هذا الحرام فلا يجوز له أن يعطيه، وإذا أعطاه كان شريكاً له في وزره وإثمه نسأل الله السلامة والعافية. ويكون القرض مندوباً، كأن يكون المقترض مسلماً وجاءك في حاجة ولا يجب عليك أن تنقذه كطالب علمٍ أو رجلٍ يريد أن يسافر إلى أهله ليعف نفسه أو نحو ذلك من المستحبات والمندوبات فأعنته على ذلك فهذا قرضٌ مندوب، وهذا هو الذي نبه عليه المصنف، وهذا عند انتفاء الموانع التي توجب حرمته وانتفاء الدوافع التي ترفعه إلى مرتبة الوجوب، مثلاً: لو جاءك مديون يستطيع أن يأخذ منك الدين ويأخذ من غيرك، وقال لك: يا فلان! أقرضني، وتعلم أنك إذا لم تقرضه سيذهب إلى غيرك فلا يتعين عليك في هذه الحال ولم يجب عليك، ولكن من الأفضل والأكمل أن تبذل له الدين، ففي هذه الحالة يكون القرض مندوباً. ويكون مكروهاً إذا كان لشيءٍ مكروه لا يصل إلى درجة الحرام، كأشياء تشغله عن ذكر الله ولا تصل إلى درجة الحرام ويقضي به وطره فيكون المعونة عليه معونة على المكروه. ويكون مباحاً، كرجلٍ جاءك يريد أن يأخذ المال من أجل أن يشتري صفقة وتجارة، فهو في الأصل ليس مضطراً حتى يصل إلى درجة الوجوب، كتفريج الكربات، إنما يريد أن يربح ويزيد ماله، فأنت استحيت منه وأعطيته، كما يقع بين التجار بعضهم مع بعض، يأتي ويأخذ منه السلعة ديناً وهو قادر أن يسدده، هذا يكون مباحاً؛ لأنه لا دوافع تجعله مندوباً أو واجباً ولا موانع تجعله محرماً أو مكروهاً فصار مباحاً، أو كرجلٍ غني ثري يأخذ منك ديناً فتستحي منه وتعطيه، فهنا لا تستطيع إن تقول: إن هذا تفريج، أي: ليس هو بمكروه، ولا تستطيع أن تقول: إن هذا محرم؛ لأنه ليس بحرام، فليس في مقام المطلوبات ولا في مقام المحرمات، فيكون مباحاً.

الجمع بين مشروعية القرض وذم المسألة

الجمع بين مشروعية القرض وذم المسألة إذا طلب إنسان القرض هل يدخل هذا في ذم المسألة؟ لقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم في المسألة ورغب في ترك سؤال الناس، وبين فضيلة ترك المسألة، وأن من ضمن أن لا يسأل الناس شيئاً ضمن له النبي صلى الله عليه وسلم الجنة، قال: (من يضمن لي أن لا يسأل الناس شيئاً أضمن له الجنة) والسبب في هذا الاستغناء بالله جل وعلا وصدق اللجأ إلى الله سبحانه وتعالى وكمال اليقين به، والمؤمن إذا صان ماء وجهه عن أن يريقه للناس كان هذا أكمل في إيمانه ومروءته، وهذا كله يقصده الشرع ويطلبه. فهل إذا استدان يدخل في المسألة المكروهة؟ A إن طلب الدين لا يعتبر من المسألة المكروهة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طلب الدين، وتوفي كما في الصحيحين ودرعه مرهونة في صاعين من شعير عند يهودي، وهذا يدل على أن طلب الدين ليس من المسألة المكروهة، وما زال على ذلك عمل السلف الصالح من الصحابة والتابعين رحمهم الله، حتى إن محمد بن سيرين وهو من أجلاء أئمة التابعين رحمه الله برحمته الواسعة، أصابته الديون وعظمت عليه حتى سجن في الدين، وأصبح مرهوناً، ولما توفي أنس بن مالك رضي الله عنه أوصى أن يغسله محمد بن سيرين وكان مسجوناً في دينه، وهذا يدل على أن مسألة الدين ليست من المسألة المحرمة، ولا من المسألة المكروهة؛ لأنه يأخذ الدين ويرده، وليس بآخذ شيئاً بدون عوض.

أركان القرض المشروع

أركان القرض المشروع القرض يقوم على ثلاثة أركان، وهي: العاقدان، ومحل العقد، والصيغة، فأما العاقدان: فهما المقرض والمستقرض، فالمقرض هو الذي يدفع القرض، والمستقرض هو الشخص الذي يأخذ القرض، ويشترط فيهما: الأهلية، وهذه الأهلية تستلزم العقل، فلا يصح أن يستقرض من مجنون، أو صبي غير مأذون له بالتصرف في المال، ولو أقرض لم يصح القرض وجاز لوليه أن يأخذه مباشرة. كذلك يشترط في المقرض أن يكون مالكاً للمال الذي يقرضه، فإذا كان غير مالكٍ له لم يصح أن يقرضه للغير، والمال الذي يدفعه للغير قرضاً إذا لم يكن مالكاً له فقد تصرف في ملك غيره، ومن المعلوم أن القرض يصير المال المقتَرَض ملكاً للمقتَرِض، وعلى هذا لابد أن يكون الذي بذل مالكاً. ويتفرع على هذا المسألة المشهورة: لو أن رجلاً أُعطي مالاً لكي يزكيه لا يصح أن يعطيه قرضاً؛ لأنه أُعطي المال وكالة، والإذن له بالتصرف في المال وكالة في الزكاة، وعلى هذا فلا يجوز له أن يقرضه، وكذلك أيضاً لا يجوز أن يتصرف في مال اليتيم فيقرضه للغير؛ لأن نصب الولي على اليتيم من أجل أن ينظر مصلحة المال في تنميته والقيام عليه، فإذا أعطاه قرضاً فإنه قد خاطر بالمال؛ لاحتمال أن يعجز الشخص الذي أخذ القرض عن السداد، وإنما أُذن للولي أن يتصرف في مال موليه وهو اليتيم إذا كان على وجه الإحسان والحفظ والصيانة، فإذا أعطاه قرضاً كان ذلك مخالفاً للأصل، فلم يصح ولا يجوز له. أما الصيغة فإنها تقوم على الإيجاب والقبول، فتقول: أقرضتك، أو أسلفتك، فإنه يصح أن يعبر بالقرض ويصح أن يعبر بالسلف، لما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي رافع رضي الله عنه قال: (استسلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً)، فقوله: (استسلف) تدل على جواز أن يقول: أسلفتك هذه الدراهم، أو أسلفتك هذه الريالات، ومن هنا قالوا: يصح أن تتركب الصيغة بلفظ القرض وبلفظ السلف.

الحكمة من مشروعية القرض

الحكمة من مشروعية القرض القرض في مشروعيته حِكم عظيمة، فهو يفرج كربات المكروبين، ويدفع ويقضي حوائج المحتاجين، حتى قال بعض العلماء: إنه من أفضل القربات وأجلها وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن المديون لا يأتيك إلا من حاجة، فإذا ضاقت عليه السبل وأراد أن يطلب منك أن تعينه بالقرض وهو موثوق لا يعرف بالتلاعب ولا بالكذب ولا بالغش ولا بالخديعة للناس، وخاصة إذا كان غريباً لا يعرف غيرك، أو بينك وبينه قرابة، فإنك إن فرجت كربته كان هذا من أبلغ ما يكون من الأثر والإحسان إلى الناس، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم مبيناً فضل الإحسان إلى الناس في القروض والتوسعة عليهم فيها: (من يسر على معسرٍ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) وعلى هذا استحب العلماء القرض، واستحبوا التيسير على المقترض، ومن التيسير على المقترض عدة أمور: أولاً: أن تيسر له إذا جاء يسأل، فلا تعنفه، ولا توبخه، ولا تهينه، ولا تشعره بشيء من الحرج، كان السلف يملكون الأموال ولكن كأنها ليست ملكاً لهم، بل ملكاً لمن سأل، حتى قال ابن عباس: (ثلاثة لهم عليَّ فضل: رجل احتاج حاجة فجاء يسألنيها) ووجه فضله قالوا: إنه اختارك من بين الناس كلهم، فكان الناس يوم كانوا يحسون أن من جاء للحاجة والفاقة وقصدني فإنه اختارني من بين الناس. وهذا أمر يعظم وقعه على الكريم الذي له نفس حية وقلب حي، فيرد هذا، حتى إنه يتحرج أن تأتي، وتقول له: يا فلان! قد نزلت بي حاجة، فيقول لك: ماذا تريد؟ ماذا تأمر؟ ولا يسمح لك أن تقص حاجتك، وتريق ماء وجهك، يحس بأخوة الإسلام وأن ما أصابك كأنه أصابه، ويحس أن الذي نزل بك كأنه نزل به، فيستشعر حينما جئت إليه وفي وجهك ولسانك ما يدل على الشدة والحاجة والفاقة كأنك هو، فهو يحس بهذه الآلام والأشجان ويتألم كما تتألم بها أنت، فلا يريدها أن تستمر، فيقول لك: أرجوك قل ما تريد، ولا يسمح لك أن تذكر سبباً للسؤال وللحاجة، فهذا من التيسير على المعسرين، وهو يدل على كمال الإيمان وشكر نعمة الله عز وجل المنعم المتفضل على العبد، فإن الله إذا أعطاك نعمة وبارك لك فيها شكرتها، وإذا شكرتها وجاءك المكروب أحسست كأنك هو. وعلى هذا قالوا: هذا من التيسير عند ابتداء القرض، ثم إذا جئت تعطيه القرض لا تشعره بالأسلوب القوي العنيف، فهذا من التعسير عليه والتضييق؛ لأنه لم يشعر بآلامه ولم يحسها فيوسع عليه، يقول له: المال مالك، وأسأل الله أن يبارك لك فيه، خذه مباركاً خذه بطيبة نفس، أسأل الله أن يفرج عنا وعنك، فيخرج المكروب والمنكوب ميسراً عليه وقد كان جاءك بهموم الدنيا وقد ضاقت عليه الدنيا بما رحبت، فيخرج من عندك مجبور القلب والخاطر، فلا يملك إلا أن يدعو لك بظهر الغيب ويذكرك بالخير، وهذه هي التي عناها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (نعم المال الصالح عند الرجل الصالح)، فإن المال الصالح الذي جاء من طريق الحلال والكسب الطيب إذا جاء للرجل الصالح فستر به العورات وفرج به الكربات، أنعم الله عليه بهذا المال، فيصبح الناس يدعون له بظهر الغيب، كذلك من التيسير على المعسر ما لو قال لك مثلاً: أعدك بالسداد في نهاية رجب، وأنت تعلم أنه قد ضيق على نفسه، فتقول له: لا يا أخي! بل إن شاء الله إلى أن ييسر الله عليك، فهذا أيضاً من التيسير على المعسر في الأجل. فعلى العموم من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله هذا القرض، وفي مشروعيته حكم عظيمة، منها: أن الله عز وجل يعظم الأجر والمثوبة لمن أعطاه الله المال، فشكره بمثل هذا. ومن حكمه العظيمة أنه يحقق الألفة والمحبة والأخوة بين الناس، فإن الناس لا زالوا بخير ما رحم بعضهم بعضاً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). فهذه من الأمور التي تستفاد من القرض أنه يجعل الناس متراحمين، وانظر إلى الرجل حينما يأتيك، ويقول لك: أصابتني ضائقة فذهبت إلى فلان وسألته عشرة آلاف فأعطانيها ويسر لي، فعل الله به وفعل، فتحس أن الناس يشعرون أن الخير لا يزال موجوداً، ولكن نسأل الله السلامة والعافية، إذا احتاج المحتاج ونزلت الكربة بالمكروب وضاقت على المسلم الأرض فأصبح يفكر، وينظر ذات اليمين وذات الشمال يبحث عمّن يعينه فلا يجد، بل يذهب ويريق ماء وجهه عند الرجل ويشكو له حاجته وكربته وفاقته، فإذا به يقول له: والله الحقوق كثيرة، والذين يتدينون كثير وقل من يقضي، وكأنه يقول له: أنت مثلهم، هذه من الأمور التي لا تحمد عقباها، وهو من كفر نعمة الله عز وجل، إما أن تعطيه، وإما أن ترده بالتي هي أحسن. وعلى هذا فالقرض فيه خير كثير، وفيه حكم عظيمة وتوسعة على الناس وتفريج لكرباتهم، وربما جاءك المكروب وهو يحتاج المال لسداد دين مسكنه، فإذا لم تسدد عنه كيف يكون حال الناس؟! يخرجون من مساكنهم إذا ضاقت عليهم الدنيا؟ كذلك أيضاً ربما جاءك وقد ابتُلي بغريم لا يحسن، ومن هنا كانوا يوصون ويقولون: إذا رجوت فلا ترج إلا الحيي الذي يستحي، حتى قيل: (لا ترج من ليس له حياء)؛ لأن الحيي إذا جئته فإنه يستحي منك وأقل شيء أنه إذا ردك ردك بالتي هي أحسن، فإذا نظرنا إلى هذه الحكم المستفادة من قضاء الديون، فإننا ندرك حكمة الشرع في تجويزه للقرض، وأنه من الخير والرحمة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فمن رحمة الله ويسر هذه الشريعة أن يسرت على الناس في هذا النوع من المعاملات. وقوله: [وهو مندوب]. بعد أن عرفنا أن القرض يقوم على عاقدين: المستقرض والمقرض، وعلى محل وهو: المال المدفوع وبدله، وعلى صيغة وهي الإيجاب والقبول، (أقرضتك) و (قبلت)، انتقل بعدها رحمه الله إلى الحكم العام، فقال: [وهو مندوب] أي: القرض وذلك بالنسبة للشخص الذي يدفع ويعطي وهو المقرض. ولكن هنا مسألة عارضة، وهي: من المعلوم أن الواجبات أعظم أجراً من المندوبات والمستحبات، فمرتبة الواجب أعلى وأعظم، فإذا نُظر إلى الدين فإنه مندوب، وإذا فرج عن أخيه ويسر وسهل عليه كان من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، مع أن التيسير ليس بواجب، فقالوا: إنه فُضِّل هذا المندوب على الأصل من المطالبة، وهو إلزام الغريم بمطالبته، وعلى الصدقة، قالوا: لأن هذا فيه معنى الوفاء وفيه زيادة، فكأنه اشتمل على الأصل الواجب والزيادة عليه، فكان أفضل من هذا الوجه.

الأشياء التي يجري فيها القرض

الأشياء التي يجري فيها القرض وقوله: [وما يصح بيعه يصح قرضه] أي: يصح قرض كل شيء يصح بيعه، وعلى هذا تشمل الأموال: الأثمان والمثمنات، وعند العلماء خلاف في هذه المسألة، فبعض العلماء يقول: لا يصح القرض إلا إذا كان من المثليات، المكيلات والموزونات والمعدودات المنضبطة، أما لو استقرض شيئاً لا ينضبط مثله لم يصح القرض، والسبب في هذا أن القرض يلزم المديون برد المثل، فإذا أخذ شيئاً لا ينضبط فمعنى ذلك أنه يفضي إلى الغرر والاختلاف والتنازع، وعلى هذا قالوا: لابد وأن يكون منضبطاً، واختلفوا في المنضبط على وجهين: الوجه الأول: منهم من يخصه بالمكيل والموزون ولا يجيز في المعدود كالحنفية. الوجه الثاني: منهم من يجيز في الكل كالجمهور، ودرج المصنف على مذهب الجمهور -وهو الصحيح- أنه يجوز حتى في العدد، قالوا: والدليل على مشروعيته ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي رافع رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً فردها خياراً رباعياً) والبكر من الإبل معدود وليس بمكيل ولا موزون ورده خيارًا رباعيًا، وقال: (إن خير الناس أحسنهم قضاءً) فدل على جواز السلف والدين والقرض في المعدودات، وأنه لا ينحصر بالمكيلات والموزونات. وبناءً على مذهب الحنفية لا يجوز أن يقترض إلا ما كان منضبطاً بالوزن أو بالكيل، وأما ما عداه فلا يجوز، وإذا قررنا الإجماع فكلهم متفقون على أن الذي لا ينضبط لا يجوز قرضه، فمثلاً قال له: هذه الحفنة من الطعام أُعطيكها قرضاً، فإنه إذا جاء يسدد لا يستطيع أن يعطي مثل الحفنة، وهكذا لو قال له: هذا كيس لا يُعلم كم بداخله أعطيكه قرضاً، فإنه لا يُعلم كم بداخله، ولو أعطاه جواهر؛ لأن المشكلة أنه إذا أخذ هذا الكيس سيستنفده، ولا يدري كم هو، فلابد وأن يكون الذي يأخذه منضبطاً، ولو أخذ الجواهر وكانت مما لا ينضبط ولم يكن لها وصف تتميز به، فإنه لا يصح قرضها على هذا الوجه؛ لأنه يفضي إلى الاختلاف والتنازع. وقوله: [إلا بني آدم] فمثلاً: قال شخص لآخر: أقرضني هذه الأمة، وعندنا أن كل ما صح بيعه فإنه يصح قرضه، والمملوك يجوز بيعه، وبناءً على ذلك يجوز قرضه، ومن حيث الأصل أنه إذا استقرض بعيراً مثلاً، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استقرض البعير ورد مثله وأفضل منه، وعلى ذلك فإذا استقرض المملوك فإنه يرد مثله في صفاته، فالسبب في منع قرض بني آدم، قالوا: خشية إعارة الفروج، والسبب في هذا أن القرض يراد منه الانتفاع والارتفاق، فإذا أخذه المقترض فإنه يملكه، ولا يكون مالكاً له إلا بالقبض أو بالتصرف، فإذا تصرف فيه ملكه، وحينئذٍ ربما أخذه واقترضه ووطئ المرأة قبل أن يتصرف فيها أو وطئها بعد قرضها، وحينئذٍ يكون قد وطئ فيما يملك الغير، قالوا: إنه وطئ في ملك الغير، فلو صححنا أنه وطئ في شيء ملكه بالقبض قالوا: يصير كأنه أعار الفرج بالفرج؛ لأنه أخذها للوطء، ثم جاء ببدل عنها مكان الذي ارتفق به، قالوا: وبناءً على هذه العلة وهي عدم جواز إقراض بني آدم يصبح الحكم الأشبه فيه أن يختص بالتي يمكن أن يطأها. والشافعية دققوا في هذه المسألة، فقالوا: قرض بني آدم إن كان مما لا يوطأ كصغيرة لم تبلغ سن الوطء، أو ذات محرم كأن يقرضه أخته تكون مملوكة، فقال له: أقرضني أختي ديناً، فأخذها قرضاً وديناً فحينئذٍ قالوا: يصح؛ لأنه لو أعطاه بدلاً عنها فلا تتحقق المفسدة؛ لأنه إذا أخذ أخته قرضاً عتقت عليه، ثم إذا عتقت عليه جاء بالبدل عنها، وحينئذٍ قالوا: إن المفسدة المرادة من إعارة الفروج ليست موجودة، بخلاف ما إذا أعاره أمة فأخذها وملكها فوطئها ثم رد مثلها، فكأنه رد الفرج بالفرج، وعلى هذا قالوا: يفرق بين ذات المحرم وغير ذات المحرم، ويفرق بين ما يمكن وطؤه وما لا يمكن. أيضاً قالوا: يجوز أن تستقرض المرأة المملوكة، فيجوز قرض بني آدم للنساء بعضهن مع بعض؛ لأن مفسدة إعارة الفروج ليست بموجودة؛ لأن المرأة لا تطأ المرأة، ومن هنا قالوا: ينبغي تقييد المنع بما وجدت فيه العلة، وهذا هو وجه المنع من استقراضه، وإلا فلو نظرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف المعدود ورد المعدود فإن هذا يدل على جواز قرض بني آدم ورد المثل إذا لم يكن هناك مثل، أو رد العين إن كانت العين موجودة.

ما يملك به الإنسان القرض

ما يملك به الإنسان القرض وقوله: [ويملك بقبضه فلا يلزم رد عينه] ويملك القرض بقبضه، هناك ثلاث مراحل وسبق وأن نبهنا عليها، وهي: العقد، وهو الإيجاب والقبول، وهناك القبض والحيازة والتسليم ونحو ذلك، وهناك التصرف سواءً بالبيع، أو بالإجارة، أو بالهبة، أو بالعتق، وهذا كله تصرف في المبيع، فأما بالنسبة للعقد، فمثلاً: قال له: أقرضني عشرة آلاف ريال إلى نهاية رمضان، قال: قبلت، فقال بعض العلماء: إذا قال له: أقرضني عشرة آلاف، أو أقرضني هذا الكتاب، أو أقرضني هذه السيارة، أو أقرضني هذه الدابة، وقال الآخر: قبلت، فإنه بمجرد الإيجاب والقبول تصير إلى ملك المستقرض، وحينئذٍ من حق المستقرض أن يعطي البدل عن القرض، وفائدة المسألة سنبينها في البدلية، قال بعض العلماء: لا يقع الملك إلا بعد القبض. فمثلاً: لو فرضنا مالاً كمائة ألف ريال من فئة الخمسمائة، إذا قال له: أقرضني مائة ألف إلى نهاية رمضان، قال له: هذه مائة ألف إلى نهاية رمضان ولم يقبضها، فعلى القول الأول: تصير إلى ملك المستقرض بمجرد الإيجاب والقبول، والقول الثاني: أنها لا تصير إلى ملك المستقرض إلا بالقبض، فإذا قبضها فحينئذٍ لو طالبه صاحب الدين؛ لأنه في بعض الأحيان يقول صاحب الدين: خذ المائة ألف إلى نهاية رمضان، ثم يقول: لا. قد رجعت عن ديني، أعطني إياه الآن، فيريد أن يفسخ، وسنبين هل يلزمه أن يبقى أم لا يلزمه، لكن نقول على ما اختاره المصنف رحمه الله وجماعة: إن من حقه أن يرجع ولو كان بعد العقد مباشرة، فلو أنها من فئات الخمسمائة ريال، فقلنا: إنها تملك بالقبض على القول الثاني الذي اختاره المصنف، فإذا قبض المستقرض القرض حينئذٍ ملكه، فجاز له إذا طالبه برده أن يرد المثل بدلاً عنه؛ لأنه قد ملك وحينئذٍ يصل إلى ملكيته إن شاء أعطى نفس الشيء وإن شاء أعطى مثله؛ لأنه صار إلى ملكيته بمجرد القبض. القول الثالث: لا يصير إلى ملكية المستقرض إلا بالتصرف، فإن تصرف في الدين فحينئذٍ ملكه ولم يلزم رد عينه، فالمسألة هنا في رد العين، لو أن هذا الشيء في بعض الأحيان يكون خمسمائة والسوق الأفضل أن تكون مفرقة فاستقرضها مفرقة، فأراد أن يعطيه بدلاً عنها جملة وبرأسها كما يقولون كان له ذلك؛ لأنه ملكها بالقبض وصح له أن يصرفه إلى المثل، هذا إذا قلنا: إنها بمجرد العقد. إذاً: يملك القرض بالعقد، ويملك بالقبض، ويملك بالتصرف، فإن اقترض منه قمحاً ولم يتصرف فيه وطالبه صاحب القمح برده قبل التصرف لزمه أن يرد عين القمح ولا يصرفه إلى مثله؛ لأنه لم يملكه إذا لم يتصرف فيه، وهكذا أيضاً لو قلنا: لو قبضه وبعد القبض طالبه لم يصح أن يطالبه بعينه، والعكس لو طالبه قبل القبض وبعد العقد لزمه أن يدفع له عين الطعام الذي أخذ، وهكذا لو أنه اقترض منه سيارة أو دابة على أن يرد مثلها، فإنه إذا اقترض منه السيارة قرضاً بعينها ورقبتها فإنه يصير مالكاً لها بمجرد العقد على القول الأول، وبالقبض إذا ركبها وقبضها وساقها على القول الثاني، وإذا تصرف فيها وبذلها على القول الثالث، فإذا تصرف فيها فباعها أو أجرها للغير صارت ملكاً له، فحينئذٍ يجوز أن يعطيه بدلها ويجوز أن يعطيه عينها، فالخيار له إذ لا يكون ملزماً بالعين، هذا بالنسبة لمسألة ما يملك بقبضه. إذاً: عندنا ثلاثة أوجه للعلماء: فالجمهور يرجحون القبض، وغيرهم يرجح التصرف، والجمهور كلهم على القبض والتصرف، وقال المالكية: إنه يملك بمجرد العقد، لكن الجمهور منقسمون على القبض وعلى التصرف، واختار المصنف رحمه الله قول من قال: إنه يملك بالقبض. وهذه المسائل بناها العلماء على أصول في الشريعة، فأنت حينما تعطي شخصاً ديناً فإن هذا الدين بأصل الشرع إذا أخذه كان من حقه أن يتصرف فيه، فمن أقرض قرضاً فإن الإجماع قائم على أن المقترض يملك القرض، بدليل أنه يذهب يأخذ منك المائة ألف فيشتري بها عمارة أو سيارة وليس من حقك أن تطالبه بهذه العمارة أو السيارة إنما تطالبه بالمائة ألف، إذاً: الإجماع والأصل الشرعي يدل على أنه يملكها. يبقى Q هذه المائة ألف في الأصل هي ملك لي وأعطيتها لك وحصل بيني وبينك إيجاب وقبول، فهل ملكيتك لها تكون بمجرد الإيجاب والقبول؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] ودل على أنه يلزم بمجرد العقد، أم أنه لابد من القبض وهذا أصل مفرع على المعاوضات؛ لأن الديون في البداية فيها شبه بالعارية وفي النهاية فيها شبه بالبيع؛ لأنه إذا تصرف فيها لزمه البدل، فإذا قلت: إنه ملكها ودخلت إلى ملكيته وتصرف فيها فحينئذٍ يضمن البدل، فهذا يقتضي أنها معاوضة وفيها شبه من البيوع والمعاوضات؛ لكن في الابتداء ومن حيث الأصل الدين لي والمال مالي، خاصة على قول من يقول: إنه من حقي أن أطالبك في أي وقت ولو قبل الأجل. فإذاً: لابد أن نحدد متى ينتقل المال من عندي إليك، وهذا يترتب عليه الأحكام الشرعية حتى ننصف صاحب المال وننصف المديون أيضاً، وحتى نعلم أن هذه الشريعة كاملة، وأنها فاقت جميع القوانين والتشريعات التي هي من صنع البشر والتي لا تسمن ولا تغني من جوع، قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} [الأعراف:52] قواعد صحيحة وأصول متينة، فالعلماء يدرسون كل شيء يترتب عليه ذمم الناس والحقوق والمسئوليات، فيفرعون ويفصلون حتى يُعرف ما لكل ذي حقٍ من حق، فيعطى كل ذي حقٍ حقه. فالفقه ميزته أنه سبب ليعطى كل ذي حقٍ حقه، وهذه المسائل وإن كانت في البداية غريبة لكنها تنبني عليها حقوق، فقد يأخذ المقترض الطعام فيطحنه، وقد يأخذ الدقيق فيطحنه أو يتصرف فيه ثم يطالب الرجل بعين ماله، فهل من حقه أن يطالب أو ليس من حقه؟ وإذا قلت: من حقه، لماذا؟ وإذا قلت: ليس من حقه، لماذا؟ هذه كلها أمور محسومة ومفصلة في كلام العلماء رحمهم الله حتى يتيسر القضاء إن حصلت الخصومة، وتتيسر الفتوى إن حصل السؤال، ويتيسر العلم إذا حصل الطلب، فالمراد أننا ندرس هذه المسائل حتى نعرف بيان ضوابط القرض، وكذلك الأموال حتى نعلم متى تنتقل من ملكية المالك الأصلي إلى ملكية غيره.

حكم تسديد الدين قبل حلول الأجل

حكم تسديد الدين قبل حلول الأجل وقوله: [بل يثبت بدله في ذمته حالاً ولو أجله] (بل يثبت) أي: يثبت الدين والضمير في (بدله) عائد إلى الدين، وقوله: (في ذمته) أي: ذمة المديون والذي استقرض، والذمة وصف يقوم بالأشخاص قيام الأوصاف الحسية بمحسوساتها، وهو وصف يقبل الالتزام، فقوله: [في ذمته] أي: أنه لابد وأن يكون الشخص الذي يقترض عنده ذمة قابلة بأن يلتزم بها. وقوله: [بل يثبت بدله في ذمته حالاً] هذا فيه خلاف. وقوله: [ولو أجله] ولو: إشارة إلى خلاف مذهبي. وهذه المسألة نريد أن نبحثها، فمثلاً: لو أن رجلاً أعطاك مائة ألف ديناً، فهذه المائة ألف قلت له: أخذت منك هذه المائة ألف أو آخذ منك هذه المائة ألف ديناً إلى نهاية السنة، فقال لك: قبلت خذها ديناً إلى نهاية السنة، نحن الآن في رمضان، فإذا قبضتها على القول بأن الملكية بمجرد قبضك لها يثبت في ذمتك لصاحب الدين مائة ألف حالة، أي: تدفع فوراً، لو طالبك بها في أي وقت ولو قبل نهاية السنة تدفع، ولو اتفقتما على التأجيل لماذا؟ لأنهم يقولون: القرض كالعارية بدليل أنك لا تملكه إلى الأبد، صحيح أنك لما أخذت المائة ألف تصرفت فيها لكن لا تملكها إلى الأبد، بل تلزم برد مثلها، فإذاًَ: هذا المثلي مملوك لك أم غير مملوك، وبالإجماع إذا قلنا بثبوته على المديون ليس ملكاً له، فمعنى ذلك: أنك إذا أخذت مائة ألف فهي ليست ملكاً لك، إنما ملكت الانتفاع والارتفاق بها إلى الأجل، هذا من حيث الأصل. فإن قلنا: إنها كالعارية، فلو أن شخصاً أخذ منك السيارة يريد أن يصل بها إلى الحرم المكي ويرجع، فمعنى ذلك: أنه أخذها وردها، وهو ليس مالكاً لها، فإذاً: يقول أصحاب هذا القول من الحنابلة والحنفية رحمهم الله: الدين يثبت في ذمة المديون حالاً ولو أجله صاحب الدين فأعطاه مهلة إلى أجل، ولو قال له: أشترط عليك أن يكون إلى أجل، قالوا: يفسد الشرط ويلغى ويكون وجوده وعدمه على حدٍ سواء، ويلزم لو طالبه في أي وقت أن يعطيه دينه؛ لما يلي: أولاً: أن الدين كالعارية، ومن حقه في أي وقت أن يرجع ويأخذ العارية، فلو أنك أخذت السيارة عارية إلى الحرم فمشيت بها مثلاً مائة متر فلحقك، وقال: أعطني سيارتي، قالوا: من حقه أن يستردها؛ لأنها كالعارية. ثانياً: أنه إذا قال لك: خذها إلى نهاية السنة فوعد، والوعد ليس بملزم، وإن كان المسلم مطالب أن يفي بوعده، وإلا فإنه يأثم، لكن ما فيه إلزامات مترتبة على هذا الوعد؛ لأنه إحسان وتبرع محض، فقد يعطيك الدين على أنه موسع ثم يرجع عن ذلك فيتذكر حقوقه، والله تعالى يقول: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91] والذي بذل الدين محسن، فلو أعطاك قرضاً إلى نهاية السنة وقال: أنا أريد الأجر والثواب ثم جاءه ظرف بعد شهر أو شهرين أو يوم أو ساعة، وقال لك: أعطني الآن فعليك أن تعطيه، وقالوا: يثبت في ذمتك حالاً. أي: لو أنك تصرفت فيها وطالبك بالدفع فوراً فأصبحت بعد التصرف مباشرة معسراً يثبت في ذمتك حالاً، فليست القضية أن تدفع فوراً إذا كان فيه إمكان، لكن شاهدنا: أن الدين لا يُلزم بإبقائه إلى الأجل، هذا هو الذي درج عليه المصنف واختاره، وهو مذهب الحنفية والحنابلة والشافعية رحمهم الله. وهناك قول للمالكية واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم رحمة الله على الجميع، أنه إذا أجله فإنه يلزم بالأجل، وأنه إذا اشترط عليه أن يسدد في رمضان لم يكن من حقه أن يطالبه قبل رمضان، ويلزم بالبقاء إلى نهاية رمضان، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم) وهذا قد أخذ ديناً، فلو سلمنا أن الدين كالعارية في شبهه، فإننا نقول: يمكن أن نسلم بهذا، لكن لما اشترط عليه ألزم بشرطه، والفرق بين ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والإمام ابن القيم وبين مذهب المالكية: أن شيخ الإسلام يجعله عند الشرط إذا اشترط، والمالكية يقولون: اشترط أو ذكر الأجل فإنه يلزم بالتأخير إلى الأجل، والصحيح أنه إذا اشترط عليه أن يؤجل فليس من حقه أن يطالبه قبل الأجل. وقوله: [ويثبت في ذمته حالاً ولو أجله] أي: أنه إذا قبض المديون الدين فإنه يملكه، فيجوز له بيعه وهبته وإتلافه؛ لأنه ملكه، فلو أخذ منك دقيقاً وطحنه وعجنه وخبزه فإنه يملكه بقبضه، فعلى هذا يثبت في ذمته مثل الذي أخذ إن تصرف فيه، وإذا لم يتصرف فيه ووجد عين المبيع فمن حقه أن يطالبه بدفع العين، وقيل: يثبت مثله أو بدله، وهذا هو الذي نص عليه المصنف بقوله: [ويثبت]. وقوله: [بل يثبت بدله] البدلية: تستلزم اتحاد الجنس واتحاد النوع واتحاد الصفة واتحاد القدر، وهنا تستلزم المثلية، والمثلية تقوم على اتحاد الجنس: طعام بطعام، واتحاد النوع: بر ببر، واتحاد الصفة: إبل عرابية بعرابية أو بختية ببختية، وبختية ما لها سنامان، والعرابية ما لها سنام واحد، إذاً: يعطيه بصفتها، واتحاد العدد والقدر كأن يأخذ منه مائة ويرد مائة. فقوله: [يثبت بدله] أي: بدل الدين، ولا يلزم برد العين إن طالبه صاحب الدين، ففي بعض الأحيان يستسلف دنانير ذهب جديدة ويقضيها قديمة، والجديدة أفضل من القديمة، وقد يستسلف خمسمائة دينار كل عشرة دنانير على حدة، مثلاً: بوزنها، والجملة أثقل من الصرف؛ لأن المصروف أفضل، وفي بعض الأحيان الجملة أفضل، فلو أنه أخذها منك خمسمائة فجئت وطالبته بها كان من حقه أن يعطيك بدلاً عنها تفاريق، ولا تقل له: أعطني هذه الخمسمائة. إذاً: لما قال المصنف: [يثبت بدله] قرر المسألة عند الخلاف إذا تنازعا، فمثلاً: لو استدان رجل منك أي مال من الأموال، ثم تبين أن هذا الرجل في ماله شبهة، فجئت وقلت له: أعطني ديني، وأنت تريد عين ما أخذ منك تورعاً، فحينئذٍ على قوله: [يثبت بدله] ليس من حقك أن تطالب بالعين، وعلى القول: بأنه إذا طالبه بالعين ولو عند نهاية الأجل يثبت عينه إن كان موجود العين، فحينئذٍ يلزم بدفع عينه، ولا يجوز له أن يصرفه إلى المثل والبدل، فلو كان عندك بعير تحبة فجاءك من يطلبه منك، فأعطيته إياه فبقي عنده، ثم بعد ذلك جئت تطالبه وإذا بالبعير عنده، فقال لك: خذ بعيراً مثله، فقلت له: أُريد نفس بعيري. وعلى هذا أثبت الحق لك بالبدل، إن شاء أعطاك عينه، وإن شاء أعطاك بدله، هذه مسألة البدلية، فقد يكون من الأفضل أن يأخذ الإنسان عيناً وفي بعض الأحيان العكس. وقوله: [فإن رده المقترض: لزم قبوله] [فإن رده المقترض] إن رد المقترض القرض [لزم] أي: لزم المقرض [قبوله] أي: أخذ المال ولا يجوز له أن يمتنع والضمير في [رده] عائد إلى البدل، فإذا رد البدل لزم المقرض قبول البدل، ولا يقول: أطالب بعين ما دفعت، ولا يطالبه بعين ما دفع، وعلى هذا يقرر المصنف أنه بمجرد قبضه ينتقل الأمر إلى الذمة، وإذا انتقل إلى الذمة سقطت العين، فإذا قلت: ذمة فإنه يصبح مثلياً، وإذا قلت: عيناً فإنه يصبح منحصراً في نفس الدين. فمثلاً: إذا أقرضت هذا الكتاب فمعناه أننا إذا قلنا: إنه يثبت عين الكتاب إن وجد أو بدله إذا لم يوجد يصبح ليس من حق المقترض أن يلزمك بمثله إن وجد عينه، فينصرف المعين إلى الذمة، أما لو قلنا: إن الواجب عليك المثل، فمعناه أنه في ذمتك، ولذلك قال: [ويثبت بدله في ذمته] ولم يقل: يثبت عينه، فإن لم يثبت عينه فبدله، لا. إنما يثبت البدل والمثل، والبدلية تستلزم المثلية في الجنس والنوع والعدد والقدر والصفة.

قضاء الديون إن اختلفت العملة

قضاء الديون إن اختلفت العملة وقوله: [وإن كانت مكسرة أو فلوساً فمنع السلطان المعاملة بها: فله قيمتها وقت القرض] هذه المسألة كانت في القديم حيث كانوا يضربون الدنانير والدراهم في بيت المال ثم يتعامل الناس بها، وهذه الدنانير والدراهم يصاحبها نوع ثالث من النقود وهي الفلوس، وكثيراً ما تكون من النحاس، ويكون لها رواج، ثم تلغى هذه الفلوس التي من النحاس ويؤتى بفلوس أخرى، ويسمونها السِّكَّة بحيث تضرب من جديد، فيضرب نوع جديد غير النوع القديم، وفي زماننا يضرب ورق نقدي جديد غير الورق النقدي القديم. فحينئذٍ إذا منع السلطان التعامل بالورق القديم وأحدث ورقاً جديدة، فحينئذٍ يلزم بمثلها، أي: إذا كانت الريالات هي نفس الريالات فلا إشكال، فكما أنه ينتقل إلى المثلي في أصل الدين من نفس العملة ينقل إلى العملة نفسها إن صارت مثلية، فمثلاً إذا أخذ منك مائة ريال على أن يردها بعد شهر، فجاء بعد شهر وأعطاك المائة ريال، من نفس النقد، فكما جاز له أن يرد المثل من نفس النقد ومن نفس الريالات جاز أن يرد ريالات أيضاً عليها شكل آخر أو ضرب آخر أو بصفة أخرى مادام أنها هي نفسها. وعلى هذا لو أنه اقترض ريالات قديمة ثم أُلغيت واستبدلت بريالات جديدة فإنه يقضيه بالريالات الجديدة، فإن أُعدمت الريالات نهائياً وجاءت عملة أخرى بدلاً عنها باسم جديد فحينئذٍ يقدر قيمة القديم بالجديد إذا كانت حالة. فعندنا هنا حالتان: الدنانير القديمة تكون مثلاً بغلية، ثم يؤتى بدراهم إسلامية، فلو أنه اقترض بالدرهم البغلي ثم أُلغي حتى لا يتعامل به الناس -فسواءً توقف الناس عن التعامل به أو أُلغي من السلطان- فحينئذٍ لو أُلغي هذا الدينار فإنه ينزل الدينار الذي ضرب مكانه منزلته، إن كان بوزنه وبقدره وبحجمه، كريال الفضة القديم مع ريال الورق الموجود الآن، فإن ريال الفضة القديم حينما سحب أعطي بدله المستند، ومن هنا قالوا: إن المستند منزل منزلة رصيده فوجبت فيه الزكاة، وهذا هو وجه من يقول: إن النصاب ثلاثة وخمسون ريالاً؛ لأن ثلاثة وخمسين ريالاً من الفضة القديمة تعادل السَّكَّة الجديدة، فالفضة القديمة ألغيت لكن أُقيم المستند مقامها فنزل منزلتها، والعجز عن الرصيد يعتبر عذراً فنزلت منزلتها حكماً. وعلى هذا نوجب فيها الزكاة، مع أن الورق لا تجب فيه الزكاة، فلو قلنا: لا رصيد لها فمعناه أن الزكاة لا تجب فيها، وعلى هذا وجبت الزكاة فيها؛ لأن رصيدها من الفضة، ويقوم رصيدها بمائتي درهم الذي هو أصل الفضة، فلما كان عدل المائتين درهم ثلاثة وخمسين ريالاً من الفضة القديمة بوزنها يعادل الخمسة أواقٍ من الفضة التي هي النصاب، قالوا: نزلت الثلاثة والخمسون ورقاً منزلة ثلاثة وخمسين ريالاً من الفضة، ولو جئت تبادل ريال الورق بريال الفضة القديم فإنك تبادله مثلاً بمثل، يداً بيد، فلو جئت تبادل ريال الفضة القديمة بثلاثة ريالات جديدة فهو عين الربا، كأنك بادلت رصيده من الفضة القديمة ثلاثاً بريال وهو عين الربا، ومن هنا إذا ألغي القديم وجاء الجديد مكانه اسماً وصفة وحكماً واعتباراً وجب أن يبقى على هذا الأصل. فلو قال قائل: ألغي رصيده في التعامل العام الذي يكون بين الجماعات والجماعات، والدول والدول، هذا إلغاء رصيد، فأصبحت القيمة للمشتريات والصادرات والواردات بالريال الجديد، لكن قيمة الريال في ذاته وأصله وحقيقته مستند، ولو وضعت عندي كيلو من الذهب أمانة وأعطيتك مستنداً عليه، ثم قلت لك: ألغيت الرصيد وهذا المستند لا قيمة له لم يصح في حكم الشرع، فدل على أن إلغاء الرصيد لا يلغي قيمة الريال، وإذا كان لا يلغي قيمة الريال، فوجب أن يصرف الريال بالريال مثلاً بمثل، يداً بيد، وأنه لو صرف تسعة ريالات بعشرة ريالات فهو كصرف تسعة ريالات فضة قديمة بعشرة ريالات فضة قديمة، لأنه إذا أُلغي القديم ونزل الجديد منزلته اسماً وصفة فإنه يأخذ حكمه، سواءً بسواء، فلو قلت: إنه ورق، نقول: إن الورق لا قيمة له، ولا تجب الزكاة فيه. فإن قيل: إنه ورق له قيمة فنزل منزلة الذهب والفضة نقول: إن ورق كتب العلم له قيمة، والدفاتر لها قيمة، وغيرها من الأوراق لها قيمة؛ لأنها كلها لها قيمة شرائية، فلو كانت مسألة القيمة توجب الزكاة لوجبت في الأوراق؛ لأن العبرة بالرصيد. وبناءً على ذلك: إذا ألغي القديم ينظر في الجديد، فإن نزل منزلته من كل وجه صار آخذاً حكمه من كل وجه، فلو استدان منه مائة ريال فضة قديمة قضاها مائة من الفضة القديمة إن وجدت، فإن لم توجد قضاها بالورق، ونزل الموجود من الورق منزلتها.

تسديد القروض المثلية بالمثل

تسديد القروض المثلية بالمثل وقوله: [ويرد المثل في المثليات] مثلما ذكرنا أن المثلية تستلزم الجنس والنوع والقدر والصفة، فمثلاً: لو استلف بعيراً بكراً أو خياراً فإنه يرد الجنس بالجنس، والنوع بالنوع، والسن بالسن الذي هو القدر، فقدره في السن بكر ببكر رباعي برباعي جذعة بجذعة وابن لبون بابن لبون، مثِلاً بمثل، ذكر بذكر، أنثى بأنثى، فإذاً: يرد المثل في المثليات، وعلى هذا يكون العدل، وكما قال الله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] (وإن تبتم) أي: في مسألة الديون، (تَظْلِمُونَ) أي: الناس، حينما أخذتم رأس المال لم تأخذوا زائداً عن حقكم، (وَلا تُظْلَمُونَ) لأنكم لم تبخسوا حقوقهم، فأخذتم رأس مالكم وحقيقة ما دفعتموه، وعلى هذا لابد من التماثل، هذا في القديم، ونفس الشيء في الجديد، فلو اقترض منه سيارته أو أدوات أو فراشاً، فإنه ينظر إلى جنسه ونوعه وصفاته ويرد مثله في الصفات وفي الجنس وفي النوع.

تسديد القيمة عند عدم وجود المثل

تسديد القيمة عند عدم وجود المثل وقوله: [والقيمة في غيرها] المثليات قالوا: في المكيل كيلاً، وفي الموزون وزناً، وفي المعدود عدداً، أما إذا تعذر أن يصير إلى المثل حينئذٍ صار إلى القيمة، فالدراهم والدنانير إذا أُلغيت وجيء بعملة غير العملة القديمة بأن كانت القديمة من الذهب فصارت من الفضة، فإنه ينظر إلى القيمة، عِدل الذهب من الفضة في ذلك الزمان يوم القرض، إن قالوا: يعادل خمس جنيهات، فحينئذٍ هذه الخمس جنيهات الموجودة الآن تقضى له خمس جنيهات، فينظر إلى المثلي يوم القرض؛ لأنه فيه خلاف، فبعض العلماء يقول: يعتبر يوم القرض، وبعضهم يعتبر بيوم القبض، وهذا هو الصحيح، وهو أننا إذا كنا نقول: إنه يملك بالقبض فمعناه أن ذمته شغلت بالقبض، وعلى هذا ينبغي أن يتقيد بالقبض. فلو أنه اقترض سيارة في شهر رجب وهذه السيارة قبضها منه في شعبان، وكانت قيمتها في رجب خمسة آلاف، وفي شعبان قيمتها أربعة آلاف، فحصل القبض في شعبان، ثم تصرف في السيارة حتى تلفت ولا يوجد لها مثلي، فحينئذ نصير إلى القيمة، فإن نظرنا إلى العقد يوم القرض فهو في شعبان وهو قبضها في رمضان، فإذا جئنا يوم الاتفاق والعقد في شعبان وكانت قيمتها خمسة آلاف، ويوم القبض والتصرف في رمضان كانت قيمتها أربعة آلاف اختلفت القيمة، قالوا: العبرة بيوم القبض وهذا هو الصحيح، أنه إذا استلفها منه نظر إلى يوم القبض؛ لأن الملكية تصير إليه وتتعلق بذمته عند القبض، فصار مشغول الذمة وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس، ونص الإمام أحمد رحمه الله على هذا كما ذكر ذلك الإمام ابن قدامة في المغني. وقوله: [فإن أعوز المثل: فالقيمة إذاً] مثل السيارات التي ينقطع موديلها ولا يوجد لها مثيل فينظر إلى قيمتها، ولا يصار إلى القيمة إلا إذا أعوز المثل، ومن هنا تتفرع المسألة في اختلاف القيمة الشرائية للعُمل، فإن استسلف شخص عملة بالدولارات، والدولار قيمته عشرة ريالات في عام ألف وأربعمائة، ثم أصبحت قيمته في عام ألف وأربعمائة وثمانية عشر -عند القضاء- عشرين، فحينئذٍ هل نقول: إنه يجب أن يقضيه نصف القيمة؛ لأنه قد زاد عن الأصل الذي أخذ به، أم نقول: يجب أن يعطي المثل بغض النظر عن قيمته؟ نقول: يجب أن يعطي المثل بغض النظر عن قيمته غالياً أو رخيصاً، والسبب في هذا قاعدة سبق وأن بيناها: أن الغنم بالغرم. وبناءً على ذلك: في العملة؛ إذا استدان منك مائة دولار إلى السنة القادمة فمعناه أنه قد رضي بخسارتها ورضيت أنت بخسارتها، ورضي بما يكون من ربحها وارتفاع سعرها، ورضيت بربحها وارتفاع سعرها، فلا يصح إذا نقصت قيمتها أن يأتي يطالبك؛ لأنه لو زادت قيمتها لطالبك بالمثل، ومن هنا قالوا: يتحمل المسئولية، فأي شيء استدانه وجاء ليحل ويفي رد مثله، بغض النظر عن كونه غالياً أو رخيصاً، يطالب بالمثل؛ وعلى هذا أصل شرعي، وهو أنه إذا أخذ الشيء رده، فإن قلنا: إن الشيء ملكه يرد مثله، فإن وجد المثل وجب أن ينصرف إليه. لكن لو أنه قبل خمسين سنة أخذ منه ثلاثة ريالات فضة، ويمكن أن تصل قيمتها اليوم ثلاثة ملايين. نقول: يقضيه ثلاثة ريالات الآن، لكن من باب الوفاء وحسن القضاء لا بأس أن يزيده لكن لا يجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن خيركم أحسنكم قضاءً)، وقال: (رحم الله امرء سمحاً إذا قضى سمحاً إذا اقتضى) فإذا أردت أن تقضي فتحسن وتتذكر فضله، وهذا من خلق الكرام، فإن الكريم إذا أكرمته رد الكرامة بمثلها وزيادة، وعلى هذا لا يليق وليس من المحاسن أن يرد نفس المال، وإنما يرد ويحاول أن يجبر خاطر من دينه، خاصة وأن هذا فيه رد للجميل.

حكم القروض التي تجر منافع

حكم القروض التي تجر منافع وقوله: [ويحرم كل شرط جر نفعاً] الشروط في القروض تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: شروط مشروعة. والقسم الثاني: شروط ممنوعة. والقسم الثالث: شروط مختلف فيها. وهذا القرض له نوعان من الشروط: شروط شرعية وشروط جعلية، والفرق بين الشروط الشرعية والجعلية: أن الشرعية لا يصح أن يكون القرض من مجنون أو ممن لا يملك المال، وليس له حق التصرف فيه، أما الجعلية، أي: جعلها المتعاقدان أو اشترطها أحدهما ورضي بها الآخر. وهذه الشروط الجعلية من المتعاقدين تنقسم إلى ثلاثة أقسام: إما أن تكون مشروعة، وإما أن تكون ممنوعة، وإما أن تكون مختلفاً فيها. فالشروط المشروعة المتفق عليها أن يقول له: أعطني قرضاً مائة ألف، قال: أعطيك ولكن بشرط أن تحضر كفيلاً غارماً يغرم، هذا شرط اشترطه رب الدين على المدين، وكما لو قال له: أقرضني مائة ألف إلى نهاية رمضان، قال: أقرضك ولكن بشرط أن ترهن دارك أو ترهن عندي رهناً، فهذا شرط، أو يقول له: أقرضني مائة ألف، قال: بشرط أن نسجل هذا الدين وأثبته عليك بكتابة وشهود، قال: قبلت، فإذاً: هذا دين بشرط، وهذا الشرط جعلي من المكلفين، ولكنه مشروع غير ممنوع، وضابط المشروع: أن لا يخالف مقتضى القرض وأن لا يفضي إلى محرم، فمثلاً لو اقترضت من شخص فقال لي: أقرضك هذه المائة ألف بشرط أن لا تشتري بها شيئاً، ومقتضى القرض في الأصل أن أنتفع به وأرتفق، فإذا أخذت المائة ألف على هذا الشرط فماذا أفعل بها؟ فإذاً: هذا يخالف مقتضى العقد، وقالوا: يشترط الرهن ويشترط الكفيل الغارم؛ لأن هذا يحقق مقصود الشرع؛ لأن مقصود الشرع أن يفي المديون للدائن، وأن ترد الحقوق إلى أصحابها، فإذا اشترط عليه الكفيل الضمان للاستيثاق بالرهن، فإن هذا مما يوافق الشرع ولا يخالفه. النوع الثاني: الشروط المحرمة وهي الممنوعة التي تخالف مقتضى عقد القرض، فإن عقد القرض يقصد منه الارتفاق، فيقول: أقرضك على أن لا تتصرف في الدابة، بأن لا تركبها ولا تبيعها ولا تحلبها، فهذا كله يخالف مقصود عقد القرض، فهذا نوع من الشروط المحرمة. النوع الثالث: أن يكون الشرط متضمناً للربا مفضياً إليه، كأن يقول له: أشترط عليك فائدة في كل مائة (6%) أو كل شهر (5%) فهذا من شرط الربا، ولا يجوز. فالمقصود: أن كل قرض اشتمل على شرط يجر نفعاً فإنه لا يجوز وهناك شروط اختلف فيها العلماء فمثلاً: يقول له: آخذ منك هذه المائة ألف بشرط أن أسددها في نهاية السنة، فهذا اشتراط التأجيل، فبعضهم يراه جائزاً كالمالكية ومن وافقهم، وبعضهم لا يراه جائزاً كالجمهور، وهناك مثلاً بعض الشروط لا بأس بها وهي مشروعة، وفي بعض الأحيان تكون ممنوعة بنص الشرع، كأن يقول له: أقرضني مائة ألف، قال له: أقرضك مائة ألف بشرط أن تبيعني بيتك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع وسلف)، فهذا قرض خالف الشرع لورود النص فيه بعينه، قالوا: لأنه إذا اشترط عليه البيع، فالبيع غالباً فيه ربح، فكأنه يعطيه الدين بالدين مع زيادة الربح في صفقة البيع، وهذا ينبه على أن الشريعة حرمت الربا، وحرمت ذرائع الربا، ولا يشترط في الربا أن يقول له: الواحد باثنين أو الواحد بثلاثة. ومن هنا كان الفقه في مسائل المعاملات والمعاوضات مهم، فهي في بعض الأحيان تتضمن المحذور بطريقة الذريعة والوسيلة. إذاً: كل قرض اشتمل على شرط جر نفعاً فهو ربا، أما لو أنه اشترط عليه ما فيه رفق به، فهذا فيه تفصيل عند العلماء، ومن أمثلته مثلاً، لو قال له: أسلفني مائة ألف، قال له: أسلفك مائة ألف، قال له: والله أنا لا أستطيع أن أسدد المائة ألف لكن أسدد لك ثلاثة أرباعها، قال له: إذاً: أسلفتك وخذ خمسة وعشرين منها وردّ خمسة وسبعين، فإذاً: أسلفه بشرط أن يحله من ربع الدين، ويرد له ثلاثة أرباع الدين، قالوا: هذا لا بأس به ولا حرج فيه.

الأسئلة

الأسئلة

اعتبار المقاصد في عقود البيع

اعتبار المقاصد في عقود البيع Q هل هناك فرق في الصورة بين القرض وبين صرف الأثمان مع النسيئة دون التفاضل؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن المقاصد معتبرة في العقود، ولذلك تقوم العبرة في العقود بمقاصدها، فإذا قال له: بعني كان بيعاً، وإذا قال له: صارفني كان صرفاً، وإذا قال له: أسلمتك صار سلماً، وإذا قال: أسلفتك صار سلفاً، فلما كان العقد عقد سلف قالوا: هذا مستثنى، ومن هنا استثني أن يأخذ الدراهم ويردها بعد مدة؛ لأنه لم يقصد المصارفة وإنما قصد الدين، ومن هنا قالوا: هذا مستثنىً كاستثناء العارية من المزابنة، ورخص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه فإنه يعتبر المقصد، فإن كان المقصد الدين جاز، وإن كان المقصد الصرف والبيع لم يجز، والله تعالى أعلم.

حكم إنقاص المشتري من الثمن المتفق عليه

حكم إنقاص المشتري من الثمن المتفق عليه Q رجل اشترى سلعة فاتفق مع البائع على ألف ريال، لكنه لما أعطاه المال أعطاه تسعمائة وخمسين ريالاً فقط فوافق البائع، فهل يجوز هذا؟ A إذا اشتريت بألف ريال ثم جئت، وقلت له: أعطيك تسعمائة وخمسين ريالاً ورضي البائع جاز، والرضا ينقسم إلى أقسام: 1 - الرضا بطيب نفس ورضا خاطر، كأن تأتي تريد أن تعطي المال، فلما وصلت إلى تسعمائة وخمسين وأردت أن تخرج الخمسين، فقال لك: لا. هذه تكفي، وهذا يقع بين الأحبة والإخوان، وتعلم من دلائل الحال وبساط المجلس ما يدل على أنه يريد ذلك. 2 - الرضا الممكن الذي يكون على حد سواء، مثل: شخص تأتي وتبيع عليه بألف، فإذا جاء أعطاك تسعمائة وخمسين، فقلت له: يا أخي! أعطني خمسين، فقال: سامحني، فنقول: يا أخي! أعطني حقي! قال: سامحني، فتطالبه، وإذا بك ترى أنك تزري بنفسك، وربما يكون بين أُناسٍ تستحيي أن تطالبه أمامهم، فتضطر أن تقول له: اذهب، فكأنك اضطررت غلى مسامحته، فتقول بلسان الحال: وما حيلة المضطر إلا ركوبها! فهذا المأخوذ بسيف الحياء لا خير فيه ولا بركة فيه، ومثل هذا ينزع الله البركة له من الصفقة؛ لأنه لم يأخذ بالسماحة، وإنما أخذ بالأذية وإحراج الناس، ومثل هذا ما يقع في فضول أموال الناس، كأن يأتي لبائع يبيع الطعام، فيقول له: بكم هذا؟ ويلتقط منه ويأكل دون أن يستأذن، وربما أنه أكل الشيء، فلا يستطيع البائع أن يقول له: يا أخي! لا تأكل. فمثل هذه الأشياء ينبغي اتقاؤها، وهي إلى التحريم أقرب إن عُلم أو غلب على الظن أن البائع لا يرضى، ولابد أن يتحرى في رضاه، وأن يعلم منه طيبة النفس ورضا الخاطر، فإذا غلب على ظنك أنه بطيبة نفسه ورضا خاطره فلا بأس، وإن كان الأفضل والأكمل العفة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ومن يستعفف يعفه الله وما أعطي عبد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر) فالقناعة بما أعطى الله عز وجل خير للعبد، فإذا جاء أحد يستفضل عليك، قلت له: لا، هذا حقك خذه كاملاً، وبارك الله لك في مالك، فهذا هو الأفضل والأكمل للمسلم، أن يعامل الناس ويؤدي حقوقهم إليهم كاملة. وأما إذا كان بسيف الحياء أو يكون البائع غريباً أو عاملاً مستضعفاً، فيأتي ويقف يصيح عليه بقوة ويرعبه ويزعجه، فإذا جاء وقت المطالبة أعطاه المال ناقصاً ثم زجر بقوة فاضطر العامل أن يسكت، فإن هذا من الظلم وأكل أموال الناس بالباطل، وهذا الرضا وجوده وعدمه على حد سواء، فينبغي أن يُتقى في مثل هذا، وأن يفصل فيه، فما كان من الرضا مستوفياً بالصفات المعتبرة حكم به وإلا فلا، والله تعالى أعلم.

حكم بيع الدابة نسيئة

حكم بيع الدابة نسيئة Q أيجوز بيع دابة بدابة ويدفع المشتري أو البائع لصاحبه زيادة من المال أو من أي شيء آخر؟ A الدابة بالدابة معدود بمعدود يجوز متفاضلاً ونسيئة، والدليل على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمر عبد الله بن عمرو بن العاص أن يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة) فهذا ليس بمحذور؛ لأنه جمع بين البيع والدين، فهو بيع لأنه بعير ببعيرين -ولو كان ديناً لكان بعيراً ببعير- ودين من جهة الأجل؛ لأنه قال: (البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة) وعلى هذا يجوز لك أن تشتري السيارة بالسيارتين، والسيارة بالسيارة من نوعها مع الزيادة، والسيارة بالسيارة من نوعها مع زيادة من نوعها أو صفاتها أو بزيادة في المال، كأن يقول: أعطيك سيارتي وتعطيني سيارتك وأزيدك خمسة آلاف أو عشرة آلاف فلا بأس، وهكذا بقية المعدودات، فلو بادل ثلاجة بثلاجتين، أو غسالة بغسالتين، أو مصباحاً بمصباحين، وقس على هذا، فإن الكل جائز، والله تعالى أعلم.

كلمة توجيهية حول طلب العلم

كلمة توجيهية حول طلب العلم Q الدعوة إلى الله عز وجل تحتاج إلى علم شرعي مبني على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنهج سلف الأمة رحمهم الله تعالى، فهل من كلمة توجيهية تحث فيها كل داعية إلى الله عز وجل على الاهتمام بالعلم الشرعي، وفقكم الله؟ A الدعوة إلى الله من أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى، ويشهد لذلك قول الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئاً) ومن حمل هموم الدعوة إلى الله وحمل أمانة الدعوة وتبليغ رسالة الله إلى عباد الله فقد حمل أشرف الأشياء، وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، بل إنه الشيء الذي خلق الله من أجله خلقه وهو عبادته ولا عبادة إلا بالعلم وبالبصيرة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108]. فلابد للداعي أن يستشعر أولاً: ما هي الدعوة؟ وما هي الرسالة التي يحملها، والأمانة التي في عنقه لأهلها؟ فإذا عرف عظم هذه المسئولية؛ علم أنه يتكلم لله وفي الله، وابتغاء ما عند الله سبحانه وتعالى، وأنه يعقد الصفقة فيما بينه وبين الله بأن يكون أجره على الله لا على أحد سواه: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ:47] وقال عن أنبيائه نوح وهود وصالح وشعيب ولوط: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:109] أجرك على من بيده خزائن السماوات والأرض ويده سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة، أجرك على من يكتب لك الكلمة والجملة والحرف على من يكتب لك الخطوة والتعب والنصب والسهر، ويكتب لك كل صغيرة وكبيرة سبحانه وتعالى، يحصيها لك فيكتب لك أجرها وثوابها فتوافيه يوم توافيه بمثاقيل الحسنات إن قبل عملك، وأجرك على من لا يضيع أجر من أحسن عملاً وهو الله جل جلاله. وعلى الداعية أن يستشعر أن هذا المقام أحب المقامات إلى الله عز وجل وهو مقام الأنبياء والرسل، فإن العلماء ورثة الأنبياء، وإنما يكون الداعية العالم ولا تكون دعوة إلا بعلم، فمن أراد أن ينال فضل الدعوة على أتم وجوهه وأن يكون في أكمل صوره فليتم العلم، وليأخذ من العلم، وينتهي من العلم ويحرص على مجالس العلم، ويكون من أهل هذه الرياض التي تنشر فيها رحمة الله، ويبتغى فيها ما عند الله، ويصبر ويصابر ويجد ويجتهد ويحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى في جميع ذلك، حتى يبلغ من العلم أعلى مراتبه، فإذا بلغ ذلك قام بالدعوة على أتم وجوهها وأكملها. وأول ما ينبغي على الداعية طلب العلم، وإذا طلبت العلم تطلبه بقوة وبعزيمة وهمة صادقة لا يثنيك عنها شيء، فلا تثنيك عنها الدنيا وزينتها وغرورها وما فيها من متاع زائل وغرور حائل، إنما تجد وتجتهد وأنت تحس أنك أنت الرابح، ولا يكون طلبك للعلم بضعف، فتشعر أن الدنيا ستفوتك، وأن أهل الدنيا يتاجرون ويربحون وأنت لا تتاجر ولا تربح، لا. بل تدخل في العلم وتحس أنك أربح صفقة وأكثر ربحاً في تجارتك مع الله سبحانه وتعالى، فقد طلب أقوام العلم فكفاهم الله هم الدنيا والآخرة، واقرأ في سير العلماء، والله إن منهم من كان لا يجد إلا طعمة يومه مرقع الثياب حافي القدم، ولكنه أغنى الناس بالله جل جلاله، وأسعد الناس، وأشرحهم صدراً، وأثبتهم جناناً، وأصدقهم لساناً، وأوضحهم بياناً، أغنى الناس بالعلم الذي وضعه الله في قلبه وفي لسانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] لما صبروا في طلب العلم وتحصيله، فلا يشتكي من السهر والتعب في طلب العلم، إنما يبحث عن هذا العلم بكل همة وصدق وعزيمة. فإذا جد طالب العلم في طلبه عليه أن يعلم أن منزلته عند الله على قدر ما يحصل من العلم، فإن الله يرفع بهذا العلم درجات، وقد تجلس في المجلس الواحد وتدرس فيه مسائل قل من يضبطها ويحصلها فتكفي الأمة همها وتسد ثغرها، فيكون أجرك عند الله بمكان، فترفع درجتك على نفاسة هذا العلم، وبقدر ما يكون علمك نفيساً عظيماً محتاجاً إليه عظيم البلاء بقدر ما تكون درجتك عند الله أعلى وأسمى. كما ينبغي أن تعلم أن هذا العلم يحتاج منك إلى أمانة، فإذا جلست في مجالس العلم ضبطت وتقيدت بما سمعت، فلا تزيد من عندك شيئاً، ولا تحدث في دين الله برأيك ما لم يكن عندك حجة أو برهان، وتحرص في مجالس العلم على أن تسمع وتحفظ، ثم بعد ذلك تعمل بضوء ما علمت وتبلغ ما سمعت، وهذا أكمل ما يكون في العلم، أن يكون قلبك واعياً بكل ما يقال، وتتقيد بالكلمة لا تزيد ولا تنقص، وإن استطعت ألا تأتي بالمعنى إنما تأتي باللفظ نفسه، فإذا بلغت ذلك كملت نظارة وجهك، قال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فحفظها وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع)، فهذا أكمل ما يكون في طلب العلم فإذا أردت أن تدعو إلى الله على أكمل المراتب وأفضلها، فعليك أن تضبط العلم ضبطاً تاماً، وتحرص في مجالس العلم على أن تتقيد بما سمعت، ثم بعد ذلك إذا تعودت على هذا الضبط وضع الله لك القبول، وثق ثقة تامة أن الله مطلع على سريرتك وما في قلبك، وإن نظر الله إليك في كل مجلس ودرس تحاول أن تفهم وترجع مهموماً محزوناً تريد أن تضبط هذا العلم وتضبط كل كلمة وعبارة وجملة، أثابك على ذلك. العلم تسلو به الأرواح والأنفس، فهذا أبو عبيد القاسم بن سلام إمام من أئمة السلف وديوان من دواوين العلم والعمل، كان آية في القراءات آية في علم اللغة آية في لسان القرآن آية في الحديث والرواية بالأسانيد آية في الفقه وهو صاحب كتاب الأموال وصاحب الغريبين، هذا الإمام العظيم استوقفه رجل بعد صلاة العشاء، وكان قدم عليه من خراسان، فسأله عن مسائل في الفقه، يقول: إنه وقف معه في شدة البرد، فقام معه رحمه الله يذاكره ويسأله وهو يراوح بين قدميه فلم يشعر إلا وقد أذن الفجر، وهذا ليس من ضرب الخيال، والله إنك إذا ذقت لذة العلم فإنك تسمو عن كل شيء، إذا ذهبت في هذه المعاني المستنبطة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الكنز العظيم الذي خلف، تحس بالغبن أن سلفك الصالح سهرت عيونهم وتعبت أجسادهم من أجل أن يخرجوا لك هذا العلم، فقد كان الرجل منهم إذا لم يجد إلا صخرة لنقش العلم عليها حتى لا يفوت على من بعده. إن همم كان النصيحة لله ولأمة الإسلام رضي الله عنهم ورحمهم برحمته الواسعة، فإذا كانت هذه الهمة الصادقة بذلها السلف لنا من أجل أن نحفظ علومهم فمن الغبن والله، أن ننظر إلى كتبهم وبيننا وبينها حواجز لا نعلمها؛ لأن علمنا علم سطحي لم نتعمق ونضبط ونجد ونجتهد، فطالب العلم اليوم يقف فقط عند الحكم دون أن يبحث عن الدليل ووجه الدلالة، هل هو صحيح أو غير صحيح؟ وإذا كان ليس بصحيح فلماذا؟ تغوص في أعماق العلم، فإذا أصبحت بهذه المثابة بوأك الله من العلم أعلى المكانة، إذا تعبت اليوم وأصبحت تبحث عن كل صغيرة وكبيرة وتجد وتجتهد لا تشتكي من سهر ليل ولا ظمأ الهواجر، ولا تشتكي من غربة ولا من تعب ولا نصب وإنما تحس أنك أنت الرابح. لا إله إلا الله! لو ذهبت إلى الأسواق في رمضان وفي ذي الحجة تجد التجار يسهرون ويتعبون ويحسون بالنشاط والرجولة، والرجل تجده أمام أولاده، يقول لهم: هذا موسمي، هذا رزقي من الله عز وجل لا أفرط فيه، ويعتبر أنه وضع الشيء في موضعه وهو يبحث عن الدنيا، فكيف بمن يخوض في رحمة الله جل جلاله؟ فمنزلتك عند الله على قدر العلم الذي عندك، فابحث عن العلم المستنبط من الكتاب والسنة، فعلى المرأ رجلاً كان أو امرأة أن يطلب العلم ويجد ويجتهد، ولا يقف عند الحدود بل يحاول أن يغوص في أعماق العلم. فإذا تعبت في طلب العلم طالباً أراحك الله مطلوباً، وإذا تعبت في طلب العلم طالباً وذللت فيه أعزك الله مطلوباً، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ذللت طالباً وعززت مطلوباً)، فكان رضي الله عنه يقف في يوم عرفة يفسر القرآن، يقول بعض أصحابه: لقد شهدت من ابن عباس مشهداً في يوم عرفة لو رأته الروم لأسلمت، وقف يفسر سورة النور آية آية وكأنه يغرف من بحور، كان إذا تكلم في اللغة خاض فيها وفي لسانها وبيانها وأسرارها ونكتها وبلاغتها وفصاحتها، وإذا ذهب في علوم القرآن رأيت منه العجب وهو يستنبط، كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، وإذا ذهب إلى السنة فناهيك به علماً وورعاً وعملاً مصاحباً للعلم رضي الله عنه وأرضاه. فهذا هو الذي يبحث عنه الإنسان، وما دمت قد عرفت شرف هذا العلم فعليك أن تضحي بكل ما تجد من أجل بلوغه، فإذا نظر الله إليك أثناء الطلب وأنت تتعب وتحصل، فاعلم أنه لا أكرم ولا أوفى من الله، والله إذا تعبت اليوم فإن الله سبحانه وتعالى سيريك ثمرة تعبك، ولن تموت حتى يقر عينك بما ترى، إن كنت تعبت في الطلب وكنت تحرص على أخذ العلم كاملاً سخر الله لك طلاب علم يتعبون كما تعبت، ويحبون العلم كما أحببت، ويأخذونه من فمك طيباً مطيباً كما أخذته من علمائك طيباً مطيباً، وكما أقررت عين العالم الذي أخذت عنه وهو يراك مجداً محصلاً فلابد وأن يقر الله عينك في طلابك، وهذه سنة الله عز وجل، وانظر في حال السلف فلا تجد طالباً لزم عالماً وأخذ عنه وضحى معه إلا ونبغ بعد وفاته، وأصبح مكانه يحاكيه ويماثله، فلما توفي ابن عباس فإذا طلابه هم سعيد بن جبير وطاوس بن كيسان ومجاهد بن جبر، فإذا نظرت إلى تلامذة ابن عباس كدت لا تفرق بينه وبينهم عِلماً وعملاً، لابد وأن يقر الله عينك، وكله على قدر تعبك في طلب العلم. الآن انظر إلى الذين يأخذون الكتب ويقرءون من الكتب ولو كا

باب القرض [2]

شرح زاد المستقنع - باب القرض [2] مشروعية القرض معلومة، وشروطه منها ما هو مشروع، ومنها ما هو ممنوع، ومنها ما هو مختلف فيه، كما أن القروض التي توضع في البنوك منها ما هي ودائع مشروعة، ومنها ما فيه احتيال وغرر، ومنها ما هو استثمار، وكل هذا له ضوابط وحدود معروفة عند علماء المسلمين، وأما الجمعيات المعروفة فهي في حكم المشتبه الذي لا يقطع فيها بالحرمة ولا بالجواز؛ لأن من نظر إلى ظاهر شروطها يجدها ربوية، ومن نظر إلى مضمون شروطها يجدها جائزة ليس فيها زيادة.

أنواع الشروط التي يجعلها صاحب الدين على المدين

أنواع الشروط التي يجعلها صاحب الدين على المدين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن الشروط التي يجعلها صاحب الدين على المدين، أو يجعلها المدين على صاحب الدين تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: مشروعة، والثاني: ممنوعة، والثالث: مختلف فيها، والأصل أنه لا يجوز أن يأخذ صاحب الدين على المدين زيادة على دينه؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] فإذا سُئلت عن قضاء الدين؟ تقول: الأصل أن يرد له دينه دون زيادة أو نقص؛ لأنه إذا زاد فقد ظلم المدين، وإذا انتقص من الدين فقد ظلم صاحب الدين، فأنصف الشرع وعدل بين الطرفين، فأوجب أن يكون الرد مثل المأخوذ دون زيادة أو نقصان، وإذا سُئلت عن دليله؟ قلت: قوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]. ثم إن العلماء تكلموا على الفوائد والأمور التي تكون زائدة عن الدين، وفصلوا فيها؛ لأن الشريعة منعت وأجازت، فمنعت من الزيادة في قوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] وأجازت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قضى الدين وزاد، والشرط في الدين أن يقول صاحب الدين للشخص المدين: أعطيك مائة ألف بشرط كذا وكذا، وهذا الذي يشترطه تارة يكون مالاً من جنس الذي دفع إلى المدين، كأن يقول: أعطيك مائة ألف بشرط أن تردها لي مائة وعشرة، فهذا شرط بزيادة. وتارة يقول له: أعطيك مائة ألف ولكن بشرط أن تؤجرني دكانك أو تبيعني سيارتك أو عمارتك أو أرضك أو مخططك أو طعامك إلى آخره، فصار قرضاً وبيعاً، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سلف وبيع. وبناءً على هذا يقول العلماء: إن الفوائد المستفادة فيها تفصيل: فإن كان صاحب الدين اشترط منفعة زائدة على المدين أياً كانت المنفعة إما بالمال والنقد أو ما يكون مقدراً له قيمة فإنه لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع وسلف) فالزيادة لا تجوز ولو كانت ضمن عقد آخر، فإنه لما نهى عن بيع وسلف، عندما يقول لك: هذه عشرة آلاف بشرط أن تبيعني سيارتك بثمانية آلاف تكون السيارة قيمتها عشرة آلاف، فتتنازل عن الألفين لقاء القرض، وعلى هذا قالوا: لا يجوز الشرط بالمنفعة. هنا مسألة: وهي وجود المنافع كأن يقول لك: أعطيك مائة ألف مثلاً من الذهب، في القديم الدنانير تحتاج إلى حمل؛ لأنها من الذهب، والذهب يوضع في الأكياس، والأكياس لابد من حفظها، وإذا أعطاه في مكة، وقال: بشرط أن تعطيني المائة ألف في نهاية رمضان في المدينة، فإن حمل الذهب من المدينة إلى مكة فيه مخاطرة ومئونة؛ لأنه يحتاج إلى حمله والاستئجار للدواب لوضعه بها ثم نقله إلى المدينة، فإذا قال: أعطيك مائة ألف في مكة بشرط أن تقضيني إياها في المدينة أو الطائف، فهمنا أنه يريد منفعة السلامة من الخطر، والنجاة من ضمان الحمل. فإن كان الحمل يكلف خمسمائة ريال مثلاً، فكأنه أعطاه مائة ألف ليردها مائة ألف وخمسمائة. إذاً: الفوائد تكون ظاهرة وتكون خفية عن طريق المنافع، ومن هنا نهي عن قرض وشرط، فالقرض الذي يكون معه شرط فيه فائدة فهو محرم، فمثلاً: الودائع المصرفية كأن يودِع في المصرف عشرة آلاف على أنها وديعة، فيأخذ عشرة آلاف وخمسمائة بعد أجل مسند، فيشترط عليه المصرف شرطين: الشرط الأول: أن لا يسحب هذه الوديعة قبل سنة؛ لأن الودائع المصرفية التي عليها فوائد لابد أن تمكث مدة معينة، وكل سنة فيها مثلاً (6%)، فمعناه أنه اشترط عليه بقاءها إلى أجل على أن لا يطالبه قبلها. وثانياً: أن يعطيه زيادة عليها، فشرط الأجل من المصرف وشرط الزيادة من العميل؛ لأن العميل هو الذي يطالب بالزيادة. وبناءً على ذلك: إذا كانت القروض تأتي بفوائد عينية كمائة بمائة وخمسة، أو مائة بمائة وعشرة فهذا واضح لا إشكال فيه، وهذا يدعونا إلى دراسة ما يسمى بالوديعة المصرفية؛ لأن الباب باب قرض، وفيه قديم وجديد، وطالب العلم قد يدخل إلى المصرف ويرى كلمة (حساب جاري) ولا يعرف ما معنى ذلك، ويرى مثلاً: الودائع بفوائد، وهو لا يدري عنها، فلابد أنه يعلم الحكم والموقف الشرعي من هذا النوع من القرض، فنحتاج إلى مسائل:

الفرق بين الوديعة الشرعية والوديعة المصرفية

الفرق بين الوديعة الشرعية والوديعة المصرفية المسألة الأولى: هل الوديعة المصرفية قرض أو وديعة حقيقية؟ فإن كانت وديعة سنبحثها في باب الودائع، وإن كانت قرضاً فسنبحثها هنا؛ لأننا في باب القرض. فما هي أنواع الودائع المصرفية، وما هي أحوالها وأمثلتها، وما موقف الشريعة الإسلامية من كل مثال وحالة؟ أما بالنسبة للوديعة المصرفية فصورتها أن يأتي العميل بمبلغ معين قليلاً كان أو كثيراً ويدفعه إلى المصرف، ونحن نعبر بالمصرف؛ لأنها أفصح من عبارة (بنك) وهي أوضح في الدلالة، وإن كان في المصطلح الاقتصادي الموجود اليوم يوجد فرق بين مصطلح البنك وبين مصطلح المصرف، لكن إذا قلنا: مصرفية تشمل المصرف بمعناه أو البنك بمعناه. الوديعة المصرفية يقوم العميل فيها بوضع مبلغ معين، وهذا المبلغ المعين يكون فيه اتفاق بين المصرف وبين العميل، ففيه طرفان: موُدِع: الذي هو العميل، وموُدَع عنده: الذي هو المصرف، على أن يلتزم المصرف بحفظ هذا المبلغ ويلتزم بأدائه للعميل متى طلبه، لكن في بعض الأحوال يتفقان على مدة معينة كما ذكرنا، و Q هل وضع مائة ألف مثلاً في المصرف نعتبره وديعة أم قرضاً؟ إن أي مسألة عصرية إذا جئت تبحثها بحثاً فقهياً منهجياً أول ما يجب عليك أن تأخذ الألفاظ وتدرس معانيها، ثم هذه المعاني الموجودة في واقعك ومعيشتك وعُرفك وبيئتك على حسب ما يفهمها الناس أو يتعاملون بها، هل تتفق مع المصطلحات الشرعية أو تختلف؟ فإن قالوا: وديعة، فالعلماء وضعوا للوديعة تعريفاً ومصطلحاً معيناًَ، فطبق المصطلح على الحقيقة والواقع، فإن اتفق أعطيتها حكم الوديعة، وإن اختلف بحثت ما هي حقيقته ولم تغتر بالاسم الظاهر، إذاً: لو جاءوا وسموا معاملة ما بيعاً، فنقول: ما هي حقيقة البيع؟ مبادلة المال بالمال، فهل هذا مال مبادل بمال؟ إذاً: فهو بيع، لكن لو كان منفعة بمال فهو إجارة، فالناس قد يخطئون في التعبير بقصد أو غير قصد. فالوديعة في الشريعة تقوم على حفظ المال وأدائه بعينه دون تصرف فيه، فإذا جاءك بكيس ووضعه عندك وديعة، فمعناه أنه ينبغي أن تحفظ نفس الكيس وما فيه؛ لأنك أمرت بحفظ هذا الشيء بعينه دون أن تتصرف فيه، قالوا: فلو فتح الكيس انتقلت الوديعة من كونها وديعة إلى كونها قرضاً ويضمن؛ لأن الوديعة تستلزم أن تحفظ المودع بعينه وترده بعينه، فإن أخذ المال بأن أعطاك إياه خمسمائة ريال فأخذت الخمسمائة بعينها ووضعتها في الدرج وقفلت عليها: وكتبت عليها هذه وديعة فلان بن فلان، فجاءك بعد عشر سنين وأعطيته العين نفسها، فهذه وديعة، ولو أنك وضعتها فاحترق الصندوق والبيت واحترقت هذه الفلوس بهذه الطريقة التي لم تتصرف فيها لم تضمن؛ لأن يدك يد أمانة. إذاً: كل شيء له في الشرع ضوابط، فلا يسير الإنسان على تعبيرات الناس وأهواء الناس، وهذا الفقه عُصارة أذهان أكثر من عشرة قرون، والعلماء يتعبون ويسهرون ويكدحون من أجل إعطاء كل ذي حقٍ حقه، فإذاً: عندما نقول: وديعة فعندنا ضابط معين، وهو أن يستلزم منك ذلك حفظ عين الشيء وأداءه بعينه متى ما طلبه دون مماطلة أو تأخير، فلو أن الإنسان جاء بالعشرة آلاف ووضعها في المصرف فهل يلتزم المصرف بحفظ عين المال ورد العين أم بحفظه ورد مثله؟ A رد المثل، ولا يوجد مصرف يأخذ منك عين المال ويرد لك عين المال، وإنما يأخذ ويعطي بدلاً عنه. ولذلك ينبغي أن نتنبه إلى أن التسمية بالوديعة ليست صحيحة من ناحية شرعية، بل حتى في القوانين الوضعية، وفي العرف الاقتصادي الموجود المعاصر يسمون الودائع المصرفية قروضاً، وإنما سميت وديعة على حسب ما يقصد من هذا، سواءً كانت تسمية ظاهرة أو غير ظاهرة، حتى يقول: إن الوديعة مشروعة، وإذا كانت الوديعة مشروعة في الأصل؛ فإنه يترتب عليها نوع من إضفاء الشرعية على هذا الشيء. وبناءً على ذلك: لا يمكن أن نحكم بكون الوديعة المصرفية وديعة بمعناها الشرعي الصحيح، حتى نفس العرف الاقتصادي يسلم بأن الودائع قروض، وإذا احترقت المصارف وصار عليها عارض ليس بيدها، فإنها تضمن المال الذي أودع فيها؛ لأنها لا تأخذ حكم الودائع. إذا ثبت أن الوديعة المصرفية دين فهي قرض، وتكون معنا في الباقي على نفس الدراسة التي درسناها، فأصبحت المعاملة في الحقيقة على أن يدفع له المال ويرد له مثله، هذا من حيث الشكل العام والمضمون العام في الودائع، وإذا ثبت هذا فمعناه أنك تبني عليه جميع الأحكام الشرعية المبنية على القروض، وهذا يستلزم أن نقسم الودائع المصرفية إلى أقسام.

أقسام الودائع المصرفية

أقسام الودائع المصرفية القسم الأول: الوديعة المستندية. القسم الثاني: الحساب الجاري. القسم الثالث: الودائع بالفوائد. القسم الرابع: شهادات الاستثمار.

الوديعة المستندية

الوديعة المستندية أما بالنسبة للوديعة المستندية فمن الممكن أن نسميها وديعة شرعية، وهذه الوديعة حقيقتها: أن يقوم العميل باستئجار صندوق معين في المصرف أو البنك، ويمكنه البنك من مفتاحه، على أن يضع فيه وثائقه ومستنداته، ويتكفل البنك بحفظ هذه الودائع والمستندات، ويمكن العميل من أخذها في أي وقتٍ شاء، على أن يدفع أجرة معينة على حسب المتفق عليه، وهذا النوع موجود الآن في بعض المصارف الكبيرة، ويسمونها مستندية؛ لأن الغالب أنها تستأجر من أجل المستندات، يكون التاجر عنده صكوك يخشى عليها السرقة أو الاحتراق أو التلف، أو عنده وثائق معينة لأعماله فيخشى أن يطلع إنسان عليها فتفسد تجارته، فيأتي ويستأجر هذا الصندوق ويحفظ فيه وثائقه ويقفله ويأخذ المفتاح، ومتى ما جاء التزم المصرف بتمكينه من أخذ ما شاء من هذا المكان. إذاً: لو سألت هذا الصندوق الذي يضع فيه العميل حوائجه، هل يأخذ عين المودع أم مثله؟ A يأخذ العين، وهل أحد يتصرف في هذه العين غيره؟ لا. إذاً: هي وديعة وتأخذ حكم الوديعة الشرعية، لكن Q اتفاق المصرف مع العميل على أن يدفع مبلغاً معيناً شهرياً أو سنوياً هل هو جائز أم ممنوع؟ يمكننا أن نقول: إنها إجارة؛ لأنه استأجر المصرف لحفظ هذا المبلغ خلال المدة المتفق عليها، وبناءً على ذلك يسري عليه ما يسري على الإجارة الشرعية؛ لأنك قد تستأجر شخصاً من أجل أن يحفظ لك مزرعتك أو يحفظ لك دوابك. فالإجارة من أجل الحفظ مشروعة بالإجماع؛ لأن القاعدة أن الإجارة تجوز على كل منفعة مباحة، كذلك حفظ الصكوك والمستندات مباح فإذا استأجره لحفظها كان مباحاً، وبعض الناس يأخذ هذه الصناديق ويضع فيها مجوهرات وحلياً ونفائس موجودة عنده ويخشى عليها السرقة فيضعها ويقفل عليها، ويأتي ويأخذ عين المجوهر وعين الشيء الذي له، وهذا يأخذ نفس الحكم، سواء استأجرها للوثائق وللمستندات أو للجواهر أو للحلي، بل حتى لو جاء ووضع ماله في هذا الصندوق وأخذه بعينه فإنه جائز ومشروع؛ لأنها وديعة شرعية دون أن يختلط ماله بمال الغير، ودون أن يسري عليه أي شبهة أو أي محصول. إذاًَ: الوديعة المستندية جائزة ومشروعة؛ لأنها عقد إجارة على منفعة مباحة، وشروط الإجارة مستوفية، فهي إجارة على منفعة مباحة، في مدة معلومة، وبثمن معلوم، واستوفت جميع الصفات المعتبرة شرعاً.

الحساب الجاري والودائع بالفوائد

الحساب الجاري والودائع بالفوائد القسم الثاني: الحساب الجاري، وحقيقته أن يقوم العميل بدفع مبلغٍ معينٍ للمصرف، ثم يلتزم المصرف تجاه هذا المبلغ المعين أن يمكن العميل من سحبه كله أو بعضه أي وقتٍ شاء، سواءً سحبه أصالة أو وكالة، والحساب الجاري في الحقيقة له ثلاث صور. الصورة الأولى: أن يدفع المبلغ، فيسحب على قدر مبلغه دون أن يزيد أو ينقص. الصورة الثانية: أن يدفع المبلغ ويعطيه المصرف زيادة إذا بقي المبلغ دون أن يطلبها هو، لكن إذا مضت فترة معينة حتى لو لم يقصد، فمثلاً: وضع مائة ألف على أساس أن يسحبها بعد شهر ثم تأخر سحبه إلى ثلاثة أشهر، وبعض المصارف تعطي فائدة على مدة بقائها ثلاثة أشهر، ولو لم يكن هناك اتفاق مسبق من باب المكافأة على وضعها هذه المدة، ففي هذه الحالة يكون المستفيد هو العميل، والاستفادة وقعت بدون شرط، إنما أعطاه المصرف من باب المكافأة على بقاء المبلغ هذه المدة، وهذا يقع في الخارج خاصة في أوروبا، فبعض البنوك تكافئ من يودع عندها مدة معينة ويكون المبلغ كبيراً فتجعل له الزيادة (6%) على بقائها ثلاثة أشهر دون أن يسحب أو ينزل رصيده عن حدٍ معين؛ لأنهم يستغلون هذه الأموال، ويحسون أن هذا الاستغلال لابد أن يرد فائدة، وهذا في نظرتهم. الصورة الثالثة من الحساب الجاري: وهو العكس وهذا يقع في الدول الفقيرة، بخلاف النوع الثاني فهو يقع في الدول الغنية التي فيها ثراء والسيولة فيها كثيرة. أما النوع الثالث فمثلاً: إذا دفع مبلغاً وبقي في المصرف أو البنك مدة وضعوا عليه ضريبة، فإذا جئت تسحب المال، ودفعت مائة ألف ومكثت سنة، فإنهم يأخذون ألفاً، فتأخذ تسعة وتسعين ألفاً. إذاً الحالة الأولى: إذا دفع المبلغ ثم سحب مثله والتزم أن يعطى قدر مبلغه دون زيادة أو نقصان، فهذا قرض ليس فيه فائدة، وليس هناك شرط فائدة ولا زيادة ولا ربا، ومن حيث الأصل العام إذا أعطى شخص شخصاً مائة ألف وجاء وسحب كل المال، أو التزم الطرف الثاني وقال له: يا فلان! خذ المائة ألف هذه قرضاً، قد أبعث لك شخصاً في أي ساعة يسحبها كلها أو بعضها فأعطه، فهذا جائز، والأصل يقتضي الجواز، لكن الإشكال من كونه ذريعة معينة على الحرام، فإنه إذا كان يعطي المال للمصرف فهذا يفصل فيه، فإن كان تعامل المصرف يكون بشيء محرم كان وضعه على هذا الوجه معونة على الحرام، فلا يجوز، وإن كان لا يتعامل بالحرام كان جائزاً؛ لأنه يدفع المبلغ ثم يأخذه دون زيادة أو نقصان. أما الحالة الثانية: إذا كان المصرف يعطيه الزيادة بدون موعد ولا عِدة، فهل يجوز ذلك؛ لأن: (خير الناس أحسنهم قضاءً)؟ A إذا جئنا ننظر إلى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً ورده خياراً رباعياً) نقول: يجوز، لكن المشكلة أن هذه العوائد تركبت من ديون بالآجال عليها فوائد، فهو يعطي لأشخاصٍ ديناً، ويأخذ عوائد هذا الدين باقتراضهم منه لكي يصرفها في الفوائد، وبناءً على ذلك صار أصله من حرام، فنقول: إن هذا الوجه يقتضي التحريم. الوجه الثاني: لو قال قائل: يجوز في الحساب الجاري، لو سافر إلى بلد غني ووضع مليوناً، ثم سحب الحساب الجاري المليون وأعطي مليوناً وعشرة، نقول: لو قيل: إن هذا من باب مكافأة الدين لم يصح، أولاً: لأنه عائد من حرام والفرع تابع لأصله، وثانياً: أن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، فلما جرت عادة المصرف بأنه يكافئ على الوضع فيه، فكأنه حينما أودع فيه اشترط مسبقاً على المصرف أن يكافئه، وهذا عين المحرم؛ لأن كل شرطٍ جر نفعاً فهو ربا، والإجماع منعقد كما حكاه ابن المنذر والإمام ابن قدامة وغيرهم على تحريم ذلك. إذاً: مسألة وضع المال وإعطاء الفائدة بدون شرط مسبق، يصح تحريمها من وجهين: الوجه الأول: أن عائده من حرام والفرع تابع لأصله. الوجه الثاني: أن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً ولفظاً كما يقول بعض العلماء، فكأنه حينما جرت عادة المصرف بذلك فإنه يكون عند وضعه للمال كأنه قد رضي بذلك وطلبه فينزل منزلته. وهنا Q لو أن شخصاً جاء ووضع المال في هذا النوع من المصارف، فدفع مائة ألف فأعطي أرباحاً (مائة وخمسة)، فهل يتركها أو يأخذها؟ الجواب: عندنا نصوص في الكتاب والسنة نرجع إليها إذا جئنا نحكم في المسائل ونركب بعضها على بعض، وقد أثبتنا أن الوديعة والحساب الجاري يعتبر قرضاً، والله تعالى يقول في القرض: {فَلَكُمْ} [البقرة:279] أي: هذا الذي تتملكونه وهو من حقكم: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] فهو إذا سحب رصيده حينئذٍ يكون قد حقق المأمور به شرعاً، لم يظلم ولم يُظلم، وهذا بالنسبة للأصل العام، أنه إذا سحب رصيده وأصل ماله فإنه لا يظلم ولا يُظلم والنص آمر بذلك وملزم به، ودال على أنه إذا أخذ الزائد عنه فقد أخذ الحرام. وقد يقول قائل: لو أخذ الزيادة واستفاد منها بإنفاقها في مشروع خير أو نحو ذلك، لكان أفضل من بقائها، خاصة وأنها إذا بقيت ربما أخذت لأمور تضر بالمسلمين، فهل يأخذها ولا يتركها؟ نقول: هذا اجتهاد في مقابل النص، والنص يقول: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] ثم لما اجتهدوا هذا الاجتهاد، وقالوا بجواز أخذ المال مع زيادة عادوا فقالوا: لكن لا تصرفها في بناء مسجد أو طبع كتاب، ولا تفعل بها أموراً فيها طعام أو شراب لمسكين، فيشتبه هو في هذا المال بعد حكمه بأخذه كيف يتصرف فيه؟ ودائماً إذا خالف الإنسان النص يقع في حيرة؛ لأنه إذا التزم بالنص ما عنده إشكال، ثم نقول: لو أنك أخذت رأس المال لم يقع الربا، فإذا قيل: له أن يأخذ الزيادة حتى لا تبقى عند الغير، عندئذٍ تحقق الربا، ولذلك احتار! إذاً: ما دام أن هذه الزيادة محرمة فلماذا نفتي بجواز أخذها؟ ثانياً: لو أننا أخذنا هذه الزيادة حتى لا يستضر المسلم بها، فإننا نقول: تركها أكثر منفعة للمسلمين؛ بل إنه أبلغ في دعوة الكافر وتنبيهه على فضل الإسلام، فأنت إذا جئت لكافر يتعامل بالربا في مصرفه وأخذت رأس المال، وقلت له: ديني يأمرني أن لا آخذ إلا رأس المال، يقول لك: كيف تترك ربحاً قدره عشرة آلاف، فهم يكادون يعبدون المال من شدة تعظيمهم له، ولا يتعاملون إلا بالدينار والدرهم، ولا يعرفون إلا المال، فإذا وجد أنك لا تأخذ المال الربوي وأحس بعزتك؛ لأن الكافر يغتاظ إذا رأى المسلم معتزاً بدينه، قوي الشكيمة في الحق، لا يريد إلا دينه وما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: هو بنفسه يشعر بفضل هذا الأمر الشرعي؛ لأنه يأخذ الدين من غيره، وغيره يطالبه بفائدة الدين فإذا وجد أنك لا تأخذ إلا رأس مالك، وقلت له: ديننا يأمرنا أن نأخذ رأس المال، فإنه يتأثر ويحس أن هذا الذي تقوله هو عين العدل، فقد يكون سبباً في التأثير عليه، وقد يكون سبباً في شعوره بفضل الإسلام، فالدعوة كما تكون باللسان تكون أيضاً بالجوارح والأركان، لأنك بتعاملك معه تعرفه حقيقة الإسلام، وأن الإسلام دين عدل، فاليوم يأتي شخص لا يأخذ الفائدة، وآخر يأتي بموقف اجتماعي يقول: الإسلام يأمر بكذا، فلا تزال تجتمع عنده محاسن الإسلام حتى تكون سبباً في هدايته، وقد حكى بعض طلاب العلم أنه وقع في ذلك يقول: ولم أرض أن آخذ هذه الزيادة، فطلبني المسئول، وسألني: لماذا لا تأخذ الزيادة؟ فقلت له: ديني يأمرني أن آخذ رأس المال فقط، قال لي: لماذا؟ فقلت له: لأني أنا أعطيتك عشرة آلاف فآخذ عشرة آلاف فقط، فلا أظلمك بأخذ الزيادة، قال الأخ: فجعل يتعجب؛ لأنه يأخذ الدين من غيره، وغيره يطالبه بفائدة الدين، فالشاهد أننا إذا اجتهدنا لهذا فإن محاسن الشريعة بأخذ رأس المال أجل وأكمل، ولا نستطيع أن نجتهد في مقابل النص؛ لأنه لا اجتهاد مع النص، فهذه الحالة الثانية: وهي أن يدفع المال ثم يعطى الزيادة عليه بدون عدة. الحالة الثالثة: أن يدفع المال فيؤخذ من المال على قدر الحفظ، فإذا قال له: ضع المال عندي لمدة شهر وآخذ منه مقابل حفظه، فهذه المسألة تتفرع على مسألتين: المسألة الأولى: رخص بعض العلماء رحمهم الله إذا أعطاه قرضاً، وقال له: خذ هذه المائة ألف قرضاً وردها لي تسعين، أو ثمانين، قالوا: يجوز؛ لأنه أبرأه وأسقط عنه ذلك، لكن المشكلة ليست هنا، المشكلة أن هذا النقص إنما أخذ بدعاية الحفظ وهي غير موجودة، فصار من أكل المال بالباطل، فالصورة الأولى: محض تبرع، وهناك فرق بين الصورة الأولى والثانية، وقد ذكرت هذا حتى لا يلتبس على بعض طلاب العلم، وقد ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني أنه إذا أعطاه القرض وأسقط عنه شيئاً منه جاز له ذلك، وقد رخص في هذا أئمة من السلف رحمة الله عليهم، وروي عن ابن عباس نحو هذا، لكن هذا غير ما نحن فيه؛ لأن الذي نحن فيه أن الآخذ يدعي استحقاقه للمال لقاء الحفظ، والحفظ غير موجود، فصار من أكل المال بالباطل، فالذي يأخذه يأخذه ظلماً، ولذلك قال الله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] ولو ساغ للمدين أن يأخذ من الدين شيئاً لما جعل الله الأخذ ظلماً، ولو ساغ للمدين أن يأخذ لقاء الاستدانة شيئاً لبين الله سبحانه وتعالى ذلك ولما جعله ظلماً، فكما أنه لا يجوز لرب المال أن يسقط عنه في الحفظ شيئاً، لا يجوز أن يسقط عنه فيما يدعيه حفظاً على هذا الوجه شيئاً. إذاً: الصحيح في هذه الحالة الثالثة أنها لما كانت على سبيل التعاقد والإلزام كانت من أكل المال بالباطل، والدليل على تحريمها قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29] ولأن النص أثبت أنه لا يجوز للمديون أن يأخذ لقاء وجود المال عنده على الدائن؛ لقوله: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] فأمر الله المديون والدائن أن يكون الوفاء برأس المال، فدل على أنه إذا اقتطع منه شيئاً فقد ظلمه ولا يجوز ذلك.

شهادات الاستثمار

شهادات الاستثمار هناك مسألة الوديعة بزيادة مشترطة، وهي ما يسمى بالاستثمار، فمثلاً يحدد المصرف مبلغاً ما ويقول للعميل: ادفع ما لا يقل عن ستة آلاف ولا يزيد عن عشرة آلاف قسطاً شهرياً لمدة ثلاث سنوات، فإذا مضت الثلاث السنوات أعطيناك زيادة (6%) على المبلغ كله. أولاً: لابد أن يحدد المصرف الحد الأقل للمبلغ المدفوع والحد الأقصى، أي: ما بين ألف إلى عشرة آلاف، كأن لا تزيد على عشرة آلاف ولا تنقص عن ألف، إن شاء يدفع ألفاً شهرياً قُُبل منه، وإن شاء يدفع ألفين أو ثلاثة آلاف إلى أن يصل إلى عشرة آلاف، فلو قال: سأدفع شهرياً أحد عشر ألفاً يقولون: لا، ادفع فقط ما بين ألف إلى عشرة آلاف. وهذه هي الفئة الممتازة، فعندما تكون فئة (أ) يكون فيها المبلغ أكبر والمدة محددة، فبعد أن يحدد المصرف أقل مبلغ يدفع يحدد له أكثر المبلغ، ثم تحدد المدة، يقال لك: تدفع لمدة سنتين شهرياً، فلو دفع ألفي ريال شهرياً، والسنة فيها اثنا عشر شهراً، فمعناه أنه سيدفع أربعة وعشرين ألف ريال، والأربعة والعشرون ألف ريال خلال ثلاث سنوات يكون مجموعها اثنين وسبعين ألف ريال، وهذا المبلغ يحسب منه فوائد (10%) أي: سبعة آلاف ومائتين، معناه أنه سيعطيه تسعة وسبعين ألفاً ومائتين، فكانت المعاملة على النحو الآتي: يحدد المبلغ الأقلي والأكثري على أن يكون الدفع بينهما، ويلتزم العميل بالدفع شهرياً ولا يتخلف أي شهر حتى تتم المدة، ثم يلتزم بعدم السحب من الرصيد لمدة ثلاث سنوات؛ لأن المصرف سيأخذها ويقرضها للناس، وهذه الالتزامات على العميل مكونه من: التزام في المبلغ أن لا ينقص عن كذا ولا يزيد عن كذا، والتزام في المدة: ثلاث سنوات أو سنتين أو سنة ونصف، والتزام بعدم السحب، هذه ثلاثة أشياء، وبعد أن يتم الاتفاق على هذا الوجه يلتزم البنك والمصرف بإعطائه فائدة بنسبة معينة. إذاً: هناك استثمار من فئة (أ) واستثمار من فئة (ب)، لماذا تتفاوت فئة (أ) عن فئة (ب)، فئة (أ) يكون المبلغ كبيراً ويحدد بمدة لأصحاب الأموال الكثيرة؛ لأنهم يعرفون طبقات المجتمع، ويريدون أن يستفيدوا من طبقات المجتمع، فيجعلون لمن كان راتبه أكثر مبلغاً أكثر، فيحددون مثلاً: من خمسة آلاف إلى عشرة آلاف، طبعاً: لا يستطيع أن يدخل في هذا الاستثمار لمدة ثلاث سنين بهذا المبلغ الكبير إلا إنسان مقتدر، النوع الثاني: يضعونه، فئة (ب)، وهذه الفئة تتراوح المبالغ فيها من ثلاثة آلاف ريال أو من ألفين شهرياً إلى ستة آلاف، فيكون التحديد أقل والمبلغ أقل وأيضاً الفائدة أقل، أي: هناك تجد الفائدة (10%) وهنا الفائدة (5%) مثلاً، فالتفاوت والتفاضل بين الفئة (أ) والفئة (ب) من حيث المضمون والجوهر، لكن من ناحية شرعية الحكم فيهما واحد، فلا تضرك المسميات؛ لأن هذا شيء يرجع إلى طريقة حساب الفوائد، فهي تختلف من طبقة إلى طبقة. أعطوا في الفئتين السابقتين الاستثمار للطبقة العالية والطبقة المتوسطة وبقي الطبقة الضعيفة، فتعطى استثماراً من فئة (ج)، وفئة (ج) من مائة ريال، أو مائتي ريال، أو ثلاثمائة ريال، يقولون: تدفع من خمسين ريالاً مثلاً؛ لأنهم يعرفون أنه سيشارك في هذه الفئة عدد أكبر، فيدفعون مثلاً: من خمسين ريالاً إلى ستمائة ريال لمدة ثلاثة شهور، وفي بعض الأحيان يحددون ويقولون: تدفع مائتي ريال شهرياً، فإذا دفع مائتي ريال شهرياً لمدة ثلاثة شهور هذه ستمائة ريال، والستمائة ريال يقولون: يلتزم المصرف بردها، ولكن يجمعون أسماء المشاركين كلهم، ثم توضع القرعة، ومن خرجت له القرعة أخذ الفائدة أو الجائزة الموجودة، وتقسم أرباح هذه الفئة كلها على عشرة أشخاص، يكون للأول ألف، وللثاني ألفان، وللثالث أربعة آلاف. إلخ. فنلاحظ أن عندنا فئة (أ) وفئة (ب) وفئة (ج)، هذه ثلاث دركات -نسأل الله السلامة والعافية- فئة (أ) وفئة (ب) لها دراسة مستقلة، أما فئة (ج) فسنركز عليها أكثر؛ لأن البعض أفتى بجوازها، وأدخل بعض الشبهات في الحكم بجوازها، فسندرس فئة (أ) و (ب) على حدة، ثم بعد ذلك ندرس فئة (ج). فئة (أ) و (ب) حينما يقال: تدفع ما بين خمسة آلاف إلى عشرة آلاف، وتلتزم ببقاء المبلغ ثلاث سنوات، وتلتزم أيضاً بعدم السحب منه وتعطى فائدة كذا، ما حقيقة هذا العقد؟ أولاً: هو قرض، وثانياً: اشترط فيه وجود المنفعة والزيادة، وهذا بإجماع العلماء ربا محرم؛ وهو مخالف لقوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]، فإذا أعطاه بزيادة -سواءً حدد المدة أو لم يحدد المدة مادام أنه يقول: آخذ منك هذا الدين وأرده بزيادة كذا وكذا سواء قلت الزيادة أو كثرت- فإنه الربا الذي حرم الله ولو ريالاً واحداً، فإن اشتراط هذه الزيادة قليلة كانت أو كثيرة هو عين الربا. الأمر في (أ) و (ب) واضح جداً ولا إشكال فيه، لكن الإشكال في فئة (ج)، فما هي الشبهة وكيف جوابها؟ قالوا: أولاً: في فئة (ج) المصرف أو البنك لم يلتزم أن يعطيك فائدتك إنما هو قال: تدخل في القرعة، فيحتمل أن تربح ويحتمل ألا تربح، فإذاً: حينما دخل العميل في الاستثمار لم يشترط على المصرف أن يربح ولم يشترط المصرف له أن يعطيه الزيادة، فإذاً: خلا عن قرض شرط فيه النفع, وأصبحت الزيادة بدون اشتراط، فهي جائزة، وغاية ما فيه أن المصرف تفضل بإعطاء هذه الزيادة وهذا الربح من باب المكافأة، والمكافأة على الدين جائزة، هذا بالنسبة للشبهة التي تثار في فئة (ج)، أنه لم يلتزم بإعطاء الفائدة وإنما وقع ذلك على سبيل الاحتمال، وإنما تحرم الزيادة إذا كانت على البت، كما لو أقرض الشخص شخصاً يحتمل أن فيه مكافأة ويحتمل أن لا يعطيه مكافأة، فتردد بين الزيادة وعدمها، قالوا: فيجوز. والجواب عن هذه الشبهة: أن يقال من وجوه: الوجه الأول: أن دخول العميل في هذا النوع من شهادات الاستثمار إنما قصد منه الربح والنماء، لم يدخل أحد في هذا الاستثمار لمجرد أن يحفظ ماله إنما دخل من أجل أن يربح، والمقاصد معتبرة في العقود، وعلى هذا كأنه يدين من أجل أن يربح. الوجه الثاني: أن هذا الربح لو كان مكافأة فإنه مبني على أصل محرم، والمكافأة من المحرم فرع راجع إلى أصله، وما بني على حرام فهو حرام، وبناءً على ذلك: لو سُلم جدلاً أنه مكافأة، فإننا نقول: إنه يعتبر من مال محرم، والمكافأة من المحرم محرمة؛ لأنها مأخوذة من فوائد من الإيداع ومكافأ بها العميل، وعلى هذا فلا يمكن التسليم بأنها من المكافأة؛ لأن العميل دخل وقد علم المكافأة، وحددت له، وبينت له، ووضع المال قاصدها، وشرط المكافآت أن لا يكون هناك علم أو تواطؤ أو إخبار، فلو قال له: ادفع لي عشرة آلاف يمكن أن أعطيك عليها ربحاً أو لا أعطيك لحرمت بالإجماع، قال له: إذاً: أشترط عليك أنه إذا يسر الله تعطيني وإذا لم ييسر فلا تعطيني، فهنا يقول: أشترط عليك إن ظهر اسمي أعطيتني، وإن لم يظهر اسمي فلا تعطيني، فلا يوجد فرق بين الحالتين. فإذاً: التذرع بأن خير الناس أحسنهم قضاءً، هذا ليس بوارد، إنما يكون ذلك لو خلا عن المقصد، وجاء بدون قصد ولا عدة، وهنا جاء بقصد؛ لأنه دخل وهو يريد، وجاء بعدة محتملة، أي: إن ظهر اسمك كان لك وإن لم يظهر فلا، فالتذرع بمثل هذا لا يصح ولا يستقيم. الآن عرفنا الشبهة وجوابها، وعندنا شبهة سبق وأن نبهنا عليها، وهي: أنه يتذرع في شهادات الاستثمار بأنها من باب القراض، ولو فرضنا أن وجائز، كأن يدفع رب المال إلى العامل ماله على أن يتجر به والربح بينهما على ما شرطاه، القراض يكون عندك مائة ألف وأنت طالب علم لست بمهيأ للمرابحة بهذه المائة ألف أو المتاجرة فيها، وهي موجودة عندك كرصيد مجمد، فمن رحمة الله عز وجل وتيسيره أن أباح لك أن تعطيها رجلاً عنده خبرة، يضرب بها في الأرض ويتاجر فيستفيد بخبرته، وينمي هذا المال، فإن ظهر ربح كان بينكما على ما اشترطتما إما أن يقول: الربح بيني وبينك مناصفة، أي: إذا ربح خمسة آلاف فإن لك ألفين وخمسمائة وله ألفين وخمسمائة، فيذهب ويتاجر بالمائة ألف في السيارات، أو الأقمشة، أو الأغذية، أو الأدوية أو غيرها. وبعد مضي المدة المتفق عليها تقول له: يا فلان! احسب لي المضاربة، فيذهب ويبيع الأشياء الموجودة بمائتي ألف، ثم يدفع أجرة الدكاكين وأجرة الأعباء وأجور العمال، فاستقر المبلغ على مائة وخمسين ألفاً؛ لأن الربح لا يكون إلا بعد رد الحقوق، فأنت دفعت مائة واتفقتما على أن الربح بينكما مناصفة وكان الربح خمسين ألفاً، فيأخذ خمسةً وعشرين ويرد لك مائة وخمسة وعشرين، هذه هي المضاربة الشرعية. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: من قال: إن القراض الذي هو المضاربة، ويسمى قراضاً ويسمى مضاربة، وسمي مضاربة؛ لأنه من الضرب في الأرض: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} [المزمل:20] الذي هي التجارة، وسمي قراضاً؛ لأنه اقتطع من ماله قرضاً فسمي بهذا. يقول: إن من قال: إنها ثابتة بالإجماع فقد وهم، إنما هي ثابتة بالسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضارب بمال خديجة، وجاء الإسلام والقراض موجود ومعروف، ورحلة الشتاء والصيف تدل على أنهم كانوا يسافرون في الصيف إلى الشام وفي الشتاء إلى اليمن للتجارة، ثم ترد الأرباح وتقسم على حسب ما يتفقون عليه، فأجازت الشريعة هذا النوع من العقود. يقولون: إن الفوائد والأرباح تعتبر قراضاً، وأعجب فما تنفك من عجائب! حينما يأتي من يقول: إن عقد القراض ليس فيه نص من الكتاب والسنة بشروط معينة، وإذا كان ليس فيه نص معين لا من الكتاب ولا من السنة وليس فيه إجماع على شروط معينة، فإنه يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فيصبح قراض الأمس له حالة، وقراض اليوم له حالة، هذا هو الفقه الجديد الذي -نسأل الله السلامة والعافية- زين لصاحبه حتى يحل ما حرم الله، فيضل ويضل ومن ثم يهلك ويُهلك غيره. والقراض في الأصل يقوم على أركان وهي: رب المال، والعامل الذي يضرب بالمال ويتاجر، وهو الطرف الثاني، والمحل الذي هو المتاجرة، والصيغة التي هي الإيجاب والقبول، كأن يقول له: قارضتك على أن يكون الربح بيننا. يقولون: إذا جاء العميل للمصرف ودفع مائة ألف فإنن

حكم اشتراط المنافع على القرض

حكم اشتراط المنافع على القرض يقول المصنف رحمه الله: [ويحرم كل شرط] أي: في الدين إذا اشترط المنفعة فلا يجوز؛ لأن اشتراط المنافع تارة يكون من المكر، كأن يقول: العشرة آلاف تردها لي عشرة آلاف وخمسمائة، وبعض الأحيان يكون اشتراط المنفعة بالمعنى سواءً كانت منفعة اعتبارية أو منفعة من غير النقد، كأن يقول له: أعطيك عشرة آلاف على أن تعمل عندي يوماً، أو توصل هذا لفلان، أو تفعل كذا وكذا، فصار قرضاً جر نفعاً، وفيه مسائل: المسألة الأولى: أجمع العلماء على أن كل قرض جر نفعاً من حيث الجملة إذا وقع على سبيل الشرط والمشارطة أنه لا يجوز، وحكى الإجماع على ذلك ابن المنذر، ونقله الإمام ابن قدامة رحم الله الجميع برحمته الواسعة، فمن حيث الأصل لا يجوز القرض الذي يجر نفعاً، ولكن إذا ثبت هذا فهو يحتاج إلى شيء من التفصيل وفي عصرنا الحاضر عندنا مسألتان نحتاج إلى ذكرهما: المسألة الأولى: قديمة وموجودة في زماننا. والمسألة الثانية: موجودة أو طرأت وكثر الكلام فيها الآن.

مسألة السفتجة

مسألة السفتجة أما المسألة الأولى: فهي السفتجة وهي تنبني على الحوالات. المسألة الثانية: فهي جمعيات المال. أما السفتجة ففي القديم كانوا يخافون الخروج بالأموال في السفر، فيأخذ الرجل مائة دينار في مكة ويعطيه ورقة لوكيل له في المدينة، أنه إذا جاءك فلان فأعطه مائة دينار، وإذا جئنا إلى صورة المسألة نجد أنه دفع مائة دينار وأخذ مائة دينار، لكن الشخص الذي هو رب المال دفع المال في مكة بشرط أن يأخذه في المدينة، فاشترط أخذه في المدينة حتى يحيله إلى وكيله، وهذا الشرط في الحقيقة قصد منه منفعة الأمن من خطر حمل المال معه، ومن هنا اختلف السلف رحمهم الله في هذا النوع، وكان موجوداً في زمان الصحابة رضوان الله عليهم، فمنهم من رخص، ومنهم من منع. فإذا دفعت لأحد مالاً على أن تأخذه في مكان آخر، فلا يخلو المال من حالتين: السفتجات، وهي فارسية معربة، ويبحثها الفقهاء تحت هذا المسمى السفتجة، والسفتجة من حيث الأصل لها صورتان: الصورة الأولى: أن يكون المال المديون يحتاج إلى مئونة حمل إلى المدينة، فمثلاًً: يأخذ المدين من صاحب المال مائة صاع في مكة ويقول له صاحب المال: بشرط أن تحيلني على وكيلك في المدينة وأستلمها منه، فإن كان نقل مائة صاع من المدينة إلى مكة يكلف ديناراً أو عشرة دنانير فصار كأنه أقرضه مائة صاع معها عشرة دنانير، فصار قرضاً جر نفعاً، وهنا نقول: لابد من دراسة؛ لأن المشكلة أن بعض العقود ترى في ظاهرها أن لا شيء فيها، لكن حينما تنظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) فتجد أنه لابد من التأمل والنظر بعمق. لذلك فلابد من دراسة المسألة حتى تفهم نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن بيع وسلف، فالسلف يعطي نفس المال، لكن لما أدخل البيع معه ربما وجدت الزيادة في البيع؛ لأنه لا يبيع أحد شيئاً إلا وفيه ربح، ففهمنا من هنا أن الشرع لا يقتصر على كون هذا أخذ رأس مالٍ ما لم يحقق في اشتراطه عليه، فلما اشترط شرطاً فيه الزيادة والمصلحة له فهمنا أنه قرض جر نفعاً واختلف فيه الصحابة رحمهم الله. أما لو كان المال المدفوع طعاماً يحتاج إلى نقل ومئونة، فجماهير العلماء سلفاً وخلفاً على تحريمه؛ لأنه استفاد النقل، وسلم مئونة النقل، والمال صحيح أنه ما نقل لكنه اشترط شرطاً على وكيله هناك ولم يقل له: أدها لي هنا، فدل على أنه قصد الهروب من مئونة الحمل، ودلالة الحال قد تدل على المقاصد في المآل. ثانياً: أن يكون المال ليس فيه مئونة، فمثلاً: يعطيه مائة دينار في مكة، ويقول له: هذه المائة دينار أحلني على وكيلك في المدينة يعطيني المائة دينار وهذه المائة دينار، ليس في حملها مئونة، فلا تحتاج إلى أكياس وإجارة، بل يضعها الإنسان في جيبه، أو في خرجه. إلخ، فلو كانت أكثر، مثلاً: عشرة آلاف دينار من الذهب -كما في القديم-، فتحتاج إلى صرر ويستأجر لحملها وكرائها، فهذا يدل على أنه يريد أن يخرج من مئونة الحمل ومئونة الخطر في الطريق؛ لأنه ربما ركب بحراً فغرق، وربما أخذت منه في الطريق، فالمقصود أنه يريد أن يتهرب من هذا كله، فيشترط أن يأخذها على وكيله حوالة، فصارت حوالة بمنفعة. فإن كانت لا مئونة فيها فقد شدد فيها بعض السلف ورخص فيها البعض الآخر، وممن رخص فيها علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن مسعود رضي الله عن الجميع، فقد كان ابن الزبير كما روى عطاء يأخذ المال من الرجل في مكة ويكتب لأخيه مصعب في البصرة أن يقضيه، وهذا على سبيل الترخص؛ لأنه نفس عين المال وما فيه مئونة، وبناءً على ذلك رخص فيها هؤلاء الصحابة، وكذلك قال بهذا القول جمع من التابعين رحمهم الله، وهو رواية عن الإمام أحمد. ومنعها بعض السلف على خلاف بينهم، فمنهم من يفهم من كلامه التحريم، ومنهم من يفهم من كلامه الكراهية، وهذا هو مذهب الشافعية والمالكية وطائفة من الحنفية رحم الله الجميع، فيقولون بالمنع، إما على سبيل التحريم، وإما على سبيل الكراهة، وروي الجواز مع الكراهة عن مالك من وجه يثبت عنه. وبناءً على ذلك يرد السؤال الآن في الحوالة في الأصل بنفس العملة وبغير العملة، كأن تريد مثلاً تحويل عشرة آلاف ريال من مكة إلى المدينة، فالعملة واحدة، وتريد تحويل عشرة آلاف ريال إلى دولارات في غير مكة خارج البلاد مثلاً. والحوالة في الأصل هل هي حوالة أم قرض؟ هذا يحتاج إلى نظر، الحوالات الموجودة الآن هي قرض، وهي آخذة حكم السفتجات؛ لأنك تأتي إلى المصرف وتعطيه عشرة آلاف، وحين يأخذ المبلغ فإنه لا يحيلك بنفس المبلغ، وإنما حقيقته أنه أخذ هذا القرض في ذمته وأحال إلى وكيله أن يعطيك إياه، وأنت لا تحيل إلا لمصلحة، فكأنك أقرضته لمصلحتك، وهذا وجه دخولها في السفتجات؛ لأنه يريد توصيلها وفي توصيلها مئونة، فإن جاء يسافر هو بنفسه فمئونة السفر مكلفة، وإذا استأجر الغير فإنه يدفع قيمة استئجار الغير، فهي داخلة في حكم السفتجة. فعلى قول من قال من الصحابة بالترخيص في السفتجات، وهذا مع اتحاد العملة فلا إشكال في الجواز، يكون في حكم السفتجة جائزة على قول علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود، والنفس تطمئن إلى هذا القول، خاصة كما قال الإمام مالك: إن الناس يحتاجون إلى ذلك، فخفف فيه لوجود المصلحة، وصار فيه نوع من الإرفاق وهو متفق مع مقصود الدين. ويبقى النظر في الحوالة مع اختلاف العملة، إذا دفعت عشرة آلاف فإنها في الأصل تكون ريالات وتريد تحويلها إلى البلد الثاني بعملته، فهنا عقدان: العقد الأول: الصرف، وهو كونك تبدل العشرة آلاف من ريالات إلى دولارات، والعقد الثاني: عقد الحوالة، فيجب أولاً: أن تصرف وتبدل العملة إلى عملة أخرى، وتقبض يداً بيد، فإذا حصل الصرف بصفته الشرعية المعتبرة، ودخلت النقود في شيك أو حوالة وأحيلت فلا إشكال في جوازها على قول من ذكرنا من السلف رحمهم الله، لكن لو أعطاه عشرة آلاف ريال، وقال: حولها إلى فلان دولارات، فحينئذٍ وقعت النسيئة والتأخير في الصرف، ولا خلاف في أن وجود التأخير يوجب التحريم، إذاً: المخرج والمباح أن يصرف أولاً وبعد القبض يحيل ما شاء من المال.

مسألة الدين في الجمعيات

مسألة الدين في الجمعيات أما مسألة الدين في الجمعيات، فإن الجمعية -إذا جئت تنظر إليها- في الواقع هي قرض جر نفعاً، فلو دخلنا الجمعية بخمسة آلاف ريال، فكل شخص يدفع الخمسة آلاف على شرط أن يدينه الثاني أو يدين من يدينه، فأنت إذا دفعت الخمسة آلاف وكل شخص دفع خمسة آلاف، فمعناه أن محمداً الأول هو الذي سيأخذ مجموع المال، فكأنك دفعت الخمسة آلاف لمحمد من أجل أن يقضك ويقرض الباقين أيضاً، ودفعتها لأولئك الأربعة الباقين بنفس الشرط، فصار قرضاً جرَّ نفعاً، ولو علمت أنهم لا يعطونك لامتنعت، فإذاً: أنت لم تدفع المال إلا من أجل أن تستفيد من قوة المبلغ، والدين إنما يدفع من أجل الرفق بالمديون، وقد أجمع العلماء على أن الدين عقد رفق. ومن هنا حرم أن يستفيد المدين، فأنت إذا دفعت الخمسة آلاف مع زيد وعمرو وخالد لمحمد، كأنك تقول: يا محمد! خذ مني الخمسة آلاف الآن بشرط أن تعطي الشهر القادم خمسة آلاف لزيد، والذي بعده لعمرو، والذي بعده لبكر، فلو علمت أنه يمتنع لما دفعت ولما أعطيته، وهذا يقتضي المنع، فصار قرضاً جر نفعاً، وإن قلنا: إنه دفع خمسة آلاف وأخذ خمسة آلاف {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] يقولون: دفع ديناً وأخذ عين الدين، فإن وجدت من يجيز ويفتي بالجواز فإنه يرى أنه دفع خمسة آلاف وأخذ الخمسين ألفاً ورد لكلٍ دينه بدون زيادة، وإن وجدت من يحرم وجدته يرى شبهة زائدة على الارتفاق وهي كونه يدين بشرط، وهذا سلف وشرط، فصار قرضاً بشرط فيه منفعة، إما له حقيقة أو تبعاً، فحقيقة من جهة أنه سيستفيد الخمسين ألفاً، وتبعاً كأنه يقول: يا محمد! أقرض من أقرضني، وأعط لمن أعطاني كما أنني أعطيتك. وعلى هذا أقول: إنها من جنس المشتبه، فلا أقوى على الجزم بالتحريم؛ لأن فيها شبهة من الحلال، وفيها شبهة من الحرام، فإذا جئنا ننظر إلى وجود الشرط فهذا شبه من الحرام، وإذا جئنا لمضمون الشرط مع أنه لا يأخذ إلا رأس ماله لقلنا بالجواز، فأنا أقوال: إنه من المشتبه، وأنا ما أفتيت بحلها يوماً ولا بحرمتها، ولكن أرى أنها -أي: الجمعيات- من المشتبه الذي لا يفتى بحله ولا يفتى بحرمته، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

باب القرض [3]

شرح زاد المستقنع - باب القرض [3] الغاية من القرض هي الإرفاق بالمقترض والتيسير عليه، وهو من قبيل الدين والله سبحانه وتعالى عدل بين صاحب الدين والمدين فألزم كلاً منهما بإلزامات تمنع الضرر عن الآخر، ومن ذلك أنه أوجب على المديون أن يرد الدين لصاحبه دون أن يزيد عليه إلزاماً، لكن أن يزيد تكرماً فلا بأس، كما يحرم على الدائن أن يشترط زيادة على دينه عند السداد.

مسائل في القرض

مسائل في القرض بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويحرم كل شرط جر نفعاً] تقدم الكلام على هذه الجملة، وبينا أنه متى اشترط صاحب الدين على المدين شرطاً يتضمن منفعة له فهذا ذريعة إلى الربا، وهو: - إما أن يكون رباً محضاً، كقوله: أشترط عليك أن ترد العشرة خمسة عشر؛ فإنه شرط تمحض بالزيادة المحرمة وهي الربا. - وإما أن يشترط عليه شرطاً فيه منفعة تكون حينئذٍ الحرمة من جهة وجود الزيادة. والأصل في ذلك أن الله سبحانه وتعالى عدل بين صاحب الدين والمدين، وأن الواجب على المديون أن يرد الدين والحق لصاحبه دون أن يزيد عليه إلزاماً، لكن أن يزيد تكرماً فلا بأس، وكذلك لا يجوز له أن ينتقص من حقه. إذاً: فقوله: [ويحرم] أي: يأثم بهذا الفعل إذا اشترط الزيادة، ولا يجوز دفع هذه الزيادة، فلو ترافعا إلى القاضي فإن القاضي لا يحكم على المديون أن يدفع هذه الزيادة، فلو قال: أشترط عليك أن ترد العشرة خمسة عشر، فإن القاضي يحكم عليه بأن يرد العشرة فقط.

مكافأة صاحب الدين بدون شرط

مكافأة صاحب الدين بدون شرط وقوله: [وإن بدأ به] إذا بدأ المديون بمكافأة صاحب الدين بدون شرط ولا مواطأة جاز له ذلك، والدليل على هذا حديث أبي رافع رضي الله عنه في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً، فقدمت عليه إبل من الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكرة، فقال: لا أجد إلا خياراً، قال: أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاءً) ومعنى هذا: أن المنفعة والزيادة جائزة إذا لم تكن بمواطأة أو بشرط. والمنفعة كرجل استدان منك عشرة آلاف، فجاء وأعطاك العشرة آلاف، وقال لك: إنك أحسنت إليّ، وإني قد وهبتك داري شهراً، فهذه منفعة، وهذا القرض جر نفعاً لكنه ليس على وجه محرم؛ لأنه جاء على سبيل الإكرام بعد انتهاء الدين وقضائه، وقوله: [وإن بدأ به] أي: المديون، ومعناه أنه لم يكن النفع مشترطاً من سابق، فيبدأ به المديون لكن بعد القضاء والوفاء، فابتدأ من عند نفسه دون أن يلزمه صاحب الدين أو يكون هناك شرط بينهما، وإن بدأ به على هذا الوجه فإنه جائز؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (رحم الله امرأً سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) فمن السماحة في القضاء أن يزيد ويستفضل، سواءً كانت الزيادة بالأعيان أو بالمنافع، فيرد له عيناً أفضل من عينه، أو يرد له حقه من المال ويزيده منفعة أو مالاً، هذا كله دلت السنة على جوازه، ولكن بشرطين: الشرط الأول: أن يكون بعد تمام الوفاء، فلا يكون قبل الوفاء، فإن كان قبل الوفاء ففيه كلام. الشرط الثاني: أن يكون دون شرط أو مواطأة، بل تعطى الزيادة بطيبة نفس ورضا خاطر، فهذه جائزة ولا بأس بها. وقوله: [بلا شرط] أي: من محض اختياره ومن عند نفسه، لكن فصل بعض العلماء في الشخص الذي تكون من عادته الزيادة، مثل: الكرماء وأهل السخاء والجود، فإن أمثال هؤلاء الغالب أنهم إذا استدانوا أن يكافئوا من استدانوا منه؛ لأن الله جبلهم على الكرم، والكرم نعمة من الله عز وجل، والكريم يشعر أنه لا يملك مالاً، وفي هذه الحالة تجده يعطي الضعيف والمحتاج ومن يسأل، فكيف إذا كان الذي أمامه قد أحسن إليه، فإن الكريم لا يرضى أن يعطي نفس الذي أعطيته، وغالباً ما يرد بأفضل؛ لأن الله جبله على ذلك، فالكرم من مظنته الزيادة، فيرد Q إذا أعطى الدين لكريم فإنه سيشعر أنه سيكافئه. إذاً: فهل هذا المعروف من الكريم ينزل منزلة الشرط؟ A فيه تفصيل، إن كان الذي أعطاه الدين في نيته ورغبته وقرارة نفسه يقصد أنه إن أعطاه سيكافئه وأحب أن يعطيه حتى يكافئه فحينئذٍ تكون الشبهة، فمن العلماء من حرم ومنهم من كره، وعلى هذا تنزل القاعدة: المعروف عرفاً كالمشروط لفظاً وشرطاً، فحينما علم أنه كريم وجواد وأنه سيرد الشيء بأفضل فكأنه أعطاه على أن يزاد في عطائه. وقال بعض العلماء: بالكراهة، كما أشار إليه الإمام النووي رحمه الله في الروضة، واختاره بعض أهل العلم، ووجه الكراهة أنه تردد بين الحرام وبين الحلال، فإنه إذا أعطاه الدين على أن يرده بنفسه اقتضى ذلك الحل، وإن أعطاه الدين بشرط الزيادة اقتضى التحريم، فإن سكت وعُلم ذلك من طبيعة الشخص ورغبة من أعطى كان متردداً بين الحلال والحرام، وهذا ضابط عند بعض علماء الأصول أنهم يجعلون المكروه ما تردد بين الحرام والحلال، فيصفون بعض المعاملات وبعض الأفعال بكونها مكروهة؛ لأنها في مرتبة بين الحلال والحرام، فيها شبه من الحل يقتضي جوازها وشبه من الحرام يقتضي منعها. فإن نظرنا إلى أنه ليس هناك شرط ولا مواطأة ولا وعد قلنا: بالحلال، وإن نظرنا إلى الداخل والنية والقصد قلنا: إنه حرام، ومن هنا يقولون: يصير مكروهاً، مثل ما ذكروا في الثوب، إن كان فوق الكعبين فهو حلال بالنسبة للرجل، وإن كان أسفل من الكعبين فإنه حرام، وإن كان على الكعبين فهو مكروه، لأنه ليس بالحرام المحض؛ لأنه لم يرد نص بتحريمه، إنما ورد النص بما أسفل الكعبين، ومفهوم (أسفل) أنه يشترط في الحكم بكونه حراماً أن يكون أسفل. فالشاهد أننا عندما قلنا: يشترط أن يكون حراماً إذا اشترط، فإذا لم يشترط اقتضى هذا الحل، وإذا جرت العادة نزلت منزلة الشرط، فإذا قصد هذا المعتاد منه قالوا: يكون مكروهاً.

حكم رد القرض بأفضل منه

حكم رد القرض بأفضل منه وقوله: [أو أعطاه أجود] كأن يستدين منه نوعاً من الإبل فقضاه بنوع أجود منه، أو استدان منه نوعاً من الطعام فقضاه أجود منه، أو استدان منه نوعاً من الثياب والألبسة والأكسية فرد أفضل وأجود منه. إذا أخذ الجيد ورد بأجود، أو أخذ الحسن ورد بأحسن، أو أخذ الفاضل فرد بالأفضل، فإنه يجوز إذا لم يكن بشرط ولم يكن بعدة ولا بمواطأة، أما الدليل على جواز ذلك، فإن السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صرحت بفضيلة القضاء بالأحسن، فقال صلى الله عليه وسلم: (أعطه -أي: سددوا دينه واقضوا دينه- فإن خير الناس أحسنهم قضاءً) وكونه أحسن: يدل على أنه يكون أفضل، إما في الجودة والرداءة وفي الصفات الموجودة في المذروع وفي المعدود. وإما أن تكون الجودة والأحسن في القدر، وذلك كأن يستلف منه خمسة ريالات فيرد ستة ريالات أو يستلف منه مائة ريال فيردها مائة وعشرة بدون شرط وبدون عدة.

الهدية بعد وفاء الدين

الهدية بعد وفاء الدين وقوله: [أو هدية بعد الوفاء جاز] أي: أو أهدى إليه هدية بعد وفاء الدين جاز، كأن يستدين منك مائة ألف ريال، ثم جاءك وأعطاك المائة ألف بعد حلول الأجل وأعطاك معها ساعة أو كتاباً أو قلماً؛ لأنه يرى أن لك معروفاً عليه، وأحب أن يكافئك على المعروف؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه) قالوا: هذه الهدية لما جاءت بدون شرط وجاءت بعد تمام الوفاء ولم يكن ذلك جارٍ على عرفٍ يقتضي الاشتباه جاز بدون حرمة ولا كراهة. وقد اختلف العلماء في مسألة المكافأة على الدين والرد بأفضل، وبعض العلماء يقول: إنه يجوز أن ترد بالأفضل في الصفات ولا ترد في العدد، فمثلاً: لو أخذ مائة ريال لا يجوز أن يردها مائة وعشرة، وهذا هو مذهب الإمام مالك رحمه الله، يرى أن تكافئ في الصفات لكن لا تكافئ في العدد؛ لأن المكافئة في العدد صورة الربا، فإذا أخذ مائة ريال وردها مائة وواحداً أو مائة واثنين أو مائة وعشرة فهو ربا، فهو على صورة: أن يأخذ الواحد ويرده اثنين أو ثلاثاً، واستدل بقوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]، فهذه المسألة فيها خلاف، وإن كان بعض الحنفية يميل مع المالكية في بعض التفصيلات، لكن المشهور الخلاف بين المالكية، وعن الإمام أحمد أيضاً رواية في رد المكافأة مطلقاً لكن الصحيح ما ذكرناه. وعندنا دليلان: الدليل الأول: في سداد الديون: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] وهذا الأصل يقتضي أن سداد الدين يكون مماثلاً، إن كان عين الدين فلا إشكال، وإذا لم يكن عيناً كان مماثلاً في العدد والصفة؛ لأنه رأس المال، وإن لم يكن رأس المال حقيقة يكون حكماً، وظاهر هذه الآية الكريمة يمكن أن تجزم بأنه لا يجوز لأحد أن يدفع مكافأة على الدين؛ لأن الأصل يقتضي أنه كما أخذ العشرة أن يرد العشرة، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما استسلف البكر وهو نوع من الإبل، وجاء عند القضاء، فقال: (يا رسول الله! لا أجد إلا خياراً رباعياً، قال: أعطه إياه، فإن خير الناس أحسنهم قضاءً) فمن أهل العلم من قال: إن هذا الحديث ورد في الصفة، فإن الخيار الرباعي أفضل من البكر، فيجيز في المعدودات بأوصافها والمذروعات بأوصافها ويمنع في الربويات من الذهب والفضة والأطعمة، فلا يجوز أن تعطي الصاعين مقابل صاع، ولا يجوز أن تعطي الدرهمين مقابل درهم. لأنه يرى أن حديث أبي رافع في المعدودات والزيادة عنده جاءت في الصفة، فلا يجوز أن نتوسع ونجيز القضاء في المعدودات الربوية، في المكيل كيلاً بزيادة الكيل، وفي الموزون وزناً بزيادة الوزن، فعلى هذا القول لا يجوز لك إذا استدنت كيلو من الذهب أن ترده كيلو ونصفاً، أو ترده كيلو وربعاً مثلاً، أي بزيادة ربع عليه؛ لأنه يرى أن الأصل التحريم، والحديث جاء في المعدودات وهي الإبل وما في حكمها، فعلى هذا القول فإن الحكم يختص بالجواز بصورة هذا الحديث، والجمهور قالوا: يجوز أن يزيد سواءً كان في الذهب والفضة التي هي الأثمان أو في المطعومات، سواء المكيلات أو الموزونات، ويجوز أن يزيد في المعدودات صفة وعدداً، وعلى الوجه الأول عندهم أنك لو أخذت بعيراً فلا يجوز أن تقضي بعيرين؛ لأن الحكم عندهم يختص بالصفة، والزيادة بالصفة مع وجود الاتحاد في العدد، فلا يجيزون أن تقضي البعير بالبعيرين، ولا يجيزون أن تقضي الشاة بالشاتين وبالثلاث؛ لأنهم يرون أن الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختص بالصفة، فقال (يا رسول الله! إني لا أجد إلا خياراً رباعياً)، فمن هنا يقولون: لا يجوز أن تدفع بزيادة عدد لقاء عدد أقل، هذا بالنسبة للقول الأول الذي ذكرناه. وأما الجمهور لما أجازوا هذا قالوا: الحديث ورد فيما ذكرتموه، لكن في الحديث عبارة، وهي قوله عليه الصلاة والسلام: (أعطه، فإن خير الناس أحسنهم قضاءً) فجعل الأمر بالزيادة في الصفة والجودة مركب من قوله: (فإن خير الناس أحسنهم قضاءً)، فالتعليل يفيد العموم، فلما كان منشأ الحكم الإحسان في القضاء، وأكد هذا بقوله: (رحم الله امرأً سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) فهمنا أن مقصود الشرع المكافأة على الدين، ما دام أنه بدون وعد ولا تواطؤ ولا شرط، وبناءً على هذا نخرج ما ذكره المصنف رحمه الله. ويمكننا أن نقول: إنه يجوز أن يقضي الشيء بأحسن منه وأجود في الصفات، ويجوز أن يقضي الشيء بضعفه في العدد، فيقضي البعير بالبعيرين، والشاة بالشاتين، ويقضي أيضاً الثوب -بصفاته المنضبطة- بثوبين إذا كان قد اقترضه منه، والطاقة من القماش بالطاقتين إذا استدان مذروعاً، وقس على ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن خير الناس أحسنهم قضاءً). أما إذا كان كريماً، ومن عادته أن يكافئ على الدين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكرم الخلق، ومع ذلك استدان واستدان منه الناس وهم يعلمون كرمه وفضله عليه الصلاة والسلام وجوده وسخاءه، قال رجل: يا قوم! أسلموا فقد جئتكم من عند رجل لا يخشى الفقر، ما سُئل عن شيء إلا أعطاه، صلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين، فالمقصود: أنه ولو كان كريماً سخياً يجوز أن تتعامل معه، لكن ينبغي أن لا تجعل في نيتك أن يكافئك بالأفضل، وإنما يكون ذلك على سبيل المسامحة والارتفاق.

حكم الهدية لصاحب القرض قبل سداد الدين

حكم الهدية لصاحب القرض قبل سداد الدين وقوله: [وإن تبرع لمقرضه قبل وفائه بشيء لم تجر عادته به لم يجز]. عرفنا أنه يجوز أن تزيد عند القضاء بأفضل؛ لحديث أبي رافع بشرط أن تكون الزيادة بعد انتهاء الأجل وبعد الوفاء، حتى قال بعض العلماء: لو جئت تسدد الدين لا تقدم الهدية، بل سدد الدين أولاً وبعد أن يقبض دينه أعطه الهدية، ولا تجعل العطاء للهدية سابقاً لوفاء الدين، إنما تعطيه بعد تمام الوفاء، فحينئذٍ يرد Q لو اقرضت شخصاً فجاء وأعطاك شيئاً قبل السداد فهل يجوز لك أن تأخذ من المديون شيئاً، سواءً كان من الأثمان أو الأطعمة أو الأكسية أو المنافع. كرجل استدان منك عشرة آلاف ريال، وكان الدين إلى نهاية السنة، وجاءك في رمضان، وقال: يا فلان! هذه خمسة آلاف ريال مني لك أو هذه ألف ريال، أو هذه مائة ريال، فأعطاك هدية من غير جنس الدين، كأن يكون استدان منك عشرة آلاف ريال ففوجئت به قبل تمام الأجل وقد جاءك بشيء من غير الأثمان كطعام أو كساء أو ساعة أو قلم أو كتاب، وقال: يا فلان! إني أحبك في الله وهذه هدية مني لك، لكن بينك وبينه دين ولم يسدد الدين بعد. فحينئذٍ إذا أعطاك شيئاً قبل الدين فإنك تتقيه، وعلى هذا وردت نصوص الصحابة والنقول عنهم متظافرة، وقد جاء عند ابن ماجة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قبول هذه الهدية، لكن هذا الحديث متكلم في سنده، وذكر بعض العلماء أن له شواهد من حيث المضمون العام للمتن، وأما عن الصحابة فلا إشكال، فإن أبا بردة بن أبي موسى الأشعري لما جاء إلى عبد الله بن سلام الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه، قال له: إنك بأرض أرى الربا فيها فاشياً، فإذا استدان منك رجل ديناً فأعطاك هدية أو حملاً أو فإياك أن تقبله. فمنعه من قبول الهدية قبل تمام الدين، وأُثر هذا عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، فإن ابن عباس سئل عن رجل استدان من آخر عشرين درهماً، ثم صار المديون يهدي للدائن السمك، فأهداه في المرة الأولى سمكاً، ثم مرة ثانية أهداه سمكاً، ثم المرة الثالثة أهداه سمكاً، حتى وصلت قيمة السمك ثلاثة عشر درهماً، فأخبر ابن عباس رضي الله عنهما أن الرجل استدان منه عشرين درهماً، وأهداه هدية تبلغ ثلاثة عشر درهماً فقال: خذ منه سبعة دراهم. فاحتسب جميع ما أهداه إليه، وعدّ ذلك محرماً عليه إلا أن تعطى قيمته. والسبب في هذا واضح، فكأنه قبل وفاء الدين تارة تتخذ الهدايا لإطالة الأجل، فإذا جاء السداد تنكسر عين صاحب الدين بالهدايا، ولا يستطيع أن يطالب المديون، ويؤخره ويؤجله، وكذلك أيضاً فيها ذريعة إلى الربا أن يمحض له الأجل من نفس المبلغ، ومن هنا تظافرت النقول عن الصحابة رضوان الله عليهم كـ عبد الله بن سلام وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وغيرهما، ومن أئمة التابعين كـ سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي رحمة الله على الجميع، كلهم منعوا قبول الهدية قبل الوفاء. وقد ضيق السلف في هذا حتى إن بعضهم كان يتورع عما هو أخف من هذا بكثير، فإن الإمام أبا حنيفة رحمه الله استدان منه رجل ديناً، ثم جاء الإمام أبو حنيفة يطالبه بالدين، فوقف على بابه في شدة الظهر في الهاجرة، وكان مع الإمام أبي حنيفة أصحابه، فكان الرجل في داخل الدار وقُرع عليه الباب، فوقف الإمام أبو حنيفة في الشمس وجاء أصحابه إلى مظلة الباب (الروزنة)، ودخلوا تحتها، وقالوا: هلم يا إمام إلى الظل، قال: لا والله، أخشى أن يكون فضل منه عليَّ، فلم يرض أن يأتي إلى ظل داره قبل وفاء دينه. والفقه في بعض الأحيان يضيق على الإنسان، لكنه يثاب على هذا، إذا تورع بمثل هذا الورع الذي كان عليه سلف الأمة، واحتاط إلى هذه الدرجة، بأن يدع ما لا بأس به خشية من الوقوع فيما فيه بأس، وهذا الورع أكمل ما يكون من الورع، شريطة أن لا يفضي ذلك إلى الوسوسة وتحريم ما أحل الله عز وجل من الطيبات. فالشاهد أنه خشي أن يكون مرتفقاً بهذا الظل، وبناءً عليه لا تقبل الهدية من الشخص الذي لك عليه دين قبل سداد الدين إلا في حالات: الحالة الأولى: أن تحتسب الهدية من الدين، فلو كان رجل عنده لك عشرة آلاف ريال، فأهداك ساعة بخمسمائة، فاقبلها على أن الذي بقي لك عليه تسعة آلاف وخمسمائة، ولو أهداك هدية بألف، فاقبلها على أن الدين تسعة آلاف، فإذا كنت تقبل الهدية على أنها من الدين فلا بأس به. الحالة الثانية: أن يكون الرجل الذي أهداك الهدية من عادته أن يهديك، أو يكرمك، كرجل استدان منك ديناً ومن عادته أنه يهدي لك هدية في كل رمضان، فاستدان منك الدين إلى نهاية السنة فجاءك بالهدية في رمضان وأعطاكها، فإنها خارجة كلية عن الدين، والأورع والأفضل أن لا تقبلها في ذلك العام، لكن التهمة هنا منتفية، ولذلك أجازوا للقاضي أن يستضيفه من كان من عادته أن يستضيفه قبل القضاء، فإذا دعاه إلى وليمة خاصة أجابه؛ لأننا نعلم أن بينهما وداً قديماً، وأنه لم يستضفه مبتلىً بهذه الأمانة وهذه الحقوق. فالمقصود أنه إذا كان من عادته أن يهديك وأهداك على عادته صحت هديته، لكن إن كان من عادته أن يهديك وزاد في هديته في ذلك العام حرمت الزيادة؛ لأنها خرجت عن المألوف والمعروف، ومن هنا لو استدان رجل منك ديناً ودعاك إلى وليمة، فإما أن يكون الطعام عاماً، كأن يكون زاوج ابنه أو ابنته فإن هذه الدعوة لا يخصك بها، وإنما أنت والناس فيها على حد سواء، ويبعد أن تكون مكافأة عن الدين؛ لأن هذا أمر عام يقصد منه إشهار النكاح ولا علاقة له بالدين، ومن هنا أجازوا للقاضي أن يجيب الولائم العامة. لكن قال بعض العلماء: يجوز أن تتخلف عنها تورعاً، إذا خشيت أن يكسر عينك بالزيادة في الإكرام في الحفلات العامة والولائم العامة، فيحابيك محاباة خاصة، ويميزك بها، فإنها في الظاهر دعوة عامة لكن فيها شيء تتورع عنه إذا علمت ذلك، وهذا أصل عام يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والأعراف والأزمنة، وعلى المؤمن أن يتقي الله، ويتورع عن مثل هذه الدعوات، وهذا هو الذي فيه طمأنينة القلب، ففي مثل هذه المسائل يصدق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس)، فإنه في بعض الأحيان يكون الشيء في ظاهره حلالاً لكن تجد أموراً وقرائن تدل على وجود الشبهة، فمثل هذا تتقي فيه وتمتنع منه، صحيح أنه يدعوك دعوة عامة، إلا أنه يميزك على من هو أفضل منك، فتفهم من هذا أن القدر المباح والمشترك زدت على حقك فيه، كما لو أهداك هدية وكان من عادته أن يهديك وزاد في الهدية، فإن الزيادة تحرم، فالمقصود أنهم لما قالوا: من عادته أن يهديك، محل ذلك أن لا يكون فيه شبهة أو ذريعة إلى الحرام، كأن يزيد عن هديته، أو يفعل معك فعلاً يميزك به في وليمة عامة أو نحوها، ولو دعاك إلى دعوة خاصة لم يجز أن تجيبه؛ لأنها أشبه بالمكافأة على الدين قبل وفائه وأدائه. وقوله: [لم يجز] أي: لم يجز لك أن تأخذ الهدية منه قبل وفائه للدين إلا أن تنوي مكافأته على الهدية، كرجل استدان منك عشرة آلاف وذلك إلى نهاية السنة، ثم جاءك بهدية (ساعة) لم يجز لك أن تقبلها، إلا أن تنوي مكافأته على الساعة، فتنوي في قلبك أنك ستقبل منه الساعة الآن على أن ترد عليه هدية مثل هديته أو أفضل من هديته، فتكون حينئذٍ قطعت الهدية بمثلها أو أفضل منها. وقوله: [إلا أن ينوي مكافأته] وهذا ما يسمى بهبة الثواب، وهي الهبة بعوض، وهذا النوع محرم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعله الإنسان من أجل أن يكافئه الغير، وهو الذي عناه الله عز وجل بقوله: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] (ولا تمنن) أي: تفعل الهدية وتعطي الهدية وما فيه منة، (تستكثر) أي: تستدعي الكثرة بطلبك لما هو أكثر، وهذا يفعله الضعفاء، فيأتون للأغنياء ويعطونهم هدية، ومن المعلوم أن الفقير إذا أهدى للغني فمعنى ذلك أن يكافئه، وعلى هذا قالوا: إنه إذا أهداه ونوى في قلبه أن يرد هديته وأن يكافئه عليها جاز له ذلك. وقوله: [أو احتسابه من دينه] كرجل يأتي ويعطيك هدية، فتقدر هذه الهدية بقيمتها، وتنوي في قرارة قلبك أنه إذا جاء يسدد الدين فإنك تسقط الهدية من قيمة الدين، فيجوز لك أن تقبلها.

حكم اشتراط تسليم الدين في غير مكان القبض

حكم اشتراط تسليم الدين في غير مكان القبض وقوله: [وإن أقرضه أثماناً فطالبه بها ببلد آخر لزمته، وفيما لحمله مئونة قيمته] [وإن أقرضه أثماناً] كذهب وفضة، دنانير ودراهم، أو أقرضه ريالات وطالبه بها في غير البلد، كأن يستدين منك عشرة آلاف في مكة، فقلت له: أنا جالس في مكة في رمضان، ولكنني أطالبك بردها لي مثلاً في الرياض في ذي القعدة، أو في جدة أو المدينة لزمه ذلك، أي: لزم المدين أن يسدد الدين في الموضع الذي اتفقا عليه، فهذا من الشرط، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم). وقد نص العلماء رحمهم الله على أنه إذا أعطاه الأثمان في بلد وطالبه بقضائها في بلد آخر، أنه لا بأس بذلك ولزمه أن يسددها في البلد الآخر، لكنهم فرقوا بين الأثمان وغير الأثمان، كالطعام والكساء وغيرها مما يحمل وفيه مئونة؛ لأنه إذا اشترط عليه أن يوفيه في بلد غير بلده استضر المديون، وصارت منفعة زائدة للدائن على المديون، فلا يجوز ولا يلزم بهذا. أما الأثمان كالذهب والفضة، في القديم إذا قال لك: أعطيك مائة دينار في المدينة وتقضيها في مكة جاز ولزمه أن يسدد الدين في مكة؛ لأنه لم يكن في حمله مئونة، لكن في زماننا فيه مئونة، خاصة إذا كان من بلد إلى بلد تختلف العُمل فيه، فإن العُملة إذا كانت صعبة كأن يستدين مثلاً: دولارات، فيقول له وهو في مكة: هذه العشرة آلاف دولار أشترط أن تسددها لي في المشرق أو في المغرب، والدولارات في المشرق أو المغرب غالية وعزيزة الوجود، وحملها إلى هناك فيه مئونة ومشقة، فكأن الدائن صاحب الدين اشترط منفعة وصار أخذ الدين مع المنفعة الزائدة، وعليه قالوا: إنه لا يلزمه هذا الشرط، إذا كان على وجهٍ فيه ذريعة إلى الربا. كذلك الذي في حمله مئونة، كما لو استدان منه طعام بر أو استدان منه طن حديد أو طن نحاس وهو في مكة، وقال له: السداد يكون في المدينة، وهذا الدين قد لا يوجد مثلاً في المدينة، كما في القديم، إذا كانت البلدان مختلفة والأطعمة والمنافع كانت المثمونات مختلفة في الأماكن، فيلزمه ببلد غير بلده، فيتحمل مشقة الحمل إليه، قالوا: عندها يُنتقل إلى القيمة، ولا يلزمه دفع العين ولا دفع المثل إذا كان المثل لا يتيسر في ذلك البلد وكان حمله إلى ذلك البلد فيه مئونة، فأنت إذا تأملت أن حمل هذا الشيء إلى جدة يكلفه خمسمائة، فصار كأنه استدان منه مائة صاع فقضاها مائة صاع وخمسمائة، وصار يستفضل على دينه، وصار شرطاً جر منفعة، والشروط التي تجر المنافع تعتبر محرمة. لكن إذا اشترط عليه في المثمونات التي في حملها مئونة أن يسدده في بلد غير بلده وفي حمله إلى ذلك البلد مئونة، فحين نقول: ينتقل إلى القيمة، يرد Q إذا قال له: هذا الطن من الحديد تأخذه مني في مكة وتقضيه لي في المدينة، وقلنا: إنه يلزمه أن يدفع قيمته بدلاً عن مثله، فالطن الحديد مثلاً في المدينة قيمته أكثر من قيمته في مكة، فهل العبرة بمكة أو بالمدينة؟ A من حيث الأصل لا يلزم من استدان منك أن يعطيك ما في حمله مئونة في البلد الذي اشترطته، وإن ألزمته بذلك يُنتَقَل إلى القيمة؛ لأننا إذا ألزمناه بالعين صار الحمل مئونة، وإذا ألزمناه بالمثل سيتضرر بحمل المثل إلى بلد القضاء، وغالباً ما تقع هذه المسألة، إذا كان البلد الذي اشترط عليه القضاء فيه ليس فيه نفس الشيء، أما لو كان فيه نفس الشيء فلا إشكال، يأخذ هذا الشيء ثم يذهب إلى البلد ويقضيه نفس الشيء، لكن حين لا يكون في البلد نفس ذلك سواءً كان من طعام أو غيره، فقال له: اقضني في مكة وقد استدان منه في المدينة، أو اقضني في المدينة وقد استدان منه في مكة، فمعناه: أنه سيتحمل مئونة الحمل إلى مكة، فصار فضل زيادة مشترطة في الدين وهذا محرم، وفي هذه الحالة يعدل إلى القيمة، ويلزمك أن تدفع قيمة الدين. إذاً: الأمر إما أن تكون قيمة الدين في مكة هي قيمته في المدينة فلا إشكال، فلو أن الطن الحديد الذي أخذه منك قيمته في مكة عشرة آلاف ريال، وقيمته في المدينة عشرة آلاف ريال، فيلزمه أن يدفع عشرة آلاف ريال ولا إشكال، أي: لم يقع ظُلِم على المدين، ولم يطالب بأن يعطيك عين السلعة؛ لأنها غير موجودة؛ لأنه استنفدها، ولا يلزمه أن يعطيك المثل؛ لأنه لو جاء يعطيك المثل في البلد المتفق عليه فإنه حينئذٍ يستضر بالحمل وصار قرضاً جر نفعاً، ولكن يلزمه أن يدفع لك القيمة، وإذا لزمه أن يدفع لك القيمة فحينئذٍ يرد السؤال هل العبرة ببلد القرض أم العبرة ببلد الوفاء؟ إن اتفقت القيمة لا يرد هذا السؤال، بمعنى: إن كانت قيمته في مكة هي قيمته في المدينة لا إشكال، لكن إن اختلفت القيمة فحينئذٍ هل العبرة ببلد الدين الذي أعطاه فيه الدين أم العبرة ببلد الوفاء؟ الجواب: العبرة ببلد الدين. وقوله: [إن لم تكن ببلد القرض أنقص] إذا كان الدين في بلد القرض أنقص فحينئذٍ تلزمه القيمة، فقلنا: يدفعها ببلد القرض الذي هو مكة، فإن كانت أنقص في مكة بأن كانت قيمتها عشرة آلاف، وفي المدينة قيمة القرض عشرون ألفاً، فحينئذٍ يدفع بقيمة بلد القرض، وقول بعض العلماء: [إن لم تكن ببلد القرض أنقص] خطأ، والصواب: أكثر، إن لم تكن ببلد القرض أكثر، وفي هذه الحالة عكس المسألة وجعل البلاء على المقرض وأعتد ببلاء المقرض على حساب المقترض، والأول له وجهه والثاني له وجهه، وإن قيل: إن العبرة ببلد القرض لا إشكال في صحته واعتباره زائداً أو ناقصاً؛ لأن الحق ثبت في بلد القرض، وبعض العلماء يرى أن العبرة ببلد الوفاء، ويلزمه بقيمته في بلد الوفاء، سواءً كانت أكثر أو أنقص.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تأخير الدين

حكم تأخير الدين Q ما حكم تأخير الدين؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالواجب على المسلم إذا استدان من أخيه المسلم ديناً ألا يؤخره، وأن يبادر بالسداد عند حلول الأجل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأً سمحاً إذا قضى)، ومن السماحة أن ترُد الدين في أجله، وأن لا تزيد على هذا الأجل فتماطل وتؤخر، فتأخير الدين عن وقته للقادر الذي يستطيع السداد محرم، ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: (مطل الغني ظلم يحل لومه وعرضه) قال العلماء: في هذا دليل على أن الرجل إذا استدان منك ديناً، وحل الأجل وهو قادر على السداد وامتنع أن يسدد، فهو آثم بهذا، ويحل لك أن تغتابه وتقول: فلان ظالم، فيجوز إذا اشتكاه أن يقول: فلان ظلمني، أو يذهب إلى أبيه أو قريبه أو من له عليه قوة، ويقول: اردع فلاناً وأمره أن يفي فإنه ظالم، فقوله: إنه ظالم، فيه أذية ولكنها تجوز لمكان الظلم، وفيه سوء، والله تعالى يقول: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148]. فتأخير الناس في حقوقهم والمطل في ذلك محرم، كما أجمع العلماء على ذلك، وقال بعض أهل العلم: من امتنع من سداد ديون الناس وهو قادر على السداد عند حلول آجالها محق الله البركة من ماله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) فتوعد من ظلم الناس في أموالهم وحقوقهم، ولا شك أن من الظلم أن يمتنع الإنسان من السداد. الأمر الثاني: أن تأخير الدين والمماطلة به والتلوم فيه مع القدرة على السداد يضر الإنسان، فلربما كان صاحب الدين يحتاج إلى هذا المال لعلاج أو طعام أو مصالح يريد قضاءها فيعطله عن هذه المصالح ويؤذيه فيها، وهذا لا شك أنه ضرر عظيم. الأمر الثالث: أن كل من استدان ديناً فإن نفسه تتعلق بذلك الدين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن مرهونة بدينه) ولذلك لا ينفك هذا الرهن إلا بسداد الدين، ومن هنا قال العلماء: من مات حلت ديونه، فالميت إذا مات وجب أن تسدد ديونه فوراً وتحل ديونه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في أول الإسلام كان لا يصلي على ميت عليه دين لم يترك وفاءً، فقد ورد في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل عليه ديناران لم يترك وفاءً، فقال: ما دينه؟ قالوا: ديناران، قال: صلوا على صاحبكم فقال أبو قتادة: يا رسول الله! هما عليَّ، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو قتادة: فلم يزل يلقاني في سكك المدينة ويقول لي: هل أديت عنه؟ فأقول: لا بعد، فيقول: هل أديت عنه؟ فأقول: لا بعد حتى لقيني ذات يوم، وقال: هل أديت عنه؟ قلت: نعم، قال: الآن بردت جلدته) وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين أخبرني به جبريل آنفاً)، فهذا أمر عظيم. وقد اختلف العلماء في قوله: (نفس المؤمن مرهونة بدينة) قالوا: إنه ينحبس عن النعم حتى يسدد دينه، وهذا أمر عظيم، فالرهن أصله الحبس: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] أي: مرهونة، فعلى هذا لا يجوز أن يؤخر ويماطل، ومن السنن العجيبة أن الشخص إذا يسر الله له القضاء فماطل وأخر فإن الله لا يوفقه للقضاء إلا فيما ندر، ولذلك قل أن تجد صاحب تجارة يأخذ الأموال من الناس ولا يبادر بسدادها إلا وجدته يدخل من دين إلى دين ومن دين إلى دين حتى تستنفد تجارته ويصبح رأس ماله في التجارة أقل بكثير من الدين، فعلى الإنسان أن يتقي مثل هذه الأمور، وإذا قدر على السداد أن يبادر بسداد أموال الناس ورد حقوقهم إليهم كاملة حتى يكون ذلك من باب الوفاء وأداء الحقوق إلى أهلها، والله تعالى أعلم.

حكم بيع التمر وهو في رءوس النخل

حكم بيع التمر وهو في رءوس النخل Q في بيع التمر وهو في رءوس النخل أليس في هذا جهالة في المقدار؟ A في بيع الثمار يباع الثمر على رءوس النخل خرصاً، يأتي الرجل الخبير ويخرص، وكل فلاح يعلم هذا، أنه إذا جاء أحد يريد أن يشتري ثمرة بستانه، لا يأتي وحده إلا إذا كان عنده خبرة ومعرفة، أما إذا لم تكن عنده خبرة فيأتي برجل له خبرة بالثمرة وبالسوق، فينظر في النخل ويقول: هذا النخل يخرج منه مثلاً: ثلاثة آلاف صاع، وهذه الثلاثة آلاف صاع غالباً تكون قيمتها إن كان السوق طيباً مثلاً: ثلاثين ألفاً، وإن كان السوق وسطاً تكون القيمة مثلاً عشرين ألفاً، وإن كان السوق رديئاً تكون القيمة عشرة آلاف، فيعطيك سعراً تقريبياً، إذاً: إنما جاز بيع الثمر بعد بدو صلاحه على سبيل الاستثناء، ولذلك لا يرد عليه ما يرد على الأصل. ومن هنا قال العلماء رحمهم الله: بيع الثمرة على رءوس النخل مستثنىً من بيع الغرر؛ لأن الأصل أن يُعلم قدر المبيع، وأن يكون المشتري على علم بما يكون من الثمرة رطباً كانت أم تمراً، ولكن أُبيح ذلك من باب التوسعة على الناس وهو مستثنىً من الأصل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.

استغلال شهر رمضان

استغلال شهر رمضان Q نطلب كلمة توجيهية حول استغلال ما تبقى من شهر رمضان المبارك في طاعة الله سبحانه وتعالى وغير ذلك من الأعمال الصالحات؟ A نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا فيما بقي من هذا الشهر الكريم، كما نسأله تعالى ألا يختم لنا هذا الشهر إلا بعتق من النار، وفوز بالرحمة والمغفرة والعفو عمّا سلف وكان، ومما أوصي به إخواني ونفسي تقوى الله عز وجل، ومن غيب النية الصالحة في الخير أعانه الله على الخير، ومن كانت نيته على الطاعة والبر قوى الله عزيمته وسدده ووفقه وأرشده، قال تعالى: {إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً} [الأنفال:70] فالله تعالى اختار القلوب للنظر، فأول ما أوصي به أن تغيب في سريرتك لما بقي من هذا الشهر خيراً، وأن تعزم في قرارة قلبك أن تعمر هذه الأوقات والساعات واللحظات في طاعة الله ومرضات الله. أما الأمر الثاني: فالحرص على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم لعمارة ما بقي من هذا الشهر في الطاعات والتي من أحبها كثرة تلاوة القرآن، فطوبى ثم طوبى لمن وفقه الله لحب القرآن، وإذا أردت أن يبارك الله لك فيما بقي من شهرك، بل ويبارك لك فيما بقي من عمرك، فالزم كتاب الله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، طوبى ثم طوبى لمن جعل الله القرآن ربيع قلبه، ونور صدره، وجلاء حزنه، وذهاب همه وغمه، وسائقه وقائده إلى رضوانه والجنة، طوبى لعبد عكف على كتاب الله يتلوه قائماً وقاعداً، يتلوه آناء الليل، يتقرب به إلى الله ويرجو به رحمة الله، يقف عند آياته ويخشع لعظاته، ويتدبره ويتلوه حق تلاوته. فخير ما يُوصى به أن يكثر العبد من تلاوة القرآن، فإن أكثرت من تلاوة القرآن أصلح الله قلبك، فإن الله تعالى يقول: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57] وإذا شُفي ما في صدرك، وجعل الله القرآن أنيساً لك وجليساً، فعندها انشرح صدرك للخيرات، واطمأن قلبك بذكر الله والطاعات، وأصبحت مشمراً عن ساعدك في مرضات الله جل جلاله، وما فاز السلف رحمهم الله إلا بتوفيق الله أولاً وآخراً، ثم بتلاوة القرآن، وانظر إلى أفضل الناس طاعة وبراً تجده ملازماً لكتاب الله ليلاً ونهاراً. القرآن مفتاح كل خير، ومفتاح كل بر؛ لأن الإنسان صلاحه كله في قلبه: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) ولن يصلح هذا القلب إلا بكتاب الله جل جلاله وبكلام الله جل جلاله. فخير ما يوصى به من أراد أن يبارك الله له في رمضان وفيما بقي من أيامه ولياليه أن يكثر من تلاوة القرآن، وأن يحاول ألا تمر عليه ثلاث ليالٍ إلا وقد ختم كتاب الله عز وجل، مع التفكر والتدبر والتأمل، ومع الإشفاق على النفس والإزراء والإحساس بما بينه وبين كتاب الله من النقص حتى يكمله، ومن العيب حتى يستره، ومن الثلمة حتى يسدها، فإذا تلوت كتاب الله فسوف تستشعر أن الله يأمرك ويعظك، فإذا كان حال الإنسان مع القرآن في ليله ونهاره بورك له في شهره، بل بورك له في عمره، ولذلك نجد بعض الناس إذا خرج من رمضان خرج بحفظ القرآن، وكم من سعيد وفق للسعادة باغتنام رمضان في القرآن حتى أصبح القرآن أنيسه وجليسه، لا يفتر عن تلاوة كتاب الله وسماعه وتدبره، فيحس أن سعادته كلها في كتاب الله جل جلاله، كان شيخ الإسلام رحمه الله في آخر حياته يبكي ويتحسر على كل لحظة فاتت في غير كتاب الله جل جلاله. القرآن خير كثير، ولن تبحث في سيرة أحد من السلف الصالح إلا وجدتها مقرونة بالقرآن في قيام الليل أو تلاوته في النهار، قال بعض السلف: صحبت عبد الرحمن بن القاسم العتقي رحمه الله -صاحب الإمام مالك - من مكة إلى المدينة والله ما فتر عن تلاوة القرآن، كان السلف يتلون القرآن، وقد أدركت والله أقواماً وهم ذاهبون إلى السوق تسمعهم يتلون كتاب الله عز وجل، وإذا جن عليهم الليل سمعت كتاب الله من بيوتهم ومن حجراتهم، وأعرف أقواماً في ضيق وشظف من العيش ومع ذلك تجدهم أسعد الناس بكتاب الله جل جلاله، أغناهم من الفقر، وأمنهم بفضل الله من الخوف، وألبسهم لباس العافية، فتجدهم أبعد الناس عن الشهوات والشبهات والمذلات بكتاب الله جل جلاله. الوصية الجامعة لخيري الدين والدنيا والآخرة: لزوم هذا القرآن: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] فالاعتصام بكتاب الله جل جلاله والقرب من هذا القرآن والحب لهذا القرآن واستشعار أنه كلام الله الذي ما نزل أحب إلى الله ولا أكرم على الله في كلامه مثل هذا الكلام وهو القرآن، وقد أجمع السلف رحمهم الله على تفضيل القرآن على سائر الكتب السماوية المنزلة، لفضله وعلو شرفه ومكانته، وأُنزلت آيات منه من كنوز تحت العرش، وهذا فضل عظيم وخير كثير اختص الله به هذه الأمة. فالإنسان السعيد الموفق الذي يريد أن يبارك الله له حتى في حياته وعمره يلزم كتاب الله، وانظر إلى أي ملتزم وشابٍ صالح يستقيم على طاعة الله لن تجده أقوى الناس التزاماً وهداية إلا إذا وجدته ملازماً لكتاب الله يتلوه ويتفكر فيه ويتدبره ويخشع له ويحب سماعه، فلا يفتر عن تلاوة كتاب الله وسماعه وتدبره حتى ينال السعادة ويجدها في نفسه، وهذا هو حال أهل القرآن. فينبغي الإكثار من تلاوة القرآن والإحساس بفضل هذا الكتاب، والإحساس بعظيم ما أنعم الله به على هذه الأمة بهذا الكتاب الذي: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]. أما الوصية الأخرى: فالحرص على أن يكون للإنسان في هذا الشهر حسنة وصدقة بينه وبين الله خفية، من إطعام الجائع، وكسوة العاري، وتفريج كربة المكروب، قال بعض العلماء: إن الله جعل رمضان ليتذكر الغني الفقير، ويتذكر القوي الضعيف، ويتذكر الصحيح المريض، فيتفقد بعضنا بعضاً، ويحسن بعضنا إلى بعض، فتجعل لك في هذا الشهر الكريم بعض الصدقات الخفية، وتجعل صيامك حينما جاعت أمعاؤك وظمئت أحشاؤك يذكرك بالمكروب والمنكوب والجائع، ويذكرك بالأرملة واليتيم، فتكفكف دموع اليتامى، وتجبر قلوب الأرامل والثكالى، وتحتسب الثواب عند الله جل جلاله: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة) فإن المعروف لا يبلى، والخير لا يُنسى، مات أقوام وما ماتت مآثرهم، مات أقوام وهم في الناس أحياء، بالذكر الجميل والعمل الصالح الجليل. تجعل لك من هذا الشهر زاداً للإحسان، فكما أنك تصلح في نفسك بالقرآن، تصلح لغيرك بحسنة أو بصدقة، فإن لم تستطع من نفسك وأمكنك أن تشفع عند من يقبل الشفاعة منك وتزكي نعمة الجاه التي أنعم الله بها عليك فتدخل السرور على بيت مسلم في هذا الشهر المبارك فنعم ما صنعت، فإن (الساعي على الأرملة كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر) ما دمت قد ذقت حر الصيام وألم الصيام ولذة عبادة الصيام، فإن تفريج كربة المكروب وإدخال السرور على الأرملة يعادل ذلك الفضل، كالصائم الذي لا يفطر، فأنت الآن عرفت قيمة الصيام، ووجدت لذة هذه العبادة فاعلم أنه من الخير لك بمكان أن تفرج عن أرملة أو يتيم، ولو بكلمة تشفع بها عند من يمكنه ذلك. كذلك مما يدخل في هذا قضاء الديون وتفريج كربات المكروبين، فإذا علمت أن قريباً أو جاراً لك مديون وتستطيع أن تذهب إلى غني خاصة في هذا الشهر والنفوس مقبلة على الخير وباغي الخير مقبل، فتحتسب عند الله جل جلاله قضاء دين المديون، فإذا علمت أن أخاك مديون أو عنده كربة أو عنده حاجة أو عوز وضيق: (فاشفعوا تؤجروا) فالشفاعة في مثل هذا عظيمة خاصة في هذا الشهر الكريم؛ لأنك تدخل على بيت من بيوت المسلمين الفرحة والسرور بقضاء دين عليهم أو تفريج كربة أو التوسعة عليهم، وهذا مما يحتسب عند الله جل جلاله، وقد كان بعض السلف يفضل السعي على الناس وتفريج كرباتهم على الاعتكاف في العشر الأواخر، فكان يخرج من معتكفه لتفريج كربة المكروب، وتنفيس نكبة المنكوب، فهذا من أحب وأفضل ما يثقل به ميزان العبد عند الله. فكم من أرملة إذا دخلت عليها وقد ضاقت عليها الأرض بما رحبت، ليس عندها من قريب ولا صديق ولا حبيب يلتفت إلى حالها أو يفرج ما يكون بها من بلائها بإذن ربها، فإذا دخلت عليها في ظلمة ليل أو في ضياء نهار، فأدخلت السرور عليها بإعطاء مال أو إعطاء طعام ووليت ظهرك وهي تشيعك بصالح الدعوات وما تسأل الله لك من جميل المكرمات فإن الله لا يضيع تلك الدعوات؛ لأنها تخرج من القلب الصادق، الكلب -أكرمكم الله- لما مرت عليه بغي من بغايا بني إسرائيل فاستقى، ومن شدة الظمأ كان يلهث الثرى، فنزلت البغي إلى البئر واستقت له بخفها، وفي رواية: (فشكر الله لها) أي: أن الكلب لم يستطع أن يشكرها، عظم جميلها حتى عند الكلب -أكرمكم الله- (فغفر الله لها ذنوبها)، فكيف بالمسلمة وقد تكون أمة صالحة، وقد تكون أمة متعرضة للحرام يعفها الله عز وجل بشفاعة حسنة: (اشفعوا تؤجروا) وكان الناس فيهم خير كثير عندما كانوا متراحمين، وكان القوي لا يغفل عن الضعيف. وأنبه على مسألة تفريج الكربات؛ ففي غالب الأحيان تكون صدقاتنا للفقراء المعروفين، ولكن هناك من يغفل عنهم كثير من الناس ألا وهو الفقراء الأخفياء الذين لا يسألون الناس إلحافاً، ركبتهم ديون وحاجات يفضلون أن يتعرضوا للموت على أن يمدوا كفاً لأحد، قد جعلوا فقرهم إلى الله وغناهم بالله، وقد يكون معك زميل لك وترى من حاله البؤس والفقر وأنت غني ثري وسع الله عليك، وقد تأتيه على طعامه وتطعم من ذلك الطعام الضيق ولا تتحرك في نفسك معاني الرحمة، هذا أمر يشتكى منه، فينبغي أن يحس بعضنا ببعض. ومسألة الشفاعة عند الأغنياء أيضاً أجرها عظيم خاصة في هذا الشهر الكريم؛ لأن نفوسهم مهيأة للخير، ولا يزال الخير موجوداً في الناس إلى قيام الساعة، لكن إذا كان طالب العلم يدخل على أناس

باب الرهن [1]

شرح زاد المستقنع - باب الرهن [1] باب الرهن يعتبر من الأبواب المهمة المتعلقة بأحكام الديون، وهو مشروع وجائز بالكتاب والسنة والإجماع، وله حكم عظيمة، منها: حفظ حقوق الناس، وقلة الخصومات والمنازعات، وتسهيل المداينات، وإشاعة روح التكافل والتراحم والتعاطف بين الناس وله أحكام يذكرها العلماء في بابها.

الرهن حقيقته ومعناه وأحكامه

الرهن حقيقته ومعناه وأحكامه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الرهن]. هذا الباب يعتبر من الأبواب المهمة المتعلقة بأحكام الديون، وذلك أن المداينات إذا وقعت بين الناس، قد يحتاج فيها صاحب الدين إلى شيءٍ يستوثق به من حقه، وهذا هو الذي يقوم عليه الرهن، فبعد أن بيّن المصنف رحمه الله أحكام بيع السلم، وأتبعها بأحكام القرض، بين بعد ذلك أحكام الرهن. والرهون توضع غالباً عند أصحاب الديون، أو من يقوم مقامهم من الوكلاء والأمناء، الذين يتفق عليهم الطرفان، وهذه الرهون يُقصد منها أن يستوثق صاحب الحق من حقه، فلما فرغ رحمه الله من بيان أحكام الدين، شرع في بيان أحكام الرهن، لتعلقه بباب الدين. والرهن له معنيان: لغوي واصطلاحي، أما المعنى اللغوي: فإنه يدور حول الدوام والثبات والاستقرار، ومنه قولهم: نعمة راهنة، أي: محبوسة، وماء راهن، أي: راكد دائم ومستقر. ومن معانيه: المنع والحبس، ومنه قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، أي: مرهونة ومحبوسة بما فعلت من خيرٍ أو شر. وأما المعنى الاصطلاحي: فقد عرّفه بعض العلماء بقولهم: استيثاق الدين بالعين، ليُستوفى منها عند العجز عن السداد، أو الامتناع منه. فقولهم: (ليُستوفى منها)، أي: من العين أو من ثمنها. وقولهم: (عند العجز عن السداد، أو الامتناع منه)، هذا قيدٌ مهم، ولذلك ذكره طائفة من الفقهاء رحمهم الله. وقولهم: (استيثاق الدين بالعين)، معنى هذا: لو أن رجلاً جاءك وقال: أريد منك مائة ألف ريال ديناً، وأنت قد تخاف أن يعجز عن سداد هذا المبلغ، وقد تخشى من مماطلته، أو من عُسره مستقبلاً، وأنت محتاج إلى هذا المال، ولا تستطيع رده، ومن هنا جاز أن تستوثق من دينك بعينٍ تطالبه برهنها، فتقول له: أعطني رهناً، فإذا قلت: أعطني رهناً، فكأنك تريد شيئاً تستوثق به من حقك، فأنت مستعدٌ للدين، وعندك الرغبة أن تدينه وتعطيه المال الذي طلب؛ ولكنك تخشى من عجزه عن السداد أو امتناعه منه، وحينئذٍ تطالب بهذه العين، حتى إذا عجز أو امتنع من السداد، أمكنك أن تبيع هذه العين التي رُهنت لقاء الدين، وتصل إلى حقك، من ثمنها، إما كل حقك، أو بعض حقك على حسب الرهن الذي رضيت به كاملاً أو ناقصاً. إذا: هذا هو استيثاق الدين بالعين، فعندنا دين وهو المائة ألف ريال، وعندنا عين مرهونة، وهي العمارة -مثلاً- فاستوثق صاحب الدين بالعين وهي العمارة، والأصل بينهما أنه إذا عجز عن السداد وحضر الأجل، فإنه يحق لصاحب الدين أن يبيع العمارة، أو يكون ذلك عن طريق القضاء، فيرفع أمره إلى القاضي، أو بدون قضاء، كأن يقول المديون له: إذا لم أسددك في محرّم فبع العمارة وخذ حقك، فيقول: قبلت، فحينئذٍ استوثق من دينه بالعين، لكي يستوفي من العين في حال عجزه عن السداد. ولذلك عندما يُقال: ليُستوفى منها، هكذا بإطلاق، هذا خطأ؛ لأنه قد يسدد المديون الدين، وحينئذٍ لا نحتاج إلى بيع العمارة، إذاً القيد الذي ذكروه في التعريف: عند العجز عن السداد أو الامتناع منه، قيد مهم؛ لأنه لا يتدخل صاحب الدين في هذه العمارة فيبيعها ويتصرف فيها، إلا إذا عجز المدين أو امتنع من سداده حقه.

مشروعية الرهن

مشروعية الرهن الرهن مشروع وجائز، وقد دل على جوازه دليل الكتاب، ودليل السنة، وإجماع الأمة، فإن هذا النوع من المعاملات المالية شرعه الله في كتابه، فقال تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، فقوله سبحانه: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، يدل دلالة واضحة على أنه إذا أراد صاحب الدين أن يستوثق بدينه بالعين وبالرهن فإن ذلك مشروع وجائز. كما دل دليل السنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك كما في الصحيح من حديث أنس: (أنه عليه الصلاة والسلام توفي ودرعه مرهونة في آصُعٍ من شعير، استدانها عليه الصلاة والسلام من يهودي)، فقد استدان من اليهودي هذا القدر من الطعام، ورهن عنده درعه، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه. وقال عليه الصلاة والسلام: (الرهن محلوبٌ ومركوبٌ بنفقته)، فبيَّن أحكامه وآثاره، فدلّت هذه السنة على مشروعية الرهن، وقد كان الناس في الجاهلية يرهنون، وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأقرّهم على ذلك، فاجتمع دليل الكتاب ودليل السنة القولية والفعلية والتقريرية. أما دليل الإجماع: فإن العلماء رحمهم الله قد أجمعوا على أن الرهن مشروع، لكنهم اختلفوا في جواز الرهن في الحضر، فمنهم من يقول: هو مشروعٌ مطلقاً، سواءً كنت في سفر أو كنت في حضر، أي: أنه يجوز للمسافرين أن يرهنوا، ويجوز للمقيمين أن يرهنوا، فلو أن اثنين في داخل المدينة استدان أحدهم من الآخر مالاً، فطلب منه رهناً، شُرع ذلك. وقال بعض السلف -كما هو قول مجاهد وغيره-: إن الرهن لا يجوز إلا في السفر، وهو قول ضعيف؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استدان، ورهن في الحضَر، فدلّ على مشروعية الرهن في داخل المدن، وأنه لا يختص جوازه بالسفر على ظاهر القرآن، والجواب عن آية البقرة، وهي آية الدين: أنها جاءت بالوصف الغالب، والقاعدة في الأصول: أن النص إذا خرج مخرج الغالب، فإنه لا يعتبر مفهومه، بمعنى: أن الآية بيّنت حكم الرهن في السفر؛ لأن الغالب أن الرهن يُحتاج إليه في الأسفار، وأما بالنسبة للحضر، فغالباً ما يكون التعامل بين الأشخاص الذين يأمن بعضهم ببعض ويثق بعضهم بعضاً، وتكون التجارات بينهم حاضرة في الغالب، والنص -كما سبق- إذا خرج مخرج الغالب لم يُعتبر مفهومه. أو نقول: دل الكتاب على مشروعية الرهن في السفر، ودلّت السنة على مشروعية الرهن في الحضر، فهذا نوع من الرهن، وهذا نوع من الرهن، فلا بأس أن يرهن في الحضر، كما لا بأس أن يرهن في السفر.

الحكمة من مشروعية الرهن

الحكمة من مشروعية الرهن المسألة الثانية: إذا عرفنا أن الرهن مشروع وجائز بإجماع المسلمين، وبهذه الأدلة الشرعية، فقد شرع الله عز وجل الرهن للناس لحكم وفوائد عظيمة، منها: أن صاحب الدين يستوثق بدينه، وهذا يجعله في طمأنينة، ومن هنا لما وُجِد الرهن في الشريعة الإسلامية، وأمكن للمسلم أن يجد شيئاً يحفظ به ماله، أو يحفظ به حقه عند العجز عن السداد، فإن هذا يشجع الناس على الدين، ويجعل الثقة بينهم قوية، ومن هنا يكون صاحب الدين في مأمن من ضياع حقه. ومن حكم هذا النوع من المعاملات: تسهيل المداينات، وإذا سهُلَت المداينات انتفع أفراد المجتمع، وهذا فيه نوع من التكافل، ونوع من التراحم والتعاطف؛ لأن المسلم إذا وجد من يعطيه المال في ساعة الحاجة، فإنه يشكره ويحبه ويذكره بالخير، وهذا يجعل القلوب يعطف بعضها على بعض، ويحب المسلمون بعضهم بعضاً. فمن هنا استوثق صاحب الحق من حقه، وانتفع أفراد المجتمع، فانتشر بينهم الدين، وهي مصلحة دنيوية؛ حيث يقضون مصالحهم الدنيوية، ومصلحة دينية؛ لأنها تُحدث شيئاً من المحبة والألفة والأخوَّة، والشعور بالرحمة والمودة والتعاطف بين أفراد المجتمع، خاصة المعسر والضعيف إذا انتابته النوائب، ووجد من يفرج كربته بعد الله عز وجل بإعطائه المال. ومن الحكم: أن المدين إذا كان لديه رهن، فإنه يحفظ ماء وجهه، ويمكنه أن يستدين ممن شاء، فيقول له: أعطني المال وهذا رهن لقاء مالك، ولقاء دينك، وحينئذٍ يتمكن من الوصول إلى بغيته وحاجته بالدين، أي: أن الشرع يمكِّنه من حاجته، ويمكِّنه من سد عوزه وفاقته عند النوائب، وذلك عن طريق استيثاق الدين بالعين، فإنه إذا شعر أنه يخاطب الناس بما يضمن حقوقهم، أمكَنه أن يسألهم حاجته، ولا شك أن الرهن محقق لهذه الفائدة العظيمة. ومن الحكم: أن في الرهن عدلاً وقطعاً للتلاعب بالحقوق، فإن المديون إذا دفع العين، سواءً كانت سيارةً أو أرضاً أو طعاماً، وجعلها رهناً؛ فإنه ربما كان متلاعباً بحقوق الناس، ويريد أن يأكل أموال الناس، فإذا وضع الرهن انقطع السبيل عنه، ومُنِع من التلاعب بحقوق الناس، فإذا جاء من يتلاعب بحقوق الناس ليستدين؛ قيل له: ادفع الرهن، فإذا دفع الرهن؛ فإن معنى ذلك أنه لا يستطيع أن يضيع حق صاحب الحق. ومن هنا فإن شرعية الرهن تقطع وتمنع من التلاعب، ومتى ما قيل لك: إن فلاناً لا يسدد، أو إن فلاناً يتلاعب بالحقوق، أو إن فلاناً مماطل أو نحو ذلك، فإنه إذا جاء يطلبك ربما أحرجك، وربما جاءك بشخص لا تستطيع رد شفاعته، فحينئذٍ أعطاك الشرع شيئاً تضمن به حقك، فتقول له: أعطني رهناً، لا مانع عندي أن أعطيه الدين، ولكن بشرط أن يعطيني رهناً لقاء حقي، فإذا قلتَ: أريد الرهن؛ لم يعاتبك أحد، ولم يستطع أحد أن يصفك بالظلم؛ لأنك لا تطالب أكثر من حقك، وعلى هذا: فلا شك أن في الرهن الخير الكثير. ومن الحكم: أن في الرهن منعاً للأذية والإضرار؛ لأن المديون إذا عجز عن السداد مع عدم الرهن، فإن الخصومة، والأذية تقع بين الناس؛ لكن إذا وُجِد الرهن، فسيقول له: بِع الرهن وخذ حقك، فالرهن يقطع أسباب الخصومة وأسباب النزاع. وأياً ما كان فإن الله عز وجل شرع الرهن، وتمت كلمته صدقاً وعدلاً، فهو يعلم ولا نعلم، ويحكم ولا معقِّب لحكمه: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115]. والحكم من مشروعية الرهن كثيرة والأسرار لا شك أنها موجودة، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

أهمية معرفة أحكام الرهن

أهمية معرفة أحكام الرهن يقول المصنف رحمه الله: (باب الرهن) أي: كأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالرهون، وأنت كطالب علم تحتاج أن تبحث هذا الباب، وكدارسٍ في الفقه تحتاج أن تلِمّ بهذه المسائل والأحكام، فإنه يأتيك الرجل ويريد أن يستدين من الناس فتنصحه بالرهن، أو يأتيك الرجل ويريد أن يدين الناس فتنصحه بالرهن، وكذلك أيضاً إذا أراد الرهن سألك: ما الذي يجوز رهنه؟ وما الذي لا يجوز رهنه؟ ثم إذا رُهن هذا الشيء، فهل من حقي أنا صاحب الدين أن أنتفع برهني، أو ليس ذلك من حقي؟ كذلك أيضاً صاحب الدين الذي له الدين على المدين، هل من حقه أن ينتفع بالشيء المرهون عنده، أو ليس ذلك من حقه؟ كذلك أيضاً يسألك لو أن هذا الرهن نما وزاد وكثُر، فهل تكون الزيادة المتصلة أو المنفصلة للدائن والمدين أو تكون لأحدهما؟ هذا كله من المسائل التي يُحتاج إلى بحثها، ومن هنا نجد العلماء رحمهم الله يقولون: باب الرهن.

حكم الرهن وحالات الدائن مع المدين

حكم الرهن وحالات الدائن مع المدين وحكم الرهن الجواز، فليس بواجب، ولا فريضة، بمعنى إذا أراد الشخص أن يعطي الناس الدين، فإنه لا يخلو من أحوال: الحالة الأولى: أن يكون الذي يطلب الدين موثوقاً به، فحينئذٍ لا تحتاج إلى رهن، فتقول له: خذ مائة ألف، ومتى ما يسّر الله لك سدادها فسدِّد، وهذا جائز بإجماع العلماء رحمهم الله. الحالة الثانية: أن يكون الشخص الذي يأخذ منك المال لا تعرفه، أو شخص تعرفه بالمماطلة، وتخاف على المبلغ الذي طلبه منك، فحينئذٍ أنت بالخيار، إن شئت طلبت الرهن، وإن شئت لا تطلب الرهن، والأفضل إذا كنت تعلم أنه محتاج وأنه مكروب، وأن هذا المال الذي يطلبه منك ليس فيه ضرر لو تأخر في سداده، فالأفضل أن تعطيه إياه بدون رهن؛ لأن الرهن يحمِّله المشقة والعناء، وقد يكون الشيء الذي يريد رهنه غير موجود عنده، ومن هنا يُفرَّق في الرهن، فإن كان الذي يريد منك الدين رجلاً عاجزاً، ولا يستطيع أن يعطيك رهناً؛ لأنه ليس عنده شيءٌ له قيمة حتى يضعه رهناً عندك؛ فالأفضل والأكمل أن تديِّنه ولا تطالبه بالرهن، وكفى بالله عز وجل وكيلاً، فإن الله يتكفل بحفظ حقك، وما دمت تعرفه بالصلاح والخير، فإنه إن شاء الله لن يُقصِّر ولن يمتنع في إبراء ذمته. أما إن وجدته مماطلاً، ووجدته رجلاً متلاعباً بحقوق الناس، وأحرجك بالدين، أو جاءك بإنسان لا تستطيع أن ترد شفاعته، فالأفضل في مثل هذا أن توقفه عند حده فتطالبه بالرهن، حتى يكون ذلك مانعاً له من تلاعبه بحقوق الناس، وأدعى لسد الباب من أن يُضر بك في ادعائه الحاجة إلى الدين؛ لأن بعض الناس قد يدعي الحاجة إلى الدين، وهو ليس بحاجة إليه، وقد يطلب الدين وهو لا يريد السداد. فحينئذٍ يقول العلماء: حكم الرهن جائز، ولكن في بعض الأحيان الأفضل أن لا تطالب بالرهن من الفقير المعدم، ونحو ذلك ممن له فضل عليك، كخاصة القرابة: كالأعمام، والأخوال، ومن لهم حق كبير، فإن طلب الرهن من هؤلاء فيه إجحاف، وأما إذا كان من الصنف الذي ذكرنا؛ فإن الأفضل أن يطالب الإنسان بالرهن، وذلك راجع إليه على سبيل الفضل لا على سبيل الفرض.

أركان الرهن وشروطه

أركان الرهن وشروطه للرهن أركان: أولاً: هناك راهن، وهو الشخص المديون. ثانياً: هناك مُرتَهَن، وهو الشخص الذي يوضع عنده الرهن، وقد يكون صاحب الدين، أو من يقوم مقامه. ثالثاً: هناك شيءٌ مرتَهن، وهي العين التي توضع كرهينة. رابعاً: هناك صيغة. فهذه أربعة أركان: الراهن، والمرتَهَن، والشيء المرتَهَن، والصيغة التي يقوم عليها الرهن. أما الراهن فيشترط أن يكون ممن له أهلية التصرُّف في المال، فلو جاءك طفل صغير، وقال لك: أعطني عشرة ريالات، وهذا القلم رهن عندك، فالطفل ليس من أهل التصرُّف، وليس ممن يصح رهنه، فإذا كان الطفل لم يبلغ، فإنه لا يحق له التصرف في المال إلا إذا قارب البلوغ، كما سيأتي -إن شاء الله- في الكلام على الصبي المأذون له بالتجارة. إذاً: الرهن لا يصح إلا من شخصٍ هو أهل للتصرف. وبناءً على ذلك فلا بد أن يكون بالغاً عاقلاً، فلو أن مجنوناً جاء بسيارةٍ -ولو كان يملكها- أو رجلاً في حال سكره، أو حال تعاطيه لمخدِّر أو نحوه مما يزيل العقل -والعياذ بالله! - جاء ورهن عمارته في دين، أو نحو ذلك، فإن الرهن لا يصح ممن هو ليس بأهلٍ للتصرف. كذلك يشترط أن يكون له أهلية التصرُّف في الشيء الذي يريد رهنه، فلا يرهن مال غيره، كأن يقول: أعطني سيارتك لأذهب بها إلى مكان ما، فأخذ سيارتك ثم ذهب واستدان عشرة آلاف ريال، ووضع سيارتك رهناً، وحينئذٍ لو ثبت عند القاضي أن السيارة سيارتك، فإنه يُسحب هذا الرهن ويُلغى، ويطالب بالبديل على تفصيلٍ سيأتي إن شاء الله في مسألة فوات الشيء المرتهن. إذاً لا بد في الشخص الراهن أن يكون أهلاً للتصرُّف. كذلك بالنسبة للمرتَهَن، وهو الشخص الذي يوضع عنده الرهن، يشترط أيضاً أن يكون أهلاً للتصرف. أما بالنسبة للصيغة، فهي الإيجاب والقبول، وهي التي يقوم عليها عقد الرهن، كأن يقول له: أعطني مائة ألفٍ وسيارتي هذه رهنٌ عندك، فيقول: قبلت. فقول الراهن: سيارتي هذه رهن، هذا هو الإيجاب، وقول صاحب الدين: قبِلت، هذا هو القبول. والشيء المرتهن يشترط فيه أن يكون مما يجوز بيعه، فإذا كان مما يجوز بيعه، فإنه يجوز رهنه، حتى لو قال: خذ كتابي، وقلمي، وساعتي، بل حتى النظارة، كأن يأتي ويشتري من البقالة، ولا يجد شيئاً كبيراً يرهنه، فيضع مثلاً شيئاً له قيمة، كالنظارة ونحوها. إذاً: لدينا العاقدان، والصيغة التي هي الإيجاب والقبول، والشيء المرتَهَن الذي هو محلٌ للرهن. وبالنسبة للصيغة يقول بعض العلماء: يمكن أن يقع الرهن بالتعاطي بدل الإيجاب والقبول، فكما أن البيع يقع بالتعاطي، فإنه ينعقد الرهن بالتعاطي دون إيجابٍ ولا قبول. وقد قدمنا أن البيع يجوز بالتعاطي: ينعقد البيع بما يدل على الرضا وإن تعاطى الكل ومثال التعاطي في الرهن: لو جاء شخص وقال لآخر: أعطني عشرة دراهم ديناً إلى غد، وخذ هذه الساعة، فصاحب الدين أخذ الساعة ولم يقل: قبلت، أو رضيت، بل أعطاه العشرة مباشرة، فبإعطائه العشرة كأنه قال: قبلت أن أديِّنك العشرة، وقبلت الساعة رهناً إلى السداد. إذاً: يقع الرهن بالأفعال، كما يقع بالأقوال هذا بالنسبة لمجمل أركان الرهن.

صحة الرهن في كل ما يجوز بيعه

صحة الرهن في كل ما يجوز بيعه قال رحمه الله: [يصح في كل عين يجوز بيعها]. قوله: (يصح) أي: أن الرهن يمكن أن يكون في أي شيءٍ يمكن بيعه، ويشمل هذا: العقارات، والمنقولات، والمثمونات، فلو قال له مثلاً في العقارات: أرضي رهنٌ، كأن يستدين مائة ألف ويجعل الأرض -مبنية أو غير مبنية، أو مزرعة- رهناً إلى السداد، فإنه يصح وينعقد؛ لأن الأرض يجوز بيعها، وكذلك أيضاً الطعام، فلو قال له: أعطني ألف ريال إلى نهاية هذا الشهر، وهذا الكيس من الأرز رهن عندك، فقال: قبلت، فحينئذٍ كان الرهن من جنس المطعومات، وهكذا بالنسبة للمنقولات: كالسيارات، والدواب، فلو قال له: أعطني عشرة آلاف ريال، وسيارتي هذه رهنٌ عندك، فقال: قبلت، فإن السيارة يجوز بيعها، فيجوز رهنها، وقس على هذا غيره، سواءً كان الشيء المرهون له قيمة مرتفعة أو دون ذلك، فما دام أنه يجوز بيعه فإنه يجوز رهنه. أما لو كانت العين لا يجوز بيعها؛ كالميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام، فإنه بالإجماع لا يجوز رهنها، مثاله: لو قال له: أعطني ألفاً وهذا الحيوان المحنَّط الميت رهن حتى أسددك، لم يصح؛ لأنه لا يصح بيع الميتات، فلا يصح رهنها. إذاً: الميتات، الخمر، الخنزير، والأصنام، ونحوها، كل هذه الأشياء لا يجوز بيعها، فلا يجوز رهنها. كذلك أيضاً لو قال له: أعطني عشرة آلاف وأرهن عندك بعيري الشارد، أو عبدي الآبق، فإنه لا يصح؛ لأنه لا يجوز بيع البعير الشارد ولا العبد الآبق، ولو قال له: أعطني ألفاً والسمك الذي في هذا الماء رهنٌ عندك، لم يصح؛ لأنه غير مقدورٍ على تسلُّمه، فكل هذه الأشياء التي لا يجوز بيعها لا يجوز رهنها.

جواز رهن المكاتب

جواز رهن المكاتب قال رحمه الله: [حتى المكاتَب]. أي: حتى المكاتَب يجوز رهنه، فإن الشخص المكاتَب الذي كاتبَه سيده، وكانت قيمته مثلاً عشرة آلاف ريال، فقال لسيده: أنا أشتري نفسي منك بعشرة آلاف ريال، أدفع لك كل شهر ألف ريال، فقال له السيد: قبلت، ثم إن هذا السيد احتاج إلى دين مقداره عشرة آلاف ريال، فقال السيد لصاحب الدين: قد رهنت عبدي فلاناً، مع أن العبد مكاتب، قالوا: يجوز ذلك؛ لأن المكاتَب عبد حتى يتخلَّص من الرق بدفع آخر أنجم الكتابة، أما إذا لم يدفعها فإنه يسري عليه حكم المملوك؛ لأنه وما ملك ملكٌ لسيده حتى يتم السداد على ما اتفقا عليه، فعقد الكتابة في أوله جائز، ولكنه يئول إلى اللزوم عند تمام السداد.

صور الرهن

صور الرهن قال رحمه الله: [مع الحق وبعده بدينٍ ثابت]. قوله: (مع الحق وبعده) أي: يصح رهن كل شيءٍ يجوز بيعه مع الحق الذي هو الدين، أو بعده. والعلماء رحمهم الله يذكرون صوراً للرهن: فهناك صورة للرهن قبل الدين، وصورة للرهن مع الدين، وصورة للرهن بعد الدين، هذه ثلاث صور، والقسمة العقلية تقتضيها: فإما أن يعطيه الرهن قبل الدين، وإما أن يعطيه الرهن أثناء الدين، وإما أن يعطيه الرهن بعد أن يستدين منه. فأما الصورة الأولى -نبدأ بها لأنها هي الأصل والمشهورة-: فهي أن يكون الرهن مصاحباً للدين، كأن تقول لرجل: إني بحاجة إلى مائة ألف ديناً إلى نهاية السنة، وأعطيك سيارتي رهناً إلى أن أسددك. فإن رهنك للسيارة وقع مصاحباً لطلبك للدين، فحينئذٍ إذا أعطاك الدين أعطيته السيارة، فالرهن وقع مصاحباً للحق، وهذا بالإجماع جائز ومشروع. أما الصورة الثانية: فهي أن يكون الرهن بعد الدين، كما لو تأخر وتراخى، فقال له مثلاً: هذه مائة ألف، فقال: بعد يوم أو يومين: لقد أعطيتني مائة ألف، وهذه مفاتيح سيارتي أو عمارتي وهي رهن لسداد دينك عند العجز، وقد صح ذلك. أما الصورة الثالثة: وهي أن يكون الرهن قبل الدين، فمن أمثلتها قالوا: إذا كانت لك سيارة عند محمد، وقلت: يا محمد! خذ هذه السيارة أمانة عندك، فأخذها محمد أمانة عنده، ثم احتجت إلى مالٍ من محمد، فجئته وقلت له: ديّنِّي مائة ألف، فأعطاك المائة ألف وقال: بماذا تضمن لي حقي؟ فتقول له: السيارة التي عندك، أجعلها رهناً واستيثاقاً للدين. قال بعض العلماء: إن هذا جائز، وتنتقل اليد من يد الإيداع إلى يد الرهن، وذلك بمجرد الإيجاب والقبول، فتصبح رهناً بعد أن كانت وديعة، ولا يشترط التقابض مرة ثانية لإلغاء اليد الأولى. وسيأتي هذا في باب الضمان، وهو الانتقال من يد الأمانة إلى يد الضمان، وفيه تفصيل عند بعض العلماء رحمهم الله، لكن قالوا: إن هذا يجوز، وشدّد فيه بعض العلماء، كما درج عليه المصنف رحمه الله وقالوا: إنه لا يجوز سبق الرهن للدين، وفي بعض الصور يقوى مذهب المصنف، وخاصة في الصور التي فيها غرر أو فيها جهالة، ولكن إذا كان الأمر أقل غرراً، أو كان الغرر يسيراً، فإنه يصح أن يُقدِّم الرهن على الدين.

عدم صحة الرهن إلا بدين ثابت مستقر

عدم صحة الرهن إلا بدين ثابت مستقر وقوله: (بدين ثابت) أي: مستقر، ومثال الدين الثابت: كأن يأتي ويأخذ منك مائة ألف، أما الدين غير الثابت، فهو كالحقوق التي تتوجه ولا تثبت إلا بعد شرط أو بعد صفة، فقبل ثبوت الشروط وهذه الصفة لا يجوز الرهن على مثل هذا الدين. مثال ذلك: لو أن شخصاً ضرب إنساناً مثلاً خطأً، أو صدم بسيارته رجلاً خطأً، فأتلف عليه أحد الأعضاء المثناة، أتلفها إتلافاً كلياً فحينئذٍ تستحق نصف الدية، كما سيأتي -إن شاء الله- في باب الديات، فإذا لزمت الجاني نصف الدية، فإن على العاقلة أن تتحمل فوق الثلث، كما هو قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والعاقلة: هم عصبة الجاني، فهؤلاء العصبة لا يثبت الدين والاستحقاق عليهم إلا بعد ثبوت الجناية، أما قبل ثبوت المطالبة على العاقلة، فإنه حينئذٍ لا يستقر الدين، ولا يثبت الحق، فلو أن شخصاً يعلم أنه إذا ثبتت هذه الجناية في المستقبل، أنه سيصير غارماً بعشرٍ من الإبل، أو خمسٍ من الإبل، فذهب إلى المجني عليه، وجعل الرهن لقاء هذا الدين، لم يصح للشخص المجني عليه أخذ الرهن لقاء حقه؛ لأن المجني عليه لم يثبُت حقه بعد، وحينئذٍ ليس من حقه أن يطالبك بالرهن إلا بعد ثبوت دينه، فإن العلماء يقولون: لا يكون الرهن إلا في دين ثابت مستقر، وعليه فإذا كان الدين غير ثابت وغير مستقر فإنه لا يصح الرهن؛ لأنه إيقاع للشيء قبل سببه، والأشياء لا تقع إلا بأسبابها، وذلك كما لو أدى الزكاة قبل الحول، وذلك فيما لو كان في غير التعجيل، فمثلاً: لو أن شخصاً قبل أن يحول الحول الأول الذي تثبُت به الزكاة قدَّم زكاته، لم يصح؛ لأن السبب لم توجد، وكذلك لو أخرج زكاة الفطر قبل غروب يوم السابع والعشرين من رمضان، فإنه لا يصح؛ لأنه لا يصح إخراجها إلا قبل العيد بيوم أو يومين، فإذا أخرجها قبل وقتها الموجب فإنه لا يصح؛ لأنه إنما يعتبر الإخراج مجزئاً إذا تم الشرط المعتبر لصحة الإخراج. فهنا بالنسبة للرهن لا نحكم بصحّته إلا بعد صحة الدين وثبوته، فإذا كان الدين لم يثبت فإن الرهن يتركب من الدين، وعليه قالوا: إنه لا بد من وجود دينٍ مستقر، وإذا لم يكن هناك دين مستقر، وأعطاه رهناً فليس برهن، وإنما هو دينٌ آخر. فلو أن شخصاً ارتَهَن قبل ثبوت الدين واستقراره؛ فإنه في هذه الحالة يصير ديناً لا رهناً، ولا يجري عليه حكم الرهن.

لزوم بقاء الرهن في حق الراهن دون المرتهن

لزوم بقاء الرهن في حق الراهن دون المرتهن قال رحمه الله: [ويلزم في حق الراهن فقط] ذكرنا فيما سبق مسألة العقد اللازم، والعقد الجائز، وبيّنا العقود اللازمة من أول الحال، والعقود الجائزة في أول الحال اللازمة في آخر الحال، والعقود الجائزة في الحالين بيّنا هذا في أول الكتاب عند بياننا لأحكام الخيارات. فقوله رحمه الله: (ويلزم في حق الراهن) هذا هو العقد اللازم، وقد قلنا: هو الذي لا يملك أحد الطرفين فسخه دون رضا الآخر، وأما العقد الجائز: فإنه يملك كلٌ من الطرفين فسخه ولو لم يرض الآخر، كالشركة مثلاً، فلو جئت في أي يوم من الأيام وقلت: يا فلان! افسخ الشركة التي بيني وبينك، فهذا من حقِّك، بخلاف البيع، فإنه لو باعك رجل داراً بعشرة آلاف وافترقتما دون خيارٍ بينكما، ثم جاءك وقال: لا أريد هذا البيع، فنقول: ليس من حقه أن يفسخ ما تم الاتفاق عليه بينكما؛ لأن الله تعالى أمر بالوفاء بالعقود، فهذا عقد لازم. فإذا دفع الشخص إليك الرهن وقبضته فإنه يلزمه، وحينئذٍ ليس من حقه أن يسترد هذا الرهن. فمثلاً: لو أن رجلاً قال لك: أعطني مائة ألف دَيناً إلى نهاية السنة، فقلت له: ماذا تعطيني رهناً؟ فقال: أعطيك سيارتي هذه، فقلت له: قبلت. وتم بينكما الاتفاق على هذا، فأعطاك مفاتيح السيارة وقبض منك المائة ألف، وبعد أن خرج وافترق إذا به يأتيك في اليوم الثاني ويقول لك: قد رهنتك سيارتي الفلانية، وهذه سيارة مثلها، أو أريد سيارتي وسأعطيك بدل السيارة العمارة، سواءً كانت مثلها أو كانت أكثر أو أفضل منها، فإنه ليس من حقه أن يسحب هذه العين، أو أن يُخليها من اتفاق الرهن الذي بينكما إلا برضاً من صاحب الدين. إذاً: معنى قوله: (يلزم) أي: أنه ليس له خيار، حتى يرضى الطرف الثاني، فلو أبيت وقلت له: لا أريد رهناً إلا هذه السيارة التي جئتني بها، ولا أقبل بدلاً عنها، فهذا من حقك، وليس من حقه أن يسحب هذه السيارة أو أن يأتي بعوض عنها، وتبقى مرهونة إلى أن يتم السداد.

صحة رهن المشاع

صحة رهن المشاع قال رحمه الله: [ويصح رهن المشاع]. الأشياء المملوكة كالأراضي والسيارات والأطعمة والأكيسة ونحو ذلك، لا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون ملكاً لشخص واحد، كأرضٍ يملكها زيد، أو عمارة يملكها عمرو، فحينئذٍ لا إشكال، فاليد واحدة وهي ملك لصاحبها. الحالة الثانية: أن يشترك فيها اثنان أو أكثر، فإذا اشترك فيها اثنان أو أكثر، فهذا يسمى: المشاع، وفي بعض الأحيان هذا المشاع أو المشترك، يكون سبب الشيوع والاشتراك فيه: إما أن يكون من الطرفين؛ كأن يدفعا مبلغاً ويشتريا أرضاً، فلو أنهما اشتريا أرضاً بمائة ألف، هذا دفع خمسين وهذا دفع خمسين، فالاشتراك والمشاع جاء من جهة الطرفين، فقد دفعا المبلغ واشتركا. وإما أن تكون هذه الشراكة بدون اختيارك؛ كالإرث، مثاله: شخص توفي عنه والده وترك له ولأخٍ ذكر معه داراً، ولا وارث له غيرهما، فحينئذٍ تكون الدار بينهما، وهذا المشاع وقع الاشتراك فيه بدون اختيار من الطرفين، إنما هو بحكم شرعي، فالله عز وجل جعل هذه الدار ملكاً لهما، فلو أن ابنين اشتركا في دار والدهما، حيث انتقلت ملكية الدار إليهما بعد موت أبيهما، فاحتاج أحد الابنين إلى مبلغ ما، كمائة ألف، فقال له صاحب الدين: أعطني رهناً، فقال: ليس عندي إلا إرث والدي، وهو نصف المزرعة، أو نصف العمارة، أو نصف هذه السيارة، أو نحو ذلك، فقال له: قبلت، فحينئذٍ هذا رهن المشاع، فكما يصح رهن غير المشاع، يصح رهن المشاع؛ لأن الحكمة والعلة تدور حول إمكانية رد الحق عن طريق الرهن، فهذا النصف الذي تركه الوالد للولد يمكن بيعه وسداد الحق منه، كما لو ترك له مالاً منفرداً. وكما أنك إذا ملكت الشيء لوحدك يمكن بيعه والسداد منه، فكذلك إذا كانت الأرض مشاعة بينك وبين إخوانك، فإنه يجوز الرهن؛ لأنه يمكن سداد الحقوق منها، كما يمكن سدادها من المملوكات التي لا اشتراك فيها ولا شيوع.

الأسئلة

الأسئلة

مشروعية كتابة الدين وعدم وجوبها

مشروعية كتابة الدين وعدم وجوبها Q هل كتابة الدين حالاتها مثل الرهن، وذلك أن من يؤمن السداد منه لا ينبغي له أن يطالبه بالكتابة، ومن خشي عدم سداده فإنه يطالبه بالكتابة، أم أن كتابة الدين مسنونة، وتُشرع مطلقاً أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى شرع كتابة الديون؛ لأن هذا أمكن لأهل الحقوق، وأبعد عن الجحد والكذب، وكذلك النسيان، وقد يكون الرجل الذي تعامله أميناً ديناً صالحاً، ولكنه ينسى، وحينئذٍ قال العلماء: إنها تشرع، والأصل أنها مشروعة، ولا شك أنها سنة، فالسنة أن يكتب المديون الدين الذي عليه للناس، ويوثق هذا الدين بشاهدين عدلين ممن ترضى شهادته، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن يُرضى للشهادة. وأما بالنسبة لأحوال الناس من حيث الإنكار وعدمه، فكتابة الدين من حيث الأصل هي للاستيثاق، فإذا أمكن أن يستوثق لدَينه بكتابة المديون في وصيته ونحو ذلك فالأمر أخف، ولذلك قال بعض العلماء: تجب الوصية، ويجب أن يكتب وصيّته إذا كانت عليه ديون لم يستوثق أهله فيها. مثال ذلك: لو جئت إلى صاحب بقالة، وأخذت منه بريال، فإنه لا يجوز لك أن تبيت تلك الليلة إلا وقد كتبت أن لفلان عليك ريالاً؛ لأنك لا تأمن الأجل، وهذا الريال الذي يتساهل فيه الإنسان تتعلق نفسه به، كما ورد في الحديث: (نفس المؤمن مرهونة بدينه)، وقال أبو قتادة رضي الله عنه في قصة الدينارين، حيث أُتي عليه الصلاة والسلام برجلٍ وعليه ديناران، أي: ديناً عليه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (هل ترك وفاءً؟ قالوا: لا، قال: صلوا على صاحبكم، قال أبو قتادة رضي الله عنه: يا رسول الله! هما عليَّ، فصلَّى عليه عليه الصلاة والسلام، فلمّا مضت الأيام قال أبو قتادة: فلم يزل يلقني عليه الصلاة والسلام ويقول: هل أديت عنه؟ فأقول: لا بعد، فيقول: هل أديت عنه؟ حتى لقيني ذات يوم فقال: هل أديت عنه؟ قلت: نعم، قال: الآن بردت جلدته). فهذا أمرٌ عظيم، حتى إن قوله: (نفس المؤمن مرهونة بدينه) اختلف فيه بعض العلماء، فبعضهم يقولون: إنه يُرهن عن النعيم، بمعنى: أنه لا يُنعم، بل يُوقف عنه النعيم حتى يُسدد عنه، لأن قوله: (مرهونة) أي: محبوسة؛ لأن الرهن أصله الحبس والمنع، فإذا عبّر بالرهن فمعناه أنها محبوسة عن شيء، ونفس المؤمن لا تُحبس إلا عن خير، ولا تُحبس إلا عن فضل؛ لأن السياق سياق تخويف وتهويل، ولذلك قالوا: إنه يُمنع عن النعيم أو عن شيءٍ من النعيم. لكن ظاهر النص أنها مرهونة، أي: محبوسة في هذا الدَّين، بل قال بعض العلماء: جرّبت الدين فوجدت فيه البلاء وحبس النفس حتى في الدنيا، فإن الرجل يكون عليه الديون وعليه حقوق الناس، فلربما تأخر في السداد فدعا المظلوم عليه، ولربما سها في السداد، أو جاءته النفس الأمارة بالسوء، فأخَّر السداد وهو قادر، فدعا عليه صاحب الدين دعوة، وهو مظلوم؛ لأن مطل الغني ظلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (مطل الغني ظلم)، فإذا امتنع من السداد وهو قادر، فقد ظلم، والمظلوم مستجاب الدعوة، قال: فيدعو عليه دعوة قد تكون سبباً في حرمانه من كثير من الخير. وكان بعض يقول العلماء: وجدت في نفسي وجرّبت هذا أنني ما استدنت إلا وجدت غم الدين على قلبي، حتى أؤدي حقوق الناس، ويقول: إنني في بعض الأحيان لا أجد نشاطاً لطلب العلم، ولا أجد راحة في العبادة، لما تتعلق نفسي بحقوق الناس، ولكن ما إن أنفك منها وأسدد للناس حقوقهم، إلا وجدت الانشراح، ووجدت أنني في نعمة؛ فلا أحد يطالبني، وليس لأحد علي من حق. فالبعد عن حقوق الناس ما أمكن هذا أفضل وأكمل. وهذا لا يعني أن الدين مذموم أو محرّم، بمعنى: مذمومٌ ذماً يصل إلى التحريم، لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استدان، وهو خير الأمة، واستدان أصحابه والصالحون من بعده، وقالت أم المؤمنين رضي الله عنها: (والله لا أدع الدين منذ أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)، لكن إذا كان للغير عليك حق، وتعلم أنه لا سبيل لإثبات حقه إلا بالكتابة، فعليك أن تكتب في وصيتك، وهكذا إذا تعاملت مع إخوانك وأصحابك، فعليك أن تكتب ما لهم عليك من الحقوق، أو تستعير كتاباً من أخيك، أو تستعير شيئاً من أخيك، فتكتب أن لأخيك كذا وكذا، وإلا ضاعت حقوق الناس. وانظر إلى رجل يأخذ أموال الناس دَيْناً ولا يكتب دينه، حتى إذا توفاه الله عز وجل جاء أصحاب الدين يسألون حقوقهم، فقال لهم الورثة: لا نعرف شيئاً، ما ترك مورِّثنا وصيّة نعلم بها حقوقكم، فماذا سيقول أصحاب الديون؟ سيشتكون إلى الله عز وجل، وربما دعوا على الميت، نسأل الله السلامة والعافية! وهذا لا شك أنه خطرٌ عظيم على العبد، فالواجب على المسلم أنه يحتاط لدينه ويستدرك، فإذا علم أن حقوق الناس لا سبيل لإثباتها إلا بالكتابة كتب، وإذا علم أن ورثته ربما أنكروا، أو ربما زيفوا الكتابة، أو امتنعوا من إعطاء الحقوق، كتب لكل صاحب دينٍِ كتاباً يستوثق به حقه إن جاء يطلبه يوماً من الأيام، والله تعالى أعلم.

توضيح صورة الرهن بعد الدين وحكمها

توضيح صورة الرهن بعد الدين وحكمها Q ذكرتم -حفظكم الله- أن هناك ثلاثَ صور للرهن مع الدين، وذكرتم صورتين، وبقيت صورة: وهي الرهن بعد الدين، فما توضيح هذه الصورة أثابكم الله؟ A الرهن بعد الدين كما ذكرنا: أن يتفق معه مثلاً على دين عشرة آلاف ريال، ثم من الغد يعطيه رهناً، فهو في أثناء الدين لم يأخذ منه شيئاً، وبعدها بيوم أو يومين أعطاه الرهن، فإن هذا جائز ومشروع، سواءً وقع أثناء العقد أو بعد العقد، وأما قبل العقد ففيه التفصيل الذي ذكرناه، وإن كان الأصح والأقوى في غالب الصور مشروعية ذلك وجوازه، والله تعالى أعلم.

حكم التصرف في الرهن عند استيفاء أجل الدين

حكم التصرف في الرهن عند استيفاء أجل الدين Q من الذي يتصرَّف في الرهن عند استيفاء أجل الدين، هل هو الدائن أم المدين؟ وإذا كان الدائن هو الذي يتصرف، فربما لا يُحسن التصرُّف في الرهن كأن يبيعه مثلاً بأبخس الأثمان، فهل هناك من قيد لهذا التصرُّف أثابكم الله؟ A الأصل أنه إذا أعطاه الرهن فهناك حالتان: الحالة الأولى: أن يقول له: هذه الدار رهنٌ عندك، فإذا لم أسددك فبعها، وخذ حقك منها. فهذا إذنٌ مسبق، وحينئذٍ من حقه إذا انتهى الوقت ولم يعطه حقه أن يبيعها مباشرة، وأن يأخذ حقه. الحالة الثانية: أن لا يأذن له، أو يسكت عن الإذن، فحينئذٍ يُنتظر إلى تمام المدة، ثم يُرفع الأمر إلى القاضي، والقاضي ينظر إلى من لهم معرفة وخبرة، ومن بعد ذلك يحكم، أو يأذن لنفس الشخص إذا كان عنده خبرة ومعرفة أن يبيع، وليست الأمور هكذا مفلوتة، فمثلاً: لو أنه عرض الأمر على القاضي، فإن القاضي يسأل أهل الخبرة: بكم تُباع هذه الدار؟ فإن قالوا: بمائة ألف، فيقول له: اذهب وبعها بمائة ألف، فيذهب ويبيعها، فإذا وجد أنها لا تباع إلا بثمانين، ألزمه بالمائة؛ لأن هذا قول أهل الخبرة، ويُعطى كل ذي حق حقه، فلا يُظلم المديون، ولا يُظلم صاحب الدين، وهذا هو شرع الله عز وجل، أنه يُعطى كل ذي حق حقه، لا يُظلم الإنسان في حقه إذا كان له على الغير، وليس من حقنا أيضاً أن نظلم أصحاب الديون المعسرين في ممتلكاتهم، فتُباع عليهم بالبخس، والله تعالى أعلم.

جواز اشتراط الرهن أثناء عقد الدين أو بعده

جواز اشتراط الرهن أثناء عقد الدين أو بعده Q هل اشتراط الرهن ينبغي أن يكون أثناء بذل الدين، أي: في نفس المجلس، أم للدائن أن يضيف شرط الرهن بعد ذلك، خاصة إذا خشي عدم السداد أثابكم الله؟ A إذا اتفق الطرفان على الرهن في عقد الدين، فإنه لا بأس بذلك، وهو جائزٌ ومشروعٌ بالإجماع، وهكذا إذا سأله الرهن بعد أخذ الدين، وأراد أن يستوثق، فإن له ذلك، ولا بأس به؛ لأن الناس تختلف أحوالهم، فلربما أعطيت الرجل وأنت تظنه أميناً، ثم جاءك الثقة وأخبرك أنه مماطل، وأنه جحود، أو أنه متلاعب بالحق، فأردت أن تستوثق لحقك، فمن حقك أن تستوثق وتطالبه بالرهن. واشتراط وجود الرهن في الدين، سواءً كان في البيع أو كان في القرض، هذا كله من المصالح، ويُعتبر شرطاً شرعياً، فمثلاً: إذا نظرنا إلى ما يترتب على وجود الرهن من المصالح لصاحب الدين وللمديون، فإننا نرى مشروعية ذلك؛ سواءً كان أثناء عقد الدين، أو بعد عقد الدين، فالحكم واحد، والنتيجة واحدة، ولا شك أن الإنسان ربما وثق في أناس على ظاهرهم، ثم تبين له خلاف ذلك، فيريد أن يستوثق من بعد فيشترط الرهن، فهذا من حقه. أما لو وقع اشتراط الرهن أثناء عقد الدين، فإنه يعتبر ملزماً بالدَّين، والله تعالى أعلم.

حكم بيع ما زاد عن حاجة المديون لقضاء دينه

حكم بيع ما زاد عن حاجة المديون لقضاء دينه Q أشكل عليَّ كلام لأهل العلم رحمهم الله بعدم جواز مطالبة المدين بالدين عند حلول الأجل إذا عُلِم عُسره، فهل تباع داره أو دابته، أم أنها من الضروريات فيُنتظر إلى ميسرته أثابكم الله؟ A الأصل الشرعي أن الله تعالى وسَّع على المعسر في عسره، فقال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، والمؤمنون رحماء بينهم، ولو أن المسلم نزّل نفسه منزلة أخيه المديون، الذي أصابته النوائب، وكثرت عليه البلايا والمستلزمات والحاجيات ونحوها، لو أنه أنزل نفسه منزلته لما رضي أن تُباع داره، ولما رضي أن يؤذى في ماله الذي لا بد له منه، إلا إذا كانت داره أكثر من حاجته، فلو أنه سكن في دارٍ قيمتها مائة ألف، والدين الذي عليه عشرة آلاف، ويمكننا بيع هذه الدار وأن يسكن في دارٍ بخمسين ألفاً، فإنها تُباع داره؛ لأنه زاد عن حقه المحتاج إليه بالمعروف بهذا القدر، فتُباع داره ويترك له ما يسكنه بالمعروف، وهذا مما يقضى فيه بالقاعدة المشهورة: (العادة محكّمة)، فإن كان الذي مثله يعيش في بيت بعشرين أو ثلاثين ألفاً، وذهب هو وسكن في بيت قيمته مائتا ألف أو مائة وخمسون ألفاً، أو حتى بستين ألفاً الذي هو الضعف، وجاء واستدان، ثم قال: أنا مُعسِر، وهو يسكن في هذا المسكن الفاره، أو عنده سيارة يحتاجها لنقل أولاده وعوائله، ولكن هذه السيارة يستطيع أن يستبدلها بما هو أرخص؛ فإنه لا يُعتبر معسراً، ولا يجوز دفع الزكاة إلى مثل هذا الذي يزيد في ماله ما يمكنه أن يُحسن التصرف به، ويسد به عجزه وعوزه، أما لو وجدت الحاجة والضرورة، وأصبح في عوز وشدة، فالحكم لا يخفى أنه يُنظر إلى الميسرة؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، والله تعالى أعلم.

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما.

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما. Q قال صلى الله عليه وآله وسلم: (البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورِك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحِقت بركة بيعهما)، شمل الحديث البيِّعان في بركة البيع ومحق بركته، فإن كذب أحدهما، فهل يشملهما أثابكم الله؟ A المحفوظ عند أهل العلم رحمهم الله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبَّر بالمتعاقدين على أن يأتي الخير منهما، أو الشر منهما، ومفهوم ذلك أنه لا يكون هذا من جهة، بحيث لو أن أحدهما كذب فإنه -والعياذ بالله- تُمحق البركة في جانبه وحده دون الجانب الآخر، ولو أنه غش فإنه تُمحق البركة في جانبه وحده دون الجانب الآخر، ومن هنا لو باع داراً مغشوشة، ودفع له مائة ألف، وسكنها المشتري، وهو لا يعلم بهذا الغِش؛ بارك الله للمشتري إن كان رضي بهذا الشيء؛ لأنه أعطى المال دون أن يغش البائع، ولكن تُمحق البركة من مال البائع، نسأل الله السلامة والعافية! فالذي يظلم هو الذي يتعلق به محق البركة، وقوله عليه الصلاة والسلام: (فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما)، هناك من أهل العلم من يقول كلاماً غريباً في هذا الحديث، يقول: إنه إذا كذب البائع، أو كذب المشتري، فمعنى ذلك أنه سيحدث العيب في البيع، والعيب يُستحق به الرد، وحينئذٍ تعلق البلاء بالطرفين، وبناءً على ذلك يكون الحديث على ظاهره، أي: يشمل الطرفين، لكن هذا الجواب لا يخلو أيضاً من نظر؛ لأنه في بعض الأحيان يُغش الإنسان ويُدلّس عليه، فيرضى بهذا الغش ويرضى بهذا التدليس، ويبارك الله له في هذه الصفقة؛ بل إن الرجل يشتري الشيء الغالي، ويرى من غشّه وكذبه وبإمكانه أن يؤذيه ويضر به، فيترك أمره لله، فيبارك الله له في هذه الصفقة التي غُبِن فيها بأضعاف، والله عز وجل على كل شيءٍ قدير. ومن طلب العِوض من الله سبحانه وتعالى فيما ينزل به من المصائب أو يحل به من النكبات؛ فإن الله يعوِّضه، وفي الله عِوض عن كل فائت، والله يجبر الكسير، ويجعل له من الخلف ما لم يخطر له على بال، فمن مستقل ومن مستكثر، والناس في الرضا ببلاء الله على مراتب، فمن كمُل رضاه كمّل الله له الجبر، وكمّل الله له الخير والبركة. فالمقصود: أنه لا يمتنع أن تكون هناك بركة في البيع إذا كان أحدهما مظلوماً، وفوّض أمره إلى الله عز وجل، ورضي بما كان، والله سبحانه وتعالى يخلُف عليه بخير، والله تعالى أعلم.

حكم تأخير توزيع الميراث على الورثة

حكم تأخير توزيع الميراث على الورثة Q ما حكم تأخير توزيع الورث على الورثة مع الاستطاعة على التعجيل، أثابكم الله؟ A لا يجوز لمن يقوم على أموال الموتى وإرثهم، كالإخوان الكبار والأعمام ونحوهم -ممن يلي الأموال والتركات- لا يجوز له أن يؤخر قسمة الأموال دون وجود عذرٍ شرعي، أو رضاً من الورثة، فإذا رضي الورثة، وقالوا: رضينا بأن نبقى شركاء في هذه العمارة، أو رضينا أن نبقى شركاء في هذه المزرعة، فهم ورضاهم، ولا بأس بإبقاء المال، ولو إلى سنوات، بل حتى ولو إلى أجيال، مادام أنهم رضوا بذلك فالمال مالهم، فكما يجوز لهم أن يشتركوا بالطلب، يجوز لهم أن يشتركوا بحكم الشراكة. أما لو أن أحد الورثة طالب بحقِّه، أو عُلِم أنه محتاج، أو بقي محتاجاً مديوناً، ويبقى إخوانه يكتسبون ذلك منه مستغلين حياءه وخجله، فيمتنعون من قسمة المواريث، ورد الحق إلى صاحبه، وإعطاء كل وارثٍ ما تركه له مورِّثه، فهذا من الظلم، خاصة النساء، فإن النساء يُظلمن في هذه الحقوق كثيراً، وتغفل حقوقهن، ولربما أُكلت بالباطل، فلا يجوز مثل هذا، وعلى الأولياء والإخوان أن لا يجاملوا في هذا، ومن علم أن أخاه يريد حقّه، أو أن ظروف أخيه تحتاج إلى مساعدة، وتحتاج إلى مال، وأن من المصلحة بيع المال؛ فإنه يُباع، لكن هناك أحوال يؤخَّر فيها البيع، كأن يكون هناك ضرر على الورثة، كأن يكون السوق كاسداً، والمبلغ يسيراً، وفيه ضرر لو بِيع، ويُرجَّى بعد شهر أو شهرين -دون أن يكون هناك ضرر- أن يتحسن السوق، وأن يُباع بما هو قيمته، فحينئذٍ يجوز التأخير في حدودٍ وفي أحوالٍ معينة، فلا يجوز أن يُمنع الورثة من مال مورِّثهم، بل لقد رأيت من الناس من ترك له مورِّثه مالاً كثيراً، وهو والله يعيش كعيشة الفقير المسكين من تضييق إخوانه الكبار وأذيتهم له، ومحاولتهم احتوائهم للأموال، فإذا كان الرجل بالغاً رشيداً فهو أحق بماله، ومن منعه فقد ظلم، وظلم ذوي القربى أعظم من ظلم غيرهم، وعلى هذا ينبغي على أولياء الأموال أن يتقوا الله في إخوانهم، وأن يتقوا الله في قرابتهم، وأن يقسموا بقسمة الله عز وجل التي قسمها من فوق سبع سماوات.

حكم رهن الموصوف في الذمة

حكم رهن الموصوف في الذمة Q أشكل عليَّ معرفة المقصود من قول المصنف رحمه الله: (يصح في كل عين)، هل الموصوف في الذمة لا يصح الرهن فيه أثابكم الله؟ A تقدّم معنا مسألة العين، ومسألة الذمة، وبيّنا أن المعيّن يكون العقد عليه ويفوت بفواته، وأن الموصوف في الذمة يصدُق على كل شيءٍ ينطبق عليه ذلك الوصف. ومسألة قبض الرهن نص الله عز وجل عليها بقوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، ولذلك فإن الأصل في الرهن غالباً أن لا يكون إلا بالحاضر، كأن يقول: أرهنك سيارتي هذه، أو أرهنك ساعتي هذه، فهذا رهن الأعيان. وأما إذا سبق قبض الرهن على الدين، فإنه يستقيم أن يكون في الموصوف، وحينئذٍ يكون الاستقبال والاستحقاق مستقبلاً لأخذ الدين وإعطاء العين من الرهن، وعلى هذا يكون في الذمة ابتداءً، ولكنه يئول إلى العين انتهاءً عند التعاقد، وحينئذٍ لا بأس، خاصة على مذهب من قال: إنه يجوز أن يتقدم الرهن على الدين، وقد سبق أن أشرنا إلى هذه المسألة في المجلس الماضي، والله تعالى أعلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

باب الرهن [2]

شرح زاد المستقنع - باب الرهن [2] من المسائل المتعلقة بباب الرهن: جواز رهن المكيل والموزون والمعدود بشرط أن يقبض، وما لا يشترط فيه القبض في بيعه، فلا يشترط القبض في رهنه، ومن تلك المسائل: عدم جواز رهن ما لا يجوز بيعه، فلا يرهن إلا ما يجوز بيعه، ومنها: عدم لزوم الرهن إلا بالقبض، ومنها: أنه لا يجوز للراهن ولا للمرتهن أن يتصرف في الرهن إلا بإذن صاحبه، ومنها: مسألة نماء الرهن وكسبه وأرش الجناية عليه ومئونته.

جواز رهن المكيل والموزون بشرط التقابض

جواز رهن المكيل والموزون بشرط التقابض بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويجوز رهن المبيع غير المكيل والموزون على ثمنه وغيره]. تقدم معنا بيان مشروعية الرهن، وبيان الأركان التي يقوم عليها عقد الرهن، وبيّنا جملة من المسائل والأحكام التي صدّر بها المصنف رحمه الله باب الرهن، وشرع المصنِّف رحمه الله في هذه الجملة ببيان مسألة قبض الرهن، وعدم قبضه، فأول ما يقع بين المتعاقدين أن يقول الراهن: رهنتك كذا وكذا، فيُسمِّي الشيء الذي يريد رهنه، فإذا رضي من له الدين، قال: قبلت، فيقول -مثلاً-: رهنتك سيارتي، أو رهنتك داري، أو رهنتك أرضي، أو نحو ذلك مما يُقال بياناً للمرهون، فإذا بيّن لك الشيء الذي يريد أن يرهنه عندك حتى يُسدد الدين، فإن هذا الشيء ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون مما يُكال أو يُوزن أو يُذرع أو يُعد، وإما أن يكون من غير ذلك. فإن كان مما يُكال أو يُوزن أو يُعد أو يُذرع، فإن الرهن لا يتم ولا يكون إلا بالقبض، وبناءً على ذلك فلا بد أن يعطيك المكيل ويمكِّنك من قبضه، وهكذا الموزون، والمعدود، والمذروع قياساً، فإن كان المرهون مما لا يُكال، فإنه حينئذٍ يصح رهنه قبل قبضه، والأصل في اشتراط القبض أننا نوجب على من يريد أن يرتهن، أن يقبِض الرهن عنده، فإن الأصل في ذلك قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، والأصل في هذه الأشياء التي تُجعل في الرهن، إنما جُعلت من أجل أن يبيعها، وعلى هذا فلا بد أن تُقبض إن كانت من جنس ما يُشترط له القبض، وأما إذا كانت من جنس ما لا يُشترط فيه القبض، فيصح أن يَرهَنها قبل قبضها، وعلى هذا فرّق العلماء رحمهم الله -على ضوء ما تقدم معنا-: بين ما يُشترط فيه القبض، وما لا يُشترط فيه القبض، فما اشتُرط فيه القبض في المبيعات، بحيث لا يصح بيعه منك إذا اشتريته حتى تقبضه كالطعام المكيل والموزون، فلا يصح أن ترهنه قبل القبض، والعكس بالعكس، فالشيء الذي لا يُشترط فيه القبض يصح أن ترهنه قبل قبضه.

جواز بيع المرهون عند العجز عن سداد الدين

جواز بيع المرهون عند العجز عن سداد الدين قوله: (على ثمنه)، فإن هذا المرهون حينما يوضع عند الشخص، إنما وُضِع من أجل أن يُسدَّد به الدين عند العجز، وتعذُّر السداد في الأجل، فلو استدان منك مائة ألف، وعجز عن سدادها، فإنه عن طريق هذا الرهن تقوم بأخذ حقك منه، وبناءً على ذلك يرهن على الثمن، ومن هنا فرّع العلماء مسائل الرهن على البيع؛ لأنه إذا عجز الشخص المدين عن سداد الدين، كان من حقك أن تأخذ حقّك من هذا الرهن؛ لأن المقصود من الرهن الوفاء وسداد الدين عند التعذُّر، أو الامتناع من السداد.

حكم رهن ما لا يجوز بيعه

حكم رهن ما لا يجوز بيعه قال رحمه الله: [وما لا يجوز بيعه لا يصح رهنه]. أي: أن كل شيءٍ يجوز بيعه في الأصل؛ فإنه يجوز رهنه، وكل شيءٍ لا يجوز بيعه؛ فإنه لا يجوز رهنه. والسبب في كون العلماء يجعلون المرهون مبنياً على المبيع: أن المقصود من الرهن عند العجز أن تقوم ببيع الرهن وأخذ حقك منه، أو يقوم القاضي إذا اشتكيت إليه ببيع الرهن وسداد الدين منه، أو يقوم العدل الذي نُصِّب من الطرفين ببيع الرهن وسداد الدين منه. وبناءً على هذا لو كان الشيء الذي وضعه عندك رهناً لا يمكن بيعه؛ أو لا يجوز بيعه، فإنه لا يمكن أن تتحقق الحكمة التي من أجلها شُرع الرهن، حيث أنك إذا عجزت عن السداد لم يستطع صاحب الحق أن يصل إلى حقه؛ لأن هذا الشيء الذي وضعته عنده لا يمكن بيعه، فمعنى ذلك: أنك وضعت شيئاً وجوده وعدمه على حدٍ سواء. وعليه فلا بد أن يكون الشيء الذي تضعه رهناً قابلاً للبيع، بمعنى أنه يجوز بيعه، ويصح بيعه، فلا يجوز رهن ما يحرُم بيعه، وذلك كالأعيان المحرّمة، وهي التي وردت في حديث جابر بن عبد الله: (إنالله ورسوله حرّم بيع الميتة، والخمر والخنزير والأصنام) فلو أعطاه ميتة رهناً، كحيوان محنَّط من جنس ما لا يذكى، وقال له: إذا عجزت عن سداد دينك فبع هذا الحيوان وخذ حقك، فإن هذا الحيوان إذا كان ميتةً لا يجوز بيعه، فلا يصح أن يكون رهناً. وهكذا إذا كان من الأعيان المباحة، ولكن يحرِّم الشرع بيعها لوجود الاستحقاق، كحق الله عز وجل في الوقف، فلو كان الشيء الذي يريد رهنه وقفاً، لم يصح أن يُرهن؛ لأن الأوقاف لا يجوز بيعها من حيث الأصل. وعليه قالوا: يُشترط أن يكون المرهون من جنس ما يجوز بيعه، وما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه؛ لأنه يفوِّت المقصود من الرهن. وهكذا لو رهنه أم الولد -على القول بعدم جواز بيع أمهات الأولاد- وكذلك بالنسبة للخنزير، والأصنام، ونحوها مما لا يجوز بيعه، قال بعض العلماء: ولو رهنه مجهولاً، كما لو قال له: أرهن عندك ما في داخل هذا الكيس، والذي في داخل الكيس مجهول، فإنه لا يصح رهنه، لكن لو كان الذي بداخل الكيس معلوماً، جاز الرهن وصح، ولو قال له: أرهنك الكيس نفسه، كأن يكون الكيس من جلد وقيمته مثلاً مائة ريال، فقال له: أعطني سلفاً مائة، وأرهن عندك هذا الكيس، صحّ. إذاً: لا يصح رهن المجهولات، ولا يصح رهن محرَّمات الأعيان: كالميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام، وكل ما حرُم بيعه لا يجوز رهنه.

جواز رهن الثمر قبل بدو صلاحه بدون شرط القطع

جواز رهن الثمر قبل بدو صلاحه بدون شرط القطع قال رحمه الله: [إلا الثمرة والزرع الأخضر قبل بدو صلاحهما بدون شرط القطع]. تقدّم معنا في باب بيع الأصول والثمار، وبيّنا هناك حكم بيع الثمرة قبل بدو الصلاح، وبعد بدو الصلاح، وقلنا: إن الثمرة إذا بِيعت قبل بدو الصلاح لا يخلو البيع من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون بشرط القطع، والحالة الثانية: أن يكون بشرط البقاء، والحالة الثالثة: أن يكون بيعاً مطلقاً. فلو كان عندك بستان وفيه نخل، وهذا النخل فيه ثمرة، وأردت أن تبيع الثمرة كما يسميه الناس: الصيف، أردت أن تبيع الصيف، وهذا الصيف لم يبدُ صلاحه، فإن قلتَ: خذ الثمرة بمائة ألفٍ، واشترط عليك أن تبقيها له حتى يبدو الصلاح، لم يجُز، وقلنا: إن ذلك بالإجماع. ولو قال له: بعني ثمرة بستانك هذه التي لم يبدُ صلاحها، ولكني سأقطعها، بمعنى أنني أريدها علفاً للدواب، فقلنا: يجوز في قول جماهير العلماء، خلافاً لبعض السلف، كما هو قول سفيان الثوري، وابن أبي ليلى، كما تقدَّم معنا وبيّنا أن الراجح مذهب الجمهور، وهو أنه لو باعه الثمرة قبل بدو الصلاح بشرط القطع صحّ البيع؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حرّم بيع الثمرة قبل بدو الصلاح خوفاً من الآفة، لحديث أنس الذي في الصحيح: (أرأيت إن منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك؟)، فإذا كان يريد أن يقطعها مباشرة، ويأخذها وهي خضراء علفاً للدواب، انتفت العلة. فهنا لو قال: أعطني مائة ألف ديناً، فقال له: أعطني رهناً كي أعطيك هذا القرض، فقال: أرهن عندك ثمرة بستاني إلى شهر -وثمرة البستان لم يبدُ صلاحها- وإذا انتهى الشهر ولم أسددك، فاقطع الثمرة وبعها، صحّ الرهن؛ لأنه يصح بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع. فإن اتفق معه على أن يقطع الثمرة، ورضي له بذلك، فلا إشكال، لكن يبقى الإشكال أن القاعدة: أن ما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه. فلو أنه قال له: أعطني مائة ألفٍ، وهذه الثمرة التي لم يبدُ صلاحها رهنٌ عندك، على أنني إذا لم أسدِّد انتظرت إلى صلاحها فبِعت وأخذت حقّك، فحينئذٍ لم يشترط القطع، فللعلماء قولان: قال بعض العلماء: لا يصح أن يرهن الثمرة قبل بدو الصلاح بغير شرط القطع، وهذا على الأصل الذي ذكرناه، وهو أنه إذا كانت الثمرة قبل بدو الصلاح وباعها بغير شرط القطع؛ لم يصح البيع إجماعاً، وهو البيع المطلق، وإذا كان لم يصح البيع فمعنى ذلك: أن الرهن غير صحيح. وقال بعض العلماء: يجوز أن يرهن الثمرة قبل بدو صلاحها بغير شرط القطع، كما درج عليه المصنِّف، وهو الوجه الثاني عند أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع، وانتصر له غير واحد، وقالوا: إنه إذا لم يسدد المال فإنه يأخذ حقه من الثمرة، فإن فسدت الثمرة، فإنه لا ضرر على الإنسان؛ لأنه ليس البيع منصباً على الثمرة نفسها، فقالوا: إذا رضي صاحب الدين، وقال: إن يسَّر الله وصلحت الثمرة، فإنه حينئذٍ يكون حقي ببيعها، كان له ذلك، وهذا القول الذي درج عليه المصنِّف واختاره غير واحد؛ لأن العلة التي من أجلها مُنِع البيع ضعيفة في هذه الصورة، ولأن البيع لم يتم أثناء الدين، وأنت تعلم أنك إذا أخذت من صاحب المال مائة ألف، فإنه لا يستحق بيع بستانك إلا إذا عجَزت، وربما كان عجزُك بعد بدو الصلاح، ولذلك لا يُنظر إلى الحال، وإنما يُنظر إلى المآل. ثم لو أن هذه الثمرة تلفت، فإن حقّه لا يلغى؛ لأنه مُطَالِب بحقِّه كدينٍ، بخلاف ما إذا دفع النقد لقاء الثمرة، فالفرق بينهما واضح، وهذا القول الذي اختاره المصنِّف واختاره جمعٌ من العلماء، أوجه وأولى بالصواب إن شاء الله تعالى.

اشتراط القبض في لزوم الرهن

اشتراط القبض في لزوم الرهن قال رحمه الله: [ولا يلزم الرهن إلا بالقبض]. العقد ينقسم إلى قسمين: عقدٌ لازم، وعقدٌ جائز. والعقد اللازم: هو الذي ليس من حق أحد المتعاقدين أو أحد الطرفين أن يفسخه إلا برضا الآخر، فإذا حصل من الطرفين الإيجاب والقبول لزِمهُما الإيجاب والقبول، والأصل فيه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، فأنت إذا بِعت بيتك، وقال المشتري: قبلت، وافترقتما؛ لزمه أن يدفع الثمن، ولزمك أن تمكِّنه من البيت. إذا ثبت هذا فإنه يرد Q لو أن رجلاً قال لك: أعطني مائة ألف، وخذ داري رهناً عندك، أو اجعل عمارتي رهناً عندك، أو اجعل سيارتي هذه رهناً عندك، فإننا إذا نظرنا إلى هذا العقد، فننظر: فإن قلتَ: قبلت ورضيت، وخذ هذه المائة ألف، واترك السيارة رهناً عندي، فللعلماء قولان: من العلماء فمن قال: إذا قلت له: أعطني مائة ألف، وهذه السيارة رهنٌ عندك؛ فإنه يلزمك أن تمكِّنه من السيارة فوراً، بمجرد العقد، وهذا هو مذهب طائفة من العلماء، منهم المالكية، فهم يرون أن الرهن لازم بمجرّد الصيغة، وهي الإيجاب والقبول، فلو أنك مباشرةً بعد أن قلت له: خذ السيارة، وقال: قبلت، ثم قلت: لا، خذ -مثلاً- البيت بدل السيارة، أو خذ -مثلاً- الأرض الفلانية بدل السيارة، لم يكن من حقك ذلك على هذا القول. فأصحاب هذا القول يرون أنك ملزم بالرهن بمجرد الإيجاب والقبول، وليس من حقك أن ترجع عنه مادام أنكما اتفقتما على تلك العين، فإن أردت أن تبدِّل فليس من حقك، كما إذا أردت أن تسحب السيارة فليس من حقك، وتسري عليه أحكام الرهن بمجرد الإيجاب والقبول، هذا القول الأول. القول الثاني: لا يلزم الرهن إلا بالقبض، وبناءً على ذلك فإنك إذا قلت له: أرهنك هذه السيارة، وقال: قبلت. فالإيجاب والقبول لا يكفي حتى يَقبِض السيارة، فإن قَبَضَها فإنه حينئذٍ يصير الرهن لازماً، ولو أنك قبل القبض عَدَلت عن الرهن، أو جئت ببدلٍ عنه، كان من حقك ذلك، وبناءً على هذا القول -وهو مذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة، كما اختاره المصنِّف ودرج عليه- فإن الرهن يكون بالقبض، ولذلك قال الله عز وجل: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، فدل على أن صفة القبض مؤثرة في الرهن، وأن الرهن لا يكفي وحده ما لم يكن مصحوباً بالقبض، فلزومه متوقفٌ على القبض. وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله، في كون الرهن لا يلزم إلا بالقبض، فإذا قال لك: أعطني مائة ألفٍ وسيارتي رهنٌ عندك، أو هذه مائة صاع من الطعام رهنٌ عندك، أو هذا الكيس من الطعام رهنٌ عندك، فإنه من حقه أن يَعْدِل ويُبدِّل مادام أنك لم تقبض، فإن قبضت لزمه الرهن. إذاً: القبض شرط، ولا يمكن أن يتحقق اللزوم بالرهن إلا بالقبض، فهل يكون القبض منك أو من الراهن؟ قالوا: ينبغي أن تستأذن الراهن، فلو أن السيارة كانت موجودة، ولم يعطك مفتاحها، ولم يمكِّنك منها؛ فإنك لم تقبض، أما إذا أذن لك وقال: خذها، فحينئذٍ تم الرهن بقبضك لمفتاحها أو ركوبك فيها، أو نحو ذلك مما يتحقق به القبض. هذه صورة ومثال للقبض. مثال آخر: لو قال له: أعطني مائة ألف دَيْناً إلى نهاية السنة، فقال: أعطني رهناً، فقال: هذه عمارتي رهنٌ عندك، فالعمارة لا تكون رهناً لازماً إلا إذا قبض صاحب الدين العمارة، والقبض في العمائر يكون بالتخلية، فإذا خلَّى بينه وبينها وأعطاه مفاتيحها فقد قبض، فلو عَدَلَ قبل ذلك لم يقع اللُّزوم، ولا يلزم الرهن حينئذ. وبناءً على ما سبق هناك فوائد: الفائدة الأولى: أن الرهن لا يكون لازماً إلا بالقبض، ومن حق الراهن الرجوع والتبديل، ومن حقه أن يرجع ويُبدِّل مادام أنه لم يَلزمه الرهن. الفائدة الثانية: أن هذا القبض إذا كان لازماً، يتوقف عليه لزوم الرهن على ظاهر القرآن: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]؛ فإنه يُشترط أن يمكِّنَك أو يأذن لك صاحب الرهن بأخذه وقبضه. قالوا: فلو أنك أنت من عند نفسك أخذت الرهن بالقوة أو بالحيلة أو بالغفلة، دون إذنٍ منه، لم يَلزمه ذلك. إذاً: لا بد أن يكون القبض بتمكينٍ وإذنٍ من صاحب الرهن، فلو أنك من نفسك جئت وأخذت الرهن، كان وجود الأخذ وعدمه على حدٍ سواء؛ لأن الرهن عقد رفق، وعقود الرِّفق لا تلزم إلا بالقبض كالقرض ونحوه، وقد بيّنا أن هناك عقوداً يُقصد منها الغبن المحض، وعقوداً يُقصد منها الرِّفق المحض، وعقوداً يُقصد منها مجموع الأمرين. فالرهن من العقود التي يقصد بها الرِّفق؛ لأن المدين رفق بك فأعطاك الرهن لكي تستوثق من حقك، فليس من حقك أن تعتدي على ماله بأخذه دون إذنه، فهو من عنده أعطاك إياه رهناً، وإلا فالأصل أن تطالبه عند حلول الأجل بدفع المال، لكن هذا المال غير المال الذي أخذه منك. ومن المعلوم أنه إذا استدنتُ منه مائة ألف فإن الذي له عليَّ مائة ألف، وليس سيارتي ولا داري ولا مزرعتي ولا أرضي، وبناءً على ذلك يقول العلماء: ليس من حقه أن يعتدي على هذه الأملاك إلا بإذن من صاحبها، وعليه فإن لم يمكنك من القبض، كان قبضك لها بالاعتداء وجوده وعدمه على حدٍ سواء. إذاً: الفائدة الأولى: أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض لظاهر القرآن، والفائدة الثانية: أن القبض يُشترط فيه إذن المدين، أي: الذي عليه الدين.

كيفية قبض الرهن

كيفية قبض الرهن وهنا مسائل: المسألة الأولى: لو قال لك: اقبض، وذهبت لتقبض، وقبل أن تقبض رجع عن إذنه، فإنه لا يصح قبضك، كما لو اعتديت مباشرة؛ لأن الإذن قبل تحقق الفعل والرجوع عنه يوجب بطلانه. المسألة الثانية: إذا ثبت أن القبض معتبر فكيف يتحقق القبض؟ سبق أن بيّنا هذه المسألة، وقلنا: إن المبيعات منها ما يتحقق فيها القبض بالكيل إن كانت مكيلة، وبالوزن إن كانت موزونة، وبالعد إن كانت معدودة، وبالذرع إن كانت مذروعة، وبالمناولة إن كانت مما يُتناول، فلو قال لك: أعطني عشرة آلاف ريال ديناً، فقلت له: أعطني رهناً، فقال: أُعطيك هذه الجواهر؛ فإن هذه الجواهر التي هي رهن يكون قبضها بالمناولة، أي: تُناوَل باليد، فإذا ناوَلك إياها، ووقعت في يدك تم قبضها، ولو كانت في كيسها ووعائها فأعطاها لك تم قبضها، لكن المكيل لا يكون إلا بكيله، والمعدود بعدِّه، والمذروع بذرعه، على التفصيل الذي ذكرنا. وبناءً على ذلك يفرَّق في الأشياء بين ما كان من جنس المكيلات والموزونات، والمعدودات والمذروعات، وما يُتناول بالطريقة التي ذكرنا. والمعدودات: مثل الإبل، كأن يقول: أعطيك عشرة من الإبل رهناً، أو هذه الناقة رهنٌ عندك، فإنه حينئذٍ يُمَكَِّنك من قبضها، فإذا قبضتها أو قبضها وكيلك فحينئذٍ لزم الرهن. ولو كانت عمارة، فَقَبْضُ العمارةِ يكون بالتخلية، بأن يخلِّي بينك وبينها بإعطاء المفاتيح، فإذا أعطاك مفتاحها، أو خلَّى بينك وبينها للدخول والاستيثاق منها، كان هذا بمثابة القبض لها. وقس على هذا بقية الأمور، وهناك أشياء يكون قبضها بالعرف، فنرجِع إلى أعراف التجار في كيفية قبضها، وقد سبقت الإشارة إلى هذه المسألة في مسألة القبض في أوائل كتاب البيع.

استدامة قبض الرهن شرط في لزومه

استدامة قبض الرهن شرط في لزومه قال رحمه الله: [واستدامته شرط]. استدامة القبض شرط، أي: أن يبقى الرهن عندك، ويكون تحت يدك وفي حوزتك، فلو أنه أعطاك السيارة ثم جاء في يوم من الأيام وأخذ مفتاحها وقادها من بيتك أو من مزرعتك، وأخرجها من المكان الذي وضعتها فيه، فحينئذٍ يزول لزوم الرهن، فإن ردّها بعد ذلك رجعت لازمة بعد الرجوع. إذاً: استدامة القبض شرط في لزوم الرهن؛ لأن الله قال: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، وهذا الوصف لازم وباقي؛ لأن الرهن ليس بيعاً بحيث نقول: ننظر إلى ابتدائه؛ لأن بعض العقود ننظر إلى ابتدائها، وبعض العقود ننظر إلى مآلها، فالرهن ننظر إلى مآله؛ لأن الرهن لا يُراد لذاته، أنت حينما تعطي العمارة رهناً لقاء (مليون)؛ فإنك لم تقصد بيع العمارة (بالمليون)، وإنما قلتَ له: إن عجزت عن سداد (المليون) كان من حقك بيعها، ثم بعد ذلك تأخذ حقك، وعلى هذا فالعمارة في الأصل ملك للمدين، وعليه فليست في حكم المبيع من كل وجه، إنما هي بمثابة الاستيثاق، فلا بد أن تبقى تحت يد المرتهن؛ لقول الله عز وجل: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، فإن خرجت عنه خرجت عن وصف الرهن؛ لأنها لم تصل إلى المآل، بحيث بِيعت أو تُصُرِّف بها، وإنما هي باقيةٌ وأمانةٌ، وإذا سُحِبت منه زال اللزوم؛ لأن وصف القبض المستصحب في الرهن قد زال.

خروج الرهن بالاختيار يزيل لزومه فإن رد عاد لزومه

خروج الرهن بالاختيار يزيل لزومه فإن رد عاد لزومه قال رحمه الله: [فإن أخرجه إلى الراهن باختياره زال لزومه، فإن رده إليه عاد لزومه إليه]. قوله: (فإن أخرجه) أي: المرتهن صاحب الدين، أي: أخرج الرهن، فمثلاً: عندك سيارة، وجئت إلى رجل وقلت له: أقرضني عشرة آلاف ريال، فقال: أعطني سيارتك رهناً، فقلت له: هذه السيارة وهذه مفاتيحها رهن عندك وأعطني العشرة آلاف، فأعطاك العشرة آلاف. ثم بعد ذلك جِئتَ في يوم من الأيام فقلت له: يا فلان! عندي ظرف، وأريد أن أسافر إلى المدينة بأهلي، فهل تأذن لي أن آخذ السيارة؟ فقلت: خذها، فإذا أخرجتها فقد أخرجتها باختيارٍ منك ورضا منك، فيزول اللزوم، وأنت مأجور ومثاب على هذا الفعل، حيث قدرت ظرفه وأعطيته. لكن لو جاءك وقال: أريد السيارة لأسافر بها أو أذهب بها، فقلت له: لا أُعطيك؛ كأن تعرف أنه مماطل، أو رجل مخادع، ولم تأمن، فقلت له: لا أعطيك، فذهب، ولما نمت جاء إلى مكانها وأخذ المفتاح الذي عنده فقاد السيارة واستخرجها، فهل نقول: قد زال اللزوم؟ هنا خرجت بغير اختيارك، وفي هذه الحالة يكون قبضه لها غير لاغٍ لصفة القبض الأصلية، ويبقى الرهن كما هو؛ لأن الإخراج من اليد كان على سبيل القهر، والختل، والخلسة، وهكذا لو هددك فأخذها بالقوة والقهر، فإنه لا يزول وصف القبض، ولا تزول الأحكام، بل تبقى؛ لأن خروجه بغير اختيارك، والشرط أن يكون الخروج بالاختيار لا بالاضطرار. فإن كان الخروج بالإكراه أو بالغصب أو بالخلسة والخديعة، فوجوده وعدمه على حدٍ سواء. فقد اشترط رحمه الله وجود الاختيار الذي ينبني عليه اعتبار الإخراج، وعدم لزوم الرهن. وقوله: (فإن ردَّه إليه عاد لزومه إليه، أي: إن رد الرهن -كالسيارة- بعد أن قضى منه حاجته؛ رجع اللزوم إليه، أي: رجع الرهن إلى حكم اللزوم.

عدم نفاذ التصرف في الرهن من أحد الطرفين من غير إذن الآخر

عدم نفاذ التصرف في الرهن من أحد الطرفين من غير إذن الآخر قال رحمه الله: [ولا ينفذ تصرف واحدٍ منهما فيه بغير إذن الآخر]. قوله: (ولا ينفذ) النفاذ: السَّرَيَان، وهناك شيء يسميه العلماء: النفاذ والوقف، أي: هناك عقد نافذ، وعقد موقوف، والعقد النافذ: هو الذي تتوفر فيه الأركان والشروط المعتبرة، فيُحكَم بنفاذه وسَرَيانه، والعقد الموقوف: هو الذي تعترضه عوارض تمنع من سريانه، كما ذكرنا في بيع وشراء الفضولي، على القول بصحته، لكنه يبقى موقوفاً على إجازة المالك الحقيقي. ومعنى كلامه رحمه الله: أنه لا ينفذ تصرُّف أحدهما في الرهن، فلو أنك أخذت الرهن وقبضته، ودفعت للرجل عشرة آلاف ريال، ثم إن الراهن أخذ وثيقة الرهن -كصك البيت مثلاً- وباعه، أو أخذ استمارة السيارة وباعها، فإن هذا التصرُّفُ من الراهن في الرهن وعليه يد القبض تصرُّفٌ لاغٍ؛ لأن الرهن الآن لازمٌ وثابتٌ ومحتكرٌ لحق الأول، وهو صاحب الدين، فإذا تصرَّف صاحب الرهن في الرهن بالبيع مثلاً، فإنه حينئذٍ قد عَطَّل هذا العقد الشرعي، ولو كان بيع الرهن يصح، وهو مقبوض عند المرتهن؛ لانعدمت المصلحة من الرهن، ولأمكن لكل شخصٍ أن يحتال على غيره، فتراه يرهن أرضه، وسيارته، وعمارته، ثم يبيعها ولا يبالي. إذاً: لا ينفُذ التصرف في الرهن، فلو أن شخصاً أعطاك بيته أو عمارته أو مزرعته أو أرضه رهناً، وتم القبض المعتبر شرعاً؛ فَلَزِم الرهن، وفوجئت بعد شهر وقبل السداد وإذا بالراهن قد باع هذه العمارة، أو الأرض، أو المزرعة، فترفع قضيتك إلى القاضي، فتُقيم الشاهدين العدلين على أنها مرهونة، فينقض القاضي بيعه ويُلغيه، وحينئذٍ يُبقي العين مرهونة إلى تمام ما بين الراهن والمرتهن، فإن تمت مدة الدين وسدّد فالحمد لله، وحينئذٍ إن شاء باع وأتم صفقة البيع فلا إشكال، فالمال ماله، وأما إذا لم يسدد كان من حق القاضي أن يبيع العين سداداً للدين، كما ذكرنا. وعلى هذا فلو تصرَّف بالبيع، أو تصرَّف مثلاً في المنافع؛ فإنها تُحبَس، كما سيأتي، فلو أجَّر العمارة، أو أجّر المزرعة، فكل هذه المكاسب تُحبس في الرهن حتى يُسدَّد الدين؛ لأنه موقوف ومرهونٌ لحق، ومستوثق لدين، فلا يمكن أن يُتصرَّف فيه إلا بعد تمامه، هذا كله إذا تصرَّف الشخص المدين الذي هو الراهن. أما لو تصرَّف صاحب الدين، كما أعطيته سيارتك في عشرة آلاف ديناً، وفوجئت أنه قد باع هذه السيارة، ادعى أنها له وباعها، فإنه لا يصح البيع، وليس من حقه أن يُقدم على بيع الرهن إلا إذا تمت المدة ولم تسدد، فحينها من حقه أن يقوم بالبيع إن أذنت له، وإلا رفع إلى القاضي وباع. وقوله: (بغير إذن الآخر)، أي: إذا أذن الآخر له أن يبيع، كأن جاءه وقال: يا فلان! قد رهنت عندك سيارتي أو أرضي أو عمارتي أو مزرعتي، وأنا محتاج لهذه الأرض أن أبيعها وأتصرف فيها، وقال له: بعها، فحينئذٍ يكون برضا الطرف الآخر، ويصح البيع، ويزول الرهن؛ لأن البيع يفوِّتها من ملكية الراهن. وفي بعض الأحيان يبقى الرهن في جزئها، كأن يقول: يا فلان! لك عليّ مائة ألف، والعمارة التي رهنتها عندك قيمتها مائتا ألف، سأبيع نصفها وأبقي نصفها رهناً عندك، فقال: قبلت، فحينئذٍ يلتغي النصف المباع، ويبقى النصف غير المباع على الرهن، وقس على هذا من المسائل في المشاعات، كما تقدم معنا في رهن المشاع.

حكم عتق الراهن للرهن

حكم عتق الراهن للرهن قال رحمه الله: [إلا عتق الراهن فإنه يصح مع الإثم وتؤخذ قيمته رهناً مكانه]. قوله: (إلا عتق الراهن) أي: يصح عتق الراهن مع الإثم؛ لأن العتق لا يُمكن تداركه، ولذلك عظَّم الله عز وجل أمر العِتاق والنذر والطلاق والنكاح، ومن هنا قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث جدُّهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعتاق -وفي رواية-: النذر)، فمن قال -وهو يمزح- لعبده: أنت حر، فإنه يُلزم ويُصبح حراً لوجه الله شاء أو أبى، ولو قال: كنت أمزح، فنقول: جِدُّه جِد وهزله جِد، ولو قال لرجل: زوّجتك بنتي، وهو يمزح، وقال الآخر: قبلت، فإنه يصير ملزماً بالنكاح؛ لأن جد النكاح جد، وهزله جد. وهكذا لو قال لامرأته -يمزح معها-: أنتِ طالق، فإنها تطلُق عليه؛ لأن جد الطلاق جد، وهزله جد، وهكذا لو نذر وقال -على سبيل المزاح-: لله علي أن أصوم غداً، أو أصوم شهراً، لزِمه، ولو قال: كنتُ أمزح، فنقول: جِدُّه جِد، وهزله جِد. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أربع جائزات إذا تُكلِّم بهن: النكاح، والطلاق، والعتاق، والنذر). وعلى هذا فلو أنه تَلفّظ بالعتق فأعتق العبد المرهون، فإنه لا يمكنه أن يتدارك العِتق، ويأثم؛ لأنه تصرَّف على وجهٍ محرّم، ولأن هذا ليس من النصيحة للمسلم، وقد غشّ أخاه المسلم حينما جعل العبد رهناً عنده ثم فوّت عليه ذلك. وقوله: (ونؤخذ قيمته رهناً مكانه). فإذا اشتكى صاحب الدين إلى القاضي، وقال: فلان رهنني عبده، ثم أعتقه، قلنا: يسري العِتق، وإذا سرى العِتق بطل الرهن وفات، فماذا يفعل القاضي؟ هل يلغي العِتق؟ نقول: العِتق لا يُلغى، بل يقوم القاضي بإلزام المدين بوضع رهنٍ بديلاً عن الرهن، فمن العلماء من يقول: يكون ثمن العبد رهناً، ومنهم من يقول: يُنظر إلى الذي هو مثله، فيقوم مقامه، والأول أوجه وأقوى. والفرق بين القولين: أنه ربما كان الثمن أكثر، وربما كان مثله أو أقل، والعكس، وحينئذٍ تكون قيمة الرقيق رهناً عند صاحب الدين، فإن عجز عن السداد أُخِذ منها بقدر الدين وسُدِّد الدين، كما لو عجز وبِيع الرقيق سداداً للدين. فهذا الذي أعتق عبده إن كان قاصداً، فإن على القاضي أن يعزِّره؛ لأنه أذية للناس ومعاملة لهم بالغش، فإن القاعدة أنه إذا تعامل شخص مع أخيه المسلم بعقدٍ شرعي، فينبغي على كلٍ منهما رعايته، فإذا خدع أحدهما الآخر فعلى القاضي أن يعزّر الخادع بما يناسبه، وهذا يختلف بحسب اختلاف الأحوال والأشخاص والأزمنة والأمكنة، ويرجع فيه إلى العرف، وبابه باب التعزير، كما سيأتي إن شاء الله.

نماء الرهن وكسبه وأرش الجناية عليه

نماء الرهن وكسبه وأرش الجناية عليه قال رحمه الله: [ونماء الرهن وكسبه وأرش الجناية عليه ملحق به]. بعد أن بين المصنف رحمه الله المسائل المتقدمة في الرهن، شَرَع في مسألة نماء الرهن. ومن المعلوم أن الرهن تارةً يزيد وتارة ينقص، فإذا رهن الشيء وهو على صفة، ثم زاد أثناء مدة الرهن، فهل الزيادة تكون للمالك الحقيقي أو تكون تابعة للرهن، أم أن هناك تفصيلاً في المسألة؟ من أهل العلم من قال: كل زيادة في الرهن تُعتبر تابعة للرهن، وهذا مذهب الجمهور من حيث الجملة. والزيادة تنقسم إلى قسمين: زيادة متصلة، وزيادة منفصلة. فالزيادة المتصلة: مثل أن يعطيه بعيراً ويكون نحيفاً ثم يصير سميناً، وتصير حالته أفضل من حالته حينما وضعه عند الرهن، أو يعطيه الرهن وهو بحالةٍ ضعيفة، كأن يكون مريضاً، فيصبح صحيحاً، ونحو ذلك من الزيادات المتصلة بالرهن. وأما الزيادة المنفصلة: مثل أن يعطيه ناقة، ثم ظهر بها حمل، فولدت، فهل الولد يتبع الأم أو لا يتبعه؟ أو رهن عنده بستانه سنتين، وللبستان ثمرة، وهذه الثمرة هل تتبع قيمتها البستان فتكون رهناً، أو لا تتبع خلال السنتين؛ لأن البستان نفسه مرهون، وثمرة البستان خلال السنة قيمتها مائتا ألف مثلاً، فخلال السنتين ستكون أربعمائة ألف، فهل نقول: الأربعمائة ألف تُوقف ويمنع صاحب البستان منها، وتكون تابعة للبستان في الرهن؛ حتى يأتي وقت السداد، فإن شاء سدّد وإلا أُخِذ من الرهن على قدر الدين؟ من أهل العلم من قال -كما ذكرنا-: إن الزيادة من حيث الجملة تكون تابعة، وبعضهم يرى أن الزيادة المتصلة تتبع، والزيادة المنفصلة لا تتبع. ومن حيث الأصول فإن الأشبه والأقوى أن الزيادة تابعة لأصلها؛ لأنه لما رهنه رهنه على جهة الاستحقاق والاستيثاق، وأصول الشريعة تدل على أن الفرع تابعٌ لأصله، فلو قلنا: إنها لا تتبع، فهذا يُشكل وتنبني عليه مسائل أُخر في أبواب أخرى، وتنخرم القاعدة، فالأصل الشرعي أن هذه الرقبة صلاحها وفسادها مرهون إلى أن يأتي وقت السداد، ويُتوصل عن طريقها إلى الحق، فإذا جاء وقت السداد وسدد للناس حقوقهم وإلا أُخذ منها، ونحن لا نظلمه، فإن ماله مردودٌ عليه، له حقُّه الذي في الرقبة، سواءً كان زائداً في الرقبة أو في النماء الموجود فيها. وعلى هذا: فإن إبقاء النماء والزيادة تابعة للأصل هو الأشبه والأقعد والأقيس والأقرب للأصول، فلمّا لم يرد دليل يستثني أولاد الأمهات، إذا رهن الأرقاء، ولا أولاد البهائم، وقد عُلم أن البهائم تكون رهناً، فلمّا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استثناء للفروع والنماء، دلّ على أنها باقية وتابعة لأصولها، وعلى هذا يُقال: إنه ينبغي إبقاء هذا النماء تابعاً لأصله. لكن لو كان هذا النماء لا يمكن حبسه، ويُحتاج إلى بيعه، مثل ثمرة البستان، كما لو أخذت ديناً مائة ألف، وقلت: سأسددها بعد خمس سنوات، وهذا البستان رهنٌ عندك، فإنك إذا رهنت البستان، فالثمرة خلال خمس سنوات لا يمكن أن نبقيها في النخلة؛ لأن بقاءها في النخلة ضرر وإفساد لها في بعض الأحوال، وبناءً على ذلك نقول: من حق صاحب البستان أن يقطعها ويبيعها؛ ولكن يُطالب بجعل القيمة مرهونة، هذا إذا كان النماء لا يمكن إبقاؤه، كثمرة البستان، فإنه لا يمكن أن تبقى إلى وقت السداد، فتؤخذ قيمتها مكانها، أما لو أمكن بقاؤها كأولاد البهائم، وأولاد الأمهات إذا رهن الأرقاء، فإنها تبقى على حالها ولا يُتصرَّف فيها، كما لا يُتصرف بالأصول والأمهات. وقوله: (وكسبه) أي: كسب الرهن، فلو أن رجلاً استدان منك ألف ريال، وقال لك: أعطني ألف ريال إلى نهاية السنة، فقلت له: أريد رهناً، فقال: ما عندي رهن إلا ناقتي، أو ما عندي رهن إلا سيارتي، أو ما عندي رهن إلا هذه الشاة، فرهن الشاة أو الناقة وقيمتها ثمانمائة ريال، فلمّا مضت الأيام أصبحت قيمتها ألفين، فجاءك وقال لك: أنا أعطيتك هذا الرهن وقيمته ثمانمائة ريال، وسأُعطيك بدلاً عنه رهناً بقيمته، فنقول له: لا، بل يبقى ويكون الكسب تابعاً للرهن أيضاً، ويبقى مضموناً إلى أن يأتي وقت السداد، فإن سددت فالحمد لله، وإن لم تسدد فلن نأخذ منك إلا قدر الدين الذي عليك. إذاً: النماء والكسب التي يكون في الرهن، كزيادة قيمته، أو يكون له منافع كرقيق، فقد كانوا في القديم يضعون العبد رهناً، فإذا كان العبد صاحب حرفة، ويريد أن يتكسب، فهذا الكسب تابعٌ للرهن. وعلى هذا قالوا: نماء الرهن وكسبه ملحق به. وقوله: (وأرش الجناية عليه ملحق به)، مثال أرش الجناية في القديم والجديد: في القديم يمثلون بالرقيق أو الدابة: فلو أن رجلاً جاءك وأعطاك ناقته، وقال: هذه الناقة رهنٌ عندك لقاء ألف ريال، ثم إن هذه الناقة جنى عليها إنسان، فأتلف يدها، وأُعطي لقاء التلف الموجود فيها خمسمائة ريال التي هي أرش الجناية، فأصبح هناك ناقة وأرش جناية عليها، فالأرش يُحبس مع الناقة. وفي الجديد نمثل بمثال معاصر: لو أن رجلاً قال لك: أعطني عشرة آلاف ريال ديناً، فقلت له: أعطني رهناً، فقال: أُعطيك سيارتي رهناً، فقلت له: قبلت، فوُضِعت السيارة أمام بيتك، في مكان محفوظ، فجاء شخص، وضرب السيارة بسيارته، وهذا التلف الذي أصاب السيارة قدِّر بثلاثة آلاف ريال، أرش جناية، فدُفِعت الثلاثة الآلاف، فنقول: هذا الأرش يكون تابعاً للرهن، ويبقى الأرش محبوساً مع السيارة حتى يأتي وقت السداد ويُحكم فيه. هذا هو معنى قوله: (أرش الجناية عليه).

تحمل الراهن مئونة الرهن

تحمل الراهن مئونة الرهن قال رحمه الله: [ومئونته على الراهن]. إن الله سبحانه وتعالى عدل، ولن تجد على وجه الأرض أكمل من هذه الشريعة، لا أكمل أحكاماً، ولا أحسن نظاماً: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]، وهذه الشريعة ما دامت أصولها كاملة، ففروعها واجتهادات العلماء رحمهم الله المستنبطة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قمة في الكمال، والبهاء، والجلال، وقمة في العدل والمساواة. فكما أن هذا الرهن كسبه ونماؤه يكون لصاحبه ويُحبس، كذلك الغُرْم والأذيَّة والضرر يتحمّل مسئوليتها الراهن، ما لم يقصِّر من وُضِع عنده الرهن تقصيراً يكون سبباً في الأذية، أو سبباً في حصول الضرر؛ فحينئذٍ يتحمل مسئوليته. ومن هنا قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يغلق الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه،) (لا يغلق) أي: يكون الذي دفعته: سيارتك، وأرضك، وعمارتك، ومزرعتك، ودوابك، وعبيدك ونحو ذلك مما دفعته في الرهن، إن صار له كسب ونماء؛ فإنه يُحفظ مع رهنك، وليس لمن له الدين، ولو أنه حصل للرهن ضرر وآفة سماوية، أو ضرر بدون تعدي ممن وضعت عنده الرهن، فإنك تتحمل أنت مسئوليته، ويكون النقص عليك، وقوله عليه الصلاة والسلام: (له غنمه وعليه غرمه)، فالذي يغنَم يغرم، وهذا هو عين العدل. ومن هنا قال صلى الله عليه وآله وسلم -يقرر هذه القاعدة في حديث أبي داود -: (الخراج بالضمان)، يعني: الربح لمن يضمن الخسارة؛ إذ ليس من العدل أن نقول: ربح الرهن يكون لصاحبه، ولو حصل على الرهن ضرر أو أذية فإنه يكون على المرتهن، فإن هذا من الظلم، ومن هنا عدلت الشريعة بين الناس، فالغنم بالغرم. ومن هنا قال العلماء في القاعدة المشهورة: (الخراج بالضمان) وقولهم: القاعدة: (الخراج بالضمان) ما هو إلا تأدباً مع حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وحديث: (الخراج بالضمان) أجمع العلماء على متنه، والعمل به، كما حكى ذلك الإمام أحمد رحمه الله وغيره. ومنهم من يقول: (الغنم بالغرم)، يعني: الغنيمة لمن يتحمل الخسارة، أي: يأخذ النتاج والربح والنماء من يتحمل الخسارة. وعلى هذا: فإن الراهن هو الذي يأخذ النماء، وعليه البلاء، أي: إن حصل نقصٌ تحمّله، وإن حصلت زيادة كانت له.

تحمل الراهن كفن المرهون وأجرة المخزن إن احتاج إلى حفظ

تحمل الراهن كفن المرهون وأجرة المخزن إن احتاج إلى حفظ قال رحمه الله: [وكفنه وأجرة مخزنه]. قوله: (وكفنه) إذا كان الرهن عبداً فمات، فقيمة الكفن على الراهن. وقوله: (وأجرة مخزنه) مثلاً: أعطاك رهناً واحتاج إلى وضعه في مخزن، فإن أُجرة المخزن تكون على الراهن، وليس على صاحب الدين؛ لأن الرهن في الأصل لمن عليه الدين، وعلى هذا يكون متحمِّلاً لأجرة حفظه. وقد قلنا: إن القبض إذا كان معدوداً فإنه يحتاج إلى عد، فهل تكون أُجرة العد على الراهن أو على صاحب الدين؟ قالوا: تكون أجرة العد على الراهن، فهو الذي يتحمل أجرة العد. وإذا كان منقولاً يحتاج إلى نقله إلى بيت المرتَهَن، فهل يكون النقل على المرتَهَن أم على الراهن؟ قالوا: يكون النقل على المرتهن.

الأسئلة

الأسئلة

حكم أجرة الطبيب إذا لم يشف المريض

حكم أجرة الطبيب إذا لم يشف المريض Q لو أن رجلاً دفع مبلغاً للطبيب؛ وذلك من أجل العلاج للمرض، فإذا لم يُشف المريض، فهل يُلزم الطبيب برد المبلغ للمريض أثابكم الله؟ A هذه المسألة فيها تفصيل من حيث الأصل، فإن المهمات والأعمال الطبية تنقسم إلى أقسام: فهناك مهمات تُطلَب من الطبيب، أو من مساعد الطبيب، أو من الممرض، أو مَن يتوكَّل عنهم، وهي إدارة المستشفى، فتطلب هذه المهمات بغض النظر عما تتضمنه، مثلاً كالتحاليل، وتصاوير الأشعة، ونحوها مِن المهمات الظاهرة التي يقوم بها الطبيب والممرض، ونحوهم من مساعدي الأطباء، فهؤلاء يقومون بهذه المهمة على وِفق ما طُلِب منهم، فهذه لا دخل لها بمسألة الشفاء وعدمه. لكن الطبيب إذا دخل عليه المريض، وقال له: افحصني، فقام بفحصه، وتعاطى أسباب الفحص الواجبة عليه طبياً، وقام بها على وفق الأصول المتبعة عند أهل الاختصاص، وأدّاها على وجهها، ثم بعد ذلك شخّص المرض، فإنه إن استأجره من أجل التشخيص، وأصاب في تشخيصه؛ كان المال من حقه، وأما إذا كان أخطأ في التشخيص، فإنه يتحمل مسئولية الخطأ، كأن خرج عن الأصول المتبعة عند أهل الاختصاص، أو خمَّن، أو ما إلى ذلك. مثال ذلك: هناك أنواع من المرض لا يمكن للطبيب أن يحكُم بوجودها إلا بعد أن يستعين -بعد الله عز وجل-بالفحص بالوسائل المتبعة عند المختصين، وهناك نوعان من العوارض: العوارض الظاهرة، والعوارض الباطنة، فيمكن أن يشخِّص أنها قرحة بالاحتمال، فإذا جاءه شخص وقال: أشعر بألم في هذا المكان، وأشعر بحموضة، وأشعر بكذا وكذا، وجاء بالعلامات التي تسمى: بالسريرية؛ والفحص السريري هو الذي يكون في البداية، فهذا يمكن أن يكون احتمالياً، فيحتمل أن تكون قرحة أو غيرها، فقال: أنت مصاب بالقرحة، وشخَّص على أنه مصاب بالقرحة، مع أن بإمكانه التصوير بالأشعة؛ لكي يتحقق هل هو مريض بالقرحة أم لا؟ فأعطاه الدواء على أنه مريض بالقرحة دون أن يتبع الأصول المتبعة عند أهل الاختصاص؛ من إحالته إلى التصوير بالأشعة، أو أن يحلل له دماً أو نحو ذلك، للوصول إلى معرفة المرض الذي لا يُتوصَّل إلى الجزم به أو غلبة الظن إلا عن طريق هذه الوسائل، فإن قصَّر على هذا الوجه، وشخَّص بالطريقة الأولى، التي هي التمهيدية، أو الفحص السريري، أو الفحص المبدئي، فإنه حينئذٍ إذا أخطأ تحمّل مسئولية الخطأ، وسقط استحقاقه في الأجر؛ لأن هذا الفحص الذي قام به ليس على الوجه المتَّبَع، وليس على أصولٍ متَّبعة. أما لو أنه قام بتعاطي الأسباب، وبذل جهده، وفعلاً وُجِدت الأمارات والدلائل، وبنى عليها، فلا إشكال، وإن كانت الدلائل محتمِلة فخالف أصول المهنة، كأن تأتي صورة ليست بواضحة، فالأصول المتَّبعة عند أهل المهنة: أنه إذا جاء التصوير بالأشعة مثلاً غير واضح؛ فإنه يطَالب بإعادته، فلم يعد التصوير، وقال: هناك احتمال في الصورة أن عندك مرض كذا، ثم أعطاه دواءً بناء عليه، فإنه يتحمل المسئولية إذا تبيّن أنه ليس عنده هذا المرض. إذاً: مدار المسألة: أنه إذا بذل ما يجب عليه بذله، واتبع الأصول المتبعة عند أهل الاختصاص، ولم يجازف بالمريض، ولم يعرِّضه للخطر، فحينئذٍ يكون من حقه أن يأخذ أجرة مثله، أو ما اتُّفِق عليه. لكن لو قلنا: إنه أخطأ وقصَّر، وخرج عن الأصول المتبعة عند أهل الاختصاص؛ فإنه يكون هناك أمران: أولاً: أنه قام بغير العمل الذي ينبغي القيام به؛ لأن المريض ائتمنه فيما بينه وبين الله، وحمّله المسئولية أن يتقي الله عز وجل فيه فيعامله معاملة المثل، فإن خرج عن هذه الأمانة، فقد خرج عن مقتضى العقد بينهما، ومن هنا لا يستحق الأجرة، بل وتترتب عليه مسئولية الدنيا بمحاسبته ومعاقبته ومطالبته بضمان ما ترتّب على خطئه، وتترتب عليه مسئولية الآخرة إذا لم يتب الله عز وجل عليه، فيعاقَب عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة. وهناك شيء قريب من الإجارة الطبية، وهي مسألة القراءة بالقرآن، فبعض العلماء يجعلها من باب الجُعل لا من باب الإجارة، وهناك فرق بين الجعل والإجارة؛ لأن الحديث في الصحيح: (اجعلوا لنا جعلاً)، فإذا قلنا: إن القراءة بالقرآن على المرضى والمصروعين والممسوسين جُعل؛ فيكون الأمر فيها أشد، فإذا قرأ القارئ على المريض، فإنه لا يستحق المال إلا إذا شُفي؛ لأن النص الذي ورد باستحقاق أخذ الأجرة على القراءة بالشفاء، وإنما أخذ الصحابة رضوان الله عليهم الأجر بعد الشفاء. ومن هنا فكون بعض القراء يفتحون عيادات، فتجدهم يأخذون مبالغ كالرسوم قبل أن يقرءوا على المرضى، فهذا لا يخلو من نظر؛ لأنه لا يتأتى فيه الجعل وإنما هو إجارة، وليس هذا من ضرب الإجارة، وإنما تكون القراءة هبة من الله سبحانه وتعالى: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) لمن قرأه فأعطاه حقه، وجعل الله عز وجل ثمرة هذا التوجه إليه سبحانه وتعالى بقراءة القرآن الإخلاص، فإنه يجعل له أجر الدنيا والآخرة، فيجعل له عاجل البشرى من الدنيا إذا أُعطي شيئاً أن يأخذه للسُّنة، وإن أحب أن لا يأخذ وأن يختار أجر الآخرة: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ:47]، فهذا أكمل وأعظم أجراً، وهو أوجب لنزول البركة له إلى أن يقبضه الله عز وجل، فقلّ أن تجد قارئاً لا يأخذ من الناس إلا وتأذَّن الله ببقاء البركة والخير في قراءته. فكون القراء يفتحون العيادات، ويكون هناك أناس يقبضون أجرة معيّنة، ويجلس معهم الجلسة الأولى لكي يبين أنه ممسوس أو مسحور أو كذا، فهذا أمر فيه توسُّع، ويحتاج إلى إعادة نظر ودراسة شرعية، يحصل من لقائها الحكم بأن هذا عمل شرعي؛ لأنها تصبح أشبه بالتكسب الدنيوي المحض. ومسألة: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) إنما هو في جُعل، والجُعل ثابت في النص، قال: (اجعلوا لنا جُعلاً)، ومن قواعد الشريعة أن ما كان من باب الجعل فلا يستحق إلا بعد تمام الشفاء الكامل؛ لأن الجُعل يخالف الإجارة، وسيأتينا هذا، وهذا مقرر عند العلماء: أن الإجارة تُستحق شيئاً فشيئاً، فلو قام بنصف العمل، فإنه يستحق نصف الأجرة، لكن في الجعل لا يستحق شيئاً حتى يأتي بالعمل كاملاً، فإن كان قد جعل له جُعلاً على أن يقرأ على مريضه فيُشفى، فلا يستحق إلا إذا شفي المريض. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يُلهمنا الصواب في القول والعمل، وأن يعصمنا من الزلل. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

باب الرهن [3]

شرح زاد المستقنع - باب الرهن [3] من أحكام الرهن ومسائله: أن يد المرتهن يد أمانة، ما لم يتعد أو يفرط ويقصر في حفظ الرهن، أما إذا تعدى المرتهن أو قصر فإنه يضمن، ومنها: عدم انفكاك الرهن مع بقاء بعض الدين، ومنها: بيع الرهن عند انتهاء الأجل سواء من المرتهن أو من القاضي، ومنها: أنه إذا تلف بعض الرهن فباقية رهن، وغيرها من المسائل والأحكام المفصلة في هذه المادة.

يد المرتهن يد أمانة ما لم يتعد أو يفرط

يد المرتهن يد أمانة ما لم يتعد أو يفرط بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وهو أمانة في يد المرتهن إن تلف بغير تعدٍ منه فلا شيء عليه]. قوله: (وهو أمانة في يد المرتهن)، هذه الجملة قصد المصنف رحمه الله أن يبيِّن فيها حُكم الرهن: هل هو أمانة أو مضمون؟ وهل يد المرتهن تُعتبر يد أمانة فلا تَضمَن إلا إذا فرَّطت، أم أن يده يد ضمانٍ فتضمن مطلقاً؟ وتوضيح هذه المسألة: لو جئت إلى رجل وقلت له: بعني بيتك بمائة ألف أعطيكها بعد سنة، فقال: قبلت، ولكن أعطني رهناً لقاء هذا المال، فأعطيته سيارة، فهذه السيارة رهن، فلو أنها تلفت في يومٍ من الأيام، فإما أن تتلف بسبب تعدٍ منه وتقصير، كأن يحرِّكها ثم حدث لها حادث فتلفت، فحينئذٍ يده يد ضمان، هذا إذا حرّك الرهن دون إذنٍ من الراهن. هذا بالنسبة للحالة الأولى، وهي التي يقول عنها العلماء: إذا تصرّف في الشيء المرهون دون إذن من صاحبه، فالتصرُّف بدون إذنٍ من صاحبه تصرُّف يوجب الهلاك أو فساد السلعة، أو فساد العين، فإنه في هذه الحالة يجب عليه الضمان، لكن لو أنه وضع الرهن عنده، فجاء شيءٌ وأتلفه بدون اختيارٍ منه، كأن يكون مزرعة فاجتاحها سيل، أو ثمرة فأصابتها جائحة، فهذا الفساد والتلف الذي تلف به الرهن بدون تقصيرٍ منك، وبدون تعدٍ، هل تضمنه أو لا تضمنه؟ للعلماء قولان في هذه المسألة: فبعض العلماء يقول: من وضع عندك رهناً، بيتاً، أو أرضاً، أو مزرعة، أو متاعاً، أو طعاماً، ثم تلف هذا الشيء أو سقط، فإنّك تضمن، وتكون يدك يد ضمان على هذا القول. وبناءً على هذا القول: فإنه إذا كانت قيمة البيت عشرة آلاف ريال، والدين الذي دُفِع في مقابله الرهن خمسة آلاف ريال، فحينئذٍ تكون يده يد ضمان للخمسة آلاف التي هي أصل الدين، والخمسة آلاف الزائدة يده يد أمانة، فلا يضمن إلا إذا فرّط، وهذا مذهب الحنفية رحمهم الله. القول الثاني: من وضع عندك رهناً ولم تتعدّ ولم تفرِّط، بل حافظت على الرهن، فجاء بلاء وأتلَف هذا الرهن، وفسد بسببه هذا الرهن، فإنك لا تضمن، ويدك يد أمانة، فلا تضمن إلا إذا فرّطت، وهذا القول هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله، وهو الذي سار عليه المصنِّف رحمه الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في الحديث الصحيح -وهو حديث أبي هريرة -: (لا يغْلق الرهن ممن رهنه، له غنمه وعليه غرمه). فقوله: (لا يغْلق الرهن ممن رهنه) يعني: من الراهن، وقوله: (له غنمه) يعني: إذا زاد سعره فإنه يزيد على ملكه وضمانه، وقوله: (وعليه غرمه) يعني: لو تلف بآفة سماوية ودون تعدٍ، أو تلف بدون تفريط ممن ارتُهِن عنده، فإنه يتحمّل المسئولية، أعنِي: صاحب الرهن. وهذا القول هو الذي اختاره المصنِّف، وهو الصحيح. أما أصحاب القول الأول، فقد احتجوا بحديثين ضعيفين: الحديث الأول: فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الرهن بما فيه) أي: مرهون بما فيه. وبناءً على هذا الحديث قالوا: (الرهن بما فيه) معناه: مَن وضَع عندك رهناً بعشرة آلاف، ودينُك عليه عشرة آلاف، وتلف هذا الرهن، فإنك حينئذٍ لا تطالبه بشيء، فالرهن تلف على ضمانك، ويدك يد ضمان على هذا القول. الحديث الثاني: وهو حديث مرسلٌ ضعيف، وفيه: (أن رجلاً رهن عند رجلٍ فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم نَفَق الفرس، فجاء الرجل يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ليس لك عليه من حق)، يعني: أن الفرس يُعتبر قيمةً لقاء الدين. أما الحديث الأول -وهو من حديث أبي هريرة - فإنه يُروَى مرسلاً وموصولاً، وروايته موصولاً عند البيهقي بسندٍ ضعيف، وروايته مرسلة عند أبي داود في المراسيل بسند مرسلٍ صحيح، لكن المرسل لا يُحتج به ما لم يكن متصلاً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى هذا فلا يقوى الاحتجاج به. وأما الحديث الثاني -حديث الفرس- فإنه مرسلٌ ضعيف. وعلى هذا: فالصحيح مذهب الجمهور: أن من وضع عندك رهناً، فإن هذا الرهن إذا لم تفرِّط ولم تتعدّ فيه فإنك لا تضمن، فلو قال لك: خذ هذا البيت واعتبره رهناً لقاء الأربعمائة ألف التي هي لك عليَّ، فأخذت البيت وسقط البيت وانهدم، فإنك لا تضمن إذا كان سقوطه بدون تفريط، لكن لو كان سقوط البيت وانهدامه بتفريط منك، كأن يعطيك البيت رهناً، فوضعت متاعاً في السطح أثقل السطح فانكسر وانهدم، فإنك تضمن؛ لأنك في هذه الحالة تعدَّيت، وحينئذٍ إذا تعدّت يد الأمانة ضمنت. وخلاصة ما سبق: أن الرهن إذا وُضِع عند المرتهن ولم يتصرف فيه ولم يتعدّ ولم يفرِّط؛ فإنه لا يضمن إذا تلف ذلك الرهن، سواءً تلف كله أو تلف بعضه.

تلف الرهن مع بقاء المالية وعدم بقائها

تلف الرهن مع بقاء المالية وعدم بقائها والتلف على قسمين: تلف لا تبقى معه المالية، وتلفٌ تبقى معه المالية. فالتلف الذي لا تبقى معه مالية: مثل أن يعطيك تمراً، ثم إن التمر فسد وخمج، فإنه تذهب قيمته وتذهب ماليته، ومثال الذي لا تذهب معه المالية: كأن يعطيك عسلاً يفسد بعضه ويبقى بعضه، فحينئذٍ لا تذهب المالية، ويبقى الصالح منه، أو يعطيك بيتاً رهناً، فينهدم البيت، فإن أرض البيت لا زالت لها قيمة، ولربما بقية الأنقاض لها قيمة، فحينئذٍ يكون هناك تلف مع بقاء المالية. أما إذا كان موازياً للدين، مثل أن يعطيك بيتاً قيمته تقدر بمليون، ثم سقط ذلك البيت، وبقيت قيمة الأرض مع الأنقاض تقارب مثلاً نصف مليون، والدين الذي له عليك نصف مليون، فحينئذٍ لا إشكال، فتبقى المالية كما هي ويبقى الرهن كما هو. وتارة يكون التلف لا يوازي كل الدين، ولكن يكون مُذهباً لبعضه، فيكون الدين مثلاً مائة ألف، فإذا تلفت العين صارت قيمتها تسعين أو ثمانين أو نحو ذلك.

أقسام الأيدي وحكمها

أقسام الأيدي وحكمها وقوله: [وهو أمانة]. (وهو) أي: الرهن، (أمانة). واليد تنقسم إلى قسمين: فإما أن تكون يدك يد أمانة، أو يد ضمان. ويد الأمانة: أن تأخذ الشيء فتحفظه وتقوم على رعايته، ولا تتعدى ولا تقصِّر. مثال ذلك: رجل أعطاك عشرة آلاف ريال، وقال: يا فلان! ضع هذه العشرة آلاف وديعة عندك، فإن أخذت العشرة آلاف كما هي، سواءً كانت من فئة مائة، أو من فئة الخمسمائة، أو من فئة الخمسين أخذتها كما هي بغلافها، ونفس الأوراق التي أعطاك إياها، فوضعتها في صندوقٍ محفوظ، وقفلت عليها، وهذا الصندوق في مكان أمين، فإن يدك يد أمانة، ومتى جاءك يطلبها أعطيته إياها، فأنت لم تتعدّ؛ لأنك لم تأخذ منها شيئاً، ولم تقصِّر؛ لأنك وضعتها في نفس الصندوق الذي تحفظ في مثله. أما لو أعطاك عشرة آلاف ريال، وقال: يا فلان! ضعها أمانة عندك، فلما أخذت منه العشرة آلاف قلت: سأصرفها، وعندما يطلب حقه أُعطيه حقه، فأخذت العشرة آلاف وأنفقتها على مصالحك، وأنت في نيتك وتعلم أنه متى ما جاء يطلبها في أي يوم من الأيام أن تعطيه، فحينئذٍ إذا صرفت العشرة آلاف في أي شيء، فإن لك غنمه وعليك غرمه، فتتحمل وتضمن العشرة آلاف، وتصبح يدك يد ضمان، وهذا التصرف منك يدخل في التعدِّي؛ لأنه كان ينبغي عليك أن تأخذ العشرة آلاف كما هي وتقفل عليها، فإذا أخذتها لتجارة أو مصلحة خاصة فقد تعديت، فإن استأذنته صار قرضاً، وانتقل من الوديعة إلى القرض، مثاله: لو قلت له: يا فلان! العشرة آلاف التي أودعتها عندي سأصرفها في مصالحي، ومتى ما طلبتها مني أعطيتك، فقال: لا بأس، ففي هذه الحالة يُصبح قرضاً، في الحالة الأولى وديعة، والوديعة تحفظ كما هي، وفي الحالة الثانية تكون قرضاً. أما التفريط: فكما لو أعطاك عشرة آلاف، وقال: يا فلان! ضعها وديعةً عندك، فأخذتها ووضعتها على طاولتك أو مكتبك، وأنت في العمل أو الوظيفة، ودخلت تتوضأ فجاء شخص وأخذها، فحينئذٍ قصّرت؛ لأن هذا المبلغ بهذه القيمة لا يُوضع في هذا المكان.

تحول يد الأمانة إلى يد ضمان

تحول يد الأمانة إلى يد ضمان إذاً: يد الأمانة تضمن في حالتين: التعدي أو التقصير. فالتقصير في الحفظ: كأن يضع المبلغ في صندوق خشبي يُمكن كسرُه، فإن هذا يُعتبر تقصيراً. وأما التعدِّي: فكأن يأخذ الأموال ويتصرّف فيها. مثاله: جاءك رجل وقال: يا فلان! أنا سأُسافر، فضع سيارتي هذه عندك حتى آتيك، فأخذت السيارة ووضعتها في مكانٍ أمين، فلو أنه جاء بعد السفر وأراد أن يحرك السيارة وإذا بالسيارة تالفة لا تتحرك، فحينئذٍ لا تضمن شيئاً؛ لأنك لم تتعد ولم تقصِّر، فيدك يد أمانة. لكن لو أعطاك السيارة وسافر، فجئت في يوم من الأيام وحركتها وخرجت بها إلى حاجة من حوائجك، فوقع -لا قدّر الله- حادث، أو تلف شيءٌ في السيارة، فإنك تضمَن؛ لأنك تعدّيت، وفي هذه الحالة تكون يدك يد ضمان. إذاً: هناك يد تسمى: يد أمانة، وهناك يد تسمى: يد ضمان. والأصل في الأشياء التي تكون ملكاً لك أنت أن تتحمل مسئوليتها، والأشياء التي تملكها مثل: أراضي، بيوت، أطعمة، أكسية، فالشيء الذي تملكه ربحه لك وخسارته عليك، هذا هو الأصل. فلو أن رجلاً استدنت منه عشرة آلاف ريال وقلت له: خذ هذه السيارة وضعها عندك، فأنت في الأصل الضامن، فإن وضعت سيارتك رهناً عنده، فإن يده يد أمانة، فإن تصرّف في هذا الشيء فحينئذٍ ينتقل بتعدِّيه أو تفريطه إلى الضمان، وهذا هو معنى قوله رحمه الله: (ويده يد أمانة). إذاً: يد المرتهن يد أمانة، لا تضمن إلا إذا قصّرت أو تعدّت، وهذا على أصح قولي العلماء؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد صححه الدارقطني، وقال الحافظ ابن حجر: رجاله ثقات، وغير واحد من العلماء يميلون إلى ثبوته، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يَغْلَق الرهن ممن رهنه، له غنمه وعليه غرمه) أي: ما لم يتعد أو يفرِّط. وقوله: (إن تلف بغير تعدٍ منه فلا شيء عليه). أي: إذا تلف الرهن من غير تعدٍ منه فلا شيء عليه. فلو قال لك: أعطني مائة ريال، فقلت له: أعطني رهناً، فقال: هذا التمر ضعه عندك رهناً إلى نهاية الشهر، أو نهاية الأسبوع وأسددك، فأخذت التمر فوضعته في مكان حار، أو في مخزن حار، وقفلت عليه، والتمر يفسد، إذا كان في مكان حار وخزِّن في مكان مُنْكَتم، الغالب أنه يحمض ويفسد، فإذا فسد التمر فإنك تضمن؛ لأنك في هذه الحالة قصَّرت في حفظ الأمانة، ولكن لو وضعته في مكان يُحفظ في مثله، وأراد الله سبحانه وتعالى أن يأتي السوس ويتلفه، وهذا المكان ليس فيه السوس، وليس بمكان يوجد فيه السوس، ولكن تلف بإرادة الله عز وجل وقدره، فأنت لا تضمن؛ لأنك لم تقصِّر ولم تتعد.

عدم سقوط شيء من الدين إذا هلك الرهن دون تعد أو تقصير

عدم سقوط شيء من الدين إذا هلك الرهن دون تعد أو تقصير قال رحمه الله: [ولا يسقط بهلاكه شيءٌ من دينه]. وهذه فائدة يد الأمانة: وهي أن الرهن إذا وضع عندك فهو أمانة، فإذا تلف فإنه يتلف على صاحبه، ولا يسقط من الدين شيء، فهذا الرهن إذا وضِع عندك ولم تتعدّ، وتلف بآفة سماوية، كثمرة بستان قيمتها ثلاثون ألفاً، والدين ثلاثون ألفاً، فلو أن هذه الثمرة التي في البستان جاءتها جائحة، وأتلفت هذه الثمرة، فإنك لا تضمن، ولا يسقط من دينك على صاحب البستان شيء، لكن لو أن قيمة الثمرة في البستان ثلاثون ألفاً، وتعاطيت أسباب التعدي، فمنعت العمال من السقي، أو قصَّرت في حفظه، فإن تعدّيت كأن تمنعهم من أن يسقوه، فأصبحت قيمة الثمرة عشرين ألفاً، فأنت تضمن ثلث القيمة، وتكون على دينك، فإذا كان دينك ثلاثين ألفاً فتسقط منه عشرة آلاف؛ لأنك تتحمل مسئولية التعدي حينما منعته من القيام بسقي البستان. هذا بالنسبة للتعدي. أما بالنسبة للتقصير فمثاله: أن يكون من عادة صاحب البستان أن يقفله، فأنت تركته مفتوحاً، فجاء السُرَّاق، وسرقوا من ثمرته بقدر خمسة آلاف ريال، فأنت تضمن هذه الخمسة آلاف؛ لأنك قصرت في الحفظ، ويدك يد أمانة، فينزل من الدين قدر خمسة آلاف. إذاً: إذا كانت يدك يد أمانة، فإنه لا يسقط من الدين شيء، وإن كانت يدك يد ضمان، فإنه يسقط من دينك على قدر ما حصل من التفريط في الرهن، حتى لو استغرق الرهن كله فإنه يسقط كله. فلو كان تقصير المرتهِن في حدود أربعين ألفاً، والدين أربعون ألفاً، فإنه يسقط ويصير رأساً برأس، ويخرج ولا شيء عليه هذا بالنسبة لمسألة يد الأمانة ويد الضمان. فلما كان المصنف رحمه الله يميل إلى القول: بأن المرتهِن لا يضمن إلا إذا فرّط أو تعدى، فمعنى ذلك أن يده يد أمانة كما ذكرنا، فإذا تلف كله أو بعضه فإنه على صاحبه؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (له غنمه وعليه غرمه)، فإن كان التلف بتعدٍ من المرتهِن ضمِن على قدر ما وقع من التلف، وأُسقِط من الدين على قدر ذلك الضمان.

تلف بعض الرهن لا يخرجه عن كونه رهنا

تلف بعض الرهن لا يخرجه عن كونه رهناً قال رحمه الله: [وإن تلف بعضه فباقيه رهنٌ بجميع الدين] ذكرنا أن التلف ينقسم إلى قسمين: تلف يذهب المالية، وتلف لا يذهب المالية، فإن كان التلف يذهب المالية فحينئذٍ فسد الرهن، وفسد العقد؛ لأنه فات المقصود من الاستيثاق. ويقول العلماء: إن كان الرهن قد فسد فساداً كلياً، بحيث لا تبقى له مالية، كما لو قال: أعطني خمسمائة ريال ديناً، فقال له: أعطني رهناً، فقال: هذه الشاة رهن، أو هذا البعير رهن، فمات البعير أو ماتت الشاة، فحينئذٍ يفسد الرهن؛ لأن الرهن إنما شرعه الله عز وجل لكي تتوصل به إلى حقك إن امتنع المديون من سداد الدين، فإذا مات وذهبت المالية فقد فسد عقد الرهن. وفي هذه الحالة يكون لك الخيار. ومسألة البيع: إذا بعته بيتاً بعشرة آلاف ريال، وأعطاك رهناً قيمته عشرة آلاف ريال، وقال لك: سأسدد العشرة آلاف ريال بعد سنتين، وأعطاك الرهن الذي قيمته عشرة آلاف، ففسد الرهن وذهبت ماليته، فإن من حقك أن تطالبه برهن جديد مكان الرهن القديم، ومن حقك أن تقول له: أنا لا أريد أن أبيعك، وترجِع عن بيعك؛ لأن حقك في هذه الحالة سيذهب، والحقوق إنما تضمن بالاستيثاق، ويكون لك الخيار في هذا، ولذلك يقول العلماء: ذهاب المالية موجبٌ للخيار. فإن أقام مقامه رهناً يقوم بقدره وقيمته، فحينئذٍ لا إشكال، وإلا فله الخيار في الرجوع عن البيع. وقوله: (فباقيه رهنٌ بجميع الدين) مثل أن يقول لك: بعني أرضاً، فقلت له: هذه الأرض بمليون، فقال: اشتريتها، ولكن سأعطيك المليون بعد سنة، فقلت له: أعطني رهناً، فقال: أرهنك بستاني، فأعطاك البستان رهناً لهذا المليون، فتلف النخل الموجود في البستان، وكانت قيمة البستان قبل تلف النخيل مليوناً، ثم لما تلفت صارت قيمته نصف مليون، إذاً صار نصف قيمة البستان رهناً، فإن الباقي من المالية يبقى رهناً، ومن حق صاحب الدين أن يعامله معاملة الرهن، فإذا لم يسدد باع ذلك القدر، وأخذ ما فيه من المال، قلّ أو كثُر. إذاً: مراده رحمه الله: أنه إذا تلف بعضه وبقي بعضه فإنه يصير مرهوناً كله بالدين، أي: يبقى رهناً للدين.

عدم انفكاك الرهن مع بقاء بعض الدين

عدم انفكاك الرهن مع بقاء بعض الدين قال رحمه الله: [ولا ينفك بعضه مع بقاء بعض الدين]. قوله: (ولا ينفك بعضه) هذه مسألة يسمونها: آثار الرهن، ومثالها: رجلٌ اشترى أرضاً بمليون، ورهن مزرعة بمليون، فلما جاء وقت السداد، سدّد نصف مليون، وبقي عليه نصف مليون، فقلنا له: هات ما تبقى عليك، فقال: ليس عندي وأنا معسر. فنقول: إن الرهن لا ينفك، ولو أنه سدّد نصف المليون قبل نهاية الأجل بشهر، وطالب بفك نصف الأرض فإنها لا تنفك، بل تبقى كل الأرض رهناً حتى تتم المدة، ويتم السداد على المتفق عليه، لا يظلم ولا يُظلم، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، وهذا دين وفي ذمتك وحق واجب عليك، فحينئذٍ تؤديه على الوجه المعروف. فإن عجَزتَ عن السداد، فقد أخذت العهد على نفسك أن صاحب الدين يبيع الرهن ويأخذ حقه، فإذا سددت بعض الدين، لم يكن من حقك إخراج الوثيقة كاملة، ولا إخراج ما سُدِّد إلا في حالة واحدة، وهي: أن يكون الرهن متعدداً لديونٍ متعددة، فيقول -مثلاً-: عندي سيارتان، فأعطني عشرة آلاف ريال، خمسة آلاف آخذها اليوم، وخمسة آلاف آخذها غداً، والخمسة آلاف الأولى رهنها هذه السيارة، والخمسة الثانية رهنها هذه السيارة، فأصبحت الخمسة الأولى لها رهن مختص، والثانية لها رهن مختص، فإن سدد الخمسة آلاف كان من حقه أن يفك الرهن عن الأولى، لكن إذا كان المبلغ مع بعضه، والرهن مستوثَق للدين كله، فلا ينفك بسداد بعضه. وعلى هذا يُفصّل في الديون: فإذا كان الرهن مجزأ عليه بتجزئته، كان الاستيثاق للحق كلٌّ بحسبه. مثاله: أن يقول: أعطني مليوناً وأرهنك هذه الأرض على مائتين وخمسين ألفاً، وأرهنك المزرعة التي في المدينة على مائتين وخمسين ألفاً الثانية، والخمسمائة الباقية أرهن بها العمارة التي في جدة، فحينئذٍ هذه رهون متعددة لديون مفصَّلة، فإن سدد المائتين والخمسين الأولى؛ كان من حقه أن يفك الرهن عن الأرض الأولى، وإن سدّد المائتين والخمسين الثانية؛ كان من حقه أن يفك رهن المزرعة، وإن عجز عن الخمسمائة الباقية بقيت العمارة الأخيرة هي الرهن فقط. إذاً: ينفك الرهن إذا كان مجزأً على الدين، أما إذا كان كلاً رأساً برأس، فلا ينفك إلا به كله، فلو بقي منه ولو ريال واحد، فلا يمكن أن يُفك إلا بسداد الدين كاملاً. وهذا من عدل الله عز وجل بين عباده، فإن مقاطع الحقوق عند الشروط، وكأنه حينما وضع الرهن اشترط على نفسه أنه إذا لم يسدد فإنه يُباع الرهن ويسدد الحق، قليلاً كان الباقي أو كثيراً.

جواز الزيادة في الرهن مع عدم جوازها في الدين

جواز الزيادة في الرهن مع عدم جوازها في الدين قال رحمه الله: [وتجوز الزيادة فيه دون دينه]. قوله: (وتجوز الزيادة فيه) أي: تجوز الزيادة في الرهن. وهنا مسألتان: المسألة الأولى: لو وضعت رهناً عند شخص لقاء دين، فهل يجوز أن تزيد رهناً ثانياً في نفس الدين؟ مثلاً: الدين، فأعطيته رهناً أرضاً، ثم جئت فقلت: يا فلان! أنا رهنتك أرضي، وأريد أن أعطيك رهناً مع الأرض هذه السيارة، أو أعطيك مع هذه الأرض أرضاً ثانية، فحينئذٍ تُسمَّى هذه المسألة: مسألة الزيادة على الرهن، ويكون الذي يزيد رهناً ثانياً هو المديون، وهذا غالباً ما يصنعه الإنسان الذي عنده ورع وخوف من الله سبحانه وتعالى، أو إنسان يقدِّر حقوق الناس؛ لأن المفروض على المديون أنه إذا رأى غيره تسامح معه ويسَّر له حاجته أن يحتاط لحقه، ومن كان عنده ورع وخوف من الله عز وجل، فإنه يخاف من الدين، فيخشى أنه لو بقيت عنده هذه الأرض فلربما باعها لمصلحة نفسه، ولربما ماطل، أو تأخر سداده، فيحتاط، أو يخشى أن يموت، فيتساهل أولاده وورثته في سداد الحقوق التي عليه، فيرهن بكامل الحق حتى يستوثق للناس بحقوقهم، فأضاف إلى الأرض أرضاً ثانية، أو أضاف إلى السيارة سيارة ثانية، وسواءً كانت الزيادة من جنس الرهن الأول ونوعه، كأرض مع أرض، أو كانت مختلفة، كأن تكون عقاراً ومنقولاً، كأن يقول له: أرهنك أرضي لقاء المليون، ثم جاء في اليوم الثاني وقال: أُضيف إلى ذلك الرهن سيارةً، فقد أضاف إلى العقار منقولاً. إذاً: الرهن الأول من العقارات، والرهن الثاني من المنقولات، فكله جائز. وشدد في هذا بعض العلماء وقالوا: الرهن لا يُزاد فيه، والحق مستوثق بالرهن الأول، وهذا قول زفر بن الهذيل، وهو إمام مجتهد رحمة الله عليه، وقد كان من كبار أصحاب الإمام أبي حنيفة المجتهدين، وكان يرى أنك إن أدخلت الرهن الثاني دخل الشيوع، والشيوع عند الفقهاء يُبطل العقد الأول. مثاله: إذا تم العقد الأول على رهن مثلاً بثمانمائة ألف، فقد صار الرهن الأول مستوثقاً بثمانمائة ألف، فلو أَدخل الرهن الثاني أبطل الرهن الأول؛ لأنه دخل في الشيوع، قال: وحينئذٍ لا يصح أن يزيد على الرهن الأول؛ لأن الحق مستوثق به، وقد رضي صاحب الحق بهذا الرهن، فلا تجوز الزيادة. والصحيح هو مذهب الجمهور؛ لأن الزيادة الطارئة كالزيادة المبتدئة؛ لأنه كما اتفق العلماء أنه يجوز أن ترهن بأكثر من الدين، كما لو أعطاك ديناً مليوناً، فيجوز أن ترهن أرضاً قيمتها أكثر من مليون؛ فإذا كان يجوز ابتداءً جاز؛ لأن هذا بالتراضي، وما دام أنه رضي أن يُدخِل الرهن الثاني على الرهن الأول، فهذا له ولا بأس بذلك. وقوله: (دون دينه) أي: لا يجوز أن يزيد في الدين. وتوضيح ذلك: لو باعك رجلٌ أرضاً بمليون على أن تدفع القيمة بعد سنة، فقال لك: أعطني رهناً، فقلت له: أعطيك عمارتي التي في المدينة الفلانية في الموضع الفلاني رهناً لقاء هذا المليون الذي اشتريتُ به الأرض، فلو أراد أن يستدين منه أو يشتري منه سلعة ثانية، وأراد أن يجعل العمارة التي رهنها أولاً رهناً لهذا الدين أو الشراء الثاني، كأن يقول: بعني أرضك الثانية، فقال البائع: الأرض الثانية قيمتها مائة ألف، فقال له: لقد رهنتك العمارة وقيمتها مليون ومائة ألف، فأدخل هذه الزيادة من المال على الدين الأول، ويصبح الدين الأول (المليون) مليوناً ومائة ألف، لقاء هذه العمارة التي قيمتها مليون ومائة ألف، أو قيمتها مليون ومائتا ألف مثلاً، فقالوا: لا يجوز ذلك؛ لأنه إذا تم العقد بالرهن وقُبِض، فمعنى ذلك: أن الرهن قد حُبِس على الدين الأول، وصار مستَحَقاً ومستَوثَقَاً به الدين الأول، ولا يقبل حينئذٍ أن يُصرف إلى الدين الثاني، بخلاف الصورة الأولى، وهي إدخال الرهنين، فإنها ليست كإدخال دين على الرهن، ولو فُتِح هذا لاستضر الناس، وصار هذا وسيلة إلى الأذية والإضرار. ومن الأمور التي تقوِّي هذا القول: أنه لو رهنَه عمارةً قيمتها مليوناً، وجاء ليزيد في الدين، فربما نقصت قيمة العمارة، خاصة إذا كان الرهن من العقارات، وكل شيء له قيمة فلا بد أن تتفاوت قيمه، والغالب أنه مع مضي الزمن ينقص لا أن يزيد، فهذا النقصان الأولى أن لا نُدخله على الدين؛ لأن هذا يُدخِل الضرر على صاحب الدين. وأياً ما كان الأصل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، أن هذا الرهن مستَحَق بالدَّين الأول. وهذا كله إذا امتنع، أما لو رضي صاحب الدين، وقال: أُلغِي الرهن الأول وأعطيك إياه، ثم تُدخِله رهناً بالدينين؛ صحّ ذلك وجاز. فقد فك الرهن الأول، وردّه إلى صاحبه ومالكه الأول الذي هو المدين، ثم عاد ثانية وقال: هذه العمارة لقاء الدينين، فإنه يجوز، وهذا ما يسمى: بالحيلة الشرعية. وبهذا يمكن أن تدخل العمارة باليد الثانية، أي: بعقد ثانٍ غير العقد الأول، وتكون رهناً لقاء المليون والمائة ألفٍ، ولا بأس بذلك.

الرهن المشترك وصوره

الرهن المشترك وصوره قال رحمه الله: [وإن رهن عند اثنين شيئاً فوفى أحدهما، أو رهناه شيئاً فاستوفى من أحدهما؛ انفك في نصيبه]. قوله: (وإن رهن عند اثنين شيئاً فوفّى أحدهما). هذا هو الرهن المشترك، مثاله: أخذتَ من رجل خمسمائة ريال، وأخذت من آخر خمسمائة ريال، وقلت لهما: الألف التي لكما لقاء هذه الدابة، أو رهنت أرضاً، أو رهنت سيارة، فالرهن لقاء دينين، فلو أن هذه السيارة قيمتها مثلاً ألف ريال، والدين ألف ريال، فجئت إلى عبد الله الذي هو صاحب الدين الأول. فسددته قبل انتهاء الأجل، فإذا وقع السداد لحق عبد الله انفك الرهن في نصيبه، وبقي النصف الثاني في نصيب الآخر مرهوناً. والرهن إذا كان للطرفين، فلا يجوز أن يكون عند أحدهما دون الآخر. ومسألة الشيوع في الرهن: إذا أعطيت رهناً واحداً في دينين لشخصين، لم يكن لأحدهما أن ينفرد بالرهن دون الآخر؛ لأنه مشترك للحقين، وحينئذٍ يحفظانه عند عدل، أو يرضى أحدهما أن يكون الرهن عند الآخر. وقوله: (أو رهناه شيئاً فاستوفى من أحدهما انفك في نصيبه). مثاله: شخصان يملكان سيارة، واستدانا منك عشرة آلاف ريال، ووضعا السيارة التي قيمتها عشرة آلاف ريال عندك، فحينئذٍ إذا سدّد أحدهما خمسة آلاف ريال، فإنه ينفك الرهن في نصيبه، ويبقى الرهن في النصيب الباقي.

حكم بيع الرهن عند حلول الأجل حال الإذن والامتناع

حكم بيع الرهن عند حلول الأجل حال الإذن والامتناع قال رحمه الله: [ومتى حل الدين وامتنع من وفائه، فإن كان الراهن أذن للمرتهِن أو العدل في بيعه باعه ووفّى الدين، وإلا أجبره الحاكم على وفائه أو بيع الرهن]. قوله: (ومتى حل الدين وامتنع من وفائه). أي: حل الأجل، بمعنى: أن يأتي الوقت الذي تعهّد المديون بسداد الدين فيه، أو تعهّد المشتري بدفع قيمة الشيء الذي اشتراه، فإذا حلّ الأجل، فنقول له: ادفع المال؛ لأنه التزم في ذمته بالعقد بينه وبين صاحب المبيع أن يدفع له القيمة عند حلول الأجل، فلنا الحق إذا انتهى الأجل أن نطالبه بالسداد، فإن قال: ما عندي، أو أنا معسر، فحينئذٍ يجوز للمرتَهَن أن يطالب الراهن ببيع الرهن. وهذا مبني على العقد؛ لأن عندنا عقدين: العقد الأول: عقد البيع الذي فيه أساس الدين، أو عقد القرض الذي بينهما، فهذا اشترى منه أرضاً -كما ذكرنا- بمليون على أن يسدده في نهاية السنة القادمة، فإذا انتهت السنة القادمة، قلنا له: سدِّد، فإذا قال: لا أستطيع، أو قال: هذه نصف القيمة ولا أستطيع أن أسدِّد الباقي -وينبغي أن يُعلم إن كان صاحب الدين سمحاً رضيّاً، فقال له: رضيت أن أنتظر شهراً أو شهرين، وأعطاه مهلة، فهذا الأمر بالتراضي، ونحن لا نتكلّم فيه، إنما نتكلم عن الحقوق المطالب بها- فإذا تم الأجل ولم يؤد الدين كما وعد، فننتقل إلى عقد الرهن، في هذه الحالة يصير الرهن كأنه وثيقة، يقول العلماء: إنه استيثاق، أي: استوثق صاحب الدين لدينه بالعين، فالعمارة التي رهنها عندك وثيقة لقاء هذا الدين، بمعنى أنه إذا عجز عن السداد تبيعها وتتحصَّل مالك عليه، سواءً كل الدين أو بعض الدين. أما إذا كان هناك عدل الذي هو الطرف الثالث، والعدل: شخص ينصِّبه صاحب الدين والمديون، كأن يقول مثلاً: أعطني مليوناً، فيقول: أعطيكها لكن بشرط أن تعطيني رهناً، فقال: أرهن عندك عمارتي، ولكن أريد أن تكون عند زيد، فقال صاحب الدين: وأنا أرضى زيداً. إذاً: عندنا قرض: وهو المليون على الشخص المديون، وعندنا رهن: وهو العمارة عند زيد، فزيد هذا يُسمَّى: العدل، والعدل: هو الشخص المرضي، فيقولون: عدل؛ لأنه مَرضِي من الطرفين -حتى ولو لم يكن من العدول- من صاحب الدين ومن المديون، فلمّا رضيا زيداً ووُضِعت العمارة عند زيد، فجاء الأجل وهو نهاية السنة، فنقول: يا فلان! سدِّد، فقال: لا أستطيع، فهناك عدة أحوال: الحالة الأولى: أن يقول صاحب العمارة لزيد: خذ عمارتي رهناً في دين عبد الله الذي عليّ، فإن لم أُسدِّد في الوقت فبِعها وأعطه حقّه، فهذا يُسمى: إذن الراهن، فإن أذن الراهن للعدل أن يبيع فيقوم العدل مباشرةً عند ثبوت العجز ببيع العمارة، وسداد الدين كلِّه أو ما تبقّى من الدين، وهذا إذا كان العدل قد أذن له الراهن، لكن لو لم يأذن الراهن وامتنع من السداد، فبعض العلماء يقول: من حق صاحب الدين أن يرفعه إلى القاضي، ويطالبه إما بالسداد، وإما أن القاضي يأمر العدل أن يبيع. وقال جمهور العلماء: لا يؤذيه ولا يضره، وإنما يستدعيه القاضي، ويقول له: أده حقّه، فإن قال: ما عندي، قال: إذاً تُباع العمارة عليك ويُسدَد الدين، فإن قال للقاضي: لا أرضى؛ فجمهور العلماء على أنه يُترك ويقضي القاضي بالبيع الجبري، والبيع الجبري: هو أن تباع العمارة بدون إذنه ورضاه؛ لأن الحق متعلِّق بها، والقضاة والحكام إنّما نُصِّبوا من أجل رد الحقوق للناس. فإذا كان هذا يظلم هذا، فهم يقومون بردع الظالم عن ظلمه؛ لأنه من الظلم أن يقول: لا أسدد ولا تُباع العمارة، فحينئذٍ يفرض القاضي على العدل أن يبيع، هذا هو قول الجمهور. القول الثاني: إذا طلبه القاضي وقال له: بِع، فقال: لن أبيع، فقال له: ائذن للمرتهِن أن يبيع الرهن، فقال: لا آذن، حينئذٍ يأخذه ويعزِّره، وله الحق أن يسجنه، وأن يمنع الناس عنه حتى يأذن بالبيع، أي: يفرض عليه ذلك بالقهر والقوة. ومذهب الجمهور أقوى، أنه إذا لم يأذن فعلى القاضي مباشرة أن يُصدر حكماً بالبيع الذي يُسمَّى: البيع الجبري، وحينئذٍ تُباع السلعة؛ لأن هناك اتفاقاً مسبقاً، والحق متعلِّق بها، فتُباع كما تباع سلع المفلس، ومن حق القاضي أن يبيعها، وعلى هذا فكما ذكر المصنف رحمه الله يُباع الرهن ويُسدَّد به ما بقي من الدين، أو يسدد به كل الدين إن لم يكن دفع منه شيئاً. وقوله: (فإن كان الراهن أذن للمرتهن أو العدل في بيعه باعه ووفّى الدين)، أي: إذا قال الراهن: يا محمد! إذا جاء أول محرم ولم أسدِّدك فالعمارة بين يديك بعها وخذ حقّك، وإن بقي عليَّ شيء أكمِّله، وإن لم يبق شيء فالحمد لله حقُّك وصل إليك، وإن زاد شيء فردَّه إليَّ. فهذا إذن مسبق، سواءً أَذِن عند عقد الرهن، أو أَذِن أثناء المدة، أو أذِن عند انتهاء الأجل، فإذا أَذِن فلا إشكال، سواءً أَذِن للمرتَهَن أو أذِنَ للعدل، فالحكم واحد. وقوله: (وإلا أجبره الحاكم على وفائه أو بيع الرهن)، يعني: على القاضي أن يجبر المديون على وفائه، ويقول له: سدِّد، فإن لم يسدد، فحينئذٍ يقوم ببيعه بالبيع الجبري كما ذكرنا.

جواز بيع الحاكم للرهن عن امتناع الراهن عند التسديد والبيع

جواز بيع الحاكم للرهن عن امتناع الراهن عند التسديد والبيع قال رحمه الله: [فإن لم يفعل باعه الحاكم ووفَّى دينه]. أي: باعه الحاكم بيعاً جبرياً، وهذا النوع من البيع هو الذي يقول العلماء: يجوز مع فقد شرط التراضي؛ لأن الله يقول: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، والبيع لا يصح إلا بالرضا، لكن في هذه الحالة رضا المالك وعدمه على حدٍ سواء؛ لأنه متعلِّق به حقٌ للغير، فحينئذٍ يُستوفى هذا الحق؛ لأن هناك شرطاً وعقداً بينهما، ولا بد من إبراء ذمَّته على هذا الوجه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الانتفاع بالرهن

حكم الانتفاع بالرهن Q إذا انتفع المرتهِن بالرهن، ألا يشكل عليه بأنه قرضٌ جرّ نفعاً أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإنه ينقسم الحق إلى قسمين: فإما أن يكون الرهن لقاء حق بالقروض، فحينئذٍ يُعتبر قرضاً جر نفعاً، وعلى هذا كره الإمام أحمد رحمه الله رهن الدور، واعتبره من الربا المحض، خاصة إذا اشترط عليه أن ينتفع به فإنه يعتبر قرضاً جر نفعاً. وإما أن ينتفع بالرهن لقاء القيام عليه، كما في الدواب التي تُحلب وتُركب، فهذا وردت السنة باستثنائه، قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: (الرهن يُركب بنفقته، ولبن الدر يُشرب بنفقته إذا كان مرهوناً)، فهذا يدل دلالة واضحة على أنه يجوز، وذلك مثل الناقة تحتاج إلى علَف، فتعلِفها ثم تأخذ بقدر ما علفت، فلو كان العلف قيمته مثلاً ثلاثين، تأخذ من حليبها وتركب عليها بقيمة الثلاثين، ولا تزيد على هذا، وهذا عين العدل؛ لأنه قديماً حينما كانت الدواب تُركَب وتُحلب، من الصعب أنك إذا وضعتها رهناً أن تأتي من مكان بعيد من أجل أن تضع العلف لها وتحلبها، فيسَّر الله عز وجل وجعل الرهن هذا يُحلب ويُركب بالنفقة التي يدفعها المرتَهن عليه، أما ما عدا ذلك فلا يجوز. ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز للمرتهِن أن ينتفع بالرهن بدون إذن من ارتهنه إلا إذا كان بعِوض، كأن يقول له: هذه الدار أجعلُها رهناً عندك، فقال له: أريد أن أسكنها، فبكم تؤجرني إياها؟ قال: بكذا وكذا، فأجّرها، فإن استأجرها انتقلت وخرجت عن يد الرهن إلى الإجارة، وهذا إن شاء الله سنفصل أحكامه في الفصل الثاني في مسألة منافع الرهن، سواءً كانت بعوض أو كانت بغير عوض، وسواءً كانت المرهون من جنس ما يُحلب ويركب، أو يركب ولا يُحلب، أو يحلب ولا يركب، أو لا يُركب ولا يُحلب كالدور ونحوها، هذا كله -إن شاء الله- سيكون الكلام عليه في المجلس القادم، نسأل الله التيسير. والله تعالى أعلم.

حكم التصرف في الأمانات

حكم التصرف في الأمانات Q مَن وُضِعت عنده أمانة فتعدّى، هل يأثم بذلك مع العلم بأنه قادر على أن ينقد المبلغ إذا طالب به صاحبه أثابكم الله؟ A الأمانة أمرُها عظيم، وخطبها جسيم، يفر منها الصالحون، ولا يحفظها إلا الأخيار المتّقون، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الصحيحين: (فإذا ضُرِب الصراط على متن جهنم قامت الأمانة والرحم على جنبتي الصراط). فقد يمكن أن يُكردس العبد في نار جهنم بأمانة خانها، أو برحمٍ قطعها، ولذلك بعض العلماء لما قرأ هذا الحديث قال: أخاف على المسلم من خيانة الأمانات وقطع الأرحام، ويقول: ما أظنه ينجو من الصراط؛ لأنه قال: (قامت الأمانة والرحم على جنبتي الصراط، وإنها تتمثل لصاحبها يوم القيامة، فإذا جاء يأخذها هوت به في نار جهنم، فلا يزال يطلبها على قدر ما ضيّع من حقوقها)، فالأمانة أمرُها عظيم، فإذا اؤتُمِنت على شيءٍ فانظر رحمك الله! إن قدرت على أن تحفظه وتقوم عليه وتصونه فالحمد لله، وأنت مأجورٌ غير مأزور، خاصة إذا كان أخوك محتاجاً إلى حفظك ورعايتك، تفرِّج كربته، وتُحسن إليه، والله يثيبك على هذا، أما إذا علمت أن نفسك ضعيفة، فإياك إياك! خاصة في الأمانات التي تكون للضعفاء والفقراء، مثل: أموال الزكوات، والتبرعات، فإن هذه أمرها عظيم؛ لأنهم سيكونون خصومك بين يدي الله عز وجل، في توزيعها والقيام عليها، فلا تتقحّم هذا الشيء إلا وأنت متمكِّن من أداء الحق على وجهه، فكما أن في هذا العمل الثواب العظيم والأجر الكبير، ففي التفريط فيه الإثم الكبير. والإنسان الذي يحتاط لدينه إذا جاء لأمانة في الزكوات فيكتب أسماء المستحقين، ويأتي إلى المزكي ويقول: عندي ثلاث أسر أربع أسر خمس أسر؛ لأنه سيتحمل بين يدي الله عز وجل في عدم صرفها، كأن يُبقيها عنده، فربما تأخر في صرفها وجاءت دواخل النفس، وليس هناك فتنة مثل المال والنساء، فهاتان الفتنتان من أعظم الفتن. فإذا اؤتمِنت على المال، فليكن على قدر ما تستطيع، فالنفس أمارة بالسوء، فلا تتحمل أمانة أحد من الأموال؛ لأن النفس ضعيفة، وعلى هذا ينبغي للمسلم أن لا يدخل نفسه في مقام الأمانات إلا إذا وثِق من نفسه، فإذا وضع شخص عندك أمانة كالمال مثلاً، فعليك أن تقول له -إن كنت محتاجاً-: أنا أحتاج هذا المال، ولا أريد أن أخون، ولا أريد أن أضيِّع، ولا أريد أن أبدِّل أمانتي، إنما أريد أن أكون من أهل الجنة، وممن غفر الله لهم، فكانوا لأماناتهم حافظين، فإن قال: قد أذنت لك أن تتصرّف فيها، فلا بأس، أما إذا قال لك: لا آذن، فحينئذٍ تحفظها يرحمك الله! أو تردّها إليه. وعلى هذا فلا يجوز التصرُّف في الأمانات إلا بإذن أهلها، والله تعالى أعلم.

جواز الإقالة في البيع للبائع والمشتري

جواز الإقالة في البيع للبائع والمشتري Q هل للبائع بعد بيع السلعة أن يتراجع ويطلب من المشتري أن يقيله، أم أن الإقالة خاصة بالمشتري أثابكم الله؟ A يجوز ذلك للبائع وللمشتري، إذا ندِم وطلَب الإقالة فإنه يجوز له أن يستقيل، ومن أقال نادماً فله من الله الثواب، وحسن العاقبة والمآب، فمن فرّج عن مسلمٍ كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، وشتان بين كربة الدنيا وكربة الآخرة، فإذا جاءك أخوك وقال لك: قد بعتك، ولكني نادم على هذا البيع، فقد يستضر في أهله، وقد يستضر في عِرضه، فبدل أن يكون ساكناً في عمارته فيذهب ويستأجر، فيخاف على عِرضه، ويخاف على أهله، فهذه كربة عظيمة، خاصة وأن بعض البيوعات تتعلق بها مصالح عظيمة للناس، فإذا جاءك البائع نادماً، فإن أقلته فإن الله عز وجل يثيبك على هذا، وهو من تفريج الكربة، وقدِّم آخرتك على دنياك، فإن الشيطان حريص، فقد يقول لك: هذه العمارة وهذا الثمن والربح الكثير كيف تفرِّط فيها؟! وقد يأتيك من شياطين الإنس من يسوِّل لك، كأن يقول: إنه من الخطأ أن تغفر له أو تعفو عنه، وآخر يقول لك: هذا يتلاعب بك، وثالث يقول لك: أنت ضعيف، وآخر يقول لك: أنت تضيع حقك، أنت تضيع الربح أنت كذا أنت كذا، ومنهم من يقول لك: إن استمريت على هذا فلن تربح في تجارة وهكذا، ويخذلك شياطين الإنس والجن، ولكن قل: لا، واستعن بالله، فلعل في هذه العمارة بلاءً يصرفه الله عنك بتفريج كربة أخيك المسلم. فلا أحد يعلم العواقب في الأمور، وقل أن يأتيك مسلم في كربة إلا وادّخر الله لك من وراء تفريجها خيراً كثيراً، وهذا ضعه أمامك كالأمر اليقيني، أنك لن ترحم مسلماً إلا رحمك الله، ولن تُقدِم على أمر فيه خيرٌ لإخوانك، وتضحِّي وتؤثره على نفسك إلا جعل الله لك العاقبة كأحسن ما تظن، وفوق ما تظن، وهذا أمر مجرّب، ونشهد لله أنه أوفى ما يكون لعهده، فإن الله قد وعد من رحِم أن يُرحم، فأنت عندما تأتي وترحمه في المال، قد تقع في مثل ما وقع فيه، وإذا لم تُقَل فيها ربما أُصِبْت بمرض في نفسك، وربما أُصِبت بنكبة في أهلك، ولكن الله سبحانه وتعالى يلطف بك ويرحمك كما رحمت أخاك المسلم. فعلى المسلم أن يحسن إلى إخوانه، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان. وبالمناسبة، في ذات مرة حدثني رجل كبير السن: أنه مرّ على غلام يُجر في السوق -وهذا قبل ثمانين سنة تقريباً، وقد توفي الرجل رحمه الله، وحدثني في آخر عمره وهو في الثمانينات- قال: فسألت الذي يجره: ما به؟ فقال: هذا رجل عليه دين يقدر بريال، والغلام قريب من البلوغ، قال: فأخرجت من جيبي ريالاً ودفعته إليه، واحتسبته عند الله، فصاح هذا الغلام: ما اسمك؟ قال: فقلت له: فلان، ولا أظن أني في يوم من الأيام سأحتاج إليه، قال: فمرت الأيام، وشاء الله أن خرج في تجارته عن طريق بلد، ثم اعتُدي على تجارته، وهو معها وفي ركبها، ثم أراد الله عز وجل أنه يهيم على وجهه في البر في ليلة شديدة البرد، -يحدثني بلسانه- يقول: فكنت في ليلة شديدة البرد، فأصبحت أخاف حتى على نفسي من شدة ما أجد من البرد، فإذا أنا بنار، قال: فلما قربت منها ولفحني الضوء، إذا بصائح يقول: عمي أحمد! فلما ذكرت له نكبتي، أحسن إليَّ، وقام معي وأكرمني، ورعى شئوني وتجارتي وحفظها، وردني إلى المدينة سالماً غانماً، ثم قال لي: هل تذكرني؟ فقلت: والله ما أذكرك، فقال: أنا الغلام الذي دفعت عني الريال يوم كذا وكذا. إذاً: فأنت لن تفرج كربة أحد إلا سخر الله لك من يفرج كربتك، أو جعل لك عاجل الدنيا وآجل الآخرة، فيحتسب المؤمن، فإذا جاءك البائع نادماً على بيعه، أو المشتري نادماً على شرائه، فقدِّم آخرتك، والله يبتلي أهل الأموال والتجارات بمثل هذه المواقف، والله تعالى ما خلقنا إلا للاختبار {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31]. فكيف يُعرَف الصادق من الكاذب؟! وكيف يُعرف الرحيم من غير الرحيم؟! إلا بمثل هذه المواقف، فإذا جاءك أخوك نادماً عن كلمة قالها فيك، أو تصرُّف أساء إليك، فقل: غفر الله لي ولك. فمثل هذه المواقف الطيبة، ومثل هذه المعاملة الحسنة، وكما أحسنت إلى الناس، فإن الله عز وجل يحسن إليك، والله تعالى يقول: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77]. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

باب الرهن [4]

شرح زاد المستقنع - باب الرهن [4] يجوز للراهن والمرتهن أن يتفقا على أن يجعلا الرهن عند أحدهما، ولهما أن يتفقا على أن يجعلاه عند عدل يرضيانه، وهذا العدل عليه أن يحفظ الرهن إلى أن يحل أجل تسديد الدين، وله عند حلول الأجل وعجز الراهن عن تسديد الدين أن يبيع الرهن، بشرط أن يأذنا له، وعلى العدل أن يحتاط لنفسه وللراهن عند تسليم الدين، بأن يكتب أو يشهد، فإن فرط فإنه يتحمل المسئولية، وللراهن الحق في مطالبته بالثمن.

اتفاق الراهن والمرتهن على عدل يأخذ الرهن

اتفاق الراهن والمرتهن على عدل يأخذ الرهن بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصلٌ: ويكون عند من اتفقا عليه]. قوله: (ويكون) أي: الرهن (عند مَن اتفقا عليه) أي: يجوز أن يكون الرهن عند المرتهن، ويجوز أن يكون عند شخص ثالث يتفقان عليه؛ لقوله: (عند مَن اتفقا عليه)، وعلى هذا لو قال المديون: نعطيه زيداً، فقال الدائن: لا؛ فإنه لا يلزم، ولو قال الآخر: نعطيه عمراً، فقال الطرف الثاني: لا؛ فإنه لا يلزم، فحينئذٍ لا بد أن يكون الشخص الثالث مرضياً عنه من الطرفين، وهذا الذي يُسمَّى: العدل. فإذا ثبت أن الرهن يكون عند العدل الذي اتفقا عليه، وقام الراهن وأعطى زيداً العمارة رهناً، على أساس أن زيداً عدل من الطرفين، ثم قال الراهن أو المرتهن: عزلتُك. وذلك قبل سداد الدين، فهل من حقه -أي: الراهن أو المرتهن- أن يعزل هذا الطرف الثالث قبل مضي المدة؟ للعلماء وجهان: فمن أهل العلم من قال: من حقه أن يعزله، ولا شيء في ذلك إذا عزله، لكن يكون الخيار لصاحب الدين، فله أن يُطالب بالرهن بديلاً عن العدل، وله أن يفسخ العقد؛ لأنه لو فُتِح هذا الباب لتلاعب الناس بحقوق الرهن، فإنه يرهن عند عدل، ثم يعزله ويسحب الرهن منه، فقالوا -استيثاقاً للحقوق-: يكون الخيار دفعاً لهذا، وهذا قول جمهور العلماء. وقال بعض أصحاب الإمام مالك رحمه الله: إنه ليس من حقه العزل إلا برضا الطرف الثاني، وهذا المذهب -وهو مذهب المالكية رحمهم الله- أحوط، وقالوا: ما دام الطرفان تراضيا، فإنه ليس من حق أحدهما عزله دون الآخر؛ لأن إثباته جاء من الطرفين، فنقض هذا الإثبات لا بد أن يرضيا بعزله، وفي بعض الأحيان يتفقان على عزله، خاصة إذا بدرت منه أمور تدعو إلى الريبة، هذه حالة. الحالة الثانية: أن يموت هذا الطرف الثالث وهو العدل، فلو مات قبل السداد، فما الحكم؟ قالوا: ينفسخ التوكيل ويقيمان من يرضيانه بدلاً عنه، فإذا رضيا شخصاً بدلاً عنه أقاماه مقام هذا العدل.

إذن الراهن والمرتهن للعدل بالبيع بنقد البلد

إذن الراهن والمرتهن للعدل بالبيع بنقد البلد قال رحمه الله: [وإن أذنا له في البيع لم يبع إلا بنقد البلد]. هذه هي أحكام العدل، فقوله: (وإن أذنا له بالبيع) أي: إذا أذن الطرفان للعدل ببيع الرهن عند مضي المدة، فليس له أن يبيع إلا بنقد البلد الذي هو فيه، فإذا كان رهنه أرضاً في مكة، فإذا باع يبيع بنقد البلد، ويبيع بالقيمة في نفس المكان، فلو كانت القيمة متفاوتة في بلدٍ آخر لم يكن له أن يتكلَّف ذلك، إنما يبيعها بنقد البلد، ويكون العدل المرضي بين الطرفين وكيلاً عنهما في البيع، فلو كان نقد البلد من الذهب باعها بالذهب، ولو كان نقد البلد من الفضة باعها بالفضة. فلو باع بغير نقد البلد، فإنه ليس من حقه أن يبيع باختياره هكذا، إنما يبيع في حدود معيَّنة؛ لأنه وكيل، والوكيل لا يتصرف إلا في حدود ما أُذِن له، وإذا أُذِن له بالبيع، فإن العرف أن يبيع بنقد البلد الموجود؛ لأن البيع يكون بالنقد ويكون بغير النقد، والنقود والأثمان كالذهب والفضة، ويكون بغيرها الذي هو بيع المقايضة، فلو باع بشيء فيه ضرر فإنه لا يجوز، كأن يبيع العمارة بعمارة أخرى، أو يبيع العمارة بطعام، إنما عليه أن يبيع بالنقد، ويكون النقد نقد البلد؛ لأن نقد غير البلد يتكلَّف في صرفه، ويكون فيه مخاطرة، فربما نقصت القيمة، أو زادت بسبب الصرف. وعلى هذا فلا يبيع إلا بنقد البلد.

حكم تلف ثمن الرهن في يد العدل

حكم تلف ثمن الرهن في يد العدل قال رحمه الله: [وإن قبض الثمن فتلف في يده فمن ضمان الراهن] قوله: (وإن قبض الثمن)، لو أن هذا العدل باع العمارة (بمليون)، وبعد قبض هذا (المليون)، تلِف في يده قبل أن يعطيه صاحب الدين، فما الحكم؟ قالوا: التلف على ضمان الراهن؛ لأنه وكيلٌ عنه، ولا تبرأ ذمة المديون إلا بعد أن يؤدي الوكيل الأمانة إلى ما اؤتمِن له، فهو في هذه الحالة كأنه راهن. وقد أثبتنا أن الرهن في ضمان الراهن؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أثبت هذا فقال: (لا يغلق الرهن ممن رهنه، له غنمه وعليه غرمه)، ففي هذه الحالة إذا استدان مني (مليوناً) فلا تبرأ ذمّته من هذا المليون، حتى يأتي الوكيل العدل ويسلم لي المبلغ، لكن لو قلتُ له أنا: بِعها واقبض عني، فقد صار وكيلاً عن الطرفين، وكيلاً عن الراهن وعن المرتهن؛ لأنه في بعض الأحيان تكون اليدان يداً واحدة، مثل وليّ اليتيم، فلو كان عندك يتيم له بيت، ورأيت من المصلحة أن تبيع هذا البيت، وأنت ترغب في هذا البيت فاشتريته بقيمته لنفسك، فأنت بائعٌ من وجه ومشترٍ من وجه، وهنا يدان: يد بيع، ويد شراء، فيدك ببيعه يد بيع على ملك اليتيم، ويد شراء على ملكِك، فالوكيل يكون وكيلاً عن الأول ووكيلاً عن الثاني، هذا في قول بعض العلماء رحمهم الله.

آثار الرهن المترتبة عليه

آثار الرهن المترتبة عليه من عادة العلماء رحمهم الله -وهذه ميزة من مميزات الفقه الإسلامي- أنّه لا يُعطي الحكم فقط، وإنما يعطي الحكم والآثار المترتبة عليه، ففي بعض الأحيان إذا نصَّبنا العدل من أجل أن يبيع ثم يسدد، قد يحصل جحود وإنكار، كأن يقول العدل: قد سددتُه، ويقول صاحب الدين: لم يسددني، أو يقول العدل: أعطيته المبلغ كاملاً، ويقول صاحب الدين: بل أعطاني ناقصاً. فهذه تسمى: من مسائل آثار الرهن، وهذه هي مسألة المدَّعِي والمدَّعَى عليه، وهذه مسألة مهمة جداً؛ لأنها في القضاء والخصومات وفصل النزاعات. من المدّعِي الذي يكون القول خلافه، ويُطالَب بالبينة؟ ومن المدّعَى عليه الذي يكون القول قوله ولا يُطالَب بالبينة، ولكن يطالب باليمين عند الإنكار؟ فعندنا مدعي وعندنا مدعَى عليه، والمدعَى عليه أقوى من المدعِي، فحينئذٍ لو أن شخصاً أعطى شخصاً عشرة آلاف ريال ديناً، ثم لما جاء الأجل قال المديون: لقد سدّدته وأعطيته العشرة آلاف، فمعناه أنه يدّعي، وقال الذي له الدين: ما أعطاني شيئاً، فهذا مدَّعَى عليه. إذاً: الذي يقول: فعلت كذا هو مدعي، والذي يقول: لم يفعل كذا، هو مدعَى عليه. فنقول: هذه العشرة آلاف، اليقين أنك مديون بها؛ لأن كليهما متفق على أن المديون أخذ العشرة آلاف، وهو معترف بذلك، فنحن متأكدون أنه قد أخذ العشرة آلاف، وأن ذمته مشغولة بعشرة آلاف. فلا بد من أجل إسقاط هذا الحق أن نتأكد أيضاً أنه سدد، فيكون صاحب العشرة آلاف مدّعَى عليه، والذي عليه الدين مدعي، وقد اختلف العلماء كيف نعرف المدّعِي والمدّعَى عليه؟ لأنه عندنا قوي وضعيف: فالقوي: هو المدّعَى عليه، والأصل براءة المتهم من التهمة حتى تثبت إدانته، وبراءته من شغل ذمته بالحقوق حتى يثبت ما يدل على شغلها، والضعيف: هو المدعي. فلو أن شخصاً جاء وقال: لي على فلان ألف ريال، فإننا لو صدّقناه لكان كل شخص يدّعي على الآخر، وهذا هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى أناسٌ أموال قومٍ ودماءهم)، أي: لأصبح الأمر فوضى، فكل شخص يقول: لي على فلان كذا. إذاً: لا بد أن نعرف من المدّعِي والمدعَى عليه؟ قال بعض العلماء: المدعِي: هو الذي يقول: قد كان كذا وكذا، يعني يُثبِت، والمدّعَى عليه: هو الذي ينفي ما كان. فالمدّعَى عليه الذي يقول: ما أعطيتني، والمدّعِي الذي يقول: بل أعطيتك. وإذا قال شخص: أنت فعلت كذا، فأنت مسيءٌ وظالم، فقال: ما فعلت، فالمدعي هو الذي يقول: فعلت كذا. ولو قال شخص: فلانٌ كاذب، فقال: ما كذبت، فالمدعي هو الذي يقول: فلان كاذب، والذي يقول: ما كذبت، هو مدعَى عليه. إذاً: هذا أصل عند العلماء، قال الناظم: وقيل من يقول قد كان ادّعَى ولم يكن لمن عليه يُدَّعَى وهذا هو الضابط الأول من الضوابط التي يُضبط به المدّعِي والمدّعَى عليه: (كان ولم يكن) كما ذكر الناظم. الضابط الثاني: يقولون: المدَّعي: هو الذي قوله يخالف العرف ويخالف الأصل، والمدّعَى عليه: هو الذي شهد العرف أو الأصل بتصديقه. مثال الأعراف: كانوا قديماً يختصمون في الدواب كالإبل، فيقول أحدهم: هذه ناقتي، ويقول الثاني: لا، بل هي ناقتي، فإذا كان أحدهما يركب في المقدِّمة والثاني في المؤخرة، فالعرف يشهد أن الذي في المقدِّمة صاحبها مدّعى عليه، وأن الذي في المؤخرة مدّعي. وكذلك البيت، فلو جاء شخص وقال: هذه العمارة ملكٌ لي، وقال الآخر: لا، بل هي ملكٌ لي، فحينئذٍ يكون الذي داخل العمارة مالكها، والذي يدّعِي من خارج، العرف يشهد أنه ليس بمالكٍ للعمارة. فنقول: الذي بالداخل: مدّعَى عليه، والذي بالخارج مدعي، وهذا يسمونه: شهادة العرف. الضابط الثالث: شهادة الأصل: فحينما يقذف -والعياذ بالله- رجلٌ رجلاً بأي شيء، فإن الأصل يقتضي سلامته، حتى يدل الدليل على إدانته. ولذلك تقول القاعدة: المتهم بريء ما لم تثبت إدانته، وهذا هو الأصل، فنحن لا نستطيع أن نتهم الناس، ولا أن نطعن في الناس، لا في عقائدهم، ولا في أخلاقهم، ولا في سلوكهم، ولا في تصرُّفاتهم؛ لأن من عرفناه من أهل الإسلام، فله علينا حق أن يسلم من ألسنتنا، وأن لا نتهمه ما لم يثبت الدليل. إذاً: الأصل أنه ليس فيه هذا الشيء، فلو جاء يتهمه بالزنا، أو يتهمه بشرب خمرٍ والعياذ بالله! أو يتهمه بكذب، أو يتهمه بأي سوء، فنقول لمن اتهم: أنت كاذب حتى تُثبت ما تقول؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ) [الحجرات:6]، فسمّاه فاسقاً {بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] أي: تثبَّتوا. إذاً: من يأتي بخلاف الأصل فيقول: فلان مجرم، الأصل أنه غير مجرم حتى يثبت أنه مجرم، وقوله: فلان يكذب، الأصل أنه ليس بكاذب حتى يثبت أنه كاذب. فهذا الذي يخالف الأصل مدعي، والذي يتفق مع الأصل مُدَّعى عليه. وهذه الضوابط الثلاثة جمعها بعض العلماء في قوله: تمييز حال المدّعِي والمدّعَى عليه جملة القضاء وقعا فالمدّعِي من قوله مجردْ من أصل أو عرف بصدق يشهد وقيل من يقول قد كان ادّعَى ولم يكن لمن عليه يُّدَّعى وهذه الضوابط الثلاثة معمول بها عند العلماء رحمهم الله. فيذكرون في مسألة الرهن إذا تنازع الطرفان فقال أحدهما: سددتك، فقال الآخر: ما سددتني، أو قال: دفعت المال إليك، فقال: ما دفعت إليَّ شيئاً، فحينئذٍ لا بد أن نعرف من الذي يُقبل قوله، ومن الذي يُطالب بالدليل، ويكون المدعي من يشهد الأصل أو العرف بخلاف قوله، وهذا ما سنبينه في المجلس القادم بإذن الله تعالى.

تسليم الدين من العدل للمرتهن بدون بينة مع الإنكار

تسليم الدين من العدل للمرتهن بدون بينة مع الإنكار قال رحمه الله: [وإن ادعى دفع الثمن إلى المرتهن فأنكره ولا بينة]. قد سبق وأن ذكرنا أن الراهن والمرتهن إذا اتفقا على وضع الرهن عند عدلٍ أو شخصٍ معينٍ، فإن هذا الشخص يقوم بحفظ الرهن، وحينئذٍ إذا انتهى الأجل بيّنا أنه يقوم ببيعه إذا أذنا له بالبيع. وفصّل المصنف رحمه الله في جملة من الأحكام التي تتعلق بالعدل. وبعد هذا يرد Q لو أن هذا الرجل أُعطِي سيارةً مثلاً رهناً، وحضر الأجل، ولم يستطع من عليه الدين أن يُسدد الدين وهو الراهن، وقام العدل ببيع السيارة وقبض ثمنها، فلو فُرِض أنه باعها بعشرة آلاف، والدين عشرة آلاف ريال، فلمّا قبض هذا العدل العشرة آلاف ريال، ادّعَى أنه أعطاها لصاحب الدين وهو المرتهن، فإذا ادعَى أنه أعطاها للمرتهن، فلا يخلو الأمر من حالتين: الحالة الأولى: أن يقول المرتهن الذي له الدين: قبضتُ العشرة آلاف، وحينئذٍ فلا إشكال، فيصبح العدل كالوكيل إذا سدّد عن موكِّله، ويسقط الدين عن المدين، هذا إذا أقر صاحب الدين بأنه أخذ حقّه فلا إشكال. الحالة الثانية: أن يُنكر من له الدين ويقول: لم يعطني شيئاً، فإذا أنكر فحينئذٍ نسأل العدل: هل عندك بيّنة تثبت صدق دعواك أنك أعطيت لفلان حقه؟ وحينئذٍ فلا يخلو من حالتين أيضاً: الحالة الأولى: إما أن يقول: عندي بيّنة، ويقيم بيّنته على صدق قوله، فلا إشكال، فيُقيم شاهدين عدلين، أو رجلاً وامرأتين، أو أربع نسوة على أنه دفع الحق؛ لأنها حقوق مالية يجوز فيها شهادة النساء منفردة ومجتمعة مع الرجال. فإذا أثبت أنه قبض ثمن الرهن، وأنه أعطاه للمرتهن وأقبضه حقه، فلا إشكال، ويصبح العدل حينئذٍ قد برئت ذمته، والسبب في هذا: أنه قد احتاط لصاحب الحق في حقه، فأنت حينما كان عليك الدين وأعطيت الرهن لهذا الرجل لكي يقوم عليه، فإن الواجب عليه إذا سدد أن يحتاط عند السداد، فيأخذ مثلاً كتابة ويُشهد عليها، ويقول للمرتهن: هذه العشرة آلاف التي لك على فلان، اكتب لي بها سنداً أنك قبضتها، ويُقِيم شاهدين عدلين. وبالمناسبة: فإن الناس قد يتساهلون في الحقوق، وما ضاعت حقوقهم إلا بسبب التساهل في السنة، وترك ما وصَّى الله عز وجل به من الكتابة والاستيثاق، فإن الإنسان لا يأمن الأجل، وقد يموت الطرفان، أي: الشخصان المتعاقدان، وحينئذٍ تضيع حقوق الورثة، فمن السنة أن تكتب ما لك وما عليك. الحالة الثانية: المفروض على العدل أنه حينما يعطي صاحب الدين دينه، ويُسلِّمه المبلغ أن يحتاط؛ لأنه في هذه الحالة مؤتمن على حق مَنْ عليه الدين. فإذا تساهل في ذلك كأن أعطى المرتهن المال بدون شهادة، أو بدون بينة، فإنه حينئذٍ يتحمّل المسئولية. وصورة ذلك أو مثاله: اتفق الراهن والمُرتَهَن أن يكون الرهن عند محمد، وأنه إذا عجَز الراهن عن السداد فيقوم محمد ببيع الرهن وهو العمارة، والدين مثلاً مليون، فلما حضر الأجل ولم يسدد الراهن، وهو المديون، قام محمد ببيع العمارة وقبض قيمتها، والقيمة مثل الدين (مليون)، فجاء وأعطاها لصاحب الدين ولم يكتب ولم يُشهِد ولم يستوثق، ففي هذه الحالة سيقول: إني أعطيت صاحب الدين حقه، فلا يخلو من له الدين من حالتين: الحالة الأولى: أن يُقر، ويقول: نعم أعطاني، فإذا أقر من له الدين أنه قبض من محمد قيمة الرهن فلا إشكال، وثبت أن محمداً صادقٌ فيما يقول، وحينئذٍ تبرأ ذمته. الحالة الثانية: أن ينكر ويقول: لم يعطني محمد شيئاً، أو يموت صاحب الدين، وينكر ورثته أن محمداً أعطى مورثهم الدين الذي كان لأبيهم على الطرف الثاني، فإن أنكروا فحينئذٍ نقول لمحمد: يا محمد! هل أشهدت؟ فإذا قال: ما أشهدت هل استوثقت بكتابة؟ فقال: ما فعلت شيئاً، بل أعطيته الدين وكفى، فنقول: إنك قد قصّرت، وتتحمل عاقبة التقصير ومسئولية التقصير؛ إذ كان ينبغي عليك أن تحتاط لحق أخيك، فتتحمل المسئولية، فإن أنكر فإنه يُلزم بدفع الدين كاملاً. والسبب في هذا: أننا لو صدّقنا محمداً في ادعائه أنه سدّد صاحب الدين، لصار كل من نقيمه عدلاً يقول: بعت وأعطيت فلاناً، والأصل أن الدين ثابت، وأن ذمة المديون مشغولة بالدين، حتى نتأكد ونتحقق أن الحق وصل لصاحبه. فكونه يدعي ويقول: لقد أعطيته، هذا لا يكفي ما دام أن الذي له الحق أنكر، فالبينة على المدَّعِي واليمين على من أنكر، وتصوَّر لو أن كل صاحب دين أنكر قبض المال والدين من العدل، لضاعت حقوق الناس، فنحن نقول لهذا العدل: أثبِت أنك أعطيته، فإن قال: ما عندي إثبات، فيحلف الذي له الدين أنه ما قَبَض، يحلِف يمين القضاء التي من حلفها فاجراً متعمداً لقي الله وهو عليه غضبان، نسأل الله السلامة والعافية! وهي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار، وهي من أشد أنواع اليمين، وتسمى: اليمين الفاجرة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئٍ مسلمٍ بغير حقٍ لقي الله وهو عليه غضبان، قالوا: يا رسول الله! وإن كان شيئاً يسيراً، قال: وإن كان قضيباً من أراك)، فلو كان عوداً تافهاً حقيراً لا قيمة له عند الناس، فإنه بهذه اليمين يكون شيئاً عظيماً، ويلقى الله وهو عليه غضبان، ومن يحلل عليه غضب الله فقد هوى في نار جهنم وبئس المصير، نسأل الله السلامة والعافية! ويقولون: قَلّ أن يحلفها إنسان متعمداً ويحول عليه الحول بخير. فالشاهد: أنه يحلف أنه ما قبض، فإن حلف أنه ما قبض، فعلى القاضي أن يحكم بأن الدين لا زال ثابتاً، وأنه يجب على العدل أن يدفع. لكن أنت الذي عليك الدين مُطالَب بالدين، والعدل قائمٌ مقامك على أساس أن يبيع الرهن ويسلِّم لصاحب الدين، فإذا ادَّعَى العدل السداد، ولكن أنكر صاحب الحق أن العدل سدد الدين الذي عليك، فيرد السؤال: هل يُطالِب صاحب الحق الوكيل أو يطالب الأصيل؟ و A أنه يطالبُ الأصيل؛ لأن ذمة الأصيل مشغولة بحقه، والأصيل الذي عليه الدين -وهو الراهن- له أن يُطالب هذا الوكيل. وبناءً على ذلك يكون الترتيب كالتالي: لا نقبل دعوى هذا الوكيل والعدل أنه سدد ما لم يُقِم بيّنة، أو يعترف صاحب الدين، فإن لم يُقر صاحب الدين ولم يُقِم بيّنة، وأنكر صاحب الدين وحلف أنه ما قبض، فحينئذٍ يجب على القاضي أن يحكم بأن الدين لا زال ثابتاً. وإذا ثبت الدين فتكون عندنا قضيّتان: القضية الأولى: أن صاحب الدين يطالبك مطالبة شرعية بأن تسدِّده. القضية الثانية: أن الراهن له أن يطالب العدل بدعوى قضائية، أنه قام على المال بالبيع وفرّط، وأن يضمن الحق الذي عنده. وهذا معنى قولهم: يكون وجه المرتَهِن على الراهن، ويكون وجه الراهن على العدل، فكلٌ منهما يطالب الآخر. وكذلك صاحب الدين يطالب الراهن؛ لأن الأصل أن ذمة الراهن متعلقة بهذا الدين، فنقول: لا زال الحق ثابتاً ولم يرتفع؛ فنطالبه بسداد ما عليه من الدين، ثم يُقِيم الآخر دعوى قضائية على هذا العدل أنه لم يسدِّد كما أمره، وأنه وكّله في بيع داره، أو بيع أرضه، أو سيارته، ويسدد فلاناً دينه، ولكنه لم يقم بالسداد، فله أن يطالبه بقيمة المبيع، ثم بعد ذلك يأخذ كلٌ منهما حقّه من خصمه.

تسليم العدل الدين للمرتهن مع حضور الراهن وعدمه

تسليم العدل الدين للمرتهن مع حضور الراهن وعدمه قال رحمه الله: [ولم يكن بحضور الراهن ضمن كوكيل]. قوله: (ولم يكن بحضور الراهن) إن كان قد أعطاه حقه بدون بيِّنة، وأنكر صاحب الدين، فلا نحكم بالإلزام إذا كان الإعطاء في حال حضور الراهن، فيكون التقصير من الراهن؛ لأن الوكيل سدد بحضور الأصيل، وكان من المفروض أن يقول الأصيل للوكيل: أشهد على الإعطاء، فلمّا سكت من عليه الدين الذي هو الراهن، كأنه قد رضي أن يعطيه بدون بيِّنة، فرضي بالتقصير، ورضي بالتفريط، وحينئذٍ يكون ذلك الوكيل قد برِئت ذمّته. فالتقصير له حالتان: الحالة الأولى: إذا وقع الإعطاء في حال غيبة صاحب الرهن وهو الراهن، فإن كان قد أشهد فلا إشكال، وإن لم يُشهِد ولا بيِّنة، فإنه يتحمّل المسئولية إن أنكر المرتَهَن. الحالة الثانية: إذا كان قد أعطاه حقّه في حال حضور الراهن، فالراهن يرى ويسمع، ومعنى ذلك أنه قد رضي بما يراه؛ لأنه كان ينبغي عليه أن يقول له: اكتب وأَشهِد على الإعطاء، فلمّا سكت كأنه رضي، فانتقل التقصير من الوكيل إلى الأصيل، وأصبح الأصيل هو الذي يتحمل المسئولية، وهذا إذا لم توجد بيّنة وأنكر المرتَهَن.

حكم اشتراط عدم بيع الرهن إذا حل الدين

حكم اشتراط عدم بيع الرهن إذا حل الدين قال رحمه الله: [وإن شرط أن لا يبيعه إذا حلّ الدين] أي: أن لا يبيع الرهن، فهذا الشرط خلاف الشرع، وعلى هذا فإن من حقك إذا حلّ الأجل ولم يسدد أن تقوم بالبيع؛ لأن أصل الرهن وثيقة، وهذه الوثيقة قلنا: يستوثق بها صاحب الدين لقاء دَينه، فإذا قال له: إذا حل الأجل فلا تبع الرهن، فمعناه: أن وجود الرهن وعدمه على حد سواء، فما فائدة الرهن إذا كنت لا تستطيع أن تسدد به الحق الذي لك على خصمك؟! والله تعالى إنما شرع الرهن من أجل أن يتوصل صاحب الحق إلى حقه عند العجز، فإذا جاء يشترط شرطاً يخالف مقتضى العقل، فإنه حينئذٍ يبطل، ويلغى ذلك الشرط ولا يُعتد به ولا يُلزم به، فإذا حل الأجل جرى المعروف شرعاً وهو بيع الرهن. إذاً هذا الشرط وجوده وعدمه على حدٍ سواء؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم -وهذه قاعدة- ألغى الشروط المخالفة لكتاب الله، وصحح العقود، على تفصيل سبق أن بيّناه في باب الشروط في البيع. وهذا الشرط يكون في عقد الرهن، كأن يشترط عليه أنه إذا حل الأجل لا يبيع، وهذا -كما ذكرنا- يخالف شرع الله ويخالف مقتضى العقل، فنقول: إن هذا الشرط باطل، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)، وقال: (قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق)، فجعل الشرط المستوثَق به والذي ينبني عليه الحكم إنما هو الشرط الموافق لشرع الله، لا الشرط المخالف لشرع الله، فأنت إذا تأملت الرهن حينما تأتي وتأخذ قرضاً عشرة آلاف، فقد شرع الله عز وجل لصاحب الدين أن يأخذ منك الرهن؛ حتى يستطيع سداد العشرة آلاف عند عجزك، فإن كان لا يستطيع أن يبيع ذلك الرهن، فمعناه: أنه قد فات المقصود من الرهن، فكأنه يشترط عليه شرطاً يخالف مقتضى العقد، وقد بيّنا في شروط البيع: أن الشروط التي تخالف مقتضى العقد تعتبر شروطاً فاسدة.

حكم اشتراط أن يكون المرهون للمرتهن عند انتهاء الأجل

حكم اشتراط أن يكون المرهون للمرتهن عند انتهاء الأجل قال رحمه الله: [أو إن جاءه بحقه في وقت كذا وإلا فالرهن له]. قوله: (أو إن جاءه بحقه) مثلاً: اشتريت عمارة قيمتها خمسمائة ألف، وقال لك البائع: ادفع الثمن، فقلت له: ما عندي نقد، وكل الذي أطلبه أن يكون هناك مهلة لمدة سنة، فقال لك: ليس عندي مانع، أعطيك مهلة لمدة سنة، ولكن بشرط أن تعطيني رهناً، فاشترط في البيع شرطاً يوافق مقتضى العقد، وهو الرهن، وهنا أمور: الأمر الأول: قلنا: إن الشرط الذي يوافق مقتضى العقد صحيح، فلما اشترط عليك الرهن وقلت له: عندي أرض أجعلها رهناً عندك، فقال المرتَهِن: أنا أقبل هذه الأرض، ولكن إن جاء الأجل ولم تسدد فهي لي، فحينئذٍ لا يصح؛ والسبب في هذا: أن المعاوضة وقعت بين الأرض، وبين القرض، وحينئذٍ كأنه أدخل عقدين في عقد، وبيعتين في بيعة، البيع الأول ومركبٌ عليه البيع الثاني بشرط العجز عن السداد، فقد قال له: إذا لم أُعطِك حقك في نهاية شهر ذي الحجة فخذ الأرض، فمعناه: أنه قد أعطاه الأرض لقاء ماله، فكأنه باعه الأرض بالدين، وحينئذٍ لم يبعه بيعاً مبتوتاً فيه، فنحن لم نتحقق؛ لأنه لا يقع هذا البيع إلا إذا عجز عن السداد، والعجز عن السداد متردد، فحصل تردد في العقد، ومن هنا قلنا: إن الإجارة التي تنتهي بالتمليك ترددٌ في العقد، والتردد في عقد البيع موجبٌ للغرر، فكأنه يقول: إن قضيتُ الدين فلستُ ببائع، وإن لم أقضِ فأنا بائع، فهذا ليس ببيع على سنَن المسلمين، فبيع المسلمين على البت. الأمر الثاني: لو فرضنا أنه عجز عن السداد، وارتفعت قيمة الأرض، وحينما أعطاه القرض كانت قيمة الأرض مثلاً خمسمائة ألف، فأصبحت قيمتها مليوناً عند السداد، فمعنى ذلك: أنه باعه الشيء وهو لا يدري ما يئول إليه من نماءٍ ومن خسارة. الأمر الثالث: قد يكون العكس أيضاً، كأن يقول له الراهن: إن لم أسددك الدين فالأرض لك، فقال: قبلت، وكانت الأرض في ذلك اليوم الذي وقع فيه الاتفاق والبيع الأول -الذي من أجله كان سبب الرهن- غالية، فلما حضر السداد إذا بالأرض رخيصة، إذاً ففيه نوعٌ من الغرر، فالشخص الذي له الدين يخاطِر بماله في حال عجز الراهن عن السداد، فيقبل أرضاً لا يدري إذا حلّ الأجل هل تعادل الدين أو لا تعادله؟ الأمر الرابع: من جهة تكييف العقد، حيث لم يجعله رهناً، وإنما جعله بيعاً ثانياً، والرهن لا يدخله التشريك، فلا يصح أن تقول: رهن وبيع. بل إما رهناً على البتّ المعروف، أو يكون بيعاً على السنن المعروفة، أما أن تجعله رهناً من وجه، وبيعاً من وجه، وتردِّده، وتقول له: هو بيع إن عجزت، ورهنٌ إن لم أعجز، فهذا لا يستقيم. فهذا النوع من التداخل والنوع من الإرباك في العقود لا تُقِرُّه الشريعة، ولذلك لا تعرف في بيوع المسلمين أو في إجارات المسلمين القديمة مثل هذا التردد؛ لأن الشريعة قفلت أبواب مثل هذه المعاملات؛ لأنها تُفضِي إلى الخصومات والنزاعات، فإذا مات أحد المتعاقدين قبل تمام العقد الأول وقع النزاع، وجاء ورثته يطالبون بما كان عليه مورثهم، أو يطالبون بإلغاء ما كان عليه مورثهم، فيقع بين الناس الخصومات والنزاعات، ثم ربما تعاقدوا والمعقود عليه على حال يرثى لها، ثم يئول إلى حالة أفضل، فيكون الغبن على البائع، أو يئول إلى حالة أردى فيكون الغبن على المشتري. وعلى هذا فلا تجيز الشريعة مثل هذا؛ لأنها تريدك إذا أردت بيعاً أن تعرف قيمة ما تشتريه، إذا كنت مشترياً، وتعرف أيضاً أنك إن بعت تبيع على البت، دون أن تغرِّر بمن يشتري منك إن كنت بائعاً.

الشروط المشروعة والشروط الممنوعة في الرهن

الشروط المشروعة والشروط الممنوعة في الرهن بعد أن فرغ المصنف رحمه الله من مسألة العدل، دخل في قضايا الشروط، فهناك في الرهن شروط شرعية توافق مقتضى العقد، وهي الشروط المشروعة، وهناك شروط غير شرعية لا توافق مقتضى العقد، وهي الشروط الممنوعة. عندنا شروطٌ مشروعة، وشروطٌ ممنوعة. فالشروط المشروعة: أن يقول له الراهن: إن انتهى الأجل فقد أذِنتُ لك أن تبيع الرهن. أو يقول من له الدين: أشترط عليك أنك إذا عجزت عن السداد بعت وقضيت دينك، فيقول: قبلت. وكذلك إذا قال له: هذه العمارة قيمتها مليون، فأعطني رهناً، فقال: أرهنك أرضي الفلانية، فقال: قبلت، ولكن أشترط عليك أن تكون عند محمد، -وهو رجل عدل- فقال: قبلت، فمحمد العدل الصالح حينما يوضع عنده الرهن يُقصد منه المحافظة عليه، فكأن هذا الشرط قصد منه صاحب الدين أن لا يفوت الرهن، فهو يشترط شرطاً يوافق مقتضى الشريعة من بقاء الرهونات، فهذا يسمى: شرطاً شرعياً. وهكذا لو قال له: أشترط أن يكون عند محمد، وأنه إذا تم الأجل ولم تسددني فيكون محمد مأذوناً له بالبيع، ولا يحتاج أن يستأذن مرة أخرى، فقال: قبلت، فكتب بينهم العقد على ذلك، فحينئذٍ احتاط من له الدين باحتياطين، واشترط عليه شرطين: الشرط الأول: أن يكون الرهن عند فلان من الناس المعروف بالأمانة والحفظ، فهذا شرط شرعي؛ لأنه يوافق الشرع، ويوافق مقتضى عقد الرهن من المحافظة عليه. الشرط الثاني: أنه إذا تم الأجل ولم تسددني فيكون العدل مفوضاً ومأذوناً له بالبيع، فقبل الآخر. إذاً: عندنا رهن، وعندنا شرطان، وكلا الشرطين إذا تأملتهما وجدتهما موافقين لمقصود الشرع من الرهن، فنقول: هذا شرط شرعي، ولو كان المرهون شيئاً يسيراً، ونحن نمثل دائماً بالأشياء الغالية؛ لأنها تلفت النظر، وتجذب الأنظار، لكن حتى في الأشياء اليسيرة فإنه يأخذ نفس الحكم، حتى لو رهنه ساعة، كأن يقول له مثلاً: يا فلان! أنا بحاجة إلى خمسمائة ريال إلى نهاية ذي الحجة من هذا العام، قال له: أُعطيك ولكن أعطني رهناً، فقال: هذه ساعتي رهنٌ عندك، فقال: أشترط عليك أن تكون عند محمد، أو عند زيد، وأنك إن لم تسددني عند تمام الأجل فإنه يبيعها. إذاً: الفقه إذا سُئلت عن الشروط في الرهن فقُل: تنقسم إلى قسمين: إما أن توافق مقصود الشرع، وإما أن تُخالف مقصود الشرع، فنحن لا نُبطل الشروط في الرهن، ولا نُثبتها بإطلاق، وإنما العدل الذي أمرنا الله به أن ننظر فإن كانت هذه الشروط قَصَد بها العاقدان أو أحدهما الاستيثاق وإيصال الحق لأهله، فنقول: هذه شروطٌ شرعية؛ لأن الشريعة قامت على ذلك؛ بل إن الله سبحانه لم يشرع الرهن إلا لكي يصل كل ذي حق إلى حقه، فإذا ثبت هذا فنقول: هذا شرطٌ شرعي، أما لو كان الشرط يخالف مقتضى عقد الرهن، ويخالف شرع الله عز وجل، فإنه لا يكون شرطاً شرعياً. وحينئذٍ نص المصنِّف رحمه الله بقوله: (لم يصح الشرط وحده). يبقى Q هل يُلغى عقد الرهن؟ أو يُلغى الشرط ويصح عقد الرهن؟ نص المصنف على أن الشرط يبطل ويبقى عقد الرهن صحيحاً؛ لأن القاعدة تقول: الإعمال أولى من الإهمال، فإعمال وإبقاء عقد الرهن هو الأصل، حتى يدل الدليل على أنه مُهمل، وأنه منفسخ بمثل هذا الشرط، فحينئذٍ نحكم بانفساخه، والأصل بقاء ما كان على ما كان، فنقول: الرهن في الأصل إذا وقع بينهما واتفقا عليه أنه تام.

صحة الشروط أثناء العقد وبعده

صحة الشروط أثناء العقد وبعده والشروط الشرعية التي ذكرناها تكون أثناء عقد الرهن، وتكون بعد الرهن بيوم أو يومين، أو بمدة، فمثلاً: لو أنه رهن عنده وجاءه بعد الرهن بيوم، وقال: يا فلان! نحن اتفقنا على أن تكون السيارة عند محمد، ولكني أطلب منك شرطاً وهو أنه إذا حضر الأجل أن يتولى محمد البيع دون أن ينتظر إذناً منك؛ لأنك رجل كثير السفر، وأنا رجل أريد حقي؛ لأن هذا الدين والمال الذي أعطيتكه متعلِّق بأموال أُناس أو حقوق أناس، فما أريد أن أتعطّل، فأريد إذا حضر الأجل أن يُباع الرهن ويُعطَى حقي، فقال له: لك ذلك، فالشرط لم يقع أثناء العقد، وإنما وقع بعد العقد، فإن تراضيا عليه في حال العقد أو تراضيا عليه بعد العقد، فالحكم واحد، وهو شرطٌ شرعي معتبر.

أحوال الشرط والعقد من حيث الصحة والبطلان

أحوال الشرط والعقد من حيث الصحة والبطلان وقوله: (لم يصح الشرط وحده)، أي: أننا نُبطِل الشرط، ولكن نصحِّح عقد الرهن، وفي بعض الأحيان تأتي شروط في العقود، وتكون الشروط فيها: على أحوال فتارةً يلغى الشرط مع العقد، وتارةً يلغى الشرط ويصح العقد، وتارة يصح العقد والشرط. فإما أن تصحِّح العقد وتلغي الشرط، أو تصحِّح العقد والشرط، أو تُلغي العقد والشرط، فهذه ثلاثة أحوال. ففي بعض الأحيان تصحِّح الشريعة الشرط مع العقد، وهذا إذا كان شرطاً موافقاً لشرع الله عز وجل، سواءً في البيع، أو في النكاح، كأن يشترط شرطاً يوافق الشريعة، وليس فيه غرر، وليس فيه أمر محرم، فنصحِّح العقد الذي هو عقد النكاح ونصحِّح الشرط. وفي بعض الأحيان يكون الشرط موجباً لإلغاء العقد؛ كأن يشترط شرطاً يُوجِب دخول الغرر في العقد، وهذا الشرط يمنع من مضي العقد، والأصل مضيه، ويمنع من لزومه، والأصل لزومه، فيضاد الشرع، فمثل هذه الشروط إذا وقعت في العقد وتَركّب العقد منها، فإنه يُلغى الشرط ويُلغى العقد، ومن هذا: البيعتين في بيعة، فلو قال له مثلاً: أبيعك هذه الدار بشرط أن تبيعني دارك، فقالوا: هذا هو البيعتان في بيعة؛ لأن البيعتين في بيعة فيها ما يقرب من أربعة أقوال للعلماء رحمهم الله: ومنها قوله: أبيعك داري بشرط أن تبيعني دارك، فحينئذٍ كأنه عاوض بين الربحين، وكأنه يبيع ربح تلك بربح هذه، ويكون مقابلاً للمال بالمال على وجهٍ يُدخِل شبهة الربا. والبيع يفسد بحرمة عين المبيع، أو بالغرر، أو بالربا، أو بالشروط التي تئول إلى الربا، أو إلى الغرر، أو مجموع الأمرين. وقد تقدَّمت معنا أمثلة في كتاب البيوع على الشروط الفاسدة المنهي عنها شرعاً، والتي توجب فساد العقود، كأن يقول له: أبيعك هذه الدار على أن لا تبيعها لأحد، فإن هذا الشرط يخالف مقتضى عقد البيع، ويخالف شرع الله؛ لأن شرع الله أنك إذا ملكت الدار فإنه من حقك أن تبيعها، فيقول العلماء: إذا قال له: أبيعك الدار بشرط أن لا تبيعها لأحد، فحينئذٍ هذا البيع فاسد؛ لأن البيع تَركّب من شرطٍ يخالف مقتضى العقد، حيث تم العقد وتركب منه. وبعض العلماء يصحَّح البيع ويُلغي الشرط، لكن الذي ذكرناه أقوى. وفي بعض الأحيان يُلغى الشرط والعقد، وتارةً يُلغى الشرط ويبقى العقد صحيحاً، كما فعل صلى الله عليه وآله وسلم في حديث بريرة رضي الله عنها، فإن بريرة اشترط أهلها أن الولاء لهم، وهذا الشرط يخالف شرع الله عز وجل؛ لأن الولاء لمن أعتق، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق)، فصحَّح البيع وألغى الشرط. وعلى هذا يقول العلماء: إن الشروط تأتي على هذه الصور كلها: فإما أن توجب فساد العقد فيلتغي الشرط والعقد، وإما أن تكون موافقة للشرع، فيُصحَّح العقد ويلزم الشرط، وإما أن يصح العقد ويلتغي الشرط. ومن القصص العجيبة التي وقعت لبعض السلف: أنه وقع له بيعٌ بشرط، فسأل بعض العلماء عن حكم هذا البيع؟ فقال: البيع فاسد بهذا الشرط الفاسد، ثم سأل ثانياً، فقال له: البيع صحيح والشرط فاسد، ثم سأل ثالثاً، فقال له: البيع صحيح والشرط معتبر؛ لأنه خفّف في ذلك الشرط واعتبره موجباً. ثم لما رجع إليهم، فوجد الذي يقول بصحة العقد وفساد الشرط يحتج بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قصة بريرة، حينما اشترطوا شرطاً لا يوافق شرع الله، فألغى الشرط وصحَّح العقد. والذي قال بصحة العقد والشرط احتج بحديث جابر رضي الله عنهما، لما باع جمله من النبي صلى الله عليه وآله وسلم واشترط حملانه إلى المدينة، وهو في الصحيحين، فقال: الشرط صحيح والعقد صحيح. والذي قال بفساد العقد وفساد الشرط، احتج بنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الثنيا في البيع، وعن بيعٍ وشرط؛ لحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيعٍ وشرط). فكل منهم يحتج بسنة، والواقع أن هذه السنة لا تتعارض، وذلك كما ذكرنا: إن كان الشرط يخالف مقتضى العقد تماماً، وينبني العقد عليه مع فساده، فإن هذا يدخل على العقد ويوجب فساده فيلتغيان، وإن كان موافِقاً صُحِّح، وإن كان لا يدخل على العقد، ويُراد به منفعة أحد المتعاقدَين على وجه يوجب الفساد، فإننا نقول بفساد الشرط وصحَّة العقد، وهذا هو المعوّل عليه عند المحقّقين من العلماء رحمهم الله في التفصيل في الشروط. فالخلاصة: أن الرهن فيه شروط مشروعة، وهي التي لا تخالف مقتضى العقد، ويشترطها صاحب الدين ليستوثق بها من دينه، ونحو ذلك، وهناك شروط ممنوعة، وهي التي تخالف شرع الله عز وجل، وكلٌ منهما فصّلنا حكمه، فإن كانت مشروعة شُرعت ولَزِمت، وإن كانت ممنوعة بطَل الشرط وبقي الرهن على ما هو عليه.

قبول قول الراهن في قدر الدين والرهن ورده

قبول قول الراهن في قدر الدين والرهن ورده قال رحمه الله: [ويقبل قول الراهن في قدر الدين والرهن ورده]. قوله: (ويُقبل قول الراهن في قدر الدين)، المسائل من الآن مسائل قضائية، والأصل أن مسائل القضاء تؤخَّر إلى باب القضاء، فهناك كتاب جعله العلماء رحمهم الله في الأخير يقال له: كتاب القضاء، وكتاب القضاء يُبيِّن العلماء رحمهم الله فيه آداب القاضي، وصفة الحكم بين الخصمين، والبيِّنات والأدلة والحجج، وتعارض البيِّنات والحجج، وأنواع البيِّنات. إلى آخر ما يتبع كتاب القضاء. لكن من عادة العلماء رحمهم الله أنهم ربما أدخلوا بعض المسائل في أفراد العقود وألحقوها بها، وإن كانت مندرجة تحت أصل سيقرِّرونه في القضاء، وإلا فالأصل أنها تقرر في باب القضاء، لكن قد يأتون في الرهن ويتكلمون على هذه المسائل؛ لأنها مسائل خاصة، وهي في الحقيقة مندرجة تحت أصول كتاب القضاء، وقد سبق أن بيّنا في المجلس الماضي أن مسألة المدَّعِي والمدّعَى عليه هي التي ينبني عليها طلب الدليل من المدّعِي، وطلب اليمين من المنكر، وهو المدّعَى عليه، وقلنا: إن العلماء رحمهم الله لمّا جاءوا إلى كتاب القضاء، ذكروا أن من أهم ما ينبغي على القاضي في كتاب القضاء: أن يعرِف من المدّعِي ومن المدّعَى عليه؟ فإذا ميّز بين المدعِي والمدّعَى عليه أمكنه أن يقضي؛ لأنك إذا عرفت من المدّعِي ومن المدّعَى عليه، قلت للمدّعِي: أحضر الدليل، هذا إذا أنكر المدّعَى عليه. مثاله: جاء شخص وقال: لي على فلان ألف، فنقول: يا فلان! هل له عليك ألف؟ فإذا قال: لا. فنقول للمدعي: ألك بينة؟ فإن قال: ما عندي بينة، فنقول له: ليس لك إلا يمينه؛ وذلك لما رواه البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (البيِّنة على المدَّعِي واليمين على من أنكر)، فإن حلَف اليمين، فقد دفع بها التهمة أو الدعوى عن نفسه. إذاً: تمييز المدَّعِي عن المدّعَى عليه مهم، ولو أن قاضياً لم يعرف من المدَّعِي والمدّعَى عليه؛ لما استطاع أن يقضي؛ لأنه إذا لم يميِّز من الذي قوله يوافق الأصل، وقوله يوافق العرف، وقوله يوافق الظاهر؛ فإنه لا يستطيع أن يقول: ائتني ببينة؛ ولما عرف من الذي يُخاطَب بالبيِّنة، ومن الذي يُخاطَب باليمين، فلمّا قال صلى الله عليه وآله وسلم: (البينة على المدَّعِي واليمين على من أنكر)؛ لزم على القاضي أن يعرف ويميِّز بين المدَّعِي والمدّعَى عليه، قال الناظم: تمييز حال المدعي والمدعى عليه جملة القضاء وقعا فالمدَّعِي من قوله مجرد من أصلٍ أو عرفٍ بصدق يشهد وقيل من يقول قد كان ادّعَى ولم يكن لمن عليه يُدَّعى وقد شرحنا هذا وبيّناه، وبناءً على ذلك نطبِّق هذه القواعد التي سبق شرحها: أن المدَّعَى عليه يُنكر، ويقول: لم يكن، والمدَّعِي يقول: قد كان. أو يكون المدَّعى عليه قوله يوافق الأصل، والمدعي قوله يخالف الأصل. وهنا في مسألة الدين: قول من عليه الدين -وهو الراهن- موافق للأصل. وتوضيح ذلك: عندما نأتي عند سداد الدين -والمصنِّف رحمه الله من دقته أن أخّر هذه المسألة إلى آخر باب الرهن؛ والسبب في هذا: أنه عند بيع الرهن تقع الخصومات: هل الدين ألف، أو ألفان، أو ثلاثة؟ - فعندما نأتي عند سداد الدين فربما في بعض الأحوال يقع بينهما اختلاف في قدر الدين، فالسؤال الآن الذي يحتاج إلى إجابة: هل نقبل في قدر الدين قول الراهن أو نقبل قول خصمه؟ بمعنى: هل الذي يحدد قدر الدين هو الذي عليه الدين، أو الذي أعطى الدين؟ هذا سؤال لا بد له من إجابة. و A أن المدَّعِي هو المرتهن، صاحب الدين، والمدّعَى عليه هو الراهن. مثل أن يقول صاحب الدين: عند محمد مليون، فقال محمد: بل دينك مائة ألف. فهنا وقعت الخصومة؛ لأن صاحب الدين ادعى عليه أكثر، فقال له: بل ديني مليون، فإذا قال محمد المديون: إن الدين مائة ألف، وقال عبد الله: بل مليون، فإننا متحققون وعلى يقين أن الدين مائة ألف؛ لأن كلاً منهما -الذي قال: مائة ألف، والذي قال: مليون- متفقون على أن المائة ألف موجودة؛ فالذي قال: الدين مليون قد أثبت وجود مائة ألف، وكذلك الذي قال: إن الدين مائة ألف، إذاً اليقين أنها مائة ألف، وشككنا فيما زاد عليها، فهذا الزائد نقول لصاحب الدين: أثبت وجوده. فدائماً نجد أن المديون مدّعَى عليه، وقوله موافق للأصل؛ لأننا قلنا: هناك أمارات للمدَّعَى عليه، منها: أن يوافق قوله الأصل، أو يوافق العرف، أو يوافق الظاهر، فهنا ثلاث حالات: يوافق الأصل كما في مسألتنا؛ لأن الأصل براءة ذمته حتى يدل الدليل على شغلها. فالأصل أنه لما ثبت اليقين عندنا أنه مديون بمائة ألف، ثبت كونه مديوناً، لكن المبلغ الزائد، الأصل براءة ذمته منه، حتى يَثْبُت أنه مديون بها؛ ونعتبرها دعوى يُطالَب صاحبها بالدليل. ولما قال له صاحب الدين: لي عليك مليون، فقال: لا، بل لك علي مائة ألف. فإنه منكِر للزيادة، فيكون مدَّعَى عليه، فقوله حينئذ مُعتبَر. فإذا قال العلماء: القول قول فلان، فمعناه: أنه مدَّعَى عليه. ودائماً نجد في باب الرهن، وفي باب الخصومات، وفي الحوالة، وفي العارية: القول قول فلان، ومعناه: أنه مدّعَى عليه، وأن خصمه هو الذي يُطالَب بالدليل.

مسألة نفي الرهن وما يترتب عليها من أحكام

مسألة نفي الرهن وما يترتب عليها من أحكام هذا في مسألة قدر الدين، وأن يكون المديون مقراً بأصل الدين، ولكن الخلاف فيما هو زائد، أما لو نفى كونه رهناً، وقال: إنما أعطيته عارية، ولم أعطه رهناً، وليس له عليَّ شيء، فحينئذٍ أنكر الدين أصلاً. فإذا أنكر الدين، وقال له صاحب الدين: بل أعطيتني هذا الشيء رهناً، وأنت مدينٌ لي، فبعض العلماء يقول: إن الرهن وصفٌ زائدٌ على العارية، فيُطالَب من يدَّعِي الرهن ويدّعِي كونها محبوسة بالدليل؛ لأن الأصل ملكية الشخص لهذا الشيء، فإذا ادعاه رهناً، فمعناه: أنه يريد أن ينقل عنه الملكية في المآل. فنقول لمن يدعي أن هذا الشيء رهن: أثبت أنه استدان منك، وعليه فهناك عدة مسائل: فتارةً ينفي الدين، فإذا نفى الدين فيُطالب صاحب الدين بإثبات كونه مديوناً؛ لأنه يمكن في بعض الأحيان أن يأتي شخص ويأخذ منك السيارة عارية، ويقول: سأذهب بها إلى قضاء حاجة وآتي، ثم بعد أن يعود تأتي فتقول له: أعطني سيارتي، فيقول: لا، هذه رهنٌ بعشرة آلاف لي عليك. إذاً: الأصل عدم وجود الدين، والأصل عدم شغل ذمته بالدين، فليس كل شخص أخذ متاع أحدٍ، أو احتبس متاع أحدٍ، أو كان واضعاً يده على متاع أحدٍ يُقبَل منه ادعاء الرّهن، فإذا أنكر الدين بالكلية فالقول قول المنكِر، الذي هو صاحب السلعة، ومالكها، ويُطَالب من يدّعي كونها رهناً بالدليل، على نفس الأصل الذي قررناه؛ لأنه لو فُتح هذا -كما ذكرنا- لادعى أناس أموال أناس، فقد يأتيك شخص ويقول لك: أعطني سيارتك لأذهب بها إلى حاجة، ثم يقبضها ويذهب ويمتنع من إعطائها لك، ويقول: أعطيتنيها رهناً بعشرة آلاف أو ما إلى ذلك. فحينئذٍ لن تستطيع أن تأخذ سيارتك؛ بل إنه يدَّعِي عليك شغل الذمة، فلو فُتِح هذا الباب لتسلّط الناس على أموال بعضهم، فالشريعة تقول في هذه الحالة: الأصل أنك غير مديون؛ لأن القاعدة: أن الأصل براءة الذمة، وهذه قاعدة منتزعة من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى أقوامٌ أموال قومٍ ودماءهم)، فلو كل شخص يدَّعِي لذهبت أموال الناس وذهبت أعراضهم، وذهبت كذلك دماؤهم. إذاً: لا نقبل ادعاءه بكونه مديوناً، هذا أولاً، وثانياً: إذا أقر أنه مديون واختلفا في قدر الدين، فإننا نرجع إلى قول المديون، ونقول: اليقين القدر الذي ذكره والزائد يحتاج إلى دليل. ويقبل قول الراهن في قدر الدين قليلاً كان أو كثيراً.

إقرار المدين بالدين

إقرار المدين بالدين ثم هنا مسألتان: أولاً: أنه إذا قال: لك عليّ ألف، وقال صاحب الدين: نعم هي ألف، فنقبل قوله؛ لأنه شهِد على نفسه، وهذا يسمى: إقرار، وأقوى الحجج في القضاء هو الإقرار؛ لأن الإقرار شهادة الإنسان على نفسه، فإذا شهد الإنسان على نفسه فإن الغالب أنه لا يشهد على نفسه بالضرر؛ لأن الله جعل للإنسان العقل، والعقل يعقِله عن أن يُدخِل الضرر على نفسه، وما دام أنه عاقل، وأنه أهل للتصرف في ماله، ليس إنساناً مجنوناً، ولا إنساناً عنده خفَّة وعته؛ فهذا الإقرار حجّة، ومن هنا يقول العلماء كلمة مشهورة: إن الإقرار سيد الأدلة، أي: أقوى الحجج؛ لأنك لن تجد أصدق من شهادة الإنسان على نفسه. وعلى هذا نقول: إنه إذا أقر بكونه مديوناً لزمه، ويُقبل قول الراهن في قدر الدين؛ لأنه شهادة منه على نفسه. ثانياً: يُقبل قوله معارضاً لقول خصمه؛ لأن قوله يقين، فإذا اختلفا في القدر وكان الأقل فهو يقين والزائد خلافه، فيُطالَب من زاد بالدليل، والأصل براءة ذمته حتى يدل الدليل على شغلها.

قبول قول الراهن في قدر الرهن

قبول قول الراهن في قدر الرهن قوله: (والرهن). أي: يقبل قول الراهن في قدر الرهن الذي أعطاه، وذلك عندما يعطي الراهن سيارته للمرتهن، ثم يقول المرتهن: ما أعطيتني السيارة كاملة، بل أعطيتنيها ناقصة، فحينئذٍ يقول بعض العلماء: إن الرهن يُقبل فيه قول الراهن، وقال بعض العلماء: يقبل فيه قول المرتَهِن، لأنه مدَّعَى عليه، فإذا ادعى الراهن أن قيمة الرهن أكثر، فمعناه أنه يدَّعِي الأكثر. فبعض العلماء يرجِّح أنه يُقبل قول الراهن في قدر الدين، ويقبل قول المرتهِن في قدر الرهن، وفُرِّق بينهما؛ لأن اليد في الرهن غير اليد في قدر الدين، ومن هنا ففيه إقرارٌ ثابت بشغل الذمة في الديون، وهذا يستلزم أنه قد أثبت شغل ذمته، فيبقى الادعاء زائداً بالقدر، فيكون القول قول الراهن، بخلاف المسألة الثانية، ولهذا فرق بينهما، واختار المصنِّف أنه في قدر الرهن يُقبل قول الراهن. وتوضيح ذلك أكثر: أنهم يجعلون الراهن مدَّعَى عليه، فهو يقول: إن الرهن كامل، وذلك إذا وقع اختلاف في النقص والزيادة في الرهن، فإذا قال الراهن: إن الرهن كامل، فقال المرتَهِن: ليس بكامل. فحينئذٍ يقولون: إن الأصل كماله؛ لأنه لا يمكن أن يعطيه رهناً لقاء دين إلا وهو كامل في الغالب. مثلاً: لو كان الدين مليوناً، ثم ادَّعى أنه رهنه مزرعة بقيمة المليون، فقال: بل أعطيتني مزرعةً بنصف مليون. قالوا: فيُقبل قول الراهن؛ لأن الراهن يكون هو المدَّعَى عليه. ويقول: إمام دار الهجرة، الإمام مالك رحمه الله -وأميل إليه في الحقيقة- يقول: يُنظَر إلى وجود الشبهة، فإن كان الرهن الذي أعطاه مقارباً؛ فإننا نقبل قول أقربهما إلى هذا -يعني في القدر- وإن كان الرهن الذي يدَّعِيه المرتَهِن أقل، فإننا نقبل قول الراهن، فيجعل التهمة معتبرة لترجيح أحد القولين، فإن كان الذي يزيد -وهو الراهن- معادلاً للدين قبلنا قوله، وإن كان الذي ينقص -وهو المرتهن- مقارباً للدين قبلنا قوله. فهذا -مثلاً- يقول: رهنتك مزرعة قيمتها مليونان، والدين مليون، فيقبل هنا قول الذي له الدين في أنها بمليون؛ لأنه يدَّعي عليه أمراً زائداً في شبهة قامت، على أن الأصل والأقوى أنها بمليون؛ لأن الغالب أن الإنسان لا يرهن الأكثر في الأقل. فقالوا: إن هذه شبهة تقوِّي قول صاحب الدين، وهذا الذي سبق أن ذكرناه بالإجمال، وأما إذا كان العكس، بأن قال الراهن: رهنتك مزرعة قيمتها مليون، فقال المرتهن: بل رهنتني مزرعة قيمتها ربع مليون، والدين مليون، فحينئذٍ يكون القول قول الراهن، وأما المرتَهِن فقوله خلاف الظاهر. فهذا ترجيح وإعمال للظاهر مع وجود الشبه. وهذا التفصيل حقيقة فيه قوة خاصة عند فساد الزمان؛ لأن الغالب أن الناس كلٌ منهم يحتاط عند فساد الزمان، ويكون الرهن غالباً مقارباً، إلا أن القول الذي اختاره المصنِّف ينبني على احتمال أن الشخص يرهن شيئاً زائداً عن دينه، وهذا يقع في بعض الأحوال، لكن الحكم للغالب والنادر لا حكم له. وعلى هذا يقولون: عند الاختلاف يرجع إلى الترجيح، وإن كان أحد الخصمين مظلوماً. إذاً: لا بد أن ننظر إلى الأرجح، وإلى أكثر الصور رجحاناً ونحكم بها، وهذا منهج في التشريع معروف، ولذلك لما قال الشرع: (البينة على المدَّعِي) قد يكون المدَّعِي من أصلح خلق الله، ولا يكذب، ولو ضُرِبت عنقه ما كذب، فهل تكون البينة على المدَّعِي سواءً الصالح والفاجر؟ فنقول: نعم. فالشريعة تنظر إلى أغلب الناس، ولذلك قال الناظم: والمدَّعِي مطَالَب بالبيِّنه وحالة العموم فيه بيِّنه قوله: (والمدعي مطالب بالبينة) أي: بالدليل، سواء كان فاجراً أو صالحاً، وقوله: (وحالة العموم فيه بيِّنة) يعني: واضحة ظاهرة، وهذا مما اتفقا لفظاً واختلفا معنى. فنحن إذا نظرنا إلى أصل الشريعة العامة، فإنها تنظر إلى الغالب، فكون الرهن في الغالب قريباً من الدين، هو الذي نحكم به، ويترجّح قول الإمام مالك في هذه المسألة، وهو الذي أميل إليه، واختاره بعض العلماء رحمهم الله، وبعض أصحاب الإمام أحمد، أنه يُنظر إلى الشبهة، فإن قويت الشبهة رجحت قول أحدهما، فيكون حينئذٍ القول قوله، ومن كان قوله أضعف شبهة فإنه يكون مدَّعياً فيُطالَب بالبيّنة.

قبول قول الراهن في رد الرهن وعدمه

قبول قول الراهن في رد الرهن وعدمه قوله: (ورده). كذلك يقبل قول الراهن في رد الرهن. فمثلاً شخص له على المديون مليون، فسدد الدين، والحكم شرعاً أنه إذا سُدِّد الدين، فيجب على من له الدين أن يرد الرهن، مثال ذلك: شخص اشترى من شخصٍ عمارة بخمسمائة ألف، وأعطاه أرضاً رهناً على أن يسدد في نهاية العام، فلما جاء الأجل أعطاه الخمسمائة ألف كاملة تامة، فيجب على المرتَهَن أن يرد الرهن، فإذا قال الراهن: أعطني رهني، فقال المرتهن: قد أعطيتك، فقال: ما أعطيتني، فاختلفا هل رد الرهن أو لم يرده؟ فنقول: أولاً: اليقين أن الرهن موجود عند المرتَهِن؛ لأنه أخذه لقاء دينه، واستوثق به لقاء دينه، فنحن على يقين أن ذمته مشغولة بهذا الرهن حتى نتحقق من رده لصاحبه. فإذا قال القاضي للمرتهن: هل أعطاك فلان رهناً؟ فقال: نعم، قال له: هل رددت له رهنه؟ فقال: نعم، رددت له الرهن، وحينئذٍ سأل القاضي خصمه: هل ردّ لك الرهن؟ فقال: لا إذاً نحن على يقين أن ذمة فلان -الذي هو صاحب الدين- مشغولة؛ لأنه اعترف أنه أخذ رهناً، لكن لو أن الراهن قال: أعطيته رهناً في دين، فقال المرتهن: ما أعطاني رهناً، فنقبل قول المرتَهَن؛ لأن الأصل أنه لم يأخذ رهناً حتى يقوم الدليل على أنه أخذ رهناً. إذاً: في إثبات الرهن القول قول صاحب الدين وهو المرتَهَن، وبعد أن يثبُت الرهن، ففي رد الرهن القول قول الراهن؛ لأننا تحققنا من شغل ذمة المرتَهِن، حتى يدل الدليل على أنها برئت ذمته، وأنه سدد أو رد الرهن إلى صاحبه. فكما أنه رد له حقه كاملاً، فيجب عليه كذلك أن يرد الرهن كاملاً على ما اتفقا عليه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم شراء السلعة وجعلها رهنا لقاء قيمتها عند بائعها

حكم شراء السلعة وجعلها رهناً لقاء قيمتها عند بائعها Q ما الحكم لو بعته سيارة بالتقسيط على أن يعطيني رهناً، فرهنني السيارة نفسها، وأذِنت له في التصرُّف على أن لا يبيعها حتى ينتهي السداد أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن هذا النوع من البيوع فيه شبهة، وعلى هذا يُقال: إن الرهن وقع على نفس المبيع، وحينئذٍ لم يكن على سنَن الرهن المعروف شرعاً؛ لأن الأصل في الرهن أن يكون بعينٍ يُستوثق بها لقاء الدين، وأن تكون هذه العين منفكة عن أصل التعاقد؛ لأن المقصود من الرهن إمضاء العقد الأصلي، وعلى هذا فإنه يقوم بإلغاء العقد الأصلي، فهو إذا باعه السيارة، وجعل السيارة نفسها رهناً، فإن معنى ذلك: أنه سيُبقي هذه السلعة معه، وإذا تم الأجل وعجز عن السداد ستُباع، وإذا بيعَت فلا شك أنها ستكون أنقص قيمة، ولم يستفد المشتري من السلعة، فيكون قد اشترى العاجل بالآجل مع التفاضل. والشبهة في هذا ظاهرة. فالمقصود من الرهن إمضاء العقد الأصلي، وأن يُعطى الرهن من أجل أن تتم الصفقة الأولى، فإذا صارت الصفقة نفسها هي الرهن، فحينئذٍ خالفت المقصود من الرهن، ولذلك فأصل الرهن إمضاء التجارات. وأكثر توضيحاً نقول: إذا قال له: أبيعك هذا البيت بمليون مثلاً، على أن تدع البيت رهناً عندي، فإنه في هذه الحالة إذا قال له: على أن تسدِّد المليون في نهاية السنة، فإذا لم تسدد سأبيع البيت ثم أسدد وتدفع الناقص، فإذا تم البيع فلن يستطيع أخذ السلعة، ولن يستطيع إمضاء العقد الأصلي، والرهن أصلاً لإمضاء العقد الأصلي، فيبقى البيع نفسه الذي من أجله شُرع الرهن لإتمامه معطلاً بالرهن، أي: أُدخِل الرهن لنقضه خاصة عند العجز عن السداد؛ لأن الإشكال كله عند العجز عن السداد، فإذا حضر نهاية السنة فإنه سيُباع البيت بتسعمائة ألف، فيكون حينئذٍ أوجب عليه (المليون) السابقة، ثم أخذ لقاءها تسعمائة ألف، وخرج الرجل بلا شيء؛ لأنه لا يستطيع أن يؤجر البيت، ولا يستطيع أن ينتفع به طيلة المدة كلها، فصار كالعقوبة عليه لعدم السداد، ثم يلزم بدفع مائة ألف لأجلٍ، وغالباً أن السلعة إذا رُهِنت على هذا الوجه أنها تنقص قيمتها، ولا تبقى على نفس القيمة، فالشبهة في هذا واضحة. وخلاصة الأمر: أن الله عز وجل إنما شرع الرهن من أجل أن يكون هذا إبقاءً وإنفاذاً للعقد الأصلي الذي هو البيع، فإذا اشترى منه سيارة ورهنه داراً، فإن معنى ذلك: أن الدار هذه جُعِلت من أجل إن عجز عن سداد قيمة السيارة، تُسدَّد القيمة من الدار فيتم البيع الأول، فكأن مقصود الشرع أن يتم البيع الأول. فإذا أدخل صورة الرهن بشكل يخالف مقصود الشرع من مشروعيته، فإن هذا ليس على سنَن الرهن المعتبر. وعلى هذا لا يصح أن يكون الشيء مبيعاً مرهوناً، وإنما يكون الرهن بشيءٍ يستوثق به لإتمام الصفقة الأولى، ويدخله شبهة ما ذكرناه من بيع الآجل بالعاجل، على وجهٍ فيه ظلمٌ للمشتري؛ لأنه يمنع من الانتفاع بالسلعة، والأصل أنه إذا اشترى السلعة فمن حقه أن يتصرف فيها. فلو قال له: أبيعك هذه الأرض على أن لا تؤجرها لأحد، وعلى أن لا تبيعها لأحد، فكل هذا يخالف مقتضى الشرع، فالمؤقت بالممنوع كالمطلق به، فهو إذا أقّت الممنوع وقال: لا تبيعه مدة كذا، فإن هذا يخالف مقصود الشرع من كونه إذا اشترى الشيء كان حر التصرف فيه، وعلى هذا فالأظهر عدم صحة هذا النوع من الرهون، والله تعالى أعلم.

مطالبة الراهن للعدل إن فرط في الرهن

مطالبة الراهن للعدل إن فرط في الرهن Q ذكرتم أن للراهن أن يقيم دعوى قضائية على العدل إذا فرَّط، فمن المدَّعِي ومن المدّعَى عليه أثابكم الله؟ A إذا كان العدل قام على الرهن، وطُلِب منه بيع الرهن عند حلول الأجل، وقبضُ الثمن، وإعطاؤه للمرتَهِن، فباع عند حلول الأجل، ثم أقبض بدون إشهاد، فإن اليقين والثابت أن ذمَّته شُغِلت بقيمة الرهن، هذا ليس فيه إشكال؛ لأنه هو يُقِر ويعترف أنه باع الرهن، وأنه سدّد فلاناً؛ لأن القضاء يفصِّل كل كلمة بمعناها، فهو لما يقول: أعطيت فلاناً، فمعناه: أني بعت الرهن ثم أعطيت فلاناً، فحينئذٍ يُمسك ويؤاخذ على قوله: أعطيت فلاناً؛ لأنه لا يُعطي إلا بعد البيع، فكأنه أقر على نفسه أنه باع وقبض الثمن، وبعد قبضه للثمن أعطى فلاناً، سواءً فصَّل ذلك أو أجمله، فإن أجمله فالإجمال متضمِّن للمعنى البيِّن جملة وتفصيلاً، يؤاخذ به كما يؤاخذ به مفصَّلاً، كما لو قال: بِعتُ السيارة بعشرة آلاف، ثم ذهبت إلى فلان وأعطيته المبلغ، فقد أقر ببيعها بعشرة آلاف وإقباض فلان هذا المبلغ. فنقول: ذمته مشغولة باليقين بعشرة آلاف لصاحب الرهن، هذا يقين وليس فيه إشكال، لكن هل أعطى أو لم يعط، أو أعطى وأخطأ في الإعطاء؟ فربما أعطى شخصاً آخر، وربما أنه أعطى فعلاً ولكن نسي من أعطاه، فيحتمل أن يكون صادقاً ويحتمل أن يكون كاذباً، ونحن لم نطلع على الغيب، ولا نستطيع أن نستجلي حقيقة الأمر، فحينئذٍ نطالبه بالبينة على أنه أَعطَى، فنُحضِر صاحب الدين، ونقول: هل أعطاك فلان العشرة آلاف؟ فإن قال: ما أعطاني، فهناك يقين أن الذمة مشغولة بعشرة آلاف؛ لأنه لو فُتِح لكل عدل أن يقول: لقد أعطيته، ونقول: أعطاه، وانتهى الأمر، فحينئذٍ نكون قد ظلمنا أصحاب الديون، وامتنع أصحاب الديون من الرهن؛ لأنه لا تتحقق الحكمة والمقصود من الرهن، فنقول: إن القول قول صاحب الرهن؛ لأن العدل يعترف بأنه قبض عشرة آلاف ريال، ويدَّعِي، فهو معترف من جهة ومدعي من جهة، يدَّعِي أنه قد أعطاها لفلان، فصارت قضيتان: القضية الأولى: أنه أقر أن في ذمته عشرة آلاف لصاحب الدين، التي هي قيمة الرهن؛ لأنه في بعض الأحيان تكون قيمة الرهن أن يباع بتسعة آلاف أو يباع بثمانية آلاف، فإذا قال: بِعتُه بعشرة آلاف، فقد ثبت شرعاً في مجلس القضاء ويؤاخذ؛ لأن الإقرار في مجلس القضاء يؤاخذ به الإنسان. فإذا قال: بِعتُه بعشرة آلاف، فقد أقر أن ذمته شُغِلت بعشرة آلاف التي هي قيمة الرهن، لصاحبه؛ لأن العشرة آلاف ملك لصاحب الرهن. القضية الثانية: أنه ادعى أنه أعطى فلاناً العشرة آلاف، فنحضر خصمه، وتُقام بينهما الدعوى، فيقال: هل أعطاك؟ فإن قال: ما أعطاني، فنقول للعدل: ألك بينة؟ فإن قال: ما عندي بينة، فنقول: أتحلف بالله؟ فإذا حلَف بالله، انتهت القضية الأولى، فإذا طالب صاحب الدين بحقه، فنقول للمديون: سدد صاحب الدين العشرة آلاف، ثم أقم الدعوى على خصمك الذي هو العدل، وتصل إلى حقك؛ لأنه اعترف وأقر. ففي مجلس القضاء الأول ثبت فيه الإقرار، ومن الممكن لو خاصمه عند قاضٍ ثانٍ فإنه يقول: قد اعترف عند القاضي فلان أنه قد باع بعشرة آلاف، فلو أنكر العدل بعد ذلك، وقال: ضاع وما بعته، أو تلِف، وما بِعته، أو فلان سحب الرهن من عندي، فنقول للراهن: هل هذا صحيح؟ فإن قال: ما هو صحيح، هذا باع وقد اعترف بالبيع عند القاضي فلان، فإذا ثبت أنه فعلاً أقر في مجلس القضاء؛ فإن الإقرار في مجلس القضاء حجة، ويؤاخذ بهذا الإقرار ويُحكم عليه به. فالشاهد: أنهما قضيّتان منفكتان، ويؤاخذ بإقراره؛ لأنه حقٌ متعلِّق للغير. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

باب الرهن [5]

شرح زاد المستقنع - باب الرهن [5] مسائل الاختلاف في الرهن من أهم مسائل باب الرهن، ومما يتفرع عليها: قبول قول الراهن في الدين والرهن ورده، وفي كون الرهن مالاً محترماً شرعاً، ومنها: إقرار الراهن بعدم ملكيته للرهن وما يترتب عليه، وإقراره بجناية الرهن على غيره، وأهم أمر ينبغي معرفته في ذلك: من هو المدعي والمدعى عليه.

مسائل الاختلاف في الرهن وأنواعها

مسائل الاختلاف في الرهن وأنواعها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنِّف رحمه الله تعالى: [ويقبل قول الراهن في قدر الدين والرهن ورده]. سبق أن ذكرنا أن هناك مسائل يختلف فيها قول الراهن والمرتَهَن، وبيّنا أنهما يتنازعان في بعض الأمور المتعلِّقة بالرهن، وأنه ينبغي على طالب العلم إذا قرأ باب الرهن وأحكامه ومسائله أن يُلِمَّ بالمسائل التي يُقال لها: مسائل الاختلاف في الرهن. وذكرنا القاعدة عند العلماء: أنه إذا أردنا أن نبيِّن أحكام الاختلاف في الرهن، فالواجب علينا أن نعرف من هو المدَّعِي ومن هو المدّعَى عليه، وبيّنا أننا إذا قلنا: فلانٌ مدَّعَى عليه، فمعناه: أن القول قوله، وإذا قال العلماء رحمهم الله: القول قول الراهن، فمعناه: أن الراهن مدّعَى عليه، وأنه يُقبل قوله، حتى يقوم الدليل على صدق قول من خالفه. وبناءً على هذا: إذا اختلفا في قدر الدين، فقال الراهن: لك علي عشرة آلاف، وقال صاحب الدين: بل لي عليك خمسة عشر ألفاً، فحينئذٍ اختلفا في القدر. والخلاف يكون في الجنس، ويكون في النوع، ويكون في القدر، ويكون في الصفات. فمثلاً: يكون الخلاف في الخمسة عشر ألفاً هل هي ريالات -أصلها فضة- أو (دولارات)؟ فيصبح الخلاف في النوع، فيتفقان على القدر؛ لأن كلّهم يقول: الدين عشرة آلاف، لكن اختلفا هل هي (دولارات) فهي أكثر؟ أو هي ريالات فهي أقل؟ فالمديون يقول: هي من الريالات، والدائن يقول: بل من (الدولارات)، أو من الجنيهات، أو نحو ذلك، فالذي يقول الأكثر لا شك أنه يدَّعِي، والغالب أن الأكثر يكون من المرتَهِن، والأقل يكون من الراهن الذي هو المديون، وعلى هذا يختلفان في قدر الدين، ويختلفان في نوعه، فقد يتفقان في القدر ويختلفان في النوع، فهما يتفقان على أن الدين مثلاً عشرة آلاف من حيث القدر، ويختلفان في النوع كما ذكرنا: هل هي من الذهب جنيهات، أو هي من الفضة ريالات؟ وقد يتفقان على النوع -كالفضة- ويختلفان في القدر، فيقول أحدهما: لي عليك عشرة آلاف، ويقول المديون -الذي هو الراهن-: بل لك علي خمسة آلاف. فحينئذٍ اتفقا على النوع واختلفا في القدر. وفي هذه المسائل يكون المدّعَى عليه هو الراهن، والمدعِي هو المرتَهِن، أي: صاحب الدين. والغالب -كما ذكرنا- أن صاحب الدين يذكر الأكثر، والمديون يذكر الأقل، وحينئذٍ إذا قال الراهن مثلاً: لك علي عشرة آلاف، وقال صاحب الدين: بل لي عليك خمسة عشر، فنحن على يقين أنه أخذ عشرة آلاف، والخلاف فقط في الخمسة؛ لأن الذي يقول: لي عليك خمسة عشر، فإن معناه: أنه يُقر بأن العشرة آلاف ثابتة، وكذلك أيضاً من يقول: لك علي عشرة آلاف، فالقدر المتفق عليه عشرة آلاف، والمختلف فيه الخمسة، وقس على ذلك، فمحل النزاع إذا اختلفا في قدر الدين يكون في الزائد، فإن قال: عشرة آلاف، وقال الآخر: اثنا عشر ألفاً، فالاتفاق على العشرة والخلاف في الألفين. وإن قال: لك علي عشرة آلاف، فقال: بل لي عليك أحد عشر. فحينئذٍ الاتفاق على العشرة، والخلاف في ألف. وهذا الألف الزائد نطالب صاحب الدين بإثباته، ونقول له: ألك بيِّنة؟ فإن قال: ليس عندي بينة، أي: ليس عنده كتابة ولا شهود يشهدون أن الدين أحد عشر، فحينئذٍ نقول: ليس لك إلا يمين المدّعَى عليه، والقول قول الراهن. هذا بالنسبة لمسألة قدر الدين، فإننا نرجع في قدر الدين إلى الراهن؛ لأنه مدَّعَى عليه. وقد سبق أن ذكرنا: أن المدَّعِي والمدَّعى عليه لهما ضابط، فقلنا: إما أن يكون بالنفي والإثبات، كقول الناظم: قيل من يقول قد كان ادَّعى ولم يكن لمن عليه يدَّعى فمن يثبت فهو مدعي، ومن ينفي فهو مدَّعَى عليه، فكيف نثبتها هنا؟ وكيف نطبق هذه القاعدة؟ نقول: إن الذي يقول: لي عليك خمسة عشر فهو مُثبِت ومدعي، وهو صاحب الدين، والذي ينفي هو الراهن الذي يقول: ليس لك علي إلا عشرة آلاف، فهو مدعى عليه. وقيل: من يقول: قد كان، أي: الذي وقع وحصل خمسة عشر هو المدعي، ومعنى قوله: ولم يكن، أي: لم تكن خمسة عشر، إنما كانت عشرة آلاف، هو المدَّعَى عليه وهو الراهن. وعلى هذا ينطبق الضابط الأول، وهو: ضابط النفي والإثبات. وكيف نطبِّق الضابط الثاني وهو الأصل؟ وكيف انتزعنا من هذا الضابط أن الراهن مدَّعى عليه، وأن المرتَهِن وصاحب الدين مدعي؟ نقول: الأمر واضح؛ لأن الأصل براءة ذمة المديون الذي هو الراهن، فالأصل أن الخمسة ليست عليه، والمتفق عليه هو العشرة آلاف، فإذا أثبتنا وتيقنا أن ذمته خالية، فإن ذمته بريئة حتى يثبُت ما يدل على شغلها، ولذلك يقول العلماء والفقهاء في كتبهم: الأصل براءة الذمة، فالأصل أنك غير مديون بالخمسة، والأصل أن ذمتك لا تُشْغل بالخمسة إلا بدليل، فإذا كان يقول: لي عليك دين، فأنت تسلم أن له عليك ديناً، لكن تسلِّم بالعشرة وتُنازع فيما زاد، فحينئذٍ تكون الخمسة الزائدة الأصل براءة ذمتك منها، حتى يدل الدليل على شغلها، وعلى هذا تنطبق الضوابط التي ذكرناها على قول المصنف رحمه الله: (ويقبل قول الراهن) أي: أن قول الراهن هو المقبول، وهو المعمول به في قدر الدين، هذا إذا اختلفا، أما إذا اتفقا فلا إشكال. يبقى Q إذا اتفق القدر واختلف النوع، فما الحكم لو اتفقا في القدر واختلفا في النوع؟ كأن يقول: لي عليك عشرة آلاف جنيهات، فقيمتها أغلى، فقال: بل لك علي عشرة آلاف ريالات، فحينئذٍ يتنازعان، فبعض العلماء يقول: الأصل أن نحتكم إلى العرف. فالعرفُ إن شهِد بصدق أحدهما فالقول قوله، لأن العرف إذا كان بالريالات، فقد ذكرنا قول الناظم: تمييز حال المدعِي والمدّعَى عليه جملة القضاء وقعا فالمدعِي من قوله مجرد من أصلٍ أو عرفٍ بصدق يشهد فقوله: (أو عرف بصدق يشهد)، فالعرف يشهد بصدق إحدى الدعاوى، فإذا قال له: لي عليك عشرة آلاف من الجنيهات، وقال الآخر: بل من الريالات، والعرف يتعامل بالريالات، فنقول: القول قول من قال بالريالات؛ لأن العرف يشهد بأن الديون تجري بالريالات لا بالجنيهات، فإن كان العرف بالجنيهات أو (بالدولارات)، حُكِم بذلك العرف. هذا مما يستثنى في مسألة قول الراهن، لكن بعض العلماء يقول -كما اختاره المصنف-: إنه يُقبل قول الراهن مطلقاً، لكن لو نُظِر إلى قواعد القضاء التي ذكرناها، فيكون هناك تفصيل، فنقبل قول الراهن إذا شهِد الأصل أو شهِد العرف بصدقه.

تابع قبول قول الراهن في قدر الدين والرهن ورده

تابع قبول قول الراهن في قدر الدين والرهن ورده قوله: (ويقبل قول الراهن في قدر الدين والرهن ورده) كما إذا قال له: رهنتك سيارةً، فلم تردها. إذا فرضنا أن الدين عشرة آلاف ريال، فدُفِع سيارة في مقابل الدين، فإذا سدد الراهن، فإنه يجب رد الرهن إليه، فصورة المسألة: أن الراهن إذا سدّد الدين الذي عليه؛ فإن له أن يطالِب بالرهن، ويقول: كما أنني وفَّيت لك بأداء دينك عليّ، وفِّ لي برد الرهن؛ لأن الرهن شُرِع من أجل الاستيثاق، فإذا كان الدين قد أُدِّي؛ وجب رد الحقوق إلى أهلها. إذاً: صورة المسألة: إذا قام الراهن بسداد الدين الذي عليه، وإبراء ذمته، فإن له أن يطالب برد الرهن، مثاله: باع رجل عمارته بمليون، فقال له المشتري: أمهلني سنة، فقال البائع: أعطني رهناً، فقال: أرهن عندك أرضي الفلانية، أو عمارتي الفلانية، فقال: قبلت. وقبل انتهاء الأجل سدد المديون والمشتري جميع المليون، فإنه يجب حينئذٍ على صاحب الدين أن يرد الرهن؛ لأن الرهن ملكٌ للراهن المديون، وإنما أُخِذ منه حيطة واستيثاقاً كالوثيقة، احتُفِظ بها حق صاحبها. أما إذا اختلفا فقال الراهن: لم تعطني أرضي، وقال صاحب الدين: بل رددتها إليك، فهل نقبل قول الراهن، أو نقبل قول المرتهِن؟ أو من الذي يُطالب بالبيّنة والدليل على الرد؟ هل نطالب الراهن أو نطالِب المرتَهِن؟ في هذه المسألة ننظر إلى الأصول: فالأصل أن الرهن موجودٌ عند المرتَهِن، فتبين أن الرهن ليس في يد الراهن؛ لأن الكل متفق على أن الراهن قد دفع الأرض للمرتهن، وصاحب الدين -الذي هو المرتهن- يقول: رددت لك، ومعناه: أنه يُسَلِّم بأنه قد أخذ. فإذا جاءك شخصان أحدهم يقول: لي على فلان ألف، فقال الآخر: قد رددتها عليه، فإذا قال: قد رددتها عليه، فمعناه: أنه أقر أن عليه لفلان ألفاً. فهذا ينبغي أن يُلاحظ. فإذا قال صاحب الدين: رددت الرهن إليك، فإننا نقول: اليقين أن الرهن في ذمتك، والأصل أنك مطالب برد الرهن إلى صاحبه؛ لأنك تسلم أن حقك رجع إليك، وهو الدين، وتسلم بأن الراهن قد وضع عندك الرهن. إذاً: نحن على يقين بأن ذمته مشغولة، ونطالِبه بالدليل، كما أنه أقر، والإقرار كما يقولون: أقوى الحجج؛ لأنه شهادة من الإنسان على نفسه. فالقاضي ليس عنده إشكال أن المرتَهِن يقر أن الراهن أعطاه الرهن الفلاني، فما على القاضي إلا أن يبحث أو يطالب المرتَهن -وهو صاحب الدين- بدليلٍ يدل على براءة ذمته، كما أنه على يقين من أنها مشغولة، وحينئذٍ تعكس القضية أو تصوِّرها بصورة ثانية، فتقول: القول قول الراهن. إذاً معناه: أن الرهن في ذمة المرتَهِن، حتى يثبت أنه قد رد ذلك الرهن إلى صاحبه. وعلى هذا قالوا: إذا قال له: قد رددت الرهن إليك، وقال: ما رددت الرهن إليَّ، فحينئذٍ نطبِّق القواعد: وقيل من يقول قد كان ادعى ولم يكن لمن عليه يُدَّعى (قد كان) أي: صاحب الدين يقول: رددتُ، (ولم يكن) أي: الراهن يقول: ما رددتَ. فإن القول قول الراهن، فتخرَّج على القاعدة التي ذكرناها في الخلاف: أن من ينفي فالقول قوله، ومن يُثبِت يُطالَب بالدليل، وكذلك إذا نظرنا إلى الأصل، فإنه حينما قال له: قد رددت عليه أرضه، فإن الأصل أن ذمته مشغولة برهن الأرض حتى يدل الدليل على براءتها. وعلى هذا تستقيم القاعدتان اللتان سبق ذكرهما، ويصبح الراهنُ مدَّعى عليه، والمرتَهنُ مدَّعياً، وهذا من عدل الله عز وجل بين عباده؛ لأنه لا يمكن أن نضيِّع الرُّهون، وقد تأكدنا وتحققنا أنّ ذِمم أصحاب الديون قد شُغِلت بها.

قبول قول الراهن في كون الرهن مالا محترما

قبول قول الراهن في كون الرهن مالاً محترماً قال رحمه الله: [وكونه عصيراً لا خمراً]. هذه المسألة تُعرَف: بإثبات القيمة ونفي القيمة. فإنه يشترط في الرهن أن يكون له قيمة، أي: أن يكون مالاً محترماً شرعاً. فإن قال قائل: ما الدليل على اشتراطك أن يكون الرهن مالاً محترماً؟ فنقول: إن الله عز وجل ما شرع الرهن إلا من أجل أن يُسدد الدين منه، فالحكمة من مشروعية الرهن أنه إذا عجز المديون عن سداد الدين، فإنه يُباع الرهن ويُسدد منه، فمعنى ذلك أنه ينبغي أن يكون الرهن له قيمة، فإذا لم تكن له قيمة فحينئذٍ تفوت الحكمة التي من أجلها شُرِع الرهن، وعلى هذا قال العلماء: يُشترط في الرهن أن يكون مالاً محترماً شرعاً، أي: له قيمة، وكل شيءٍ له قيمة معتبرة شرعاً، فإنه يوصف بكونه مالاً. مسألة: إذا قال الراهن: أريد منك أن تعطيني ديناً خمسمائة ريال، فقال له: أعطني رهناً، فقال: أرهن عندك هذا (الكرتون) من العصير مثلاً، والعصير له قيمة، فقال له: قبلت، فأخذ العصير ووضعه عنده رهناً، فلما تم حلول الدين وأخذ حقه، ادعى صاحب الدين أنه لم يرهنه عصيراً، وإنما رهنه -والعياذ بالله- خمراً، كأن يكون الراهن كافراً، فالكافر الذمي الذي يكون بين المسلمين، قد يستدين منك وتطالبه برهن، فعندهم الخمر لها قيمة، وفي دينهم وشريعتهم لها قيمة، وإن كان لا يصح من المسلم أن يقبله رهناً، لكن ادعى المسلم أن الراهن سواءً كان مسلماً أو كافراً إنما رهنه خمراً، فإذا ادعى المسلم أنه رهنه خمراً، فحينئذٍ يبقى الإشكال: هل نقبل قول الراهن أو نقبل قول المرتَهِن؟ فإن قبلنا قول الراهن أثبتنا المالية للرهن، وإن قبلنا قول المرتَهِن جعلنا الرهن ذا قيمة، مع أنه خمر لا قيمة له، فالمُرتَهِن يريد أن يفوت الرهن فهو يقول: إنما هو خمر، أو يقول: هو ميتة، أو يقول: هو خنزير، بمعنى أنه شيء لا قيمة له؛ لأن الخمر والميتة والخنزير ونحوها مما لا قيمة له لا يأذن الشرع ببيعه؛ ففي الصحيحين من حديث جابر: (إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخنزير والأصنام)، فلو قال: إنه ميتة، فمعنى ذلك: أنه لا قيمة له. ومثال ذلك في الميتات: لو قال له: رهنتك شاةً حية، فقال: لا، بل رهنتني شاة محنَّطة ميتة. فحينئذ المحنط من الميتات -كما سبق بيانه في بيع الميتات- ليس له قيمة، ولا يجوز بيعه ولا شراؤه، إذا كان ميتة غير مذكاة، فلو قال له: محنّط، فمعناه: أنه لا قيمة له، ولو قال له: شاة حية، فإن لها قيمة، أما المحنّط فلا يجوز بيعه ولا شراؤه؛ لأنه ميتةٌ. وبناءً على ذلك أصبح عندنا قولان: قول يقول: أعطيتك رهناً له قيمة، وهذا القول قول المديون، وهو الراهن، وقولٌ يقول: لم تعطني شيئاً له قيمة، إنما أعطيتني شيئاً لا قيمة له، سواءً كان خمراً أو ميتة أو خنزيراً، فما الحكم؟ هل نقبل قول المديون وهو الراهن، ونطالب الآخر الذي هو المُرتَهِن بالدليل والبيّنة، أو العكس؟ قال المصنِّف: يُقبل قول الراهن في كونه عصيراً لا خمراً؛ لأنك تجد أن الراهن يثبت المالية، وهو حق من حقوقه، والمرتَهِن ينفي المالية؛ لأنه يُسقط عن نفسه تبعة أو مسئولية ضمان الرهن، وعلى هذا يقبل قول الراهن؛ لأن العصير له قيمة، والخمر لا قيمة له، وعلى هذا نطبِّق الضوابط التي ذكرناها. وقيل من يقول قد كان ادعى ولم يكن لمن عليه يُدَّعَى فكون الراهن قال: رهنتك شيئاً له قيمة، هذا هو معنى قوله: (كونه عصيراً)، والمرتَهِن يقول: بل رهنتني شيئاً لا قيمة له، فأصبح قول الراهن هو المقبول بالإثبات والنفي، فحينئذٍ الأصل إذا نظرت إلى النفي والإثبات قد تقول: إنه إذا قال له: إنه شيءٌ له قيمة، فالمدعي هو الراهن، وإذا قال: لا قيمة له، فالمدعي هو المرتَهِن، فيكون الجواب حينئذٍ: أن الأصل أن من ارتهن فإنه يرتهن شيئاً له قيمة، فتلغي ضابط النفي والإثبات، وتثبت ضابط الأصل؛ لأنه لا يعقل أن إنساناً يقبل رهناً إلا وله قيمة هذا وجه. وبعض العلماء يقول: لا؛ بل الأصل الأول ثابت؛ لأنه في حالة كونه يقول: إنه خمر، أو كونه عصيراً فيه نفي من وجه وإثبات من وجه، والآخر له نفيٌ من وجه وإثبات من وجه، فتعارض النفي والإثبات ورُجِّح بالأصل؛ لأنه في هذه الحالة لو قال: إنه عصير، فهو يثبت المالية وينفي كونه لا قيمة له، وكذلك أيضاً العكس الآخر يثبت كونه لا قيمة له وينفي المالية. وعلى هذا صار نفياً من وجه وإثباتاً من وجه، والآخر نفياً من وجه وإثباتاً من وجه، فرجَّح الأصل ما ذكرناه؛ لأن الأصل في الإنسان إذا جاء يرهن فإنه يرهن شيئاً له قيمة؛ لأن الرهن يقصد منه الضمان، وهل يكون الضمان بما فيه مالية أو لا مالية له؟ الضمان لا يكون إلا بما فيه مالية، وعلى هذا اعتضد قول الراهن، وأصبح القول قوله، وليس بقول المرتَهِن.

إقرار الراهن بعدم ملكيته للرهن

إقرار الراهن بعدم ملكيته للرهن قال رحمه الله: [وإن أقر أنه ملك غيره أو أنه جنى قُبِل على نفسه وحُكم بإقراره بعد فكِّه، إلا أن يصدقه المرتَهِن]. قوله: (وإن أقر أنه ملك غيره). هنا مسألة مهمة: لو أن الراهن أعطاك رهناً، فربما يحتال صاحب الرهن بأشياء ليدفع عن نفسه ضرر بيع الرهن، والتصرف فيه، كأن يأتي ويقول: هذا الرهن الذي عندك ملكٌ لفلان، فحينئذٍ أقر بأن هذا الرهن ليس ملكاً له، أو اختصم هو ورجل في الأرض التي وضعها رهناً، فلما حضر عند القاضي قال: الأرض أرض فلان، فحينئذٍ يصبح هناك شيء من الاختلاف: هل نقدِّم كونه رهناً، ونحكم على ما جرى من كونه قدمه رهناً، ونثبت الرهن، ثم نخلِّص صاحب الحق من حقه، ويضمن لصاحب الأرض قيمتها، ويصبح وجهه على صاحب الأرض، أم أننا نقول: إن الأرض ملكٌ للغير، فلا يجوز التصرُّف فيها، فيلغى الرهن وتعود السلعة إلى مالكها؟ هذا أمر محتمل. والمصنف رحمه الله أدخل هذه المسألة هنا لأهميتها، واتصالها بأساس الرهن؛ لأنه حينما ذكر آخر مسألة بكونه عصيراً لا خمراً، فهذا نفي للمالية، فناسب أن يذكر الحيل التي يُقطع بها الطريق عن بيع الرهن وعن سداد الديون، إذ لو فُتح للناس هذا الباب لكان بالإمكان أن يرهن عمارته، ثم بعد ذلك يقول لابن عمه أو قريبه: ادَّعِ أنها ملك لك، ثم يُقِر عند القاضي أنها ملكٌ له، فيتخلّص من ضرر الرهن. فهو عندما رهن ذلك الشيء، وصار الرهن محبوساً لذمة سابقة، وجاءت ذمة لاحقة، ولم يثبت ما يدل على صدقها، لكن لو ثبت ما يدل على صدقها، فهذا أمر آخر، فلو اختصم مع شخص في أرض، فأقام ذلك الشخص شهوداً، وثبت بالشهود أنها لمالكها الحقيقي، فليس هناك إشكال، إنما الإشكال عند حدوث التلاعب والتحايل، وذلك بكونه يُقر بأنها ليست ملكه؛ لأنه إذا أقر أصبح في هذه الحالة عندنا شبهة، فيحتمل أن هذا الإقرار قُصِد منه تفويت الحق على صاحب الدين، وهذا ما يقع كثيراً في الرهونات، فترى المديون -أي: الراهن- يحاول بشتى الوسائل أن لا يُباع الرهن، ويحاول بشتى الوسائل أن يماطل أهل الحقوق في حقوقهم؛ حتى لا يُباع الرهن، وهذا أمر لا تجيزه الشريعة. والأصل أن الرهن ما شرعه الله عز وجل إلا قطعاً للتلاعب في حقوق الناس، وحينئذٍ لا بد من إعمال الأصل الشرعي، فهو إذا أقر، وقال: هذه الأرض التي رهنتها لك هي ملكٌ لفلان، فحينئذٍ عندنا مشكلتان: المشكلة الأولى: أن صاحب الرهن يُطَالَب ببيع هذه الأرض عند عجزه عن السداد؛ لأنها مرهونة، ومعنى ذلك: أنه ما دفع له الدين إلا من أجل أن حقه موثق، وهذه وثيقة بحكم الشرع، قال تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، فالراهن رهن، وقبض المرتَهِن الرهن، فحينئذٍ ثبت أن الرهن لصاحب الدين. المشكلة الثانية: أنه لما أقر لشخصٍ آخر فإن الإقرار حجة، وقد اختصم معه عند القاضي، والقاعدة في الشريعة: أن المقر إذا أقر على نفسه لمدَّعٍ عليه أنه يؤاخذ بإقراره، مادامت شروط الأهلية للإقرار موجودة، فالأصل يقتضي ما دام أنه أقر لزيد من الناس، أن نحكم بأن الأرض ملكٌ لزيدٍ من الناس، فيقع الإشكال: هل نقدم صاحب الدين وقضية الرهن، أو نقدِّم المالك الحقيقي للأرض بإقراره؟ يقول العلماء: في هذه المسألة شبهة، والإقرار حجة، ونسلِّم بذلك، لكن قد صَحِبَتْهُ الشبهة، وإذا صحبته الشبهة وجب سد الذرائع، وعندنا حقان: حق الراهن، وحق من أُقِرّ له في الدعوى الثانية، وحق الراهن سابق، وهو يقيني فليس فيه شبهة، والظاهر والمتبادر والأصل أن المديون لا يرهن إلا ما يملكه، فكونه يسكت ويترك الأمر حتى يخشى بيع رهنه، ويأتي ويُقر لزيدٍ من الناس أو لعمرو من الناس؛ هذا فيه شبهة. فقالوا: نقبل إقراره لكن على نفسه، ونُبقي الرهن على حاله؛ لأن الأصل بقاء يد الرهن، وهو عقدٌ لازم قد تم بين الطرفين، ثم ننظر: فإذا انتهت المدة وسدد الدين، عرفنا أنه رجل أقر بحق، فننزع الأرض منه ونعطيها لمن أقر له، فقُبِل إقراره على نفسه، واستوثقنا بالدين؛ لأن الدين أُدِّي إلى صاحبه، فإن مضت المدة ولم يُسدد، فحينئذٍ الأصل أنها رهن وأنها ملكٌ له، فتُباع، ثم يحكم القاضي بأن فلاناً فوّت على فلان أرضه بقيمته، فحينئذٍ يُلزم بضمان هذه الأرض، فإما أن يُطالَب بشرائها ممن انتقلت إليه، ويرد عين الأرض كما فوّتها على أهلها، وإما أن يضمن قيمتها لصاحبها، وعلى هذا يُقبل إقراره على نفسه، لكن لا يُقبل إقراره ملغياً للأصل الذي ذكرنا هذا في الإقرار. لكن لو أن رجلاً استدان مائة ريال، فقال له صاحب الدين: أعطني رهناً، فقام وأخذ مسجلاً على جاره أو أخيه، ثم رهنه دون إذنٍ منه، فمعنى ذلك: أنه اغتصبه الرهن، فلما وضعه في الرهن، ادّعى الأخ أو صاحب المسجِّل عليه عند القاضي فأقر، فحينئذٍ يكون قد أقر بملكية المسجِّل لصاحبه، فيبقى المسجل على الأصل، أي: يبقى رهناً، هذا هو الظاهر، ويكون إقراره فيه شبهة، ثم بعد ذلك نحكم ببيع المسجِّل على الظاهر، مثلما فعلنا في الأرض، ونرد لصاحب الحق حقه، ثم نطالبه بأخذ هذا المسجِّل بقيمته بالغاً ما بلغ، أو يضمنه لصاحبه. فمثلاً: لو بِيع هذا المسجِّل بخمسمائة ريال، والدين مائة ريال، فنأخذ منها مائة ونسدد صاحب الدين، ونرد الأربعمائة لهذا الشخص، ثم نقيم الدعوى الثانية، ونطالبه بشراء المسجِّل ممن أخذه؛ لأن الشراء صحيح، وعلى هذا فولاية القاضي ببيعه كرهن ولاية صحيحة، ثم بعد ذلك نطالبه بشراء المسجل ثانية غالياً أو رخيصاً ويرده إلى صاحبه، فتبقى يد الرهن على ما هي عليه، وضُمِن الحق لصاحبه، وقُبِل الإقرار، فأُعمِلت جميع الحقوق؛ رُد إلى هذا حقه، ورُد إلى هذا حقه، وقبلنا إقراره على نفسه. ونضرب مثالاً آخر يكون فيه الحكم مختلفاً: لو قال له: أعطني مائةً ديناً، فقال له أعطني رهناً، فقال: هذا المسجِّل رهن عندك، فأخذ صاحب الدين المسجِّل، ثم تبيّن أنه ملكٌ لغيره، فادّعى زيد أن فلاناً أخذ مسجِّله ثم احتال عليه ورهنه، فطلبه القاضي، وقال له: هل أخذت من فلان مسجلاً؟ فقال: لا، ما أخذت. فأنكر، فأقام زيدٌ -الذي هو صاحب المسجِّل- البيِّنة وشاهدين عدلين على أن المسجل مسجِّله، فحينئذٍ يحكم القاضي بنزع اليد ورجوع المسجِّل إلى صاحبه، ثم يُطالَب هذا الراهن ببديلٍ عنه يقوم مقامه. إذاً: يفرَّق بين كونه مقراً؛ لوجود شبهة، وحتى لا يتخذ طريقة للتلاعب لبيع الرهن، والرهن يكون استيثاقاً لحقوق الناس التي ضمِنها الشرع بهذا النوع من العقود، وبين كونه منكراً وثبت أن المال ملكٌ للغير؛ وذلك لوجود البينة بعد الإنكار هذا بالنسبة لمسألة الإقرار، ومسألة الإنكار. وعليه: فإننا نقبل إقراره على نفسه فقط، ولا يكون ملزِماً لزوال يد الرهن اللازمة.

إقرار الراهن بجناية الرهن على غيره

إقرار الراهن بجناية الرهن على غيره قوله: (أو أنه جنى). قديماً كان الرقيق ربما يجني جناية، وإذا جنى جناية ففي بعض الأحيان تكون الجناية في قيمته، ولربما استوعبت الرقيق بكامله، فدُفِع إلى من جنى عليه، وكذلك الدابة، فلو أن الدابة حصلت منها جناية على وجهٍ يوجب الضمان، فنأخذ نفس الحكم، فإذا كان قد ارتهنها، فإنه في هذه الحالة إذا أقرّ بالجناية مثلما إذا أقر بالملكية، فكل القضية في كونه يُدخِل على الرهن يداً غير اليد الأولى، وهذا بالإقرار وليس بالبينة التي هي الشهود، أما لو كانت بالبينة فقد بيّنا الحكم، وهو أنه يصير فيها مُوجِب الضمان، لكن بالنسبة لمسألة إدخال اليد الثانية على اليد الأولى، في صورة ادعاء الملكية، كأن يُقر بأنه ملكٌ لغيره، أو يُقر بأنه جنى مثاله: لو رهن رقيقاً، وهذا الرقيق جنى جناية تستوعب قيمته، كأن تكون قيمة الجناية عشرة آلاف ريال، وهي قيمته، فحينئذٍ يقال للمجني عليه: أتريد المال أم الرقبة؟ فإن قال: قبلت الرقبة، فإذا قبل المجني عليه الرقبة، فهذا معناه أن الرهن سيفوت، فإن وقع بإقرارٍ حُكِم كقضية الملكية السابقة، وإن وقع ببيِّنة فلا إشكال.

وجوب رد الحق الذي أقر به الراهن إلى صاحبه بعد فك الرهن

وجوب رد الحق الذي أقرّ به الراهن إلى صاحبه بعد فك الرهن قوله: (قبل على نفسه وحُكم بإقراره بعد فكِّه). أي: فإن سدد الدين، وفُكّ عن العين الرهن، فحينئذٍ يطالَب برد الحق الذي أقر به إلى صاحبه. مثاله: لو قلنا: استدان مائتين، ثم رهنه ساعة قيمتها خمسمائة، فادّعى رجل أن الساعة له، فأقر الراهن أنها له، فننتظر إلى أن ينتهي الأجل، فإذا سدّد الدين، فنقول: يُفك الرهن، وتُرد الساعة للراهن، ويحكم عليه بإقراره فتُنزع من الراهن وتُرد إلى صاحبها، هذا بالنسبة لقوله: (قُبل على نفسه)، وقوله: (وحُكم بإقراره بعد فكه) بعد رد الرهن وفكِّه.

حكم من رهن مال غيره إذا صدقه المرتهن

حكم من رهن مال غيره إذا صدقه المرتهن قوله: (إلا أن يصدقه المرتَهِن). أي: أن بعض الناس تقبل منه ذلك، وتعلم أنه صادق ولو لم يقم بيِّنة، فالرجل الصالح التقي الورع الذي تعامله وتعرفه بالأمانة، ربما أخطأ ورهن مال غيره، وهذا قد يقع، فحينئذٍ إذا أقر لغيره، وقال: هذا المال ليس لي، فحينئذٍ يُحكم بكونه قد رهن ما ليس له، فإن رهن ما ليس له، فبعض العلماء يقول: ننظر إلى الشخص المالك، فإن قبله رهناً فحينئذٍ لا إشكال، كأن يقول له: ما دمت قد أقررت أنه مالٌ لي، فأنا أقبل أن يكون ضماناً لدينك، فكما أنه يجوز أن يضمنه بنفسه، يجوز أن يضمنه بماله، هذا إذا رضي، ويمضي الرهن على هذا، وأما إذا قال: بل أريد مالي، فحينئذٍ ينزع ويطالب ببديل عن ذلك الرهن.

الأسئلة

الأسئلة

تعارض الأصل والظاهر

تعارض الأصل والظاهر Q عند الاختلاف متى يُحكم بالظاهر ويُترك الأصل أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذا سؤال جيد، وفي الحقيقة مسألة تعارض الأصل والظاهر مسألة دقيقة؛ بل تعتبر من أدق مسائل القواعد، وهذا من توفيق الله للسائل، ولا شك أن السائل أحسبه من طلاب العلم، فالسؤال قوي ومركَّز. ومسألة الظاهر ومسألة الأصل نقول فيها: إن الظاهر دائماً يستدل بدلائل وعلامات وصفات معينة، فيُحكَم بكونه ظاهراً، فمثلاً: في قضية النجاسات، إذا دخل الشخص إلى دورة المياه، فإنه يجد الماء على البلاط، فإن كان في المكان المنفصل عن النجاسات، فالظاهر أنه طاهر، وليس هنا قضية أصل وعدمه؛ لأنه توجد صفات مؤثرة ومواضع تقوي شيئاً إما الطهارة وإما النجاسة، فالظاهر يقوم دائماً على الصفات، فإذا دخلنا إلى دورات المياه، فبالنسبة لأماكن الوضوء إذا كانت مفصولة وجرى الماء فيها، فإننا نحكم بكونه طاهراً؛ لأنه ليس ثم دليل على نجاسته. ولكن إن كان الماء في داخل دورات المياه، أي: في مكان قضاء الحاجة، فإن هذه الأماكن الظاهر منها أنها نجسة، فلو طار على الإنسان رذاذ، فإن كان من المكان المحكوم بظاهر الطهارة فيه فهو طاهر، ولا يؤثر، فلو وطئ بقدمه ثم وجد على ثوبه أثر الماء الذي يكون بعد المشي أو المسير، فإنه يحكم بكونه طاهراً؛ لأن الظاهر طهارته، ولو وطئ في موضع النجاسة، أو مثلاً سقط حجر في مكان النجاسة فتطاير الرذاذ، فإن الظاهر إذا أصاب الثوب أنه نجس. إذاً: عندنا في الظاهر الدلالة والعلامة التي يُستند إليها في ظاهر الحال، وليست في الأصل، فإن الأصل له جانب آخر، ويُحكم بالظاهر في مسائل العبادات والمعاملات أيضاً، فالعبادات كما ذكرنا. والظاهر في المعاملات: مثاله: لو أن شخصين اختصما في سيارة، فأحدهم يقول: هي سيارتي، والثاني يقول: بل هي سيارتي، وأحدهما في مقعد القائد والثاني بجواره، فلمن تكون السيارة؟ تكون للذي في مقعد القائد؛ لأن الظاهر يشهد بأنها سيارته، وظاهر الحال يدل على صدق دعواه وكذب دعوى من خالفه، وكذلك أيضاً لو حُكِم بالظاهر في البيت، كرجلين يختصمان في بيت، أحدهما ساكنٌ فيه، والثاني خارج عنه، فنقول: الظاهر أنه بيت من هو ساكن فيه، حتى يقوم الدليل على اليد الخارجة هذه كلها تعتبر من مسائل الظاهر. أما مسائل الأصل: فإنها تعرف بالمعاني، فالظاهر -كما ذكرنا- يعرف بالمحسوسات والصفات، ولكن الأصل يعرف بالمعاني، فمثلاً: إذا جئت إلى ماء، وشككت هل هو نجس أو طاهر؟ فتقول: الأصل أنه طاهر حتى يدل الدليل على نجاسته، ولو مشيت في طريق -مثلاً- فوجدت ماءً على الطريق، ثم أصابك منه شيء، فإننا نقول: الأصل طهارته حتى تتحقق أنه نجس؛ لأن الأصل طهارة الأشياء حتى يدل الدليل على نجاستها، ولو كنت مثلاً في البيت، وهناك أطفال وتخشى أن تخرج منهم نجاسة فتنجس فراش البيت، وأردت أن تصلي، فشككت هل أحد منهم دخل الغرفة وهو متنجس فنجسها أو لم يدخل؟ فتقول: اليقين أنها طاهرة، حتى تتحقق أنه دخل ونجسها، ليس دخل فقط، بل دخل وفيه نجاسة وتطايرت النجاسة منه، فبعد التحقق فعليك أن تعدل عن الأصل إلى أصلٍ آخر. إذاً: مسألة الأصل غالباً تتعلق بالمعاني والتقديرات الموجودة في الأشياء، ولكن الظاهر يتعلق بالصفات. وقد يتعارض الأصل والظاهر في مسائل: فبعض الأحيان يقدَّم الأصل على الظاهر، وبعض الأحيان يقدَّم الظاهر على الأصل، وهذه المسألة الكلام فيها طويل، وتحتاج إلى شيء من التحرير، ومن الصعوبة بمكان أن نتكلم عليها في هذه العجالة، ففي بعض الأحيان يُرجَّح الأصل، وفي بعض الأحيان يرجح الظاهر، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما حمل أمامة بنت أبي العاص، وهو يصلي بالناس، فإنه قدّم الأصل، وإن كان ظاهر أحوال الصبيان أنهم لا يسلمون من وجود أشياء في ثيابهم، ولذلك قدم عليه الصلاة والسلام الأصل وهي الطهارة، ونجد كذلك في بعض السنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قدم الأصل وألغى الظاهر، مثال ذلك: السباع ترد على المياه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل الخبث)، فقدّم الأصل على الظاهر؛ لأن الظاهر من حال السباع في البراري أنها تأكل الجيفة والنتن وهي نجسة، والسباع في البوادي الظاهر أنها ترد المستنقعات وتشرب منها، فلما سئل عليه السلام عن الماء وما ينوبه من السباع؟ قال: (إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل الخبث)، فأبقى الأصل وهو طهوريته. وكذلك عندما سُئِل عليه الصلاة والسلام عن بئر بُضاعة وما يُلقى فيه من الحيَّض والنتن، فإن الظاهر أنه لما ألقي فيه الحيض -أي: دم الحيض- وهو نجس، والنتن والقذر، والقذِر يزيل الطهورية إذا غيّر لوناً أو طعماً أو ريحاً، فرجع إلى الأصل، فهنا الظاهر أنه نجس؛ لأن الذي يظهر أنه إذا ألقيت النجاسة فإنها تؤثر، وهذا هو المعروف من الحال، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الماء طهورٌ لا ينجسه شيء)، فرد إلى الأصل. فهذه المسألة في الحقيقة تحتاج إلى شيء من التفصيل والتوضيح، وفي بعض الأحيان تأتي النصوص مقوية لترجيح أحد القولين، وفي بعض الأحيان يُترك الترجيح لأفراد المسائل، ففي في بعض الأحيان الصحابة رضوان الله عليهم يقدِّمون الأصل ويلغون الظاهر، كما في حديث الأعرابي لما جاء إلى المسجد ورفع ثوبه ليبول، والأصل أنه لا يجوز البول في المسجد، فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينكر، بادروا بالإنكار، والظاهر أنه إذا سكت فإن هذا نوع من الإقرار، فلم يلتفتوا إلى سكوته، وأنكروا عليه حتى أسكتهم، فقال: (لا تزرموه)، فكان الظاهر على حقيقته من أنه لا يريد الإنكار عليه، ففي بعض الأحيان يقدَّم الظاهر، وبعض الأحيان يقدَّم الأصل، وهي مسألة في الحقيقة تحتاج إلى شيء من التحرير. وكثيراً ما يكون الظاهر داخلاً على الأصل فأشبه الاستثناء، وإذا كان داخلاً على الأصل صار كالمخصِّص لذلك الأصل، وكأنه مستثنى، وتعطيه حكم الأصل الطارئ، فكأنه بمثابة الأصلين: الأصل القديم والأصل الطارئ، وحينئذٍ نقدم الأصل الطارئ على الأصل القديم، ففي بعض المسائل يقدم الأصل الطارئ على القديم، وفي بعض المسائل يقدم الأصل القديم على الأصل الطارئ فتصحب حكم الأصل. فمثلاً: إذا رفعت رأسك من الركوع هل تقبض أو تسدل؟ تقول: الأصل الطارئ هو القبض؛ لأنه لما كبر عليه الصلاة والسلام قبض، والأصل القديم أنه في الصلاة لا أتكلَّف الحركة فأقبض، فيتعارض الأصل القديم مع الأصل الطارئ. الشاهد: أن هذه المسائل تحتاج إلى دراسة، وإعطاء قاعدة فيها أمر من الصعوبة بمكان، إلا أن بعض العلماء ذكروا هذا، فقد ذكره الزركشي في المنثور في القواعد، فيرجع إليه في مسألة تعارض الأصل والظاهر، كذلك أيضاً أشار إليها السيوطي في الأشباه والنظائر في قواعد وفروع الفقه، وكذلك ابن لجين رحمه الله في الأشباه والنظائر، فقد ذكر مسألة تعارض الأصل والظاهر، وهي مسألة جيدة وفيها نصوص، ومن تأمل شروحات الأحاديث المطوَّلة كشرح الحافظ ابن حجر، فسيجد أنه بعض الأحيان يقول: فيه دليل على تقديم الأصل على الظاهر، وبعض الأحيان يقول: وفيه دليل على تقديم الظاهر على الأصل. ولو تُرِكت كل مسألة كي تُبحث على حدة، فإن ذلك يكون أمعن وأدق في بيان وجه الصواب، والله تعالى أعلم.

حكم بيع الراهن للرهن دون إذن المرتهن

حكم بيع الراهن للرهن دون إذن المرتهن Q رجلٌ رهن مجموعة قطع من الأراضي لأحد التجار، ثم بعد مدة بدأ الراهن ببيع هذه الأراضي دون إذن المرتَهِن، علماً بأنه يخبر المشتري بحال هذه الأراضي وأنها مرهونة، وسوف يضمن له المال إذا لم يتم سداد الدين بعد سنتين، فما هي مشروعية هذا البيع، وهل يأثم المشتري أثابكم الله؟ A هذه المسألة تعرف بمسألة: التصرف في الرهن، والتصرف في الرهن في الأصل لا ينفذ، وبعض العلماء يرى أن التصرف في الرهن إذا كان من الراهن بالبيع يجعله موقوفاً، فإذا تم سداد الدين، وأراد إنفاذ البيع بعد سداده نفذ، كما لو باع مال غيره، كبيع الفضولي، فإنه يبقى موقوفاً على إجازة المالك الحقيقي، ومنهم من يلغيه ويقول: لا يصح، وهذا هو الأشبه، أن الرهن لا يدخله بيع إلا بإذن الطرف الثاني؛ لأن هذا هو الأصل، وهذا هو المقصود من حكمة مشروعية الرهن. وقد سبق بيان هذه المسائل والإشارة إليها في مسائل التصرُّف في الرهن، ويد الرهن، ويد المرتَهِن على الرهن التي تمنع من تصرُّف الراهن فيه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

باب الرهن [6]

شرح زاد المستقنع - باب الرهن [6] ينقسم الرهن إلى قسمين: قسم يحتاج إلى مئونة وكلفة، فللمرتهن أن ينتفع به بقدر ما ينفق عليه، ويكون ذلك في المركوب والمحلوب، وقسم لا يحتاج إلى مئونة وكلفة، وله حالتان: الحالة الأولى: أن يكون الرهن لقاء الدين، وله ثلاث صور: - الأولى: أن ينتفع بالرهن دون إذن الراهن، فهذا لا يجوز بالإجماع. - الثانية: أن ينتفع بالرهن بدون عوض، أو بأقل من عوض المثل، فهذا أيضاً لا يجوز. - الثالثة: أن ينتفع بالرهن بعوض المثل فهذا جائز. الحالة الثانية: أن يكون الرهن لقاء ثمن المبيع، ففي هذه الحالة يجوز الانتفاع بالرهن بعوض المثل، أو بدون عوض المثل، أو بدون عوض.

أقسام الرهن من حيث الكلفة والمئونة وعدمها

أقسام الرهن من حيث الكلفة والمئونة وعدمها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين: أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصلٌ: وللمرتَهِن أن يركَب ما يُركب ويحلب ما يُحلب بقدر نفقته بلا إذن]. هذا الفصل فصلٌ مهم جداً في باب الرهن. والرهون إذا أخذها أصحاب الديون فإنها تنقسم إلى أقسام: قسم يحتاج إلى مئونة وكلفة، وهذا الذي يحتاج إلى مئونة وكلفة قد يكون فيه فوائد، مثل الركوب، كالسيارات ونحوها، وبعض الأحيان تكون فيها منافع، كالأنعام التي تحلب كالإبل، والبقر والغنم، ويكون منها الصوف والوبر، فهناك منافع تكون في هذه الأعيان المرهونة.

الرهن الذي لا يحتاج إلى مئونة وكلفة

الرهن الذي لا يحتاج إلى مئونة وكلفة فالأعيان المرهونة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون من الأعيان التي لا تحتاج إلى مئونة في حفظها، ولا تحتاج إلى كلفة. القسم الثاني: أن تكون من الأعيان التي تحتاج إلى مئونة وكلفة في حفظها. أما بالنسبة لتصوير القسمين ثم الدخول في أحكامهما، فالقسم الأول: هو الذي لا يحتاج إلى مئونة؛ كرجلٍ قال لك: بعني عمارتك، فقلتَ له: أبيع لك هذه العمارة بنصف مليون، فقال لك: قبلت، فقلت له: أعطني ثمنها، فقال: ما عندي الآن ولكن سأعطيك في نهاية السنة، فقلت له: أعطني رهناً، فقال: أرهن عندك أرضي التي في جدة، وهي الأرض الفلانية، وجعل الأرض بصكِّها رهناً عندك، فالأرض التي رهنها لا تحتاج إلى كلفة، فهذا مثال في العقارات التي لا تحتاج إلى كلفة. ومثاله في المنقولات التي لا تحتاج إلى كلفة: كالسيارات، فإن السيارة لا تحتاج إلى طعام ولا إلى شراب، فإذا قال لك: أعطني عشرة آلاف ديناً إلى نهاية السنة، فقلت له: أعطني رهناً، فقال: أرهن عندك سيارتي، ويأتي بسيارته ويدخلها في مكان آمن. إذاً: هي من جنس المنقولات التي لا تحتاج إلى كلفة، وكذلك لو قال لك: أعطني مائة ريال ديناً، فقلت له: أعطني رهناً، فقال لك: أرهن عندك هذا الكيس من الأرز، والكيس من الأرز لا يحتاج إلى كلفة في غالبه وأكثر أنواعه، وكذلك لو قلت له: أعطني ديناً مائة، فقال: أعطني رهناً، فقلت: أرهن عندك هذا (البشت) أو هذا الثوب، و (البشت) أو الثوب لا يحتاجان إلى طعام ولا إلى شراب. إذاً: النوع الأول هو ما لا يحتاج إلى مئونة. ولابد من فهم هذا فهماً جيداً؛ لأن التفصيلات التي ستأتي مهمة جداً في مسألة الرهن؛ ففيها مداخل للربا، ومداخل للقرض الذي جر نفعاً، فنحن نقرر الآن القسمين ونضبطهما بالأمثلة. فالقسم الأول كما ذكرنا: أن يكون الرهن لا يحتاج إلى مئونة ولا كلفة، ومن أمثلته في العقارات: الأراضي، والدور، والعمائر ونحوها، فإنها تُقفل وتصك أبوابها ثم تترك، فهذه لا تحتاج إلى طعام ولا إلى شراب، وهذا في العقارات، أما في المنقولات مثل: الأطعمة، والأكسية، والثياب، والأغذية مثل: البر، والشعير، فهذه كلها لا تحتاج إلى طعام ولا تحتاج إلى مئونة.

الرهن الذي يحتاج الى مئونة وكلفة

الرهن الذي يحتاج الى مئونة وكلفة القسم الثاني: ما يحتاج إلى مئونة وكلفة؛ كالإبل، والبقر، والغنم، فهذا فيه ما يُحلب ويُركب، وفيه ما يُركب ولا يحلب، وفيه ما يحلب ولا يركب، وفيه ما لا يركب ولا يحلب، فهو على أربعة أنواع: النوع الأول: أن يكون مركوباً محلوباً، فهو يحتاج إلى مئونة وكلفة، ولكن فيه منفعة الركوب، ومنفعة الحليب، ومن أمثلته: الناقة، فإن الناقة تحتاج إلى أن تطعمها وتعلفها، وهي تُركب، فله أن يركب عليها، وهي تُحلَب، فله أن يأخذ من حليبها ودرّها، هذا بالنسبة للنوع الأول من القسم الثاني. النوع الثاني: أن يكون مما لا يحلب ولا يركب، مثل: الأرقاء قديماً، ومثل: التيس من الغنم والفحل من الشياه والغنم، فإنه لا يحلب، وأيضاً لا يركب، والفحل من البقر ليس فيه حليب ولا يمكن أيضاً ركوبه في الغالب، هذا بالنسبة للنوع الثاني، أن يكون مما لا يحلب ولا يركب. النوع الثالث: أن يكون مما يحلب ولا يركب، مثل الشاة، فإذا كان فيها حليب فله أن يحلبها، لكن لا يمكن أن يركبها، وكذلك البقرة فيها حليب وله أن يحلبها، لكن لا يمكن أن يركبها في الغالب، فهذا مما يُحلب ولا يركب. النوع الرابع: أن يكون مما يركب ولا يحلب، كالفحل من الإبل، فإنه يركب عليه ولكن لا يحلب.

حكم الانتفاع بالرهن الذي لا يحتاج إلى مئونة وكلفة

حكم الانتفاع بالرهن الذي لا يحتاج إلى مئونة وكلفة إذاً: هذا هو القسم الثاني: أن يكون من جنس ما يحتاج إلى مئونة وكلفة من طعام وشراب وقيام عليه. وبهذا نكون قد عرفنا أن الرهن فيه ما يحتاج إلى مئونة وكلفة، وفيه ما لا يحتاج إلى مئونة وكلفة، فنبدأ بالذي لا يحتاج إلى مئونة وكلفة، كالبيوت والدور والأرضين إذا وُضِعت رهناً، فإنه لا يجوز أن يأخذ صاحب الدين -الذي هو المرتَهِن- أي منفعة منها إلا بحقها، هذا من حيث الأصل، أو إذنِ صاحبها. ويرد التفصيل في هذا النوع، وهو الذي لا يحتاج إلى مئونة وكلفة: فقالوا: لا يجوز للمرتهن أن ينتفع بالرهن إذا لم يأذن له صاحب الرهن، مثاله: رجل استدان خمسمائة ألف، ورهن في مقابلها عمارة، فلا يجوز لصاحب الدين أن يسكن العمارة، ولا يجوز له أن يؤجرها للغير، ولا أن ينتفع بأي منفعة موجودة في العمارة، هذا من حيث الأصل. وما هو الدليل على أنه يحرم عليه أن يأخذ ذلك؟ نقول: إن الأصل في الرهن أنه ملكٌ لك أنت أيها المديون، والأملاك لا يجوز أن يؤخذ منها -أي: من منافعها- إلا بإذن أصحابها ورضاهم، فإذا كان صاحب الرهن -وهو الذي أعطاك العمارة- لم يأذن لك بتأجيرها، ولم يأذن لك بمنفعتها، فلا يجوز لك أن تأخذ منها، وهذا بإجماع العلماء. أما لو أذن لك أن تتصرف في هذا المال، وأذن لك أن تنتفع به، فلا يخلو سبب الرهن من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يأذن بحقه، فيقول: أجِّر العمارة، ولكن الأجرة لي، وليست لك، فأذن لك بتأجيرها على أن تكون الأجرة له، فقلت له: أريد أن أستأجرها أنا، فقال لك: انتفع أنت بالعمارة على أن تدفع الأجرة، فالحكم حينئذٍ أنه انتفع بالرهن بإذن صاحبه، فإن أذِن له بعوض فلا إشكال في الجواز، وحينئذٍ تكون إجارة. لكن Q هل الأصل في العمارة أنها رهن أو عين مؤجرة؟ الأصل أنها رهن، وقد ذكرنا في أول باب الرهن يكون لازماً بالقبض، فإذا قبض صاحب الدين الرهن وحازه عنده فإنه يكون لازماً. وإذا لم يقبض الرهن، وأردت أن لا تعطيه الرهن، فإن هذا من حقك؛ لأن الرهن لا يصير لازماً إلا إذا قُبِض، فمثلاً لو قلتُ لك: أعطيك سيارتي، ولم تقبِضها، فمن حقي أن أرجع عن رهن سيارتي؛ لأن الرهن لا يصير لازماً عليّ إلا إذا قبضتَه، وفائدة ذلك: أنه إذا صار لازماً فلن يستطيع صاحبه أن يغيِّره أو يبدِّله، لكن إذا لم يكن لازماً جاز له أن يغير ويبدل. فالعمارة إذا قُبِضت من صاحب الدين فجاء وقال للمديون: أريد أن أستأجر منك العمارة، بدلاً من أن تكون فارغة فأنا أريد أن أسكن فيها وأستأجرها، فقلنا: ذلك، وحينما قلنا بالجواز انتقلت من الرهن إلى الإجارة، فإذا انتقلت من الرهن إلى الإجارة فللعلماء وجهان: قال بعض العلماء: يزول اللزوم للرهن، وتصبح اليد يد إجارة وهي يد ضمان، بخلاف اليد الأولى فإنها يد أمان لا تضمن إلا إذا فرّطت، فإذا انتقلت إلى عين مؤجرة أُلغيت يد الرهن. وفائدة ذلك: أنه إذا استأجرها شهراً، والرهن لسنة، أنه بعد شهر إذا انتهت الإجارة، وأراد صاحب العمارة أن يمتنع من تسليمها رهناً، كان له ذلك؛ لأنه قد زال لزوم الرهن، وعلى هذا يُحكم بزواله لوجود الانتقال في اليد. الحالة الثانية: أن يأذن بغير عوض، فهذا لا يجوز؛ لأنه قرض جر نفعاً، وكذلك لو انتفع بالرهن بإذن الراهن، لكن بأجرة فيها شيء من المحاباة والمراعاة، فحينئذٍ لا يجوز؛ لأنه دخلت شبهة قرض جر نفعاً.

حكم انتفاع المرتهن بالرهن

حكم انتفاع المرتهن بالرهن قوله: (فصلٌ وللمرتَهِن أن يركب ما يركب ويحلب ما يحلب). شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان ما يتعلق بالانتفاع بالرهن، ومن المعلوم أن الرهن تكون فيه منافع، وقد يحتاج إلى مئونة يقوم بها الراهن أو المرتَهِن، ومن هنا يرد السؤال عن هذه المنافع التي تكون في الرهن: هل يجوز للمرتهن أن ينتفع بالرهن أو لا يجوز؟ وقد سبق أن ذكرنا أن الرهن له أحوال: فتارةً يكون من الأشياء التي لا تحتاج إلى مئونة، وتارةً يكون من الأشياء التي تحتاج إلى مئونة، ثم فصّلنا في النوع الثاني، وهو الذي يحتاج إلى مئونة، فذكرنا أنه منه ما يكون محلوباً مركوباً، ومنه ما يكون مركوباً غير محلوب، ومنه ما يكون محلوباً غير مركوب، ومنه ما يكون غير محلوب وغير مركوب؛ كالأرقاء. والسؤال في هذه المسألة يقوم على قضية انتفاع المرتَهِن بالرهن هل يجوز أو لا يجوز؟ فمثلاً: قد تضع سيارةً عند شخصٍ رهناً لقاء دين، فتقول: يا فلان! أعطني مائة ألف قرضاً إلى نهاية العام مثلاً، فقال لك: أعطني رهناً، فأعطيته السيارة، أو أعطيته أرضاً، أو أعطيته عمارةً رهناً، ف Q هل يجوز أن ينتفع صاحب الدين من رهنك الذي وضعته عنده أو لا؟ وكل الذي سنتكلم عليه الآن مسألة انتفاع المرتهن بالرهن، وهناك قاعدة عامة ثم فروعٌ تفصيلية. أولاً: أجمع العلماء على أن منافع الرهن من سيارة، أو عمارة، أو أرضٍ، أو دابة، ملكٌ للراهن في الأصل، ولا يحل مال المسلم إلا بطبيب نفسٍ منه، فمن حيث القاعدة العامة، وأصول الشريعة، كلها تدل على أن منافع الرهن سواءً كان من العقارات أو المنقولات ليست من حق المرتهن، أي: لا يجوز للمرتهن أن يعتدي عليها، فينتفع بها بحجة أنها رهنٌ عنده؛ بل إن يده يد أمانة كما ذكرنا، وينبغي عليه أن يحفظ الرهن كما هو بمنافعه. أما لو استأذنك فأذنت له، كأن قال لك: هذه العمارة أريد أن أستأجرها منك مدة الرهن، ومدة الرهن شهر، أو سنة، فقال: أريد أن أستأجرها سنة، فدفع العِوض عن المنفعة، فالسؤال: هل يجوز أن يأخذ المنافع إذا أذنت له أو لا يجوز؟ والإجابة على هذا السؤال تستلزم بيان أنواع الأشياء التي تُرهن، ثم نفصِّل متى يجوز أن ينتفع المرتهن إذا أذن الراهن، ومتى لا يجوز أن ينتفع إذا أذِن الراهن أيضاً. والرهن ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما لا يحتاج إلى مئونة، وهذا القسم مثل: الأرضين، والدور، فالعمارة مثلاً إذا وضعتها رهناً لقاء دينٍ أخذته، فإنها تقفل، ثم هي لا تحتاج إلى مئونة، فلا تحتاج إلى طعام ولا إلى شراب، وإنما تغلق حتى إذا جاء وقت السداد فإن أعطاك الدين وإلا قمت ببيع العمارة، صحيح أنها تحتاج إلى كنسٍ ونحو ذلك إذا كان الإنسان يريد أن ينتفع بها، هذا النوع الذي لا يحتاج إلى مئونة. مثال آخر للذي لا يحتاج إلى مئونة: كأن يقول المرتهن: أريد أن أسكن العمارة، وهو لا يريد أن يدفع العِوض، فهل يجوز؟ أو يقول: أريد أن أسكن العمارة، وهو يريد أن يدفع العِوض، فهل يجوز؟ لذلك حالتان:

حكم الانتفاع بالرهن بعوض وبدون عوض

حكم الانتفاع بالرهن بعوض وبدون عوض الحالة الأولى: كأن يقول: يا فلان! هذه العمارة التي رهنتها عندي، أريد أن أسكنها مدة الرهن، أو شهراً مثلاً، فهل يجوز إذا استأذنك؟ إن لم تأذن له فلا يجوز بالإجماع، لكن لو أذنت له فهل يجوز ذلك أم لا؟ A إذا استأذنك وأذنت له أن يسكن بدون عوض، ففيه تفصيل: فإن كان الرهن لقاء دين فإنه لا يجوز أن ينتفع به، وإن كان الرهن لقاء قيمة مبيع فإنه يجوز الانتفاع به. إذاً: الذي لا مئونة له إذا كانت له منفعة، وطلبها المرتهن، ولم يأذن صاحب الرهن، فلا يجوز بالإجماع. وإن استأذنه وأذن له فعلى صورتين: إما أن يكون بدون عوض، وإما أن يكون بعوض. فإن كان بدون عوض فلا يخلو سبب الرهن: إما أن يكون قرضاً، أو غير قرض، فالقرض: مثل أن تقول له: أعطني مائة ألف وعمارتي رهن عندك، وغير القرض: مثل أن تقول له: بعني أرضك هذه، فيقول: بمائة ألف، فتقول له: اشتريتها منك بمائة ألف إلى نهاية السنة، فيقول: قبلت، ولكن أعطني رهناً، فقلت: هذه عمارتي، أو سيارتي. إلخ. إذاً: الرهن إما أن يكون لقاء دين، أو غير دين، فإن كان لقاء دين، وأذِنت له أن يأخذ المنفعة بدون عوض، فإنه لا يجوز؛ لأنه قرضٌ جرّ نفعاً، وهو من الربا، ووجه ذلك: أن العمارة إذا سكنها شهراً وقيمة أجرتها ألف ريال، فكأنه ديّنك مائة ألف وألفاً، فيكون أخذ فائدة على ذلك القرض؛ لأنك إنما أعطيته لكونك مستديناً منه، فصار قرضاً جر نفعاً. وعلى هذا فالصورة الأولى: إذا كان يريد منفعة الدار أو منفعة الشيء المرهون بدون عوض في لقاء قرضٍ فلا يجوز؛ لأنه يئول إلى قرضٍ جر نفعاً. الصورة الثانية: أن يقول لك: أنا أريد أن آخذ هذه المنفعة وأسكن في الدار بأجرتها، فإذا قال لك: بعوض، أو قلت له: لا أعطيك إلا بعِوض، فأيضاً لا يخلو من ضربين: الضرب الأول: أن يكون بمثلها، بمعنى: أجرة المثل، لا وكس فيها ولا شطط، فيجوز. الضرب الثاني: أن تكون الأجرة فيها شيء من المراعاة والمحاباة، فدخلت شبهة قرضٍ جر نفعاً. إذاً: مسألة الانتفاع بالرهن -سواءً كان بعوض أو بدون عِوض- إذا كان الرهن لقاء دين، فإنه لا يجوز أن يأخذ المرتَهِن العين المرهونة فينتفع بها، أو بعوض دون مثلها، فإنه في هذه الحالة لا يجوز الانتفاع بها أيضاً. أما لو أخذها في رهن الدين بعوضٍ مقابلٍ لمثلها لا ظلم فيه، فإنه يجوز. فالخلاصة: أن الرهن إذا أُعطي لقاء الدين، وكانت فيه منفعة، وطلبها صاحب الدين، فأخذها بعوض مثلها جاز، ولكن إن طلبها بدون عوض، أو طلبها بعوض دون حقها، لم يجز؛ لأنه قرضٌ جر نفعاً. هذا في الحالة الأولى وهي: أن يكون الرهن لقاء قرض.

حكم الانتفاع بالرهن لقاء ثمن المبيع

حكم الانتفاع بالرهن لقاء ثمن المبيع الحالة الثانية: أن يكون الرهن لقاء ثمن مبيع، مثل أن يبيعك قطعة من الأرض في مخطّط ويشترط رهناً، فتعطيه عمارةً رهناً، فهذه العمارة أعطيت رهناً لقاء قيمة مبيع، فإذا كانت لقاء قيمة مبيعٍ فالمشهور أنه يجوز أن يأخذ المنفعة بدون عوض، وأن يأخذها بعوض مثلها أو دونه؛ لأن شبهة الربا في هذا منتفية، ومن هنا قالوا: كأنه باعه بالثمن المؤجل، ودخول المنفعة لا يضر على أصل الاستحقاق. هذا بالنسبة لحالة ما إذا كان للرهن منفعة وأراد المرتهن أن يأخذها. إذاً: الخلاصة: أنه إذا طلب صاحب الدين منفعة الرهن، فإن طلبها بدون عوض أو بعوض دون حق مثلها في قرضٍ لم يجز، وإن طلبها بعوض مثلها في قرض جاز. وأما في رهن غير القروض، فإن طلبها بعوض مثلها، أو بدون عوض مثلها، أو بدون عوضٍ أصلاً؛ فإنه يجوز.

انتقال العقد من الرهن إلى الإجارة

انتقال العقد من الرهن إلى الإجارة وإذا كنا نقول: إنه يجوز له أن ينتفع بالرهن بعوض بعوض مثله في حالة القرض، فمثال ذلك: رجل أعطاك مائة ألف ديناً فأعطيته عمارة، فطلب منك أن يأخذ منفعتها في الموسم، وأجرة هذه العمارة إذا أجِّرت في الموسم على من يريد استغلالها مثلاً خمسون ألفاً، فإذا أعطاك خمسين ألفاً فإنه يجوز؛ لأنه أخذ الرهن لقاء إجارة، وقد ذكرنا في أول باب الرهن أن يد المرتَهِن تكون يد أمانة، فهو الآن أراد أن يستأجر الرهن، فهل تنتقل يده من يد الأمانة إلى يد الضمان؟ A نعم؛ لأنه بالإجارة حينئذٍ يصبح ضامناً، فتخرج يده من يد أمانة إلى يد ضمان، فلو تلف شيءٌ في العمارة فإنه يضمنه. هذا بالنسبة إذا قلنا: إنه تنتقل بالإجارة، ويجوز أن يستأجره، وهناك عقدان: العقد الأول: الرهن، والعقد الثاني: عقد الإجارة، سواءً استغرق عقد الإجارة مدة الدين، كأن يكون مدة الدين سنة، وعقد الإجارة سنة، فلا إشكال، أما دون السنة كشهرين، أو مدة الموسم، أو ثلاثة أشهر، ففي هذه الحالة، عندما أخذها إجارةً انتقلت اليد وزالت يد الرهن، وأصبحت عيناً مؤجرة، وإذا انتهت المدة فهل تعود رهناً؟ الجواب: لا، إذا انتهت المدة فإن صاحب العمارة بالخيار، فإن شاء ردها رهناً، وإن شاء رهن غيرها، وفائدة ذلك: أنه ربما ترهن العمارة وقيمتها مثلاً خمسمائة ألف، وخلال الشهرين تصبح قيمتها مثلاً مليوناً، ويكون من الضرر أن تجعلها رهناً، وقد ترهنها وأنت لا تحتاج إلى أن تستغلّها، ثم لما صار الشهر والشهران بانتفاعها بالإجارة طرأ استغلال لك عليها أو حاجة لك عليها، فحينئذٍ بعد انتهاء المدة أنت بالخيار، فإن شئت أن تعيد العمارة أعدتها، وإن شئت أن تدخل عيناً رهناً بدلاً عنها كان لك ذلك، فكأن صاحب الدين هو الذي ضيّع حقه بزوال اليد، وحينئذٍ يزول لزوم الرهن؛ لأننا اشترطنا أن اللزوم يستديم فيه ببقاء اليد. فإذا كانت اليد دخلت عليها الإجارة، وانتقل الرهن من كونه رهناً إلى إجارة؛ فحينئذٍ يزول لزوم الرهن، هذا هو معنى لزوم الرهن. لزوم الرهن: لو أنك رهنت العمارة وقيمتها مثلاً مائة ألف، والدين لثلاث سنوات، وبعد شهر أو شهرين أصبحت قيمتها مليوناً، فتبقى لازمة عليك، أي: تبقى رهناً، ولو أصبحت بالملايين، لكن إذا أدخلت الإجارة عليها ورضي صاحب الدين، فحينئذٍ انفك اللزوم؛ لأنه قد سبق أن ذكرنا أن المذهب -وهذا مذهب طائفة من العلماء- على أن الرهن يلزم إذا قُبِض واستديم القبض، لكن عندما دخلت الإجارة رفعت استدامة اليد، وحينئذٍ ينتقل من كونه لازماً على المديون، إلا أنه بعد انتهاء مدة الإجارة فهو بالخيار، إن شاء أدخله رهناً مرة ثانية، وإن شاء امتنع عن إدخاله، وأدخل عيناً أخرى مكانه، على ما يتفقان عليه. هذا بالنسبة إذا كانت العين لا تحتاج إلى مئونة كالعمائر والأرضين، فخلاصة ما فيها: أن الأصل العام أنه لا يجوز لصاحب الدين أن يأخذ منفعة من الرهن إلا بإذن صاحبه، فإذا اعتدى على ذلك ضَمِن، ويتفرع تفرّع على هذا لو أنه استأذنه بعوض وكان العوض لمثل العين جاز، سواءً كان في رهن القروض أو غيرها. وإن استأذنه بعوض دونه، أو بدون عوض في عينٍ مرهونة لقاء دينٍ لم يجز؛ لأنه قرض جر نفعاً، وأما إذا كان في غير رهن القروض، فإنه يجوز؛ لزوال الشبهة الموجبة للتحريم، والقاعدة: أن الحكم يدور مع علّته وجوداً وعدماً، فقد منعنا انتفاعه بدون عوض أو بدون عوض المثل إذا كان في القرض؛ لخوف الربا، وذلك منتفٍ في رهن غير القروض، فيصبح جائزاً على الأصل.

انتفاع المرتهن بالرهن المحتاج إلى مئونة إن أنفق عليه

انتفاع المرتهن بالرهن المحتاج إلى مئونة إن أنفق عليه القسم الثاني: أن يكون الرهن يحتاج إلى مئونة، فمثلاً: عندك من هذه الدواب: من الإبل، أو البقر، أو الغنم، فهذه تحتاج إلى مئونة، فهي تحتاج إلى طعام، وتحتاج إلى شراب، ففي هذه الحالة هل يجوز لصاحب الدين أن ينتفع بها؟ هذه المسألة فيها تفصيل: فإن كانت العين المرهونة تحتاج إلى نفقة، وقال صاحبها: أنا أنفق عليها، وقام بالنفقة على عينه، فلا إشكال، مثلاً جاء وقال لك: أعطني ألف ريال، فقلت له: أعطني رهناً، فقال: هذه الناقة رهن حتى أسدد، فأخذت الناقة وأصبح كل يوم -كأن يكون جارك- يقوم على الناقة ويعلفها، أو تكون الناقة عنده ورضيت له بذلك على أن يعلفها ويقوم عليها، فهذا لا إشكال فيه، لكن المشكلة إذا كانت العين تحتاج إلى مئونة وصاحبها غير موجود، أو يتعذر على صاحبها أن يقوم بالنفقة عليها، فأنت تريد الرهن أن يكون عندك، وصاحبها في بلد غير بلدك، فغير معقول أنه كل يوم يأتي ويعلفها أو يقوم عليها، وقد يكون في البلد الواحد، ومن المشقة أن يأتي فيعلفها ويقوم عليها، فحينئذٍ إذا كانت العين المرهونة عندك تحتاج إلى نفقة من طعام أو شراب أو نحو ذلك، فلها أربع حالات: الحالة الأولى: أن تكون محلوبة مركوبة، مثل الناقة. الحالة الثانية: أن تكون محلوبة غير مركوبة، كالشاة فإنها تحلب ولكن لا يمكن الانتفاع بالركوب عليها، وكذلك البقرة تحلب ولكن لا يركب عليها. الحالة الثالثة: أن تكون مركوبة غير محلوبة؛ كفحل الإبل، فإنه يُركب ولا يحلب. الحالة الرابعة: أن تكون غير محلوبة ولا مركوبة، مثل فحل الغنم، فإنه غير محلوب ولا مركوب، وكذلك الأرقاء. فهذه أربعة أحوال وفيه هذه المنافع. ويرد Q إذا كان صاحب الدين يُنفق على هذه العين المرهونة وهي الناقة، فهل يجوز له أن ينتفع في حدود نفقته أو لا يجوز؟ ذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أن الرهن إذا كان يُركب أو يحلب، أو يجمع بين منفعة الركوب والحليب، فإن من حقك إذا أنفقت عليه أن تركبه وتحلب منه بقدر ما أنفقت عليه. مثال ذلك: لو قال لك: هذه الناقة رهنٌ عندك مقابل الألف التي لك عليّ، فقمت على الناقة وعلفتها بما قيمته مثلاً خمسون ريالاً، فحينئذٍ يجوز لك أن تشرب من حليبها بقدر الخمسين، وأن تركب على ظهرها بقدر الخمسين، ويجوز أن تجمع بين الحليب وبين الركوب بقدر الخمسين، فتجعل -مثلاً- ثلاثين للحليب وعشرين للركوب، فتقدر أن ذهابك على ظهرها إلى داخل المدينة والرجوع بعشرين، عشرة ذاهباً وعشرة آيباً؛ وهذا يتقدَّر بالعُرف، ثم حليبها هذا الذي احتلبته في اليوم الذي أنفقت عليها، قيمته ثلاثون، فحينئذٍ تكون الثلاثين مع العشرين مساوية لنفقتك عليها. فتُقدِّر ما أنفقته وتركب وتحلب على قدر ما أنفقت، فإن كان مركوباً تمحّض انتفاعك بالركوب، وإن كان محلوباً تمحّض انتفاعك بالحليب، وإن كان محلوباً مركوباً جمعت بين الأمرين، أو أخذت منفعة من المنفعتين بقدر حصتها من النفقة، هذا من حيث الأصل الذي ذكرناه. والدليل عليه ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة)، أي: عليه أن يعلف الدابة، ويقوم عليها في حدود ما أنفق، وهذا هو العدل الذي قامت به السماوات والأرض، لا يُظلم صاحب الرهن، ولا يُظلم صاحب الدين، ولا تتلف العين؛ لأنها لو تُركت بدون طعام ولا شراب لتلفت. وعلى هذا أخذ المصنف رحمه الله هذا الحكم، فبيّن أنه يجوز للمرتَهِن ومن له الدين أن يركب الرهن وأن يشرب منه بقدر ما أنفق عليه في طعامه وشرابه.

جواز الانتفاع بالرهن المحتاج إلى مئونة بدون إذن الراهن

جواز الانتفاع بالرهن المحتاج إلى مئونة بدون إذن الراهن وقوله: (بقدر نفقته بلا إذن). الفائدة هنا أنه لا يحتاج إلى إذن؛ والسبب في ذلك: أن الإذن موجودٌ من الشرع؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً)، فهذا إذنٌ شرعي، والله عز وجل يملك العباد وما ملكوا، فالله ملّكنا ذلك، وبيّن أنه إذا رهن أحدٌ عندك عيناً تُركب وتحلب، وأنفقت عليها، وركبت وحلبت بقدر ما أنفقت؛ فقد عدلت وأقسطت، والله يحب المقسطين، ولا تحتاج في ذلك إلى إذن المالك، هذا بالنسبة للشرب والركوب.

حكم انتفاع المرتهن بالرهن غير المحلوب

حكم انتفاع المرتهن بالرهن غير المحلوب يبقى Q غير المركوب وغير المحلوب إذا احتاج إلى نفقة، فهل يُقاس على المركوب والمحلوب؟ جماهير العلماء على أنه لا يُقاس ولا يُلحق، وحتى الإمام أحمد رحمه الله لما قال بهذه السنة وعمل بها، سُئِل عن غيرها، فخصّص الحديث بما ورد؛ لأن الأصل يقتضي أنه لا يجوز لك أن تنتفع بمال غيرك إلا بإذنه، وبحقه، فلما جاءت السنة تستثني هذا الأصل فيما يُركب ويحلب، بقي ما عداه على الأصل الذي يوجب عدم ملكية المنافع إلا لأصحابها، ولا يجوز لمن له الدين أن ينتفع إلا بإذن المالك الحقيقي هذه خلاصة ما ذُكِر. فالحاصل: أنه يجوز في القسم الثاني إذا كان الرهن يحتاج إلى مئونة وكان مركوباً محلوباً، جامعاً بينهما، أو فيه إحدى الخصلتين يجوز لمن له الدين أن ينتفع في حدود ما أنفق. فإن كان غير محلوبٍ ولا مركوب، فإنه لا يجوز أن ينتفع به، وحينئذٍ يفصل فيه من ناحية إذا أنفق فإنه يحتسب قدر ما أنفق على ذلك المرهون، ثم يطالب المالك الحقيقي بنفقته، كما سيأتي إن شاء الله.

الإنفاق على الرهن بغير إذن الراهن مع إمكان الرجوع إليه

الإنفاق على الرهن بغير إذن الراهن مع إمكان الرجوع إليه قال رحمه الله: [وإن أنفق على الرهن بغير إذن الراهن مع إمكانه لم يرجع]. قوله: (وإن أنفق على الرهن بغير إذن الراهن مع إمكانه) إذا استأذنه فلا إشكال، وقد ذكرنا المحلوب والمركوب، فالمحلوب والمركوب لا يحتاج إلى إذن، وغير المحلوب والمركوب -كما كان في الأرقاء في القديم ونحوهم- إذا احتاج إلى نفقة، فإنه إذا أنفق عليه بدون إذن صاحبه مع إمكان أن يستأذنه، فإنه لا يُعطى نفقته؛ والسبب في ذلك: أن المطالب في الأصل هو المالك، فكونه لم يستأذن ولم يأمره أحد أن يُعطي بل أعطى تلقائياً، دلّ على أن العطية محض تبرّع، وهذا يسمونه: الاستناد إلى الظاهر؛ لأن المالك الحقيقي موجود، فكونه موجوداً ويمكنه أن يتصل به أو يرسل إليه، أو يأتيه بنفسه ويقول له: إني سأنفق على الرهن فهل تأذن لي؟ فكونه لم يفعل ذلك، هذا يسمونه: دلالة الظاهر، وقد سبق أن ذكرنا الظاهر والأصل، فهذا من الظاهر فيُعمل به، ويقال: هذا محض تبرّع. وقال بعض العلماء: يرجع إلى نيته، فإن كان نوى أنها تُحتسب احتسبت، وإن كان نوى أنها لا تحتسب فإنها لا تحتسب، وتكون محض التبرع. والمراد بقوله: (لم يرجع)، أي: ليس من حقه أن يرجع على المالك الحقيقي فيطالبه، فيقولون: رجع، لم يرجع، وعليه أن يرجع، هذا هو المراد به، أنه إذا دفع مثلاً ما قيمته خمسمائة ريال نفقة، وكان بإمكانه أن يستأذن المالك الحقيقي ولم يستأذنه، فحينئذٍ ليس من حقه أن يرجع ويطالب المالك الحقيقي بالنفقة.

النفقة على الرهن عند تعذر الرجوع إلى الراهن

النفقة على الرهن عند تعذر الرجوع إلى الراهن قال رحمه الله: [وإن تعذّر رجع ولو لم يستأذن الحاكم]. قوله: (وإن تعذر) أي: إن تعذر عليه أن يرجع إلى المالك الحقيقي، وإن لم ينفق صارت الدابة معرضة للموت، والوقت ضيق، فتعذّر عليه أن يرجع؛ وذلك لصعوبة الاتصال به، أو سافر الراهن، وتعذر أن يتصل به أو يجد وكيلاً عنه، فقام وأنفق، فإنه يرجع؛ لأن الشبهة هنا قائمة، والأصل أن نفقته محسوبة، وقد قلنا هنا: إنه يرجع؛ لأنه لما أنفق هذا المال، فالأصل أن يرجع في ضمانه، هذا هو الأصل، ولما تعذّر عليه الرجوع سقط تأثير الظاهر؛ لأن في الظاهر ما يدل على الشبهة لوجود العذر، وحينئذٍ لا نلزمه، ولا نقول له: يسقط حقك؛ بل نقول: إن من حقك أن ترجع عليه بقدر النفقة. فلو أنفق عليه مثلاً في حدود خمسمائة ريال، وقيمة الرهن عشرة آلاف ريال، والدين تسعة آلاف ريال، فلما انتهى الوقت جاء وسدد تسعة آلاف ريال، وقال له: أعطني الرهن، فقال: بقي خمسمائة تكفّلتُها نفقة على الرهن، فإن قال: لا أعطيك، فحينئذٍ من حقه أن يطالبه، ويقول له: أعطني هذه الخمسمائة وهي تابعة للدين، فيُلزم بإعطائه، ويجب عليه أن يعطيه، سواءً استأذن الحاكم أو لم يستأذنه. وبعضهم يقول: عليه أن يستأذن الحاكم والوالي، والمراد بالحاكم هنا القاضي؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (فالسلطان ولي من لا ولي له)، فجعل القضاة والحكام إنما يُرجع إليهم إذا تعذّر الرجوع إلى الأصل، فهم يقومون مقام الناس في القيام على مصالحهم، وعلى هذا قالوا: إنه يرجع إلى الحاكم فيستأذنه أولاً ثم ينفق، ولا شك أن الرجوع إلى القاضي متى أمكنه الرجوع إلى القاضي أحوط.

النفقة على الوديعة مع إمكان الاستئذان من المالك وعدمه

النفقة على الوديعة مع إمكان الاستئذان من المالك وعدمه قال رحمه الله: [وكذا وديعة]. أي: إذا أنفق على وديعة، ومثاله: رجلٌ أعطاك وديعة، فإذا احتاجت هذه الوديعة إلى نفقة، وأمكنك الاتصال به، فإنه يجب عليك أن تتصل به وتستأذنه، وإن لم يمكنك الاتصال به على التفصيل الذي ذكرناه في الرهن، فمن حقك أن تطالبه بنفقتك على وديعته، سواءً قلنا باستئذان الحاكم أو بدونه، وأما إذا أمكنك أن تستأذنه ولم تستأذنه، فإن نفقتك على الوديعة تعتبر محض التبرّع، وليس من حقك أن تطالب بالنفقة.

النفقة على العارية مع إمكان الاستئذان من المالك وعدمه

النفقة على العارية مع إمكان الاستئذان من المالك وعدمه قال رحمه الله: [وعارية]. أي: إذا استعار شخصٌ شيئاً، واحتاج هذا الشيء إلى نفقة، فإنه يرجع إلى مالكه الحقيقي ويستأذنه، فإذا لم يستأذنه مع إمكان الاستئذان، فإنه يتحمل مسئولية النفقة، وأما إذا لم يمكنه وتعذر عليه الاستئذان وقام بالنفقة، فإنها تضمن على التفصيل الذي ذكرناه في استئذان الوالي وعدم استئذانه.

النفقة على الدواب المستأجرة الهارب صاحبها

النفقة على الدواب المستأجرة الهارب صاحبها قال رحمه الله: [ودواب مستأجرة هرب ربها]. وذلك مثل الإبل في القديم، فإذا أستأجرها الإنسان من أجل الركوب، ثم هرب صاحبها، فهذه الدواب ستبقى عندك، وتكون يدك عليها قائمة، يد حفظ، فتحفظها لأخيك المسلم، وبعض العلماء يُلزمك بالحفظ هنا، ولا خيار لك، تُلزم بحفظها، وتقوم عليها حتى يأتي ربها وصاحبها، ثم تنفق عليها منها، فإذا أنفقت عليها منها فلا إشكال، وأما إذا لم تجد منها شيئاً وقمت أنت بنفسك وأنفقت من مالك، فحينئذٍ يكون من حقك الرجوع على مالكها الحقيقي إن جاء يطالبك يوماً من الأيام؛ لأنه تعذر عليك أن تتصل به وتطالبه، فيجوز لك حينئذٍ أن تؤاخذه بضمان؛ لأن هذه العين التي هي الإبل أو الدواب التي تُستأجر للركوب أو نحو ذلك مثل الثيران، فقد كانت في القديم تستأجر للحراثة، وفي زماننا لو كانت السيارة مستأجرة، ثم حصل ظرف لصاحبها وغاب فجأة، وأصبحت السيارة عندك واحتاجت إلى نفقة، أو إلى رعاية، فأنفقت عليها مع تعذر الاتصال بصاحبها، فإنه حينئذٍ إذا رجع طالبته بضمان ذلك الشيء الذي أنفقته على عينه؛ ووجه ذلك: أن هذه العين غُرمها وغنمها على مالكها الحقيقي؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: (الخراج بالضمان)، فغرمها وغنمها لمن يضمن، أي: يأخذ الغنم وعليه الغرم، فلما كان ربحها له، كذلك أيضاً غرمها ونفقتها وخسارتها وأعباؤها وتكاليفها على مالكها الحقيقي، أما يدك فإنها يد حفظ. ففي هذه الحالة -في العارية، وفي الرهن، وفي العين المستأجرة- إذا لم يتيسر الاتصال بمالكها الحقيقي وكنت معذوراً، جاز لك أن تقوم بالمعروف بالنفقة عليها، ثم تطالبه بضمان ما أنفقت.

تعمير المرتهن لخراب الدور والأراضي المرهونة ونحوها

تعمير المرتهن لخراب الدور والأراضي المرهونة ونحوها قال رحمه الله: [ولو خرِب الرهن فعمّره بلا إذن رجع بآلته فقط]. الخراب: ضد العمار، فلو أن العين المرهونة -كالمزارع، والأرضين ونحوها- أصبحت خراباً، أو اخترب بعضها، فقام المرتهن باستصلاحه، فإنه في هذه الحالة العين والرقبة موجودة، ويمكن أن تبقى وتبقى ماليتها بحالها، بخلاف الإبل والبقر والدواب، فإنه إذا لم تنفق عليها فستموت وتتلف وتذهب ماليتها، فهناك فرق بين الاثنين، ثم في هذه الحالة يكون الدفع هنا دفع إجارة، وفيه مبايعة من جهة المئونة، فيلتزم به فقط بقيمة الآلة التي تم بها الاستصلاح، ولا يطالبه بالفضل، وليس له أن يقايضه على ذلك منفعة، وذلك بالعرف، فتكون مثلاً بناء هذه الدار واستصلاحها بخمسين ألفاً، وتكلفتها بالعرف أربعون ألفاً، وعشرة آلاف تكون ربحاً لمن يقوم باستصلاحها، فهنا ليس له أن يربح، وإنما يكون له فقط أجرة الآلة التي استصلح بها، فيملك فقط المئونة، وليس من حقه أن يقايض على ما فيه مصلحة ونماءٌ زائد. وهذا بالنسبة لمنفعة الاستصلاح، بخلاف منفعة النفقة التي تبقى بها العين، فهنا محض تبرع فيه نوع من الفضل؛ فأرضي إذا انهدمت فإن من حقي أن أبنيها أو لا أبنيها، لكن الدابة إذا ماتت ففي الغالب أنني لا أرضى بموتها، فكونه في هذه الحالة عندما خربت الأرض أتى وعمرها، فأنا قد أرضى أن تسقط وتخرب وتبقى على حالها، لكن الإبل والبقر والغنم التي حياتها وماليتها موقوفة على النفقة لا أرضى بتلفها. فهناك فرق بين الحالتين، فالنفقة في الأولى مستحقة ولازمة، وتبقى المالية عليها، وكأنه محض التصرف الرشيد، وفي موضعه، أن تنفق لبقاء الإبل والغنم والبقر ونحوها من الرقاب المرهونة أو المستعارة أو المؤجرة، لكن في حالة ما إذا كانت العين داراً فانهدمت، أو مزارع مثلاً فعطشت، فأصلح آبارها أو نحو ذلك، فإنه لا يأخذ إلا نفقة الآلات التي بها تحققت المنفعة، وليس من حقه أن يقايض أو يطلب الربح أو النماء الزائد. أما لو استأذن فإنه يملك مطالبته بجميع ما أذن له به، وذلك في حدود الإذن، فلو قال له مثلاً: ابن هذا دورين، فبناهما دورين على نفس الصفة المتفق عليها، فله أن يطالبه بالنفقة كاملة.

الأسئلة

الأسئلة

جواز إدخال الإجارة على الرهن ومباينته لعقد البيعتين في بيعة

جواز إدخال الإجارة على الرهن ومباينته لعقد البيعتين في بيعة Q أشكل عليَّ انتقال يد الراهن من الأمانة إلى الضمان، وذلك إذا استأجر الرهن، فهنا ابتدأ بعقد الرهن وانتهى إلى الإجارة، فوسع هنا في هذه المسألة، وحرم في البيوع عن بيعتين في بيعة، وتردد العقد بين البيع والإجارة، فهل من حكمة في التوسيع هنا، والتضييق هناك؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فأما بالنسبة لمسألة الرهن وانتقاله إلى الإجارة فليس هو على سبيل التشريك، فينبغي أن يُفرّق بين هذا وبين عقد البيعتين في بيعة، وعقد الإجارة الذي ينتهي بالتمليك عقدان في عقد. أما الرهن مع الإجارة فعقدان منفصلان: الرهن عقد منفصل له شروطه وله ضوابطه، والإجارة عقد مستقل له شروطه وله ضوابطه، فإذا تعاقدا على رهن وأبقيا يد الرهن على ما هي عليه فرهن، وإن رفعا الرهن باختيارهما ورضاهما فهذا جائز، فمثلاً: لو أنني أخذت رهناً منك، ثم جئتني وقلت: يا فلان! أنا محتاج للرهن وأريد أن أنتفع به، فهلا سامحتني وأقلتني، فقلت لك: قد سامحتك، وأخذتَ الرهن، فإنه يجوز بالإجماع. فانتقلت يد الرهن من الرهن إلى عقد آخر، دون أن يجتمعا. لكن العقد في بيعتين في بيعة هنا اجتمع العقدان في عقد واحد، كأن يقول لك: أبيعك هذه الدار بعشرة آلاف حاضرة، أو بعشرين إلى نهاية السنة، وتفترقا قبل التحديد، أما لو حددتما فليس هناك إشكال، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما -كما روي عنه في مصنف ابن أبي شيبة وغيره-: أما إذا بت فلا إشكال. فجمهور السلف رحمهم الله على أنه إذا قال له: بعني بمائة حاضرة أو بمائتين إلى أجل، وأخذ بإحدى البيعتين، فإنه خرج عن بيعتين في بيعة، وليس هناك خلاف إلا قول سماك ورواية عن طاووس رحمهما الله؛ وذلك لأن العقدين لا يدخلان في عقد واحد إلا إذا افترقا، فإن افترقا، وقد أعطاه البيعتين ولم يحدد، فقد أدخل العقدين في عقد، أما هنا -في عقد الرهن والإجارة- فإنه لم يدخل العقدين في عقد؛ لأن عقد الرهن على حدة، ثم اتفقا على انتقاله من الرهن إلى الإجارة، كما لو اتفقا على أن يعود على صاحبه. إذاً: ليس هناك أي إشكال، فهذا شيء وهذا شيء، ولا يعتبر هذا من تداخل العقود. وهكذا لو قال لك: استأجِر العمارة عشرين شهراً بعشرة آلاف كل شهر، ثم بعد سنة تملكها، فهو ليس بعقد إجارة، وليس بعقد بيعٍ محض، وإنما أدخل البيعتين في بيعة، أو أدخل العقدين في عقد، على القول بأن الإجارة بيع، ولا شك أنها نوع من البيع الذي هو بيع المنافع، فأدخل البيعتين في بيعة من جهة بيع منفعة، وبيع عين، أدخلهما في عقد واحد، وقد استأجرتَ العمارة وفي نيتك أن تملكها، والتزم لك أن يملكَك في نهاية العام، فأدخلتما عقدين في عقد واحد، فالغرر في هذا واضح. وهكذا لو قال له: أبيعك بعشرة حاضرة وبعشرين إلى أجل، وافترقا قبل التحديد، فقد أدخلا الصفقتين في صفقة واحدة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في تتمة حديث البيعتين في بيعة: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)؛ وذلك لأنه إذا قال له: بعني بمائة حاضرة وبمائتين إلى أجل، وفارقك قبل أن يحدد، فإما أن يعطيك الوكس وأنت ترجو المائتين إلى أجل، فيقول لك: أريد أن أشتريها بمائة حاضرة، فضيّع عليك المائتين إلى أجل، وأنت تحب أن تكون إلى أجل، وهذا هو أوكسهما، أو أخذها وهو يريد أن يدفعها مائة، ثم قال: هلا خففت عليَّ فجعلتها إلى أجل، فوقع في الربا، فعاوض عن المائة التي في نيته أن يشتري بها إلى المائتين في أجل، فتحقق فيه ما ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)، أما لو بتَّ، واشترى بمائة حاضرة أو بمائتين إلى أجل، كما هو موجود في بيع التقسيط، فليس هذا ببيعتين في بيعة؛ لأنه ليس له أوكسهما ولا الربا؛ ولأن العقد تم على سعرٍ معيّن، فالسلعة قيمتها حاضرة بمائة، وقيمتها إلى أجل بمائتين، ستشتريها بمائة حاضرة أو بمائتين إلى أجل، فهذا ليس من بيعتين في بيعة في شيء. ولو قلنا: إن كونه يعرض عليه القيمتين في الصفقة يدل على أنه بيعتين في بيعة، لدخلت جميع البيوعات في المساومات؛ لأنه في المساومة يقول له: بعني بعشرين، فيقول: لا، بل بثلاثين، كما لو قال له: بعني بعشرة حاضرة أو بعشرين إلى أجل، فالمعنى في هذا واضح. وعلى هذا لا يُعتبر إدخال الإجارة على الرهن كالبيعتين في بيعة، ولا يعتبر هذا موجباً للإشكال؛ لأن الرهن مستقل وعقدٌ قصد به الاستيثاق على وجه شرعي معتبر، وتم وبت على الصفة المشروعة، ثم اتفق الطرفان على إلغائه وإنشاء عقد الإجارة، وليس هذا من التداخل في شيء، وعليه فإنه يزول الإشكال، والله تعالى أعلم.

حكم تلف الرهن عند المرتهن

حكم تلف الرهن عند المرتهن Q إذا رهن عندي رجلٌ بعيراً، ثم مات هذا الرهن عندي قبل السداد، ثم طالبني به، فما الحكم أثابكم الله؟ A إذا مات البعير، فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يموت بدون تفريط منك، فليس من حقه أن يطالبك، ويدك يد أمانة. الحالة الثانية: أن يموت بتفريطٍ منك، فإنك تضمن، وعلى هذا يفصّل في مسألة ضمان الرهن. مثاله: قال لك شخص: أعطني مائة ريال ديناً، فقلت له: أعطني رهناً، فأعطاك ساعة أو مسجلاً أو كتاباً، فتلفت الساعة، أو تلف الكتاب، أو تلف المسجل، فإنه لا يضمن إلا إذا فرّط، فإن كان تلف هذه الأعيان بسبب تفريط منه فإنه يضمن، وأما إذا لم يفرِّط في ذلك فإنه لا ضمان عليه، وحينئذٍ تكون يده يد أمانة على التفصيل الذي سبق بيانه، والله تعالى أعلم.

حكم استصلاح الدور المؤجرة من قبل المستأجر

حكم استصلاح الدور المؤجرة من قبل المستأجر Q من كان مستأجراً لدار، وأراد أن يصلح فيها ما خرب، فهل لا بد أن يستأذن من المالك عموماً، أم يصلح مرافقها ويحتسب ما أنفقه من قيمة الإيجار؟ A إذا استأجرت داراً فليس من حقك أن تتصرف في عين الدار، فتغير فيها أو تُحدث فيها إلا إذا استأذنت مالكها، أما ما يكون من جنس المنافع ومن حقك عرفاً أن تفعله، فإنك تفعله، فإذا كان هذا الذي تفعله فيه ضرر أو فيه زيادة أو نقصاً أو تغيير لصفة العين المؤجرة، فلابد أن تستأذن. فلو استأجرت داراً مكونة من أربع غرف، وكان بالإمكان أن تفتح كل غرفتين على بعضها، فلابد أن تستأذن، ولا تنقل الجدار الحائل إلا بإذن، وكذلك أيضاً لو أردت أن تحدث أشياء، كوضع المسامير في الجدار أو نحوها، فلابد أن تستأذن، فإن لم يأذن لك وفعلت ذلك من عندك، فإنه يجب عليك شرعاً إذا فرّغت الدار أن تسلمها بالصفة التي استلمتها عليها. وهذه مسألة من أعظم المسائل التي يعظم فيها الضرر، وأحبِّذ للخطباء وأئمة المساجد أن يذكِّروا الناس بالله عز وجل، فإن حقوق العيون المؤجرة -في هذا الزمن- ضائعة بين الناس إلا من رحمهم الله، فالمستأجر إذا انتهى وخرج من البيت، أو خرج من الدكان أو العين المؤجرة، فإنه يخرج منها بحالة قد تحتاج إلى استصلاح يقارب نصف قيمة الأجرة، ومما لا يخفى أنه قد تكون هذه العين أو هذه العمارة ملكاً لأيتام، وقد تكون ملكاً لأرامل وقفاً عليهم، ولذلك يعتبر هذا المال الذي أفسده المستأجر في ذمته ورقبته يوم القيامة، فلو أفسد العين المؤجرة، وأحدث وغيّر وتصرّف فيها، فإنه يجب عليه أن يعيدها على الصفة التي استلمها بها، حتى ذكر العلماء الكنيف الذي هو محل قضاء الحاجة، فقد كان في القديم ينزح وينظف، فقالوا: إذا استلمه نظيفاً، فلابد أن يخرج وهو نظيف، بمعنى أنه لا يبقيه بفضلته، وذلك كله من باب التشديد في الحقوق. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن الناس في عرصات يوم القيامة تطيش عقولهم من الذنوب والمظالم؛ لأنه يؤتى بالمظالم مثل الخردلة وأدنى من ذلك: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، والله عز وجل قد أمر العباد برد الحقوق إلى أهلها، فهذا حق، فإذا استأجرت العين كاملة فتردها كاملة، وإذا استأجرتها سليمة فتردها سليمة، أما لو أضر بأرضيتها، أو بسقفها، أو بجدارها، أو بأي شيء فيها، فإنه يضمن ذلك ويرده كاملاً إلى صاحبه. فينبغي تنبيه الناس في هذا الأمر؛ لأنها من الحقوق التي تضيع بين الناس، ويُنبَّهون على الأمور التي ينبغي أن يراعيها المسلم مع أخيه المسلم في مثل هذه العقود؛ من ضمان الحقوق، وعدم الظلم، وعدم الأذية، وعدم الإضرار، فليتق الله المسلم في حقوق إخوانه، خاصة الأوقاف المؤجرة؛ لأنها تكون ملكاً لأناس مستحقين؛ كالضعفة والعجزة، وتصرف غلّتها عليهم، فإذا أُفسِدت هذه الأوقاف وضُيِّعت، فحينئذٍ تضيع حقوق من تصرف لهم. والناظر هو المسئول أمام الله عز وجل؛ لأن تساهل الناظر وسكوته يمكِّن المفسد من إفساده، فإذا جاء الناظر ليستلم العين المؤجرة، فعليه أن يطالب المستأجر أن يسلمها كما استلمها، أما أن يتركه يفسد فيها ويغيّر فيها ويعبث على مرأى منه ومسمع، فإذا سلمها سلمها ناقصة، ثم صرف من غلة الوقف لاستصلاحها؛ فهذا ظلم لأصحاب الحقوق، وينبغي التنبه لمثل هذه الحقوق والتنبيه عليها؛ لما فيها من الأذية والإضرار الذي نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، نسأل الله العظيم أن يجنبنا الزلل، وأن يعصمنا في القول والعمل، والله تعالى أعلم.

جواز انتفاع المرتهن بصوف البهيمة إن أذن له الراهن

جواز انتفاع المرتهن بصوف البهيمة إن أذن له الراهن Q هل يدخل في الانتفاع صوف الشاة، فله أن يجزّه ويبيعه أثابكم الله؟ A ظاهر النص الانتفاع بالحليب والركوب، هذا الذي ورد به النص، سواءً أذن أو لم يأذن، ويبقى فيه الحكم على التفصيل الذي ذكرناه، أما صوف البهيمة وشعرها، فليس من حقه أن ينتفع به بدون إذن إذا أنفق عليها؛ بل يبقى على الأصل من وجوب الاستئذان على التفصيل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.

حكم القراءة في الكتب المرهونة بإذن وعدمه

حكم القراءة في الكتب المرهونة بإذن وعدمه Q إذا كان الرهن كتباً للعلم، فهل القراءة فيها من باب الانتفاع، ويدخل في مسألة القرض الذي جر نفعاً أثابكم الله؟ A مسألة قراءة الكتب، بعض العلماء يرى أن العلم لا يُملك، فكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ليس ملكاً لأحد، ولذلك قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان:57]، فقالوا -بناءً على هذا الأصل-: يجوز أن تقرأ في كتاب الغير ولو لم تستأذنه. ومن ذلك: القصة المشهورة بين سحنون وهو عبد السلام الفقيه المالكي المشهور، وبين أسد بن الفرات، وأسد بن الفرات من الفقهاء الأجلاء الذين ارتحلوا إلى ابن القاسم في مصر، وكان أسد بن الفرات يريد أن يلقى الإمام مالكاً بنفسه ويسأله، فتوفي الإمام مالك وهو في مصر، فسأل عن أعلم أصحابه، فقيل: ابن القاسم، فجاء إلى ابن القاسم، وقال: إني سائلك، فما كان عندك من قول مالك فأخبرني عنه، وما لا قول لـ مالك فيه فأخبرني عن الأشبه بقوله، -ويسمَّى: التخريج على القواعد والأصول-، فأفتاه وبيّن ما يُسمى: بالمدونة، ثم رجع إلى المغرب، فجاء سحنون، وهو عبد السلام، ويقال: سُحنون وسَحنون، قال الناظم: وسين سَحنون بفتح قد ترام وقد تضم واسمه: عبد السلام الشاهد: أن سحنون جاء إليه وقال له: أعطني مدوّنتك أنقل ما فيها، فقال له: لا أعطيك، فقال: إنه لا يجوز لك أن تخفي هذا العلم عني، فقال له: كتابي، ولي الحق أن أعطيه من أشاء وأمنعه ممن أشاء، فقال: لكن العلم ليس ملكاً لك، فاختصما إلى القاضي، فقال أسد بن الفرات: الكتاب كتابي، والمداد مدادي، والقلم قلمي، يعني: أنا الذي كتبت، وهذا الشيء المكتوب ملكٌ لي، فأنا لا أدعي ملك العلم، ولكني أدعي ملكية الكتاب، والكتاب يُملك، الذي هو الصفحات والأوراق والجلد، والمداد ملكٌ لي، والقلم الذي خط ملك لي، وهذا هو الذي يفرِّعون عليه الآن حقوق الطبع. فقال سحنون: إن العلم لا يُملك، فقال القاضي: إن الكتاب كتابه -ولكن هذا لحكمة من الله، وقل أن يبخل إنسان بالعلم إلا محق الله بركته-، فلما قضى القاضي لـ أسد بن الفرات، ارتحل سحنون إلى ابن القاسم في مصر، فأخبره القصة، فدوّن له مدوّنة أخرى، ورجع عن مسائل في مدوّنة أسد، وسأل الله أن ينزع البركة من مدوّنة أسد، فتلِفت وضاعت وما بقيت إلا مدوّنة سحنون إلى يومنا هذا. إذاً: العلم ما يبخل به أحد إلا محقت بركته، نسأل الله السلامة والعافية. فالشاهد: أن مسألة ملكية الكتاب بذاته، إذا قلنا: إن العلم لا يملك؛ كان من حقه أن يقرأ، ويقرأ باستحقاق شرعي خارج عن العين المرهونة، وإن قلنا: إن الكتاب يُملك، فحينئذٍ تكون العين مملوكة، وليس من حقه أن يفتحها ويقرأ إلا بإذن من المالك. وفي الحقيقة: النفس تميل أكثر إلى أن العلم لا يُملك، وهذا هو الذي تقرِّره النصوص وتدل عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

باب الضمان

شرح زاد المستقنع - باب الضمان لقد جاء الإسلام بحفظ الكليات الخمس: الدين والمال والنفس والعرض والعقل، ومما يحفظ به المال ما ذكره الفقهاء في كتب الفقه من الرهن والحوالة والضمان، فهذه كلها عقود يستفاد منها الرفق واستيفاء الحقوق، والضمان هو أحد هذه العقود، والذي يكون بإضافة ذمة إلى ذمة في دين أو عين، ولكي يثق الإنسان من رجوع حقوقه؛ فإنه لا يصح الضمان إلا من جائز التصرف؛ لأنه لو ضمن غير جائز التصرف لضاع المال. والضمان له أحكام ومسائل عدة بينها أهل العلم.

مشروعية عقود الاستيثاق

مشروعية عقود الاستيثاق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد: قال رحمه الله: [باب الضمان] هنا ثلاثة أبواب مهمة، الباب الأول: الرهن، الباب الثاني: الضمان، الباب الثالث: الحوالة، وإذا تأملت الأبواب الثلاثة حيث جاءت وراء بعضها، ذكر المصنف الرهن، والرهن متصل بالقروض، فالمناسبة واضحة، وبعد أن فرغ من أحكام الرهن دخل في الضمان، وباب الضمان من أهم الأبواب، وتعم به البلوى، والناس دائماً يسألون عن أحكامه، وهو موجود إلى زماننا اليوم، وهو ما يسمى: بالكفالة: كفالة مال، وكفالة وجه، وكفالة حضور، كل هذه مما تعم بها البلوى حتى في زماننا. فباب الرهن، وباب الضمان، وباب الحوالة، ثلاثة أبواب توصف في الفقه الإسلامي بأنها عقود استيثاق، يعني: يتوثق بها في الحقوق. ففي الرهن يستوثق صاحب الحق -المال الذي دفعه، أو العين التي باعها- من حقه بالرهن، وفي الضمان يستوثق صاحب الحق أيضاً بالرجل الكافل، أو الضمين أو الضامن، أو الحميل أو الزعيم، أو الغارم، كلها بمعنىً، يستوثق من حقه، فيقول لك مثلاً: أنا أعطيك مائة ألف، ولكن أعطني كفيلاً، مثلما قال لك: أعطني رهناً، فهنا يقول: أعطني كفيلاً، فهناك استيثاق بالعين، وهنا استيثاق بالأشخاص والذمم، كذلك أيضاً الحوالة فيها نوع استيثاق؛ لأنه إذا عجز عن السداد، فإنه يحيلك على شخص له دين عليه، وقد يكون ليس له دين عليه، فيحيلك لكي تستوثق من حقك وتصل إليه، فهذه ثلاثة أبواب مرتّبة على ترتيب المصنف رحمه الله. فالضمان والكفالة والزعامة والحمالة، كلها بمعنىً، والضمين والحميل والكفيل والزعيم كله بمعنىً، وإن كان في بعض الأحوال يقع تفصيل، فالضمين الغالب أن يكون ضميناً في الأموال، والكفالة تكون في الأموال وتكون في الوجه وفي الأبدان، فتتكفل بإحضار الشخص، وقد تكون في قصاصٍ أو نحو ذلك، هذا بالنسبة للكفيل، وأما بالنسبة للزعيم، فهو الذي يتحمل الأموال الباهضة، فلا يقال: زعيم إلا إذا كان في شيء باهضاً، مثل شيوخ القبائل، وشيوخ العشائر إذا أصلحوا بين الناس في الخصومات، يقول: أنا زعيم، يعني: أنا أضمن ما وقع من الخطأ من طرف على آخر، هذا بالنسبة للزعيم، ومنه قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72]، يعني: أنا به ضمين، وأنا به كفيل، وأنا أتحمّله، هذا بالنسبة للكفالة. أما فيما يتعلق بالحمالة، فالحميل في لغة العرب في القديم -ولا زال إلى عهد قريب- هو الذي يتحمل الديات، فالحمالة تكون في الديات، وهناك ألفاظ مثل: الصبير، والقبيل، فالصبير والقبيل يشمل هذا كله، يكون صبيراً في الأموال، يكون صبيراً في الأنفس، فيقول: أنا صبير، يعني: الصبير أصله من الشاة المصبورة المحبوسة، كأنها مصبّرة، فكأنه حبس نفسه ورهن نفسه لقاء هذا الحق. والقبيل يكون نداً ويتحمل، وكان هذا موجوداً ولا يزال إلى زماننا هذا -وإن كان بصورة أقل في زماننا- فحينما كان الخير منتشراً بين الناس كانوا يتحملون، ولا يكون للحمالات ولا للضمانات إلا أهلها الذين عُرِفوا بالكرم وبقوة النفس، وهذا فضل من الله يعطيه من يشاء، ويعتبر مثل هذا من السؤدد. لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يعدم والإقدام قتال فالسيادة والزعامة في الناس لا تكون إلا ببذل الثمن والتضحية، فكان في الناس من يتحمل ويتكفّل، وتجد فيه شهامة وقوة نفس، وجلَداً من أجل أن يتحمل هذه الحقوق، ولا شك أنها مخاطرة، ولذلك يقولون: أولها ملامة: أي: الناس تلومك، وأوسطها ندامة: أي: إذا انتصفت المدة يبدأ الإنسان يندم، عندما يتكفّل على أحد، وآخرها غرامة: أي: أنه بتحمله وضمانه وكفالته سيغرم، ولذلك لا يقوى على هذا إلا من أعانه الله. وهذه الأعمال من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وهي من الشيم المحمودة التي يرفع الله عز وجل أصحابها ويعلي شأنهم في الدنيا والآخرة، ولذلك كم مِن أناس ماتوا وما ماتت مكارمهم، وهم أحياء في مجالس الناس، مع أنهم قد قبروا وماتوا ربما من قرون، ولكن أبقى الله لهم جميل الذكر والثناء الحسن، وبقيت أخبارهم ومآثرهم في قلوب الناس وعلى ألسنتهم جزاءً وفاقاً، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان. والعلماء رحمهم الله، ينصون على فضل الكفالات والضمان، لكن على تفصيل في الحقيقة، ففي بعض الأحيان تكون محمودة ومشكورة، ويكون صاحبها مأجوراً، خاصة إذا قصد بها وجه الله عز وجل، ففي بعض الأحيان يعطيك الله الدنيا ويبسط لك من الرزق فتنظر إلى من هو محتاج قد غرِم في دينٍ معقول ومقبول، كإنسانٍ مثلاً استدان من بقالة لطعام أولاده، ثم حضر وقت القضاء، فتحمل مثلاً خمسمائة ريال، وأنت قادر على السداد عنه، فتقول لصاحب البقالة: أنا ضمين لك بهذا المال، أو أنا كفيل، فإن فعلت ذلك فإن الله يأجرك، خاصة إذا كان على أيتام أو على أرامل أو على ضعفة أو نحو ذلك، فإن الأجر في ذلك عظيم، والدين الذي استدان به الغريم دينٌ شرعي، ومقبول من الناحية الشرعية ومن الناحية العرفية، وهذه الكفالة وهذه الحمالة من أحب القربات إلى الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم في نفس الحديث: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، فمن كان في حوائج الناس في مثل هذه الأمور، وعلم أن فلاناً تحمل الحق فأدى ذلك فهو على خير عظيم، وثوابٍ من الله كريم، لكن إن كان هذا الدين على سفَهٍ وطيشٍ، أو كان على حرام، فإنه إذا تاب إلى الله وأناب إلى الله، وأردت أن تتحمل عنه لاستصلاحه واستقامته، وإرادة الخير له في آخرته، فإن الله يأجرك؛ لأنه إذا تاب وندم فقد عفا الله عما سلف، ومن تاب تاب الله عليه، وحينئذٍ إذا غرِم للناس ديوناً، وكان قد أنفقها في حرام ثم تاب ورجع، وأردت أن تتحمل عنه، فإن هذا فيه تفريج كربة يُقصد منها الخير والإحسان. وتارةً لا يكون لك بها أجر، وصورتها أن تكون حميَّة وعصبية، وليست حمية دينية، وإنما من أجل أنه قريب لك، أو من أجل أنه أحرجك أو نحو ذلك، فإذا كان من أجل المحاباة والرياء والسمعة، فهذه لا أجر لك فيها ولا وزر، فإذا كان الإنسان يريد بها المفاخرة في الدنيا، أو نحو ذلك، فإن الله عز وجل يعطيه متاع الدنيا، وهذه ليست مما يدخل في التعبديات، ولذلك لا أجر له ولا وزر، ولذلك لا ينال فيها أجر الآخرة لعدم قصد الآخرة، بل ينال فيها عاجل الدنيا؛ لأنه أراد الدنيا. أما لو كان إنفاقه على وجه أُحرِج به، فمثلاً لو أن قريباً لإنسان جاءه في دين، وأحرجه بأُناس، أو جاء المديون وأدخل عليك بعض القرابة، وأُحرِجت، فأعطيت وأنت مكره، فأنت مأجور وإن كنت مكرهاً، لكن أجرك وأنت راضٍ ليس كأجرك وأنت مكره، لكن تنوي الآخرة، ومن هنا تقاد إلى الجنة بالسلاسل، يعني: بالكره الذي تعرضت له. وعلى هذا فإن الإنسان إذا أُحرج وهو يحب هذا الخير، لكنه في بعض الأحيان تميل النفوس إلى حب الأموال، فإذا أُحرِج من قبل قريب أو نحو ذلك فدفع فإنه في هذه الحالة يكون أجره أقل ممن يدفع بطيبة نفس، لكن إذا دفع في حال الإحراج من أجل تطييب خواطر من أحرجه، فإنه لا أجر له، فيُفرَّق بين كونه ينفق لله عز وجل، حتى قال الحسن البصري رحمه الله، لما سئل عن الرجل يخرج في جنازة رجل لا يحبه، وإنما خرج من أجل أهل حيه، ومن أجل أن يطيب خواطرهم لما أحرجوه، قال: له أجران، أجر الخروج، وأجر تطييب خواطر جيرانه، فأنت إذا أحرجك قريب، فما فعلت هذا إلا من أجله، وما فعلت هذا إلا من أجل صلة الرحم، ففي مثل هذه الصورة يحصل الخلط والغلط عند بعض الأخيار؛ لأنهم يظنون أن هذا من الرياء، والواقع إن كان السبب الحامل في الأصل المودة والقرابة، فهذه محاباة ولا أجر فيها، لكن كونك أنت تحب هذا العمل الصالح وتفعله وأنت ترجو الثواب من الله، ولكنك أُحرجت ودُفِعت إليه فعجّلت هذا الخير لوجود الإحراج، فإنك تؤجر من الوجهين، أجر العمل نفسه، وأجر تطييب خاطر ابن عمك الذي جاءك في وجهه، أو جاءك في شفاعته، فأحببت أن تكرمه وتصل الرحم، فإنك تؤجر على ذلك، وتكون كفالتك من هذا الوجه أجراً لك في الآخرة.

حقيقة الضمان والأحكام المترتبة عليه

حقيقة الضمان والأحكام المترتبة عليه وقوله رحمه الله: (باب الضمان)، الضمان يقوم على إضافة ذمّة إلى ذمة في دين أو عين، وهذا في المطالبة، والمراد بذلك أنه إذا تحمّل رجلٌ ديناً وقال صاحب الدين: ائتني بمن يكفلك، وأتيت وقلت: أنا كفيلٌ له، أو أنا ضمينٌ له، فمعناه أنك تضيف ذمَتك إلى ذمة المديون، وأنت تتحمل سداد الدين إذا لم يسدد المديون، ومن هنا أصبح باب الرهن وباب الضمان متقاربين من حيث المعنى، في كون كلٍ منهما تحفظ به الحقوق ويستوثق به في الديون، فكأن الكفيل يطمئن صاحب الدين، ويتحمل مع المديون وتنشغل ذمته مع ذمة المديون، ولذلك نجد العلماء يقولون: الكفالة ضم ذمةٍ إلى ذمة، فأنت تضيف ذمّتك إلى ذمة المديون، وتعطي صاحب الدين ثقة أنه إذا امتنع المديون من السداد؛ إما لعجزٍ أو لمماطلة أنك تقوم بالسداد عنه، هذا إذا كان الضمان في الدين. وقد يكون الضمان في العين، فمثلاً: لو أن رجلاً قال لرجل: أعطني سيارتك، أريدها لمصلحةٍ معيّنة، أو أريد أن أذهب بها إلى موضع كذا، أو أريدها عارية إلى غد، أو بعد غد فقال صاحب السيارة: أعطني كفيلاً، فتقول: أنا أكفله بأن يرد لك السيارة، وأتحمل ذلك، هنا ضمنته في عين، فالكفالة تكون في ضمان الدين، وتكون في ضمان العين، وقد تتكفل بإحضار الشخص، كأن يقول صاحب الدين للشخص المديون: أعطني كفيلاً يكفل حضورك إذا حضر الأجل، فتقول: أنا أتكفّل بحضور فلان حال المطالبة، أو يوم المطالبة، وقد يكون الضمان بالحضور في الحقوق كالقصاص ونحو ذلك، كما كان يفعله وجهاء الناس، كأمراء القبائل، ومشايخ القبائل إذا وقع على أحد ضمان بحق، فيقول: أنا أتكفل بحضوره، فهذه كفالة. فيقع الضمان في الأموال وغير الأموال، وتقع الكفالة في الأموال وغير الأموال، إلا أن فقهاء الحنابلة رحمهم الله جعلوا الضمان في الأموال خاصة، ولذلك لا يتكلم المصنف هنا إلا حول مسألة الضمان في الأموال، وتركوا باب الكفالة وجعلوها في ضمان الوجه، حينما تقول: في وجهي، أنا آتي به، أو أنا أتحمل إحضاره، ونحو ذلك، وجعلوها في باب الجنايات. يقول رحمه الله [باب الضمان]. أي: في باب الضمان سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام، التي تتعلق في ضم الذمم بعضها إلى بعض، عند المطالبة بالديون، بناءً على هذا إذا تكفّل رجلٌ أو ضمِن الكفيل المكفول، فمعناه أنه إذا حضر الأجل فمن حقك أن تطالب المديون، ومن حقك أن تطالب الكفيل، فأصبحت هناك ذمتان، ذمة المديون، وذمة من كفله، فأنت بالخيار، إن شئت أن تطالب المديون، فحينئذٍ تطالبه ولك الحق؛ لأنه أصيل، وإن شئت أن تطالب الكفيل، أو الضمين، فأنت بالخيار بين الأمرين، أو طالبتهما معاً.

عدم صحة الضمان إلا من جائز التصرف

عدم صحة الضمان إلا من جائز التصرف قال رحمه الله: [لا يصح إلا من جائز التصرف] لا يصح الضمان إلا من جائز التصرف، ففي الضمانة هناك كفيل وهناك مكفول، والمكفول: وهو الشخص الذي ضممت ذمتك إلى ذمته، وهناك مكفولٌ به: وهو الشيء الذي تكفّلت به وهو سداد الدين، أو إحضار المديون، فهناك كفالة غرم، وهناك كفالة حضور، فإذا جيء وقيل لك: هذا مديون هل تكفله؟ تقول: نعم، يقولون لك: تكفله كفالة غرم، أو كفالة حضور، تقول: أكفله كفالة غرم، بمعنى: أنه إذا لم يسدد أسدد عنه، فهذا نوع من الكفالة، أو تقول: أكفل حضوره، فهذه كفالة حضور، أو تقول: أكفل التعريف به، يعني علي أن أعرِّفك من هذا الشخص الذي أعطيته الدين، أعرِّفك به وباسمه وبأهله، وكذلك موضعه إلى آخره، فإذا قلت ذلك، فمعناه: أنه لابد وأن تتوفر الأهلية في الشخص الضامن والشخص الكفيل، فلا يصح الضمان إلا من جائز التصرف.

معنى قول العلماء: جواز التصرف وصحة التصرف

معنى قول العلماء: جواز التصرف وصحة التصرف ترد كلمتان عند العلماء وهما: جواز التصرف وصحة التصرف، فما معنى جواز التصرف وصحة التصرف؟ كثيراً ما ترد هذه الكلمة خاصة في باب المعاملات. التصرف: بذل الشيء وإعطاء الشيء، وتصرّفك في الشيء يكون إما ببذل عين الشيء، أو يبذل منافعه. أما بذل عين الشيء فهو على حالتين: إما أن تبذله بعوض، كأن تقول: أعطيك هذه السيارة بعشرة آلاف فهذا بيع. وإما أن تبذلها بدون عوض على قصد مرضاة الله عز وجل فهذه صدقة، كأن تقول: هذا الطعام لك، فتكون قد بذلته بدون عوض. وإما على سبيل المحبة، فهذه هدية. أما بذل منفعة العين، فلا تخلو من حالتين: إما أن تبذلها بعوض، كأن تقول: أجرّتك داري، فهذه إجارة، أو تبذل المنفعة بدون عوض، كأن تقول: خذ سيارتي واقض بها غرضك، فهذه عارية. فهذه كلها تصرفات: بعضها تصرفات في الأعيان، وبعضها تصرفات في المنافع، فإذا قال العلماء: لا يصح إلا من جائز التصرف، أي: لا تصح الكفالة إلا من شخص تجوز تصرّفاته المالية، فالناس على قسمين: منهم من أجاز الله تصرفاته المالية، فيبيع ويشتري ويتصدق، ولا أحد يعترض عليه، وهذا هو البالغ العاقل الرشيد غير المحجور عليه. فالبالغ: يخرج الصبي، فالصبي لو جاء وأعطاك ألف ريال هبة منه لا تصح؛ لأنه محجورٌ عليه، والله تعالى يقول: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]، وقال: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء:6]، فأمرنا بالحجر على الأيتام، واليتيم: هو الذي لم يبلغ، فدل على أنه لو تصرف اليتيم كأن تصدق بماله، أو وهبه وأعطاه للغير لم تصح هبته ولا صدقته ولا تبرعه. العاقل: فيخرج بذلك المجنون، فلو جاء مجنون نقول: إن المجنون لا تصح تصرفاته كما لو باع أو اشترى. الرشيد: فيخرج بذلك السفيه المحجور عليه، فإن السفيه المحجور عليه في حكم المجنون واليتيم؛ لأنه محجور عليه لحق نفسه، والمحجور عليه يشمل المفلس، على خلافٍ في المفلس هل يكفل أو لا يكفل. توضيح هذه المسألة: فلو كنت قاضياً أو مفتياً وجاءك رجل وقال: فلانٌ يريد أن يكفل فلاناً، فعليك أن تسأل أهذا الكفيل بالغ؟ فإن قالوا: نعم، تقول: يصح، وإن قالوا: ليس ببالغ، بل هو صبي، تقول: الصبي لا يكفل؛ لأنه ليس له حق التصرف في ماله إلا بإذن وليه، وأنتم تعلمون أن الكفالة فيها شيء من التبرع، لأنك حينما تكفل رجلاً بعشرة آلاف ريال، فمعناه أنك ستدفع هذا المبلغ إذا عجز عن السداد، والصبيان والمحجور عليهم لا يصح تبرعهم، كما سيأتي إن شاء الله، فإذن لابد وأن يكون بالغاً، وأن يكون عاقلاً، فلو أن رجلاً مجنوناً سكران، أو خدره رجل، فجاء وكفل إنساناً، وثبت عند القاضي أنه كفل في حال جنونه أو سكره، أو حال كونه مخدراً، فكل ذلك لا يصح فيه الضمان؛ لأن من شرط صحة الضمان أن يكون الضمين وأن يكون الكفيل بالغاً عاقلاً رشيداً غير محجورٍ عليه. هذا بالنسبة للشخص الذي يكفل، فإذا توفرت الشروط فكان رجلاً بالغاً عاقلاً رشيداً غير محجور عليه، فمعناه أنه يدخل على الكفالة بأهلية، وهذه الأهلية تجعله ينظر بها إلى المصالح والمفاسد، فإن علم من نفسه أنه يقدر على تحمل هذه الكفالة أقدم عليها، وإن علم من نفسه أنه لا يستطيع تحمّلها أحجم عنها، فإذن لابد وأن تكون عنده الأهلية التي لا يدخل بها الضرر على نفسه وأهله؛ لأنه لو تحمّل حمالة وكفالة لا يطيقها لربما أضر بأولاده، فلو رأيت رجلاً قليل المال تحمّل كفالة بعشرة آلاف، وهو ليس عنده دخل، ولا يستطيع أن يسدد المبلغ كاملاً، فمعنى ذلك أنه إذا تحمل العشرة آلاف فسيغرم، وحينئذٍ يتعرّض أولاده وأهله للضرر، وهذا لا شك أن فيه مفاسد، والشريعة جاءت بدفع المفاسد وجلب المصالح. وعلى هذا قالوا: يشترط في جواز الكفالة أن تكون من شخصٍ صحيح التصرف، أو جائز التصرف والمعنى واحد.

الخيار لصاحب الحق في مطالبة المديون أو الضامن ولو بعد الموت

الخيار لصاحب الحق في مطالبة المديون أو الضامن ولو بعد الموت قال رحمه الله: [ولرب الحق مطالبة من شاء منهما في الحياة والموت] قوله: (ولرب الحق) أي: لصاحب الدين أن يطالب من شاء منهما في الحياة وبعد الموت. إذا جاء رجل إلى مؤسسة واشترى منها سيارةً أو أرضاً، وقيمة السيارة أو الأرض عشرة آلاف ريال، وجئت وكفلت هذا المديون، وقلت: أنا كفيل لفلان أنه إذا لم يُسدد أسدد عنه، وثبتت الكفالة من جائز التصرف، فإنه إذا حضر الأجل إلى نهاية السنة -لو فرضنا أن المؤسسة أعطت فرصة للسداد إلى نهاية السنة- فلما انتهت السنة تُخيّر المؤسسة ويُخيّر صاحب الدين بين أمرين، إن شاءت خاطبت المديون وطالبته بالسداد، وإن شاءت خاطبت الكفيل، فلو خاطبت الكفيل فقال الكفيل: اطلبوا من المديون فإن هذا ليس من حقه، بمعنى أنه ليس من حق الكفيل أن يقول: طالبوا فلاناً. بل إن المؤسسة بالخيار إن شاءت طالبت هذا أو طالبت هذا، فإنّ تحمل الكفيل والتزامه للكفالة معناه أنه إذا حضر الأجل فعليه أن يسدد، بشرط أن لا يكون المديون قد سدد وأبرأ عن نفسه. قوله: (في الحياة والموت) أي: من حقهم أن يطالبوا ورثة الكفيل إذا حل؛ لأنه دينٌ مستحق عليه، وحينئذٍ من حقهم أن يطالبوا المديون والكفيل سواءً كانا حيين أو ميتين؛ فالحقوق لا تتغير ولا تتبدل بالحياة والموت؛ لأن ذمته مرهونة ومشغولة بهذا الحق، فلو اتجهت المؤسسة إلى ورثة الميت وطالبتهم بالكفالة التي تحمّلها مورثهم، فإنه من حقها ذلك، كما أن من حقها أن تطالب المديون في حال حياته.

براءة ذمة الضامن ببراءة ذمة المضمون عنه لا العكس

براءة ذمة الضامن ببراءة ذمة المضمون عنه لا العكس قال رحمه الله: [فإن برئت ذمة المضمون عنه برئت ذمت الضامن لا عكسه] (فإن برئت ذمة المضمون عنه) هنا مسألة: الكفالة مبنية على السداد، وحينئذٍ نقول: عندنا أصل وعندنا فرع، فالعلماء رحمهم الله يجعلون المديون -الذي تحمل الدين- أصلاً، وجعلوا الكفيل والضمين -الذي تحمّل أن يسدد- فرعاً مبنياً على الأصل، وبناءً على ذلك قالوا: إذا برئت ذمة المديون الذي هو الأصيل، برئت ذمة الكفيل، وإذا برئت ذمة الكفيل لم يستلزم ذلك براءة ذمة الأصيل. توضيح ذلك: البراءة هنا لها حالتان: الأولى: أن تكون بسبب السداد، فمثلاً لو أن شخصاً استدان عشرة آلاف ريال، فقلت: أنا أكفل هذا في العشرة آلاف التي عليه إلى نهاية السنة، قبل نهاية السنة قام المديون بالسداد، فمعناه أن ذمته قد برئت، فإن برئت حكم الشرع ببراءة ذمتك أنت، لأن ذمتك مضمومة إلى ذمته، فإن كان الدين باقياً وذمته مشغولة به، فأنت ملزمٌ به، وإن برئت ذمته بسداد الدين سقط الالتزام منك، بمعنى أنك لست بملزم، وحينئذٍ تبرأ ذمتك ببراءة ذمة الأصيل. الحالة الثانية، أن تكون بسبب العفو، فمثلاً: لو أن صاحب الدين قال للمديون: عفوت عنك، والمال الذي لي عليك قد أبرأتك منه. فإنه عندما عفا عنه برئت ذمة المديون، فإذا برئت ذمة المديون برئت ذمة الكفيل؛ لأن الفرع مبنيٌ على أصله، وإذا برئت ذمة الأصل برئت ذمة الفرع، وعلى هذا نقول: ليس من حق صاحب الدين بعد ذلك أن يقول: أنا سامحت صاحب الدين وأطالب الكفيل؛ لأن الكفيل لا يُطالب إلا بعد ثبوت الدين واستقراره على الأصيل، فإن برئت ذمة الأصيل برئت ذمة الكفيل لا العكس. قوله: (لا عكسه). مثال ذلك: لو أن رجلاً جاء يستدين منك مالاً، أو يشتري منك أرضاً، فقلت له: أعطني كفيلاً فأحرجك، وجاءك بابن عمك، أو جاءك بقريبٍ لك، واضطررت أن تديّنه على أن قريبك هو الكفيل، وأنت لا تريد الإحراج مع قريبك، فلما تم الدين، قلت لقريبك: أنت في حل من كفالتك، إذا قلت هذا الكلام، فإن هذا لا يستلزم أن المديون تسقط وتبرأ ذمته، وبناءً على ذلك فلك أن تبقي الحق والمطالبة على المديون، ومن هنا قال: إذا برئت ذمة الأصيل برئت ذمة الكفيل لا العكس. أي: إذا برئت ذمة الكفيل لا تبرأ ذمة الأصيل. الخلاصة: أنه إذا برئت ذمة الفرع لا يستلزم هذا براءة ذمة الأصل، وإذا برئت ذمة الأصل استلزم ذلك براءة ذمة الفرع.

جواز الضمان مع عدم معرفة الضامن للمضمون عنه

جواز الضمان مع عدم معرفة الضامن للمضمون عنه أي: لا يشترط معرفة الكفيل للشخص الذي كفله، وبالإمكان أن يكفل شخصاً لا يعرفه ومثال ذلك: لو أنك دخلت على صاحب البقالة فوجدت رجلاً مسكيناً لا تعرفه، ولكن ترى من حاله وسمته ودله ما يدل على الفقر والحاجة، فوجدته يقول له: ادفع حقي، فقال: ما عندي شيء أدفعه، أنظرني إلى نهاية الأسبوع، فقلت له: يا فلان! أنظره، فقال لك: تكفله إلى نهاية الأسبوع وإذا لم يسدد تسدد. قلت له: نعم، أنا أكفله إذا لم يسدد نهاية الأسبوع أسدد عنه. فأنت في هذه الحالة تكفل شخصاً لا تعرفه، فهل يصح ذلك؟ وهل يشترط في الكفالة أن تعرف المكفول؟ A نعم يصح ذلك، ولا يشترط في الكفالة معرفتك للمكفول؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُتِي برجلٍ ليصلي عليه فقال: (أعليه دين؟ قالوا: نعم ديناران، فقال: صلوا على صاحبكم فقال أبو قتادة: يا رسول الله! هما عليَّ) يعني: أنا أتحمل هذين الدينارين أن أعطيهما لصاحب الدين، فانظر إلى أبي قتادة كفل من لا يعرفه، فقبل منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الكفالة، وحينئذٍ فرّع العلماء: أنه لا يشترط في الكفالة معرفتك للشخص الذي تكفل عنه، وأنه يجوز أن تكفل الشخص الذي لا تعرفه، وعلى هذا قالوا: إذا لم يسدد تُلزم بالسداد سواء كنت تعرفه أو لا تعرفه.

جواز الضمان مع عدم معرفة المضمون عنه للضامن

جواز الضمان مع عدم معرفة المضمون عنه للضامن قال: [ولا له] أي: ولا يعتبر أيضاً معرفة المضمون لك، فهذا الشخص الذي تضمنه لا يشترط أن يكون يعرفك، فلا يشترط أن تعرفه، ولا يشترط أن يعرفك، فبينكما أخوة الإسلام، خاصة إذا قصدت من هذه الكفالة التيسير على المعسر، وتفريج عن كربة المكروب، فإن الله يأجرك، وهذا من أعظم ما يكون من الأجور في الكفالة، بشرط أن لا يدخل الإنسان على نفسه الخطر والضرر والغرر، أما إذا كان على سبيل الرفق بالناس والإحسان إلى الناس، فإن الله سبحانه وتعالى يلطف بصاحبه، ويكون من أعظم ما يكون في الكفالة؛ لأنك تكفل إنساناً دون قصد المحاباة، ولا يدخل عليك على سبيل الإحراج، فأنت لا تعرفه وهو لا يعرفك، ولكن تعلم أن هذا العمل الذي تفعله إنما هو من صالح الأعمال وأجلِّ القربات لذي العزة والجلال، فتقدم عليه رغبة فيما عند الله من الثواب، ورهبة مما عند الله من العقاب؛ لأنك تخشى أن الله يسألك عن هذا المكروب، لماذا لم تفرِّج كربته؟! وفي الحديث الصحيح أن الله تعالى يقول: (يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني، فيقول: يا رب! كيف أُطعمك وأنت رب العالمين، فيقول الله تعالى: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه -يعني وأنت قادر على إطعامه- أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي). فإذا وجد الإنسان إنساناً لا يعرفه، وهو يرى عليه أثر الضعف، وأثر الفاقة والفقر، وأقدم على ذلك فإنه يؤجر. وهكذا لو جاء إلى صاحب بقالة، وقال له: أي شخص تراه محتاجاً أو ضعيفاً أو كبيراً في السن، أو من هذا الحي من جيراني لا داعي أن تذكر لي اسمه، أريد الأجر والثواب، إذا علمت أنه يستدين منك وفيه فاقة وحاجة، فديِّنه واجعل سداده علي، فأنا كفيلٌ له. فأنت تكفل المجهول؛ لأنك قلت له: أي شخص، فهذه كفالة بالمجهول، فحينئذٍ لا يعرفك المدين؛ لأنك قلت له لا تخبر أحداً. فتسدد عنه لله وفي الله، إذاً: كَفِلتَه وهو مجهول لا تعرفه ولا يعرفك، فلا يشترط معرفته لك، ولا معرفتك له، فيجوز لك أن تكفل من يجهلك ومن تجهله.

عدم صحة الضمان بدون رضا الضامن

عدم صحة الضمان بدون رضا الضامن قال رحمه الله: [بل رضا الضامن] أي: يشترط رضا الضامن، وعلى هذا لا تصح الكفالة بالإكراه، فلو أن شخصاً أُكره على كفالة شخص وثبت عند القاضي أنه مكره لا تصح الكفالة، بل يشترط الرضا؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، فحرّم الله عز وجل أكل المال بالباطل، واشترط الرضا في حل مال المسلم، فأنت إذا كفلت يُشترط أن تكون راضياً بهذه الكفالة، وعلى هذا فإنك إذا كفلت بالرضا أُلزِمت بما تحمّلته والتزمته للناس.

صحة ضمان المجهول إذا آل إلى العلم

صحة ضمان المجهول إذا آل إلى العلم قال رحمه الله: [ويصح ضمان المجهول إذا آل إلى العلم] المجهول: ضد المعلوم، وضمان المجهول أن تقول: هذا الدين الذي يأخذه فلان منك أنا أتحمله، أو تقول: دَيِّن فلاناً، أو أعطِ فلاناً، أو بِع من فلان، وأنا متحمِّلٌ به، فهو مجهولٌ يئول إلى العلم، وقالوا: إن الدليل على ذلك قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72]، فإن حمل البعير مجهول؛ لأن حمل البعير كما هو معلوم مجهول النوع ومجهول الصفة، ولكنه يئول إلى العلم؛ لأنه يتقدر بالعرف، ومن هنا قالوا: يجوز أن يضمن المجهول الذي يئول إلى العلم.

جواز ضمان العارية

جواز ضمان العارية قال: [والعواري] والعواري: جمع عارية، فالضمان كما يقع في الدين، يقع في العواري، كما لو جاء شخص يريد أن يستعير سيارة، أو يريد أن يستعير أمتعة، كما يقع في بعض الأحيان، يكون عند الشخص مثلاً أمتعة تصلح لقضاء الأغراض والحوائج، مثل: الأواني للطبخ، أو المفارش للجلوس عليها، فجاء شخص عنده زواج أو عنده مناسبة، وهذا الشخص لا يعرفك ولا تعرفه، لكنه يعرف أن عندك هذه الأشياء، فقال لك: يا فلان! أعطني هذه المفارش، أو أعطني هذه الأواني، فتقول له: لا أعرفك، ولكن ائتني بشخص يتكفّل بضمان حقي، أو برد هذه العارية إذا أعطيتها لك، فحينئذٍ إذا جاء بشخص يعرفه، فقد ضمن العارية. والعارية: هي بذل المنفعة بدون عوض، وتقع أيضاً في المنائح، كما في الإبل والبقر والغنم، كأن يكون عند الشخص الفحل من الإبل والبقر والغنم، فيحتاجه جاره، أو يحتاجه أحد فيقول: أعطني الفحل للضِّراب، فيقول: أعطني كفيلاً، أو أعطني حميلاً، أو أعطني ضامناً، فيضمن المنيحة. وبهذا تُضمن العواري، وكل ذلك جائزٌ ومشروع؛ لأنه كما ضُمنت العين تضمن المنافع.

جواز ضمان المغصوب

جواز ضمان المغصوب قال: [والمغصوب] أي: يجوز ضمان المغصوب. مثاله: لو أن شخصاً غصب سيارة، فخاصمه صاحب السيارة إلى القاضي، فحكم القاضي بأن على فلان أن يرد الغصب، فقال الغاصب: سأحضِرُ المغصوب بعد يوم أو بعد أسبوع، فقال صاحب الحق: لا أرضى حتى يعطيني كفيلاً، هذا رجل كذاب، أو رجل مماطل، أُريد كفيلاً، فجاء بكفيل يضمن أنه يحضر المغصوب بعد يوم أو بعد أسبوع، فهذا جائز في المغصوبات.

حقيقة المقبوض بسوم وصحة الضمان فيه

حقيقة المقبوض بسوم وصحة الضمان فيه قال: [والمقبوض بسوم] أي: تصح الكفالة في المقبوض بسوم، وهذا يقع في المزادات، كما لو رسا المزاد على عشرة آلاف ريال في شيء من الألبسة، أو الأغذية أو نحوه، مثال ذلك: لو كان من لباس النساء، والرجل ليس معه أهله، فقال: أنا أقبض هذا اللباس، وأريه لأسرتي -لزوجته أو أخواته- فإن أعجبهم أخذته، وإن لم يعجبهم رددته، فهذا قبضه بسوم؛ لأن قيمته حُدِّدت بسوم، وعلى هذا إذا التزم بهذه القيمة، ورضيت أسرته بالملابس فعليه أن يدفع القيمة، وإذا كان الشخص لا تعرفه، فقلت له: أعطيك هذا الفستان أو هذا اللباس، أو هذا الشيء الذي أنت رضيت أن تعرضه على أهلك، ولكن بشرط أن تعطيني كفيلاً، فالمقبوض بسوم ثبتت قيمته والدين فيه ثابت متى ما رضي، وحينئذٍ يصح ضمانه، لكن إذا كان غير معلوم القيمة، ولم يثبت على قيمة فإنه لا يصح ضمانه، إذاً لابد من ضمانه بعد ثبوت قيمته حتى تصح الكفالة بالمعلوم؛ لأنه لو لم يقبض بسوم لم يتحدد ولم تتبين قيمته، بل يكون من ضمان المجهول الذي لا يئول إلى العلم؛ لأنه يحدث فيه نوع من الغرر، وعلى هذا قالوا: لا يُضمَن إلا إذا ثبتت قيمته وعُرِف استحقاقه، فيقول الكفيل لصاحب السلعة: أعطِه هذا الثوب يريه أهله، فإن أعجبهم ورضوا به، فأنا أتحمّل لك أن يعطيك عشرة آلاف قيمته، فإن لم يحضرها لك غداً، أو إن لم يحضرها لك بعد غد، فأنا كفيله أحضِرها عنه، وبناءً على ذلك كفلت، وكانت الكفالة في مقبوضٍ بسوم، وتكفّلتَ على أن تدفع المبلغ الذي ثبت استحقاقه، لكن لو كان غير معلوم القيمة، تكفَل ماذا؟ وكيف سيطالبك؟ وبناءً على ذلك قالوا: لابد أن يكون مقبوضاً بسوم حتى تُعلم قيمته، يعني: يتحدد قيمته. فالمقصود من كلمة: مقبوض بسوم، أن تتحدد القيمة، فخرج المقبوض الذي لم تثبُت قيمته بعد بأن يكون متردداً؛ لأنه يحدث فتنة، فلربما قال له: نعم، هذا قيمته عشرة آلاف، فيقول الكفيل: لا، بل قيمته ثمانية آلاف، فيحدث مثلما يحدث في بيع الغرر، فإذا لم تثبت قيمته وثمنه على شيءٍ معيّن، فإنه لا يصح ضمانه، إنما يصح ضمان المقبوض بسوم وهو الذي حُدِّدت قيمته.

حقيقة عهدة المبيع وجواز الضمان فيه

حقيقة عهدة المبيع وجواز الضمان فيه قال: [وعهدة مبيع] مسألة العهدة في القديم من صورها أنهم كانوا يبيعون الدواب ويبيعون الأرقاء، ويحتاج هذا المبيع إلى تجربة، فلربما ظهر العيب فيه، فكانوا يعطون العهدة ثلاثة أيام، تأخذ هذا المبيع وتجرِّبه، فإن ظهر به أي عيبٍ رددته عليه ويضمنه، وهذا معروف في زماننا بما يسمّى: بالضمان، فالسيارة إذا اشتريتها تتعهد المؤسسة أنها تضمنها سنة، أنه لو ظهر فيها عيب، مثلاً في محرِّكها، بحيث يكون العيب راجعاً إلى ذات السلعة المبيعة، وناشئاً من ذات الرقبة المبيعة، وليس من تصرُّفِك أنت. فمثلاً يعطيك سيارة، ويقول لك: أنا أضمن لك هذه السيارة سنة كاملة، أنك تقضي عليها مصالحك، وتقودها بالصفة المعتبرة، فإن حدث فيها أي عيبٍ في محرِّكها، أو في هيكلها، راجعاً إلى سوء الصنعة لا إلى سوء الاستخدام، فإنه على هذا الوجه يضمن، وحينئذٍ يصح الضمان، ويتحمّل المسئولية بحيث أنه إذا ظهر بها عيب على هذا الوجه، يستحق أن يُرد المبيع، ويضمن الشخص الذي تحمّل بالضمان. هذا بالنسبة لمسألة الضمان في عهدة المبيع. فرَّع العلماء في زماننا الحاضر على مسألة عهدة المبيع، عهدة السيارات سنة، لكن بعض أهل العلم من المتأخرين ينازع، ويقول: إنما تُعرف العهدة بالمدة التي لا غرر فيها، فلا غرر في المدة الطويلة والأجل الطويل، كالسنوات ونحوها، ولكن الحقيقة هذا النوع من الضمان الموجود في السيارات في العصر الحاضر له وجهٌ من الصحة، وأنه إذا التزم بأن السيارة يستخدمها سنةً، فإن ظهر فيها عيبٌ من الصنعة لا من الاستخدام ضَمِنه، فإن هذا له وجه، ويُعتبر من الضمان الشرعي. الخلاصة أنه لو قال له: أنا أضمن أن هذه السيارة إن ظهر بها عيب تردها لي، هذا إذا كانت مؤسسة أو شركة تتحمل هذا الضمان، وليس عندنا إشكال، لكن في بعض الأحيان يبيعك فرد أو شخص فيقول لك: خذ هذه السيارة وأضمنها لك شهراً، على أنه إذا ظهر فيها عيب من سوء الصنعة تردها لي، لكن أنت لا تثق به، فتقول له: أعطني كفيلاً يضمن أنه إذا ظهر بها عيب أردها عليك. فحينئذٍ يعطيك الكفيل وتصح الكفالة على هذا الوجه.

حكم الضمان في الأمانات

حكم الضمان في الأمانات قال رحمه الله: [لا ضمان الأمانات] يقول رحمه الله: (لا ضمان الأمانات) الأمانات: جمع أمانة، وقد قدّمنا أن اليد تنقسم إلى قسمين: يد ضمان، ويد أمانة، ويد الضمان: أن تأخذ الشيء وتتحمل المسئولية عنه غنماً وغرماً، وإذا حدث بذلك الشيء ضرر فأنت المسئول عن هذا الضرر، فهذا مفهوم يد الضمان، وأما يد الأمانة: فهي أنك لا تضمن إلا إذا فرّطت، وبناءً على ذلك ذكرنا: أنه إذا أخذ شيئاً وكان من جنس ما يُضمن صح الضمان، وإن كان من جنس ما لا يضمن لا يصح الضمان، فالعارية لو أتينا بصورتها في مثال: هي أن يأتي ويقول لك: أعطني سيارتك أذهب بها إلى مكان كذا، أو أستخدمها يومين أو شهراً أو أسبوعاً، هذه عارية، والعارية فيها قولان: الأول: أن اليد فيها يد أمانة، الثاني: أن اليد يد ضمان، والمصنِّف رحمه الله رجّح أنها يد ضمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ل صفوان بن أمية رضي الله عنه لما قال له: (أغصباً يا محمد! قال: بل عارية مؤداة) هذا عندما أخذ منه أدرعه ومتاعه لغزوة حنين، وقال في خطبة حجة الوداع: (العارية مؤداة، والمنيحة مردودة، والزعيم غارم، والدين مقضي)، فلما قال: (العارية مؤداة)، يعني: مضمونة، فلو أخذ شيئاً عارية فعليه أن يضمنه، أما الودائع فقلنا: إن الوديعة أمانة، فلو أن شخصاً جاء وأعطى شخصاً ساعة، وقال: هذه الساعة ضعها وديعة وأمانة عندك، قال له: لا بأس قبلتُها أمانة عندي. فلما رضي الشخص الآخر أن يضعها أمانة عنده، فإنه ليس من حق صاحب الساعة أن يقول له: أعطني كفيلاً؛ لأن الكفيل لا يقع في الأمانات؛ لأن يد هذا الرجل يد أمانة وليست بيد ضمان، إلا إذا كان من جنس الأمانات التي تئول إلى الضمان، فهذا استثناه بعض العلماء رحمهم الله حيث قالوا: إن الأمانات التي تئول إلى الضمان يصح فيها الضمان، وذلك في حال ما إذا صارت إلى الضمان أو إذا آلت إلى الضمان.

التعدي في الأمانات يوجب الضمان

التعدي في الأمانات يوجب الضمان قال: [بل التعدي فيها] قوله: (بل التعدي فيها) فما معنى التعدي فيها؟ يعني: من حقك أن تقول له: هذه الساعة ضعها أمانة عندك، قال: قبلت. فقل له: لكن أحتاج إلى كفيل يكفلك بأنك إذا تعدَّيت فإنك تضمن، فالأصل أن يده يد أمانة، لكن تنتقل إلى الضمان متى؟ إذا تعدَّى فيها، ومثال آخر: إذا أعطيته مائة ألف ريال وديعةً عنده، أو أعطيته كيلو من ذهب وديعة عنده، فقال لك: أنا قبلت أن نضع هذا الذهب وديعةً عندي. فتقول له: أعطني كفيلاً أنك إذا تعدَّيت وتصرّفت فيها فإنك تضمنها، حينئذٍ صارت ضماناً وذلك بعد خروجها من يد الأمانة إلى يد الضمان؛ لأنه إذا تعدى في الأمانة ضمِن، ومن هنا قالوا: لو أعطاه صندوقاً مقفولاً فإنه أمانة، لكن لو فتش الصندوق المقفول انتقل من الأمانة إلى الضمان، فحينئذٍ أنت من حقك أن تقول: هي أمانة، والأمانة لا تضمن، لكني أريد كفيلاً بحيث لو تعدّيت أو فرّطت فيها فهو يكفلك أو يكون ضميناً عنك، فحينئذٍ يصح ويجوز الضمان.

الأسئلة

الأسئلة

جواز ضمان المجهول الذي يئول إلى العلم

جواز ضمان المجهول الذي يئول إلى العلم Q أشكل علي اشتراط تحديد القيمة في المقبوض بسوم مع جواز ضمان المجهول أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن سؤالك جيد واستشكالك في محله، لكن ينبغي أن تتنبه لمسألة ضمان المجهول، حيث قلنا: يُضمن المجهول إذا آل إلى العلم، ولم نقل: المجهول المطلق، فالمجهول الذي يئول إلى العلم هو الذي يُضمن، صحيح أننا لو قلنا: يُضمن المجهول مطلقاً لما صح ذلك، أما كوننا نقول: المجهول الذي يئول إلى العلم، فهو مجهول ابتداءً لكنه يئول إلى العلم انتهاءً ومآلاً، وعلى هذا فالجهالة فيه مغتفرة؛ لأنها ليست بمستديمة، وإنما يتقيد الحكم بوجود الجهالة المستديمة، أما الجهالة التي تزول فإن وجودها وعدمها على حد سواء؛ لأنها تئول إلى العلم، وعلى هذا لا يستقيم الإشكال إلا إذا كان المجهول لا يئول إلى العلم، وتبقى الجهالة مستصحبة إلى أن تثبُت الكفالة ويُحكم بها، أما إذا آل إلى العلم فإن الجهالة مرتفعة، والله تعالى أعلم.

حكم تصرف المرأة في مالها ومتى يحجر عليها

حكم تصرف المرأة في مالها ومتى يحجر عليها Q هل المرأة تعتبر من المحجور عليهم، وهل لها التصرف في مالها دون استئذان زوجها أثابكم الله؟ A اختلف أهل العلم في حكم تصرف المرأة بمالها إذا كانت بالغة، فجمهور العلماء وجمهور السلف والخلف على أن من حق المرأة أن تتصرف في مالها، والنصوص دالة على هذا، ولكن خالف في هذه المسألة بعض السلف، كما روي عن شريح وهو قاضي أمير المؤمنين عمر، وكان قاضياً لثلاثة من الخلفاء، ل عمر وعثمان وعلي. أبو أمية شريح الكندي رحمه الله برحمته الواسعة، من أجلاء القضاة وأهل العلم، وهو الذي قضى على علي بن أبي طالب، فآمن اليهودي لما رآه قضى على أمير المؤمنين، وكان ممن لا تأخذهم في الله لومة لائم. هذا الفقيه يقول: عهِد إليّ عمر أن لا أُجيز لامرأة عطيّتها حتى تحول حولاً أو تلد ولداً، فأخذ منه بعض الفقهاء كما هو مذهب المالكية قالوا: المرأة يجوز لها أن تتصرف في حدود الثلث، والزائد عن الثلث ينظر فيه زوجها، إن كان مصلحة أجازه، وإن لم يكن ثم مصلحة لم يُجِزه، ولذلك يقول بعض فقهائهم في هذه المسألة: وزوجةٌ في غير ثلث تُعترض كذا مريض مات في ذاك المرض حينما بين أصناف المحجور عليهم. فذكر المحجور عليهم في حدود الثلث، فقسموه إلى قسمين: المريض مرض الموت يُحجر عليه فيما زاد عن الثلث، إذا تصرّف فيه بالهبة، والمرأة فيما زاد عن الثلث إذا تصرّفت بالهبة، والسبب في هذا -وقد يستغرب البعض هذا القول، وقد يكون مدخلاً لبعض أمراض النفوس، والواقع أن من نظر في حال السلف يعرف مدخل هذا القول وسببه- أن المرأة في القديم كانت لازمة لبيتها، لا تعرف الخروج ولا تخالط الناس، حتى قالت أم عطية: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نُخرِج العواتق وذوات الخدور). فالمرأة التي لم تتزوج كانت لا تعرف شيئاً، ماكثة في بيتها، بل منهن من لا تخرج من بيتها إلا إلى بيت زوجها، لا تعرف كيف تبيع، ولا تعرف كيف تشتري، ولا تأخذ ولا تعطي، إنما جاهلة بدنياها عالمة بدينها، إذا ربّت ربّت رجالاً على الصلاح والدين والاستقامة، حتى أُثِر عن بعضهن أنها خرجت ذات يومٍ لحاجة فبكت أنها رأت رجلاً؛ وذلك دليل لما كن عليه من العفة والصلاح والديانة، فكانت المرأة في بيتها ربة بيت تملأ العين، تقوم على حقوق بعلها، وبيتها على أتم الوجوه وأكملها، لا تعرف الرجال، ولا تخالطهم، ولا تخاطبهم، ولا تعرف لا بيعاً ولا شراءً، فمن هنا كانت المرأة غالباً لا تُحسن التصرُّف، ولذلك كانوا يجدون الحرج في اختبار اليتيمات، لقد كانوا يختبرونهن بالغزل وبيع ما يغزلن، فإذا باعت غزلها نُظِر كيف تتصرف في البيع، هل تبيع بمثل القيمة أو بأقل، ثم يُحكم برشدها؛ لأن الله يقول: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء:6]، فشمل الذكور والإناث. الشاهد أن المرأة كانت على هذه الصفة من الجهل في التعامل، ولذلك تجد بعض من لا يعرف أحكام الشريعة يتمسك بهذا الحكم والقول، ولا يعرف مغزاه، ولا يعرف البيئة التي نشأ فيها هذا القول، فالنساء كنّ لا يعرفن هذه الأمور ولا يخالطن الرجال، ولا يتعاملن بالأخذ والعطاء إلا النزر القليل، وكانت المرأة إذا جاءها المال يُصبح عندها ويمسي وقد جعلته في آخرتها، تتصدق به، وتصل به الرحم، وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه أتاها عطاؤها من أمير المؤمنين معاوية ستين ألف درهم وهي صائمة، فوزّعتها من ساعتها، ثم أرادت أن تفطر فلم تجد شيئاً تفطر به، فتقول لها إحدى إمائها: هلا أمسكتِ شيئاً مما جاءك فقالت رضي الله عنها: لقد نسيت هلا ذكرتني. الله أكبر، الله أكبر، كنّ جاهلات بالدنيا، ولكنهن عالمات بالدين، وكانت المرأة عن أُمّة، رضي الله عنهن وأرضاهن، من الذي ثبّت قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الله عز وجل، إنها خديجة بنت خويلد، تلك المرأة العاقلة الحكيمة، فكانت المرأة عن أمة من الناس. وسفيان الثوري رحمه الله برحمته الواسعة لما توفي والده وهو صغير نشأ يتيماً، فقالت له أمه: يا بني اطلب العلم. فقال: إني أريد أن أسعى لطلب الرزق. يعني أكفيك الرزق، قالت: لا، اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي. فكانت تغزل وتسهر وتكدح، كل هذا من أجل أن يتعلم ابنها العلم، فصار الإمام سفيان الثوري من أئمة السلف ومن دواوين العلم، فهو الحجة الثبت الذي كان آية في العلم والعمل والصلاح أن المعرفة، هذا الإمام العظيم حسناته في ميزان حسنات أمه الصالحة، فكانت المرأة عن أُمَّة. فالمرأة إذا تصرفت في مالها بالرشد فإن المال مالها والحق حقها، وليس من حق الرجل والزوج أن يتدخل في راتب زوجته، وليس من حقه أن يحجر عليها، ولا يجوز له ذلك؛ لأن المال مالها ولا يجوز أن يضيق عليها ولا أن يظلمها، وبالمناسبة، أنبِّه على أن بعض الأزواج يجرؤ على مال زوجته، حتى إن بعض النساء تعمل في تدريسها وتعليمها، ويطالبها زوجها بمالها كاملاً، وهذا من أكل المال بالباطل، فلا يجوز ذلك إلا إذا كان كما قال الله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4]، أما ما لم تطِب به النفس، أو جاء عن إكراه، أو جاء عن إحراج، فإنه الحرام الذي حرّم الله ورسوله، ولا يجوز الاعتداء على أموالهن، والأذية والإضرار بهن، وينبغي على المرأة أيضاً أن تتقي الله في إنفاقها، وأن تكون رشيدة في تصرُّفها في المال، وبالمقابل فإنه من حق الزوج إذا نظر من زوجته أنها لا تحسن التصرف في المال أن يأخذ على يدها، مثلاً عندما يكون راتب المرأة خمسة آلاف ريال، ولا يأتي نصف الشهر إلا وهي تستلف وتقترض، وتتحمل الديون، ويجد أن هذه الخمسة الآلاف تصرف في المظاهر والملابس، وكل يوم لها ملبس، وكل يوم لها شيء تتجمل به، فهذا فيه سرَف ومن حقه أن يحجر عليها، أما إذا تصرفت تصرفاً رشيداً، فهذا مالها ولا يجوز أكله بالباطل. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.

فصل في الكفالة

شرح زاد المستقنع - فصل في الكفالة الكفالة لها تعلق بمسألة إحضار الغريم، وتسمى: كفالة الأبدان، وإحضار الغريم إما لتسليم ما عليه من حقوق، وإما لمثوله أمام مجلس القضاء. وتكون الكفالة فيما يتعلق بالحدود والقصاص ممن لديه القدرة على إحضار من عليه الحق، كرؤساء العشائر وأشباههم، والكفالة مشروعة كالضمان؛ لما فيها من حفظ الحقوق للناس، وفي مشروعية الكفالة حكم عظيمة وفوائد جليلة، وبها تجلب المصالح وتدفع المفاسد. وتصح الكفالة في العواري والمغصوبات كما تصح في الأبدان، ولها أحكام عدة تتوقف عليها صحتها كرضا الكفيل وغيرها من الأحكام.

الكفالة معناها ومشروعيتها وما يتعلق بها من أحكام

الكفالة معناها ومشروعيتها وما يتعلق بها من أحكام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فإن المصنف رحمه الله تعالى يقول: [فصلٌ: وتصح الكفالة بكل عين مضمونة وببدن من عليه دين] شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان الأحكام المتعلقة بالكفالة، والعلماء رحمهم الله كما تقدم، منهم من جعل الضمان والكفالة والقبالة والزعامة والحمالة بمعنى واحدة، فيقولون: الكفيل والضمين والحميل والصبير والقبيل كلها بمعنى واحد. وعلى هذا قالوا: لا فرق بين الكفالة والضمان، لكن فقهاء الحنابلة والشافعية رحمهم الله يفرِّقون بين الكفالة والضمان، فيجعلون الضمان للأموال. ومن كان عليه دين أو لآخر عليه حق فإنه يمكنك أن تضمن عنه وذلك بأن تضيف ذمتك إلى ذمته. وأما الكفالة، فإنهم في الغالب يجعلونها للحضور، أي: تكون متعلقة بالأبدان والأعيان، وإن كان في بعض الأحوال يُلزَم فيها بالضمان، ولكنهم في الأصل يجعلونها متعلقة بالعين وبالبدن. والكفالة في لغة العرب تطلق بمعانٍ، يقال: كفل الشيء وتكفَّل بالشيء إذا قام به وضمّه إليه، قال تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:37]، أي: ضمّها زكريا إليه فقام عليها، وقال تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} [القصص:12]، أي يقومون عليه برضاعه وما يتعلق من شأنه. فالكفالة تطلق بهذا المعنى، كما أنها بالتحريك يقال: كَفَل، الكَفَل هو العَجُز من الإنسان، ويطلق الكِفْل بالكسر على الحظ والأجر والثواب، كما قال تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد:28]، أي: حظاً وأجراً، قيل: مضاعفاً. وأما بالنسبة للاصطلاح، فالكفالة: هي التزام رشيدٍ بإحضار من عليه الدين لربه، وكذلك بعض العلماء يضيف إليها: التزام رشيد ببدن من عليه الحق لربه بماله أو ببدنه. ويتعلق بهذا الخلاف المشهور، هل الكفالة تكون فقط في الأموال، أو تشمل الأموال والأبدان، حيث يمكن أن يُضمن أو يتكفَّل بإحضاره للحدود والقصاص؟ كان هذا يقع في القديم، فإذا كان الشخص معتدياً على الغير بحق في عرضه أو في نفسه، فحينئذٍ يجب القصاص، أو يُطالب بحدٍ فيطلب من صاحب الحق أن يذهب إلى أهله أو إلى عشيرته، فيقال: ائتنا بمن يكفل حضورك، فهذا النوع اختلف فيه العلماء والأئمة من السلف رحمهم الله، وسيأتي إن شاء الله الإشارة إليه. والمصنِّف رحمه الله ذكر أحكام الكفالة بعد الضمان، ويتعلق بها مسألة إحضار الغريم، فإذا كان هناك شخصان لأحدهما على الآخر دين، وقال المدين لصاحب الدين: أمهلني أُسبوعاً أُحضر لك حقك. وغالباً ما تقع الكفالة فيما لو إذا حصل أو حضر وقت السداد، فيقول صاحب الدين: لا أمهلك فيقول له: آتيك بكفيل يتكفل بإحضاري إن غبت، خاصة إذا كان يريد أن يقاضيه، فإنه يحتاج إلى من يكفله للحضور. فيقول: ائتني بمن يكفل حضورك، فحينئذٍ يقول الشخص: أنا متكفِّل ببدنه، أي: متكفِّل بإحضاره. هذه صورة من صور الكفالة، والإحضار إما أن تحضره لصاحب الدين، ويكون عند صاحب الدين قوة يستطيع أن يتوصل بها إلى حقه إذا حضر المدين، وإما أن يطالبك بإحضاره إلى القضاء، فتقول له: أنا متكفِّل إذا لم يسددك الجمعة أن أُحضره يوم السبت إلى مجلس القضاء، فهذه كفالة حضور، فالكفالة كفالة ضمان بالحق، وكفالة حضور، وهذا النوع قال به جماهير السلف رحمهم الله والأئمة والخلف، فيقولون: يشرع أن يتكفل لك الشخص بإحضار من عليه الدين، قالوا: والحاجة داعية إلى ذلك، فإنه ربما احتاج المدين إلى مهلة وإلى وقت، ولا يثق صاحب الدين فيه، ووجود الكفالة فيه يسر على الناس ورحمة وتوسعة، ثم إن المدين قد لا يثق فيه صاحب الدين، وقد تكون الحقوق بين أشخاص ليست بينهم معرفة، فيعطيه كفيلاً أو يحضر له كفيلاً يعرفه، ففي هذا من التوسعة على الناس ما لا يخفى. وقالوا: إن الكفالة لها أصل من السنة في حديث الرجل الذي استدان المال، فقال له صاحب الدين: ائتني بشهيد، فقال: كفى بالله شهيداً، قال: ائتني بكفيل يكفلك، قال: كفى بالله كفيلاً، فدفع إليه المال -وهذا يظهر لنا صدق الإيمان! وقوة اليقين بالله عز وجل! وصلاح الناس! - فبعض الناس إذا تعامل بالدنيا رماها وراء ظهره، وجعل الآخرة نصب عينيه، فإن قال صدق، وإن وعد وفَّى، فلا يكذب ولا يغش، وإذا أعطى كلمة لا يمكن أن يتراجع فيها، فلما استشهد الله وكفى بالله شهيداً، وجعل الله كفيله، وكفى بالله كفيلاً ووكيلاً سبحانه وتعالى، فمضى ذاك الرجل إلى بلده، ثم لما حضر أو قرب وقت السداد والمطالبة التمس سفينة يركبها فلم يتيسر له ذلك، فلما أعياه الأمر أخذ جذعاً من النخل، ثم احتفره ووضع فيه المال، وكتب فيه اسم صاحبه، ثم وضعها بين ذلك اللوح، ثم ألقاه في البحر، وقال: اللهم! إني قد جعلتك شهيداً وكفيلاً. ثم رمى به في البحر وسأل الله أن يوصله لصاحبه. ثم إن صاحب الدين لما استبطأ الرجل خرج يلتمس حضوره، فكان ينتظر أن يأتيه فإذا به يجد ذلك اللوح، فقال: لو أخذته حتى يكون حطباً لأهلي، فلما جاء به إلى بيته وشطره إذا به يجد الكتاب والمال، فقرأ الكتاب وعد المال فإذا هو حقه كاملاً. ولا شك أن من صدق مع الله صدق الله معه، فما ضر الناس إلا ضعف الإيمان بالله عز وجل، وإلا لو أن القلوب صلحت لله عز وجل، لرأت من تيسيره ومنِّه ووفائه وبره وكرمه سبحانه وتعالى ما لم يخطر لها على بال، ولذلك قال تعالى: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111]، مَن: بمعنى لا، أي: ولا أوفى بعهده من الله. فأخذ الرجل حقه، ثم لما حضرت السفينة على المدين، وهو يشك في كون المال وصل إلى صاحبه، بناءً على أن ذمته مشغولة، فجاء إلى صاحب الدين، وقال له: اعذرني فإني لم أجد مركباً، وجلس يعتذر إليه، فقال له: قد جاءني حقي، ثم ذكر له الخبر، وذكر له القصة. فالشاهد في قوله: ائتني بكفيل. فقال: كفى بالله كفيلاً. فقوله: ائتني بكفيل، هذا أصل من السنة على مشروعية الكفالة، وأخذ به طائفة من العلماء، وترجم له الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، وهو أصل عند أهل العلم، ولذلك قال جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم بمشروعية الكفالة، وإن كان هناك اختلاف في قول عن الإمام الشافعي رحمه الله في مسألة الكفالة أنها لا تصح، وصحح طائفة من أصحابه قوله بجوازها ومشروعيتها. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور. وعلى هذا فإن الكفالة مشروعة كالضمان؛ لأن المقصود من الكفالة ومن الضمان حفظ حقوق الناس، ووجود الكفلاء ووجود من يضمن يعتبر شيئاً من الاستيثاق، وعلى هذا تطمئن لحقك، فإنك قد تثق بزيد الكفيل أكثر من ثقتك بغيره، وفي مشروعية هذا النوع من المعاملات لا شك أن فيه حكماً عظيمة وفوائد جليلة كريمة، فبهذا النوع من المعاملات تتحصل المصالح وتدفع المفاسد. والمصنف رحمه الله من دقّته ذكر المسائل التالية: المسألة الأولى ذكر فيها ضمان الديون الواجبة، ومثّلنا لذلك وبيّنا دليل مشروعيته والأصل فيه، ثم بعد أن فرغ من بيان الديون الواجبة والمستقرة شرَع في ضمان الديون التي تئول إلى الوجوب، كما ذكرنا في العارية والأمانات إذا تعدى فيها المتعدي، ثم كذلك أشرنا إلى النوع الثالث من الضمان، وهو ضمان الديون المضافة إلى المستقبل، كقولك: أعط فلاناً ما يحتاجه وأنا ضامنٌ لك. كأن تقول: لصاحب بقالة: إذا أتاك صاحب عائلة، فأعطه ما يحتاج، وأنا أضمن لك نهاية الشهر إن لم يسددك أسددك، فهذا ضمان بما يئول في المستقبل إلى الدين. فعندنا ثلاثة أنواع من الديون: الديون المستقرة الثابتة، كرجل له على آخر مائة ألف، فتقول: أنا أضمنه أن يسددها، في دين ثابت مستقر، والديون التي تئول إلى الوجوب، وذلك كما في العارية إذا تعدى عليها، وكذلك أيضاً في الأمانات إذا تعدى فيها. كذلك النوع الثالث: وهو الضمان فيما يئول إلى الدين مستقبلاً، كما مثلنا بصاحب البقالة، فهذا ضمانٌ بدينٍ في المستقبل فليس بحال ولا ثابت. وعلى هذا بعد أن فرغ من الثلاثة الأنواع شرع في النوع الرابع، وهو مضاف إلى ما قبله، وحقيقته أن تتكفل بضمان الشخص نفسه، أي: تتكفل بإحضار الشخص نفسه لأخذ الحق منه، فإن تكفّلت بإحضاره، فحينئذٍ تكون ملزماً شرعاً بإحضار هذا الخصم أو إحضار هذا المدين لصاحب الحق، على حسب ما وقع الاتفاق بينكما، ومن هنا تكون الكفالة أشبه بالعقد، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، فأنت إذا قلت: أنا كفيل بأن أحضِر لك فلاناً في نهاية الشهر إلى مجلس القضاء أو نحو ذلك، فقد ألزمت نفسك، وحينئذٍ يكون عقد الكفالة عقداً إلزامياً، فلا تملك الخروج من الكفالة إلا بصفة شرعية، أو بإذنٍ شرعي يبيح لك أن تخرج من هذا الالتزام. والله تعالى أوجب علينا أن نفي بالعقود، فأنت إذا قلت: أنا كفيله أو أنا متكفِّل به، فأنت ملزم به، ثم تقوم الكفالة على كافل، وهو الشخص الذي يتحمّل، وهي اسم فاعل، فالكافل هو الذي يفعل الكفالة ويقوم بها، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين) يعني الذي يقوم بكفالة اليتيم، فالكافل هو الشخص نفسه، والمكفول هو الذي عليه الدين وعليه الحق، أو الذي يجب حضوره إلى مجلس القضاء. وقد يكون المكفول عيناً كما يكون شخصاً، كما تقول: أنا متكفل بإحضار فلان، فقد تتكفل بالعين، والكفالة بالعين مثلما يقع في العواري، كرجلٍ جاء إلى آخر وقال له: أعطني سيارتك أريد أن أذهب بها إلى مكان كذا، فيقول له: أعطيكها ولكن بشرط أن تحضرها لي غداً، فقال له: قبلت، يقول له: أعطني كفيلاً بإحضارك لها غداً، فيأتي الشخص بكفيل ويقول: أنا متكفلٌ بإحضار السيارة لك غداً، فهذه كفالة بعين، فهناك كفالة للشخص وكفالة للعين. إذا قلت: أنا متكفلٌ بإحضاره، أو متكفلٌ ببدنه، أو متكفلٌ بذاته لا إشكال، لكن الإشكال إذا أضفت الكفالة إلى الجزء، فقلت: أنا كفيل برأسه، أو كفيل بيده، أو ك

حكم الكفالة في الحد والقصاص

حكم الكفالة في الحد والقصاص كفالة البدن في الحقوق كالقصاص، وهذه كانت تقع في القديم، ويحتاج إليها كثيراً، كرجلٍ اعتدى على رجل، وحكم القاضي بالقصاص، فالتمس من الأولياء الذين لهم الحق أن يذهب إلى أهله، ويبرئ ذمته من الحقوق التي عليه، فقال لهم: أريد مهلة أسبوعاً قبل القصاص، أن أذهب إلى أهلي وأستوفي ما عليَّ من الحقوق، وأفعل وأفعل، فأولياء المقتول، أو صاحب الحق الذي له القصاص، قال: أعطني كفيلاً يقوم ويتكفل بإحضارك، فيقول شخص: أنا كفيله، وأنا متكفل بإحضاره. وكثيراً ما كانت تقع هذه الكفالات من الوجهاء، كمشايخ العشائر ونحوهم ممن لهم قوة على الإحضار. هذا النوع اختلف فيه العلماء على وجهين مشهورين: بعض العلماء يقولون: يصح هذا النوع من الكفالة، ومذهب الحنابلة على عدم صحته، فهم يرون أن الكفالة لا تقع إلا في البدن الذي عليه دين، دون الذي عليه حد أو قصاص، لماذا؟ قالوا: لأنه إذا كان كفيلاً ببدن من عليه الدين فإنه يتحمل عنه كالضمان، لكن إذا كان في قصاص فإنه لا يمكننا أن نقتص من هذا الكفيل. وقد أجاب عنهم من قال بجوازه، وهم طائفة من السلف منهم المالكية، قالوا: إنه لا يكفل إلا من كان قادراً على إحضاره، وفي بعض الأحيان يعجز غيره عن الإحضار، فالناس بحاجة إلى هذا النوع من الكفالة، كما يفعله وجهاء العشائر ونحوهم؛ وذلك لاستطاعتهم، فأنت تريد أن تمهل هذا الخصم، ولكن تريد ما تستوثق به، فإذا وُجِد من يتكفل بإحضاره فلا شك أنه تتحصل بذلك المصالح العظيمة، ثم إننا لا نقتص من الكافل، وإنما نقتص من المكفول، إلا أن فائدة هذا النوع من الكفالة المعونة على إحضاره، والمعونة على الرفق، فإذا رضي أولياء الحق في الحد والقصاص بذلك فلا وجه للمنع. في هذه الحالة تكون الكفالة في بعض الأحيان بإحضار من عليه قصاص إلى مجلس القضاء. كأن تقول: أنا كفيل بإحضاره إلى مجلس القضاء، أو إلى موضع القصاص في يوم كذا، ففي هذه الحالة تكون متكفلاً بالإحضار. هذا بالنسبة لمسألة الكفالة في الحدود والقصاص. نرجع إلى الكفالة التي اختارها المصنف، وهي الكفالة بالبدن في مالٍ مضمون كالدَّين ونحوه، إذا تكفّل بالبدن فإنه يقول: أنا كفيلٌ بحضور فلان، فإذا أحضره إلى مجلس القضاء برئت ذمته، فتكون متعلِّقة بالبدن. قال: [لا حد ولا قصاص] قوله: (لا حد ولا قصاص) أي: لا تقع الكفالة في الحد، ولا تقع الكفالة في القصاص؛ لأنه إذا تعذّر في هذه الحالة إحضار المكفول، فإنه لا يمكننا أن نقتص من الكافل، وعلى هذا قالوا: إنه لا تقع الكفالة لا في الحدود ولا في القصاص، ولكن الفائدة عند من قال بمشروعيتها أنه يلزم بحضور المكفول، وفي هذه الحالة يضغط عليه القاضي، وعند المالكية وجه أنه إذا ثبت عند القاضي أنه قادرٌ على إحضاره ولم يحضره، أو تساهل في إحضاره عزَّره، ولربما اضطر إلى الضغط عليه حتى يحضره، وهذا النوع من الكفالة لا شك أن القول بمشروعيته وجوازه فيه قوة. قوله: لا حد، الحد: هو العقوبة المقدَّرة شرعاً، ويشمل هذا الزنا والعياذ بالله! ففي الزنا عقوبة محددة. والعقوبات في الشريعة تنقسم إلى: عقوبة محددة، وعقوبة غير محددة، فالعقوبات المحددة يصطلح العلماء على تسميتها بالحدود، وسميت بذلك والمناسبة فيها واضحة، وأما بالنسبة للعقوبات غير المحددة، فهذه هي التعزيرات، وهي ترجع إلى نظر القاضي، إذ ينظر فيها إلى حال الجريمة وحال المجرم، والزمان والمكان والمعتدى عليه. القصاص أصله من قص الأثر إذا تتبعه، والقصاص يقع في الأنفس ويقع في الأطراف، ومذهب طائفة من العلماء كما ذكرنا: أنه تجوز الكفالة في الحد وتجوز الكفالة في القصاص. فإذا ضمِن أو تكفّل بإحضاره من أجل أن يقام عليه الحد، أو من أجل أن يقام عليه القصاص فإنه كفيله، وحينئذٍ يحبس مكانه إذا عُلِم أو ثبت عند القاضي تفريطه، أو ثبت عند القاضي تمالؤه مع الخصم على الفرار ونحو ذلك. وفائدتها أنها تعين على الوصول إلى الحقوق وتساعد على ذلك.

عدم صحة الكفالة دون رضا الكفيل لا المكفول

عدم صحة الكفالة دون رضا الكفيل لا المكفول قال رحمه الله: [ويعتبر رضا الكفيل لا مكفولٍ به] قوله رحمه الله: (ويعتبر رضا الكفيل)؛ لأنه يتحمل المسئولية ويدخل على نفسه الضرر، فلابد وأن يكون راضياً بذلك، وعلى هذا فلا تصح الكفالة بالإكراه، فلو هدده وأكرهه على أن يكفله، فإن الكفالة لا تثبت إذا ثبت ذلك عند القاضي، كرجلٍ مثلاً له على رجل مائة ألف، فقال له: أعطني كفيلاً، أو إذا أحضرت فلاناً من الناس يكفلك فأنا أعطيك هذا الدين، فذهب إلى رجل وهدده، وقال له: إذا لم تكفلني فإنني سأقتلك، فكفله مكرهاً. وإذا ادعى هذا الكفيل عند القاضي أنه أُكرِه على الكفالة، وثبت ذلك عند القاضي فإن الكفالة لا تصح، فالكفالة لا تقع إلا إذا كان الكفيل راضياً بالكفالة؛ لأنه يدخل على نفسه الضرر، فلابد وأن يكون على بينة من أمره. قوله: (لا مكفول به) الشخص الذي يُكْفَلُ أيضاً لا يشترط رضاه، كالوالد يكفل ابنه، سواءً رضي الابن أو لم يرض، ففي بعض الأحيان لا يرضى الابن بكفالة أبيه؛ لأنه يخشى على أبيه الضرر فيمتنع، فرضاه وعدم رضاه غير معتبر، يقولون: إن الرضا غير معتبر في الكفالة بالنسبة للشخص المكفول، سواءً رضي أو لم يرض، إلا أن بعض العلماء استثنى الكفالة من الأب لابنه، فقالوا: إنه في هذه الحالة يدخل الضرر على والده، ومن حقه أن يمتنع؛ لأن الله يقول: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83]، فلا يكون المكفول سبباً في أذية والده والإضرار به.

الحكم إذا مات المكفول أو تلفت العين بآفة سماوية

الحكم إذا مات المكفول أو تلفت العين بآفة سماوية قال رحمه الله: [فإن مات أو تلفت العين بفعل الله تعالى] قوله: (فإن مات) إذا كنت كفيلاً بإحضار شخصٍ ومات الشخص، فهذا عجز حقيقي، ويستحيل أن تحضره، وحينئذٍ لست مطالباً بهذا الإحضار؛ لأنه يتعذر إحضاره، فتسقط الكفالة وتصبح في هذه الحالة غير مطالبٍ بضمان الدين، وهذا وجه عند بعض العلماء، واختاره المصنف، والمذهب على ذلك، وقال بعض العلماء: بل تتحمل الدين كما لو كان حياً، فموته لا يبرئ ذمّتك، وإنما تبقى الكفالة على السنن المعتبرة حتى يحضر الأجل، ويقام ورثته مقامه وحينئذٍ تتحمّل، ويكون رجوعك إلى ورثته. فإذا حضر الأجل وضمِنت ودفعت الدين، يكون لك وجه المطالبة على ورثته. قوله: (أو تلفت العين بفعل الله تعالى) كأن تكون مثلاً السيارة التي ضمنت رجوعها تلفت بآفة سماوية، وليس بفعل آدمي، كأن يأتي سيل ويجتاحها، ويكون الذي أخذها واستعارها غير مفرط، أما لو فرّط كأن أوقفها في مكان السيل، فإنك تضمن؛ لأنك تضمن تعديه، فإذا أوقفها في أماكن هي عرضة فيه للتلف وللآفات فإنه يتحمّل، وحينئذٍ تكون متحملاً معه؛ لأن ذمتك انضافت إلى ذمته في الكفالة. أما لو أنها تلفت بآفة سماوية، وبشيءٍ لا دخل للآدمي فيه، ولم يكن ثم تفريط، فإنك لا تضمن، وترتفع الكفالة بتعذر إحضار العين.

براءة الكفيل بتسليم المكفول عنه نفسه إلى القضاء

براءة الكفيل بتسليم المكفول عنه نفسه إلى القضاء قال رحمه الله: [أو سلم نفسه برئ الكفيل] فمثلاً: لو قلت: إذا جاء أول محرم، فإني ألتزم بإحضار المذكور إلى مجلس القضاء، أو ألتزِم بتسليم المذكور إلى صاحب الدين. فلما حضر الأجل جاء المكفول، وسلّم نفسه، فإنه إذا سلّم نفسه سقطت الكفالة، وعليه فلو سلّم نفسه وفر بعد استلامه لم تكن متحمّلاً لشيء؛ لأنه بتسليمه لنفسه تكون قد سقطت الكفالة، وبرئت أنت من هذه الكفالة؛ لأنه إن فرّ بعد تمكِّن صاحب الحق منه، أو فر بعد حضوره إلى مجلس القضاء، فالتفريط ليس منك، ولست بمتحمل مسئوليته، إنما يتحمل ذلك من فرّط فيه حتى فر. وعلى هذا فإنه إذا سلم المكفول نفسه برئ الكافل.

حكم تسليم المكفول عنه نفسه قبل الأجل

حكم تسليم المكفول عنه نفسه قبل الأجل لكن هنا مسألة ذكرها بعض العلماء: وهي فيما لو سلم نفسه، أو قمت بتسليمه قبل الأجل، لو قال: أنا ألتزم بإحضار محمد في أول محرم، فأحضره في شهر ذي القعدة، فبعض العلماء يقول: لا يبرأ الكفيل إلا إذا حل الأجل، وقال بعض العلماء فيه تفصيل: إن كان قد قدمه على الأجل على وجه فيه ضرر على صاحب الدين، فإنه لا وجه لهذا التقديم، وأما إذا لم يكن هناك ضرر على صاحب الدين وأحضره قبل الأجل، فإنه يتحمل المسئولية حينئذٍ، وهذا القول الثاني أوجه وأصح، ويختاره غير واحد من العلماء رحمهم الله. لقد ذكرنا أن باب الضمان وباب الرهن يجتمعان في مسألة الاستيثاق، والحوالة أيضاً تعين على الوصول إلى الحق، ونظراً لتجانس هذه الأبواب، باب الرهن، وباب الكفالة، وباب الضمان، وباب الحوالة، ذكرها المصنف رحمه الله تباعاً.

نصيحة لطلاب العلم بتعلم المسائل المعاصرة

نصيحة لطلاب العلم بتعلم المسائل المعاصرة لكن هذه المسائل كثيراً منها ما يقع في القديم وبيّناها وتكلمنا عليها، سواءً مسائل الضمان أو الكفالة، لكن في عصرنا الحاضر، بعض المسائل الموجودة التي خُرِّجت على الكفالة القديمة، وكثيراً ما تقع هذه المسائل في الديونات، وتشتهر في المعاملات الموجودة في المصارف، من ذلك ما يسمى: بالضمان البنكي، وخطاب الضمان، والاعتماد المستندي، و (الكمبيالة)، ونحو ذلك من البطاقات التي تُصدَر للاستيثاق بالديون، ونظراً لوجود الحاجة، وتعلقها بالأبواب التي بحثناها، والمسائل التي تعرضنا لها، فإننا نحتاج لبيان هذه المعاملات المعاصرة؛ لأن هذا أمر متصل بالمسائل التي معنا، ولا يمكن لطالب العلم أن يدرس المسائل القديمة، فيقرأ مثلاً عن البر والشعير والقمح، ثم لما يأتي يعايش الناس، وإذا به يجدهم يتعاملون بأشياء وبمسميات غريبة، وقد يقف حائراً، حتى إنه لربما وقف حائراً في معاملة تتعلق به نفسه، فلا يدري ما حقيقة هذا التعامل الموجود، وما موقف الشريعة الإسلامية منه، ولذلك كان لزاماً على طالب العلم أن يدرس هذه المسائل، وأن يعرف حكم الله عز وجل فيها، حتى يكون على بيِّنة من أمرها فيما يتعلق بنفسه، وفيما يتعلق بالناس إذا سألوه ونحن إن شاء الله سنذكر في الدروس القادمة خطاب الضمان، ونبيِّن حقيقته، وتعريفه، وكذلك أيضاً الاعتماد المستندي، والبطاقات، نبين حقيقتها، ثم بعد ذلك نبيِّن هل هي مخرَّجة على الكفالة؟ وإذا تخرّجت على الكفالة، ما الذي يجوز من صورها؟ وما الذي لا يجوز؟ ونفصل إن شاء الله في تلك المسائل سائلين الله عز وجل أن يلهمنا وإياكم السداد والرشاد! وأن يجعل ما نتعلمه ونعلمه خالصاً لوجهه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم.

ما يجب على أهل مكة تجاه حجاج بيت الله الحرام

ما يجب على أهل مكة تجاه حجاج بيت الله الحرام أحب أن أنبه على أمر مهم جداً، وهو أنكم تعلمون أن هذه الأيام يعيش الناس فيها موسم الحج، ونظراً لما أكرمكم الله عز وجل به من جوار هذا البيت الذي شرّفه الله وكرّمه، وفضّله على سائر البقاع، وجعله مثابة للناس وأمناً، فالناس ينظرون إليكم نظرة إجلالٍ وإكبار، ومن جاور هذا البيت خليقٌ به أن يحفظ حرمته، وأن يحفظ كذلك لعماره وحجاجه حقوقهم، وأن يكون كأحسن ما يكون عليه المجاور لبيت الله الحرام، خاصة طلاب العلم، فإنهم قدوة للناس، والناس تهتدي بالأخيار، وتهتدي بالصالحين، وكم من سنن أُحْيِيَتْ، وكم من بدعٍ أُمِيْتَتْ حينما حرص الأخيار على بث الخير، والتخلق بآداب الأخيار في الأقوال والأفعال، فظهرت منهم الأقوال الحميدة، والخصال الكريمة، التي تدل على أن وراء هذه الأقوال وهذه الأفعال قلوباً تخاف الله جل جلاله، وترجو رحمته، وإن خير ما ينتظره منكم الحاج والمعتمر في بيت الله الحرام، القدوة الصالحة، وخير ما ينتظره منكم الاهتداء بهدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا شك أن المسلم مطالب بأن يهتدي ويقتدي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف إذا كان بهذا الحال الذي يستوجب عليه الأمر أكثر. فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، والحرص على السنة، والاهتداء بهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن اهتدى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن الله يرحمه، ويهديه ويوفقه، ولذلك قال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، فمن اتبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنه من المهتدين. وهذا الفعل منا يستوجب أموراً: أولها وأعظمها وأكرمها عند الله: الإخلاص، فعلى الإنسان المسلم أن يعامل إخوانه وهو يريد ما عند الله عز وجل، فالحجاج والمعتمرون يحتاجون إلى المعاملة الحسنة، التي يبتغي صاحبها الأجر والمثوبة من الله، فالشخص الذي يتعامل معهم وهو يستشعر أنهم ضيوفٌ على الله، وأنهم أتوا طالبين لرحمة الله، راجين لعفوه ومنِّه وكرمه. فخليقٌ بالمسلم أن يعامل الله سبحانه وتعالى حتى يعظم أجره في ذلك، ولا يزال الرجل بخير إذا أخلص العمل لله، وأراد ما عند الله سبحانه وتعالى، وكم من عملٍ قليل عظَّمْته النية، وبارك الله فيه بإخلاص صاحبه، والكلمة التي تخرج من القلب المخلص تقع في القلوب، وتؤتي ثمارها، ويعظم أجرها، ويرضى عنها ربها. فالكلمة التي تخرج لله وفي الله هي التي تكون في ميزان العبد، {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات:9 - 11]. الأمر الثاني: الحرص على الخلق الحسن: (فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، وسلموا من زلات جوارحه وأركانه، ولذلك ينبغي للمسلم دائماً أن يراقب تصرفاته وأفعاله، والله إنهم ينظرون إليكم نظرة قد لا يشعر الإنسان بقدرها، ولكنه لو تتبع مشاعر الحجاج والعمار، لوجدهم يراقبونه في كل تصرفاته، فكم من أمور يراها الحجاج ويراها المعتمرون تثبت من الخير والطاعة والبر، حببت إلى قلوبهم حينما رأوها من جيران بيت الله الحرام، وهذا شيء نعرفه من كلام الناس، ومن كثرة ما تناقلوه، فهم إذا قدموا على الحرمين ورأوا الخير من أهل الحرمين أحبوا الخير واقتدوا بهم، واهتدوا بهم، والعكس بالعكس، والأخلاق هي شيمة المسلم، إذا أراد الله أن يثقل ميزان العبد رزقه الخلق الحسن، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من شيءٍ أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من تقوى الله وحسن الخلق). ولما سئل عليه الصلاة والسلام عن أكثر ما يدخل الناس الجنة قال: (تقوى الله وحسن الخلق). وثبت في الحديث الصحيح أنه قال: (إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم)، فالعبد إذا حسنت أخلاقه، وطابت شمائله، وكان أليفاً موطأ الكنف، فإن الله عز وجل يثقل موازين حسناته بذلك، ومن هنا قال صلى الله عليه وآله وسلم مبيّنا فضل هذه الخصلة الكريمة، والخلة الجليلة العظيمة: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون)، هؤلاء إخوانكم في الله، وإخوانكم في الإسلام، وإذا لم يتراحم المسلمون فيما بينهم، ولم يحصل بينهم الألفة والمحبة والمودة والأخوة الإسلامية، والأخوة الإيمانية، فأين تظهر؟! وإذا لم يكن جيران بيت الله الحرام يفعلون ذلك فمن الذي يفعله؟! هم ينتظرون منكم أن تفتحوا لهم صدوركم وقلوبكم بالمحبة والمودة، لا تنظروا إلى الناس بألوانهم، ولا تنظروا إلى الناس بغناهم وثرائهم، ولا تنظروا إلى الناس بمناصبهم ولا بجنسياتهم، ولكن انظروا إلى أخوة الإسلام التي بينكم وبينهم، وتنظر إلى كبيرهم كوالدٍ لك، وتحبهم وتجلهم لله وفي الله، والابتسامة التي تبتسم بها في وجه أخيك المسلم صدقة، فكيف وهم في غربة وبعدٍ عن الأوطان، مع مشقة السفر وعنائه، فإذا جاء ولقي منك الابتسامة، وهو يراك شيئاً كبيراً، كيف تقع هذه الابتسامة في قلبه، الله أعلم كم من مهموم مغموم حينما يرى أخاه المسلم مبتسماً في وجهه، تتبدد عنه أحزانه وأشجانه، الابتسامة التي تراها يسيرة، ولكنها عند الله كبيرة، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طليق)، فإذا لقيهم المسلم يلقاهم بالابتسامة، ولا يبتسم من أجل الغنى واللون والحسن والنسب، لا، ولكن لله وفي الله، ومن أكمل الناس خلقاً الذي لا تفارق الابتسامة وجهه لأصغر الناس وأكبرهم، وطالب العلم الكامل هو الذي يبتسم للناس جميعاً بالإسلام، لا بأحوالهم، ولا بصفاتهم، ولا بمراتبهم، والله يعلم منه أنه يحب الكبير كما يحب الصغير، فإذا بلغ المسلم هذه المرتبة فهذه نعمة من الله، كذلك الكلمة الطيبة؛ فقد تجد منه ما يجرحك فتقابله بالكلمة الطيبة؛ لأنك تقدر مشاعره في غربته وتعبه ونصبه وعناء السفر، كذلك أيضاً ينتظرون منك الأخلاق الحميدة في تفريج الكربات وستر العورات، ولعل الله عز وجل أن يكف عن وجهك النار بصدقة تتصدق بها على ضيفه، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اتقوا النار ولو بشق تمرة). وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أن امرأة دخلت على عائشة ومعها صبيتان، فاستطعمتها فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة تمرة، ثم أخذت التمرة الثالثة تريد أكلها، فلما أدنتها إلى فمها استطعمتها إحدى البنتين، فأعطتها التمرة، فعجِبت عائشة من صنيعها! فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليها أخبرته بخبرها، فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا عائشة أتعجبين مما صنعت! إن الله حرمها على النار بتمرتها تلك). بتمرة واحدة حجبها الله بها عن النار، فكيف إذا جئت ووجدت أحدهم ضامئاً فسقيته الماء، فأطفأت حر ضمئه، فدعا لك دعوة تسعد بها في دينك ودنياك وآخرتك، كيف إذا رأيت من كان منهم كبير السن فتجده ضائعاً هائماً على وجهه، فتساعده كأنه والدك، وكأنه إنسان قريبٌ منك بأخوة الإسلام، فتضحي لأجله فيُكبِر هذا الشيء منك، فيدعو لك دعوة تكون سبباً في سعادتك في الدنيا والآخرة، ولربما ترى منهم المديون، وترى منهم المعسر، فتفرج كربته، وتعينه على عبادته، فهذا خير كبير وباب عظيم فتحه الله لك، وما عليك إلا أن تحتسب الأجر عند الله عز وجل، ونسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم السداد والرشاد. كذلك أيضاً مما ينبغي الحرص عليه تعليم الحجاج، فإنهم يحتاجون إلى التعليم والتوجيه، خاصة من طلاب العلم، وأهم ما ينبغي الاعتناء به: الإيمان، والتوحيد، والإخلاص؛ لأنه أساس الدين، فلابد من تعليمهم حق الله عز وجل، وأنه لا يجوز صرف حق الله لغيره كالدعاء، والاستغاثة، والاستجارة، فما الفائدة من أن يأتي يحج وهو يدعو غير الله! وما الفائدة من أن يأتي يحج وهو يستغيث بغير الله! وما الفائدة من أن يأتي ويحج وهو يذبح لغير الله! ويعتقد بغير الله، هذا أمرٌ عظيم ينبغي لطالب العلم أن ينتبه له، فالعقيدة هي أساس الدين الذي لا يمكن أن يقبل الله قول القائل، ولا عمل العامل إلا بتحقيقها، والقيام بحقوقها، وتذكيرهم بحق الله عز وجل. كذلك أيضاً عليك أن تبين لهم صفة حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا رأيت الجاهل علّمته، وإذا رأيت المخطئ قوّمته وصوّبته، نسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم الإخلاص، وأن يتقبل منا ومنكم صالح القول والعمل، والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

المبادرة بسداد الدين عن الميت وإن لم يحل أجلها

المبادرة بسداد الدين عن الميت وإن لم يحل أجلها Q إذا ضمن الأبناء دين أبيهم المتوفّى فهل تبرأ ذمته بمجرد ضمانهم، أم بعد سداد الدين، خصوصاً إذا كان الدين على شكل أقساطٍ شهرية تستمر لسنوات، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالدين أمره عظيم، وخطبه جسيم، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (نفس المؤمن مرهونة بدينة) وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه أُتِي برجل من الأنصار فقال: أعليه دين؟ قالوا: نعم، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: هما عليَّ يا رسول الله! -يعني: الدينارين اللذين كانا على الرجل- فصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه، قال: فلما لقيني من الغد، قال: ما فعل الديناران؟ قلت: نعم، قال: الآن بردت جلدته)، فلو قال أولياء الميت: نحن نتكفّل بدين ميتنا، فإنه لا تزال نفسه مرهونة حتى يسدد الدين عنه، ولذلك يقول العلماء: من مات حلّت ديونه، حتى ولو كانت أقساطاً فإنها تحل، وتسدد مباشرة، ما دام أنه ترك سداداً يباع ذلك الشيء ويسدد حتى تبرأ ذمته، ويستريح في قبره، قال بعض العلماء: إنه يرهن، والرهين المحبوس، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، أي: مرهونة ومحبوسة، فقوله عليه الصلاة والسلام: (نفس المؤمن مرهونة بدينه)، قالوا: معناه أنه لا ينعم، ويحبس عن النعيم حتى يسدد دينه، وهذا أمر عظيم جداً، فعلى المسلم أن يبادر بسداد الدين، خاصة إذا توفِّي الميت وترك أشياء يمكن سداد دينه منها، كأن تكون هناك سيولة من نقد، بل حتى ولو ترك مزارع أو بيوتاً فتباع، ويسدد دينه، وتبرأ ذمته؛ لأنه بحاجة إلى ذلك، خاصة إذا كان من الوالدين، فعلى الأولاد أن يبادروا بسداد دينهم، وكان بعض العلماء يقول: إن هذا من أعظم البر بعد وفاة الوالد والوالدة، وهو المبادرة بسداد الديون، وهذا أمرٌ عظيم، وينبغي أن يعتنى به، ونسأل الله العظيم أن يسلمنا، ويسلِّم منا، والله تعالى أعلم.

التشابه بين النذر والضمان من حيث القياس

التشابه بين النذر والضمان من حيث القياس Q هل من الممكن القول بأن النذر في العبادات مشابهٌ للضمان في المعاملات بجامع كون كلٍ منهما التزاماً في الذمة، بيد أن النذر لا تراجع فيه، والضمان من الممكن أن يتراجع عنه أثابكم الله؟ A النذر لا شك أنه إلزام للمكلّف ما لم يلزمه، والضمان يلتزم فيه ما لا يلزمه في الأصل، وأما مسألة النذر فيلزمه الوفاء به؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لـ عمر: (أوف بنذرك)، فالوفاء بالنذر واجب، ما دام أنه قد استوفى الشروط المعتبرة لانعقاده وصحته. وأما بالنسبة لمسألة الضمان، فالضمان لا يستطيع أن ينفك عنه، فالتشابه بينهما قوي من حيث القياس، لكن الإشكال ليس هنا، الإشكال في جهة نوعية الحق، فإن حقوق الله مبنية على المسامحة، وحقوق المخلوقين مبنية على المقاصة، فمن ناحية جنس الحقين هناك تفاوت، ولذلك قد يُعترض بأنه قياس مع الفارق في بعض الصور، إذا كان حق الآدمي آكد، والله تعالى أعلم.

عدم جواز ضمان العين المستأجرة بالمال

عدم جواز ضمان العين المستأجرة بالمال Q هل من حق المؤجر أخذ ضمانٍ على العين المستأجرة، بحيث يتم الخصم من الضمان إذا أخل المستأجر بالعين المستأجرة أثابكم الله؟ A بالنسبة للعين المؤجرة يضمن الشخص، لكن لا يقول: أعطني مالاً أخصم منه، أو نحو ذلك، إنما يقول: أنا ضمين، أو يأتي بشخص يقول: أنا أكفل أن ترجع لك العمارة كما هي، أو أكفل لك أن فلاناً يرد لك الدكان أو البقالة كما أخذها، فحينئذٍ تكون الكفالة من الشخص، لكن أن يعطيه مالاً وسيولة فلا، وعلى هذا فإنه لا تصح الكفالة إلا على الصفة الشرعية التي ذكرناها، والله تعالى أعلم.

لزوم عقد الإجارة بمجرد العقد

لزوم عقد الإجارة بمجرد العقد Q هل عقد الإجارة يُلزم به الطرفان لمجرد العقد، أم بالشروع فيما وقعت عليه الإجارة أثابكم الله؟ A عقد الإجارة يعتبر لازماً في قول جماهير العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة رحمة الله عليهم، لعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، وبناءً على ذلك لو قال لك شخص: أجِّرني هذه العمارة بمائة ألفٍ شهرين، قلت له: قبلت، وافترقتما عن المجلس، فإنه يلزمك أن تمكِّنه من العمارة، ويلزمه أن يدفع المائة ألف، هذا بالنسبة لمعنى قولنا: إنه لازم، فلو عقدتما العقد وخرج من عندك، ثم قال: لا أريد أن أستأجرها، يلزمه القاضي بالاستئجار، ولو خرجتما وافترقتما، فقلت: لا أريد أن أؤجرك؛ تُلزَم بإجارتها. وهكذا لو استأجرت من شخص شقة بستة آلاف في السنة، وكتبتما العقد، أو قلت له: أجِّرني شقتك بستة آلاف هذه السنة، فقال: قبلت، وتم العقد، فلكما خيار المجلس ما دمتما في المجلس؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا). والإجارة بيع منافع، فإن افترقتما فحينئذٍ تُلزم بدفع الستة آلاف أجرةً للشقة، ويلزمه أن يمكِّنك من الشقة لأجل أن تسكنها، فلو قال لك: لا أريد تأجيرها وقد رجعت عن كلامي، وكان رجوعه بعد الافتراق، فإنه يُلزم شرعاً بالعقد، هذا معنى قولنا: إن الإجارة عقد لازم، وهذا قول جماهير العلماء رحمهم الله ومنهم الأئمة الأربعة، ومن خالف فقال: إنها عقدٌ غير لازم فخلافه شاذ كما أشار إلى ذلك بعض العلماء، والله تعالى أعلم.

الأقوال في قاعدة: النسيان لا يسقط الضمان

الأقوال في قاعدة: النسيان لا يسقط الضمان Q القاعدة التي تقول: النسيان لا يسقط الضمان. هل تشمل من فعل محظوراً من المحظورات ناسياً أثابكم الله؟ A هذا فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، منهم من قال: يسقط الضمان مطلقاً، ومنهم من قال: لا يسقط الضمان مطلقاً، ومنهم من فصّل. أما الذين قالوا: إن النسيان يُسقط الضمان، فاستدلوا بما ثبت في الصحيح قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! لم أشعر فحلقت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج)، فما سُئِل عن شيء قدِّم ولا أُخِّر مما ينسى الإنسان -كما في رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في السنن- إلا قال: (افعل ولا حرج)، فلم يوجب عليهم الضمان بالترتيب؛ مع أن الأصل في فعلها أن تكون مرتبة وهي واجبة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم). فأسقط الضمان لهذا الواجب بسبب النسيان، هذا على القول بوجوب الترتيب، كما يختاره طائفة من العلماء رحمهم الله خلافاً للشافعية والحنابلة. القول الثاني: إن النسيان لا يسقط الضمان، فمن نسي وجب عليه أن يضمن، وأكدوا هذا بأن النسيان والخطأ جاريان من باب واحد، ولذلك لو قتل خطأً لأُلزم بالضمان، وهكذا لو نسي فحصل منه حلق للشعر، أو تقليم للأظفار، فإنه يُلزم بالضمان. القول الثالث: التفصيل، فبعض العلماء يفصِّل بين ما يمكن تداركه وما لا يمكن تداركه، فالذي يمكن تداركه مثل الطيب وتغطية الرأس، ولبس المخيط، فهذه الأشياء إذا نسيها ولبس عمامة على رأسه وهو محرم، أو نسي ولبس ثوباً وهو محرم، فإنه إذا تذكّر ونزعها أمكنه التدارك، قالوا: في هذه الحالة لا شيء عليه، واحتجوا بحديث صفوان بن يعلى بن أمية -الثابت في الصحيح- عن أبيه: (أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بالجعرّانة وعليه جبّة عليها أثر الطيب، فقال: يا رسول الله! ما ترى في رجلٍ أحرم بالعمرة وعليه ما ترى؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: انزع عنك جبتك واغسل أثر الطيب الذي بك، وافعل في عمرتك ما كنت فاعلاً في حجك)، فهذا الرجل أحرم بالعمرة وأخطأ عندما تطيب ولبس الجبة، ومع ذلك لم يُلزم بالضمان. قالوا: هذا محظور يمكن تداركه، فقال له: (انزع عنك جبتك)، فلما نزعها مباشرة أمكنه التدارك، أما لو كان من جنس ما لا يمكن تداركه، كتقليم الأظفار، فلا يمكنه أن يعيد الظفر مرة ثانية، وهكذا بالنسبة لحلق الشعر، لا يمكن أن يرده، فإنه يُلزم بالضمان، وهذا القول يختاره جمعٌ من العلماء رحمهم الله، وهو الأشبه والأقوى، والله تعالى أعلم.

استقبال الحجر الأسود مع التقبيل وإن تعذر أشار

استقبال الحجر الأسود مع التقبيل وإن تعذر أشار Q هل يلزم المحرم أن يستقبل الحجر الأسود بكله عند كل شوط، أم في بداية الشوط الأول أثابكم الله؟ A الثابت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وغيره، أنه ابتدأ طوافه فاستلم الحجر، ومن هنا وقع منه عليه الصلاة والسلام استقبالٌ للحجر عند ابتدائه، فاستلم الحجر وقبّله، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام عند تعذُّر الاستلام الإشارة، ومن هنا قالوا: يكون استقباله بالتقبيل، أي: يستقبل الحجر ويقبِّل ويكون في حكم المقبِّل، وإذا تعذّّر عليه أن يقبل، فإنه يكتفي بالإشارة، والله تعالى أعلم.

صحة حج من عليه دين مقسط مع الاستئذان من الدائن وعدمه

صحة حج من عليه دين مقسط مع الاستئذان من الدائن وعدمه Q إنسان عليه دينٌ مقسّط، فهو يسدد كل قسط في موعده، فهل يصح منه الحج تطوعاً أو فرضاً أثابكم الله؟ A إذا كان عليه دين، واستأذن من صاحب الدين فلا بأس، إلا أن بعض العلماء رحمهم الله يقولون: الديون المقسطة إن دفع آخر قسطٍ منها وكان عنده سداد بحيث لا يفرِّط، أو لا يعرِّض صاحب الدين لضياع ماله، فإنه يصح منه أن يحج ولو لم يستأذن، وهذا القول له قوة، إلا أن الأول أحوط، والله تعالى أعلم.

حكم الاستئجار للحج

حكم الاستئجار للحج Q من حج عن غيره، فهل له أن يأخذ ما زاد من المال الذي حج به أثابكم الله؟ A هذه داخلة في مسألة الإجارة على الحج، وهي تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يسمونها: إجارة البلاغ، وإجارة البلاغ أن تتكفل بدفع النفقة ذهاباً وإياباً، وتدفع ثمن الهدي ونحو ذلك مما يكون من مصاريف الإنسان في العرف، فإذا قال الشخص: أنا أحج عن ميِّتك فلان، وأنت تتحمّل مصاريف الزاد، ومصاريف الراحلة والركوب، صحّ هذا النوع من الإجارة، لقول جمهور العلماء رحمهم الله، ولا بأس به. في هذه الحالة، يقوم هذا الشخص بفعل الحج، ويستأجر ويركب ويأكل، وينتفع في حدود المعروف، فإن بذخ وتجاوز وزاد على المعروف فإنه يتحمل مسئولية ذلك الشيء الزائد، مثال ذلك: لو أمكنه أن يركب بخمسمائة ركوب مثله، فركب بسبعمائة، فالواجب عليك دفع خمسمائة، فأنت تتكفل بنفقة الركوب ونفقة الطعام والشراب، وما يحتاج إليه مثله فقط. هذا بالنسبة لمسألة إجارة البلاغ، إلا أن هذا النوع من الإجارة له أحكام خاصة، فيما لو فسد الحج، أو طرأت أمور في داخل الحج توجب فساده أو توفِّي إلى غير ذلك من الأمور التي قد تطرأ، وقد بحث العلماء رحمهم الله جميع هذه المسائل. الحالة الثانية: ما يسمى: بإجارة المقاطعة، وإجارة المقاطعة أشبه بالبيع والشراء كأن يقول لك: أنا أحج عنه بخمسة آلاف، إن زادت فلي ما زاد، وإن نقصت فعلي تكميل ما نقص، وهذا النوع ضعيف، والأشبه عدم جوازه، والصحيح عند العلماء النوع الأول، وهو أن تكون الإجارة على الكلفة. ففي النوع الأول، إذا أعطيته ثلاثة آلاف وذهب وحجّ، وزاد في تكلفة حجه خمسمائة ريال، وكان ذلك بالمعروف، فإنك تُلزَم بدفع الخمسمائة، وتكمِّل له ما نقص، ولو أخذ منك ثلاثة آلاف، فاستكفى بألفين وخمسمائة، لزمه أن يرد الخمسمائة، وإن سامحته وقلت له: خذها، فهذا أمرٌ لا بأس به؛ لأنه مالٌ بطيبة نفسٍ ورضا، والله تعالى أعلم.

جواز الفدية بأنثى الماعز بدلا عن الشاة

جواز الفدية بأنثى الماعز بدلاً عن الشاة Q هل تصح الفدية بأنثى الماعز بدلاً عن الشاة أثابكم الله؟ A بالنسبة للشاة فيجزئ فيها الذكر والأنثى من الشياه والماعز، إلا أنها في جزاء قتل الصيد فيها تفصيل عند العلماء رحمهم الله، فإن كان الذي قتله من الصيد ذكراً، وجب أن يكون مثله ذكراً، فمثلاً لو قتل ذكر نعامة أو بقر الوحش للزِم ضمانه بالذكر، وهو الثور، وإن قتل الأنثى لزِم الضمان بالأنثى، إلا أن هناك خلافاً إذا كانت الأنثى حاملاً، وكان قتله لحامل، فهل يضمن بقتل الحامل؟ قالوا: إذا كان المقتول حاملاً، فإننا إذا أوجبنا عليه بقرة حاملة، وقلنا له: إنه يذبحها لأن الله يقول: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95]، هذا الجزاء المثلي يُذبح بمكة ويُتصدق به على فقراء الحرم، فهل إذا قلنا: تكون من الأنثى الحامل، فهل ينحرها إذا كانت بدنة حاملاً، أو بقرةً حاملاً، أم أن الحكم فيه تفصيل؟ من العلماء من قال: إن كانت حملاً وأراد الذبح، فإنه لا يذبحها حاملاً، وأما إذا كان يريدها قيمة تكون عليه مقدَّرة حاملاً، ويدفع قيمتها كما سبقت الإشارة إليه في كتاب المناسك، والله تعالى أعلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.

باب الحوالة

شرح زاد المستقنع - باب الحوالة عقد الحوالة من العقود التي أباحها الله لعباده، وهو من المعاملات المالية التي يقصد منها نقل الحق الثابت في ذمة الإنسان إلى شخص آخر، وعلى هذا فالحوالة عقد رفق واستيفاء. ومناسبة ذكر المصنف لباب الحوالة بعد القرض والرهن والضمان والكفالة: لاشتماله على براءة الذمة واستيفاء الحقوق، وباب الحوالة يشتمل على العديد من المسائل والأحكام الهامة التي لابد من فهمها والإجابة بها.

تعريف الحوالة لغة واصطلاحا

تعريف الحوالة لغةً واصطلاحاً بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الحوالة] الحوالة: مأخوذة من التحول، وأصل مادة التحول في لغة العرب تطلق بمعنى الانتقال يقال: تحول إلى الشيء إذا انتقل إليه. والحوالة تطلق بهذا المعنى في غالب الاستعمال، ولذلك قال بعض العلماء: سمي الحول حولاً؛ لأنه يتحول الإنسان فيه وينتقل، فإذا مر العام ومرت السنة على الإنسان تغيرت أخلاقه وأموره وأحواله، فقد يتغير من الخير إلى الشر وقد يتغير من الشر إلى الخير، ولذلك سمي الحول حولاً من التحول بمعنى الانتقال. وهذا الباب -وهو باب الحوالة- يقصد العلماء رحمهم الله منه: نوع من المعاملات التي أباحها الله عز وجل لعباده، وهي من المعاملات المالية التي يقصد منها نقل الحق الثابت في ذمة الإنسان إلى شخص آخر. ولذلك عرف العلماء رحمهم الله الحوالة اصطلاحاً بقولهم: الحوالة انتقال الحق من ذمة إلى ذمة. انتقال الحق: والمراد بالحق هنا الدين المستقر في الذمة، انتقال الحق من ذمة إلى ذمة: إذا كان لإنسان عليك دين عشرة آلاف -مثلاً- فإما أن تقوم بسداده بنفسك وإما أن تحوله إلى شخص آخر لك عليه نفس المبلغ، وحينئذٍ إذا حولت هذا الدين من ذمتك إلى ذمة الآخر الذي لك عليه عشرة آلاف وصف هذا النوع من المعاملات بكونه حوالة، فهي حوالة شرعية ولها أحكام خاصة في الشريعة الإسلامية. وهذا النوع من العقود يصفه العلماء رحمهم الله: بكونه عقد رفق واستيفاء، أي عقد قصد الشرع منه أن يرفق بالعباد، وذلك من جهة كون الإنسان بدل أن يتكلف بمطالبة من له عليه الدين أحال الشخص الذي له عليه دين إلى شخص آخر. وهذا لا شك أن فيه رفقاً بالعباد، وفيه تيسير عليك وإبراء لذمتك، ووفاء وفكاك من الحقوق. وبناءً على ذلك فهناك مناسبة بين المعنى الاصطلاحي والمعنى اللغوي، فالحوالة: معناها خاص في الاصطلاح وأما في اللغة فإن معناها عام؛ لأنها في الحقيقة اللغوية صادقة على كل انتقال، فكل انتقال يوصف بكونه حوالة ويوصف بكونه تحولاً، إلا أن الحوالة في الاصطلاح انتقال مخصوص على وجه مخصوص بكيفية مخصوصة.

أدلة مشروعية الحوالة

أدلة مشروعية الحوالة وعلى هذا يرد Q ما هو الدليل على مشروعية الحوالة؟ ثبتت مشروعية الحوالة بدليل السنة وإجماع الأمة: أما دليل السنة: فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مطل الغني ظلم، وإذا أحيل أحدكم على مليء فَلْيَتْبَعْ) وفي رواية: (فأتْبِعْهُ). هذا الحديث يدل دلالة واضحة على مشروعية الحوالة وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا أحيل أحدكم على مليء). وقوله عليه الصلاة والسلام (إذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع) دل على مسائل: المسألة الأولى: وهي مشروعية الحوالة، وأن الإنسان إذا كان له دين على غيره وأحال صاحب الدين على ذلك الغريم الذي له عليه حظ فإن ذلك مشروع وجائز. وأما المسألة الثانية: فإن النبي صلى الله عليه وسلم ألزم المحال أن يقبل الحوالة في قوله: (فليتبع) فلو طالبك رجل بخمسة آلاف ريال، وقال لك: لي على فلان خمسة آلاف اذهب وخذها، فإنه حينئذٍ -على ظاهر هذا الحديث- يلزمك أن تتبع غريمك. واختلف العلماء في هذا اللفظ وهو قوله: (فَلْيَتْبَعْ) وفي رواية لـ ابن ماجة: (فأتْبِعْهُ) هل هو على الوجوب أو على الجواز؟ جمهور العلماء: على أنه للجواز؛ لأنه أمر بعد حظر، ومذهب الظاهرية والحنابلة وطائفة من أصحاب الإمام الشافعي على أنه للوجوب. وهذا هو الصحيح والأقوى أنك إذا أحلت على رجل مليء قادر ولك على إنسان دين فأحالك على ذلك المليء القادر فإنه يجب عليك أن تتبع المليء القادر. كذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: (على مليء) صفة ومفهوم المخالفة في الصفة: أنك إذا أحلت على معسر أو أحلت على مماطل ومؤذٍ فإن من حقك أن تمتنع. وقوله عليه الصلاة والسلام: (مطل الغني ظلم) فالمماطلة تكون غير مشروعة إذا كان الإنسان قادراً على السداد؛ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (مطل الغني) أي: القادر أن يسددك. وعلى هذا فلا يجوز للمسلم إذا كان عليه دين أن يماطل في السداد إذا حل الأجل، ولهذا قال بعض العلماء: إنه إذا ماطل في السداد ولو مرة واحدة وهو قادر فإنه يعتبر فاسقاً؛ لأنها كبيرة، ويوصف بكونه فاسقاً وتسقط عدالته وترد شهادته. وقال بعض الجمهور رحمهم الله: إنه يشترط في الحكم بسقوط العدالة أن يتكرر مطله، فلا يكون مرتكباً للكبيرة في المرة الواحدة، بل لابد وأن يتكرر منه الامتناع والمماطلة. فهذا الحديث دل على مشروعية الحوالة كما ذكرنا، ودل إجماع العلماء على مشروعية الحوالة أيضاً، فقد أجمع أهل العلم رحمهم الله على أن الحوالة مشروعة، وأنه إذا كان عليك دين ولك على شخص دين وأحببت أن تحيل من له عليك الدين على الشخص الآخر الذي تسأله حقك وهو حق متماثل -مستوفٍ للشروط التي سنذكرها في الحوالة- فإن ذلك جائز ومشروع. وفي مشروعية الحوالة كما ذكرنا تيسير على العباد؛ لأن الحوالة تتضمن جلب المصلحة ودرء المفسدة، فجلبت المصلحة لك من جهة إبراء ذمتك، ودرأت المفسدة عنك من جهة أذية مطالبة الغير لك.

مناسبة ذكر باب الحوالة بعد الأبواب السابقة

مناسبة ذكر باب الحوالة بعد الأبواب السابقة ذكر المصنف رحمه الله خمسة عقود أولها القرض ثم يليه الرهن ثم يليه الضمان والكفالة ثم بعد ذلك باب الحوالة، وجميع هذه العقود تسمى عقود الرفق، وبعضها يختلف عن بعض لكنها تشترك من جهة إبراء الذمم واستيفاء الحقوق، فأنت إذا نظرت إلى القرض فهو منشأ هذه الأبواب التي ذكرنا فغالباً ما يقع الضمان والكفالة -سواءً كانت كفالة حضور أو كفالة غرم- في الديون، والرهن يتركب على الدين، ثم الحوالة تكون في الديون، وهذه الأبواب كلها جاءت وراء بعضها لوجود المناسبة بينها. ولما كان عقد الحوالة يقصد منه الرفق شابه الأصل وهو القرض، ويقصد منه استيفاء الحقوق أيضاً؛ لأنك لما تحيل على المديون الذي لك عليه دين قصدت أن يستوفي صاحبك حقه من ذلك الدين، فهي من عقود الاستيفاء كالرهن، فإنك إذا وضعت السيارة رهناً أو الأرض رهناً إنما قصدت إذا عجزت عن السداد أن يسدد حقه من تلك العين المرهونة. فهذه الأبواب كلها المناسبة بينها واضحة، وآخرها باب الحوالة لاشتماله على الإبراء. إلا أن باب الحوالة يختلف عن الكفالة -التي كنا فيها في آخر دروسنا- من جهة كون الحوالة ينتقل الحق منك إلى الشخص الذي أحلت عليه، وبناءً على ذلك لا يستحق أن يطالبك بعد الحوالة، لكن في الضمان والكفالة من حقه أن يطالبك أو يطالب من كفلك، ولذلك قلنا: وله مطالبة أيهما شاء. ففي الكفالة إما أن يطالبك أو يطالب من كفلك، وأما في الحوالة، فلا يستطيع، إنما يتوجه مباشرة إلى الشخص الذي لك عليه الحق. وعلى هذا يختلف باب الكفالة عن باب الحوالة من هذا الوجه، وهو أن الحوالة توجب براءة الذمة، ولكن في الكفالة لا يبرأ المكفول إلا إذا أبرأه صاحب الدين على التفصيل الذي سبق بيانه والإشارة إليه. يقول المصنف رحمه الله: [لا تصح إلا على دين مستقر].

أركان الحوالة

أركان الحوالة الحوالة تتركب من أربعة أركان: - الركن الأول: المحيل. - والركن الثاني: المحال. - والركن الثالث: المحال عليه. - والركن الرابع: المحال به. أربعة أشياء: أولاً: المحيل، ثم المحال، ثم المحال عليه، ثم الرابع المحال به. فالحوالة تستلزم الأركان السابقة، فلو فرضنا أن لي عليك عشرة آلاف ريال، ولك على زيد عشر آلاف ريال، ففي الأصل أطالبك بالعشرة والدين الثاني مطالبتك لزيد بنفس العشرة. فإذاً هناك ثلاثة رءوس: من كان له الدين، ثم من عليه الدين، ثم هناك دين ثالث يتعلق به الرأس الثالث الذي قلنا هو زيد. ففي الحوالة تحيلني بالدين الذي عليك -وهو العشرة آلاف- على زيد. فإذاً أركان الحوالة أربعة هي: - محيل وهو أنت. - ومحال وهو أنا. - ومحال عليه وهو زيد. - ومحال به وهو العشرة آلاف.

شروط صحة الحوالة

شروط صحة الحوالة هناك شروط لابد من توفرها للحكم بصحة هذه الحوالة:

أن تكون الحوالة على دين مستقر

أن تكون الحوالة على دين مستقر ذكر المصنف رحمه الله الشرط الأول بقوله: [لا تصح] أي: الحوالة [إلا على دين مستقر]. الديون تنقسم إلى ثلاثة أقسام: - دين لازم ومستقر. - وعكسه دين غير لازم وغير مستقر. - ودين لازم غير مستقر. النوع الأول من الديون: وهو الدين اللازم المستقر: مثلوا له بأروش الجنايات، وقيم المتلفات، وثمن المعاوضات في المبيع المقبوض، هذه ثلاثة أمثلة. المثال الأول: أروش الجنايات: يكون الدين فيها مستقراً؛ رجل اعتدى على رجل ولو كان خطأً، كأن يكون صدمه بسيارته أنه فتلفت رجله أو يده فانشلت، فثبت حكم القاضي بأن عليه نصف الدية، فإذاً يثبت للمجني عليه خمسون ألف ريال التي هي نصف الدية، فإذا حكم القاضي بذلك فمعناه أن المجني عليه يطالب الجاني بدين لازم مستقر. لازم لأن الجناية ثابتة عليه، وهذا الأرش قد جعله الشرع مقابل الجناية. فبوجود السبب ينشأ المسبب، فلا إشكال في ثبوت الجناية، وعليه لا إشكال في ثبوت الحق وهو نصف الدية، فإذاً أصبح لازماً؛ لأنه ليس من حق الجاني أن يقول: لا أعطيك، بل يلزمه ويطالب بها رغماً عن أنفه؛ لأن هذا من جناية يديه ومن كسبه وسعيه. فإذاً أولاً: هو لازم ولا يملك أن يتصالح في الامتناع منه، وثانياً: مستقر لأنه لا يئول إلى السقوط، وليس بمتردد يحتمل أن يبقى ولا يبقى، فإذاً أروش الجنايات يكون الدين فيها لازماً ومستقراً. المثال الثاني: قيم المتلفات: لو أن رجلاً صدم سيارة رجل فأتلفها أو كسر بها شيئاً، فقدر أهل الخبرة ذلك الإتلاف بعشرة آلاف ريال. فإذاً يُلزم بضمان هذا التلف الذي قدر أهل الخبرة أن قيمته عشرة آلاف ريال، فنقول: هذا الدين الذي تعلق بالذمة إذا قضى به القاضي لازم مستقر؛ لأنه ليس بالمتردد الذي يحتمل أن يبقى ويحتمل أن يلغى، فهو ثابت بثبوت الإتلاف، كما ذكرنا في الجنايات. المثال الثالث: كذلك أيضاً ثمن المعاوضات في المبيع المقبوض مثلاً: لو أن رجلاً اشترى منك سيارة بعشرين ألف ريال، قال لك: اشتريت سيارتك هذه بعشرين ألفاً، وقدمنا في البيع أن الإيجاب والقبول هو الصيغة للبيع، فإذا قال: قبلت لزمه البيع، فيبقى خيار المجلس إذا افترقتما وقبض السيارة لزمه أن يدفع ثمنها. فإذاً صار عقداً لازماً لأن البيع لازم، وقد بينا أنه من العقود اللازمة، والعشرون ألفاً التي هي قيمة السيارة مستحقة بالقبض. - أروش الجنايات. - قيم المتلفات. - ثمن المعاوضات في المبيع المقبوض. النوع الثاني: الدين غير اللازم غير المستقر مثاله: كما ذكرنا في المكاتبة رجل قال لعبده: كاتبتك باثني عشر ألفاً تدفع كل شهر ألفاً، لكن الكتابة من حيث هي يحتمل أن يعجز العبد فيعود رقيقاً ويحتمل أن يقوى وتمضي الكتابة، فهي دين غير مستقر. ولذلك يقولون: يشترط في صحة الحوالة أن تكون في الديون المستقرة، فالكتابة من حيث هي تعتبر من الديون غير المستقرة؛ وغير لازمة لأنه في هذه الحالة لو أن الرقيق قال: لا أريد، فإنه من حقه ولا يلزم بالكتابة. كذلك الجعالة لو قال: من عثر على سيارتي فله عشرة آلاف، فقبل العثور على السيارة فإن هذه العشرة آلاف غير مستحقه، ويحتمل أن يعثر عليها فيثبت الدين ويحتمل ألا يعثر عليها فلا يثبت الدين، فهو دين غير مستقر. وغير لازم لأن من حقه أن يفسخ الجعالة قبل، لو أنه قال: من وجد سيارة ضائعة أعطيه عشرة آلاف ثم قال: رجعت، فإن من حقه أن يرجع؛ لأنه عقد غير لازم، فإذاً غير لازم والدين أيضاً غير مستقر، فهذا النوع الثاني من الديون. النوع الثالث: الديون غير اللازمة غير المستقرة، وذلك كما لو قال له: بعتك عمارتي بعشرة آلف على أن لكل واحد منا الخيار ثلاثة أيام، ففي مدة الخيار نقول: البيع لازم من حيث هو، والأصل أنه عقد شرعي صحيح وثابت لا إشكال فيه، ولكن بالنسبة لهذا الدين وهو قيمة العمارة يحتمل أن يرجع أحدهما في مدة الخيار ويحتمل أن لا يرجع، فهو دين غير مستقر. وعلى هذا لما أجازت الشريعة هذه الأنواع الثلاثة من الديون فصّل العلماء رحمهم الله في الحوالة فقالوا: إنها لا تصح إلا في الديون المستقرة. فلا تصح إلا على دين مستقر، فلا تصح بالمكاتبة، ولا تصح -مثلاً- بمؤخر مهر المرأة أو إذا كان قبل الدخول، فلو أن امرأة عقد عليها رجل بعشرة آلاف، فلها عليه عشرة آلاف، لكن إذا لم يدخل بها فهي لا تستحق العشرة آلاف، ولا تستحق المبلغ إلا إذا دخل بها. فيحتمل أن يدخل بها وتستحق العشرة آلاف، ويحتمل أن لا يدخل بها، فلو أرادت أن تحيل على زوجها بهذا الدين لم يصح؛ لأنه في هذه الحالة لم يترك لها استحقاق العشرة آلاف أو استحقاق المبلغ الذي ذكرناه. فإذاً الشرط الأول في صحة الحوالة: أن تكون بدين مستقر، وهذا الشرط راجع إلى الركن الثالث وهو المحال به، فإنه لا تقع الحوالة إلا في ديون مستقرة، فإن كان الدين غير مستقر لم تصح الحوالة. قال رحمه الله: [ولا يعتبر استقرار المحال به] (المحال به): وهو الدين الذي لك على الشخص وتريد أن تحيله على الغير، فمن حقك في هذه الحالة أن تحيل على دين غير ثابت؛ لأن المحال به في الأصل غير ثابت، ويجوز في هذه الحالة أن يعاوض بالمثل. وبناءً على ذلك فرقوا بين الزوج والزوجة، فإن الزوجة إذا أحالت على الدين الذي ليس لها حق المطالبة به إلا بعد الدخول لم تصح حوالتها؛ لأن الدين لم يستقر ولم يثبت، لكن لو أن هذا الدين وهو العشرة آلاف ريال أحال به الزوج فإنه يصح ويعتبر في هذه الحالة صحيحاً. بمعنى: المرأة إذا طالبت الرجل بعشرة آلاف ولم يدخل بها فأحالها على رجل آخر صح؛ لأنه في هذه الحالة لا يشترط استقرار المحال به -يعني نفس الدين الذي للزوجة على الزوج- وإنما من حقه أن يمتنع من الإحالة، فيجوز له عندها أن يحيلها على طرف ثانٍ. زيادة في التوضيح نقول: المحال به وهو الدين الذي تحيل عليه يشترط أن يكون مستقراً حتى لا تغرر بصاحب الحق، لكن عكسه الأمر فيه خفيف، فإن الشخص نفسه إذا كانت المرأة تطالبه بعشرة آلاف، ولم يثبت بعدُ مطالبتها فأحال به ذلك الدين صح؛ لأنه في هذه الحالة حتى لو رجع فإنه يصح له الرجوع، فالأمر فيه أوسع من غيره.

اتفاق الدينين جنسا ووصفا ووقتا وقدرا

اتفاق الدينين جنساً ووصفاً ووقتاً وقدراً قال رحمه الله: [ويشترط اتفاق الدينين جنساً ووصفاً ووقتاً وقدراً]. هذا الشرط الثاني من شروط صحة الحوالة: اتفاق الدينين جنساً ووصفاً وقدراً. الجنس: أن يتفق الدينان -الدين الأول الذي تحيل به والدين الثاني الذي تحيل عليه- جنساً كذهب بذهب وفضة بفضة ودنانير بدنانير ودراهم بدراهم وريالات بريالات ودولارات بدولارات. فلا يصح أن يحيل بذهب على فضة، ولا يصح أن يحيل بريالات على دولارات؛ لأن رصيد الريالات من الفضة ورصيد الدولارات من الذهب، ولا يصح أن يحيل الريالات بالجنيهات ولا العكس؛ لأن رصيد الريالات من الفضة ورصيد الجنيهات من الذهب. فلو أن شخصاً له على آخر ثلاثة آلاف ريال، والمديون له على شخص ثانٍ مبلغ ألف دولار، فالثلاثة آلاف ريال تعادل الألف دولار، فأراد أن يحيل، نقول: لا يصح؛ لأنه في هذه الحالة تدخله شبهة الربا. ولذلك قال العلماء: لا يصح أن يحيل إلا مع اتحاد الدينين جنساً، وهذا راجع إلى مسألة أن الحوالة فيها شبهة بيع الدين بالدين. ولذلك العلماء اختلفوا في الحوالة على وجهين، وبعضهم يقسمه إلى ثلاثة أوجه: قال بعض العلماء: الحوالة من بيع الدين بالدين. فأنت لك عليّ عشرة آلاف دين، وأنا أُحيلك على شخص آخر لي عليه عشرة آلاف، فأصبح من باب بيع الدين بالدين، وهذا الوجه يقول به طائفة من العلماء رحمهم الله. وفائدة هذا الوجه: أنك إذا قلت: إن الحوالة من باب بيع الدين بالدين يثبت فيها خيار المجلس، وتسري عليها أحكام البيوع، ويعتبر عقد الحوالة بناءً على هذا القول مستثنىً من الأصل وخارجاً عن الأصل، وهذا في الحقيقة من أقوى الأقوال في المسألة وهو أنه من بيع الدين بالدين، فإن الذين قالوا: بأنها عقد إرفاق أو عقد استيفاء لم يستطيعوا أن يطبقوا أوصاف الاستيفاء في الأثر. ولذلك إذا أحال على مليء فاحتال فإنه لا يستطيع أن يرجع إليه، فدل على أن الذمة قد انتقلت، وهذا لا يمكن أن يقع في مسألة الاستيفاء كما ذكرنا في الرهونات، وإنما يقع في مسألة البيع. ولذلك القول: بأنها من بيع الدين بالدين من القوة بمكان، و Q إذا كان الشرع قد حرم بيع الدين بالدين فكيف جازت الحوالة؟ قالوا: إن هذا مستثنى من الأصل. ولذلك يجوز إخراج الخاص من العام، فالأصل العام يقتضي عدم جواز بيع الدين بالدين، ولكن جاز في الحوالة لورود إذن الشرع بها ولهذا نظائر؛ فإن الشرع يضع الشيء فتبقى قاعدة ثم يستثني فروعاً منها، وقد يأتي الحكم في الشرع على سبيل العموم ثم يخصص الشرع منه ما شاء. وبناءً على ذلك تكون الحوالة فيها صورة البيع، وعلى هذا فإنهم يقولون: لابد وأن يكون الدينان متفقين جنساً كذهب بذهب وفضة بفضة، فلا يصح أن يحيل ذهباً على فضة ولا فضة على ذهب، كذلك أيضاً: لابد أن يتفق الدينان صفة؛ لأن الدين يكون معجلاً ويكون مؤجلاً؛ فإذا كان لك على شخص دين إلى نهاية محرم وأحالك على شخص عليه دين مؤجل إلى نهاية محرم صحت الحوالة، فلو قال لك: يا محمد! لي على زيد عشرة آلاف في نهاية محرم، فالعشرة آلاف التي لك عليّ في نهاية محرم أحيلك على الدين الذي لي على زيد؛ صح ذلك لاتفاق الدينين تأجيلاً. وكذلك تعجيلاً فلو أنه أعطاك خمسة عشر ألفاً وحل الأجل في يوم خمسة عشر من ذي الحجة، فجاءك وقال لك: يا فلان! لي عليك خمسة عشر ألفاً أعطنيها، فتقول: أنا لي على زيد من الناس خمسة عشر ألفاً، وقد حلت مثلما حل دينك، اذهب وخذها من فلان فحينئذٍ يصح؛ لأن الدينين اتفقا صفة فالعاجل بالعاجل والآجل بالآجل، لكن لو كان أحدهما مُعجلاً والآخر مؤجلاً لم يصح، فلابد من اتفاقهما تعجيلاً وتأجيلاً. الوصف: معلوم أن الدنانير من الذهب تختلف، فهناك الدنانير المصرية والدنانير الأميرية والدراهم البغلية فيقولون: جنساً كذهب بذهب وفضة بفضة، ووصفاً وعليه فدراهم مصرية بأميرية لا يصح؛ لأن هذه لها صفة غير صفة هذه، أو دنانير مكسرة بدنانير صحيحة، أو دراهم مكسرة بدراهم صحيحة لا يصح، لكن دراهم صحيحة، بدراهم صحيحة ودنانير صحيحة بدنانير صحيحة يصح. ويدخل في الوصف التعجيل والتأجيل، وبعض العلماء يفرق التعجيل والتأجيل في الوقت كما صنع المصنف فقال: (جنساً ووصفاً ووقتاً). الوقت: هو التعجيل والتأجيل، ولابد في المؤجل أن يتفقا قرباً وبعداً، فلا يصح أن يكون الدينان أحدهما أجله قريب والثاني أجله بعيد، بل لابد وأن يتفق الأجلان حتى تصح الحوالة. قدراً: كعشرة آلاف بعشرة آلاف وخمسة عشر، بخمسة عشر، لكن يجوز أن يحيله بعشرة آلاف على شخص له عليه عشرون، فيقول له: أعطه منها عشرة يصح، ولا يؤثر وجود الفضل والزيادة، وتكون الحوالة في الحق الثابت بالدين الأول، فيقول له: لك عليّ عشرة آلاف ولي على زيد عشرون، اذهب وخذ منها عشرة سداداً لدينك ووفاءً لحقك. قال: [ولا يؤثر الفاضل]. كما ذكرنا كأن يحيله بعشرة آلاف على من له عليه عشرون.

أن تكون الحوالة بمعلوم

أن تكون الحوالة بمعلوم الشرط الثالث من شروط صحة الحوالة: أن تكون بالمعلوم فلا تصح بالمجهول؛ لأنها إبراء للذمم، فلا يصح أن تكون بالمجهولات، لابد وأن يتحقق فيها العلم، خاصة وأننا قلنا: إن فيها شبهة البيع، فعلى القول بأن فيها شبهة البيع؛ فالبيع لا يصح بالمجهول، وقد بينّا اشتراط العلم بالمبيع.

أن تكون الحوالة برضا المحيل

أن تكون الحوالة برضا المحيل الشرط الرابع: رضا المحيل، فإذا أراد أن يحيلك اشترط أن يحيلك برضاه واختياره، ولا يصح دون رضا المحيل مثلاً، لو كان لك على زيد عشرة آلاف وأنت تعلم أن زيداً له على عمرو عشرة آلاف ليس من حقك أن تذهب إلى عمرو مباشرة دون أن يحيلك زيد، فإذاً: يتشرط فيها رضا المحيل، ولا يشترط رضا المحال كما سيأتي. هذه أربعة شروط هي التي تصح بها الحوالة، وقد عبر المصنف بقوله: (ولا تصح) وهذا يدل على أن الشروط شروط صحة؛ لأننا قدمنا أن هناك شروط صحة، وهناك شروط إجزاء، وهناك شروط نفاذ، وهنا قصد المصنف أن يبيّن أن هذا الشرط إذا لم يوجد ولم يتحقق لا نحكم بصحة عقد الحوالة. فإذاً هذه الأربعة شروط لا تصح الحوالة بدونها وهي: - الشرط الأول: أن يكون بدين ثابت مستقر. - الشرط الثاني: أن يكون الدينان متفقين جنساً ووصفاً ووقتاً وقدراً. - الشرط الثالث: أن تكون بمعلوم لا بمجهول. - الشرط الرابع: أن تكون برضا المحيل. هذه أربعة شروط لابد من توفرها، أما رضا المحيل: فقد حكى العلماء رحمهم الله الإجماع بهذه الصيغة بلا خلاف، فليس هناك أحد يخالف ويقول: إنها تقع حتى ولو لم يرض، إلا خلافاً شاذاً حكي عن الحسن البصري أحد أئمة التابعين رحمه الله برحمته الواسعة، ولكن جماهير السلف والخلف على هذا القول أنها لا تصح إلا برضا المحيل.

الأثر المترتب على صحة الحوالة

الأثر المترتب على صحة الحوالة قال رحمه الله: [وإذا صحت نقلت الحق إلى ذمة المحال عليه وبرئ المحيل]. (وإذا صحت): الضمير عائد إلى الحوالة. فإذا صحت نقلت الدين والحق إلى ذمة المحال عليه. فإذا كان لك عليّ عشرة آلاف وأحلتك وصحت حوالتي انتقل حقك عليّ إلى ذمة زيد الذي ليّ عليه عشرة آلاف. وبناءً على ذلك يلاحظ أنها إلى البيع أقرب، ولذلك لو أحاله للاستيفاء لم يضر ولا نحكم باللزوم بمجرد الحكم كما ذكرنا في الرهن، وعلى هذا بمجرد وجود الشروط المعتبرة بصحة الحوالة لزمته، وليس من حقه أن يرجع لا المحيل ولا المحال. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع) وفي رواية لـ ابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما: (فأَتْبِعْهُ) وهذا يدل على أنها إذا صحت حينئذٍ نحكم بانتقال الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه. وأنبه ما على مسألة مهمة ستأتي إن شاء الله، فنحن أخرنا مسائل من العقود المعاصرة التي إن شاء الله سنتكلم عليها بعد باب الحوالة؛ والمشكلة أنه تؤخذ أسماء العقود الشرعية وتوضع على الأشياء ويدعى أنها شرعية، ولذلك أحببنا أن لا نتعرض للمسائل المعاصرة إلا بعد انتهائنا من العقود الشرعية كي نتصورها ونفهمها، حتى إذا جئنا نقول: منهم من يقول: إنها حوالة نقول: أنتم تعرفون أن الحوالة ضابطها كذا وكذا فهل ينطبق الضابط هنا أو لا؟ بمعنى حينما يأتي رجل إلى المصرف ويعطيه عشرة آلاف ريال على أن يحيلها إلى بلد في الخارج بقيمة غير قيمة الريالات -إلى دولارات أو إلى جنيهات- فهذه لا تعتبر حوالة لعدم الاتفاق في الجنس، ثم ليس فيها دين مستقر أيضاً. فما سبق يطلق عليه عامة الناس حوالة ولو جئت تقول: هذا لا يجوز؛ لأنه يشترط فيه التقابض فهو بيع وصرف، قال: لا هذا حوالة والحوالة جائزة شرعاً، فالعقود الشرعية لابد وأن تضبط بما ضبطها به أهل العلم مما استنبط من الكتاب والسنة. إذاً المسألة السابقة ليست من باب الحوالة، وإنما تكون في هذه الحالة وكالة وصرفاً، صرف لأنه صرف العشرة آلاف ريال إلى دولارات أو جنيهات أو إلى أي عملة أخرى، ثم وكل أن يعطى فلان في ذلك البلد، فهي إلى الوكالة أشبه منها بالحوالة؛ لأنه ليس له على الطرف الثاني بالبلد الثاني دين، إذاً ليس هناك دينان فلا يمكن أن ينطبق عليها ضابط الحوالة، فالحوالة التي ذكرها العلماء سبق ذكرها وذكر ضوابطهما، فانظروا كيف يكون الاسم والمسمى في الظاهر شيء، ولكن في الحقيقة والجوهر واللب شيء آخر. ومن هنا ننبه على مسألة مهمة -وإن شاء الله سننبه عليها أكثر- وهي قضية المسائل في المعاملات المعاصرة، لا تتحدث عن أي معاملة معاصرة تريد تخريجها على القديم إلا بعد ضبط القديم، فإذا قالوا: وديعة انظر ما هو ضابط الوديعة عند المتقدمين، وبعد أن تفهم ما هي الوديعة، وما هي حقيقتها عند المتقدمين، انظر في صورة المسألة المعاصر هل استوفت الأوصاف المعتبرة أم لا؟ إذا قال قائل: لو أردت أن أحيل عشرة آلاف من جدة إلى المدينة، فالدين واحد وهو عشرة آلاف بعشرة آلاف فحينئذٍ نقول: هذه المسألة ليست من باب الحوالة؛ لأنه ما مِن دين ثانٍ، يعني أنت الآن تتعامل مع شخص هو نفسه الذي سيفوض شخصاً آخر. وبناءً على ذلك يقولون: إنها إلى الوكالة أشبه منها من الحوالة، وهناك وجه عند اتفاق المبلغ المحال جنيهات أو ريالات أن يعطى حكم الحوالة، وسنبين ذلك عند حديثنا عن أحكام الحوالات بعد الانتهاء من باب الحوالة إن شاء الله تعالى. قال: [نقلت الحق إلى ذمة المحال عليه وبرئ المحيل] إذا أحلت شخصاً واستوفيت الشروط المعتبرة للحوالة، تكون عندها نقلت الحق وهو العشرة آلاف من ذمتك إلى ذمة من أحلت إليه، وبهذا تكون قد برئت ذمتك؛ لكن بالشروط التي ذكرناها في صحة الحوالة، وأن تكون الحوالة قد استوفي فيها شرط الإلزام، كأن تحيل على مليء، فلو أحلت على مفلس أو أحلت على غير مليء، فإنه لا تبرأ ذمتك ولا يلزم بالاتباع، لكن لو قبل برئت ذمتك. فإذاً من حيث الأصل نقول: إذا استوفت الحوالة شروطها وكانت على مليء واحتال المحال فإنها تبرأ ذمة المحيل.

حكم من أحال على مليء افتقر

حكم من أحال على مليء افتقر لكن هنا مسألة: نحن ذكرنا أن زيداً لو أحال عمراً على خالد بعشرة آلاف ريال، وخالد غني مقتدر وتمت الحوالة مستوفية للشروط، وبعد يومين أو ثلاثة أيام افتقر خالد أو أصبح معسراً فهل يرجع إلى المحيل؟ A لا. لأنه إذا تمت الحوالة وكانت في وقتها مستوفية للشروط وحكمنا بصحتها وبلزومها برئت ذمة المحيل مباشرة، وإذا برئت ذمته انقطعت الصلة بينه وبين من يطالبه، فحينئذٍ يكون وجهه على الطرف الثاني وهو المحال عليه.

المعتبر في الحوالة رضا المحيل لا المحال عليه

المعتبر في الحوالة رضا المحيل لا المحال عليه قال رحمه الله: [ويعتبر رضاه لا رضا المحال عليه]. أي ويعتبر رضا المحيل؛ لأنه في الحقيقة إذا كان لك عليّ دين وأردت أن أحيلك على شخص آخر فإن الشخص الآخر -الذي هو خالد- الذي لي عليه الدين من حقي أن أحيلك عليه ومن حقي أن أسدد دينك من مالي، فكونك تذهب مباشرة إلى خالد ليس من حقك ولا تثبت لك به الحوالة، فلو أنك ذهبت مباشرة إلى خالد وقلت: يا خالد لي على محمد عشرة آلاف ريال أريد أن آخذ منك العشرة آلاف التي لمحمد عليك، وأعطاك خالد المبلغ، فإن خالد! يُلزم شرعاً في هذه الحالة بدفع العشرة آلاف إليّ ويضمن؛ لأنني لم أوكله ولم آذن له بصرفها إلى ذلك الشخص الذي له عليّ الدين. إذاً لا تصح الحوالة إلا برضا المحيل، واعتبرناه شرطاً كما ذكرنا وهذا بلا خلاف، وقد نقل هذه الصيغة الإمام ابن قدامة والشوكاني وغيرهما من الأئمة رحمهم الله بلا خلاف أن رضا المحيل معتبر. قال: [لا رضا المحال عليه] في أصح قولي العلماء: أنه ليس من حق المحال عليه أن يمتنع وهو الطرف الثاني -خالد- الذي لي عليه عشرة آلاف، فلو أحلتك على خالد فليس من حق خالد أن يقول: لا، إنما يلزم؛ لأن ذمته مشغولة لي، ولي حق أن أصرفها إلى الغير، فهذا حق مستحق عليه سواءً دفعه لي أو دفعه لغيري، وليس من اللازم أن يرضى. إلا أن بعض العلماء يقول: يشترط رضا المحال عليه. والسبب في هذا: أن للناس كرامة ولهم حقوق، فقد أرضى أن آخذ الدين منك وتكون غريماً لي ولا أرضى بشخص آخر، فقالوا: إذا كان فيه ضرر كعدو يشمت به أو إنسان منّان يتحدث أو يؤذيه أو يضره فمن حقه أن يمتنع من الإحالة. وهذا القول في الحقيقة من جهة مقاصد الشريعة العامة له وجهه، لكن من جهة المعاملات وضوابط المعاملات وأصول المعاملات والقواعد المقررة في شريعتنا في المعاملة ليس من حقه أن يرضى، يعني رضاه أو عدم رضاه ليس بمشترط، بمعنى أننا إذا جئنا إلى وجود الضرر -والقاعدة أن الضرر يزال- وأن الحوالة هنا تضمنت الضرر وقد شرعت للرفق ممكن أن تقول: ويشترط رضا المحال عليه. وإذا جئت تنظر من جهة استيفاء الحقوق أن الرجل ما ظُلم، وأن الحق الذي على خالد سيدفعه لمحمد أو سيدفعه لي على حد سواء، وغاية هذا الأمر أنه نقل الحق من ذمة إلى ذمة وليس في هذا ضرر، فكما أنه مطالب بحق محمد فهو مطالب بحقي هذا يقتضي الجواز، أي: يقتضي أنه يجوز أن يحيله بدون رضاه وكلا القولين له وجهه.

لا عبرة في الحوالة برضا المحال

لا عبرة في الحوالة برضا المحال قال: [ولا المحتال على مليء]: أي لا يشترط رضاك إذا أُحلت على مليء، وهذا لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع) مفهوم قوله: (على مليء) أنك إذا أُحلت على غير مليء فإن من حقك أن تمتنع، فلو قال لك رجل: العشرة آلاف التي لك عليّ أحيلك على زيد وأنت تعرف أن زيداً مفلس، أو أن زيداً مماطل، وأنه مؤذٍ ولا تستطيع أن تستوفي حقك منه فمن حقك أن تمتنع، وهذا صحيح أنه لا تلزمك الحوالة إلا إذا كانت على مليء لا ضرر عليك من الحوالة عليه.

عدم نفاذ الإحالة على مفلس إلا برضا المحال

عدم نفاذ الإحالة على مفلس إلا برضا المحال قال: [وإن كان مفلساً ولم يكن رضي رجع به]. (وإن كان مفلساً) يعني المحال عليه، (ولم يكن رضي) يعني المحال (رجع عليه) بمعنى أنه إذا رضي ليس من حقه أن يرجع. فإذاً إذا أحلت على مفلس فهناك صورتان: الصورة الأولى: أن لا ترضى، فلو أُحلت على مفلس ولم ترض، ثم ذهبت إلى المفلس فامتنع وأبى، فمن حقك أن ترجع إلى المحيل. والصورة الثانية: أن تحال على مفلس وترضى، فلما رضيت وذهبت إلى المفلس وجدته سيتعبك فرجعت إلى المحيل، فليس من حقك أن ترجع. إذاً الرضا يسقط الحق في الرجوع، فالمحال إذا رضي بالمفلس فإنه ليس من حقه أن يرجع.

الحكم فيمن أحيل بثمن مبيع ثم ظهر بطلان البيع

الحكم فيمن أحيل بثمن مبيع ثم ظهر بطلان البيع قال رحمه الله: [ومن أحيل بثمن مبيع أو أحيل به عليه فبان البيع باطلاً فلا حوالة]. فلو بعت عمارة بخمسمائة ألف ريال، ولما بعتها بهذا المبلغ قبض المشتري العمارة على أن يسدد لك المبلغ في نهاية السنة فالدين ثابت ومستقر، وأردت أن تحيل شخصاً له عليك نصف مليون فقلت له: النصف مليون التي لك عليّ أحيلك على فلان الذي اشترى مني العمارة، فهذه الحوالة صحيحة. فهنا الدينان متفقان جنساً ووصفاً وقدراً ووقتاً وقد رضي المحال على أنه في نهاية السنة سيذهب ويأخذ المبلغ، يصح أن تحيل على ثمن العمارة إذا كنت أنت البائع، ويصح للمشتري منك الذي تطالبه بنصف المليون أن يحيلك على آخر، يعني بثمن العمارة الذي تطالبه به وهو نصف مليون، فيصح لكلا الطرفين البائع والمشتري. البائع يُحيل بدين عليه يؤخذ من قيمة العمارة، هذا بالنسبة للبائع، والمشتري يحيل البائع بدين العمارة وهي نصف مليون على شخص آخر له عليه نصف مليون، هذا بالنسبة لأصل الحوالة، فالمبيع صحيح ولا إشكال فيه، ففي نهاية السنة ذهب صاحب العمارة إلى ذلك الشخص الذي أحلته عليه فأعطاه نصف مليون، فلا إشكال؛ لأن الحوالة تمت وبرئت الذمة. العكس لو أن صاحب العمارة طالبه طرف ثانٍ بنصف مليون فأحال على المشتري، أي: أحال عليك رجل له عليه نصف مليون، فجاء في نهاية السنة وطالبك بنصف مليون وأعطيته إياها، فإذاً صحت من البائع وصحت من المشتري، هذا بالنسبة إذا كان المبيع مستوفياً للشروط. لكن لو وقعت الحوالة في مبيع باطل من أصله كمن باع خمراً أو باع ميتة أو باع خنزيراً فالثمن غير مستحق في الأصل، فإذا كان الثمن غير مستحق في الأصل فالدين غير ثابت؛ لأننا بينّا أن من شروط صحة الحوالة أن تكون بدين مستقر، والدين إذا كان أصله باطلاً لم تثبت المطالبة. فلو أنه باعه محرم العين بألف ريال، فإن هذه الألف لا تثبت والذمة لا تنشغل بها، فالبيع باطل من أصله وليس هناك دين أصلاً، فلو أحال عليه أو به لم تصح الحوالة. إذاً يُشترط في صحة الحوالة كما ذكرنا أن يكون الدين من حيث الأصل ثابتاً، وإذا كان البيع من أصله باطلاً لم يثبت الدين، وإذا لم يثبت الدين لم تصح الحوالة ويُحكم ببطلانها. هذا بالنسبة إذا بان أن البيع باطل، أو أن المبيع مستحق للغير؛ كرجل باعك عمارة بنصف مليون، وتبين أنه اغتصب العمارة أو أنها ملك لغيره، فالدين غير ثابت، فالحوالة باطلة فلو أحال عليه أو به لم تصح.

الحكم فيمن أحيل بثمن مبيع ثم انفسخ البيع

الحكم فيمن أحيل بثمن مبيع ثم انفسخ البيع قال رحمه الله: [وإذا فسخ البيع لم تبطل ولهما أن يحيلا]. فرق العلماء بين بطلان البيع وفسخ البيع، وفقه المسألة راجع إلى مسألة استقرار الدين، وهي أشبه بالمسألة المتقدمة معنا حينما قلنا ليس من حق الزوجة أن تحيل على زوجها في صداق قبل أن يدخل بها؛ لأن الدين لم يستقر، ومن حق الزوج أن يحيل الزوجة بذلك الدين على شخص آخر؛ لأن من حقه أن يعجل المهر. كذلك هنا فرقنا بين كون البيع باطلاً من أصله بحيث لا يثبت دين، وبين كونه ثابتاً ثم يطرأ الفسخ من المتعاقدين، أو يوجد سبب يوجب الخيار كخيار العيب ونحوه كما سنبينه. لما قلنا للزوج في الحوالة أنه إذا كان الدين مستقراً صحت الحوالة عليه وبه كما ذكرنا، وإذا كان غير مستقر فإنه يصح أن يحيل على طرف ثانٍ في دين غير مستقر فالمرأة -مثلاً- إذا كان مهرها عشرة آلاف ريال فمن حقك أن تعطيها عشرة آلاف ريال قبل الدخول فتعجل لها ذلك، فكما أن من حقك أن تعطيها العشرة آلاف قبل الدخول فمن حقك أن تقول لها: هذه العشرة التي لك عليّ أو أعطيتك إياها مهراً أحيلك على زيد أو على عمرو الذي لي عليه عشرة آلاف؛ فأحلتها وهي تطالبك بدين غير مستقر. فإذاً فقه المسألة كلها في الدين المستقر، وهنا في البيع إذا جاء وقال لها: بعتك عمارتي بعشرة آلاف ريال والعمارة صحيحة وقبضت وثبت الدين صحت الحوالة من البائع ومن المشتري بالتفصيل الذي ذكرناه، فلو أن هذا البيع الذي وقع بين الطرفين تبيّن أنه باطل من أصله، فإذاً لم يثبت استقرار الدين في الذمة فتبطل الحوالة؛ لأن ما بني على باطل فهو باطل، كما لو قال لك: العشرة آلاف التي لك عليّ خذها من زيد وهو ليس له على زيد عشرة آلاف وادعى أن له على زيد عشرة آلاف، فإذاً هي باطلة من أصلها. فهنا إذا بان بطلان البيع فكأنه أحالك على شخص ليس له عليه شيء، لكن لو أن البيع صح ثم إن الطرفين اتفقا على الإقالة؛ فحينئذٍ يفرّق بينهما؛ لأن البيع أثبت الحق وإذا ثبت الحق فكونهما بعد ذلك يريان فسخه المهم أنها تثبت الحوالة كما قلنا: إذا كان مليئاً أثناء الحوالة ثبتت الحوالة، ثم بعد ملئه صار مفلساً، فيكون قد طرأ شيء وهذا لا يؤثر. فإذاً إذا كان البيع بأصله صحيحاً ثم ظهر في المبيع عيب يقع به خيار العيب واستحق الفسخ، فإن الذمة قد شغلت في الأول إن صح البيع، فصح أن يحيل عليه وبه. فكونه بعد ذلك يطرأ ما يوجب الخيار ويختار أحدهما الفسخ هذا أمر لا يلغي العقد؛ فحينئذٍ يصح أن يحيل به وأن يحيل عليه، ففرّق بين كونه باطلاً في أصله وبين كون الطرفين قد اتفقا على فسخه أو على الإقالة فانفسخ البيع بسببهما. إن شاء الله بالنسبة للدرس القادم وما بعده سيكون الحديث عن المسائل المعاصرة، نتحدث فيها على جملة من المسائل المتعلقة بالحوالة والضمان، نسأل الله عز وجل أن يرزقنا المعونة، وأن يجعل العلم خالصاً لوجه الكريم موجباً لرضوانه العظيم. وسنبين فيها بعض الفروع والمسائل؛ لأن هذا متصل بموضوعنا، فالفقه قديمه جديد وجديده قديم، فالشريعة صالحة لكل زمان ومكان، وكوننا ندرس الفقه القديم دون أن يكون هناك إلمام بالمسائل التي سميت بأسماء العقود القديمة حتى نعرف صوابها من خطئها وحقها من باطلها هذا لا شك أنه يكون بمعزل. ولا يخفى أن الإنسان إذا قرأ الفقه وكانت الأمثلة قديمة لم يستطع أن يستوعب، ولن يستطيع أن يستفيد أو يفيد، فلذلك لابد من التعرض لهذه المسائل ومعرفة موقف الشريعة منها. وهذا إن شاء الله وبإذن الله عز وجل سنسير فيه على منهج التصور، فإن كان عندنا عقد قديم نتصوره، وإذا كان عندنا عقد جديد نتصوره؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وبعد أن نتصوره بحقيقته وبطريقه المعروفة بعد ذلك يكون التخريج أو ما يسمى بالتكييف الفقهي، وهو معرفة كيفية العقد وصورته الفقهية هل هو مخرج على عقد شرعي؟ يعني إما أن يكون مخرجاً على عقد شرعي قديم أو غير مخرج، فإن كان مخرجاً على عقد شرعي قديم تنتقل إلى مسألة ثانية وهي ما هي شروط هذا العقد القديم؟ وهل استوفى هذا الجديد الشروط القديمة؟ أم حصل تغيير في شروطه وتغيير فيما ذكره العلماء من لوازمه؟ كل ذلك إن شاء الله سنبينه، ونسأل الله تعالى أن يعيننا بحوله وقوته، وأن يلهمنا الرشد والصواب، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الأسئلة

الأسئلة

الحكم فيما لو أحال المستأجر المؤجر بأجرته قبل استيفاء المنفعة

الحكم فيما لو أحال المستأجر المؤجر بأجرته قبل استيفاء المنفعة Q علمنا أنه يجوز أن يحيل الزوج زوجته بصداقها قبل الدخول، فهل يماثلها لو أحال المستأجر المؤجر من أجرته قبل استيفاء المنفعة؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: اختلف العلماء رحمهم الله في عقد الإجارة هل الأجرة لازمة بالعقد أو لازمة بالاستيفاء؟ هذان وجهان للعلماء: بعض العلماء يقول: الأجرة لازمة بالعقد، وبناءً على هذا القول تستحق الأجرة بمجرد العقد، ويشمل هذا إجارة المنافع والدور. مثلاً لو استأجرت شقة سنة باثني عشر ألفاً، فإن كل شهر له ألف ريال، قالوا: إن الأجرة تستحق بمجرد العقد، فأشكل على هذا القول كيف تقولون: إن صاحب الشقة يستحق الاثني عشر ألفاً مع أن المستأجر لم يستنفع بعد والمنافع غير موجودة؟ قالوا: تمكين المؤجر للمستأجر من السلعة ينزل فيه المعدوم منزلة الموجود، يعني ما دام خلى بينه وبين الشقة ومكنه منها فمعنى ذلك أنه سيستوفي فينزل المعدوم منزلة الموجود. والوجه الثاني: أن الأجرة تستحق بالاستيفاء، وعلى هذا تستحق شيئاً فشيئاً، فإذا تمت السنة استحق الاثني عشر ألفاً. فائدة الخلاف: لو أعطاك الأجرة مقدماً فحينئذٍ أنت تستحقها شيئاً فشيئاً شهراً فشهراً، وعلى هذا لا تلزمك زكاتها إلا بعد الاستحقاق. وأما إذا قلنا: إنها تستحق بالعقد فينشأ حولها من القبض، فإن قبضت الأجرة تصبح في هذه الحالة تستقبل الحول بالاثني عشر كاملاً، لكن إذا قلنا: إنها تستحق بالمنافع فلكل شهر أجرته ولكل شهر حوله. والله تعالى أعلم.

صيغة انعقاد الحوالة

صيغة انعقاد الحوالة Q هل للحوالة صيغة معينة أم تنعقد بكل ما دل عليها؟ A الحوالة تنعقد بالصيغة الصريحة، أحلت على فلان، وهذا من صريح الألفاظ، وبعض العلماء أجاز أن تكون بلفظ الوكالة وبالألفاظ التي جرى العرف بها كقولك: خذ حقك من فلان أو خذ مالك عليّ من فلان فلا ذكر هنا للحوالة، لكن هذا يعتبر من الكنايات ورجح شيخ الإسلام رحمه الله وطائفة: أن صيغ العقود لا تتقيد بالألفاظ المخصوصة، وإنما يرد فيها إلى كل عرف بحسبه، فإن فهم الطرفان معنى الحوالة، أخذت حكم الحوالة وإن لم يكن ذلك فلا. والله تعالى أعلم.

حكم إحالة المحال عليه إلى آخر

حكم إحالة المحال عليه إلى آخر Q هل للمُحال عليه أن يحيل على آخر؟ A إذا ثبت الدين واستقر فإنه في هذه الحالة يكون الحق للأول ولا يجوز صرفه إلى الثاني؛ لأن الحوالة خارجة عن الأصل، ولذلك تشرع بالحوالة الأولى ولا تنتقل إلى حوالة ثانية لشُبهة البيع كما ذكرنا، وقالوا: خاصة إذا كان من جنس ما يشترط فيه القبض؛ لأن ما يشترط فيه القبض -كما قال العلماء- لا يصح بيعه قبل قبضه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

بعض المعاملات المالية المعاصرة وبطاقة الائتمان [1]

شرح زاد المستقنع - بعض المعاملات المالية المعاصرة وبطاقة الائتمان [1] الفقه الإسلامي كل ما يتعلق بالمسائل المالية، ومن هذه المسائل ما يتعلق بالقرض والرهن والضمان وغيرها من الأبواب الأخرى. ونظراً لما في الشريعة من المرونة والشمول لكل ما يستجد في حياة الناس، فقد أدرجت تحت هذه الأبواب بعض المعاملات المالية المعاصرة والتي منها بطاقة الائتمان، فبينت ما يتعلق بها من أحكام، وفرقت بين ما يجوز فيها من معاملات وما لا يجوز.

توطئة في المعاملات المالية المعاصرة

توطئة في المعاملات المالية المعاصرة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فقد تقدمت معنا جملة من الأبواب التي تتعلق بالمسائل الفقهية المالية، وكان آخرها باب القرض والرهن والضمان والكفالة والحوالة، وهذه الأبواب ترتب بعضها على بعض. وذكرنا أن العلماء رحمهم الله من المحدثين والفقهاء ذكروا القرض؛ لأن الرهن ينبني عليه فأتبعوه بالرهن، وكذلك الكفالة والضمان كلٌ منهما متعلق بالذمم، ومن هنا أتبعوا باب الرهن بباب الضمان. ثم ذكرنا باب الحوالة؛ لأنه يتعلق بالديون وشغل الذمم، فهو طريق لإبراء الذمة بإحالة صاحب الدين على مدينٍ آخر، وذكرنا المسائل المتعلقة بهذه الأبواب. ونظراً إلى أن بعض المعاملات المالية المعاصرة تندرج تحت بعض هذه الأبواب، كان من الأهمية بمكان أن يعتنى ببيان حكمها الشرعي، وما يتعلق بها من مسائل؛ لأن قديم الإسلام جديد وجديده قديم، وحكم الله سبحانه وتعالى في المسائل المالية كحكمه في المسائل المتعلقة بالعبادات، فالإسلام دين كامل، ما ترك صغيرة ولا كبيرة إلا بيّن حكمها وأصلها، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فمن كمال هذه الشريعة أنها وفّت للناس لبيان حكم الله عز وجل في كل صغير وكبير، وجليل وحقير. وقد اعتنت الشريعة الإسلامية واعتنى العلماء من المحدثين والفقهاء ببيان الأحكام لكل ما جدّ وطرأ، ولم تقف الشريعة يوماً من الأيام عاجزة أمام مسألة أياً كانت المسألة، وإن قصرت أفهام بعض العلماء عن فهم بعض المسائل، فهذا لا يعني أن الشريعة عاجزة عن بيان الحكم: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115] فكلمات الله تامة، والقواعد التي جاءت بها آيات الكتاب وأحاديث السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قواعد عامة جامعة شاملة، اندرجت تحتها المسائل وأيضاً تبعتها النوازل؛ ولذلك لما شعّ ضياء الإسلام على مشارق الأرض ومغاربها، وكانت الأمة الإسلامية من المحيط إلى المحيط ما وقفت يوماً من الأيام عاجزة عن بيان حكم من أحكام الله عز وجل في مسألة أياً كانت المسألة. وعلى هذا كان من الأهمية بمكان لطالب العلم أن يربط بين المسائل المعاصرة والمسائل القديمة، وأن يعرف حكم الله عز وجل في هذه المسائل، وإذا كانت المسألة قد طرأت وجدّت في أي عصر من العصور، خاصة إذا كانت مسألة متعلقة بالمعاملات المالية، فإن على طالب العلم أولاً أن يعرف حقيقة المعاملة أو صورة المسألة، فأول ما ينبغي على طالب العلم في المسائل العصرية مرحلة التصور، ومرحلة التصور تحتاج من طالب العلم أن يسأل أهل الخبرة وأهل المعرفة عن هذه المسائل، فإن كانت المسألة التي طرأت عليك في الفقه متعلقة بالأموال، رجعت إلى من عنده خبرة بمسائل الاقتصاد والمال وسألته، وإن كانت المسألة متعلقة بالطب رجعت إلى الأطباء وسألتهم، وخلال ذلك ينبغي على السائل عند سؤال للمختصين أن يكون سؤاله لأوثق الناس وأعرف الناس وأعلم الناس في كل فن، وقد قرر هذا شيخ الإسلام رحمه الله وأئمة الإسلام الأعلام، أنه يرجع في كل فن إلى أهل العلم به، فإذا سألتهم وبينوا لك حقيقة المعاملة حينئذٍ تصورت، وبعد أن تتصور تكون قد درست الباب الذي تندرج تحته المسألة، فإن كانت المسألة مالية متعلقة مثلاً بباب الشركات تتصور ما هي حقيقة الشركة المعاصرة، وقد بين الفقهاء رحمهم الله في كتبهم كنوزاً عظيمة ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها أيما عناية، فتجدهم يذكرون في كل باب أركانه وشروطه وواجباته، وهذه الأمور التي ذكروها إذا أتقنها طالب العلم يستطيع في أي مسألة أن يلمّ بشتاتها؛ لأنه إذا كانت المسألة متعلقة بالشركات -وهي مسألة معاصرة- سألت فاستبانت حقيقة الشركة، وعرفت أطراف الأفراد المشتركين فيها، والمقصودة منها، ومجال التعامل فيها، ثم بعد ذلك رجعت إلى ما قرره العلماء: ما هي أركان هذه الشركة، وما هي الشروط المعتبرة للحكم بصحة الشركة، وما هي الأمور التي ينبغي توفرها للحكم بسلامة عقود الشركات، ثم بعد ذلك تبيّن هل هي جائزة أو غير جائزة. فإذاً: عندنا أمران: الأمر الأول: يتعلق بالتصور. والأمر الثاني: يتعلق بما يسمى بالتخريج الفقهي. فأنت إذا تصورت الذي أمامك مما جدّ ونزل من المسائل، بعد ذلك تكون عندك الخلفية القديمة للمسائل القديمة التي قعّدها العلماء فتنظر، قالوا: هذا عقد حوالة، وسموه حوالة مثلاً، ترجع إلى باب الحوالة في الفقه، وتسأل: ما هي حقيقة الحوالة أولاً؟ ثم ما هي أركانها؟ وما هي شروطها المعتبرة للحكم بصحتها؟ ثم تنظر في الذي أمامك هل ينطبق عليه تعريف الحوالة الذي ذكره العلماء؟ وما هي الأركان في هذا العقد المعاصر للحوالة المعاصرة؟ فإن وجدته تنطبق عليه الصفات حينئذٍ تفرّع عليه ما ذكره العلماء، وتكون حوالة إلا أنها اختلفت باختلاف الأزمنة والأمكنة، إلا أن الحقيقة والجوهر شيء واحد. هذا بالنسبة لمسألة التخريج. في بعض الأحيان قد تجد أن الاسم شيء والحقيقة شيء آخر، فيقال: هذه وديعة، فترجع إلى أساس الوديعة وضابط الوديعة عند الفقهاء فتجده لا ينطبق على ما يسمونه مثلاً وديعة، فتقول: هذا العقد يسمى في زماننا بالوديعة، ولكنه في الحقيقة قرض وآخذ حكم القروض. فإذاً مسألة الخلط في الفتوى في المسائل المعاصرة، تأتي بقصور في التصور، وهنا أنبّه على أنه إذا كان طالب العلم يريد أن يتكلم في مسألة ينبغي ألا يستعجل، وعلى العالم ألا يستعجل الفتوى في المسألة حتى يرجع لأهل الخبرة؛ لأن عرض الناس وسؤال الناس يؤثر في الفتوى أحياناً؛ فلربما دخل في السؤال عاطفة، أو دخل نوع من التحيل لإقناع العالم بالتحريم، ونحو ذلك من الأخطاء التي قد يقع فيها من يستعجل في فتواه دون الرجوع إلى أهل الخبرة؛ لأنه ليس الهدف أن نتكلم في زيد أو عمرو، إنما الهدف أن نعرف حكم الله عز وجل، وليس الهدف أن ينجرّ الإنسان وراء عاطفته بتحليل أمر أو تحريم أمر يتحمل مسئوليته أمام الله عز وجل، وإنما المهم أن ينصح لله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا الدين وللأمة ببيان حقيقة الحكم الشرعي في المسائل. فإذاً لابد من العناية بهذه الأمور التي حصل فيها الاختلاف وتباينت فيها وجهات النظر بسبب دخول العواطف، وينبغي إذا اخترت أحداً من أهل الخبرة أن يكون معروفاً بالورع والعدالة، وقد قرر شيخ الإسلام رحمه الله وكذلك الإمام ابن فرحون في تبصرة الحكّام: أن الرجوع لأهل الخبرة على حسب الأوثق منهم، ولو كانوا من غير ديننا، كأن يكون من أهل الكتاب وعنده خبرة ولكن يعرف بالأمانة والنصيحة، وقد ذكر هذه المسألة شيخ الإسلام في الفتاوى المصرية، وبيّن رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستطب الحارث بن كلدة ويأمر الصحابة باستطبابه، وكذلك استأجر عبد الله بن أريقط وهو رجل من بني الديل هادياً خريتاً وذلك لمعرفة الطرق، فإذا أعجز الإنسان أن يجد العدل المأمون فلا بأس أن يرجع إلى أمثل أهل الخبرة في كل فنٍ ممن عرف بالإتقان والضبط. وإذا علم هذا فإن المسائل المالية المعاصرة كبطاقة الائتمان أو خطاب الضمان أو الاعتماد المستندي أو الكمبيالات أو الأوراق التجارية أو الحوالات المصرفية، ينبغي أن نفرق في تصورها بين أمرين: الأمر الأول: فهم وتصور ماهية المعاملة وحقيقتها وأركانها وما يتبع ذلك من شروط التعاقد فيها. الأمر الثاني: عدم الخوض في مسألة كيفية العقود بطريقة مفصلة والتي هي من شأن أهل الاختصاص، وليست من شأن طالب الفقه أو طالب العلم. وبناءً على ذلك: سنتكلم إن شاء الله على بطاقة الائتمان. وقد اخترنا جملة من المسائل لتطبيق الأبواب التي ذكرناها سابقاً، فعندنا باب القرض والرهن والضمان والكفالة والحوالة، سنختار لباب القرض والرهن بطاقة الائتمان، وكذلك أيضاً نختار للكفالة والضمان خطاب الضمان، وبعد ذلك نتكلم على جملة من المسائل المتعلقة بالتحويلات أو الحوالات، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا السداد وأن يلهمنا الرشاد، وأن يجعل ما نتعلمه ونُعلِّمه خالصاً لوجهه الكريم موجباً لرضوانه العظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله وهو حسبنا وهو نعم الوكيل.

بطاقة الائتمان

بطاقة الائتمان

نبذة تاريخية عن نشأة بطائق الائتمان

نبذة تاريخية عن نشأة بطائق الائتمان بطاقة الائتمان نوع من المعاملات المعاصرة، جدّت وطرأت في هذا القرن المعاصر الذي نحن في آخره، فيقال: إنها أول ما نشأت في عام (1918م)، وكان التعامل بها على مستوى الشركات، فكانوا يعطونها لأفرادهم، ويقوم الفرد بالتعامل مع المحلات التجارية بواسطتها على أن تلتزم الشركات بالدفع عنه، وكانت أشبه ما تكون بعقد الوفاء. ثم بعد ذلك تطورت هذه البطاقة في ما يقرب من عام (1950م) إلى عام (1958م)؛ والسبب في هذا أن الكتب التي تكلمت على تاريخها تتكلم بالتاريخ الميلادي، لكن المهم التصور عن نشأتها، في هذه الفترة صدرت بطاقات من هيئات مالية، وكانت هذه الهيئات قد وجدت الجدوى والفائدة في إصدار هذا النوع من البطاقات؛ لأنها تدر أرباحاً وفوائد وعوائد مالية، فدخلت البطاقة إلى البنوك والمصارف في هذه السنوات تقريباً، وصدرت بطاقات مشهورة في هذه الفترة، ثم انتشرت من بلاد الغرب حتى عمّت أكثر أرجاء المعمورة كما هو موجود في زماننا.

تعريف بطاقة الائتمان

تعريف بطاقة الائتمان هذه البطاقات وهي بطاقات الائتمان لم يوضع لها تعريف محدد، إلا أن بعض المجامع العلمية وضعت تعريفاً يعتبر من أنسب التعاريف لهذا النوع من البطاقات، وتعريف بطاقات الائتمان أمر من الأهمية بمكان؛ لأننا ذكرنا أنك إذا عرفت حقيقة المعاملة والعقد المعاصر، أمكنك تخريجه على ما تقدّم من أبواب الفقه، وأيضاً معرفة أركانه وشروطه على التفصيل الذي سنبينه إن شاء الله. فبطاقة الائتمان حقيقتها: مستند يعطيه مصدره لشخص طبيعي أو اعتباري، بناءً على عقد بينهما يمكِّنه من شراء السلع والخدمات مِن مَن يعتمد المستند، دون أن يدفع الثمن حالاً، لتضمنه التزام المصدِر الدفع عنه. إلى هذا الحد يتمّ تعريف البطاقة، إلا أنهم ألحقوا بهذا التعريف جملة وهي: ومن أنواع هذا المستند ما يمكِّن صاحبه من صرف النقود أو سحبها من المصارف. وهذا التعريف نريد أن نقف معه وقفة نتصور بها حقيقة ما يسمى ببطاقة الائتمان، وهذا التصور وهو في الحقيقة تعريف مجمع الفقه الإسلامي لبطائق الائتمان، وهو من أنسب التعاريف وأجمعها وأفضلها ويعطي تصوراً شبه كامل لما يسمى ببطاقة الائتمان. فقالوا: (بطاقة الائتمان مستند) والمستند: هو عمدة الشيء، والمراد بالمستند هنا هو البطاقة، وعُبّر عنه بكونه مستنداً؛ لأن صاحبه يستند إليه في التعامل، وبطبيعة الحال هذه البطاقة تتميز من باب التصور بشعار معين ومعلومات معينة يمكن من خلالها معرفة حساب العميل أو رقم العميل. قالوا: (مستند يعطيه مُصدِرُه) بطاقة الائتمان فيها مصطلحات معروفة عند من يتعامل بها، فهناك شيء يسمى المصدِر، والمصدِر: هو الجهة التي تقوم بإصدار هذا النوع من البطاقات، وتشمل في الغالب البنوك والشركات والمصارف، فقولهم: (مستند يعطيه مُصدِرُه) يعني الجهة التي تلتزم بما في هذه البطاقة مما ذكرنا. قالوا: (لشخص طبيعي أو اعتباري) يعني هذه البطاقة تعطى لطرف ثانٍ، فعندنا في هذه الحالة طرفان: الطرف الأول: المصدِر وهو البنك أو الشركة أو المصنع، وعندنا الطرف الثاني: وهو الذي يستفيد من هذه البطاقة، ويسمى في الاصطلاح حامل البطاقة، ودائماً ما يعبّر عنه بالحامل، يقال: الحامل ويلتزم الحامل وعلى الحامل، والمراد بالحامل العميل، إلا أن هذا العميل جاء في التعريف أنه يشمل نوعين من العملاء الذين يتعاملون بهذا النوع من البطاقات، فقالوا: (لشخص طبيعي أو اعتباري)، الشخص الطبيعي هو أنت أو أنا أو أي شخص زيد أو عمرو من الناس، لكن الذي يهمنا قولهم: (أو اعتباري)، فمن هو الشخص الاعتباري؟ الشخصية الاعتبارية: مصطلح حادث، جدّ وطرأ في العصور المتأخرة، وتعاملوا به في الالتزامات وفي العقود لوجود الحاجة، والشخصية الاعتبارية في الحقيقة ليست شخصية طبيعية -يعني ذاتية وحقيقية- إنما هي شخصية مقدّرة، وتنطبق على الشركات والمجموعات، فلو أن عشرة منّا اجتمعوا واشتركوا في مؤسسة أو شركة، وهؤلاء العشرة تعاقدوا مع عامل مثلاً، فلا تستطيع أن تأتي تقول: اتفق محمد وعبد الله وصالح وزيد وبكر وتعدد أسماء المشتركين الذين قد يقاربون المائة في بعض الأحيان، أو أكثر من ذلك، فحينئذٍ يحتاجون إلى مصطلح يجمع هؤلاء كلهم: شركة النور شركة الإصلاح شركة السماحة شركة كذا، فاسم الشركة يعتبر شخصية اعتبارية، بمعنى: أنك لو جئت تقول: اتفقت شركة السماحة مع زيد، فقدرت شركة السماحة كشخص، هذا ما يسمى بالشخصية الاعتبارية، وهي في الحقيقة ليست بشخص معين وليس لها ذات أو حقيقة، وإنما نزلت في الاعتبار على أنها منزلة الشخص الواحد، ولذلك يقول: التزمت شركة السماحة، ففي الحقيقة هذا الاسم لا يلتزم ولا يُلزم، لكنه قدر تقديراً كأنه شخص حقيقي، وهذا ما يسمى بمصطلح الشخصية الاعتبارية. فإذاً: الذي يحمل هذه البطاقة إما شخص بعينه أو شركة أو مجموعة أو نحوها، وهذا ما عبّر عنه بالشخصية الاعتبارية. قالوا: (بناء على عقد بينهما) العقد الذي بين العميل -الذي هو حامل البطاقة- وبين المصدر -وهو البنك الملتزم- يتم على الصورة التالية: يتقدم العميل أو طالب البطاقة إلى البنك أو الشركة أو المؤسسة بطلب هذه البطاقة، وجرت العادة أن يعطى الأنموذج المشتمل على جملة من البيانات والشروط التي فيها التزامات من جهة البنك والتزامات من جهة العميل، وهذه الالتزامات والشروط يتفق عليها الطرفان، فتعطى للعميل ويقرأها، فإذا وافق عليها تقدم بالطلب، وتشتمل على معلومات كاملة، ويدرس هذا الطلب فإما أن يوافق على منحه وإلا فلا. والذي يهمنا أن هناك اتفاقاً، ولابد لطالب العلم أن ينتبه لهذه الأمور كلها؛ لأن طبيعة البطاقة وحقيقتها فيها شيء من الالتزامات، ومعنى ذلك أنه لا يدخل العميل ولا يدخل حامل البطاقة للتعامل بهذا النوع من البطاقات إلا بعد أن يكون على بينة بجملة من الشروط وطبيعة التعامل بهذا النوع من البطاقات.

الالتزامات المناطة بحامل بطاقة الائتمان

الالتزامات المناطة بحامل بطاقة الائتمان الالتزام الأول: بأن يقوم بالسحب في حدود مبلغ معين متفق عليه بين الطرفين. الالتزام الثاني: يلتزم هذا العميل أو هذا الحامل للبطاقة بدفع الرسوم التي تتضمن: أولاً: رسوم الاشتراك في البطاقة، وهذا أمر مهم جداً؛ لأنه إذا ثبت أن البطاقة نوع من القرض كانت الرسوم المعجلة أشبه بالفائدة الربوية المعجلة، فلذلك يلزم بالاشتراك، فإذا كنتُ أُريد أن أتعامل معك لماذا تلزمني بدفع قيمة وفائدة من أجل أن أتعامل معك، فأنا في الحقيقة أتعامل معك وتتعامل معي على أساس عقد معين، وعلى أساس منفعة لها قيمة شرعية معينة، فإذا كان العقد الذي بيني وبينك قرض، فالشريعة لا تجيز أن تأخذ على الاقتراض منفعة لا مقدمة ولا مؤخرة. ثانياً: يلتزم بدفع الرسوم التي تسمى برسوم التجديد، وهذه الرسوم ليست بالهينة، مثلاً: إذا كانت البطاقة من النوع الذهبي أو الممتاز، يكون اشتراكها ربما يقارب الألف، وإذا كانت من النوع العادي يقارب خمسمائة، وهذا ليس بالسهل، فهذه البطاقة أدفع عليها رسماً سنوياً لماذا؟! وبأي حق؟! لأن الشريعة عندها قاعدة: لا تجوز للمسلم أن يأخذ مال أخيه المسلم إلا بحق، فأنا حينما آخذ البطاقة وتمضي عليّ سنة فما معنى أن أدفع الرسم السنوي؟! هذا أمر لابد من النظر فيه، لماذا نحن تعرضنا لمسألة العقد، فالعقد يلتزم فيه العميل -حامل البطاقة- بدفع هذه النسبة المعينة الذي يضعها البنك أو يحددها المصدر الذي يقوم بإصدار البطاقة. إذاً: يلتزم أيضاً بدفع الرسوم المتعلقة بتجديد البطاقة على الفترات التي يحددها المصرف أو المصدر لها، فيدفع رسوماً على البطاقة -خمسمائة -مثلاً- على البطاقة الذهبية وثلاثمائة أو مائتين على البطاقة العادية- والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك فبم تستحل أكل ماله؟!!)، هذه البطاقة تجديدها على أي أساس؟! ما الذي يكون فيها حتى تجدد؟!! هل فعلاً يقوم المصدِر بتجديد شيء فيها له قيمة محسوسة؟!! فإذا كان تجديد التعهّد بلا اقتراض كان أقبل للفائدة المعجلة. ثالثاً: يلتزم بدفع جميع الفواتير والمستحقات على سحبه بناءً على هذه البطاقة؛ لأنه سيقوم بالسحب بناءً عليها، وإذا قام بالسحب بناء على هذه البطاقة فسيلتزم بكل ما ينشأ عن هذا السحب من قيمة السلع التي اشتراها أو الخدمات التي انتفع بها، فهذه أيضاً رسوم أخرى، وهي رسوم في الأصل وقد تكون مستحقة للمصدر على التفصيل الذي سنذكره. فمثلاً: إذا جاء إلى فندق ونزل فيه، وكلفت إقامته خمسة آلاف، وسجلت في البطاقة، فيلتزم بدفع الخمسة آلاف بطريقة معينة، وليست كما هي فعلاً في الدين، بل يدفع عليها أيضاً رسوم خدمة، فتدفع نسبة إضافية على المبلغ نفسه. رابعاً: يلتزم العميل بدفع قيمة الفواتير المستحقة للاتصالات أو نحوها كما لو كانت هناك تكاليف بريدية أو نحوها. فكل هذه الالتزامات على كاهل العميل، ونحن نأخذ الأغلب أو الأكثر من الشروط؛ لأن الشروط الموجودة في البيانات وحسب الاطلاع على أنواع البطاقات المختلفة، منها ما هو شرط خاص ومنها ما هو شرط عام، فنحن نأخذ أغلب الشروط العامة التي في الغالب تكون موجودة، مثل رسوم التجديد رسوم تكاليف البطاقة وسحب البطاقة، فهذه شروط موجودة في البطاقات كلها، لكن هناك أيضاً شروط خاصة، قد يكون المصرف عنده نوع من التعامل أو طريقة للتعامل أو نوع من الرسوم يفرضه على العميل. سادساً: أنه يلزم بتفويض المصدر بصرف العمولة بأي قدر يراه دون اعتراض أو امتناع، فلو فرضنا مثلاً أنه تعامل بالدولارات، فنزل في فندق أو استأجر سيارة أو حافلة أو قطاراً بالدولارات، وهو قد اتفق مع المصرف أو جهة المصدِر بالتعامل بالريالات، فمعناه: أن هناك عملية صرف ما بين المصدِر وما بين الجهة التي قامت ببذل هذه المنفعة أو دفع هذه السلعة المعينة، فلو كانت هذه المنفعة التي قدمت لحامل البطاقة تكلّف -مثلاً- ثلاثة آلاف دولار، ففي طبيعة الحال ستحوّل القيمة إلى الريالات، فيفوّض المصرف أو المصدِر سواء كان بنكاً أو مصرفاً أو شركة للتحويل بالصرف بأي قيمة يراها، أي لو كان الدولار يصرف بأربعة ريالات إلا ربعاً أو بثلاثة ريالات ونصف أو بثلاثة ريالات وربع، فعندنا قيم مختلفة، ويمكن للمصدر أن يصرف بأعلى قيمة؛ لأنه أربح له وأكثر فائدة وعائدة من جهة الخدمات، وهذا دون أي اعتراض، فمثل هذا البند يفرض على العميل، ولا يمكن أبداً أن يراجع في هذا. فإذاً يفوض تفويضاً كاملاً في أن يصرف العملة أو العملات أياً كانت بأي قيمة يراها، سواءً كانت غالية أو رخيصة. هذا أيضاً من الالتزامات، وهو لا شك التزام فيه مخاطرة، وفيه غرر وضرر. كذلك أيضاً هناك التزامات أخرى قد تختلف كما ذكرنا من مصدر إلى آخر، لكن هذه من أهم الالتزامات، وفي بعض العقود يصل البيان إلى ما يقرب من عشرين بنداً. ومما يجدر ذكره أنه من حق المصدِر أن يلغي هذه البطاقة في أي وقت شاء، سواء أشعر العميل أم لم يشعر، لكن لا يحق للعميل أن يلغي هذه البطاقة إلا بعد أن يتصل على المصدِر ويشعره، ويمزّق البطاقة أو يرسلها إلى مكتبها، فلاحظوا الفرق بين الطرفين، فمن جانب المصدِر يمكنه في أي وقت أن يلغيها ولا يحاسبه أحد، أما من جانب العميل فإذا أراد إلغاءها فلابد من إشعار المصدِر، ثم لو أنه ألغاها فإنه يتحمل التبعات والمسئولية الكاملة عن هذا الإلغاء.

الالتزامات المتعلقة بالمصدر لبطاقة الائتمان

الالتزامات المتعلقة بالمصْدِر لبطاقة الائتمان أما الالتزامات من جهة المصدِر، فالمصدِر يلتزم للعميل بالتالي: أولاً: يلتزم له أن يقوم بالدفع عنه، فيقوم عقد البطاقة على التزام البنك بالدفع عن العميل، ومن هنا جاءت شبهة الكفالة وجاءت شبهة الضمان، وأنها بطاقة تأخذ حكم الضمان، لكن هذا أمر يحتاج إلى نظر سنبينه إن شاء الله في التخريج الفقهي، فلو أن العميل قام بشراء سلعة قيمتها خمسة آلاف ريال يلتزم المصرف أو المصدر أياً كان بدفع الخمسة آلاف ريال، لكن المشكلة ليست هنا، فالمصدر الذي يصدر البطاقة له اتفاق مع جهات معينة، فلا يمكن أن تستفيد من هذه البطاقة إلا من خلال متاجر معينة ومحلات معينة، بينها وبين المصدر اتفاق معين، هذا الاتفاق تقوم فيه هذه المحلات التجارية بإبرام عقد آخر مع البنك أو المصرف أو مصدر البطاقة، على أن تمكن من يحمل البطاقة من شراء ما شاء من السلع في الحدود التي اتفق عليها، ثم يفتح هذا المحل حساباً في البنك، وإذا حسبت القيمة لا تحسب كاملة، فلو كانت العملية التي تمت من العميل مع المتجر تكلف خمسة آلاف ريال، وهناك اتفاق على أخذ عمولة للبنك، فالبنك مثلاً يأخذ نسبة معينة -على فرض أنه يأخذ مائتي ريال- فهو لا يعطي الخمسة آلاف كاملة -وهذا أمر مهم جداً- وإنما يعطي أربعة آلاف وثمانمائة ريال تدخل لحساب المحل الذي اتفق معه، أيضاً فلو قلت: إن البطاقة نخرجها على أنه تكفل بدين على أن يقوم العميل بدفع هذا الدين، فإن هذا الدين يؤخذ بصورة ويدفع بصورة أخرى، ومن يتحمل هذه الكفالة أو يلتزم هذا الالتزام يأخذ عمولة، حتى على الطرف الثاني، ولا يمكن أبداً أن نمكِّن المصدِر أو البنك أو المصرف أو أي جهة من التعامل مع هذه البطاقة إلا إذا وضع شعاراً معيناً في التعامل معه، ولا تستطيع أن تقدم هذه البطاقة إلا لمن يعتمد هذه البطاقة، بمعنى: أنه يجب أن يكون بينه وبين المصدِر اتفاق ثانٍ، فالمصدر يلتزم للعميل بأن يمكنه من شراء السلع والخدمات كما سيأتي، ويقوم بالدفع عنه بالطريقة التي يتم الاتفاق بها بين المصدر وبين الطرف الثاني. وفي التعريف قلنا: (مستند يعطيه مصدره لشخص طبيعي أو اعتباري بناء على عقد بينهما يمكِّنه) أي: يمكِّن الحامل للبطاقة.

جوانب الانتفاع من بطاقة الائتمان

جوانب الانتفاع من بطاقة الائتمان قالوا: (يمكِّنه من شراء السلع والخدمات) هذه العبارة تبيّن محل العقد، فالعقد منصبّ على بطاقة لها فائدتان: الفائدة الأولى: في شراء السلع، والفائدة الثانية: في شراء الخدمات. وهناك فرق بين شراء السلع وبين شراء الخدمات، وكل منهما له مصطلح فقهي خاص، فشراء السلع بيع، وشراء الخدمات إجارة، شراء السلع كأن يدخل بالبطاقة إلى محل يريد أن يشتري ما شاء من الأطعمة أو الأدوية أو الأكسية أو ما شاء من القطع أو الأشياء التي يريدها، فالبطاقة تدخل في عقود البيوعات، وتدخل أيضاً في عقود الإجارات وهذا هو المعبر عنه بشراء الخدمات، إما في سكن أو ركوب أو غير ذلك من المصالح التي تكون من الخدمات في الإجارات، ومن ذلك خدمة السكن في الفندق، فإن نزول العميل في الفندق وبقاءه الليلة والليلتين والثلاث والأربع هذا يسمى إجارة، ودفع العميل المائة أو المائتين أو الألف مقابل السكن ليلة أو ليلتين أو ثلاث، هذا يسمى شراء خدمة سكن، وهناك خدمة تنقل كأن يبرز البطاقة للركوب في قطار أو طائرة أو سفينة أو عبّارة أو سيارة فهذا كله شراء منفعة تمكنه من الانتقال من موضع إلى موضع بقيمة معينة. إذاً البطاقة تقع في البيوعات والإجارات، ويلتزم المصدِر السداد بدفع الثمن في المعاوضات المتعلقة بالبيوعات ودفع الثمن في المعاوضات المتعلقة بالإجارات. قالوا: (مِن من يعتمد المستند) يعني: لا يتعامل بالبطاقة إلا مع من يعتمد المستند، فلو قدّم البطاقة إلى محل لا يعتمدها لا يمكن أن يقبلها، وبطبيعة الحال إذا قُدّمت البطاقة إلى محل تجاري أو شركة نقل أو نحوها فهناك آلة تقوم بفحص البطاقة وأخذ معلومات معينة عنها، كمعرفة مدة صلاحيتها وعدمها وأخذ المعلومات المتعلقة بها، ثم تسجل في الفاتورة، فإذاً (مِن من يعتمد المستند) وفي الاصطلاح من يقوم بالخدمة مثل المحل التجاري أو السوبر ماركت أو نحوه هذا يسمى بالمستفيد.

عقد بطاقة الائتمان عقد مؤجل

عقد بطاقة الائتمان عقد مؤجل قالوا: (دون أن يدفع الثمن حالاً) أي أن الفائدة التي يريدها العميل أو العملاء أو حامل البطاقة في الغالب هو الأمن من حمل النقود، خاصة إذا كان في مواضع يخشى فيها من حمل النقود، وكذلك أيضاً سهولة الانتفاع بها دون وجود كلفة أو عبء حمل الأموال أو صرفها، كما لو كان في موضع تختلف فيه العملة عن عملة بلده أو نحو ذلك، فيستفيد العميل من هذه الفائدة دون أن يدفع الثمن حالاً وهو ثمن النقد، إذاً معنى ذلك أن عقد البطاقة عقد مؤجل، وأصبح عقد البطاقة فيه جانبان لابد من التنبه لهما: الجانب الأول: تعاقد حامل البطاقة مع المتجر، وفعلاً قد تعاقد معه؛ لأنه يحدد معه السعر ويحدد معه السلعة التي يريد شراءها وأخذها، أو يحدد نوعية الخدمة التي يريدها، ونوعية السكن الذي يريد أن ينزل فيه، معناه: أن الطرف الأول في العقد هو الحامل، والطرف الثاني هو الجهة التي تتكفل أو تقوم بتمكين العميل من هذه المنافع، وهذا عقد مبرم، ويصبح هذا العقد الذي بين العميل وبين المستفيد الذي هو التاجر أو نحوه، إما عقد بيع إذا كان على السلع، وإما عقد إجارة إذا كان على الخدمات. الجانب الثاني: وهو التزام البنك بالدفع. فإذاً: قالوا: (يمكِّنه من شراء السلع والخدمات مِن مَن يعتمد المستَند دون أن يدفع الثمن حالاً لتضمن المصدر الدفع عنه) اللام للتعليل، أي: امتنع دفع العميل للثمن نقداً وحالاً لوجود التزام من المصدر بالدفع عنه، وبناءً على ذلك فهناك عقد ما بين البنك أو المصرف أو الشركة التي تقوم بإصدار البطاقة وبين المحل التجاري كما ذكرنا لتضمنه التزام المصدِر الدفع عنه، فيلتزم بدفع المال قليلاً كان أو كثيراً وسواء كان بالعملة نفسها أو بغيرها. وبهذا ينتهي التعريف، وتتضح الصورة للبطاقة وطبيعة التعامل بها.

بطاقة ائتمان لسحب النقود فقط

بطاقة ائتمان لسحب النقود فقط لكن قولهم: (ومن هذه المستندات ما يمكِّن العميل من سحب النقود) هناك نوع ثانٍ، هذا النوع الثاني من البطاقات لسحب النقود، أي مع وجود ما ذكر آنفاً هناك منفعة ثانية وهي منفعة سحب النقود، فيمكِّنه من سحب النقود وبنفس الالتزام، فإذا سحب من المصرف يلتزم طبعاً بالسحب في حدود الإطار المحدد المتفق عليه بين الطرفين، سواء كان مع اتحاد العملة أو اختلاف العملة، ويكون في كلتا الحالتين إذا قام بالسحب أو قام بشراء السلعة أو شراء الخدمات هناك أمر مهم جداً وهو أن المصرف أو المصدِر يعطي العميل فترة ما بين خمسة وعشرين يوماً إلى خمسة وخمسين يوماً في الغالب التي هي أعلى حد لتسديد الثمن المقدم، وبعد ذلك إذا لم يتم السداد تحسب الفائدة (1%) أو (2%) عن كل يوم يتأخر فيه عن السداد. فإذاً: عندنا ثلاثة جوانب: بداية التعاقد بالبطاقة، وعندنا طبيعة الاستفادة من البطاقة، وعندنا الأثر المترتب على التعامل بالبطاقة. وطبيعة التعاقد سبق أن بيّناها وبيّنا أصلها، وأنها تشتمل على نوعين من العقود، والعقد الذي يكون بين العميل وبين المصرف مع المستفيد، والعقد الذي يكون ما بين المستفيد وبين المصرف. ثم بيّنا طبيعة الاستفادة التي يستفيدها العميل سواء كان في عقود البيع أو الإجارات، وإن كانت البطاقة من النوع الثاني الذي هو دفع النقود فحينئذ تكون مشتملة على بيع الصرف في بعض الصور، وهو يشتمل على إبدال العملة بالعملة مع وجود القرض، وأما بالنسبة للأثر فالأثر وجود الفوائد الربوية التي تتركب على التأخير عن السداد والدفع.

التخريج الفقهي لبطائق الائتمان

التخريج الفقهي لبطائق الائتمان أما بالنسبة للجزئية الأخيرة وهي جزئية التخريج الفقهي: هذا النوع من المعاملات هل هو قرض، أم هو حوالة، أم هو كفالة؟ هذا أمر يحتاج إلى نظر، فالبطاقة إذا تأملناها وجدنا فيها الآتي: بالنسبة للعميل: تعاقد مع المحل التجاري أو الشركة التي تقوم بالخدمة، (بعقد بيع أو إجارة) عقد البيع والإجارة من حيث الأصل كونه يشتري السلع أو كونه يشتري الخدمات كأن ينزل في الفندق أو نحوه هذا أمر لا إشكال في جوازه، كونه مثلاً يستفيد في شراء السلع أو كونه يشتري الخدمات هذه أمور إذا كانت من جنس ما أحلّ الله لا كلام لنا فيه، إنما الكلام في مسألة الالتزام؛ لأن المصرف التزم بالدفع عن العميل الحامل، والعميل الحامل التزم بالدفع للمصرف. فعلى هذا عندنا قرض وهو شراء السلعة من المحل بالأجل، وهذا الأجل لا يدفع، بدليل أن الحامل حينما اشترى البضاعة أو اشترى الخدمة؛ كما لو نزل في الفندق أو ركب السيارة أو القطار أو طائرة أو نحو ذلك لم يدفع الثمن حالاً، وإنما أنسأ الثمن وأخّره، وبتأخير الثمن صار بالبيع إلى أجل أو بالبيع المؤجل، وهذا البيع المؤجل لم يلتزم فيه العميل نفسه بدفع المال وإنما أحيل صاحب المتجر أو صاحب المحل على المصرف أو المصدِر. فهنا حصل خلط في بعض الفتاوى المعاصرة قالوا: نعتبر هذا النوع من الضمان ووجه الضمان فيه قالوا: إن البنك أو المصرف تضمن والتزم في ذمته أن يدفع عن العميل، ونحن ذكرنا فعلاً في باب الضمان أنه يجوز أن يضمن الديون المجهولة التي تئول في المستقبل إلى العلم، وهذا يتخرّج على المسألة التي ذكرناها: أن يأتي إلى صاحب البقالة ويقول له: أعط محمداً ما شاء من البضائع، وأنا ألتزم بالدفع عنه إذا لم يسدد، فكأن صاحب البطاقة المصدر الذي هو البنك يقول للمتجر: أعط حامل البطاقة ما شاء في الحدود التي اتفق عليها في البطاقة، وأنا ألتزم بالدفع عنه. إذاً فعلاً هناك نوع من المشابهة من كونها تدخل تحت الضمان؛ لأن المصرف فعلاً تضمن والتزم، وقالوا: بناءً على ذلك هذا أشبه ما يكون بعقد الضمان، وتسري عليه أحكام الضمان أو أحكام الكفالة عند من لا يفرق بين الضمان وبين الكفالة، فإن شئت سميتها كفالة وإن شئت سميتها ضماناً، على نفس التفصيل الذي ذكرناه. إذاً: نريد أن نحدد طبيعة عقد الكفالة هنا، أصبح الكفيل الذي يغرم هو البنك، والمكفول هو حامل البطاقة، والذي تكفل به البنك قيمة التعامل الموجود أو المعاملة التي تمت بين الطرفين، وعلى هذا قالوا: تدخل تحت الكفالة، ومن حيث الأصل الشرعي يبقى Q أنتم تعلمون أن هناك نوعاً من البطاقات يكون فيه للعميل رصيد، والذي هو غطاء للتعامل، فرضاً خمسة آلاف، هذا الغطاء في الحقيقة مثل الرهن، فهذه مسألة ثانية تحتاج إلى بحث، فقالوا: هذا يأخذ حكم الضمان، قالوا: ونعتبر الثمن المدفوع مقدماً الذي هو الغطاء الموجود في الحساب الجاري أو غيره آخذ حكم الرهن، كأن العميل أعطى البنك خمسة آلاف رهناً لسداد الحقوق المستحقة على تعامله. فإذن عندنا جانبان: الجانب الأول: أن البنك لما التزم بالدفع عن العميل صار في حكم الضمان، وتخرّج على مسائل الكفالة. ثانياً: وجود الغطاء البنكي أو المبلغ المدفوع أو الرصيد الموجود للعميل يعتبر بمثابة الرهن. ومن المعلوم أنه يشرع في الديون وجود الرهن، لكن عند العلماء خلاف في مسألة: هل يجوز الرهن أن يكون من الذهب والفضة؟ صحح غير واحد من العلماء أنه يجوز رهن الذهب والفضة والنقود لقاء السداد؛ لأن الله تعالى يقول: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283] وهذا نكرة عامة شاملة لأي شيء كان مرتهناً، ولم يفرق بين النقود وغيرها. ولأن المقصود من الرهن هو الوصول إلى الحق، فإذا كان يجوز في السلع التي تباع من أجل السداد، فلأن يجوز بالنقود التي تسدد فوراً من باب أولى وأحرى؛ قالوا: لأن العلة في الرهن السداد، فأنت إذا استدنت عشرة آلاف وقيل لك: أعط رهناً، إنما قصد من قوله: أعط رهناً حتى يتمكن من بيعه إذا عجزت عن السداد، فقالوا: فبدلاً من أن يبيع إذا عجز عن السداد ويكون الرهن نقوداً لا تحتاج إلى بيع، فيأخذ منها حقه وينتهي. النقطة الثانية: لو قلنا بطبيعة الحال: إنه ضمان واشتمل على الرهن، فهل يجوز الضمان بالرهن؟ هذه مسألة ثانية: هل يجوز أخذ الرهن على الكفالة؟ أي: لو أن شخصاً قال لك: اكفلني في عشرة آلاف ريال، فقلت له: أعطني رهناً، هل من حقك أن تقول ذلك؟ قال طائفة من العلماء: يجوز أخذ الرهن على الكفالة، ومن حقك أن تطالبه برهن تصل به إلى حقك إذا غرر بك في كفالة، كما أن الأصيل يجوز له أن يأخذ الكفالة. وأنا أميل إلى هذا القول، وإنما ذكرت هذه الأقوال لأنها فعلاً صحيحة؛ أولاً: لما ذكرناه من وجود الأدلة التي تدل على جواز صحة الرهن بالذهب والفضة، وثانياً: جواز أخذ الرهن للكفالة. وإذا ثبت هذا أصبح عندنا تخريجان: التخريج الأول: قالوا: التزام البنك والمصرف بالدفع عن العميل يعتبر في حكم الضمان أو الكفالة على التفصيل الذي ذكرناه: هل هما عقد واحد، أو عقدان؟ التخريج الثاني: يعتبر وضع الغطاء البنكي أو الدفع أو وجود الرصيد بمثابة الرهن المعجل، الذي دفعه العميل ضماناً لحق البنك عند عجزه عن السداد، ويتخرج هذا على مسألتين: المسألة الأولى: جواز أخذ الذهب والفضة رهناً. والمسألة الثانية: جواز أخذ الرهن عن الكفالة. لكن يبقى الإشكال إذا قلنا: إنها كفالة، وقلنا: إنها آخذة حكم الضمان، وفعلاً يسري عليها حكم القرض، ففي هذه الحال عندنا قرض، وعندنا ضمان للقرض، وعندنا رهن يتوصل به إلى هذا الضمان، لكن يبقى الإشكال في أخذ الفائدة على الكفالة، هل يجوز أخذ الفائدة على الكفالة؟ هناك فوائد التزم بها العميل لابد من النظر فيها. الفائدة الأولى: دفع الرسم للاشتراك. الفائدة الثانية: دفع الرسم للسند. الفائدة الثالثة: التجديدات. وهناك فوائد مركبة على الدين عند العجز عن السداد. والواقع بالنسبة لهذه الفوائد: الرسم الذي للدخول، وفائدة التجديد السنوي، وفائدة الرسوم السندية، كل هذا يعتبر من أخذ الفائدة على الدين، ومخرّج على ما ذكرناه من أنه قرض جر منفعة، وقد ذكرنا إجماع العلماء على تحريم القرض الذي جر منفعة، (وأيما قرض جر منفعة فهو رباً) إما رباً صريحاً أو في حكم الربا الصريح فهذه الرسوم في الحقيقة هي عبارة عن فوائد معجلة باسم الرسم أو نحوه، وبدل أن تكون مؤخرة صارت مقدمة أو معجلة، ولأن هذه الرسوم ليس فيها استحقاق شرعي؛ فالعميل لا يأخذ لقاءها شيئاً له قيمة معتبرة شرعاً، وإذا قال قائل: يأخذ لقاءها الدين، نقول: هذا الدين ليس له قيمة؛ لأن الديون لا يجوز أخذ الفوائد عليها، فقد يكون المصدِر أو البنك أو نحوه يرى أن من حقه أن يأخذ على الدين فائدة؛ لأنه يرى أن الفوائد الربوية تعتبر استحقاقاً له على العميل إذا تعامل معه. بعد أن ذكرنا التخريجات كلها، وذكرنا أولاً كونه ضماناً محملاً أو كون هذا الضمان مبني على رهن، ترد هنا مسألة مهمة وهي: أننا صححنا أصول المسائل، فقلنا: إن الضمان مشروع، وقلنا: إن الرهن مشروع، وقلنا: يجوز الرهن بالمال الذي هو الذهب والفضة، قررنا جواز الرهن المتقدم أو الضمان المتقدم، كل هذا قررنا جوازه، لكن لا يعني هذا صحة التخريج، وتوضيح ذلك: أن المبلغ الذي هو غطاء للسداد في الحقيقة المصرف لا يقوم بسحب استحقاقه مباشرة منه، هذا أمر مهم جداً؛ لأن المصرف من فائدته ألا يسدد المبلغ مباشرة؛ لترتب الفوائد على التأخير، والعميل يعتبر بتأخره ملزماً بدفع الفائدة المقررة والعائد المقرر الربوي على الدين بعد فوات الأجل المحدد للسداد، فإذاً مسألة كونه رهناً ليست من كل وجه صحيح؛ لأننا لا نجد المصرف يقول: بمجرد أن تمر خمسة وعشرون يوماً أو خمسة وخمسون يوماً ولم تسدد سنسحب من رصيدك المبلغ وانتهى الإشكال، لا، بل إن لم تسدد بعد الفترة المسموح بها سنحسب عليك فائدة (1%)، ومعنى ذلك أنه لا يعتبر رهناً بصورة الرهن الشرعي، فهو في الظاهر تراه رهناً، لكنه في الحقيقة والتعامل ليس برهن. المسألة الأخيرة وهي المهمة: أن هذا الدين تركّب بعقد فيه التزام أنه إذا لم يسدد فعليه الفائدة، وهذا الالتزام محرم -بغض النظر عن كونه بادر بالتسديد، أو ترتب عليه فائدة أو لم تترتب ولا يجوز للمسلم أن يلتزم ذلك الأمر المحرم؛ لأنه يكون راضياً بالمحرم، وهذا من الربا الذي نص صريح الكتاب والسنة على تحريمه، وبناءً على ذلك لا يجوز الالتزام. وهنا بعض الناس يقول: آخذ العشرة آلاف -والعياذ بالله- ديناً وأسدد في الأمد المحدد. نقول: رضاك بالعقد يعتبر في حكم الفعل للعقد؛ لأن العقد فيه شرط والتزام بمحرم، وبناءً على ذلك يدخل في كتابة الربا المحرم الذي لعن فاعله -نسأل الله العافية-. وعلى هذا خلاصة ما نقول: أولاً: إن بطاقة الائتمان تخريجها الفقهي دين. ثانياً: الضمان فيها ليس بصحيح من كل وجه من جهة الالتزام، ووجه بطلان هذا الضمان أن نقول: إن المصرف التزم بدين كامل بدفع دين ناقص؛ لأنه يدفع إلى المستفيد أقل مما يأخذ من الحامل، وهذا أمر يبطل التخريج بكونه حوالة أو ضماناً؛ لأنه لم يتوفر فيه الشرط الشرعي. ثالثاً: أنه لو كان ضماناً وديناً على الصفة المعتبرة، فوجود شرط الفائدة المركبة أو الرسم المقدم على الدين يدخله في قرض جر نفعاً، وهو محرم بالإجماع. وبهذا يكون الحكم فيه عدم الجواز على التفصيل الذي تقدم بيانه، والله تعالى أعلم وأحكم، وهو المستعان وعليه التكلان.

الأسئلة

الأسئلة

مدى صحة قياس دفع رسوم اشتراك بطاقة الائتمان بعقود الإجارة

مدى صحة قياس دفع رسوم اشتراك بطاقة الائتمان بعقود الإجارة Q هل يصح قياس دفع رسوم تجهيز اشتراك البطاقة سنوياً بعقود الإجارة في كون الكل منصباً على المنفعة؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: دفع الرسم تخريجه على أنه إجارة. فما هي حقيقة الإجارة؟ الإجارة: عقد على المنافع بعوض، والمنفعة الموجودة في البطاقة دين، والعوض لقاء الدين لا يصح، فمسألة أن تخرج على أنها إجارة ليست بصحيحة؛ لأنه لم يستأجر البنك من أجل منفعة السكن أو الركوب أو ما في حكمها، وإنما أخذ هذه البطاقة لقاء اقتراض والتزام بالدفع عنه، وهذا ما يدعونا إلى أن نقول: لابد من التصور ومعرفة حقيقة العقد حتى نعرف بعد ذلك هل تخرّج على هذا العقد أو غيره. إذاً: لا يصح ولا يستقيم تخريجها على عقد الإجارة بحال، فأصل الإجارة معلوم ومحل الإجارة معلوم، ولا يعتبر هذا النوع من التعامل من الإجارات، وإنما هو من الديونات وآخذ حكم الدين بالتفصيل الذي ذكرناه. والله تعالى أعلم.

حكم أخذ الأجرة مقابل تحويل الأموال من مكان إلى مكان

حكم أخذ الأجرة مقابل تحويل الأموال من مكان إلى مكان Q في تحويل العملة من بلد إلى آخر، هل يجوز أخذ الأجرة في مقابل خدمة التحويل؟ A مسألة التحويل سنفصل فيها، لأن التحويل له صور: بعض الأحيان يحول من مصرف إلى نفس المصرف لفرع آخر، فيكون المصرف له فرع في نفس المكان الذي تحول إليه، وهذا أشبه ما يكون بالوكالة، وحينئذ يكون الوكيل الذي هو الفرع الثاني منزلاً منزلة الأصيل الذي هو الفرع الذي تعامل معك في البلد الآخر. وهناك نوع من الحوالات يحيل فيها البنك أو المصرف أو الشركة إلى مصرف آخر غير المصرف الذي يدفع له، وهذا النوع من الحوالة أيضاً يكون في بعض الأحيان على دين، وتارة يكون على غير دين. كل هذا يحتاج إلى تفصيل وهو مذكور في باب الحوالة. والله تعالى أعلم.

الفرق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية

الفرق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية Q ما الفرق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية؟ وما هو القدر الذي يحتاجه طالب العلم منهما أثناء دراسة الفقه؟ A القواعد الفقهية تخالف القواعد الأصولية، القواعد الأصولية: هي جملة من القضايا الكلية التي يمكن من خلالها فهم النصوص، فلا تتعلق بالمسائل، مثال ذلك لو قلت: الأمر للوجوب، فهذه قاعدة، فإذا وجدت أمراً في كتاب الله أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم: (أقيموا الصلاة) (آتوا الزكاة) تقول: هذا أمر، والقاعدة: أن الأمر للوجوب، هذه قاعدة أصولية، ودائماً أصول الفقه تتعلق بفهم الأدلة، وكيفية الاستدلال منها، وكيفية الاستدلال بها، وحال المستدل الذي هو المستفيد، وهذا يقتضي أن تكون هناك قواعد يستخدمها الأصولي فتأتي مثلاً للنص وتقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) [البقرة:21] (يا أيها الناس) عام، والقاعدة في الأصول: أن العام يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه، تقول: هذا عام، وتقول: هذا مطلق، والقاعدة: أن المطلق يبقى على إطلاقه، هذا منطوق وهذا مفهوم، إلى غير ذلك من القواعد التي تتعامل بها مع النص لا مع المسائل الفقهية، لاحظ حينما تأتي وتقول: الأمر للوجوب، فلم تأتِ في مسألة وضوء أو تيمم، إنما تتكلم على النص نفسه أن النص يدل على الوجوب، ويستفاد من قولك: إنه للوجوب، أن يأثم التارك ويثاب الفاعل، وأنه ملزم شرعاً بالقيام بما أمر الله عز وجل به، كذلك تقول: هذا نهي، والقاعدة: أن النهي للتحريم حتى يدل الدليل على صرفه عن ذلك الظاهر، فهذه تسمى قاعدة أصولية. وأما بالنسبة للقاعدة الفقهية فهي لا تدرس إلا بعد دراسة الفقه كاملاً؛ لأن القواعد الفقهية مثل الخلاصة التي يستطيع أن يجمع الإنسان بها شتات الفقه، فبعد أن يقرأ الفقه بكامله عبادات ومعاملات، وبعد انتهائه من الفقه بكامله يدرس القواعد، فيأتي ويقول: القاعدة في الشريعة: أن الأعمال بالنيات، وهي نفسها: الأمور بمقاصدها، لاحظ: الأمور بمقاصدها لا تختص بالوضوء ولا بالصلاة ولا بالزكاة ولا بالحج ولا بالصوم بل تشمل جميع العبادات، فتقول: هذا الوضوء عبادة، والعبادة تجب لها النية، وتقول: الوضوء عمل، والقاعدة: لا عمل إلا بنية، فهنا لاحظ: الوضوء عمل ولا عمل إلا بنية، فأنت تتحدث عن المسألة الفقهية نفسها بخلاف القاعدة الأصولية، القاعدة الأصولية تقول: الأمر للوجوب، إلا أن القاعدة الفقهية قد تكون قاعدة جامعة لأبواب العبادات، وقد تكون قاعدة جامعة لأبواب المعاملات، وقد تكون ضابطاً، وهناك فرق بين القاعدة وبين الضابط، فالضابط يختص بالباب تقول -مثلاً-: الضابط في تأثير النسيان في المحظورات أن يكون مما يمكن تداركه وتلافيه، مثلاً: إذا تطيب المحرم وهو ناسٍ يغسل الطيب، وإذا غطى رأسه وهو ناسٍ يزيله، وإذا لبس الثوب وهو ناسٍ يزيله؛ لأنه لا يبقى أثر، لكن إذا قلم الأظفار أو حلق الشعر أو جامع استوى النسيان والعمد، فإذاً الضابط ما يمكن تداركه وما لا يمكن تداركه، فكأنك جعلت هذا الضابط يفرق لك في المسائل العديدة. فالذي لم يقرأ الفقه بكامله لا يستطيع أن يستفيد من هذه القواعد الفقهية، إلا أنه في بعض الأحيان أثناء دراسة الفقه قد تمر بك قواعد فقهية تعينك على فهم الباب أو تعينك على فهم المسألة، ولا بأس أن يستفاد منها وأن يسأل على القاعدة، لكن لا يغرق طالب العلم فيها، إنما يتركها إلى الدراسة المركزة الدقيقة. وقد كنا أيام الطلب نأخذ القواعد الأصولية والفقهية بقدر المسألة، ولا نتوسع فيها؛ لأنك في بداية الطلب تكون متقيداً بالدرس الموجود وتركز عليه وتكرره المرة والمرتين والثلاث والأربع والخمس إلى العشر ولا تملّ، وتقوم وأنت تذكره ويصبح منسوخاً في عقلك، بعد ذلك إذا شئت أن تتوسع في أي شيء تتوسع، والأصل عندك ثابت بإذن الله عز وجل، لكن إذا جئت بمجرد ما تحضر الدرس تذهب إلى المغني أو إلى المجموع وتحضر وتدخل في الخلافات وفي أقوال العلماء وفي فروعهم فلن تستطيع أن تنتج شيئاً، فلا يثبت عندك ما قرأته في الدرس ولا ما قرأته في مطالعتك، فالعلم بالأصول تثبيتها وتكريرها ومراجعتها، والتركيز أثناء الدرس ثم المذاكرة مع طلاب العلم مما يجب أولاً، حتى إذا جمع الله لطالب العلم بين قراءة سابقة مرتين أو ثلاث للدرس، ثم التركيز أثناء الدرس ثم مراجعة بعد الدرس، خاصة المراجعة المنفردة بعد الدرس مباشرة ما أمكن، أو استماع الشريط المرة والمرتين والثلاث ثم مذاكرة مع طالب العلم؛ بإذن الله عز وجل لن ينسى مثل هذا إلا بمشقة وعناء، ويصبح له في كل شهر مراجعة ما استفاده من الشهر، وكل ثلاثة أشهر يرتب له مراجعة دورية متقنة، وبهذا يضبط الفقه، وإذا ضبطت الفقه وجدت حلاوته، والفقه إذا استولى على قلبك ووجدانك فتح الله عز وجل عليك فتوح العارفين، وتصبح تفكر فيه قائماً قاعداً فتجد لذته وحلاوته؛ لأنه مما يزيد الإيمان بالله عز وجل، هذه الأحكام الشريعة النظيفة النزيهة التي جاءت كاملة تامة: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} [الأنعام:115] وفي قراءة: (وتمت كلمات ربك) {صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115]، وقال سبحانه: {يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57]، فإذا أخذت حكم الله عز وجل من الكتاب والسنة -حكم خير الفاصلين وأحكم الحاكمين- وجدت العجب في كمال حكمة الله عز وجل، وكمال علمه وكمال هذه الشريعة واستيعابها للمسائل، وعندها يصبح الفقه شغلك الشاغل، وإذا نظر الله إليك وقد تعبت في هذا الفقه وتعبت في تحصيله فبإذن الله سيبارك الله في علمك، ويبارك الله عز وجل في فقهك بفضله على قدر تعبك، ومن تعب اليوم فإن الله يبارك له في نشره للعلم غداً، ويرزقه الله آذاناً تصغي إليه، ويرزقه قلوباً تطمئن لفتواه، ولربما يأتيك الرجل الذي لا يعرفك إلا بالثناء ولربما لم يسمعك، ويأتي ويجلس معك ويستمع منك الفتوى، فيقذف الله في قلبه من الطمأنينة والرضا بقولك ما لا يستطيع أحد أن يشتريه بملايين الأموال؛ لأن هذا الشيء بيد الله؛ ولأن (القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، وهذا كله مبني على التعب والجد في التحصيل، ولذلك لن تجد أحداً من أئمة الإسلام ودواوين العلم الأعلام وضع له القبول إلا بعد التعب والعناء والمشقة والتضحية في سبيل هذا العلم، فالفقه يحتاج إلى تعب وعناء. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الفقه في الدين، واتباع سنة سيد المرسلين، وأن يحيينا على ذلك وأن يميتنا على ذلك، وأن يحشرنا في زمرة أهله والعاملين به، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وإن شاء الله في المجلس القادم سيكون حديثنا عن خطاب الضمان وبعض المسائل المعاصرة، ونسأل الله العظيم التيسير والسداد. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين.

بعض المعاملات المالية المعاصرة وبطاقة الائتمان [2]

شرح زاد المستقنع - بعض المعاملات المالية المعاصرة وبطاقة الائتمان [2] لقد اعتنت الشريعة الإسلامية ببيان الأحكام لكل ما جدّ وطرأ من المعاملات المالية المعاصرة، وما ذاك إلا لأن قديم الإسلام جديد وجديده قديم، وحكم الله سبحانه وتعالى في المسائل المالية كحكمه في المسائل المتعلقة بالعبادات، فالإسلام دين كامل ما ترك صغيرة ولا كبيرة إلا بيَّن حكمها وأصلها، ومن المعاملات الطارئة التي تناولتها الشريعة ببيان أحكامها ما يسمى ببطاقة الائتمان وخطاب الضمان.

تفصيلات في التخريج الفقهي لأحكام بطاقة الائتمان

تفصيلات في التخريج الفقهي لأحكام بطاقة الائتمان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فقد كان حديثنا في المجلس الماضي عن نوع من المعاملات التي تعتبر مندرجةً تحت مسائل القرض وأحكامه، وقد بينا مسألة بطاقة الائتمان، وذكرنا حقيقة هذه البطاقة وتعريفها، ثم بينا أركان عقدها، وكذلك تعرضنا للحديث عن تخريج عقد بطاقة الائتمان، وكان حديثنا منصباً على جزئيات من التصور أكثر منها في الأحكام. ونظراً لذلك سنتم الحديث على جوانب مهمة يمكن بها تلخيص التخريج الفقهي والحكم الشرعي لبطاقة الائتمان.

أركان البطاقة وأحوال حاملها

أركان البطاقة وأحوال حاملها سبق وأن ذكرنا أن عقد البطاقة يقوم على مُصدِر وهو البنك أو المؤسسة أو الشركة التي تقوم بإصدار البطاقة، كما يقوم عقدها على طرفٍ ثانٍ وهو العميل الذي يوصف بكونه حاملاً للبطاقة، وتقوم بطاقة الائتمان على عقد واتفاقات والتزامات بين هذين الطرفين -المصدر والحامل- إلا أن هناك طرفاً ثالثاً يعتبر وسيطاً بين المصدر وبين العميل -حامل البطاقة- وهذا الطرف الثالث هو المستفيد الذي يكون تاجراً إذا كان حامل البطاقة قد استفاد من البطاقة في شراء السلع، ويكون غير تاجر إذا كان العميل أو حامل البطاقة قد استفاد منها في الخدمات. وعقد بطاقة الائتمان تم تصويره وبيان جزئياته، إلا أن هنا أمراً لابد من بيانه لتصور الحكم الشرعي الذي سبق إيجازه وتلخيصه فيما سبق. ومَن طلب البطاقة أو حمل البطاقة لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون له رصيد لدى المصدر. والحالة الثانية: ألَّا يكون له رصيد. فإن كان له رصيد، فإن المصدر أو البنك أثناء قيامه بتأمين وضمان هذا الحامل في التزاماته، لا يخلو من حالتين أيضاً: الحالة الأولى: إما أن يقوم بالسحب من رصيد الحامل للبطاقة للوفاء بالالتزامات والحقوق المترتبة عليه. الحالة الثانية: وإما أن يقوم بتسديد هذه الالتزامات والفواتير والاستحقاقات من عنده، ثم يطالب العميل بالسداد. فحينئذ عندنا الحالة الأولى: أن يكون لحامل البطاقة رصيد في البنك أو المصرف أو الشركة، فإن كان له رصيد إما أن يقوم البنك أو الشركة بالسحب من رصيده لسداد الحقوق التي عليه، وإما أن يقوم بالسداد من عنده ثم تكون هناك مخالصة بين البنك وبين حامل البطاقة.

التخريج الفقهي لبطاقة الائتمان لو قام البنك بتغطية الالتزامات من رصيد الحامل

التخريج الفقهي لبطاقة الائتمان لو قام البنك بتغطية الالتزامات من رصيد الحامل فأما في الصورة الأولى وهي أن يقوم البنك بالسحب من رصيد العميل، فإنه في هذه الحالة تكون طبيعة العقد والتعاقد وكالة: أي كأن البنك وكيلٌ عن صاحب البطاقة في سداد الحقوق والالتزامات التي عليه، مثال ذلك: لو أن حامل البطاقة ذهب ونزل في فندق وكلفه ذلك خمسة آلاف ريال، ثم اشترى جملة من السلع فكلفه ذلك ثلاثة آلاف ريال، فأصبح المجموع ثمانية آلاف ريال، هذه الثمانية آلاف ريال: كنا قد سبق وأن ذكرنا أن التاجر أو صاحب الفندق أو من يتعامل معه الحامل للبطاقة يقوم بإثباتها في فاتورة، ومن ثم تُدخل إلى حسابه، فإذا قام البنك بالسحب من الرصيد، يكون بمثابة الوكيل عن الحامل في سحب ذلك المبلغ المعين للوفاء بالالتزامات التي عليه، وأشبه بالشيك الذي يكتبه صاحب الرصيد للبنك الذي يدفع لفلان كذا وكذا، فهو بمثابة الوكيل، لكن الإشكال ليس هنا، الإشكال أننا لو اعتبرنا البنك أو المصرف وكيلاً عن صاحب الرصيد في الدفع فالأصل يقتضي أن يكون للموكل وهو العميل أو حامل البطاقة الحق كاملاً في التعامل مع هذا الطرف الثاني، وطبيعة العقد ما بين البنك وبين حامل البطاقة تخلي صاحب البطاقة من كثير من الحقوق، منها ما سبقت الإشارة إليه: أنه لو كان العميل قد اشترى بعملة غير العملة المعروفة؛ فإن هناك عقداً -عقد الصرف- يخول ويفوض البنك أن يصرف الريالات بالدولارات بأي سعرٍ كان، وهذا خلاف الوكالة؛ لأن الوكالة تجعل النظر في الأحظ للعميل عند التحويل إلى عملةٍ أخرى لا النظر في الأحظ للبنك أو المصرف، بيد أن التعاقد والأنموذج الذي تم الاتفاق عليه بين الحامل للبطاقة وبين المصدر -البنك- يلزم حامل البطاقة بالرضا بكل صرف قام به المصدر -أعني البنك- وهذا خلاف الوكالة؛ لأن الوكالة في الأصل، يكون الموكل هو الذي له الحق الكامل، هذا أول شيء. الشيء الثاني: لو صورنا هذا العقد على أنه عقد وكالة، لابد أن يوضع في الحسبان الرسم والمبلغ الذي دفعه الموكل للمصدر، فالرسوم التي دُفِعت للبطاقة كرسوم الاشتراك المقدمة ورسوم الخدمة المؤجلة، فهنا رسمان طالب بهما البنك -المصدر- حامل البطاقة، فيمكن أن نعتبر هذا المبلغ الذي طولب به من قبيل أجرة، ومن المعلوم في الفقه أنه يجوز أن يوكل بأجرة، يعني يجوز للشخص أن يوكل غيره على أن يقوم بمهمة ويعطيه أجرةً عليها، مثال ذلك: لو قلت لرجل: اشتر لي بضاعةً من نوع كذا وكذا بخمسة آلاف، وأعطيته خمسة آلاف وقلت له: وهذه مائة أجرة لك على تعبك، حينئذ تكون تفويضاً ووكالة مقيدة بأجرة وهي جائزة ولا إشكال، لكن أين الإشكال فيما نحن فيه؟ أن هذه الرسوم -وهي الأجرة- إذا اعتبرنا العقد الذي بين حامل البطاقة وبين البنك وكالة بأجرة فينبغي أن تسري أحكام الإجارة الشرعية على هذا النوع من الوكالة، فلابد من النظر في شروط صحة الإيجار الشرعي، والتي منها باتفاق العلماء: العلم بالأجرة وبالمنفعة. توضيح هذا الشرط حتى يمكن تطبيقه: أنك لو استأجرت شخصاً لكي يعمل أو يقوم بمنفعة لك فقلت له: اعمل عندي يوماً وأعطيك ما يرضيك لم يجز بالإجماع؛ لأن الذي يرضيه لا ندري كم هو، فقد يكون في ظنك أن المائة ترضيه وفي ظنه أنه لا تعطيه إلا مائة وخمسين فيحدث التشاحن، وبالإجماع لا يجوز أن تكون الأجرة مجهولة، هذا الشرط الأول. الشرط الثاني: لا يجوز أن تكون المنفعة التي تستأجره لفعلها مجهولة، كأن تقول له: ابن لي جداراً وأعطيك مائةً، فلا تصح الإجارة حتى تحدد طول الجدار وعرض الجدار حتى يصبح كلٌ على بينة، ويعرف ما لهذا الأجير من حق، وما لصاحب العمل من حق، فيعطى كل ذي حقٍ حقه، فهذا منهج الشريعة وهذه قواعد الشريعة الواضحة في التعامل والتي قامت على العدل وإعطاء الحقوق كاملة: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]، المهم أنك تدفع المال لقاء شيء معلوم، وإذا ثبت هذا فلا يصح أن تكون الإجارة بقيمة مجهولة، ولا يصح أن تكون على عمل مجهول، وفي البطاقة إذا اعتبرنا أن البنك يقوم بالسحب من الرصيد وكيلاً عن صاحب الرصيد فإنه قد أخذ أجرةً على هذا السحب لقاء سحب مجهول، فلا ندري كم قدر تلك السحوبات، ولا ندري هل تكون مثلا في بلدٍ قريب، أو بلد بعيد فالعمل الذي دُفِع الرسم لقاءه مجهول، وقد لا يستخدم البطاقة إلا مرة واحدة، وقد يستخدمها عشرين أو ثلاثين أو أربعين مرة والأجرة واحدة، فهذا مجهول من جهة العمل. ثانياً: مجهول من جهة الأجرة، وتوضيح ذلك أن الأجرة عن البطاقة اشتملت على نوعين من الرسوم: الرسم الأول: وهو الرسم المقدم الذي يكون في حال الاشتراك وهذا قد يعفى منه صاحب الرصيد، فعلاً في بعض الأحوال تعطى البطاقة لمن له رصيد بدون رسم الدخول، لكن بقي الإشكال في الرسم الثاني: وهو رسم الخدمة؛ وقد ذكرناها عند استعراضنا لبعض البنود التي تكون في العقد ويتفق عليها كل من العميل والمصرف عند صرف هذه البطاقة، فذكرنا أن العميل يلتزم بدفع رسم الخدمة على كل عملية، فلو أنه نزل في فندق وكلف نزوله ثلاثة آلاف ريال، فهناك رسم الخدمة، ولو فرضنا أنه (5%)، فثلاثة آلاف ريال سيكون نصيبها ما يقارب من مائة وخمسين، فنحن في هذه الحالة لا ندري بالنسبة في وقتها، فأصبحت الأجرة التي تستحق لعمل البنك مجهولة، فهي وإن كانت معلومة النسبة لكنها مجهولة القدر، وهذا نوع من الجهالة يبطل الإجارة. إذاً فأصبحت الجهالة من وجهين: إذا كان للعميل رصيد وفوّض البنك في السحب من رصيده وفاءً للالتزامات والحقوق التي عليه، هو عقد وكالة بأجرة، إلا أنه شابه جهالة الثمن التي هي الأجرة، وجهالة العمل والمنفعة المستحقة لقاءه. بناءً على ذلك في الحالة الأولى: وهي كون البنك يقوم بالسحب من الرصيد لتغطية الالتزامات تخرج على أنها وكالة بأجرة وفيها ما ذكرنا.

التخريج الفقهي لبطاقة الائتمان لو قام البنك بتغطية الالتزامات من غير رصيد الحامل

التخريج الفقهي لبطاقة الائتمان لو قام البنك بتغطية الالتزامات من غير رصيد الحامل الصورة الثانية من الحالة الأولى: وهي أن يقوم البنك بالوفاء بالالتزامات من عنده ثم يقسط الحقوق على العميل دفعات على ما يراه أو يتفق مع العميل عليه، ففي هذه الحالة: لا يسحب من الرصيد، ويكون رصيد العميل أشبه بالرهن والغطاء، فلو فرضنا أن العميل له عشرة آلاف ريال أو عشرين ألف ريالٍ والبطاقة يسحب بها في حدود خمسة آلاف ريال، فالخمسة آلاف الموجودة في الرصيد هي في الحقيقة غطاء لعمليات البطاقة التي هي في حدود خمسة آلاف ريال. فيمكن لنا أن نقيّم الصورة الثانية وهي التي لا يتدخل فيها البنك في الرصيد إلا بأمر وإيعاز من العميل، ويكون الرصيد فيها عبارة عن غطاء، وهذا ما سبق وأن سميناه بالرهن؛ لأن الرهن يكون للاستيثاق من أجل أن يوفي منه صاحب الحق إذا لم يسدد وقد سبق شرطه وبيان ضوابطه، وفي هذه الحالة البنك يقوم بالتالي: إذا اشترى العميل بمبلغ ثلاثة آلاف ريال، فالبنك له طرف من التعاقد مع التاجر كما بيناه سابقاً، فهو يدخل لحساب التاجر مبلغ ثلاثة آلاف ريال، دون رسم الخدمة التي طالبه بها البنك، في هذه الحالة: إذا قام البنك بالسداد عن العميل وتوجه للعميل لأخذ ما يستحقه عليه من دفعات، كان طبيعة التعاقد أن البنك التزم بالدفع عن العميل وجعل رصيد العميل غطاءً لوفاء العميل، فلو تأخر العميل أو امتنع من السداد فالأمر يسير حيث يسحب من رصيده، والبنك في مأمن من الإخلالات بهذه الالتزامات التي سبق ذكرها. الآن عرفنا طبيعة العقد، فيبقى السؤال من الناحية الفقهية، لو أن اعتبرنا الرصيد رهناً وغطاءً للعمليات التي يقوم بها العميل بالبطاقة، فالسؤال الأول: ما هو نوع هذا الرهن؟ و A أن الرهن من النقود: أعني الذهب أو الفضة، فهل يجوز أن تُرهن النقود أم أن الرهن يكون في المثمونات دون الأثمان؟ جمهور العلماء يجيزون رهن النقود، ونص على ذلك فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية، وهو مفهوم عبارات الحنابلة: كل ما جاز بيعه جاز رهنه، وبناءً على ذلك: مذهب الجمهور على جواز رهن النقود، والدليل على ذلك: أننا لو رهنا العقار كالبيت إنما قصدنا ضمان حق صاحب الدين، وسنبيع البيت عند عجز المدين عن السداد ثم نسدد، قال العلماء: فلأن يجوز رهن النقد المباشر من باب أولى وأحرى؛ لأنه إذا جاز رهن البيت والعمارة والدابة والأرض لكي تباع عند عدم الوفاء، فمن باب أولى أن يرهن النقد نفسه، وهذا واضح. إذا ثبت هذا فإن النقود تعتبر رهناً لعملية البطاقة، لكن الإشكال ليس هنا، إنما الإشكال في المسألة الثانية: وهي هب أن الرصيد اعتبر رهنا، فقد تقدم معنا في باب الرهن: أن الرهن الشرعي لا يجوز لصاحب الدين أن يغيره، أو يبدله، أو يتصرف فيه، وهنا عند النظر في المبلغ المدفوع نجد أن البنك قد ضمن مثل الرهن لا عين الرهن. توضيح ذلك: أجمع العلماء من حيث الأصل على أنك لو استدنت من رجل عشرة آلاف ريال، وقال لك الرجل: أعطني رهناً، فأعطيته سيارة عندك، تقدم معنا أن هذه السيارة إذا وضعت عند صاحب الدين فلا يحق له أن يتصرف فيها ولا أن ينتفع بها، وذكرنا الأحكام المتعلقة بالمحافظة على الرهن، كل ذلك لأجل الخوف من (كل قرض جر نفعاً فهو ربا). إذا ثبت هذا وقلنا: إن الرهن لا يتصرف فيه، فطبيعة الرهن الشرعي أنك تأخذ العين وتردها بعينها، فإذا أعطاك سيارة لا يجوز أن تبدل السيارة بمثلها، ثم تقول له إذا سدد: خذ هذه سيارة مثل سيارتك، بل الواجب أن تضمن له عين سيارته، وهذا ذكرنا فيه الأصول والضوابط وقررنا: أن الرهن يضمن بعينه، فإذا ثبت أن الرهن يضمن بعينه، ف Q الخمسة آلاف التي في رصيد زيد أو عمرو -وهو حامل البطاقة- إذا وضعت في الرصيد: هل الذي يضمن عين النقد الذي دُفِع أم يضمن مثله في القدر؟ الجواب: أنه يضمن مثله في القدر، فليست عين الخمسة آلاف المدفوعة؛ لأن الرهن يتعين وينبغي حفظه بعينه كما ذكرنا، وهنا لا يقصد بعينه إنما يحفظ بقدره ومثله. بناء على ذلك في الصورة الثانية من الحالة الأولى: إذا كان له رصيد، ولا يسحب البنك من الرصيد يعتبر رصيده بمثابة الرهن والغطاء لعمليات البطاقة وإذا كان بمثابة الرهن ففيه مسألتان: المسألة الأولى: أن الرهن بالنقود جائزٌ في أصح قولي العلماء وهو قول الجماهير. والمسألة الثانية: أنه يُشكل على هذا أن رهن النقود -الرصيد- لا يضمن ولا يحفظ بعينه، وإنما يضمن بمثله، فخرج عن ثمن الرهن في الشرع، لكن عندنا في هذه الحالة أيضاً إشكال، وهذا الإشكال يقوم على قاعدة: كل قرض جر منفعة فهو ربا، وتوضيحه: أننا سبق وأن ذكرنا في باب القرض أن العلماء مُجمعون على أنه إذا دفع رجل لآخر قرضاً فلا يجوز له أن ينتفع منه منفعة؛ لأن ذلك ذريعة إلى الربا، وقد بينا ذلك وذكرنا ما ورد عن السلف رحمهم الله من تحريم المنافع لقاء القروض، إذا ثبت أن صاحب القرض لا يجوز له أن ينتفع لقاء قرضه، فلو فرضنا أن صاحب البطاقة له رصيد -كما في الصورة التي معنا- وقام البنك بالسداد عنه، فإن صاحب البطاقة يعتبر في هذه الحالة قرض ما بين البنك وما بين العميل، فكأن البنك أقرض العميل قيمة الاستحقاقات التي في بطاقته، والتي فرضنا أنها خمسة آلاف، لكن البنك لم يقبل على دفع خمسة آلاف بدلاً عن رصيد العميل إلا لوجود المنفعة التي سيجنيها من الطرفين: من العميل -وهذا ما سنبينه في الرسوم المؤجلة- ومن التاجر. والسؤال: أين المنفعة التي يستفيدها البنك من التاجر؟ سبق وأن ذكرنا في عقد البطاقة: أن المصدر الذي يصدر البطاقة يلزم العميل ألا يتعامل إلا مع محلات معينة، وتجد شعارات البطاقة التي يريد أن يتعامل بها موجودة، إما في الخدمات وإما في أماكن السلع. إذا ثبت هذا فكأن البنك يقول له: أدينك بشرط أن تشتري من فلان وفلان -المحل الذي سيشتري منه- والبنك مستفيد؛ لأن بينه وبين هذا التاجر أو المستفيد عقداً، مفاده أن كل عملية يقوم العميل بفعلها كأن يشتري بثلاثة آلاف أو أربعة آلاف فإنه يجب على التاجر أن يدفع للبنك رسم الخدمة، ورسم الخدمة لو فرضناه مثلاً (5%) فمعنى ذلك: أن العملية إذا تمت بخمسة آلاف ريال، وعليها (5%) فمعنى ذلك أن البنك سيستفيد ما مقداره مائتين وخمسين ريالاً، وعلى هذا فتكون حقيقة الأمر: أن البنك ديّن صاحب البطاقة الأربعة آلاف وسبعمائة وخمسين واستفاد المائتين والخمسين التي سيجنيها من التاجر، وأطبقها على العميل خمسة آلاف؛ لأن المسجل عند البنك أنها خمسة آلاف، والذي يسجل في الفاتورة عند التاجر خمسة آلاف، فأصبحت للبنك منفعتان: منفعة من العميل وهذا ما سنذكره إن شاء الله من جهة الربا، ومنفعة من جهة التاجر والمستفيد. فإذاً: الحال في هذه الصورة الثانية: أن يكون البنك بمثابة المقرض للعميل؛ لأنك إذا جئت تكيف المسألة من الناحية العقلية فكون البنك يلتزم بالدفع عن العميل معناه: أنه سيقرض العميل؛ لأن الخمسة آلاف مستحقة على العميل لا على البنك، وفي هذه الحالة تعجل البنك بدفع الخمسة آلاف، والواقع أنه دفع أربعة آلاف وسبعمائة وخمسين واستفاد منها مائتين وخمسين، فهو يستفيد من التاجر، وقد يقال: هذا راجع إلى النظرة التي ينظرها البنك بأنه إذا أعطى العميل البطاقة وعين له المحل الذي يشتري منه يصبح عندها للبنك حق على هذا المحل، ومن حقه أن يستفيد من هذا المحل، طبعاً هذه وجهة نظر، لكن من الناحية الشرعية تعتبر قرضاً جر نفعاً، هذا بالنسبة للتخريج الأول المتعلق ببطاقة الائتمان التي لها رصيد. والخلاصة: إن كان العميل له رصيد في البنك فلا يخلو البنك في تأمينه للحقوق والالتزامات المترتبة على التعامل بالبطاقة من حالتين أو صورتين: إما أن يقوم بالسحب من مال العميل وحينئذٍ هو وكيل مستأجر، والوكالة بأجرة اختل فيها هنا: شرط العلم بالأجرة، والعلم بالمنفعة، فالأجرة مبنية على النسبة وهي معلومة من جهة القدر، لكنها مجهولة من جهة القيمة. كذلك أيضاً شابتها الجهالة: أعني إجارة الوكالة، من جهة جهالة المنفعة التي سيقدمها البنك للعميل، حيث لا يدرى عدد العمليات ولا يدرى هل هي في الداخل أو الخارج وهل هي في المحلات القريبة أو البعيدة، وهذا حاصل ما يقال في مسألة إذا كان للعميل رصيد عند تحرير البطاقة.

التخريج الفقهي لبطاقة الائتمان لو قام البنك بتغطية الالتزامات دون أن يكون للعميل رصيد في الأصل

التخريج الفقهي لبطاقة الائتمان لو قام البنك بتغطية الالتزامات دون أن يكون للعميل رصيد في الأصل الحالة الثانية: ألا يكون للعميل رصيد، فإذا لم يكن للعميل رصيد، فحينئذٍ يكون البنك قد أعطى العميل البطاقة وألزمه بدفع الحقوق المترتبة عليه في أمد معين، وقام البنك بالتسديد عن العميل، فأنت بالخيار بين أمرين: الأمر الأول: إما أن تعتبر البنك مقرضاً للعميل، فالبنك أقرض العميل وسدد عنه ثم أخذ بعد ذلك حقه بالأقساط كما هو متبع في بعض الأحوال. الأمر الثاني: أن تعتبره كافلاً للعميل، فكفل العميل ثم بعد كفالته للعميل غرم؛ لأن صاحب المحل التجاري لما رأى البطاقة لم يلتفت إلى العميل، وإنما التفت إلى مصدر البطاقة -البنك مثلاً- أنه سيؤمن له حقه، فيكون تخريجها بالكفالة أقوى، وقد سبق وأن شرحنا الكفالة، وبينا أنها ضم ذمة رشيد إلى ذمة آخر في الوفاء والسداد. بناءً على ذلك فتصوير هذا العقد كالآتي عندنا كافل وعندنا مكفول وعندنا شيء تكفل به ذلك الكافل، وإذا جئت تطبق ذلك على واقع الحالة تقول: الكافل: البنك، والمكفول: العميل، والمكفول له: التاجر، والمتكفل به: سداد المبلغ الذي تم الشراء به أو أخذ الخدمات في مقابله. بناءً على ذلك دعونا نطبق مسألة الكفالة: فالبنك تكفل للفندق أو تكفل للتجّار أياً كانوا أن من حمل هذه البطاقة أعطوه في حدود خمسة آلاف، فكيف نخرجها على ما تقدم معنا في مبحث الكفالة؟ سبق وأن بينا أن الكفالة لها صورتان: الصورة الأولى: وهي صورة مشهورة: أن يكون الشخص الذي عليه الدين قد طالبه صاحب الدين، فتأتي أنت وتقول: أنا أكفله أن يسددك في نهاية السنة، في هذه الحالة تكون قد كفلت ديناً ثابتاً مستقراً ولا إشكال. الصورة الثانية: وقد سبق معنا دراستها في آخر باب الكفالة والضمان، وهي الديون التي تئول إلى الضمان في المستقبل. وذكرنا أنه يجوز أن تتكفل بدين مجهول يئول إلى العلم ومسألة الكفالة بالبطاقة على دين مجهول آيلٌ إلى العلم تتخرج عليها، فأنت في مسألة الدين المجهول الذي يئول إلى العلم يجوز أن تأتي لصاحب البقالة وتقول له: ديّن فلاناً، وأعط فلاناً ما يريده وأنا أتكفل بسداد حقه أو أن حقك يعطى لك أو أنه يسددك في نهاية الشهر، فذكرنا هذا وبيناه وضربنا أمثلة على ذلك كأن تأتي وتتكفل نفقة أيتام أو نحو ذلك قلنا: هذا ضمان لدين في المستقبل، وكفالة لدين في المستقبل، فموضوع البطاقة في الصورة التي ذكرناها تتخرج على هذه الصورة؛ لأن الدين حال إحضار البطاقة غير معلوم، ولكنه آل إلى العلم، لكن يجب أن نتنبه إلى أن الكفالة غير الإجارة ففي الإجارة لا يصح أن تقول: المجهول يئول إلى العلم، بينما في الكفالة يصح؛ لأن الإجارة من عقود الغرر، أما الكفالة فمن عقود الرفق، وقد سبق عند كلامنا في بداية أبواب المعاملات المالية: أن هناك فرقاً بين عقود المعاوضات المبنية على الغرر والغبن وبين عقود المعاوضات المبنية على الرفق، وبينا هذا وذكرنا وجه منهج الشرع في كل منهما، ففي الكفالة: كفالة بمجهول يئول إلى العلم، والآن أثبتنا أن البطاقة إذا أُعطيت بدون رصيد لصاحبها، وتكفل البنك بالدفع عنه، وخرجنا على أنها كفالة، فلابد أن نعرف طبيعة هذه الكفالة، هل هي بأجرة أو بدون أجرة؟ هل البنك حينما التزم أن يسدد عن صاحب البطاقة، التزم أن يسدد تطوعاً على سنن الكفالة المعروفة أم أنه التزم أن يسدد لقاء أجرة؟ و A أن البنك لم يسدد إلا لقاء أجرة ورسم مقدم. وتوضيح ذلك: أن البطاقة بدون رصيد جرى العرف على أنها لا تعطى إلا بعمولة، وهذ العمولة هي عبارة عن رسم الاشتراك، ثم عمولة الخدمة بعد ذلك، فأصبح عندنا نوعان من الأجرة تدفع على هذه الكفالة. النوع الأول: الرسم الذي يدفع قبل الدخول وأخذ البطاقة، والنوع الثاني: الرسم الذي يؤخذ على عمليات البطاقة، وهو الذي يسمى في العرف التجاري برسم الخدمة، فإذا ثبت كل هذا فمعنى ذلك: أن عندنا كفالة بأجرة، فيرد السؤال في الحكم الشرعي. إذاً: انتهينا الآن من تكييف عقدها فقهاً وتبين أنها كفالة بأجرة، فهل يجوز أخذ الأجرة على الكفالات؟ هل يجوز لشخص يأتيك ويقول لك: فلانٌ له عليَّ مائة ألف ويحتاج إلى كفيل، فاكفلني سنة أو سنتين وأعطيك ثلاثة آلاف أو أعطيك على كل سنة ألفاً؟ لا يجوز بإجماع العلماء أخذ الأجرة على الكفالة. والسبب في ذلك يتضح ببيان الآتي: أنه لو كفل شخص شخصاً في مال أو دين، وأخذ أجرة على الكفالة فإنه في حال عجز المدين عن السداد يلزم شرعاً أن يسدد عنه، فلو سدد عنه المائة ألف أصبح المكفول مديناً للكافل بمائة ألف بالإضافة إلى المبلغ الذي اتفق عليه كأجرة، فتصبح المسألة: أن الكافل دفع مائة ألف وأخذ مائة ألف وزيادة، والزيادة هي الأجرة، ولذلك أجمع العلماء والسلف والخلف على تحريم أخذ الأجرة على الكفالات؛ لأنها من باب عقود الذرائع الربوية، وليست بالربوية الأصل؛ لأن الربا إما أن يكون أصلاً وإما أن يكون ذريعةً، فهي من عقود الذرائع الربوية، ويتذرع بها ويتوصل إلى الربا، فصارت الكفالةُ بعوض كفالةً لقاءَ الدين، وكأنه أعطاه الدين بالدين مع الفضل، وهو مبلغ الأجرة. إذاً: لو خرجناها كفالةً لا تصح ولا تجوز؛ لأنها كفالة بأجرة، وحُكي الإجماع على عدم جواز الكفالة بأجرة. قال بعض المتأخرين والمعاصرين ومنهم من توفي رحمة الله عليهم: يجوز أخذ الأجرة على الكفالة، وهذا قول شاذ وباطل، يُحكى ولا يعوّل عليه؛ لأن المعوَّل على مذاهب العلماء والأئمة، والاجتهاد بعد هذا الجمع العظيم من سلفنا الصالح وأئمة العلم ودواوين العلم بأن يأتي شخص ويحدث قولاً جديداً مخالفاً لقول الجماهير، فهذا لا يعد ولا يلتفت إليه، ونحن علينا بما درج عليه السلف. قال الإمام مالك: حق على كل طالب علم أن تكون فيه سكينة ووقار واتباع لأثر من مضى قبله، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء:115]، فلا يجوز للمسلم أن ينحرف عن سبيل المؤمنين وسبيل هذه الأمة الصالحة التي مضت على قول، ولا شك أن الحق في قولها؛ لأن الله لا يجمع الأمة على ضلالة. الخلاصة: أنه إذا ثبت هذا فإذاً: إذا قلنا: إن البطاقة لها رصيد تخرج فيها مسألة الرهن والوكالة، وإذا قلنا: إنها بدون رصيد تخرج فيها مسألة الكفالة بأجرة. هذا كل الذي بحثناه الآن في العقد في مبتداه؛ لكن تبقى البطاقة في مآلها ونهايتها، فإن البطاقة في مآلها ونهايتها عليها رسم مترتب على الديونات المستحقة، فإذا نظرنا إلى طبيعة التعاقد فإن البنك والمصْدِر يعطي حامل البطاقة مهلة ما بين خمسة وعشرين إلى خمسة وخمسين يوماً، ليقوم بتسديد الجزء المستحق ثم بعد ذلك تتركب الفوائد الربوية على كل يوم يتأخر فيه عن السداد، وهذا بالإجماع يجعل البطاقة عقداً ربوياً بدون شك. إذاً: عندنا هذه المسائل الأولى التي ذكرناها في أحوال الرصيد وغير الرصيد بحثناها إذا خلت عن الفائدة، يعني لو جاء شخص يقول: نسقط الفائدة الربوية ونجري البطاقة على هذا الوجه لشابه ما ذكرنا، ويبقى الإشكال إذا انضاف إليها علةٌ ثانية مما ذكرناه من وجود الفائدة المترتبة على التأخير، هناك جملة في تعريف بطاقة الائتمان وهي الجملة الأخيرة التي سنتعرض لها وهي السحب بالبطاقة، أو ببطاقة الصرف الموجودة الآن في ظاهر حالها، وبطاقة الصرف هذه إذا لم تؤخذ عليها عمولة مقدمة ولم تؤخذ عليها عمولة مؤجلة فهي جائزة إلا أن هناك إشكالاً قد يرد في مسألة قرض جر منفعة، وتوضيحه أنه لو كان لبطاقة الصرف رصيد، فرضنا عشرة آلاف ريال، والشخص أخذ البطاقة، فقد قررنا أن الوديعة المصرفية تعتبر قرضاً ولا تعتبر وديعة في الأصل، حتى إن المواد التجارية المتعارف عليها في العرف التجاري والنظام الاقتصادي تنص: على أن الودائع المصرفية تعتبر قرضاً ولا تعتبر وديعة، فهي قرض فإذا ثبت أن الوديعة ورصيد الإنسان في البنك يعتبر قرضاً على البنك؛ يرد الإشكال في أنه أقرض ووضع هذا الرصيد لينتفع بنقله وسحبه من موضع غير الموضع الذي وضعه فيه، فهو في الأصل ما أخذ البطاقة -خاصة إذا كان في السفر وغيره- إلا لأنه يريد منفعة ومصلحة في مكان غير المكان الذي صدرت منه فهذه تدخل تحت مسألة كل قرض جرّ منفعة فهو ربا، لكن في الحقيقة فيها وجه للجواز، وأرجو من الله تعالى أن يكون مغتفراً، خاصة وأنه في بعض الأحوال يأتي عرضاً ولا يأتي قصدًا. والباقي من كون الإنسان يسحب في حدود رصيده من كونه لا ضريبة له على ذلك الرصيد إن شاء الله يؤذن بالجواز، إذا كان الإنسان يدفع ويأخذ، سواء سحب رصيده أو سحب عملة من غير الرصيد الأصلي، كأن يكون رصيده من الريالات فيسحب دولارات، فإن سحب من رصيده فلا إشكال، وإن سحب بعملة غير عملة الرصيد فالصرف سيكون في الحال؛ لأنه أعطى الجهاز طلباً لصرف ما قيمته عشرة آلاف أو خمسة آلاف -مثلاً- فالصرف سيكون فورياً، هذا إذا قلنا: إن مجلس العقد الذي هو المجلس الذي يكون فيه الإيجاب والقبول، وذكرنا صحة بيع المعاطاة، فإذا صح التعامل مع الآلة ونزلت منزلة الشخص الذي وضعها أو منزلة المصدر يتخرج على هذا أنه من باب الصرف في مجلس العقد، وحينئذٍ يقوى القول بجواز أن تصرف بالعملة نفسها وبعملة أخرى غير العملة التي أودعت.

خطاب الضمان

خطاب الضمان بعد انتهائنا من مسألة بطاقة الائتمان هناك خطاب الضمان، وباختصارٍ فخطاب الضمان هو في الأصل تعهد والتزام من مصدره لجهة وطرف بينه وبين طالب الخطاب التزامات على أن يقوم البنك بضمان ذلك الشخص للوفاء بهذه الالتزامات.

أركان خطاب الضمان

أركان خطاب الضمان أركان خطاب الضمان كما يلي: أولاً: طالب الخطاب وهو الشخص الذي يطلب من البنك أن يكفله بخطاب الضمان. والطرف الثاني: المصدر وهو البنك أو الجهة التي تصدر خطاب الضمان فتلتزم بما فيه من التزامات لبنك أو لشركة إلخ. الجهة الثالثة: وهي الجهة المخاطِبة -المكفول له- وهي الجهة التي تطالب صاحب خطاب الضمان بحقوق والتزامات، وهناك ركن رابع في العقد وهو طبيعة الاتفاق الذي يبرم بين هذه الأطراف. فأما طالب خطاب الضمان فغالباً ما يكون مؤسسة أو شركة أو مقاولاً أو نحو ذلك، ويكون على مستوى الأفراد أو المجموعات، والمطلوب منه خطاب الضمان هو المصدِر الذي هو البنك أو الشركة أو المؤسسة أو المصرف. ينقسم هذا الطلب إلى نوعين: النوع الأول: إذا دخل الشخص في مناقصة ورست عليه عملية المناقصة يطالب بخطاب الضمان، لكي يُضمن إمضاؤه للعملية؛ لأنه فَوّت الأطراف الأخر والشركات الأخرى التي تقدمت بالمناقصات، فإذا رست عليه يطالب بضمان ويكون هذا الضمان في حدود مبلغ معين، يضمنه به البنك على أنه سيمضي في العملية وسيتم ما يلزم تجاه العقد المبرم في المناقصة، فإذا رست عليه العملية ووافق وتم هذا، هناك التزامات مبنية على رسوّ المناقصة عليه فيضمنه البنك ليفي بالعقد، فإن أخل قام البنك بالسداد والضمان والدفع عنه على أن تكون هناك مقايضه بينه وبين هذا الطالب. فلو اعترض صاحب المقاولة أو صاحب الشركة وقال للبنك: لا تدفع، لن يلتفت إلى اعتراضه؛ لأن خطاب الضمان ألزم البنك بالدفع للطرف الثالث، فأصبح هناك طرف ثالث صاحب حق، حتى لو اعترض المكفول -طالب خطاب الضمان- وقال: لا، ألغ الكفالة وألغ خطاب الضمان، لم يلتفت إلى معارضته، ودفع الاستحقاق الذي اتفق عليه، وهذا يسمى بخطاب الضمان الابتدائي أو خطاب الضمان المؤقت. النوع الثاني من خطابات الضمان: وهو الخطاب النهائي، وصفته: لو أن مقاولاً دخل في بناء مشروع وهذا المشروع من جهة ما خاصة أو عامة قد يفي به وقد لا يفي، إذ يكون هناك بنود للمقاول ينبغي أن ينفذها لإنجاز المقاولة التي تم الاتفاق عليها، وقد يأتي البناء ناقصاً، فيخل عند ذلك بالتزامات اتفق عليها بين الطرفين، وهذا النقص الذي يقع في الوفاء بالعقود وإمضاء العقود يلزم به من أصدر خطاب الضمان، فيلتزم البنك الذي ضمن المقاول، فإذا ثبت أنه أخل في هذه العملية بحدود مليون أو بحدود نصف مليون كان من حق الطرف الثالث وهو الجهة التي طالبت بالمشروع أن تسحب هذا المبلغ من البنك لقاء خطاب الضمان.

التخريج الفقهي لبطاقة الضمان

التخريج الفقهي لبطاقة الضمان إذاً: عندنا كفالة في الابتداء وكفالة في الانتهاء، وخطاب الضمان إذا جئنا ننظر إليه مبدئياً كان في حكم الكفالة وإذا جئنا نخرجه تخريجاً فقهياً وجدناه كفالة بأجرة فكأن البنك تكفل أن يضمن فلاناً -المقاول- وأعطاه الخطاب لقاء الأجرة التي دفعها رسماً لخطاب الضمان، وهذه الأجرة في الحقيقة تتخرج على مسألة الكفالة بأجرة، وقد ذكرنا أن جماهير السلف والخلف الذين يبلغون حد الإجماع لا يجيزون الكفالة بأجرة. إذاً: أخذ المبلغ على خطاب الضمان لا يجوز. كذلك أيضاً هناك إشكال ثانٍ في خطاب الضمان، وهو أن البنك إذا دفع ما قيمته مليون ريال لقاء التزاماته بخطاب الضمان فإن العميل مطالب بسداد مليون وفائدة، فهناك أيضاً الفوائد المترتبة على خطاب الضمان فأصبح عندنا أمران: الأمر الأول: الكفالة بأجرة وهذه محرمة. الأمر الثاني: الفوائد المترتبة على أصل الديْن، وهذه أيضاً محرمة؛ لأنها ربا. فهذان الأمران حاصلان في خطاب الضمان. وقد جرت بعض المصارف الإسلامية على أنها لا تأخذ أجرة بناءً على فتوى بعض العلماء التي ذكرناها، وكذلك أيضاً على عدم أخذ الفائدة مؤجلة، وهذا لا شك أنه محمود تؤجر عليه إن شاء الله، وهو إحياء للكفالة الشرعية، إلا أنه بطبيعة الحال أجيز أو أجازت بعض الفتاوى المعاصرة للمصارف الإسلامية أن تأخذ لقاء الاتصالات والكلَفة التي تقوم بها عمولة، فحينئذٍ أصبحت العمولة ليست بكفالة وإنما لقاء الاتصالات ونحوه، وهنا يرد إشكال: إذا كفل أحدٌ ما فلاناً أو فلانة وتحمل لقاء كفالته أموراً هل يجب على المكفول ضمانها؟ هذا أمر لم أجد من العلماء من نص عليه، وأساغه وأجازه إنما المحفوظ أن حق الكافل على المكفول في حدود الالتزام، أما ما زاد على ذلك فلا أحفظ فيه نصاً عن أهل العلم؛ ولذلك أخشى أن يدخل ذلك في الكفالة بأجرة والسبب في هذا واضح؛ لأن طبيعة عقد الكفالة من عقود الإرفاق، ففيه أجر الآخرة أكثر من أجر الدنيا، ولذلك يلتفت فيه إلى الإحسان، لما كان من أبي قتادة في ضمانه لدين الميت عندما امتنع عليه الصلاة والسلام من الصلاة عليه وقال: (كم دينه؟ قالوا: ديناران، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة رضي الله عنه: هما عليّ يا رسول الله! فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم). ففي الكفالة نوع من الإرفاق ونوع من التضحية، فإن دخلت إلى المقاصة والمطالبة فهذا أمر يحتاج إلى إثبات أو تقرير أنها سائغة شرعاً، وهذا الأمر لا أحفظ فيه نصاً أو كلاماً لأهل العلم كما ذكرنا. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجهه الكريم موجباً لرضوانه العظيم والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الاقتراض بعملة والسداد بعملة أخرى

حكم الاقتراض بعملة والسداد بعملة أخرى Q هل يجوز للمقترض أن يرد القرض بما يعادله بعملة غير التي كان منها القرض؟ وهل هي مماثلة لمن صرف من الجهاز عملةً أخرى غير التي أودعها؟ A باسم الله، الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد من اقترض من شخصٍ مالاً بعملة، وأراد أن يسدد بعملة أخرى فإنه إذا كان هذا الانصراف من العملة القديمة إلى العملة الجديدة طرأ أثناء السداد واتفق عليه حينما جاء يسدده، هذا الشرط الأول أن يكون ذلك عند السداد. والشرط الثاني: ألا يفترقا إلا وقد أعطى لكل ذي حقٍ حقه، فإن فعل صح ذلك وجاز، والدليل عليه ما ثبت في الحديث الصحيح، من حديث ابن عمر، أنه قال: كنت أبيع الإبل في البقيع، أبيع بالدراهم وأقتضي بالدنانير، وأبيع بالدنانير وأقتضي بالدراهم يعني: أبيعها ديناً بدنانير، فإذا جاء السداد أقتضيها دراهم، وأبيعها بدراهم فإذا جاء السداد أقتضيها دنانير، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لا يحل لك أن تفارقه وبينكما شيء)؛ يعني أجاز له، لكن بشرط ألا يتفرقا وبينهما شيء فلو قال له: العشرة آلاف التي عندك أريدك أن تسددها لي بالدولارات قال: إذاً أعطيك الدولار بثلاثة ريالات ونصف، قال: قبلت واتفقا، وفي نفس المجلس أعطاه حقه كاملاً وافترقا وليس بينهما شيء، فهذا في قول جمهور العلماء: جائزٌ ومشروع للحديث الذي ذكرناه، وهو حديث ثابتٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه إشكال في رواية سماك، لكن المحفوظ عند أهل العلم على القول الصحيح أنه صحيح وثابت، وعليه فإنه يجوز أن يقع ذلك ولا بأس به، والله تعالى أعلم. بالنسبة لآلة الصرف إذا كنت -على ما ذكرنا- أودعت بالريالات وسحبت بالدولارات أو العكس فإن هذا جائز لكن بشرط أن يكون في نفس الموضع وهو مخرج على مسألة الصرف الفوري، لكن هل الآلة تنزل منزلة الشخص، في بعض الأحيان ممكن أن تنزل لغالب السلامة، ولذلك لما كان الغالب سلامتها، والغالب أنها توفي الحقوق كاملة جاز، مثلاً الآن حينما تشتري المبردات من مكائنها الخاصة، فتشتري بريال شيئاً مبرداً الغالب سلامته، لكن في بعض الأحيان تأخذ الآلة الريال ولا تعطي شيئاً مقابله، والسؤال: لو أنها أخذت ولم تعط فما الحكم؟ يعني لو أنك دفعت ريالاً وامتنعت أن تخرج لك حقك وأنت ترى أمامك الزجاجة هل يجوز كسرها؟ الجواب: نعم، يجوز لك أن تكسر الزجاجة وتأخذ حقك، لكن تضمن قيمة الزجاج الذي كسرت، وعلى ذلك فتنظر الأحظ؛ فإن كانت قيمة المشروب أهون من قيمة الزجاج تقدم على هذا، أما من ناحية شرعية فالغالب في الحقيقة سلامتها، مثال ذلك السيارات التي يخشى أن يحدث فيها ضرر، كالسيارة التي تستعمل للسفر، ربما تنفجر إحدى العجلات أثناء ذلك ويهلك الإنسان، ففيها خوف الضرر، فتقول: هل يجوز الركوب؟ نعم؛ لأن الغالب سلامتها، فالحكم في الشريعة للغالب وللإمام العز بن عبد السلام كلام نفيس وهو: أن الشريعة أناطت الأحكام بالغالب ونوادر الظنون لا يلتفت إليها ولا يعوّل عليها في تقرير الأحكام الشرعية وقد أقر ذلك في كتابه النفيس: قواعد الأحكام ومصالح الأنام والله تعالى أعلم.

حكم إعطاء المكفول للكافل هبة أو عطية مقابل الكفالة

حكم إعطاء المكفول للكافل هبة أو عطية مقابل الكفالة Q علمنا عدم جواز الأجرة على الكفالة فهل تجوز الهبة والعطية؟ A باسم الله، الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد فيجوز للمكفول أن يكافئ من كفله بعد انتهاء الكفالة دون أن يكون بالشرط والمواضعة؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه)، كفله وسدد عنه ثم جاءه بعد انتهاء الكفالة وأعطاه الحق الذي سدده عنه ثم قال له: جزاك الله خيراً، وهذه ألف مني لك هدية أو هذه ساعة مني لك هدية أحسنت بارك الله فيك ودعا له بخير فهذا من السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن خير الناس أحسنهم قضاء)، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه استسلف بكراً فأراد أن يقضيه فقال الخازن: يا رسول الله! لا أجد إلا خيار الرباعية فقال صلى الله عليه وسلم: أعطه فإن خير الناس أحسنهم قضاءً)، فكان هديه عليه الصلاة والسلام أن يكافئ على المعروف ويرد الحسن بأحسن، ويرد الخير بأخير منه، وهذا هو هدي أهل الخير، قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأً سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى)، فإذا قضى الإنسان حقوق الناس بالسماحة واليسر ورد للجميل جميله فهذا هو خلق القرآن وهو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم انتفاع البنك برصيد بطاقة الصرف في أغراض غير شرعية

حكم انتفاع البنك برصيد بطاقة الصرف في أغراض غير شرعية Q بناءً على القول بجواز بطاقة الصرف ألا يشكل فيه أن المصدر انتفع من الرصيد أثناء بقائه؟ A نحن نتكلم من حيث الأصل العام، وقد نقرر أصلاً عاماً في البطاقة من حيث هي، أما إذا دخل الإيداع في مسألة الاستعانة به والتقوية به على المحرم فقد سبق وأن ذكرنا حكم ذلك في باب الربا والصرف، وبينا أنه لا يجوز من حيث الأصل الشرعي أن يضع المسلم ماله ليستعان به على الحرام؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، وهنا في مسألة بطاقة الصرف لو أنك تعاملت مع بنك مأمون ومع بنك يتعامل بالربا، فإنه قد يكون هناك اتفاق بين الطرفين بطبيعة التعامل، فلو جئت تصرف من الطرف الثاني، فإنه في هذه الحالة مما جرى به في غالب الأحوال: أنهم يقاضون بالفائدة ويأخذون مقدار ما سحبت من البنك الثاني يأخذه من البنك الأول مع رسم الخدمة فيصبح في هذه الحالة يتعين عليك الصرف من المصدر، هناك أحكام كثيرة مترتبة على مسائل الصرف فنحن نقرب من حيث الأصل العام مسألة التفصيلات؛ لأن الهدف من هذه الدراسة، إنما هي دراسة لطلاب العلم لكيفية تخريج المسائل النازلة على المسائلة القديمة، أما التفصيل والبحث فهناك فتاوى للمجامع العلمية ومجمع الفقه وهيئة كبار العلماء واضحة جداً في المسائل التفصيلية، ولربما يكون لبطاقة الائتمان الآن فتوى تفصيلية تصدر من هيئة كبار العلماء قريباً إن شاء الله؛ لأنها درست جميع أنواع البطاقات وفصلت في أحكامها؛ لكن نحن نتكلم في مسألة التخريج الفقهي، والذي يهم طالب العلم هنا الدراسة الفقهية، كيف يخرج المسائل النازلة وكيف يبين حكمها، وكيف يطبق القديم على الجديد، وذكرنا هذه الأحكام بالنسبة لبطاقة الصرف إجمالاً. أما من حيث التفصيل فلا يمكنني أن أعطي فتوى في مسألة حتى استفصل تفصيلاً بيناً عن طبيعة التعامل بها، وهذا أمر يحتاج إلى وقت طويل، والله تعالى أعلم.

شرح قاعدة: (ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس)

شرح قاعدة: (ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس) Q نرجو منكم شرح القاعدة التي تقول: ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس؟ A هذه مسألة من مسائل الأصول، وباختصار الأصل الذي تريد أن تقيس عليه، ينبغي أن يكون معدولاً به عن سنن القياس وهو الشيء المستثنى، فمثلاً الآن عندنا القذف -أعاذنا الله وإياكم- لو أن رجلاً قذف رجلاً بالحرام، فبالإجماع على أنه يطالب بأحد أمرين، إما البينة التي تثبت صدقه أو يجلد حد القذف لما ثبت في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته بـ شريك بن سحماء فقال صلى الله عليه وسلم لـ هلال: (البينة أو حدٌ في ظهرك). إذاً: خذ القاعدة: إن الأصل في القذف أنه إما أن يثبت القاذف قذفه، وإلا يُجلد الحد، جاءت الشريعة وأخرجت طرفين من هذا الأصل، أخرجت الزوج والزوجة، فإذا قذف الزوج زوجته فإنه يلاعِن، إما أن يأتي ببينة تثبت ما قذفها به أو يلاعنها، هذا اللعان جاء به دليل مخصوص كما في الصحيحين من حديث عويمر العجلاني رضي الله عنه وأرضاه أنه جاء إلى عاصم بن عدي ابن عمٍ له فقال: يا عاصم! الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلوه، أم يتركه؟ فقال: سل لي يا عاصم! رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فانطلق عاصم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء فقال: يا عاصم! ماذا قال لك؟ قال: ما جئتني بخير، كره رسول الله صلى الله عليه وسلم مسألتك، إلى الآن ما نزلت آيات اللعان، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره السؤال عن شيء لم يقع، فلما قال هذه المقالة جمع عويمر ثيابه وانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: (يا رسول الله! الرجل يجد مع امرأته الرجل، أيقتله فتقتلوه، أم ماذا يفعل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنه قد نزل فيك وفي امرأتك قرآن، فانطلق فأتِ بها، فجاء بها، فتلاعنا). الشاهد: أن الأصل يقتضي إما بينة أو حد القذف؛ لكن اللعان خرج عن سنن القياس، فلو جاء -مثلاً- فقيه أو عالم يقول: إذا قذف الأخ أخاه أو أخته، فإنه يجب اللعان قياساً على الزوج والزوجة بجامع القرابة أي: يجري اللعان بين الأخ وأخيه والقريب وقريبه كما يجري بين الزوج والزوجة بجامع القرابة بين الاثنين، العلة واضحة، والقياس في الظاهر صحيح؛ لكن نقول هنا: الأصل خرج عن القياس، الأقيس دائماً هو الموافق للأصول، فالأقيس الذي مشى على الطريق العام، فاللعان خرج عن القياس، فما خرج عن القياس، فغيره عليه لا ينقاس، هذا معنى القاعدة: أن المعدول به عن سنن القياس لا يقاس عليه غيره، ما خرج عن سنن القياس فغيره عليه لا ينقاس. نسأل الله العظيم أن يجيرنا وإياكم يوم البأس، وأن يحسن لنا ولكم الختام. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

باب الصلح [1]

شرح زاد المستقنع - باب الصلح [1] الصلح معاقدة توجب رفع الخلاف ودفعه، وقد شرعه الله سبحانه وتعالى في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع العلماء على مشروعيته. وإذا كان الأمر كذلك فإن على من يريد الإصلاح بين الناس أن يراعي حسن القصد، والعمل على تحري العدل وعدم المحاباة، وأن يتجنب وسائل الإحراج والميل ونحو ذلك.

تعريف الصلح

تعريف الصلح بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الصلح] الصلح في لغة العرب: قطع النزاع ورفع الخلاف. يُقال: صالح الرجل الرجل، يُصالحه مصالحة، إذا وقع بينهم الاتفاق على رفع الخصومة، ولذلك لا يختلف تعريفه الاصطلاحي عند الفقهاء والعلماء عن المعنى اللغوي. ومن هنا قال بعض العلماء في تعريفه: الصلح: معاقدة توجب رفع النزاع. وقولهم: (معاقدة)؛ لأنها تكون بالاتفاق بين الطرفين، وهما المدّعِي والمدَّعَى عليه، وتكون بين مالك الشيء والأجنبي. وقولهم: (توجب رفع الخلاف): الخلاف: النزاع والخصومات، فيختصم الرجلان في المال، يقول أحدهما: هذا لي، فيقول الآخر: بل هو لي، أو يختلفان في جزئه، كأن يكون شطر أرضٍ، فيقول أحدهم: الأرض كاملة لي، فيقول الآخر بل نصفها لي، ونحو ذلك من الخصومات، فإذا وقع الصلح بين الطرفين، وتراضى الطرفان؛ فإن معنى ذلك أن يرتفع الخلاف والنزاع، وتنقطع الخصومة، ومن هنا قال العلماء رحمهم الله في هذا التعريف: (معاقدة توجب رفع الخلاف). وبعض العلماء يقول: معاقدة توجب رفع الخلاف ودفعه، وهناك فرق بين الرفع والدفع، كما نبه عليه السيوطي في قواعد الفقه، وكذلك ابن نجيم في الأشباه والنظائر، وهو أن الرفع يكون لما وقع، والدفع يكون لشيءٍ لم يقع. فإن الصلح تارةً يُقصد منه رفع الخلاف بين الطرفين، كرجلٍ خاصم رجلاً ووقع النزاع بينهما، فجاء رجلٌ ثالث وأصلح بينهما، فإن الخصومة قد وقعت، ولكنها بالصلح ارتفعت، فيقال: رفع خلاف. وتارةً يكون الصلح قبل النزاع، فإذا جاء رجل إلى رجل، وقال له: هذه الأرض لي، فقال الآخر: بل لي، وقبل أن يقع بينهما الشجار توسّط ثالثٌ فقسمها بينهما، فحينئذٍ يكون دفعاً للخلاف، أي أن الصلح وقع في مرحلة سابقة للخصومة والنزاع. وأياً ما كان فالصلح يقع قبل الخصومة، أي: قبل وقوع النزاع والخلاف والشجار والآثار المترتبة، وقد يقع بعد ذلك، ولكن الله سبحانه وتعالى يدفع بهذا الصلح النزاع، ويدفع أيضاً عن عباده أثر وضرر العداوات والشحناء، وما يكون مترتباً على النزاع بينهم.

الأدلة على مشروعية الصلح

الأدلة على مشروعية الصلح وقد شرع الله عز وجل الصلح بكتابه، وبسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية الصلح بين المتخاصمين.

الأدلة من الكتاب

الأدلة من الكتاب أما دليل الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]، فأمر الله عز وجل أن نصلح ذات بين المسلمين، لما في ذلك من خير الدنيا والدين، فندب عباده وحثّهم على ذلك، وقال سبحانه وتعالى مبيِّناً فضل هذا الأمر وعاقبته الحميدة: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128]، فشهد من فوق سبع سماوات أن جمع القلوب وائتلاف الأرواح بالصلح فيه خير، ثم لما قال سبحانه: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128]، جاءت كلمة (خير) نكرة. فمن هنا قال بعض أئمة التفسير: إنه لعظم الخير المترتب على الصلح، جاءت بهذه الصيغة؛ لأن النكرة تفيد العموم والكثرة، أي: فيه خير الدين والدنيا والآخرة. وكذلك ندب الله عز وجل إلى الصلح بين الزوجين فقال: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35]، فأخبر سبحانه وتعالى أنه معينٌ وظهير لمن سلك هذا المسلك المحمود، وهو الصلح بين الناس، فإن الله يعينه ويوفِّقه ويسدِّده، فيعينه على عناء الخصومة، فتجده ينتقل من هذا إلى هذا، فيسهر ليله ويتعب في نهاره، ويكثر الخصوم بين يديه اللغط واللجاج والصياح، وهو مع ذلك صابر مصطبر لعلمه بعظيم الثواب عند الله، فيعينه الله، ثم إذا جاء يتكلم بين المتخاصمين سدّد الله قوله، وقوّم لسانه، لأن المصلح يدعو إلى ما دعا الله إليه من ائتلاف القلوب، فهو محصِّلٌ لمقصود الشرع، وهو داعي الله. وأما من كان مفسداً والعياذ بالله فإنه يدعو بدعوة الشيطان ولذلك يبوء بالخيبة والخذلان، فإذا نظرت إلى أهل الصلح وجدت عندهم من الصبر والتحمل، وبعد النظر، وسداد القول، والرشد، وحسن العاقبة، ما لا تجده عند غيرهم، ولا يزال الناس بخير ما بقي فيهم أمثال هؤلاء. وقد شهد الله من فوق سبع سماوات أن من فضل المجالس أن تُعمر بالصلح بين المتخاصمين، فقال سبحانه وتعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]، فأخبر سبحانه وتعالى أن المجالس إذا عُمرت بالصلح بين الناس، وبالدعوة إلى جمع القلوب، وائتلاف الأرواح؛ فإنها مجالس خير وبر، وأخبر سبحانه وتعالى أنه متكفِّلٌ بثواب أهل الصلح، فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} [النساء:114]، ولكن بشرط: {ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [النساء:114]، أي: طلباً لرضوان الله عز وجل، قال بعض العلماء: فيه دليل على أن الصلح طريقٌ لرضوان الله عن العبد، وهذا أمر لا يُشك فيه، فإنك إن وجدت الرجل معروفاً بجمع القلوب، ويُحبِّب الناس بعضهم إلى بعض، ووجدته يسعى في جمع المفترقين، ولم شمل المتخاصمين، وجدته على خير الأحوال وأفضلها وأصلحها، فالله عز وجل يقول: {مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]، وعظيماً من الله ليست بالهينة، فالله إذا قال للشيء إنه عظيم فهو عظيم، فلا أعظم من شيءٍ وصفه الله عز وجل بالعظمة، والكبير من الله ليس بالهين، أي: سوف نؤتيه أجراً موصوفاً بالعظم. ولذلك تجد أهل الصلح في القديم، وكذا من يعاصرك من إخوانك ممن عُرف بالصلح ومحبّة جمع القلوب، تجده في عاجل خير الله له من هذا الأجر العظيم. فتجده محبوباً بين الناس، مقبول الشفاعة، مرفوع المكانة، حتى إن أقواماً ماتوا من عشرات السنين، بل من مئات السنين ولا يزال الناس في ذكرهم الحميد بما خلَّفوا من المآثر الكريمة من الصلح بين الناس. فهذه آيات الكتاب كلها تدل على فضل الصلح بين الناس، والله تعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]، فجعلهم كالجسد الواحد، لا يرضى المسلم لإخوانه أن يتفرّقوا، وأن يتقطعوا، وأن يتمزَّقوا، فيتكلَّم هذا في هذا، ويعادي هذا هذا، إلى غير ذلك من المفاسد المترتبة على الخصومة والنزاع.

الأدلة من السنة

الأدلة من السنة ودل دليل السنة أيضاً على مشروعية الصلح، فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يندب إلى الصلح، ويفعل الصلح، بل قد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في حديث عوف بن مالك رضي الله عنه: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً)، وهذا الحديث رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وحسّنه غير واحد من العلماء، وإن كان الإمام الحافظ أبو عيسى الترمذي قد جزم بصحّته، وأُخذ عليه ذلك، لكن العمل عند المحققين أنه حسن لغيره؛ لتعدد الطرق، وكثرة الشواهد، وهو حديث ثابت. فهذه سنة قولية تدل على مشروعية الصلح وقطع الخصومات والنزاعات بالصلح بين الناس، وتقريب قلوب بعضهم إلى بعض. وجاءت السنة الفعلية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمشروعية الصلح، ففي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه تأخر عن الصلاة بقباء ليصلِح بين حيين من بني عوف) وكان بنو عوف من الأنصار قبلي المدينة، جهة قباء، وكان بينهم شيءٌ من الشحناء والخصومات، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يسمع بخصومة بينهم إلا سعى للجمع والصلح، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان معتكفاً في المسجد، وأُري ليلة القدر، فتلاحى رجلان، فكشف عليه الصلاة والسلام الستار عن قبته، ثم أشار لصاحب الدين أن يضع شطر الدين، فأصلح بينهما وهو في معتكفه عليه الصلاة والسلام. فالسنة القولية والفعلية دالة على مشروعية الصلح.

دليل الإجماع على مشروعية الصلح

دليل الإجماع على مشروعية الصلح وأجمع العلماء وأئمة الإسلام عليهم رحمة الله عز وجل على مشروعية الصلح وفضله، وأن من أعظم وأجل الطاعات وأحبها إلى الله سبحان وتعالى إصلاح ذات البين، وأن فعلها مندوب إليه ومرغَّبٌ فيه، وقد يجب على المسلم في بعض الأحيان أن يُصلِح إذا كان مقبول القول ومأمون الفتنة بالدخول في الصلح، وإذا لم يُصلِح ترتب على عدم صلحه قطيعة الأرحام، أو حصول ضررٍ عظيم كسفك الدماء وانتهاك الأعراض، واغتصاب الأموال، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ فإذا غلب على ظنه أنه لو دخل في هذه الخصومة أن الله يصلح ذات بين المسلمين، وأن الله يدفع هذه الشرور وهذه الفتن، وليس ثم ضرر عليه بالدخول؛ فإنه يتعين عليه أن يسعى، ويتعين عليه أن يصلح بين المسلمين.

أنواع الصلح وصوره

أنواع الصلح وصوره والصلح أنواع، ويقع على صور، فهناك صلح بين المسلمين والكفار، وهناك صلحٌ بين الفئة العادلة والفئة الباغية، وهو صلحٌ بين المسلمين، وهناك صلحٌ بين الزوجين، وهناك صلحٌ على القصاص والدماء والاعتداءات على الأجساد والأرواح، وهناك صلحٌ بين المسلمين في أمور الأموال، فهذه خمسة أنواع للصلح. فأما الصلح الذي يقع بين المسلمين وبين الكفار؛ فهذا يتكلم العلماء عليه في باب الهدنة، وقد تقدّم في باب الجهاد في سبيل الله وبيّنا فيه أحكامه وما يترتب عليه من مسائل. وأما الصلح بين الفئة العادلة والفئة الباغية، وهم البغاة الذين يخرجون على والي المسلمين وجماعتهم، فيُصلح بينهم وبينه، فهذا يتكلم العلماء عليه وعلى مسائله في باب أحكام البغاة. وأما الصلح في الشقاق والخلاف الذي يقع بين الزوجين، فغالباً ما يُنبّه على جُمَلٍ من أحكامه في مسائل العشرة الزوجية، ومسائل النشوز، ويعتني المفسرون ببيانه في تفسير آية النساء السابق ذكرها. وكذلك أيضاً بالنسبة للصلح الذي يقع على الحقوق المالية، وهذا هو الذي يعتني العلماء بذكره في هذا الموضع، فإذا قال الفقهاء: باب الصلح، أو قال المحدثون: باب الصلح، فغالباً ما يركزون على الصلح في الحقوق المالية كالنزاع في الأراضي والبيوت والدور والمساكن، والنزاع في الحقوق العامة التي تقع في الأموال، فهذا غالباً ما يُعتنى به في باب الصلح، أو كتاب الصلح، فيذكرون فيه مسائله وأحكامه. وأما الصلح عن الدم والقصاص ومسائله والديات؛ فهذه يُنبَّه على جملة من أحكامها غالباً في باب القصاص وباب الديات.

مناسبة ذكر باب الصلح بعد باب الحوالة

مناسبة ذكر باب الصلح بعد باب الحوالة وقول المصنف رحمه الله: (باب الصلح) بعد باب الحوالة يورد سؤالاً: لماذا ذكر المصنف باب الحوالة، ثم أتبعه بباب الصلح؟ وما هي مناسبة باب الصلح لباب الحوالة؟ A أن باب الصلح فيه شبه من الحوالة؛ لأن الحوالة أن تحيل صاحب الدين على شخص آخر لك عليه حق، كما تقدم بيانه في باب الحوالة، فكأنك صالحت صاحب الحق عن حقه عندك، فحينئذٍ تكون الحوالة فيها شيءٌ من الصلح، ومن عادة العلماء أن يُلحقوا الشبيه بشبيهه، والنظير بنظيره، والمسائل المتقاربة، والأبواب المتجانسة والمتفقة في بعض المعاني، بعضها ببعض، فألحقوا باب الصلح بباب الحوالة، وإن كان بعض أئمة الشافعية رحمة الله عليهم يسلكون مسلكاً آخر، لكن للمصنف رحمه الله عذره من هذا الوجه.

الحث على الصلح

الحث على الصلح والصلح إذا وقع فإنه يقوم على طرفين متنازعين، وطرفٍ ثالث يصلح بين الطرفين، وهذا الطرف الثالث تارةً يكون من القضاة والحكام الذين يفصلون في القضايا، وتارةً يكون من غيرهم من عامة الناس. فأما بالنسبة للقاضي، فالقاضي موقفة في الأصل حيادي، ولا ينبغي للقاضي أن يميل لأحد الخصمين دون الآخر، والصلح غالباً يكون فيه شيء من الإضرار بأحد الطرفين، ولذلك كان على القاضي ألا يتدخل إلا بالحكم والفصل في الخصومة، فيعطي كل ذي حق حقه على وفق حكم الشرع؛ لأنه لو كان القاضي يُغرق ويبالغ في مسائل الصلح؛ فإن هذا يُذهب هيبة القضاء، ويُنزِع الثقة من القاضي؛ لأن الناس لا يصلون إلى القاضي غالباً إلا وقد تقرَّح قلب المظلوم من الظلم، فهو يحتاج إلى من ينصره ويعينه، فإذا جاء إلى القاضي فوجد القاضي يهوِّن من دعواه، أو يحاول أن يحط من حقه الذي عند خصمه؛ فإن هذا يُحدث عند الناس شيئاً من ردة الفعل الذي لا تحمد عقباها. ومن هنا فالأصل أن القاضي لا يتدخل بين الطرفين إلا في الفصل، فمثلاً: لو ارتفع الخصمان إلى القاضي فردّهما، أي: ردّ الخصمين، وقال: اذهبا فاصطلحا وامتنع من القضاء، وجاء المظلوم في شدة وفي حال، فإن هذا كما ذكرنا قد يُحدث ضرراً فيجعل المظلوم إذا وصل إلى القاضي ولم ينصف أن يتجه إلى وسائل أخرى للوصول إلى حقه، ومن هنا قال العلماء: الصلح من القضاء يُضَيَّق قدره في حدود. ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كتاب القضاء المشهور، والذي شرحه الإمام المبارك ابن القيم شرحاً مسهباً يعد من أنفس ما كتب في شرح هذا الكتاب الذي اعتنى العلماء بذكره، وهو كتاب القضاء، وهو كتاب بيّن فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه منهج القضاء، كتبه لـ أبي موسى؛ لأن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه كان قاضيه على الكوفة، ولاه القضاء بالكوفة وناحية الشرق، فكتب له هذا الكتاب الذي يسمى بكتاب القضاء، رواه البيهقي وغيره في السنن. وفيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أبا موسى برد الخصوم حتى يصطلحوا، فإن الفصل بينهم يورث الضغينة والشحناء، فأمره أن يرد الخصوم إلى الصلح، ولكن كما ذكر العلماء يُرد بقدر، يعني أن القاضي إذا نظر أن الخصوم عندهم سعة، وبالإمكان أن يصلح بينهم؛ دعا إلى الصلح، وردَّهم إلى الصلح، وإن وجد الأمر يحتاج إلى بتٍّ وفصل؛ فإنه يبت ويفصل. لكن رخصوا للقاضي أن يُصلح بين الخصمين في مواضع: الموضع الأول: أن تستشكل عليه القضية فتصبح غامضة، وأدلتها متشعبة، ولا يستطيع أن يلم هذا الشتات، فحينئذٍ يلتجئ إلى الصلح. فإذا أشكل عليه الحكم ولم يتبين له وجه الحق، والتبست عليه القضية لكثرة الأقوال فيها وكثرة الأدلة، وحصول شيء من التعارض والتضارب الذي لا يستطيع فيه أن يتبين؛ فإنه يرجع إلى الصلح وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما أنا بشرٌ مثلكم وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض). فالقاضي بشر، ومهما أُوتي الإنسان من الذكاء والفهم، فإنه قد يوقفه الله عز وجل في بعض القضايا مكتوف اليدين حتى يعلم فضل الله عليه، وأنه تحت رحمة الله، ومهما أوتي القاضي من علم وفطنة؛ فلا بد وأن يقف في بعض المواقف حائراً بقدرة الله عز وجل حتى يستكين ويذل لله عز وجل، وهذا معروف ومشهور في أخبار القضاة وأقضيتهم، ففي هذه الحالة إذا طغت الخصومة وتشعّبت الأدلة، ورأى القاضي من المصلحة أن يجمع بين الخصمين بالصلح، فحينئذٍ يُصلِح. وأما إذا تبين الحق. بمعنى: عرفنا أن زيداً له على عمرو ألف ريال، وأصبح الأمر لا لبس فيه، فيجب عليه أن يبت الحكم، إلا إذا خاف أن إمضاء الحق يُحدث فتنة أعظم، كما يقع بين ذوي الأرحام. فمثلاً: لو أن طرفين اختصما عند القاضي، وتبيّن للقاضي وجه الحق، كأن اختصموا في دم، أو عرض، وتبين للقاضي أن هذه الفئة ظالمة لهذه الفئة ولكن لو أصدر الحكم وبيّن الحق، فستحدث آثار أسوأ وأعظم من المصلحة المترتبة على قضائه، فإن خاف حصول فتنة عظيمة، أو حصول شحناء فحينئذٍ يصلح، وقد أشار بعض العلماء رحمهم الله إلى هذه الاستثناءات بقوله: والصلح يستدعي له إن أشكل حكم وإن تعين الحق فلا ما لم يخف بنافذ الأحكام فتنة أو شحناء للأرحام (والصلح يستدعي له): يعني: أن القاضي يصير إلى هذا الصلح. فيستدعي له الطرفين. (إن أشكل): يعني: غمَض عليه الحكم، (وإن تعين الحق فلا): لأنه إذا تعيّن له الحق، وعُرِف أن فلاناً ظلم فلاناً وتبيّن الحق، فإنه بدخوله في الصلح يوجب الريبة، فكأنه يشفع للظالم، وموقف القضاء دائماً ينبغي أن يكون حيادياً لا يميل فيه القاضي لأحد الخصمين دون الآخر. وقوله: ما لم يخف بنافذ الأحكام فتنة أو شحناء للأرحام. ففي بعض الأحوال يكون القضاء بين أقوام جُهَّال، أو بين أقوام بينهم فتنة عظيمة، وقلوبهم مليئة بالشحناء والبغضاء، ولكن رأى القاضي أن الأفضل أن يقرِّب بين الطرفين، وأن يُصلِح بينهم فيعدل عن الحكم بالقضاء إلى الجمع بين الطرفين بذلك، هذا بالنسبة لمسألة الصلح من القاضي ومن في حكمه. أما الصلح من عامة الناس، فالصلح يسعى له العلماء، ففي بعض الأحيان يتدخّل العالم بين طرفين، بين زوج وزوجته، بين عامل ومستأجره، وهكذا يدخل العالم ويدخل طالب العلم، ويدخل الرفيع الذي له شأن كشيخ العشيرة، وأمير القبيلة ونحو ذلك ممن لهم فضل ومكانة، وعندهم عقل وحكمة، وقد يدخل أُناس من عامة الناس عندهم شيء من العاطفة ومحبة الخير للناس، فيختلف أنواع الشفعاء.

أمور يجب مراعاتها في الصلح بين الناس

أمور يجب مراعاتها في الصلح بين الناس فننبه على مسائل: ينبغي لمن يريد أن يُصلح بين الناس أن يراعيها:

الإخلاص لله

الإخلاص لله منها: أن يعلم أولاً أنه يتردد بين نيتين إذا دُعي للصلح بين طرفين، فإما أن تكون نيته لله والدار الآخرة، وإما أن تكون للدنيا، فالشخص ينبعث للصلح بين الناس لعلمه بعظيم الثواب عند الله، وهو يستشعر قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]، ويستشعر قول الله سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207]. فهو يبيع نفسه لمرضاة الله سبحانه وتعالى. فإذا انبعث بهذه النية الصالحة، فإن الله عز وجل يُعظِم له الأجر، ويجعل جميع ما يقع من العناء والتعب والنصب في ميزان حسناته، وهذا بخير المنازل عند الله عز وجل. وكذلك -أيضاً- بحسن النية يُوفَّق إلى السداد، وقل أن يُصلح نيته إلا ألهمه الله عز وجل أصلح الأمور، ومن هنا قال بعض العلماء رحمهم الله: (من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس)، فمن أصلح ما بينه وبين الله بالنية الصالحة في الأمور، أصلح الله ما بينه وبين الناس من الشئون والأحوال. فمن أمثلة ذلك: إذا دخل في الصلح فأصلح ما بينه وبين الله بحسن النية؛ أصلح الله ما بينه وبين الناس، فعصَم لسانه عن الزلل، وعصم فعله عن الخلل، ووجهه وسدده، وكان له المعين والظهير معيناً على الخير، وظهيراً له على الطاعة والبر، وفي ذلك وردت قصة: اختصمت عائلتان لزوج وزوجة، ثم دخل بينهما مصلحان فلم يوفقا للصلح بينهما، وكانت القضية عند أحد قضاة السلف رحمة الله عليهم، وكان يعلم هذا القاضي أن هناك مجالاً للصلح، ولكن الله لم يوفق الحكمين، فلما رجع الحكمان إليه وأخبراه أنهما لم يوفقا، قال رحمه الله: والله لو حسنت نيتكما لوفّقكما الله؛ لأن الله يقول: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35]. أولاً: فالنية هي الأساس والمنبعث الذي ينبعث به الإنسان للصلح. ثانياً: هذه النية لها عوارض، فمنها حب الشرف، وحب الجاه، فإن الذي يدخل في الصلح ينتزعه الشيطان إلى نية الدنيا؛ لأن الناس يقولون: فلان أصلح بين فلان وفلان، وفلان وجه الخير، وفلان كذا، ينتظر من الخصمين أن لا يجلسا في مجلس فيطرأ ذكر الخصومة إلا قالوا: فلان هو الذي أصلح. فهذا يطلب الرياء والسمعة، ويطلب المدح والثناء، فحظه من تعبه ونصبه ما أراد من الدنيا، وينادي منادي الله يوم القيامة: من كان عمله لغير الله فليذهب وليأخذ أجره ممن عمل له، فإن يوم القيامة لا ينفع فيه الإنسان إلا صدقه: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119]، فالصدق هو الإخلاص. فمن صدق مع الله صدق الله معه، فالصلح إذا دخل الإنسان فيه بنية السمعة هلك، وصرفه الله عز وجل، ولذلك تجده يتأثر في حدود السمعة، فلو كان أحد الطرفين قوياً أو له مكانة، مال إليه والعياذ بالله أكثر من الضعيف، وإذا دخل بنية الرياء والسمعة انحرف عن صراط الله، فإذا كان أحد الخصمين ممن ليس له مكانة في قلبه ضغط عليه وأحرجه، وألجأه إلى أمور لا تُحمد عقباها؛ فهذا لا يأمن أن يكون بصلحه مفسداً، فهو يظن أنه مصلح والواقع أنه -والعياذ بالله- مفسد، وسنبين وجه ذلك، وهو الظلم في الصلح.

الحذر من الحمية والعصبية

الحذر من الحمية والعصبية وكذلك أيضاً: ينبغي لمن يريد أن يصلح بين الناس أن ينتبه للحمية والعصبية، فإنه في غالب الأحوال إذا دخل في الصلح بين القرابة، تنتزعه نوازع الحمية والعصبية، فينبغي أن يحذر منها، وأن لا يجعل العادات والأمور التي هي من شأن الجاهلية محكمة له في صلحه، بل عليه أن يجعل نصب عينيه مرضاة الله، وهذا يستلزم عليه أن يرجع للعلماء، فإذا طرأت قضية بين زوجين، أو طرأت قضية بين متخاصمين، وليس عنده خلفية عن بعض المسائل الشرعية فعليه أن يتصل بالعالم، ويسأل العلماء، ولذلك يقولون: غالباً ما يُوفَّق المصلح إذا سأل العلماء، لأنك إذا سألت العالم -وهذه قاعدة عامة- في الأمور كلها التي تتصل بالعبادات والطاعات والقربات، وما تريده من أمور دينك؛ وفقت، وأنك ما استشرت ولا سألت ولا استفتيت أحداً من أهل العلم وأنت ترجو ما عند الله عز وجل بالرجوع إليه، وعملت بما قال لك إلا بارك الله فيما أتيت، حتى ولو كانت هناك أضرار، فإن الله يدفع عنك أضراراً أكبر منها. وهذه فائدة الرجوع إلى العلماء، ولذلك قالوا: قل أن يشاور ويستفتي أحدٌ العلماء ويخيب في أمره؛ لأن الله يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، ولم يأمر الله بسؤالهم والرجوع إليهم إلا لخير يعلمه سبحانه وتعالى في ذلك الرجوع وذلك السؤال، ولذلك شهد الله أنه لو رُد الأمر إلى أهله لكان خيراً، وكان الصحابة رضوان الله عليهم إذا وقع بينهم شيء رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسار السلف الصالح على ذلك، وكانت الأمة بخير حينما كان الناس إذا طرأت عليهم أمور لا يستبدون بالآراء والأهواء، وإنما يرجعون لأهل العلم، ويقدرون أهل العلم، وعندما كان الناس يحمدون مشورة العلماء ويحبونها كانت البركة، وكان الخير في ذلك.

العلم بالقضية علما تاما

العلم بالقضية علماً تاماً ومنها العلم بالقضية علماً تاماً كاملاً، فلا تدخل للصلح بين طرفين حتى تكون على إلمام تام بالقضية، وهذا يستلزم منك أن تسمع القضية كاملة. فلا تدخل للصلح بين المتخاصمين، وقد علمت بأطراف من القضية دون أطراف، لأنك أشبه بالحكم بين الخصمين فلا ينبغي أن تسمع من أحدهما دون الآخر، أو تنظر إلى قضايا لأحدهما دون قضايا الآخر. وإذا جاءك خصم وقد فُقئت عينه فلا تعجلن، فلعل خصمه قد فُقِئت عيناه، فلذلك ينبغي أن تسمع القضية كاملة، وحينئذٍ يتحتم عليك قواعد وأصول تنتبه لها، أولاً: تسمع القضية كاملة من الأصل، وهو الشخص المتّهم صاحب الحق المدَّعِي، فتجلس مع الشخص وتسمع منه سماعاً كاملاً، وتعطيه حرِّيته في أن يقول جميع ما عنده، ثم تنتقل إلى الطرف الثاني بكل أمانة ونزاهة، فتسمع جميع ما عنده، ولا تقاطعه إلا إذا حصل استفهام أو سؤال، ولا تحاول أن تشككه فيما يقول، أو تميل للطرف الثاني ضده. فإن كثيراً ما تقع الإِحن في الخصومة والصلح، ولا يوفَّق المصلحان متى ما نظر أحد الطرفين أن المصلح يميل للطرف الآخر دونه، فإذا جاء الطرف الأول وجلس معك وأعطيته حريته، وكنت أثناء جلوسك معه رجلاً عدلاً ترجو مرضاة الله، وتعلم أن الله حمَّلك أمانة ومسئولية أن تسمع سماعاً كاملاً فتعطيه حرِّيته حتى يقول ما عنده، وإذا كان كلامه كثيراً لخّصتَ النقاط التي قالها وراجعته حتى تعرف وتضبط الأمر ضبطاً تاماً. ولذلك إذا جئت للصلح -في هذا الزمان- فلا تُجلس الخصمين مع بعضهما، ولا تسمع منهما وجهاً لوجه، واسمع من كل طرف على حدة، وقل: أريد فلاناً يقول لي جميع ما عنده، فتجلس معه على حدة، ثم تجلس مع الآخر على حدة، وتلخِّص النقاط، فإن أمكنك أن تصلح بينهما دون أن يتواجها فهذا أفضل، وإذا أمكن الصلح وتقليب وجهات النظر فيما قاله هذا وهذا فهو أفضل، خاصة في مسائل الزواج؛ لأن الزوجين إذا جلسا فقالت المرأة سراً من الأسرار، أو قالت عورة من العورات، أو سوءة من السوءات حمَل الزوج عليها في قلبه، فلو حصل صلحٌ في المستقبل ربما انعكست الآثار على هذه الكلمة التي قالتها، ولربما حمل في قلبه أن يعيدها حتى يُضّر بها وينتقم. فينبغي للمصلح أن يكون حكيماً خاصة مع كثرة الجهل في الناس، وعدم وجود شيء من الأدب أثناء الجلوس، فكل يريد أن يكون هو صاحب الكلمة، وكل يريد أن يكون هو المتكلم، وكل يدعي أنه هو المظلوم. فلذلك ينتبه لهذه القضية؛ صحيح أنك تحتاج إلى استفهام لبعض القضايا، وبعض القضايا تحتم عليك أن تجمعهما وجهاً لوجه حتى تعرف الصادق من الكاذب، لكن إذا رُزِقت بصيرة العلم؛ فإنك تستطيع أن تعرف صدق هذا من كذبه، وتعلم أيضاً صدق الطرف الثاني من كذبه من خلال الجلوس لسماع الخصم سماعاً كاملاً، ولا تحاول أثناء كلامه أن تكون مع الطرف الثاني ضده، وإنما يكون كلامك استفهاماً، واستبياناً، فلا يكون تكذيباً ولا تخطئة إلا إذا كان فيه جور وظلم، وأردت أن تذكره بالله عز وجل، فتقول له: يا فلان اتق الله! الدنيا فانية، وهذا الذي تقوله ستحاسب عليه بين يدي الله، فإن الله يقول: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19]، إن كنت صادقاً فإني أصدِّقك، وإن كنت كاذباً وصدّقتك، فإنك لا تحمل وزر من ظلمت فحسب، بل حتى وزري أنا، لأني أصدقك فيما تقول، وتذكِّره وتخوِّفه بالله. فالسماع من الطرفين سماعاً كاملاً يساعد على تصور القضية. وإذا تصوَّرت القضية فلا تخلو من حالتين: إما أن تكون محضة وإما أن تكون مشوبة، والقضية المحضة تكون دينية محضة أو دنيوية محضة، فإذا كانت المسألة دينية محضة رجعت للعلماء، وإذا كانت دنيوية محضة رجعت للعقلاء وأهل البصيرة، ولا مانع أن تستشير بعض أهل العلم إن كان لهم علم وبصيرة بمثل هذه الأمور، وإن كانت جامعة بين الدين والدنيا، فحينئذٍ تجمع بين مشورة العلماء ومشورة أهل الخبرة. فمثلاً إذا وقعت قضية بين شخصين في أمر دنيوي في مسألة تجارة، فتحتاج إلى إنسان عنده خبرة في التجارة، أو بين عامل وصاحب العمل فإنها تحتاج إلى إنسان له خبرة في ذلك العمل، فترجع إلى ديِّن أمين صالح وتسأله حتى تستطيع أن تعرف من المخطئ فتذكِّره بالله ثم تصلح. المقصود هو تصور القضية تصوراً كاملاً ثم حلها عن طريق العلماء إن كانت دينية، أو عن طريق العقلاء إذا كانت دنيوية، أو تجمع بين الأمرين إذا جمعت بين الطرفين.

العدل بين الخصمين

العدل بين الخصمين كذلك أيضاً مما ينبغي أن يُتنبَّه له في الصلح: أن يُبنى على تقوى الله عز وجل بالعدل بين الطرفين، فإذا دخلت في القضية وأنت ترجو ما عند الله، وتصوَّرتَها تصوراً كاملاً ثم استشرت العلماء وقالوا لك: فلان المخطئ، وفلان المصيب، وفلان أخطأ في كذا وأصاب في كذا، والآخر أخطأ في كذا وأصاب في كذا، وأخذت نتيجة الأمر؛ فحينئذٍ إما أن تحل القضية حلاً وسطاً؛ بالجمع بين الطرفين بالحل الوسط، وهذا ما يكون به الصلح. وأما إذا بينت لكل ذي حق حقه، وأردت أن تفصل بينهم بذلك، فالذي يفعل هذا يسمى حَكَمَاً، وهو الذي يعرف حق كل واحد من الطرفين، ثم يعطي كل ذي حقٍ حقه. لكن المصلح دائماً يُحدِث قولاً وسطاً بين الطرفين، وهذا يستلزم تنازل صاحب الحق عن شيءٍ من حقه، كأن تعرف أن المرأة مظلومة وأن الزوج ظالم، فتذهب إلى الزوج وتبيِّن له ظلمه، وتذهب إلى الزوجة، وتقول لها: نعم أنتِ مظلومة وأنت صاحبة حق؛ لأن الله يقول، ورسوله عليه الصلاة والسلام يقول، لكن يا فلانة هذا زوجك وبعلك، إن صبرت عليه واحتسبتِ فلك الأجر عند الله؛ يا فلانة! الله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، فإن صبرتِ صبَّركِ الله، وإن احتسبتِ الأجر عند الله أثابكِ الله، ونحو ذلك من الكلام الطيب؛ فتلين قلبها للعفو، وتجعل قلبها ليناً للإصلاح وفي هذه الكلمات مثوبة الله، والأجر من الله، وإذا خرجت من قلب صادق فإنها تقع في الأذن وتقع في القلب، فالكلمة التي تخرج من القلب تلامس شغاف القلب، وينبغي للمصلح أن يتخير الألفاظ المناسبة والعبارات المهذَّبة التي لا تسيء إلى مشاعر الناس، ولا تُجحِف في حقهم.

اختيار الألفاظ المناسبة وعدم الإحراج

اختيار الألفاظ المناسبة وعدم الإحراج فإذا عرفتَ الحق وأردت أن يتنازل صاحب الحق عن جزءٍ من حقه حتى يقع الصلح؛ فينبغي أن يكون بطريقة مناسبة، وهذا ما أحببت أن أنبه عليه، فلا ينبغي إحراج الناس، وظلم الضعفاء والإضرار بمصالحهم. في بعض الأحيان يدخل الرجل في صلح بين طرفين، وأحد الطرفين قوي ظالم، والطرف الثاني ضعيف مظلوم، وقد يكون الخصم الضعيف أيتاماً أو أرامل، فيأتي المصلح إلى الضعيف فيستغل نقاط ضعفه، ويضغط عليه من جهة هذه النقاط حتى يتنازل عن بعض حقه، قال بعض العلماء: لا يأمن من يفعل ذلك من الإثم في صلحه. وهذا ليس بصلح، بل ظلم وجور، وإذا أُصلح بينهم على هذا الوجه فإن هذا يعين الظالم على الظلم، ويجعله يتمادى في ظلمه، واليوم ينتهي من هؤلاء الضعفاء ليقع فيمن هو أضعف منهم، أو في غيرهم، ولذلك كان هذا النوع من الإحراج والإلحاح لا يجوز. كذلك أيضاً: إذا فرضنا أن عاملاً اشتغل وكد فأصبح له حق عند صاحب العمل، وصاحب العمل رجل غني وثري، وثبت أن هذا العامل له خمسون ألفاًً عند هذا الرجل الثري الغني الذي لا تضره الخمسون الألف شيئاً، وهذا الرجل جلس السنة والسنتين في عمله وكدِّه وتعبه ونصبه، ولربما كان عليه ديون وحقوق للناس، فنأتي إلى العامل ونضغط عليه حتى يتنازل عن جزء من المبلغ، أو عن جملة من حقوقه، ولربما أُخذت أطراف من قرابته وجماعته ممن يستحي منهم، فأُخذت الأموال بسيف الحياء، فمثل هذا لا يبعد أن يبوء صاحبه بالإثم، وهذا ليس بصلح، بل إفساد ومعونة على الإفساد. فينبغي النظر في أحوال الناس، والنظر في حدود إمكاناتهم وطاقاتهم والأشياء التي يمكن أن يضحوا بها، فما كان في وسعهم سألناهم أن يعفوا، ويكون السؤال بطريقة طيبة مهذبة، لا بطريقة الإلحاح والإزعاج والإحراج، ففي بعض الأحيان يبلغ بالصلح أن الشخص يأخذ أطرافاً أقوياء، لا يمكن أن يرد الشخص شفاعتهم، وفي بعض الأحيان يكون المصلح رجلاً له مكانة وجاه، فإذا جاء إلى ابن عمه وقريبه؛ قال له: طلبتك، وإذا طلبتك فلا تردَّني وهذا الكلام لا يصلح! كيف تطلبني شيئاً فيه إجحاف وإضرار بي، ولربما فيه إجحاف بأهلي وعرضي وزوجي وقرابتي، فهذا لا يصلح وينبغي أن يكون هناك شيء من التعقل والبصيرة، فنعرف ماذا نجني إذا أصلحنا، ولو حصلت غلطة أو هفوة أو زلة من رجل معروف في الصلاح والاستقامة، وأقلناه فمن باب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)، أو علمنا أن الرجل غلط ثم ندم، وممكن أن يُصلح، أو كانت الغلطة في إمكان الشخص أن يعفو عنها، فهذا ممكن، لكن أن ندخل بالإجحاف والإحراج فلا. وأيضاً قد يُختار أشخاص لا يمكن أن يتكلم الإنسان معهم، فقد يأتيه بعمه أو بخاله، فيأتي العم أو الخال ويدخل بكلمات يُحرج بها قريبه، وهذا لا يجوز، وإذا رفض يقول له: أهنتني أمام الناس، ليس لي عندك قدر ولا وجه، فهذا لا ينبغي، ومثل هذه العبارات ينبغي أن تُصرف عن الصلح، وينبغي أن يكون الصلح بشيء من الرضا، فالأخذ بالإحراج لا يجوز، أو أن يستعمِل القوة كأن يكون موظفاً عند مديره، فيأخذ مديره من أجل أن يعفو، فهذا لا يجوز، بل لا يجوز للمدير أن يدخل إذا علم أن في مثل هذا ظلماً؛ لأن هذا إساءة في استخدام مكانة الإنسان، ونعمة الله التي أنعم عليه، فينبغي أن يكون دخول الإنسان بالتي هي أحسن. ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قصة بريرة عندما أُعتِقت فأصبح لها الخيار في البقاء تحت زوجها أو تركه إذا كان عبداً فاختارت بريرة الفسخ، فلقيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألها أن تعود لزوجها، فقالت: (يا رسول الله! أتأمرني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما أنا شافع) أي: لا أملك إلا الشفاعة، فما قال لها: من حقي عليك أو أحرجها، بل قال لها: (إنما أنا شافع)، أي: لا أُكرهك على عِشرة لا تريدينها، ولا أُكرهك على شيءٍ لا ترغبين فيه. وهذا هو الإنصاف والعدل والقسط الذي أمر الله به، ولذلك يقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1].

سماحة النفس إذا لم يقبل صلحه

سماحة النفس إذا لم يقبل صلحه ينبغي أن يكون الصلح بتقوى الله، وأن يكون في حدود طاقة الناس، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وعلى المصلح إذا لم تقبل شفاعته أن لا يحقد، وأن لا يحمل في نفسه على من رد شفاعته، فإن الإمام مالكاً رحمه الله يقول قولته المشهورة: (ليس كل الناس يستطيع أن يُبدي عذراً) فلربما كان هذا الرجل يحبك ويكرمك. بل إن واحداً من مشايخنا رحمة الله عليهم دخل في قضية فشفع فلم يُشفَّع، وكان الرجل صريحاً معه، فلما رجع قال له بعض طلابه: إن فلاناً أساء برد شفاعتك، فقال له: لا تغتب، والله إني أحببته لصدقه. وهذا شأن العقلاء: إن فلاناً له ظرف كذا وكذا وذكر ظرفه فالإنسان العاقل الحكيم يقدِّر ظروف الناس، والعالم علِم بعذر هذا الرجل دون أن يحدِّثه الرجل فقدَّر ظرفه، فينبغي لمن رُدَّت شفاعته في الصلح أن لا يحقد وأن لا يحمل في نفسه على من سأله أن يعفو فلم يفعل. وفي الصلح مسائل وأحكام سنتكلم عليها إن شاء الله في الدرس القادم، وأحببت أن يكون هذا المجلس عن مقدمات الصلح؛ لأن أحكام الصلح مرتبط بعضها ببعض، فنظراً لأن هذا الدرس سيكون إن شاء الله آخر الدروس حتى ننقطع للاختبارات، رأيت من المناسب إن شاء الله أن تكون أحكام الصلح مترتبة بعضها على بعض ومتصلة. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الكذب والحلف كذبا من أجل الإصلاح بين الناس

حكم الكذب والحلف كذباً من أجل الإصلاح بين الناس Q هل يجوز الكذب أو الحلِف كذبا من أجل الإصلاح بين الناس؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: يجوز الكذب للإصلاح بين الناس، لما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ليس الكاذب الذي ينمي خيراً أو يقول خيراً)، قال جمهرة الشُّرّاح: المراد بالحديث: (أن ينمي خيراً): أي: يكذب بين المتخاصمين، فيقول لأحدهما: فلان يحبك، فلان يذكرك بخير، فلان يثني عليك، فلان يذكر معروفك، ونحو ذلك من الكلمات، أو يقول للمرأة: زوجك يحبك، وزوجك يريدك، وزوجك يثني عليك، وزوجك يحمد ما كان منك، ونحو ذلك من الكلمات، ولو كانت كذباً فهذا مما يستثنى من المحرم. أما الحلِف بالله فلا يجوز أن يحلِف بالله كاذباً للصلح بين المتخاصمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في الحديث الصحيح: (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك)، فالتورية في الأيمان والكذب فيها لا تجوز، فلا يجوز أن يحلف بالله كاذباً، والحلف بالله كاذباً خاصة في الحقوق يمينٌ غموس، تغمس صاحبها في النار -والعياذ بالله- وعلى هذا لا يجوز للمسلم أن يحلف بالله كاذباً، وإنما يقول الكلام المعروف الذي يقرِّب من القلوب بالصفة التي ذكرنا، والله تعالى أعلم.

حكم إسقاط بعض الدين على سبيل الصلح

حكم إسقاط بعض الدين على سبيل الصلح Q هل يجوز أن يصطلح صاحب الدين مع المدين أنه إذا سدّد نصف المبلغ أسقط عنه الباقي؟ A هذه مسألة: إسقاط بعض الديون على سبيل الصلح، ويكون الإسقاط لمعجّل بمعجّل، كأن يحل الدين ويُطالب به، ومؤجّل بمؤجّل، ومعجّل بمؤجّل، ومؤجّل بمعجّل، وكل ذلك إن شاء الله سنتكلم عليه بالتفصيل في المجلس القادم؛ لأن المسألة فيها تشعُّب وكلام كثير. وعن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه أجاز لصاحب الدين أن يقول لمدينه قبل حلول الأجل إذا كان له مائة أن يقول له أعطني الآن تسعين وأُسقط عنك العشرة، فهذا إبراء وإسقاط، وسيأتي إن شاء الله تفصيل هذه المسألة والكلام عليها، والله تعالى أعلم.

أهمية اختيار الحكم الأمثل للإصلاح بين الزوجين

أهمية اختيار الحكم الأمثل للإصلاح بين الزوجين Q قول الله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35]، هل يشترط أن يكون الحكمان من أهل الزوجين دون الأجنبي حفاظاً على أسرار الزوجين؟ A إِذا وجِد من قرابة الزوج وقرابة الزوجة من هو أهل لأن يكون حكماً، فيُقدّم على غيره، كأن يكون عم المرأة، أو خال المرأة، وعم الزوج، وخال الزوج، أو أخو الزوج، أو أخو الزوجة، ونحو ذلك من القرابات، ويكون الأقرب فالأقرب، ولا شك أن هذا أستر وأحفظ لأسرار الزوجية، وأيضاً في القريب شفقة تحمله غالباً على أن ينظر الأصلح، فإن الأجنبي قد لا يدرك أحوال البنت أو الأخت، ولذلك إذا كان من القرابة؛ فإنه أعلم بمصالح قريبه، وكذلك أيضاً بالمفاسد المترتبة على الخصومة، فلا شك أن القريب مقدَّم على الغريب، وأنه إذا وُجد من أقرباء الزوج أو الزوجة من هو أهلٌ لذلك قُدِّم، لكن لو رُشِّح شخصٌ لعلمه ودينه وصلاحه، وتقواه لله سبحانه وتعالى، وكان يتحقق فيه المقصود، لأن الدَيّن الصالح يحفظ الأسرار، وينصح كما ينصح القريب وأشد، لأنه يخاف الله عز وجل، وقد يكون من صلاحه وخيره واستقامته ما يكون سبباً بإذن الله عز وجل لجمع القلوب وائتلاف الأرواح، وهذا جائز وسائغ، والله تعالى أعلم.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر Q هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يندرج تحت باب الصلح، أم أن الفقهاء جعلوه مستقلاً عن الصلح؟ A إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس من باب الصلح، وإنما هو من باب الإصلاح، والدعوة إلى الخير، وله مبحث مستقل يسمى بمبحث الحسبة، ويتكلم العلماء عليه في باب الحسبة، وليس له علاقة بمسألة الصلح، لكن إذا وقع أثناء الصلح ما يستدعي أن ينصح أحد الطرفين، أو يرغِّب أحد الطرفين في فعل خيرٍ وبر، وترك ضر وشر؛ فإنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فقد يأتي في باب الصلح ويقوم الصلح عليه، لكن من حيث الأصل، فإن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له قواعده وأصوله في باب الحسبة، ويتكلم العلماء رحمهم الله عليه في الأحكام السلطانية، ويفردونه بمباحث مستقلة، كالإمام الماوردي في كتابه النفيس: الأحكام السلطانية، وكذلك كتاب: معالم القربة في أحكام الحسبة، وكذلك كتاب شيخ الإسلام النفيس: السياسة الشرعية، وكتاب الإمام ابن القيم: الطرق الحكمية. فيشيرون إلى مسائل ومباحث الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهي مباحث ومسائل مستقلة، ولا يُدخلونها في باب الصلح لاختصاص الصلح بالحقوق. فالحقوق تنقسم إلى حقوق لله وحقوق للعباد، والصلح في حقوق العباد، ولذلك لا يدخل الصلح في حقوق الله عز وجل. فمثلاً لو أنه وقع شرب للخمر، فشهد شخصان على فلان أنه شرب الخمر، فقيل للشاهدين: نصطلح معكم على إعطاء عشرة آلاف ولا تشهدوا، فهذا ضياع لحق الله عز وجل، ولا يقع به الصلح بإجماع العلماء. وهكذا لو أن شاهداً شهد في قضية، فقالوا له: نعطيك عشرة آلاف على أن لا تشهد، لأن الشهادة فيها حق لله، فحقوق الله لا يدخلها الصلح، وسنبين هذا إن شاء الله في مجال الصلح عند الكلام على ركن: ما يُصالح عنه، والله تعالى أعلم.

وصايا لطلاب العلم

وصايا لطلاب العلم Q ما توجيهكم لطلبة العلم وهم على مقربة من الاختبارات أثابكم الله؟ A أوصي الجميع ونفسي بتقوى الله عز وجل، ومن يتق الله يجعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن اتقى الله جعل له من أمره يسراً، فخير ما يُوصَى به المسلم تقوى الله عز وجل التي ما كانت في قليل إلا كثرته، ولا كانت في يسير إلا باركته، والمسلم يحتاج في كل لحظة وفي كل ثانية من عمره أن يُوصَى بتقوى الله عز وجل، لأنه ما خرج من الدنيا بزادٍ أحب إلى الله عز وجل من هذا الزاد الذي قال الله عنه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197]. وأيام الاختبار ينشغل فيها طلاب العلم ويكثُر الهم والغم بالاختبارات. فأول ما ينبغي على طالب العلم: أن يتوكل على الله عز وجل، وأن يفوِّض الأمور إلى الله، وما نزلت بالعبد نازلة، ولا ألمّت به حاجة أو مصيبة، أو كربة أو نكبة، أو هم أو غم، فأَنزله بالله إلا جعل له من ذلك الهم والغم فرجاً ومخرجاً، ويوشك أن يأذن الله لعبده بالفرج من حيث لا يحتسب. الأمر الثاني بعد تقوى الله: التوكل على الله، وتفويض الأمور إليه، ولا يبالغ الإنسان، بل يجعل أموره دائماً مفوضة إلى الله: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]، قال بعض العلماء: إن الله يبتلي العباد بالهموم والغموم والمسئوليات، حتى تتجه القلوب إلى الله، حتى وأنت بعيد عن أهلك حينما تهتم وتغتم بهم ثم تقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، توكلنا على الله، فهذا أمرٌ يحبه الله ويرضاه، وهذا من توحيد الله، ومن أعمال القلوب التي تقرِّب العبد إلى الله، إنك ما كنت في جميع أحوالك وشئونك مفوض الأمور إلى الله إلا أحبّك الله عز وجل، وأراك قرّة العين وسرور النفس، وبهجة القلب فيما فوّضت الأمر فيه لله عز وجل، فينبغي للمسلم أن يفوِّض الأمر كله لله. ثالثاً: أن لا يعتمد على حوله، ولا قوته، ولا ذكائه، ولا فهمه، ولا تحصيله، فكم من مصيب أخطأ، وكم من جواد كبا، وكم من رامٍ زل في رميته، وكم من متكلِّم هلك بكلامه، فينبغي للإنسان أن يعلم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ولذلك كان من كنوز الجنة هذه الكلمة العظيمة: (لا حول ولا قوة إلا بالله)؛ لأنها تعني البراءة إلى الله من الحول والقوة، والله يحب من عبده أن يضعُف بين يديه، وحق للعبد ذلك، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (أطّت السماء، وحق لها أن تئط)، وقال تعالى: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:2]، أذِنَت وذلّت، فالسماوات التي هي من أعظم خلق الله أذنت لله، وانتظرت أمر الله عز وجل: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:2]: أي: حُق لها أن تذِل لله، فأنت تبرأ من حولِك وقوتك وذكائك، وحفظك وتحصيلك، وتتجه لله، وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين). والله قادر أن يعطي الإنسان الذكاء والحفظ، فإذا اغتر بعلمه وبذكائه خذله الله في آخر لحظة من لحظاته، ولربما جاء إلى الاختبار فسلّط الله عليه مرضاً في رأسه، أو سلّط عليه مرضاً في جسده فلا يستطيع أن يكتب كلمة واحدة، فيتبرأ إلى الله من الحول والقوة، مهما كنت مجداً محصِّلاً مثابراً. كذلك أيضاً ينبغي لطالب العلم أن يرفق بالنفس خلال أيام الاختبارات، ولا يحملها ما لا تطيق من السهر والتعب والنصب، فيعطي النفس حقوقها من الراحة، وطعامها وشرابها، ثم يأخذ ما يريد، فإن الله حمّل المسلم أمانة النفس، فقال عليه الصلاة والسلام لمّا قال سلمان رضي الله عنه لـ أبي الدرداء رضي الله عنه: (ولنفسك عليك حق) قال صلى الله عليه وآله وسلم كما في الصحيحين: (صدق سلمان)، أي: إن لنفسك عليك حقاً. فالسهر إلى ساعات متأخرة، وإرهاق النفس، وعدم إعطائها حقوقها في المطعم والمشرب والنوم، لا يجوز، فلا تحمل نفسك ما لا تطيق، ولربما سهر إلى ساعات متأخرة، وأدمن السهر وحمّل نفسه ما لا تطيق، فمرض مرضاً نفسياً، أو مرض مرضاً في جسده، فلا هو أدرك الاختبار، ولا هو أدرك صحة بدنه، وقد أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك في الحكمة المشهورة بقوله: (إن المنبت لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع). كذلك أيضاً أوصي طالب العلم إذا دخل إلى صالة الاختبار والامتحان أن يتذكر امتحان الآخرة، فهذا مخلوق ضعيف يمتحنك، ولربما سألك سؤالاً قرأته قبل الاختبار بلحظات، ولكن لا إله إلا الله الذي يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم أين نقاط ضعفك، ويعلم بماذا تجيب، وماذا تقول، وينشر كل ذلك أمام عينيك في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فعلى الإنسان وهو داخل على صالة الاختبار في الدعة والسرور والأمور كلها مهيأة من أجل أن يجيب في اختباره براحة وطمأنينة، أن يتذكر الآخرة، وشتان ما بين الحالين: فإنه في الآخرة يأتي وهو فزع خائف وجِل، {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} [غافر:18 - 20]. الإنسان لو قيل له قف أمام الناس وقل كلمتين، ارتعدت فرائصه، ورجفت أقدامه وأصابه الخوف والعي فلا يستطيع في بعض الأحيان أن يتكلم، فكيف إذا دُعي على رءوس الأولين والآخرين، حتى يقول حجّته ويبيِّن طريقه ومحجته؟! اللهم إنا نسألك رحمتك الواسعة، ونسألك بعزتك وجلالك وأسمائك الحسنى وصفاتك، نسألك اللهم بأنك أنت الله لا إله إلا أنت، أن ترحم في موقف العرض عليك ذل مقامنا. اللهم ارحم في موقف العرض عليك ذل مقامنا. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ممن قال الله له: صدقت، وقالت الملائكة: صدقت، اذهبوا به إلى الجنة. اللهم إنا نعوذ بك من الفضيحة على رءوس الأشهاد، ربنا لا حول لنا ولا قوة. اللهم إنا نسألك العفو، اللهم إنا نسألك العفو، اللهم إنا نسألك العفو، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

باب الصلح [2]

شرح زاد المستقنع - باب الصلح [2] لقد حث الشرع الحنيف على الإصلاح بين الناس، ورتب عليه الأجر العظيم، والصلح إما أن يكون عن دين أو عين، وإما أن يكون مع إقرار أو إنكار، وإما بمعاوضة أو إسقاط، والمعاوضة إما بعين أو منفعة، والإسقاط إما لجزء أو للكل، ولكل مما ذكر أحكام وتفريعات ضبطتها الشريعة وجعلت لها قوانين محكمة تحقق للمكلف ما ينشده من صيانة حقه.

أقسام الصلح

أقسام الصلح بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد: فقد تقدم معنا في المجلس الماضي بيان المقدمات المتعلقة بباب الصلح، وذكرنا حقيقة الصلح في لغة العرب، وحقيقته عند العلماء رحمهم الله، وكذلك بيّنا دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على مشروعية الصلح، وأنه من أحب الأعمال إلى الله عز وجل خاصة إذا كان بين الأقرباء، واشتمل على صلة الرحم ونحو ذلك من المصالح العظيمة التي قصد الشرع تحقيقها. وبيّنا في المجلس الماضي ما ينبغي على من أراد أن يدخل في الصلح من مراعاة حال الخصمين وإنصافهما، وحث صاحب الحق على التنازل عن حقه شريطة أن لا يوجد شيء من الإحراج والإضرار به. وبعد هذا ينبغي بيان جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بهذا الباب الذي يحتاجه الناس في كثيرٍ من أحوالهم وشئونهم، والفقهاء رحمهم الله اعتنوا ببيان المسائل المتعلقة بالصلح؛ لأن الكتاب والسنة اعتنى كل منهما ببيان الأصول العامة، وفرّع الفقهاء والعلماء على هذه الأصول المسائل والأحكام. وعند النظر في الصلح ينبغي أن ينتبه إلى أن الصلح في الأصل إنما يقوم على الخصومة، وبناءً على ذلك فلا بد من وجود طرفين، أحدهما: مدعٍ، والثاني: مدعى عليه، وتقع الخصومة في شيء من الحقوق، وقد تكون من الحقوق الحسية المادية، كالحقوق المتعلقة بالأموال، وقد تكون الخصومة في أمور اعتبارية كحقوق الأعراض ونحوها. وإذا ثبت هذا فمعناه أنه لا بد من وجود دعوى بين الطرفين، وهذا ما يقع في حال الخصومة، فقسّم العلماء رحمهم الله باب الصلح إلى جزئيتين تعتبران بمثابة نوعين للصلح: الجزئية الأولى تتعلق بالإقرار، والصلح في حال الإقرار، والجزئية الثانية تتعلق بالصلح في حال الإنكار. وبعض العلماء إذا قسم الصلح إلى هذين القسمين يُلحق بالقسم الثاني الصلح مع السكوت حيث لا إقرار ولا إنكار. فإذا أراد طالب العلم أن ينظر إلى هذه المسائل يمكن أن يقسِّمها إلى هذين القسمين أو إلى ثلاثة أقسام، فإن قسّمها إلى قسمين، فالقسم الأول: الصلح مع الإقرار، والقسم الثاني: الصلح مع الإنكار أو السكوت. أما إذا أراد أن يقسمها إلى ثلاثة أقسام فالأمر واضح. صلحٌ مع الإقرار. وصلحٌ مع الإنكار. وصلحٌ مع السكوت. ولمّا كانت أحكام السكوت تتفرّع على أحكام الإنكار؛ ألحق العلماء الذين يقولون بالنوعين النوع الثالث بالنوع الثاني كما ذكرنا. فما معنى صلح إقرار؟ وما معنى صلح إنكار؟ وما معنى صلح السكوت؟

صلح الإقرار

صلح الإقرار صلح الإقرار: أن يختصم الرجلان عند القاضي، فيقول أحدهما: لي على محمد ألف ريال، فيتوجه القاضي بالسؤال للخصم الحاضر وهو محمد: ماذا تقول؟ أو: هل لفلان عليك ألف؟ فيقول: نعم. إذاً: معناه أن الخصم يُقر لخصمه بالحق. ففي حال إقرار الخصم بالحق وثبوت الدعوى عليه، تأتي مسائل الصلح وتنبني على هذه الحال، هذا معنى قولهم: صلح مع الإقرار، وله فروع سنذكرها إن شاء الله.

الصلح مع الإنكار

الصلح مع الإنكار والصلح مع الإنكار: قال زيد: لي على محمد ألف ريال ديناً عليه، فسأل القاضي محمداً: يا محمد! هل لزيد عليك ألف؟ قال: لا. فأنكر. فيُطالب القاضي المدَّعِي بالبينة، فإن قال: ليس عندي بينة، وجه اليمين على من أنكر، فقبل توجيه اليمين، ثم يتلافى الخصم توجيه اليمين، يكون عنده ورع وخوف من الله عز وجل، وهو يعلم أنه مقِر، لكن لا يحب أن يحلف اليمين، وهذا يقع فيه بعض الناس، وقد تحاشى ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، فيحدُث الصلح بينهما في هذه المرحلة. ولذلك بعض العلماء يرى أن الصلح في هذه الحالة -أي في حالة الإنكار- يدفع اليمين عن الخصم، وقد وقع هذا لبعض الصحابة رضي الله عنه، وأُثر عن عثمان رضي الله عنه أنه اندفعت عنه اليمين بالصلح في حال المخاصمة، وسيأتي إن شاء الله بيان أحكام هذا النوع.

الصلح مع السكوت

الصلح مع السكوت النوع الثالث: أن يقول الخصم: لي على محمد ألف، فسأل القاضي محمداً: هل لزيد عليك ألف؟ فسكت ولم يقل (نعم) فيُقر، ولم يقل (لا) فيُنكر، فلا ندري أهو منكر أو مقر، وهل يُعتبر مَن سكت مُقِراً أو لا؟ والقاعدة عند العلماء: (لا يُنسب لساكت قول) إلا أن هناك مسائل ذكرها العلماء رحمهم الله ونصّت الشريعة على اعتبار السكوت فيها بمثابة الرضا، مثل سكوت الأبكار ونحو ذلك. لكن في هذه الحالة الرجل لم يُقر ولم يُنكر، فإن حصل الصلح قبل حدوث الإقرار أو الإنكار اصطلح الخصمان في هذه الحالة. إذاً: للصلح ثلاثة أحوال: الصلح حال الإقرار، والصلح حال الإنكار، والصلح حال السكوت حيث لا إنكار ولا إقرار.

صور الصلح مع الإقرار

صور الصلح مع الإقرار الحالة الأولى: الصلح مع الإقرار. الإقرار: أصله من قَرَّ الشيء إذا ثبت، والإقرار في عرف العلماء: الاعتراف، ويعتبر هذا النوع من أقوى الحجج القضائية والتي يسميها العلماء (حجة الإقرار)، والسبب في ذلك أنه شهادة من الإنسان على نفسه، والإنسان بحكم ما أودع الله فيه من نور العقل لا يشهد على نفسه بالضرر. وليس هناك إنسان أعطاه الله عقلاً، وهو في عقله وإدراكه على ما يظهر لنا من حاله يشهد بالضرر على نفسه، فإذا شهد على نفسه بحق فقيل له: هل لفلان عليك ألف؟ فقال: نعم، له علي ألف؛ فالأصل أنه صادق، وكما يقول بعض المعاصرين: (الإقرار سيد الأدلة). فإذا وقع الإقرار والاعتراف من الخصم لخصمه، فقال: لزيدٍ علي ألف، ففي هذه الحالة نحكم بثبوت الألف، والألف كما هو معلوم حقٌ مالي لشخص معيّن وهو المدَّعِي زيد. لكن السؤال الآن: إذا وقع الإقرار وثبت أن لزيد على عمرو ألفاً؛ فماذا يقع؟ لا يخلو الأمر من صور:

الصورة الأولى: أن يتنازل المدعي عن حقه

الصورة الأولى: أن يتنازل المدعي عن حقه الصورة الأولى: أن يتنازل زيد عن حقه، وهي صورة الإسقاط، فيقول ما دمت قد أقررت بحقِّي فأنا مسامحك، أو أنا متنازل عن حقي، أو نحو ذلك من ألفاظ الهبة أو الصدقة.

الصورة الثانية: مطالبة المدعي بحقه كاملا

الصورة الثانية: مطالبة المدعي بحقه كاملاً الصورة الثانية: إذا سأل القاضي محمداً: هل لزيد عندك ألف، فقال: نعم؛ فحينئذ يُطالب القاضي الخصم أن يطالب خصمه بدفعها، فيقول: مادام أن محمداً قد اعترف بألفِي فأرجو من القاضي أن يُطالبه بدفعها، فيطالِب وهذه الحالة عكس الحالة الأولى فإنه في هذه الحالة -الثانية- يقول: أريد حقي كاملاً وهو الألف الذي على محمد. ففي الحالة الأولى إذا قال: نعم. لزيد علي ألف، فقال زيد: أبرأته وسامحته، أو: هي صدقة مني عليه، أو: هي هبة مني له، فلا إشكال بإجماع العلماء، وقد تقدّم معنا في باب القرض وغيره أن صاحب الحق إذا تنازل عن حقه فلا إشكال فيه. أي أنه من حقك إذا كان لك دين على أحد أن تُسقط كل المال، كما أن من حقك أن تأخذ هذا المال وتتصدق به، سواءً أسقطته بطريق الصدقة كقولك له: هو صدقة مني عليك، أو أسقطته عن طريق الهبة فقلت: هو هبة مني لك، لكن إن أسقطته على سبيل الصدقة فحكمه حكم الصدقات، كما سيأتي إن شاء الله، وإن أسقطته على سبيل الهبة فقلت: وهبتك هذا المال، فحكمه حكم الهبة، وتسري عليه جميع أحكام الهبات. لكن أنبه أن باب الصلح في ظاهره صلح، لكن أهم ما فيه من المسائل أنك تنتقل من باب الصلح إلى أبواب أُخر، فقد تنتقل إلى باب البيع، وقد تنتقل إلى باب الإجارة، وقد تنتقل إلى باب الصدقة أو باب الهبة. فإذا كان الشخص قد أسقط حقه الذي على خصمه بطيب نفس منه ناوياً الصدقة فصدقة، وإن كان بقصد الهبة فهو هبة. إلخ. فهذه الحالة لا إشكال فيها أن يتنازل عن جميع حقه فتُسمى حالة: الإسقاط أو الإبراء. والحالة الثانية: أن يطالب بجميع حقه، ولا إشكال فيها أيضاً؛ لأنه إذا ثبت في مجلس القاضي وحكم القاضي بإقرار الخصم أن عليه للمدعي هذا المال؛ فالواجب شرعاً أن يطالب المدين بسداد دينه الذي عليه، ويُطالب من حمل الحق بأدائه والوفاء به لصاحبه، هذا في حالة ما إذا طالبت بحقك كاملاً.

الصورة الثالثة: أن يصطلح الخصمان على المعاوضة بعين أو منفعة

الصورة الثالثة: أن يصطلح الخصمان على المعاوضة بعين أو منفعة مسألة الصلح أن يقع بين الطرفين صلح يتفقان عن طريقه بإسقاط الخصومة ورفع المطالبة، فيقع بينهما هذا الصلح على صور: الصورة الأولى: أن يكون بالمعاوضة عن الدين والحق. الصورة الثانية: أن يكون جامعاً بين المقابلة والمسامحة. فالصورة الأولى: صلح المعاوضة: إذا كان على سبيل المقابلة، فإنهما يصطلحان على مقابلة المال بشيءٍ آخر، إما أن يكون عيناً أو منفعة، ففي هذه الصورة يتفق الطرفان على أن هذه الألف -مثلاً- سيُدفع في مقابلها شيء تنتهي بسببه الخصومة، وهذا الشيء الذي يُدفع في مقابل الألف، إما أن يكون من الأعيان، وإما أن يكون من المنافع. فيكون من الأعيان كأن يقول الشخص الذي لك عليه ألف: أُعطيك في مقابل الألف سيارة، أو أعطيك في مقابل الألف أرضاً، أو أعطيك في مقابلها كتباً، أو غيرها، فيعطيك عيناً من الأعيان، والمعاوضة على الأعيان تكون بيعاً، فإذا قال لك: أُعطيك في مقابل الألف سيارةً أو أرضاً أو عمارةً أو مزرعة، فينتقل الأمر إلى حُكم البيع، وفي هذه الحالة يصبح الصلح صلح معاوضة على عين تسري عليها أحكام البيع. الصورة الثانية: أن يُعطيه في مقابل الحق منفعة، أي: يعاوضه ويقابله بمنفعة، فيقول له: هذه الألف التي لك علي، ما رأيك لو أنك سكنت في شقتي شهراً، أو سنة، أو نصف سنة، فأعطاه منفعة السكنى في شقته أو عمارته أوبيته سنة أو شهراً أو يوماً أو ما اتفقا عليه. ففي حالة الصلح بالمعاوضة، إن أعطاه عيناً عِوضاً عن حقه فحكمه حكم البيع؛ لأن فائدة ذكر العلماء لمسألة بذل العين لقاء الحق في الصلح هو التنبيه على انتقال الحكم إلى مسألة البيع، وعلى هذا فلو قال له: أُعطيك في مقابل الألف سيارة وسكت؛ لم يصح حتى يُبين ما نوع السيارة وما صفاتها على الشروط المعتبرة في البيع. ولو قال له: هذه الألف سأعطيك بدلاً عنها مائة دولار، فحينئذٍ يصبح الحكم حكم صرف (صرف الريالات بالدولارات) فتنتقل إلى باب الصرف، فتقول يَصِح إذا كان في مجلس العقد، وأعطاه إياها في مجلس العقد، فإن أخّر كان نسيئة. فلو قال له: هذه الألف أعطيك بدلاً عنها طعاماً، ولم يبيِّن نوع الطعام لم يصح؛ لأنها بيع لمجهول، وبيع المجهول لا يصح؛ لأنه قد يتفقان على الطعام وهو يظنه جيداً فيظهر رديئاً، أو يظنه من نوع يحبه فإذا به من نوعٍ لا يحبه، فننتقل من باب الصلح في النوع الأول الذي يحصل فيه الإقرار بحال المعاوضة إلى باب البيع، ونطبق جميع مسائل البيع. فلو أنه قال له: أعطيك في مقابل هذه الألف مائة دولار، فقال: قبلت، وسأحضرها لك غدا، أو قال: بعد ساعة، وافترقا قبل التقابض، فإن ذلك يلغى وتبطل المعاوضة، ولا نحكم بصحة المعاوضة؛ لأن الشرع لا يجيز النسيئة في مثل هذه المعاوضة، بل لا بد أن يكون يداً بيد، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح حديث ابن عمر: (كنت أبيع بالدراهم، وأقتضي بالدنانير، قال: لا يحل لك أن تفارقه وبينكما شيء). إذاً: لا بد وأن يكون يداً بيد حالاً في مجلس العقد، فلو قال له: أعطيك بدل هذه الألف خمسمائة ريال، وأعطيك بدل الخمسمائة الثانية -مثلاً- طعاماً، لم يصح لمسألة مد عجوة ودرهم بدرهمين، وهي مسألة الذرائع التي سبق بيانها معنا في باب الصلح. إذاً: فائدة ذكر العلماء لهذا أن باب الصلح ينتقل به العقد من مسألة التراضي إلى مسألة ما انبنى عليه التراضي، فإن كان معاوضة على الأعيان وقع بيعاً وحكمه حكم البيع، فلو أنه باعه أو تعاقد معه على المعاوضة بشيءٍ محرّم، كما تقدم معنا كالميتة، أو الخمر، أو الخنزير فلا يصح البيع لحديث جابر بن عبد الله في الصحيحين: (إن الله ورسوله حرما بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام). فلو قال له: أُعطيك بدل الألف ميتةً أو خمراً أو خنزيراً أو أصناماً أو نحو ذلك من محرمات البيع لم يصح. الصورة الثانية في حال المعاوضة: أن تكون المعاوضة بالمنافع، كأن يقول له: هذه الألف التي لك عليّ سأعطيك بدلها سكنى داري شهراً أو سنةً، فيقول: قبلت. أو قال له: هذه ألف ثبتت لي عليك، أجِّرني بها دارك، أو أجِّرني بها عمارتك، فيقول: قبلت، فإنه يصح ذلك؛ لأنها إجارة على منفعة مباحة. وأجمع العلماء على جواز المعاوضة على المنافع المباحة، لكنه في هذه الحالة وهي الحالة الثانية ينتقل إلى باب الإجارة، وتكون الإجارة على المنافع والمنافع مثل: السكنى، الركوب، الزراعة، الحدادة، النجارة ونحوها. وإن قال له: هذه الألف التي لي عليك أريد في مقابلها أن توصلني إلى مكة، أو أحُج معك في سيارتك هذا العام، فإن قال: قبلت، تمّت إجارة على النقل أو يقول له: هذه الألف تنقل لي بها بضاعتي من المدينة إلى جدة، صحَّت؛ لأنها إجارة، ويجوز للمسلم أن يتعاقد على نقل بضاعته من بلد إلى آخر، وهذا بإجماع العلماء. إذاً: تسري عليها أحكام الإجارات، وتأخذ حكم باب الإجارة. والصورتان اللتان وقعت فيها المقابلة بالأعيان والمنافع، يسميها العلماء: صلح المعاوضة. فإذا سُئِلت عن صلح المعاوضة تقول: أن يدفع العِوض لقاء الحق، ويكون هذا العوض على صورتين، إما أن يكون من الأعيان، وإما أن يكون من المنافع، فإن كان من الأعيان فحكمه حكم البيع، ويشترط في صحته ما يُشترط في صحة البيع، وإن كان على المنافع فحكمه حكم الإجارة، ويشترط فيه ما يُشترط في الإجارة الشرعية.

الصورة الرابعة: صلح الحطيطة

الصورة الرابعة: صلح الحطيطة إذا كان الصلح على مقابلة مشتملة على معاوضة ومسامحة، فهذا النوع يسميه العلماء رحمهم الله بصلح الحطيطة. والحطيطة مأخوذة من حَطَّ الشيء، والمراد بحط الشيء: أن يُسقِطَ الدائن شيئاً من الدين. وقد تقدَّم معنا أنه لو قال الخصم لخصمه: سامحتك عن جميع المال، فهذه حطيطة بكل المال ولا إشكال فيها، فإما أن تكون هبة فحكمها حكم الهبات، وإما أن تكون صدقة فحكمها حكم الصدقات. لكن صلح الحطيطة الذي ذكره العلماء هو أن يحُط بعض المبلغ ويُبقي بعضه، كأن يكون الحق ألف ريال، فيتنازل عن خمسمائة -أي النصف- أو يتنازل عن مائتين وخمسين -أي: الربع- أو يتنازل عن سبعمائة وخمسين -أي: ثلاثة أرباع- فيتنازل عمّا بعض الدين قليلاً كان أو كثيراً، يقول: سامحتك في النصف والنصف الباقي أعاوضك عليه، فيعاوضه عليه بنفس الصور المتقدمة معنا، فإما أن يعاوضه على عين فبيع، وإما أن يعاوضه على منفعة فإجارة. هذا بالنسبة للصلح الذي جمع بين المعاوضة والمسامحة، وهو الذي يسميه العلماء رحمهم الله بصلح الحطيطة، في جميع هذه الأحوال وجماهير العلماء والفقهاء رحمهم الله على جواز هذه الصور، والدليل على ذلك ما ثبت من الأدلة الشرعية التي سبق بيانها: فمن الكتاب كقوله: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128]، ومن السنة قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرّم حلالاً أو أحل حراماً)، وفي هذا الحديث دليل على أن ما اصطلح عليه الطرفان وتراضيا عليه دون أن يكون فيه تحليل لما حرّم الله، أو تحريم لما أحلّ الله؛ فإنه جائز ومشروع. ومن النظر: أن هذا النوع من الصلح الذي ذكرناه إذا كان بمعاوضة وكان في حكم البيع فالبيع جائز، وإن كان في حكم الإجارة فالإجارة جائزة، وإن كان جمعاً بين المسامحة وبين المعاوضة بإجارة أو بيع، فكل ذلك مما أذن الله به، وأذن به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وليس على المسلم حرج في جميع هذا. هذا بالنسبة للصلح مع الإقرار، وقد استفتح المصنف رحمه الله باب الصلح بهذا النوع، فبيَّن النوع الأول بقوله رحمه الله: [إذا أقر له بدينٍ أو عينٍ فأسقط أو وهب البعض وترك الباقي، صحّ إن لم يكن شرطاه] بدين: مثلما ذكرنا، يقول للقاضي: لي على محمد ألف ريالٍ أعطيته إياها قرضاً، لأنه لا بد أن تكون الدعوى مستوفية للشروط، وسنبين هذا إن شاء الله في باب القضاء، فإذا كانت الدعوى مستوفية للشروط قال القاضي لخصمه: هل له عليك ألف؟ فإذا أقرّ أقر بدين، وفي هذا الحالة يكون الخصم قد أقر بدين.

الصلح على المعاوضة عن عين

الصلح على المعاوضة عن عين والإقرار بعين: كأن يرفعه إلى القاضي، ويقول: إن محمداً قد أخذ سيارتي من نوع كذا وكذا، في يوم كذا وكذا، ولم يردها، فأنا أطالب القاضي أن يرد لي حقي، فالقاضي يسأل الخصم: هل أخذت يا محمد سيارته؟ فإن قال: نعم. فقد أقر بعين، فهناك أقر بدين وهنا أقر بعين. وفي حال الإقرار بالدين والعين، يثبت الحق؛ لأنه إذا ثبت في العين وجب ردُّها، وإذا ثبت في الدين وجب رده. فإذا كان عيناً مثلما: إذا قال زيد: لي على محمدٍ كتابٌ بداية المجتهد، أو صحيح البخاري صحيح مسلم، من طبعة كذا، ومن نوع كذا، ويذكر الصفات. فسأل القاضي محمداً، فقال: نعم. وأقر به. بعد أن ثبت أن لزيدٍ على محمد كتاباً بهذه الصفات التي وردت في الدعوى، قال محمد: أُعطيك بدلاً عنه نسخة من صحيح البخاري، أو نسخة من صحيح مسلم، فإذا قال زيد: قبلت، فحينئذٍ تكون معاوضة لقاء عين (عين بعين). أو قال له: كتابك الذي لك علي أُعطيك بدله منفعة: كأن يقضي له حاجة، أو أن يحمل متاعه وبضاعته أو غير ذلك من المنافع التي لها قيمة، فيتراضيا على ذلك. أو يقول: أجِّرني دارك شهراً في مقابلة الكتاب الذي عندك، فإن قال: قبلت، فإنه يجوز؛ لأن الكتاب له قيمة، وكأنه دفع قيمة الكتاب لقاء المنفعة، فيكون صلحاً ومعاوضة على منفعة. وأما من ناحية الإسقاط: إسقاط البعض والرضا بالبعض، كأن يقول له: لي على محمد نسختان من بداية المجتهد، أو ثلاث نسخ، أو مائة نسخة من بداية المجتهد -كما يقع بين أصحاب المكتبات- فإن ثبت أن له عليه مائة نسخة من بداية المجتهد فقال: أعطيك بدلاً عنها مائة من صحيح البخاري، فإن قال: قبلت جاز، وإن قال له: أعطيك مائة من كتب منوعة، وقال: قبلت. فلا يصح حتى يبيِّن أنواع هذه الكتب. فإذا قال: بعد أن بيّن أنواع الكتب أنا أتنازل لك عن نصفها، وأعطني نصفها، فهذا صلح الحطيطة، في حال المعاوضة على الأعيان. والشاهد أنه أقر بعينٍ فأسقط البعض، ومن حقك أنه لو كان لك على شخص ألف ريال وأردت أن تسامحه عن الألف كلها جاز لك ذلك، فمن باب أولى أن يجوز إذا أسقطت بعض الدين.

حكم الاشتراط في الإسقاط والمعاوضة

حكم الاشتراط في الإسقاط والمعاوضة قوله: (فأسقط أو وهب البعض وترك الباقي صح إن لم يكن شرطاه): أي إذا قال له: لا أُقر لك حتى تتنازل لي عن نصف المبلغ، أو لا أُقر لك حتى تستأجر بهذا المبلغ مني عمارتي، ولا أُقر لك حتى تفعل كذا وكذا؛ لم يجز، لأنه صالحه ببعض ماله عن البعض، وهذا الشرط يُتوصّل به إلى أكل أموال الناس بدون رضاً منهم، لأنه ليس من حقه إذا كان مقراً لي بالألف أن يُلزمني باستئجار داره، وليس من حقه أن يُلزمني باستئجار سيارته أو مركبه أو عمارته، وليس من حقه أن يلزمني بشراء كتبه أو شراء العين التي عنده. فإذا ألزمه بها لم يكن ذلك جائزاً ولا مشروعاً. والمسلمون عند شروطهم، إلا إذا كانت الشروط تخالف شرع الله، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم كما في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل)، فأبطل صلى الله عليه وآله وسلم الشروط التي يُتوصَّل بها إلى أكل أموال الناس بالباطل، أو إلزامهم بشيءٍ إكراهاً وبدون رضاً منهم. فقوله: (صح إن لم يكن شرطاه) إذا وقع الصلح على سبيل المشارطة لم يصح؛ لأن الشرط مُصَادِم للشرع ولا يُقر عليه، ولا يُعمل به.

حكم صلح وإسقاط من لا يصح تبرعه

حكم صلح وإسقاط من لا يصح تبرعه قال رحمه الله: [وممن لا يصح تبرعه] هذا أمرٌ ثانٍ في حال الإسقاط: إذا قلنا إنه يجوز للمسلم أن يُسقط حقّه كله، ويجوز أن يُسقط بعضه، فينبغي إذا قلت بجواز التبرُّع والإبراء من الدين أن يكون هذا التبرُّع من شخصٍ هو أهلٌ للإسقاط والإبراء، كما أنك في حال البيع والمعاوضة قلتَ: يُشترط شروط البيع، وتشترط شروط الإجارة؛ فينبغي أيضاً في الهبات إذا أسقط ماله كله أن يكون أهلاً لذلك. مثلاً: قال: لي على محمد ألف، فقال محمد: نعم، له عليَّ ألف، فقال: ما دمت قد أقررت لي بالألف فأنا مسامحك بالألف كلها. وكان الذي سامح ممن لا يصح تبرُّعه، فحينئذٍ لم يصح ذلك التبرع، وذلك كالمفلس لا يصح تبرعه إذا كان محجوراً عليه للفلس. وسيأتينا في باب الحجر الذي يلي باب الصلح أن هناك أشخاصاً حجر الشرع عليهم. أي: منعهم من التصرف بأموالهم ببذلها وهبتها، وهم ينقسمون إلى قسمين: منهم من حجر عليه الشرع ومنعه من الهِبة والتبرُّع بماله كله أو بعضه خوفاً على نفسه، أي: حجر الشرع عليه لمصلحته هو، ومنهم من حجر الشرع عليه لمصلحة غيره. فالذين حجر الشرع عليهم لمصلحة أنفسهم: كالصغير اليتيم، إذا توفي والده وترك له مليون ريال إرثاً، ولوالده حق على الغير، وأصبح هو مكان والده، فاعترف ذلك الغير بالحق، فقال الصغير سامحتك؛ لم يصح ذلك التبرع، ولم يصح ذلك الإسقاط، بل يُنتظر إلى بلوغه، فإذا بلغ راشداً كان له حق الإسقاط أو حق المطالبة، أما وهو صغير فإنه يُخدع وتأخذه العاطفة ويتنازل عن حقه. ولذلك قال الله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]، فالصغير لا يُحسن النظر لنفسه، والشرع لا يجيز تبرع مثل هذا. وكذلك إذا كان صغيراً لمصلحة نفسه كالأيتام، أو كان مجنوناً، لأن المجنون لا يحسن التصرف في ماله، وهذا من رحمة الله ولطفه بعباده، فلو أن المجنون يُعطى ماله، لأضاع ماله في طرفة عين، ولربما حرق ماله، ولربما قطّعه؛ لأنه لا يعي ولا يُدرك، فلو قال مجنون لآخر: سامحتك فيما لي عليك؛ لم يصح. كذلك يُحجر على الإنسان لحق الغير ولحق نفسه؛ كالسفيه، وهو الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء لغيره، فهؤلاء الثلاثة: (الصغير، والمجنون، والسفيه)، هؤلاء الثلاثة يُحجر عليهم لمصلحة أنفسهم. وهناك من يُحجر عليه لمصلحة غيره، مثل المريض مرض الموت، فإنه إذا تبرّع في مرض الموت، لم يصح تبرُّعه إلا في حدود الثلث -ثلث المال فقط- فإن تبرّع بأكثر من الثلث فهو حق للورثة، إن شاءوا أمضوا تبرعه، وإن شاءوا ردوه. فلو أن رجلاً كان في مرض الموت وترك مليون ريال إرثاً، وقال: تصدقوا بالمليون كلها، فإنه لا ينفذ تبرعه إلا في الثلث، لحديث سعد في الصحيحين: (يا رسول الله! إن لي مال وليس لي ورثة إلا ابنة، أفأتصدق بمالي كله؟ قال: لا. قال: افبثلثيه؟ قال: لا. فبنصفه؟ قال: لا. قال: افبثلثه؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس). فلو فُتح الباب للناس أن يتصدقوا لصار كل إنسان ثري يقول عند موته: آخذ مالي وأتصدق به أفضل من أن أتركه لأولادي فيكون في ذلك إضرار بالورثة، والشرع جاء بالوسطية، فأعطاه الثلث يتصدق به. فلو أنه في مرض الموت، وجاء شخص وأقرّ له مليون ريال، فقال له: سامحتك بالمليون التي لي عليك، ثم توفي، وطالب الورثة بعد وفاته، وقالوا: فلان جاء لمورِّثنا في فراش الموت، وأقر له بحقه، فأسقط عنه وأبرأه من جميع الدين، والإبراء مستغرق للثلث وزيادة، فسألوا القاضي أن يصحح الإبراء في الثلث، وأن يرد لهم ما زاد، فإن القاضي يصححه في الثلث ويرد ما زاد. وهذه تبين أهمية باب الصلح، فأنت تنتقل من باب إلى باب، ومن هنا ترى أن الشريعة يرتبط بعضها ببعض، كالبناء المحكم، وتجد كل كلمة وكل عبارة يتكلم بها المكلف لها حكمها، ولا يُظلم الناس، وإنما يُؤخذون بحقوقهم دون زيادة أو نقص. فإن أبرأ وأسقط دينه والحق لغيره والمال لغيره، صحّ فيما يملك، ولم يصح فيما زاد عنه، فهذا معنى قوله: (أو ممن لا يصح تبرعه) فإن كان الإسقاط والتنازل عن الدين من شخص لا يصح منه الإسقاط ولا التنازل عن الديون كلية؛ أسقطنا ذلك الصلح على -هذا الوجه- كلية، وإن كان الإسقاط والإبراء من شخصٍ يصح تبرعه بالبعض دون البعض، صح فيما أذن الشرع به ولم يصح فيما عداه.

حكم الصلح على تأجيل معجل أو تعجيل مؤجل أو على بعض المال عوضا عن بعض

حكم الصلح على تأجيل معجل أو تعجيل مؤجل أو على بعض المال عوضاً عن بعض

الصلح على الإسقاط والتأجيل

الصلح على الإسقاط والتأجيل قال رحمه الله: قال رحمه الله: [وإن وضع بعض الحالّ وأجّل باقيه صح الإسقاط فقط] تقدَّم معنا مسألة الدين الحال والدين المؤجل، وبيّنا ذلك وذكرناه في باب القرض، وذكرنا الأحكام المترتبة على حلول الديون وتأجيلها. فلو كان الدين حالاً وأجله. أي: أقر به وصالحه، فأسقط عنه نصفه وجعل النصف الباقي مؤجلاً، صح الإسقاط ولم يصح التأجيل؛ لأنه لا يصح تأجيل الحال، وقد تقدّمت معنا هذه المسألة في مسألة القرض، أنه لا يصح تأجيل الديون الحالة لتعلُّق الذمم بها، وقد بينا وجه ذلك في موضعه في باب القرض. ومراد المصنف هنا: أننا في تارةً نكون في باب البيع، وتارةً نكون في باب الإجارة، وتارةً نكون في باب الهبة، وتارةً نكون في باب القرض على نفس التفصيل الذي تقدَّم معنا، المهم أن المصنِّف يريد أن يعطيك مسألة بحيث تخرِّجها على أصلها وتعطي الحكم على الأصل الذي قرره الشرع في ذلك. فأنت إذا عرفت أن الحالّ لا يتأجل، فإن كان الصلح قام على تأجيل الحالّ أو مؤجلٍ ومعجل، فإنه لا يصح، وكل ما سيذكره المصنف لا يخرج غالباً عن هذا الذي ذكرناه.

الصلح عن المؤجل ببعضه حالا

الصلح عن المؤجل ببعضه حالاً قال رحمه الله: [وإن صالح عن المؤجل ببعضه حالاً أو بالعكس، أو أقر له ببيت فصالحه على سكناه سنة، أو يبني له فوقه غرفة، أو صالح مكلفاً ليقر له بالعبودية أو امرأة لتقر له بالزوجية بعوضٍ؛ لم يصح] قوله: (وإن صالح عن المؤجل ببعضه حالاًّ) هذه المسألة مثل المسألة المتقدمة. ففي هذه الحالة يقول العلماء: لا يصح الصلح على أن يجعل بعض ماله عِوضاً عن بعض، ولا يمكن أن نسميه صلحاً، لأنه لا يمكن أن تجعل مالك في لقاء مالك، وإنما يكون الصلح بشيءٍ من خصمك لقاء شيءٍ منك، لكن أن يكون الكل منك أنت، وتجعل هذا مركباً على هذا، فليس هذا على الصلح الجاري على السَنَد المعتبر شرعاً (الصلح بالمقابلة). فإنه إذا قال له: هذه الألف لقاء سيارتك، فيقول: قبلت، فالسيارة ملك للخصم، والألف ملكٌ لخصمه، وحصلت المقابلة، فهي معاوضة وبيعٌ تام، لكن إذا جعل بعض الألف لقاء بعض، والكل لرجل واحد، فإنه لا يصح أن يجعله بيعاً؛ لأن المال كله لشخصٍ واحد، ولا أن يجعله إجارة. فليس من حقه أن يقول: أنا أعترف لك بالبيت على أن أسكنه شهراً، وليس من حقه أن يقول: أنا أعترف لك بالبيت على أن أسكنه سنة، ولا يصح أن يقول أيضاً: أعترف لك بالسيارة وأُقر لك بالسيارة على أن أركبها يوماً أو شهراً أو أسبوعاً أو سنة؛ لأن هذا كله مقابلة بحقي لقاء حقي، وهذا لا يمكن أن تتحقق به المقابلة المعتبرة شرعاً، فالمسألة مسألة تنظير. وسواء جعله بالأعيان مثل أن يقول له: معجّل بمؤجل، أو مؤجل بمعجل، فالذي تعجل أسقطه في لقاء المؤجل، فالذي أسقطه والذي أخذه كلاهما حق من حقوقه، فأين المقابلة؟ فلا يصح معجل بمؤجل، ولا يصح مؤجل بمعجل، لأن فقه المسألة يدور حول معاوضة بملكية لشخص واحد ولطرف واحد وهو الخصم، ولا يصح ذلك ولا يتأتى بالمقابلة بأن صالحه بالمعجل على المؤجل أو العكس، أو على أن يعطِي له معجلاً لقاء مؤجل.

قاعدة ضع وتعجل

قاعدة ضع وتعجل إذا قال الرجل للرجل: هذه مائة ألف قرض لي عليك -فأعطاه المائة ألف، وفجأة طرأ عليه ظرف، فقال له: يا فلان، أعطني تسعين ألفاً الآن، وأسامحك في عشرة آلاف، فأعطاه التسعين فهذا يجوز، وهذا ليس داخل في مسألتنا، لأن هذه المسألة فيها نص وحديث فلا تدخل في باب الصلح، إنما دخلت في باب القروض والإرفاق. وفيها حديث بني النضير حينما أجلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بني النضير من المدينة، جاءوا يخاطبون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم-: يا محمد! أموالنا عند أصحابك، يعني: نحن الآن سنرتحل، ولنا ديون على أصحابك، وأنت نبي ولا تظلم الناس حقوقهم فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ضعوا وتعجّلوا). أي: ضعوا بعض الدين وتعجّلوا، فهذا جُعل عند العلماء أصل في الإرفاق في الديون. فلو أنه أسقط بعض الدين وأعطاه البعض، صح ذلك. وبهذا أفتى حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، واختار هذا القول الإمام ابن قدامة رحمه الله وطائفة من المحققين فقالوا: إنه يجوز لصاحب الدين أن يأخذ من المديون بعض الدين ويسامحه في البعض، بأن يكون الدين مثلاً إلى شهر رمضان، فيقول له: أعطني الآن في رجب وأنا أسامحك عن باقي ديني، فإنه يجوز ذلك ولا بأس به، إلا إذا كان في التقسيط المركّب على الأجل، لأنه إذا كان في التقسيط المركب على الأجل تمحَّض أن الإسقاط لقاء الأجل، وهذا عين المحظور الربوي الذي ذكرناه في مسألة ربا الجاهلية. و (ضع وتعجَّل) فيها المشروع وفيها الممنوع، وقد بيّنا هذا في باب القرض، وأياً ما كان فإنه إذا قال له ذلك على سبيل المصالحة والمعاوضة لم يصح، وإذا كان على سبيل الإرفاق إسقاطاً صح؛ لأن له أن يُسقِط الكل، فيجوز له أن يسقط البعض.

الصلح عن عين على الانتفاع بها

الصلح عن عين على الانتفاع بها قوله: (أو أقر له ببيت)، في الحالة الأولى كانت المقابلة والمصالحة بمعاوضة، فجَعَل بعض الدين لقاء بعض، ولكن هنا يُطالبك بجزءٍ من منفعة العين المختلف فيها، والتي أقرّ لك بها، فأنت خاصمته في عمارة، وقلت: العمارة لي، فقال: بل لي، ولما ترافعتما إلى القاضي؛ أقر عند القاضي أن العمارة لك، فقال لك: أصالحك على أن أسكن هذه العمارة شهراً ثم أخليها لك أو على أن أسكن هذه العمارة سنة ثم أعطيها لك، أو على أن أركب هذه السيارة شهراً، أو أن أصل بها إلى مكة ثم أعطيكها، فكل هذا لا يجوز، لأنه لو فتح الباب في مثل هذا لاغتصب كثير من الناس أموال الآخرين، فإذا ارتفعوا إلى القاضي قال المغتصب: اركب السيارة إلى مكة وأعطه حقه، ونحو ذلك، وهذا معروف، فيصير ذلك معونة على أكل أموال الناس بالباطل، فالشريعة أغلقت هذا الباب، وحينئذٍ يقول العلماء: إنه لا يصح؛ لأنه في هذه الحالة عاوضه عن جزءٍ من ماله لكن بجزء من ماله، وفيه فتح ذريعة أكل المال بالباطل. ولذلك لا يحكم الشرع بصحة هذا النوع من المصالحة المبنية على المشارطة باستحقاق المنافع التي هي جزء الأعيان المستحقة، وكأنه صالحه بالبعض عن البعض، أو صالحه ببعض ماله عن كله. إلا أن بعض العلماء يقول: يجوز في حال ما إذا كان ناظراً لوقفٍ أو كان ولياً لأيتام، ورأى أنه إذا خاصم هذا الخصم سيضيع المال كله، فاحتاج أن يصالحه ليقع الضرر على بعض المال دون كله، فقالوا: إن هذا يجوز للضرورة، واستدلوا على هذا بقوله تعالى في قصة الخضر مع موسى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، فقالوا: إن الخضر كسر جزء السفينة وهو اللوح، وأفسد جزء السفينة لاستصلاح الكل، فقالوا: يجوز إذا كان ناظراً للوقف أو ولياً لأيتام أن يضحي بجزء المال لقاء كسب المال كله، فيجوز بالنسبة لولي الأيتام، ويكون المال مال الأيتام، ولكن لا يجوز ولا يحل لمن اغتصبه وأخذه بدون حق. فهو في الظاهر يجوز أن ترضى بهذا دفعاً للضرر الأعظم، وذلك من باب ارتكاب أخف الضررين، لكن لا يحل للخصم أن يأخذ ذلك إذا كان يعلم أنه ليس له. فقوله: [أو أقر له ببيت فصالحه على سكناه سنة أو يبني له فوقه غرفة] أي: فكل هذا لا يجوز، وقد تقدمت الأمثلة ونحن دائماً نقول: المهم في كتب الفقه أن نفهم القاعدة؛ لأن الأمثلة تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، ممكن الآن أن يقول: (عمارة)، بدل (بيت)، ممكن أن يقول له: أنا أصالحك على هذه العمارة على أن أسكنها سنة، أو أسكنها شهراً، أو بالسيارة، لأن المسألة مسألة المنافع، والقاعدة عندنا قاعدة المنافع، والمهم لطالب العلم أن يكون عنده نوع من الفهم للضوابط والأصول العامة، حتى يستطيع أن يخرج المسائل النازلة عليها، أما لو حفظ أنها غرفة، وحفظ أنها دار، وأنه بر أو شعير أو ملح، وانحصر في الأمثلة القديمة؛ فلن يستطيع أن يطبقها على الأمثلة المعاصرة، فأياً ما كان فالعبرة أن يصالحه بالبعض عن الكل إما عيناً وإما منفعة.

الصلح على عبودية أو زوجية

الصلح على عبودية أو زوجية قال رحمه الله: [أو صالح مكلفاً ليقر له بالعبودية] (أو صالح مكلفاً) أي: حراً، (ليقر له بالعبودية) أي: لم يصح، لأن الحر لا يُسترق إلا بحكم الشرع. والصلح على هذا الوجه يُحِل حراماً، ودليل هذه المسألة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إلا صلحاً أحل حراماً)، فقالوا: إن الحرام استرقاق الحر على هذا الوجه الذي لا يأذن به الشرع، فيعتبر لاغياً وفاسداً. قال رحمه الله: [أو امرأة لتُقر له بالزوجية بعوض لم يصح] أي: كذلك لو أنه صالح امرأة لتقر له بالزوجية لم يصح، لأن هذا ليس بنكاح شرعي، فهو يتوصل به إلى محرّم؛ لأن المرأة أجنبية عنه، فلو قال: أصالحك على أن تعترفي بأنك زوجة لي وهي ليست بامرأة له، وخاصمها عند القاضي على أنها زوجة له، وليس هناك دليل على هذا، فأوعز إليها أن تُقِر أنها زوجة له من أجل أن يُسقط حقها، فإنه لا يجوز هذا، حتى لو اصطلح مع المرأة عن مخاصمته لها على أساس أن تقر له بالزوجية؛ لأنها أقرت بحرام، لأنها ليست بزوجة له، ولم يحكم شرع الله عز وجل بكونها زوجة له، فلا وجه لتحليل ما حرم الله. وعلى هذا فالمسألة مندرجة تحت قوله: (إلا صلحاً أحل حراماً)، فهنا الصلح يحل الحرام، لأنه يتوصل إلى رق الحر بدون وجه شرعي، ويتوصل إلى الزوجية بدون وجه حق، وذلك لم يحكم به الشرع، فيُعتبر من تحليل ما حرّم الله. ونسأل الله العظيم أن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، ويجعل ما تعلمناه وعلمناه موجباً لرضوانه والفوز بعظيم رحمته وجنانه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الرجوع عن الإقرار

حكم الرجوع عن الإقرار Q من أقر بأمر فهل يُلزم بإقراره ولا يمكنه التراجع، أم يُستثنى من ذلك كمن أقر بالسرقة ونحوها؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فمن أقر بحق لخصم فإنه يُطالب ويؤاخذ بهذا الإقرار، وهذه المسألة التي وردت في السؤال تُعرف عند العلماء بمسألة الرجوع عن الإقرار. والرجوع عن الإقرار لا يصح إلا في أحوال مستثناة، ومنها: حالة الإقرار بالحقوق الخاصة لله عز وجل، كأن يقر بالزنا -والعياذ بالله- فلو أنه أقر أنه زنا ثم رجع عن إقراره، فإنه يصح هذا الرجوع، سواء رجع قبل تنفيذ الحكم، أو رجع أثناء تنفيذ الحكم، مثلاً لو أن رجلاً بكراً أقر بالزنا، وثبت عند القاضي، ودوِّن عليه بإقراره أنه زنا، وقبل أن يُنفَّذ عليه حد الزنا رجع عن إقراره، فإن الرجوع ينفعه ويُحكم بذلك، ففي الصحيح من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وأرضاه: (أن ماعز بن مالك رضي الله عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، قال: ويحك! ارجع فاستغفر الله وتب إليه، فرجع غير بعيد، ثم عاد وقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال: ويحك! ارجع فاستغفر الله وتب إليه! فكرر أربع مرات، والنبي صلى الله عليه وسلم يُعرض عنه ويدفعه، فلما كانت الرابعة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: أشربت خمراً؟ فقام رجل فاستنكهه) يعني: شم رائحة فمه؛ لأنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم شك هل هو عاقل أو ليس بعاقل. فمن شروط صحة الإقرار أن يكون المقر عاقلاً، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أشربت خمراً؟ فقام رجل فاستنكهه، فأُخبِر أنه غير سكران، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أبه جنون؟ فأُخبر أنه ليس بمجنون، فأمر به فرُجم)، فلما أُقيم عليه الحد رضي الله عنه وأرضاه، ورُمي بالحجارة؛ لأنه كان ثيباً، فلما أدركه حر الحجارة فرّ وهرب إلى الحرة، وهي الحرة الشرقية التي تسمى حرّة واقم، شرقي المدينة، فلما فرّ إليها أدركه رجل فضربه وقتله، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه فر، قال: (هلا تركتموه يرجع، فلعله يتوب فيتوب الله عليه)، فأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم لم يتركوه؛ لأنه رجع، فاعتبر فراره بمثابة الرجوع عن إقراره. فقالوا: إنه إذا أقر بحدٍ كالزنا أو نحوه من حقوق الله الخالصة، فإنه إذا رجع عنه قُبل رجوعه، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من ابتلي بشيءٍ من هذه القاذورات فليستتر بستر الله). فالزنا والجرائم المتعلقة به كاللواط -أعاذنا الله من ذلك- ونحوها من الجرائم الخاصة التي يكون الحق فيها لله عز وجل، وكشرب الخمر ونحوه؛ فإن الأفضل فيها أن يستر الإنسان نفسه بستر الله، وأن يتوب فيما بينه وبين الله، وليس بملزم أن يأتي ويقر ويعترف؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من ابتلي بشيءٍ من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإنه من أبدى لنا صفحة وجهه أقمنا عليه حق الله). لكن إذا كان هناك حق للغير كجرائم السرقة مثلاً، فالسرقة فيها حق المسروق منه، فالتوبة منه أن يتوب فيما بينه وبين الله، وأن يرد المال الذي سرقه إلى صاحبه، فليست التوبة بينه وبين الله فقط، بل هناك حق لآخر. ففي السرقة لو أقر ثم رجع عن إقراره لم ينفعه الرجوع، فتقطع يده ويؤاخذ بإقراره، ويضمن المبلغ الذي سرقه، فالسرقة ليست من جنس الحقوق التي تقبل الرجوع، وهكذا بالنسبة لحقوق القتل ونحوها من الحقوق التي فيها اتصال بالمخلوقين، فإنه لا يُقبل فيها الرجوع. وأما بالنسبة لحقوق الله عز وجل الخالصة كما يسميها العلماء رحمهم الله، فإنه ينفع فيها الرجوع عن الإقرار ويفيد، وهكذا لو حصل له خطأ في الإقرار، فرجع إلى القاضي وبين خطأه، وكانت هناك قرائن تدل على صدقه، فإنه يُقبل رجوعه على تفصيل قد يأتي إن شاء الله بيانه في باب الإقرار. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا السداد والرشاد. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

باب الصلح [3]

شرح زاد المستقنع - باب الصلح [3] الصلح ينقسم إلى ثلاثة أقسام: صلح مع الإقرار، وصلح مع الإنكار، وصلح مع السكوت، وقد تكلم العلماء رحمهم الله على الصلح ومسائله وصوره وأحكامه وبعض المسائل المتفرعة عليه في باب الصلح. ومما يدخل في الصلح: الحقوق المشتركة للمساكن والمزارع والدكاكين، وما يتعلق بذلك من التصرفات الجائز إحداثها في الطرق العامة أو الخاصة من بلكونة ودكة وميزاب ونحوها. وهذه المسائل تهم كل مسلم، أي أن معرفتها مهمة لكل مسلم.

الصلح مع الإنكار

الصلح مع الإنكار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول الإمام المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ومن ادعي عليه بعين أو دين فسكت أو أنكر وهو يجهله ثم صالح بمال، صح]: لا زال المصنف رحمه الله في معرض حديثه عن أحكام الصلح، وكنا في المجلس الماضي قد ذكرنا أن الصلح ينقسم إلى ثلاثة أقسام: - صلح مع الإقرار. - وصلح مع الإنكار. - وصلح مع السكوت. وذكرنا مقدمات كتاب الصلح وما يتعلق بالأدلة الشرعية التي دلت عليه، وبعد ذلك بينَّا النوع الأول وهو الصلح مع الإقرار. ثم شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان النوع الثاني: وهو الصلح مع الإنكار. فالصلح مع الإنكار: أن يدعي شخص على آخر حقاً ثم يرتفعان إلى القضاء. وحتى تكون صورة الصلح مع الإنكار واضحة لابد من معرفة منهج الشريعة في القضاء: إذا ادعى شخص على آخر حقاً فقال مثلاً: لي على فلان ألف ريالٍ ديناً، فإن القاضي يسأل المدعى عليه: هل لفلان عليك ألف ريال؟ فإن قال: نعم. فحينئذٍ ننتقل إلى صورة الصلح مع الإقرار، وإن قال: ليس له عليَّ شيء ولم أستدن منه ألفاً، فهذا يسمى إنكاراً، فإذا أنكر الخصم طولب المدعي بالبينة ويقال له: ائت ببينة تدل على صدق دعواك؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل البينة في الدعاوى. ففي قصة الكندي رضي الله عنه وأرضاه لما اختصما في البئر قال عليه الصلاة والسلام للمدعي عندما أنكر خصمه: (ألك بينة؟). والمدعي مطالب بالبينة، فإن قال: ليس عندي بينة، طولب خصمُه المدعى عليه باليمين، فإذا وجهت اليمين إلى المدعى عليه فقد يفتدي عن هذه اليمين ويدفع عن نفسه بالصلح، فيصطلح مع خصمه قبل حلف اليمين؛ لأنه إذا حلف اليمين انقطعت الخصومة، وإنما الصلح قبل حلف اليمين، فيصالح صاحبه وتسقط عنه اليمين وتدفع. قال صاحب التحفة في بيان هذه المسألة في القضاء: والمدعي مطالب بالبينه وحالة العموم فيه بينه والمدعى عليه باليمين في عجز مدعٍ عن التبيين فقوله: والمدعي مطالب بالبينه .. .. يعني: من ادعى شيئاً طولب بالبينة عليه، قال تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس عند البيهقي وغيره: (البينة على المدعي) فقال الناظم رحمه الله: والمدعي مطالب بالبينه .. .. أي: مطالب بالدليل الذي يدل ويبيِّن صدق دعواه. ……. مطالب بالبينه وحالة العموم فيه بينه يعني: سواء كان رجلاً صالحاً أو كاذباً، فلو كان أصدق الناس، ومعروفاً بالصدق ولا يكذب، فجاء إلى القاضي وقال: لي على فلان ألف ريالٍ، فلا تقبل دعواه إلَّا ببينة، وهذا معنى قول الناظم: .. . وحالة العموم فيه بينة أي: يستوي فيه الفاجر والبر. والمدعى عليه باليمين في عجز مدعٍ عن التبيين أي: نطالب المدعى عليه أن يحلف اليمين، ويقول: (والله ليس لفلان عليّ كذا) وهذه اليمين إذا حلفها صاحبها كاذباً غمسته في النار والعياذ بالله، وهي اليمين الغموس التي تكون في مقطع الحقوق، وهي التي عناها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (من حلف على يمين ليقتطع بها حق امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان) نسأل الله السلامة والعافية، ومن حلفها فإنه من الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، نسأل الله العافية والسلامة. فهذه اليمين أمرها صعب، فالشخص إذا ادعى عليه آخر قد يتورع ويقول: لا أحلف اليمين، فإذا لم يحلف اليمين وأراد أن يخرج من مشكلة حلف اليمين خرج بالصلح، وهذا يسمى الصلح مع الإنكار، وهو النوع الثاني.

الصلح مع السكوت

الصلح مع السكوت النوع الثالث: الصلح مع السكوت، فقال رحمه الله: [ومن ادعي عليه بحق فسكت] فذكر النوعين. [سكت]: هذه صورة تخالف الصورتين السابقتين، وحاصلها كما يقول المصنف: [ومن ادعي عليه بعين أو دين]. (بعين): كما إذا قال رجل: هذا البيت الذي يسكنه فلان ملك لي، وأعطيته إياه عارية أو أعطيته إياها إجارة وانتهت الإجارة فأطالبه بالخروج. فقال الذي في البيت: البيت بيتي وهو ملك لي؛ فأصبح الذي بداخل البيت مدعىً عليه، والذي خارج البيت مدعياً، فلما جيء إلى القضاء قيل: (هذه دعوى في عين)؛ فالبيت عين، والسيارة عين، والمزرعة عين، والأرض عين. (أو دين): كقوله: لي على فلان ألف ريال أخذها قرضاً مني. فهذه دعوى بدين، والمدعى عليه له ثلاثة أحوال: - أن يقر، وقد تقدمت أحكام الصلح في حال الإقرار. - أن ينكر، كما بينا صورتها. - أن يسكت، والسكوت كأن يقول له القاضي: يا فلان! فلان يدعي عليك بألف ريال ديناً، فهل له عندك ألف؟ فإن سكت ولم يجب بنعم أو لا، فليس بالمقرر ولا بالمنكر، وبعض العلماء يرى أنه إذا سكت أجبره القاضي بقوة وفرض عليه أن يتكلم بإقرار أو إنكار وإما منكراً؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يشرع القضاء إلا للفصل في الخصومات وقطع النزاعات، فلو كان كل شخص يدعى عليه يسكت لتهرب الناس من القضاء، فقالوا: يكلف بالإجبار أن يتكلم، إما مقراً أو منكراً، وقال صاحب التحفة رحمه الله: والمدعي مطالب بالبينه وحالة العموم فيه بينه والمدعى عليه باليمين في عجز مدعٍ عن التبيين ومن أبى إقراراً او إنكارا لخصمه كُلفه إجبارا فإن تمادى فلطالب قضي بلا يمين أو بها وذا ارتضي (ومن أبى إقراراً او إنكارا): أي: لم يقر ولم ينكر. (لخصمه كلفه إجبارا). أي: يضغط عليه القاضي ويجبره أن يثبت أو أن ينفي. وفي بعض الأحيان يخشى الشخص النسيان فيقول: أن أخشى النسيان فلا أستطيع أن أثبت له ولا أستطيع أن أنكر، فالذي سكت ولم يتكلم بإثبات ولا بإنكار، فهذا قد أبى الإقرار وأبى الإنكار. ومن أبى إقراراً أو إنكارا لخصمه كلفه إجبارا فإن تمادى فلطالب قضي بلا يمين أو بها وذا ارتضي فإن تمادى وأصر على الامتناع، فتسمى هذه بحالة (النكول) وستأتينا في القضاء إن شاء الله، ويسمى ناكلاً عن اليمين، ويعطى حكم الناكل إذا امتنع عن اليمين ونكل عنها، فقال بعض العلماء: يعطى حكم الناكل وحينئذٍ نحكم عليه. وقال بعض العلماء: نعتبر سكوته بمثابة الإقرار، ونحكم عليه. وقال بعض العلماء: بل نعتبر سكوته وامتناعه عن الإجابة والإنكار قرينة، ونوجب على المدعي يميناً بالله مع دعواه فتعتضد اليمين مع إنكاره وتنزل منزلة الدليلين. يعني: الشاهدين، ونحكم بذلك. فإن تمادى فلطالب قضي بلا يمين أو بها وذا ارتضى (أو بها) هو القول الثاني. (وذا ارتضي): أي: رجح القول الثاني، ويسمونها يمين التهم، وسيأتي إن شاء الله بيانها في كتاب القضاء. فالشاهد في هذه الحالة أنه إذا امتنع عن الإقرار أو الإنكار يسمى عند العلماء: (الصلح على السكوت).

حكم الصلح مع الإنكار

حكم الصلح مع الإنكار الصلح مع الإنكار: اختلف فيه العلماء على قولين: قال بعض العلماء: لا يجوز الصلح إلا على الإقرار، وأما على الإنكار فإنه من أكل أموال الناس بالباطل ولا يجوز، وقالوا: وتوضيح ذلك: أنه إذا ادعي على شخص شيء قال فلان: لي عليك ألف ريالٍ. فقال: ليس لك عليّ ألف ريالٍ، فأنكر، فإننا لو أجزنا له أن يصالح وهو يعلم أن لفلان عنده ألف ريالٍ، فيسقط الحق الأكثر بالأقل الذي صولح عليه، فأصبح الصلح في هذه الحالة وسيلة لأكل أموال الناس بالباطل. وقد يكون أحدهما كاذباً: إما المدعي أو المدعى عليه، فإذا كان المدعي كاذباً والمنكر صادقاً، فقد ادعي عليه زوراً وظلماً، وإما أن يكون العكس فيكون المدعي صادقاً والمنكر كاذباً، وفي كلتا الحالتين يؤكل المال بالباطل. فإن كان المدعي يدعي والمدعى عليه ينكر ثم اصطلحا والمدعي كاذب فمعناه أن المدعي سيأكل ما اصطلح عليه بالباطل، وإن كان المدعى عليه كاذباً فمعناه أنه سيأخذ جزءاً من مال المدعي زوراً وظلماً ويعاوض بالأقل، لأن الصلح دائماً يكون بأقل من الشيء الذي فيه الخصومة. قالوا: فهذا يقتضي التحريم، وهذا هو قول الشافعية، وقال به من السلف: ابن أبي ليلى الفقيه المشهور رحمة الله على الجميع. وذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة وطائفة من أهل الحديث رحمة الله على الجميع إلى القول بمشروعية الصلح مع الإنكار، واستدلوا بعموم الأدلة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي تدل على مشروعية الصلح دون فرق بين إنكار وإقرار، ولأن الإنسان قد يكون ناسياً لحق الغير فيريد أن يدفع عن نفسه الضرر فيصالحه عن حقه. وأما قولهم: إن أحدهما كاذب، فجوابه أن الصلح مع الإنكار له حالتان: إما أن ينكر ويكون عالماً أنه مبطل فهذا لا يجوز له الصلح، والجمهور لما أجازوا صلح الإنكار أجازوه بشرط أن لا يكون عالماً بالحق، كشخص لا يدري. فيحتمل أنه صادق ويحتمل أنه كاذب، ويريد أن يخرج من تبعة هذه اليمين بالصلح. فالإنسان بشر وقد ينسى، كالتجار يعامل بعضهم بعضاً ثم ينسون مع كثرة الحقوق وكثرة المعاملات، والأقرباء يعامل بعضهم بعضاً، وأصحاب الصنعة الواحدة يعامل بعضهم بعضاً، فنحن نقول: إذا كان أحد الخصمين عالماً بالحقيقة لم يجز الصلح، حتى أن الجمهور الذين أجازوا الصلح اشترطوا -كما سيأتي عند المصنف- أن لا يكون عالماً بالحق، فإذا أصبح غير عالم بالحق انتفى الذي ذكره أصحاب القول الأول. وبناءً على ذلك يجوز للإنسان على غالب ظنه أن يدعي وينكر، ويجوز له أن يصالح عما ادعى وعما أنكر إذا كان يعتقد أنه على صواب وحق، وذلك لعموم السنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (الصلح جائز بين المسلمين) فإن هذا النص الذي رواه الترمذي وابن ماجة وأبو داود وابن حبان وصححه غير واحد -وإن كان الأقوى أنه حسن بالطرق والشواهد- يدل دلالة واضحة على أن الصلح جائز على العموم، سواء كان على إقرار أو على إنكار. والقاعدة: (أن العام يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه) وليس هناك دليل يخصص صلح الإنكار عن صلح الإقرار، فترجح بهذا مذهب الجمهور أنه يصح الصلح على الإنكار كما يصح على الإقرار، ودليل النظر يدل على ذلك، فإن صلح الإنكار كصلح الإقرار بجامع كون كل منهما يقطع الخصومة ويوجب دفع النزاع والضرر المترتب على الخصومة بين الطرفين، وعلى هذا فيشرع صلح الإنكار، كما يشرع صلح الإقرار.

حكم الصلح مع السكوت

حكم الصلح مع السكوت أما بالنسبة لحالة السكوت فالشافعية أيضاً يقولون: لا يجوز. والجمهور يقولون بالجواز، وينزلونه منزلة صلح الإنكار؛ لأن الساكت في حكم المنكر، وقد قالوا: (لا ينسب لساكت قول) فيجوز له أن يصالحه مع السكوت، وابن أبي ليلى مع أنه وافق الشافعية في عدم صحة صلح الإنكار إلا أنه وافق الجمهور في جواز وصحة صلح السكوت. إذاً: أصبح عندنا مسألتان: - مسألة صلح الإنكار وفيها قولان: للجمهور الجواز. وللشافعية وابن أبي ليلى المنع. والصحيح قول الجمهور لعموم الأدلة وقوتها. ومسألة: صلح السكوت، وفيه القولان أيضاً، إلا أن ابن أبي ليلى رحمه الله وافق الجمهور فقال بالجواز وقوى ذلك؛ لأنه ليس بمنكر، وإنما هو ساكت فيكون في حكم المقر. وعلى هذا فمذهب الجمهور جواز صحة الصلح مع الإنكار والسكوت وهو الصحيح. قول المصنف: [ومن ادعي عليه بعين أو دين فسكت أو أنكر وهو يجهله]: قوله: (وهو يجهله) هذا شرط، أي: ولو كان يعلمه لم يجز. إذاً: كلمة (وهو يجهله) شرط، أي والحال أنه يجهله، فتصير شرطاً في جواز صلح الإنكار وصلح السكوت، فلو سألك سائل: أين محل الخلاف بين الجمهور والشافعية في صلح الإنكار وصلح السكوت؟ تقول: محل ذلك إذا كان الخصم يجهل، أما إذا كان يعلم فإنه لا يجوز له أن يصالح بالإجماع، بل الواجب عليه شرعاً أن يرد الحقوق إلى أهلها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت له عند أخيه مظلمة فليتحلله منها) فأمر برد المظالم ورد الحقوق إلى أصحابها. قال المصنف رحمه الله: [ثم صالح بمال صح]: مثال ذلك: قال عمرو: هذه الدار التي يسكنها زيد ملك لي، فقال زيد: بل ملك لي، فأنكر فاختصما إلى القاضي، فقيل لعمرو المدعي: ألك بينة؟ قال: ليس عندي بينة. قيل لزيد: احلف. فقال: أصطلح مع خصمي، فصالحه الخصم على أن يعطيه عشرة آلاف ريال بدلاً عن هذه الدار التي يدعيها، فحينئذٍ يصبح كأنه باع حقه في الدار بعشرة آلاف فتنتقل المسألة من باب الصلح إلى باب البيع، وتنطبق عليها أحكام البيع. إذا قلنا: تنطبق أحكام البيع فلا بد وأن يكون الشيء الذي يعاوض عليه معلوماً بين الطرفين، وأن يكون من جنس ما يجوز بيعه، ويكون مملوكاً، ولا يجوز أن يصالحه بشيء لا يملكه، إلى غير ذلك من شروط صحة البيع. فلو أنه صالحه على شيء مجهول لم يصح، ولو قال له: هذه الدار التي تدعيها عليّ أصالحك على شيء أرضيك به لم يصح، لأنه شيء مجهول، ولا تصح المعاوضة بالمجهول. ولو صالحه على وجه يقع به الربا، كأن يقول: لي على زيد ألف ريال. فإن قال زيد: ليس لك عليّ ألف ريال. وقال: أعطيك بدلاً منها تسعمائة، لم يصح؛ لأن الألف والتسعمائة ربا فضل فلا يصح أن يعاوضه بها، ولو قال له: أعطيك بدلاً عنها ثمانمائة صار ربا فضل، ولو قال: أعطيك عنها ما يعادلها من الدولارات -مثلاً- لو أن الألف تصرف بثلاثمائة وخمسين دولاراً وقال له: أعطيك بدل الألف ثلاثمائة وخمسين دولاراً. فإن قال: قبلت. وجب أن تكون يداً بيد؛ لأنه صرف، تسري عليه أحكام البيع والصرف على التصوير الذي ذكرناه في صلح الإقرار.

مآل الصلح إلى البيع في حق المدعي وترتب أحكامه عليه

مآل الصلح إلى البيع في حق المدعي وترتب أحكامه عليه قال رحمه الله: [وهو للمدعي بيع يرد معيبه ويفسخ الصلح]:

الرد بالعيب وفسخ الصلح

الرد بالعيب وفسخ الصلح (وهو للمدعي): ادعيت أن هذه الدار التي يسكنها زيد ملك لي، فأنكر زيد وقال: أُعطيك بدل هذه الدار التي تدعيها سيارة. فقلت: قبلت. فلما قلت: قبلت. صار بيعاً في حقه، فلو أخذت السيارة سرت عليها أحكام البيع، ولو وجدت السيارة معيبة وظهر بها عيب فإني أملك ردها. فيفسخ العقد الذي بينهما على أنه عقد بيع، وينفسخ الصلح وترجع القضية من جديد، إما أن يصالحه بعوض آخر يرضيه، وإما أن تستمر القضية ويطالب بحلف اليمين على الأصل المعروف في القضاء. إذاً: إذا جرى بين الطرفين صلح مع الإنكار ومعاوضة ونقله من حقه إلى حق آخر برضا الطرفين، فإنه تسري عليه أحكام البيع إذا كان في صورة البيع، وتسري عليها أحكام الصرف إن كان في صورة الصرف، وتسري عليها أحكام الإجارة إن كان في حكم الإجارة أو في صورة الإجارة.

الأخذ بالشفعة في الصلح

الأخذ بالشفعة في الصلح [ويُؤخذ منه بشفعة]: يأخذ هذا الحق بشفعة تسري عليه أحكام البيع، مثال ذلك: إذا قلت: هذه الدار التي يسكنها زيد ملك لي. فقال زيد: بل ملك لي. واختصمنا، فإن الدار دار زيد حتى أثبت أنها داري، فأنكر زيد، واصطلحنا وقال لي زيد: أعطيك بدلاً عن هذه الدار نصف أرضي التي بيني وبين محمد. فحينئذٍ عاوضني عن الدار بنصف الأرض، وإذا عاوضني بنصف الأرض فكأنه باعني نصف الأرض فيسري عليه الشفعة لشريكه، وسيأتينا إن شاء الله في باب الشفعة. وقبل أن نبين صورة المسألة هنا نريد أن نعرف ما هي الشفعة؟ الشفعة: استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه ممن اشتراها منه بالثمن المتفق عليه، دون أن يزيد. مثلاً: إذا كنت أنا وأنت في أرض، قد اشترينا هذه الأرض بمائة ألف فدفعت أنت خمسين ألفاً ودفعت أنا خمسين ألفاً، فمعناه: نصفها لك ونصفها لي، فلو أنك بعت نصيبك لطرف آخر كان من حقي أن آخذ منه ذلك بنفس المبلغ الذي اتفقت معه، سواء رضي أو لم يرض. فقولهم: (استحقاق) أي: من حقي أن أنتزع حصة شريكي ممن اشتراها بنفس الثمن، فلو باعها بعشرين ألف إلى صاحبه فإني آتي وأقول للقاضي: أنا شافع، وأعطيه عشرين ألفاً وأملك الأرض بكاملها. وهذا فيه حِكمة من الشرع؛ لأنك قد ترضى بزيد شريكاً ولا ترضى بغيره، فدخول الشركاء على غير الشراكة فيه ضرر وأذية، لأنك قد ترضى بشخص ولا ترضى بآخر، فإذا باع شريكك كان من حقك أن تشفع، لكن بشرط أن تشفع مباشرة، فلو علمت وسكت سقط حقك، وسيأتي إن شاء الله تفصيل أحكام الشفعاء. فالمصنف يأتي بالأمثلة، والمسألة ليست مسألة شفعة أو غيرها فالمصنف يريد التقعيد -كما ذكرنا ذلك غير مرة- وبينا أن الأمثلة التي تذكر في كتب الفقه المراد بها التقعيد، ومعرفة أصل المسألة، فأصل المسألة أنه إذا نقلك وحكمت بكونه بيعاً فإن البيع إذا كان فيه صورة الشفعة جرت عليه أحكام الشفعة، فلو أعطاك عوضاً عنه أرضاً مشتركة بينه وبين غيره، فإن ذلك الغير يملك انتزاعه وتسري عليه أحكام الشفعة.

الصلح في حق المدعى عليه إبراء

الصلح في حق المدعى عليه إبراء قال رحمه الله: [وللآخر إبراء فلا رد ولا شفعة]: الآخر هو المدعى عليه، فهي للمدعي بيع، وللآخر الذي هو المدعى عليه إبراء، فإذا كان الدار داره والأرض أرضه وأنا دخلت عليه، فإنه إذا أعطاني بدلاً عنها ما أرضى فقد أبرأ ذمته.

الصلح لا يحلل حراما ولا يحرم حلالا

الصلح لا يحلل حراماً ولا يحرم حلالاً قال رحمه الله: [وإن كذب أحدهما لم يصح في حقه باطناً وما أخذه حرام]: أي: إن كان أحدهما كاذباً والعياذ بالله، لم يصح في حقه أخذه؛ لأن أموال الناس لا تنتزع بالحيل، والأصل أن هذا المال ملك لصاحبه حتى يدل الدليل على جواز ملكيته لمن أخذه؛ لقوله تعالى: {َلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188]. مثلاً: شخص عنده سيارة، فجاء آخر وادعى أن السيارة له، وهو يعلم أن السيارة ليست له، وصاحب السيارة يريد أن ينتفع بالسيارة، لكنه إذا دخل في الخصومات والنزاعات سيطول عليه الأمر، فلما جاءه قال قال له: يا أخي! ما دمت تدعي أن هذه السيارة لك وهي سيارتي، أنا أعطيك شيئاً في مقابلها، -مثلاً: خمسة آلاف- فإن قال: قبلت. فإن الخمسة آلاف إذا أخذها وهو يعلم أنه كاذب فهي سحت وحرام، ولو قضى بها القاضي؛ فإنه لا يُستحَل الحرام بحكمه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم تختصمون إليّ فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقضي له بقطعة من نار فليستقل أو ليستكثر) أي: أن حكم القاضي لا يحل الحرام ولا يحرم الحلال، فهو حكم في الظاهر، لكن في الحقيقة والباطن لا يتغير الحكم. إذاً: لو أنهما اصطلحا وهو يعلم أنه كاذب في دعواه فالمال عليه حرام. والعكس لو أن الذي في الدار يعلم أن الدار دار زيد، وأنكر أنها لزيد وأنه أخذها إجارة ثم ادعاها وقال: هي داري، أو أخذ السيارة ثم ادعاها له، فإنه في هذه الحالة لو صالحه عنها بشيء فإنه يصالح عن مال سحت وحرام، ولا يحل له بالصلح شيء. وكأن المصنف يقول: (الصلح لا يحلل الحرام ولا يحرم الحلال)، وهذا تقدم معنا، وفي نص الحديث (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراما).

حكم الصلح في الحدود

حكم الصلح في الحدود قال رحمه الله تعالى: [ولا يصح بعوض عن حد سرقة]: ولا يصح الصلح بعوض عن حد سرقة، وزناً، وخمر ونحو ذلك؛ لأن الحدود فيها حقان: حق للخصم. وحق لله، فإذا كانت حدوداً فيها حقوق مشتركة يكون فيها حقان. وإذا كانت حدوداً خالصة فليس فيها إلا حق واحد. والحدود ستأتي إن شاء الله. مثلاً: شرب الخمر الحق فيه لله، وفائدة قوله: (إن الحق لله): أن شارب الخمر إذا تاب فإنه يتوب فيما بينه وبين الله، ولا يذهب إلى أحد ويستسمح منه، لكن القاذف إذا قذف امرأة واتهمها بالزنا والعياذ بالله وهو يعلم أنه كاذب فهنا حقان: - حق لله بانتهاك الحد الذي حرمه. - وحق للمخلوق؛ لأنه دنس عرض هذه المرأة وآذاها في عرضها، فلا توبة له إلا إذا حللته من مظلمتها. إذاً: حد القذف فيه حقان، وكذا حد السرقة فيه نفس الحكم، فالسارق منتهك لحقين: - حق الله عز وجل بمعصيته وانتهاك حدوده؛ لأن الله حرم عليه أن يسرق مال أخيه المسلم. - وحق لأخيه المسلم وهو المال الذي أخذه. فيجب عليه رد المال الذي أخذه، ويجب عليه التوبة فيما بينه وبين الله، هذا من حيث الأصل العام قبل أن ترفع إلى القاضي أما إذا رفعت إلى القاضي وبلغت الحدود السلطان فلعنة الله على الشافع والمشفع، ولو تنازل صاحب المال المسروق لم يسقط الحد؛ لأن صفوان رضي الله عنه وأرضاه كان نائماً بالمسجد وتحته رداؤه، فجاء السارق وسرق رداءه من تحت رأسه، -وكون الرداء تحت الرأس فهذا حرز كما سيأتينا إن شاء الله في باب السرقة، فلما سرقه استيقظ صفوان وأدركه، وارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يد السارق، فلما علم صفوان أن فيها قطع يد، قال: أسامحه، وقال: هو له يا رسول الله -أي: أشفق على الرجل أن تقطع يده بهذا الرداء- فقال صلى الله عليه وسلم: هلا كان هذا قبل أن تأتيني به؟! فمسألة الصلح عن الحدود والاعتداءات تكون قبل أن تصل إلى السلطان، كالزنا والسرقة والقذف؛ لأنها مشتركة بين حق الله وحق المخلوق، لكن في الحقوق الخالصة كشخص سب شخصاً ولم يصل إلى القذف، كأن قال له: أنت كالبهيمة، أو سبه سباً لا يصل إلى الحد والقذف، فرفعه إلى القاضي يشتكيه، ففيه التعزير، والتعزير فيه الحق للمخلوق، فإن قال للقاضي: سامحته فحينئذٍ يسقط حقه، وقال بعض العلماء: بل يعزره القاضي لانتهاكه حد الله من وجه آخر، وهو أن الله حرم عليه أذية المسلم. والشاهد: مسألة حق الله وحق المخلوق، ففي السرقة لو سرق مال أخيه المسلم وجاء يريد أن يرفعه إلى القاضي فقال: يا فلان! لا ترفعني إلى القاضي. فإن قال: بل أرفعك. فقال له: خذ عشرة آلاف ولا ترفعني إلى القاضي. فإن أخذ العشرة آلاف، فالعشرة آلاف سحت وحرام لا تحل له؛ لأن الذي يستحقه بالسرقة هو المال المسروق، والزائد عن ذلك ليس ملكاً له، فيأخذ المال المسروق ويستر أخاه المسلم، وليس من حقه أن يأخذ عوضاً على ستره؛ لأن الستر ليس من جنس ما تدخله المعاوضات. كذلك أيضاً حد القذف: فلو قذف امرأة أو قذف رجلاً فقال: سأرفعك إلى القاضي وكان عنده شهود وبينة، فقال له: أعطيك عشرة آلاف وتتنازل عن قضيتك، فليس من حقه هذا، فإما أن يسامحه وأجره على الله وإما أن يرفعه إلى القاضي، أما أن يأخذ عوضاً بالمال على شيء ليس بمحل للمعاوضة فلا؛ لأن هذه الحقوق ليست بمحل للمعاوضة، وليست بمحل للمقابلة المالية، فحينئذٍ لا يصح أكل المال لقاء هذه. فقال رحمه الله: [عن سرقة وقذف]: كذلك، وزناً، وشرب خمر. وإنما ذكر السرقة؛ لأن الحق فيها مشترك، فإذا كان هذا في السرقة الذي فيها الحق المشترك فمن باب أولى في الزنا وشرب الخمر الذي فيه الحق خالصٌ لله عز وجل، وهذا من دقة المصنف رحمه الله أنه نبه على السرقة؛ لأن الحق فيها مشترك بين المخلوق والخالق.

حكم الصلح على إسقاط حق الشفعة

حكم الصلح على إسقاط حق الشفعة [ولا حق شفعة]: مثلما ذكرنا في الشفعة: لي أرض وشريكي فيها زيد، فبعت نصيبي إلى عمرو بخمسمائة ألف مثلاً، فلما اشتراها عمرو أراد زيد أن يشفع؛ لأن زيداً شريك لي، وقلنا: إن الشريك من حقه أن يشفع فينتزع حصة شريكه ممن اشتراها بالثمن المتفق عليه الذي هو خمسمائة ألف. فلما أراد زيد الذي هو شريك لي أن يشفع قال له عمرو: أنا أرغب في هذه الأرض وأرغب في هذا النصف، فأريد أن تسكت عن دعواك بالشفعة وأعطيك عشرة آلاف ريال، أو تسكت عن دعواك بالشفعة وأعطيك أرضي الفلانية، مراضاة على ذلك، لم يصح. والسبب في هذا أن الشفعة شرعها الله دفعاً للضرر عن الشريك، فإذا أخذ العوض دل على أنه لا ضرر عليه بدخول هذا الشريك، فإذا تم بينهما صلح وأعطاه الخمسة آلاف على أن يسكت عن الشفعة وارتفعا إلى القاضي أمره القاضي برد الخمسة آلاف وأسقط حقه بالشفعة؛ أي: يصبح خاسراً من الوجهين، لا هو رجع إلى الشفعة، ولا هو أخذ المال الذي اتفقا عليه. في هذه الحالة نقول: كيف أسقطنا الصلح؟ قالوا: لأن استحقاق الانتزاع مبني على خوف الضرر، فلما قَبل به شريكاً دل على أنه لا ضرر، وأن من مثله يُقبل كشريك، فكونه أسقط ورضي بإسقاط الحق واعترف أنه لا شفعة ورضي بذلك فإنا نسقط حقه؛ لأن كل شريك سكت عن حقه أو بان منه ما يدل على الرضا بالشريك يسقط حقه في الشفعة، ثم بعد ذلك تسقط الخمسة آلاف لأنها عوض عما لا معاوضة فيه، فاستحقاق الانتزاع ليس من جنس ما يباع ويشترى، فلا يملك أن يعاوضه عنه.

حكم الصلح على ترك الشهادة

حكم الصلح على ترك الشهادة [بترك شهادة]: الشهادة نعمة من الله سبحانه وتعالى على الناس وعلى القضاء، وهي توصل الحق لصاحبه. ولذلك يقول القاضي أبو أمية شريح الكندي رحمه الله، وكان قاضياً لثلاثة من الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، عمر وعثمان وعلي وهو إمام من أئمة القضاء، وكانت له حكم عجيبة، يقول رحمه الله: (إن القضاء بلاء) وفي رواية: (إن القضاء جمرة) يعني: ناراً وعذاباً (فنحه عنك بعودين) فالجمرة تدفعها بعودين، والعودان هما الشاهدان العدلان. فإذا جاء الشاهدان العدلان عرفت صدق المدعي في دعواه فأوصلت الحق لصاحبه، فالشهادة تعين على الحق، وتعين على الوصول إلى الحق. فإذا استُخدم التزوير والكذب أو كُتمت الشهادة ضاعت الحقوق، فالذي يكتم الشهادة يظلم المظلوم ويكون معيناً للظالم على ظلمه؛ لأنه لو نطق بالحق لعرف القاضي الحق وأوصله إلى صاحبه، فهو ظالم للمظلوم، وظالم للقاضي، لأن القاضي سيحكم أن المدعى عليه بريء، مع أنه فعلاً متهم ومطالب، فلما سكت الشهود حكم بالباطل. فيصبح الساكت عن الشهادة مضراً بصاحب الحق، حيث إنه لم يتوصل إلى حقه، ومضراً بالقضاء، وخائناً للأمانة؛ لأن الشهادة أمانة، والله تعالى بيّن ذلك بقوله: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283] فشهد الله عز وجل بأنها مظلمة وأنها إثم، وقال تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] فهي معونة على الإثم والعدوان إذا كتمت. وعلى هذا فلو أن رجلاً شهد بالحق وهو يعلم أن فلاناً صادق في دعواه، فقال المشهود عليه للشاهدين: نعطيكما عشرة آلاف ريال، وتسكتا؛ فإنها رشوة، فكما أن القاضي يأخذ المال رشوة للحكم بالباطل؛ فإن الشاهد أخذ المال لسكوته عن الشهادة فيتوصل بها إلى ظلم المظلوم وإعانة الظالم، فلا يجوز أخذ العوض على كتمان الشهادة. لكن لو كانت الشهادة في حق يسع السكوت عنه. مثلاً: من رأى رجلاً يزني بامرأة فإن من حقه أن يسكت، وإذا سكت وسترهما فإن الله يستره، ويجوز ذلك ويشرع؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (من ستر مسلماً ستره الله) وأجمع العلماء على مشروعية الستر، فلو قال له قائل: اسكت ولا تشهد وأعطيك. فهل يجوز أن يأخذ؟ نقول كما قال الأئمة رحمهم الله: إنه إذا سكت في هذه الحالة فإن الشهادة في الأصل حسبة لله، فإذا سكت عنها لله قبل السكوت، لكن إذا سكت عنها من أجل المال، فقد أخذ المال بدون حق؛ لأنها ليست من جنس ما يعاوض عنه؛ ولأن السكوت عبادة لله، والعبادات لا تجوز المعاوضة عليها، هذا بالنسبة لكتمان الشهادة. [وتسقط الشفعة والحد]: يعني: إذا أعطاه المال من أجل أن يسكت عن الحد وسكت سقط الحد، ويبوء بإثمه والعياذ بالله إن كان فيه ظلم، وكذلك بالنسبة للشفعة فإنه إذا رضي أن يناقل عنها وينتقل؛ فإنه لا تصح المعاوضة وتسقط الشفعة، فلا هو أخذ المال ولا هو أدرك حقه بالشفعة.

مسائل الازدحام في الحقوق

مسائل الازدحام في الحقوق قال رحمه الله: [وإن حصل غصن شجرته في هواء غيره أو قراره أزاله]: من هذه الجملة فما بعد سندخل في مسائل جديدة، وهي التي تسمى مسائل الازدحام في الحقوق، ومن دقة الفقهاء رحمهم الله أنهم يذكرونها بعد الصلح، حتى ذكر ذلك الإمام الشافعي رحمه الله وهو من القرون الأول من أئمة السلف، كما في مختصر المزني حيث ذكر عنه مسائل الازدحام بعد الصلح، والمناسبة واضحة؛ لأن الازدحام دائماً في الحقوق يقع فيه الصلح. فهم يذكرون الصلح كقاعدة عامة في الإقرار والإنكار، ثم بعد ذلك يدخلون مسائل الازدحام، وهذا منهج ورد عليه الأئمة من الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة وأتباعهم رحمة الله عليهم. فلما فرغ رحمه الله من مسائل الحقوق الخاصة شرع في الحقوق العامة. الحقوق العامة فيها مسألة الازدحام في الحق الخاص والحق العام، خاصة في الجيران، فلو كان لشخص شجرة ولهذه الشجرة غصن، فأطل الغصن على أرض جاره، فالجار سيتضرر من هذا الغصن بتساقط الورق، أو بشغله إذا أراد أن يرفع شيئاً أو يضع شيئاً فلا يستطيع؛ لأن الهواء قد شغل بالغصن. هناك قاعدة نذكرها قبل أن ندخل في مسائل الازدحام: من ملك أرضاً ملك سماءها، الذي هو الهواء، وملك قرارها الذي هو الجوف. فلو أنك ملكت (عشرة أمتار × عشرة أمتار) واشتريتها بمالك، فصارت ملكاً شرعياً ثابتاً، فأنت تملك الهواء وتملك الأرض، فليس من حق أحد أن يزاحمك في هوائها، وليس من حق أحد أن يزاحمك في قرارها هذا أصل. دليل هذا الأصل قوله عليه الصلاة والسلام: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أراضين يوم القيامة) فجعله معذباً بأسفل الأرض كعذابه بأعلاه؛ لأنه باغتصابه للأعلى كان مغتصباً للأسفل، فدل على أن أسفل الأرض وأعلاها حكمه سواء، وتفرعت على هذا أحكام شرعية في المعاملات والعبادات. ومن الأحكام في العبادات: أن من صلى في سقف المسجد الحرام نال أجر المائة ألف كما لو صلى في أسفله، وأن المعتكف لو صعد إلى سطح المسجد فإنه يصح اعتكافه ولا يبطل؛ لأنه لم يخرج عن المسجد، شريطة أن يكون خروجه للسطح من داخل المسجد لا من خارجه، وتفرع عليه مسألة الطواف في الدور الثاني؛ لأن الطواف كالصلاة، والصلاة تجوز في أعلاه كما تجوز لمن أسفله. وتفرع عليه السعي في الدور الثاني إلا أن السعي أضعف من الطواف، ولذلك اختلف العلماء المعاصرين فيه؛ لأن هناك فرقاً بينهما من جهة قوله: {أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] وهذه البينية (بِهِمَا) أي: بينهما؛ لأن الباء للظرفية ومن معاني الباء. تعدَّ لصوقاً واستعن بتسبب وبدل صحاباً قابلوك بالاستعلاء وزد بعضهم ظرفاً يميناً تحز معانيها كلها هذه كلها معانٍ للباء، فلما قال: {يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] أي: بينهما، بخلاف الطواف بالبيت فإنه صلاة، وجاء الأصل الشرعي أنه يجوز أن يصلي على أبي قبيس، وقعيقعان مع أن المصلي عليهما يسامت الهواء ولا يسامت الكعبة. فدل على مشروعية الطواف مع مسامتة الهواء دون مسامتة الجذر، لكن بالنسبة للسعي فلا يشرع بمسامتة الهواء عند من يرى أن الأرض مستحقة للسعي بدليل الهرولة في هذا الموضع المخصوص -وإن كان يعترض عليه بالهرولة في الرمل- هذا القول مردود؛ لأن الهرولة ليست للموضع وإنما هي للسنة المتبعة بالرؤية. فالشاهد أن المسألة عند من يقول: بأنه يجوز السعي -هو قول له وجهه ودليله- لأنه ينظر إلى أن الأسفل كالأعلى وأن الأعلى كالأسفل، فمن ملك أرضاً ملك هواها، وملك علوها وسفلها، ويتفرع عليها بطلان بيع الشقق؛ لأن الشقة إذا كانت في الأرض وبيعت فسطحها ملك لمن ملك الشقة، وإن استحدث شقة ثانية فقد استحدثها على ملك الغير، وصار على هذا من ملك الأسفل من الشقة ملك أعلاها وإن علا، فلو أنه قيل له إنما يملك الشقة السفلى ولا يملك العليا ناقض الأصل. ولذلك ما يعمل به اليوم من قيام البعض بشراء أرض ثم يبني عليها عمارة، ويقسم العمارة على أربعة، وكل يأخذ دوراً، فأصبحت العمارة منقسمة على أربعة ويصبح السطح للمالك الحقيقي، ثم يبني المالك الحقيقي شقة أخرى ويبيعها ويقول: أنا ما بعت له إلا الشقة، فأصبح الملك في هذه الحالة متردداً، ويصبح الملك قابلاً للزيادة، وقابلاً للغرر، وهذا يخالف مسألة أن من ملك أرضاً ملك سماءها. فلو نازع وقال: الشقة العليا لا تملك بالسفلى نوزع بالأصول التي ذكرناها، وقلنا: كيف تصحح الاعتكاف لمن يعتكف بسطح المسجد مع أنه ليس في قراره؟ ومعنى ذلك أنك أعطيت الأعلى حكم الأسفل، وتقول له أيضاً: كيف تصحح الطواف بالدور الثاني، فمعناه أنك تقول: إن من ملك الأرض ملك سماها، وأن علوي الأرض كأسفلها وإلا انتقض قولك في البيع، إذا قلت: بجواز بيع الشقة. فالشاهد في مسألة سقوط الغصن في ملك الغير، أن الغصن يكون قد جاء على ملك الغير فالهواء ملك لصاحب الأرض، فإن قال صاحب الأرض: الهواء ملك لي، فارفع هذا الغصن عني، فقال: لن أزيله. حينئذٍ من حقه أن يلوي هذا الغصن، سواء لحقه منه ضرر أو لم يلحقه، فمن حقه أن يقول: لا أريد هذا الغصن أن يطل على أرضي، فهذه أرضه، ومن حقه أن يأذن لمن يشاء ويمنع من يشاء، فإن أصر حل له أن يقطع هذا الزائد من الغصن؛ لأنه اعتداء عليه واعتداء على ملكه، لكن بعد أن يستوفي ما ذكرناه. قال رحمه الله: [فإن أبى لواه إن أمكن] أي: يحرفه ويصرفه عن أرضه. [وإلا فله قطعه]: أي: من حقه أن يقطعه ولا يطالبه صاحبه بالضمان.

حكم الاستطراق في الدرب النافذ

حكم الاستطراق في الدرب النافذ قال رحمه الله تعالى: [ويجوز في الدرب النافذ فتح الأبواب للاستطراق]: الحقيقة أن من يقرأ كتب العلماء والأئمة خاصة في الفقه يحس أنهم تركوا ثروة عظيمة لنا فرحمة الله عليهم، وفي بعض الأحيان تنظر إلى الفقهاء فإذا بهم أئمة في كل شيء. إذا جئت إلى باب الطيب مثلاً في محذورات الإحرام تقرأ فروع الطيب، وما هو الطيب المؤثر في الإحرام؟ ما كان أصله طيباً، وما كان الطيب فيه تبع، وما يؤثر في الطعام، وما يؤثر في البدن، وغير ذلك من الفروع حتى تكاد تقول: إن الفقهاء عطارون. وإذا أخذت مسائل النفاس وأحكام النفاس والولادة، فإذا أسقط المولود قبل تمام خلقته أو بعد تمام خلقته، تكاد تقول إنهم أطباء، ثم تأتي وتدخل في مسائل ازدحام الحقوق فتظنهم مهندسين، وهذا من التقعيد والتأصيل وضبط المسائل، فرحمة الله عليهم، ولكن هذه الثروة تحتاج من يعتني بها ويتأملها، ويتمعن فيها ويقررها على أصول الشريعة؛ لأنهم أئمة ما كانوا يأتون بشيء من عندهم، وإنما كانوا يستنيرون بنور الشرع، وهدي الكتاب والسنة في إعطاء الأحكام، فجزاهم الله عنا وعن الإسلام خير الجزاء. ومسألة الغصن ليست منحصرة في الغصن بل هي أصل لغيره، فكل جار أطل على جاره بشيء فيه ضرر وأذية فمن حقه أن يمنعه، وحتى لو لم يكن فيه ضرر عليه، فمن حقه أن يقول: ارفع هذا عني. وتقول: هو كغصن الشجرة، وهذا ما يسمونه بالتخريج، والتخريج أن تقرر المسألة القديمة بكلام العلماء بدليلها ثم تأتي للمسألة المعاصرة وتقول: هذه المسألة كمسألة الغصن، فتعطي المسألة المعاصرة حكم المسألة القديمة، وهذا من تخريج النازلة على المسألة القديمة. مثلاً: الطريق النافذ: كان في القديم نظام البيوت أن يكون الحي والمجموعة من البيوت -عشرة بيوت مثلاً- تطل على حوش واحد -مثلاً- والأبواب كلها تطل على هذا الحوش، ويوجد طريق ينفذ من هذا الحي الذي فيه الأحواش إلى خارج المنطقة التي فيها البيوت، ويسمونه طريقاً غير نافذ، إذا كان بحي مغلق، وقد يكون الطريق نافذاً لحي غير مغلق، مثل أن يأتي الطريق في وسط الأحياء، مثل الشارع الذي يكون اليوم بين الفلل أو بين العمائر والبيوت، فهذا يسمونه الطريق النافذ، ففي هذه الحالة إذا كان الطريق نافذاً فإنه يشترك فيه عموم المسلمين. إلا أنه في حالة كونه على حي أو على حوش أو حارة يسمى في القديم خاصاً، فحينئذٍ يكون حكمه أضيق مما لو كان طريقاً سابلاً للجميع، فإذا كان على حي وحارة خاصة فإنه يشرع ويجوز أن يستثنى برضا أهل الحي، ولكن إذا كان طريقاً عاماً لم يكن الإذن لأهل الحي؛ لأن الحق فيه ليس لحي مخصوص وإنما هو لعموم الناس، فهذا هو الفرق بين الصورتين. و (الاستطراق): استفعال من الطرق. أي: يجوز أن تفتح باباً من أجل أن يكون مخرجاً لك على هذا الطريق. لو أن عمارة لها منفذ على طريق فيجوز لأي إنسان أن يفتح عليها باب؛ لأن الطريق للجميع، فليس من حق أحد أن يمنعني أن أفتح باباً في عمارتي أو بنايتي أو بيتي على هذا الطريق. هذا من حيث الأصل العام.

حكم إخراج الرواشن والبلكونات

حكم إخراج الرواشن والبلكونات [لا إخراج روشن]: الرواشن موجودة في البيوت القديمة وتكون من الخشب عادة، وإن كان أصلها وقرارها مثبت في نفس الجدار بخشب أو حديد أو نحوه، فملكيتك للبيت هو الأصل المسامت للقرار لا ما خرج عن ذلك، وإنما قال: (لا إخراج روشن)؛ لأن الروشن إذا خرج زحف على الطريق؛ ولأن فضاء الطريق للطريق؛ ولأن الفضاء تابع للأصل، فإذا أبرز الروشن فإنه في هذه الحالة دخل على ملك عموم المسلمين، وليس هناك إذن له بهذا؛ لأنه ينبغي أن يستأذن جميع المسلمين، وهذا يتعذر، فقالوا: لا روشن. إلا أن بعض العلماء أجاز له أن يخرج الروشن إذا أذن له ولي الأمر، مثل ما يسمى بالبلكونات، فنظام البلكونات الآن في بعض الأحيان يكون على نفس الأرض، ويخرج بلكونته على أرضه فليس فيها إشكال، لكن لو أنه أخرجها زائدة عن حد أرضه وملكيته فلا بأس إذا كان بإذن، وإذا كانت بدون إذن فهذه لعموم المسلمين؛ لأنه إذا أبرز الروشن وكان الطريق مثلاً عرضه خمسة أمتار وأجزنا إبراز الروشن؛ امتنع مرور ما كان بهذا العرض؛ لأنه سيبرز الروشن مثلاً بمتر أو بنصف متر، فمعناه أنه في الهواء ضيق الطريق من خمسة أمتار إلى أربعة ونصف، فلو أن أهل الحي في يوم من الأيام احتاجوا أن يدخلوا شيئاً بعرض خمسة أمتار تعذر عليهم الإدخال.

حكم الساباط

حكم الساباط [وساباط]: الساباط يوجد في الأحياء القديمة، وهو أن يخرج من البيت بروز، فقد يكون الرجل مالكاً للبيتين وبينهما طريق، فيصل البيتين بالساباط، كالكبري الذي يكون في الطريق، ولا يستطيع أحد أن يمر إلا إذا كان دون هذا الساباط، فضيق على الناس في مرورهم إلى هذا الحد. والفقهاء لا يقصدون ساباطاً أو روشناً أو غيره، فهذه أمثلة لقواعد كما ذكرنا، أرادوا من ذكر هذه الأمثلة أن تصبح نفسك مطمئنة لشيء واحد، وهو أن ملك الغير لا يحق لك أن تستحدث فيه شيئاً على وجه يضر به، أي: حتى يستبين لك ويتقرر عندك أن لك أن تحدث في حدود ملكك، أما ملك الغير وما كان ملكاً لعامة المسلمين فلا.

حكم بناء الدكة في الدرب العام

حكم بناء الدكة في الدرب العام [ودكة]: الدكة معروفة إلى زماننا هذا، تكون أمام البيت متصلة به من حجارة أو غيرها، يجلس عليها، وتكون بمثابة مكان يستقبل فيه الناس أو يجلس فيه في بعض الأوقات، لكن إذا كان الدكة في نفس الملك فلا إشكال.

حكم إخراج الميزاب إلى الدرب العام

حكم إخراج الميزاب إلى الدرب العام [وميزاب]: الميزاب هو الذي يسمى بـ (المرزاب) وتخرج منه الفضلات من سطوح البيوت والمنازل والغرف على الطرقات، وهذا فيه ضرر على الناس؛ لأنه إذا صب فإنه يصب على الناس، ولو قال قائل: إن صاحبه لا يصب منه إلا بحذر، قلنا له: إذا نزل المطر لا يستطيع أن يتحكم فيه، ففيه ضرر، ومثل هذه الميازيب لا يشرع فتحها على الطرقات العامة. وخاصة بعد أن نظمت الطرق اليوم، وهذا يؤكد مشروعية المنع من إشراع الميازيب على طرق الناس لما فيها من الضرر والأذية، فقد يكون فيها نجاسة، فيخرج الناس إلى الصلاة وتسيل النجاسة في طرقاتهم، وإن كان والحمد لله الآن قد نظمت هذه الأشياء، وإلا فقد كان الناس يعانون من هذا عناءً لا يعلمه إلا الله، خاصة إذا كان صاحب الميزاب لا يتقي الله. ولكن قد لطف الله بعباده وتغيرت الأحوال، فمن عاش القديم وعرف الأحياء القديمة ونظر إلى أحوالها يجد فيها عظيم الأذية والضرر بهذه الميازيب، من جهة صبها على الناس وما فيها من النجاسات، أو ما فيها حتى من الطاهرات المنتنة والمؤذية، فالرجل ليس في همه إلا أن يخرج عنه الضرر بغض النظر عن أن يكون في طريق الناس أو يكون مؤذياً للناس، فهذا لا يهمه فالذي يعنيه أن يدفع الضرر عن نفسه، فكان هذا من أعظم ما يستضر الناس به، ولكن الله عز وجل وسع عن الناس والحمد لله. قال رحمه الله: [ولا يفعل ذلك في ملك جار]: فلو سلط المرزاب على جاره حق له أن يمنعه، ولو سلط الروشن أو الساباط على ملك جاره حق لجاره منعه. قال رحمه الله: [ودرب مشترك بلا إذن مستحق] (ودرب مشترك): لا يجوز في الدرب المشترك أن يشرع عليه المرزاب، ولا يجوز في الدرب المشترك أن يضع الدكة كمداخل الأحياء، إلا بإذن مستحق. قالوا: وإذا أذن أهل الحي أو أهل الحارة أو الذين يستفيدون من هذا الدرب فلا بأس، وإن كان بعض العلماء منع وقال: حتى لو أذنوا؛ لأنهم قد يأتيهم الضيف من خارج. فهم إذا رضوا بالضرر فإن الضيف لا يرضى؛ ولأن الضيف سيطرق الطريق، والطريق حق عام للمسلمين، والعلماء رحمهم الله ما جاءوا بشيء من عند أنفسهم، إنما يبحثون عن صاحب الحق ومن له حق التنازل، حتى إن الإمام الشافعي وطائفة من العلماء لما ذكروا مسألة سد الطريق النافذ إلى الحي، قالوا: لو كان الطريق نافذاً إلى حي وله طريق بديل فاتفق أهل هذا الحي أن يسدوا هذا الطريق ويبقوا هذا الطريق قال: فمن حقهم سدها. فاعترض بعض العلماء وقالوا: لو سد هذا الطريق وهو مشرع إلى طريق عام لاستضر من يحتاج إلى هذا الطريق؛ فإنه قد يحتاجه غير أهل الحي. وقالوا: لو حدثت زحمة وفر الناس إلى هذا الطريق، خفف الزحام عنهم، فإذا سد الطريق استضروا. كل هذا التقعيد المراد به: (من صاحب الحق). ولتدرك أن هذه الأمثلة ما جاءت من فراغ، فهي تبحث عن مسألة: (من صاحب الحق، ومن يملك الإسقاط في هذا الحق)، فإذا عرفت من صاحب الحق عرفت وجه الاستحقاق، فمثلاً: لو اتفق أهل الحي على سد طريق وسدوه، ثم تراجع البعض فقالوا: نريد أن نفتحه، فلا يحق لهم أن يفتحوه إلا إذا اتفقوا كلهم على الفتح؛ لأنهم اتفقوا كلهم على السد، فينبغي أن يتفق جميعهم على فتحة. وكل هذا تأصيل وتقعيد لمسألة الاستحقاق، وهذه المسائل ما جاءت عارضة، وليس المراد منها ذات المثال إنما المراد منها بيان صاحب الحق، ووجه الاستحقاق.

حكم وضع خشبة على جدار الجار

حكم وضع خشبة على جدار الجار قال رحمه الله: [وليس له وضع خشبه على حائط جاره إلا عند الضرورة إذا لم يمكنه التسقيف إلا به]: أي: لأن الأصل أن الجار يملك جداره، وليس من حق أحد أن يضع خشبه على جداره إلا بإذنه، ويجوز إذا احتاج. فالجار له حالتان: الحالة الأولى: أن لا يكون محتاجاً لوضع الخشب على جداره، فليس من حقه أن يحرجه وأن يضع الخشب على جداره، وكانوا في القديم ربما بنى الجار الدور الأول بجدار، وفي الدور الثاني احتاج أن يضع خشبة على جدارك؛ لأن جدارك مهيأ لهذا، فهل من حقه أم لا؟ يجوز له ذلك، ولا يجوز لك منعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمنعن جاراً جاره أن يغرز خشبه في جداره) وفي رواية: (خشبة في جداره) وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: (ما لي أراكم عنها معرضين! والله لأرمين بها بين أكنافكم) يعني: إنني أبِّرئ ذمتي وأبلغكم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم تتحملون المسئولية إن خالفتم السنة: فمنعتم الجار من غرز خشبه في الجدار. وقيل في رواية: (مالي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم) أي: لأجعلن الخشب حتى ولو على أكتافكم. يعني: تحقيقاً لهذه السنة، وكلاهما وجه في الرواية، وهذا يدل على مشروعية غرز الخشب في جدار الجار. قال رحمه الله: [وكذلك المسجد وغيره]: أي: إذا احتاج المسجد أن يوضع سقفه على جدار الجار فيوضع، أو العكس: لو أن الجار احتاج أن يضع خشبه على جدار المسجد فإنه يجوز؛ لأن السنة ماضية، فجار المسجد جار، فيستوي في ذلك الأوقاف وغيرها. قال رحمه الله: [وإذا انهدم جدارهما أو خيف ضرره فطلب أحدهما أن يعمره الآخر معه أجبر عليه] هذه المسألة يقع تطبيقها في الأملاك القديمة، حيث يوجد جدار بين مزرعتي ومزرعتك بناه الأجداد، ولا تدري هل جدك الذي بناه أو جدي، لكن المعروف أن هذا الجدار فاصل بيني وبينك، فانهدم هذا الجدار بالسيل أو الريح فسقط، فجئتك لأجل أن نبنيه فقلت لك: يا فلان! أريد أن أبني الجدار. فقلت لي: ابنه أما أنا فلا أدفع شيئاً، فمن ناحية شرعية تلزم بالدفع؛ لأن الجدار بيني وبينك، والحق مشترك بيننا، ولا تتعطل مصالحي بتقاعسك عنه. أي أنه لابد من وجود الفاصل بين الحدين، فيبنى الجدار وتكون القيمة بين الطرفين، وهكذا في الحقوق المشتركة، إذا امتنع أحدهما واستضر الآخر بامتناعه ألزم وأكره على ذلك. قال رحمه الله: [وكذا النهر]: مثلاً: نهر يسقي المزارع -مثل العيون- لأنها تسقي الجميع، فلو احتاجوا أن ينظفوها ويوسعوها وامتنع البعض من المساهمة فإنهم يلزمون بذلك، وهذا من باب الحقوق المشتركة؛ لأن امتناعه عن المساهمة يضر بالجماعة وفقه المسألة: أنه إذا امتنع تعطل الماء عن المزارع فتضرر الجماعة، فرضنا عليه أن يدفع. فالقاعدة: (أن الضرر الخاص يحتمل للضرر العام) فنقدم ضرر الجماعة على ضرر الفرد، مع أنه إذا دفع حصلت المصلحة، فكأنه بامتناعه عن الدفع يتجاهل مصلحته، فيلزم وكأنه سفيه بما فيه رشده. وكذا في الطرقات فلو أنه احتيج إلى طريق يكون مشتركاً واستهموا كلهم إلا واحداً، أجبر على أن يساهم إلا أن يكون عاجزاً فيكون بمثابة الدين عليه، يجب أن يقضيه متى تيسر له، فيعطي إخوانه حقهم فيما توجب عليه في المشاركة. قال رحمه الله: [والدولاب]: كذلك دواليب السقي في المزارع ومنها: العيون والخيوف. قال رحمه الله: [والقناة]: القناة التي تجري فيها المياه، كأن تبنى وتنظف ويجري فيها الماء، فإذا امتنع البعض اجبروا على المساهمة معهم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تأجير النفس للعمل

حكم تأجير النفس للعمل Q هل من صور المعاوضة بالمنافع: أن يؤجر نفسه للعمل عنده شهراً لاستيفاء حقه؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فعلى القول بمشروعية الصلح بالإجارة يستقيم أن يؤجر نفسه أو يؤجر شيئاً يملكه كسيارته أو داره أو نحو ذلك، ولا فرق بين إجارة الأشخاص والذوات وبين إجارة المنافع، فالحكم فيها سواء، فيصح أن يقول له: على أن أعمل عندك شهراً أو أسبوعاً أو سنةً، وهذا ما يسميه العلماء بإجارة المسانهة والمشاهرة والمياومة، وكل ذلك جائز ومشروع. والله تعالى أعلم.

حكم الصلح على وجه يقع به الضرر

حكم الصلح على وجه يقع به الضرر Q ما حكم الصلح إذا كان فيه تمادٍ واستمرارٌ لصاحب الخطأ؟ A الصلح كما ذكرنا لا يكون على سبيل الظلم، فالظالم لا يصالح على ظلمه، إنما نتكلم على شيء محتمل أن يكون فيه مصيباً ومحتمل أن يكون خاطئاً، فيصالحه عليه، على التفصيل الذي ذكره الفقهاء فيما قد بيناه. أما لو صالحه على وجه يكون فيه ضرر فلا؛ مثلاً: إذا وقعت خصومة بين اثنين وأحدهما معروف بالأذية والإضرار، فقد سبق وأن بينّا أنه ينبغي أن يُنصَف المظلوم من ظالمه وأن يقال للظالم: اتقِ الله، ولا تظلم فلاناً، ويبين الحق، فهذا واجب عليه؛ لأنه من باب النصيحة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: يا رسول الله! أنصره إذا كان مظلوماً فكيف أنصره إذا كان ظالماً؟ قال: تكفه عن ظلمه، فذلك نصر له). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

باب الحجر [1]

شرح زاد المستقنع - باب الحجر [1] من أبواب الفقه المشهورة: باب الحجر، وهذا الباب متضمن لأسرار وحكم عظيمة، وهو من محاسن الشريعة التي تحفظ مصالح الأفراد والجماعات، وتحفظ الحقوق لأهلها، حتى ولو تطلب الأمر منع شخص من التصرف في ماله على تفصيل في أحكام المفلس.

تعريف الحجر ومشروعيته

تعريف الحجر ومشروعيته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الحجر] الحجر في لغة العرب: المنع، يقال: حجره عن الشيء، إذا منعه وحال بينه وبين الوصول إليه، ولذلك سمي الحِجرُ حِجراً؛ لأنه يمنع الطائف بالبيت من الدخول إلى هذا الموضع الذي فيه جزء من البيت لا يصح الطواف إلا باستيعابه، وسمي العقل حجراً؛ لأنه يمنع صاحبه عن تعاطي الأمور التي لا تليق به كما قال تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر:5] أي: لذي عقل يمنعه ويحجره ويحول بينه وبين ما لا يليق به. وأما في الاصطلاح: فهو منع نفوذ التصرف في الأموال؛ فالحجر في الشرع إذا أطلق فالمراد به الحجر في التصرفات المالية، بمعنى: أن من يُحكم عليه بالحجر لا ينفذ تصرفه في أمواله لا ببيع ولا بشراء ولا بهبة ولا بنحو ذلك من التصرفات، بل يكون عليه ولي ينظر الأصلح والأحظ في هذه المعاملات.

الدليل على مشروعية الحجر والحكمة منه

الدليل على مشروعية الحجر والحكمة منه الأصل في مشروعية الحجر أن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5] فحرم الله عز وجل علينا تمكين السفهاء من الأموال؛ لأنهم لا يحسنون التصرف فيها، وإذا تصرف السفهاء في أموالهم بذَّروا وأسرفوا، وعندها تضيع الأموال وتحصل الخصومات والنزاعات بسبب البيوع التي لا تكون على السنن، ومن هنا حكمت الشريعة بالحجر. والناس في التصرف في المال على قسمين: - قسم منهم رزقه الله حسن النظر وحسن التصرف، فإذا أعطاه الله المال اتقى الله في المال، فأحسن التصرف فيه من جانبين: الجانب الأول: من ناحية الدين: فيحفظ المال عن حرمات الله أن ينفقه في معاصي الله، وكذلك ينفق المال في طاعة الله، فهذا رشيد في دينه، فالرشد في المال من ناحية الدين أن يحفظه عن محارم الله عز وجل، وأن ينفقه في وجوه الخير التي ترضي الله عز وجل. وأما رشد الدنيا: فإنه يكون رشيداً في ماله من ناحية دنيوية إذا أحسن النظر، فأحسن الأخذ لنفسه والإعطاء لغيره، فيشتري الأشياء بقيمتها التي تستحقها، ويبيع الأشياء بقيمتها التي تستحقها ولا يغبن. وكذلك أيضاً من الإحسان في التصرف في الدنيا ألا يسرف في المباحات، وإنما يسعى في مصلحة ماله بحفظه وتنميته ورعايته وصيانته، ويكون بذلك على السنن. هذا بالنسبة لرشد الدين والدنيا، فهذا النوع من الناس أموالهم محفوظة ولهم الحق في النظر في أموالهم؛ لأن من ملك مالاً ملكاً شرعياً فهو أحق بالتصرف فيه، ولا يحال بينه وبين التصرف فيه بالأصلح. أما القسم الثاني من الناس: فهم الذين لا يحسنون التصرف في أموالهم، وهؤلاء يكون سبب عجزهم عن حسن التصرف إما الصغر أو ضعف العقل كالمجنون أو السفيه الذي لا يحسن التصرف في ماله، فهؤلاء شرع الله عز وجل أن يحجر عليهم، بمعنى: ألا نمكنهم من التصرف في أموالهم. وإذا حُجر عليهم يقام عليهم شخص ينظر في مصالحهم، فالأيتام إذا توفي والدهم وترك لهم أموالاً؛ فإن هذه الأموال لو مكنا الأيتام منها لأضاعوها، فصغير السن ربما جاءه شخص وبكى عنده واستعطفه فأعطاه جميع ماله، ولربما جاءه شخص وأثنى على سلعة ما ورغبه في شرائها فأعطاه ما لا يعطى في تلك السلعة، فليس عنده من العقل والإدراك وحسن النظر ما يمكنه من وضع المال في موضعه. فشرع الله أن يمنع هؤلاء من التصرف، والتصرف يكون بالقول كقوله: بعت واشتريت ووهبت وتصدقت ونحو ذلك، وهذا كله لا ينفذ، من ناحية القول ومن ناحية الفعل، كأن يعطي بيده لأحد، فدلالة الفعل هذه تنزل منزلة دلالة القول كما بينّا في البيوع في بيع المعاطاة. وأياً ما كان فالذي يهمنا أن الناس على قسمين: - قسم منهم يحسن النظر في أمواله. - وقسم منهم لا يحسن النظر في أمواله. والشريعة الإسلامية أعطت كل ذي حق حقه، فمن رزقه الله حسن النظر في ماله يقوم على ماله، وهو أحق به كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) فجعل حرمة مال الإنسان كحرمة دمه. وأما القسم الذي لا يحسن النظر فيه فالمصلحة تقتضي الحجر عليه. وقد يسأل سائل أو ترد شبهة عليك ويقول: إن الشريعة شريعة يسر ورحمة، وفي الحجر على الناس تضييق وحرج، فإما أن تكون شريعتكم شريعة عسر وليست بشريعة رحمة -حاشاها- وإما أن يكون الحجر غير مشروع، فهو يلزمك بهذه الشبهة، ويقول: أنتم تقولون: إن شريعتكم شريعة يسر ورحمة -وهذا صحيح- {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] لكن الحجر فيه تضييق وعسر، ومنع لليد أن تطلق وأن تتصرف في مالها. والجواب أن يقال: إن الشريعة كما ذكرتم شريعة يسر ورحمة، ومن اليسر والرحمة الحجر على الناس؛ لأن الصغير إذا مكن من ماله وهو صغير؛ أتلف المال وندم عند كبره، فيتعذب بفوات ماله وضياع إرث أبيه عليه، فرحمةً به يحفظ ماله. والمجنون لو مكن من البيع والشراء والأخذ والعطاء في ماله لأتلف المال وأفسده، فمن الرحمة أن يحجر عليه. إذاً أولاً نقول: لا نسلم أن الحجر تضييق بل إنه رحمة؛ لأنه يحفظ الأموال، فهو رحمة من جهة حفظ المال. الوجه الثاني: لو سلمنا -فرضاً- أن الحجر فيه تضييق وحرج، فإن الحرج بإطلاق أيدي السفهاء ومن لا يحسن النظر في ماله أعظم من الحجر عليه، والشريعة ترتكب أخف الضررين. فنسلم لهم ونقول: نعم، إن الحجر فيه تضييق وفيه مشقة على الناس، وأشق من ذلك أن يمكن من لا يحسن النظر في ماله أن يتصرف في المال فمفسدة ذلك أكثر. وتوضيح ذلك: أنه لو أطلقت يد من لا يحسن التصرف في ماله لحدثت النزاعات بين الناس؛ فالصبي يذهب ويشتري ويبيع، فيأتي وليه وينازع من اشترى أو ابتاع منه، وعندها تحدث بين الناس الخصومات والنزاعات، فالحرج بإطلاق أيدي هؤلاء أعظم من الحرج بالحجر عليهم، والشريعة ترتكب أخف الضررين، هذا بالنسبة لمشروعية الحجر.

أسباب ودواعي الحجر

أسباب ودواعي الحجر الحجر له سببان: السبب الأول: أن تحجر على الإنسان لمصلحة نفسه. والسبب الثاني: أن تحجر عليه لمصلحة غيره. فالحجر على الإنسان لمصلحة نفسه: يشمل اليتيم والمجنون والسفيه، فإن كلاً من اليتيم والمجنون والسفيه إذا منعته من التصرف في ماله فصار لا يبيع ولا يشتري إلا عن طريق وليه الذي ينظر فيه، فإنما قصدت حفظ ماله عليه، فالمصلحة عائدة إليه. وهناك نوع ثانٍ من المحجور عليهم: وهم الذين يحجر عليهم لمصلحة غيرهم، وهذا يشمل أنواعاً منهم: المفلس: وهو الشخص الذي تكون ديونه أكثر من رأس ماله، كرجل عليه دين مليونان، ورأس ماله في تجارته نصف مليون أو مليون أو مليون ونصف، فمثل هذا إذا طلب غرماؤه أن يحُجر عليه -وكان الدين حالاً- حجر عليه، فيحجر عليه في التصرف في ماله، ويبيعه الحاكم في دينه، فمثل هذا المفلس حجرنا عليه ومنعناه من التصرف في ماله لمصلحة الغرماء أصحاب الديون وهم أصحاب الحقوق. النوع الثاني ممن يحجر عليه لمصلحة غيره: مثل المريض مرض الموت، فإن الإنسان إذا مرض مرض الموت أحل الله له أن يتبرع في حدود الثلث من ماله، والزائد عن الثلث يستأذن فيه الورثة، فلا يحق له أن يتصرف في الثلثين الباقيين بالصدقة والهبة والعطية إلا بإذن ورثته؛ لأن سعداً -رضي الله عنه وأرضاه- قال: (يا رسول الله! إني كما ترى -يعني: أرى أن المرض قد اشتد بي- وليس لي وارث إلا ابنة -يعني: بنتاً- أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا. قال: أفأوصي بنصفه؟ قال: لا. قال: أفبثلثه؟ قال: الثلث والثلث كثير)، فأحل له أن يتصدق ويوصي بثلث المال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم) أي: إن المسلم عند حضور الأجل وفي مرض الموت يتصرف في ماله في حدوث الثلث. والسبب في هذا: أن الرجل لو حضرته المنية وأطلق له التصرف في المال لربما انتقم من ورثته، وربما تصدق بجميع ماله؛ فترك الورثة فقراء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس). لأنك إذا تركت المال لهم وقصدت بذلك حفظهم عن الحرام، وقصدت بذلك القيام بحقوقهم عليك؛ فإن الله يأجرك على ذلك، وتكون صدقة منك على ولدك، وإعطاء الصدقة للقريب أفضل من إعطائها للغريب. وعلى هذا: يحجر على المريض مرض الموت أن يتصرف في ماله، وإنما يسمح له في حدود الثلث، والحجر يكون في الثلثين الزائدين، قال الناظم: وزوجة في غير ثلث تعترض كذا مريض مات في ذاك المرض وهذا على مذهب المالكية من أن الزوجة تعترض في الزائد من تصرفه عن الثلث. وأما بالنسبة للنوع الثالث ممن يحجر عليه لمصلحة الغير: العبد المملوك، فإنه بحكم الرق المضروب عليه بناءً على الكفر حُجر عليه التصرف في ماله وأصبح المال ملكاً لسيده؛ لأن حديث ابن عمر الذي تقدمت الإشارة إليه غير مرة أخلى يده عن الملكية. فهذا يُحجر عليه لمصلحة سيده، والخلاصة: أنه إما أن يحجر على الشخص لمصلحة نفسه أو يحجر عليه لمصلحة غيره. ولا شك أن منع السفهاء من التصرف في مالهم له عواقب حميدة على المجتمع، فإن الأموال إذا حفظت عن الإهدار والإسراف؛ فإن ذلك يعود بالخير على الناس أفراداً وجماعات.

أحكام المفلس

أحكام المفلس

حكم الرجل المعسر إذا لم يقدر على وفاء دينه

حكم الرجل المعسر إذا لم يقدر على وفاء دينه قال رحمه الله تعالى: [ومن لم يقدر على وفاء شيء من دينه لم يطالب به]. الرجل المعسر الذي ليس عنده مال يسدد به ديونه لا نطالبه أن يسدد؛ لأننا لو حكمنا بمطالبته وبوجوب أن يسدد كلفناه ما لا يطيق وليس عنده مال، كرجل صاحب عائلة أخذ مالاً من صاحب بقالة في إطعام أولاده، وافتقر وأصبح مديوناً لصاحب البقالة بألفٍ -مثلاً- فجاء صاحب البقالة وقال: أعطني مالي. فقال: ما عندي. فرفعه إلى القاضي، فنظر القاضي، فإذا به معسر وليس عنده ما يسدد به صاحب الدين، إذا ثبت هذا؛ فإن القاضي يقول لصاحب الدين: أنظر أخاك إلى يسر {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] فأمرنا الله عز وجل أن ننظر المعسر. ومن أحب القربات وأعظمها عند الله ثواباً وأحسنها عاقبة ومآلاً، وصاحبه في صلاح حال في دينه ودنياه وآخرته: أن ييسر على المعسر، ويغفر له، فيتجاوز عن دينه أو يخفف عنه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم فضّل هذا العمل وأخبر أن الله عز وجل ييسر على صاحبه فقال: (ومن يسر على معسر؛ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) وقال: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، فمثل هذا لا يضغط عليه ولا يطالب بما ليس في يده. قوله: (وحرم حبسه) لأنه شيء ليس بيده، وهو ليس برجل مماطل عنده قدرة، أما لو كان رجلاً عنده قدرة؛ فإن القاضي يحبسه، ويقول له: سدد الناس، فإن امتنع من السداد باع من ماله ما يسدد به دينه.

حكم المفلس إذا كان ماله قدر دينه أو أكثر

حكم المفلس إذا كان ماله قدر دينه أو أكثر قال رحمه الله: [ومن ماله قدر دينه أو أكثر لم يحجر عليه] هناك صور للمديونين: الصورة الأولى: أن يكون دينه أقل من ماله. الصورة الثانية: أن يكون دينه مساوياً لماله. الصورة الثالثة: أن يكون دينه أكثر من ماله. هذه ثلاث صور. أن يكون دينه أكثر من ماله: كرجل عليه دين مائة ألف، والأموال التي عنده من بيت وسيارة وأمور أخرى زائدة عن حاجته الأصلية تقدر بخمسين ألفاً، فهذا دينه أكثر من ماله. وأما من كان عليه دين مائة ألف، وعنده مال بمائتين أو ثلاثمائة ألف، فماله أكثر من دينه. ومن ساوى دينه ماله، كرجل عليه دين مائة ألف، وماله الذي عنده يساوي مائة ألف، هذه ثلاث صور. فأما الذي دينه أقل من ماله؛ فهذا لا يحجر عليه، بل يطالبه القاضي بالسداد بشرطين: الشرط الأول: مماطلته وامتناعه. والشرط الثاني: شكوى الغرماء. فالشخص الذي عليه دين أقل من ماله، بمعنى: أنه قادر على السداد، وامتنع عن السداد، واشتكي إلى القاضي، فإن القاضي يطالبه بالسداد ويفرضه عليه إذا كان الدين حالاً وطالب الغرماء. كرجل أمهل رجلاً إلى نهاية شهر صفر وكان له عليه عشرة آلاف، فلما انتهى شهر صفر كان عنده عشرون ألفاً، فقال: يا فلان! سددني، قال: ما أسددك، انتظر ليس عندي شيء، فهو إما أن يكذب -والعياذ بالله- فيقول: ليس عندي شيء وهو عنده، أو يقول: انتظر وهو قادر على السداد، فلما ماطل رفعه إلى القاضي، فلما اشتكاه إلى القاضي استدعاه القاضي، وتبين أن أجل الدين قد حل -لأنه لو لم يحل أجل الدين كأن يكون إلى نهاية السنة فليس من حقه أن يطالبه، وليس من حق القاضي أن يلزمه بالسداد قبل الأجل- فإذا حل الأجل واشتكى صاحب الدين؛ خيره القاضي بين أمرين: إما أن يسدد، وإما أن يبيع من ماله ما يسدد به أصحاب الدين. وبعض العلماء يقول: يحبسه ويسجنه حتى يسدد للناس حقوقهم. قوله: (لم يحجر عليه وأمر بوفائه) هذا إذا كان دينه أقل من ماله (لم يحجر عليه)، يعني: لم يمنع من التصرف في أمواله، ويترك في تجارته وبيعه وشرائه كما هو، ولكن يأمره القاضي بالسداد بالتي هي أحسن، فإن سدد فالحمد لله، وإذا لم يسدد؛ وعظه وزجره وذكره بالله، فإذا طالب الغرماء حبسه حتى يسدد للناس حقوقهم، والدليل على ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: (مطل الغني ظلم يبيح لومه) فدل على أن من منع الناس حقوقهم وهو قادر على السداد، وسأله الناس حقوقهم ولم يعطهم إياها؛ فإنه يعتبر ظالماً، والمظلوم ينصر من ظالمه، والقضاء جعل لنصرة المظلوم من ظالمه. قال رحمه الله: [فإن أبى حبس بطلب ربه]. إذاً الشرط الأول: أن يكون الدين قد حل. والشرط الثاني: أن يكون عنده السداد. والشرط الثالث: أن يطلب أو يشتكي أصحاب الدين. قال رحمه الله: [فإن أصر ولم يبع ماله؛ باعه الحاكم وقضاه] قلنا: إن سدد فلا إشكال، وإن امتنع من السداد دعاه القاضي وسأله أن يسدد، وذكره بالله، فإن امتنع سجنه، فإن سجنه يوماً ويومين وثلاثة فتضرر أصحاب الحقوق، فإنه يقول له: إذا لم تبادر بسدادهم، سأبيع من مالك ما أسدد به دينك، فلم يبق إلا هذا يلزم به ويكره عليه، ويؤخذ من ماله قهراً، وهذا بيع بالإكراه، لكنه بيع بإكراه بحق، وقد بينّا أن الإكراه إذا كان بحق سرت عليه الأحكام الشرعية ولا يعتبر إكراهاً موجباً لرفع الحكم. وعلى هذا: فإنه إذا امتنع وأصر بعد سجنه ومنعه، فما على الحاكم إلا أن يقوم ببيع ماله على قدر السداد، فمثلاً: لو كان عنده سيارة قيمتها عشرة آلاف ريال، وعنده عمارة قيمتها -مثلاً- مليون، ودينه عشرة آلاف ريال، فلا ينصرف إلى العمارة ويبيعها عليه، وإنما يبيع سيارته التي تفي بسداد دينه. وينبغي للقاضي عند حكمه بالبيع ألا يضر بالمدين، بل يؤدي لصاحب الدين دينه، ولا يضر بالمدين كما قال تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] وما شرع لحاجة فإنه يقدر بقدرها، فإذا كان الدين بعشرة آلاف ريال فإننا لا نبيع من ماله إلا بحدود عشرة آلاف ريال، والقاعدة الشرعية تقول: (ما جاز لضرورة وحاجة يقدر بقدرها) فلا يباع إلا بقدر الدين. قال رحمه الله: [ولا يطالب بمؤجل] هذا من الشروط التي ذكرناها، بمعنى: أنه لو رفعه إلى القاضي واشتكاه، فأول ما ينظر إليه القاضي هل له عليه ديناً فعلاً، فإذا ثبت وأقر أن له عليه ديناً؛ يسأله: هل حل أجل الدين أو لا؟ فإن قال: حل أجل الدين، جرت الأحكام التي ذكرناها، وإن قال: الدين إلى نهاية السنة؛ فإنه يقول لصاحب الدين: اذهب ولا تطالبه إلا في نهاية السنة؛ لأن الذي بينك وبينه من العقد والشرط أن تؤجله، ولا يجوز لك أن تعاجله وتأمره بالتعجيل وقد رضيت بالتأجيل. فلا يطالب المدين بتعجيل الدين ما دام أن الدين مؤجل إلا إذا رضي بطيبة نفس منه.

حكم المفلس الذي لا يفي ماله بما عليه حالا

حكم المفلس الذي لا يفي ماله بما عليه حالاً قال رحمه الله: [ومن ماله لا يفي بما عليه حالاً؛ وجب الحجر عليه بسؤال غرمائه أو بعضهم]. قوله: (ومن ماله لا يفي بما عليه حالاً) هذا النوع من الناس -كما ذكرنا- يدخل في الصورة الثالثة، حيث يكون ماله أقل من دينه، وقوله: (لا يفي بما عليه حالاً) أخرج ما لو إذا كان مآلاً. وإذا كان الدين أكثر من المال ففيه تفصيل: - إما أن يكون الدين حالاً. - وإما أن يكون مؤجلاً. إن كان حالاً فهذا الذي نبحثه، وإن كان مؤجلاً فلا نحجر عليه، ونتركه حتى يأتي الأجل. إذاً الصورة الثالثة: أن يكون الدين أكثر من المال، ومثاله: رجل عليه دين مليونان، وماله الذي عنده يساوي مليوناً؛ فحينئذٍ نقول: هل الدين الذي عليه حال أو مؤجل؟ إن قالوا: كله مؤجل، نقول: انتظروا إلى الأجل، وإن قالوا: بعضه معجل وبعضه مؤجل؛ نظرنا في المعجل، فإن كان أقل -مثلاً- لو قلنا: عليه مليونان والذي عنده مليون؛ فقالوا: بعض المليونين معجل وبعضها مؤجل، فما الحكم؟ ننظر في المعجل، إن كان المعجل أكثر من المليون حينئذٍ يأتي الحكم بالحجر، وإن كان المعجل أقل من المليون لم يحجر عليه وإنما يطالب بالسداد في حدود المعجل، ويكون حكمه حكم الأول؛ لأن المعجل دخل تحت القسم الأول. وتوضيح ذلك أكثر: أن في الصورة الثالثة يكون الدين أكثر من المال، ومثاله: شخص عليه ألفان وعنده مائة، أو عليه عشرة آلاف وعنده خمسة آلاف ونحو ذلك، فنقول: إذا كان الدين أكثر من رأس ماله، نظرنا: إما أن يكون الدين معجلاً، فقد حل الدين وطولب به، وإما أن يكون مؤجلاً لم يحل، فإن كان الدين كله لم يحل فلا إشكال، وإن كان الدين كله قد حل حُجر عليه، وإن كان بعضه قد حل وبعضه لم يحل؛ فحينئذٍ ننظر في الذي حل، فإن كان أقل من المال؛ اندرج تحت الصورة الأولى، ونقول له: سدد هؤلاء الذين وجب عليك وفاؤهم الآن. ملاحظة: بعض الإخوان يقول: لا تمثل بمئات الألف والمليون، وإنما مثل بالقليل حتى نفهم، لكن الواقع أن المليون والكثير يجذب الانتباه أكثر، ويكون الضبط به أكثر، حتى كان بعض مشايخنا يمثل به ويقول: لو أن سارقاً سمعنا؛ لهجم علينا ولم يجد إلا أوراقاً وكتباً. فالمقصود أننا لو قلنا: إن عليه ديناً مقداره مائتان وعنده مائة ريال، أي: أن الدين أكثر من رأس المال، فنقول: هذه المائتان إذا كانت مؤجلة إلى نهاية السنة فليس من حقهم أن يطالبوه؛ لأن القاعدة أنه ليس من حق صاحب الدين أن يطالب المديون قبل الأجل؛ لأنهما اتفقا، والمسلمون على شروطهم. وإن كان الدين كله قد حل، مثلاً: رجل جاء يشتكي في القضاء ويقول: فلان لي عليه مائتان، وقد اتفقنا على أن يعطيني إياها في نهاية صفر، وإلى الآن لم يعطني، فهنا قد حل الدين وهو أكثر من المال وقد طالب الغريم به، فإن هذا يحجر عليه؛ لأنه استوفى الشروط، لكن إن كان البعض قد حل والبعض لم يحل، كرجل عليه مائتان، مائة منها قد حلت في صفر، ومائة منها تحل في نهاية العام، فتصبح المائة الحالة هي الدين في المال. فإن كان الدين قابل المال أو كان أقل من المال طولب بالسداد، فيسري عليه حكم الحالة الأولى ونقول له: سدد، فإذا قال: ما أسدد. صار مطل غني، فيحبسه القاضي، فإن أصر يبيع عليه. وهذا نفس الترتيب الأول في المائة المعجلة والتي قد حلت. أما المائة التي لم تحل بعد فإنه يمكن في نهاية السنة أن يصيبه غنى، ونحن لا نبحث إلا في الحاضر الذي فيه حق المطالبة، فإذا حل الأجل وكان الدين أكثر من المال، وطالب أولياؤه الحجر عليه حُجر عليه، وهذا هو النوع الأول ممن يحجر عليه وهم المفلسون، والمصنف -رحمه الله- لما جاء في باب الحجر قدم الذين يحجر عليهم لحق غيرهم على الذين يحجر عليهم لحق أنفسهم، وحينئذٍ يرد Q المعروف أن الكلام عن الحجر على السفيه واليتيم ألصق بباب الحجر، وبعض الفقهاء يقدم الكلام في الحجر على الأيتام والصغار على الحجر على المفلسين، ولكن لماذا قدم الحجر على المفلس على الحجر على الأيتام والسفهاء والصبيان ونحوهم؟ و A أن الباب الذي تقدم هو باب الصلح، وهو يقع في المنازعات، والحجر في المنازعات، وإذا وقع فإنه يقع بين الغرماء وأصحاب الدين، ولذلك ناسب بعد نهاية باب الصلح أن يذكر مسائل اختلاف الغرماء مع أصحاب الديون، وعلى هذا يقدم الكلام عن المفلس من هذا الوجه. وقوله رحمه الله: (ومن ماله لا يفي بما عليه حالاً) هذا واضح بسؤال الغرماء، وقد ذكرنا التفصيل فيما إذا كان الدين أكثر من المال، وإذا كان المال أكثر من الدين، والسؤال: إذا كان المال مثل الدين، فهل نعطيه حكم الحالة الأولى أو الحالة الثانية؟ الخلاف بين العلماء -رحمهم الله- حاصل هنا، فبعض العلماء يقول: من كانت ديونه تساوي رأس ماله؛ فإنه يطالب بالسداد ويأمره القاضي بالسداد وتسري عليه أحكام الحالة الأولى ولا يحجر عليه، وبعض العلماء يقول: إذا ساوى الدين رأس المال فإنه يحجر عليه، وهذا ما درج عليه المصنف. لكن ما فائدة الخلاف؟ فائدة الخلاف: لو أن صاحب شركة -مثلاً- رأس ماله فيها مليون ريال، وعليه ديون تساوي مليون ريال، فإذا قلنا: نحجر عليه، فحينئذٍ في هذه الحالة تجمد الشركة وتعطل مصالحه من أجل سداد الدين، وتباع الشركة سداداً لدينه، وإن قلنا: لا يحجر عليه، فإن بإمكانه أن يتسلف المليون ويسدده، وتبقى الشركة كما هي. فالحجر فيه ضرر، وليس بهذه السهولة، فإن التصرف حتى في الصدقات والهبات والبيع والشراء -كما سيأتي- كل تصرفاته المالية تجمد، وهذا يدل على قوة الشريعة الإسلامية وأنها لا تتساهل في الحقوق، ويدل على أهمية رد الحقوق لأهلها، وأنه لا يمكن أن يترك الحبل على الغارب للمتلاعبين بحقوق الناس، فهو مهما كان في شركته وماله متى ما خاطر بأموال وحقوقهم فلا بد أن يوقف عند حده. فإذاً: إذا كان دينه يساوي ماله، فالأوجه والأقوى من حيث الأصل ألا يحجر عليه، فإذا كان بإمكان القاضي أن يبيع ماله ويسدد غرماءه، فهذا هو الأشبه، ولذلك قال بعض العلماء: لا يحجر عليه، وإنما يعامل معاملة الصورة الأولى من أنه يطالبه بالسداد، فإن أصر حبسه، وإن أصر باع ماله سداداً لدينه.

حكم الحجر مع اتفاق الغرماء على المطالبة به أو اختلافهم

حكم الحجر مع اتفاق الغرماء على المطالبة به أو اختلافهم وقوله: (وجب الحجر عليه بسؤال غرمائه أو بعضهم). هنا مسألة: عندنا شخص عليه مائتي ريال، وقد حلت واستوفت الشروط، والغرماء هم: شخص له مائة وشخص له مائة ثانية، أو كان الغرماء أربعة أشخاص، كل واحد له الربع من المائتين، فإذا أثبتنا أن من كان دينه أكثر من ماله يحجر عليه واشترطنا سؤال الغرماء، ففي سؤال الغرماء لا يخلو الأمر من صور: الصورة الأولى: أن يتفقوا كلهم على سؤال الحجر عليه، فكلهم يأتي ويشتكي عند القاضي ويقول: نريد أن تحجر على فلان في ماله حتى يسدد حقوقنا، فإن اتفقوا فلا إشكال أننا نحجر عليه. الصورة الثانية: أن يطالب البعض، ويسكت البعض فلا يطالبون ولا يمتنعون. فهذه صورتان: الصورة الأولى: أن يتفقوا على المطالبة. والصورة الثانية: أن يختلفوا، فبعضهم يطالب وبعضهم لا يطالب، وقد يكون الذي سكت ولم يطالب لا يريد الحجر؛ لأنه في بعض الأحيان لا تطالب بالحجر؛ لأنك تعلم أن هذا الرجل حكيم في بيعه وشرائه، وأنت تنتظره إلى الموسم حتى يبيع ويشتري وينمي ماله ويسدد، فترى أن من المصلحة ألا يحجر عليه، فلا توافق على الحجر؛ لأنك تعلم أنه سيأتي بضرر أكثر؛ لأنه إذا جمدت أمواله، فسيباع الحاضر الموجود، وقد يكون ربع الدين أو نصفه، بيد أنه لو نمى ماله واستثمره ربما يصل به إلى سداد دينه وربما زاد، فيكون من المصلحة السكوت، وقد يسكت؛ لأن ما عنده لا يضره حجر عليه أم لا. فأياً ما كان سكوت البعض سواءً كان معارضة أو كان لعدم مطالبة، ففي كلتا الحالتين: يسكت البعض عن السؤال، فهل يحجر عليه أو لا يحجر؟ القول الأول: قال بعض العلماء: إذا طالب بعض الغرماء فإنا نعتبره بالغرماء كلهم، فنحجر عليه بمطالبة البعض دون الكل كما درج عليه المصنف. فلو أن غريماً له خمسون ريالاً من بين دين قدره ثلاثمائة أو أربعمائة أو ألف ريال، وطلب الحجر، وثبت عند القاضي أن هذا الذي أمامه دينه أكثر من ماله؛ حجر عليه. وفقه المسألة عند هؤلاء: أن الشخص إذا أصبح دينه أكثر من ماله دل على أنه لا يحسن التجارة، بغض النظر عن كون الكل يشتكي أو البعض، ففقه المسألة راجع إلى أنه حينما أصبح دينه أكثر من ماله دل على فساد تصرفه، ودل على أنه لا يحسن التجارة، فيقولون: يحجر عليه بمطالبة البعض، ولا يشترط الكل. القول الثاني قال: لا نحجر عليه بقول البعض، حتى يكون دينهم مقابلاً لأكثر من المال أو مساوياً لماله، قالوا: وإذا طالب حينئذٍ نقبل منه، وإما إذا لم يتحقق الشرط فلا نحجر عليه. مثال: لو كان صاحب الخمسين يطالب، وصاحب أكثر الدين لا يطالب، والمال الذي عنده أكثر من الخمسين فإنه لا يحجر عليه؛ لأن الأصل عدم الحجر، وإذا كان الشخص له خمسون فغاية ما في الأمر أنه إذا طالب بحقه فإنه تصرف له الخمسون وينصرف، كما لو حل بعض الدين دون البعض. فهذا القول من حيث الأصول أشبه، والقول الأول من حيث النظر أقوى، وكلا القولين له وجهه، وإن كان القول الثاني أقرب للأصول كما ذكرنا. لكن لو أن البعض طالب وسكت البعض، فقال بعض العلماء: إذا طالب البعض وسكت البعض؛ فإنه في هذه الحالة يُحْجر عليه في حدود دين البعض كما ذكرنا، وأما على القول الثاني فيحجر عليه بحق الجميع.

حكم الإعلان والإشهار عن حجر المفلس

حكم الإعلان والإشهار عن حجر المفلس قال رحمه الله: [ويستحب إظهاره]: ويستحب إظهار الحجر، فالمفلس الذي ثبت عند القاضي أنه مفلس يطاف به في الأسواق ويعلن ويشهَّر به حتى يحذر الناس التعامل معه، وهذا لمصلحة الجماعة فقال: (يستحب إظهاره). وجرى على ذلك العمل عند أهل العلم رحمهم الله، ومن غرائب ما ذكروا عن القضاة رحمة الله عليهم: أنه حجر على رجل في ماله، وكان تاجراً، فحجر عليه وأمر أن يطاف به في الأسواق، ويقال: إن فلاناً ثبت عند القاضي فلسه، وإن القاضي يعذر إليكم -لأن القاضي إذا أعلن للناس، ثم جاء رجل بعد ذلك يشتكي ويقول: بعت أو اشتريت فإنه لا يتحمل إلا مسئولية نفسه. والسبب في الإظهار والإعلان: أنه إذا جاء بعد الحكم عليه والحجر عليه أحد يطالب بشيء فإنه يتحمل مسئولية نفسه لحصول الإعذار- فطيف به كل اليوم يُعلَن عنه أن هذا سفيه لا تعاملوه، وأن هذا لا يحسن النظر في ماله، وعندما رجع إلى بيته قال له صاحب الدابة: أعطني حقي، قال: وما الذي كنا فيه من صباح اليوم؟! فصاحب الدابة يطالب بقيمة الركوب عليها؛ لأنه طيف به على الدابة -وبعض العلماء يقول: إنه في هذه الحالة يستحق المال من المحجور- فقال له: أعطني مالي. يعني: أنت كنتَ راكباً على دابتي، وهذه إجارة يوم لا بد أن تعطيني إياها، فقال له: ما الذي كنا نقوله من صباح اليوم؟! يعني: طيلة اليوم والقاضي يقول: لا أحد يعامله، وأن من عامله يتحمل مسئولية المعاملة، فأغفله وأعرض عنه. فالشاهد: أنهم كانوا يطوفون به، وهذا فيه مصلحة للناس، وفي القديم كان يطاف به في الأسواق؛ لأن السوق هو الذي فيه التجار، فينتشر بين التجار أن فلاناً محجور عليه، فيتقي الناس التعامل معه، لكن الآن يمكن أن يعلن عنه ويمكن أن يشهر به عن طريق وسائل الإعلان حتى يعذر إلى الناس، فإذا تعامل معه أحد؛ فإنه حينئذٍ يتحمل مسئولية المعاملة معه.

باب الحجر [2]

شرح زاد المستقنع - باب الحجر [2] الدين حق للدائن لا يسقط إلا بسداده أو العفو، فإذا عجز المدين عن السداد فإن الشريعة حفظت حتى الدائن بمنع المدين من التصرف في ماله، وأبطلت جميع تصرفاته المالية التي تضر بحق الدائن، حتى يباع ما عنده، ويؤدي لأصحاب الحقوق ما يمكن أداؤه.

الآثار المترتبة على الحجر في المحجور عليه

الآثار المترتبة على الحجر في المحجور عليه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:

حكم تصرف المحجور عليه في ماله بعد الحجر

حكم تصرف المحجور عليه في ماله بعد الحجر فيقول المصنف رحمه الله: [ولا ينفذ تصرفه في ماله بعد الحجر]. بهذه الجملة شرع المصنف في بيان الآثار المترتبة على الحجر، فإذا قلت: إنه يحجر على المفلس، فما هي ثمرة وفائدة وأثر الحجر على المفلس؟ فقال رحمه الله: (ولا ينفذ تصرفه في ماله) فقوله: (لا ينفذ) أي: لا يمضي ولا يُحكم به ولا يعتد. ولذلك هناك شيء يسمونه: شرط نفاذ، فتجدهم في البيوع يقولون: من شرط نفاذ البيع ألا يكون محجوراً عليه، فيكون من شروط النفاذ، بمعنى: لو أن شخصاً حجرنا عليه لفلس، ثم بعد ذلك باع عمارة يملكها، أو اشترى من شخص سيارة، لا ينفذ شيء من ذلك كله، ولو أنه جاء وتصدق بمال أو وهب مالاً أو أعطى ماله؛ فإن هذه الهبة توقف، ويمنع من التصرف بالهبة والعطية والصدقة.

حكم إقرار المحجور عليه بمال لشخص بعد الحجر

حكم إقرار المحجور عليه بمال لشخص بعد الحجر قال رحمه الله: [ولا إقراره عليه] من دقة العلماء أنهم يذكرون الأصل وما يتبع الأصل، فالإقرار بالمال ليس بتصرف مباشر في المال، ولكن يئول إلى التصرف في المال؛ كما إذا حجرنا على شخص عليه دين مائتا ريال، فلما حجرنا عليه وثبت عند القاضي فلسه جاء رجل بعد أسبوع وقال: فلان أقر لي بمائة، فننظر في الإقرار: فإذا كان الإقرار قبل حجره عليه مضى ونفذ، وإن كان بعد الحجر عليه؛ فإنه لا يصح ولا ينفذ لوجود الشبهة والتهمة، ولأن التصرف أصلاً لا ينفذ، فإقراره بالمال يصح من حيث الأصل، ولكن لا يطالب بالسداد ولا يؤخذ من ماله سداد لهذا الحق إلا بعد انتهاء الغرماء الأولين. فالإقرار نؤاخذ به؛ لأن شروط الإقرار متوفرة، لكن أن ينفذ لا، بل نوقفه ويبقى موقوفاً عن النفاذ حتى يسدد الغرماء الذين حجر من أجلهم أولاً ثم بعد ذلك يسدد هذا الدخيل. والسبب في هذا: أنه لو كان ينفذ إقراره وكان عندنا -مثلاً- صاحب شركة عليه مليون ديناً، وشركته -مثلاً- دون المليون وحجرنا عليه، فبإمكانه أن يأتي لشخص ويقول له: أقر لك بمال ودين زوراً وكذباً وتدخل تزاحم الغرماء، وحينئذٍ لا تباع كل الشركة للغريم، وإنما يكون لي حصة بدخولك معهم، وممكن أن يدعي أن فلاناً له عليه مليون بدل ما هي مائة ألف، فيدخل على الغرماء ويضر بهم. ولذلك قطع هذا الباب وأقفل مع أن الأصل أن إقراره نوع تصرف، والتصرف في ماله موقوف حتى انتهاء الحجر عليه إذا أقر به للغير.

حكم رجوع من تعامل مع المحجور عليه ببيع أو قرض في معاملته

حكم رجوع من تعامل مع المحجور عليه ببيع أو قرض في معاملته قال رحمه الله: [ومن باعه أو أقرضه شيئاً بعده، رجع فيه إن جهل حجره وإلا فلا]. قوله: (ومن باعه) أي: من باعه سيارة أو باعه داراً، فإنه في هذه الحالة إذا علم بحجره وتبايع معه؛ يتحمل مسئوليته، وليس من حقه أن يرجع في البيع ويمضى على ظاهره، ويتحمل هو مسئولية هذا البيع، أما لو كان لا يَعلم بالحجر فإنه يفسخ هذا البيع ويرد المال إلى صاحبه. فائدة هذا: أننا لو قلنا: إنه يرجع في هذه الحالة، لا تدخل السيارة ضمن المال ولا تباع، لكن إذا قلنا: لا يرجع، دخل مال جديد على ماله ويباع مع ماله، وحينئذٍ يكون للغرماء، ثم يتحمل بعد انتهاء الحجر سداد هذا الذي عامله بعد الحجر. قوله: [أو أقرضه شيئاً بعده] لو أن شخصاً حجرنا عليه لمائة ألف، وحكم القاضي وشهر به، فلما حكم القاضي بذلك اشترى أرضاً من شخص، فإننا ننظر في هذا الشخص ونقول له: يا فلان هل تعلم أن فلاناً محجور عليه؟ فإن قال: أعلم أنه محجور عليه وقد بعته الأرض. فحينئذٍ تكون الأرض قد دخلت في ملكية المحجور عليه، وهذه الأرض تباع مع المال ويسدد، ثم ينتظر هذا الذي هو صاحب الأرض إلى ما بعد الحجر، وما يعطى حقه؛ لأنه تحمل مسئولية التغرير بنفسه. فما دام أنه راضٍ بالتعامل معه، فيبقى في هذه الحالة المال للغرماء الأولين، ويباع ويقسم بينهم، وبعد فك الحجر عليه يطالبه بحقه. هذا إذا كان عالماً، وأما إذا كان غير عالم؛ فإن البيع ينفسخ ويرد لصاحب الحق عين ماله، وإن قال: لا، اتركوا الأرض عنده، وأنا لا أرجع عن بيعي، وإن شاء الله هو يسددني، ورضيت بذلك، فهذا أمر آخر، وتدخل على ملكه، وتعامل معاملة أملاكه. قوله: (رجع فيه إن جهل حجره) لأنه في هذه الحال يكون خيار عيب، وخيار العيب في الثمن مؤثر؛ لأن هذا يضر بثمن الأرض، ويدخل الضرر على البائع للأرض؛ لأنه سيدخل أسوة للغرماء، وأياً ما كان في هذه الحالة له حق الرجوع. قوله: (وإلا فلا) إن كان عالماً.

حكم تصرف المحجور عليه في ذمته أو إقراره بدين أو جناية

حكم تصرف المحجور عليه في ذمته أو إقراره بدين أو جناية قال رحمه الله: [وإن تصرف في ذمته أو أقر بدين أو جناية توجب قوداً أو مالا ًصح، ويطالب به بعد فك الحجر عنه]. قوله: (وإن تصرف في ذمته) كأن يشتري بالدين وتعامل مع شخص ديناً. قوله: (أو أقر بدين) يعني قال: فلان له عليّ مائة ألف، وانظروا إلى دقة المصنف رحمه الله، فنحن نتكلم عن آثار الحجر، وفيه جانبان: الجانب الأول: ما كان من التصرفات المالية المباشرة كالبيع والشراء، فالحكم فيها بالتفصيل ما بين أن يكون عالماً أو غير عالم، هذا بالنسبة للتصرفات المباشرة. الجانب الثاني: هناك تصرفات غير مباشرة، مثل أن يشتري منه ديناً، أو يشتري على ذمته -بالدين- أو يقر لشخص بماله، فحينئذٍ ليس بالتصرف المباشر وإنما يدخل على الغرماء غريماً جديداً. قوله: (أو جناية توجب قوداً أو مالاً) كأن يقر بجناية توجب قوداً، فهذه كلها خارجة عن الإضرار بالمال، ويلزم في ذمته للشخص، وهذا شيء خارج عن المال وليس له تأثير في ماله الذي حجر؛ لأن الحجر يختص بالتصرفات المالية وما يلتحق بها، فلو أقر أنه كسر سن رجل؛ فإن هذا الإقرار في ظاهره جناية، لكنها تئول إلى المال، فهذا الإقرار فيه شبهة. فأي إقرار فيه مال وتصرف مالي بحيث يدخل على ماله غريماً جديداً، أو يدخل على ماله مستحقاً جديداً، فهذا لا ينقض من التصرف في ماله، فإقراره كبيعه وشرائه إذا تضمن الاعتراف بحقه في المال وإدخال غريم جديد، فإذا تضمن المال أو ما يئول إلى المال كما في مسألة الجنايات المالية؛ فهذا كله لا يؤثر، أي: لا يلتفت إليه حال الحجر، فيصح الإقرار به ثم بعد فك الحجر يطالب بما اعترف وأقر به. وقوله: (أو جناية توجب قوداً أو مالاً صح). إذا كانت الجناية توجب القود، كما إذا أقر أنه قطع يداً أو رجلاً لإنسان؛ فإنه سيقتص منه ويقاد منه، وهذا ليس له علاقة بالأموال، فالإقرار صحيح. وإن أقر بجناية توجب مالاً، فللعلماء فيها وجهان: من العلماء من يقول: إن الإقرار بالمال كالتصرف المالي، فنقبل إقراره، ولكن لا يكون إلا بعد فك الحجر لوجود الشبهة بل الاستحقاق، وهذا ما درج عليه المصنف رحمه الله. قوله: (ويطالب به بعد فك الحجر عنه) لأنه لو فتحنا باب الإقرارات المالية فقد تحدث المغالطات التي تضر بالغرماء، وإقرار المال أصل عام سواء كان إقراراً بالمال مباشرة كأن يقول: فلان له عليّ مائة ألف، أو إقراراً بالمال بالتبع، كأن يقول: أنا قطعت يده، فيستحق نصف ديته، وهي خمسون ألفاً، أو أنا فعلت كذا ويستحق أربعين ألفاً، فهذا وإن كان في ظاهره جناية لكنه يئول إلى المال حقيقة. فكل إقرار يتضمن التزاماً بمال؛ فإنه يؤخر إلى ما بعد فك الحجر، فنصحح الإقرار؛ لأن شروط الإقرار موجودة، فنحكم بصحة الإقرار، ولكن لا يطالب به إلا بعد فك الحجر عنه.

أثر الحجر في مال المحجور

أثر الحجر في مال المحجور قال رحمه الله: [ويبيع الحاكم ماله] شرع المصنف -رحمه الله- في الأثر الثاني، فعندنا أثر يتعلق بالمحجور عليه، وعندنا أثر بالشيء الذي حجر عن التصرف فيه وهو المال، فقال المصنف رحمه الله: (ويبيع الحاكم ماله). من حجر عليه لحقوق أشخاص -وهو حجر الفلس- واستوفى الشروط؛ فإنه يباع ماله بطلب الغرماء، فينظر أولاً في السلع المعروفة بأعيانها، فمن وجد سلعة بعينها فلا تباع، وبالنسبة للغرماء الذين يطالبون بالحجر ولهم على المفلس الدين؛ فلا يخلو مال المفلس من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون المفلس قد تصرف في أموالهم التي أخذها منهم، ولم يبق منها شيء، كأن يكون -مثلاً- استبدل بها ولم تبق أعيانها، بل بقي أشياء مثلها، كرجل استدان مائة سيارة، وباع السيارات واشترى غيرها وباع، فأصبح يتاجر في السيارات، فوجدت عنده سيارات، لكنها ليست عين السيارات التي أخذها، فإذا كان المفلس لم يبق عنده عين المال الذي استدانه فيباع ولا إشكال. وإذا بيع يكون الترتيب كالآتي: أولاً: ينظر القاضي إلى قدر حاجته ونفقته ونفقة عياله ومن تلزمه مئونته كزوجته وأولاده، فالذي يختص بنفقته ونفقة عياله وزوجه وأولاده هذا يخرج من البيع. ثانياً: ينظر إلى المتاع الذي لا بد له ولأولاده ومن يلزمه القيام عليه، ففراش بيته الذي لا بد منه وحوائجه الأصلية هذه لا تباع ولا تعرض للبيع، لكن الكمالات والأمور الزائدة هذه تباع؛ لكن يبقى سؤال يقتضي التفصيل: إذا كان الرجل المديون عنده بيت أو (فلة) ومؤثثة بأثاث غالٍ جداً، لكن وضعه الذي كان فيه كصاحب شركة أو كذا يقتضي هذا الأثاث، ومثله يكون في هذا الأثاث، فهل ينظر لوضعه من حيث هو فلا يمس أثاث بيته الفاره الغالي، أم ينظر إلى حق المديونين، وأنه نزل من رتبة الأغنياء إلى رتبة الفقراء؟ الثاني الأصح، فهو قد نزل إلى رتبة الفقراء ويعامل بحقوق الناس؛ لأنه لا يعقل أن نجعله يعيش عيشة الأغنياء وقد تشبع بما لم يعط؛ لأنه في هذه الحالة ليس بغني. مثلاً: لو كان عنده سيارة قيمتها مائة ألف، ومثله في وضعه وحالته الاجتماعية يستحق هذه السيارة، إن قيل: يعامل معاملة من هو في وضعه لا تباع وتترك له، واختاره بعض أصحاب الشافعي رحمه الله، وإن قيل: يعامل معاملة المديون، ينظر إلى سيارة تكفي للحاجة قيمتها عشرة آلاف ريال -مثلاً- فهذا قدر حاجته، والتسعون ألفاً تدفع لسداد حقوق الناس، وهذا هو الأصح. فإذاً: إذا كان متاعه غالياً صرف من متاعه الغالي، وأبقي على قدر الحاجة والكفاية، كذلك أيضاً يترك على قدر الحاجة في طعامه وقدر الحاجة في فراشه وقدر الحاجة في ركوبه ونحو ذلك. هذا من ناحية ما الذي يباع. إذاً: إذا باع الحاكم أو القاضي وكان ماله لم يوجد فيه عين مال الغرماء؛ فإنه يبيع الزائد عن الحاجة ويترك ما تدعو إليه الحاجة، فلا يبيع ثيابه التي تستره وإنما تترك عليه، لكن لو عنده فضل ثياب بيع، ولا يبيع فراشه الذي ينام عليه، ولكن إذا كان عنده فضل فراش بيع. ومثلاً: هو يسكن في شقة من عشر غرف، ومثله في ضعف الحال من الفقر يكفيه ثلاث غرف، فإنه يرد إلى شقة بثلاث غرف، ويباع أثاث الغرف الزائد، وقس على هذا، فالضابط عندهم: أنه ينظر إلى قدر حاجته، ويباع ما استفضل أو زاد عن هذه الحاجة. الحالة الثانية: إذا كان أصحاب الدين وجدوا عين متاعهم، كأن يكون باعه سيارة؛ فوجد عين السيارة، أو باعه أرضاً وعين الأرض موجودة، فالأراضي والعقارات والمنقولات الموجودة بأعيانها ترد إلى أصحابها، لقوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (من وجد متاعه بعينه عند رجل أفلس؛ فهو أحق به) فدل على أنه يستحق أخذ المتاع بعينه ولا يباع المتاع في سداد الدين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

الحكمة في نسبة المال للأولياء في قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم)

الحكمة في نسبة المال للأولياء في قوله تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) Q كيف يكون الخطاب في الآية للولي على أن المال ماله وهو مال المحجور عليه في قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: أولاً: قضية لماذا تأتي الآية على صورة كذا؟ أو يأتي لفظ القرآن بكذا ولم يأتِ بكذا؟ كان بعض مشايخنا -رحمة الله عليهم- يشددون في هذا، الله تعالى يقول: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ولا يَشك المؤمن ولا يمتري، ولا يمكن أن يخالجه أي شك بأن كتاب الله أحكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم عليم سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]. الله سبحانه وتعالى أحكم الأمور ووضعها في نصابها، فقوله: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5] يقول العلماء وبعض أئمة التفسير: إن إسناد المال إلى المخاطبين وإن كانوا في الحقيقة ليسوا بمالكين له؛ لأن أموال المسلمين إذا تركت بأيدي السفهاء أضرت الجميع. فالمال وإن كان في ظاهره ملكاً لليتيم وللسفيه لكنه بسوء تصرفه وصرفه للمال في المواضع التي لا ينبغي صرفه فيها؛ سيضر بالجماعة، وهذا سيؤثر على المجتمع، فكأن أموال المجتمع تذهب. ولتوضيح المسألة وحتى يتضح مقصود بعض المفسرين يقول بعض العلماء: إذا انتشر في أي مجتمع السفهاء؛ فإنهم يؤثرون على العقلاء، وهذا واضح جلي، فالآن -مثلاً- إذا جئت إلى بيئة يكثر فيها النساء، لو جاءت المرأة وسفهت في تصرفها في المال، فأصبحت تشتري بخمسين ألفاً أو بعشرين ألفاً أو بثلاثين ألفاً، وغارت منها جارتها فاشترت كما تشتري، ثم الجارة الثانية ثم الثالثة حتى يصبح وضعاً في المجتمع سائداً، بحيث إن العاقل لو جاء يمتنع من هذا الذي لا يشك أنه سفه لا يقدر أن يمتنع؛ لأنه يقول: نعم، أنا أعرف أنه خطأ، لكن ما الذي يصبرني على هذا السيل الجارف من الزوجة والأم والبنت والأخت. فمثلاً: لو أنه في كل عيد يشتري فراشاً بعشرين أو ثلاثين ألفاً، لو أنه جاء في عيد من الأعياد ولم يغير فراش بيته، وهو في كل عيد يغير ويجدد بهذا المبلغ الباهظ، ونحن لا نمنع أن يجدد لكن المشكلة في الغلو والإسراف، فإذا جاء يقول: لا أريد التجويد، تأتي الزوجة تلومه، وتأتي الأخت، وتأتي القريبة، وتأتي الجارة ثم تأتي قرابة المرأة، وهذا كذا، وهذا لا يحترمك، وهذا لا يقدرك، وهذا وهذا. فإذا بك تجد أنك ستقع في شيء من الإحراج أعظم مما لو أنفقت هذا المال، فستضطر مجاراة لهم ودفعاً لذلك إلى عمل أنت تراه سفهاً. والذي أحدث هذا كثرة السفه، فالسفه يضيع أموالنا نحن {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5] قالوا: جعل الله المال قياماً؛ لأنه تقوم به مصالح الناس، فكثرة السفه تعني التبذير للمال في غير موضعه. وإذا كان الشخص عاقلاً حكيماً يشتري الأشياء بقيمتها، فإنه لا يضر غيره ولا تذهب أموال الناس، فالمال وإن كان لليتيم لكنه سيئول بتصرفه، وإن كان للناس فسيئول بتصرفهم إلينا ويؤثر فينا. كذلك الابن لو أراد أن يشتري سيارة فقد تكفيه سيارة بعشرة آلاف، لكن لو رأى ابن الجار اشترى سيارة بثمانين ألفاً، فسيطالب بسيارة بثمانين ألفاً، ثم ابن الجار الثاني والثالث والرابع، وإذا بابنك الذي لم يبلغ بعد يقف أمامك ويقول: أريد سيارة. تقول له: تريد تقضي بها مصالحك وتقوم على شأنك؟ يقول: نعم. تقول: إذن هذه سيارة بعشرة آلاف، سيارة مستعملة تقضي بها مصالحك. فيقول: لا ما أريد، ويحس أنه إذا لم تشتر له بثمانين ألفاً أن الأبوة قد زالت وأن معاني الحنان ذهبت وأن وأن. فتأتي تفكر أنك لو جئت تعامله بالعقل وبما ينبغي أن يعامل به فاتك الابن، ولربما انقطعت الأواصر بينك وبينه، وربما حقد وربما وربما، فتضطر وأنت كاره إلى مجاراة الوضع وهكذا. فهذا وجه عند بعض المفسرين في تفسير الآية. وهناك وجه ثانٍ: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5] أسند الأموال إليهم لما أصبح مالكها سفيهاً فأخلى يده منها، والمال مال الله، والله هو الذي يحكم في الأموال {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] فنحن مستخلفون على الأموال، ومأمورون بصرفها في مواضعها. فكل رجل وكل امرأة أنصف في ماله، فصرفه في موضعه، فقد قام بحق الاستخلاف، فإن جاء ينفق المال في غير موضعه فليس هذا الذي استخلف من أجله وليس هذا الذي أُعطي المال من أجله، وحينئذٍ تنتقل ولاية المال إلى الغير، فتصير أموال معاشر الأولياء، كأنها تنتقل بالسفه إلى الأولياء ولم تعد إلى السفهاء. ويتخرج على هذا الوجه الثاني في الآية، أن التعبير بالشيء يكون بما يئول إليه؛ لأن العرب تعبر بالشيء عما كان، وتعبر بالشيء عما سيكون. كما كان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يتيم أبي طالب؛ لأنه نشأ في حجر عمه أبي طالب، وسموه يتيماً وهو بالغ وفي عقله عليه الصلاة والسلام باعتبار ما كان، فكانوا يقولون له: اليتيم، باعتبار ما كان، ولذلك قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء:6] فيُسمى الشيء بما كان ويُسمى ويوصف بما سيكون. فلما كانت الأموال ستئول إلى الأولياء وهم الذين يتصرفون فيها صارت من عداد أموالهم، وكأنه نوع من الاستعطاف والاسترحام والتوجيه للأولياء، أي: أنكم إذا توليتم أموال الضعفاء فعدوها كأموالكم واتقوا الله فيها فأحسنوا فيها ولا تسيئوا، واستثمروها ولا تضيعوها ونحو ذلك مما فيه مصالح الحجر. والله تعالى أعلم.

كيفية الإحرام لمن أراد العمرة بعد المكث في جدة لفترة

كيفية الإحرام لمن أراد العمرة بعد المكث في جدة لفترة Q من سافر من بلده إلى جدة، وكان ناوياً أن يعتمر بعد انتهائه من عمله في جدة، فمن أين يحرم؟ A من سافر من المدينة -مثلاً- وعنده حاجة في جدة سافر من أجلها، وفي نيته أن يعتمر، فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يتأكد أن الوقت سيسعه، بحيث إذا انتهى من حاجته سيذهب إلى العمرة قطعاً، فهو متأكد أنه سيفعل العمرة، فهذا يجب عليه أن يعتمر من المدينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ذي الحليفة والمواقيت الأخر: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة) فألزم كل من مر بالميقات يريد الحج والعمرة أن يحرم منه، فدل على وجوب الإحرام من الميقات. فنقول: يجب عليك أن تحرم من ميقات ذي الحليفة، وأنت بالخيار بين أمرين: - إما أن تحرم وتذهب للعمرة وتأتي بها، ثم ترجع إلى جدة وتقضي حوائجك. - وإما أن تذهب بعمرتك وتلبس إحرامك وتذهب إلى جدة، وتقضي حوائجك، ثم بعد فراغك من حاجتك تمضي إلى العمرة. فإن قال: لا أستطيع أن أذهب بإحرامي، فنقول: يذهب ويقضي حاجته، ثم إذا أراد أن يعتمر يرجع إلى ميقات المدينة ويحرم منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ألزمه بالإحرام منه. الحالة الثانية: أن يذهب إلى جدة متردداً، يقول: لا أدري هل يسعني الوقت أو لا يسعني، فمثل هذا يجوز له ألا يحرم من ميقات الميدنة مثلاً: شخص عنده معاملة في جدة، ولا يدري هل يسعه الوقت فيعتمر أو لا يسعه؟ فمن يشك في الوقت يجوز له أن يذهب إلى جدة وهو غير محرم ويقضي حاجته في جدة، ثم يحرم من جدة إذا أنشأ العمرة منها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن كان دون ذلك؛ فإحرامه من حيث أنشأ). فهذا الذي لم تتمحض نيته بالعمرة من المدينة وأصبح شاكاً متردداً يعطى حكم الأصل من أنه لا يلزمه الإحرام حتى يتحقق من كونه معتمراً. وأحب أن أنبه على مسألة حتى لا يضيق الوقت: بعض الإخوة -جزاهم الله خيراً- من حرصه على الدروس والفائدة العلمية يفرغ الدروس في مذكرات، وهذا لا شك أنه خير كثير، فإن من يسمع ويقرأ ويكتب يضبط العلم، والله عز وجل يأجره على حروفه إذا قصد بها وجه الله عز وجل وابتغى ما عند الله. لكن اطلعت على ما كتبه بعض الإخوان فوجدته يعلق على الأحاديث ويعلق على المسائل، وهذه طريقة عقيمة، ولا أسمح لأحد في أي درس أو محاضرة أن يعلق على دروسي أو محاضراتي إلا بإذني؛ لأنه ربما ذكر دليلاً بإمكاني أن أجيب عنه فيشوش على طالب العلم الذي يقرأ مذكرة بهذا الشكل، فلا يدري هل هو في الحاشية أو في الصلب. وليس من حق أحد أن يأتي على درس أحد من أجل أن يعقب أو يتكلم، إذا كان عنده شيء يذهب ويحدث درساً فيه علم وفيه فائدة ويبينه، خاصة أن مسائلنا خلافية، وفيها أقوال العلماء، والحمد لله ما شذذنا -ولا نزكي أنفسنا على الله- وقد التزمنا ألا نقول بقول شاذ، ولا نعرف على أنفسنا -ولله الحمد- أننا قلنا قولاً إلا ولنا سلف ولنا حجة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وبإجماع العلماء أنه من اعتقد رأياً عليه دليل فليس لأحد أن ينازعه ذلك إلا إذا كان طالب العلم عنده نظر وعنده اجتهاد، بحيث يستطيع أن يميز بين قول فلان وفلان بالحجة والدليل. أما أن يأتي شخص ويأخذ مذكرة الدرس الفلاني ويعلق عليها، فإن كان ضعف حديثاً صححه، أقول: افرض أن هذا التصحيح لا أقتنع به، فما دام الذي شرح الدرس له إلمام بعلم الحديث وعلم الرواية، وله إلمام بالأدلة وله منهج وهو أهل لذلك، وعنده من أهل العلم من رضي له أن يعلِّم، فليس من حق طويلب علم أن يأتي يتعقب؛ لأنه ربما ظن أن هذا الحديث صحيح في اعتقاده وهو ضعيف. ولذلك لا أسمح بهذا ولا أرضى، وهو خصمي بين يدي الله إذا كان يأتي إلى مذكرة ويعلق فيها برأيه وما يراه. وإذا كان يريد التعقب يفتح درساً يقرأ فيها ما أقرأناه، ويذكر الحجة والدليل، يسعه ما وسع السلف، وما وجدنا في كتب السلف أحداً جاء وأخذ كتاب شخص لأجل أن يعقب عليه فيصحح ضعيفه ويضعف صحيحه، ويأتي بأقوال لمشايخ آخرين في الهوامش تخالف قول المصنف. فمثل هذا يحدث البلبلة والتشويش لطلاب العلم، نحن نريد طلب العلم بالطريقة الحكيمة التي سار عليها سلف الأمة، ولا نعتقد أننا معصومون، ونبرأ إلى الله أن نعتقد بأنفسنا عصمة، لكن والله ما نرضى أن أحداً يرد قولنا الذي اعتمدنا عليه بالدليل من الكتاب والسنة بمحض رأيه، أو يأتي يعتقد صواب شيء نعتقد خطأه ويلزمنا خطأه؛ لأنه أجمع العلماء على أنه ليس من حق مجتهد أن يلزم مجتهداً آخر باجتهاده. ولذلك أجمع العلماء: على أن الرجلين إذا كانا في سفر، وقال أحدهما: القبلة هكذا، وقال الآخر: القبلة هكذا، أنه لا يصلي أحدهما وراء الآخر إلا إذا اعتقد صحة قوله. فلا يجوز أن يأتي طالب علم نال شيئاً من العلم وحفظ كلمة أو كلمتين -نسأل الله السلامة والعافية- ويأخذ مذكرات ويعقب فيها من وراء حجاب، دون أن يأتي ويقارع بالحجة، ويسأل ويستبين، هذا لا نعرفه من طرق العلم ولا نعرفه من منهج العلم. وهذا شيء من التعالم، وتكون مذكرة مجهولة لا يعرف من الذي كتبها أصلاً، وبعض العلماء يمنع من قراءة كتاب شخص لا يُعرف لأنه لا تعرف قيمته ولا يعرف هل شهد له أنه أهل، لذلك هذا يشوش فكر طالب العلم. وليس هذا خاصاً بدروسنا بل مع أي أحد، فأي شيخ له درسه وله علمه وله وزنه وله قدره ينبغي ألا يغير في كلامه ويزاد أو ينقص عليه شيء، وأن ينزل الناس منازلهم، وأن نتقي الله في هذا العلم. فإذا كان الشخص يرى رجحان قوله بدليل، فليعلم أن الذي خالفه عنده دليل، وأنه إذا كان يرى لنفسه أن يلزم الغير بدليله، فللغير أن يلزمه بدليله، فكما أنك تعتقد هذا القول بالدليل فغيرك كذلك، وقد قرر الإمام الحافظ ابن عبد البر وشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم والأئمة -رحمة الله عليهم- ودرج عليه حال السلف: أن كل من كانت عنده أهلية وعُرِف عنه أنه يلتزم دليل الكتاب والسنة في رأيه في الفقه ومسائل الفروع فهو لقوله، حتى يستبين له الحق خلاف قوله. فالأصل أنه لا يقول قولاً إلا بدليل وحجة، فإن خالفه أحد فلا يخالفه إلا بالحجة، فيأتي ويقارع ويأخذ معه ويعطي، فإما رجع عن قوله، وإما بقي على قوله. ما عهدنا من السلف أن إماماً جاء من أجل أن يهدم فقه الذي قبله أبداً، إنما وجدنا أن كلاً يعتقد قوله بدليله وحجته، وهذه مسألة قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر واحد) فالحمد لله على هذا الفضل. فليس من الحق ولا من العدل أن تأتي وتقول بقول وتعتقد ضَعف حديث خالفه، فيأتي إنسان ويشوش على طالب علم عندك ويقول: لا. بل هناك حديث صحيح وهو كذا وكذا، وهو صحيح عندك وليس بصحيح عندي وأنت ملزم به ولست ملزماً به، فهذا أصل عام. وأنا لا أسمح بالمناسبة بأي مذكرة أن تخرج إلا بالطريقة المعتبرة وبطريقة رسمية معتبرة، أما بهذه الفوضى وأن كل طالب علم يأتي ويعقب، ويكتب مجاهيل لا نعرف من هم وعمن أخذوا ومَن هم رجالهم وما هي أفكارهم، فهذا لا يُسمح به ولا أرضى به. والله ما تعلمنا العلم ليهان العلم، ولا تعلمنا العلم ليُرقى على أكتاف العلم، والله لا نقولها غيرةً لأنفسنا؛ لأننا نعلم ونوقن -ولا نزكي أنفسنا على الله- أن عندنا منزلة عند الله، فلا الناس يرفعنا إليها إن رضوا عنها، ولا ينزلوننا عنها إن سخطوا علينا؛ ولكن نريد تقوى الله عز وجل، نريد الكتاب والسنة، وما فهمناه من الكتاب والسنة ألَّا يأتي إنسان بسيط العلم قليل البضاعة يستعجل في شيء يكون هلكةً عليه وعلى غيره، فيَضِل ويُضَل. فالله! الله! لا تسلم فكرك ولا زمام رأيك في مسألة أياً كانت شرعية إلا ولك حجة ترضاها بينك وبين الله، ولا يسمح لأحد أن يسلك هذا الطريق سواءً في المحاضرات أو في غيرها. وأي طالب علم جاءته مذكرة ليس عليها توقيعي أو إقراري بالنسبة لي فأنا لا اعترف بهذا، ولذلك أوصي بالإعراض عن مثل هذا. وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، إنه المرجو والأمل. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب الحجر [3]

شرح زاد المستقنع - باب الحجر [3] إذا كان الشخص مديناً وثبت إفلاسه فإنه يحجر عليه، حفظاً لحقوق الدائنين، ثم يقسم ما بقي عنده من المال بينهم بالعدل، على تفصيل فيه، لكن بدون أن يُظلم المفلس، فلا يطالب بما لا يلزمه ولا بما يحل أجله حتى يأتي وقته.

حكم الأمتعة والأموال الموجودة بأعيانها عند المفلس

حكم الأمتعة والأموال الموجودة بأعيانها عند المفلس بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فقد تقدم أن الحجر على المفلس إنما شرع من أجل مصلحة الغرماء، وذلك أنه إذا أفلس صار حق الغرماء في ماله. ومن هنا حكمت الشريعة بالحجر عليه بالتصرف في ماله، والكلام على هذا الحجر يستلزم أولاً بيان مشروعيته وسبب وجوبه، ثم بعد ذلك الحكم بالحجر، ثم الآثار المترتبة على الحكم. وقد ذكرنا جملة من هذه المسائل فيما تقدم، ووقفنا عند بيع الحاكم أو القاضي لمال المفلس الذي هو ثمرة للحجر، فإنه إذا حجر على الشخص وتوفرت فيه شروط الحجر على المفلس وحكمنا بالحجر، فهناك آثار مترتبة على هذا الحكم منها: أن القاضي يحكم ببيع ماله وقلنا: إنه إذا حكم القاضي ببيع مال المفلس فإن هذا الحكم يفتقر إلى بيان الأموال التي يحكم ببيعها. فأول ما يقوم به الحاكم أو من يوليه لبيع مال المفلس: فرز أموال المفلس وتصنيف هذه الأموال، فهناك أموال من الحيوانات وهناك أموال من العقارات وهناك أموال من المنقولات، فتجمع هذه الأموال وتصنف، ويُبْدأ بأخذ الأمور الضرورية التي يحتاجها المفلس فتخرج من هذه الأموال، ثم بعد ذلك يخرج منها الأمتعة والأموال التي وجدت بأعيانها وتدفع إلى أصحابها من الغرماء. فكل غريم باع إلى هذا المفلس مالاً ووجده بعينه؛ فإنه من حقه أن يأخذ عين المال، وتوضيح هذه المسألة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين: (من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره) وهذا الحديث فيه: أن أموال المفلسين يخرج منها ما كان باقياً بعينه من أموال الغرماء، فإذا طالب الغريم بهذا العيني فإن من حقه أن يخرج هذا المال ويرد إليه، وإذا رددنا هذا المال فهنا صور:

حكم من وجد متاعه عند المفلس بعينه من غير زيادة أو نقصان

حكم من وجد متاعه عند المفلس بعينه من غير زيادة أو نقصان الصورة الأولى: مثال هذه المسألة: رجل باع سيارة لرجل ثم أفلس، فإذا كانت السيارة بعينها ولم يتصرف بها، أي: لم يتغير فيها شيء بالزيادة أو بالنقص ولم يدفع شيئاً من ثمنها، كما هي الشروط المعتبرة في هذا المال فإن من حق صاحب السيارة أن يقول: هذه السيارة سيارتي، ويثبت ذلك، ثم يأخذ السيارة بعينها لقاء دينه، فيسقط كامل دينه الذي له من قيمة هذه السيارة. فلو أن هذه السيارة اشتراها المفلس بعشرين ألفاً فإننا نقول: خذ السيارة، والعشرين ألفاً قد انتهت؛ لأن ذلك إلغاء للبيع الذي وقع بين المفلس والغريم. وعلى هذا يشترط أولاً: أن يجد عين المتاع، فلا يجد -مثلاً- مثله، فلو وجد مثله فليس من حقه أن يطالب به. وثانياً: ألا يكون قد أخذ شيئاً من قيمته، فلو دفع المفلس بعض القيمة فإنه لا يستحق أن يطالب بعين المتاع، والدليل على ذلك ظاهر الحديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد متاعه عند رجل قد أفلس فهو أحق به) ولم يقل: وليرد ما أخذ. فدل على أنه قد عاوضه وساومه على ذلك البيع دون أن يدفع له مقدماً أو شيئاً من ثمنه، فإن دفع شيئاً من ثمنه فجماهير العلماء على أنه لا يستحق الرد. وأما بالنسبة لهذا المتاع كالسيارة أو الأرض أو العمارة إذا وجدت بعينها، فإما أن تكون قيمتها مساوية لقيمة بيعها، مثال ذلك: لو أن رجلاً اشترى سيارة بمائة ألف ثم أفلس بعد شهرين من البيع، أو اشتراها بمائتي ألف وأفلس بعد سنة والسيارة قيمتها مائة ألف لم تختلف؛ فحينئذٍ لا إشكال وسيطالب بسيارته؛ ولو لم يطالب بالسيارة فسيدخل ضمن الدين ويكون له بعض قيمتها وليس الكل، أي: سيدخل مع الغرماء مشاركاً لهم، والأفضل له أن يأخذ السيارة ويبيعها بدل أن يتركها حتى تكون أسوة للغرماء. فالحالة الأولى: أن تكون القيمة لم تختلف، فالحكم أنه إذا رضي صاحب المتاع وطلب صاحب المتاع أن ترد له ردت. الحالة الثانية: أن تكون القيمة أكثر، فلو أن هذه السيارة باعها الرجل أو الغريم بمائة ألف، ثم اشتراها المفلس ديناً إلى نهاية السنة وقبل نهاية السنة حجر عليه، فلما تمت سنة لهذه السيارة أصبحت قيمتها مائة وخمسين ألفاً، أي أنها زادت بمقدار الثلث، فمن حقه أن يطالب بعين السيارة ولو أصبحت بأغلى مما بيعت به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به) ولم يفصل بين كونه أغلى أو أرخص أو مساوياً، فأخذ جمهور العلماء من هذا دليلاً على أنه يستحق رد السيارة غالية أو رخيصة وكأنه إلغاء للبيع الأول. الحالة الثالثة: أن تكون قيمة السيارة أنقص، كأن يبيعه إياها بمائة ألف وتصبح قيمتها ثمانين ألفاً أو تسعين ألفاً أو سبعين ألفاً، فنقول له: أنت بالخيار بين أن تدخل أسوة للغرماء في أمواله على قدر دينك، وبين أن تأخذ السيارة لقاء دينك الذي هو قيمة السيارة، ولا شيء لك من قيمة السيارة، وهذا على ظاهر السنة في الصحيحين من حديث أبي هريرة المتقدم.

حكم من وجد متاعه بنقص عند مفلس

حكم من وجد متاعه بنقص عند مفلس الصورة الثانية: لو أن هذه السيارة نقص منها شيء أو تغير فيها شيء بالنقص، أو تغير فيها الحال بالزيادة، فلا يخلو النقص إما أن يكون النقص بآفة سماوية أو بسبب من المشتري الذي هو المفلس، أو يكون النقص بسبب من أجنبي، أي: ليس من البائع ولا من المفلس المشتري. الحالة الأولى: أن يكون النقص بآفة سماوية، كرجل اشترى منه رجل دابة ثم أصابها الشلل، فشلت يمينها أو شلت رجل منها، فهذا النقص حصل بآفة سماوية وليس بتفريط من المشتري -المفلس- وليس من أجنبي. أو كرجل اشترى منه رجل أرضاً، فجاء السيل واجتاح ثلثها أو نصفها فهذه آفة سماوية. أو كرجل اشترى منه رجل مزرعة، فجاء إعصار فأحرق ربعها، هذه كلها آفات سماوية، فالسؤال الآن: لو وجد متاعه على هذه الصفة بالنقص فهل يطالب بالرد، ويطالب المشتري بالضمان، أم أنه يأخذ عين المتاع؟ و A أن يقال له: إن كان النقص بآفة سماوية، فإنك تستحق عين المتاع، ولا ضمان في الآفات السماوية على المشتري، لتقريرنا هذا في باب البيع حينما تكلمنا على مسائل العيوب في المبيعات، وأن من حقه أن يستردها دون أن يضمن المشتري. وبناءً على ذلك فإننا نقول له: أنت بالخيار بين أمرين: أن تقبل هذه السيارة وهذه الدابة وهذه الأرض معيبة بحالها ما دام أنها بآفة سماوية ولا ضمان في هذه الآفات ويسقط دينك كاملاً، فإذا كانت قيمة السيارة مائة ألف، فإنه يأخذها بعد الخسارة التي فيها بالمائة ألف على أنه رد لعين المتاع، فيصبح كأنه إلغاء للبيع الماضي أو البيع السابق على أن لا تكون هناك مطالبة بالمال الذي بيعت به السلعة. الحالة الثانية: أن يكون النقص بسبب المشتري -المفلس- ففي هذه الحالة إذا كان النقص بسبب المفلس فمذهب طائفة من العلماء -رحمهم الله- أنه إذا حصل النقص بإتلاف للجزء ففيه تفصيل: إما أن يمكن فصل المبيع، كأن يكون اشترى منه سيارتين كل سيارة بخمسين ألفاً فأتلف المشتري -المفلس- إحداهما وبقيت الثانية؛ فحينئذٍ نقول له: خذ الثانية بقيمتها من أصل البيع، أي: أنت بالخيار، إن أردت أن تأخذ متاعك فتأخذ الباقية وهي السيارة، فلو كانت قيمة السيارتين مائة ألف، إحداهما بخمسين والثانية بخمسين وأتلف إحداهما قالوا: من حقه أن يأخذ الثانية بخمسين ألفاً وتسقط الخمسين، وهذا مبني على مسألة تفريق الصفقة. فالسيارتان في صفقة واحدة، لكن يفرق بينهما بوجود العيب في الثانية، فيبقى ضمان الثانية على ملك المفلس، فيأخذ خمسين ألفاً ويأخذ السيارة لقاء خمسين ألفاً، وتبقى ذمة المفلس مشغولة بالخمسين الباقية، وقد يكون الأحظ له والأفضل أن يفعل هذا؛ لأنه لو كان هناك رجلان كل منهما له مائة ألف على المفلس، فهو في هذه الحالة إذا كانت له مائة ألف مقسومة بين السيارات كل سيارة بخمسين ألفاً فمعناه أنه لو أخذ السيارة السليمة فإنه سيستعيد نصف دينه، لكن إذا لم يأخذها ودخل مع الآخر فإنه سيتحصل على ما يقرب من ربع الدين وهو خمسة وعشرون ألفاً؛ لأن السيارة ستباع ويكون له نصف المبيع وهو الشيء ونصفه، وهو القيمة التي ذكرناها، وهي ربع الصفقة خمسة وعشرون ألفاً. فالأفضل له أن يأخذ السيارة ويبقى له نصف الدين أسوة مع الغريم الآخر. وعلى هذا: إذا كان النقص على هذا الوجه فإنه يضمنه المشتري. الحالة الثالثة: أن يكون النقص بسبب أجنبي، فمذهب طائفة من أهل العلم -رحمهم الله- أنه إذا أتلف جزءاً من السيارة، فإن الضمان حينئذٍ يكون على الأجنبي، ثم يخير مالك السيارة بين الرجوع على المشتري أو على الأجنبي الذي أتلف.

حكم من وجد متاعه بزيادة عند المفلس

حكم من وجد متاعه بزيادة عند المفلس إذا تغير المبيع بالزيادة كجارية حملت أو سمنت، أو اشترى منه بقرة أو ناقة أو شاة وحسن حالها وصلح، فإنه إذا كانت الزيادة متصلة لا يمكن فصلها عن المبيع؛ فإنه يردها، ولا يطالب بقدر تلك الزيادة؛ لأنها كانت على ضمانه. وأما إذا كانت الزيادة منفصلة فاختلف العلماء رحمهم الله، وقد قدمنا هذا في مسألة خيار العيوب هل تكون تابعة للمبيع أم لا، والأشبه والأقوى أن تكون غير تابعة للمبيع وذلك على حديث المصراة الذي ذكرناه.

حكم المطالبة بعين المتاع إذا وجد بعد موت المفلس

حكم المطالبة بعين المتاع إذا وجد بعد موت المفلس يبقى معنا من مسائل الحديث في قوله عليه الصلاة والسلام: (من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس) لو أن هذا الرجل وهو المفلس مات، فقال طائفة من العلماء: إنه إذا مات فحينئذٍ يصبح مالك المتاع مع الغرماء سواءً بسواء، أي: يشترط شرط آخر لاسترداد المتاع وهو ألا يموت المفلس، فإن طالب بمتاعه بعد موت المفلس فإن المال ينتقل للورثة وحينئذٍ يكون أسوة مع الغرماء، وهذا ما اختاره المصنف -رحمه الله- وطائفة من أصحاب الإمام أحمد رحمة الله عليهم. والصحيح ما ذهب إليه جمع من أهل العلم: أنه إذا مات فإنه يستحق الرد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد متاعه عند رجل قد أفلس). فأثبت بظاهر الحديث للمالك الحقيقي -الغريم- أن له اليد على متاعه إن وجده بعينه، ثم الموت لا يوجب النقل؛ لأن الله تعالى قال في كتابه في الميراث: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:11] فجعل ملكية المال للورثة بعد الوصية والدين. وعلى هذا فالدين يمنع انتقال المال للورثة، وعلى هذا تتعلق ذمة الميت بسبب هذا الدين، وسنبين -ذلك إن شاء الله تعالى- في مسألة: هل يحل الدين بالموت أو لا يحل، وهي الجملة التي تلي هذه الجمل. والذين قالوا: إنه إذا مات تسقط المطالبة؛ استدلوا بمرسل أبي داود رحمه الله، وفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن مات فهو أسوة الغرماء) ولكنها رواية ضعيفة، والأصل بقاء الحديث على ظاهره، ولم تصح رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ.

كيفية بيع مال المفلس

كيفية بيع مال المفلس قال رحمه الله: [ويبيع الحاكم ماله]. قوله: (يبيع الحاكم) الحاكم: القاضي، وقوله: (يبيع) يعني: يأمر ببيع متاعه، وإذا أراد أن يبيع أو يأمر بالبيع فالجاري عند قضاة الإسلام عادة أنهم يرجعون إلى أهل الخبرة، فالقاضي بنفسه لا يتولى البيع، وإنما يبحث عن أناس من التجار معروفين بالأمانة والصدق والحفظ، فيقول لهم: هذا مال فلان قوموا عليه. فيقومون عليه ويتولون أمره. وقال بعض العلماء: يشرع للقاضي أن يجعل لمن يتولى بيع المال حظاً من بيت المال. أي: هؤلاء الذين يتولون النظر في أموال المفلسين لبيعها يكونون تابعين للقضاء ويفرض لهم شيء من بيت مال المسلمين. فإذا قام هؤلاء الذين ينظرون في هذا المال، فالأولى أن يكون المفلس حاضراً، وذلك لكي ينظر الأحظ لماله، ويقام هذا المال بأفضل الأسواق، حتى لا يكون هناك ظلم للمالك الحقيقي، فيلتمس أفضل الأسواق؛ لأن هذا فيه مصلحة للمالك الحقيقي ومصلحة للغرماء حتى تسدد ديونهم. ثم بعد ذلك يعرض المال للبيع، ولا تقبل الزيادة ممن جاء يساوم ويزيد إلا ممن لا تهمة فيه.

كيفية قسمة مال المفلس بين الغرماء

كيفية قسمة مال المفلس بين الغرماء يقول رحمه الله: [ويقسم ثمنه بقدر ديون غرمائه] هذه المسألة أجمع عليها الصحابة -رضوان الله عليهم- كما في قصة العول، فإن امرأة توفيت وتركت زوجاً وأختين، فنصيب الأختين الثلثان، ونصيب الزوج النصف، ولا يمكن أن ينقسم المال عليهم. فاستشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحابة رضوان الله عليهم، فأمروه أن يرد المسألة إلى سبع، فقال الزبير رضي الله عنه وأرضاه: (يا أمير المؤمنين ما أرى هذه المسألة إلا كرجل مات وعليه دين عشرة وقد ترك سبعة، فإننا نقسم المال على قدر حصص أصحاب الديون). توضيح ذلك: مثلاً: عندنا مفلس بعنا متاعه بمليون، والديون التي عليه مليونان، والمليونان كل رجل له نصف مليون، فالمليون التي تحصلنا عليها من البيع ننظر حصة كل غريم من أصل الدين، فالذي له نصف الدين يأخذ نصف المليون التي بيع بها، ثم الذي له النصف الآخر يأخذها. مثال آخر: لو أن ثلاثة أشخاص لهم دين على رجل تسعين ألفاً، كل رجل له ثلاثون ألفاً، فأصبح كل واحد منهم سهمه ثلث المال فيستحق ثلث الدين، الأول له الثلث، والبقية كل منهما له الثلث. فلو أن هذا المفلس بيع متاعه بستين ألفاً، فالدين تسعون ألفاً، والستون لا يمكن قسمتها على تسعين، فحينئذٍ ما العمل؟ نقسم الستين ثلاثة أثلاث، ويعطى كل واحد منهم ثلثاً -عشرين ألفاً- فيأخذ كل واحد منهم الثلث من مال المفلس؛ لأن هذا هو حقه في أصل الدين أنه يستحق الثلث. ولو كان هناك ثلاثة أشخاص أحدهم له نصف الدين، والثاني له الربع، والثالث له الربع، فحينئذٍ تقسم المال الذي نتج عن البيع على أربعة، تعطي من له النصف اثنين من أربعة الذي هو النصف، وتعطي من له الربع كل واحد منهما واحداً من أربعة، وهذا معنى يقسم على قدر دينهم.

حكم الدين المؤجل عند الحكم بفلس المدين

حكم الدين المؤجل عند الحكم بفلس المدين قال رحمه الله: [ولا يحل مؤجل بفلس] في هذه المسألة قصد المصنف أن يبين أن الحكم بفلس المديون لا يستلزم حلول الدين المؤجل، فلو أن رجلاً مفلساً عليه مائة ألف، خمسون منها قد حلت ويثبت بها الحجر، وخمسون منها تحل بعد السنة، وكان عنده بيت قيمته ثلاثون ألفاً، فحينئذٍ طالب أصحاب الدين بأن يحجر عليه، فنحجر عليه لقاء أصحاب الخمسين الحالة. لكن لو جاء صاحب الدين الذي لم يحل بعد، فهل من حقه أن يزاحم أصحاب الديون الحالة، أم ينتظر حتى حلول أجل دينه؛ لأن الضرر قائم عليه؛ لأنه لو بيع البيت صار غريمه مفلساً؟ و A قول المصنف: (ولا يحل مؤجل بفلس) أي: أنه إذا حكم بفلس إنسان فإنه لا تحل الديون المؤجلة عليه، هذا بالنسبة لمسألة حلول الدين. والسبب في هذا: أن صاحب الدين قد رضي بتأجيله فلا يحكم له قبل وقته، ونحن ذكرنا في الحجر على المفلس أنه يشترط في الحجر عليه أن يكون الدين قد حل، فإذا كان دينه لم يحل فليس من حقه المطالبة.

حكم الدين المؤجل إذا مات المفلس

حكم الدين المؤجل إذا مات المفلس قال المصنف رحمه الله: [ولا بموت إن وثق ورثته برهن أو كفيل مليء]. قوله: (ولا بموت) يعني: ولا يحل إن مات المفلس. كرجل عليه دين مؤجل، ثم توفي وترك لورثته مائة ألف، والذي عليه خمسون ألفاً، ولكن هذه الخمسين إلى نهاية السنة، فهل تحل ديونه؟ للعلماء قولان في هذه المسألة: - فمن أهل العلم من يرى أن الميت تحل ديونه بالموت ولو كانت مؤجلة، ولذلك قالوا: من مات حلت ديونه ويجب على ورثته المبادرة بالسداد. - وقال طائفة من العلماء: الموت لا يخالف الحكم، فيبقى الحكم مستصحباً وسارياً، فالدين المؤجل مؤجل. والصحيح: أن الدين يحل بالموت؛ لأن الميت ترهن نفسه به، وهذا عذاب للميت، ودل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه). فالميت معلقة نفسه بالدين، ولذلك قال بعض العلماء: هذا الحديث مشكلة عند أهل العلم في قوله: (نفس المؤمن معلقة بدينه) وفي رواية (مرهونة بدينه). فقال طائفة من العلماء: يحبس عن النعيم ويحال بينه وبين النعيم حتى يقضى دينه، فنفسه لا تتنعم إلا بعد قضاء دينه؛ لأنه قال: (نفس المؤمن مرهونة) وأصل الرهن: الحبس، كما في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] أي: محبوسة. فلما قال عليه الصلاة والسلام: (نفس المؤمن مرهونة) دل على أنها محبوسة وهي إما تحبس عن النعيم أو عن الفضل. ولذلك كره العلماء -رحمهم الله- الدين وشددوا فيه لهذا الحديث، فقالوا: إنه إذا كانت نفسه مرهونة، وماله موجوداً، والورثة لا يستحقون المال إلا بعد الدين، فالذي تطمئن إليه النفس أنه يجب عليهم أن يبادروا بسداد دينه ولو كان دينه مؤجلاً. وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يغفر للشهيد كل شيء -وفي رواية- أنه يغفر للشهيد عند أول قطرة من دمه، فجاءه جبريل ونزل عليه بالوحي فقال عليه الصلاة والسلام: إلا الدين، أخبرني به جبريل آنفاً) يعني: يغفر له كل شيء إلا حقوق العباد، فالذي عليه من حقوق العباد نفسه مرهونة به. فإذا كان هذا في الشهيد وهو من أعظم الناس منزلة عند الله سبحانه وتعالى، يغفر له عند أول قطرة من دمه، ويبعث وجرحه يثعب دماً وروحه في حواصل طير خضر في الجنة تسرح فيها، تشرب من أنهارها، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، ومع ذلك يغفر له كل شيء إلا الدين. فهذا يدل على عظم أمر الدين، فإذا كان أمره بهذا العظم، فليس من الحق ولا من العدل أن يبقى الميت مرهونة نفسه قد ترك السداد، وننتظر إلى حلول الأجل حتى يسدد عنه. فلذلك الذي يظهر أن الميت تحل ديونه بالموت، وأنه يجب على ورثته أن يبادروا بسداد ديونه، خاصة مع قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12] وفي الآية الأخرى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:11] وفي الأخرى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12]. فهذه الآيات كلها صريحة بأن الدين مقدم على حقوق الورثة، فإذا نظرنا إلى هذا فمعناه: أنه يجب علينا أن نبادر بسداد دين الميت؛ لأن هذا ماله وقد حلت ديونه، فينبغي أن يبادر بالأصلح والأوفر له؛ لأنه ليس ثم مانع شرعي يمنع من هذا. ونحن نقول: إن الدين المؤجل ليس من حق صاحب الدين أن يطالب المديون به؛ لأن الدين إذا كان صاحبه قد أخره عليك إلى نهاية السنة، فإن الرفق بك أن ننتظر إلى نهاية السنة، فمن مات الرفق به أن يعجل، فأصبحت المسألة بالموت عكسية. ولذلك جعل شرعاً الحق أن تطالب بتأخيره بناءً على الأجل، وإذا ثبت أن الحق أن تطالب بتأخيره بناءً على الأجل لمصلحة المديون فالعكس بالعكس في حال الوفاة. ومن هنا فإنه يجب على الورثة أن يبادروا بالسداد، وقد ذكرنا هذا غير مرة، وهذا من أعظم ما يقع من المظالم، فإن الورثة يموت مورثهم ويترك لهم عمارة أو أرضاً ولها قيمة ويمكن بيعها وسداد ديونه، ولكن الورثة يمتنعون، ثم تبقى الديون، ولربما حلت الديون وتبقى إلى سنوات ولربما تبقى دهراً طويلاً، وهذا إن كان في الوالد والوالدة فهو من عقوق الوالدين نسأل الله السلامة والعافية، وإن كان في القريب فهو من وقطيعة الرحم، فكيف يبقى هذا الميت مرهوناً في قبره بدينه ولا يسدد عنه وماله موجود، فلا حق لهم أن يستمتعوا بهذا المال حتى يسدد دينه؛ لأن الله تعالى يقول: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12] فجعل الفرائض وقسمة المواريث على أصحابها، وجعل حق الوارث بعد الوصية والدين، فدل على أنه ينبغي المبادرة بسداد هذا الدين وإبراء هذه الذمة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم) وهؤلاء الورثة أغنياء قادرون على سداد ديون مورثهم، فيجب عليهم أن يبادروا بذلك. قال رحمه الله: (إن وثق ورثته برهن أو كفيل) جعل فقهاء الحنابلة -رحمهم الله- ومن وافقهم شرطاً في هذه المسألة وهي: توثيق الدين برهن أو توثيقه بكفيل غارم. فإذا جاءوا برهن وقالوا له: أمهلنا إلى نهاية السنة كما اتفقت مع مورثنا ونحن نعطيك دينك؛ لأن دينك مؤجل. فقال: لا أريد ديني معجلاً، فاختصموا إلى القاضي، يقول القاضي للورثة: ائتوا برهن أو ائتوا بكفيل أؤجلكم بالأجل، هذا على ما ذكره المصنف رحمه الله. فإن جاءوا برهن أو جاءوا بكفيل غارم مليء؛ فإنه حينئذٍ يؤجل ويبقى الدين على حاله مؤجلاً.

الحكم فيما لو ظهر غريم بعد قسمة مال المفلس

الحكم فيما لو ظهر غريم بعد قسمة مال المفلس قال رحمه الله: [وإن ظهر غريم بعد القسمة رجع على الغرماء بقسطه] صورة المسألة: أن يكون هناك غريمان كل واحد منهما له خمسون ألفاً وطالبوا بالحكم بفلس زيد من الناس، ولما حكم عليه بفلسه وبيع متاعه بثلاثين ألفاً، فمعناه أنه ستنقسم الثلاثين عليهما، فيكون لكل واحد منهما خمسة عشر ألفاً. فإن ظهر غريم ثالث له خمسون، فحينئذٍ أصبح له الثلث فيدخل معهم، ويطالب كل واحد منهما بثلث ما أخذ، فالذي له خمسة عشر يعطي خمسة وتبقى له عشرة، والآخر يعطي خمسة من خمسة عشر ويبقى له عشرة، وحينئذٍ يكون للغريم الجديد عشرة، ويكون للباقين كل واحد منهما له عشرة آلاف، فيدخل بقدر حصته، هذا إذا ظهر بعد القسمة وهو مذهب طائفة من العلماء. وقال بعض العلماء: إنه لا يستحق الدخول، وهو مذهب الشافعية والحنابلة كما ذكر المصنف أنه إن ظهر غريم بعد القسمة دخل؛ لأن المال محبوس بالدين عموماً ومتعلق بذمة المديون، فيستوي فيه من عجل ومن تأخر في المطالبة. وقال بعض العلماء: لا يقاسم وينشأ له حجر جديد، ولا يستحق أن يطالب؛ لأنه هو الذي فرط ويتحمل عاقبة تفريطه، وهذا يقول به الإمام مالك رحمه الله.

كيفية فك حجر المفلس

كيفية فك حجر المفلس قال المصنف رحمه الله: [ولا يفك حجره إلا حاكم]. ولا يفك حجر المفلس إلا حاكم وهو القاضي، والسبب في هذا أنه كما كان الإثبات مفتقراً إلى حكم وقضاء، كذلك الإلغاء ورفع الحكم يحتاج إلى حكم لرفع الحجر وفكه، فمذهب جمهور العلماء أن المفلس إذا حكم عليه بالحجر لا يخرج من الحجر فإنه إلا بحكم ثانٍ. إذاً: ما فائدة المسألة؟ فائدتها لو أن صاحب شركة أفلس، وديونه -مثلاً- مليون، فأخذت أمواله وبيعت وسدد منها دينه، ثم لما بيع متاعه وبيع ما يملكه اشترى من رجل قبل فك الحجر عنه، فإن قيل: إنه يفك الحجر عنه بمجرد سداد ديونه فحينئذٍ البيع صحيح. وإن قيل: إنه يفتقد الحجر إلى فك، فلا يصح هذا البيع إلا بعد أن يفك الحجر عنه، هذه فائدة المسألة: أنك إذا حكمت بكونه محجوراً عليه ولا يفك حجره إلا بحكم القاضي، فكل صدقة تصدق بها أو تبرع بذله أو بيع عقده لا يحكم به إلا بعد فك الحجر عنه.

الأسئلة

الأسئلة

الجمع بين قول المصنف: (ولا يحل مؤجل بفلس) وبين قوله: (إن القرض يثبت بدله في ذمته حالا ولو أجله)

الجمع بين قول المصنف: (ولا يحل مؤجل بفلس) وبين قوله: (إن القرض يثبت بدله في ذمته حالاً ولو أجله) Q أشكل عليّ قول المصنف: (ولا يحل مؤجل بفلس ولا بموت) مع ما تقدم في باب القرض من قوله: (إن القرض يثبت بدله في ذمته حالاً ولو أجله)؟ A باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فمسألة ثبوت الدين في الذمة حالاً بالقرض نفسه بيناها، بمعنى: أنه بمجرد ما يأخذ المال يثبت في ذمته البدل، ولا يؤجل ولا ننتظر إلى الأجل، فشغل الذمة بالدين يكون بمجرد الأخذ والقطع. وهذا هو الذي نفرع عليه مسألة أن من مات حلت ديونه؛ لأن الميت ما ألزمناه بسداد دينه إلا لأن ذمته شغلت، فهناك فرق بين مسألة المطالبة بحلول الأجل، فلا يطالب إلا بعد تمام الأجل وحلوله، وبين مسألة ذمة الشخص الذي يأخذ الدين، فالشخص الذي أخذ الدين يثبت المال في ذمته حالاً بمجرد قبضه للمال، ويصبح بدل هذا المال وعوضه ثابتاً في ذمته، كرجل استدان مائة ألف، فإنه قبل قبض المائة ألف ذمته بريئة، وبمجرد قبضه للمائة ألف ثبتت في ذمته، والذمة قلنا: وصف اعتباري قابل للإلزام والالتزام، فتصبح ذمته مشغولة بهذا الدين بمجرد القبض، فهذه مسألة قبض الدين وقد تم بيانها. أما مسألة حلول الأجل وعدم حلوله، وهذا الذي في الذمة متى يستحق المطالبة به ومتى لا يستحق، فهذا مرتب على الأجل، ثم بعد ذلك يفصل فيه أنه إذا مات أصبحت ذمته مرهونة وحقه موجود، فكان من العدل والإنصاف أن يبادر بإبراء ذمته. والله تعالى أعلم.

التزام ابن الميت بدين أبيه هل يبرئ ذمته؟

التزام ابن الميت بدين أبيه هل يبرئ ذمته؟ Q إذا التزم ابن الميت لصاحب الدين بسداد دين والده، بأن يصبح الابن هو المدين، فهل من الممكن أن تقع الحوالة في هذه الحالة؟ A إذا التزم الابن أو القريب أو الغريب بدين رجل، فإنه في هذه الحالة لا تبرأ ذمة الميت إلا بالسداد، والدليل على ذلك حديث أبي قتادة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل ليصلي عليه فقال: هل عليه دين؟ قالوا: نعم ديناران، فقال صلى الله عليه وسلم: هل ترك وفاءً؟ قالوا: لا. قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: هما عليّ يا رسول الله، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم). قال أبو قتادة رضي الله عنه: (فلم يزل يلقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسألني: هل أديت عنه -سددت-؟ فأقول: لا بعد، هل أديت؟ فأقول: لا بعد، حتى لقيني ذات يوم فقال: هل أديت عنه؟ قلت: نعم قال: الآن بردت جلدته)، والحديث في الصحيحين. وهذا يدل على أمر عظيم فقوله: (بردت جلدته) يقوي قول بعض العلماء: أن معنى (مرهونة) أي: أنه يحبس عن النعيم لقوله: (بردت جلدته)، وهذا يدل على أنه لو قال شخص عن ميت: عليّ دينه فإنه لا يبرأ إلا بالسداد حتى يصل الحق لصاحبه، فإذا أعطي الحق لصاحبه برأت ذمته، وأما إذا لم يعط -سواءً بحوالة أو بكفالة- كما في حديث أبي قتادة - فإنه لا تبرأ ذمته. والله تعالى أعلم.

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (أدى الله عنه)

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (أدى الله عنه) Q من استدان ديناً يريد أداءه وفي الحديث: (أدى الله عنه) نرجو من فضيلتكم شرح هذا الحديث؟ A قوله عليه الصلاة والسلام: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها؛ أتلفه الله) هذا حديث عظيم يدل على أن النيات والمقاصد تؤثر في أمور العبد، وأن الله يفتح له من أبواب التوفيق، وييسر له من سبل التوفيق على قدر نيته وصلاحه. والمراد بهذا الحديث: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها) كرجل يأتي ويستدين مائة ألف، والله يعلم في قرارة قلبه أنه يريد أن يسدد، فإن الله يؤدي عنه. وقد اختلف العلماء في قوله: (أدى الله عنه) فقيل: يوفقه للسداد إذا كان حياً، فإذا مات قالوا: إنه يتحمل الله سبحانه وتعالى عنه فيرضي صاحب الدين عن دينه؛ لأنه علم من نية عبده أنه يريد أن يسدد، والله عز وجل اطلع على ضميره وقلبه ونيته، فعلم أنه يريد الخير، فأعطاه خيراً كما قال تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال:70]. وأما قوله: (ومن أخذها يريد إتلافها) كما يحصل من المتلاعبين أنهم يأخذون الأموال ولا يريدون أن يسددوا، ولا يفكرون في السداد، وتظهر هذه النية إذا حدد الدين فقال: أسددك في نهاية السنة، فإن كان في نيته فعلاً أنه في نهاية السنة سيأتيه بالمال ويسدد فهذا رجل أخذ أموال الناس يريد أداءها، وأما إذا علم أنه في نهاية السنة لا يكون عنده مال أو خدع صاحب المال فقال له: إن شاء الله ستأتيني أموال بعد شهر، إن شاء الله سيأتيني إيجار، سيأتيني شيء، ومناه وعبث بحقه فقال له: أبشر إن شاء الله في نهاية السنة ستنفرج، سيأتي عوض، سيأتيني تعويض، سيأتيني كذا، فمناه بالباطل، فهذا أخذ أموال الناس يريد إتلافها، فالله يتلفه فيمحق بركة أمواله. ولذلك من المشاهد والمجرب في الناس الذين يأخذون أموال الناس -مع أن بعضهم يكون غنياً قادراً على السداد وهو لا يريد أن يسدد- أن الله يمحق له البركة من ماله ويلبسه ثوب الفقر وهو في الغنى. ولذلك تجده في أضيق حال -نسأل الله السلامة والعافية- وإن سلمت أمواله من النكبات والضيق سلط الله عليه هماً يلازمه وغماً يتابعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه) حتى كان بعض العلماء مما يوصي به بعض طلاب العلم يقول له: لا تستدن قدر ما تستطيع. وفي بعض الأحيان إذا كان صاحب الدين نفسه غير طيبة وغير راضية وحل الأجل فإن هذا يؤثر على الإنسان ويؤثر على حاله لأن نفسه مرهونة ومحبوسة. حتى إن بعض الأخيار تراه يحب قيام الليل وصيام النهار فربما رهنت نفسه وحبست، كما أنها تحبس عن نعيم الآخرة فلا يمتنع أن تحبس عن نعيم الدنيا، وذلك بما يكون بسبب تأجيل حقوق الناس، والأفضل أن الإنسان يتقي هذا الشيء. وإذا اضطر إلى الدين بحاجة وبأمر فإنه يستعين على ذلك بحسن النية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله امرأ سمحاً إذا قضى سمحاً إذا اقتضى) فالمسلم إذا كان فيه السماحة وفيه حسن النية؛ فإن الله يوفقه ويرحمه وييسر له من أبواب الفرج ما لم يخطر له على بال. والله تعالى أعلم.

حكم تحميل الإمام ما ينساه المأموم من أركان الصلاة

حكم تحميل الإمام ما ينساه المأموم من أركان الصلاة Q هل الإمام يحمل الأركان عن المأموم إن ترك المأموم ركناً ناسياً؟ A الأصل في هذه المسألة حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عند أحمد وأبي داود في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم اغفر للمؤذنين، وأرشد الأئمة) هذا الحديث الشاهد فيه قوله: (الإمام ضامن)، الضمين: هو الحميل، فكأنه يتحمل عن المأمومين، ولذلك قالوا: يحمل عن المأموم الواجبات ولا يحمل الأركان، فإذا كان المأموم قد نسي واجباً، كأن يرفع الإمام ويقول: سمع الله لمن حمده، فيرفع المأموم وينسى أن يقول: ربنا ولك الحمد، أو يكبر الإمام للسجود، فيسجد المأموم دون أن يكبر ناسياً، فيحمل الإمام عنه سهوه، ولا يلزمه أن يسجد سجود السهو، وهكذا إذا نسي التسبيح في الركوع أو السجود فإن الإمام يحمل عنه ذلك. وأما بالنسبة للأركان فإن الإمام لا يحمل الأركان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن في هذا الحديث أن الإمام ضامن، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة أن المأموم يلزمه قضاء ما سبق كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) وفي رواية: (فاقضوا). فدل على أن الأركان تقضى. والله تعالى أعلم.

ضابط اللغو في الأيمان

ضابط اللغو في الأيمان Q ما ضابط اللغو في الأيمان؟ A لغو اليمين الذي أسقط الشرع المؤاخذة فيه ينقسم إلى صور، منها: أن ترى الشيء تظنه على حال، فيتبين بخلافه، فتحلف بالله عند رؤيته لأول وهلة أنه كذا، ثم يتبين أنه ليس كما ظننت، كرجل رأى رجلاً فقال: هذا والله محمد؛ لأن أوصاف محمد كلها موجودة فيه، ثم لما اقترب الرجل إذا به زيد، فهذا من لغو اليمين؛ لأنه حلف على غلبة الظن ثم تبيّن كذبها، لكنه لم يكن في ذلك كاذباً في الحقيقة وإنما على ما ظهر له. ومن هنا فرع العلماء مسألة حلف اليمين في القضاء على غلبة الظن، فيجوز للمدعى عليه أن يحلف اليمين منكراً إذا كان غالب ظنه أنه ليس لفلان عليه شيء. وكذلك من لغو اليمين أن يجري ذلك مجرى الكلام الذي لا يقصد منه الحلف، كقوله للضيف: والله تقعد والله تقوم والله ما تذهب والله تتغدى والله تتعشى والله قم والله تقعد، وهذا الكلام أثناء اللجاج دون قصد لليمين، فتقول للرجل: والله تقعد والله تقوم بسرعة، بدون أن تستحضر اليمين أو تقصدها، فهذا كله من لغو اليمين، وفي ذلك آثار عن ابن عباس رضي الله عنهما من الصحابة، وغيره من أئمة التابعين. والله تعالى أعلم.

حكم البيع حياء لا رغبة في البيع

حكم البيع حياءً لا رغبةً في البيع Q إنسان له فضل عليّ بعد الله سبحانه وتعالى، وأراد أن يشتري مني سلعة، فبعته حياءً منه لا رغبة بالبيع، فهل يجوز هذا البيع؟ A الحكم في الشرع على الظاهر، والبيع إذا استوفى أركانه وشروطه فهو صحيح، وكونك غلبك الحياء فهذا لا يؤثر في ظاهرك؛ لأنه ليس ثم أحد فرض عليك ذلك، وليس ثم أحد أكرهك عليه، وكونك تجامل أو تتنازل عن حقك هذا بالنسبة لك أنت، فأنت الذي تتحمل المسئولية؛ لأنك بين نارين: بين أن تباشره وتقول: لا أرغب في البيع، وبين أن تصبر على البيع، وحينئذٍ يكون فضله منفكاً عن مسألة الحقوق، وبين أن ترضى بالبلاء فتبيع وتأخذ الثمن والله سبحانه وتعالى يعوضك، لكن ينبغي على أهل الفضل كالعلماء وطلاب العلم ألا يحرجوا الناس، وألا يتخذوا من علمهم وسيلة للدنيا. هذا أمر محتم، ينبغي على طالب العلم أن يتنبه له، خاصة في هذا الزمان الذي أصبح فيه طالب العلم يأكل ويشرب بعلمه، ويتعالى على الناس بعلمه، ويحرج الناس بعلمه وفضله، وأعرف من مشايخنا -رحمة الله عليهم- أنه كان يتجنب إذا دخل السوق أن يشتري من شخص يعرفه، كل ذلك خوفاً من أن يكون قد أخذ بعلمه شيئاً من الناس. وهذا هو الورع حيث ينبغي أن يبتغى العلم للآخرة: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان:57] فالإنسان إذا تعلم العلم ينبغي أن يجعله لله والدار الآخرة. ولذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما: (إذا كنت في السفر صائماً فلا يشعر بك من معك، إنهم إن شعروا بك قالوا: أنزلوا الصائم، افرشوا للصائم، ارفعوا رحل الصائم حتى يذهب أجرك في الصيام) أي ساعدوه، فتصبح كلاً عليهم بعبادتك فكأن العبادة أصبحت وسيلة للدنيا. فينبغي للإنسان ولطالب العلم وللفاضل وللورع أن يتقي مثل هذا، خاصة الشيخ مع طلابه أو ممن له فضل، فلا يطلب من الناس أجراً، إنما يكون أجره على الله، والعلم إذا قصد به وجه الله وابتغي به ما عند الله باركه الله لصاحبه، وبارك الله في ثمرته وعاقبته، وأصبح الإنسان محفوظاً في علمه، وأصبح العالم محفوظاً في علمه، وطالب العلم محفوظاً في طلبه ما اتقى الله عز وجل في هذا العلم وأراد به الله والدار الآخرة. فينبغي للمسلم أن يضع هذا نصب عينيه، وأن يخاف شدة الخوف، والله إني لأعرف من بعض المشايخ -رحمة الله عليهم- إذا اشترى شيئاً من شخص يعرفه -خاصة في الصفقات الكبيرة- يذهب ويرسل من يسأل في السوق كم قيمتها، كل ذلك خوف المجاملة. ولقد حضرت بعض مجالسه أنه يستحلفه بالله أن قيمتها كذا، كل ذلك من أجل ألا يدخل إلى ذمته شيئاً من حقوق الناس ويصبح كلاً عليهم، وإذا نظر الناس لأهل العلم وطلاب العلم والفضلاء فوجدوهم لا يبالون بالدنيا، وأن الدنيا تحت أقدامهم وأنهم علموا لله وابتغوا ما عند الله ورجوا الدار الآخرة؛ أحبهم الله ووضع لهم القبول، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس) فإذا رُئي العالم وطالب العلم عفيفاً عن أموال الناس، وعن حقوقهم، وعن مظالمهم، فإن الله يحبه ويبارك له، ووالله ما تركت شيئاً من الدنيا لله إلا عوضك الله أطيب منه وأزكى لدينك ودنياك وآخرتك. وهنيئاً لمن وفقه الله فصان الله به وجه العلم، وصان به كرامة العلم، وعرف أنه لا يتبلبل بعلمه وأنه لا يبيع ويشتري بعلمه، فيذهب إلى السوق والتجارات فيمتهن. ولذلك تجد من يفعل هذا الفعل يركبه أهل الدنيا، ويجد من تسلط السفهاء والرعاع عليه ما يكون ثمناً لهذا التنازل عن دينه وعلمه. فالواجب على المسلم أن يتقي الله وألا يحرج الناس في حقوقهم، وألا يستغل منصبه أو مكانته من كونه معلماً أو مدرساً فيأتي لطالبه أو لمن هو دونه من أجل أن ينال عرضاً من الدنيا. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل الآخرة أكبر همنا ومبلغ علمنا، وألا يجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا غاية رغبتنا وسؤلنا، ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا علماً نافعاً، وأن يكفينا بحلاله عن حرامه، وأن يغنينا بفضله عمن سواه، إنه واسع الفضل. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب الحجر [4]

شرح زاد المستقنع - باب الحجر [4] تكفلت الشريعة بحفظ مصالح الإنسان، وفي حال قصوره وعجزه عن حفظ مصالحه شرعت ما يحفظها له، ومن هذا الباب: الحجر على الصغير والسفيه والمجنون، حيث يحجر عليه حفاظاً لمصلحته حتى لا يضيع ماله، وفي نفس الوقت حفظت مصلحة من يتعامل مع هذه الأصناف على تفصيل في ذلك.

بيان من يحجر عليه لمصلحة نفسه

بيان من يحجر عليه لمصلحة نفسه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ويحجر على السفيه والصغير والمجنون لحظهم]. هذا النوع الثاني من الحجر، فبعد أن فرغ -رحمه الله- من الحجر على الشخص لمصلحة غيره وهو المفلس الذي يحجر عليه لمصلحة الغرماء، شرع في الحجر على الشخص لمصلحة نفسه. وبالنسبة للنوع الأول فإنه تختلف تسمية العلماء له، فبعضهم يقول: باب التفليس، ويذكر أحكام المفلس، وبعضهم يجعله في باب الحجر، ويقدم هذا النوع وهو الحجر لحظ نفسه على الحجر لحظ غيره، والمصنف -رحمه الله- درج على تقسيم المفلس وإدراجه تحت باب الحجر، والحجر على المفلس -كما ذكرنا- لحظ الغير. وهناك أنواع من الحجر لحظ الغير غير الحجر على المفلس، فيدخل فيها الحجر على صاحب الرهن في الرهن، وقد تقدم في باب الرهن، ويدخل فيها الحجر على المريض مرض الموت أن يتبرع بأكثر من الثلث، وهذا سيذكره المصنف -رحمه الله- في باب عطية المريض. فالمريض مرض الموت لا يجوز له أن يتبرع بما زاد عن الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم) وقال لـ سعد: (الثلث والثلث كثير) حتى كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (لو أن الناس غضوا عن الثلث فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير)) فهذا لحظ الغير. ولذلك قال بعض المالكية في نظم هذا النوع: وزوجة في غير ثلث تعترض كذا مريض مات في ذاك المرض أما بالنسبة للحجر على الشخص في مصلحة نفسه فيشمل الأنواع التالية: النوع الأول: السفيه. والنوع الثاني: المجنون. والنوع الثالث: الصغير. فهؤلاء ثلاثة أصناف يحجر عليهم لمصلحة أنفسهم. والسبب في هذا: أن المقصود أن يمنعوا من التصرف في أموالهم حتى لا يتلفوها؛ لأنه ليست عندهم الأهلية للنظر في مصالح أنفسهم، فلو مكنوا من البيع والشراء خدعهم الناس وضاعت عليهم أموالهم وحصلت المفاسد كما قدمنا في المفلس.

الحجر على السفيه

الحجر على السفيه قوله رحمه الله: (ويحجر على السفيه) أصل السفه: الخفة، والسفساف: الخفيف من الأشياء التي تسفه الريح، وقالوا: سمي السفيه سفيهاً لخفة عقله؛ لأن العاقل كامل العقل يحسن التصرف في أموره. والسفيه يكون خفيف العقل بالتصرف في ماله من جهة الأخذ ومن جهة الإعطاء، ويحكم بكون الإنسان سفيهاً من جهتين: إما من جهة المال نفسه إذا باع واشترى، وإما من جهة الاستمتاع بالمال، فهناك جانبان يحكم بهما على كون الإنسان سفيهاً. وقالوا: يكون سفيهاً إذا باع بأقل من الثمن الذي يباع به الشيء، أو إذا اشترى بأكثر من الثمن الذي يباع به الشيء. وهذا النوع من السفهاء يعرفه العلماء بقولهم: هو الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء لغيره. لا يحسن الأخذ لنفسه: أن يشتري بأكثر مما تستحقه السلعة، ولا يحسن الإعطاء لغيره: أن يبيع بأقل مما تستحق السلعة. مثال ذلك: أن تكون عنده سيارة قيمتها عشرة آلاف ويعلم أن قيمتها عشرة آلاف، فإذا جاء يبيعها جاءه رجل وقال له: بعنيها بتسعة آلاف أو بثمانية آلاف، فيبيعها وهو غير مضطر، لكن لو كان عنده ضرورة أو مقصد كأن يأتيه شخص يرى عليه آثار الضعف أو المسكنة فينوي الصدقة عليه فيقول: أبيعها بثمانية آلاف، والله يعلم في قرارة قلبه أنه لا يرضى إلا بالتسعة أو تسعة آلاف وخمسمائة وهي التي يمكن أن تباع بها السيارة، وإنما قصد التصدق بما بين القيمتين، فإن الله يأجره، وهذا ليس بسفه، هذا رشد الدين وهو الذي تكون فيه الدنيا تبعاً وليست بمقصد، فإذا كان مثل هذا فإنه مأجور. وكذا لو أنه جاء يشتري شيئاً فقال له البائع: الشيء بعشرة، ويرى عليه آثار الضعف أو يراه محتاجاً أو عاملاً عند الغير فيعطيه عشرة، ويزيده ريالاً أو ريالين من باب الإحسان والإكرام والرفق به، فهذا ليس بسفه؛ لأنه عامل بالدنيا وانفكت الجهة في الآخرة، فالريالان اللذان دفعهما لم يكن مقصوده منهما المعاوضة وإنما قصد منهما الآخرة، فهذا لا يدخل في السفه، إذ السفه شرطه ألا تكون هناك أسباب تقتضي الزيادة أو النقص، فإن وجدت الأسباب فلا، مثلاً: ابن عمي لو جاء يشتري مني سلعة قيمتها مائة، وبعتها بسبعين وأنا لا أقصد البيع حقيقة، وإنما قصدت أن أبيع بالسبعين والعشرون أو الخمسة والعشرون التي هي فضل القيمة قصدت بها الصدقة على ابن العم أو صلة الرحم، أو أحببت أن مالي يذهب إلى قريبي فهذا يؤجر عليه الإنسان. فمثل هذه الأحوال لا يحكم فيها بسفه الإنسان إنما السفيه هو الشخص الذي عنده تلاعب بالأموال وتساهل فيها. وكذلك النوع الثاني من السفه الذي يبذر لشهوة نفسه، كرجل يدمن السفر، ويكثر في هذه الأسفار من إنفاق المال في متع مباحة، أما إذا كانت محرمة فبالإجماع أنه سفيه ولا إشكال، لكن إذا كان في متع مباحة كأن يشتري الأشياء الفاضلة الزائدة عن حاجته، فيكون بإمكانه أن يشتري سيارة بخمسين ألفاً فيذهب ويشتري السيارة بمائة ألف، فالسيارة شهوة وفيها مصلحة، وصحيح أنها في بعض الأحيان تكون حاجة لكن الزيادة على الخمسين في قيمتها يعتبر سفهاً؛ لأنه تبذير للمال في الشهوة وهو يحب المظاهر، فتجده يشتري ثوباً قيمته مائة، وبإمكانه أن يشتري ثوباً يستره بخمسين، فيأخذ ضعف الشيء، فمثل هذا يعتبر سفيهاً، وقد أشار إلى ذلك بعض العلماء -رحمهم الله- بقوله: والسفه التبذير للأموال في شهوة ولذة حلال فلما قال: في شهوة ولذة حلال. دل على أنه من باب أولى إذا كانت شهوته ولذته في حرام. وعلى كلٍ: هذا السفيه إذا ثبت سفهه؛ فإنه يحجر عليه القاضي، بعد ثبوت سفهه من خلال التعامل وشهادة شاهدين عدلين أنه اشترى سلعة قيمتها مائة ألف ومثلها يباع بخمسين. فإذا ثبت ذلك عند القاضي بشهادة العدول أو بإقراره حكم بالحجر عليه للسفه. والأصل في مشروعية الحجر على هؤلاء قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5].

الحجر على الصغير

الحجر على الصغير قوله: (والصغير) والصغير هو الصبي، وهو الذي دون البلوغ، والصبي مأخوذ من الصبى وهو ضد الحلم والبلوغ، والأصل في الحجر عليه عموم قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5] ولذلك قال طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والمفسرين من التابعين وغيرهم: إنه يدخل فيهم الصغار، ولذلك أمر بالحجر على الأيتام. واليتيم من توفي أبوه وهو دون البلوغ، فلو كان الصبي يستحق أخذ ماله لأخذه اليتيم، والله نهى عن إعطاء اليتيم ماله، وأمر باختباره عند البلوغ فقال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] فقال: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء:6] وجعل الابتلاء لما قبل البلوغ، واشترط لفك الحجر على اليتيم شرطين: الشرط الأول: أن يبلغ، فدل على أنه قبل البلوغ لا يزال تحت الحجر. والشرط الثاني: أن يكون رشيداً بعد بلوغه، فإن بلغ غير رشيد فإنه يستمر الحجر عليه كما سيأتي. قال المصنف: (الصغير) ولم يقل: اليتيم؛ لأن الصغير يشمل الصغير الذي أبوه موجود، واليتيم الذي فقد أباه، وهذا صحيح، ولذلك من الخطأ أن نقول: يحجر على السفيه واليتيم، ولذلك انظر إلى دقة العلماء قال: (والصغير) وبعضهم يقول: (والصبي) والصغير أفضل لأن المراد به جنس الصغير ذكراً كان أو أنثى.

الحجر على المجنون

الحجر على المجنون قوله: (والمجنون لحظهم). سواءً كان جنونه متقطعاً أو مستديماً، فهؤلاء يحجر عليهم، أما المجنون المتقطع فإنه إذا أفاق وكان رشيداً رد إليه ماله، وأما إذا كان جنونه مستديماً فإنه يستمر عليه الحجر. الخلاصة: أن المجنون واليتيم بإجماع العلماء يحجر عليهما، والخلاف في السفيه فقط، فجمهور العلماء على أن السفيه يحجر عليه، وهذا مذهب المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث -رحمة الله على الجميع- أن من كان بالغاً ولا يحسن التصرف في ماله فإنه يحجر عليه لقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]. وخالف في هذه المسألة الإمام أبو حنيفة النعمان -عليه من الله الرحمة والرضوان- فقال: لا يحجر على من بلغ خمساً وعشرين، وقال: إن البالغ لا يحجر عليه. واحتج بآيات الكفارة، وقال في بعض الروايات عنه: إذا بلغ إحدى وعشرين سنة فلا يحجر عليه، وفصل في اليتيم إذا بلغ سفيهاً فقال: يستمر الحجر عليه إلى خمس وعشرين. وأما من بلغ إحدى وعشرين ثم حصل منه سفه بعد الواحد والعشرين فلا يحجر عليه، واستدل بآيات الكفارات، فقال: إن الله تعالى أوجب على من جامع أهله في نهار رمضان أن يكفر بعتق الرقبة، ففعل هذا الجماع وهو صائم في نهار رمضان سفه بل جمع بين سفه الدين والدنيا، ومع ذلك خاطبه الله بعتق الرقبة وبإطعام ستين مسكيناً، فدل على أنه يملك المال وأن من حقه أن يتصرف في المال وأنه لا يحجر عليه، وهذا ضعيف؛ فإن الآية صريحة في قوله: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5] وهي نص في موضع النزاع. وأما مسائل الكفارات فإنه لا تعارض بين عام وخاص، نقول: هذا عام وهذا خاص، ويستثنى من ذلك حقوق الكفارات كما استثناها الجمهور. المسألة الثانية في قوله: إنه إذا بلغ إحدى وعشرين صار جداً، والجد لا يحجر عليه، يقول: لأن الرجل يمكن أن يصبح جداً وعمره واحد وعشرون سنة، فلا يتأتى ولا يليق أن الرجل جد -وهو والد لولد وولد الولد- ويحجر عليه، وهذا دليل النظر والعقل، وهذا ضعيف؛ لأنه عقل في مقابل نقل، وثانياً أن مسألة كونه جداً أو ليس بجد لا يؤثر فالعبرة بإحكام النظر في المال. ولو سألناهم: لم توافقون على الحجر على اليتيم؟ قالوا: لأنه لا يحسن النظر لنفسه. نقول: إن هذا الكبير مع اليتيم شاركه في عدم إحسان النظر في ماله، فحجر عليه كما حجر على اليتيم، وأياً ما كان فالصحيح مذهب الجمهور: أنه يحجر على السفيه سواءً كان بلغ إحدى وعشرين أو لم يبلغها، ويستمر الحجر عليه ولو بلغ خمساً وعشرين سنة.

معاملة وجناية المحجور عليهم

معاملة وجناية المحجور عليهم يبقى الأثر المترتب على الحكم بالحجر عليهم، وهو أنه إذا عاملهم الغير بتجارة أو إجارة أو غير ذلك أنه يتحمل مسئولية المعاملة معهم. فلو أن رجلاً باعهم متاعاً كسيارة ثم علم أو تبيّن أن الذي تعامل معه مجنون، فإن كان يعلم بأنه مجنون؛ فإنه يجب رد عين السيارة، فلو أن هذه السيارة تَلِف فيها شيء؛ فإنه لا يضمنه المجنون إذا كان عالماً بجنونه. والسبب في هذا: أن من عامل الصبي أو المجنون أو السفيه عالماً بكونه محجوراً عليه فإنه يتحمل المسئولية والأثر المترتب على هذه المعاملة، فيُرَد عين المبيع، ولا يلزمهم الضمان، وبناءً على ذلك فإن الشخص العالم بالحجر عليهم يتحمل مسئولية الضرر. أما إذا كان غير عالم كأن يتعامل معهم من يظنهم أهلاً للمعاملة، ثم يتبيّن له أن الذي تعامل معه مجنون؛ فحينئذٍ يجب رد المال وضمانه.

حكم التعامل مع المحجور عليهم

حكم التعامل مع المحجور عليهم قال رحمه الله: [ومن أعطاهم ماله بيعاً]. إذا باع على الصبي تحمل المسئولية، فلو أخذ الصبي هذه السيارة بعشرة آلاف ريال، فنقول: الحكم حينئذٍ: يُلزم هذا الشخص الذي تعامل معه برد العشرة الآلاف وترد السيارة بعينها. وفائدة ردها بعينها أنه لو تلف فيها شيء أو تضرر فيها شيء مع علمه بكونه محجوراً عليه؛ فإنه هو الذي يتحمل مسئولية ذلك الضرر. فإذا أخذ الصبي السيارة وحصل له بها حادث فأصبحت لا تساوي إلا خمسة آلاف؛ فإنه يرد عين السيارة دون أن يضمن شيئاً؛ لأن الذي تعامل معه أدخل على نفسه الضرر، فمثل هذا لا يتعامل معه، فإذا باعه على هذا الوجه فالبيع فاسد، ويجب رد عين المبيع، وهذا معنى قوله: (ويرده بعينه) أي: يرد عين المبيع ولا يرد مثله. قال رحمه الله: [أو قرضاً]. كأن يكون أعطى صبياً عشرة آلاف قرضاً، وكانت العشرة موجودة بعينها، فإنها ترد، وأما إذا أتلف منها الصبي والدائن عالم بكونه صبياً، فإنه لا يُرد له إلا الذي وُجد، لكن إذا كان غير عالم؛ فإنه يضمن حقه. قال رحمه الله: [رجع بعينه] أي: طالب برد عين الذي باعه وعين الذي أخذه الصبي والسفيه والمجنون. قوله: [وإن أتلفوه] أي: أخذ السيارة فأتلفها، أو اشترى منه عمارة فأفسد فيها وأتلف فيها، فإنه في هذه الحالة لا يضمن. قال رحمه الله: [لم يضمنوا] لا يضمن الصبي ولا المجنون ولا السفيه إذا كان الذي عامله عالماً بسفهه وصباه، وبعدم أهليته للتصرف.

حكم جناية المحجور عليهم على غيرهم

حكم جناية المحجور عليهم على غيرهم قال رحمه الله: [ويلزمهم أرش الجناية وضمان مال من لم يدفعه إليهم]. هذه مسألة ثانية: لو أن هؤلاء جنوا جناية أفسدوا بها مبيعاً؛ فإنه يلزمهم ضمان أرش هذه الجناية لمن لا يعلم؛ لأنه عمل على الظاهر، وظن أنه أهل، فمثل هذا لم يدخل الضرر، وليست هناك دلالة ظاهرة منه تدل على الرضا بالضرر، بخلاف من عاملهم وهو يعلم، فمن عاملهم وهو يعلم يتحمل الضرر، وأما من عاملهم وهو لا يعلم فإنه في هذه الحالة يُضمن له حقه. مسألة ضمان الصبي والمجنون: لو أن صبياً أتلف سيارة رجل، أو مجنوناً أتلف بيت رجل أو متاعه، فإذا جئنا ننظر إلى أصول الشريعة فإن الصبي والمجنون غير مكلف، فالأصل يقتضي أننا لا نطالبهم بشيء؛ لأن الصبي والمجنون رفع عنهما القلم، لكن الشريعة فرقت بين أمرين؛ فرقت بين المؤاخذة كحق لله عز وجل بحصول الإثم وبين حق الغير. ففي حقوق الناس والاعتداء على أموالهم، كالسيارة تتلف أو البيت يهدم أو تفسد فيه مصالحه، فإنه يجب ضمانها، والمجنون لو أتلف سيارة رجل؛ فإنه يجب ضمان التلف الموجود في هذه السيارة. وهذا محل إشكال، كيف نؤاخذ المجنون؟ و A أن هذا مبني على الحكم الوضعي لا الحكم التكليفي، فهناك جانبان في الأحكام: حكم تكليفي، وحكم وضعي. فالحكم التكليفي حكم من ناحية الوجوب والندب والاستحباب والكراهة والتحريم والإباحة، ويتعلق بمن هو مكلف وفيه أهلية التكليف، فيؤاخذ بتركه أو امتناعه عن فعل الواجب أو وقوعه في المحرم. لكن بالنسبة للحكم الوضعي فمن الممكن أن يؤاخذ من باب وجود السبب، فالشريعة تقول: أي إتلاف وقع على مال إنسان بدون حق فإنه يجب على المتلف أن يضمن، بغض النظر عن كونه أهلاً أو غير ذلك، فلا تنظر الشريعة إلى هذا، بل تنظر إلى الحق في المال، وجعلت الضمان على المتلف سواءً كان أهلاً للتكليف أو غير أهل. ولذلك إذا نظرنا إلى الحكم الوضعي نرى أن الإتلاف سبب للضمان بغض النظر عن المتلف، سواءً كان صغيراً أو كبيراً، إذ لو قلنا بعدم ضمان الصبيان لأمكن لكل مفسد أن يأخذ جملة من الصبيان ويوعز إليهم أو يأمرهم بالإتلاف والإفساد، فهذا يفتح باب شر عظيم، ثم أيضاً نفس الصبية يتمردون ويكون ذلك سبباً لأذية الناس. فالصبي إذا أتلف يضمن، وإذا كان ليس عنده يتحمل والده ويضمن عنه؛ فحينئذٍ كأن الشريعة تنظر إلى من يعين الصبي على إفساده، فإن أولياءه متى علموا أنه إذا أتلف يؤاخذون؛ فإنهم سيأخذون على يديه ويحافظون عليه. أما من حيث الحكم التكليفي من أنه يأثم: فلا يأثم؛ لأن الصبي لم تتوفر فيه أهلية المؤاخذة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي داود وأحمد في مسنده وهو حديث صحيح: (رفع القلم عن ثلاثة) وذكر منهم الصبي والمجنون. ومن هنا قالوا: إن الهازل إذا طلق يؤاخذ بطلاقه من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي، كما أن الحكم الوضعي أن المتلفظ بالطلاق يؤاخذ بلفظه، بغض النظر عن كونه قصد إيقاع الطلاق أو كان هازلاً. وبهذا أجاب الإمام الشاطبي -رحمه الله- في الموافقات في كتابه النفيس: المقاصد، فإنه لما تعرّض للمقاصد والنيات ولقاعدة: (الأمور بمقاصدها) ذكر أن مؤاخذة الهازل بطلاقه من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي. فمسألة تضمين المجنون والصبي مبنية على الحكم الوضعي، وهذا فيه رحمة عظيمة بالناس، فإن الناس متى علموا أن الأموال تضمن وتحفظ؛ حافظ بعضهم على أموال بعض، وأصبحت للأموال حرمة. ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم جعل حرمة المال مقرونة بالدم فقال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) فجعل حرمة المال مقرونة بحرمة الدم. فإذا أتلف الصبي أو المجنون مال الغير ضمنه؛ فإن كان الغير الذي تعامل معه هو الذي مكنه من المال وأعطاه وجعله عنده وهو يعلم أنه صبي وأنه محجور عليه؛ فإنه حينئذٍ يتحمل الضرر المترتب على تمكينه. والعكس بالعكس، فإن كان الذي تعامل معهم لا يعلم بكونهم محجوراً عليهم، فيضمن له حقه ولا يؤاخذ المحجور عليه. فعندنا قاعدة وهي: أن أموال الناس تضمن، ولذلك جُعلت قاعدة الضمان في المتلفات صيانة لحقوق أموال المسلمين. فإذا كان الأصل أن أموال المسلمين محرمة لا يجوز الاعتداء عليها، فمتى ما اعتدى الصبي أو المجنون أو غيرهم على مال الغير؛ وجب ضمانه. فإن كان هذا هو الأصل نقول: إن كان الصبي قد أخذ المال من شخص مكنه منه فالذي مكنه يتحمل المسئولية، وأما إذا كان لا يعلم أنه دون البلوغ، ولا يعلم أنه محجور عليه، وظنه بالغاً رشيداً عاقلاً، فإذا به مجنون وسفيه وصبي فهذا له عذره، وحينئذٍ يبقى الأصل الموجب للضمان.

الأسئلة

الأسئلة

المقصود بالرشد في قوله تعالى: (أليس منكم رجل رشيد)

المقصود بالرشد في قوله تعالى: (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) Q في قوله تعالى: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78] من أي الرشد هذا؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: الرشد معناه: الصلاح في الدنيا والصلاح في الدين، وصلاح الدنيا يشمل النظر في الأمور في أصلحها وأحسنها، ولوط عليه السلام استعطف قومه وردهم إلى ما فيه خيرهم ودعاهم إلى صلاح دينهم ودنياهم فأبوا عليه فقال: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78] استفهام إنكاري، أي: أليس فيكم من عنده رشد يمنعه ويردعه فيردع غيره وينصح غيره؟ لأن النصيحة إذا وجدت من يصغي لها فإنه سينصح غيره، ومن المعلوم عادة أن الشخص إذا نصح قد لا تقبل منه النصيحة؛ لكن حينما يكون فيمن يُنصح رجل رشيد يتقبل النصيحة، فإنه قد يدفع غيره إلى القبول فيتأثر. فالوعظ لا يكفي فقط، بل لا بد مع الوعظ من أن يتقبل الغير ويتأثر فهو يقول: (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78]. فهذا الاستفهام إنكاري والمراد به رشد الدين، أي: اقبلوا دعوتي، واقبلوا ما أذكركم وأعظكم به، أو يكون المراد به: رشد الدنيا، بمعنى: النظر في أصلح الأمور وترك ما تكون عواقبه وخيمة، ومن ذلك الإعراض عن الدين والإعراض عن الله. والله تعالى أعلم.

حكم الصبي إن خرج منه المني لمرض

حكم الصبي إن خرج منه المني لمرض Q لو خرج المني من الصبي بمرض أو غير ذلك هل يحكم ببلوغه؟ A هناك فرق بين افتراض الشيء ووجود الشيء، يعني كما لو قال قائل: إذا لم تغب الشمس هل نصلي المغرب، فكيف يخرج المني دون البلوغ؟ أصلاً المني لا يتكون إلا في بالغ، هذا المعروف عند الأطباء وهذا الذي ذكره الأطباء. المهم أن المني لا يتكون ولا يخرج إلا من بالغ، ولا أذكر كلاماً لعالم أو لطبيب في القديم أو الحديث يذكر أن طفلاً خرج منه المني حتى ولو بعلة. فلا يمكن ذلك أصلاً؛ لأن الله يقول: {خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] … {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] فجعل كل شيء في موضعه وفي مكانه، لا تستطيع أن تقدمه ولا تستطيع أن تؤخره، ولن تستطيع أن تجد أكمل ولا أبدع من صنع الله جل جلاله، وهو تعالى يقول: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:117] ما هو بديع الخلق الذين هم الناس والضعفاء فقط، إنما أخرج لنا هذا الملك العظيم -السموات والأرض وما فيها من تقدير الأشياء- {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر:19] بدقة متكاملة لا يمكن أبداً أن يزيد شيء عن حده الذي جعله الله فيه: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3]، وإذا جعل الله ذلك فلا يستطيع أحد أن يقدم شيئاً أخره الله. فهذا الخلق للماء خلق تقديري موجود في أعضاء الإنسان التناسلية، ومقدر ومرتب ومرتبط ببلوغه، ولا يمكن أن توجد هذه الغدد أو تصدر أوامرها بإفراز هذه المادة المنوية في الصبي. هذا أمر ينبغي وضعه في البال، وفرق بين فرض الشيء ووجود الشيء، فالشيء الذي ليس له حقيقة في الوجود كما قال الإمام الشافعي: إذاً نمد الرجلين. فالشيء الذي ليس له أصل في التقدير ما يحكم به. لكن مثلاً: لو أن صبياً عمره أربع عشرة سنة، ثلاث عشرة سنة، اثنتا عشرة سنة، هذه كلها سنوات محتملة لخروج المني، وفجأة صار له فاجعة -نسأل الله السلامة والعافية- ويقع هذا، ففي الفاجعة أنزل، يحكم ببلوغه؛ لأن الغدد هذه تفتقر إلى قوة إما بالبلوغ، وهي القوة الذاتية، وإما بقوة من خارج. ولذلك البدن يستعان فيه بعد الله عز وجل بأشياء من داخله وأشياء من خارجة، يقولون: المريض إذا مرض تكون قد عجزت الأشياء الداخلية عن دفع هذا المرض فيعطى العلاج، وبعض الأحيان تكون حمية الإنسان وسخونة البدن ونشاط الإنسان يقوي ما فيه بقدرة الله عز وجل ويدفع المرض. فتجد بعض الناس يصاب بأمراض لا تؤثر فيهم كتأثيرها في أشخاص آخرين، ويعلم الأطباء هذا، حتى إن بعض العظماء لما أصابه بعض الأمراض وأعيت فيه الحيلة، وجلب أطباء الأرض، فما وجد عندهم دواءً كتب إلى الرازي وجاءه. فلما جاءه ورأى ما به قال: علاجك في أمرين: أولاً: أن تعطيني فرسين. ثانياً: أن تأمر أحد رجالك أن يكون بجواري، وأدخل أنا وأنت في الحمام -الحمام الساخن- وتأمر هذا المولى أن يطيع ما أقوله له، ولا يعصيني فيه، ولا يطيعك إذا أمرته. قال: وهو كذلك، فدخل معه الحمام، فلما أدخله صار يلكزه، فكلما أراد من شدة الحر يرتفع يمنعه حتى كاد أن يموت، قال له: إنما فعلت بك هذا لأقتلك، فلما قال هذه المقالة اشتد غضبه، فأوعز الرازي للمولى أنه متى ما ركبت الفرس اتركه يركب ورائي، ففر عنه، وركب وراءه الفرس يريد أن يدركه، فبعد ما ركب مع الحمية والغضب والشدة سخن بدنه وزالت عنه العلة، فلما أدركه وأصابه قال: إنما فعلت بك من أجل شفائك فهل تجد شيئاً من مرضك؟ قال: ما أجد له حساً، قال: إنه كانت بك فضلات، عجز البدن والدواء عن إخراجها، فما بقي إلا أن تقوى نفسك على نبذ هذا الشيء وهو وجود حمية أو غضب، لكنك كنت في نعيم وترف فلا بد وأن تخرج عما أنت فيه وليس ذاك إلا إذا سخن جسمك واشتد غضبك. فالشاهد أن الإنسان قد يبلغ بسبب فاجعة تأتيه أو أمر شديد عليه أو أمر له ضرر فيفاجأ به، فمن شدة المفاجأة ينشط ما به فينزل، أو يقع منه الاحتلام، حتى إن المرأة ربما ينفجر معها الحيض عند فاجعة، ويقع هذا ويحدث فتنشط أعضاؤها. فأياً ما كان نحن نقول: إن هذه العلامة يحكم بها إذا كان السن لمثلها وخرج، ولو خرج بفاجعة أو مرض، فإنه يحكم ببلوغه؛ لأن الإنزال قد وقع. والله تعالى أعلم.

كيفية صيام من نذر أن يصوم شهرا

كيفية صيام من نذر أن يصوم شهراً Q امرأة نذرت صوم شهر، فهل تصومه متتابعاً أو متفرقاً مع أن التفرق أيسر لها لكبر سنها؟ A إذا قالت: لله عليّ أن أصوم شهراً فلها أحوال: الحالة الأولى: أن تسمي شهراً معيناً، فيجب عليها أن تصومه كاملاً، ويستوي في ذلك أن يكون تسعة وعشرين يوماً أو ثلاثين، فإن كان تسعة وعشرين أجزأها وإن كان ثلاثين فلا إشكال. الحالة الثانية: أن تقول: لله عليّ أن أصوم شهراً دون أن تعين، فلا يخلو من ضربين: إما أن تشترط التتابع وتقول: لله عليّ أن أصوم شهراً متتابعاً فيلزمها أن تتابع. وإما أن تطلق فيجزئها أن تصوم ثلاثين يوماً. وعلى هذا: يجوز لها أن تصوم الثلاثين يوماً متفرقة أو تصومها مجتمعة، ما دام أنها لما حلفت ونذرت لم تحدد ذلك ولم تقيده بالتتابع، فيلزمها أن تصوم الثلاثين ويجزئها أن تكون مفرقة أو متتابعة. والله تعالى أعلم.

حكم حرق أوراق القرآن إذا كان ممزقا

حكم حرق أوراق القرآن إذا كان ممزقاً Q هل يجوز حرق المصاحف إذا تلف بعضها؟ A حرق المصاحف يجوز إذا تلفت وخشي عليها الضرر، وهذا استنبطه طائفة من العلماء من فعل الصحابة رضوان الله عليهم، فإن عثمان رضي الله عنه لما نسخ المصحف الإمام أمر بإحراق بقية المصاحف. فدل هذا على أنه إذا وجد ضرر على القرآن كأن يكون في موضع يمتهن فيه أو موضع يخشى أن يتطاير ورقه فيمتهن فيجوز حرقه. أما أن يتوسع في هذا الأمر وكلما وجدنا مصاحف قديمة أخذناها وأحرقناها، فهذا والله من أعظم الإساءة ومن أعظم الإفساد، وربما في بعض الأحيان تجد المصحف منزوعاً منه ورقة واحدة فيأتي مباشرة ويأخذه من المسجد ثم يحرقه، وهذه المصاحف خاصة إذا كانت في المساجد أوقاف أهلها الذين أوقفوها ربما كانوا أمواتاً يفتقرون لكل حسنة. فمن جاء إلى هذه المصاحف وأتلفها وأحرقها بدون حق فقد ظلم، وهم خصومه بين يدي الله عز وجل، فلا يجوز إخراج المصاحف من المساجد ولا إحراقها إذا كانت وقفاً ما لم تتعطل مصالحها بالكلية، ولا يمكن استبدالها. في أحوال خاصة يحكم بجواز إحراقها، أما ما عدا ذلك فلا يجوز؛ لأن لكتاب الله حرمة، والله تعالى يقول: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56] وكما قال مجاهد بن جبر رحمه الله: (إن قلع الشجر إتلاف للمنافع والمصالح) وأعظم المصالح مصالح الدين، فإحراق كتب العلم وإحراق المصاحف من إتلاف تلك المصالح والمنافع. ويدخل في ذلك كتب العلم أيضاً، فإن بعض الطلاب إذا قرءوا وكتبوا المذكرات وانتهى الاختبار أحرقوا هذه المذكرات وأتلفوها، ولربما يأتي إلى الكراس وفيه الورقة والورقتان، أو قل عشر أوراق مكتوب فيها، وثلاثون أو أربعون ورقة ليس مكتوباً فيها ويحرق الجميع، هذا كله من الإفساد ولا يجوز ذلك، ولقد أدركنا بعض علمائنا ومشايخنا -رحمة الله عليهم- يستشيط غضباً شديداً لما يرى هذا ويغضب، والورقة إذا كان بعضها تالفاً وبعضها صالحاً فإنه ينزع التالف ويستفاد من الصالح لأي غرض يحتاجه لكتابة فائدة أو يكتب عليه أو يجرب عليه القلم، المهم لا يرمى وهو صالح بل يكتب عليه. ومن أعظم ما يكون أن يكون فيه علم نافع، فإن الله تعالى يأجر من كتب العلم ومن سمعه، ومن شهد مجالسه، كلهم لهم أجر وثواب من الله عز وجل. فهذا المكتوب إذا كتبته يداك فإن الله عز وجل يكتب لك أجر الكتابة، فإن خلصت نيتك؛ بارك الله لك فيما كتبت، وربما بقي دهراً طويلاً ينسخ منه غيرك ولك في ذلك أجر، ولربما تأتي إلى درس علم وتنسخه وتفرغه فتنتشر منه مذكرات أو تطبع كتب فيعود عليك أجر ذلك كله. هذا خير وفضل عظيم، وما الذي رفع الله به قدر السلف إلا الصبر على هذا العلم وكتابته والحرص على الانتفاع به، فلا ينبغي لطالب العلم أن يحرق مثل هذه الكتب والأشياء المفيدة. كان السلف والأئمة والأولون إذا وجدوا الفائدة ولم يجدوا ما يكتبون عليه؛ نقشوها على الجدران، وربما نقشت على الحجارة، كل ذلك خشية أن يذهب العلم. والله تعالى أنْعم علينا بهذه النعم والخيرات العظيمة، وكان الرجل لا يستطيع أن يكتب حرفاً واحداً، ما لم يجد الريشة التي تكتب وتكون صالحة، ولربما يعي في إصلاحها، أو يجد ما يصلح الكتابة، أو يجد ريشة إذا كتب بها تكون خفيفة الوضع حتى لا تشغل مكاناً كبيراً. فالله أعطانا من الأقلام أدقها وأبراها وأجملها وأحسنها، بل لم يقف الحد عند هذا حتى إنها تساق لك من مشارق الأرض ومغاربها. اللهم لك الحمد، اللهم لك الحمد ولك الشكر، وتضعها في جيبك، وما كنت تستطيع أن تضع ما كتبته بل لا بد تنقل معك محبرتك ودواتك، وتنقل معك آلات الكتابة كما تنقل الكتاب، ويجدون في ذلك من الجهد والعناء ما الله به عليم، والله تعالى جعله في جيبك طوع بنانك، وتكتب به ما تشاء، ولربما كلت يد الكاتب. فالإنسان يحمد نعمة الله عز وجل والله تعالى يقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم:28] فكل نعمة ينعمها الله عليك؛ ينبغي عليك أن تتأمل وأن تتدبر هذه الكتب وهذه المصاحف، نعمة عظيمة، ولو كانت صفحة من كتاب الله، فاحمد الله عز وجل أن الله أعطاك هذه الصفحة. وكم من أناس كانوا يتمنون أن يروا هذا الصفحات، فلنحمد الله على نعمه ونشكره على فضله وكرمه، ولنحسن في هذه النعم، ونحاول قدر الاستطاعة المحافظة عليها وإحسان النظر فيها حتى يبارك الله فيها. نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم بمنه وكرمه ذلك الرجل. والله تعالى أعلم.

المقصود بالطفل في قوله تعالى: (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء)

المقصود بالطفل في قوله تعالى: (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ) Q ما المقصود بالطفل في قوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31] ما المقصود بالطفل؟ A فإن الأطفال ينقسمون إلى قسمين: - القسم الأول: من يبقى على سجيته وغفلته وفطرته، بعيداً عن الفتن، لا يتعرض للنساء، ولا يحرص على الاطلاع على عوراتهن، فمثل هذا يبقى على الأصل في العفو عنه ما دام أنه لم يبلغ الحلم. والقسم الثاني: على العكس من ذلك، عنده استشراف وطلب وحرص على النظر إلى النساء، ولربما تحدث بأمورهن وظهرت منه الريب، فمثل هذا يُحجب ولو كان دون البلوغ، كما أن الكبير الذي تكون فيه غفلة -غير أولي الأربة- وهم الذين لا يشتغلون بأمور النساء وفيهم نوع من العته أمرهم مخفف فيه، فإن ظهرت منهم الريبة حجبوا. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أراد غزو الطائف قال الرجل: لئن فتح الله على نبيه غداً الطائف لأدلنك على ابنة غيلان تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخلن عليكم هذا بعد اليوم) وكان في الأول يتسامح فيه يظنه ليس من ذوي الإربة، فلما سمع منه هذه المقالة والتحرش بالنساء والدلالة على عوراتهن؛ حجبه عليه الصلاة والسلام عن النساء، وأمرهن أن لا يدخلنه. ففي بعض الأطفال نوع من الذكاء ونوع من الجرأة، فمثل هؤلاء يمنعون ولو كانوا صغاراً. وعلى هذا قال العلماء: أيضاً الطفلة الصغيرة ربما كان جسمها وطبيعتها تقارب الكبيرة فإذا نظر إليها فتنت، قالوا: تحجب وهي صغيرة؛ لأن الحكم يدور حول المصلحة والمفسدة، فمثل هذا يتقى وتطلب فيه تقوى الله عز وجل وتحصل المصالح التي يقصد الشرع تحصيلها، وتدرأ المفاسد التي يطلب الشرع درءها. والله تعالى أعلم.

الجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام: (من قرأ آية الكرسي لم يقربه شيطان) وبين قوله: (إذا نام أحدكم عقد الشيطان على ناصيته)

الجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام: (من قرأ آية الكرسي لم يقربه شيطان) وبين قوله: (إذا نام أحدكم عقد الشيطان على ناصيته) Q كيف يتم الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي لم يقربه شيطان) وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا نام أحدكم عقد الشيطان على ناصيته ثلاثاً)؟ A أما من حيث قراءة آية الكرسي فينبغي أن يعلم أنه ما من مسلم يقرأ شيئاً في كتاب الله أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم وكان فيه وعد بخير أو أمر إلا وجب عليه أن يسلم تسليماً، وأن يعتقد اعتقاداً جازماً أن ما ورد في هذا النص من الكتاب والسنة حق لا مرية فيه، وأن الله يعطيه ما وعده، فإن الله لا يخلف الميعاد. إذا ثبت هذا فإن قراءة آية الكرسي إنما يكون تأثيرها الكامل وتأثيرها على أتم الوجوه وأكملها وحصول الموعود على أتم الوجوه وأكمله لمن قرأها بإيمان وخشوع وحضور قلب. ومن هنا يتفاوت الناس في قوة التأثير على حسب قوة اليقين أثناء القراءة والاعتقاد، ولذلك تجد بعض القراء كما قال صلى الله عليه وسلم في الفاتحة: (وما يدريك أنها رقية) فرجل يقرؤها على مجنون فيشفى، ورجل يقرؤها على لديغ فيشفى، وقد يقرؤها قارئ مرات وكرات ولكنها لا تؤثر قراءته، أما المقروء فإنه مؤثر. ولذلك يختلف الناس في قوة العقيدة وقوة الإيمان، وقد يأتي الرجل إلى الكرب العظيم والخطب الجسيم فيقول: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، ويدخل بيقين بالله ولا يمس بسوء لقوة يقينه. (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) هذا الذي كمل يقينه وكملت عقيدته وإيمانه وتوحيده، فإذا كمل الإخلاص والتوحيد وأصبح القلب متوجهاً إلى الله بصدق، وإذا تلا الآيات تلاها بإيمان وإذا تليت عليه استجمع معاني الإيمان واليقين، فإن الله يجعل له أكمل الحظ وأكمل النصيب، فما أتي الناس إلا من ضعف اليقين. أما من حيث الحديث (يعقد الشيطان على قافية أحدكم) فليس فيه معارضة للحديث لأنه يجاب من وجوه: أولاً: إما أن يقال لا تعارض بين عام وخاص، فيكون قوله: (لا يقربه شيطان) بمطلق الحال، ولا يمنع هذا خصوص الابتلاء في الثلاث العقد التي لا يسلم منها النائم. وحينئذٍ من قرأ آية الكرسي فإنه لا يقربه شيطان بأذيته في نومه أو أذيته في ضجعته، فإن من نام يؤذى، ولذلك شرعت قراءة الأذكار قبل النوم. وعلى هذا إذا قرأها حفظ، فكان المراد به: لا يقربه شيطان بالنسبة لغير المستثنى بالنص. ثانياً: أن العقد على القافية ليس له علاقة بالقربان، فإنه يعقد عليه بدون وجود القربان؛ لأن اقتراب الشيء من الشيء ملاصقته، وقد يكون الاقتراب على وجه المداخلة، فالشيطان قد يداخل الإنسان. وبناءً على ذلك يكون المنفي (لم يقربه شيطان) غير المثبت بالعقد؛ لأن العقد قد يكون من بعيد وقد يكون العقد كما ذكر بعض العلماء: العقد المعنوي، وإن كان الصحيح أنه العقد الحسي. ولذلك من نام يشعر بهذا، يشعر أن الليل طويل، وأن هناك من يمنيه، فيكون من الوسوسة وحديث النفس. والذي يظهر والله أعلم: الجواب الأول، أنه لا تعارض بين عام وخاص. ولذلك الشيطان مسلط على الإنسان بالوسوسة وبحديث النفس، فلو أخذ قوله: (لم يقربه شيطان) على العموم مطلقاً لشمل حتى من يوسوس، ولكن الله تعالى جعل الإنسان مبتلىً بحديث الشيطان، وهذا لا يمنع ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى كل حال: من قرأ آية الكرسي فهو محفوظ محفوظ، والله عز وجل حافظٌ له لا محالة. وأذكر من مشايخنا -رحمة الله عليه- قال: من أهل العلم من ذكر أنه كان نائماً وأحس باثنين يتكلمان بجواره، وقال: سمعته يقول لصاحبه: لن تستطيعه، إنه تلا آية الكرسي قبل أن ينام. وذات مرة ذكر بعض العلماء قال: سمعت اثنين يتحدثان عند رأسي وأنا في البيت لوحدي، أو في الغرفة لوحدي فسمعته يقول: لن تستطيع أن تدخل فيه، إنه قرأ المعوذات. وهذه قد ثبت فيها النص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ المعوذات وينفث ثلاثاً كما في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعيذنا من نزغات الشياطين، وأن يرزقنا عفوه ومغفرته ولطفه وهو أرحم الراحمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

باب الحجر [5]

شرح زاد المستقنع - باب الحجر [5] من حجر عليه لأجل مصلحة نفسه، فإنه لا يفك الحجر عنه إلا إذا تحقق أنه يستطيع أن يرعى مصلحة نفسه، ولهذا جعلت الشريعة علامات وأمارات تدل على أن المحجور عليه قد صار أهلاً لتحمل المسئولية، وبثبوت تحقق هذه العلامات يفك الحجر عنه وإلا فلا.

العلامات الموجبة لرفع الحجر عن الصغير والمجنون والسفيه

العلامات الموجبة لرفع الحجر عن الصغير والمجنون والسفيه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وإن تم لصغير خمس عشرة سنة] ذكرنا غير مرة أن الفقهاء يرتبون المسائل والأحكام، ويراعون الترتيب أو التسلسل المنطقي. فأنت إذا حكمت بالحجر على السفيه والصبي والمجنون وبيّنت الأثر المترتب على الحجر يرد Q متى يفك الحجر عنهم؟ فشرع في هذه الجملة في بيان متى يفك الحجر؟ وهذا كمنهج القرآن في آية النساء فإن الله عز وجل قال: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]، وهذه الآية تشمل الصبي بنوعيه: اليتيم وغير اليتيم، وتشمل كذلك المجنون والسفيه ثم قال: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] فذكر فك الحجر عنهم. فعندنا ثلاثة جوانب ينبغي لطالب العلم أن يتنبه لها: - إثبات الحجر. - والأثر المترتب على الحجر. - وفك الحجر. فهذه هي الثلاث المراحل في باب الحجر: المرحلة الأولى: من الذي يحجر عليه، وما هي الأمور الموجبة للحجر؟ المرحلة الثانية: إذا حكمنا بالحجر لسبب السفه والصبا والجنون، فما الذي يترتب عليه؟ ذكرنا أن الذي يتعامل معهم إما أن يعلم وإما ألا يعلم، فإن علم فوجود العقد وعدمه على حد سواء فيجب رد عين المبيع، وإذا حصل فيه نقص فإنه يرد بحاله ولا يضمنه، وأما إذا كان لا يعلم فإنه يضمن على الأصل الشرعي. المرحلة الثالثة: متى يُفك عنهم الحجر؟ فقال رحمه الله: (وإن تم لصغير) هناك أمران لا بد من توفرهما في الصغير: البلوغ والرشد. فلا بد أن يبلغ وأن يكون رشيداً، فهاتان علامتان متى ما وجدتا حُكم بفك الحجر عن الصبي واليتيم، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] فذكر علامتين: - العلامة الأولى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء:6] أي: وصلوا سن النكاح، وهو قريب من طور الحلم. - وأما العلامة الثانية: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء:6] فعلق الحكم {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ} [النساء:6] وجاء مرتباً على شرطين: البلوغ والرشد. فقد يبلغ الصبي وهو سفيه أو وهو مجنون، فلابد من بلوغه ووجود الرشد فيه. وبعض الأطفال وبعض الصغار من نعم الله عز وجل عليه أنه ربما أعطي من الذكاء والفطنة وحسن النظر ما يسبق بلوغه، فإذا أعطي المال وحصلت عنده خبرة ودربة على التعامل خاصة أبناء التجار، كما في القديم حيث كان أبناء التجار هم الذين يتولون بأنفسهم المعاملات، وكان آباؤهم يعودونهم على ذلك، فهذا التعوّد ربما يكسب الصبي من الفطنة ما يقارب البلوغ ويكون في حكم الفطين البالغ، فالله عز وجل اشترط شرطين قال: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء:6] فلو أنه كان رشيداً قبل البلوغ لم ينفعه. ولو أنه بلغ غير رشيد لم ينفعه، فلا بد من وجود العلامتين: البلوغ والرشد.

علامات البلوغ

علامات البلوغ فأما البلوغ فللعلماء فيه وجهان: بعضهم يقول: ينبغي أن يختبر قبل البلوغ، أي: عند بلوغه ومقاربته له. وبعضهم يقول: يختبر بعد البلوغ. فيرد Q ما هو البلوغ؟ وما هي علامات البلوغ؟ هناك علامات تتعلق بالرجال، وهناك علامات تتعلق بالنساء، وهناك علامات تتعلق بالجميع، ولذلك العلماء -رحمهم الله- يقولون: إن علامات البلوغ منها الخاص ومنها المشترك. فأما بالنسبة للخاص فهو أقوى ما يكون في النساء، فهناك الحيض والحمل بالنسبة للمرأة، فإذا حاضت المرأة أو حملت حُكم ببلوغها وبلوغ زوجها، إن كان الحمل من زوج هي تحت عصمته؛ لأن الله يقول: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق:7]. وعلى القول بأنه يخرج الطفل من بين صلب المرأة وتريبتها فإننا نستدل بآية: {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:2]، حيث جعل الخلق في آية الإنسان من الخليط بين ماء الرجل وماء المرأة؛ فأثبت أن الخلق منهما معاً، فدل على أنه كما يحكم بالبلوغ للرجل يحكم بالبلوغ للمرأة. فإذا حملت المرأة حُكم ببلوغها، وكذلك إذا حاضت حُكم ببلوغها، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) فقوله: (لا يقبل الله صلاة حائض) أي: مكلفة بلغت سن المحيض وحاضت، وليس المراد (لا يقبل الله صلاة حائض) أي: أنها تكون حائضاً أثناء الصلاة؛ لأن الحائض لا تصلي. فمراده بوصفها بكونها حائضاً أي: بالغة، وهذا كما درج عليه الأئمة، وفسروا به هذا الحديث. فدل على أن الحيض والحمل -وهذا بإجماع العلماء- يعتبر من علامات البلوغ عند المرأة. وأما العلامات الخاصة بالرجال فليس هناك إلا إنبات الشعر في اللحية والوجه على القول بأن الإنبات عام وليس بخاص بالعانة، وهذا فيه نظر.

أقوال العلماء في السن المعتبرة للبلوغ

أقوال العلماء في السن المعتبرة للبلوغ قال المصنف رحمه الله: [وإن تم لصغير خمس عشرة سنة] علامات البلوغ منها علامة السن، واختلف العلماء رحمهم الله فيها على قولين: جمهور العلماء على أن السن علامة من علامات البلوغ، وأن للبلوغ سناً إذا وصل إليه الصبي حكم بكونه بالغاً إذا لم ير علامة البلوغ قبله، أما لو رؤيت علامة البلوغ قبل خمس عشرة سنة فلا إشكال، كصبي أنزل المني وعمره أربع عشرة سنة أو عمره ثلاث عشرة سنة، أو امرأة حاضت وعمرها عشر سنوات فإنها بالغة. فإذا قلنا: إن خمس عشرة سنة هي علامة البلوغ لمن لم تظهر منه علامة البلوغ قبل هذا السن، فجمهور العلماء على أن هناك سناً معيناً إذا وصل إليه الصبي أو وصلت إليها الصبية حكم ببلوغ كل منهما، وإن لم تظهر علامات البلوغ قبل ذلك، وخالف الظاهرية في ذلك. واستدل الجمهور، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر السِنّ علامة للبلوغ كما ثبت عنه في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (عُرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني -يعني للقتال- وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) هذه هي الرواية التي في صحيح مسلم: (عرضت عليه يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) لكن في رواية البيهقي يقول: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، ولم يرني قد بلغت، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة، فأجازني ورأى أني بلغت). فدل هذا على أن الخمس عشرة سنة فاصل بين البالغ وغير البالغ. وعلى هذا قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر السن علامة للبلوغ. وقال الظاهرية: ليس السن بعلامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة) وذكر منهم: (الصبي حتى يحتلم) فقالوا: ليس عندنا علامة إلا الاحتلام فقط، وهو إنزال المني كما سيأتي. والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور أن السن علامة يُستدل بها على البلوغ. و Q ما هي السن المعتبرة للبلوغ؟ فذهب الحنفية إلى التفريق بين الرجل وبين المرأة، فعند الحنفية أن المرأة إذا بلغت سبع عشرة سنة حكم ببلوغها، والرجل إذا بلغ ثماني عشرة سنة، ولا يحكم بالبلوغ قبل ذلك إذا لم تظهر العلامات؛ قالوا: لأن المرأة فيها من شدة الشهوة والطبيعة والغريزة ما يجعل بلوغها أبكر من الرجل، وهذا معلوم: أن النساء في البلوغ أعجل من الرجال. فقالوا: نفرق بينهم بسنة وحول كامل، ووافقهم المالكية، فقالوا: ثماني عشرة سنة هي البلوغ، ودليلهم الإجماع؛ لأن أقصى سن اعتد به: ثماني عشرة سنة، إلا طائفة من الظاهرية يقولون: إحدى وعشرين سنة؛ لأنه يصير فيها جداً على مسألة الشافعي رحمه الله حيث يقول: أعجل من رأيت في الحيض نساء تهامة، رأيت ابنة إحدى وعشرين سنة وهي جدة. تكون تزوجت وعمرها تسع سنوات، وأنجبت في العاشرة، ثم هذه التي أنجبتها مرت عليها تسع سنوات أخرى، فيصبح عمر الأم تسع عشرة سنة والبنت تسع سنوات، فزوجت كأمها وهي بنت تسع، فحملت وأنجبت على العشرين، فتدخل في الواحد والعشرين وهي جدة. فقال: أعجل من رأيت في الحيض نساء تهامة، رأيت جدة ابنة إحدى وعشرين سنة. فالإمام ابن حزم رحمه الله يقول: هذا أقصى شيء، فأنا آخذ باليقين، فيكون هو السن الذي يعتبر للبلوغ، لكن بالنسبة لجماهير العلماء يكاد يكون شبه إجماع على أنه ثماني عشرة سنة، والمالكية والحنفية يقولون: أقصى سن ثماني عشرة سنة وما وراءها متفق على أنه بلوغ، والخلاف فيما قبله، واليقين أنه صبي فنبقى على اليقين. هذا بالنسبة لدليل من يقول: إنها ثماني عشرة سنة، ولذلك المالكية يقولون: وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثمانية عشر حولاً ظهر هذا بالنسبة للمالكية حيث لا يفرقون بين الرجال والنساء. والصحيح ما ذهب إليه الإمام أحمد والشافعي وطائفة من أهل الحديث -رحمة الله على الجميع- من أن خمس عشرة سنة هي السن التي يفرق فيها ويحكم فيها بالبلوغ، وأنه إذا بلغ الصبي أو الصبية خمس عشرة سنة ولم ير علامة البلوغ قبل ذلك؛ فإنه يُحكم ببلوغهم بخمس عشرة سنة للحديث الذي ذكرناه، فإنه نص في موضع النزاع. ولذلك لما بلغت هذه السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمير المؤمنين الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز -رحمه الله برحمته الواسعة- كتب إلى الآفاق: انظروا فمن وجدتموه قد بلغ خمس عشرة سنة؛ فاضربوا عليه الجزية. فعده بالغاً. وعلى هذا نقول: سن البلوغ خمس عشرة سنة، ويستوي في ذلك الرجل والمرأة، فالجارية إذا بلغت خمس عشرة سنة ولم تحض ولم تحمل ولم تُنبت ولم تُنزل نحكم بكونها بالغة.

اختلاف العلماء في اعتبار الإنبات من علامات البلوغ

اختلاف العلماء في اعتبار الإنبات من علامات البلوغ قال رحمه الله: [أو نبت حول قبله شعر خشن] العلامة الثانية: الإنبات، والإنبات المراد به نبات الشعر، فيعرف بلوغ الرجل وبلوغ المرأة إذا نبت الشعر حول العانة، ويكون حول القبل، والشعر ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الشعر الضعيف الذي يكون عند أول الخلق، وهذا الذي تسميه العرب بالزغب، فمثله لا يحكم فيه بالبلوغ، حتى أجاز العلماء رحمهم الله حلقه وجزه إن كان في الوجه؛ لأنه ليس بشعر لحية ولا يعد من اللحية. وأما القسم الثاني من الشعر: فهو الشعر الشديد الخشن، ولذلك يعبر بعض العلماء فيقول: أن ينبت الشعر الخشن. التفاتاً وتنبيهاً على المؤثر، فإذا نبت الشعر الخشن حول القبل وحول العانة -وهي أسفل السُرة فيما بينها وبين القبل- حكم ببلوغه وبلوغها. وهذه العلامة اختلف فيها العلماء رحمهم الله، فالجمهور على أن الإنبات علامة، ودليلهم حديث محمد بن كعب القرظي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما حَكَّم سعداً رضي الله عنه في بني قريظة حكم سعد فقال: (أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وأن تسبى ذراريهم). فلما حكم فيهم بهذا الحكم قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لقد حكمت فيهم بحكم الجبار من فوق سبع سموات) فأصاب رضي الله عنه الحق والصواب. فحكم أن تقتل مقاتلتهم، والمقاتل هو البالغ، وقوله: (وأن تسبى ذراريهم)، أي: الذين هم صغار ودون البلوغ، ويشمل ذلك أيضاً النساء، فلما حكم بأن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم؛ قال محمد بن كعب: (فكانوا من وجدوه أنبت قتلوه، ومن لم ينبت تركوه، فوجدوني لم أنبت، فجعلوني في الذرية). وحديث محمد بن كعب القرظي حديث صحيح، وفيه دليل على قتل المقاتل البالغ، ففرقوا بين البالغ وغير البالغ بالإنبات. فدل على أن إنبات الشعر في هذا الموضع يعد علامة على البلوغ، وأن من نبت شعره في هذا الموضع يؤاخذ وتسري عليه أحكام البالغ. وهذا هو الصحيح، وخالف بعض العلماء فقال: إن الإنبات ليس بدليل، وهذا ضعيف، ولكن السنة قوية في دلالتها على أن الإنبات علامة من علامات البلوغ. ثم اختلفوا: هل يختص بشعر العانة أو يشمل أيضاً شعر الإبطين وشعر اللحية والوجه، فقال بعضهم بالتعميم، وقال بعضهم بالتخصيص، لكن الأقوى أن يخصص ذلك بشعر القبل، فإذا نبت هذا النوع من الشعر حكم ببلوغه.

إنزال المني علامة من علامات بلوغ الصغير

إنزال المني علامة من علامات بلوغ الصغير قال رحمه الله: [أو أنزل] وهذا النوع من العلامات مجمع عليه، والإنزال علامة مشتركة إضافة إلى علامتي السن والإنبات، فإذا بلغت المرأة خمس عشرة سنة حكمنا ببلوغها، ولو بلغ الصبي خمس عشرة سنة حكمنا ببلوغه، فلا يختص ذلك بالرجال دون النساء ولا العكس. كذلك أيضاً الإنبات يشمل الرجال والنساء، وكذلك أيضاً الاحتلام وهو خروج المني سواءً في اليقظة أو المنام، فإن خرج حكمنا ببلوغ الشخص، ويستوي في ذلك الرجال والنساء، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم- الصبي حتى يحتلم) وهذا العلامة مُجمع عليها. هذا بالنسبة للصبي، فإذا ظهرت أحد هذه العلامات حكمنا ببلوغه، ويضاف إليها ظهور الرشد متى ما بلغ الصبي.

الرشد والعقل من علامات فك الحجر عن المجنون

الرشد والعقل من علامات فك الحجر عن المجنون قال رحمه الله: [أو عقل مجنون ورشد]. هنا تنتبهون إلى دقة المصنف، فالمصنف رحمه الله ذكر علامة البلوغ، ثم أضاف إليها العقل للمجنون، وكأنه ينبه إلى أن البلوغ وحده لا يكفي بل لا بد أن يبلغ عاقلاً؛ لأنه ربما بلغ اليتيم مجنوناً -نسأل الله العافية والسلامة- أو يبلغ ما عنده عقل، فحينئذٍ لا يؤثر البلوغ، فقرن البلوغ بالعقل، ثم قرن كلاً منهما بالرشد، وهذا من دقته رحمة الله عليه، فلابد عندنا بالنسبة للصبي من أن يبلغ ويكون عنده عقل ورشد. وبعض العلماء يقول: يبلغ ويرشد؛ لأن الرشد يستلزم العقل فيكتفي بالعلامتين، لكن المصنف أدخلهما في بعضهما حتى لا يكرر. ف Q متى نفك الحجر عن الصبي؟ ومتى نفك الحجر عن المجنون؟ ومتى نفك الحجر عن السفيه؟ هذه هي الجمل الآن. بينّا أن الصبي لا بد أن يبلغ، وذكرنا علامات البلوغ ويكون عند بلوغه عاقلاً راشداً. ومعلوم أن الرشد يستعمل في الدلالة على معانٍ، فتارة يقصد منه رشد الدين وتارة يقصد منه رشد الدنيا. فيقال: فلان رشيد، إذا كان على صلاح وخير، ومنه قوله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256] فالرشد وسبيل الرشد سبيل الحق والصواب والهدى، فهذا استعمال الرشد بمعنى الخير والسداد. ويستعمل الرشد بمعنى: حسن النظر في أمور الدنيا، وقد أشار الله إليه بقوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] فالرشد المراد به هنا أن يكون رشيداً يحسن التصرف في ماله. وبناءً على ذلك: إذا بلغ الصبي فيجب على الولي أن يختبره لكي يكتشف العلامة الثانية وهي الرشد. والرشد في الصبيان يختلف على حسب اختلاف المحجور عليهم من الصبيان، فهناك رشد يتعلق بالنساء، وهناك رشد يتعلق بالرجال، فولي اليتيم يعطي اليتيم مالاً معيناً عند البلوغ أو مقاربة البلوغ يختبره به في تصرفه. فمثلاً: إذا كان هناك عيد أو كانت هناك مناسبة واحتاج الصبي أن يشتري ثوباً أو حذاءً أو نحو ذلك فإنه يعطيه مالاً، ويقول له: اذهب واشتر لنفسك؛ ولا يحدد له ما الذي يشتري، ويعطيه مالاً معيناً يكون بمثابة الاختبار. مثلاً: يمكن أن يشتري الحذاء بعشرة، فيعطيه خمسة عشر ريالاً حتى ينظر كيف يتصرف؛ لأنه لو لم يعطه إلا عشرة فسيشتري الذي قيمته عشرة، فيعطيه بطريقة ليس فيها ضرر من كل وجه على ماله؛ لأن هذا محتاج إليه. فيعطيه مثلاً -اثني عشر ريالاً- أو ثلاثة عشر ريالاً بحيث يكون هناك سلعة بهذه القيمة وأقل، فينظر كيف يشتري؟ وقال بعض العلماء: بل يعطيه نفس القيمة، والسبب في هذا: أنه إذا أعطي نفس القيمة فسينظر هل يستطيع أن يكاسر البائع ويرغم البائع ويدفع إغراء البائع به، فإذا اشتراها بعشرة علمنا بأنه رشيد، وإن ألح عليه البائع لكي يختله ويضر به، فجاء يشتكي ويقول: ما وجدت أحداً يبيعني بعشرة، أو لا أشتري بأكثر من عشرة، علم رشده، وإن جاء يقول: لا، سأشتريها بخمسة عشر، علم سفهه. والصحيح والأقوى: الأول، أنه يعطيه ويستفضل قليلاً؛ لكي ينظر كيف يحافظ على ماله، هذا بالنسبة للرجل، فيُختبر في شراء الأشياء التي تتعلق بالرجال كالملابس ونحو ذلك، أما المرأة فقد كانوا في القديم يختبرون النساء بما يصلح شأنهن، أو بما يكون خاصاً بهن من أمور الغزل وشراء الملبوسات ونحو ذلك، فإذا جاءت مناسبة أعطاها مالاً، ثم وكل إليها أن تشتري بهذا المال، فإذا ذهبت تشتري ثيابها واشترت بسفه؛ استمر الحجر عليها، وإن اشترت برشد؛ رفع يده عنها. ويكرر هذا مرتين أو ثلاثاً، وأقل شيء يضمن به أنه مصيب: ثلاث مرات، فقد يعطي مرة ويشاء الله أن تلك المرة يظهر له فيها أنها راشدة وربما تكون رمية من غير رامٍ، فيكرر مرتين وثلاثاً حتى يتأكد. وقال بعض العلماء: أحب أن ينوِّع، فتارة يعطيه ليشتري حذاءً، وتارة يعطيه ليشتري طعاماً، وتارة يعطيه ليشتري كتاباً أو قلماً، أو نحو ذلك، فيختبره بأنواع متعددة حتى يستمرئ التعامل مع الناس ويُكشف على حقيقته. وهذا لا شك أنه أبلغ في الاحتياط، وظاهر القرآن يدل عليه؛ لأن الله يقول: {وَابْتَلُوا} [النساء:6] والابتلاء: الاختبار كما قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود:7] أي: يختبركم. وعلى هذا: لا بد وأن يختبر ويكرر عليه الاختبار حتى يثبت رشده في الشراء والبيع. أيضاً مما يشمله الاختبار: أن تختبر الصبية والصبي بالبيع، فكما يختبر بالشراء يختبر بالبيع، فيعطى الصبي شيئاً يبيعه إذا كان أهلاً للبيع، فيقال له: خذ هذه السلعة وبعها في السوق، ويترك له الأمر ولا يحدد له قيمة، وإنما يقال له: بعها بالسوق، فيذهب، فإن أحسن بيعها وأحسن التصرف فيها فالحمد لله، ويكرر له مرتين أو ثلاثاً حتى يثبت أنه محسن للبذل؛ لأن الذي يأخذ المال لا يحكم بكونه رشيداً فيه إلا من جانبين: الجانب الأول: جانب الأخذ. والجانب الثاني: جانب الإعطاء. فقد يكون رشيداً في الأخذ سفيهاً في الإعطاء، وقد يكون سفيهاً في الإعطاء رشيداً في الأخذ، فبعض الناس إذا اشترى لا يمكن أن يغبن، لكن إذا باع يغبن، والعكس، فمن الناس من يغبن إذا اشترى ولا يغبن إذا باع، فإذاً لا بد وأن يكون رشيداً في بيعه وشرائه، وفي أخذه وإعطائه. فإذا تم له ذلك وأعطيناه السلعة فباعها بقيمتها أو قريباً من قيمتها دون غبن ظاهر فيها؛ فإنه يحكم برشده ويعطى المال إليه؛ لأنه ثبت كونه مصلحاً للمال أخذاً وإعطاءً، بيعاً وشراء.

الرشد علامة لفك الحجر عن السفيه

الرشد علامة لفك الحجر عن السفيه قال رحمه الله: [أو رشد سفيه] سبق وأن ذكرنا أن السفيه هو الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء لغيره، فإذا حجرنا عليه ثم صار رشيداً في بيعه وشرائه وأخذه وعطائه نفك الحجر عنه؛ لأن ما شرع لعلة يزول بزوالها، فالأصل أنه يملك ماله، فالله يقول: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5] فإذا زال وصف السفه وجب رد ماله إليه؛ لأنه مالك لماله، ولا يجوز أن يمنع من التصرف في مال يملكه.

حكم رفع الحجر من دون الحاجة إلى حكم القاضي

حكم رفع الحجر من دون الحاجة إلى حكم القاضي قال رحمه الله: [زال حجرهم بلا قضاء] مسألة فك الحجر عن المحجور عليهم فيها نوعان: - نوع منهم لا يفك الحجر إلا بحكم القاضي. - ونوع منهم يفك الحجر عنهم بدون حكم القاضي. فمثلاً: عندنا السفيه، مذهب طائفة من العلماء أنه لا يفك عنه الحجر إلا بحكم القاضي؛ للاختلاف في السفه والخروج من السفه واختلاف الأعراف في ذلك، فقالوا: يحتاط، فلا يحكم بفك الحجر عنه إلا بحكم القاضي، وقال بعض العلماء: هؤلاء الثلاثة: الصبي والمجنون والسفيه إذا رشدوا وزال عنهم وصف السفه والجنون والصبا حكمنا بأهليتهم للتصرف بدون حكم القاضي ويرفع الحجر عنهم. ما فائدة الخلاف؟ فائدة الخلاف: لو أن صبياً حكمنا بالحجر عليه، وبلغ اليوم، وكان قد اختبره وليه عند البلوغ وإذا به رشيد، فلما بلغ اليوم اشترى عمارة بنصف مليون، ثم سئل فقيل: هل هذا رجل محجور عليه فلا نصحح البيع؟ فنقول: إن الحجر عليه زال بمجرد بلوغه إيناس الرشد منه. فإن الله تعالى لم يشترط حكم القاضي وقال: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] هذا في الصبي. كذلك لو أن مجنوناً حجرنا عليه وأفاق من جنونه، فقال له رجل: بعني مزرعتك بخمسمائة ألف؛ فباعها بخمسمائة ألف، وقيمتها تساوي خمسمائة ألف، فإننا نقول: إن هذا المجنون متى ما زال عنه السبب الموجب للحجر عليه رجع حراً في ماله يتصرف فيه كما يتصرف العاقل. وهكذا بالنسبة للسفيه فإنه يُحكم بفك الحجر عنه بدون حاجة إلى حكم القاضي، أما لو اشترطنا حكم القاضي، وتصرف الصبي أو السفيه أو المجنون فباع أحدهم شيئاً اليوم وقد زال المانع من الحجر عليه فإنه ينتظر إلى فك الحجر، ويبقى البيع معلقاً ومردوداً إلى نظر الولي، فإن أجازه صح وإن لم يجزه لم يصح. مسألة ثانية من فوائد الخلاف: لو أن الصبي بلغ رشيداً وتصدق في هذا اليوم بألف، وليس فيه غبن على ماله، فإن قيل بأن الحجر يزول بمجرد وجود علامة البلوغ والرشد، فحينئذٍ صدقته نافذة، وعطيته صحيحة، والعكس بالعكس. ومثال آخر: لو أن هذا الصبي بلغ اليوم وتصدق أو تبرع بألف لأخيه، ثم توفي في حادث، ولم يكن مريضاً مرض الموت، فهذه الألف عطية، وإن قلنا: إن الحجر عليه لا يفك إلا بحكم القاضي فهي لاغية؛ لأن عطية المحجور عليه قبل فك الحجر عنه لا تصح، فترد الألف وتبطل العطية. وإن قلنا: يفك عنه بمجرد بلوغه ورشده، فعطيته نافذة وتُملك بمجرد القبض. إذاً: هذه المسألة -هل نفك الحجر عنه بمجرد وجود علامة الفك أم أنه لا بد من حكم القاضي؟ - لها فوائد ولها آثار: والصحيح: أنه لا يشترط حكم القاضي على ظاهر النص في التنزيل.

ما تخص به المرأة من علامات البلوغ

ما تخص به المرأة من علامات البلوغ قال رحمه الله: [وتزيد الجارية في البلوغ بالحيض]. وتزيد الجارية الأنثى بعلامة في بلوغها وهي: الحيض؛ لأنه يكون بالنساء، فإذا حاضت المرأة حكم ببلوغها. قال رحمه الله: [وإن حملت حكم ببلوغها] لأن الحمل يكون عن حيض.

حكم رفع الحجر قبل تحقق الشروط

حكم رفع الحجر قبل تحقق الشروط قال رحمه الله: [ولا ينفك قبل شروطه] ولا ينفك الحجر قبل شروطه، يعني: قبل وجود الشروط المعتبرة لفك الحجر، وهي: - البلوغ للصبي مع الرشد. - والرشد في السفيه. - والعقل في المجنون مع الرشد. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الراشدين في الدين والدنيا.

باب الحجر [6]

شرح زاد المستقنع - باب الحجر [6] الذي يحجر عليه لمصلحة نفسه لا يدرك مصلحته، ولهذا أوجبت الشريعة أن يكون هناك من يتولى أمره ومصالحه حتى يستطيع أن يتولاها بنفسه، ولكن هذا الولي لا يتصرف بما شاء، وإنما يتصرف بحدود مصلحة موليه؛ لأن هذا هو المقصود من وضعه في هذا الملف، ولهذا جعل العلماء عدة ضوابط لتصرفات الولي.

وقت فك الحجر عن السفيه والصبي

وقت فك الحجر عن السفيه والصبي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد ذكر المصنف -رحمه الله- هذه الجملة لبيان فك الحجر عن السفيه والصبي، وذلك بثبوت الرشد في كل منهما، وقد بينّا أن الرشيد في ماله هو الذي يحسن الأخذ لنفسه والإعطاء لغيره. ومعنى ذلك أنه إذا اشترى أو استأجر أو أخذ شيئاً فإنه لا يغبن كما ذكر المصنف رحمه الله، فلا يباع عليه الشيء بأكثر من قيمته؛ ولا يبيع الشيء بأقل من قيمته. فإذا كان على هذه الحالة أكثر من مرة، واختبر فبان أنه يتصرف على هذا الوجه: يحسن الأخذ لنفسه ويعطي لغيره على وجه معروف؛ فإنه يفك الحجر عنه.

ضابط الرشد عند السفيه والصبي

ضابط الرشد عند السفيه والصبي قال رحمه الله: [والرشد] أي: حقيقة الرشد وضابط الرشد في الشرع ما ذكره [بأن يتصرف في ماله مراراً فلا يُغبن غالباً]. قوله: (مراراً) فلو أعطى ولي اليتيمة اليتيمة مالاً فباعته أو اشترت به مرة وأصابت فإنه لا يحكم برشدها، بل لا بد من أن يتكرر ذلك أكثر من مرة؛ لاحتمال أن تكون أصابتها في المرة الأولى بدون قصد، كأن تكون حصلت موافقةً. وعلى هذا فلا بد وأن يختبر أكثر من مرة قبل بلوغه -كما ذكرنا- أو عند بلوغه، وإذا أراد أن يختبره أعطاه مالاً وقال له: خذ بع هذا أو اذهب واشتر بهذا المال لك ثياباً أو طعاماً أو نحو ذلك، فإذا كرر البيع وكرر الشراء وكان على المعروف والسنن حُكم برشده. قال رحمه الله: [ولا يبذل ماله في حرام] الرشد يشترط فيه ألا يبذل صاحبه المال في غير طاعة الله عز وجل، أو يبالغ في إنفاق المال في الشهوات. فالمصنف ذكر المعصية وهي الحرام، لكن أيضاً يضاف إليها أن ينفق ماله ويكثر من الإسراف في المباحات، كرجل يدفع المال الكثير لقاء النزهة أو الفسحة، ويكون ذلك المال الذي أنفقه في سفره للنزهة والفسحة كبيراً وكثيراً، فإنه يحكم بسفهه وبزوال الرشد عنه، وإذا ثبت عليه ذلك عند القاضي حكم بالحجر عليه. فإذاً لابد وأن يكون تصرفه على الوجه المعروف، وذلك بإحسانه للأخذ لنفسه والإعطاء لغيره، وعدم إنفاقه للمال في الحرام أو إسرافه في المباحات كما قال بعض العلماء: والسفه التبذير للأموال في لذة وشهوة حلال وخرّج العلماء على الوصف الأخير الذي ذكرناه -وهو إنفاق المال في الشهوة الحلال- أن يكون شراؤه للأشياء بأكثر مما تستحقه أو بما لا تملك بمثله، كأن يكون مثلها يشترى بمائة فيبالغ ويشتريه بمائتين أو بثلاثمائة. أو يكون يحتاج إلى سيارة ومركب، وتكفيه سيارة بمائة ألف -مثلاً- فيذهب ويشتري سيارة بمائتين أو بثلاثمائة، فمثل هذا إذا أنفق المال وزاد وبالغ في المباحات فأسرف فيها، فإنه يُحكم بكونه سفيهاً. قال رحمه الله: [أو في غير فائدة] كذلك لو أنفق المال في غير فائدة، كأمور اللهو التي لا تعتبر محرمة ولا مندوبة، وذلك اللهو المندوب الإنسان مع فرسه من أجل أن يتعود الفروسية، أو لهوه بسلاحه من أجل أن يتعود ويعد نفسه للجهاد في سبيل الله ونحو ذلك من المقاصد الشرعية؛ فاللهو الذي يكون لا فائدة فيه ويدفع المال فيه فإنه يُحكم بسفهه. فلو دخل لكي ينظر إلى مناظر طبيعية بالغ أصحابها في قيمتها كأن لا يدخل لرؤية هذه المناظر إلا بمائة ريال، فدخل ودفع المائة وذهب ينظر في هذه المناظر، فما الفائدة التي يعود بها! فحينئذٍ إذا أنفقها فيما لا فائدة فيه فإنه يحكم بكونه سفيهاً.

وجوب اختبار الصبي قبل دفع المال إليه

وجوب اختبار الصبي قبل دفع المال إليه قال رحمه الله: [ولا يدفع إليه حتى يختبر قبل بلوغه بما يليق به] ولا يدفع المال إلى الصبي إذا كان محجوراً عليه حتى يختبر ويمتحن كما ذكرنا؛ لأن الله أمر بذلك فقال سبحانه: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] فأمرنا الله سبحانه وتعالى أن نختبر اليتامى وذلك عند بلوغهم، فإذا حصل أو ثبت رشدهم فإنه يحكم بإعطاء الأموال إليهم. وإنما حكم العلماء بلزوم الاختبار؛ لأننا لا نحكم برشده إلا بعد ثبوت ذلك الرشد بالاختبار.

الأحق بالولاية على السفيه والصبي أثناء الحجر عليهم

الأحق بالولاية على السفيه والصبي أثناء الحجر عليهم قال رحمه الله: [ووليهم حال الحجر الأب ثم وصيه ثم الحاكم] إذا كان الصبي محجوراً عليه فإن الذي يتولى أموره وحفظ ماله هو والده، وهو أحق الناس بذلك. وهذا إنما يتأتى إذا كان للصغير مال، كأن تموت أمه وتترك له إرثاً، كصبي -مثلاً- ماتت أمه وتركت له مائة ألف، فالواجب على أبيه أن يأخذ هذا المال وأن يحفظه، حتى إذا بلغ الصبي دفع إليه ماله. هذا بالنسبة للأشخاص الذي لهم حق الولاية، وبعبارة أخرى: من هو الولي الذي ينصب على اليتيم؟ فذكر رحمه الله أن أولى الناس بالولاية الأب، ثم وصي الأب إذا كتب الإنسان وصيته وخاف على أولاده، كأن يكون عنده ذرية ضعيفة -أطفال- ويخشى عليهم أنه لو مات عنهم أنهم يضيعون، فيجب عليه شرعاً أن يعهد ويوصي من يثق بدينه وأمانته أن يحفظهم. فلا يجوز للمسلم إذا كان عنده أطفال أن يأمن الموت؛ لأن الموت يأتي الإنسان دون أن يشعره ويعلمه، وكم من ضاحك قد نسجت أكفانه. فالواجب على المسلم إذا كان عنده أطفال وذرية أن يكتب وصيته، وأن يكتب في وصيته أن أولاده وأبناءه وبناته يليهم فلان، سواءً كان من القرابة أو من غير القرابة، إلا أن الوصية من القرابة أولى وأحق. فإن كان هناك من أبناء العم أو العشيرة أو القبيلة من يُعرف فيه الدين والأمانة والحفظ والرعاية فإنه ينصبه على أولاده ليقوم عليهم ويرعى شئونهم ونحو ذلك. فهذا الوصي الذي يوصي إليه الأب هو أحق بالولاية على أولاده إذا توفي، فيقوم هذا الوصي مقام الأب، وإنما قُدِّم الأب؛ لأن أكمل الناس شفقة على الإنسان هم الوالدان، ولا شك أن شفقة الأم أعظم من شفقة الأب، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم حينما ضرب المثل لعظيم رحمة الله عز وجل، وأراد أن يبيّن للعباد عظيم حلمه جل جلاله ورحمته بعباده، ضرب لهم ذلك بالأم حينما لقيت ولدها وقد خافت أن يكون قتيلاً في الحرب، فلما لقته أخذته وضمته إلى صدرها، فقال صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا. قال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها). فالوالدان أسكن الله في قلوبهما الرحمة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم حينما دمعت عيناه على ابنه إبراهيم وبكى عليه الصلاة والسلام وعجب الصحابة وقالوا: ما هذا يا رسول الله؟ قال: (رحمة أسكنها الله في قلوب عباده). فالوالد في قلبه رحمة لولده، والأم لا تستطيع أن تتولى أمور البيع والشراء والأخذ والعطاء على الأيتام، ولذلك الأب مقدم، وفي الأب من النصيحة لأولاده ما لا يخفى، فهو المقدم على غيره في ولاية أمور الصغار. وكذلك أيضاً يليه الوصي؛ لأن شفقة الأب وحنانه تجعله لا يوصي بأبنائه بعد موته إلا لشخص يرى أنه يحل محله، وأنه يكون مثله أو أفضل منه. فالواجب على الأب أن يفعل ذلك إذا علم أن هناك أيتاماً، وخاصة إذا وجد من القرابة -نسأل الله العافية والسلامة- من يعرف بالظلم واغتصاب الأموال وأذية الأيتام، ولا يبالي بالحقوق، فخاف عليهم من قرابتهم، فإنه يجب عليه أن ينصب الأصلح الذي يخاف الله عز وجل ويتقيه فيهم، كما قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9] فأمرنا الله إذا كان عندنا ذرية ضعيفة أن نتقيه فيهم، والذرية الضعيفة هم الأطفال، ومعنى ذلك أن كل إنسان عنده أطفال ينبغي أن ينظر هذا النظر، وألا يأمن الموت، وأن يكتب وصية لمن يقوم على أولاده في حالة موته. هذا الوصي الذي توصي إليه أول شيء ما تنظر إليه فيه: دينه، فالدين هو عماد الخير كله، وينظر إلى تقواه لله سبحانه وتعالى؛ لأن المتقي أمين إذا استؤمن، وصادق إذا تكلم، وفيه من الحفظ والرعاية ما ليس في غيره. ثم بعد ذلك تنظر إلى خلقه من ناحية أخلاقه ومعاملاته، بأن يكون رجلاً ديناً فيما بينه وبين الله يخافه ويتقيه ويحفظ حقوق الله، وذا خلق فيما بينه وبين الناس؛ لأنه ربما كان إنساناً ديناً لكنه عصبي وأخلاقه شرسة لا يستطيع أن يأمن نفسه؛ وتكون فيه حدة الطبع، فإذا جاء اليتيم يستعطفه في مال أو شيء ربما كهره، وربما أساء إليه وأغلظ عليه وربما قهره، وقد يكون ذلك بدون شعور منه، فينبغي أن ينظر إلى الخُلُق. وثالثاً: ينظر إلى عقله، فقد يكون إنساناً فيه دين وصلاح، لكنه ناقص العقل، بمعنى: أنه أخرق لا يحسن التقدير للأمور، ولا يحسن النظر ولا الاجتهاد، فينبغي أن ينظر إلى عقله وبعد نظره وحسن تدبيره للأمور، حتى إذا طرأ شيء على أموال اليتامى أحسن التصرف، وكان عنده من الفطنة والذكاء والحذر والحزم ما يحفظ به أموال هؤلاء الضعفاء. فإذا استجمع هذه الشروط فإنه يعهد إليه ويوصي إليه، وحبذا لو أنه يستدعيه ويذكره الله فيما بينه وبينه حتى يكون ذلك أبلغ في حفظه لماله ورعايته لأيتامه. فالأب ومن اختاره الأب لأولاده يقدم على من سواه، وإن نصبه القاضي؛ لأن الأب أدرى بولده، وينصب الأب من يختار على أيتامه سواءً كانوا ذكوراً أو إناثاً، وله الحق أن يوصي بالذكور والإناث ويقول: فلان يلي أمور أيتامي، ويشمل ذلك ذكورهم وإناثهم. قال رحمه الله: [ثم الحاكم] وذلك لأن الله جل وعلا جعل ولي الأمر كالوالد للناس، يعطف عليهم ويقوم على شئونهم ويرعى مصالحهم، فالولاة نصبوا على الناس حتى ينظروا الأصلح والأقوم والأهدى سبيلاً فيتبعوه ويأخذوا به. وعلى هذا فلو مات إنسان وترك أيتاماً ولم يوص بهم لأحد، فإنه يرفع أمرهم إلى القاضي؛ لأنه يقوم مقام ولي الأمر، ولأن له ولاية النظر في المصالح، وهو منصب من ولي الأمر للنظر في مثل هذه الأمور. فيقوم القاضي ويسأل عن قرابة الميت: هل فيهم رجل فيه من الدين والعقل والأمانة فيقدمه على غيره؛ فإذا لم يجد في قرابة الميت من هو أهل للقيام على أموال اليتامى، فإنه ينظر من سائر الناس من هو كذلك، فينصبه على هؤلاء الأيتام، ويوصيه بتقوى الله عز وجل، ويعظه ويذكره هذه الأمانة، ثم يفوض إليه الأمر بالنظر في مصالح هؤلاء الأيتام.

كيفية تصرف ولي أمر السفيه أو اليتيم أو المجنون لهم

كيفية تصرف ولي أمر السفيه أو اليتيم أو المجنون لهم قال رحمه الله: [ولا يتصرف لأحدهم وليه إلا بالأحظ] بعد أن بيّن رحمه الله من الذي يولى على الأيتام، شرع في بيان تصرف الولي، فإذا كان الولي ينصب على اليتيم والمجنون والسفيه، فماذا ينبغي عليه؟ قال رحمه الله: (ولا يتصرف) أي: الولي، والتصرف يشمل البيع والشراء والأخذ والعطاء من سائر المعاملات، فلا يتصرف هذا الولي في مال اليتيم إلا بالأحظ، والأحظ أفعل تفضيل بمعنى: أن يتصرف التصرف الذي هو الأفضل لمصلحة مال المحجور عليه. وبناءً على ذلك: نفهم من هذا أنه ليس من حق الولي أن يتصرف تصرفاً يضر بالمال كله أو ببعضه، إلا في مسائل مستثناة. فمن هنا: لا يصح للولي أن يتصدق بالمال، فلو أنه تصدق بالمال ضَمِن، ويجب عليه أن يضمن المال كاملاً، ولا يصح منه أن يتبرع بهذا المال، فلو قال: أنا وليهم أتبرع بهذا المال لأمهم، لم يكن من حقه ذلك. فليس له أن يتصرف بما فيه ضرر، فيتلف المال كله أو يتسبب في ذهاب منفعة المال، بل عليه أن ينظر الأحظ. وإذا كان ملزماً بالنظر بالأحظ، فيشمل ذلك أن يتصرف بالبيع ويتصرف بالإجارة ويتصرف بغير ذلك من مسائل المعاملات. فعلى هذا: لو كان اليتيم توفي عنه أبوه وترك له عمارة، وهذا اليتيم بقي له ثلاث سنوات ويبلغ، والعمارة لو بقيت ثلاث سنوات ستنزل قيمتها وتصبح قيمتها رخيصة، وسأل أهل الخبرة فقالوا: إن العمارة سعرها الآن أفضل، فرأى المصلحة والأحظ أن يبيعها، فيجوز له أن يبيع؛ لأنه يلتمس الأصلح والأحظ. كذلك العكس: لو أنه توفي وترك لأيتامه أرضاً، وهذه الأرض في مكان بعيد، وليس لها قيمة الآن، وقيمتها -مثلاً- عشرة آلاف لو بيعت الآن، وعلم عن طريق أهل الخبرة أو عن خبرته ومعرفته، أنها لو بقيت سيصل إليها الناس وتصبح قيمتها أكثر فيمسكها ويمتنع من بيعها. ولاحظ الفرق بين الحالة الأولى والحالة الثانية: فإنه في هذه الحالة إذا غلب على ظنه أن الأصلح بقاء الأرض أبقاها وأمسكها، ففي حال البذل بالبيع وفي حال الإمساك إنما يروم ويقصد الأصلح للأيتام، فإذا نظر وعلم الأصلح والأفضل فإنه يقدم عليه ويعمل به. ومثال آخر: في الإجارة: لو كان عند الأيتام عمارة، إذا أجرت فإنها تدر عليهم أموالاً، وهذه الأموال أنفع وأصلح لهم، خاصة وأنهم قد يتوفى أبوهم ولا يترك لهم سيولةً، فيحتاج ولي الأيتام إلى شيء ينفق منه على الأيتام، لشراء طعامهم وشرابهم ونحو ذلك، فرأى من المصلحة ألا يبيع العمارة وإنما يؤجرها فأجرها، فإنه حينئذٍ تصرف بالأحظ والأصلح. لكن لو كانت هذه العمارة تؤجر على قوم يدفعون -مثلاً- عشرة آلاف، وآخرون يدفعون ثمانية آلاف فإلى أيهم نؤجر؟ A ينظر إلى من سيدفع العشرة أهم أحفظ لمصالح العمارة أكثر ممن سيدفع الثمانية أم لا، فقد يؤجر إلى أناس يتلفون مصالحها ويضرون بها، ثم بعد خروجهم يحتاج إلى إنفاق أموال لإصلاح ما أفسدوه وضيعوه، مع أنه شرعاً يجب على الأجير إذا أتلف شيئاً في العمارة ألا يخرج إلا وقد أصلحه. وهذه من الأخطاء التي يخطئ فيها أولياء الأيتام ونظار الأوقاف، أن الأجير يخرج وقد أتلف المصالح والأعيان، وهذا لا يجوز؛ لأن هذا من إضاعة المال، وفي الشرع لو أن ناظر الوقف تساهل وخرج المستأجرون وتركهم يخرجون دون أن يضمنوا ما أتلفوه، فإنه يدفع من ماله وجيبه ما يصلح به ما أفسدوه؛ لأنه هو الذي مكنهم من ذلك، وقصر ولم يطالبهم بإصلاح ما أفسدوه. فالمقصود: أن الولي لليتيم والناظر للوقف ونحوهم كلهم ينظر الأصلح للمال، سواءً كان ذلك ببيعه أو استئجاره أو إجارته أو نحو ذلك. كذلك أيضاً: لو كان للأيتام مائة ألف، وهذه المائة ألف لو بقيت في البنك أو عند الصبي فإنها تأكلها الزكاة؛ لأن عليها زكاة؛ فحينئذٍ ينقص المال ولا يبلغ إلا وقد نقص المال، فنظر إلى أن الأفضل والأحظ أن يتاجر بهذا المال فنقول له: تاجر بهذا المال. إذاً: القاعدة عندنا: أن ينظر الأصلح والأحظ، وكيف يتوصل إلى الأصلح والأحظ؟ نقول له: سل الناس إذا كنت تجهل، أو اجتهد على قدر علمك ووسعك إذا كان عندك علم وخبرة تتمكن عن طريقها من معرفة الأصلح والأحظ للمال.

حكم اتجار ولي اليتيم بمال اليتيم لمصلحة اليتيم

حكم اتجار ولي اليتيم بمال اليتيم لمصلحة اليتيم قال رحمه الله: [ويتجر له مجاناً] أي: ويتجر في مال اليتيم مجاناً، فلا يأخذ أجرة مثله إلا في مسائل ستأتي عند الحاجة، أما إذا اتجر بمال اليتيم فإنه لا يتعامل مع اليتيم، فلا يشتري من مال اليتيم، ولا يستأجر مال اليتيم؛ لأنه محل التهمة. وعند بعض العلماء لا يصلح أن يكون مؤجراً أو مستأجراً أو بائعاً لليتيم أو مشترياً منه في آن واحد، لكن هذه العلة الثانية ضعيفة؛ لأنه يمكن أن يتزوج اليتيمة إذا عدل وأقسط إليها كما هو مقصود التنزيل واختارته أم المؤمنين عائشة وقال به الجماهير، أن ولي اليتيمة إذا عدل بمهرها وأقسط فلا بأس عليه، فهو ولي وهو زوج. وأياً ما كان فمسألة الاجتماع قد لا تخلو من نظر كما ذكرنا، لكن ولي اليتيم يتاجر بمال اليتيم، أما مشروعية التجارة له ففيها حديث ضعيف، والصحيح أنه موقوف على عمر رضي الله عنه، فقد قال رضي الله عنه في خطبته: (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة) فأمرهم أن يتاجروا بأموال اليتامى لئلا تأكلها الصدقة؛ لأن كل سنة عليها زكاة، فالمال ينقص، وحينئذٍ ينبغي على ولي اليتيم أن يحتاط لذلك، وبذلك أفتت وعملت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فكانت تلي أيتاماً لأخيها عبد الرحمن رضي الله عنهما، وكانت تتاجر لهم في أموالهم. فإن تاجر الوصي فيتاجر مجاناً، ولا يأخذ أجرة عمله، وعلى هذا فإنه يكون قائماً على مال اليتيم وأجره على الله، فإن من أعظم الأعمال أجراً وثواباً: الإحسان إلى اليتامى، ومن الإحسان: استصلاح أموالهم والسعي فيما يعود عليهم بالخير، فإن هذا أجره عند الله أعظم، وثواب الآخرة أكبر. وبناءً على ذلك فقد أجمع الصحابة على جواز التجارة بمال اليتيم؛ لأنه لا مخالف فيه، والعمل عليه عند أهل العلم رحمهم الله، وإذا ثبت ذلك فإنه يتجر بدون مقابل.

حكم المضاربة في مال اليتيم

حكم المضاربة في مال اليتيم قال رحمه الله: [وله دفع ماله مضاربة بجزء من الربح] قررنا أن ولي اليتيم يتصرف بالأحظ، وإذا كان يتصرف بالأحظ فله أن يتاجر في المال، لكن تبقى مسألة وهي: لو أنه تاجر في المال فاحتاج إلى عمال أو إلى أناس يقومون بالتجارة، فهل الذين يقومون بالتجارة لا يعطى لهم أجر؟ A لا، فقوله: (مجاناً) راجع إلى الولي وليس إلى العمال الذين يستأجرهم ويطالبهم للعمل، وإلا لما أمكن أن يتاجر بأموال اليتامى؛ لأنه إذا كان الولي لا يأخذ والعمال لا يأخذون فلن تقوم تجارة أصلاً، بل أين يوجد هذا؟! لكن يجوز أن يستأجر أناساً بالمعروف ويعطيهم أجرة بالمعروف، وبما جرى عليه العرف، لا يزيدهم ولا يظلمهم، ويعطيهم من مال اليتيم كما يعطى غيرهم من الأجراء، وذلك جائز ولا بأس به. وإذا ثبت أن ولي اليتيم لا يجوز أن يضحي بشيء من مال اليتيم فيرد السؤال هنا: بعض العقود تبرم بين الشخص والآخر ويكون فيها نقص للمال، فأنت -مثلاً- إذا دفعت مال اليتيم إلى رجل ليتجر به وهو الذي يسمى بالمضاربة، -والمضاربة من الضرب في الأرض؛ لأن التجارة تحتاج فيها إلى السفر والضرب في الأرض- فلو أنك دفعت مائة ألف من مال اليتيم إلى رجل من أجل أن يتاجر فيها مضاربة، فإنه سيقول لك: أريد جزءاً من الربح؛ لأن المضاربة تدفع المائة ألف ويكون الربح بين صاحب المال وبين العامل، فلو أنه دفع مائة ألف إلى عامل، وقال له العامل: أنا آخذ نصف الربح، فحينئذٍ سينقص مال اليتيم، فبدل أن يكون الربح كله لليتيم سيكون نصف الربح له والنصف الآخر للعامل، فنقول: هذا جائز ولا مانع منه؛ لأنه جارٍ على سنن المضاربة. ولذلك نص رحمه الله على هذه المسألة فقال: له أن يضارب في هذا المال على جزء من الربح. يعني: يقول لشخص: خذ هذه المائة ألف واضرب بها وتاجر بها ونمَّ المال والربح بينك وبين اليتيم، أو ثلاثة أرباع الربح لليتيم وربعه لك، أو الثلثان لليتيم والثلث لك، أو العكس الثلث لليتيم والثلثان لك على حسب ما يرى فيه المصلحة. والحقيقة أن إتلاف جزء من المال لاستبقاء الكل صحيح شرعاً، فولي اليتيم أو ناظر الوقف إذا أتلف جزءاً من المال من أجل بقاء المال فإن المصلحة تقتضي هذا. ولذلك لما ركب موسى عليه السلام مع الخضر، وكسر الخضر لوح السفينة، أنكر عليه موسى عليه السلام، ولما بيّن له الخبر قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] فهو قصد الإتلاف والإفساد حتى لا تفوت السفينة بكاملها؛ ولذلك أخذ العلماء من هذا القاعدة المشهورة: (يرتكب الضرر الأخف دفعاً للضرر الأعظم)، وفي معناها قولهم: (إذا تعارضت مفسدتان روعي ارتكاب أخفهما لدفع أعظمهما)، فحينئذٍ فوات السفينة أعظم، وذهاب اللوح من السفينة أخف، فلولي اليتيم أن يضحي بجزء من المال لاستبقاء الكل. وله كذلك أن يجعل الربح بين اليتيم وبين غيره بما يرى فيه المصلحة للمال ولليتيم.

حكم أكل الولي الفقير من مال موليه

حكم أكل الولي الفقير من مال موليه قال رحمه الله: [ويأكل الولي الفقير من مال موليه الأقل من كفايته] هذه المسألة مستثناة من الأصل الذي ذكرناه، وقد قلنا: إن العلماء رحمهم الله يقررون الأصل ثم يذكرون أفراد المسائل التي تستثنى، فهنا عرفنا أن الولي لا يأكل من مال اليتيم وبينّا هذا الأصل. ويرد Q الولي الغني ليس بحاجة، ويستقيم أن يقال: أجره على الله، والقاضي إذا نصب شخصاً للنظر في مصالح اليتيم وصار ولياً عليه، فإنه سيتعطل عن مصالحه، وقد لا يجد وقتاً من أجل أن يطلب الرزق، فلو كان فقيراً واحتاج إلى أن يأكل من مال اليتيم فهل يجوز له ذلك؟ A نعم، وهذا قول جماهير العلماء وأئمة السلف ودواوين العلم رحمة الله عليهم أجمعين، أن ولي اليتيم إذا كان فقيراً فإنه يجوز له أن يأكل بالمعروف؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:6] فأحل الله عز وجل له أن يأكل بالمعروف. وعلى هذا قال العلماء: يأكل الأقل من أجرته وكفايته، أو يأخذ الأقل من أجرته وكفايته، والمراد بذلك: أنه إذا كان ولياً على يتيم وكان فقيراً واحتاج أن يأكل وهو قائم على مال اليتيم نقدر أجرة مثله، فلو كانت أجرة مثله في الشهر ألف ريال وكفايته في البيت ثمانمائة ريال فإنه يأخذ الثمانمائة ريال، ويأكل في حدود الثمانمائة. فعندنا سببان: الأول: كونه قائماً على المال، وهذا يقدر فيه أجرة المثل. والثاني: كونه محتاجاً وهذا يقدر فيه دفع الضرر عنه. فعندنا أمران: كونه فقيراً ومحتاجاً، وكونه تولى هذا المال وقام على حفظه ورعايته. فهذان سببان كلاهما يحل للشخص أن يأكل من مال اليتيم، لكن لا تخلو المسألة من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يتساويا، فتكون أجرة مثله تساوي قدر كفايته. مثلاً: تولى المال وكان سيولة، ولم يتاجر به، فلو استأجرت شخصاً من أجل أن يحرس المال ويحفظه تقدر له -مثلاً- في الشهر خمسمائة ريال، فلو قدرت له خمسمائة ريال كأجرة، ونظرت إلى قدر كفايته في طعامه ونفقته في نفسه فوجدت أنه خمسمائة ريال، تقول: تساوت أجرة مثله مع حاجته؛ فحينئذٍ لا إشكال، فيعطى الخمسمائة وتتساوى الأجرة مع الحاجة. الحالة الثانية: أن تكون الأجرة أغلى من حاجته، كرجل -مثلاً- ينمي مال اليتيم ويتاجر فيه، فمثله لو قدر أجرة عمله فإنه يعطى -مثلاً- ثلاثة آلاف في الشهر، وكفايته ألف، فنقول: يعطى الألف إذا كانت كفايته أقل من أجرته، والعكس لو كانت أجرته أقل من كفايته، كرجل عنده أولاد وأسرة كبيرة ينفق عليهم، وكفاية مثله في أهله وولده: ألفان، وأجرة مثله: ألف؛ فحينئذٍ قدر كفايته أكثر من أجرة مثله، فيعطى أجرة مثله. ولذلك ينظر الأقل من السببين؛ لأنه يأكل بسبب الأجرة ويأكل بسبب الحاجة فيعطى الأقل منهما، وهذا نص عليه جمهور العلماء رحمهم الله؛ لأن الأصل حفظ مال اليتيم، وحل الأكل إنما هو لوجود الحاجة، وما أبيح للحاجة يقدر بقدره. فيرد السؤال: إذا كانت أجرة مثله أكثر من كفايته، لماذا لا نعطيه أجرة مثله؟ الجواب: أن الشرع لم يجعل ولي اليتيم أجيراً، ولذلك لا نستطيع أن نضحي بمال اليتيم ونعطي من يقوم عليه الأجرة بدون نص وبدون أصل شرعي، وإنما قدرنا أجرته من أجل تعارضها مع كفايته، فمن حيث الأصل يحرم الأكل عليه، والأصل أنه يلي أمر اليتيم وأجره على الله، إذ لو فتح هذا الباب ربما أكلت أموال اليتامى وذهبت قبل أن يبلغ اليتامى. وعلى هذا: ننظر إلى الأقل من أجرته وكفايته فنعطيه، سواءً كانت الأجرة أو كانت الكفاية. قال رحمه الله: [أو أجرته مجاناً] هنا مسألة ثانية: لو أن شخصاً تولى على مال اليتيم وكان فقيراً، وأنفق على نفسه خلال ولايته على اليتيم سبعة آلاف ريال، ثم لما قارب اليتيم البلوغ أصبح الولي غنياً، فكان فقيراً فأكل ثم اغتنى بعد ذلك، سواءً عند البلوغ قبل أن يدفع المال أو بعد بلوغ اليتيم وقد دفع المال، فهل نقول له: رد لليتيم السبعة آلاف؟ أي: هل يضمن ما أكله؟ قال رحمه الله: [مجاناً]. للعلماء وجهان في هذه المسألة: بعض العلماء يرى أنه يدفع ويضمن ما أكله، وبهذا أفتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقولته المشهورة: (إني أنزلت نفسي من مال المسلمين كمنزلة ولي اليتيم، إذا اغتنيت تركته وإذا افتقرت أكلت، فإن أيسرت رددت ما أخذت). فدل على أنه يقضي بعد اليسر، فإذا يسر الله عليه واغتنى ضمن المال. والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور من أنه لا يقضي، وبعض العلماء يجعل أكل الولي من مال اليتيم في حال الفقر بشرط وهو: أن يكون المال في تجارة ونماء، أما لو كان المال لا يجري وليس في التجارة ولا في النماء فلا يفتي بجواز أكله منه.

الأحوال التي يقبل فيها قول الولي والحاكم بعد فك الحجر

الأحوال التي يقبل فيها قول الولي والحاكم بعد فك الحجر قال رحمه الله: [ويقبل قول الولي والحاكم بعد فك الحجر في النفقة] إذا ثبت أن الأصل عدم جواز التصرف في مال اليتيم، وبينّا المسائل التي يجوز للولي أن يأخذ فيها ويأكل فيها بالمعروف، يرد Q إذا دفع المال إلى اليتيم بعد بلوغه وادعى اليتيم أن وليه أكل منه، أو أن وليه ظلمه في المال فأنفق فيما لا ينبغي أن ينفق فيه، أو دفع المال في شيء يشترى بالأقل فاشتراه بالأكثر، أو باع ما لا ينبغي بيعه، أو اشترى ما لا ينبغي شراؤه -لأن هذا كله وارد- فهل نقبل قول الولي أو نقبل قول اليتيم؟ هذه مسألة، كذلك أيضاً: إذا جاء وقت دفع المال إلى اليتيم عند البلوغ ووجدنا اليتيم رشيداً في تصرفه وحكم القاضي بدفع المال إليه، فسيحاسب الولي، ويقدم الولي بياناً لما دفعه على اليتيم من المصاريف في طعامه وشرابه وكسوته ومسكنه وملبسه إلى غير ذلك، فيقدمه ويقول: أنفقت عليه كذا وكذا، وكان ماله مائة ألف، فأنفقت عليه منها عشرة آلاف في طعامه ومسكنه وكسوته وغير ذلك، فيذكر الأمور التي أنفق فيها على اليتيم. هذه العشرة آلاف التي يدعي الولي أنه أنفقها هل نقول: نقبل قوله هكذا أو نطالبه بالدليل؟ هذه مسألة ثانية، فالمسألة الأولى: إذا ادعى اليتيم، والمسألة الثانية: إذا حضر وقت الدفع ورد المال إلى اليتيم، ففي كلتا المسألتين يقبل قول الولي، والقاضي يقبل من ولي اليتيم ما يدعيه، فقال رحمه الله: (ويقبل قول الولي والحاكم بعد فك الحجر في النفقة). فإذا كان الحاكم هو الذي يتولى أمر اليتامى، فإنه يقبل قول الولي والحاكم بعد فك الحجر عن اليتيم في النفقة، وإذا قلت: يقبل قوله، فمعناه: أنه يكون مدعىً عليه، ومعنى هذا: أنه لو حصلت خصومة وقضاء فسيكون الولي مدعىً عليه والقول قوله، لأنه إذا قيل: القول قول فلان فخصمه مدعٍ، والذي يُطالَب بالبينة خصمه ولا يُطالَب هو، فإذا جاء وقال: أنفقت عليه بعشرة آلاف فلا نقول له: أحضر شهوداً وأدلة على أنك أنفقت العشرة، بل يقبل قول الولي والحاكم. قوله: (في النفقة) أي: في طعامه وشرابه وكسوته ومصالحه التي احتيج إليها، وسميت نفقة من النفاق؛ لأنها تستنزف المال وتأخذه. قال رحمه الله: [والضرورة] سبق وأن ذكرنا ضابط الضرورة، وتعريفات العلماء للضرورة، لكن الضرورة هنا لها معنىً خاص، فاليتيم ترك له أبوه عمارة قيمتها مليون، وترك له سيولة خمسة آلاف ريال، فأنفق وليه الخمسة آلاف، فاحتاج اليتيم أن يبحث عن دخل ومال من أجل أن ينفق عليه، فقام ولي اليتيم ببيع العمارة. في هذه الحالة لو سأله القاضي: لِمَ بعت العمارة؟ سيقول: اضطررت إلى البيع وألجأتني الضرورة أن أبيع هذه العمارة، فادعاؤه أنه مضطر لبيع العمارة أو أي مملوك لليتيم، كل هذا يصدق فيه؛ لأننا لو فتحنا الباب في عدم قبول قوله لفر الناس من الولاية وأصبح فيها ضرر عليهم. فالشاهد: أن اليتيم إذا قال: باع عمارة والدي وما كان ينبغي له أن يبيعها، فقال الولي: بل كان ينبغي بيعها. فكلمة: بل كان ينبغي، يعني: أنا مضطر إلى بيعها، والضرورة إذا ادعاها الولي يقبل قوله، وهكذا إذا ادعاها الحاكم فبنى عليها بيع شيء أو إجارة شيء. مثلاً: لو أن اليتيم ادعى على الولي أنه أنفق عشرة آلاف ريال عليه، فسأله القاضي: فيم أنفقتها؟ قال: أنفقتها في سكن. قال اليتيم: ما كان ينبغي أن يستأجر لنا سكناً، فيقول له: أين أذهب بهم يسكنون؟ في العراء! إنهم مضطرون لدفع العشرة الآلاف لإسكانهم، لكن لو ثبت عند القاضي أنه غير مضطر، فحينئذٍ يضمن الولي على التفصيل عند العلماء رحمهم الله، ويؤاخذه ويحاسبه القاضي على هذا إذ فيه ضرر على المال. فإذا باع الولي العمارة بحجة نفقتها على اليتيم، واليتيم ترك له والده عشرين ألفاً، ويكفي اليتيم منها في حدود عشرة آلاف، فإذاً وجود العشرين ألفاً يمنع من الضرورة لبيع العمارة، فحينئذٍ يكون الولي مخطئاً في بيعها، لكن لو ادعى ضرورة ثانية كأن يشتهر أنه -مثلاً- بعد سنة ستصبح هذه العمائر رخيصة فيقول: أنا مضطر إلى بيعها لمصلحتها لليتيم، فباعها فخالفت الظنون وأصبحت غالية، فادعى اليتيم على وليه أنه فرط في هذه العمارة يقول: أنا نظرت إلى الحال واجتهدت، وفي ذلك الزمان كنت مضطراً إلى البيع؛ لأنني وجدت أن هذا يضر بمصلحة مال اليتيم، وأقدمت على البيع من هذا الوجه، فحينئذٍ يقبل قوله. وقد يضطر الولي إلى البيع لخوف الكساد وهذا -مثلاً- في الأطعمة؛ إذا كان اليتيم ترك له والده بضاعة وكانت من الطعام، ولا يمكن أن تبقى شهراً دون فساد، فعرضها في السوق ولكنها لم تأتِ بقيمتها وإذا تركت تفسد فلا تأتي بشيء، فباعها بنصف القيمة، فحينئذٍ يخاصمه اليتيم أو القاضي ويسأله: كيف تبيع بضاعة قيمتها مائة ألف بخمسين ألفاً؟ يقول: نعم هذا البضاعة لم يتيسر بيعها إلا بخمسين ألفاً، ولو لم أبعها فستتلف، وأنا مضطر إلى ذلك؛ فهذه ضرورة صحيحة. كذلك أيضاً لو كان الميت ترك متاعاً، وهذا المتاع المراد به مثلما يحصل لبعض التجار يشترون بضاعة بمائة ألف -مثلاً- من أجل أن تباع في موسم الحج بمائتين، وشاء الله أن يموت في شعبان، فهذه البضاعة سيتولى أمرها الولي، فإذا تولى أمرها فمعناه أنه سيحفظ البضاعة إلى الحج، وحفظ البضاعة إلى الحج يحتاج إلى إجارة، فاستأجر لها مكاناً بثلاثين ألفاً ولم يجد إلا هذا المكان بثلاثين ألفاً، وإن بيعت البضاعة في وقتها بيعت بخسارة أو برأس مالها، وإن بقيت بيعت بالضعف فالأصلح لليتيم ألا تباع الآن، وتبقى حتى تباع بالضعف، ووجد أن استئجار مخزن لها بعشرة آلاف لا يمكن، فاستأجر مخزناً بثلاثين ألفاً وباعها بمائتين، فأصبح كاسباً سبعين ألفاً، فإذا سأله القاضي: أين أنفقت الثلاثين؟ قال: أنفقتها من أجل حفظ البضاعة. قال له: وهل كان حفظها لازماً؟ يقول: نعم. لأن السوق كان كاسداً ونحو ذلك من الأحوال، وهذا معنى قوله: (والضرورة). فكل ما يدعيه الولي من أنه مضطر وملجأ إليه من بيع أو شراء فإنه يقبل قوله. لكن إذا أنكر اليتيم وقاضاه، فبعض العلماء يقول: يقبل قوله مجرداً ولا يطالب باليمين، وقال بعض العلماء: يقبل قوله مع اليمين، وهذا ما يسمى بيمين التهمة، وهو أن يحلف من أجل التهمة الموجودة، فحينئذٍ قالوا: يقبل قوله مع اليمين. قال رحمه الله: [والغبطة] الغبطة: الذي هو الأصلح، فمثلاً إذا قال اليتيم: أخر بيع البضاعة إلى السنة القادمة، فهذا أضر بي؛ لأني دفعت من مالي أجرة المخازن وأجرة نقل السلع وأنفق أموالاً على ذلك، فقال ولي اليتيم: إنما ذلك من أجل الأحق وهي الغبطة، فحينئذٍ يقبل قوله. ومن الغبطة لو قيل له مثلاً: بعت العمارة بكم؟ قال: بعتها بمليون. قيل له: لماذا؟ قال: لأن هذا أعلى سعر، وإذا بقيت فستباع بنصف مليون أو بثلاثة أرباع مليون، فإذاً الغبطة في بيعها بمليون، فيقبل قوله. قال رحمه الله: [والتلف] إذا ادعى أن بعض المال تلف ولم يكن بتفريط منه فإنه يقبل قوله، مثلاً: لو أن يتيماً ترك له أبوه مائة رأس من الغنم، وجاء سيل واجتاح نصفها، فقال القاضي للولي: كم ترك والد اليتيم؟ قال الولي: المال الذي توليت اليتيم فيه مائة رأس، والآن يوجد خمسون رأساً منها، وخمسون أخذها السيل فيقبل قوله؛ لأنه -كما ذكرنا- يقبل قوله في الربح والغبطة، وفي الخسارة والتلف ونحو ذلك مما يدعيه. قال رحمه الله: [ودفع المال] هذه مسألة ثانية: رجل تولى على يتيم وكان ماله -مثلاً- مائة ألف، واختبره عند البلوغ فوجده رشيداً فدفع له ماله، وبعد سنة جاء اليتيم وادعى أنه لم يقبض مال أبيه، وأن وليه لم يدفع المال إليه، فهل نصدق اليتيم أو نصدق الولي، الولي يقول: دفعت. واليتيم يقول: ما أخذت. ففي الحقيقة إذا جئت تنظر إلى الأصل، الأصل أن المال عند الولي حتى يثبت أنه دفعه لليتيم، وفي هذه المسألة ومسألة التلف يقوي بعض العلماء فيها اليمين، واليمين هنا قوية وأميل إلى هذا القول؛ لأنه خلاف الأصل، والتهمة فيه قوية، وفي ذلك احتياط لمال اليتيم، فإذا دفع المال إليه ولم يشهد فهو الذي فرط. وحينئذٍ يقوى أن يقال: إنه يكون القول قول اليتيم أو لا يقبل قوله إلا باليمين.

حكم دين العبد وما أتلفه

حكم دين العبد وما أتلفه قال رحمه الله: [وما استدان العبد لزم سيده إن أذن له] العبد يتولى سيده أمر ماله، وهذا -كما ذكرنا غير مرة- مبني على حديث ابن عمر في الصحيحين: (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع)، لكن ذكر هذه المسألة هناك لأن فيها شيئاً من الارتباط بمسألة الولاية على المال. قوله: (وما استدان العبد) إذا تعامل الرقيق مع الناس وأخذ منهم أموالاً ديناً، فسيده له حالتان: إما أن يكون أذن له في التجارة. أو أنه لم ياذن له. فإن أذن له فإن سيده يتحمل مسئوليته، وحينئذٍ يلزمه أن يدفع عنه، وإن لم يأذن له يكون في رقبة الرقيق. وسيأتي -إن شاء الله- بسط هذه المسائل في باب الرق. قال رحمه الله: [وإلا ففي رقبته] فلو أن العبد ذهب واستدان مائة ألف، ثم جاء صاحب المائة ألف يطالبه فإذا به ليس عنده مال، فالآن هل نقول: إن الرقيق لا يملك المال، ونقول لصاحب المال: ليس لك شيء، وتذهب أموال الناس بهذه الطريقة، أو نقول: خذ الرقيق، والرقيق ملك لسيده بملك الشرع؛ لأن الرق مضروب بحكم الشرع؟ فحينئذٍ حصل تعارض بين هذين الأصلين. فإذا كان السيد علم بجناية عبده أو باستدانته للمال، فإنه يخير بين أمرين -إذا لم يأذن له- الأمر الأول: إما أن يدفع عنه ويبقى له عبده، وإما أن يكون المال في رقبته، فيباع ويؤخذ منه المال، ويرد الباقي إلى سيده؛ لأننا لو فتحنا هذا الباب لكل رقيق أن يجني على مال الغير ثم بعد ذلك لا يؤاخذ بالجناية ولا يمكن أن يطالب سيده بها، لفتح باب الضرر على الناس، ولذلك تكون جنايته في رقبته. قال رحمه الله: [وأرش جنايته] وأرش جنايته كذلك. قال رحمه الله: [وقيمة متلفه] أي: وقيمة الشيء الذي أتلفه، فنقول لسيده: إما أن تدفع عنه وإما أن يبيع القاضي هذا الرقيق ويسدد دينه من رقبته، ثم بعد ذلك يدفع الباقي من المال -إن كان ثَمَّ باقي- إلى سيده الذي يملكه. والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تولية المرأة على مال اليتيم

حكم تولية المرأة على مال اليتيم Q هل يجوز أن يجعل الأب امرأة تلي أبناءه بعد موته؟ A باسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فوصاية المرأة على مال الأيتام في حجره أجازها طائفة من العلماء رحمهم الله، ولذلك كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تلي أمر أيتام عبد الرحمن أخيها، وقالوا: أن المرأة لها حق النظر في المال، فيجوز لها أن تتولى النظر في أموال اليتامى، ولا شك أن الرجل أكثر مخالطة للرجال وأعلم بأحوالهم، ولذلك هو أقرب للولاية من المرأة. والله تعالى أعلم.

حكم أخذ ولي اليتيم الفقير من زكاة مال اليتيم

حكم أخذ ولي اليتيم الفقير من زكاة مال اليتيم Q هل يجوز لولي اليتيم إن كان فقيراً أن يأخذ زكاة مال اليتيم الذي يتولاها؟ A يجوز لولي اليتيم أن يأخذ زكاة مال اليتيم إذا كان مستحقاً لها، وذلك لأن المال مال غيره -اليتيم- وقد مكن الله عز وجل من الزكاة الأصناف الثمانية وملكها لهم فقال سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] الآية. فاللام للملك. ولذلك قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25] فأثبت أنه حق فهو يستحقه بوصف الفقر، والله عز وجل أعطاه بهذا الوصف حقه في الزكاة، فيجوز له أن يأخذ زكاة مال اليتيم. لكن بشرط ألا يقدم نفسه مع وجود الغير المستحق والذي هو أولى منه وإنما يكون ذلك بالمعروف، والله تعالى أعلم.

حكم أكل ولي اليتيم من مال اليتيم

حكم أكل ولي اليتيم من مال اليتيم Q هل يجوز لهذا الولي الفقير أن يأكل من المال للحاجة؟ A هذه المسألة تقدمت معنا، فإذا كان ولي اليتيم فقيراً فإنه يأكل بالمعروف.

حكم تقديم مصلحة الأيتام على مصلحة الغرماء

حكم تقديم مصلحة الأيتام على مصلحة الغرماء Q أيهما يقدم: مصلحة الغرماء أو مصلحة الأيتام إذا مات والدهم ولم يترك ما يزيد عن سداد حقوق الناس؟ A أما بالنسبة للمال فليس للأيتام فيه حق إلا بعد سداد ديون الميت؛ لأن الله تعالى جعل الإرث بعد سداد الدين، فقال سبحانه: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْن} [النساء:12] وفي الآية الثانية: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12] وفي الآية الثالثة (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:11]. فهذا يدل على أن الإرث واستحقاق الإرث لا يكون إلا بعد سداد الديون، وذمة الميت مقدمة على ورثته في هذا؛ لأن الله نص على أن الإرث يكون بعد سداد الدين، فلا يجوز أن تبقى ذمة الميت معلقة بل ينبغي أن يبادر بسداد ديونه. لكن ينبغي على التجار والأغنياء أن يترفقوا بالأيتام، فإذا رأوهم أيتاماً محتاجين إلى المال لأمور ضرورية، فالأفضل لهم أن يوسعوا عليهم، وأن يحتسبوا ذلك عند الله عز وجل؛ لأن هذا من أفضل القربات وأحبها إلى الله سبحانه، فإن الإحسان إلى اليتامى أجره عظيم وثوابه كبير عند الله سبحانه؛ حتى قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين) فكفالة اليتيم فيها إحسان، والصدقة على اليتيم إحسان، وكذلك أيضاً التوسعة على اليتامى إحسان، فالأفضل ألا يضيقوا على اليتامى، والله تعالى يبارك لهم في أموالهم ويوسع لهم من واسع فضله. والله تعالى أعلم.

حكم تنصيب القريب لنفسه وليا على الأيتام

حكم تنصيب القريب لنفسه ولياً على الأيتام Q إذا توفي الوالد ولم يوص لأحد بالولاية على أيتامه، فهل للقريب أن يتصرف في أموالهم بالأحظ لهم؟ A من حيث الأصل: يكون النظر لليتامى للقاضي، فالقاضي ينظر من كان الأرشد والأتقى لله عز وجل من قرابته فينصبه عليهم. وإن وجد من قرابته كأعمام اليتامى وبني أعمامهم ونحو ذلك ممن هو أتقى لله عز وجل وأحفظ للمال فإنه يقدمه على غيره؛ لأن القريب أكثر شفقة وأكثر رعاية للمال وحفظاً له من غيره، ولأن اليتيم مع عمه وابن عمه يحس بشيء من الراحة فلا يستحي أن يطلب حاجته، ولا يستحي أن يسأل، فإذا كان من الأقرباء فهو أفضل وأولى. ولأن الولاية على اليتيم لا يخلو فيها الأمر من النظر إلى عورات، والاطلاع على بعض الأشياء الخاصة في اليتامى، فإذا كانت عوراتهم عند القريب فهو أولى أفضل، وينبغي على وليهم أن ينظر من هو الأولى من القرابة فيوصي إليه، وكذلك على القاضي أن ينظر إلى الأقرب فالأقرب لأنهم أولى من غيرهم. ولذلك قدم الله عز وجل القريب على الغريب، وعلى هذا قالوا: إن وجود القرابة يدعو إلى الشفقة والرحمة، والقريب يضحي أكثر مما يضحي الغريب؛ فالقريب إذا وجد مشقة من أولاد أخيه صبر عليهم وتحمل، وإذا وجد العناء أو أوذي بسبب القيام على مالهم وضاقت عليه الأمور احتسب الأجر، فعدها من صلة الرحم، فهذا لا شك أنه يحقق مصالح أكثر مما لو كان غريباً. والله تعالى أعلم.

حكم ضمان ولي اليتيم إذا تاجر بمال اليتيم وخسر دون تفريط منه

حكم ضمان ولي اليتيم إذا تاجر بمال اليتيم وخسر دون تفريط منه Q إذا تاجر ولي اليتيم في ماله وخسر دون تفريط منه فهل يضمن؟ A إذا تاجر ولي اليتيم في ماله وخسر فإنه لا يضمن إذا كانت التجارة بالمعروف ولم تكن هناك مخاطرة، أما إذا خاطر بالمال وغرر به فإنه يضمن؛ لأنه تعاطى سبب الضرر، وأما إذا كان الحال كما ذكر في السؤال من أنه لم يفرط فحينئذٍ لا ضمان عليه. والله تعالى أعلم.

حكم إقراض الناس من مال اليتيم

حكم إقراض الناس من مال اليتيم Q هل يجوز للولي أن يعطي من مال اليتيم قرضاً لشخص آخر؟ A مسألة الإقراض من مال اليتيم فيها وجهان للعلماء: بعض العلماء يقول: يجوز أن يقرض. وبعضهم يمنع وهو الأقوى، وهو الذي تطمئن إليه النفس من ولاية رب المال. لكن الذين قالوا بجواز القرض اختلفوا أيضاً على قولين: فمنهم من يقول بجوازه ويطلق. ومنهم من يقول: يجوز إذا أخذ الرهن واحتاط للمال، فإذا أخذ الرهن واحتاط للمال واستوثق جاز له أن يعطي القرض؛ لأنه قد حفظ مال اليتيم، والقرض فيه رفق بالناس وأجر لليتيم إذا بلغ. فقالوا: إنه أفضل وأكمل خاصة لما فيه من التوسعة على الناس، وخوف الضرر على اليتيم يمكن أن يتلافى بالرهن، ولكن الأول أشبه وأقوى. والله تعالى أعلم.

حكم إعطاء العمال جزءا من ربح مال اليتيم

حكم إعطاء العمال جزءاً من ربح مال اليتيم Q إذا تاجر ولي اليتيم بماله فهل له أن يقول للعمال: لكم ربع الأرباح وهو المضاربة؟ A هذه مسألة ثانية وهي مسألة المضاربة، تقول لشخص: خذ مائة ألف وتاجر بها والربح بيني وبينك، القراظ والمضاربة خارجة عن الأصول، ومعنى كونها خارجة عن الأصل: أنها تجارة جاءت على غير الوجه المعروف. وتوضيح ذلك أولاً: أن العمل مجهول والأجرة مجهولة وغير مضمونة، ففي القراض العمل مجهول؛ لأنك تعطيه مائة ألف وتقول له: اضرب بها في الأرض، فيمكن أن يشتغل بها شهرين ويمكن أن يشتغل بها سنة أو سنتين أو ثلاثاً فلا يعلم مقدار العمل ولا مدته، فالعمل مجهول والمدة مجهولة. ثانياً: الربح نفسه لا ندري كم سيكون قليلاً أو كثيراً، وإذا ثبت هذا -وهو جهالة العمل وجهالة الربح- قالوا: إذاً المضاربة خارجة عن الأصول، ومعنى كونها خارجة عن الأصول: أنه لا يقاس عليها غيرها، وكأنها جاءت رخصة وتوسعة، فيختص الحكم بها ولا يقاس غيرها عليها. وهذا مسلك طائفة من العلماء كما اختاره أئمة الحنفية والمالكية رحمهم الله وغيرهم، وهناك مسلك ثانٍ يقول: المضاربة إجارة ونوع من الشركة، فهو يستأجره ويشاركه في الربح، فيجوز على هذا القول أن تستأجر وتشارك وتجعل المضاربة نوعاً من الشركة. بناءً على القول الأول: لو قال لعامل في بقالة مثلاً: أعطيك أجرة الشهر ألف ريال وربع الربح، حينئذٍ يصح عندهم أن يقاس على المضاربة، ولكن على الوجه الصحيح من أن المضاربة خارجة عن الأصل، فيعتبر إجارة بالمجهول لأننا لا ندري كم ربع الربح، ولا ندري هل يربح كثيراً أو قليلاً. وبناءً على ذلك: لا يجوز الإجارة بالمجهول، والذي ذكرته في السؤال: إذا كان العمال الذين دفع المال إليهم على أساس أن يضاربوا بأنفسهم فلا إشكال أن لهم ربع الربح أو نصف الربح على ما اتفق عليه. لكن أن يقال لعامل يشتغل في مال اليتيم لك أجرة ثمانمائة ريال في الشهر وأعطيك ربع الربح أو نصف الربح -كما هو موجود الآن في بعض الأعمال- فلا يجوز؛ لأن إدخال المجهول على المعلوم يصير المعلوم مجهولاً، فهو وإن استأجره بألف ريال شهرياً -وهي معلومة- لكن ربع الربح أو ربع الناتج مجهول. وحينئذٍ يغرر بالعامل، فقد يظن العامل أن المحل سيربح كثيراً، فيدخل على أساس أنه سيأخذ ربحاً كثيراً، وإذا بالربع شيء يسير والمحل لا يربح كثيراً، فحينئذٍ يكون من الغرر. ولذلك الأشبه بالقواعد الشرعية والأصول الشرعية عدم صحة أن يقول لهم: اشتغلوا ولكم ألف وربع الناتج أو نصف الناتج، أو خذ هذه السيارة واعمل بها اليوم ونصف ما تنتجه بيني وبينك، لا يصح لأن هذا تغرير به، فيتعب يومه كله، وقد لا يجد إلا راكباً واحداً، والشريعة لا تريد هذا، إنما تريده أن يعمل ويأخذ عرق جبينه بالشيء الواضح. فإذا قلت له: خذ السيارة وأعطني مائة، هذا جائز؛ لأنها أجرة لك، ثم هو يملأ بنزينها ويعمل بها خلال ساعات اليوم، ويحدد له اثني عشر ساعة أو عشر ساعات، وتصبح إجارة للزمان ولا إشكال فيها وهي جائزة، لكن يقول له: خذها ويكون البنزين عليك ولك ربع الناتج أو نصف الناتج أو ثلث الناتج هذا يعتبر من المجهول ولا يصح؛ لأنه إجارة بالمجهول، وإجارة المجهول لا تجوز إجماعاً. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب الوكالة [1]

شرح زاد المستقنع - باب الوكالة [1] شرع الله سبحانه وتعالى الوكالة رحمة بالعباد ورفقاً بهم، حتى يأخذ الناس حقوقهم، ويحافظوا على أموالهم، ولا تكون الوكالة في كل شيء، فهناك أشياء لا تصح فيها الوكالة مطلقاً، وهناك أشياء تصح فيها الوكالة عند العجز، وهناك أشياء تصح فيها الوكالة مطلقاً.

الوكالة تعريفها وحكمها

الوكالة تعريفها وحكمها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الوكالة]. هذا الباب يشمل على جملةٍ من الأحكام والمسائل المتعلقة بالنيابة، سواءً كانت في العبادات أو في المعاملات، فيقيم المسلم غيره مقامه، لاستيفاء حقٍ من حقوقه، أو يقيمه مقامه في عبادةٍ أذن الشرع فيها بالنيابة. وباب الوكالة متصلٌ بباب الحجر بمناسبةٍ ظاهرة وهي: كون الحجر يتولى فيه ولي المحجور النظر في أمواله ومصالحه، وكأن الوكيل أصبح قائماً مقام من تولى النظر في مصالح موكله، فالمناسبة ظاهرة.

تعريف الوكالة لغة

تعريف الوكالة لغةً والوكالة في لغة العرب تطلق بمعنى: الحفظ والتفويض، وكذلك القيام على الشيء، قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122] أي: ليفوضوا أمورهم إلى الله {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:9] أي: فوض أمورك إليه، واجعل جميع حوائجك إليه، وكِلْ أمورك إلى الله سبحانه وتعالى، وقال سبحانه عن نبيه: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود:56] أي: فوضت أمري كله لله، وقال تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62] فهو سبحانه القائم على أمور عباده. وعلى هذا دارت معاني الوكالة في الحفظ، وكذلك أيضاً التفويض، وكذلك القيام على الشيء والكفالة.

تعريف الوكالة اصطلاحا

تعريف الوكالة اصطلاحاً والوكالة في الاصطلاح: استنابة جائز التصرف لمثله فيما يدخله النيابة، وقيد بعض العلماء هذا التعريف بقوله: في حياته، كما هو مسلك الشافعية رحمهم الله. فقولهم: (استنابة)، الاستنابة: مأخوذة من النيابة، والأشياء تقع على صورتين: إما أن تقع من الإنسان أصالةً، وإما أن تقع من الإنسان نيابةً، فإذا أسند الإنسان الشيء إلى غيره فقد أنابه وأقامه مقامه، فقالوا: الوكالة استنابة، فعندنا موكِل، وعندنا موكَل، وعندنا موكَلٌ فيه، وعندنا صيغةٌ تقع بها الوكالة، فالاستنابة تحصل من الموكِل، وتُطلَب من الوكيل، ولذلك يقولون: هي من الموكل -اسم الفاعل- إذْن، ومن الوكيل رفق، وتوضيح ذلك: أنك إذا قلت لشخص: بع البيت لي، فقد أذنت له أن يبيع، وهو يقوم بالبيع رفقاً بك. وأما بالنسبة لقولهم: (استنابة جائز التصرف)، وبعض العلماء يقول: (استنابة من له حق التصرف)، فهذا من إضافة المصدر إلى فاعله، ومعناه: أن يكون شخصاً بالغاً عاقلاً حراً رشيداً، فهذه أمور أو صفات إذا توفرت في الشخص حكمنا بكونه أهلاً للتصرف، والتصرف يشمل: البيع، والشراء، والإجارة، وسائر العقود التي سبق أن ذكرنا ضوابط التصرف فيها في باب الحجر، وكذلك غيره من أبواب المعاملات، فحينما قال العلماء: الوكالة: استنابة من له حق التصرف، فمعنى ذلك: أن الذي يوكِّل لا بد وأن يكون أهلاً للتصرف فيما وكَّل فيه. وعلى هذا: إذا كانت وكالةً ببيع فلا بد وأن يكون الموكِّل أهلاً لأن يبيع، وإذا كانت وكالةً بإجارة فلا بد وأن يكون الموكِّل أهلاً لأن يؤجر، وإذا كانت وكالةً بغير ذلك من العقود فلا بد وأن يكون الأصيل والموكِّل أهلاً للقيام بها، فلو كان الأصيل -وهو الموكِّل- ليس بأهل كأن يكون ليس ببالغٍ كالصبي ولا عاقلٍ كالمجنون وقال لغيره: بع داري أو أجر الدار لم تصح الوكالة؛ وذلك لأنه ممنوع من التصرف في حق نفسه فمن باب أولى أن يمنع من إنابة غيره؛ ولأن النيابة تفتقر إلى وجود أهلية في الأصل حتى يتحقق إذن الشرع بالنيابة على الوجه المرضي. (استنابة من له حق التصرف مثلَه)، فقولهم: استنابة من له حق التصرف، هذا بالنسبة للموكل (مثله) هذا الوكيل، وقالوا: (مثله)؛ لأن القاعدة في الشرع تقول: (البدل يأخذ الحكم مبدله)، و (الفرع تابعٌ لأصله)، فالفرع يستمد قوته من الأصل، فإن كان عند الأصل قوة كان الفرع قائماً عليها، وأما إذا كان الأصل ليس له حق التصرف وليس بأهل فإنه حينئذٍ لا ينبني عليه غيره، وكذلك أيضاً من يقوم مقامه لا بد وأن يكون أهلاً للتصرف، وعلى هذا فلو وكلت شخصاً بالبيع فلابد وأن يكون الشخص الذي يقوم بالبيع عنك أهلاً لأن يبيع لنفسه؛ لأنه إذا كان لا يصح بيعه لنفسه فمن باب أولى أن لا يصح بيعه لغيره. مثال ذلك: لو وكَّل عاقل أو من هو أهل للتصرف مجنوناً لم تصح الوكالة؛ لأنه ليس بمثله أي: ليس ممن هو جائز التصرف، ولو وكّل صبياً أو محجوراً عليه فإنه لا يحكم باعتبار الوكالة؛ لأنها لم تقع على الوجه المعتد به شرعاً، وهو أن يكون مثله فيما تدخله النيابة، هذا هو محل الوكالة، فأنت توكل شخصاً للقيام بأمر إثباتاً ونفياً في حقٍ مالي أو غير مالي، في حقٍ لله أو حق لعباده، فهذا كله يسمى محلاً للوكالة، فلو قلت له: وكلتك أن تبيع أرضي، فمحل الوكالة بيع الأرض، ولو قلت له: وكلتك أن تبيع داري فمحل الوكالة الدار، ولو قلت له: وكلتك أن تحج عني -وكانت الوكالة بالحج معتداً بها شرعاً، وممن يعجز أن يحج لنفسه- فإنه حينئذٍ يكون محل الوكالة هو الحج وهكذا (فيما تدخله النيابة) هذا قيد يخرج ما لا تدخله النيابة، فلو قال شخصٌ لآخر: وكلتك أن تصلي عني! لم يصح؛ لأن الشرع قصد أن يصلي المكلف بعينه؛ ولذلك يقولون: فروض الأعيان التي قصدها الشرع من عين المكلَّف -وإلا قد تكون فرض عين لا يقصد منها الشرع أن يقوم بها المكلف بعينه- لا تدخلها النيابة، كالصلاة حيث قصدها الشرع من المكلف بعينه، فلا يمكن لشخص أن يقول: أنا أصلي عنك. كذلك أيضاً أن لا يكون محل الوكالة مما فيه إثم، ومن ذلك منع العلماء -رحمهم الله- أن يوكل غيره في ظهار امرأته؛ لأن الظهار منكرٌ من القول وزور، وقالوا: الأصل في ذلك قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، فهو إذا أقام غيره مقامه في فعل إثمٍ أو طلبه أو تحصيله فقد خالف مقصود الشرع؛ لأن مقصود الشرع أن لا يفعل هذا الإثم وأن لا يتعاون عليه، فلو كانت الوكالة صحيحة فكأن الشرع يأذن لذلك فعل المحرم، هذا بالنسبة لقوله: (فيما تدخله النيابة)، فخرج الذي لا تدخله النيابة. كذلك أيضاً: ينبغي أن تقع هذه الوكالة في الحياة، أما لو أسند إليه الفعل بعد الموت فهي وصية، وليست بوكالة، فلو عهد إليه أن يزوج أيتامه أو يزوج بناته فإنه في هذه الحالة وصيٌ وليس بوكيل، فالوكالة في الحياة والوصية من بعد الموت. هذا حاصل ما ذُكِر في تعريف الوكالة، والوكالة شرعها الله عز وجل وأباحها لعباده لما فيها من الرفق والتيسير ومحض الإحسان، فإن الإنسان قد يتعذر عليه أن يقوم بتحصيل مصالحه بنفسه، وقد يتعذر عليه ذلك بسبب شغله، وقد يكون من الصعوبة أن يقوم بذلك بسبب مكانته كالعالم يتولى أمور البيع والشراء بنفسه، فيقع في حرج السوق، وربما يكون في أمرٍ فيه خصومة فيقع في تسلط السفهاء وأذيتهم ونحو ذلك، فشرع الله عز وجل الوكالة حتى يدفع الإنسان عن نفسه الضرر في مثل هذا، ثم أيضاً يحصل بهذه الوكالة المعونة على الحق والخير، فلربما كان الموكل محتاجاً إلى الوصول إلى حق من حقوقه كما يقع في القضاء؛ ولكنه لا يحسن الكلام ولا يحسن الاستدلال لنفسه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم تختصمون إليّ فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض) فبعض الناس يقلب الحق باطلاً والباطل حقاً، ويستطيع بلسانه وحلو مقاله أن يؤذي الناس ويكون الشخص مصيباً فيواجه مثل هذا، فحينئذٍ لو واجهه غلب على ظنه أنه لا يستطيع أن يقوم بحجته، فيوكل من يرى أنه أهل لبيان حقه والدفاع عن حقوقه، ففي الوكالة رفقٌ بالناس من هذه الوجوه.

مشروعية الوكالة

مشروعية الوكالة وقد دل دليل الكتاب ودليل السنة ودليل الإجماع على جوازها وصحتها، أما دليل الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى قال عن أهل الكهف: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف:19] ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله تعالى حكى عمن قبلنا أنهم تعاطوا هذا النوع من المعاملة -وهو الوكالة- فوكل أصحاب الكهف أحدهم أن يشتري لهم ويتولى عقداً من العقود المالية: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا)، فوكلوه أن يشتري لهم الطعام وجعلوا الوكالة مقيدة، (أَيُّهَا أَزْكَى) أيها أطيب (فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ) وعلى هذا قالوا: دلت الآية على مشروعية الوكالة، وكذلك أيضاً قال تعالى عن نبيه يوسف: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، قال بعض العلماء: إن هذه الآية تدل على مشروعية الوكالة؛ فإن يوسف عليه السلام سأل من ملك مصر أن يجعله قائماً على خزائن الأرض، وإذا كان قائماً فإنه يقوم بالوكالة؛ لأنه في هذه الحالة وكيلٌ عن الولي العام، وحينئذٍ دلت الآية على شرعية الوكالة في تحصيل المصالح ودرء المفاسد، فالآية الأولى تدل على شرعية الوكالة في الأموال والعقود المالية، وآية سورة يوسف تدل على شرعية الوكالة فيما تدخله الوكالة في المصالح العامة. وكذلك السنة: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكَّل، ومن ذلك ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في حديث عروة بن أبي الجعد البارقي رضي الله عنه وأرضاه قال له النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام: (اشتر لنا من هذا الجلب شاةً، فذهب عروة وأعطاه ديناراً، فذهب عروة إلى السوق فاشترى شاتين بدينار، ثم باع إحدى الشاتين بدينار فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدينار وشاة، وقال: يا رسول الله! هذه شاتكم وهذا ديناركم). ولفظ صيغة الحديث عند الدارقطني وأحمد: عن عروة بن أبي الجعد قال: عرض للنبي صلى الله عليه وسلم جلب فأعطاني ديناراً وقال: (أي عروة! ائت الجلب فاشتر لنا شاة بهذا الدينار، فأتيت الجلب فساومت فاشتريت شاتين بدينار، فجئت أسوقهما أو قال: أقودهما، فلقيني رجل في الطريق فساومني فبعت إحدى الشاتين بدينار، وجئت بالشاة وبدينار فقلت: يا رسول الله! هذه الشاة وهذا ديناركم فقال: صنعت كيف؟ فحدثته بالحديث فقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه، فلقد رأيتني أقف في كناسة الكوفة فأربح أربعين ألفا قبل أن أصل إلى أهلي) أعطاه ديناراً فاشترى به شاتين بدلاً من شاة واحدة وقال له: اشتر لنا شاة واحدة، فذهب واشترى الشاتين بدينار، فلما اشترى الشاتين باع إحداهما بدينار، فرجع بالدينار رأس المال، ورجع أيضاً بالشاة، وهذا حديث عظيم فيه فوائد عظيمة منها: الوكالة، حيث وكله النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (اشترِ لنا من هذا الجلب شاةً). ومنها: جواز أن يأخذ الربح (100%)، وما يقوله بعض العوام من أنه لا يجوز أن يربح أكثر من (10%) أي: عشر الثمن أو نصف الثمن كل ذلك معارض للشرع، فالشرع أطلق البيع وأذن للمسلم أن يأخذ ولو أضعاف أضعاف قيمة المبيع؛ لأنه اشترى بنصف دينار وباع بدينار وهذا ربح (100%)، وعلى هذا: فالحديث دلّ على مشروعية الوكالة بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لها. كذلك أيضاً حديث: حكيم بن حزام رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً، وأمره أن يشتري شاةً أضحية، فهذا توكيل. كذلك أيضاً: حديث أبي رافع رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم وكله في نكاح ميمونة، وبعثه سفيراً إليها رضي الله عنه وعنها، فكل هذه النصوص من الكتاب والسنة جعلت أمر الوكالة محل إجماعٍ عند أهل العلم، فقالوا بمشروعية الوكالة وجوازها. ومن الحكم المستفادة من شرعيتها: الرفق بالموكل، وكذلك حصول الأجر للوكيل لما فيه من المعونة والإحسان، ويعتبر العلماء عقد الوكالة من عقود الرفق، بمعنى: أنه لو وكل شخص شخصاً فالمقصود من هذه الوكالة الرفق؛ لأنك إذا توكلت عنه بالبيع، وبعت عنه فقد رفقت به في مصلحة البيع، ولو توكلت عنه في إجارة أو نكاحٍ أو غيره فقد رفقت به في تحصيل تلك المصلحة. يقول المصنف رحمه الله: (باب الوكالة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل المتعلقة بعقد الوكالة.

الصيغة التي تتم بها الوكالة

الصيغة التي تتم بها الوكالة

صيغة الإيجاب من الموكل

صيغة الإيجاب من الموكل قال رحمه الله: [تصح بكل قولٍ يدل على الإذن]. يقول رحمه الله: (تصح) أي: الوكالة، (بكل قولٍ يدل على الإذن)، فالوكالة تكون بالقول، وتكون بالفعل، وبكل ما يدل على الإذن بأن يقوم الشخص مقام موكله، أما قوله: (تصح بكل قولٍ) فالقول ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: يسميه العلماء: القول الصريح. القسم الثاني: القول غير الصريح، وهو الظني الذي يدل على أنه وكلك بصيغةٍ أو بلفظٍ غير صريح بل محتمل، لكنه يتضمن معنى الإذن، فأما إذنه لك بالوكالة فيقول: يا محمد أو يا عبد الله وكلتك أن تشتري لي سيارةً من نوع كذا وكذا بعشرة آلاف، فحينئذٍ وكلك بصريح القول، وقد يوكلك بالفعل، مثلاً: تجد العامل إذا كان يعمل مع شخص في دكانٍ فجاء إلى صاحب الدكان وقال: انتهى الماء عندنا، ومن عادته أن يشتري الماء بمائة ريال، فأخذ صاحب الدكان مائة من جيبه ورماها للعامل، ما معناه؟ معناه: قد وكلتك أن تذهب وتشتري لنا ماءً مثل ما كنت أو عهدت أو كان بيننا فيما تقدم، فهو لم يتكلم ولم يقل له: وكلتك أن تشتري، بل هذه دلالة الفهم، فعندنا دلالة القول وعندنا دلالة الفهم، ودلالة القول الصريح منها: وكلتك، والضمني كأن يقول له: خذ، ولا يوكله بصريح القول: وكلتك، أو يقول له: قم بالشيء، افعل الشيء، ولا يأتِ بصريح لفظ الوكالة، فعندنا اللفظ الصريح: وكلتك، واللفظ غير الصريح: قم بالأمر، تولَّ الأمر، انظر في الأمر، ونحو ذلك مما هو متضمنٌ للإذن وليس بصريح، وأما الفعل: كأن يلقي له المال دالاً على الإذن بالشراء أو نحو ذلك من التصرفات التي تتضمن معنى النيابة. قال رحمه الله: [ويصح القبول على الفور والتراخي بكل قول أو فعل دال عليه]. عندنا الوكالة فيها: صيغة، وموكل، ووكيل -وهما العاقدان- ومحل الوكالة، أما العاقدان: فوكيل وموكل، ولا تقع الوكالة إلا بطرفين: أحدهما موكِّل والثاني: موكَّل أو وكيل؛ أما الصيغة فالتي ذكرناها، وتشتمل على الإيجاب والقبول، والمحل يشتمل على المطلوب فعله من الوكيل، فأما بالنسبة للمصنف رحمه الله فابتدأ بأحكام الصيغة، وإذا قال العلماء: صيغة الوكالة، صيغة الصلح، صيغة البيع، صيغة الإجارة، فهناك جانبان لا بد وأن يضعهما طالب العلم أمامه: الإيجاب والقبول، فهناك إيجاب صادر من الأهل وهو قوله: وكلتك، وهناك قبول من الطرف المقابل يقول: قبلت، فالصيغة تقوم على جانبين: الإيجاب والقبول، فلما أراد المصنف أن يبين أحكام الصيغة ابتدأ بالإيجاب، وذلك بقوله: (تصح بكل قولٍ دالٍ على الإذن)، كما ذكرنا: الصريح وغير الصريح، وفي حكم القول: الفعل، وقد قرر شيخ الإسلام رحمه الله -وهذا أصل سبق وأن نبهنا عليه- مسألة تنزيل الأفعال منزلة الأقوال، وذلك في كتابه النفيس: القواعد النورانية، وهو من أنفس ما كتب في القواعد الفقهية التي قعدها ونظرها، وبين فيها أن أصول الشريعة الإسلامية لا تلزمنا في العقود بلفظٍ معين أو صيغةٍ معينة إلا إذا دلّ الدليل على الإلزام، وأن الناس يعتدون بما تعارفوا عليه من الصيغ إيجاباً وقبولاً، وبناءً على ذلك نأخذ صيغة الوكالة، فعندنا إيجاب وعندنا قبول، ونقول: القاعدة في ذلك: كل ما تعارف الناس عليه أنه يتضمن معنى الوكالة فهو وكالة، إن كان بالقول فقول، وإن كان بالفعل ففعل، ويعتبر صيغة للوكالة. بقي أن نقول: القول في الوكالة وصيغة الوكالة يكون من الموكل والوكيل، فبعد أن فرغ -رحمه الله- من الموكل، وقوله: (وكلتك) فلا بد وأن يكون هناك ما يقابله وهو القبول.

صيغة القبول من الوكيل

صيغة القبول من الوكيل فقال رحمه الله: [ويصح القبول على الفور والتراخي]. ويصح القبول من الوكيل على الفور وعلى التراخي، على الفور كأن يقول له: يا محمد! وكلتك أن تبيع سيارتي بعشرة آلاف عصر هذا اليوم في السوق، فيقول: قبلت، فهذا قبول على الفور، بمجرد ما انتهى من صيغة الوكالة قال: قبلت، فالصيغة إذا كان بها جانب الإيجاب والقبول فإما أن تكون على الفور أو على التراخي، فالفورية أن يكون القبول مباشراً، والتراخي أن يتأخر القبول إما عن المجلس فيختلف المكان، أو يتأخر بالزمان كأن يقول له: يا محمد! وكلتك أن تزوج ابنتي من فلان، فسكت، وفي بعض الأمور إذا طُلِب منك أن تقوم مقام غيرك فالحكمة تقتضي أن لا تعجل، وأن تنظر: هل تستطيع القيام بذلك الأمر وهل هناك مصالح يمكن تحقيقها، وما طلب منك هل تترتب عليه مفاسد أو لا تترتب؟ فتحتاج أن تنظر وتتراخى فيه في القبول، والشريعة وسعت في هذا الأمر، فلك أن تقول مباشرة: قبلت، ولك أن تتأخر حتى تنظر: هل الأصلح أن توافق أو لا توافق؟ ثم بعد ذلك تقول ما ترى فيه المصلحة. أيضاً من التراخي أن يكتب له كتاباً: يا فلان! إني وكلتك أن تبيع داري بالمدينة، فيخرج الكتاب من بلد الموكل إلى بلد الوكيل الذي فيه الدار ويستغرق شهراً، أو يستغرق -مثلاً- سنةً، أو يأخذ وقتاً طويلاً ويتأخر الكتاب كما في القديم، فلم يأت إلا بعد شهور، فهل نقول: الصيغة باطلة؟ هذا مراد العلماء، فتصح الوكالة إذا وقع القبول فيها فورياً أو متراخياً، فلا يؤثر في هذا لو كتب له كتاب قبل شهور، فلا يأتي ويقول: هذه وكالةٌ غير صحيحة، لأنه قد وكلني قبل شهور، بل نقول: يصح القبول في الوكالة على الفور وعلى التراخي. قوله: [بكل قول أو فعل دال عليه]. (بكل قول) تقول: قبلت، (بكل) من صيغ العموم، فكما أن القول في الإيجاب على قسمين: صريح وضمني، كذلك القبول صريح وضمني، فالقبول الصريح كأن يقول لك: يا محمد! وكلتك أن تبيع داري في المدينة بعشرة آلاف، فتقول: قبلت وكالتك، فهذا صريح وليس فيه إشكال، فإنك نظرت وقبلت وكالته بصريح اللفظ الذي لا يحتمل. القول الضمني في القبول هو كالذي يعرف الآن في أعرافنا، يقول له: يا محمد! بع سيارتي مثلاً بما تراه، فيقول: ما يهمك، فهذه ليست بصريحة في قبول الوكالة، لكن درج العرف على أنها تدل على الرضا والقبول، فتنزل منزلة الصريح، فقوله: ما يهمك، أنا أتولى الأمر عنك، اترك الأمر لي، -هذه كلها عبارات ليست بصريحة في الوكالة، لكنها تتضمن معنى القيام أو القبول بالتفويض والوكالة، فالقول الصريح والقول الضمني والفعل الدال يدخل في ذلك، والفعل الدال كأن يقول: يا محمد! خذ هذا الكتاب وأعطه زيدا، فقام وأخذ الكتاب دون أن يقول: قبلت؛ فإن حمله للكتاب يدل على أنه قد رضي بالوكالة، فإذا حمل الكتاب وخرج من عنده وافترق عنه وحدث أي شيء للكتاب ترتبت عليه أحكام الوكالة، وهل يضمن الوكيل أو لا يضمن، كما سيأتي إن شاء الله. فإذاً نقول: القول الصريح وغير الصريح والفعل في القبول سواء.

محل الوكالة وأقسامه

محل الوكالة وأقسامه قال رحمه الله: [ومن له التصرف في شيء فله التوكيل والتوكل فيه]. هذه المسألة: محل الوكالة، ذكرها رحمه الله بعد أن فرغ من الصيغة، فالموكل والوكيل بينا ضوابطهما في الأصل، لكن نريد الآن أن نعرف ما هي الأشياء التي يمكن أن يوكل فيها، والأشياء التي لا يمكن أن تكون محلاً للوكالة، أو لا يصح أن تقع فيها وكالة، فتنقسم الأشياء من حيث الوكالة إلى أقسام: القسم الأول: أن يكون الشيء مما تجوز فيه النيابة مع العجز والقدرة. القسم الثاني: أن يكون الشيء مما لا تجوز فيه النيابة لا مع العجز ولا مع القدرة. القسم الثالث: أن يكون الشيء مما تجوز فيه النيابة مع العجز ولا تجوز مع القدرة.

ما تجوز فيه النيابة مع العجز والقدرة

ما تجوز فيه النيابة مع العجز والقدرة القسم الأول: أن يكون الشيء الذي وقعت فيه الوكالة -سواءً كان البيع أو الإجارة أو الرهن أو المضاربة أو غير ذلك من العقود- مما تجوز فيه النيابة، سواءً كنت أنت الموكل عاجزاً أو قادراً، وهذا معنى قولنا: (تصح فيه النيابة مع العجز والقدرة)، العجز: أي: عن فعل ذلك الشيء، والقدرة: التمكن من القيام بذلك الشيء، وهذا غالباً ما يقع، فهذا هو القسم الأول من محل الوكالة: أن يكون الشيء تدخله الوكالة مع العجز والقدرة، وهذا غالباً ما يقع في الحقوق المالية، أو في المعاملات. وهذا القسم ينقسم في الأموال إلى نوعين: النوع الأول: الحقوق المتعلقة بالله سبحانه، فإذا وقع أحد في الوكالة في حقٍ مالي وجاءك يسأل: هل هي وكالة شرعية أو غير شرعية؟ فتنظر إلى هذا الحق المالي وتصنفه، فلا يخلو: إما أن يكون حقاً لله، أو يكون حقاً للمخلوق، فهناك حقوقٌ مالية لله، وهناك حقوق مالية للمخلوق، فأما إذا وكله في حقٍ مالي لله مما تجوز فيه النيابة فإنه تصح الوكالة، ومن ذلك: الزكاة والكفارات الواجبة، فلو قال رجل لرجل: زكاتي عشرة آلافٍ وكلتك أن تتولى صرفها للمستحقين، فإنها وكالةٌ شرعية، فالزكاة عبادة والحق المالي الموجود فيها لله، لكنها تقبل النيابة والتفويض، فحينئذٍ يصح التوكيل سواء قال له: أن تدفع زكاتي للمستحق، فأبهم من حيث الشخص وعين في الصفة، أو يحدد نوعاً من المستحقين فيقول: أن تصرفها للفقراء فقط، أو للأيتام أو للمساكين، فهذا تفويض وتوكيل مخصص، وينبغي أن تكون الوكالة مختصة كما سيأتي، هذا بالنسبة لحق الزكاة. ومن حقوق الله تعالى المالية التي تدخلها النيابة مع العجز والقدرة: الكفارات، فلو أن رجلاً وجبت عليه الكفارة ليمينه، فقال: يا محمد! كفر عني يميناً حنثت فيها فأطعم عني عشرة مساكين أو اكسهم، فحينئذٍ إذا قال له: وكلتك أن تُطعم عني عشرة مساكين أو تكسوهم صحت الوكالة، ولا يقول قائل: لا يجوز التوكيل في هذا الحق؛ لأنه من العبادات، بل هذه عبادة وحق مالي تدخله النيابة. كذلك لو أنه ظاهر من امرأته، أو جامع في نهار رمضان وهو صائم، أو قتل خطأً فوجبت عليه الكفارة التي تقوم على عتق الرقبة، فإن عجز صام شهرين متتابعين في الظهار، فعتق الرقبة حق مالي متعلق لله سبحانه وتعالى، فقال له: كفر عني بعتق رقبة، فوكله في حقٍ مالي تدخله النيابة فتصح الوكالة، فأعتق عنه الرقبة لظهارٍ أو قتلٍ أو جماعٍ في نهار رمضان صح، فهي حقٌ مالي وتدخله النيابة، كذلك لو أنه أصاب محظوراً في الحج، فوكله في الفدية، أو ترك واجباً فوكله في دم الجبران، أو وكله أن يشتري هدي التمتع أو هدي القران ويذبحه ويتولاه صحت الوكالة، لكن ينتبه إلى أن هذه الوكالة لا يشترط فيها العجز، فلا نقول له: لا توكل إلا إذا كنت عاجزا، بل نقول: من حقك أن تخرج الزكاة بنفسك أو توكل، سواءً كنت قادراً في الوكالة أو عاجزا، فهذا معنى قولهم: (تدخله النيابة مع العجز والقدرة)، فهذا النوع الأول: حقوق الله تعالى بالنسبة للأموال. النوع الثاني من الذي تدخله النيابة: حقوق العباد، وحقوق العباد المالية تدخلها النيابة سواء وكلته وأنبته في العقد، أو وكلته وأنبته في النقد، أو وكلته وأنبته في تحصيل رفقٍ. إلخ. فأما توكيلك له في العقد فالعقود المالية تشمل: البيع، الإجارة، المضاربة، الشركة. إلخ، فأنت إذا وكلت شخصاً في حقٍ مالي لك -الذي هو العقد- من حقك أن تتولاه، فمثلاً: السيارة من حقك أن تبيعها، ومن حقك أن تشتريها، فلك الحق أن توكل ببيعها وتوكل بشرائها، هذا توكيلٌ بالبيع وبعقد البيع، فهذا يسمونه توكيل بالعقد ومن أمثلته: البيع الإجارة المضاربة إلى آخره، وهذا النوع من التوكيل في العقد على ضربين: الضرب الأول: أن توكله في الإنشاء، إنشاء العقود. الضرب الثاني: أن توكله في هدم العقود وهو ما يسميه العلماء بالفسخ، فيصح لك أن توكل في حقٍ مالي في العقود المالية إنشاءً وفسخاً، فالحقوق المالية في العقود تقبل التوكيل إنشاءً وفسخاً، ما معنى الإنشاء؟ وما معنى الفسخ؟ يعني: من حقك أن تقيم غيرك مقامك في إبرام العقد، فتلتزم بما وكلته أن يلتزم به، وأيضاً من حقك أن توكله في فسخ العقد، مثاله: لو قال شخص لآخر: وكلتك أن تشتري لي سيارة من نوع كذا بعشرة آلاف، هذا توكيل بالإنشاء، فينشئ عقد البيع ويدخل إلى ذمة موكله هذا النوع من المبيعات، فالوكالة صحيحة ومعتبرة في هذا، أما الفسخ فالعكس، يقول له: وكلتك أن تفسخ هذا البيع لوجود خيار، كأن يطلع على عيب في السلعة فقال له: اذهب ورد لفلانٍ ثوبه هذا وخذ الثمن منه، فإنه معيب ولا أريد أن أتم هذا، والعيب يوجب خيار الفسخ، فحينئذٍ من حقه أن يفسخ، فيوكله أن يفسخ العقد، فلا نقول في حقوق الأموال: تصح إنشاءً ولا تصح فسخاً، بل نقول: تصح إنشاءً وفسخاً، هذا بالنسبة للتوكيل في العقد إذا كان حقاً ماليا. التوكيل في النقد -في النقود والدراهم-: وهذا من أشهر ما يقع في عقد القرض والحوالة، فمن حقك أن توكل في القروض وتقول: أعط فلاناً مائة ألفٍ قرضاً، أو يقول التاجر للعامل الذي يكون في المحل: ديّن فلاناً أو ديّن الضعيف وأعطه شهراً أو شهرين، فأعطاه إذناً في أن يقرض الغير، فهذه وكالةٌ بالقرض، وقد يكون التوكيل في القرض -الذي هو النقد- من جهة الحوالة بالقرض، وهذا من جهة الإثبات، فيحيل ويقول له: وكلتك أن تحيل فلاناً على فلان، هذا توكيل للقرض بالحوالة، وكما أن القروض تقع فيها الوكالة إثباتاً كذلك تقع الوكالة فيها إبراءً ومسامحةً، ومن هذا ما ثبت في الحديث الصحيح كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه كان فيمن قبلنا رجلٌ يقرض الناس وكان يقول لغلمانه: إذا وجدتم معسراً فتجاوزوا عنه؛ لعل الله أن يتجاوز عنا، ففعلوا ذلك، فلقي الله عز وجل، فقال الله عز وجل: يا ملائكتي! نحن أحق بالعفو منه تجاوزوا عن عبدي)، فوجه الدلالة: أنه وكل عماله ومن تحت يده أن يسقطوا الديون وأن يؤخروا وأن يوسعوا على المعسرين، فهذا يدل على مشروعية التوكيل في القروض إسقاطاً ومسامحةً وتوسعةً، وعليه: فإن القروض تدخلها الوكالة. كذلك أيضاً: تقع الوكالة في عقود الأموال أو الحقوق المالية المتعلقة بعقود الإرفاق ومن أشهرها: العارية والوديعة، العارية تقول: يا فلان اذهب لفلان واستعر لي منه كتابه، فقد وكلته عنك أن يستعير ذلك الكتاب، وكذلك تقول له: اذهب إليه وخذ منه سيارته وقل له: أريدها يوماً أو أريدها لحاجةٍ، فتكون وكلته أن يستعير عنك، والعكس، فتوكله أن يرد العارية، فتقول له: خذ كتاب فلانٍ وأعطه إياه، فهذه وكالة برد العارية، فتقع الوكالة أيضاً في عقود الإرفاق عاريةً ووديعة، هذا بالنسبة للحقوق المالية المتعلقة بالله سبحانه وتعالى والحقوق المالية المتعلقة بالعباد. قد يتبع هذا القسم: الحقوق التي أذن الشرع فيها بالتوكيل مع العجز والقدرة من غير الأموال، وذلك كما هو في النكاح، فالنكاح يصح أن توكل فيه إنشاءً، ويصح أن توكل فيه فسخاً، وكذلك رفعاً، فتوكل في النكاح إنشاءً كأن تقول لرجلٍ: اقبل نكاحي من فلانٍ، وكلتك أن تقبل زواج فلانةٍ عني، فهو وكيل، فينشئ العقد بدلاً عنه، أو يقول رجل آخر: وكلتك أن تزوج ابنتي من فلان، فهذا توكيل بالإنشاء، ويقع التوكيل في النكاح رفعاً في الطلاق؛ لأن الطلاق يسمى رفع وتقول: وكلتك أن تطلق نسائي، أو يقول له: وكلتك أن تطلق فلانة طلقة، فهذا توكيل في رفع النكاح، ويقع التوكيل في فسخ النكاح وذلك بالخلع، فيقول له: وكلتك أن تخالع فلانة، أو المرأة تقول لأخيها: خالعني من زوجي وأعطه المال والمهر، فهذا توكيلٌ بالخلع، فلو أن المرأة وكلت أخاها أن يتولى خلعها من زوجها، وجاء الأخ إلى عند القاضي فلا يقول القاضي: لا بد وأن تحضر، بل إنه تجوز فيه الوكالة ولا تلزم بالحضور. وعلى هذا: فالوكالة تسري في النكاح إنشاءً ورفعاً وفسخا، وكذلك تقع في النكاح استدامة، كما في الرجعة، فلو قال له: وكلتك أن ترجع لي زوجتي -هذا في الرجعة- يصح في ذلك وتقع الوكالة، هذا بالنسبة للحقوق التي تدخلها النيابة مع العجز والقدرة ولا يشترط عجزُ الإنسان.

ما لا تجوز فيه الوكالة لا مع العجز ولا مع القدرة

ما لا تجوز فيه الوكالة لا مع العجز ولا مع القدرة القسم الثاني: أن تكون الوكالة في الحقوق التي لا تقبل النيابة، لا في حال العجز ولا في حال القدرة، وذلك كالصلاة؛ فإن الصلاة لا تصح فيها الوكالة لا مع العجز ولا مع القدرة، فلا يصح لشخص قادر على الصلاة أن يقول لغيره: وكلتك أن تصليّ عني، ولا يصح لشخصٍ عاجزٍ عن الصلاة أن يقول لغيره: وكلتك أن تصلي عني، هذا بالنسبة للصلاة، وقد يقع ذلك على سبيل التبع لا الأصل، كما في صلاة الركعتين في الحج والعمرة عن الغير؛ فإنك تصلي عنه لكن وقعت تبعاً، ولم تقع أصلاً، ويجوز في التابع مما لا يجوز في الأصل، وذكرنا هذه القاعدة وأدلتها، ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين. فهذا النوع الثاني وهو الذي لا تصح فيه النيابة لا في حال العجز ولا في حال القدرة، بالإجماع لا تدخل فيه الوكالة. لكن هناك نوع من العبادة وهو الصيام عن الغير، هل يجوز الصيام عن الغير في حال العجز وهذا إذا كان ميتاً؟ فهل تدخل الوكالة في ذلك أو لا تدخل؟ هل تدخل النيابة فيه أو لا؟ هذا فيه تفصيل عند العلماء رحمهم الله. يبقى السؤال عن مسألة الطهارة -أما الصلاة فلا تقبل وكالة فلو وكَل المصلي لم يصح- لو قال له: يا فلان تطهر عني، فالطهارة تنقسم إلى قسمين: طهارة الحدث، وطهارة الخبث، فأما طهارة الخبث، فإنه إذا قام بتطهير المحل دون أن ينوي الأصل طهارة الخبث صح؛ لأننا ذكرنا في باب الطهارة أن إزالة النجاسة لا تشترط لها النية، وبناءً عليه فالمريض الذي يغشى عليه فيطهر أثناء الغشيان، أو يكون مشلولاً ويأتي الغير وينظف له محل الأذى دون أن يستشعر أنه ينظف ذلك، ثم يفيق وهو طاهر نظيف الموضع فيجوز أن يتوضأ مباشرة ويصلي، أو يغتسل مباشرةً ويصلي؛ لأن الإزالة للخبث لا تشترط لها النية، ومحلها قابل للتوكيل وممكن لأي شخص أن يقوم بذلك؛ لأنه ليس بمحل تتعين فيه النية والخلوص الذي هو الإخلاص. أما طهارة الحدث -الوضوء- فإنها لا تصح إلا بنيةٍ من الشخص المغسول، فلا يصح أن يوضئه الغير إلا إذا نوى، فلو كان الشخص جالساً فصب رجلٌ عليه ماءً على وجهه وغسل الوجه وصب على يديه وغسل له أعضاء وضوئه دون أن ينوي لم يصح وضوءه، فإن نوى صح وضوءه وأجزأه.

ما تجوز فيه النيابة مع العجز ولا تجوز مع القدرة

ما تجوز فيه النيابة مع العجز ولا تجوز مع القدرة القسم الثالث: وهو الذي تصح فيه النيابة مع العجز دون القدرة، فهذا يكون في الحج والعمرة؛ فإنه في الحج والعمرة، يجوز أن يقوم الغير مقامه إذا كان عاجزاً، أما لو كان قادراً فإنه لا يصح أن يقوم الغير مقامه، بناءً على ذلك: لو وكله بالحج، أو وكله بالعمرة فقل: يشترط أن يكون الأصيل عاجزاً عن الحج والعمرة إلا في مسألة واحدة وهي: الحج عن الغير والعمرة عنه في حج النفل، فإن مذهب طائفة من العلماء: أن حج النفل لا يشترط فيه العجز، ويجوز أن تعطي رجلاً مالاً ليحج عنك حجة نافلة، وفي هذا نظر والأقوى والأصح الالتزام بالأصل من عدم وجود النيابة إلا فيما أذن الشرع فيه بالنيابة.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين الوكالة والتفويض

الفرق بين الوكالة والتفويض Q ما الفرق بين الوكالة والتفويض وأيهما أقوى؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن ولاه. الوكالة فيها معنى التفويض، ولا تكون الوكالة إلا بشيء من التفويض، إلا أن التفويض فيه عموم؛ لأن من فوض إلى الغير شيئاً وجعل له ذلك الشيء، فإن هذا يستلزم أن يقوم مقامه من كل وجه في تفويضه، ولكن الوكالة غالباً ما تكون مقيدة، وعلى هذا: فإن التفويض فيه شيء من العموم، أي: أعم من الوكالة، وإلا فالتداخل موجود بينهما، حتى إن العلماء رحمهم الله في تعريف الوكالة قالوا: هي التفويض، وبعضهم يقول: استنابة، فالتفويض والوكالة بينهما تداخل، ومن أوضح ما يقع الفرق بين التفويض والوكالة في مسألة الطلاق، فإنه إذا فوّض الطلاق للمرأة وجعل لها أمرها بيدها ليس كما لو وكل، فإنه إذا فوض إليه ذلك فليس كالتوكيل؛ لأن التوكيل محدد وفيه نوع من التقييد، ويفتقر إلى شيء من الانضباط أكثر من التفويض، والتفويض أبلغ في الإنابة وإقامة الغير مقامه والله تعالى أعلم. بالنسبة للتفويض في مسألة الوكالة ذكر بعض العلماء رحمهم الله في مسائل غير مسألة الوكالة التي معنا، ربما في الحقوق يكون التفويض فيها أقوى من الوكالة، وهذا يؤكد ما ذكرناه من أن التفويض أعم من الوكالة، ولذلك يستمد قوته من عموم المادة، وتفويض الأمر إلى الشخص يجعل له صلاحية أن ينظر، فإن شاء أتمه وإن شاء نقضه، وإن شاء أمضاه وإن شاء فسخه لكن للتوكيل فيه هذا المعنى من بعض الوجوه، ومن أظهر ما يقوي ذلك: ما لو قال له: وكلتك أن تفعل شيئاً ثم مات الموكل فتنفسخ الوكالة مباشرةً، لكن لو قال: فوضت إليك، فالتفويض يختلف عن هذا ويبقى مفوضاً، ولو مات من فوضه، فحينئذٍ التفويض يكون أقوى من الوكالة من هذا الوجه، والله تعالى أعلم.

التفصيل في تعارض الحقيقة الشرعية مع الحقيقة العرفية

التفصيل في تعارض الحقيقة الشرعية مع الحقيقة العرفية Q الألفاظ التي يختلف فيها العرف والمعنى الذي يدل عليه اللفظ فأيهما يقدم؟ A ورد في السؤال الألفاظ التي يتعامل الناس بها، ويكون لها معنىً عندهم، ويكون لها معنىً في الشرع، فأيهما يقدم؟ تعرف هذه المسألة بمسألة: تعارض الحقيقة الشرعية مع الحقيقة العرفية أو الوضعية، فإذا كان للناس عرفٌ يتعاملون به في الألفاظ فإنه يرجع إلى هذا العرف، ويحتكم إلى هذا العرف إلا في المصطلحات الشرعية المعينة، ولذلك يحكم في الأيمان والنذور بما جرى عليه العرف وتكون الحقيقة العرفية قوية في كثير من المسائل، وقد تُقدم في حال تعارض الأعراف للحقيقة الشرعية ترجيحاً لأحد العرفين على الآخر، وأما من حيث الأصل فالألفاظ التي حددها الشرع كالطلاق ونحوه لا تخلو من حالتين: إن كانت بصريح اللفظ الذي جعله الشرع دالاً على المقصود فهذه لا يؤثر فيها العرف الخاص، ويرجع فيها إلى حكم الشرع ولا يرجع فيها إلى عرف الناس، حتى قال العلماء رحمهم الله: إن هذا الباب أشبه بالحكم الوضعي، أي: أن الشرع جعل لفظ الطلاق موجباً للطلاق بغض النظر عن قصده وعدم قصده، فما دام أنهم تلفظوا بهذه الألفاظ وقصدوا اللفظ فإنهم يؤاخذون به، حتى ولو جرى العرف بعدم اعتبار هذا اللفظ طلاقاً، لكن لو أنه قال كلمةً بمثل لفظ الطلاق ولم يقصد الطلاق، وجرى العرف فيها بشيءٍ آخر، ووجدت قرائن، انصرف اللفظ إلى ما قصد، مثال ذلك: لو إذا خرجت من الحمام -أكرمكم الله- اصطلح أهل القرية على أن المرأة بمجرد خروجها من الحمام يقال لها: طالق، كأنها كانت داخل الحمام مقيدة بحاجاتها وبعذرها، ثم درس هذا العرف فقال لها: يا فلانة! أنت طالق، وهو قصده المدلول العرفي، يعني: خرجت من الحمام، فهي طالق في حكم الشرع سواء، قصد أو لم يقصد، لكن وجود القرينة أو ما يسمى عند العلماء ببساط المجلس قالوا: لا تطلق، وبعض العلماء قالوا: تطلق قضاءً ولا تطلق ديانة، فبينه وبين الله هي زوجته، ولكن لو ارتفع إلى القاضي تطلق عليه، وهذا ترجيحٌ للحقيقة الشرعية على الحقيقة العرفية ولو جرى العرف وأكد بساط المجلس. فالمقصود: أن مسألة الألفاظ هذه ذكرها العلماء رحمهم الله، وهناك جوانب كثيرة منها: الأيمان، ومنها: النذور، لو قال: والله لا آكل اللحم، والعرف الموجود عندهم أن اللحم مختص بلحم الدجاج، فقال: والله لا آكل اللحم، فعرفه مختص بلحم الدجاج، لكن المعروف أن لفظ (اللحم) يشمل كل اللحم، ويحرم عليه جميع اللحم، فهل نقدم ما تعارفوا عليه من تخصيص العرف اللغوي أو نقدم الأصل الشرعي، هذا من تعارض العرف مع اللغة. ويتعارض العرف مع الشرع في ألفاظ الظهار، وألفاظ الأيمان، وألفاظ العتاق، ونحوها، فالمقصود: أنه في بعض الأحيان قد تقدم الحقيقة العرفية، خاصةً عند الاحتمال مثل طلاق الكنايات، فلو قال لامرأته مثلاً: أنت خلية، أنت برية، أنت بتة، أنت بتلة، أنت الحرج، اخرجي، تقنعي، اغربي عن وجهي، لست لي بامرأة، هذه كلمات قد تجري في بعض الأعراف ويقصد منها الطلاق، وفي نيته أنه يطلق، وقد تجري في بعض الأعراف على أنها تأديبٌ للزوجة، كما لو قال لها: اذهبي إلى أهلك، واخرجي من بيتي، ودرج العرف المتعارف عليه أن المرأة يقول لها زوجها: اخرجي لبيتك، واليوم الثاني: لبيت أهلك، واليوم الثالث: يردها، إذا اصطلحوا على ذلك وهو لا ينوي الطلاق ولم يقصد بذلك طلاقاً لا يقع طلاقاً، لكن إن نواه طلاقاً وقع طلاقاً، فحينئذٍ احتكم للعرف مع وجود شبهة التطليق بالكناية. المقصود أن الكنايات يقوى فيها الاحتكام إلى العرف، أما بالنسبة لمسائل الألفاظ التي حددها الشرع وعينها فهذه يقوى فيها تقديم الحقيقة الشرعية، وهذه المسألة راجعة إلى وضع اللغة، وقد ذكرها علماء الأصول، واللغة العربية قيل: إن الواضع لها هو الله عز وجل، فإذا كانت موضوعةً من الله سبحانه وتعالى -حتى ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في المجموع وغيره أنها لغة أهل الجنة، وهذا يقتضي أنها تعبدية- فلا يمكن لشخص أن يغير اسماً منها فلو قال: أنت طالق وقال: الطلاق له عندي معنىً خاص لا يمكن أن يصرف إلى حل العصمة، نقول له: أبداً هذا وضع وضعه الشرع ما تستطيع أن تحدث فيه. فعلى هذا الوجه: لو اصطلح أهل البيئة في ألفاظٍ معينة على صرفها عن هذا لم يستقم، أما في أصل معاني الأشياء التي هي الأسماء المعينة والأسماء غير المعينة فإنه يمكن أن يحصل فيها اختلاف في العرف، ويمكن أن يحصل فيها اختلاف في الأشخاص، فقبيلة تتلفظ بهذا اللفظ وتنوي وتعتد به طلاقاً، وقبيلة أخرى تتلفظ بهذا اللفظ ولا تعتبره طلاقاً، هذا يختلف باختلاف الأعراف والبيئات والأشخاص والله تعالى أعلم.

ابن الزوج ليس محرما لأم زوجة أبيه

ابن الزوج ليس محرماً لأم زوجة أبيه Q هل ابن الزوج محرمٌ لأم زوجة أبيه الثانية؟ A بالنسبة لابن الزوج لا يكون محرماً لأم زوجة أبيه، فهذه المحرمية تختص بالأب دون الابن؛ لأن المحرمات من جهة المصاهرة يختص التحريم فيهن بالأصل دون الفرع، وفي بعضها يختص بالفرع دون أصله، فتختلف بحسب الأربع التي بينها القرآن: أم الزوجة، وبنت الزوجة، وزوجة الأب، وزوجة الابن، فالآن زوجة الأب أمها محرمٌ للأب؛ لأنها من (أمهات نسائكم)، ولكن أمها ليست محرماً لابنه، وبنت زوجته محرمٌ له وهي الربيبة وليست بمحرمٍ لابنه، فهذا التحريم يختص بالأب؛ فأمّ زوجة أبيه ليست بمحرمٍ له، وعلى هذا: لا يجوز له أن يختلي بها، ولا أن يصافحها. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

باب الوكالة [2]

شرح زاد المستقنع - باب الوكالة [2] إن مقصود الشرع من الوكالة هو الإرفاق وتحقيق المصلحة، فلهذا جازت الوكالة فيما كان على هذه الصفة، لكن إذا تضمنت الوكالة محذوراً، كأن تكون وكالة على محرم، أو كان الفعل لا يصح التوكيل فيه، فعند ذلك يمنع الشرع من هذه الوكالة.

الأشياء التي يصح فيها التوكيل

الأشياء التي يصح فيها التوكيل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد تقدم الحديث عن الأمور التي يجوز للمسلم أن يوكل غيره فيها، وذكرنا أن هناك جانبين: جانب فيما بين المسلم وبين الله، وجانب فيما بينه وبين العباد، وذكرنا الجانب الذي بينه وبين الله عز وجل، وفيه حقوق قصد الشارع أن يقوم المسلم بها بنفسه: كالصلوات الخمس، والصيام، فلا يجوز أن يوكل غيره فيها، ولا تصح الوكالة في هذا النوع. وأما النوع الثاني من هذا الجانب الذي بينه وبين الله عز وجل: الحقوق التي قصد الشارع وصولها لأصحابها كالزكوات والكفارات، فيجوز للمسلم في الحقوق المالية أن يوكل غيره فيها، فيعطي عشرة آلاف لرجل ويقول: ادفع هذه العشرة الآلاف للفقراء أو المستحقين للزكاة، فيوكله في حقٍ فيما بينه وبين الله عز وجل، وذكرنا حكم ذلك، ثم حقوق الآدميين ذكرنا ما الذي تدخله النيابة وتصح، وما هو في ضد ذلك.

التوكيل في العقود

التوكيل في العقود ثم شرع المصنف -رحمه الله- في بيان محل الوكالة فقال رحمه الله: [ويصح التوكيل في كل حق لآدمي]. أي: يجوز لك أن توكل غيرك، ويجوز لك أن تقبل وكالة غيرك، يعني: في كلا الجانبين يجوز لك أن تكون موكلاً، ويجوز أن تكون وكيلاً: (في كل حقٍ لآدمي). يعني: كل أمرٍ من الأمور التي من حقك أن تقوم به، فيجوز أن توكل الغير فيه، فقال رحمه الله: (من العقود). (من) بيانية، (العقود): جمع عقد، والعقد أصله التوثيق والإبرام، ومنه عقدة الحبل، وإذا قال العلماء: العقد، فهو الإيجاب والقبول، فيجوز لك أن توكل أي شخصٍ بشرط أن يكون أهلاً للعقد الذي توكله فيه، فيجوز لك أن تجعله نائباً عنك، مثاله: أن تقول له: يا محمد! اشتر لي سيارةً من نوع كذا، فهذا توكيلٌ بالشراء، يا محمد! بع أرضي الفلانية بعشرة آلاف، فهذا توكيلٌ بالبيع، فيجوز لك أن توكل في العقود كالبيع والإجارة، كأن تقول لصاحب مكتب العقار: وكلتك أن تؤجر عمارتي بعشرة آلاف، أو بعشرين ألفاً، أو بمائة إلى آخره، فهذا توكيلٌ بالإجارة، وكذلك أيضاً توكله في القيام بالعقود الأخرى كالشركات ونحوها فهو وكيلك. فيقول رحمه الله: (ويصح التوكيل في كل حقٍ لآدمي)، أي: يملك أن يبرمه وينشئه، وعندما قال رحمه الله: (من العقود)، هناك جانبان: الجانب الأول: ما يسمى: إنشاء العقود، وهناك جانب عكسي وهو: فسخ العقود، فإذا قلت: يجوز أن توكل في الإنشاءات فيجوز أن توكل في الفسوخ، فمن حقك أن توكل غيرك في إثبات العقود وإنشائها، فينشئ عنك البيعة ويلزمك، وينشئ عنك الإجارة وتلزمك، وينشئ عنك الشركة وتلزمك إلخ، وتوكله في الفسخ، فتقول له: يا محمد! افسخ عقد البيع الذي بيني وبين فلان، أو افسخ عقد الإجارة الذي بيني وبين فلان. قال رحمه الله: [من العقود والفسوخ]. العقود عامة، وعلى هذا فيجوز أن يتوكل عنك في عقد النكاح، فتقول له: يا فلان! اقبل زواجي من فلانة، فتوكله أن يكون قابلاً لزواجك، لكن ما يستطيع أن يتوكل في الفعل وهو فعل النكاح، فإنشاء النكاح شيء، وفعل النكاح شيءٌ آخر، فالشرع قصد من المكلف أن يفعل بنفسه ليعف نفسه عن الحرام، فلا يكون التوكيل عن زوجٍ ولا عن زوجة في الفعل، لكن في الإنشاء يجوز، ويجوز في الإنشاء ما لا يجوز في الأثر، فأثر النكاح الاستمتاع، فهناك فرق بين إنشاء عقد النكاح وبين أثره، فتوكله إنشاءً ولا يصح أن يوكل فيما بعد ذلك. والعكس في المرأة كذلك، فيجوز أن يتوكل الغير عنها في قبولها، وهكذا بالنسبة لوليها يجوز أن يوكل الغير، فعقد النكاح يجوز إنشاؤه وكالةً، ويجوز إنشاؤه أصالةً.

التوكيل في الفسوخ

التوكيل في الفسوخ قوله: (والفسوخ) جمع فسخ، يقال: فسخ الثوب إذا أزاله، والفسخ: الرفع والإزالة، والمراد بالفسخ: فسخ العقود، فيجوز أن توكله، مثل ما يقع في أصحاب الشركات، وكل صاحب شركة أو مؤسسة كبيرة قد لا يكون عنده الوقت والفراغ ليبرم العقود، فيوكل شخصاً معيناً عن شركته، فيكون هذا الشخص يفوض إليه، ويقول له: لك حق إبرام العقود وفسخها يعني: أنت وكيلٌ عني في أن تبرم عقود البيع وعقود الإجارة، ولك الحق أيضاً، وكلتك في أن أي عقد بيع ترى من المصلحة أن يفسخ تفسخه، وكل عقد إجارة ترى من المصلحة فسخه تفسخه، ويستوي في ذلك أن يكون الفسخ من أحد الطرفين أو منهما معاً بالرضا من الطرف الثاني.

التوكيل في العتق

التوكيل في العتق قال رحمه الله: (والعتق). العتق كما هو معلوم في مقصود الشرع: فك رقبة إذا كانت مسلمة ومؤمنة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء فقال: أعتقها فإنها مؤمنة) وجملة (فإنها مؤمنة)، أي: لأنها مؤمنة، فدل على أن مقصود الشرع عتق الرقاب إذا كانت مؤمنة، فالتوكيل في عتق الرقبة، تقول: يا فلان! وكلتك في عتق إمائي أو عتق عبيدي، هذا عموم، أو عتق فلان من عبيدي أو فلانة من إمائي هذا كله جائز، فيجوز أن يتوكل عنك في العتق كما أنه يجوز أن يتوكل عنك في شراء الأمة والعبد ونحو ذلك.

التوكيل في الطلاق

التوكيل في الطلاق قال رحمه الله: (والطلاق). يجوز أن يوكل غيره في تطليق امرأته أو تطليق نسائه، سواءً جعل له الطلاق كله كأن يقول: وكلتك أن تطلق نسائي دون أن يقيده بطلقة أو بطلقتين، وإنما يقول له: وكلتك أن تطلق امرأتي، ويفوض له ذلك بأن يطلق طلقة أو طلقتين أو ثلاثاً وقد يقيد ذلك فيقول: وكلتك أن تطلق زوجتي فلانة -فهذا تقييد في واحدة من نسائه- أو تطلقها طلقة أو طلقتين ويقيد عدد الطلاق، ففي هذه الحالة يجوز، لكن إن وكله في تطليقه لزوجته فلا تخلو الوكالة من حالتين: إما أن تكون مطلقة على السنة، فيطلق الوكيل على السنة، وإما أن يطلق الوكيل لغير السنة كما ذكرنا في درس النكاح، كأن يطلقها وهي حائض، فحينئذٍ يكون فيه الخلاف المشهور ويرد Q هل تطلق أو ما تطلق؟ فالقائلون بأن الطلاق في الحيض يقع -وهم جماهير السلف والخلف رحمةُ الله عليهم على ظاهر الروايات التي ذكرناها عن ابن عمر رضي الله عنهما- يقولون: إن وكله في التطليق فطلقها وهي حائض أثم الوكيل دون الأصيل، ويمضى الطلاق ويكون طلاقاً بدعياً، ويأثم الوكيل ولا يأثم الأصيل، ولكن الطلاق نافذ، ولو قال له: طلق زوجتي -وهي في الحيض- فقال: وكلتك أن تطلق زوجتي الآن، أو تطلقها اليوم، أو تطلقها وهي حائض وكانت في حيضها، فكأن الموكل قصد أن يوقع الطلاق حيضها فاختلف العلماء: قال بعض العلماء: لا يتوكل الوكيل عن الأصيل في الحرام، فكما لا يصح التوكيل في الظهار كذلك لا يصح التوكيل في الطلاق في الحيض، فلو وكله وقال له: طلقها في حيضها، فنص على بدعية ومحرم فلا يجوز التوكيل، ولا تصح الوكالة على هذا الوجه، قالوا: لأن الوكالة عقد شرعي أذن به للأمور المشروعة لا للأمور الممنوعة؛ لأن الله يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، فهذا الطلاق في حال الحيض إثمٌ واعتداءٌ لحدود الله؛ لأن الله نهى في آية الطلاق فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229]، فنص على أنه من حدود الله عز وجل، وحدود الله أن تطلق المرأة في غير الحيض. وبناءً على ذلك: لو قال له: طلقها في الحيض، بطلت الوكالة في قول طائفة من العلماء، والفرق بين من يقول: تبطل الوكالة وبين من يقول: لا تبطل، أنه لو قال له: وكلتك أن تطلق امرأتي حال الحيض فطلقها وقلنا: الوكالة باطلة فالطلاق لا يقع، وإن قلنا: الوكالة صحيحة فالطلاق يقع على الوجه الذي ذكرناه في قول الجمهور، وفي الحقيقة لا شك أنه يأثم الموكل والوكيل، وعند النظر في المقصود الشرعي من طلاق الحيض فإنه يقوى أن ينفذ عليه طلاقه؛ لأنه نفذ على الأصيل، فمن باب أولى أن ينفذ على الوكيل.

التوكيل في الرجعة

التوكيل في الرجعة قال رحمه الله: (والرجعة). أي: يجوز للمسلم إذا طلق امرأته طلاقاً رجعياً وهي الطلقة الأولى أو الطلقة الثانية وما زالت في عدتها أن يراجعها، وهذا فيما إذا كان بعد الدخول، وينبغي أن ينبه أن الطلاق الرجعي لا يكون إلا بعد الدخول بالمرأة؛ ولذلك نقول: الطلقة الأولى والطلقة الثانية بعد الدخول، فإذا وقعت الطلقة الأولى قبل الدخول فليس برجعي؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] فدل على أنه لا رجعة في الطلاق قبل الدخول، لكن الرجعية تكون إذا كان قد دخل بها، فإذا عقد على المرأة ودخل بها وطلقها الطلقة الأولى أو طلقها الطلقة الثانية وما زالت في عدتها فإنه يمتلك رجعتها؛ لقوله سبحانه: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة:228]؛ لأنه قال في صدر الآية: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]، فقد جاءت الآية مقيدة لقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228]. وعلى هذا قال العلماء: إنه ما دامت الطلقة رجعية فإنه يمكنك استرجاعها بدون إرضائها، فلو أنه ارتجعها بنفسه صحت الرجعة كأن يقول: راجعت فلانةً أو راجعت زوجتي أو يقول: يا فلان! وكلتك أن ترجع لي زوجتي، أو وكلتك في ارتجاع زوجتي، فإنه وكيل فتصح الوكالة، فكما صحت الوكالة في إنشاء عقد النكاح صحت الوكالة في استدامة عقد النكاح؛ لأن الرجعة استدامة وفيها وجهان: بعض العلماء يقول: الرجعة إنشاء، وبعضهم يقول: استدامة، والفرق بين القولين: أننا لو قلنا الرجعة استدامة وطلق المحرم حق له أن يراجع زوجته؛ لأنها استدامة للنكاح، ومحرم على المحرم أن ينكح، وإن قلنا: إنها إنشاء فإنه لا يمتلك أن يرتجع إلا بعد أن ينتهي أو يفك إحرامه.

التوكيل في المباحات المتملكة

التوكيل في المباحات المتملكة قال رحمه الله: (وتملك المباحات من الصيد والحشيش ونحوه). يقول رحمه الله: وتجوز الوكالة في تملك المباحات، والمباحات: جمع مباح، فهناك أشياء أحل الله عز وجل لعباده أن يأخذوها، والمباحات هي التي لا تكون ملكاً لواحدٍ من الناس مثل الأشجار في البراري، فإن الأشجار في البراري ملكٌ للناس ينتفعون بها، وليس لأحد أن يمتلك إلا إذا زرعها بنفسه، فإذا زرعها بنفسه كانت ملكاً له وإحياءً للموات، لكن من حيث الأصل: الماء والكلأ والنار المسلمون فيه شركاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار)، فأثبت الشراكة في هذه الثلاثة الأشياء، فمعنى ذلك أن الكلأ والحطب مباح للجميع، إلا أن يكون من الحمى الذي حماه الله ورسوله، فهذا الكلأ -احتشاش الحشيش- مباح، وهكذا العيون الجارية من حقك أن تأتي في أي مكان من هذه العين وتغترف منه وتشرب، وليس لأحد أن يقول: هذه العين ملكٌ لي إلا إذا كانت في أرضه، على خلاف، إذا كان قد احتفرها أو انفجرت من تلقاء نفسها في أرضه، فالمعمول به في قضاء الصحابة رضوان الله عليهم استنباطاً من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الزبير: أن العيون ونحوها يسقى بها الأعلى فالأعلى، لكن لا تملك، قال: (اسق يا زبير)، فجعل له أن يسقي ثم يرسل الماء: (اسق يا زبير ثم أرسل الماء) فالماء لا يملكه أحد إذا كان عيناً جارية، كالكلأ والنار، وهو الحطب. وهذه الأشياء يرد Q هل من حقي أن أوكل فيها أو ليس من حقي؟ للعلماء وجهان: قال بعض العلماء: الوكالة الأصل فيها أن لا تقع إلا في شيء أملكه، فلا يستقيم أن تقول لشخص: حُش لي كذا وكذا، أنت وكيلي في الحشيش، ولا يستقيم أن تقول له: أنت وكيلي في أخذ الماء من العين؛ لأن هذا الشيء يملكه من أخذه، والوكالة يشترط فيها: أن يكون الأصيل مالكاً للشيء حتى يوكل فيه، وهذا سيملكه بعد قبضه، فمنع طائفةٌ من العلماء في هذه المسألة، وفقهاً ونظراً مذهبهم صحيح؛ لأنه لا يستقيم أن تقول هذا ملك لي، قد ذكرنا: أن الوكالة تكون فيما يملك، فقالوا من حيث النظر: إن هذا الحشيش أو هذا الماء أو هذا النار لا يملك إلا بعد الحيازة، فإذا كانت لا تملك إلا بعد الحيازة فلا تصح الوكالة بها إلا بعد أن يكون له حق التصرف فيها، فإنه سيوكل في سبب الملكية، والوكالة مفتقرة إلى حق التصرف في الذي فيه الملكية، فصار فيه شيء من الدوران، فمنعوا الوكالة في هذا النوع. وقال طائفة من العلماء كما درج عليه المصنف: يصح التوكيل، وقالوا: إنه -أي: الماء والكلأ والنار- في الأصل ملكٌ مشاع، ولكنه يتعين لمن أخذه، فصار التوكيل في الأخذ وأصل الاستحقاق وحق التصرف ينتزع من الشرع. والقول الأول في الحقيقة له قوة، أي: القول بأن التوكيل فيه لا يقع إلا في حالة واحدة، وهي: حالة التوكيل بأجرة أو بُجعل، والجعل أن تقول له: يا فلان! احتش لي من حشيش هذا الوادي ولك مائة أو لك ألفٌ، فحينئذٍ هي إجارة وتدخلها وكالةٌ في الملكية فيستقيم، وأما بالنسبة لغير الجعل والإجارة فإن القول لا يخلو من نظر كما ذكرنا.

الأشياء التي لا يصح فيها التوكيل

الأشياء التي لا يصح فيها التوكيل

التوكيل في الظهار

التوكيل في الظهار قال رحمه الله: [لا الظهار واللعان والأيمان]. أي: لا يصح التوكيل في الظهار؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2]، والظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، وكان معروفاً في الجاهلية، وأنكر الإسلام هذا القول وعده منكراً من القول وزورا؛ وذلك لأنه يفسد ما بين الزوج وزوجته. ثانياً: أنه يجعل الحلال حراماً، فهو تحريم لما أحل الله، حيث يجعل منكوحته التي أحل الله له نكاحها في منزلة المحرمة عليه؛ ولذلك وصفه الله بوصفين: أنه مُنْكَر مِنَ الْقَوْلِ وأنه زور. وقد أجمع العلماء على تحريمه، وأن من ظاهر من امرأته فهو آثمٌ شرعا؛ ولذلك عاقبه الله بالعقوبة المغلظة وهي: أن يعتق رقبةً من قبل أن يتماسا، فمن لم يجد فيصوم شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، فمن لم يستطع صيام شهرين متتابعين فإنه يطعم ستين مسكيناً. وعلى هذا قالوا: لا يجوز التوكيل في الظهار؛ لأن الوكالة عقدٌ قائمٌ على المشروع لا على الممنوع، قالوا: فلو وكله أن يظاهر من امرأته وصححنا الوكالة لصححناها في السرقات والمحرمات، فلو قال رجل لرجل: اسرق لي عشرة آلاف، فلو قلنا إن الوكالة هنا صحيحة لصحت وقطعت يد الوكيل والموكل، فهذا لا يستقيم في أصل الشرع، ولذلك قالوا: الوكالة في المشروع لا في الممنوع، ولذلك إذا صححت الوكالة في المحرم ترتبت عليها أمورٌ أخرى لا يحكم بها شرعاً، مثل ما ذكرنا في الجنايات وفي المحرمات من شرب خمرٍ أو زناً أو قتل ونحوه، فإن هذا كله مما لا تدخله الوكالة، ويتفرع على القول الذي نص عليه المصنف -رحمه الله- أن الظهار لا تصح فيه الوكالة، فلو قال له: وكلتك أن تظاهر لي من امرأتي فقال: امرأتك عليك كظهر أمك؛ فإنه يكون قولاً لفظاً لا تأثيراً له، ولا تلزمه الكفارة ولا تسري عليه أحكام الظهار؛ لأن الوكالة لاغية، ففائدة إلغاء الوكالة أنه لو تلفظ بالظهار لم يحكم به.

التوكيل في اللعان

التوكيل في اللعان قال رحمه الله: (واللعان). أي: الملاعنة وهي مفاعلة من اللعن، والمفاعلة في لغة العرب تستلزم وجود شخصين فأكثر، كالمخاصمة والمشاتمة فإن الرجل لا يخاصم نفسه ولا يشاتم نفسه، وعلى هذا قالوا: الملاعنة سميت بذلك لأن الرجل -والعياذ بالله- يلعن نفسه إن كان كاذباً: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7] وهي محققة: أنه إذا كان كاذباً -والعياذ بالله- فقد حلت عليه لعنة الله، ومن حلت عليه لعنة الله فإنه تلعنه الملائكة ويلعنه اللاعنون نسأل الله السلامة والعافية. واللعان: أيمانٌ مغلظة إذا اتهم الرجل امرأته بالحرام أو نفى الرجل ولده؛ لأن الرجل في بعض الأحيان يتهم المرأة أنها زنت والعياذ بالله، وقد يقول: هذا الولد ليس بولده دون أن يتهم المرأة بالزنا، وتارةً يجمع بين الأمرين فيقول: هي زانية وهذا الولد ليس بولدي، وتارةً يثبت زناها فيقول: هي زانية، ويثبت أن الولد ولده، فمثلاً: لو أنه جامع امرأته وحملت المرأة من مائه وقبل الولادة بفترة وقد تبين أن الحمل حمله زنت، فإنه يلاعن على زناها ولا ينفي الولد، وتارةً يلاعنها -والعياذ بالله- على الأمرين، فيغيب عنها مدة ثم يأتي فيجدها ويطلع على زناها، ويعلم بنفسه زناها فيكون اللعان على الاثنين، وتارةً يلاعن على الولد دون الزنا كأن يكون غائباً عن امرأته مدةً وغلب على ظنه بإخبار رجلٍ يثق به أنها زنت، فلا يستطيع أن يتهمها بالحرام وهو لم ير ولم يسمع، والوارد في حديث اللعان أنه قال: (والله يا رسول الله! لقد رأيت بعيني وسمعت بأذني)، ولذلك شدد بعضهم -ستأتينا في مسائل اللعان- في أنه لا يقع اللعان إلا إذا رأى أو سمع، ففي هذه الحالة لو غاب عنها سنةً أو سنتين، فهل يعد الحمل بينة تحمله على اللعان، أم أن هناك احتمالات أخرى؟! بعض العلماء يقول: قد يحصل في بعض الأحيان أن تحمل المرأة ويعلق الولد، ثم يعتريه شيء من الضعف، فيعلق الولد ولا يظهر إلا بعد سنة!! هذا ذكره بعض العلماء وحصلت فيه قضية لـ عمر رضي الله عنه وأرضاه، لكن المقصود: أنه لو غاب عنها سنةً أو سنتين أو غاب عنها أكثر مدة، وهي في قول بعض العلماء أربع سنوات، ثم بعد الأربع سنوات جاءها فوجدها حاملاً، فإنه لا يستطيع أن يحلف بالله العظيم -نسأل الله السلامة والعافية- على أنها زنت، لكن هذا الولد لا ينسبه إليه ويحلف على أن هذا الولد ليس بولده، لكن أن يحلف على أنها زنت فلم تر عينه ولم تسمع أذنه، قالوا: في هذه الحالة يلاعن على الولد دون الزنا. نحن ذكرنا هذه الأحوال لماذا؟ لأن مقصود الشرع أن يبين صدقه أو كذبه، فأحد الأمرين إن كان الرجل كاذباً -والعياذ بالله- فعليه لعنة الله، وإن كانت المرأة كاذبة وهي زانية فعليها غضب الله، نسأل الله السلامة والعافية، وبعد أن حلف الطرفان عويمر وزوجته وهلال بن أمية وزوجته -لأن اللعان وقع في حادثتين- قال صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم، أحدكما كاذب، حسابكما على الله)، فإذاً مقصود الشرع أن يُعلم من الصادق ومن الكاذب. فإذا جاء يوكل غيره أن يحلف فإنه يدفع رهبة الشرع في حلفه باليمين؛ ولو ساغ ذلك لأمكن للشخص أن يفر من تبعة اليمين بتوكيل غيره، لكن الأيمان لا تدخلها الوكالة، ولهذا أيمان اللعان لا تدخلها الوكالة، وكذلك قالوا: أيمان الخصومة لا تدخلها الوكالة، وليس لأحدٍ أن يحلف عن أحدٍ إلا في مسائل مستثناة وستأتينا -إن شاء الله- في كتاب القضاء والأيمان، مثل: أن يحلف الوارث عن مورثه، فتقع مسائل مستثناة سنبينها -إن شاء الله- متى يحلف الإنسان عن غيره؟

التوكيل في الأيمان

التوكيل في الأيمان قال رحمه الله: (والأيمان). وكذلك الأيمان لا تدخلها الوكالة، لا الإيمان ولا الأيمان، فليس لأحدٍ أن يقول لشخص: وكلتك أن تؤمن عني؛ لأن مقصود الشرع أن يكون الإيمان من المكلف بعينه، فإذا وكل الغير فوت مقصود الشرع كما ذكرنا في اللعان؛ لأن مقصود الشرع أن يرهب فيظهر صدق الصادق وكذب الكاذب، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في يمين اللعان أنه لما شهد عويمر أربعة أيمان، أوقفه عند الخامسة وذكره النبي صلى الله عليه وسلم بربه، وقال له: (اتق الله! فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة) فحلف اليمين الخامسة، فلما انتقل إلى المرأة وانتهت من اليمين الرابعة أوقفها وقال عليه الصلاة والسلام: (فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة)، فكادت أن تعترف، فلما استزلها الشيطان قالت: (لا أفضح قومي سائر اليوم) فحلفت الخامسة والعياذ بالله. فالمقصود: أن هذه الأيمان رهبة، فكما أن أيمان اللعان رهبة كذلك أيمان الخصومات، والمراد بالأيمان هنا: أيمان الخصومة، فلو أن رجلاً ادعى على رجل وقال: لي عند فلان مائة، فسأله القاضي: هل لفلانٍ عندك مائة؟ قال: لا. يقول للمدعي: ألك بينة؟ قال: ما عندي بينة، إذاً إلى ماذا يتجه؟ يتجه إلى اليمين، يقول له: إذاً يحلف خصمك اليمين، لكن لو له بينة حُكِمَ بها، سواءً كانت البينة صادقة أو كاذبة، ما دام أنها وثّقت وعُدّلت عند القاضي، فالشاهد أن زيداً ادعى أن له مائةً عند عمرو فقيل لزيدٍ: ألك بينة وحجة وشهود؟ قال: لا. فحينئذٍ يُطالب عمرو باليمين، وهذه اليمين تسمى: اليمين الغموس؛ لأنها تغمس صاحبها في النار والعياذ بالله، ومن حلف هذه اليمين يُقال -من السنن التي عُرِفت وشاعت وذاعت- لا تمر عليه السنة بخير، يعني: لا يحول عليه الحول ولا تمضي عليه السنة إلا وتأتيه مصيبة، وهذا معروف، حتى ولو حلف فاجراً بهذه اليمين على شيء تافهٍ يسير، فلا يحلف هذه اليمين وهو يعلم أنه كاذب إلا إنسان -والعياذ بالله- قد تقحم النار. وهذه خصومة وقعت بين صحابيين في بئر فقال أحدهما: (يا رسول الله! هي بئري وأنا حفرتها، فقال صلى الله عليه وسلم: ألك بينة؟ قال: لا، قال: إذاً ليس لك إلا يمينه، قال: يا رسول الله! الرجل فاجر ويحلف اليمين ولا يبالي، فقال صلى الله عليه وسلم: ليس لك إلا يمينه، فقال: يا رسول الله! الرجل فاجر ويحلف اليمين ولا يبالي، فقال صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين وهو فيها كاذب ليقتطع بها مال امرئٍ مسلمٍ لقي الله وهو عليه غضبان)، تصور من لقي الله وهو عليه غضبان نسأل الله السلامة والعافية! وقد قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81] و (هوى) من الله ليست بهينة، فقالوا عقب هذا الوعيد الشديد: (يا رسول الله! وإن كان شيئاً يسيراً؟ -وإن كانت اليمين على شيء يسير- قال: وإن كان قضيباً من أراك) عود السواك، وكان هذا يضرب به المثل على الشيء الحقير، فدلت هذه النصوص على أن مقصود الشرع ترهيب الخصم من الدعوى الكاذبة، وترهيب الخصوم من أكل بعضهم أموال بعض، واعتدائهم على حقوق بعض، فكأن اليمين قصد منها الشخص بنفسه، فإذا جاء يوكل آخر مكانه فوت مقصود الشرع إلا فيما يستثنى من أيمان القضاء كما سيأتي.

حقوق الله التي يصح فيها التوكيل

حقوق الله التي يصح فيها التوكيل قال رحمه الله: (وفي كل حق لله تدخله النيابة من العبادات). أي: وتصح الوكالةُ في كل حقٍ لله، بشرط: أن تدخله النيابة، ويشمل هذا -كما ذكرنا- الحقوق المالية، فأما الحقوق البدنية المحضة فلا تدخلها النيابة. وعلى هذا: الحقوق المالية التي تدخلها النيابة تنقسم إلى قسمين: الزكوات الواجبة، والكفارات ونحوها. فأما الزكوات الواجبة فيجوز أن توكل الغير كما ذكرنا. وأما الكفارات فيجوز أيضاً أن توكل فيها، كرجلٍ حلق شعر رأسه في الحج أو في العمرة لعذر من حجامةٍ ونحوها فأعطى رجلاً مائة، وقال له: يا فلان! أخرج الكفارة عني أو أخرج الفدية عني، فقد وكله في حق لله تدخله النيابة فيصح التوكيل، وهكذا لو أنه ظاهر من امرأته أو جامعها في نهار رمضان وهو صائم فوجبت عليه الكفارة فأعطى رجلاً ألف ريال وقال: يا فلان! اشتر رقبةً وكفر عني، فتصح الوكالة، فيشتري رقبة وينويها عنه كفارةً لظهاره أو جماعه في نهار رمضان، فبالإجماع يصح، هذا بالنسبة لحق الله الذي تدخله النيابة. ومفهوم ذلك: أن حق الله الذي لا تدخله النيابة وهي فروض الأعيان من غير الأموال، لا يصح التوكيل فيها، فلو قال: يا فلان! صم عني شهر رمضان لا يصح؛ لأن مقصود الشرع أن يصوم المكلف بنفسه، ولو قال: يا فلان! صلّ عني الصلوات الخمس لم يصح؛ لأن مقصود الشرع أن يؤديها بعينه وعلى هذا: لا يصح صومه عن الغير ولا أيضاً صلاته عن الغير، وفي الحج تدخله النيابة لكنها نيابةٌ مشروطة، ويختص الحج بأنه يصح التوكيل فيه في حال العجز، وأما في حال القدرة فلا إلا في حج النافلة، فاختلف: هل يجوز أن يوكل الغير في حج النافلة أو لا؟ على وجهين مشهورين عند العلماء رحمهم الله، والفرق بين الزكوات الواجبة والكفارات وبين الحج: أن الحج تدخله النيابة بشرط العجز، وفي الزكوات والكفارات: يستوي أن يكون المكلف عاجزاً أو قادراً. فتقسم حقوق الله إلى قسمين: حقوق لا تدخلها النيابة ولا تصح الوكالة فيها مثل الصلوات والصيام. وحقوقٌ تدخلها النيابة وتنقسم إلى قسمين: حقوق تدخلها النيابة بشرط العجز كالحج إذا كان فرضاً. وحقوقٌ تدخلها النيابة مع العجز والقدرة مثل الزكوات والكفارات.

التوكيل في إثبات الحدود واستيفائها

التوكيل في إثبات الحدود واستيفائها قال رحمه الله: [والحدود في إثباتها واستيفائها]. الحدود: جمع حد، فحد الزنا وحد شرب الخمر، وحد القذف هذه كلها حدود، وحد الشرع فيها عقوبة معينة، فهذه الحدود فيها جانبان: الجانب الأول: قضائي، والجانب الثاني: أثرٌ لحكم القضاء، والتوكيل إما في الجانب الأول أو في الجانب الثاني، فالجانب الأول القضائي: هو إثبات الحدود، والجانب الثاني: أثر للحكم القضائي وهو تنفيذ الحدود واستيفاؤها، فالعلماء يقولون: التوكيل يكون في إثبات الحد واستيفائه، ففي إثبات الحد: لو أن رجلاً أراد أن يقيم دعوى على شخصٍ لكي يحد حد الخمر فيجوز أن يوكل غيره في إثبات ذلك عنه، فيقوم من يدعي بدلاً عنه ويأتي بالشهود. وقال طائفةٌ من العلماء: لا يجوز التوكيل في إثبات الحدود، فعلى الوجه الأول يكون الحق لله عز وجل وتدخله النيابة في إثبات الحدود واستيفائها كذلك، فالقاضي إذا حكم بأن زيداً يجلد ثمانين جلدة حد القذف فله أن يأمر وكيلاً أن يقف حتى ينفذ هذا الحكم، وهذا يسمى توكيل في الاستيفاء، وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد اختصم إليه رجلان، فقال أحدهما: (يا رسول الله! أناشدك الله إلا قضيت بيننا بالحق -وكان فيه جهل- وقال الثاني -وهو أعلم منه وأعقل منه-: نعم يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً عند هذا -يعني: أجيراً- وقد زنا بامرأته فأخبرت أنه يجب عليّ أن أفتدي منه، فافتدى منه بالمال، فقال صلى الله عليه وسلم: الغنم والوليدة ردٌ عليك وعلى ابنك الجلد، واغدُ يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، -فاعترفت فرجمها-)، فوكل النبي صلى الله عليه وسلم أنيساً في الجانبين: أولاً: إثبات الحد فقال: (إن اعترفت)؛ لأنه جعله مكانه يحل محل النبي صلى الله عليه وسلم في البت في هذه القضية، فقال له عليه الصلاة والسلام: (واغد يا أنيس -امضِ واذهب- إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) هذا شرط: إن اعترفت فوكله في إثبات الاعتراف. ثم وكله بالرجم: (فإن اعترفت فارجمها) فصار التوكيل في جانبين في إثبات الحدود، وفي استيفائها، هذا بالنسبة لما اختاره المصنف رحمه الله، ونازع الحنفية -رحمهم الله- في بعض الحدود، وفرق بين حد الحسبة وبين حد العباد كالقذف، فإن القذف فيه شبهة حق للمخلوق. ولذلك لا تكون الدعوى فيه -في قول جمهور العلماء- إلا من الشخص المقذوف ولا تقبل حسبةً على القول بأنه حقٌ للمخلوق.

الأسئلة

الأسئلة

التفصيل في التوكيل في صدقة الفطر

التفصيل في التوكيل في صدقة الفطر Q رجلٌ وكلني أن أدفع زكاة الفطر للفقراء، فلما أخرجتها في وقتها المعتبر طلب مني بعض الفقراء أن أضعها عندي إلى أن يأتي لأخذها في يوم العيد، فهل العبرة بنية دفعها وإخراجها، أم بقبض الفقير لها؟ نرجو التوضيح. A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإخراج زكاة الفطر ينبغي أن ينظر فيه إلى الأداء، وتوضيح هذه المسألة يستلزم بيان مسألة الظاهر والباطن، فمن نوى إخراج زكاة الفطر فقد تحقق فيه الباطن، ومن أخرجها بالفعل فقد تحقق فيه الظاهر والباطن، فاجتمعت نيته مع فعله، والشرع قصد الأمرين، ولذلك قال: (وأمر أن تؤدى قبل الصلاة) كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر من رمضان طُعمةً للمساكين، وطُهرة للصائم من اللغو والرفث، وأمر أن تؤدى قبل الصلاة، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاةٌ مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقةٌ من الصدقات) فدل هذا الحديث على أن العبرة بالأداء. وبناءً على ذلك: إذا أردت أن تُخرج زكاة الفطر فإن كان الفقير جاء وأخذها منك فلا إشكال، أو وكل من يأخذها منك فلا إشكال، فلو قال للفقير: يا فلان! خُذ عني زكاة الفطر من فلان، فإنه إذا قبضها منك وكيله صح ذلك إذا كان القبض قبل صلاة عيد الفطر. وعلى هذا: فلو وكل الفقير شخصاً فدفعتها إليه صح ذلك الأداء وهي زكاة، لكن لو أنك نويت إعطاءها له وأخرجتها وفرزتها عن مالك، بل حتى لو أعطيتها لشخص وقلت له: اذهب وأعطها للفقير، فالعبرة بالقبض وليس العبرة بمجرد النية وصورة الأداء؛ لأن المراد وصولها إلى الفقير، فإذا وصلت إلى الفقير فإنه حينئذ يحكم بحسب ذلك: إن كان قبل الصلاة أجزأت وإن كان بعد الصلاة فهي صدقةٌ من الصدقات، فإذا وكل الفقير شخصا وقبضها عنه فإنه بمثابة قبض الفقير نفسه للقاعدة: إن الوكيل ينزل منزلة الأصيل. وعلى هذا فلو قبض الوكيل زكاة الفطر قبل صلاة عيد الفطر، فلا يخلو من صور: إما أن يقبضها قبل صلاة عيد الفطر ويذهب ويعطيها للمسكين قبل صلاة عيد الفطر فلا إشكال، حيث أُعطيت ووصلت إلى الفقير في الوقت، وإما أن يقبضها ويؤخرها إلى ما بعد الصلاة أو يعطيها أثناء الصلاة ففي كلتا الصورتين لا تأثير لتأخيره في الإعطاء، بل حتى ولو أعطاها للفقير بعد شهر، ما دام أن الفقير قد وكله فإنه ينزل منزلة الفقير وهي صدقةٌ من الصدقات والله تعالى أعلم.

حكم الوكالة العامة في الأموال والتجارة

حكم الوكالة العامة في الأموال والتجارة Q هل يصح توكيل شخصٍ لشخص في وكالةٍ عامة دون تخصيص بأمرٍ معين، كأن يقول له: وكلتك على القيام بجميع شئوني ومتطلباتي من بيع وشراءٍ وتجارةٍ وغيرها دون تخصيص بأمرٍ معين؟ A لا، هو إذا قال: من بيع وإجارةٍ ما، (من) هذه بيانية وفيها شبهة التقييد، لكن إذا قال: وكلتك في كل شيء تدخله الوكالة، فهذا فيه وجهان مشهوران للعلماء: شدد بعض العلماء في الوكالة المطلقة أو العامة وقالوا: لا يصح حتى يبين عمومها، وهذا موجود في مذهب الشافعية والحنابلة أيضاً، والسبب في هذا: قالوا: الغرر؛ لأنه يدخل على نفسه الخطر، فقد يدخل الرجل عليه أموراً لا تحمد عقباها، فقالوا: مثل هذا فيه غرر، ولا يصح التوكيل في مثل هذا، وقال بعض العلماء: يجوز أن يوكله وكالةً مطلقة، ويفوض إليه التصرف في الأمور، وهذا قوي من حيث الأصل، وكلا القولين له وجهه، لكن الاحتياط يرجع إلى قول القائل بأن الوكالة إذا كانت مفوضة ومطلقة من كل وجه فالغرر فيها قوي، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغرر، وحديث ابن عمر في الصحيح في ذلك واضح، فكل الإشكال: خوف الضرر، وأياً ما كان فالاحتياط والأولى والأفضل أن يحدد له العموم، يقول له: وكلتك في البيع والشراء عن المرفقات تبيع وتشتري، أو وكلتك في الإجارات، ويحدد له ما وكله فيه، فهذا هو الأشبه وخاصةً في هذه الأزمنة؛ فإن الأزمنة المتأخرة ضعفت فيها أمانة الناس، وأصبح الغرر أكثر، والضرر أكثر، وكم وقعت من الحوادث والمصائب في الوكالة الخاصة فضلاً عن الوكالة العامة. فكم من أخت وثقت في أخيها الذي هو من لحمها ودمها ومن أقرب الناس إليها، ومع ذلك أكل أموالها وابتز حقوقها، بل وصل الأمر إلى ابن مع أمه أن يبيع عنها ويشتري، ويؤجر عنها ويوقعها في الغرر العظيم الذي لا تعلم به، وإذا بها تفاجأ في يومٍ من الأيام أنه ليس لها من مالها شيئاً، بل لربما فوجئت في يومٍ من الأيام بأنها مطالبة بحقوق، وقد ضاع عليها ما ضاع، وهذا وقع، فتجد المرأة يموت عنها قريبها أو زوجها ويترك لها مئات الألوف، وتثق في ابنٍ من أبنائها وتعطيه وكالة على بيع، بل في بعض الأحيان على عقار مخصوص ويبيعه دون علمها، ويتصرف فيه ويأكل المال، ويفعل فيه ما يشاء والأم جاهلة لا تعلم بشيء، حتى تفاجأ يوماً من الأيام وقد توجهت إليها دعوى في قضاء أو نحوه أنها مطالبة؛ وقد أنها مطالبة بحقٍ ما، فتسأل وإذا بوكيلها قد خانها في أمانتها -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا من علامات الساعة: أنه -والعياذ بالله- تنزع الأمانة من الناس حتى لا يبقى إلا الأثر كجمر، يقول صلى الله عليه وسلم: (كجمر دحرجته على قدمك) أي: لما تنزل الجمرة تدحرج على القدم ما يبقى إلا الأثر الذي تحدثه الجمرة، لكن لو استقرت أحرقت، فهذا فيه إشارة إلى ضعف الأمانة وقلتها في الناس حتى قال صلى الله عليه وسلم: (حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً) أي: القبيلة بكاملها لا يجدون إلا رجلاً واحداً يتميز بينهم بالأمانة، نسأل الله السلامة والعافية، فيرفع من الناس الأمانة والخشوع، وعلى هذا فالقول الذي يقول بعدم فتح باب الوكالات المطلقة خاصة في هذه الأزمنة من القوة بمكان، فيحدد له محل الوكالة، وهذا أفضل وأحوط وهو مقصود الشرع من فتح باب الوكالة، والله تعالى أعلم.

حكم الشهادة على شهادة الشهود

حكم الشهادة على شهادة الشهود Q هل تجوز الشهادة على شهادة الشهود كأن يقول: أشهد أن فلاناً يشهد بكذا وكذا؟ A هذه مسألة تعرف بالشهادة على الشهادة، والشهادة على الشهادة في الأصل لا تصح، في الأصل: لا يشهد إلا الشاهد نفسه، ولا يتوكل الغير عنه إلا في مسائل مستثناة، سيأتي -إن شاء الله- بيانها في باب الشهادات، ومن هذه المسائل: أن يموت الأصيل. مثال ذلك: عندنا وقف عمره ثلاثمائة سنة، وهذا الوقف فيه حقوق شهد بها أناس وعمروا حتى بلغوها لطبقةٍ بعد طبقتهم، فشهدت الطبقة الثانية في المائة الثانية على الطبقة الأولى أن هذا الوقف يختص بآل فلان من بني فلان، ثم بقي الوقف يقسم على هذا النوع من الناس، ثم توفيت الطبقة الثانية فنقلت إلى الطبقة الثالثة التي بعدها أن هذا المال وقفٌ على آل فلانٍ من بني فلان، ففوجئوا في يوم من الأيام وإذا آل فلان الذي هو الفخذ العام يدعي أن له حقاً في هذا الوقف، فلما رُفع إلى القاضي أقيم الشهود على الشهود، فحينئذ لا يمكن أن نأتي بالشهود الأصليين الذين شهدوا على الواقع، فتثبت الشهادة على الشهادة في إثبات الأموال إذا تعذر هذا الشرط، وهو: وجود الشاهد الأصل، والشهادة على الشهادة، قيل: تتركب من حجةٍ على حجة، فيصبح كل شاهدين يشهدان على شاهد، فيكونون أربعة مقام الاثنين، فاثنان يشهدان على واحد، واثنان يشهدان على واحد، وعلى هذا يكون الشهود في الحقوق المالية أربعةً، وعليه يستقيم الحكم لوجود الحاجة، وهذه يسمونها: الشهادة على الشهادة، وقد حكم بها جماهير العلماء رحمهم الله، لكن لا تقبل الشهادة على شهادة الحدود؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ولا تقبل الشهادة إلا على رؤية كالزنا ونحوه، فلو شهد ثمانية على أربعة من الشهود بزنا فلانٍ أو فلانة لم يحكم بهذه الشهادة، وأيضاً: لو شهد ثمانية على شهادة أربعة أو على شهادة شاهدين مركبةً بعضها على بعض في قتلٍ لم يحكم به؛ لأن الدماء والأعراض والحدود هذه كلها تتوقف على شهادة الأصل، ولا بد فيها من شهادة الأصل لثبوت الحد، والله تعالى أعلم.

ضابط الغبن الذي يثبت به الخيار في البيع

ضابط الغبن الذي يثبت به الخيار في البيع Q ذكرتم أن في حديث عروة البارقي دليلاً على جواز أن يربح الإنسان بأضعاف ما اشترى به، فأشكل عليّ ذلك مع خيار الغبن، والذي يتضمن منع البائع من الزيادة الفاحشة، فما هو التوضيح في ذلك؟ A إشكالٌ جيد، ولكنه وفق السائل، أولاً: لكي يتضح الإشكال: خيار الغبن: أن تأتي إلى السوق وتسأل عن كتاب، بكم قيمة هذا الكتاب؟ قال: هذا الكتاب قيمته مائتان، فدفعت له المائتين وأخذته، فلما فارقت الرجل وتم البيع سألت عن الكتاب فإذا قيمته خمسون، هذا غبنٌ فاحش، أي: أن الرجل ظلمك بالاسترسال، والاسترسال: أنك قبلت كلامه واسترسلت معه في البيع دون أن تكاسره، فلما باعه لك غبنك غبناً فاحشاً، فبعض العلماء يقول: البيع صحيح ولا خيار لك؛ لأنك قد رضيت أن تدفع المائتين مقابل الكتاب، والبيع وقع عن تراض، وقال بعض العلماء: لك الخيار؛ لأنك حينما سكتّ كأنك قلت له: قبلت هذا الكتاب بالعرف، وقد ائتمنتك على العرف في بيع هذا الكتاب، فصار غشاً وتدليساً؛ لأنك سكت بناءً على أن العرف أن يباع بمائتين، فإذا تبين أنه يباع بخمسين فقد ظلمك، وهذا الوجه الثاني رجحه غير واحدٍ من العلماء، وقد بينا هذا في الخيارات، وإذا ثبت هذا فنحن قلنا: يجوز الربح أضعاف القيمة، وقد اشترى عروة شاتين بدينار، معنى ذلك أن قيمة الشاة نصف دينار، وباع إحدى الشاتين بدينار، فمعناه أنه ربح (100%) يعني: ربح الضعف، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فكيف نقول بخيار الغبن مع أن عروة البارقي اشترى الشاة بنصف دينار وباعها بدينار؟! والجواب في هذا: أن الشاة تباع بدينار وتباع بدينارين على حسب العرف، أي: أن الغبن في الدينار ليس بفاحش، ومحل خيار الغبن في الغبن الفاحش، فعلى هذا: يستقيم أن يجاب بأن الدينار والدينارين قد يكون غبناً غير فاحش، فمثلاً في السوق يباع الكتاب بخمسين ويباع بستين ويباع بسبعين ويباع بثمانين ويباع بمائة، على حسب قوة المشتري في المكاسرة، فأنت إذا جئت واشتريت بستين فقد اشتريت بعرف، ولو اشتريت بمائة فقد اشتريت بعرف، فـ عروة البارقي اشترى الشاة من الجلب، والجلب أرخص من السوق، ثم باعها في السوق، وعلى هذا: لا يمنع أن تكون قيمة الشاة جلباً خمسين، وقيمتها في السوق مائة أو تكون قيمتها في الجلب نصف دينار وقيمتها في السوق ديناراً، وعلى هذا لا يستقيم الاعتراض، ويكون من باب بيعه بالعرف، فيجوز أخذ الأرباح الكثيرة إذا لم يكن في ذلك الغبن الفاحش، كذلك يمكن أن تقول: إنه يجوز أن يقول له: يا فلان! السيارة قيمتها في السوق عشرة آلاف، وأنا لا أبيعها إلا بثلاثين ألفاً، وهذا من حقه، فإنه لو كشف له الأمر وقال: قيمتها بالسوق عشرة وأريد أن أبيعها بثلاثين فحينئذٍ يستقم لنا أن نحتج بحديث عروة البارقي؛ لأن الشرع لم يحد ربحاً معيناً، فإذا قال له: رضيت أن أشتريها منك بثلاثين ألفاً فإن الله تعالى يقول: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] وهذا قد رضي دفع الثلاثين فصح البيع ولا يحكم بالفساد، والله تعالى أعلم.

أحكام الجاهلية مردودة بحكم الشرع

أحكام الجاهلية مردودة بحكم الشرع Q ورد أثناء الدرس قوله صلى الله عليه وسلم: (الوليدة والمال ردٌ عليك) فما المراد بقوله: (الوليدة)؟ A هذا من حكم الجاهلية، حيث كان في الجاهلية إذا زنى الرجل بامرأة الرجل يعطيه وليدة وهي الجارية، يعطيه وليدة أو يعطيه غلاماً، فقال له: (الوليدة والغنم رد عليك)؛ لأنه افتدى، فيصير كأنه حق للزوج الذي أفسد عليه فراشه، فيدفع له مالاً كالغنم، ويدفع له الوليدة الأمة الحامل أو بدون حمل على حسب ما يتفقان، فهذا من حكم الجاهلية، وهي الأعراف التي كانت في الجاهلية مثل ما يقولون: الحقوق والسلوم، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم الحكم ورده وقال: (على ابنك جلد مائة، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها -فاعترفت فرجمها-)، فرد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المال، وفيه دليل على أنه: إذا أُلزم الشخص في خصومة وقيل: عليك الحق وتذبح شاة أو عليك الحق وتدفع مالاً، أنه من حكم الجاهلية، ويكون من أكل المال بالباطل؛ لأن الله لا يحكم بذلك، وأموال الناس لا تستحق إلا بحكم الله سبحانه وتعالى، فهذا الحديث أصل من الأصول في رد هذه الأحكام والأعراف ونحوها، والله تعالى أعلم.

بطلان الوكالة في الرضاع

بطلان الوكالة في الرضاع Q ذكر العلماء -رحمهم الله- عدم جواز الوكالة في الرضاع فما صورة ذلك؟ A معناه: لو أن امرأةً قالت لامرأةٍ: أرضعي عني فلاناً، فالابن رضيعٌ لمن ارتضع منه، فلو قلنا: إن الوكالة صحيحة فمعنى ذلك: أنه يكون ابنأ للأصيلة، وهي المرأة التي أمرت بالرضاع، وعليه فيقال: الوكالة باطلة، ويثبت أنه ابنٌ للمرأة الموكَلة لا المرأة الموكِلة، وعلى هذا لا تصح الوكالة كحكم، أي: لا يترتب عليها أثر الرضاع، وإنما يكون الولد ولداً للمرأة التي أرضعت لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:23] فخص الحكم بالأم التي أرضعت، فكما لا يصح في النسب أن يثبت وكالةً، كذلك لا يصح في الرضاع أن يثبت وكالةً، والله تعالى أعلم.

حكم من أدرك الإمام في الركعة الرابعة ثم قام الإمام للخامسة

حكم من أدرك الإمام في الركعة الرابعة ثم قام الإمام للخامسة Q رجل أدرك الإمام في الرابعة ثم قام الإمام للخامسة فسبح المأمومون فلم يعد، وقام معهم، فهل يعتد بهذه الركعة بالنسبة للرجل فتكون ثانية له؟ A إذا زاد الإمام ركعةً في الصلاة كالثالثة في الفجر، والخامسة في الظهر والعصر والعشاء، والرابعة في المغرب فتسبح له، فإن كان فقيهاً وطالب علم يعلم الأحكام وأشار إليك: أن قم، وخاصةً إذا كانت سرية فتقوم؛ لأن الغالب أنه نسي ركناً كالفاتحة فيريد أن يخبرك لتقوم معه وتتابع؛ لأن فيه شبهة الأمر بالمتابعة، أما إذا لم يشر، ولم يكن من طلاب العلم، فسبحت له فإن كنت على يقين أنه مخطئ فلا تتابعه ولا تستمر معه في هذه الركعة، فمن تابع الإمام في ثالثة في الفجر أو خامسةٍ في الظهر والعصر والعشاء فإنه تبطل صلاته، ويلزم بالإعادة؛ لأنه زاد في صلاته عالماً متعمداً، وأما إذا كان مسبوقاً كما ورد في السؤال أو جئت في الركعة الثانية من الظهر فقام الإمام واستحدث بعدها ركعة فإنه يجوز لك أن تتابع الإمام؛ لأن الإمام معذور في هذه الزيادة لحكم الشرع له أن يعمل بظنه، وأن يترك ظن غيره إذا استيقن، فحينئذٍ إذا كنت قد أتممت صلاتك فإنك تجلس في التشهد، ولا تسلم حتى ينتهي الإمام من الخامسة ويتشهد ويسلم بك؛ لأنه يجوز أن تفارقه لعذر فتتقيد بوجود العذر، وهو الزيادة، وأما التشهد فتشاركه فيه وتطول في الدعاء وتنتظر حتى ينتهي من خامسته، ثم يدعو ويتشهد، ويدعو ويسلم بك إلحاقاً بصلاة الخوف كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، حيث تشهد بالطائفتين وسلم، وانتظرته الطائفة الأولى وسلمت بسلامه فدل على أنه لا ينقطع الاقتداء. وأما بالنسبة لك أنت كمسبوق، فإنك تصلي معه الخامسة، وتصبح صلاتك صحيحة على قول من قال: يجوز اقتداء المفترض بالمتنفل، فهو في الخامسة متنفل، وأنت فيها مفترض، ويجوز اقتداء المفترض بالمتنفل في هذه المسألة ونحوها، وعلى هذا فصلاتك صحيحة، وصلاة الإمام على هذا الوجه صحيحة، والله تعالى أعلم.

دخول ربا النسيئة في الصرف عند عدم التقابض

دخول ربا النسيئة في الصرف عند عدم التقابض Q لو اشتريت وبقي لي مبلغ عند البائع، ولم يوجد عنده الباقي ونويت أنه دين، ثم أتيت وأخذت بهذا الدين شيئاً، فهل هذا صحيح؟ A إذا اشتريت شيئاً بثمنٍ ودفعت أكثر منه، فحينئذٍ يكون العقد مشتملاً على عقدين، مثاله: اشتريت بعشرة ودفعت خمسين، فحينئذٍ إذا اشتريت الكتاب بعشرة، فالعشرة مقابل الكتاب بيع، والأربعون الباقية من الخمسين صرف، فأصبح عقد بيعٍ وعقد صرف، وعقد الصرف: مبادلة المال بالمال في أحد النقدين الذهب أو الفضة، والأوراق النقدية مُنزلة منزلة أصولها، ولذلك وجبت فيها الزكاة، فهي إما ذهب وإما فضة على حسب رصيدها، فإذا جئت تدفع العشرة مقابل الكتاب فهذا بيعٌ لا إشكال فيه، لكن الأربعين الباقية يجري عليها حكم الصرف الشرعي، فيجب عليك كما لو صرفت الخمسين بخمسين: أن يكون يداً بيد، فتعطيه الخمسين وتستلم، قال صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب رباً إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة رباً إلا هاء وهاء)، فدل على لزوم التقابض، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (فإذا اختلفت -أي في الصرف- هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، وعلى هذا فلا يجوز أن تبقي الباقي عنده، فإن أبقيت الباقي عنده فإنه صرفٌ بنسيئة، ومتى افترق المتصارفان دون أن يحصل القبض للثمنين أو لأحدهما فهو ربا النسيئة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لك أن تفارقه وبينكما شيء)، وعلى هذا فأنت بالخيار بين أمور: الأمر الأول: إذا كان عندك خمسين وليس عنده صرفها فإنك تقول له: اذهب واصرف، فيذهب وكيلاً عنك بالصرف فيصرف الخمسين ويعطيك صرفها، فتعطيه حقه وتستلم حقك، هذا توكيل بالصرف ولا إشكال فيه. الحالة الثانية: أن تقول له: إني لا مال عندي أعطيك الآن إلا هذه الخمسين فإن شئت فاصرفها وإن شئت فاجعل مالك ديناً عندي أي: قيمة الكتاب وهي العشرة، فتفارقه ثم تجعل العشرة ديناً عليك فتذهب وتعطيه إياها متى ما صرفت، على حسب ما تتفقان عليه من الوقت، أو تقول له: انتظر حتى أصرف الخمسين وتذهب بنفسك وتصرف الخمسين ثم تأتي وتعطيه ماله، أما إذا بقي عنده شيء فيسمى: بيع وصرف، والصرف هنا ليس فيه تقابض، وهو عين النسيئة التي أجمع العلماء -رحمهم الله- على تحريمها، وهي أشد أنواع الربا الذي: (لعن الله آخذه وآكله وموكله وكاتبه وشاهديه) فأمرها عظيم، ولذلك يقول العلماء: إنه قد يشيب عارض الرجل في الإسلام وهو يُعلن الربا صباحاً ومساءً، يعني: يتعامل بالربا وهو لا يعلم، حيث يقصر في السؤال والاستبيان، فلا بد وأن تأخذ يداً بيد، فإذا صرفتما ووقع التقابض فلا نسيئة وإلا فهو النسيئة التي حرم الله، والله تعالى أعلم.

الطريقة المثلى لضبط مسائل العلم

الطريقة المثلى لضبط مسائل العلم Q إذا كان لطالب العلم أكثر من درسٍ يواظب عليه فعند الضبط والمراجعة تتداخلُ عليه الدروس، وتكثر عليه المسائل، فما الطريقة المثلى لضبط مسائل العلم؟ A أما بالنسبة لتعدد العلوم، واختلاف المشايخ في الطلب فهذا يؤثر كثيراً على طالب العلم، ولا يضبط العلم مثل الانحصار والتقيد وكثرة المراجعة، وهذا معروف حتى في زمان السلف، فإنك لم تجد صحابياً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا وله طلاب يأخذون عنه؛ لأن الخلاف وقع في الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وأما في حياته عليه الصلاة والسلام فالصحابة كانوا آخذين عنه العلم، لكن بالنسبة للصحابة تجد لكل صحابي أصحاباً، فتجد لـ ابن عمر أصحاباً كـ نافع وسالم ابنه ونحوهم من تلامذة ابن عمر، وتجد أصحاب ابن عباس كـ مجاهد وعطاء وعكرمة ونحوهم من تلامذته، وتجد لـ ابن مسعود علقمة وغيره من أصحابه رضي الله عنه. فهذا التنوع الذي كان عند الصحابة رضوان الله عليهم لما بذلوا علمهم انحصر التابعون، فأخذوا عن كل واحد؛ ولذلك ابن عباس رضي الله عنهما لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لزم زيد بن ثابت وأخذ عنه ونبغ في علم التفسير؛ لأن زيد بن ثابت كان من أعلم الصحابة بالقرآن؛ لأنه كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما توفي زيد رضي الله عنه بكى أبو هريرة بكاءً شديداً، وقال: (لقد دفن الناس اليوم علماً كثيراً ولعل الله أن يجعل لنا ابن عباس خلفاً عنه) فكان ابن عباس منحصراً في زيد؛ لأنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ابن عباس حدثاً صغير السن مقارباً للبلوغ، فأراد أن يطلب العلم فانحصر في زيد وأخذ عنه، فقال أبو هريرة: (لعل الله أن يجعل لنا ابن عباس خلفاً عنه) يعني: عن زيد فالانحصار ليس المراد به التعصب، إنما المراد أن تبحث عن من تثق بدينه وعلمه وأمانته ممن أخذ العلم -هذا الشرط- عن أهله واتصل سنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس ممن أخذ العلم عن الكتب فأخذ علماً لا يوثق به؛ لأنه إذا أخذ عن كتب تشتت وتعددت أصوله، وتفرقت إشكالاته واختلفت، فالذي أخذ العلم وطلبه عن أهله ممكن أن ينحصر فيه طالب العلم. فإذا نظرت أنك تستطيع أن تجمع بين درسين في الأسبوع أو ثلاثة بالأكثر، وتضبطها فحيّ هلا! أما إذا كان العلم الذي تأخذه في الدرس يحتاج إلى ضبط وتكرار فلا تضبط العلم إلا بالانحصار، فإذا انحصرت في العالم وأخذت عنه وارتويت من علمه وضبطت ما عنده انتقلت إلى غيره، وهذا هو الذي كان عليه العلماء رحمهم الله والأجلاء؛ ولذلك انظروا إلى أصحاب ابن عباس فإنك إذا جئت إلى المسائل الخلافية -بالاستقراء والتتبع- تجد القول عن عبد الله بن عمر وعن عبد الله بن عباس، تجدهم يقولون: وبه قال نافع وسالم بن عبد الله ومجاهد بن جبر وسعيد بن جبير، فيعدد أصحاب الصحابيين؛ لأنهم أخذوا الفقه وضبطوه عنهم، المهم أن تأخذ بالدليل، والمهم أن لا تتعصب لشيخك إذا خالف الدليل، ولكن إذا أخذت عن شيخٍ يوثق بعلمه بدليل وحجة فاستمسك بالحجة والدليل، فإن خالفه أحد وعارضه أحد يقول لك: هذا معارضٌ للسنة؛ فلربما جاءك الغير بدليل يتوهم أنه حجة وأنه سنة، والواقع أنه دليل مطعون في سنده، أو مجاب بدليل عنه أقوى منه، وعلى هذا تقول بقول العالم، وتنحصر في علمه وتأخذ عنه وتضبط، حتى تصل إلى ما وصل إليه، كمثل مشايخنا الكبار -حفظهم الله وأدام الله عليهم العفو والعافية، وأبقاهم للإسلام والمسلمين- هؤلاء العلماء الأجلاء الأتقياء الذين عُرِفوا بالخير والصلاح وزكتهم الأمة، حينما يأخذ طالب علم عن عالم منهم، ويأخذ هذا العلم بدليله وحجته يلقى الله عز وجل يوم القيامة وقد أخذ العلم بالاتباع، وما جاء بعلم من عنده فشذ، وجاء بالآراء الغريبة، فمثل هؤلاء العلماء الذين عُرِفوا بالأمانة لا يأتون بالأهواء ولا يخبطون خبط عشواء، وإنما يأخذون العلم بحجة، ويسلكون السبيل والمحجة، لهم قدمٌ راسخة من سلفٍ صالح، وأئمة يهتدى ويقتدى بهم، فمثل هؤلاء يعض على علمهم بالنواجذ، فإن وجد قولٌ يخالف قولهم بدليل، وظهرت قوته، وأثرت أنواره وحجته، فإننا نعدل عن هذا القول بحجة هي أقوى وسبيل أبلغ في الرضا، ونعتذر لعلمائنا ومشايخنا بما يليق به الاعتبار، وهذا هو مسلك العلماء والأئمة، أما تعدد الدروس واختلافها فإنه يحدث عند طالب العلم ربكة، ويحدث عند طالب العلم الاضطراب، خاصةً فيما يشترط فيه اتحاد في الأصول، فالفقه إذا قرأته على شيخ ينبغي أن لا تقرأ أصول الفقه إلا بهذا الضابط؛ لأنه لا يستقيم أن تقرأ الفقه على عامل يرجح أن المفهوم حجة، وتقرأ أصول الفقه على يد عالم لا يرى أن المفهوم حجة، فأنت في الأصول تصحح قولاً تخالفه في الفروع والتطبيق وهذا هو الذي جعل العلماء في المذاهب الأربعة يهتمون بتقعيدها وبيان أصولها، حتى يكون استنباطك للنصوص وعملك بالأدلة على قاعدة صحيحة، وعلى هذا درج سواد الأمة الأعظم، فلن تجد عالماً إلا وقد أخذ الفقه من أصل ومذهب بالدليل ولم يتعصب ألا للدليل، فنحن نريد علماً صحيحاً موروثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مأخوذاً عن الأئمة، لكن بدون شتات وفرقة حتى يستطيع طالب العلم أن يصل إلى الحق بأقرب سبيل، وأوضح معنى. نسأل الله العظيم الجليل أن يرزقنا الصواب والرشاد، وأن يجعلنا من أهل الصبر، وأن يثبتنا عليه إلى أن نلقاه، وأن يحشرنا في زمرة نبيه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

باب الوكالة [3]

شرح زاد المستقنع - باب الوكالة [3] الأصل في الوكالة أن يقوم الوكيل بأداء ما وكِّل بالقيام به، لكن قد يحدث أن الوكيل يوكل غيره للقيام بهذا العمل، وهذا له حالات وتفاصيل. وأما الوكالة من حيث هي فهي عقد جائز ليس بلازم؛ لأن المقصود بها الإرفاق، ولها مبطلات كشأن سائر العقود.

حكم توكيل الوكيل لغيره

حكم توكيل الوكيل لغيره بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فكان حديثنا عن باب الوكالة، ولا زال المصنف رحمه الله يبين المسائل والأحكام المتعلقة بهذا الباب الذي تعم به البلوى، ويحتاجه الناس في كل زمانٍ ومكان، وشرع بهذه الجملة في بيان مسألة توكيل الوكيل لغيره، فقد تطلب من شخصٍ ما أن يقوم نيابةً عنك بأمرٍ ما، وأنت تقصد أن يقوم به بنفسه، فيفوض ذلك الأمر ويكله إلى غيره، وحينئذٍ يرد Q هل يجوز له أن يقيم ذلك الغير مقامه، أو لا يجوز؟ ثانياً: حينما أقام ذلك الغير مقامه فلربما تصرف تصرفاً فيه ضرر، فهل يضمنه الموكل الأصلي، أو يضمنه الوكيل؟ بعبارةٍ أخرى: هل هو وكيلٌ عن الأول، أو الثاني؟ وهذا كله يحتاج الناس إلى بيان حكمه. ومن هنا بين رحمه الله القاعدة فقال: [ليس للوكيل أن يوكِل فيما وُكِّل فيه]. أمثلة هذه المسألة: قد تأتي إلى صديق لك أو أخ لك وتقول له مثلاً: بعْ لي هذه العمارة، فهذا الأخ أو هذا الصديق قد يتولى أمرها بنفسه، أو يذهب إلى مكتب عقارٍ فيوكل صاحب المكتب بالبيع، هذا مثال، وبناءً على ذلك يرد السؤال: هل لك إذا وُكِّلت من الغير أن توكل فيما وُكِّلت فيه، أو لا؟ هذه المسألة تحتاج إلى تفصيل. أولاً: إذا وكِّل الشخص في عمل أو وُكِّل للقيام بمهمةٍ من بيعٍ أو شراءٍ أو إجارةٍ أو غير ذلك، فلا يخلو هذا الشخص الذي يوَكَّل وهو الوكيل من حالات: الحالة الأولى: أن يوكل في شيء لا يقوم به مثله عُرفاً، وسنذكر مثال ذلك وحكمه. الحالة الثانية: أن يوكل في شيء يمكنه أن يقوم به لكن بمعونة الغير. الحالة الثالثة: أن يوكل في شيءٍ يمكنه أن يقوم به وحده. فهذه ثلاثة أحوال: إما أن يوكل في شيء جرى العرف أن مثله لا يقوم به، وإما أن يوكل في شيء يمكنه أن يقوم به بنفسه ولكن بشرط أن يوجد من يعينه على ذلك الشيء، وإما أن يوكل بشيء يمكنه أن يقوم به بنفسه دون أن يحتاج إلى غيره، فهذه ثلاثة أحوال سنفصل أحكامها.

ان يوكل في شيء لا يقوم به مثله عرفا

ان يوكل في شيء لا يقوم به مثله عرفاً الحالة الأولى: أن يوكل في شيء لا يمكنه أن يقوم به بنفسه عُرفاً، مثال: لو قال شخصٌ لآخر: اكنس لي أو نظف لي هذه العمارة، أو نظف لي -أكرمكم الله- دورات العمارة، فالعلماء رحمهم الله ذكروا هذه الحالة؛ لأنها توجد بين الناس، ومن الناس من يطلب من أخيه أو صديقه أو رفيقه أن يقوم بعملٍ ليس مثله يقوم به، ففي هذه الحالة إذا قلت لشخص: نظف لي العمارة، أو اكنس لي العمارة فهمنا أنك تقصد أن يأتي بشخصٍ يقوم بذلك، فهي في الأصل وكالة للشخص، لكن المقصود منها أن يقيم غيره مقامه، في هذه الحالة إذا طلبت من شخصٍ ليس مثله يقوم بالعمل أن يقوم بذلك العمل، نقول: الوكالة باللفظ له، ولكنها بالعُرف متضمنةً للإذن بالغير، فعلى هذا: يجوز أن يوكل غيره مقامه، وفي هذه الحالة شبه إجماع، أن الشخص لو قال لآخر: نظف لي العمارة، أو اكنس لي العمارة، أو اكنس لي البيت أو الدار، أو اكنس لي البركة، أو نظف لي دورة المياه -أكرمكم الله-، أو أي شيء ليس مثله يقوم به فإنها وكالةٌ منصرفةٌ في الظاهر إلى المخاطب، وفي الباطن إذنٌ أن يقيم غيره مقامه. فنستثني من قول المصنف: (ليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه)، ما إذا كان وكل بشيءٍ ليس مثله يقوم به، لكن الإشكال ليس هنا، وإنما حينما قال له: اكنس لي العمارة، أو نظف لي العمارة، فيرد Q هل إذا قال له هذه الكلمة وذهب وجاء بشخصٍ آخر يقوم بالكنس، هل هذا الشخص الآخر الذي يقوم بهذا العمل وكيلٌ عن الأصل، أو وكيل عن الوكيل؟ وهذا أمرٌ مهم جداً، فعندما تقول للشخص: أصلح لي الباب، ومثله ليس بنجار، أو أصلح لي السقف، وليس مثله بنّاء ليصلح السقوف، أو أصلح لي السيارة وليس مثله يصلح، فهل أنت بهذه الجملة قصدت له: اطلب من يصلحها، فيصبح لك وكيلاً، الوكيل الأول الذي خاطبته، والوكيل الثاني الذي يقيمه مقامه. فائدة هذا السؤال أنك لو قلت: إن الموكل حينما تلفظ وكّل الاثنين، فلو أنك طلبت منه أن يصلح سقف البيت فأبرم عقداً لمدة شهر لإصلاح السقف، وأثناء الشهر توفي ذلك الوكيل، فإن كان الثاني -الذي هو العامل- وكيلاً عنك، يعني: وكلت الاثنين، فلا تنفسخ الوكالة، ويبقى العقد كما هو، وإن كان وكيلاً عن وكيلك فحينئذٍ يحتاج إلى تجديد؛ لأن الوكالة قد انفسخت. وقال بعض العلماء: أُبرِم العقد وتم فلا يحتاج إلى تجديد؛ لأنه من العقود اللازمة؛ لأنه من عقود الإجارة، وبناءً على هذا: في حالة ما إذا كان موكلاً للغير وهذا الغير لا يقوم بذلك كإصلاح السيارات وإصلاح البيوت وتنظيفها أو نحو ذلك وليس مثله ممن يقوم به فإنه يصح له أن يوكل غيره ويقيمه مقامه.

أن يوكل في شيء يحتاج فيه إلى معونة الغير

أن يوكَّل في شيء يحتاج فيه إلى معونة الغير الحالة الثانية: أن يكون الأمر المطلوب يمكنه أن يقوم به ولكن يحتاج إلى معونة الغير فيه، ومن أمثلة ذلك: العامل في المزرعة، أو الحارس في العمارة مثلاً، تقول له: يا فلان! نظّف لي العمارة، فإنه بطبيعة الحال سينظفها ولكن يحتاج إلى من يعينه إلى تنظيفها، فمثلاً قلت له: أريد تنظيف هذه العمارة هذا اليوم، فيفهم بداهة إذا كانت عمارة كبيرة أن للمقصود: التمس معك من يعينك على تنظيفها، بناءً على ذلك يصبح لك وكيلاً، الوكيل الأول الذي خاطبته، والوكيل الثاني الذي يقيمه معه، وذهب جماهير العلماء في هذه الحالة إلى أنك لو قلت للعامل أو قلت لشخص تعلم أنه يحتاج إلى معونة الغير: افعل لي كذا فأنت موكلٌ للاثنين، موكلٌ للوكيل الأصلي وموكل لمن يوكله معه. لكن هنا مسألةٌ مهمة وهي: إذا كنا نقول في الحالة الأولى والحالة الثانية أن من حق الوكيل أن يوكل غيره، فلا بد من بيان شرط مهم وهو: أنه لا يصح لهذا الوكيل أن يقيم معه الغير أو يوكل الغير إلا إذا كان أهلاً للقيام بالعمل، فأنت لا تتحمل المسئولية، لو قلت له: يا فلان! نظف لي العمارة أو ابن لي السقف أو ابن لي الجدار أو الغرفة أو ازرع لي الزرع، فذهب وجاء معه بشخصٍ آخر إذا كان مشاركاً، أو طلب شخصاً آخر يقوم بهذا العمل فإنك لا تتحمل مسئوليته إلا إذا كان على صفتين: الصفة الأولى: أن تكون عنده أهلية القيام بهذا العمل. الصفة الثانية: مسألة العدالة فيما يحصل فيه الضرر بفواتها. فمسألة العلم بالعمل مهمة، فلو أنك قلت لرجلٍ: ابن لي الدار أو نظّف لي الدار وليس مثله يقوم بذلك، واستأجر أجيراً لا يحسن تنظيف العمارة ولا الدار، ثم لما جاء يقوم بعمله أخل بذلك العمل، فلما أخل به قال لك: أنت وكلتني ولا بد أن تدفع أجرته. ففي هذه الحالة: لا تكون ملزماً إلا أن يقدر مقدار عمله الطيب الذي يستحق عليه أجرة، والباقي لا تتحمل مسئوليته، مثال ذلك: ذهب واستأجر عاملاً باليومية -بمائة ريال- أو أخذه مقاولة واتفق معه على خمسمائة، فلما قام بتنظيفها نظفها بمقدار نصف العمل أي: لم ينظف تنظيفاً متقناً، وإنما نظف تنظيفاً مخلاً، بحيث أنك ترى الغرفة عليها آثار الغبار وغيره، لأنه لا يحسن العمل، فحينئذٍ بعد إن انتهى من التنظيف قال لك: ادفع لي خمسمائة ريال أجرة العامل، فذهبت تنظر في عمل العامل وإذا بعمله ليس بمتقن، وليس بأهل أن يأخذ عليه هذه الأجرة، فسألت أهل الخبرة فقالوا: هذا نصف التنظيف، أو اجتهدت وأنت تعرف أنك ما ظلمته فقدرت عمله على أنه نصف عمل تقول له: خذ مائتين وخمسين، فتعطي وكيلك المائتين والخمسين ريالاً، ثم الباقي يتفاهم فيه مع العامل، أما من حيث إلزامك أنت فلا تلزم إلا بما يستحقه الأجير؛ لأنه في هذه الحالة لما أذنت له أن يقيم الغير مقامه بالعرف لا بد وأن يكون هذا العامل أهلاً بالعرف، فلما قصر الوكيل في التحري في صفة العامل وقصر في جلب من هو أهل لذلك يتحمل مسئولية الضرر. إذاً نقول في هذه الحالة: لو أقام غيره مقامه أو أقامه معه، فلا تتحمل مسئولية ذلك الغير إلا إذا كان أهلاً، هذا الشرط الأول. فلو أنه -مثلاً- جاء بعاملٍ وهذا العامل لا يحسن العمل في الكهرباء، وقلت له: أصلح لي الكهرباء في العمارة أو البيت، بمعنى: اذهب وانظر لي من هو أهل للقيام بذلك، فذهب إلى السوق وجاء بمن لا يحسن العمل بهذا الشيء، فلما جاء ليقوم بهذا العمل أضر بنفسه -أصابه مثلاً (شورت كهرباء) ومات- في هذه الحالة لا تتحمل المسئولية؛ لأنك لم تطلب منه أن يقيم كل شخص، فأنت حينما قلت له: وكلتك أن تصلح الكهرباء أو الماء فيها أو جدارها أو أرضها أو سقفها كأنك تقول: وكلتك أن توكل من هو أهل بالعرف، فكما أن العرف يصرف الوكالة عن الشخص نفسه إلى شخصٍ آخر، كذلك العرف يقيدها بمن هو أهله. إذاً: الخلاصة حينما قلنا في الحالتين: أن من حق الوكيل أن يوكل غيره فإننا نشترط أن يكون أهلاً، وإذا لم يكن أهلاً فلا يتحمل الوكيل الأصيل مسئوليته. ثانياً: أن يكون ممن توفرت فيه الأمانة والعدالة حتى لا يحصل الضرر بالإخلال، فلو أنه أقام شخصاً خائناً فجاء ووضعه وائتمنه على المال فسرق المال، فحينئذٍ هذه السرقة وقعت من الوكيل الثاني، وأنت حينما وكّلته وكلته بالعرف، فيتحمل الوكيل المسئولية عن السرقة ولا تتحملها أنت؛ لأنه وإن قلنا في هذه الحالة أنه من حقه أن يأتي بوكيل، لكن بشرط أن يتحمل، والدليل على أننا نلزمه بالضمان أنه في هذه الحالة قصر، والشرع يلزم من قصر بالضمان، ولذلك: قواعد الشريعة وأصولها دالة على أن من تحمل مسئولية شيء ونزل مكان الأصيل فإنه يتحمل الضرر الناشئ عن الإخلال بذلك الشيء، وتوضيح ذلك أكثر بعبارة مختصرة: أن الوكيل الثاني كان الأصل يوجب عليه أن يسأل في السوق، وأن يتحرى حتى يجد الأهل لذلك فيقيمه مقامه، فلما قصر في السؤال والتحري تحمل مسئولية الإخلال، ولذلك أي شخص يطلب منك أمراً أو يوكلك في أمر وأنت لا تحسنه، وأردت أن تقيم مقامك غيرك، أو دل العرف على أنه أراد أن تقيم غيرك مقامك، فينبغي أن تتحرى وأن تجتهد وأن تحب له ما تحب لنفسك، وأن تكره له ما تكره لنفسك ولا تذهب لكل أحد، فإنه لو كان العمل لك هل تقبل كل عامل؟ وهل ترضى بكل عامل؟ فكما أن الإنسان لا يرضى بالضرر على نفسه فإنه إذا كان وكيلاً عن غيره فعليه أن يتقي الله، وأن يعلم أنه مؤتمن وأن الغير ائتمنه فعليه أن يؤدي هذه الأمانة بالتحري والسؤال، فإذا جاء -مثلاً- يشتري أدوات الكهرباء يسأل صاحب المحل عن أحسن من يوثق فيه، أو يسأل: من الذي يستطيع أن يبحث لي عن عامل لي أمين؟ ويتحرى ويجتهد، فإذا بذل ما عنده فحينئذٍ لا يتحمل المسئولية.

أن يوكل في شيء يقوم به بنفسه دون حاجة إلى غيره

أن يوكَّل في شيء يقوم به بنفسه دون حاجة إلى غيره الحالة الثالثة: أن يوكل فيما يقوم فيه بنفسه، فلو قلت لرجلٍ: بع لي السيارة أو بع لي الأرض، أو مثلاً: مكاتب العقارات الآن، فتأتي إلى صاحب مكتب عقار وتقول له: يا فلان! وكلتك أن تبيع لي عمارتي الفلانية، قال: إذاً سأقوم بذلك، فإذا قلت له: وكلتك أن تقوم ببيع عمارتي الفلانية، فذهب إلى مكتب عقارٍ آخر واتفق معه، وبيعت العمارة، وجاء يسألك الأجرة وأنت قد قلت له: وكلتك أن تبحث لي عن من يشتري عمارتي أو وكلتك أن تشتري لي عمارة وأعطيك خمسة آلاف أعطيك ثلاثة آلاف أو أعطيك ألفين -لأنه ما يجوز أن أقول لك: آخذ منك اثنين ونصف في المائة، وهذا سيأتينا إن شاء الله في الإجارة؛ لأنه إذا كانت قيمة الأرض مجهولة فهي إجارة بالمجهول كأن تقول: أريد (2. 5%) من القيمة ما ندري، قد تكون قيمة الأرض مليون ريال وأخذ اثنين ونصف في المائة من المليون ليس سهلاً، وقد تكون خمسمائة ألف، فالجهالة في الأجرة موجبة للبطلان كما قررناه في مسائل البطاقات، وإن شاء الله بإذن الله سنفصل هذه المسألة في باب الإجارة-. الشاهد: أنك لو قلت لصاحب المكتب: التمس لي أرضاً بصفة كذا وكذا أو في موقع كذا وكذا وأعطيك ألفين أو ثلاثة آلاف، فذهب صاحب المكتب وتقاول مع مكتبٍ آخر ثم جاءك وقال: إني قد وجدت لك أرضاً بنصف مليون، ولكن فلان صاحب المكتب يطالبني بخمسة آلاف؛ فتعطيني مع الألفين التي اتفقنا عليها ألفين ثانية أو خمسة آلاف أو ثلاثة آلاف، فتقول له: أنا وكلتك والوكالة بيني وبينك، وهذا الوكيل الثاني لم أوكلك به؛ لأن العمل يختص بك أنت، وتستطيع أن تقوم به لوحدك، فحينئذٍ أنت الذي تتحمل مسئولية من أقمته معك، وأنا لا أتحمل من حيث الأصل ما دام هذا عملك وقد وكلتك، فمعنى قولي: التمس لي من يستأجر عمارتي أو يشتري أرضي أو التمس لي أرضاً أو عمارةً فإنني في هذه الحالة وكلتك ولم أوكل غيرك، فهذا الغير الذي أقمته معك أنت الذي تدفع أجرته، وأنت الذي تتحمل مسئوليته وليس لي من دخلٍ في ذلك، هذا إذا كان وكله على أن يقوم بعملٍ يمكنه أن يقوم به لوحده؛ لأن مكتب العقار في الأصل يقوم بالعمل لوحده، ولكن كونه يستعين بالغير هذا في حالات استثنائية أو في حالات شاذة، لكن في الأصل أن مكتب العقار هو الذي يقوم بهذا العمل، وهو الذي يتحمل شراء الأشياء وبيعها وإجارتها ونحو ذلك، وبناءً على ذلك لا تتحمل أجرة هذا الوكيل الثاني. قال المصنف رحمه الله: [وليس للوكيل أن يُوكِّل فيما وُكِّل فيه]. اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة في الحالة الثالثة بالخصوص، أما من حيث الأصل إذا قال الوكيل لموكله: وكلتك، فلا يخلو من صورتين: الصورة الأولى: أن يقول له: وكلتك ولا أسمح لك أن توكل غيرك، فإن قال له: وكلتك ولا أسمح لك أن توكل غيرك فبالإجماع ليس للوكيل أن يوكل فيما وُكّل فيه، هذا إذا قال له: وكلتك ولا آذن لك أن توكل غيرك ففي هذه الحالة بالإجماع لا يصح أن يوكل غيره معه، ولا يصح أن يوكل غيره بدلاً منه. الصورة الثانية: صورة المسألة التي معنا، أن يقول له: وكلتك في بيع الأرض، مثل ما ذكرنا في مكتب العقار، ومكتب العقار يمكنه أن يتوكل لوحده، فهل لمكتب العقار أن يوكل غيره من أفراد الناس أو جماعتهم أو من مكاتب العقار أو غيرها؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة -رحمةُ الله عليهم- أنه لا يجوز للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه من حيث الجملة، وقالوا: إن الوكالة منصبة على شيء، إما بذلاً وإما أخذاً كمنفعة عين إلخ على حسب العقود، وهذا الشيء ملكٌ للأصيل، فإذا أذن للوكيل فإن غير الوكيل أجنبي وليس للوكيل أن يقيمه مقامه؛ لأنه أذن للوكيل وحده، فلا يجوز التصرف في أموال الناس وأملاكهم إلا بإذنٍ منهم، والإذن هنا خاصٌ بالوكيل وليس له أن يوكل غيره، هذا مذهب الجمهور وهو يستند إلى الأصل. القول الثاني: يجوز للوكيل أن يُوكِّلَ فيما وُكِّل فيه، وهذا مذهب الحنفية رحمهم الله ورواية عن الإمام أحمد، وقال به بعض أصحاب الإمام الشافعي، لكن مذهب الحنابلة والشافعية على القول الأول. فعلى القول الثاني قول الذين يقولون: يجوز للوكيل أن يوكِّل فيما وُكّلَ فيه، لو قلت لشخصٍ مثلاً: بعْ لي هذه العمارة، يجوز أن يبيعها بنفسه وأن يوكل من يرضاه ليقوم مقامه، ولو قلت له: أجّر لي داري أو مزرعتي، وقام بتأجيرها أو أقام غيره ممن هو أهل صح توكيله وقالوا: لأنه حينما وكل الوكيل فكأنه فوّض له أن يجلب المصلحة وأن يدفع الضرر، فكما أن المصلحة مجلوبة في الأصل بالوكيل فهي مجلوبةٌ بغيره، وكما أن المفسدة تندرئ بالوكيل تندرئ بغيره، أي: لا فرق بينه وبين غيره؛ لأن الهدف حصول المصلحة ودفع الضرر، قالوا: فهو وغيره في ذلك على حدٍ سواء، والصحيح مذهب الجمهور رحمهم الله لما ذكرنا.

حكم الوكالة وأحوال بطلانها

حكم الوكالة وأحوال بطلانها يقول رحمه الله: [والوكالة عقد جائز وتبطل بفسخ أحدهما وموته وعزل الوكيل وحجر السفيه].

الوكالة من العقود الجائزة

الوكالة من العقود الجائزة يقول المصنف رحمه الله: (الوكالة عقدٌ جائز). حينما تقول لشخص: وكلتك أن تشتري لي سيارة، وأعطيته عشرة آلاف ريال، وذهب ليشتري السيارة ثم بدا لك قبل أن يشتريها أن تفسخ، وقلت: لا أريد سيارة، فهل من حقك الفسخ؟ كذلك أيضاً: لو قلت لشخص: يا فلان! هذه مائة ألف اذهب واشترِ لي أرضاً في الموقع الفلاني أو المكان الفلاني أو في المخطط الفلاني، فقال: قبلت، فلما خرج من البيت ضاق عليه الوقت وقال: لا أستطيع أن أفعل ذلك، فهل في هذه الحالة أنت ملزم بإتمام الوكالة حتى يحصل المقصود أو لا؟ وهل هذا الطرف الذي توكله إذا قبل الوكالة نلزمه أن يمضيها؟ حينما تقول لشخص: بعْ لي سيارتي قال: قبلت، وذهب يريد بيعها ثم رجع لك بعد ساعة وقال: يا فلان! لا أستطيع أن أبيعها، قلت له: عندك عذر؟ قال: لا. ليس عندي عذر، قلت: ما أسامحك خذ السيارة وبعها، وألزمته وفرضت عليه، فهل من حقك أن تفرض عليه؟ يعني: إذا حصل الإيجاب والقبول فقلت: وكلتك قال: قبلت، هل أنت ملزم بإتمام الوكالة، وليس من حقك أن تفسخها؟ وهل هو ملزم بإتمامها وليس من حقه فسخها؟ فقال رحمه الله: (والوكالة عقدٌ جائز). العقود -قلنا-: تنقسم إلى قسمين: إما عقود جائزة وإما عقود لازمة، وبينا هذا في أول باب البيوع، وضربنا الأمثلة وبينا أنواع العقود، وهنا يقول المصنف: (الوكالة عقدٌ جائز) إذا قلنا: عقدٌ لازم فضابطه: أنه لا يملكُ أحد الطرفين فسخه إلا برضا الآخر، فلو قلت له: بعتك سيارتي بعشرة آلاف قال: قبلت، ثم افترقتما ثم جاء وقال: لا أستطيع فإنه يلزم شرعاً؛ لأن العقد لازمٌ للطرفين، فليس من حقه أن يرجع، وليس من حقك أن ترجع إلا برضا الطرف الثاني، لكن الوكالة على العكس، هي عقدٌ جائز، أي: يملك أحد الطرفين فسخه دون رضا الآخر، فمن حقك أن تفسخ الوكالة في أي وقتٍ شئت، ومن حق من توكله للقيام بالأمر أن يفسخ الوكالةِ في أي وقتٍ شاء. وعلى هذا: سواءً وُجد العذر أو لم يوجد، كرجل عَلم أنه لو أخذ الوكالة سيضر، وأنه لا يمكنه القيام بها، فهذا عذر، أو جاءه شيءٌ يشغله فهذا عذر، أو لم يوجد العذر كأن يريد أن يتخلى عن الوكالة هكذا. قال رحمه الله: (والوكالة عقدٌ جائز) أي: يملك أحد الطرفين فسخه دون رِضا الآخر، يقول العلماء في تقرير كون الوكالة عقداً جائزاً: إن الوكالة ننظر إليها من جانبين: الجانب الأول: الشخص الذي يوكل، والجانب الثاني: الشخص الذي يقبل والذي هو الوكيل، الأول: الموكل، والثاني: الوكيل، فقالوا: بالنسبة للشخص الذي يريد العمل ووكله الموكِّل قالوا: الوكالة منه إذْن، فإذا قال لك: بع عمارتي فهذا إذن بالبيع، والإذن ليس بلازم، أي: ليس هناك أحد ملزم أن يأذن للغير، وهل الإذن للغير لازم؟ A بالإجماع: لا. قالوا: فإذا كان التوكيل من صاحب الحق إِذْناً للغير فالإذن من حقك في أي وقت أن ترجع عنه، وليس بإلزام، وبناءً على ذلك قالوا: الوكالة من صاحبها إذنٌ -الذي هو الموكل- ومن الوكيل الذي يقبلها فسخ؛ لأنه حينما يقول لك: خذ العشرة الآلاف واشترِ لي سيارة، فأنت تعينه على تحصيل مصلحة أو درء مفسدة، فحينئذٍ كأنك تتفضل عليه، فالوكيل متفضل على الأصيل؛ ولذلك قالوا: من حقك أن تفسخ، وقد قال الله في كتابه: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91] فالوكيل محسن، وهذا إذا كانت الوكالة بدون أجرة، أما إذا كانت الوكالة بأجرة فشيء آخر؛ لأن الوكالة بأجرة فيها إلزام، فمثلاً: المحاماة، لو وكل محامياً في خصومة وقال له: اذهب وخاصم عني، فوكله بالخصومة وقال له: إذا جئتني بحقي مليون ريال في هذه الأرض التي ظلمت فيها وأثبت لي الحق أعطيك عشرة آلاف ريال، فيصبح العقد هنا عقد جُعل، فلا يستحق المحامي العشرة الآلاف إلا إذا جاء بالمليون كاملاً، فإذا تم العقد بينهما فإنه يكون عقد وكالة في الابتداء، فيكون جائزاً من حقك أن تفسخ في أي وقت، وفي الانتهاء: إذا استطاع أن يكسب القضية أو يكسب الحق يكون لازماً، فيلزمك أن تدفع له العشرة الآلاف، فهو جائزٌ في أول حال لازمٌ في ثاني حال، وبناءً على ذلك: يستثنى حالة اللزوم في ثاني حال إذا وكله أو كان عقد إجارةً، كأن يوكله على عمل إجارة، فإنه حينئذٍ يكون وكيلاً من وجه وأجيراً من وجهٍ آخر.

بطلان الوكالة بفسخ أحد الطرفين لها

بطلان الوكالة بفسخ أحد الطرفين لها قال رحمه الله: [وتبطل بفسخ أحدهما]. والفسخ: الإزالة، يقال: فسخ الثوب إذا أزاله، وفسخ العقد أن يزيل تأثيره، يرفع ثبوت الوكالة، فيقول له: أقلتك، أو رجعت عن وكالتي لا تبع، أو لا تشترِ، أو لا تؤجر، هذا كله فسخ، فالوكالة إذا فسخت انفسخت، فإذا قال له: لا تبع، ولا تؤجر فإنها تنفسخ في هذه الحالة، أو يبعث له رجلاً ويقول: فسخت وكالتي، فتنفسخ في أي وقتٍ يشاؤها ربها، وتنفسخ بفسخ أحدهما سواءً كان الأصيل أو الوكيل.

بطلان الوكالة بموت أحد الطرفين أو جنونه

بطلان الوكالة بموت أحد الطرفين أو جنونه قال رحمه الله: [وموته] إذا مات أحد الطرفين انفسخت الوكالة، فلو قلت لشخص: وكلتك أن تشتري لي سيارةً بعشرة آلاف فمات الموكل -الذي هو نفس الشخص الذي يريد السيارة- انفسخت الوكالة، لكن لو وقع البيع قبل الموت لزم البيع، مثلاً: قال رجلٌ لآخر: اشتر لي سيارة بعشرة آلاف، فذهب واشتراها، وبعد أن اشتراها بنصف ساعة بلغه خبر موت من وكله بعد ثبوت البيع، فالبيع لازم ويلزم الورثة، ويمضي لوجهه؛ لأنه وقع حال حياة الموكل. وتبطل الوكالة بعزل الوكيل، وموته وجنونه، فلو جنّ أحد الطرفين جنوناً مطلقاً فإنه تنفسخ الوكالة؛ لأنه فاتت الأهلية، وإذا كان الموكل قد زال عنه العقل فإنه حينئذٍ يكون غير أهلٍ للتصرف في ماله، فتنفسخ وكالته. وهنا مسألة: بعض العلماء يقول: تقولون إن الجنون يوجب فسخ الوكالة، فيرد الإشكال، فإن الجنون زوال للعقل، والمجنون لا يصح منه التصرف، فما رأيكم في النائم، فلو أنه وكل شخصاً وقال له: وكلتك أن تبيع بيتي بعشرة آلاف، وباع وقت منام الموكل، أليست زالت عنه الأهلية بالإجماع؟ فالنائم لو تلفظ ما يؤخذ بلفظه: (رفع القلم عن ثلاثة)، فما هو الفرق بين النائم والمجنون؟ فأجابوا عن ذلك بعدة أجوبة منها: أن النائم إذا أيقظه أحد استيقظ، والمجنون لا يستطيع أحد أن يرد إليه عقله إلا الله وحده، وبناءً على ذلك هناك فرق بين الاثنين في ضابط الأهلية، فالمجنون سلبها ولا يستطيع أحد أن يردها، لكن في النوم تستطيع أن توقظه. فقالوا: نحن نورد اعتراضنا إذا وكل حال نومه، أي: وهو نائم، وأنتم تقولون عند الإيقاظ، وما عندنا مشكلة في هذا، لكن لو أنه وكله الساعة الثانية ظهراً، ثم وضع رأسه ونام، وخرج الرجل وابتاع الساعة الثانية والنصف والموكل مستغرق في النوم، أي: بحيث يكون ما عنده أهلية، فكيف يصح هنا العقد؟ هذا يرجع إلى قاعدة تقول: (التقدير تنزيل المعدوم منزلة الموجود، وتنزيل الموجود منزلة المعدوم)، وهذه القاعدة تكلم عليها الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه المفيد: قواعد الأحكام، كيف ينزل المعدوم منزلة الموجود؟ قالوا: النائم إذا نام، نسألكم: كان مؤمناً ثم نام، وجاء رجل وقتله ألا نقول: قتل مؤمناً؟ نقول: بلى، فهل أثناء النوم الإيمان موجود بمعنى: عنده تصرف وعنده أفعال؟ قالوا: لا، إنما نزلنا المعدوم في الظاهر منزلة الموجود، فالأهلية الظاهرة وإن كانت معدومة لكنها في حكم الموجود، وهذا ما يسمى بالتقدير، فقالوا: أثناء نومه صحيحٌ أنه ليس من أهل الأهلية، ولكننا نزلنا الإذن قبل النوم واستصحبناه حال النوم، فصار من التقدير. ولذلك قالوا: لهذه القواعد عدة فروع منها: أطفال المؤمنين، يأخذون حكم آبائهم مع أن الإيمان غير موجود، فأنت عندما تأتي إلى بلد وتجد فيه طفلاً لقيطاً لا يعرف أبواه، إن كان في بلدٍ مسلم فتقول: هذا ابن للمسلمين، وعليه فتعطيه حكم أبناء المسلمين، ولا تقل: هل هو مسلم؟ لأنه لم يكن عليه التكليف، وقد رُفِع عنه القلم كالنائم، قالوا: فننزل المعدوم منزلة الموجود، وبناءً على ذلك قال العلماء: إنه في الوكالة ونحوها من العقود يسري الحكم في حال النوم، كما لو كان مستيقظاً التفاتاً إلى الأصل من أن التقدير تنزيل المعدوم منزلة الموجود.

بطلان الوكالة بعزل الوكيل

بطلان الوكالة بعزل الوكيل قال رحمه الله: [وعزل الوكيل]. إذا كان وكّل شخصاً أن يبيع أو يشتري أو يؤجر ثم عزله، فإذا عزله انفسخت الوكالة.

بطلان الوكالة بالحجر

بطلان الوكالة بالحجر قال رحمه الله: [وحجر السفيه]. أنتم تعلمون أن الوكالة تكون في الأموال وغير الأموال، فإذا كان الرجل الذي وكّل غيره -وهو الأصيل- من أهل التصرف في المال -وهو الرشيد- فإننا حينئذٍ نصحح الوكالة، لكن لو كان غير رشيد ومحجوراً عليه، فلا يصح أن يوكل غيره، ما الدليل؟ نقول: لأن المحجور عليه لا يصح تصرفه لنفسه، فمن باب أولى لا يصح أن يقيم غيره مقامه؛ لأنا قلنا: شرط الوكالة أن يكون الأصيل أهلاً للتصرف، فلا يستطيع أحد أن يوكل غيره وهو نفسه لا يجوز له أن يتصرف في الشيء، إذ يصير كما لو وكل في مال أجنبي، لو أن شخصاً قال لآخر: بع عمارة فلان، لم يصح؛ لأن عمارة فلان لفلان، وليس لأحد أن يتصرف فيها؛ لأنها ليست ملكاً إلا لصاحبها، قالوا: فإذا كان محجوراً عليه فليس بأهلٍ للتصرف، لا أصالةً ولا وكالةً.

الأسئلة

الأسئلة

حكم بيع اللحم معجلا في صورة التأجيل

حكم بيع اللحم معجلاً في صورة التأجيل Q إذا دخلتُ على صاحب اللحم وقلت له: زِنْ لي كيلو من اللحم وسأعود بعد ساعةٍ وآخذ اللحم وأعطيك المال، فهل هذا البيع صحيح، أم هو من جنس بيع النسيئة بالنسيئة؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإنه إذا دخل على صاحب المحل واتفق معه على البيع وأوجب البيع وتمت الصفقة فالبيع صحيح إذا توفرت فيه الشروط، وهذا البيع المذكور يعتبر صحيحاً من حيث الظاهر، إلا أن بعض العلماء يقول: يعتبر نسيئةً من الطرفين، إلا أنه من باب بيع العين بالذمة، العين وهو اللحم؛ لأنك قلت له: زِن لي من هذا اللحم نصف كيلو، فهذا بيع عين، بعشرةٍ، بخمسين، بمائة، هذا بيع ذمة، فأصبح ذمةً -وهو النقد- في مقابل عين -وهو اللحم- وهو بيع صحيح، أي: يجوز بيع العين بالذمة، إلا أن الإشكال فيه كما ورد في السؤال كونه يقول: بعد ساعة، فتعطيني بعد ساعة وأعطيك بعد ساعة، فهو لم يلتفت إلى كونه منجزاً من الطرفين؛ لأنه ليس بمؤجل الأجل المقصود، وإنما المراد به التنجيز، إلا أن التنجيز كان على العدة فأشبه بيع النسيئة، لكنه في الواقع ناجز من الطرفين، ويعتبر في حكم المنجز من الطرفين، وعلى هذا فالأشبه صحته، والله تعالى أعلم.

حكم أداء العمرة عن النفس وعن المتوفى في سفرة واحدة

حكم أداء العمرة عن النفس وعن المتوفى في سفرة واحدة Q خرجت من سفرٍ إلى مكة لأداء عمرةٍ عن نفسي، فهل يمكن لي أن أؤدي عمرةً أخرى عن والدتي المتوفاة ولم تحج؟ A هذا فيه تفصيل: إذا كنت خرجت من المدينة أو من مكانٍ خارج المواقيت وفي نيتك أن تعتمر عن نفسك وعن غيرك فيلزمك بعد فراغك من عمرتك عن نفسك أن ترجع إلى الميقات؛ لأنك مررت بالميقات وعندك نيتان، فيلزمك أن تحرم للنية الثانية كما يلزمك أن تحرم للنية الأولى من الميقات الأبعد. الحالة الثانية: أن تدخل معتمراً عن نفسك، فلما وصلت إلى مكة تذكرت والدتك أو والدك وأحببت أن تعتمر عن أحدهما أو عنهما، فيجوز لك أن تخرج إلى التنعيم وتحرم من التنعيم؛ لأنك أنشأت العمرة عن الغير بمكة، ومن أنشأ عمرته بمكة كان من أهلها لحديث عائشة رضي الله عنها، وظاهر حديث ابن عباس، وحتى إن أهل مكة يهلون من مكة، والله تعالى أعلم. بالنسبة للوالدة يجوز أن يعتمر عنها سواء حجت أو لم تحج؛ لأنه لا يشترط في صحة العمرة عن الوالدة أو عن الوالد إذا كانت الوالدة متوفاة، أو كانت حية لا تستطيع أن تأتي بنفسها، فإذا كانت الوالدة أو الوالد أو من تريد أن تحج عنه وتعتمر لا يستطيع أن يأتي بالعمرة والحج بنفسه فيجوز حينئذٍ أن تعتمر عنه، سواءً تقدمت العمرة على الحج أو تأخرت العمرة عن الحج، يعني: لا يضر أن تعتمر عن الوالدة وهي لم تحج بعد، لكن لو كانت الوالدة قادرة على أن تأتي بنفسها فلا تحج عنها ولا تعتمر وإنما يحج ويعتمر عن العاجز، إلا ما وقع فيه الخلاف في المسألة في الحج عن الغير إذا كان نافلةً، والله تعالى أعلم.

بطلان وكالة المحجور عليه لفلس

بطلان وكالة المحجور عليه لفلس Q المحجور عليه لفلسٍ، هل له أن يوكل؟ A المحجور عليه لفلس لا يصح أن يوكل في الأموال، وإنما ينتظر إلى زوال الحجر عنه. وقال بعض العلماء: يجوز ويصح للمفلس أن يوكل غيره للتصرف. والأشبه الأول لقوة الأصول الدالة على نزع التصرف في المال؛ لأنه لو أقام غيره مقامه فإن هذه الإقامة لا معنى لها؛ لأن هذا الغير لا يستطيع أن يتصرف، فأصبحت الوكالة لغواً، فإن صُححت ظاهراً أو شكلياً فهذا لا تأثير له في العقل؛ لأنه لا يستطيع أن يبيع ولا يستطيع أن يشتري، فيوكله بدون وكالة، فهو إذا قال له: وكلتك أن تبيع داري، فهو بنفسه لا يستطيع أن يبيع داره؛ لأنه محجور عليه للفلس، فهل هذا الوكيل سيبيع؟ بالإجماع لا يبيع، وإذا كان لا يبيع عنه فالوكالة وجودها وعدمها على حدٍ سواء، فالخلاف اللفظي لا تأثير له، والله تعالى أعلم.

النهي عن السفر يوم الجمعة

النهي عن السفر يوم الجمعة Q هل النهي عن السفر في يوم الجمعة لأجل الصلاة أم هو عامٌ لليوم كله؟ A هذه مسألة خلافية بين العلماء رحمهم الله: فبعض العلماء يقول: نُهي عن السفر يوم الجمعة حتى لا تضيع صلاة الجمعة، وبناءً على هذا القول: من كان مسافراً في الأصل كرجل سافر إلى مكة واعتمر، وأراد أن يرجع يجوز له أن يرجع في يوم الجمعة؛ لأن الجمعة ليست بواجبةٍ عليه أصلاً، وهكذا لو كانت امرأةً وأرادت أن تسافر فإنها تسافر؛ لأنها ليست من أهل الجمعة، فإذا قلنا: إن العلة هي صلاة الجمعة وخوف فواتها، فمن لا تلزمه الجمعة تتخلف فيه العلة، فيجوز له السفر بناءً على هذا القول، وبناءً على هذا القول يجوز له أن يسافر بعد صلاة الجمعة، فإذا صلى الجمعة جاز له السفر، وبعض أصحاب هذا القول قالوا: لو سافر يوم الجمعة وصلى الجمعة في حال سفره فإنه يجوز له ذلك ولا يشمله النهي. وأما القول الثاني فإنه يقول: النهي يشتمل على عدة علل منها: خاصية هذا اليوم وفضله، فيكون النهي أشبه بالعبادة، كأن يوم الجمعة يوم عيد للمسلمين وبناءً على ذلك فيه شعيرة فلا يخرج ولا يسافر وينتظر هذا اليوم حتى لا يُشغَل عن ذكر الله ولا يُشغل عن الطاعة، فإن المسافر تمحق بركة أيامه بالسفر: إياك والإكثار من أسفار فإنها تمحق بركة الأعمار فكثرة السفر تُذهب بركة الأيام وبركة الأعمار، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (السفر قطعة من العذاب)، وأمر صلى الله عليه وسلم من سافر أن يعجل بالأوبة إذا قضى حاجته، ولذلك قال: (فإنه يمنع أحدكم نومه وشرابه)، فعلى هذا قالوا: إنه إذا سافر يوم الجمعة شُغِل عن ذكر الله، فالمسافر يكون مرهق البدن مُتعباً، فلا يستطيع أن يذكر الله عز وجل في هذا اليوم الذي سُن فيه الذكر خاصةً كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك من الفضائل التي تكون للحاضر، وعلى هذا القول فيشمل السفر في أول النهار وآخر النهار، والحقيقة ظاهر الحديث العموم، فلا يسافر يوم الجمعة سواءً كان من أهل الجمعة أو لم يكن، إعمالاً أن هذا أحوط وأبرأ للذمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فما نهيتكم عنه فانتهوا) فالنهي ظاهره العموم، والأولى والأشبه بالمسلم ألا يسافر يوم الجمعة إلا من ضرورة ملحة، وحاجة قصوى ونحو ذلك، والله تعالى أعلم.

جواز الجمع بين المرأة وبنات عمتها وخالها وخالتها

جواز الجمع بين المرأة وبنات عمتها وخالها وخالتها Q هل يجوز الجمع بين المرأة وبنت عمتها، وكذلك بنت الخال والخالة أم أن الحكم يختص في الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها؟ A هذه المسألة فيها نص وفيها اجتهاد، أما ظاهر القرآن فإن الله حرم الجمع بين المرأة وأختها، فقال تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:23]، وكذلك حرمت السنة الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، ولم يزد النص الوارد في الكتاب والسنة على هذه المحرمات، ثم جاء نص القرآن بقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، فلما حرم لنا الجمع بين الأختين ثم جاءت السنة بزيادة المرأة وعمتها والمرأة وخالتها وقال الله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، أخذ من هذا جمهور العلماء جواز نكاح المرأة وبنت عمتها وبنت خالها وخالتها؛ لأن العمة والخالة ليست كبنت العمة وبنت الخالة، فالأمر أخف، وقطيعة الخالة ليست كقطيعة بنت الخالة، وقطيعة العمة ليست كقطيعة بنت العمة، ففرق بينهما من هذا الوجه، وهذا أقوى، وظاهر النص يدل عليه. وقال بعض العلماء: العلة خوف قطيعة الأرحام، فلا يجوز أن يجمع على وجهٍ يخشى منه وجود قطيعة الرحم، وهذا مذهبٌ مرجوح، والصحيح: أنه يجوز وقد قال الله عز وجل: (إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ) إلى أن قال: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ} [الأحزاب:50]، فهذا نص: (وبنات عمك) ولم يفرق على سبيل الجمع وعلى سبيل التفريق خاصةً وأن آية التحريم جاء فيها: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، فالأصل الحل حتى يدل الدليل على التحريم، لكن ينبغي للمسلم أن ينظر بعيداً، فإذا كان بين بنتي العم شدة حزازية، أو أن هذا سيصبح له حزازة في النفوس وأثرٌ سيء في المستقبل على أعمامه وعماته وأخواله وخالاته فليتق الله، فإن هذا في بعض الأحيان قد يغلب على الظن حصول المفسدة، وحينئذٍ لا نحرم من أصل الجمع ولكن نحرم لعارض، ألا ترى المرأة الآن حلالٌ لك أن تنكحها وهي أجنبية ولكن إذا علمت أن في نكاحها مفسدة أو أنها تفسد الرجل على أمه، أو أنها تحدث الفتن بين الأخوات أو بين النساء، وأنها امرأة نمامة أو تنقل الحديث حرمنا نكاحها لأنه سيضر بالرحم، لا لذاتها وإنما للعارض، فنحن نقول: الجمع بين بنت العمة مع بنت العم لا بأس، وبنت العمة، مع بنت العمة وبنت العم مع بنت العم لا بأس، لكن بشرط أن لا يغلب على الظن حصول الضرر في القرابة، من أمثلة ذلك: أن تعلم أن أم بنت العم هذه وأم بنت العم الثانية كلتاهما شريرة -مثلاً- فإذا دخلت بنت هذه مع بنت هذه فهذا سيحدث ضرراً بين أم هذه وأم هذه، فهذه لا يمكن أن ترتاح حتى تحدث مفسدة، وهذه أيضاً لا يمكن أن ترتاح حتى تحدث مفسدة، فالناس يقدرون الأضرار والمفاسد والشرور المترتبة على مثل هذا النكاح، فيكون التحريم لعارض لا لذات الحكم، والله تعالى أعلم.

مضاعفة الصلاة في الثلاثة المساجد عام في الفرض والنفل

مضاعفة الصلاة في الثلاثة المساجد عام في الفرض والنفل Q على القول بأن الفضيلة في الصلاة في المسجد الحرام مختصة بمسجد الكعبة فأيهما أفضل: صلاة النافلة في المسجد الحرام أم في البيت؟ A هذه المسألة اختلف فيها العلماء لورود حديثين: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاةٌ في مسجدي هذا بألف صلاة إلا المسجد الحرام)، الحديث، فهذا الحديث يدل على أن الصلاة في المساجد الثلاثة مفضلة ومضاعفة، فجاء حديث آخر يعارضه، وهو قوله عليه الصلاة والسلام في قيام رمضان حينما صلى فأحيا الليلة الأولى والثانية، ثم امتنع من الخروج عليه الصلاة والسلام لما اجتمع الناس بعد ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: (إنه لم يخفَ عليّ مكانكم بالأمس، ولكني خشيت أن تفرض عليكم، صلوا في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، فبعض العلماء يقول: الصلاة في المنزل نافلة أفضل من الصلاة في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم من المساجد المفضلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (إن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، نخص المضاعفة في المساجد الثلاثة بالمكتوبة، فلا تشمل النوافل، فالنوافل الأفضل أن تكون في البيوت، هذا قول. القول الثاني يقول: إن الحديث قال: (صلاةٌ في مسجدي هذا)، وهذه نكرة، لم يقل: (صلاة فريضة)، ولم يقل: (صلاة مكتوبة)، فكل صلاةٍ شرعية يصدق عليها هذا الوصف بالعموم فتشمل النافلة والفريضة، قالوا: وإذا ثبت العموم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (صلوا في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، قالوا: إن هذه فضيلةٌ من وجهٍ آخر، وهذا هو الصحيح، أن المضاعفة تشمل الفرائض والنوافل، وأن أفضلية البيت جاءت بلفظ؛ (فإن خير)، و (خير) بمعنى: أخير؛ لأن العرب تقول: خير وشر، بمعنى أفعل التفضيل، أخير وأشر، فتقول: محمد خيرٌ من علي، أي: محمد أخير من علي، ومنه قول أبي طالب: ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً نبياً كموسى خط في أول الكتب وأن عليه في العباد محبة ولا خير ممن خصه الله بالحب أصل التقدير: ولا أخير ممن خصه الله بالحب، فإذا أثبت أن: (خير) في لسان العرب بمعنى: أخير، فكأنها خيرية راجعةٌ إلى الإخلاص، فإن الرجل إذا صلى في بيته وجدناه يخلص أكثر، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (فإن خير)؛ لأن النافلة ليست بفريضة، فلو جلس يتركع في المسجد فإن هذا يحدث عند الناس شعوراً بصلاحه وتقواه وفضله، بخلاف ما إذا صلى الفريضة، فالكل يصلي الفريضة، فقال صلى الله عليه وسلم: (صلوا في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، أي: إنها من جهة الإخلاص وهذا راجعٌ إلى الباطن: (وصلاةٌ في مسجدي بألف صلاةٍ فيما سواه)، راجعٌ إلى ظاهر العدد، وشرط التعارض بين النصين عند الأصوليين: أن يتحد المورد، فالذي يترجح أنه ليس هناك تعارض بين الحديثين، وأن حديث: (إن خير صلاة المرء في بيته) راجعٌ إلى الإخلاص والنية، ويقول بعض العلماء: هناك خيرٌ ثانٍ وهو فضل الصلاة في البيوت؛ لأن البيوت إذا كثرت فيها الصلاة نزلت عليها البركة والخير، ويشهد بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فليجعل من صلاته في بيته، فإن الله جاعلٌ له من صلاته في بيته خيرا)؛ ولذلك كان بعض العلماء يوصي من كثرت عنده المشاكل الزوجية أن يكثر من الصلاة في بيته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن الله جاعلٌ له من صلاته في بيته خيراً)، وكان بعض العلماء إذا اشتكى إليه الرجل بالفتنة بينه وبين زوجه يقول له: إنك لا تصلي في بيتك كثيراً، أنت تقتصر على الفرائض في المسجد والبيت أشبه بالبيت الخرب؛ لأنه لا يتلى فيه كتاب الله، ولا يصلى فيه، فتسلط عليه الشياطين وتكون الفتن فيه أكثر. فالذي يظهر: أن المضاعفة في المسجد الحرام ومسجد الكعبة والمسجد الأقصى أنها كما هي شاملةٌ للفرض والنفل، وأما البيت فهو أفضل من جهة الإخلاص والله تعالى أعلم.

الحكمة من النهي عن التحلق يوم الجمعة

الحكمة من النهي عن التحلق يوم الجمعة Q حديث النهي عن التحلّق يوم الجمعة، هل هو خاصٌ بالمسجد أم هو عامٌ في كل مكان حتى المنزل؟ A هذا فيه تفصيل: بعض العلماء يقول: نُهي عن الحِلَق يوم الجمعة؛ لأنه يوم مخصوصٌ للخطبة، فالناس إذا جاءوا يوم الجمعة ولم يشهدوا إلا موعِظةً واحدة وتذكيراً واحداً وأتى الناس الذّكْر، وأقبلت على هذا الذّكْر، إذا لم تكن له من أول النهار إلى آخره إلا موعظة واحدة وعى وتأثر وهيأ نفسه للعمل، لكن إذا كان في أول النهار جالساً في حلقة وفي موعظة، ثم في المسجد من يعظ ثم بعده من يعظ؛ فإنه في هذه الحالة تشتت أذهان الناس، والنفوس قد يصيبها الملل والسآمة ولذلك قال الصحابي: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة)، فإذا كان هذا في الصحابة فمن باب أولى غيرهم. ومن هنا كره بعض العلماء أن يقوم الرجل بعد صلاة الجمعة ويلقي كلمة أو يعظ؛ لأن موعظة الإمام كافية في الأصل، وينبغي أن تترك الموعظة للإمام، لكن رخص بعض أهل العلم إذا كان الإمام ليس بذاك في العلم، وجاء رجل زائر أو ضيف وأحب أن يذكر الناس أو يعظهم فقالوا: لا بأس في هذا، لكن أن يكون بمجرد ما ينتهي الخطيب يقوم شخص موجود في الحي ويأتي بموعظة ثانية غير موعظة الخطيب، وقد يكرر ذلك المرة بعد المرة فهذا أشبه بالبدع والحدث، فيترك هذا اليوم لما شرعه الله عز وجل؛ لأن الإمام له حق، وإذا قام بعد الجمعة فكأنه يستدرك على الإمام، ولا بد أن تحفظ حرمة الأئمة، وأن يحفظ حقهم، خاصةً إذا كان الإمام من أهل العلم والفضل، فمثل هؤلاء حقهم على الناس عظيم، وعلى طلاب العلم وغيرهم، وعلى من دونهم في العلم والمرتبة، فالمقصود: أن الحِلق من هذا الوجه تكون مخصوصةً بحلق الذكر. الوجه الثاني: أنها عامة وتشمل حِلَق الذكْر وغيرها، وبناءً على هذا الوجه قالوا: كانوا في القديم يجلسون أبناء العم أو القبيلة أو الجماعة في ناحية وكانت هذه العادات موجودة في الجاهلية، كانوا إذا جلسوا يجلس كل جماعة إلى من يألفون وإلى من يجالسوه، فيكثر اللغط والحديث، فشرع في يوم الجمعة خاصة أن تقطع هذه الحِلق سواءً كانت في ذِكر أو كانت في الدنيا، وعلى هذا يكون النهي عاماً شاملاً لما قبل الصلاة وما بعدها، شاملاً للذكْر وغير الذكر على هذا الوجه الثاني، وظاهر الحديث يدل عليه، والله تعالى أعلم.

وصية في لزوم الصبر على طلب العلم

وصية في لزوم الصبر على طلب العلم Q هل من وصيةٍ حول الصبر على طلب العلم؟ وجزاكم الله خيرا. A الصبر خصلة جليلة كريمة لا يعطيها الله إلا لأحبابه، فالله يحب الصابرين ولا يعطيها إلا أولياءه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] ومن كان الله معه ثبته، وأعانه ووفقه وسدده، ولا يزال له من الله معينٌ وظهير، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن يتصبر يصبّره الله)، قال صلى الله عليه وسلم: (وما أُعطي عبدٌ عطاءً أفضل من الصبر)، وما يصبر الإنسان إلا بوازع من الرحمن وشعوره أن الله معه، وأن الله يثبته، وأن الله يوفقه ويسدده؛ ولذلك من قرأ كتاب الله وتدبر سيرة أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وجد الصبر سبيلهم، والصبر طريقهم، والصبر نوراً لهم، فالصبر ضياء، ضياءٌ في كل ظلمة؛ ولذلك تجد عزائم المؤمنين قوية، وشكيمتهم قوية في الشدائد والمحن بفضل الله ثم بالصبر، فتضيق عليهم الأرض بما رحبت، وتضيق عليهم بما فيها، ولكن الله يوسعها بالصبر، فتجد الرجل الواحد في وحشته كأنه أبلغ ما يكون في أنسه، وتجده في شدته وفي كربته وحزنه وكأنه في قمة سعادته وفرحه كل ذلك بتصبير الله. ومن هنا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (وجدنا ألذ عيشنا بالصبر)؛ لأن الصابر إذا صبر في تحصيل طاعة أو دفع كربة فإنه إنما يجعل الله نصب عينيه، فالله له عوضٌ عن كل فائت، والله سُلوةٌ له في كل حزن، وثبات له في كل قلق وكل أذية وبلية، فالصبر على طلب العلم صبرٌ على طاعة الله، وصبرٌ على مرضاة الله، والله أمرنا أن نصبر على طاعته، وخاصة نبي الأمة، وخير خلق الله، أحبهم إليه صلى الله عليه وسلم، وقال له: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، أمره أن يصبر ولا يأمر الله إلا بما فيه خير الدين والدنيا والآخرة، فطالب العلم أنعم الله عليه بشيءٍ هو أعز ما يطلب، وأشرف وأكرم وأفضل ما يرغب فيه ألا وهو العلم والحكمة، والنور والرحمة، والهدى والصراط المستقيم، وهل وجدت على هذه البسيطة وعلى هذه الأرض طالباً أشرف وأكرم على الله من طالب علم؟! فلن تجد مقاماً أفضل من مقام العلم طلباً وتعلماً وتعليماً وبذلاً وإعطاءً للغير، فالعلم رحمة، وإذا وفق الله طالب العلم وشعر بالذي يطلبه، وشعر بقيمة الشيء الذي يريده وأنه يخوض في رحمة الله، وأنه يسلك طريقاً إلى جنة الله، قال صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، صدق وبر صلى الله عليه وسلم، وعد من الله، ما طلب طالب علمٍ مخلصٍ لوجه الله علماً مما يُبتغى به وجه الله إلا سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما وجدنا أفضل من عطاء الله للعلماء بعد الأنبياء، فهم بخير المنازل بعد الأنبياء، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء)، فخليقٌ بمن أحس بقيمة العلم أن يصبر عليه، فقد صبر أهل المال على التجارة فتغربوا عن أوطانهم، وذاقوا شظف العيش وشدته ونكبته، ومذلة الحياة ومهانتها من أجل المال والدينار والدرهم، حتى إن الرجل إذا نظرت إليه كأنه يعبد ديناره ودرهمه -نسأل الله السلامة والعافية- فيحب من أجله، ويبغض من أجله، ويوالي فيه ويعادي فيه، ويكرم من أجله ويهين من أجله، حتى إن ابن عمه وقرابته الذي بينه وبينه لحمة النسب لربما دخل عليه وهو كبير في السن فلا يحترمه ولا يقدره لفقره، وإذا دخل عليه رجل -ولربما يكون من الكافرين- قام له وقبله وأجلسه وأكرمه؛ لأنه يعبد الدينار والدرهم، فيصل البعيد، ويقطع القريب من أجل الدنيا، والله عز وجل جعل الدين أعظم من هذا كله، فإذا كان أهل الباطل في هذه المودة والمحبة الصادقة للدنيا فو الله إن محبة أهل الدين أعظم، ومن عرف الله وأحبه صدق المحبة فليجعل العلم نصب عينيه، فمن تعب اليوم فإنه يرتاح غداً، ولذلك قال بعض السلف: (من كانت له بدايةٌ محرقة كانت له نهايةٌ مشرقة)، فأهل العلم لما تحملوا المشاق والمتاعب والمصائب، وعزفوا عن هذه الدنيا وأقبلوا على الآخرة إقبالاً صادقاً فتح الله لهم أبواب رحمته، وجعلهم يخوضون في هذه الرحمات بالعلوم النافعة والشافعة، وهي علوم الكتاب والسنة، وعلى هدي السلف الصالح وسلف الأمة، فأصبحوا يعيشون مع أقوام أموات وهم أحياءٌ بين الناس، وأصبحوا يعيشون مع: قال الله، قال رسوله عليه الصلاة والسلام، فلا إله إلا الله! لا يعلم مقدار ما لهم من الحسنات والدرجات في مضيهم إلى مجالس العلم، وحضورهم لمجالس العلم، وسماعهم للعلم، وتدوينهم للعلم، وحبهم للعلم وحرصهم على العلم إلا الله، وإذلالهم لأنفسهم من أجل هذا العلم، وكان حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه عبد الله بن عباس ينام على عتبة البيت، فيذلل نفسه للعلم حتى قال كلمته المشهورة: (ذللت طالباً وعززت مطلوباً)، ذللت طالباً وأنا أطلب العلم حينما صبرت، ولا يمكن أن ينال هذه المرتبة الشريفة إلا من صبر للعلم، وأدى لهذا العلم حقه وحقوقه، وحفظ للعلماء الأحياء والأموات حقوقهم، وأحبهم من كل قلبه لله وفي الله، وأحس بكرامتهم التي أكرمهم الله بها حينما جعلهم يحملون رسالته، ويبلغون أمانته إلى العباد؛ فإن العلماء بمنزلة هي أعظم وأفضل وأشرف وأكرم منزلة على الله عز وجل، ولذلك قال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [النساء:69]، وهذه أعلى منزلة في الجنة، فليس فوق النبي منزلة لولي ولا لغيره، فأعلى منزلة مَنزلة الأنبياء، فقال الله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} ثم بعدهم: {وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء:69]، والصديقون: هم العلماء العاملون الذين علموا وعلّموا وعملوا بما علموا، فنفعهم الله ونفع بهم أولئك الذين شهد الله أنهم لا يخسرون، شهد الله من فوق سبع سماوات أن خلقه في خسارة إلا قومٌ استثناهم فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:3]، فهؤلاء الذين أصلحهم الله في أنفسهم وعملوا الصالحات، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3]، فهذا هو الإصلاح وتبليغ رسالة الله والدلالة على الخير والفلاح، هؤلاء هم صفوة الله، قال الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، قال: هذا حبيب الله! هذا ولي الله! هذا صفوة الله من عباده، الذي علم وعمل ودعا إلى ما علم وعمل به. فإذا أراد الله عز وجل بطالب علم خيراً رزقه الأسباب التي تعينه على الصبر على هذا العلم، فالغاية الشريفة تحتاج من صاحبها أن يقدرها حق قدرها، وأن يتعب من أجل تحصيلها، فاصبر يصبرك الله، واسأل الله أن يعينك على هذا العلم، واعلموا -أيها الأحبة- أننا لو تأملنا حال السلف الصالح لاحتقرنا أنفسنا اليوم، فالرجل ما كان يحضر مجالس الذكر فقط، إنما كانوا يقرءون العلم قبل المجالس، فلا يمكن يشهد مجلساً حتى يقرأ ما فيه، إذا كان مما يُقرأ منه العلوم والأحاديث والأحكام يقرؤها المرة والمرتين والثلاث والأربع، وأعرف من طلاب العلم من لا يجلس مجلس علم حتى يقرأ ما يريد أن يسمعه من الشيخ ثلاث مرات، يقرأ قراءة متأنية متدبراً فيها، يحاول أن يعي هذا الكلام بشعوره بالمسئولية، وأن كل حرف سيسأل عنه وسيحاسب بين يدي الله، وأن هذا المجلس لا يتكرر. ثم يصبر مرةً ثانية على مجلس العلم فلربما جاءت أحكام غريبة، ولربما جاءت تفريعات كثيرة، فيصبر ويتحمل ففي اليوم الأول تحس أن بينك وبين العلم فجوة، وفي المجلس تحس بالفجوة، ثم اليوم الثاني يقربك ويقربك حتى يصبح أنساً لك من الوحشة ولذةً لك تنسيك كل لذة، فسلا أهل العلم عن لذة الدنيا بلذة العلم، والله إنهم في نزهة، وفي رحمة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، هذا العلم نعمة عظيمة، فإذا صبرت وأنت في مجلس العلم صبرك الله وبلغت، ثم بعد مجلس العلم كانوا يكتبون ويدونون ويراجعون، ولربما يجلس في ليلته تلك يراجع ما سمعه إلى قرابة منتصف الليل، ولربما سهر الليل كله، رحمةُ الله عليهم أولئك القوم! أبو عبيد القاسم بن سلاّم رحمه الله قام مع أحد علمائه ومشايخه على باب المسجد وأراد أن يذاكره مسألة، فقام في ليلةٍ شاتية فسأله المسألة، ففتح له فروعها فأصبح من فرعٍ إلى فرع ومن مسألةٍ إلى مسألة حتى أذن الفجر ولا يشعر الشيخ ولا تلميذه! أناس كانوا يعطون العلم كليتهم وقالوا: (أعط العلم كلك يعطك بعضه)، فكيف بمن أعطى العلم بعضه؟! ومن صبر للعلم صبره الله وثبته، فوالله لن يموت حتى يقر الله عينه بالعاقبة الحميدة لما بذل، فالله الله لطالب العلم أن يصبر! وعليه أن يعلم أنه يعامل الله جل جلاله، وأن يحمد الله. ومما ينبغي التنبيه عليه: شكر الله على النعمة، فإن المجلس الذي تجلسه لن يعود أبداً، وهذا العلم الذي تعلمه في الجزئية تشرح من كتاب قد لا تشرح بعد اليوم،، وقد يكون هذا المجلس الذي تجلسه هو آخر عهدك إما بالشيخ وإما بالناس، فلا يدري الإنسان ربما يموت هو أو ربما يشغل عن العلم، فكم من إنسان كان يتمنى العلم حيل بينه وبين العلم! فجاءه من شواغل الدنيا وفتنها ما يصرفه -نسأل الله العافية- عن العلم وطلبه، فاحمد الله عز وجل على نعمته، واسع في تحصيل هذا العلم، وابذل كل ما تستطيع من حبه والصدق في روضته ولكن لله، لا تفعل ذلك رياءً ولا سمعةً ولا طلباً للدنيا، وإنما ابتغاءً لمرضاة الله، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ذلك الرجل، ودائماً الإنسان يرجو من الله أفضل الأشياء، حتى لو كنت في مجلس العلم وأردت أن يصبرك الله على العلم فاجعل من نفسك أن تكون خير طالب في مجلس العلم وخير طالب إذا سمعت، وخير طا

باب الوكالة [4]

شرح زاد المستقنع - باب الوكالة [4] من تعاليم وضوابط شرعنا الحنيف: أن الله سبحانه سخر أناساً للقيام بخدمة الآخرين على وفق معايير وتصرفات معينة، مثل الوكيل إذا وكله موكله فإنه يتردد بين الوكالة العامة المطلقة، والوكالة الخاصة المحددة، ولذلك بين الشرع ما يجوز للوكيل فعله وما يمنع الوكيل من التصرف فيه.

ما يجوز للوكيل فعله وما يمنع منه

ما يجوز للوكيل فعله وما يمنع منه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومن وكل في بيع أو شراء لم يبع ولم يشتر من نفسه وولده] شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان مسألة الإطلاق والتقييد في الوكالة.

حكم بيع الوكيل وشراؤه من نفسه

حكم بيع الوكيل وشراؤه من نفسه إذا وكل الإنسان غيره أن يبيع أو يشتري فهل هذا على الإطلاق وهل يشمل الوكيل أو لا يشمله؟ فلو قلت لرجل: بع داري أو عمارتي أو أرضي أو مزرعتي أو سيارتي، فذهب وعرف أن قيمتها عشرة آلاف -مثلاً- فباعها واشتراها لنفسه، فهل يجوز للوكيل أن يشتري من موكله بالوكالة، أو لا يجوز؟ والعكس أيضاً: فلو قلت له: اشتر لي بعشرة آلاف سيارة من نوع كذا، وعنده سيارة بنفس الصفات ونفس القيمة، فباعك هذه السيارة من نفسه فهل يصح ذلك، أو لا يصح؟ وقبل بيان الحكم حتى تتضح صورة التوكيل نقول: إذا وكل الإنسان غيره فلا يخلو توكيله من حالتين: الحالة الأولى: أن يقيد في الوكالة. الحالة الثانية: أن يطلق في وكالته. فأما الحالة الأولى وهي أن يقيد في الوكالة: فيقول لك: بع سيارتي هذه بعشرة آلاف إلى فلان، فإذا حدد لك الشخص الذي تبيع السيارة عليه، أو حدد لك الشخص الذي تشتري منه السيارة، فلا يجوز للوكيل أن ينصرف إلى غيره لا في البيع ولا في الشراء، فإذا انصرف إلى غيره فقد خرج عن الوكالة، وصار التصرف تصرفاً فضولياً، حكمه حكم بيع الفضول وشرائه، وقد تقدم معنا حكم بيع الفضولي وشرائه، بناءً على ذلك: إذا كانت الوكالة مقيدةً بشخصٍ فلا يجوز صرفها إلى شخصٍ آخر سواءً في البيع أو في الشراء، فمثال البيع: أن تقول له مثلاً: بع سيارتي على فلانٍ بعشرة آلاف، أو بع أرضي على فلان بعشرة آلاف، فحينئذٍ يجب على الوكيل أن يتقيد بهذه الوكالة، وأن لا يصرف البيع إلى الغير، ولا إلى نفسه. أما بالنسبة للشراء: فكأن يقول له: اشتر لي سيارةَ فلانٍ أو اشتر لي عمارة فلانٍ، فلا يجوز أن يشتري عمارة غيره، ولا يجوز أن يشتري عمارة نفسه وجهاً واحداً. الحالة الثانية: أن يقول الوكيل: يا فلان! اشتر لي سيارةً من نوع كذا وكذا بعشرة آلاف، ولم يحدد لك المعرض الذي تشتري منه، ولا الشخص الذي تأخذ منه، فحينئذٍ يرد سؤالٌ فقهي عن الوكالة مطلقة، فالوكالة المطلقة لا تتقيد إلا بأحد أمرين: إما اللفظ، وإما العرف بالنسبة للمعاملات، وقد يدخل التقييد الشرعي، فإذا قال لك: اشتر لي سيارةً بعشرة آلاف، فهل هذا الإطلاق مقيد أو هو على الأصل من أنه مطلق؟ وللعلماء وجهان: بعض العلماء يقول: إذا قال لك: بع لي عمارتي بعشرة آلاف، أو بعها بقيمة السوق، فإنه قد أطلق، حتى لو أردت أن تشتري لنفسك فلا بأس؛ لأنه قال: بع، ومقصوده أن يحصل على الثمن، بغض النظر أن تكون أنت المشتري أو يكون غيرك، هذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله. المذهب الثاني يقول: إن الإطلاق من صاحب السيارة مقيدٌ بالعرف، وكأنه حينما قال لك: بع سيارتي بعشرة آلاف، كأنه يقول لك: بعها إلى غيرك، ولم يقصد أن يبيعها لك أنت، قالوا: فإذا اشتريتها أنت لنفسك خرجت عن الوكالة. فعندنا وجهان للعلماء: الوجه الأول يقول: من قال لك: وكلتك في أمرٍ أخذاً أو إعطاء فإنه يبقى على إطلاقه، حتى لو أردت أن تبيع وتشتري من نفسك فلا بأس، ويدخل في هذا التوكيل في الإجارات، فمثلاً: لو أن شخصاً أراد أن يصور مذكرةً أو كتاباً، فقال لك: يا فلان! صور لي هذا الكتاب بمائة ريال، أو صوره بسعر السوق، وعندك آلة تصوير، فذهبت وصورت الكتاب كاملاً وقيمة التصوير في السوق مائة ريال، وجئت وقلت له: التصوير يكلف مائة، فأخذت منه المائة، فهذه إجارة أيضاً، وكذلك لو وكلك على شيء قمت به بنفسك، كما لو قال: يا فلان! رتب لي هذه المكتبة بمائة أو بخمسين، فبدل أن يقوم ويأتي بشخصٍ أجنبي قام هو بنفسه ورتبها دون علم الموكل ودون إذنه. فالمسألة لا تختص بالبيع والشراء، بل حتى في الإجارة حينما يوكلك شخص على إجارة معينة فتقوم أنت بنفسك وتستأجر المحل، ولو قال لك: هذه شقتي أجرها بعشرة آلاف في السنة، فنظرت فإذا هي طيبة وتستحق أن تسكنها، فأخذتها لنفسك أو استأجرتها لولدك أو لزوجك أو لأحد قرابتك، لكنك أنت الذي توليت العقد، ففي هذه الصور كلها يأتي الوجهان للعلماء: من أهل العلم من يقول: الوكالة المطلقة تستلزم حصول الغرض، بغض النظر عن الشخص الذي يريد أن يبيع أو يشتري معه سواءً كان الوكيل أو غيره. الوجه الثاني يقول: إن الوكالة المطلقة مقيدة بالغير، فلا يصح للوكيل أن يدخل بين الموكل وبين الأجنبي. والذين يقولون: الوكالة المطلقة مقيدة، فلو قال لك شخص: بع السيارة، فلا يجوز أن تشتريها لنفسك، استدلوا بدليلين: الدليل الأول: قالوا: إن الإطلاق في اللفظ مقيدٌ بالعرف كما ذكرنا؛ لأنه قال لك: بع سيارتي بعشرة آلاف يقولون: ولو كان المراد أن تشتريها أنت لقال لك: يا فلان! اشتر سيارتي بعشرة آلاف، فكونه يخاطبك على وجه الإطلاق، فهذا الإطلاق المراد به الأجنبي عنك ولست داخلاً فيه. الوجه الثاني: أن التهمة تحصل للوكيل، فإن الوكيل ربما حابى لنفسه، فالنفوس مجبولة على جلب الخير لها ودفع الضرر عنها، وعقود البيع والشراء فيها غبن وغرر، والغالب أن الإنسان لا يدخل الضرر على نفسه لأجل موكله، بعبارةٍ أخرى: لو كانت السيارة قيمتها عشرة آلاف فستشترها بتسعة آلاف ونصف أو تشتريها بتسعة آلاف إلا ربع، أو يشتريها بتسعة، فقالوا: لو فتحنا للوكلاء أن يبيعوا ويشتروا لأنفسهم لأضر ذلك بأموال الناس، والشريعة جاءت بدفع الضرر، وليس كل وكيلٍ يكون أميناً في مثل هذا، هذا حاصل ما استدل به من منع. ومن أجاز وقال: يجوز لك أن تبيع وتشتري لنفسك، ويجوز لك أن تؤجر لنفسك، وأن تتولى الطرف الثاني للعقد، قالوا: إنه أطلق الوكالة، والقاعدة تقول: (المطلق يبقى على إطلاقه)، وهذا الإطلاق يشمل الوكيل؛ لأنه قال له: بع سيارتي ولم يقل: من غيرك، إنما قال له: بع سيارتي، فكما أن غيره يدخل في هذا الإطلاق، كذلك هو داخلٌ فيه. الوجه الثاني: أن المقصود من الوكالة هو بيع العمارة أو بيع السيارة أو حصول المنفعة، وليس هناك في الشريعة نظر للشخص الذي سيقوم بتلك المنفعة، فعندما قال لك: بع العمارة، لو كان له غرض في الشخص الذي يشتريها لكان قال: بع العمارة إلى فلان، بع العمارة إلى الضعفاء، أجر العمارة بخمسمائة للفقراء مثلاً، فلما كان مالك السلعة لا غرض له في الطرف الثاني وليس له مقصود في الطرف الثاني، وقال لك: بع العمارة، أو صوّر الكتاب، فالمقصود أن يحصل التصوير وأن يحصل البيع وأن يحصل الشراء بغض النظر عن الطرف الثاني، وهذا الوجه الثاني هو الصحيح: أنه يجوز للوكيل أن يتولى الشراء بنفسه والبيع لنفسه ولا حرج عليه، فإذا أعطاك رجلٌ مالاً على أن تشتري عمارةً أو سيارةً أو أرضاً فلا حرج أن تكون الطرف الثاني الذي يبيع، ولا حرج عليك إذا أعطاك أرضاً لكي تبيعها أو شقةً من أجل أن تؤجرها أن تكون الطرف الثاني المشتري أو المستأجر، والدليل على ذلك: أولاً: إطلاق اللفظ، والألفاظ معتبرة في العقود. ثانياً: قولهم: إن التهمة تلحقه؛ لأنه ربما حابى نفسه، نقول: نحن نشترط أن لا يكون الوكيل قد حابى نفسه، فنحن نصحح البيع ولكن نقول: بشرط أن لا يحابي نفسه، وأما قولهم: إن التهمة موجودة، فهذا لا يستلزم البطلان؛ لأنه ربما باع الوكيل إلى أحد قرابته، فلو أن الوكيل باع لأحد أقربائه فإن التهمة موجودة، لكن كونه يبيع بثمنٍ المثل هذا لا تهمة فيه، وبناءً على ذلك نقول: إذا اشتريت العمارة بثمنها، والسيارة بحقها، والأرض بقيمتها، فبيعك صحيح، وشراؤك صحيح، وعلى هذا يكون فيك طرفان من العقد: بائع من وجه ومشتر من وجه، بائع وكيلاً، ومشترٍ أصيلاً، بائع عن غيرك ومشترٍ لنفسك، أو بائع لنفسك ومشترٍ لغيرك، إذا عُرِفت هذه المسألة فهناك مسألة ثانية: إذا قلنا: يجوز للشخص أن يكون وكيلاً في البيع والشراء، فهل يشمل ذلك الحقوق المالية؟ فمثلاً: الحقوق المتعلقة بالعبادات، لو أن رجلا أعطاك مائة ألف، أو أعطى رجلاً مائة ألف وقال: أعطها للفقراء، أو للمستحقين زكاةً، وكان الشخص الذي هو وكيل فقيراً أو مديوناً أو مجاهداً فله سهم الفقر، أو سهم الغُرم إذا كان مديوناً، أو سهم الجهاد في سبيل الله إن كان من المجاهدين، فهل يجوز له أن يأخذ من هذا المال إذا وكّل بالزكاة؟ للعلماء أيضاً وجهان: الوجه الأول: لا يجوز له أن يأخذ من هذه الزكاة بل يدفعها إلى الغير حتى ولو كانت فيه صفة الغير. الوجه الثاني: يجوز، وهو الأقوى، إلا أن الأورع والأشبه أن لا يأخذ، والأفضل أن لا يأخذ؛ لأن المشكلة في الزكاة شبهة العبادة بخلاف مسألة البيع والشراء؛ لأن مسألة البيع والشراء المقصود: حصول الثمن، لكن الزكاة فيها شيء من التعبد، فالذي دفع الزكاة دفعها لغيرك بنية الغير ولم يدفعها بنية أن تكون لك، ولذلك هذه الشبهة تجعل الأفضل والأورع للإنسان أن يتقي ذلك وإن كان أصل المسألة في الوكالة صحيحاً؛ لأن المعنى الذي أجزنا به البيع والشراء ضعيفٌ في مسألة الزكاة، لذلك من حيث الورع الأولى أن لا يأخذ. الخلاصة: يجوز للشخص إذا وكل ببيع الشيء وشرائه أن يشتري لنفسه، ولكن بشرط أن لا يحابي، فلو قال رجل لرجل: بع سيارتي في السوق فذهب إلى السوق وحرج على السيارة أو أقام عليها مزاداً ووصلت إلى عشرة آلاف، فقال: أنا أشتريها، ودفع العشرة الآلاف صح ذلك، لكن الإشكال ليس هنا، فلو أنه أقامها في المزاد، وقيمتها عشرة آلاف، والذي زاد بالعشرة شخص معين، فقال: أنا أشريها بعشرة آلاف، فحينئذٍ يرد Q هل من حق الوكيل أن يأخذها لنفسه بعشرة آلاف؟ نقول: لا، حتى يزيد عليه؛ لأن هذا الرجل الذي زاد بعشرة آلاف يستحق السيارة، فإذا جاء الوكيل يزاحمه فقد استغل وكالته، وأخذ لحظ نفسه، فيدخل معه في المزاد كسائر الناس دفعاً للتهمة والريبة، وهكذا لو كان المبيع عمارةً أو أرضاً أو مزرعةً وكانت بالمزاد فإن الوكيل لا يأخذ بآخر المزاد إذا كان هناك من يرغب ووقف عليه المزاد إلا إذا نافسه، فإذا نافسه صح له ذلك. يبقى السؤال: لماذا نصحح للوكيل أن يكون بائعاً من وجه ومشترٍ من وجه أليس هذا تضاداً؟ فالإنسان إما بائعٌ وإما مشتر، فكيف نقول: يبيع السيارة لنفسه ويبيع الأرض لنفسه ويشتري لنفسه؟ قالوا: هذا لا إشكال فيه؛ لأنه يجوز أن يتولى الشخص الواحد طرفي العقد كما في ابن العم يتزوج اليتيمة تحت ولايته؛ فإنه زوج من وجه وم

حكم بيع الوكيل وشراؤه من ولده

حكم بيع الوكيل وشراؤه من ولده قال رحمه الله: [من نفسه وولده]. الإمام أحمد رحمةُ الله عليه روي عنه أكثر من رواية في هذه المسألة؛ فتارة المنع: فلا يجيز للوكيل أن يتولى طرفي العقد، وفي مسألة الزكاة منع من أن يأخذ من سهم الزكاة إذا كان الذي أعطى الزكاة عمم، وهذه الرواية التي فيها المنع اختارها المصنف رحمه الله واختارها القاضي، واختارها جمهرة من أصحاب الإمام أحمد، أنه لا يجوز للوكيل أن يكون بائعاً أو مشترياً، وكذلك لا يكون مستأجراً كما ذكرنا التفصيل في المسألة. لكن هناك رواية ثانية: أنه يجوز بشرط: أن لا يحابي نفسه، ويتولى الزيادة على السلعة غيره. وهناك رواية ثالثة ذكرها الزركشي رحمه الله، والذي اختاره المصنف وصاحب المختصر الخرقي -أنه لا يجوز، والصحيح ما ذكرناه من أنه يجوز، وإذا مشينا على ما قاله المصنف: لا يجوز للوكيل أن يشتري لنفسه ولا أن يبيع لنفسه، فهل أولاده مثله؟ فمثلاً: لو قال رجل لرجل: أجّر هذه الشقة أو هذه العمارة بعشرة آلاف في السنة، فجاء أحد أبناء الوكيل وقال: أنا آخذها بعشرة آلاف فهل له ذلك أو لا؟ عند من يمنع يقول: كذلك الولد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في فاطمة: (إنما فاطمة بضعةٌ مني) فدل على أن الولد جزءٌ من والده، فإذا منعت الوالد من شيء تمنع أيضاً ولده منه، قالوا: فلا يبيع لنفسه ولا لولده، ولا يشتري لنفسه ولا لولده، وهكذا قضية المكاتب، وكل الذي ذكره هنا مبني على أن فرع الشيء كالشيء.

حكم بيع الوكيل بالعرض

حكم بيع الوكيل بالعرض قال رحمه الله: [ولا يبيع بعرضٍ ولا نسأ ولا بغير نقد البلد]. هذه المسألة في الوكالة مثالها: أن يقول لك شخص: بع عمارتي أو بع سيارتي أو بع مزرعتي، فوكلك في البيع، فإذا وكلك في البيع فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يحدد لك القيمة والثمن المدفوع مقابل المبيع، فيقول لك مثلاً: بع عمارتي بمليون ريال، فحينئذٍ حدد لك المال، وحدد لك نوعية المدفوع وهو الثمن الذي هو من الفضة، فلا يجوز أن ينصرف الوكيل إلى الذهب، ولا يجوز أن ينصرف إلى نقدٍ ثانٍ من حيث الأصل، لكن إذا كان أفضل، فستأتي مسألة إذا كان الذهب أغلى، فبدل أن يبيعه بمليون ريال باعه مثلاً بأربعمائة ألف دولار، وهذا أكثر من المليون ريال، فهل يصح أو لا يصح؟ سيأتي إن شاء الله، لكن من حيث الأصل أنه إذا حدد لك الذهب أو الفضة أو قال لك: بع بذهب أو فضة، فإنه لا يجوز أن تنصرف إلى غيرهما وهو الذي يسمى بالعروض، فعندنا ثلاثة أشياء من المقابلات الأول: الثمن، وهذا يشمل الذهب والفضة. الثاني: العرض المنقول من غير العقارات، كالأطعمة والأكسية والأقمشة ونحوها. النوع الثالث: أن يكون من العقارات، فإذا وكل شخصٌ شخصاً أن يبيع شيئاً أو يشتري شيئاً بشيء آخر فهذا الشيء الآخر إما ثمن وإما مثمن، فإن كان حدد له الثمن وقال له: بع هذه الثلاجة -ونحن نضرب أمثلة لأشياء موجودة حتى تكون الصورة أوضح؛ لأن هذا هو الذي تعم به بلوى الناس، وهذا الذي يسأل الناس عنه، لكن لو مثلنا بأمثلة قديمة قد يخفى على الكثير- فمثلاً لو قال له: بع هذه السيارة بعشرة آلاف ريال، فليس من حقه أن يذهب ويبيع السيارة بسيارة أخرى؛ إذ يمكن أن يبيع السيارة بسيارة أخرى على سبيل المبادلة، والسيارة الأخرى عرض، فلا يجوز إذا حدد له الذهب والفضة أن ينصرف إلى العروض. ولو قال له: بالعروض، فما مثاله؟ مثاله ما هو موجود في محلات الاستبدال، كاستبدال السيارات، واستبدال الأجهزة الكهربائية، فلو قال للعامل في المحل: بع هذه الثلاجات الجديدة بثلاجات قديمة مضاعفة، يعني: الثلاجة الجديدة بثلاجتين من نوع كذا وحدد له، فلا يجوز أن يبيع بالنقد من حيث الأصل؛ لأنه أمره أن يبيع بالعرض، فإذاً: إذا وكله بالعرض يشمل مثلاً: الثلاجة بالثلاجة ويشمل العقارات، كأن تأتي إلى مكتب العقار، وتقول له: وكلتك أن تبيع أرضي في المدينة ببدل عنها في مكة، وتكون هذه القطعة (30×30) فيقول مثلاً: أريد قطعة (30×30) بدلاً عنها. فإذاً البدل هنا: عقار، فلا يجوز لمكتب العقار أن يبيع ويتصرف فيبيع بالنقد؛ لأنك عينت له المقابل من العقارات، فالمقابل إما أن يكون من النقد ذهباً كان أو فضة، أو من العقارات كالبيوت والعمائر والفلل والمزارع، تقول: بع مزرعتي هذه بمزرعةٍ في المدينة، بع عمارتي هذه بعمارة في جدة، فهذا عقار بعقار، وعرض بعرض كما ذكرنا، بع سيارة بسيارة من نوع كذا وكذا، فهذه ثلاثة أحوال. نرجع إلى الحالة الأولى وهي: أن يحدد له النقد من الذهب والفضة، إذا قال له: بع مثلاً بالذهب، والذهب من أمثلته الآن الأرصدة، فمثلاً: الدولارات رصيدها ذهب، الجنيهات: رصيدها ذهب، الريالات: رصيدها فضة، فإذا قال له: بع هذه السيارة بألف ريالٍ فقد عين الفضة، ولو قال له: بعها بألف جنيهٍ فقد عين الذهب، وإذا عين الذهب أو عين الفضة فإنه ينصرف إلى الذهب والفضة، لكن لو أطلق وقال له: يا محمد! بع سيارتي وسكت، فهذا إطلاق، فهل نقول: يجوز له أن يبيعها بالنقد، أو يبيعها بالعرض، أو يبيعها بالعقار أم أن هذا المطلق يتقيد بالعرف؟ A يتقيد هذا المطلق بالعرف، فلو أتيت إلى مكتب العقار فقلت: بع أرضي وسكت، فنعلم جميعاً أنها تباع بالريالات، وبناءً على ذلك يتولى بيعها بالنقد الذي هو الثمن من الفضة. لكن لو كان هناك عملتان فمثلاً: عندنا ريالات ودولارات، والناس يتعاملون في بلدٍ ما بعملتين على حدٍ سواء، فإذا كانوا يتعاملون بعملتين كالريالات والدولارات فإننا ننظر إلى الأكثر رواجاً، فإذا قلت له: بع سيارتي بعشرة آلاف فهمنا أنها ريالات؛ لأنها أكثر رواجاً، لكن لو أن النقدين استويا مثل ما يقع الآن في الأسواق الحرة بين الدول، تكون هناك أسواق حرة يتعامل فيها بنقد البلدين، مثلاً: دولتان جارتان تتعاملان مع بعضهما، وتكون هناك سوق مفتوح بينهما، فما تستطيع أن تقول: إن الغالب عملة هذا البلد أو هذا البلد، فلو أن شخصاً بعث شخصاً إلى هذا السوق، وقال له: اشتر لي بعشرة آلاف سيارة، فهل ينصرف إلى الريالات أو إلى الدولارات؟ يتقيد بعرفه إن كان خاطبه بعرفه، فلو قال له ذلك في بلدٍ يتعامل بالريالات فإنه يتقيد بالريالات، وإن خاطبه في بلدٍ فيه الدولارات فإنه يتقيد بالدولارات، أما لو أنه خاطبه في نفس السوق أو في الموضع الذي يتردد فيه الثمنان فحينئذ يخير الوكيل بين الريالات والدولارات بأيهما باع. وعلى هذا: يصح بيعه وينفذ إذا كان بالريالات، ويصح بيعه وينفذ إذا كان بغيرها. فيقول رحمه الله: (ولا يبيع بعرض). بناءً على ذلك: لو أن رجلاً اشتكى رجلاً وقال: أعطيته سيارتي يبيعها في السوق، وقلت له: بع سيارتي، فذهب وباعها بعشرة آلاف ريال، وأنا قصدت أن يبيعها بسيارة مثلها، فهل تقبل دعواه؟ الجواب: لا تقبل؛ لأن الإطلاق منصرف إلى الغالب، والغالب أنها تباع بالريالات، فالذي يريد عرضاً يُقيد النادر بقيده فيقول: بع هذه السيارة بمثلها، لكن لما قال له: بعها وسكت، فالجاري في العرف أن تباع بريالات، لكن لو أن هذا السوق معروف أنه لا يتبايع إلا بالبدل، مثل ما يقع في الأسواق التي تختص بالمبادلات أو كان -مثلاً- في بيئة يعز فيها وجود الذهب والفضة، وتجدهم غالباً يتبايعون بالبدل، فحينئذٍ إذا باع بالبدل صح بيعه؛ لأن العرف يقيد هذا الإطلاق، وكما يقيده بالذهب والفضة فإنه يقيده بالعروض.

حكم بيع الوكيل إلى أجل

حكم بيع الوكيل إلى أجل قوله: (ولا نسأ). النسأ: التأخير، يقال: أنسأ إذا أخر، والنسيئة التأخير، قال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37]؛ لأن كفار قريش كانوا يؤخرون الأشهر الحرم عن وقتها، والمراد بالنسيئة: بيع التقسيط وبيع الأجل، وبيع التقسيط فيه شبه إجماع عند العلماء على جوازه، يعني: شبه الإجماع على جواز بيع التقسيط، وليس من بيعتين في بيعة، فهذا شيء، وبيع التقسيط شيءٌ آخر، ولا يكون بيع التقسيط من بيعتين في بيعة إلا إذا افترق المتعاقدان دون أن يحددا إحدى الصفقتين، أما إذا حددا هل هو بالنقد أو التقسيط فحينئذٍ لا إشكال، وهذا أفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حينما سُئِل عن بيع الرجل بتسعة حاضرة وعشرة إلى أجل، فقال: (لا بأس إذا عين)، كما رواه عبد الرزاق في المصنف وغيره، كما حكى ابن سيرين عمل السلف رحمهم الله، وما جاء عن سماك، فـ سماك من أتباع التابعين، وليس مثله معارضاً لمن هو أعلم منه كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين، وعلى ذلك الأئمة الأربعة كلهم، وكذلك الظاهرية، أنه إذا حدد إحدى البيعتين فليس من بيعتين في بيعة، إنما بيعتان في بيعة إذا قال له: بيعة بالنقد وبالتقسيط، وافترقا دون أن يحددا، فأصبح عقدان في عقدٍ واحد، أما إذا حددا فلا إشكال، فنحن نقول: بيع النسيئة كبيع التقسيط وبيع الأجل، يقول المصنف: (ولا نسأ)، يعني: الشخص الذي تقيمه في المحل أو في المتجر يبيع لك البضاعة أو يبيع لك السلع إذا وكلته بالبيع فلا يجوز أن يبيع بالدين إلا إذا أذنت له، فإذا أذنت له أن يبيع بالدين جاز، أما إذا لم تأذن له فلا يجوز. ولو قلت له: بع، وسكتَّ، فهل هذا الإطلاق يبقى على ما هو عليه فيصح أن يبيع بالدين وبالنقد أو لا؟ قالوا -وهذا هو الأصح عند العلماء، ومذهب الجمهور-: إن الإطلاق ينصرف إلى الحلول، هذه قاعدة عندهم في هذه الإطلاقات، أن إطلاق النسيئة والنقد ينصرف إلى النقد، فإذا قال شخص لآخر: بع سيارتي، فهذا الإطلاق منصرفٌ إلى النقد، وبناءً على ذلك لا تخلو المسألة من صورتين: الصورة الأولى: أن تقول له: بع سيارتي هذه بعشرة آلاف نقدا، أو بع بضائع هذا المحل بالنقد ولا تبع بالدين، فلا يجوز له أن يبيع بالدين، فإذا باع بالدين وقد نهيته عنه لزمه أن يدفع الثمن حالاً، ويكون وجهه على من باعه بالدين، مثال ذلك: لو قلت له: بع هذه السيارة بعشرة آلاف نقداً فباعها نسيئة، فقال طائفة من العلماء: يصحح العقد، على القول بأن الضرر لا ينفي الصحة، ثم يلزم الوكيل بدفع العشرة آلاف، ويبقى وجهه لمن أعطاه إياه نسيئة، قالوا: لأنه تصرف خارج عن الوكالة. وقال طائفةٌ من العلماء: إذا أقمته في المحل وقلت له: بع نقداً ولا تبع نسيئةً، فباع نسيئةً بطل البيع، وهذا أقوى، أنه يبطل البيع ويفسخ، ويرد المتاع إلى صاحبه، ولا يصحح العقد على هذا الوجه، هذا بالنسبة لمسألة النسيئة والنقد، وعلى هذا فليس من حق الوكيل أن يبيع نسيئةً إلا إذا أذن له موكله.

حكم بيع الوكيل بغير نقد البلد

حكم بيع الوكيل بغير نقد البلد قوله: (ولا بغير نقد البلد). إذا قال له: بع بعشرة آلافٍ، فإنها تنصرف إلى نقد البلد، ولذلك يقولون: (المعروف عُرفاً كالمشروط شرطاً)، فإذا قال له: بعها بعشرة آلاف، في بيئة تتعامل بالريالات، انصرف إلى الريالات وأصبح الإطلاق مقيداً بالعرف.

حكم الوكيل إذا باع بدون ثمن المثل أو دون ما قدره له الموكل

حكم الوكيل إذا باع بدون ثمن المثل أو دون ما قدره له الموكل قال رحمه الله: [وإن باع بدون ثمن المثل أو دون ما قدره له، أو اشترى له بأكثر من ثمن المثل، أو مما قدره له صح وضمن النقص والزيادة]. (وإن باع بدون ثمن المثل). هذه المسائل يخرج فيها الوكيل إلى الضرر، فتارةً يدخل الضرر عليك بزيادة الثمن الذي يشتري به، وتارةً يدخل الضرر عليك بالنقص في الثمن الذي يبيع به، فالوكيل له حالتان: الحالة الأولى: أن توكله بالبيع أو بالتأجير، فتقول له: بع السيارة بعشرة آلاف أو أجر هذه العمارة بعشرة آلاف، هذا كله توكيل بالبذل، وتارة توكله بالأخذ فتقول له: اشتر لي سيارة بعشرة آلاف أو استأجر لي عمارة بعشرة آلاف، ففي كلتا الصورتين إذا التزم قولك فلا إشكال. وقد يخرج عن قولك بضرر أو بمنفعة، كأن تقول له: اشتر لي سيارة بعشرة آلاف، فيذهب ويشتريها بتسعة آلاف، هذا خروج بمنفعة، أو تقول له: اشتر لي سيارة بعشرة آلاف، فيشتريها لك بأحد عشر ألفاً هذا أخذ بضرر، تقول له: أجر لي هذه العمارة بعشرة آلاف، فيؤجرها بإحدى عشر ألفاً، فهذا أخذٌ بمنفعة، فإن أجرها بتسعة آلاف فهذا أخذٌ بضرر، فإذا خرج الوكيل عن الوكالة التي وكلته إياها بالتقييد باللفظ أو بالعرف الذي عليه ثمن المثل، كأن تقول له: أنت في المحل أو في البقالة وكلتك أن تشتري بضائع الوكالة وتبيعها للناس، فأنت إذا قلت له: وكلتك أن تجلس في المحل تبيع وتشتري فقد أطلقت له أن يتصرف في حدود المصلحة، فليس من حقه أن يشتري شيئاً بأكثر من قيمته، وليس من حقه أن يبيع شيئاً في البقالة بثمنٍ أقل من قيمته، فمثال الأول: لو أقمته في معرض سيارات، ووكلته أن يشتري هذه السيارات وقيمتها في السوق -مثلاً- بنصف مليون، فأقمته يشتريها، فذهب واشترى عدداً من السيارات بستمائة ألف، فأدخل عليك الضرر في حدود مائة ألف في الشراء، أو يبيعها وتكون السيارات تباع بمليون فيبيعها بتسعمائة ألف فيدخل عليك الضرر بمائة ألف. في هذه الحالات يرد Q في باب الوكالة -ومن عادة العلماء أن يبحثوا في هذه المسائل-: الوكيل إذا تجاوز الحدود المعتبرة في الوكالة فأدخل الضرر آخذاً أو معطياً، فهل الذي يتحمل الضرر هو أنت -صاحب المحل والأصيل الموكل- أم أن الذي يتحمل الضرر هو الوكيل؟ لأنك أذنت له فيما لا ضرر فيه، فتصرف بما فيه ضرر فهل يتحمل مسئولية تصرفه، هذه هي المسألة. وعلى هذا: يحتاج الأمر إلى التفصيل من حيث المنفعة والمضرة، فابتدأ المصنف رحمه الله بالضرر، وهو أن يتصرف الوكيل بالبيع والشراء ويدخل الضرر عليك في البيع والشراء، فتقول له: بع سيارة بعشرة آلاف فيبيعها بتسعة آلاف، أو تقول له: بع سيارة، وتسكت، والسيارة تباع بعشرة آلاف فباعها بتسعة، فهل يضمن أو لا يضمن؟ قال رحمه الله: (وإن باع بدون ثمن المثل). وثمن المثل: هو المعروف في السوق أنه لمثل هذه السيارة، فالأصل يقتضي أن يبيع بثمن المثل، والإطلاق بقولك: بعت، يقتضي التقيد بالعرف، وهذا كله مندرج تحت القاعدة التي سبق التنبيه عليها والتي تقول: (العادة محكمة)، وهي إحدى القواعد الخمس التي انبنى عليها الفقه الإسلامي، (العادة محكمة)، أي: أننا نحتكم إلى عرف المسلمين وعوائدهم في متاجرهم وأسواقهم، ونحتكم إلى أهل الخبرة فيما يقولونه في البيوعات، وكذلك في الشراء في ثمن المثل، فنسألهم: هذه العمارة لو بيعت كم قيمة مثلها؟ قالوا: مليون، فباعها بتسعمائة ألف، يتحمل ذلك الوكيل الضرر الذي هو المائة الألف. (أو دون ما قدره له). عندنا صورتان: إما أن تحدد له القيمة فيبيع بأقل، أو تطلق فيبيع بأقل من ثمن المثل، لكن في الحقيقة كونك تقدر له الثمن أكثر من قضية ثمن المثل؛ لأن ثمن المثل في بعض الأحيان تكون قيمة العمارة مليوناً، وهناك شيء يسمى الغبن، فتكون العمارة تستحق هذه القيمة التي هي المليون، لكن قد يتسامح بعض الناس ويبيع بتسعمائة وخمسين ألفاً، فمعناه: أن هناك شبهة في الخمسين الألف، فعندنا شيء يسمى: ثمن المثل، وعندنا شيء يسمى: الغبن بالمثل، أي: فيما يتغابن بمثله الناس، فلا ننظر فقط إلى قضية المليون، بل الأمر يرجع إلى أهل الخبرة، ونسأل أهل العقارات إن كان المبيع عقاراً، وأهل الأطعمة إن كان المبيع طعاماً، وأهل السيارات إن كان المبيع سيارةً، وهذا الذي يقول عنه العلماء: يسأل عنه أهل الخبرة، فإذا كان المبيع قيمته -مثلاً- في حدود خمسمائة ألف، وممكن لشخص أن يبيعه بأربعمائة وخمسين ألفاً، لكن ما يبيع بأقل من أربعمائة وخمسين إلا رجل لا يحسن البيع، فإذا باع بأقل من أربعمائة وخمسين ألفاً كانت عليه المؤاخذة، وإذا كان في حدود ما بين أربعمائة وخمسين إلى نصف مليون فالأمر أخف، وهذا هو الذي يفرق فيه بين ثمن المثل وبين التخفيف.

حكم الوكيل إذا اشترى بأكثر من ثمن المثل أو مما قدره له الموكل

حكم الوكيل إذا اشترى بأكثر من ثمن المثل أو مما قدره له الموكل قال رحمه الله: (أو اشترى له بأكثر من ثمن المثل أو مما قدره له صح وضمن النقص والزيادة). هنا إشكال: قلت لرجل: اشتر لي قطعة أرض في المخطط الفلاني بمائتي ألف، فذهب واشترى لك أرضاً في مخطط بمائتين وخمسين ألفاً، ثم جاء وقال لك: اشتريت لك قطعة أرض بمائتين وخمسين ألفاً، فقلت له: يا أخي! وكلتك أن تشتري لي بمائتين، فالسؤال الآن: إن جئنا ننظر إلى الوكالة فهي بمائتي ألف، فالأصل يقتضي أن البيع غير لازم وغير صحيح بالنسبة للموكل، لكن بالنسبة للوكيل الذي هو مكتب العقار الذي اشترى الأرض بمائتين وخمسين ألفاً، فيه وجهان: الوجه الأول: نقول: في الواقع أن هذا المكتب كأنه اشترى لنفسه، فحينئذٍ نقول: صح البيع وتصبح الأرض في الحقيقة مشتراة لصاحب المكتب؛ لأن الوكالة لأرض بمائتي ألف، فإذا ذهب يشتري أرضاً بمائتين وخمسين، بل لو كان ريالاً واحداً زائداً عن الوكالة فقد خرج عن الوكالة، كما لو اشترى شيئاً أجنبياً. فنقول: بناءً على ذلك: يكون الوكيل هو المتحمل لهذه الأرض، ويصح البيع على ذمته هو، فتصبح الأرض ملكاً لمكتب العقار. الوجه الثاني: نصحح البيع؛ لأن الوكيل اشترى لفلان، والخمسون الألف يغرمها صاحب مكتب العقار، ويكون البيع صحيحاً ويضمن صاحب مكتب العقار الخمسين؛ لأنه أدخل الضرر على نفسه على بصيرة، فهو اشترى ونيته لفلان، فعلى هذا كأنه تنازل عن الخمسين لفلان، فإن شاء فلان أن يعطيه الخمسين أعطاه، وإن شاء أن لا يعطيه فلا يعطيه، فالعقد لما أبرم والصيغة لما وقعت بين الطرفين وقعت ملكاً لفلان، وهذا من حيث الأصل في الحقيقة قوي جداً، أن العقد تم على أن السلعة مباعة لفلان، والبائع باعها لفلان، والوكيل قبل عن فلان، فأوجب الصفقة وتمت بمائتين وخمسين ألفاً، وقد رضي على نفسه؛ لأنه علم أن فلاناً أعطاه مائتين في الأرض، فإذا ذهب يأخذها بمائتين وخمسين ألفاً فقد أدخل على نفسه الضرر، وبناءً على ذلك يضمن الزيادة ولا يضمنها الموكل، وهذا هو الذي اختاره الأئمة رحمهم الله ودرجوا عليه، والقاعدة تقول: (الإعمال أولى من الإهمال)، وتفرع عليها قولهم: (تصحيح العقود ما أمكن). فصاحب مكتب العقار عندما يذهب يشتري لك الأرض سيقول: بعني يا فلان! هذه الأرض لفلان، قال له: بكم؟ قال: بمائتين وخمسين ألفاً، قال: قبلت، تم البيع بمائتين وخمسين ألفاً لفلان، فمعناه: أن الإيجاب والقبول عقد، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فهذا الإيجاب والقبول لا يسقط، وهذا معنى قولهم: (الإعمال أولى من الإهمال)؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فيصح العقد ويتحمل صاحب المكتب غرامة الخمسين، فإن شاء صاحب الأرض أن يعطيه إياها عطاه، وإلا فليس بملزم بإدخال الضرر على نفسه، وهكذا في البيع. قال رحمه الله: [وإن باع بأزيد أو قال: بع بكذا مؤجلاً، فباع به حالاً، أو اشترى بكذا حالاً، فاشترى به مؤجلاً ولا ضرر فيهما، صح وإلا فلا]. قال رحمه الله: (وإن باع بأزيد). هنا المسألة على خلاف المسألة السابقة، الأولى غرم، والثانية غنم، والأولى خسارة، والثانية ربح، أنت وكلت -وبعض الوكلاء فيه عقل وحسن نصيحة- فقلت له: بعها بعشرة آلاف، فباعها بعشرين ألفاً، وقلت له: بع نسيئةً فباع حالاً، فهذا لا شك أن ثمن الحال أفضل من المؤجل؛ لأن المؤجل ربما أفلس المديون، ولربما ماطلك، ولربما تأخر في سداد حقك بسبب غياب أو سفر أو ظروف تلم به، فمن مصلحتك أن يكون الثمن حالاً، قلت له: يا فلان! بع هذه السيارة بعشرين ألفاً إلى نهاية السنة، فذهب وباعها بعشرين ألفاً نقداً، من مصلحتك أن تأخذها نقداً، فهنا المسألة على خلاف المسائل المتقدمة وهي مسائل الربح، وهي تحتاج إلى شيء من التفصيل يأتي الكلام عنه إن شاء الله.

الأسئلة

الأسئلة

التفصيل في خيار المجلس متى يثبت

التفصيل في خيار المجلس متى يثبت Q هل خيار المجلس يثبت في سلعةٍ تحتاج إلى تجهيز ومئونة وكلفة من قبل البائع أم ليس من حق المشتري ذلك؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فخيار المجلس ثابتٌ للطرفين ما دام في مجلس البيع والشراء والعقد، فإذا كانت السلعة تحتاج إلى نقل فلا يخلو من حالتين: إذا تم الإيجاب والقبول في مجلس العقد، وافترقا من أجل أن تنقل السلع، وذهب البائع والمشتري، وفارق أحدهما الآخر فراقاً مؤثراً فقد تم البيع ووجب، وانقطع خيار المجلس. لكن لو قال له: بع لي سيارتك بعشرة آلاف أو قال له: عندي سيارة بعشرة آلاف قال له: ما نوعها قال له: نوعها كذا وكذا، وصفاتها كذا وكذا، فلما أعطاه صفات السيارة قال: قبلت، فقاما سوياً مع بعضهما، ونظرا إلى السيارة وقلب السيارة وتأمل فيها ولم يفترقا، وبعد أن نظر فيها قال: لا أريد، مع أن الوصف لم يختلف؛ لأنه في هذه الحالة يكون فيها خياران: خيار المجلس من وجه، وخيار الصفة؛ لأن بيع الغائب فيه خيار الصفة كما بينا، لكن عند من لا يقول بخيار الصفة نقول: يبقى خيار المجلس كما هو مذهب الشافعي رحمه الله، فإذا كانا في مكانٍ واحد ولم يفترقا ولو ساعات طويلة لتقليب السلعة ونحوها فإن البيع لا يلزم إلا بالافتراق على ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) والله تعالى أعلم.

حكم من وكل شخصا في طلقة واحدة فطلق عنه ثلاث تطليقات

حكم من وكل شخصاً في طلقة واحدة فطلق عنه ثلاث تطليقات Q إذا وكل شخصٌ آخر بتطليق امرأته ولم يقيد عدد الطلاق ولكن في نيته أنها تكون طلقةً واحدة، ولكن الموكل طلق ثلاثاً، فما الحكم ديانةً وحكما؟ A في الحقيقة مسائل الطلاق توكل إلى القضاء، خاصةً إذا كانت مسائل خلافية، فمثل هذه المسائل يقع فيها إشكال بين الناس، خاصة في الأزمنة المتأخرة بسبب وقوع الفتن في الطلاق، وتتبع الناس الرخص، فيأتي فيسأل هذا فيقول له: لا يقع الطلاق، ويسأل هذا فيقول: يقع الطلاق، فيصبح الناس في حيرة من أمرهم، فأهل الزوجة استفتوا من يقول: هي حلال، وأهل الزوج استفتوا من يقول: هي حرام، فحينئذٍ يحدث شيء من التضارب في الفتاوى، والإزعاج للناس، إضافةً إلى قلة الأمانة إلا عند قليل من الناس في هذه الأزمنة بالنظر إلى السواد الأعظم من الناس، فإنك تجد الرجل إذا أراد أن يسأل غيّر في السؤال، وقدم في الألفاظ، ومسائل الطلاق ربما حرف واحد يغير فتوى بكلها فقول: أنت طالقٌ طالقٌ طالق، ليس كأنت طالق وطالق وطالق وهو حرفٌ واحد، وأيضاً لو قال: أنت طالق، ثم سكت ثم قال: طالق، ثم سكت، ثم قال: طالق، ليس كقوله: أنت طالق طالق طالق، فمسائل الطلاق مسائل مهمة، وتحتاج إلى شيء من الروية، ولذلك طلاب العلم عليهم أن يكونوا على بصيرة، وأذكر أن الوالد -رحمة الله عليه- كان يمتنع من الفتوى في الطلاق، ويرد ذلك إلى القضاء؛ لأن ذلك أبلغ في زجر الناس، فلابد أن تعرف حقيقة السؤال، وغالباً في القضاء يحضر الرجل وتحضر المرأة، ويعرف ما الذي قاله الرجل، وما الذي تلفظ به. كذلك أيضاً إذا كانت الفتوى عن طريق المفتي أو نحوه فيمكن معرفة حقيقة الأمر على وجه تندفع به المفسدة، ويؤمن به تلاعب الناس بدين الله عز وجل، فإن الناس ربما أخذتهم الحمية والعاطفة فأصبح الرجل يغير في سؤاله وفتواه حتى ولو علم أنها محرمةٌ عليه والعياذ بالله، ولقد جاءني من ذكر لي مسألة في الطلاق يكاد يكون الإجماع فيها على تحريم المرأة، فسألني إياها بطريقة عجيبة لا تشك أنها طلقةٌ واحدة، وأنها لا تحرم عليه، ولكن تلاعب في اللفظ وتلاعب في الصيغة ولم أفته، لكن لما استقصيت حتى أعرف حقيقة الأمر إذا باللفظ الذي قاله أولاً ليس كاللفظ الذي قاله في أوسط الكلام، وليس كاللفظ الذي قاله في آخر الكلام، هذا واقع وهذا موجود، ومن تعاطى هذه المسائل يعرف ذلك، ولذلك تأدباً مع مشايخنا والعلماء الأجلاء يترك الأمر لكبار العلماء في مثل هذه المسائل، وهذا الذي درج عليه العرف أن تترك الفتوى للعلماء الكبار في مثل هذه المسائل. ومن فائدة هذا أيضاً: تعريف الناس بقدرهم، فرجوع الناس إلى العلماء الكبار وسؤالهم في المسائل التي تتصل بها بيوتهم يشعرهم بحق العلماء ومكانتهم، فهناك عدة أمور تدعو إلى مثل هذا؛ ومثل مسألتنا هذه بعض العلماء يقول: إذا وكله فإنها تطلق، فإذا طلق طلقةً واحدة انقطعت وفسخت الوكالة؛ لأنه وكله أن يطلق، وأقل ما يصدق عليه الطلاق طلقةٌ واحدة، ومنهم من يقول: ينظر إلى الأكثر، وهذا مبني على: هل العبرة بالألفاظ والإطلاقات بأكمل ما يصدق عليه الوصف أو بأقل ما يصدق عليه الوصف؟ فإن قلنا بالأقل فالعبرة بالطلقة الواحدة، وإن قلنا بالأكثر فالعبرة بالأكثر إلا أن يقيدهُ بواحدة، والله تعالى أعلم.

بيان أن العقود لا تجري على صيغ معينة

بيان أن العقود لا تجري على صيغ معينة Q ذكرتم أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بيّن أن أصول الشريعة لا تلزمنا في العقود بلفظٍ معين أو صيغة معينة إلا إذا دلّ الدليل على ذلك، نريد من فضيلتكم بياناً عن ما دل عليه الدليل بالإلزام في العقود؟ A هذه المسألة تكلم عليها شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه النفيس: القواعد النورانية، وذكر فيه القواعد الفقهية وأصول أهل الحديث، وأصول أهل الرأي، وبيّن رجحان مذهب أهل الحديث في مسائل العبادات والمعاملات في كتابه هذا الذي يسمى بالقواعد النورانية، وهو مطبوعٌ موجود، فبالنسبة لمسألة التقيد بالألفاظ في العقود فالرجل حينما يوكل غيره ويقول له: وكلتك في شراء أو بيعٍ يقول: إن الأمر يرجع إلى ما تعارف عليه الناس، ولا يحتاج الأمر إلى لفظ معين يتقيد به، وضرب لذلك أمثلة، فمثلاً: قال رحمه الله: إن السلف يكاد يكون كالإجماع بينهم أنهم ينزلون الأفعال منزلة الألفاظ الصريحة، فقد كان الرجل يبني المسجد ويفتح أبوابه للناس ولا يصيح ويقول: أيها الناس! قد أذنت لكم أن تصلوا فيه، فإن فتحه للباب وإشراعه للناس دال على أنه قد أوقف المسجد لله، فليس هناك لفظٌ معين، كذلك من سبّل السبيل من الماء، وأخرج الماء من بيته وأخرج الكيزان للشاربين فإنه لا يحتاج كل من أراد أن يشرب أن يقول: أين صاحب الماء حتى يأذن لي؟! فهذا الإذن المطلق جاء بالفعل، ونزّل الفعل منزلة القول، فليست هناك ألفاظ تعبدية يتقيدبها إلا فيما دل الشرع على التقيّد فيه باللفظ، وهذا معنى بالنسبة للنظر إلى الأفعال الدالة على الأقوال، وحتى الألفاظ نفسها، فالرجل في بعض الأحيان يقول للرجل كلمةً جرى العرف فيها على الإطلاق، مثلاً: تقول للعامل عندك في المحل: يا فلان! إني أريد سيارة من نوع كذا وكذا (أريد)، ما قلت له: اذهب واشتر، ولا قلت له: تولَّ وأنت وكيلي، فهذا العامل الذي يكون في العمل أو في محلك قال لك: اترك الأمر لي، فسكت؛ لأنه لما قال: اترك الأمر لي عُلِم أنه يريد منك تفويضاً وتوكيلاً للقيام بالأمر، فلا يحتاج إلى صيغة: وكلتك أن تقوم بكذا وكذا؛ لأن كلمة اترك الأمر لي، لا يهمك، درج العرف وجرى على أنها دالةٌ على التفويض، فإذاً نقول: إن الألفاظ والصيغ لا يلزم فيها الناس بصيغٍ معينة متى ما قام العرف بالدلالة على المقصود والمراد، والله تعالى أعلم.

ضابط الحنث في اليمين

ضابط الحنث في اليمين Q إذا حلف الإنسان على أمرٍ من الأمور أن لا يفعله، ففعله تبعاً وموافقةً لا قصداً ولا حيلة فهل يكون قد حنث في يمينه؟ A ليس عليه إلا الكفارة، وهو يقول: والله لا أفعل، ففعله تبعاً للناس أو فعله مجاراةً للناس، أو فعله بإكراه أو إرضاء لأهله، عاطفةً لزوجه، فليس عليه إلا الكفارة؛ لأنه حنث في يمينه؛ والحنث غالباً ما يكون إلا بشيء لا يختاره الإنسان، فلا إشكال في لزوم الكفارة عليه، إلا إذا أكره، فالإكراه فيه وجهان مبنيان على: هل الأيمان تجري مجرى الأحكام الوضعية التي لا يلتفت فيها إلى القصد والنية أم تجري مجرى الأحكام التكليفية فتؤثر فيها النية؟ والله تعالى أعلم.

حكم بيع ما لا يملك

حكم بيع ما لا يملك Q إذا طلب المشتري سلعةً فقال له البائع: انتهت الآن، ولكن تعال غداً ونحضرها لك، فهل يعتبر ذلك بيع نسيئةٍ من الطرفين؟ A إذا قال المشتري: أريد سلعةً، وليست عند البائع، فلا يخلو البائع من حالتين: الحالة الأولى: أن يتفق معه على ثمن السلعة وقيمتها، ويحدد له أجلاً لأخذها، فهذا لا يجوز إلا إذا كان البائع له فرعٌ آخر فيه السلعة، فحينئذٍ يصح البيع وإلا فلا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكى له حكيم بن حزام رضي الله عنه وقال له: إن الرجل يأتيني ويسألني السلعة وليست عندي، فأبتاع معه ثم أذهب فأشتريها وأبيعها عليه وأعطيه إياها، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تبع ما ليس عندك) فنهاه عليه الصلاة والسلام عن بيع ما لا يملك. وبناءً عليه: إذا اتفق الطرفان وكان يريد -مثلاً- قطعة غيار ليست موجودة وانتهت، وقلت له: أريد القطعة الفلانية، فقال هذه القطعة قيمتها مائتين، ادفع مائتين وغداً أحضرها لك، فلا يجوز؛ لأنه باعك ما لا يملك، لكن لو اتصل على محلٍ ثانٍ هو يملكه أو مثلاً له بضائع في المستودع وقال: موجودة عندكم القطعة الفلانية؟ قالوا: نعم، فباعها منك، صح البيع لأنه باع ما يملك. الصورة الثانية: أن يقول لك: هذه السلعة أحضرها لك غداً، ولا يبين لك ثمنها فحينئذٍ هذا وعدٌ بالبيع ويجوز ذلك، ولست بملزمٍ بهذا البيع؛ لأن البيع ما تم، فيقول لك مثلاً: غداً تأتينا وتكون عندنا السلعة موجودة، أو هناك نوع من السيارات يحضر بعد شهر، وإذا حضرت يكون خيراً، أو إن شاء الله نتفق، أو نحو ذلك فلا بأس، لكن هناك حل: وهو إذا كان التاجر السلعة ليست موجودةً عنده فإنه يقول للمشتري: أنا أحضر لك هذه السلعة وقيمتها وكلفتها عليك، ولكن آخذ منك عمولة عشرة ريالات على القطعة أو آخذ منك عمولة مائة ريال أو ألف ريال إلخ يصح. مثاله: لو جاء يطلبك سيارةً ليست عندك فتقول له: هذه السيارة جديدة قيمتها -مثلاً- ثمانون ألفاً، وأنا أحضرها لك من جدة بعشرة آلاف، صار بيعاً وإجارة، فهو وكل لك أن تشتري بثمانين ألفاً، وأنت أجيرٌ تحمل هذه السيارة وتتفق مع من يحملها له من جدة إلى المدينة بعشرة آلاف، فيصح ذلك ولا بأس، وتترتب عليه مسائل يطول الكلام فيها، أي: في هذه الصورة الثانية، وهي مسألة التوكيل بالإجارة قد نتعرض لها إن شاء الله في باب الإجارات، والله تعالى أعلم.

معنى الآيات: (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك.

معنى الآيات: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ... ) في سورة الإسراء Q لم أفهم معنى قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:73 - 75]، فما تفسير ذلك وهل له قصةٌ معينة؟ A صيغة الشرط لا تقتضي الوقوع والحدوث من كل وجه كقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس:94]، فهذا لا يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً كان في شك، وإنما هو أسلوبٌ من أساليب العرب؛ ولذلك قرر العلماء أن صيغة الشرط لا تقتضي تحقق الوقوع كقولك للرجل: إن كنت لا تعرفني فاسأل فلاناً، فإن هذا لا يستلزم أنه لا يعرفك، فقد يكون عارفاً بك، كما قال صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين في حادثة الإفك: (إن كنت أذنبت ذنباً فاستغفري الله ثم توبي إليه) يعني: إن كان وقع منك الزنا -حاشا- فاستغفري الله ثم توبي إليه، فليس معنى ذلك أنها فعلاً قد وقعت في الحرام، بل هذا معروفٌ في لغة العرب، ثم إن كاد، من أفعال المقاربة والشروع فقوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء:73] لا يستلزم أنهم فتنوه فعلاً، ولذلك تقول: ما كدت أفعل كذا حتى كان أن يقع كذا، وقال تعالى: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40]، فالتعبير بهذه الصيغة: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء:73]، يكون من حكاية الحال في شدة ما عاناه عليه الصلاة والسلام من أذية الكفار له، وهو أسوةٌ لكل داعيةٍ إلى الله، ولكل متبعٍ له عليه الصلاة والسلام أنه سيبتلى ويفتن (ليفتنونك): الفتنة تطلق على عدة معانٍ في القرآن: تطلق الفتنة بمعنى العذاب، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10]، على أحد الأوجه في تفسير آية البروج، أي: الذين عذبوا أصحاب الأخدود. وتطلق الفتنة بمعنى: الشرك كقوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191]. وتطلق الفتنة بمعنى: الكذب، ويقال: (فلانٌ فتان) أي: كذاب. وتطلق الفتنة بمعنى: الصّد، أو فعل ما يكون سبباً في الصد عن دين الله عز وجل، وهذا المعنى يقول بعض العلماء: إنه هو العام، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (أفتانٌ أنت يا معاذ؟! أفتانٌ أنت يا معاذ؟!) أي: هل تفعل هذا الفعل حتى يكون فتنة وسبباً في صدّ الناس عن الخير؟! لأن الرجل اشتكى أنه لم يصل من كثرة تطويل معاذ رضي الله عنه وأرضاه. وقوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء:73]، كان كفار قريشٍ لا يألون جهداً في أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتضييق عليه، وكان عليه الصلاة والسلام مع كمال رحمته وشفقته وحبه لهدايتهم أنهم إذا سألوه الأمر أن يفعله، ربما أحب وقوع ذلك الأمر من أجل أن تحصل الهداية لهم؛ لأنه كان عليه الصلاة والسلام قد جبل الله قلبه على الرحمة كما شهد بذلك من فوق سبع سماوات، فالله سبحانه وتعالى جبله على حب أمته وعلى حب الخير لها في الدنيا والآخرة كما في الحديث: (فيسجد تحت العرش ويقال: يا محمد! ارفع رأسك وسل تعطه، واشفع تشفع، فيقول: يا رب! أمتي أمتي) وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (لما أرسل الله إليه جبريل وقد بكى من آيتي إبراهيم والمائدة، قال: يا جبريل! اذهب واسأل محمداً -وربك أعلم- ما الذي يبكيه؟ فلما جاء جبريل وقال: يا محمد! إن الله يقرأ عليك السلام ويسألك -وهو أعلم- ما الذي يبكيك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أمتي أمتي فأوحى الله إليه -كما في الصحيح- يا جبريل! قل لمحمد: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك أبداً)، صلى الله عليه وسلم تسليماً، وزاده تشريفاً وتكريماً وتعظيماً، وجزاه خير ما جزى نبياً عن أمته وصاحب رسالة عن رسالته، فهذه الآية تحكي ما كان عليه عليه الصلاة والسلام من حب هداية قومه، وليس المراد به أن يصدوه، وإنما كانوا يطلبون منه التنازل عن بعض الأشياء حتى يكون قاسماً مشتركاً بينه وبين المشركين؛ لكنه عليه الصلاة والسلام ما كان لينطق عن الهوى، وما كان عليه الصلاة والسلام ليميل شيء من قلبه إلى كفار قريش، وإن كان هناك بعض المفسرين قد مال إلى بعض الأقوال، لكن الذي يظهر -والعلم عند الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من كمال شفقته وحبه للخير حريصاً على هدايتهم، ولذلك يقول الله تعالى: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ * إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} [الأنعام:35 - 36] فالمقصود: أنه كان عليه الصلاة والسلام يحب هدايتهم ويحب الخير لهم، وهذه الشفقة الجبرية الفطرية التي جبل عليها عليه الصلاة والسلام مع ما أعطاه عز وجل من زيادة الرحمة وحب الخير لأمته مما يدعوه لمحبة أن تأتي الآيات من أجل أن يصدقوه؛ ولذلك جاءت آيات الأنعام في أكثر من موطن تبين للنبي عليه الصلاة والسلام أن الأمر عندهم أمر جدال وعناد وليس بأمر تحرٍ وتقص للحق، ولذلك بين الله تعالى أنه لو حشر لهم كل شيء، ولو أنه بعث لهم الموتى وأخرجهم من قبورهم وحشروا أمام وجوههم: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا} [الأنعام:111] وفي قراءة: (قِبلا)، أي: قبل وجوههم يرونهم أمامهم {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:111] فكانوا -والعياذ بالله- مصرين على كفرهم وعنادهم، فتبين له عليه الصلاة والسلام جلية أمرهم -والقرآن دائماً يكشف لنبيه عليه الصلاة والسلام أخبار الناس، ويكشف له حقائق الدعوة، وكان الله عز وجل مع نبيه في كل أمرٍ من أموره، والله عز وجل لا تخفى عليه خافية، وهو أعلم بعباده وبخلقه، وأعلم بطبيعة الإنسان وبسجيته من الكفر والإعراض عن الله عز وجل، والتكذيب بحججه وآياته، وهو أعلم بطبيعة البشر- وقد كان يحاول هدايتهم لما جبله الله عليه من محبة الخير لهم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إني لأرجو أن أكون يوم القيامة أكثرهم تابعاً) فكان يحب كثرة الأتباع وكثرة المؤمنين، ويأتي جبريل ويقول له: (هذا ملك الجبال يقرأ عليك السلام، ولو شئت أن تأمره فمره فقال: لو شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين لأطبقت عليهم، فقال: لا. ولكن أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً) صلى الله عليه وسلم وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، والله تعالى أعلم.

حكم زواج الأب وابنه من أختين

حكم زواج الأب وابنه من أختين Q هل يجوز للأب أن يتزوج أخت زوجة ابنه؟ A يجوز للأب أن يتزوج أخت زوجة ابنه، وأخت زوجة الابن حرامٌ على الابن حرمة مؤقتة، وليست بحرمةٍ دائمة؛ لأن تحريم نكاح أخت الزوجة مبني على مانع الجمع، ومانع الجمع مؤقت وليس بمؤبد، وهذه المسألة من المسائل التي يجوز للأب فيها نكاح ما لا يجوز للابن أن ينكحه، وقد يجوز للابن أن ينكح ما لا يجوز للأب أن ينكحه كالربيبة، فيجوز للابن أن يتزوجها ولا يجوز للأب أن يتزوجها، والله تعالى أعلم.

التفصيل في القيء متى يبطل الوضوء

التفصيل في القيء متى يبطل الوضوء Q هل القيء يبطل الوضوء وماذا لو كان يسيراً وابتلعه؟ القيء له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون الطعام لم يتغير ويكون من أعلى المعدة، وهو القيء الذي يكون قريباً من الأكل، فهذا لا يبطل الوضوء؛ لأنه ليس بنجس، والنجس ما وصل إلى المعدة، فإذا وصل إلى المعدة، وهضم كان نجسا كالبراز، ولذلك فرق الأئمة رحمهم الله بين القيء الناشئ من المعدة، وبين القيء الذي يكون من الأمعاء قبل المعدة، فما كان متغيراً أفسد الوضوء؛ لأنه يستوي أن يخرج من الأعلى أو من الأسفل، كما لو فتحت له فتحة في بطنه فخرج منها الطعام، فكما أن خروج الطعام من الأسفل بعد هضمه يوجب انتقاض الوضوء كذلك خروجه من الأعلى يوجب الانتقاض في قول جماهير الأئمة، وفيه حديث ثوبان رضي الله عنه في قيئه عليه الصلاة والسلام ووضوئه بعد القيء، وفيه كلام. وأما إذا كان القيء لم يتغير كأن يكون قريب العهد بالطعام فهذا لا يضر كالقلس، فإنه طاهرٌ ولا يوجب انتقاض الوضوء، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

باب الوكالة [5]

شرح زاد المستقنع - باب الوكالة [5] قد يطرأ على الوكيل شيء من الغفلة أو التساهل فيشتري لموكله شيئاً معيباً سواء كان يعلمه أو يجهله، وربما يتساهل في دفع الثمن فيتلف، فهذا له حقوق وعليه حقوق في شرعنا الحنيف حسبما فصله أهل العلم، وأحياناً قد يطغى حب الموكل لوكيله فيفوضه في شراء كل قليل وكثير، أو شراء ما شاء وبأي ثمن شاء، فهذا منعه الشارع تجنباً للضرر الحاصل من وراء ذلك، وحفظاً على علاقة المحبة والمودة.

التفصيل في مسألة إذا اشترى الوكيل سلعة معيبة

التفصيل في مسألة إذا اشترى الوكيل سلعة معيبة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد تقدم أن الوكيل ينبغي عليه أن يتقيد في تصرفاته بما أذن له وكيله، ولا يجوز له أن يفعل شيئاً لم يأمره به وكيله، ولم يجر العرف به إذا أطلق له الوكيل، وبينا أن هذا هو الأصل الذي تقتضيه النصيحة للمسلم، وأنه إذا وُكّل الإنسان في الشيء فعليه أن ينظر إلى العرف وما يقتضيه من المصالح فيسعى في تحصيلها، وما يقتضيه من درء المفاسد فيسعى باجتنابها وتركها. السؤال هنا: إذا وكل شخصاً أن يشتري له أو يبيع عنه، فإنك إذا أمرت شخصاً أن يشتري لك أو يبيع عنك فإنك تقصد أن يبيع بيعاً صحيحاً، وأن يشتري بالوجه الصحيح المعتبر شرعاً، وكذلك أيضاً حينما وكلته بالشراء فإنك إنما عنيت أن يشتري شيئاً سليماً خالياً من العيوب، فلو أن رجلاً قال لرجل: اشتر لي أرضاً بالمدينة، وأعطاه أوصافها من طولها وعرضها إلخ، فالواجب على المشتري والوكيل أن يتحرى في هذه الأرض، وأن يتقي العيب المؤثر، كذلك لو قال له: اشتر لي عمارةً، فإن الأصل يقتضي أن يشتري عمارةً سالمةً من العيوب، وأن لا يتساهل في عقده بحيث يقبل كل مبيع دون أن يتحرى سلامته من العيوب. وبناءً على ذلك: لو قلت للوكيل اشتر لي أرضاً أو سيارةً أو مزرعةً إلى آخر ما يشترى، فإنه لا يخلو من أحوال:

الحكم إذا اشترى الوكيل شيئا سالما من العيوب

الحكم إذا اشترى الوكيل شيئاً سالماً من العيوب الحالة الأولى: أن يشتري شيئاً سالماً من العيوب متفقاً مع الشروط التي اشترطتها، فالبيع لازم والشراء لازم، وحينئذٍ يلزمك أن تتم الصفقة، ولا وجه لأن تمتنع منها، مثال ذلك: لو قلت له: اشتر لي سيارةً من نوع كذا وكذا بعشرة آلاف، فذهب واشترى السيارة بهذه الصفات سالمةً من العيوب، فإنك تلزم بها.

الحكم إذا اشترى الوكيل شيئا معيبا لا يعلم بعيبه

الحكم إذا اشترى الوكيل شيئاً معيباً لا يعلم بعيبه الحالة الثانية: أن يشتري السيارة التي أمرته بها ويكون فيها عيب، فالعيب إما أن يكون مؤثراً، وإما أن يكون غير مؤثر، وبينا فيما تقدم من مسائل البيوع العيب المؤثر والعيب غير المؤثر، لكن محل الكلام هنا أن يشتري شيئاً معيباً عيباً مؤثراً، يعني: عيباً يوجب الرد، فلو قلت له: اشتر لي سيارةً، فاشترى سيارةً فيها عيبٌ في محركها مثلاً، وهذا العيب مؤثر، فحينئذٍ إذا اشترى على هذا الوجه فله صورتان: الصورة الأولى: أن يشتري هذه السيارة المعيبة وهو لا يعلم بالعيب الموجود فيها. الصورة الثانية: أن يشتري هذه السيارة المعيبة وهو يعلم بوجود العيب فيها. إذاً: في الحالة الثانية إذا وكلته أن يشتري شيئاً واشتراه وبه عيب فلا يخلو هذا الوكيل من صورتين: إما أن يشتري هذا الشيء المعيب وليس عنده علمٌ بالعيب، حيث خدعه البائع وباعه سلعةً معيبة، وإما أن يكون العكس، فيعلم بوجود العيب، ويشتري لك السلعة وبها العيب، ثم يأتي ويقول: هذه السيارة التي طلبت مني شراءها، ثم يتبين أن بها عيباً، ما الحكم في الصورة الأولى والصورة الثانية؟ إذا اشترى لك سيارة لا يعلم بعيبها فإن الأصل الشرعي يقتضي أن المشتري إذا اشترى شيئاً معيباً فله حق الرد، وقد ذكرنا دليل ذلك من الكتاب والسنة والإجماع لقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188]، وبيع المعيب من أكل المال بالباطل، فإنه إذا دفع عشرة آلاف في شيء يستحق ثمانية آلاف فقد أُكلت الألفان بدون وجه حق وبالباطل، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تصرّوا الإبل ولا الغنم، فمن اشتراها فهو بخير النظرين: إن شاء أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)، وذكرنا الإجماع على هذين النصين من حيث المعنى والجملة، لكن إذا ثبت أن العيب يوجب الرد فاشترى لك أرضاً وتبين أن هذه الأرض بها عيب تستحق به الرد قضاءً، ولم يعلم وكيلك بهذا العيب فحينئذٍ تطالب الوكيل أن يرد هذه الأرض، ويجري في المسألة ما سبق بيانه في باب البيوع في المبيعات. الصورة الثانية: وهي التي تهمنا هنا: أن يشتري لك سلعةً وهو يعلم بعيبها، فالوكيل خان الأمانة وتجاوز الحدود التي ينبغي أن يتقيد بها، فلو أنه علم أن السيارة بها عيب، أو أن الكتاب معيب، أو أن المسجل معيب، أو أن أي شيء طلبت منه أن يشتري به عيب، واشترى مع علمه بالعيب، وقد قال له البائع: يا فلان! إن هذه السيارة بها عيب كذا وكذا، قال: قبلت، فالسؤال الآن إذا قبل وكيلك بالشراء واشترى المعيب، أولاً: هل البيع صحيح؟ ثانياً: إذا صححنا البيع هل يكون البيع لازماً لك أم لازماً للوكيل؟ فمن حيث الأصل أن الوكيل حينما اشترى السيارة بعشرة آلاف وهو يعلم أن بها هذا العيب، فقد وقع الإيجاب والقبول مع بائع ومشترٍ والثمن والمثمن، كلٌ منهما مباح من حيث الأصل الشرعي، فأركان البيع وشروط صحته متوفرة، فالبيع صحيح، فالبائع الذي باع السيارة باعها لشخص يعلم بعيبها، وباعها لشخص مستوفٍ لشروط صحة البيع، فالبيع من حيث الأصل صحيح، والقاعدة الشرعية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، لكنه صحيح للوكيل وليس لمن وكله؛ لأن الوكيل حينما اشترى هذا الشيء اشتراه معيباً، وإن قال في نفسه: هذا لموكله، فموكله لم يوكله بشراء هذا الشيء، فيكون اشتراه لنفسه؛ لأنه رضي بالبيع وقبل البيع فيصبح على ملكه ومسئوليته. وبناءً على ذلك تأتي عندنا القاعدة: أن من اشترى المعيبات وقد وكّل بالشراء دون أن يأذن له موكله بشراء المعيب فإنه يصح البيع على ذمته لا على ذمة من وكله، لكن يصح البيع على ذمته دون ذمة الموكل إذا لم يرض الموكل. تبقى مسألة ثانية وهي: أنه في نيته وعقيدته اشترى لموكله، وقد يصرح بذلك في عقده، فحينئذٍ من حيث الأصل لما وكله موكله أن يشتري أرضاً بمائة ألف أو بنصف مليون أذن له أن يشتري فاشتراها معيبة، فمعنى ذلك أن العقد تام، نقول للموكل: انظر في هذه الأرض وانظر في هذه السيارة وهذا الكتاب، فإن أعجبك ورضيته مع وجود العيب كان البيع صحيحاً على ذمتك؛ لأنه يكون من باب بيع الفضول، وقد ذكرنا أن أصح أقوال العلماء رحمهم الله في بيع الفضول: أنه يصح إذا أذن المالك الحقيقي، وذكرنا دليل ذلك من حديث عروة بن أبي الجعد البارقي رضي الله عنه وأرضاه. الخلاصة: إذا وكل الموكل وكيله أن يشتري السلعة واشتراها دون أن يوجد بها عيب فالبيع صحيح والوكالة تامة ولا إشكال. وإذا وكله فاشترى شيئاً معيباً فإما أن يكون الوكيل عالماً بالعيب أو غير عالم، فإن كان غير عالم بالعيب استحق أن يرد السلعة واستحق أن يأخذ أرش العيب وحينئذٍ لا إشكال، وإن كان عالماً بالعيب فحينئذٍ نقول للموكل: هل ترضى هذا الشيء؟ فإن قال: لا أرضى، نصحح البيع على ذمة الوكيل ونوجب رد المال إلى الموكل أو شراء أرض أخرى أو سيارةٍ أخرى، وتصحيح الوكالة يكون على الوجه المعتبر شرعاً.

الحكم إذا اشترى الوكيل شيئا معيبا يعلم بعيبه

الحكم إذا اشترى الوكيل شيئاً معيباً يعلم بعيبه قال رحمه الله: [وإن اشترى ما يعلم عيبه لزمه إن لم يرض موكله فإن جهل ردّه]. إذاً: عندنا الصورة الأخيرة هي التي ذكرها المصنف: (من اشترى ما يعلم عيبه)، لكن ينبغي أن نعلم أن الحكم لا يختص بالشراء، ولا يختص بالبيع؛ فإنه يشمل الإجارات ويشمل بقية المعاملات التي ذكرنا فيها الوكالة، فمن وكّل وكيلاً لكي يقوم بمهمة أو عقدٍ فينبغي على الوكيل أن يلتزم بالعرف، وهذا مراد المصنف من هذا المثال أن يقول لك: إن العقود إذا أطلقت فإنها تنصرف إلى الصحيح، ولا تنصرف إلى الفاسد، وتنصرف إلى السليم ولا تنصرف إلى المعيب، مثال ذلك: لو قلت لوكيلٍ: استأجر لي شقةً بمكة، وتكون هذه الشقة بجوار الحرم أو على شارع كذا، وحددت له الوكالة، استأجر لي شقة بمكة، استأجرها لي مدة العشر الأواخر، استأجرها لي شهراً، استأجرها لي سنةً، فذهب واستأجر لك شقةً، ولكن في سقفها عيب يخر منه الماء، أو أن الماء الموجود فيها ملوث، فهذه عيوب كلها تؤثر في الإجارة، وتعيق المنفعة التي من أجلها استأجرت، أو استأجر لك في موضعٍ لا يمكن أن ترتاح فيه، كجوار شيء مزعجٍ أو نحو ذلك مما لا تستطيع أن تنام فيه، وأنت أخذت هذه الشقة للراحة أو نحو ذلك، المهم وجد العيب، فنقول: إذا استأجرها عالماً بالعيب لزمه أن يدفع المال لك ويبقى وجهه لمن أجره، ولا تلزم بالوكالة بدفع الأجرة، وإن استأجر وهو لا يعلم بالعيب فإنك ترد هذه الإجارة وتفسخها وتأخذ حقك كاملاً. إذاً: الأمر لا يتوقف على البيع ولا على الشراء، بل يشمل العقود التي تتعلق بالمعاملات مما هو محلٌ للوكالة. (فإن جهل ردّه). أي: الوكيل، فإن جهل رد المبيع، وذلك للقاعدة والأصل الذي ذكرنا: أن العيب يوجب الرد. تذكرون في آخر الفصل الماضي أنه ذكر المصنف مسائل قال فيها: (ومن وكله أن يبيع حالاً فباع مؤجلاً، أو وكله أن يبيع مؤجلاً فباع حالاً، أو يبيع بنقد البلد، فباع بغيره)، ذكرنا هذه المسائل، وهذه المسائل كلها تدور حول مخالفة الوكيل للوكالة، ومخالفة الوكيل للوكالة: إما أن يخالف لفظ موكله، وإما أن يخالف عرفاً جرى بالوكالة، ومن هنا تأخذ هذا المثال في قوله رحمه الله: (ومن اشترى معيباً) وتخرج منه قاعدة وهي: (أن إطلاقات الوكالة في العقود مصروفةٌ إلى الصحيح، وأن إطلاق الوكالة في المحل مصروف إلى السليم). (إطلاقات الوكالة في العقود) يعني: إذا وكلته ليشتري فينبغي أن يشتري شراءً صحيحاً خالياً من موجبات الفساد، فإطلاقات الوكالة في المحل والثمن والمثمن والصيغة في العقد ينبغي أن يكون سليماً. فممكن أن يأتي شخص ويقول: قال لي شخصٍ خذ هذه العشرة واشتر لي نسخةً من صحيح البخاري، فذهب واشترى نسخةً معيبة وجاء بها لصاحبه، فقال له الوكيل: لا أريد هذه النسخة، فإن الوكيل سيقول له: أنت وكلتني أن أشتري وقد اشتريت لك -لاحظ: أنت وكلتني أن أشتري وقد اشتريت- ما قلت سليمة أو غير سليمة، فتقول: هذا الإطلاق وإن كان باللفظ، لكنه مقيدٌ بالعرف أي: أن يكون سليما؛ لأن العرف أن هذا لا يكون إلا بشراء السليم السالم من العيوب، والصحيح الذي لا عيب فيه، وعلى هذا تعتبر هذه المسألة مفرعة على القاعدة التي سبق التنبيه عليها والتي تقول: (المعروف عرفاً كالمشروط لفظاً)، وبعض الفقهاء يقول: (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً)، وبناءً على ذلك: (المعروف عرفاً) حينما أقول له: اشتر لي نسخةً من صحيح البخاري، فإن هذا الإطلاق يقتضي أن يكون سليماً، والعرف ينصرف إلى بيع السليم لا بيع الفاسد، وعلى هذا: فإنه لا وجه له أن يستدل بمطلق الوكالة على شراء المعيبات ونحوها.

الإذن للوكيل بالبيع لا يلزم منه الإذن بقبض الثمن

الإذن للوكيل بالبيع لا يلزم منه الإذن بقبض الثمن قال رحمه الله: [ووكيل البيع يسلمه ولا يقبض الثمن بغير قرينة]. هنا مسألة من مسائل التصرفات: إذا وكلت شخصاً أن يبيع أو وكلت شخصاً أن يشتري، فعندنا في البيع سبق التنبيه على أن هناك مراحل: المرحلة الأولى: صفقة البيع، وهي التي تثمر الإيجاب والقبول، وما يسميه العلماء بالعقد، وإتمام الصفقة بصيغتها. المرحلة الثانية: تسليم المبيع ثمناً ومثمناً، فمثلاً: اشتريت أرضاً بنصف مليون فعندنا أول شيء أن يقول لك: بعتك هذه الأرض بنصف مليون، تقول: قبلت شراءها، فإذا وقع الإيجاب والقبول وقع الأصل الأول وهو: عقد البيع بعد الإيجاب والقبول، ثم هناك مرحلة التسليم والاستلام، فلأجل أن تتم صفقة البيع وهي الإيجاب والقبول يفرغ لك الأرض، وتعطيه الثمن بعد ذلك، فالصفقة -وهي الإيجاب والقبول والرضا بالعقد وإتمام العقد- مرحلة وقد تقع بغير مجلس القضاء، وقد تقع قبل الإفراغ، ثم بعد ذلك تنتقل إلى مرحلة التسليم والاستلام. فعندنا في البيع تسليم، وعندنا استلام فتسلمه الأرض بمعنى: أن تفرغها له، وتمكنه منها، وتوقفه عليها وتقول له: هذه الأرض وهذا الجار الشرقي وهذا الغربي، فيقع الاستلام على وجه خالٍ من الشبهة لا إشكال فيه، فاستلم الأرض، هذه المرحلة الثانية وهي: مرحلة التسليم. فالسؤال الآن: لو أن شخصاً قال لآخر: بع أرضي التي بمكة في حي كذا أو مخطط كذا بمائتي ألف، فهل إذا أذن له بالبيع يقبض الثمن؟ فإن البيع إذن بالعقد، لكن مسألة استلام الثمن هذه مسألة أخرى، فقد تأذن لشخصٍ أن يتم صفقة البيع ولا تأمنه على مالك، وتوكل شخصاً آخر أن يستلم المال فهل الوكالة أو التوكيل بالبيع توكيلٌ بقبض الثمن؟ هذا بالنسبة للبائع، وهل التوكيل بالشراء توكيل بالاستلام؟ مثلاً: شخص قلت له: هناك أرض بجدة سافر أبرم صفقتها مع زيد من الناس الذي يملكها، فهل معنى ذلك أن هذا التوكيل يبيح للوكيل أن يستلم الأرض، أو يكون إفراغ الأرض أو تسليمها لشخصٍ آخر؟ هذه هي المسألة، فبعد أن فرغ رحمه الله من الأصل الذي ذكرناه في إطلاقات الوكالات وتقييدها شرع رحمه الله في بيان تصرفات الوكيل، فإذا كان هناك وكالة فما هي الحدود التي ينبغي أن يتصرف فيها الوكيل ولا يجاوزها؟ وإذا وكّل بالبيع هل هو توكيل بتسليم المبيع، وإذا وكل بالشراء هل هو توكيل باستلام المبيع؟ ونحو ذلك من المسائل. فقال رحمه الله: (ووكيل البيع يسلمه ولا يقبض الثمن بغير قرينة). فلو أن رجلاً قال لآخر: بع لي أرضي بمكة، فانطلق الوكيل وباع الأرض بمائة ألف كما طلب موكله، وأفرغها، فإذا حصل البيع والإفراغ وهو التسليم بقي استلام الثمن، هل من حقه أن يطالب بالثمن؟ وبعبارة أخرى: هل الذي اشترى منه الأرض يدفع المال لهذا الوكيل أو يدفع المال للأصيل؟ هذه هي المسألة، فقال رحمه الله: الوكيل بالبيع يتم الصفقة، وهذا بالإجماع، ويسلم المبيع، وهذا قول الجماهير، لكن الثمن لا يستلمه، فهذه ثلاثة أشياء: يتم الصفقة، يعني: القاضي يقبله إذا جلس في مجلس القضاء، ويتم صفقة البيع بالإيجاب والقبول، وأيضاً: يمكن شرعاً من تسليم الأرض للمشتري، فأصبحت المرحلة الأولى وهي العقد من حقه؛ لأنه قال: وكلتك أن تبيع، والتوكيل بالبيع يقتضي التوكيل بصيغة البيع، لكن Q كيف دخلت مسألة التسليم والإفراغ؟ دخلت؛ لأن البيع يتوقف على التسليم، وتمام البيع ولزومه يتوقف على التسليم، وبناءً على ذلك فتسليم المثمن يتم صفقة البيع، فكأنه حينما أذن له بالبيع أذن له بأن يسلم المبيع، وهذا يتفرع على القاعدة الشرعية التي تقول: (الإذن بالشيء إذنٌ بلازمه)، فالإذن بالوكالة لعقد ما هو في الحقيقة إذن لكل شيء يصحح هذا العقد ويتمه ويجعله نافذا، فلما كان تسليم المبيع يمضي صفقة البيع التي من أجلها كانت الوكالة كان التسليم معتبراً من هذا الوجه، وهذه قاعدة عمل بها جماهير أهل العلم رحمهم الله: (أن الإذن بالشيء إذن بلازمه) فليس من حق المشتري أن يمتنع، وليس من حق القاضي أن يقول: لا أقبله أن يسلم المبيع، وإنما يقول له: أتم الصفقة وسلم له المثمن، ولو امتنع الوكيل من التسليم كان من حق القاضي أن يجبره؛ لأن العقد قد تم، فإذا قلت: إن الوكيل يتم الصفقة ويسلم؛ فإن من حق القاضي أن يجبر الوكيل؛ لأنه أمر بالإفراغ وتسليم المثمَن، فوجب عليه أن يتم الصفقة والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، والوفاء بالعقد يفتقر إلى هذا الأمر فوجب عليه أن يتم.

مسألة: إذا أخر الوكيل تسليم الثمن ثم تلف عليه

مسألة: إذا أخر الوكيل تسليم الثمن ثم تلف عليه قال رحمه الله: [ويسلم وكيل المشتري الثمن فلو أخره بلا عذر وتلف ضمنه]. مثال المسألة: أردت أن تشتري بنصف مليون أرضاً في جدة أو المدينة فقلت: يا فلان! اذهب إلى فلانٍ واشتر أرضه بنصف مليون، وهذا نصف المبلغ أعطه إياه، فإنه إذا وكلته بالشراء ففيه إذنٌ أيضاً بدفع الثمن سواءٌ صرحت أو لم تصرح؛ ولذلك الفعل منك منزلٌ منزلة القول، فإعطاء الثمن دالٌ على أنك راغبٌ في إتمام الصفقة، فإذا انطلق وأتم الصفقة يبقى Q إذا قال له أعطه نصف المليون هل يعطيه بمجرد العقد أم بمجرد الاستلام أو بعد الاستلام؟ هذا كله محتمل، عندما يوكلك شخص أن تبرم صفقة شراء بسيارة أو كتاب أو أرض أو عمارة أو مزرعة، وأخذت المال وانطلقت من أجل أن تتم الصفقة فأولاً: يجب عليك أن تحتاط لحق موكلك، فلا تعطه المال إلا بعد إتمام الصفقة حتى تضمن حق الموكل، فلو أن الوكيل ذهب وأعطاه المال قبل أن تتم الصفقة ودون أن يشهد فإنه يتحمل مسئولية التفريغ، فإذاً: ينبغي للوكيل أن يدفع المال على الوجه الذي لا غرر فيه، ولا غبن ولا ضرر. فإذا انطلق وقال له: هذه الأرض بكم تبيعها؟ قال: بنصف مليون، قال: أنا أشتريها منك على أن نذهب عند القاضي ونفرغ، فإذا أفرغت لي أعطيتك المال، فقوله: إذا أفرغت لي أعطيتك المال، لا شك أن هذا بالغ في الحيطة لحق موكله، وفي بعض الأحيان يكون الأحوط أن تعطيه المال قبل الإفراغ، وذلك من أجل تأكيد صفقة البيع حتى لا يتلاعب، فتشهد الشهود، وتبرم عقداً مبدئياً بينك وبينه حتى تفرغ عند القاضي، فإذا رأيت المصلحة في هذا فعلت، وإذا رأيت المصلحة في ذاك فعلت، فتنتظر حتى تدفع له عند القاضي، فإذا انتظرت حتى تدفع له عند القاضي وجاء اليوم وحضر عند القاضي ودفعت له المال فحينئذٍ لا إشكال في أنه قد تمت الوكالة على الوجه المعتبر، حيث أفرغ الأرض لموكله، فدفعت الحق له وأخذت الحق منه، لكن المشكلة إذا قال له: خذ هذا النصف مليون واذهب به إلى فلانٍ واشترِ منه الأرض، فإذا أفرغ لك الأرض فأعطه حقه، قال: موافق، فخرج من عندك وذهب وأتم الصفقة وأفرغ الأرض باسمك، ثم ماطل صاحب الحق، وأخر دفع المال إلى أسبوع، وسرق المال خلال الأسبوع، من الذي يضمن؟ يضمن هذا الوكيل؛ وفي الأصل هو لا يضمن حينما وكلته، مثلاً: لو أنك وكلته على أنه يفرغ الأرض، فإذا أفرغ الأرض باسمك فإنه يعطي البائع ماله مباشرة، فذهب مع من ذهب ومعه المال، ثم سُرق المال منه بدون تفريغ، وكان النصف مليون موضوع في خزانة وفي مكانٍ أمين، وجاء السارق بقوة وغلبه وأخذه قبل الإفراغ فإنه لا يضمن؛ لأن يده يد أمانة، ويد الأمانة لا تضمن إلا إذا فرّط، وهكذا لو قلت لأخيك: خذ هذه العشرة واشتر لي كتاباً من المكتبة الفلانية، فذهب ودخل المكتبة، واشترى الكتاب وأخر الدفع، وقال لصاحب المكتبة: سأعطيك مالك غداً، وخرج والعشرة في جيبه فسُرقت، فإنه يضمن العشرة ويلزم بدفعها؛ لأنه ماطل وفرّط، وكان ينبغي أن يحتاط لحقه وحق المشتري والبائع فيعطيه حقه بعد تمام الصفقة. فقال رحمه الله: (ويسلم وكيل المشتري الثمن فلو أخره بلا عذر وتلف ضمنه). يبقى السؤال: إذا أخره بعذر، هل يضمن؟ A لا. إلا إذا فرّط، مثلاً: إذا قلت له: خذ هذه المائة ريال واشتر لي كتاب كذا وكذا من المكتبة، فذهب إلى المكتبة ووجد الكتاب وسأل عن قيمته، قالوا: قيمته مائة ريال، فكان المنبغي أن يدفع المائة مباشرة ويستلم الكتاب، فترك الشراء وانتظر إلى الغد أو بعد الغد فسرقت المائة خلال هذه الفترة، قلنا: يضمن؛ لأنه فرط وتأخر بإتمام الصفقة حتى حصل الضرر فيضمن، كذلك لو قلت له: خذ هذه الأطعمة وبعها واقبض ثمنها، وذهب وتأخر في بيعها فإنه يضمن أيضاً، فكما يضمن في البيع يضمن في الشراء، وكما يضمن في الشراء يضمن في البيع بالتفريط والتأخير، لكن لو أنه أخذ المال ولم يفرط مثلاً: قلت له: إذا أفرغ لك الأرض بعد الصفقة فأعطه ماله، فماطل البائع في إفراغ الأرض؛ صار هذا عذراً له أن يؤخر الثمن، فتأخر في دفع الثمن له شهراً، وخلال الشهر سُرِق المال أو احترق بيته بدون تعدٍ، واحترقت معه النقود، فحينئذٍ يعتبر خالي المسئولية ويده يد أمانة؛ لأنه أخر لعذر، حيث كان التأخير لإفراغ الأرض، وخشي من البائع أن يكون مماطلاً أو متلاعباً فاحتاط لحقك فهذا تأخير لعذر.

مسائل تتعلق بالوكالة

مسائل تتعلق بالوكالة قال رحمه الله: [وإن وكله في بيع فاسد فباع صحيحاً، أو وكله في كل قليل وكثير، أو شراء ما شاء أو عيناً بما شاء ولم يعين لم يصح].

إذا وكل الوكيل في بيع فاسد فباع بيعا صحيحا

إذا وكل الوكيل في بيع فاسد فباع بيعاً صحيحاً فقوله: (وإن وكله في بيع فاسد فباع صحيحاً). إن وكله في بيع فاسد كبيع نسيئةٍ في ما لا يصح بيعه نسيئة، وبيع الربا ونحو ذلك من البيوع المحرمة، فباع بيعاً صحيحاً، فإذا باع بيعاً صحيحاً، ف Q هل يصحح البيع أم لا؟ A لا يصحح البيع؛ لأنه حينما وكّله أن يبيع بيعاً محرماً كانت الوكالة باطلةً من أصلها، فأصبح المال أجنبياً، فإذا تصرف فيه -ولو تصرف تصرفاً صحيحاً- فهو غير لازم وغير صحيح، لكن يكون من بيع الفضول. مثال ذلك: لو قال له: بع هذا الطعام بطعام من نوعه متفاضلاً، أو قال له: بع هذه المائة الكيلو من التمر بمائتين، هذا ربا فضل، فذهب وباع التمر، مائةً بمائة، هذا بيع صحيح، حيث تم يداً بيد مثل بمثل، كما هو الأصل الذي دلّ عليه حديث عبادة رضي الله عنه، وقد تقدم معنا في باب الربا، فباع بيعاً صحيحاً، والذي وكله وكّله في بيع مائة بمائتين، فلما قال له: بع هذا التمر مائةً بمائتين كان بيعاً محرماً، والله تعالى يقول: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] والوكالةُ إذا كانت على محرم وباطلٍ فهي باطلة، فإذا كانت الوكالة باطلة فكأن الوكيل يتصرف في مال أجنبي عنه غير مأذون له بالتصرف فيه، وقد ذكرنا أن تصرف الإنسان فيما لا يملكه وفيما لا حق له للتصرف فيه أن هذا التصرف يعتبر من التصرف الفضولي، فإذا امتنع صاحبه فإنه لا يصح، وقد بينا هذه المسألة في مسألة بيع الفضول. الخلاصة: أن من وكّل وكيله أن يبيع بيعاً فاسداً، فباع بيعاً صحيحاً فالوكالة في الأصل تبطل، وإذا بطلت الوكالة صار المال أجنبياً، وصار التصرف فيه في غير محل فلا يصح.

إذا فوض للوكيل بالوكالة في كل قليل وكثير

إذا فوض للوكيل بالوكالة في كل قليل وكثير قال رحمه الله: [أو وكله في كل قليل وكثير]. فقال له: أنت وكيلي في جميع أموري، لم يصح، وقد بينا هذا وتعرضنا لمسألة التوكيل بالوكالة المطلقة، والسبب في هذا: أن الوكالة المطلقة بأن يفوض له جميع الأمور أو يفوض له بأمرٍ خطير يعظم الغرر بالتفويض فيه وكالةٌ فاسدة؛ لأنها من الغرر وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن الغرر)، وخاصةً في هذا الزمان، فلهذا تكلم بعض الفقهاء في صحة التوكيل المطلق، ولكن الصحيح والأشبه عدم صحتة لحديث ابن عمر في النهي عن الغرر؛ ولأن هذا يدخل على الإنسان غرراً عظيماً وضرراً كبيراً، فيقول له: أنت وكيلي في كل شيء، حتى إن بعضهم يقول له: أنت وكيلي حتى في تطليق نسائه، فهذا لا شك أنه يدخل الغرر والضرر على الموكل، والشريعة جاءت بدفع الضرر، فلو قال قائل: إنه رضي بإدخال الضرر على نفسه، نقول: إن الرضا إذا لم يكن في موضعه كان وجوده وعدمه على حدٍ سواء، وخاصةً في هذا الزمان؛ ولذلك نجد بعض الناس قد يأمن البعض ويوكله وكالةً، ثم لا يشعر إلا وقد أدخل عليه من البلاء ما الله به عليم، بل وصل ذلك خاصة في هذا الزمان إلى خيانة الولد لأمه نسأل الله السلامة والعافية، فقد مرت بي إحدى القضايا أن أماً وكلت ابنها وكالة مفوضة، وجعلت له أن يتصرف في أمورها كيف شاء، فكان كلما أراد شيئاً أخذ منها وكالةً مطلقة في نفس العقود التي تتصل بهذا الشيء فباع أملاكها، وكانت بخير ونعمة وتملك الملايين، فباع أموالها، وتصرف فيها، ومضت السنوات تلو السنوات وهو يماطلها في بعض حقوقها حتى جاءت الساعة التي فوجئت بدخول الضرر عليها، وأن موكلها قد أركبها الديون فضلاً عن حقوقها التي أضاعها، فذهب مالها، ولم يقف الأمر عند قضية هذا المال -وهو مصيبة عظيمة- بل ذهب واشترى باسمها، وعقد العقود -نسأل الله السلامة والعافية- باسمها، حتى فوجئت بسفره وغيابه فجأة، فأصبحت تسأل عنه ثم لم تشعر إلا بأصحاب الحقوق يطالبون بحقوقهم، وهذا أمر عظيم، وهذا لا شك أن فتح الباب في مثل هذه الوكالات والتفويضات المطلقة، يفتح باب شر عظيم على الموكل، والشريعة جاءت بدرء المفاسد وجلب المصالح، ولذلك أمرت بالحجر على السفيه؛ لأنها علمت أن مثله لا يحسن النظر لنفسه، فأقامت عليه من يحفظ ماله، فلا يجوز للمسلم أن يدخل على نفسه الضرر على هذا الوجه، بل تقوم على مالك، وإذا أردت أن توكل فوكل في الوقت المناسب والشخص المناسب في الشيء المناسب؛ لأن الله عز وجل أمرك أن تتقيه حتى في مالك الذي أعطاك إياه واستخلفك، لكي تقوم عليه بما ينبغي أن يقوم به المسلم في ماله من حسن النظر، وحسن الولاية عليه، فعلى هذا لا يجوز إدخال الضرر بمثل هذه الوكالات بأن يقول له: أنت وكيلي في كل قليلٍ وكثير، وأنت وكيلي في كل شيء حتى ولو كان بشيء فيه ضرر عليه ونحو ذلك مما فيه الغرر.

إذا فوض للوكيل شراء ما شاء بما شاء ولم يعين

إذا فوض للوكيل شراء ما شاء بما شاء ولم يعين قال رحمه الله: [أو شراء ما شاء]. أن يقول له: أنت وكيلي أن تشتري ما شئت، فإن الشيء الذي يشاؤه قد لا تشاؤه ولا ترضاه ولا ترغبه، فتختلف أهواء الناس ورغباتهم، فلا يصح التوكيل على هذا. قال رحمه الله: [أو عيناً بما شاء]. أن تشتري بهذه المائة ما شئت، فهذا فيه ضرر، فربما اشترى شيئاً لا يريده، فأنت تقول له: اشتر بهذه المائة، وهذه المائة عين وهذه الألف وهذه العشرة آلاف هذا عين، تقول: اشتر بها ما شئت. قال رحمه الله: [ولم يعين لم يصح]. (ولم يعين) يعني: الوكالة المبهمة، لكن لو قال له: أنت وكيلي أن تشتري لي عمارةً فبعض العلماء يقول: يحدد الأوصاف بما يصح سلماً، فيقول له: بما يرتفع به الضرر وبما يصح فيه السلم فيقول له مثلاً: اشتر لي طعاماً من نوع كذا وكذا مائة صاعٍ، أو يقول له: اشتر لي أرضاً (20×20) أو (30×30) في المدينة أو في جدة أو في مكة، ويحدد له الوكالة على وجهٍ لا ضرر فيه ولا غرر.

الأسئلة

الأسئلة

الإذن بالسكنى في البيت لا يستلزم الإذن بالبيع

الإذن بالسكنى في البيت لا يستلزم الإذن بالبيع Q قال رجلٌ لأخيه: اشتر العقار الفلاني واتخذه سكناً لك، فلما اشتراه الأخ باعه، فأنكر عليه ذلك البيع وقال: أنا لم آذن لك بالبيع فهل من حقه ذلك؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالوكالة جاءت مقيدة: اشترِ العقار الفلاني واتخذه سكناً لك، فأصبحت وكالة بالشراء، فالشراء صحيح، ووكالة أن يسكن، فإذا تصرف بغير هذين فتصرفه باطل، وبيعه باطل إذا لم يأذن له الموكل ولم يرض، وعلى هذا ينفسخ هذا البيع، ويرد العقار للموكل، ولا يصح هذا البيع لأن تصرفه فضولي لم يأذن به موكله، ومن أذن بالسكن لا يأذن بالبيع، ولذلك قد آذن لأخي أن يسكن في داري، ولا أرغب في بيعه، وقد آذن له أن يبيت في مزرعتي أو يتخذها سكناً أو يتخذها مكاناً يرتاح فيه، ولكن لا أذن له أن يبيعها ويفوت مصالحي فيها ومُلكيتي لها، وعلى هذا: فبيعه باطل مُنفسخ إذا لم يرض به المالك الحقيقي، والله تعالى أعلم.

تصرفات وكيل البيع في حال توكيله بالبيع

تصرفات وكيل البيع في حال توكيله بالبيع Q ذكرتم -حفظكم الله- أن وكيل البيع له ثلاثة أمور: أولاً: يتم الصفقة، وثانياً: يمكن شرعاً من تسليم المبيع، فما هو الثالث منها؟ A قبض الثمن، فعندنا العقد -وهو صفقة البيع- ثم التسليم، ثم الاستلام، وهو استلام الثمن، والتسليم للمثمن وهو المبيع، الاستلام للثمن والعكس للمشتري، فالمشتري عنده الصفقة، وهي الإيجاب والقبول، ثم بعد ذلك تسليم الثمن، واستلام المثمن فهي عكسيةٌ بالنسبة للتسليم والاستلام، فالبائع يسلم المبيع ويستلم الثمن، والمشتري يسلم الثمن ويستلم المبيع، والله تعالى أعلم.

عدم لزوم استلام الثمن للتوكيل في البيع

عدم لزوم استلام الثمن للتوكيل في البيع Q إذا قلنا: إن من لازم التوكيل للبيع تسليم المبيع، أفلا يكون استلام الثمن مندرجا تحت قاعدة: (الإذن بالشيء إذنٌ بلازمه) فيستلم الثمن دون القرينة؟ A يصح البيع بتسليم المثمَن ولو لم يسلم الثمن، ويلزم البيع بتسليم المثمن ولو لم يسلم الثمن؛ ولذلك تسليم المثمن أقوى من تسليم الثمن، وعلى هذا: لا يصح، إنما يصح أن لو كان معتقراً لمجموع الأمرين معاً، بحيث تقول: لا يلزم البيع إلا بتسليم الثمن والمثمن، والواقع أن تسليم المثمن يوجب صحة البيع ولزومه، وقد تقدم معنا شرح هذا في كتاب البيوع، والله تعالى أعلم.

حكم تراجع من نذر أن يطلق امرأته

حكم تراجع من نذر أن يطلق امرأته Q لو نذر رجلٌ أن يطلق امرأته فهل يمكنه أن يتراجع عنه؟ A من نذر أن يطلق زوجه وأهله ورأى أن المصلحة أن لا يطلقها فإنه يكفر عن نذره ويأتي الذي هو خير، قال صلى الله عليه وسلم: (إني والله لا أحلف على يمينٍ فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير) وعلى هذا: النذر واليمين بابهما واحد، وسيأتي -إن شاء الله- بيان هذه المسألة وتقريرها؛ لأن كلاً منهما قد عقد فيما بينه وبين الله عقداً ينفك وينحل بالكفارة؛ ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن كفارة النذر كفارة اليمين، وعلى هذا: فإنه لو قال: لله عليّ أن أطلق زوجتي غداً أو أطلقها بعد غد، أو لله عليّ أن أطلق زوجتي في نهاية الشهر أو نحو ذلك، فنظر لمصلحته فأمضى وأبقى العقد كما هو، ففي هذه الحالة إذا حنث في نذره وامتنع من الوفاء به كفر كفارة اليمين، ولا شيء عليه، والله تعالى أعلم.

حكم نكاح بنت خالة الأم

حكم نكاح بنت خالة الأم Q هل يجوز للرجل أن يتزوج بنت شقيقة جدته لأمه؟ A بنت شقيقة جدته لأمه هي بنت خالة بالنسبة للأم، وبنت خالة الأم يحل نكاحها؛ لأنها داخلةٌ في عموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، فإن الله لم يذكر من المحرمات بنت خالة الوالدة، ولا بنت خال الوالد، ولا بنت عم الوالدة، ولا بنت عمة الوالد، ولا بنت عمه، فكل هؤلاء من النساء اللاتي دخلن في عموم الحِل، ولسن من المحارم بإجماع العلماء رحمهم الله، والله تعالى أعلم.

حجر إسماعيل عليه السلام من البيت

حجر إسماعيل عليه السلام من البيت Q هل يعتبر حجر إسماعيل كله داخلٌ في الكعبة؟ A حجر إسماعيل فيه وجهان للعلماء رحمهم الله في الطواف: جمهور أهل العلم على أن الطواف لا يصح إلا إذا استوعب البيت كاملاً، ولم يدخل بين البيت والحجر، وقال الحنفية: يصح الطواف إذا دخل بين الحجر وبين البيت، واستدل الجمهور بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، فوصف الله جل جلاله البيت بكونه عتيقاً، والعتيق فيه أقوال؛ فقيل: لأن الله عتقه من الجبابرة، فما قصده جبارٌ إلا قصمه الله وأخذه أخذ عزيز مقتدر؛ ولذلك سميت مكة (بكة)؛ لأنها تبك أعناق الجبابرة كما فعل الله بـ أبرهة، وقال بعض العلماء -وهو الصحيح-: إن البيت العتيق المراد به القديم؛ لأنه هو الذي بناه إبراهيم على القواعد التي بينها الله سبحانه وتعالى له، وبنى البيت عليها، ثم تقاصرت النفقة عن قريش -كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها- فتركت من البيت أذرعاً وهي الحجر، وهل جزءٌ من الحجر في البيت أو لا؟ وجهان مشهوران عند العلماء رحمهم الله، لكن من حيث الصحة لا يصح الطواف إلا إذا طاف من وراء الحجر؛ لأن الذراعين والثلاثة وقيل: إلى ذراع من البيت، فإذا دخل بين الحجر وبين البيت وقيل: ذراع، فيمكن أن يستوعب، لكن الأشبه: ذراعان إلى ثلاثة، والقول في ذلك مشهور وفيه رواية في صحيح مسلم. وعلى هذا لا بد وأن يستوعب البيت بالطواف، ومن دخل في طواف ركن كطواف الإفاضة وطاف فيما بين البيت والحِجر، ولم يكن يتأول قول من قال من السلف رحمهم الله بصحة الطواف على هذا الوجه؛ فإنه يلزمه أن يعيد طواف الركن، وعليه أن يعيد طواف العمرة أيضاً، ولا يزال متلبساً بعمرته لطواف الركن إذا لم يؤده كما تقدم في كتاب المناسك، والله تعالى أعلم.

الحكم إذا اجتمع سهو نقص وزيادة في الصلاة

الحكم إذا اجتمع سهو نقص وزيادة في الصلاة Q إذا اجتمع سهو نقص وزيادة فلمن سيكون السجود؟ A إذا تعارض المتصل والمنفصل فيقدم المتصل على المنفصل، فالسجود قبل السلام فيه تدارك أكثر من السجود البعدي، ولذلك دخل السجود البعدي في القبلي كما في الصحيحين من حديث ابن عباس، وكذلك حديث السنن عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدةً صلى أو اثنتين فليبن على واحد، فإن لم يدر اثنتين صلى أو ثلاثاً فليبن على اثنتين، فإن لم يدر أثلاثاً صلى أو أربعاً، فليبن على ثلاث)، موضع الشاهد قوله: (ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان الذي صلاه أربعاً -يعني: صلاةً تامة- فالسجدتان ترغيماً للشيطان، وإن كان ما صلاه خمساً فالسجدتان تشفعانه)، فعند الشك جعل النبي صلى الله عليه وسلم سجدتي الزيادة قبل السلام موجبة للجبر، ونظراً لعدم التحقق من الزيادة والنقص جُعلت قبل السلام، فدل على أن اشتراك الزيادة والنقص الأشبه فيه والأصح ما اختاره جمعٌ من العلماء من أن السجود يكون قبلياً، وهذا كله على مذهب من يقول: إن السجود يكون بعدياً إذا كان عن زيادة، وقبلياً إذا كان عن نقص، وعلى مذهب من يقول: السجود على التفصيل، لا على مذهب من يقول: السجود كله بعد السلام أو السجود كله قبل السلام، والله تعالى أعلم.

حكم الدم الخارج من فرج المرأة في حالة الطهر

حكم الدم الخارج من فرج المرأة في حالة الطهر Q الدم الذي يخرج في حالة الطهر، هل هو دم نفاسٍ أو دم فساد؟ A إذا كانت المرأة حاملاً وأسقطت وخرج مع هذا الجنين دم نُظِر: فإن كان الجنين الذي أسقطته فيه صورة الخِلقة أو بعد تخلقه أو أصبح جنيناً مكتملاً فالدم في حكم دم النفاس على أصح قولي العلماء. وأما إذا أسقطت ما لا صورة فيه ولا خِلقة فإنه دم فسادٍ وعلة، فالأول: يوجب المنع من الصلاة والصيام، وحكمه حكم دم النفاس سواء بسواء، والثاني: دم فسادٌ وعلة، لا يوجب المنع من الصوم ولا من الصلاة، وحكمه حكم دم الاستحاضة، والله تعالى أعلم.

التفصيل فيمن يطوف نافلة وحضرته صلاة الجنازة

التفصيل فيمن يطوف نافلة وحضرته صلاة الجنازة Q من كان في طواف نافلة، وأراد الصلاة على جنازة، هل يجوز له أن يصلي عليها ثم يستأنف الطواف؟ A بالنسبة للطواف بالبيت فالثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعله في حكم الصلاة على أصح أقوال العلماء في حديث ابن عباس الذي اختُلِف في رفعه ووقفه: (الطواف بالبيت صلاة). وإذا ثبت أنه آخذٌ حكم الصلاة فإنه لا يقطع من أجل الجنازة على أحوط الوجهين عند العلماء رحمهم الله. وقال بعض أهل العلم: تعارضت العبادة التي يمكن تداركها والعبادة التي لا يمكن تداركها، فالصلاة على الجنازة لا يمكن أن يدركها إذا فاتت، والطواف بالبيت يمكن أن يدركه إذا قطعه وبنى، فقالوا: يقطع للصلاة على الجنازة كما يقطع للصلاة المفروضة، ثم يبني بعد فراغه من الصلاة على الجنازة، ونحن حينما قلنا: إن هذا أحوط، أي: أنه لا يُفعل في طواف ركن كطواف الإفاضة وطواف العمرة حتى لا يعرض طوافه للشبهة، لكن إذا كان طواف نافلة ونحوه وأراد أن يختار القطع ويبني ويستأنف إذا انتهى من صلاة الجنازة، فيقطع من أجل الفضيلة، ويصبح القطع في هذه الحالة ليس من باب البناء، يعني: عندما يقطع من أجل أن يصلي على الجنازة في النافلة لا يقطع لكي يعود ويبني، وإنما يقطع من أجل أن يستأنف من جديد، فإنه إذا قطع واستأنف من جديد حصل على الفضيلتين، حصل فضيلة الطواف على أتم وجوهها دون شبهة الحكم بالبطلان بوجود العبادة المخالفة، وفي الفرض يجوز ما لا يجوز من أجل النفل؛ لأن الفريضة متعينة بخلاف النافلة؛ ولذلك لا يمكن أن نقول: يقطع كالصلاة المفروضة؛ لأن القطع للصلاة المفروضة متعين، والقطع للنافلة متعين، لكن يقطع من أجل الفضائل، فيجوز أن يقطع من باب الفضيلة فيدرك العبادة التي لا يمكن تداركها ثم بعد ذلك يستأنف الطواف، وهذا لا شك أنه أبلغ في حصول الفضائل على أتم وجوهها وأكملها، وكذلك وقوع العبادة على وجهها الصحيح، والله تعالى أعلم.

معنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يحاز

معنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يحاز Q نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المبيع حتى يحوزه إلى رحله، هل المراد القبض أم نقله من مكانه؟ A هذه المسألة مسألة كيل الطعام، وجريان صاع البائع وصاع المشتري، قد تقدم بيان هذه المسألة في كتاب البيوع في مسألة القبض، وبيناه خلاف العلماء وتفصيلهم في شرح البلوغ، وبالنسبة لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يقبضه) اختلف العلماء فيه، ففي القديم كان الطعام كالبر والشعير والتمر يباع بالصاع فيشتري -مثلاً- صاع تمرٍ ثم يبيعه لغيره، قال ابن عباس رضي الله عنهما في علة هذا: (إنه يخشى الربا) وتوضيح ذلك: أنه إذا اشترى صاع الطعام بدينار ولم يكله ولم يقبضه ثم باعه بدينارين، فكأنه باع الدينار الأول بالدينارين، فصارت حقيقة الأمر: الصفقة في ظاهرها بيع للتمر، وفي حقيقتها بيعٌ للدنانير، ولم يكن يداً بيد ولا مثلاً بمثل، فرأى رضي الله عنهما في هذا شبهة الربا. وقال بعض العلماء رحمهم الله: نهي عن بيع الطعام قبل قبضه لخوف الغش، وذلك أنك ربما اشتريت الطعام على أنه عشرة آصع والناس تأمنك، فإذا جئت تبيع إلى رجل وهو يأمنك وقلت له: عشرة آصع، على قول البائع الأول، ولم تكتل ولم تستوفه بوجهٍ تضمن به القول الصحيح، واشترى منك الغير، وكان ذلك طعناً في أمانتك، هذا من جهة التجارة. كذلك أيضاً ربما كان سبباً للفتنة؛ لأنه ربما بعته على شخصين أو ثلاثة فوثق الثاني بك ووثق الثالث بالثاني، ثم باع الثالث وأصبح كلٌ منهم يتهم أن النقص حصل عنده ولم يحصل عند غيره، وهذا يحدث نوعاً من الفتن والضرر، والبيع يحرمه الشرع إذا أدى إلى المفاسد، كما نهى عن بيع الرجل على بيع أخيه، ونهى عن بيع الغش ونحو ذلك، أياً ما كان: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يقبض)؛ والقبض سمةٌ شرعيةٌ لانتقال الحكم بالضمان، وإذا قلت: إنه سمة شرعية لانتقال الحكم بالضمان، فإنه تتفرع مسألة وعلة ثالثة وهي: أنه إذا بنى على الطعام قبل قبضه وربح فيه، كان رابحاً لما لم يضمن، ووجه ذلك أنه لو اشترى منك مائة صاع -وهذا يحدث الآن في الأسواق- إذا اشترى منك صفقة، والصفقة تحتاج منك إلى حفظ ورعاية، ربما تركها عندك، فجعل حفظها ورعايتها عليك، وذهب وباعها بربح، فأصبح يأخذ ربح شيء لا يضمنه؛ لأنه لو تلفت الصفقة لقال لك: أعطني مالي؛ لأنني لم أقبض، فيلعب على الطرفين، فالشريعة لا تجيز ذلك، وليس من العدل أن يضمن ويغرم أحد الطرفين والآخر يأخذ المنفعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود وهو مجمع على متنه: (الخراج بالضمان) أي: الغرم بالغنم والغنم بالغرم، فمن يغرم الخسارة هو الذي يأخذ الربح، وهذا عدل من الشريعة، فإذا كان المبيع عند البائع ولم يقتضه المشتري وذهب المشتري يساوم فيه؛ فإن هذا يضرك أنت البائع في حفظه، ويضرك في ضمانه، ومع ذلك لا يتم البيع إلا بقبضه، فكأنه يستفيد منك فائدةً يأخذها دون دفع ثمنها وحقها، وهذا ظلمٌ على الناس؛ ولذلك لم يجز البيع إلا بعد القبض الموجود لانتقال يد المشتري. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

باب الوكالة [6]

شرح زاد المستقنع - باب الوكالة [6] الوكالة عقد ينبغي الالتزام بما يرد فيه من تقييدات، ولا ينبغي تعديها، فمتى قيَّد الموكل وكالته بشيء لم يجز للوكيل أن يتعدى هذا القيد، وهذا من كمال حفظ الشريعة لحقوق الناس ومصالحهم.

التوكيل في الخصومة

التوكيل في الخصومة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [والوكيل في الخصومة لا يقبض والعكس بالعكس]. شرع المصنف رحمه الله في بيان جملةٍ من المسائل والأحكام المتعلقة بلوازم الوكالة، فإذا وكل شخصٌ آخر بشيء فما الذي يحق للوكيل أن يتصرف به؟! وما الذي تقتضيه الوكالة لفظاً وما الذي تقتضيه عرفاً؟!

حكم التوكيل في الخصومة

حكم التوكيل في الخصومة فقال رحمه الله: (والوكيل في الخصومة). الوكيل في الخصومة: هو الشخص الذي تنفذه وكيلاً عنك للدفاع عن حقٍ من حقوقك سواءً كان من الحقوق المالية أو غيرها على تفصيل عند العلماء رحمهم الله في محل الوكالة في الخصومة، فيجوز للمسلم أن يوكل غيره في الخصومة عنه، فدل قوله رحمه الله: (والوكيل في الخصومة أنه لا يقبض) على جملةٍ من المسائل منها: المسألة الأولى: أنه يجوز للمسلم أن يوكل غيره في الخصومة، والخصومة تقع في القضاء، فإذا وقعت بين شخصٍ وآخر خصومة ونزاع في أرض -مثلاً- أو في عمارة أو في سيارة أو في مال فأراد أحدهما أن يوكل شخصاً آخر عنه لكي يقوم بالمخاصمة أمام القاضي عن هذا الحق، فإن جماهير السلف والخلف رحمهم الله على جوازه، وحُكي إجماع الصحابة على مشروعية هذه الوكالة، فيجوز لك أن توكل غيرك أن يخاصم، وقد جاء عن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه وكّل عقيل بن أبي طالب أخاه في خصومة كانت عند أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، ولما كان زمان عثمان بن عفان وقعت خصومةٌ أخرى فوكل علي رضي الله عنه عبد الله بن جعفر أن يخاصم عنه، وقال رضي الله عنه قولته المشهورة: (إن في الخصومة إقحاماً وإن الشيطان يحضرها، وإني أكره أن أحضرها). فقوله رضي الله عنه: (إن في الخصومة إقحاماً)، الإقحام: هو الهلاك، والمقحمة هي: المهلكة، وكأنه يقول: إن في الخصومات والنزاعات قد يستزل الشيطان أحد الخصمين فيقول كلاماً يوجب غضب الله عليه وسخطه، خاصةً وأن الحقوق أمرها عظيم، فقال رضي الله عنه: (إن في الخصومة إقحاماً)، فلربما كان الإنسان صاحب حق، فحينما يرى الظالم يتمادى في ظلمه ويكذب ويدعي أشياء مكذوبة ملفقة ربما سبه وشتمه واستزله الشيطان في أمور قد تكون أعظم من قضيته، وكذلك أيضاً لو كان ظالماً فالأمر أشد، فإن الشيطان ربما منعه من الاعتراف بالحق واستزله حتى لا يقول الحق على نفسه، ونحو ذلك مما يقع في الخصومات، فامتنع رضي الله عنه من شهود مجلس القضاء ووكل من يقوم عنه، ولما وكّل عقيل بن أبي طالب أخاه قال: (ما كان له فلي، وما كان عليه فعلي). يعني: وكلته فجميع ما يتمكن منه بالخصومة من حقي فهو لي؛ لأن الفرع تابع للأصل، وجميع ما يقر به أو يكون عليّ بسبب خصومته عني فإني ألتزم به، وهذا هو الأصل الذي تقتضيه الوكالة، والوكالة لها حالتان: الحالة الأولى: أن يكون بإمكانك أن تأتي إلى مجلس القاضي. والحالة الثانية: أن لا يكون بإمكانك إما لمرض أو سفرٍ أو نحو ذلك، فهل يجوز لك أن توكل في كلتا الحالتين، سواءً وجد العذر أم لم يوجد؟ أما من حيث حالة وجود العذر كالمرض والسفر ونحوه مما يتعذر ويصعب معه الحضور فيجوز عند العلماء أن توكل قولاً واحداً، ولكن لو كان الإنسان قادراً على الحضور وهو في المدينة، فهل يجوز أن يوكل غيره أن يدافع عنه؟ فقال جمهور العلماء: يجوز أن يوكل حتى ولو كان قادراً على الحضور؛ والسبب في هذا: أنه ربما لن تستطع أن تتفرغ لشهود مجلس القضاء، ولربما كان الخصم سفيهاً أو إنساناً فيه جرأة على الفضلاء والأخيار، ولذلك يمتنع الإنسان عن مخاصمة مثله، ولربما كان إنساناً له مكانته يستحي الإنسان من أن يخاصمه، فحينئذٍ يضطر إلى توكيل غيره، وكذلك أيضاً لربما كانت الموانع هذه كلها غير موجودة، ولكنك لا تحب أن تجلس هذه المجالس، ولا تحب أن تشهد هذه المواطن لوجود حق العلم ونحو ذلك من الفضل، وإلا فيجوز للمسلم أن يشهد مجلس القضاء ولا إشكال في ذلك، وقد جلس الصحابة والفضلاء والعلماء رحمهم الله في مجالس القضاء، وهذا لا ينقص قدر الإنسان؛ لأن شهود مجالس القضاء والإذعان للحق واجب على كل مسلم أن يلتزمه، وأن يرضى به إذا دُعي إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن المراد أن هناك حسناً وهناك أحسن، فإذا أمكن للإنسان أن يوكل جاز له أن يوكل سواءً كان حاضراً أو كان غائباً. كذلك ذكر العلماء علةً أخرى وهي: أنه ربما كان الإنسان عاجزاً عن التعبير ولا يحسن إقامة الحجة لنفسه، وكان خصمه ذكياً فطناً ربما تصيد العبارات أو الكلمات أو تصرف تصرفاً يوجب ضياع الحق من صاحبه، فلذلك قالوا: يشرع للإنسان أن يوكل سواءً وجد العذر أو لم يوجد، وهذا هو الصحيح: أنه يجوز أن يوكل عنه من يشهد القضية سواءٌ كان عنده عذر أو لم يكن عنده عذر.

حكم التوكيل في المحاماة

حكم التوكيل في المحاماة وإذا ثبت أنه يجوز التوكيل في الخصومة يتفرع عليه مسألة المحاماة، فإذا أراد أن يوكل محامياً للدفاع عنه فإن هذا مشروع من حيث الأصل، ويجوز للمحامي أن يدافع عن موكله ويقوم مقامه على تفصيل في هذه الضوابط وفي هذا النوع من التوكيل، فإذا وكل المحامي فلا يخلو وكيله من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون محض تبرع، كأن يكون المحامي يريد أن يدخل في هذه القضية إحقاقاً للحق، وإبطالاً للباطل، وإنصافاً للخصمين دون أن يأخذ أجرةً، ودون أن يأخذ عمولة فهذا لا شك أنه من نصرة المظلوم، وهو مأجور من الله سبحانه وتعالى، ومن آثر ثواب الآخرة على ثواب الدنيا أعظم الله أجره، وبارك له في علمه، وبارك له فيما يكون منه، وهذه سنةٌ من الله ماضية: أنه ما من إنسان يعطيه الله علماً ويعطيه الله عز وجل عطاءً من فضل هذه الدنيا أو فضل الآخرة من علوم الدين فيرفق بالناس ويعاملهم بالآخرة ويرجو ثواب الله عز وجل ويقدمه على ما عندهم إلا آجره الله وأعظم أجره، وجمع له بين خير الدين والدنيا والآخرة،. النوع الثاني من المحاماة: أن يكون بأجرة، وينقسم إلى قسمين: قسمٌ منه يكون بجُعل، وقسم منه يكون بإجارة، أما الذي يكون بالجعل فصيغته: أن يقول المظلوم أو صاحب القضية للمحامي: أثبت حقي أو إذا توصلت إلى حقي عند فلان أعطيك مائة ألف أو أعطيك خمسين ألفاً، فهذا جُعل، والأصل في الجعل قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72] فقوله تعالى عن يوسف عليه السلام: (وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ): يعني: جعلاً وعطية على إحضار هذا الصواع (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ)، فهذا بالإجماع عند العلماء يعتبر جُعالة، وأجمعوا على مشروعية الجعالة، والجعالة تختلف عن الإجارة، فالإجارة تتجزأ، فإذا عمل العامل نصف العمل تعطيه نصف الأجرة، لكن في الْجُعل لو عمل تسعة أعشار العمل ولم يتمه لا يستحق شيئاً؛ فهناك فرق بين الجعل وبين الإجارة، ولذلك حديث الرقية عندما قالوا: (اجعلوا لنا جعلاً)، ورقي بالقرآن وشُفي اللديغ، وكذلك قصة المجنون لما شفي، هذا كله في الجعل، ومن هنا قال بعض العلماء: لا يجوز أخذ الأجرة على الرقية من باب الإجارة للشبهة، والمقصود: ما لم يشف المريض، فإذا كان الاتفاق بين الطرفين -بين صاحب القضية والمحامي- على أن يتوصل إلى حقه لم يكن له شيءٌ إلا إذا كان الحكم، وثبت أن الحق لصاحب القضية، فإذا دافع المحامي عن هذه القضية ومكث سنوات ولم يستطع أن يتوصل إلى حق الرجل فلا يستحق شيئاً، هذا إذا كان التوكيل في الخصومة بأجرة الجعل، أما إذا كان بإجارة فهذا فيه تفصيل، وإن شاء الله سنبين ضوابط الإجارة، ويسري عليه ما يسري على الإجارة من الشروط والأحكام التي ينبغي توفرها لاعتبار الإجارة على هذا الوجه الصحيح، إذا ثبت هذا فإن الخلاصة: أنه يجوز التوكيل في الخصومات. سواءً كان الموكل وصاحب القضية حاضراً أو غائباً عنده عذر أو لم يكن عنده عذر في شهود مجلس القضاء. ثانياً: يجوز التوكيل بأجرة وبدون أجرة على تفصيل من حيث الْجُعل والإجارة. ثالثاً: مسألة التوكيل في الخصومة: من وكل في الخصومة، هل من حقه أن يقبض أو ليس من حقه ذلك؟ هناك تنبيه ينبغي أن ينبه عليه حينما قلنا بمشروعية المحاماة وأخذ الأجرة عليها: الشرط الذي ينبغي أن ينبه عليه أن محل الجواب والحكم بجواز هذا النوع أن يكون المحامي مقتنعاً أن موكله صاحب حق، أما إذا كان موكله -والعياذ بالله- ظالماً، وعلم ظلمه وأراد أن يقلب الحق باطلاً، فإنه -والعياذ بالله- يعتبر ماله سُحتاً وإجارته محرمة؛ لأن الله حرم التعاون على الإثم والعدوان، وهو شريكٌ له في جميع ما يترتب على هذه المحاماة من إضرار بالخصم. فإذاً: قولنا بالجواز ينبغي أن ينبه على أنه ينبغي أن يكون المحامي مقتنعاً بأن موكله صاحب حق، فإذا اقتنع بأنه صاحب حق شُرِعَ له أن يدافع في حدود الحق الذي له، لا يزيد ولا يظلم.

قبض الوكيل في حال التوكيل بالخصومة

قبض الوكيل في حال التوكيل بالخصومة إذا ثبت أن الوكالة بالخصومة مشروعة ف Q إذا وكلت شخصاً في خصومة هل من حقه أن يقبض عنك أو ليس من حقه؟ توضيح ذلك: لو وكلت شخصاً أن يدافع عنك في مائة ألفٍ تستحقها على شخص، فلما أقام القضية وأثبت أن لك عند فلان مائة ألف، وحكم القاضي بهذه المائة، هل يجب على الخصم أن يدفع الألف إلى وكيلك أو لا يجوز أن يدفعها إليه بل يدفعها لك؟ وبعبارة أخرى: هل توكيلك في الخصومة يعتبر إذناً بالقبض -أي: قبض الحق- أو ليس إذناً بذلك؟ اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة فقال بعض العلماء: التوكيل في الخصومة لا يستلزم القبض، وهو مذهب الجمهور: حتى إن صاحبي الإمام أبي حنيفة رحمةُ الله على الجميع: القاضي أبو يوسف القاضي، والإمام محمد بن الحسن يقولان رحمهم الله: إنه إذا وكله في الخصومة فليس من حق المحامي والوكيل أن يقبض المال، وإنما من حقه فقط أن يثبت الحق، أما استلام الحق فهذا مرده إلى الموكل، وحينئذٍ يحكم القاضي بأن لك مائة ألف، ثم ننتظر: إن شئت أن توكل شخصاً آخر بالقبض، وإن شئت أن توكل المحامي بالقبض تقول: وكلته في الخصومة وهو أن يقبض الحق الفلاني في هذه الخصومة، إذا ثبت هذا، فالجمهور يقولون: إنه إذا وكله الخصومة، لا تستلزم وكالة الخصومة القبض. وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله وطائفة من العلماء: التوكيل في الخصومة توكيل في القبض، والمحامي من حقه أن يستلم هذا المال، ومن حقه أن يستلم ما حكم به القاضي من حقوق، والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور؛ ولذلك إذا وكلت أحداً في الخصومة فقد ترضاه مخاصماً ولا تأمنه على مالك، ويكون رجلاً يحسن الجواب والخطاب ولكن لا تأمنه على مالك، وحينئذٍ يفرق بين الإذن بالخصومة والإذن بالقبض، حتى قال بعض العلماء: من وكل بالخصومة فإنه غير موكل بالقبض لا لفظاً ولا عرفاً، يعني: لا لفظ الوكالة يستلزم أن يقبض، ولا عرف الناس يستلزم أن الخصومة تستلزم القبض، ولذلك ليس من حقه أن يقبض المال وليس من حقه أيضاً أن يقبض ما حكم به القاضي لموكله.

التوكيل بالقبض توكيل بالخصومة

التوكيل بالقبض توكيل بالخصومة قال رحمه الله: [والوكيل في الخصومة لا يقبض والعكس بالعكس]. (العكس بالعكس)، يعني: الوكيل بالقبض من حقه أن يخاصم، والوكالة بالقبض تستلزم الخصومة، والوكالة بالخصومة لا تستلزم القبض، فيقال هكذا: الوكالة بالخصومة لا تستلزم القبض والوكالة بالقبض تستلزم الخصومة، كيف جاءت مسألة الوكالة بالقبض تستلزم الخصومة؟ يعني: عندما يقول لك شخص: اذهب إلى فلانٍ واقبض حقي منه، فذهبت إلى هذا الرجل فقال لك: ليس لفلانٍ عندي شيء، فجئت بشهود وخاصمت ثم قبضت الحق، ففي هذه الحالة حينما وُكلت بالقبض، وُكلت بأخذ أو فعل جميع الأسباب للوصول للقبض، فأصبح هذا مندرجاً تحت قاعدة شرعية يعبر عنها العلماء بقولهم: (الإذن بالشيء إذن بلازمه)، فإذا وَكلت شخصاً في شيء ما ولهذا الشيء لوازم، فمعنى ذلك أنك حينما أذنت بهذا الشيء فقد أذنت بلوازمه. وعلى هذا قال العلماء: إنه إذا أذن له أن يقبض حقه فإن من لازم قبض الحق إذا امتنع الخصم من إعطائه الحق أن يخاصمه وأن يثبت ذلك الحق حتى يتوصل إلى ما وكل فيه وهو القبض، وعلى هذا ثبت ما ذكرناه: أن الإذن بالخصومة لا يستلزم القبض؛ لأنه زائد على معنى الخصومة، والإذن بالقبض يستلزم الخصومة؛ لأن الإذن بالشيء إذنٌ بلازمه وإذنٌ بما يقتضيه، ولما قلنا: (الإذن بالشيء) الوكالة أصلها إذن، وقد بينا هذا في تعريف الوكالة أنها إذنٌ بالتصرف، فإذا أذن له أن يقبض المائة الألف التي عند المستأجر الفلاني، فمعناه: ابذل جميع الأسباب لأخذ المائة الألف، فلما جاء إلى المستأجر قال له: ليس لفلان عندي مائة ألف، فأحضر شاهدين يعلمان أنه استأجر بمائة ألفٍ ولم يدفع، فأقامهما، فلما جاء عند القاضي قال له القاضي: من الذي وكلك أن تخاصمه؟ فأثبت أن فلاناً وكله في قبض المال، ويقول: الإذن بقبض المال إذنٌ بلازمه وهو الخصومة إن احتيج إليها، وعلى هذا: يكون وكيلاً بالخصومة كما أنه وكيلٌ بالقبض.

من المسائل المتعلقة بتصرفات الوكيل تصرفه في القبض من الشخص ومن ورثته

من المسائل المتعلقة بتصرفات الوكيل تصرفه في القبض من الشخص ومن ورثته قال رحمه الله: [و (اقبض حقي من زيد) لا يقبض من ورثته إلا أن يقول (الذي قبله)]. هذا كله -مثل ما ذكرنا- مسائل تتعلق بالتصرفات: (اقبض حقي من زيدٍ لا يقبض من ورثته إلا أن يقول الذي قبله)، عندنا لفظان: اللفظ الأول: (اقبض حقي من زيد). اللفظ الثاني: (اقبض حقي الذي قِبل زيدٍ). بالنسبة لقوله: (اقبض حقي من زيد)، هذا اللفظ إذنٌ بالقبض من زيدٍ بعينه؛ لأنه سمى وحدد، فلو أن زيداً مات فإنه ليس من حقه أن يطالب الورثة؛ لأنه أُمِرَ بالقبض من عين زيدٍ، وإذا أمر بالقبض من عين زيد فإن هذا لا يستلزم القبض من الورثة وإنما يحتاج إلى إذنٍ آخر أو إذن عام يدل على أن المراد قبض الحق بغض النظر عن كونه من الميت أو من ورثته. فقال رحمه الله: (واقبض حقي من زيد): نحن نبهنا غير مرة أن العلماء رحمهم الله يذكرون أمثلةً وألفاظاً لا يقصدون المثال واللفظ، إنما يقصدون الأصل، فهو حينما قال لك: (اقبض حقي من زيد)، فهذا تعيين، فالأصل أن الوكالة إذا عُيّن فيها التصرف وتعلق بشخصٍ معين أو بصفةٍ معينة أو بحالة معينة أو بزمانٍ معين وجب أن تتقيد الوكالة بذلك، وعلى هذا: لو قال له: اقبض حقي من زيدٍ، فمعناه: أنه يقبض من زيد ولا يقبض من غيره، فلو مات زيدٌ لا يستحق أن يطالب ورثته. وإذا قال: (اقبض حقي الذي قبله) يعني: عنده، والحق الذي عند زيد، فلم يعين القبض من زيد، إنما قال: اقبض حقي الذي قبله، والحق الذي عنده ولم يقل: من زيدٍ، وإنما قال: اقبض حقي الذي قِبل زيد، فلم يكن القبض معيناً فيه زيد، وبناءً على ذلك قُصد منه قبض الحق. الصورة الثانية: في قوله: (الذي قبله)، وقبل الشيء ناحيته وجهته، فالمراد من هذا: أنه قال له في اللفظ الثاني: (اقبض حقي الذي قبل زيد) أي: قصد إبراء ذمة زيد، فيستوي في ذلك أن يقبض من زيد أو يقبض من ورثة زيد بعد موته.

حكم تضمين وكيل الوديعة

حكم تضمين وكيل الوديعة قال رحمه الله: [ولا يضمن وكيل الإيداع إذا لم يُشهد]. يعني: من وُكّل في وديعة، فإنه إذا دفعها وقال له: خذ هذه المائة الألف اذهب وأعطها صالحاً يجعلها عنده وديعة، فنحن ذكرنا أن هذه كلها تصرفات الوكيل، فإذا قال له: خذ هذا المال وأعطه صالحاً وديعةً عنده، فإنه من حيث الظاهر أن تصرفات الوكيل يحتاط فيها، والوكيل إذا لم يحتط فيما ينبغي فيه الاحتياط يضمن، وبناءً على ذلك يرد Q هل يضمن في كل وكالة أو يضمن في وكالات أخرى؟ قال العلماء: هذا يختلف بحسب اختلاف الموكل فيه، كالوكالة في الوديعة، والوديعة مأخوذة من الودع، وأصل الودع الترك، يقال: ودعه، إذا تركه، ومنه قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] يعني: ما تركك وما هجرك، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمعات -يعني تركهم للجمعات- أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين) نسأل الله السلامة والعافية. فالمقصود: أن الودع هو الترك، وسميت الوديعة وديعة؛ لأنك إذا أعطيت شيئاً إلى شخصٍ وديعة عنده فينبغي أن يترك المال بعينه ولا يتصرف في ذلك المال، وإذا طلبته في أي وقتٍ مكنك منه، فيترك المال دون أن يتصرف فيه ودون أن تمتد يده إليه، حتى قال بعض العلماء: لو كان المال في كيس فلا يجوز أن يفك رباطه، وإذا فك رباطه خرجت الوديعة إلى الضمان، وهذا لو فك الرباط فقط، فضلاً عن كونه يتصرف فإنه يضمن، فقالوا: لو جاء شخص مثلاً وأعطاك مائة ألف وقال لك: يا فلان! هذه مائة ألف وديعة عندك، فالواجب والمطالب به شرعاً أن تأخذ هذه الألف بعينها خمسمائة، مئات، خمسينات، عشرات، ريالات، تأخذها، وتحفظها بعينها دون أن تتصرف فيها، ودون أن تغير أو تبدل في ذلك المال بعينه، هذا أصل الوديعة؛ ولذلك بينا هذا وقررناه في مسائل الودائع المصرفية، وبينا ضوابط الوديعة، وكيف خرجت الوديعة من يد الأمانة إلى يد الضمان لفوات هذا الأصل، فالأصل في الوديعة الحفظ، لكن هذه الوديعة الضمان فيها ضيق، ويد المودع -وهو الشخص الذي تضع عنده المال- يد أمانة ولا يضمن، وسيأتي تقرير هذه المسألة وفيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، فإذا كانت يده يد أمانة فمعنى ذلك: أنه سواء أشهدت أو لم تشهد فليس هناك كبير فائدة؛ ولذلك قالوا: إنه إذا أعطى الوكيل المال لكي يضعه عند شخصٍ ما وديعةً، فإن المودَع لو أنكر الوديعة لم يستطع أحد أن يطالبه، فليس هناك شيء يدل على الوديعة؛ ولذلك يقولون: إن إذن الموكل بدفع المال وديعةً عند شخصٍ آخر يستلزم أن تكون يده يد أمانة، فقد رضيه أميناً، وإذا رضيه أميناً فيد الوكيل خرجت. بعبارةٍ أخرى: الآن عندنا صالح، وعندنا وكيل وموكل، الوكيل عنده خمسون ألف ريال مثلاً، فقال الموكل لوكيله: خذ هذه الخمسين ألفاً وأعطها صالحاً وديعةً عنده، فصار عندنا موكِّل، وعندنا موكَّل، وعندنا مودَع، فالموكِّل صاحب المال، والوكيل هو الشخص الذي ينقل الخمسين إلى صالح، والمودَع هو صالح، فحينما اختار الموكِّل صالحاً من أجل أن يودع عنده المال فقد رضي أمانته، وحينما اختار الوكيل لحملٍ المال فالوكيل أمين، ولا يضمن، فحينئذٍ كأنه رضي الطرفين. وبناءً على ذلك: انتقال المال من الوكيل إلى المودع لم يحدث شيئاً جديداً، بحيث إنه انتقل من يد إلى يد، لم ينتقل من يد ضمان، ولا من يد ضمان إلى يد أمان، فاليد هي واحدة، فهو ينقل بين شخصين رضي أمانتهما، وبناءً على ذلك: لو لم يشهد هذا الوكيل فنقول: إنه لم يفرط؛ فالتفريط وقع ممن وكله؛ فالذي وكله رضي هذا الشخص من أجل أن يحفظ المال، ورضيه أيضاً لأمانته فحينئذٍ لنا الظاهر؛ لأنه مقر بأنه أمين بدليل أنه دفع المال إليه، فالأصل أنه سيقوم بالأمانة ويؤديها على الوجه المطلوب، فإذا قال: دفعت إليه ولم يشهد، فأنكر صالح الخمسين ألفاً، وقد علم الموكِّل أن الوكيل أوصلها، فأنكر صالح، فيرد السؤال، كان المفروض أن يحتاط الوكيل ويشهد على الأصل الذي قررناه أن الوكالة تستلزم الاحتياط، قالوا: لا يضمن الوكيل في هذه الحالة؛ لأن إذن الموكِّل بطرح المال أو دفعه إلى المودع وهو صالح يدل على رضاه بالأمانة؛ ولذلك لا يضمن، وسيأتي -إن شاء الله- بيان كون الوديعة يدها يد أمانة في باب الوديعة.

الأسئلة

الأسئلة

مسألة (ضع وتعجل) في الديون والتقسيط

مسألة (ضع وتعجل) في الديون والتقسيط Q إذا قال صاحب الدين للمدين: إن عجلت في دفع الدين نقصت عنك كذا، فما الحكم إذا كان هذا الاتفاق في مجلس العقد أو بعده؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: إذا قال صاحب الدين للشخص المديون: عجل بالمال أسقط عنك نصفه، أو أعطاه مائة ألف وقال له: إن دفعت لي تسعين ألفاً سامحتك في عشرة آلاف، وكان هذا قبل حلول الأجل، فذهب طائفة من أهل العلم رحمهم الله إلى جواز ذلك في الأصول، وبه أفتى حَبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، واختار هذا القول جمعٌ من المحققين كالإمام ابن قدامة كما نص عليه في المغني وغيره، أنه يجوز أن يُسقط رب المال جزءاً من الدين ويتعجل الدين، وقد ثبت ذلك في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: حينما أجلى بني قريظة فإنهم قالوا: يا محمد! أموالنا عند أصحابك فقال عليه الصلاة والسلام: (ضعوا وتعجلوا) فدل هذا على مشروعية (ضَع وتعجل) في هذه الصفة أنها مستثناة. الحالة الثانية: وهي أن يكون البيع بالتقسيط، وتتركب الزيادة بالأجل، فيقول له: هذه السيارة على سنتين ثم يأخذها، وتكون هناك زيادة بقدر خمسة آلاف ريال مقابل السنتين، فيأتي عند نهاية السنة الأولى ويقول له: عجل وأسقط عنك ربح السنة الثانية هذا لا يجوز؛ لأنه من (ضع وتعجل) على الأصل الذي ورد به دين الجاهلية، وكانت الديون المستفادة مركبة بالآجال، ولذلك لا يجوز في بيع التقسيط؛ لأن المسامحة هنا مقابل الأجل، ولكن هناك في الأصل يجوز له أن يخلي يده من أصل المال فجاز له أن يسامحه عن كله أو بعضه، وتوضيح ذلك أكثر: أنه حينما يكون أصل المال الذي لك على المديون مائة ألف ريال، فإن من حقك أن تسامحه في المائة كلها، ويجوز لك أن تسامحه عن بعضها، فأنت إذا قلت له: عجّل التسعين ألفاً وأسامحك بالعشرة، فقد أسقطت شيئاً من مالك؛ لأن الديون تستحق بالأصل، وقد بينا هذا في باب القرض، وفي هذه الحالة حينما تكون المائة ألف كلها ملكاً لك، لم يكن شيء من المائة مركباً على أجل، بخلاف بيع التقسيط، فبيع التقسيط حينما قسط على سنة زاد زيادة متعلقة بالسنة وقسط على سنتين فزاد زيادةً تناسب السنتين، فحينما يأتيه في أثناء دفع الأقساط ويقول له: عجّل وأسقط على الشرطية، أو يأتي من اشترى السيارة ويقول لصاحب المعرض: ضع عني وأعطيك الآن كذا، فإنه لا يجوز؛ لأنه مركب على ديون الجاهلية، فصار الإسقاط تمحض مقابل الأجل، فأصبحت الشبه هنا أنه مقابل الأجل في شبهة الدين المعروف في دين الجاهلية، (ضع وتعجل وزد وتأجل). على العموم: إذا كان أصل المال كله مستحقاً لك جاز لك الإسقاط، وأما في مسائل الديون التي تتركب فيه الزيادة مقابل الأجل فيحظر فيها الإسقاط، والله تعالى أعلم.

إذا تلفت السلعة قبل القبض أو بعده في حال اشتراط النقل

إذا تلفت السلعة قبل القبض أو بعده في حال اشتراط النقل Q إذا اشترط البائع حملان الدابة إلى موضع كذا، أو اشترط حملان السلعة فتلفت هل يضمنها البائع؟ A المسألة الأولى: وهي مسألة النقص مقابل التعجيل، قلنا: إنه في حال التقسيط وفي حال الأجل لا يجوز، ويجوز إذا كان بعد القبض، فمثلاً: كنت تعطي صاحب المعرض أقساطاً، وبقي لصاحب المعرض من الأقساط ما يقارب خمسين ألفاً، إذا مكنته من الخمسين دون شرط ودون وعد وقبض الخمسين ثم قال لك: أنا متنازل عن خمسة فلا بأس بعد قبضه؛ لأنه يجوز بالعطاء ومحض الفضل ما لا يجوز بالشرط كما ذكرنا في الزيادة على الديون، إذا لم تكن على سبيل الشرط عند القضاء، والأصل في ذلك حديث أنس في الصحيحين: (إن خير الناس أحسنهم قضاءً) وقد قال عليه الصلاة والسلام: (رحم الله امرأ سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) فسمحاً إذا اقتضى يعني: إذا أخذ، فإذا سامحه بدون شرطية وبعد القبض جاز، لكن أن يشترط في قبض المال أن يسامحه لا يجوز. أما المسألة الثانية وهي: إذا اشترى دابة، واشترط حملانها إلى موضعٍ معين، هذا فيه تفصيل: إذا اشتريت سلعةً واشترطت من صاحب المحل أن يحملها إلى موضع معين، فهذه مسألة البيع والشرط، وقد بينا هذه المسألة: مسألة البيع والشرط، والبيع والشرطين، وذكرنا خلاف العلماء في مسألة الشرط والشرطين، فعلى القول بجواز هذه الصورة وهي أن تشتري وتشترط -مثل ما يسمى الآن: التوصيل للمنزل- فلو أن هذه السلعة التي اشتريتها كالطعام وضعت في السيارة، ثم لما وصلت إلى بيتك وصلت تالفة كزجاج انكسر أو طعام فسد أو نحو ذلك، هذا فيه تفصيل: إن كانت قيادة السيارة والوسيلة التي تحمل هذا الشيء فيها تخريب فيضمن السائق، مثلاً: لو أن قائد السيارة يقودها بسرعة حتى تكسر الزجاج، هذا واضح أنه فرط فيضمن في هذه الحالة. الحالة الثانية: أن يكون قائد السيارة لم يفرط، وهذا الأمر جاء بآفة سماوية ليست بيده، وهذا يشمل جميع ما يمكن أن يقال في الإجارات، حتى لو أنك أرسلت سيارة من مكة إلى المدينة تحمل لك -مثلاً- إسمنت، فمشت السيارة ثم أصابتها السماء والمطر، وفسد الإسمنت بهذا الماء الذي أصابه، فما الحكم؟ إذا كان النقل جرى العرف فيه بأمور يتحفظ فيها السائق والناقل، فالمسئولية مسئولية الناقل إذا فرط، فإذا جرى العرف أن هذه السلعة تغطى بالغطاء ولم يغطه فحينئذٍ يضمن، ويكون الضمان على السائق، لكن لو أن هذه الآفة والتلف حصل بدون تفريط، يعني: لم يفرط واحتاط السائق، ووقعت آفة سماوية أتلفت هذا الشيء، مثال ذلك: لو اشتريت بهائم، ووضعت في سيارة ماء، فلما وصلت إليك إذا نصفها ميت، وأثبت الطبيب البيطري: أنه ما في تعد، إنما ماتت قضاءً وقدراً، فهل البهائم يضمنها البائع؛ لأنها لم تصل إلى المشتري، أو يضمنها المشتري لأنه أمر بحملها؟ هذا فيه تفصيل: إن قبضت البهائم -وهذا ذكرناه في البيوع- وخلا البائع المشتري بينه وبين البهائم، فجاء المشتري بالسيارة وتعاقد معه، وحملت على ضمانه، فحينئذٍ قد خليت مسئولية البائع بخروجها من الزريبة أو من المستودع إذا كانت مبيعات متعلقة بالمستودعات ونحوها، فتبرأ ذمة البائع بإخراجها من المستودع لما قبضها المشتري، لكن إذا لم يحصل القبض وقال البائع للمشتري: نحن نوصل هذا الشيء إلى بيتك، أو لا يهمك إلا والشيء قد وصل إلى بيتك، أو نحن نتكفل بتوصيله، فيد المشتري لم تنتقل السلعة إليها، وحينئذٍ يضمن البائع ولا يضمن المشتري؛ لأن السلعة المباعة لا تضمن في هذه الصورة إلا إذا قبض المشتري، ومن أمثلة ذلك: لو أنك دخلت إلى بقالة فوجدت فيها -مثلاً- علبة من الزجاج قلت: بكم هذه العلبة؟ قال بخمسة ريالات، قلت له أنزل لي واحدةً منها أو أنزل لي هذه، فأخذها البائع لينزلها فانكسرت، من الذي يضمن؟ البائع؛ لأنك لم تقبض السلعة بعد، والضمان في المبيعات قلنا: شرطه القبض، أو ما في حكم القبض من التخلية على حسب ما يجري به العرف في المبيعات، وقد قررنا هذه المسائل. وعلى العموم: يفرق في حكم هذه المسألة بين كون المشتري قد قبض المبيع أو لم يقبض، فإن كان قد قبض المبيع انتقل الضمان إليه، وإن لم يقبضه فإن الضمان باق على البائع، والله تعالى أعلم.

ضبط العلم مطلوب قبل الدعوة إلى الله

ضبط العلم مطلوب قبل الدعوة إلى الله Q كيف يكون السير في أمور الدعوة إلى الله لطالب العلم؟ A هناك جانبان ينبغي التنبيه عليهما: الجانب الأول: يتعلق بشخصية طالب العلم، والداعية إلى الله عز وجل، والجانب الثاني: يتعلق بالقيام بمسئولية الدعوة، والجانب الثاني -وهو الدعوة إلى الله- مفتقر بإجماع العلماء إلى الجانب الأول، ولا يمكن أن يؤمر بالدعوة إلى الله إن كان جاهلاً، وقد أشار الله إلى هذا الأصل في قوله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، فأثبت سبحانه أن الدعوة تكون بعد العلم والبصيرة، وكذلك قال تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام:57]، والبينة من البيان والوضوح أي: ما يتبين به الشيء ويتضح به الأمر، وعلى هذا: فلا بد لمن يدعو إلى الله أن يكون على بصيرة وعلم ونورٍ يفرق به بين الحق والباطل والصواب والخطأ، حتى يخرج إلى الناس وأرضيته ثابتة ويكون هادياً مهدياً؛ فإن استعجل وخرج للناس قبل العلم والبصيرة والنور من الله ضل وأضل، وكان -والعياذ بالله- ممن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا، وكم من أمم ضلت وشقيت وبليت بسبب تقدم الجهّال وادعاء العلم من الأدعياء الذين لا بصيرة عندهم! فعلى طالب العلم أن يعلم أن الله لم يكلفه الدعوة إلا بعد العلم: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة:122] هذا النفير من أجل العلم والدعوة إلى العلم فقال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] فجعل النذارة والقيام برسالة الرسل مفتقراً إلى التفقه والتعلم، فلا يمكن لنا أن نقوم بالدعوة إلا بعد العلم. فيبدأ أولاً: بطلب العلم والتأصيل لهذا الطلب، والتأصيل من جهة من يأخذ عنه العلم والتأصيل للعلم الذي يأخذه، والتأصيل للطريقة والكيفية التي يضبط بها هذا العلم، فإذا بنى علمه على أصل صحيح وكان هذا العلم موروثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخذه من العلماء العاملين الأئمة المهديين، الذين جمع الله لهم بين العلم والعمل، وبين الهداية والاهتداء، والصلاح والإصلاح؛ فإن الله سبحانه وتعالى سيبارك له كما بارك لهم، ويكون علمه علم حق وبصيرة، وسينفعه الله في نفسه، وسينفع به عاجلاً وآجلاً. ولذلك أول ما ينبغي أن نبحث في مسألة: هل الدعوة أولاً أو العلم؟ أن نقول: إن العلم هو الأساس والأصل، ونصوص الكتاب والسنة دالةٌ على ذلك، ولا يمكن أن يؤمر إنسانٌ بالدعوة إلى الله عز وجل حتى يكون على علم، لكن هناك ما يسمى بالأحوال المستثناة التي يقوم فيها الإنسان بالدعوة في حدود العلم الذي يتعلمه، وهذه المسألة أظنها هي المقصودة بالسؤال، وهي مسألة: هل لطالب العلم أن يشتغل أثناء طلب العلم بشيء من الدعوة؟ فالحقيقة من حيث الأصل والأفضل والأكمل والذي كان عليه العلماء رحمهم الله: أن طالب العلم ينبغي أن يركز كل تركيزه واهتمامه لطلب العلم، ولا يمنع هذا أنه إذا كان عليه فريضة أو وقف في موقف يحتاج إلى بيان الحق أو إحقاق الحق أو إبطال الباطل أن يتكلم، إنما المراد أن يجعل شغله ضبط العلم؛ لأنه سيخرج للأمة بخيرٍ أكثر مما لو استعجل، ولذلك وجدنا من طلاب العلم من فرغ نفسه لطلب العلم إبان طلبه للعلم، فلما خرج للأمة وضع الله له من القبول ما تدارك به أزمنة كان قد احتبسها وادخرها لطلب العلم، فقد تجد طالب العلم ينحصر ثلاث سنوات في علمٍ يتقنه ويقوم بحقوقه على أتم الوجوه فينفعه الله عشرات السنين بهذا العلم، ويبقى إماما مهديا، ويضع الله له القبول؛ لأن كل من أنصت إليه وكل من نظر إلى علمه وجد فيه الأمانة، ووجد فيه الضبط والإتقان فأحب هذا العلم، ونجد من ثمرات هذه المحبة ما يعود بالخير على الأفراد والمجتمعات، فإذا نُظر إلى مسألة انحصار طالب العلم وعدم استعجاله بالخروج نجد أن ذلك يفضل بكثير ما لو استعجل. ثانياً: أنه إذا استعجل ربما استزله الشيطان، ولربما وقف في مواقف لا يستطيع فيها أن يقف عما لا علم له -نسأل الله السلامة والعافية- فلربما أفتى بغير علم، ولذلك يهلك بالاستعجال، ولذلك قال العلماء: إن الغالب في طالب العلم إذا استعجل أن يصاب بفتنة الظهور، كما قال الإمام الشافعي إذا تصدر الحدث افتتن، وقالوا في حكمتهم المشهورة: (حب الظهور قَصَم الظهور)، فإذا استعجل وظهر للناس كلما تكلم أو تعلم كلمتين أحب أن يقف فيها أمام الناس، أو كلما تعلم شيئاً قليلاً في علم أخذ يرد على الأئمة والكبار، وأخذ يقوم في المساجد والمجالس، ويتعقب هذا، ويرد على هذا، ويخطئ هذا، حتى -نسأل الله السلامة والعافية- يبتليه الله بفتنة قد تكون سبباً في هلاكه وحرمانه من الخير في دينه ودنياه وآخرته، وسنة الله معلومة في مثل هذا، فطالب العلم عليه أن يتحفظ، ولذلك الذي أوصي به ضبط العلم ما أمكن، ليس معنى قولنا: إنه لا ينشغل بالدعوة أن هذا منع أو تحريم للدعوة، لا. إنما المراد الأفضل، إلا أن بعض مشايخنا رحمةُ الله عليهم وبعض العلماء المعاصرين يرى أن هذا الزمان اختلف عن أزمنة السلف، وأن الناس بحاجة إلى كل طالب علم، وأن الحاجة ماسةٌ جداً فقال: صحيح أن هدي السلف ضبط العلم أولاً ثم الدعوة، ولكن هذه الأزمنة تستلزم أن يوجد طلاب العلم وأن يوجد الدعاة أكثر، والمسألة فيها اجتهاد، لكن من حيث الأصل لا شك أن الناظر إلى حال السلف والناظر إلى حال الأئمة يجد أنهم ما خرجوا للناس إلا على بصيرة، ولا خرجوا إلا على علم وحقيقة تامة، وإذا كان بينك وبين الله إخلاص وكان بينك وبين الله ورع أن تقف قبل الدعوة وتضبط العلم خوفاً من أن يستزلك الشيطان، فاحتبست لطلب العلم، وصبرت على مجالس العلم وصابرت، فوالله لن تموت حتى يقر الله عينك بفتح منه عاجلٍ أو آجل بهذا العلم، وهذا أمر كان مشايخنا رحمة الله عليهم يوصون به أننا لا نستعجل، ويعلم الله كم رأينا من الأقران ممن يحب أن يتكلم ويلقي الكلمات ويتقدم في المجالس حتى جاء الزمان الذي رأيناهم فيه دون ذلك بكثير، ورأينا من صبر فوقهم بكثير، وهذا لا شك كثيراً ما يكون مبنياً على الورع والخوف من الله عز وجل، وحينئذٍ ننبه على مسألة وهي: أننا إذا رأينا طالب علم تخصص في طلب العلم فينبغي أن لا نشوش عليه، فبعض طلاب العلم خاصة في مثل هذه القضايا الفكرية يضيقون فيها، ويكثر فيها الأخذ والرد، وأيضاً يكثر فيها الجدال والنقاش، فهذا يخطئ هذا، وهذا يصوب نفسه ويخطئ غيره، ينبغي أن نعلم أن مثل هذه المسائل اجتهادية، وأن طلاب العلم لم يبلغوا درجات الاجتهاد في مثل هذه المسائل، فعليهم أن يسمعوا من العلماء، فمن اقتنع بقول عالم يقدم الدعوة هو مأجور -إن شاء الله- غير مأزور، ومن اقتنع بقول عالم يقول: اضبط العلم، وأعطه حقه، والله يتولى أمرك في دعوتك بعد أن تضبط، ويشهد لك العلماء أنك أهل للفتوى والتعليم، فإذا ترجح عنده هذا القول فهو على خير مأجور غير مأزور، ولا ينبغي أن يثرب أحدٌ من الطائفتين، ولكن نسأل الله عز وجل أن يلهمنا رشدنا، وأن يرزقنا الإخلاص، فوالله ما كان الإخلاص في قليلٍ إلا كثره، ولا كان في أمر إلا باركه، وليس هذا مانعاً أن يكون لطالب العلم نوع من النفع لعباد الله، فمثلاً: لو أنه كانت له كلمة أسبوعية أو جهد منحصر بسيط جداً في الدعوة يعني: بحيث يكون فيه نفع كثير فهذا لا بأس به، لا بأس أن يكون ذلك، شريطة أن يكون الأصل هو طلب العلم، وأن يجعل هذا بمثابة التنويع الذي يقويه ويقوي عزيمته على طلب العلم، ولعله -إن شاء الله- أن يجد من صالح الدعوات من المؤمنين والمؤمنات ما يكون سبباً في رفعة الدرجات له في الحياة وبعد الممات، فإن تذكير الناس بالله ووعظهم ودلالتهم على الخير من أحب الطاعات، وأفضل القربات، وفيه خير كثير للإنسان، وكم ينتفع الإنسان بدعوات المسلمين له بظاهر الغيب، والحب له في الله، والذكرٍ له بالجميل، إلى غير ذلك مما جعله الله من عاجل البشرى في هذا العلم، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا فيما نتعلم ونعلّم، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يعفو عنا فيما كان من الزلل والخلل إنه المرجو والأمل، والله تعالى أعلم.

المراد بقوله تعالى: (من أوسط ما تطعمون أهليكم)

المراد بقوله تعالى: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) Q ما هو المراد بقوله تعالى في كفارة اليمين في قوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة:89]؟ A { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة:89] اختلف فيه: من العلماء من يقول: الأمر راجع إلى المكفّر وهو الذي حلف اليمين فينظر إلى أوسط طعامه، فإن كان من الأغنياء نظر إلى أوسط طعامه في غناه، وإن كان من الفقراء نظر إلى أوسط طعامه في فقره، فيخرج على قدر وسعه. ومنهم من قال: المراد به العرف، أي: من أوسط الطعام في أعرافكم؛ ولذلك جاء بصيغة الجمع: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) والفرق بين القولين: أنه على القول الأول يمكن للغني أن ينظر أوسط ما يكون له في الغنى ويكون الوسط هذا للغني أرفع ما يكون في بيئته، مثال ذلك: لو أن غنياً حلف اليمين فحنث في بيئةٍ فقيرة، أوسط طعام فيها بخمسين ريالاً، لكن بالنسبة له هو أوسط الطعام بمائتين، فحينئذٍ يكفر بالمائتين ويطعم طعام المائتين؛ لأنه هو المخاطب على القول الأول، والعبرة به من أوسط طعامه، ويكسو الفقراء والمساكين من أوسط كسوته لا من أوسط كسوة العرف، وعلى هذا القول: يعتبر التحديد للشخص نفسه، والعكس بالعكس، فلو كانت العبرة بالعرف وكان العرف أوسط الكسوة فيه بمائة ريال وهو غني، وأوسط كسوته ربما بخمسمائة ريال، فإن قلنا: العبرة به أخرج كسوة بخمسمائة، وإن قلنا العبرة بالعرف أخرج كسوة بمائة، والعرف من أقوى ما يكون في هذه المسألة؛ لأن المراد به: من أوسط ما يطعم في عرف الحالف فيخرج من أوسط الطعام، وهذا يختلف من مدينة إلى مدينة ومن قريةٍ إلى أخرى فيكفر على حسب حال عرفه في الوسط سواءً كان طعاماً أو كسوةً، والله تعالى أعلم.

شبهة الرضاع المجهول عدده

شبهة الرضاع المجهول عدده Q امرأة رضعت من أمي ولكن لا أعلم عدد الرضعات وأنا أجلس معها على كونها أختاً لي فما الحكم في ذلك؟ A إذا علمت الرضاعة وجُهل عددها -عند من يعتد بالعدد- فإن اليقين لا يزال بالشك، فعندنا قاعدة تقول: (الأصل بقاء ما كان على ما كان)، فإذا رضعت صبية من امرأة فإن الأصل أنها أجنبية عن أولادها حتى تثبت الرضاعة التي توجب المحرمية، فإذا كان عدد الرضعات لم يتحقق أنها خمس رضعات معلومات مشبعات فإنه حينئذٍ يحكم بكونها أجنبية، وعلى هذا: لا يحكم بالرضاعة ولا تثبت، هذا هو الأصل، وهو المعتبر والمعتمد في قول من قال بالتحديد في مذاهب الشافعية والحنابلة رحمهم الله ومن وافقهم؛ لكن هناك من أهل العلم من يقول: في الرضاعة جانبان: الجانب الأول: كونك تجلس معها كأختٍ لك. الجانب الثاني: حل زواجها وأنها أجنبية، فقالوا: إذا جئنا ننظر إلى المحرمية نأخذ بالأحوط أنها أجنبية، وإذا جئنا ننظر إلى الزواج منها نأخذ بالأحوط أنها حرامٌ عليه، وهذا مبني على حديث: (كيف وقد قيل؟)، فقوله عليه الصلاة والسلام: (كيف وقد قيل؟) صيغة تمريض اقتضت الاحتياط في المحرمية ولذلك قالوا: إنه يتقي نكاحها لخوف أن تكون أختاً من الرضاعة، وتغليظاً لشبهة المحرمية، يتقي محرميتها لعدم ثبوت المحرمية والأصل أنها أجنبية، وهذا مما يتنازع في الشبهات، شبهة الحل وشبهة التحريم، ولذلك يقول بعض العلماء بهذا المذهب الوسط احتياطاً فيقول: لا يتزوجها لخوف أن تكون أختاً له، ولا يجلس معها؛ لأنه لم يثبت الرضاع المحرم. أما على القول الأول: فهي ليست بأخته ويجوز له أن يتزوجها إذا قلنا: أن الرضاع لم يثبت؛ لكن في الحقيقة القول بالاحتياط طيب، وظاهر السنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (كيف وقد قيل؟) يقوي مثل هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كيف وقد قيل؟)، و (قيل): صيغة تمريض، ولذلك يقوى في مثل هذا الاحتياط، والله تعالى أعلم.

متابعة المسبوق للإمام في سجدتي السهو

متابعة المسبوق للإمام في سجدتي السهو Q ما الحكم إذا أدرك المأموم بعض الركعات فلما كبر الإمام للسهو أخطأ في فهم التكبير فقام ليتم صلاته؟ A إذا صلى المأموم وراء الإمام وأخطأ في فهم تكبير الإمام، فكبر الإمام لسجود السهو فظن أنه قد سلم فوقف، فالواجب عليه أن يرجع من وقوفه إلى السجود؛ لأن هذا الوقوف واقعٌ في غير موقعه؛ لأن الشرع لا يطالبه بالقيام إلا بعد سلام الإمام، وقد قام قبل سلام الإمام، فيجب عليه الرجوع؛ لأن القيام هذا غير مشروع وغير مأذون به شرعاً، فيلزم بالرجوع، ويتابع الإمام في سجدتي السهو، فإن ترك سجدتي السهو عمداً بعد علمه بأنه أخطأ في قيامه وتعمد ذلك فبعض العلماء يقول: إن كون سجدتي السهو واجباً من واجبات الصلاة يوجب بطلان صلاته؛ لأنه ترك الواجب وراء الإمام، أو أن انفراده في صلاته عمداً يوجب بطلان صلاته، فعلى هذا: إذا لم يرجع فإنه تكون صلاته باطلة. وأما لو سها فقام ووقف واستمر يقرأ ساهياً عن سجود الإمام، كما لو كان خارج المسجد وظن أن الإمام يكبر على جنازة أو يكبر لسجود سهو بعدي، وأتم صلاته على هذا الوجه، فللعلماء وجهان: منهم من يقول: يقضي سجود السهو بعد المفارقة، ومنهم من يقول: لا يشرع قضاؤه وقد فات بفوات المتابعة، وإن قضاه فإنه أحوط وأقوى والله تعالى أعلم.

توضيح حديث الذي دخل الجنة في شوك أزاحه عن طريق المسلمين

توضيح حديث الذي دخل الجنة في شوك أزاحه عن طريق المسلمين Q حديث (إن الله يرحم من عباده الرحماء) هل يدل على أن من رحم الناس فقد استوجب رحمة الله ودخول الجنة كما في حديث الذي أزال الشوك من طريق المسلمين لا يؤذيهم فدخل الجنة؟ رحمة الله واسعة، وفضل الله عظيم، ومن ظن بالله خيراً فإن الله عز وجل يعطيه ما ظن به كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يقول: أنا عند حسن ظن عبدي بي، فمن ظن بي خيراً كان له)، وعلى هذا فحسن الظن بالله سببٌ في رحمة الرب لعبده وإحسانه إليه في الدنيا والآخرة؛ ولذلك قال الله تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال:70]، أما من حيث الاجتهاد وكون بعض الأعمال الصالحة توجب العظيم من رحمة الله فأولاً: الله يحكم ولا يعقب حكمه، الله يفعل ولا يسأل عما يفعل، {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41]، ولا يسأل عما يفعل ونحن المسئولون والمحاسبون، الله جل جلاله وتقدست أسماؤه يفعل ما يريد: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:14]، فالواجب على المسلم دائماً أن لا يسأل عما يكون منه سبحانه وتعالى، لكن أجاب بعض العلماء في قضية غصن الشوك، أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ذكر عن الرجل أنه مرّ على غصن الشوك، فقال: والله لأنحين هذا عن طريق المسلمين لا يؤذيهم)، في الحديث أمر ينبغي أن ينتبه له -وبعض النصوص قد يقرؤها بعض طلاب العلم، أو يقرؤها من ليس عنده إلمامٌ بأصول الشريعة فيفهمها على ظاهرها، والواقع أنه ينبغي رد هذه النصوص إلى العلماء، وأن لا نجتهد في تفسيرها إلا بالرجوع إلى الأئمة الذين أعطوا أهلية النظر في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وصف الله أمثال هؤلاء بالرسوخ، فأخبر أن من هناك من رسخ في العلم- فالحديث فيه: (والله لأنحين هذا عن طريق المسلمين لا يؤذيهم)، قال بعض العلماء: معناه: أن قلبه غيب الخير لعموم المسلمين، يعني: هناك أمر عقدي يرجع إلى القلب، وهناك أمر ظاهر وهو زحزحة الغصن من الطريق، فالذي زحزح الغصن لم يزحزحه خوفاً على رجل أو على رجلين، ولكن خوفاً على المسلمين، فأعطي أجراً عظيماً بالنية؛ لأن عنده الشعور بحب الخير للمسلمين، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الرجل لو بات وليس في قلبه غلٌ على مسلم دخل الجنة)، فكيف بمن قد انطوى قلبه وسريرته على دفع الضرر عن المسلمين؟! فهذا الشعور الإيماني نابع عن حب الخير للمسلمين، ولذلك كان العلماء يوصون بكثرة الدعاء للمسلمين، والترحم على أمواتهم، وحسن النية لعباد الله المسلمين، والشعور بأخوة الإسلام والترابط الذي أمرنا الله عز وجل أن نكون عليه بالألفة والمحبة والتناصر والتآزر، هذا هو الذي ترفع به الدرجات، وتعظم به الأجور، وتضاعف به الحسنات، فهذا الشعور الذي دعا العامل لهذا العمل اليسير جعله عظيما، وهذا معنى قول بعض السلف: (كم من عملٍ يسير عظمته النية) وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً كان يقرض الناس، فقال لأعوانه: إذا رأيتم معسراً فتجاوزوا عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فلقي الله، فقال الله عز وجل: نحن أحق وأولى بالعفو منه، تجاوزوا عن عبدي)، قالوا: لأنه من الممكن أن الشخص يسامح المديون من باب الشفقة والرحمة فهذا له منزلة، وممكن أن يسامح المديون من باب الشكر للنعمة؛ لأنه حينما أحس أن الله أغناه وأفقر غيره ونظر إلى نعمة الله عليه تذكر أيضاً قدرة الله عليه مع الغنى، فأصبح كأنه ليس بيده شيء فقال: تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، فأصبحت نيته صالحة موجبة لهذه العاقبة الحميدة، ولذلك ينبغي أن ينظر إلى النص بجميعه بما فيه من نية الباطن ودلالة الظاهر، وأما الفعل المجرد فإن الأفعال قد يفضل الله بعضها على بعض، وقد قال الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68]، فأفضل الأعمال وأحبها إلى الله أعمال القلوب التي تتصل بالعقيدة من التوحيد والإيمان ولوازم هذا الإيمان، فإن أعمال الجوارح لا تبلغ ما تبلغه هذه الأعمال كحب الله سبحانه، والإخلاص لله بالعبادة، وإفراده بالعبادة، وصدق اللجوء إليه بالرغبة والرهبة والخشية والخوف، فالإنسان إذا كان كثير الخوف من الله عز وجل والخشية له ربما أنه تمر عليه لحظة وهو يستشعر عظمة الله عليه فتفيض عيناه من الدمع، فيغفر الله بهذه الدمعة ذنوبه كلها، فالإنسان إذا أعانه الله سبحانه وتعالى ينبغي أن ينظر إلى فضائل الأعمال، وأن يختار منها أجمعها وأعظمها على الخير، وأما الرحمة التي سألت عنها (فإن الله يرحم من عباده الرحماء) رحمةُ الله ليس لها منتهى، ومن رحمته سبحانه: إذا أراد المسلم أن ينظر إلى عظيم رحمته فلينظر إلى ما في هذا الكون من رحمة الخلق بعضهم ببعض، فهو جزءٌ من مائة جزء من رحمة الله عز وجل، فإن الله عز وجل قسم الرحمة إلى مائة جزء، وأرسل للعباد جزءاً واحداً، وهذا الجزء هو الذي يراه الإنسان من رحمة الوالدة لولدها، ورحمة الوالد بولده، ورحمة الناس بعضهم ببعض، فإذا كان يوم القيامة جمع ذلك الجزء إلى ما عنده فرحم به خلقه سبحانه وتعالى، وأعظم ما يرحم الله به عبده العفو والمغفرة، فإنه من أعظم نعم الله عز وجل على العبد، أن يتلقاه بعفوه ومغفرته، خاصةً إذا تاب العبد إليه وأناب إليه سبحانه: (يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرتها لك ولا أبالي) فالإنسان حينما يتذكر أنه يسيء ويظلم ويخطئ، ومن رحمته سبحانه وتعالى أنه ستر خطيئته وعيبه وفضيحته، وأعطاه الحول والقوة ومكنه، ومع ذلك: لو أذن للأرض أن تخسف به لانخسفت، ولو أذن للسماء لأرسلت قاصفاً من الريح فأهلكه، ولو شاء الله عز وجل أن يمسخه على مكانته فلا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا، لقدر الله على ذلك ولا يعجزه شيء، ولكن من رحمته سبحانه لم يفعل به ذلك كله، ثم إذا تاب وأناب ورجع إلى الله تلقاه الله بعفوه ومغفرته، فما أكرمه وما أحلمه وأرحمه! فيفرح بتوبته، والعبد أفقر ما يكون إليه، وهو سبحانه أغنى ما يكون عنه، سبحانه ما أرحمه، سبحانه ما أرحمه! فنسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرحمنا برحمته الواسعة، اللهم إنا نسألك رحمةً من عندك تهدي بها قلوبنا وتجمع بها شملنا، وتؤلف بها بين أرواحنا، اللهم إنا نسألك رحمةً تهدينا بها فلا نضل أبداً، وتصلح بها أحوالنا فلا تفسد أبدا، وتثبتنا بها على صراطك المستقيم، وسبيلك القويم يا أرحم الراحمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب الوكالة [7]

شرح زاد المستقنع - باب الوكالة [7] المقصود من عقد الوكالة هو الإرفاق، ولهذا كانت يد الوكيل يد أمانة لا يد ضمان، فلا يضمن إلا في حال التفريط أو التعدي، ثم إن وكالته لا تقبل إلا ببينة، وهذا حفاظاً على الحقوق من الضياع وحتى لا يحصل النزاع بين الناس.

بعض الأحكام المترتبة على الوكالة

بعض الأحكام المترتبة على الوكالة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:

يد الوكيل يد أمانة لا يد ضمان

يد الوكيل يد أمانة لا يد ضمان فهذا الفصل عقده المصنف رحمه الله لبيان بعض الأحكام والآثار المترتبة على الوكالة، فقد توكل شخصاً لكي يدفع مالاً أو يحفظ طعاماً أو أي شيءٍ آخر يقوم به، ثم يأخذ ذلك الشيء منك ويتلف عنده قبل أن يقوم بأدائه إلى شخصٍ آخر. فمثلاً: إذا أعطيته مالاً على أن يدفعه إلى زيد، فأخذ المال منك بالليل على أن يدفعه صباحاً، فسرق منه في الليل، أو جاءت آفة سماوية وأتلفت هذا المال، فالسؤال حينئذٍ: هل نقول: إن هذا الوكيل أخذ شيئاً ويجب عليه ضمانه حتى يؤديه؟ أو نقول: إنه رجلٌ متبرع، وصاحب فضلٍ وإحسان: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91] وعقد الوكالة لا يستلزم تضمينه فنسقط الضمان عنه؟ أو نفصل ونقول: إذا كان قد فرط وتساهل أو تعدى على المال فإننا نضمنه، وإذا حفظ المال وقام بحقوق رعايته على الوجه المطلوب فإننا لا نضمنه؟ ومن أمثلة ذلك في عصرنا: لو أن رجلاً أعطى لآخر سيارةً يبيعها أو أعطاه سيارةً لكي يوصلها إلى شخصٍ آخر، وقال له: وكلتك أن تأخذ هذه السيارة وتعطيها إلى زيد أو إلى فلان، قال: قبلت: فأخذ مفاتيحها، ثم ركب هذه السيارة وأوصلها إلى منزله، فجاءت آفةٌ فأتلفتها أو أتلفت شيئاً فيها، أو أخذ السيارة وركبها وصار يقضي بها مصالحه إلى أن تعرض لحادثٍ أتلف السيارة أو أتلف جزءاً منها، أو أخذ السيارة من عندك وفي طريقه إلى بيته أصابها ضررٌ وعطل، ففي جميع هذه الصور كلها تسأل الناس: ما حكم هذا الوكيل؟ هل يجب عليه ضمان هذه الأعيان أو لا يجب عليه؟ هذا هو الذي يبحثه العلماء تحت مسألة: يد الوكيل هل هي يد أمانة أو يد ضمان؟ فعند العلماء: يدٌ تسمى يد الأمانة، ويدٌ تسمى يد الضمان، فإذا قلت: اليد يد أمانة، فإما أن يحصل منها تعدٍ أو يحصل منها تفريط، فإذا حصل منها التعدي أو حصل التفريط تقول: يجب عليها أن تضمن السلعة وأن تضمن المتاع والطعام والسيارة والأرض، ويجب عليها أن ترد ما أخذته على الوجه المطلوب، وإذا قلت: إن اليد يد ضمان فإنه يضمن سواءً فرط وتعدى أو لم يفرط. وعلى هذا يرد السؤال في الوكيل: هل يده يد أمانة، أو يد ضمانة؟ قال بعض العلماء: يد الوكيل يد أمانة إلا إذا تعدت أو فرطت، وبناءً على هذا: فإننا لا نضمن الوكيل إلا في حالة التعدي أو في حالة التفريط، فعند أصحاب هذا القول: اليد يد أمانة من الوكيل مطلقاً، سواءً كانت الوكالة بعوض أو بدون عوض، والوكالة بعوض سبق وأن ذكرناها، مثل أن تقول لشخص: خذ سيارتي وأعطها فلاناً، أو وكلتك سيارتي هذه أن تبيعها بعشرة آلاف ولك ألف أو مائة أو خمسمائة، فهذه وكالة بجعل، وحينئذٍ يكون الوكيل وكيلاً في مقابل مالٍ أو منفعةٍ يأخذها. فبعض العلماء يقول: الوكيل أمين مطلقاً، سواءً كانت الوكالة بعوض أو بدون عوض. وبعض العلماء يقول: الوكيل يعتبر أميناً إلا إذا كانت الوكالة بجعل، فإذا كان يأخذ أجرة على وكالته كالمحامي أو نحو ذلك فهذا يده يد ضمان وليست بيد أمانة، فيد الضمان توجب أن يضمن الشيء، بغض النظر عن كونه فرط أو لم يفرط، فالشيء الذي يأخذه يرده حتى ولو غصبه الغاصب، كما لو ذهب بالسيارة ونزلت عليها آفة سماوية أو اجترفها السيل أو نهر بدون تعد وبدون تفريط منه نضمنه؛ لأنه حينما اعتدى وأخذها تحمل المسئولية، فيصبح ملزماً بردها بعينها، فإن تعذر العين وجب عليه رد المثل، وإن تعذر عليه رد المثل وجب عليه رد القيمة، فإذاً: يد الوكيل عند المصنف رحمه الله وطائفة من العلماء -وهو الصحيح- يد أمانة، لكن يضمن الوكيل إذا تعدى أو فرط. فقال رحمه الله: [والوكيل أمين]، هذه الجملة تستلزم على الوكيل أموراً وعلى الموكل أيضاً أموراً، أما بالنسبة للأمور التي تتعلق بالوكيل إذا قلنا: إن الوكيل أمين: فالواجب عليه أن يحفظ الأمانة، ونحكم بكونه أميناً متى ما أدى وكالته على الصفة التي اتفق عليها، فإذا قيل له: خذ هذا المال وأده إلى فلان في العصر أو الظهر؛ فإنه أمين متى ما أخذه وحفظه بحفظه وحرزه، وأداه في الوقت المطلوب، فإن خرج عن هذه الحدود بتفريط أو بتعدٍ خرج عن الأمانة، ويعتبر في هذه الحالة متحملاً للمسئولية كما سنبين -إن شاء الله- مثال التعدي ومثال التفريط. قال رحمه الله: (الوكيل أمين) بناءً على مسألة: (إن الوكيل أمين)، فإن الوكيل ينزل منزلة الموكل، والسبب أننا جعلنا الوكيل أميناً: أن الشخص إذا قال لآخر: خذ هذه السيارة أو خذ هذا الطعام وبعه أو أعطه لفلان فقد نزل الشخص منزلته وحينئذٍ إذا نزله منزلته، فإن الإنسان لا يضمن نفسه؛ لأنه من الناحية الفقهية أصبح الوكيل منزلاً منزلة الأصيل فلا يضمن، فلو أعطاه السيارة وقال له: اذهب بها إلى المعرض وبعها بعشرة آلاف، فكأنه نزل هذا الوكيل منزلة نفسه في بيع هذه السيارة بعشرة آلاف، فلو حصل تلف بآفة سماوية ليس في مقدور الوكيل أن يحفظ السيارة عنها، نقول: لا يضمن الوكيل؛ لأن الوكيل كالأصيل وكأنهما كالشيء الواحد، والإنسان لا يضمن نفسه، لكن حينما يتعدى الوكيل على السيارة فيأخذ فيها أولاده ويذهب يقضي بها حوائجه، أو يأخذ السيارة ويستخدمها استخداماً سيئاً، فالسيارة -مثلاً-: تحمل بطاقة معينة وحدود معينة، فحملها فوق طاقتها فتعدى، أو -مثلاً- أخذ السيارة وأوقفها في مكان معرض للحوادث فقد فرط، ففي هذه الحالة تقول: خرج الوكيل عن الأمانة وعن المعروف، فيتحمل المسئولية؛ لأنك حينما وكلته وكلتَه أن يقوم بهذا الأمر على المعروف، فإذا خرج عن المعروف فهو غير أمينٍ في خروجه عن المعروف المألوف، وعلى هذا قالوا: الوكيل أمين؛ لأنه مع موكله كالشيء الواحد، وضامنٌ إن خرج عن حدود الوكالة والمعروف.

الحالة التي يضمن فيها الوكيل ما تلف بيده

الحالة التي يضمن فيها الوكيل ما تلف بيده قال رحمه الله: [لا يضمنُ ما تلف بيده بلا تفريط]. قوله: (لا يضمن) حينما قال: (الوكيل أمين) فتفسرها وتقول: الوكيل يده يد أمانة، لا يضمن ما بيده إلا إذا فرط أي: فينتقل من يد الأمانة إلى يد الضمان إذا فرط، وقلنا: الفرق بين يد الأمانة ويد الضمان يحدث في حالة حدوث شيء سماوي، أي: آفة سماوية مثل المطر، والسيل الجارف، والصواعق، فمثل هذه الكوارث إذا نزلت فليس في مقدور المكلف أن يدفعها، فإن قلت: اليد يد أمانة فلا تضمن في هذا الشيء، وإن قلت: اليد يد ضمان يضمن، فمثلاً: لو قال له: وكلتك أن تقوم على مزرعتي أو تقوم على هذا الحد فتحصده ثم تبيعه، فجاء إعصار فأحرق الحبوب، فيده يد أمانة لا يضمن شيئاً، إذ هذا قدرٌ من الله سبحانه وتعالى، وحينئذٍ لا يضمن؛ لأنه منزل منزلة من وكله، لكن لو كانت الحبوب قد آن حصدها فتأخر في حصادها أسبوعين، كان المفروض أن تُحصد وتوضع داخل المخازن وتحفظ، فجاءت الريح أو جاءت الآفة خلال الأسبوع أو الأسبوعين الذين تأخر فيهما؛ فحينئذٍ نقول: قد فرط بمجرد زيادته عن المدة المعروفة والحد المعروف فدخل في الضمان، وخرجت يده من يد الأمانة إلى يد الضمان، وعلى هذا نقول: إنه يضمن بهذا التفريط، فقرر رحمه الله: أن الوكيل أمين، ولا يضمن ما بيده إلا إذا فرط، والتفريط في الشيء هو: التساهل، والله عز وجل جعل الأشياء حقوقاً وجعل لها أقداراً، وإذا وضع المكلف الأشياء في حدودها وفي أقدارها دون أن يجاوز تلك الحدود ودون أن يقصر فإنه قد أولاها ما تستحقه، فإن قصر بها وأنزلها عن حقها فقد ضيع هذه الحقوق مثل ما ذكرنا: إذا أعطاه -مثلاً- طعاماً وقال له: أنت وكيلي، مثل العامل في المزرعة تقول له: وكلتك أن تأخذ هذا التمر وتبيعه في السوق، وهذا التمر من العادة يحفظ في المخازن بطريقة معينة، فهذا العامل إذا أخذ التمر وكان صاحب المزرعة عنده تلك المخازن وأمكنه أن يضعها في المخازن ولم يضعها فقد فرط، ومثلاً: لو أعطاه طعاماً في فصل شتاء ينبغي حفظه وتبريده، فقصر ولم يحفظه ولم يبرده حتى تلف الطعام فإنه قد فرط، ويلزم بعاقبة تفريطه. أيضاً مثلاً: لو أعطاه سيارةً وقال له: هذه السيارة تأخذها وتبيعها، فأخذ السيارة وكان المفروض أن يدخلها أو يوقفها أمام بيته، فأخذها وأوقفها في مكان عُرضة للسرقة، فسرق من السيارة شيءٌ أو حتى سرقت السيارة كلها فإنه قد فرط، وهذه الأحوال كلها فيها تفريط. وفي الشريعة أصل وقاعدة: أن المفرط يلزم بعاقبة تفريطه؛ لأن تساهله في الأمور وتعاطيها على غير الوجه المعروف يعتبر إخلالاً بالأمانة وإضاعةً للمسئولية، وكأنه قد تقحم ذلك الضرر على بصيرةٍ وبينة، ومن تقحم الضرر على بصيرة وبينة فقد رضي بكل ما ينجم عنه من ضرر، فيتحمل المسئولية، قال رحمه الله: (لا يضمن ما تلف بيده بلا تفريط). المفروض أن يضاف إليها: (وتعدى)، يعني: إما أن يفرط وإما أن يتعدى، والتعدي: هو أشبه بالجناية على الشيء، أو مجاوزة الحدود التي ينبغي أن يتقيد بها الوكيل، فالآن -مثلاً- حينما يقول له: خذ السيارة وبعها غداً في المعرض، فأخذ السيارة وأخرها يومين فإنه في هذه الحالة قد تعدى بتأخيره عن الوقت المعتبر. كذلك من التعدي أن يقول له: خذ السيارة وأوقفها في المعرض، فأخذها وقضى بها حوائجه فقد تعدى باستعمالها لحوائجه الخاصة. فنحن الآن نمثل بأمثلة واقعية؛ لأننا وجدنا أن الأمثلة القديمة بمعزِل عن حياتنا، ولربما لا يستطيع السائل أن يفهم ما يلزمه في المسألة، فالآن -مثلاً- بعض العمال الشركة توكله بقيادة سيارة معينة لحمل المتاع بين بلدة وأخرى، وهذه السيارة طاقتها حمل ألف كيلو، فالعرف يقتضي أن يكون تحميله لها في حدود طن مثلاً، فحملها زيادةً على الطن، هذا تعدٍ. لو كانت السيارة بطبيعتها، وقلت له: خذ السيارة واذهب بها إلى المدينة، وهذا مما جرى به العرف، ويعرف الإنسان: أن السيارة في منتصف الطريق إذا كان طويلاً، ينبغي أن يرفق بها، وأن يريحها، وإذا به قد سار بها مرةً واحدة حتى تلفت السيارة، كل هذه الصور وأمثالها تعتبر تعديات، كذلك البيت حينما تقول له: اسكن هذا البيت أو وكلتك هذا البيت أن تحفظ فيه المتاع أو هذا المخزن تضع فيه المتاع، والمخزن لو فرضنا أنه مكون من دورين، والدور الثاني يتحمل في حدود ألف كيلو الذي هو طن، فحمله ألفاً وزيادة، فهذا تعد، كل هذه الصور وأمثلتها سواءً كانت في السيارات أو العقارات أو المنقولات الأخر فإنها تعتبر من التعدي. كذلك أيضاً: التفريط، كأن يكون الواجب على الإنسان أن يحفظ الشيء في حد، فينزله عن ذلك الحد، فمثلاً: لو قلت له: خذ هذا الكتاب واحفظه عندك وأعطني إياه غداً، أو وكلتك في حفظ هذه النقود على أن تأتيني بها غداً، فأخذ الكتاب ووضعه في غرفة فيها أطفال، فقام الأطفال بتمزيق الكتاب، فإن وضع الكتاب أمام الأطفال يعتبر تفريطاً؛ ولذلك قال العلماء: إن من وضع السلاح كالسكاكين ونحوها والآلات الحادة أمام أطفال فقتل الطفل نفسه، فإنه في هذه الحالة يعتبر مسئولاً عن هذا؛ لأنها سببية، وتعتبر هذه الصور من الصور السببية في القتل، وسيأتي -إن شاء الله بيانها- في باب الجنايات. ومن التفريط أيضاً: أن تأتي المرأة وتضع طفلها، فتقول لجارتها: خذي هذا الطفل واحفظيه أو أرضعيه، وغداً أحضريه لي، فأخذت طفلها وتركته في مكان فيه خزان أو فيه حُفرة دون أن تستر، هذا تفريط؛ لأن الواجب أن تضع الطفل في مكانٍ يؤمن فيه الضرر، أو وضعته في جوار نار فاحترق، وهو طفل جاهل لا يستطيع أن يعرف مصالحه، هذه كلها صور عند العلماء من صور التفريط التي توجب الضمان، وتوجب تحمل المسئولية سواءً كان ذلك في الجنايات أو في الأعيان أو نحو ذلك من المسائل. فقرر رحمه الله أن الوكيل لا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط. يقول بعض العلماء: ومن التعدي: التأخر في الأزمنة -كما ذكرنا- كأن يقول له: أحضر لي المال غداً، فيتأخر إلى بعد الغد، ففي الغد يكون أميناً، وبعد الغد صار ضامناً، فلو أن المال سرق في الغد يعني: قبل انتهاء الغد فإنه لا يضمن، ولو سرق بعد ذلك فإنه يضمن.

أحوال اختلاف الموكل والوكيل في تلف ما وكل فيه

أحوال اختلاف الموكل والوكيل في تلف ما وُكِّل فيه قال رحمه الله تعالى: [ويقبل قوله في نفيه والهلاك مع يمينه]. ذكرنا أنه يضمن إذا تعدى وإذا فرط، لكن المشكلة: لو أن الوكيل والموكّل اختصما، مثلاً: السيارة تلفت، فقال صاحب السيارة: إن الوكيل فرط أو تعدى، وقال الوكيل: لم أفرط ولم أتعدَّ، فهل القاضي يقضي بأن الوكيل ضامن بناءً على قول موكله أم أنه غير ضامن بناءً على ما يدعيه من أنه لم يفرط، ولم يتعد؟ هذه المسألة تأتي على صور، فمثلاً: فرضنا أنك أعطيت سيارةً لرجل وأخذ هذه السيارة وتلفت في يده، وحينما تلفت السيارة قلت على حسب خبرتك ونظرك: السيارة لا تتلف هكذا، قال: بل إنها تلفت بآفةٍ سماوية قلت: لا، أو تلفت قدراً مثل أن تتعطل السيارة وقلت له: أبداً، أنت استعملت السيارة، ونظراً لأن استعمالك كان مخلاً تلفت، فأصبح قولك أنه ضامن وقوله: أنه أمين، فهل نصدقك أو نصدقه؟ هذا فيه تفصيل: من حيث الأصل حتى تتضح هذه الصورة يذكر العلماء رحمهم الله أن الوكيل إذا تلفت السلعة بيده، وادعى أنه لم يفرط ولم يتعد فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يقيم الشهود والدليل على أنه لم يتعد ولم يفرط، مثاله: لو أنك أعطيته سيارة وأخذ السيارة وأوقفها أمام منزله أو ذهب بها إلى المعرض مباشرةً، ثم جاءك صاحب المعرض من الغد وقال: السيارة التي أرسلتها معطلة، فاحضرت الوكيل وقلت له: يا فلان! السيارة معطلة، ما الذي عطل السيارة؟ قال لك: لا أعرف، السيارة أخذتها من عندك وأوقفتها في المعرض، قل له: أعطني شهوداً، قال: كان معي فلانٌ وفلان، وإذا باثنين كانا معه فقالوا: نعم، ساق السيارة سياقةً لا ضرر فيها، وأيضاً: حفظ السيارة إلى أن أوصلها للمعرض، فلم يتعد ولم يفرط، فحينئذٍ يصدق الوكيل ويده يد أمانة والضمان على صاحب السيارة. إذاً: إذا قامت البينة التي تشهد بصدق الوكيل فلا إشكال. الحالة الثانية: العكس، لو أن الوكيل قلت له: اذهب بالسيارة إلى المعرض قال: سمعاً وطاعة، فأخذ السيارة وذهب بها إلى منزله وأوقفها عند المنزل، وحصل الضرر في إيقافها عند المنزل، ثم من الغد ذهب بها إلى المعرض وهي مستضرة أو تالفة وأوقفها في المعرض، فجاء الشهود وأخبروك أنه فعل كذا وكذا، وتعدى بالسيارة؛ لأنه كان من المفروض أن يخرج من عندك إلى المعرض، فأخرجها إلى بيته فتعدى، وكان المفروض أن يوقفها في مكان أمين فأوقفها في مكان غير صالح، فاستضرت ففرط، فشهد الشهود من جيرانه أو شهد الشهود الذين رأوه أنه ذهب بها إلى منزله، وشهد رجلٌ أنه رآه أو شهد شهود أنهم رأوه في الموضع الفلاني في الليل مثلاً، فثبت عندك أنه قد تعدى أو فرط، فإذا قال: إنني لم أتعد ولم أفرط فهو كاذب، فتقيم الشهود عليه، ويجب الضمان في هذه الحالة، فالقاضي إذا قال له: هل تعديت؟ هل فرطت؟ قال: ما تعديت ولا فرطت، فأقام الموكل شهوده على أنه تعدى وفرط، فإنه يلزم بذلك ويجب عليه ضمان ما تلف من السيارة. إذاً: عندنا صورتان في البينة: بينة تشهد بصدق الوكيل أنه لم يتعد ولم يفرط فلا ضمان عليه، وبينةٌ تشهد بصدق الموكل أن الوكيل تعدى أو فرط فحينئذٍ يجب الضمان. وإذا لم توجد بينة وليس هناك دليل في حكم البينة فيضمن الوكيل إذا أقر على نفسه أنه تعدى أو فرط، يسأله الموكل: هل تعديت في السيارة؟ قال: نعم حملتها فوق طاقتها، أخذت السيارة إلى خارج المدينة في زمان الحر أو في الظهر فاستضرت، أو نحو ذلك من التعديات، فحينئذٍ يحكم بكونه ضامناً، إذاً: إذا قامت البينة أو الاعتراف فإنه يضمن، والإقرار من البينات ويعتبر دليلاً؛ لكن ذكرناه كصورة. الحالة الثانية: أن لا توجد بينة، امرأة قالت لرجل: خذ هذا الذهب وبعه لي بعشرة آلاف أو بعه بسعر السوق، فأخذ الذهب في الليل على أن يغدو من الصباح ويبيعه، فسرق هذا الذهب من منزله، لما سرق قالت له المرأة أو قال له موكله: هات الذهب الذي أخذته، قال: سرق مني، نقول: هل حفظته في مكان أمين؟ قال: نعم، وضعته في خزنتي أو في مكانٍ أمين، وجاء السارق وكسر الخزنة قهراً وأنا نائم، فهذا فيه شيء من الغلبة وهو لم يفرط؛ لأنه وضعها في خزنة، فإذا قال هذا، وادعى أنه لم يفرط ولم يتعد، فإن استوفت القرائن أو كنت تثق به وصدقه فلا إشكال، بأن يكون رجلاً أميناً وتعرفه في الأمانة، وأنه يقول الحق ولو كان على نفسه، فقال لك: يا فلان! أخذت الذهب منك ووضعته في صندوقي أو الخزنة وجاء السارق وكسر الخزنة والغرفة مقفلة فكسر بابها، المهم أن الوكيل لم يفرط، فصورة الحال تدل على أنه لم يفرط ولم يتعد، فإن صدقته فلا إشكال، وإن كذبته وقلت له: لا. ما أصدقك، بل فرطت أو تعديت وأنت ضامنٌ لهذا الذهب والمال، فرّط كأن يكون وضع الذهب في مكان ليس بأمين، أو تعدى على الذهب فسرقه -والعياذ بالله- أو نحو ذلك، فإذا لم تصدقه فإن بعض العلماء يقول: يقبل قول الوكيل مطلقاً، يعني: إذا قلت له: إنه تعدى أو فرط فإنهما إذا اختصما عند القاضي وقال الموكل: إنني أعطيته الذهب لكي يبيعه في السوق ففرط فيه حتى سرق منه، فسأل القاضي الوكيل وقال له: هذا الذهب الذي أخذته من فلان حفظته أو ضيعته أو تعديتَ فيه أو فرطت؟ قال: حفظته حفظاً تاماً، ولم أتعد ولم أفرط، فالسؤال حينئذٍ: هل القاضي يحكم بقول الموكل أو يحكم بقول الوكيل؟ قال العلماء: يطالب القاضي الموكل بالبينة والشهود على أن الوكيل قد فرط أو تعدى، فإن لم يقم البينة وقال: ما عندي شهود يشهدون على أنه تعدى أو فرط نقول: القول قول الوكيل، ولذلك طالبنا الموكل بالبينة؛ لأننا نطالب بالبينة من قوله خلاف الأصل، وبناءً على ذلك: لا نطالب الوكيل بالضمان، والقول قول الوكيل. فإذا كان القول قول الوكيل وقال الموكل: لا أصدقه، فحينئذٍ نقول للموكل: أحضرْ البينة، فإن عجز عن إحضار البينة قلنا للوكيل: احلف اليمين على أنك لم تتعد ولم تفرط؛ ولذلك يقول العلماء: القول قول الوكيل مع يمينه إن كذبه موكله. فيقبل الوكيل في نفي التفريط والتعدي، فنحن نحكم بأنه لم يتعد ولم يفرط حتى يقوم الدليل على أنه تعدى أو فرط، وهذا مفرع على قاعدة في باب القضاء وستأتينا: (أن الأصل براءة المتهم حتى يقوم الدليل على إدانته)، وهذا ما يعبر عنه العلماء بالقاعدة المشهورة: (الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها)، فأنت إذا وكلت شخصاً ليقوم بأمرٍ، وحكمنا بكون الوكيل أميناً فلا نوجب على الوكيل الضمان، ولا نوجب على الوكيل تحمل المسئولية إلا إذا ثبت أنه فرط أو تعدى، فذمته خالية حتى يدل الدليل على أنها مشغولةٌ بالضمان. (والهلاك مع يمينه). يقبل قوله في نفي التعدي والتفريط ونفي الهلاك مع يمينه؛ لأن الأصل -كما ذكرنا- براءة ذمته حتى يدل الدليل على شغلها.

دعوى الوكالة في قبض الحقوق وأحوالها

دعوى الوكالة في قبض الحقوق وأحوالها قال رحمه الله تعالى: [ومن ادعى وكالة زيد في قبض حقه من عمرو لم يلزمه دفعه إن صدقه ولا اليمين إن كذبه]. هذه المسألة من مسائل الوكالة: لك على رجل عشرة آلاف ريال أخذها منك ديناً، ولنفرض أن اسمه: زيد، فزيدٌ مديون لك بعشرة آلاف، فوجئ زيد برجل اسمه خالد وقف عليه وقال له: أريد العشرة الآلاف التي لعمرو عليك، وكلَني أن آخذها منك، (ومن ادعى وكالة زيد في قبض حقه من عمرو). إذا ادعى شخص أنه وكيل لشخص في قبض مال أو قبض أي حق من الحقوق ف Q هل من حق هذا المديون أن يدفع المال إلى هذا الرجل الذي ادعى أنه وكيل؟ فرغ المصنف من أحكام الوكالة وآثارها، وشرع في مسألة دعوى الوكالة، فإذا ادعى شخصٌ أنه وكيلٌ عن شخص فلا يخلو من حالتين:

دعوى الوكيل الوكالة مع وجود بينة الشهود

دعوى الوكيل الوكالة مع وجود بينة الشهود الحالة الأولى: أن يقيم الشهود، جاءك رجل وقال لك: العشرة الآلاف التي لزيد عليك وكلني أن أقبضها منك، قلت له: يا أخي! لا أعرفك وأحتاج إلى دليل، أو أثبت لي أن زيداً قد وكلك، فقال: فلانٌ وفلان يشهدان أن زيداً وكلني أن أقبض منك العشرة الآلاف فجيء بالشهود وشهدوا أن زيداً وكله، فالحكم حينئذٍ أنه يجب على المديون أن يدفع المبلغ للوكيل، وقد ثبتت الوكالة، ويحكم بها في مسألتين: في تقاضي الأفراد مع بعضهم، ويحكم بها في مجلس القضاء، فالقاضي إذا ثبت عنده بالشهود أن محمداً وكل زيداً في قبض حقه عند عمرو، فإنه يلزم عمراً بدفع ذلك المال والحق إلى الوكيل. لكن لو ظهر في المستقبل أن هؤلاء الشهود كذبوا، وأنه غير صادقٍ، واغتر القاضي بظاهرهم وكانوا يعرفون بالعدالة والزهد على الظاهر، ثم تبين أنهم كذبوه، فإذا تبين كذبهم فإنهم يتحملون المسئولية عن الضرر الناتج عن هذه الوكالة المكذوبة. فعندنا الحالة الأولى: أن يثبت عند القاضي أو يثبت عند المديون أن صاحب الحق قد وكّل، فالحكم أنه يجب دفع المال إلى الوكيل، ويجب العمل بهذه الوكالة؛ لأن صاحب الحق قد رضي بهذا الوكيل وأقامه مقامه، فاستحق أن يطالبه وأن يدفع المال إليه.

دعوى الوكيل الوكالة دون بينة ولا دليل

دعوى الوكيل الوكالة دون بينة ولا دليل الحالة الثانية: أن يدعي أن زيداً وكله في قبض حقه منك وليس عنده شهود ولا دليل، فإذا لم يكن عنده شهود ولا دليل فأنت على صور: الصورة الأولى: إما أن تثق في الرجل وتعرف أن الرجل صادق، أو تعرف أن زيداً دائماً يوكله وأنه وكيل عنده، مثلاً: حينما يأتيك العامل الذي يعمل عنده دائماً في محله ويوكله دائماً، وجرت العادة أنه يتولى أموره الخاصة، فعندك غلبة ظن أنه صادق، أو تعرف هذا الرجل الذي جاءك بالأمانة والصدق والعدالة وأنه لا يكذب، هذه صورة. الصورة الثانية: أن يقوم ذلك الشخص بدعوى الوكالة ولا تعرفه لا بصدقٍ ولا بكذب، فلا إشكال. الصورة الثالثة: أن يكون ذلك الشخص معروفاً بالكذب عندك. هذه ثلاث صور: إما أن تثق في الرجل وتعرف صدقه، وإما أن يكون العكس فتعرف الرجل بالكذب والخيانة وأنه دائماً يأكل أموال الناس ويكذب عليهم، وإما أن لا تعرف صدقه ولا كذبه. فإن عرفته بالصدق فأنت لست بملزم بدفع المال إليه، حتى ولو عرفته بالصدق، ما دام أنه لم يقم بينة على أنه وكله فمن حقك أن تمتنع؛ لأن صاحب الدين ربما أنكر الوكالة في أي يوم من الأيام، فكأنك إذا دفعت المال تخاطر بنفسك، وليس عندك دليل ولا مستند تستند إليه، فليس هناك ما يدل على ثبوت الوكالة شرعاً، والأصل عدم الوكالة حتى يدل الدليل على ثبوتها من كونه صادقاً، هذا أمر يرجع إليك، فإن شئت دفعت إليه، وإن شئت لم تدفع تدفع إليه. وأما إن ظهر كذبه أو أنت تعلم كذبه، أو لا تعرفه لا بصدق ولا كذب -وهما الصورتان الباقيتان- فلا إشكال أنه لا تدفع المال إليه، ومن حقك الامتناع، ولا يجب على القاضي أن يلزمك بالدفع. قال رحمه الله: (ومن ادعى وكالة زيد في قبض حقه من عمرو لم يلزمه دفعه إن صدقه). (لم يلزمه) يعني: لم يلزم الذي عليه الدين والذي عليه الحق أن يدفعه، أي: لهذا الذي يدعي الوكالة، لم يلزمه يعني: لا يجب عليه، فهو بالخيار إن شاء دفع وإن شاء امتنع. (لم يلزمه دفعه إن صدقه). الضمير عائد إلى الحق الذي هو العشرة الآلاف، (لم يلزمه دفعه)، أي: دفع الحق، (إن صدقه)، فمن باب أولى إن كذبه أو لم يصدقه ولم يكذبه، فأصبح عندنا ثلاث صور: لم يلزمه إن صدقه، ومن باب أولى إن كذبه، أو إن شك في صدقه وكذبه. ومفهوم قوله: (لم يلزمه) يعني: هو بالخيار، ونبني على قوله: (لم يلزمه)، أنه: ليس من حق القاضي أن يلزمه بدفع ذلك المال أو إعطائه الوكيل؛ لأنه سيتحمل المسئولية؛ والسبب في هذا: أنك إن أعطيت رجلاً ديناً عشرة آلاف ريال، فإنه في هذه الحالة يجب عليه أن يضمن، وتعرفون يد المديون يد ضمان، له غُنم المال وعليه غُرمه، فإذا كان ضامناً للمال فإنه في الأصل يبرئ ذمته بإعطاء المال لصاحبه، فإذا كان هناك طرف آخر يدعي أنه وكيل فينبغي أن تكون هناك بينة حتى أدفع المال وأنا مطمئنٌ من وصوله إلى صاحبه، فإذا لم تقم البينة على الوكيل فإنني لا أستطيع أن أتحمل المسئولية فأدفع المال ولو كنت أعرف أنه صادق، لأن معرفتي الشخصية لا تسقط عني الحق؛ لأنه ربما كان صادقاً في حقيقة الأمر فيكذبه صاحب الحق، فأنت تعرض نفسك للخطر. وافرض أن الشخص صادق وأمين ونزيه، وليس عليه أي غبار، ولكن صاحب الدين رجلٌ مماطل أو كذاب أو متلاعب بحقوق الناس، فيرسل لك أميناً تثق به وتدفع المال إليه على أنه صادق، فإذا أخذ المال والعشرة الآلاف أنكر الوكالة من أصلها وقال: لم أوكله فإذاً لم تسئ لو وثقت به، فإن هذه الثقة لا تستلزم أن تخاطر بالمال ولا تستلزم أن تخاطر بالحق؛ ولذلك قال رحمه الله: (لم يلزمه دفعه إليه، وإن صدقه). (ولا اليمين إن كذبه). افرض -مثلاً- لو أنك في مكة، ولك على محمد الذي في المدينة عشرة آلاف ريال، فوجئ محمد الذي في المدينة بخالد يقول له: ادفع لي العشرة الآلاف التي لفلانٍ عليك، قال له: ما أدفع، إما أن تأتي ببينة وأدفع لك وإما لا أدفع لك المال، بل أدفعه إلى صاحبه، فجاء هذا الرجل الذي هو خالد واشتكاه عند القاضي، فلما حضر الطرفان عند القاضي قال القاضي للمديون: تصدق خالداً؟ قال: نعم أصدقه وأعرفه بالصدق، فهل القاضي يلزمه؟ قلنا: لا يلزمه، فيرد Q الدعوى من خالد أنه وكيل، وأنكره المديون، فهل نقول: البينة على المدعي واليمين على من أنكر؟ هل نطالب المديون أن يحلف اليمين؟ القاضي قال للوكيل: أحضر البينة قال: ما عندي بينة، ولكن أطالب هذا المديون أن يحلف اليمين، فهل من حقي أن أطالبه باليمين؟ قال: ليس من حقه أن يطالبه باليمين؛ لأنه في الأصل ذمته متعلقة بصاحب الدين، وليست ذمته متعلقة بشخص آخر، وليس هناك قضاء بالنكول؛ ولذلك قالوا: إنه لو امتنع عن اليمين لم يكن من حقه أن يلزم بدفع المال؛ لأن النكول هنا -كما سيأتينا في كتاب القضاء- لا يعتبر حجةً بهذه الصورة؛ لأن ذمته مستحقة لصاحب المال الأصلي وليست متعلقة بهذا التوكيل. وعلى هذا قالوا: لا يلزمه أن يدفعه إليك (ولا اليمين) أي: لا يلزمه اليمين إن كذبه، فلا يحلف اليمين في مجلس القضاء على نفي هذه الوكالة، ولو كلفناه أن يحلف اليمين لكان في ذلك ضرر عليه؛ ولذلك يدفع الضرر ويبقى الأمر على الأصل من أنه ملزم بدفع الدين إلى صاحب الدين، وهذا هو الأصل، حيث لم يقم الدليل على إثبات الوكالة، فإنه مطالبٌ بالبقاء على الأصل وأنه لا يدفع إلى هذا الوكيل المدعي للوكالة.

مسألة إذا أنكر الموكل الوكالة لمن أخذ الدين

مسألة إذا أنكر الموكل الوكالة لمن أخذ الدين قال رحمه الله: [فإن دفعه فأنكر زيد الوكالة حلف وضمنه عمرو]. هنا مشكلة: لو كان شخص مديوناً لشخص، وجاء من يدعي الوكالة، قلنا: إذا وجدت البينة فلا إشكال؛ لكن الإشكال إذا لم توجد بينة، فالأصل أنك لا تدفع هذا المال إلا لصاحبه الأصلي، فلو أنك خاطرت ودفعت المال، ثم حضر صاحب المال، وقال: يا فلان! أعطني العشرة الآلاف التي لي عليك، قال له: أعطيتها لوكيلك فلان، قال: ما وكلت فلاناً، فأنكر صاحب الحق الوكالة فما الحكم؟ هل نقول: ذمة المديون برئت، ويجب على صاحب المال أن يكون وجهه على من ادعى الوكالة؟ أم نقول إن وجهه على المديون؟ قالوا: الحكم كالتالي: أولاً: المديون حينما دفع المال لمن ادعى الوكالة بدون بينة قد فرط، وخاطر بالمال وبنفسه، فعرض نفسه لتحمل المسئولية؛ لكن يبقى شيءٌ مهم وهو: أن المديون ادعى أن زيداً -وهو صاحب الحق- قد وكل عمراً، فإن كان زيد ينكر الوكالة فشرعاً نطالبه أن يحلف اليمين أنه لم يوكل عمراً، فإذا حلف اليمين وأثبت بيمينه اعتضدت اليمين مع الأصل؛ لأن الأصل عدم الوكالة، وقلنا: إن اليمين دائماً تعضد الأصل، فيصبح الأصل مع اليمين بمثابة شاهدين، الأصل شاهد، واليمين شاهد، وقد جعل الله الأيمان بمثابة الشهود، ولذلك في اللعان يحلف الرجل أربعة أيمان وشهادات بالله عز وجل حتى يجب الحد على المرأة. فإذاً: اليمين تقوم مقام الشاهد والأصل مقام شاهد ثانٍ، وإذا ثبت حلفه وحلف اليمين فإننا نلزم ذلك الرجل بدفع الدين مرةً ثانية، ثم يقيم دعوى عند القاضي أن فلاناً كذب عليه وادعى الوكالة وأخذ منه عشرة آلاف بدون حق، فيحضر هذا الظالم إذا كان كاذباً في أمره، ويؤخذ منه الحق لكن لو أن الكذب كان من الموكِّل والعياذ بالله، فالموكل فعلاً وكل فأخذ العشرة آلاف، ثم أخذ عشرة آلاف ثانية فحينئذٍ نحكم بوجوب دفع العشرة الآلاف الثانية كما ذكرنا؛ لأن المديون فرط، ثم يقوم الوكيل بدعوى ضد هذا الذي كذب وأنكر الوكالة فيطالبه؛ لأن المديون سيطالب الوكيل، والوكيل سيطالب الموكِّل فتجري على هذا الوجه. باختصار: نحكم أولاً بوجوب اليمين على الموكِّل أنه ما وكل، فإن حلف اليمين أوجبنا على المديون دفع العشرة آلاف، فأصبح الموكل الكاذب قد حاز عشرين ألفاً، فيكون المديون دفع عشرين ألفاً، والواجب عليه عشرة آلاف فكيف يكون القصاص؟ قالوا: المديون يقتص من الوكيل الذي ادعى الوكالة؛ لأنه في الظاهر كاذب، فيقيم عليه الدعوى أنه كذب في وكالته ويأخذ منه العشرة الآلاف، ثم الوكيل هذا الذي كُذّب في وكالته، يقيم دعوى أخرى أن فلاناً قد أخذ منه العشرة آلاف، ثم بعد ذلك يقاصصه بها ويطالب باليمين، وعلى هذا يكون قد وصل كل ذي حقٍ إلى حقه. (فإن دفعه فأنكر زيد الوكالة حلف). أي: حلف زيد بالله أنه ما وكله. (وضمنه عمرو). وضمن الدين والحق عمرو وهو المديون.

مسألة إذا وجد الموكل وديعته أخذها ومسألة الظفر

مسألة إذا وجد الموكل وديعته أخذها ومسألة الظفر قال رحمه الله: [وإن كان المدفوع وديعة أخذها]. إذا أودعت شخصاً وديعة، فالوديعة تستحق بعينها، بخلاف العشرة آلاف والأموال التي تكون مضمونة بالرمة، فإن كان الشيء الذي حُفظَ عند الشخص وديعة من سيارةٍ أو طعام فإن الحق متعلق بعين السيارة والطعام، فصاحب السيارة الذي يملكها في الأصل يأخذها ممن شاء، سواءً وجدها عند الطرف الأصلي الذي هو المودَع، أو وجدها عند مدعي الوكالة؛ لأن الحق مطالب بعينه، فيأخذ الوديعة من أيهما شاء، سواءً وجدها عند هذا أو وجدها عند هذا، وهذا يرجع إلى مسألة الظفر، وهي مسألة تتعلق بالحقوق، بأن يكون لك حقٌ على شخص، يعني: افرض أن شخصاً سرق منك سيارة، فإن ظفرت بالسيارة تأخذها أنى وجدتها؛ لأن حقك متعلقٌ بعين السيارة، فتأخذ هذه السيارة كيفما وجدتها قالوا: حتى ولو بالسرقة، فمن سرق مالك جاز لك أن تسرق منه المال نفسه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] فإذا جاء وأخذها خفيةً منك كأن أخذ منك ثوباً وعلمت أن فلاناً قد دخل البيت وأخذه بالسرقة وذهب، فدخلت عليه خفية وأخذت الثوب وما ظلمته فيكون رأساً برأس، والبادئ هو الأظلم، وهذه الحالة يسميها العلماء: حالة الظفر أي: من ظفر بحقه أخذه. بعض العلماء يقول: ليس من حقك أن تستخدم الحيل المحرمة للوصول إلى حقك؛ لأن الشرع قد أعطاك القضاء ومكنك من القضاء، فلا يجوز أن ترتكب ما حرم الله، فلا تسرق ولا تأخذه على غرضه، وإنما تأخذه بالوجه المعروف. وقال بعض العلماء: من حقك أن تأخذ حقك بأي وسيلة ما دام أنك ستصل إلى حقك ولا تظلم الرجل وقالوا: لو أن عاملاً يشتغل عند رجل فظلمه ومنعه من حقوقه، وله عليه عشرة آلاف، فصار يأخذ من ماله في حدود عشرة آلاف فهذه مسألة من ظفر بحقه أو تمكن من حقه دون أن يعلم من ظلمهم، فهل ذلك جائزٌ أو لا؟ قال بعض العلماء: من حقك أن تأخذه، واستدلوا بأدلة منها: ما ثبت في الصحيحين من حديث هند رضي الله عنها أنها قالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح مسيك، ولا ينفق عليّ -أي: لا يعطيني مالي- فقال صلى الله عليه وسلم: خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فأجاز لها أن تأخذ من ماله حقها فقال: (ما يكفيك وولدك بالمعروف) فقربوا المسألة كالآتي: قالوا: هند وأولادها لها حق على أبي سفيان، وهذا الحق لم تستطع أن تصل إليه إلا بحيلة، فأجاز لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن تأخذ من ماله، وهذا أشبه بالسرقة؛ لأنها في الأصل أخذت من المال دون علم صاحبه، قالوا: لكنها ستصل إلى حقها ولا تظلمه، فقال بعض العلماء: دل هذا الحديث على جواز أخذ الحق إن وجده صاحبه بأي وسيلة. وقال بعض العلماء: لا يجوز، واستدلوا بما ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) فقال: (لا تخن من خانك) فمع أنه خانني لم يجز لي الشرع أن أستخدم الخيانة، قالوا: وقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] لا يقتضي فعل السيئة، وإنما سميت سيئة؛ لأنه لا يأمن الحيف، مثال ذلك قالوا: إذا ضربه وأضر به فلا يأمن أن يحيف؛ لأنه عند الانتقام غالباً ما يكون هناك نوع من القوة في الغضب، فلربما زاده في القصاص؛ ولذلك قالوا: سمى الله القصاص سيئة مع أنه ليس بسيئة؛ لأن صاحب القصاص لا يأمن من الحيف، فإذا ضربه -مثلاً- وصفعه على وجهه، وأراد أن يصفعه، فالغالب أنه يصفعه، وعنده حمية فسيزيد؛ فسماها الله سيئةً وقيل: من باب المشاكلة، وأياً ما كان فالمقصود: أن الأقوى أنه لا يأخذه؛ لأن الشرع قد مكنه من حقه بالقضاء، وأما مسألة حديث هند فنقبله ولا نرده، ونعمل به ولا ننكره، لكنه خاص والقاعدة تقول: (لا تعارض بين عام وخاص)؛ ولأنه لا يأمن العامل ولا يأمن غيره أن يثبت عليه صاحب الحق أنه، اختلس فيقع في ضرر أعظم، ولذلك لا يخاطب الناس على هذا الوجه، والأشبه أنه يطالب بحقه على الوجه المعروف.

تضمين المودع أو الوكيل إذا تلفت الوديعة

تضمين المودع أو الوكيل إذا تلفت الوديعة (وإن كان المدفوع وديعة أخذها فإن تلفت ضمن أيهما شاء). فإن تلفت الوديعة إن شاء ضمن الدافع، وإن شاء ضمن المدفوع إليه؛ لأن الدافع للوديعة إذ اانتقلت الوديعة إلى الشخص الآخر فإنه لا يضمن، ويكون ضمان الوديعة على من ادعى الوكالة، فحينئذٍ إن شاء طالب من دفعت إليه الوديعة، وإن شاء طالب الدافع؛ لأن يد المودع يد أمانة كما بيناه.

الأسئلة

الأسئلة

مسائل الوصايا والحضانة وغيرها متفرعة عن مسألة الوكالة

مسائل الوصايا والحضانة وغيرها متفرعة عن مسألة الوكالة Q هل الحكم في قبول دعوى الوكالة مثله في دعوى الحضانة والوصية؟ A باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالوكالة والوصايا وكذلك ما يشابهها من المسائل التي فيها محض التبرع تأخذ حكم الوكالة، فمسائل الوصايا والحضانة كلها تتفرع على مسألة الوكالة؛ لوجود محض التبرع والإحسان من الموكل أو الموصى إليه ونحوهم، ولا يدعي هذه الأشياء ولا تقبل الدعوى إلا بدليل وبينة؛ لأن الأصل عدمها حتى يقوم الدليل على ثبوتها، ويتحمل الوصي المدعي للوصايا الموصى إليه، وكذلك غيره ومن في حكمه يتحمل المسئولية إن ظهر كذبه على التفصيل الذي ذكرناه في الوكالة، وسيأتي -إن شاء الله- بيان هذه المسائل خاصةً في باب القضاء، فنبين أحكام الدعاوى سواءً كان في الحقوق العامة أو في الحقوق الخاصة، والله تعالى أعلم.

الخطابات المختومة من القرائن التي تدل على الوكالة

الخطابات المختومة من القرائن التي تدل على الوكالة Q إذا حمل الوكيل خطاباً بخط الموكل وختمه فهل يقوم مقام الشهود، فيدفع إليه ما للموكل؟ A أدلة إثبات الدعاوى تنقسم إلى قسمين: قسمٌ منها بينات شرعية حدد الشرع هذه البينات، وحكم باعتبارها، ونصت نصوص الكتاب والسنة على وجوب العمل بها، ويشمل ذلك الإقرار والشهادة والكتابة الموثقة بالشهود، فأما الإقرار فهو كما يقال: سيد الأدلة وأقواها؛ لأنه ليس هناك أقوى من شهادة الإنسان على نفسه، وليس هناك إنسان يشهد على نفسه بالضرر إلا وهو صادق. أما النوع الثاني من الأدلة فهو: الشهود، كما جعل الله في شهادة الزنا أربعةً، وفي شهادة الأموال وما في حكمها شاهدين من الرجال، أو أربعةً من النسوة، أو شاهداً من الرجال وامرأتين، أو شاهداً ويميناً، وكلها ثبتت بها الأدلة، فالشهادة حجة بالنسبة للأموال، وما يئول إلى الأموال. النوع الثالث من الأدلة المعتبرة هو: الكتابة الموثقة بالشهود، كما دلت عليه آية البقرة فيكتب الدين -مثلاً- ويستشهد عليه شاهدين من الرجال أو رجلاً وامرأتين ممن يرضى أو أربع نسوة، وهذا كله نص عليه القرآن ولا إشكال فيه، وأما بالنسبة للشاهد مع اليمين فقد قضى عليه الصلاة والسلام بالشاهد مع يمينه، فجعل اليمين بمثابة شاهد لكن في الأموال وما يئول إليها؛ لأن الصحابي قال: (قضى بالشاهد مع يمينه)، فدل على أن الزنا والحدود والجرائم لا تثبت بالأيمان إلا فيما استثنى الشرع من لعان الرجل مع امرأته، وهذه قضية خاصة، أما من حيث الأصل فالأيمان لا دخل لها في الحدود فهي قرائن ضعيفة، فالقرائن القوية تكون بعض الأحيان في الجنايات، وتكون في غير الجنايات، فمثلاً: المرأة إذا تزوجها الرجل ومكث معها شهرين، وتبين أن حملها لأربعة أشهر أو ستة أشهر، فهذه تعتبر قرينة على أنها قد زنت؛ لأن الزواج لا يمكن في مثله أن يكون الحمل على هذا الوجه. بعض الأحيان يدخل بها وبمجرد ما يدخل بها يجد عليها آثار الحمل، فهذه قرينة على أنه ليس من حلال وإنما هو من حرام، لكنها ليست ببينة على خلاف في الحمل: هل يقتضي ثبوت الزنا أو لا؟ وفيه خطبة عمر المشهورة وسيأتي -إن شاء الله- بيانه في باب الزنا والحدود، الشاهد: القرائن قد تكون قرائن في الدماء، قالوا: لو أن رجلاً وجدناه متشحطاً في دمه -أي: مقتولاً- وعند رأسه رجل يحمل السكين ملطخةً بالدماء، وثيابه ملطخة بالدماء، وعليه آثار العنف أو ما يدل على أنه متعاطٍ للجريمة، فهذه ليست ببينة شهود أو إقرار، ولكنها قرينة واضحة، ومثل هذه القرائن يعمل بها في القضاء في حدود؛ لأن الله أوجب علينا الرجوع للبينات، والقرائن لا تثبت الحكم من كل وجه، ومن أقوى الأدلة على أن القرائن لا تثبت في الحكم من كل وجه؛ أننا لو فتحنا باب القرائن لاسترسل الناس في ذلك، وأقوى الأدلة على عدم اعتبار القرينة ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما قذف هلال بن أمية امرأته بـ شريك بن سحماء وقذف عويمر العجلاني امرأته بالزنا، وقام اللعان بينهما فحلف عويمر وحلفت زوجته، فلما وقعت بينهما أيمان اللعان قال صلى الله عليه وسلم: (حسابكما على الله، الله أعلم، أحدكما كاذب) إما الرجل كاذب وإما المرأة، فأصبحت القضية من حكومة الدنيا إلى حكومة الآخرة، فانتقل حكمها إلى الله عز وجل، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (انظروا إليه -انظروا إلى الولد الذي ستأتي به- فإن جاءت به خدلج الساقين ... )، إلى آخر الحديث، فذكر الصفات (فهو له) يعني: الزوج وهو كاذب (وإن جاءت به على صفة كذا وكذا فهو للذي ذكر)، فجاءت به على صفة الرجل الزاني والعياذ بالله، فقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (لو كنت راجماً أحداً من غير بينة لرجمت هذه)، مع أن القرينة واضحة على أنها زانية، ولكن لم يحكم بها ولم يستبح دمها ولم يحكم بالجناية؛ لأن الشرع أمرنا أن نقف عند حدود معينة. وبناءً على ذلك فالقرائن لو فتح بابها لاسترسل القضاة في العمل بهذه القرائن، لكن قد تكون القرائن في بعض الأحيان مدخلاً للقاضي أن يحلف المتهم، وأن يشدد عليه في الاعتراف إذا تعلق به حقٌ للغير، فالكتابات التي ذكرت والتي عليها الختم في بعض الأحيان يعمل بها كما في كتاب القاضي إلى القاضي، ويعمل بها في سجلات الحقوق، ويعمل بها في سجلات التجار في إثبات الدين على التاجر إذا مات ووجد بخطه أن لفلانٍ عليه ونحو ذلك، لكن لا تكون بينة من كل وجه يعني: لا تأخذ حكم البينات من كل وجه، وإنما يجب الاقتصار على الأدلة التي ثبتت النصوص بها، وباعتبارها، والزائد على هذا يرجع إلى حكمة القاضي، فيتعامل معه في حدود معينة، ونطاق معين يليق بالقرآن والحكم بها واعتبارها، والله تعالى أعلم.

حكم تحويل المبالغ المالية من بلد إلى آخر

حكم تحويل المبالغ المالية من بلد إلى آخر Q أردت إرسال مبلغٍ من المال إلى أهلي فقال لي أحدهم: أنا آخذ منك هذا المبلغ وأحيلك في بلدك على شخصٍ يعطيك بدلاً منه بعملة بلدك، فهل هذه المعاملة جائزةٌ شرعاً؟ A هذه المعاملة فيها ربا النسيئة، عندما تقول له مثلاً: خذ مائة ألف ريال وحولها، على شريطة أن تعطي أهلي عشرة آلاف دولار أو عشرة آلاف جنيه، فأصبح العقد يشتمل على عقدين: العقد الأول: عقد الصرف وهو تحويل العملة من الريالات إلى الدولارات أو إلى جنيهات أو غيرها. العقد الثاني: عقد التحويل، فالواجب شرعاً أولاً أن تصرف العملة ثم تقبضها؛ لأنه إذا اختلف الذهب بفضة أو فضة بذهب فإنه يجب أن يكون يداً بيد، فتصرفها ولا تحول إلا بعد الصرف. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

باب الشركة [1]

شرح زاد المستقنع - باب الشركة [1] عقود الشراكة من تنظيمات الإسلام الحكيمة وتعاليمه السامية، وذلك لما يحصل بين المسلمين بسبب هذه العقود من التكاتف والترابط، ودفع البطالة، والحرص على مصلحة الشريك، والشراكة لها أنواع وأقسام، ومسائل وأحكام، فصلها العلماء في كتب الفقه المعتبرة. ومن أنواع الشركة: شركة العنان، وهي أن يشترك بدنان بماليهما المعلوم ليعملا فيه ببدنيهما، ولها شروط وأحكام ومسائل ينبغي على كل من أراد الشراكة أن يعلمها.

مناسبة ذكر باب الشركة بعد باب الوكالة

مناسبة ذكر باب الشركة بعد باب الوكالة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب الشركة]: الشركة: نوع من أنواع العقود التي تقع بين المسلمين، وهذا النوع من العقود يشتمل على التوكيل بين الطرفين، فكل واحد من الشريكين، أو كل واحد من الشركاء قد وكل صاحبه ونظيره أن يتصرف في ماله، فأصبح وكيلاً عنه من وجه، وهو وكيل عنه في التصرف في ماله الذي اشتركا فيه. ونظراً لاشتمال الشركة على هذا النوع من العقود، أعني: كونها من عقود الوكالات أو فيها وصف الوكالة ناسب أن يعتني المصنف بذكر أحكامها ومسائلها عقب باب الوكالة، فبعد فراغه من بيان المسائل والأحكام المتعلقة بالوكالة شرع في نوع خاص من التوكيل الضمني وذلك ببيان مسائل وأحكام الشركة.

تعريف الشركة وأنواعها

تعريف الشركة وأنواعها الشَّرِكَة والشِّرْكَة أصلها في لغة العرب: الجمع والخلط، فإذا جمع بين الشيئين فقد شرَّك بينهما، وإذا اجتمع الجماعة حساً أو معنىً فقد اشتركوا، تقول العرب في الأشياء المحسوسة: اشترك الرعاة، إذا جمعوا الدواب بعضها مع بعض، وتسمى بالخُلْطَة. وكذلك تقول العرب: اشترك القوم في الرأي -وهذا تابع للاشتراك المعنوي- إذا اجتمعوا على رأي واحد. وأما في اصطلاح العلماء فالشركة هي: اجتماع في استحقاق أو تصرف. فإذا اجتمع طرفان أو أكثر في استحقاق أو تصرف فإن ذلك يوصف بكونه شركة. فالشركة نوعان: النوع الأول: الاشتراك في الاستحقاق. والنوع الثاني: الاشتراك في التصرف.

الاشتراك في الاستحقاق (الأملاك)

الاشتراك في الاستحقاق (الأملاك) أما الاشتراك في الاستحقاق: فمن أمثلته: الورثة، إذا مات والدهم أو مورثهم وترك لهم -لو فرضنا- عقارات، كالبيوت والمزارع، فإن الورثة يشتركون في هذه البيوت ويشتركون في هذه المزارع كل على حسب نصيبه، فهم شركاء، كما قال تعالى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12]، وقال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فشرَّك سبحانه بين الورثة، وأعطى كل ذي حق حقه بقسمته سبحانه من المواريث من فوق سبع سماوات. فهذا النوع من الشركات يسميه العلماء بـ (شركة الأملاك)، وشركة الأملاك هي: الاجتماع في الاستحقاق، وتنقسم إلى ضربين: الضرب الأول: أن يكون الاشتراك في هذا النوع اختيارياً. والضرب الثاني: أن يكون اضطرارياً قسرياً جبرياً.

الاشتراك الاختياري

الاشتراك الاختياري فأما الاشتراك الاختياري: كرجلين دفع كل منهما خمسين ألفاً واشتريا منزلاً، فقد استحقا هذا المنزل واستحقا هذه الأرض وهما شركاء في ملكيتها، وبناءً على ذلك فهذه الشركة: شركة استحقاق؛ لكنها جاءت بطيبة نفس وبرضاً من الطرفين، وباختيار منهما، بمعنى أن اجتماعهما في هذه الدار أو اجتماعهما في هذه الأرض أو المزرعة لم يكن قهراً، وهذا النوع من أمثلته: اجتماع الطرفين -كما ذكرنا - في شراء أرض أو شراء سيارة تكون مناصفة بينهما، فقد اشتركا في ملكيتها، وقد يشترك الطرفان في المنافع، كرجلين استأجرا شقة، فإن هذه الشقة إذا دُفِع المبلغ بينهما مناصفة، كل منهما له حق الانتفاع بنصف هذه المنفعة، فإن شاءا أن يحددا زماناً يكون لأحدهما نصف السنة الأول، وللثاني النصف الثاني، أو يقسما الشقة قسمة مهيأة كل منهما يأخذ نصفها. هذا يسمى بـ (شركة الأملاك)، وهذا النوع من الشركات لا نتكلم عنه هنا، وليس مراد العلماء -رحمهم الله- بباب الشركة أو كتاب الشركة أن يبحثوا مسائل هذا النوع، أعني: (شركة الأملاك).

الاشتراك الإجباري

الاشتراك الإجباري والنوع الثاني من شركة الأملاك، وهي الشركة القسرية الجبرية: فتجمع بين اثنين، أو تُشَرِّك بين جماعة في حق، ويكون هذا التشريك ليس باختيارهما، مثل: الإرث، قالوا: تقع شركة الأملاك قسراً في المواريث، فإن الإرث قسمه الله عزَّ وجلَّ من فوق سبع سماوات، فحينما نعطي الزوج النصف أو نعطيه الربع يكون إذا أخذ النصف شريكاً للورثة بهذا النصف حتى يقسم المال ويكون قد جاءه هذا النصف قسراً، ولم يأته باختيار منه. إذاً: شركة الأملاك تنقسم إلى قسمين: - إما أن تكون اختيارية: كقوم اجتمعوا في دار شراءً أو إجارةً، أو لو كان هناك شخص عنده أرض فوهبها لشخصين، فإن هذه شركة أملاك اختيارية. - والنوع الثاني: أن تكون قسرية وبدون اختيار، كما في الإرث، والوقف، فالوقف: إذا أوقَفْتَ داراً على عشرة من المساكين، أو أوْقِفَتِ الدارُ على المساكين، فإنهم ينتفعون بالسكنى فيها، أو ينتفعون بغلة الوقف، وهذا الانتفاع وهذا التشريك في المنفعة والملكية للمنفعة جاءت قسراً بدون اختيار الشركاء.

الاشتراك في التصرف (شركة العقود)

الاشتراك في التصرف (شركة العقود) النوع الثاني من الشركات -وهو الذي يبحثه العلماء هنا-: ما يسمى بـ (شركة العقود). وشركة العقود: يجتمع فيها طرفان فأكثر: - ويكونون شركاء في المال والعمل. - أو يشتركا فيكون المال من أحدهما والعمل من الآخر. - أو يشتركا في جاهيهما، فتكون لهما وجاهة عند التجار، فيستدين أحدهما، ثم يعملان بالمال على حسب خبرتهما. - وقد تكون شركةً بالبدن، كما لو اشتركا في ما ينتجان من صنعتهما، كما لو اشترك النجارون أو الحدادون أو نحوهم من أصحاب الحِرَف. فهذا النوع من الشركات وهو شركة العقود تم باتفاق الطرفين، وتعاقد الطرفان على أن يجتمعا، ويدفع كل منهما مالاً، أو يدفع أحدهما المال والثاني يقوم بالعمل، أو على حسب ما يتفقان من أنواع الشركة التي سنذكرها، فإذا اجتمعا وتعاقدا على ذلك فإنها شركة عقود.

أقسام شركة العقود

أقسام شركة العقود هذا النوع من الشركات ينقسم إلى خمسة أقسام عند فقهاء الحنابلة -رحمهم الله-: القسم الأول: شركة العنان. والقسم الثاني: شركة المفاوضة. والقسم الثالث: شركة الأبدان. والقسم الرابع: شركة الوجوه. والقسم الخامس: شركة المضاربة. ومباحث الشركات عند فقهاء الحنابلة رحمهم الله تُذْكَر فيها هذه الخمسة الأنواع: - العنان. - والمفاوضة. - والوجوه. - والأبدان. - والمضاربة. ونازع غير الحنابلة في أنواعٍ كشركة الوجوه، وشركة الأبدان. ونازع بعضهم في اعتبار شركة المضاربة نوعاً من الشركات؛ لأن المضاربة في الحقيقة ليست بشركة من كل وجه، وسيأتي بيان هذه المسألة إن شاء الله. فقد قال طائفة من العلماء: إن المضاربة أو القراض هو من الإجارة المجهولة التي جازت على خلاف الأصل، وسنبين وجه ذلك ونقرره. أما بالنسبة لهذه الخمسة الأنواع: فجملتها: الحالة الأولى: أن يشترك الطرفان بالبدن والمال: أن يشتركا ببدنيهما وماليهما: ببدنيهما. يعني: يعملان ويشتغلان في ذلك المال تنميةً له وحرصاً على مصالحه. وبماليهما: كأن يدفع أحدهما خمسين ألفاً والثاني يدفع خمسين ألفاً؛ فقد اجتمعا بالمال وبالبدن؛ وإذا اجتمعا بالمال وبالبدن، فهذا يشمل نوعين: - شركة العنان. - وشركة المفاوضة. وشركة المفاوضة أقوى من شركة العنان من جهة الشيوع وكثرة العمل وأيضاً كثرة المال؛ لأن نطاقها ومحل العقد فيها أوسع من شركة العنان. وشركة العنان أقوى من المفاوضة؛ لأنه أُجْمِع على جوازها، بخلاف شركة المفاوضة. هذان نوعان من الشركة يرجعان إلى الاشتراك بالبدن والمال. الحالة الثانية: أن يكون الاشتراك ببدن أحدهما، والمال من الآخر: وهذه هي شركة المضاربة، أو ما يسمى بالقراض، فأحد الطرفين -وهو الغني- يدفع المال كمائة ألف، والطرف الثاني وهو العامل أو من عنده خبرة يقوم بالعمل -فقط- على تنمية هذا المال، ولا يدفع شيئاً، وإن ربح هذا المال كان الربح بينهما على ما شرطا، وإن خسر العامل في تجارته وعمله بدون تفريط وبدون سبب يوجب الضمانة؛ فإن الخسارة تكون على رب المال. الحالة الثالثة: أن يشتركا ببدنيهما: وهذا كما يقع في شركة الأبدان، فيتفق اثنان يكون أحدهما صاحب صنعة، والآخر صاحب صنعة. هل يشترط اتفاق الصنعتين أو اختلافهما؟ سيأتي. يشترك -مثلاً- اثنان في صنعة النجارة، فيتقبلان من الناس ما يريدون من أعمال النجارة، ويشتغلان سوياً في المحل، ويقومان بأداء تلك الأمور التي طُلِبت، والربح والمال بينهما على ما شرطا. فهذا يسمى بشركة الأبدان، وقد تقع في الغزو والجهاد في سبيل الله، كأن يشترك اثنان أو ثلاثة في الغنيمة، كما وقع لـ سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر رضي الله عن الجميع في يوم بدر، حيث اشتركوا في الغنيمة. الحالة الأخيرة: أن يكون الاشتراك في الجاه: يكون اشتراكهما وجاهةً، فيطلب أحدهما المال من التجار أو من السوق، وذلك راجع إلى ثقة الناس به ومعرفتهم له، ثم يقومان باستثمار هذا المال وتنميته والربح بينهما على ما شرطا، ويضمنان المال سوياً، وكذلك أيضاً يأخذان الربح على ما اتفقا عليه. هذا حاصل أنواع شركة العقود.

الأدلة على مشروعية شركة العقود

الأدلة على مشروعية شركة العقود وقد اعتنى المصنف -رحمه الله- بذكر هذه الأنواع كلها، وفصل في أحكامها، وبين المهم من تلك الأحكام، ويبقى Q ما هو الدليل على مشروعية هذا النوع من العقود؟ شرع الله عزَّ وجلَّ الشركة بين المسلمين بدليل كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإجماع أهل العلم. فأما دليل الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:24]. فقوله: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ} [ص:24]: الخلطاء: أي: الشركاء. {لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [ص:24]: ذَكَرَ شركةً قائمةً على الجَور مذمومةً، وشركةً قائمةً على العدل محمودةً، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [ص:24] فاستثنى من الجَور والظلم، والخطأ والخلل، فدل على شرعية الشركة إذا قامت على العدل دون أن يبغي أحد الشريكين على الآخر. وجاءت آيات المواريث بالتشريك؛ لكن هذا النوع من الشركات في آيات المواريث إنما هو في شركة الأملاك كما ذكرنا، وهو راجع إلى الاستحقاقات. وأما بالنسبة للسنة: فقد جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الأحاديث؛ لكنها لم تخلُ من كلام في أسانيدها، فمن أهل العلم من جعل الأحاديث للاستئناس، وجعل دليل السنة من جهة التقرير، أي: أن الناس كانوا في الجاهلية يتعاطون هذا النوع من العقود، وهو الشركة، ومع ذلك أقرهم الإسلام، وترك هذا النوع ولم يحرمه، فيجعل دليل السنة تقريرياً، ولا يجعله تفصيلياً بالقول والعمل؛ لأن الأحاديث بالقول والأحاديث بالفعل لم تخل من كلام في أسانيدها، وإن كان بعضها يقبل التحسين. فهناك حديث عن السائب بن أبي السائب رضي الله عنه أنه النبي صلى الله عليه وسلم قال له -وقد كان شريكاً للنبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، وكان نِعْم الشريك، وكان كثير الصدقة والإحسان- قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (نِعْم الشريك، كنتَ لا تداري ولا تماري) فأثنى عليه وعلى شركته. وكذلك أيضاً استدلوا بالحديث القدسي، وهذا الحديث سكت عنه أبو داود في سننه، وصححه الحاكم، وتعقَّبَه ابن القطان، بأن فيه سعيد بن حبان، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وسكوت أبي داود قد يقوي، حتى أن بعض العلماء يحكم فيه بالتحسين، ولذلك بعض العلماء يميل إلى تحسين هذا الحديث، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: أنا ثالث الشريكين ما لم يخُن أحدُهما صاحبَه، فإن خان أحدهما صاحبه خرجتُ من بينهما)، وهذا الحديث من جهة قوله: (أنا ثالث الشريكين ما لم يخُن أحدُهما صاحبَه) دل على مشروعية الشركة، وأنها تقوم على العدل والأمانة. وكذلك أيضاً قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم تاجر بمال خديجة في الجاهلية، وفعل المضاربة في الجاهلية، وجاء الإسلام ولم ينكر هذا النوع من المعاملات، فكانت سنةً تقريرية. وقالوا أيضاً: جاء في حديث أبي داود وابن ماجة والنسائي وحسَّنه غيرُ واحد أيضاً أن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر اشتركوا يوم بدر فيما غنموا، فجاء سعد بأسيرين؛ لأنه قتل قتيلين فكان له سلبهما، ولم يَجِئْ عبد الله بن مسعود ولا عمار بن ياسر بشيء فشرَّك النبي صلى الله عليه وسلم بينهم. فدل هذا على مشروعية شركة الأبدان، وهي التي ترجع إلى العمل. وأيَّاً مَّا كان فإن السنة من حيث الجملة دالة على مشروعية الشركة، خاصة إذا نظرنا أن هذا العقد كان معروفاً عند العرب، ولا يشك أحد في وجوده، ومع ذلك لم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانت الشريعة قد هذبت وبينت الأحكام والحقوق والواجبات والأمانات والمسئوليات التي ينبغي على كلا الطرفين أن يراعيها في عقد الشركة. أما من حيث الإجماع: فالإجماع من حيث الجملة على أن عقد الشركة جائز، وأنه عقد مشروع. ولكن هناك خلاف: ما هي أنواع الشركات التي أحلها الله؟ وما أنواع الشركات التي حرمها؟ ثم هذا الحلال: ما هي شروط حله وجوازه والحكم باعتباره؟ كل ذلك مما فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله.

الغاية من إباحة الشركة ومشروعيتها

الغاية من إباحة الشركة ومشروعيتها فإذا ثبت أن الشركة مشروعة من حيث الجملة، فإن الله سبحانه وتعالى حينما شرع هذا النوع من العقود تضمن المصالح العظيمة والغايات الكريمة، فعقد الشركة فيه مقاصد نبيلة، وغايات وأهداف طيبة، منها ما يرجع إلى الدين، ومنها ما يرجع إلى الدنيا. وباختصار: من فوائدها التي ترجع إلى الدين: أنها تقوي أواصر الأخوة والمحبة؛ لأن الشريك يشعر أنه مع شريكه كالجسد الواحد، وأن ماله مع مال أخيه كالمال الواحد، وهذا يحدث نوعاً من الترابط والتكاتف والتعاطف والتآلف، وإذا وقعت الخسارة شعر كل منهما أنه يتضرر كأخيه، ومقصود الإسلام ومقصود الشريعة -من مثل هذا الشعور- أن يشعر المسلم أنه مع أخيه المسلم كالجسد الواحد، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). وأما بالنسبة للمصالح الدنيوية: فإن عقد الشركة يقوي التجارة، ويحدث نوعاً من التكافل، ووجه ذلك أن التجارات أو الأسواق إذا قامت على الشركة قويت؛ لأن مجال التجارة يكون أفسح وأكثر شيوعاً مما لو كان العامل بماله مستقلاً، فأنت ترى أن مال الشركة يكون رأس المال كثيراً بخلاف ما لو انفرد كل واحد منهم بماله؛ فإنه لا يستطيع أن يخاطر، ولا يستطيع أن يتجاسر على ما يتجاسر عليه الشركاء، فإذا اجتمع الثلاثة والأربعة حصلت المصالح في السوق، ونشطت الأسواق التجارية، ولذلك قالوا: إنه إذا انتشرت الشركات في بيئة ومجتمع فإن التجارة تقوى في ذلك المجتمع، ويكون الناس أقوى على استثمار أموالهم؛ لأنه لو كان المال عند صاحبه إذا مرض فإن ذلك يعطل ماله، وإذا كانت مصالحه مرتبطة بالموضع الذي هو فيه لم يستطع جلب المال من مكان بعيد، ولم يستطع أن يسافر ولا أن يتغرب؛ لكن إذا كان معه شركاء أو كان معه آخرون -أو كانوا أكثر من رجل- فإن هذا يعين ويشجع على الانتقال، ويشجع على سعة التجارة وتنوُّعها وتعدد مجالها، كذلك من ناحية التجارة؛ فإن الأفكار والأفهام تتلاقح والأذهان يُكَمِّل بعضُها بعضاً، فهذا يكمل نقص هذا بما يعود لمصلحة التجارة ومنفعة السوق، كما لا يخفى، فقال العلماء: إن هذا يحقق من حكم مشروعية هذا النوع من العقود، أنه يعين على صلاح السوق، وانتشار التجارة فيه، وقوة التجارة، ثم إن فيه نوعاً من التكافل، فإن الرجل إذا دخل في التجارة وشاء الله -في ذلك الزمان الذي دخل فيه- أن تحصل خسارة أو تنكسر السوق؛ فإنه إذا كانوا شركاء انكسر على الجميع، فخفت المصيبة، وحصل نوع من التكافل، وحصل نوع من الجبر للضرر بخلاف ما إذا تاجر بنفسه كان الضرر متعلقاً به، وكانت المفاسد به أكثر من غيره، إلى غير ذلك من المصالح، ولا شك أنه ما من شيء يشرعه الله عزَّ وجلَّ ويبيحه لعباده إلا وفيه الخير في الدين والدنيا والآخرة، ولا يستطيع المخلوق أن يدرك حكم الخالق، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]، وقال سبحانه: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85]، فلا شك أن هذا النوع من العقود الذي دلت الأدلة على شرعيته، وأجمع العلماء رحمهم الله على جوازه فيه الخير الكثير في أمور الدين والدنيا.

حكم عقد الشركة

حكم عقد الشركة بالنسبة لعقد الشركة من حيث تكييفه في الفقه يعتبر من العقود الجائزة، وقد قدمنا أن: - هناك عقوداً لازمة. - وهناك عقوداً جائزة. - وهناك عقوداً تجمع بين الجواز واللزوم، فتكون جائزةً في أول الحال، لازمةً في آخر الحال. وبينا هذا، وفصلناه في مقدمات البيوع. فعقد الشركة من العقود الجائزة، والمراد بكونه جائزاً كما قدمنا: أي من حق الطرفين أو كل واحد من أطراف الشركة أن يفسخ الشركة في أي وقت شاء، فهو ليس بعقد لازم. لو أن طرفين دفع كل منهما مائة ألف واتفقا على الشركة اليوم، وبعد ساعة من افتراقهما قال أحدهم: لا أريد. فلا نلزمه، ولا يكون ملزَماً بإتمام الشركة، كالبيع، وغيره من العقود اللازمة، وكالإجارة ونحوها، فهي عقد رفق، ويعتبر هذا النوع من العقود الجامعة بين المعاوضة والرفق، فالشركة فيها معاوضة، مثلاً: إذا دفعت أنت خمسين ألفاً ودفع الطرف الثاني خمسين ألفاً، فإن كلاً منكما قد جعل الخمسين في مقابل الخمسين الأخرى، فصار عقد معاوضة، ثم إن كلاً منكما يعمل في تنمية المائة ألف، فهو في هذه الحالة يعاوض صاحبه، كما أن صاحبه يعمل فهو أيضاً يعمل، فصار عقد معاوضة من جهة المال ومن جهة العمل، إلا في القراض، فالقراض عقد معاوضة بالتكافؤ، فرب المال يدفع المال، والعامل يقوم بالعمل؛ لكن شركة العنان، وشركة المفاوضة يكون فيها نوع من المعاوضة، ونوع من المقابلة للمال والعمل، كما سنبين إن شاء الله تعالى. فهذا النوع من العقود فيه معاوضة، وفيه رفق، وقد ذكرنا أن عقود المعاوضات إجمالاً: - إما أن تكون قائمة على الغبن المحض، مثل: البيع، والإجارة، وبيَّنَّا ذلك في مقدمة البيع. - وإما أن تكون قائمة على الرفق المحض، كهبة الثواب، يعطيك هدية، فتعطيه هدية، فحصلت المعاوضة؛ لكنك لم تقصد غبنه، وإنما قصدتَ أن ترفق به، وقَصَد أن يرفق بك. - وإما أن تكون -وهذا النوع الثالث من عقود المعاوضات- جامعة بين الغبن والرفق، وهذا مثل: أن يقول أحدهما: لي نصف الربح، ويقول الثاني: بل لك ربع الربح، فهذا غبن يريد أن يجعل الربح الأقل في حظ صاحبه، والربح الأكثر في حظه، كالبيع، وفيها رفق؛ لأن مالك مع مال شريكك تقويا وعملُك مع عمل شريكك أصبح قوياً وصارا كالشيء الواحد، وبناءً على ذلك رفق كل منكما بصاحبه. ذكرنا في مقدمة البيوع أن عقود المعاوضات التي تقوم على الغبن تشدد الشريعة في شروطها، مثلاً: كالبيع، يعتبر من عقد المعاوضة القائم على الغبن؛ لأنك إذا أردت بيع الشيء تقول: أبيعه بمائة ألف، فيقول المشتري: أشتريه بثمانين ألفاً، فتقول: لا. بل مائة، فيقول: بثمانين. فمعناه أن هناك عشرين ألفاً إما أن تضعها غبناً على صاحبك، أو يضعها غبناً عليك. فالبيع عقد غبن، فهذا النوع من العقود كعقد البيع وعقد الإجارة تجد الشروط الشرعية فيه أكثر؛ لأنه يقوم على الغبن والخطر؛ لكن عقود الرفق، مثل الهبات والعطايا التي تكون بالمقابل وبالمعاوضة لا يشترط فيها ما يشترط في البيع؛ لأنها قائمة على المكارمة والإحسان، فتخفف الشريعة في شروطها. أما العقود التي تجمع بين الغبن والرفق كالشركات ففيه نوع من التشديد، وفيه نوع من التيسير، وسنبين هذا -إن شاء الله- في شروط عقود الشركات على حسب أنواعها، فتارةً تكون الشروط لتحقيق مصلحة للطرفين، وتارةً تكون لدفع الضرر عنهما أو عن أحدهما إذا أراد الآخر أن يضر بمصالحه.

شركة العنان

شركة العنان يقول رحمه الله: [باب الشركة]: أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل المتعلقة بالشركات. قال رحمه الله تعالى: [وهي: اجتماع في استحقاق أو تصرف]: (وهي): الضمير عائد إلى الشركة. وقوله: (اجتماع في استحقاق أو تصرف): قد بيَّنَّا هذا الاستحقاق (شركة أملاك) مثل: شركة الورثة، وكذلك التصرف، (شركة العقود). قال رحمه الله تعالى: [وهي أنواع: فشركة عنان: أن يشترك بدنان بماليهما المعلوم ولو متفاوتاً، ليعملا فيه ببدنيهما، فينفذ تصرف كل منهما فيهما، بحكم الملك في نصيبه، وبالوكالة في نصيب شريكه]: فقول المصنف: (وهي): أي: الشركات أو الشركة أنواع: [فشركة عنان]: شركة العنان تعتبر من أهم أنواع الشركات، وقد أجمع العلماء على جواز هذا النوع من الشركة.

سبب تسميتها بشركة العنان

سبب تسميتها بشركة العنان اختلف العلماء: في سبب تسمية هذا النوع من الشركة بشركة العنان، فقال بعض العلماء: إن شركة العنان سميت بذلك من عنان الفرس، فالعنان الذي يُحكم به الفرس يقول العلماء: هما الشريكان، وعنان الفرس إذا أطلقه الفارس للفرس سبحت الفرس وأسرعت، ولا يستطيع أحد أن يطلق العنان للفرس إلا إذا كان فارساً، ولذلك بعض الأفراس إذا كانت قوية العَدْو وقوية السرعة لا يستطيع أن يركبها إلا نوع خاص من الخيَّالة وممن يحسن التصرف معها؛ لأنها ربما سبحت به وربما قتلته أثناء السبح من شدة خوضها، ولربما سقط عنها. فإطلاق العنان للفرس يجعلها تسبح أكثر. وبناءً على ذلك: فهذا العنان يتحكم في الفرس فقالوا: إنك إذا دفعت مائة ألف، ودفع الآخر مائة ألف، فقد أطلقت العنان لصاحبك وهو الشريك أن يتصرف في مالك، فأنت بموجب الشركة تجعل المائة ألف تحت تصرف شريكك، وبموجب الشركة أيضاً يجعل الشريكُ المائةَ ألف التي دفعها تحت تصرفك، فأنت تتصرف في المائة ألف التي لك بالملكية، وتتصرف في المائة ألف التي لصاحبك بالوكالة، فأطلقت لصاحبك العنان، وأطلق لك العنان، وهذا في محل الشركة ومحل العقد. هذا الوجه الأول عند أهل العلم رحمهم الله في تسميتها بشركة العنان؛ أنها مأخوذة من عنان الفرس. وقال بعض العلماء وهو قول الفراء رحمه الله من أئمة اللغة: إن شركة العنان مأخوذة من عَنَّ الشيءُ إذا ظهر، فقد عَنَّ، تقول: عَنَّ لي. بمعنى: ظهر وبدا لي، وكأن كلا الشريكين أو كل واحد من الشريكين قد عَنَّ له وظهر له أن المصلحة تقتضي بأن يمكن شريكه من النظر في ماله والتصرف في ماله. وقال بعضهم: إنها من قول العرب حين تقول: هذا عنان إذا عارَضَهُ وكان معه، فقالوا على الوجه الثالث: يكون كلا الشريكين قد عارض الآخر، هذا يعارض هذا، وهذا يعارض هذا، وليس المراد بالمعارضة المقابلة، فالمقابلة بمعنى الدفع، وإنما المقابلة في التصرف، فأنت تتصرف في المائة ألف التي لصاحبك والمائة ألف التي لك، كما هو يتصرف في المائة ألف التي له والمائة ألف التي لك، فمثلاً: لو أنك دخلت في مكان الشركة، وجاءك رجل يريد أن يشتري شيئاً من الشركة بألف ريال، فإنك تبيعه هذا الشيء بحكم الشركة، تبيعه نصف الشيء بالملكية، ونصفه بالوكالة، وصاحبك إذا حضر في حال غيابك يبيع كبيعك، فأصبح كل منكما معارضاً للآخر، كأنكما تسيران في عرض واحد وخط واحد، فأنت تباريه وهو يباريك، وتعارضه وهو يعارضك، فهو يفعل شيئاً كما تفعله، ويفعل الشيء الذي تفعله. وبناءً على ذلك: قالوا: إنها من المعارضة بمعنى: المقابلة، وكل منهما يقابل الآخر بتصرفه، فكما يفعل الآخر في ماله يفعل هو في ماله على وفق عقد الشركة. وابتدأ المصنف رحمه الله بهذا النوع -وهو شركة العنان- لأهميته، خاصةً وأن العلماء قد أجمعوا على جوازه وإباحته.

حقيقة شركة العنان

حقيقة شركة العنان قال رحمه الله: [وشركة عنان: أن يشترك بدنان بماليهما المعلوم]: [أن يشترك بدنان بماليهما المعلوم]: فعندنا قوله: [أن يشترك بدنان]: اشتراك البدنين المراد به: اشتراك الطرفين، ولذلك يقوم عقد شركة العنان على طرفين، وكل منهما شريك للآخر؛ لكن هذين الطرفين لابد من أن تتوافر فيهما أهلية الشركة، فكلا الطرفين لابد أن يكون كل منهما قد حصَّل أهلية الشراكة. وإذا جئت تقول: ما هي أهلية الشركة؟ فينبغي أن تنظر إلى أصل عقد الشركة، فأصل عقد الشركة يفتقر إلى ملكية المال الذي يُشارَك به، فلا يصح أن يشاركك بمال ليس ملكاً له، كذلك أيضاً ينبغي أن يكون الذي يشاركك أهلاً للتوكيل، فلا يصح أن تشارك شخصاً لا تصح منه الوكالة؛ لأنه سيوكلك عن المائة ألف التي له، وأنت أيضاً لابد وأن تكون أهلاً للتوكيل. إذاً: قالوا: يشترط فيها ما يشترط في التوكيل. فلا يصح أن يشارك مجنوناً؛ لأن المجنون ليس بأهل للوكالة، ولا يصح أن يشارك يتيماً وصبياً صغيراً؛ فإنه ليس له حق التصرف في ماله، وليس له حق التوكيل في ذلك العقد؛ لكن لو أنك شاركت وكيل اليتيم ووكيل المجنون أو ولي المجنون أو ولي اليتيم صحت الشركة. يعني: يجوز أن تشارك أصالةً ووكالةً على جهة الولاية، فلو كان الذي تشاركه ولياً لأيتام، فقال: أشاركك بمال اليتيم، عندي مائة ألف لأيتام، أو -مثلاً- إخواني أيتام ولهم مائة ألف أريد أن أشاركك في هذه المائة ألف التي هي للأيتام، فإنه في هذه الحالة يكون شريكاً لك، وفي الحقيقة أنت شريك للأيتام؛ لكن ليس لليتيم أن يتصرف في هذه الشركة إلا عن طريق الولي. قوله: [أن يشترك بدنان]: يشترط فيهما ما يشترط من أهلية الشركة، ومن ذلك: ملكية المال، وكذلك أيضاً: أهليتهما للتوكيل؛ لأن كل واحد من الشريكين قد وكَّل صاحبه للنظر في ماله والتصرف فيه. قال رحمه الله: [أن يشترك بدنان بماليهما المعلوم]: [بماليهما]: قد تكون (الباء) بمعنى: (في)؛ لأن (الباء) لها أكثر من عشرة معانٍ، في لغة العرب، وهي من أوسع الحروف معاني. تَعَدٍّ لُصوْقاً واسْتَعِنْ بِتَسَبُّبٍ وبَدِّلْ صِحاباً قابَلُوكَ بالاسْتِعْلا وزِدْ بعضَهمْ يميناً تَحُزْ معانِيَها كُلًَّا فهنا يحتمل أن يكون قوله: [بماليهما] أي: في ماليهما، فتكون (الباء) للظرفية، تقول: محمد بالبيت، أي: في البيت. فالمراد هنا: أن تكون الشركة في المالين. وبناءً على ذلك: لما قال: [أن يشترك بدنان] أي: يجتمع بدنان في ماليهما: - خرجت شركة الأبدان، فإنهما يشتركان في عمل البدن. - وخرجت الشركة بالمال من أحدهما والعمل من الآخر، وهي: شركة المضاربة. - وخرجت الشركة بوجهيهما، وهي: شركة الوجوه. فقوله رحمه الله: [بدنان بماليهما] أي: في ماليهما. وهذا المال له شروط، سيذكر المصنف هذه الشروط، فيكون هذا المال من النقدين، وهل يجوز أن يكون من العروض؟ الصحيح: عدم جوازه، وسنبين علة ذلك. واشترط شرطاً في قوله: [بماليهما المعلوم]: فخرجت الشركة بمالين مجهولين، فلا يصح أن نشارك بمال مجهول، كأن يقول له: ادفع مائة ألف، وأدفع أنا ما في خزنتي، فإن الذي في الخزنة لا ندري كم هو! هذا المجهول من الطرف الواحد. والمجهول من الطرفين كأن يقول له: تشاركني بما في خزنتك، وأشاركك بما في خزنتي، على أنها شركة عنان، والذي في خزنة هذا لا يُعلَم، والذي في خزنة هذا لا يُعلَم! فحينئذ تكون بمالين مجهولين. أو يقول: نشترك بمالين، ولا يحددان قدر المالين، ونحو ذلك من الصور المبنية على الجهالة. يقول العلماء: إن الشريكين إذا اشتركا في مالين مجهولين حصلت الخصومة، وحصل البغي من بعضهم على بعض، ولربما ختل أحدهما الآخر، فظن شريكُه أنه سيدفع مالاً كثيراً، فإذا به يدفع المال القليل، ولذلك لا يجوز أن يشاركه على هذا الوجه المجهول.

حكم تفاوت رأس المال في شركة العنان

حكم تفاوت رأس المال في شركة العنان قال رحمه الله: [بماليهما المعلوم ولو متفاوتاً]: [ولو متفاوتاً]: وهذه مسألة خلافية: هل يجوز أن يشتركا في شركة العنان برأس مال متفاوت؟ فقوله: [ولو] إشارة إلى خلاف مذهبي، وهناك خلاف خارج المذهب. فالجمهور على أنه يجب في شركة العنان أن يستوي رأس المال مع الربح، وحينئذ يكون رأس المال مناصفة بينهما، ويكون الربح بينهما مناصفة؛ ولا يختلف رأس المال عن الربح. وبناءً على ذلك: يكون عند الجمهور كالحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة على أحد الوجهين أنهم يقولون: لابد أن تكون شركة العنان مستوية، فلا يجوز أن يكون رأس المال متفاوتاً إذا كان الربح مستوياً، بل لابد أن يتطابق الربح مع رأس المال. وسنفصل هذه المسألة عند ذكر الشروط المتعلقة بالمال. [ليعملا فيه ببدنيهما]: [ليعملا فيه] يعني: في المال. [ببدنيهما]: وهذا يدل على أن شركة العنان فيها اشتراك من وجهين: الوجه الأول: الأموال. والوجه الثاني: العمل. فيعمل كل منهما في الشركة، فخرجت شركة المضاربة؛ لأن العمل فقط من العامل. وبناءً على ذلك: لابد أن يعمل الطرفان، فإذا دفعتَ خمسين ألفاً ودفعتُ أنا خمسين ألفاً يكون العمل بيننا مناصفة، فتعمل مثل ما أعمل، وأعمل أيضاً مثل ما تعمل، ولذلك يكون الربح بيننا مناصفة، فلا يظلم أحدُ الشريكين صاحبَه. وصلى الله على سيدنا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

الإيجاب والقبول في الشركة توكيل

الإيجاب والقبول في الشركة توكيل Q هل تندرج الوكالة تحت الشركة تلقائياً، بمعنى أن كل شريك وكيل؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: لا يخفى أن الشركة يقوم عقدها على الصيغة، وهذه الصيغة قولك: شاركتُك، وقول الآخر: قبلتُ، ونحو ذلك مما يدل على الاجتماع، فهذه الصيغة وهي قولُك: (شاركتُك) هي إذن بالتصرف، وهو توكيل. وبناءً على ذلك: فموجب قولك: شاركتُك يدل على أنه قد صار وكيلاً عنك، وصرتَ أيضاً وكيلاً عنه حينما قال: قبلتُ، أو رضيتُ، أو أصبحنا شركاء، أو أنت شريكي، أو نحو ذلك مما يدل على القبول، وهذا يرجع إلى العرف، فكل عرف بحسبه، فما دل على القبول يدل على الإذن بالتوكيل، فكما أن اللفظ وهو الإيجاب يدل على الإذن بالتوكيل، كذلك أيضاً القبول من الطرف الثاني يعتبر قبولاً للوكالة وإذناً أيضاً وتوكيلاً بالنسبة لما يتعلق بالشريك القابل. والله تعالى أعلم.

حكم الشراكة بين الأب وابنه

حكم الشراكة بين الأب وابنه Q هل تقع الشركة بين الأب وابنه، علماً بأن الأب مالك لمال ابنه؟ A الأب مع ابنه له أحوال، فمن حيث الأصل فقد دلت النصوص على أن الأب والابن كالشيء الواحد، ويشهد لذلك ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث فاطمة رضي الله عنها أنها لما أراد علي رضي الله عنه أن يتزوج عليها، وهذا الحديث سببه أنه فُهِم منه الأذية والإضرار، ولذلك أرادوا أن يزوجوا علياً بابنة أبي جهل، فما الذي دعاهم يسكتون ويختارون ابنة عدو الله؟! دل على أن الأمر فيه نوع أذية وإضرار، فخرج عن كونه تعدد من حيث الأصل، وقد أحببنا أن ننبه عليه؛ لأن البعض يحتج بهذا الحديث في غير موضعه، فللحديث أمر مهم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (والله لا يجتمع دخان بنت عدو الله مع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت واحد) فهذا يدل على أن الأمر كان فيه نوع من الأذية والإضرار. فالمقصود أن هذه الحادثة لما وقعت، دخلت فاطمة رضي الله عنها على أبيها وقالت له: (إن الناس يتحدثون أنك لا تغار. فخرج عليه الصلاة والسلام وقال على المنبر: والله! لا آذَنُ، والله! لا آذَنُ، إنما فاطمة بضعة مني) فقوله: (بضعة مني) هذه الكلمة تفرع عنها ما لا يقل عن ستين مسألة فقهية، وهذا يدل على عظمة هذا الدين، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (وأوتيتُ جوامع الكلم) فهذه الكلمة (بضعة مني) تفرعت منها مسائل الآباء، والأبناء، والبنات مع آبائهم ومع أمهاتهم، وتنزيل الابن مع أبيه، والبنت مع أمها وأبيها كالشيء الواحد. وعلى هذا قالوا: إن هذا الحديث يدل على أنه بمثابة الشيء الواحد، فقالوا: يكون من الملكيات، فالشخص لا يشارك نفسه، فبناءً على ذلك يكون فيها شبهة الملكية للمال، وأكد هذا حديث السنن عنه عليه الصلاة والسلام وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحق ما أكلتم: من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) فجعل الولد مع والده كالشيء الواحد، وصوَّر كسبه كسباً له، فقال: (إن أحق ما أكلتم: من كسبكم)، وهذا دال على أن الابن من كسب أبيه. وفيه دليل على عظيم حق الوالد على ولده. ورُدَّ ذلك؛ لأن الشرع أكَّد هذا، حتى إن الرجل لو اشترى والده في الرق عَتَقَ عليه، ولذلك قالوا: إنه يعتق عليه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من ملك ذا رحم منه فقد عَتَقَ عليه)، فقالوا: إن هذا يؤكد على أن مال الابن في حكم الملكية لوالده. وقال بعض العلماء: إنها ملكية نسبية، فعلى هذا الوجه يتخرج أن يشارك الابن أباه، وأن يكون مع أبيه في الشركة، ويكون حكمهما حكم الشريكين المختلفين. والله تعالى أعلم.

السلعة الخارجة من اليد العائدة إليها ملغاة

السلعة الخارجة من اليد العائدة إليها ملغاة Q السلعة الخارجة من اليد العائدة إليها بدون حيلة، هل يُحْكَم بصحة البيع أم فيه شبهة؟ A هذه مسألة قعد بعض العلماء فيها القاعدة المشهورة: (السلعة الخارجة من اليد العائدة إليها مُلغاة)، هذه القاعدة تقع كثيراً في مسائل بيوع الذرائع، ومنها ذرائع الربا، ومن أشهر ما يقع ذلك في مسألة (بيع العينة)، فإن الرجل إذا باع السلعة وأخرجها من يده (فالسلعة الخارجة من اليد العائدة إليها -قبل تمام الصفقة الأولى- مُلغاة)، فهو إذا باعه السيارة بمائة ألف إلى نهاية السنة، ثم اشتراها منه نقداً حاضرةً بثمانين ألف، قالوا: تُلغى صورة العقد -عقد البيع- في الأول والثاني، فقد خرجت السلعة ثم عادت، وذلك مع اتحاد اليد، فقالوا: كأنه أعطاه ثمانين ألفاً حاضرة بمائة ألف إلى أجل، والسلعة الخارجة من اليد العائدة إليها مُلغاة عند عدم وجود المخالفة، يعني: عند عدم وجود يد خارجة، أما لو أنه باعها على شخص، ثم الشخص الآخر باعها على صاحب المعرض الذي قسَّط، فالأورع في مثل هذا أن ينتظر إلى سداد المبلغ حتى ينتهي التقسيط ثم يشتريها. وإن كان القول بجوازها إذا بيعت إلى أجنبي دون مواطأة أنه يجوز؛ لأن اليد مختلفة، وقد قرر صلى الله عليه وسلم الحكم بالجواز عند اختلاف اليد، ولذلك بريرة لما أخذت الصدقة وغلا بها القدر، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأكل منها قالت له أم المؤمنين: (يا رسول الله! إنها صدقة، أو إنها لـ بريرة، فقال صلى الله عليه وسلم: هو لها صدقة، ولنا هدية) فأوجب اختلاف اليد. فقال العلماء: إذا اختلفت اليد انتقل الحكم، فإذا دخل الأجنبي بدون مواطأة فإنه في هذه الحالة يُحكَم بكون الصفقة حلالاً للمعرض أو للبائع الأول، أما لو كانت من البائع الأول فإنها ينطبق عليها قولهم: (السلعة الخارجة من اليد العائدة إليها مُلغاة)، ومعنى (مُلغاة): أي: يُلغى العقد في كلتا الصورتين. ومن أمثلة ذلك: ما يكون بالتواطؤ، فأشبه ما تتحقق به هذه القاعدة: بيوع الذرائع التي يكون فيها التحايل على ما حرم الله عزَّ وجلَّ. والله تعالى أعلم.

السماحة في البيع والشراء

السماحة في البيع والشراء Q هل الغبن والمماكسة التي تكون في السعر معهودة دائماً في البيع، أم ينبغي للمشتري والبائع تجنبها؟ وما توجيهكم في السماحة لكلا المتبايعين؟ A إن السماحة في البيع والشراء، والأخذ والعطاء، فيها فضل عظيم، ولذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبها بالرحمة، وقال بعض العلماء: بل هو خبر، فقال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: (رحم الله امرأً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) والسماحة من اليُسر، والله عزَّ وجلَّ يحب اليُسر، ومن يسَّر على الناس يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة. والمراد بالسماحة في البيع: - في بعض الأحيان تكون عامة في تعامل الإنسان. - وتارةً تكون خاصة. فالسماحة الخاصة: تكون عند الموجب، كأن يكون الإنسان تاجراً يبيع السلع، فإذا رأى فقيراً ساعده ويسَّر له، ولو جاءه بربح قليل قَبِل منه ذلك القليل وتسامح معه، فهذه سماحة خاصة، ولا شك أن صاحبها مرحوم من الله عزَّ وجلَّ على قدر ما يكون منه من إحسان. وقد تكون السماحة عامة: لا يفرق فيها صاحبها بين غني ولا فقير، فبمجرد أن يقف عليه أخوه المسلم تذكر ما بينه وبينه من أخوة الإسلام، وأحب لذلك الأخ مثل ما يحب لنفسه، وأصبح طلق الوجه، ومُيَسِّراً في بيعه وشرائه، يبيع بطيبة نفس، فيكتب الله له بالبركة في ربحه، فيرضى بأقل القليل من الربح، فإذا جاء يعرض السلعة عرضها، ولم يبالغ في ربحها، واكتفى بالقليل. ولذلك قال العلماء: ليست العبرة بكثرة الأرباح، وإنما العبرة بوضع الله للبركة، فكم من أرباح قليلة بارك الله لأهلها فأصبحت كثيرة، وأنت ترى بعض التجار وضع الله لهم البركة فيما يجنون من أموال، وتجد أرباحهم معقولة، وتصرفاتهم في السوق مقبولة من الناس، وقد وضع الله لهم القبول، فهم يرضون بالقليل، فمثل هؤلاء توضع لهم البركة بسبب اليُسر والسماحة، وإذا أصبح الإنسان مُيَسِّراً سهلاً، فإذا جئت تشتري الشيء انظر فيه، فإذا وجدت الشيء يستحق القيمة، كما ذكر لك البائع، فإياك أن تستغل ضعفه، وإياك أن تستغل حاجته، فبعضٌ من الناس يعلم أن الرجل مديون، وأنه سيبيع عمارته، أو يبيع سيارته، أو يبيع أرضه، فيغتنم فرصة الحاجة، فمثل هذا إذا ضيَّق على أخيه حَرِيٌّ أن يضيق الله عليه، وحَرِيٌّ أن ينزع الله البركة من السلعة التي يأخذها، ولذلك على المسلم أن يعلم أن الله ليس بغافل عما يعمل وأنه مطلع على ما يكون منه، وأن الله ابتلاه بكثرة المال لكي يظهر صدق إيمانه، وكمال يقينه، وشكره لنعمة ربه وفضله عليه، فإذا قابل هذه النعمة بالشكر، وأخذ يسامح الناس، فمن وجده مديوناً يبيع ماله، فإن استطاع أن يعطيه المال أعطاه، وإذا لم يستطع اشترى منه الشيء بحقه وقدره، فهذا من السماحة، ومما يثيب الله عليه أهله. فالسماحة في البيع أن تقتصر على أقل الربح. قيل لـ عبد الرحمن بن عوف: (كيف أصبحت ثرياً غنياً في تجارتك؟ قال: كنتُ أرضى بأقل الربح)، وهذا نوع من سياسة التجارة، ومن أعظم الأسباب التي يصبح الإنسان بها حائزاً على ثقة الناس، وأيضاً حائزاً على أكثر الربح؛ لأنه إذا رضي بأقل الربح نفقت السلعة عنده، وأصبحت أرباحه أكثر من غيره، وأصبح الذين يشترون منه أكثر ممن يشترون من غيره، فيكسب الوقت، ويكسب كثرة من يشتري منه، ويكسب الثقة بكثرة من يشتري منه، وحينئذ يكون له أضعاف ما يكون لمن يبالغ في الربح، فالذي يبالغ في الربح يجعل على السلعة ربحاً مضاعَفاً، فيتأخر بيع السلعة، وقلَّ مَن يشتري منه إلا الغني أو المحتاج الذي يضطر لشراء السلعة؛ لكن الأول يشتري منه الكلُّ؛ لأن ربحَه معقول. فالمقصود: أن السماحة في البيع الرضا بالقليل من الربح، وإذا علمتَ أن أخاك أعطاك ربحاً معقولاً، فبادر وبِعْ. وأما السماحة في الأخذ والشراء: ألَّا تسوم الشيء بأقل مما يستحق، فإياك أن تظلم أخاك فتعطيه أقل مما يستحق! وقد جاء في حديث ابن ماجة واخْتُلِفَ في إسناده وإن كان ضعَّفَه بعضُ العلماء رحمهم الله: أن أم ورقة اشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! إني أدخل إلى السوق، فأرى السلعة، وأعلم أنها تستحق مالاً، فأعطي أقل مما تستحق، فإذا ساومني الرجل حتى يصل إلى ما تستحقه اشتريت -بمعنى: أنها تسوم بالأقل حتى تصل إلى القدر الذي تريده وتعلم أن السلعة تستحقه- وإن كنتُ أريد أن أبيع السلعة سُمتها بأكثر، فلا يزال يراجعني حتى يصل إلى القدر الذي يعطيه، أفيحل لي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ادفعي مالك؛ فإن شاء أن يأخذ، وإن شاء أن يبيع)، يعني: لا تساوميه بهذا الوجه، فتظلمي السلعة حقها؛ ولكن أعطي السوم الذي تريدين، وهذا لا شك أنه يريح الإنسان، ويختصر له الوقت. إذا أنت جئت إلى رجل، وقلت له: هذه سلعتك -مثلاً- قيمتها عشرة آلاف، فبدل أن تقول: ثمانية آلاف، ثمانية آلاف ونصف، تسعة آلاف، ويضيع عليك الوقت، اختصر الوقت وقل له: هذه تسعة آلاف، إذا كنت تريد أن تبيع فالحمد لله، وإذا كنت لا تريد أن تبيع فيفتح الله، وييسر الله لي ما هو خير منها، فإذا أراد أن يبيع أخذت وحمدت الله، وإذا أراد ألَّا يبيع انصرفتَ مباشرةً وبمجرد أن تتجاوز يقول: يا فلان! تعال خُذْ. فاختصرتَ الوقت، وارتحتَ. ولربما أثناء السَّوْم وقَعَتْ خصومةٌ، فإن المشتري ربما لا يأمن الضرر، ففي بعض الأحيان ربما أنه لو سامَ بأقل مما تستحق السلعة لسفَّهَه الرجلُ كما هو شأن بعض الناس أنه يكون فيه حِدَّة، فربما سفَّهَه، وربما ظن أنه يريد أن يخذُلَه ونحو ذلك. فالمقصود: أن الإنسان الأفضل له والأكمل أن يتعاطى السماحة، وأن يكون سهلاً ميسراً في بيعه وشرائه، وأخذه وعطائه، والله ما رأينا أحداً يعامل الناس بالسماحة إلا وجدنا الله يلطف به من حيث لا يحتسب، وانظر في التجار، وانظر في إخوانك بل حتى في أقرب الناس منك، انظر إليه في تعامله مع الناس، فإذا وجدته سمحاً ميسراً وجدت أموره ميسرة كما يسر على الناس، وإن وجدته يدقق ويشدد ويضيق على الناس ويأخذهم بالشدة والعنت ضيق الله عليه، حتى إنك تنظر في أحوال مرضه وأحوال عافيته تجد الأمور معه في غاية العسر، سبحان الله! مثلما يفعل مع الناس. فتجد الرجل السمح إذا كان في مرض أو شدة وجدت من تيسير الله في شفائه ودوائه وطبيبه وعلاجه ما يوافق ما يفعله مع الناس. وتجد الآخر الذي ينكد على الناس ويضيق على الناس تجد أموره منكدة، (لا يظلم اللهُ الناسَ شيئاً أبداً)، ما إن يطرق باباً إلا أقفله الله في وجهه، وأخَّره كما أخَّر الناس، وتأذَّى كما أذى الناس؛ لأن التضييق على الناس ربما -والعياذ بالله- ابتُلي الإنسان بسببه بدعوةِ مَن لا تُرَدُّ دعوتُه، ولربما نكَّد على الغير وضيَّق عليهم وترك السماحة معهم، فدُعي عليه، فنُزعت البركة من ماله، أو نزعت البركة من علمه أو عمله، نسأل الله السلامة والعافية. فينبغي للمسلم أن يكون سمحاً في أموره، وأن يأخذ من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعامله ما يعينه على ذلك، فمن تذكر سنة النبي صلى الله عليه وسلم وجعل هديه نبراساً له في أموره وشئونه؛ فإنه يجد نفسه -لا شعورياً- تنساب وراء ذلك الخير الكثير من البساطة واليُسر والسماحة وحسن المعاملة مع الناس حتى يعيش حميداً ويموت بالذكر الحميد، وهذا عاجل ما يكون له في الدنيا، ولَمَا ينتظره عند الله أجل وأسمى. والله تعالى أعلم.

حكم أخذ المرأة من مال زوجها بغير إذنه

حكم أخذ المرأة من مال زوجها بغير إذنه Q هل في شكاية هند للنبي صلى الله عليه وسلم تقتير زوجها في النفقة عليها، وإذْنِ النبي صلى الله عليه وسلم لها بالأخذ من ماله بالمعروف، هل هو خاص بها أم عام لمثلها، علماً بأنه قد تكثُر طلبات الزوجة ولا يستطيع الزوج تلبيتها دائماً؟ A حديث هند رضي الله عنها قالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شَحِيْح مِسِّيْك، أفآخذ من ماله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف). يقول أهل العلم: إن أبا سفيان كان يقتِّر عليها -على ضوء الشكوى-. وقيل: لا. بل إنها ادعت ذلك، والله أعلم! هل أصابتْ أو أخطأتْ؟ قالوا: ربما كانت -وهذا لا يبعُد؛ لأن هنداً كانت من أشراف قريش وعِلْية قريش، وأمثال هؤلاء من النسوة كان عندهن نوع من البذخ، والإسراف في التعامل، فإذا صدمها الزوج بوضع الأمور في نصابها وصفته بأنه شَحِيْح وأنه مِسِّيْك، والله أعلم بما بين أبي سفيان وهند! ونحن لا ندخل بينهما، فالله أعلم؛ لكن الذي ذكره بعض العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم ربما فطن لذلك، ولذلك قال لها: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) فدل على أن الأمر راجع للكفاية، وأنه لا يجوز لها أن تتجاوز المعروف. وبناءً على ذلك: فحديث هند في قول جماهير العلماء رحمهم الله على أنه قاعدة عامة، وأن كل امرأة ظلمها زوجها وحرمها نفقتها يجوز لها أن تأخذ من ماله ما يكفيها وولدها بالمعروف، والمراد بـ (ما يكفيها وولدها): حقوق النفقة، فمثلاً: إذا كان الزوج مقتِّراً في الطعام، وتحتاج لأطفالها إلى طعام، أو جاء بنوع من الطعام الردئ، وهو قد فتح الله عليه، فالنفقة مقدرة بحال الزوج؛ لأن الله أمر كلَّ ذي سعة أن ينفق من سعته: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق:7] قُدِرَ بمعنى: ضُيِّق، {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، فدل على أن النفقة راجعة إلى حال الزوج. وبناءً على ذلك: إذا كان الزوج غنياً وضيَّق على زوجته، وأصبحت الزوجة لا تجد طعاماً، أو تجد طعاماً لكنه مضيِّق ومقتِّر فيه أخذت ما يكفيها، فلو فُرِض أن كلفتها الشهرية في الطعام: ألف وخمسمائة، وأعطاها ألفاً، فإنها وأولادها قد ثبت استحقاقهم منه خمسمائة، فتأخذ من ماله بقدر الخمسمائة ولا تزيد، وهكذا بالنسبة للكسوة، فإذا كان لم ينفق عليها في كسوتها وأعطاها -مثلاً- مائتين، والكسوة تستحق لمثلها بالمعروف -من مثله في ماله ووسعه- خمسمائة، فضيَّق عليها وأعطاها أربعمائة أو أعطاها ثلاثمائة، فتأخذ إلى تمام الخمسمائة، وهذا شيء بينها وبين الله عزَّ وجلَّ، تتقي الله عزَّ وجلَّ في مال زوجها، وعلى الزوج أن يتقي الله في رعيته. والواقع أن سائر النفقات بين الأزواج والزوجات تحتاج إلى شيء من العدل والإنصاف، والأفضل للزوج أن يكون سمحاً وعلى الزوج خاصةً إذا كانت المرأة صالحة وفيها خير أن يتقي الله عزَّ وجلَّ فيها، وأن يعينها على أمور دينها بإصلاح دنياها، ولذلك كان السلف رحمهم الله يتسامحون مع الأهل والزوجات في مثل هذا، فإذا كانت المرأة -مثلاً- صالحة ديِّنة واحتاجت إلى شهود بعض المناسبات وكانت من بيت أو من أسرة تحتاج إلى كثرة شهود المناسبات، وهو يعلم فيها الدين والصلاح، ويحس أن ثَمَّ إحراجاً لها أن تلبس نوعاً معيناً، وأنها تحتاج إلى نوع من اللباس وإن كان غالباً لكنه يعيش طويلاً، والمرأة محافظَةٌ وفيها صيانةٌ، فلا مانع أن يجبر خاطرها، وأن يظهرها بالمظهر الحسن، فكم تتجمل الزوجة مع زوجها في المناسبات! وكم تحمل همه عند إكرام ضيوفه وقرابته ومن ينزل به، وكم حرصت على أن تُظْهِره على أحسن الأحوال! فمثل هذه المشاعر ينبغي وأن تقابَل بالمثل، ولذلك إذا عامل الإنسان زوجه بنفس الأحاسيس والمشاعر ضحت المرأة، وشعرت أنها عند بعل كريم وعند زوج كريم، فكم من مواقف احتاج الرجل أن تسهر زوجتُه معه فسَهِرَتْ! وكم من مواقف احتاج فيها أن تضحي الزوجة بالخدمة فضحَّتْ! وكم من مواقف احتاج الزوج فيها إلى أن تصبر الزوجة على أبنائه وأذيتهم وإضرارهم فصبرتْ وتحملتْ! وربما يمر عليك في العام ثلاثة أو أربعة مواقف في مناسبات خاصة، فربما تكون هذه المناسبة زواج أختها أو زواج أخيها ولا تتكرر، فجبر خاطرها بمثل هذه السماحة والتضحية والتيسير بشرط ألَّا يصل إلى التبذير والإسراف -طيب وتحتسب عند الله أن يخلف عليك ما أنفقت، ويبارك لك في زوجتك، وتحتسب عند الله أن تكون ديِّنة تثبت على دينها، فإن المرأة الصالحة إذا كانت ديِّنة في نفسها ربما انهزمت أمام المجتمع، فلربما وقفت في المناسبات بحالة رثَّة، ورمقتها الأبصار ونظرت إليها، وحصل لها من الضيق والحرج ما لا تتحمله، وقد لا تستطيع أنت الرجل أن تتحمل ذلك، ولو تصورت نفسك وأنت تلبس جميل الثياب ومحاسن الثياب وتتكلف بهيئتك وبزَّتك وثوبك بما لا تستطيعه وأنت رجل، فكيف بالمرأة التي تُفْتَن بالمظاهر! وكيف بالمرأة التي لا تستطيع أن تتحمل إهانة الغير لها أو لمزها أو الحط من قَدْرها! هذه الأمور ينبغي -وخاصةً على الأخيار- التنبه لها، وأن يُعامِل الغيرَ مثل ما يحب أن يُعامَل مِن غيره، ولا شك أن عماد الأمور كلها على تقوى الله عزَّ وجلَّ. ولا أزال أوصي وأكرر الوصية بالصبر، خاصةً على الصالحات والتجمُّل معهن، واحتساب الأجر عند الله عزَّ وجلَّ في ذلك. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يلهمنا السداد والرشاد، وأن يلطف بنا في الآخرة والمعاد، إنه ولي ذلك والقادر عليه وهو رب العباد. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

باب الشركة [2]

شرح زاد المستقنع - باب الشركة [2] من الأمور المترتبة على عقد شركة العنان: تصرف الشريك في مال شريكه بحكم الملك في نصيبه والوكالة في نصيب شريكه، ويترتب على هذا أحكام الوكالة من الأمانة والنصح لمن يعامله ويشاركه، والضمان عند التعدي والإفراط، سواء في النقد أو في الشرط.

تصرف الشريك في مال شريكه

تصرف الشريك في مال شريكه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فينفذ تصرف كل منهما فيهما]: يعني: في المالين. تقدم معنا في المجلس الماضي بيان حقيقة شركة العنان في اللغة والاصطلاح. ثم شرع المصنف رحمه الله في بيان ما يترتب على وجود عقد هذه الشركة، و (الفاء) هنا للتفريع والتفصيل، فإذا ثبت أنه يجوز للطرفين أن يشتركا بماليهما ويكون ذلك على سبيل شركة العنان، فإنه يترتب على ذلك أن ينفذ تصرف كل منهما في المالين، فلو دفع زيد عشرة آلاف ريال ودفع رجل آخر عشرة آلاف ريال واشتركا، فإنه حينئذٍ يحق لكل واحد منهما أن يتصرف في ماله؛ لأنه يملكه في الأصل، ويحق له أن يتصرف في مال أخيه وصاحبه؛ لأنه وكيل عنه. وإذا أُثبت في قوله: [فينفذ تصرف]: فالعقود: - فيها ما هو نافذ. - وفيها ما هو موقوف. - وفيها ما هو صحيح. - وفيها ما هو فاسد. - وفيها ما هو باطل. فإذا قيل: عقد نافذ ترتبت عليه الأحكام الشرعية. مثلاً: البيع، إذا قلنا: هذا بيع نافذ فإننا حينئذٍ نحكم بملكية الثمن والمثمن على سبيل المعاوضة بين الطرفين، ونحكم بالآثار المترتبة على البيع، فإذا قلنا: ينفذ تصرف كل منهما، فهذه العشرون ألفاً التي اتفقا عليها واشتركا فيها لو باع أحد الشريكين واشترى بهذا المبلغ فإنه ينفذ تصرفه، فلو أخذ العشرين ألفاً وأخذ منها خمسة آلاف، وصرفها دولارات، وتاجر في العملة، وأصبح يربح من خلال متاجرته وصرفه، قلنا: إن تصرفه صحيح؛ لأنه يتصرف في مال إما أصالةً وهي العشرة آلاف التي يملكها، وإما وكالةً بالنسبة لنصيب صاحبه، فأي مبلغ يسحبه من الشركة التي هي رأس مالها عشرون ألفاً، إذا سحب عشرة آلاف من العشرين ألفاً فخمسة آلاف يتصرف فيها بالأصالة، وخمسة آلاف يتصرف فيها بالوكالة. كذلك أيضاً لو أنهما دفعا في شركة العنان خمسة ملايين، واتفقا على أنهما يتاجران بهذا المبلغ، فاشترى أحدهما عمارة لكي يستثمرها، فإن هذا الشراء والعقد الذي تم بمال الشركة عقد صحيح وينفذ وتترتب عليه الأحكام الشرعية، فيصح شراؤه، ثم بعد مدة لو رأى أن هذه العمارة من المصلحة أنه اشتراها بمليون على حساب الشركة وسيبيعها بثلاثة ملايين أو بأربعة ملايين فباعها، فإن البيع صحيح كما لو باع ماله هو؛ لأنه بمقتضى عقد الشركة صار إما أصيلاً يتصرف في المال أصالةً، وإما أن يتصرف فيه وكالةً، هذا معنى قوله: [فينفذ تصرف]. كذلك أيضاً لو أنهما اشتريا عمارةً بمليون، فهذه العمارة تكون ملكاً للطرفين، فلو أن أحدهما أجَّر هذه العمارة في الموسم بخمسمائة ألف أو بمليون أو بأي مبلغ ما دام أنه في حدود التصرف المعقول والمقبول وفق عرف أهل التجارة، نقول: إن التأجير الذي تم تأجير صحيح، وعقده صحيح، فليس للآخر أن يقول: أن أملك من العمارة نصفها فلا تؤجرها، أو يقول: العمارة أملك نصفها فلا تبعها، ولا يقول أيضاً: الخمسة ملايين أملك نصفها فلا تشترِ أية عمارة، ولا تشترِ العمائر، ليس من حقه، كل منهما يتصرف في هذا المال وفق المصلحة، ووفق ما فيه خير الشركة، وما يعود عليهما بالنفع.

تصرف الشريك في مال الشركة بحكم الملك في نصيبه

تصرف الشريك في مال الشركة بحكم الملك في نصيبه قوله: [بحكم المُلك في نصيبه، وبالوكالة في نصيب شريكه]: (المُلك أو المِلك أو المَلك) هو مثلث من المثلثات، بحكم المُلك في نصيبه، وبحكم الوكالة في نصيب صاحبه، إذا اشترك الاثنان في مال الشركة فإن كلاهما أصيل في ماله وكيل في مال الآخر. وقول المصنف: [بحكم]: يعني: أن القاضي والفقيه والمفتي يفتي ويحكم بصحة هذا التصرف بناءً على أن عقد الشركة يقتضي أنه مالك لنصيبه؛ لأنه ماله وخرج من ماله، ويقتضي أيضاً أنه وكيل عن صاحبه.

تصرف الشريك في مال الشركة بالوكالة في نصيب شريكه

تصرف الشريك في مال الشركة بالوكالة في نصيب شريكه قوله: [وبالوكالة في نصيب شريكه]: يعني: بحكم الوكالة. وإذا قلتَ: إن الشريك مع شريكه وكيلٌ، تترتب عليه أحكام الوكالة.

أحكام الوكالة المترتبة على تصرف الشريك في مال الشركة بالوكالة

أحكام الوكالة المترتبة على تصرف الشريك في مال الشركة بالوكالة وبناءً عليه: فأول مسألة أن يده على مال صاحبه يدُ أمانة، وقد قدَّمنا في باب الوكالة أن الوكالة تقتضي أن يكون أميناً على مال موكله، فإذا قلتَ: إن يده يدُ أمانة، تتفرع جميع الأحكام المتعلقة على يد الأمانة. فتقول:

الأمانة

الأمانة - أولاً: مقتضى كونِها يد أمانةٍ: أن يتصرف بكل نزاهة بعيداً عن الخيانة والإضرار، فكل من الشريكين يجب عليه أن يكون ناصحاً لشريكه، وأن يكون قلبُه وقالَبُه على وَفْق المصلحة، فلا يُظْهِرُ أنه شريكُه في الظاهر ويريد أن يضر به في الباطن. - ثانياً: لا يتعامل في الظاهر بما يخالف مقتضى الأمانة. إذاً: عندنا جانبان: - ما يتعلق بقلبه إذا غش أخاه. - إذا كان في ظاهره أنه لا يريد تنمية مال التجارة، ولا يريد تنمية مال الشركة. فإنه يأثم شرعاً؛ لأنه دخل مع أخيه على النصيحة للمسلم، وأنه يريد أن يستثمر ماله، فيجب عليه أن يتعاطى جميع الأسباب. قال بعض العلماء: ومقتضى ذلك أنه لو كان هناك عمل معين من التجارات يحسن القيام به والظروف مهيأة للقيام به، وعلم أن مصلحة مال الشركة أن يدخل في هذا المال فتأخر؛ فإنه يعتبر خلاف الأمانة، ولا يخلو من تبعةٍ ومسئوليةٍِ أمام الله عزَّ وجلَّ، لماذا؟ لأنهما حينما تعاقدا -والله مطلع على هذا العقد وآمرٌ لكل منهما أن يفي بمقتضى العقد- قد تعاقدا أن ينصح كل منهما للآخر، وتعاقدا على أن يبذل كل منهما ما في وسعه لتنمية المال كأنه ماله. وعلى هذا: أولاً: ينبغي عليه النصيحة لمن يعامله ويشاركه.

الضمان عند التعدي أو التقصير في النقد والبيع والشراء

الضمان عند التعدي أو التقصير في النقد والبيع والشراء ثانياً: لا يجوز له أن يتسبب في إدخال أي ضرر من خلال تصرفه في مال الشركة، فكل تصرف من الشريكين يُضْمَن بضابط الوكالة، فإن كان التصرف الذي قام به معتبراً عند أهل الخبرة، وليس فيه تعدٍّ ولا تفريط فلا ضمان عليه، وإن تعدى أو فرط من خلال تصرفه فإنه يضمن المال، ولا يكون -في هذه الحالة- الشريكُ متحملاً المسئولية. أ- بيع النسيئة: ومثال ذلك لو أن اثنين اشتركا بمليون لاستثماره في التجارات، ثم شاء الله عزَّ وجلَّ أن أحدهما أخذ من المليون نصفها -مثلاً- واشترى نوعاً من السلع، وأصبح يبيعها بالنسيئة والأجل ولا يبيعها نقداً، أو يبيع بعضها نسيئةً وبعضها حاضراً ونقداً، فنقول: إن الوكيل لا يجوز له أن يبيع نسيئة إلا إذا أذن له موكله. وعلى هذا: فلو أنه اشترى -مثلاً- بمليون ريال سلعاً، فباع نصفها نقداً ونصفها نسيئةً، نقول لشريكه: ما رأيك في هذه المسألة؟ هل استأذنك؟ فإن قال: لم يستأذني فإن مقتضى الوكالة ألا يبيع نسيئةً حتى يستأذن صاحبه، فإن عَدَلَ عن هذا الأصل فقد تعدَّى وفرَّط. فنقول: بالنسبة لما بعتَه نقداً فهو بينك وبين أخيك، وما بعتَه نسيئةً فإنك تتحمل المسئولية عن جميع المبلغ، والمقدار الذي يتعلق بشريكك تدفعه له ولا يتحمل قيمة ذلك نسيئةً، هذا بيع، وأنت تصرفت فيه من عند نفسك، وتتحمل مسئوليته. هذا إذا كان بيع النقد وبيع النسيئة. ب- البيع عن طريق فيه مخاطرة: ولو أن اثنين دفع كل منهما عشرة آلاف ريال، فأصبح رأس مال الشركة عشرين ألف ريال، واشتريا به محلاً تجارياً، كأن يكون محل طعام، أو محل أدوية، أو محل أكسية أو نحو ذلك، فقام أحدهما وباع وأصبح يصرف البضاعة عن طريقٍ فيه مخاطرة. ومن المعلوم أن البيع: - يكون نقداً. - ويكون -مثلاً- عن طريق الشيكات. والذي عن طريق الشيكات ليس كالذي هو نقد، فالنقد مضمون الحق؛ ولكن الذي عن طريق الشيك لا يأمن أن يكون الشيك بدون رصيد، وأيضاً لا يأمن ضياع الشيك، أو تحمل المسئولية في هذا الشيك، ففيه نوع من المخاطرة. فإذا باع وأخذ وقبض المبلغ فلا إشكال، ولا ضرر على الشريك الآخر. لكن لو أنه باع بالشيك، ثم تبين أن الشيك بدون رصيد، فقد تكون هناك مسئولية، ولا شك أنه سيتحمل المسئولية، فهذا الشيك -الذي هو بدون رصيد- سيضطر إلى انتظار تسديد المبلغ من هذا الشخص، فلو كان هذا الشخص قد تحمل عشر عمليات أو ثلاث عمليات أو أربع أو خمس، بهذه الطريقة، فسيصبح مديوناً لخمسة أو ستة، فلو دخلت الشركة في هذا الدين ربما جلست سنوات، وهذا مفلس، لو فرضنا أنه مفلس، وأعطى الشيك بدون رصيد، فستتضرر الشركة بتأخر سداده. فحينئذٍ نقول: ما دمت قد أعطيت على هذه الوجه الذي فيه وجه النسأ فإنك تتحمل المسئولية لوحدك، وإذا رضي الشريك أن يدخل معه، وقال: أتحمل معك المسئولية فلا إشكال، أما إذا قال الشريك: لم أسمح لك أن تبيع بهذه الطريقة، وقد بعت بها؛ فإنك تتحمل المسئولية، وحينئذٍ تغرم للشريك حصته، فلو كانت الصفقة التي أتممتها -فرضاً- بخمسة آلاف ريال، فإن للشريك فيها ألفين وخمسمائة ريال تعطيه إياها نقداً قيمة المبيع حاضراً، ثم وجهه على هذا الذي ماطل. إذاً: حينما قلنا: إنه بحكم الوكالة في مال صاحبه يستلزم هذا أن تترتب مسائل الوكالة على هذا النوع من المعاملة، وهذه فائدة: أن العلماء قدموا باب الوكالة على باب الشركة؛ لأن هناك مسائل في الشركة تترتب على الوكالة، ولأن الشركة تعتبر نوعاً من أنواع الوكالة؛ ولأن كلاً من الشريكين ينظر إلى المصلحة في ماله أو في الجزء الذي يتعلق به من مال الشركة. ج- البيع بغير نقد البلد: وقول المصنف: [وبالوكالة في نصيب شريكه]: يطَّرِد في جميع المسائل، فلو أن الوكيل باع بغير نقد البلد، مثلاً: المعروف عندنا أننا نتعامل بالريالات، فباع بالدولارات، والبيع بالدولارات مشكلتها أنه إذا باع بغير نقد البلد لم يأمن أن تكون القيمة ناقصة، فاليوم -مثلاً- قيمة الدولار ثلاثة ريالات، وقد تكون في الغد ريالين، فحينئذٍ تكون -مثلاً- السلعة بثلاثة آلاف ريال، فإذا باعها فسيبيعها بألف دولار اليوم؛ ولكن المبلغ إذا صُرِف في الغد فسيصرف بألفين. إذاً: البيع بغير نقد البلد فيه مخاطرة، فربما ترتفع قيمة النقد فيكون أربح للشركة، وربما نزلت قيمة النقد فأضر بالشركة. وبناءً على ذلك: إذا باع الوكيل بغير نقد البلد ضمن. ففي جميع هذه المسائل: أن يبيع نسيئة، وأن يبيع بغير نقد البلد، وأن يخاطر، كل هذه المسائل يتحمل الشريك فيها المسئولية إذا لم يجرِ العُرْف بذلك، ولم يكن هناك شرط -أي: استئذان- فلو أنه استأذن صاحبه وشريكه وقال له: يا فلان! نحن لو أننا لم نبِع إلا نقداً لأضررنا بمصلحة الشركة، فأرى من مصلحة الشركة ومن كثرة من يتعامل معنا أن الأفضل والأصلح أن نقبل هذه الشيكات أو أن الأفضل والأصلح أن نبيع بالنسيئة والأجل إلى سنة أو إلى سنتين، فإن قال له: قبلت فيتحملان المسئولية معاً. ولو أن هذا المماطل والمفلس جلس سنوات فإنهما يتحملان المسئولية معاً. هذا بالنسبة لو استأذنه. كذلك لو قال له: يا فلان! أريد أن أبيع بالدولارات، أو ثمة أناس سيأتونني بجنيهات فهل أبيع فقط بالريالات؟ أو أبيع بالعملة الأخرى؟ فإن له: بِعْ بأية عملة، فهذا تفويض. ولو باع بأية عملة، فغلت العملة أو رخصت فإنها تكون على مال الشركة ربحاً وخسارة. وهذا معنى قوله رحمه الله: [وبالوكالة في نصيب شريكه].

الضمان عند التعدي أو التفريط في الشرط

الضمان عند التعدي أو التفريط في الشرط قال العلماء: كما أن النقود وصفة البيع والشراء يتحمل فيها الوكيل المسئولية، كذلك يتحمل المسئولية عن شرط الشركة. أ- مخالفة المكان المشروط لعمل الشركة فيه: فمثلاً: لو أن اثنين دفع كل منهما خمسة آلاف ريال، فأصبح رأس مال الشركة عشرة آلاف ريال. وقال: يا فلان! نشترك -يعني: هذه شركة بيننا-؛ ولكن أشترط أن تكون شركتنا في المدينة، أو أشترط أن يكون عملنا في مكة، أو أشترط أن يكون عملنا -مثلاً- في هذه القرية، ولا نخرج عنها، فأنا أرى أنه من الخطر أن نخاطر ونخرج بشركتنا إلى مكان آخر، فإن قال: قبلتُ وقع الاتفاق بينهما على أن عمل الشركة يكون في المدينة، أو في مكة، أو في أي موضع، ويجب على الشريك الآخر ألَّا يجاوز هذا الاتفاق، فلو أنه خرج بالمال من مكة التي اتُّفِق على البيع فيها فبمجرد خروجه من مكة يُصبح المال في ذمته، ويخرج المال من الوكالة إلى باب الضمان. وعلى هذا لا يتاجر إلا في حدود ما اتُّفِق عليه. ب- مخالفة السلع المشروطة: كذلك لو قال له: يا فلان! هذه عشرة آلاف ريال؛ ولكني لا أستطيع أن أعمل بهذه العشرة آلاف إلا في تجارة العود أو في تجارة الطيب عموماً، فإن قال له -مثلاً-: في تجارة الطيب فقال: لا أريد إلا العود، ولا أريد إلا الخشب من العود، أو أريد الدهن من العود، أو أريد الدهن من الأطياب، أو أريد ثلاثة أنواع من الطيب، فبمجرد خروجه عن هذا المتَّفَق عليه خرج عن الشركة، وأصبح متحملاً المسئولية بذلك التصرف وضامناً للمال. ج- مخالفة نوع التعامل المشروط: وهكذا بالنسبة للتعامل، فإذا قال له: نتعامل مع التجار، ويكون بيعنا بالجملة. فباع بالمفرَّق، فإنه في هذه الحالة يضمن. وكل ما اتُّفِق عليه من بنود الشركة وصار بينهما شرطاً -بشرط ألَّا يتضمن الغرر، وألَّا يتضمن الضرر- فإنه يصبح لازماً للطرفين. د- مخالفة العرف فيما يوجب الضرر: - أيضاً: بالعرف: قد يكون العرف دالاً على تضمين الشريك. الآن -مثلاً- لو أن شخصاً اتفق مع آخر، فدفع أحدُهما عشرة آلاف، والآخر عشرة آلاف، فأصبح رأس المال عشرين ألفاً، فاحتِيْج أن يتاجَرَ في القماش، فقال أحد الشريكين للآخر: سأسافر وأحضر القماش الذي نريد أن نتاجر فيه. فقال له: سافِرْ، فسافَرَ واشترى صفقة من القماش بعشرة آلاف، فأراد أن يأتي بها، ويجلبها إلى المكان المتفق عليه بين الطرفين، فإذا به متردد بين ثلاث وسائل: وسيلة أكثر خطراً وضرراً، ووسيلة أقل خطراً وضرراً، ووسيلة بينهما، ولا يُقْدِم أحدٌ على النقل بالوسيلة التي هي أكثر مخطارة إلا ويتحمل المسئولية، فإنه لو كان -مثلاً- نقل البضاعة عن طريق البحر غير مأمون، فحينئذٍ يعدل إلى البر، فإن أصر على نقلها بالبحر نقول: يستأذن شريكه، فإن أذِنَ فالحمد لله، فلو غرقت السفينة غرقت عليهما، فإن لم يستأذنه فالعرف قاضٍ أنه إذا سلك هذا الطريق فقد خاطر وغرر بمال الشركة، فيتحمل المسئولية. إذاً: كوننا نقول: يُعطى حكم الوكالة، فهذا يوجب الدخول في جميع التصرفات. فكل ما يتصرف به الشريك في مال الشركة يتصرف به وَفق ما هو معروف وبمجرد خروجه عن المعروف المألوف يتحمل المسئولية، وبمجرد خروجه عن الشرط المتفق عليه بين الطرفين يتحمل المسئولية. وقس على هذا ما يكون من مسائل التجارة بمال الشركة.

شروط شركة العنان

شروط شركة العنان [ويشترط أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين، ولو مغشوشين يسيراً]: الشركة تأتي على أقسام: القسم الأول: ما يسمى بشركة الأموال. والقسم الثاني: يسمى بشركة الأعمال. والقسم الثالث: يسمى بشركة الوجوه. فشركة الأموال تشمل نوعين: - العنان. - والمفاوضة. ورأس المال -في كل من العنان والمفاوضة-: من النقود، على تفصيل سيأتي -إن شاء الله- في شركة المفاوضة؛ لأن الأمر أوسع منه في شركة العنان، وأما بالنسبة لشركة الأموال فلابد من أن يجتمع الطرفان أو الشريكان أو الثلاثة الشركاء أو الأربعة في المال، بخلاف شركة الأعمال، فقد يكون العمل من أحدهما والمال من الآخر، أو يكون العمل من الاثنين، فالأول: مضاربة، والثاني: شركة أبدان.

شروط متعلقة بالشريكين

شروط متعلقة بالشريكين بالنسبة لمسألة الشروط المتعلقة بشركة العنان: فبعضها يتعلق بالشريكين، وبعضها يتعلق بمحل الشركة الذي هو المال المتفق عليه، وما ينتج عنه من الربح. فأما بالنسبة للشريكين فقد ذكرنا أنه يُشترط فيهما أهليتهما للشركة، وذكرنا هذه الأهلية وضوابطها.

الشروط المعتبرة في محل الشركة

الشروط المعتبرة في محل الشركة يبقى Q ما هو الشرط المعتبر في محل الشركة؟ محل الشركة: مكان التعاقد، فإذا تعاقدا على شركة العنان، فينبغي أن يكون لها ضوابط وشروط: أ- رأس المال المعلوم: الشرط الأول: رأس مال، وأن يكون معلوماً: وبناءً على ذلك: فلو قال له: أشاركك بمالٍ، ولم يبين نوع المال ولا جنسه ولا قدره ولا صفته، فإن الشركة لا تصح؛ لأنها شركة بمجهول. وأجمع العلماء -رحمهم الله- على أن شركة العنان إذا وقعت بمال معلوم -والمال المعلوم: كقولك: أشاركك بعشرة آلاف مني وعشرة آلاف منك، فالعشرة آلاف ريال معلومة- فحينئذٍ تصح. وأما بالنسبة للجهالة فيستوي أن يكون جهالةَ جنس، أو جهالةَ نوع، أو جهالةَ قَدْر، وقد فصلنا في أنواع الجهالات في باب البيوع. لكن من أمثلتها: النقدان: فإن قال له: أشاركك بذهب، أو أشاركك بفضة فقد حدد الجنس، وحدد النوع بقوله: ذهب، أو قوله: فضة؛ ولكنه لم يحدد قَدْر الذهب وقَدْر الفضة، ولا نوع الذهب والفضة، هل هو تِبْر أم مصوغ أم مضروب، فحينئذٍ تكون جهالة، فهذا النوع من الجهالة يقتضي عدم صحة الشركة. فلابد أن يعين تعييناً يوجب ارتفاع الجهالة، وقد ذكرنا ضوابط التعيين وما ينبغي أن يلتزم به المتعاقدان إذا اشترطنا العلم بالثمن والمُثمن. يقول العلماء: إن محل الشركة الذي اتفق عليه الطرفان -وهو رأس المال- يُنَزَّل منزلة الثمن والمُثْمَن في البيع، لأن المراد من الثمن والمُثْمَن في المعاوضة بينهما: الربح، وكذلك في الشركة حينما دفعتَ أنتَ خمسة آلاف، ودفعتُ أنا خمسة آلاف، فمقتضى ذلك والمقصود من ذلك: أن تربح هذه العشرة، فتربح في نصيبك، ويربح أيضاً من يشاركك في نصيبه. إذاً: الخلاصة: يشترط في صحة عقد الشركة أن يكون رأس المال معلوماً، فلا يصح أن يكون بالمجهول، ورأس المال إما أن يكون من النقدين؛ الذهب والفضة، أو يكون من غير النقدين، وسنبين حكم شركة العنان بغير النقدين، كالعُروض، فمثلاًَ: لو جاء يُمَثِّل بالنقدين عرفنا المثال؛ لكن من غير النقدين، مثل أن يقول له: أشاركك بهذا الكيس من الأرز -على القول بصحة شركة العنان بالعُروض، وسنبين ما هو الصحيح في هذه المسألة-، فلو دفع أحدهما كيس أرز، والثاني كيس سكر، على أن يباع وبقيمتهما تكون الشركة، فقالوا: إذا كان مجهول الكمية لا يصح؛ لأنه ربما ظن صاحبه أن هذا الكيس سعته مائة كيلو، ولربما ظن أنه مائة وخمسين، وإذا به أقل من ذلك، فإذا كان الطعام جزافاً وكان غير معين وزناً ولا كيلاً فإنه حينئذٍ لا يصح أن يُشارك عليه؛ لكن لو عُرِف أن هذا النوع من الأكياس فيه مائة كيلو فالمعروف عرفاً كأنه تلفظ به؛ لكن نتكلم إذا كان مجهول القدر، فهذا مثال الجهالة في رأس المال إذا كان من العُروض. أو يقول له: أشاركك بسيارة من عندي بقيمة سيارة من عندك. فالسيارة التي عنده أو قيمة هذه السيارة مجهولة، لا ندري هل هي غالية فتكون كما يرجو الشريك، أو تكون دون ذلك؟! الخلاصة: أنه يشترط أول شيء: العلم برأس المال، ولا يصح أن يكون رأس مال شركة العنان مجهولاً. نعم. ب- أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين: [ويشترط أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين]: هذا هو الشرط الثاني: النقدان هما: الذهب والفضة، وسبب تسميتهما بالنقدين كما قال بعض العلماء: أنهم كانوا في القديم إذا دفعت الدراهم وهي من الفضة، أو دفعت الدنانير وهي من الذهب، فإنها تُنْقَد وتُخْتَبر؛ لأنها ربما كانت زائفة، وربما كانت مغشوشة، فقد يكون ظاهرها ذهباً؛ ولكنها مغشوشة في داخلها، ويعرف ذلك بإنكسارها عند محاولة كسرها، كذلك تختبر بالضرب على الأرض، والصيارفة لهم ذوق وحس في ذلك. فإذا اتفق اثنان على شركة عنان برأس مال من ذهب أو رأس مال من فضة من النقدين، الدراهم أو الدنانير، وفي زماننا الريالات أصلها فضة، والدولارات والجنيهات والليرات والدنانير أصلها ذهب، فهذه العُملة إذا اتُّفِق على أي نوع منها ننظر إلى رصيده وأصله، ننظر إلى الأصل، فإذا اتُّفِق في الريالات فشركة العنان هذه بفضة، وإذا اتفق على الجنيهات فهي شركة عنان بذهب، فإذا اتفق الطرفان على شركة عنان بذهب بقدر معلوم، فإن الشركة تصح بإجماع العلماء، وكل العلماء متفقون على أن الشريكين إذا دفعا من النقدين من الذهب أو الفضة واتفق النوع أنه ذهب من الطرفين أو فضة من الطرفين فإن شركة العنان صحيحة، وليس هناك خلاف بين أهل العلم، وقد حكى هذا الإجماع غير واحد من العلماء رحمهم الله وأشار إلى ذلك الإمام ابن قدامة، والإمام ابن المنذر وغيرهما رحمة الله عليهم: أنه إذا اتفق الطرفان على ذهب مضروب أو فضة مضروبة -وفي زماننا العُملة على حسبها- أن الإجماع قائم؛ هذا إذا اتحد يعني: كان ذهباً من الطرفين، أو فضةً من الطرفين، أو أية عملة أخرى متحدة من الطرفين. أما لو أن أحدهما دفع ذهباً والآخر دفع فضة فحينئذٍ شدّد طائفة من العلماء ونُسب هذا القول إلى الجمهور، فقالوا: لا يصح أن يدفع أحدهما بالذهب والثاني بالفضة؛ لأنه إذا وقع العقد على هذه الصورة فإنه يتضمن عقدين في عقد واحد، وأيضاً ربما تضمن الغرر. وتوضيح ذلك: قالوا: لأنه إذا دفع أحدهما الذهب ودفع الآخر الفضة؛ فمعناه أننا سنضطر: إما إلى صرف الذهب، أو إلى صرف الفضة؛ لأنه لا يمكن أن تكون الشركة مُقَدَّرة حتى نعلم قدر رأس المال، فنحتاج -مثلاً- لو كان الرواج للذهب إلى أن نصرف الفضة بالذهب، فإذا كانت الدراهم في يوم الشركة نقول -مثلاً- الثلاثة دراهم أو الخمسة دراهم بدينار، فلو صُرِفت الثلاثة بدينار فإنها قد تأتي في الغد بأقل، وقد تأتي في الغد بأكثر، وقيل: إذا اتَّفَقَ اليوم فإن الصرف غداً يختلف، وحينئذٍ يتفقان على رأس مال بقيمة، وفي الغد تختلف القيمة، فلا يؤمَن الغرر، وحينئذٍ يدفع رأس مال معلوم أم مجهول؟ قيل: مجهول، صحيح أنه في الظاهر معلوم؛ لكنه سيئول إلى جهالة، إذْ لا نضمن أن يكون الصرف غالياً، ولا نضمن أن يكون الصرف رخيصاً، وكذلك في زماننا، لو دفع أحدهم بالريالات، ودفع الآخر بالدولارات فمعنى ذلك أنه يحتاج إلى صرف الدولارات بالريالات إذا كان الرواج للريالات، أو يحتاج إلى صرف الريالات بالدولارات إذا كان التعامل بالدولارات، وهذا الصرف لا يُضمن؛ لأنه إذا قال له: ادفع ثلاثين ألف ريال، وأدفع أنا عشرة آلاف دولار؛ لأن الصرف اليوم للدولار بثلاثة ريالات، فحينئذٍ يكون قد اتفق معه على شيء لا تُضْمَن نتيجته، فاليوم كما ذكرنا ربما تكون بثلاثة ريالات، وآخر النهار ربما يرتفع وربما ينخفض، وربما بقي على حاله. فرأس المال متردد ومتذبذب ولا يمكن أن يُضمن بقاؤه على حال واحدة. فلذلك شدد فيه طائفة من العلماء رحمهم الله؛ لكن على القول بأنه يجوز أن يدخل في الشركة بذهب مقابل فضة، وبفضة مقابل ذهب. فالسؤال: كيف تطبق الأحكام؟ قالوا: يكون احتساب الصرف بيوم العقد، وهذا المبلغ يُنَزَّل على يوم العقد، وعند التقاضي يُرجع إلى القيمة يوم الاتفاق ويوم التعاقد. وهذا لا شك أنه يوجِد شبهةً. والذي ذكره أصحاب القول المانع، حتى نُسب إلى الجمهور، وشبهتهم قوية؛ لأنه لو أرادا أن يتخذا رأس ماليهما خاصةً عند حصول ضرر أو حصول مفسدة أو حصول أمر يوجِب انفساخ الشركة فجأة، فإننا قد نصرف الأربعة ريالات بدولار، وحينئذٍ يكون رُبُعُ المال مستهلَكلاً للطرف الثاني، مثلاً: لو أن الشركة دخلت بمائة ألف ريال، وهذه المائة ألف في الأصل مقسومة: خمسون ألفاً من هذا، وخمسون ألفاً من هذا، فالخمسون ألفاً من أحدهما كانت دولارات فصُرِفت ريالات في يوم التعاقد، وفي اليوم الذي حصل فيه ما يوجب فسخ الشركة ورجوع كل منهما برأس ماله على صاحبه أو على مال الشركة يوجب أن نعرف كم لهذا من الدولارات، فحينئذٍ سنضطر لو أنه صفيت الشركة على المائة ألف نفسها؛ لكنها نفس المائة ألف في ذلك اليوم كانت الدولارات غالية، فسيدخل قدر من صاحب الدولارات على صاحب الريالات؛ لأنه لا يستطيع أن يعاوضه إلا بحصول نقص في رأس المال، وكذلك أيضاً العكس، فلو أنها صرفت في النقص؛ فحينئذٍ سيأخذ صاحب الريالات ربحاً؛ لأنه سيحصل هناك نوع من الفضل، فلو فرضنا أنه في يوم التصافي بينهما، وعندنا الخسارة وعندنا الربح، فأنت إذا جئت تنظر إلى مائة ألف ريال، فإن خمسين ألف ريال منها لكل واحد منهما، فلا تستطيع أن تؤمِّن رأس مال هذا إلا بأكثر من خمسين ألفاً، في حالة ما إذا جئت تصرف دولارات حتى ترد له رأس ماله، وحينئذٍ يحصل الضرر فيدخل أحدهما على الآخر في حال الزيادة، وفي حال النقص لو أن الدولارات صُرفت بنصف قيمتها، يعني: كانت بأربعة ريالات حينما اتفقا على الشركة، وحينما فسخا الشركة كانت قيمة الدولار ريالين، فإذا كانت قيمة الدولار ريالين فمعناه أن هذا نصف القيمة، وستصبح المائة ألف فيها ما هو ربح، فيُقسم رأس المال ويُعطى هذا الدولارات التي له، ويُعطى هذا الريالات التي له، ويبقى نصف قيمة الدولارات الذي يعادل الثمن؛ لأنه يدخل بتشطير المبلغين، هذا الثمن سيأخذ (1 على 16) الطرف المقابل، وهذا القدر الذي هو (1 من 16) في الأصل من قيمة الدولارات. إذاً: دخول العملتين المختلفتين في شركة بهذا الوجه يوجد نوعاً من التداخل ونوعاً من الإضرار لأحد الشريكين في مال الآخر، وفي حال الغلاء قد يتضرر الطرف الذي بالعملة الثابتة، وفي حال الرخص يتضرر الطرف الذي شارك بالعملة غير الثابتة، والتي صُرِف مال الشركة بها. وعلى هذا فإنه يقوي مذهب من قال: إنه لابد من اتحادهما في النوع. أي: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة. وقوله رحمه الله: [من النقدين]: فيه مسألتان: المسألة الأولى: صحة شركة العنان إذا كانت من الذهب أو الفضة: على التفصيل الذي ذكرناه. وهذا -كما ذكرنا- إجماع؛ أنك لو اتفقت مع أخيك على ريالات أو دولارات فإنه لا إشكال في صحة شركة العنان. ج- النقد المضروب: المسألة الثانية في (النقدين): يشترط أن يكونا مضروبين: فلو أنه اتَّفَق معه بذهب أو فضة من غير النقد المضروب لم تصح الشركة، مثلاً: لو قال أحدهما: أدفع حلياً وأساور، مثل: البناجر، عندي مائة بنجرة من الذهب،

حكم الشراكة بالعروض

حكم الشراكة بالعروض يتفرع على قوله رحمه الله: [من النقدين]: المفهوم، وقد ذكرنا أن العلماء -رحمهم الله- في كتب الفقه يعتبرون المفهوم. فلما قال رحمه الله: [من النقدين] يَرِدُ Q هل يجوز أن تكون شركة العنان من غير النقدين؟ أولاً: ما صورة المسألة، وما مثالها؟ صورة المسألة: أن يقول له: ما دام أن شركة العنان جائزة فلنشترك في شركة العنان بسياراتنا، تدفع أنت سيارتك، وأدفع أنا سيارتي، ثم بعد ذلك نشترك ونساهم ونتاجر ونستثمر هذا المال الذي دفعناه، هذا مثاله في المعدودات، أو يقول له: عندي طن من الحديد، والآخر يقول: عندي طن آخر من الحديد، فنجمعهما. إذاً: سيارة مقابل سيارة، وطن حديد في مقابله طن حديد، حديد بحديد، نحاس بنحاس، طعام بطعام، هذه كلها من العُروض. هناك صورة ثانية للعُروض: أن تكون مختلفة، مثل ما ذكرت في الذهب والفضة أن يتحدا ويختلفا كذلك في العُروض، يتحدا ويختلفا. يتحدا: كسيارة بسيارة، وطعام بطعام، وثياب بثياب، ونحو ذلك. ويختلفا: يقول أحدهما: عندي طن من الحديد، فيقول الآخر: عندي طن من النحاس، أو من الخشب. أو يقول أحدهما: عندي سيارة، ويقول الآخر: عندي ثياب أو أقمشة، فأرادا أن يجمعا العَرَضين ويستثمرا هذين العَرَضين في تجارة شركة العنان.

أقوال العلماء في الشراكة بالعروض

أقوال العلماء في الشراكة بالعروض للعلماء في هذه المسألة قولان: أ- القول الأول: قال جمهور العلماء: لا يجوز أن يكون رأس المال من غير النقدين: الذهب، والفضة، وهذا القول قال به طائفة من السلف رحمهم الله من أئمة التابعين، كالإمام محمد بن سيرين، وقال به أيضاً سفيان الثوري وهو مذهب أهل الرأي، والشافعية، والحنفية، والحنابلة على إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله ورحم الجميع -وقد اختار هذه الرواية غير واحد من أصحابه- هذا القول يقول: لا يجوز أن تكون شركة العنان إلا بذهب أو فضة، ويُشترط في الذهب والفضة أن تكون مضروبة، يعني: من النقود كالدراهم والدنانير. ب- القول الثاني: يجوز أن يكون رأس المال من العُروض. وهذا القول قال به بعض المالكية رحمهم الله، وبعض العلماء ينسبه لمذهبهم، ولا تخلو النسبة من بعض النظر؛ لأن فيه وجهاً، فبعض المالكية رحمهم الله نصَّ وأطلق على جوازها بالعُروض. فالمالكية يوافقون الإمام أحمد في رواية، وهو قول بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة، يعني: أنه مذهب المالكية وبعض الحنفية، ورواية عن الإمام أحمد، واختار هذه الرواية شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله على الجميع. فقالوا: يجوز أن يتفق الاثنان بالعُروض من الأطعمة والأكسية وغيرها؛ لكن عند المالكية لا يجيزون إلا في حدود معينة، فقالوا: إذا كان رأس المال من الطعام لا يجوز، قالوا: لأنه إذا شاركه بطعام يكون من بيع الطعام قبل قبضه. كيف؟ قالوا: لأنه إذا دفع في العُروض طعاماً في مقابل شيء آخر من العُروض الأخرى، أو دفع طعاماً في مقابل طعام، قالوا في صورة مقابلة الطعام بالعُروض: كأن أحد الشريكين قابَلَ الآخر معاوضةً، وكأن رأس المال هذا في مقابل رأس المال الآخر، فحينئذٍ تكون المعاوضة قبل القبض؛ لأن الشريك الآخر لم يقبض حصة شريكه، وحينئذٍ يكون عند المالكية شرط في شركة العنان: أنه لابد من إطلاق اليد على المالين، يعني: لا يصح أن تقع الشركة إلا بعد أن يكون المالان قد أطلقت يدا الشريكين عليهما، كأن يُوْضَعا في دكان واحد، أو يُوْضَعا في متجر واحد، فيوضع الطعام في متجر واحد، فحينئذٍ إذا وضعت اليد عليهما كان ذلك موجباً للاعتبار أو الحكم بالصحة؛ لكن قبل أن توضع اليد عليهما لا يصح. وحينئذٍ قالوا: إن الطعام لا يمكن أن توضع اليد عليه؛ لأن الشركة لم تكن على الطعام، إنما وقعت على قيمة الطعام، فهما يشتركان في الطعام بقيمته، وهذا منصوص عليه، فإذا كانت الشركة بقيمة الطعام كما ذكرنا في مسألة قيمة الدولارت والريالات، إذا كانت الشركة بقيمة الطعام، فأنت تنظر إلى أن الطعام سيُباع قبل الدخول في الشركة، وقبل تنفيذ الشركة واستثمار الأموال. فحينئذٍ يكون البيعُ وبيعُ عِوَضِه بطعام ولم يقبض الطرف الثاني الطعام، فيصبح حينئذٍ من بيع الطعام قبل قبضه، وبيع الطعام قبل قبضه منهي عنه كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. الخلاصة: هناك قول يقول: لا يصح ولا يجوز أن يكون رأس المال من العروض، وهو مذهب جمهور العلماء. وهناك قول يقول: يجوز ويصح أن يكون رأس مال شركة العنان من العُروض.

حجج القول بالجواز والمنع في الشراكة بالعروض

حجج القول بالجواز والمنع في الشراكة بالعروض الذين أجازوا والذين منعوا، ما هي حججهم؟ القول الأول -وهو قول الجمهور- يقول: إننا إذا بعنا العروض سنبيعها بقيمة، وإذا جئنا عند التفاسخ -يعني: فسخ الشركة- أو طرأ الفسخ فجأة، فإننا سنبيعها بقيمة قد تختلف عن القيمة التي كانت في حال الاتفاق، أو إذا جئنا نقيم بقيمة موافقة للقيمة التي كانت في حال الاتفاق فإننا سنظلم أحد الطرفين: مثال ذلك: لو أن السيارة بيعت أثناء الاتفاق -السيارة التي شارك بها- بخمسين ألف ريال، ثم بعد سنتين حصل التفاسخ، فحينئذٍ كم قيمة السيارة بعد سنتين؟ هل ستبقى قيمة السيارة خمسين ألفاً؟ A لا. وبطبيعة الحال ستنزل قيمة السيارة، لو بيعت أثناء التفاسح لوجدنا قيمتها عشرين ألفاً أو خمساً وعشرين ألفاً، فكأنه يظلمه في نصف القيمة، فسيرجع الشريك بخمسين ألفاً، ويُطالب بالخمسين ألفاً التي هي قيمة السيارة أثناء الاتفاق على الشركة، مع أنه أثناء التفاسخ لو جئنا نقدر قيمةً مِثْلِيَّة لما دفعه في الشركة لوجدناها بنصف القيمة، فيدخل على شريكه بخمس وعشرين ألفاً، والأصل أن هذه الخمسة والعشرين ألفاً ينبغي أن تكون من أرباح الشركة. وعلى هذا لو كان رأسُ مالِه مائةَ ألف، وعند التفاسخ كان مائةً وخمسة وعشرين ألفاً، فكانت مائة ألف، وعند التفاسخ حصل التراد، فإننا نرد لأحد الشريكين وهو صاحب السيارة أو صاحب العَرَض جزءاً من الربح؛ لأن قيمة العَرَض نزلت إلى النصف؛ لأن العروض تقدر بمثلها. يعني: لو أن شخصاً جاءك بسيارة وقال لك: أنا شريكك بهذه السيارة، فإنك حينئذ تنظر إلى مثل السيارة بأوصافها وذاتها، وتقدرها، فإذا قدرتَها بخمسين ألفاً ودخل معك الشركة أصبحت الخمسون ألفاً هي رأسُ ماله. وفي الحقيقة أن المسألة قد يعترض فيها معترض على الجمهور ويقول: إن صاحب السيارة دخل الشركة بخمسين ألفاً حقيقةً، ولم يدخل بسيارته. والجواب: إن من دقة الجمهور أنهم نظروا إلى الاتفاق؛ لأن الصيغة والاتفاق تَمَّا والعين موجودة، يعني: حينما اتفقنا كطرفين، هل الذي قدَّمه حين قدَّمه خمسين ألفاً أو أنه قدَّم سيارة؟ الجواب: قدَّم سيارة. فأنت إذا نظرتَ -وهذا من دقة الشريعة- لن تجد على وجه الأرض حكماً أتمَّ ولا أكملَ من هذه الشريعة، ينظر العلماء إلى كلِّ شيء، الوقت، والزمان وغير ذلك، وكلُّ كلمة لها قيمتُها ودلالتهُا، لن تجد تشريعاً ولن تجد منهجاً يعطي العقود حقها وقدرها بكل تفصيل، ويقف مع كلمة المتعاقدين ومقصودهم يقف مع أعراف الناس، مثل الشريعة الإسلامية. فهم يقولون: إن الأصل في الشريعة أنه إذا حصل التعاقد يكون بالصيغة: (الإيجاب، والقبول). ونحن لا ننظر إلى أن السيارة قد بيعت؛ لأن بيعها وقع بعد الاتفاق على الشركة؛ لكن رأس مال الشركة أثناء التعاقد وقع على ماذا؟ على عَرَض، وتم الاتفاق على عين وهي السيارة، ولم يتم الاتفاق على النقد وهي (الخمسون ألفاً)، وإنما حصلت الخمسون ألفاً واستُغلت الشركة؛ لأنه يقال: ستُباع العُروض وتُستثمر أموالُها، فتستغل الشركة؛ لكنها في الأصل وقع عليها العقد. فلابد أن نقف مع العقد؛ لأن الشريعة لو أجازت الانصراف عن العقد لدخلت كثير من الاعتراضات على بقية العقود التي أعملت فيها الشريعة اتفاق الطرفين في العقد. ولذلك وقف الجمهور عند هذا الأصل، فقالوا: اتفق الطرفان على هذه العروض، فلو أنها بيعت أثناء التعاقد أو بعد التعاقد ولو بساعة -بيعت بخمسين ألفاً- فإنه عند التراد وعند فسخ الشركة ستُباع بأقل أو أكثر، وقل أن نجد عَرَضاً بعد سنتين أو ثلاث سنوات بنفس الثمن، ولربما فُسخت الشركة بعد عشرين سنة، وبعد عشرين سنة ربما كانت القيمة أضعافاً كما في الأشياء النادرة، ولربما كانت القيمة أقل وأرخص. إذاً: الضرر موجود. ثانياً: قالوا: إنه إذا اتفق الطرفان على هذه الشركة، وأعطى أحدهما سيارة بخمسين، وأعطى الآخر سيارة بخمسة وعشرين، على أن الشركة متفاوتة في الرءوس، أو أعطى أحدهما سيارة بخمسين والآخر أعطى سيارة بخمسين فربما أن سيارة أحدهما اليوم تباع بخمسين؛ ولكنها في الغد ستباع بعشرين، أو بخمسة وعشرين، أو بثلاثين، فلا نضمن قيمة العروض، ولربما دخل أحدهما الشركة بطعام، ودخل الآخر بعطور، والعطور قيمها ثابتة، والأطعمة قيمها غير ثابتة. فالمقصود: أنهم قالوا: إننا لا نمنع إلا من موجب، وهو خوف الضرر، وهذه الجهالة التي قد توجب الإضرار بأحد الطرفين في حال الغلاء أو في حال الرخص، وحينئذ لا تصح الشركة على هذا الوجه. وهذا لا شك أنه أقوى وأرجح. وأما الذين أجازوا فلهم تعليل، قالوا: إن الاتفاق على القيم، ثم إنه إذا رضي بهذه القيمة فقد رضي عما ينشأ من خسارة وربح، وهذا لا يخلو من نظر. والذي تطمئن إليه النفس أن الاتفاق على العروض فيه شبهة. يعني: القول بجواز شركة العنان بالعروض لا يخلو من نظر، والشبهة فيه قوية، وسيأتي مزيدُ تفصيلٍ -إن شاء الله- في المضاربة، وهي القِراض، إذا كانت القِراض أو المضاربة، وهي من الضرب في الأرض -التجارة- إذا كانت على العروض فإن جماهير العلماء رحمهم الله اختلفوا على منعها، وسنذكر هذا ونبين وجه ذلك وأن العلة فيه أشبه بالعلة التي ذكرناها في شركة العنان.

حكم الشراكة بالمال المغشوش

حكم الشراكة بالمال المغشوش [ويشترط أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين، ولو مغشوشين يسيراً]: لأن الذهب مادة ضعيفة، وتحتاج إلى شيء يعين على تماسكها، فتُخلط بالنحاس، فيكون مخلوطاً بالنحاس، ولربما خُلط بمعادن أخرى، فالدراهم والدنانير فيها الصحاح وهي ضد المكسَّرة، وفيها السليمة وهي ضد المغشوشة. ثم إن المغشوش على مراتب: - هناك المغشوش غشاً يسيراً. - وهناك المغشوش غشاً متفاحشاً. فالمغشوش غشاً يسيراً يتسامح فيه العلماء، وهذا التسامح مبني على باب ذكره العلماء، وهو باب الاستحسان، فتسامَحوا في هذا اليسير من الغش، وقالوا: يجوز أن يتعاملا أو يتعاقدا على شركة عنان بذهب أو فضة مغشوش كل منهما غشاً يسيراً. أما لو كان الغش فادحاً فإننا لا ندري كم نسبة الذهب في الدينار، ولا ندري كم نسبة الفضة في الدرهم، فأحدهما يعطي ذهباً مغشوشاً، وقد يكون غشه كثيراً بحيث لا يتعادل مع الآخر، فعند التقاضي يحصل الظلم مثل ما ذكرنا في شركة العروض؛ لأنه إذا كان الغش قوياً دخل أحدهما على مال الآخر. أي: لو أن هذا الذهب مغشوشٌ غشاً يصل إلى الثلث، أو إلى الربع، فهذا الغش ليس بيسير، فحينئذ يكون ثلاثة أرباعه ذهباً، والربع مغشوشاً، فربع القيمة لهذا الدينار دخلت على الشركة، فعند التقاضي والتراد، وعند التفاسخ سيكون هناك ضرر على قيمة الدنانير والدراهم التي ستؤخذ في تصفية الحقوق، فيُعطى ديناراً سليماً، فإذا أعطي ديناراً سليماً فمعناه أنه سيأخذ من الربح جزءاً. يعني: إذا كانت نسبةُ الغِشِّ الرُّبُعَ فمعنى ذلك أنه إذا جئنا لنفسخ الشركة أو ننظر إلى ربح الشركة فهناك نسبة الربع ستدخل على الربح، ويأخذ صاحب الدراهم المغشوشة والدنانير المغشوشة نسبة غشه من الذهب والفضة، مع أنه لم يدفعها ذهباً ولم يدفعها فضةً، فيدخل على ربح الشركة، ويظلم الطرفَ الآخَرَ باستحقاق شيء ليس من حقه.

ضوابط الاشتراك في الربح

ضوابط الاشتراك في الربح قال رحمه الله تعالى: [وأن يشترطا -لكل منهما- جزءاً من الربح مشاعاً معلوماً، فإن لم يُذْكر الربح، أو شرطا لأحدهما جزءاً معلوماً، أو دراهم معلومة، أو ربح أحد الثوبين لم تصح، وكذا مساقاة ومزارعة ومضاربة]: - فقوله رحمه الله: (وأن يشترطا لكل منهما جزءاً من الربح مشاعاً معلوماً): الشركة تقوم على ثلاثة أشياء مهمة: رأسُ المالِ الذي سيستثمر، ثم العمل والربح الذي يُنتجُ ويُثمرُ. فأما بالنسبة لرأس المال فقد ذكرنا شروطه. وبالنسبة للعمل فستأتي بعض الأحكام التي سنذكرها وننبه فيها على اختلاف بعض الشركات؛ لكن من حيث شركة العنان فإن العمل يكون من الطرفين، ويجوز أن يعمل أحدهما ويسامح الآخر، ولا بأس بذلك، فمثلاً: لو أننا اشتركنا بعشرين ألفاً دفع كل واحد منا عشرة، ثم اشترينا بهذه العشرين محلاً تجارياً، فكان أحد الشريكين يأتي إلى المحل بما يقارب من العشر ساعات، ويأتي الآخر في حدود ساعة، فهذا لا يضر، ما دام أنهما متفقان وبينهما تراضٍ فلا إشكال؛ لكن في أصل الشركة العمل يكون بينهما. فبالنسبة لشركة العنان فيها اشتراك في المال وهو رأس المال، واشتراك في العمل الذي يُستثمَر به رأس المال؛ لكن من ناحية الربح فالربح بين الطرفين، وبناءً على ذلك لا يصح في شركة العنان أن ينفرد أحدهما بالربح فيقول: أشاركك بعشرة آلاف منك وعشرة آلاف مني على أن الربح لي وحدي، فهذا لا يجوز، أو يقول له: أشاركك بعشرة آلاف منك وعشرة آلاف مني والربح كله لك، لا يصح، فلابد أن يكونا شريكين في الربح؛ لأن مقتضى الشراكة يقتضي هذا، وأجمع العلماء رحمهم الله على صحة شركة العنان إذا وقع الاتفاق على الاشتراك في الربح. لكن يرد Q ما هي ضوابط الاشتراك في الربح؟ اشترطنا في الربح الاشتراك؛ لأن الربح في الأصل ناتج عن رأس المال، وإذا كان الربح ناتجاً عن رأس المال فمعناه أنني أستحق كما تستحق، فلا يجوز لأحدهما أن ينفرد به كما ذكرنا. وكذلك أيضاً ينبغي أن يكون هذا الربح الذي يتفق عليه الطرفان ربحاً مشاعاً، فيقول له: تدفع عشرة آلاف وأدفع أنا عشرة آلاف، على أن الربح بيننا، فلك نصف الربح ولي نصف الربح. هذا النوع من شركة العنان، إذا كان رأس المال متساوياً، والعمل متساوياً، والربح متساوياً، فبإجماع العلماء على أنها شركة شرعية، ولا إشكال فيها، إذا اتفقا على رأس مال متساوٍ، والعمل كان بينهما، وكان نسبة الربح بينهما متساوية، فبالإجماع على أنها شركة جائزة، ولا حرج في هذا النوع من التعامل. لكن لو أن أحدهما اشترط الربح دون الآخر فذلك لا يجوز. وقد قال بعض العلماء: لا خلاف. وقال بعض العلماء: أجمع كل من نحفظ عنهم العلم أنه لا يجوز لأحدهما أن يستأثر بالربح. وبعضهم يحكي الإجماع بصيغة (الإجماع)، وبعضهم يحكي الإجماع بصيغة: (لا خلاف)، فليس هناك أحد من العلماء يقول: من حقه أن يستأثر بجزء من الربح. وبناءً على هذا: فإننا نقول: إنه إذا قال له: الربح كله لي، فلا يجوز. وإذا قال له: الربح بيني وبينك، فإنه يجوز ويُشرَع. وهذا الجزء من الربح ينبغي أن يكون مشاعاً، والمشاع هو المشترك على الشيوع، يقول له: لي النصف ولك النصف، أو لي ثلاثة أرباع الربح، ولك الربع، أو لي الثلثان ولك الثلث، فإن الثلث والربع والنصف كل منها جزء مشاع، وعلى هذا لا يجوز أن يُدخِل نسبة مبهمة، كأن يقول له: لك جزء من الربح ولا يحدد. إذاً: إذا قال له: لك جزء من الربح، أو أعطيك من الربح شيئاً، فلا يجوز. أو قال له: أرضيك من الربح، فإن هذا يعتبر جهالةً موجبةً لعدم صحة الشركة، وعدم صحة التعاقد على هذا الوجه الموجب للغرر، بل لابد أن يعلم نسبته من الربح، وكم له من ذلك النتاج الذي يكون من استثمار الشركة.

الأسئلة

الأسئلة

حكم اشتراط الزيادة في الربح بسبب الحذاقة والخبرة في الشركة

حكم اشتراط الزيادة في الربح بسبب الحذاقة والخبرة في الشركة Q إذا عمل شريكان بأبدانهما في عمل واحد، وكان عملهما متشابهاً وفي وقت واحد، إلا أن أحدهما أحذق من الآخر، وأكثر حرفة منه، فهل له أن يشترط زيادةً على شريكه؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فلا يجوز أن يُنظَر في الشركة إلى مثل هذا من حيث الجملة، والسبب في هذا أن الشركة إذا دخل الاثنان على ربح فيها أو على اشتراك في النتاج الذي يكون منها، فإن الحذق من أحدهما والضعف من الآخر بمثابة الشيء الواحد، يعني: حذق هذا يجبر ضعف هذا، ولا نأتي ونقول: نميز بينكما بالحذق؛ لأنه أثناء الشركة يريد الله سبحانه وتعالى أن هذا الذي تقل زبائنه ويقل حذقه، يكون عمله أكثر من الحاذق، فالمسألة ليست بمضمونها، ولذلك يقولون: يدخل غالباً في الربح والنَّتاج: أن الشخص يتحمل مسئولية المخاطرة، مثلاً: إذا اشترك الاثنان في العمل، مثل الصيادين، والنجارين، والحدادين، ربما تجد الرجل من أمهر خلق الله؛ لكن لا يأتيه أحد أثناء مدة الشركة إلا الرجل والرجلان، وتجد الآخر أضعف حالاً منه؛ لكن يريد الله أنه في زمان الشركة جاءه أناس أكثر من الآخر، فلا نأتي نقيس ونقول: هذا بهذا، فالحذق وكثرة الزبائن وكثرة العملاء لا يلُتْفَت إليها؛ لأنها مدخولة على الخطر، وكل منهما قد حمل الآخر، وأصبح الضمان في العمل كالشيء الواحد، إذ لو جئنا ننظر إلى حذقهما لم تكن شركة؛ لأننا أعطينا كل واحد منهما حقه، فالشراكة تقتضي أن كلاً منهما يتحمل عن الآخر، ولذلك لو أن أحدهما دخل وهو أقل خبرة وشاء الله أنه لم يربح، وانكسرت التجارة، ثم دخل الثاني بعده، وشاء الله أن يكون أكثر خبرة، ونمت التجارة واستُثمرت، فلا يقل: أنا الذي نميت المال، ويكون الربح لي. هذا ضابط عام من حيث الجملة في الشركة لا يُلْتَفَت إليه؛ لأنه لو جئنا نلتفت إليه خرجنا عن مقصود الشركة؛ لأنك ما شاركت إلا وأنت تريد أنك مع شريكك كالشيء الواحد، وأن موجب الشركة يحتم عليك أن تتحمل من شريكك ما يتحمله منك، وأن تضمن من شريكك ما يضمنه منك، وكل منكما يجبر كسر الآخر، وكل منكما يحسن إلى الآخر بما كان له من نتاج. فأياً ما كان هذا النوع لا يُلتفت إليه، ولو جئنا ننظر في الشركات إلى القوة والخبرة فمعنى ذلك أننا سندخل في تفصيلات كثيرة، وسنخرج عن أصل الشركة، وهذا أمر من حيث الأصل العام في الشركة غير مقبول، ولذلك حينما ذكروا شركة الأبدان والعمل ذكروا حديث الاشتراك في غزوة بدر، فإن فيه أن عبد الله بن مسعود وعمار وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم اشتركوا، فجاء سعد بأسيرين، ولم يأتِ صاحباه بشيء، وسعد له بلاء في الجهاد أكثر من غيره، فما جاء يقول: أنا الذي أبليت وأنا الذي حصَّلت، ولو قال هذه الكلمة فإنه قد خرج عن كونه شريكاً؛ لأنه في هذه الحالة أصبح منفرداً عن الآخرَين بما كان من عمل، ومقتضى الشركة أن تدخل على الخطر، فإن كان فتح الله عزَّ وجلَّ لأخيك وشريكك فهذا خير لكما بمقتضى الاتفاق، وإن فتح الله عزَّ وجلَّ عليك ولم يفتح على شريكك فهو شريك معك؛ لأن الله عزَّ وجلَّ قد جعلكما كالشيء الواحد بموجب هذا العقد والاتفاق. فلا يُلتَفت إلى مسألة الحذق وعدمه. والله تعالى أعلم.

معنى كلمة (لو) في مصطلحات المتون

معنى كلمة (لو) في مصطلحات المتون Q مر معنا أن كلمة (لو) معناها في هذا اللفظ المبارك إشارة إلى الخلاف، فهل هذا مُطَّرِد في جميع المتون؟ A ( لو) يُشار إليها بالخلاف المذهبي؛ لكن تختلف؛ لأن المتون تختلف مصطلحاتها، وبعض العلماء المصطلحات في متونهم الفقهية فيها على قسمين: القسم الأول: المصطلحات المشهورة والغالبة، كقوله: ويجوز ذلك على المشهور، فالمشهور مصطلح في جميع المذاهب: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وكلهم يستخدمون هذا المصطلح، والقول المشهور هو الذي عليه العمل والفتوى، قيل: الذي عمل به الأكثر في المذهب، وقيل: إنه الأقرب للدليل أو لأصول الإمام، على حسب الضوابط عند العلماء رحمهم الله. كذلك ربما يكون المصطلح مصطلحاً شائعاً عند الجميع، وفي متون المذاهب كلها ربما يكون المصطلح خاصاً، فقد يأتي عالم ويضع مصطلحاً خاصاً لمتنه، يخرج فيه عن المصطلحات المشهورة، فإذا قرأت المتن تتقيد بهذا بمصطلحه الذي ذكره، على سبيل المثال: يقول صاحب المختصر خليل بن إسحاق: مشيراً بـ (فيها) للمدونة، وبـ (أُوِّلَ) إلى اختلاف شارحيها في فهمها، وبـ (الظهور) لـ ابن رشد، وبـ (القول) للمانذلي، وبـ (الترجيح) لـ ابن يونس، وبـ (الاختيار) للخمي. مثلاً إذا قال: وفيها لا يجوز. أي: المدوَّنة، أو يقول: لا يجوز وهذا قول في المذهب؛ لكن في الفنون الأخرى، قد تكون (فيها) ولا تعني قولاً أصلاً. إذاً: هذا مصطلح خاص لصاحب المتن. وبـ (أُوِّل) إلى اختلاف شارحيها في فهما: وقد تجد بعض العلماء يقول: وهل يجوز ذلك أو لا يجوز؟ فيه تأويلان، (تأويلان) مثل قوله: قولان أو وجهان؛ لكن قد يُصْطَلَح على التأويل بمعنىً خاص مثل ما ذكرنا، فيكون قوله: تأويلان أو ثلاثة، إشارة إلى أنه اختُلِف في فهم عبارة المدوَّنة، فمنهم مَن أوَّلها على الجواز، ومنهم مَن أوَّلها على التحريم، أو تكون عبارة (المدوَّنة) التي نُقِل فيها القول عن الإمام، تكون محتملة للتحريم وللكراهة، فمنهم مَن أَخَذ بظاهرها فحرَّم، ومنهم مَن أَخَذ بالمعنى وبالأصول العامة وفَهِمَها على ضوء الأصول العامة فقال: يُكره كراهة تنزيه. هذه كلها ضوابط يُرْجع إليها، ولذلك يقولون: لا يمكن لأحد أن يستفيد من كتاب الفقه حتى يقرأ مقدمته، فإن العلماء -رحمهم الله- اعتنوا ببيان المصطلحات في المقدمات، ولا يمكن لأحد أن يضبط هذه الكتب إلا بالرجوع إلى المقدمات، وينبغي أن يُنْتَبَه لهذا الأمر، خاصةً وأن بعض طلاب العلم في هذا الزمان يرجع إلى كتب العلماء مباشرة، دون سبق قراءة لمقدمة هذه الكتب ومعرفة الضوابط والقيود، والمصطلحات. يعني: ربما يأتي إلى كتاب وينقل منه إجماعاً وليس بإجماع، مثلاً: الإمام النووي يقول: اختلف أصحابنا، هل يجب هذا التكرار أو لا يجب في هذه المسألة على قولين: قيل بالوجوب. وقيل بعدمه. ومحل الخلاف إن وجد الشرط، فإن لم يوجد فلا يجب إجماعاً. فيأتي ويقول: لا تجب المسألة إجماعاً، وينقل عن الإمام هذا. فإجماعاً يعني: إجماع أصحاب القولين، وهذا إجماع داخل المذهب، والإجماع المذهبي لا علاقة له بالإجماع العام الذي هو حجة، فينقل إجماعات بدون إجماع، فتجد مثل هذه العبارة، وقد يُعَبَّر بالاتفاق، فيقول: وهل يجوز أو لا يجوز؟ قال قولٌ بالجواز، وينسب القول إلى صاحبه، وقال قول بعدم الجواز، ومحل الخلاف بين القولين إن ظهر -مثلاً: إن ظهر الشيء- فإن كان مخفياً أو غير ظاهر فاتفقوا على عدم الجواز، واتفقوا صيغة إجماع؛ لكنها في هذا الموضع تعني اتفاق أصحاب القولين. وفي بعض الأحيان نجد بعض العلماء يُعَبِّر بالإجماع كإجماع، ويُعَبِّر بالاتفاق لاتفاق الأئمة الأربعة، يعني: إذا قال: واتفق العلماء، المراد: الأئمة الأربعة، وهذا ليس بإجماع؛ لأن الأئمة الأربعة إذا اتفقوا فليس بإجماع، فقد يتفقون على أمر مجمع عليه، وقد يتفقون على أمر يخالفهم غيرهم، كالإمام داود الظاهري رحمه الله. إذاً: لابد من معرفة المصطلحات، ومعرفة عبارات العلماء، وطريقة تناول هذه العبارات، مثل كلمةٍ أو وصفٍ ففي بعض الأحيان تجد عبارة: واختار الشيخ عدم الجواز، في كتب الحنابلة رحمهم الله إذا قالوا: واختار الشيخ عدم الجواز، فهو شيخ الإسلام رحمه الله، فقد أصبح مصطلحاً خاصاً به، وهذه المصطلحات الخاصة تكون للأئمة لجلالة قدرهم، وعلو شأنهم، ولأنهم أبلوا بلاءً عظيماً في العلم، ومثلاً: تجد مصطلح (القاضي) وقال القاضي: لا يجوز، فعند الحنابلة إذا قيل: قال القاضي فهو القاضي أبو يعلى رحمه الله، وقد يقال: قال القاضي عند المالكية ويراد به القاضي عياض، وقد يطلق عند المالكية ويراد به القاضي ابن رشد، الجد أو الحفيد على حسب النقل. فهذه عبارات لابد من معرفتها، ولابد من الرجوع إلى مصطلحات العلماء رحمهم الله. نسأل الله العظيم أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يتقبل ذلك منا، إنه سميع مجيب. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

باب الشركة [3]

شرح زاد المستقنع - باب الشركة [3] أصل عقد الشركة يقتضي المشاركة في الربح والنتاج، ولهذه المسألة شروط وضوابط وأحكام فصلها العلماء في معرض بيانهم للشروط التي ينبغي توافرها للحكم بصحة الشركة.

من شروط صحة شركة العنان: أن يكون الربح مشاعا معلوما

من شروط صحة شركة العنان: أن يكون الربح مشاعاً معلوماً بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فلا زال المصنف رحمه الله في معرض بيانه للشروط التي ينبغي توافرها للحكم بصحة شركة العنان، ومن ذلك: مسألة الربح، فإن الشريكين إذا دفع كل واحد منهما مالاً واتفقا على المتاجرة بالمال الذي اشتركا فيه، فإنه ينبغي أن يحددا نسبة ربح لكل منهما، وذلك لأن أصل عقد الشركة يقتضي المشاركة في الربح. وبناءً على هذا: لا يجوز أن يكون الربح كله لواحد منهما، فلو دفع كل واحد منهما عشرة آلاف -مثلاً- واتفقا على أن الربح لأحدهما لم يصح؛ لأن مقتضى الشراكة أن يكون لكل منهما نصيب من هذا الربح. وقد بيَّن المصنف رحمه الله أن لكل واحد من الشريكين حظاً من الربح، ثم هذا الحظ من الربح، لابد أن يكون مشاعاً معلوماً، فلما قال: [مشاعاً] دل على أنه لا يجوز أن يستبد به أحدهما دون الآخر، كما يقول رجل لآخر: أعطني عشرة آلاف وأدفع أنا عشرة آلاف وتكون الشركة بيننا، والربح كله لي أو الربح كله لك، فإنه غير مشاع، ولا يجوز. كذلك ينبغي أن يكون هذا المشاع معلوماً، فلو قال له: ادفع عشرة آلاف، وأنا أدفع عشرة آلاف، ونشترك في تجارة العود -مثلاً-، على أن لي جزءاً من الربح، ويسكت، ولا يحدده، ولا يبين كم قدر ذلك الجزء من الربح، فإنه لا يجوز؛ لأنه مشاع غير معلوم. فلابد أن يكون الربح مشاعاً ومعلوماً. ومشاعاً: أي: لا يستبد به أحدهما دون الآخر. ومعلوماً: أي: غير مجهول، والجهالة في الربح تكون بالنصيب نفسه، كقوله: نشترك بعشرين ألفاً، تدفع عشرة آلاف، وأدفع عشرة آلاف، ولك جزء من الربح نتفق عليه لاحقاً، أو سوف نتراضى على الربح، أو نقتسم الربح بيننا بعد ذلك بما يُرضي كل منا الآخر، كل هذا من الجهالة، وقد قال جماهير السلف والخلف بعدم جواز هذا النوع من الشركة، وهو أن يكون نصيب كل واحد منهما مجهولاً في الشركة. إذاً: تكون الجهالة بعدم تحديد النسبة -نسبة كل واحد منهما من الربح- وتزول هذه الجهالة بالتحديد، كقوله: لي نصف الربح ولك نصفه، أو لي ثلثا الربح ولك ثلث، أو لي ثلاثة أرباع الربح ولك الربع، وهكذا. فقوله: النصف، أو الثلثان، أو الثلاثة أرباع والربع، كله مشاع معلوم؛ لأن نسبة النصف معلومة، ونسبة الثلث والربع معلومة، على خلاف بين العلماء: هل ينبغي أن يكون الربح متعلقاً برأس المال؟ فمثلاً: إذا دفعنا رأس مال مشترك بيننا بالسوية، فهل ينبغي أن يكون الربح بالسوية؟ فمن دفع النصف من رأس المال يكون له النصف من الربح، ومن دفع الثلثين، يكون له الثلثان من الربح؟ هذا لا شك أنه أحوط الأقوال وأولاها -إن شاء الله- بالصواب، وهو أن الربح يتعلق برأس المال، وذلك لأن شركة العنان لا تشبه شركة المضاربة كما يقول بعض الفقهاء، فيجيز تفاضل النسبة في الربح بتفاضل العمل. والأقوى والأشبه بالأصول: أنه لابد أن تكون نسبة الربح على نسبة رأس المال، فإذا اشتركا بعشرين ألفاً ودفع كل واحد منهما عشرة آلاف، فالربح ينبغي أن يكون مناصفةً بينهما، وإذا كان المبلغ أربعين ألفاً دفع أحدُهما ثلاثين ألفاً، ودفع الآخر عشرة آلاف، فالربح يكون بينهما أرباعاً، ثلاثة أرباع لِمَن دفع ثلاثين، والربع يكون للآخر. وإن كان بعض العلماء يجيز التساوي في رأس المال مع التفاضل في الربح، كأن تدفع خمسين ألف ريال، ويدفع الآخر خمسين ألف ريال، ويكون لأحدكما ثلثا الربح، فقد تفاضل الربح مع تساوي رأس المال، وإن كان الأوجه والأقرب -إن شاء الله- للصواب التساوي؛ لأن القياس هنا مُعْتَرَضٌ عليه، وسنبين -إن شاء الله- في باب المضاربة أنه قياس على الخارج من الأصل، ولا يستقيم على هذا الوجه.

صور عدم كون الربح مشاعا معلوما

صور عدم كون الربح مشاعاً معلوماً قال رحمه الله تعالى: [فإن لم يذكرا الربحَ، أو شرطا لأحدهما جزءاً مجهولاً، أو دراهم معلومة، أو ربح أحد الثوبين، لم تصح]:

عدم تسمية الربح

عدم تسمية الربح (فإن لم يذكرا الربحَ): إذا لم يذكر الطرفان الربح وقالا: نشترك بأربعين ألفاً ودخلا في الشركة ولم يحددا نسبة ربح كل منهما من المال، فإنه لا يجوز، ولا تصح الشركة. والسبب في هذا أن العلماء رحمهم الله يقولون: إن الربح محل العقد في الشركة، ومعنى قولهم: (محل العقد) أي: أن العقد ورد عن الربح، فمثلاً: حينما تتفق مع شخص على التجارة في السيارات، وتقول: نشترك في شركة بخمسين ألفاً، تدفع نصفها، وأدفع أنا نصفها، ونتاجر في السيارات، نشتري السيارات ونبيعها ونستثمر، فإنكما إذا اتفقتما على الخمسين ألفاً أن تتاجرا فيها، فإن محل العقد ومورد الصيغة (نشترك) على الخمسين ألفاً وعلى ربحها ونتاجها. إذاً: محل العقد منصب على الربح، ومنصب على رأس المال، قالوا: وإذا كان العقد منصباً على محله، وهو الربح، فلا يجوز أن يكون الربح مجهولاً، كما لا يجوز في البيع أن يكون الثمن والمُثْمَن مجهولاً، وقد بينا في البيع أنه لا يصح أن يتعاقد الطرفان في المعاوضة على شيء مجهول، كذلك هنا لا يصح أن يتعاقد الشريكان بدفع كل منهما لمال، وهو لا يدري كم ربحه من ذلك المال، ثم إن وجود الجهالة في الربح تفضي إلى الخصومة والنزاع، وتفضي إلى الأذية والإضرار؛ لأن كلاً منهما سيحاول بعد ذلك أن يكون له الأحظ من الربح، وحينئذٍ يظلم أحدهما الآخر، ولربما وقعت في ذلك الشحناء، وقد بينا أن الشريعة لا تجيز الوسائل المفضية إلى المفاسد المحرمة، كالشحناء ونحوها من الخصومات والنزاعات التي تترتب على الجهالة، وقد فصلنا هذه المسألة، وبيناها وبينا مقاصد الشريعة حينما تكلمنا على بيع المجهول.

أن يشترط أحدهما جزءا مجهولا

أن يشترط أحدهما جزءاً مجهولاً قوله: [أو شرطا لأحدهما جزءاً مجهولاً]: مثل أن يقول: لي شيء من الربح، فالشيء من الربح مجهول، ما يُدرَى أهو كثير أو قليل، فهذا لا يجوز.

أن يشترط أحدهما دراهم معلومة

أن يشترط أحدهما دراهم معلومة قوله: [أو دراهم معلومة]: كقوله: نشترك ولي ألف، أو لي عشرة آلاف من الربح، فلا يجوز. وقوله: [أو ربح أحد الثوبين، لم تصح]: إذا حدد أحد الشريكين شيئاً من الشركة على أن يأخذ ربحه، فإنه محرم ولا يجوز؛ لأنه قد لا يربح إلا هذا الثوب، ولذلك نص العلماء رحمهم الله على تحريم هذا النوع من الاشتراط. فقوله: [فإن لم يذكرا الربحَ، أو شرطا لأحدهما جزءاً مجهولاً، أو دراهم معلومة، أو ربح أحد الثوبين، لم تصح]: والدراهم المعلومة في زماننا كقوله: نشترك بعشرين ألفاً، ويكون لي كل شهر -مثلاً- ألف ريال، أو يكون لي في نهاية الشركة عشرة آلاف؛ لاحتمال ألَّا تربح الشركة إلا هذه، فإنه لو قال لي: أشاركك بعشرين ألفاً، منك نصفها، ومني نصفها، على أن آخُذَ عشرةَ آلافٍ من الربح، أو آخُذَ عشرين ألفاً، أو آخُذَ خمسةَ آلافٍ، أو آخُذَ ألفاً، فإنه إذا حدد شيئاً معيناً من المال فإنه غرر، وقد نص جماهير العلماء حتى إن ابن المنذر رحمه الله يحكي الإجماع على أنه إذا اشترط مالاً معيناً كألف ريال أو عشرة آلاف درهم أو نحو ذلك أن الشركة باطلة، ولا يجوز أن يحدد مالاً معيناً أو جزءاً معيناً؛ لأنه يحتمل أن الشركة لا تربح إلا هذا الشيء. ومن أمثلة هذا النوع في زماننا: أن يشتركا -مثلاً- في تجارة العود، فيقول له: نشترك في تجارة العود خشباً ودهناً، ويكون رأس المال خمسين ألف ريال، اتفقا ودفعا الخمسين ألفاً، هذا خمسة وعشرون، وهذا خمسة وعشرون، فلما أرادا التعاقد على إتمام الشركة قال أحدهما: أشترط أن يكون لي ربح عود الخشب، ويكون لك ربح عود الدهن. فهذا لا يجوز؛ لاحتمال ألَّا يربحا إلا عود الدهن، فيُظلم أحدهما بنصيبه، ويستفيد الآخر من نصيب صاحبه دون أن يعاوضه بحق الشركة، والعكس: فلو قال له: لي ربح الخشب، فإنه يحتمل ألَّا يربح إلا الخشب، فحينئذٍ يُظلم الطرف الثاني الذي يكون له ربح الدهن. وعلى هذا قال العلماء: يدخلان في الشركة ويكون الربح مشاعاً بينهما، فلا يحددان نسبةً معينةً، ولا ربحاً من جزء معين، ولا من نتاجٍ معينٍ من الشركة، بل يكون على أصل الشيوع الذي ذكرناه. وقد حكى ابن المنذر رحمه الله الإجماع على أنه لو ذكر مع النسبة شيئاً معيناً كقوله: لي ألف ريال كل شهر، أو لي خمسمائة كل شهر، كأن يقول له: أدخل معك، ونشترك في تجارة العود، أو تجارة السيارات؛ ولكن أشترط أنني آخذ كل شهر ألف ريال، أو آخذ كل شهر خمسمائة ريال، فإنه لا يجوز؛ لأن فيه غرراً، ولذلك خرج عن مقتضى الشركة بالتميز عن صاحبه بهذا القدر.

اشتراط ما يوجب الضرر والغرر

اشتراط ما يوجب الضرر والغرر [أو ربح أحد الثوبين]: قوله: لي ربح أحد الثوبين: هذا إذا اشتركا في شراء ثوبين، فقال أحدهما: تأخذُ أنت ربح الثوب القطن، وآخذُ أنا ربح الثوب الصوف، فهذا لا يجوز؛ لأنه يفصل ربح الشركة عن الطرفين. وهذه أمثلة -كما ذكرنا غير مرة- أن العلماء والفقهاء رحمهم الله يذكرون أمثلة يقصدون منها التقعيد. والمسألة ليست في الثياب، إنما المسألة أنه لا يجوز أن يعطيه ربحاً مجهولاً. وفي حكم الجهالة: التغريرُ، كأن يدخلا في الشركة في تجارة الأقمشة -مثلاً-، فيشتريا بنصف المال أقمشة من القطن، وبالنصف الآخر أقمشة من الصوف، فيقول أحدهما للآخر: الآن اشترينا القماش، فتأخذُ أنت ربح الصوف، وآخذُ أنا ربح القطن، فلا يجوز، فكما أن الجهالة تكون في الأول، كذلك تكون أيضاً في الأخير، وتكون في الأثناء. فإذا قال له: تأخذُ ربح كذا، وآخذُ ربح كذا، فلا يجوز. وفي زماننا: لو أنهما اشتركا بمائة ألف ريال ودخلا في الشركة، وكان من عادتهما أن يسافر أحدهما إلى الخارج ليجلب التجارة، فالشركة بينهما تستلزم بضائعَ تستورَد ثم تُباع، فقال أحدهما: السفرة الأولى لي ربحُها، والسفرة الثانية لك ربحُها، تسافر أنت وتأخذ الربح، أو أسافر أنا وآخذ الربح، أو لي ربح السفر إلى المشرق، ولك ربح السفر إلى المغرب. إذاً: ليس مراد العلماء في مسألة (لي ربح أحد الثوبين) القصر على الثياب أو على مسألة البضائع إذا كانت من الثياب، لا. إنما هي قاعدة: أن الشركة تستلزم دخول الشريكين مستويين، من بداية العقد إلى نهاية العقد. وبناءً على ذلك: فلو اشترط أحدهما على الآخر نصيباً معيناً، مثل: لي ربحُ أحدِ الثوبين، أو لي ألفُ ريالٍ كل شهر، أو لي عشرةُ آلافٍ كل سنة، أو لي من الربح صافياً خمسةُ آلافٍِ، ثم نقسم الربح بيننا، كل ذلك مما يوجب الجهالة، ومما يغرر بالطرف الآخر الذي فرض عليه الشرط. وعلى هذا لا يجوز أن يحدد ربحاً من أحد المبيعات، ولا يجوز -كما في زماننا- أن يحدد ربح سَفْرة من السَّفْرات، أو يقول له: إذا كانت السَّفْرة إلى جهة كذا كان لي ربحها، وأنت إلى جهة أخرى يكون لك ربحها، أو تكون التجارةُ صيفيةً شتويةً، فيقول: لي ربح الصيف، ولك ربح الشتاء، كتجارة الرطب والتمر -مثلاً-، فيقول له: ندفع مائة ألف ونشتري التمر ونبيعه، ونشتري الرطب ونبيعه، فما كان من نتاج الرطب فلك ربحه، وما كان من نتاج التمر فلي ربحه. وهكذا لو أن الشريكين دخلا في الشركة، على أن يتاجرا -مثلاً- في العطورات عموماً، وكان أحدهما أعرف بالعود، والآخر يعرف بقية الأصناف، فشاء الله أن الذي يعرف العود قال: أسافر وأجلب العود وأبيعه ولي ربحه، وأنت تسافر للأنواع الأخرى ولك ربحها. هذا كله لا يجوز. لماذا؟ أولاً: لأن مقتضى عقد الشركة يستلزم دخولهما سوياً في الربح، وأن يكون أحدهما حاملاً لكسر الآخر. ثانياً: لأننا لو أجزنا هذا النوع لغرر أحدهما بالآخر؛ لاحتمال ألَّا يربح إلا الوجه الذي حدده، واحتمال ألَّا يربح إلا الصفقة أو العَرَض الذي خصه، وفي ذلك ضرر على الطرف الثاني.

جهل الربح في المساقاة وأحكامه

جهل الربح في المساقاة وأحكامه [وكذا مُساقاةٌ، ومُزارَعةٌ، ومُضارَبةٌ]: المساقاة: من السقي. والمزارعة: من الزرع. والمساقاة: أن يدفع رب الأرض التي عليها النخل وما في حكمه -وسيأتي إن شاء الله بيان ما الذي يلتحق بالنخل- أن يدفع النخل إلى العامل على أن يقوم بسقيه وإصلاحه ورعايته، والثمرة بينهما على ما اشترطا. ومثال ذلك: عندك بستان ووقتك لا يسمح لك بالعمل فيه، أو ليست عندك خبرة بإدارة هذا البستان، فتأتي إلى عامل وتقول له: اشتغل في هذا البستان، واسقِ زرعه -يعني: النخل الموجود فيه- وأصلح النخل، ثم الثمرة الموجودة في النخل بيني وبينك مناصَفَةً، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بيهود خيبر، كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها)، فكانوا -أي: اليهود- يعملون في النخل، ويصلحونه، ويرعونه بالسقي، ويقومون على رعايته حتى تخرج الثمرة، فتُقسم بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمر ذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في عهد أبي بكر، وفي عهد عمر رضي الله عنه، أخرجهم وأجلاهم، كما هو مشهور. الشاهد: أن المساقاة أن يدفع رب الأرض للعامل الأرضَ على أن يعمل فيها، ويقول له: خذ جزءاً من الثمرة. كيف نقدر المساقاة على مسألتنا؟ مثال ذلك أن يقول رب المال أو رب الأرض للعامل: اسقِ الأرض وأُرْضِيكَ. فيقول: كم لي؟ فيقول له: لا يهمك، نتفق. إذاً: يدخل المساقاة على جهالة، وهذا لا يجوز. وإذا بطُلت ينقلب العامل إلى أجرة المثل، فيقدر تعبه، ويأخذ أجرة المثل، وسوف نبين ذلك إن شاء الله. هذه هي جهالة النسبة. ومن جهالة النسبة: إدخال المجهول على المعلوم، كقوله: اسقِ الأرض، ولك نصف ما يخرج، وهدية من عندي، أو رَضْوَة من عندي، فالرَّضْوَة مجهولة، وصحيحٌ أن نصف الثمرة معلوم. وإذا قال: أعطيك نصف الثمرة، فهذا معلوم؛ لكن إذا قال: أعطيك هديةً أو رَضْوَةً، صيَّرت المعلوم مجهولاً، والقاعدة تقول: (دخول المجهول على المعلوم يُصَيِّر المعلومَ مجهولاً)، فصحيحٌ أنه حدد النصف أو الربع؛ لكنه حينما أدخل الهديةَ والرَّضْوَةَ المجهولة أصبح المعلوم مجهولاً، ولذلك لا يجوز هذا النوع. فنحن ذكرنا أن يجهل النسبة، أو يُدخل مجهولاً على النسبة المعلومة، أو يُدخل معلوماً مفروضاً أو معيناً من الأرض: معلوماً مفروضاً: يقول له: اسقِ الأرض ولك نصف الثمرة، وأعطيك كل شهر مائة، أو أعطيك خمسين، أو نحو ذلك. أو يقول له: اسقِ نخلي وزرعي وأعطيك الثمرة التي في النوع الفلاني، فقد يكون نخله -مثلاً- سكرياً أو برحياً، فيقول للعامل: إن سقيت المزرعة فلك ثمرة البرحي، ولي ثمرة السكري. فهذا لا يجوز؛ لاحتمال ألَّا تخرج إلا ثمرة السكري، فيُظلم رب الأرض؛ لأن هذا ماله، وله الحق أن يأخذ منه، واحتمال ألَّا يخرج إلا البرحي، فيُظلم العامل، فيكدح طيلة عامه بدون ثمرة وبدون نتيجة، فهذا مما فيه غرر وفيه ضرر، وكما ذكرنا في الشركة أنه إذا حدد جزءاً معلوماً فلا. وقد قيل في حديث رافع بن خديج رضي الله عنه والذي وقعت فيه الخصومة بين الصحابة رضوان الله عليهم والخلاف في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن شراء المزارع، وعن إجارة الأراضي، حتى إن زيد بن ثابت رضي الله عنه استغفر لـ رافع وقال: (أنا أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منه)، وكذلك جاء عن رافع ما يدل فعلاً على أن النهي المراد به أن يقول: اسقِ الأرض وآخذُ الذي هو قريب من الماء، وتأخذ البعيد من الماء. وهذا فسره رافع كما في الصحيحين؛ يقول: (إنما كانوا يؤاجرون على الماذِيانات، وأقبال الجداول) فمن المعلوم أن القناطر كانت من التراب، وكانوا يزرعون، وبطبيعة الحال كان الثمر الذي يُزرع أو البذر الذي يُزرع بجوار القنطرة أجود وأفضل، وغالباً ما يسلم، فيقول رب الأرض: أنا آخذ الذي يلي الجدول، وأنت أيها العامل تأخذ الذي هو بعد الجدول، قال رضي الله عنه: (كانوا يؤاجرون على الماذِيانات -في القناطر- وأقبال الجداول -يعني: التي تجري فيها المياه- فيسلم هذا -أي: الذي عند الماء-، ويهلك هذا -البعيد عن الماء للعطش أو يخرج ضعيفاً-، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: وأما ما كان بشيء معلوم فلا بأس) يعني: ما كان لا غرر فيه ولا ضرر ويدخل الطرفان فيه فلا بأس، مثلاً: حينما يقول له: ولك نصف الثمرة، دخل الاثنان، الصالح منها وغير الصالح، ودخل الاثنان في غُنْمها وغُرْمهما. وعلى هذا ذكر المصنف رحمه الله أنه لا يجوز للشريكين أن يغرر أحدهما بالآخر؛ لأن مقتضى عقد الشركة قائم على نصيحة كل منهما للآخر، ولا يمكن أن تصلح الشركة وأحدهما يستفضل نفسه على الآخر، ولا يمكن لشريك أن يعامل شريكه بأمانة ونزاهة ونصيحة وحرص على المصلحة للشركة إذا كان يعلم أن شريكه قد غبنه؛ لأنه يحس أنه مظلوم، ولربما تأثُّره بظلم شريكه يضر بمصالح الشركة، ولذلك لابد أن يدخلا وهما مستويان في الغُنْم والغُرْم. وهذا على الأصل الذي ذكرناه، فلا يغرر رب المال، ولا يغرر الشريك بشريكه بتعيين ربح شيء معين، ولا نسبة مجهولة على الصفة التي بيناها وقررناها.

جهل الربح في المزارعة وأحكامه

جهل الربح في المزارعة وأحكامه قوله: [ومُزارَعةٌ]: كذلك المزارعة، كأن يكون عندك أرض زراعية ولا تحسن زراعتها، فتسلمها لرجل عنده خبرة، وهذا من سماحة الإسلام، وإن تبجح المعاصرون الذين لا يدينون بدين الإسلام أنهم نظموا أمورهم، فكم في الإسلام من تنظيمات وشرائع حكيمة عالية سامية؛ ولكن من الذي يفقهها؟! ومن الذي ينظر إلى هذه الشريعة نظرة تأمل، فيدرك فيها العدل والإنصاف، وإقامة الأمور على أتم الوجوه وأكملها؟! فانظر إلى العامل العاطل الذي ليس عنده عمل، إذا بالشريعة تؤمِّن له ذلك عن طريق هذه العقود الشرعية، فالعامل الذي تكون عنده خبرة في الزراعة، قد يبقى هكذا بدون عمل؛ لأنه لا يملك أرضاً يزرعها، فإذا بالشريعة تجيز للرجل الذي عنده أرض؛ وربما كانت الأرض لأيتام لا يحسنون زراعتها، ولربما كانت لمعتوه أو نحو ذلك، أو كانت لإنسان كثير الشغل، أو لطالب علم، أو لعالم لا يتفرغ لزراعتها، ولا يحسن زراعتها، فإذا بهذه الأعمال تؤمَّن، وتقول الشريعةُ لرب الأرض: ادفع أرضك لهذا العامل، ليستثمرها، فاستَغَلَّت طاقات الناس، وأمَّنت المجتمع من البطالة، فدعت إلى أن يدخل مع رب المال في هذه الأرض، فيزرعها وله جزء مما يخرج منها. وهل البذر على رب الأرض أو على العامل؟ هذا على تفصيل سيأتي -إن شاء الله- في باب المزارعة. فالشاهد: أن الأرض أصبحت شراكة بين الطرفين في ما يخرج منها، وليس في الرقبة ذاتها، إنما يشتركان في ما يخرج منها، فيقول له: خذ الأرض وازرعها، وما كان من نتاجٍ فبيني وبينك -الذي هو المناصفة- فإذا قال له: خذها وازرعها، ولي الزراعة التي بجوار الماء، أو لي الزراعة أو الثمرة التي تخرج من شرقيِّ الأرض ولك غربيُّها، أو لي قِبْلِيُّها ولك جنوبيُّها، أو نحو ذلك، لم يصح ولم يجُز، على التفصيل الذي ذكرناه في الشركة.

جهل الربح في المضاربة وأحكامه

جهل الربح في المضاربة وأحكامه قوله: [ومُضارَبةٌ]: وكذلك المضاربة، مُفاعَلةٌ من الضرب في الأرض للتجارة، وسيأتي -إن شاء الله- الكلام على عقد المضاربة وحقيقته ومشروعيته وأحكامه ومسائله إن شاء الله تعالى. لكن مراد المصنف بقوله: [ومُضارَبةٌ] أي: مثل الذي مضى من الحكم بالتحريم في حال إعطاء نسبة من الربح مجهولة ينطبق على عقد المضاربة كما ينطبق على عقد الشركة، فلو قال له: خذ مائة ألف واضرب بها في الأرض للتجارة، وما كان من ربح فسأرضيك منه، أو سأعطيك ما يسرك، فهذا مجهول؛ فإنه لا يدري ما الذي يسره، فقد يكون الذي يسر العامل ثلاثة أرباع الربح، والذي يسره عند رب المال ربع الربح، وقد يسره النصف بالكثير، فهذا يُدخل المفاسد والشرور؛ وقد ذكرنا هذا في مقدمة البيوع حينما بيَّنَّا أن بيوع الجهالة تفضي إلى النزاع والخصومة، كذلك أيضاً لو قال له: اضرب بمالي في الأرض، فاشترى عشرين سيارة -مثلاً-، وأراد أن يتاجر بها، فقال له: هذه العشرون، لي منها فقط ربح سيارتين، والباقي لك ربحه، فهذا لا يجوز؛ لأنه يحتمل ألَّا تربح إلا هاتان السيارتان، واحتمال ألَّا تربح السيارتان وتربح بقية السيارات، ولذلك يدخل على غرر، فلابد أن يشتركا في الغُنْم والغُرْم، وعلى هذا فلابد أن يحددا نسبةً مشاعةً معلومة، كما قلنا في الشركة. ولو قال له: اضرب بمالي في الأرض، والربح بيني وبينك -يعني: مناصفةً- وأعطيك مع الربح إكرامية، أو هدية، أو أرضيك بزيادة، لم يجز.

الخسارة في الشركة على قدر رأس المال

الخسارة في الشركة على قدر رأس المال قوله: [والوضيعة على قدر المال]: [والوضيعة] أي: الخسارة. [على قدر المال] أي: على قدر ما دفعه الطرفان، فمن دفع النصف فعليه الخسارة بالنصف. وهذه المسألة تتعلق بالنكسة والمصيبة التي تحدث للشركة، فالطرفان دفعا مائة ألف، ودخلا في تجارة قماش أو طعام أو سيارات أو غير ذلك، ولما دخلا في التجارة اشتريا وخسرا في البيع، ووقعت الخسارة (بخمسين ألفاً)، سلمت خمسون وبقيت خمسون، فالسؤال الآن: هذه الخمسون ألفاً التي وقعت فيها الخسارة، وحصلت فيها النكسة للشركة، هل نجعلها على أحد الشريكين، أو نجعلها على الشريكين؟ وإذا جعلناها على الشريكين هل نجعلها بنسبة الربح أو بنسبة رأس المال؟ A أن الوضيعة تكون على نسبة رأس المال، في قول جماهير العلماء رحمهم الله، فمن دفع نصف مال الشركة يتحمل نصف الخسارة، ومن دفع ثلاثة أرباع مال الشركة يتحمل ثلاثة أرباع الخسارة، فلو أن الشركة بأربعين ألفاً، وهم أربعةُ أشخاص فقط، وكلُّ شخص دفع عشرة آلاف، وخسرت الشركة أربعة آلاف ريال من الأربعين، فإن ما بقي من رأس مال الشركة -وهو ستة وثلاثون- يقسم بينهم -أي: الأربعة-، وبعد ذلك تُجَزَّأُ الخسارة، وكلُّ واحد منهم يغرم ألف ريال؛ لأنه دَفَعَ رُبُعَ رأسِ المال، فيتحمل رُبُعَ الخسارة، فالأربعةُ آلاف ريال رُبُعُها ألف، فكل واحد منهم يتحمل ألف ريال، فتصبح حينئذٍ الخسارة مقسمة على الرءوس بحسب النسبة التي دخل بها الشركاء في شركتهم.

حكم خلط المال في الشركة

حكم خلط المال في الشركة قال رحمه الله تعالى: [ولا يشترط خلط المالين، ولا كونهما من جنس واحد]: (فلا يشترط خلط المالين): في شركة العنان إذا دفع أحدهما مالاً والآخر دفع مثله، كأن يكون خمسين بخمسين، فللعماء قولان: - القول الأول: يجب أن يخلط الشريكان ماليهما حتى يصيرا كالمال الواحد، وأكَّدوا هذه الخلطة بأن يختلط المالان على وجه لا يمكن تمييز مال أحدهما من الآخر. إذاً: لا بد عندهم من شرطين: - الخُلطة، وهو أن يجتمع المالان في مكان واحد، ويُخلَطان مع بعضهما. - ثانياً: ألَّا يكون أحد المالين متميزاً عن الآخر. فمثلاً: لو اشترك الاثنان فدفع أحدهما ريالات، والآخر دفع دولارات، فإن الدولارات متميزة عن الريالات، فعند هؤلاء لا يصح، بل لا بد أن يدخلا بالريالات فقط أو الدولارات فقط. ولو دخلا بالدراهم القديمة، مثل: الدرهم الإسلامي والدرهم البغلي، فالدراهم البغلية نوع، والدراهم الإسلامية نوع، فلو خلطت عُرف أن الدراهم البغلية لفلان، والدراهم الإسلامية لفلان، فالواجب أن تكون بدراهم معينة. فيشترطون الخُلطة على أتَمِّ الوجوه وأكملِها، وهذا هو أشد المذاهب، وهو مذهب الشافعية. وأكدوا هذا بأن: - لفظ الشركة وصورة الشركة وحقيقتها في الأصل تقتضي المشاركة، بحيث لا نستطيع أن نميز مال هذا من مال هذا، فإذا كان أحد المالين مميزاً لم تقع الشركة (هذا الوجه الأول). - قالوا: لو أن المالين دخلا مع بعضهما فإن ذلك أدعى لنصيحة كل من الطرفين للآخر، فإن الذي دفع ماله خمسين ألفاً حينما يراها مع خمسين ألفاً أخرى لا يستطيع أن يميزها ويحس أن ماله مع مال أخيه كالشيء الواحد، وهذا أدعى للحفظ، وأدعى لقوة النصيحة للمال؛ لكن لو أن المال تميَّز وعرفت الدولارات من الريالات، والدراهم من الدنانير، والدراهم بعضُها من بعض، والدنانير المشرقية من الدنانير المغربية -كما في القديم-، فإنه حينئذٍ لا يبعُد أن يضر أحدهما بمصلحة الآخر. (هذا الوجه الثاني). - القول الثاني: الجمهور: على أنه لا تشترط الخُلطة، وهذا مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة. إلا أن المالكية رحمهم الله يشترطون وجود نوع من الخلطة تكون فيه إطلاق اليد، كما لو كان المالان في صندوق واحد أو حانوت واحد، وكلا الشريكين يعملان في المتاجرة به واستثماره. وهذا المذهب توسط بين المذهبين. والمذهب الثالث يختلف في هذا. ولعل مسألة الشركة بالعروض لها تأثير في هذه المسألة. قال رحمه الله: [ولا يشترط خلط المالين] قلنا: الأصل: الخلط؛ ولا شك أن الشريكين إذا أرادا أن يخرجا من الشبهة فليخلطا ماليهما خلطاً لا يتميز. هذا هو الأفضل والأكمل.

مسألة: اشتراط أن يكون المال في الشركة من جنس واحد

مسألة: اشتراط أن يكون المال في الشركة من جنس واحد قوله: [ولا كونهما من جنس واحد]: أي: لا يشترط كون المالين من جنس واحد، فيمكن أن يكون أحدهما من الدراهم، والثاني من الدنانير. وقد فصلنا في هذه المسألة حينما تكلمنا عن الشروط، وبينا أن الصحيح أن يكونا إما ذهباً وإما فضة، وأنه ينبغي إذا كانا من الذهب أن لا يكون مما يدخله الصرف، وبينا الشبهة في كون أحدهما من الدراهم، والثاني من الدنانير؛ لاحتمال اختلاف الصرف، وبينا أن من الأسباب التي تدعو إلى خوف الضرر: أنه -مثلاً- لو كان مال أحدهما من الدولارات -كما في زماننا-، والثاني من الريالات، وكان العرف الموجود -مثلاً- عندنا هنا بالريالات، فلربما دخلا في الشركة والدولار قيمته ثلاثة ريالات، وإذا تفاصلا وفسخا الشركة صارت قيمة الدولار أربعة ريالات، فيدخل الشريك على الربح بنسبة زائدة في قيمة الدولار؛ لأنه سيُرد له رأسُ ماله، ورأس ماله من الدولارات، وهذا يضر بمصلحة أحد الشريكين، إن كان الدولار غالياً أضر بالربح، وإن كان الدولار رخيصاً أضر بالشريك، فإذا كانت قيمة الدولار ريالين فإنه في هذه الحالة سيخسر ريالاً؛ لأنه دخل وقيمة الدولار ثلاثة ريالات، ويخرج من الشركة وقيمة الدولار ريالان، وحينئذٍ يتضرر. وعلى هذا قلنا أنه لا بد من اتحاد العملة، واتحاد النقدين على وجه يؤمَن فيه الضرر والغرر.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الخسارة بسبب تفريط أحد الشريكين

حكم الخسارة بسبب تفريط أحد الشريكين Q لو كانت الخسارة بسبب تفريط أحد الشريكين، فما الحكم؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه. أما بعد: فإذا كانت الخسارة بسبب تفريط من أحد الشريكين، فإنه يتحمل مسئولية ذلك التفريط، وبينا ذلك بالأمثلة، منها: أن يقول الشريكان: نتفق على أن البيع لا يكون إلا بالنقد، فباع بالأجل، وباع بالنسيئة والتقسيط، ثم شاء الله أن الذي بِيْعَ له مفلس، وهذا فيه ضرر على الشركة؛ لأن الدفع يتأخر وتدخل الشركة أسوة للغرماء في مال المفلس، وهذا فيه مماطلة وفيه تأخير وإجحاف بمال الشريكين، فحينئذ هذا الضرر أدخله أحد الشريكين دون رضا الآخر. فنقول للشريك الآخر: هل ترضى بما فعل؟ فإن قال: أرضى، فحينئذٍ يثيبه الله على صبره، وهذا من الإحسان. أما لو قال: لا أرضى، فحينئذٍ يتحمل الشريك عاقبة هذه الخسارة، ويصبح الدين في مال الشريك، ويغرم لشريكه قيمة المال وربحه، واختلف العلماء: فقال بعضهم: يغرم قيمة المال والربح نقداً، فمثلاً: باع سيارة بعشرة آلاف ريال نسيئةً الذي هو التأخير بالتقسيط، والسيارة لو بيعت نقداً فستباع بخمسة آلاف، ورأس مال الشركة في السيارة أربعة آلاف ريال، فمعنى ذلك أن الربح للشركة سيكون ألف ريال. فبعض العلماء يقول: يغرم الأربعة آلاف فقط، بمعنى أنه يرد لشريكه ألفين، دون الربح؛ لأن الصفقة ألغيت من أصلها ولأن البيع لم يكن بيع ربح، فقالوا: يرد الأصل فقط. وبعض العلماء يقول: لا. البيع تمت فيه صفقةُ ربح رضي فيها الشريك، وكان بالإمكان أن تكون بربح معجل، ففرَّط الشريك، فأدخل الربح المؤجل بالضرر، فيضمن الخمسمائة التي هي نصيب شريكه، فيدفع لشريكه ألفين وخمسمائة، التي هي قيمة البيع بخمسة آلاف نقداً، وهذا هو الأصح والأوجه، أنه يضمن لشريكه -في مثل هذه الصورة- الألفين التي هي جزء الشريك من رأس مال الشركة في الصفقة، ويضمن له الربح من نفس العين المباعة نقداً، وأما بالنسبة للشريك فيكون وجهه على المشتري ويتحمل مماطلته وتأخيره. والله تعالى أعلم.

حكم زكاة الأموال المضارب بها

حكم زكاة الأموال المضارب بها Q اشتركت مع آخر في شركة (مضاربة)، وبعد عامين فسخت الشركة، فهل علي زكاة المال الذي اشتركتُ به مدة السنتين التي مكث المال فيها عند الشريك؟ A مال المضاربة تجب فيه الزكاة، والمال المعد للتجارة الأصل وجوب الزكاة فيه، حتى يدل الدليل على إسقاطها، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267] وهذه الآية احتج بها أئمة السلف رحمهم الله، كـ مجاهد ومن تبعه من الأئمة الأربعة، وفقهاء المدينة السبعة كـ سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وغيرهم على أن عروض التجارة تجب فيها الزكاة؛ لأن الله عمم وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267]، والكسب كان بالتجارة. فالأصل في هذه الآية أن تكون في التجارة؛ لأن الغالب عندما يقال: إن الشخص اكتسب، إنما هو في الشيء الذي يكون فيه الكسب والربح، فهذه الآية من أقوى الحجج على إثبات الزكاة في عروض التجارة. وعلى ذلك: الفتوى عند أئمة السلف وجماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم على أن عروض التجارة تجب فيها الزكاة، وضُعِّف خلاف مَن خالف في هذه المسألة؛ لأن الأدلة فيها قوية، والأصل أنه مال، فكيف لا نوجب في عروض التجارة الزكاة وقد أوجبنا الزكاة على من حدث ماله بدون تجارة؟! فمن تاجر بماله فإنه من باب أولى وأحرى أن يزكي، وأقل ما نقول: إنه يجب عليه زكاة رأس المال؛ لأن رأس المال في حكم المال المدخر. وعلى هذا تجب الزكاة في المضاربة تفريعاً على مسألة عروض التجارة؛ لأن مال المضارب مال قد دخل فيه صاحبه من أجل أن ينميه، ويقصد منه الربح والنتاج، كعروض التجارة سواءً بسواء، وعلى هذا تجب عليه الزكاة. وللعلماء تفصيل في هذا: - بعض العلماء يرى أنه من الدَّين الذي إذا أراد أن يفسخه فسخه، فيقوّم ما عنده على رأس الحول ويزكيه، ويقومه كتقويم عروض التجارة. - ومنهم من يرى أن الربح غير مضمون، فيزكي رأس المال، ولا يزكي الربح. على تفصيل عند العلماء، سيأتي -إن شاء الله- عند بيان مسائل المضاربة.

حكم البيع في المسجد

حكم البيع في المسجد Q هل الاتفاق على سعر السلعة في المسجد يدخل تحت النهي عن البيع في المسجد؟! A سبحان الله! إذا اتفقوا على قيمة السلعة، فماذا بقي في البيع؟! يعني: إذا اتفقوا على أن السلعة بخمسمائة فهذا أتم ما يكون به البيع، وإذا لم يكن هذا بيعاً فأي شيء يكون البيع؟! فلا شك أنه يدخل في البيع، وهذه من الغفلة عن الله؛ لأن المساجد بنيت لذكر الله عزَّ وجلَّ، ولا شك أن النهي عن البيع وحديث الدنيا -أعني: كراهية حديث الدنيا في المساجد- خاصةً إذا غلب مقصود الشرع، وقد قرر الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات أنه ينبغي أن يكون المكلف في أموره وشئونه على وفق قصد الشرع. فماذا قصد الشرع من المساجد؟ قصد الله عزَّ وجلَّ من بناء المساجد وعمارتها ما بينه في كتابه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (مَن سمعتموه ينشد ضالته في المسجد فقولوا: لا ردها الله عليك) الله أكبر! مكروب، مفجوع في ماله، حلت به المصيبة، والشريعة شريعة رحمة وتيسير، يقوم يناشد الناس: مَن رأى ضالتي، كما في الحديث: (مَن رأى البعير الأحمر)، (فقولوا: لا ردها الله عليك) يعني: لا يقال له فقط: اسكت، بل يقال له: لا ردها الله عليك، وهذا يدل على عِظَم خطر الحديث في أمور الدنيا في المساجد، وإخراج المساجد عن مقصودها، بل ينبغي أن تعظم وتجل، والله إذا أحب عبداً من عباده قذف في قلبه حب المسجد وإجلاله وتعظيمه؛ لأنه لا يُعَظِّم المسجد إلا من يخاف الله جلَّ جلالُه، ولا يعظم المسجد إلا من يتقي الله سبحانه، كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]. وإذا أردت أن تنظر إلى الرجل الذي يحب الله عزَّ وجلَّ صدق المحبة، ويعَظِّمه كمال التعظيم فانظر إليه -ليس عند دخول مسجده- ولكن منذ أن يخرج من بيته، وهو خاشع متخشع، متذلل متضرع، ذاكر لربه، مقبل على الله عزَّ وجلَّ، لا تلهيه تجارة، ولا تلهيه شئون الدنيا، قد أقبل على الله ورمى بالدنيا وراء ظهره، فإذا دخل بيت الله عزَّ وجلَّ دخله بصدر منشرح، وقلب مطمئن، مقبل على الله عزَّ وجلَّ بكليته، وكأنه أسعد الناس في المسجد، وهذه نعم ينعم الله بها على من يشاء، والمحروم من حرم، فما جعل الله السنن الرواتب، والتبكير إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة إلا من أجل عمارة هذه المساجد. ومن تعلق قلبه بها، فأحبها وأكثر من غشيانها، وأصبح قلبُه معلقاً بها صدق التعلق فقد تأذَّن الله أن يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، والله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً. فالمساجد ما بنيت للقيل والقال، وهذه وصية خاصة لطلاب العلم: إذا أردت أن تعْظُم منزلتك عند الله سبحانه وتعالى فأعطِ كل عبادة حقها وقدرها، سواءً في الزمان أو في المكان، فمثلاً: إذا كان الزمان زمان عبادة، كعشرٍ من ذي الحجة، والعشر الأواخر، وقيام الأسحار، ونحو ذلك من الأوقات المفضلة، فإن استطعت أن تري الله منك الجد والاجتهاد فافعل، فإن الله يُعلي قدرك، ويُعْظِم أجرك، ويفتح عليك من واسع فضله. وإذا أردت أن تعرف منزلتك عند الله، ومكانتك عند الله، فانظر إلى مقدار حرصك على هذا الخير، فإن كنتَ كلما دخلت المسجد وجدت في قلبك تعظيماً لبيوت الله، ووجدت أنك تطمئن، وأنك تنشرح، وأن هموم الدنيا كلها وراء ظهرك، وأنك في أنس وسعادة وغبطة، وتحس إذا خرجت من باب المسجد أنك في عذاب وشجى. فإذا بلغت هذه المنزلة فاحمد الله، فإن الله قد أعطاك من فضله شيئاً عظيماً، وإن الله لا يعطي الدين إلا لمن أحب، وأما الدنيا فيعطيها لمن أحب وكره. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل لنا ولكم من ذلك أوفر حظ ونصيب. ومما كان يوصي به بعض المشايخ رحمة الله عليهم أنه إذا دخل الإنسان المسجد فمن الأمور التي تعين على تعظيم هذه المساجد: - أن يتذكر المحروم من هذه المساجد. - أن يتذكر المريض الذي حُبس عن بيت الله في مرضه، فهو يتأوَّه ويتألَّم ويتمنى أنه في بيت الله جلَّ جلالُه. - وأن يتذكر مَن حُرِم من الطاعة كليةً، زاغ قلبه فأزاغ الله فؤاده. فيحمد الله أن الله شرح صدره للإسلام، وأن حببه للطاعة والقيام، فيدخل هذه المساجد وهو يحس أن الفضل كله لله وحده لا شريك له. كذلك مما يعين على تعظيمها: أن يحس الإنسان أنه ربما تكون هذه هي آخر صلواته وطاعاته، فيدخل إلى المسجد وهو منكسر القلب لله جلَّ جلالُه لعل الله سبحانه وتعالى أن يجبر كسره، وأن يُعْظِم أجره، فيحسن في عبادته وذكره وشكره، وهذا في معنى قولهم: (صلِّ صلاة مودِّع)، فإن الإنسان إذا أحس كأنها آخر صلاة يصليها، ولربما تكون آخر صلاة يصليها في المسجد، فكم من صحيح سوي قوي خرج من المسجد فأصابه الشلل فلم يعد إليه أبداً، وكم من صحيح سوي صلى عشاءه وأصبح وهو في لحده وقبره، فالمسلم الصالح الموفق يجعل مثل هذه الأمور والعبر والعظات أمام عينيه. ثم إذا عَظَّمْتَ شعائر الله -وهذا من الأمور التي يبارَك فيها للعبد- لوجدتَ الانشراح في المسجد، في حلق الذكر، في بيوت الله، ولأحسست أن هذه هي الدنيا، وأن هذه هي السعادة، ولا تحس أن غيرك أفضل منك، فمن عَظَّم نعمة الله تأذن الله له بالبركة فيها. فكم من طالب علم في مجلس علم لا يشعر بنعمة الله عليه، حتى يتأذن الله -والعياذ بالله- بزوال نعمته عنه. فالشعور بمكانة المساجد، وما فيها من الخير مطلوب. فهنيئاً ثم هنيئاً لمن عفَّر جبينه بالسجود بين يدي الله. وهنيئاً لمن رزقه الله عزَّ وجلَّ حب الآخرة والشوق إليها، فأقبل إلى بيوت الله يعمرها بذكره وشكره، وهو يحس أنه أسعد الناس بربه جلَّ جلالُه. ما الذي يجعل المصلي بمجرد انتهائه من الصلاة مع الجماعة ينطلق كالسهم وكأنه مسجون في مسجده؟! لأنه ما عرف قيمة هذه النعمة التي هو فيها، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (لَغَدْوَةٌ أو رَوْحَةٌ في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها) في الطاعات يستشعر الإنسان أنه لربما هذه اللحظة من رضوان الله عزَّ وجلَّ تكون سبباً في سعادة لا يشقى بعدها أبداً. والله يا أيها الأحبة! ما قَدَرْنا اللهَ حق قدره، ولو شعر الإنسان بعظيم ما يعده الله لأوليائه وأحبائه وأهل طاعته من رحمته وبركاته ومنِّه وكرمه لأصبح العبد معلقاً بالله جلَّ جلالُه لا يفتر عن ذكر الله طرفة عين، لكنا ما شعرنا بقيمة الطاعة، والمسلم لو تأمل حاله وهو موسد في قبره، وحيد فريد، لا مال ولا بنون، لا ينفعه جاه ولا سلطان، ولا أحد يغني عنه من الله شيئاً، وإذا بهذه الصلاة في ذلك الضيق، وفي تلك الظلمة تتفتح بها أركان القبر فتصبح نوراً له في قبره. في ظلمة القبر لا أمٌّ هناك ولا أبٌ ولا صديقٌ ثَمَّ يؤنسني فامنن علي بفضل منك يا أملي ما لي سواك إلهي من يخلصني من شعر أن هذه العبادة في هذا البيت من بيوت الله تكون نوراً له في الدنيا والآخرة، ونوراً له في قبره، حَسَّنها وأتمها، وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]. فلنقدر نعمة الله، ولنشعر أننا أسعد الناس بالله جلَّ جلالُه، وليشعر كل من دخل المسجد أنه ليس بحاجة إلى أن يضيع وقته في البيع والشراء والأخذ والعطاء، وإنه لمن العار على طالب علم وفقه الله فعلم الحلال والحرام وشرائع الإسلام، وأصبح قدوة أمام الناس والأنام أن يُنظر إليه وهو جالس في المسجد يضحك مع هذا ويلهو مع هذا، ولربما وقع ذلك في المواسم المفضلة، كالعشر الأواخر ونحوها. وقد كان السلف الصالح إذا دخلوا المساجد دخلوها بقلوب مطمئنة، خاشعة متخشعة، كما روي عن عبد الله بن عمر. فقد كان ابن عمر من أخشع الناس في طوافه، وكان رضي الله عنه وأرضاه ربما بقي في الشوط الواحد قدر خمسمائة آية، وهذا من طول ما كان؛ لأنه كان لا يجاوز الحجر حتى يقبِّله رضي الله عنه وأرضاه، وهذا الصحابي الجليل روى عنه أبو نعيم أن عروة بن الزبير دخل عليه وهو يطوف فسأله عن بنته رمانة، وكانت بنت عبد الله بن عمر، ويُثني عليها بالخير، فأراد عروة أن ينكحها، والنكاح للنفس جائز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكح الواهبة نفسها من الرجل، وقال له إنه يخطب رمانة إليه، فلم يلتفت إليه ابن عمر ولم يرد عليه شيئاً، وإنما أعرض وانصرف في ذكره وعبادته، فظن عروة أنه لا يأبه به، وأنه لا يريد إنكاحه وتزويجه، ثم مضى ابن عمر وسافر إلى المدينة؛ لأن ابن عمر كان في المدينة، وكان قد أتى إلى مكة إما في حج أو عمرة، فلما مرض ابن عمر إبان قدومه من المدينة، جاء عروة يعوده، فلما دخل عليه قال له ابن عمر رضي الله عنه: لقد ذكرت لي أنك تريد رمانة أكما أنت؟ أي: هل أنت على رغبتك وطلبك؟ قال: نعم، فقام فزوجه إياها، وقال له يعتذر: إنك قد سألتنيها في مقامٍ يتراءى للعبد ربُّه. والمراد بذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث عمر: (أن تعبد الله كأنك تراه) وهو مقام الإحسان. لا يحب أن يراه اللهُ وهو يلتفت إلى القيل والقال، ولا يحب أن يرى اللهُ منه ما لا يرضيه، وطلاب العلم وأهل الفضل خاصة، يتوجب عليهم أن يدخلونها -المساجد- بقلوب مطمئنة شاكرة ذاكرة تثني على الله بما هو أهله، فإذا بالناس ينظرون إليهم قدوةً، وكم من طالب علم سوي تقي نقي ذكي هدى الله به مَن نظر إليه في بكائه وخشوعه، فدله على ربه. وهذا كله من توفيق الله. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يجعلنا وإياكم هداةً مهتدين، غير ضالين ولا مضلين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن ل

باب الشركة [4]

شرح زاد المستقنع - باب الشركة [4] عقد المضاربة من عقود الشركة التي كانت في الجاهلية وأقرها الإسلام وهذب أحكامها، فانتقل بها من المخاطرة إلى العدل والإنصاف، وقد دلت السنة والإجماع على مشروعية المضاربة، لما في هذا العقد من الحكم العظيمة والمقاصد الجليلة، فهو يعد من عقود الرفق؛ لما فيه من تكثير لمال المضارب من جهة، وتوفير عمل للمضارب من جهة أخرى، وقد فصل العلماء في هذه الأحكام وأعطوا كل ذي حق حقه.

النوع الثاني من الشركة: المضاربة

النوع الثاني من الشركة: المضاربة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [الثاني: المضاربة]: أي: النوع الثاني من أنواع الشركات هو: المضاربة.

تعريف المضاربة

تعريف المضاربة والمضاربة: مفاعلة، من الضرب في الأرض، وأصل المفاعلة في لغة العرب يستلزم وجود طرفين فأكثر، والمراد بهما في هذا النوع من العقود: المضارِب، وهو رب المال، والمضارَب، وهو العامل، ويسمى هذا النوع من عقود الشركات عند من يقول: إنه نوع شراكة يسمى: (بالمضاربة)، ويسمى (بالقراض). فأما تسميته بالمضاربة: فللعلماء فيها وجهان: قال بعض العلماء: المضاربة مأخوذة من الضرب في الأرض، ويقال: ضرب في الأرض إذا سافر من أجل التجارة، كما في قوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20]. فالمراد من قوله: (يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ) بمعنى: يسافرون فيها من أجل التجارة، وقوله: (يَبْتَغُونَ) أي: يطلبون (مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي: من الرزق، كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] أي: اطلبوا الرزق. وقال بعض العلماء: المضاربة مأخوذة من الضرب، بمعنى: أن كلاً من العامل ورب المال قد ضرب له بسهم من الربح، ولذلك يقال: اضرب لي بسهم، أي: اجعل لي قدراً في الربح، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الرُّقية والجُعْل فيها: (كلوا -وفي رواية-: خذوا، واضربوا لي معكم بسهم) فالضرب هنا المراد به: أن يقتطع جزءاً من المال لحسابه، والمراد من المال: الربح. فالمضاربة: - إما أن تكون مأخوذة من الضرب بمعنى السفر، فيقال: ضرب في الأرض إذا سافر. - وإما أن تكون مأخوذة من الضرب، بمعنى أن يضرب كل منهما للآخر جزءاً من الربح. وقال بعض العلماء: إن المضاربة تسمى بـ (القِراض) وهي لغة أهل المشرق. والقراض: قيل مأخوذ من القرض، كما يقال: قرض الفأر من الثوب إذا اقتطع من ذلك الثوب. قالوا: كأن رب المال والعامل اقتطع كل منهما جزءاً من الربح. وأياً ما كان فهذا النوع من العقود سواءً سمي بعقد المضاربة، أو عقد القراض فحقيقته واحدة، وهذا العقد كان موجوداً في الجاهلية، ثم جاء الإسلام فأقره؛ ولكن هذب أحكامه، وقد فصل العلماء رحمهم الله في هذه الأحكام، فأعطوا كل ذي حق حقه، فانتقل عقد القراض والمضاربة من المخاطرات إلى الإنصاف والعدل، ومعرفة كل من المتعاقدين لحقه، وهذا النوع من العقود كان موجوداً فأقر الإسلام التعامل به، وقد نص شيخ الإسلام رحمه الله في مجموع الفتاوى أن بعض الفقهاء يقولون: إن القراض شُرع بالإجماع، وضعَّف هذا القول؛ فقال: إن الأصل في مشروعية القراض السنة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بُعث كان أهل الجاهلية يتعاملون بهذا النوع، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضارب بمال خديجة، وكانت لقريش رحلة في الشتاء للجنوب ورحلة في الصيف للشمال فكانت هذه الرحلات على هذا النوع من التجارة، وكان أهل مكة يجمعون ما عندهم من الأرزاق التي يرغب فيها أهل الشام إذا سافرت إليهم العير، ويأخذون ما عندهم من المصالح والأُدم ونحوها، فيبعثون بها في تجارة. فهذا النوع من المعاملات كان موجوداً في الجاهلية، وأقر الإسلام التعامل به من حيث الجملة، وإن كان هناك خلاف بين المضاربة في الجاهلية والمضاربة في الإسلام.

الأدلة على مشروعية المضاربة

الأدلة على مشروعية المضاربة وأما من حيث المشروعية فقد دلت السنة ودل الإجماع على مشروعية القراض. أما السنة فما قدمنا من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث بعث عليه الصلاة والسلام والناس يتعاملون بالمضاربة والقراض، فأقر ذلك ولم ينكره، وكان جده عبد المطلب يتعامل مع الناس بهذا النوع، كما روى عبد الله بن عباس عن العباس أنه كان يفعل ذلك كما كان يفعله والده عبد المطلب فكان يعطي المال لمن يتاجر به مضاربة. وكذلك قالوا: إن الإجماع دل على مشروعية القراض والمضاربة، وهذا الإجماع ينقسم إلى قسمين: - أولاً: إجماع الصحابة. - ثانياً: إجماع مَن بعدَهم. فأما إجماع الصحابة فقد وقع في قصة حدثت في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وحاصل هذه القصة أن عبد الله بن عمر وعبيد الله وهو أخوه كانا عند أبي موسى بالكوفة، وأرادا أن يسافرا إلى المدينة، فقال أبو موسى وكان أميراً على الكوفة لـ عمر بن الخطاب رضي الله عن الجميع قال لهما: (ليس عندي شيء أعطيكما إياه؛ ولكن هذه إبل أو مال تاجرا فيها في الطريق ثم أديا رأس المال إلى أمير المؤمنين، وخذا الربح)، فأعطاهما مجموعة من الإبل وهي من إبل بيت المال، وأمرهما أن يتعاملا ويتاجرا بهذه الإبل في الطريق، فيكسبا ويربحا، فيؤديان رأس المال ويأخذان الربح، وهذا نوع من الإحسان من أبي موسى لابنَي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عن الجميع. فمضى عبد الله وعبيد الله، وتاجرا في المال، وربحا، وغنما، فلما أتيا إلى المدينة أعطيا عمر رأس المال، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أكل المسلمين أعطاهم مثلما أعطاكما؟ قالا: لا. قال: أم كنتما ابنَي أمير المؤمنين، أدِّيا المال كله إلى بيت المال فلما قال ذلك، كان عبد الله حيياً فسكت، وأما عبيد الله فإنه كان جريئاً وقال: يا أبتاه! لو أن هذا المال الذي تاجرنا به خسرناه ألست تغرِّمنا إياه؟ قال: بلى). وهذا يستلزم أن الربح يكون لمن يضمن الخسارة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخراج بالضمان) فاستدل عبيد الله بأصل صحيح ومتفق عليه، ودلت السنة على اعتباره، وهو أن الربح لمن يضمن الخسارة، فكأنه يقول له: كيف نضمن الخسارة، وتأخذ الربح كاملاً؟ فلما قال ذلك رد عليه عمر وقال: (أديا المال إلى بيت المال). فرد عبيد الله بنفس الكلام، وكأنه يقول: أنصفنا فإن هذا المال نغرمه ولا نغنمه، وليس في الشريعة غُرْم بدون غُنْم، ولا غُنْم بدون غُرْم، والقاعدة (أن الغُنْم لمن يغرم)، ولذلك قرر العلماء الأصل المشهور: (الخراج بالضمان). فلما قال ذلك وأصر عليه، قال الصحابة رضوان الله عليهم: (يا أمير المؤمنين! اجعله قراضاً)، يعني: اجعل المسألة مسألة قراض، وهذا هو الصحيح، ووُفِّق الصحابة في ذلك، فجعلوه قراضاً، فلما جعلوه قراضاً قسموا الربح بين عبيد الله وعبد الله من وجه، وبين بيت مال المسلمين من وجه آخر. فلما قالوا: (اجعله قراضاً)، وأقره الخليفة الراشد عمر، ولم ينكره أحد من الصحابة، دل على إجماع الصحابة واتفاقهم على مشروعية هذا النوع من التعامل بالأموال. وأجمع العلماء من بعد ذلك بإجماع الصحابة، وليس هناك خلاف في مشروعية القراض. المضاربة والقراض عقد شرعي جائز؛ لكن هذا العقد شرع في الإسلام لحكم عظيمة، ومقاصد جليلة كريمة، وإذا نظرت إلى حقيقة القراض والمضاربة فإنه يكون عندك مال، كمائة ألف وليس عندك الوقت لكي تستثمر هذا المال، أو ليس عندك خبرة في المتاجرة، ويكون هناك رجل عنده خبرة في التجارة، فبدل أن يجلس المال مجمداً ويؤخذ منه للزكاة ونحوها من المصارف والنفقات شرع الله لك أن تبحث عن رجل عنده خبرة، وتأمنه على مالك، وتفوض إليه أن ينمي هذا المال بخبرته ومعرفته دون أن تضيق عليه تضييقاً يعرض تجارته للخطر. وعلى هذا أصبحت الشريعة فيها رفق في هذا النوع من العقود من وجوه: - الوجه الأول: أنها حققت مصلحة أرباب الأموال، فأصبحوا يجدون الربح في أموال قد تذهب عليهم بكثرة زكواتها وتبعاتها. - الوجه الثاني: أن هذا العامل وهو الذي سيأخذ المال منك وينميه، لو لم يجد هذا المال لتعطلت خبرته، وتعطلت معرفته، فعززت الشريعة من إنماء هذه الخبرة، وهذا يدل على سمو منهج الشريعة حتى في أمور الاقتصاد، وتعامل الناس بالمال، وأنها شريعة كاملة، جاءت لمصالح العباد في دينهم ودنياهم وآخرتهم، فأمرت مَن عنده السيولة والمال أن يدفعها لمن هو أهل لتنميتها واستثمارها. فرفقت برب المال من جهة، ورفقت بالعامل من جهة، ورفقت بالمجتمع؛ لأن المجتمع ينتفع من خبرة الخبير في إدارة التجارة، وينتفع المجتمع بتنمية هذه الأموال، ولو أن رءوس الأموال جُمدت لأضر ذلك بمصالح الناس. فأصبح في هذا النوع من العقود رفقٌ بكلا الطرفين: برب المال، وبالعامل، وبالناس جميعاً.

صور المضاربة

صور المضاربة والمضاربة حقيقتها: أن يدفع ربُّ المالِ للعاملِ المالَ على أن يتَّجر به، والربح بينهما على ما شرطا. ومعنى هذا: أن عندنا في عقد المضاربة رجلين: الرجل الأول: هو ربُّ المال. والثاني: العاملُ الذي يريد أن يقوم على المال فينميه ويستثمره حتى يحصل الربح والخير للطرفين. فأما بالنسبة لرب المال، فالمثال أن يكون عندك عشرة آلاف ريال، وأما العامل فهو شخص تأتمنه على مالك، وتثق بخبرته ومعرفته فتعطيه العشرة آلاف، وتقول: يا محمد! هذه عشرة آلاف اضرب بها في الأرض، أي: سافر فيها للتجارة، أو ابحث عن أي مجال بخبرتك ومعرفتك يكون الأصلح لتنمية هذه العشرة آلاف، فيأخذها منك فيذهب ويضعها في أي تجارة يرى أن من المصلحة وضع المال فيها، فلو كانت عنده خبرة في الطعام، فذهب واشترى طعاماً من بلد، وجلب الطعام للبلد الذي هو فيه، أو اشترى طعاماً من بلد فيه كثرة في الطعام والسعر رخيص، وجلبه إلى بلد يقل فيه الطعام، وباع بسعر أعلى، فربح وغَنِم، أو يتاجر في الأراضي، كأن تعطيه -مثلاً- نصف مليون، وتقول له: هذه النصف مليون تاجر بها، فهو عنده خبرة في الأراضي، فلو أخذ النصف مليون واشترى بها أرضاً بوراً أو أرضاً بيضاءَ لعلمه أن هذه الأرض بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة لها سوق، وأنها تغنم، فاشتراها وباعها بأكثر، أو بدل أن يشتري العقار اشترى منافع العقار كأن تقول له: هذه خمسمائة ألف تاجر بها، فنظر أن المصلحة أن يستأجر بها عمائر لإسكان الحجاج -مثلاً- أو المعتمرين أو الزوار، فأخذ الخمسمائة ألف واستأجر بها عشر عمائر أو خمس عمائر واستغلها في إجارتها لمن يستأجرها، فهذا يعود عليه بالنفع، فبعد انتهائه من الإجارة أصبحت مليوناً.

أركان عقد المضاربة

أركان عقد المضاربة حقيقة المضاربة أن تعطيه المال وتطلق يده بالتصرف؛ لكن من حقك أن تشترط عليه شروطاً ترى أنها من مصلحة القراض، وقد تكون هذه الشروط من مقتضيات عقد القراض، أو تقصد من هذه الشروط دفع الضرر عن مال القراض، وبناءً على ذلك: قال العلماء: حقيقة القراض أن يدفع ربُّ المال للعامل المالَ، فأصبح عندنا أركان العقد كالتالي: الركن الأول: العاقدان: وهما: - رب المال. - والعامل. والركن الثاني: محل العقد: ومحل العقد هو: المال المدفوع، عشرة آلاف أو مائة ألف، أو خمسمائة ألف إلخ، وهذا المال يكون طبعاً من رب المال للعامل، ويكون محل العقد في تنمية المال واستثماره. وأما بالنسبة لما ينشأ عن المال من الربح فعلى ما تتفقان؛ سواء اتفقتما على أن يكون مناصفة لك النصف وله النصف الآخر، أو لك ثلثا الربح وله الثلث، أو العكس للعامل الثلثان ولك الثلث، على حسب ما يتفق عليه الطرفان. وأما بالنسبة للصيغة: فهي اللفظ: أن تقول له: خذ هذا المال واضرب به في الأرض، أو: تاجر به، أو هذا المال قراض بيني وبينك ربحه بالنصف، أو نحو ذلك. إذاً: أركان عقد المضاربة هي: العاقدان، ومحل العقد، والصيغة.

شروط في صحة عقد شركة المضاربة

شروط في صحة عقد شركة المضاربة

شروط الشريكين

شروط الشريكين ويُشْتَرَط في رب المال أهليته للتصرف، فلا يصح أن يكون القراض من صبي، فلو أن صبياً أعطى عشرة آلاف لرجل وقال له: خذها وتاجر لي فيها، لم يصح؛ لأن الصبي ليس من حقه أن يتصرف في المال إلا إذا أُذِن له، وهذا أمر آخر، ولو كان الذي يملك المال مجنوناً فقال لرجل: خذ عشرة آلاف واضرب بها في الأرض، فإنه لا يصح ذلك، ولا يثبت القراض لعدم أهلية رب المال، ولو كان رب المال لا يملك المال، وليس له حق التصرف فيه، فأعطاه مالاً بعينه، وقال: هذه المائة ألف خذها واضرب بها، وهي ليست ملكاً له، فإنه لا يصح على هذا الوجه، وإنما يقارض بمال يملكه لا بمال غيره من مغصوبٍِ أو سرقةٍ. كذلك العامل يشترط فيه أن يكون أهلاً للوكالة؛ لأن العامل في حقيقة الأمر وكيل عن رب المال، فأنت إذا أعطيته مائة ألف وقلت له: اضرب بها، كأنك تقول له: وكلتك في هذه المائة ألف تستثمرها بالأصلح. إذاً: لا بد أن يكون أهلاً للوكالة، فلو كان مثله لا يوكل كالصبي والمجنون والمحجور عليه، وكذلك إذا مثله لا يوكل لوجود مانع يمنع من قيامه بالأمور المالية؛ فإنه لا يصح. هذا بالنسبة للعامل ورب المال.

شروط المحل

شروط المحل وبالنسبة للمحل فينبغي أن يكون المال الذي يُتاجر به من النقدين. فإذا دفع إليه المال يكون من الذهب أو من الفضة المضروبة، دراهم أو دنانير، أو ما يقوم مقام الدراهم والدنانير، كالفلوس على خلاف بين العلماء في النحاس، وفي زماننا الأوراق النقدية تُنَزَّل منزلة الذهب والفضة على التفصيل الذي بيناه في كتاب الزكاة، والصرف، وقررنا فيه أن كل عملة يلتفت فيها إلى رصيدها، إن كانت ذهباً فحكمها حكم الذهب، وإن كانت فضة فحكمها حكم الفضة. إذاً: لابد أن يكون المال من النقدين، فلو أنه دفع له عروضاً كأن يقول له: ضاربتك بسيارتي، على أن تذهب وتبيعها وتأخذ فلوسها وقيمتها وتضرب بها، ثم بعد ذلك تشتريها لي، أو تشتري لي مثلها، ثم نقتسم الربح، لا يجوز. والسبب في عدم جواز أن يقول له: خذ سيارتي، أو خذ هذه الأرض وبعها، وضارب، ثم بعد ذلك رد لي الأرض، ونقسم الربح بيننا؛ لأنه في هذه الحالة لو أعطاه الأرض وقيمتها مائة ألف، وذهب بالمائة ألف واستثمرها سنة، فبعد سنة لربما أصبحت قيمة الأرض مائة وخمسين، فإذا أراد أن يرد الأرض يردها بالمائة والخمسين، مع أنه ربح -مثلاً- مائتي ألف، وأصبح المال مائتي ألف، فحينئذ من ناحية شرعية دخل بمائة ألف، والمنبغي أن تقسم المائة الثانية على الطرفين: خمسين للعامل، وخمسين لرب المال، فلما أراد أن يرد الأرض، وإذا بالأرض قيمتها مائة وخمسون، فحينئذ دخل رب المال بخمسين ألفاً ظلماً على العامل؛ لأنها جزء من الربح، والمفروض أن تكون مقسومة على ثمن الربح المتفق عليه، والعكس، فلو أخذ الأرض وباعها بمائة ألف، ثم استثمر المائة ألف وأصبحت مائتين، ثم إذا بالأرض قد نزلت قيمتها فأصبحت قيمتها خمسين، فحينئذ سيكون هناك خمسون، هي فضل زائد في الأصل قيمة لعين الأرض التي دفعت، فيدخل العامل شريكاً بخمسة من خمسين ليس من حقه أن يشارك فيها، وإنما هي ملك لرب المال، ولذلك جماهير السلف والخلف -من حيث الأصل- على أنه لا يجوز أن يكون القراض في العروض، حتى ولو قال له: خذ دكاني هذا الذي فيه العطور واشتغل فيه، والربح بيني وبينك على أنه قراض لم يجز؛ لأن القراض ينبغي أن يُعلم؛ فإنك إذا دفعت مائة ألف للعامل لكي يتاجر بها، فإنه يتاجر ما شاء الله، ولو جلست المائة ألف عنده عشر سنين، وأنت ساكت وهو ساكت، والتجارة ماشية حتى بلغت الملايين، ثم بعد عشر سنين فجأة قلتَ له: أريد أن أفسخ القراض، فهذا حقك في أي وقت تشاء، فلو جئت تفسخ القراض ينبغي أن يرد رأس المال أولاً، وبعد رد رأس المال يُنظر في النفقات والحقوق التي تتعلق بالمال، فتُسدَّد، ثم يُنظر في الفضل والزائد وهو الربح ويُقسم على حسب الشرط والاتفاق. إذاً: إذا أثبت أن العامل يأخذ منك المائة ألف أولاً ويضرب بها في الأرض، وبعد أن يضرب بها في الأرض أردتَ أن توقف المضاربة، أو العامل نفسه جاء وقال لك: أريد أن تفسخ القراض الذي بيني وبينك، ونصفي حقوقنا، فليس من حقك أن تعترض في أي وقت إلا في حال وقوع الضرر، فلو أنك أعطيت رجلاً المائة ألف في رمضان وقلت: اذهب وتاجر بها، فذهب واشترى تموراً، أو اشترى غنماً، أو بقراً، أو سيارات، والسيارات في رمضان رخيصة السعر -مثلاً-؛ لكن إذا اقترب الموسم في شوال، أو في ذي القعدة يكون سعرها أغلى، والرغبة إليها أكثر، فلو أنك أعطيته المائة ألف في رمضان، ولما اشترى بها السيارات واشترى بها الغنم، أو اشترى بها التجارة التي يريد أن يدخل بها أصبح سعر التجارة رخيصاً، فالغنم سعره رخيص، أو السيارات التي اشتراها رخص سعرها في شوال، وهو ينتظر أن يأتي شهر ذي القعدة من أجل أن يبيع، فجئته في شوال، وقلت له: بِع الآن، فلو باع الآن فربما لا يبيع إلا برأس المال، أو بأقل من رأس المال، وهذا فيه ضرر، ومذهب طائفة من العلماء أنه ليس من حقك أن تلزمه بالإسراع في البيع إذا وجد الضرر، وكان الانتظار لا ضرر فيه عليك، وعلى ذلك تكون ملزماً بالانتظار، وهي الحالة التي تستثنى من جواز عقد القراض والمضاربة وعدم لزومه. إذا ثبت هذا فإنه لا يمكننا أن نقسم الربح بين الطرفين إلا بعد رد رأس المال، وإذا كان الربح لا يُرد إلا بعد رأس المال، فإن رأس المال إذا كان ذهباً وفضة فلا إشكال، وإنما الإشكال إذا كان من العروض، كالأقمشة والأطعمة والسيارات والعقارات، فإن أسعارها ترتفع وتنخفض، فلربما أعطاه العقار وقيمته غالية، ولما حضر وقت التقاضي وفصل شركة القراض أصبحت القيمة رخيصة، فيتضرر صاحب العقار، وبالعكس يتضرر العامل. وبناءً على ذلك: قال جماهير السلف والخلف، حتى حُكي الإجماع على ذلك: أنه لا يجوز أن يقارضه بتعيين العروض. هذا من جهة المحل، ومن جهة ما يُتاجر به أو يُدفع للعامل.

شروط الصيغة

شروط الصيغة أما الصيغة: يقول له: ضاربتك، أو خذ هذه المائة ألف قراضاً والربح بيني وبينك، أو يقول له: خذ هذه المائة ألف واتَّجر بها، وما ربحتَ فبيني وبينك، هذا بالنسبة للربح. لكن لو أن هذا العامل أخذ منك مائة ألف، وخرج يتاجر، فانكسر في التجارة وخسر ولم يرد لك إلا خمسين، فهل يضمن الخمسين الباقية؟ A فيه تفصيل: فأصل المضاربة أن العامل يأخذ منك المال ويتاجر فيه بالمعروف، فإذا قام بالتجارة على الوجه المعروف عند أهل الخبرة ولم يفرط ولم يغرر؛ فلا ضمان عليه، وإنما يكون ضمان المال على رب المال. ومن هنا تنظر إلى عدل الشريعة الإسلامية، وكونها عدلت بين العامل ورب المال. فأنت حينما تعطي مائة ألف إلى العامل وتقول له: اضرب بها في الأرض، فإنك لا تقوم بأي عمل، بل العمل كله على العامل، فهو الذي يتحمل مشقة العمل، وبالمقابل فأنت تتحمل الخسارة، فخطورة العمل والخطر الذي ينتج عن العمل بحصول كساد في السوق أو انخفاض في الأموال أنت الذي تتحمله، والعامل يقوم بتنمية المال بالمعروف، فإن حصلت الخسارة كانت على رب المال، وإن حصل الربح كان للعامل حظه من الربح، فأعطت الشريعة كلا الطرفين حقه. وبناءً على ذلك: فإن رب المال يتحمل مسئولية المال إذا خسر، والعامل يتحمل تنمية المال والقيام على رعاية هذا المال وتنميته. والأصل في المضاربة: أن تكون على الثمن المعروف، فينبغي لكلا المتعاقدين أن يراعي المضاربة الشرعية، فلا يشترط على الآخر شروطاً تغرر به، فلو قال رب المال للعامل: هذه مائة ألف وأشترط عليك ألَّا تشتري إلا من فلان، وألَّا تبيع إلا إلى فلان، وألَّا تشتري إلا في شهر محرم، وألَّا تبيع إلا في صَفَر، فأخذ يقيده ويضيق عليه، لم يصح؛ لأن هذه الشروط تضر بمصلحة التجارة، وتكبل العامل، وتضيق عليه حدود العمل، وإن كان قد تسامح فيها بعض الفقهاء، وقالوا: من حقه، والصحيح مذهب من قال: ليس من حق رب المال أن يحجِّر على العامل ويضيِّق عليه في تجارته إلا إذا خاف الضرر، كأن يقول له: أنا أسمح لك أن تتاجر بالمال في مكة، ولا أسمح لك أن تنتقل إلى المدينة، أو إلى بلد آخر، لعلمه أن السوق في مكة أضمن وأربح، ولكن في غيره فيه مخاطرة، كذلك من حقه أن يقول له: أسمح لك أن تتاجر في ثلاثة أنواع أو أربعة أنواع أو خمسة أنواع، ويحددها؛ لعلمه أن كل نوع يجبر الآخر، لكن لو قال: لا أسمح إلا بتجارة الطيب، أو يقول له: لا أسمح لك بالمائة ألف إلا أن تتاجر في العود فقط، فإنه يحتمل أنه يدخل في تجارة العود وتنكسر؛ لكن حينما تقول له: هذه المائة ألف اضرب بها في الأرض، دخل في تجارة العود، فلم يكسب، فخرج منها إلى تجارة الورد، وكانت أربح -مثلاً-، أو خرج من تجارة الطيب كلية إلى تجارة الأرض، فجَبَرَ كَسْرَ تلك بنماء هذه، وجَبَرَ فسادَ تلك بصلاح هذه. ولذلك قال العلماء: ليس من حق رب المال أن يحجِّر على العامل، فالأصل في القراض أن يكون على السُّنن الشرعية. كذلك الأصل في القراض أن يكون الربح مشاعاً بين الطرفين، فلا يقول للعامل: أعطيك هذه المائة ألف، اذهب وتاجر بها، وسأعطيك ما يرضيك، فهذا مجهول، ولو قال له: الربح بيني وبينك، فللعلماء فيه وجهان: - بعض العلماء يقول: (بيني وبينك) هذا مجهول؛ لأن من أخذ ثلاثة أرباع وترك الربع، فهو (بيني وبينك)، ومن أخذ أي جزء من الربح فهو بينه وبين من اتفق معه. - وقال بعض العلماء: بيني وبينك أي: نصفين، فيجوز. والشبهة موجودة. وكذلك أيضاً: لو قال له: خذ المال واضرب به، وأعطيك كل شهر ألفاً، فهذا ليس بقراض، وإنما هو إجارة، وحينئذ يستحق العامل الألف، وليس له دخل في الربح، فهناك شروط ربما لو أنه أدخلها لأخرجت القراض عن طبيعته إلى عقد آخر، كعقد الإجارة، أو ربما صار فيها وكيلاً بالبيع أو نحو ذلك.

حكم التحايل والتلاعب بعقد المضاربة

حكم التحايل والتلاعب بعقد المضاربة وأيا ما كان فهذا العقد ينبغي أن يتقيد فيه بما اتفق عليه العلماء، أو جرى العمل به عند السلف، ولا يجوز تلفيق القراض والتلاعب بشروطه، والتحايل على المعاملات المحرمة تحت اسم القراض، حتى يُحَل للناس ما حرم الله، باسم أنها مضاربة شرعية.

أمثلة على التلاعب بعقد المضاربة

أمثلة على التلاعب بعقد المضاربة ومن أمثلة ذلك: أن البعض من المتأخرين -وهذا من أغرب ما يكون- يقولون: اذهب واختر ما شئت من السلع، وأنا أشتريها لك، أو اذهب واستثمر فيما شئتَ من العمائر أو نحوها، وأنا أدخل معك بمليون أو نصف مليون، أو كذا من المال، على أن آخذ نسبة من ربحك، مثال ذلك - وهذا يقع-: لو أن شخصاً أراد أن يبني فندقاً للاستثمار، فيدخل معه المصرف ويقول له: نحن نشاركك في هذا الاستثمار باسم المضاربة الإسلامية، فيقول: ما صفة هذه المضاربة، يقول المصرف: نعطيك عشرين مليوناً -مثلاً- تكمل بها بناء هذا الفندق، ونستثمر هذا الفندق عشر سنوات، ثم بعد ذلك نرد لك الفندق، فأصبحوا في هذه الحالة يقولون: إن هذه المضاربة إسلامية؛ لأنهم أعطوه المال فاستثمره في بناء هذا العقار، كما لو أعطى العامل المال فاستثمره في أي عمل تجاري، وأصبح الربح والنماء منقسماً بين الطرفين، من جهة أن المصرف أخذ النماء ثلاث سنوات أو أربع سنوات، وسكت عن الملكية، أو عفا عن الملكية، فأصبحت أشبه بالهبة وبمحض التبرع، ولفقوا العقود على هذا الوجه. ولا شك أن حقيقة هذا العقد مبنية على اقتراض عشرين مليوناً بأرباح؛ لأن المصرف يقول: نأخذ رأس المال الذي دخلنا به، ولأن المضاربة يأخذ فيها رب المال رأس المال، فقال: نأخذ العشرين مليوناً أولاً، ثم بعد العشرين مليوناً نأخذ الأرباح سنتين أو ثلاث سنوات أو أربع، ونترك لك ملكية العقار، فهم يتذرعون بأن هذا نوع من المضاربة الشرعية، ولما سئلوا: كيف تحققت المضاربة؟ قالوا: تحققت بأن المصرف دفع العشرين مليوناً، فنعتبرها رأس مال، فدخل صاحب الفندق بمثابة العامل، فاستثمر العشرين مليوناً في بناء الفندق، بعد ذلك نعتبر رد العشرين مليوناً كرد رأس مال المضاربة، ونعتبر فضل السنوات إذا كانت أربع سنوات أو خمس سنوات بمثابة الربح لرب المال. ولا يشك أحد -إذا تأمل هذا النوع من التعامل- أنه قرض مبني على المنافع والفوائد، فحقيقة الأمر أن العشرين مليوناً كانت بصورة القرض، وليست بمضاربة؛ لأن المضاربة يعطى للعامل مطلق التصرف فيها، أما هذه فمحدودة. والأغرب من هذا: أنه يُلزم برد العشرين مليوناً ويضمنها، فخرج عن ثمن المضاربة؛ لأن المضاربة لا يلتزم العامل فيها برد رأس المال إذا خسر، فهم يلزمونه برد العشرين مليوناً، ثم بعد ذلك يلزمونه بأخذ إيجار أو منافع أو مصلحة هذا العقار لمدة ثلاث سنوات أو أربع سنوات. ثم تعجب حينما تقول لبعض المعاصرين الذين يجتهدون في تحليل بعض المسائل التي لا يُشَك أنها من الحرام، تقول له: يا أخي! هذا عقد شرعي أجمع العلماء على أنه لابد أن يكون على الصفة المذكورة المعينة، وهي كذا وكذا. فيقول لك: أبداً! القراض عقد اجتهادي، والاجتهاد يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وهذه الشروط اجتهادية، فكما اجتهد الأوائل نجتهد من بعدهم. فالمقصود: أن هذا من التحايل على ما حرم الله، وقواعد الاجتهاد ليست محلاً في هذا؛ لأن الاجتهاد معروفةٌ ضوابطُه وشروطُه، ومعروفٌ محلُّه، فحينما تدفع أي جهة مبلغاً لشخص على أن يلتزم برده، فإذا التزم برده كان قرضاً، وليس من المضاربة في شيء؛ لأن المضاربة لا يلتزم فيها العامل لرب المال، فالعامل يعمل وإن خسر فعلى رب المال، وإن ربح فحينئذ على ما اتفقا في تقسيم الربح. فالمقصود: أن عقد المضاربة عقد شرعي، وينبغي أن تجري المضاربة الشرعية على وفق ما قرره العلماء وأجمع السلف عليه.

مسألة: هل القراض والمضاربة عقد أصلي أو فرعي؟

مسألة: هل القراض والمضاربة عقد أصلي أو فرعي؟ ومن هنا ترد المسألة المشهورة: هل القراض والمضاربة عقد أصلي أو عقد فرعي مستثنىً على سبيل الرخصة؟ هذه المسألة خلافية، ولها فوائد: فأنت إذا قلت: القراض عقد شرعي أصلي، فتقيس عليه غيره. وإن قلت: القراض عقد شرعي مستثنىً وهو فرع عن الإجارة، أي: أنه نوع من أنواع الإجارة بالمجهول؛ فهو مستثنىً ولا يجوز القياس عليه. توضيح ذلك: في القراض من يقول: هذا عقد شرعي مستقل، كفقهاء الحنابلة -رحمهم الله- ومن وافقهم، ويقولون كالتالي: إن رب المال دفع للعامل عشرة آلاف، والعامل قام بتنمية العشرة آلاف على ما جرى عليه العرف، فأصبح رب المال يُشارك العامل في الربح، والعامل يشارك رب المال في الربح أيضاً؛ لكن كل منهما شارك بشيء، فالعامل شارك بالعمل، ورب المال شارك بالمال، فأصبحت نوعاً من الشركات، وقالوا: الشركة إما أن يكون المال من الطرفين، ويشمل نوعين من الشركات: - العنان. - والمفاوضة. فالمال هنا من الطرفين، والعمل من الطرفين، وهو نوع من الشركات. ونوع آخر من الشركات: المال من الغير، والعمل من الطرفين، كشركة الوجوه، فإنه يكون العمل فيها من الطرفين، والمال من طرف آخر، فيضمنان بجاهيهما ما يأخذان من المال، والعمل من الطرفين، وإما أن يكون المال من طرف، والعمل من طرف آخر، مثل: المضاربة، فالمال من رب المال، والعمل من العامل، فأصبحت الشراكةُ مالاً لقاءَ عمل، فإذا قلت: إنها شراكة، فقِس عليها غيرَها، مثال ذلك: الشركة في المنافع، ففي زماننا الآن لو أن رجلاً عنده سيارة أجرة، وقال لرجل: خذ هذه السيارة واشتغل بها، وما ينتج من عملك بيني وبينك مناصفة، فحينئذ يقولون: السيارة مُنَزَّلة منزلة المال، والعمل بالسيارة لقاء اليوم أو الأسبوع أو الشهر مثل عمل العامل بالمال النقدي، والربح بينهما وهو نتاج السيارة وأجرتها، وهذا نوع من القياس، وهو مرجوح وضعيف؛ لأن الصحيح في القراض أنه إجارة بالمجهول، خرجت عن سنن الإجارة كالمساقاة والمزارعة فلا يُقاس غيرُها عليها، فإذا أراد أن يؤجر السيارة يقول له كالآتي: خذ السيارة واشتغل فيها شهراً، وأعطيك ألفاً، وتعطيني جميع ما ينتج، وربحها وخسارتها عليَّ، كما لو استأجرته في مزرعة ليقوم على مصالحها، فربحها وخسارتها عليك، وأما بالنسبة لأجرته فمضمونة. إذاً: لو أردت أن تؤجر على هذا الوجه فتقول له: خذ السيارة واشتغل فيها بالأسبوع، أو بالشهر، أو تقول له: أعطيك سيارتي بمائتين أسبوعاً، يعني: تشتغل فيها بالأسبوع، فتأخذ ما يحصل لك، على أن يكون لي مائتان -لكن لا تقولك من الأجرة- فيكون كما لو أخذ السيارة منك لمصلحته التي يقضيها، فحينئذ يكون استأجر السيارة منك. فالبديل عن هذا النوع من القياس المرجوح: أن يعطيه السيارة بأجرتها، أو العامل نفسه يشتغل فيها بأجرة من رب السيارة ومالكها. فهناك صورتان: - الصورة الأولى: تقول له: خذها، واشتغل فيها بالشهر، كل شهر لك ألف، وحينئذٍِ الذي تأخذه قليلاً كان أو كثيراً ملك لي. فحينئذ يلزمك نفقة السيارة، فالوقود عليك، وزيتها عليك، وإصلاحها عليك، ولا تلتزم إلا بأجرته، كما لو وضعت عاملاً في المزرعة، فوقودها وتكاليفها كلها عليك؛ ولكن أجرة المصالح والقيام عليها تعطيها للعامل، هذا نوع من إجارة السيارات، إذا أردنا البديل المباشر. - أو يقول لك العامل نفسه: أنا آخذ السيارة منك وأعطيك كل يوم مائةً، أو أعطيك كل أسبوع مائتين، أو أعطيك كل شهر خمسمائة، فيكون قد استأجر السيارة منك مُياوَمَةً، أو مُسانَهَةً -مُياوَمَةً: يعني باليومية، مُسانَهَةً: بالسنة، أو مُشاهَرَةً: بالشهر- فيستأجرها على أي نوع من الإجارة، وسيأتي -إن شاء الله- في باب الإجارة. أما أن يقاس على هذا العقد الذي خرج عن سنن القياس فلا؛ لأن الرخص والمستثنيات من الأصول لا يُقاس عليها، ولذلك يقولون: ما خرج عن سَنن القياس فغيره عليه لا يقاس.

مسألة: هل القراض عقد جائز أم لازم؟!

مسألة: هل القراض عقد جائز أم لازم؟! عقد القراض فيه مسألة مهمة، وهي مسألة اللزوم والجواز، لو سألك سائل وقال: قرأتَ باب القراض أو المضاربة، فهل لو اتفقتُ مع رجل على أن أضارب له في ماله، واتفقنا على أن يدفع لي مائة ألف لا تجز فيها، والربح مناصفة بيننا، وأخذتها منه، فإذا فارقته وتم العقد فهل يصبح لزاماً عليَّ أن أمضي في العقد وأن أتمه وأن أتاجر بالمال أو ليس بلازم، كأن يعطيك رجل مائة ألف، لتضرب بها في الأرض، وتتاجر بها، والربح بينك وبينه، فقام من عندك ورجع بعد ساعة، وقال: العقد الذي بيننا انفسخ، أو لا أستطيع، أو عندي ظرف، أو أراد فسخه بدون سبب، وقال لك: لا أريد، فهل يُلْزَم بإتمام العقد أو لا يُلْزَم؟ الإجماع منعقد على أن عقد القراض عقد جائز، والعقد الجائز -كما قدمنا في مقدمات البيوع- هو: الذي يملك كل واحد من الطرفين فسخه بدون رضا الآخر. إذاً: عقد القراض ليس بعقد لازم، ومن حقك أن تأتي في أي وقت وتقول له: بِعْ التجارة ورُدَّ لي رأس المال وانظر لي الربح. ومن حق العامل في أي وقت أن يفسخ عقد المضاربة والقراض ولا يُلزم بإتمامه، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله.

الربح بين الشريكين على ما شرطا

الربح بين الشريكين على ما شرطا قال رحمه الله: [المضاربة لمتَّجر به ببعض ربحه]: (لمتَّجر (: أي مستثمر، (يتاجر به) الضمير عائد إلى المال، لمتَّجر بالمال. (ببعض ربحه): أي ببعض ربح المال المدفوع، فأصبح عندنا رأس مال، وعندنا متاجرة تثمر وتنتج الربح، فرأس المال يدفعه ربه، ومَن يتاجر هو العامل، والربح بينهما على ما شرطا. قال: [فإن قالا: والربح بيننا: فنصفان] إن قالا: الربح بيننا، فوجهان للعلماء: قال بعض العلماء: جهالة، لأن (الربح بيننا) يشمل المناصَفة والمرابَعة والمثالَثة، وغيرها، فأي قسط وأي حظ من المال فهو بينهما. وقال بعض العلماء: بل إن قوله: (بيننا) معروف أنها بالمناصفة، يعني: بيننا، أي: نقسم بالعدل، لك مثل ما لي، وهذا هو الذي مال إليه المصنف رحمه الله ورجَّحه. قال: [وإن قالا: لي أو لك ثلاثة أرباعه أو ثلثه، صح والباقي للآخر]: هنا مشلكة: إذا قال رب المال للعامل: خذ هذه المائة ألف واتَّجر بها، ولي من الربح نصفه. لما قال: (لي النصف)، اختلف العلماء: قال بعض العلماء: إذا قال للعامل: (لي النصف)، نفهم مباشرة أن العامل له النصف الآخر. وقال بعض العلماء: لا. بل إنه حينما قال: (لي النصف)، سكت عن حكم النصف الثاني، فيحتمل أن يكون يعطيه نصف النصف الذي هو الربع، والنصف الآخر الذي هو الربع الثاني يضعه في صدقة أو هبة. المهم أنه لما قال: (لي النصف) بيَّن نصيبه ولم يبيِّن نصيب الطرف الثاني، فلم يجز. وهذا يختاره بعض أصحاب الشافعي رحمه الله وفيه وجه عند الحنابلة، أنه لو قال له: (لي النصف) أو قال له: (لك النصف)، وسكت، لا بد أن يبين حق الطرف الثاني، ولا يصح إلا إذا بيَّن كم للعامل وكم لرب العمل، فيقول: (لك النصف، ولي النصف)، (لك الربع، ولي ثلاثة أرباع)، (لك الثلثان ولي الثلث)، فيحسم الأمر، ويدفع الشك، ويقطع الريب. وحينئذٍ قالوا: لابد أن يبيِّن. وهذا المذهب أحوط وأسلم، وإن كان المذهب الثاني له وجه من القوة أنه إذا قال: (لي النصف)، نفهم أن النصف الثاني للعامل، أو قال له: (لك الربع)، نفهم أن الثلاثة أرباع لرب المال.

صور الشروط في عقد المضاربة

صور الشروط في عقد المضاربة قال رحمه الله: [وإن اختلفا لمن الشروط: فلِعاملٍ، وكذا مساقاةٌ ومزارعةٌ]: الشروط تقع في عقد المضاربة على صور:

الشروط المشروعة

الشروط المشروعة تارةً تكون من الشروط المشروعة: بِمعنى: أن الشرع يأذن بِها، ولا مانع من اعتبارها، كالشروط التي تواكِب وتحقق مقصود الشرع من المضاربة. فلو قال له: أشترط أن يكون الربح بيننا على شرط شرعي؛ لأن القراض يقوم على قسم الربح بين الطرفين. كذلك أيضاً لو قال له: أشترط أن تبيع نقداً ولا تبِع نسيئةً، فهذا يحقق المقصود من دفع الضرر؛ لأن الديون ربما يماطل أهلها في أدائها، وقال بعض العلماء: إن هذا شرطٌ شرعي عند من يجيز اشتراط النقد على العامل، كذلك لو قال له: أشترط عليك أن تعمل في بلد كذا وكذا، وخاف من بقية البلدان؛ لأنها منكسرة والتجارة فيها تشتمل على مخاطرة، فهذا شرط شرعي، ولو قال له: أشترط عليك أنك إذا سافرت بمالي لا تركب البحر؛ لأن البحر غير مأمون؛ لأنه ربما تغرق السفينة، ويستضر، أو قال: أشترط عليك أنك إذا أردت أن تسافر تتعامل مع فلان، والتعامل مع غيره غالباً مظنة الخسارة أو الانكسار أو الضرر. فمثل هذه الشروط التي يقصد منها رب المال مصلحة القراض أو تتفق مع مقصود القراض فلا إشكال فيها. وكذا العامل لو اشترط شروطاً تحقق مقصود الشرع في العقد كأن يقول: أشترط أن تحدد نسبتي من الربح، هذا في الأصل قائم عليه القراض، فقال له: نسبتك النصف، أو نسبتك الثلثان، فهذا ليس فيه إشكال بل من مقتضى العقد. كذلك لو قال له: أشترط أن أكون مطلق التصرف بالبيع وبالإجارة وبالاستثمار والرهن والقضاء، ونحو ذلك من أنواع الاستثمارات، كان من حقه ذلك؛ لأن من مصلحة القراض أن يكون مطلق اليد بالتصرف، حتى إذا انكسر في شيء يجبره بشيء آخر. فقالوا: مثل هذه الشروط شروطٌ شرعية، سواءً وقعت من المضارِب الذي هو رب المال، أو المضارَب وهو العامل. هذا بالنسبة للشروط الشرعية.

الشروط الممنوعة

الشروط الممنوعة وتارةً تكون الشروط ممنوعة وهي التي تضر بالقراض، أو تضر بالطرفين، وتخالف مقتضى العقد. يقول له: خذ المال، واضرب به في الأرض بشرط ألَّا يكون لك شيء من الربح، فهذا يخالف مقتضى العقد؛ لأن مقتضى العقد الاشتراك في الربح، وفيه ظلم للعامل، فلو قال له: خذ المال واضرب به في الأرض وأنت المسئول عن خسارته، فهذا ظلم؛ لأن العامل يتحمل العمل، ويتحمل أيضاً الخسارة، ورب المال لا يتحمل شيئاً فحينئذ خرج عن سنن القراض، ويعتبر شرطاً غير شرعي، ونص طائفة من العلماء على أنه يوجب فساد الشرط وفساد العقد؛ وأن هذا النوع من الشروط فاسد لنفسه ومفسد لغيره. ونحو ذلك من الشروط. فلو قال له: أشترط عليك ألَّا تتعامل بهذه المائة ألف إلا بنوع خاص من الطيب؛ ولا تشترِ إلا من فلان، ولا تبِع إلا من فلان، ولا تشترِ إلا في شهر كذا، ولا تبِع إلا في كذا، لم يجز؛ لأن هذا يغرر به، فلربما كان فلان الذي يتعامل معه المعاملة معه كاسدة، أو موجبة للخسارة، فهذا كله مما يخالف مقتضى عقد القراض، فلا يصح هذا النوع من الشروط. وهل يوجب الفساد أو لا يوجب؟ فيه تفصيل: إن أوجب نقض أصل من أصول القراض كما في الجهالة في الربح، كأن يقول له: خذ هذه المائة ألف واضرب بها في الأرض، والربح بيني وبينك، قال: قبلت؛ ولكن أشترط أن آخذ ألف ريال شهرياً، فنقول: لا يجوز هذا الشرط، ولا يصح أن يشترط هذا النوع من الشروط. فالمقصود: أن الشروط منها ما يوافق مقتضى العقد: كاشتراط البيع والاستئجار ونحو ذلك من مطلقات التصرف. ومنها ما يخالف مقتضى العقد: كأن يشترط عليه أن لا ربح له، أو يشترط عليه ربحاً مجهولاً، فالسنة في القراض أن يكون الربح معلوماً، وأجمع العلماء على أنه لو اشترط ربحاً مجهولاً، أو أدخل على الربح جهالةً لم يصح. ولذلك قالوا: هذا النوع من الشروط قد يوجب فساد عقد القراض كليةً.

مسألة: هل الشرط يوجب فساد القراض أو يفسد الشرط وحده

مسألة: هل الشرط يوجب فساد القراض أو يفسد الشرط وحده ما الفائدة حينما نقول: الشرط يوجب فساد القراض، أو يفسد الشرط وحده؟ مثال: لو أن شخصاً أعطاه مائة ألف، وقال له: اضرب بها في الأرض، فاشترى عشر سيارات بمائة ألف، وأصبحت قيمة السيارات مائتي ألف، فمعناه: أنها ربحت الضعف، فإذا كان قد اشترط في الربح شرطاً يوجب الجهالة، كأن يقول له: خذ المائة ألف واضرب بها في الأرض، والربح بيني وبينك على ما نتفق عليه فيما بعد، فحينئذ يصير الربح مجهولاً، فإذا صار الربح مجهولاً فسد القراض؛ لكن المشكلة أن الرجل اشترى العشر سيارات، وأتم الصفقة وأصبحت قيمة السيارات مائتي ألف، وبعد بيعها وأخْذِ المائتي ألف جاءوا يتصافون فاختلفوا، فلما اختلفوا ارتفعوا إلى القاضي، فالقاضي يحكم بفساد الشرط وفساد العقد، وحينئذ ننظر أجرة العامل، فنقول لأهل الخبرة: من اشترى عشر سيارات وباعها كم تعطونه؟ فإذا قالوا: نعطيه عن كل سيارة ألفين، فحينئذ يكون استحقاق العامل عشرين ألف ريال، فيأخذ من المائتي ألف عشرين ألف ريال، وتكون مائةٌ وثمانون ألفاً ملكاً لرب المال؛ لأن عقد القراض يبطل، فترجع إلى الإجارة، ومن عدل الشريعة إذا بطل عقد القراض ينظر إلى تعب العامل ويقدر، ففي بعض الأحيان -مثلاً- يشتري عشر سيارات، وإذا بالعشر سيارات كسدت وأصبحت قيمتها خمسين ألفاً، فخسر النصف. فلما جاء العامل يريد أن يرد المال لرب المال قال رب المال: أبداً لا أرغب، فارتفعوا إلى القاضي، فقضى القاضي بفساد القراض، وإذا فسد القراض يقول لرب المال: ادفع أيضاً عشرين ألفاً أجرة للعامل، فيخرج رب المال بثلاثين ألفاً؛ لأنه غرر بنفسه، فلا يستحق إلا ثلاثين ألفاً، والعامل يأخذ عشرين ألفاً لقاء تعبه؛ لأنه استُخْدِم بعقد غير شرعي، فلا يستحق رب المال تعبه على هذا الوجه. وبناءً على هذا إذا قلنا: إن العقد يفسد؛ فيعطى العامل أجرة المثل. وإذا قلنا: العقد يبقى صحيحاً فيُقسم الربح بينهما على ما شرطا، ويُلغى الشرط الفاسد فقط. هذا الفرق بين قولهم: أنه إذا اشترط على وجه يوجب فساد العقد رجعنا إلى الإجارة. وإن اشترط على وجه يفسد فيه الشرط، ويبقى فيه العقد صحيحاً، قلنا: تبقى القسمة على ما اتفقا عليه من الربح ويلغى الشرط وحده فقط.

إذا اختلف الشريكان في المضاربة قدم قول العامل

إذا اختلف الشريكان في المضاربة قدم قول العامل قال: [وإن اختلفا لمن الشروط: فلِعاملٍ، وكذا مساقاةٌ ومزارعةٌ]: قوله: (وإن اختلفا: لمن الشروط؟ فلِعاملٍ): يعني: القول قول العامل؛ لأنه مدعىً عليه، وقد قررنا هذه المسألة وقلنا: إنها من مسائل القضاء في الدعاوى: هل القولُ قولُ ربِّ المال؟ أو قولُ العامل؟ يكون القول قول العامل، وفي بعض الأحيان يكون القول قول رب المال، وإن كان القول للعامل على الأغلب؛ لأنه يكون مدعىً عليه غالباً، فلو قال له: اشترطت عليك كذا، فقال: لم تشترط، فالأصل عدم الاشتراط. وبناءً على ذلك: يكون العاملُ المدعى عليه فيُطالَب رب المال بالبينة، فنقول له: أحضر شهوداً على أنك اشترطت. فإذا أحضر الشهود حكمنا بقول رب المال. وإذا لم يكن عنده شهود، قلنا للعامل: احلف اليمين، (ليس لك إلا يمينه) وهذا الأصل في القضاء -كما ذكرنا- أن المدعى عليه مطالب باليمين. والمدعى عليه باليمينِ في عجز مُدَّعٍ عن التبيين فإذا عجز المدعي عن إقامة البينة، فإن المدعى عليه يُطالب باليمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: (ليس لك إلا يمينه. قال: يا رسول الله! الرجل فاجر يحلف ولا يبالي! قال عليه الصلاة والسلام: ليس لك إلا يمينه). قال: [وكذا مساقاةٌ ومزارعةٌ]: وكذا الحكم في المساقاة وستأتي، وكذا الحكم في المزارعة، أنه إذا اختلف رب الأرض مع عامل المُساقاة، واختلف مع من أخذ الأرض مُزارَعةً، فالقول قول العامل، وليس بقول رب المال، وسيأتي -إن شاء الله- بيان هذه المسائل في المساقاة والمزارعة.

الأسئلة

الأسئلة

الضمان في المضاربة

الضمان في المضاربة Q أَشْكلَ عليَّ في قصة عبد الله وعبيد الله ابني عمر رضي الله عنهم أجمعين، قولُ عبيد الله لـ عمر؛ أنهم لو خسروا لضمنوا، مع أن المضاربة إذا خسر فيها العامل ولم يفرط لم يضمن! نرجو التوضيح. A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه. أما بعد: فلله درك من سائل! ولا شك أنه إشكال في محله، ولذلك إذا نظرت أن عبيد الله وعبد الله كانا ضامنين للمال، والأصل يقتضي أن المضارب لا يضمن؛ لكن الصحابة قالوا: (اجعله يا أمير المؤمنين! قراضاً) من جهة الربح؛ لأن العقد في الأصل لم يقع على أنه عقد قراض. والمشكلة في هذه القضية: أن عمر رضي الله عنه رأى الشبهة في تخصيصهم بالمصلحة، فقال: (أنْ كنتما ابنَي أمير المؤمنين؟ أديا المال). إذاً: من حيث اعتراض عمر في الأصل له وجهه؛ لكن الإشكال في يد الضمان التي اعترض بها عبيد الله. والحل في المناصفة في الربح تأتي على وجهين، يعني: تنصيف عمر للربح على وجهين: إما أن تقول: إنه صلح، شُبِّه بالقراض من جهة دخول رب المال مع العامل بالمشاركة، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس، وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم اختاروا هذا الجواب، لقول الصحابة: (اجعله قراضاً)؛ لأن الخلاف في الربح، هل كله يكون لبيت المال، أو كله يكون لـ عبد الله وعبيد الله؟ فالأصل يقتضي أن كله يكون لـ عبد الله وعبيد الله من جهة تحمل الخسارة؛ لكن من جهة تميزهم واختصاصهم بهذا الفضل يقتضي أن يكون لبيت مال المسلمين. وبناءً على ذلك: يكون عمل عبد الله وعبيد الله في مالٍ لا يُملك، يعني: أن أبا موسى ليس له الحق أن يمكلهما ويخولهما، فأصبحت يد عبيد الله وعبد الله على المال يد شبهة، وهي التي أدخلت عمر في الاعتراض، فحينئذ كأن قسم الربح بينهما أشبه بالصلح، والصلح يقع بغبن أحد الطرفين، ولذلك كأنهم لما قالوا: (اجعله قراضاً)، أي: اجعله على سَنن القراض فيما أُشْكِل، وهو الربح، لا تجعله قراضاً من حيث الأصل، وهذا فيه فرق، فكونك تجعله قراضاً من حيث الأصل وتجعله قراضاً من حيث الربح، فالخلاف في الربح. ولذلك فهذا هو الذي تطمئن إليه النفس. فهذا إشكال من أبدع ما يكون وما يفقه له إلا القليل، وأذكر مَن كان مِن بعض مشايخنا رحمة الله عليهم لما اعترض عليه بعض طلابه بهذا قال له: لله درك! وأعجب؛ لأن هذا نوع من الدقة. فالأصل يقتضي أن الربح يكون بين الطرفين بشرط أن يكون رب المال ضامناً للمال؛ لكن عبيد الله اعترض هنا. هذا وجه. ووجه آخر: أن عبيد الله ضخم الأمر، فقال: (يا أمير المؤمنين! أرأيت لو خسرنا المال، أكنتَ تضمِّنَّا إياه؟)، من جهة تضخيم الأمر، يعني: أننا إذا فرطنا أو تساهلنا في المال فإنك تضمِّنَّا. وبناءً على ذلك: كأن عبيد الله يريد أن يقول له: ليس من حقك أن يكون الربح كله لك، ولنا نوع من المسئولية أو تحمل مسئولية الضمان، لا أنه ضامن لكل المال. وهذا الوجه الثاني -في الحقيقة- مرجوح، والوجه الأول أقوى؛ أنه صلح، والصلح دائماً يُظلم فيه أحد الطرفين -كما هو معلوم- كما لو اختصم رجلان في عين، فالغالب إذا حدث الصلح أن يكون صاحب المال الأصلي مستضراً بالصلح؛ لأن الصلح يكون فيه نوع من التنازل عن بعض الحق، وعلى هذا قالوا: جرى صلحاً، وأجري على سَنن القراض، لا أنه قراض من كل وجه. والله تعالى أعلم. اللهم لك الحمد، ما دام أن في طلاب العلم كهذا؛ لأن مسائل الفقه -في الحقيقة- لابد أن يوجد من طلاب العلم وأهل العلم مَن عنده نوع من الدقة فيها، فالفقه فلا يمكن لطالب العلم أن يتقن باب المعاملات إلا إذا ربط الفقه بعضه ببعض، ولن تستطيع أن تجد أهمية فقه المعاملات إلا حينما تنظر لأبواب المعاملات مرتبطةً بعضُها ببعض {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} [الأعراف:52]، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام:115]، من التمام أن الشريعة كالبناء المُحكم. فتجد أصول الشريعة وأصول العلماء في مسائل البيوع أصولاً مترابطة متناسقة تامة، وهذا الفرق بين فقه السلف وفقه الخلف، فقد تجد بعض المتأخرين يأتي وينظر لمسألة القراض، لا يبحث إلا في مسألة القراض؛ لكن هل قرأ الفقه على عالِم بحيث يعرف كيف تُرْبَط الأبواب بعضها ببعض؟ هل قرأ الفقه على سبيل التأصيل المعروف عند الأولين حتى يعرف وجهة نظر العالم إذا قال بالحُرمة رعايةً لأصل عام في الشركات، أو رعايةً لأصل عام في شركة الأموال؟ هل قرأ هذه الأصول أو لم يقرأها؟ فإذا لم يقرأها وجاءه قول يربط هذه الأصول بعضها ببعض ربما استخف بهذا القول، وظن أن هذا القول مرجوح، دون أن يفقه علته، ويعلم أصله، فإذا ضُبِطَت الأصول في الأبواب أصبح طالب العلم دقيقاً. الآن -مثلاً- نحن مرت علينا القصة، قالوا: يا أمير المؤمنين! اجعله قراضاً، فتجد طالب العلم يسأل: طيب! القراض ما حقيقته؟ وهذا هو الذي نفتقر إليه اليوم، إذا جاءك أي شخص وقال لك: هذه المضاربة شرعية، أو مرابحة، أو مواضعة، أو تولية، تسأل: ما هي حقيقة المرابحة في الشرع؟ والذي ضرنا اليوم: أننا نريد فقط اسم الإسلام لنعلق عليه كل معاملة؛ مضاربة شرعية، مرابحة إسلامية. اذهب واقرأ في كتب سلفك: ما هي حقيقة المرابحة الشرعية التي اتفق العلماء عليها؟ وانظر في هذا الجديد الذي أُلحِق بذلك القديم، هل فعلاً تنطبق الصفات والأركان والشروط الموجودة في العقد القديم على هذا الجديد، أم أنه حُمِّل كلام العلماء ما لم يحتمل؟ ويأتي الشخص يفهم الشيء على حسب فهمه، ويفهم الباب على حسب ذوقه هو، بل وجدتُ مِن المتأخرين مَن يقول: لو تعارض عندي أصل يحرم وأصل يبيح في البيوع والمعاملات فإنني أتبع من يحلل، وهذا أصله بالاجتهاد أنه يبحث عمن يحلل، ولا يختلف عالم أن هذا النوع من الاجتهاد هو عين تتبع الرخص، الذي قال عنه العلماء: (من تتبع الرخص فقد تزندق). الشريعة فيها أصول محكمة، وسلفنا الصالح رحمة الله عليهم ما جاءوا بهذه المسائل مهدرة هكذا، إنما جاءت موزونة وبأصول صحيحة، فحَتْمٌ على كل طالب علم إذا أراد أن يتكلم في باب أو مسألة أن يردها إلى أصلها، وأن يعرف الأصول، وكان الوالد رحمة الله عليه يقول لي: (لن تستطيع أن تعرف فقه العالم إلا في باب المعاملات؛ لأن العبادات الأدلة فيها كثيرة، لكن الإشكال في المعاملات، قال لي: وإشكالُها في ربط الأصول بعضها ببعض، ولذلك تجد العالم -مثلاً- يقول: أغلِّب هنا شبهة الربح، ويقول: إعمال العقد أولى من إهماله، وأبقي العقد صحيحاً، وأقسم الربح) مع أنه يأتي في موضع ثانٍ من المعاملات ويغلِّب شبهة التحريم، ويلغي العقد، ويوجب فساده، فيتناقض في أصله، ولذلك لابد من التأصيل، ولابد لطالب العلم إذا قيل له: هذا قراض أن يسأل: ما هي حقيقة القراض؟ وإذا قيل له: هذا مرابحة أن يسأل: ما هي حقيقة المرابحة؟ حتى يكون على بصيرة وبينة من أمره. ونسأل الله العظيم أن يرزقنا ذلك. والله تعالى أعلم.

ضوابط وأصول عامة في العقود

ضوابط وأصول عامة في العقود Q ما الأمور التي ينبغي أن يتعاطاها من أراد الشراكة؟ وما صفات الشريك المسلم؟ A هذا السؤال يتعلق بباب الشركة كله؛ لكن هناك ضوابط وأصول عامة ينبغي التنبيه عليها في العقود مطلقاً، فمن أراد أن يشارك، أو أراد أن يبيع، أو أراد أن يتعامل في الإجارات أو العقارات فينبغي أن يسأل، وعليه أمور يجب أن يتعلمها: أولاً: الرجوع إلى العلماء: فقد أجمع العلماء على أنه يجب عليه الرجوع إلى العلماء، وأنه لا يجوز لأحد يتعامل بالشركات أو بالبيوع أن يأتي ويدخل إلى السوق ويفعل ما عنَّ له دون أن يسأل: هل هو حرام أو لا؟ ولا يجوز له أن يقدم على أي عقد حتى يسأل أهل العلم، وإلى الله المشتكى، حينما أصبحت الأمور تُعْرَف بالعُرْف، فالشيء المعروف هو الحلال، وحينئذ قَلَّ أن تجد من يسأل العالم، وقَلَّ أن تجد من يستشير أهل العلم أو يرجع إلى أهل العلم. ووالله إن القلوب لتتقرح حينما تجد التاجر إذا أراد أن يقيم أي صفقة أو أي عمل فإنه يبحث: مَن هو الخبير؟ ومَن الذي عنده معرفة؟ ومَن هو الذي يستشار؟ فأخذ يقلب في المستشارين ومَن يسألهم، ولا يمكن أن يجول بخاطره أن يسأل عالماً، أو يبحث عن حكم هذا؛ أحَلَّهُ اللهُ أو حَرَّمَه؟ وهذا من غربة الإسلام: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ). وكان العلماء يُقَدَّرون من الناس، وكان الرجل -ووالله إني أعرف أناساً في المدينة من كبار السن وأهل الفضل- لا يمكن أن يتعامل بأي معاملة في دكانه أو محله حتى يسأل العلماء، حتى إنه بعد وفاة الوالد رحمة الله عليه كنت أجالس البعض فيقول: سألت الشيخ عن مسألة كذا، وتكون المسألة غريبة، فوالله إنا كنا نستفيدها من العوام الذين ليس لهم إلمام بدقائق المسائل؛ لكنه سأل عن هذه المسألة العالِمَ فأفتاه فيها، فانتفع طلاب العلم بفتواه. وكانوا لا يقدمون ولا يؤخرون إلا بسؤال العلماء؛ ولذلك وضع الله لهم البركة والخير والرزق، حتى إن الرجل تجده في تجارته منذ أربعين أو خمسين سنة ناعم البال، مطمئن النفس، ولا تجد عنده القلق ولا الهوس ولا التعب ولا الاكتئاب ولا المصائب؛ لأنه لم يعرض عن الله، وكانت خطواته في تجارته مدروسةً بحكمة، مقرونة بسئوال أهل العلم والبصيرة، فبارك الله عمله وماله، هذا غير ما يكون منه من الصدقات والإحسان. أما اليوم فقَلَّ أن تجد من يسأل عالماً، والبعض إذا أراد أن يسأل العلماء تَتَبَّعَ مَن يسأل، وعَرَف مَن الذي يرخِّص، ومَن الذي يشدِّد، ومَن الذي يكون بين بين. فإذا اشتهى أمراً مخفَّفاً سأل عمَن يخفف له، حتى يجعله بينه وبين ربه، ليحمل -واليعاذ بالله- وزره يوم لقاء الله، والله لا يخطئ، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما للسائل لما سأله: (إن الله لا يخادع). فالله مطلع على الضمائر والسرائر. فتجده لا يحسن اختيار العالِمَ الذي يسأله، أما إذا أراد أن يبحث عن مستشار في ذوي الخبرة يستشيره في أمور المال أخذ يقلب في سيرته حتى يعرف أنه أهل للسؤال، لكن يتهاون في سؤال العلماء، فقد يأخذ الفتوى من كاتب عنده في تجارته؛ لأن الدين عنده رخيص. والشخص إذا لم يكن عنده خوف من الله سبحانه وتعالى ومراقبة واستشعار أن هذا المال سيُسأل عنه قليله وكثيره، وأنه لن تزول قدماه بين يدي الله -عزَّ وجلَّ- حتى يُسأل: هل أحل الله له هذا المال الذي أخذ، أو حرمه عليه؟ فإذا أصبح يستشعر أنه مسئول بين يدي الله، لربما وجدت العالم يفتيه بالرخصة فلا يقبلها خوفاً من الله سبحانه وتعالى. والعكس بالعكس، فتجده إذا أراد السؤال عن الأمور الدنيوية لا يسأل أحداً من أهل العلم، لا يسأل إلا أهل الثقة، ولا يستشير إلا من يؤتمن، ويتعب في السؤال، ولربما يسافر إلى أماكن بعيدة، كل ذلك من أجل أن يكون على بينة في تجارته، هذا لحظ الدنيا، {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16 - 17] وإذا جاء ليسأل ربما دعا العالِمَ أن يأتيه، وهذه من العزة التي أصبح يعتز بها الناس على العلماء، وقَلَّ أن تجد إنساناً كبيراً أو عظيماً يرضى لنفسه أن يقف على باب العالِم أو يسأله، وأغرب من هذا أنه يطلبه أن يأتيه مع أنه هو صاحب الحاجة، ولا يجد من نفسه أن يذهب ويسأل، وإذا أراد أن يسأل عالماً بعث من يسأل، وقال لعامل من عماله، أو عامل في مكتبه، ولربما يكون من أبسط الناس: اذهب واسأل لي فلاناً، ولا تقل له أني أرسلتك، فكل ذلك اعتزاز على العالم. وهذا هو الواقع المر الذي نعيشه، ولما حُرِم الناسُ تقدير العلماء نزع الله البركة من حياتهم، فأصبحوا في الهم والقلق والاكتئاب، والمصائب والحوادث، والنكسات والفجائع، لما أعرضوا عن الله، فليس بين الناس وبين الله حسب ولا نسب، وإنما بينهم هذا الدين، وصفوة الله من خلقه لهذا الدين العلماءُ. فإذا أردت أن ترى عزة الإنسان فانظر إليه مع أهل العلم، فإذا نظر إلى أهل العلم أنهم مؤتَمَنون على دين الله فقدَّرهم وأجلَّهم رفع الله شأنه، حتى قيل في صلاح الدين الأيوبي، وكم من أناس كانوا لهم فضل من قواد المسلمين ممن كان لهم عظيم البلاء؛ لكن هذا القائد جعل الله له من المحبة والقبول ما الله به عليم، فلو قرأت في سيرته لوجدت أن مجلسه لا يكون إلا بالعلماء، وكان لا يجلس المجلس ولا يبرم الأمر حتى يكون في مجلسه ما لا يقل عن عشرين عالماً يسأله. ومن عرف فضلهم فإن الله عزَّ وجلَّ يتأذن له بالمحبة والقبول، واقرأ في سير الناس فلن تجد تاجراً وضع تجارته بين يدي العلماء، فأصبح يتقدم إذا قيل له: تقدم، ويتأخر إذا قيل له: أحجم وتأخر، إلا بارك الله في رزقة، وبارك له في تجارته، ووضع الله له من المحبة بين الناس والتقدير على قدر ما جعل الله في قلبه من المحبة لأهل العلم. وهذه سنة من الله، من عرفها فقد عرفها، ومن لم يعرفها فسيعرفها. والعجب: أن بعضهم إذا ذهب إلى العالم ليسأله، أو إذا جلس في مجلس العالم يسأل تجده يعتز بنفسه أن يُشْعِر العالم أنه محتاج لعلمه، وهذا مَرَّ ورأيناه، وإن كان الواجب عليك كطالب علم لَمَّا ترى مثل هذه النوعية تزجره وتُشْعِره أنه يسأل ليعلم وليس أهلاً لأن يناقِش أو يعترض، فتجد البعض ممن يسأل -وهذا مَرَّ بنا كثيراً- يقول لك: عندي مسألة قد سمعتُ من يحرمها؛ ولكن في رأيي ليس فيها شيء ويعطيك الجواب قبل أن يسأل، ويعطيك الخلاصة قبل أن يستشكل ويستفتي، ولم يعد هناك تقدير لأهل العلم، ولا شعور بالحاجة إلى أهل العلم. وموسى عليه السلام يقول: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:66]، هل أتبعك؟ العلم لا يؤتى بالتكبر، وأهل العلم إذا تعالينا عليهم تعاظمنا على الدين؛ لأن العالم صاحب رسالة وأمانة، يحمل في قلبه كتاب الله وفي صدره سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويحمل هذا النور والعلم، وكم من إنسان يكون من أذكى خلق الله ولا يستطيع أن يحفظ آية، ويقول: أتمنى حفظ القرآن ولا يُبَلَّغ، فمَن الذي وفق ذاك للحفظ وفتح عليه، وجعل صدره آيات بينات من العلم، وصرفه عن هذا مع أنه أذكى من ذاك العالِم؟ وإن الله يختار من يشاء. فمثل هؤلاء إذا أصبحنا نتعاظم ونتعالى عليهم حرمنا البركة، وإذا جاء الغني والتاجر وصاحب الشركة يسأل وكأنه يريد أن يفرض رأيه، ويريد أن يفرض ما يريد من التحليل، فحينئذ تذهب كرامة العلماء، ويصبح العلم أشبه بأنه آراء. ولذلك أصبح العلم في زماننا في كثير من الأحوال -إلا من رحم الله- إذا عرض للعامة يُعرض كرأي من الآراء، ولربما تُطرح القضية الدينية التي -والله- لو عُرضت على عالم من علماء السلف لجثا على ركبتيه خوفاً من الله أن يتكلم فيها، تُطرح للعامة، وكل يُدلي برأيه، فلربما تأتي مسألة موت الدماغ؛ هل هو موت أو لا؟ فيُستفتَى فيها كل أحد، ولربما تُنشر لكل أحد، ويؤخذ فيها رأي كل أحد؛ ولكن بين يدي الله عزَّ وجلَّ سيكون الموعد، ويعرف الناس فضل أهل العلم، وما أوجب الله عليهم من الرجوع إلى العلماء، وعندها يعرف الإنسان قيمة نفسه وقيمة غيره. فينبغي الرجوع إلى العلماء، وإشعار العلماء عند السؤال أنهم علماء وأنهم أمناء على دين الله، نسألهم بكل ذلة، وليست لهم بذاتهم وإنما لله، ونقول: أجبني! فإنه قد أشكل عليَّ الأمر، بصِّرني! جزاك الله خيراً، ونحو ذلك، فالعلماء لا يريدون بذلك إلا النفع والحق. فينبغي على المسلم الرجوع إلى العلماء وسؤالهم، واستفتائهم بالصورة التي تليق بحرمة العلماء، وتليق بمن يبحث عن الحق. ثانياً: التسليم: فلا ينبغي لأحد يقول له أحدٌ: قال الله، قال رسوله، إلا أن يقول: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]، فلا يقول: رأيي، وفي نظري، وفي اجتهادي، وعلى طلاب العلم أن يزجروا أمثال هؤلاء السفهاء، وأن يقولوا لهم: دين الله ليس فيه مجال للرأي، وشريعة الله عزَّ وجلَّ ليس لكل أحد أن يقول فيها برأيه، ولذلك قال أبو الدرداء: (عذيري من رجل أقول له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول لي: ما أرى بهذا بأساً، والله لا أصحبك ليلة واحدة)، وترك معاوية رضي الله عنه بالشام حينما قال له حديثاً من رسول الله، فقال معاوية رضي الله عنه: (ما أرى بهذا بأساً، فقال له: والله لا أصحبك ليلة واحدة، ورجع إلى عمر وقال له المقالة، فقال له: ارجع إلى ثغرك فوالله لا خير في قوم لا تكون فيهم). كانت عنده الغَيرة على الكتاب والسنة. فينبغي علينا التسليم بعد الحكم. ثالثاً: الاستيثاق: فإذا جئنا نطرح المسألة للعلماء نطرحها بأمانة، فلا يطرح السائل المسألة وقد خفيت جوانب منها، ولا يحاول أن يحوِّر المسألة بطريقة ذكية تجعل العالِم يقتنع بجوازها، وبالتفصيل فيها، فعليه أن يتقي الله، وأن يطرح الأمر بكل أمانة، فإنه إن فعل ذلك وفق للرشد، وألهم الصواب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

باب الشركة [5]

شرح زاد المستقنع - باب الشركة [5] لقد اعتنى الشارع الحكيم بالعقود ووضح أحكامها، لتتحقق الغاية والمقصود منها، فمثلاً: في شركة المضاربة ألزم الشارع المضارب ألا يدخل مضاربة جديدة تضر بمال الأول إلا بإذنه، وفي شركة الوجوه بين الشارع أن هذه الشركة قائمة على الذمة، يلتزم فيها الشريكان بما أخذا من أموال الناس، ويتقاسمان الربح بينهما على ما اتفقا في عقد الشراكة.

حكم مضاربة العامل لشخصين فأكثر

حكم مضاربة العامل لشخصين فأكثر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [ولا يضارب بمال لآخر إن أضر الأول ولم يرض] فقد شرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان ما يجب على العامل في عقد المضاربة. فإذا اتفق شخصان على عقد مضاربة، فقال أحدهما لآخر: هذه مائة ألف اضرب بها في الأرض، والربح بيني وبينك مناصفةً، وقال الآخر: قبلتُ، فالواجب على العامل ألَّا يلتزم بمضاربة أخرى لشخص آخر. والسبب في هذا أنه يضر بمصالح الأول في أغلب الأحوال؛ لأنك إذا أعطيت المال إلى مضارب وعامل؛ فإنه إذا تمحض لك بالعمل كان ذلك أدعى للإتقان، وكان ذلك أغلب للربح، وأكثر نماءً، وحينئذ إذا تدخل مضارب آخر أو صاحب مال آخر، فإنه يضر بمصالحه، فإن العامل إذا تفرغ لك أمكنه أن ينصح ويقوم بأعباء العمل بقوة أكثر مما إذا كان بين شخصين أو أكثر من شخصين، ولذلك من حيث الأصل لا يضارب غيرك؛ لكن بعض العلماء يقول: يُشترط أن يوجد الضرر، فإذا وُجد ضرر على صاحب المال الأول، فإنه لا يجوز له أن يضارب، وأما إذا لم يوجد الضرر فيجوز له أن يضارب. تفصيل ذلك: قالوا: إنه ربما أخذ مبلغاً يسيراً في المضاربة الأولى، فضارب -مثلاً- بألفين، وهذان الألفان أخذ بهما تجارة أو أخذ بهما عروضاً كثياب -مثلاً-، وهذه الثياب يقوم ببيعها في ساعتين في أول النهار، فهذا الذي يتيسر في عرضها، فإنه يبقى بقية اليوم بدون عمل، فإذا ضارب شخصاً آخر ولم يضر بمصالح الأول، جاز له أن يضاربهما معاً، فيضارب بمال الأول، ويضارب بمال الثاني، والربح يأخذه من الأول، ويأخذه من الثاني. قالوا: وإذا لم يكن هناك ضرر، جاز له أن يضارب شخصين أو أكثر من شخصين. فأصبح فقه المسألة يدور على القاعدة المعروفة: (الضرر يُزال). وتوضيح ذلك: أن عقد المضاربة بينك وبين العامل يستلزم أن ينصح لك وألَّا يضر بمصالحك، فكل عقد يدخله على العقد الذي بينك وبينه يضر بالمصالح المترتبة على العقد بينكما من حقك أن تعترض عليه، فلا يجوز له أن يعقد بين ربي المال أو ثلاثة أو أربعة مضاربة من هذا الوجه، فأصول الشريعة تقتضي دفع الضرر. قالوا: فإذا وقع العقد بينه وبين شخص فمعناه أنه يبذل جميع الأسباب لما يعين على الربح والخير للمضارب الأول، فدخول المضارب الثاني والثالث يؤثر على المضاربة؛ لكن ذكرنا أنه لو ضارب بمبلغ يسير، كألفين أو ثلاثة آلاف، في شيء يمكنه أن يتفرغ بعده، كأن يكون -مثلاً- اشترى سيارة بألفين، وصار يضارب بها يريد أن يبيعها، فلربما يجلس أكثر النهار بدون عمل، فضارب شخصاً آخر بألفين أخرى بسيارة ثانية دون أن يستضر الأول، صح ذلك وجاز. إذاً: فمدار المسألة على الضرر، والقاعدة في الشريعة: أن (الضرر يُزال)، فالعقد بينكما على أن ينصح كل منكما للآخر، فلا يدخل عقد على عقد على وجه يوجب الضرر على العقد الأول؛ لكن لو كانت المضاربة -مثلاً-: أعطيتَه مائة ألف ريال، وقلت له: اضرب بها في الأرض، فاشتر بها قماشاً أو اشتر بها سيارات، وهذا القماش أو هذه السيارات أو أي عرض اشتراه يستلزم منه أن يكون أكثر اليوم معه، وأن يكون محافظاً عليه، مراقباً لسوقه، ويستلزم العمل أن يكون فيه أغلب اليوم، أو أكثر اليوم بحيث لا يتفرغ لعمل آخر، ففي هذه الصورة لو أعطيته مالاً كثيراً أو كان المضارب الأول قد ضاربه بمال كبير يستلزم الفراغ الأكثر، ودخل المضارب الثاني، فإن دخول المضارب الثاني لا يُشك أنه ضرر على الأول، وسيؤثر على الربح، وسيؤثر أيضاً على المصالح، فقد تكون بعض التجارات إذا تفرغ لها العامل أتقنها وحصَّل الربح الأكثر؛ لكن لو أدخل مضارباً ثانياً وزاحم الأول فانقسم العامل في عمله بين عملين، فأصبح في هذه الحالة لا يستطيع أن يقوم في المضاربة الأولى على الوجه الأتم الأكمل فحصل الضرر، فإما أن يحصل الضرر في نقص الربح، وإما أن يحصل الضرر في حصول الخسارة. مثال نقص الربح: مثلاً: هذا العامل إذا جلس في المحل أمكنه أن يصرف البضاعة بين ثلاثة أنواع من الربح: - ربح (100 %). - و (75 %). - و (50 %). فيأتي ويقول: هذه السلعة بمائة، فإن كاسره المشتري إلى خمس وسبعين أو إلى ثمانين باعَ؛ لكن لو وكَّل عاملاً لا يستطيع أن يقول له -مثلاً- قد يحدد له إلى ثمانين، فالمكاسر والمشتري ربما يريد بخمس وسبعين مع أن مصلحة المضاربة بخمس وسبعين، فحينئذ يتضرر غيابه عن العمل؛ لأنه سيترك العمل ويذهب إلى العمل الآخر. فشتات العامل بين مضاربَين فأكثر يضر بمصلحة المضارب الأول. ومن هنا قالوا: إذا رضي المضارب الأول وقال له: أسمحُ لك أن تعمل مع غيري، أذنتُ لك أن تجمع بين مضاربتي ومضاربة فلان، فلا بأس، فهو حين يأذن فمعنى ذلك أنه رضي بسقوط حقه، والحق مشترك بينهما، فجاز للعامل ولرب المال أن يتفقا على هذا الوجه المعروف. لكن لو أنه ضارب من ورائه، فحينئذ ننظر إن اشتملت المضاربة الثانية على الضرر على المضاربة الأولى كرجل أعطى عاملاً مائة ألف، واستلزمت البضائع والعروض وجود العامل أكثر الوقت وأغلب الوقت، فتشتت وأصبح وقته مشتتاً بين المضاربتين، فنقص ربحُ المضاربة الأولى واستضرت أو خسرت أو انكسرت، وربح في الثانية، ألزم بوضع الربح الذي كسبه في الثانية للمضاربة الأولى. فمثلاً: أخذ مائة ألف وضارب بها، ولو أنه تفرغ لربح خمسين ألفاً؛ ولكنه ربح أربعين ألفاً -مثلاً-، والضرر في هذا الربح العشرة آلاف، وكان سببها أنه اشتغل ساعات في آخر النهار ثم ضارب في الثانية، وفي المضاربة الثانية ضارب زيداً بعشرين ألفاً وربح مع العشرين عشرة، وأصبحت الثلاثين ألفاً خمسة آلاف له، وخمسة آلاف لصاحب المال، فتؤخذ الخمسة آلاف التي حازها العامل من المضاربة الثانية، وتضم في مال المضاربة الأولى، ليُجبر بها الخسران، ويرتفع بها الربح، وحينئذٍ تقسم بينهما؛ لأن هذا الوقت وهذا الجهد في الأصل مستحق للمضاربة الأولى وليس للمضاربة الثانية، فغُرِّم على هذا الوجه الذي اختاره غير واحد من أهل العلم رحمة الله عليهم. وحاصل الأمر: أنه لا يجوز للعامل أن يضارب إلا بإذن صاحب المال. فتتفرع على هذا مسائل: منها: الإجارة: فلو أن شخصاً استأجر أجيراً يعمل عنده بالشهر، فالواجب على الأجير ألَّا يعمل مع الغير، وهذا مثل ما يقع الآن، ربما تأتي إلى عامل يعمل أثناء عمله، وتقول له: احمل لي هذا المتاع، أو ضع لي هذا الشيء، فتلزمه بعمل آخر وتعطيه المال، فليس من حقه ذلك، ولا من حقك أن تتفق معه حتى ولو كان يكنس القمامة في الشارع، ليس من حقك؛ لأن هذا الوقت مستحق لغيرك، وقد أخذ عليه المال من غيرك، فإذا جئت تستغله في عمل وجب أن تستأذن رب العمل الأصلي في هذا الوقت؛ لأنك لن ترضى أن يكون عاملاً عندك، فيأتي شخص آخر ويكلفه بعمل في مدة عمله عندك، ولو لم يكن عنده عمل في هذه الساعة. مثال: لو وضعت عاملاً في مزرعة على أن يحرسها ويقوم على مصالحها، ففاضت له ثلاث ساعات بدون عمل، فجاء جارك وقال له: الثلاث ساعات التي تكون فيها بدون عمل تعال واعمل عندي فيها بثلاثين ريالاً أو بمائة ريال أو نحوها، فليس من حق الجار أن يفعل ذلك؛ لأن هذا الوقت كله مستحق لرب العمل الأول، سواءً كان كفيلاً له أو كان بينه وبينه عقد، فلا يجوز له ذلك، ومن هنا تخرَّج إذا التزم بعمل في المصلحة العامة، فإذا كان عاملاً في مصلحة عامة من بيت مال المسلمين، فإن أوقات فراغه بعد دوامه وعمله لراحته، فإذا التزم فيها بأعمال خاصة أو أعمال للغير جاء إلى عمله الأصلي منهكاً مرهقاً وأضر ذلك بمصلحته الأصلية. فإذاً: أي عمل يلتزم به شخص مع شخص آخر، وارتباطه بعمل ثانٍ مع هذا العمل يضر بمصلحة الأول، لا يجوز أن يعقد العقد الثاني إلا بإذن الأول؛ لأن أصول الشريعة دالة على أنه لا يجوز للمسلم أن يتعاطى أسباب الضرر، والعقود الشرعية شرطاها: ألَّا تتضمن الإضرار، فإذا تضمنت الإضرار مُنع منها؛ لأن العقد حينئذ يكون من باب التعاون على الإثم والعدوان، فالعاقد الثاني في العقد الثاني حينما تعاقد مع العامل اعتدى على العقد الأول، واعتدى على مصالحه، واعتدى على حقوق أخيه المسلم، فوجب ألَّا يفعل ذلك. ومن هنا لا يجوز للعامل أن يضارب شخصاً آخر. وإذا تقرر هذا فيَرِدُ الإشكال في مسألةٍ معاصِرة: منها: إذا دفع ماله في المصرف على أن المصرف يضارب بالمال. المشكلة أن المصرف يلتزم مع مئات الأشخاص، وحينئذ يرد السؤال، وتبقى المسألة قائمة وداخلة تحت هذا الأصل: إذا دفعت مائة ألف لمصرف إسلامي على أن يضارب بها، فهل من حقه أن يأخذ من غيرك؛ لأن هذا قد يضر بمصالحك؟ ولا شك أنه عند معاملته لشخص أو أشخاص معينين يكون أقدر على الربح مما لو كان عنده أكثر من شخص، ولذلك تحتاج هذه المسألة إلى بحث واجتهاد معاصر؛ لأنها مفرعة على الأصل الذي ذكرناه، فلا يجوز إذا عامل طرفاً من مصرف أو غيره أن يتعامل هذا المصرف مع الغير حتى يثبت هل من المصلحة أن يتعامل مع الشخص الثاني، أو ليس من المصلحة؟ ثم بعد ذلك تُقَرَّر المسألة وتُخَرَّج على الأصل الذي قرره العلماء رحمهم الله. قال رحمه الله: [فإن فعل رد حصته في الشركة]: قوله: (فإن فعل): أي تضارب مع الثاني. قال: (رد حصته في الشركة): وعلى هذا يتخرج أن العامل لو عمل عند شخص آخر غير كافله في وقت عمله عند كافله، وجب أن يرد المال إلى مَن كَفَلَه، ووجه ذلك: أن هذا الوقت -جهد العامل- قد اشتُري فيه، فأنت إذا أخذت عاملاً وتعاقدت معه شهراً كاملاً فمعناه أن ساعات الشهر كلها التي هي وقت العمل ووقت القيام بالمهمة تستحقها لمصالحك، فإذا قام وعاوض على هذا الوقت عند شخص آخر فأنت الذي تستحق هذا المال. وقد يقول قائل: العمل عمل العامل، فكيف آخذ المال منه؟ يتخرج هذا على أن الوقت والجهد مستحَق لرب العمل الأول، فأنت إذا استأجرت العامل شهراً في المزرعة، فمعناه أن ساعات الشهر بالمعروف التي يقوم فيها العامل كساعات النهار -مثلاً- لسقي المزرعة والقيام على مصالحها، فهذه الساعات قد اشتريتها من العامل، وجُهد العام

حكم المقاسمة بين الشريكين قبل تصفية الحقوق

حكم المقاسمة بين الشريكين قبل تصفية الحقوق قال رحمه الله: [ولا يُقْسَم مع بقاء العقد إلَّا باتفاقهما]: قوله: (ولا يُقْسَم): المال في المضاربة. (مع بقاء العقد): عقد المضاربة. (إلَّا باتفاقهما): أي: باتفاق الطرفين. صورة هذه المسألة: لو أعطاه عشرين ألفاً، وقال له: خذها، اضرب بها في الأرض وتاجر بها، فأخذها ووضعها في تجارة العطور -مثلاً-، وبعد شهور ربحت هذه العشرون ضعفها، وفي هذه الحالة لو أصبح المال -مثلاً- أربعين ألفاً: عشرون رأس المال، وعشرون ربحاً، فهذه العشرون التي هي ربح موجودة في أعيان، عشرةٌ منها نقدٌ وسيولةٌ، وعشرةٌ منها في المحل، فأصبح رأسُ مال المحل ثلاثين ألفاً، وعشرة آلاف سيولةً، فقال العامل لرب المال: يا فلان! لو أن هذه العشرة قسمناها بيننا بما اتفقنا عليه؟! الأصل الشرعي يقتضي أن المضاربة لا يُقْسَم فيها المال إلا بعد أن تصفى الحقوق، ويُرد رأس المال إلى رب المال، ثم يُجبر ما في المال من حقوق، وتُفك الرهونات وغير ذلك من الاستحقاقات من الديون وغيرها، ثم يُقْسَم بعد ذلك الربحُ؛ لكن لو أن الطرفين اتفقا على هذه العشرة آلاف أن يقسماها بينهما فحينئذ قال بعض العلماء: من حقهما ذلك؛ لأنه لو حصل انكسار فسيكون على الطرفين. وقال بعض العلماء: ليس من حقهما ذلك؛ لأن المضاربة لا زالت قائمة، فلربما حصل انكسار إلى درجة دخول الانكسار على رأس المال، صحيحٌ أنهما الاثنان أخذا العشرة آلاف مقاسمةً، فقد يكون هناك خسارة حتى تدخل على رأس المال، والخسارة التي تدخل على رأس المال لا حظ فيها على العامل، ولا يغرم فيها العامل، فقالوا: وفي هذه الحالة إذا حصلت القسمة قبل تصفية الحقوق ولم يجرِ على سنن المضاربة ففيه مخاطرة. وهذا القول لا شك أنه أورع وأحوط وأليق وألزم للأصل؛ أنه لا يقتسم ولو رضي الطرفان؛ لكن إذا أرادا أن يقتسما فيفسخان عقد المضاربة الأولى ويصفيانها ثم ينشئان مضاربة جديدة، أما والمضاربة الأولى قائمة، ففيه تغرير ومخاطرة على الوجه الذي ذكرناه.

صور الخسارة والانكسار في المضاربة

صور الخسارة والانكسار في المضاربة قال رحمه الله تعالى: [وإن تلف رأسُ المال أو بعضُه بعد التصرف أو خسر جُبر من الربح قبل قسمته أو تنضيضه]: إذا أعطى رجلٌ إلى آخر مالَه ليضارب به، فحصلت خسارة أو انكسار فهذا يكون على صور:

قبل الدخول في التجارة

قبل الدخول في التجارة الصورة الأولى: أن يعطيه المال فيشتري به العروض، وبمجرد شراء العروض تنزل أسعارها وينكسر سوقها قبل تصريفها وبيعها، فتصبح الخسارة والعروض قائمة. مثال ذلك: أعطاه -مثلاً- مليون ريال وقال له: اذهب وضارب بها. فقال: من المصلحة أن نضارب في السيارات. فاشترى عشر سيارات، كل سيارة بمائة ألف، فبمجرد ما اشترى العشر سيارات من هذا النوع كسد سوقُها، وأصبحت بنصف قيمتها، فحينئذ العين موجودة وهي السيارات، والخسارة محكوم بها قبل البيع والتصريف والتنضيض، والتنضيض: أن تباع السيارات ويُقصد النقد، فنَضَّ المالَ بمعنى: أن العروض تصفَّى بالنقدين إما الذهب وإما الفضة. ففي هذه الحالة: إذا حصلت الخسارة وقعت قبل الدخول في التجارة.

بعد الدخول في التجارة

بعد الدخول في التجارة والحالة الثانية: تكون الخسارة بعد الدخول في التجارة. وإذا كانت بعد الدخول في التجارة: فتارةً تكون الخسارة مباشرة: يعني: بمجرد دخوله وبيعه وشرائه تنكسر البضائع ويكسد السوق وتحصل الخسارة إما بانكسار بعض البضائع دون بعض، أو بانكسار كل البضائع. مثال الأول: أن يشتري طعاماً وقماشاً، فالطعام يربح، والقماش ينكسر على وجه يأخذ ربح الطعام وزيادة، فحينئذٍ تكون الخسارة في الأمرين. فإن كانت الخسارة والعروض قائمة والعقد على عرض معين، فحينئذٍ لا إشكال، ويكون الواجب كالآتي: يبيع هذه الأعيان ويجب على العامل أن يبيع، فلا يقول العامل: أنا ليس لي مصلحة في هذه المضاربة، بل إنها خسارة، وهو واثق أنه سيخسر؛ لأن العامل لا يأخذ شيئاً إلَّا إذا ربح، فإذا علم أن السيارات خسرت قد يعترض ويقول: لا أريد أن أبيعها؛ لأنه لا مصلحة لي في البيع، فيُلزم شرعاً بتصريف البضائع وبيعها وتنضيض المال، أي: رده بالنقدين، فلو قال له رب المال: بع السيارات، وامتنَع، أجبره القاضي على البيع، وألزمه بالجلوس في المحل وتصريف البضائع تصريفاً على الوجه المعروف ولا يضر برب المال من هذا الوجه؛ لأنه دخل على أساس أن يتحمل مسئولية المتاجرة، فيبيع ويشتري رابحاً وخاسراً. إذاً: في حالة شراء الأعيان إذا كان العامل امتنع عن بيعها بعد كسادها وخسارة سوقها، يُلزم شرعاً بذلك، فلو امتنع العامل امتناعاً كلياً، وقال: لا أبيع مهما كان الأمر، ومهما كلفني الأمر، فزجره القاضي ووعظه وخوفه بالله أن الأصل في العقد بينهما يحتم عليه ذلك، فإن قال: لا أبيع، وامتنع امتناعاً كلياً، في هذه الحالة يقيم القاضي شخصاً يبيع السلع ويبيع البضائع ويلزمه بدفع أجرة ذلك الشخص. إذاً: في حال الكساد والخسارة لو امتنع العامل وقال: لا مصلحة لي، ولا أبيع شيئاً فيه خسارة لا حظ لي فيه، وهذا سيأخذ مني شهوراً أو يأخذ مني وقتاً. نقول: ليس من حقك ذلك، بل إن أصل الاتفاق بينك وبين رب المال يحتم عليك أن تقوم بتصريف البضاعة كما اشتريتها، هذا بالنسبة لحال الأعيان. قد تحصل الخسارة بعد الدخول في البيع والشراء: وهذه تأتي على صورة، كأن يقوم صاحب المال ويعطي للمضارب مالاً كأن يعطيه مائة ألف ويتنوع في البضائع، وتحصل الخسارة كما ذكرنا، في بعض البضائع دون بعض، فتُجبر البضائع بعضُها ببعض، مثال ذلك: لو أعطاه مليوناً، فجعل نصف المليون في السيارات، ونصفها في الأراضي، فالنصف الذي في السيارات خسر النصف، فأصبحت السيارات تباع بمائتين وخمسين، والنصف الذي في الأراضي والعمائر والدور ربح مائتين وخمسين ألفاً فيُضم ربح هذا إلى خسارة ذاك، ونوجب على العامل رد المليون كاملةً إلى صاحب المال. ولا يقول: إنني ربحت في هذا فآخذ، أو خسرت في هذا ولا أتحمل، بل نقول: المال واحد، والمضاربة واحدة. لكن لو أنه قال له: هذه خمسمائة ألف ضارب بها، فدخل بها في الأراضي، ثم جاءه بخمسين ألفاً ثانية، فدخل بها في الطعام، فالتي في الأراضي خسرت، والتي في الطعام ربحت، على أنهما منفصلين كالشخصين، كان للعامل ربح الثانية، ورد المال الخاسر في العقار إلى رب المال، مثال ذلك: أعطاه مليوناً وقال له: هذه -مثلاً- خمسمائة ألف اضرب بها في الأرض، فذهب واشترى بها قطعتين من الأرض كل قطعة بمائتين وخمسين، فخسر في هاتين القطعتين، وأصبحتا تباعان بنصف القيمة، وأصبح المبلغ الذي تبقى من التجارة ومن المضاربة في الأراضي هو مائتان وخمسون، يعني: على نصف القيمة ورأس المال، فلو أنه وهو يتاجر في الأراضي أعطاه المائتين والخمسين الثانية، وقال: اضرب بها في تجارة أخرى، يعني: هذه عقدها منفصل عن عقد الأولى، فأخذ الخمسمائة ألف الثانية وضرب بها في الطعام -كما ذكرنا- فربح في الطعام ما يعادل مائتين وخمسين، فتصبح تجارة الطعام صفت على سبعمائة وخمسين ألفاً، خمسمائة رأس المال، ومائتان وخمسون الربح، فنقول: هذه المائتان والخمسون لا يُجبر بها كسر الأرض؛ لأن المضاربة الثانية خلاف المضاربة الأولى، كالمضاربة بين شخصين، ويكون حينئذٍ الربح في الثانية مستحقاً على ما اتفقا عليه، وللعامل حظه ونصيبه، ويرجع في مضاربة الأرض فيرد رأس المال ناقصاً نصفه، ويكون الغرم على رب المال وحده، هذا في حالة ما إذا انفصل عقدا المضاربة في حال الخسارة وحال الربح. إذاً: نقول: إذا أعطاه مال المضاربة مالاً واحداً بعقد واحد فلا إشكال، فلو ربح بعض هذا العقد وخسر البعض يوفق بين الكل وننظر النتيجة، هل فيها ربح أو خسارة؟ فإن كان فيها ربح قسم بينهما على ما اتفقا، وإن كان فيه خسارة فإنه يرد لرب المال ماله، وأما إذا أعطاه المال فجزَّأ، أي: أعطاه جزءاً مضاربةً ثم أنشأ مضاربة ثانية فحصل ربح في الأولى دون الثانية، أو العكس، لم يُجبر خسران هذه بربح تلك، فتكون كل مضاربة على ما اتفقا عليه. وعلى هذا يكون هناك عقدان للمضاربة، فما حصل فيه النماء والربح قسم الربح على ما اتفقا، وما حصل فيه الخسران رد فيه العامل المال إلى ربه، ولا يقسم الربح إلا بعد رد رأس المال. وبناءً على هذه المسألة تترتب مسائل، فنقول: أولاً: الأصل الشرعي يقتضي أن العامل لا يطالب بربح إلا بعد أن يصفى مال المضاربة، فتباع جميع الأعيان وهو تنضيض المال، فلا يأتِ عامل -مثلاً- أعطيتَه مليوناً فاشترى خمس عمائر، فأصبحت بخمسة ملايين، فيقول لك: أعطني ربحي الآن. فتقول له: لا. حتى تبيعها، وتحضر لي الخمسة ملايين، وبعد ذلك تأخذ حقك وآخذ حقي. فلا تحصل القسمة، ولا يطالب لا رب المال ولا العامل بشيء من الربح إلا بعد تنضيض المال، فنقول له: بِعِ المال، حتى ولو كان الآن رابحاً، فإنه يجب عليك البيع، ثم بعد البيع والتصفية، يكون الحكم كالآتي: فلو أنه أعطاه مليوناً على أن يضرب بها في تجارة الأطعمة، فدخل في هذه التجارة، وربح (100 %) وأصبح المليون مليونين، فلما جئنا ننظر إلى الأراضي التي هي للشريكين، وإلى السيارات، وإلى الطعام الموجود، وجدناه يعادل المليونين، فمعناه أن المضاربة ربحت مثلها، فلا نقول مباشرة: العامل له خمسمائة ألف، بل نبدأ ونقول: بِعْ هذه الأعيان. فتُباع الأراضي؛ لأنه لو أعطاه مليوناً يحتاج -مثلاً- إلى أرض يبني عليها لتجارةٍ ما، أو اشترى عمارةً، أو اشترى دكاكين يبيع فيها، أو استأجر، فنقول أول ما نقول: يجب تصفية المال برد الحقوق، فتُباع العقارات، وتباع وتصرف العروض من الأطعمة والأقمشة أو غيرها، وبعد تنضيض المال ووجود السيولة ننظر إلى الديون المستحقة على المضاربة، فتُسدد الديون، وتُفَك الرهون إذا كان هناك أعيان مرهونة، كسيارات ونحوها، وبعد فك الرهون ورد الحقوق وإعطاء الأجرة للعمال، وتصفية الحقوق كاملة، بعد هذا كله نقول: اقسم. فلا نقول -مثلاً-: لو أنه باع أعيان أو عروض الشركة -شركة المضاربة- بمليون والشركة في الأصل كانت بخمسائة ألف، فالخمسمائة ألف الزيادة لا تقسم إلا بعد معرفة الحقوق الواجبة، هل هناك حقوق وديون أو لا؟ فلو فرضنا -مثلاً- أن عندنا عشرة من العمال استغلهم هذا المضارب والعامل أثناء التجارة والعمل، وكل عامل له عشرة آلاف، فهذه خمسون ألفاً دَين على المضاربة، ولا يمكن أن نحكم بالقسمة حتى تسدد ديون العمال وتسدد فواتير وأجرة المحلات، وحينما يُسدد جميع الحقوق المستحقة على شركة المضاربة، بعد ذلك تكون الخطوة الثانية، وهي: رد رأس المال إلى ربه وصاحبه. فيُبدأ أول شيء برد رأس المال إلى صاحبه، فإذا كان دفع له مليوناً وربح مليوناً، نقول: ادفع أولاً المليون الأولى التي هي رأس المال إلى صاحبها، وبعد رد المليون إلى صاحبها يُقسم ما بقي وفَضَل عن رأس المال على الوجه الذي اتفقا عليه، إن كان مناصفةً فمناصفةً، وإن كان أثلاثاً فأثلاثاً، إلى آخره.

النوع الثالث: شركة الوجوه

النوع الثالث: شركة الوجوه قال رحمه الله: [فصلٌ: الثالث: شركة الوجوه]: النوع الثالث من أنواع الشركات: شركة الوجوه. والوجه والجاه معناهما واحد، فإن الإنسان إذا كان له مكانة عند الناس فإن تلك المكانة جاهٌ له من الله عزَّ وجلَّ وضعه له بين عباده، فالشخص يكون له الجاه بما جبله الله عزَّ وجلَّ عليه من الأخلاق الفاضلة، كالأمانة، والصدق والنصيحة ونحو ذلك من الأمور التي يضع الله بها القبول للعبد، فمن كان صادق اللسان، معروفاً بالأمانة والنزاهة فإن الله عزَّ وجلَّ يضع له هذا الجاه والقبول بين العباد. ولذلك يقول العلماء: إن هذه الشركة تقوم على الجاه وعلى الوجه، وتسمى هذه الشركة بـ (شركة الذمم)، والسبب في هذا أنها تقوم على الدَّين، والدَّين متعلق بذمة الشريكين، والذمة وصف اعتباري في الشخص قابل للالتزام والإلزام، فالشريكان يتفقان فيما بينهما على أن يأخذا من الناس سيولةً وأموالاً، ويعملا بهذه الأموال بمعرفتهما وخبرتهما، فما كان من المال المأخوذ فهو بينهما على ما اتفقا، وما بيع وحصل من الربح فهو بينهما على ما اتفقا. وبناءً على ذلك: فهذه الشركة يمكن تصنيفها في الصنف الذي ذكرناه، أن يكون المال من غير الشريكين، والعمل من الشريكين؛ لأن الشركة تنقسم إلى أنواع: النوع الأول: أن يكون المال والعمل من الشريكين، وهذا يشمل شركة العنان وشركة المفاوضة، فالمال من الطرفين، والعمل من الطرفين. النوع الثاني: أن يكون المال من أحدهما والعمل من الآخر، وهذا مثل شركة المضاربة والقراض. النوع الثالث: شركة الجاه، يكون المال من غيرهما والعمل منهما. فهما ليس عندهما سيولة ونقد، فيتفقان على ذهابهما للتجار، فهذا يأخذ خمسين ألفاً، وهذا يأخذ خمسين ألفاً، فأصبحت مائة ألف، أو يأخذان بضاعة بخمسين ألفاً بينهما مناصفةً، ثم هذه البضاعة يصرِّف هذا ما يستطيع، ويصرِّف هذا ما يستطيع، فيردان الخمسين ألفاً، ثم يقسمان الربح الناتج بعد ذلك، وهذا النوع من الشركة قد يتفق الطرفان فيه على نسبة متساوية، فتقول لشخص: أتفق أنا وأنت على أن نشتري العروض أو نأخذ العروض بجاهينا مناصفةً، فإذا قلتَ له: بجاهينا مناصفةً، معناه: أن أي شيء يشتريه تضمن نصف قيمته ويضمن هو النصف الآخر، وأي شيء تشتريه أنت فإنك تأخذ نصفه ويأخذ هو نصفه. مثال ذلك: لو اتفقتما على شركة الوجوه، وقلتَ له: أي شيء نشتريه فإنه بيننا مناصفةً، أو الربح بيننا مناصفة، فذهب واشترى سيارةًً، وهذه السيارة قيمتها مائة ألف، على أنها شركة فخمسون منها واجبة عليك تضمنها في ذمتك، وخمسون ألفاً واجبة عليه يضمنها في ذمته، فإذا اشترى هو بجاهه، وإذا اشتريت أنت بجاهك، فتتفقان وتقول له: أنا أتحمل نصف ما تشتري ونصف ما تأخذ والربح أيضاً بيننا مناصفةً، فحينئذٍ لا إشكال، وفي بعض الأحيان تقول له: أنا أتحمل ثلاثة أرباع، وأنت تتحمل الربع، فكل شيء تشتريه أو أشتريه ثلاثة أرباع قيمته ألتزم بها وربع قيمته تلتزم به أنت، والربح بيننا ثلاثة أرباعه لي وربعه لك، أو أي شيء تشتريه فأتحمل قيمة الثلثين، وتتحمل أنت قيمة الثلث، فلو أنك قلت له: أي شيء تشتريه بيني وبينك أثلاثاً ألتزم أنا بثلثيه، وتلتزم بثلثه، والربح بيننا أثلاثاً على حساب رأس المال، فذهب واشترى عوداً بثلاثمائة ألف ريال، فإنك تضمن مائتي ألف، ويضمن هو مائة ألف، فلما اشترى العود وتاجر به انكسرتما في التجارة، فأصبحت قيمة العود مائة وخمسين ألفاً، أي: بعتم العود بمائة وخمسين، فحينئذٍ بقي الدين عليكما الاثنان، أنت تغرم مائة ألف، وهو يغرم خمسين ألفاً؛ لأنك ضمنت الثلثين، وضمن هو الثلث، والمائة والخمسون المستحقة على الشركة تقسم أثلاثاً، فكل ثلث بخمسين ألفاً، فتضمن المائة ألف وهي الثلثان، ويضمن هو الخمسون ألفاً وهي الثلث. إذاً: فشركة الوجوه قائمة على الذمة، وهي وجوه من جهة أن الناس لا تعطي لك أموالها دَيناً إلا بالجاه،، والجاه سمعة الإنسان. فلا يمكن أن شخصاً يعطي شخصاً دَيناً إلا وهو يعرف منه الصدق والوفاء، وإذا عرف منه الصدق والوفاء حينئذٍ يعطيه مالاً؛ لأنه ليس هناك عاقل يعطي ماله لشخص يُعرَف بالكذب أو يُعرَف بالخيانة أو نحو ذلك من الأخلاق الرديئة والعياذ بالله. فإذا جئت تقول: هي شركة وجوه، تنظر إلى أنها لا يمكن أن تقع إلا إذا دفع الناس أموالهم، والناس لن تدفع المال إلا بناءً على الثقة، والثقة لم تكن إلا بالسمعة. إذاً: كأن الجاه والسمعة أساس في هذه الشركة، فرأس المال وهو العَرَض الذي عليه قامت الشركة افتقر إلى جاه وسمعة، فصارت شركة جاه وسمعة. وإذا جئتَ تنظر إلى كون الشريكين التزما بالدَّين الذي يترتب على كون أحدهما أخذه، تقول: هي شركة ذمة؛ لأن كلاً منهما التزم في ذمته أن يدفع قدر حصته، فصارت شركة وجوه، وصارت شركة جاهٍ، وصارت شركة ذمة، فيسميها بعض العلماء بـ (شركة الوجوه)، وهذا أشهر أسمائها، ويسميها بعضهم بـ (شركة الذمم)، والمعنى -كما ذكرنا- واحد. كأن يشتركا في الأقمشة أو الأراضي، فلو كان الاثنان معروفين بالخبرة في تجارة الأراضي والعقار، فقالا: نشتري الأراضي ونبيع فيهما، فما كان من ربح فبيننا مناصفة، وما كان من غُرم لرأس المال لأخذ الأراضي من الناس فبيننا مناصفة، فأي عمارة أو أي مزرعة أو أي أرض أو مخطط يُشترى فبينهما على ما اتفقا عليه غُرْماً وغُنْماًَ.

اشتراط الشراء بذمة الشريكين في شركة الوجوه

اشتراط الشراء بذمة الشريكين في شركة الوجوه قال رحمه الله: [أن يشتريا في ذمتيهما بجاهيهما فما ربحا فبينهما]: (أن يشتريا في ذمتيهما بجاهيهما): إذاً: الشرط الأول: أن يشتريا في ذمتيهما. الذمة -كما قلنا- وصف اعتباري؛ لأنه ليس من قبيل المحسوسات، إنما هو من المعنويات، فهو لا يُرى ولا يُلمس، وإنما هو من المعنويات، فتقول: في ذمتي لك ألف ريال، والذمة لا نراها، وليست بشيء محسوس، وإنما هو وصف اعتباري مقدرٌ قيامُه بالإنسان قيامَ الأوصاف المحسوسة في موصوفاتها، فتقول: في ذمتي ألف، عليك ألف في ذمتك، هذا كله وصف اعتباري. إذا قلنا: في ذمتنا، أي: ذمة الشريكين، فخرج من الشركة ما لو اتفقت مع شخص على أن تشتري على ذمة الشركة، فلو أنك اتفقت معي على أن نشتري بذمتنا والربح بيننا مناصفةً فذهبت أثناء الشركة واشتريت ثلاجة لبيتك؛ لكن على ذمتك، فلا تدخل في الشركة. إذاً: لابد في الشركة أن يشترى الشيء على ذمة الشريكين، أما لو اشتُرِي على ذمة أحدهما لم يدخل في الشركة، ولا تقع الشراكة إلا إذا وقع الشيء أو اشتُرِي على ذمة الشركة وقلنا: (في ذمتيهما)، الظرفية هنا: قد تكون الذمم متساوية، كأن تقول: أي شيء تشتريه فإني ألتزم بنصف قيمته، وأي شيء أشتريه تلتزم بنصف قيمته، فذمته لك وذمتك له مناصفةً، أو -كما ذكرنا- تكون مختلفة، أحدهما يلتزم بالثلثين والآخر يلتزم بالثلث أحدهما يلتزم بثلاثة أرباع، والآخر يلتزم بالربع، تقول له: أنا طاقتي في حدود الربع، فإذا خسرت الشركة أستطيع أن ألتزم بالربع، ولا أستطيع أن أتحمل أكثر من الربع، لعدم وجود المال والسيولة عندي، أو أنت تنظر إلى حاله، فترى أنه فقير فتقول: لا أريد أن أغرر بك، وأحملك المسئولية؛ ولكن يمكن أن تتحمل معي الربع، ونحو ذلك من الأمور التي يتفق فيها الطرفان على اختلاف الذمة. إذاً: (في ذمتيهما): ذمة الشريكين، إما متساوية إن اتفقا على المساواة، وإما متفاوتة على حسب الاتفاق.

صور الشراكة بالجاه

صور الشراكة بالجاه قال: [في ذمتيهما بجاهيهما]: (بجاهيهما): الجاه -كما ذكرنا- السمعة، ويقع هذا على صورتين: الصورة الأولى: أن يؤخذ من الشخص المال أو العَرَض بجاه أحدهما، على أنه في ذمة الشريكين. والصورة الثانية: أن يؤخذ بجاه الشريكين على ذمتيهما. مثال الأول: تقول: نتفق الآن على أن ما يُشْتَرى على ذمتينا، فقلتَ له: نريد أن نشتري سيارات، ووجدنا السيارات الطيبة التي لها سوق عند زيد من الناس يعرفك ولا يعرفني. إذاً: حينئذٍ الجاه الذي سيُعطى لقاءه المال، إنما هو جاه أحد الشريكين دون الآخر. فقوله: (بجاهيهما): يشمل ما إذا كانا معاً في تقبُّل السلع، أو كان أحدهما دون الآخر، فلو أن صاحب المعرض يعرفك ولا يعرفني فاشتريتَ السيارة على ذمتي وذمتك، فجاهك في السيارة كلها من ناحية البذل؛ لكن ذمتك في السيارة على الأصل في نصفها. مثلاً إذا كانت قيمة السيارة مائة ألف، وصاحب المعرض لا يعرف إلا أحد الشريكين، فإذا كان لا يعرف إلا أحد الشريكين، فلا يمكن أن ندخل جاهين، وإنما سندخل جاهاً واحداً، فاشترى السيارة بمائة ألف، فنقول: هذه السيارة اشتُريت بجاه أحدهما؛ ولكنها بذمة الطرفين، فتكون الذمة الأولى -وهي التي لصاحب الجاه الذي أعطيت السيارة له- في الخمسين ألفاً التي هي نصف قيمة السيارة أصلاً، فيتحملها الخمسين بالأصل، ويتحمل الخمسين الثانية كفالةً، فهو أصيل عن نفسه بجاهه، وكفيل عن صاحبه؛ لكن صاحب المعرض من حيث الأصل سيطالب من يعرفه، ولا يطالب من لا يعرفه، إلا إذا اتفقا في العقد عليهما معاً ويكون حينئذٍ كافلاً له، فهو مديون من وجه، وكفيل من وجه آخر. إذاً: (بجاهيهما): تشمل الصورة الأولى: أن يكون المال المدفوع والعَرَض المدفوع بجاه أحدهما مثلاً: جاءا يشتريان عمارة، فقال له: يا فلان! جاهي وجاهك على أن نشتري في الأراضي، وأي شيء تشتريه أو أشتريه فبيننا مناصفةً والربح بيننا مناصفةً، فجاءا إلى عمارة، ووجدا أن هذه العمارة تباع بمليون، ومن المصلحة أن يشتريا هذه العمارة ثم يبيعانها بأكثر، فأخذا هذه العمارة دَيناً على الطرفين، فإذا أخذها أحدهما وهو معروف من صاحب العمارة دون الآخر، فإن قال له في العقد: أنا وفلان شركاء، سنأخذ منك هذه العمارة بمليون، فحينئذٍ معناه أن صاحب العمارة اتفق مع الطرفين؛ لكن يقول له صاحب العمارة: أنا لا أعرف صاحبك، هل تكفله؟ فيقول: أكفله؛ لأننا شركاء، فحينئذٍ يكون أصيلاً عن نفسه كفيلاً عن صاحبه. ففي أي عقد من عقود شركة الوجوه أحدهما أصيل عن نفسه كفيل عن الآخر، وإذا كان يعرفهما معاً فقد اشتُري المال بجاهيهما. وكلاهما في هذه الحالة المال بينهما كفالةً وغُرْماً، وحينئذٍ يبتاعان ويكون بينهما الربح على حسب الاتفاق. (بجاهيهما): يمكن أن تقول: بجاهيهما، الباء للسببية، أي: بسبب جاهيهما؛ لأن الباء من معانيها: السببية، كقوله تعالى: {فَكُلَّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت:40]، أي: بسبب ذنبه، وقد تكون للتعليل، والمراد بها التعليل، وهو قريب من المعنى الأول.

الربح بين الشريكين على ما شرطا

الربح بين الشريكين على ما شرطا قال: [فما ربحا فبينهما]: (فما ربحا): أي: إذا أخذت العين بالجاه وعلى الذمة، وبيعت بفضل وربح، فإنها بينهما على ما اتفقا عليه، إن كانت مناصفةً فمناصفة، وإن كانت أثلاثاً فأثلاثاً. لكن مثل ما ذكرنا في شركة المضاربة نذكر في شركة الوجوه، أنك لا تقسم ربح شركة الوجوه إلا بعد رد الدين لصاحبه، فإذا بيعت العمارة بمليونين، وقد اشتريت بمليون، لا تقسم المليون الثانية إلا بعد رد الدين كاملاً لصاحبه، لاحتمال -مثلاً- أن يحصل مماطلة أو يحصل ضرر على أحد الشريكين. فلذلك يرد المال، والربح الزائد وهو المليون يقسم بينهما. وهكذا بالنسبة لتصفية رأس المال، لو أنهما -مثلاً- اشتريا العمارة بمليون، وهذه العمارة حينما اشترياها بمليون أجراها سنةً كاملة، فالمعلوم أنهما اشتريا العمارة نسيئةً وديناً، وخُذْها قاعدة: في شركة الوجوه لا يباع بالنقد غالباً، إنما يباع بالدين؛ ولذلك دخلت الذمة؛ لأن عقدها قائم على الدين، فإذا اشتريا أرضاً أو عمارةً أو سيارةً غالباً يشتريان إلى أجل، بعد سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات على حسب ما يريانه من المصلحة للشركة، فإذا اتفقا على شراء العمارة بمليونين، وتسدد بعد سنتين، فخلال السنتين اشتريا العمارة وقاما بتأجير العمارة خلال السنتين، ثم بيعت بعد السنتين، فأجرت خلال السنتين بمليون، وبيعت بعد السنتين برأس مالها المليون، فتُرَد المليون إلى صاحب العمارة، ثم تقسم المليون الفاضلة على ما اتفقا عليه؛ لكن لا تقسم إلا بعد دفع الحقوق، فلو كان على العمارة حقوق من فواتير كهرباء وماء كلفت قرابة مائتي ألف، فإنها تكون من الربح، ويُخصم من المليون مائتي ألف للفواتير، ولو أن هذه العمارة أجر أشخاص لتنظيفها ورعايتها ونحو ذلك، فإننا ندفع قيمة أجرتهم من الربح، فإذا تم تصفية الحقوق الواجبة على الشريكين ورد رأس المال إلى أصحابه فبعد ذلك يقسم الربح، مثل ما ذكرنا في المضاربة، وعلى هذا فيمكن جعل المناسبة بين شركة الوجوه والمضاربة من ناحية التنضيض، يعني: لا يكون القسم ولا يكون تمييز الربح وإعطاء كل ذي حق حقه من الربح إلا بعد رد رأس المال وأيضاً معرفة الحقوق الواجبة على الشركة وسدادها والوفاء بها. قال رحمه الله: [وكل واحد منهما وكيلُ صاحبه وكفيل عنه بالثمن]: كل واحد منهما وكيل عن صاحبه وكفيل عنه بالثمن، بأي شيء يشترى؟ فكل منهما يشتري أصالةً عن نفسه، ووكالةً عن صاحبه، وهو كفيل يغرم عن صاحبه. كفيل في حالة ما إذا أعطاه صاحب المال الذي لا يعرف صاحبه، فإن الشريك يكون كافلاً لصاحبه، وكذلك لو أخذ الآخر مالاً بجاهه، فهو وكيل في الأخذ عن صاحبه، وكفيل له إذا لم يسدد. قال: [والملك: بينهما على ما شرطاه]: أي: يكون أرباعاً أو أثلاثاً أو مناصفة، ًً على ما اتفقا عليه.

الخسارة في شركة الوجوه

الخسارة في شركة الوجوه قال رحمه الله: [والوضيعة: على قدر ملكيهما]: كشركة العنان، مثلاً: لو أنهما دخلا في الشركة وحصل الاتفاق على أن يُقسم المال، دخلا بالأثلاث، فكان الربح أثلاثاً، فالوضيعة تكون أثلاثاً. مثال ذلك: لو أنهما اشتريا سيارةً وقيمةُ السيارة ثلاثون ألفاً واتفقا على أن عشرين ألفاً وهي الثلثان على دَين، وعشرة آلاف على عمل، فتلفت هذه السيارة، بحيث لا تباع بأي شيء، فحينئذٍ تكون خسارة، وصاحب السيارة يطالبهما معاً بثلاثين ألفاً، فالوضيعة والخسارة تكون حينئذٍ أثلاثاً، يغرم صاحب الثلثين ثلثي القيمة، ويغرم الآخر الثلث، وهكذا لو كانت الوضيعة في نفس رأس المال، تنقصه عن التمام والكمال. قال: [والربح: على ما اشترطاه]: بعض العلماء يقول: الربح يُرَد إلى رأس المال، كما ذكرناه في شركة العنان، وبعضهم يقول: الربح بينهما على ما اشترطاه؛ لأنه ربما كان أحدهما أقوى جاهاً من الآخر، وربما كان أحدهما أكثر عملاً من الآخر، وفي هذا القول نظر؛ لأن من ناحية الأقوى والأشبه -كما ذكرنا-: ارتباط الوضيعة والربح برأس المال.

الأسئلة

الأسئلة

حكم بيع ما لا تملك

حكم بيع ما لا تملك Q وقع إشكال عندي في شركة الوجوه مع الحديث: (لا تبِع ما ليس عندك)، إذ إن من الممكن إذا طُلِبت مني سلعة ليست عندي أن أذهب إلى التاجر وآخذها بوجهي فوراً ثم أبيعها! A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه. أما بعد: فإذا جاء طالب العلم يستشكل شيئاً فينبغي أن يحسن فهم النصوص والأحاديث ثم يطبقها على الإشكال الذي عنده، يعني: لا تستشكل شيئاً إلا بعد معرفة الضوابط والأصول. الحديث يقول: (لا تبِع ما ليس عندك)، وهو حديث صحيح من حديث حكيم بن حزام حينما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتيه الرجل وليس عنده المتاع، فيتفق معه، ثم يذهب ويشتريه ويبيعه، فقال له: (لا تبِع ما ليس عندك)، وهو حديث صحيح صححه غير واحد من العلماء. لكن شركة الوجوه من حيث الأصل: الطرفان لم يبيعا ولم يتفقا مع أي شخص آخر، ثم أنت تقول: إنه قد يقع الإشكال بين الحديث وبين الشركة؛ لكن الذي ذكرتَه في السؤال: (أذهب وآخذ وأبيع). أي: طُلِبت مني سلعة ليست عندي فأذهب إلى التاجر فآخذها بوجهي فوراً وأبيعها على الشخص. فهذا لا يقع في شركة الوجوه فقط، بل يقع في كل شيء. لكن شركة الوجوه قلنا: إن الشخص يتفق مع الطرف الثاني على أن يشتري شيئاً لم يبِعه لأحد، وعقد الشركة يقع بين الطرفين على شراء الأعيان على ذمتهما، ومسألة البيع على الطرف الثاني لم تأتِ، وليس لها علاقة، والآن نتكلم عن طرفين يتفقان على عقدٍ معين لشراء الأشياء على ذمتهما، وأنت تقول: الحديث يعارض عقد الشركة؛ لأن قولك: يعارض شركة الوجوه، أو يُشكل في شركة الوجوه غير مُحَرَّر، وينبغي أن يكون الاعتراض بالحديث على العقد نفسه. وجود السؤال هذا خير وبركة؛ لأن طالب العلم دائماً لا يرتقي إلى الكمالات والضبط إلا بالتنبيه. وأقول وأكرر: ينبغي على طالب العلم أن يتنبه للأحاديث والنصوص، وبخاصة الآيات والأحاديث، فلا تحمِّل النص أكثر مما يحتمل، ولا تصرفه عن وجهه، النص يقول: (لا تبِع ما ليس عندك) نص واضح، وهو فيمن يتفق مع شخص على بيعه ما لم يملكه بعد، كأن تتفق مع شخص على أن يبيعك سيارته بتسعة آلاف، فيأتيك شخص آخر ويقول لك: اشترِ لي سيارة من نوع كذا بعشرة آلاف وقيمتها تسعة آلاف، فتأخذ ربح الألف وأنت لم تقبض السيارة ولم تضمنها، فهذا بيعٌ لما لم تملك، وربح لما لم يضمن، هذا واضح ليس فيه أي إشكال. والخطأ أنك إذا جئت تقول: يُشكل الحديث على شركة كذا، معناه: تأخذ معنى الحديث وتأخذ عقد شركة الوجوه. فما علاقة عقد شركة الوجوه مع قوله: (لا تبِع ما ليس عندك)؟ ليست هناك علاقة، فعقد شركة الوجوه: يتفق الطرفان على شراء الأعيان بذمتهما، على أن الربح بينهما على ما اتفقا عليه. ما علاقة هذا بقوله: (لا تبِع ما ليس عندك)؟ ليست هناك أي علاقة. ولو أن الطرفين أثناء الشركة اتفقا مع الناس على السلع وتبايعا، ثم ذهبا واشتريا، فهذا أمر يرجع إلى عقد البيع، أما تصرف الشريكين فقد تصرفا ببيع ما لم يملكا، يعني: لا يظن السائل أن عقد شركة الوجوه يسلتزم بيع ما ليس عنده؛ لأن عقد شركة الوجوه لا يحصل إلا بعد الملكية والقبض، وهذا قررناه وبيَّناه، بل حتى قلنا: لا يقسم الشريكان إلا بعد تصفية رأس المال. إذاً: عقد الشركة ليس فيه إشكال؛ لكن لو أن الشريكين تبايعا مع الناس قبل أن يملكا السلعة، فهذا لا يختص بشركة الوجوه، ويمكن أن يقع في شركة العنان، ويقع في شركة المفاوضة، ويقع حتى في المضاربة. وحينئذٍ لا تقول: يشكل عليَّ (بيع ما ليس عنده) مع شركة الوجوه؛ لأنه من الممكن أن يقول قائل: يُشكل عليَّ أن شركة الوجوه قد تفضي إلى الربا؛ لأنه من الممكن أن يتفق الطرفان، ويصرفا المال صرفاً ربوياً، فلا نقول: إن هذا الربا يُشكل على عقد الشركة. إذاً: من ناحية الاعتراض، فليس هناك تعارض بين عقد شركة الوجوه وبين بيع الإنسان ما لا يملك؛ لكن قد تقع بعض صور البيع من الشركة؛ سواء من أحد الشريكين أو من الشريكين معاً على صورة بيع ما لا يملك، بل ربما وقع عقد الشريكين مع طرف آخر على وجه محظور، كالبيع بطريقة الربا، أو أن يتبايعا بيع غرر، أو أن يبيعا بيع غش وتدليس، فهذا لا يؤثر في عقد الشركة، بل هو عارض بتصرف أحد الشريكين على غير الوجه المعروف؛ لكنه لا يؤثر في أصل عقد الشركة، ويؤثر في نفس الصفقة، لكن إذا جئت تعترض، فشرط الاعتراض أن يكون مؤثراً في نفس عقد الشركة. يعني: لو اتفق الطرفان على شركة الوجوه وذهبا واتفقا مع الناس -مثلاً- على بيع سيارة، وقالا للمشتري: نؤمِّن لك هذه السيارة بمائة ألف، والسيارة قيمتها ثمانون ألفاً، ثم ذهبا واشتريا بجاهيهما سيارةً بثمانين ألفاً وباعاها بمائة ألف. نقول حينئذٍ: عقد البيع باطل وليس عقدَ الشركة. وحينئذٍ من ناحية أصولية منطقية: إذا ورد الاعتراض على آحاد الصور التي هي ليست مركبة من صورة العقد، ولا يستلزمها أصلُ العقد، ولا من مقتضياته ولوازمه التي لا يمكن أن تنفك عنه، فحينئذٍ يكون الاعتراض على التصرف وليس على أصل العقد. وهذا أمر ينبغي لطالب العلم أن يتنبه له، وهو أن الاعتراض على التصرف وليس على أصل العقد، ومن الممكن أن أي شركة تقع بين الطرفين يتصرف أحد الطرفين تصرفاً خاطئاً فنقول: الخطأ في التصرف وليس في عقد الشركة؛ لأنها ليست من لوازم الشركة، ولا من حقيقة عقد الشركة، فليس من حقيقة عقد الشركة أنه قائم على بيع الإنسان ما لا يملك، وليس من لوازمه أن يبيع أحد الشريكين ما لا يملكه ويأخذ ربح ما لا يضمن. وأكدتُ في هذه القضية بأن الاعتراضات والإشكالات يستفيد منها طلاب العلم كثيراً، بل إن علم الأصول من حيث هو إذا جئت تنظر إلى كلام العلماء ومطولاتهم فيه تجد أن الغرض منها تمرين الذهن، ورياضة الفَهم على كيفية فَهم الاعتراضات ورد الإشكالات، والجواب عنها. ولذلك نقول: ينبغي على طالب العلم إذا اعترض أن يحرر الاعتراض، خاصة إذا كان الاعتراض فيه مصادمة نص أو آية أو حديث أو إجماع؛ لأنهم يقولون: إن الشخص إذا كان نصف عالم ربما هلك، والهلاك بنصف العلم يعني: يكون عنده نصف تصوُّر، فيستعجل الفَهم، فيُحدث الاعتراضات والإشكالات على نفسه؛ لكن لو حرر الأمور وثبت على رسوخ في العلم، لم يبقَ له إشكال. ونسأل الله العظيم أن يلهمنا السداد والرشاد. والله تعالى أعلم.

حكم المقاسمة قبل انتهاء عقد المضاربة

حكم المقاسمة قبل انتهاء عقد المضاربة Q في المضاربة غالباً ما يأتي إلي صاحب المال ويقترض ويقول: اخصم هذا من الربح، ولا أدري هل سأربح أم أخسر، فما الحكم؟ A هذه المسألة مفرَّعة على مسألة القَسم قبل نهاية المضاربة، وذكرنا هذه المسألة وبينا أن الأشبه والأقوى عدم جواز ذلك، وأنه لا يكون للعامل مطالبة إلا بعد الانتهاء من المضاربة تماماً، وبينا وجه ذلك. وبناءً على هذا فعند من يقول بالجواز: يشترط أن يرضى رب المال، فإذا قال له: اخصم هذا من المال، أو من الربح، واعترض رب المال، فمن حقه أن يعترض، وليس من حق العامل أن يأخذ؛ لأن مقتضى العقد بينهما على ذلك، والله تعالى أعلم.

حكم قسمة التركة قبل الوفاة

حكم قسمة التركة قبل الوفاة Q هل يجوز للمسلم أن يقسم تركته قبل وفاته؟ وما توجيهكم في هذا الفعل؟ هل من الأفضل فعله أم تركه؟ A هذا الفعل رخص فيه غير واحد من العلماء رحمهم الله، وقالوا: لو أن شخصاً قام بتوزيع تركته قبل موته، وأعطى ورثتَه حقوقهم، قالوا: لا بأس بذلك، خاصةً إذا كان قريباً من الموت. وقال بعض مشايخنا رحمة الله عليهم: إن هذا الأمر فيه شيء من التغرير؛ لأنه ربما طرأ الوارث الذي يكون مستحقاً ويتعذر للميت أو للشخص أن يوفي له حقه؛ كما في حال القسمة لو قسم في أول محرم من العام الماضي، وأعطى كل ذي حق حقه، على أن يرى أنه يعدل بينهم، فأعطاهم على مقتضى قسمته، ثم طرأ وارث في هذه السنة، لا يمكن أن يسترد المال؛ لأن المال قُبض وأُخذ، فإن قلنا: إنه يأخذ حكم الهبات؛ لأنهم يفرعونها ويقولون: كما لو وهبهم وأعطاهم في حال حياته، أليس من حق الوالد أن يعطي ابنه هذا عشرة وهذا عشرة ويعطي أبناءه بالقسمة وبالعدل؟ نقول: بلى، من حقه ذلك. قالوا: إذا كان من حقه أن يهب فمن حقه أن يقسم، وتكون القسمة أشبه بالهبة. قالوا في هذه الحالة: لو أنه أعطاهم ثم طرأ وارث بعد ذلك لم يملك أن يأخذ؛ لأن الهبة تُملك بالقبض، وهؤلاء قد قبضوا ما وُهبوا، وبناءً على ذلك: تستقر ملكيتهم للموهوب. وإذا قال لهم: ردوه. فقد رجع في هبته، وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم الرجوع في الهبة، وقال: (ليس لنا مَثَل السَّوء: العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه) كما في الصحيح. فقالوا: في هذه الحالة لا يمكن، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس، فعلى المسلم أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الناس بذلك، صحيحٌ أنه عليه الصلاة والسلام لا يُوْرَث ولا يُوَرِّث: (نحن معاشرُ الأنبياء لا نُوْرَث، ما تركناه صدقةً)؛ لكنه لم يأمر الناس ولم يدلهم على هذا، ولو كان هذا من سنته لدل عليه، فليس من هديه وسنته عليه الصلاة والسلام القسمة في حال الحياة. وأيضاً لما كانت المواريث قد تولى الله قسمتها من فوق سبع سماوات، ولم يَكِلْها إلى مَلَك مقرب ولا إلى نبي مرسل؛ فالواجب الوقوف عند الشرع. وأنبه على مسألة وهي: أن بعض الناس يتكلف بعض الأمور ويستعجلها قبل أوانها، وليس هناك احتياط، ولا صيانة للحقوق، ولا أداء لها أتم ولا أكمل مما بينه الله في كتابه وعلى لسان وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تحاول أن تفعل هذا الشيء وتقول: هذا أفضل أو هذا أكمل حتى لا يختلفوا من بعدي وحتى لا يتنازعوا، فاترك الأمر لله، واترك الأمر لقسمة الله عزَّ وجلَّ، فإنك لو فعلت هذا لربما حصل أمر لا تُحمد عقباه، ومن أوجه ما يُعترض به على هذا أنه لربما قسم ماله في أول السنة، وكان له ابن ذكر، فأعطى ابنه الذكر -مثلاً- خمسين ألفاً، ثم شاء الله عزَّ وجلَّ أن هذا الابن الذكر توفي قبل أبيه، فهو يعطيه على أنه سيرثه، والواقع أنه جاء وقت الإرث وليس بمستحِق من الإرث شيئاً، فحينئذٍ أعطى من لا يستحق في الإرث من حيث الأصل، والخمسون ألفاً لربما أخذها الابن وأضاعها في أموره، ولا يمكن تداركها. وقد يقول قائل: إنها ستئول ميراثاً للبقية. نقول: لكن الإرث من الابن ليس كالإرث من الأب، والنصيب يختلف، فنصيب الأخت مع أخيها ليس كنصيبها كبنت، فالأمر يحتاج إلى شيء من التأني والروية، واتباع هدي السلف الصالح رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين، ولا نجاوز هذه الحدود، فلا يقسم الرجل تركته قبل موته بل يوقف على الشرع، فإذا توفي ترك ورثته لحكم الله عزَّ وجلَّ. وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس. وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يعترض ويقول: ربما أعطى أحد أبنائه أرضاً على أنها بمائة ألف، وبعد يوم أصبحت قيمتها عشرة آلاف ريال؛ لأنكم تعرفون قسمة المواريث قد يكون فيها نوع من الغرر، فيقدر العمارة بمائة ألف، ويقول: أنت نصيبك من التركة مائة ألف، إذاً: تستحق العمارة الفلانية فيأخذها، ثم مباشرة ينزل ويكسد سوقها، أو عند قسمة الإرث تكون إحدى الأعيان قيمتها أكثر من الأخرى، فكل هذا فيه غرر ومخاطرة. فينبغي ترك القسمة -كما ذكرنا- لقسمة الله عزَّ وجلَّ، وهذا هو الأفضل والأكمل، والله تعالى أعلم.

حكم من أكل من وجه حرام بذريعة الاضطرار

حكم من أكل من وجه حرام بذريعة الاضطرار Q بعض الناس إذا اضطر واحتاج مد يده إلى ما حرم الله، فما نصيحتكم؟ وبماذا يتصبر من ابتلي بالدين أو الفقر؟ A اشتمل هذا السؤال على جانبين: الجانب الأول: اعتداء حدود الله، وغشيان محارمه، بأكل المال الذي حرمه على المسلم. وأما الجانب الثاني: فهو الدَّين الذي لا شك ولا مرية في عظيم بلائه إذا ابتُلي به العبد، فهو هم الليل وذل النهار، نسأل الله العظيم أن يعيذنا منه. فأما بالنسبة للمسلم فعليه أن يعلم أن الحلال أكثر من الحرام، وأنه ما من عبد يستغني بحلال الله إلا أغناه، وما من عبد يستغني بالله إلا كفاه، فانْعَم وطِبْ نفساً بما أحل الله لك، وإياك إياك والحرام! فإن الحرام كثيره قليل، وعظيمه حقير، وجليله يسير. فعليك أن تعلم أن الحرام عواقبه وخيمة، فإن أضحك يوماً أبكى أياماً، والحرام يقود إلى الآثام، فكم من لقمة حرام قذفها العبد في جوفه، سلط الله شؤمَها وبلاءها على لسانه وجوارحه وأركانه! فمن أكل مال اليتامى فلربما ختم الله على قلبه، فأصبح قاسي القلب يتهاوى في الدركات والسيئات حتى يأخذه الله أخذ عزيز مقتدر، ومن استغنى بالحرام وأصبح يطلبه آناء الليل وآناء النهار استزله الشيطان وأخذه إلى ما هو أعظم وأشد حتى لا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك. واعتبر! فإن السعيد من وُعِظ بغيره. فكم من أقوام جمعوا أموالهم من الحرام فتمتعوا وضحكوا ولَهُوا وأصابوا لذة عاجلة، فساءت خواتمهم وساءت عواقبهم وما ماتوا إلا وقد رأوا بأم أعينهم ما تتقرح العيون برؤيته! وكم من رجل جمع الحرام وجمع المال من حله ومن حرمته، ولم يبالِ بما يُدخِله على أهله وولده، فأصبحت آثار الآثام وطُعمة الحرام تظهر في أهله وولده يوماً فيوماً وشيئاً فشيئاً حتى تمرد عليه أبناؤه، وتمردت عليه أزواجه، وأصبحوا أعداءً له، حتى آذَوه في المال الذي جمعه من أجلهم! وكم تسمع من القصص ومن الأحداث ما فيه عبرة لكل معتبر! فإن الله تعالى يقول: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42]، فالله سبحانه وتعالى ليس بغافل، وإنما يملي للظالم. فالواجب على المسلم أن يستغني بالله، وثِقْ ثقةً تامة أنك إن استغنيت بالله جلَّ جلالُه فإن الله يسد فقرك، ويقضي دينك. فما من عبد نزلت به حاجة، فأنزلها بالله عزَّ وجلَّ، ووجه وجهه للحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ووجه قلبه للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً يدعوه ويرجوه، إلا فتح الله له أبواب الفرج من حيث لا يحتسب: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4]، ومن يتقِ الله يجعل له من كل هم فرجاً ويجعل له من كل ضيق مخرجاً. فإياك إياك! أن تسوء ظنونُك بالله إلى درجة تعتدي فيها على حدود الله ومحارمه، ولكن استغنِ بالله يغنك، وقل: اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك، قد وعدك الله إن دعوته صادقاً من قلبك، أن يفتح لك أبواب الفرج وأن ييسر لك. وأما الأمر الثاني: وهو أمر الدَّين، فالواجب على المسلم ألَّا يحمل نفسه فوق طاقته، وألَّا يريق ماء وجهه فيحملها من الديون ما لا تحتمل، ولا ينبغي له أن يغرر بأموال الناس، ومن أخذ الديون من الناس والله يعلم من قلبه أنه يريد سدادها وأنه مهتم بقضائها، يسر الله له السداد، ولو دهمه الأجل ونزل به الموت قبل أن يسددها قال بعض العلماء: فإن الله يتحمل عنه الحقوق في الآخرة، وفسروا ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله). فالواجب على المسلم أن يتقي الدين ما أمكنه، ولذلك استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من غلبة الدين، ومن قهر الرجال، وإذا أراد المسلم أن يجتنب الدين، فعليه أن يتدبر في أمره، وأن ينظر في حاله، وأن يرضى بالقليل، فمن رضي بالقليل جعل الله قليله كثيراً، فلا قليل مع البركة، ولا كثير إذا نزعت منه البركة. اللهم بارك لنا في أموالنا، وبارك لنا في أمورنا وأحوالنا، وزدنا من بركاتك ورحماتك وخيراتك يا أرحم الراحمين! اللهم لا تحجب عنا عظيم فضلك وإحسانك بسوء ما يكون منا. {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.

باب الشركة [6]

شرح زاد المستقنع - باب الشركة [6] شركة الأبدان تقوم على عمل الشريكين بأبدانهما، وسمي هذا النوع من الشركات بشركة الأبدان؛ لأنها منشأ الأعمال، ولأن المقصود منها أن يكون النماء لمال الشركة من عمل الشريكين، ولهذا النوع من الشركات مسائل وأحكام ينبغي الإلمام بها.

النوع الرابع من الشركة: شركة الأبدان

النوع الرابع من الشركة: شركة الأبدان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [الرابع: شركة الأبدان] فهذا النوع من أنواع الشركات يسميه العلماء بـ (شركة الأبدان)، والأبدان: جمع بدن، وسمي بهذا الاسم؛ لأنه يقوم على عمل الشريكين، فكل منهما له صنعة وحرفة يقوم بها، ويتفقان مع بعضهما، وقد يتفق أكثر من شخص كثلاثة أو أربعة أو أكثر على أن يقوموا بعمل الحرف ونحوها ويكون الربح بينهم على ما شرطوا، وهذا النوع من الشركات يسميه بعض العلماء رحمهم الله بـ (شركة العمل)؛ لأنه يقوم على عمل البدن، فيسمى بشركة الأبدان؛ لأنها منشأ الأعمال، ويسمى بشركة العمل؛ لأن المقصود منه أن يكون النماء من عمل الشريكين.

مشروعية شركة الأبدان

مشروعية شركة الأبدان الأصل في مشروعية هذا النوع من الشركة: ما روى أبو داود والأثرم وغيرهما رحمة الله عليهما عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أن عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أجمعين اشتركوا في غزوة بدر فيما يصيبون من المغنم، وهذا الاشتراك كان على سنن شركة الأبدان، قال: (فجاء سعد بأسيرين، ولم أجئ أنا وعمار بشيء). وهذا النوع من الشركات يتمحض الاشتراك بين الشريكين ويقوم على العمل، ولذلك ذكرنا في الشركات أنها: تارةً تكون بالمال والعمل، كشركتي المفاوضة والعنان. وتارةً تكون بالعمل من أحدهما والمال من الآخر، كشركة المضاربة. وتارةً تكون على الوجاهة والذمة، كشركة الوجوه. وتارةً تكون على البدن والعمل، كما في شركة الأبدان. يقول رحمه الله: [النوع الرابع: شركة الأبدان]: وهذا النوع من الشركات في قول جمهور العلماء جائز ومشروع، وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة، ووافقهم على ذلك أصحاب الرأي، وهو قول لطائفة من السلف، منهم الإمام سفيان الثوري رحمة الله على الجميع، قالوا: لا بأس أن يشترك الاثنان فأكثر على أن يقوما بعمل أو بحرفة، والكسب بينهما على ما اتفقا عليه.

اتحاد الصنعة واختلافها في شركة الأبدان

اتحاد الصنعة واختلافها في شركة الأبدان وعند العلماء تفصيل: هل جواز هذا النوع من الشركة يتوقف على اتحاد الصنعة واتحاد الحرفة؟ أم أنه يمكن للشريكين مع اختلاف صنعتهما أن يتفقا؟ مثال ذلك: إذا كان هناك حدادان أو نجاران فاتفق الحدادان على أن يتقبلا من الناس العمل ويقوما بالعمل سوياً مثل صناعة الأبواب وصناعة الشبابيك من الحديد ونحوها من أعمال الحدادين، فاتفقا على أنه يتقبل كل واحد منهما من الناس، ثم يُدخلان هذه المواد الخام من الحديد ويُصَنِّعانها في محلهما وأن ما يكون من النتاج والربح مقسوم بينهما بالمناصفة، فاتفقا على ذلك، فحينئذٍ تقول: هذه شركة أبدان، قائمة على اتحاد الصنعة؛ لأن كلاً منهما حداد، وإذا كانا متفقين في الصنعة، فجماهير العلماء على أن شركة الأبدان تجوز. كذلك في النجارة، لو أن اثنين يحسنان عمل النجارة، واتفقا في ورشتيهما على أن يتقبلا من الناس الطلبات، ويقوما مع بعضهما بصناعة الأبواب ونجارة الأبواب والشبابيك أو ما يُطلب منهما، أو ما يكون من عمل الديكورات الموجودة الآن من خشب، فكل هذا إذا اتفق فيه الطرفان فأكثر مع اتحاد الصنعة، فكل منهما يحسن النجارة، وكل منهما يحسن الحدادة فلا إشكال، ومن يقول بجواز شركة الأبدان يصحح هذا النوع من الشركات؛ لكن الإشكال إذا كان أحدهما يتقن صنعة غير صنعة الآخر، كأن يكون أحدهما حداداً والآخر نجاراً، فيتفقان على أن هذا يعمل في الحدادة، وهذا يعمل في النجارة، والربح بينهما. فللعلماء في هذه المسألة قولان: بعض العلماء يجيز، وهو مذهب الحنابلة، ووافقهم الحنفية. وبعضهم يمنع، كما هو مذهب المالكية. يعني: نفس الجمهور الذين يقولون بجواز شركة الأبدان يختلفون إذا اختلفت الصنعة، وهذا مثل ما يقع في المجمعات الصناعية، إذا كان هناك محلان، ويختلف المحلان في الصنعة، فتارةً تكون من شركة الأبدان المختلفة، كحدَّاد ونجَّار، وتارةً تكون من شركة الأبدان المتفقة، كالحدادين والنجارين، فإنه يجوز أن يشتركا على هذا الوجه. وتطبيق هذه الشركة في زماننا لها مجالات عديدة: منها: ما ذكرنا في الحدادة، فالآن -مثلاً- محلات الخراطة (خراطة الحديد) لو أن صاحبا محلين في خراطة الحديد اتفقا فيما بينهما، على أن يتقبلا من الناس الطلبات، ثم يقوم كل منهما مقام الآخر في التقبل وفي العمل، فلا بأس، وتقع شركة الأبدان على هذه الصورة. والآن في زماننا يأتي المقاول فيأخذ بناء العمارة، ويأتي النجار ويأخذ -مثلاً- أبوابها الخشبية، ويأتي الحداد ويأخذ السلالم من الحديد أو نحوها، وينبغي مع شركة الأبدان اتحاد الصنعة تقول: يمكن لمقاولَين أن يتفقا فيما بينهما على أن يقوما بالمقاولات، ويتقبلا الأعمال المطلوبة منهما ويعملان سوياً، فيمكن أن يتفقا مع بعضهما بهذه الشركة ويقوما ببناء العمارة مع بعضهما، أو يقوما ببناء الفيلا أو نحو ذلك مع بعضهما، حينئذٍ تكون شركة أبدان مع اتحاد الصنعة. كذلك لو أنهما اتفقا مع بعضهما على الحدادة، فأخذا عمارةً كاملةً على أن يقوما بصنع سلالمها أو نحو ذلك مما يستلزمه عمل الحدادة، فحينئذٍ نقول: هذه شركة أبدان؛ لكن كيف تكون شركة الأبدان على الصورة الثانية؟! أن يتفقا فيما بينهما مع اختلاف الصنعة، فمن الممكن أن يأخذا عمارة واحدة، أحدهما مقاول يبني، والثاني حداد للحديد الذي يُبنى به ويُصب عليه، وثالث: نجار لأعمال النجارة، فيتفقون جميعاً وتكون شركة، وتُبنى العمارة على هذا الأساس من الشركة، ويُقسم مال ونتاج العمارة بينهم، هذا إذا قلنا بجوازها مع اختلاف الصنعة. ولا يمكن أن نحكم بالجواز إلا إذا كانا في عمل واحد. وفي الحقيقة: القول الذي يقول بأنها تكون مع اتحاد الصنعة من القوة بمكان؛ لأنه -في الحقيقة- في حال اختلاف الصنعة الغرر قوي، وقد تحدث الفتنة في كثير من الصور وكثير من الأحوال لاختلاف الصنعتين؛ لكن إذا اتحدت الصنعتان وكان كل منهما يمكن أن يقوم مقام الآخر، فهو يعمل كعمله، ويمكن أن يقسم العمل بينهما، ويمكن ألَّا يضر أحدهما الآخر؛ لكن في حالة اختلاف الصنعة، أحدهما نجار والثاني حداد فيكون هناك نوع من الغرر ونوع من الغبن، ولربما تيسرت أعمال الحدادة أكثر من النجارة، أو النجارة أكثر من الحدادة، فيحدث شيء من الشحناء وتغير القلوب. ولذلك النفس تطمئن إلى جوازها في حال اتحاد الصنعة، أما في حال اختلاف الصنعة فالشبهة قائمة. فنقول إجمالاً: شركة الأبدان تكون مع اتحاد الصنعة، وتكون مع اختلاف الصنعة، وهي في اتحاد الصنعة أولى بالجواز منها عند الاختلاف؛ لكن بقيت مسألة، إذا كنا نقول: إن شركة الأبدان تكون مع اتحاد الصنعة، فعند اتحاد الصنعة تكون الأعمال متفقة بحيث يُبنى بعضُها على بعض، فهي لا تتفق من كل وجه؛ لكن ينبني بعضها على بعض. مثال ذلك: نحن ذكرنا أنه إذا اختلفت الصنعة، فكان أحدهما حداداً والآخر نجاراً لا يجوز، ولو أن حداداً اتفق مع نجار فالأشبه عدم الجواز، والغرر موجود في هذا؛ لكن لو قلنا: لابد أن يكونا حدادَين أو نجارَين، فلو فرضنا أن العمل اتحد من حيث الأثر والنتاج واختلف في الوصف والمهمة التي يقوم بها، مثل: الغزل من أحدهما والخياطة من الآخر، فإذا كان أحد العملين مبنياً على الآخر، فالأمر أخف؛ لأن المقاولة تكون في هذه الحالة على عمل واحد، وحينئذٍ إذا كان أحد العملين مبنياً على الآخر فالأمر أخف. مثلاً: محلات الخياطة، قد يوجد خياطان يكون أحدهما ماهراً في قص القماش وتهيئته للخياطة، والآخر ماهر في خياطة القماش، يمكن أن نقول: إنهما يشتركان وإن كان العمل مختلفاً، فأحدهما يفصِّل والثاني يخيط، نقول: لا بأس بذلك والغرر هنا يسير؛ لأن العمل المتقبل واحد، وشبهة الضرر في هذا النوع من اتفاق الصنعة خفيفة إن شاء الله. وهكذا في اتفاقهما في الزراعة، إذا كانا مزارعين، أو كانا نجارين أو حدادين، وكان عمل أحدهما قائماً على الآخر، فلا بأس. مثلاً: في الحدادة وفي النجارة تقطيع الأشياء التي يُراد لحامها في الحديد أو تسميرها في الخشب، فلو كان أحدهما متكفلاً بأخذ الأطوال ونحوها وهو يجيد ذلك، وماهر فيه، وقال للآخر: عليك التسمير، أو عليك اللحام، أو نحو ذلك، فلا بأس به، كما نص على ذلك طائفة من العلماء رحمة الله عليهم. وهذا النوع من الشركات لا شك أن فيه تيسيراً للأمة وخيراً كثيراً، فإن أصحاب الحرف إذا اجتمعوا واشتركوا ائتلفت القلوب وحصل نوع من التعاون والتلاحم والتكاتف والتعاطف، وشعر كل منهما أن عمله لأخيه، وأن عمل أخيه له؛ لكن إذا كان هذا له محل حدادة، وهذا له محل حدادة، ربما وقع التنافس وربما وقع التباغض وربما وقع التحاسد، فحينئذٍ حينما يكون محلهما واحداً وأعمالهما واحدةً ونشاطهما واحداً، فإن هذا لا شك أنه يعين على تحقيق الأخوة وقوة أواصر المحبة بين أفراد المجتمع. فمن الحكم التي تستفاد من جواز هذا النوع من الشركات: أنه يعين على الأخوة، ويحقق مقاصد الشريعة بالجمع بين المسلمين.

الشراكة في المال والعمل

الشراكة في المال والعمل قال رحمه الله: [أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما]: إذا اتفق الطرفان على أن يشتركا فيما يكتسبانه، يعني: في كل كسب ينشأ من عمل البدن منهما، فخرجت الشركة المال في المفاوضة والعنان بهذا القيد؛ لأنها تقوم على الاشتراك في المال والعمل وليس في العمل المحض. قال: [يكتسبان بأبدانهما]: يعني: إذا اتفقا على ذلك، وقالا: إننا نتقبل، أو أحدنا يتقبل والآخر يعمل، أو نعمل سوياً، أو نتقبل سوياً ونعمل سوياً، فالأمر في ذلك كله سواء، ويكون حينئذٍ كل واحد منهما قائماً مقام أخيه في هذه الشركة. فمثلاً: إذا جئت تطلب نجارة طن من الخشب على أن يُصَنَّع أو يُفْعَل فجاء أحدهما واتفق معك والشركة قائمة، فقال: أنا أصنع هذا الطن من الخشب شبابيك أو أبواباً بمائة ألف، على أن يفصل -مثلاً- مائة باب أو مائتي باب، فاتفقتما على تفصيل الخشب أو المادة الخام من الخشب، وتفصل أبواباً أو شبابيك، فإذا أبرم العقد معك ففي الحقيقة يكون قد أبرمه عن نفسه أصالةً وعن شريكه وكالةً، فهو عن نفسه أصيل، وعن شريكه وكيل، فيمكن أن يتقبلا معاً، ويمكن أن يتقبل أحدهما على ذمة الآخر معه، ويستوي الحكم، فإذا جاء الزبون أو العميل لأحدهما واتفق معه فلا نقول: إنه اتفق مع أحدهما، وإنما نقول: ما دامت الشركة قائمة فالاتفاق عليهما والالتزام عليهما معاً، ولو أن المادة الخام من الخشب دخلت ثم حصل ضرر من الشركة يوجب الضمان عليهما معاً على سنن الشركة والأصول التي تقدم بيانها في مسائل ضمان الشريكين.

صور التقبل في شركة الأبدان

صور التقبل في شركة الأبدان قال رحمه الله: [فما تقبله أحدهما من عمل يلزمهما فعله]: قوله: (من عمل) نكرة؛ تشمل أي عمل؛ لكن في حدود الشركة، وليس مراده (من عمل)؛ لأنه من الممكن أن يتقبل عملاً خارجاً عن الشركة. مثلاً: إذا كانا نجارين وتقبل أحدهما عمل حدادة، نقول: هذا خارج عن الشركة. لكن مراد المصنف بقوله: (فما تقبله أحدهما من عمل) هنا عام أريد به الخصوص، يعني: من عمل متعلق باتفاق الشركة، أما لو تقبل عملاً لا علاقة له بالشركة، فإنه لا تقع الشركة عليه ولا يلزم الشريك الآخر به. والتقبل يكون على صورتين: - الصورة الأولى: أن يتقبلا مع بعضهما أي: أن يكونا جالسين في الدكان أو في المحل ويأتي العميل ويقول: أريد هذا القماش يُخَيَّط، أو أريد هذا الخشب يُفَصَّل أو أريد هذا الحديد يُفَصَّل، فيقومان مع بعضهما ويتفقان ويبرمان العقد بينهما وبين ذلك العميل، فحينئذٍ لا إشكال. - أو يتقبل أحدهما في حال غيبة الآخر، فإنه في هذه الحالة -كما ذكرنا- أصيل عن نفسه وكيل عن شريكه.

جواز شركة الأبدان في الاحتطاب وما شابهه

جواز شركة الأبدان في الاحتطاب وما شابهه قال رحمه الله: [وتصح في الاحتشاش والاحتطاب وسائر المباحات]: شركة الأبدان تقوم على الصناعات والحرف اليدوية وما في حكمها. ويمكن أن يتفقا حتى في الغزو والغنائم، وما كان في أيام الجهاد في سبيل الله، الذي هو التلصص على دار المشركين إذا كانوا غير مسالمين، فيجوز حينئذٍ أن يتفقا مع بعضهما على أخذ الغنيمة، كأن يغزوا مع بعضهما، فإذا غنم أحدهما غنيمة قُسمت بين الطرفين على ما اتفقا عليه؛ لأنها وردت في قصة عبد الله بن مسعود، والحديث فيه انقطاع؛ لأن أبا عبيدة وهو ابن عبد الله بن مسعود قيل: لم يسمع من أبيه لصغر سنه؛ لكن -في الحقيقة- متن الحديث قوي وتشهد الأصول بصحته واعتباره. هذه المسألة التي ذكرها المصنف: الاحتشاش والاحتطاب، وكلٌّ من الحشيش والحطب مما يُباح ويُملك بالأخذ، يعني: لو خرج إنسان معه آله الحش، فوجد حشيشاً في أرض غير محرمة -التي هي الحمى ونحوها- وحش حشيشها، فيكون قد مَلَك الحشيش بحشه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون شركاء في الماء والكلأ والنار)، فأثبت أنهم شركاء في الكلأ، وأنه لا حِمى إلا ما حَمى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فإذا ثبت أن الحشيش مباح، وأنه يجوز للمسلم أن يأخذ الحشيش متى وجده، فحينئذٍ يَرِد Q هل يجوز أن يشترك الطرفان فأكثر على الاحتشاش؟ أخذ الحشيش في بعض الأحيان يكون فيه مصلحة؛ لأنه إذا جُزَّ الحشيش يمكن أن يباع علفاً للدواب، فيُشترى من الطرفين، فلو أنهما اتفقا أن يخرجا إلى البر في أيام الربيع ونحوه على أن يحشا الحشيش ويجمعانه ويبيعانه جاز ذلك. في زماننا: الطرف الذي يستخدم في (المساند) ونحوها، لو أنهما اتفقا على أنهما يخرجان إلى البر، ويجمعان هذا الطرف ثم يجعلانه في أكياس ويبيعانه، فهذا أيضاً تجوز عليه شركة الأبدان. كذلك الحطب لو أن كلاً منهما يعرف طريقة الحطب والاحتطاب، فاتفقا على أن يخرجا إلى البر ويحتطبا الخشب والشجر (والسمر) ثم بعد ذلك يقطعانه ويفصلانه، أو يحرقانه فيجعلانه فحماً كل ذلك جائز. لكن شدد في هذه المسألة الحنفية رحمهم الله ومنعوا من الاشتراك في المباحات، فلا تجوز شركة الأبدان عندهم في الاحتطاب، ولا تجوز في الاحتشاش، وكذلك في جلب الماء، فإن جلب الماء واستخراجه من الآبار يعتبر من المباحات؛ لأن مَن نزح ماءً من بئر فقد مَلَك هذا الماء. وفي زماننا -مثلاً- لو اتفق صاحبا نقل المياه على أنهما يعملان مع بعضهما في نقل الماء، وكل منهما عنده سيارة لنقل الماء، قال أحدهما: يا فلان! أنا وأنت نتقبل من الناس الطلبات وكل منا يقوم مقام الآخر في تلبية ذلك، واتفقا على ذلك، وأخذا يعملان شهراً كاملاً، واجتمعت -مثلاً- مائة ألف ريال من هذه الوايتات -أو نحوها- التي تم بها جلب الماء، واتفقا على قسمة المال بينهما، فيُقسم المال بينهما بالسوية، أو على الاتفاق الذي اتفقا عليه. وكذلك مثلما تكون الشركة على الاحتطاب -كما ذكرنا- أو الاحتشاش، وهذا على أصح قولي العلماء، كما هو مذهب المالكية والحنابلة، وطائفة من أهل الرأي، خلافاً للإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه الذي خالف الجمهور مع أنه رحمه الله يقول بجواز شركة الأبدان؛ لكنه ينازع في هذا النوع من الشركة ولا يجيزه، والسبب في هذا يقول: إن الحشيش والحطب يُملك بمجرد الأخذ، ومن أخذه ملكه، وحينئذٍ لا تقع عليه الشركة، على ما اختاره رحمه الله. ولكن أجيب عن ذلك بأن هذا الاحتشاش والاحتطاب يمكن أن تدخله الملكية بدليل الإجارة عليه. ولذلك رد أصحاب القول الأول الذي ذكرناه على ما اختاره المصنف رحمه الله بأنه يُملك بالأخذ على أصل السنة، ويملك بالاتفاق عليه إجارةً، فلو أعطيت رجلاً مائة ريال على أن يحش لك أرضاً محددةً وقلت له: حُشَّ هذا الحوض ولك مائة ريال، صحت الإجارة، وصار تابعاً لك، فإذا كان بالإجارة بموجب عقد الإجارة والاتفاق، كذلك أيضاً تصح بموجب عقد الشركة؛ لأن الشركة فيها وجه معاوضة، فكأن عمل أحدهما صار في مقابل عمل الآخر، وعلى السنن الذي ذكرناه في أول باب الشركة.

حكم الأمور الطارئة على عقد الشركة

حكم الأمور الطارئة على عقد الشركة قال رحمه الله: [وإن مرض أحدهما فالكسب بينهما]: من عادة العلماء بعد تقرير الأصل أن يتكلموا على شيء يسمى في مصطلح العلماء بآثار العقود الصحيحة: - أولاً: يثبتون لك العقد، وأنه مشروع. - ثم يبينون أركانه وشرائط صحته. - وبعدما يبينون أركانه وشرائط صحته يبينون ما يخالف الشرائط والصحة، وهي شرائط الفساد أو موجبات الفساد، كما يسميها بعض العلماء. - وبعدما يبين لنا متى تكون شركة الأبدان صحيحة؟ ومتى تكون فاسدة؟ يرد السؤال على الأمور الطارئة، فالمرض من طوارئ عقد الشركة، ومن طوارئ العقود، فلو أن اثنين اتفقا، وكلاهما حداد أو نجار أو نحو ذلك من أصحاب الحرف والصنائع، اتفقا على أن يعملا بأبدانهما، ومرض أحد الشريكين، فبطبيعة الحال سيقوم الآخر مقامه وسينصبُّ العمل على أحدهما دون الآخر، وحينئذٍ اتفقا إذا كانا صحيحين؛ لكن إذا مرض أحدهما أو أصابه الضرر تعطلت المصلحة في الشركة بمقابل النصف، يعني: نصف الشركة سيتعطل، فهل مرضه يؤثر في عقد الشركة؟ نحن بين أمرين: - إما أن نقول: يفسخ عقد الشركة بهذا المرض، كما يفسخ بجنون أو موت أحدهما. - أو نقول: يبقى عقدُ الشركة، ويُلْزَم الطرف الثاني. وهذا باطل. فالأول لا يمكن: لأن الجنون والموت ليسا كالمرض، فإن الجنون والموت يخالفان، لأن الأهلية تزول بالكلية؛ لكن المريض أهليته موجودة، وصفة الأهلية للعقد وموجبات أهلية العقد موجودة فيه، فهو عاقل بالغ؛ لكن أصابه المرض في يده التي يعمل بها، أو في رجله التي يمشي بها، أو حُمَّى، أو إصابته نحو ذلك من الأمراض التي تعطله عن القيام بالمصلحة. فنقول: العقد صحيح: يعني: تبقى الشركة صحيحة كما هي. ولكن نقول للشريك الثاني: أنت بالخيار بين أمرين: إما أن تفسخ الشركة -إن أحببت- فإذا قال: أريد أن أفسخ الشركة انفسخت الشركة؛ لأن الشركة عقد جائز، والعقد الجائز أثبتنا في أول باب الشركة أحد الشريكين يملك فسخه بدون رضا الآخر، فإذا قال: ما دمتَ مريضاً -وقد يستغرق المرض شهوراً- فإني أريد أن أفسخ الشركة، وأسأل الله لك العافية، وأنا لا أستطيع أن أتحمل إحراج الناس، فأريد أن أفسخ الشركة. ففسخ الشركة، فحينئذٍ نفسخ عقد الشركة، سواءً ذكر عذراً أو لم يذكر عذراً، فهو بالخيار، إن شاء فسخ العقد، وإن شاء قال: أنت شريكي في السراء والضراء، وأسأل الله لك العافية، وأنا أتحمل عنك، فهذا من أفضل ما يكون وهو من الوفاء، وغالباً أن الله تعالى يبارك له وييسر له، ولا يزال له من الله معين وظهير ما دام أنه في عون أخيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، فالله في عون المسلم متى رَفَقَ، وهذا من الرحمة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الر احمون يرحمهم الله)، فإذا رحم أخاه ونظر إلى ما فيه من ضُرٍّ وقال: لا مانع، اجلس وأنا أتحمل عنك وأقوم عنك، فهذا لا شك أنه يُثاب عليه. - الصورة الثالثة: أن يقول الشريك الثاني الذي مرض: يا فلان! إني مريض ولكن سأقيم عاملاً يقوم مقامي، يعني: أحْضِرُ شخصاً يقوم مقامي، فأحْضَرَ شخصاً يقوم مقامه، فلا بأس، وتمضي الشركة وتستمر على الاتفاق الذي بينهما. إذاً: إن مرض أحدهما وأراد أن يفسخ الآخر، فله ذلك، أو أراد أن يتحمل وحده، فله ذلك، أو أراد أو طلب منه أن يقيم شخصاً آخر مقامه فأقامه، فإن له ذلك، أو طالبه به، فإنه يلزم الثاني أن يقيم مقامه شخصاً آخر. قال رحمه الله: [وإن طالبه الصحيحُ أن يقيم مقامه، لزمه]: أي: أن يقيم شخصاً. (مقامه): أي: مكانه. (لزمه): أي: لزم المريضَ أن يقيم مقامه شخصاً آخر؛ لأن مقتضى العقد يستلزم ذلك، والعقد والاتفاق بين الطرفين على أنه -أي: المريض- يقوم بهذه الأعمال مع شريكه، حدادةً ونجارةً إلى آخره، فإذا مرض فالعقد لا يزال يطالبه أن يقوم بهذه الحدادة، أو يقوم بهذه النجارة؛ فإذا تعذرت منه وأقام غيره مقامه فحينئذٍ هو وكيل عنه، ويقوم مقامه، ولا بأس بذلك؛ لأن مقتضيات العقد تستلزم هذا.

النوع الخامس: شركة المفاوضة

النوع الخامس: شركة المفاوضة قال رحمه الله تعالى: [الخامس: شركة المفاوضة]. النوع الخامس من أنواع الشركات: شركة المفاوضة، والمفاوضة قيل: من التفويض، كما قال تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]، ومن فوض أمره إلى الله فقد وَكَلَه إلى الله عزَّ وجلَّ. قالوا: فكأن الشريكين كل واحد منهما قد خول صاحبه وفوضه أن يكون مكانه ويقوم مقامه في أمور الشركة، وهذا النوع من الشركات بعض العلماء يعمِّمه، وبعضهم يخصِّصه. والذين يعممونه إما أن يعمموه من كل وجه، وإما أن يعمموه في حدود معينة من أنواع الشركات. فالذين يعممون شركة المفاوضة هم: الحنفية والحنابلة، وهذان المذهبان من أوسع المذاهب في مسألة شركة المفاوضة على تفصيلٍ يأتي. والذين يخصصون شركة المفاوضة: المالكية، ويجعلونها شبه متفقة مع العنان. والذين يمنعونها ولا يجيزونها بالكلية: الشافعية رحمة الله عليهم، فلا يجيزون عقد المفاوضة، وهم لا يجيزون أيضاً شركة الأبدان، وهذان النوعان منع منهما الشافعية للغرر. أما بالنسبة للحنفية: فهم يقولون: يشترك الطرفان برأس مالٍ بينهما، وتكون يد الشريكين مطلقة على المالَين، فيكون مالي كمالِكَ، بمعنى: ما يكون هناك مالٌ خارجٌ عن مال الشركة. فاختلفت عندهم شركة المفاوضة عن شركة العنان: فشركة العنان: أن يشتركان في مائة ألف أو خمسين ألفاً، وقد يكون عندك مليون، فأنت تشارك بمائة، وتبقَى تسعمائة ألف. لكن شركة المفاوضة تشارك بجميع مالك، وأصل اللفظ: الشيوع، وفاض الوادي إذا سال بكثرة وشاع، وفاض الخبر إذا شاع. فهم يقولون -وهذا الوجه الثاني في شركة المفاوضة-: أنها من الشيوع، فشاع التصرف، وكل منا شريكٌ للآخر في ماله، فيُطلِقان أيديهما على المالَين ولا يُستثنى شيء من ماله، فيصبح شريكاً له في السيولة، أي: في النقدين، ويصبح شريكاً له في تجاراته وأعماله الموجودة يعني: من محلات تجارية وأسواق تجارية، فيكونان شريكين تامي الشراكة، وهذا يقع في بعض الأحوال، خاصة مع القرابة، كبني العم والإخوان مع بعضهم، فقد يجمعان المال كل منهما على يد الآخر، يعني: يتصرف في مال الآخر كما يتصرف الآخر في ماله، ولا يمكن أن يُمَيَّز مال أحدهما من الآخر؛ لكن الذي يعرفانه: أن لهذا نصف المال، ولهذا نصف المال، وتنطلق تصرفاتهما في النقدين في الدواب في المزارع في العقارات من الدور والأراضي ونحوها بحيث يكونان كالرجل الواحد، وهذا كان يقع إلى عهد قريب في بعض الأماكن، يشتركان شراكة تامة كاملة، ولا شك أن هذا النوع من الشركة صعب تحقيقه، وصعب أن يوجد في كل الأحوال، ولذلك قالوا: إن مذهب الحنفية رحمهم الله في هذا الباب مذهب فيه نوع من الشدة والتشدد، حيث إن شركة المفاوضة لا تقع عندهم إلا على هذا الوجه، أما الحنابلة رحمهم الله ومن وافقهم الذين أجازوا شركة المفاوضة أجازوها على أساس أنها جمع لشركة العنان وشركة الأبدان وشركة الوجوه، فشركة المفاوضة عندهم أن تجمع الثلاث شركات في شركة واحدة، فمثلاً: عندنا رجلان، أحدهما حداد، أو عنده مصنع للحديد، والآخر عنده مصنع للحديد، فاتفقا فيما بينهما على رأس مال، وعلى أن يكون المصنعان متقبلَين لما يكون من الطلبات ونحوها، واتفقا فيما بينهما أيضاً أن يتقبلا من الناس أو يأخذا من الناس أموالاً أو تجارات ويبيعانها مع بعضهما، فتجدهما شريكين شراكة عنان في النقدين، أي: مائة ألف من كل واحد منهما، وشركة أبدان بالنسبة لعمل المصانع الموجودة عندهما، وشركة وجوه بالنسبة لتقبل البضائع التي تأتي من الخارج، مثلاً: لو كان عندهما محلات للقماش أو للطعام أو للسيارات أو للورش، فتستطيع أن تقول في الورش: شركة أبدان، وفي الأكسية والأغذية والسيارات تكون شركة وجوه من جهة جلب الأرزاق ديناً وبيعها وتخليص أصحاب الحقوق، فتكون شركة وجوه، ويمكن أن تعتبرها شركة أبدان بالنسبة لتصريف البضائع ونحوها. إذاً: لا مانع على هذا الوجه أن تجتمع الشركات وكأنها شركة أم للشركات الماضية: العنان والأبدان والوجوه، وهذا في الحقيقة يدفع كثيراً من الغرر، يعني: الحنابلة كأنهم يقولون: هذه الشركات جائزة منفردة فتجوز مجتمعة، ولا مانع يمنع الشريكين أن يتفقا على هذا الوجه، وهذا يقع حتى في زماننا الآن تجد شريكين يتفقان فيما بينهما على الدخول في الأعمال التجارية، ويتقبلان البضائع من الخارج توريداً على الذمة، فتكون شركة وجوه، ويكون عندهما سيولة ونقد لبناء المحلات التي يتم فيها عرض هذه البضائع وتصريفها، وتكون عندهما سيولة لشراء السيارات التي تصرف البضائع، وتكون عندهما سيولة لاستئجار العمال، فتكون شركة عنان، وكأنهما دخلا برأس مال النقدين -النقد من كل منهما- على أن يستغلاه في هذا العمل التجاري، وتكون شركة أبدان بالنسبة للتصريف إذا كانت هناك مصانع أو محلات. مثلاً: لو كان هناك شركةٌ تورِّد السيارات، وعند توريد هذه السيارات تقتصر فقط على التوريد والبيع، فهذه الشركة تستطيع أن تقول: إنها شركة وجوه وشركة عنان؛ لكن ليس فيها تصليح للسيارات، فليست بشركة أبدان. لكن في بعض الأحيان تجد مورداً يورد السيارات، ويفتح محلاً لتصليح السيارات وبيع قطع الغيار، فتستطيع أن تقول: إن الشريكين إذا اشتركا في هذا النوع من الشركة، تصير شركة عنان بالسيولة التي دخلا بها، وشركة وجوه بالنسبة لتقبل السيارات القادمة من الخارج كونهما موردين أو وكيلين لهذا النوع من السيارات. ويعتبران فيه متقبلين على الوجه، والشركة شركة وجوه، وشركة أبدان بالنسبة لتصليح السيارات، وتقبل السيارات التي تحتاج إلى تصليح. المحلات الميكانيكية ونحوها الموجودة في زماننا يمكن أن نقول: لو اشترك مهندسان أو أكثر في هذه الأعمال الميكانيكية فقد نحكم أنها شركة أبدان، ولا مانع أن يتقبلا مع بعضهما، وأن يقوما بالعمل مع بعضهما، ويتفقا على الربح مقسوماً بينهما. هذا بالنسبة لتطبيقات شركة المفاوضة على ما ذكره المصنف رحمه الله من مذهب الحنابلة. أما الشيوع والإطلاق من كل وجه، واشتراط المساواة، واشتراط اتحاد رأس المالين أو نحو ذلك من الشروط التي ذكرها الحنفية وغيرهم، فهذا قول مرجوح، والصحيح أنه لا بأس من جمع شركات العنان والوجوه والأبدان مع بعضها على أنها شركة مفاوضة. قال رحمه الله: [أن يفوض كل منهما إلى صاحبه كل تصرف مالي وبدني من أنواع الشركة]: فيتصرفان بيعاً وشراءً، ودَيناً ورهناً ونحو ذلك من التصرفات كلها. أي: لو أن أحد الشريكين اشترى بضاعة من الخارج، والاتفاق بينهما على توريد البضائع من الخارج، واتفقا فيما بينهما على هذا النوع من الشركة، فورَّد أحدهما بضاعة بمليون، والشركة مناصفة، فاتفقا على هذا الوجه. نقول: إن الشريكين يعتبران مطالبَين بهذا المبلغ وذمتهما واحدة. صحيحٌ أن أحدهما هو الذي سافر وأبرم العقد؛ لكن الطرف الثاني بموجب العقد والاتفاق ملزم بدفع هذا المبلغ. إذاً: ذمتهما واحدة. هذا في حال توريد البضائع. ومثل ما يقع من بعض المهندسين: يتفقون مع بعضهم، فيدخل -مثلاً- رجلان لهما خبرة بتصليح السيارات، ويتفقان ويدفعان مائة ألف، فيشتريان أرضاً لمكان الشركة أو التصليح، ثم يقومان على تصليح هذه الأرض وبنائها ووضع مواضع الآلات ومواضع التصليح، وشراء الآلات التي يصلح بها، فهذا الاتفاق والتعاقد بين الطرفين يعتبر من حيث الأصل شركة أبدان، ولو أنهما أضافا إلى ذلك موجب العقد من كونهما يقومان بالأعمال مع بعضهما، ويلتزمان في ذمتهما بشراء قطع الغيار على أن ذمة أحدهما كذمة الآخر فتكون حينئذٍ شركة وجوه. ففي بعض الأحيان تجد شريكين ومهندسين يتفقان على التصليح فقط، يقول له: يا فلان! نحن فقط نصلح. نقول: هذه شركة أبدان. لكن لو قال له: نصلح السيارات ونشتري قطع غيار، وكل واحد منا يشتري قطعة غيار فالآخر شريك له فيها. ويمكن أن تجزأ، سيقول له: أي قطعة غيار تشتريها فإني ألتزم بثلث قيمتها وعليك الثلثان، أو ألتزم بنصف قيمتها وعليك النصف، مثل ما تقدم معنا في شركة الوجوه، ويتم العقد على ما اتفقا عليه، والربح بينهما على رأس المال. إذاً: يمكن أن يتفقا في الورشة الواحدة شركة أبدان من وجه، وشركة وجوه من وجه آخر. ويمكن أن يضيفا إلى ذلك شركة العنان فيما لو إذا كان في المحل بيع لقطع الغيار، وبيع قطع الغيار يحتاج إلى شراء قطع الغيار ثم بيعها. فإذا اشتريا اتفقا على أن يدفعا مائة ألف، فالمائة ألف شركة عنان بينهما في هذا النوع من العروض، فتكون شركة عنان من وجه، وأبدان من وجه آخر، ووجوه من وجه ثالث.

الربح والخسارة في شركة المفاوضة

الربح والخسارة في شركة المفاوضة قال رحمه الله: [والربح على ما شرطاه]: الربح بينهما على ما اتفقا عليه. قال: [والوضيعة بقدر المال]: (والوضيعة): يعني: الخسارة. (بقدر المال): فإذا اتفقا مناصفة فالخسارة بينهما بالنصف. مثلاً: لو أن شريكين دخلا في شركة بثلاثة ملايين، وتمت الشركة -شركة مفاوضة- ودخل فيها التزام بالذمم، وعمل بالأبدان، واستغلال للسيولة الموجودة من الشريكين، التي هي ثلاثة ملايين، فنعتبرها في هذه الحالة شركة مفاوضة، لو دخلت الشركة وانكسرت وخسرت، وكانت الخسارة على النصف فأخرج من الثلاثة ملايين مليوناً ونصفاً بعد تصفية الحقوق ورد الديون ونحو ذلك، بقي المليون والنصف، يُقسم المليون والنصف بينهما على قدر حصتهما من رأس المال. وبناءً على ذلك يكون الربح والخسارة بين الشريكين، ولا يجوز أن ينفرد أحدهما بالربح أو ينفرد أحدهما بالخسارة، كما تقدم معنا في قوله عليه الصلاة والسلام: (الخراج بالضمان).

حكم الغرر في شركة المفاوضة

حكم الغرر في شركة المفاوضة قال رحمه الله: [فإن أدخلا فيها كسباً أو غرامة نادِرَين أو ما يلزم أحدهما من ضمان غصب أو نحوه فسدت]: (فإن أدخلا فيها كسباً أو غرامة نادِرَين) أي: فإن أدخلا في شركة المفاوضة. هناك نوعان: النوع الأول: أن تجري شركة المفاوضة على الثمن الذي تقدم معنا في الشركات الماضية: الوجوه، والأبدان، والعنان، فحينئذٍ لا إشكال في جوازه، وتخرج الجواز على قاعدة وأصل شرعي: وهو أن هذه الشركات كما جازت منفردة تجوز مجتمعة، ولا بأس بذلك. لكن هناك نوع من شركة المفاوضة محرم ولا يجوز، وهو ما ينبني على الغرر، يقول له: أفاوضك على أن أي كسب نادر مثل اللقطة ومثل الركاز، أو أي شيء أجده فهو بيني وبينك مناصفةً، وأي شيء تجده فهو بيني وبينك مناصفةً، وأي إرث تستحقه فهو بيني وبينك مناصفةً، أو أي إرث أستحقه فهو بيني وبينك مناصفةً، وأي وصية تكون لك من مال أو متاع فبيني وبينك مناصفةً، فهذا لا يجوز، وهذا النوع من الشركات لا يجوز، والأصل عدم جوازه حتى يدل الدليل على جوازه، ولا دليل؛ لأن الغرر فيه واضح وبيِّن، وليس هناك عمل من أحدهما لقاء الآخر، وليس هناك التزام من أحدهما للآخر كالتزامه، وإنما هو نوع من الدخول على حقوق الناس على وجه غير شرعي، ولذلك حُكم ببطلان المفاوضة على هذا النوع. قال: [أو ما يلزم أحدهما من ضمان غصب أو نحوه فسدت] الشركة كسب وخسارة، وربح ووضيعة، وغُرْم وغُنْم، فهو يقول له: أي كسب بيني وبينك مناصفةً، يمكن أن يقول له: أي خسارة عليَّ تكون بيني وبينك، وأي خسارة عليك تكون بيني وبينك، فهذا نوع من المخاطرة، يعني: شخص يقول لآخر: أنا وأنت أخوان، ونريد أن نتفق اتفاقاً يدل على محبتنا ومودتنا وموالاة كل واحد منا للآخر، فأي كسب يأتيك فبيني وبينك، وأي كسب يأتيني فبيني وبينك، وأي خسارة أو مصيبة أو بلاء يحل عليَّ أو عليك فبيني وبينك، فهذا لا يجوز؛ لأنه يخاطر كل منهما بالآخر. يعني: لو أنه ذهب وصدم بسيارته شخصاً وقتله، فوجبت عليه الدية، يصبح بمقتضى هذا النوع من الشركة يدفع نفس الدية، مع أن الذي جنى ليس هو، وهذا الخلل ليس منه وإنما من شريكه. فهذا النوع من الشركات فيه مخاطرة وفيه غرر، ولا يجوز ولا يصح.

الأسئلة

الأسئلة

الشراكة في حمل الأمتعة

الشراكة في حمل الأمتعة Q إن اشتركا على أن يحملا على دابتيهما والأجرة بينهما، صحت؛ ولكن إن أجراهما بأعيانهما على حمل شيء بأجرة معلومة واشتركا على ذلك، لم تصح الشركة. فما الفرق بينهما؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه. أما بعد: بالنسبة لما ورد في السؤال، فالسائل حكم بالصحة وعدم الصحة، وفي الحقيقة نحن لم نتعرض لهذه المسألة بالتفصيل، فكلتا المسألتين لم نفصل فيهما: وقد ذكر مسألتين: المسألة الأولى: إذا اتفقا على أن يحملا الأمتعة، ويكون الربح بينهما، كما لو كانا حمالين في السوق فقالا: نشترك، وأي ربح أو مال يأتينا من الحِمالة فهو بيننا مناصفة، فهذا يصح. الصورة الثانية: إن أجراهما بأعيانهما مثل ما ذكرنا. والحمَّالان إذا اشتركا على أن يحملا على دابتيهما والأجرة بينهما صح، وإن اتفقا على أن يعملا ببدنيهما والمال بينهما لم يصح. وبعض العلماء قال: الصحة في الاثنين، يعني: هذا صحيح وهذا صحيح، وكما صح هذا يصح هذا؛ لكن هناك فرق بالنسبة لدخول شركتي الوجوه والأبدان مع بعضهما في الصورة الثانية التي حُكم فيها بعدم الصحة عند من لا يرى صحتها؛ لكن القول بجوازها إما أبداناً أو وجوهاً، وكلها جائزة، والذي يظهر أنه لا فرق بينهما، والجواز في هذا كهذا. أما الفرق بأن يقال: أحدهما حرام، والثاني جائز، فهذا قد يكون فيه نظر، والله تعالى أعلم.

شركة الأبدان

شركة الأبدان Q لو أن الشركة قامت بين رجل وصاحب صنعة على أن عليه إدارة العمل، وعلى الآخر الصنعة، مع العلم أن الإدارة تتحمل أعمالاً كثيرة من تجهيز أعمال وعمال، فهل هذه من شركة الأبدان؟! A إذا كان كل منهما يتقن العمل واتفقا على أن أحدهما يتقبل، والثاني يعمل، فلا بأس، إذا اتفقا على ذلك. لكن أن يكون أحدهما هو الذي يعمل ويتقن العمل كالمهندس والنجار والحداد، والآخر يقول له: أنا أفتح المكتب وأدير المكتب وأجري الاتصالات أو أحضِّر الزبائن ونحو ذلك فلا يجوز؛ لأن الصنعة اختلفت، وإن كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقول: عندي فيه نظر؛ لاحتمال أن تجوز من باب ترتب أحدهما على الآخر، وهذا لا يخلو من نظر؛ لأن مسألة ترتُّبِ أحدهما على الآخر لا يكون إلا عندما يكون العمل من أصل الصنعة، كما ذكرنا في الغزل، وكما ذكرنا في قص القماش مع الخياطة، فالعمل يتركب منهما معاً، والمال مركب عليهما؛ لكن إحضار الزبون ليس له علاقة بذات العمل، فقد يُحْضِر زبوناً ولا يوافق، ولذلك من جهة عمله فإحضارُ الزبون لا ينبني عليه العمل من كل وجه، وليس هو العمل بعينه؛ لأن إحضار الزبون للعقد والتعاقد؛ لكن التعب والعناء والمشقة ستنصب على العامل. ولذلك تكون الشبهة في هذه الحالة قوية، والقول بالمنع هو أحوط وأشبه، والله تعالى أعلم.

حكم أجرة العامل إذا تركها ولم يرجع

حكم أجرة العامل إذا تركها ولم يرجع Q إذا ترك العامل جزءاً من أجرته ومضت فترة ولم يرجع، فماذا يُعمل بهذا المال، خصوصاً إذا كان مما ينمو؟ A إذا اتفقت مع العامل على أن يقوم بعمله، وأعطيته أجرة؛ فإن هذه الأجرة حق من حقوقه، ولا يجوز لك أن تتسبب في ضياع هذا الحق، فتكتب وصيتك وتُشْهِد على هذا المال أو تنبِّه ورثتك على أن هذا المال لفلان العامل، ثم تتعاطى جميع الأسباب الممكنة لك في الاتصال به والبحث عنه، وتوصية من يمكن أن يوصلك إليه، ونحو ذلك من الأسباب. فإذا استنفذت جميع الوسائل وجميع الأسباب فحينئذٍ تحفظ له حقه وتنبه عليه. والأجرة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون على الذمة، كأن تقول له -مثلاً-: ابنِ لي هذه الغرفة بصفة كذا وكذا، وأعطيك خمسة آلاف ريال، فقام ببناء الغرفة وأخذ منك ألفين مقدمةً، وبقيت له ثلاثة آلاف، ثم غاب الرجل وفُقد، ففي هذه الحالة الأجرة غير معينة، يعني: تبقى في ذمتك ثلاثة آلاف غير معينة، وسننبِّه على معنى التعيين، بحيث أنك تلتزم بدفع ثلاثة آلاف فقط، وليس هناك نماء للثلاثة آلاف، ولا يتصل بها ربح، وفي أي وقت يأتيك -ولو بعد عشرين سنة ولو بعد مائة سنة- يكون مستحقاً للمبلغ الذي بقي له في ذمتك. الحالة الثانية -وهي أصعب الحالات-: أن تقول له -مثلاً-: افعل -مثلاً- شيئاً وأعطيك هذين الرأسين من الغنم أو إذا بنيت هذه الغرفة فهاتان الشاتان أو هذا البعير أو هذه الناقة لك، فهذا يسمى التعيين والأجرة العينية المعينة، والأجرة المعينة يستحق العامل فيها عين ما سُمي له، وفي هذه الحالة لو أنه مَلَك رأسين من الغنم، وهذان الرأسان تكاثرا، وحصل منهما النسل والدَّر، فإنه مالُه، ويستحقه بنمائه ولو أصبحت ألفاً من الغنم؛ لأنه ماله بعينه، وقد سميتَ الأجرة، وهذا هو الفرق، وانظروا إلى حكمة هذا الشرع ودقة هذه الشريعة! فلن تجدوا على وجه الأرض أدق من هذا الحكم الإلهي الذي أعطى كل ذي حق حقه. فأنت إذا قلت له: أعطيك هذين الرأسين من الغنم، فقد عيَّنت. وإذا جئت إلى أي محل تجاري وقلت له: بكم هذه العلبة؟ فأخذت هذه العلبة بعشرة ريالات، ثم ذهبت إلى البيت فوجدت في العلبة عيباً، فمن حقك أن تقول له: اردد لي العشرة ريالات. ولو قال لك: أعطيك علبة بديلةً لها فليس من حقه؛ لأن البيع انصب على عين، وهذا شيء يجهله كثير من الناس؛ لكن الشريعة تقول: إذا انصب العقد على شيء معين، فلا يمكن أن ينصب على غيره. لكن لو قلت له: أعطني علبة، أعطني كذا -يعني: يكون الكلام على موصوف في الذمة- فحينئذٍ إذا رددت علبة من حقه أن يقول: لا أعطيك العشرة، ولكن أعطيك بدلاً عنها بالصفة المتفق عليها. إذاً: العامل إذا كانت أجرته معينة فيستحقها بعينها، وما نتج منها من نتاجها منفصلاً ومتصلاً. وأما إذا كانت أجرته من دون تعيين، فحينئذٍ الحكم على ما ذكرناه، من أنك تكتب الوصية وتثبت له الحق وتستنفد جميع الأسباب والوسائل، فإذا جاء في أي يوم أعطيته حقه، وهذا من حق المسلم على المسلم. فإذا لم يجئ فقال بعض العلماء: إذا طال العهد وغلب على الظن عدم تيسر الرجوع فلك أن تتصدق بالمال على ذمته، وهذا أفضل وأكمل، وإن أكلت ذلك المال فإنه أصلاً مبني على اللقطة، والله تعالى أعلم.

تلقي الركبان

تلقي الركبان Q هل يعتبر ما يصنعه بعض الناس من الحضور إلى المنزل بشراء الأثاث ونحوه من تلقي الركبان؟ A تلقي الركبان يكون في السلعة التي تُجلب إلى السوق، وكان أهل البادية في القديم يأتون بسلعهم من البادية مثل الأرزاق كالسمن والدواب واللبن ونحو ذلك، فإذا قدموا بهذه السلع تلقاهم التجار قبل دخولهم السوق، مستغلين عدم معرفتهم لحقيقة أسعار السلع، فيشترون منهم السلع بأرخص مما في السوق. فهذا ظلم للبادي -حينما يجلب السلعة- لما فيه من المخادعة والله عزَّ وجلَّ حرَّم هذا النوع من التلقي؛ لأن شيمة المسلم لا تقبل أن يضر أو يتسبب في الضرر لأخيه المسلم، وهو في نفسه لا يرضى أن أحداً يشتري منه سلعةً يمكنه أن يبيعها بأكثر. فأصبح التجار الذين يخرجون من السوق ويتلقون الركبان يضرون بالركبان. ومن هنا قال بعض العلماء: إن النهي هنا لمصلحة الجالبين للأرزاق. وقال بعض العلماء: لمصلحة الجالبين ومصلحة السوق. ومما يدل على أنه لمصلحة الجالبين: رواية ابن عمر في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للركبان الخيار إذا هبطوا إلى السوق بين المطالبة بأصل القيمة وبين إمضاء البيع)، وهذا يقوي أن العلة دفع الضرر عن البادي بختله؛ ولكن لا يدخل في هذا أن يذهب ويشتري المتاع في البيت؛ لأن صاحب البيت قد رضي بذلك، وقد رضي بالسعر، ولا بأس في ذلك، وإذا رضي بالقيمة التي تعرض بها، فإنه قد أسقط حقه، وحينئذٍ يجوز مثل هذا، إلا إذا كان فيه ختل، أو صور يُقصد منها الختل والغش، فيتقيد الحكم بتحريم تلك الصور بعينها دون غيرها، والله تعالى أعلم.

كفارة اليمين

كفارة اليمين Q علي كفارات كثيرة من كفارات اليمين، فهل يصح أن أكفر عنها مرة واحدة؟ أثابكم الله. A من كانت عليه أكثر من كفارة في اليمين، فإنه يجب عليه أن يبادر لإبراء ذمته، ويجوز له أن يخرجها مجتمعة إذا تحقق مقصود الشرع من وجود العدد، فلو كانت عليه عشر كفارات وأطعم مائة مسكين، فإنه يجزئه، ولو أخرجها في ساعة واحدة، ولو كانت عليه عشر كفارات، فكسا مائة مسكين فكذلك الحكم، بل ينبغي عليه أن يبادر، والتأخير في الكفارات شغل للذمة بالدين، ولذلك كان بعض العلماء يقول في قوله عليه الصلاة والسلام: (نفس المؤمن مرهونة بدَينه). أما الدَّين فيضر بالإنسان، وتتعلق به نفسه حتى في الحياة، ولذلك قد يكون سبباً في حصول بعض الضرر عليه، فإذا تعلقت ذمته بالدين وخاصةً الديون التي هي لله عزَّ وجلَّ، فالواجب عليه أن يبادر بقضائها بسرعة. فمثلاً: إذا كانت عليه كفارات في الأيمان وانتظر سنوات مع إمكانه أن يكفر مباشرة، فإنه لا يأمن من حصول الضرر عليه، قال صلى الله عليه وسلم: (دين الله أحق أن يُقضى). فيبادر بإبراء ذمته وسداد حق الله عزَّ وجلَّ الواجب عليه، والله تعالى أعلم.

دور الأم في تربية أولادها

دور الأم في تربية أولادها Q في عصرنا الحاضر شُغلت بعض الأمهات عن تربية أولادهن فتركنهم عند المربيات والخادمات، وهذا مما يسبب الخلل في الأسرة، فما توجيهكم للأم المسلمة؟ A الولد نعمة من الله سبحانه وتعالى، والله تعالى جعل في الأولاد قرة العين، ولا يكون الولد قرة عين لوالده ووالدته إلا إذا حرص كل منهما على القيام بحقوقه، ورعاية ما أمر الله عزَّ وجلَّ برعايته من واجباته، والله سائل الأب كما هو سائل الأم عن حق ولدها: أحفظ كل منهما أو ضيَّع، ولن تزول أقدامهما بين يدي الله عزَّ وجلَّ حتى يُسألا عن حقوق الولد، حتى تسأل الأم عن بكاء صبيها. فالأمر جِدُّ عظيم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته). وعلى الأم أن تعلم أن الله تعالى أسكن في قلبها الرحمة لولدها، وإذا أرادت أن يبارك الله لها في هذا الولد، وأن يقر عينها به في حال الكبر فلتحسن إليه في الصغر، فإن الله تعالى جعل جزاء الإحسانِ الإحسانَ، ولتنظر إلى هذه الذرية الضعيفة، كيف لو كانت مكان هذه البنت، أو مكان هذا الولد، وقد استَلَمَتْه يدٌ غريبة، لا تحن إليه، ولا تعطف ولا تشفق عليه كشفقة أمه، ولربما كانت الخادمة تريد التخلص من الولد بأي وسيلة، فهو إذا بكى تريده أن يسكت بأي وسيلة ولو بضربه، وإذا اشتكى تريد سكوته ولو بقمعه، وكل ذلك تسأل عنه الأم بين يدي الله عزَّ وجلَّ. فكونها تدع الولد عند الخادمة لا يبرئها من المسئولية، إذ الواجب في هذه الخادمة إذا وكلتها لحفظ الولد أن تكون كمثلها من كل الوجوه رعايةً وقياماً على حقوق الولد، وهي لا تستطيع أن تزكي خادمتها على هذا الوجه. وعلى ذلك: فعلى كل أم أن تعلم أن الواجب الأصلي أن تكون هي المرضعة لولدها، وأن الواجب الأصلي أن تكون هي الحاضنة المتكفلة بالولد، وأنه لا يجوز لها أن تتهرب عن هذه المسئولية بكثرة الخروج من المنزل خاصةً للزيارات والمناسبات واللقاءات دون شعور بما أوجب الله عليها وفرض من حق هذا الولد، فعليها أن تحسن تربية الولد وألَّا تخرج إلا من ضرورة وحاجة، وإذا أرادت الخروج وَوَكَلَتْه إلى غيرها أن تتقي الله عزَّ وجلَّ فيه، وأن تضعه في يد أمينة، تحفظه ولا تضيعه، وتكرمه ولا تهينه، وتحسن إليه ولا تسيء إليه، يدٌ تستطيع أن تلقى الله سبحانه وتعالى وتقف بين يديه وهي شاهدة لها وحجة لها لا عليها، وعلى كل أم أن تستشعر المسئولية، وأن تعلم أن الأمور لن تمر هكذا، فما خُلق الإنسان سُدى، ولا أوجد الله هذه النعمة عبثاً. فكم من أبناء دُمِّروا وبنات ضُيِّعْنَ بسبب تقاعس الأمهات عن القيام بالواجبات! وكم من أم صالحة ضحت بأمور الدنيا وبفضائل الدنيا لقاء إحسانها إلى ولدها، فما ماتت حتى أقر الله عينها بصلاح ولدها! إن الأم الصالحة التي تعرف حقوق ولدها وواجبات أبنائها وبناتها، وتنظر إلى هذه الذرية أنها ستضيع إن وَكَلَتها إلى خادم أو خادمة، تغار على هذه الذرية، وبينها وبين الله أنها تريد أن تحسن إلى هذه الذرية، وبينها وبين الله أنها تريد شكر نعمة الله وإحسانه إليها، فتحفظ ولدها وتضمه إلى صدرها، وتفيض عليه من حنانها ورحمتها لعل الله أن يرحمها كما رحمته، وأن يحسن إليها كما أحسنت، فهي بخير، ولن تموت حتى ترى من ولدها ما يقر الله به عينها، وإن ماتت قبل ذلك فسيُتبعها الله بالرحمات وصالح الدعوات ما يكون لها خيراً في قبرها ولحدها، وحشرها ونشرها ووقوفها بين يدي الله عزَّ وجلَّ. على الأمهات أن يتقين الله عزَّ وجلَّ في حقوق الأبناء والبنات، وأن يتذكرن أن الله سائلهن، وعليهن أن يعلمن علم اليقين أن الدنيا فانية زائلة حائلة، وأن الله سبحانه وتعالى سيحاسب العبد حساباً إما عسيراً وإما يسيراً، وحقوق الناس تحاسب على الحساب العسير؛ لأنها حقوق بالقصاص، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، إي والله! كفى بالله حسيباً، وكفى بالله شهيداً، فهو المطلع على التضييع وعلى التفريط واللامبالاة والإهمال، وكل ذلك ستلقاه الأم بين يدي ذي العزة والجلال، وولدُها خصمٌ لها بين يديه: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]، فالولد ينسى عاطفة والديه فيقول: يا رب! سل أمي عن تضييعها لحقوقي، فيحاسبها عن كل صغيرة وكبيرة، ويرى أمام عينيه كل ما كان من إساءة والدته إليه، وكل ذلك يؤخذ من الحسنات أو يؤجب السيئات، نسأل الله السلامة والعافية. فعلى الأمهات أن يتقين الله عزَّ وجلَّ، وأن ينظرن كيف تفككت الأسر، إن المجتمعات تُدَمَّر إذا فقدت العاطفة، وإذا تقطعت أواصر الرحمة بين أفراد المجتمع يُدَمَّر المجتمع تماماً، ولذلك نجد في بلاد الكفر أن الرجل ربما غاب عن أمه السنوات ولا يسأل عنها، نسأل السلامة والعافية. وحدثني من أثق به أن رجلاً من أهل الكفر كان يعلم أموراً دنيوية، جاء إلى طلابه يوماً من الأيام يفتخر ويقول: أرسلت له أمه -البعيد- رسالةً تسأل عن حاله، فمزق الرسالة ولم يجبها. فعجب طلابه من ذلك -وانظروا كيف ينقلون السموم إلى أبناء المسلمين- فلما سأله طلابه وقالوا: كيف يكون هذا، وهذه أمك؟! قال: هذه تضيع وقتي. الوقت عنده غال وعزيز إلى درجة أنه لم يلقِ نظرة على كلمات من أمه. نعم. لأن الواحد منهم يتربى على أسلوب ليس فيه حنان ولا رعاية، فالمرأة خَرَّاجَةٌ وَلَّاجَةٌ، ذاهِبَةٌ آتِيَةٌ، لا تبالي بولدها ضاع أو حُفِظ، أُكْرِم أو أُهِين، فلما كَبر عامَلَها كما عامَلَته، وضَيَّعها كما ضَيَّعَته، وأهانَها كما أهانَته، فكما كانت مُضَيِّعَةً له في الصغر ضَيَّعَها الله به في الكبر. فهكذا الأمهات وهكذا الآباء، فعلى كل أب أن يكون قريباً من أهله وولده، ووالله! إن سهرك خارج البيت قد يدمر البيت، فكثرة السهر وإضاعة الأبناء والبنات، من الآباء والأمهات قد يضيع الأسر ويشتتها، ولو كان الإنسان في بعض الأحيان يعتذر بالأعذار؛ لكن غَلَبَةَ السهر إلى درجةٍ يَفْقِدُ فيها الولد رؤية الوالد قد تدمر البيت، فرؤية الوالد في البيت لها آثار نفسية من ناحية الرحمة، والود، والعطف، والحنان. والبيوت التي تجد الآباء محافظين فيها على الحضور وتجد شخصية الأب متواجدة أكثر اليوم أو أغلب اليوم تجد وشائج الرحمة والصلة، وهيبة الوالد ومكانته محفوظة. والبيوت التي يغيب فيها الآباء بالساعات ويسهرون ولا يبالون بحقوق الأبناء والبنات تجدها على العكس تماماً. فعلى كل والد ووالدة أن يتقي الله عزَّ وجلَّ وأن يعلم أن الله سائله ومحاسبه. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا ويسلم منا. اللهم تب علينا وتجاوز عنا، ونسأل الله العظيم أن يجعل ما وهب لنا قرة عين في الدنيا والآخرة، وأن يرزقنا صلاح أبنائنا وبناتنا، وأهلينا وزوجاتنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد.

باب المساقاة [1]

شرح زاد المستقنع - باب المساقاة [1] من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده أن يسر لهم أموراً مشروعة، وأباحها لهم لكي ينتفع بعضهم من بعض، ومن ذلك المساقاة على كل شجر له ثمر كالنخيل والعنب والزروع، وذلك بضوابط شرعية يحفظ بها حق المالك والعامل في نفس الوقت. وقد اختلف العلماء فيما تجوز عليه المساقاة، وقد وضح الشيخ سبب اختلافهم، ودلل لأقوالهم، وبين أن عقد المساقاة من العقود الجائزة، ثم ذكر بعض ما يترتب على ذلك من أحكام.

مشروعية المساقاة والحكمة من ذلك

مشروعية المساقاة والحكمة من ذلك بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب المساقاة] الْمُسَاقَاة: مفاعلةٌ من السقي، والمراد بالسقي ريٌ الأرض. وإنما سميت الْمُسَاقَاة بهذا الاسم؛ لأنهم كانوا بالمدينة وبالحجاز يحتاجون إلى سقي المزروعات؛ لأن الماء يكون في الآبار غالباً، ومن هنا كان أهم ما يُحتاج إليه في هذا العقد سقي النخل والقيام عليه، ومن هنا سميت مساقاة، وإلا ففي الأصل أنها تشمل سقي النخيل والقيام عليه وغرسَه ورعايته، وبذل كل ما يمكن أن يكون من أجل صلاح الثمرة وخروجها. وهذا النوع من العقود عرَّفه بعض العلماء بقوله: المساقاة أن يدفع إنسانٌ شجرَهُ إلى آخر لكي يقوم بسقيه وما يحتاج إليه على جزءٍ من الثمرة.

أدلة مشروعية المساقاة

أدلة مشروعية المساقاة وهذا النوع من العقود مشروع بدليل السنة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم: أما دليل السنة فقد روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها)، والمراد بهذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما فتح خيبر وأذعنت له يهود، قالوا: يا محمد! دعنا في هذه الأرض نقوم عليها ونصلحها ولنا جزءٌ من ثمرتها. فنَظَر عليه الصلاة والسلام فوجد أن المصلحة تقتضي بقاءهم في خيبر، وقيامهم على النخل بالسقي؛ لأن الأنصار والمهاجرين سيرجعون معه إلى المدينة، ومن هنا رأى عليه الصلاة والسلام أن المصلحة في إبقاء النخل، يقومون على سقيه ورعايته فتخرج الثمرة ويبقى الأصل، ثم يأخذون جزءاً من الثمرة، وحينئذٍ تكون مصلحة الإسلام في المعاملة بهذا النوع من العقود، فأقرَّهم عليه الصلاة والسلام، ولما سألوه أن يبقوا في الأرض بقاءً مستديماً قال عليه الصلاة والسلام: (نقركم فيها ما أقركم الله)، أي: أننا نبقيكم وليس العقد مؤبداً، وإنما هو مؤقت إلى وقت أن يشاء الله عز وجل فنخرجكم منها، ولذلك نفذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأنجز وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبقاهم صدراً من خلافته، ثم أخرجهم عن خيبر وأجلاهم منها. فالشاهد أن ثمر خيبر ونخلها كان يُحتاج إلى صيانته ورعايته، فأقرهم عليه الصلاة والسلام.

أركان عقد المساقاة بين النبي ويهود خيبر

أركان عقد المساقاة بين النبي ويهود خيبر فأصبح عقد المساقاة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود على النحو الآتي: الْمُساقِي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الركن الأول في عقد المساقاة؛ لأنها تستلزم مساقياً، ومُسَاقَى، ومُسَاقَى عليه وهو المحل، وصيغة يتم بها العقد، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب الأرض لأنه ولي المؤمنين والقائم على مصالحهم. والمساقَى هم اليهود، وهم العمال الذي يقيمون باستصلاح الأرض. ثم المُسَاقَى عليه وهو نخل خيبر وما كان فيها من زروع. وأما الصيغة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم فيها وقال: (نقركم ما شاء الله). فعاملهم، وكان الاتفاق بينه وبينهم على أنهم دائماً يوفون بعقد المساقاة الذي يستلزم جانبين: الجانب الأول: أن يقوم العامل بالعمل. والجانب الثاني: أن يلتزم رب النخل بإعطاء الأجرة والمقابل له بعد تمام عمله. فإذاً عندنا عمل العامل وهو رعايته للنخل وسقيه لها، وسنبين ما الذي يُطَالب به من القيام على مصالح النخيل. إذا قام العامل بسقي النخل ورعى المزرعة رعايةً تامة كاملة على الوجه المعتبر استحق الأُجرة التي اتُّفِق عليها، وهي نصف الثمرة أو ربعها الثمرة أو ثلثها أو غيره، فإذا جُذَّ النخل وأُخْرِجت منه ثمرته وحُصِد فإنه يأخذ الثمرة المتفق عليه. وبناءً على ذلك عقد عليه الصلاة والسلام هذا العقد على هذا الوجه، فدلَّت السنة على مشروعيته. ولذلك أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على جواز هذا النوع من العقود، وقد حكى إجماعهم غير واحدٍ من أهل العلم، ونقل الإمام ابن قدامة رحمه الله عن أبي جعفر الإمام محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر ثم أبو بكر ثم عمر ثم المسلمون من بعدهم) دل على أنه كان أمراً معروفاً وشائعاً ذائعاً بين المسلمين. فتبين أن جماهير السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على جوازه، لكن خالف في هذه المسألة الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه، وعَدَّ عقد المساقاة من العقود التي فيها غرر، ووافقه على ذلك صاحبه زفر بن الهذيل رحمه الله، فقال بعدم مشروعية المساقاة، والصحيح ما قاله جماهير السلف والخلف وأئمة الصحابة والتابعين رحمة الله عليهم أجمعين؛ أن عقد المساقاة عقدٌ مشروع. وأما ما قاله من الغرر فإن الشريعة قد أذِنت بهذا النوع على سبيل الرخصة، والأصل يقتضي أنها إجارةٌ بمجهول جهالة الزمان وجهالة العمل؛ لأننا لا ندري متى تخرج الثمرة؟ ولا ندري هل تخرج كاملةً أو ناقصة؟ ولا ندري هل تسلَم من الآفات أو لا تسلم؟ فهو عقد فيه مخاطرة ولكن الشريعة الإسلامية أجازته. وبناءً على ذلك فالقول المعتبر قول من قال بجوازه، لدلالة السنة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم على ذلك. ومن الحِكم التي تُستفاد من جواز عقد المساقاة عظيم الرفق الذي جعله الله في هذا العقد، فإنك ربما ملكت مزرعةً لا تستطيع القيام بها، وقد لا تستطيع دفع النقود وسيولة المال للعامل، وأنت تريد أن تبقى هذه المزرعة، كأن يكون عندك مائة من النخل، فإن النخل يحتاج إلى جهدٍ عظيم، ومشقة وعناية، وخبرة ودراية، فليس كل إنسانٍ يُحسِن القيام على مزارع النخيل كما لا يخفى. فإذا كان هذا النوع من المال عندك فإنه لو قيل لك: استأجر عاملاً. ربما لا توجد عندك السيولة التي تستأجره بها، ولا تجد من يتبرع، ولا تستطيع بنفسك، فجاءت الشريعة بالسماحة واليسر، وقالت للعامل: اعمل وخذ جزءاً من الثمرة، فأصبحت هناك مصلحة لرب البستان ومصلحةٌ للعامل، وهذا النوع لا شك أنه يقضي على البطالة؛ لأنه ربما وظفت عاملاً لم يجد عملاً، وأيضاً فيه نوعٌ من التكافل واستغلال الأموال وتنميتها دون أن تبقى معطَّلة. وعلى هذا فلا شك أن القول بمشروعيته تتضمن الخير للأفراد والجماعات، ثم بقاء هذا البستان وخروج ثمرته وحصول منفعته؛ منفعةٍ للمجتمع، فإن المجتمعات تنتفع بالنخيل وبالثمار التي تكون من المزروعات. إذا ثبت القول بمشروعية عقد المساقاة، وأن فيه حكماً عظيمة، فعقد المساقاة يستلزم الأركان التي ذكرناها، ومنها المُسَاقِي، وهو صاحب المزرعة، وقد تكون المزرعة لأكثر من شخص، كرجلين اشتريا مزرعة واستأجرا عاملاً ليقوم بسقيها على أن يعطيه جزءاً من الثمرة، فيكون الْمُسَاقِي أكثر من شخص. وقد تكون المزرعة عند شخص ثم يموت ويتركها لورثته، والورثة يحبون بقاء المزرعة، أو لا يرغبون في بيعها، فحينئذٍ يكون الْمُسَاقِي أكثر من شخص وهم الورثة، ويوكلون من يقوم عنهم لإبرام العقد مع العامل. والركن الثاني: المسَاقَى، وهو العامل، وقد يكون عاملاً واحداً وقد يكون أكثر من شخص، كأن تساقي شخصين أو ثلاثة وتقول لهم: اعملوا في هذه المزرعة واسقوها وقوموا برعايتها، ولكم نصف ما يخرج منها، فحينئذٍ يكون الطرف الثاني في العقد وهو المُسَاقَى أكثر من شخص، ويتفق هؤلاء الثلاثة أو الأربعة على القيام بالمزرعة، خاصةً إذا كانت كبيرةً لا يستطيع شخص واحد أن يقوم بها وإنما يقوم بها أكثر من شخص.

من شروط المساقاة أن تكون على جزء معين من الثمر

من شروط المساقاة أن تكون على جزء معين من الثمر كذلك تستلزم المساقاة محلاً، وهو مورد العقد، ويشمل ذلك جانبين؛ فالاتفاق بينك وبين العامل يستلزم جانبين: جانبٌ لك وجانبٌ عليك، والعامل جانبٌ له وجانبٌ عليه. فأما الذي لك أنت صاحب النخل، فحقك عند العامل أن يقوم بتنظيف النخل وإصلاحه ورعايته وسقيه على الوجه الذي تحصل به الثمرة على أتم الوجوه وأحسنها، هذا بالنسبة للحق الذي لك على العامل. والحق الذي للعامل عليك أن تدفع له ما اتفقتما عليه من نصف الثمرة أو ربعها أو جزء منها، ولا بد من أن يكون هذا الحق الذي للعامل معلوماً، فلا يصح أن تقول له مثلاً: اسق المزرعة وأعطيك جزءاً منها، أو أعطيك شيئاً منها، أو أُرضيك بثمرةٍ منها أو نحو ذلك. وبناءً على ذلك تتمحض المساقاة في كونها على جزءٍ مما يخرج من النخل. قد يكون الاتفاق على نخلٍ ليس له ثمرة في الحال، وإنما في المستقبل، كما يقع في النخل الصغير، وهو ما يسمى بفسائل النخل، فإنها قد تتأخر في الطلع وتحتاج إلى سنتين أو ثلاث، وذلك يختلف باختلاف جودة الصنف والفسيلة، ووجود الرزق فيها من كونها تُطْلِع بعد سنة أو سنتين، فتقول له: قم على هذا النوع من الفسائل وإذا خرجت ثمرته فإني أُعطيك نصفها، فقد يجلس أربع سنوات وهو يعمل ثم تخرج الثمرة بعد أربع سنوات، ويستحق نصف الخارج أو ربعه كما سيأتي إن شاء الله. فمحل العقد من حيث الأصل لك فيه حقٌ من حيث إصلاح ثمرتك ورعايتها بالسقي وما يلزم. وسنبين ذلك. وللعامل حق أن تدفع له جزءاً من الثمرة متفقاً عليه، لكن لا يجوز أن تجمع له بين النقد وبين الجزء الخارج، فتقول له مثلاً: اسق المزرعة وأُعطيك ألف ريالٍ في الشهر ولك نصف الخارج. وبناءً على ذلك فالإجارة هنا تتمحض في جزءٍ من الخارج ولا يكون معه مالٌ خارجٌ عن هذا العقد؛ لأنها من العقود المستثناة ووردت على سبيل الرخصة، ولأنها إجارةٌ في مجهول وهذا مسلك طائفة من العلماء كما هو مذهب الحنفية والمالكية، وهو أصح القولين في هذه المسألة. قال رحمه الله تعالى: [تصح على كل شجرٍ له ثمرٌ يؤكل، وعلى ثمرةٍ موجودة، وعلى شجرٍ يغرسه، ويعمل عليه حتى يثمر، بجزءٍ من الثمرة] قوله رحمه الله: [تصح] أي: المساقاة. وعندما قال: (تصح) أفادنا أن عقدها من العقود الجائزة والمشروعة، وهذا كما قلنا قول جماهير العلماء، ودليل هذه الصحة حديث ابن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها) فدل على الجواز والمشروعية. وقوله: (على كل شجر) هذا عموم. إذا قلنا: يجوز للمسلم أن يُساقي على أرضه، فتصوير المسألة: إذا كان عندك مزرعة وفيها نخل فإنك قد تختار في بعض الأحيان أن تأتي بعامل وتعطيه مبلغاً شهرياً أو أسبوعياً أو سنوياً وتقول له: قم على هذه المزرعة ولك في كل يومٍ خمسون ريالاً، أو كل أسبوع مائة ريال، أو كل شهر ألف ريال، أو كل سنة اثنا عشر ألف ريالاً مثلاً، هذا النوع من العقد يسمى عقد إجارة؛ لأن العمل فيه بالمياومة أو بالمشاهرة -بالشهر- أو بالمسانهة -بالسنة- وسيأتي إن شاء الله بيان أحكام الإجارة. أما بالنسبة للمساقاة فإنها تختلف، فإنه يكون المقابل للعامل جزءاً من الثمرة، وبناءً على ذلك تقوم على السقي؛ لأنه الأغلب كما ذكرنا وإن كان عقدها لا ينحصر عليه؛ لأنه يستلزم التأبير والقيام على الثمرة بمصالحها، أما من حيث الأصل فإن المساقاة لا تكون بالنقود وإنما تكون بجزءٍ مما يخرج من الثمرة.

الثمار التي تجوز فيها المساقاة وشروط المساقاة فيها

الثمار التي تجوز فيها المساقاة وشروط المساقاة فيها واختلف العلماء رحمهم الله في عقد المساقاة على أقوال: من أهل العلم من يقول: كل نخلٍ وكل شجرٍ له ثمر تجوز المساقاة عليه، وهذا المذهب يوصف بمذهب العموم، أي: أن أصحاب هذا القول يرون مشروعية المساقاة على جميع المزارع التي تشتمل على مزروعاتٍ فيها ثمار، فيصح أن تساقي على مزرعة النخيل ومزرعة العنب، ومزرعة الليمون، ومزرعة التفاح والبرتقال والتين والمشمش، ونحوها مما له ثمر. وبناءً على هذا القول يصبح العموم في جنس ما له ثمر؛ لأن المزروعات يكون لها ثمر، منه ما يؤكل ومنه ما لا يؤكل. ثم إن هناك مزروعات لا ثمر لها مثل أشجار الزينة، فينحصر عند أصحاب هذا القول الاتفاق في المساقاة على المزارع التي تشتمل على ما له ثمر، وهذا القول هو اختيار الحنابلة رحمهم الله، واختاره بعض أئمة الحديث، أعني أنه يجوز أن تُساقي على كل مزرعةٍ فيها مزروعاتٌ لها أثمارٌ تؤكل، فيشمل النخيل والعنب والحمضيات بسائر أنواعها. فهذا قول الحنابلة وهو الذي درج عليه المصنف رحمه الله. وقال بعض العلماء: لا تصح المساقاة إلا على النخيل فقط، وهذا مذهب الظاهرية قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على النخيل فقط، فلا تصح المساقاة إلا على النخيل دون بقية المزروعات، وهذا القول لا شك أنه مرجوح. وقولٌ ثالث عند من يجيز المساقاة في الثمار أنها تصح على نوعين: النخيل والأعناب (الكَرْم) وقالوا: إن النخيل والأعناب يجوز أن يساقى عليها؛ لأن العِنب يأخذ حكم النخيل في أكثر الأحكام كما في الزكاة ونحوها، وأشبه المزروعات بالنخيل العنب. وبناءً على ذلك قالوا: لا يصح أن يقع عقد المساقاة إلا على مزرعة تشتمل على نخيل أو على عنب أو عليهما معاً، فلو سأل سائل وعنده أشجار حمضيات كبرتقال أو ليمون، وأراد أن يُساقي عليها ويقوم على رعايتها، فعلى هذا القول لا يجوز، وهو مذهب الشافعية. فالظاهرية يخصُّون المساقاة بالنخيل لظاهر الحديث. والشافعية يخصونه بالنخيل، والعنب عندهم ملحق بالنخيل قياساً. والحنابلة نظروا إلى نص الحديث ومعناه، ومذهبهم أقوى وأرجح إن شاء الله، وهو أن المساقاة تُشرَع وتجوز على كل المزروعات التي لها ثمرة تُؤْكَل، فإن كانت المزروعات لها أثمارٌ لا تُؤْكَل مثل القطن، فإنه لا يصح أن يساقى عليها. وهذا شبه إجماع على أن المزروعات التي لا ثمرة لها أو لها ثمرة لا تؤكل لا تجوز المساقاة عليها. وهذا يؤكد أن عقد المساقاة ليس عقداً قائماً برأسه، إذ لو كان عقداً قائماً برأسه لانصبّ على كل ما فيه منفعة، ولكن قولهم: إذا لم يكن له ثمرة لا يساقى، يدل على أنه مستثنىً من الأصول، ولذلك انحصر في النخيل وما في حكمها من جهة الثمر. وإذا أردت أن تُجري السبر والتقسيم في الأوصاف المعتبرة في النص فإنك تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على سقي النخل، ولا شك أن العنب كان موجوداً؛ فيكاد يحصل الجزم على أن أرض خيبر كان فيها العنب، وهذا أمر لا يمكن لأحد أن ينكره، ولذلك فالغالب أنه ساقاهم على النخل وغيره، وذُكِر النخل فقط؛ لأنه أغلب، وإلا فقد كانت المزروعات موجودة، وكل ذلك كان معروفاً، حتى إن اليهود لما قدِموا من الشام كانوا يعرفون الحمضيات، وكانت أرض الشام فيها الحمضيات، بل إنه يقوم أكثرها على زراعة الحمضيات، وعلى هذا فإن الصحيح أنه يجوز أن يساقى على كل شجرٍ له ثمرٌ يؤكل. فاستفدنا من هذا صحة المساقاة، ودليلها ما ذكرناه. ثانياً: أن المساقاة تصح على كل شجرٍ بشرط أن تكون له ثمرة تؤكل، فلا تصح على كل شجرٍ لا ثمرة له، أو على كل شجرٍ له ثمرة لا تؤكل، ولا تنحصر في نوعٍ من المأكولات والثمار أو من الأشجار التي لها ثمارٌ تؤكل دون غيرها. وقوله رحمه الله [تصح على كل شجرٍ له ثمرٌ يؤكل] بنص الحديث في النخل، وفي حكم النخل سائر الأشجار التي تؤكل، وذلك من جهة المعنى. توضيح ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ضمن حق العاملين بالمساقاة بجزء مما يخرج، فإذا قلنا: إن هذا خاص بالنخل فإن هذا ضعيف؛ لأنه إذا عامل على التين والعنب والليمون والبرتقال فإن حق العامل محفوظ، كما لو عامل على النخل، وبناءً على ذلك فالقول بكونها خاصة بالنخل جمودٌ على الظاهر، والشريعة تعتبر الظاهر والمعنى، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين). فنحن نفقه ونفهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قَصَد من المساقاة أمرين: بقاء النخل عند مصلحة النخل لمن يملكه ويعجز عن القيام به، وضمان حق العامل، وهذا يقع في الحمضيات وأشجار الثمار التي لها ثمرة تؤكل كما يقع لغيرها من بقية المزروعات.

حكم وجود الثمرة في عقد المساقاة

حكم وجود الثمرة في عقد المساقاة قال رحمه الله: [وعلى ثمرةٍ موجودة] وهذه مسألة خلافية. وأريد أن أنبه على أن الأفضل لطلاب العلم والذي ينبغي عليهم -هذا أمر كان يفعله السلف والأئمة رحمة الله عليهم- إذا درسوا أن يرجعوا إلى أهل الخبرة، فإذا كان الدرس يتعلق بالزروع رجعت إلى أهل الخبرة في الزرع وسألت عن حقيقة هذا الشيء؛ حتى تستطيع أن تعرف أحكامه. فأنت إذا قرأت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من باع نخلاً قد أُبِّرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع) لا تستطيع أن تفهم هذا الحديث حتى تفهم ما هو النخل؟ ومتى تكون مرحلة التأبير؟ وتعرف ما يترتب على ذلك. وكذلك: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها)، كما في حديث أنس وابن عمر في الصحيحين، فلا تستطيع أن تعرف هذا المحرم من المبيعات حتى تعرف متى يبدو صلاح الثمرة؟ وتعرف مراحل بدوها، فكنّا ننبه على الإلمام بهذه الأشياء، وإذا قرأت في كتب العلماء والفقهاء رحمهم الله عجبت من عنايتهم بمثل هذه الأبواب لإلمامهم بها. فلما أتقنوا تصور المحكوم عليه والجزئية التى يراد الحكم عليها جاءت أحكامهم واضحة، وجاءت تفريعاتهم من أجمل وأكمل ما تكون. كذلك أيضاً عندما تقرأ في قتل الصيد للمحرم، وما الذي يصاد وما الذي لا يصاد، بل حتى في شروط جواز الصيد أكرمكم الله بالكلاب والطيور، فالقرآن قال: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة:4]، وأطلق ولم يبين ذلك، فأنت تسأل حتى تعرف كيف يعلم الصقر الصيد؟ وكيف يعلم النسر والباشق والشواهين من الطيور الجارحة وأنواع الطيور التي يمكن استغلالها؟ وما هي الطيور الجارحة والسباع التي يمكن تعليمها للصيد، وكيفية تعليمها؛ فتستطيع أن تعرف حكم الله عز وجل وتتفهم هذه الأحكام بصورة واضحة جلية وتفهم كلام العلماء رحمهم الله. فالمساقاة تحتاج من طالب العلم أن يفهم ويعرف كيف يُسَاقى على النخل، ومن هنا مسألة المساقاة على نخلٍ بدا ثمره والمساقاة على نخل لم يَبْدُ ثمره. أولاً: إذا كان عندك مزرعة فيها مائة نخلة وأردت أن يقوم العامل عليها، فإن هذا يكون على صورتين: الصورة الأولى: أن تتفق معه والثمرة لم تخرج بعد؛ لأن النخيل يكون له ثلاثة أشهر تقريباً تسمى أشهر الكن، وقد بينَّا هذا في بيع النخيل قبل بدو الصلاح، وقلنا: هناك ما يقرب من ثلاثة أشهر تستكين فيها الثمرة، وهي المرحلة التي ما بين الجذاذ -قطف ثمرة العام الماضي- وانتظار ثمرة العام القادم، ثم بعد ذلك تبدأ تطلع شيئاً فشيئاً حتى يكتمل خروجها، ثم تتشقق وتُؤبَّر كما فصلنا ذلك في باب البيوع، وبعد تأبيرها تبدو الثمرة، فتأخذ تقريباً فترة ثلاثة أشهر، ثم يبدو صلاحها فتزهو وتحمار أو تصفار، ثم تصير رطباً، ثم تصير تمراً، ثم تُجَذ. فإذاً: إذا وقع عقد المساقاة، إما أن يقع قبل خروج الثمرة التي هي مرحلة الكن، الثلاثة الأشهر التي تستكين فيها الثمرة، وإما أن يقع بعد بدو الثمرة. فإن وقع قبل بدو الثمرة فهذا هو الذي وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين يهود خيبر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عاملهم على ثمرة غير موجودة أثناء العقد، وبناءً على ذلك فإنهم يحتاجون إلى سقيها ورعايتها والقيام عليها حتى تخرج، فهذا هو الأصل. ولذلك فجماهير العلماء على أن رب المال إذا تعاقد مع العامل على النخيل قبل بدو الثمرة فإنه جائزٌ ومشروع. الصورة الثانية: إذا بدت الثمرة؛ فبعض العلماء يقول: إذا بدت الثمرة فليس ثمّ جهد سيقوم به العامل؛ لأن الثمرة قد خرجت، وبناءً على ذلك يبقى الأصل من حرمة العقد لوجود نوعٍ من الجهالة. وقال بعض العلماء -وهو الصحيح كما اختاره المصنف واختاره بعض أئمة الشافعية، وهو قول للإمام الشافعي رحمه الله-: يجوز أن يساقيه بعد بدو الثمرة، بل حتى بعد بدو صلاحها، فلو ظهر البلح وأَزهت فاصفرَّت واحمرَّت، وغلب على الظن سلامتها، فاستدعى العامل -وكان الشهر شهر رمضان مثلاً- وقال له: اسق لي هذا النخل، وقم عليه حتى نجده ولك نصف الثمرة، فقال: قبلت. صح ذلك. واستدل أصحاب هذا القول بالآتي: أن النص ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في المساقاة على ثمرة غير موجودة، فمن باب أولى وأحرى أن يصح العقد على ثمرة موجودة؛ لأن الخطر في غير الموجود أعظم، فإذا جاز والثمرة غير موجودة فمن باب أولى أن يجوز بعد وجود الثمرة، وهذا ما يسميه العلماء بقياس الأولى. فإذا كنت تقول بهذا القول كما اختاره المصنف رحمه الله وطائفة من أهل العلم وهو الصحيح، فدليلك أن الشريعة أو السنة دلت على الأدنى ونبهت به على الأعلى أي: أجازت في حال عدم وجود الثمرة وكأنها تقول: إذا وجدت الثمرة فالحكم بالجواز أولى وأحرى.

حكم المغارسة

حكم المغارسة قال رحمه الله: [وعلى شجرٍ يغرسه ويعمل عليه حتى يثمر، بجزءٍ من الثمرة] تصِحّ على كل شجرٍ له ثمر، وقد بينّا الحكم فيما إذا لم توجد الثمرة، وفيما لو ظهرت الثمرة. يبقى Q الضورتان الماضيتان إذا نظرت إليهما وجدت أن النخل سيطلع، فمعناه: أن الغالب خروج الثمرة. لكن النخل الصغير وهو ما يُسمى بالفسائل وولائد النخل، وتسمى في عرف العامة اليوم (الصنو)، وبعضهم يقول إنها عربية من (أصنية النخل). ومن باب العلم فإن هذه الأصنية تؤخذ وتُقَص من أمها بطريقة معينة، ولا تقص إلا بعد بدو العرق فيها، وذلك كما أن الجنين لا يولد إلا بعد اكتمال خلقته، فالصنو لا يُقص إلا بعد تكون العرق، فإذا خرج العرق من أسفل الصنو صلح قصه، وإلا مات. ومن باب المعرفة والعلم فإن النخل الذي يؤخذ من تحت أمه يُقص ويقلع ثم يُوضَع في فِقَر، وقد جاء في حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذهب يا سلمان، فإذا فرغت فآذني أكون معك حتى أضعها بيدي، قال سلمان: ففقرت لها)، يعني الفسائل. فالنخل إذا أُخِذ من الأم، ووضعته في هذه الفقر يبس، إلا إذا كان قد أطلق العروق واخضر، فحينئذٍ يكون بقيلاً، وإنما يسمى بالبقيل إذا نجا أو كان الغالب نجاته. لكن إذا كان عالياً عن الأرض أو قريباً من الأرض والعروق فيه صغيرة فيحتمل موته بعد نقله من أمه؛ لأنه فقد التغذية من أمه ولم يُطلق عروقاً. فإذا أخذ من أمه ووضع في الفقرة، فيحتمل أن ينجو وأن يموت، فأخذها عليه الصلاة والسلام وفُقِّرَت الثلاثمائة صنو، فما مات منها صنوٌ واحد، وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام، وقد تأخذ ألف صنو فتموت جميع الأصنية ولا ينجو منها واحد؛ لأن الله لم يكتب لك فيها رزقاً. فإذاً: مسألة الصنو تحتاج إلى مخاطرة، فقد تأتي بالصنو وتقول لرجل: اغرس لي الأصنية، فإن أطلعت قم عليها، وثمرتها بيني وبينك، وهذا يسمى بالمغارسة. فالصورتان اللتان ذكرناهما مساقاة، وهما: إذا كان النخل موجوداً والثمرة غير موجودة، أو كان النخل موجوداً والثمرة موجودة. لكن الصورة التي معنا: يكون النخل فيها بين السلامة والهلاك، ثم إنها سيأخذ فترة، وقد يُطلِع السنة القادمة أو بعد سنوات، فيقول له: اغرس لي الأصنية ثم إذا أَطلَعَت فالثمرة بيني وبينك، وهذا يقع غالباً في المزارع الجديدة. فاختلف العلماء هل تصح المغارسة أم لا؟ فمذهب جمهرة العلماء القائلين بجواز المساقاة يجيزون المغارسة وهي: أن يغرس النخل على أن يكون له جزءٌ من ثمرته إذا أطلَع. فقال رحمه الله: [وعلى شجرٍ يغرسه ويعمل عليه حتى يثمر] وهذا يقع على صورتين: فمثلاً عندك مزرعة، وهذه المزرعة فرضنا أن طولها مائتا متر، مائة متر منها مزروعة وفيها نخل كبير، فأنت تريد أن تحيي الأرض بكاملها، فتحتاج إلى أن تضع بعد النخل المزروع النخيل الجديد فتأخذ بنات القديم وتضعها في الأرض الجديدة، فتقول له: عاملتك على أن تأخذ هذه الفسائل وتقلعها من الأمهات ثم تغرسها في هذه الأرض البكر -ويُفَقِّر لها ويغرسها ويقوم عليها- والثمرة بيني وبينك مناصفة، فهذه تسمى بالمغارسة، أي: على أن يغرس ويكون له جزء من الثمر. فإذا كنا نقول: الحكم لا يختص بالنخل فالمسألة تشمل أيضاً العنب، فالعنب يؤخذ من عقده، ويقص بطريقة معينة، ثم تؤخذ هذه الأغصان، وتُقَص في موسم معين ثم تُزْرَع وبقدرة الله عز وجل تنمو. وبعض الأحيان يأخذون غصن العنب ينزلونه إلى الأرض، ثم يحفرون له في الأرض ويدفنوه في موسم معين، فيطلق هذا الغصن عروقاً فيُقَص فيما بينه وبين أمه القديمة، ثم يُنقل هذا الجديد إلى موضعٍ آخر، هذا بالنسبة للعنب. كذلك شجرة الليمون تأخذ منها غصناً وتدلِّيه إلى الأرض، أي: تعكس الغصن إلى الأرض إذا كان يحتمل ذلك، وتحفر له بطريقة معينة، ثم تضعه على الأرض في نفس الحفرة هذه فيخرج طرفه من المكان الثاني ويكون جزؤه متصلاً بالأم يرتوي منها، ثم الجزء الآخر خارجاً من بعد الفقرة التي حفرتها، ثم تدفنه وتضع عليه طوبة أو حجراً، ثم يمكث ما شاء الله عز وجل، فإذا رأيت أن الغصن أصبح أمتن من الغصن الخارج من الأم، علمت أنه قد تهيأ وتمكن من الأرض فتقطعه من أمه ولا يضره؛ لأنه قد اعتمد على نفسه. وهذا عجائب قدرة الله! فسبحان من خلق كل شيء فقدره تقديراً! ولا يمكن أن تضع هذا الغصن إلا في زمان معين وبطريقة معينة، وممكن أن تلقح شجرة الليمون لكي تصير برتقالاً، والمشمش ممكن أن تلحقه بالمشمش؛ فهذه أشياء تحار فيها العقول! ونسأل الله العظيم أن يزيدنا من الإيمان؛ فإن هذا كله مما يزيد من الإيمان، والواجب على كل مسلمٍ أن ينظُر في مثل هذه الأشياء في المقصود منها، وهو الإيمان بالله وزيادة التوحيد إلى درجة اليقين؛ حينما يرى عظمة الله سبحانه وتعالى في خلقه. فالمقصود: أنه إذا كان عنده مزرعة نخيل يقول له: عاملتك على أن تأخذ بنات النخيل وتفقِّر لها، وتزرع لي هذه الأرض، وإذا اتفق معه على هذا يُحدِّد عدد الفسائل فيقول له: مائة فسيلة أو مائتان أو حسب العدد الذي يريده. ثانياً: يُحدد له الأرض التي يريد أن يغارسه عليها؛ حتى يكون ذلك أبعد عن الجهالة الموجبة للغرر، كذلك في الليمون والبرتقال والحمضيات ممكن أن يُفَقِّر لها ويزرعها وتكون الثمرة بينه وبين رب الأرض والمزرعة.

المساقاة من العقود الجائزة لا اللازمة

المساقاة من العقود الجائزة لا اللازمة قال رحمه الله: [وهي عقدٌ جائز] أي: المساقاة عقدٌ جائز، وقد تقدم في مقدمات البيوع أن العقود منها ما هو عقدٌ لازم، ومنها ما هو عقدٌ جائز، وبينّا أن العقد اللازم هو العقد الذي لا يملك أحد الطرفين فسخه إلا برضا الآخر، فلا يستطيع أحد أن يتخلى عن هذا العقد من طرفٍ واحد، بل لا بد وأن يستأذن الطرف الثاني، ويوافق على فسخه. فمثلاً: إذا بعت سيارة واشتراها منك الغير لا تستطيع أن ترجع عن بيعك بعد حصول الافتراق حتى يرضى ذلك الغير؛ لأن العقد يلزمك. وهناك عقود جائزة ممكن أن تفسخها في أي وقت، وسواء عندك عذر أو لا عذر لك، مثل المضاربة ومثل الشركة، وهي العقود التي يملك فيها كل واحد من الطرفين الفسخ دون رضا الآخر. يبقى Q هل عقد المساقاة عقدٌ لازم أم جائز؟ وجهان للعلماء رحمهم الله، والأكثرون على أن عقد المساقاة عقدٌ لازم، وذهب طائفةٌ من العلماء واختاره الإمام ابن قدامة رحمه الله وهو رواية عن الإمام أحمد إلى أن عقد المساقاة عقدٌ جائز، والحقيقة أن القول بالجواز فيه قوة، لكن قد يئول إلى اللزوم. ولذلك قد يجمع بين القولين كما اختاره بعض أصحاب الشافعية؛ أنه في بدايته جائز ولكنه يئول إلى اللزوم بالشروع والدخول، فإذا دخل العامل، وتمكن من العمل -أي: قام عليه- فلو قلنا من حق رب المال أن يفسخ العقد فإنه سيضر بالعامل، وهذا هو الذي دعا جمهور العلماء إلى أن يقولوا: عقد المساقاة عقدٌ لازم، فلو كان جائزاً لضر بالعامل، لأنه يمكن أن يأتي رب المال فجأة قبل طلوع الثمرة وبعد أن يعمل العامل شهراً أو شهرين أو ثلاثة ثم يقول له: فسخت العقد بيني وبينك، فهذا فيه ضرر على العامل، ولكن إذا قيل بالجواز إلى اللزوم فإنه أشبه وأقوى. وأجاب الإمام ابن قدامة رحمه الله عن هذا الإشكال بأنه ليس من حق رب المال أن يُخرِج العامل في هذه المسألة، وبيَّن أن ذلك مثل المضاربة، فهي عقدٍ جائز، ولكن إذا اشتمل فسخها على ضررٍ أحد الطرفين كان من حقه أن يعترض على الفسخ، وهذا القول الذي اختاره الإمام ابن قدامة فيه قوة، أعني: القول بالجواز كما ذكرنا، وإن كان يئول إلى اللزوم فهو أشبه وأقوى.

إذا فسخ المالك أو العامل عقد المساقاة قبل ظهور الثمرة

إذا فسخ المالك أو العامل عقد المساقاة قبل ظهور الثمرة قال رحمه الله: [فإن فسخ المالك قبل ظهور الثمرة فللعامل الأجرة] الفاء للتفريع، والمعنى أنها عقدٌ جائز. فلو أن شخصاً قال لعامل: اسق لي المزرعةَ والثمرةُ بيني وبينك فسقى ثلاثة أشهر، وكادَت الثمرة أن تخرُج قال له: انتهى العقد بيني وبينك. وفسخ المساقاة. فإذا فسخ رب المال المساقاة -على القول بالجواز- طولب بأجرة العامل ثلاثة أشهر، ويُعطى أجرة المثل. وبناءً على ذلك لو أن العامل اشتغل ثلاثة أشهر، وعند أهل الخبرة والمعرفة كانت أجرة مثله في كل شهر ألف ريال، فنقول لرب المزرعة: أنت بالخيار بين أمرين: إما أن تُبقِي العقد كما هو صيانةً لحق العامل، وإما أن تعطيه أجرته تامةً كاملة خلال الثلاثة الأشهر. فنقدِّر ما الذي عمله؟ وما الذي يستحقه؟ فأحياناً تكون أجرة العامل كل شهر ألفاً، ولكن في بعض الأحيان تكون ألفاً وخمسمائة، فمثلاً: المواسم التي يكون فيها النخل ساكناً لا يحتاج إلى عمل كثير، وقد يحتاج إلى حراثة الأرض وتسميدها ونحو ذلك، لكن يكون الجهد أكثر في تأبير النخل، وبرش النخل الذي هو إزالة الشوك، وإصلاح الأقنية وتعديلها إلى غير ذلك، فتكون أجرة العامل في مثل هذه الشهور ألفين ريال ولكن في بداية العقد أيام الكن قد تكون ألفاً. وبناءً على ذلك لا بد أن نقدِّر له أجرته بالمثل، ونقول لرب المال: أنت بالخيار: إما أن تبقي العامل على عقده وحقه، وإما أن تعطيه أجرته تامةً كاملة من اليوم الذي عمل فيه إلى يوم فسخ العقد، هذا إذا فسخ رب المال. قال المصنف: (وهي عقدٌ جائز)، ومن عادة العلماء والأئمة رحمة الله عليهم أنهم إذا قرروا حكماً -وهذه ميزة الفقه عند المتقدمين- فإنهم يبحثون جميع الجوانب والآثار المترتبة على هذه الفتوى والأصل، لكن ربما في بعض الأحيان يعطيك الفتوى بأنه يجوز، وقد تتفرع على القول بالجواز عشر مسائل، وهل يَنْتَظر حتى يشتكي الناس من العشر المسائل ويأتي ليبحث مرة ثانية المسألة الثانية والمسألة الثالثة والرابعة؟ كان الأولون من دقتهم وضبطهم يقررون الأصل وما ينبني عليه. فالمصنف رحمه الله قال: (هي عقدٌ جائز)، فإذا كانت عقداً جائزاً فإن ذلك يُحدث ضرراً بين المتعاقدين؛ لأنه ممكن لرب المال أن يقول للعامل: اسق ولك النصف، فلمَّا سقى مدة ثلاثة أشهر إذا به يقول له: اخرج من مزرعتي، فإذا قال له: لماذا؟ قال: لأنها عقد ليس بلازم، ومن حقي أن أخرجك في أي وقت! ففي هذه الحالة لن يرضى العامل وسيطالِب بحقه، فتقع الفتنة وتقع الخصومة. فقال العلماء: إذا كان عقداً جائزاً وأراد أحدهما الفسخ ففيه تفصيل، إن فسخ رب الأرض فحينئذٍ نقول له: اضمن للعامل حقه، ولا يجوز أن تضيع أجرته خلال الأشهر الماضية، وإن فسخ العامل فقال: لا أريد أن أُتِم العقد، أو حدثت له ظروف يريد أن يسافر وقال: لا أستطيع أن أُتِم العقد، فهل نعطيه أجرته أو لا نعطيه؟ قالوا: إن رب المال التزم له بجزءٍ من الثمرة، فإذا أدخل الضرر على نفسه فإنه لا يلزم رب المال بأجرته، وبذلك نضمن لكل واحد حقه. فإذا قال العلماء: من حق العامل أن يخرج ويذهب ضاع حق رب المال، وإذا قالوا: من حق رب المال أن يفسخ ولا يعطيه الأجرة ضاع حق العامل، فكما ضمنا حق العامل في حال الفسخ ينبغي أن نضمن حق رب المال، فيُقال لهذا العامل: إن خرجت فلا شيء لك، فأنت الذي رضيت بالضرر على نفسك. لكن يمكن العامل أن يُقيم غيره مقامه في اختيار بعض العلماء إذا كان عنده ظروف حالت دون القيام، بشرط أن يكون ذلك الغير في المهارة والخبرة والضبط والعلم مثله أو أفضل منه، فإذا أقام غيره مقامه نقول له: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فنحن لا نكلف رب المال فوق طاقته فلا نقول له: ادفع أجرة الأشهر؛ لأنه لم يتفق معك بالأشهر، وإنما أعطيناك حقك من الأشهر لأن رب المال سيضرك، أما الآن فلم يضرك أحد ورب المال ملتزمٌ بعقده وشرطه، فإما أن تمضي معه على الشرط، وإما أن تقيم غيرك مقامك على أن يكون مثلك في الأداء والكفاءة، وحينئذٍ تضمن حق رب المال، وتضمن أيضاً حقك، وإلا انصرفت راشداً ليس لك أي شيء. قال رحمه الله: [وإن فسخ هو فلا شيء له] أي: إن فسخ العامل المساقاة؛ لأن الجملة قبلها تعود على العامل أنه يعطى أجرة المثل، فإن فسخها هو فلا شيء له. وهنا مسألة: في حكم إضاعة العامل لحقه في أن يُساقِي على شجرٍ لا ثمرة لها، فقال له رب الأرض: خذ هذا الكافور واسقه وأعطيك ما يرضيك، فإذا دخل في هذه المساقاة فللعلماء وجهان: أولاً: العقد باطل؛ لأنه ليس بعقد مساقاة؛ لأنها شجرة لا ثمرة لها، لكن يبقى Q لو أننا أفسدنا هذا العقد، والعامل اشتغل ثلاثة أشهر وهو يسقي هذا الكافور، فهل نعطيه أجرة الثلاثة الأشهر إذا أبطلنا العقد؟ قال بعض العلماء: لا يُعطى لأنه حينما عقد هذا العقد على شجرٍ لا ثمر له رضي بسقوط حقه، مثل العامل إذا انسحب، فألحقوا هذه المسألة بهذه المسألة وقالوا: إذا عامل العامل على شجرٍ أو زرعٍ لا ثمرة له فقد أسقط حقه فلا شيء له. وقال بعض العلماء: يُضمن له أجرة المثل.

الأسئلة

الأسئلة

من آداب طالب العلم

من آداب طالب العلم Q في ضابط العقد اللازم والعقد الجائز، هل يمكننا أن نقول: إن العقد اللازم لا يصح إلا على مدة معلومة بخلاف الجائز؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالمدة المعلومة قد تكون واردة في كثير من العقود، لأن عقد البيع لازم، وعقد الإجارة لازم ويحتاج إلى مدة معلومة، ونحوه من العقود المبنية على الآجال، لكن هذا الضابط ضعيف، لأنه غير جامع، والسبب في ذلك أنه حينما تقول: إن العقود اللازمة هي العقود التي تحتاج إلى مدة معينة أو تؤقت بمدة معينة، فهذا يصدق على جزء من العقود؛ لأنه ليس كل العقود تقوم على الْمُدد، والعقود التي تقوم على المدد هي الإجارات مثل السكن ونحو ذلك، والعارية تقوم على مدة لكنها ليست بلازمة، وأيضاً الإجارات جزء منها يقوم على المدة، وإلا قد تتأقت بالعمل مثل بناء البيوت وتشييدها، وبناء الجدران ونحو ذلك، فهذه لا ترجع إلى مدد، وهي لازمة. فإذاً: لو ضبطت العقد اللازم بكون مدّته معلومة فهذا ضابط فيه قصور، ويسعُك ما يسع علماءك وأئمتك. وفي الحقيقة أُنبِّه على مسألة: من الخبرة الضعيفة في الفقه، ومما قرأناه على مشايخنا وعلمائنا، والذي أدركنا عليه أهل العلم، أن الأفضل للإنسان في مسائل طُرِقت وضُبِطت للعلماء أن يأخذ عمن تقدَّم، وأن يأخذ عن الأئمة، وأن يعلم أنهم قد كَفَوه المئونة فيما بُحِث ومُحِّص، لأن هؤلاء العلماء قل أن يتركوا جزئية متصلة بالأمر إلا وقد بيَّنوها. فكون الإنسان يأتي في القرن الرابع عشر لكي يضع ضابطاً أو قاعدة -وما أكثر القواعد اليوم- فيه نظر، يأتينا طالب علم يقول: القاعدة كذا، بل حتى تجد بعض طلاب العلم أو بعض المعاصرين من طلاب العلم ونحوهم يأتي ويستدرك في تعاريف دقيقة جداً مضت عليها قرون، وعقول العلماء مضت على هذا التعريف أو الضابط، ويأتي يُضِيف قيداً من أوضح الواضحات. ففي العبادات يأتي يقول: وهذا التعريف قاصر يحتاج زيادة (بنية التقرُّب إلى الله)، العبادة أصلاً ما سميت عبادة إلا للتقرب بها إلى الله، فالعلماء الأولون تركوا مثل هذه الضوابط للعلم بها بداهة. ثقوا ثقة تامة أنه قلَّ أن توجد لهم ثغرة، نحن لا نقول إنهم معصومون، لكن مر أكثر من عشرة قرون وأذهان الأئمة الذين توفَّر لهم من الإتقان والضبط ما لم يتوفر لغيرهم، أولاً: صفاء ذلك الزمان، ثانياً: إتقان العلم وتحصيله على الأئمة الكبار الذين وضع الله لهم القبول حتى جاء سواد الأمة الأعظم تبعاً لهم، ثم هذه المؤلفات تُدرَّس في المساجد والمدارس والبيوت، وتُدرَّس من الأشخاص والجماعات، ويُؤلَّف عليها المؤلفات من الشروح والحواشي، والتقريرات أكثر من عشرة قرون وأذهان العلماء تُعصَر في العبارة، الآن في درس الفقه نحن نجلس بين المغرب والعشاء، سلفنا رحمة الله عليهم كانوا يجلسون من بعد الفجر إلى أذان الظهر، وهم في شرح سطرٍ واحد. أولاً: شرح الغريب، يُسأل كل طالب عما ضبط من هذا الغريب، ثم يُفرَّع هذا الشرح ويُبيَّن معناه، ثم تُذكر الأدلة للأحكام، ثم يُبيَّن وجه دلالتها، ثم يُبيَّن هل المسألة خلافية أو إجماعية، ثم ثم حتى يؤذن الظهر، ونحن ما شاء الله ندرس بين المغرب والعشاء، ونصبح أئمة. هذا هو واقعنا، ووالله أقولها محبة للخير لكم، نحن لا نقول: إن العلماء معصومون، صحيح إذا خالف العالم النص أو الحجة، فالحجة لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن لا ينبغي لأحد أن يستهين بعلم العلماء، ولا يتزبب طالب العلم قبل أن يتحصرم، كما يقال في المثل: (تزبب قبل أن يتحصرم)، وهو مثل لمَن يضع نفسه في الشيء قبل أن يكمُل فهمه وضبطه، فمن كَمُل فهمه وعلمه عرف قدر العلماء، وكنت أعرف دقة العالم من تحفظه في نقد غيره، وأعرِف تهوُّر من يكتب أو يؤلف في جُرأَته على تخطئة الغير: وكم من عائبٍ قولاً سليماً وآفته من الفهم السقيم ووالله إنك لترى الثغرات في مثل هذا النقد بسبب عدم وعي كلام العلماء المتقدمين، وعدم الضبط والتمحيص، ولذلك نقول: وضع القواعد ليس بالأمر السهل، فالقواعد كليات، وغالباً ما توضع القاعدة تحت أصول عديدة من الكتاب والسنة. ثم ينبغي في القاعدة أول شيء أن تفهم الأصل الذي تريد أن تُقعِّد له، فمثلاً: اللزوم، ما معنى لازم؟ وما ضده؟ الذي هو الجواز، وهل هناك قسيمٌ بينهما؟ أي: ما يجمع بين الجواز واللزوم، فبعد ما تفهم النظائر الثلاث تنظُر في حقيقة اللزوم، وأصله، ودليله، حتى تفهم مقصود الشرع فتضع الشيء على أساس: تعرف حقيقته وتتصوره، وتتصوَّر أضداده، وتعرِف دليله الشرعي، ومستنده الذي أُخذ منه، هل هذا اللزوم يجعله الشرعُ خاصاً أو عاماً؟ أعني: هل اللزوم خاص بعقد معين أم أنه يشمل عقوداً؟ ثم إذا كان عاماً هل هو عام في جنس معين مثل العقود المالية أو عام في العقود المالية وغيرها؟ فالنكاح عقد لازم، وعليه فاللزوم لا يختص بالعقود المالية، بل يشمل الأنكحة مثلاً، فتنظر إلى لزومه من جهة الأصل العام. بعد ما تفهم هذا كلِّه تأتي وتنظر كيفية وضع الضابط، فيحتاج أولاً إلى عبارة دقيقة جداً، يمكن من خلال هذه العبارة بإضافتها إلى غيرها أن تكون جامعة لهذا اللزوم مانعة من دخول غيره. في الحقيقة يا إخوان! القاعدة شيء، والضابط شيء؛ القاعدة قضيةٌ كلِّية لا تختص بباب، كأن تقول: (المشقة تجلب التيسير). فتستخدمها في الطهارة، فتقول: تيمّم إذا كنت عاجزاً عن الغُسل. وتستخدمها في الصلاة نفسها، فتصلي قاعداً إذا لم تستطع القيام، وتستخدمها في كثير من العقود والمعاملات. فهذه قاعدة؛ لأنها كلية لا تختص بباب، ولا تختص بمسألة، لكن الضابط يختص بباب أو يختص بمسألة. فتقول مثلاً: الكفارة عند الحنابلة والشافعية في الجماع تختص برمضان، وفي حال القتل العمد على تفصيل، هذا الضابط تستفيد منه لو سألك سائل وقال: جامع الرجل في قضاء رمضان ما كفارته؟ فتقول: الضابط عندي أن الكفارة لا تجب إلا في الجماع في نهار رمضان، فلا يأخذ القضاء حكم الأداء في هذه المسألة، فهذا ضابط، لكنه خاص، ولذلك فالضوابط تحتاج إلى نوع من الدقة في نفس الباب. فتدرُس الباب مثلاً وتقول: الحنفية والمالكية يقولون: الكفّارة وجبت عندنا في نهار رمضان لحرمة الشهر، ولانتهاك الواجب. وإذا نظرت إلى وجود الانتهاك تجد أن الحنابلة يشترطون الجماع في نهار رمضان، فلو جامع في غير نهار رمضان في صيام واجب مثل صيام الكفارات أو قضاء رمضان، أو نذر جامع فيه فتقول: لا كفارة، لأن الكفارة عندهم لا يُقاس عليها وتختص بنهار رمضان. لكن الحنفية والمالكية عندهم الأصل أن الذي جامع في رمضان قد انتهك حرمة صوم واجب، فكل من جامع في صيامٍ واجب فعليه كفارة، فصار الضابط عندهم الصيام الواجب، فلم يختص برمضان ولم يَتقيَّد به، وإنما شمِل كل صيامٍ لأن هذا ضابط لهم يضبِطون به الحكم. فإذاً الضوابط لها منهج، والقواعد لها منهج. ولذلك يا طلاب العلم! افقهوا نصوص الكتاب والسنة، وافهموا ما قاله العلماء في هذه المتون دون تعصُّبٍ إذا صحّ الدليل بخلاف هذا القول، وافهموا كلام العلماء واضبطوه، وسيفتح الله عليكم من واسع فضله، وستجدون إن شاء الله من أبواب الخير التي يمكن أن يبرُز بها طالب العلم الشيء الكثير، فيفتح الله لك من أبواب رحمته، ونشهد لله من واسع فضله وكرمه أنه لا يخذل من أراد وجهه في هذا العلم أبداً. مثلما فتح الله على الأولين رحمة الله عليهم في التأصيل والتقعيد سيفتح الله على من بعدهم، ومن بعدهم إلى قيام الساعة، كما قال ابن المنيِّر رحمه الله: وفضل الله عظيم، ومن ظن أنه محصورٌ في بعض العصور فقد حجَّر واسعاً، والليالي حبالى يلدن كل غريب. فالله عز وجل فضله عظيم، فقد يكون الأولون يقعِّدون كذا، ثم يفتح الله عليك في الفهم والتحصيل، ولكن بالإخلاص وإرادة وجه الله عز وجل والبعد عن الغرور، وإياك أن تضع نفسك في موضع تستدرك فيه على العلماء حتى تنظُر فيما أنت فيه من الأهلية، وتنظر إلى شهادة أهل العلم أنك أهلٌ أن تقعِّد أو تنظِّر، أما اليوم فاقرأ وتعلَّم، ومثلما قالوا: يتعلم الإنسان ثم يتكلَّم أول شيء يأخذ الإنسان ويتلقَّى، ولا يكتب ولا يؤلِّف، فإذا حرِص على ذلك فإن الله يبارك له. وبالمناسبة أن التقعيد والتفريع ينبغي لطالب العلم أن لا يستعجل فيه، كذلك التدريس والفتوى والحرص على الظهور قبل الضبط، وكنا نرى من بعض الأقران والزملاء من يحرص على أن يفتي بمجرد ما يقرأ مسألة ليبرز، فكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقول له: لا تستعجل، واترك الفتوى في زمانك لمن هو أهل لها، فحريٌ بك إن شاء الله إن وضع الله لك قبولاً في الفتوى أن يرجع الناس إليك، وأن لا يزاحمك الغير كما لم تزاحم من هو أهلٌ للفتوى وأحق بها منك، انتظر وأتقن واضبط، ثم بعد ذلك تفرَّغ للتدريس والتعليم. وهذا مما أحببت أن أنبه إليه بمناسبة هذا السؤال، فبعض طلاب العلم -أصلحهم الله- بمجرد ما يقرأ كتاب الطهارة أو كتاب الصلاة أخرج المذكرة وعلَّق عليها، وأضاف ونقَّح، وزاد! فهذا كله من الآفات التي ينبغي لطالب العلم أن يتجنبها، وأن يحفظ حقوق أهل العلم، لا يختص هذا بعالم، إنما يشمل كل أهل العلم المتقدمين والمتأخرين. وينبغي للإنسان أن يكون حريصاً على إرادة وجه الله؛ لأن العلم فيه فتنة، والشيطان حريص، ومما ذكره العلماء أن الدِّين يُفسِده نصف فقيه وعابد جاهل. فنصف العالم عنده علم، لكنه لم يكتمل علمه، فيُلفِّق، فهو ما بين الهلاك والنجاة، فتارةً يأخذ قولاً صحيحاً فيُعجب الناس من صحته وصوابه، ثم يوردهم المهالك، فإذا قال لهم أحد: إنه أخطأ في هذه المسألة، قالوا: لا، قد أصاب في غيرها فهو من أهل العلم. ولذلك ينبغي لطالب العلم أن لا يستعجل، ونصف العالم ونصف الفقيه يقع في أثناء الطلب، ولذلك كان من الحِكم المشهورة: (أول العلم طفرةٌ وهزة، وآخره خشية وانكسار). أول العلم فيه غرور، فإذا ثبَّت الله قدم صاحبه ومشى فيه حتى أتمَّه، وحرص على أنه لا يخرج ولا يكتب ولا يتصدَّر للناس إلا على أرضٍ ثابتة، وبيِّنة من ربه، فإ

حكم الضمان إذا تلفت الثمرة بتفريط أو آفة سماوية

حكم الضمان إذا تلفت الثمرة بتفريط أو آفة سماوية Q إذا فرّطَ العامل وتلِفت الثمرة، أو تلِفت بآفة سماوية، فما الحكم أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: فإن العامل كما نص العلماء في المساقاة أمين، وبناءً على ذلك لا يضمن إلا إذا فرَّط، فإذا فرَّط في الثمرة فإنه يضمن. مثال ذلك إذا تشقق النخل أَطْلَع وبدا الطّلْع فيه، هناك نخل يحتاج إلى أن تبكير في تأبيره، ونخل يحتاج إلى تأخير، فهناك أنواع بمجرد ما يخرج الكوز على النخلة حتى ولو لم يتشقق تأتي وتشقه وتؤبره، وهذا ما يُسمى بالشرِه من النخل، وإذا لم تفعل ذلك فانتظرت إلى أن تتشقق تخرج الثمرة صغيرة، ولربما لا تخرج الثمرة. والعكس فهناك نوع آخر ينتظر حتى يتشقق، ثم ينقسم إلى أنواع، فمنه نوع بمجرد ما يتشقق تؤبره، ومنه ما تنتظره يومين، ومنه ما تنتظره ثلاثة أيام، ومنه ما تنتظره أربعة أيام، ومنه ما لا يقبل التأبير أصلاً، بل تؤبره الريح بقدرة الله عز وجل. وكل هذا يدل على الوحدانية، ولذلك يقولون: إن من أعظم الأدلة التي تدمغ الطبيعيين الذين يقولون إن الحياة طبيعية، ولا إله، وكل شيء وُجِد هكذا طبيعةً، هو هذا الاختلاف، فاختلاف الأشياء يدل على وجود من وضعها بهذا الترتيب، إذ لو كانت النخل تثمر من نفسها، والثمرة تخرج من نفسها لكانت على وتيرة واحدة، ولكن كون بعضها يحتاج إلى تبريد وبعضها إلى استعجال وبعضها يحتاج إلى وبَار كثير وبعضها يحتاج إلى وبارٍ قليل وبعضها يحتاج إلى وبارٍ بين بين، فإنه يدل على أن هناك قدرة إلهية، فخلق كل شيء وأتقنه، {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88]، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنه أحسن الخالقين، وتبارك الله رب العالمين. ولذلك عند التساهل والتفريط يضمن العامل، فلو كان يعلم أن هذا النوع -مثلاً- يحتاج إلى تبكير في التأبير، فمثلاً الروثانة تحتاج إلى تبريد ثلاثة أيام، فأخّرها إلى سبعة أيام، فهذا قد يفسد الثمرة، فيضمَن. كذلك أيضاً هناك انواع كالخشيمي يحتاج إلى مبادرة، فهذا النوع لو تأخر وتركه يوماً أو يومين أو ثلاثة فإنه يفسُد. فالشاهد أن كل نوع له حاله وحكمه، فإذا قصَّر العامل ضمن، ولا يمكن أن نحكم بتقصير العامل إلا بشهادة أهل الخبرة، فإذا قال أهل الخبرة بأن هذا النخل يُبَكَّر وما بكَّر، وهذا يحتاج إلى تأخير ولكن العامل عجّل ونحو ذلك؛ فإنه يضمن ويتحمل المسئولية، هذا إذا كان عمل العامل بتفريط. أما لو تلِفت بآفة سماوية فمذهب بعض العلماء أنها تنفسخ وليس له شيء، والله تعالى أعلم.

وصية في التفكر في آيات الله الكونية

وصية في التفكر في آيات الله الكونية Q إن التفكر في الآيات المنثورة في الكون والفلوات مما يزيد من إيمان العبد، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام من الليل تلا أواخر آل عمران، فهل من وصيَّة حول هذا الأمر؟ A سعادة الدنيا وبهجتها وسرورها وأنسها بذكر الله جل جلاله، وأسعد الناس في هذه الدنيا من عمر الله قلبه بذكره، ولا حلاوة ولا لذة لهذه الدنيا إلا إذا عرَف العبد ربه، وبمعرفة الله جل جلاله بأسمائه وصفاته، ودلائل وحدانيته، وشواهد قدرته وعظمته، تُحِبه صدق المحبّة، وتخافه كمال الخوف، ومن عرَف الله أحبَّه وهابه ومن أحب الله وهابه تكفَّل الله له بسعادة لا يشقى بعدها أبداً. ولذلك أمر الله بذكره، وندب كل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُكثِر من ذكره سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41] * {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:42] * {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب:43]. فهذا الإله العظيم، من عظمته جل جلاله، بل من عظيم كرمه وجوده علينا، أن جعل هذا الكون كله يذكِّر به سبحانه وتعالى، فإذا نظرت أمامك أو نظرت خلفك، أو عن يمينك أو عن شمالك أو من فوقك أو من تحتك؛ وجدت شواهد عظمته ودلائل ألوهيته ووحدانيته سبحانه وتعالى. وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد وفي كل شيءٍ له دليل وشاهد على أنه المتفرِّد بالملكوت والجبروت سبحانه وتعالى، فإذا نظرت إلى السماء وهي مظلمة في الليل تتلألأ كواكبها ونجومها، وكيف قُدِّرت ونُظِّمت ورُتِّبت السماء ليس فيها فطور، تتعاقب عليها الليل والنهار، وتتابعت عليها الدهور والعصور، وما اختلفت، ولا تغيّرت ولا تبدّلت، ولا أصبحت ضعيفة بمرور الأزمان: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل:88] سبحانه وتعالى؛ لأن الله خلقها وقال لها: كوني، أي: كوني على أتم الوجوه وأكملها، فكانت وما زالت على أتم الوجوه التي صنعها الله وقدرها عليها. وإذا نظرت إليها وقد أشرقت شمسها، واستبان ضوؤها، وكيف أصبح الإنسان في وضح النهار يرى عظمة الله سبحانه وتعالى في كل شيءٍ يراه بعينه، أو يسمعه بأذنه، أو يحسه في جسده، كل ذلك يدل على عظمة الله ووحدانيته وقدرته. سعادة المؤمن أن لا يغفل عن الله جل جلاله، والله سبحانه وتعالى جعل الآيات حتى في النفس. وقف الأطباء حائرين أمام عظمة إله الأولين والآخرين، وقفوا أمام العين وهي جزء من البدن، تجدهم يبحثون ويتعبون ويكدحون دهوراً وقروناً وأزمنة تلو الأزمنة، ومع ذلك يقفون على طرف البحر ولم يخوضوه. في كل زمان جديد، وفي كل زمان مُكتَشَف، ومع ذلك قلّ أن تجد من يقول: لا إله إلا الله! وقل أن تجد من يقول: آمنا بالله، فإذا نظرت إلى العين فقط ودلائل عظمة الله سبحانه وتعالى فيها كيف أنها تميِّز بين الألوان! وكيف أنها تفرِّق بين الأشكال والأحجام، تتصوّر الأشياء ثم تُنقَل هذه الصورة إلى دِماغ الإنسان في أقل من طرفة عين. يقفون أمام الكمبيوترات والمصنوعات التي خلقها المخلوق الضعيف، والذي إذا أخطأ وقف كل شيء، ولا يقفون أمام عظمة الله جل جلاله، ولا يسبحون الله ولا يمجدونه سبحانه وتعالى، بل أكثر الناس عن آيات ربهم غافلون. ولذلك فسعادة المسلم أن ينظر إلى عظمة الله. وقف الأطباء أمام العين وهي مريضة سقيمة، فعجِبوا من أمراضها المتعددة، وأسقامها المختلفة، وما تُصاب به على اختلاف الإصابات، وإذا بكل مرض له حدود، وله قدْر، وله مكان، لأن الله قدّرَه وحدّده، لا يزيد ولا يمكن أن يُجاوز هذا الحد بعينه. علّمهم سبحانه ودلّهم، فإذا بهم يَحارون من هذه العين وهي سليمة، ويحارون منها وهي سقيمة، ثم بعد ذلك كله تفضَّل وتكرّم فأعطاهم الدواء، ودلّهم على عظمته ووحدانيته وقدرته، أنها إذا تعطّلت فهو قادرٌ على أن يعيدها، وقادرٌ على أن يجعلها كأحسن مما كانت عليه، فيقفون في طب القديم أو طب الحديث أمام عروقها وأعصابها فيعالجونها بدوائها، فإذا بها قد تفتّحت وأبصرت، وإذا بالمواعيد التي تُحدد للعمليات الجراحية وللعلاجات محددة، مقدّرة يُقال: ضع هذا الدواء ثلاثة أيام افعل كذا ثلاثة أيام، ولا تفعل كذا، واحجبها عن النور، وافعل وافعل، وإذا بها بعد ثلاثة أيام تشفى. إن الله هو الشافي، ووالله لا طبيب ولا مداوٍ يستطيع أن يجاوز قيد شعرة من عظمة الله جل جلاله. ثم لما تفضل عليهم بذلك اغتروا فقالوا: علِمنا طب العيون، فقال لهم: خذوا من عظمتي ودلائل وحدانيتي، فأوقفهم حائرين أمام كفيفٍ لا يُبصر، فقال لهم: أعيدوا له البصر، فإذا بهم يقفون أمامه، ويصفقون الأيدي، فقالوا: خلقك الله أعمى فلا نستطيع أن نرد لك البصر، فجاءهم بصحيح كان يُبصر بالأمس، وفجأة طُفئ نوره فأصبح لا يرى، وانفصلت شبكيته فقال لهم: ردوا البصر إن كنتم قادرين، فقالوا: آمنا بالله رب العالمين. هذا حدود الطب. فتجد أقوى طبيب يقف أمامه ويقول له: لا أملك لك شيئاً، فعلنا المستحيل ولا نستطيع أن نجاوز عظمة الله الجليل، وقفوا حائرين أمام عظمة الله جل جلاله في كل شيء. لو قرأت عن عالم الطب في الأعصاب، وما جعل الله في هذا الجسم من الأعصاب الدقيقة في جميع أجزاء الجسم، تنقُل الأحاسيس الحار والبارد يُنقل إلى دماغ الإنسان في أقل من طرفة عين، وتقف أمام أي موقف فتُنقَل أحاسيسك إلى الدماغ، فلو كنت أمام نار فإن ما تراه العين يُنقَل إلى الدماغ: أنني أمام نار، وإذا بالدماغ يفهم أن النار مُحرِقة، فيأتيك الأمر من الدماغ: ارجع فِرّ ابتعد، خذ الماء، وذلك في طرفة عين. هذا الجهاز -جهاز العصَب- في دراستي لبحث الدكتوراة، جلست مع طبيب متخصص في مسألة التخدير الجراحي، كان متخصصاً فقط في مسألة الأعصاب وكيفية تخديرها، والله حار العقل من عظمة الله جل جلاله، فيقف ويقول: سبحان الله رب العالمين، ما أغفلنا عن الله! ووالله إن التفكر في عظمة الله ودلائل وحدانية الله هو لذة الدنيا وسرورها، ينتقل المؤمن من فكرة إلى فكرة، ومن عبرة إلى عبرة، ولا يزال يتفكَّر في ملكوت الله حتى يملأ الله قلبه بالمعرفة بالله، وعندها يطمئن ويرضى بالله، إن أصابته ضراء صبر، وأحسَّ أن الكون كون الله، فلم يجزع ولم يتسخط، لأنه يحس بعظمة الله جل جلاله، ويفر من الله إلى الله، وإن أصابته سراء ذلّ لله جل جلاله، فإذا بك تراه غنياً في ثوب فقير، وإذا بك تراه عزيزاً في ثوب ذليل، فيقول: الله أعطاني والله أغناني والله أولاني فيُثنِي على الله بما هو أهله، فإذا هي كلمات تُفتّح لها أبواب السماوات، يراها أمام عينيه في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم. إن التفكر في عظمة الله وملكوته، أمرٌ ينبغي للمسلم أن لا يغفل عنه في جميع الشئون والأحوال، فإذا وفّّق الله العبد لذلك فقد أعطاه سعادة الدنيا والآخرة. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تملأ قلوبنا بالإيمان بك، اللهم إنا نسألك حلاوة الإيمان ولذة اليقين، ونسألك بعزتك وأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعل لنا من ذكرك وشكرك وحسن عبادتك أوفر الحظ والنصيب، حتى تتوفانا وأنت راضٍ عنا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.

باب المساقاة [2]

شرح زاد المستقنع - باب المساقاة [2] من حكم الله سبحانه وتعالى أن جعل الناس يتعايشون، وقد شرع الله المساقاة لمصلحة المالك والعامل، وهو عقد يلتزم فيه كل من الطرفين بأعمال وأمور تضمن حق الطرف الآخر، وتساعد على تحقق النفع للطرفين، وعلى صلاح الثمرة والشجرة. وقد فصل الشيخ في بيان ما يجب على العامل والمالك حتى يتحقق مقصود هذا العقد الشرعي.

الأحكام المترتبة على عقد المساقاة من جهة العامل

الأحكام المترتبة على عقد المساقاة من جهة العامل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فقد شرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان بعض الأحكام المترتبة على عقد المساقاة، وقد ذكرنا غير مرة أن العلماء والفقهاء رحمهم الله إذا بينوا العقود الشرعية من حيث اللزوم وعدم اللزوم فإنهم يشرعون بعد ذلك في بيان الآثار المترتبة على هذه العقود، فإذا اتفق طرفان: المالك للأرض والنخيل أو الأعناب مع العامل على سقي العنب والنخيل، وتمت المساقاة بالصورة الشرعية؛ فإن هناك التزامات على العامل، وهناك التزامات على رب الأرض، فيرد Q ما هو الواجب على العامل أن يقوم به بناء على هذا العقد؟ وما هو الواجب على رب الأرض صاحب النخل بناء على هذا العقد؟ فعقد المساقاة عقد مقابلة ومعاوضة، فكل واحد من الطرفين يعطي للآخر شيئاً ويأخذ مقابل ذلك شيئاً آخر، فالعامل عليه التزامات، وضبط بعض العلماء هذه الالتزامات بأنه يجب عليه القيام بكل ما يتكرر في العام مثل تأبير النخل وتصليحه، وتصليح العراجين التي فيها ثمرة النخل، ومثل تقليم العنب، وغير ذلك من الأمور التي سنبينها ونفصلها إن شاء الله تعالى، فهذه الأمور تتجدد. وعلى رب الأرض ومالكها أيضاً التزامات ينبغي أن يقوم بها، فالآن سيشرع المصنف رحمه الله في بيان هذه الالتزامات حتى لا يدخل العامل على حق رب المال، ولا يدخل رب المال على حق العامل، ولا يلزم العامل بشيء لا يلزمه بالعقل، فلا بد من معرفة ما الذي على العامل وما الذي على رب الأرض. فيلزم العامل كل شيء فيه مصلحة الثمرة وهذا يشمل أموراً منها ما يتعلق بالنخلة ذاتها أو شجرة العنب نفسها، حيث يقوم بأشياء معينة هي من مصلحة الثمرة، بحيث إذا أخل بها أضر بالثمرة. فعندنا مثلاً تأبير النخل، لو أنه لم يحسن تأبير النخل أضر بالثمرة، فهو ملزم بناء على حق المساقاة أن يقوم بالتأبير وتصليح النخل بالطريقة المعروفة والمتبعة، والتي يسير عليها الناس في العرف. كذلك هو ملزم في تقليمه للعنب وقيامه على مصالح الثمرة بجميع ما جرى به عرف المزارعين، وأصحاب الأعناب في إصلاح هذه الثمرة، هذا بالنسبة لنفس الشجرة، فيشمل هذا إزالة الشوك الذي يسمى في عرف العامة اليوم (البرش) برش النخيل، ويشمل إصلاح الأقنية، والذي يعرف في عرف العامة اليوم (تعديل الأقنية)، ويلزم بالتأبير. أما بالنسبة لما يتعلق بأرض النخلة فيلزمه حرث الأرض، والمراد بذلك ضربها بمسحاة وقلب ظهرها وإخراج بطنها حتى يشمس، ووضع السماد، وإزالة الحشيش، وهذا سنبين أسبابه؛ لأن هذه الأشياء كلها إذا قام بها العامل انتفعت الثمرة. فالأرض إذا سقيت وكانت أرضاً زراعية فيها غذاء، وفيها القوة، فإن الثمرة تكون قوية، والقوة التي تعين الأرض بقدرة الله عز وجل وتساعد على صلاح ثمرة المزروع فيها لا بد من تعاطي أسبابها، فعندما تحرث الأرض ويقلب بطنها ظاهراً وتأتي الشمس عليه تنتفع الأرض أكثر وتتفكك، وحينئذ تقوى عروق النخل على امتصاص الماء، كذلك يضع السماد فيها، فإن السماد إذا وضع في الأرض اغتذت الأرض، بحيث إذا امتصت جذور النخيل امتصت غذاء فانتفعت الثمرة، فيكبر حجمها ويجود طعمها، ولربما كثرت الغلة، فبدل أن تخرج النخلة عذقاً أو عذقين أو ثلاثة قد تخرج عشرة، وهذا كله يعرفه أهل الخبرة بالنخيل. فإذاً: مادام أن حرث الأرض يصلح الثمرة فإنه يلزم العامل، لكن نلزمه بالعرف عند أهل النخل، مثلاً أنها تحرث مرة في السنة فنلزمه بمرة في السنة، وإذا جرى العرف في المزارع التي حصلت فيها مساقاة أنها تحرث مرتين فحينئذ نقول: احرثها مرتين، وهذا الحرث يكون على صورتين: تارة بنفسه يضرب بالمسحاة، وهذا أشق ما يكون من عناء، خاصة إذا كان في مزرعة كبيرة، وتارة (يعزق) بالآلة، آلة الحرث من بقر أو ما يوجد في زماننا من الآلات التي يستعان بها بعد الله عز وجل في (عزق) الأرض وقلب بطنها إلى ظهر. إذاً حوض النخلة يحتاج إلى إصلاحه بالسماد وإصلاحه بالمسحاة بعزقه، وربما أيضاً تحتاج النخلة إلى إصلاح الحوض لحفظ الماء، وهو ما يسمى بالعقوم، فيقوم بعقم الأحواض، وكل نخلة لها عقم، فتارة يكون صغيراً، وتارة يكون كبيراً، فلو أن هذا العقم تساقط مع مرور الشهر والشهرين خاصة مع الرياح إذا كانت الأرض جافة، فينزل العقم وإذا نزل كانت نسبة الماء قليلة ولا ترتوي بها النخلة، وإذا قل الماء قلت الثمرة فنقول: أنت مطالب برفع هذه العقوم، وإذا كانت العقوم تحيط بالنخلة فعليه أن يرفعها رفعاً يعين على إصلاح الثمرة ويتحقق به النتاج على أتم الوجه وأكملها، هذا بالنسبة للأمور التي نطالب بها العامل في حوض النخلة والأرض. وهناك أمور نطالبه بها في جريان الماء ووصوله من البئر إلى النخيل أو الأعناب، فإذا كان هناك جداول فإنه يطالب بإصلاح الجداول، والتي تعرف في زماننا (القمطرة)، وقمطرة الماء تحتاج إلى كتفين يجري بينهما الماء وهو الذي يسمى بـ (المقمطرة) ويسمى في القديم الجدول، فكل هذا يطالب به، فنقول له: هذه المزرعة ما دمت قد التزمت بسقيها فأنت مطالب بكل ما يعين على سقيها ووصول الماء إلى النخيل، فيطالب بإقامة هذه العقوم، ويطالب بتقسيمها بين النخيل من أجل أن يجعل لكل نخلة حوضاً، ويجعل لكل مجموعة من الأعناب حوضاً أيضاً، فإذا طالبناه بذلك طالبنا بمصلحة الثمرة، ولا يقول العامل: إن الجدول يُطالَب به رب الأرض؛ لأن الجدول سيبقى في الأرض بعد خروج العامل وانتهاء المساقاة، فقد يقول العامل: رب الأرض هو المطالب بالجدول، نقول له: لا؛ لأن العقد تم على السقي، والقاعدة تقول: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، فلما كان التزامك في العقد بينك وبين رب الأرض أن تسقي النخيل وسقي النخيل مفتقر إلى إقامة هذه الجداول، فأنت مطالب بها. كذلك بالنسبة لهذا الماء فيه مسألتان: المسألة الأولى: تتعلق باستخراجه من البئر، فالعامل مطالب باستخراج الماء من البئر، ومطالب أيضاً بجريانه من الموضع الذي استخرج منه كالبركة أو نحوها، ووصوله إلى النخيل، وإلى الأعناب، فنطالبه أولاً باستخراج الماء فما يكون من الآلات التي تحتاج إلى إدارة مثل ما هو موجود في زماننا من المكائن الزراعية فإنه يطالب بتشغيلها والقيام عليها من أجل إدارتها حتى تدار ويخرج الماء، وإذا كانت تسقى بالنضح والدلو والرشاء، فنطالبه بالجلب إن كانت تسقى بالسواني، ونطالبه بإدارة السواني، فهو يطالب فقط بتحصيل أو بإدارة ما يمكن من خلاله وصول الماء، لكن بالنسبة للآلة نفسها التي هي السانية أو المكينة الزراعية فهي على رب الأرض، ولكن إدارتها وتشغيلها يطالب به العامل. فنقول: رب الأرض يحضر المكينة ويلزم بإصلاحها إذا تعطلت ويلزم بوقودها وبكل ما يعين على إدارتها وتشغيلها، فلو تعطلت وكان عطلها بدون تفريط من العامل طولب رب الأرض بإصلاحها، هذا بالنسبة لمسألة إخراج الماء من البئر. قال بعض العلماء: في القديم كان هناك ما يسمى بالعيون، وكانت الآبار تنقسم إلى قسمين: هناك آبار التي تعرف في زماننا بالآبار الارتوازية، فهذه بقدرة الله عز وجل الماء يكون فيها بإصابة العين؛ لأن الماء يجري تحت الأرض بعيون ولربما يكون مثل البحر على حسب كثرته وقلته، قال الله عن الماء: {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:18] فالله أسكن الماء في الأرض وأجراه عيوناً، ثم هذه العيون والآبار الارتوازية الموجودة في زماننا ليست كالقديمة. وأنا أقول هذا الكلام حتى يتصور طالب العلم ويعرف كلام العلماء فيما سيأتي؛ لأنه ليس المراد أن نحفظ القديم، إنما المراد أن نفهم كيف نخرج المسائل المعاصرة على المسائل القديمة؛ لأننا إذا قرأنا الفقه بالطريقة القديمة فليست موجودة الآن، وإذا قرأنا بالطريقة الجديدة دون أن نخرج على القديم أصبحنا لا نحسن فهم هذه المسائل وتخريجها، فلا بد من الربط بين القديم والجديد وهذا ما يقوله العلماء، نبدأ من حيث انتهاء السلف رحمهم الله، أي: هم قعدوا لنا فنفهم تقعيدهم وتأصيلهم، ثم نخرج الموجود في زماننا على ما ذكروه. نقول: المياه إذا جرت في الأرض تجري في عيون، فإذا حفر البئر في زمان فإنه يحفر بقدر معين ونسبة معينة، فإذا أصاب العين جاء الماء، وإذا لم يصب العين فلا ماء، فيمكن أن تجري العين وبينها وبين البئر الذي حُفر شبر واحد وهم لا يدرون، وقد يخسر مائة ألف أو مائتين ولا يجد الماء؛ لأن الله لم يوفقه على المجرى نفسه، فهذه العيون التي تجري في الأرض أشار الله تعالى إليها بقوله: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان:53]. ومن قدرة الله عز وجل أنه في بعض الأحيان تجري العينان متساوية مع بعضها، فتجري عين مالحة وعين عذبة في مجرى واحد أجراه الله جل جلاله، لا تستطيع أن تجد ملوحة الماء المالح الأجاج في الماء العذب الذي كالسكر، ولا تستطيع أن تجد عذوبة الماء العذب في الماء الأجاج فبينهما برزخ، لا يوجد بينهما حاجز ولا حائل لكن الله بقدرته وضع هذا البرزخ، وقد ذكر لي من رأى ذلك بعينه من المشايخ حينما كان صغيراً يقول: والله شربت فكان من جانب ماء عذب ومن ألذ وأعذب ما يكون، وجانب ملح أجاج لا تستطيع أن تدخله في فمك، وهذا من قدرة الله، ففي العصر الحديث هذه الآبار الارتوازية لا يستطيع العامل أن يدخل في البئر ويصلح شيئاً فتخريج الماء من الآبار الارتوازية على اصطلاح معين ما هو موجود في القديم. النوع الثاني: الآبار القديمة وهي التي تحفر بقطر معين على حسب كثرة الماء في الأرض وقلته، ففي بعض الأحيان يكون الماء سطحياً، فقد يحفر مسافة الأربعة أمتار ويصبح بئراً يخرج منه الماء، ويسقى منه الزرع، ثم بعد ثلاث ساعات أو أربع ساعات يعود مرة ثانية ويمتلئ؛ لأن الماء كثير، فهذا البئر الذي هو ثلاثة أمتار أو أربعة أمتار يكفي لسقي المزرعة، لكن قد يكون السقي عن طريق السواني وهو الدلو، فهذا النوع من الآبار لا يمكن أن ينتفع

ما يلزم به العامل في المساقاة

ما يلزم به العامل في المساقاة وقال رحمه الله: [ويلزم العامل كل ما فيه صلاح الثمرة من حرث وسقي ودباغ].

حرث الأرض

حرث الأرض (من حرث) "من" بيانية، والقاعدة تقول: (يلزم العامل كل ما فيه صلاح الثمرة)، أي: بعمل أي شيء فيه مصلحة للثمرة، مما جرى العرف أن العمال يقومون به من حرث وغيره، والحرث يسمى في زماننا وفي عرف الناس (العزق)، وصورته: أن تضرب الأرض بالمسحاة وتحفر، من أجل قلب بطنها إلى ظهرها، فالأرض إذا مضت عليها سنة أو سنتان أو أكثر من سنة وهي لم تقلب أصبحت صلبة، وحينئذ الجذور الموجودة في النخلة تمتص الماء بصعوبة، وإذا أصبحت صلبة قل نزول الماء إلى أسفل، وإذا قل نزول الماء إلى أسفل بقي الماء على وجه الحوض أكثر مدة فتبخر مع الشمس، ونزلت نسبة ضئيلة إلى عروق النخلة، فإذاً تحتاج الأرض إلى (العزق) والضرب بالمسحاة لأمرين: الأمر الأول: تفكيك هذه التربة حتى تستطيع جذور النخلة أن تمتص الماء أكثر، ولذلك إذا ضربت بالمسحاة وأصبحت الأرض هشة بمجرد ما تسقيها يذهب الماء تماماً؛ لأن الأرض أصبحت مهيأة للسقي، فتشرب جذور النخلة بكثرة ويكون هذا فيه مصلحة للثمرة؛ لأنها إذا شربت بكثرة جادت ثمرتها وكثرت، يعني: كان من مصلحتها فيطالب بحرث الأرض. الأمر الثاني: أن هذا الحرث يقتل الأعشاب الذي يسمى بـ (النجيب)، فهذا (النجيب) إذا انتشر في الأرض فإنه يشرب الماء على النخلة، وهذا يضر بكثرة الثمرة وجودتها لأن نسبة الماء التي تصل إليها قليلة، وتزاحم جذور العشب لجذور النخلة فلا يصل للنخلة إلا القليل، فنقول له: أنت مطالب بعزق الأرض، ثم تخرج هذا العشب أو (النجيب) من الأرض وتحرقه بالطريقة المعروفة المتبعة، ثم إذا حرث يقوم بالتسميد، والسماد يطالب به رب الأرض، ووضع السماد في الأرض يطالب به العامل، فإحضار السماد (الزبل) وكلفته وشراؤه إذا كان طاهراً على المالك، ونحن بينا في مسألة بيع السماد أنه إذا كان طاهراً فإنه يجوز بيعه، وإذا كان نجساً لا يجوز بيعه، فلو كان السماد فضلة إبل أو بقر أو غنم فهو طاهر؛ لكن لو كان من فضلة الحمير ونحوها مما هو نجس فلا يجوز شراؤه، فإذا وضع هذا السماد الطاهر في الأرض فإنه يجب حينئذ أن تكون مئونة إحضاره إلى الأرض وشراؤه على رب الأرض، وأما مئونة وضعه وتقسيمه على أحواض النخل فهذا على العامل.

سقي المزرعة

سقي المزرعة قال رحمه الله: [وسقي]. وذلك على الصورة التي ذكرناها، فيطالب أول شيء بأمور في البئر نفسه، ويطالب بوصول الماء من البئر إلى النخل، وتصليح أحواض النخل، في زماننا، فتوجد جداول الإسمنت الموجودة في زماننا، لكن يطالب العامل بتقسيمها ورعاية الماء أثناء جريانه فيها، وسقي الأحواض مرتبة حتى يستطيع أن يعطي كل نخلة حقها من السقي.

زبار الأشجار

زبار الأشجار [وزبار] وهو تقليم أطراف العنب، فإن العنب يقلم في كل سنة مرة، وهذا التقليم في فصول معينة من السنة تؤخذ أطراف العنب وتقص، فإذا قصت الأغصان اليابسة أنتجت وخرجت ونشط انتشار العنب وأصبح المحصول إذا انتشر العنب وامتد أكثر، وهذا من مصلحة الثمرة، لكن إذا بقيت أطراف العنب ولم تقلم ولم تزبر فإنها لا تزداد ثمرتها، فتبقى ثمرتها أقل مما إذا استصلحت، وهذا الزبار يسمى في زماننا تقليم العنب، وهو: أخذ الأطراف اليابسة الميتة ونحو ذلك حتى يكون ذلك أدعى لانتشاره. وذكرنا في المجلس الماضي أنه إذا استنبت العنب أرخى غصناً من أغصان العنب في الأرض، ثم حفر له ودفن طرفه وأخرج طرفه الآخر وقمله، فإذا قامت ما زالت تشتد، وهي تحتاج أن تترك حتى تزحف على الأرض مسافة متر مثلاً، حتى يكون ساقها قوياً ثم ترفع، وهي الجنة المعروشة، فهذا من خلق الله عز وجل. فالعنب من الزروع التي لا بد لها من العريش، والعريش يحتاج مثلاً إلى أغصان الأثل أو ما يسمى بالطرفة الموجود في زماننا، ولذلك تجد في المزارع أنه لا بد من وجود الطرفة، فالطرف -الذي هو الأثل- يقص أغصانه ثم تقطع على طول متر أو مترين، ثم تقام في الأرض وتشجر فإذا رفعت الأغصان على العروش فذلك من أجل أمرين: الأمر الأول: أنك تستطيع جني محصولها؛ لأنه لا يمكن لمحصول العنب أن يكون على الأرض، وإذا كان على الأرض فإنه يفسد، فيفسد بالماء أو يفسد بالآفات ونحوها، فيحتاج العنب إلى رفع، فنطالب العامل بعمل هذه العروش؛ لأنه من مصلحة الثمرة ثم نطالبه بتسقيفها، ثم توضع هذه العروش عليها بالصفة المعروفة عند أهل الخبرة، فالزبار في العنب يشمل التقليم وأيضاً مما يحتاجه العنب، فيطالب بتهيئة العروش وحمل هذه الأغصان من العنب على هذه العروش.

تلقيح النخيل

تلقيح النخيل قال رحمه الله: [وتلقيح] التلقيح، من اللقاح، والنخل بقدرة الله عز وجل لا بد أن يلقح، وبينا هذا في مسائل بيع النخلة إذا أبرت، وبينا صفة التأبير، فنقول للعامل: أنت مطالب بتأبير النخل ويسمى تغبير النخل وتلقيح النخل والتغبير؛ لأن العبرة بغبار الذكر، فالله بقدرته جعل النخيل على زوجين ذكر وأنثى، فالذكر يسمى بالفحول، ويخرج منه ما يسمى بالكيزان المغلقة والتي فيها مثل ماء الرجل وماء المرأة الذي هو اللقاح، كذلك هذا الغبار بالنسبة لأنثى النخيل مثل الماء الذي يكون بين الذكرين في الآدميين، فلا بد من هذا اللقاح. وهذا اللقاح له عدة طرق، تارة يؤخذ من الفحول وينشر على الشمس حتى يتماسك؛ لأنه إذا كان طرياً تساقط غباره وذهب، فيقوم الفلاح بأخذ هذا العرجون الذي فيه أكثر من مائة مشجر من أشجاره، ثم تقطع واحدة واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً على حسب صغر حجمها وكبره، وبعد أن تقطع تنشر في الشمس حتى تضرب، فإذا ضربت بالشمس انكمشت، وإذا انكمشت حفظت الغبار الموجود فيها، وبعضهم يأخذه طرياً ويلقح به طرياً. هذا الغبار يؤخذ من الفحول ويوضع في الإناث، وبعض الأحيان يكون الغبار من العام الماضي يحتاط به الفلاح؛ لأنه ربما خرجت العراجين من الإناث قبل أن يتيسر لها اللقاح فيحتاط بوضعه من العام الماضي لقاحاً. فإذا أخرجت الفحول هذا اللقاح طولب العامل بترتيب هذا اللقاح وتصليحه وتهيئته لكي يلقح به، ثم إذا تشققت الإناث لقح كل نخلة بالعرف، إن كانت النخلة تحتاج إلى تعجيل عجل، وإن كانت تحتاج إلى تأخير أخر فهو مسئول عن أمرين: الأمر الأول: لقاح النخلة. والثاني: أن يلقح بالعدد والكمية والوقت والزمان المعروف عند أهل الخبرة. فقد تحتاج النخلة إلى يومين أو ثلاثة وهو ما يسمى بالتبريد فلا تلقح مباشرة، وإنما تؤخر يوماً أو يومين أو ثلاثة أو أربعة وهذا من مصلحة الثمرة، فلا يجوز أن يبكر ويلقح مباشرة بل ينتظر، فإذاً يفعل في اللقاح ما هو مقتفى ومعروف عند أهل الخبرة، فلو أن لرب المال بستاناً ليس فيه لقاح أي: ليس فيه ذكر وجاء العامل وقال: أنا مستعد أُلقح لكن لا يوجد لقاح ذكر؟ نقول لرب البستان: أنت مطالب بإحضار اللقاح، والعامل مطالب بوضع هذا اللقاح في النخل، فإذاً من حيث الأصل العامل ليس مطالباً بتأمين اللقاح، إنما هو مطالب بوضع اللقاح وتهيئته إن كان موجوداً في البستان.

تشميس الأرض والثمرة

تشميس الأرض والثمرة [وتشميس] "والتشميس" يشمل تشميس الأرض وتشميس الثمرة في بعض الأحيان إذا جذت، وقلنا إن المراد بتشميس الأرض يحتاج أن تعزق وتترك اليومين أو الثلاثة أو الأربعة من أجل أن تضربها الشمس وإذا ضربتها الشمس فهذا يقتل جراثيمها والأوساخ الموجودة فيها، ويهيئ بقدرة الله عز وجل صلاحها أكثر، وتغتذي بقدرة الله بهذه الشمس، وكم في هذه الشمس من أسرار، وفي أشعتها من حكم تحار فيها العقول، وأهل الأبحاث والدراسات -ولا يصح أن نقول علماء الشمس؛ لأن العلم وصف شرف مختص بالدين والشرع، وهذا هو المنبغي، فينبغي على أهل الشريعة إذا ذكروا العلم أن يخصوا به أهل العلم الشرعي، أما غيرهم فيقال: باحثين دارسين، وأما العلم فوصف شرف {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] هذا وصف شرف لا يقال إلا لمن علم العلم الذي أوصله إلى رضوان الله والجنة. أما إنسان عنده خبرة ومعرفة بالدنيا فيقولون: علماء كذا، حتى أصبحنا لا نعرف شرف أهل العلم في الدين من أهل الدنيا، وأصبح وصف العلم مستوياً وكان إلى عهد قريب لا يعرف العلم إلا عند أهله، وإذا قيل: العالم خشعت القلوب من ذكره؛ لأن المراد به عالم الآخرة، فهذا ينبغي أن يُفهم. فنقول: دارسين، باحثين في أشعة الشمس، فهم يقولون: إن هناك من الفوائد ما تغتذي به الأرض وتنتفع به من شعاع الشمس، ويكون سبباً في صلاح الثمرة سواء كانت للنخيل أو المزروعات الأخرى. فالتشميس مطالب به، وقد ذكره المصنف رحمه الله ودرج أهل الفلاحة والزراعة على أنهم يشمسون الأراضي من أجل استصلاحها، وفي بعض الأحيان يكون التشميس للثمرة، فالثمرة إذا جذت وقطعت تكون مستوية، ولكن فيها الطري وهذا الطري يحتاج إلى تشميس، فبقدرة الله تقوم أشعة الشمس بسحب الطراوة وتبقى الثمرة يابسة نوعاً ما، وهذا التماسك واليبس الذي يكون فيها بقدرة الله عز وجل بقوة الشمس، وفي بعض الأحيان أشعة الشمس تجعل اليابس مائعاً وليناً. وهذه قدرة تحار فيها العقول فيمكن أن تضع ثمرة فتصبح بعد يبسها لينة بالشمس، وممكن أن تضع ثمرة وهي لينة فتصبح بأشعة الشمس يابسة، وكل من تعاطى الفلاحة يعرف ذلك، وهذا كله يدل على عظمة الله سبحانه وتعالى، وأن الله حينما وضع هذه الشمس وضعها بقدرة وبترتيب عجيب بديع، حتى إن تشميس الثمرة يحتاج إلى طريقة معينة وأيام معينة حتى يتحقق جفافها. فالتشميس يطالب به العامل، والسبب في مطالبته مصلحة الثمرة، فإن كان التشميس للأرض فهذا يكون في الحراثة، يعزق الأرض ويتركها أسبوعاً، أو يتركها ثلاثة أيام، أو أربعة أيام، على حسب الفصول؛ لأنه يحتاج إلى سقي، وأما بالنسبة لتشميس الثمرة، فتشميس الثمرة على الصفة التي ذكرناها إذا كانت الثمرة تحتاج إلى تيبيس وفيها طراوة؛ لأنه لا يمكن بيع التمر إلا بعد يبسه، ولا يمكن إخراج الزكاة من التمر إلى بعد يبسه واكتمال نضجه، وهذا يستلزم أن توضع في الشمس خاصة إذا جذت الثمرة قبل تمام النضج. ومعلوم أن النخل بقدرة الله عز وجل إذا استوت تكون بلحاً، ثم تكون رطباً، تبدأ تذبل من أسفلها ويسري فيها الرطب من الأسفل، وهناك بلح يسري فيه الرطب من أعلى، وهناك بلح يسري فيه الرطب من النصف، حارت عقول الباحثين في هذا حتى يعلمهم الله أن هناك قدرة وأن هناك إلهاً؛ لأنه لو كانت الأمور تجري بالطبيعة مثلما يقولون -الأمور طبيعية والحياة طبيعية- لأتت الرطب إما من أسفل وإما من أعلى وإما من الوسط، لكن تحار! تأتي إلى الروثان فتجده يأتيه الرطب من أسفل، وتأتي مثلاً إلى الربيعة فيأتيها الرطب من أسفل ومن فوق، ومن على جنب ومن جميع الجوانب، وقد تأتي في الربيعة لذعة يسيرة مثل حبة الذُرة، ثم لا يأتي آخر النهار إلا وهي مستوية، وتأتي إلى الروثانة تمكث يومين كاملين وقد رطب أسفلها، لا يمكن أن يزيد شعرة واحدة، كل هذه دلائل وحدانية الله عز وجل وقدرته! والشاهد أن الرطب إذا سرى في الثمرة واكتمل نضجها فإنها تصير تمراً، وهي المرحلة الأخيرة عند صيرورتها تمراً، وهناك مراحل: المرحلة الأولى: أن يثمر العرش من النخلة فيصبح مستوياً، وإذا استوى واكتمل استواؤه وهو أخضر، فالفلاح الجيد الذي عنده خبرة لا يبادر بمجرد رؤيته أسود -يعني تمراً- إلى قطعه، بل ينتظر إلى أن ييبس العرش، فإذا يبس العرش تماماً وأصبح العرجون يابساً فتلك جودة تمره؛ لكن قد يستعجل الشخص بأن يكون مثلاً قرب زمن الأمطار فيخشى على التمر فيبادر بقصه، فإذا بادر بقصه فحينئذ يكون بقي ربع العرجون طرياً لم يكتمل يبسه، فإذا جئنا نكيل في الصاع أو نخرج الزكاة أو نقسم لم نستطع؛ لأن هذا القدر لا يمكن وضعه في الصاع؛ لأنه لم ييبس، فهذا القدر يحتاج إلى تيبيس، فنقول للفلاح: أنت مطالب بتشميسه حتى يكتمل، وعندئذ يمكن الانتفاع به، فمسألة التشميس إن كانت للثمرة فالغالب أن المراد بها ما بعد الجذاذ، فإذا قال له: جذ النخلة وبكر، واتفقا على أن يجذا مبكرين، فحينئذ يطالب بالتشميس حتى يكون ذلك أدعى ليبس الثمرة وكمال الانتفاع بها.

إصلاح موضع الشجر

إصلاح موضع الشجر قال رحمه الله: [وإصلاح موضعه] أي: وإصلاح مواضع النخيل، فيطالب بإصلاحها مثل ما ذكرنا بالعزق ورفع العقوم وغير ذلك.

إصلاح جداول الماء وطرقها

إصلاح جداول الماء وطرقها قال رحمه الله: [وطرق الماء] التي هي الجداول والماذيانات ونحو ذلك، يطالب بتنظيفها من العشب، ويطالب بتنظيفها من الأشياء التي تعيق وصول الماء، ويطالب بسد الحفر، ويطالب باستصلاح فتحات الماء على الأحواض ونحو ذلك. فيفضل لطالب العلم -وأنا أوصي بذلك كثيراً- أن يخرج ويتعرف على هذه الفلاحة من باب معرفة الأحكام، فتخرج وتنظر وتسأل الفلاح، فإنك حينما تنظر إلى الأئمة ومشايخ الإسلام رحمة الله عليهم عندما يتكلمون عن هذه الأشياء تجد أنهم كانوا يعرفون كل شيء، فانظر المصنف يقول: (زبار وحرث وتشميس) كيف عرف هذا؟ ما عرفوه إلا بسؤال أهل الخبرة، وإذا كان قد تعاطى بعضهم الفلاحة، فممكن في بعض الأحيان أن يكون الإنسان عنده خبرة إذا تعاطى الأشياء، لكن كون طالب العلم يتكلم عن شيء يفهمه ويعرفه فهذا شيء طيب جداً، وهذا أدعى إلى معرفة الحكم الشرعي، وبه يستطيع أن يتصور كلام العلماء رحمة الله عليهم.

الحصاد

الحصاد قال رحمه الله: [وحصاد ونحوه] والحصاد حصاد الثمر الذي هو مثلاً جذاذ النخل، فلو أن العامل مكث ما يقرب من أحد عشر شهراً وهو يسقي النخيل ويقوم عليه، ثم اكتمل نضج النخيل، فجاء لرب البستان وقال له: إني قد سقيت والعقد بيني وبينك عقد مساقاة، فالآن قص الثمرة عليك، وليس بيني وبينك أي شرط، فبعض العلماء يقول: الجذاذ نصفه على العامل، ونصفه على رب المال مناصفة، فكل واحد منهما يجذ حقه، هذا مذهب بعض العلماء، وأن العامل ليس مطالباً بالجذاذ. وقال بعض العلماء: العامل مطالب بالجذاذ، ثم يقسم الحق على ما اتفقا عليه، وإن كان الأقوى في الحقيقة أن العامل مطالب بالجذاذ، وبناء على ذلك نقول للعامل: أنت الذي تطالب بجذ النخيل، ثم بعد جذه يفعل ما في مصلحته من التشميس أو نحوه من التفصيل الذي ذكرناه. فالعنب يحتاج إلى قص، تعرفون أن العنب الذي تروه في السوق وتشاهدونه يكون على أطراف أغصان، وهذه الأغصان تحمل ثمرة العنب، وتتصل ثمرة العنب بالأغصان بواسطة الخيط المعروف ما بين الثمرة وما بين الغصن، وهذا الخيط يقص ويقلم ويقطع، ثم تؤخذ ثمرة العنب وتزبب ويكون هذا أشبه بجذ ثمرة النخيل، فيطالب العامل فقط بقص هذا القدر من المحصول ولا يطالب بتفريقه، إنما يطالب فقط بالقص، ثم صيرورة العنب زبيباً هذه تحتاج إلى نظر، من حيث الأصل فالجذاذ يكون للعنب، لكن إذا أرادوا أن يقسموا العنب فلا يمكن تقسيمه إلا إذا كان زبيباً، أما لو قسم عنباً وهو موجود على حاله ووضعه لا يمكن إلا عن طريق الخرص وهذا يحتاج إلى أهل الخبرة فيقولون مثلاً: هذه العشرة العروش من العنب ثلاثة منها محصولها يعادل السبعة الباقية، فيعطى كل منهما حقه بالقسم، أو تقص ثم يقسم بينهما بالطريقة التي تقوم بتنشيفه وصيرورته زبيباً، أو ينتظر حتى ييبس فإذا صار زبيباً فقسمه سهل لأن الزبيب يمكن كيله وقسمته بين العامل وبين رب المال.

ما يلزم به رب المال في عقد المساقاة

ما يلزم به رب المال في عقد المساقاة قال رحمه الله: [وعلى رب المال ما يصلحه] أي: الالتزامات التي تلزم رب النخيل ما يصلحه، وهذه قاعدة: أن ما يصلح الثمرة على العامل، وما يصلح المال والنخيل والعنب على رب المال، فنطالب العامل بما فيه صلاح الثمرة، ونطالب رب المال بما فيه صلاح النخل من حيث المحافظة عليه، ولذلك نطالبه بتهيئة كل الأسباب لحفظ الثمرة، وحفظ النخل من الاعتداء عليه أو نحو ذلك مما سيفصله المصنف رحمه الله.

سد الحيطان

سد الحيطان [كسد حائط] حيطان البستان تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون الحائط من البناء، فإذا كان الحائط مبنياً وحفظ النخل والعنب فلا إشكال. القسم الثاني: إذا لم يكن مبنياً فالغالب أن يكون مثلاً من أغصان الشجر، أو الجريد يوضع بعضه وراء بعض، أو يضعون أعواد الأثل، ويوضع بينها الشوك أو الأشياء التي تمنع من دخول الدواب، وتمنع من دخول الآدميين، نقول لرب المال: أنت مطالب بوضع السياج المحافظ على النخل؛ لأنه لا يمكن للعامل أن يأتي ويشتغل في المزرعة والمزرعة يدخلها كل من هب ودب، ولربما جاء في مزرعة عنب يريد أن يستصلحها ويسقيها طيلة العام وحدودها وحيطانها مفتوحة، فتأتي الدواب في الليل وتأكل العنب وينتهي كل شيء، وهذا فيه ضرر. إذاً: نطالب رب المال بحفظ الحيطان وسدها، فإذا قصر في شيء من ذلك يلزم بسداده، فلو أنه قصر ودخلت بهيمة وأفسدت فإنه يتحمل المسئولية ويضمن حق العامل، وبناء على ذلك لا بد أن نطالب رب المال بحفظ المال. بعض العلماء يرى أن سد الحيطان على العامل إذا كان من الأغصان ونحو ذلك، والصحيح أنه على رب المال وليس على العامل.

إجراء الأنهار

إجراء الأنهار قال رحمه الله: [وإجراء الأنهار] إذا كان النهر بجوار المزرعة ويحتاج إلى مدخل يدخل منه إلى المزرعة، فهذا المدخل يحتاج إلى عامل أو يحتاج إلى مؤنة وكلفة مثل المواسير في زماننا أو محابس الماء التي تدخل الماء على المزرعة،: نقول ما وراء ذلك من دخول النهر إلى المزرعة أنت مطالب به، وأما بالنسبة لداخل المزرعة يطالب به العامل، فنعطي كلاً منهما الواجب الذي عليه، ونلزمه في هذه الحالة إجراء النهر إلى المزرعة. فمثلاً لو كانت المزرعة تبعد عن النهر مسافة ثلاثة أمتار فتحتاج إلى مجرى يجري فيه الماء، فنقول لرب المزرعة أنت مطالب بحفر هذا المجرى أو مطالب بوضع المواسير أو وضع المواطير التي تسحب الماء إلى المزرعة، فالعامل لا يطالب بشيء من ذلك الخارج عن المزرعة، وفي حكم ذلك مثلاً إذا نقل الماء عن طريق السيارات ونحوها، فإنه يطالب به رب المال ولا يطالب به العامل.

شراء الدواليب الحاملة للماء

شراء الدواليب الحاملة للماء [والدولاب ونحوه] السواني كانت في القديم تقوم على الدواليب التي تحمل الماء فنقول: هذه الدواليب وشراؤها وإحضارها المزرعة، والدواب التي تحركها أنت مطالب بها، في زماننا المكائن، يطالب بإحضار المكينة ومؤنتها من وقود ونحوه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تقليم أغصان النخيل والعنب وقلع العشب في حرم مكة والمدينة

حكم تقليم أغصان النخيل والعنب وقلع العشب في حرم مكة والمدينة Q لأجل صلاح الثمرة يجب على العامل قطع الأغصان والحشائش، فهل هذا الحكم يسري فيما كان داخل حدود الحرم، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فحرم مكة والمدينة يجوز قطع الأغصان فيها والتصرف في المزروعات المستنبتة من الآدميين، فهذه مزرعتك يجوز لك قلع نخيلها ومزروعاتها، وتقليمها، وبرش النخيل، ولا حرج عليك في ذلك لأن هذا يعتبر ملكاً لك، وإنما المحظور فيما ينبت خلقة، وأما بالنسبة لما يستنبته الآدمي فمن حقه أن يقلع، ومن حقه أن يعيد؛ لأن هذا هو شأن المزارع ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على أهل بساتين مكة، ولذلك يختص الحكم بما نبت طبيعة ولا يشمل ما استنبته الآدمي، وبذلك نجد في عبارة العلماء (دون المستنبت) يعني: الذي تنبته بنفسك فأنت حر في التصرف فيه بما ترى فيه من المصلحة، والله تعالى أعلم.

البيع المحرم والجائز في شماريخ البلح

البيع المحرم والجائز في شماريخ البلح Q إذا أراد شخص أن يشتري بلحاً فهل يشتري بالشماريخ، وكذلك العنب أثابكم الله؟ A إذا كان عذق النخلة محملاً بالثمرة وأراد بيعه لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يبيعه بالعدد ويقول: أبيعك هذا الشمروخ بمائة ريال، فهذا يجوز، إذا عرف الشمروخ ونظر فيه وتفقده وفحصه، وهذا في حكم بيع الطعام الجزاف لكن بحكم المعدودات. الحالة الثانية: لو قال له: أبيعك هذا العذق كل كيلو بخمسة ريالات أو هذا العذق مثلاً مائة كيلو، وأبيعكه بخمسمائة ريال فلا يجوز بيع العذق والشماريخ على هذه الصورة؛ لأنه اشترى الثمرة والشماريخ ولا فائدة فيها، ولا نعلم وزن الثمرة من الشماريخ، ولذلك لا يجوز بيعه بالوزن، وهو موجود الآن في بعض الأحيان تأتي وتجده يقول: أبيعك الكيلو بعشرة، فهذا لا يجوز حتى يفصل الثمرة عن الشمروخ إذا كان يريد أن يبيعه بالوزن. لكن إذا قال له: هذه الشماريخ أبيعك إياها بريال فإنه يجوز، وهذا العذق أبيعك إياه بخمسين فإنه يجوز، لكن أن يقول له: أبيعك هذا الكيلو بخمسة ريالات بالشماريخ أو بالعراجين فلا يجوز؛ لأنه أدخل المعلوم والمجهول، وهو يريد الثمرة ولا يريد العذق لأنه ليس بهيمة العذق هذا ما تأكله إلا البهائم ولا يأكلها الآدمي إذ ليس له فيها مصلحة، ولذلك فهو يأخذ الشمروخ ويخرج منه الثمرة ثم يرميه. فالشمروخ ليس بمقصود ولا مطلوب، فيعتبر من الغرر والجهالة؛ لأنك إذا اشتريت الكيلو بخمسة ريالات فقد اشتريت الثمرة، وأدخل هذا الشمروخ نسبة بالوزن مجهولة فصير المعلوم مجهولاً، فلا يجوز بيعه على هذا الوجه، لكن لو باع الشماريخ بدون وزن فلا بأس بذلك ويجوز، يقول: أبيعك كل شمروخ بريال أو أبيعك كل شمروخين بريالين وقد حدد الشماريخ ورآهن المشتري، أما إذا كانت خفية وفيها الطويل والقصير وفيها عدد كثير أو قليل فلا يجوز؛ لأن فيها جهالة ومدار الأمر كله على انتفاء الغرر، والله تعالى أعلم.

حراسة الليل على رب المال ولا يلزم بها المزارع

حراسة الليل على رب المال ولا يلزم بها المزارع Q هل يجب على العامل أن يحرس الثمرة ليلاً أم أن ذلك على رب المزرعة، أثابكم الله؟ A ما شاء الله! النهار يسقي ويعزق ويحرث وفي الليل سهران على الحراسة، هذا مستحيل! نحن قلنا: هناك أسباب لحراسة النخل، وقلنا: إن سد الحيطان يطالب به رب المال ولا يطالب به المزارع، والله إنها مصيبة لو قيل له: تحرس بالليل فالحراسة المطالب بها رب المال، لكن بالنسبة لحفظ الثمرة أو النخل في الداخل مثل مراقبة النخل والعنب من بعض الآفات والجراثيم، مراقبة الثمرة هذه حراسة لمصلحة الثمرة، يراقبها ويتابعها ويراقب العراجين متى تتفتح الكيزان بالثمرة، هو مطالب بالمراقبة التي لمصلحة الثمرة، أما بالنسبة للحراسة فمن مهمة رب المال، وعلى رب المال أن يتعاطى أسباب الحراسة والله تعالى أعلم.

لزوم التفكر في مخلوقات الله سبحانه

لزوم التفكر في مخلوقات الله سبحانه Q فضيلة الشيخ! في توجيهكم لطلاب العلم بالنظر إلى الثمرة، ومعرفة صفاتها، هل هو مستنبط من قوله تعالى: {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام:99]؟ A { انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام:99] لا شك أن هذا مما يزيد من توحيد الله عز وجل والإيمان بالله، ومن أعظم نعم الله على العبد، بل ومن دلائل الشهادة إذا أراد الله أن يشهد العبد ملأ قلبه بالتفكر، فهو من فكرة إلى فكرة، ومن عبرة إلى عبرة، وهذا هو الواجب على ولي الله المؤمن؛ أنه لا تمر عليه لحظة إلا وزادته من الإيمان بالله، وهو على يقين أن مكانته ومنزلته في هذه الدنيا بل وفي الآخرة موقوفة على الإيمان بالله عز وجل، فإذا أصبح يتفكر في كل شيء وينظر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله عز وجل في هذا الكون، ويتخذ من ذلك معيناً على الإيمان بالله وعظمته، والله إن العقول لتحار {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام:99] تجد نخلتين متجاورتين، هذه النخلة بجوار هذه النخلة، تسقى بماء واحد، وهذه ثمرتها من ألذ ما يكون إذا كانت بلحاً، وهذه ثمرتها من أمرِّ ما يكون إذا أكلتها وهي بلح، ثم تجد الأخرى تؤكل بلحاً وهذه تؤكل تمراً، السكري الآن إذا أردت أن تأكله بلحاً لا تستطيع أن تأكل حبة واحدة لأنها مرة كالحنظل وهي بلح، وبعضها حلو وهو بلح، وحلو وهو رطب، وحلو وهو تمر، الحلية لو أكلتها بلحاً لا تشبع من حلاوتها ولذتها، وتأكلها رطباً وتأكلها تمراً، والحلوة تأكلها وهي خضراء وتأكلها وهي حمراء، وتأكلها وهي رطب، وتأكلها وهي تمر، ولكن لا تستطيع أن تأكل غيرها على هذه المراحل وهذا كله يزيد من الإيمان. تصعد إلى النخلة وتجني ثمرتها فتخرج رطبها وبلحها وتمرها وأنت الذي غرست، وأنت الذي سقيت، وأنت الذي تعاطيت بإذن الله عز وجل كل الأسباب لخروج هذه الثمرة، ولكن الله عز وجل لم يجعل لك فيها رزقاً ولا طعمة، فإذا بك تخرجها وتضعها في الصندوق، وتنزلها إلى السوق، فإذا بمسافر غريب مر على المدينة أو على مكة فيحمل هذه الثمرة طعمة لرجل في أقصى الشرق أو أقصى الغرب؛ لأن الله جعل له في هذه الطعمة رزقاً، كتب الله عز وجل لهذه الثمرة متى تخرج؟ وكيف تخرج؟ والزمان الذي تخرج فيه، والصفة التي تخرج عليها طويلة! قصيرة! حلوة! مرة! ثم متى تجنى، ويجنيها عبده فلان في الدقيقة الفلانية والثانية الفلانية واللحظة الفلانية، وتوضع في الكيس الفلاني وفي الموضع الفلاني، ويحملها فلان، وتنقل إلى فلان، فلا إله إلا الله ما أعظم الله! يقول ابن عباس: (والله الذي لا إله إلا هو ما من ورقة على شجرة إلا عليها ملك يكتب خضرتها وماءها ويبسها وذبولها، ومتى سقطت وكيف سقطت وأين حملتها الرياح)؛ كل ذلك مكتوب، وما يعلم جنود الله إلا الله وحده لا شريك له؛ والكون مع أنه متناثر، لكن ليس فيه مثقال خردلة ولا أدق من ذلك إلا وهو في علم الله جل جلاله، وهذه أمور تحار فيها العقول، الثمرة تسقى بماء في مكة، ويطعمها رجل في أقصى الشرق وأقصى الغرب؛ لأن الله جعلها طعمة ورزقاً له، فالله سبحانه وتعالى قدر الأشياء. إنا نقولها ويقولها المؤمن، والواجب على كل إنسان أن يقولها: والله لا نأسف على أموال، ولا نأسف على أننا نخرج من الدنيا وما بنينا ولا ملكنا، ولا أصبحت الأموال بأيدينا، ولا ثراء الدنيا، والله ما نأسف ولا نتألم ولا تتقرح القلوب إلا إذا خرجنا من الدنيا وما قدرنا الله حق قدره، والله ليس الأسف على الدنيا ولا على جاهها ولا على مالها ولا على عزها ولا على كرامتها، بل الأسف كل الأسف أن يخرج العبد من هذه الدنيا وما قدر الله حق قدره، وإذا بالصالحين والأخيار والموحدين من المؤمنين الكاملين في إيمانهم وتوحيدهم يخرجون بمثاقيل الحسنات في الإيمان بالله، لحظة من التفكر في ملكوت الله عز وجل قد يفتح الله لك بها باب سعادة لا تشقى بعدها أبداً، لأنك إذا عرفت الله أمنك من الخوف، وأعزك من الذل، وأكرمك من المهانة، ورفعك من الضعة، وأغناك من الفقر، وأولاك وأعطاك؛ لأنك ما خلقت إلا من أجل أن تعرفه. والله إن العبد ليحار! تفكر في ساعات هذا الكون ولحظاته كلها، جعلها الله لكي تذكره بتوحيده سبحانه وتعالى، ومع ذلك ما أغفل الخلق عن الخالق! في كل يوم تغرب الشمس، ولو وقفت قبل غروبها بلحظات لجار عقلك من عظمة الله جل جلاله في ساعة مغيبها وطريقة غروبها، ومع ذلك فهي في كل يوم تغيب وما أحد وقف أمام الشمس وهي تغيب فيقول: لا إله إلا الله، ويقول: سبحان الذي بيده ملكوت كل شيء! سبحان ذي الملكوت! سبحان ذي العزة والجبروت! فيقدر الله حق قدره، ولكن الله حليم واسع الرحمة، ولا يبالي سبحانه بنا، فإنا إن تفكرنا في عظمته لم نزد في ملكه شيئاً: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد في ملكي شيئاً) وعزة ربي إنه لغني عنا ونحن أفقر ما نكون إلى التفكر في عظمته جل جلاله. ربما تقف في موقف معين من آية زمانية أو آية مكانية تدلك على وحدانية الله عز وجل، يصبح عندك من رسوخ الإيمان مالا تبالي معه بهذه الدنيا أقبلت أو أدبرت؛ لأن الذي يعرف عظمة الله سبحانه وتعالى يهون عنده كل شيء، ويصبح الخوف عنده أمناً؛ لأنه يحس بعظمة الله، وما جاء الخوف إلا من الجهل بالله، ولا جاء القلق والضعف ولا الخور إلا بسبب ذلك، {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] تكفل الله عز وجل لك بأمرين: الأمن والهداية وتفكر في حال عبد سعيد جعل الله له الأمن والهداية! فأسعد الخلق من جعل الله له الأمن والهداية بالمعرفة بالله، فإن من عرف الله أصبح في غاية الأمن على قدر معرفته بالله سبحانه، والله إنا أدركنا بعض علمائنا ومشايخنا رحمة الله عليهم يأخذ الثمرة ويبكي، يأخذها وهي خضراء ويبكي من عظمة الله عز وجل، يتفكر ويقلبها ويتدبرها فلا تملك عينه إلا أن تفيض من خشية الله جل جلاله، قلت: ثمرة تزيد من إيمان ونحن في غفلة! الواحد منا يتبجح في الصناعات والاختراعات، ونأتي في المجالس نقول: اكتشفوا كذا وفعلوا كذا سبحان الله! والملكوت والجبروت والعزة والعظمة في حق الله لا يتكلم عنها أحد! فما أحلم الله عن خلقه! وما أغناه عن عبيده! الناس تتحدث بالمخترعات والموجودات، ضعف الطالب والمطلوب، وإذا حصل فيها أقل خلل ارتبكت ودمرت، وحدثت منها من الكوارث ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ولكن خلق الله عز وجل ما اختل يوماً من الأيام ولا اضطرب! وانظر إلى السماء تمر عليها القرون تلو القرون ما تشققت ولا تبدلت ولا غيرها الدهر ولا أثر فيها الزمان، بل هي باقية ناصعة كأنها خلقت من ساعتها، فسبحان الله جل جلاله! فعلى طلاب العلم والأخيار دائماً أن يكونوا في مقام أليق بهم، فنحن أحوج ما نكون إلى التعرف إلى الله عز وجل، وسعادة الدنيا كلها بالمعرفة بالله، ومن عرف الله أحبه، ومن عرف الله هابه، ومن عرف الله طلبه ورغب فيه، وجد في الطلب بإقامة فرائض الله والبعد عن محارمه، والسعي بالصالحات والتشمير في الخيرات، ونسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً. فمن رزق الإيمان رزق حلاوته، وإن للإيمان حلاوة تنسي كل حلاوة، ومن خرج من الدنيا وقد لقي حلاوة الإيمان فقد أصاب سعادة الدنيا والآخرة، فالإيمان بالله كله موقوف على المعرفة بالله سبحانه وتعالى، ولذلك فمن عرف الله فهو بخير الدين والدنيا والآخرة، وما قص الله عز وجل قصص الأنبياء ولا ذكر هذا الهدى العظيم الذي كانوا عليه إلا بالمعرفة بالله سبحانه وتعالى. فعلى طالب العلم أن يتفكر ويتدبر، وليس الأمر مخصوصاً على الزرع، بل كل شيء يجعل حاله من فكرة إلى فكرة، ومن عبرة إلى عبرة، فإذا أحيا الله قلبه بذكره فإن الله سبحانه وتعالى سيفتح له أبوب رحمته، كانوا يقولون: من أكثر من ذكر الله في قلبه وضع الله له المحبة بين الخلق، الذي يصبح دائماً في تفكر في عظمة الله عز وجل يتأذن الله له بالمحبة بين الناس، وأغفل الناس عن الله أبعدهم عن محبة الناس؛ لأن من أكثر من ذكر الله بقلبه أحبه الله، وإذا أحبه الله وضع له القبول بين عباده، والله تعالى أعلم.

حكم تصرف الوكيل في مال الموكل بشيء زائد عما أذن له

حكم تصرف الوكيل في مال الموكل بشيء زائد عما أذن له Q ما الحكم إذا وكلني شخص لبيع سلعة بعشرة، فبعتها بخمسة عشر ريالاً، وكذلك إذا وكلني ببيع سلعة بثمن مؤجل فبعتها بثمن حاضر أثابكم الله؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهذه المسألة سبق شرحها وتفصيلها قبل دروس قليلة كانت معنا في الوكالة، وبينا أن الوكيل إذا خرج عن الوكالة فإنه يضمن، فإذا باع السلعة مؤجلاً طولب بدفع قيمتها معجلاً، وبعض العلماء يرى بطلان البيع؛ لأنه تصرف في غير المال لكن لو رضي رب السلعة وأقره على ذلك فلا إشكال، وهكذا لو قال له: بعها بعشرة ريالات فباعها بخمسة عشر ريالاً فإنه لا يصح له أن يبيع بأكثر إلا إذا أجاز المالك الحقيقي وأتم الصفقة، فحينئذ يجوز، وأما إذا لم يجز فترد الخمسة إلى المشتري ويكون البيع بالعشرة؛ لأنه وكل بالبيع على هذا الوجه، والله تعالى أعلم.

ضابط كلام الشيخ الشنقيطي في ترجيح الأقوال وتصحيح الأحاديث

ضابط كلام الشيخ الشنقيطي في ترجيح الأقوال وتصحيح الأحاديث Q فضيلة الشيخ! في قولكم حفظكم الله: الأظهر والأقرب والأقوى هل هذا ترجيح، أثابكم الله؟ A قول "الأظهر والأقوى" لا يستلزم الترجيح، لكن لو قلت: الذي يترجح في نظري، فهذا هو الترجيح، لكن الأقوى يعبر به في بعض الأحيان عن أصل أقوى من أصل، فنقول: هذا أقوى، وهذا القول أولى، وهذا القول أظهر، وهذا لا يستلزم الترجيح أعني أني إذا عبرت بالأظهر والأقوى ولم أنص على الترجيح فإنه ليس بترجيح، إلا أنني لا أعبر بالأقوى إلا وهو أقرب إن شاء الله من القول الصواب والقول الأرجح؛ لأنه لا يعبر بهذا غالباً إلا لوجود أمارة أو دليل يدل على قوة هذا القول، وقربه من الرجحان، لكن لا يستلزم الترجيح. والسبب في هذا أنه ربما كانت هناك أصول تشكل أثناء التعبير لا يستطيع الإنسان أن يصرح بالترجيح، ولذلك إذا قلنا: هذا أقوى وهذا أظهر ونحو ذلك فإنه لا يستلزم الترجيح، لكنه يدل على قوة هذا القول وقربه إلى الصواب، فينتبه لذلك في جميع الدروس والفتاوى، فمنذ أن تكلمت في هذا العلم التزمت هذا المنهج، وهو أني إذا قلت: أقوى، أو قلت: أظهر؛ ما لم أنص على الترجيح فليس بترجيح، وهذا ولله الحمد أعرفه منذ أن بدأت في طلب العلم والفتوى فعلى طالب العلم أن يتنبه لهذا سواء في الدروس الحديثية أو شروح الأحاديث وشروح الفقه، أو في الفتاوى أو في المحاضرات؛ إذا قلت: أقوى فإنه لا يستلزم الترجيح، فالترجيح له عبارة الترجيح، وهذه هي التي التزمها كذلك أيضاً، إذا قلت: ثبت في الحديث، وصح في الحديث وهو حديث صحيح، فهذا ألتزم تصحيحه لكن إذا قلت: ورد أو جاء أو روي فهذا لا ألتزم فيه الصحة، منذ أن تكلمت لا ألتزم الصحة إلا إذا قلت: صح، وقلت: ثبت، وهذا قد نبهت عليه غير مرة، فعلى طالب العلم أن يتنبه إلى أنني لا ألتزم بالترجيح إلا إذا قلت فيها الراجح، ولا ألتزم الصحة إلا إذا قلت: ثبت أو صح، أما إذا قلت: ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم روي عن رسول الله صلى عليه وسلم جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى ابن ماجة، روى أبو داود، ولم أنص على التصحيح، فهذا إيكال إلى من روى الحديث، وحكاية الحديث لا تستلزم تصحيحاً ولا إثباتاً للحديث، والله تعالى أعلم.

العقاب المترتب على الإلحاد في الحرم

العقاب المترتب على الإلحاد في الحرم Q في قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] هل المقصود في هذه الآية الشرك أم الكبائر أم سائر المعاصي، أثابكم الله؟ A أولاً: هذه الآية من أعظم الآيات التي رجفت لها قلوب المؤمنين والمؤمنات في تعظيم الحدود والحرمات، فقد بين الله تعالى في هذه الآية حرمة البلد الحرام، ونبه عباده إلى أن مكة شرفها الله لها حقوق عظيمة تستلزم من المؤمن والمؤمنة إذا دخل هذا الموضع الحرام أن يستشعر حرمته. فمما خص الله به البلد الحرام: قوله (ومن يرد) والإرادة توجه القصد؛ لأن هناك هماً للشيء وعزيمة هو إرادة وتوجه إلى ذلك الشيء، وقوله: (فِيهِ) هذه للظرفية، والمراد بها ظرفية المكان أي: بحدود الحرم، (بإلحاد بظلم): والإلحاد من اللحد، واللحد: الميل، والمراد بالإلحاد: الميل عن طاعة الله، والميل عن طاعة الله نسبي، فهناك ميل بالمعصية، وهناك ميل بالفسوق، وهناك ميل بالشرك والكفر، فهذه ثلاث مراتب للإلحاد، وأقصى ما يكون هو الإلحاد بالشرك والكفر ويقع الإلحاد بالميل عن طاعة الله عز وجل بأقل ما يكون به الإلحاد بالظلم. وقوله تعالى: {بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] يتوعد سبحانه وتعالى أن من فجر في الحرم والعياذ بالله وألحد أنه يذقه من العذاب الأليم، قال بعض العلماء: إن هذه العقوبة تقع في الدنيا وتقع في الآخرة، ويجمع الله فيها بين عقوبة الدنيا والآخرة، أي: فإما إن يعذب في الدنيا ويغفر الله له في الآخرة، وإما أن يجعل الله له العذاب الأليم في الآخرة دون الدنيا، فيمهله ويتركه حتى يأخذه أخذ عزيز مقتدر، ويجعل عقوبته والعياذ بالله في الآخرة، أو يجمع الله له بين العذابين والعقوبتين، وهذا معروف. فأما عقوبة الدنيا فيسلط عليه في رزقه ونفسه والعياذ بالله، ويسلط الله عليه في أهله وولده وعرضه، فإذا ألحد وظلم فالله عز وجل قد يبتليه ببلية في نفسيته، فتتسلط عليه الأمراض النفسية والهم والغم والنكد، ولذلك تجد الرجل وهو في جوار بيت الله الحرام يقول: أنا في هم وغم! وقد يكون ذلك بسبب انتهاكه لحد من حدود الله وحرمة من حرمات الله في بلد الله الحرام، ولذلك كان أمر هذا البيت عظيماً، فينبغي على المسلم أن يتقي الحرمات. وذكروا عن ابن عباس رضي الله عنه من الأسباب التي أخرجته في آخر عمره أنه خرج عن حرمة الحرم، وإن كان الذي يظهر أنه خرج لسبب آخر، فالشاهد أن حرمة البيت عظيمة، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا انتهى الناس من الحج يصيح فيهم ويقول: (يا أهل الشام! شامكم، ويا أهل اليمن! يمنكم، ولما سئل عن ذلك قال: أخشى أن تذهب حرمة البيت من قلوبهم) ولذلك تجد من قدم إلى هذا البيت من الغرباء ممن ليس من أهل مكة من شتى بقاع الأرض، إذا قدم إليه يقدمه وهو معظم لحرمات البيت، ويحس بعظمته، ولكن قليلاً قليلاً حتى يألف البيت، ولربما تصبح عنده مكة شرفها الله وغيرها على حد سواء. فالواجب على المسلم أن يحذر من ذلك، وأن يتقي الله عز وجل وهو في جوار الحرم، وأن يستشعر عظيم نعمة الله عليه وجميله، وجليل فضله لديه، وأن يعطي هذا البيت حقه، وقالوا: إنه قل أن يعظم أحد هذا البيت إلا بارك الله له في رزقه، وبارك له في عمره، وبارك له في أهله وولده، وقل أن تجد عبداً صالحاً يجاور هذا البيت وهذا الحرم، وهو يحفظ حرمات الحرم إلا وجدته في خير في أهله وولده وماله ورزقه، مطمئن القلب، مرتاح البال، وكل ذلك من تعظيم شعائر الله، ومن يعظم شعائر الله فإن ذلك خير له في دينه ودنياه وآخرته. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا وأن يسلم منا، وأن يتوب علينا وأن يتجاوز عنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.

باب المساقاة [3]

شرح زاد المستقنع - باب المساقاة [3] لقد منع المصطفى صلى الله عليه وسلم المزارعة في بادئ الأمر لوجود الضرر والجهالة، فلما وضح للناس أمرها وعلموا ما يحل وما يحرم منها، أجازه صلى الله عليه وسلم، وذلك رفقاً بالأمة، ورحمة بالعباد. فتصح المزارعة على جزء معلوم النسبة مما يزرع من الأرض، وعليه جرى عمل الناس في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم ومن بعدهم.

خلاف العلماء في حكم المزارعة

خلاف العلماء في حكم المزارعة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فقد شرع المصنف رحمه الله في بيان ما يتعلق بعقد المزارعة، فبعد أن فرغ رحمه الله من بيان أحكام المساقاة شرع في بيان أحكام المزارعة، ومن عادة العلماء رحمهم الله -خاصة في مذهب الحنابلة- أنهم إذا فرغوا من بيان أحكام المساقاة أن يتبعوها بالمزارعة، وهذا ترتيب صحيح، والمجانسة بينهما واضحة، فإن المساقاة تكون في النخل والثوابت، والمزارعة تكون في حكمها بالنسبة للحبوب وأمثالها مما يزرع. قوله رحمه الله: [تصح المزارعة] المزارعة: مفاعلة من الزرع، وعقدها يقع بين شخصين أحدهما: مالك الأرض، والثاني: العامل، فالطرف المالك للأرض يدفعها للعامل على أن يقوم بزراعتها، ثم يتفقان بعد ذلك على أن الخارج منها يكون بينهما مقاسمة: الربع، النصف، الثلث، على حسب ما يتفقان. مثال ذلك: لو كان عندك أرض زراعية، وفيها ماء، تقول للعامل: خذ هذه الأرض وازرعها، ثم إذا زرعتها فنصف ما يخرج لي، والنصف الآخر لك، فهذا النوع من العقود ذهب جماهير السلف والخلف إلى جوازه ومشروعيته، ونسب هذا القول إلى الخلفاء الراشدين والصحابة رضي الله عنهم، حتى قال بعض أئمة السلف كما نقله الإمام البخاري: ما من بيت في المدينة إلا وأهله يزارعون ودرج على ذلك السلف في أزمنة الخلفاء الراشدين وقالوا: إن آل أبي بكر وعمر وعثمان وآل علي كلهم كانوا يزارعون. وأما بالنسبة للمذاهب الأربعة فمذهب الحنابلة على جوازها، والشافعية أجازوها تبعاً للمساقاة، وأما المالكية فأجازوها إذا كانت في حدود الثلث تبعاً للسقي، وخالف في هذه المسألة الحنفية رحمهم الله كما هو قول الإمام أبي حنيفة، وإن كان الصاحبان القاضي أبو يوسف والإمام محمد بن الحسن رحمة الله على الجميع قالا بقول الجمهور. إذا ثبت هذا فإن السنة دالة على جواز المزارعة، والدليل على ذلك حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين، وفيه (أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر مما يخرج منها) وهذا الحديث يستدل به العلماء على مشروعية صحة عقد المساقاة، وهذا لا إشكال فيه؛ لأنه في الأصل منصب على عقد المساقاة. لكن بالنسبة للمزارعة في هذا الحديث فيمكن أن تؤخذ من قوله: (بشطر مما يخرج منها) يعني: من أرض خيبر، فشمل هذا ما يخرج من النخيل والأعناب، ومن الزروع، وتوضيح ذلك أن أرض خيبر كما قال العلماء لا يمكن أن تخلو من أرض بيضاء، ولا يخفى على الجميع أن المزارع من عادتها أن تكون فيها نخيل، ويكون هناك البياض الذي يتركه صاحب المزرعة للمواسم فيزرع فيه الحبوب كالقمح والشعير ونحو ذلك في فصول السنة التي يزرع فيها، أو يزرع فيها الخضروات أو نحو ذلك مما يمكن زرعه، فقالوا: إنه لا يمكن بحال أن تكون خيبر نخيلاً وعنباً فقط، وإنما من المعلوم والمعهود والمعروف أن هناك زروعاً. فإذاً لا يشك أن الحديث فيه وجه لدخول المزارعة، وبناء على ذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على هذا الوجه، وأكدوا ذلك بأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حينما خيرها عمر رضي الله عنه بين الأرض وبين الزرع -يعني: نتاج الزرع- فاختارت الأرض، وبقية أمهات المؤمنين اخترن الحبوب، فمعنى ذلك أن هناك أرضاً تزرع وليس فيها نخيل، فـ عمر خير أمهات المؤمنين ما بين أن تأخذ الواحدة أرضها فتقوم بنفسها أو تستأجر من يقوم بزراعتها، وبين أن تبقيها على شرط المزارعة والمساقاة الموجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فاختارت أم المؤمنين الأرض وبقي بقية أمهات المؤمنين يأخذن نصيبهن من الحبوب، فدل على أن هناك مزارعة، وأن عقد المزارعة كان موجوداً إلى عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه. وهذه المسألة من أوسع المسائل؛ لأنه يدخل فيها عقد المزارعة مع عقد إجارة الأراضي، فهناك ما يسمى بعقد إجارة الأرض، فهل يجوز للمسلم أن يؤجر أرضه للزراعة؟ لو كانت عندك أرض زراعية فأحب شخص أن يأخذها منك ويستأجرها سنة أو سنتين يزرع فيها، فهل يجوز ذلك أو لا؟ فأدخلوا مسألة إجارة الأراضي مع مسألة المزارعة، والسبب في ذلك أن صورة المزارعة التي معنا أن يأتي العامل إلى رب الأرض ويقول له: أنا أزرع هذه الأرض وأعطيك نصف ما يخرج، قال: قبلت، فمعنى ذلك أنه استأجر الأرض بنصف ما يخرج منها؛ فإذاً المزارعة نوع من الإجارة، فمن هنا تتداخل هذه المسألة مع مسألة إجارة الأراضي، وفي مسألة إجارة الأراضي ما يقرب من سبعة أقوال، وهو خلاف بين السلف قد نشير إليه في باب الإجارة. لكن الذي يهمنا هنا الأحاديث التي اعترض بها على جواز المزارعة، وما ورد من السنة مما يحتمل تحريم المزارعة، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رافع بن خديج، وهذا الحديث من أكثر الأحاديث إشكالاً عند العلماء رحمهم الله، وهو حديث صحيح ولا إشكال في ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن المشكلة في فهم أو معرفة المراد من هذا الحديث. فـ رافع بن خديج رضي الله عنه يحكي عن بعض عمومته من الصحابة رضوان الله عليهم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن المخابرة) والمخابرة: أصلها من الخبر، وهي الأرض الزراعية، وفُسِّر قوله: (عن المخابرة) أن يؤجر الأرض بجزء مما يخرج منها. وجاء أيضاً عن رافع بن خديج كما في الصحيح أنه لما نهى عنها -يعني: نهى عن المزارعة- فسر النهي وقال: (إنما كانوا يؤاجرون على الماذيانات، وأقبال الجداول، فيسلم هذا ويهلك هذا، وأما ما كان بشيء معلوم مضمون فلا بأس به) هذه الرواية الثانية فسرت نهي النبي صلى الله عليه وسلم، فـ رافع بن خديج تارة يحرم عموماً ويفهم منه التحريم العام، وأنه لا يجوز لك أن تعطي أرضك الزراعية لشخص من أجل أن يزرعها ويأخذ جزءاً منها وهذا نفهمه من بعض الروايات من حديث رافع. وبعض الروايات الأخرى نفهم منها أنه ينهى عن المزارعة إذا كان العقد على وجه الغرر والعقد الذي على وجه الغرر، أن تقول للشخص: ثم آخذ النصف الغربي وأنت تأخذ النصف الشرقي، أو آخذ النصف الجنوبي وأنت تأخذ النصف الشمالي فقالوا: لا يجوز لأنه يحتمل أن يسلم النصف الذي يأخذه هذا ويهلك النصف الآخر، فلا بد أن يكون الطرفان قد دخلا في عقد المزارعة على وجه لا يغرر أحدهما بالآخر، ومن هنا قالوا: إنه المقصود بقوله رضي الله عنه (إنما كانوا يؤاجرون) يعني: يؤجرون (على الماذيانات وأقبال الجداول) وذلك أن حياض الماء إذا كانت قريبة من القنطرة التي تجري فيها المياه فالغالب أن يكون زرعها جيداً ونتاجها سليماً، وإذا ابتعدت عن الحوض أو عن القنطرة القريبة التي فيها الماء الكثير فإما أن يموت الزرع لقلة الماء، وإما أن يخرج ضعيفاً، فهذا هو الذي يحكيه رافع، وهو معنى قوله: (إنما كانوا يؤاجرون على الماذيانات وأقبال الجداول، فيسلم هذا ويهلك هذا). فمعناه أنهم يؤجرون إجارة فيها غرر، وفيها شيء من الغش، وصاحب المزرعة يقول: أنا لي القريب من الماء وأنت تأخذ البعيد من الماء، ومن هنا قالوا: حرم النبي صلى الله عليه وسلم هذا؛ لأن هذا يفضي إلى الخصومة، والمسلم لا ينبغي له أن يعامل أخاه المسلم على وجه فيه غرر ومخاطرة، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. قال رافع رضي الله عنه: (وأما ما كان بشيء معلوم فلا بأس به) إذاً: معنى ذلك أن تحريم النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه رافع في الحديث الأول مفسر بالحديث الثاني، هذا بالنسبة للوجه الثاني لحديث رافع. وهناك حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه عند أبي داود في سننه، وذلك أنه لما بلغ زيداً أن رافعاً يحرم إجارة الأراضي على الصورة التي ذكرناها أنكر ذلك وقال: (يغفر الله لـ رافع أنا أعلم بالحديث منه، إنما كانوا يؤاجرون على الثلث والربع فكثرت خصومتهم عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تكروا المزارع ونهى عن المخابرة، فقال: هذا شأنكم لا تكروا المزارع)، يعني: ما دام أن الزراعة تفضي بكم إلى الخصومة والنزاع والشقاق فالإسلام لا يحب الخصومة ولا يحب الفرقة، قال: (هذا شأنكم) أي: مادامت الأرض والدنيا تفسد ما بينكم من أخوة الإسلام فلا تؤجروا، ونهى عن إجارتها وجاء اللفظ برواية أخرى: (نهى عن المزارعة والمخابرة والمزابنة) هذا بالنسبة للأحاديث. وقد كان الإمام أحمد رحمة الله عليه دقيق النظر في الأحاديث، ولذلك جمع الله له من العلم بالسنة ما لم يجمعه للأئمة من قبل، فإن الإمام أحمد بشهادة العلماء جمع الله له من السنة والآثار عن الصحابة ما لم يجمعه لإخوانه المتقدمين من العلماء كالإمام أبي حنيفة والإمام مالك والشافعي رحمة الله عليهم، كلهم أئمة ولكن الإمام أحمد رحمه الله تأخر عنهم واطلع على كثير من السنن والأحاديث وكان له فقه في سر الأحاديث واختبارها، فلما جاءه حديث رافع الذي يحرم المزارعة ونظر إلى حديث ابن عمر الصحيح الثابت في الصحيحين الذي يجيزها أخذ بحديث ابن عمر؛ فلما قيل له بحديث رافع قال رحمه الله: حديث رافع ألوان، أي: أن حديث رافع ما جاء على طريقة معينة وإنما جاء بأوجه متعددة. وجاءت الرواية الأخرى عن الإمام أحمد قال: حديث رافع فيه اضطراب، وليس المقصود الاضطراب القادح ولكن الاضطراب الفقهي وهو: عدم اتفاق الروايات على وج

ما تصح به المزارعة

ما تصح به المزارعة قال رحمه الله: [وتصح المزارعة بجزء معلوم النسبة مما يخرج من الأرض لربها أو للعامل] مما هو معلوم للنسبة الثلث الربع النصف ثلاثة أرباع، فمفهوم قوله: (معلوم النسبة) فإنه إذا كان مجهول النسبة فإنه لا يصح، كأن يقول: (أعطيك بعض الخارج) فهو جزء من الأرض لكنه مجهول، وقد تكون النسبة معلومة لكن يدخل عليها شيئاً مجهولاً فيقول له: أعطيك النصف وأحواض من عندي، هذا النصف معلوم والأحواض مجهولة، ولا ندري كم يخرج فيها، فأدخل المجهول على المعلوم، فيصير المعلوم مجهولاً، فبهذا لا بد أن تكون النسبة معلومة، ولا يجوز أن تكون مجهولة. وقوله: [مما يخرج من الأرض لربها أو للعامل] أي: من زرعها لربها أو للعامل، وهذه المسألة مبنية على مسألة تقدمت في الشركة، بعض الناس يقول: خذ الأرض وازرعها ونصف الزرع لي ثم يسكت ولا يقول: والنصف الآخر لك، فبعض العلماء يقول: لا يجوز حتى يقول: والنصف الآخر لك؛ لأنه لم يحدد له حقه، فحدد نصيبه وسكت عن حق الآخر قالوا: ولا بد أن ينص على حق الشريك الآخر وهو العامل وقال بعض العلماء: إذا قال له: لي النصف صح ولو لم يقل: ولك النصف الآخر، ولو قال: لي الربع، فإن الثلاثة الأرباع تكون للآخر، فهذا معنى قوله رحمه الله: [لربها أو للعامل] أي: بجزء معلوم النسبة مما يخرج من الأرض لربها أو للعامل. وقوله: (مما يخرج من الأرض) خرج بهذا لو قال له: أستأجرها وأعطيك مائة صاع من الأرز، والأرض فيها زرع آخر دون الأرز، فهذا منعه بعض العلماء وقال: لو قال له: أجر لي مزرعتك سنة وأعطيك مائة صاع من أرز فإنه من الربا؛ لأنه زرع الأرض حبّاً أو طعاماً من الطعام الآخر، فإن كانت من جنس الذي يعطيه إياه فكأنه عاوضه طعاماً بطعام من جنس واحد وصنف واحد، وصار نسيئة للتأخير وفضلاً للزيادة؛ لأنه ربما قال له: أعطيك مائة صاع وتخرج الأرض ثلاثمائة صاع، فصار كأنه أعطى مائة صاع من الأرز في مقابل ثلاثمائة صاع من الأرز، وهذا عين الربا كما بيناه في باب البيع، ويسمى ربا الفضل، وأيضاً أعطاه مائة صاع معجلة بثلاثمائة مؤجلة، وهذا عين ربا النسيئة، وقد بيناها في باب الربا، هذا إذا كان بجزء من غير الأرض. وإن كان من غير الصنف كأن يزرعها قمحاً ويعطيه أرزاً فإنه يقع الربا من وجه واحد وهو ربا النسيئة؛ لأنه أنسأ وأخر، ولذلك قال المصنف رحمه الله: [بجزء مما يخرج من الأرض] يعني: من الأرض التي اتفق عليها. [لربها أو للعامل والباقي للآخر] (والباقي للآخر) أي: إذا حدد ماله وسكت عن المال الآخر علم بداهة أنه قصد النصف الآخر له، وهكذا إذا قال: لي الربع، أي: ولك ثلاثة أرباع. قال رحمه الله: [ولا يشترط كون البذر والغراس من رب الأرض]. هذه مسألة خلافية: بعض العلماء يقول: إذا دفعت الأرض الزراعية للعامل على أن يزرعها، فيجب على رب المال أو رب الأرض أن يقوم بكلفة الحبوب والبذر، فيحضر للعامل البذر ويجب عليه أيضاً أن يحضر له الغراس و (الشتلات) وهو ما يسمى في زماننا (بالشتل) هذا وجه، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه. وهناك وجه ثانٍ: أنه لا يشترط وهو الصحيح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث لأهل خيبر بالبذر، ولم يتكلف صلوات الله وسلامه عليه ذلك، فدل على أنهم كانوا يقومون بها وأنهم كانوا يكفونهم المئونة مطلقاً بشطر أو نصف ما يخرج منها. [وعليه عمل الناس] أي: على ذلك عمل الناس.

الأسئلة

الأسئلة

النسبة بين العامل ورب الأرض مما يخرج من الحبوب أو الثمر

النسبة بين العامل ورب الأرض مما يخرج من الحبوب أو الثمر Q هل النسبة التي بين رب الأرض والمزارع في المحصول من الزرع أو في قيمة المحصول بعد بيعه أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: هل الحصاد والجذاذ على العامل أو على رب الأرض؟ هذا فيه التفصيل الذي سبق وتقدم في المساقاة، لكن عماد القسم على الناتج وعلى الحبوب نفسها، وعلى ما يخرج من النخيل من الثمر كما بينا فيما تقدم، وليس في القيمة، وإنما يمكن العامل رب المال من نصف الخارج، ويمكن أيضاً رب المال العامل من النصف الآخر، ويعطي كل واحد منهما الآخر حقه من عين المستحق من الثمرة سواء كان في المساقاة أو المزارعة، والله تعالى أعلم.

التفصيل في ربا الفضل أو النسيئة في المزارعة

التفصيل في ربا الفضل أو النسيئة في المزارعة Q لم أفهم كيفية وقوع ربا الفضل والنسيئة في المزارعة، فأرجو التوضيح أثابكم الله؟ A ثبت في الحديث الصحيح من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يد بيد، وفي رواية: سواء بسواء، فمن زاد أو ازداد فقد أربى) وفي بعض الروايات: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) هذا الحديث أصل وقلنا: إنه أجمع الأحاديث في حصر الربويات، فدل على أن المطعومات الأربعة التي ذكرها يجب فيها التماثل والتقابض إذا اتحدت. فإذا باع براً ببر أو شعيراً بشعير أو ملحاً بملح أو تمراً بتمر، فيجب التماثل صاعاً بصاع، والتقابض بأن يعطي بيد ويأخذ بيد، أو يتقابضان في المجلس قبل أن يفترقا، فهذا ليس فيه إشكال. فإذاً: إذا كنا قد فهمنا من السنة أن البر بالبر يداً بيد مثلاً بمثل فلو قال له: أعطني أرضك أزرعها براً وأعطيك مائة صاع بر الآن فصار كأنه اشترى البر أو عاوض البر الذي سيأخذه من الأرض زراعة بالبر الذي نجزه، فقابل الطعام بالطعام نسيئة؛ لأنه يعطيه الآن على أن يأخذ نتاج الأرض بعده فصار نسيئة، ثم إذا خرج الخارج من الأرض على ثلاثة أحوال إما أن يماثل المائة صاع التي دفعها فحينئذ لا يقع ربا الفضل، وإما أن يكون أكثر فربا الفضل، وإما أن يكون أقل فربا الفضل، فإذاً لا يمكن أن يستأجر للبر مزرعة يزرعها براً ولا يمكن أن يستأجر بالأرز مزرعة يزرعها أرزاً، هذا إذا كانا اتحدا. أما لو اختلفا فقال له: أعطني أرضك أزرعها وأعطيك مائة صاع من التمر ثم زرعها أرزاً، فالتمر والأرز مختلف الصنف، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كانت يداً بيد) فيكون قد أعطى مائة صاع من التمر في العقد ثم يستلم المقابل بعد ذلك كما يكون من نتاج الأرض مزارعة، براً وهذا هو وجه المنع فيها. والله تعالى أعلم.

باب الإجارة [1]

شرح زاد المستقنع - باب الإجارة [1] تعتبر الإجارة من أهم العقود، وهي من الأبواب التي يكثر تعامل الناس فيها، وهي مشروعة بالكتاب والسنة وإجماع العلماء، وهي عقد معاوضة على منفعة معلومة مباحة بعوض معلوم، ولها أحكام معلومة في بابها، ذكر الشيخ هنا بعضها.

تعريف الإجارة لغة واصطلاحا

تعريف الإجارة لغةً واصطلاحاً بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الإجارة]. الإجارة: مأخوذة من الأجر، وأصل الأجر: العوض، وقد يطلق على المحسوسات وقد يطلق على المعنويات. والإجارة في اصطلاح الشريعة: عقد معاوضة على منفعة معلومة مباحة بعوض معلوم. فقولنا: (عقد معاوضة) العقد: هو الإيجاب والقبول، والإيجاب هو قول صاحب البيت أو صاحب السيارة أو صاحب الأرض: أجَّرتك، والقبول قولك: قبلت أو رضيت واستأجرت إلخ. والمعاوضة: مفاعلة من العوض، والمفاعلة تستلزم وجود شخصين فأكثر، فكل عقد إجاره لابد فيه من طرفين: مؤجر ومستأجر، والمعاوضة تقع بين المؤجر والمستأجر، وهذه المعاوضة من العوض؛ لأنه في الإجارة لو قال له: أجرتك عمارتي بمائة ألف شهراً، فإننا نجعل المائة الألف -وهي العوض والأجر- مقابل السكنى شهراً، فصار هناك نوع من التقابل ونوع من المعاوضة، قال بعض العلماء: إنها معاوضة من هذا الوجه، فالأجرة مقابل العمل والمنفعة، كما سيأتي إن شاء الله في بيان أنواع الإجارة. وقولنا: (على منفعة) خرج بذلك المضرة التي هي ضد المنفعة، والمنافع في الإجارة تشمل منفعة السكن، مثل أن تؤجر العمارة أو الشقة أو الغرفة في الفندق أو نحوه. ومنفعة الركوب: مثل السيارات والقاطرات والطائرات والباخرات، ومنفعة العمل في البناء كأن تقول: ابن لي أرضاً، أو ابن لي حائطاً، أو ابن لي بيتاً، أو ابن لي عمارة؛ فالبناء والحدادة والنجارة والسباكة كلها منافع. وخرج أيضاً: البيع، فالبيع تعاوض على الذات، فأنت مثلاً إذا جئت إلى شخص وقلت له: أريد أن أشتري منك هذه السيارة بعشرة آلاف ريال، قال: قبلت، خذها بعشرة آلاف ريال، وتم البيع على ذات السيارة وعينها، فتملك ذات السيارة ومنفعتها من ركوبها وغير ذلك من مصالحها، لكن في الإجارة لا يكون ذلك، فالإجارة أن تقول له: أريد أن أصل إلى الحرم، أو أريد أن أصل إلى البيت، أو أريد أن أصل إلى المحل الفلاني، فاستأجرت السيارة، فملكت الركوب فقط فيها، وهذه منفعة الركوب، وقد يعطيك السيارة باليوم ويقول لك: خذها واركب عليها، وخذها بالمعروف يوماً أو شهراً أو أسبوعاً، أو بالكيلو مترات، كأن يقول: خذها وانتفع بها ركوباً مائة كيلو متر، أو ألف كيلو متر. إلخ، فهذه منفعة ركوب. وكذلك خرج بقولنا: (عقد معاوضة على منفعة) المضرة، فلا تجوز الإجارة على ما فيه ضرر، فلو أجره من أجل أن يقلع سناً من أسنانه لا يحتاج إلى قلعها، فإن هذا ضرر بالجسد، ولو أجره على أن يفعل به فعلاً في جسده فيه مضرة، أو على أن يسقيه دواء فيه ضرر، أو على أن يعمل به عملية جراحية فيها مخاطرة والغالب هلاكه؛ فلا تكون هذه إجارة شرعية؛ لأن الإجارة الشرعية تكون على النفع لا على الضرر. وخرج أيضاً ما لا منفعة فيه، ولذلك نجد بعض العلماء يقول: على منفعة مقصودة؛ لأن المنافع قد تقصد وقد لا تقصد، فمن الممكن أن يقول شخص -كما يذكر الفقهاء- أنا أريد أن أفتح محلاً أأجر فيه التفاح للشم، فلا يصح هذا؛ لأن شم التفاح ليس فيه منفعة مقصودة، فلا يوجد شخص عاقل يأتي ويدفع مالاً من أجل أن يشم التفاح، ولذلك قالوا: إن هذه منفعة غير مقصودة، وبعض العلماء يقول: ويدخل في هذا أن يؤجره من أجل أن يستظل بالشجرة؛ لأن الاستظلال بالشجرة منفعة غير مقصودة عندهم، وإن كان الصحيح أنه يجوز أن يستأجر للظل، وقال بعض العلماء: ومن المنفعة غير المقصودة: أن ينظر في الكتاب فقط؛ كأن ينظر في شكل الكتاب وجرمه، لكن الصحيح أنه إذا اشتمل النظر على منفعة فيصح، كأن يشتمل على منفعة دينية كالاتعاظ والاعتبار ونحو ذلك، أما إذا لم يكن هناك منفعة فإنه لا يجوز، ومن هنا لو أن الكتاب كان قديماً جداً، وهو من التراث، وقال له: أريد أن أطلع على ذلك الكتاب، فقال: ادخل واطلع في مكتبتي هذه القديمة الساعة بمائة، قالوا: يجوز؛ لأنها منفعة مقصودة، والاتعاظ والاعتبار مقصود، فإن كان لغير منفعة ولا مصلحة لم يجز. وكذلك أيضاً شدد بعض العلماء في إجارة الحلي للزينة؛ كأن تريد أن تذهب المرأة إلى فرح وزواج فتأخذ مثلاً حلياً أو قلادة تتزين بها، فهذه صحيح أنها منفعة للمظهر لكنها غير مقصودة، فليس لها منفعة حقيقية تترتب عليها، ومن هنا لو أنه استأجر من أجل أن ينفخ الهواء في شيء، أو ينظر إلى شيء لا مصلحة في النظر إليه، مثل ما يقع في ألعاب الأطفال ونحوها التي لا منفعة فيها، فقالوا: لا تكون إجارة على السنة. إذاً: يشترط في الإجارة أن تكون على منفعة، فخرج الذي لا منفعة فيه، وخرج الذي فيه ضرر. وقولنا: (معلومة) خرجت المنفعة المجهولة، وسنبين -إن شاء الله- أن من شرط صحة الإجارة أن تكون المنفعة معلومة، فلو قال له: أجرتك بيتي أو أجرتك الشقة بعشرة آلاف ريال، ولكن إذا أردت أن أخرجك فاخرج، فلا ندري هذه المنفعة كم مدتها، فإن مدتها مجهولة فربما أخذ منه المال وبعد أسبوع أو أسبوعين يقول له: اخرج، فيقول: يا أخي! أنا أعطيتك العشرة الآلاف وأنا أريد أن تبقيني سنة، وما كنت أظنك أنك تقصد الأسبوع، ومن هنا تقع الشحناء والبغضاء، وقد بينا علة ذلك في كتاب البيع حينما بينا اشتراط العلم بالثمن والمثمن. وكذلك ينبغي أن تكون المنفعة مباحة، ولذلك قالوا: (على منفعة معلومة مباحة)، فلو استأجره على منفعة محرمة كالغناء المحرم، فلا يجوز، أما لو كان غناء مباحاً كضرب الدف في العرس للأفراح، بشرط أن يكون ضرباً لا محظور فيه ولا محرم فيه من أقوال الخنا ونحوه، فإذا أجر المرأة بالليلة كاملة أو بالساعة، فإن هذا لا بأس به؛ لأن ضرب الدفوف فيه مقصود شرعي، وقد نص العلماء على أنه أجمع على جواز الإجارة على المنفعة المباحة شرعاً، فكيف إذا كانت المنفعة -وهي ضرب الدف- مقصودة شرعاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أعلموا النكاح واضربوا عليه بالدفوف). وإذا كانت الإجارة على منفعة محرمة، مثل الاستئجار على النياحة -والعياذ بالله- على الميت، واستئجار القراء في الثلاثة الأيام ليقرءوا على روح الميت، واستئجار الساحر والكاهن والعراف، والاستئجار للزنا -والعياذ بالله- والمحرمات؛ فإن هذا محرم، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، وحلوان الكاهن، ومهر البغي، فيشترط في الإجارة أن تكون على شيء مباح لا على شيء محرم هذا بالنسبة لحقيقة الإجارة الشرعية. وعقد الإجارة يعتبر من أهم العقود، وطالب العلم إذا أتقن هذا الباب فإنه ينتفع لنفسه وينفع الناس، فقل أن يمر على الإنسان زمان إلا وهو مؤجر أو مستأجر أو مسئول عن إجارة، فإتقان هذا الباب مهم جداً وهو من الأبواب التي تعم بها البلوى كالبيع، ولذلك تجد الناس كثيراً ما يسألون عن هذا النوع من العقود وهو عقد الإجارة.

مشروعية الإجارة

مشروعية الإجارة وقد شرع الله هذا العقد بدليل الكتاب والسنة والإجماع: أما دليل جواز الإجارة من الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: {َإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6]، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله أحل إجارة المرضعة، وأمر بإعطائها أجرها، فدل على مشروعية الإجارة، وكذلك قال سبحانه وتعالى حكاية عن نبيه شعيب عليه السلام على أصح أقوال العلماء في تفسير الآية: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص:27] الآية، وقد اختلف في قوله: (عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ)، فقال طائفة من العلماء: (تأجرني) أي: تعمل عندي ثماني سنوات وأزوجك إحدى ابنتي، فبناء على ذلك استأجره من أجل أن يعمل في رعي الغنم على الصحيح ثمان سنوات، وإن أتمها عشراً فمن عنده، وهذا القول هو الصحيح، فتكون (ثماني حجج) جمع حِجة أو حَجة، والحَجة والحِجة وصفت بذلك لأن العرب تطلق على العام الكامل حجة؛ لأن الحج لا يتكرر في السنة أكثر من مرة واحدة، فيقولون: حَجة، ويقولون: حِجة، فقوله: (ثماني حجج) أي: ثمان سنوات. الوجه الثاني في الآية: (على أن تأجرني ثماني حجج) أي: الحج، وقصد بذلك الحج إلى بيت الله الحرام، وهو قول مرجوح في تفسير الآية الكريمة، وقالوا: هذه الآية تدل على جواز الإجارة على الحج، ولكنه قول مرجوح كما حكاه الإمام الماوردي رحمه الله في الحاوي وغيره. هذا بالنسبة لقوله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام في قصته مع موسى، ولذلك استأجر موسى نفسه من شعيب وأتم عشر سنين، قال بعض العلماء: إذا سئلت: أي الأجلين قضى؟ فقل: أكبرهما، وإذا سئلت: أيهما نكح؟ فقل: أصغرهما، فقد تزوج أصغر البنتين، وأتم أوفى الأجلين عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهذا شأن الكرام. ومن الأدلة: قوله سبحانه وتعالى حكاية عن نبيه موسى عليه السلام يخاطب الخضر حينما رفع الجدار: {قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف:77] وفي قراءة: (لتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا)، فقوله: (لاتخذت عليه أجراً)، أي: إنك حينما رفعت الجدار كان بالإمكان أن تطالب أهل القرية أجرة رفع الجدار، فدل هذا على مشروعية الإجارة. ومن مجموع هذه الأدلة من الكتاب قال العلماء: إن الإجارة ثابتة بدليل الكتاب. وأما دليل السنة: فهناك أحاديث قولية وأحاديث فعلية: أما الأحاديث القولية: فما ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقول: (ثلاثة أنا خصمهم، ومن كنت خصمه فقد خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه فلم يوفه أجره) نسأل الله السلامة والعافية! ووجه الدلالة في قوله: (ورجل استأجر أجيراً) أي: عاملاً، (فاستوفى منه) أي: أخذ العمل كاملاً ولم يوفه أجره، حتى ولو أنقصه شيئاً بسيطاً من أجرته فإن الله خصمه يوم القيامة، فليست القضية أن يمنعه من الأجرة، أما إذا منعه من الأجرة ولم يوفه فهذا أعظم، حتى لو أنقصه شيئاً من أجرته فإنه داخل في هذا الوعيد، ووجه الدلالة في قوله: (استأجر أجيراً)، فدل على جواز الإجارة ومشروعيتها. وأما الدليل الثاني: فهو حديث اختلف العلماء في سنده، وقد حسن بعض العلماء إسناده، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)، وهذا يدل على حفظ حقوق الأجراء، وأنه ينبغي الوفاء لهم، وفيه دليل على مشروعية الإجارة. أما السنة الفعلية: فإن النبي صلى الله عليه وسلم استأجر وفعل الإجارة، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ما من نبي إلا ورعى الغنم، قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟! قال: نعم، كنت أرعى الغنم لأهل مكة على قراريط)، وهذا الحديث صحيح وثابت عنه عليه الصلاة والسلام، ووجه الدلالة أنه قال: (كنت أرعى الغنم لأهل مكة على قراريط)، والرعي منفعة؛ ولذلك قالوا: يجوز أن تؤجر العامل أن يرعى الإبل أو الغنم أو البقر ويقوم عليها وعلى مصالحها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كنت أرعى الغنم على قراريط لأهل مكة)، واختلف في قوله: (على قراريط) فقيل: إن قراريط موضع بمكة كان يرعى فيه، وهذا قول إبراهيم الحربي رحمه الله، والسبب في هذا: أن القراريط لا تطلق على الفضة، واستعظموا أن تكون من الذهب والدنانير، فقالوا: الغالب أن قوله (على قراريط) أي: موضع بمكة، وقد ضعف هذا القول الإمام ابن حجر رحمه الله، إلا أن الأرجح والأقوى وأنه على قراريط من دنانير، ولكن لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم تعيين ذلك. أما الدليل الثاني الفعلي عن النبي صلى الله عليه وسلم: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في حديث صحيح عن أم المؤمنين عائشة: أنه لما أراد الهجرة من مكة إلى المدينة استأجر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً، وهذا الرجل يقال له: عبد الله بن أريقط، وكان من الأزد، وقد كان على دين كفار قريش، فاستأجره رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة من أجل أن يدلهم على الطرق التي لا يسلكها الناس، فسلك بالنبي صلى الله عليه وسلم مسلكاً حذراً، ووجه الدلالة من هذا الحديث: أنه استأجره، تقول عائشة رضي الله عنها: (استأجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل يقال له عبد الله بن أريقط، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، ودفعا إليه راحلتيهما)، فدل على أنه استؤجر والنبي صلى الله عليه وسلم دفع إليه المال، وهذا بعد الوحي، فدل على مشروعية الإجارة وجوازها. وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء على مشروعية الإجارة، ولكن خالف في ذلك الأصم وابن علية، وهما محجوجان بالإجماع قبلهما كما قال الأئمة، وقد شدد بعض العلماء في خلاف هذين العالمين لمشروعية الإجارة، حتى قال بعضهم مقالة صعبة، كقول الإمام أبي بكر بن العربي: ولم يخالف في شرعيتها إلا الأصم فكان عن دليلها أصم. ومراده من ذلك: أنه رد السنن والأحاديث الصحيحة، وقد كان العلماء يشدون على من يرد الأدلة الواضحة القوية فيحرم ما أحل الله عز وجل، وقوله: كان عن دليلها أصم، أي: أنه تصامم وهذه إنما هي كلمات لا يقصد منها العلماء حقيقتها؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين: (عقرى حلقى أحابستنا هي؟!) فليس المقصود حقيقة الشتم، وإنما المراد تنبيه طلاب العلم على أنه لا يقبل قول أحد كائناً من كان إذا صادم الكتاب والسنة، ولذلك قال الإمام أحمد: أبو ثور في هذه المسألة كاسمه. أي: مسألة ذبيحة المشرك المشهورة، وكل هذا من باب التشديد والتشنيع على المخالف للسنن، والأدلة الواضحة، والذي يأتي بالشذوذات المخالفة لمذهب الصحابة والتابعين والأئمة، فـ الأصم وابن علية رحمهم الله كان قبلهما إجماع الصحابة والأئمة، والسنن والآثار في ذلك واضحة، إضافة إلى دليل الكتاب، ومع هذا كله شدد العلماء رحمهم الله في خلافهم. وهذا النوع من العقود فيه رحمة بالناس وتيسير على العباد، فأنت إذا احتجت إلى مأوى أو سكن فقد لا تستطيع أن تشتريه، فخفف الله عز وجل عنك بأن تستأجره مدة بقائك، وقد تنزل بالمدينة والقرية والمكان المعين، وأنت لا تريد البقاء إلى الأبد، وإنما تريد أياماً أو ساعات، فحينئذٍ خفف الله عز وجل ويسر على العباد بشرعية الإجارة، فتقضى بها المصالح، وتتحصل بها المنافع، وتدرأ بها المفاسد، فأنت لو كانت عندك مزرعة لا تستطيع حراستها، أو كان عندك إبل لا تستطيع رعيها، فتستأجر، فينتفع الأجير وتنتفع أنت، فتتحقق بذلك المصالح لعموم المسلمين، ففيها الرفق بالناس أفراداً وجماعات. وقوله رحمه الله: (باب الإجارة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بعقد الإجارة. ومناسبة هذا الباب لما قبله: أن المزارعة نوع من الإجارة، فلما فرغ رحمه الله من الإجارة الخاصة بالمزارعة شرع في الإجارة العامة، وهذا من باب التدرج من الأدنى إلى الأعلى، وهذا مسلك العلماء رحمهم الله، أنهم ربما يذكرون الخاص قبل العام حتى يتمكن الإنسان من معرفة الأحكام العامة لعقود الإجارة.

الأسئلة

الأسئلة

بيان استئجار شعيب لموسى عليه السلام

بيان استئجار شعيب لموسى عليه السلام Q في قوله تعالى: {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص:27] لم يخصص أي واحدة منهما فهل في عقد الإجارة جهالة، أثابكم الله؟ A البنتان معروفتان لموسى عليه السلام، فقد خرج معهما، ورجع معهما، وقال له أبوهما: إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين، أي: تخير منهما ما شئت، فهذا وجه لبعض العلماء أنه خيره بين الثنتين المعلومتين وقال له: أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين، وهو يختار من شاء منهن، فاختار أصغرهما؛ لأن النص سكت، فلا يبعد أن يقول له: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص:28]، فلما سكتت الآية وجاءت للمقصود {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} [القصص:29] في سورة القصص، وبين الله سبحانه وتعالى أنه قضى الأجل وسار بأهله؛ دل على أن الأمر مبتوت فيه من العقد؛ لأن العقد لما جاء مجملاً فهمنا من الأمور أنها مرتبة ومعلومة، ولاشك أن من خير بين الصغير والكبير فإنه يختار الأفضل، فاختار الأفضل لحفظ نفسه؛ لأنه يريد إعفاف فرجه عن الحرام، وهذا شأن كل إنسان يريد أن ينكح، وشأن كل إنسان عاقل يريد أن يبحث عن الشيء الذي يتحقق به مقصود الشرع على أتم الوجوه وأكملها، فليس في الآية أنه بقي على الإبهام إلى ما بعد ثماني سنوات، بل الذي وقع بعد ثماني سنوات هو بتُّ النكاح وانتهاؤه أي: وقوعه. إذاً: نقول: الآية لا يمكن الاستدلال بها على الجهالة، ولذلك قال العلماء: إذا قال الرجل: أزوجك إحدى بناتي بعشرة آلاف ريال، فقال: قبلت، لم يصح؛ لأن شرط صحة النكاح تعيين الزوجين، وقد بينا هذا في باب النكاح، فبناء على ذلك إما أن نقول: إنه مجهول يؤول إلى العلم، فهو قال: (أريد أن أنكحك إحدى ابنتي) وكأنه يقول: اختر إحدى ابنتي بثمانية حجج وأزوجك، فاختار إحدى الابنتين، وهذا هو تمام الآية؛ لأن القرآن دائماً يجمل عندما يذكر القصص، وهذا من أروع ما يكون، حتى إن جهابذة من يكتب في القصص وممن يعجب بكتابة ما يسمى بفن القصص- كثير منه مأخوذ من الكتاب والسنة، منتزع انتزاعاً من علوم المسلمين من الكتاب والسنة، وهذا يعرفه كل أحد، حتى إنك حينما تتأمل في منهج القرآن في ذكر القصص، والأحداث المهمة في القصص، والتركيز على المقصود من القصة، وإغفال الجوانب التي لا علاقة لها بجوهر الموضوع؛ تجد القرآن في أتم الصور، وأجمل الحلل وأبهاها وأتمها؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد سبحانه وتعالى. فالله عز وجل قد بين المقصود من هذه الآية، فلا يصح الاستدلال بالآية على جواز الإجارة المجهولة. الأمر الثاني: نقول: افرض أنها مجهولة، فهذا شرع من قبلنا، وشرعنا بخلاف ذلك، وهو أنه لا بد فيه من التعيين، والإجماع منعقد على أنه لا بد من تعيين إحدى الزوجين. والله تعالى أعلم.

حكم بيع دور مكة وتأجيرها

حكم بيع دور مكة وتأجيرها Q هل هناك خلاف في تأجير دور مكة؟ وما معنى حديث: (وهل ترك لنا عقيل من رباع؟) أثابكم الله؟ A هذه المسألة ثابتة في السنة، فقد دلت السنة الصحيحة على جواز بيع دور مكة وإجارتها، والنص فيها واضح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وهل ترك لنا عقيل من رباع؟)، وعاوض عمر رضي الله عنه أهل مكة حينما هدم بيوتهم في توسعة المسجد، فعمل الخلفاء وظاهر السنة على مشروعية بيعها وإجارتها، وهذا الذي عليه العمل، والله تعالى أعلم.

حكم أكل ما سقط في الطرقات من الثمر

حكم أكل ما سقط في الطرقات من الثمر Q ما حكم أكل الثمر الذي يكون على الطرقات ولا يعرف صاحبه أثابكم الله؟ A الثابت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر على تمرة فقال عليه الصلاة والسلام (لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها)، ورخص عليه الصلاة والسلام لأصحابه في مثل هذا، وهو الذي يسمى باللقطة اليسيرة التي لا تتبعها همة صاحبها، فما كان من الحبات ونحوها من الأطعمة اليسيرة التي تسقط من أصحابها، ويغلب على الظن أن صاحبها لا تتبعها همته، فإنه يجوز أن يأكلها الإنسان ما لم يكن ممن تحظر عليه الصدقة، فإنه يتركها تورعاً إذا وجدت فيها شبهة الصدقة. والله تعالى أعلم.

حكم تخصيص رجب بشيء من العبادات والاعتقادات

حكم تخصيص رجب بشيء من العبادات والاعتقادات Q هل ثبت في فضل رجب شيء من الطاعات أثابكم الله؟ A شهر رجب من الأشهر الحرم، وهو الذي يسمى بـ (رجب مضر)، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع بين أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، قال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (ثلاثة سرد وواحد فرد)، فأما السرد فهي الثلاثة التي تأتي تلو بعضها وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم قال صلى الله عليه وسلم: (ورجب مضر)؛ لأن مضر كانت تعظم هذا الشهر وتراعي حرمته من دون سائر العرب، وكانوا يقولون: رجب مضر، وهذا الشهر شهر حرام، والأشهر الحرم معلوم أن الإجماع منعقد على تعظيمها من حيث الأصل، واجتناب ما حرم الله عز وجل في قوله تعالى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36]، وقال بعض العلماء: إن الضمير عائد إلى الأشهر كلها، بعض المفسرين يرى هذا. وبناء على ذلك: فإن تعظيم هذا الشهر وتخصيصه بعبادة معينة أو بذكر معين أو تخصيصه جمعه أو لياليه أو أيامه، كل ذلك مما لا أصل له لا في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم. فتخصيص أول جمعة من جمع رجب بصلاة الرغائب من البدعة والحدث، وقد نص على ذلك الأئمة والعلماء رحمهم الله، ودواوين الإسلام على أن هذا من الحدث الذي أحدث في الإسلام مما لا أصل له لا في الكتاب ولا في السنة، كذلك أيضاً الذبح لرجب، وهي العتيرة التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها كما في الصحيحين (لا فرع ولا عتيرة)، ففسرت العتيرة بأنها ذبيحة رجب. كذلك تخصيص ليالٍ معنية كليلة سبع وعشرين من رجب، وبالمناسبة لم يثبت دليل صحيح يدل على تعيين ليلة الإسراء، إنما حكى بعض أهل السير أنها ليلة سبع وعشرين من رجب، لكن التعيين بدليل موثق صحيح هذا تكلم عليه بعض العلماء رحمهم الله، وبينوا أنه ليس هناك دليل على أن الإسراء والمعراج وقع في ليلة السابع والعشرين من رجب، وإنما يحكى في السير والأخبار بشرط أن لا يكون وسيلة لاعتقاد معين، وأن لا يكون ذريعة لحكم، فإذا كان كذلك فإنه يرد، ويبين أنه لا أصل له من الأدلة الصحيحة، وينبغي على طلاب العلم والأئمة والخطباء أن يوجهوا الناس وأن يبينوا لهم المحدثات في هذا الشهر، فتخصيص هذا الشهر للعمرة وللذكر والأدعية، والاعتقاد بفضله؛ كل ذلك مما ليس على هدي النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى المسلم أن يعتقد دلالة النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل بذلك، والعمل بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك للأمة من باب خير إلا دل عليه، ولا سبيل رشد إلا هدى إليه، فكون الإنسان يحدث في دين الله ما لا أصل له فإن هذا أمر محرم وخطير، فإن البدعة تقود إلى ما هو أشنع وأفضع، وأشد خطراً منها، فإن الرجل إذا كان لا يبالي في دينه، فيتقبل من كل من هب ودب، ويعتقد في دين الله عز وجل ما ليس له نص صحيح من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لم يؤمن عليه أن تزل قدمه بعد ثبوتها نسأل الله السلامة والعافية. فعلى المسلم أن يتقي الله عز وجل، وألا يعتقد في هذه الشهور اعتقاداً خاصاً، وألا يخصها بذكر ولا بجلسات ولا بأذكار معينة، ولا يعتقد في لياليها ولا في أيامها، بل عليه أن يتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالخير كل الخير في الاتباع، والشر كل الشر في الابتداع، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا التمسك بالسنة، وأن يعيذنا من الحدث والبدعة. والله تعالى أعلم.

استحباب ذبح العقيقة عن المولود

استحباب ذبح العقيقة عن المولود Q ما حكم من مات وله ولد له من العمر ثمانية أشهر، ولم يعق عنه، فهل يعق عنه بعد موته، أثابكم الله؟ A السنة للوالدين أن يعقا عن الولد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام مرهون بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه)، فالسنة أن تذبح العقيقة في السابع، وعلى المسلم أن يحمد نعمة الله عليه ومنته، وفضله لديه، فكم من عقيم تمنى أن يولد له! فإذا أنعم الله عليك بالنعمة وأقر عينك بالولد فاشكر هذه النعمة بالعقيقة، وقم بما أمرك الله عز وجل به، وقد ووردت بها سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، ولذلك استنبط بعض العلماء من قوله: (مرهون) والرهن الحبس، فقالوا: إنه ينبغي على الوالدين أن يحافظا على هذه الشعيرة وهذا السنة، وألا يقصرا فيها، وقد اختلف العلماء رحمهم الله هل العقيقة شعيرة مخصوصة تفوت بفوات زمانها المحدد أم أنها شعيرة لازمة باقية إلى الأبد؟ وتوضيح ذلك: أن من العلماء من ألحقها بالأضحية فقال: الأضحية إذا خرجت عن أيام التشريق فليست بأضحية، قالوا: فالعقيقة إذا خرجت عن السابع، والأيام المسماة فليست بعقيقة، وإنما هي صدقة من الصدقات. وقال بعض العلماء: إنها لا تفوت بفوات السابع، ولا الواحد والعشرين، ولا الأربعين، بل تبقى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مرهون)؛ حتى إن بعض أهل العلم رحمة الله عليهم قالوا: يشرع للولد إذا علم أن والديه لم يعقا عنه أن يعق عن نفسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام مرهون) قالوا: فيشرع أن يفك رهن نفسه، وعلى هذا القول فإنه يشرع والذي تطمئن إليه النفس أنه يعق عنه بعد ثمانية أشهر، ولا بأس بذلك إن شاء الله والله تعالى أعلم.

جواز التخفيف في الصلاة دون قطعها لعذر المطر

جواز التخفيف في الصلاة دون قطعها لعذر المطر Q هل من الأعذار التي تبيح قطع الصلاة إذا هطل المطر بغزارة وكنا نصلي في العراء، أثابكم الله؟ A إذا هطل المطر بغزارة فإن هذه نعمة من الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم (إنه حديث العهد بربه)، وخاصة إذا كان ذلك في الصيف وأصابتك سحابة صيف فأرعدت وانتعشت، فإنه خير كثير، خير دين ودنيا، فكون الإنسان واقفاً بين يدي ربه لا يشرع له أن يقطع في مثل هذه الحالة، لكن إذا حصل الضرر فبعض العلماء يرى أن الضرر الذي يؤدي بالنفس إلى الهلاك أو مثلاً يحدث منه الصفق، يعني يصفق في جسده، أو يكون هناك خطر كسيل، أو شعر بسيل من المطر، فإذا خاف على نفسه فلا بأس أن يقطع الصلاة، وأما إذا لم يخف على نفسه فإنه يخفف الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على التخفيف في الصلاة عند وجود الحاجة، أما أن يقطع الصلاة، فلا؛ لأن الصلاة أمرها عظيم، وقد كان الرجل ربما رأى الأمر العظيم فلا يمكن أن يقطع الصلاة التي بينه وبين الله عز وجل أبداً، ويصبر ويصابر، وقصص السلف رحمة الله عليهم في ذلك عجيبة، فينبغي على المسلم أن يعلم أهمية هذه الشعيرة، وأنه إذا دخل في فريضة من فرائض الله فليس له أن يتسبب في قطعها دون أن يكون هناك موجب شرعي للقطع. وهذا الكلام الذي ذكرناه عن الصلاة من حيث القطع -قطع الصلاة- إذا لم يكن بوسعه أن يتحول، أما لو كان بوسعه أن يتحول، كرجل يصلي وبجواره مظلة، والمكان الذي يصلي فيه لا مظلة فيه، وأمكنه أن يمشي خطوات إلى المظلة، فيشرع له أن يمشي الخطوات حتى يدفع عن نفسه ضرر هذا الماء أو ضرر المطر، ولا بأس بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مشى في صلاته لدفع الضرر، كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه أتاه الشيطان بشهاب من نار، وكان الصحابة يصلون وراءه، ففوجئوا برسول الله صلى الله عليه وسلم يتكعكع -أي: يتأخر- فتكعكع الصف الأول، وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم كالممسك بشيء يقول: أعوذ بالله منك! أعوذ بالله منك! ألعنك بلعنة الله! ألعنك بلعنة الله! ثم لما سلم، قالوا: يا رسول الله! إنك فعلت كذا وكذا فقال: أما إنه أتاني شيطان بشهاب من نار ... )، فذكر الحديث، قالوا: فدل هذا على جواز الحركة من أجل المصلحة، وذلك لدفع الضرر عن نفسه، فإذا كان هناك ضرر من كونه مصلياً تحت المطر، وأراد أن يتحول فلا بأس بهذا، ويجوز له أن يتحول. أما قطع الصلاة فكما ذكرنا أنه لا يقطع، ومن أنسب ما ذكر بعض العلماء في مسألة المطر حديث ليلة القدر: (ولقد أريت صبيحتها أني أسجد على ماء وطين)، فوكف المسجد -أي: خر المسجد بالماء- فسجد عليه الصلاة والسلام على الماء والطين، ولم يجعل خرور المسجد والماء موجباً للاعتذار، فدل على أن خرور ماء ونزول المطر ليس موجباً لقطع الصلاة، وأن الأصل يحتم عليه إتمام الصلاة، خاصة وأن الله تعالى يقول: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة) فالصلاة عمل، وبناءً على ذلك فلا يبطلها بقطعها والتسليم منها إلا من ضرورة، ووجود أصل شرعي يقتضي له أو يبيح له ذلك. والله تعالى أعلم.

جواز تكرار العمرة لأهل مكة

جواز تكرار العمرة لأهل مكة Q هل لأهل مكة أن يكرروا العمرة أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالأفضل لأهل مكة أن يكثروا من الطواف بالبيت، هذا هو الأفضل؛ ولذلك كان بعض السلف رحمهم الله يشدد في أمرهم في الخروج للتنعيم؛ لأنهم يرون أن المقصود من العمرة زيارة البيت، وأنه مادام بمكة فإنه يمكنه أن يستغرق هذه الخطوات لدى خروجه إلى التنعيم وتكرار الخروج، فالأفضل أن يجعل هذه الخطوات في الطواف بالبيت؛ لأن الاشتغال بالمقصد أفضل من الاشتغال بالوسيلة، وأما من حيث الجواز فالذي يظهر جوازه، وهو قول طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم، وينسب إلى جمهور العلماء رحمهم الله أنه يجوز لأهل مكة أن يعتمروا، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة أن تعتمر من التنعيم، فكانت في حكم أهل مكة، ومع ذلك أحل لها أن تخرج إلى التنعيم وتعتمر. والله تعالى أعلم.

من قتل مورثه عمدا أو خطأ فلا يرث منه

من قتل مورثه عمداً أو خطأً فلا يرث منه Q هل يُورّث الولد الذي تسبب في وفاة والده بالخطأ أثابكم الله؟ A هذه مسألة خلافية بين العلماء؛ لأن الإرث له أسباب وموانع، فالإرث يكون بواحد من ثلاثة أسباب: النكاح، والنسب، والولاء، فإذا كان هناك موجب من هذه الموجبات فإنه يرث الشخص ما لم يكن هناك ما يوجب حجبه، وأما بالنسبة للموانع فيمنع الشخص من الميراث: الرق، والقتل، والردة، والعياذ بالله، قال الناظم: ويمنع الشخص من الميراث واحدة من علل ثلاث رق وقتل واختلاف دين فاعلم فليس الشك كاليقين أما بالنسبة للقتل فقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن القاتل لا يرث، والمراد بذلك: أن يقتل شخص مورثه؛ كأن يقتل الابن والده -والعياذ بالله- عمداً، فإنه لا يرث منه، ولو قتل أخ أخاه عمداً فإنه لا يرث منه؛ لأنه سيموت الأول المقتول، ويكون أخوه حياً بعد ذلك، فقالوا: إن القاتل لا يرث؛ لأنه لو فتح هذا الباب لطمع الناس في الإرث، فأصبح الشخص يقتل قريبه وهو يعلم أن ورثته لا يقتلونه، وأنهم سيسامحونه فيعدلون إلى الدية، ويكون إرثهم من المقتول أكثر من الدية نفسها؛ كشخص -والعياذ بالله- يقتل قريبه ويرث منه ثلاثمائة ألف، وتكون دية القتيل مائة ألف، فحينئذٍ ربما سول له الشيطان أن يقتل قريبه، مع علمه أن أبناء عمه أو قرابته لن يقتلوه، فيتنازلون عن قتله ويصيرون إلى الدية، فيعطيهم مائة ويرث المائتين، فإن كان القتل قتل عمد، فوجهاً واحداً أنه لا يرث وهو محل إجماع. وقد اختلف العلماء رحمهم الله في قتل الخطأ، وظاهر السنة في قوله: (القاتل) أنه يشمل قتل الخطأ وقتل العمد، وهو أقوى من حيث دلالة العموم؛ لأنه تسبب في قتله، ولذلك فإن الأشبه فيه أنه لا يرث. والله تعالى أعلم.

طالب العلم والتخصص في فن من فنون العلم الشرعي

طالب العلم والتخصص في فن من فنون العلم الشرعي Q متى يكون التخصص في فن من فنون العلم؟ وهل يستطاع الجمع بين فنون العلم أثابكم الله؟ A من أعظم الأسباب التي تعين على ضبط العلم -بعد الإخلاص وطلب العلم على أيدي العلماء، الذين ورثوا العلم من الأئمة الذين اتصل سندهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو العلم الشرعي المبني على الكتاب والسنة- أن يكون طالب العلم منحصراً، فالانحصار يعين على الضبط، وهذا هو هدي السلف الصالح رحمة الله عليهم، فإن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا منحصرين، فهذا ابن عباس رضي الله عنهما لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد أن يطلب العلم بعد وفاته، انحصر في زيد، واختار زيداً من بين الصحابة، فلازمه ولازم بابه حتى كان ينام على عتبته في شدة الظلام، وينام على عتبة بابه في شدة الهاجرة والظهيرة، ولازمه ملازمة عظيمة، حتى عرف ابن عباس بـ زيد، ولما بلغت وفاة زيد رضي الله عنه إلى أبي هريرة بكى أبو هريرة وقال: (لقد دفن الناس اليوم علماً كثيراً، ولكن لعل الله أن يجعل لنا في ابن عباس منه خلفاً). وكذلك التابعون، فإن ابن عباس مثلاً لزمه أصحابه؛ كـ سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد بن جبر، وطاوس بن كيسان، فهؤلاء لزموا ابن عباس وأخذوا عنه مع وجود غيره من الصحابة؛ لأن الانحصار يجعلك تأخذ الشيء على أساس معتبر، شريطة ألا يكون الذي تنحصر فيه قد خالف الدليل، فأنت تعمل بقول هذا العالم بحجته ودليله إذا كنت تثق بدينه وعلمه وضبطه وإتقانه، فتأخذ عنه وتضبط هذا العلم بالدليل، فإذا لقيت الله عز وجل لقيته وأنت تعمل بالدليل من الكتاب والسنة، فإذا خالف هذا العالم الدليل سألته عنه، فإن وجدت عنده جواباً مقنعاً له وجهه من الأصول المعتمدة عند العلماء فلا إشكال، وإن لم تجد عنده جواباً فأنت تحب العالم، وحبك للحق ينبغي أن يكون أحب من حب ذلك العالم، فالحق أحق أن يتبع، والحق أن يرضى، وليس لأحد قول مع قول الله عز وجل وقول رسوله عليه الصلاة والسلام. وبناء على هذا الانحصار جاء الاهتمام بضبط العلم، وهكذا وجدنا أئمة السلف، فـ ابن عمر رضي الله عنهما كان له سالم بن عبد الله بن عمر ابنه، وكذلك نافع مولاه وغيره ممن أخذ عنه. فإذا كان طالب العلم ينحصر ويأخذ العلم بضبط على يد العالم ويأخذ ما عنده، ثم ينتقل إلى غيره، فهذا أضبط وأكثر إتقاناً، ولذلك أخذ الإمام الشافعي عن الإمام مالك، ثم انتقل وقرأ على غيره بعد أن ضبط ما عند مالك، ورجع عن أقوال وبقي على أقوال، وظهر له الصواب في أقوال قالها الإمام مالك، وظهر له الصواب في أقوال لم يقل بها، وهكذا كان أئمة السلف. فالهدف أن يعرف الحق، أما التشتت كأن يأخذ مثلاً الفقه من فلان وفلان، ويحضر الدرس الفلاني والدرس الآخر، وهذا العالم يرى أن مفهوم المخالفة حجة، وهذا يرى أن مفهوم المخالفة ليس بحجة، وهذا يرى نوعاً من أنواع المفاهيم حجة، وهذا لا يراه حجة، فتارة يعمل بهذا الدليل، وتارة لا يعمل به، وفي العبادات ربما تكون المسألة في الباب الواحد يعمل فيها بأصلين متناقضين. وهكذا. فالذي يحث عليه العلماء هو لزوم الانحصار، وليس المراد به التعصب، كما يفهمه البعض فيتعصب لقول العالم حتى في وجه الدليل، إنما المراد به الضبط حتى تتعبد الله عز وجل بدليل واضح، وبأصل بين، وتلقى الله عز وجل بالحجة على سبيل درج عليه الأئمة، ولذلك فإن العلماء والجهابذة الأئمة كلهم أخذوا العلم بالانحصار، ولم يوجد عالم غالباً إلا وله أصل يعتمده، فنجد الفقهاء والمحدثين، وحتى أهل الظاهر لهم أصولهم ولهم أئمتهم وعلماؤهم ومجتهدوهم؛ كالإمام ابن حزم وغيرهم رحمة الله عليهم، وكذلك نجد أهل الحديث من أئمتهم وعلمائهم لهم أصولهم كـ إسحاق بن راهويه وغيرهم من العلماء والأئمة، ونجد أيضاً الأئمة الأربعة الإمام أحمد والشافعي ومالك والإمام أبا حنيفة رحمة الله عليه كلهم كان لهم أصحاب، وكلهم كان لهم أتباع، وكلهم قرر وبين وحكم وأفتى وقضى بما استبان له من دليل الكتاب والسنة على أصول رأى صحتها واعتمدها، ونصح للأمة فيها، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزيهم عن الإسلام والمسلمين خير ما جزى عالماً عن علمه، ونسأل الله العظيم أن يعظم أجورهم، وأن يثقل موازينهم، وأن يرزقنا حبهم وإجلالهم وإكبارهم، ونسأله بعزته وجلاله أن يملأ قلوبنا من حبهم فيه، وأن يجعل هذا الحب شافعاً نافعاً يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. وبالمناسبة: أوصي بحب العلماء من أئمة السلف، ومن سار على نهجهم، فحب العلماء قربى لله عز وجل، وإذا رأيت العالم الذي التزم كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فالتزم محبته، وأحبه بحبه لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا نظرت إلى أئمة السلف ودواوين العلم فعليك أن تعيش في هذا العلم طالباً للعلم، معظماً لحرمات الله عز وجل، وإياك أن تحتقرهم! وإياك أن ترضى بنبذهم وانتقاصهم وسبهم وشتمهم والحط من أقدارهم! فليس هذا من خلق العلماء، فإن من عرف العلم عرف فضل العلماء، وإذا وجدت الرجل في كتابته أو في كلامه أو في دروسه حريصاً على سب العلماء وانتقاصهم، ويبقى على أكتاف العلماء؛ فاعلم أنه ليس بعالم، فوالله لا يعرف فضل العلماء إلا من علم؛ لأنه لا يعرف الفضل إلا أهل الفضل، ومن اكتحلت عيناه بالسهر وقرأ في دواوين العلم، وعرف بلاء الأئمة وتعبهم وشدة نصحهم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأدرك عظيم فضل الله على هذه الأمة بهؤلاء العلماء، واعتقد أن الله سبحانه وتعالى اختارهم لهذه الأمة. ووالله أنك إذا قرأت ذلك العلم الناصع المبني على دليل الكتاب والسنة وفهم النصوص؛ عرفت أن الله علمهم ما لم يكونوا يعلمون، وأن الله فهمهم، وفتح عليهم، وأن الله أراد بهم الخير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، فكم من معضلات ومشكلات ومسائل ونوازل نزلت على طالب العلم لم يجد لها حلاً إلا في كتب العلماء! ولولا الله ثم هؤلاء العلماء لما استطعنا أن نرقى المنابر، ولما استطعنا أن نجلس بين الناس، ومثل هؤلاء ينبغي أن نعتقد فضلهم. وإذا قرأت في كتاب العالم وهو يثلب زيداً وعمراً، ويأتي إلى الفقه أو إلى الحديث أو إلى غيره من العلوم ويرقى على أكتاف من قبله، فلا تغتر بأوهامه، وهذا من أخطائه ومن أوهامه، وليس هذا من أدب العلماء، وننبه على هذا؛ لأنه قد شاع وذاع، خاصة في الأزمنة هذه الأخيرة، نسأل الله السلامة والعافية من مضلات الفتن. وما وجدنا كتب العلماء إلا على إجلال العلماء في دواوين العلم، فتجدهم يردون على من خالفهم في المسائل الاجتهادية بكل أدب واحترام، فيقولون: ولا يجوز ذلك عندنا، وعند أبي حنيفة يجوز؛ ودليله كذا وجوابه: أنه منسوخ، ولم يقل: هذا من أوهامه أو من أخطائه، ولا تعول عليه، وغير ذلك من السب والذم: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148]. فهذا الثلب والانتقاص للأئمة والعلماء والحط من أقدارهم والجرأة على الانتقاص منهم هذا من درن العلم ومن زغل العلم، وعلى طالب العلم أن يأخذ ما صفا وأن يدع ما كدر، وأن يجني الثمار، وأن يلقي الحطب في النار، وأن يعلم علم اليقين أن من الواجب على خلف هذه الأمة أن يحفظ حرمة السلف، وأنه لا خير فينا إذا أصبحنا نربي طلاب العلم على انتقاص العلماء، وأصبح طالب العلم لا يمكن أن يعرف أنه طالب علم إلا بسبه للعالم الفلاني، والإمام الفلاني. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا حبهم، وأن يجعل ذلك الحب خالصاً لوجهه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

باب الإجارة [2]

شرح زاد المستقنع - باب الإجارة [2] لابد من معرفة الأجرة في عقد الأجارة ويستثنى من اشتراط معرفة الأجرة؛ أن يكون هناك عرف يحدد الأجرة، كركوب السيارات والطائرات وغيرها، فيسكت العاقدان عن تحديد الأجرة، فعند ذلك يرجع إلى العرف؛ لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، ويجوز استئجار الأجير والمرضعة مقابل طعام أو كسوة.

أركان عقد الإجارة

أركان عقد الإجارة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فإن عقد الإجارة يقوم على أمور لابد من توافرها، فهناك العاقدان: وهما الشخصان فأكثر، اللذان يتفقان على إبرام عقد الإجارة، ولابد في هذين العاقدين -المؤجر والمستأجر- من أن تتوفر فيهما أهلية الإجارة، وذلك بأن يكونا عاقلين، بالغين، مختارين غير مكرهين، حرين، فلا تصح الإجارة استئجاراً ولا تأجيراً من صبي إلا إذا كان مميزاً وأذن له بالتصرف. فمثال ذلك: لو أراد الصبي أن يؤجر عمارة يملكها إرثاً من والده، فإنه لا تصح إجارته، مع أنه هو المالك الحقيقي لها، ولا يصح له أن يؤجرها إلا بإذن وليه، فإذا أذن له وليه صحت الإجارة، وكذلك لو كان عنده مال فأراد أن يستأجر بذلك المال شيئاً فإنه لا تصح إجارته إلا أن يأذن له وليه. وإذا كان يشترط في المؤجر أو المستأجر أن يكون بالغاً عاقلاً، فلا تصح الإجارة من مجنون، وكذلك أيضاً يكون حراً، إلا إذا كان عبداً مأذوناً له بالتصرف. ومعنى أن يكون كلٌ من المؤجر والمستأجر مختاراً، أي: أنه أقدم على عقد الإجارة باختياره ورضاه، ولم يكن ذلك عن كره، فالإكراه يسقط الاعتبار لعقد الإجارة، فلو أن شخصاً أجبر على تأجير داره أو عمارته أو سيارته فإن العقد لا يصح. والعلماء رحمهم الله يقولون: يشترط في العاقدين ما يشترط في البائعين، يعني: من أهلية التصرف. كذلك يشترط ملكية المؤجر للشيء الذي يؤجره، فلا يجوز ولا يصح أن يؤجر الإنسان مال غيره إلا إذا كان وكيلاً عن ذلك الغير، أو ولياً قائماً على شئونه، أو يكون القاضي قد نصبه لرعاية مصالح المالك الحقيقي كما في المحجور عليه هذا بالنسبة للمؤجر والمستأجر.

شروط أركان الإجارة

شروط أركان الإجارة أما بالنسبة لمحل عقد الإجارة: فمحل عقد الإجارة هو الأجرة والمنفعة، فالعاقدان يتفقان على تأجير شيء لقاء ثمن مدفوع، أو لقاء أجرة معينة، وبناء على ذلك ينصبُّ إيجاب كل من المؤجر والمستأجر على محل، هذا المحل إذا كان المنفعة السكنى -مثل: الفنادق والعمائر والفلل والشقق والغرف- فيقول له: أجرني شقتك سنة بعشرة آلاف. فيقول: قبلت. فهنا: انصب عقد الإجارة من إيجاب وقبول على منفعة هي سكنى الشقة لمدة سنة، وعلى أجرة وعوض وهو العشرة آلاف. فإذاً: عقد الإجارة ينصب على المنفعة والعوض المبذول لقاء المنفعة، سواء كانت المنفعة السكنى، أو كانت المنفعة الركوب كركوب السيارات والقاطرات والطائرات ونحو ذلك. وأما بالنسبة للمنفعة التي هي محل للعقد فلها شروط، سيبينها المصنف رحمه الله؛ منها أن تكون منفعة مقصودة، وأن تكون مباحة غير محرمة، وأن تكون معلومة غير مجهولة، ونحو ذلك من الشروط التي سيبينها رحمه الله. وأما الثمن والأجرة: فكل ما صح ثمناً في البيع صح ثمناً في الأجرة، فيجوز أن تكون الأجرة من النقد، وهو الذهب أو الفضة، فيقول له: أستأجرها منك العمارة بعشرة آلاف ريال. وهذه فضة، أو يقول: أستأجرها بمائة جنيه من الذهب. وقد تكون الأجرة من المثمونات، كأن يقول له: أجرني عمارتك هذه سنة بهذه السيارة. فحينئذ يكون العوض وتكون الأجرة من الأعيان. هذا محل العقد، وينصب عقد الإجارة على منفعة وعلى عوض مدفوع لقاء هذه المنفعة. أما الركن الأخير فهو: الإيجاب والقبول، وهو الذي يسميه العلماء (صيغة عقد الإجارة)، فصيغة عقد الإجارة تقوم على الإيجاب: أجرتك داري، أجرتك سيارتي، أجرتك أرضي. إلخ، ويكون هناك قبول من قوله: قبلت أو رضيت، ونحو ذلك مما يدل على القبول والرضا. إذاً: عقد الإجارة يقوم على هذه الأركان التي تشمل العاقدين، ومحل العقد، وصيغة عقد الإجارة. ولكل من هذه الأركان شروط لابد من توفرها للحكم بصحة عقد الإجارة، وهذه الشروط هي جملة من العلامات والأمارات التي نصبها الشارع لكي يحكم بصحة عقد الإجارة واعتباره، وقد تقدم تعريف الشرط لغة واصطلاحاً، وإذا قال العلماء: يشترط لعقد الإجارة شروط لابد من توفرها للحكم بصحته؛ فهذا النوع من الشروط يسمى بشروط الصحة، وإذا أردت ضبطها فهي جملة من الأسباب والعلامات والأمارات التي نصبها الشارع للمكلف حتى يحكم بصحة عقد الإجارة أو عدمه. فأنت مثلاً: إذا سألك رجلان اتفقا على عقد إجارة، وقالا: اتفقنا على تأجير هذه السيارة بكذا وكذا لمدة شهر أو لمسافة ألف من الكيلومترات، فأنت حينئذٍ تنظر في هذا العقد والاتفاق بين الطرفين هل استوفى شروط الصحة، فإذا وجدت الأمارات والعلامات التي نصبها الشارع، وأنه استأجر منه السيارة شهراً، فالسيارة المراد بها: الركوب، وهذه منفعة، وهذه المنفعة مأذون بها شرعاً، ثم هذه المنفعة معلومة؛ لأنه حددها بشهر أو حددها بالمسافة فقال: ألف كيلو متر، وكذلك وجدت العاقدين على الصفات المعتبرة شرعاً للأهلية، فبعد وجود ذلك كله تقول: عقد الإجارة صحيح، فأنت تحكم بصحة الإجارة من خلال هذه العلامات والأمارات التي نصبها الشرع للحكم بصحة عقد الإجارة. هذا هو معنى قول العلماء: شروط صحتها، فكل ذلك يقصد منه أن تبين العلامات التي ينظر الفقيه من خلالها إلى العقد، وكذلك ينظر القاضي والمفتي، فيحكم بصحة عقد الإجارة وعدمه.

أمثلة توضح شروط صحة العقود

أمثلة توضح شروط صحة العقود لو جاءك شخص وقال: عندي عقد إجارة لبيتي أو عمارتي أو سيارتي أو مزرعتي. فأول ما تنظر في شروط الصحة، وعندك شروط تتعلق بالشخصين اللذين اتفقا على هذا العقد، وشروط تتعلق بالمنفعة نفسها والتي هي سكنى الدار، والمقصود هل هذه السكنى مأذون بها شرعاً أو غير مأذون بها شرعاً؟ هل هي معلومة أم مجهول؟ ونحو ذلك من الشروط المعتبرة، فإذا وجدت العلامات والأمارات المعتبرة للحكم بالصحة قلت: العقد في حكم الشرع صحيح. وإن وجدت أي شرط من هذه الشروط قد اختل تقول: العقد غير صحيح. مثلاً: جاءك رجلان وقالا: اتفقنا على أن أؤجره سيارة بعشرة آلاف لمدة سنة، فلما اتفقنا دفع المال، وبعد أن أحضرت السيارة رجع عن العقد وامتنع من قبول السيارة، فتقول له: هل السيارة كانت معلومة ومعروفة عند المستأجر؟ فإن قال: لا. قلت له: هل وصفت السيارة صفة تزول بها الجهالة؟ فإن قال: لا. قلت له: انصب عقد الإجارة على شيء مجهول الذي هو السيارة، ومن حق المستأجر حينما نظر إليها فلم تناسبه أن يرجع؛ لأنه يريدها لمنفعة قد يرى في غالب ظنه أن مثلها لا يقوم بهذه المنفعة. إذاً: فأنت حكمت بفساد هذا النوع من العقد لجهالة العين المؤجرة. ولو قال له: أؤجرك شقة في داخل مكة بعشرة آلاف، فيها أربع غرف، بصفات هي كذا وكذا وكذا لكن لم يحدد مكانها، فاتفق معه ودفع له جزءاً من الأجرة، فلما مضى لكي يريه الشقة وإذا بها نائية أو بعيدة عن الحرم، فقال له: أنا لا أرضى بهذه الشقة. فإذا اختصما إليك فإنك تقول: اتفقتما على إجارة شيء فيه جهالة، وكان المنبغي أن تحدد مكان الشقة وأن تحدد مكان العمارة. ولو أنهما اتفقا على تأجير عمارة أو سكن، ووصف هذا السكن فقال له: أؤجرك عمارة بجوار الحرم بعشرة ألف، وهذه العمارة من صفاتها كذا وكذا وكذا، ووصف العمارة وصفاً تاماً، فلما جاء إلى العمارة وجد أن هناك صفات لم توجد، وأنه ذكر له صفات لم يرها في العين المؤجرة، فقال له: لا أريد. فإنك تقول: نعم، هذا من حقه؛ لأن الإجارة لا تصح إلا على شيء معلوم، ولما وصف لك المؤجر العين المؤجرة واختلفت الصفة فلك خيار الرؤية مثلما تقدم معنا في البيع. فإذا أجر شيئاً حاضراً ناظراً، وقال: أؤجرك هذه العمارة، وأشار إليها، أؤجرك هذه السيارة؛ فحينئذ إذا استطاع أن يستجديها ويعرف صفاتها فإنه يستجديها ويعرف صفاتها، ولذلك فإنه لابد من معرفة العين المؤجرة، وخلو العقد من الجهالة في العين المؤجرة معتبر، فإذاً لابد من وجود صفات. حينما يذكر الفقهاء هذه الشروط ينبغي لطالب العلم قبل أن يدخل في الشروط -حينما يقرأ: يشترط لصحة عقد الإجارة، يشترط لصحة الحج، يشترط لصحة الصوم- ينبغي أن يعلم أن هذه الشروط يقصد منها أمران: الأمر الأول: رفع الظلم عن العباد في الحقوق والمعاملات التي تقع بينهم. والأمر الثاني: معرفة ما أذن الله به من العقود وما حرمه. فإذاً: هذه الشروط في الأصل لا تأتي من فراغ، ولا تأتي إلا بدليل شرعي أو أصل شرعي يدل على اعتبارها، مثلاً: لو قال لك قائل: لماذا تشترط أن تكون العين المؤجرة معلومة؟ تقول: لأن الشريعة شريعة عدل، ولا تجيز للمسلم أن يأكل مال أخيه المسلم بالباطل، فالمستأجر إذا استأجر شيئاً مجهولاً فتح الباب لأهل الفساد أن يأكلوا أموال الناس بالباطل، فيأتيه ويقول له: أؤجرك عمارة بمائة ألف. قال: قبلت. فظن أنها بمكان طيب، فظهر أنها في مكان غير طيب، وقد قررنا هذا وبيناه، وبينا وجه اشتراط الشريعة وتشديدها في عقود المعاوضات عند كلامنا على شرط العلم بالثمن والمثمن في البيع. فالحاصل: أن شروط الصحة هي: جملة من العلامات والأمارات التي نصبها الشارع للحكم بصحة العقد، وبناء على ذلك؛ فهذه الشروط التي سيذكرها العلماء تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: شروط ورد النص بها وبينها نص الكتاب والسنة. والقسم الثاني: شروط فهمت من أدلة الشريعة أو مقاصدها العامة، أو نبه الشرع بالنظير على نظيره، والله عز وجل جعل الأشياء معتبرة بعللها إذا كانت معللة، وهذه العلل يقصد منها الإنقاص، ويلحق بها ما هو شبيه بها في تلك العلة، فإذا وجدنا عقد الإجارة آخذاً حكم عقد البيع؛ لأن المستأجر دفع المال لقاء المنفعة، والبائع والمشتري دفع كل منهما ما بيده لقاء الآخر، فأصبحا من عقود المعاوضة، فكما أن الشريعة اشترطت في البيع العلم وانتفاء الجهالة، ونهى صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- عن بيع الغرر، نقول: لا تصح الإجارة إذا كانت على وجه الغرر. وكما أن الله سبحانه وتعالى حرم علينا أن نأكل أموال الناس بالباطل، فنبيع التجارة على سبيل الكره أو على سبيل الغش الذي يؤكل به المال كله أو بعضه بالباطل، كذلك لا يجوز للمؤجر أو المستأجر أن يأكل مال أخيه بالباطل، فهو إذا أجره عمارة على أنها موصوفة بصفة كاملة، فدفع له عشرة آلاف -وهذا المال هو أجرة مثلها في الكمال- فتبين أنها ناقصة وأن مثلها يستحق الخمسة الآلاف -التي هي نصف الأجرة- فيكون قد أكل النصف الباقي بالباطل. فإذاً: هذه الشروط إما أن تكون منصوصة كقوله عليه الصلاة والسلام: (من استأجر أجيراً فليعلمه أجره) فبين أنه لابد من العلم بالأجرة، وإما أن تكون ملحقة بالمنصوص عليه؛ لأن الشريعة قواعدها كلية وأصولها عامة، والفرع تابع لأصله، وكذلك يلحق النظير بنظيره عند وجود العلة المقتضية للإلحاق.

شروط صحة الإجارة

شروط صحة الإجارة قال المصنف رحمه الله تعالى: [تصح بثلاثة شروط: معرفة المنفعة: كسكنى دار]. قرن الشروط بقوله: (تصح) فتقول: هذا شرط الصحة. لأن هناك شروط صحة وهناك شروط وجوب، فشروط الصحة: تكون في العبادات وتكون في المعاملات: تكون في العبادات فتقول: لا تصح الصلاة إلا من العاقل، ولا تصح الصلاة إلا بطهارة الثوب والبدن والمكان. ويكون شرط الصحة في المعاملة مثل أن تقول: يشترط لصحة البيع العلم بالثمن والمثمن، فمتى وجد حكم بصحة البيع، ومتى فقد حكم ببطلانه.

الشرط الأول: معرفة المنفعة

الشرط الأول: معرفة المنفعة وقوله: [أولها: معرفة المنفعة]. إذا اتفق العاقدان على إجارة فلابد من أن يحددا المنفعة التي اتفقا على الإجارة من أجلها، وعقد الإجارة ينبغي على طالب العلم أن يعلم أنه ينصب على المنافع المباحة والمأذون بها شرعاً كلها، فيشمل أي منفعة مباحة فيجوز أن تستأجر شخصاً من أجل أن يحمل المتاع، ويجوز أن تستأجره لتنظيف الدار، ويجوز أن تستأجره للحدادة والنجارة، وأن تستأجر الخادمة للطبخ، وأن تستأجر لبناء الدار، وأن تستأجر لإصلاح المزرعة، وأن تستأجر لرعي الغنم، وأن تستأجر لكل شيء من المنافع المباحة. إذاً: لابد أن نعلم أن عقد الإجارة ينصب على المنفعة، أي أن محل العقد مصلحة ومنفعة يريدها أحد العاقدين لقاء مبلغ وعوض يدفعه، فإذا كان عقد الإجارة ينصب على المنفعة فينبغي فقهاً أن نقول: لا نصحح عقد الإجارة حتى تحدد المنفعة. وهناك قاعدة: أي اتفاق بين طرفين في شيء متردد بين أشياء عديدة غير متكافئة وغير متساوية فإن الشرع لا يأذن به؛ والسبب في هذا: أنه لو اتفق الطرفان على شيء محتمل لأشياء متعددة متفاوتة؛ فإنك لا تأمن الخصومة بين الطرفين، وهذا ذكرناه في البيع حينما يقول له: بعتك سيارة من سياراتي. والسيارات فيها الجيد وفيها الرديء، فإذاً لا يصح البيع؛ لأنه يحتمل أن يدفع العشرة الآلاف لقاء سيارة جيدة فيقول له: خذ هذه الرديئة، فيقول له: كيف تبيع لي هذه الرديئة؟ يقول: أنت اتفقت معي على سيارة، فألزمك بأي سيارة. فإذاً: لو اتفق العاقدان في عقد الإجارة على منفعة مجهولة، حيث قال أحدهما للآخر: تأتي وتعمل عندي؟ فقال له: ماذا أعمل؟ قال: الله أعلم، أي: عمل أطلبه منك فعليك أن تعمله. فتقول: هذا لا يجوز؛ لاحتمال أن يكون ظن الأجير في شيء يعلمه ويحسنه، فإذا به في شيء لا يحسنه، واحتمال أن يكون في شيء يظنه خفيفاً عليه فإذا به ثقيل عليه. فإذاً: لا يصح أن يقع عقد الإجارة إلا على شيء معلوم، وهذا يدل على سمو منهج الشريعة الإسلامية، وأنها تريد العاقد -وهو الأجير- أن يدخل للإجارة مطمئن القلب مرتاح النفس والبال، يعرف ما الذي له وما الذي عليه. ثم انظر إلى حكمة الشريعة: أنه لو اتفق الطرفان على شيء مجهول لا يستطيع العامل أن يقدر أجرته لأنه لا يعلم مدى العمل المطلوب منه، فهو يقول له: أستأجرك يوماً لتعمل عندي بمائة. فحينئذٍ لا يستطيع أن يعلم هل العمل الذي يطلبه منه يستحق المائة أو لا يستحق، فلربما ظن أن العمل يستحق المائة، فإذا به عمل يستحق المائتين، فإذاً: لا يجوز أن يغرر أحد العاقدين بالعاقد الآخر في شيء محتمل للسلامة وعدمها، أو في شيء محتمل للجودة والرداءة، بل لابد من التحديد. فقوله: (معرفة المنفعة) المنافع عامة، تشمل: سكنى الدار، وركوب الدواب، وغير ذلك. حينما تؤجر سيارة (تاكسي) أو نحوها من أجل الركوب، ونحن نمثل بأشياء معاصرة؛ لأن طلاب العلم إذا ضربت لهم الأمثلة بالدواب وبالأشياء القديمة لا يستطيعون تطبيقها على ما يعيشون، فالمنافع الموجودة والتي يمارسها كثير من الناس اليوم هي: إجارة السيارات للركوب، إجارة الباخرات للركوب، إجارة القاطرات والطائرات، فكلها إجارة؛ لأنك لا تريد شراء الطائرة بنفسها، ولا الباخرة بنفسها ولا القطار بنفسه ولا السيارة بنفسها، وإنما أردت مصلحة معينة ومنفعة معينة تأخذها من هذه العين. فإذاً: لو قال له: أريد منك أن تؤجرني سيارتك. كانت المنفعة معلومة، وهي: تأجير السيارة للركوب. الشرط أن تكون المنفعة معلومة، فلا يصح بمنفعة مجهولة، فلو قال له: أستأجرك على أن تعمل عندي كل شهر بألف. قال: ماذا أعمل عندك؟ قال: أي عمل. فقوله: (أي عمل) منفعة مجهولة، فهل هو عمل بناء أو عمل حدادة أو خياطة أو نجارة أو غير ذلك؟ إذاً: المنفعة مجهولة فلا تصح الإجارة، فلابد من العلم بالمنفعة. قوله: [كسكنى دار]. هذا تمثيل، وينبغي أن ننتبه أن عندنا ترتيباً في الشروط، فأولاً: معرفة المنفعة، وبعد معرفة المنفعة هناك أيضاً شروط في المنفعة نفسها، وبعد ذلك نستطيع أن نحكم هل العقد يصح على هذه المنفعة أو لا يصح، فالعلماء ذكروا المنفعة من أجل أن يحدد طالب العلم الشروط المتعلقة بالمنافع، وعندنا شروط تتعلق بالعاقدين كما بينا. وبدأ رحمه الله بشرط المنفعة؛ لأن الأصل في عقد الإجارة المنفعة، ولذلك إذا سألك سائل: ما الفرق بين البيع والإجارة؟ تقول: البيع ينصب العقد على الذات، والمنفعة تتبعه. فأنت تشتري عين السيارة وذاتها، وتملك ركوبها والانتفاع بها، وتشتري العمارة والأرض لذاتها، وتملك التصرف في منافعها من سكنى ونحو ذلك. أما في الإجارة فإن العقد ينصب على المنفعة، ومن هنا لا يصح أن نقول: عقد الإجارة ينتهي إلى التمليك؛ لأن هذا لا يعرف في الشريعة، إما عقد إجارة واضح بين، وإما عقد تمليك واضح بين، أما أن تقول: عقد إجارة ينتهي بالبيع، فيجمع عقد بين بيع وإجارة فلا يصح، ولابد وأن تحدد: فعقد البيع للذات، والمنفعة تبع، وعقد الإجارة للمنفعة دون الذات، وسنبين هذا ونقرره إن شاء الله ونوضح كلام العلماء رحمهم الله في مثل هذا، إذ لو فتح الباب للتلاعب بالحقائق والمصطلحات الشرعية لأحدث الناس ما لا يحصى من العقود الفاسدة، وتذرعوا وخلطوا؛ لذلك كان العلماء يقولون: إنما يخشى من نصف الفقيه؛ لأنه يضبط شيئاً ولا يحسن تخريجه، فهو يأخذ عقد الإجارة -وهو مشروع- وعقد البيع وهو مشروع؛ فيقول: إذاً يجوز أن تنتهي الإجارة بالبيع، لأن الإجارة مشروعة والبيع مشروع. لكن الله أذن بالإجارة لوحدها، وأذن بالبيع لوحده؛ فإذاً لا يصح أن يركب الشخص شيئاً ثالثاً لا يعرف في الشريعة وهو عقد خليط بين العقدين. فإذاً: لما قال: معرفة المنفعة فمعناه: أن عقد الإجارة منصب على المنافع ولا ينصب على الذوات، وسيقرر هذا في الفصل الثاني إن شاء الله، وسيأتي الكلام على ذلك ونبين لماذا فرق العلماء بين هذين النوعين من العقود. قال رحمه الله: (كسكنى دار). فالعمارة أو البيت إذا أجرت فإنها تؤجر لأغراض متعددة، فيمكن للشخص أن يؤجر العمارة للسكن، ويمكن أن يؤجرها مستودعاً يحفظ فيه أشياءه، ويمكن إذا أجرها للسكن أن يؤجرها لنفسه، ويمكن أن يؤجرها لولده؛ فإذاً لابد من تحديد محل العقد، فمثلاً تقول: أنا أستأجر منك هذه العمارة للسكن؛ لأنه لو استأجرها لوضع متاعه فيها ربما كان ذلك أضر بالعين المؤجرة -يعني: يضر العمارة- فهو إذا جاء يستأجر فإنه لابد أن يقول: أستأجر هذه العمارة للسكنى. فلو أنه استأجرها وسكت، ثم فوجئ مالك العمارة بعد أن أجرها وتم العقد بينهما، أنه قد جاء بأمتعة وأدخلها في العمارة، وجعل العمارة كالمستودع لأغراضه، فقال له مالك العمارة: إنما أجرتك العمارة من أجل السكنى. قال: لا، أنا استأجرت العمارة ودفعت العشرة الآلاف، والعمارة ملك لي. فنقول: هل اتفقتما على أن تؤجر للسكنى أو تؤجر من أجل حفظ المتاع الذي هو الاستيداع؟ قال: ما تكلمنا على شيء. نقول: إذا لم تتكلما على شيء، فهل هناك عرف وبيئة موجودة جعلت مالك العمارة يسكت؟ ففي بعض الأحيان قد تسكت؛ لأن الأمر شائع وذائع بأنك إذا أعطيت العمارة أنها للسكن. فإذا قالوا: نعم، العمائر تؤجر للسكنى. فنقول للمستأجر: قد اعتديت وخرجت عن العرف، وبناء على ذلك: لابد من رضا صاحب العمارة بإجارتها على هذا الوجه، وإلا فسخ العقد بينكما. إذاً: معرفة المنفعة كسكنى دار، لابد أن يقول له: أستأجر منك هذه العمارة للسكنى، وكذلك أيضاً الدكاكين، إذا أجرت هذه الدكاكين، فيقول: أستأجر هذا الدكان من أجل أن أفتح محلاً، أو أستأجرها من أجل أن أحفظ حوائجي فيه، فإذاً: لابد أن يحدد المنفعة، وهذا كما ذكرنا كله من باب فصل الأبواب المفضية للنزاع؛ لأنه ربما استأجر الشخص بطريقة وانتفع بطريقة أخرى، وهذا يضر بأعيان الناس. أي: لو فرض -مثلاً- أنه استأجر سيارة، فقال: أستأجر منك هذه السيارة يوماً بمائة. كما هو موجود الآن في إجارة السيارات، وإجارة السيارات على طريقتين: إما أن يقول لك: خذ هذه السيارة اليوم بمائة، أو خذ هذه السيارة كل مائة كيلومتر بمائة. وكله جائز، سواء جعل العقد عن طريق المسافة أو جعل العقد عن طريق الزمان، مثل العامل حين تقول له: اعمل في بناء هذا الجدار اليوم بمائة. فيجوز إذا قدرت عمله بالزمان، أو تقول له: اعمل في هذا الجدار وأعطيك على كل متر خمسين. فلو أخذ السيارة واستأجرها بمائة ريال يوماً، ثم أخذ السيارة فحمل فيها -مثلاً- أمتعة وحمل فيها أغراضاً شخصية تؤثر على السيارة وتضر بها -والسيارة معدة للركوب- فقال له مالك السيارة: ما هذا؟ قال: أنا استأجرت السيارة، ومن حقي أن أنتفع بها يوماً كما أشاء. نقول: يشترط معرفة المنفعة. إذاً: حينما يحددان المنفعة ينتفي الضرر وتنتفي الخصومة، لكن إذا لم يحددا المنفعة أضر أحدهما بالآخر، وأفضى ذلك إلى خصومة الطرفين، فلابد من معرفة المنفعة. في القديم: سكنى الدار، أما في زماننا: استئجار الفلل والعمائر والشقق والغرف والفنادق، وكل هذا يعتبر آخذاً حكم سكنى الدار. فمسائل الفنادق المعاصرة وإيجار الفنادق تتخرج على ما ذكره العلماء في إجارة وسكنى البيوت؛ لأن المراد بها منفعة السكنى، فجنس المنفعة ونوع المنفعة واحد، وبناءً على ذلك نقول: يجوز أن يستأجر منه العمارة للسكنى، أو يستأجر الدار والفلة للسكنى، أو يستأجر الغرفة مثل الاستراحات في السفر، فلو قال له: أؤجر لك هذه الغرفة لكي تستريح فيها أنت وعائلتك الساعة بعشرة ريال، فهذه إجارة جائزة ومشروعة؛ لأنه حدد المنفعة وهي السكنى، وبناءً على ذلك: إذا حصل الاتفاق بين الطرفين على منفعة معلومة فلا بأس. قال رحمه الله: [وخدمة آدمي]. بعد أن ذكر مثالاً من منافع العقارات، شرع في منافع الحيوان، والحيوان: المراد به الحي، سواء كان من الآدمي أو غيره؛ لأن الله وصف بالحيوان مطلق الحياة فقال: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] يعني: لهي الحياة الحقيقية. أي: يشترط أن تكون المنفعة معلومة كخدمة الآدمي، فتقول لرجل: أستأجرك يوماً بمائة على أن تخدمني أو تخدم وا

الشرط الثاني: معرفة الأجرة

الشرط الثاني: معرفة الأجرة قال رحمه الله: [الثاني: معرفة الأجرة]. من المعلوم أن هناك منفعة وهناك أجرة في مقابل المنفعة، والأجرة مأخوذة من الأجر، وأصل الأجر: العوض عن الشيء، سواء كان عوضاً من الدنيا أو كان عوضاً من الآخرة، ولذلك سمى الله ثواب الآخرة أجراً. وأما بالنسبة للأجرة هنا فالمراد بها: ما يدفع لقاء المنفعة، وهذه الأجرة إما أن تكون من النقدين الذهب أو الفضة، أو تكون من غير النقدين، فيقول له مثلاً: اعمل عندي يوماً بمائة ريال. هذه أجرة بأحد النقدين، أو اعمل عندي شهراً بعشرة جنيهات من الذهب. وقد تكون الأجرة من غير الذهب والفضة، مثل: أن يجعل الأجرة من المنقولات كالأطعمة كما يقول له: اعمل عندي يوماً وأعطيك صاعاً من التمر من نوع كذا وكذا. إذاً: الشرط الثاني: أن تكون الأجرة المدفوعة لقاء المنفعة معلومة، فلا تصح الإجارة على أجرة مجهولة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استأجر أجيراً فليعلمه أجره) أي: ليعلمه ويبين له حقه؛ وذلك ليتحقق العدل، فينظر العامل هل الأجرة التي تدفع لقاء عمله مناسبة أو غير مناسبة، هل يرضى بها أو لا يرضى، وهل تعبه وعرق جبينه وكده ونصبه يستحق هذا الأجر أو لا يستحقه، فإن شاء رضيه وإن شاء طالب بالأكثر. فإذاً: الأجرة لابد وأن تكون معلومة، فمثلما حفظت الشريعة حق المستفيد والآخذ بالمنفعة حفظت أيضاً حق الأجير وحق مالك العين بأن يكون على علم بالثمن والمال المدفوع لقاء المنفعة التي يبذلها. فيشترط أن تكون الأجرة معلومة. فلو قال له: اعمل عندي شهراً وأعطيك أجرة. قال: كم أجرتي؟ قال: أرضيك، فلا يصح؛ لأن (أرضيك) هذه جهالة، فقد يكون رب العمل الذي طلبه بخيلاً شحيحاً، وقد يكون العامل شرهاً طماعاً، فليس هناك قاسم مشترك يمكن من خلاله معرفة الحق، فإذاً: الشريعة لا تجيز هذا. ومن الخطأ ما يقع بعض الأحيان عندما يأتي إنسان ويركب السيارة ويستأجرها دون أن يعلم الأجرة، وفي بعض الأحيان تأتي وتقول له: كم الأجرة؟ يقول: ما يهمك، المال مالك، والحلال حلالك. نقول: هذا لا ينفع، ولذلك كثيراً ما تقع المشاكل بهذا الأسلوب، ويقع الإنسان في نوع من الحرج. وقد يقول لك العامل: ما يهمك، يعني: إن شاء الله أنت كريم وأنت كذا. فإذا جاء يشتغل عندك وأعطيته أجرة مائة ريال التي هي أجرة مثله قال: قد ظلمتني. ثم تقول له: خذ حقك. فيقول: لا آخذ، والشخص الذي يخاف الله قد يُستغل بمثل هذا، فيقول له: لا آخذ منك إلا يوم القيامة. وهو نوع من التلاعب بعواطف الناس وأذية لهم، فهذا يفتح باباً لضعاف النفوس أن يستغلوا الغير، فالشريعة لا تجيز هذا. وهذا يجعلنا نعلم أن هذه الشروط ما جاءت من فراغ، وطالب العلم أو من لا يحسن فهم الشريعة حينما يقرأ هذه الشروط يقول: لماذا تشددون على الناس بقولكم: يشترط يشترط؟ نقول: هذه حقوق، وينبغي أن تعلم ما الذي لك وما الذي عليك، ويدخل الأجير والمستأجر إلى عقد الإجارة على بينة وبصيرة وطمأنينة قلب، فالعامل يعلم ما الذي له وما الذي عليه، ورب العمل يعلم ما الذي له وما الذي عليه {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]، فالآية جاءت تبين أن مقصود الشرع ألا يَظلم العبد ولا يُظلم. فلا يجوز للشخص أن يأتي إلى عقد إجارة مجهولة ويقول له: سنتفق ولن نختلف إن شاء الله، وأنت طيب وكريم. وهكذا العامل إذا جاء قال له: كم ستعطيني؟ يقول: ما يهمك. ويقول: أبشر، إن شاء الله أرضيك. ويستغل ضعفه، فهذا كله لا يجوز. وينبغي على المسلم أن يتفق مع العامل وينظر مدى رضاه، فإنه إذا قال له: سأرضيك. التزم بأن يرضيه والله يعينه، فبعض الناس يرضيه القليل وبعضهم لا يرضيه شيء، وابن آدم لو كان له واديان تمنى الثالث.

حكم الإجارة والرضاع بالطعام والكسوة

حكم الإجارة والرضاع بالطعام والكسوة وقوله: [وتصح في الأجير والظئر بطعامهما وكسوتهما]. (الأجير): هو العامل (والظئر): المرأة المرضعة. وقوله: (بطعامهما وكسوتهما) إذا قال له: اشتغل عندي وأطعمك وأكسوك، أو اشتغل عندي على طعمة بطنك، فلا بأس؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه كان يعمل عند آل صفوان بذلك، وكذلك أيضاً قالوا: إن الطعام له قيمة، أي: لو قال له: اشتغل عندي على أن أطعمك وأكسوك. فإنه في هذه الحالة يطعمه بالمعروف ويكسيه بالمعروف، فله طعام مثله وكسوة مثله، يكون له طعامه بالمعروف وما درج عليه العرف، وعلى هذا: تجوز الإجارة بالمنقولات مثل الأطعمة. ومثل أن يحدد له الأجرة بالمنقولات، فلا تختص بالأطعمة، ويمكن بالكساء، لو قال له: أوصلني إلى الحرم وأعطيك غترتي. فإنه يصح، صحيح أن العرف ما درج بهذا، لكن الشريعة تجيز كل عوض مباح، أي: لا يختص عقد الإجارة بالذهب والفضة، ولا يختص بالطعام ولا بالكساء فقط، وإنما يشمل كل عوض مباح مأذون به شرعاً، فيجوز أن يقول لها: أن ترضع صبيه على أن لها الكسوة، فيكسوها بالمعروف كسوة الشتاء وكسوة الصيف، وهكذا بالنسبة للعامل. لكن إذا كان الطعام غير معلوم وفيه جهالة؛ فإنه لا يصح؛ لأنه لا بد من أن يحدد له نوعية الطعام الذي يطعمه، وبناء على ذلك: لو قال له: اشتغل عندي الشهر بثمانمائة ريال وطعامك علي. فحينئذٍ إذا جاءه بطعام كأن يعطيه -مثلاً- الأرز بدون لحم، يكون قد ظلمه؛ لأن العامل يكون عنده أرزه ويرتفق بإدامه إذا جرى العرف بذلك، فلو جاء له بالأرز وقال له: اصنع طعامك، أو جاءه بطعام خفيف مثل المكسرات ونحوها، وقال له: هذا هو طعامك، فهذا لا يجوز. إذاً: الطعام لابد من تحديده، لا يقول له: أطعمك. ويسكت، بل يحدد ويقول له: أطعمك -مثلاً- كل يوم دجاجاً، أو أطعمك لحماً. فيحدد له حتى يعرف حق العامل، أما إذا لم يحدد وكانت فيه جهالة فإنه لا يصح ذلك حتى يحدد نوعية الطعام، ويكون ذلك بالمعروف دفعاً للضرر عن العامل.

الرجوع إلى العرف في قدر الأجرة

الرجوع إلى العرف في قدر الأجرة وقوله: [وإن دخل حماماً أو سفينة، أو أعطى ثوبه قصاراً أو خياطاً بلا عقد؛ صح بأجرة العادة]. (وإن دخل حماماً) يطلق الحمام في زماننا على مكان قضاء الحاجة، لكن في القديم: الحمام كان موضع الاغتسال، وكانت هذه الحمامات على طريقة معينة ولا تزال توجد إلى زماننا، يسخن فيها الماء ويغتسل فيها، فكانت البيوت ضيقة، وكان الناس يصعب عليهم أن يغتسلوا في بيوتهم فيحتاجون إلى هذا النوع من الأماكن يغتسلون فيه ويتنظفون، وخاصة العمال ونحوهم ممن يصعب عليه وجود مكان يغتسل فيه، فهذا النوع من الأماكن كان يؤجر، فيدخل ويستأجر الحمام، فيحدد له الماء ويحدد له الاغتسال، فهذا النوع من الإجارة صحيح وجائز. كيف تقرر جوازه؟ مثلاً: أمامنا الحمام للاغتسال، فأنت تسأل أولاً: ما هي المنفعة المقصودة من الحمام؟ ف A غسل البدن. السؤال الثاني: هل غسل البدن مأذون به شرعاً أم لا؟ فالجواب: مأذون به شرعاً. ثم تسأل: هل هو منفعة مقصودة أو غير مقصودة؟ فيكون الجواب: إنه منفعة مقصودة يطلبها العقلاء. إذاً: هي جائزة ولا بأس بها. Q المصنف رحمه الله قرر أنه لا تصح الإجارة حتى نعلم الأجرة، فلو أنه دخل الحمام ولم يحدد الأجرة، أو ركب السيارة ولم يحدد الأجرة، أو نحو ذلك من الأعمال، قالوا: يرجع فيها إلى العرف، فحينما تدخل مع الناس في مكان يؤجر وأنت مع الناس كأنك تقول: مثلي مثل الناس، ويكون عليك أجرة مثلهم، فلو كانت إجارة الحمام، الساعة بعشرين ريالاً، ثم جاء يطالبك بخمسة وعشرين ريالاً، فليس من حقه ذلك، ومن حقك أن تقول: لا أدفع إلا العشرين. ولو جاء المستأجر يدفع خمسة عشر وبقية الناس يدفعون عشرين، فليس من حقه ذلك، بل يجب عليك دفع العشرين. إذاً: إذا سكتا عن الأجرة رجع في ذلك إلى العرف، وكان بعض السلف -كما جاء عن ابن سيرين كما ذكره الإمام البخاري - أنه استأجر دابةً من رجل واتفق معه قبل أن يأخذها، فلما مضى حمل له متاعه وأعطاه الأجرة، فجاءه بعد أيام وأخذه إلى نفس العمل ولم يتفق معه، لأنه قد حصل قبل أنهما اتفقا بالأجرة، فسكت رب الدابة؛ لأنه راض بالأجرة المعروفة، فالمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً. فإذاً: إذا سكت الطرفان عن شيء معروف مثل السيارة يركبها أحدهما إلى مكان، وهو يعلم أن أجرته عشرة الريال أو خمسة عشر ريالاً فلا بأس، ولكن -كما قلنا- الأفضل والأكمل أن يكون الشخص على بينة من أمره، فتحدد الأجرة، وذلك أضمن لحق الأجير وأضمن لحق مالك العين. وقوله: [أو سفينة]. وهكذا السفينة، وفي زماننا: القاطرة والطائرة إذا جاء وركبها، مثلاً: في القطار الآن يركب ثم يدفع الأجرة، وفي بعض الأحيان تركب القاطرة أو يركب -مثلاً- الباصات الموجودة في زماننا ثم يطالب بدفع الأجرة -وكانت الأجرة ريالين- فقال: لن أدفع إلا ريالاً. فنقول: ليس من حقك ذلك؛ لأنك ركبت، ولما ركبت رضيت بما تعارف عليه الناس، فالمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً. وقد قرر العلماء رحمهم الله القاعدة الشرعية التي تقول: (العادة محكمة)، والمراد بهذه القاعدة -وهي إحدى القواعد الخمس التي قام عليها فقه الإسلام، ودارت عليها كثير من مسائل الفقه وأحكامه-: أن ما تعارف عليه المسلمون، وأصبح عادة بينهم دون أن يعارض الأصول الشرعية أو يخالف الشرع؛ فإنه يحتكم إليه، فتقدير الأجور وتقدير المستحقات يرجع فيها إلى العرف. ولو سألك سائل: ما هو الدليل الذي يثبت أننا نرجع في تقدير الحق إلى ما تعارف الناس؟ تقول: إن الله تعالى قال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] فجعل حقوق المرأة، والحقوق الواجبة على المرأة، وكذلك الحقوق التي تدفع للمرأة بالمعروف، فرد ذلك إلى العرف، وبناء على ذلك: فإن الحقوق تقدر بما تعارف عليه الناس، وما جرت عليه عادة المسلمين، فالشخص إذا اتفق مع غيره على إجارة شيء أو تأجير نفسه وسكت الطرفان، فإننا ننظر إلى أهل الخبرة، ونسأل أهل السوق والتجارة والمعرفة بهذه الأمور. فلو أن شخصاً ركب سيارة من الموضع الفلاني إلى الموضع الفلاني وسكت الطرفان، فنسأل: كم أجرته؟ يقولون: أجرته -مثلاً- مائة. فنقول: يلزمك أن تدفع المائة. فإذا طالب صاحب السيارة أو العين المؤجرة بأكثر لم يكن من حقه ذلك، ولو أراد المستأجر أن يدفع الأقل لم يكن من حقه ذلك، فيرجع إلى العرف؛ لأن سكتوهما يوجب رد المعاملة إلى الأغلب والأكثر، فما درج عليه الناس في تعاملهم وكان عليه أغلب التعامل فالحكم إليه والمصير إليه. ولو استأجر منه بيتاً أو شقةً ولم يتفقا على الأجرة، ثم اختصما في النهاية، فنسأل أهل الخبرة وأهل العقار، ونقول: كم أجرة الشقة التي تكون بهذه الصفات قالوا: أجرتها عشرة آلاف ريال، فنقول للمستأجر: ادفع عشرة آلاف ريال. ولا يجوز له أن ينقص عنها، ولا يجوز لرب الشقة وصاحبها أن يطالب بالأكثر. وهكذا لو استأجر العامل وعمل عنده وجلس في عمله سنة، وقال له: أعطيك ما يرضيك، وسنتفق لاحقاً، أو لا يكون إلا الخير. أو نحو ذلك من العبارات، فرضي العامل بذلك، نقول لأهل الخبرة: إذا عمل العامل سنة كاملة في سقي الأرض أو رعي الدواب في هذا الموضع وبهذه الطريقة فكم أجرته؟ قالوا: أجرته -مثلاً- عشرون ألفاً. نقول: يجب عليك أن تدفع عشرين ألفاً. وقس على هذا المسائل. وبذلك نكون قد أنصفنا الطرفين، فنحن لم نطالب رب العمل بأكثر مما يجب عليه، ولم نعط العامل أكثر من حقه، ونقول: كون العامل ما طالب بأكثر من العرف، وكون صاحب العمل ما طالب بالأقل، فإن ذلك يوجب البقاء على المعروف والشائع والغالب، وهذا يكون فيما يحتكم فيه من مسائل إلى أهل الخبرة، وهذه المسألة تعتبر من مسائل أهل الخبرة، أي: يرجع فيها إلى أهل الخبرة والنظر. وقوله: [أو أعطى ثوبه قصاراً أو خياطاً بلا عقد صح بأجرة العادة]. مثلاً: لو دفع ثوباً لغسال لكي يغسله، ثم قال الغسال: أعطني عشرين ريالاً. قال: ما أعطيك إلا عشرة. فسألنا أهل الخبرة فقالوا: أجرة غسل هذا الثواب عشرون. فنطالبه بالعشرين ريالاً، ويدفع هذا المبلغ الذي جرى عليه العرف، وهكذا بالنسبة لبقية المسائل. إذاً: المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، فإذا سكت المتعاقدان رجع إلى العرف، وهذا لا ظلم ولا ضرر فيه، لا على رب المال ولا على العامل. لو كان أجرة السيارة في العرف والشائع مائة ريال، ولكن صاحب السيارة قال: أنا لا أؤجرها إلا بألف. نقول: هذا من حقه، أي: لو جاء إلى رب السيارة وقال له: بكم تذهب بي إلى المدينة؟ قال: أنا أوصلك إلى المدينة بألف ريال. قال: رضيت. والأجرة المعروفة مائة ريال، نقول: إذا اتفقتما وتراضيتما على ذلك فيلزمك أن تدفع هذه الأجرة لأنك رضيت بذلك؛ لأن هذا عقد، والله أمر بالوفاء بالعقود، فالشخص قد لا يرضى لنفسه أن يذهب إلى المدينة بمائتين، أو تكون عند صاحب السيارة ظروف أو مصالح، فلو جلس قد يحصل على مائتين ريال بدل أن يسافر ويتعب، فقال له: أنا لا أرضى إلا بثلاثمائة ريال. حتى يضحي بظروفه ويستطيع أن يتحمل مشقة الذهاب ونحو ذلك. وكذلك تقدر الأجرة بالمواسم، فمثلاً: لو كان الذهاب إلى الحرم بعشرين ريالاً، لكن في الأيام الحرجة والضيقة يكون بأربعين ريالاً، وركب معه ثم أعطاه عشرين، فمن حقه أن يطالبه بالأربعين؛ لأن ذلك الوقت في شدة الزحام وشدة المواسم لها أجرة تخصها، فهذا الذي جرى عليه العرف وهذا الذي من حقه، كذلك إجارة الدور والبيوت ونحوها تقدر في المواسم بأجرة مثلها.

الأسئلة

الأسئلة

توضيح لمسألة اشتراط معرفة الأجرة في صحة العقد

توضيح لمسألة اشتراط معرفة الأجرة في صحة العقد Q أشكل علي أن معرفة الأجرة من شروط صحة الإجارة، مع أننا نرجع إلى العرف إذا لم تسم الأجرة، فهل يعني أنه لا يبطل العقد إذا لم تعرف الأجرة؟ A معرفة الأجرة تشمل معرفة الجنس والنوع والقدر، فإذا قال له: استأجرتك على أن أعطيك ذهباً أو أعطيك فضة، أو أرضيك بالريالات، أو أرضيك بالفضة. فيرجع إلى التفصيل بالعرف، وبناء على ذلك: إذا كان هناك عرف يقدر به الشيء فلا شك أنه يجوز، فتصبح مسألة العرف في حال وجود الجنس والنوع والقدر في العرف، وتصبح مسألة الشرطية للصحة كأصل عام. وتوضيح ذلك أكثر كالآتي: الأصل أن الإجارة لا تصح إلا إذا عرفت الأجرة، لكن إذا كان هناك عرف، ومعلوم أنه ليس كل إجارة فيها عرف، فمثلاً: يمكن أن يستأجره في حمل الحديد في موضع لا يحمل فيه الحديد، ويمكن أن يستأجره في عمل لا يوجد هذا العمل وليس له عرف في موضعه، فالإجارة باطلة من حيث الأصل. لكن أجرة المثل تقدر إذا تمت الإجارة وأتم العامل العمل، ثم بعد ذلك طالب بالأجرة؛ فحينئذ تقدر بالمثل، لكن إذا لم يكن لها عرف من حيث الأصل ولم يكن لها تقدير فإن الإجارة باطلة، وبناء على ذلك: لو اتفق معه على إجارة بمجهول فإن العقد باطل. لكن لو أتما هذا العقد الباطل ومضيا فيه وقام العامل بالعمل، فإنه يستحق مالاً ويستحق حقاً، فيقدر بأجرة المثل، وهذا الذي جعل المصنف رحمه الله يخصص سكوت العاقدين، لكن عمم شرط معرفة الأجرة، ولا تعارض بين عام وخاص. أي: ينبغي لطالب العلم أن يعلم أن الأصل عدم صحة الإجارة بالأجرة المجهولة، لكن لو أنه دخل وهناك عرف، فنقول: صحيح أنها لا تصح، لكن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، هذا بالنسبة للأشياء التي فيها عرف شائع، كأن تأتي وتسحب رغيف الخبز وأنت تعلم أن قيمة رغيف الخبز ريال؛ لأنه شاع وذاع، فلا تأتي وتقول: أشتري منكم رغيف الخبز بنصف ريال، أو بعني رغيف الخبز بنصف ريال. لأن هذا درج به العرف وانتهى الأمر، فإذا وجد للشيء عرف وسكتا من أجل هذا العرف فإنه يصح، أما من حيث الأصل فإنه لا يجوز للعاقدين أن يتفقا على إجارة من مجهول، فلو أتم العامل العمل فإنه يقدر بأجرة مثله كما ذكرنا.

من شروط استئجار الظئر

من شروط استئجار الظئر Q هل يشترط عند استئجار الظئر أن تعلم مدة الرضاع ومعرفة عمر الرضيع وموضع الرضاع؟ A لابد من هذا، وسيأتي إن شاء الله في تقدير العمل، وإذا كانت هناك إجارة للمرضعة فإنها تجري على سنن الإجارة، فالمرضعات لهن سنن: أن ترضع الصبي في أول النهار، وترضعه في أوسط النهار، وترضعه في آخر النهار، فهذا أمر درج به العرف، وترضعه إذا احتاج إلى الرضاعة، فهذا أمر فيه عرف، ولذلك يحتكم في تقديره وضبطه إلى العرف، والله تعالى أعلم.

حكم الإجارة على منفعة مجهولة تئول إلى العلم

حكم الإجارة على منفعة مجهولة تئول إلى العلم Q إذا كانت الجهالة في المنفعة تئول إلى العلم، فهل تجوز الإجارة عليها؟ A إذا آلت إلى العلم على وجه لا غرر فيه فلا بأس بذلك، فيجوز أن يستأجر أمراً مجهولاً يئول إلى العلم عند الشروع في العمل أو عند ابتدائه، ويكون ذلك على سبيل الخيار للعامل عند ابتدائه، مثلما يقع الآن، تقول للعامل: عندي عمل في البيت، وأعطيك مائة ريال على أن تعمل هذا العمل. قال: أريد أن أرى هذا العمل. فأخذته إلى البيت ونظر إلى تكسير المحل أو الشيء الذي تريد أن يقوم به، فنظر إلى ذلك وآل الأمر إلى العلم، فلا بأس بذلك، وهكذا إذا كان على سبيل الخيار على الصفة التي ذكرناها في مسألة خيار الرؤية والصفة، والله تعالى أعلم.

وقت إلزام العاقدين بعقد الإجارة

وقت إلزام العاقدين بعقد الإجارة Q هل يلزم عقد الإجارة بمجرد الاتفاق والتفرق من المجلس، أما لابد من استلام العين المؤجرة؟ A عقد الإجارة لازم، ولزومه بالإيجاب والقبول والافتراق عن المجلس على أصح أقوال العلماء، مخرج على خيار المجلس في البيع، وسنذكر هذا إن شاء الله، ولم يخالف في لزوم عقد الإجارة إلا بعض العلماء رحمهم الله وقولهم مرجوح، واحتج جمهور العلماء على لزوم عقد الإجارة بعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فإذا اتفقت مع رجل على استئجار شقة، أو اتفقت مع رجل على أن يعمل عندك وقال لك: رضيت. وحددتما الأجرة وتمت الشروط، ثم قال بعدما أوجب: رجعت عن قولي. فليس من حقه الرجوع، ويلزمه أن يتم الإجارة، إلا في أحوال مستثناة سنبينها إن شاء الله، وهي الأحوال التي يجوز فيها رجوع الأجير، وكذلك رجوع رب العين عن إجارتها، والله تعالى أعلم.

حكم طلب زيادة في الأجرة بعد الاتفاق لظروف طرأت

حكم طلب زيادة في الأجرة بعد الاتفاق لظروف طرأت Q إذا اتفقت مع الراكب بمبلغ معين، ثم حصل هناك تأخير بسبب زحام شديد أو بعد الطريق غير المتوقع، فهل يجوز لي أن أطلب زيادة على الاتفاق؟ A بالنسبة للزحام وما يقع من المشقة هذا ليس من حق صاحب السيارة أن يطالب فيه بالأجرة الزائدة؛ والسبب في ذلك: أنه مما جرى به العادة والعرف أن تكون الشوارع ميسرة وتكون الشوارع مغلقة على حسب أحوال الناس وما جرت به عادة الناس. أما أن يقال: إذا ركب معه ثم وجد زحاماً طالبه بزيادة في الأجرة أو نحو ذلك فهذا لا يجوز، وهذا من غرم المنافع التي يتحمله من ربح الأجرة، فله غنمها وعليه غرمها، وبناءً على ذلك: لو كان الطريق فيه عطل وتأخر، فإنه لا يطالب بأجرة زائدة على أجرته؛ لأنه لم يزد على العمل الذي طلب منه. مثلاً: أنت استأجرته لسبعة أو عشرة كيلومترات، فأوصلك العشرة الكيلومترات، فكونه يتأخر أو لا يتأخر هذا أمر يختلف بحسب اختلاف الأحوال والظروف، ولا علاقة له بالإجارة، ولست بمتحمل لذلك، وهذا شيء ليس بيدك ولا بيده، وبناءً على ذلك: يتحمل هو المسئولية، فكما أن له غنم الإجارة فعليه غرمها. مثلاً: لو أنه اتفق معه على بناء مسكن بمليون، ثم ارتفعت أسعار المواد، فتصبح قيمتها ثلاثة أضعاف، فجاء وقال لك: أنا اتفقت معك والقيمة كذا وكذا. تقول له: لا. نحن اتفقنا على أن تبني، لو أن هذه الأشياء رخصت فليس من حقي أن أطالبك بالنقص، وإذا غلت ليس من حقك أن تطالبني بالزيادة، فلك الغنم وعليك الغرم. وهذا أصل شرعي: أنه يتحمل غرمها كما أنه يأخذ غنمها. فلو أن الأشياء رخصت والعمال رخصت أجرتهم فلا يأتي ويقول له: خذ الزائد. ولا يمكن أن يقاص أحد أحداً بهذا، فالشريعة لو فتحت هذا الباب لحصل بين الناس من الفوضى ما الله به عليم، ولذلك إذا اتفقا على شيء فلا بد أن يتم ما اتفقا عليه، وله غنمه وعليه غرمه، ولا يتحمل بعد ذلك رب العمل ولا العامل ما يقع من الأمور الطارئة، وذلك مثلما يقع في البيع، فإنه قد يشتري العمارة بمليون، وفي اليوم الثاني بعد أن اتفقا وتم البيع تصبح قيمتها عشرة آلاف ريال، ولو اشترى العمارة وقيمتها مليون، وفي اليوم الثاني جاء مشروع بقيمة عشرة ملايين -مثلاً- فليس من حق أحد الطرفين أن يرجع ما دام أنهما قد اتفقا، وكأنهما حينما اتفقا على أن يبني له عمارته بعد سنة أو بعد شهر يكون قد تحمل مسئولية الثمن وتحمل مسئولية الشهر غرماً وغنماً، وهذا التحمل والتبعة والمسئولية متعلق بالطرفين، فكما أن رب المال ملزم، كذلك العامل والمقاول ونحوهما ملزم بإتمام الصفقة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

باب الإجارة [3]

شرح زاد المستقنع - باب الإجارة [3] من شروط صحة عقد الإجارة: الإباحة في المنفعة، فلا يجوز استئجار الأجير ليفعل أمراً محرماً، كما أنه لا يجوز تأجير عقار -كمنزل أو أرض- لمن سيستخدمه في فعل محرم، كبيع الخمور، أو لمن يتخذه كنيسة أو ما شابه ذلك. والمرأة قد حافظ عليها الشرع وأكرمها وحصنها، وجعل نفقتها والقيام عليها مفترضاً على الرجل، وجعل للرجل عليها حقوقاً، فإذا أرادت أن تؤجر نفسها فعليها أن تستأذن زوجها.

من شروط الإجارة

من شروط الإجارة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد تقدم أن الإجارة لا تصح إلا إذا توفرت فيها الشروط الموجبة للحكم بصحتها، وأن هذه الشروط هي: جملة من العلامات والأمارات التي نصبها الشارع للحكم بصحة عقد الإجارة، فهناك علامات وأمارات متى ما وجدت حكمنا بصحة العقد، ومتى ما فقدت أو فقد بعضها حكمنا بفساده وعدم اعتباره. وذكرنا أن هذا النوع من الشروط يسمى بشروط الصحة، وقد ذكر المصنف رحمه الله للإجارة ثلاثة شروط: الشرط الأول: معرفة المنفعة. والشرط الثاني: معرفة الأجرة. وحينما ذكرنا معرفة الأجرة ذكرنا أن الأصل الشرعي يقتضي أنه لا يصح عقد الإجارة إلا إذا كان العامل على علم بمقدار الأجرة المدفوعة له، وكذلك الأجير يعلم قدر العوض الذي يأخذه عن إجارته. ثم ذكرنا أنه يستثنى من هذا الأصل أن يكون هناك عرف يجري بتحديد الثمن، فإذا كان هناك عرف يجري بتحديد الثمن في المركوبات ونحوها، وتعاقد الطرفان على الإجارة، ولم يذكرا الأجرة لأنها معروفة معلومة عند الطرفين فإن هذا مغتفر، لكن الأصل يقتضي أننا لا نحكم بصحة عقد الإجارة إلا إذا كانت الأجرة معلومة عند الطرفين، ذكرنا أن العلة في ذلك والسبب: أنه متى ما كانت الأجرة مجهولة فإن هذا يفضي إلى النزاع وإلى الخلاف بين الطرفين كالحال في البيع، وأن جهالة الثمن في البيع توجب مفسدة الخلاف وهضم الحقوق، كذلك أيضاً الجهالة في الأجرة بين الطرفين، فإنها توجب النزاع والشقاق، وتوجب الظلم أيضاً، فلربما دخل العامل والأجير وهو يظن أنه ينال أجرة كبيرة، فإذا بها أقل مما كان يتوقع، وبناء على ذلك قلنا: لابد من معرفة الأجرة. فلو سأل سائل: ما هو الأصل في الأجرة؟ تقول: أن تكون معلومة ومعروفة القدر، يذكر جنسها وقدرها ونوعها بما تنضبط به في السند والبيع، وأن هذا الأصل إذا فقد في الإجارة فإننا نحكم بفسادها. ولو سألك: ما الذي يستثنى؟ تقول: يستثنى من ذلك أن يكون هناك عرف يحدد الأجرة، كركوب السيارات أو القاطرات أو الطائرات، فعلم أن أجرة التذكرة بخمسين أو بمائة، فلا بأس أن يركب ولا يحدد الأجرة، لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً أو كالمشروط لفظاً، هذا من حيث الأصل. إذاً: في الشرط الثاني عندنا أصل واستثناء، وهذا يلتبس على بعض طلاب العلم، لكن ينبغي أن يعلم أن الأصل: وجوب معرفة الثمن ومعرفة الأجرة، وأن الاستثناء يكون عند وجود عرف يحدد الأجرة، والسكوت عن الأجرة من الطرفين في هذا النوع الخاص من الإجارات لا يؤثر ولا يضر؛ لأنه معلوم بداهة، فهو وإن كان مجهولاً في الظاهر لكنه معلوم من حيث الباطن عند الطرفين.

الشرط الثاني: أن تكون منفعة الإجارة مباحة

الشرط الثاني: أن تكون منفعة الإجارة مباحة قال المصنف رحمه الله: [الثالث: الإباحة في العين]. أي: الإباحة في منفعة العين، فيشترط لصحة الإجارة: أن يكون العقد على منفعة أذن الشرع بها، والمنافع منها ما أذن الله به ومنها ما حرمه الله عز وجل، فلا يجوز أن يبرم عقد الإجارة على أمر حرمه الله عز وجل؛ لأن تصحيح عقد الإجارة يدل على الإذن بهذه المنفعة. فإذاً: لا نحكم بصحة عقد إجارة حتى نعلم ما هي المنفعة التي قام عليها العقد، فإذا علمنا ما هي المنفعة -وهو الشرط الأول- فلابد أن نعلم كذلك هل هذه المنفعة أذن بها الشرع أو لم يأذن، وبناءً على ذلك تنقسم المنافع إلى: مأذون به شرعاً، وغير مأذون به شرعاً. فأما المأذون به شرعاً كالسكنى وركوب الدواب والطب والعلاج ونحو ذلك من الأمور التي أذن الله بها، فمثلاً: يستأجر الطبيب للعلاج. نقول: هذا العلاج مأذون به شرعاً إذا كان بشيء غير محرم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله، فإن الله ما أنزل من داء إلا وأنزل له دواء). كذلك أيضاً: لو استأجر للركوب، نقول: ركوب الدابة مأذون به شرعاً، والسفر إلى مكان مباح للصيد أو النزهة إذا لم تكن على وجه محرم من حيث الأصل مأذون بها شرعاً، والركوب لذاته مباح شرعاً. وهكذا بالنسبة لخياطة الثياب وغسلها وكذلك بالنسبة لسكنى الدور وغير ذلك من المنافع التي أذن الشرع بها، نقول: عقد الإجارة جائز ومأذون به شرعاً. لكن: إذا اشتمل على منفعة محرمة، أو كانت منافع العين لم يأذن بها الشرع؛ فإننا لا نصحح عقد الإجارة، فيشترط لصحة عقد الإجارة أن تكون المنفعة التي من أجلها استأجر الإنسان قد أذن بها الشرع. فهناك أمران: المنفعة، والإباحة. فلو استأجره لضرر ومفسدة؛ لم يجز، ولو قال له: أريد منك أن تهدم دار جاري وأعطيك عشرة آلاف ريال لم يجز؛ لأن هدم الدار إفساد في الأرض، وهو كذلك لا يملكها، بل هو معتد وظالم، فإذا استأجره لذلك فهذه إجارة محرمة، والأجير لا يستحق شيئاً حتى ولو قام بهذا الفعل؛ لأنه فعل لا يأذن به الشرع. ولو استأجره لأمر حرام فيه ضرر بجماعة أو فرد، فهذه إجارة غير مشروعة وباطلة؛ لأن المنفعة لا يأذن بها الشرع، فوجود هذا العقد وعدمه على حد سواء؛ فلا يستحق مطالبته بالأجرة. إذاً: يشترط أن يكون هناك نفع، وأن يكون النفع مأذوناً به شرعاً. قد يكون النفع غير مأذون به شرعاً، فالخمر أخبر الله عز وجل أن فيها منافع وفيها إثماً، وأن إثمها وضررها أكبر من منفعتها، والشريعة تحرم عند غلبة المفاسد أو لاستجماع الشيء للمفاسد، ولذلك يقولون: قد يكون الشيء في ظاهره مصلحة ولكن تحرمه الشريعة لمفسدة أعظم موجودة في الشيء، فالخمر مثلاً في ظاهرها الهزة والنشاط والطرب ونحو ذلك مما يعتري شاربها لكن الأضرار والمفاسد التي تترتب عليها أعظم مما فيها من منافع، حتى ذكر العلماء أن الله تعالى لما حرمها سلبها منافعها فأصبحت من الضرر، إلا أن أهل العلم قالوا: فيها نفع. فالحاصل أن الإجارة إذا كانت على شيء فيه ضرر فإنها لا تجوز، وهي محرمة، ولا يستحق العامل الذي عمل هذا الضرر أجرةً، فلو طالب من قال له: اهدم هذه الدار، بالأجرة التي وعده بها، فإنها سحت وحرام ولا يستحقها. إذاً: لابد وأن تكون المنفعة مأذوناً بها شرعاً. ثم إن الشريعة تجيز المنافع المباحة المقصودة، فخرجت المنافع غير المقصودة، فحينما يستأجره لنفخ الهواء في بالون أو نحوه، نقول: إذا انتفخ الهواء في البالون فما المنفعة! وما المصلحة؟! وهكذا لو استأجره لضرب حديد في بعضه مثل ألعاب الأطفال أو نحوها، فما المصلحة وما الفائدة؟! فإذاً: لابد وأن تكون المنفعة مقصودة؛ حتى يقع عليها الإذن الشرعي والإباحة؛ لأنها لو كانت في ظاهرها منفعة لا مصلحة فيها ولا تقصدها العقول السوية كان بذل المال فيها من إضاعة المال، فالصبي إذا نفخ الهواء أي فائدة يستفيدها؟ وإذا ضرب الحديد ببعضه فأي فائدة يستفيدها؟! وإذا رأى الحديد مرتفعاً أو موضوعاً فأي فائدة يستفيدها؟! إذاً: لابد أن تكون هناك منفعة مأذون بها شرعاً، فإذا كانت المنفعة غير مأذون بها شرعاً فهذا سيفصله المصنف رحمه الله. [الثالث: الإباحة في العين، فلا تصح على نفع محرم كالزنا والزمر والغناء، وجعل داره كنيسة أو لبيع الخمر]. فقوله: [ولا تصح على نفع محرم كالزنا]. كان أهل الجاهلية في جاهليتهم يستأجرون الإماء، وكانت هناك بيوت للدعارة وللبغاء، فحرم الله ذلك، وأنزل آية النور المشهورة {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور:33] فالله عز وجل حرم عليهم أن يؤجروهن من أجل هذه الجريمة وهي: الزنا والعياذ بالله، فنص العلماء رحمهم الله على أنه لا تجوز الإجارة لفعل الزنا، ونصت السنة أيضاً على ما نص عليه الكتاب من التحريم، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه حرم ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن) وقوله: (ومهر البغي): هو ما يعطى للمرأة من أجل أن تزني والعياذ بالله، فلو أنه استأجر امرأة من أجل أن يطأها على وجه محرم فإن المال سحت وحرام، ولا تستحق المرأة هذا المال، بل إنه مال محرم بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، فلو استأجر على فعل الزنا، فهذا نوع من أنواع المنافع المحرمة، وهذا يتعلق بالأفعال.

حكم الإجارة للزمر والغناء

حكم الإجارة للزمر والغناء قال رحمه الله: (والزمر). الزمر النفخ في المزامير، والغناء: يكون بآلات اللهو، وبالنسبة للزمر والغناء فقد حرمهما الله عز وجل؛ ولذلك توعد الله عز وجل أهله فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6] وهذه الآية الكريمة كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يحلف بالله الذي لا إله إلا هو أنه الغناء. وعبد الله بن مسعود قد تلقى القرآن من فم النبي صلى الله عليه وسلم غضاً طرياً كما نزل، وما كان يقرأ عشر آيات حتى يتعلمهن ويعلم حلالهن وحرامهن، وكان أعلم بكتاب الله عز وجل، وكان رضي الله عنه يقول: (ما من آية إلا وأعلم أين نزلت، ومتى نزلت، وفيم نزلت، ولو أعلم رجلاً أعلم بكتاب الله مني تعمل إليه المطي لذهبت إليه). وهذا يدل على عظيم مكانته وجليل منزلته رضي الله عنه وأرضاه في ضبط كتاب الله ومعرفة ما فيه، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن ابن مسعود رضي الله عنه من أئمة الصحابة الذين هم أهل لتسطير كتاب الله عز وجل، وله تفسيراته المشهورة، ف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه فسر هذه الآية، وحلف بالله اليمين المغلظة وقال: (والله الذي لا إله إلا هو، إنه الغناء). ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه: (يأتي في آخر الزمان أقوام يستحلون الحر والحرير والمعازف والقيان، ما هم بمؤمنين، ما هم بمؤمنين، ما هم بمؤمنين) فهذا الوعيد الشديد قد نص العلماء رحمهم الله أن المراد به نفي الإيمان، لكن من اعتقد حل الزنا فإنه كافر بإجماع العلماء؛ لأنه قال: (يستحلون الحر). وأما بالنسبة للمعازف فإذا قال: إنها حلال. متأولاً قول من قال من أهل العلم، وهو قول شاذ وضعيف لبعض المتقدمين، فإن كانت عنده شبهة فتزال عنه هذه الشبهة. وقول عليه الصلاة والسلام: (يستحلون الحر والحرير) يدل على أن الأصل أنه حرام. وأيضاً رتب على هذا الاستحلال قوله: (ما هم بمؤمنين، ما هم بمؤمنين). ومن القواعد والضوابط عند العلماء رحمهم الله: أن كل فعل أو قول رتب عليه عقوبة في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً، أو رتب عليه الوعيد بنفي إيمان أو غضب أو لعنة فإنه يعد من كبائر الذنوب. وهذا الضابط نص عليه جمع من أئمة السلف، وهو قول حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقد اختاره الإمام أحمد في إحدى الروايات عنه، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن حزم رحمة الله على الجميع، فما ورد في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم مقروناً بعقوبة الدنيا أو عقوبة الآخرة أو عقوبتين معاً -أي: عقوبة الدنيا والآخرة- أو فيه وعيد بنفي إيمان أو غضب أو لعنة أو نحو ذلك فإنه يعد من كبائر الذنوب التي توجب تفسيق صاحبها، والعياذ بالله!

حكم الأناشيد الإسلامية وقول الشعر

حكم الأناشيد الإسلامية وقول الشعر الغناء بالمعازف محرم ولكن يستثنى من ذلك التغني على سبيل النشيد، فإن النشيد الذي لا معازف فيه، وهو حكاية الشعر، وتكون تلك الحكاية خالية من المجون والفسق والعهر، فإن هذا أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن به، والأحاديث صحيحة فلا يستطيع المسلم أن يحرف ما ثبت في السنة من جوازه والإذن به، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يبني مسجده -وهو في عمل الطاعة والقربة في تشييد ذلك المسجد- وكان الصحابة يرتجزون بأبيات الشعر: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا إن الألى بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا فكان صلى الله عليه وسلم إذا بلغوا قوله: (أبينا) يقول: (أبينا، أبينا). ويرفع بها صوته. وكذلك دخل عليه الصلاة والسلام مكة ومعه عبد الله بن رواحة آخذ بخطام دابته يقول: خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تأويله ضرباً يزيل الهام عن مقيله فكان يقوله بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وبإقراره. وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان في السفر، وكان أنجشة يحدو الإبل بين يديه، وهو يقر عليه الصلاة والسلام ولا ينكر.

الدعوة إلى الله بالكتاب والسنة لا بالأناشيد

الدعوة إلى الله بالكتاب والسنة لا بالأناشيد هل كان هذا الفعل منهم رضي الله عنهم وأرضاهم من باب الدعوة أم من باب الترويح عن النفس؟ A كان من باب الترويح عن النفس، فالخطأ أن يظن أن نشيد الشعر من وسائل الدعوة، فليس هناك وسيلة للدعوة إلا كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا نص مجمع عليه وليس فيه أي إشكال، لكن لك أن تنشد الشعر من باب دفع السآمة وجلب الترويح عن النفس، أو من باب الاستجمام؛ لأن النفوس ضعيفة، فإذا خفف عنها بالمباح استجمت وقويت. وكان حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في صحن بيت الله الحرام، فإذا كثرت عليه المسائل وكثرت عليه المباحث الفقهية والمسائل والنوازل قال: (روحوا عنا). فيأتي بأغزل بيت في الشعر الذي كان يتحاكاه العرب ويتحدث به، ويظرف مع أصحابه رضي الله عنهم ورحمهم الله، وهذا كله في بيت الله الحرام؛ لكي يبين أن هناك أموراً أذن الشرع بها ولا بأس بها. فهذا من باب الترويح، لكن لا نعتقد أنه لابد أن ندعو بهذا الشيء، أو أن هذا الشيء طريق للدعوة، إنما نقول: يجوز ويباح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يمكنه أن يسكت عن حرام أقر ذلك، وقيل بين يديه فأقره عليه الصلاة والسلام ولم يحرمه ولم يمنعه. لكن الذي ذكره أهل العلم -رحمهم الله- وقرروه: أنه من حيث الأصل يجوز إنشاد الشعر، لكن من يتتبع السنة ويتتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم ويفقه النصوص يجد أن الأحاديث وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإنشاد الشعر في حال السآمة وفي حال الملل، أنشد الشعر بين يديه في السفر أثناء سير الإبل، وهذا يعرفه كل من يعرف الإبل، الإبل لا يمكن أن تسير إلا بحادٍ، وإذا حدا الحادي مشت الإبل وسرت واستجمت، ولذلك كان هذا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال: صلوات الله وسلامه عليه: (رفقاً بالقوارير)، وأنشد الشعر بين يديه صلوات الله وسلامه عليه في بناء المسجد؛ لأن البناء فيه ثقل على النفس، والبناء فيه أثر على النفوس، ولذلك روح النبي صلى الله عليه وسلم بالمباح، وأنشد الشعر بين يديه في حفر الخندق كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام في السير، إذاً: كأن هذا الإنشاد من باب الترويح عن النفس ومن باب الاستجمام. فعندنا أمران: الأمر الأول: ألا ندخله ونقحمه على الدعوة ونقول: هذا الأمر من وسائل دعوتنا. فهذا أمر ينبغي أن يتنبه له الإنسان؛ أن الدعوة لا يمكن أن تكون إلا بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح رضوان الله عليهم ورحمهم الله أجمعين. أما بالنسبة للترويح عن النفس فروح بالمباح ولا حرج في ذلك، وتقول: أفعل هذا من باب الترويح عن نفسي، فقد روح عن نفسه من هو أفضل منا، والإنسان مخلوق ضعيف، فلا بأس أن يروح عن نفسه بالذي أذن الله به وأحله لعباده. لكن الإكثار من هذا الشيء والمواظبة عليه يؤثر على النفس، ويضعف الإيمان في القلب؛ لأن الإنسان إذا أكثر من اللهو المباح فإن هذا يضعف إيمانه، ولذلك يجوز المزح، فإذا أكثر منه ربما أمات قلبه -نسأل الله السلامة والعافية- إنما يأخذ منه بقدر أفدْ طبعكَ المكدوح بالجد تارة بجمٍ وعللهُ بشيءٍ من المزْحِ ولكنْ إِذا أعطيتَهُ المزحَ فليكنْ بمقدارِ ما تعطي الطعامَ من الملحِ فتعطي النفس شيئاً من الاستجمام والراحة في هذه الحدود، إلا أن الشعر الحماسي، وهو الذي يقوي النفوس، ويشحذ الهمم للجهاد، أو يحكي مآثر السلف، أو نحو ذلك مما يقصد به النصرة على الأعداء وإيراث الحماسة في النفوس؛ فإن هذا إذا كان الإنسان يضع هذا الشعر قربة لله سبحانه وتعالى، ويقوله قربة لله عز وجل فإنه يثاب على ذلك؛ لأن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه أنشد الشعر الحماسي في صحن بيت الله الحرام، وأنشده بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم من باب إغاظة الأعداء، فإغاظة أعداء الإسلام مقصودة شرعاً، فمن قصد بذلك إغاظة عدو الله وتربية النفوس على الحماسة وعلى الخير والبر ومآثر الإسلام، فإن ذلك لا شك أن له أثراً على النفوس. ولقد نص الله في كتابه على أن الشعراء يتبعهم الغاوون، ثم استثنى سبحانه وتعالى فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227] فانظر إلى قوله: (يتبعهم الغاوون إلا الذين آمنوا) أي: أنهم إذا كانوا من أهل الإيمان فقالوا الشعر نصرةً للإسلام اتبعهم المهتدون ولا يتبعهم الغاوون، ومن هنا: نص النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه كعب بن مالك وحسان بن ثابت وقالا: إن الله أنزل في الشعر ما أنزل، فاستثناهما النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل فيهما قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:227]. فإذاً: لابد لطالب العلم أن يعلم أن التحليل والتحريم يحتاج إلى نص، وأن النصوص إذا أسفرت واتضحت بجواز شيء لا يستطيع المسلم أن يتحمل بين يدي الله مسئولية تحريم ذلك الشيء، وأن النصوص إذا حرمت شيئاً لا يستطيع أحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتقحم نار الله على بصيرة فيحلل للناس ما حرم الله عليهم. فإذاً: قد وردت النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على إباحة الشعر المأذون به شرعاً، وجاءت السنة الصحيحة تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنشاد، ووقع بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فأقره، فنجد ذلك من باب المباح المأذون به شرعاً، وأما بالنسبة للتوسع فيه فنقول: توسع في المباح، ما لم يكن يراد به إيراث الحماس الذي يقصد منه إلهاب النفوس على طاعة الله وتقويتها وتشجيعها على الخير، فذلك النص فيه واضح وظاهر. وبهذا يقول المصنف: (والغناء) أي: إذا استأجره من أجل الغناء فيشمل ذلك حالتين: الحالة الأولى: أن يكون بآلات اللهو فهذا محرم، وبإجماع العلماء أنه لا تجوز الإجارة على غناء محرم. والحالة الثانية: أن يكون بدون آلات ولكن يكون إنشاد شعر، فإذا جاء بالشاعر أو بمن يقول الشعر واشتمل شعره على مفسدة محرمة كالإغراء بالحرام، ووصف امرأة معينة أو نحو ذلك مما حرم الله عز وجل، أو يتناشد الشاعران كل منهما يسب الآخر ويشتمه ويعيبه وينتقص من قومه ويحط من قدرهم، فذلك مما حرم الله، ولا تجوز الإجارة على هذا الوجه. أما لو جاء بالمرأة من أجل أن تضرب الدف في زواج وعرس وتقول المباح الذي أذن الله به، فإن هذا لا بأس به وهو جائز، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على جواز الإجارة على المنافع المباحة، وإذا جئت تقرر هذه المسألة فإنك تقول: لما كان ضرب الدف في الزواج مباحاً شرعاً، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إليه وحث عليه، ولم يستطع الإنسان أن يجد من يضرب له الدف إلا بمال، وأراد أن يستأجر، فلا بأس أن يستأجر المرأة من أجل أن تزف المرأة في حال زواجها، أو من أجل أن تضرب الدف فذلك مما أذن الله به، وكل منفعة مباحة أذن الله عز وجل بها ورسوله عليه الصلاة والسلام تجوز الإجارة عليها ما لم يقم الدليل على استثنائها.

حكم الاستئجار لفعل محرم

حكم الاستئجار لفعل محرم وقوله: [وجعل داره كنيسة]. قد بين المصنف رحمه الله أن استئجار الشخص للأفعال المحرمة كالزنا والزمر، وللأقوال المحرمة كالغناء لا يجوز، ويدخل في الأقوال المحرمة: النياحة، فلو استأجر امرأة من أجل أن تنوح على ميت فإنه لا يجوز، وتعتبر الإجارة فاسدة. وكذلك الأفعال، كما إذا استأجر شخصاً على فعل محرم، ومن الأمثلة المعاصرة على ذلك: لو استأجر طبيباً أن يقوم بعملية جراحية، وهذه العملية الجراحية لا يأذن بها الشرع؛ إما لكون ضررها أكبر من نفعها، أو لكونها تعارض مقصود الشرع، فإذا كان ضررها أكبر من نفعها، مثال ذلك: العمليات الجراحية التي تكون نسبة النجاح فيها ضئيلة جداً، فلو قال للطبيب: اعمل لي هذه العملية. مع غلبة ظن الطبيب أن هذه العملية ستفضي به إلى الهلاك أو تفضي إلى تلف عضو، أو أنها تضر به وبصحته؛ فلا يجوز للطبيب أن يقدم عليها، فلو أن المريض أغرى الطبيب بالمال وقال له: افعل لي هذه الجراحة، أو افعل بي هذا النوع من التداوي وفعله؛ فإنها إجارة فاسدة؛ لأنه خرج عن أصول المهنة، وأصول المهنة لا توجب الإذن للطبيب بالقيام بمثل هذا النوع من الأعمال الطبية، فصار أمراً محرماً متمحضاً في الضرر، أي: أن الضرر فيه واضح. كذلك لو استأجره لعمل جراحي دون وجود موجب، مثل قطع الإصبع الزائد دون وجود ألم ودون وجود ضرر، فإن أي عضو في الإنسان إذا لم يكن فيه أذى أو لم يكن فيه ضرر فإنه لا يجوز قطعه ولا إبانته من الجسد؛ لأنها خلقة الله عز وجل، ولا يجوز التدخل بجسد الآدمي بزيادة شيء أو نقص شيء إلا إذا أذن الشرع به، فلو قطع منه هذا العضو فإنه حينئذٍ يعتبر آثماً شرعاً والإجارة فاسدة. ولو قال له: أخرج -مثلاً- (اللوزتين) الموجودة الآن، والأطباء وأهل الخبرة يقولون: إن هذا العضو الموجود في الجسد -وهي اللوز - جعله الله عز وجل حماية للجسم، فينفي -بقدر الله- السموم عن البدن، حتى قال بعض الباحثين الكبار في مجال الطب: لو يعلم الناس ما في هذا العضو من النعمة والخير -وهو رجل كافر- وحفظ البدن من الكثير من السموم والأضرار التي تنزل بهم ما أقدم أحد على إخراجه. فلو أنه فعل ذلك -ويسمونها الجراحة الوقائية- فاستخرج اللوزتين بدون التهاب لم يجز، أما إذا التهبت اللوز وأصبح هناك ضرر من تقيحها وإضرارها بالقلب أو الجسد فلا بأس، لكن إذا لم يكن هناك ضرر وفعل ذلك من باب الوقاية -كما تسمى: الجراحة الوقائية- فنقول: لا يجوز؛ لأنه ليس هناك إذن شرعي بفعل هذا النوع من الجراحة. كذلك: جراحة التجميل، لو استأجره من أجل أن يجمله فيصغر شيئاً كبره الله، أو يكبر شيئاً صغره الله عز وجل، أو جراحة تغيير الجنس، واستأجره بمبلغ من أجل أن يقوم بهذا النوع من الجراحات، فكل ذلك محرم؛ لأن المنفعة غير مأذون بها شرعاً. إذاً: المراد من هذا كله: أن على طالب العلم أن يبحث أول شيء: هل المطلوب من عقد الإجارة مأذون به شرعاً أم لا، فإن كانت منفعة أذن بها الشرع وأجازها فعقد الإجارة عليها حلال، وإن كانت منفعة حرمها الشرع فلا تجوز الإجارة عليها. وقوله: (وجعل داره كنيسة) أي: استأجر منه بيته من أجل أن يكون كنيسة، وهذا يقع في المواطن التي يكون فيها أهل الكتاب، وقد بينا في باب عقد الجزية وأحكام الهدنة والصلح أنه لا يجوز استحداث الكنائس في بلاد المسلمين ولا بناؤها ولا تشييدها، وذكرنا هذا وبينا الأدلة على ذلك، وبينا كلام العلماء رحمة الله عليهم. فإذا استأجر منه الدار لكي يجعلها كنيسة فلا يجوز؛ لأنه لا يجوز استحداث ذلك وإنشاؤه في بلد مسلم، فإذا فعل ذلك فإن الإجارة فاسدة. نحن نبهنا غير مرة أن العلماء يذكرون الأمثلة للتنويه، فهو ذكر الأفعال، وذكر إجارة الآدمي للمحرم، إما بفعل، فذكر الزنا والزمر وهو النفخ بالمزمار، وإما بقول مثل الغناء، فذكر الأمرين المتعلقين بالآدمي؛ ثم ذكر إجارة الدور والعقار كدار يستأجرها من أجل أن تكون كنيسة، فتقيس على أمثاله، فجميع الأمور التي يستأجر فيها من أجل المنافع المحرمة أو المفاسد المحرمة فإن الإجارة فاسدة. وهنا مسألة في قوله: (وجعل داره كنيسة) في حكم التأجير لأي شيء يضر بالعقيدة أو يكون من البدعة والحدث في الدين، فإذا علم أنه يريد أن يفعل هذا الشيء وهو محرم حدث أو لا يجوز شرعاً؛ فإنه لا يجوز أن يعينه على فعل ذلك الشيء ولا أن يمكنه منه؛ لأن القاعدة: أن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها، فما كان وسيلة لمحرم فهو محرم، وما كان وسيلة لمباح فهو مباح. وقوله: [أو لبيع الخمر]. أي: أو يستأجره لبيع الخمر، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من باع الخمر، ومن حملها ومن حملت إليه، ومن أكل ثمنها، ومن اشتراها وعاصرها ومعتصرها، وساقيها ومسقاها. كل هؤلاء لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح، فلا يجوز أن يؤجر نفسه لحمل الخمر أو لصنع الخمر، وفي حكم الخمر المخدرات، فلا يجوز أن يؤجر نفسه لحملها أو لتصنيعها أو ترويجها، فكل ذلك من الإجارات المحرمة.

حكم إجارة حائط لوضع أطراف خشبة عليه

حكم إجارة حائط لوضع أطراف خشبة عليه قال رحمه الله: [وتصح إجارة حائط لوضع أطراف خشبه عليه]. صورة المسألة: أن يكون لك جار وعندك بناء بجوار جدار الجار، وهذا البناء يحتاج إلى تسقيف، فإذا أردت أن تشيد جداراً ربما كلفك وأضر بك، وأنت تريد هذا المكان مؤقتاً لمصلحة من مصالحك، فقلت لجارك: أريد منك هذا الجدار أضع عليه خشبة. ثبت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبه في جداره) ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكنافكم، وفي رواية: لأرمين بها بين أكتافكم). (ما لي أراكم عنها معرضين) أي: عن هذه السنة المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، و (معرضين) أي: لا تقبلونها، ولذلك قيل: إنه أراد أن يضع خشب داره على جداره فامتنع، فحكى له هذه السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين له هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الجار لا يمنع جاره، فإذا أراد جارك أن يضع سقفه على بيتك أو على جدار بيتك، أو كانت الحيطان في المزارع يوضع عليها شيء من خشب الجار لغرفة أو غيرها، شريطة: ألا يضر بالجار، فإذا حصل الضرر حق لك أن تمتنع؛ لأن الشريعة لا تأذن بالضرر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار) ومن قواعد الشريعة: الضرر يزال. فلا ضرر ولا ضرار، والشريعة لا تأذن للجار أن يضر جاره. فجواز وضع الخشب على جدار الجار مشروط بألا يكون هناك ضرر، فإذا كان الجدار لا يتحمل الخشب، وغلب على ظنك أنه لو وضع خشبه أن ذلك يضر بجدارك فلك حق من الامتناع. فإذا ثبت في السنة الإذن للجار بوضع الخشب على جدارك فمعنى ذلك: أن وضع الخشب على جدار الجار مأذون به شرعاً، ومنفعة الاستظلال بهذا السقف مأذون بها شرعاً، فإذا ثبت هذا فإننا نقول: تجوز الإجارة على ذلك. فإذا سأل سائل: كيف تتم الإجارة؟ ف A يحدد عدد الخشب والمدة التي يريد أن يستفيد منها، يقول مثلاً: أستأجر منك هذا الجدار وأضع عليه عشرة من الخشب من نوع كذا وكذا، وذلك مدة عام بألف ريال أو بخمسمائة ريال. فتكون إجارة مشروعة بقول جمهور العلماء خلافاً للإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه.

حكم عمل المرأة بدون إذن زوجها

حكم عمل المرأة بدون إذن زوجها وقوله: [ولا تؤجر المرأة نفسها بغير إذن زوجها]. كل مسألة يرجع فيها إلى الأصل، ومن أراد أن يلم بأحكام الشريعة ويضبطها فعليه في كل مسألة أن يسأل عن أصلها، فإذا أخذ المسائل من الأصول وعرف ما إذا كانت المسألة أصلاً برأسها أو كانت جارية على أصل -أي أنها فرع لغيرها- أو مستثناة من الأصل؛ استطاع أن يعرف الأحكام وأن يعرف مواطن الأقيسة، ويعرف مقاصد الشريعة في الأقيسة، واستطاع كذلك أن يلم بكثير من المسائل والأحكام التي ذكرها العلماء رحمهم الله، كما أنه يستطيع -بإذن الله- أن يعرف كيف يقيس المسائل الجديدة والنازلة. فمسألة إجارة المرأة أو عملها من حيث الأصل: المرأة خلقها الله عز وجل سكناً للرجل، والنصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم واضحة الدلالة على أن من حكمة الله سبحانه وتعالى وعلمه أن جعل المرأة سكناً وتشريفاً وتكريماً للرجل، فجعل الرجل هو المخلوق الأول الذي خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، ثم خلق المرأة من ضلعه. وهذا يدل على أنها تبع للرجل، وأنه لا يمكن أن تستقيم مصالح هذا الكون إلا إذا قامت المرأة برسالتها وواجبها، وذلك برعاية حق بعلها وزوجها، وهذه هي الفطرة، ولن تجد امرأة تسير على فطرة الله التي فطرها الله عليها إلا استقامت أمورها، ولكن إذا خرجت المرأة عن هذه الفطرة عذبت نفسها وعذبت غيرها. ولذلك لن تجد المرأة أعدل ولا أحكم من دين الله عز وجل الذي أعطاها حقها وقدرها ولم ينقصها شيئاً، فإن الولد تابع لوالده، وقد يفضله الله عز وجل بصلاحه وتقواه، ويكون خيراً من والده الذي كان سبباً في وجوده. فإذاً: قولنا: إن المرأة تبع للرجل؛ لا ينقص من قدر المرأة إذا هي اتقت ربها وعرفت حقها وحق بعلها، وقامت برسالتها على أتم الوجوه وأكملها، وهذا أمر واضح، ومن يتتبع نصوص الكتاب والسنة يجده جلياً واضحاً، فإذا كانت المرأة تنظر إلى الفطرة وجدت أن الله سبحانه وتعالى حمل الرجل أن ينفق ويقوم عليها، فحمله النفقة، وجعل المسئوليات والتبعات على الرجل، وهذا يدل على أن رسالتها في بيتها، وأنها إذا قامت بهذه الرسالة وحفظت هذه الأمانة ورعتها حق رعايتها، فإن الأمور ومصالح العباد تستقيم على أتم الوجوه وأكملها. لكن إذا خرجت المرأة عن هذه السنن، وقالت: ليس هناك فرق بيني وبين الرجل، حصل الخلل. الله تعالى يقول: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36] وهي تقول: إني مثل الذكر، وأنا والذكر سواء. والله عز وجل يقول: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] وفرق بين الذكر والأنثى، وهي تقول: الذكر والأنثى سواء. ودين الله وشرع الله في أحكامه وتشريعاته واضح الدلالة، فإنه جعل أمور الزوجية ومقاليدها بيد الرجل، من مهر وعقد وطلاق وغيره، وكل ذلك لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى. وقد كانت الأمة الإسلامية في أوج عظمتها وعزها وكرامتها، وقد قادت جحافلها حتى فتحت مشارق الأرض ومغاربها، وقادت تلك القلوب التي صقلتها روحانية الكتاب والسنة، فقادت العالم من مشرق الأرض إلى مغربها، وما تعطلت يوماً من الأيام عن الوفاء بمصالحها.

المرأة خلقت سكنا للزوج

المرأة خلقت سكناً للزوج لما كانت المرأة تقوم على بيت زوجها، وكان الرجل قائماً بمصالحه خارج بيته، وكان النساء في مكانهن، والرجال في مكانهم، وكل يعرف حق الآخر وقدره وفضله؛ استقامت أمور الأمة ولم تستقم إلا بهذا؛ لأنه الموافق للفطرة. فإذا جاءت المرأة وقالت: لابد أن أعمل، ولابد أن أخرج، وجعلت ذلك فريضة واعتقدت أن المرأة لا يمكن أن تكون امرأة إلا إذا كانت كالرجل، وكانت -كما يقولون- نصف المجتمع، وهذه عبارة فيها مغالطة. وفي الواقع أنه لا شك أن المرأة لها رسالتها ولها مكانتها ولها حقوقها ولها فضلها ولها مكانتها، لكن بشرط: ألا تخرج عن فطرة الله التي فطرها عليها: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] فأمرها بأن تقر في قرارها، وأن تلزم بيتها؛ لأن الله حملها بيت الزوجية وحملها أبناءها وبناتها، وإذا لم يكن لها أبناء وبنات فالرجل محتاج إلى دفئها وحنانها وسكنها؛ لأن الله قال: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189] أي: خلق من هذه النفس زوجها، ثم علل هذا الذي خلق سبحانه -وهو أعلم وأحكم- فقال: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189] فالمرأة سكن للرجل، فإن خرجت من بيتها فأين يسكن الرجل؟ فمن حيث الأصل المرأة عملها في بيتها، ورسالتها في بيتها، وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح لهذه الأمة، والأمر الذي لا شك فيه ولا مرية. لكن لو أن المرأة احتاجت للعمل، أو أرادت أن تعمل لأيتام عندها، أو تطلب الرزق المباح أو العمل المباح فلا بأس بذلك، لكن لو كانت متزوجة أو عندها زوجها فلا تعمل إلا بإذنه، فإن أذن لها زوجها فإنها تعمل ولا بأس بذلك، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حينما أذن للمرأة أن تحز نخلها فتنتفع وتنفع غيرها، فلا بأس أن تعمل، بشرط: أن يكون عملها بعيداً عن الرجال، بعيداً عن فتنتها في دينها، وفيه المحافظة على حقوق أولادها، وغير ذلك من الشروط التي يتحقق بها مقصود الشرع. فالحاصل أن المرأة من حيث الأصل خلقها الله عز وجل سكناً للرجل بنص كتاب الله عز وجل، وأن الأصل أن تقر في بيتها كما قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] وإذا ثبت هذا فإنه يجوز لها أن تخرج عن هذا الأصل في حدود المصالح، فإن ترتب على خروجها مصلحة فلا بأس أن تخرج وتحقق هذه المصالح. وإذا أرادت سعادتها وسعادة دينها ودنياها وآخرتها فطمعت بما آتاها الله، ورضيت بقسمة الله، ولزمت بيتها، وحنت على أولادها، وخافت من الله عز وجل فيهم، وتفكرت واعتبرت، وتدبرت ونظرت أن لو كانت مكان هذه الطفلة وهذا الطفل، هل ترضى أن تغيب عنها أمها وتتعذب بغيابها، من دون وجود حاجة لغياب الأم؛ لعلمت عند ذلك أن الخير كل الخير أن تحفظ وأن ترحم صغيرها، وأن تقوم على حقه ورعايته على الوجه الذي يرضي الله عز وجل، هذا من حيث الأصل. فإذا أرادت أن تعمل وكان عندها بعل فعليها أن تستأذنه، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -في الحديث الصحيح-: (إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فليأذن لها) وقال كما في الصحيح: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) فدل على أن المرأة لا يجوز لها الخروج إلا بإذن زوجها؛ ولأن عملها قد يضر بمصلحة الزوج، وقد يكون في ساعات يحتاج الزوج فيها إلى إعفاف نفسه، وقد يكون في ساعات يحتاج فيها زوجها إلى القيام برعايته ونحو ذلك. فإذا تزوج وعندها عمل، فإنه إذا أراد أن يبقيها في عملها أبقاها، وإذا أراد أن ينظر إلى الأصلح ويقول لها: اجلسي في بيتك وأقوم على نفقتك، فلا بأس بذلك. كل هذا إذا كانت المرأة قد قام الرجل بحقوقها، أما لو ضيع الرجل حقوقها، ومنعها من نفقتها، وأصبحت عرضة هي وأولادها للضياع، فمن حقها أن تطلب الرزق لها ولأولادها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن -كما في الحديث الصحيح- للمرأة أن تخرج وتجد نخلها حتى في عدتها، وهذا يدل على أنه إذا وجدت الحاجة لعملها فلا بأس ولا مانع، خاصة إذا كان عملها فيه خير ونفع للمسلمين كتعليم بناتهم، وخاصة إذا كانت امرأة صالحة وأرادت أن تعلم أو توجه أو يكون في عملها منفعة ومصلحة أو نحو ذلك من الأمور التي فيها خير لها ولغيرها. إذاً: الأصل في المرأة أن عملها ورسالتها في بيتها، وأن عليها أن تلزم قرارها، وأنه لا بأس بخروجها إذا وجدت مصلحة، ولكن إذا أذن لها زوجها في ذلك أو احتاجت، فإذا أذن لها زوجها أو احتاجت فلا بأس أن تخرج وتعمل بما فيه خير لها ولأولادها أو لها ولغيرها.

القوامة للرجال على النساء

القوامة للرجال على النساء فقوله: [ولا تؤجر المرأة نفسها بغير إذن زوجها]. لا تؤجر نفسها لخدمة أو عمل أو نحو ذلك إلا بإذن زوجها، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] فمما جعله الله عز وجل على الرجل أنه يقوم على أمر امرأته. فعلى الزوج أن ينتبه؛ لأن الزوج راع ومسئول عن رعيته، والمرأة من رعيته، فإذا نظر أن المصلحة في خروجها للعمل أذن لها وأعانها، وخاصة في هذا الزمان، فكم من صالحة ينفع الله بخروجها للتعليم أو التوجيه أو نحو ذلك مما فيه خير لها وللأمة! ولا ينبغي للرجال أن يجحفوا بحقوق النساء أو يظلموهن أو يضيقوا عليهن، وإذا رأى أن الخير لها أن تمتنع فأوصي المرأة أن تحمد الله عز وجل، وأن تطيع زوجها، فوالله الذي لا إله إلا هو! ما من امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسمع وتطيع لبعلها إيماناً بالله -وخاصة إذا وجدت منه غيرة وحب الخير لها- واحتساباً للثواب عند الله عز وجل إلا أقر الله عينها في الدنيا والآخرة. وعليها أن تسلم وترضى، وألا تتعالى على حكم الله عز وجل، بل ترضى بذلك وتقنع به بنفس مطمئنة، فمن رضي فله الرضا، والله عز وجل قد وعد من سمع وأطاع بالفلاح والفوز، وهذا شامل لفلاح الدين والدنيا والآخرة، وفوز الدين والدنيا والآخرة، وعلى المرأة أن تنظر في حالها، فإنه ما من ساعة وما من يوم يمر عليها وهي تسمع لزوجها وتطيع بالمعروف إلا وجدت في سمعها وطاعتها له من الخير ما الله به عليم! وكم من الحوادث والقصص رأيناها في النساء الصالحات اللاتي أمرهن أزواجهن فأتمرن، ونهاهن أزواجهن فانتهين؛ فجعل الله لهن في ذلك الأمر والنهي من الخير ما الله به عليم! وكم من فتنة تنتظر المرأة في خروجها، فيسلط الله زوجها فيمنعها من الخروج، فإذا اتقت حبسها الله عن فتنة ربما لو أنها خرجت لضلت وأضلت، ولكن الله لطف بها بالسمع والطاعة، وهذا مجرب، ولذلك كان بعض المشايخ رحمة الله عليهم يقول: ما رأيت مثل أمرين في الأمر والنهي من عصيان الأمر والنهي فيهما: أما الأمر الأول: فالوالدين. وأما الأمر الثاني: ففي الزوجة مع زوجها. فقل أن تجد ابناً باراً أو بنتاً بارة بأبيها أو أمها، فتؤمر بشيء أو تنهى عن شيء من والديها إلا جعل الله لها العاقبة، إن عاجلاً أو آجلاً، وقل أن تجد امرأة يأمرها زوجها أو ينهاها وتسمع وتطيع في غير معصية الله عز وجل إلا جعل الله لها العاقبة في دينها ودنياها وآخرتها، فالمرأة ينبغي أن تتلقى ذلك بالصدر الرحب وبالنفس المطمئنة. ومن أفضل ما كان يوصى في مثل هذا: أن يحسن الظن، فلا تنظر المرأة إلى أن هذا استبداد من الرجل، بل عليها أن تفسره بأنه غيرة ومحبة، والرجل الكامل الغيور إذا غار على مصلحة امرأته فلا يلام على ذلك؛ لأن هذا من كمال رجولته، ومن كمال مكانة المرأة في قلب زوجها. فالمقصود: أنه ينظر في الأصل نحو الأفضل، فإذا اتقى الزوج ربه فمنع أو أمر فإنه إذا أصاب كان له الأجران، وإذا أخطأ كان له الأجر الواحد.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تأجير بيت لكافر يسكن فيه

حكم تأجير بيت لكافر يسكن فيه Q هل يجوز تأجير الدور للنصارى إذا أرادوها سكناً لهم؟ A تجوز إجارة الدار للذمي والكافر في بلاد المسلمين إذا أذن له، وهذا مبني على الأصل الشرعي: أنه يجوز إذا كان مأذوناً له، كالذمي -مثلاً- له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، فإذا عاش بين المسلمين وأجر له الدار ليسكنها فلا بأس، ولذلك القاعدة الشرعية تقول: الإذن بالشيء إذن بلازمه. فإذا قلنا: إن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، فإن من لازم الإذن لهم أن يسكنوا، ومن لازم كونهم يعيشون بين المسلمين في ذمتهم: أن يحققوا مصالحهم من السكن والمأوى، فلا بأس بإجارته، وإذا استأجر فإنها إجارة شرعية إذا كانت للسكن. وهناك فرق: أن المعابد شعار، وهذا من ناحية عقدية، فالكنيسة شعار لهم وبيت لعبادة، ولا يجوز تأجير البيوت لكنيسة ولا لبيت نار كما نص العلماء رحمهم الله على ذلك، والله تعالى أعلم.

حكم تأجير الكتب للقراءة

حكم تأجير الكتب للقراءة Q هل يصح أن أؤجر كتاباً ليقرأ، أو مكتبة يقرأ فيها الكتب وأنتفع بتأجيرها؟ A هذه مسألة خلافية بين العلماء، فبعض العلماء يقول: لا تجوز إجارة الكتاب، والسبب في ذلك: أن العلم الذي داخل الكتاب ليس ملكاً لصاحبه، والإجارة تكون لشيء تملكه، والآيات والنصوص والمعاني والأحكام المستفادة من الشريعة لا تملك، لكن لو كان علوم دنيوية، وأراد أن يدخل مكتبة من أجل أن يقرأ فيها، وقيل له: كل ساعة في المكتبة بعشرة ريال. فهذا يجوز، فتكون المنفعة منفعة الاطلاع، وهذه المنفعة مباحة شرعاً إذا كان الاطلاع في علوم وفنون ودراسات يستفاد منها، فلا بأس في ذلك ولا حرج فيه. وقال بعض العلماء: يجوز إجارة الكتاب من أجل القراءة فيها، فيدخل الرجل المكتبة ويستأجر بالساعات، فيمكث فيها ما شاء الله أن يمكث، كل ساعة أو كل يوم -واليوم مثلاً بالساعات المعينة- فيحدد له وتحدد الكتب التي يطالع فيها، ويقال: هذه مكتبة، وتكون الإجارة للأعيان، فهذا لا بأس به في قول طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم، والله تعالى أعلم.

مسألة في اشتراط معرفة الأجرة

مسألة في اشتراط معرفة الأجرة Q في اشتراط معرفة الأجرة، أشكل عليَّ ما صح عن علي رضي الله عنه أنه أجر نفسه بأن كل دلو بتمرة، فهو لم يعلم كم دلو سيخرج، أم أن هذا سيئول إلى العلم؟ A قضية استئجار علي رضي الله عنه لنزح الدلو من البئر كل دلو بتمرة هذا الحديث ليس فيه إشكال؛ لأن الأجرة التمرة، وكل دلو بتمرة، فالأجرة معلومة والمنفعة معلومة. أما غاية العدد ونهاية العدد فقد رخص فيه العلماء؛ لأن الأجرة معلومة والمنفعة معلومة، وليس هذا من جهالة الثمن في شيء، بإجماع العلماء. الثمن: هو التمرة، والمثمن والمنفعة التي عوض عليها أو استأجر عليها: نزح الدلو، ولذلك قالوا: لو قال له: انزح البئر وكل دلو بريال، أو كل دلو بدرهم، فلا بأس، هذا من النقد، أو قال له: كل دلو بصاع، فهذا جائز أيضاً؛ لأن الأجرة معلومة والمنفعة معلومة، أما غاية ونهاية ما ينزحه فهذا لا يؤثر؛ لأن الأجزاء إذا علمت تكون مؤقتة بأجزائها، فكل دلو ينزحه يستحق الأجرة، ثم بعد نهاية كل دلو إن شاء يتم ويتفقا على الإتمام أتم، وإن شاء أن يوقف أحد الطرفين الآخر فعل، فأصبح قوله: كل دلو بتمرة مما علمت أجرته وعلمت منفعته، والله تعالى أعلم.

حكم الاستشهاد بالشعر في خطبة الجمعة

حكم الاستشهاد بالشعر في خطبة الجمعة Q هل الاستشهاد بالشعر في خطبة الجمعة أمر محمود؟ A الشعر إذا كان فيه طاعة وذكر لله عز وجل فهو حكمة، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن من الشعر لحكمة) فالشعر الذي يكون مشتملاً على الأمر بالخير والنهي عن الشر فإنه لا بأس به، ولا حرج في ذلك؛ لأن الخطبة مدارها على الحكمة، والدين كله مداره على الحكمة، فإذا اشتملت الأبيات من الشعر على موعظة، وكان لها أثر في النفوس، وكانت عظيمة الوقع في القلوب فلا بأس، وقد ذكر بعض العلماء والأئمة أن الخطيب قد يحتاج إلى ذلك من باب التنويع، فإنه ربما وعظ الناس بأسلوب فملوه، فيأتيهم بأسلوب آخر حتى يذكرهم بالله عز وجل بالطريقة التي تؤثر في نفوسهم. ولكن الخير كل الخير: أن يحرص الخطيب على التذكير بكتاب الله وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن كل خطيب موفق، قد نظر إلى عظيم الثواب وجزيل ما أعد الله في المآب لمن تلا آيات الكتاب وتدبر سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لن يرضى لنفسه بالدون والأقل. فانظر: لو أنك نثرت أشعار الدنيا المليئة بالحكمة فإنها لن تبلغ شيئاً مما يؤثره كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في القلوب، وكم من آية في كتاب الله هزت القلوب، ولربما سمع المؤمن الصالح آية من كتاب الله فاستقرت في قلبه اليوم واليومين والأسبوع، والشهر والشهرين والعام، ولربما استقرت في قلبه إلى لقاء الله عز وجل، فالموفق السعيد الذي يحرص على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم والوعظ بهذا النور العظيم. فإذا كان هناك حاجة لذكر أبيات من الشعر في موعظة فيها أثر فلا بأس بذلك، ولذلك حكى الصحابة الشعر وقالوه، حتى في المواعظ المؤثرة، مثل قضية أبي الدحداح رضي الله عنه وأرضاه، وغيره من القصص التي وقع فيها، وكذلك أبيات حسان رضي الله عنه التي كان لها وقع وأثر في النفوس، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد دخول مكة قال: (لا تدخلوها إلا من ثنية كداء)، والسبب في ذلك: أن حسان بن ثابت رضي الله عنه يقول: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء فأراد أن يحقق ما قاله حسان، فدخل مكة من الثنية العليا، وهذا أحد الأوجه عند العلماء، والثنية الأولى هي من جهة قبور المعلاة، الفج الذي يشق القبور شقين، هذه الثنية ثنية كداء دخل منها عليه الصلاة والسلام، فمن العلماء من يقول: دخلها من أجل بيت حسان رضي الله عنه وأرضاه. ومنهم من يقول: دخلها عليه الصلاة والسلام؛ لأنها من جهة باب الكعبة، ولذلك جاء من جهة الباب. وقيل: دخلها لأن سور مكة كان في هذه الجهة، والمدن عندما يدخلها الإنسان يدخلها من أبوابها. فالشاهد: أنه قال بيت شعر فصدقه عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على مكانة الشعر. فلا مانع أن الخطيب يستشهد ببيت من الشعر ويعظ به ويذكر، وفي أشعار السلف الصالح من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين أبيات مؤثرة، فلا بأس بذلك ولكن بشرط: ألا يغلو الإنسان فيه ولا يتوسع فيه أكثر مما يستحق، والله تعالى أعلم.

حكم امرأة المفقود

حكم امرأة المفقود Q امرأة خرج عنها زوجها ولم يرجع لسنوات عديدة ولا يدرى أمره، وقد تقدم إليها من يخطبها، فما الحكم؟ أثابكم الله. A هذه المسألة تعرف عند العلماء رحمهم الله بمسألة امرأة المفقود، وفيها قضاء عن الصحابة رضوان الله عليهم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولكن لا يحكم فيها؛ لأن هذه المسائل مردها إلى القضاء، فتحتاج إلى نظر قاض فينظر في أمر المرأة وأمر غياب الزوج، والموضع الذي غاب فيه الزوج، فهناك غيبة يمكن معرفة الزوج أو حال الزوج فيها، وغيبة لا يمكن معرفة حاله، وغيبة غالبها السلامة، وغيبة غالبها الهلاك، وهذه أمور كلها تحتاج إلى نظر وتفصيل، ومثل هذه المسائل تحتاج إلى قاض، فليس كل مسألة تصلح للفتوى والجواب عنها، لأن المسائل التي فيها حق لطرفين لابد أن يسمع من الطرفين، ولابد عند غياب أحد الطرفين من أن ينظر القاضي في دعوى الطرف الثاني، ويطبق عليها الأصول الشرعية، ولذلك لابد من الرجوع إلى القضاء في مثل هذه المسائل، والله تعالى أعلم.

حكم أخذ مال الزوجة بدون رضاها

حكم أخذ مال الزوجة بدون رضاها Q أموال المرأة التي تكتسبها من عملها لو أنفقت على المنزل هل تكون ديناً على الزوج، أم تكون مساهمة منها مع زوجها؟ A المرأة إذا عملت وكان لها مال استفادته من عملها فالمال مالها، ولا يجوز للزوج أن يتدخل في راتب زوجته، ولا أن يعتدي على ذلك المال، وليس من حقه ذلك، وليس من حقه أن يتعب المرأة ويقول لها: اعلمي وراتبك لي. فهذا لا يصنعه كريم، ولا يجوز شرعاً له أن يفعل ذلك، ورخص فيه بعض أهل العلم. لكنه لا يجوز للرجل أن يقول للمرأة: اعملي. ويأخذ عرق جبينها وتعبها ونصبها، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقول: (ثلاثة أنا خصمهم، ومن كنت خصمهم فقد خصمته. ورجل استأجر أجيراً فلم يوفه أجره) فانظر كيف عظم الله عز وجل مال الأجير ومال العامل إذا اعتدى عليه الغير فأخذه بدون وجه حق! الزوج يملك الاستمتاع بالمرأة، وإذا أراد أن يأذن لها بالعمل واتفقا فيما بينهما على تقسيم الراتب بينهما، فهذا شيء يرجع إلى المرأة باختيارها وبرضاها بدون إكراه، وإذا أكرهها الزوج على ذلك وظلمها فإنه لا يستحق هذا المال، والمال بالإكراه لا يستحق، وهكذا إذا غلبها بسيف الحياء فأحرجها، فأي رجل يحرج امرأته ويأخذ من مالها فإن الله ينتزع البركة من المال الذي يأخذه، مع ما ينتظره بين يدي الله عز وجل من السؤال والمحاسبة. وإذا أراد الإنسان أن يسلم وأن يكون بعيداً من البلاء فإياه أن يتعرض لحقوق الناس، وخاصة إذا كانوا من الأقربين، فإن الظالم لأهله وولده يخشى عليه، فإن عواقب الظلم للأقربين عواقب وخيمة، حتى ذكر بعض العلماء أن عقوبتها معجلة، ولذلك تجد الذي يعق والديه كثيراً لا يأتيه البلاء آجلاً بل يكون عاجلاً. فالمظالم للأقربين سيئة، وخاصة بالنسبة للأكل والطعام والمال، ولا شك أن من أعظم الظلم أن يجلس الرجل السوي القوي -الذي يمكنه أن يتكسب ويمكنه أن يعمل- في بيته ثم يأمر زوجه بالخروج والكد والتعب عليه، وهو يأكل ويشبع ويروى من كسب امرأته، فهذا ليس من خير الرجال، بل هو من ألأم الرجال، ولا يجوز لأولياء المرأة أن يسكتوا على مثل هذا الزوج الظالم إذا رأوا أنه يأكل مال أختهم أو قريبتهم، بل عليهم أن يذكروه بالله وأن يرفعوا الظلم عن قريبتهم. فمثل هذه الأمور التي انتشرت وذاعت بسبب ضعف الإيمان، وقلة الخوف من الله عز وجل ومراقبته عواقبها وخيمة، ومن أخطر ما يضر الإنسان في دينه وخشوع قلبه واستقامة عمله: طعمة الحرام، فكم من آكل وطاعم قذف في جوفه طعمة حجب الله بها قبول صلاته وزكاته واستجابة دعائه، فليتق الله المسلم، وليحذر من الطعم الحرام، ومن أذية المرأة في حقها ومالها، فهذه أمور ينبغي التنبه لها. وإذا اتفق الزوجان بالرضا وبطيبة النفس، وأنفقت المرأة برضاها وطيبة نفس منها؛ فإن الله يأجرها، ولتعلم المرأة المسلمة الموفقة الصالحة أن الله إذا وفقها فاكتسبت، وحفظت زوجها وأعانته على طلب العلم، كأن تكون هي موظفة ويكون زوجها -مثلاً- طالب علم يحتاج إلى نفقتها فحملته وقامت عليه، فنعم المرأة! وهذه امرأة مباركة، وعلى الزوج أن يحفظ هذا الحق وهذا الجميل، وأن يعلم أن الله عز وجل إذا علم منها أنها منفقة عليه بطيبة نفس فقد أنعم عليه بهذه المرأة الصالحة، فليحفظ هذا الجميل ولا يضيعه، ويكون كريماً، يحسن ولا يسيء، ويكرم ولا يهين. فإذا أنفقت عليه وقامت عليه حتى يطلب العلم، أو أنفقت عليه وقامت عليه بسبب عجز أو عاهة فهذه لا شك أنها من أصلح النساء وامرأة مباركة، وهذا المال الذي تنفقه سيخلفه الله عليها، ولتبشر بكل خير ما دامت أنها في رضا الله عز وجل ثم في رضا زوجها، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وماتت وزوجها عنها راض؛ قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبوابها شئت) إذا كانت المرأة صالحة، وتنفق على زوجها وبيتها، فهذا شأن النساء الفاضلات، وهناك نماذج طيبة من هذا النوع. كان سفيان الثوري رحمه الله، يتيماً توفي أبوه وهو في الصغر، وأراد أن يعمل ويكسب لينفق على نفسه وعلى إخوانه، فقالت له أمه: يا بني! اطلب العلم أكفكِ بمغزلي. فكانت رحمها الله برحمته الواسعة تغزل وتبيع من غزلها حتى قامت على البيت وعلى ولدها، فأصبح سفيان ديواناً من دواوين العلم والعمل، وإماماً من أئمة المسلمين، ولا شك -إن شاء الله- أنه في ميزان حسناتها، فطابت تلك اليد الطيبة! وطابت تلك الأم التي رزقها الله القلب الحنون والقلب الصالح حتى سعت وكدت وتعبت من أجل سعادة ابنها. فلا بأس أن المرأة تتحمل نفقات بيت الزوجية وتتحمل تبعاته، لكن لو أنها قالت لزوجها: أنا أنفق على بيت الزوجية، وإذا فتح الله عليك رددت إلي مالي أو رددت علي ما أنفقت. فلا بأس بذلك، فإن هذا أشبه بالدين، ويكون حقاً على الزوج، فتنفق على بيت الزوجية مما يجب عليه، ثم بعد ذلك يقضي لها حقها بالمعروف، والله تعالى أعلم.

كيفية الاتفاق مع عامل على القيام بأعمال متنوعة

كيفية الاتفاق مع عامل على القيام بأعمال متنوعة Q إذا كانت في بيتي أعمال كثيرة متنوعة، وأريد أن أستأجر لها عاملاً، فكيف أصيغ العقد معه؟ A هذه المسألة فيها تفصيل: الأعمال المتنوعة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون تحت أصل معين، مثلاً: السباكة، قد تريده لتسبيك حوض، أو عمل (مواسير) تتعلق بنقل الماء من أعلى الدار إلى أسفله، وهذه السباكة كلها أعمال متنوعة، ومهامها مختلفة، ولكنها تحت أصل واحد وهو السباكة، فإذا أردت أن تتفق معه فعليك أن تحدد الأشياء التي تريدها، فمثلاً: في النجارة، لو أراد أن يصلح أبواباً ونوافذ، فتقول له: أريدك أن تصلح لي أبواباً ونوافذ، فتعمل عندي باليوم أو تعمل عندي بالشهر. إذا عمل باليوم والشهر لا تحدد عدد الأبواب والنوافذ. أي: إذا كانت الإجارة محددة بالزمان فلا يلزمك تحديد عدد الأبواب والنوافذ، وإذا كانت الإجارة محددة بالعمل وقلت له: أريدك أن تعمل لي أبواباً. فعليك أن تحدد عدد الأبواب وعدد النوافذ، فهي وإن اتفقت في الأصل لكن لابد أن يحدد أفرادها وأن يبين أنواعها. أما إذا كانت الأعمال مختلفة كحدادة ونجارة وسباكة ونحو ذلك، فلابد أن تبين ما الذي يطلب في الحدادة، وما الذي يطلب في النجارة وما الذي يطلب في السباكة، فإن جرى العرف بجمعها كلها تحت مسمى واحد، كأن يقول له: أريدك أن تبني لي عمارة من دورين، ثم فصل له الدورين، وهناك بناء ونجارة وسباكة، فهذه أعمال متعددة، لكنه حدد المطلوب، وحدد عدد الغرف، وحدد البناء وطوله وعرضه وارتفاعه، والذي يسمى في عرفنا بالمخططات والمواصفات الموجودة، ودرست دراسة يعرفها أهل الخبرة، فتجوز الإجارة على هذا الوجه؛ لأنها عرفت بالطريقة المتبعة عند أهل الخبرة، هذا بالنسبة للأعمال المختلفة إذا جمعها الأصل الواحد أو جمعت مع اختلاف أنواعها تحت مسمى واحد. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

باب الإجارة [4]

شرح زاد المستقنع - باب الإجارة [4] للعين المؤجرة شروط ينبغي توافرها، ومن هذه الشروط: معرفة العين المؤجرة بالنظر إليها عياناً، أو أن توصف وصفاً دقيقاً، ويستثنى من ذلك الدور. ثم عقد الإجارة إنما يجري على منفعة العين المؤجرة لا على أجزائها، ويشترط أيضاً قدرة المؤجر على تسليم العين المؤجرة.

شروط العين المؤجرة

شروط العين المؤجرة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن عقد الإجارة يقوم على المنافع التي تتم المعاوضة عليها، وينبغي في هذه المنافع التي يتفق الطرفان على إجارتها أن تتوفر فيها جملة من الشروط، قصد الشارع من هذه الشروط المحافظة على حق المستأجر، بحيث يستأجر شيئاً يمكن حصول المقصود منه، فالمسلم إذا دفع ماله مستأجراً داراً من أجل أن يسكنها، فينبغي أن يكون على بينة من أمره، فيعرف الدار وصفاتها، وكذلك الأمور الذي يتوصل من خلالها إلى المنفعة الموجودة في تلك الدار المؤجرة. أما إذا استأجر شيئاً لا يعرف حقيقته، أو يكون غير مملوك لمن أجره، أو يكون مما يتعذر أن يستوفي منه كالبعير الشارد والعبد الآبق، أو يكون ذلك الشيء من الأشياء التي لا توجد فيها المنفعة، كاستئجار المريض من أجل العمل، فإن الغالب على الظن أنه لا يستطيع أن يقوم بالعمل الذي اتفق عليه ونحو ذلك، وكاستئجار الأرض للزراعة إذا كان لا ماء فيها. فكل الشروط الشرعية قصد منها المحافظة على حق المستأجر، وقصد منها العدل بين الطرفين، وأن يكون عقد الإجارة خالياً من الغش ومن أكل أموال الناس بالباطل وقد تقدم معنا في كتاب البيوع أن الشريعة تحافظ على حق الطرفين في المعاوضات، سواء كان في البيوع أو الإيجارات، فهذه جملة من الشروط ذكرها المصنف رحمه الله، كلها متعلقة بالمنفعة التي هي محل العقد. وإذا قيل: يشترط في المنفعة. معناه: أنه يشترط في محل العقد -أي: عقد الإجارة- لأننا قدمنا في تعريف الإجارة أن العقد بين الطرفين منصب على المنفعة، ففي الإجارة ينصب العقد على المنفعة: سكنى الدور، والأعمال والحرف كالحدادة والنجارة والسباكة، ونحو ذلك وكلها منافع يقصد منها أن يتحصل المستأجر على المصلحة التي يريدها من ذلك الشيء المستأجر.

معرفة العين المؤجرة بعين أو صفة

معرفة العين المؤجرة بعين أو صفة يقول رحمه الله: [ويشترط في العين المؤجرة: معرفتها بعين، أو صفة في غير الدار ونحوها]. العين المؤجرة تستوفى منها المنافع، ولا يمكن للإنسان أن يستأجر محلاً لا يعرفه ولم يوصف له، فهذا مما فيه الغرر، ومن أمثلة ذلك: أن يستأجر داراً دون أن يكون قد رآها وشاهد غرفها ومنافعها لكي ينظر هل تصلح له أو لا تصلح، فإذا تم التعاقد بين الطرفين على عين من أجل الإجارة، فإنه لابد وأن تكون العين معروفة، قال رحمه الله: (أن تكون العين المؤجرة) أي: مثل: البيت العمارة الشقة الفلة المزرعة السيارة الدابة. فهذه كلها أعيان مؤجرة يقصد من ورائها المنافع. إذا أجرك البيت من أجل تسكن، فالمنفعة هي السكنى، أو أجرك الأرض من أجل أن تزرع، فالمنفعة هي الزراعة، وحتى لو كانت الإجارة باليومية فقد يؤجر ديوان مزرعته من أجل أن تجلس فيه للراحة والاستجمام ونحو ذلك، فتكون المصلحة والمنفعة هي الارتفاق بهذا الموضع. إذاً: لابد أن تكون العين التي هي محل التعاقد بين الطرفين معروفة للمستأجر؛ والسبب في هذا: أنه لو أجره شيئاً يجهله وقال له: أؤجرك سيارة. وظن المستأجر أنها جيدة، فإذا بها رديئة، فلربما كان يظن أن فيها منافع قد يرتاح إذا ركبها، فإذا به يفاجأ بالسيارة ليست فيها تلك المنافع، فيقول: يا فلان! أنا استأجرت منك السيارة لمنافع معينة، وهذه السيارة ليس فيها تلك المنافع. فيقول: أجرتك السيارة، وقد قبلت. فيحدث التشاحن والبغضاء بين الطرفين، فالشريعة تريد من الطرفين إذا تم التعاقد بينهما على عين مؤجرة أن تكون العين معروفة إما برؤية، أو بصفة في غير الدار أو نحوها. (برؤية) مثال ذلك: لو كان لك جار عنده سيارة، وهذه السيارة يؤجرها للسفر، فأردت أن تسافر، فقلت له: أريد أن توصلني إلى المدينة. فقال: أوصلك بسيارتي. فأنت تعرف سيارته وتعرف صفاتها، إذاً يصح، وهذا هو معنى الرؤية، أي: سبق لك وأن رأيت سيارته. أو قال له: أؤجرك أرضي الزراعية التي في موضع كذا. وأنت قد سبق وأن رأيتها، إذاً: المعرفة منك أنت المستأجر للعين المؤجرة بسبق رؤية. (أو بصفة) يقول لك: أؤجرك عمارة بجوار الحرم أو على شارع كذا. ويصفها لك وصفاً تاماً بحيث إن هذا الوصف يخرج فيه الإنسان من الغرر الذي يترتب على الجهالة، فإذا وصفها كذلك فحينئذٍ يصح، لكن يستثنى من هذا الدور؛ لأن الدور كانت تختلف في الزمن القديم، ولم تكن مثل زماننا اليوم، حيث تخطط، وتكون أطوال الغرف دقيقة ومفصلة، بل كانت في القديم تختلف في أطوالها وأحجامها، ويصعب فيها الوصف؛ ولذلك قالوا في الدور: لابد وأن تشاهدها؛ لأجل دفع الغرر، وسنأتي إلى هذا المستثنى. الأصل عندنا: أنه لابد أن تتقدم معرفة العين، إما برؤية كأن تكون قد عرفت سيارته أو عمارته أو فلته أو شقته، وسبق المعرفة يكون إما بالرؤية أو بالوصف، يقول لك: أجرتك سيارة. السيارة فيها الكبير وفيها الصغير، فقد تقول له: أريد منك أن توصلني إلى المدينة. قال: أوصلك وعائلتك -مثلاً- كل واحد بمائتين. قلت: قبلت. فربما تقبل بعائلتك أن تركب في سيارة خاصة، لكن لا ترضى أن تركب مع غيره، إذاً: لابد أن يحدد هل هي سيارة مشتركة أو سيارة منفصلة؛ لأنك قد تتضرر بالركوب مع غيره، وهل هي مكيفة أو غير مكيفة، صغيرة أو كبيرة؛ لأن الشريعة تريد من المستأجر أن يدخل في عقد الإجارة على بينة لا غرر فيها، ويكون مطمئناً أن يدفع المال في شيء يرى في نظره أنه يستحق. إذاً: علمنا أنه لابد من الرؤية أو الصفة، فحينئذٍ لو أجر سيارة بدون رؤية أو صفة فقال له: أوصلك إلى المدينة بسيارتي، لم يجز ذلك حتى يبين ويحدد؛ دفعاً للضرر ودفعاً للمفسدة، وهكذا لو أراد أن يستأجر السيارة باليومية مثلما هو موجود الآن، فيأخذ السيارة ويستأجرها يوماً بمائة، أو كل مائة كيلومتر بألف ريال مثلاً، فإذا أراد أن يستأجر هذه السيارة فلابد أن تحدد الشركة المؤجرة نوعية السيارة وأوصافها؛ حتى يخرج من الغرر؛ ويكون حقه مضموناً من هذا الوجه. ومسألة معرفة العين المؤجرة بالرؤية أو الصفة يترتب عليها حكم شرعي، وهو: أنه لو وصف لك السيارة، أو كنت تعرفها سابقاً بالرؤية، وتبين الأمر على خلاف ما عهدت أو خلاف ما وصف لك؛ فحينئذٍ يثبت لك خيار الرؤية بعد تبين حقيقة العين المؤجرة، مثال ذلك: قال لك شخص: أؤجرك سيارتي الفلانية إلى المدينة بألف. فقلت له: قبلت. وعهدك بالسيارة أنها مكيفة ونظيفة، فجئت وإذا بالسيارة مختلفة تماماً عن ذلك، عند ذلك لك خيار العين، فمن حقك أن ترجع وتقول: إنني أعرفها جيدة فأصبحت رديئة. لأن السيارة إذا كانت رديئة تعطلك عن المصالح بالتأخر، ولربما يخشى الإنسان منها الضرر أثناء قيادتها. إذاً: إذا اختلفت العين المؤجرة عما عهدت من سبق الرؤية كان لك خيار، وخيار الرؤية يثبت في بيع الغائب كما ذكرناه في البيوع، ويثبت في العين المؤجرة الغائبة إذا وصفت. ورؤية: كان له سبق رؤية فاختلفت عما كان يعهدها عليه، أو وصفها له فاختلفت الصفة، قال المستأجر: السيارة مكيفة؟ قال المؤجر: نعم. مكيفة. فلما ركب معه إذا بها غير مكيفة، إذاً: من حقه أن يفسخ عقد الإيجار؛ لأن هذا يعتبر تدليساً وغشاً، وبعض العلماء يقول: إنه يلزم بتأمين سيارة مثل ما وصف. أي: بدلاً عما وصف، فيلزم الطرف الثاني بتهيئة هذا النوع من السيارات على الصفة المتفق عليها. إذاً: يشترط في المنفعة أن تكون العين التي تكون منها المنفعة معروفة عند المستأجر: إما برؤية، أو بصفة في غير الدار، وقلنا: الدور تختلف بحسب اختلاف أحجام الغرف واختلاف أحجام المنافع، فقالوا: لابد في إجارة الدور من الرؤية والمشاهدة، فلو أنه أجره شقة بالوصف على هذا القول لم يصح من حيث الأصل حتى يقف ويرى الشقة على حقيقتها؛ لأنها تختلف، ولا يمكن أن توصف وصفاً خالياً من الغرر. أما بالنسبة لنحو الدور فمثل الحمامات في القديم، وقد ذكرنا هذا؛ لأنهم في القديم كانوا يؤجرون الحمامات من أجل الاغتسال، فالحمام يختلف حوضه صغراً وكبراً، ويختلف من حيث النظافة ونحوها، فقالوا: لابد من الرؤية. ولذلك نجد الآن في بعض الفنادق إذا استأجر المستأجر يعطونه المفتاح ويقولون له: شاهد الغرفة. وهذا شيء طيب؛ لأن هذا يمكن المستأجر من أن يكون على بينة من الشيء الذي يستأجره، ويكون على بينة من الشيء الذي يريد أن يرتفق بها، وهكذا بالنسبة لإجارة المحلات ونحوها.

العقد على نفع العين المؤجرة دون أجزائها

العقد على نفع العين المؤجرة دون أجزائها قال رحمه الله: [وأن يعقد على نفعها دون أن أجزائها]. الشرط الثاني: أن يكون العقد على منافع العين لا على أجزائها، والسبب في ذلك: أن الإجارة عقد على المنفعة، وليست على الذات، وقد بينا في كتاب البيوع: أنه إذا اتفق الطرفان على إجارة الدار أو إجارة السيارة أو إجارة العامل، فإن المستأجر يملك المنفعة من ركوب السيارة وسكنى الدار وخدمة العامل، ولا يملك رقبة السيارة ولا رقبة الدار ولا رقبة العامل، فالعقد ليس بُمنصَبٍّ على الذات، وإنما هو منصب على المصلحة المترتبة الموجودة في هذه العين، سواء كانت من العقارات أو غيرها.

حكم عقد الإيجار المنتهي بالتمليك

حكم عقد الإيجار المنتهي بالتمليك إذاً: لابد وأن يكون العقد وارداً على المنفعة لا على الأجزاء، وجزء الشيء: القطعة منه والبعض منه. وبناء على ذلك: لا يصح أن يعقد على دار إجارة وهو يريد أن يملكه أجزاءها، وهو مثل ما يسمى الإجارة بالتمليك، لأن الإجارة شيء والبيع شيء، فإذا أراد أن يبيع قال: بعتك. وإذا أراد أن يؤجر قال: أجرتك. أما أن يقول: بعتك وأجرتك، أو: أجرتك وبعتك، فلا يمكن؛ لأن الشريعة لا تريد تداخل العقود؛ لأن تداخل العقود لابد فيه من الإضرار بمصلحة المستأجر أو المؤجر أو هما معاً؛ وتداخل العقود في الشريعة يوجب فوات الحقوق، وخثل أحد الطرفين لا محالة. فالرجل إذا اتفق مع الغير أن يستأجر بيته فإنه لا يملك إلا السكنى، وليس من حقه أن يتصرف في ذلك البيت خارجاً عن هذا العقد، وبناءً عليه نقول: أولاً: إن عقد الإجارة على المنفعة وليس على الذات ولا على أجزاء الذات. ثانياً: نفهم من هذا أن العلماء لا يقولون: إن الإجارة كالبيع، أي: أنها تأخذ حكم البيع من كل وجه، بل إن الإجارة واردة على المنفعة، والبيع وارد على الذات، فالإجارة لا ترد على الذوات ولا ترد على الأجزاء، ولا يمكن أن يقول له: أؤجرك البرتقال لتأكله؛ لأن أكل البرتقال ملكية لذات البرتقال، وأياً كان ذلك الطعام فإن هذا المطعوم إذا بيعت أجزاؤه وانتفع بأكله، فإن أكله يكون استهلاكاً للذات وهذا بيع، والإجارة استهلاك للمنفعة وليست باستهلاك للذات. وبناءً على ذلك: فإن عقد الإجارة المنتهي بالتمليك في العقارات أو في المنقولات من سيارات أو غيرها لا يصح، وذلك لأسباب: أولاً: أن الإجارة تستلزم ملكية المنفعة، وهذا العقد منصب على المنفعة مع الذات. ثانياً: أن هذا النوع من العقود يؤدي إلى عقدين في عقد على وجه الغرر. وتوضيح ذلك: أنه يقول له: أؤجرك هذه السيارة أربعة وعشرين شهراً، ثم تدفع خمسة آلاف وتملكها، فحينئذ معناه: أنه يريد أن يضمن منه أن يستأجر أربعة وعشرين شهراً، ثم بعد ذلك يملك السيارة بعد الأربعة والعشرين شهراً، فنسأل: هل العقد عقد بيع أو عقد إجارة؟ إذا قال: هذا عقد بيع. قلنا: إن الأربعة والعشرين شهراً لو امتنع المستأجر في أول الفترة أو في نصفها أو بعد شهر أو شهرين، ثم أخذ منه مالك السيارة السيارة، فأصبح إجارة وليس بيعاً؛ لأن الإجارة هي التي يملك فيها البيع ويملك استرداد العين عند تعذر الإجارة، إذاً: ليس ببيع، وإن كان بيعاً في الظاهر، لكن في الحقيقة لا تنطبق عليه أوصاف البيع. فلو قال قائل: هو بيع في المآل، أي: أنه خيره، فقال له: بعد الأربعة والعشرين شهراً إذا أردت أن تملكها فادفع خمسة آلاف. نقول: باعه بعد أربعة وعشرين شهراً شيئاً -الذي هو السيارة- فلا ندري هل تبقى بعد أربعة وعشرين شهراً أو يأتي شيء يتلفها، ولا ندري هل تبقى على الصفات الكاملة، أو خلال الأربعة والعشرين شهراً مع الاستهلاك تتغير أوصافها وتتضرر، إذاً: لا يشك أحد في وجود الغرر. ولا تصح -كما قلنا- بيوع الآجال، كأن يقول له: بعتك سيارتي بعد ثلاث سنوات أو بعد أربع سنوات، لا يمكن هذا؛ لأنه بيع لشيء لا ندري هل يسلم أو لا يسلم، وإذا سلم هل يبقى كاملاً أو ناقصاً. ثالثاً: هب أن البيع صحيح، وهب أنه في الظاهر عقد بيع. نقول: لو صح البيع إلى أجل -أي: إلى بعد سنة أو سنتين- فنقول: باعه بشرط أن يستأجر، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط. فهنا أمور أولاً: تداخل العقود، وثانياً: أنه باعه مجهولاً لا يدري عن حاله، وثالثاً: لم تطبق أحكام البيع على المبيع خلال مدة الإجارة، فهو بائع وغير بائع، بائع في العقد لكن في الحقيقة والمضمون لو عجز المستأجر ألزمه برده، وهذا هو المقصود. وقد يقال: المقصود: أن أضمن الأقساط. وإنما سموه إجارة من باب ضمان الأقساط، ونحن نقول: فهذا لا تجيزه الشريعة؛ لأنه إذا اتفق مع شخص على بيع سيارة بعشرين ألف ريال، وأعطاه إياها أقساطاً على عشرين شهراً، وتعذر على المشتري أن يدفع الأقساط لعسرة، فنظرة إلى ميسرة، أو يعطى حكم الخيار على التفصيل المعروف في البيع، وعندنا حلول شرعية أفضل من هذا وأتم وأكمل، فلو مات المستأجر خلال هذه المدة فإنه قد أسس له حقاً بعد أربعة وعشرين شهراً، فلا ندري إذا مات هل هذه السيارة ملك له وتأخذ حكم الميراث أم ليست ملكاً له؟ ولذلك يقول بعض الفقهاء: من أعجب ما وجد في شروط الشريعة: أنها تيسر للقاضي الحكم عند الطوارئ، فتقفل أبواب الجهالة في العقود، فإذا انطبقت شروط الإجارة وشروط البيع، ووقعت الإجارة على السنن، ووقع البيع على السنن؛ فلا يمكن أن تقع خصومة في بيع أو إجارة إلا وعرفت حق كل ذي حق. مثال: لو أن أجيراً استأجرته شهراً كل يوم بكذا ومات أثناء الشهر، فحينئذٍ يكون معروفاً ما الذي له وما الذي عليه، لكن لو مات الذي في عقد الإجارة المنتهي بالتمليك في سيارة أو أرض، فلا ندري حينئذٍ هل هو مالك للأرض فتكون قد دخلت إلى ملكية الورثة، ونلزمهم بالدفع فيما بقي، فننزله منزلته على أن البيع قد تم في الأول، أو هو ليس بمالك بل مستأجر، ثم تنطبق مسألة موت أحد المتعاقدين، وهل يلزم الورثة بإتمام العقد أو لا؟ فيحدث نوع من الاشتباه في العقود، ولذلك فالغرر موجود من حيث الجهالة في صفة المبيع إذا قيل: إنه بيع. وثانياً: تداخل العقود على وجه يوجب الخصومة والشحناء. وثالثاً: أن المبيع لا ندري عن حاله بعد الأشهر. ولو قلنا إنه بيع، فإنه بيع وشرط، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، ولذلك لا يعرف هذا النوع من العقود عند المسلمين، ولم يذكر العلماء رحمة الله عليهم شيئاً يسمى إجارة تنتهي بتمليك أبداً، وهذه دواوين العلم وكتب الفقه موجودة، ومن أراد أن ينسب عقداً شرعياً إلى الشرع فعليه أن يتتبع كلام العلماء وأصولهم. وعلى هذا: فإنه لا ينعقد عقد الإجارة على الأجزاء.

حكم تأجير ما لا تبقى عينه

حكم تأجير ما لا تبقى عينه قال رحمه الله: [فلا تصح إجارة الطعام للأكل]. يجوز لك أن تشتري الطعام لتأكل بإجماع العلماء، ويجوز بيع الطعام، فلا أحد يحرم بيع الطعام، ومعناه أن العلماء رحمهم الله يريدون الوفاء بالعقود، وهذا كله ينبني على كلمة واحدة وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فالشريعة حينما تضع الشروط وتقول: هذا حلال وهذا حرام، كل ذلك لمقصد، وهو أن الطرفين إذا اتفقا على شيء لابد وأن يكون شيئاً بيناً واضحاً، فلا يجوز إجارة الطعام للأكل؛ لأنه إذا استأجر الطعام من أجل أن يأكله فحينئذ استهلك ذاته، وإذا استهلك ذاته فالذوات تضمن بالقيمة ولا تضمن بالأجرة؛ لأن الشيء المستأجر تؤخذ منفعته وترد عينه، وأما بالنسبة لاستهلاك الأعيان بذاتها فيعتبر بيعاً، وتسري عليه شروط البيع المعتبرة. وقوله: [ولا الشمع ليشعله]. ولا تجوز إجارة الشمع ليشعله، كانوا في القديم يضيئون بالشموع، وإذا قال له: أستأجر منك مائة شمعة توقدها الليلة. لم يصح، إنما يقول: أشتري منك مائة شمعة، وكل شمعة بعشرة ريال، وأؤجرك لإيقاد هذه الشموع كل شمعة بريال. فأصبحت مائة شمعة، وكل شمعة بعشرة ريال، فيصبح المجموع ألف ريال، وكل شمعة توقدها بريال، فهذا ليس فيه أي إشكال.

تأجير الحيوان ليأخذ لبنه

تأجير الحيوان ليأخذ لبنه وقوله: [ولا حيوان ليأخذ لبنه إلا في الظئر]. ولا يجوز إجارة الحيوان ليشرب أو يأخذ لبنه. هناك حيوانات تستأجر من أجل الركوب، وهي: إجارة الظهر، ويسميها بعض العلماء بـ (الكراء) ويدخلها في مسائل الكراء كما هو مذهب المالكية، فيجعلون إجارة الدور والسفن والنواقل والدواب من الكراء، ويسمونه كراءً في الأكرية، فإذا قال المالكية: الأكرية. فالمراد بها هذا النوع من الإجارات. وبالنسبة للحيوان: يكون منه الركوب، ويكون منه الحليب، والحليب من بهيمة الأنعام يرتفق به طعاماً، يشرب ويغتذى به وينتفع، فإذا تعاقد مع شخص على حليب، وقال: أستأجر منك حليب هذه الناقة، أو حليب هذه البقرة، أو حليب هذه الشاة. لم يصح؛ لأن التعاقد على ذات الحليب بيع، فعليه أن يقول: أشتري منك كل لتر من هذه البقرة أو يقول له: أشتري منك مائة لتر بألف ريال. وهذا يعتبر بيعاً. لكن أن يقول له: أستأجر منك هذه الناقة اليوم من أجل أن أحلبها. لا يصح؛ لأن الحليب ذات، والتعاقد على الذوات بيع، والمعاوضة عليها بيع، ولا يصح أن يقول له: أستأجر منك هذه الدابة لحلبها، لكن لركوبها يصح، وعلى هذا: يفرق بين المنفعة والذات.

حكم بيع لبن الآدمية وتأجيرها على الرضاع

حكم بيع لبن الآدمية وتأجيرها على الرضاع وقوله: (إلا في الظئر) هذا استثناء، والاستثناء: إخراج لبعض ما يتناوله اللفظ. (الظئر): المرضعة، والرضاعة تكون من الآدمي، يعني: يستأجر امرأة من أجل أن ترضع طفله، فقال طائفة من العلماء رحمة الله عليهم: إن هذا النوع من العقود -وهو: استئجار المرأة للرضاع- يعتبر مستثنى من الأصل، فهو يسمى إجارة، لكنه في الحقيقة بيع، واستثنيناها لورود القرآن بذلك: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6]، هذا نص من كتاب الله على اعتبار الإجارة على الرضاع، وإن كان بعض العلماء يقول: بل فيه معاوضة، وتكون أجورهن أشبه بالعوض، وليس المراد به الإجارة، لكن جماهير العلماء على أنها إجارة. وعندنا مسألتان ينبغي التنبيه عليهما في مسألة استئجار المرأة للرضاع، فقد يحتاج الرجل لإرضاع صغيره، إما لموت أمه، أو وجود آفة أو ضرر، أو تعذر إرضاع أم الطفل للطفل، فيحتاج أن يسترضع لولده، وهذا الاسترضاع يكون على وجهين: الوجه الأول: أن يكون على عقد إجارة بالمدة. والوجه الثاني: أن يكون على عقد البيع. فاللبن الذي تخرجه المرضعة إذا قال لها: أرضعي طفلي سنة وأعطيك كذا وكذا، أو أرضعيه الشهر بألف. وتمت الموافقة، فهذه إجارة وحكمها حكم الإجارة. النوع الثاني: أن تحلب المرأة حليبها، وتضعه في وعاء أو في كأس ويحتاجه لصبيه، أو يقول لها: أرضعي صبيي. فقالت: لا أرضعه، لكني أحلب الحليب في الكأس وأبيع الحليب. فعندنا عقد بيع وعندنا عقد إجارة، ولابد من التفريق بين العقدين، فأما ما كان من الإجارة لمدة الشهر الشهرين السنة السنتين، فهذا لا إشكال فيه، ونص القرآن فيه واضح. لكن بالنسبة لبيع لبن الآدمية، هناك فرق بين لبن الآدمية ولبن الحيوان، فلبن الحيوان يجوز بيعه بالإجماع، لكن بيع لبن الآدمية اختلف فيه، فإن قالت لك: أبيعك هذا الكأس بمائة فللعلماء قولان: قال طائفة من العلماء: يصح بيع لبن الآدمية، ولا بأس بذلك؛ لأن الله تعالى أحل المعاوضة عليه بالإجارة، والإجارة نوع بيع، فإذا صحت المعاوضة عليه إجارة صحت المعاوضة عليه بيعاً من باب أولى وأحرى؛ لأن الإجارة مستثناة من الأصل، فمن باب أولى إذا كان العقد على صورة البيع الحقيقية، واستدلوا بقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6]. الدليل الثاني: القياس، فقالوا: يجوز بيع لبن الآدمية إذا حلب كما يجوز بيع لبن بهيمة الأنعام، بجامع كون كل منهما فضلة حيوان ومباحة. وبالنسبة لهذا القياس يقولون: أنتم تجيزون بيع لبن الإبل والبقر والغنم بالإجماع، ولا فرق بين لبن الآدمية ولبن الإبل والبقر والغنم، هذا فضلة حيوان وهذا فضلة حيوان، وكل منهما فضلة مباحة، فلا بأس بذلك. وخالف في هذه المسألة الحنفية رحمة الله عليهم، ووافقهم بعض الحنابلة فقالوا: لا يجوز بيع لبن الآدمية إذا حلب. واحتجوا بأن لبن الآدمية جزء من الآدمي، والآدمي لا يجوز بيع أجزائه أو أعضائه؛ ولذلك لا يجوز بيع الآدمية كما لا يجوز بيع أعضاء الإنسان الآدمي، بجامع كون كل منهما جزءاً من البدن، والإنسان لا يملك نفسه ولا يملك أجزاء نفسه فلا يجوز أن يبيعها؛ لأن البيع لا يصح إلا بشيء يملكه، فإذا كان الإنسان لا يملك أجزاءه فلا يصح أن يبيع ما لا يملك، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما لا يملك. إذا ثبت هذا فالحنفية كلامهم صحيح: أن أجزاء الآدمية لا يجوز بيعها. ثانياً: قالوا: إن بيع الآدمي فيه امتهان، والله يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]. فإذاً ينبغي أن يكرم. أما مسألة الرقيق فهذه مستثناة لورود النص، لكن من حيث الأجزاء ليس عندنا نص يجيز البيع، فإذا ثبت أن أجزاء الآدمي ليست محلاً للبيع، فإذاً: لبن المرأة مثل يدها ورجلها وأعضائها. فكما أنكم تقولون: لا يجوز بيع أعضاء الآدمية فإنه لا يجوز بيع لبنها، بجامع كون كل منها جزءاً من البدن. واعترض عليهم الجمهور وقالوا: إن أعضاء الآدمية ليست كاللبن، فاللبن فضلة سائلة، وينفصل من البدن ويخرج منه، والأعضاء لا تنفصل إلا بضرر، فقال الحنفية: نعطيكم أجزاء تستحلب من البدن: فما رأيكم في دموع الآدمية أو دمها؟ وما رأيكم في البصاق واللعاب وغيرها من الفضلات السائغة هل يجوز بيعها؟ قالوا: لا يجوز بيعها، قالوا: إذاً لبن الآدمية لا يجوز بيعه كما لا يجوز بيع دموعها ودمها وفضلاتها. قيل لهم: إن الدموع والفضلات لا فائدة فيها، ولكن اللبن فيه فائدة. فالذي يظهر أن مذهب الجمهور بجواز صحة البيع هو الأقوى؛ لأن الله تعالى أحل دفع العوض على اللبن، وهذا يدل على أنه محل للمعاوضة، فكما جاز استحقاق الأجر عليه بالإجارة جاز استحقاق العوض عليه في البيع. إذاً الخلاصة: أن استئجار المرأة للبن إن كان على المدة -كقوله: أرضعي ولدي ساعة، أو يوماً، أو شهراً- فهو جائز، وهو منصوص عليه في قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6] وأما إذا كان العقد وارداً على ذات اللبن فهذا بيع، وفيه التفصيل الذي ذكرنا. تبقى مسألة: لو كان الحليب في ثدي المرأة، فقالت المرأة: أبيعك ما في ثديي من اللبن. لم يجز بإجماع العلماء والسبب: أن الذي في الثدي مجهول، ولا ندري أهو قليل أم كثير، فتحريمه من جهة الجهالة.

نقع البئر وماء الأرض

نقع البئر وماء الأرض وقوله: [ونقع البئر وماء الأرض يدخلان تبعاً]. هذه المسألة في مسألة إجارة الأرضين. ذكرنا في الشرط الذي معنا: أنه يتشرط في المنفعة أن تتعاقد مع أخيك على منفعة الشيء لا على أجزائه. فيرد Q لو أن شخصاً عنده أرض زراعية ليس فيها زرع، ولكن فيها بئر وهي صالحة للزراعة، فجاءه رجل وقال: أريد أن أستأجر منك هذه الأرض من أجل أن أزرعها السنة بمائة ألف. فقال: قبلت. وتم العقد بينهما؛ جاز ذلك وصح، وسنذكر هذه المسألة إن شاء الله تعالى، وهو قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم. وذلك لحديث رافع بن خديج في الصحيح، أن ما كان بذهب وفضة فلا بأس، أي: ما كان من إجارة الأرضين الزراعية بالذهب أو الفضة فلا بأس به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص فيه. وإذا ثبت أنه يجوز إجارة الأرضين للزراعة فقد يعترض المعترض ويقول: أنتم تجيزون إجارة الأرض للزراعة، مع أن الأرض فيها ماء، ولا تصح إجارة الأرض للزراعة إلا إذا كان فيها ماء، والماء يستهلك بذاته، فمعنى ذلك: أن العقد وقع على الأجزاء ولم يقع على المنافع، وأنتم تقولون: الإجارة يشترط فيما ألا يتم العقد على أجزاء العين المؤجرة، فكيف تصححون إجارة الأرضين للزراعة مع أن الماء المستهلك في زرعها جزء من العين المؤجرة؟ و A أن القاعدة تقدمت معنا في باب البيوع، وذكرنا دليلها من حديث ابن عمر في الصحيحين: يجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل. فالماء هنا تبع للأرض، ويجوز أن يباع الشيء تبعاً لكنه لا يجوز أن يباع استقلالاً، ويجوز أن يكون تابعاً بإجارة أو نحوها لكنه لا يجوز أن يكون أصلاً في الإجارة، فجاز تبعاً، وبينا أن هذه القاعدة صحيحة في العبادات والمعاملات، وذكرنا من أمثلتها في العبادات: أن الإجماع منعقد على أن المسلم لا يجوز له أن يصلي عن الميت، وأن الميت إذا مات لا تجوز العبادات البدنية عنه إلا ما استثناه الشرع من الصيام عنه على التفصيل الذي ذكرناه في باب الصيام. ولكننا قلنا: لو أنه حج عن ميت فطاف، وأراد أن يصلي ركعتي الطواف فإن الصلاة وقعت هنا تبعاً ولم تقع أصلاً، فصحت العبادة تبعاً ولم تصح أصلاً. وذكرنا في بيع النخل قبل بدو صلاحه إذا باعه وقد أُبِّر، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع) فصحح عليه الصلاة والسلام وقوع الثمرة بالبيع تبعاً للبستان إذا بيع، مع أنه لا يجوز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها إذا كانت مؤبرة وقبل أن يبدو صلاحها استقلالاً، فهذا كله مفرع عن القاعدة التي ذكرناها: يجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل. وإذا ثبت هذا فنقول: إن الماء الموجود داخل الأرض الزراعية تبع وليس بأصل. ونفرع على هذا مسائل معاصرة، فمثلاً: الاستئجار في الفنادق؛ في غرفة الفندق منافع في دورات المياه، ويجد فيها منافع في مكان جلوسه، مثل: المناديل والصابون ونحوها من الأشياء التي يرتفق بها، فوقع استهلاك هذه الأعيان تبعاً ولم يقع أصلاً، فإن وقع أصلاً لا يجوز، لكن إذا وقع تبعاً فإنه يصح؛ لأنه يصح في التابع ما لا يصح في الأصل. فتتفرع هذه المسألة من أخذ المنافع، فلو أنك ركبت سيارة أجرة، فستجد -مثلاً- علبة المناديل، وقد جرى العرف أن توضع علبة المناديل في السيارة، فلو أخذت من مناديلها فلا زالت مناديلك، فكل شيء له قيمته وكل شيء له حقه، فأنت تستحقها بالركوب رفقاً، لكن هذا تبع وليس بأصل. فاستهلاك الذوات التي جرى العرف باستهلاكها كالماء في الأرض والزرع، وهكذا بالنسبة للمنافع والأعيان الموجودة في منافع الأشياء المؤجرة في المركوبات والعقارات، كلها جائزة على سبيل التبع لا على سبيل الأصل.

القدرة على تسليم العين المؤجرة

القدرة على تسليم العين المؤجرة [والقدرة على التسليم]. هذا هو الشرط الثالث: أن يكون قادراً على تسليم المنفعة. أنت حينما تستأجر شيئاً ينبغي أن تضمن حقك في الوصول إلى المنفعة، وهذا الشرط سنفصل فيه -إن شاء الله- في المجلس القادم، وهو مبني على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الغرر، وسنبين -إن شاء الله- وجه اشتراط العلماء رحمهم الله للقدرة على تسليم المنافع في الإجارة.

الأسئلة

الأسئلة

مسألة في الإجارة على الفحوصات

مسألة في الإجارة على الفحوصات Q نرجو بيان الأحكام المتعلقة بالإجارة على الفحص، كالفحص على الآلات والفحوص الطبية؟ A هذا سؤال مهم جداً وفيه فائدة، ولذلك من أفضل ما يكون في دراسة الفقه: أن يكون هناك فهم للمسائل الموجودة حتى يكون ذلك أمكن للتصور. فمسألة الإجارة على الفحص: الشخص إذا أراد أن يفحص متاعاً أو شيئاً يملكه أو يفحص نفسه -كما في التداوي- فإن لهذا الفحص أحكاماً ينبغي أن يعرفها المسلم حتى يعرف ما الذي له وما الذي عليه. فنبدأ -مثلاً- بفحص الأشخاص في الطب: فالإجارة الطبية تنقسم في الأصل إلى قسمين: القسم الأول: الإجارة على الفحوصات. والقسم الثاني: الإجارة على التداوي. فالطبيب إذا استأجره الإنسان أو المستشفى إما أن يستأجره من أجل أن يفحص ليشخص مرضاً أو داءً، وإما أن يستأجره لعلاج داء، فأما السؤال فإنه ينصب على الاستئجار للفحوصات. الفحوصات في الأصل تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما يسمى بالفحوصات المبدئية، وهذا النوع من الفحوصات غالباً ما يقوم الطبيب بنفسه، مثل قرع بطن المريض، ومثل: التصنت إلى أماكن معينة مثل: (جس النبض) ونحو ذلك، وهذا يسمونه الفحص السريري أو الفحص المبدئي، وهو جملة من الإجراءات والتي يقوم بها الطبيب للمعرفة المبدئية لأعراض الأمراض، فإن الله من حكمته أن جعل لكل مرض ولكل داء علامات وأمارات يعرف بها. فهذا الفحص المبدئي له حكم، وهناك الفحص التكميلي، والفحص التكميلي أعمق في الأحكام؛ لأنه يستعين فيه الأطباء -بعد الله عز وجل- بوسائل أدق من وسائل الرؤية والمشاهدة واللمس باليد، ونحو ذلك من الفحوصات المبدئية، فتكون المسائل أحوج للتفصيل في النوع الثاني أكثر من الأول. ففي النوع الأول -الفحص المبدئي- إذا أراد أن يستأجر من أجل الكشف عليه، فإذا قال: من أجل أن يكشف عليه. هذا شيء، ومن أجل تشخيص المرض شيء آخر، وهناك أمران: إما أن يفحص من أجل أن يعرف وضع البدن، وإما أن يعرف ما الذي يتسبب في هذا الألم. فمثلاً: الفحص الذي يقصد به معرفة وضع البدن -مثل: الفحص الوقائي- هذا لا يقصد به كشف الداء، بل يفحص الدم ويفحص الخارج من الإنسان من بول أو براز أو غير ذلك، ولا يقصد منه معرفة مرض معين أو شكوى معينة، إنما المراد منه معرفة وضع البدن عموماً، وهذا نوع من الفحص لابد من معرفته؛ لأن المنفعة المقصودة: أن يظهر للمريض طبيعة بدنه، والحد الذي هو فيه البدن، سواء كان على حد الخطر أو على حد السلامة. وهذا النوع من الفحوص يقوم الطبيب فيه بالإجراء المتبع عند أهل الخبرة على حسب طلب المريض، فإن طلب منه فحص الدم من حيث وضعه، فإنه يفحصه على وضع متعارف عليه عند الأطباء، فإذا فحصه على وضعه المتعارف عليه وأخرج نتائج الأجهزة والآلات -من تصوير بالأشعة والتحاليل- دون أن يتصرف في ذلك، فعند هذا القدر تنتهي مهمة الطبيب وليس له علاقة بالعلاج أو التداوي، إنما فقط أن يكشف له طبيعة بدنه. إذاً: المنفعة في هذا النوع من الفحوصات هي: الكشف عن طبيعة البدن. النوع الثاني من الفحص: أن تقول للطبيب: أريد أن أعرف سبب هذا الألم. أو تقول: ما الذي يحدث -مثلاً- في الأذن أو لماذا أجد ألماً في بصري؟ ففي هذه الحالة يتحمل الطبيب مسئولية معرفة عين الداء، والفرق بين الحالتين: أنه في الحالة الثانية لو استأجرت طبيباً لمعرفة مرض في بدن وشخصه أنه مرض وتبين أنه غيره؛ لم يستحق الأجرة؛ لأنه في الأصل يستحق إذا كشف، وتكون له جعالة إذا قلت له: من أجل أن تكشف المرض. لكن من أجل أن يفحص لك -مثلما ذكرنا- فيستحق الأجرة بالعمل، فهناك فرق بين الأمرين، فإذا استأجر الطبيب من أجل معرفة دائه ومرضه فلا يستحق إلا بالتشخيص الواضح البين. وتتضح الصورة أكثر في الأشعة: فلو أراد أن يعرف ألماً موجوداً في عظامه هل هو كسر أم لا؟ فجاء إلى مصور الأشعة وقال له: صور لي يدي. فإذا قال له: صور. فالمصور يستحق الأجرة على التصوير فقط، وليس له علاقة حتى لو خرجت سليمة. لكن لو أن الطبيب قال له: يدك تحتاج إلى تصوير. مع أن المرض ظاهر ولا يحتاج إلى تصوير، وتبين أنه خدش عارض أو التهاب عارض في الجلد جرى عرف الأطباء أنه لا يصور فأمره بالتصوير، فإنه لا يستحق أجرة؛ لأن كل الإجراءات التي تتم بين الطرفين مقرونة بالعرف الطبي، فأي تصرف يطلبه المريض من طبيبه ينبغي أن تكون الأجرة مقيدة بذلك العقد والاتفاق بين الطرفين. ومن هنا حصلت الشبهة في مسألة التداوي بقراءة القرآن وأخذ الأجرة والمال على القراءة؛ فإن الصحابة رضوان الله عليهم قرءوا على المريض الممسوس والمجنون فأعطاهم الأجرة بعد شفائه، فمن أراد أن يقرأ وأعطي قبل الشفاء أو قال: أنا آخذ إذا شفي خمسة آلاف. فلا بأس إذا اشترط الجعل، لكن أن يفتح عيادة كالطبيب، وكل من دخل وشخَّص حالته أخذ منه الأجرة، فهذا لا يجوز؛ لأن مسائل الأرواح لا يستطيع أحد أن يكشفها. فإذاً: عندما يقول له: كلما تدخل عندي تدفع خمسين من أجل أن نقرأ ونعرف هل هو مس أو هل هو سحر أو كذا لا يصح؛ لأن الأمور الروحية لا يمكن بها إدراك أصل الداء، فقد يكون هذا الشيء لعارض من غضب أو نحوه من أمور لا علاقة لها بالمس والسحر، بخلاف الأمراض العضوية المشخصة التي يمكن الوصول فيها إلى حقيقة المرض، فاختلف الأمر بين الصحابة رضوان الله عليهم، وهم أخذوا الأجرة لكن بالجعل، أي: أنهم قالوا: اجعلوا لنا جعلاً، والجعل غير الإجارة، لكن إذا قال: لا تدخل عندي حتى تدفع خمسين ريالاً، وكل جلسة أجلسها وأقرأ القرآن على المريض آخذ خمسين. لم يصح؛ لأنه نقله من الجعل إلى الإجارة، والإجارة على مثل هذا لا تصح، وقد يقول: إنه معيون وهو ليس بمعيون، وقد يقول: إنه مسحور وهو ليس بمسحور. ونرجع إلى مسألة الطبيب إذا قيل له: شخص لي المرض، أو إنني أشتكي -مثلاً- من ألم في موضع كذا، فأريد أن أعرف حقيقة هذه الشكوى، فإذا التزم الطبيب بكشف وتشخيص المرض فإنه يستحق أجرة التشخيص، وإذا التزم بالعلاج والمداواة فإنه يستحق أجرة المداواة، فتصبح عنده مرحلتان: إن اتفق معه على التشخيص فهذا شيء، وإن اتفق معه على التداوي، فهذا شيء آخر، وعلى هذا: فكشف حقيقة الأمراض وفحص الأمراض في الطب يستحق الطبيب الأجرة فيه إذا شخص على وفق الأصول المتبعة عند أهل الخبرة والأطباء. أما الآلات: مثل السيارات، إذا جاء وأحضرها عند مهندس مثلاً، فإذا قال للمهندس -مثلاً-: اكشف لي عيب هذه السيارة. فهذا شيء، وإذا قال له: أصلح لي السيارة. فهذا شيء آخر. إذا قال له: اكشف لي عيب السيارة، صارت إجارة على فحص السيارة، فيفحص جميع ما فيها، وإذا حدد وقال: أريدك أن تكشف على شيء معين في السيارة، فهنا يتم العقد على شيء معين، ويكون مورد العقد على شيء معين، وفي هذه الحالة إذا قام المهندس بالكشف عندها وحدد ما بها، وكان يطمع أن تصلحها عنده فقلت: لا أريد أن أصلحها عندك. فيجب عليك دفع أجرة مثله، أما أن يأتي بسيارته ويكلفه الكشف عليها ويخدعه كأنه يريد أن يصلحها عنده ثم ينطلق ويصلحها عند غيره، فللعامل وللمهندس حق خبرته ونظره وتعبه، ولا يجوز أن يأمره بذلك إلا وقد حدد له أجرته، وهذا بالنسبة لكشف الآلة. لو أن الساعة تعطلت فجاءه وقال له: أصلح لي الساعة. فيكون المهندس أو الخبير بإصلاحها مطالباً بأمرين: الأمر الأول: معرفة منشأ الفساد وحقيقته، وثانياً: معرفة كيفية إصلاحها. فإن قال له: بها عيب كذا. قال له: حسناً، هذا العيب بكم تصلحه؟ فقال: هذا العيب له قطعة، وهذه القطعة إن اشتريتها أنت -فلو فرضنا أنها عقارب الساعة- أصلحها بخمسين ريالاً، ولو قال له: عقارب الساعة موجودة عندي، والثلاثة العقارب بثلاثمائة ريال، وتركيبها بخمسين ريالاً، فأصبح المجموع ثلاثمائة وخمسين ريالاً. فهذا لا شيء فيه، وخاصة على القول باجتماع الإجارة والبيع فيما يخف، وهذا مما يخف، ففي الفحص وإصلاح الآلات يكون الأمر موقوفاً على معرفة الفساد وما يستلزمه إصلاح الفساد، فيحدد أجرة المعرفة وأجرة الإصلاح. أما بالنسبة للمسائل المتعلقة بجزئيات الفحص على الأبدان -الذي هو الفحص الطبي- فهذه تحتاج إلى تفصيل، فمثلاً: التصوير بالأشعة لابد أن تحدد نوعية الأشعة: هل هي أشعة مقطعية أم سينية أم أشعة بالليزر؟ فيحدد ما الذي يريد أن يتصور به، ثم يحدد العضو الذي يريد أن يصوره، وتكون مهمة المصور أن يصور على وفق الأصول الطبية، بشرط أن تظهر الأفلام واضحة، فلو أنه قصر ولم تكن واضحة فمن حقه أن يطالبه بإعادة التصوير مرة ثانية. وأيضاً: يطالب المصور -إذا اتفق معه على التصوير وتشخيصه- بكتابة تقرير التصوير؛ لأن التقرير يعتبر تابعاً للإجارة، وقد جرى العرف على أن المصور يكتب تقريره، فإذاً: لابد وأن يكتب تقريره، فلو كان التصوير بالأشعة قيمته خمسين ريالاً، والتقرير كتابته بعشرين ريالاً، فلو أنه صور له ولم يكتب استحق الخمسين، وهذا شيء طيب وحسن في المستشفيات، فنجد عندهم نوعاً من التفصيل، فتجده مثلاً يقول لك: الأشعة المقطعية قيمتها كذا، والأشعة على اليد قيمتها كذا، والأشعة على الرجل قيمتها كذا. والمقصود: أنك تدخل إلى العقد وأنت على بينة، وهذا الذي تريده الشريعة للمتعاقدين؛ أن كل متعاقد يعرف ما الذي له وما الذي عليه. وإذا قرأ طالب العلم هذا المسائل وطبقها على ما يعيشه وعلى ما يبتلى الناس في أعرافهم؛ وجد سماحة الشريعة، وخاصة عند التطبيق ستظهر أمور جلية، وكم من مسائل قرأناها في المتون ولما طبقناها في واقع الناس وفي حياتهم وجدنا لها فوائد وحكماً وأسراراً؛ لأن الشريعة تنزيل من الحكيم الحميد، وربما العلماء يقولون حكمةً، ولكن كم من حكم تخفى! وكم من أسرار وفوائد لا تظهر إلا عند التطبيق والممارسة؛ ولذلك كانوا يقولون: من أفضل الشروح في الفقه شرح الفقيه القاضي أو المفتي؛ لأنه من خلال فتاوى الناس إذا جاء ليشرح فإنه يشرح بعمق، ويشرح بفهم، وعنده إلمام بالأصول والمستثنيات. والفقيه القاضي؛ يعرف خصومات الناس وحقوقهم، فيعرف قيمة شروط الشريعة التي تحدد حقوق المتعاقدين. فالمقصود من هذا: أن الإجارة إذا كانت على الفحص فلابد فيها من تحديد المنفعة

مسألة تداخل العقود

مسألة تداخل العقود Q ذكرتم -حفظكم الله- أن تداخل العقود في الشريعة يوجب فوات الحقوق ويستلزم ختل الآخر، هل هذه قاعدة شرعية؟ وما هو المراد بالعقود هنا؟ A تداخل العقود: أن يجمع بين عقدين فأكثر على وجه يتضمن الغرر، ومن أمثلة تحريم الشريعة لهذا النوع: نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيعتين في بيعة، فأدخل العقدين في العقد الواحد، فإذا قال له: أبيعك هذه السيارة بمائة ألف نقداً، وبمائتين إلى نهاية السنة. وافترقا قبل أن يحددا، فأصبح وقد باعه بمعجل ومؤجل، باعه بعقدين وأدخلهما في عقد واحد، فأتم صفقة السيارة بقيمتين مختلفتين إحداهما أضر من الأخرى، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم إذا افترقا قبل تحديد البيعتين: (فله أوكسهما أو الربا) فإذا لم يبتا ولم يحددا هل هو بالنقد أو بالتقسيط صار تردداً في العقدين، فلا ندري هل نطبق على هذا البيع الآجل أو العاجل؟ فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا التداخل في العقد: (فله -أي: للبائع- أوكسهما أو الربا). (له أوكسهما) قالوا: لأنه ربما باعه وهو يريد أن يأخذها مؤجلة، فرجع له بعد ساعة وقال له: لا أريدها مؤجلة، ولكن أريدها معجلة، فأعطاه الوكس -أي: الأقل- (فله أوكسهما): أي: أقلهما. (أو الربا) أي: أنه باعه وفي نيته أن يدفع له معجلاً، فظهر أنه يريده مؤجلاً، فكأنه عوض المعجل بالمؤجل مع الزيادة، وهو ربا الفضل، فقالوا: لا يجوز ذلك، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذه العلة لمكان التداخل. وأياً ما كان فإن تداخل العقود إذا كان على وجه يوجب الغرر فإنه من حيث الأصل والمبدأ أمر متفق عليه بين العلماء رحمهم الله، والله تعالى أعلم.

توضيح لقاعدة: يجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل

توضيح لقاعدة: يجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل Q حصل عندي إشكال في القاعدة التي ذكرتموها: يجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل. وهو أن العطر به مادة كحولية وهي تابعة، فهل عندما نشتريه لم نكن قصدنا -أصلاً- ما به من كحول؟ A من حيث الأصل: أن ننظر في الدليل، فالنبي صلى الله عليه وسلم حرم بيع الخمر، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه خطب في اليوم الثاني من فتح مكة وقال: (إن الله ورسوله حرما بيع الميتة والخمر) ولم يفرق بين قليلها وكثيرها، وقال: (ما أسكر كثيره فملء الكف منه حرام) فجعل حكم القليل والكثير في الخمر سواء، فإذا ثبت أن التحريم في الخمر تعاطياً وتجارة شامل للقليل وللكثير؛ فإنه ينبغي في تحريم البيع أن نحرم القليل والكثير تابعاً أو أصلاً؛ لأن الله يقول: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] فأمر بالاجتناب الكلي ولم يفرق بين قليله وكثيره؛ فاستوى الحكم فيهما. وأنبه -بالمناسبة- في قاعدة: يجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل. على أنك إذا تأملت النصوص وجدت أن النصوص استثنت، ولذلك لا نطبق هذه القاعدة إلا في حدود ضيقة جداً، إما أن يشهد نص بالاستثناء، وإما أن يحصل إجماع بين العلماء على الاستثناء، أو ينقدح دليل من قواعد الشريعة العامة وأصولها العامة على هذا الاستثناء، أما أن كل شخص يقول: هذا تابع فيجوز، وهذا تابع فيجوز. فقد يحرم ما أحل الله عز وجل بهذه الحيلة. وسبق وأن ذكرنا أن قواعد العلماء والقواعد الفقهية والقواعد الخاصة والضوابط لا ينبغي لكل أحد أن يتولى تطبيقها، بل عليه أن يطبقها من خلال كلام العلماء والأئمة المجتهدين، وأنبه على أن أي شخص يطبق قاعدة لم يسبق له دراستها بدليلها وأصولها على عالم متمكن منها، ولم يسبق له أن تعلم كيفية تطبيق هذه القاعدة على فروعها؛ فإنه يحرم عليه أن يطبق هذه القاعدة؛ لأن تطبيقها اجتهاد، والاجتهاد لا يجوز إلا لمن هو أهل، وينبغي على طلاب العلم أن يتورعوا. وكم نسمع بعض الأحيان من أن بعض طلاب العلم يسمع بعض الفتاوى من المشايخ ثم يطبقها على المسائل التي يسأل عنها، فهذا لا يجوز، وينبغي عليك أولاً: أن تعرف علم القواعد الفقهية، ثم تعرف دليل هذه القاعدة، ثم تعرف هل هذه القاعدة خرجت من أصل عام تنطبق على جميع الفروع أو لها مستثنيات، فقد تجتهد في شيء مستثنى، وقد تجتهد في مستثنى أجمع على استثنائه. فإذاً: لابد لطالب العلم أن ينتبه لهذه الأمور. ومن الورع والأورع، بل قالوا: العلم الحقيقي هو العلم الموروث، والعلم الموروث: أن تستثني وأمامك عالم وحجة بينك وبين الله تستثني به، أما أن يستثني طالب العلم من عنده، وبمجرد أن يقرأ القاعدة أو يقرأ المسألة يأتي ويطبقها، فقد تقحم النار على بصيرة. وثق ثقة تامة أن العلم لا يكون بالتشهي والتمني، ولكن يكون بالقدم الراسخة حينما تضعها على أثر ممن تقدمك من العلماء؛ لأن الله يقول: {أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4] فالعلم الصادق الموروث والذي ينجي صاحبه أمام الله عز وجل هو المبني على حجة ودليل وأثر. والقواعد فيها الزلات العظيمة، وأقول هذا بالتجربة، فإن طالب العلم من خلال القواعد قد يحرم ما أحل الله؛ لأنها مشكلة، كما قال الله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82] القواعد اجتهادات، وينبغي في هذه الاجتهادات ألا يتناولها إلا عالم على قدم راسخة، يعرف ما الذي ورد على هذه القاعدة، وكم من القواعد قرأناها، ثم بعد أن قرأنا المطولات وجدنا لها مستثنيات ووجدنا لها ضوابط وقيود. وعلم القواعد هذا علم مستقل، ولا يستطيع أحد أن يتقن علم القواعد إلا بعد أن يضبط علم الفقه كاملاً، ثم بعد ذلك تأتي مسألة القواعد الفقهية، لأن القواعد الفقهية المراد منها استخلاص أو خلاصة الفقه الذي قرأت. ومن أجل أن يبارك الله لطالب العلم في علمه ولا يتحمل المسئولية أمام الله عز وجل؛ عليه ألا يستخدم القواعد إلا وقد سمع عالماً طبقها، أو أخذ العلم وطريقة تطبيق القواعد وإلحاق الفروع بالأصول من العلماء؛ فهذا هو الذي يعذره أمام الله عز وجل، والله تعالى أعلم.

حكم سجود التلاوة في الصلاة

حكم سجود التلاوة في الصلاة Q في الصلاة السرية إذا مر الإمام بآية السجدة هل يسجد أم لا؟ A يشرع في الصلاة السرية كالظهر والعصر: أن يسجد الإمام إذا قرأ آية سجدة، وإن خاف أن يلتبس الأمر على المأمومين أو تحصل مفسدة وأراد ترك السجدة فلا بأس؛ لأنها ليست بعزيمة، وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب الناس يوم الجمعة، وقرأ آية في سجدة فقرأ وسجد، ثم قرأ الجمعة التالية آية فيها سجدة فتهيأ الناس للسجود فقال: (على رسلكم، إنها ليست بعزيمة). فمن فقه الإمام: أنه إذا كان مسنوناً ويخشى منه حدوث مفسدة أعظم، وأحب تركه من باب خوف المفسدة الأكبر من حدوث الخلل في الصلاة والتشويش على المصلين واضطرابهم فلا بأس أن يتركه، والله تعالى أعلم.

لا مدة محددة بين عمرتين

لا مدة محددة بين عمرتين Q هل من مدة محددة بين عمرتين؟ A ليس هناك نص يحدد ما بين العمرتين، والذي ذكره بعض العلماء رحمهم الله أنه إلى نبات الشعر، وقدرها بعضهم بالأربعين؛ لأن الغالب فيها أن ينبت، وقال بعضهم: إذا وجد شعراً يحلقه، وهذا إذا حلق الشعر، لكن ممكن أن يعتمر ويقص شعره، فعلى هذا الضابط قد يؤدي عمرتين وليس بينهما إلا فاصل يسير. وأياً ما كان فليس هناك تحديد لما بين العمرة والعمرة، ومذهب جمهور العلماء جواز تكرار العمرة في السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة إلى العمرة مكفرة ما بينهن) وقال: (تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الكفر والفقر كما تنفي النار خبث الحديد) فهذا لا قيد فيه ولا تحديد، والله تعالى أعلم.

عدم اليأس في النصيحة

عدم اليأس في النصيحة Q سائل يشكو من عدم اهتمام أهله بالصلاة رغم ما أسداه إليهم من النصيحة، فما توجيهكم نحو هذا؟ A الصلاة عماد الدين، ومن حرمه الله الصلاة فقد حرمه الخير، وما سميت صلاة إلا لأنها صلة بين العبد وربه، وما ذكر الله شرائع الإسلام وقواعده العظام إلا استفتحها بشهادة الإسلام ثم أتبعها بإقامة الصلاة التي هي عمود الإسلام، ولا قيام للبناء إلا بعموده. ولقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على تعظيم أمرها وشأنها، حتى أخبر صلى الله عليه وسلم أن أول ما يحاسب عليه العبد بين يدي الله الصلاة، وقال: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة) وقوله: (خير أعمالكم الصلاة) دليل ظاهر على عظيم شأنها وعلو مرتبتها عند الله عز وجل. بل إن النصوص دلت على ما هو أعظم من ذلك، وهو بيانه عليه الصلاة والسلام أن العبد قد يضيعه الله عز وجل بإضاعة الصلاة، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مسلم تحضره الصلاة فيتم طهورها وركوعها وسجودها وخشوعها إلا صعدت وعليها نور، ففتحت لها أبواب السماء، حتى تنتهي إلى ما شاء الله أن تنتهي إليه، تشفع لصاحبها وتقول: حفظك الله كما حفظتني، ومن ضيع حقوق الصلاة فإنها تلف كما يلف الثوب الخلق، ويضرب بها وجه صاحبها، وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني). وكان بعض العلماء يقول: قد تمر عليَّ النكبة في اليوم فأخشى أنني أضعت في الصلاة خشوعاً أو أمراً من حقوقها فدعت علي. لأنها تقول: (ضيعك الله كما ضيعتني) فكم من عبد محفوظ حفظه الله بصلاته! وكم من عبد مضيع ضيعه الله بإضاعة الصلاة! أقول هذا حتى تحرص على هدايتهم، وتستنفذ كل الوسائل لدعوتهم على المحافظة على الصلاة، واستدم دعاء الله أن يهدي قلوبهم، وخذ بالأسباب التي تعينهم على حب الصلاة، ورغبهم فيها، وذكرهم وبصرهم بما عند الله من المثوبة لمن أقامها والعقوبة لمن ضيعها، ولا تيأس ولا تعجز، فإنه لا يزال لك من الله معين وظهير ما دعوت إلى الله، ولا تزال في البيت على خير، فخير الناس في بيته وأهله من أمرهم بما أمر الله ونهاهم عما نهى الله عنه، ولا خير في العبد إلا إذا أقام حق الله وأمر بما أمر الله به. فأمرهم بما أمر الله، وانههم عما نهى الله عنه، ولا تيأس، فلعل الله سبحانه وتعالى أن يقر عينك يوماً من الأيام بهدايتهم، ونسأل الله العظيم بمنه وكرمه أن يجعل ذلك عاجلاً لا آجلاً. ونسأله تعالى أن يمن علينا وعلى المسلمين بإقام الصلاة، وأن يجعلنا من أهلها المحافظين عليها المتمين لركوعها وسجودها وخشوعها، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

باب الإجارة [5]

شرح زاد المستقنع - باب الإجارة [5] مما يشترط في العين المؤجرة مع القدرة على تسليمها للمستأجر اشتمالها على المنفعة، وكذلك ملكية المؤجر لها أو الإذن له بالتصرف فيها، ولإجارة الأراضي الزراعية أحكام مهمة ينبغي أن يتعلمها المسلم حتى يستبرئ لدينه إن أقدم على ذلك. ويجوز لمن استأجر عيناً ما أن يؤجرها لشخص يكون مثله أو أقل منه في الضرر، وتجوز إجارة الوقف على تفصيل مذكور في هذه المادة.

حكم تأجير عين لا يقدر على تسليمها

حكم تأجير عين لا يقدر على تسليمها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فمما يشترط لجواز الإجارة: أن يكون المؤجر قادراً على تسليم المنفعة للمستأجر، فلا يجوز إجارة شيء لا يتمكن صاحبها من تمكين المستأجر من منفعته، ولذلك يعتبر العلماء رحمهم الله بيع البعير الشارد والعبد الآبق من بيوع الغرر التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وعلل العلماء ذلك: بأنه يدفع الثمن في شيء لا يمكن أن يضمنه استلامه. كذلك في التجارة: لا يجوز أن يستأجر شيئاً لا يتمكن من منفعته، أو لا يستطيع صاحب الملك أن يمكنه من منفعته، وقد ذكر العلماء رحمهم الله لذلك أمثلة، فيعتني المصنف رحمه الله بذكر شيء منها. إذاً: لا تصح الإجارة إلا إذا كانت على منفعة مقدور على تسليمها، فإن كانت على منفعة غير مقدور على تسليمها فإنك تقول: إن هذا من الغرر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغرر، وكما لا يصح بيع الشيء الذي لا يمكن تسليمه، كذلك لا يجوز بيع المنفعة التي لا يمكن تسليمها، بجامع كون كل من العقدين عقد معاوضة. قال رحمه الله تعالى: [ولا تصح إجارة الآبق والشارد]. فلا تصح إجارة عبد آبق، وهو الذي فر وهرب من سيده، ولا تجوز إجارة بعير شارد، فالبعير إذا كان شارداً وقال له: أؤجرك هذا البعير يوماً بمائة، واتفقا على إجارته في الغد، فإن البعير غير موجود، فيحتمل أن يتمكن من أخذه والقبض عليه حتى يتمكن المستأجر من أخذ المنفعة ويحتمل ألا يتمكن من ذلك، فصارت إجارته على هذا الوجه من إجارة الغرر، وقد حرم الله ورسوله الغرر لأنه أكل للمال بالباطل. وعلى هذا قالوا: لا يجوز إجارة البعير الشارد ولا إجارة العبد الآبق، فلابد إذا استأجر شيئاً أن يكون مقدوراً على منفعته، وهذا من العدل، فإن الله سبحانه وتعالى حفظ للناس حقوقهم، وجاءت الشريعة بحفظ الحقوق للعباد، فإذا استأجر أخوك المسلم منك شيئاً فإنك كما لا ترضى لنفسك أن تدفع مالاً في شيء لا تضمنه، كذلك ينبغي ألا ترضى لأخيك المسلم أن يدفع مالاً في شيء لا يضمنه، ولا يتمكن من أخذ حقه واستفيائه منه.

اشتمال العين المؤجرة على المنفعة

اشتمال العين المؤجرة على المنفعة قال رحمه الله: [واشتمال العين على المنفعة]. يشترط كذلك اشتمال العين على المنفعة، فإذا استأجر حيواناً أو إنساناً أو داراً أو موضعاً لمنفعة فلا يمكن أن نحكم بصحة هذه الإجارة إلا إذا كانت المنفعة المقصودة موجودة في الشيء المؤجر، ومن هنا إذا استأجر بيتاً ولا يمكنه أن يسكنه فإن المنفعة غير ممكن أن يتوصل إليها المستأجر، ومن أمثلة ذلك -قالوا-: السكن، إذا كانت الدار مسكونة بالجن ونحو ذلك فهذا فيه ضرر، فلا يستطيع أن ينتفع به، فذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله وغيره من الأئمة أنه لا تصح الإجارة، لأن المنفعة لا يتمكن منها، وذكر المصنف رحمه الله لذلك أمثلة، فقال رحمه الله: [ولا تصح إجارة بهيمة زمنة للحمل]. فالبهيمة الكبيرة والتي يكون فيها مرض لا يمكن معه أن تتحمل الحمل، لا يمكن إجارتها لحمل الأثقال، ولا يمكن إجارتها لحمل الناس، فلو أنه قال له: أجرني بعيرك أحج به، والبعير مريض، فإن العين المستأجرة لا يمكن أخذ المنفعة منها، فلا تصح الإجارة. إذاً: هذا الشرط والشرط الذي قبله بينهما توافق؛ لأن كلاً منهما المقصود منه: توصل المستأجر إلى حقه، فكما لا تجوز إجارة العين الغير موجودة والتي لا يقدر على تسليمها لكي يتمكن المستأجر من الانتفاع بها، كذلك لا يجوز إذا كانت العين موجودة ولا يمكن أخذ المنفعة منها، أو يغلب على الظن عدم قدرتها على القيام بالمنفعة كالبعير المريض والبعير الزمن والهرم، إذا استأجره لعمل شديد وعمل يحتاج إلى تعب وعناء، والبعير لا يطيق ذلك؛ فإن الإجارة لا تصح، وهذا مفرع على ما تقدم؛ لأنه يؤدي إلى أكل المال بالباطل.

مسائل متعلقة بتأجير الأرض للزراعة

مسائل متعلقة بتأجير الأرض للزراعة وقوله: [ولا أرض لا تنبت للزرع]. الأرض تنقسم إلى قسمين: إما أن تكون أرضاً زراعية، وهي الأرض الصفراء الصالحة للزرع وما في حكمها. وإما أن تكون أرضاً غير صالحة للزرع، ومن أمثلتها: الأرض السبخة كثيرة الأملاح، فإنه مهما بذر الإنسان فيها فإنها لا تنبت كلأً ولا تنبت العشب ولا الزرع. ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه ما من شيء جعل الله فيه المنفعة إلا وجعل له نظيراً يتعذر منه المنفعة، والله عز وجل لحكمته جعل من الأرض ما لا ينبت زرعاً، حتى إذا قال الناس: إن هذا الزرع أوجدته الطبيعة أو وجد هكذا صدفة كذبهم الله بالأرض التي لا تنبت، وكذبهم الله بالأرض التي يصب عليها الماء ويغدق آناء الليل وأطراف النهار ومع ذلك لا تنبت شيئاً، وهذا يدل على عظمة الله سبحانه وتعالى، ولذلك خالف بين الأشياء. فالأرض من حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل فيها ما ينبت وجعل فيها ما لا ينبت، وجعل فيها ما يمسك الماء وجعل فيها ما لا يمسك، فهذا الاختلاف في الأرض جعل الاختلاف في الحكم على مقصد إجارة الأرض، فمن استأجر أرضاً وقصده منها أن يزرع فهذه تعرف بمسألة إجارة الأرض للزراعة، وفي هذه المسألة كلام طويل للعلماء رحمهم الله، واختلف العلماء في هذه المسألة وفي تفاريعها إلى ما يقرب من خمسة أقوال مشهورة عن أهل العلم رحمة الله عليهم: القول الأول: منهم من حرم إجارة الأرض للزراعة مطلقاً، وقال: لا يجوز للمسلم أن يستأجر أو يؤجر أرضاً، فدفع المال لإجارة الأرض لا يجوز مطلقاً، واستدل بحديث جابر في الصحيح: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع) وفي رواية: قال عليه الصلاة والسلام: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه، ولا يؤاجرها) فقوله: (ولا يؤاجراها) نهي، والنهي يدل على التحريم، فدل على تحريم إجارة الأرض للزراعة، وهو مذهب الظاهرية وطائفة من أهل العلم. وقال جمهرة السلف والخلف رحمهم الله: تجوز إجارة الأرضين. واختلفوا على أقوال تقرب من أربعة أقوال، فحاصل هذه الأقوال: القول الثاني: منهم من يقول: يجوز إجارتها بكل شيء إلا بالطعام، ووجه هذا القول أنه إذا أجرها بالطعام، فالأرض يقصد منها الطعام ويقصد منها الحب والثمر، فكأنه يبادل الطعام بالطعام، فبادل الربوي بالربوي نسيئة ومتفاضلاً إذا اتحد نوعه وجنسه، أو ربوي بربوي نسيئة إن كان من نوع مختلف، هذا إذا كانت إجارتها بالطعام. وهذا هو القول الثاني فهؤلاء قالوا: يجوز بكل شيء، إلا أن يقول له: أستأجر منك هذه الأرض بمائة صاع من التمر، أو بمائة صاع من البر، أو بمائة صاع من الشعير أو الدخن، فهذا لا يجوز؛ لأنه جعل الأجرة والقيمة من الطعام، فيستثنون فقط الطعام. القول الثالث: ومنهم من حرم تأجيرها إذا كان بجزء من الخارج منها، فقال: يجوز إجارتها، ولكن إذا كان من الطعام الذي يخرج منها فلا يجوز؛ لأنه في هذه الحالة إذا استأجر بجزء مما يخرج منها فقد عاوض الطعام الذي أخذه بالطعام الذي دفعه، فكان أيضاً من الطعام بالطعام ربوياً متفاضلاً ونسيئة. القول الرابع: ومنهم من قال: إنه يجوز إجارتها بالذهب والفضة فقط -أي: بالنقدين- ولا يجوز إجارتها بما عدا ذلك. القول الخامس: ومنهم من أجاز إجارتها بكل شيء، وهذا هو الأقوى والصحيح. والذين حرموا الصور التي ذكرناها مجاب عنهم، وذلك أن حديث رافع بن خديج رضي الله عنه وأرضاه في الصحيح جاء على ألفاظ مختلفة، فالذي يظهر من هذه الأحاديث: أولاً: أن الحديث الذي ورد بالنهي عن إجارة الأراضي المراد به أحد أمرين: إما أن يكون المراد به خاصاً، وهذا محمول على حديث رافع الذي فسر التحريم، فعندنا حديث عن رافع يقول: (إنما كانوا يؤاجرون الأرضين على الماذيانات وأقبال الجداول، فيسلم هذا ويهلك هذا) مراد رافع رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّم إجارة الأرضين على الصحابة رضوان الله عيهم؛ لأنهم كانوا في أول الأمر يؤجرون الأرض ويقولون للمستأجر: نأخذ الزرع الذي ينبت على الحياض وعلى المياه، وأنت تأخذ البعيد. فقوله: (يؤاجرون على الماذيانات وأقبال الجداول) المراد منه: يقول صاحب الأرض: خذ أرضي وازرعها، ولكن كل شيء ينبت بجوار قنطرة الماء أو على جدول الماء أو قريباً من الماء فهو لي، وما زاد فهو لك. قال رضي الله عنه: فيسلم هذا -أي: الذي على الماء؛ لأنه قريب من الماء ومنتفع من الماء- ويهلك هذا -أي: البعيد من الماء- فكأنه نوع من الغرر، فهو يختله ويخدعه، فيجعل الأحض لنفسه، والأدنى للعامل الذي تعب على زراعة الأرض، فحرم الله عز وجل ذلك، وحرمه رسوله عليه الصلاة والسلام لأنه من الغرر، ولذلك قال: (فيسلم هذا ويهلك هذا). أما لو قال له: خذ الأرض وازرعها وهي مناصفة بيني وبينك، فيجوز؛ بشرط ألا يحدد نصفاً معيناً؛ لأن الغرر منتف في هذه الحالة. فإذاً: حديث رافع وحديث جابر رضي الله عنهما نستطيع أن نقول: إنهما خرجا مخرجاً واحداً، والمراد بهما: أن يحدد صاحب الأرض للمستأجر مكاناً معيناً يأخذ زرعه، ويكون أجرة لأخذ الأرض، هذا الوجه الأول في الجواب. أما الوجه الثاني: أن يكون حديث جابر رضي الله عنه في التحريم والنهي سببه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان معه المهاجرون، وكان المهاجرون حينئذٍ فقراء، فوسع النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، وجعل من أخوة الإسلام أنهم ما داموا في أول العصر المدني أن منع الأنصار من إجارة الأرضين. وهذا له أصول ومنها: حديث النهي عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ليال، فهو أمر معروف معهود من الشريعة، فحرم الله عز وجل في ابتداء الأمر إجارة الأرضين لمكان الحاجة ثم أبيحت، وهذا الوجه يختاره بعض العلماء، والوجه الأول يقويه حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، أي: يقوي أن تحريم النبي صلى الله عليه وسلم لإجارة الأرضين كان بسبب التخصيص لقطعة من الأرض. وكان زيد بن ثابت رضي الله عنه من أعلم الصحابة، وهو من أئمة الفتوى، ولذلك لما توفي رحمه الله وبلغت وفاته أبا هريرة بكى أبو هريرة بكاء شديداً وقال: لقد دفن الناس اليوم علماً كثيراً. فكان رضي الله عنه وأرضاه من أعلم الناس بالقرآن ومن أعلم الناس بالسنة، فلما نهى رافع الناس عن إجارة الأرضين في مسألتنا وبلغ ذلك زيداً، قال زيد رضي الله عنه: (يغفر الله لـ رافع، أنا أعلم بالحديث منه، إنما كانوا يؤاجرون بعض الأرض على أن يسلم البعض ويهلك البعض، فحرم النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك؛ لأنهم كانوا يختصمون). أما الإمام أحمد رحمة الله عليه فإنه رجح حديث الإجارة، وهي الرواية الصحيحة، وكذلك ما جاء في حديث ابن عمر في إجارة الأرض على يهود خيبر حينما أخذوها مساقاة، رجح ذلك على حديث رافع، وقال رحمه الله كلمته المشهورة: (حديث رافع ألوان). يعني: أن حديث رافع جعل الوجوه كثيرة، ولذلك كان رافع رضي الله عنه وأرضاه يقول: (أما ما كان بشيء معلوم فلا بأس)، فكان يخفف على الناس إذا استأجروا الأرض بالنقود، ويحرم عليهم إذا استأجروا بجزء من الأرض، وتارة يروي الحديث بالنهي عموماً، فإما أن يكون النهي العام المراد به الخاص، وهذا هو الصحيح، والسنة يفسر بعضها بعضاً، فيترجح قول من قال بجواز إجارة الأرضين، وهذا هو الصحيح. إذاً: الخلاصة: أن إجارة الأرضين جائزة، وأن الأحاديث التي وردت بتحريم إجارة الأرضين إما منسوخة؛ لأنها في أول التشريع المدني، وإما أن يكون المراد بها: إجارة الغرر، بأن يحدد جزءاً من الأرض، كأن يقول له: خذ الأرض وازرعها، وتكون أجرة أرضي أن آخذ منك نصفها الذي يلي الماء، أو لي نصفها الشرقي ولك نصفها الغربي. فهذا لا يجوز وهو محرم. كل الكلام الذي نتكلم عليه الآن: أن تستأجر الأرض للزراعة؛ لأن الأرض قد تستأجر من أجل أن تكون للرعي، وتستأجر لوجود الدواب فيها، وتكون زريبة لدابة أو تكون مستودعاً لأغراض أو نحو ذلك كما هو موجود في زماننا، فنحن لا نتكلم عن هذا كله؛ لأنه يجوز بالإجماع أن تستأجر الأرض لذلك، لكن محل الخلاف في إجارة الأرضين للزراعة.

من أقسام الأراضي الزراعية

من أقسام الأراضي الزراعية إذا ثبت جواز إجارة الأرضين للزراعة، فالأرضين تنقسم إلى أقسام، فمثلاً: إذا استأجر الأرض للزراعة فإما أن تكون الأرض فيها ماء مستقر دائم، وإما ألا تكون كذلك، فإن كان في الأرض ماء مستقر دائم، كأن يكون بها عين ماء، أو يكون فيها بئر والماء فيه غزير، أو تكون بجوار نهر، فالماء مضمون بإذن الله عز وجل، أو يستأجرها شهراً أو شهرين، والمدة التي يريد أن يستأجرها الغالب فيها وجود الماء، فهذه بإجماع العلماء الذين يقولون بجواز إجارة الأرضين تجوز إجارتها؛ لأن المنفعة وهي الزراعة ممكنة؛ لأن الماء موجود، والأرض صالحة للزرع. فإذا اختل أحد الشرطين: كأن يكون الماء غير موجود، أو كانت الأرض غير صالحة للزراعة كالأرض السبخة فلا يجوز؛ لأنه إذا استأجرها بقصد الزراعة والأرض سبخة فإنه لا يجوز، وقد غرر به، ولا يستطيع أن يتوصل للذي من أجله استأجر الأرض. كذلك لو كانت الأرض زراعية ولكن لا ماء فيها فإنه لا يتمكن، فإذا تحقق الأمران: بأن كانت الأرض زراعية، وكان الماء موجوداً ومستقراً وثابتاً في الأرض؛ فإنه تجوز إجارتها وجهاً واحداً عند العلماء على التفصيل الذي ذكرناه. لكن إذا لم يكن فيها ماء، فتارة تكون إجارتها على أن يجلب الماء إليها، كأن يكون مثل ما هو موجود في زماننا يتمكن من نقله بوسائل النقل إلى هذه المزرعة، أو قطعة صغيرة يريد أن يجعلها محمية، فيجعل فيها نوعاً من المزروعات، فحينئذ يجوز؛ لأن المنفعة التي يريدها لها وسيلة يتوصل بها. وهكذا لو كان جاراً للأرض وعنده أرض فيها ماء، وهذه بجوار أرضه، ويريد أن ينقل الماء الذي في أرضه إلى هذه الأرض فإن ذلك يجوز، هذا إذا لم يكن في الأرض ماء. الصورة الثانية: أن يجلب الماء إليها إذا لم يكن فيها ماء، أو تكون هذه الأرض في موضع والغالب نزول الماء عليه، مثل: الرياض التي تكون في الجبال، ويأتي في موسم المطر، فيقول له: أستأجر منك هذه الأرض. فبعض العلماء يقول: إذا كان الغالب نزوله، أو كانت الأرض معروفة بكثرة الأمطار فهذا يجوز، لكن إذا كانت الأرض قحطاً، والغالب عدم النزول أو مشكوك في نزوله فهذا من الغرر؛ لأنه يحتمل أن ينزل الماء ويحتمل ألا ينزل، فإن نزل الماء زرع، فحقق المنفعة التي من أجلها استأجر، وإن لم ينزل الماء لم يستطع زراعتها، فإذاً: يكون قد أكل مال أخيه بالباطل. قالوا: إذا كان يغلب على الظن وجود الماء، مثل: أن يكون استأجرها في مواسم الغالب على الظن النزول، أو كان في نصف الموسم ونزلت أمطار، والأرض ممكن زراعتها قالوا: يجوز في هذا. أي: إذا استأجر منه الأرض في موضع الغالب نزول المطر فيه، أو يغلب على ظنه أنها تمطر، أو كان هناك في الأرض ممكن أن يكون لها ارتواء مثل ما ذكروا، أن تكون الأرض فيها واحة أو فيها غدير ماء مثلما يقع في بعض الرياض، حيث تكون قريبة من غدران المياه، فيضعون عليها (المواطير) أو نحوها لسحب المياه، قالوا: فهذا يجوز، وقد ذكروا هذا حينما يذكرون الأرض العامرة والغامرة. إذاً: الخلاصة: أنه إذا كانت الأرض فيها ماء وهي أرض زراعية جاز إجارتها للزراعة وجهاً واحداً على التفصيل الذي ذكرناه، وأما إذا كانت الأرض لا ماء فيها، فإننا ننظر إذا كان يمكن جلب الماء إليها، سواء عن طريق مزرعته أو عن طريق وسائل النقل، أو حفر لها خليجاً يصل الماء عن طريقه إليها، فإنه تجوز إجارتها؛ لأن الغالب حصول المنفعة، أما إذا كان على الظن والاحتمال فلا يجوز. وهناك نوع من الأرضين ذكره العلماء، ونبه عليه الأئمة كالإمام النووي رحمه الله والماوردي وغيرهم رحمة الله عليهم، وهو أن تكون الأرض مغمورة بالماء مثلما يقع في بعض المواسم التي يكون فيها فيضانات، ويفيض الماء فيها كثيراً حتى إلى المزارع ويغطيها، فجاء رجل عنده أرض زراعية وليس فيها زرع، لكنها صالحة للزراعة، وأراد أن يستأجرها شخص منه وهي مغمورة بالماء، والأرض إذا غمرت بالماء والسيل فإنه يمكن زراعتها بمجرد أن ينزل منسوب الماء إلى حد معين، فإنها تزرع وممكن أن تنبت؛ فهل إذا أجرها في حال غمرها بالماء يكون من الغرر؟ في المسألة تفصيل: إن كان انحسار الماء غالباً، كأن جرت العادة أن هذه الأرضين في موسم الأمطار تغرق، ثم إذا جاء الربيع وانحسرت المياه وقلت فإنها تنكشف، فإذا كانت مما يغلب على الظن انحسار الماء عنها صحت الإجارة، وحينئذ يؤجرها، وتكون إجارتها على الموسم الذي ينحسر فيه الماء ليتمكن من زراعتها، فإن أجرها وشملت إجارته وقت الماء لم يصح؛ لأن وقت الماء لا يمكنه زراعتها، ولذلك تكون إجارتها وقت الماء من أكل المال بالباطل. مثال ذلك: لو جاء إلى أرض مغمورة بالماء، ويستغرق نزع الماء عنها وانحساره شهراً، وقال له: أجرني هذه الأرض للزراعة شهرين. فاتفق معه على أنه يكون الشهر الأول الذي ينحسر فيه الماء من ضمن العقد، لم يصح ذلك؛ لأنه يأخذ منه أجرة شهر كامل دون أن يتمكن المستأجر من حصول المنفعة، فالمنفعة متعذرة؛ لأنه لا يمكن زراعة أرض مغمورة بالماء. وعلى هذا يفصل في إجارة الأرضين بهذا التفصيل، فيفرق بين أن تكون صالحة للزراعة أو غير صالحة، ثم تكون إجارتها بغلبة الظن بسقيها الماء أو لا يكون فيها ماء على التفصيل الذي ذكرناه. فمثل المصنف رحمه الله للمنفعة: بأن تكون الأرض لا ماء فيها أو غير صالحة للزرع إذا قصد منها الزراعة، أما لو قصد من الأرض غير الزراعة، وكان ذلك المقصود ممكناً في الأرض صحت إجارتها.

اشتراط ملك المؤجر للمنفعة أو الإذن له فيها

اشتراط ملك المؤجر للمنفعة أو الإذن له فيها وقوله رحمه الله: [وأن تكون المنفعة للمؤجر أو مأذوناً له فيها]. يشترط في صحة إجارة المنازل أن تكون ملكاً للمؤجر أو مأذوناً له بالتصرف فيها. وقد تقدم في كتاب البيوع أنه لا يجوز للمسلم أن يتصرف في مال أخيه المسلم على الأصل؛ لأن الله حرم الأموال، وقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمة مال المسلم كحرمة دمه. فالحقوق التي للإنسان في العقارات أو المنقولات والمنافع الموجودة فيها لا يجوز لأحد أن يتصرف فيها إلا بإذن المالك الحقيقي، فمن كان عنده بيت فإنه لا يجوز لأحد أن يأتي ويؤجر هذا البيت دون أن يكون مالكاً له أو قد أذن له المالك الحقيقي بالتصرف، أو له ولاية شرعية بالتصرف في هذا البيت بإجارته. وبناءً على ذلك: أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز للمسلم أن يؤجر مال غيره، فإذا أجر مال الغير فإن الإجارة باطلة، فلو قال له: أجرتك هذه العمارة بمليون لمدة سنة كاملة. وهو لا يملك العمارة، وليس له حق التصرف فيها بولاية ولا وكالة، فإن هذه الإجارة باطلة، وعلى هذا لابد وأن يكون مالكاً للمنفعة، أي: يكون من حقه أن يتصرف في المنفعة إجارة وكذلك هبة، فإذا ملك المنفعة وأمكنه أن يتصرف فيها صحت إجارته.

حكم من استأجر عينا ثم أجرها لغيره

حكم من استأجر عيناً ثم أجرها لغيره وقوله: [وتجوز إجارة العين لمن يقوم مقامه، لا بأكثر منه ضرراً]. هذه مسألة لطيفة، إذا أثبتنا أنه من حقك أن تؤجر بيتك وعمارتك وسيارتك، وكل ما أنت مالكه من المنافع، ويجوز لك أن تأخذ العوض على منفعته، وكما أنك تملك العين فإنك تملك منافعها. لكن لو سأل سائل وقال: استأجرت عمارة ودفعت أجرتها، وأخذت هذه العمارة سنة كاملة بمليون، فلما تم العقد أردت أن أؤجر العمارة على شخص آخر، الآن المالك الحقيقي هو المؤجر للعمارة، وهو الذي يملك منفعتها، فأنت اشتريت هذه المنفعة بمليون سنة كاملة، فهل من حقك أن تبيعها للغير؟ هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، وجمهور السلف والعلماء والأئمة وهو قول طائفة من أئمة التابعين وأتباع التابعين، وهو قول جمهرة أتباع الأئمة الأربعة؛ أنه يجوز للمسلم إذا استأجر عيناً أن يؤجرها لغيره، أي: يجوز له إذا استأجر أن يقيم غيره مقامه في الاستيفاء والأخذ، بشرط: أن يكون مثله أو دونه في الضرر، فلا يكون ضرره أكثر من ضرره، وإذا كان أكثر ضرراً فإنه لا يجوز، وهذا كله له أمثلة: مثلاً: لو استأجر رجل منك موضعاً على أن يكون محلاً للبيع -بقالة أو نحوها- والمحل في العمارة إذا أجر (بقالة) فإن فيه منفعة وفيه مضرة، ولكن قد يكون الضرر يسيراً، لكن مثلاً: لو أنه بعد أن اتفق معك على أن يفتحها بقالة، ثم أراد أن يفتحها محلاً لإصلاح السيارات، فإن في محلات إصلاح السيارات من الإزعاج والأذية ما لا يخفى، وإذا أراد أن يجعل المحل -مثلاً- مكاناً للنجارة أيضاً فإن في أعمال النجارة ضرراً، فالضرر يكون على العين مثل الآلات التي تهز العمارة، وتؤثر في مرافقها. ومن أمثلتها -مثلاً- لو أنه جاء فأجره محلاً على أنه بقالة، فأراد أن يضع فيها مكينة لصياغة الذهب، مكينة الذهب هذه تؤثر في أساس العمارة، وتؤثر في راحة سكانها، وهذا ضرر أعظم، فيشمل ضرر العين، والضرر المجاور للعين، فالأضرار التي تكون بنقل الإجارة إلى بديل تمنع من الجواز إذا كانت أكثر من الضرر الموجود في الإجارة الأصلية. فعلى هذا: يجوز للإنسان إذا استأجر عيناً أن يؤجرها لغيره بشرط أن يكون أقل منه ضرراً أو مثله، وهذا لا شك أنه أحفظ للحقوق، فبالعقل اتفقت معه على أن سكنى العمارة سنة كاملة قد اشتريتها منه، ومن اشترى الشيء ملكه، فكما أنه يجوز لك بالملك أن تسكن العمارة يجوز لك أن تؤجر من غيرك، وكما أنه يجوز على سبيل المعاوضة بالإجارة؛ فإنه يجوز -أيضاً- أن تقيم غيرك مكانك على سبيل الهبة، ومن أمثلة ذلك: لو استأجر شقة في عمارة وأراد أن يسكن ضعيفاً أو مسكيناً مكانه؛ صح ذلك وجاز له، لكن لو أن هذا الذي يريد أن يسكنه مكانه هبة أو إجارة أعظم ضرراً لم يجز. وقد يكون الضرر معنوياً وقد يكون حسياً، فلا يختص الضرر بكونه يؤثر في العمارة أو مصالحها فقط، بل حتى الضرر الذي يؤثر على أعراض الناس ويحدث لهم فتنة، فمن حق المؤجر أن يلغي الإجارة، ومن حقه أن يطالبه أن يستأجر بنفسه أو يحضر من هو مثله. فإذا أجر لرجل له عائلة والعمارة كلها عوائل، فلا يجوز له أن يأتي بأناس عزاب ويسكنهم مكانه، فهذا ضرر معنوي، ويخشى فيه على أعراض الناس، وفيه فتنة وضرر، حتى أن الرجل لا يستطيع أن يخرج ويترك أهله، ولا يستطيع كذلك أن يخرج أهله، فلذلك إذا كان الضرر معنوياً فمن حقه أن يعترض. وأما بالنسبة للضرر الحسي فكما ذكرنا، فكما إذا أجر عمارة أو شقة لرجل وراعاه في سعرها، فلابد أن ينتبه طالب العلم لهذا الأمر، فلربما جاء الرجل وزوجه فرضيت أن تؤجر له، ولربما جاء الرجل وأطفاله فلم تؤجر له، لعلمك أن الأطفال يفسدون ويزعجون، فأنت -مثلاً- في عمارتك لم تؤجر، وتقول له: أنا لم أؤجر إلا لكونك لا أطفال عندك. فإن ذهب وأجر لرجل له أطفال، فعند ذلك من حقك أن تعترض وأن تقول له: إما أن تسكن أو تسكن من هو مثلك أو دونك في الأذية والضرر، وإلا أخرج من أسكنته، وهذا من الناحية الشرعية لا إشكال فيه، أي: إذا اشترط عليه ألا يسكن من هو أكثر منه ضرراً، أو لم يشترط عليه وجاء بمن هو أضر. ذكر العلماء من هذا أمثلة: إذا كانت الدابة يطيقها رجل ولا تطيق أن تحمل رجلاً آخر، فلو جاء برجل أقوى منه وأثقل وقال: هذا مكاني. فلا يمكن؛ لأن هذا يضر بالدابة، ولربما لا تطيق الدابة حمله، فمثل هذا أجاز العلماء أن يعترض عليه ويقول له: أؤجرك وأؤجر من هو مثلك، أما من كان أكثر منك ضرراً فإني أمتنع من إجارته، فالشاهد: أنه يؤجر على من هو مثله أو هو دونه في الضرر. فلو استأجر رجل عمارة وأجرها في المواسم ونحوها فإن عليه أن يراعي ذلك، وعلى المسلم إذا استأجر من أخيه المسلم أن يتقي الله، فإذا غلب على ظنه أن هذا الذي يؤجر جار سوء أو فيه ضرر، فإن بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقول في ذلك: من أجر داره إلى رجل سيء ويعلم بسوئه أو اطلع على سوئه، وسكت على ذلك وأقره ومكنه، فإنه شريك له في الإثم في كل ما يكون من أذية الجار، لأن هذا من البوائق والمصائب، سواء فعله الإنسان بنفسه أو بمن يرضى بفعله بأذية الجار. فينبغي للإنسان في مسألة إقامة الغير مقامة أن يراعي حقوق الجيران وحقوق إخوانه المسلمين، وأن يراعي حقوق المالك، وبالأخص إذا كانت العين لا تحتمل ذلك أو فيها ضرر، فإن كانت لأيتام أو أرامل أو نحو ذلك فالأمر أشد. فهناك شرطان: الشرط الأول: أن يكون مالكاً لها. الثاني: أن يكون مؤجراً لمن هو مثله أو دونه في الضرر. ويتفرع على مسألة الملكية مسألة مهمة، وهي: إجارة ما لا يملك إلا بالهبة. فمثلاً: إذا كان الإنسان قد وهبه سكنى الدار شهراً، وقصده بعينه، ففي هذه الحالة لا يجوز أن يؤجر إذا كان مقصود الواهب عين الرجل.

حكم إجارة الوقف

حكم إجارة الوقف وقوله: [وتصح إجارة الوقف]. المصنف رحمة الله عليه والعلماء وأئمة الفقه من عادتهم أن يذكروا المسائل الخاصة في مواضعها المناسبة، فالوقف مسائله تنتثر في العبادات والمعاملات، ولكن قد يذكر العلماء رحمهم الله أفراداً من المسائل في المواضع المتعلقة بالأبواب. إجارة الوقف: إذا كان هناك وقف، وهذا الوقف أوقفه مالكه وقصد به تسبيل منفعته كالمزارع والدور، فإذا قصد أن تكون المنفعة بعينها مستحقة فحينئذ لا إشكال، كأن يتصدق بثمرة المزرعة ويقول: ثمرة المزرعة ثلثها يتصدق به في سبيل الله، فحينئذ لا يجوز بيع هذا الثلث، وينبغي على الناظر أن يبحث عن الضعفاء والفقراء، ويؤدي إليهم حقوقهم كاملة على الوجه الذي أمر الله به، وبهذا تبرأ ذمته. وأما إذا أوقف على أشخاص معينيين على أن يأخذوا منفعة الأعيان كأولاده وأولاد أولاده، سواء خصَّ الذكور أو الإناث على تفصيل سيأتي إن شاء الله في مسألة الوقف، فإذا جعل هذه الأرض أو جعل هذه العمارة وقفاً على أولاده واتفقوا على إجارتها، وقالوا: تؤجر، فأجرت، فالقيمة وثمن المنفعة وما دفع فيها يكون لكل وارث بحقه وثمنه، فتجوز إجارة الأوقاف. في الحقيقة الوقف من حيث الأصل يخرج عن ملك الإنسان ولا يتصرف فيه إلا في حدود ما اشترط فيما بينه وبين الله عز وجل، ولذلك لا يملك الواقف الرجوع عن الوقف، ومن أوقف شيئاً فقد أخرجه عن ملكيته، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن شئت حبست الأصل وسبلت الثمرة) كما في الصحيح من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وهنا مسألة يخطئ فيها البعض، وهي: أنه إذا أوقف المسجد احتكره، فيفتحه متى شاء ويغلقه متى شاء، وتصرف فيه وكأنه دار أو شيء يملكه، والواقع أنه ليس بملك له، وليس من حقه إذا أوقف المسجد أن يتصرف فيه إلا في حدود المصلحة، وهذا كله مفرع على مسألة: أن من أوقف الشيء فقد أخرجه من ذمته، وهذا الذي جعل العلماء رحمهم الله في مسائل الأوقاف يردونها إلى القاضي؛ لأن بيع الأوقاف لا يمكن أن يتم إلا عن طريق القضاء؛ لأنه في هذه الحالة ليس هناك مالك للوقف بعينه، وإنما يكون فيه إذن من الوالي ينزل فيه منزلة المتصرف الحقيقي، فمن المصالح التي ينظر فيها القضاة النظر في الأوقاف. فالمقصود: أنه تجوز إجارة الوقف، كما نص على ذلك جمهرة العلماء رحمهم الله.

حكم تأجير إمام المسجد لشقته التي خصه الواقف بها

حكم تأجير إمام المسجد لشقته التي خصه الواقف بها عندنا مسألة شاعت وذاعت في هذا الزمن، وهي: أن يكون هناك مسجد وأوقفت منافع على هذا المسجد لمن يقوم بالإمامة أو بالأذان فيه، فلو كان هناك سكن تابع للمسجد، وهذا السكن وقف على الإمام فأراد أن يؤجره. فالأصل يقتضي أن يسكنه الإمام، ومقصود صاحب المسجد أن ينال الأجر بوجود الإمام، وخاصة وأن وجود السكن بجوار المسجد مقصود؛ لأن هذا أدعى للمحافظة على الصلوات، وأدعى للقيام بحقوق المسجد، ومراقبته وتفقد مصالحه، وفي المساجد التي يكون الإمام فيها قريباً يعظم نفع هذا الإمام للناس، فيمكن سؤاله ويمكن الرجوع إليه، ويمكن استفتاؤه إذا كان من أهل العلم أو من طلبة العلم، فإذا خرج عن هذا السكن وأجره للغير، فهل يكون مالكاً للمنفعة بحيث يستحق أن يعاوض عليها؟ الذي اختاره جمع من العلماء وكان يفتي به جمع من مشايخنا وتطمئن إليه النفس: أنه ليس من حق الإمام أن يؤجر مسكنه، فإما أن يسكن فيه أو يمكن من هو أحوج إلى هذا السكن منه؛ لأنه وقف قصد به عين، لأنه بتأجيره يخرج الأجر، وكذلك يعطل المصالح التي قصدها صاحب المسجد؛ لأنه ببعد سكنه عن المسجد يفوت كثيراً من المصالح: من شهود الجماعة والمحافظة عليها ونحو ذلك من المصالح التي ذكرناها. ولذلك فالذي تطمئن إليه النفس: أنه ليس بمالك للمنفعة، فهو موقوف عليه من باب الأجر إذا سكنه وارتفق به، فإن كان غير ساكن مكن غيره من طلاب العلم ومن يقوم مقامه أن يسكن هذا السكن، وأن يكون للميت حظه من الأجر، بدلاً من أن يؤجر ويعاوض؛ لأنه لا يملك عين المنفعة، وليس له حق التصرف فيها إلا أن ينتفع بها، فكأنها موهوبة لعينه، فلا يقيم غيره مكانه. وعلى هذا يقال: إنه ليس من حقه أن يؤجر للغير وينتقل إلى سكن أوسع، وإنما عليه أن يبقى في هذا السكن ويرتفق به.

حكم عقد إجارة الوقف بعد موت المؤجر

حكم عقد إجارة الوقف بعد موت المؤجر وقوله: [فإن مات المؤجر وانتقل إلى من بعده لم تنفسخ]. فقوله: [فإن مات المؤجر] يعني: في مسألة الأوقاف، الأوقاف يكون هناك بطن، وهذا البطن يستحق الوقف، فيؤجر البطن هذه العمائر ثلاث سنوات، ثم يموت البطن المستحق ويأتي بطن آخر فيستحق هذا الوقف، فمثلاً: لو أنه أوقف عمارته على أولاده، على أن تأكل الطبقة العليا ولا تستحق الطبقة التي بعدها إلا بعد فناء الطبقة العليا، فبقي من الطبقة العليا شخص واحد وأجر سنة ثم توفي أثناء السنة، فإن قلنا: إن الإجارة تنفسخ استُئنف العقد، يعني: يصبح البطن الجديد من حقه أن يفرض أجرة جديدة. وإنا قلنا: إن الإجارة لا تنفسخ بالوقف، وأن المنفعة مملوكة للبطن الأعلى وقد أجرها، وهذا هو الصحيح، ويقويه غير واحد، ومشى عليه المصنف رحمه الله: أن البطن الأعلى يؤجر، وتتم إجارته، والمنفعة مملوكة وقد تمت المعاوضة عليها، ونزل المعدوم منزلة الموجود على القاعدة المعروفة، فمنزلة المنافع المعدومة أثناء العقد بمنزلة الموجودة، ولذلك صح التعاقد عليها، فحينئذ إذا باع البطن الأول المنفعة سنة وتوفي أثناء السنة؛ فإن الإجارة الأولى تمضي حتى يتم العقد الأول ويأخذ البطن الثاني نصيبه من الأجرة الباقية، فمثلاً: أجر البطن الأول العمارة باثني عشر ألف ريال، ثم توفي في نصف السنة، فالستة الآلاف الباقية تكون ملكاً للبطن الثاني، وعلى ورثة البطن الأول أن يمكنوا البطن الثاني من الأجرة. فهذا هو الذي عناه المصنف رحمه الله بقوله: [فإن مات المؤجر وانتقل إلى من بعده لم تنفسخ]. أي: فإن مات المؤجر للوقف وانتقل الوقف إلى من بعده لم تنفسخ الإجارة. وقوله: [وللثاني حصته من الأجرة]. إن توفي في ربع السنة الأول فله ثلاثة أرباع الباقي، وإن توفي في النصف الأول من العام فله أجرة نصف العام الباقي، وهلم جرا. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تأجير العين المؤجرة بمبلغ يزيد على ما استأجر به

حكم تأجير العين المؤجرة بمبلغ يزيد على ما استأجر به Q هل يجب على المستأجر أن يؤجر بنفس القيمة التي استأجرها أم له أن يزيد؟ A هذه المسألة مفرعة على المسألة التي ذكرناها في إجارة المستأجر للعين التي استأجرها. بعض العلماء يقول: إذا أجر بنفس القيمة فلا إشكال، لكن الخلاف إذا أجر بقيمة أكبر من الذي استأجر بها. فمن أهل العلم من منع إذا كانت الأجرة أكثر، فلو استأجر بخمسة آلاف لم يجز أن يؤجر بستة آلاف، قالوا: كأنه باع النقود بالنقود؛ لأن المنفعة لم يستلمها ولم يملكها، فكأنه باع النقد بالنقد. وهذا قول ضعيف. والذي يظهر: أنه يجوز له أن يؤجر بالقيمة وبأكثر، وهذا ينبني على الأصل المقرر في الإجارة التي خرجت به عن أصول بيع المعدوم، وقد سبق أن ذكرنا أن المنافع وإن كانت غير موجودة في العقد لكنها منزلة منزلة الموجود. ومسألة تنزيل المنافع غير الموجودة أثناء العقد منزلة الموجودة، هي التي وقع فيها الإشكال في كثير من مسائل الإجارة، حتى في شرعية الإجارة، فإن الأصم وابن علية حينما قالا بعدم مشروعية الإجارة قالا: لأن المنفعة غير موجودة؛ فصار بيعاً للمعدوم. ولكن أجاب الجمهور بأن المنافع وإن كانت غير موجودة أثناء العقد -كما أشار إليه ابن رشد وغيره في البداية- لكنها منزلة منزلة الموجودة، وإذا كانت منزلة منزلة الموجودة ودفع العوض عليها فكأنه ملكها، ثم إذا عاوض على ذلك كان معاوضاً على موجود لا على مفقود، وعلى هذا يبعد ما قالوه من أنها معاوضة مال بمال. الخلاصة: أنه إذا استأجر داراً وأراد أن يؤجرها بأكثر فلا بأس، لكن بعض السلف يقول: بشرط: أن يزيد في الدار شيئاً، كأن يصلح فيها أشياء، أو يهيئ فيها أشياء تزيد من قيمة إجارتها، وهذا استحبه بعض السلف، وللإمام أحمد رضي الله عنه رواية أنه يزيد في الدار شيئاً، ويؤجر بأكثر من القيمة التي استأجرها به، والذي يظهر: أنه لا بأس، سواء غير أو لم يغير، والله تعالى أعلم.

حكم تأجير الفضولي

حكم تأجير الفضولي Q ما الفرق بين مسألة إجارة المستأجر للغير دون إذن المالك، ومسألة تصرف الفضولي؟ A بالنسبة لإجارة الغير ما لا يملكه ممكن أن تفرع على مسألة الفضولي، مثلاً: لو كانت لك عمارة، وفوجئت بأخ لك قد أجرها وأنت لا تعلم بعشرين ألفاً لمدة معينة، وجاءك وقال: يا فلان! عمارتك رأيت من المصلحة أن تؤجر. وهذا يقع بين كثير من الناس، وخاصة بين الأصدقاء والقرابة إذا رأى المصلحة أو وجد منفعة أن يؤجر له داره أو سيارته، فجاءك وقال: أجرتها باثني عشر، فرضيت فعله؛ صح، أي: إذا تصرف ورضيت فعله صح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صحح الفضولي في معاوضته بالبيع، فلئن يصح في الإجارة من باب أولى وأحرى؛ لأن البيع على الذات والمنفعة، والإجارة على المنفعة، وكثير من مسائل الإجارة فرعت على البيع، ولذلك إذا تصرف الفضولي فأجر ورضي المالك الحقيقي للعين المؤجرة صحت إجارته، والله تعالى أعلم.

حكم الاشتراط على المستأجر إبقاء ما يحدثه في العين المؤجرة

حكم الاشتراط على المستأجر إبقاء ما يحدثه في العين المؤجرة Q ما حكم إجارة الأرض بمبلغ من المال، واشترط على المستأجر أن يترك ما يحدثه فيها من عمارة أو بئر أو سور؟ A لا يجوز أن يؤجر أرضاً ويقول له: كل ما تحدثه فيها تتركه؛ فهذا من الظلم؛ لأنه ما من مسلم إلا من حقه أن يخرج كل ما أحدثه، ففي هذه الحالة ليس من حقه. قد يستأجر عيناً ويحدث فيها جمالاً في صفاتها، بحيث لو جاء يخرج هذا الجمال أضر بالعين، كما إذا استأجر منه دكاناً وألبس جدرانه رخاماً، فلو جاء وقلع الرخام أضر بالجدار، ثم لو قلع الرخام فإنه لا يستفيد منه، ففي هذه الحالة لو وجدت المصلحة المرسلة؛ نهي الناس عن أن يقلع المستأجر للدكان أو للدار ما أحدثه مما يضر بالعين إذا أخذ، ومما لا ينتفع به آخذه إذا أخذه، فهذا له وجه، أي: له وجه لا من باب المعاوضة ولكن من باب دفع الضرر عن العين. وأما مسألة: أنه إذا بنى أو أحدث فيها شيئاً لا يقصده، فهذا ذكره بعض العلماء رحمهم الله أنه من الإجارة بالمجهول؛ لأنه أجره الأرض بالنقود وبما يكون فيها مما يحدثه فيها من البنيان، فصار إجارة لمعروف ومجهول، وقد بينا أن دخول المجهول على المعلوم يصير المعلوم مجهولاً؛ ولذلك لا يجوز، والله تعالى أعلم.

إصلاح المستأجر للضرر الذي أحدثه في العين المؤجرة

إصلاح المستأجر للضرر الذي أحدثه في العين المؤجرة Q أشكل علي فيما لو حصل ضرر في منفعة مؤجرة: هل أصلح الضرر دون إخبار صاحب المنفعة، أم لابد من إخباره واستئذانه؟ A إذا أحدث الضرر وقام بإصلاحه فهذا هو الأصل، ولكن إخبار صاحب العين من باب احتمال أن يسامحه، فإذا أردت أن تحتاط وتخرج من الشبهة وتقوم بإصلاح كل ما حدث في العين من ضرر، فهذا لا شك أنه أبرأ للذمة وأكمل في القناعة، وأرضى عند الله عز وجل، وصنيع أهل المروءات وأهل الفضل أنهم يردون الشيء بأكمل أو أفضل أو على حاله، ولا ينتظرون إذن صاحبه، لكن إذا استأذنته أحرجته، فتصور لو أن إنساناً أتلف شيئاً، وقد يكون الشيء في نظرك يسيراً فتستأذنه وهو كبير عليه. فلذلك كان الأولى أن ترد العين كما استلمتها، ولا حاجة إلى أن تستأذن، فالاستئذان يحرجك ويحرج صاحب العين وخاصة إذا كانت بينك وبينه مودة، وهذا أمر معلوم بداهة، فإن على اليد ما أخذت حتى تؤديه، والله فرض عليك إذا أخذت عيناً أن تردها كما أخذتها، لا تظلِم ولا تظلَم، وترد عين المال كما أمرك الله عز وجل، فإن كان فيه تلف ولم تستطع أن ترد عينه على الوجه الذي كان عليه أصلحت ما فيه من النقص، وهذا هو الواجب عليك، والله تعالى أعلم.

حكم الاشتراط على المستأجر نسبة عند تأجيره للغير

حكم الاشتراط على المستأجر نسبة عند تأجيره للغير Q لو قال صاحب العمارة: إذا أردت أن تؤجر العمارة بعد استئجارها مني فلي نسبة من الأجرة، فما الحكم؟ A ما فيها إلا الحرام فقط، الرجل إذا استأجر منك الدار فقد ملك منفعتها، بأي حق تقول له: إذا أجرتها للغير فلي نسبة خمسة في المائة؟! وذلك لأن هذا فيه محظوران: المحظور الأول: أنه إذا استأجر ملك المنفعة، وإذا ملك الشيء ليس من حقك أن تتدخل في ملكه. ثانياً: أنك لو قلت: إنه إذا أجر للغير آخذ منه خمسة في المائة، فلا ندري بكم سيؤجر للغير، وحينئذ تصبح الأجرة المتفق عليها بين الطرفين الأولين وإن كانت معلومة، لكنها بدخولها هذا المجهول تصير مجهولة؛ ولذلك يدخل عليها الفساد من ناحيتين: الناحية الأولى: أنه باعه المنفعة ولم يبعه، كما لو قال له: أبيعك هذه الدار بمليون، فإذا بعتها لغيرك آخذ منك خمسة في المائة، وهذا لا يجوز؛ لأن الأصل الشرعي: أن من باع الشيء فقد ملكه المشتري، وحينئذٍ إذا جعل له يداً وقال له: آخذ منك نسبة أو آخذ منك ثمناً معيناً فهذا شرط ليس في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتبر عند العلماء من الشروط التي تخالف مقتضى العقد؛ لأن مقتضى عقد الإجارة أن تملك المنفعة، وهذا صار لك شريكاً في المنفعة، فهو يقول لك: بعتك المنفعة وشاركتك: بعتك إذا كانت لك، وشاركتك إذا كانت لغيرك. ولا يعرف في الشرع إجارة يملكك فيها منفعة من وجه، ويكون لك شريكاً من وجه آخر؛ أبداً، فإما أن يبيعه ألبتة، وإما أن يكون له شريكاً فيقول: بعتك نصف المنفعة وأنا شريك لك في النصف الآخر. لكن أن يقول لك: بعتكها وملكتكها. ويتم عقد الإجارة على الصفة الشرعية، ثم يقول: إذا بعتها للغير فلي خمسة في المائة، فلا يجوز لسببين: الأول: لأنه أكل للمال بالباطل، لأن شراءه للمنفعة يمكنه من أخذ قيمتها إذا باعها للغير كما ذكرنا. الثاني: أنه لو جاز لكان بالمجهول، لأنه في هذه الحالة أدخل نسبة مجهولة على المبيع الأصلي، وهي الأجرة المدفوعة في المنفعة إذا كان يريد أن ينتفع بها لنفسه، وعلى هذا: لا يجوز أن يقول له: أجرتكها بكذا وكذا، فإن أجرتها لغيرك فلي خمسة أو عشرة في المائة. وعليه أن يرد هذا المال إليه، وهو شرط باطل لا يستحق به المالك الأصلي شيئاً، والله تعالى أعلم.

الخيارات التي تثبت في الإجارة

الخيارات التي تثبت في الإجارة Q هل جميع الخيارات التي تثبت في البيع تثبت في الإجارة؟ A يثبت في الإجارة خيار المجلس قياساً على البيع، ويثبت في الإجارة خيار الرؤية والصفة كما لو أجره عيناً على الصفة أو عيناً رآها، ثم بعد ذلك ينظر: إن كانت على الصفة التي وصفها، أو كانت على الصفة التي عهدها بالرؤية صح وتمت الإجارة، وإلا كان له خيار الرؤية بعد ذلك. كذلك -أيضاً- يثبت في الإجارة خيار العيب، فإذا ثبت في العين عيب يمنع من استيفاء المنفعة فإن من حق المستأجر أن يلغي عقد الإجارة. وكذلك يثبت في الإجارة خيار التدليس والغش، فإذا غشه ودلس عليه، ثم تبين أن العين المؤجرة لا يمكن استيفاء المنفعة منها على الصفة التي دلس بها فمن حقه أن يرد. وكذلك يثبت في الإجارة خيار الشرط، فلو اشترط عليه شرطاً لا يخالف مقتضى عقد الإجارة، ولا يشتمل على حرام، كان من حقه وكان له الخيار في فسخ عقد الإجارة إذا لم يقم المؤجر بشرطه. مثال ذلك: لو قال له: أستأجر منك هذه الدار على أن تؤمن لي الماء بسعة كذا وكذا أسبوعياً. فلم يؤمن له الماء وتضرر، كان من حقه ذلك؛ لأن هذا مستحق للشرط. وكذلك أيضاً لو قال له: أستأجر منك عمارة. وتم التعاقد على العمارة، وقال له: بشرط: أن تكون هذه العمارة فيها كهرباء. وتبين أنه لا كهرباء فيها. أو على أن يكون فيها الماء، وتبين أنه لا ماء فيها. كل هذا خيار شرط، فإذا اشترط عليه شيئاً معيناً في العين المؤجرة، وكان الشرط لا يخالف الشرع، ولم يجد هذا الشرط، فمن حقه أن يفسخ عقد الإجارة، هذه كلها خيارات تثبت في عقد الإجارة، ومن حق المستأجر أن يلزم بها المؤجر، والله تعالى أعلم.

باب الإجارة [6]

شرح زاد المستقنع - باب الإجارة [6] اتفق العلماء على جواز الإجارة بالمدة القصيرة، ولكنهم اختلفوا في الإجارة بالمدة الطويلة، وبين العلماء شروط استئجار الأشخاص لأعمال ما، وكذلك شروط استئجار الدواب لركوب أو حمل متاع.

تحديد زمن الاستئجار بداية ونهاية

تحديد زمن الاستئجار بداية ونهاية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإن أجر الدار ونحوه مدة ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها صح]. شرع المصنف رحمه الله في مسألة مهمة من مسائل الإجارة، وهذه المسألة تتعلق بإجارة الدور والمساكن ونحوها، فإنه إذا استأجر من شخصٍ داراً ليسكنها فإن إجارة هذه الدار تفتقر إلى تأقيت حتى تنقطع الخصومة وينقطع النزاع. فإذا قال له: أجرتك بيتي، أو أجرتك داري، أو أجرتك عمارتي، وفي زماننا الشقق، أو غرف الفنادق، أو نحوها، فكلها تتأقت بالأزمنة، وإذا استأجرت الدور والمساكن بالزمان فإن إجارتها تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما كانت مدته قصيرة، كالساعة واليوم والأسبوع، ونحو ذلك. والقسم الثاني من الإجارات للدور: أن تكون مدته طويلة، كأن يستأجر أرضاً عشرين سنة، أو يستأجر داراً عشرين سنة، ونحو ذلك من المدد الطويلة. والأصل في الشرع: أنه إذا استأجر شيئاً أو أجره فإنه ينبغي أن يكون هناك تحديد حتى تنقطع الخصومة، ويعرف المستأجر ما له من ذلك العقد، فلو قال له: أجرتك داري زماناً، ولم يحدد المدة؛ لم يصح، ولو قال له: أجرتك داري مدة جلوسك في مكة؛ لم يصح؛ لأنها مجهولة، إذاً: لا بد من التحديد. ثم إن هذا التحديد ينقسم إلى أمد طويل وأمد قصير، فإذا أردنا أن نفصل في الأحكام المتعلقة بتحديد الإجارة بالزمان في الأمد الطويل والأمد القصير، فإن هذا يفتقر إلى ضرب الأمثلة، وسنحاول -إن شاء الله- بضرب أمثلة يعيشها الناس وخاصة في هذا الزمان؛ حتى يكون ذلك أبلغ في الفهم والوضوح. فالإجارة القصيرة كالساعة واليوم والأسبوع، ففي الساعات ما يجري في الاستراحات، يقول له: أجرتك هذه الغرفة الساعة بعشرة أو بخمسة ريالات؛ فهذا النوع من الإجارة لا إشكال في جوازه، ولكن ينبغي أن ينبه على مسألة مهمة، وهي: أنه إذا قال له: أجرتك ساعة. فيحدد بداية الساعة ونهايتها، فلو كانت الساعة الثانية ظهراً وقال له: أجرتك هذه الدار ساعة بعشرة من الثانية ظهراً، صح العقد، لكن لو قال له: أجرتك هذه الدار ساعة. وسكت ولم يحدد بدايتها، فإن هذا يوجب الخصومة، فقد يكون مرادك أن يستأجر من الساعة الثالثة ظهراً أو الرابعة، وهو يقصد أن يستأجرها عقب العقد مباشرة. إذاً: لا بد من تحديد بداية الزمان ونهايته، وهو إن حدد ساعة أو ساعتين أو ثلاث أو أربع، لكن لا بد وأن يحدد بداية العقد ونهايته. وهنا مسألة وهي: إذا كان دخوله أثناء الساعة، كأن يأتي مثلاً الساعة الثانية والربع، الساعة الثانية والثلث، الساعة الثانية والنصف، فإذا قال له: أستأجر منك هذه الدار ساعة بعشرة من الساعة الثانية والنصف، نفهم أن العقد سينتهي عند الثالثة والنصف، ولو قال له: ساعتين بعشرين من الساعة الثانية والنصف، فإنه يعلم بداهة أن العقد ينتهي عند الرابعة والنصف، والعقد صحيح ولا إشكال فيه. الإجارة باليوم: ومن أشهر ما يكون في ذلك: إجارة الفنادق، فيأتي الرجل إلى الفندق ويستأجر يوماً بمائتين، فعند الفنادق ترتيب معين، بحيث يقولون مثلاً: مبيت الشخص بمائتين، فيفهم منه أن الشخصين بأربعمائة وأن الثلاثة بستمائة، فإذا حدد باليوم يقول: سأستأجر هذه الغرفة ثلاثة أيام، فتحدد من يوم السبت والأحد والإثنين، فتحدد البداية وتحدد النهاية؛ لأنه إذا أطلق العقد فعند ذلك تحدث خصومة، بحيث لا ندري هل مراده بعد العقد مباشرة أو متراخياً عنه. إذاً: لو سألك سائل: ما هو الشرط في إجارة الزمان؟ تقول: تحديد قيمة المدة، كالساعة بعشرة، أو اليوم بخمسين، ثم تحديد بداية الاستئجار ونهايته.

تحديد الزمن في استئجار غرف الفنادق

تحديد الزمن في استئجار غرف الفنادق لكن في إجارة الفنادق جرى العرف فيها أن اليوم ينتهي عند الساعة الثانية ظهراً، ويقولون: إذا جاءت الساعة الثانية ظهراً فقد انتهى أمد الإجارة، وانتهى العقد، فإذا جرى العرف أنه في الثانية ظهراً يغادر النزيل، فهذا عرف معتبر، وينبغي تنبيه النزيل قبل نزوله إلى أن اليوم في عرف الفنادق ينتهي عند هذه الساعة التي هي الساعة الثانية ظهراً، أما لو أطلق وقال: أستأجر منك يوماً كاملاً، ولم ينبهه ولم يكن هناك عرف، فإنه ينصرف إلى أربع وعشرين ساعة. عرفنا أنه باليوم لا بد من تحديد بدايته ونهايته، ما لم يكن هناك عرف بتحديد النهاية، فلو أن العرف أثر في نهاية اليوم كما أثر في البداية، أي: جرت العادة أنه إذا جاءت الثانية ظهراً ينتهي موعد التأجير، إذاً تبتدئ إجارته من اليوم السابق وتنتهي في الثانية ظهراً من اليوم اللاحق. لكن لو جرى العرف أن النزيل لو حضر بعد الساعة العاشرة صباحاً، أو بعد التاسعة صباحاً، فإنه لا يحسب ذلك اليوم، وإنما يحسب من الثانية ظهراً إلى اليوم الذي بعده، فحينئذٍ سيكون للنزيل يوم وزيادة، فما الحكم؟ A لا بأس، وهو جائز إذا جرى العرف أن النزيل إذا حضر قبل الساعة الثانية ظهراً بساعتين أو ثلاث ساعات، وتسامح الناس وعرفاً بهذه الساعة أو الساعتين، أو جاء بعد صلاة الفجر وجرى العرف أنه لا يحسب اليوم كاملاً فإنه لا بأس بذلك، فلو جاء بعد صلاة الفجر وقال له: أحسبه لك يوماً كاملاً من الثانية ظهراً، ولكن حضورك بعد صلاة الفجر أحسبه نصف يوم. وقال: قبلت، فيجوز. إذاً: عرفنا أجرة الساعات، وأجرة اليوم، فتبقى عندنا أجرة الشهر وأجرة السنوات، أما أجرة الشهور، فهذه تقع في الغرف والشقق والعمائر والمساكن، فيقول له: أستأجر منك هذه الشقة شهراً بمائة، فإذا حدد الشهر وحدد بدايته ونهايته فلا إشكال فيه، ولكن نحتاج إلى تفصيل في مسائل متعلقة بالإجارة بالشهور:

العبرة بالشهر القمري عند الإطلاق

العبرة بالشهر القمري عند الإطلاق المسألة الأولى: إذا أطلقت الشهور في عرف المسلمين فإنها تنصرف إلى الشهور القمرية لا الشهور الشمسية، وبناءً على ذلك: فالعبرة بالشهر القمري. المسألة الثانية: إذا كانت العبرة بالشهر القمري، فينبغي أن يعلم أنه إذا حدد شهراً معيناً فإن الإجارة تتعلق بذلك الشهر تاماً أو ناقصاً، فالشهر القمري يكون تسعة وعشرين يوماً ويكون ثلاثين يوماً. أما الدليل على أن الشهر يكون تسعة وعشرين ويكون ثلاثين، فإن الله تعالى يقول: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة:189]، فجعل الله الهلال ميقاتاً للشهر، فأي مؤمن تعاقد مع أخيه المسلم على شهر معين، كشهر شوال مثلاً، فإننا نحتسب شوال بثبوت دخوله بالهلال، ونحتسبه خروجاً عند ثبوت نقصه تسعاً وعشرين، وعند عدم وجود رؤيته يتم ثلاثين يوماً. أما الدليل الثاني من السنة على أن الشهر يكون تسعاً وعشرين فقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا) فجاءت روايتان: رواية قال فيها عليه الصلاة والسلام: (الشهر هكذا وهكذا)، ورواية قال فيها: (الشهر هكذا -وعد ثلاثين- ثم قال: وهكذا -وعد تسعاً وعشرين وقبض الإبهام في المرة الثانية)، فقوله عليه الصلاة والسلام: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) يدل على أنه لا عبرة بالتقويم، إنما العبرة بثبوت نقص الشهر ثبوتاً صحيحاً، فإذا لم تثبت الرؤيا أن الشهر تسعة وعشرون فإنه يتم ثلاثين يوماً. فلو أن اثنين اختصما في شهر، واستأجر منه الدار شهر ربيع الأول، ومكث في شهر ربيع الأول، وثبت بالرؤية أنه تسع وعشرون يوماً، ورئي الهلال لربيع الثاني، فقال المستأجر: أنا استأجرت شهراً كاملاً. وقال المؤجر: الشهر تسع وعشرين. فالتزم المستأجر أن يبقى في البيت أو يبقى في السكن يوماً يتم به ثلاثين، وقال: الشهر ثلاثون يوماً، نقول: إن اليوم الثلاثين لاغٍ بحكم الشهر، ويلزمك الخروج، وتسليم الدار بمجرد ثبوت نقص الشهر السابق. والعكس، فلو أن الشهر لم يثبت نقصه فقال المؤجر للمستأجر: إنه ناقص في الحساب الفلكي والتقويم، نقول: وليس من حقك أن تخرجه حتى يثبت نقصه برؤية هلالية، وحينئذٍ يكون ثلاثين يوماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته؛ فإن غمّ عليكم فأكملوا العدة)، فلما قال: (أكملوا العدة) علم أن الشهر لا بد من تمامه وكماله بالثلاثين. وهذه المسألة مهمة؛ لأنه يتفرع عليها أكثر من خمسين مسألة في المعاملات والعبادات، والأيمان والنذور ومسائل في الطلاق، ومسائل في العدد والإحداد، كلها تترتب على مسألة نقص الشهر وكماله. فالأصل الشرعي الذي عليه جماهير السلف والخلف والأئمة كلهم، إلا قولاً شاذاً عن ابن سريج رحمه الله عليه من أصحاب الشافعي؛ على أن العبرة في الشهر تاماً وكاملاً بالرؤية، وأنه إذا لم ير الهلال فإنه يلزم تمام الشهر ثلاثين يوماً؛ لأن النص في هذا واضح، وقال عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة) فهذا دليل على أن الشهر لا يكمل إلا بالثلاثين. لكن لو قال له: أجرني هذه الدار شهراً من غد -والغد عشرة في الشهر- فهل يتم ثلاثين يوماً، أم أنه يكون فيه التفصيل؟ A يتم ثلاثين يوماً بالإجماع؛ لأن الأصل في الشهر أنه ثلاثون يوماً. وتتفرع عليه مسائل كما ذكرنا مثلاً في الكفارات، مثل: كفارة القتل: إذا صام شهرين متتابعين، فإذا ابتدأ من ربيع وثبت نقص ربيع وربيع الذي يليه، لأنه قد يأتي شهران متعاقبان ناقصين، لكن قالوا: لا تأتي أربعة أشهر متعاقبة بالنقص. فالشهران إذا جاءا ناقصين، فمعنى ذلك: أنه يصوم ثمانيةً وخمسين يوماً وتجزيه، لكن لو أنه ابتدأ صيام الكفارة شهرين متتابعين من عشرة في الشهر الأول فينتهي بتمام ستين يوماً يصومها تامة كاملة. إذاً: يفصل في الإجارة على نفس هذا التفصيل، أنه إذا قال له: أستأجر منك هذه الدار شهراً أو شهرين، وكان ذلك بعد دخول الشهر بيوم، فإننا نحتسب له المدة ستين يوماً في الشهرين، وثلاثين يوماً في الشهر الواحد، وما زاد فبحسابه، وهذا كله -كما ذكرنا- إذا استأجر الدار أو المستودع أو الغرفة أو المنزل أو الحوش ونحو ذلك مدة، فإننا نقول بجوازه، سواء كانت المدة بالساعات أو بالأيام أو بالأسابيع أو بالشهور. لكن بالنسبة للإجارة بالسنوات، فإذا قال: إنه استأجر من أول ربيع وأسندها إلى سنة معينة، فحينئذٍ تصح السنة من بداية محرم إلى نهاية ذي الحجة من السنة نفسها، وهذا إذا أسند الإجارة إلى سنة معينة، أما إذا قال له: أستأجرها من الآن سنة كاملة فإنه يحتسب ثلاثمائة وستين يوماً كاملة إلى حسابها من الشهر الذي وقعت فيه الإجارة هذا بالنسبة للمدة القصيرة.

اختلاف العلماء في الإجارة بالمدة الطويلة

اختلاف العلماء في الإجارة بالمدة الطويلة أما الإجارة بالمدة الطويلة فهي أن يستأجر منه الدار عشرين سنة، أو يكتب العقد على أرض يأخذها للزراعة ثلاثين سنة، أو نحو ذلك من المدد الطويلة. فمسألة إجارة الأرضين والدور والأشخاص مدة طويلة فيها خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، ومن حيث الأصل فجماهير العلماء من السلف والخلف على جواز الإجارة مدة طويلة؛ لكن بشرط: أن يغلب على الظن بقاء العين المؤجرة، وإمكان الانتفاع بها، وبشرط: ألا يكون هناك غرر في ارتفاع الأسواق وانخفاضها على شكل مؤثر على المستأجر والمؤجر. إذاً: المسألة من حيث الجملة بالإجارة للمدد الطويلة: فالجماهير من السلف والخلف: على أنه يجوز أن تؤجر الدار أو الأرض أو المساكن مدداً طويلة إلى عشرين سنة أو إلى ثلاثين سنة، لكن بالشرطين الذين ذكرناهما: أولهما: أن يغلب على الظن بقاء العين، وإمكان الانتفاع مدة الإجارة. والشرط الثاني: أن يُؤمن الضرر والغرر الموجود في ارتفاع الأسواق وانخفاضها. ولكن بعض العلماء يقول: العبرة عندي بالشرط الأول دون الثاني، وفي الحقيقة: أن قوله وجيه، أن العبرة بالشرط الأول دون الثاني؛ لأن الغنم بالغرم في قواعد الشريعة في الشرط الثاني؛ لكن الشرط الأول أهم من الشرط الثاني؛ لأن المقصود من عقد الإجارة: هو بقاء العين وحصول الانتفاع الذي من أجله دفعت الأجرة والتزم المؤجر والمستأجر بعقد الإجارة. فإذا غلب على الظن بقاء العين إلى ذلك الأمد المتفق عليه بين الطرفين، فلا إشكال بالجواز، وهذا إذا كنا قد تحققنا من وجود الشرط؛ لكن لو كانت الدار متهدمة، أو كانت الدار ضعيفة البنيان، أو كانت الأرض بحالة يغلب على الظن عدم سلامتها للمدة المتفق عليها، فإنه يكاد ينعقد الإجماع على أنه لا يصح التعاقد على هذا الوجه، وإذا سُكت عن الدليل فتقول: إن الأصل يقتضي عدم جواز الغرر، وإذا أجره داراً قديمة يغلب على الظن سقوطها وتهدمها قبل تمام المدة المتفق عليها بين الطرفين فقد غشه وغرر به، والغرر لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر كما في الصحيح. إذاً: من حيث الأصل: إذا كانت المدة طويلة في إجارة الدور والأرضين فحصل الشرط من غلبة الظن بالسلامة وبقاء المنافع، وغلبة الظن أيضاً بالسلامة من حصول الضرر بالانتفاع وعدمه عند من يقول باشتراط هذا الشرط، فيبقى Q هل هذه المسألة فيها خلاف أو إجماع؟ إذا قلنا: اختلف العلماء، فجماهير العلماء يقولون: يجوز إجارة الدور والمساكن مدة طويلة، بشرط: غلبة الظن ببقائها، كما ذكرنا. وقال بعض العلماء كما هو في مذهب المالكية والشافعية: لا يجوز إجارة الدور والمساكن مدداً طويلة، ومنهم من يطلق، ومنهم من يقيد، فعند الشافعية قولان: قيل: لا يجوز مطلقاً أن يؤجر الدار أكثر من سنة، وإذا كان يريد أن يؤجرها فيؤجرها سنة فقط ولا يزيد عليها. والقول الثاني يقول: يجوز بشرط أن تكون هناك مدة معينة كثلاثين سنة، وإذا جاوزها فلا يجوز، وإذا كان أقل منها يجوز. والذين منعوا من أصحاب القول الثاني وانقسموا إلى الوجهين الذين ذكرناهما، حجتهم: أن الدار قد تتهدم، وأن المساكن قد تتغير، والمنافع تتضرر بحصول المدة الطويلة، ولذلك قالوا: لا يجوز للمسلم أن يؤجر على هذا الوجه؛ لما فيه من الغرر، ومن تعريض مال المسلم إلى أكله بالباطل.

أدلة جواز الإجارة بالمدة الطويلة

أدلة جواز الإجارة بالمدة الطويلة أما الجمهور لما قالوا بالجواز، فقالوا: دليلنا كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم: أما دليلنا من الكتاب: قال الله تعالى حكاية عن نبيه شعيب: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27]، قالوا: فأسند الإجارة إلى أكثر من عام، مع أن الثمانية الحجج قد يرتفع فيها سعر الإجارة وقد ينخفض، ومع ذلك أقر الشرع مثل هذا، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه. هذا من حيث دليل الكتاب. أما دليل السنة فقالوا: إن الأحاديث التي استدل بها على جواز الإجارة من حيث الأصل العام لم تقيد بمدة ولا بزمان، فكل طرفين اتفقا على إجارة مدة معينة، وهذه المدة تبقى فيها العين ويحصل فيها النفع، فإنه يجوز ذلك العقد ولا بأس به. هذا بالنسبة لدليل الجمهور. والذي يظهر -والله أعلم- صحة مذهب الجمهور، أي: أنه يجوز إجارة الدور والمساكن والأرضين ولو أكثر من ثلاثين سنة بالشرط الذي ذكرناه وهو: غلبة الظن ببقاء العين، وحصول النفع فيها. وقد نبه المصنف رحمه الله إلى هذا القول الراجح حينما حكى غلبة الظن بقوله رحمه الله: بقوله: [وإن آجر الدار ونحوها مدة ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها صحت].

البناء على غالب الظن في بقاء العين أو عدمها

البناء على غالب الظن في بقاء العين أو عدمها وقوله: (مدة ولو طويلة)، (ولو) إشارة إلى خلاف، يعني: آجر الدار ونحوها مدة ولو طويلة، معنى ذلك: أنه لو أجرت مدة قصيرة فبالإجماع أنه لا بأس بذلك؛ لكن الخلاف إذا كانت المدة طويلة، لكن قال: (يغلب على الظن بقاؤها). (يغلب على الظن) هذه المسألة تعرف عند العلماء بمسألة غالب الظن، وغالب الظن هو ترجح أحد الاحتمالين، والاحتمال الراجح يقال له: الظن في مصطلح علماء قواعد الفقه، وكذلك مصطلح الأصوليين، ويقال له أيضاً: غالب الظن. والشريعة الإسلامية تبني الأحكام على غالب الظن، وهناك كلام جيد للإمام الشاطبي في الموافقات، وكذلك للإمام العز بن عبد السلام في كتابه النفيس: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، أقر رحمه الله أن الشريعة تبني أحكامها على غالب الظن، وأنها لا ترتب الأحكام على الظن المرجوح، وأن غالب الظن تعبّدنا الله عز وجل به في أعظم الأشياء، فإن المفتي والقاضي يفتي ويقضي ويحكم بأحكامه الشرعية بغالب ظنه، وهذا يدل على أن غالب الظن له اعتبار في الشرع ويحكم فيه ويعمل به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب) والمجتهد لا يبني اجتهاده إلا على غالب الظن، وعلى هذا نقول: يغلب على الظن بقاء العين، فأصبحت المسألة فيها صور: الصورة الأولى: أن يستيقن بقاء المنفعة. الصورة الثانية: أن يغلب على الظن بقاء المنفعة. الصورة الثالثة: أن يستيقن ذهاب المنفعة. الصورة الرابعة: أن يغلب على الظن ذهاب المنفعة. الصورة الخامسة: أن يحتمل الأمرين، ولا ترجيح. فالصورة الأولى: أن يستيقن بقاء المنفعة ويجري المثال، أو يغلب على ظنه بقاء المنفعة ويجري المثال، ففي كلتا الصورتين يجوز، على الأصل الذي قرره المصنف. فتقول: يجوز لليقين؛ لأن إجارة العشر السنين والعشرين سنة والثلاثين سنة ما دامت المنفعة موجودة، والمستأجر سيأخذ المنفعة وقد دفع المال لقاء المنفعة، فإذاً: لا ظالم ولا مظلوم، وهذا أخذ حقه وهذا أخذ حقه، فإذا ثبت أنها باقية باليقين أو غالب الظن فلا إشكال، والعكس: لو غلب على الظن أو تيقن ذهاب المنفعة فإنه لا يجوز وجهاً واحداً للعلماء. أما إذا احتمل الأمر، كأن تكون داراً متهدمة نوعاً ما، فيحتمل أن تبقى ويحتمل ألا تبقى، والحكم أنه إذا لم يغلب على الظن فإنه لا تصح الإجارة؛ لأن هناك قاعدة تقول: (مفاهيم المتون معتبرة)، فحينما قال لك الشرع: يغلب على الظن بقاؤها، فهذا كالقيد الذي نعتبره شرطاً نفهم منه أنه إذا لم يغلب على الظن بقاؤه فإنه لا يجوز. وفهمنا الخمس صور من كلام المصنف، حينما قال: (مدة ولو طويلة يغلب على الظن بقاؤها) فلاحظ قوله: (يغلب على الظن)، وهذا يدل على دقة العلماء رحمهم الله في اختصار المتون، فكان المفروض أن يأتي بالخمس صور، لكنه لما قال: (بمدة يغلب على الظن بقاؤها) فهمت الأحكام الخمسة، إذ تفهم أنه من باب أولى إذا استيقن وأصبح الأمر مائة في المائة في بقائها، فهنا صورتان بالمنطوق. وبالمفهوم لما قال: (يغلب) تأخذ أنه إذا غلب على الظن عدم البقاء فإنه لا يجوز، وهذه هي الصورة الثالثة، فإذا كنت تفهم أنه إذا غلب الظن بعدم البقاء فإنه لا يجوز، فمن باب أولى إذا استيقن، وهذه هي الصورة الرابعة. وبقيت الصورة الخامسة وهي التردد وأن يكون احتمال البقاء واحتمال عدمه في مرتبة واحدة، فتقول: لم يثبت الحكم، ففهم من قوله: (يغلب على الظن) أنه إذا لم يغلب على الظن فلا يجوز، سواء تردد أو كان هنالك ترجح لاحتمال عدم البقاء، وهذه خمس صور نأخذها من جملة: (يغلب على الظن بقاؤها). وهذا أمر مهم ينبغي أن ينبه عليه؛ لأن قراءة المتون لمعرفة منهج العلماء لكي تستطيع أن تفهم الأحكام؛ فربما يقول قائل: المصنف نص على غالب الظن ولم ينص على غيره، ولذلك تجد بعض المتأخرين يعملون في التعليق على تحقيق الكتب القديمة على تعقب المصنف، يقول: وهذا قصور من المصنف؛ لأنه تكلم على غالب الظن، والقسمة العقلية تقتضي خمس صور. وهذه الكتب ألفت وما كان يقرؤها إلا جهابذة العلماء، فلو نبه على الخمس لعُد تطويلاً، وتوضيح الواضح يعتبر إشكالاً، ولذلك لا يعتنون بهذه الأشياء، فالعلماء لهم منهج دقيق في اختصار المتون، فهم ينبهون على صورة بحيث يفهم منها ما هو أولى منها أو ما هو في حكمها، ويفهم حكم العكس بالعكس.

العبرة بالشهر القمري عند الإطلاق

العبرة بالشهر القمري عند الإطلاق المسألة الأولى: إذا أطلقت الشهور في عرف المسلمين فإنها تنصرف إلى الشهور القمرية لا الشهور الشمسية، وبناءً على ذلك: العبرة بالشهر القمري. المسألة الثانية: إذا كانت العبرة بالشهر القمري، فينبغي أن يعلم أنه إذا حدد شهراً معيناً فإن الإجارة تتعلق بذلك الشهر تاماً أو ناقصاً، فالشهر القمري يكون تسعة وعشرين يوماً ويكون ثلاثين يوماً. أما الدليل على أن الشهر يكون تسعاً وعشرين ويكون ثلاثين، فإن الله تعالى يقول: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة:189]، فجعل الله الهلال ميقاتاً للشهر، فأي مؤمن تعاقد مع أخيه المسلم على شهر معين، كشهر شوال مثلاً، فإننا نحتسب شوال بثبوت دخوله بالهلال، ونحتسبه خروجاً عند ثبوت نقصه تسعاً وعشرين أو عدم وجود رؤية يتم بها ثلاثين يوماً. أما الدليل الثاني من السنة على أن الشهر يكون تسعاً وعشرين وتلزم وبه المستأجر فقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا) فجاءت روايتان: رواية قال فيها عليه الصلاة والسلام: (الشهر هكذا وهكذا)، ورواية قال فيها: (الشهر هكذا -وعد ثلاثين- ثم قال: وهكذا -وعد تسعاً وعشرين وقبض الإبهام في المرة الثانية)، فقوله عليه الصلاة والسلام: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) يدل على أنه لا عبرة بالتقويم، إنما العبرة بثبوت نقص الشهر ثبوتاً صحيحاً، فإذا لم تثبت الرؤيا أن الشهر وعشرون فإنه يتم ثلاثين يوماً. فلو أن اثنين اختصما في شهر، واستأجر منه الدار شهر ربيع الأول، ومكث في شهر ربيع الأول، وثبت بالرؤية أنه تسع وعشرون يوماً، ورئي الهلال لربيع الثاني، فقال المستأجر: أنا استأجرت شهراً كاملاً. وقال المؤجر: الشهر تسع وعشرين. فالتزم المستأجر أن يبقى في البيت أو يبقى في السكن يوماً يتم به ثلاثين، وقال الشهر: ثلاثون يوماً، نقول: إن اليوم الثلاثين لاغٍ بحكم الشهر، ويلزمك الخروج، وتسليم الدار بمجرد ثبوت نقص الشهر السابق. والعكس، فلو أن الشهر لم يثبت نقصه فقال المؤجر للمستأجر: إنه ناقص في الحساب الفلكي والتقويم، نقول: وليس من حقك أن تخرجه حتى يثبت نقصه برؤية هلالية، وحينئذٍ يكون ثلاثين يوماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته؛ فإن غمّ عليكم فأكملوا العدة)، فلما قال: (أكملوا العدة) على أن الشهر لا بد من تمامه وكماله بالثلاثين، وهذه المسألة مهمة؛ لأنه يتفرع عليها أكثر من خمسين مسألة في المعاملات والعبادات، وفيها الأيمان والنذور ومسائل في الطلاقات، ومسائل في العدد والإحداد، كلها تترتب على مسألة نقص الشهر وكماله، فالأصل الشرعي، جماهير السلف والخلف والأئمة كلهم، إلا قولاً شاذاً عن ابن سريج رحمه الله عليه من أصحاب الشافعي: على أن العبرة في الشهر تاماً وكاملاً بالرؤية، وأنه إذا لم ير الهلال فإنه يلزم تمام الشهر ثلاثين يوماً؛ لأن النص في هذا واضح، وقال عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة) فهذا دليل على أن الشهر لا يكمل إلا بالثلاثين. فمسألة أننا نعتبر الشهر ناقصاً أو كاملاً في الصورة الأولى من إجارة الشهور، وهي: أن يسند الطرفان الإجارة إلى شهر مسمى، كأن يقول: أستأجر منك هذه العمارة شهر رمضان. فإننا نحتسب الشهر بتمامه وكماله، على التفصيل الذي تقدم، لكن لو قال له: أجرني هذه الدار شهراً من غد -والغد عشرة في الشهر- فهل يتم ثلاثين يوماً، أم أنه يكون فيه التفصيل؟ A بالإجماع يتم ثلاثين يوماً؛ لأن الأصل في الشهر أنه ثلاثين يوماً. وتتفرع مسائل مثلما ذكرنا مثلاً في الكفارات، مثل: كفارة القتل: إذا صام شهرين متتابعين، فإذا ابتدأ من ربيع وثبت نقص ربيع وربيع الذي يليه، لأنه قد يأتي شهران متعاقبان ناقصين، لكن قالوا: لا تأتي أربعة أشهر متعاقبة بالنقص. فالشهران إذا جاءا ناقصين، فمعنى ذلك: أنه يصوم ثمانيةً وخمسين يوماً وتجزيه، لكن لو أنه ابتدأ صيام الكفارة شهرين متتابعين من عشرة في الشهر الأول فينتهي بتمام ستين يوماً يصومها تامة كاملة. إذاً: يفصل في الإجارة على نفس هذا التفصيل، أنه إذا قال له: أستأجر منك هذه الدار شهراً أو شهرين، وكان ذلك بعد دخول الشهر بيوم ينتقص به عدداً ولا يتعين فإننا نحتسب له المدة ستين يوماً في الشهرين، وثلاثين يوماً في الشهر وما زاد فبحسابه، وهذا كله -كما ذكرنا- إذا استأجر الدار أو المستودع أو الغرفة أو المنزل أو الحوش ونحو ذلك مدة، فإننا نقول بجوازه، سواء كانت المدة بالساعات أو بالأيام أو بالأسابيع أو بالشهور. لكن بالنسبة للإجارة بالسنوات، فإذا قال: إنه استأجر من واحد ربيع وأسندها إلى سنة معينة، فحينئذٍ تصح السنة من بداية محرم إلى نهاية ذي الحجة من السنة نفسها، وهذا إذا أسند الإجارة إلى سنة معينة، أما إذا قال له: أستأجرها من الآن سنة كاملة فإنه يحتسب ثلاثمائة وستين يوماً كاملة إلى حسابها من الشهر الذي وقعت فيه الإجارة.

اختلاف العلماء في الإجارة بالمدة الطويلة

اختلاف العلماء في الإجارة بالمدة الطويلة هذا بالنسبة للمدة القصيرة، أما الإجارة بالمدة الطويلة فهي أن يستأجر منه الدار عشرين سنة، أو يكتب العقد على أرض أن يأخذها للزراعة ثلاثين سنة، أو نحو ذلك من المدد الطويلة. فمسألة إجارة الأرضين والدور والأشخاص مدة طويلة فيها خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، ومن حيث الأصل فجماهير العلماء من السلف والخلف على جواز الإجارة مدة طويلة؛ لكن بشرط: أن يغلب على الظن بقاء العين المؤجرة، وإمكان الانتفاع بها، وبشرط: ألا يكون هناك غرر في ارتفاع الأسواق وانخفاضها على شكل مؤثر على المستأجر والمؤجر. إذاً: المسألة من حيث الجملة بالإجارة للمدد الطويلة: فالجماهير من السلف والخلف: على أنه يجوز أن تؤجر الدار أو الأرض أو المساكن مدداً طويلة إلى عشرين سنة أو إلى ثلاثين سنة، لكن بالشرطين الذين ذكرناهما: أولهما: أن يغلب على الظن بقاء العين، وإمكان الانتفاع مدة الإجارة. والشرط الثاني: أن يُؤمن الضرر والغرر الموجود في ارتفاع الأسواق وانخفاضها. ولكن بعض العلماء يقول: العبرة عندي بالشرط الأول دون الثاني، وفي الحقيقة: أن قوله وجيه، أن العبرة بالشرط الأول دون الثاني؛ لأن الغنم بالغرم في قواعد الشريعة في الشرط الثاني؛ لكن الشرط الأول أهم من الشرط الثاني؛ لأن المقصود من عقد الإجارة: هو بقاء العين وحصول الانتفاع الذي من أجله دفعت الأجرة والتزم المؤجر والمستأجر بعقد الإجارة، فإذا غلب على الظن بقاء العين إلى ذلك الأمد المتفق عليه بين الطرفين، فلا إشكال بالجواز، وهذا إذا كنا قد تحققنا من وجود الشرط؛ لكن لو كانت الدار متهدمة، أو كانت الدار ضعيفة البنيان، أو كانت الأرض بحالة يغلب على الظن عدم سلامتها للمدة المتفق عليها، فإنه يكاد يكون بالإجماع على أنه لا يصح التعاقد على هذا الوجه، وإذا سُكت عن الدليل فتقول: إن الأصل يقتضي عدم جواز الغرر، وإذا أجره داراً قديمة يغلب على الظن سقوطها وتهدمها قبل تمام المدة المتفق عليها بين الطرفين فقد غشه وغرر به، والغرر لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر كما في الصحيح. إذاً: قلنا من حيث الأصل: إذا كانت المدة طويلة في إجارة الدور والأرضين فحصل الشرط من غلبة الظن بالسلامة وبقاء المنافع، وغلبة الظن أيضاً بالسلامة من حصول الضرر بالانتفاع وعدمه عند من يقول باشتراط هذا الشرط، فيبقى Q هل هذه المسألة فيها خلاف أو إجماع؟ إذا قلنا: اختلف العلماء، فجماهير العلماء يقولون: يجوز إجارة الدور والمساكن مدة طويلة، بشرط: غلبة الظن ببقائها، كما ذكرنا. وقال بعض العلماء كما هو في مذهب المالكية والشافعية: لا يجوز إجارة الدور والمساكن مدداً طويلة، ومنهم من يطلق، ومنهم من يقيد، فعند الشافعية قولان: قيل: لا يجوز مطلقاً أن يؤجر الدار أكثر من سنة، وإنما إذا كان يريد أن يؤجرها فيؤجرها سنة فقط ولا يزيد عليها. والقول الثاني يقول: يجوز بشرط أن تكون هناك مدة معينة كثلاثين سنة، وإذا جاوزها فلا يجوز، وإذا كان أقل منها يجوز، فأصبح عند أصحاب هذا القول. والذين منعوا من أصحاب القول الثاني وانقسموا إلى الوجهين الذين ذكرناهما، حجتهم: أن الدار قد تتهدم، وأن المساكن قد تتغير، والمنافع تتضرر بحصول المدة الطويلة، ولذلك قالوا: لا يجوز للمسلم أن يؤجر على هذا الوجه؛ لما فيه الغرر، وفيه من تعريض مال المسلم إلى أكله بالباطل.

شروط استئجار الدواب لركوب أو عمل

شروط استئجار الدواب لركوب أو عمل وقوله: [وإن استأجرها لعمل كدابة وركوب إلى موضع معين]. عرفنا أن في إجارة الدور ينبغي أن تُحدد المدة والزمن، وبالنسبة لإجارة الأشخاص وإجارة الدواب ونحوها، فينبغي أن يحدد العمل الذي وقع عقد الإجارة عليه، فمثّل المصنف بأمثلة متعددة هي أشبه بالقواعد لغيرها، أو يلتحق بها غيرها مما هو في حكمها. فلما قال: (كدابة) أي: استأجر دابة لعمل، واللام للتعليل، أي: من أجل عمل معين، واستئجار الدواب مثال في القديم، فقد كانوا يركبون الخيل والإبل، وكانوا يستأجرونها، إما لحملهم أو لحمل متاعهم، وإما للاثنين معاً، فيستأجر منه الخيل أو الإبل لنفسه، كأن يركب من المدينة إلى مكة، أو يحج معه على دابته ومعه متاعه، أو يستأجره لنفسه فقط، كأن يقول له مثلاً: أريدك أن تنقلني من طرف المدينة الشرقي إلى طرفها الغربي، فهذا نقل للذات، أو يستأجره للمتاع وحده، فيقول له: خذ هذه البضاعة واذهب بها إلى وكيلي بجدة أو وكيلي بمكة، فأصبحت ثلاث صور في إجارة الدابة: إما للركوب، وإما لحمل المتاع، وإما لركوبه مع حمل المتاع. العلماء رحمهم الله في القديم وضعوا ضوابط يحفظ بها حق المستأجر عند المؤجر، فلا بد في العين التي تؤجر وتستخدم في الإجارة أن يحدد العمل المطلوب منه، فهو مثلاً إذا قال له: أريدك أن تنقلني إلى جدة، أو إلى مكة، لا بد وأن يحدد العمل المطلوب من الدابة على وجه يزول به الغرر، فإذا استأجرها للركوب فلا بد أن يحدد بداية الركوب ونهايته، فيقول مثلاً: تنقلني من المدينة إلى مكة من أجل الحج، أو لعمل المناسك، أو للقيام بأشياء معينة محددة. والسبب في هذا: أنه تقدم معنا في أول باب الإجارة أنه لا بد من تحديد العمل المطلوب دفعاً للخصومة ورفعاً للضرر، فإذا حدد له بداية العمل ونهايته، وحدد له ما يراد منه فلا إشكال في الجواز. لكن لو قال له مثلاً: أريدك أن تنقلني إلى بلد بمائة، لم يصح العقد، فإن البلد مجهول. أو قال له مثلاً: تنقلني إلى مكة أو جدة بألف، لم يجز؛ لأنه ردده بين موضعين، فلا ندري هل يذهب به إلى جدة أو يذهب به إلى مكة، وقد اختلفت مسافتهما، هذا بالنسبة للركوب. كذلك عليه أن يحدد الشيء الذي سيحمل على الدابة، فيقول: تحملني. أو يقول: تحمل متاعي. فإن كان من الطعام فيبيّن أنه طعام ويبين كذلك نوع هذا الطعام الذي يحمل، وإن كان من الكساء واللباس فيحدده أيضاً، فلا بد من التحديد دفعاً للضرر؛ والسبب في هذا: أن المحمول يختلف، فلربما قال له: انقل لي هذه البضاعة من المدينة إلى جدة، وتكون البضاعة مثلاً من الحديد، فحمل الحديد ليس كالقماش؛ لأن القماش أخف في العبء على الدواب أو على الآلة التي تحمله، فإذا لم يحدد المحمول ربما ظن صاحب السيارة أو صاحب الدابة أن المحمول خفيف وظهر له بعد ذلك أنه ثقيل؛ لأن المحمول الثقيل له أجرة والمحمول الخفيف له أجرة، فلا بد من تحديد نوعية المحمول. فإذاً: لا بد وأن يحدد المكان وأن يحدد المحمول هل هو الشخص بنفسه، أو متاعه، أو هما معاً، فإذا تم ذلك على وجه تام وليس فيه غرر فلا إشكال، وهذا في القديم. أما بالنسبة لعصرنا الحاضر، فإذا أراد أن يسافر وأراد أن يركب سيارة أو يستأجرها وقال له: احملني، فلا إشكال أن تقول له: أحملك بنفسك، أو راكباً آخر يقوم مقامك، فالحكم واحد، إلا إذا حصل هناك اختلاف من حيث الجنس بالذكورة والأنوثة، وأن يكون هذا الاختلاف موجباً لاختلاف القيمة وموجباً للتعب أكثر، كأن يكون المحمول مثلاً مريضاً، وهذا المريض سيشق على السائق؛ وربما تعب عليه في الطريق، أو ربما انتظر، فلا بد وأن يحدد حتى لا يكون هناك وجه للغرر، وكل ذلك بموجب الشروط التي ذكر العلماء أن القصد منها المحافظة على حق الطرفين؛ المؤجر والمستأجر. وقوله: [أو بقر للحرث]. أي: أو استأجر البقر للحرث، فقد كانوا في القديم يحرثون الأرض بالبقر، فيوضع المحراث ثم يجر البقر المحراث، أما في العصر الحاضر فتوجد آلات معينة تقوم بالحرث، وهذه من نعم الله عز وجل على عباده، فإذا استأجر من أجل حرث الأرض، فلا بد وأن يحدد العمل الذي يريد منه في تلك الحراثة، لأن الحراثة درجات، ولها طرق معينة، فإذا كان لها أكثر من طريقة فلكل طريقة قيمتها، وينبغي أن يقول: تحرث لي مثلاً بالدرجة الأولى أو بالدرجة الثانية، أو تحرث لي حرثتين، فإذا اتفق معه على حرث فليحدد العمل. كل هذه الجمل يقصد المصنف منها تحديد العمل المفروض من المستأجر للأجير. وقوله: [أو دياس زرع]. كانوا في القديم إذا حصدوا الحصاد كالحبوب مثلاً، فالواحد منهم يحتاج إلى أن يعرف الحبوب إذا يبست ويبس سوق الحب فتمر عليه الدواب وتدوسه، حتى تأتي الرياح وتأخذ القش ويبقى الحب. فإذا استأجر أحدهم الدابة فعليه أن يحدد العمل المطلوب منها. وفي زماننا لو كان هناك عامل التزم أن يقوم بتصفية الحب، فإنه ينبغي تحديد وقت العمل، فبعض الأحيان يحدد بالساعات، وبعض الأحيان يحدد بالأيام، فيقول له مثلاً: أريد أن أشتغل عندك يوماً في تصفية هذا الحب، واليوم بمائة، يجوز ذلك، فإذا حدد له بالزمان يصير لا إشكال، لكن يبيّن له ما الذي يفعله؛ لأن تصفية الحبوب درجات، فإذا كانت هناك درجات فيحدد له الدرجة التي يبدأ بها، فقد تكون تصفيته -مثلاً- بطريقة معينة يحددها له، فالمهم أنه أي عمل يتردد بين عملين فأكثر ينبغي أن يحدد للعامل حتى لا تقع خصومة بين الطرفين. وخذها قاعدة: أن الإجارة إذا ترددت بين شيئين اثنين متفاوتين في القيمة؛ فلا يجوز للطرفين أن يبرما العقد بينهما بهذا الأمر، فإن قيل: لماذا؟ قلت: الأمر واضح؛ لأنه إذا أبرم العقد على هذا الوجه فإنه سيؤدي إلى الخصومة وإلى الأذية والإضرار، فكل من الطرفين سيحرص على أن يأخذ بالأحظ لنفسه، وهذا لا شك أنه يفتح باب الشقاق والنزاع. ومن هنا: تستطيع أن تتحدث عن ميزة الشريعة في الفقه الإسلامي، فمن مميزاتها: أنها تحرص على أخوة الإسلام حتى في التعامل الدنيوي، ولذلك نهت عن بيع المسلم على بيع أخيه، ونهته أن يبيع أو يؤجر على وجه فيه غرر وضرر؛ لأن هذا يحدث الخصومة، ويوغر القلوب على بعضها، ويدفع أصحاب النفوس الضعيفة لاستغلال الفقراء والضعفاء في إجارتهم. فيقول له مثلاً: خذ هذا الحب وصفِّه، والحب إذا صفي بدرجة كبيرة زاد له مائة، وإذا صفي بأقل كان له خمسون، فيقول له: خذ وصفه بخمسين، فعندما يأتي يصفيه بدرجة معتادة يقول: إنما قصدت التصفية العالية، فإذا قال له: أنت أعطيتني خمسين فقط، قال: خمسون لكن شرط أن تصفيه بدرجة عالية. فيحدث بينهما النزاع والشقاق، ولذلك قفلت الشريعة هذا الباب. فلا يبرم العقد بين الطرفين على شيء متردد إلا بالتعديد والبت، فإذا بت الطرفان انقطع السبيل لحصول الخصومة والضرر.

شروط استئجار الأشخاص

شروط استئجار الأشخاص وقوله: [أو من يدله على طريق]. كانوا في القديم إذا سافروا فإنهم يحتاجون إلى من يدلهم، فهذا يسمى (خريت) أو يسمى (بالدليل)، فيجوز أن تستأجر شخصاً لكي يدلك على طريق، وقد يستأجر الرجل شخصاً يدله على المشاعر والمناسك، فهذا لا بأس به، فهذه الدلالة ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعلها، ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (استأجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل -واسمه عبد الله بن أريقط - هادياً خريتاً)، (أي: دليلاً في الأسفار، وكان يعرف الطريق بين مكة والمدينة فاستأجراه للهجرة. فاستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً، ودفعا إليه براحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فدل ذلك على جواز إجارة أشخاص من أجل الدلالة، فتقول لشخص: أريد القرية الفلانية، أو أريد مثلاً بئر فلان أو أريد الموضع الفلاني فدلني عليه، وتذهب معي حتى أصل إليه وتردني. فيقول: أذهب بك بخمسمائة وأردك بخمسمائة، فهذه ألف، فحينئذٍ تم العقد بينكما ولا إشكال، وهذا جائز، فإذا استأجر وقال له: أريد أن تدلني على الطريق إلى مكة، فينبغي عليه أن يحدد زمان الخروج، ويحدد الطريق الذي سيسلكه إذا كان هناك أكثر من طريق، مثلاً قال له: أريد طريقاً مختصرة، أو أريد طريقاً يسلكه الناس؛ لأنه ربما ذهب به إلى طريق مضر، فنص المصنف على أنه لا بد من تعيين العمل.

استئجار الطبيب للفحص أو العلاج

استئجار الطبيب للفحص أو العلاج قال رحمه الله: [اشترط معرفة ذلك]. مثلاً: الذي استأجر رجل من أجل الدلالة، لا بد وأن يعرف على أي الطرق التي سيسلكها. في زماننا نفرّع مسائل على هذه الأحكام التي ذكرها المصنف، فمن أشهر ما يوجد الآن مثلاً: الإجارة للعمل الطبي، كطيب للعلاج، فالطبيب إذا أراد أن يعالج وأراد المريض أن يتعاقد معه، فإنه ينبغي أن يحدد العمل الطبي الذي سيقوم به، فإن كان لفحص يقول له: أفحصك وآخذ مائة. وإذا قال له: أفحصك وآخذ مائة. فهنا يحدد نوعية الفحص، هل هو لعضو معين، أو هو لاكتشاف مرض معين، أو هو لفحص وقائي، فيحدد العمل الذي سيقوم به. ولا يجوز أن يقول له: أفحصك فقط؛ لأن الفحص فيه ما يسمى بالفحص الابتدائي، وهناك فحص أعمق كالتحاليل والتصوير بالأشعة والمناظير ونحوها، فلو قال: أفحصك، ربما ظن المريض أنه سيفحصه فحصاً تماماً كاملاً، فيتفق معه ويأخذ الأجرة، ثم يقول: أنا قصدت الفحص المبدئي. والفحص المبدئي لا يكشف كثيراً من الأمراض، بخلاف الفحص العميق الذي يسمونه بالفحص التكميلي، فيشترط في الفحص أن يحدد نوعية الفحص. وقد يكون هناك أكثر من وسيلة يفحص بها، فمثلاً: ضُرب على يده فشك أن يده مكسورة أو لا، فقال: أريد أن تفحص لي يدي، فقال له: أصورها لك بالأشعة. فلا بد أن يحدد الوسيلة، فلا يقل: أفحصها. ويسكت، وعلى هذا: لا بد وأن يحدد الوسيلة للفحص. ثم إذا أراد أن يستأجر لغير الفحص، بل للمهمات الطبية، فينبغي أن يحدد هذه المهمة، والحمد لله أن هذا موجود في كثير من المستشفيات، فتجد كل عمل يضعون أمامه الأجرة. فهذه الأشياء مهمة جداً، وهي تحقق مقصود الشرع من معرفة المستأجر بحقه، ويضمن بها حق المستأجر. بناءً على ذلك: لا بد من تحديد المهمات الطبية، والأجرة المدفوعة في مقابلها، وإذا حددت المهمة الطبية في بعض الأحيان يكون هناك تحديد على وجه فيه غرر، أي: في بعض الأحيان يكون عندنا تصوير بالأشعة وعندنا كتابة تقرير الصورة، إذا جرى العرف بأن تقرير الصورة تابع للتصوير فحينئذٍ إذا تعاقد معه بمائة عليهما وجب على خبير الأشعة أن يقوم بالتصوير، ثم على الطبيب الذي تعاقد معه أن يقوم بكتابة التقرير من خلال قراءة صورة الأشعة. وبالنسبة للمهمات الطبية التي فيها أعمال كقيامه بعلاج الجسم، فلا بد وأن يحدد الطبيب ذلك ويبنيه، فمثلاً: إذا كان يريده للجراحة واستئصال اللوزتين، أو مثلاً قطع البواسير، أو استئصال الزائدة، أو نحو ذلك، فلا بد وأن يحدد العمل الجراحي، وفي بعض المستشفيات يقوم الطبيب بشرح العمل الذي سيقوم به للمريض شرحاً تاماً كاملاً، فيقول له مثلاً: آخذ على هذا خمسمائة دولار أو آخذ عليها خمسة آلاف ريال أو نحو ذلك، فيحدد المهمة وما يقوم به وأجرته. أما أن يكون هناك تعاقد مبهم، ويأتي المريض ويدخل على الطبيب ولا يحدد ما الذي يريده؛ فهذا لا يجوز، بل ينبغي التحديد، حتى الطبيب عندما تدخل المستشفى فلابد أيضاً أن تحدد نوعية الطبيب، هناك طبيب الذي ستكشف عنده، فيختلف الكشف والعلاج عنده عن الذي دونه، فهذا له قيمته وهذا له قيمته، وهذا أكثر ما يقع في المستشفيات التي تكون بالأجرة. المستشفيات التي تكون بالأجرة، يكون فيها رجل استقبال واستعلام، فعندما تريد أن تفتح ملفاً يقول لك: أحيلك على طبيب أخصائي بسبعين ريالاً. فلا بد أن يجرب هل هو أخصائي أو استشاري، حتى يكون المريض على معرفة؛ لأنه ربما كان المرض الذي معه قد كشف عليه من قبل من هو بهذه المرتبة، فإذاً: لا بد أن يحدد للمريض من هو الطبيب ونوعيته ونوع العمل الذي سيقوم به حتى يكون على بينة ويكون العقد خالياً من الغرر والجهالة. وقوله: [وضبطه بما لا يختلف]. وضبط العمل بما لا يختلف، فإذا كان العمل متردداً كما قلنا بين أكثر من شيء، فإنه ينبغي التحديد على وجه يزول به الغرر الذي يخشى وقوعه على المستأجر أو المؤجر.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تأجير المستأجر للعين المؤجرة قبل دفعه إيجارها

حكم تأجير المستأجر للعين المؤجرة قبل دفعه إيجارها Q هل يجوز أن يؤجر المستأجر سلعة استأجرها قبل دفع قيمة الاستئجار لصاحب السلعة؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: هذه المسألة الحقيقة مفرّعة على مسألة: هل للمستأجر أن يؤجر ما استأجره؟ أثبتنا في المجلس الذي قبل هذا المجلس أنه يجوز للمستأجر أن يؤجر، وبينّا أن هذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله: منهم من يمنع مطلقاً، ومنهم من يجيز، ومنهم من يفصّل بين كون المستأجر يؤجر بنفس القيمة أو بأكثر. لكن على كل حال فالذين قالوا: بجواز أن يؤجر المستأجر ما استأجره قبل أن يأخذ المنفعة، قالوا: بأنه بالعقد ملك المنفعة. وفي الحقيقة هذه المسألة مهمة جداً؛ لأنك إذا استأجرت -مثلاً- شقة بعشرة آلاف ريال، وقلت: إن المنفعة التي هي سكنى الشقة بعشرة آلاف سنة، فعندنا عشرة آلاف، فهذه هي القيمة، وعندنا عوض عن العشرة آلاف وهو السكن سنة، فالمنفعة وهي السكن سنة يقابلها عشرة آلاف ريال، فإذا قلنا: إن المنفعة يملكها المستأجر بمجرد العقد فيجوز أن يبيعها، ويجوز أن يؤجرها على شخص آخر، وهذا بيع المنفعة، وبناءً على هذا القول: يترتب عليه قول آخر، وهو: أن المؤجر يكون المال ملكاً له ويحتسب زكاته، بحيث إنه لو تركه عند المستأجر وأخذه في نهاية السنة لزمته الزكاة؛ لأن المال دخل على ملكه الذي امتنع عن قبضه. وقد قرر وأشار ابن رشد رحمه الله وغيره من العلماء: أن المنافع وإن كانت معدومة أثناء العقد لكنها منزّلة منزلة الموجود.

فسخ الإجارة

فسخ الإجارة Q متى يكون الفسخ بالإجارة؟ A الفسخ في الإجارة فيه تفصيل سيأتي في الفصل الذي يلي هذا الفصل، وهي مسألة تحتاج إلى نظر؛ لأنها تختلف بحسب اختلاف الموجبات والأسباب. وهناك أسباب شرعية وأسباب حسية، فقد تفسخ بسبب شرعي، مثل: ما إذا استأجره للحج، ثم جاء عذر شرعي يمنع من الحج، كتعطل في الطريق حتى ذهب يوم عرفة ولم يمكنه إدراك الوقوف، فحينئذٍ تفسخ الإجارة؛ لأن مقصود الشرع من الإجارة ذلك. ومن أمثلة ذلك: إذا استأجره لقلع ضرس فيها ألم وزال الألم، فالشرع يمنع من قلع الضرس إلا عند وجود الألم والضرر، وقرر الطبيب أنها طبيعية ويمكن أن تبقى على حالها فلا يجوز القلع. وقد يكون السبب عادياً مثلاً: استأجر داراً للسكنى لمدة سنة، فانهدمت الدار أو سقطت، فحينئذٍ تنفسخ الإجارة؛ لأنه سبب حسي عادي، والاستفادة من المنفعة متعذرة. وسيأتي إن شاء الله تفصيل هذه المسائل وبيانها. والله تعالى أعلم.

حكم تبييت نية الصوم في كل ليلة

حكم تبييت نية الصوم في كل ليلة Q هل يجب تبييت نية للصوم في كل ليلة؟ A هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، وأصح أقوال العلماء في هذه المسألة قول الجمهور: من وجوب تبييت النية في الليل لكل يوم؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من لم يبيت النية بالليل فلا صوم له)، وهذا يدل على أنه يجب أن يبيت النية بالصوم لكل ليلة بحسبها. والله تعالى أعلم.

حكم من رأت دم الحيض بعد صلاة المغرب

حكم من رأت دم الحيض بعد صلاة المغرب Q امرأة رأت شيئاً من دم الحيض بعد صلاة المغرب ولم تعلم هل كان ذلك قبل الغروب أم بعده، فما الحكم بالنسبة لصلاتها وصيامها؟ A إذا رأت الدم وغلب على ظنها أنه سابق للغروب، فلا إشكال أن صوم ذلك اليوم لاغٍ ويلزمها قضاؤه، وأما إذا كانت قد غلب على ظنها أن الدم طري وأنه حادث بعد المغرب فلا إشكال في صحة صومها ولزوم صلاة المغرب إذا طهرت فإنها تقضيها وتصليها. وأما إذا ترددت وشكت فالقاعدة عند العلماء رحمهم الله تقول: (ينسب لأقرب حادث)، فالأصل صحة الصوم حتى يدل الدليل على عدم صحته، والأصل أنها صامت يوماً كاملاً، وذمتها بريئة حتى نتحقق من وجود هذا المؤثر، فحينئذٍ يحكم بصحة صومها، وأما الدم فلا يؤثر في ذلك اليوم، وتبقى المسألة عكسية، لأنك إذا قلت: يصح صومها لزمها قضاء المغرب، وإن قلت: لا يصح صومها لم يكن هناك قضاء المغرب، فإن سلمت من الصوم لزمها قضاء المغرب؛ لأن دخول الوقت موجب لشغل الذمة بالنسبة للحائض، ولا يكون معتداً بآخر الوقت كما يقوله فقهاء الحنفية وبعض أصحاب الإمام أحمد. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب الإجارة [7]

شرح زاد المستقنع - باب الإجارة [7] اختلف العلماء في حكم أخذ الأجرة على الأذان وتعليم القرآن والفتوى وغيرها من القربات، فمنهم من قال بالجواز، ومنهم من قال بالتحريم، وطائفة فصلوا في هذه المسألة، ولكل صاحب قول أدلته، ولكن الراجح القول بالجواز. ويلزم المؤجر تجهيز كل ما يلزم في العين المؤجرة حتى يتم للمستأجر الانتفاع بها حسب العرف.

حكم أخذ الأجرة على الأذان أو تعليم القرآن ونحوهما

حكم أخذ الأجرة على الأذان أو تعليم القرآنٍ ونحوهما بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [ولا تصح على عمل يختص أن يكون فاعله من أهل القربة]. شرع المصنف رحمه الله في بيان جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بمحل الإجارة، فبيَّن أن مما يمتنع ولا يصح أن يؤجر عليه: أعمال القربة التي يختص فاعلها بالتعبد، وتوضيح ذلك: أن العبادات منها ما هو فرض عين على المكلف، قصد الشرع أن يقوم المكلف بفعله بنفسه، فهذا النوع من العبادات لا يستقيم أن يقيم غيره مقامه، وبعبارة أخرى كما يقول العلماء رحمهم الله: إن هذا النوع من العبادة لا تدخله النيابة من حيث الأصل، فيشمل ذلك الصلاة، فلا يجوز أن يصلي شخص مكان آخر، ولا أن يقوم بفعلها نيابة عن قريب أو غريب. فهذا النوع من العبادات والتي يسميها العلماء بفرائض العين، وفرض العين هو الذي قصد الشرع أن يقوم المكلف به بعينه، فحينئذٍ لو دخل بديل عن هذا المكلف فإن مقصود الشرع لا يتحقق، فلو قال رجل لآخر: صل عني الصلوات الخمس أو بعضها وأعطيك عن كل صلاة كذا وكذا؛ لم يصح. فإذاً: لا يصح أن يستأجره للقيام بفريضة العين؛ لأن الشرع قصد أن يقوم بها المكلف بنفسه عيناً، فلا يستقيم أن يقوم غيره مقامه، لا على سيبل التبرع ولا على سبيل العوض، هذا بالنسبة لفرائض الأعيان. وهناك قربات أخر دل الشرع على جواز النيابة فيها، وبالإمكان أن يقوم شخص مقام آخر في القيام بهذه العبادات، أو تكون الطاعة نفسها مما يتقرب به إلى الله عز وجل، ويكون قربة للشخص نفسه، فمثلاً: الأذان، وتعليم القرآن، والإمامة في الصلوات، والتعليم والتدريب والفتوى. ونحو ذلك من الأمور المتعلقة بالطاعات والعبادات في تعليمها والقيام بها، فلو أن شخصاً أراد أن يستأجر شخصاً للأذان، أو أراد أن يستأجره للقيام بالفتوى أو الإمامة أو التدريس ونحو ذلك، فهل تجوز الإجارة على هذا النحو من القربات؟ للسلف رحمهم الله في هذه المسألة ثلاثة أقوال، وهي المسألة التي ذكرها المصنف رحمه الله وصدر بها هذه الجملة: القول الأول: لا يستأجر على هذه الطاعات والقربات، فلا يجوز أن تدفع المال من أجل أن يؤذن، ولا يجوز أن تدفع المال من أجل أن يعلم القرآن، ولا يجوز أن تدفع المال إليه من أجل التعليم والإمامة ونحو ذلك من القربات التي ذكرنا، وهذا القول قال به طائفة من السلف رحمة الله عليهم، وقال به أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي وكذلك قال به ابن المنذر، وقال به إسحاق بن راهويه، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، وهو مذهب الحنفية، أي: أنه لا يجوز أن يستأجر الغير للقيام بالطاعات التي ذكرناها، لا أذاناً ولا صلاة ولا إمامة ولا تدريساً ولا نحو ذلك من الطاعات والقربات. بناءً على هذا القول: لو انعقدت الإجارة بين الطرفين على فعل هذه الأمور فإنه لا يستحق الأجير شيئاً، ولا تكون الإجارة شرعية. القول الثاني: يجوز أن يستأجر الغير للقيام بهذه الأعمال والطاعات، ولا بأس بذلك، وهذا هو مذهب المالكية والشافعية ورواية عن الإمام أحمد -رحمة الله على الجميع- ولذلك ينسبه بعض أهل العلم إلى الجمهور: أنه يجوز أن تستأجر الشخص للقيام بتعليم القرآن، وتقول له: علم ابني هذا الجزء من القرآن برواية نافع، أو برواية حفص، أو برواية ورش عن نافع، ونحو ذلك من الاتفاق الذي تبينه له، ولا بأس بذلك ولا حرج، ويجوز أن تستأجره للأذان وللإمامة وللتدريس والتعليم ونحو ذلك، وهو مذهب الجمهور كما ذكرنا. القول الثالث: التفصيل: قال: إن وقع العقد بالشرط فلا يجوز، وإن وقع بدون شرط فهو جائز. ومرادهم بكونه بشرط أن يقول الشخص: أنا لا أدرس حتى تعطيني المال، أو لا أؤذن حتى تعطيني كذا وكذا، أو لا أؤم الناس حتى تعطيني كذا وكذا. فهذا النوع يسمى المشارطة، أي: أنه جعل العوض والأجرة شرطاً للقيام بالطاعة، وهذا القول هو رواية عن الإمام أحمد، رحمة الله على الجميع. تحصل معنا أن في هذه المسألة ثلاثة أقوال: قول بالمنع مطلقاً، وقول بالجواز مطلقاً، وقول بالتفصيل. حالة التفصيل يجيزون إذا لم يشترط الشخص، ومثال عدم الاشتراط: يأتي الشخص للأذان أو للإمامة، فيعطى الأجرة بدون أن يشترط ذلك، ولو قال له قائل: لا نعطيك الأجرة. لاستمر في أذانه أو في إمامته، فهو إذاً لا يجعل الأجرة قصداً أو هدفاً من إمامته، بل يكون مستعداً أن يقوم بالفعل والطاعة قربة لله عز وجل، فصار أجر الدنيا تبعاً ولا قصداً، هذا بالنسبة للتفريق بين المشارطة وعدمها.

أدلة من يقول بعدم جواز أخذ أجرة على تعليم القرآن وغيره

أدلة من يقول بعدم جواز أخذ أجرة على تعليم القرآن وغيره استدل الذين قالوا بعدم الجواز بدليل الكتاب والسنة والعقل: أما دليلهم من كتاب الله عز وجل فقالوا: إن القرآن نص على تحريم عقد الأجرة على الوحي، قال تعالى: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:109] {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ:47] إلى غير ذلك من الآيات التي نصت على أنه لا أجر ولا حظ لقاء القيام بهذا الوحي، فشمل ذلك القرآن تعليماً وتدريساً وبياناً، وكل ما يتصل بالقرآن من المنافع التي يراد بها التقرب لله سبحانه وتعالى. ودليل السنة هو: أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه علم رجلاً من أهل الصفة شيئاً من كتاب الله عز وجل فأهدى إليه قوساً، قال: (فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته، فقال: إن أحببت أن يقلدك الله به قوساً من نار فتقلده) ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم رتب الوعيد على أخذ الأجرة من الطاعة والقربة المتمثلة بتعليم القرآن، فدل على أنه لا يجوز أن يأخذ الشخص أجرة على تعليمهم القرآن، ويتبع ذلك تعليمهم العلم عموماً. أما الدليل الثالث: فقالوا: حديث أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه، وفيه: (أنه أهدى إليه رجل علمه شيئاً من كتاب الله فأهدى إليه خميصة، فلما أهدى إليه الخميصة قال عليه الصلاة والسلام: لو أنك لبستها لكساك الله بها ثوباً من النار). وهذان الحديثان في إسنادهما كلام عند أهل العلم رحمة الله عليهم، فهما ضعيفا الإسناد كما سنبينه في الترجيح. أيضاً هناك دليل فيه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الأكل بالقرآن: (اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به ولا تستكثروا) وفيه كلام أيضاً، وإن كان بعض العلماء قد حسن إسناده، لكن الكلام فيه قوي. فهذا مجموع دليلهم من الكتاب والسنة، أما دليلهم من العقل فقالوا: لا تجوز الإجارة على هذه القربات -أي: تعليم القرآن والتعليم والإمامة والأذان ونحوها من الطاعات- كما لا تجوز الإجارة على الصلاة والصيام، يقولون: أنتم تتفقون معنا على أنه لا يجوز أن يستأجر شخص شخصاً من أجل أن يصوم عنه، وتتفقون معنا على أنه لا يجوز أن يستأجر شخص شخصاً من أجل أن يصلي عنه، وإذا كنا متفقين على أنه لا يجوز أن يستأجر شخص آخر للصلاة ولا أن يستأجره للصيام، فنقول: تعليم القرآن والأذان وتعليم العلم كالصلاة، أليس المراد بها أن يتحصل صاحبها على الأجر والمثوبة؟ قلنا: بلى. قالوا: ما دام أنه يريد تحصيل الأجر والمثوبة والكل قربة، وكما حرم أصل الأجرة على هذه القربة يحرم أصل الأجرة على هذه القربة بجامع كون كل منهما طاعة وقربة لله عز وجل. هذا بالنسبة للدليل العام الذي ورد. أيضاً قالوا: مسألة الأذان لا يجوز أخذ الأجرة عليها لثبوت الحديث الخاص، وهو حديث السنن، عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه وأرضاه، وكان قد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، قال رضي الله عنه: (وكان آخر ما عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن اتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً) والحديث صحيح، قالوا: فهذا نص، وركبوا منه دليل العقل فقالوا: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نص على عدم أخذ الأجرة على الأذان وهو من القربة والطاعة، كذلك لا يجوز أخذ الأجرة على التعليم، ولا يجوز أخذ الأجرة على الفتوى، ولا غير ذلك من الأمور التي يقصد بها القربة والطاعة. هذه هي محصل أدلة أصحاب القول الأول من النقل والعقل.

أدلة من يقول بجواز أخذ أجرة على تعليم العلم والقرآن

أدلة من يقول بجواز أخذ أجرة على تعليم العلم والقرآن أما دليل من قال بالجواز، فقد استدلوا بأدلة ثابتة في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدلة من القياس والنظر. أما دليلهم من السنة الصحيحة فقالوا: عندنا عدة أحاديث وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كلها تدل على أنه يجوز أن يأخذ المسلم أجرة على القيام بهذه الطاعات والقرب: الدليل الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه -وهو ثابت في الصحيحين- في قصة المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فصعد فيها النظر وصوبه عليه الصلاة والسلام، وقال له رجل: يا رسول الله! إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها. فقال له: (هل معك شيء تصدقها إياه؟ إلى أن قال: زوجتكها، وفي رواية: أنكحتكها، وفي رواية أخرى: ملكتكها بما معك من القرآن) فالرجل يحفظ عدة سور، فزوجه النبي صلى الله عليه وسلم من هذه المرأة على أن يعلمها هذه السور، حيث قال: (أنكحتكها بما معك من القرآن). فإذا تأملت هذا الحديث وجدت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل تعليم القرآن عوضاً وصداقاً لنكاح المرأة، فدل ذلك على جواز أن يكون التعليم عوضاً عن شيء دنيوي، وأنه لا بأس أن يأخذ عليه أجراً من الدنيا ما دام أن نيته الأصلية هي ابتغاء الله عز وجل، فقالوا: فلا يضر، لأنه ينوي الطاعة والقربة بتعليمهم القرآن، ولكن كونه يأخذ شيئاً من الدنيا فذلك من تيسير الله عز وجل له حتى يستعين به على المئونة، ويستعين به على طلب العلم، ويستعين به على الخير. إذاً: حديث أبي هريرة دل على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن. طبعاً هم يقولون: أليس المرأة إذا أراد الرجل أن يتزوجها يدفع المال من الذهب والفضة؟ قلنا: بلى، يدفع المال من الذهب والفضة. قالوا: فإذا كان يدفع المال من الذهب والفضة فإن النبي صلى الله عليه وسلم نزل تعليم القرآن عوضاً عن مهر المرأة، فدل على أنه يجوز أن يكون تعليم القرآن معاوضاً عليه، يعني: لقاء عوض وبدل. أما الدليل الثاني: فقالوا: حديث أبي سعيد في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنهم نزلوا بحي من أحياء العرب، وفيه رجل به ألم، فقيل لهم: إنكم أتيتم من عند هذا الرجل فهل عندكم من راق؟ فأتي بالرجل، قال: فكنت أقرأ عليه بفاتحة القرآن، فأجمع رقيقي ثم أتفل عليه (ثلاثة أيام) فكأنما نشط من عقال)، أي: فشفاه الله عز وجل بما جعل الله في هذا القرآن من البركة، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29] فجعل الله عز وجل فيه البركة؛ فشفي سيد القوم، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، وفي بعض الروايات أن أبا سعيد اشترط وقال: (لا نرقي حتى تجعلوا لنا جعلاً). فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، فلما جعلوا لهم الجعل قرأ ورقى فشفي سيد القوم. ومثله قضية اللديغ حينما لدغ وقرءوا عليه بفاتحة الكتاب؛ فشفاه الله عز وجل. قال أبو سعيد: (فلما رجعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سألناه -أي: سألناه عن أخذ العوض عن القرآن والرقية- فقال عليه الصلاة والسلام: إنكم أكلتم برقية حق، وإن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله، كلوا واضربوا لي معكم متاعاً) وفي رواية: (خذوا واضربوا لي معكم بسهم) فأحل لهم العوض، والعوض وقع لقاء الرقية، والرقية نوع من الطاعة والقربة؛ لأنها لا تقع القربة إلا إذا تلا القرآن معتقداً فيه التقرب لله عز وجل، كما لو أذن معتقداً وكما لو علم معتقداً، وهكذا. فقال أصحاب هذا القول رحمة الله عليهم: إنه يجوز أخذ العوض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز لهؤلاء الصحابة أخذ الجعل، وعده غير قادح في كون العمل قربة، وقال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله). كذلك أيضاً لهم دليل ثالث، وهو: النظر والعقل، قالوا: يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن وعلى الأذان والإمامة والفتوى ونحو ذلك من القربات، كما يجوز أخذ الأجرة على بناء المسجد وكتابة العلم، والكل متفق على أنه لو استأجر شخص ليبني مسجداً فإنه يجوز بالإجماع، وبناء المسجد يقع قربة ويقع عادة من العادات، ولذلك قالوا: ممكن أن ينوي به القربة ويحصل أجر الدنيا وأجر الآخرة، قالوا: فيجوز أن يأخذ العوض عليه من هذا الوجه.

أدلة من يفصل في مسألة أخذ أجرة على تعليم القرآن

أدلة من يفصل في مسألة أخذ أجرة على تعليم القرآن وأما القول الثالث: الذي قال بالفرق بين المشارطة وعدمها فإنهم يجمعون بين الأدلة، ويقولون: إن الآية التي حرمت نص فيها الله عز وجل على أن التحريم للمشارطة {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ} [سبأ:47]، {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان:57]، {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء:109]، {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [يوسف:104] فالسؤال مشارطة، فجعل المشارطة مؤثرة في الحل، فالمنع جاء بصورة خاصة وهي أن يسأل، والمشترط سائل، فكأنه يقول: لا أصلي حتى تعطوني ألفاً. يقولون له: صل بنا إماماً. يقول: أقبل أن أصلي بكم الشهر بخمسمائة. قيل للإمام أحمد رحمة الله عليه: إن رجلاً يقول: لا أصلي بكم التراويح حتى تعطوني كذا وكذا. قال: أعوذ بالله! من يصلي وراء هذا؟! فما دام أنه يقول: لا أصلي بكم حتى تعطوني كذلك. معناه: أنه لا يريد الصلاة ولا يريد العبادة إلا من أجل المال. فإذاً قالوا: إنه إذا شارط كان سائلاً، والله نهى ومنع وحرم، وجعل السؤال للأجر لقاء الوحي محظوراً على المرء، وكما أنه محظور على نبي الأمة صلى الله عليه وسلم فمن بعده قائم مقامه في كونه ممنوعاً من هذا الأمر؛ لما فيه من الإخلال بحق الدعوة والتعليم. وكذلك أيضاً قالوا: إن الجواز دلت عليه الأدلة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتحريم دلت عليه أدلة أخرى، فنجمع بين الدليلين ونقول: من اشترط منع، ومن لم يشترط لا يمنع. واعترض على هذا المذهب باعتراض، قيل لهم: أنتم تقولون: إننا نجمع بين أدلة الجواز والتحريم، فما رأيكم بحديث أبي سعيد والرقية، فإن حديث الرقية فيه: (لا نرقي حتى تجعلوا لنا جعلاً) فجعلوا الشرط موجوداً. فقالوا: نعم، حديث أبي سعيد نقره ولا ننكره، ونقبله ولا نرده، ولكنه بين مسلم وكافر؛ لأن هؤلاء كفار وليسوا مسلمين، وإنما حظر إذا كان بين مسلم ومسلم. وأجابوا من وجه آخر فقالوا: إن حديث أبي سعيد رضي الله عنه خرج مخرج المداواة؛ لأن الرقية نوع من العلاج والتداوي، والعلاج والتداوي فيه شبهة الدنيا مع وجود القربة والطاعة، فصار مثل: داء المس، فيمكن أن يقع طاعة ويمكن أن يقع غير طاعة، فوسع فيه أكثر من غيره، فخففوا من حديث أبي سعيد رضي الله عنه من هذا الوجه.

الراجح في مسألة أخذ الأجرة على تعليم القرآن ونحوه

الراجح في مسألة أخذ الأجرة على تعليم القرآن ونحوه وفي الحقيقة: إذا تأمل المتأمل فإنه سيجد أن دليل من قال بالجواز أصح وأقوى من حيث الإسناد والثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك فالأشبه والأقوى القول بالجواز، وخاصة إذا كان من بيت المال. وأما مسألة الأذان فيشكل على حديث الأذان حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً) فإن هذا الحديث يعارض بحديث أبي محذورة رضي الله عنه وأرضاه، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قفل من الطائف بعد قسمه لغنائم حنين بالجعرانة، وجاء أبو محذورة رضي الله عنه وأذن الأذان، قال: فألقى إلي صرة من فضة). فألقى النبي صلى الله عليه وسلم له صرة من فضة، فأخذ على أذانه الأجر، فنقول: الأشبه في قوله (واتخذ مؤذناً لا يتخذ على أذانه أجراً) أي: لا يطلب على أذانه الأجر، أي: أنه يدخل تحت ما قلناه: عند المشارطة يقع الحظر والمنع، ولذلك القول بأنه يجوز هو الأصل، وفي النفس شيء إن كان الرجل يشارط، أعني إذا كان يقول: لا أفعل حتى تعطوني. فهذا في النفس منه شيء. وبناءً على ذلك: فالأشبه الجواز، وخاصة إذا كان من بيت مال المسلمين. وقوى بعض العلماء في هذه المسألة جوانب، قالوا: الأقوى والأشبه الجواز، كأن يكون طالب العلم لا دخل له إلا هذا الذي يأخذه من بيت المال، أو يغلب على ظنه أنه إذا لم يتفرغ للتعليم على هذا الوجه فإنه سيتعرض لذل المسألة، أو يتعرض لأمانات الناس ويضيعها، ولذلك كان الإمام أحمد يفضل التعليم بالمال على نحوه من التكسب الذي فيه تحمل لأمانات الناس وحقوقهم، فلعله ألا يتمكن من ذلك فيضيع حقوقهم. وقال بعض العلماء: ينبغي للإنسان أن يوطن نفسه إذا كان مؤذناً أو إماماً وأخذ الأجر، أن يحرص في الابتداء ألا يأخذ، ويحاول قدر استطاعته ألا يتقبل العطاء، فإذا فرض عليه نوى في قرارة قلبه أنه لو قطع عنه لاستمر في عمله وطاعته، وأن ذلك لا يقطعه عن الخير. قالوا: فلو قيل له: نقطع عنك راتبك الذي تأخذه. فينقطع؛ فحينئذٍ تكون الشبهة فيه قوية؛ لأنه يريد حظ الدنيا، نسأل الله السلامة والعافية. وبناء على ذلك نقول: إن الآيات التي منعت {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان:57] {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ:47] إلى غير ذلك من الآيات محمولة على من اشترط وقصد المال وقدم الدنيا على الآخرة. وأما حديث أبي وحديث عبادة بن الصامت فنقول: إنها أحاديث فيها ما فيها من حيث السند، وهي أضعف إسناداً، والقاعدة: أن الضعيف لا يقوى على معارضة ما هو أصح منه. وهناك جواب يختاره بعض مشايخنا رحمة الله عليهم، فيقول: إن أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه ابتدأ تعليم الرجل لوجه الله، ثم جاءه بعد ذلك بقوس هدية، فحينئذٍ من ابتدأ التعليم قاصداً به وجه الله، فجاءته هدية أو جاءه شيء من الدنيا كأنه رغب عن ثواب الله إلى مثوبة العباد، وقال له: (إن أحببت أن يقلدك الله به قوساً من نار) بالانخراط فصرفه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأكمل والأحظ، وهو: إرادة ما عند الله عز وجل، فيفرق بين من ابتدأ وهو ينوي الآخرة، ونشأت عليه الدنيا، وبين من يكون في الأصل له حظ الدنيا. وقالوا: النبي صلى الله عليه وسلم رغب في الجهاد مع كونه قربة وطاعة بحظ من الدنيا، وقال: (من قتل قتيلاً فله سلبه) فرغب في الطاعة، فقويت الحمية وقويت الشوكة في ذات الله بحظ من الدنيا، وهذا يدل على أنه إذا أراد حظ الدنيا لم يؤثر.

حالات من يعطى أجرة على تعليم القرآن وغيره

حالات من يعطى أجرة على تعليم القرآن وغيره ومن هنا نقول: من طلب العلم وأعطي راتباً، أو ترتب على كونه يأخذ العلم منزلة أو مرتبة أو شهادة ينال بها شيئاً من الدنيا ففيه ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تكون نيته الآخرة محضة، وحظ الدنيا لا يلتفت إليه بالكلية. إن أعطي شيئاً وإلا لم يتلفت إليه. الحالة الثانية: أن يكون قصده الآخرة، ويجعل حظ الدنيا تبعاً لا أساساً، بحيث لو قيل له: لا نعطيك هذه الدرجة ولا هذه الشهادة. لاستمر واستدام، فحينئذٍ نية الآخرة راجحة ونية الدنيا مرجوحة. الحالة الثالثة: أن يستويا. الحالة الرابعة: أن يكون العكس والعياذ بالله، فتكون نيته هذه المنزلة من الدنيا. فأما إذا كانت نيته الآخرة، وكان قصده من تعلمه أن يتعلم ما فرض الله عليه ويعلم أبناء المسلمين، ويعمل بما علم؛ فهو بخير المنازل؛ لأنه أراد وجه الله عز وجل، وقد نصت نصوص الكتاب والسنة على أن من أراد الله والدار الآخرة فإن الله عز وجل يعطيه أجره ولا يضيع عمله، هذا إذا كان أصله الآخرة. الحالة الثانية: أن يكون أصله الآخرة وجاءت الدنيا تبعاً، بحيث يقول: أنا فعلاً أريد أن أتعلم، وأعمل بما علمت، وأعلم الناس بعد ذلك، وأحب أن تكون لي شهادة، وأن تكون لي وظيفة منها أنفع الناس، وأكف وجهي عن سؤال الناس، ومنها أسترزق حتى لا أتعرض لذل الدين وفاقته وأعرض أهلي وعيالي للذل. فإذاً: عنده طلب للدنيا، لكنه أقل من طلب الآخرة، فإذا كانت نية الآخرة هي الأساس ووقعت نية الدنيا تبعاً لم يضر، والدليل على ذلك دليل الكتاب والسنة. أما دليل الكتاب فإن الله عز وجل قال عن أهل بدر: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7] والله سبحانه وتعالى المطلع على القلوب والضمائر يقول في أهل بدر: (وَتَوَدُّونَ) أي: (تتمنون) من باب قوله عليه الصلاة والسلام: قال: (إن الله وعدني إحدى الحسنيين: إما الجهاد وإما العير) فخرجوا رضوان الله عليهم وهم يتمنون أنها تكون العير. وليس معنى ذلك أنهم يفضلون الدنيا على الآخرة، إنما كان شيئاً يريدون به كسر شوكة أعدائهم، وارتفاقهم بالدنيا لعزة وغلبة يرجونها لدين الله عز وجل، فقال: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7] فكانوا يودون العير، ومع ذلك جعل الله لأهل بدر ما لم يجعله لغيرهم من أهل الغزوات، قال صلى الله عليه وسلم -في الصحيح-: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فهذا كله يدل على أن نية الدنيا إذا وقعت تبعاً لم تضر. الدليل الثاني من السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل قتيلاً فله سلبه) وهذا في الجهاد، فجعل للإنسان إذا قتل رجلاً من الأعداء أنه يأخذ سلبه، وهو ما عليه من السلاح والعتاد كما قدمنا في كتاب الجهاد- فهذا السلب منفعة ومصلحة دنيوية، رغب في طاعة وقربة بمصلحة دنيوية، لكنها كانت تبعاً ولم تكن أساساً، وهذا من أدق ما قاله العلماء في هذه المسألة، وهو اختيار الأئمة كالإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري إمام المفسرين رحمة الله عليه، واختاره أئمة من المتأخرين كشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام الحافظ ابن عبد البر من المتقدمين، وكذلك الإمام الحافظ ابن حجر من المتأخرين. ولذلك قد يأتي بعض طلاب العلم ويشوش عليك فيقول: كيف تطلب العلم وأنت تريد كذا؟ قل له: أطلب العلم لله وللدار الآخرة، وأجعل نية الدنيا تبعاً ولا أجعلها أساساً ومقصداً. وهذا هو الفصل في هذه المسألة. الحالة الثالثة: أن تستوي -والعياذ بالله- النيتان، وتصبح إرادته للدنيا كإرادته للآخرة، وحظ الدنيا عنده كحظ الآخرة لا فضل لأحدهما على الآخر، فهذا هو فاتحة الشر على الإنسان، وفاتحة شر المنازل أن يجعل مع الله نداً في محبته وطلب مرضاته، فيحب الدنيا كما يحب الآخرة، فهذا نيته مؤثرة، كما قال تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) فهذا يدل على أنه لا يجوز في الطاعات والقربات أن تشرك نية الدنيا مع الآخرة على سبيل الاستواء. وأما بالنسبة للحالة الأخيرة، وهي أن تكون نيته الدنيا هي الأساس ونية الآخرة تبعاً، فهذا كما حكى الله عز وجل عن المنافقين وهو شأن أهل النفاق (أنهم لو يعلمون عظماً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد أحدهم العشاء) {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142] فهذا في شر المنازل، نسأل الله السلامة والعافية.

تقديم الإخلاص في القربات والطاعات

تقديم الإخلاص في القربات والطاعات ينبغي التنبيه على أمر مهم، وهو: أمر الإخلاص في القربات والطاعات، مع كون العلماء رحمهم الله يقررون الجواز ويبينونه، لكن ينبغي التنبيه على أن الأفضل والأكمل لطالب العلم ولمعلم الناس أن يعلم لله، وأن يؤذن المؤذن لله، وأن يصلي لله، وأن يحتسب ثوابه عند الله عز وجل، وأن يقوم بسائر القربات التي ذكرنا ولا يريد بها إلا وجه الله عز وجل، ومن استغنى بالله أغناه، ومن جعل الآخرة أكبر همه ومبلغ علمه وغاية رغبته وسؤله؛ جعل الله الدنيا تحت قدميه وجاءته ذليلة صاغرة، وملأ الله قلبه بالغنى، فلو عاش مرقع الثياب حافي القدمين لوجدته في عزة وكرامة لا يبلغها أغنى الأغنياء في الدنيا. ولذلك لما دخل سليمان بن عبد الملك رحمه الله إلى مكة وطاف بها وأدى عمرته، كان معه عطاء بن أبي رباح، وهو عطاء، وكان ديواناً من دواوين العلم والعمل- فقال: يا عطاء! سلني حاجتك. فقال: يا أمير المؤمنين! إني لأستحي أن أسأل مخلوقاً في بيت الله عز وجل. هؤلاء العلماء الذين عرفوا كيف يعاملون الله سبحانه وتعالى، فقال: إني لأستحي أن أسأل مخلوقاً في بيت الله عز وجل. ولا شك أن هذا من فضل سليمان، وكانوا يتفقدون أهل العلم ويحبون إكرامهم، وهي فضل لـ سليمان وفضل لـ عطاء، فكل على خير، ولكنها مواقف تكتب بماء الذهب لأئمة الإسلام، ولقلوب ملئت بمحبة الله عز وجل فنسيت ما سواه، وامتلأت بالغنى بالله عز وجل فلم تعرف للفقر سبيلاً؛ لأنها غنية بالله جل جلاله. فلما خرج قال: يا عطاء! ها قد خرجنا فسلني حاجتك. قال: يا أمير المؤمنين! إن حاجتي أن يغفر لي ربي ذنبي. فقال: إن هذا ليس بيدي، إنما سألتك أن تسألني من أمور الدنيا لا من أمور الآخرة. فقال له رحمه الله: يا أمير المؤمنين! ما سألت الدنيا ممن يملكها أفأسألها ممن لا يملكها؟! فرحمه الله برحمته الواسعة.

فضل الاستغناء بالله

فضل الاستغناء بالله ومن عرف الله عز وجل فإن الله يغنيه، ودائماً أمور الدنيا تأتي تبعاً، حتى في قضايا وأمور العوام، فمن أنزل حاجته بالله فإن الله عز وجل يتأذن له بالفرج العاجل والآجل، ومما ذكره الأئمة: قصة ذلك الرجل الذي دخل المسجد على عظيم من عظماء الدنيا، وكان من الأئمة والخلفاء، فانتظره حتى صلى الفجر ثم صلى بعدما طلعت الشمس، فوجد هذا الرجل الخليفة بعدما صلى رفع كفه يدعو ربه، فلما رآه يرفع يديه إلى الله عز وجل قال: سبحان الله! هذا يسأل ربه وأنا أسأله حاجتي! فلما رأى ذلك استغنى بالله، واعتقد في قرارة قلبه أنه ينبغي أن يكون فقره إلى الله لا إلى شيء سواه، فانصرف من المسجد وفي نيته ذلك، ولما خرج رجع إلى عياله وولده فأدركته الهاجرة والظهيرة في كهف، فدخل الكهف وهو في شدة الإعياء والتعب وفي حيرة من أمره كيف يقول لأهله وولده! فلما أراد أن يضع رأسه إذا به في مكان مشرف ومرتفع، فأراد أن يسوي حتى يضع عليه ما يرتفق به من فراشه، فإذا به بشيء كالفخار قد انكسر فوقعت يده على جرة مملوءة ذهباً، فحصل من خير الدنيا، مع ما حصله من أجر الآخرة. ومن ألذ المقامات وأهنأ الساعات وأشرف اللحظات لحظة الاستغناء بالله جل جلاله؛ لأنها تعني معاني كثيرة، فانظر كيف محبة الله لمن يدعوه، وانظر كيف يحب الله السؤال؛ لأن السؤال يدل على التوحيد، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة)؛ لأن الذي يرفع كفه سائلاً لله معناه أنه يؤمن بوجود الله، ويؤمن بأن الأمر كله لله، وأن الغنى العز من الله، وأن أمان خوفه من الله، وأن كرامته وعزته من الله؛ فرفع الكف إلى الله الذي لا يسأل سواه. فإذا كان العبد في مقام عرضت عليه الدنيا وعرضت عليه الآخرة فآثر الآخرة؛ فإن الله سبحانه وتعالى يعوضه عن الدنيا مع ما حصل من قصد التوحيد؛ لأن انصرافك عن الدنيا باعتقادك أنك مع الله وأن الله سيغنيك، هي منزلة من منازل التوحيد، ومنزلة من منازل اليقين بالله سبحانه وتعالى.

استغناء الإمام البغوي عن سؤال الناس

استغناء الإمام البغوي عن سؤال الناس ذكروا عن الإمام البغوي رحمه الله أنه لما كتب تفسيره المشهور، وكانوا في القديم يعييهم كتابة العلم، وكانوا يستنسخون النساخ، فسمع هذا الإمام بعظيم من العظماء يكرم العلماء، وأنه يحب كتب العلم، فأخذ تفسيره معه واستأجر مركباً في دجلة حتى ينزل إلى الخليل، ثم بعد ذلك يسافر إلى هذا الرجل ويسأله حاجته في نسخ الكتاب، وما يريد شيئاً من الدنيا، إنما يريد أن ينسخ الكتاب وينتشر العلم. فما كانوا يريدون الدنيا أبداً، بل يثق كل إنسان أنه ليس هناك أغنى من العلماء إذا عرفوا الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] فهم أعرف الناس بالله عز وجل. فلما ركب المركبة قال: فنظرت فرأيت رجلاً يمشي بالساحل والطريق، فأمرت صاحب المركب أن يأخذه معنا، فلما ركب معنا قال للإمام البغوي: من أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان البغوي. قال له: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: بلغني أن فلاناً من العظماء يكرم العلماء، فأخذت هذا التفسير حتى ينظر فيه ويأمر بكتابته ونسخه ونشره للناس حتى ينتفعوا به. فقال له الرجل: سبحان الله! ماذا قلت في تفسير قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]؟ ففسر له الآية وعلم مراده، فعقد العزم على أن يرجع إلى بيته من ساعته، فلما رجع إلى بيته لم تمض ثلاثة أيام إلا ورسول الخليفة يقرع عليه الباب ويقول له: بلغ فلاناً -أي: الخليفة- أنك كتبت كتاباً في العلم يحب أن يراه، فأخذ الكتاب منه، ثم لما رآه وقرأه وأعجبه ونظر إلى علمه رحمة الله عليه؛ أمر أن يوضع في كفة، وأن يصب الذهب في الكفة الأخرى، وأن يبعث بهذا الذهب إلى الإمام البغوي. إن الله يحب أولياءه ويصونهم عن ذل السؤال لغيره، ولكن يكون ذلك إذا عرفوه سبحانه، ومن عرف الله عز وجل فإن الله تعالى يعينه ويوفقه، ويفتح له من أبواب الفرج ما لم يخطر له على بال. فنحن إذا ذكرنا جواز مثل هذه الأمور؛ فهناك الجواز وهناك الأفضل والأكمل، ولا يعني هذا التواكل وترك الأسباب، إنما هي في مواطن يصون الإنسان بها علمه، ويصون بها ماء وجهه؛ حتى يكون ذلك أبلغ في إكرام دين الله وصونه، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ألا يسأل الناس شيئاً وأضمن له الجنة) منزلة من منازل الإيمان والتسليم ألا يسأل الناس شيئاً. وكان الصحابي إذا سقط سوطه لم يسأل أحداً أن يرفعه له، فهذه منزلة من منازل الإيمان، فمع كون العلماء رحمهم الله يقولون بالجواز، لكن ينبغي أن نعلم أن هناك حظوظاً عظيمة، فتصور إذا تقدم الإنسان إماماً وهو يتلو آيات الله عز وجل كم له في كل حرف من الحسنات! وكم له في ركوعه وسجوده وغير ذلك من طاعاته وقرباته وتذكيره ووعظه! وإذا علم الله من قرارة قلبه أنه يريد وجهه ويريد ماعنده، وأنه قصد من ذلك كله أجر الله سبحانه وتعالى، فبخ بخ وقد ربح البيع وعظمت التجارة كما أخبر الله عز وجل عن الذين يتلون كتابه آناء الليل وأطراف النهار وهم يريدون وجهه؛ أنهم يرجون تجارة لن تبور، وأنه سيوفيهم أجورهم وسيزيدهم من فضله، فأخبر عن أمرين: توفية الأجرة، والزيادة من الفضل. ومن غريب ما يكون أن الله تكفل في كتابه أن من أراد الآخرة ضمن له الدنيا، وأن من عمل لله عز وجل وإرادة الآخرة، فإن الله يجعل حظه في الآخرة أكبر من حظه في الدنيا، وهذه النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم متظافرة وكثيرة، ولكن نسأل الله بعزته وجلاله أن يجعل غنانا به، وأن يجعل فقرنا إليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

ما يلزم المؤجر عند التأجير

ما يلزم المؤجر عند التأجير وقوله: [وعلى المؤجر كل ما يتمكن به من النفع كزمام الجمل ورحله وحزامه، والشد عليه، وشد الأحمال والمحامل، والرفع والحط، ولزوم البعير، ومفاتيح الدار وعمارتها]. عقد الإجارة عقد بين طرفين، وكل واحد من الطرفين ملزم بالتزامات، وينبغي أن يوفي كل مسلم لأخيه ما التزمه، فالمؤجر التزم بتأجير الدار مثلاً، حيث قال له: أجرتك هذه العمارة سنة بعشرة آلاف ريال. فالواجب: أن يمكنه من الانتفاع بهذه العمارة، وأن يمكنه من سكناها، وأن يهيئ كل الأسباب التي تعين على الانتفاع بهذه العمارة. وفرع العلماء على هذا الأصل: أنه ينبغي أن تكون العمارة بحالة يتمكن من خلالها المستأجر من أخذ المنفعة. ونصوا على أنه يبني ما انهدم منها إذا انهدم، فمثلاً لو أنه استأجرها سنة، وأثناء السنة سقط جدار في البيت بدون تفريط من المستأجر، وبدون تسبب من المستأجر، فنقول للمؤجر: ابن هذا الجدار وأعده كما كان. ولو أن الأرض تغيرت بدون إضرار من المستأجر فنلزم المؤجر بإصلاحها، وهكذا إذا تعطلت مرافق الماء، أو مرافق الكهرباء، فإنه يطالب بإصلاحها ولكن بشرط: ألا تكون قد تعطلت بسبب من المستأجر، أما إذا كان بتفريط من المستأجر، وهو الذي كسر هذه الأدوات أو أخل بها فلا، فإنه يطالب بضمان؛ لأن اليد يد أمانة. وهكذا بالنسبة لإجارة الدواب كما ذكر المصنف رحمه الله من الرحل على الدابة والزمام، لأنه لا يمكن أن يقود البعير إلا إذا كان بزمامه، وكذلك الرحل والشداد -الذي يسمى في عرف اليوم (الشداد) شداد البعير- وشد المتاع أيضاً. وإذا كان قد استأجر صاحب سيارة من أجل أن يركب للحج، فيطالب بكل شيء جرى عرف السيارات بتهيئته في إجارة الحج، فلو أنه استأجره لنقله من المدينة إلى مكة ومعه عفشه أو متاعه، وهذا العفش والمتاع جرت العادة أن يوضع على سطح السيارة وأن يشد ويغطى، فنقول: يلزمك شداد ويلزمك شده وتغطيته؛ لأنه لو لم يغط ربما استضر بالمطر، ولو لم يغط ربما مع الهواء يطير، وربما يتفسخ ويتضرر، فنقول: يلزمك شداده ويلزمك غطاؤه؛ لأن العرف جار بهذا. فإذاً: الشريعة تقول: كلا الطرفين ينبغي عليه أن يوفي بالتزاماته، وتتفرع على هذا جميع مسائل الانتفاع والارتفاق بالعيون المؤجرة والأشخاص والدواب، وكلها ينبغي للمؤجر أن يفي للمستأجر بجميع الالتزامات، وأنه يمكنه من الأعيان على وجه يستطيع أن يحصل المنفعة التي استأجر من أجلها، سواءً كانت للسكنى أو للركوب أو لغير ذلك من المنافع. فلو أن رجلاً استأجر رجلاً من أجل أن يوصله إلى مكان فركب معه، نقول: كل شيء يتعلق بمركبه، ينبغي أن يهيئه وأن يحافظ عليه، وأن يكون على وجه لا يضر فيه أخاه، وأن يمكن الذي دفع الأجرة له أن يكون على الوجه المعروف، ولا يضر به، فلو أن المركب الذي يركب عليه تعطل، أو المركب الذي يركب عليه لا يستطيع أن يرتاح فيه فيستضر أثناء مشي الدابة أو السيارة، نقول: يلزمك أن تهيئ له مركباً لا يستضر به. كذلك أيضاً: لو كان نوع السيارة التي استأجرها والقيمة التي دفعها لسيارة ينبغي أن تكون مكيفة، فينبغي أن يهيئ مكيفاً، فلو قال: المكيف عطلان. فلهذا الرجل أن ينقص من أجرته، وتكون أجرته أجرة السيارة الذي ليس فيها هذا النوع من التكييف؛ لأن العدل والقسط أن مثل هذه السيارات يعطى له هذا النوع من الأجرة. كذلك ذكروا في مسألة وضع الأمتعة أنهم كانوا في القديم متعارفين على أن رائد البعير أو الجمال الذي يقوم بقيادته هو الذي يضع الأمتعة وينزلها، قال أبو هريرة رضي الله عنه: (كنت أخدم آل غزوان، أقودهم إذا ركبوا وأحمل نساءهم إذا نزلوا). وهذا يدل على أن المؤجر في الأصل يلزم بمسألة حط الرحل ورفعه على الدابة. في زماننا: وضع الأمتعة على السيارة، لا يأتي يقول للراكب: أنت الذي تضع الأمتعة. هذه كلها أمور مقررة، جرى العرف أن السائق هو الذي يقوم بوضع هذه الأمتعة ورصفها والقيام بها على الوجه الذي جرى به العرف. فهذه كلها التزامات، ولكن هناك أمور لا تلزم، فمثلاً: لو أنه ركب في سيارته ثم نزلوا في محطة أو استراحة، فقال له: أريد أن أجلس في هذه الاستراحة ساعة وعليك أن تدفع الأجرة لي. نقول: صاحب السيارة ليس ملزماً بهذا، لأن هذا خارج عن منفعة الركوب، وليس له علاقة بالركوب، لكن مسألة رفع وإنزال المتاع كله تابع للركوب، وعليه القيام بحفظ الدابة ورعايتها كما سيذكر المصنف رحمه الله في قيادتها والقيام برعايتها حتى يتمكن المستأجر من أخذ منفعته على الوجه المعروف. وقوله: [ومفاتيح الدار وعمارتها]. وبالنسبة للدور فيعطيه مفتاح الدار، فإذا أجره يقول له: هذا مفتاح الدار. فإذا أجره وأعطاه مفتاح الدار، وكانت الدار (كوالينها) -كما هو موجود في زماننا- معطلة، فنقول: أنت ملزم بإصلاح هذه (الكوالين)، ما لم يكن المستأجر قد دخل إلى الدار ورأى كوالينها معطلة ورضي بذلك، فليس بملزم؛ لأنه رضي بالشيء الموجود، وحينئذ إذا أراد أن يضع من عنده كوالين فليضع، ولكن إذا كان لا يعلم، وقال له: أجرتك شقة أو عمارة في الموضع الفلاني بصفة كذا وكذا، ولم يجد بها حفظاً أو حداً لأبوابها، فيطالبه بها. ونحن نقصد بذكر الأشياء الموجودة الآن لأنها تعم بها البلوى، كما لو نزل في فندق أو نزل في استراحة فلم يجد سخان الماء في زمان بارد، فنقول: أنت ملزم؛ لأنه لا يمكن لأحد أن ينتفع بهذا المنزل إلا إذا كان ماؤه ميسراً، وإذا كان البيت لا سخان به فيكون في هذه الحالة قد أضر ما لم يقل له: إن هذه الاستراحة أو هذا المنزل لا سخان فيه مثلاً. فإذاً: لابد أن يكون المؤجر قد هيأ جميع الأسباب للمستأجر حتى يتحصل على حقه على الوجه المعروف. وقوله: [فأما تفريغ البالوعة والكنيف فيلزم المستأجر إذا تسلمها فارغة]. هذا ما يسمى في بزماننا بـ (البيَّارات) -أكرمكم الله- وهي أماكن تحفر، وكانوا في القديم قبل الصرف الصحي، تكون هناك بالوعات -أكرمكم الله- والبالوعات: مجاري الماء التي تفضي إلى البيارات ونحوها، فكان يقع الشجار بين المؤجر والمستأجر على تنظيف البيارات. والذي اختاره جمهور العلماء رحمهم الله: أن البيارات -في الأصل- ينبغي أن تكون نظيفة حتى يتمكن المستأجر من الانتفاع بالعين، فإذا استلمها نظيفة مفرغة ثم ملأها المستأجر، فنقول للمستأجر: أنت الملزم بتفريغها وتسليمها كما استلمتها، لكن في زماننا الآن يوجد الصرف الصحي، فإذا كان للصرف الصحي مال وكلفة، فيدفع المؤجر الكلفة قبل دخول المستأجر، ثم إذا دخل المستأجر فيلزمه المؤجر بدفع قيمة الصرف خلال مدة الإجارة، وقس على ذلك بقية الحقوق المتعلقة بالاستهلاك.

الأسئلة

الأسئلة

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر Q ما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان؟ A إن العشر الأواخر هي أفضل ما في هذا الشهر؛ لأن فيها ليلة القدر، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحيا ليالي العشر، والتفضيل للعشر من جهة الليالي لا من جهة الأيام، بمعنى: أن الفضيلة في العشر من جهة إدراك ليلة القدر، ومن هنا قال العلماء رحمهم الله: إن أيام عشر من ذي الحجة أفضل من العشر الأواخر؛ لأن فضيلتها شاملة لليل والنهار، ولذلك لما أقسم الله عز وجل وقال: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2] خص الفضيلة بالليالي العشر، وجعلت فضيلة العشر الأواخر من جهة الليل؛ ولذلك شد النبي صلى الله عليه وسلم مئزرة وأحيا ليله، فالعشر الأواخر فضلها بالليل، فيحرص المسلم على إحياء هذا الليل؛ طلباً والتماساً لليلة القدر. وقد جاءت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان هديه في هذه العشر، فقد كان عليه الصلاة والسلام يبين فضلها ويرغب فيها كما ثبت في الحديث الصحيح؛ أنه جاءه جبريل حينما اعتكف العشر الوسطى من رمضان، وقال: (يا محمد! إن الذي تطلبه أمامك) أي: إن ليلة القدر التي تطلبها ليست في النصف الأوسط من رمضان وإنما هي في العشر الأواخر، فاعتكف عليه الصلاة والسلام العشر الأواخر. وكان من هديه عليه الصلاة والسلام: أنه يدخل قبل غروب الشمس من ليلة إحدى وعشرين، فيدخل عليه الصلاة والسلام إلى مسجده، ويدخل قبته بعد فجره صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه لابد للنفس من راحة. وكان من هديه عليه الصلاة والسلام البقاء في هذه العشر تامة، أي: يعتكفها تامة، وهذا أفضل وأكمل، وأما لو اعتكف بعضها وترك البعض فإنه لا بأس بذلك، وهذا شبه إجماع بين العلماء رحمهم الله أنه لا بأس باعتكاف العشر كاملة أو اعتكاف بعضها أو الاعتكاف في سائر أيام السنة، أما الأفضل والأكمل فأن يعتكف العشر تامة كاملة تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم. وأفضل ما في هذه العشر الليالي الوتر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (تحروها، فمن كان متحرها فليتحرها في الوتر من العشر الأواخر). وكان مما نص العلماء رحمة الله عليهم من فضله وما ينبغي على المعتكف أن يشتغل به: كثرة تلاوة القرآن، وإذا كان بالليل فإن الأفضل له والأكمل أن يتلو القرآن وهو قائم في صلاته، بأن يجعل تلاوة القرآن في ليله في الصلاة. وبين النبي صلى الله عليه وسلم السنة والفضل لمن أدرك ليلة القدر أن يكون من دعائه أن يلتمس عفو الله عز وجل، فإن أعظم نعمة ينعم الله بها على العبد بعد الإيمان والتوحيد أن يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقد قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ماذا أقول لو أني أريتها؟ قال عليه الصلاة والسلام: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) فاستفتح عليه الصلاة والسلام بتمجيد ربه والثناء عليه بما هو أهله، وجعل الثناء مجانساً للمسألة والحاجة، فقال: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني). فيستشعر المسلم أن هذه العشر ليال مفضلة، وأنه لا ينبغي له أن يكون أخسر الناس صفقة من رحمة الله عز وجل، فإن الغبن غبن الآخرة، وأما غبن الدنيا فإنه يسير، والله يجبر كسرها، ولكن ليس لكسر الآخرة من جبران، ولذلك كان من سؤال المسلم: اللهم لا تجعل مصيبتي في ديني، فالإنسان يستشعر أن هذه العشر أيام نفحات ورحمات وبركات ودرجات ومغفرات، وغير ذلك مما ينزل الله عز وجل من الخيرات. فاستشعر ألا تكون أخسر الناس صفقة في جنب الله عز وجل، بل عليك أن تحسن الظن بالله، وأن تقبل عليه بصدق ورغبة وقوة يقين في الله جل جلاله، فإن الله يحب من عبده أن يحسن الظن به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عن أعز المواطن وأشدها كرباً على العبد وهي حالة الموت-: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله). فالأفضل أن تدخل العشر على الإنسان وهو يحسن الظن بالله عز وجل، أنه لا أرحم ولا أكرم منه سبحانه، وأنه سبحانه وتعالى ربما يغفر للإنسان في لحظة من لحظات الخشوع، ولربما دمعة تغسل ذنوب العبد، فهذه شربة ماء لكلب من بغي من بغايا بني إسرائيل غفر الله بها ذنوبها، وغصن شوك يزحزح عن طريق المسلمين غفر الله به الذنب وأدخل به الجنة، والله كريم. فينبغي أن تدخل العشر على المسلم وهو يحسن الظن بالله، بأنه لا أكرم لا أعظم من الله سبحانه وتعالى في بره وإحسانه ورحمته، ويثني على الله بما هو أهله، ويتذكر العبد أنه مسيء ومخطئ ومذنب، وأنه لا ملجأ ولا منجى له من الله إلا إليه. أما الأمر الثاني: فيوصى المسلم في اتباعه لهدي النبي صلى الله عليه وسلم بالإخلاص، فإذا أراد أن يعتكف العشر الأواخر فليدخل المعتكف وهو يريد وجه الله، ولا يعلم أحداً بأنه معتكف، ويحرص على ألا يراه أحد من الناس، وألا يشعر الناس أنه معتكف؛ حتى يكون أبلغ في إخلاصه وإرادته لوجه ربه، وأن يكون كل ما يصدر منه من قول وعمل وتلاوة وركوع وخشوع وخضوع وسجود وإنابة وغير ذلك من ذكر الله عز وجل، خالصاً لوجه الله، ليس فيه لأحد سواه حظ ولا نصيب، فإذا بلغ هذه المرتبة المنيفة تقبل الله أقواله وتقبل الله طاعته، ووجد لاعتكافه لذة وحلاوة وطلاوة، ووجد له أثراً في قلبه، وبارك الله له في ساعات ليله ونهاره. كذلك أيضاً: ينبغي عليه أن يهيئ الأسباب لعمارة الوقت بذكر الله عز وجل، فهو يتصور لو أن هذه الليلة التي اعتكفها هي آخر ليلة يعتكفها، ويتصور هل يدرك رمضان آخر أم لا يدركه، ولو أدرك رمضان الآخر هل يكون مشغولاً أو غير مشغول، فيحس أن الله أنعم عليه بنعمة إذ فرغه لهذا الخير، فيحرص على ألا يغبن في هذه المهلة، وأن يغتنم كل دقيقة وكل ثانية وكل لحظة. كذلك أيضاً: ينبغي عليه أن يحرص في حال اعتكافه على كمال المراتب، وأكمل ما يكون الإنسان في ذكره لربه في الخشوع، والخشوع سر بين العبد وبين ربه في قلبه، فإنه إذا خشع قلبه لله سبحانه وتعالى سكنت جوارحه واستكانت وتذللت لله سبحانه؛ فأحب الله مقامه، وهذا من مقامات العبودية لله، وهو مقام الخشوع الذي أثنى الله على أهله، ووعدهم بجنات عدن، ووعدهم بالمنازل الحسنى في الآخرة. فإن كمال العبادة أن يكون المرء حريصاً على الإخلاص وكثرة الذكر، وإذا صحب هذين الأمرين خشوع صادق فإنه بخير المنازل. إذا جاء يصلي وراء الإمام فليستشعر أنه ينافس غيره، ويسأل الله أن يكون أخشع الناس عند سماع هذا القرآن، وإذا جاء يصلي وهو وحده يسأل الله عز وجل أن يكون أخشع الناس في مقامه في تلك الساعة وتلك اللحظة، فيسأل الله عز وجل منازل العلى في طاعته، ويهيئ لنفسه الأسباب من الاستكانة والذلة. وكذلك: عليه إذا أدى العبادة ألا يفرح وألا يغتر، فإن الأمور مدارها على القبول، وألا يحس أنه يدل على الله بطاعته، فكل كلمة يقولها وكل طاعة يتقرب بها إلى الله فالفضل فيها كله لله سبحانه وتعالى، فكلما انتهى من طاعة أثنى على الله بما هو أهله، وعليه أن يسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منه، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من أوفر عباده حظاً في هذه العشر وفي كل فضل، وفي كل رحمة ينزلها، وفي كل بركة يقسمها، وألا يحول بيننا وبين فضله ورحمته بما يكون من ذنوبنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

حكم الاشتراط في الاعتكاف

حكم الاشتراط في الاعتكاف Q هل يصح الاشتراط في الاعتكاف؟ A الاشتراط في الاعتكاف مذهب قياسي مبني على قياس عبادة على عبادة، حيث قالوا: يجوز الاشتراط في الاعتكاف كما يجوز الاشتراط في الحج، والاشتراط في الحج والعمرة أصله حديث ضباعة رضي الله عنها أنها قالت: (إني أريد الحج وأنا شاكية. فقال لها: أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني. فإن لك على ربك ما اشترطت) وهذا الأصل فيه ما فيه، ولكن المنبغي والأفضل أن الإنسان يدخل المعتكف وقد هيأ لنفسه أن يعتكف اعتكافاً تاماً كاملاً، فإن جاءه ظرف ضروري خرج لهذا الظرف الضروري وقطع اعتكافه واستأنف بعد ذلك. أما الاشتراط فمسألة مبنية على القياس، ومن قال بها من أهل العلم فقوله صحيح على حسب قواعد العلماء بأن مذهب القياس على الأصل الصحيح صحيح، ولكن الإشكال: أن الأصل في الاعتكاف اللزوم، والأصل الذي قيس عليه وألصق به هذا الفرع مختلف فيه؛ لأن الاشتراط في الحج جاء على صورة خاصة، وخرج عن القياس، والقاعدة في الأصول: أن ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس. وتوضيح ذلك: أن الأصل تمام الحج، ولذلك قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] فلما جاءت ضباعة رضي الله عنها وقالت: (إني أريد الحج وأنا شاكية) معناه: أن حالتها حالة مرض، ومع ذلك كلفت نفسها مع وجود المرض أن تحج، فأعطاها النبي صلى الله عليه وسلم رخصة لوجود هذا العذر، وقال لها: (أهلي واشترطي) ولذلك قوي مذهب من يقول إنه خارج عن الأصل، وهذا الذي يطمأن إليه كما قدمناه في كتاب المناسك، وذكرنا أقوال العلماء في هذا الحديث، ووجهنا هذا الحديث، وبينا أن الأقوى والأشبه في هذه الرخصة تقييدها بالنص النبوي الوارد؛ لأن القاعدة في التعليل والأقيسة: أن تفقه وتفهم المراد من نفس النص، فالنص إن جاء أصلاً بذاته قست عليه غيره؛ لأن الأصل إتمام الحج، وهنا يقول لها: (محلك حيث حبسك) مع أنه في الحج والعمرة لو أحصر بالعدو فإنه يتحلل بالدم، وهنا يتحلل بدون دم، وهذا يقوي على أنه خارج عن الأصل، ولذلك مذهب طائفة من العلماء ومذهب الجمهور على أنه يتقيد بما ورد، وأنه لا يقاس عليه من لم يكن عليه حاجة من مرض ونحوه. ولذلك لو جئنا نقيس الاعتكاف، فالاعتكاف من حيث هو عبادة خاصة لها أصل شرعي قصد منه تهذيب النفس وقيامها على محبة الله ومرضاته على وجه تام كامل لتحصيل فضيلة ليلة القدر، فهو إذا جاء يشترط ويخرج في الليل أثناء الاشتراط خالف المقصود؛ لأن المقصود لزوم المساجد للعبادة. أنا أقول هذا كمسلك أصولي، أي: الكلام على المسألة كمسألة أصولية، لكن لو أنك سألت عالماً وقال بالاشتراط ورأيت قوله؛ فلا بأس أن تعمل به، لكن فيما يظهر من ناحية الأدلة ومن ناحية النظر في النصوص الواردة أن مذهب الاشتراط مذهب قياسي بلا إشكال، قاسوا الاعتكاف على الحج والعمرة، والحج والعمرة نفس الاشتراط فيه خلاف. ثم إذا قلنا في الحج والعمرة بجواز الاشتراط فقد سلكوا مسلكين: مسلك يقول: أنا أقتصر على النص، فالنص جاء في ضباعة، وهي مريضة، فالمريض الذي عنده مرض ودخل الحج والعمرة وهو مريض يشترط، أما من كان صحيحاً فإنه لا يشترط، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى إلى ذي الحليفة بعد قضية ضباعة، وأهل مع الصحابة وما قال: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني، ولم يقل لمن أراد النسك: اشترطوا على أنفسكم: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني. ما قاله إلا لامرأة شاكية عندها عذر، فنعمل كل نص كما ورد. نقول: الأصل إتمام الحج والعمرة، ونفعل كفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نشترط إلا عند وجود العذر، والقاعدة: أنه إذا جاء النص على وجه خاص خارج عن القياس والأصل وفيه ما يشعر بتخصيص الحكم به؛ وجب تخصيص الحكم به. فأنت إذا رأيت الاشتراط تخفيف ومخالف للأصل الملزم بالإتمام، ومسقط للدم الواجب عند الحصر، فذلك كله خلاف نصوص واردة، أما الإتمام الذي ألزمنا به فلنصه تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] وهذا لا يتم؛ لأنه إذا قال: إن حبسني حابس. فإنه يريد أن يتحلل مباشرة. ثانياً: أنه لا يتم للمرض، والأصل في المرض: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى} [البقرة:196] له فديته، وله ارتفاقه في المرض، فجاء لأن وجود هذا المرض الذي يحول بينه وبين إتمام الحج أن يشترط ويحج، فخالف الأصول، فإذا جئنا نقيس فينبغي أن نقيس على أصل لذاته يمكن القياس عليه، أما بالنسبة لأصل مختلف في عمومه لذاته، أي: حتى في نفس العبادة التي هو فيها مختلف فيه هل هو عام بحيث يشترط في كل حج وعمرة، ولكل شخص أن يشترط؟ أم هو خاص بمن كان عنده حاجة وضرورة ودخل الحج والعمرة؟ ولو أردت أن تحرر القياس صحيحاً فتقول: ممكن أن يشترط المعتكف إذا كان عنده مرض أو عنده ضرورة، حتى يكون هناك نوع من التوافق في تركيب الفرع على الأصل، أما أن يأتي الرجل السوي ويقول: أشترط أن أخرج للاتصال على والدتي، وأشترط أني بعد المغرب أتصل على أهلي، وأشترط أنني كذا وأنني كذا! هذا كله خلاف الأصل. قد كان عليه الصلاة والسلام يمر على المريض ولا يعرج عليه كما في حديث عائشة رضي الله عنها، وكان عليه الصلاة والسلام لا يخرج إلا لحاجة. فنحن نقول: الأصل في الاعتكاف؛ بل الاعتكاف أصله يدل على اللزوم والملازمة للعبادة، فإذا أصبح الشخص يخرج كل حين، فيخرج لقضاء حاجته، ثم يشترط فطوره، ثم يشترط سحوره، وإن تيسر بينهما أكلة بين الأكلتين فلا بأس أن يشترط، فتجد الآن الشخص ينام النهار من بعد الفجر إلى الظهر، ثم بعد الظهر إذا ذهب وتوضأ ربما أنه يجلس بين الظهر والعصر يحدث أخاه عن بعض الأمور التي وقعت له في وضوئه أو زحامه، أو ما رآه أثناء خروجه ودخوله، ثم إذا أذن العصر قرأ ما تيسر له من القرآن، وقبل المغرب ينشغل بتهيئة فطوره، ثم إذا انتهى من الفطور رغب في أن يأكل شيئاً ما إن تيسر، وبعد العشاء يصلي التراويح، فإذا انتهى من التراويح أصبح محتاجاً كل حين إلى الذهاب إلى دورة المياه. وهذا واقع، حتى عدنا لا نجد للاعتكاف لذة! ثم يذهب لقضاء حاجته، ولربما يكون قد اشترط أن يأكل بين التراويح وبين التهجد شيئاً يعين على التهجد، وكأنه جاء إلى أمر فيه كرب شديد أو خطب عظيم، فلا يوجد استشعار أن الاعتكاف مدرسة يراد بها تهذيب النفوس بالاستغناء بالله عز وجل. وأبو ذر رضي الله عنه مكث أربعين يوماً على ماء زمزم، فلو أننا أخذنا بالفتوى وقلنا: عنده طعام وطعم وشفاء سقم، فلا حاجة في الاعتكاف لأن يخرج للسحور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه طعام طعم وشفاء سقم). وإذا خرج بعد التراويح إلى طعامه وأكل ما تيسر ثم صلى التهجد فيحتاج أيضاً أن يذهب لقضاء حاجته، ثم إذا انتهى من التهجد اضطجع؛ لأنه يحس بالإرهاق والتعب، ثم يؤذن الفجر! فأين الاعتكاف؟! وهذه عبادة يراد بها قوة الشكيمة في الطاعة، وأناس خرجوا من الاعتكاف وهم يحبون القرآن وختمه كل ثلاث ليال؛ لأنه في أثناء الاعتكاف وطن نفسه على ذكر الله عز وجل، وأناس يعتكفون فيخرجون من الاعتكاف بالتهذيبات: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له)، والمداومة على (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، والمداومة على أذكار الصباح والمساء، حتى أنه حفظها أثناء العشرة الأيام؛ فأصبحت ديدنه للعام. فهذه الأوقات معينة يقصد منها تهذيب النفوس، ولا يقصد منها الجلوس مع زيد وعمرو، فقد تجد المعتكف الكامل الاعتكاف الذي يدخل وهو يحس بلذة المناجاة لله، وحلاوة الأنس بالله سبحانه وتعالى، حتى إن أكره ساعة عنده أن يأتي أحد يقطعه عن ذكره لله سبحانه وتعالى، فيقول في نفسه: طيلة العام وأنا بين الناس، أليست هذه ساعات وسويعات أتفرغ فيها لذكر الله عز وجل؟! وخاصة في الليل، ففي الليل لا أعرف أحداً، وأستغني بالله سبحانه وتعالى. وليس معنى ذلك أنه يهين البدن، لكن ينبغي أن يهيئ الإنسان نفسه لهذه المدرسة وهذه العبادة، بحيث تكون شكيمته في الطاعة قوية، وعلى قدر الجد والاجتهاد في الطاعات والقربات تتبوأ المنزلة، فانظر إلى العلم إلى القيام إلى الصيام إلى الذكر، فأي عبادة جعل الله فيها مراتب كاملة وحصلَّها المكلف على أتم وجوهها فإنه يجد ثمرتها على أتم الوجوه وأكملها؛ فلذلك ينبغي لطالب العلم وعلى العامة أن يعلموا، كيف يكون الإنسان معتكفاً على أتم الوجوه وأكملها، وجماع الخير كله في تقوى الله سبحانه وتعالى والأنس به جل جلاله. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ممن اتقاه، والتمس رضاه، ووفقه فيما رجاه، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجهه الكريم، وموجباً لرضوانه العظيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

باب الإجارة [8]

شرح زاد المستقنع - باب الإجارة [8] العقود إما أن تكون لازمة أو غير لازمة، وقد تكون لازمة لطرف جائزة للطرف الآخر، وعقد الإجارة من العقود اللازمة للطرفين، فلا تنفسخ إلا برضا الطرفين، أو بتلف العين المؤجرة، أو بموت المرتضع أو المرضعة، أو يموت الراكب في الطريق، ولا ينفسخ العقد بضياع نفقة المستأجر. هذه مسائل تعتبر قواعد تحتذى في معرفة أحكام فسخ الإجارة، وقد ذكر الشيخ أمثلة من الواقع المعاصر، وأمثلة على الإجارات الطبية، وهي مسائل يهم كل مسلم معرفتها.

أنواع العقود

أنواع العقود بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: وهي عقد لازم]. شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان ما يتعلق بنوعية عقد الإجارة، والعقود التي تقع بين الناس منها ما أوجب الله عز وجل على المتعاقدين أن يمضيا ويتما العقد على الوجه الذي اتفقا عليه، ومنها ما خير الله فيه الطرفين، فكل منهما بالخيار بين أن يتم العقد ويمضيه وبين أن يتراجع عنه، سواء وُجد السبب أو لم يوجد. فالنوع الأول من العقود: هو الذي فرض الله على كل واحد من المتعاقدين أن يمضي فيه ولا يتراجع عنه إلا برضا من الطرف الثاني، ويسمى بالعقد اللازم. وأما النوع الثاني: فهو الذي خير الله سبحانه وتعالى فيه كلا المتعاقدين، فجعل له حظ النظر في أن يمضي في العقد أو يلغيه، سواء وجد سبب أو لم يوجد، وهذا يسمى بالعقد الجائز. وهناك نوع ثالث من العقود: وهي العقود التي تكون لازمة لطرف وجائزة بالنسبة لطرف ثان، فهذا النوع من العقود فرض الله على أحد الطرفين دون الآخر أن يتم ما التزم به، والطرف الثاني بالخيار؛ إن شاء أتمه وإن شاء امتنع. فمثال النوع الأول: البيع، فإذا أوجب المتعاقدان الصفقة وأتما العقد، فكل منهما مخاطب من الله سبحانه أن يتم الاتفاق والعقد على حسب ما وقع بينهما. وأما النوع الثاني: فمثل الوكالة والشركة، فإذا شاركت شخصاً وقلت له: أدفع مائة ألف وتدفع أنت مائة ألف، واتفقتما على الشركة، ثم قلت بعد ساعة أو بعد نصف ساعة أو بعد كلامك مباشرة: لا أريد. فلك ذلك، ولو جئت بعد سنة في أي لحظة من ليل أو نهار تقول: لا أريد. فلك ذلك، وهذا يسمى بالعقد الجائز، أي: لك فسخه ولك حظ النظر في الفسخ والإمضاء في أي وقت وأي ساعة، سواء وجد العذر أو لم يوجد، وليس من حق الطرف الثاني -وهو ندك ونظيرك- أن يقول: لا أفسخ. بل لك أن تقول له: الخيار لي، أفسخ سواء وجد العذر أو لم يوجد، فلست بملزم. ومثال النوع الثالث: الجُعالة، فمن قال: من أحظر سيارة مفقودة فله عشرة آلاف. فكلا الطرفين بالخيار، لكن لو أن شخصاً وجد السيارة المفقودة عند وجدانها تراجع صاحب السيارة عن الكلام الذي قاله، أي: وجدها قبل أن يتراجع عن هذا العقد، فحينئذ نلزمه بالعشرة الآلاف، ونقول للطرف الثاني: لست بملزم بأخذها، إن شئت أخذتها وإن شئت تركتها. إذاً: الجعل يكون لازماً لطرف دون طرف ثان. أو مثل ضمان الأموال بالاستهلاك، وكالكتابة، ونحو ذلك من العقود. وأما بالنسبة للإجارة فقال المصنف: (وهي) أي: الإجارة (عقد لازم). فكل نوع من أنواع الإجارات وقع بين طرفين فأكثر فإننا نلزم كلا الطرفين بإمضاء العقد، ونقول: ليس من حقك الرجوع عن هذا العقد إلا برضا الطرف الثاني. فلو قال له: أجرتك عمارتي بمائة ألف سنة كاملة ابتداء من غد. وقال: قبلت. وأتم العقد وأوجب، وافترقا؛ على القول باشتراط خيار المجلس أو لم يفترقا على القول الثاني؛ فإنه إذا تم العقد لزم الطرفين، وليس من حق صاحب العمارة أن يقول: تراجعت. ولا من حق الذي يستأجر أن يقول: تراجعت. نقول للمؤجر: أنت ملزم بإتمام الصفقة، ويجب عليك أن تسلم العمارة في المدة المتفق عليها، ونقول للمستأجر: يجب عليك أن تمضي في استئجار العمارة. هذا في إجارة الدور. ولو استأجر شخصاً لعمل عنده في البيت فقال له: اخدم هذا البيت، أو اعمل عندي في البيت، وقم على مصالح بيتي؛ وأعطيك ألفاً في كل شهر. أو استأجره لحراسة مزرعة أو القيام عليها، فقال له: لك في الشهر ألف ريال، أو تعمل عندي هذا الشهر ابتداء من كذا إلى نهاية كذا بألف. فقال: قبلت. فكلا الطرفين ملزم بهذا العقد، وليس من حق صاحب المزرعة أن يتراجع، ولا من حق العامل أن يتراجع. فإذاً: المصنف حينما قال: (وهي) أي: عقد الإجارة بجميع صور الإجارة. (عقد لازم)، واللازم: هو العقد الذي لا يملك أحد الطرفين الرجوع عنه أو فسخه إلا بإذن الآخر، فلو أن شخصاً جاء لرجل وقال له: أجرني سيارتك إلى مكة بألف. فقال: قبلت. وتمت الصفقة بينهما، ثم جاءه بعد ساعة أو بعد فترة أو في نهاية المجلس وقال: طرأ عندي ظرف، وأريدك أن تقيلني من هذه الإجارة، قال: أنت في حل. حينئذ تنفسخ الإجارة، لكن لو قال: لا أقيلك. فإنه يلزم بالإجارة ويلزم بإتمام العقد على الصفة التي اتفق عليها الطرفان.

عقد الإجارة من أنواع العقود اللازمة

عقد الإجارة من أنواع العقود اللازمة قال رحمه الله: (وهي عقد لازم). أما هذه المسألة -وهي مسألة لزوم عقد الإجارة- فهي مسألة عامة شاملة لجميع أنواع الإجارات، فلو سألك الطبيب والمهندس والخياط والنجار والحداد عن أي صفقة من صفقات الإجارة أتمها وأوجبها مع الطرف الثاني: هل له حق الرجوع أو ليس له حق الرجوع؟ تقول: الأصل أنك ملزم والطرف الثاني ملزم بإتمام هذا العقد الذي اتفقتما عليه، وليس لك حق الرجوع إلا بإذن صاحبك، إلا فيما يستثنى من الأسباب الموجبة للفسخ كما سيأتي إن شاء الله بيانها. بقيت مسألتان: المسألة الأولى: هل لزوم الإجارة محل إجماع أم فيه خلاف؟ A جماهير السلف والخلف والأئمة ودواوين العلم كلهم رحمة الله عليهم على أن عقد الإجارة عقد لازم، ولم يخالف في هذه المسألة إلا بعض الفقهاء، وهو قول للأفراد، ويحكى عن بعض أئمة التابعين، ولكنه قول شاذ لا يقدح في الإجماع، والإجماع على أن عقد الإجارة عقد لازم. المسألة الثانية: ما هو الدليل على أن عقد الإجارة عقد لازم؟ دل على هذه المسألة دليل النقل والعقل: أما دليل النقل: فإن الله يقول في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله أمر بالوفاء بالعقد وإتمامه، والمضي فيه على الوجه الذي اتفق عليه الطرفان، وكذلك عمم، فقال: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، ولم يستثن عقداً، فدخلت الإجارة تحت هذا العموم، ونقول: الإجارة لازمة لأنها عقد، والله فرض علينا في العقود أن نتمها ونمضيها على وجهها، فليس لأحد الطرفين الرجوع عن هذا العقد الذي اتفقا عليه. أما دليل النظر: فالقياس الصحيح، قالوا: الإجارة عقد لازم كالبيع؛ بجامع كون كل منهما عقد معاوضة. وتوضيح هذا القياس: أن الفرع الذي يستدل له هو الإجارة، والأصل المقيس عليه هو البيع، والحكم لزوم العقد، والعلة التي تربط بين الطرفين كالآتي: نحن متفقون جميعاً على أن عقد البيع عقد لازم، ولا يجوز للمسلم إذا أتم البيع أن يتراجع عنه إذا حكم بلزومه، إلا ما يستثنى من حالات الفسخ، وإذا ثبت أن البيع لازم فالإجارة كالبيع. وجه الشبه بين الإجارة والبيع أنك في البيع تعاوض، فتدفع المال لقاء السلعة والعين والذات، وفي الإجارة تدفع المال لقاء المنفعة، فكما أنه يجب الوفاء في ذلك العقد من عقود المعاوضات كذلك يجب الوفاء في هذا العقد من عقود المعاوضات، فالمسلم خرجت منه كلمة التزم بها أن يؤجر، فنلزمه بهذه الكلمة كما نلزمه إذا خرجت منه وهو ملتزم بالبيع، فنقول: نلزمك أن تؤجر كما يلزمك أن تبيع وتسلم المبيع. وهكذا نقول للمستأجر: يلزمك أن تدفع الثمن وتمضي الإجارة، كما يلزم المشتري دفع الثمن وإمضاء البيع. قوله رحمه الله: (وهي عقد لازم). فاللزوم هنا لكلا الطرفين كما ذكرنا، وليس من اللازم الذي يكون لأحد المتعاقدين دون الآخر. المسألة الأخيرة: لزوم الإجارة إذا تأمله المسلم وجد فيه الخير الكثير، وعلم علم اليقين أن هذه الشريعة شريعة رحمة بالعباد، وأن الله سبحانه وتعالى دفع عن الناس الضرر، فلو كانت عقود الإجارة غير لازمة، لكان من أراد أن يؤجر عمارة في موسم أو نحوه، فجاءه رجل وأعطاه كلمة على أنه يستأجر منه، ثم بعد يوم أو يومين أو ثلاثة أو بعد فوات المستأجرين قال: لا أريد. فسيكون عليه ضرر بفوات موسم التأجير! وضرر في فوات المتعاقدين والطالبين للسلعة، ثم يكون ذلك وسيلة للإضرار بمصالح الناس وأذية بعضهم لبعض، فيتربص التجار بعضهم ببعض، فيرسلون لرجل من يتم معه الإجارة وعقدها، ثم يتراجع عند فوات سوق تلك العين المؤجرة. فعلى هذا: لا شك أن لزوم عقد الإجارة فيه حكمة عظيمة، ولو لم نقل: إن عقد الإجارة لازم لتلاعب الناس بحقوق بعضهم بعضاً، ولأدى ذلك إلى استغلال الإجارة كوسيلة للضرر، وأدى ذلك إلى فوات حقوق الناس، وأدى ذلك أيضاً إلى الشحناء والبغضاء والعداوة. إلى غير ذلك مما لا تحمد عقباه.

حكم منع المؤجر تسليم العين المؤجرة بعد الاتفاق

حكم منع المؤجر تسليم العين المؤجرة بعد الاتفاق قال رحمه الله: [فإن أجره شيئاً ومنعه كل المدة أو بعضها فلا شيء له]. الفاء: للتفريع، (فإن أجره شيئاً ومنعه كل المدة أو بعضها). في الإجارة طرفان: مؤجر ومستأجر، فأنت إذا قلت: إن عقد الإجارة عقد لازم ينبغي أن تفرع على هذه القاعدة وهذا الأصل؛ أن تفرع اللازم الذي يتعلق بالمؤجر، وأن تفرع اللازم الذي يتعلق بالمستأجر، فابتدأ رحمه الله بالمؤجر. فقال: (فإن منعه) أي: منع المالك من الانتفاع من العين المؤجرة، ولا يمنع إلا إذا أخلف وعده بإتمام الصفقة، فهو يمتنع من إتمام العقد ويقول: هذه العمارة اتفقت معك أنها بمليون ولا أريد أن أعطيكها، أو لا تستلم العمارة، أو ليس لك عندي شيء، أو لا أعطيك مفاتيحها. فمنعه أن يستوفي حقه، فإذا منع المؤجر فهو بالإجماع يعتبر ظالماً. وإذا ثبت عند القاضي أن شخصاً أتم عقد إجارة وتلاعب وأخلف وعده، فإن من حق القاضي أن يعزره، ثم التعزير يتفاوت على حسب الضرر الذي يلحق، فالإجارات التي فيها مصالح عظيمة وأضرار كبيرة يعزر فيها أكثر من الإجارات التافهة واليسيرة. فإذاً: إن منعه يأثم؛ لأن الله فرض عليه وأوجب عليه بعدما أتم العقد أن يمضي، وأن يفي بما التزم به وما أخذه من العهد على نفسه. ثم يبقى Q إذا حكمنا بكونه آثماً فالإثم مسئولية الآخرة، فيبقى النظر عن مسئولية الدنيا من حيث فوات المصلحة، وامتناع صاحب العين من تمكين المستأجر من حقه، فنقول: نحكم بإثمه، ونحكم بقهره على هذا العقد إن كان في بداية المدة. مثال ذلك: لو أن رجلاً استأجر عمارة بمائة ألف لشهر ذي الحجة، فلما جاء المستأجر يريد أن يستأجر منعه في يوم بداية العقد، أي: جاءه المستأجر وقال له: أعطني المفتاح في ليلة واحد ذي الحجة حتى أستفيد من العمارة التي استأجرتها. فقال: ليس لك عندي شيء. فمن ناحية شرعية يفرض عليه، ويلزم بتمكين المستأجر من حقه، ولا يقف القضاء عند قوله: هذا آثم وظالم، بل يفرض عليه ويقول له: أنت تمنع صاحب الحق من حقه؛ لأن منفعة سكنى العمارة خلال الشهر ليست بملك لك، فقد بعتها وأصبحت ملكاً للغير، فأنت بامتناعك من تسليم المفتاح والتمكين من الإجارة منعت حق غيرك، وهذا ليس بملك لك، وقد خرجت عن ملكيتك خلال شهر ذي الحجة. فإذاً: (الفاء): للتفريع، يتفرع على قولنا باللزوم أننا نلزمه ونقهره بالقوة على دفع العين لكي ينتفع بها المستأجر، سواء كانت أرضاً أو داراً أو سيارة أو أي شيء اتفق عليه، فنلزمه بذلك. فإذا منعه لم يخل هذا الفعل من أحوال: الحالة الأولى: أن يمنعه قبل ابتداء العقد ويقول له: ليس لك عندي شيء، وأنا راجع عن الإجارة. فحينئذ إذا رفع إلى القضاء يفرض عليه القضاء التمكين، ويمكن تلافي هذا الخطأ بإلزامه في مدة الإجارة. فإذا اشتكى إلى القاضي وأحضر القاضي خصمه وألزمه، وابتدأت الإجارة وأخذ حقه كاملاً فلا إشكال؛ لأنه منع من حقه وتوصل إلى حقه بالقضاء. الحالة الثانية: أن يقول له: لا تأخذ شيئاً، وليس لك عندي شيء، والعقد الذي بيني وبينك لاغ. فألغى العقد من طرف واحد، فالرجل حاول معه وأراد أن يقنعه فلم يستطع حتى مضى شهر ذي الحجة، فإذا مضى شهر ذي الحجة لم يستحق هذا المانع شيئاً من الأجرة؛ لأن الأجرة مركبة على المنفعة، وقد منع المنفعة. قد يقول لك قائل: إنه إذا منعه ومضت المدة نلزمه بدفع الأجرة، فكون هذا خان وامتنع فعلى الآخر أن يفي ولا يمتنع: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) وقد التزم أن يعطيه مائة ألف على شهر ذي الحجة. نقول: التزم المائة ألف لقاء منفعة، والمنفعة المشتراة غير موجودة، كما لو باعه شيئاً ولم يعطه إياه، فإذاً: لما كانت مستحقه لشيء ومبنية على شيء، فإنها تفوت بفواته، هذا إذا منعه المدة كلها. الحالة الثالثة: أن يمنعه بعض المدة، فقال له: لا أؤجرك، والعقد الذي بيني وبينك لاغ، فمضى من الشهر عشرة أيام وبقي عشرون يوماً سكناً، فيستحق أجرة العشرين يوماً. ولو منعه عشرين يوماً وتمكن من حقه في العشر الأواخر من الشهر يكون له ثلث الأجرة، ولو منعه خمسة عشر يوماً وتمكن من حقه في الخمسة عشر يوماً، أو سلم له واقتنع بعد نصف الشهر وسلمه المفتاح، نقول: له أجرة نصف الشهر. وهذا يختلف تبعاً لأحوال الناس: إما أن يمنعه كلية، ولكنه يتمكن من حقه من ابتداء المدة، ويستوفي حقه كاملاً، فلا إشكال، وإما أن يمنعه ولا يتمكن من حقه بالكلية فلا يستحق الأجرة، وإما أن يمنعه عن بعض الأيام دون بعضها، وحينئذٍ يستحق بقدر ما أخذ من الأيام، ويستحق الأجرة بقدر ما استفاد المستأجر من الأيام، إن كان نصف الشهر فنصف الأجرة وهكذا. لكن هنا مسألة: لو أنه اتفق معه على أن يؤجره شهر ذي الحجة، وكل يوم من شهر ذي الحجة بألف، فاتفق معه على شهر ذي الحجة، ولكن لم يقل: كل يوم بألف، بل قال له: هذه ثلاثون ألفاً لقاء شهر ذي الحجة، وتم العقد على هذا، ثم شاء الله عز وجل أنه منعه من الخمسة عشر يوماً الأولى، ثم مكنه من بقية الشهر، وكان الشهر ناقصاً، فهل يستحق الخمسة عشر ألفاً أو يستحق الأربعة عشر ألفاً؟ A يستحق أربعة عشر ألفاً، ولا يستحق الخمسة عشر؛ لأن نقصان الشهر إلى تسع وعشرين يوماً في صورة التمام والكمال، ولا تكون في صورة البعض، ولذلك قال بعض العلماء: إنه في هذه الحالة لا يستحق إلا عن أربعة عشر يوماً؛ لأنها تجزأت بتجزؤ المنفعة المستوفاة، فله حق كل يوم بحسبه، لكن لو أنه أوجب الصفقة عن الشهر كاملاً، ومكنه من الانتفاع ولم يمنعه، وظهر أن الشهر تسعة وعشرون يوماً، فهذا استحقاق مبني على الشهر المسمى، وليس على أجزاء الشهر، وفرق بين الاتفاق على الأجزاء وبين الاتفاق على الكل، وكذلك لو صام شهرين متتابعين وابتدأ من أول الشهر، فإنه قد يصوم كلاًّ من الشهرين تسعة وعشرين يوماً، فتصح كفارة له عما أوجب الله سبحانه وتعالى، لكن لو ابتدأ أثناء الشهر وابتدأ في اليوم الثاني فلابد وأن يصوم ستين يوماً قولاً واحداً عند العلماء. ففي هذه الحالة يكون المؤجر هو الذي أدخل على نفسه النقص. وقال بعض العلماء: بل يستحق خمسة عشر ألفاً، ووجه ذلك أن العقد تم على الشهر نفسه، فإن كان قد مكنه من النصف كان نصف المسمى لنفس المدة التي استوفي فيها، ويكون له نصف الشهر؛ لأن العقد باسم الشهر نفسه. ولكن القول الأول أوجه وأصح؛ لأنه حينما منعه أضر بمصلحة نفسه، وانتقل إلى التجزئة بحسابها، وهذا أصل عند العلماء كما ذكروها في الفسوخات، وذكروها في الأمور الطارئة التي توجب زوال عقد الإجارة.

حكم رجوع المستأجر عن الإجارة بعد البدء في العقد

حكم رجوع المستأجر عن الإجارة بعد البدء في العقد وقوله: [وإن بدأ الآخر قبل انقضائها فعليه الأجرة]. هذا من دقة المصنف رحمه الله: فإنه فرع الأحكام في لزوم عقد الإجارة على المؤجر وعلى المستأجر. قد يقع الامتناع ويقع النقض للعهد والعقد المتفق عليه بين الطرفين من الشخص المستأجر، فلو أن رجلاً جاء واستأجر بيتك، وقال: أجرني بيتك هذا بعشرة آلاف في شهر رمضان. فقلت له: قبلت. وتم العقد بين الطرفين على أنه يستأجر شهر رمضان بعشرة آلاف، فامتنع من سكنى البيت، قال: العقد الذي بيني وبينك لاغ. حتى مضى شهر رمضان كاملاً وقد سلمته المفاتيح ومكنته، أو مكنته من تسلمها، وقلت له: العقد الذي بيني وبينك كما هو، وهذا بيتك في شهر رمضان، تريد تأتي فهذا حقك، وتريد تتخلف فإن البيت باسمك ولا أؤجره لأحد، ولست بمسئول عنه؛ لأنني بعت منفعته ولا آخذ حق الغير. فبقيت على التزامك. إن كان هذا الشخص الآخر امتنع بالكلية وقد مكنته فإنه يلزم بدفع الأجرة كاملة؛ لأن الله فرض عليه العقد، وأنت قد مكنته من حقه، فتستحق الأجرة كاملة، وهو الذي أدخل الضرر على نفسه بامتناعه من الإجارة، وهو الذي فوت على نفسه مصلحة الارتفاق بهذه العين المؤجرة، فعليه أن يتحمل مسئولية نفسه. أما لو أنه أثناء العقد استأجر شهر رمضان، فامتنع من أول الشهر وجاء في نصفه الثاني، أو العكس: سكن أول رمضان -النصف الأول- ثم جاء في النصف وقال: ما أريد بقية الشهر. وليس ثم عيب يوجب الفسخ، وليس هناك أمر يستحق به ما قاله، ففي هذه الحالة نقول: أنت ملزم بالعقد على مدته التامة الكاملة، وليس من حقك الفسخ؛ فإن بدأ فيدفع الأجرة كاملة.

أمور ينفسخ بها عقد الإجارة

أمور ينفسخ بها عقد الإجارة قال رحمه الله: [وتنفسخ بتلف العين المؤجرة، وبموت المرتضع، والراكب إن لم يخلف بدلاً، وانقلاع ضرس أو برئه ونحوه، لا بموت المتعاقدين أو أحدهما، ولا بضياع نفقة المستأجر ونحوه].

ينفسخ عقد الإجارة بتلف العين المؤجرة

ينفسخ عقد الإجارة بتلف العين المؤجرة فقوله: [وتنفسخ بتلف العين المؤجرة]. (الفسخ) في لغة العرب: الإزالة، يقال: فسخ الثوب إذا أزاله وأماطه عن بدنه، فلما ذكر المصنف رحمه الله لزوم عقد الإجارة ناسب أن يتكلم عن الأحوال التي تستثنى، ويكون حكم الشرع فيها بجواز فسخ هذا الشيء الذي لزم الطرفين. وقوله: (العين المؤجرة) أي: كالبيت، فلو قال له: أجرني هذا البيت بمائة ألف -مثلاً- هذه السنة. وقال: قبلت. فلو انهدم البيت -تلفت العين- فقد فاتت المنفعة التي اشتراها المستأجر، وبفوات المنفعة يفوت عقد الإجارة؛ لأنه لا يمكنه أن يسكن في هذا البيت وهو منهدم، وقد اتفق الطرفان على أنه مؤجر له بسكنى هذه الدار، فإذا أصبحت الدار غير موجودة فإنه حينئذٍ يحكم بانفساخ العقد، وكما أنه لو باع دابة ثم ماتت الدابة قبل إتمام الصفقة، أو بستاناً، ثم جاء إعصار وأحرق البستان قبل إتمام الصفقة؛ فإن هذا يوجب الفسخ؛ فكذلك في الإجارة. وكذلك إذا قال له: بعني هذه العلبة من الطعام أو نحوه، فقال: بكم؟ قال: بخمسة ريالات. فقال: اشتريت. فلما أراد أن ينزلها البائع سقطت من يده وانكسرت، فلا يمكن أكل هذا الطعام الذي انكسرت علبته أو أريق على هذا الوجه، وفي هذه الحالة لا يمكن الانتفاع بهذه العين، فتقول: انفسخ عقد البيع على هذا المعين وفات بفواته. وحينئذٍ يعقد معه على عين أخرى إذا أراد وإلا فسخ البيع. فإذاً: إذا فاتت العين المقصودة التي تم العقد عليها، فإنه حينئذٍ يحكم بانفساخ عقد الإجارة. وتلف العين مثل انهدام الدار، وموت الدابة والبعير في القديم، ومثله في زماننا السيارات، فلو أنه اتفق معه على إجارة سيارة بعينها إلى مكة أو إلى جدة أو إلى المدينة، ثم في الطريق تلفت مكينة هذه السيارة، حتى لا يمكن أن يتم بها العقد على الوجه المعتبر، فحينئذٍ يحكم بفوات العقد. وإذا تلفت العين فلها صور: الصورة الأولى: أن تتلف العين قبل ابتداء مدة الإجارة. الصورة الثانية: أن تتلف العين أثناء مدة الإجارة. فأما في حالة تلف العين قبل ابتداء الإجارة: فينفسخ العقد بالكلية، وإذا كان قد قبض الثمن وجب عليه رد الثمن إلى صاحبه، وهذا لا إشكال فيه. وأما إذا تلفت العين أثناء الانتفاع، مثلاً: كان ساكناً في الدار فسقطت الدار وانهدمت، أو سكن نصف شهر وانهدمت في نصفه الباقي، أو احترق البستان أو نحو ذلك من المؤجرات، فحينئذ يحكم بلزوم أجرة ما مضى وفسخ الإجارة فيما بقي، ويستحق الأجرة بقدر ما أخذ، ثم الباقي يحكم بانفساخ عقد الإجارة فيه. لكن أيضاً هناك تفصيل عند العلماء رحمهم الله في مسألة تلف العين؛ فجمهرة أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة رحمهم الله على أن انهدام الدار يوجب انفساخ عقد الإجارة، لكن فقهاء الحنفية رحمهم الله وبعض الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد والإمام الشافعي يقولون: أنه إذا انهدمت فينظر فيها، فإن بقي شيء من الدار فيه منفعة انفسخت الإجارة فيما لا منفعة فيه، وتبقى في القدر الذي فيه المنفعة. من أمثلة ذلك: الدار التي لها فناء وحوش، فإذا استأجر داراً بحوشها، مثل الفلل الآن، يقولون: إذا سقطت الفلة وانهدمت، أو سقطت الفلة وبقي جزء منها صالح للسكن، فإننا نقدر قيمة هذا الجزء المنهدم من الأجرة، ونقول للمستأجر: انتفع بما بقي، وانتفع بهذا الفناء والحوش؛ قالوا: لأنه يمكن أن يستغله لحفظ المتاع، ويمكن أن يستغله لحفظ الحيوان، ويمكن أن يستغله في مصالحه؛ لأن الحوش يمكن الارتفاق به بخلاف البناء. قالوا: فحينما اتفق الطرفان على بناء وفناء، فمعنى ذلك: أنه يريد للسكن ويريد الارتفاق بالفناء، فإن فات السكن بقي عقد الفناء كما هو، وهذا في الحقيقة إذا نظر إليه من حيث الأصول فله قوة، أعني أنه من حيث الرأي والنظر صحيح؛ لأن القاعدة تقول: الإعمال أولى من الإهمال. والقاعدة المشهورة تقول: الأصل بقاء العقود. فلو جاء شخص يتكلم ويقول: انهدمت الدار. نقول: إذاً تنفسخ فيما انهدم؛ لأن ما شرع لعلة يتقيد بها، فإذا كانت العلة هي كون الدار منهدمة فإن الانهدام هو الذي ينفسخ في عقد الإجارة، ويُتقَيَّد به. إلا أن القول الأول أدق وخاصة في المصالح، لأنك إذا جئت تنظر إلى مصالح الناس وإلى الضرر، فلا شك أن القول أنها تنفسخ كلية قوي؛ لأنك قد تستسمح الفناء وترضى به لوجود البناء، وقد ترضى بالبناء لوجود الفناء، فإذا كان رضا الإنسان بالبناء وكان الفناء تبعاً، فلا ينبغي أن نجعل التابع أصلاً، ولذلك قالوا: من الصعوبة بمكان أن نلزم في هذه الحالة، فمادام أنها انهدمت فالمتفق عليه الشيء الكامل، وإذا ذهب بعضه فإنا لا نلزمه به؛ لأن المستأجر استأجر شيئاً كاملاً لا شيئاً ناقصاً، ولو كان يريد الفناء لقال: أجرني فناءك. لو كان يريد جزءاً من الدار لقال: أجرني غرفة. لكن هو قال: أجرني الدار كاملة، فبأي حق نلزمه بالبعض وقد اتفق على شيء كامل متكامل، فهو ما اتفق معه على فناء. وكل من القولين له وجه، فإن من قال: نفسخها في الجزء الذي انهدم ولا نفسخها فيما بقي، فقوله أشبه بالقواعد من جهة النظر والأصول، ومن قال: إنها تنفسخ كلها، فلقوله حظ من حيث الأصل الذي ذكرناه: أن العقد تم على شيء كامل يفوت بفوات بعضه أو أغلبه، ولما فيه من الضرر على الناس.

ينفسخ عقد الإجارة بموت المرتضع

ينفسخ عقد الإجارة بموت المرتضع قال رحمه الله: [وبموت المرتضع]. وتنفسخ الإجارة بموت المرتضع، عندنا المرتضع والمرضعة، وقد ذكرنا أن الله سبحانه وتعالى أحل الإجارة على الرضاع، وقال سبحانه وتعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6] فأثبت الأجر واستحقاق الأجرة بالرضاعة، فدل على مشروعية التعاقد على الرضاع. فمن الصور التي تنفسخ فيها الإجارة: إذا استأجر امرأة لإرضاع بنته، فاتفق معها على أن ترضعها سنة كاملة، فماتت الصبية في منتصف العام، أو ماتت قبل ابتداء الإجارة، فإن ماتت قبل ابتداء الإجارة انفسخت وليس للمرضعة شيء، وإن ماتت أثناء المدة استحقت المرضعة بقدر ما أرضعت من الزمان، فلو ماتت في ثلث السنة الأول كان لها أجرة الثلث، وإن ماتت بعد تمام النصف الأول فإنه يكون لها حظ النصف الأول وهكذا، تقسط الأجرة، وهذا أصل في الإجارة: أنها تقسط على حسب المنافع المتفق عليها. أيضاً إذا ماتت المرضعة وهي المرأة التي ترضع، فإنه ينفسخ العقد؛ والسبب في هذا: أن المنفعة فاتت الإجارة؟ ونحن نحكم بالفسخ إذا فاتت المنفعة المشتراة، ودائماً تكون المنافع تحت الأعيان، فعندنا ذوات وعندنا منافع، فإذا استأجر بيتاً فالذات البيت -البناء- والمنفعة السكنى، فإذا انهدم البيت انفسخ العقد؛ لأنه لم يعد هناك منفعة وهي السكنى بعد انهدام البيت وسقوطه. وكذلك لو استأجر دابة للركوب وماتت، كانت الإجارة على عينها وذاتها، ولم يمكن إقامة غيرها مقامها، فحينئذٍ تفوت بفواتها. فالمصنف رحمه الله قال: تنفسخ بتلف العين المؤجرة، وهذا مثلما ذكرنا في البيوت والمساكن من غير الحيوانات. وتنفسخ بموت المرتضع، وهذا مثال للحيوان -من الآدمي والحيوانات- فإذا ماتت المرأة المرتضعة أو الرضيع الذي يرتضع فإنه يحكم بفسخ الإجارة. وقد يسأل سائل ويقول: حكم الفقهاء ونص المصنف رحمهم الله على أن عقد الإجارة ينفسخ إذا مات المرتضع، أليس بالإمكان أن يؤتي برضيع آخر ويقام مقامه، ونقول: تصحيح العقود ما أمكن؟ قالوا: لا يمكن؛ لأنه حينما استأجر المرأة لإرضاع هذا الصبي بعينه فإنه لا يمكن بحال أن تأتي بصبي يرضع كرضاعته، ويحن لهذه الأم مثله، ويأخذ منها من اللبن بقدر ما يأخذه الأول، فلا تستطيع أن تقيم الغير مقامه بالعدل. هناك مسائل ستأتينا ولا نحكم فيها بانفساخ العقد؛ لأنه يمكن تحقيق المنفعة وتحقيق العدل بين الطرفين، وهذا من دقة الشريعة: أنه إذا تم العقد على صورة ومنفعة بحدود قيدت بها. فهو إذا أقام رضيعاً آخر لا يمكن أبداً أن يأتي رضيع آخر مثل الرضيع الأول، فالناس يختلفون في الشبع والري، ويختلفون في الرضاعة، ويختلف حال الصبي من امرأة لأخرى، فقد يرتضع من امرأة ويحب لبنها ويرضى بها ويقبل على ثديها، وقد تحرم عليه المراضع فلا يقبل بالمرضعة، وقد يكون بين بين، تارة يقبل وتارة يدبر، فكيف تقيم طفلاً مقام طفل مع اختلاف الطبائع واختلاف الأحوال؟! وعليه فتفوت المنفعة بموت المرتضع، وبحكم بانفساخ العقد لتعذر إتمامه على الوجه الذي كان عليه الأول، ولا يتم عقد الإجارة إلا إذا كان هناك عدل بين الطرفين، واستيفاء للحقوق كما اتفق عليه المتعاقدان. كذلك لو ماتت المرأة المرضعة فلن تستطيع أن تجد امرأة لبنها كلبن هذه المرأة في خصائصه وطبائعه وكميته؛ لأنها تختلف، فالمرأة التي تحمل لأول مرة وتدر لبنها، ليست كالمرأة التي في ثاني مرة ولا في ثالث مرة، والمرأة المتوسطة ليست كالمرأة البكر، وهكذا، فالانضباط متعذر، فيتعذر أن تقيم الغير مقام الأصل الذي اتفق عليه، فيفوت العقد بفوات الأصل.

انفساخ عقد الإجارة بموت الراكب في الطريق

انفساخ عقد الإجارة بموت الراكب في الطريق وقوله: [والراكب إن لم يخلف بدلاً]. أي: إذا كان له وارث يقوم مقامه فلا بأس ويتم العقد، ففي القديم كانوا يركبون للحج، فنص الإمام أحمد رحمه الله حينما سئل: إذا استأجر البعير في الحج ومات الراكب في الطريق؟ أنه يحكم بانفساخ العقد، وإذا حكمت بانفساخ العقد فتقدر أجرة هذا البعير من الموضع الذي سار منه إلى الموضع الذي مات فيه الشخص، ويستحق صاحبه قسط هذه الأجرة. إذا حكمت بالفسخ تفرع عليه استحقاق الأجرة فيما مضى، ويتفرع عليه جواز أن يؤجره للغير، فيأتي براكب آخر ويؤجره، ويستفيد مما بقي من المتفق عليه في عقد الإجارة.

حكم عقد الإجارة عند ذهاب الألم والمرض

حكم عقد الإجارة عند ذهاب الألم والمرض وقوله: [وانقلاع ضرس أو برئه ونحوه]. هذه مسألة طبية، وهذا من دقة الكتب الفقهية، وقد نبهنا غير مرة أن الفقهاء يذكرون بعض الأمثلة، وقد يأتي من لا يحسن فهم العلماء رحمهم الله، ولا يقدر ما قدمه هؤلاء الأئمة، وخاصة في الفقه، فإن الفقيه قلّ أن يكتب متناً إلا وقد ابتلي بأحد هذه الأشياء أو بها جميعاً: إما أن يكون ابتلي بالقضاء، أو بالفتوى، أو بتدريس الفقه. فلن تجد أحداً يكتب متناً فقهياً إلا وقد اشتغل بواحدة من هذه الثلاث أو بها مجتمعة. ومن أنفس وأدق ما يكون في الفقه: أن تجد فقيهاً اشتغل بالقضاء والفتوى والتعليم؛ لأن من الفقهاء من فتح الله عليه في القضاء ولم يفتح عليه في الفتوى، ومنهم من فتح الله عليه في الفتوى ولم يفتح عليه في القضاء، ومنهم من فتح الله عليه في التدريس ولم يفتح عليه في الفتوى، ومنهم من فتح الله عليه في الفتوى والتدريس والقضاء. وتجد دواوين العلم ونوابغ الفقهاء وأئمتهم الذين يشار إليهم بالبنان، وتقبل تحقيقاتهم وتحريراتهم، وينظر إليها نظرة الإجلال والإكبار، ويكون لها وزنها وقدرها حينما يكونون قد ابتلوا بهذه الأشياء، فتجد الأئمة الكبار قضاة، والسبب في هذا: أن القضاء يُدخل عليك المسائل الغريبة والأمثلة العجيبة، فتتأصل عندك الأصول، وتنضبط عندك الفروع، وتتضح القواعد والضوابط، وكذلك الفتوى، فإن الناس تأتي بعجائب مسائلهم وغرائب نوازلهم، فلا يحسن التصدر فيها إلا من أنار الله بصيرته، وكان -كما وصف الله- راسخاً في العلم. ولذلك كان غالب من يتصدر إلى الفتوى في سن مبكرة ينبغ في الفقه في فترة وجيزة؛ لأن الناس تدخل عليه المسائل، وهذه الأمثلة التي نراها في كتب الفقه هي حصيلة تجارب، وإن كان البعض يظن أنها مجرد آراء، وهو لا يعلم أنها حصيلة ذهن العلماء وكدهم وعنائهم قروناً طويلة. فحينما يقول المصنف: (وانقلاع ضرس) ليس المراد انقلاع الضرس فقط، إنما المسألة دخلت في مسائل الإجارة الطبية، وهذه الكلمة تستطيع أن تفرع عنها مشروعية الإجارة الطبية عموماً، وأن الفقهاء يعتبرون جواز كون الطبيب يأخذ أجرة على عمله ليقلع الضرس، وهذا عمل طبي، وتأخذ منها جواز الإجارة الطبية خاصة، وهي مسألة الجراحة؛ لأن قلع الضرس نوع من أنواع الطب وهو الجراحة، وتأخذ منها جواز قطع العظام الزائدة عن البدن إذا كان فيها ضرر، وجواز قطعها بشرط وجود الحاجة الداعية وهو الألم، وعدم جواز قطعها إذا زال الألم. وتأخذ منها مسألة إزالة الأعضاء من غير العظام؛ لأن النظير يأخذ حكم نظيره، كما جاز قلع الضرس لوجود الضرر والألم، فيجوز قطع الأصبع الذي فيه ألم إذا تعذر علاج هذا الألم، أو خشي سريان هذا الألم، فالمصنف حينما تكلم عن فوات العين ومثاله العقارات، ثم بعد ذلك موت المرضعة وهو مثال للحيوان، ثم انقلاع الضرس بجزء الحيوان، فأصبح بعدما نبه على الكل نبه على الجزء، وتعلق الإجارة بالجزء، مع أن الرضاع تعلقت الإجارة بالجزء وهو اللبن، وهنا تعلقت الإجارة بالجزء وهو الضرس. فقوله: (وانقلاع ضرس) يعني: إذا استأجر طبيباً لكي يقلع ضرسه، وكانوا في القديم يحتاجون إلى ذلك. ولا يجوز للمسلم أن يقلع ضرسه إلا إذا وجد فيه الألم، ووجدت الحاجة الموجبة للقلع، ولا يجوز لأحد أن يقلع سناً لكبرها أو بشاعة منظرها كما في جراحة التجميل، ولذلك لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشرة والمستوشرة، (والوشر): فيه برد وتحجيم للأسنان، وهذا يدل على أن تغيير خلقة الله عز وجل لا يجوز. وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (المغيرات خلق الله) فلا يجوز العبث بهذه الخلقة، مادام أن الله سبحانه وتعالى أوجدها على هذه الصفة، وشهد من فوق سبع سماوات أنه خلقه فأحسن خلقته تبارك الله أحسن الخالقين، فقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] فجعله على أحسن صورة وأتم صورة، فلذلك لا يجوز له أن يقلع أو يزيل شيئاً من البدن إلا عند وجود حاجة. ومن هنا تفرعت مسألة عدم جواز (إزالة الِلوَز) بدون حاجة، وهي التي تسمى بالجراحة الوقائية؛ لأن الفقهاء نصوا على انفساخ عقد الإجارة في قلع الضرس إذا برأ الضرس، فدل على أنه لا يجوز أخذ شيء من البدن إلا عند وجود الحاجة الداعية لذلك، فقال العلماء في قلع الضرس: يشترط وجود الألم وعدم القدرة على احتماله، ولذلك تجد بعض الفقهاء يدقق ويقول: إذا صعب الألم ولم يمكن علاجه، أي لا يوجد علاج ولا دواء له جاز، أما إذا أمكن علاجه فلا، هذا بالنسبة لقلعه. فلو قال له: اقلع هذا الضرس -وكان الضرس يؤلمه- فقد كانوا في القديم لا يتيسر لهم ما هو موجود الآن من الوسائل التي أنعم الله بها على عباده من تقدم الطب، وفتح الله على عباده من واسع رحمته وبره وفضله سبحانه وتعالى، وهو على كل شيء قدير، وكل ذلك ليشكروه ويحمدوه، ويعتقدوا اعتقاداً جازماً بعظيم فضله ومنته، وأن الأمر كله لله سبحانه وتعالى. ففتح الله لهم هذه العلوم التي يستطيع الطبيب أن يعرف هل المصلحة بقاء هذا الضرس أو عدم بقائه، فالآن الوضع يختلف، صحيح أنهم في القديم قالوا: إذا برأ انفسخت الإجارة، لكن في زماننا لو كان الضرس فيه آفة في داخله، وهذه الآفة باقية، لكن الألم يذهب ويأتي، وتم العقد، فإنا نقول: ليس من حقه أن يفسخ؛ لأن العذر موجود، وإن كان ينفسخ في القديم؛ لعدم تمكنهم من الاطلاع على خفايا الضرس، وما فيه من أمراض اللثة ونحوها. لكن في زماننا هذا لما تقدم الطب فإنه إذا وجدت العلة والآفة، وقرر الأطباء أن هذا النوع من الآفات والعلل لا علاج لها إلا الجراحة والاستئصال، واتفق مع المستشفى أو مع الطبيب على أنه يستأصل، ثم قال: ذهب الألم. فقال: ما أريد. فإنا نلزمه؛ لأن العلة موجودة، ونقول له: إذا امتنعت وجب عليك أن تدفع أجرة الطبيب. وعلى هذا سنذكر مسألة تمكين الطبيب من نفسه؛ لأنه إذا مكن الطبيب المريض من نفسه ولم يأخذ منفعته؛ فإنه يلزم المريض بدفع الأجرة كاملة.

حكم عقد الإجارة بعد موت المتعاقدين أو أحدهما

حكم عقد الإجارة بعد موت المتعاقدين أو أحدهما وقوله: [لا بموت المتعاقدين أو أحدهما]. أي: لا تنفسخ الإجارة بموت المتعاقدين ولا بأحدهما، -يعني: إذا مات المؤجر والمستأجر-. مثال: قال زيد لعمرو: أجرني دارك هذا الموسم شهرين بمائة ألف. فقال: قبلت. واتفقا وتم العقد بينهما، ثم مات المؤجر والمستأجر، نقول للورثة: كل وارث يقوم مقام مورثه، فيستفيدون من هذه العين إما بأنفسهم، أو يؤجرونها على الغير، والأصل في العقد شرعاً أنه تام لازم، فينزل منزلة مورثه في الاستحقاق. هذا مذهب الجمهور، وخالف في هذه المسألة بعض الفقهاء رحمهم الله، والصحيح مذهب الجمهور أنها لا تنفسخ بالموت، لا بموتهما ولا بموت أحدهما، ما لم يكن ذلك موجباً لفوات المنفعة كما ذكرناه في المرتضع والرضيع.

حكم عقد الإجارة عند ضياع نفقة المستأجر

حكم عقد الإجارة عند ضياع نفقة المستأجر وقوله: [ولا بضياع نفقة المستأجر ونحوه]. خالف في هذه المسألة الحنفية رحمهم الله، فمثلاً: إذا استأجره من أجل أن يحج به في سيارته، ثم ضاعت منه النفقة، سقطت في الطريق وضاعت منه، فجاءه وقال له: النفقة ليست معي: فالحنفية يقولون: من حقه أن يفسخ. والجمهور يقولون: ليس من حقه، فهذا بلاء أنزله الله على المستأجر، ليس له علاقة في العقد نفسه، فليس بمفوت لعين المنفعة ولا لذاتها ولا لما فيها من المصالح، والمستأجر قد مكنه من الإجارة، فحينئذٍ يلزم بدفع الأجرة وإتمام العقد على الصفة المعتبرة. لكن هناك مسائل استثنى منها بعض الجمهور، منها: إذا فاتت المصلحة المقصودة، مثلاً: عندما تستأجر شخصاً لكي يذهب بك إلى الحج، ثم يتأخر عليك ولا يأتي إلا في زمان لا يمكن معه إدراك الحج، فإن الإجارة تنفسخ، مع أن المؤجر والمستأجر والعين موجودة، لكن أنت تريد منفعة مقصودة، فهذه أيضاً تلتحق بمسألتنا.

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة لطالب العلم بدراسة كل عقد على حدة

نصيحة لطالب العلم بدراسة كل عقد على حدة Q أشكلت علي مسألة العقود أيها لازمة وأيها جائزة، فما هو الضابط في ذلك؟ A الحقيقة مسألة الضوابط ومسألة تقرير العلم لا ينبغي لطلاب العلم أن يشتغلوا بها كثيراً، فلابد أن تتعب وتحفظ وتدرس كل عقد على حدة، وأنت بنفسك تضع جدولاً لما درست وتعلمت، لأنه قد أقول لك اليوم -مثلاً- يترجح عندي أن عقد كذا لازم للطرفين ثم يترجح أمر آخر بعد ذلك، ليس هناك أفضل لطالب العلم من أن يضبط بنفسه. وكان الوالد رحمة الله عليه يعتني كثيراً بعدم إعطاء الضوابط والقواعد، وإن كان سهلاً إعطاؤها، لكن يقول: أريدك أن تتعب، أريدك أن تدرس كل شيء على حدة. فمثلاً: استيفاء القصاص، إذا قال له: استوفِ لي القصاص. وأجره من أجل أن يستوفي القصاص ودفع له المال، كما كان يجري في القديم -ونحن ما جئنا إلى باب استيفاء القصاص، ولكن يمكن أن أعطيك إياه كمثال على أنه عقد جائز في أول الحال لازم في ثاني حال -مثلاً- ثم يتبين لي أنه لازم في أول حال. فلذلك لذة العلم وحلاوته في التعب والنصب، فتدرس كل شيء على حدة، وتضع بقلمك شيئاً فهمته وشيئاً قرأته وشيئاً ضبطته، وعرفت ما ترتب على لزومه، وتأخذ كل شيء. صحيح ممكن أن يكون هناك لازم ثم يكون هناك مستثنيات للجواز، أو جائز ومستثنيات للزوم، فهذا أمر يستفاد منه. لكن يفضل لطالب العلم أن يتعب، وكان والدي رحمه الله كثيراً ما يعتني بهذه القضية، حتى من الغرائب أن المعجم المفهرس لألفاظ الحديث لم يدخل مكتبة الوالد رحمه الله حتى توفي؛ والسبب في هذا أنه: قال: إنه يعود طالب العلم الكسل. ولا شك أننا نستفيد من المعجم وغيره وأنه يختصر وقتاً طويلاً، لكن يقول: تذهب وتفتح دواوين السنة، وتخرج الحديث، وتكتحل عينك بالسهر، ويُضنَى جسدك حتى تصل إلى الشيء، وتتعود من -كثرة التخريج والرجوع إلى معرفة النسخ- على معرفة طريقة الترتيب للأحاديث واختلاف الألفاظ واختلاف الرواة وتعدد الطرق، هذا هو الذي يكشف لطالب العلم ويجعل عنده ملكة قوية. وذكروا عن بعض أهل العلم رحمهم الله أنه كان مولعاً بالكتب، وكان شغوفاً بجمعها، وكان في القديم يتعذر عليه نسخ الكتب؛ لأنهم كانوا يجدون مشقة كبيرة في ذلك، وكان هذا من العلماء المشهورين، وسافر ذات مرة وتعرض اللصوص للقافلة التي هو فيها، فأخذوا جميع ما في القافلة، فجلس يبكي على كتبه، وجاء على قائد الأعداء وقال له: كل ما تريد أعطيك وأعطني كتبي. قال له: ماذا تريد بكتبك؟ يعني: لماذا أنت تعتني بهذه الكتب؟ قال: لأن هذه الكتب هي علمي وحصيلة عمري. فقال له: علم تحمله وتخاف عليه ليس بعلم! بمعنى أنه يمكن لطفل أن يأتي ويشعل ناراً في الكتب فينتهي هذا العلم، فهو ليس بعلم، بل العلم ما حوته الصدور لا ما كتب على السطور، العلم هو علم الرجل في قلبه، فعندما يذهب بنفسه ويتعب، بخلاف ما إذا جاءه سهل ميسر من حصيلة غيره، فيقلد كلام غيره، وقد يقع السقط والتصحيف والتحريف، فالمطلوب من طالب العلم أن يكون على مرتبة من قوة الشخصية والعناية في البحث والتقصي والتعب، ولا شك أن هذا فيه عظيم الأجر والثواب، ثم تتربى كذلك في طالب العلم الملكة. ثم لا يستعجل، لأنك عندما تدرس عقد الإجارة، وهل هو لازم أو غير لازم، وتدرس اللزوم في عقد الإجارة، وما يتفرع عن هذا اللزوم في عقد الإجارة، يصفو ذهنك وينحصر تركيزك على جزئية معينة ألممت بها وأدركت آثارها ومحاسن الشريعة في الإلزام بها، وذلك خير مما إذا جمعت لك خمسة عشر أو عشرين عقداً. مثلاً: عندنا عقود لازمة للطرفين، وعندنا عقود لازمة لأحد الطرفين، وعندنا عقود جائزة للطرفين، وعندنا عقود جائزة في أول الأمر لازمة في آخر الأمر، وكلها عقود فيها خلافات وفيها أقوال، وهي لا تقل عن ثلاثين عقداً، وذكرها لك صعب جداً. ولذلك: ينبغي لطالب العلم أن يدرس كل جزئية على حدة، ولا شك أنه أتم وأكمل، وكان بعض العلماء رحمهم الله يقول: دراسة قواعد الفقه وضوابط الفقه تكون بعد الانتهاء من متن الفقه؛ لأنك إذا انتهيت من المتن كاملاً تجمع الشتات الذي قرأته وتضع له ضوابط، لكن من البداية تأخذ هذه القواعد، فهذا يشتت طالب العلم كثيراً، ولا شك أنها قد تضر بمصالحه. وأنا أطيل في هذه الجزئية لأنها منهجية، وكنت أنبه كثيراً على أن الأفضل أن يدرس طالب العلم كل عقد على حدة قبل العناية بالقواعد والضوابط، وخاصة إذا كان قد التزم الفقه على منهج أو على طريقة، فبإذن الله عز وجل يكون ذلك أفضل وأكمل. ثم إذا قرأت كل عقد وأدركت وجه الفرق بين العقود، وأصبح عندك نوع من الفهم: لماذا أصبح جائزاً هنا ولازماً هنا، ولماذا لزم الطرفين هنا ولم يلزم هنا، ولماذا لزم أحد الطرفين دون الآخر؟ حتى تنجلي وتنقدح عندك الأسرار والعلل في التفريق بين هذه العقود. ومن الفوائد التي ذكروها: أن العقود التي فيها غرر ومبنية على الغبن المحض -مثل: عقد الإجارة وعقد البيع- فالغالب لزومها، وأن العقود المتمحضة في الرفق والتي ليس فيها غبن الغالب جوازها، مثل الهبات والعطايا، ولكن العقود التي يكون فيها الغبن في حال والرفق في حال تكون لازمة في ثاني الحال لا في أول الحال، وقس على هذا اختصاراً. لكن إذا درس كل عقد على حدة فلا شك أنه أضبط وأمكن. ونسأل الله عز وجل أن يفتح علينا وعليكم فتوح من أراد وجهه وابتغى ما عنده، والله تعالى أعلم.

إلزام المؤجر بإقالة المستأجر

إلزام المؤجر بإقالة المستأجر Q إذا أقال المؤجر المستأجر، فهل له أن يعود في الإقالة؟! أم للمستأجر إلزامه بهذه الإقالة؟ A إذا أقاله فإنه ملزم بالإقالة، وليس من حقه الرجوع، ومن حق المستأجر أن يلزمه بما التزمه من الإقالة، وقد ارتفع لزوم العقد بهذه الإقالة. الإقالة اختلف فيها في البيع فقط: هل هي فسخ أو بيع جديد، فترتب على هذا الخلاف في البيع فوائد، منها: هل يثبت فيها خيار المجلس؟ لأنك إذا قلت: إن الإقالة في البيع بيع جديد ثبت فيه خيار المجلس، فمن حقه الرجوع عند من يقول بخيار المجلس في البيع، وصورة ذلك: لو جاءه وقال: بعني هذه العمارة بمليون، فقال: بعتك. وافترقا، ثم جاءه بعد شهر وقال له: أنا اشتريت منكم العمارة بمليون، فأقلني. قال: أقلتك. فما داما في المجلس فمن حقه أن يقول له: رجعت عن إقالتي في البيع. هذا على أن الإقالة بيع مستأنف. ويترتب عليها أيضاً: حكم الصرف، حينما يأتي إلى محل ذهب أو إلى أي محل، مثلاً: لو أنه اشترى سلعة بعشرة ريالات، ثم جاء وقال للبائع: أقلني هذا البيع. فقال البائع: أقلتك، لكن بشرط أن أعطيك تسعة ريال -يعني: أنقص ريالاً من القيمة- فإن قلت: إنها بيع جديد فإنه يجوز؛ لأنها قد بيعت بيعاً ثانياً، ولا يكون من أكل أموال الناس بالباطل، وإن قلت: إنها فسخ. فينبغي أن يرد العشرة كاملة. وأيضاً: لو كان في النقود، فإنها تأخذ حكم الصرف، فينبغي أن تكون متساوية فيما يشترط فيه التساوي والتماثل، وأن تكون يداً بيد فيما يشترط فيه التقابض. وعلى هذا: لو أنه جاء وقال له: أقلني. فقال: قبلت. قال: لكن ما عندي إلا التسعة، فأقلني وأرد لك التسعة. لم يجز؛ لأنه عاوضه بتسعة عن عشرة، هذا في الفسخ، وفي البيع يجوز؛ لأنه بيع مستأنف، وقس على هذه من المسائل. وأظن أن هذا تقدم معنا في البيع، وذكرنا هل الإقالة فسخ أو هل هي بيع. أما بالنسبة للإجارة فالقول المشهور والذائع أنه ليس من حقه إذا قال له: أقلتك. أن يرجع فيها، فقد رفع صفة اللزوم، وإذا ارتفعت صفة اللزوم فإنها لا تعود إلا بعقد جديد، وإذا قال له: سامحتك. ثم رجع وقال: ما سامحتك. فليس من حقه الرجوع، ويلزم بهذا، وينفسخ عقد الإجارة؛ لأنه أوجب فسخه فيلزم بقوله والله تعالى أعلم.

حكم منع المؤجر تسليم العين المؤجرة

حكم منع المؤجر تسليم العين المؤجرة Q إذا امتنع المؤجر من تسليم العين المؤجرة فترة من العقد، وترتب على هذا التأخير ضرر على المستأجر كفوات سوق ونحوه، فهل يحق للمؤجر أن يلزمه بإتمام الإجارة باقي المدة، أم للمستأجر الحفظ؟ A هذه المسألة لها صور، كأن تكون استأجرت عيناً ما لمدة شهر مثلاً، ولكن أهم شيء في هذا الشهر الخمسة الأيام الأولى، وأنت رضيت بالخمسة والعشرين التابعة لأهمية هذه الخمس، فمثل هذه المسائل يرجع فيها للقاضي، والقاضي هو الذي ينظر ويقدر الضرر، ويقدر هل كان بإمكانه أن يعوض أو ليس بإمكانه. فشخص -مثلاً- اتفق مع شخص في مكة ونقل أغراضه إلى جدة، وتحمل هذه المشقة، ولا يستطيع أن يجد بديلاً، فحينما يأتي بأغراضه فإنه يأتي بها دفعة واحدة ويتضرر، ففوات السوق وحصول الأضرار في إجارات المباني وإجارات الحيوانات والمركوبات والعقارات ونحوها كلها يرجع الأمر فيها للقضاء، فالقاضي هو الذي ينظر؛ لأن قطع الخصومات والنزاعات في القضاء مرده النظر في مثل هذه، ويعسر وضع قاعدة معينة في هذا، لكن من حيث الأصل: أنه إذا منعه لا يكون إلا بقدر ما منعه، وباقي المدة يكون على ملك المستأجر، ويلزم بدفع أجرته إذا انتفع بها، والله تعالى أعلم.

حكم هروب الدابة المستأجرة

حكم هروب الدابة المستأجرة Q إن هربت الدابة المستأجرة فهل لصاحبها أن يدفع للمستأجر دابة مكانها؟ A إن هربت الدابة المستأجرة، وأقام المستأجر مثلها في المشي، ومثلها في القوة، ومثلها في التحمل فالإجارة ماضية، وإذا وجد البديل فإنه يلزم. وفائدة هذه المسألة في القديم حيث كانت تقع عليها مسائل، فمثلاً: حينما يستأجرون من مكة إلى المدينة، وتحمل الدابة منتصف الطريق وتهرب في النصف الثاني، ففي هذه الحالة إذا هربت الدابة، وأردنا أن نقيم غيرها مقامها، فقد تكون أجرة غيرها عندما يقام في ذلك الموضع تساوي الأجرة كلها، فإذا قلنا: العقد باق. فالضرر سيكون على صاحب الدابة، فتكون عليه مصيبتان: مصيبة فوات دابته، ومصيبة الإجارة الزائدة على أجرته التي فيها الأجرة، فلا بقيت له دابته ولا انتفع بماله، فهاتان مصيبتان. وفي بعض الأحيان يكون العكس، مثلاً: لو أنه استأجر من موضعه فيمكن أن يستأجر بربع القيمة، ويكون قد قطع نصف المسافة، فيستأجر بربع القيمة فيزداد له الربع الزائد، فقد يقول المستأجر في هذه الحالة: انفسخ العقد، وأريد أن أستأجر بنفسي. وذلك حتى يكسب الربع المضمون الذي هو الربح في النصف الباقي. ولكن الأصل يقتضي بقاء العقد، والمركوبات يمكن تعويضها لا الراكب، إلا إذا وجد بديل عنه من وارث ونحوه، فالمركوب الذي يمكن تعويضه يوجب إتمام العقد على ما هو عليه، وهذا أصل مقرر عند العلماء، والله تعالى أعلم.

حكم نسيان (لبيك اللهم عمرة) عند الإحرام

حكم نسيان (لبيك اللهم عمرة) عند الإحرام Q رجل عندما حاذى الميقات أحرم ولبى بالتلبية المعروفة، ولكنه لم يقل في أولها: لبيك اللهم عمرة. مع أنه قصد بنيته العمرة، فما الحكم؟ A إحرامه صحيح، وتكفيه نيته وما انعقد عليه قلبه من نسك الحج أو العمرة، أو هما معاً إذا نوى القران، ولا يشترط تلفظه بذلك، ولكنه سنة نبوية ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء عن أكثر من خمس وعشرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أنس رضي الله عنه، الذي قال: (كنت تحت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها، أسمعه يقول: لبيك عمرة وحجة) ومنها حديث عمر رضي الله عنه وأرضاه في صحيح البخاري، وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني الليلة آت من ربي وقال: أهلَّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة). نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجهه الكريم، وموجباً لرضوانه العظيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

باب الإجارة [9]

شرح زاد المستقنع - باب الإجارة [9] ينفسخ عقد الإجارة بتلف العين المؤجرة أو بظهور عيب مؤثر فيها، فإن كان قد مضى على استئجارها مدة قبل تلفها أو ظهور عيب مؤثر فيها لزم المستأجر دفع أجرة تلك المدة، وأما إذا تلفت أو ظهر عيبها قبل البدء في الاستئجار فلا يلزمه دفع شيء.

أحكام انفساخ عقد الإجارة

أحكام انفساخ عقد الإجارة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وإن اكترى داراً فانهدمت، أو أرضاً لزرع فانقطع ماؤها أو غرقت انفسخت الإجارة في الباقي]. شرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان ما يتعلق بالتزامات المؤجر، فإن الواجب على من أجر غيره أن يلتزم بتمكينه من المنفعة، وعقد الإجارة منصب على منفعة مطلوبة بالمعاوضة، فالمستأجر دفع المال لتحصيل هذه المنفعة، فالواجب على المؤجر أن يمكنه من هذه المنفعة، فإذا حصل العذر الطارئ الذي يمنع من استيفاء هذه المنفعة، ولا يتمكن المستأجر من أخذ حقه من العين المستأجرة؛ فإنه حينئذ ينفسخ عقد الإجارة.

تلف العين المؤجرة

تلف العين المؤجرة فأنت -مثلاً- إذا استأجرت داراً من أجل أن تسكن فيها، فإنك إنما طلبت هذه الإجارة من أجل منفعة السكنى، فلو أن هذه الدار التي استأجرتها سقطت وانهدمت فإنه يتعذر ويمتنع عليك أن تستوفي حقك، وحينئذ فإن المنفعة التي هي محل العقد بين الطرفين قد فاتت بفوات العين؛ ولذلك ينفسخ عقد الإجارة، ويكون هذا -كما مثل المصنف رحمه الله- في العقارات، كدار استأجرها من أجل أن يسكنها فانهدمت، فإذا انهدمت الدار فلها حالتان: الحالة الأولى: أن تنهدم قبل استيفاء المنفعة، وحينئذ ينفسخ عقد الإجارة، حيث لا يمكن استيفاء المنفعة، ويجب على المؤجر أن يرد المال للمستأجر. الحالة الثانية: أن يحصل العذر الطارئ بالانهدام عند بدء استيفاء المستأجر مدة ما من العقد، كأن يستأجر الدار سنة، وتنهدم الدار في الربع الأول أو في النصف الأول من السنة، أو بعد مضي ثلاثة أرباع السنة، ففي هذه الحالة: إذا انهدمت الدار وقد استوفى المستأجر شيئاً منها فإن الإجارة تتبعض بتبعض ذلك الشيء، فنقول للمؤجر: لك عند المستأجر أجرة المدة التي استوفاها، سواء بلغت نصف المدة أو كانت دونها أو زادت على ذلك. وأما بالنسبة للمؤجر فنقول له -إن كان قد أخذ الأجرة مقدماً-: يجب عليك دفع الزائد على هذه المدة، وينفسخ العقد بينكما. فلو استأجر الدار بعشرة آلاف لسنة كاملة، وانهدمت بعد نصف سنة من سكناه، فنقول للمستأجر: ادفع خمسة آلاف. ونقول للمؤجر -إن كان قد أخذ العشرة آلاف-: رد للمستأجر الخمسة الآلاف التي أخذتها، وتملك نصف الأجرة التي دفعت إليك. وقد مثل المصنف بمثالين: المثال الأول في الدور، والمثال الثاني في الأرضين والمزارع. فإذا استأجرت الدار أو العمارة أو الشقة من أجل السكنى فلا إشكال، ويكون التمثيل بالانهدام. وإذا استأجرت أرضه من أجل الزراعة، وكان في الأرض بئر، فغار ماؤها وانقطع، أو استأجرت أرضاً للزراعة فجاء سيل واجتاح هذه الأرض وأغرقها بحيث لا يمكن زراعتها، لأنها إذا غمرت بالماء تعذر زرعها إلا إذا انكشف وانحسر الماء عنها، فحينئذٍ إذا كانت الأرض معدة للزراعة فإنه لا يصح أن تعقد الإجارة عليها من أجل الزراعة إلا إذا كان الماء موجوداً فيها، وقد ذكرنا هذا، وذكرنا الدليل عليه، وقلنا: إن أي عقد للزراعة على أرض ينبغي أن يكون الماء موجوداً، فإذا اتفق الطرفان على أنه يستأجر منه هذه الأرض للزراعة سنة كاملة، ثم في منتصف السنة غار الماء وانقطع، فإنك لن تستطيع أن تحصل المنفعة التي من أجلها عاوضت بالإجارة على هذه الأرض، فمن الظلم أن تبقى على هذا العقد فيأخذ المال منك وأنت لا تأخذ حقك، فينفسخ عقد الإجارة في النصف الثاني من السنة، ويصحح عقد الإجارة في النصف الأول من السنة؛ لأن النصف الأول قد أخذت المنفعة تامة كاملة، والنصف الثاني قد حيل بينك وبين هذه المنفعة، فحق مالك الأرض أن يأخذ منك ما استوفيت، وحقك منه أن تأخذ منه ما لم تستطع استيفاءه، فينفسخ العقد في نصف السنة. وإذا غار الماء بعد ذهاب ثلثي السنة فالحكم كذلك، تدفع أجرة الثلثين ويرد إليك أجرة الثلث. إذاً: القاعدة: إذا امتنع استيفاء المنفعة وتعذر ذلك بسبب انهدام الدار أو غرق الأرض وانقطاع الماء عن الأرض فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون قبل استيفاء المستأجر ومضي شيء من العقد، فحينئذ ينفسخ العقد من أصله، وترد القيمة كاملة. وإما أن يقع هذا وقد مضى شيء من المدة، فحينئذٍ نقول: تتبعض الإجارة؛ فيجب على المؤجر أن يرد من القيمة بقدر ما بقي من مدة الإجارة، سواء كان نصفاً أو أكثر على التفصيل الذي ذكرناه. قوله: (فانقطع ماؤها)؛ لأن الماء هو الذي ينمو به الزرع، لكن لو أنه قال له: أريد أن أستأجر منك هذه الأرض لأزرعها، وإذا لم أزرعها فسأجعلها محلاً للدواب. فحينئذٍ أعطاه أمرين، فلو فاتت مصلحة الزراعة بانقطاع الماء فإنه يكون من حقه أن يستوفي عن طريق جعلها محلاً لدوابه كما ذكر، ولا يكون هذا التفصيل إلا إذا تمحض العقد من أجل الزراعة، أما إذا لم يكن من أجل الزراعة فلا إشكال، وحينئذٍ ننظر: ففي بعض الأحيان لو أنه استأجر أرضاً من أجل أن تكون مستودعاً له، فجاء السيل وأغرقها، فهذا له نفس حكم انقطاع الماء، وهكذا لو أنه استأجر أرضاً لمصلحة، ثم إن هذه المصلحة تعذرت، فمثلاً: لو أنه استأجرها من أجل أن يضع فيها دوابه، فصارت أرضاً مسفعة تهلك الدواب، فلا يمكن أن ينتفع ويرتفق بها على الوجه المعتبر. فالقاعدة والضابط ما ذكرناه، والمثال ما ذكره العلماء رحمهم الله من انهدام الدار وغرق الأرض، وهذه أمثلة، لكن المهم لطالب العلم أن يعرف قواعد المسائل، وقاعدة هذه المسألة: أن يتعذر الاستيفاء. وهذا في القديم. وفي زماننا: لو أنه استأجر سيارة بعينها على أن يركبها إلى موضع معين، ثم تلفت السيارة، وقد ذكرنا أن بعض العلماء يقول: إذا تعطلت العين وكانت معينة يفوت العقد بفوات المنفعة منها، فلا يمكن أن يقوم غيرها مقامها إذا عين، وقال له: بهذه السيارة. وبعض العلماء يقول: إذا كان يمكن إيجاد مركوب بنفس الصفة فلا ينفسخ العقد، فنقول له: صحيح إن هذه السيارة قد تعطلت، يمكن أن ينفذ بقية العقد -الذي هو نصف المسافة- فنقول حينئذ: ائت بسيارة مثلها في الأوصاف، وأمض العقد وتمم. على التفصيل الذي تقدم معنا في مسألة تلف العين المستأجرة. وقوله: [انفسخت الإجارة في الباقي]. في الحقيقة أنه من دقة المصنف أن قال: (انفسخت الإجارة في الباقي)، وهذا فيه مسألتان: المسألة الأولى: أنه أعطاك حكم ما إذا وقع الخلل والعذر الطارئ أثناء المدة، فتفهم منه أنه إذا وقع قبل التنفيذ والاستيفاء فإنه يجب رد المال كاملاً، وهذا من أجمل ما يكون في المتون الفقهية، وبها يدرك فقه صاحب المتن وحسن اختصاره؛ لأن المتون تقوم على الاختصار، فبدل أن يقول: انفسخ العقد من أصله، ووجب رد القيمة كاملة في حال ما إذا كان العذر قبل التنفيذ وقبل استيفاء شيء من المنفعة، ويقول بعد ذلك: وأما إذا حصل ذلك أثناء المدة انفسخ العقد فيما بقي؛ جاء بالجملة الأخيرة منبهاً على حكم المسألتين، فعندك شيء مصرح به، وهو: أنه يجب رد ما بقي من القيمة، ونفهم من هذا أنه إذا لم ينتفع بشيء وجب رد القيمة كاملة؛ لأنه إذا وجب رد بقية القيمة لعدم التمكن من الاستيفاء فيما بقي من المدة وجب رد القيمة كاملة إذا لم يتمكن من الاستيفاء كلية، فهذا بالنسبة لحكم المسألتين. والاختصار أن نقول: إن القاعدتين: إذا تعذر الاستيفاء من العين، أو من هذا الشيء الذي تقوم عليه المصلحة التي من أجلها استأجر المستأجر، فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون قبل أن يأخذ شيئاً من المنفعة، وإما أن يكون بعد أن أخذ شيئاً من المنفعة أو مضى شيء من المدة، ففي الحالة الأولى: ينفسخ العقد ويجب رد المال كاملاً، وفي الحالة الثانية: يدفع المستأجر على قدر ما استوفى من المنافع وحصله.

ظهور عيب في العين المؤجرة

ظهور عيب في العين المؤجرة قال رحمه الله: [وإن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب فله الفسخ، وعليه أجرة ما مضى]. هذا كله -كما ذكرنا- في التزامات المؤجر، فإذا اتفق معك على إجارة سيارة أو أرض أو دار، فإنه يجب عليه الشيء الذي التزم به بموجب العقد، ومنه: أنه يمكنك من العين حتى تستوفي، إذاً: لابد أن تكون العين موجودة ويمكن استيفاء المنفعة منها. يبقى مسألة: إذا وجد في العين عيب، فهي لم تتلف، ولكن فيها عيب لا تستطيع أن تستوفي المنفعة بالشكل المطلوب، وانظروا إلى دقة العلماء -وقد نبهنا على ذلك غير مرة- أنهم يأتون بالمؤثر من كل وجه، أو يأتون بالمؤثر الأكبر، ثم بعد ذلك المؤثر الأصغر. فكأن سائلاً سأل: قد علمنا إذا استأجر المستأجر داراً وانهدمت الدار فإنه لا يمكن الاستيفاء من كل وجه، لكن لو وجد في الدار عيب لا يمنع من استيفاء المنفعة، ولكنه يضر بمصلحة المستأجر في المنفعة، كتسرب الماء من السقف ونحوه، فما الحكم؟ فإذا نشأ هذا السؤال فيكون العيب على صور: أولاً: العيب: هو النقص، يقال: عاب فلان فلاناً إذا انتقصه، فأصل العيب: النقص. وأما بالنسبة في اصطلاح العلماء إذا ذكروا العيب في البيع والإجارة ونحوها من عقود المعاوضات، فهو: كل شيء يؤثر في مالية العين أو المنفعة، أي: الشيء الذي ينقص من قيمة العين المبيعة، أو ينقص من قيمة العين المؤجرة والمنفعة التي عليها عقد الإجارة، فهذا يعتبر عيباً، أما إذا لم ينقص من القيمة ولم يؤثر في المالية فليس بعيب، ولذلك ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني ضابط عيب الإجارة: أنه ما أنقص المالية، فمثلاً: أجرك شقة بخمسة آلاف، وهذه الشقة التي استأجرتها مدة سنة بالخمسة الآلاف تستحق ذلك، ولكن إذا تشقق سقفها فإنها تؤجر بألف أو بخمسمائة، فأنقصت المالية -ربما في بعض الأحيان- ثلاثة أرباع القيمة، هذا بالنسبة للشقق، وفي القديم مثلوا لذلك بالدابة والظهر، كأن يستأجر ناقة من أجل أن يركب عليها، والناقة فيها عيب إذا مشت، أو جموحاً إذا ركب عليها الشخص ربما تسقطه، والإسقاط هذا قد يقتله، كما في الرجل الذي وقصته دابته وهو واقف بعرفة. إذاً: هناك عيوب في العين المؤجرة، وبناء على ذلك قال العلماء رحمهم الله: إن كل شيء ينقص المالية وينقص من القيمة، فيعتبر عيباً مؤجراً.

أقسام العيوب في العين المؤجرة

أقسام العيوب في العين المؤجرة وتنقسم العيوب بالنسبة للحيوانات والآدميين إلى قسمين: عيوب نفسية، وعيوب ذاتية، وهناك ما يسمى عيوب كمالات وعيوب نفسية، فمثلوا في القديم: كما لو استأجر رجل شخصاً مجنوناً، أو رجلاً شديد الغضب لا يستطيع أن يتفاهم معه، ولا يستطيع أن يحصل منفعته منه كما ينبغي، أو استأجر خادماً من أجل أن يخدمه فإذا به شديد الغضب، لا يستطيع أن يحصل مصالحه، كثير السخط وكثير التضجر، فهذا يؤذي الرجل ويجحف به وبأهله، وبالمصلحة، فهو كلما أراد أن يطلب المصلحة أو يريدها فإنه يعيقه عن طلبها وأخذها واستيفاء حقه من الرجل لسوء خلقه، فهذا عيب في النفس وفي الخُلُق. وعيب الذات: كأن يكون به مرض في جسده، بحيث لو طلبت منه منفعة جاءك بالمنفعة متأخرة، أو جاءك بها ناقصة، فمثل هذا بدلاً من أن تستأجره بألف لوجود العيب فيه تكون أجرته خمسمائة ريال؛ لأن هذا عيب مؤثر؛ لأنه إذا ثبت عند أهل الخبرة أن هذه العين المؤجرة فيها مثل هذا العيب فلا يقولون: أجرتها عشرة آلاف؛ بل يقولون: أجرتها خمسة آلاف. إذاً: كل شيء أثر في نفسه أو أثر في الذات فهو عيب، وأصبح تأثير النفس أو تأثير الذات ضابطاً تبني عليه نقص المالية، ومن هنا قال الفقهاء: العيب ما أنقص المالية. ثم قسموا الذي أنقص المالية إذا كان في الحيوانات كالآدمي والبهائم إلى عيب ذات وعيب نفس، وعيب النفس في البهائم هو الجموح، فإذا كانت دابة وجاء يركب عليها فإنها تنفر ولا يستطيع أن ينتفع منها، وكذلك أيضاً قد تكون مؤذية مثل ما ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله، ومثل لذلك بالدابة العضوض -وهي الدابة التي تعض- وهو يريد أن يستوفي منفعتها، فإذا رآها عضوضاً خاف، وهذه طبيعة البشر، وقد يكون عنده من أطفال أو يكون هو بطبعه يخاف، فهذا ينقص المنفعة ولا يمكنه من الاستيفاء. وبالنسبة للبيوت: ففيها عيوب ذات وعيوب نفس، والبيوت ليس لها نفوس، لكن مما ذكر العلماء: أن يكون البيت -والعياذ بالله- مسكوناً، وهذا أمر ثابت، وقد ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني وغيره من الأئمة: وجود السكن في البيت، فإذا وجد في البيت سكن وأذية من الجان صار عذراً، ويعتبر من العيوب النفسية؛ لأن ذات الدار كاملة، فلو جاء الرجل الذي أجر الدار يقول لك: ليس من حقك أن تفسخ عقد الإجارة، فقد أجرتك داراً بغرفها ومصالحها ومنافعها، فكونها مسكونة أو غير مسكونة هذا لا يعنيني. تقول: لا، هذا عيب مؤكد، ويمنع الرجل من استيفاء المنفعة ويزعجه ويؤذيه، وقال بعض العلماء: حتى ولو كان الجار جار سوء وفيه أذية، وخاصة إذا كان على العرض، كأن يقول له: هذه الدار أؤجرك إياها والحي كله -مثلاً- فيه سكن من العزاب، فهذا يضر به إذا جاء بأهله، وكان ينبغي أن يقول له قبل الإجارة: إن هذا الحي أو جارك الذي يواجهك أو جارك الذي بجوارك أو من يسكن العمارة من العزاب، وعلى هذا فإنه إذا وجد ما يضر بمصلحة المستأجر ويضيق عليه فهو عيب. كل هذه العيوب يقضي فيها القاضي، ويفتي فيها المفتي بمجرد عرض المسألة، فإذا عرضت المسألة وقال: استأجرت من فلان داراً يتسرب من سقفها الماء، أو استأجرت داراً سقفها يسقط منه التراب -ونحو ذلك كما في البيوت القديمة- أو استأجرت داراً تبين أنها مسكونة، وثبت ذلك وقامت البينة عليه؛ فإن القاضي يقضي بانفساخ عقد الإجارة، ويعطي المستأجر الخيار ويقول له: أنت بالخيار: إما أن تفسخ عقد الإجارة، وإما أن تمضي فيه وترضى بهذا العيب، أو تتفق مع الرجل على إنقاص القيمة بقدر وجود هذا العيب، وتمضي ذلك العقد كما اتفقتما عليه. هناك عيوب هي في الحقيقة ليست مؤثرة في الأصل، لكنها مؤثرة في الشرط، ونحن قررنا أن العيب الذي يكون -مثلاً- في الدار في سكنها أو منافعها أنه يضر، يبقى Q لو قال قائل: إن في الدار ثقب يسير في الجدار، فهذا عيب لكنه ليس بعيب مؤثر. وهكذا لو أنه وجد (ماسورة) تسرب الماء ويمكن إصلاحها، فنقول للمؤجر: أصلح (الماسورة) ويمضي العقد؛ لأن القاعدة تقول: (الإعمال أولى من الإهمال) ولذلك تفرع على هذه القاعدة القول: (إعمال الأصول بما أمكن) فإذا عقد إجارة بين طرفين فلا نتعرض للفسخ إلا بعيب مؤثر؛ لأن الأصل في الشرع عندنا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فالله ألزم الطرفين وأوجب على المتعاقدين أن يتما صفقتهما بعقد الإجارة وغيره، وعلى هذا نقول: ليس من حق أحد أن يفسخ هذا العقد أو يعطي الخيار بفسخه للمستأجر إلا إذا كان العيب مؤثراً، والعيب هنا غير مؤثر. وهكذا لو أنه جاء فوجد (بلاطة) -مثلاً من الأمثلة- اقتلعت في الدار، فقال: العلماء يقولون: العيب يوجب الفسخ، وهذا عيب، فافسخوا عقد الإيجار. نقول: لا، هذا عيب يمكن تلافيه وتداركه، فليس كل عيب يوجب الفسخ، لكن هذه العيوب البسيطة قد توجب الخيار إذا كانت في الشرط مثل ما تقدم معنا في البيوع، فمثلاً: لو أن رجلاً استأجر داراً، وبعد أن تم العقد بين الطرفين وجد خللاً في أحد الأبواب، من حيث الأصل لا يعتبر هذا عيباً مؤثراً، فنقول له: أصلح هذا العيب. وانتهى. لكن لو قال له في بداية العقد: أشترط عليك: ألا يوجد أي عيب في الأبواب أو النوافذ. فإن هذا يعتبر عيباً مستحقاً بالشرط، هو في الحقيقة عيب ليس بذاك المؤثر، لكنه لما اشترط عليه كأن العقد ترتب على وجود هذا الشرط، فلا نلزمه إلا إذا كان المعقود عليه ومحل العقد سالماً من العيب بالصفة التي اتفق عليها الطرفان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المسلمون على شروطهم) فكأنه يقول: إني متفق معك وملتزم بما التزمت به بشرط: أن تكون هذه الدار أو هذه العين المؤجرة سالمة من العيوب. فقال له الآخر: قبلت. فمعنى ذلك: أنه إذا اشترط عليه وقبل، فإن في ذمة المؤجر أن يعطيه الخيار إذا ظهر هذا العيب، ولو أن العيب في الأصل لا يؤثر، ولو قال له: أستأجر منك هذه الدار بشرط: أن تجعل أبوابها بلون كذا وكذا، وما يبتدئ عقد الإجارة بيننا إلا وقد -مثلاً- أصلحت الأبواب، أو قد ضربت بلون معين، أو أن الدار تضرب بلون معين أو ترخم، فاتفقا على ذلك، فجاء وقت التنفيذ وجاء أمد الإجارة ولم يحدث شيء من ذلك، فنقول: للمستأجر الحق في فسخ عقد الإجارة. في المواسم يأتي شخص يستأجر العمارة، فيقول له: أنا أستأجر منك هذه العمارة بمائة ألف شهر ذي الحجة. قال: قبلت. قال: لكن أشترط أنه ما يأتي يوم ثمانية وعشرين من ذي القعدة إلا وهي مفروشة ينوع كذا وكذا. واشترط شيئاً معيناً، فجاء يوم ثمانية وعشرين وهي ليست بمكتملة أو فرشت كلها إلا القليل منها، فنقول للمستأجر: لك الخيار؛ لأنه التزم، والشريعة تحترم هذه العقود، وقد ترى هذا شيئاً يسيراً، لأنه لو أخلت الشريعة بشرط يسير فستخل بما هو أعظم، لأنه قد تقول -مثلاً-: إن الفراش سهل تدبيره، لكن قد يشترط عليه أموراً تكون بالملايين، ولذلك كما أن الشريعة تلزم باليسير من المال فإنها تلزم بالكثير من المال، فإذا التزم وقال: أنا ألتزم ألا يأتي يوم ثمانية وعشرين أو ألا يأتي بداية العقد إلا وقد هيأت هذه العمارة بالصفة الفلانية أو بالشكل الفلاني، وتم العقد، وجاء الوقت ولم يؤد ما التزم به، نقول للمستأجر: لك الخيار، وهذا عيب، لكنه عيب مستحق بالشرط. فأصبح العيب عندنا على قسمين: عيب يستحق بالعقد، وعيب يستحق بالشرط، فالعيب الذي يستحق بالعقد: بعض الأحيان يخضع للعرف، فمثلاً: عندنا في العرف أن البيوت في داخل المدن تكون مؤثثة ومجهزة، وفيها منافع ما، فلو أنه أجر وقال له: أؤجرك عمارة في داخل البلد على صفة كذا وكذا، فجاء ولم يجد الكهرباء فيها، فقال له: أنا التزمت لك أن أؤجرك عمارة، لكن أنت ما اشترطت أن يكون فيها كهرباء، نقول: أبداً، (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً) وكما يقول بعض العلماء: كالمشروط لفظاً. فإذاً: هو في الحقيقة لم يشترط، لكن نعتبر العرف دليلاً على الشرط، كأنك وعند سكوتك عن هذا الشرط تقول له: أستأجر منك عمارة في داخل المدينة على ما جرى عليه عرف أهل هذه المدينة، فأي إخلال يعده أهل ذلك العرف إخلالاً فإننا نعتبره موجباً للخيار، ونقول: هذا عيب، صحيح أنه لم يشترط ذلك صراحة، لكن سكوته ورده ذلك إلى العادة يدل على أنه قد رضي بما جرى به العرف في ذلك البلد والموضع. ومنا هنا تفرع هذا المسألة في العيوب المستحقة بالأعراض على القاعدة المشهورة: (العادة محكمة). ففي زماننا الكهرباء أو الماء، فلو قال له: أجرتك هذه (الفيلا) بعشرة آلاف مدة سنة كاملة من كذا إلى كذا، قال: اتفقنا، ثم تبين أنه لا ماء فيها، فننظر: إن كان الحي الذي فيه (الفيلا) يصل إليه الماء، نعرف أنه سكت المستأجر لأنه علم أو سأل أو غلب على ظنه أن هذا الموضع فيه ماء، فنقول: هذا عيب يوجب خيار المستأجر؛ لأن كلفة إحضار الماء مئونة ومشقة، حتى ولو كان قد التزم له أن يحضره عن طريق -مثلاً- السقاء، فذلك ليس كوجوده دائماً في البيت، فهذا يؤثر على مصالح المستأجر ويكون عيباً مؤثراً، لكنه عيب مستحق بالعرف، وليس مستحقاً بالشرط وصريح العقد. وعلى هذا: فإن العيوب تعتبر موجبة للخيار، وفصلنا القول في أنواع العيب.

الأدلة على أن العيوب تثبت الخيار في فسخ عقد الإجارة

الأدلة على أن العيوب تثبت الخيار في فسخ عقد الإجارة والأدلة على أن المستأجر يكون له الخيار إن وجد العيب ما يأتي: أولاً: قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] وجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أنه إذا استأجر المستأجر عيناً تامةً كاملة، وأوجب الصفقة والعقد مع المؤجر على أنها تامة كاملة وأعطى القيمة، فقد رضي بإعطاء القيمة المتفق عليها على شيء تام، فإذا ظهر العين في المؤجرة العيب فإن العيب ينقص القيمة، فأصبح المال مأخوذاً بالباطل. وتوضيح ذلك بمثال: لو أجره شقة أو عمارة تستحق في السنة عشرة آلاف على أنها تامة، فدفع له عشرة آلاف، وتبين أن بها عيباً ينقص قدر الألفين، فحينئذٍ تكون مستحقة في الأصل ثمانية آلاف، فتكون زيادة الألفين غير مستحقة بالعقل، فلو أننا لم نعط الخيار بالعيب لأكلت الألفين بالباطل، لأن قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] ومعنى (بالباطل) أي: بدون وجه حق، فالألفان التي أكلها المؤجر أكلها بدون وجه حق؛ لأنه ليس لها قيمة في العين المؤجرة، وليس لها مقابل في العين المؤجرة ومنافعها، وعلى هذا قال العلماء: إن وجود العيوب في البيوع والإجارات يكون مندرجاً تحت قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] لأن وجود العيب ينقص المالية، وإذا أنقص المالية فإن صاحب العقد الذي يملك العين سيأخذ المال كاملاً، والواقع أنه لايستحقه كاملاً، فإذا أعطيت الخيار للمستأجر فإنك أسقطت هذا الباطل؛ وقلت له: إن أحببت أن تمضي العقد وترضى به، فهذا لك. قال: رضيت، فحينئذ رضي ببذل الألفين، وهذا محض الخيار منه، وإذا قال: لا أرضى. رد المال إليه؛ فكان ذلك منعاً من أكل المال بالباطل. أما الدليل الثاني: فهو الإجماع، وقد حكى هذا الإجماع غير واحد من العلماء، وحكاه الإمام ابن قدامة وابن المنذر رحمهم الله، حيث قال الإمام ابن قدامة: لا نعلم خلافاً أنه إذا وجد عيب في الشيء المكترى أنه يستحق المكتري الخيار بوجود ذلك العيب. وأما بالنسبة للقياس والنظر الصحيح فإننا نقول: يستحق المستأجر الخيار بالعيب إذا كان موجوداً في العين المؤجرة كما يستحقه المشتري إذا وجد العيب في السلعة المشتراة؛ بجامع كون كل منهما عقد معاوضة، وتوضيح هذا القياس أن نقول: إنه يستحق المستأجر الخيار -خيار العيب- إذا ظهر العيب في العين المؤجرة، كما اتفقنا على أنه في البيع يستحق الخيار؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في البيع: (من اشترى شاة مصراة ثم أمسكها ثلاثاً فهو بالخيار -أي: إذا اكتشف أنها معيبة -إن شاء رضيها- أي: رضي بالعيب وأمضى العقد فلا إشكال- وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر) فقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن سخطها ردها) دل على أن العيب يوجب الخيار في البيع، وقد تقدم معنا هذا وبيناه، وذكرنا الأدلة النقلية والعقلية عليه، فنحن نقول: كما اتفقنا في البيع على أن العيب يوجب الخيار، وكذلك في الإجارة العيب يوجب الخيار. فلو سئلت عن الرابط بين الفرع والأصل تقول: العلة الرابطة أنه في البيع عقد معاوضة، والإجارة أيضاً عقد معاوضة، فكما أنه في البيع دفع المال لقاء السلعة فوجد العيب فاستحق الخيار، كذلك في الإجارة دفع المال لقاء المنفعة، فيكون له الخيار إن وجد العيب فيها. وعلى هذا: يثبت خيار العيب في الإجارة، إن أحببت أن تختص بالقياس تقول: العيب مؤثر في الإجارة كالبيع؛ بجامع كون كل منهما عقد معاوضة، فالعيب موجب للخيار في الإجارة كالبيع. وفي اعتبار الشريعة الإسلامية لخيار العيب في العين المؤجرة دليل على سماحة هذه الشريعة وكمالها وسمو منهجها، فإن الله عدل، وجعل هذه الشريعة الكاملة التامة قائمة على العدل، فقال سبحانه وتعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115] فمن عدله سبحانه أن جعل لهذه العقود ما يضبطها دون أن يتوصل أحد الطرفين إلى أذية الآخر والإضرار بحقه، فكما أنهما اتفقا على الكمال فإنه يجب الرد إذا ثبت النقص، فكما أن المؤجر يشتكي من المستأجر إذا أخل بعينه كذلك المستأجر يشتكي من العين المؤجرة إن ظهر العيب فيها، فالعدل قائم للطرفين، وكما أن هذا يأخذ حقه كاملاً فكذلك الآخر يجب أن يأخذ حقه كاملاً.

ظهور العيب بعد مضي فترة في الإجارة

ظهور العيب بعد مضي فترة في الإجارة قال رحمه الله: [وإن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب فله الفسخ، وعليه أجرة ما مضى]. (وإن وجد العين معيبة) هذا قبل العقد، وقبل استيفاء المنفعة، فمثلاً: إن اتفق معه بعد صلاة العصر على أن يستأجر منه عمارته الشهر القادم، وكان ذلك في اليوم التاسع والعشرين، وبعد أن اتفقا وجاء في ليلة العقد يريد أن ينظر في العمارة نظرة ثانية، وبعد أن رآها تبين له وجود العيب المؤثر، فنقول: ينفسخ العقد. هذا إذا وجدها معيبة قبل الاستيفاء. أما إذا وجدها معيبة بعد الاستيفاء، كأن يكون استأجر منه العمارة نصف شهر، وكان قد اتفق معه مدة سنة كاملة، أو استأجرها ومضى شهر كامل، ثم بعد مضي الشهر تبين أن العمارة فيها ضرر في تسليك الماء الموجود فيها، وهذا يضر بها، وربما سقطت وقتلت من بداخلها، فهذا العيب مؤثر، أو وجود النجاسة -أكرمكم الله- على سقفها في مواضع دورات المياه مثلاً، أو وجد السقف يتسرب بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة شهور كما لو جاء فصل المطر فتسرب السقف، فتبين أنها معيبة، فنقول له: الفسخ فيما بقي يكون له الخيار، ولكن يجب عليه أن يدفع قيمة ما مضى على التفصيل الذي ذكرناه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم المزروع عند انفساخ عقد الإجارة

حكم المزروع عند انفساخ عقد الإجارة Q ذكرت أن الأرض إذا انقطع ماؤها انفسخت الإجارة، فهل ما غرسه المستأجر يدفع له المؤجر، أم له أن يقلع ما غرس؟ A يجب على المستأجر أن يقلع الغرس، فإذا غرس نخلاً قلعه إلى أرض ثانية، ويمكن للنخل إذا قلع من هذه الأرض أن يحيا في غيرها، والضمان على المستأجر لا على المؤجر؛ لأن هذا الغرس ربح للمستأجر فخسارته عليه؛ لأن الخراج بالضمان كما بينه عليه الصلاة والسلام بقوله: (الخراج بالضمان) وهذا بينا فيه إجماع العلماء أن الربح لمن يضمن الخسارة، كما أن ربح الزرع للمستأجر كذلك خسارة الزرع في الأمور الطارئة كالفيضانات والسيول إذا غطت الزرع كلها تعتبر من الإتلافات التي ليست في يد المؤجر ولا يملك دفعها، ومثل الإعصار إذا أحرق الزرع، والرياح العاتية إذا أفسدت المحصول، فكل هذا يضمنه صاحب الزرع ولا يضمنه صاحب الأرض؛ لأن هذا الزرع نماؤه وربحه لصاحبه، وكذلك أيضاً خسارته وفساده بالجوائح على من استأجر لا على من أجر، والله تعالى أعلم.

اشتراط المؤجر عدم ضمان وجود الماء

اشتراط المؤجر عدم ضمان وجود الماء Q من استأجر أرضاً لزراعتها، وكان قد اشترط عليه المؤجر أن البئر ينضب ماؤها في فترة انقطاع الأمطار، فوافق المستأجر، فهل شرط المؤجر معتبر؟ A هذه المسألة تحتاج إلى نظر؛ لأننا ذكرنا أن العلماء رحمهم الله -ومنهم الإمام النووي والإمام ابن قدامة وكذلك الماوردي رحمة الله على الجميع- نصوا على أن إجارة الأرض للزراعة شرطها وجود الماء، وبناءً على ذلك لو قال له: أؤجرك هذه الأرض للزراعة والماء غير مضمون وغير موجود صار من الغرر، حتى لو رضي المستأجر؛ فإن هذا العقد من العقود الفاسدة في الأصل. إلا أن بعض العلماء قال: إذا كان الماء موجوداً في غالب السنة، ويمكنه أن يحصل منافع أخرى غير منفعة الزرع، فإذا اتفقا على ذلك فلا بأس، أما إذا كان غالب السنة لا يوجد الماء، ووجوده مخاطر به، وهو يريدها من أجل الزرع، مثل الأمر المحتمل المتردد، فهذا لا إشكال في عدم جوازه، والشرط باطل؛ لأن الشرط على هذا الوجه يتوصل به إلى تحليل الحرام؛ لأنه في هذه الحالة يريد المؤجر أن يأخذ مال المستأجر بدون حق. فلو فرضنا أنه اشترط عليه أنه إذا نضب البئر لا دخل له في ذلك، فتم العقد فنضب البئر في اليوم الثاني من العقد، وقد استأجر منه ثلاث سنوات، وإجارة الأرضين للزراعة قد تكون في بعض الأحيان خمس سنوات، وتصور إذا قلنا بتصحيح هذا، وهو شرط يؤدي إلى أكل المال بالباطل، وصحة الشروط موقوف على كونها لا تعارض الشرع، ولا تفضي إلى أكل أموال الناس بالباطل، ولا يكون الشرط موجباً للغرر والإضرار، وهذا لا يتحقق في مثل هذا الشرط، فالشرط وجوده وعدمه على هذا الوجه سواء ولا يؤثر، ولا يعتبر المؤجر ولا المستأجر ملزماً بمثل هذه الشروط، والله تعالى أعلم.

حكم أجرة العامل إذا مرض

حكم أجرة العامل إذا مرض Q من استأجر عاملاً فمرض وتغيب عن عمله بضعة أيام، فهل له أجرة من حيث الإمكان، أم له بعدد الأيام التي عملها؟ A من حيث الأصل إذا مرض العامل فإنك لست بملزم بدفع أجرته؛ لأن العقد والاتفاق بينك وبينه على أن يقوم بالمصلحة، وبناء على ذلك فمرضه على نفسه، ويتحمل مسئولية نفسه، هذا من حيث الأصل الشرعي، لكن لو أن صاحب العمل تسامح، أو جرى العرف بالمسامحة، وكان ذلك عن طيبة نفس من المالك الحقيقي، فإنه لا إشكال في هذا، وللمالك الحقيقي أن يفرق بين مرض وآخر. أما إذا كان العامل قد أصابه المرض وتعطلت مصالح صاحب العمل، فلا إشكال أننا نقول لهذا العامل: أقم غيرك مقامك. فيقيم غيره مقامه، وحينئذ يمضي العقد على ما اتفقا عليه، فإذا لم يقم غيره مقامه فإننا نقول لصاحب العمل: أقم غيره مقامه، ولك الحق أن تستوفي ذلك من الأجرة التي اتفق عليها، والله تعالى أعلم.

مسألة تطبيق حديث الشاة المصراة على شراء السيارة

مسألة تطبيق حديث الشاة المصراة على شراء السيارة Q هل يصح أن يطبق حديث الشاة المصراة في شراء سيارة بدون شرط على البائع؟ A الشاة لها حليب، والرسول صلى الله عليه وسلم أثبت هذا، وقال: (أمسكها ثلاثة أيام) ولا يمكن تبين وجود العيب إلا إذا احتلبها ثلاثة أيام، والشاة المصراة هي التي يربط ثديها ويحبس الحليب فيها، فأنت إذا جئت تشتريها من السوق فإنك تراها منتفخة الضرع، فتعجبك وترغب في شرائها؛ لأنك تريدها حلوباً، فإذا اشتريتها تجد في أول يوم أن الحليب والخير كثير، لكن في اليوم الثاني سيظهر نوع من النقص، ولن تستطيع في اليوم الثاني أيضاً أن تكتشف نقصها، ولن تستطيع ذلك إلا في اليوم الثالث، إذاً: لابد أن يكون فيها حليب، ولذلك أثبت النبي صلى الله عليه وسلم الخيار في الشاة المصراة، وأنا لا أعرف سيارة مصراة! وينبغي على طالب العلم أن تكون عنده موازين ثابتة، ويكون الأمر واضحاً له، ولذلك كان بعض طلبة العلم إذا مر على أحد بسيارته يقرع الجرس الذي في السيارة ويسلم، فقيل له في ذلك فقال: أنا لا أعرف أن السلف كانوا إذا مروا بأحد شدوا زمام البعير من أجل أن يصيح! فهناك أشياء يمكن قياسها وإلحاقها بالمنصوص عليه إذا اتفق وجه الشبه، أما إذا كان وجه الشبه متعذراً، ولا يمكن تحقيق العلة التي من أجلها ورد النص فهذا بعيد جداً. وعلى العموم: لا يمكن هذا، فليس في السيارة ما يشابه الحليب حتى ترد السيارة وصاعاً من تمر، فليس هناك شبه، ولا يستقيم القياس، وعلى هذا: إذا وجدت في السيارة عيباً فإن من حقك الرد، لكن بشرط أن يقول أهل الخبرة -وهم المهندسون-: إن هذا العيب مؤثر. كأن يكون مثلاً عيباً مؤثراً في سرعة السيارة ودفعها، أو يكون العيب مؤثراً إذا ركب الإنسان فإنها تضر به، كأن يكون هناك ما يمسك السيارة ويمنعها من المسير بحيث لا يعمل، ونحو ذلك من العيوب المؤثرة، فإذا قرر أهل الخبرة أن مثل هذا العيب مؤثر؛ فحينئذ يكون لك الخيار، والله تعالى أعلم.

حكم تحديد عقد الإجارة بنهاية شهر هجري

حكم تحديد عقد الإجارة بنهاية شهر هجري Q نحن نؤجر شققاً ومحلات تجارية في السنة، ونكتب في العقد: من غرة رجب إلى الثلاثين من جمادى الآخرة. وهو متعارف عليه ولا يعترض عليه أحد، هل هذا العقد صحيح، أم لابد من كتابة ثلاثمائة وستين يوماً؟ A إذا قلتم: من غرة رجب إلى الثلاثين من جمادى الآخرة. فهذا يعتبر عقداً محتكماً إليه بالاتفاق، يعني: اتفقتما على أن يوم ثلاثين من جمادى الآخرة ينتهي عقد الإجارة، فحينئذٍ أنتم غير ملزمين بثلاثمائة وستين يوماً، هذا من حيث الأصل. لكن الإشكال فيه: لو أنكم قلتم: إلى نهاية جمادى. فهذا أفضل؛ لأنه لا يوجد شيء يثبت أن جمادى يكون ثلاثين يوماً، ربما كان جمادى تسعة وعشرين يوماً، فحينئذ يرد السؤال: هل من حقه أن يستفضل يوماً زائداً لأنك قلت: إلى الثلاثين؟ فهذا فيه إشكال، فلذلك الأفضل أن تقول: إلى نهاية جمادى الآخرة. فإن كان جمادى الآخرة ناقصاً أو تاماً فلا إشكال، لكن أن تقول: إلى ثلاثين جمادى. ليس عندك من دليل يدل فعلاً على أن الشهر سيكون تاماً، وحينئذ تكون فيه شبهة، وإن كان الحقيقة مثل ما ذكر السائل أنه يتعارف عرفاً أن المراد بالثلاثين نهاية الشهر. لكن على العموم: الأورع والأفضل أن تقول: إلى نهاية شهر جمادى.

حكم استئجار الآبار

حكم استئجار الآبار Q ما حكم استئجار الآبار؟ A البئر لا يؤجر؛ وهذه فائدة التعريفات، فالإجارة: على المنفعة، والبيع: على الذات، ومن يستأجر البئر لا يريد أن يسكن البئر، ولا يريد أن يأخذ منفعة معينة من البئر، بل يريد ذات الماء، ولذلك لا يكون عقد إجارة، بل يكون عقد بيع للماء، وعلى هذا: لا يقال في عقد الآبار أنه عقد إجارة أبداً، ومن هنا لا يمكن أن ندخل الإجارة مع البيع، مثل الإجارة المنتهية بالتمليك؛ لأن الإجارة تكون للمنفعة والبيع يكون للذات، ولا يجتمع الاثنان، أي: أنهما متضادان، فعقد الإجارة ينصب على المنفعة على أن الذات ملك للمؤجر، والبيع على أن الذات ملك لمن اشترى، ولا يمكن أن تقول للمستأجر: مالك وغير مالك. فهذا تضاد، ولا يمكن الجمع بين الضدين المتناقضين على هذا الوجه. وعلى هذا: فمسألة بيع ماء البئر فيها نص أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء، وهذه مسألة فيها تفصيل للعلماء رحمهم الله: أنه إذا جاء الرجل المحتاج للماء في البر والفلاة -كما هو موجود في القديم، يحتاجه لإبله وغنمه أو يحتاجه لنفسه وهو في السبيل- فلا يجوز أن يمنعه صاحب البئر، ويمكنه من فضل الماء، ففي الحديث الصحيح: (أن الله تعالى يقول لمن منع فضل مائه: إنك منعت فضل مائك، واليوم أمنعك فضلي كما منعته) نسأل الله السلامة والعافية. ولذلك: لا يجوز للإنسان إذا كان عنده فضل ماء أن يمنع، وخاصة من يحتاج إلى ذلك، كأن يأتي يستقي، أو مثلاً الكلأ في المزرعة، تأتي المرأة تريد أن تحتش للبهائم، أو يأتي الرجل الكبير من المسلمين كالشيخ الحطمة، أو يأتي الصغار ويريدون أن يحشوا دون أن يضروا بالبستان، فيمكنهم؛ لأن مثل هذا فضل الله عز وجل أنعم به عليه، فيمكن الناس من مثل هذا، ولا ينبغي أن يكون هناك أنانية وشح ومادية تطغى على معاني الأخوة والرحمة والمحبة التي أوجب الله عز وجل أن تكون بين المسلمين، والمسلمون رحماء بينهم، ولو كنت مكان أخيك لما رضيت أن أحداً يساومك على مثل هذا. لكن لو أن شخصاً حفر البئر، وتكلف في حفرها أموالاً، ووضع عليها -مثل ما هو موجود في زماننا- الآلات التي تنقل، وأراد أن يملأ مثلاً (الوايتات) أو يملأ خزانات الماء من أجل أن يبيع سائق (الوايت) على غيره، فيمكن أن يتفق الطرفان على أن كل خزان -مثلاً- بمائة ريال؛ لأن هذا سيبيعه على غيره، فأنت تعطيه إياه لا على سبيل ارتفاق النفس، وإنما على سبيل المتاجرة، فإذا تاجر به فإن سائق (الوايت) تحمل المشقة في الخروج إلى البئر، وهذا قد يكون على مسافات بعيدة من المدينة، وتحمل الانتظار، وتحمل حمل الماء وعبء السيارة، وتحمل نفقة وقود السيارة، وغير ذلك، هذه كلها أمور يستحق في مقابلها الماء، فحينئذٍ نقول: إن هذا من باب ما يتكلفه في الجني، ولذلك قال العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (المسلمون شركاء في ثلاثة: الماء والكلأ والنار) قالوا: بشرط عدم الحيازة، فمن حاز شيئاً من هذه الأشياء وضمه إلى نفسه وتكلف مشقة الضم، فإنه في هذه الحالة من حقه أن يساوم عليه، وهو أحق به من غيره. وبناء على ذلك نقول: المعاوضة على الماء بيع، وليست بإجارة؛ لأن ضوابط الإجارة لا تنطبق عليها، وإنما ينطبق عليها ضوابط البيع، والله تعالى أعلم.

الإعمال أولى من الإهمال في المعاملات غالبا

الإعمال أولى من الإهمال في المعاملات غالباً Q القاعدة التي تقول: (الإعمال أولى من الإهمال) هل لها صور في العبادات؟ A الإعمال أولى من الإهمال في المعاملات أكثر منها في العبادات، لكن قد يحتاج الفقيه إلى مثل هذا الذي هو الحكم ومحاولة تصحيح العبادة ما أمكن، أي: بحيث إذا أمكن التدارك، لكن المعروف أن هذه القاعدة أكثر ما تكون في المعاملات، والأشبه في ذلك عقود المعاوضات كما ذكرنا في الإجارات، والعقود التي فيها الغبن أكثر، فهذه لا شك أن الإعمال فيها أولى من الإهمال؛ لأنها مبنية على حقوق المخلوقين، وهي مبنية على المشاحة والمقاصة، وقد اتفق الطرفان والتزما، بخلاف العبادات التي تكون بين المخلوق والخالق، فهي مبنية على المسامحة، فالأمر فيها أوسع من قضية المعاملات، فلذلك يختلف الحال ما بين العبادات والمعاملات من هذا الوجه، والله تعالى أعلم. وقد يكون تطبيق القاعدة ممكناً في مسائل الخلافات التي تقع بين العلماء رحمهم الله في الأيمان والنذور والعبادات في الصلاة والزكاة والصوم والحج، قد يقول الفقيه: إن تصحيح العبادة أولى من إبطالها، وإتمامها أولى من إلغائها، يمكن هذا ويقع، ويستند على هذا الأصل ويقول: إن قولي بصحة العبادة مع وجود الضمان في مثل هذا، أو يستغفر وتمضي عبادته أولى من قولنا بإبطالها؛ لأن بقاء العبادة وأصول التعبد لله عز وجل والطاعة أفضل من الإلغاء كلية. مثلاً: إذا قال بعض العلماء: إن من أقيمت عليه الصلاة وهو يصلي الراتبة، أو يصلي تحية المسجد، وبقي من الصلاة شيء يسير كأن يكون -مثلاً- في التشهد، أو يكون في السجدة الثانية، ويمكنه أن يدرك الصلاة، فنقول: بقاء العمل واعتباره على ما هو أولى من إلغائه، فنقول: أتم صلاتك رحمك الله، وأدرك الجماعة. فهنا الإعمال أولى من الإهمال، نقول له: اتركها ودعها، وسلم من صلاتك وأبطلها! لا، الإعمال أولى من الإهمال. من أمثلتها في الحج: مسألة ما لو أحرم بالحج قبل دخول أشهر الحج، كرجل جاء في رمضان وقال: لبيك حجاً. جمهور العلماء على أن الحج مؤقت، والله يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] وأجمعوا على أن بداية هذه الأشهر -كما صح عن ابن مسعود وابن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقد ذكر ذلك ابن جرير الطبري بسند صحيح عنهم- من هلال شهر شوال، والذي هو ليلة العيد، فلو جاء في يوم تسعة وعشرين من رمضان أو ثلاثين من رمضان، أو قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان وقال: لبيك حجة. فالظاهرية يقولون: الحج باطل وفاسد وتفسد عبادته. والجمهور يصححون نيته بالحج، ويقولون: إنه يبقى بهذه النية ويتم حجه، ويمكن أن يفسخها بعمرة، وبعض العلماء كالشافعية يقولون: إنه إذا أحرم بالحج قبل زمانه، كأن يكون في آخر رمضان، فإنه لا تصح له النية بالحجة؛ لأنه قبل زمانه -كما لو أحرم بصلاة الظهر قبل الزوال- فأبطل نيته بالحج، وأصحح هذه النية وأعُمِلُها؛ لأنه في الأصل دخل المسجد، فأصححها بعمرة، وأقول: يذهب بعمرة ويتحلل منها. فإذاً أعمل ولم يهمل، فـ الشافعي هنا يعمل النية ويقول: هذا رجل اختار النسك، وعندنا حج أصغر وحج أكبر، وتعذر الأكبر فينصرف إلى الأصغر. ومن أمثلتها في الصلوات: لو أنه أحرم بالفجر على أن الفجر قد تبين، ثم اتضح أن الفجر ما تبين، فإحرامه بالفجر دخول في العبادة والصلاة، فإذا جئت تهمل وتقول: يمتنع فجراً وقد نوى الفجر، فلا ينتقل إلى غيره، فيهمل وتبطل صلاته ولا تنعقد له، لا فريضة ولا نافلة، تعذر كونها فريضة لأنها قبل الفجر، وتعذر كونها نافلة لأنه لم ينو أنها نافلة، وإنما نواها فريضة وقد قال عليه الصلاة والسلام: (وإنما لكل امرئ ما نوى). لكن الجمهور يقولون: تنقلب نافلة، والإعمال أولى من الإهمال. فإذاً يمكن اعتبار مثل هذه المسائل خاصة في مسائل الخلاف، ويمكن تطبيق هذه القاعدة، والله تعالى أعلم.

حكم وجود أثر الدم في الفم في نهار رمضان

حكم وجود أثر الدم في الفم في نهار رمضان Q استيقظت من النوم وأنا في نهار رمضان، ووجدت أثر الدم في فمي ولم أجد طعمه في حلقي، فهل صومي صحيح أم لا؟ A الصوم صحيح إن شاء الله، ولا يؤثر وجوده في الفم؛ لأنه من الخارج وليس من الداخل، كما لو تمضمضت فإن المضمضة بالإجماع لا تؤثر، وعلى هذا وجود الدم والمفطر في الفم لا يؤثر، والله تعالى أعلم.

حكم الجهر في سنة المغرب

حكم الجهر في سنة المغرب Q رجل يصلي سنة المغرب بعد أن صلى الفرض في المسجد، فجاء رجل لم يصل المغرب وصلى معه، وجعله إماماً له، فالسؤال: هل يجهر بصلاته في ركعتيه أم لا؟ A عند من يصحح صلاة المغرب وراء صلاة العشاء في السفر يقول: يصح. ويجوز على هذا الوجه كما يختاره بعض أئمة الشافعية رحمهم الله، فيجوز على هذا الوجه أن يجهر بالقراءة؛ لأن صلاة الليل يجوز فيها الجهر، وهي سنة محفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يجوز الجهر حتى في النهار، وهو محفوظ عن السلف كـ عائشة رضي الله عنها، فقد كانت في صلاة الضحى ربما جهرت رضي الله عنها وأرضاها والله تعالى أعلم.

حكم من حلف أيمانا كثيرة لا يعلم عددها

حكم من حلف أيماناً كثيرة لا يعلم عددها Q حلفت أكثر من مرة، ولا أعلم كم عدد الحلف، فكم كفارة علي؟ A إن الحقوق التي بين المخلوق والخالق إذا تعذر ضبطها على التعيين لزم التقدير، فتطالب بتقدير ذلك حتى يغلب على ظنك أنك قد استوفيت العدد الذي تحصل به الطمأنينة، فنقول لك: إن هذه الأيمان لو قلنا: إنها مائة يمين. تقول: كثير. فنقول: خمسون يميناً. فتقول: قليل. فنقول: خمس وسبعون يميناً. تقول: غالب الظن أنها لا تزيد عن خمس وسبعين يميناً. فنقول: اعتبرها خمساً وسبعين يميناً، وقس على هذا بالنسبة لبقية الحقوق المتعلقة بالمكلف، فإذا كان يجهل قدرها فإنه يطالب بالتقدير، ويكون على وجه يغلب على ظنه أنه قد حصل العدد الذي يجب عليه، والله تعالى أعلم.

مسألة تقديم السعي على الطواف للحائض

مسألة تقديم السعي على الطواف للحائض Q أشكل عليَّ حديث عائشة رضي الله عنها في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت) في مسألة تقديم السعي على الطواف بالنسبة للحائض، هل يكون دليلاً على جواز تقديم السعي على الطواف؟ A هذه المسألة فيها ضرورة لـ عائشة، وأولاً: يحتاج إلى إثبات أن عائشة رضي الله عنها سعت قبل الوقوف بعرفة، مع أن بعض مشائخنا رحمة الله عليهم يقول: كان سعيها رضي الله عنها بعد طهرها، فطافت ثم سعت رضي الله عنها، وعائشة رضي الله عنها انقلبت إلى كونها قارنة؛ لأن حجها وقع قراناً كحج النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قالوا: كانت هي ناوية للتمتع وجاءت بعمرة، ثم إنها لما حاضت في سرف قبل دخولها إلى مكة، ودخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صبح اليوم الثالث من ذي الحجة حينما كانوا بسرف، وهي رضي الله عنها قد حاضت فوحدها تبكي، فقال: (ما يبكيك؟ ذاك شيء كتبه الله على بنات آدم، اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت) نقلها من العمرة إلى الحج قراناً. وبناء على ذلك قالوا: إنها تنقلب قارنة، والمتمتع إذا تعذر عليه الوصول إلى البيت قبل الوقوف بعرفة فينتقل إلى القران، وبناء على ذلك: إذا انتقلت قارنة فالقارن يجوز له أن يسعى سعي الحج يوم النحر، ولو سعاه بعد طواف القدوم؛ لأن سعيه عند قدومه يصح تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا: فإنه ليس في حديث عائشة ما يدل على أنها سعت قبل يوم عرفة، لكن يبقى لفظ الحديث؛ لأن الحديث قال فيه: (اصنعي ما يصنع الحاج) فكونها حتى ولو تأخرت إلى يوم العيد فعندها رخصة وإذن. فأجاز العلماء الذين يقولون بوجوب تقدم الطواف على السعي، أجابوا بأن عائشة رضي الله عنها وأرضاها تعذر عليها الطواف لعذر، فلا يصح إلحاق غير المعذور بالمعذور؛ لأن الرخص لا يتجاوز بها محالاً، إنما يستقيم الاستدلال إن لم يوجد عذر، أما وقد وجد العذر فلا. وأما حديث (سعيت قبل أن أطوف) فإن هذا الحديث فيه (لم أشعر) ولذلك فإن الإمام أحمد في رواية عنه حينما سئل عن هذا الحديث قال: إن مالكاً وغيره قال: (لم أشعر) فأثبت وصفاً -يقول الأصولون كما أشار إلى ذلك الإمام الحافظ ابن دقيق العيد - مؤثراً في شرعية الحكم، وهو قوله: (لم أشعر) والحكم: التخفيف والرخصة، والرخصة مرتبطة بعدم الشعور، وكان الإمام أحمد -لفقهه- رحمة الله عليه ينظر إلى تنوع الأسانيد واختلاف الرواة، وكان يدقق في الروايات ويشدد فيها حتى عن الصحابة أنفسهم، ولذلك لما أشكلت مسألة حديث رافع بن خديج رضي الله عنه في إجارة الأرضين والمزارعة والمساقاة، قال: حديث رافع ألوان. وكان رحمه الله -وهذه ميزة يمتاز بها عن بقية إخوانه من الأئمة، وإن كانوا قد شاركوه في شيء منها لكنه قد فاقهم بشهادة كل منصف- عنده دقة وإلمام عظيم بأسانيد الروايات واختلافها، وما تضمنته تلك الروايات من الألفاظ والعبارات! وخاصة إذا انفرد عن العلماء رحمهم الله برواية وأثر، فمن المعلوم أن الإمام أحمد رحمة الله عليه تأخر عن بقية إخوانه من الأئمة الثلاثة، فتتلمذ على الشافعي فحصل علوماً كثيرة في الأصول، وكان يقول: لولا الشافعي ما عرفت ناسخ الحديث من منسوخه. وهذا من الورع والحفظ الجليل وحفظ الحق للعلماء ومعنى كلامه: أنه تفقه على الشافعي في علم الأصول واستفاد منه، وأول من دون علم الأصول في الكتب هو الإمام الشافعي، وكان آية رحمة الله عليه في المدرسة النقلية التي كان يقوم فيها الخلاف بين أئمة الحنفية وبين الجمهور رحمة الله عليهم. فأخذ من الإمام الشافعي وحصل منه كثيراً من الضوابط الأصولية ومدرسة العقل، واستفاد كثيراً منه، ثم زاد على ذلك؛ لأن الإمام الشافعي تتلمذ على الإمام مالك، فحصل الشافعي فقه مالك، وحفظ الموطأ -يقال- في أربعين ليلة، وكان الإمام الشافعي قوي الحفظ، وكان لا يجلس المجلس إلا استوعب ما يقال فيه رحمة الله عليه من قوة علمه وفضله رحمه الله برحمته الواسعة. فحصل من الشافعي ما حصله من مالك أثراً ونظراً، ثم أعطاه الله عز وجل اطلاعه على الأسانيد واطلاعه على آثار الصحابة، فتجد في بعض الأحيان ينقل من المرويات عن الصحابة ما لا يقل عن اثني عشر صحابياً، وفي بعض الأحيان عن عشرين صحابياً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رحمه الله من ألثر الناس اتباعا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجلالاً لهم رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين. فكان رحمه الله من فقهه أنه يدقق في مثل هذا، ولا شك أنه أمر ينبغي لمن يتعامل في مسائل الخلاف أن يراعيه، رحمهم الله جميعاً برحمته الواسعة، وأنار قبورهم بأنواره الساطعة، وأعلى مراتبهم وأجزل ثوابهم في الدنيا والآخرة، والله تعالى أعلم.

حكم نساء جد الزوجة

حكم نساء جد الزوجة Q جد الزوجة إن كان له أكثر من امرأة هل كلهن محارم للزوج، وهل مثلها إن كان لأبي الزوجة أكثر من امرأة، فكلهن محارم للزوج؟ A جد الزوجة لا تعتبر زوجاته محارم لذلك الزوج إلا الأم التي أنجبت هذه الزوجة، فيختص التحريم بمن أنجبت هذه الزوجة، فمثلاً: لو أن محمداً كانت له زوجة اسمها خديجة، وله ثلاث زوجات غير خديجة، فأنجبت خديجة عبد الله، ثم عبد الله أنجب عائشة، وعائشة تزوجها علي، فإنه يختص التحريم بأم عائشة ولا يشمل بقية زوجات الجد؛ لأن زوجات الجد لسن بمحارم، ولذلك يعتبرن أجانب بالنسبة لذلك الزوج. لكن هؤلاء محارم بالنسبة لذريته وأولاده، فأولاده هم الذين لا يختص التحريم في زوجات أبيهم بأمهن -يعني: أمهن التي أنجبتهن، والتي هي الجدة- وإنما يشمل بقية زوجاته، فلو أن الجد كان له أربع نسوة، سواء بقين في عصمته أو طلقهن، أو مات عنهن وهن في العصمة فهن محارم لذريته وأولاده وأولاد أولاده وإن نزلوا، لعموم قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22] فجعل التحريم مختصاً بكل امرأة عقد عليها الأب وأبوه -وهو الجد وإن علا- فيشمل كل امرأة عقد عليها، بغض النظر عن كونها هي التي أنجبت ذلك الابن أو غيرها. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

باب الإجارة [10]

شرح زاد المستقنع - باب الإجارة [10] عاقبة الإجارة إما سلامة وإما ضرر، وحالات الضرر تسمى بمسائل الضمان في الإجارة، وهي مما تعم به البلوى، والضمان في الإجارة لا يختص بالأجير في كل أحوالحا؛ لأن الشارع حفظ حقوق كل من الأجير والمستأجر، فجعل الأجير ضامناً في الأحوال، كما جعله غير ضامن بشروط منها: ألا يتعدى ولا يقصر، وأن يكون العمل مأذوناً به. كما أن الشارع جعل أهل الحجامة والطب والبيطرة غير ضامنين لما تجنيه أيديهم إذا عرف حذقهم.

من صور الإتلافات

من صور الإتلافات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ولا يضمن أجير خاص ما جنت يده خطأ، ولا حجام وطبيب وبيطار لم تجن أيديهم، إن عرف حذقهم]. الإجارة إذا وقعت بين الطرفين لم تخل من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون على السلامة، فتستأجر الأجير فيقوم بالعمل على الوجه المطلوب دون حدوث أي ضرر من هذه الإجارة، فحينئذ لا إشكال. والحالة الثانية: أن تستأجر الأجير، وأثناء قيامه بمهمة الإجارة المطلوبة يحدث الضرر، كأن تستأجر عاملاً ليقوم بعمل فيصلح شيئاً في الدار أو نحو ذلك، فيكسر ذلك الشيء، فيتلفه بالكلية أو يتلف بعضه ويعطل المنافع الموجودة فيه، ففي هذه الحالة يرد Q هل الأجير يتحمل المسئولية عن العين التي تطلب منه المنفعة بإصلاحها والقيام عليها؟ وهذا يشمل كثيراً من الإجارات، سواء كان ذلك في الأشخاص أو كان في الحيوانات، أو كان في المركوبات أو كان في العقارات، فأنت إذا استأجرته ربما أنه يستأجر لإصلاح الإنسان -كالطبيب يقوم على إصلاح بدن الإنسان- فيحدث ضرراً بطبه، فيعطل منفعة العضو الذي يراد علاجه، أو يحدث ضرراً في مكان آخر، فيكون -بإذن الله عز وجل- سبباً في علاج موضع ولكن يحدث الضرر في موضع آخر، هذا في إصلاح الآدميين، وربما تستأجره لإصلاح حيوان كالبيطار، فيقوم بعلاج الدابة فيفسدها، أو تعتل صحتها بسبب الأدوية والعقاقير أو نحو ذلك، أو تستأجره لإصلاح جدار فينهدم أثناء إصلاحه، أو إصلاح زجاج فينكسر ويتهشم، أو إصلاح الأمور الأخرى من المرافق المتعلقة بالبيوت والدور ونحو ذلك. فكل هذه صور قد تقع في بعض الأحيان، فالإجارة إما سلامة وإما ضرر، ففي حال السلامة لا يسأل السائل، ولكن يرد السؤال في حال الضرر، وحالات الضرر تسمى بمسائل الضمان في الإجارة، فمسائل الضمان في الإجارة لا تختص بالأجير، بل لربما أنك تستأجر سيارة للنقل فيكون في السيارة ضرر يؤثر على صحة الراكب، أو تستأجر شيئاً من أجل أن تقضي مصلحة منه، فيخرج ذلك الشيء من المصلحة إلى المضرة، وكل هذه المسائل تسمى بمسائل الضمان في الإجارة، وتعم بها البلوى، وتكثر منها الأسئلة والشكوى، ويحتاج طالب العلم إلى معرفة أحكامها وموقف الشريعة الإسلامية الذي أنصفت فيه الطرفين: فأعطت الأجير حقه، وأعطت المالك حقه. فيرد السؤال: ما هي الضوابط؟ وما هي الأمور المعتبرة التي ينبغي العمل بها في مسائل الضمان؟ فشرع رحمه الله في بيان هذه المسائل؛ لأن بيان الإجارة يستلزم بيان الآثار المترتبة على الإجارة، وقد تكون هذه الإتلافات والأضرار الناجمة تعطل الإجارة فيما بقي من المدة، وكل هذا يبحثه العلماء ويبين مسائله الفقهاء رحمهم الله برحمته الواسعة، فشرع المصنف رحمه الله في بيان هذه المسائل والدلالة على هذه الأحكام. فقوله: (ولا يضمن). الضمان: غرامة الشيء التالف إما بمثله أو بقيمته، فالعلماء رحمهم الله إذا قالوا: عليه الضمان. بمعنى: أنه يأتي بمثل الشيء الذي أتلفه إن كان له مثلي، أو يأتي بقيمته إن تعذر وجود المثلي. وتوضيح ذلك: أن الضمان يفتقر إلى وجود إتلاف وضرر، وهذا الإتلاف سواء كان كلياً أو كان جزئياً فإنه إذا فعل شخص بمال غير بدون حق فإن الله عز وجل ألزمه أن يضمن لأخيه المسلم حقه، فمن أتلف الشيء حتى تعطلت منافعه بالكلية ولم يمكن الارتفاق به على وجه، وأصبح تالفاً بدون وجه حق، نقول له: اضمن مال أخيك. وذلك لأنه إذا أتلف الشيء على هذا الوجه فقد تعدى وظلم، فيجب عليه ضمان تعديه وظلمه، فعلى اليد أن تضمن جنايتها كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] فلما اكتسب الجناية وأتلف مال غيره وجب عليه أن يضمن ذلك المال، وتعين عليه أن يقوم برد مثل ذلك المال. فمثلاً: لو أتلف سيارة لأخيه المسلم بدون وجه حق، نقول له: تأتي بمثل هذه السيارة في مواصفاتها، وبمثلها في شكلها وتعطيها لأخيك. فإن تعذر وجود مثل هذه السيارة نقول: تضمن بقيمتها. فإذاً الضمان: غرامة الشيء التالف -أي: أنه لابد من وجود شيء تالف- إما بمثله إن كان له مثلي، ويضمن المثلي بالكيل كيلاً وبالوزن وزناً، فإذا كان مكيلاً يضمن بمثله كيلاً وبمثله وزناً وبمثله جودة ورداءة وغلاءً ورخصاً. إلى آخره كما سيأتي -إن شاء الله- في الضمان.

الفرق بين الأجير الخاص والأجير العام

الفرق بين الأجير الخاص والأجير العام وقوله: [ولا يضمن أجير خاص]. الأجير ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما يسمى بالأجير الخاص، والقسم الثاني: ما يسمى بالأجير المشترك. فأما الأجير الخاص -ويسميه بعض العلماء الأجير المنفرد-: فهو الذي تعاقدت معه على مدة معلومة تستحق منفعة هذا الأجير خلال المدة كلها، كأن تستأجر شخصاً ليعمل عندك في بيتك أو مزرعتك شهراً، فإنه يسمى بالأجير الخاص، فإنه خلال الشهر تكون مدة الشهر كاملة مستحقة لك أنت، ولا يجوز له أن يصرف هذا الاستحقاق والمنفعة لشخص آخر؛ فصار مختصاً بك، فيقال له: الأجير الخاص. وهناك نوع ثان: وهو الأجير العام والمشترك، مثل: الخياط الذي يخيط الثياب فهو ليس مختصاً بك، وإنما يقوم بعمل لك ولغيرك، ومثل: النجار والحداد ونحوهم ممن يقومون بإجارة العمل، ولذلك يقول العلماء: غالباً ما يكون الفرق بين الأجير الخاص والعام: أن الأجير الخاص ينصب العقد ويتعلق بالمدد، وأما الأجير العام فإنه يتعلق بالأعمال. فالأجير العام غالباً ما يكون في الأعمال مثل الحدادة والنجارة والمقاولات ونحوها، هذا أجير عام؛ لأنه يعمل لك ولغيرك، وبإمكانه أن يشتغل لثلاثة أشخاص في يوم واحد، بل ولربما لعشرين أو لثلاثين شخصاً، فهو لا يختص بشخص معين، إنما لك عليه أن يقوم لك بالعمل فقط، فهذا أجير مشترك، ولا يستوجب عليه أن يكون مفرغاً لك بعينك، أما الأجير الخاص فلابد أن يكون مختصاً بك. هناك فرق بين الاثنين في الضمان: فالأجير الخاص فيه شبهة من جهة كونه مختصاً بك والغالب في قيامه بالأعمال أن يكون وكيلاً عنك، وتعلمون -كما تقدم معنا في الوكالة- أن الوكيل أمين لا يضمن إلا إذا فرط، فيصبح فقه المسألة في الأجير الخاص: أنك إذا جئت بعامل أو خادم إلى البيت، فإن هذا الخادم أو العامل إذا عمل في البيت صار كالوكيل عنك في الأعمال التي طلبت، بخلاف الأجير المشترك، فإن الأجير المشترك ليس فيه هذا المعنى، وإن كان فيه خصوص التوكيل للعمل نفسه لكن فيه ضمان. ففرق طائفة من العلماء رحمهم الله في مسائل الضمان في الإجارة بين الأجير الخاص والأجير المشترك، فقال رحمه الله: (ولا يضمن أجير خاص ما جنت يده خطأ). مثل: الخدامة في البيت، لو أنها قامت بإصلاح مكان طلب منها إصلاحه، فقامت بعملها على الوجه المطلوب فانكسر الزجاج أو تهشم أو انكسر الباب، فإنها إذا قفلت الباب -مثلاً- بالقفل المعتاد، ولكن سقط الباب وعلمنا أنه سقط قدراً أكثر من سقوطه فعلاً، فنقول: لا تضمن. كما لو أنها مسحت فانكسر؛ لأنك وكلت، فهي في كونها مستحقة خلال المدة وأعمالها هذه منحبسة لك صارت كالوكيلة عنك؛ ولذلك لا تضمن، لكن هناك شروط لعدم ضمان العامل.

الأحوال التي ينتفي فيها ضمان الأجير الخاص لما جنت يداه

الأحوال التي ينتفي فيها ضمان الأجير الخاص لما جنت يداه لو جئت بعامل في مزرعة فقام على مكينتها لإدارة الماء، فأدار المكينة بالطريقة المعتادة المتبعة عند أهل الخبرة فانكسرت المكينة أو حدث بها عطل، نقول: كما لو أدرتها بنفسك فتعطلت؛ لأنه في هذه الحالة ليس هناك تأخير، فالعمل الذي قام به قام به بأمرك، فأنت الذي أمرته، فحينئذٍ كما لو أنك أنت الذي أدرته، فلو قلت له: أنت في المزرعة تقوم على مصالحها وتؤدي مصالحها. فقام بها على الوجه المعتبر، فكل عمل يقوم به على الوجه المعتبر كأنك قائم مكانه، فما يضمن إلا إذا تعدت يده أو فرطت، فإن تعدت يده أو فرطت خرج عن كونه وكيلاً لك إلى كونه متعدياً مفرطاً؛ فيضمن. إذاً: فقه المسألة في الأجير الخاص: إذا أقمته للقيام بعمل لمدة معينة في مزرعة أو دار أو غير ذلك، فإنه لا يضمن إلا إذا حصل منه التعدي أو التفريط. وعلى هذا: قال المصنف رحمه الله:

أن يكون عمل الأجير مأذونا له فيه

أن يكون عمل الأجير مأذوناً له فيه (ما جنت يده) يعني: ما وقع بسبب فعله، لكن بشرط: أن يكون مأذوناً له في هذا الفعل، فمثلاً: لو أن عاملاً قام بعمل في نخل، وقد قلت له: هذه النخلة لا تفعل فيها شيئاً، فجاء وفعل، فإنه يضمن؛ لأنه ليس عنده الإذن الذي يكون به وكيلاً يسقط عنه الضمان فتكون يده يد أمانة، فلما عصاك وتجاوز حينئذ نقول: يضمن. وعلى هذا نقول: لا يضمن إذا قام بما طلب منه، وكان قيامه على الوجه المعتبر الذي لا إفراط فيه ولا تعد، وعلى هذا يعتبر الأجير الخاص غير ضامن. وهذا قول جماهير العلماء، وهناك من خالف وقال بتضمين الأجير مطلقاً، وفيه أثر عن علي رضي الله عنه، حتى إنه أثر عن علي رضي الله عنه أنه ضمن الأجراء وقال: لا يصلح للناس إلا هذا. أي: كأنه يرى أن حقوق الناس لو قيل: إن الأجراء لا يضمنون؛ تلفت أموال الناس، لكن حين يقال: إن الأجير يضمن؛ فيكون هناك نوع من الصيانة. ولكن الأثر عنه مرسل، والصحيح عنه رضي الله عنه أنه لم يضمن الأجير الخاص، وعلى هذا: فإن العمل على أن الأجير الخاص لا يضمن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن) وهذا النص له مفهوم -سنبينه إن شاء الله- يدل على أن من قام بالأعمال على الوجه المعتبر، وكان ذلك بدون تفريط وبدون تقصير، فإنه لا يلزم بضمان ما وقع من يده؛ لأنه الأشبه فيه أنه قضاء وقدر، وإذا كان خاصاً ففيه شبهة الوكالة، ولذلك النظر الصحيح والأصل الصحيح من كونه وكيلاً -كما قررناه في كتاب الوكالة- يقتضي عدم تضمين أمثال هؤلاء.

أن ينتج الإتلاف عن خطأ لا عن تعد أو إهمال

أن ينتج الإتلاف عن خطأ لا عن تعدٍ أو إهمال وقوله: [ولا يضمن أجير خاص ما جنته يده خطأً]. (ما جنت يده خطأً) فهناك الخطأ وهناك التعمد وهو القصد للإتلاف والضرر، فإذا قلت: لا يضمن. يترتب أمران، وإذا قلت: يضمن. يترتب أمران أيضاً. إذا قلت: لا يضمن. أسقطت عنه المؤاخذة من المكلفين -هذا الأمر الأول- وأسقطت عنه المؤاخذة من رب العالمين، فالشخص الذي تقيمه للقيام بعمل معين في مزرعة أو أرض -وهو الأجير الخاص- ونصح لك واتقى الله فيما أمرته، وأدى ذلك الشيء الذي أمرته به على الوجه المعتبر؛ فإنه إذا وقع منه خطأ بدون قصد ولا تعد ولا تفريط؛ فليس من حقك أن توبخه أو تسبه أو تشتمه، فإن فعلت ذلك فقد ظلمته؛ لأنه غير ضامن أصلاً، وما من وجه شرعي يخولك الأذية والإضرار، فيصبح سبه وشتمه وقهره وأذيته وتوبيخه من الاستطالة في عرض المسلم واستباحتها بدون حق. وهذا أمر يفرط فيه كثير من الناس إلا من رحم الله، ونحب أن ننبه عليه إن كثيراً من أصحاب الأعمال بمجرد ما يقع الخطأ من عامله بدون تقصير يقوم بتوبيخة وسبه وشتمه، وهذا لا يجوز، وكل هذا السب والشتم إما حسنات تؤخذ منه أو سيئات -والعياذ بالله- يحملها على ظهره، فلا يجوز أن يستباح عرض العامل أو الأجير ما لم يفرط، فإن الله تعالى يقول: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148] وصاحب العمل غير مظلوم، فحينئذ ليس من حقه أن يظلم أخاه المسلم بالسوء، هذا بالنسبة للمخلوق، وأما بالنسبة لحكم الله عز وجل وشرعه فإنه لا يطالب بالضمان في الدنيا، ولا أيضاً تتعلق مسئولية الآخرة؛ لأنه إذا أدى ما وجب عليه خليت نفسه وبرئت ذمته من الإثم في الآخرة كما برئت ذمته من تبعة الدنيا لسقوط الضمان عنه. فقوله: (خطأً) خرج القصد كما ذكرنا، فلو جاء -مثلاً- بالزجاج ومسحه بطريقة عفوية فانكسر الزجاج، قلنا في هذه الحالة: لا يضمن. لكن لو جاء بالزجاج قاصداً وكسره، نقول: يضمن؛ لأنه في الحالة الأولى أخطأ، وفي الحالة الثانية تعمد. من مسائل الخطأ أيضاً: لو أنه حمل الزجاج فزلجت يده وسقط الزجاج وانكسر، أو تهشم بعضه، أو حصل منه ضرر على فراش أو نحوه، أو حمل مائعاً فانكب على فراش فأفسده أو أتلفه أو أضر به، وكان هذا الحال كله على سبيل الخطأ، إن زلجت يده ولم يتعاط أسباب التفريط، لكن لو كانت يده مبلولة وفيها لزوجة، أو غسل الزجاج بمادة لزجة، ثم جاء بعد لزوجته وأخذه، فهنا نوع من التساهل والتفريط له حكمه الخاص الذي سيأتي. إذاً: لابد من أن يكون ذلك من قبيل الخطأ، وألا يكون قصده الضرر، وثانياً: ألا يفرط؛ لأنه قد يخطئ وهو مفرط، الآن مثلاً: يأتي العامل وتقول له: إذا جاء المساء فعليك أن تقفل باب المزرعة. ولكنه ترك الباب مفتوحاً، فهذا تساهل وتقصير؛ فحينئذ نقول: إنه مقصر، فهو إما أن يتعدى وإما أن يقصر. وعكسها -عدم التعدي- الخطأ، وعدم التقصير إذا أدى العمل على وجه معتبر فجاء شيء وأتلفه قضاء وقدراً. إذاً على هذا: الأجير الخاص لا يمكن أن تحمله المسئولية إلا إذا تعدى أو قصر.

أمثلة في تعدي وتقصير الأجير في عمله

أمثلة في تعدي وتقصير الأجير في عمله ومعنى (يتعدى): يجاوز الحدود، كأن يأتي إلى شيء يحمل برفق فيحمله بعنف، أو يأتي إلى شيء يوضع برفق فيضعه بقوة، نحن نعلم في هذه الحالة لو أنه حمل كتباً ثم جاء ورماها بقوة، فتمزقت الكتب، فهذا تعد وإساءة، فنقول له حينئذ: تضمنها؛ لأن هذا من باب التعدي. فلو حملت المرضع أو الخادم الصبي ثم رمته بقوة، فنقول: إن هذا تعد واعتداء؛ لأن مثل هذا ما يوضع بقوة، وإنما يوضع برفق، فمسائل الضمان لا تنحصر من حيث الصور والأمثلة، وإنما نذكر نحن أمثلة على حسب اختلاف الإجارات، وإلا القاعدة فيها: ألا يوجد تعد وألا يوجد تقصير، فإذا وجد التعدي أو التقصير فقد فتح العامل والأجير على نفسه باب المسئولية، ويتحمل تبعة كل ما ينشأ على تعديه وكل ما ينشأ على تقصيره. (ما جنت يده خطأ) ما لم يتعد أيضاً؛ لأنه سيأتي إن شاء الله ذكره في الحجام والبيطار، وهذه الأمور -يعني: القول: إن الأجير لم يتعد ولم يقصر- تضبط بضوابط معينة، أي: أمر تصدره للأجير فإن مقتضى عقد الإجارة يلزمه بالتقيد بذلك الأمر، فلو طلبت منه أن يفتح شيئاً في حدود معينة ففتحه أكثر من ذلك الحد أو أقل وترتب على ذلك ضرر ضمن؛ لأنه في هذه الحالة قصر؛ فإن فعل ذلك وكان -والعياذ بالله- عن قصد ونية، أي: لو أنه فتحه أكثر مما يستحق عن قصد فترتب الضرر، فحينئذ -والعياذ بالله- يكون جناية وعدواناً، لكن إذا فتح الشيء وهو غافل ففتحه أكثر مما يستحق، أو أنقصه عما يستحق فحصل الضرر، فنقول: يضمن. هذا بالنسبة للتعدي في تنفيذ الأوامر، وقد يكون التعدي من جهة العرف، فقد لا تأمره بشيء، فتأتي بشخص يقوم بعمل وأنت لا تعرف هذا العمل، كالكهربائي والنجار والحداد، وما عندك أمر إلا أن تقول له: أصلح لي هذا الشيء. فحينئذ يتعدى إذا خرج عن ضوابط أهل الخبرة في عمله على هذا الشيء الذي يريد إصلاحه، فلو قال أهل الخبرة وأهل الصنعة: إنه يصلح بطريقة معينة، فمثلاً: يمر بمرحلتين، فأصلحه على مرحلة واحدة وتركه، فهذا تقصير، وعليه فلو جئت تشغل الجهاز ففسد فهنا يضمن؛ لأنه قصر في إصلاحه، صحيح أنك لم تخاطبه ولم تقل له: أصلحه على مرحلتين أو افعل فيه كذا وكذا؛ لأنك لا تعلم، لكن العرف يخاطبه وأصول الصنعة ومقتضيات المهنة تلزمه أن يتقيد بهذا العمل، فأنت حينما قلت له: أصلح. كأنك تقول له: أصلح رحمك الله بما جرى عليه العرف؛ ولذلك المسكوت عنه في العقود مردود إلى ما تعارف عليه الناس. وقد يكون التعدي من جهة -والعياذ بالله- قصد العدوان، فتعطيه أمراً أن يصلح شيئاً وهذا الشيء لا يمكن استصلاحه إلا بالرفق، فجاء بالعنف والقوة قاصداً إتلافه، فإنه يجب عليه ضمان ما ترتب على ذلك القصد السيئ من الضرر، فبعض العمال والأجراء -والعياذ بالله- يقدم على إتلاف الشيء في موقف معين أو عمل معين وهو يريد بذلك أن ينتقم، والله سبحانه وتعالى هو المطلع على الضمائر، و {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]. {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران:4] فالله لا تخفى عليه الخوافي، فإذا فعل هذا الفعل عن قصد وأذية فإنه يصبح في هذه الحالة بينه وبين الله مؤاخذ، وبينه وبين الله يجب عليه ضمان هذا الحق كاملاً، وعليه إخبار صاحب الحق عن حقه والتحلل منه، وإلا تحمل مسئوليته، فهو إن لم يضمن في الدنيا فسيضمن في الآخرة، وإذا لم يحلل نفسه في الدنيا فسيعجل الله له عقوبة في الدنيا قبل أن يلقاه في الآخرة. فلذلك من حيث التعدي قد يكون التعدي بالأوامر فيجاوز هذه الأوامر، أو قد يكون على ما يضبط بالعرف، فهناك أشياء تحفظ بدرجات معينة ونظام معين وترتيب معين، فيخرج العامل عن هذه الأصول فيضمن. كذلك هناك شيء من الضمان يدخل بسبب الجهل، فكل شخص ادعى صنعة وليس من أهلها، أو كان من أهلها ولكن جاءه عمل خارج أو مجاوز لحدود علمه، فإن أي شيء يترتب من الضرر على فعله يضمنه، وهذا سنقرره -إن شاء الله- في ضمان الأطباء، فمثلاً: لو أن رجلاً ادعى أنه يحسن الكهرباء، فجئت به من أجل إصلاح أجهزة، وهو لا يعرف إصلاحها، فأفسدها وأتلفها أو عطل بعض منافعها، فإنه يضمن تعدى أو لم يتعد، كل ذلك يوجب الضمان عليه، فالجهل موجب للضمان. كذلك لو كان من أهل هذه الصنعة -كصنعة الكهرباء- وهو يتقن قسماً ولا يتقن قسماً آخر، والقسم الذي لا يتقنه يجب عليه شرعاً أن يقول: لا أعلم هذا الشيء. أما إذا أقحم نفسه فيه فإنه يضمن. هذا من حيث الأصول العامة: أن الضمان للأجير الخاص إذا وكلته فإن يده يد أمانة، ولا يضمن إلا إذا تعدى أو قصر. وعلى هذا: فإنه يجب على المسلم أولاً ألا يحكم بكون الأجير الخاص ضامناً إلا إذا توفرت دواعي الضمان، ووجدت الأمارات والعلامات والشروط التي يجب توفرها للحكم بضمانه.

لا ضمان على الحجام إذا عرف حذقه

لا ضمان على الحجام إذا عرف حذقه وقوله: [ولا حجام]. الحجامة هي: إخراج للدم الفاسد من البدن بالمص، ولها مقامعها المعروفة وطريقتها المشهورة، وتكون متعلقة بالأوعية الدموية، وأما الفصد، فإنه يكون للعروق، وكلاهما ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرعيته، ودل الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام باعتباره، كما في الحجامة أنه احتجم وأمر بالحجامة (إذا اشتد الحر فاحتجموا، لا يتبيغ بكم الدم فيقتلكم) وكذلك أيضاً الفصد، ثبت عنه في الصحيح أنه أرسل إلى أبي بن كعب رضي الله عنه طبيباً، فقطع منه عرقاً ثم كواه عليه، وهذا يدل على مشروعية الفصد. فالحجامة صنعة لا ينبغي لأحد أن يقوم بها إلا إذا كان من أهلها، وهي تحتاج إلى معرفة بالطب، وليس كل من أخذ محاجماً فهو حجام، وقد تدخل على الإنسان ضرراً لا يعلمه إلا الله عز وجل! فهي سلاح ذو حدين، إذ أن هناك مواضع في الجسد لو حجمت أهلكت الإنسان، وهناك مواضع في البدن لو حجمت استقامت صحته، وهناك أوقات لا تحسن فيها الحجامة ولا تصلح، وهناك أوقات تصلح فيها الحجامة، فهي علم مستقل. وأطباء المسلمين المتقدمون ألفوا في الحجامة الكتب، فهي ليست صنعة لكل من هب ودب؛ لأنها تتعرض لأخطر الأشياء بعد الدين وهو الجسد؛ لأن أجساد الناس وأرواحهم متوقفة -بعد الله عز وجل- على الطب، ولذلك كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول في الطب: إنه ثلث العلم، وكان يقول: ضيعوا ثلث العلم. وكان يقول رحمه الله قولته المشهورة: لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبل من الطب. فالطب ليس بالسهل، فأرواح الناس وأجسادهم أمانة عند الحجام، فهناك مواضع لو حجمت أذهبت ذاكرة الإنسان، وأصبح -والعياذ بالله- كثير النسيان، وهناك مواضع لو حجمت لربما أصابته بالشلل والعياذ بالله، فهي خطيرة وليست بالسهلة. فإذاً: لا يجوز لأحد أن يتعاطى الحجامة إلا إذا كان عالماً بالمواضع التي تحجم وكيفية الحجامة، فلابد أولاً من العلم بالمواضع؛ لأنه قد يعرف كيف يحجم، ويعرف لون الدم الفاسد من الصالح، ويعرف زمان الإمكان بسحب المحاجم وتركها، وطريقة التشريط، وطريقة المص، قد يعرف هذا، لكن لا يعرف المواضع، وهذا أكثر ما يقع فيه الجهل، فقد تجد حجاماً يحسن الشرط ويحسن المص، لكن ما يحسن معرفة المواضع، ولذلك ينبغي أن يكون عالماً بهذه المهمة على الوجه المطلوب. ثانياً: إذا كان عالماً يجب عليه شرعاً أن يؤدي العمل وفق المتبع عند أهل الخبرة؛ لأنه قد يكون عالماً ولكن لا يحسن التطبيق، وقد يكون عالماً ولا يتم التطبيق؛ أي: أنه متساهل، فإذا كان جاهلاً بالصنعة ضمن، وإذا كان عالماً بالصنعة جاهلاً بتطبيقها ضمن، وإذا قام بالصنعة وكان عالماً بتطبيقها ولكنه لم يتم العمل على الوجه المتبع عند أهل الخبرة ضمن. إذاً: كلها مداخل للضمان؛ لكن إذا أدى الحجامة على الوجه المعتبر، وعرف الموضع الذي يحجم، وأتم الحجامة على الصورة والصفة المعتبرة، فلا ضمان عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في سنن أبي داود وغيره في الحديث الصحيح أنه قال: (من تطبب ولم يعرف منه طب فهو ضامن) (من تطبب): تفعل، أي: تكلف، مثل: تحلم وتصبر إذا لم يكن من أهل الحلم لكنه تكلف الحلم، وكذلك أيضاً تصبر، هذه الصيغة تدل على أنه تكلف الطب وليس من أهل الطب. وقوله عليه الصلاة والسلام: (من تطبب) عام، ولذلك قرر الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله برحمته الواسعة في كتابه النفيس العظيم (الطب النبوي) وهو منتزع من (زاد المعاد في هدي خير العباد) قرر أن قوله: (من تطبب) عام، وأن الطب بجميع فروعه يدخل تحت قوله: (من تطبب)، وأنه من جوامع كلمه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فكل من يقوم بأي مهمة طبية لا يعرفها، أو يعرفها ولكن ليس تمام المعرفة المعتبرة التي تؤهله بشهادة أهل الخبرة للقيام بذلك الشيء الذي قام به فإنه متطبب. فقال: يمكن أن يكون المتطبب حجاماً. لأنه إذا تعاطى ذلك فإنه قد دخل في الطب، صحيح أن الطب عام، ولكن من الطب الحجامة؛ ولذلك يعتبر متطبباً إذا تعاطى الحجامة ولا يعرفها، وكذلك أيضاً الفصاد، قال: إذا تعاطى الفصد ولا يعرفه فقد تطبب، وكذلك الجراح إذا تعاطى الجراحة وهو لا يعرفها فقد تطبب. وهكذا بقية الأطباء، حتى علم الأعشاب، لو قال -مثلاً-: خذ العشب الفلاني، أو ضع العشب الفلاني، أو افعل بالعشب الفلاني، أو العشبة الفلانية علاج لكذا ودواء لكذا. فإنه تطبب إذا لم يكن على بينة وعلم. إذاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (من تطبب) يدل على تضمين الحجام؛ لأن الحجامة من الطب، وعلاج يتادوى به، ومن مجالات الطب، فيدخل في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (من تطبب). لا ضمان على الحجام إذا حجم بالصفة والطريقة المعتبرة. ويشترط في الحجام ما يأتي: أولاً: أن يكون عالماً بالحجامة. وثانياً: أن يشهد له أهل الخبرة أنه أهل للقيام بهذا. وثالثاً: أن يؤدي هذه الحجامة بالطريقة المتبعة عند أهل الخبرة. فلو أنه كان عالماً، وكان مستطيعاً للتطبيق، وطبق ما علم في حدود أهل الخبرة، ولكنه قام بالعمل بدون إذن صاحبه، فجاء إلى شخص وحجمه بدون إذنه، فهذا يضمن؛ لأن الإذن هو الذي فيه التوكيل الذي يسقط الضمان، فأصبح هناك أربعة شروط لابد من توفرها: العلم بالحجامة، والقدرة على تطبيق ذلك العلم على الوجه الصحيح، وأن يقوم بالمهمة وفق الأصول المتبعة عند أهل العلم بالحجامة، وأن يأذن الشخص المريض أو وليه بفعل الحجامة، وهذا الشروط الأربعة على التفصيل الآتي: قلنا: أن يكون عالماً. فإذا كان جاهلاً ليس من حقه شرعاً أن يعرض أرواح المسلمين وأجسادهم للتلف، فيضمن. ثانياً: أن يكون قادراً على التطبيق. الآن ربما تقرأ كتاباً في الحجامة وتتصور الحجامة، وربما تقرأ كتاباً في الجراحة الطبية وتتصورها، لكن لو وقفت أمام الدماء والعروق والأشلاء والقطع لما أحسنت التصرف؛ لأن التطبيق شيء والعلم شيء آخر، ولذلك لابد مع العلم من القدرة على التطبيق، وأن يكون هذا التطبيق الذي طبقه موافقاً للأصول المتبعة عند أهل الخبرة؛ ولذلك نستطيع أن نضمِّن أعرف الناس بالطب إذا خرج عن السبيل المتبع عند أهل الخبرة، فعلمه وقدرته على التطبيق محكومة بالضوابط والأصول المتبعة عند أهل الخبرة، فإذا خرج عنها صار متحملاً للمسئولية، وخارجاً عن السنن الذي جعله الله علاجاً ودواءً للأجساد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تداووا عباد الله؛ فإن الله لم يجعل داءً إلا وجعل له شفاء ودواء) فقال: (جعل له شفاء ودواء) فهذا الجعل نعرفه عن طريق أهل الخبرة والمعرفة، فلما جاء وخرج عن حدود أهل الخبرة وتطبيقاتهم فقد خرج عن السنن الذي جعله الله سبحانه وتعالى علاجاً، فصار مخاطرة ومجازفة واجتهاداً يتحمل مسئوليته وتبعته. مثال: لو أن المريض يحجم في نقرة الرأس، فجاء وقال: أنا أفضل أن تكون في النقرة اليمنى ولا تكون في الوسط. فانحرف يميناً أو شمالاً، أولاً: هو يعرف كيف يحجم، أي: عنده علم، ثانياً: عنده قدرة على التطبيق، ثالثاً: لم يطبق وفق أصول أهل الخبرة؛ لأن أصول الخبرة تستلزم أن يضع في هذا الموضع. من أمثلتها أيضاً: أن يحدد الموضع ويحدد المكان للحجامة، فيقوم بالحجامة، ولكن المتبع عند أهل الخبرة أنه يعالج الجرح بعد انتهاء الحجامة وينظفه قبل الحجامة؛ لأنه إذا جاء يجرح ينبغي أن يكون قد قام بتنظيف مكان الجرح، فإذا لم يحتط وعاجل بجرحه قبل تنظيف المكان فتسمم المكان، أو حدث ضرر بسبب هذا التفريط والخروج عن الأصل المتبع عند أهل الخبرة، وهو أنه لا يمكن أن يقوم بحجم موضع إلا بعد تنظيفه وتهيئته للحجامة، فنقول: هذا خروج؛ مع أنه عالم وقادر على التطبيق، وعنده معرفة، ولكن خرج عن السنن المتبع عند أهل الخبرة، وهذه ضوابط مهمة. الأمر الرابع: أن يوجد الإذن، فإذا وجد الإذن وأذنت له أن يحجم لي فإنني في هذه الحالة وكلته لعلاج نفسي، فكأني أنا الذي أعالج نفسي؛ ولأني إذا أذنت تحملت مسئولية الآلام، ورضيت بالضرر المترتب على وجود الألم والمشقة المترتبة عليه، فإذا لم آذن لم أرض لنفسي هذا الضرر، فعند إقدامه عليه بدون وجود إذن يضمن. إذاً: لو كان المريض مغمى عليه، أو كان صبياً صغيراً لا يحسن النظر في مصلحة نفسه، يقوم وليه مقامه، فللولي أن يقوم مقامه ويأذن، فإذا جاء وليه وقال له: احجم هذا الصبي. وكان أبوه أو عمه وهو قائم على أمره حينئذ يعتبر إذناً موجباً لسقوط الضمان.

مسائل في عدم ضمان الطبيب

مسائل في عدم ضمان الطبيب وقوله: [وطبيب وبيطار]. أي: ولا ضمان على الطبيب، والطب هو حفظ الصحة الموجودة واسترداد الزائلة بإذن الله عز وجل، والطب نوعان: طب وقاية، وطب علاج ودواء. فالطبيب لا يخرج عن هذين الأمرين: إما أنه يحرص على بقاء الصحة كما هي -وهذا ما يسمى بالطب الوقائي- وإما أن يسترد شيئاً زال -بقدرة الله عز وجل- بسبب المرض، وفي الجسم ثلاث خصائص: السوداء، والصفراء، والبلغم. فإذا اعتدلت واستوت فالجسم في صحة وعافية بقدرة الله عز وجل، ولا يصيبه مرض إلا إذا خرج أو إذا زاد أو طغى أو بغى واحد من هذه الثلاثة. فهذا الطب يقوم على الجانبين، والأطباء من حيث هم ينقسمون إلى أقسام: فهناك علاج بالدواء، وهناك علاج بالجراحة، والعلاج بالدواء -أيضاً- على فروع وأقسام، منه ما يتعلق بالأعضاء، ومنه ما يتعلق بالنفس والروح، فالطب النفسي شيء والطب الجسدي شيء آخر، وكلها مجالات في الطب، فإذا قال: (ولا طبيب) يشمل جميع هذه الأقسام. ثم إذا قلنا بالطب فهناك أشخاص ينزلون منزلة الطبيب وهم مساعدو الأطباء كالممرضين والمحللين والمصورين بالأشعة. ونحوهم ممن يستعان بهم -بعد الله عز وجل- في القيام بالمهمات الطبية، فهؤلاء كلهم لهم علوم ولهم ضوابط ولهم أصول معروفة عند أهل الخبرة والاختصاص، فالطبيب لا يضمن بشرط أن يكون عالماً بالطب، بمعنى: أن يكون قد شهد له أهل الخبرة أنه أهل للقيام بالعمل الطبي، عنده معلومات تؤهله للقيام بالمهمات الطبية، عالماً، قادراً على التطبيق كما ذكرنا، ثالثاً: أن يطبق وفق الأصول المتبعة عند أهل الخبرة، فإذا وجدت هذه الشروط في شخصه انضاف إليها في المريض وجود إذن من المريض بالمداواة، فأصبحت أربعة شروط. لكن الشرط الأخير في الإذن بالمداواة تستثنى منه الحالات الطارئة، فالأطباء في الحالات الطارئة لهم الحق أن يعالجوا، ولهم الحق أن يداووا إذا لم يوجد من يأذن لهم بشرط وجود الإذن العام، مثل ما يوجد مثلاً في المستشفيات من اللجان الطبية التي تأتيها الحوادث العاجلة، مثلاً: حينما يأتينا المريض مغمى عليه، قد لا نعرف عنوان أوليائه، ولو غرمنا عنوانه واتصلنا بأوليائه فقد لا يحضرون إلا بعد وفاته، فتكون حالة لابد أن تجرى العملية لها، فهذا نقول: فيه إذن عام. وهذا ذكره بعض العلماء رحمهم الله، ويعتبر إذن ولي الأمر العام إذناً للأطباء، ما دام عند الأطباء إذن عام من الولي العام بمعالجة مثل هذه الحالات الطارئة فيستلجأ إلى الإذن العام؛ لأن السلطان ولي من لا ولي له، والحالات الطارئة يفتقد فيها من يلي حفظ النظر، فولي الأمر له الحق أن يفوض لهذه الجهات أن تعالج الحالات الطارئة ولو لم يوجد الولي، ولم يوجد إذن من المريض نفسه. ولذلك القاضي ومن في حكمه ممن له ولاية عامة ينظر لمصالح الناس وإن كانوا غير موجودين؛ لأنه ما جعل ولياً لأمر الناس إلا من أجل مصالحهم، فهذا يسمى بالإذن العام. هذه أربعة شروط لابد من توفرها: أن يكون الطبيب عالماً، فإذا كان الطبيب جاهلاً ضمن؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من تطبب ولم يعرف منه طب فهو ضامن).

وسيلة معرفة حذق الطبيب في مهنته

وسيلة معرفة حذق الطبيب في مهنته وهنا Q متى نحكم للطبيب بأنه عالم بالطب؟ هذا يفتقر إلى جهات لها حق أن تأذن للطبيب وتشهد له أنه أهل للطب، وفي زماننا الشهادة الطبية بمزاولة المهنة الطبية من الجهات المعتبرة تعتبر دليلاً على علمه، موجبة لسقوط الدعوى عليه أنه جاهل، بمعنى: لو جاء شخص وقال: هذا لا يعرف الطب. وعند الطبيب شهادة من جهة معترفة معتبرة، نقول: أبداً، قول المريض: إن الطبيب لا يحسن، ساقط؛ لأن أهل الخبرة شهدوا له أنه طبيب، وأذنوا له بمزاولته لمهنة الطب. وكما ذكره الإمام ابن قدامة وغيره من الأئمة كـ الماوردي والإمام النووي -رحمة الله على الجميع- كلهم قرروا أنه لابد من وجود معرفة وعلم، وفصل بعض العلماء وقال: بشهادة أهل الخبرة. والمصنف هنا -الإمام ابن قدامة رحمه الله- يقول: (إن عرف حذقهم) فيدل على أنه قد اختبر، ولذلك الجهات المتخصصة في الطب لا تعطي هذه الشهادة إلا بعد اختباره في العلم النظري والعلم التطبيقي، فنحن نعتبر هذه الشهادة موجبة لزوال التبعة والمسئولية في قوله: (من تطبب). هذا إذا شهد له أهل الخبرة. في بعض الأحيان قد تثبت خبرة الإنسان وحذقه بالتجربة، وهذا أمر ذكره العلماء رحمهم الله في أحوال مستثناة، وهذا في القديم، ومثل ما يقع في الطب الذي يزاول. مثلاً: رجل نشأ في بيت معروف بالطب، وأخذ عن والده هذا الطب، وعرفنا أنه في أغلب علاجه لأهل القرية وأهل المدينة أنه يصيب، وجاءت حالة معينة وأخطأ، فنقول: هذا رجل معروف بالحذق، فننزل المعروف عنه عرفاً منزلة شهادة تزكي علمه، ما لم يكن هناك شيء معين يدل على أنه تعدى أو أنه تجاوز فهذا أمر آخر يستثنى، لكن نحن نقول: يحكم للطبيب بجواز أن يزاول ذلك العمل عند شهادة أهل الخبرة بثبوت كونه عالماً بهذه المهنة الطبية. ثالثاً: التطبيق: أن يكون قادراً على التطبيق، وقلنا: هذا يعرف بالتجربة، أن يطبق وفق الأصول المتبعة عند أهل الخبرة، وهذا يحتاج إلى شهادة أهل الخبرة، وبناء على ذلك: تتفرع المسألة: أن كل دعوى ضد طبيب أنه أخطأ ينبغي الرجوع فيها إلى الأطباء المتخصصين في هذا المجال، فلو أنه عالج عيناً أو أذناً أو قلباً وادعى المريض أنه أخطأ، وأنه تجاوز الأصول المتبعة عند أهل الخبرة، فنقول: يسأل أهل الخبرة بهذا المجال الذي هو فيه، فإن قال أطباء العين أو أطباء القلب أو أطباء النظر أنه أخطأ، أو أنه تجاوز الأصول المتبعة عند أهل المهنة ضمن، وإن قالوا: إنه عمل ما لزم، وأدى عمله وفق الأصول المتبعة عند أهل الخبرة سقط عنه الضمان، وما نوجب الضمان عليه، فالطبيب إذاً لابد من توفر هذه الشروط كلها فيه حتى يسقط عنه الضمان، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (من تطبب ولم يعرف منه الطب ... ) فلما قال: (يعرف) دل على أن من عرف منه الطب بالتجربة وشهادة أهل الخبرة أنه لا يدخل في الصنف المذكور في الحديث؛ لأن الحديث فيه منطوق وفيه مفهوم، فمنطوقه: وجود الضمان على الطبيب الجاهل، ومفهومه: لا ضمان على الطبيب العالم الذي عرف منه إحسانه وإتقانه للطب. وقوله: [وبيطار]. وهو الذي يداوي ويعالج الحيوان.

أمثلة في تعدي الطبيب أو تقصيره

أمثلة في تعدي الطبيب أو تقصيره وقوله: [لم تجن أيديهم]. بمعنى: أنها لم تتعد، مثلاً: في الجراحة لو كان يقطع عضواً تالفاً من المفصل، فزاد عن المفصل، فحينئذ يضمن هذه الزيادة، ولو قال: قصدت أن أؤذيه. صارت جناية، وفيها القصاص إن أمكن القصاص، ولذلك فإن ضمان الطبيب إما أن يوجب القصاص إذا كانت متعمداً، كأن يسقيه دواء يعلم أنه يقتله واعترف أنه يريد قتله، فيجب عليه القصاص، وهذا بالإجماع؛ لأنه خرج عن كونه طبيباً إلى كونه قاتلاً وقاصداً القتل. الأمر الثاني: في بعض الأحيان لو لم يقر، وجاءت الدلائل الواضحة، يقول -مثلاً-: وضعت له جرعة في حدود سبعين غراماً -مثلاً-، والسبعون غراماً عرف في علمه وطبه أنها قاتلة، وقيل له: وضعت له سبعين؟ قال: نعم. وتعلم أنها قاتلة؟ قال: نعم. نقول في هذه الحالة: كونك تعترف بالقتل أو لا تعترف لا يهمنا؛ لأنك تعلم أنه إذا سقي هذه الجرعة فسيموت، فإذا كانت الجرعة في الغالب تقتل، فعندها يصبح قاتلاً متعمداً سواء أفضت إلى الموت أو لم تفض، هذا بالنسبة للضمان في الجناية (ما لم تجن أيديهم)، فإذا جنت يده -يعني: قصد القتل- أوجب القصاص، الذي هو القود كما تكلمنا. ثانياً: قد يسقط عنه القصاص إذا لم يقصد قتله وتعاطى الطب عن جهل ولكن أخطأ، وحصل الضرر، نقول له: تضمن، ويكون الضمان، إذا أتلف يد المريض فيها نصف الدية، نقول له: تدفع نصف الدية. لكن لو أنه دفع نصف الدية هل ينتهي كل شيء؟ لا، الطبيب الجاهل لا يجوز تركه، بل يعاقب، ونص الأئمة والعلماء على أنه يجلد ويشهر به إذا كان التشهير يردع غيره؛ لأن هذا أمر يتعلق بأرواح الناس وأجسادهم، والأمر ليس بالسهل، فيجلد ويشهر به، ويعزر على قدر الجناية وعلى قدر العلم الذي ادعى معرفته. فادعاء معرفة العلوم الطبية التي تؤدي إلى الخطر، مثل العقاقير السامة، والعمليات الخطرة، ليس كادعاء العمليات البسيطة والعلاج بالأشياء البسيطة، كل شيء له تعزيره الذي يناسبه، وهذا يرجع إلى القاضي وسيأتينا في باب التعزير. فقوله: (لم تجن أيديهم) فتجني يده بالقص والعدوان -والعياذ بالله- وهذا يوجب القصاص، وتجني يده بالمجاوزة للحدود المعتبرة عند أهل الخبرة، فيأتي إلى شيء يجهله خارج عن تخصصه، فمثلاً: لو أن طبيباً متخصص في الأذن جاء لعلاج عين فهذه جناية؛ لأن العين ليست من تخصصه، صحيح أن الأطباء يلمون بالمعلومات العامة في الطب، وكل طبيب لابد أن تكون عنده معلومات عامة ثم يتخصص، لكن نحن نتكلم إذا انتقل من العين إلى الأذن؛ لأن هذا فيه تخصص، فعلاج الأذن لا يمارسه إلا من تخصصه، لكن هناك عند الأطباء ضوابط معينة يحتكم إليها ويرجع إليها، وهي المواد والقوانين التي وضعت بالتجربة والاستقراء ووضعها أهل الخبرة والمعرفة، إذا خرج الطبيب عن تخصصه إلى تخصص ليس له، وتعاطى أو عمل أو زاول شيئاً يجب عليه فيه الرجوع إلى المتخصص وإحالة المريض إليه يضمن. لكن هناك أحوال طارئة، وهناك أحوال مستثناة لها أحكامها وضوابطها المعروفة في عرف الطب يرجع إليها. الشاهد: أننا نضمن الطبيب إذا جنى بالجهل، وإذا تجاوز حدود معلوماته أو تكلف شيئاً، أو فعل شيئاً لا ينبغي فعله، أو قصر في حفظ صحة المريض فتلفت صحة المريض. مثلاً: الآن عندنا أدوية معينة توضع بترتيب معين عند الأطباء، فعالج المريض وقصر في هذا الترتيب، أو لم يخبر المريض بطريقة استعمال الدواء، أو أعطاه الجرعات على مواعيد متباينة، كل هذا جناية، لكنها مبنية على التقصير وليست على التعدي والقصد. وقوله: [إن عرف حذقهم]. حذق الشيء إتقانه وكونه ماهراً فيه، وقال رحمه الله: (إن عرف حذقهم)؛ لخطورة الأجساد والأرواح، فلا ينبغي لكل طبيب أن يتولى الطب، بل ينبغي أن يكون حاذقاً، وهذه أمانة ومسئولية؛ ولذلك لا يجوز في المستشفيات الأهلية أو نحوها أن تضع طبيباً إلا إذا كان على درجة من الحذق، خاصة إذا كان يتعامل مع كثير من الناس، فينبغي على صاحب المستشفى أو نحوه أن ينصح لله ولعامة المسلمين، فلا يأتي بكل طبيب، والله سائله ومحاسبه إذا وقف بين يديه إن فرط في اختيار الأطباء لعلاج الناس؛ فلا يختار للناس إلا من يرضاه لنفسه ويأمنه على نفسه، فكما يأمنه على نفسه يأمنه على أنفس المسلمين وعلى أرواحهم، ولا يذهب ليأخذ طبيباً لا يعرف منه حذق، ويأتي ويضعه في موضع يعلم أن كثيراً من الناس سوف يراجعونه ويحتاجون إليه، فينبغي في هذه الحالة أن يعرف حذق الطبيب وإتقانه؛ نصيحة للأمة، ودفعاً للضرر المترتب على غير الحاذق.

مسألة في تعدي الراعي

مسألة في تعدي الراعي قال رحمه الله: [ولا راع لم يتعد]. الراعي الذي يرعى الغنم أو البهم له ضوابط: أولاً: لا ينبغي أن يتعدى في رعايته للغنم، وهو يعتبر أجيراً خاصاً لا يضمن إلا إذا فرط، والتفريط: أن يرعى الغنم في أرض مسفعة، فهذه الأرض المسفعة إذا أدخل الغنم فيها وهو يعلم أنها مسفعة ضمن، لكن لو أمره صاحب الغنم وقال له: ارعها هنا، وقم بالرعي في هذا الموضع. فإنه لا يضمن؛ لأن الضمان يسقط عن الراعي بالإذن. كذلك أيضاً يتحمل الراعي الضمان إذا قصر، مثل: تقصير في سقي الغنم، وحفظ الأغنام المريضة، أو قصر في إرضاع صغير الغنم وصغير البهم، فكل ذلك يوجب الضمان، فيتقيد الراعي بالأصول المتبعة في إجارة الرعي، فإذا قصر في هذه الأصول وتساهل فيها حتى حصل الضرر ضمن، وإذا تجاوز الحدود التي حددت له وحصل الضرر ضمن، فهو إما أن يتعدى وإما أن يقصر؛ لأن أغلب مسائل الضمان تدور على هذين الأصلين: التعدي والتقصير، فقال رحمه الله: (ولا راع) أي: لا يضمن الراعي، ويقال: إن جماهير السلف والخلف قالوا بعدم تضمين الراعي، وقال الشافعي: لا أعرف أحداً ضمنه. يعني: لا يعرف أحداً ضمن الراعي، فالراعي أجير خاص؛ لأنك وكلته بالرعاية فيكون أجيراً خاصاً، لا يعرف تضمينه، وعلى هذا فإن يده تعتبر يد أمانة ما لم تتعد أو تفرط كما قررناه فيمن قبله.

باب الإجارة [11]

شرح زاد المستقنع - باب الإجارة [11] من مسائل الإجارة مسائل تتعلق بالأجير المشترك، كالغسال والخياط والنجار الذين يستأجرهم الناس في أعمالهم، وقد بين الفقهاء رحمهم الله تعالى أحكام الضمان المتعلقة بهم، وفرقوا بين ما يتلفه الأجير بيده وما يتلف عنده بغير عمله، وهذه المادة تشتمل على بيان ذلك.

ضمان الأجير المشترك

ضمان الأجير المشترك بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [ويضمن الأجير المشترك ما تلف بفعله] تقدم معنا أن من المسائل المتعلقة بالإجارة مسائل الضمان، ومسائل الضمان مما تعم بها البلوى لما يترتب عليها من الحقوق، سواءٌ كانت حقوقاً راجعة إلى المستأجر أم إلى الأجير، وبينّا ما يتعلق بتضمين الأجير الخاص. وهناك نوع ثانٍ من الضمان يتعلق بالأجير الذي يشترك فيه الناس، وهذا الأجير الذي يشترك فيه الناس تقوم إجارته على الأعمال. ولذلك يشترك فيه أكثر من شخص كما في الغسّال، وكذلك الحدّاد والنّجار، ونحوهم من أصحاب الحِرف الذين يقومون بالأعمال للناس، فهم ليسوا أُجراء لشخص معين كالأجير الخاص، فالخادم في المنزل والراعي وحارس المزرعة هذا أجير خاص، وقد بينّا أحكامه وما يتعلق بتضمينه. لكن بالنسبة لمن يكون مشتركاً بين الناس؛ فيضع الناس عنده ثيابهم من أجل أن يغسلها كالغسّال، أو يضع الناس عنده أقمشتهم من أجل أن يخيطها كالخياط، فمثل هذا الأجير يضمن ما تلف عنده، فيضمن الأجير المشترك من حيث الأصل ما كان للناس، ولكن على تفصيل عند أهل العلم رحمهم الله تعالى بين ما فيه تعدٍّ أو تفريط، وبين ما لا تفريط فيه ولا تعدٍّ.

ضمان الأجير المشترك بتعديه مطلقا وبتقصيره

ضمان الأجير المشترك بتعديه مطلقاً وبتقصيره هذا الأجير المشترك تارة يكون إتلافه مع حضور مستأجره وتارة يتلف الشيء مع غيبة مستأجره، فتختلف أحواله؛ ولذلك شرع المصنف -رحمه الله- في بيان مسائله فقال: [ويضمن المشترك ما تلف بفعله]. فخالف الأجيرُ المشترَكُ الذي اشترك فيه الناس الأجير الخاص في الضمان، فالأجير الخاص لا يضمن، والأجير المشترك يضمن، وبناءً على ذلك لو أعطيت غسالاً ثوباً، فلو أنه أراد أن يغسله فأتلفه أثناء الغسيل، أو أتلف جُزءاً منه، أو أعطيت خياطاً قطعة من القماش على أن يخيطها لك ثوباً، فلم يحسن خياطتها، ولم يحسن ضبطها فإنه يضمن، ويلزمه رد مثل ذلك الشيء الذي أتلفه. ولو أعطيت الغسّال ثوباً فغير لونه بالأصباغ، أو وضع عليه مواد أحرقته، أو أحرقت جزءاً منه، أو بقيت فيه علامات هذه المواد، أو أراد أن يكويه فأحرقه فتلف الثوب لزمه أن يضمن مثل الثوب. وهكذا الخياط، لو أنك أمرته أن يخيط الثوب، ثم أثناء الخياطة أتلف الثوب، أو لم يحسن خياطته، أو خاطه على غير الوجه الذي أمرته به، فإنه يضمن.

عدم ضمانه في غير التعدي أو التقصير

عدم ضمانه في غير التعدي أو التقصير قال: [ولا يضمن ما تلف من حرزه أو بغير فعله ولا أجرة له]: هناك فرق في ما تلف عند الأجير المشترك بين ما يقع بفعله وبين ما يقع بغير فعله. أما ما وقع بفعله فيضمنه، كما إذا وقع ذلك أثناء كي الثياب بأن أحرق الثوب، وأثناء خياطة الثياب بأن لم يحسن التفصيل. وهكذا إذا طلبت من حداد أو نجار أن يصنع لك باباً أو نافذة، ومن يهندس السيارات كما في زماننا، فهذه الورشات التي تتقبل من الناس عموماً تأخذ حكم الأجير المشترك. وبناءً على ذلك لو أعطيته السيارة ليعمل فيما يتعلق بالكهرباء، أو يتعلق بجرم السيارة، أو يتعلق بلون السيارة ليصبغها، أو يحسن سمكرتها، أو نحو ذلك، فأتلف شيئاً أثناء قيامه بهذا العمل، فإنه ضامن ويلزمه الضمان. فما كان بفعله فإنه يضمن، كمن جاء يصبغها فأخطأ في اللون فإنه يضمن، ولو جاء يصلحها بسمكرة أو نحوها فأخطأ، أو جاء يصلح جهازها من كابح للسيارة أو نحو ذلك فأخطأ، فإنه يضمن جميع ما أتت عليه يده من الأخطاء، فيضمن ما جنت يده وما وقع بفعله وإن كان في الحقيقة يريد الإصلاح، إلا أنه حين أخطأ يتحمل المسئولية، ويتحمل ضمان ما أتلفت يداه. لكن لو أنك وضعت عنده السيارة، ثم سرقت السيارة وكان قد حافظ عليها محافظة تامة، فكسر قفله وأخرجت السيارة ثم سرقت، ففي هذه الحالة يكون قد وضع الشيء في حرزه وتعاطى أسباب الحفظ ولم يقصر، فإذا تعاطى أسباب الحفظ كان أميناً، والأمين لا يضمن. لكن إذا أتلف شيئاً بفعله فإنه يتحمل مسئولية الإتلاف؛ لأنه من جناية يده، فهناك فرق بين هذه الحالة وبين أن تتلف السيارة، أو يتلف الثوب أو يتلف الحديد أو الخشب المأمور بصنعه بسبب غير جنايته أو تفريطه. فلو أنه سرق من محله وكان قد أقفله وأوثقه وأحسن حرزه وأتقن ذلك ولم يقصر في شيء من ذلك، فإنه لا يضمن؛ لأنه في هذه الحالة كالأمين؛ لأنك وضعت السيارة عنده وديعة والوديعة في حكم الأمانة كما سيأتي إن شاء الله. وإذا كان في حكم الأمين فإنه إذا لم يقصر في حفظ السيارة فسرقت فإنه لا يضمن، ولو أنه عمل في السيارة واشتغل فيها فأدى عَمَله ولكن جنت يده أثناء القيام بالإصلاح فإنه يضمن؛ لأنه من كسب يده ومن فعله، فإذا جاء يشتغل في السيارة أو في القماش أو في الحديد أو في الزجاج، ففي هذه الحالة يتحمل مسئولية عمله وما يترتب على عمله. وأما إذا كان التلف والضرر قد جاء بسبب سرقة، أو أخذٍ من السيارة فلم تسرق كلها وإنما سرق بعضها بعد تعاطي الأسباب نقول حينئذٍ: تنتقل المسألة إلى مسألة الوديعة؛ فالسيارة في داخل ورشته، والحديد في داخل ورشته، والخشب في داخل ورشته أمانة، فإذا جاء وقت العمل، فإنه يضمن ما أثر فيها بعمله. وأما إذا غاب عنها، فإنه إن قصر يضمن، وإن غاب ولم يقصر فأقفل بابه، وتعاطى جميع أسباب الحفظ فسرقت فلا شيء عليه؛ لأنه أمين وقد تعاطى أسباب الحفظ، فوضع السيارة في حرز مثلها، وأغلق عليها الباب، وتعاطى جميع أسباب الحفظ المهيئة عرفاً لحفظ مثل هذه السيارة، فلا يضمن. لكن لو أنه قصر؛ مثل أن يترك أبواب محله مفتوحة، فسرق من السيارة شيء أثناء عمله، سواءٌ أكان موجوداً أم غير موجود فإنه يضمن؛ لأنه فرط في الحفظ، والأمين إذا فرط في حفظ أمانته يضمن. وبناءً على ذلك نقول: يأتي الضمان من جهة الإخلال أو يأتي الضمان من جهة التعدي المقصود أو غير المقصود. وعلى هذا فإنه يقال: في الأجير المشترك التفصيل، فما كان من الضرر مترتباً على فعله ضمن، وهذا مأثور عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وشريح القاضي، وهو من أئمة التابعين، وكان قاضياً لأربعة من الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، كلهم ولي لهم القضاء رحمه الله برحمته الواسعة. فكان يضمن الأجراء المشتركين، وكان علي رضي الله عنه يقول: لا يصلح للناس إلا هذا، يعني أن يحفظوا أموال الناس ويقوموا عليها، وهذا الأثر تقدم الكلام على سنده، لكن على القول باعتباره والعمل به، فإنه محمول على الأجير المشترك لا على الأجير الخاص. ففي هذه الحالة رتبنا المسألة فقلنا: كل أجير مشترك يكون مسئولاً من حيث الأصل عن ودائع الناس، ويترتب على هذا أننا نضمنه فيكون مسئولاً عن أموال الناس التي عنده، فنضمنه إذا كان الضرر بفعل يده، قصد أو لم يقصد، ولا نضمنه إذا حفظ الشيء في مكانه ثم سرق أو أخذ كله أو بعضه، ونضمنه في مسألة الحفظ إذا قصّر في الحفظ. فإذاً: عندنا تضمينه في حالة تعديه قاصداً، وفي حالة تعديه مخطئاً، وفي حالة التساهل في حفظ أمتعة الناس وحقوقهم.

تحديد موعد للتسليم هل يرفع المسئولية عن الأجير بعد المدة

تحديد موعد للتسليم هل يرفع المسئولية عن الأجير بعد المدة ومما يتفرع عن هذا المسألة الموجودة الآن أن بعض الغسالين يقول لك: هذا الثوب أغسله لك وأنا مسئول عنه في حدود أسبوع، فإذا لم تأتِ بعد أسبوع فلستُ بمسئول عنه، فشرطه هذا شرط باطل ولا عبرة به، ولو حضرت بعد عشر سنوات فثوبك أمانة عنده شاء أم أبى؛ لأن قوله: لست مسئولاً عنه بعد أسبوع معناه أنه قد أخلى يده كلية عن الثوب، والثوب أمانة عنده، لا تزول يده عن الأمانة إلا بالتسليم. ولو قال قائل: إنه قد اشترط والمسلمون على شروطهم! قلنا له: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط؛ لأن الذي في كتاب الله أن أخاك المسلم قد استودعك هذا، فهب أنه جاءه ظرف فعطله عن أن يأتيك خلال أسبوع، أفتسقط حقوق الناس وتضيع أموالهم بمثل هذه الشروط؟ فإذاً وجود الشرط وعدمه على حد سواء؛ لأنه شرط ليس في كتاب الله، فالعبرة بالشروط إذا كانت موافقة للشرع لا مضادة له موجبةً لضياع أموال الناس، وقد حرم الله عز وجل إضاعة المال. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) وهذا من إضاعة أموال الناس، ولذلك لا يعتبر هذا الشرط ملزماً ولا يترتب عليه تبعية، فنحن نقول: إن الغسَّال من حيث الأصل مطالب بأن يبذل ما في وسعه لغسل الثوب، والخياط مطالب بأن يبذل ما في وسعه لخياطة الثوب؛ فإن أردت أن تضمنه ضمنته من وجوه: الوجه الأول: أن يأتي بضرر ناشئٍ عن فعله، كأن تعطيه زجاجاً من أجل أن يقصه، أو يصنعه على شكل معين، أو يضعه في نافذة فلما جاء يحمل الزجاج سقط من يده وانكسر، أو انكسر أثناء عمله، أو أثناء قصه، فإنه يضمن مثل هذا الزجاج؛ لأنه تلف بفعله. وهذا لأن على اليد ما أخذت حتى تؤديه، فيلزمه أن يضمن مثله، فإذا لم يوجد مثل ذلك الزجاج؛ فإنه يضمن قيمته، وقد بينّا هذا في مسائل الضمان بالمثل، والضمان بالقيمة، على التفصيل الذي تقدمت الإشارة إليه.

حكم الأجرة مع التلف بعد لزوم المثل أو القيمة

حكم الأجرة مع التلف بعد لزوم المثل أو القيمة قال: [ولا أجرة له]: قد عرفنا متى يضمن الأجير المشترك ومتى لا يضمن، وهنا يقال: لو أن غسّالاً غسل ثوباً، ثم بعد أن قام بمهمة الغسيل نشره في مكان، ثم جاءت الريح وأخذته دون أن يشبكه ويتعاطى أسباب الحفظ، فضاع الثوب، ففي هذه الحالة يضمن؛ لأن المفروض عند هبوب الريح أن تحتاط لثياب الناس. أو وضعه في مكان النشاف الموجود في الآلات، فلو أنه زاد النشاف فأحرق الثوب أو أفسده، أو جاء يكوي فزاد عيار الكهرباء فأحرق الثوب، ففي هذه الحالة يضمن، فإن قال: أنا أضمن الثوب وقد غسلته وكويته، فيعطيني أجرة الغسيل والكي، وأعطيه قيمة الثوب أو مثل الثوب! قلنا: لا أجرة لك؛ لأن العمل إنما تستحق عليه الأجرة إذا سلمته، صحيح أنك قمت بالعمل، لكنك لم تسلمه، فقيامك بالعمل لا يعتبر موجباً لاستحقاقك الأجرة إلا إذا سلمته. فهنا لابد من الانتباه لهذا الأمر، فلا يستحق الأجرة إلا إذا سلم العمل؛ فالعمل الذي قام به لم يستلمه المستأجر حتى نقول: إنه يلزمه دفع الأجرة. وعلى هذا قال رحمه الله: [ولا أجرة له]: أي لا يستحق الأجرة، فلو دفع المستأجر الأجرة مقدمة فإننا نقول للأجير: رُدَّ لصاحب الثوب الأجرة، وليس من حقك أخذُ هذه الأجرة؛ لأنك لا تستحقها إلا بتسليم العمل، وقد قمت بالعمل ولم تسلمه، فلا حق لك في هذه الأجرة.

متى تلزم الأجرة للأجير

متى تلزم الأجرة للأجير قال رحمه الله: [وتجب الأجرة بالعقد إن لم تؤجل]: الإجارة عقد، وقلنا: إن العقد كلمة (أجرتك) و (قبلت). أعني: الإيجاب والقبول. وبناءً على ذلك فكل إيجاب وقبول بشيء هو عقده، فلما قال له: أجرتك داري لسنة بعشرة آلاف، وقال: قبلت. لزمه أن يدفع العشرة آلاف، فهذا لازم بأصل العقد، وأما متى تستحق؟ ومتى يجب دفعها؟ فهذا فيه تفصيل.

لزوم الأجرة بمجرد العقد في إجارة المنافع

لزوم الأجرة بمجرد العقد في إجارة المنافع فالعقود محترمة، والشريعة تحترم اللفظ الذي بين المتعاقدين لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]. فالمؤجر والمستأجر بينهما إيجاب وقبول، فإذا صدر هذا الإيجاب والقبول فقد ثبت في ذمة المستأجر التزامه بدفع عشرة آلاف أجرةً لهذه الدار سنةً كاملة، إذاً تجب الأجرة بمجرد العقد؛ فالاتفاق والعقد بين الطرفين يوجب ثبوت الأجرة، سواءٌ أكان هذا في إجارة الدور أم الأرضين أم السيارات أم غيرها. وقوله: [إن لم تؤجل]: فلو قال له مثلاً: بعد سنة، أو بعد شهر، أو في منتصف المدة، أو بعد مدة طالت أو قصرت على حسب الاتفاق بينهما، فإذا اتفقا على التأجيل تأجلت. وأما الأصل فإنها لازمة بالعقد، ولذلك قالوا: تجب الأجرة بالعقد حتى تخرج من بيع الدين بالدين؛ لأنها لو لم تجب بالعقد لصار الثمن مؤجلاً، والمنافع مؤجلة، فتصير من بيع الكالئ بالكالئ، وقد قدمنا هذه المسألة وبينّا أن أصول الشريعة لا تصحح بيع الكالئ بالكالئ، والنهي عنه في حديث ضعيف أخرجه أبو داود في سننه، وقال الإمام أحمد: أجمع المسلمون على العمل بمتنه. فهو ضعيف السند لكنه صحيح المتن، وقد يكون الحديث ضعيف السند صحيح المتن، فلو جاءنا حديث يأمر بالصلاة وهو ضعيف السند نقول: هذا ضعيف السند لكنه صحيح المتن، فليس ضعف سنده يوجب رد العمل به. فمعنى صحيح المتن: أن العمل بمتنه لا نعتقد أنه مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هناك أصول وأدلة تغني عنه وتشهد بصحته، فتشهد تلك الأصول لا بهذا الحديث. إذاً تجب الأجرة بالعقد، قال بعض العلماء: الأجرة في المنافع تثبت شيئاً فشيئاً، وبناءً على ذلك لو استأجر داراً يوماً فإن الإجارة تثبت ساعة فساعة على أجزاء المنافع، فكل ساعة سكنها كان مقابلها جزءاً من الأجرة العامة المتفق عليها، فلو أنك اتفقت معه على مائة وعشرين ريالاً على أن تسكن اثنتي عشرة ساعة، فكل ساعة تمضي يكون لها عشرة ريالات، فهو يستحق كل عشرة مقابل كل ساعة تمضي من ذلك اليوم والنهار (هذا في إجارة المنافع).

إجارة الذمة تستحق أجرتها بتسليم العمل

إجارة الذمة تستحق أجرتها بتسليم العمل قال: [وتستحق بتسليم العمل الذي في الذمة]: هذا بالنسبة لإجارة الذمة فإنها تستحق فيها الأجرة بتسيلم العمل مثلما ذكرنا، ففي حال اتفاقك مع شخص على أن يبني لك عمارة، أو على أن يصلح لك سيارة، أو على أن يصلح لك جهازاً كثلاجة أو غسالة، فلا يستحق أجرة ذلك إلا بعد أن ينهي الإصلاح الذي طلبته فيما فسد، أو يبني العمارة، أو غير ذلك مما اتفق عليه. فإذا أتم العمل وسلمك ما عمله ثبت الاستحقاق، أما قبل أن يسلمك كما ذكرنا في مسألة التضمين فإنه إذا لم يسلم فإنه لا يجب عليك دفع الأجرة له -كما ذكرنا في مسألة التضمين- لقوله صلى الله عليه وسلم: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه). فقوله: (قبل أن يجف عرقه) يدل على أنه في إجارة المنافع لا تلزم الأجرة إلا عند انتهاء الأعمال؛ لأنه قبل أن يجف عرقه معناه أنه عمل فسال عرقه من شدة الإعياء والتعب، فيعطى قبل أن يجف عرقه، فيعني أنه انتهى من كل شيء، فتعطيه حقه، بعد أن سلمك حقك كاملاً.

الإجارة الفاسدة والأجرة اللازمة فيها

الإجارة الفاسدة والأجرة اللازمة فيها قال رحمه الله: [ومن تسلم عيناً بإجارة فاسدة وفرغت المدة لزمه أجرة المثل]: كل الذي تقدم معنا كان في الإجارات الصحيحة، وقد بينّا المسائل المترتبة على القعد الصحيح، لكن يرد Q لو أن اثنين اتفقا على إجارة فاسدة، مثل أن يتفقا على إجارة دار مجهولة بثمن مجهول، أو على أن يتفقا بعد العقد على الثمن، ففي هذه الحالة العين المؤجرة هي الدار مجهولة. وقد قدمنا أنه يشترط في صحة الإجارة العلم بالدار المؤجرة، فلو أنهما اتفقا على دار مجهولة ثم جاء وسكن الدار، أو مضت مدة الاتفاق ولم يسكنها وقد مكنه المؤجر من سكنها، نقول: يلزم المستأجر أن يدفع أجرة المثل. لأنه إذا سكنها وأخذ منافعها، استحقت الأجرة من جهة المنافع، وهذا قد تقدم معنا في مسائل البيوع حينما ذكرنا مسائل العيوب، وقلنا في هذه الحالة: حينما يؤجره داره وتكون الإجارة فاسدة، ثم يتفق الطرفان على أنها لشهر أو لسنة، وتمضي السنة أو يمضي الشهر، ثم يتبين فسادها بعد انتهاء العقد، نقول: إن هذه المنافع قد حبست لمصلحة المستأجر. وتعطيل المنافع يوجب ضمانها، وقد رضي بذلك، فهو وإن لم يصح عقد الإجارة إلا أن التزامه بضمانه ورضاه بذلك وتحمله لمسئولية استهلاك هذه المنافع على حسابه، سواءٌ تحقق ذلك بالفعل أم لم يتحقق، يُلزمه ضمانها من جهة الضمان لا من جهة الإجارة، فإذا ضمن فإنه يضمن بأجرة المثل. فلو كانت تستحق بالأجرة للزمته الأجرة المتفق عليها بين الطرفين، لكن الواقع أن الإجارة فاسدة، فحينئذٍ يضمن أجرة المثل. فهناك فرق بين الأمرين، إذ لو كانت الإجارة صحيحة لألزمناه بدفع الأجرة المتفق عليها بينهما، لكن لما كانت الإجارة فاسدة ألزمناه بدفع أجرة المثل. فنقول: هذه الدار التي مضت عليها سنة بهذا العقد الفاسد كم أجرتها في السوق؟ فيقال: هذه الدار مثلها يؤجر في السوق بعشرين ألفاً لسنة، فنقول: يلزمك دفع عشرين ألفاً من باب ضمان الحقوق كما ذكرنا.

الأسئلة

الأسئلة

حكم توقيف العامل عند عدم الإعجاب بعمله

حكم توقيف العامل عند عدم الإعجاب بعمله Q إذا اتفقت مع عامل على أن يعمل عندي شهراً بمبلغ من المال، وبعد مضي أيام من عمله لم يعجبني عمله وأوقفته، فهل أعطيه أجرة الأيام التي عملها، أم أجرة الشهر كاملاً. A إن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فبينك وبين أخيك المسلم عقد إجارة شهر كامل، فلابد من إتمام هذا العقد إلا إذا وجد العذر الشرعي. وأما قولك: لم يعجبني عمله، هذا القول فيه تفصيل: إن كان مرادك أنه لم يقم بالعمل على الوجه المعتبر وأنه يقصر ويضيع ويفرط، فمن حقك أن توقفه وتقول له: إما أن تؤدي العمل تاماً بدون تفريط، وإما أن ألغي الإجارة فيما بقي من الشهر. ومن حقك أيضاً أن تقدر أجرة مثله فيما مضى، فلا يأخذ الأجرة كاملة. مثال: لو أنك استأجرت شخصاً لأجل القيام بمصلحة النجارة أو الحدادة، فجاء نجار على أنه نجار، وعمل نصف ما ينبغي أن يعمل مثله، كأن يكون بطيء العمل، ثقيل اليد، لا يحسن الإدارة للعمل، حتى أصبح نصف العمل قد سقط، فمثله يستحق أجرة خمسين وأنت أعطيته مائة، فمن حقك أن تعطيه على الأعمال الماضية أجرة خمسين، وتقول له: إما أن تلتزم بأداء العمل بما يستحق مثلك ممن يأخذ مائة، وإما أن تفسخ العقد، وتعطيه مهلة يوم أو يومين حتى يستقيم وتنظر، إن أتم العمل فبها ونعمت. والسبب في هذا التفصيل: أن العقود والاتفاقات محتكم إليها؛ لأن الله أوجب علينا أن نفي بهذا المتفق عليه، فأنت اتفقت معه على أن يقوم بعمل يستحق المائة، لكن العمل الذي قام به يستحق الخمسين، فيصبح أخذه للخمسين الزائدة من أكل المال بالباطل، سواء كان في مزرعة أو ورشة أو شركة، أو في أي مجال، فإذا لم يؤد العمل الذي يستحق بمثله الأجرة التي خصصتها له، كان من حقك أن ترده إلى أجرة مثله، وأن تخيره فيما بقي من الشهر؛ إما أن يتم العمل الذي يستحق به المائة وإما أن يفسخ العقد، هذا من حقك، وما ظلمته، لأننا لو جئنا نفتح هذا للناس فإننا قد حدنا وصار من الجور، وأصبحنا مع العامل ضد صاحب الحق، ولا يجوز أن يكون حكم الشرع مائلاً إلى أحدهما، بل لابد من العدل، فما دام اتفق معه على أن يقوم بالعمل الذي يستحق به مائة فينبغي أن يؤدي عمله الذي يستحق به المائة. لكن لو أن هذا العامل أدى الطاقة التي يستحق بها المائة، لكن الطاقة التي يستحق بها المائة فيها مرتبة كمال ومرتبة وسط ومرتبة دنيا، فمثلاً: إذا جئت به في ورشة فإن طاقته الإنتاجية التي يستحق بها المائة ريال أن ينتج ثلاثة أشياء من العمل الذي طلبته، هذه الثلاثة الأشياء إذا أنتج الثالث منها ينتجه بصفة كاملة إذا كان على الأكمل، الطاقة الوسطى -التي هي دون الكمال- ينتج من الثالث ثلاثة أرباع، الطاقة الدنيا أن ينتج من الثالث نصفه، فأنت أعطيته مائة على أساس الطاقة الإنتاجية من حيث الأصل المعتبر أنها اثنين ونصف، أي: هي مرتبة الإجزاء، فكون الأكمل يأتي بثلاث وهو عجز عن الثلاث فهذا لا يوجب إسقاط العقد، فقولك: لا يعجبني. قد يراد به الكمال، وإذا أردت به الكمال فليس من حقك أن تنقص أجرته ولا أن تلغي العقد فيما بقي من الشهر إلا برضاه؛ لأن الأصل الذي اتفق عليه يستحق به المائة، وهو الاثنين والنصف، والأكمل ليس مطالباً به، مثل المزارع يقوم في المزرعة بسقي الماء والقيام على البهائم الموجودة في المزرعة، فالأكمل في مثل هذا الشهر أن يقوم بهذا العمل أولاً -الذي هو إدارة الماء- والقيام على البهائم وتقليم الشجر، فلم يعجبك؛ لأنه أدى الاثنين ولم يؤد الثالث، فلم يأت في مرتبة الإعجاب وفي مرتبة الكمال. فقول: لم يعجبني. فيه تفصيل، والعجب عند الناس مراتب، لكن نحن نقول: الحق أن تحتكم أنت والعامل إلى الحق، فالعجب واستعجاب الشيء ومحبته تختلف موازينها وتختلف ضوابطها، ولا ينبغي لك أن تلغي هذا العقد إذا كان قد أتى بما يجزيه وما يستحق عليه الأجرة المتفق عليها، ويجب عليك إتمام ما بقي من الشهر، إلا إذا اتفقتما برضا منكما على فسخ العقد، والله تعالى أعلم.

الشبه بين تصرف الأجير بغير إذن وبين تصرف الفضولي

الشبه بين تصرف الأجير بغير إذن وبين تصرف الفضولي Q ذكرنا أن الأجير الخاص لو قام بعمل دون إذن صاحبه فإنه يضمن، فهل هذه المسألة تشبه مسألة تصرف الفضولي؟ A تشبه مسألة تصرف الفضولي إذا كان الفضولي عنده إذن أصل، وأما إذا لم يكن عنده إذن في الأصل فإنها لا تشبهها؛ لأن الأجير عنده إذن من حيث الأصل، وأما بالنسبة للفضولي فليس عنده إذن في بعض الصور وعنده إذن في بعض الصور. مثاله في الفضولي: إذا قلت له: اشترِ لي سيارة واحدة. فاشترى سيارتين، فقولك: اشترِ. أصل، وهو التوكيل بالشراء، لكن خرج إلى كونه فضولياً في السيارة الثانية، والأجير أجير، لكنه إذا زاد عن الحد المعتبر يصبح في هذه الحالة لم تأذن له بشيء زائد، يصبح عنده أصل عام وزيادة، والفضولي يشاركه إذا وجد أصل عام؛ لأن الفضولي في بعض الأحيان لا يكون عنده أصل عام، مثل شخص أخذ منك سيارة على أن يذهب بها إلى الجامعة ويذهب بها إلى المسجد، ثم وجد رجلاً يقول له: بع هذه السيارة بعشرة آلاف، ورأى من المصلحة أن يبيعها لك بعشرة آلاف فباعها، أنت ما قلت له: بعها، وليس عنده أصل عام، فقد يتصرف الفضولي وليس عنده أصل عام، وقد يتصرف وعنده أصل عام، وهناك فرق بين المسألتين. فشبه مسألة إجارة الفضولي عند وجود أصل عام يمكن أن يستند إليه، وهو عام من حيث الشكل -يعني: الأصل- لكنه خاص أريد به الخصوص الذي هو الشراء في الحدود المعينة، وعلى هذا يكون تصرف الفضولي مشابهاً لهذه المسألة في القيد الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.

حكم الدعاء عند الطواف والسعي بغير العربية

حكم الدعاء عند الطواف والسعي بغير العربية Q هل يصح الدعاء عند الطواف والسعي بلغة أخرى غير اللغة العربية؟ A لا بأس بالدعاء عند الطواف بالبيت بغير اللغة العربية إذا كان لا يحسن اللغة العربية، وإذا دعا بلغته فإنه يجزيه، ولا يشترط أن يدعو باللغة العربية؛ لأنه مكان ذكر وثناء على الله عز وجل، وسؤال له من فضله، وهذا يشمل الدعاء بغير العربية كالدعاء بالعربية، إلا أن الدعاء باللفظ العربي تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع إذا كان يتقنها هو الأصل، فلما تعذر في مثله لعدم إمكانه أو عدم معرفته بالأدعية المأثورة فلا بأس أن يدعو بلسانه، والله تعالى أعلم.

حكم عدم الوقوف عند المشعر الحرام

حكم عدم الوقوف عند المشعر الحرام Q صليت الفجر في مزدلفة، ثم اطرحت ولم أقف عند المشعر الحرام، فماذا علي؟ A مزدلفة كلها مشعر حرام، فما دام أنك وقفت في أي موقف من مزدلفة فأنت في المشعر الحرام، والمشعر كل شيء أشعر الله بتعظيمه، وقيل له: (المشعر الحرام) لأنه قبل عرفات، فعرفات بعده خارجة عن حدود الحرم، فمزدلفة يأتي بعدها حدود الحرم، ثم تأتي نمرة، ثم يأتي وادي عرنة، ثم عرفات، فالمشعر الحرام داخل الحرم، وقيل له (مشعر) من المشعر، و (المشعر الحرام) لأنه داخل حدود الحرم، لكنها اشتهرت باسم (منى)، وقيل لها (المشعر الحرام) لأنها وسط بين ما في الحرم وبين ما هو خارج عن الحرم، ولكنها من الحرم؛ لأن مزدلفة بين عرفات وبين منى، ولذلك هي كلها مشعر حرام {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] أي: مزدلفة كلها كما جاء في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام بلفظ: (مزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر) وأما اللفظ الآخر: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة) أما بالنسبة لمزدلفة فقال: (مزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر) فاستثنى وادي محسر، وهو الوادي الذي حسر الله فيه الفيل، وقيل: من الحسر، بمعنى: الكلال، يقال: كَلَّ إذا أعيا؛ لأنهم كانوا يدفعونه إلى الحرم فيمتنع حتى أرسل الله عز وجل عليهم العذاب في ذلك الموضع. فالمقصود: أن وادي محسر ليس من منى ولا من مزدلفة، وهو فاصل بين منى ومزدلفة، والمشعر من فج المأزمين إلى وادي المحسر كله مشعر، وفج المأزمين عند الإفاضة في جهة المسجد والجبلان الصغيران اللذان بحذاء المشعر، الجبل الصغير الذي هو جبل قزح بحذائه فج المأزم، هذا هو المدخل الذي يؤتى من طريق المأزمين؛ لأن طريق المأزمين بين جبلين غربي القناة المعروفة في حضن الجبل، هذا الطريق -الذي هو طريق المأزمين- في نهايته وفي رأسه عند مشعر المزدلفة هو بداية مزدلفة، ثم تنتهي مزدلفة من جهة منى عند وادي المحسر، فمن وقف عند هذه الحدود فقد وقف في مزدلفة، ومن بات فيها للحج فقد بات في مزدلفة. وأما من دخل إلى حدود وادي المحسر فإنه ليس من مزدلفة، مضطراً أو مختاراً، ولذلك لا تسري عليه الأحكام الشرعية؛ لأنه مأمور بالتحري والاحتياط، ومأمور بالسؤال، والأعلام موجودة، وكل شيء معروف، وليس له من عذر أن يقول: أنا أجهل. فهذا كله تلاعب وتساهل، فشخص يأتي ويقول: لا أعرف حدود عرفة ولا أعرف حدود مزدلفة ولا أعرف حدود منى، وهي واضحة، ويمكنه السؤال، والمعالم واضحة، والناس متواجدون ومتكاثرون، ومع هذا يقول: أنا جاهل. ويقال: هذا جاهل ليس عليه شيء. فنقول: هذا ليس بجهل، هذا تقصير وتلاعب وتساهل، فالشخص الذي يتلاعب ويتساهل ويقصر يضمن الحق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (فدين الله أحق أن يقضى) فإذا كنا في حقوق الآدميين نقول له: يضمن إذا قصر. فما بالك بحق الله عز وجل الذي هو أجل وأعظم؟! فينبغي أن يراعى: أن من وقف في هذا المكان الخارج عن حدود مزدلفة فليس بمزدلفة، أما لو أنك صليت الفجر ووقفت في أي موضع من مزدلفة، فقد وقفت في المشعر الحرام وذكرت الله فيه، أسأل الله أن يتقبل منا ومنكم ومن جميع المسلمين والله تعالى أعلم.

حجية الإجماع

حجية الإجماع Q معلوم أن الإجماع أحد أدلة الشرع، ولكن -كما تعلمون- أن انعقاد الإجماع المنضبط لا يكاد يقع بعد عهد الصحابة، ولا يخفاكم قول الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فهو كاذب. وقول العلماء: إن في حكاية ابن المنذر وابن عبد البر وغيرهما الإجماع فيه نظر. وبناء على ذلك: هل الإجماع الذي يحكى في كتب العلماء لا يعتبر باعتباره إجماعاً غير منضبط؟ وهل يرى فضيلتكم أن اتفاق العلماء في المجمع الفقهي في العصر الحاضر يعتبر إجماعاً وحجة؟ A الإجماع حجة، قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] فتوعد الله من ترك سبيل المؤمنين، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يحتجون بإجماع من قبلهم، فيحتجون بما كان على عهد أبي بكر وعهد عمر فيقولون: فعله النبي صلى الله عليه وسلم وفعله أبو بكر والصحابة معه. فيحتجون بذلك. أما مسألة من ادعى الإجماع: أولاً: الإجماع: اتفاق جميع مجتهدي الأمة في عصر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على أي حكم شرعي. فهو من حيث الأصل اتفاق جميع المجتهدين، إلا أنه قد يتعذر ضبط الجميع، وإنما المراد اشتهار المسألة ونص العلماء عليها في كتبهم وتناقلهم، وهذه الكتب مشهورة معروفة ولا يعرف من أنكرها أو خالفها؛ لأنه لو وجدت دواعٍ للنقل والبواعث على النقل موجودة ولم يوجد من ينقل عنه المخالفة دل ذلك على عدم الوجود غالباً؛ لأن غالب الظن يحتكم إليه. فنحن نقول: اعلم رحمك الله أن الإجماع حجة، وقول الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فقد كذب. على حالتين: إما أن يكون مراده رحمه الله شيئاً خاصاً، بمعنى أن قوله: من ادعى الإجماع. يعني به الإجماع بكل شخص من الأمة بغض النظر عن كونه مجتهداً أو غير مجتهد، فهذا صحيح؛ لأنه لا يمكن اتفاق كل الأمة وإجماع كل الأمة، وهذه عبارات تأتي عن بعض الأئمة يقصد منها المصطلحات الخاصة، يعني: من ادعى الإجماع بغير المصطلح الخاص -وهو اتفاق العلماء- فقد كذب؛ لأنه لا يستطيع إثبات أن كل الأمة أجمعوا على ذلك، وقد كان الإمام أحمد رحمة الله عليه كإخوانه من الأئمة، لكن له مواقف عجيبة بديعة في الورع، فكأنه يقول: يا من تحكي الإجماع! ينبغي أن يكون عندك ورع، أي: لا تعتقد أن الأمة كلها أجمعت. وليس المراد أن الإجماع ليس بموجود؛ لأنه هو نفسه احتج بالإجماع، ولا يختلف اثنان أن مذهب الإمام أحمد على أن الإجماع حجة، ونص الكتاب والسنة لم يخالفه رحمة الله عليه، بل إنه لما ذكر المساقاة والمزارعة حكى فيها إجماع الصحابة ومن قبلهم. بل الإمام أحمد بن حنبل نفسه رحمة الله عليه يحكي الإجماع ويحتج بالإجماع، فمن يعرف فقه الإمام أحمد ويعرف تماماً الإمام أحمد يعرفه بالورع رحمه الله برحمته، فكأنه ينبه كل من يحكي الإجماع ألا يعتقد أنه إجماع لكل الأمة بمعناه الحقيقي، فمن ادعى الإجماع بمعناه الحقيقي لا معناه الاصطلاحي فقد كذب، ليصبح من يدعي الإجماع ويقول الإجماع من الفقهاء عنده ورع وعنده تحفظ، وهذا هو العلم: أن العلماء يضعون أشياء اصطلاحية وأشياء أصلية مبنية على اللفظ؛ لأن الإنسان مؤاخذ بلفظه، والإمام أحمد كان يتورع حتى في اللفظ، حتى الحرام يقول: أكرهه. وكان ينفض يديه، وكان يتغير وجهه؛ أن يقول: هذا حرام. رحمته الله برحمته الواسعة، وجزاه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء، فكان على ورع عظيم رحمه الله. الشيء الثاني: نحن عندنا النصوص واضحة في أن الإجماع حجة، وأما مسألة أن بعض العلماء يتسامح في نقل الإجماع، فاعلم رحمك الله أن الإمام ابن عبد البر حينما ينقل الإجماع ليس من باب التساهل ولا من باب التلاعب، وينبغي لك أن تنتبه لكلمات العلماء وحذر الشيوخ من الإجماع عن ابن عبد البر بالسماع ليس المراد به أن الحافظ الإمام الحجة ابن عبد البر كان متساهلاً، كلا والله، وليس من أهل التساهل، بل هو القدم الراسخة في العلم، فهو الثبت الحجة رحمه الله برحمته الواسعة، ولكن كان له عذره؛ لأنه كان بالأندلس، ويحكي الإجماع على قدر علمه، فيخفى عليه خلاف أهل المشرق، وكان أهل المغرب يخفى عليهم خلاف أهل المشرق. وإما إجماع النووي فإياك إياك! فإن الإمام النووي إمام فقيه وحجة، وله باعه العظيم في حكاية الإجماع ومعرفة خلاف العلماء، ولكن من الذي يفهم كلام النووي؟! الإمام النووي يقول: واختلف أصحابنا. ويكثر من حكاية أقوال أصحابه في خضم المسائل الخلافية، فيقول: واختلفوا هل يجوز أو لا يجوز على وجهين وعلى قولين، والأظهر والصحيح والأصح. ثم يقول: وكل هذا إذا لم يقصر، فإن قصر فبالإجماع لا يجوز. يعني: إجماع مذهبنا وإجماع أصحاب القولين، أي: ليس فيه قولان ولا وجهان أي: في مذهبه. فيأتي من لا يحسن النظر ويقول: الإمام النووي حكى الإجماع في هذه المسألة، وقد أخطأ، وقد خالف المالكية وخالف الحنابلة. وهو لا يريد الإجماع خارج المذهب، وهذه أوهام يقع فيها من لا يحسن تتبع كلام العلماء. أما الإجماع فإنه حجة، ولا شك أنه يحتاج إلى نوع من التحري والضبط، ولا شك أن نقل العلماء المعروفين وتواتر النقل عنهم بأن هناك إجماعاً يوجب للمسلم أن يعمل بمثل هذا الإجماع. وأقل ما يقال، وهو ختام ما نقوله: هب أنه ليس بإجماع، فإن أقل ما يقال فيه: إنه السواد الأعظم. فإذا جاءك مثل الإمام النووي أو الإمام ابن قدامة رحمة الله عليهما ممن اشتغل بالخلاف واكتحلت عيناه بالسهر وهو يقلب في دوواين العلم، ووجد أن كل دواوين العلم تحكي ذلك، ولم يجد مخالفة، فماذا تقول؟ وأنت لو ذهبت إلى عالمين جليلين فاضلين وسألتهما، وكل منهما قال لك: لا يجوز، مثل أن نسأل مشايخنا نسأل الله أن يحفظهم وأن يجري أعمارهم بعفو وعافية ويجزيهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، لو ذهبت إلى عضوين من أعضاء هيئة كبار العلماء وسألتهما، وقالا: لا يجوز. فعند ذلك تحدث في نفسك طمأنينة ورضا، فما بالك بأئمة العلم ودواوين السلف الذين كانوا آية من آيات الله عز وجل في العلم والعمل، إذا كان سوادهم الأعظم على هذا القول، هل ترضى نفسك أن تشذ عنهم وتخالفهم؟؟ فإياك إياك! إذا حكي الإجماع من العلماء الجهابذة الأثبات، فإنك تأمن بهذا وترتاح نفسك وتطمئن، وتتبع سبيل أمثال هؤلاء العلماء كما قال الإمام مالك؛ فحق على كل طالب علم أن تكون فيه سكينة ووقار، واتباع لآثار من مضى قبله. والنقطة الأخيرة: مجمع الفقه مجمع له مكانته، وإذا اتفق العلماء في مجمع الفقه فليس بإجماع، لكنه له منزلته والفتوى منه لها منزلتها، وبالمناسبة: فإن مجمع الفقه وهيئة كبار العلماء بالتتبع والمعرفة أنهم لا يبحثون مسألة ولا يفتون في مسألة ولا يسقط قرار إلا بعد تعب شديد في تحري المسائل وتتبعها، وسؤال أهل الخبرة، وأقول: إياكم أن تظنوا أن هذه الفتاوى التي تصدر من هيئات كبار العلماء والمجامع الفقهية أنها سهلة، أحياناً بعض المسائل تدرس إلى ما يقرب من عشرة أشهر، وقد تطول إلى اثني عشر شهراً، وترجع وتؤخر لاستكمال النظر فيها، رزق الله هذه البلاد علماء عرفوا بالصلاح والخير، ووضع الله لهم القبول ووضع الله لهم الثقة بين الناس، فنسأل الله العظيم أن يوفقهم وأن يسددهم، وأن يجزيهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. وهذه ذمة على كل مسلم: أن يدعو لهم؛ لأن هؤلاء هم الذين يحملون الخير لهذه الأمة، ويحفظون ثغوراً عظيمة، فيكثر من الدعاء لهم، ويحسن الظن بهم، ويوثق في أقوالهم. ونسأل الله العظيم أن يرزقنا حبهم، وأن يجمعنا بهم في دار كرامته {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} [الشعراء:88] * {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89]. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

باب السبق

شرح زاد المستقنع - باب السبق من مميزات الإسلام أنه دين يحرص على القوة وأسبابها، ولذلك أمر بالإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل، واعتنى بالإعداد إلى حد أنه أباح لأتباعه أن يتسابقوا على عوض في الخيل والإبل والسهام، وأباحه في غيره بدون عوض، وبالتالي فعلى المسلم أن يكون عارفاً بأحكام هذه المسألة وما يتعلق بها وشروط جوازها.

تعريف السبق لغة واصطلاحا

تعريف السبق لغةً واصطلاحاً بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب السبق]: السبق من المسائل التي اعتنى الشرع ببيان جملة من أحكامها، وهذا الباب ذكره العلماء رحمهم الله لاشتماله على الحقوق، فإن المتسابقين، خاصة إذا كان السباق بينهما بعوض، ووقعت المنافسة بينهما على جائزة أو نحو ذلك، يكون فيه نوع استحقاق، وحينئذٍ يرد السؤال عن الأحكام المتعلقة بهذا النوع من العقود. يقال: سبق فلان فلاناً إذا تقدم عليه، فالسبق في أصل اللغة المراد به: التقدم على الشيء، ولا يختلف المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي، فحقيقته اصطلاحاً هي حقيقته لغةً، فالسابق هو المتقدم على غيره. وهذا الباب المراد به: بيان الأحكام المتعلقة بالمنافسات، فإن الشريعة أجازت للمسلم أن يسابق على أشياء، ولم تجز له أن يسابق على أشياء أخر. ومن هنا يرد Q ما هي الأشياء التي يجوز أن يسابق فيها وعليها؟ وما هي الأشياء التي لا يجوز أن يقع السباق عليها؟ وهذا الباب الكلام في مقدماته:

مشروعية السبق والأدلة على ذلك

مشروعية السبق والأدلة على ذلك أولاً: في مشروعية السبق: شرع السبق بدليل الكتاب، ودليل السنة، والإجماع. أما دليل الكتاب فقد قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف: {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا} [يوسف:17]. فقولهم: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} [يوسف:17]: أي: نتسابق، وهذا شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد شرعنا بخلافه، ولم يرد شرعنا بخلاف ذلك، بل جاء بمشروعيته. فإن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت مشروعية السبق بالقول وبالفعل، والسبق بإسكان الباء: المسابقة، والسبق بالفتح: العوض المدفوع في المسابقة. فالسبق ثبت بفعله عليه الصلاة والسلام، وبقوله: أما بفعله: فقد صارع عليه الصلاة والسلام ركانة، وسابق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين خرج معها إلى مسجد قباء، وكان إذا خرج معها يسابقها عليه الصلاة والسلام في الطريق، فكان يسبقها، فلما كبر عليه الصلاة والسلام سبقته رضي الله عنها، قالت: (فلما أخذه اللحم سبقته) فقال عليه الصلاة والسلام: (هذه بتلك) صلوات الله وسلامه عليه. وكذلك أيضاً ثبت أنه أقر صحابته وسابق بينهم، فقد سابق بين الخيول، وسابق بين الرجال، وسابق بين سلمة بن الأكوع وبعض الصحابة رضوان الله عليهم، وسابق أيضاً بين الخيل المضمرة وغير المضمرة، فسابق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع، وذلك ما يقرب من ستة أميال إلى سبعة أميال. والخيل المضمرة: هي الخيل التي تسقى وتعلف، ثم يمسك عنها العلف حتى تضمر، وتكون أسبق وأخف في العدو وفي السرعة. وسابق عليه الصلاة والسلام بين الخيول، وشجع أصحابه رضوان الله عليهم على هذه الفروسية لِما فيها من معاني الجهاد والقوة على الجهاد في سبيل الله. وكذلك أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية السباق من حيث الجملة، وأنه لا بأس بالمسابقة على التفصيل الذي سنذكره إن شاء الله تعالى.

إباحة السبق المقصود به الوصول إلى طاعة الله عز وجل

إباحة السبق المقصود به الوصول إلى طاعة الله عز وجل لكن الذي ينبغي أن يُعلم أن الله تعالى أحل هذا النوع من المنافسات لحكمة عظيمة، وأسرار جليلة كريمة، فقبل أن يدخل طالب العلم في هذا الباب ينبغي أن يتنبه إلى أن أي شيء فيه منافسة فإن فيه ضرراً، وذلك أنه يحدث الشحناء ويحدث البغضاء ويحدث إغارة الصدور بعضها على بعض. ولكن الشريعة نظرت إلى مصلحة أعظم، فإن الجهاد في سبيل الله يحتاج إلى قوة في البدن، وقوة في العدد والعدة، وهذا يستلزم تهيئة البدن للجهاد في سبيل الله عز وجل، فالسباق ليس مراداً لذلك، وإنما هو مرادٌ لما هو أعظم منه. ولذلك نص العلماء على السباق فيما يستعان به على القوة في سبيل الله عز وجل، لا في مطلق المسابقة، وهذا أمر ينبغي لطالب العلم أن يتنبه له. ولذلك نجد النصوص انصبت على ما يقوي المسلم على الجهاد في سبيل الله عز وجل؛ لأن الله أمر بالإعداد فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] فأمر بالإعداد. ومن الإعداد: تهيئة النفوس لمثل هذا، فإن المسلم إذا سابق ونافس غيره صارت عنده النفسية المتقبلة للمنافسة، فإذا دخل إلى ميدان الجهاد في سبيل الله، فهو بطبعه وبما أخذ من تجربته ومرور الحوادث المتكررة عليه في السباق، تجعله في قوة وجلد في الجهاد في سبيل الله عز وجل. ولذلك خصت بالذكر ثلاثة أشياء لوجود العوض فيها، ولم يبق السبق على إطلاقه؛ لأنه لو خرج عن دائرة هذه الثلاثة الأشياء أوغر الصدر، وجعل المسلم يتمنى أن أخاه ينكسر، ويتمنى أنه يسبقه أو نحو ذلك، ولكنه إذا كان في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وبقصد الاستعانة على طاعة الله، ارتفع عن هذا إلى ما هو أسمى وأعلى، وصار قربة وطاعة لله عز وجل، فيؤجر المسلم عليه ويثاب، بخلاف ما إذا كان محضاً لما يراد به من أمور الدنيا. أما من حيث الأصل العام: فإن السباق فيه فوائد تعود على بدن الإنسان، وعلى قوته مثل قوة الرمي، ومثل قوة الخيل على العدو في سبيل الله عز وجل كما ذكرنا في الجهاد، ثم إن هذا التنافس يجعل المسلم دائماً يطمح إلى السمو بنفسه إلى المكان الأعلى، وفيه أيضاً تشجيع لمن أعطاه الله عز وجل القوة وشدة الكلد أن يبقى على قوته وكلده، حتى يستعان به على طاعة الله عز وجل إلى غير ذلك من المصالح. وقد أجمع العلماء على شرعيته من حيث الجملة، لكنهم اختلفوا في التفصيل.

أنواع السبق

أنواع السبق والسباق يكون بالأبدان، الذي هو سباق الأشخاص، وإذا كان بالأبدان فإما أن يكون بالعدو، وإما أن يكون بالقوة، فإن كان بالقوة فهو المصارعة كأن يصطرع معه، أو يكون بالعدو وهو الجري، فهذا السبق بالأقدام ونحوها. ويكون أيضاً السباق بالدواب، وإذا كان بالدواب فإما أن يكون بذوات الحافر أو الخف كالخيول والإبل، وإما أن يكون بغيرها، فإذا كان بغيرها كالبغال ونحوها فهذا فيه تفصيل.

السبق بالعوض ومتى يصح؟

السبق بالعوض ومتى يصح؟ النصوص الشرعية بينّت ما يقع به السبق، وما يصح أن يكون به السبق بعوض وما يجوز به المسابقة بدون عوض. فهناك فرق بين المسابقة التي تكون بعوض، والمسابقة التي تكون بدون عوض، فالمسابقة التي تكون بعوض خصها رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشياء فقال: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر) فهذه ثلاثة أشياء مشروعة للسباق بالجوائز، وتكون عليها الحوافز. وعلى هذا نقول: السباق بالجري والعدو، والسباق بالمصارعة، وغيرها من الأشياء الأخر من حيث الأصل العام لا تدخل في العوض، لكن يجوز أن تسابق غيرك بالعدو والجري، بشرط أن لا يكون هناك عوض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سابق عائشة على غير عوض وقال: (لا سبق) بالتحريك أي بعوض (إلا في نصل) الذي هو الرمح (أو خف) الذي يقصد به الإبل (أو حافر) الذي يشمل الخيل وما في حكمها. وبناءً على ذلك نقول: إن السبق إما أن يكون بعوض، وإما أن يكون بغير عوض، فيفصل فيه على هذا التفصيل فانقسم إلى هذين النوعين. هذا حاصل ما يقال في مقدمات السَّبق، وفي كلٍ أحكامه التي سيذكرها المصنف رحمه الله. قال رحمه الله تعالى: [يصح على الأقدام]: الأقدام: جمع قدم والمراد بذلك الجري، فلو أن جماعة قالوا: نريد أن نتسابق، لننظر من يسبق، وكان ذلك بغير عوض، فتسابقوا فلا بأس. الدليل على ذلك: ما ثبت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سابق عائشة رضي الله عنها، فالسباق بالأقدام ليس فيه بأس، إذا كان بدون عوض. قال رحمه الله تعالى: [وسائر الحيوانات]: وذلك كالبغال، والحمير -أكرمكم الله- ونحوها من سائر الحيوانات، ويمكن أن يتسابقوا بالمراكب الموجودة الآن كالدراجات فيمكن أن يتسابقوا بها، ولا بأس بها حينئذٍ، إذا كان السباق بدون عوض. قال رحمه الله تعالى: [والسفن]: وكذلك يكون السباق في المراكب والسفن، فليس في هذا بأس، هذا من حيث الأصل العام، أنه يكون السباق بما كان من الثلاثة وغيرها إذا لم يكن بعوض. قال رحمه الله تعالى: [والمزاريق]: الزرق: الرمي يقال: زرق فلان فلاناً إذا رماه، وأصلها رماح يرمى بها وتكون قصيرة مثل الحربة، وكانوا في القديم يترامون بها، وينظرون أنهم أبعد رمياً، هذه المزاريق، وهي بخلاف النصل الذي هو السهم، فالسهام يراد برميها إصابة الهدف، لكن المزاريق تراد للبعد، وذلك ممكن أيضاً بالحجارة، مثل أن يرمي شخصٌ حجراً، ويرمي آخر حجراً، وينظران أيهما أبعد رمياً، فالمزاريق من جهة الرمي للبعد، والنصل من جهة تحديد هدف معين، أو غرض معين يصاب، فيكون السباق فيها من جهة تحديد الإصابة ومكان الإصابة ونوعية الإصابة، وهذا سنذكره إن شاء الله تعالى.

يجوز العوض في سبق الإبل، والخيل، والسهام دون غيرها

يجوز العوض في سبق الإبل، والخيل، والسهام دون غيرها قال رحمه الله: [ولا تصح في عوض إلا في إبل]: هذا ظاهر الحديث لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا سَبَق) فهذا معنى لا تصح، فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا سَبَق) السبق بالتحريك ما فيه عوض، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا سَبَق إلا في خف)، المراد به الإبل، ولذلك قال رحمه الله تعالى: (في إبل)، وإذا كانت في إبل فلها شروط، فلا بد من تعيين هذه الإبل بأوصافها، وذواتها، فهل هي من العرابي التي لها السنام الواحد، أو بختية ذات السنامين، ويحدد المركوب منها، فيقول: هذه الناقة وهذه الناقة، فتحدد الإبل التي يراد أن ينافس عليها. قوله رحمه الله: [وخيل]: في حديثه صلى الله عليه وسلم قال: (أو حافر)، فقوله: (أو حافر)، المراد به الخيل. قوله رحمه الله تعالى: [وسهام]: السهام: جمع سهم، فهذه الثلاث جائز دفع العوض في المسابقة فيها؛ ولذلك قال المصنف: [ولا تصح في عوض إلا في إبل، وخيل، وسهام]، أي لا تصح المسابقة بجعل عوض من أحد المتسابقين، أو من غيرهما، إلا في هذه الثلاثة، لورود السنة بذلك. وهذا يدل على الاختصاص؛ لأنه المفهوم من قوله: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر)، فكأنه ينهى عليه الصلاة والسلام عن إعطاء العوض في غير هذه الثلاث. وقد بينّا السبب في ذلك: أن الإبل يستعان بها على الجهاد في سبيل الله عز وجل، والخيل يستعان بها على الجهاد في سبيل الله عز وجل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الخيل معقود بنواصيه الخير إلى يوم القيامة) والحديث صحيح. وكذلك أيضاً بالنسبة للنصل فإنه يستعان به على الجهاد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي). وكما بينّا أن العوض يوغل الصدور، ويحدث الشحناء والبغضاء، إلا أن وجود المصلحة في الجهاد أعظم من هذا كله، وهذا من باب تقديم المصلحة على المفسدة، ولذلك يقولون: إنه في بعض الأحيان من حيث الأصل تقدم المفسدة على المصلحة. ويمكن أن يقال: إن درء المفاسد وإن كان مقدماً على جلب المصالح، إلا أن جلب المصالح قد يقدم على درء المفاسد، وذهب بعض العلماء إلى أن الجهاد في سبيل الله درء لمفسدة أعظم، فيكون هذا من باب درء المفسدة الأعظم بارتكاب الأخف، وعلى هذا فإن مصلحة الجهاد وإن كان مصلحة في الظاهر، لكنها في الحقيقة رد لكلف العدو وأذيته للمسلمين، وهذا درء للمفسدة، وهذا وجيه، والقول الأول هو أوجه.

شروط السبق فيما يؤخذ فيه العوض

شروط السبق فيما يؤخذ فيه العوض

تعيين المركوب

تعيين المركوب قال رحمه الله: [ولابد من تعيين المركوبين]: أي: لابد لصحة المسابقة من تعيين المركوبين، هذه الناقة وهذه الناقة، فلابد أن يعين المركوبين، ويعين جنسهما ونوعهما، ويكون هناك نوع من التكافؤ، كما سيذكره المصنف رحمه الله. أما لو كان المركوب مبهماً وغير معروف، فإنه لا يصح، فلابد من تعيين المركوبين، هذا إذا قلنا بأنه يريد أن يسابق في خف، أو حافر فلابد وأن يكونا معينين. والتعيين ضد الإبهام، فلا يصح أن يكونا مبهمين، أو مجهولين، بل لابد أن يعينهما ويحددهما.

اتحاد المركوبين

اتحاد المركوبين قال رحمه الله تعالى: [واتحادهما]: اتحاد المركوبين من حيث إنك تجعل الاثنين يدخلان إلى المسابقة، وكلٌ منهما يقول: يمكن أن يسبقني نظيري. أما لو كانا مختلفين، كأن يكون أحدهما من الإبل العرابية، والثاني من الإبل البختية؛ فحينئذٍ اختلف النوع، والجنس واحد -وهو كونهما من الإبل- فإذا اختلف نوعهما فقد اختلف العلماء: فقال بعض العلماء: يصح السَبَق مع اختلاف النوع واتحاد الجنس. وقال بعض العلماء: لا يصح إذا اختلف النوع مع اتحاد الجنس، كما نص المصنف. وفي الحقيقة -من حيث الدليل- فإن القول بأنه لا يشترط الاتحاد قوي جداً، وهذا يختاره بعض العلماء. فاتحاد المركوبين الأشبه فيه أنه لا يشترط، لكن يشترط ألا يأمن أحدهما أن يسبق الآخر -هناك وجه من جهة الاشتراط أنه عدم أمن أن يسبقه- حتى يتحقق العدل؛ لأنه إذا كان السبق بعوض، ودخل الإنسان بفرس، ولا يشك أن فرسه سابق، وفرس الآخر مريض، أو هزيل، أو كبير، ولا يشك أنه سيسبقه؛ فحينئذٍ لا شك أنه سيأكل المال بالباطل؛ لأنها ليست مسابقة حقيقية. وبناءً على ذلك: لابد وأن يكونا متحدين في القوة متحدين في العدو، وبينهما اتحاد من جهة الوصف، هناك فرق بين اتحاد النوع واتحاد الوصف، فإذا اتحدا على وجه لا يأمن معه أن يسبق زميله، أو رفيقه أو منافسه صحت، أما إذا كان الاتحاد المراد به اتحاد النوعين فلا. وعلى هذا فإنه إذا كان اختلاف النوعين مؤثراً صح ما ذكره المصنف في حالة فقط وهي: أن يكون أحدهما عرابياً والثاني بختياً وتكون البختية ثقيلة، والعرابية سريعة العدو؛ فحينئذٍ يترجح قول المصنف رحمه الله، لكنه على سبيل الخصوص لا على سبيل العموم. فالخلاصة: أنه من حيث الاتحاد، عند اتحاد الجنس، واتحاد النوع، واتحاد الصفة، هناك ثلاث مراتب: فاتحاد الجنس: أن تكون -مثلاً- كلها من الإبل، ولو أن هناك جنساً عاماً وجنساً خاصاً، فالمراد هنا أنها من جنس الإبل الخاص. وأما اتحاد النوع فإن الإبل فيها العرابية وفيها البختية، فالعرابية لها سنام واحد، والبختية لها سنامان، فإذا قلت: يشترط -أيضاً- اتحاد النوع، فحينئذٍ لا يصح أن يسابق بين عرابية وبختية. ولكن الصحيح أنه يجوز أن يسابق بين العرابية والبختية، بشرط: اتحاد القوة، وعدم أمن السبق، كما ذكرنا، وفي هذه الحالة نشترط اتحادهما في الصفات من جهة السرعة والعدو، وليس المراد اتحادهما من جهة النوع، كما ذكرنا. والدليل على أنه لا يشترط الاتحاد: عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (أو خف)، فالإبل إذا كانت عرابية أو بختية فهي ذات خف، وقد عمم النبي صلى الله عليه وسلم في المسابقة بين ذوات الخف، سواء أكانت متحدة النوع أم مختلفة النوع، فيبقى على هذا العموم. فالذي يظهر -والعلم عند الله- أنه لا يشترط اتحادهما من جهة النوع.

تعيين الرماة

تعيين الرماة قال رحمه الله تعالى: [والرماة]: أي: لابد من تعيين الرماة، والرماة: جمع رامٍ، وتعيين الرماة كأن يقال: فلان، وفلان، أو نترامى أنا وأنت ومعنا فلان، فيتحدد الأشخاص الذين يريدون أن يتسابقوا على الرمي. قلنا: لابد من تحديد الرماة حتى يتحقق ما ذكرناه من عدم أمن السبق، ويكون هناك نوع من التكافؤ بين الرماة، فلابد أن نعلم أشخاص الرماة حتى يغلب على ظننا تكافؤهم، وحينئذٍ يتحقق المقصود من المسابقة، أما لو كان أحد الراميين مريضاً هزيلاً مثلما ذكرنا في الخيل فلا يتأتى؛ لأنه لا يُشك حينئذٍ أنه سيحوز سبقه وسبق صاحبه.

تعيين المسافة وتعيين الهدف

تعيين المسافة وتعيين الهدف قال رحمه الله تعالى: [والمسافة بقدر معتاد]: أي: ويجب تعيين المسافة، وهذا في حالة الرمي، فيجب تعيين الرماة، وتعيين المسافة التي يُرمى لها -مثلما ذكرنا في المزاريق- فإذا أرادوا أن يصيبوا هدفاً، أو يتراموا بالبعد، -كما قال بعض العلماء: إن النصل عام يشمل رمي الهدف ورمي البعد- فإذا قلنا: إنه يشمل رمي الهدف والبعد، فإنه ينبغي في هذه الحالة إذا أرادوا أن يرموا هدفاً-: أولاً: تحديد هذا الهدف، فما هو الهدف، أو الغرض الذي يراد أن يرمى ثانياً: تحديد مكان الإصابة، فتحدد -مثلاً- دوائر، يقال: الدائرة الأولى، الدائرة الثانية، الدائرة الثالثة. أو يوضع شيءٌ في داخل الغرض، ويقال: على إصابة هذا شيء، وعلى إصابة ما في هذا العمود شيء آخر، فلابد من تحديد الهدف. وكذلك لابد من تحديد قدر الإصابة، وعدد الإصابة، كتحديد الرمي بعشر طلقات لكل واحد. وإذا قلنا: إن النصل للهدف وتعيين الهدف -لأن هذا مما يستعان به على الجهاد- فإنهم إذا تراموا لإصابة هدف معين، فتارة يكون كل شخص أمامه غرضه فيقال: تضرب عشر طلقات، ويكون هناك -مثلاً- مواضع مرتبة فيضرب فيها. فتحدد عدد الطلقات، ويقال: لك عشر طلقات، فانظر كم تصيب منها، إما أن تصيبها كلها، أو تصيب أكثرها، فننظر أيهما أكثر إصابة، فيمكن حينئذٍ التفاضل من جهة كثرة الإصابة. وتارة يقول أحدهما لصاحبه: ترمي طلقة وأرمي طلقة، على أن نصيب غرضاً معيناً، أنا أرمي ثم ترمي أنت، وترمي أنت ثم أرمي أنا. فالأول على عدد الإصابات، والثاني على مطلق الإصابة، ثم قد يتحدد مطلق الإصابة، فهناك إصابة الهدف دون جرحه، وإصابة الهدف بجرحه، وإصابة الهدف بخزقه، وكلها لها مراتب معينة. فالمقصود في الجهاد في سبيل الله عز وجل قوة الرمي بحيث إذا رمى في سبيل الله يكون رميه قوي الوقع. فهو إذا رمى بالسهم حال السبق فلقوته ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: أن يصيب السهم ويخرق وينفذ، فهذا سهم نافذ، وهذا أبلغ ما يكون في الإصابة، فيقال: لا يعطى العوض إلا لمن يخرق سهمه، فإذا أصبح شرطاً، فلا عوض ولا سبق إلا لمن خزق وخرق ونفذ السهم. النوع الثاني من الإصابة: أن يصيب ويبقى في نفس الشيء المصاب، فلا يخزق، لكن يتعلق به، فيكون السهم معلقاً، وهي الدرجة الثانية من الإصابة. الدرجة الثالثة من الإصابة: أن يصيب ويسقط فلا يثبت؛ لأنه يشد الوتر، فإذا كان رميه قوياً فإنه يثبت؛ لأن النصل يثبت في الهدف، فإذا كان الرمي قوياً خزق كما ذكرنا، وإذا كان دونه في القوة ثبت، وإذا كان ضعيفاً ضرب ثم سقط، فإن ضرب ثم سقط فتارة يجرح، وتارة لا يجرح. فإذاً كل هذه تفصل وترتب، وفي زماننا قد يكون هناك نوع آخر من الإصابة، كما هو معلوم في علم الرماية، على حسب ما هو معروف في أعراف الرماة وتراتيبهم. فالمهم أنه لابد من التعيين؛ لأن التعيين ينفي التنافس وينفي الشحناء، فإذا حدد الهدف، وحددت إصابة الهدف، وعدد الإصابة، وطريقة الإصابة، فإنه لا يأخذ السبق حينئذٍ إلا من كان مصيباً على الوجه الذي اتفق عليه بين الطرفين.

التكييف الشرعي للسبق والعوض فيه

التكييف الشرعي للسبق والعوض فيه

السبق جعالة

السبق جعالة قوله رحمه الله تعالى: [وهي جُعالة لكل واحد فسخها]: (وهي): أي المسابقة. (جُعالة) الجُعالة من الجُعل، والأصل فيها قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72]، فقد جعل يوسف عليه السلام لمن جاء بصواع الملك حمل بعير، وهذا من باب الجُعل، والجُعل يكون للأشياء المحتملة الوقوع. تقول مثلاً: من أحضر بعيري الشارد أعطيه مائة، أو من أحضر ساعتي الضائعة، أو قلمي المفقود، أو كتابي الضائع، أو ابني، أو سيارتي، أو أي شيء ضائع منك، من أحضره فله كذا وكذا، فالشيء الذي تجعله هو الجُعل، ويقع في كثير من الأشياء. وأصلها من السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أبا سعيد وأصحابه على أخذ الجعل كما في حديث الرقية قالوا: (اجعلوا لنا جُعلاً فجعل لهم الجعل قطيعاً من الغنم) فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فالجُعالة سيأتي -إن شاء الله- بيان أحكامها ومسائلها. فإذا قال له: إذا سبقتك فلي مائة، وإذا سبقتني فلك مائة؛ فحينئذٍ يكون الجعل هو المائة وهي جعالة، إذا قلت: إنها جعالة تسري عليها أحكام الجُعالة.

من أحكام الجعالة

من أحكام الجعالة ومن أحكام الجُعالة: أنها لا تستحق إلا بالقيام بالشيء المشروط على التمام. ولذلك لو قلت لشخص: إذا أحضرت سيارتي المفقودة أعطيك عشرة آلاف، فبحث خمس سنوات عن السيارة، فلا يستحق شيئاً إذا لم يأتِ بها، فلا يستحق الإنسان الجُعل إلا إذا قام بالعمل تاماً كاملاً. وعلى هذا تتفرع مسائل منها:

عقد الجعالة هل هو جائز أو لازم؟

عقد الجعالة هل هو جائز أو لازم؟ أن عقد الجُعالة كما سبق وأن ذكرنا في أول كتاب البيوع، عندما ذكرنا أنواع العقود اللازمة وغير اللازمة، أن عقد الجعالة من العقود الجائزة في أول الحال، اللازمة في آخر الحال، أي: هو جائز ويئول إلى اللزوم. وبناءً على ذلك لو قال له: تسابقني على مائة، أو نتسابق على ألف، فالألف جُعل، فإذا قلت إنها جُعالة في ابتداء العقد لو قال: قبلت. ثم بعد دقيقة قال: رجعت، فمن حقه؛ لأنها ليست بلازمة إلا إذا دخل في المسابقة. فلا تلزم إلا إذا حصل السبق، فإذا دخل في المسابقة -أيضاً على هذا القول الذي اختاره المصنف- فلا تلزم إلا إذا سبقه، فإذا سبق أحدهما الآخر، وجاء الآخر يريد أن يرجع، فليس من حقه، ولزمه ما اتفقا عليه، فلو قال أثناء المنافسة: أنا رجعتُ، قبل أن يسبقه، كان له حق الرجوع. فإذاً تكون جائزة ما لم يسبق أحدهما الآخر، فإذا تقدم أحدهما على الآخر لزمته وصارت مستحقة، وهذا إذا كانا مع بعضهما، وكان الجُعل من أحدهما. أما لو دخل المحلل بينهما، فقال بعض العلماء: تصير لازمة بدخول المحلل؛ لأنه طرف أجنبي التزم له، وقال بعض العلماء: تبقى جُعالة؛ لأن الجُعل أيضاً للمحلل كما هو لواحد منهما. وهذا القول طبعاً في المذهب على أنها جُعالة سواء أدخل المحلل أم لم يدخل، وهذا من حيث الأصل، لكن قال بعض العلماء من مذهب المالكية وطائفة: عقد المسابقة من حيث الأصل لازم من أول الحال، ويرون أن الاثنين إذا اتفقا على المسابقة وقال الأول: نستبق على كذا وكذا، وقال الآخر: قبلت. لزمه الوفاء بما اتفقا عليه؛ لعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فيرون أنها عقد لازم من أول الحال وثاني الحال، وليس من حقه الرجوع.

المناضلة وحكمها

المناضلة وحكمها

المناضلة يقصد بها التقوي على الرمي في سبيل الله عز وجل

المناضلة يقصد بها التقوي على الرمي في سبيل الله عز وجل قال المصنف رحمه الله تعالى: [وتصح المناضلة على معينين يحسنون الرمي] شرع المصنف رحمه الله تعالى في بيان مسألة المناضلة، وهي من المسائل المتعلقة بباب السبق، وذلك أن المناضلة -وهي الرمي بالسهم التام، الذي له نصل وريش في قول بعض العلماء رحمهم الله تعالى- المقصود منها أنها تعين على الرمي في سبيل الله عز وجل، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح الذي تقدمت الإشارة إليه- قوله: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر)، والشاهد منه قوله عليه الصلاة والسلام: إلا في نصل). والرمي بالسهام يتقوَّى به المسلم على الجهاد في سبيل الله تعالى، ولذلك لا يراد من السباق أن يغلب أحد المتسابقين الآخر، وليس المقصود من وجود السباق في الرمي تنافس الفريقين، إنما المقصود تقوية النفوس وشحذ الهمم على مراعاة هذه الخصلة التي هي من فروسية الجهاد في سبيل الله عز وجل، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] أنه قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إن القوة الرمي، إلا إن القوة الرمي، إلا إن القوة الرمي)، وهذا الحديث الصحيح يدل دلالةً واضحة على أن استعانة المسلم بقوة الرمي في سبيل الله عز وجل مقصودةٌ شرعاً. ومن هنا أجاز الشرع المسابقة بالرمي، وقال بعض العلماء: إنها من أفضل أنواع الفروسية، وذلك لأن النكاية به في العدو أبلغ، ولذلك أدخل الله تعالى الجنة بالسهم الواحد يُرمَى به في سبيل الله عز وجل ثلاثةً: مَن صنعه يحتسب أجره عند الله عز وجل، ومَن براه يحتسب أجره عند الله سبحانه وتعالى، ومَن رمى به في سبيل الله عز وجل يحتسب أجره عند الله سبحانه، وهذا يدل على فضل هذه الخلة والخصلة من خصال الفروسية، لما فيها من عظيم الثواب عند الله سبحانه وتعالى، وعلى هذا قال العلماء: تصح المناضلة. وتقع المناضلة والمسابقة إما بين شخصين، أو أكثر من شخصين، ثم إذا كانوا أكثر فإما أن يكون كل شخص على حدة، وإما أن يكونوا طوائف ومجموعات، وكل ذلك جائز ومشروع، ولذلك بيّن المصنف رحمه الله جوازها، وشمولها لهذه الأحوال كلها. فلو أن شخصين أرادا أن يتسابقا في الرمي بالسهم، فحينئذ لا بد من تحديد الغرض، وتحديد مقدار الرمي، عدد الرميات وعدد الإصابة، وتقدم معنا بيان وجه اشتراط ذلك، دفعاً للتنازع والخصام. وكذلك معرفة من هو الآخر ومن هو السابق؛ لأنه إذا كان المقصود المسابقة فلا بد أن يظهر أحد الاثنين على الآخر، أو تظهر إحدى المجموعتين على الأخرى، وذلك يفتقر إلى تحديد الإصابات ونوع الإصابة، وإذا حدد الغرض، بعض العلماء يقول: يجعلون غرضين، يصاب الغرض، ثم يصاب الغرض الثاني، وحملوا ذلك على قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ما بين الغرضين روضة من رياض الجنة)، ولكن الحديث ضعيف، وأثرت بعض الآثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا ينتضلون، ويترامون بالسهام، والمصنف رحمه الله أطلق المسألة وقال: تصح المناضلة، ولا شك -من حيث مقصود الشرع- أن تصحيحها مبني لتقوية النفوس على الجهاد كما قلنا.

التشجيع في المناضلة وطلب العلم

التشجيع في المناضلة وطلب العلم نبه بعض العلماء، وبعض المتقدمين رحمهم الله تعالى على أنه لا يجوز أن تجعل المناضلة وسيلة لإثار الشحناء والبغضاء، فإذا حضر المناضلة أشخاص آخرون غير المترامِيْنِ فلا ينبغي أن يشجع أحدهم الآخر على وجه يوغر به صدر الآخر على أخيه، ولذلك قالوا: إنه ينبغي أن يكون ذلك على وجه يعين على الإحسان لا على الفرقة، ولا على الشحناء ولا على الخلاف، ولا على إغارة الصدور بعضها على بعض؛ لأنه إذا ذموا المقصر وأهانوه وأذلوه، أوغر ذلك صدره على أخيه المسلم، فبدل أن تحصل المصلحة للجهاد في سبيل الله عز وجل من اجتماع القلوب واجتماع المسلمين على القوة في سبيل الله عز وجل -ومن أعظم ذلك-: اجتماع القلوب، يصبح العكس، والله تعالى قرن افتراق القلوب بالفشل فقال سبحانه وتعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]. ومن هنا: إذا كانت المسابقة في الرمي بالسهام فيها إغارة للصدور بعضها على بعض، فإن هذا يؤدي إلى مفسدة قد تفوق المصلحة التي من أجلها شرع الرمي. ولذلك نبه العلماء رحمهم الله تعالى على أنه لا يجوز عند الانتضال بالسهام أن يُذَمَّ من قصر، وأن يمدح الذي أصاب على وجه تحدث به الفتنة، وفرعوا على ذلك مسائل، منها: مسألة المدح لطالب العلم إذا أصاب والذم لمن قصر من طلاب العلم، وهذه المسألة اختلفت فيها أقوال العلماء رحمهم الله تعالى، فمن أهل العلم من قال: الأفضل للعالم والأتم له والأكمل أن يُنقي علمه، وألا يمتحن طلابه بالسؤال؛ لأنه ربما سأل الطالب أمام الناس وفتن، وأصابه العجب وأصابه الرياء بالجواب أمام الناس، وفي ذلك مفسدة قد تفوق المصلحة التي من أجلها شرع العلم، ولأنه لا يؤمن عليه من العجب، وغير ذلك من المفاسد التي قد تترتب على بروز الشخص وظهوره، وقد يكون الذي يجيب عند طرح السؤال صغير السن، وإذا تصدر الحدث افتتن، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (إذا تصدر الحدث افتتن)، قالوا: ولأن طالب العلم إذا لزم في مجالس العلم السكينة والوقار والاستماع، فإن ذلك أتم للخشوع وأكمل للوقار، وأعظم في هيبة العلم، وأعظم في السكينة، خاصة وأنه يكون بعيداً عن الرياء، وبعيداً عن ما يشوش فكره عن التركيز لفهم المراد. وقالوا أيضاً: والغالب من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وفعله أنه لم يكن يمتحن أصحابه، ولم يكن يسألهم، وإنما كان يلقي العلم، ولأنه ربما سأل طالب العلم، وكان في ذلك الوقت مشغول البال بهم أو غم أو كرب نزل به، أو شرد ذهنه بسبب ضعف البشر، فإن الإنسان يسهو في صلاته فضلاً عن مجلس العلم، قالوا: فلا يأمن أن يكون من خيرة طلاب العلم فيسأله أمام الناس فيحرجه، ولأجل هذه المفاسد كلها قالوا: الأفضل والأكمل أن يقتصر على إلقائه للعلم، وأن لا يكون السؤال سبباً للفتنة. ومن أهل العلم من قال: إنه يستحب أن يسأل العالم طلابه حتى يتأكد ويتحقق أنهم فهموا ووعوا، وذلك لأن السؤال فيه إحراج للإنسان، فإذا أحرج المسئول خاف غيره السؤال، وهذا مجلسٌ للعلم، إلى غير ذلك مما ذكروه من مقاصد. وتوسط بعض العلماء في المجالس العامة، والمجالس الخاصة، فقالوا: إذا كانت المجالس لخاصة طلاب العلم، ويقصد منها الضبط، فالأفضل أن تقوم على السؤال والمحاورة، والمذاكرة والضبط، وأما إذا كانت عامة فيها من يحسن ومن لا يحسن، فلا شك أن القول بعدم السؤال أبلغ وأتم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الصحابة عن الشجرة، وسألهم عن مسائل خاصة في المجالس الخاصة، ولم يسأل في مجالسهم العامة، وقالوا: إن هذا أبلغ وأبعد عن الرياء، فالشاهد في مسألة مدح من يجيد وذم من يخطئ أنهم قالوا: إن المفاسد في ذلك عظيمة، والأفضل والأكمل أن يكون على هدي السلف الصالح من إلقاء العلم، دون تعرض لمدح من أحسن وذم من أصاب. إلا أنه لا بأس أن يمدح طالب العلم إذا غلب على الظن أن ذلك يشجعه على طلب العلم، ويقوي نفسه ويشحذ همته، وتؤمن الفتنة، أما إذا غلب على الظن أنه سيفتن، وسيغتر، وأنه يحب الظهور ويحب المدح، فلا شك أنه لا تجوز إعانته على ما لا يرضي الله عز وجل، ومن تأمل هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي الأئمة والسلف فإنه يجد أن هديهم على إلقاء العلم دون تعرض للسؤال حتى كان بعض العلماء يقول: لا أحب للعالم أن يسأل طالب العلم: أفهمتَ؟؛ لأنه يُخشى أن يجامله فيقول: فهمت، فيكذب، فيحمله على الكذب. فالأفضل والأكمل أن يدعه لله تعالى، ولا شك أن طالب العلم إذا تُرك لله عز وجل، وتُرك أمره فيما بينه وبين الله عز وجل، لا شك أنه سيصيبه الخير إن أخلص، ويحرم -والعياذ بالله- على قدر ما فاته من الإخلاص.

شروط المناضلة

شروط المناضلة وعلى هذا فإنه تصح المناضلة وتشرع، وتوضع على ذلك الجوائز، ولا بأس بوضع الحوافز للمتسابقين في الرمي، ولا بد من التحديد، تحديد المجموعتين، كما تقدم معنا في شروط الرمي، أنه لا بد من تحديد الراميين، فيقال: فلان وفلان، وهذا الشرط الأول. الشرط الثاني: أن يكون الذي ينافس ويسابق قادراً على الرمي وعنده إحسان للرمي، فلو كان جاهلاً بالرمي، ولا يحسن الرمي فإنه لا يسابق؛ لأن الغالب أنه سيُغلب، وبذلك تكون المسابقة على غير وجها، فلا بد أن يكون محسناً للرمي. الشرط الثالث: أن يحدد الهدف الذي يصاب، ونوعية الإصابة وعدد الإصابة. وقد ذكرنا أن نوعية الإصابة تختلف بقوة الرمي، فهناك إصابة بالسهم تجرح الغرض، ولا يثبت السهم في المكان، وهناك إصابة يثبت فيها السهم ولا يُخرق الهدف، وهناك إصابة يخرق فيها الهدف، وفي زماننا يشرع أن تكون المسابقة على إصابة الغرض والهدف بالطلقة النارية الموجودة في زماننا، وَتعلُّْمُ ذلك يُعتبر من الفروسية، ويعتبر من الأمور المحمودة؛ لأن المسلم يستعين بذلك على الجهاد في سبيل الله عز وجل، ويكون فيه ما ندب إليه من إعداد القوة، كما أمر الله سبحانه وتعالى بذلك في كتابه المبين.

الأسئلة

الأسئلة

استحقاق الأجير المشترك الأجرة مع ضمان التلف

استحقاق الأجير المشترك الأجرة مع ضمان التلف Q في حالة عدم تضمينه لما تلف من حرزه، فهل يأخذ الأجرة؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالأجير المشترك لا يستحق الأجرة، لا في حال التفريط ولا عدم التفريط ما لم يسلم العين المتفق على العمل فيه، والقيام به فيها. وبناءً على ذلك تفوت أجرته بفوات العمل؛ لأنه لم يسلم العمل، فيستوي أن يكون مفرطاً أو غير مفرط؛ لأن التسليم للعمل لم يقع، والقاعدة عندنا في الأجرة: تسليم العمل، فإذا لم يسلم العمل فإنه لا يستحق الأجرة سواء أكان فوات المحل بتفريط، أم بدون تفريط. والله تعالى أعلم.

الحوافز في العلم الشرعي

الحوافز في العلم الشرعي Q ما هو الأفضل بالنسبة لتعليم الصغار ونحوهم، من حيث إعطاء الحوافز وعدمه؟ A أما من حيث العلم الشرعي، فلا شك أن تربية الصغير والكبير على الإخلاص لله الذي هو عماد الدين، والذي لا يقبل الله القول والعمل إلا به أن ذلك هو الأساس، والذي ينبغي التعويل عليه والحرص عليه. فإن النشء الصغير إذا نشأ من صغره على محبة هذا العلم، وإرادة وجه الله عز وجل وأن لا يأخذ على علمه شيئاً إلا مرضاة الله سبحانه وتعالى، فإن ذلك يشجعه ويحفزه على مواصلة علمه، وطلبه العلم لوجه الله، وابتغاء ما عند الله. فالواحد من مثل هؤلاء يعدل أمة من غيره. فلا يمكن أن يستقيم أمر العلم إلا بالإخلاص، ولا يمكن أن يستقيم أمر العلم إلا بإرادة وجه الله وحده لا شريك له كما قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]. فالإنسان إذا تربى من صغره على أنه يريد وجه الله ويتعلم لله، ويقرأ لله، ويكتب لله، ويريد ما عند الله عز وجل، كان ذلك توطئةً لنفسه على الخير، ومحبة المعاملة مع الله عز وجل. فتجده أصبر على طاعة الله، وأقوى على مرضاة الله، ومنذ الصغر وهو لا يعرف إلا إرادة وجه الله سبحانه وتعالى. وهكذا تربى السلف، وتربى أبناؤهم، وتربى صغارهم، وتربى على ذلك صغيرهم ونشأ عليه كبيرهم، وهم لا يريدون إلا وجه الله. ولكن إذا دخلت الحوافز، ودخلت الدنيا، وهم في الصغر فليس في عقولهم ما يمنعهم من حقد بعضهم على بعض، وإغارة صدور بعضهم على بعض، وكراهية بعضهم لبعض، ولقد رأيت بعيني من بعض الزملاء حينما كانوا يتنافسون في بعض المسابقات يحقد بعضهم على بعض، ويشتم بعضهم بعضاً، ووالله لقد سمعت بأذني ممن هم من حملة القرآن، إذا تنافسوا في مسابقته، سب بعضهم بعضاً، وعاب بعضهم قراءة بعض، بسبب دخن الدنيا، حتى إنني سمعت من يقول: سأدعو الله أن لا تتفوق عليّ، وأن لا تتقدم عليّ، وأن لا يكون كذا، وأن لا يبارك لك في ما تأخذ. كل هذا من فتن الدنيا، كما قال صلى الله عليه وسلم (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم ما يفتح الله من زهرة الدنيا فتتنافسوها كما تنافسها من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم)، فلا يمكن للإنسان أن يجد لذة هذا العلم إلا بالمعاملة مع الله وحده لا شريك له. فإذا أراد وجه الله وامتلأ قلبه بالله سبحانه وتعالى، سهرت عيناه وتعب جسده، وتغرب وهو يجد أنه في لذة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، وخرج من أجل أن يعلم الناس، ولو مشى آلاف الكيلو مترات، ولو إلى الأقطار والأمصار وهو يتلذذ بكل ثانية؛ لأنه يعلم أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. لأنه يعلم أن هذه الخطوات، وأن هذا التعب والعناء والجد والتحصيل، أن ذلك كله يُخطُّ في صحيفته وتخطها ملائكة حافظون لا يغشون ولا يكذبون، ويلقاها أمام عينه في يوم ينفع الصادقين صدقهم. فالإنسان لا يمكن أن يربي نفسه في هذا العلم، وأن يقيم علمه على الصراط المستقيم، وأن يقوم بحق هذا العلم إلا بالإخلاص وإرادة وجه الله سبحانه وتعالى. قال الحسن البصري رحمه الله: (لا يزال الرجل بخير إذا قال قال لله، وإذا عمل عمل لله. (فأساس الأمور كلها في الدين العلم الذي قرنه الله بالإيمان، فقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] فما رضي بشيء يقرن بتوحيده إلا العلم. وذلك لشرفه وعلو مقام أهله عند الله سبحانه وتعالى، وتكفل بأجره فقال: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) ثم قال: (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ). فمعنى (أوتوا) أنه ليس لهم الفضل في هذا العلم حتى يدخلوه في الدنيا، أو يتكالبوا به على الدنيا، وإنما أريد به وجه الله، فهو عطية من الله، ويبتغى به ما عند الله، والثواب في ذلك كله من الله سبحانه وتعالى. فالواجب على طلاب العلم صغاراً وكباراً تربية أنفسهم على قصد وجه الله عز وجل، وينبغي على كل معلم، وكل مربٍّ أن يوطن طلابه ومن يربيهم على إرادة وجه الله عز وجل، فتجد الواحد من أمثال هؤلاء الذين يتربون في مدرسة الإخلاص يفوق أمة ممن يحفظون الكتب، حتى ولو لم يحفظ القرآن، فلو حفظ مثل هذا عشر آيات طيبة زاكية خالصة، وقلبه فيه تقىً لربه سبحانه وتعالى، كان هذا خيراً من الدنيا وما فيها، ممن يحفظ القرآن كله من أجل أن ينال شيئاً من عرض الدنيا. فلذلك تمحق البركة، وتذهب البركة، وتجد الشخص يحفظ القرآن، ويحفظه العشرات، ويحفظه المئات، لكن ليس لهذا الحفظ أثرٌ ولا بركة؛ لأنه إذا دخلت الدنيا ودخلت دواخل الدنيا أفسدته. ووالله لا يجتمع في قلب عبد آخرة ودنيا إلا غلبت إحداهما؛ فإما أن يريد الآخرة ويكون تقياً نقياً، وإما أن يريد الدنيا. وهذا في كل شيء من العلم، ليس في التحرير فحسب وليس في الكتابة فحسب، وليس في مجالس العلم فحسب، بل في كل مجلس تحضر فيه مجالس العلم فلتفتح عما في قلبك، لترى هل تريد ما عند الله؟ أو غير ذلك؟ فإن وجدت غير الله فاتق الله واستغفر، وقل: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، اللهم إني أسألك العفو، اللهم إني قد أذنبت، اللهم إني قد أسرفت، فقد كان السلف يتهمون أنفسهم في الإخلاص، فكان سفيان الثوري رحمه الله يقول: (ما وجدت مثل نيتي إنها تتقلب عليّ) تتقلب ألواناً من فتن الدنيا، ونحن تارة نقول: نشجعهم، وتارةً نقول: نحمسهم، فلا تجد إلا مبررات، ولا يمكن أن يحصل الإنسان على الإخلاص إلا إذا سار على منهج السلف الصالح رحمهم الله، فقد كان لحافهم السماء، وبساطهم الأرض، مرقعة ثيابهم، وكانوا حفاة الأقدام، ولكنهم أغنياء بالله سبحانه وتعالى، أغنياء بالإخلاص وإرادة وجه الله، فحفظوا دواوين العلم وحفظوا دواوين السنة، والرجل يمسي ويصبح وهو جائع لا يجد الطُعمة، حتى أن طلاب الحديث -رحمهم الله برحمته الواسعة- كانوا يجلسون، فربما يمضي على الرجل اليوم الكامل ولا يجد طعامه، فيجلس من أجل أن يهيئ الطعام فيقال: إن الشيخ فلان قد عقد مجلس الحديث فيترك طعامه وينتقل إلى ذلك المجلس جائعاً، من أجل أن يحفظ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا الإخلاص الذي سمت به الأمة وزكت، وأصبحت علومها خالدة تالدة؛ لأن الله نظر إلى قلوب أهلها فعلم أنهم لا يريدون إلا وجهه، وما أريد به وجه الله بقي، وما أريد به ما عند الله كمُل وشرُف وحسُنت عاقبته في الدنيا والآخرة. فلا يمكن أن نصلح الأبناء والصغار والكبار إلا بالتوحيد والإخلاص، فهذه هي العقيدة وهذا هو الأساس الذي ينبغي أن ينبني عليه هذا العلم. لكن إذا أصبح الطفل يتحمس لحفظ هذه السورة بمال، ثم بعدها بمال، ثم إذا حفظ السور نافس غيره للمال، أصبح جميعهم منذ الصغر وأنفسهم متربية على محبة المنافسة وإظهار النفس على الأقران، والطبع يغلب التطبع. فتجده كلما جلس في مجلس أراد أن يتميز على غيره، وأن يغلب غيره، حتى ولو لم يجد منافسة بمال ومسابقة جلس معك فقال: أسمعني وأسمعك؛ لأنه فتن في شيء لا يستطيع أن يملكه، خاصة إذا كان من الصغار، فلذلك ينبغي علينا أن نربي وأن ننشئ الصغار على الإخلاص. فإن قال قائل: لن يبقى أحد! قلنا: لو لم يبق إلا واحد يريد وجه الله، فهو بملء الأرض ممن لا يريدون إلا الدنيا. فهذه الأمور ينبغي التربية عليها، والتنشئة عليها وهي أساس الدين، إذ أساسه التوحيد والإخلاص وإرادة وجه الله عز وجل. نسأل الله بعزته وجلاله أن يجعل ما نتعلمه ونعلمه خالصاً لوجهه الكريم، اللهم اجعله خالصاً لوجهك الكريم، وما كان من دخن وما كان من خطأ وخلل، نسألك اللهم يا عفو يا كريم أن تعفو عنا وأن تسامحنا، وأن ترحمنا فيه، ولا تعذبنا، وأن تسامحنا فيه ولا تؤاخذنا، إنك ولي ذلك والقادر عليه. والله تعالى أعلم.

جهة إعطاء الجعل في السباق

جهة إعطاء الجُعل في السباق Q الجُعل ممن يكون في حال السباق؟ A سيأتي تفصيل هذه المسألة، وبيان الصور التي يكون فيها الجُعل من أحد المتسابقين، وتارة يكون من خارج عنهما، وتارة يكون الجُعل منهما معاً، ويدخل المحلل بينهما. هذه كلها صور للجُعل، وإذا كان الجعل من خارج عنهما، فتارة يكون من بيت المال وتارةً يكون من غيره، فمن سبق أحرز نصيبه ونصيب صاحبه، وتارة يدخل المحلل بينهما فيكون السبق بينهما مع وجود المحلل الذي لا يدفع شيئاً على التفصيل الذي سنبينه إن شاء الله. والله تعالى أعلم.

الفرق بين الرهان والسبق

الفرق بين الرهان والسبق Q نرجو توضيح مسألة ما إذا دخل اثنان في منافسة على أن يدفع كل واحد منهما للآخر؟ أثابكم الله. A جمهور أهل العلم رحمة الله عليهم على أنه لو تنافس الشخصان على أن يدفع كل منهما للآخر إن سبقه، فإنه في هذه الحالة لا بد من دخول المحلل، وهو شخص ثالث عنده قدرة على أن يسبقهما، هذا الشرط الأول: أنه لا يؤمن سبقه؛ فإذا كان يؤمن سبقه وكان ضعيفاً فيكون وجوده وعدمه على حد سواء فلا يفيد. مثلاً: لو أنهما تسابقا بفرسين، فقال أحدهما: أعطيك عشرة آلاف إن سبقتني، وتدفع لي عشرة آلاف إن سبقتك، قال: قبلت، فلا بد من دخول المحلل؛ لأنه إذا لم يدخل كان قماراً، وهذا مذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم، وفيه حديث تكلم العلماء على سنده، لكن العمل عليه عند جمهرة أهل العلم، وهذا هو الصحيح الذي عليه العمل والفتوى عند الجمهور: أنه لا بد من دخول المحلل بينهما، لما في ذلك من قطع معنى القمار والغرر، والمخاطرة بين الطرفين. الشرط الثاني: أن لا يدفع لأحد الطرفين، يكون محللاً ويدخل بدون دفع شيء، فإن سبقهما أحرز السبقين، وإن سبق أحدهما أحرز الذي وعد به، وسبق صاحبه. بمعنى: لو قلت: إن سبقتني لك عشرة آلاف، وإن سبقتك لي عشرة، فإن سبقتني لك مني العشرة التي وعدتني بها، وأخذت العشرة مني، والعكس أيضاً فإن سبق هذا الثاني أحرز السبقين. وبناء على ذلك قالوا: إنه لا بد من دخول المحلل بينهما قطعاً للقمار، ولا شك أن صورة القمار ظاهرة فيه ما لم يدخل المحلل بينهما، والعمل على هذا الحديث؛ لأن الضعف فيه من جهة الحفظ، وليس من جهة الوضع والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعناه صحيح ومتنه قوي، ولذلك لا بد من دخول المحلل بين الطرفين، والله تعالى أعلم.

وصايا في طلب العلم والثبات على طاعة الله عز وجل

وصايا في طلب العلم والثبات على طاعة الله عز وجل Q أنا شاب ملتزم قريباً، وأنا في حيرة، فبم تنصحني في كتابة العلم؟ ومع من أسير في هذا الطريق؟ A أوصيك أخي في الله: أولاً: أن تحمد الله سبحانه وتعالى، قل: الحمد لله الذي هداني لهذا، وما كنت لأهتدي لولا أن هداني الله، وإن الله تعالى قد تأذن بالزيادة لمن شكر، فقرن المزيد بشكره، ووعد سبحانه وتعالى أنه ما من عبد يشكره بقلبه وبلسانه، وبجوارحه وأركانه إلا أتم نعمته عليه. فاحمد الله عز وجل واشكر هذه النعمة أن أخرجك من الظلمات إلى النور، واحمد الله سبحانه وتعالى أن وجدت الشيء الذي طالما يتمناه كل مخلوق خلقه الله تعالى من أجل عبادته. أما الأمر الثاني بعد شكر الله عز وجل: فأوصيك بالثبات على طاعته، فإن من دلائل البركة في النعم أن يثبت الإنسان عليها، فإذا أراد الله أن يتمم عليك النعمة، وأن يبارك لك فيها، تممها بالثبات. ولذلك كان ابن عمر رضي الله عنهما كما ثبت عنه في الرواية الصحيحة، كان إذا رقى على الصفا قال دعاءه المشهور: (اللهم إنك أمرتنا بدعائك، ووعدتنا أن تستجيب، وإنك لا تخلف الميعاد، اللهم كما هديتني للإسلام فلا تنزعه مني أبداً حتى تتوفاني عليه). فكان يسأل الله عز وجل أن يثبته على الحق، وأن لا يزيغ قلبه؛ وهذه دعوة الصالحين، والأبرار المتقين، كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المبين حكاية عنهم: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]، فعليك بالثبات على هذا الخير. ومن أعظم الأمور التي يثبت الله عز وجل بها من اهتدى: الاستكثار من طاعة الله، والجد والاجتهاد في مرضاة الله، ألا وإن أفضل ما يستكثر به العبد من طاعة الله: كثرة ذكر الله عز وجل، فأكَثِر من ذكر الله بالاستغفار والتسبيح والتحميد والتكبير. إن الإنسان ربما تمضي عليه عشر دقائق يستطيع أن يستغفر فيها ما لا يقل عن مائة مرة، ولربما تجلس ربع ساعة وأنت تسأل الرجل كيف حالك، كيف أهلك؟ كيف إخوانك؟ ووالله قد تبلغ في بعض الأحيان مئات من التسبيح والاستغفار والتحميد والتكبير، وجرب ذلك. حين تكون جالساً للحظاتٍ يسيرة، وتستطيع في بعض الأحيان أن تستغفر عشرة آلاف مرة في خلال ساعة، أو ساعة ونصف، فهي كنوز عظيمة وأجر عظيم ونحن في غفلة عنها، ومثل هذا الذكر هو الذي يثبت الله به قلب العبد على طاعته، فإن الله يقول: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]. ولا يزال العبد في حرز من الشيطان، وحرزٍ من الخذلان، وحرز من الخيبة والخسران، ما ذكر العظيم الرحمن، فلذلك أوصى الله بذلك عباده المؤمنين فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ} [الأحزاب:41]، وما وقف عند هذا حتى قال: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42]، فأكثر من ذكر الله عز وجل واستكثر من الخير. ومن أهم الأسباب التي تعين على الثبات، وتجعلك على خير، وتفتح لك أبوب هذا العلم: برك لوالديك، فبعد ذكرك وكثرة ذكرك لله عز وجل بالاستغفار والتسبيح والتحميد، وغير ذلك مما شرعه الله من ذكره، وقراءة القرآن، تبر والديك، فإن الله يفتح لك أبواب الرحمة، فرضي الله عمَّن أرضى والديه. أمَّا ما سألت عنه من العلم فأوصيك أخي في الله: أولاً: بالإخلاص الذي يبارك الله به في قولك، وعملك، وظاهرك، وباطنك، وليلك، ونهارك، فلا يبارك لطالب العلم في علمه إلا بالإخلاص، كما ذكرنا. ومن الإخلاص أن لا تخرج من بيتك لأي مجلس من مجالس العلم، ولا تخرج لمحاضرة، ولا تخرج لزيارة أخٍ لك في الله، إلا وأنت تريد ما عند الله عز وجل، ودائماً تتهم نفسك بالتقصير، وإذا وجدت في نفسك التقصير فالجأ إلى الله سبحانه وتعالى أن يجبر كسرك، وأن يغفر ذنبك، فإن الله غفور لمن استغفر. ثانياً: إذا رزقك الله الإخلاص، فعليك أخي في الله أن تحرص على كل كلمة تسمعها، فإن أرفع الناس منزلة في العلم من جمع فأوعى، وأعظم الناس أجراً في هذا العلم من ضبطه على أتم الوجوه وأكملها. ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم لمن حفظ هذا العلم على أتم الوجوه وأكملها، فقال عليه الصلاة والسلام: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع). فيحفظ الإنسان هذا العلم حفظاً متقناً، وأنت تعلم أن الله يرضى عنك ذلك، وأن الله يحب منك ذلك، واعلم أن من دلائل الإخلاص إتقان هذا العلم، فلا تُضع منه كلمة. واعلم أن من الأمور التي تعينك على عدم تضييع شيء في مجلس العلم: ألا تنتقص نفسك وتحقرها؛ لأن الشيطان دائماً يقول لك: من أنت حتى تفهم كل ما يقوله الشيخ؟ ومن أنت حتى تضبط كل هذا المجلس؟ أبداً والله لقد جلسنا في العلم ونحن لا نفقه شيئاً، ونقول هذا اعترافاً بفضله سبحانه وتعالى، ووجدنا قوله تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]. فالله إذا علم من قلبك أنك تحب إتقان العلم فتح عليك، ويسر لك وأعانك، فلا معين غيره، ولا ميسر سواه؛ فلتكن عندك همة صادقة في حسن الظن بالله، فإذا جلست للعلم فلا تقل: لا أفهم هذا الكلام كله، فقد جلسنا في مجالس العلم وكنا صغاراً ولم نكن نفهم كثيراً مما يقال، فما مضت فترة إلا وأصبحت هذه الكلمات مثل الغذاء لأرواحنا، نهلك إذا جعنا ونحس بالظمأ إذا افتقدناها. فالإنسان ينبغي عليه أن يوطن نفسه دائماً على حسن الظن بالله، ولو أن أي شخص إذا أتى إلى أي مسألة، أو مهمة، أو عمل، وهو لا يفقه في هذا العمل شيئاً، وقيل له: إذا ما أتقنت هذا الشيء سيحدث كذا، أو يصير كذا، فإنه سيحصل كل صغيرة وكبيرة. فالنفس فيها طاقة، وفيها قوة، ولكن الإنسان ينبغي أن يعلم أن هناك شيطاناً يخذله، وأن هناك عدواً لدوداً يقول له: من أنت حتى تفهم؟ من أنت حتى تعلم؟ ومن أنت حتى تكون عالماً؟ قل: إن الفضل كله لله، فالفضل كله لله سبحانه وتعالى، وإنما عليك أن تحسن الظن بالله تعالى. فقد كنا نسمع بعض المسائل ونحن في ابتداء طلب العلم، وما كنا نظن أننا سنسأل عنها وكان المشايخ يوصون بضبطها وإتقانها، حتى سئُلنا عنها في الأمم، وأفدناها وانتشرت بين الناس، وما كنا نظن أنه يأتي اليوم الذي نُبلى فيه هذا البلاء الحسن. ولكن من تعب وجد واجتهد، وكانت له البداية المحرقة، فإن الله يجعل له النهاية المشرقة، فمن جد وجد، ومن زرع حصد، وإن المعروف لا يبلى والخير لا ينُسى، والله جل وعلا لا يضيع أجر من أحسن عملا. فتتقن هذا العلم، ولا تقل: إني صغير، فأنت كبير بهمة صادقة وبنية صادقة مخلصة لوجه الله عز وجل، وبجد واجتهاد، وترى -بإذن الله عز وجل- عواقب هذا الجد والاجتهاد حينما تمضي كل فترة وأنت تحس أنك تبني على أساس مستقيم. أما لو جلس طالب العلم في مجالس العلم وهو ضعيف وبنفس منهزمة، ويقول: هذا علم كثير والشيخ مستواه كبير فلن ينتفع، فما عليك إلا أن تجد وتجتهد، وتفرض على نفسك الواقع الذي تراه، وتحس برحمة الله بكل كلمة تسمعها، وفي كل حكمة تعلمها. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يجعل هذا العلم خالصاً لوجه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب العارية [1]

شرح زاد المستقنع - باب العارية [1] شرع الله تعالى جملة من الأمور ينتفع بها الناس، والعارية عقد من عقود المنافع التي تعم به البلوى؛ لأن الناس يحتاج بعضهم إلى بعض، وهي مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع، وهي مباحة أو مندوبة أو واجبة أو محرمة بحسب ما تستخدم له من وسائل.

أحكام باب العارية

أحكام باب العارية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب العارية].

تعريف العارية

تعريف العارية العارية مأخوذة من اعتوار الشيء، وهو تردده مرة بعد المرة وتكراره. وأما في الاصطلاح: فنوع من العقود يقصد منه تمكين الشخص من منفعة الشيء على سبيل البر والإحسان، وعرفها المصنف -رحمه الله- بأنها: إباحة منفعة العين، وعرفها بعض أئمة الحنفية والمالكية بأنها: تمليك المنافع بدون عوض، فالحنفية يقولون: تمليك المنافع مجاناً، والمالكية يقولون: تمليك المنافع المؤقتة بدون عوض، وهناك فرق بين أئمة الشافعية والحنابلة من وجه، وأئمة الحنفية والمالكية من وجه آخر، فعندنا طائفتان من العلماء: طائفة تقول: العارية إباحة. وطائفة تقول: العارية تمليك. وتوضيح ذلك: أن الشخص لو كان عنده بيت فأراد أن يعطي شخصاً منفعة السكنى، فيقول له: أعرتك بيتي تسكنه شهراً، أو تكون عنده سيارة فيقول له: أعرتك سيارتي تركبها هذا اليوم، أو أعرتك سيارتي تذهب بها إلى المدينة. فحينما يأخذ السيارة من الشخص فإنه يملك منفعتها، وليس له حق بيع السيارة ولا هبتها، ولا التصرف فيها بغير الانتفاع بالمنفعة، فبعض العلماء يقول: إذا قلت له: خذ السيارة، أو أعطيتك السيارة إلى المدينة، أو أعرتك السيارة إلى المدينة، أو بكل لفظ دال على العارية، صراحة أو ضمناً؛ فقد ملكته المنفعة. والفرق بين القولين: أننا إذا قلنا: العارية تمليك يكون من حقك أن تعطي هذه المنفعة لشخص آخر، وإذا قلنا: العارية إباحة، فليس من حقك أن تعطيها لشخص آخر، فأنت إذا أعرت شخصاً سيارة من أجل الركوب عليها والذهاب بها إلى المدينة ثم الرجوع، فأعطاها غيرك، فعلى القول بأنها تمليك فإنك إن ملكت منفعتها جاز لك أن تتنازل عنها لأخيك، وعلى القول بأنها إباحة فقد أباح لك ولم يبح لغيرك. وبناءً على ذلك: لو أعطيتها لغيرك فركبها وذهب بها إلى المدينة ورجع فإنك تدفع قيمة الأجرة، وتغرم لصاحبها أجرة مثلها من مكة إلى المدينة، فالعارية فيها وجهان: إما إباحة، وإما تمليك. واختيار المصنف رحمه الله ومن وافقه من أنها إباحة أصح وأقوى. والسبب في هذا: أنها لو كانت تمليكاً لكانت مؤقتة، ولا تصح مطلقة؛ لأن التمليك المطلق فيه غرر، ولذلك وجب تقييدها لو كانت تمليكاً، والثابت في السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار بدون تأقيت، كما في حديث صفوان حينما استعار منه النبي صلى الله عليه وسلم أدرعه يوم حنين، وقال: (أغصباً يا محمد -عليه الصلاة والسلام-؟ قال: لا، بل عارية مضمونة) وهذا لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم غزو الطائف واحتاج إلى السلاح، وكان الذين خرجوا معه من مكة من المسلمين عددهم كبير؛ لأن الجيش الذي خرج به من المدينة ازداد عدده بفتح مكة، وخرجت معه قريش حمية؛ لأنه يريد غزو الطائف؛ لذا طلب عارية صفوان، فقال له صفوان: (أغصباً يا محمد؟!) هل تأخذ مني السلاح غصباً، قال: (لا. بل عارية مضمونة)، فلو كانت العارية تمليكاً لقال: عارية إلى شهر، أو إلى شهرين، ولأقت وحدد، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤقت ولم يحدد؛ فدل على أنها إباحة، وأن الشخص حينما يعير فقد أباح المنافع ولم يملكها، وعلى هذا يأتي التفصيل -إن شاء الله- فيما لو أجر الدار لغيره، أو تصرف المستعير في العارية، وهل يضمن أو لا يضمن؛ كل ذلك يترتب على هذا الخلاف.

أدلة مشروعية العارية

أدلة مشروعية العارية والأصل في مشروعية العارية كتاب الله عز وجل؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه في معرض الذم والتوبيخ لمن وهبه نعمته فَحَرَمها غيره: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:7] فجاءت هذه الآية في سياق الذم لمن منع غيره أن ينتفع مما أعطاه الله سبحانه وتعالى، وذكر الماعون لأنه شيء يسير غالباً، وهو تنبيه إلى ما هو أكبر منه وأكثر، ولأن الحاجة إلى الماعون عظيمة فهو يحتاج إليه في صنع الطعام وإعداده، فيكون في منعه وحبسه المشقة على الغير، ففي هذه الآية الكريمة الدليل على مشروعية العارية، ولذلك فسرها بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كحبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود رضي الله عن الجميع: بأنهم كان يمنعون الماعون أن يعار. وعلى هذا: دلت الآية الكريمة على مشروعية الإعارة؛ لأنها لو لم تكن مشروعة لما ورد الذم والتوبيخ لمن حرم الغير أن ينتفع بالماعون. وكذلك دلت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، منها: أنه استعار من صفوان أدرعه كما في الحديث المتقدم. وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في حديث المخزومية التي كانت تستعير المتاع ثم تجحده، ووجه الدلالة من الحديث: أنه نقم عليه الصلاة والسلام منها جحد المتاع ولم ينقم منها عارية المتاع.

حكم العارية

حكم العارية أجمع العلماء -رحمهم الله- على أن العارية مشروعة، ولكن اختلفوا في حكمها، هل يجب عليك أن تعير الأشياء، أو يندب لك، أو يباح، هناك أوجه: بعض العلماء يقول: إن العارية مباحة من حيث الأصل، وجائزة، ومنهم من يقول: ليست مباحة فقط بل مندوبة. وهذا هو الصحيح، بمعنى: أنه ينبغي للمسلم أن يحرص عليها، ولا يفوته خيرها وبرها، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد إذا مر به أخوه المسلم وهو في الطريق واحتاج إلى الماء فمنعه وهو قادر على أن يعطيه -وهذا في غير العارية كما هو معلوم- أن الله تعالى يقول: (سألك عبدي أن تعطيه الماء فمنعته، فاليوم أمنعك فضلي كما منعته فضل مائك) فهذا يدل على أنه لا ينبغي للمسلم أن يمنع إخوانه المسلمين من الانتفاع بالأشياء التي لا يحتاج إليها، والتي يكون في سعة منها، حتى ولو كان ذلك مدة معينة، فيقول له: أعرتك كتابي أو قلمي أو سيارتي، ويحدد ذلك على حسب ما يمكنه أن يبذله من منفعة ذلك الشيء المعار. وقد تكون العارية واجبة، وذلك إذا احتاج إلى شيء عندك توقف عليه إنقاذ نفس محرمة، فلو أن غريقاً سقط في بئر ولا يمكن إخراجه إلا بحبل عندك وليس موجوداً عند غيرك، وبإمكانك أن تعطي الحبل ولا ضرر عليك؛ فإنه إذا امتنع في هذه الحالة يعتبر آثماً في قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالله أوجب علينا إنقاذ النفس المحرمة من الهلاك، فإذا كان إنقاذها واجباً فقد توقف تحقق هذا الواجب على فعل وهو إعارة الحبل أو الشيء الذي يمكن تخليصه به، كذلك لو احتاج جارك أو صديقك شيئاً لمريض عنده أو مكروب أو نكبة نزلت به أو نحو ذلك، فإنه يجب عليك ويتعين أن تعطيه؛ لأنه ليس هناك غيرك، ويجب عليك في هذه الحالة أن تبذل ما تستطيعه لإنقاذ هذه النفس المحرمة أو دفع الضرر عنها. وتكون العارية مندوبة إذا كان فيها توسعة على الجار وعلى الأخ والقريب، وتختلف درجات الندب، فإعارة الشيء للقريب أعظم أجراً من إعارته للغريب، ففيها أجران، أجر العارية وأجر صلة الرحم، ومن وصلها وصله الله عز وجل، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإعارة الجار ليست كإعارة غير الجار، فإذا أعرت الجار كان الأجر أعظم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم يخاطب نساء المؤمنين: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو كفرسن شاة) يعني: لا تحتقر أمة الله عز وجل ما تقدمه لأختها المسلمة من جيرانها ولو كان كفرسن شاة، وهو اللحم اليسير الذي يكون بين أظلاف الدابة، فهذا شيء حقير جداً، ولكن هذا الحقير عند الله عظيم الأجر؛ لما فيه من الإحسان للجار. ولو أنك نظرت إلى الشيء الذي يعار؛ فإعارة ما فيه مصالح دنيوية أجره أقل من إعارة ما فيه مصالح دينية، ومن ذلك إعارة كتب العلم لمن يحفظها ويحافظ عليها، وينتفع بها، فإن هذه الإعارة أعظم أجراً والندب فيها آكد من الإعارة لشيء دنيوي، وإعارة السيارة لطالب علم يذهب لطلب علم والمعونة له على طلبه للعلم، أعظم أجراً من إعانته على أمر دنيوي. فإذاً العارية تتفاوت من جهتين: أولاً: من جهة الشخص الذي يستعير؛ من حيث قربه من الشخص وعدم قربه، وعظيم حقه على الشخص، وذلك على حسب تفاوت الناس في مراتبهم في الحقوق. ثانياً: من جهة الشيء الذي يستعار، فإن كان الشيء الذي يستعار لمصلحة أفضل فالأجر فيه أعظم، وإذا كان لمصلحة مفضولة فالأجر فيه أقل، هذا بالنسبة للمندوبة. وتكون العارية محرمة إذا أعارها لشيء حرام يعينه بها -والعياذ بالله- على قطيعة رحم، أو عقوق والدين. مثلاً: لو أن شخصاً خرج إلى سفر ووالداه لم يأذنا له بالسفر، وهما بحاجة إليه، وقد خرج في نزهة أو صيد، وأنت تعلم أن والده لا يأذن له وغير راضٍ على خروجه، فخروجه عقوق لوالديه، فإذا مكنته من سارتك فقد مكنته من العقوق. فإذاً: تكون العارية حراماً إن توصل بها إلى حرام، وتصبح المسألة تابعة لمسألة: (الوسائل تأخذ حكم مقاصدها) فإن كانت العارية وسيلة إلى واجب فواجبة، وإن كانت وسيلة إلى مندوب فمندوبة، وإن كانت وسيلة إلى مكروه فمكروهة، وإن كانت وسيلة إلى محرم فمحرمة، وإن كانت خلية من الدوافع وسلمت من الموانع فإنها مباحة مستوية الطرفين. هذا بالنسبة لحكم العارية من حيث الأصل، وهذا الباب يعتني العلماء -رحمهم الله- فيه ببيان حقيقة العارية، وما تجوز إعارته وما لا تجوز، وكذلك أيضاً بيان الأثر المترتب على العارية، ويعتبر هذا الباب مما تعم به البلوى، فالناس يستعير بعضهم من بعض، ويحتاج بعضهم إلى الحوائج الموجودة عند البعض، يقضون بها مصالحهم، ويرتفقون بها في معاشهم، فلذلك تنشأ الأسئلة عن هذا النوع من العقود، وقد تحدث هناك أضرار في الشيء الذي يستعار، فيرد السؤال من الناس عن كثير من هذه المسائل والأحكام.

حكم العارية عند المصنف

حكم العارية عند المصنف يقول المصنف رحمه الله: [باب العارية] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بأحكام العواري. قال رحمه الله: [وهي إباحة نفع عين تبقى بعد استيفائه]. (وهي) أي: العارية (إباحة نفع عين تبقى بعد استيفائه) يعني: بعد استيفاء النفع، والمراد ببعد استيفاء النفع: بعد أخذ المنفعة ... ) وهي) أي: العارية (إباحة) تقدم أن المراد بالإباحة أن تجيز للشخص أن ينتفع بالشيء ولا يملك المنفعة، وبناء على ذلك فليس من حق المستعير أن يعير غيره، ولا أن يبيع هذه المنفعة للغير، فيؤجرها على الغير بثمن وعوض، وإذا ثبت هذا فإنه لو أعار الغير -كما سيأتي- فإنه يضمن ويغرم، وتصبح يده يد ضمان، خاصة على القول بالتفريق بين الضمان والأمانة، وكذلك أيضاً يكون ملزماً بدفع الأجرة التي تجب لقاء هذه المنفعة المبذولة للغير. (تبقى) العين، (بعد استيفائه) يعني: بعد استيفاء النفع. تدل هذه العبارة على أن العارية تدخل في المنافع ولا تدخل في الذوات، يعني: تبيح المنافع ولا تبيح الذوات، بناء على ذلك: لو أن شخصاً أعطى غيره تفاحةً ليأكلها، هل نقول: هذه عارية؟ لا؛ لأن العين هنا لا تبقى، وإذا كانت العين لا تبقى بعد الاستيفاء فإنها ليست بعارية وإنما هي هبة، وتعطيها حكم الهبات أو صدقة إن قصد بها القربة لله سبحانه وتعالى، فهي هبة أو عطية أو صدقة على التفصيل الذي ذكرناه. وبناء عليه لا بد من أن تكون العارية في المنافع، والمنافع تكون في العقارات والمنقولات. فإما أن تكون منفعة عقار أو منفعة منقول. منفعة عقار: مثل: البيت، والمزرعة، والمسبح، والديوان، والحوش، هذه كلها عقارات، تقول له: أعرتك بيتي تسكن فيه شهراً أو سنة، أعرتك مزرعتي أو الديوان أو المسبح. هذه كلها إباحة منفعة تستوفيها، وهذا الاستيفاء يكون بدون عوض، ولذلك قال الحنفية والمالكية: بلا عوض؛ لأنه تمليك، لكن الشافعية والحنابلة قالوا: إباحة. فلم يحتاجوا إلى قيد: بلا عوض؛ لأن قولنا: إباحة، معناه: الإذن بالشيء بدون وجود عوض فيه، وعلى هذا فليس فيها عوض، وتكون العين مضمونة بالرد كما سيأتي إن شاء الله.

ما يباح إعارته من المنافع

ما يباح إعارته من المنافع قال رحمه الله: [وتباح إعارة كل ذي نفع مباح، إلا البضع، وعبداً مسلماً لكافر وصيداً ونحوه لمحرم، وأمة شابة لغير امرأة أو محرم] قال رحمه الله: (وتباح إعارة كل ذي نفع مباح). أي: تباح إعارة الشيء الذي فيه منفعة مباحة. وقوله: (كل) عام، ويشترط في هذا الشيء الذي يعار أن يكون له نفع، فلا يعار الشيء الذي فيه ضرر؛ لأننا بينا أن العارية فيما فيه مضرة محرمة. ويكون النفع أيضاً مباحاً؛ لأنه قد يكون محرماً، وعلى هذا: فهذه كلها ضوابط للشيء الذي يعار.

أركان العارية

أركان العارية أركان العارية: مستعير، ومعير، وشيء يعار، وصيغة. هذا عند جمهور العلماء: أولاً: المستعير: هو الشخص المحتاج إلى هذه المنفعة رجلاً كان أو امرأة، لكن لا شك أنه لا بد فيه من وجود العقل، فلا يعار مجنون أو صبي لا يؤمن منه الضرر إلا إذا كان مميزاً يحسن التصرف في الأمور، كأن يستعير من إنسان شيئاً يرتفق به؛ فيجوز أن تعير الصغير والكبير، فلا تختص العارية بالبالغين. ثانياً: المعير: لا بد أن يكون أهلاً للتبرع، فلا تستعير من صبي غير مميز؛ لأن مثله ليس له حق أن يهب المنافع، فلابد أن تكون فيه أهلية الهبة، فإذا كان فيه أهلية الهبة للمنفعة صحت إعارته، أما لو لم تكن فيه أهلية بأن كان مجنوناً فإنه لا تصح إعارته، فلو جاء إلى مجنون فقال: أعرني هذا الكتاب، فقال له: أعرتك. لا تصح حتى يكون أهلاً للهبة والإعارة، كذلك تكون العارية بالاختيار لا بالإكراه، فلو أكرهه لم يصح ولم يجز، فلابد وأن يكون بطيبة نفس منه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه)، وعلى هذا لا بد أن يكون الشخص المعير فيه الأهلية. ثالثاً: الشيء المعار: فصله المصنف -رحمه الله- فقال هذه القاعدة: (كل ذي نفع)، فخرج الذي فيه مضرة والذي لا منفعة فيه، ويكون النفع مباحاً غير محرم، وإذا ثبتت هذه القاعدة فتحتاج إلى أمثلة لما لم تتوفر فيه الشروط، والذي لا تصح إعارته، فمثل المصنف -رحمه الله- بالأمثلة التي أراد بها تقرير هذه القاعدة.

حكم عارية البضع

حكم عارية البضع قال رحمه الله: (إلا البضع). (إلا) استثناء، والاستثناء: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، وهو هنا اللفظ (كل) العام، وإذا أردت أن تضبط القاعدة، فإن الشيء الذي يُعار ينقسم إلى قسمين: الأول: منفعة عقار. الثاني: منفعة منقول. منفعة العقارات: مثل: البيوت والمساكن والأراضي والمزارع. ومنفعة المنقولات: مثل: الكتب ومنفعة القراءة فيها، والقلم ومنفعة الكتابة به، واللباس والسلاح الذي يحتاجه، وينتفع به لدفع الضرر عنه، إلى غير ذلك مما يرتفق به من المنقولات، فإما أن يكون عقاراً، وإما أن يكون منقولاً. ويجوز إعارة المنقولات والعقارات؛ إذ ليست العارية مختصة بأحد النوعين، إنما هي عامة شاملة، لكن بشرط أن يكون كل من العقار والمنقول فيه نفع، وأن يكون النفع مباحاً. ثم هناك أمر مهم جداً: وهو أنك إذا وهبت هذه الأشياء وأعطيت منافعها، يشترط ألَّا تكون وسيلة إلى حرام، فمثلاً: لو أن شخصاً كان محرماً بالحج أو العمرة، فإن الصيد عليه حرام -كما سيأتي-؛ لأن يده مرتفعة عن الصيد، وإعارته تخالف نص الشرع بتحريم الصيد عليه، فيحرم تمكينه من الصيد، سواء على سبيل العين أو على سبيل المنفعة، وعلى هذا فلابد من التفصيل في هذه المسألة: القاعدة من حيث الأصل العام: إباحة كل شيء فيه نفع مباح، لكن الأمثلة التي سيذكرها المصنف كلها وسائل لمحرم، والأمثلة مختلفة باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة، وعلى هذا لك أن تمثل بكل مثال تكون فيه العارية وسيلة إلى حرام. قوله: (إلا البضع): البضع المقصود به: فرج المرأة -أكرمكم الله- فلا يجوز أن يعيره آخر، فالزوج يجوز له أن يستمتع بامرأته لكن لا يجوز له أن يعير البضع لآخر.

حكم استئجار الأبضاع لأجل الحمل

حكم استئجار الأبضاع لأجل الحمل بناءً على هذا: تتفرع المسألة الموجودة في زماننا من استئجار الأبضاع من أجل الحمل، فيؤخذ ماء الرجل وماء المرأة ويخصب في فرج أجنبي، ثم ينقل على صور مختلفة في التلقيح المعاصر المعروف، وهذا لا شك أنه محرم، لما فيه من عدة محاذير، فإن هذا التلقيح لا يمكن أن يكون إلا بأمور: أولاً: النظر إلى العورة. ثانياً: الإيلاج. ثالثاً: اللمس للعورة. رابعاً: الأدهى والأمرّ من ذلك كله: أن الغالب فيه أن هذا العمل لا يكون إلا من قبل الرجال. وكل هذه المحاذير لا تجوز إلا عند الضرورة، ومسألة الحمل وطلب الولد ليست من الضروريات، ومن يقول: إنها من الضروريات لا شك أنه قد أبعد، فللضروريات قواعدها المعروفة عند العلماء، وهي: الخوف على النفس أو على عضو من الأعضاء، والشخص إذا لم يولد له ولد لا يخاف على نفسه ولا على عضو من أعضائه، فليس في مقام الضرورة. ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى العقم ابتلاء منه، نقول: إذا كانت المرأة عاجزة عن الحمل والإخصاب ولا تستطيع أن تحمل لضعف في البويضات ونحو ذلك فيشرع علاجها وإعطاء الدواء لها لتقوية هذه البويضات وحصول الحمل بالطريق المشروع لا بالطريق الممنوع، لكن أن نتصرف ونولج في الفرج ونغير ونبدل فلا؛ لأن هذا الفرج لا يستباح إلا بنكاح شرعي صحيح، ضوابطه معروفة وأصوله مقررة، ومن أراد أن يطلب هذا الحلال من وجهه حكمنا بالحل، ومن طلب غير ذلك حكمنا بأنه قد طلب ما لم يأذن به الله، وينطبق عليه قوله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المعارج:31] من ابتغى: أي طلب، وراء ذلك: أي وراء الشيء الذي أحله الله وأباحه، إذا قال قائل: هذا يريد الولد، نقول له: هذا أمر الله عز وجل، كما أن العقيم يسلم أمره لله، نقول للطبيب: تقف عند حدود معينة فلا تعالج هذه المرأة، وتعالج هذا الرجل من خلال الشيء المباح، من دواء أو تقوية لهذه البويضات، أما أن ننقل من فرج إلى فرج، ويعبث بالفروج والأنساب، فإن هذا كله لا يجوز شرعاً، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة سبي أوطاس أنه لما أخذت الإماء؛ حرم النبي صلى الله عليه وسلم وطء الحوامل حتى يضعن ما في بطونهن، فأراد رجل أن يطأ امرأة حاملاً وهي أمة، مع أن الولد للذي قبله، فقال عليه الصلاة والسلام لما رآه كأنه يهم أن يصيب الأمة: (أيغذوه) يعني: إذا جامعها؟ (أيغذوه في سمعه وبصره) يعني: أنه إذا جامعها وأنزل المني فإن هذا المني سيكون له أثر في اغتذاء الجنين بماء الثاني بعد ماء الأول، فقال عليه الصلاة والسلام: (أيغذوه في سمعه وبصره، لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره) الفروج أمرها عظيم، وينبغي على الإنسان أن يتوقف وينتبه، وعلى طالب العلم أن يتورع في الفتوى، وأن لا يستعجل ويتقي الله عز وجل، وأن يجعل الجنة والنار نصب عينيه، هذه أمور عظيمة، ولو قرأ طالب العلم ما الذي كتبه العلماء في كيفية ختان المرأة، وكيف يستباح النظر إلى عورتها؛ لرأى كيف تعظم الفروج عند العلماء رحمهم الله. شددوا في ذلك حتى إن بعضهم يبالغ ويقول: تشتري أمة من أجل أن تختنها ولا تختنها امرأة أجنبية، كل ذلك تعظيماً لحرمة الفرج، وكانت الفروج تسال دونها الدماء، ويضحي الإنسان فيها بنفسه وروحه ولا يوصل إلى مساس حرمة من حرمات عرضه، فعجباً فضلاً عن أن يستباح الكشف عنه من قبل الرجل، ويكون ذلك بتكرار. المسألة تحتاج إلى نظر وتفصيل وإلى وضعها على الضوابط الشرعية، ولو نظر الإنسان إلى مجمل المحاذير التي تتكرر مرة بعد مرة حتى إن الطبيب يصبح عنده النظر إلى الفرج شيئاً مألوفاً معتاداً، لا يعظم فيه حرمة من حرمات الله، ولا يتورع فيه عن أمر حرمه الله عز وجل، ولربما وقع المحظور، ولا شك أن هذا كله معارض ومصادم للشرع، حتى إن المرأة تألف نظر الرجل إليها، والمرأة إذا أصبحت صائنة لدينها وعرضها، ولا يمكن أن يكشف عليها رجل، حفظ الله لها دينها، وعصمها وجعل لها من همها فرجاً ومخرجاً، وهذا مشاهد ومجرب، ومعروف، لكن ما إن تفتح لنفسها أبواب الرخص، وتألف هذا الشيء حتى إن الرجل يكشف عليها، لربما -والعياذ بالله- نزع الحياء من وجهها، ولربما وقعت في الفتنة فأصبحت تعاني بلاءها مدى حياتها، حتى إنها تجد في بعض الأحيان أنها لا تستطيع أن تمتنع من هذا الشيء، لأنها غلبت عليه، فهذا أمر لا بد من وضع حدٍّ له. فإجارة الأبضاع محرمة، ولا يجوز إعارة البضع، وهذا أمر محل إجماع بين العلماء رحمهم الله. وعلى هذا فإنه لا يجوز إخصاب الأجنة، ونقل الماء من الرجل إلى المرأة واستعارة الفرج؛ لأن ذلك مخصوص بإباحة معينة، لا يجوز في غيرها كما نص الله عز وجل على ذلك في كتابه المبين.

تحريم إعارة العبد المسلم للكافر

تحريم إعارة العبد المسلم للكافر قال رحمه الله: (وعبداً مسلماً لكافر). ولا يجوز إعارة العبد المسلم للكافر؛ لأنه أولاً: إذا أعاره للكافر أهانه وأذله. وثانيا: أن في ذلك عزة للكافر على المسلم، والله تعالى يقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]. والعزة للمؤمن على الكافر لا للكافر على المؤمن، وهنا: تفهم أن المسألة مبنية على الوسائل، فلما كانت إعارة المسلم للكافر وسيلة لإهانته وإذلاله وتسلط الكافر عليه حرم، وصار كل شيء فيه إعارة يفضي به إلى هذا المحظور أو أمثاله فإنه محرم.

تحريم إعارة الصيد للمحرم

تحريم إعارة الصيد للمحرم قال رحمه الله: (وصيداً ونحوه لمرحم (ولا تجوز إعارة الصيد ونحوه لمحرم فقد حرم الله على المحرم الصيد، فلا يجوز له أن يصيد، ولا أن يعين على الصيد بالإشارة أو بالكلام، فلو كان هناك رجل حلال لم يجز للمحرم تنبيه الحلال الغافل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة في الصحيحين: (هل أحدكم أعانه؟ قالوا: لا)؛ لأنه سقط قوس أبي قتادة رضي الله عنه، فسألهم أن يعينوه فلم يعينوه، فقال: (هل أحدكم أشار إليه؟ قالوا: لا، قال: فكلوا)، فدل على أنهم لو أعانوه أو أشاروا إليه أو مكنوه من الرمي فيعتبر فعلهم هذا انتهاكاً لمحظور الصيد، وقد حرم الله صيد البر دون صيد البحر، فلا يجوز للمحرم أن يصيد ولا أن يصاد من أجله؛ لأن الصعب بن جثامة رضي الله عنه وأرضاه لما صاد من أجل النبي صلى الله عليه وسلم رد الصيد عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نرده عليك إلا أنّا حرم) وعلى ذلك ترجم الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه وتقدم بيان هذه المسألة. من المسائل المتفرعة على الصيد: أنه لا يجوز للمحرم أن يستديم الصيد، كما لا يجوز له ابتداؤه، وهذه مسألة يختلف فيها فبعض المحظورات تجوز استدامتها ولا يجوز ابتداؤها، وبعضها لا تجوز استدامتها ولا يجوز ابتداؤها، فالرجل لو كان عنده زوجة قبل الإحرام يجوز أن يستديم النكاح، وتبقى زوجة له وهو محرم بالحج والعمرة، لكن لا يجامعها، إنما المراد بقاء عقد النكاح، لكن هل يجوز أن يبتدئ عقد النكاح وهو محرم؟ A لا. إذاً: لا يجوز أن يبتدئ ويجوز له أن يستديم، ومن هنا قالوا: يجوز للمحرم أن يراجع زوجته؛ لأن المراد أنه لو طلقها أثناء العمرة، ثم أراد أن يرتجعها، فهل الارتجاع ابتداء للنكاح أو استدامة؟ قالو: استدامة، فيجوز له أن يراجعها، ولا يجوز له أن يعقد عليها بعد خروجها من عدتها. لكن في الصيد لا تجوز الاستدامة ولا الابتداء، فلو كان عنده صيد قبل الإحرام بالحج والعمرة وجب عليه إطلاقه بمجرد أن يدخل في نسك الحج والعمرة، فلو صاد حمامة أو وعلاً أو نحو ذلك من الصيود، ثم قال: لبيك عمرة، نقول له: يجب عليك إطلاق الصيد؛ لأنه لا يستدام ولا يبتدأ، فههنا نفس الحكم: لا يجوز أن تعطيه هذا المصيد وهو محرم، فالمسألة مفرعة على أن المحرم لا يستديم الصيد كما لا يجوز له أن يبتدئ وينشئه، فلا تجوز إعارة الصيد للمحرم.

حكم إعارة الأمة الشابة

حكم إعارة الأمة الشابة قال رحمه الله: [وأمة شابة لغير امرأة أو محرم]. فلا تجوز إعارة الأمة الشابة، وخرجت المرأة والأمة العجوز؛ لأن الغالب أن المفسدة تحصل بإعارتها لغير امرأة، وكانوا في القديم يستعيرون الإماء، فيقولون: يا فلانة أعطنا الأمة التي عندك. وفي زماننا الخدامة، فإذا كان عند الشخص خدامة في بيته، وطلب الجار أو طلبت جارة خدامة جارتها، ففيه تفصيل: إن كانت هذه الجارة هي التي تريد الخدامة للعمل، ورضيت الخدامة؛ لأن الخدامة جاءت لعقد معك أنت فلا يجوز أن تعيرها للغير، وبناء على ذلك إذا طلبت أن تنتقل لتعمل عندها ورضيت الخدامة بذلك لأمر عارض، كمساعدتها في شيء طارئ، إن كانت امرأة مثلها، وغلب على الظن السلامة من الفتن؛ فلا بأس وتكون العارية حينها مندوبة، لكن إذا غلب على الظن وقوع المحظور، أو كان زوجها -والعياذ بالله- فاجراً وهي تعينه على الفجور فإنه لا يجوز ويحرم حينئذ أن تعيرها، ولا يعتبر من منع الماعون، ولا يعتبر داخلاً في الوعيد الوارد في منع العارية، وعلى هذا نقول: إنه يفصل في الإعارة على حسب ما يترتب عليها من المصالح والمفاسد.

الأسئلة

الأسئلة

حكم العائد في الهبة والعارية

حكم العائد في الهبة والعارية Q هل العائد في إعارته كالعائد في هبته؟ A العائد في هبته مذموم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ليس لنا مثل السوء؛ العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يأكل قيئه)، وهذا يدل على ذم العودة في الهبات. والهبة تقع في الذوات وتقع في المنافع، فإذا قلنا: إن الهبة هنا بالمعنى العام، شملت العارية، لكن إذا أعار شخص شخصاً لا تخلو العارية من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون مؤقتة. الحالة الثانية: أن تكون مطلقة. فإن كانت مؤقتة قال له: خذ سيارتي وانتفع بها، ومتى ما أردت أخذتها، فهذه عارية مطلقة، فالعارية المطلقة إذا أخذها المستعير وانتفع بها ولو مرة واحدة ثم طلبتها منه، فإنه لا بأس بذلك؛ لأن الهبة مطلقة، وتصدق على أقل ما تقع به العارية. لكن الإشكال إذا قلت له: اسكن في داري شهراً، فقد وهبته السكنى شهراً وقيدت، فحينئذ لا يكون الرجوع قبل تمام الشهر، فإن أتاه في نصف الشهر أو قبل تمام الشهر ولو بيوم فإن هذا يكون رجوعاً في العارية. لكن هذا الرجوع فيه تفصيل: إن كان الرجوع بسبب عارض ألم بك، فأنت معذور فيه. لو أن شخصاً وهب سيارته ثم احتاجها لأهله أو لأمر طارئ عليه، وقد وهبها حينما لم تكن عنده حاجة ثم طرأت له حاجة؛ وقال له: طرأت لي ظروف وأريد أن آخذها، فينبغي على الأخ الثاني أن يقدر، وإن كان الأفضل والأكمل تورعاً لهذا الحديث أن لا يسأله ذلك. وأما لو سأله فعنده وجه إذا اضطر إلى ذلك، وأما إذا لم يضطر وكان ذلك على سبيل الرجوع فهذا لا شك أنه مذموم، ويشمله الحديث لعموم الهبة من الوجه الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.

حكم الانتفاع بالعارية ومنافعها التابعة لها

حكم الانتفاع بالعارية ومنافعها التابعة لها Q لو أعاره ناقة ليحمل عليها، فهل له أن ينتفع بصوفها وبلبنها؟ A الهبة إذا كانت للبن والصوف الذي على الناقة، أو قال له: أعرتك هذا البعير، ووهبتك صوفه أو وهبتك لبنه، جاز الانتفاع به. أما إذا قيد العارية بالركوب ولم يذكر هبة للصوف ولا للوبر ولا للبن؛ فلا يجوز أخذ شيء من ذلك إلا بالإذن. وهناك شيء يمكن أن يستفاد من الإبل ضمناً، فلو قال له: خذ هذه الناقة وسافر بها إلى المدينة، فإن الناقة إذا كانت حلوباً أو فيها لبن يمكن أن ينتفع بها. نفهم من هذا أنه إذا حلبت ليس معقولاً أن يحفظ الحليب حتى يرجع إلى مكة -خاصة في القديم- قد يحتاج إلى وقت وقد يفسد اللبن قبل أن يعيده، فنفهم من هذا أنه قد وهبه الأصل ومنافعه المترتبة عليه، فنقول: لا بأس. وأما إذا لم يفهم ذلك، ولم يكن فيه دليل فإنه يبقى على الأصل من حرمة مال المسلم، إلا بعد إذنه، والله تعالى أعلم.

حكم الحج عن المريض إذا حصل له الشفاء بعد الحج

حكم الحج عن المريض إذا حصل له الشفاء بعد الحج Q حججت عن والدي وهو رجل مسن مريض ثم شفي من مرضه، فهل ينبغي له أن يحج؟ A إذا كان المرض الذي أصاب الوالد مما يرجى برؤه فحينئذ لا يستقيم أن يحج عنه، ولا يسقط حج الفرض على هذا الوجه، وأما إذا كان مرضه مما لا يرجى برؤه وشاء الله بقدرته وشفاه، فحينئذ يقع الحلاف المشهور بين العلماء -رحمهم الله- في مثل هذه المسألة، وهي: أن نظن بقاء العذر على المكلف، ثم يزول العذر ويتمكن، فهل يوجب ذلك الرجوع إلى الأصل أو لا يوجبه؟ ولهذه المسألة عدة صور: فتارة يشفى بعد تمام الحج وبراءة الذمة، وتارة يشفى أثناء الحج، وإذا شفي أثناء الحج: إما أن يشفى بعد وقوع أركانه، وإما أن يشفى قبل وقوع الأركان، فهذا كله فيه تفصيل ويتفرع على المسألة التي ذكرناها. من أهل العلم من قال: إذا كان الظن صحيحاً وكان مرضه لا يرجى برؤه غالباً أو غلب على الظن أنه لا يسلم، وقال: يا بني حج عني، فحججت عنه، قالوا: إن الشرع يجيز هذا الحج لوجود العذر، ثم إذا قام المكلف بالحج عن والده على هذا الوجه، فقد سقطت الفريضة عن الوالد؛ لأن الإذن الشرعي يوجب سقوطها، فإذا سقطت الفريضة وتم الحج وزال العذر بعد تمام الحج فلا وجه أن نطالبه بالحج مرة ثانية. هذا وجه لبعض العلماء، ويقول: كما أذن له في الأصل؛ فإن هذا الإذن يستلزم صحة الحج وبراءة الذمة. ومن أهل العلم من قال: القاعدة: (لا عبرة بالظن الذي بان خطؤه)، فهو إذا ظن أن والده لا يشفى ثم شفي فإنه حينئذ يرجع إلى الأصل؛ لأن الأصل أن يحج عن نفسه، وقد رخص الله عز وجل أن يحج الغير عنه إذا عجز، وهذا لم يعجز لأن العجز كان عارضاً ومؤقتاً، كما لو مرض مرضاً مؤقتاً فإنه لا تسقط عنه فريضة الحج ولا يجوز له أن يوكل، ولا شك أن القول ببراءة الذمة من حيث الأصول فيه قوة، لكن إذا كانت البراءة أثناء الحج وكان شفاؤه أثناء الحج فهذا أمر آخر؛ لأن الذين قالوا بأنه تبرأ ذمته اختلفوا: هل العبرة بالابتداء أم العبرة بالانتهاء؟ فمنهم من يقول: إذا وجد العذر عند الابتداء يسقط وله صور. منها: مسألة ما لو رأى الماء أثناء الصلاة وقد تيمم؛ لأنه ابتدأ لعذر، فيصح له أن يتم ولا يقطع الصلاة. بناء على هذا لو شفي بعد دخولك في الحج فيتفرع على مسألة زوال العذر أثناء العبادة، فإن قيل في المسألة: التيمم لا يقطع، كذلك هنا: لا يقطع حجه ويتمه، ولا شك أنه في أثناء الحج يختلف الأمر عما لو شفي بعد تمام الحج وبراءة الذمة؛ فإن الخلاف فيه أضعف، والله تعالى أعلم.

حكم حج من هو في خدمة والديه

حكم حج من هو في خدمة والديه Q إذا كان لوالدي حاجة لا تقوم إلا بي، فهل يشترط إذنهما للذهاب إلى الحج؟ A إذا كان الوالدان يتضرران ضرراً يخشى عليهما منه، بأن يخشى هلاكهما، مثل أن يكونا في منطقة نائية، أو شيخين كبيرين في السن، يحتاجان إلى دواء وعلاج، ولا بد من وجودك بجوارهما لعارض ينتاب أحدهما مثل العوارض التي تكون في الأمراض النفسية أو نحوها، ويغلب على الظن أنه يحصل ضرر عظيم ببعدك عنهما، فحينئذ يرخص لك في ترك الحج ما دام أنهما لا يستطيعان أن يعيشا بدونك، ولا يجب عليك الحج. أما لو كان حجك نافلة فلا شك أن بر والديك أفضل عند الله من حجك وعمرتك، ولذلك لا إشكال في تقديم بر الوالدين على الحج، قال: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد، قال: أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد) وفي الحديث الصحيح: (أحية أمك؟ قال: نعم، قال: الزم رجلها؛ فإن الجنة ثم) فالذي يريد أن يحج حجة نافلة لا يحج إلا بإذن الوالدين، ورضاهما حتى ولو كان الوالدين قويين، ومستطيعين ولا يحتاجان للولد، فإذا قالا لك: لا تحج. فلا تحج، ويكتب لك أجر الحج لأن العذر شرعي، ولا يجوز للمسلم أن يسافر إلا بإذن والده، لحديث: (أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد) وفي الحديث الصحيح الآخر: (ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما، وأحسن صحبتهما) رده عن الجهاد في سبيل الله وشراء الجنة وبيع نفسه في سبيل الله عز وجل من أجل بر الوالدين. ولذلك نص العلماء -رحمهم الله- على أنه لا يجوز للولد أن يسافر بدون إذن والده، لما في ذلك من المشقة والعناء النفسي، وقد يقول لك الوالد: لا تسافر مع هذه الرفقة، وقد تكون لك فتنة في هذا الرفقة، فإن أطعت والدك حفظك الله من الفتن، وكم من حوادث وقعت لأناس عصموا فيها من البلاء في دينهم ودنياهم بفضل الله عز وجل ثم ببر الوالدين. قص لي بعض الأخيار: أن شاباً صالحاً كان باراً بوالديه، وكانت معه رفقة فيها بعض أقربائه، وكانوا يخفون الشر -والعياذ بالله- ويتعاطون بعض المخدرات، فزعموا أنهم خارجون لعمرة، وسأله أحد إخوانه أن يخرج معهم، وخرج هذا الأخ وكان عاقاً لوالده، لم يأذن له والده، فقال: أنا سأخرج معهم رضي الوالدان أو لم يرضيا، وأما الثاني فقال: أنا لا أخرج إلا بعد أن يرضى والدي، فقال والداه: لا تخرج، فلما خرج وإذا بهم أخذوه إلى -نسأل الله العافية- بغيتهم التي يريدون، ثم وقع في هذه الجريمة، وابتلي بها، وذلك من شؤم عقوق الوالدين، والحوادث في هذا كثيرة. وكم من شاب صالح بر والديه، وامتنع من الخروج, وخرجت رفقته فانقلبت بهم السيارة، فلم تبقَ فيهم نفس تطرف. فالله يحفظ الإنسان ويصونه بفضله سبحانه ثم بطاعته، والطاعة فيها خير كثير، وأحب الطاعات إلى الله بعد الإيمان بالله بر الوالدين، فلا شك أن بر الوالدين أفضل من الحج، ومقدم عليه. في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) فلا شك أن برك لوالديك أفضل من حجك وعمرتك إذا كان حجك وعمرتك نافلة. أما لو كان الحج والعمرة فريضة فحينئذ لا يستأذن الوالدان في الفريضة إلا إذا حدث الضرر وهناك ظروف على نفس الوالدين، كما ذكرنا، ويغلب على الظن أن الوالدين يتعرضان للهلاك كما في الأحوال التي تطرأ عليهما إن كانا شيخين كبيرين في السن، ويتضرران بغياب الولد، فهذه مسألة مستثناة، أما الأصل: فالفرائض العينية من الحج والعمرة والصلاة لا يستأذن فيها الوالدان ولا يشترط فيها إذنهما، كما قدمنا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

باب العارية [2]

شرح زاد المستقنع - باب العارية [2] العارية تفضل وإحسان ممن يعير، وهذا الإحسان لا ينبغي أن يقابل إلا بالإحسان، ولهذا إذا حصل تلف للعارية فإن المستعير يضمن هذا التلف، وكذلك إذا أخذها فإنه يردها ويتحمل مؤنة ردها، وهذا كله من مقابلة الإحسان بالإحسان.

مسائل تترتب على العارية

مسائل تترتب على العارية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ولا أجرة لمن أعار حائطاً حتى يسقط]. فقد تقدم بيان جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالعارية، ثم شرع المصنف رحمه الله في بيان بعض المسائل التي تترتب على العارية، ومن ذلك لو أن جاراً احتاج إلى وضع خشبه على جدار بيتك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا ألَّا يمنع بعضنا بعضاً من ذلك، وأن يكون بيننا من إخوة الإسلام والمحبة في هذا الدين ما يجعل الدنيا تبعاً ولا تكون أساساً للعبد، فإذا سأله أخوه هذه المصلحة أعانه عليها ويسر له السبيل للوصول إليها، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبه على جداره) وفي لفظ: (أن يغرز خشبةً على جداره) فدل هذا الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أنه لا ينبغي للمسلم إذا طلبه جاره معونة بوضع الخشب على جداره أن يمتنع من ذلك. وهنا يرد Q هذا الجدار الذي لجارك إذا وضعت عليه الخشب فإنه يأخذ حكم العارية؛ لأنك استعرت من الجار منفعة وضع الخشب على جداره، وتكون هذه المنفعة منفعة استناد بيتك أو سقف بيتك على هذا الجدار. إذا ثبت أنه يشرع للمسلم أن يمكن جاره من وضع خشبه على جداره، فلو أنه وهبه في الابتداء فلما وضع الخشب وبنى بيته قال له: منعتك من ذلك، إما أن تدفع الأجرة وإما أن ترفع الخشب، فهل من حقه أن يرجع؟ هذا هو السؤال.

أقسام العارية

أقسام العارية من حيث الأصل: العارية تنقسم إلى قسمين: - قسم مؤقت. - وقسم غير مؤقت، وهي العارية المطلقة. من حيث الأصل الشرعي أن من أعطاك شيئاً تنتفع به كالسيارة والبيت للسكنى؛ فإن من حقك أن تنتفع به ما لم يرجع، فلو قال لك: رجعت عن عاريتي، وكنت سألتَه السيارة أن تسافر بها إلى المدينة فأعطاك إياها الظهر، ولما أردت أن تخرج العصر جاءك وقال: لا أريدك أن تذهب بها، فرجع عن العارية مثل صاحب الجدار رجع عن عاريته، من حيث الأصل فالمسلم لا ينبغي له أن يهب شيئاً ويرجع فيه؛ لكن النص في كتاب الله عز وجل يدل على أن من تبرع بالشيء ليس عليه من سبيل، فلو بذل الشيء كاملاً ثم طرأت له ظروف وأخذ الشيء فليس عليه من شيء، قال تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91]، أما إذا لم يوجد له عذر فيقبح منه فعل ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ليس لنا مثل السوء؛ العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود يأكل قيئه) نسأل الله السلامة والعافية. إذا ثبت أنه من حقك أن ترجع في العارية من حيث الأصل العام: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91] ففي بعض العواري لا يكون هناك ضرر وفي بعضها يكون هناك ضرر.

أحوال الرجوع في العارية وحكمها

أحوال الرجوع في العارية وحكمها فكل من أخذ منك شيئاً إعارة وأردت أن ترجع في هذه العارية فلا يخلو الرجوع من حالتين: إما أن يكون هذا الرجوع لا ضرر فيه، وأصبحت مصلحة الإنسان ليست بمتعلقة به على الوجه الذي سنذكره في القسم الثاني. وإما العكس؛ فإن كان لا ضرر ولم يرتبط شيء بذلك الشيء الذي وهبت منفعته فيجوز لك الرجوع، وليس من حقه أن يمتنع، ويجب عليه أن يرد لك العين. الصورة الأولى: مثال: لو قلت له: خذ بيتي أو شقتي واسكنها شهراً، ثم طرأت لك الظروف أثناء الشهر فقلت: يرحمك الله تحول عن مسكني؛ فإنه يجب عليه أن يتحول، ولك الحق في الرجوع، وهكذا لو أعطيته سيارة أو أرضاً. الصورة الثانية: أن يحصل الضرر إذا رجع، مثال: أن تعطيه سفينة يركبها فلما صار في وسط البحر قلت: يرحمك الله تحول عن السفينة، فلا يمكن هذا؛ فإن الغالب أنه يهلك، أو كان له متاع فقلت له: هذا المركب وانقل به متاعك من طرف النهر إلى الطرف الآخر، فلما صار في وسط النهر قلت: أرجعه وهناك خطر عليه وضرر، حينها نقول: ليس من حقك أن ترجع، وعليك أن تبقى على عاريتك حتى ينتقل إلى الشق الثاني، ويخرج من لجة البحر. وكذلك في مسألة الجدار: إذا وضع الخشب على الجدار فليس من حقك أن تقول له: ارفع الخشب؛ لأن في هذا ضرراً، وقد رضيت على نفسك بالضرر ابتداءً فلزمتك العارية ولزمك البذل إلى أن يسقط الجدار، فإذا سقط الجدار بنفسه فحينئذٍ لا شيء على صاحب الجدار -كما سيأتي- ولا يلزم الجار بدفع الأجرة ولو جلس الجدار مائة سنة يبقى الخشب عليه، لأنه قد التزم بذلك، لكن لو سقط الجدار فجأة فحينئذٍ تنقطع العارية وتنتهي، هذا بالنسبة لما فيه ضرر. من أمثلتها: الخشب على الجدار، والسفينة في وسط البحر، لكن لو كانت السفينة على طرف البحر فمن حقه أن يقول له: تحول عن سفينتي، ومن أمثلته: الأرض للدفن؛ فلو كان عنده أرض، وقال للناس: ادفنوا فيها موتاكم، أو أذن لميت أن يدفن في هذا الموضع ثم أراد أن يبنيه ورجع عن عاريته، وقال: انقلوا الميت من أرضي، نقول: ليس هذا من حقك حتى يبلى الميت، فإذا بلي الميت وصار تراباً -في قول طائفة من العلماء- صح الرجوع، وإلا فلا. إذاً القاعدة في العارية: من حقك أن ترجع لمصالحك، لكن بشرط أن لا تتسبب في الضرر على الغير، وإذا أثبتنا أنه من حقك الرجوع فينقسم الرجوع إلى قسمين: القسم الأول: أن لا يكون هناك ضرر، فنقول: من حقك الرجوع، لكن يقبح بك أن ترجع بدون عذر؛ للحديث الصحيح: (ليس لنا مثل السوء ... ) وأما إذا وجد الضرر فحينئذٍ نقول: إذا وضع الخشب على الجدار فليس من حقه أن يقول: ادفع الأجرة، أو ارفع خشبك؛ حتى يسقط الجدار؛ لأنه قد رضي ببقائه على ذلك الجدار فلزمه ما التزم به. القسم الثاني: السفينة إذا ركبها فلجج بالبحر، إذا كان مكاناً غريقاً لا يمكن التحول فيه، والأرض للدفن، والأرض للزرع وفيها تفصيل، لو قال لك قائل: أريد أن أزرع أرضك الفلانية أو روضتك الفلانية، فقلت له: أعرتك إياها هذه السنة تزرعها، ولا أريد منك أجرة على ذلك، فأخذ الأرض فزرعها فلما زرعها ونمى الزرع وقبل الحصاد قلت له: اقلع الزرع وأخرجه عن أرضي، فحينئذٍ رجعت عن العارية والرجوع يتضمن الضرر وفساد الحصاد، وإذا كان على هذا الوجه فقال طائفة من العلماء: من حقك أن ترجع. وقولنا: (من حقك أن ترجع) لا نقول له: اقلع الزرع إلا إذا كان بالإمكان نقل الزرع، لكن إذا كان مثل الحب فلا يمكن نقله وبقية الزروع مثله، فنقول: تبقى إلى الحصاد، ومن العلماء من يقول: ليس من حقك الرجوع إلى الحصاد. وهذا هو الصحيح، مثل قضية الجدار، والسفينة، فالقياس من حيث وجود الضرر أنك حينما سمحت بزراعة الأرض فأنت متحمل لجميع التبعات والآثار المترتبة على هذا الإذن. لكن لو قلنا بقول بعض أئمة المذهب رحمهم الله الذين يقولون: من حقك أن ترجع، لا تفهم أنها تنتقل المسألة من العارية إلى الإجارة، ويصبح هذا الذي أخذ الأرض مستأجراًَ بعد أن كان مستعيراً، مثال ذلك: لو أخذ الأرض لزرع يستغرق أربعة أشهر فمضى شهران، فرجع صاحب الأرض وبقي شهران، على هذا القول يدفع أجرة الشهرين الباقيين، ونقول: أبقِ الزرع ولكن تلزمك أجرة بقية الأشهر أو المدة الباقية؛ لأنه انتقلت من الإعارة إلى الإجارة، والصحيح: أنه ليس من حقه أن يخرجه حتى يحصد الزرع، للأصول التي ذكرناها.

سقوط الخشب الموضوع على جدار الجار وضمانه

سقوط الخشب الموضوع على جدار الجار وضمانه قال رحمه الله: [ولا يرد إن سقط إلا بإذنه]. (ولا يرد)، أي: الخشب. قررنا أنه إذا وضع الخشب على الجدار فليس من حقه أن يرجع، وإذا قلت: ليس من حقه أن يرجع. وجدت عدة عبارات، تقول: ليس من حقه أن يرجع، لا أجرة له، أي: تصبح يد إجارة بعد يد العارية؛ لأن يد العارية يد ضمان، ويد الإجارة لا ضمان فيها. وفائدة المسألة: أنه لو حصل ضرر يضمن إن كان مستعيراً ولا يضمن إذا كان مستأجراً كما تقدم في الإجارة، إذا ثبت هذا فقد قلنا: إذا وضع الخشب على الجدار فليس من حقك أن ترجع حتى يسقط الجدار؛ فإن سقط الجدار فلا يخلو سقوطه من حالتين: إما أن يسقط الجدار بدون وجود سبب من المالك؛ كأن تأتي الريح فتسقطه وينهدم البيت، فإذا سقط الجدار وتلف بسبب سقوطه الخشب فحينئذٍ يكون هناك سببية في التلف، وهو أن سقوط جدارك هو الذي تسبب في إتلاف الخشب، فيرد السؤال الآن: لو تلف خشب الجار فهل يضمن صاحب الجدار قيمة الخشب أو لا؟ قالوا: لا ضمان على مالك الجدار مادام أنه لم يتلفه بنفسه، لكن لو أن مالك الجدار قال لشخص: اهدم هذا الجدار، فلما هدمه انكسر الخشب بسقوطه فحينئذٍ يضمن مثل الخشب، ونقول له: رد لصاحب الخشب مثله؛ لأنك أتلفته فإذا كان الخشب ليس له مثلي ونوع نادر أو قديم، نقول لأهل الخبرة: قدروا قيمة الخشب يوم سقط الجدار وانكسر، فإن كانت قيمة الخشب في الوقت الذي سقط فيه الجدار ألف ريال، ولما وقعت الخصومة بين الطرفين كانت تساوي ثمانية آلاف، نقول: العبرة بيوم سقوط الجدار. الخلاصة: إذا سقط الجدار فالجدار ملك للجار، ويتحمل مسئولية ما ينشأ عن سقوطه وعلى هذا نقول: إذا تلف الخشب بفعل السقوط فالأصل يقتضي أنه يضمن، إلا أنه إذا لم يتسبب في الإسقاط فلا ضمان عليه، فإذا ضمن نقول له: أحضر خشباً مثل هذا الخشب في نوعه وصفته وجودته ورداءته وعدده وقدره، فإذا لم يوجد مثله نقول له: اضمن قيمته، وإذا قلنا: إنه يضمن القيمة، ف Q هل يضمن القيمة من يوم سقوط الجدار، أو يضمن قيمة الخشب يوم بناء الجدار، أو يضمن قيمة الخشب يوم الخصومة عند القاضي؛ لأنه قد تختلف القيمة، وقد يكون غالياً فيصبح رخيصاً والعكس؟ فنقول: عليك الضمان يوم السقوط؛ لأنه لما سقط شغلت ذمة المالك للجدار لضمان حق أخيه المسلم، فوجب عليه ما كانت عليه القيمة في ذلك الوقت الذي ترتب عليه الضمان.

ضمان العارية

ضمان العارية قال رحمه الله: [وتضمن العارية بقيمتها يوم تلفت ولو شرط نفي ضمانها]. هذه المسألة مسألة خلافية، وهي: إذا استعار شخص منك شيئاً هل يضمن أو لا يضمن؟ كشخص استعار منك السيارة ثم تلفت في الطريق، هل نقول: عليه الضمان أو لا ضمان عليه؟ قبل الدخول في هذه المسألة ينبغي أن نعلم أن التلف ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: إما أن يكون التلف بالتعدي والتفريط. فهذا بإجماع العلماء يضمن فيه المستعير، فلو خرج بالسيارة وساقها على طريق فيه ضرر نقول: يضمن، فكل شيء فيه تعدٍٍ وإساءة وإضرار تنتقل فيه يد الأمانة إلى الضمان بإجماع العلماء؛ فإذا أخذ منك أي شيء ولم يحسن التصرف أثناء أخذ منفعته المأذون بها فإنه ضامن. القسم الثاني: أن يأخذ منك الشيء ولا يتعدى ويحسن الانتفاع به؛ فتأتي آفة سماوية أو معتدٍ مجهول ويفسد هذا الشيء، كما لو أخذ منك السيارة ثم أوقفها في مكان أمين، فجاء شخص وأخذ منها أشياء ففي هذه الحالة يرد Q هل يضمن أو لا يضمن؟ إن أخذ منك كتاباً فجاء شخص وأتلفه ولم نعلم من الذي أتلفه، إذ لو علمنا لضمناه، لكن السؤال: إذا لم نعلم، وقال: والله إن الكتاب الذي أخذته منك سرق. في هذه الأحوال كلها إذا كان فيه تعدٍ يلزمك الضمان، لكن إذا لم يفرط هل يضمن أو لا؟ قولان عند العلماء: القول الأول: كل عارية تؤخذ من صاحبها فإنها مضمونة حتى ترد، وهذا القول هو مذهب الشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الحديث وأئمة السلف رحمة الله على الجميع. القول الثاني: العارية لا تضمن إلا إذا تعدى، وهذا مذهب المالكية والحنفية، والمالكية عندهم تفصيل بين الشيء الظاهر والشيء الخفي، لكن من حيث الجملة متفقون مع الحنفية على أن العارية لا تضمن. أما بالنسبة للذين قالوا: إن العواري تضمن فقد استدلوا بأدلة: الدليل الأول: ما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والنسائي وأحمد في مسنده وصححه الحاكم وغيره من حديث سمرة -وفيه الخلاف المشهور في سماع- الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) والصيغة صيغة إلزام ومعنى: (على اليد) الشخص الذي أخذ، فذكر الجزء وأراد الكل، وهذا معروف في لغة العرب كقوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) [المسد:1] {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج:10] والمراد: كلك، فقوله: (على اليد)، يعني: على الإنسان الذي أخذ أن يؤدي الذي أخذه، فإذا أخذ منك قلماً يكتب به؛ يلزمه أن يرد ذلك الشيء، فلما قال: (عليه)، معناه: أنه ضامن، متحمل للمسئولية، ومعناه: أنه متكفل بذلك الشيء؛ بحيث لو طرأ عليه أي ضرر فإنه يتحمل مسئوليته. الدليل الثاني: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وصححه غير واحد من العلماء: أنه لما أراد الخروج إلى غزوة حنين استعار من صفوان رضي الله عنه وأرضاه أدرعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد غزو حنين خرج معه المسلمون والمؤلفة قلوبهم من مكة، فزاد عدد الجيش الذي خرج من المدينة مع الذين أسلموا يوم الفتح، فاحتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مثل هؤلاء أن يكون معهم سلاح زائد، فاستعار من صفوان رضي الله عنه سلاحه وأدرعه فقال صفوان: (أغصباً يا محمد!) يعني: هل أخذت مني هذه العارية بالقوة والغصب والقهر، فقال عليه الصلاة والسلام: (بل عارية مضمونة) أي: ما أخذت حقك -وما كان صلى الله عليه وسلم ليأخذ حقوق الناس- بل سأقضي بها حاجتي ثم أردها إليك، ثم قال: (مضمونة) أي: أتحمل ردها إليك كاملة. فهم من هذا الفقهاء رحمهم الله الذين يقولون بالضمان: أن كل عارية تأخذها فأنت مسئول عنها حتى تردها كاملة إليه، يستوي في ذلك العقار كالبيوت ونحوها أو المنقولات كالسيارات ونحوها. فائدة هذا الحديث في دلالته على هذه المسألة: أننا نلزمك برد الشيء الذي أخذته حتى ولو تلف بدون اختيارك أو تفريط منك، وهذا معنى قوله: (بل عارية مضمونة) أي: سأرد لك هذا الشيء الذي أخذته منك عارية ولا أفرط فيه حتى يعود إليك كما أخذته. القول الثاني: الذين قالوا: بأنه لا يضمن، استدلوا بالقياس، وقالوا: الأصل العام في قواعد الشريعة: أن العارية كالوديعة، وكما أن الوديعة أمانة ولا تضمن إلا إذا فرط من استودع، كذلك العارية لا يضمن المستعير إلا إذا فرط فيها وعرضها للضرر، والصحيح ولا شك هو وجود الضمان وثبوته. فائدة الخلاف: أننا إذا قلنا: إنها مضمونة. فإنك لو أعطيت سيارة أو داراً وحصل أي ضرر على هذه السيارة أو الدار ولو لم يكن للمستعير فيه دخل ولم يكن بتفريط منه فإنه يلزمه الضمان، وكما أخذها كاملة يردها كاملة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) وقال: (بل عارية مضمونة) هذا بالنسبة لمسألة الضمان.

حكم الاستعارة بشرط عدم ضمان العارية

حكم الاستعارة بشرط عدم ضمان العارية عرفنا أن القول الراجح هو: أن العارية مضمونة بدلالة السنة على ذلك، لكن يرد Q إذا كانت مضمونة؛ فلو أن شخصاً أراد أن يستعير منك كتاباً وقال: أستعيره بشرط أني لا أضمنه، هل من حقه ذلك أو لا؟ وهل هذا الشرط الذي اشترطه عند الاستعارة يسقط الضمان أو لا يسقطه؟ على القول بأن الضمان ثابت، يصبح الخلاف عند الشافعية والحنابلة قولان: القول الأول: الشرط باطل؛ لأنه مصادم للسنة، والسنة تقول: (بل عارية مضمونة)، ودل على أن شأن العواري أن تضمن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط)، فالشروط التي تعارض الشرع لا يلتفت إليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف هذه العارية بكونها مضمونة، فلا يمكن أن نلغي هذا الوصف بالشرط. القول الثاني: أن العارية إذا قلنا بضمانها يمكن إسقاط الضمان بالشرط، فتقول له: أستعير منك السيارة بشرط أن لا أضمنها إذا تلفت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون على شروطهم) وهذا مسلم قد اشترط أنه لا يضمن عاريتك. والصحيح: أن الشرط فاسد؛ لأن السنة دلت على وصف العارية بأنها مضمونة، وأن من شأنها أن تضمن؛ فإذا اشترط أنه لا يضمن فقد خالف شرع الله عز وجل، ولذلك نقول: لا نعرف العارية في الشرع إلا مضمونة، خاصة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فألزم الرد. ثم إننا وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل في الشروط فيقول: (كل شرط ليس في كتاب الله ... ) والمراد بقوله: (ليس في كتاب الله)، ليس في الكتاب والسنة؛ لأن السنة من كتاب الله كما قال: (ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه) فإذا كان الشرط يعارض السنة ويخالفها ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فإننا نقول بالضمان. الأمر الثاني: مما يرجح هذا القول: أنه كما ترجح من جهة الأثر يترجح من جهة النظر، فإن صاحب الشيء المستعار الذي أعطاك سيارته أو كتابه قد تفضل وأحسن، ولا يمكن أن نجعل عليه غرمين، فهو لم يأخذ أجرة مقابل المنفعة، وليس من العدل أن نقول: وأيضاً تضمن التلف، بل العدل أن هذا يأخذ العارية وينتفع بها ويتحمل مسئولية ردها ويضمنها؛ بناء على ذلك: لو اشترط المستعير على المعير أن لا يرد فقد أجحف به وأضر، ولم يتحقق العدل الذي قامت عليه هذه الشريعة؛ وبناء على ذلك لابد من عدل بين الطرفين: المستعير والمعير، ونقول: إنه إذا اشترط فإن الشرط مجحف وفيه ضرر؛ فلا يلتفت إليه ولا يعول عليه.

مؤنة العارية وأجرة ردها

مؤنة العارية وأجرة ردها قال رحمه الله: [وعليه مؤنة ردها إلا المؤجرة ولا يعيرها]. وعلى المستعير مؤنة رد العارية. هذه المسألة تقع في الأشياء التي تحتاج إلى كلفة النقل، وفي زماننا توجد الآلات التي يكون حملها فيه مؤنة أو يكون ما استعاره نقله من بلد إلى بلد، مثال: شخص جاءك وقال: أريد منك هذه الماكينة الزراعية فأخذها وانتفع بها سنة ثم جاءك بعد السنة، وقال لك: ائت خذ ماكينتك أو خذ الآلة التي أعرتني، تقول له: إن الشرع يلزمك بردها إليَّ: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) ما دمت أنك قد أخذتها من مزرعتي فأنت ملزم بردها إلى الموضع الذي أخذتها منه، ولا يلزم بشيء زائد على ذلك. وإذا قلنا: إنه ملزم. تفرعت العبارة التي ذكرها المصنف، أنه يدفع مؤنة حملها، فلو قال لك: أنا نقلتها إلى مزرعتي؛ لأني محتاج إليها، والآن أنا لست محتاجاً بل أنت الذي تحتاجها فعليك ردها، لو كان فقيهاً يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه)، فدل على أنه يرد العارية، وأنه ملزم بردها، وعلى ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (بل عارية مضمونة)، فنلزمه بالرد إلى الموضع الذي أخذ منه العارية، فلو أخذ العارية من طرف المدينة وأوصلها إلى المكان الذي أخذها فيه وقال لصاحبها: خذ عاريتك، قال: لا أقبل حتى تحضرها إلى بيتي، نقول: لست ملزماً بذلك بل أنت ملزم بإحضارها إلى الموضع الذي أخذتها منه، هذا بالنسبة لما فيه كلفة ومؤنة النقل.

حكم رد العين المؤجرة

حكم رد العين المؤجرة ثم قال: (إلا المؤجرة). هذه العبارة استثناء، والاستثناء: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، مثلاً: لو أخذ منك سيارة واستأجرها لكي يقضي عليها مصلحة، وجاء بالسيارة وأوقفها في مكان ما، وقال لك: خذ سيارتك، نقول: نعم. العين المؤجرة لا يلزم المستأجر ردها إلى صاحبها ومؤنة الرد عليه، مثل الشركات الموجودة الآن، لو استأجر هذه السيارة من الشركة على أن يذهب بها إلى المدينة والشركة في مكة، نقول: من ناحية شرعية يذهب بها إلى المدينة والشركة ملزمة برد سيارتها؛ لأن العين المؤجرة لا يضمن فيها المستأجر بردها إلى الموضع الذي أخذها منه، لكن لو كان الاتفاق أنه يرجع ما استعار، ففي هذه الحالة نقول: عليه أن يردها إلى الموضع الذي فيه الشركة. وبناءً على ذلك يفصل في الإجارة: من حيث الأصل العام لا نلزم المستأجر برد العين المؤجرة ويُلْزم فقط بالمحافظة عليها؛ لأن هناك فرقاً بين رد العين المؤجرة ومؤنة ردها وبين المحافظة عليها، وتقدم في كتاب الإجارة أن المستأجر يجب عليه شرعاً أن يرد العين التي استأجرها مثلما أخذها، فإذا استأجر عمارة أو شقة أو داراً يردها كاملة إن أخذها كاملة ويردها ناقصة إن كانت ناقصة، فإذا أخذها واستأجرها سنة فأتلف شيئاً في جدرها أو نوافذها أو أبوابها فإننا نلزمه بإصلاح ذلك الذي أتلفه كله، ويجب عليه أن يرد العين كاملة كما أخذها كاملة. هذا من جهة المحافظة، وليس له علاقة بمسألتنا.

الأسئلة

الأسئلة

حكم العارية إذا مات المستعير قبل انتهاء مدة الإعارة

حكم العارية إذا مات المستعير قبل انتهاء مدة الإعارة Q رجل أعار أرضاً ثم مات ولم ينته الزمن الذي قد حدده، فهل للورثة رد العارية قبل الموعد؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فمن استعار شيئاً، وكانت العارية مؤقتة بزمان، وقال له صاحب الأرض: خذ هذه الأرض سنة، وتوفي في نصف السنة، فإن العارية إذن بالمنفعة وليست بتمليك، وتتخرج على نفس المسألة التي ذكرناها، وفي هذه الحالة يجب على الورثة أن يردوا الأرض إلى المالك الحقيقي؛ لأنهم لا يقومون مقام مورثهم، وليس للمستعير أن يقيم غيره مقامه، فإذا وجد فيها زرع نقول للورثة: عليكم دفع أجرة الزرع في النصف الباقي من السنة، فتنتقل العارية من كونها عارية إلى كونها إجارة إلا إذا طابت نفس المالك الحقيقي وقال: أعرتكم كما أعرت مورثكم. وفي هذه الحالة لا إشكال، والله تعالى أعلم.

وجوب الضمان للعارية حتى ولو لم يوجد تفريط

وجوب الضمان للعارية حتى ولو لم يوجد تفريط Q هل تضمن العارية في حالة وقوع التلف أثناء الاستخدام حتى ولو لم يكن في استخدامه تعدٍٍ أو تفريط؟ A إذا استخدم السيارة بدون تعدٍ أو تفريط وحصل تلف فهذا هو الذي فيه الخلاف، مثلاً: خرج بالسيارة من المدينة إلى جدة وفي الطريق حصل تلف في السيارة، فهذا التلف أهل الخبرة يقولون: ليس استعماله مؤثراً، إنما هو تلف عارض، فنقول في هذه الحالة: تضمن سواء كان التلف بسببك أو بدون سببك؛ لأنه إذا كان التلف بسببه فبالإجماع يضمن، ومحل الخلاف فقط: إذا كان التلف بغير سببه هل يضمن أو لا يضمن؟ والصحيح أنه يضمن لظاهر السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم. هناك قاعدة دلت عليها السنة عن رسول صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة في سنن أبي داود، وهي مما أجمع العلماء على العمل بمتنها، وهو من الأحاديث التي تكلم في سندها وصح متنها، وقد قرر شيخ الإسلام وأئمة الحديث أن من السنة ما صح متنه وضعف سنده؛ فأغنت صحة متنه وشهرته بين العلماء عن طلب السند، لأن الأصول تصححه وتقويه، فلو كان سنده ضعيفاً فإن الأصول الشرعية تدل على ثبوته، كما لو جاء حديث ضعيف يأمر بالصلاة فضعف سنده لا يوجب رده وقد يكون المتن صحيحاً فنعمل بالمتن، لكن ضعف السند يمنعنا من نسبة الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهناك فرق بين القضيتين. ولذلك تجد البعض يشنع على من يقول بأحاديث ضعيفة، فيغفل عن هذه القواعد والضوابط التي قررها أهل العلم رحمة الله عليهم، فإن الحديث إذا كان ضعيفاً وحكاه أهل العلم وأشاروا إلى ضعفه أو عزوه إلى من أخرجه، كان ذكره من باب الاستشهاد بالمتن الذي شهدت له الأصول. يقول الإمام أحمد في حديث: (الخراج بالضمان) حديث عائشة الإجماع على العمل به، يعني: أجمع العلماء على العمل بمتنه، فهنا في العارية من الذي يأخذ المنفعة، من الذي يستفيد؟ المستعير، فنقول: تضمن هذه العين التي أنت آخذ منفعتها إذا حصل الضرر مدة الانتفاع. فحتى مع أصول الشريعة القول الذي يقول بالتضمين يستقيم من جهة النظر، ويستقيم أيضاً من جهة الأثر للحديث الذي ذكرناه، فسواء فرط أو لم يفرط فهو ضامن حتى يرد العين كما أخذها، والله تعالى أعلم.

حكم تضمين العامل إذا أتلف شيئا على الزبائن

حكم تضمين العامل إذا أتلف شيئاً على الزبائن Q لي محل لإصلاح الأجهزة، فأتلف العامل جهازاً لأحد الناس على وجه الخطأ، فمن الذي يضمن، العامل أم صاحب المحل؟ A هنا أمران: الأمر الأول: الأجير أو العامل في المحل تارة يكون عاملاً عند صاحب المحل بالأجرة، وتارة يكون شريكاً معه، وهذا يقع على اختلاف العلماء في مسألة الشراكة، إذا كان العامل الذي في الدكان يعمل ويأخذ أجرة شهرية، فصاحب الدكان يتحمل ضرر العامل الذي لم يخرج فيه عن أصول المهنة، وكل ضرر يقع من العامل بدون تفريط أو خروج عن أصول المهنة يضمنه صاحب المحل؛ لأن صاحب المحل يأخذ ربح المحل فيتحمل الخسارة التي تقع في المحل على القاعدة التي ذكرناها. لكن لو أن العامل تساهل فحمل الزجاج ويده مبللة فسقط وانكسر، نقول: يضمن العامل؛ لأن المباشرة تسقط حكم السببية، وعلى هذا فقد باشر العامل الإتلاف بتفريط، وذلك عن طريق حمل هذا الشيء بطريقة محتملة للضرر ولم يتعاط أسباب المحافظة، وهذا تقصير وإهمال، ولو أن العامل جاء لكي يضع الغطاء على الشيء الذي أصلحه فوضعه بقوة فكسره أو أتلفه أو عطل شيئاً فيضمن العامل؛ لأن فعله وطريقة وضعه لا تتفق مع أصول المهنة، ولو جاء العالم بالأجهزة الكهربائية فشبكها -مثلاً- في الأفياش الكهربائية فاحترقت الأجهزة وكان هناك شيء في داخل الجهاز، نقول: إذا كانت أصول العمل عند الكهربائي أنه كان ينبغي عليه أن يفتش الجهاز الذي يريد إصلاحه فلم يفتش عن ذلك وجاء مباشرة وشغله حتى احترق فإنه يضمن لأن الاحتراق وقع بفعله، حينما أدخل هذا الفيش واشتعل الجهاز بسبب شبكه للفيش، فهو الذي باشر ويلزم بالضمان. كل هذا فيه قواعد وثوابت تدور حول إهمال العامل وعدم إهماله، فإذا فعل العامل أي شيء لا نستطيع أن نقول: إنه مهمل أو غير مهمل إلا عن طريق أهل الخبرة، فإن كان العامل في الحدادة نرجع إلى الحدادين، النجارة النجارين، أي صنعة نرجع إلى أهل الخبرة فيها، وهذا شيء تكلم العلماء عليه كلاماً نفيساً، وهي مسألة: شهادة أهل الخبرة. ومن قرأ الفقه الإسلامي يعلم عزة هذه الشريعة وعظمتها وسموها، ويدرك أن كل شيء وضعه العلماء والأئمة فهو في موضعه؛ لأن هذه الأحكام تفرعت وبنيت على شريعة كاملة، وما بني على التمام والكمال كان له حظ من ذلك الوصف، فالشيء الذي يبنى على قواعد يكون شيئاً مقرباً وثابتاً. فالعامل إذا عمل شيئاً خلاف ما قرره أهل الخبرة نقول: عليك الضمان، إذا عمل عملاً ليس موافقاً لكلام أهل الخبرة، وإذا حصل شيء قضاء وقدراً فإنه يضمن صاحب المحل وعليه الضمان بالشرط الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.

الرجوع إلى العرف في الانتفاع بالعارية

الرجوع إلى العرف في الانتفاع بالعارية Q إذا كانت العارية إذناً بالمنفعة وليست ملكاً للمنفعة، فأشكل عليَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار أدرعاً من صفوان رضي الله عنه وأعطاها الصحابة ولم ينتفع بها هو عليه السلام؟ A لله درك، هذا سؤال جيد واستشكال جيد، وهذا قررناه وبيناه في مسائل الإجارة، مثلاً: عندما تقول لشخص: وكلتك في تنظيف العمارة، فإن الوكيل ليس له أن يوكل غيره، لكن العرف والمعروف أن مثله ليس هو الذي ينظف، ولما قلت له: وكلتك في تنظيفها، يعني: وكلتك أن تأتي بمن ينظفها، فهذا شيء له ضوابطه وثوابته: أن العطاء للعارية إن كان على وجه جرى به العرف واقتضى تقييداً وإطلاقاً قيد وأطلق به ولا إشكال في هذا، والحمد لله، والله تعالى أعلم.

حكم تكرار العمرة للمتمتع قبل الحج

حكم تكرار العمرة للمتمتع قبل الحج Q رجل تمتع بعمرة إلى الحج، ثم أراد أن يعتمر تطوعاً قبل اليوم الثامن، فهل يجوز له ذلك؟ A العمرة جائزة في سائر السنة، وليس هناك محذور في إيقاع العمرة وزيارة البيت في أي وقت ما لم يكن الإنسان متلبساً بنسك الحج في وقت يمتنع عليه أن يأتي بالعمرة فيه، واختلف العلماء رحمهم الله في الحاج إذا تحلل وأراد أن يأتي بالعمرة في أيام التشريق، وهي مسألة خلافية تقدم الكلام عليها في كتاب المناسك، لكن بالنسبة لمسألتنا: لو جاء بعمرة من بلده ثم بقي بمكة ثم أنشأ عمرة ثانية وهو بمكة؛ فإن هذا جائز من حيث الأصل العام، ويستوي في ذلك أن تكون العمرة له أو لغيره، كأن ينشئ عمرة عن والده الميت الذي لم يعتمر، أو عن والدته، أو عن إنسان آخر لم يعتمر؛ فأراد أن يبرئ ذمته فهو مأجور على ذلك، أما عن نفسه فإن الأشبه والأولى أن لا يفعل ذلك، لكن لو فعله فليس هناك دليل يدل على التحريم والمنع، لكن يرد السؤال: لو فعل العمرة الثانية فهل التمتع بالأولى أم بالثانية؟ والجواب: أن التمتع واقع بالعمرة الأولى لا الثانية؛ لأن العمرة الأولى أنشأها في أشهر الحج وهو ناوٍ للحج من عامه، وكان المنبغي عليه بعد انتهائه من عمرته وعند إرادته للحج أن يرجع إلى الميقات، فصار وجوب الدم عليه مبنياً على سقوط السفر إلى الميقات، فاستوى أن تدخل عمرة أو لا تدخل؛ لأن العبرة بكونه لم يسافر للإحرام بحجه من الميقات، ولذلك إذا رجع إلى بلده أو إلى ميقاته أو مسافة القصر سقط عنه دم التمتع، وعلى هذا فإننا نقول: إن العمرة الثانية لا تقطع العمرة الأولى على الوجه الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.

سقوط طواف الوداع عمن دون مسافة القصر

سقوط طواف الوداع عمن دون مسافة القصر Q من كان ساكناً بمنطقة مكة وخارج حدود الحرم -كأهل حي البحيرات- فهل عليهم طواف وداع؟ A من كان خارج حدود الحرم ففيه تفصيل: إن كان دون مسافة القصر -كأهل الجموم- فهؤلاء ليس عليهم طواف وداع، وأما إذا كانوا فوق مسافة القصر -كأهل عسفان وقديد- فهؤلاء يلزمهم طواف الوداع، والله تعالى أعلم.

حكم القارن إذا لم يستطع سوق الهدي

حكم القارن إذا لم يستطع سوق الهدي Q رجل يريد الحج قارناً ولم يستطع سوق الهدي، فهل يصح هذا النسك؟ A ظاهر السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ساق الهدي، ولا يجوز للقارن أن يترك هذه السنة التي أطبقت فيها الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال: (إني قلدت هدي ولبدت شعري؛ فلا أحل حتى أنحر) فدل هذا على أن الأصل في القارن أن يسوق الهدي معه وهي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم العبرة بأن يوقف الهدي معه، فإذا حصل ذلك أجزأه حتى ولو أخذه من مكة، وأما بالنسبة لكونه يترك هذه السنة ويأخذ الهدي من مكة وهو قادر على سوقه، فقال بعض العلماء: يكون آثماً لمخالفته هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الفعلي الذي قال: (خذوا عني مناسككم) فلابد من سوق الهدي في القارن على الوجه الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.

أخذ المال على الحج عن الغير

أخذ المال على الحج عن الغير Q إذا أردت الحج عن الغير بمقابل مال لنفقة الحج ولتسديد الديون، فهل هذا يجوز؟ A لنفقة الحجة نعم، أما لتسديد الديون فلا يجوز، فالصحيح أن الحج ممكن أن تأخذ عليه أجرة بقدر ما أنفقت من مركب ومسكن ومنزل وهدي إذا كان الحج تمتعاً أو قراناً، أما أن يكون الحج محلاً للمزايدة والبيع والشراء، أحج عن ميتك بخمسة آلاف، لا بسبعة آلاف، كأنها بيع وشراء فلا، وهذا النوع من الإجارة يسميه العلماء بالإجارة على المقاطعة، والأول يسمونه الإجارة على البلاغ، والإجارة على البلاغ؛ أن يتحمل الورثة بلاغ الحاج إلى مكة، فيتحملون نفقة الركوب والأكل والملبس الذي يحتاج إليه لعمرته وحجه، وتحتسب النفقة ذهاباً وإياباً، ويكون الضابط فيها: العرف لمثله؛ فإذا التزموا بذلك وأعطوه مبلغاً ونقص المبلغ وجب عليهم أن يكملوه، ولو أعطوه مبلغاً وزاد المبلغ وجب عليه أن يرد الزيادة، فلو أعطيت شخصاً عشرة آلاف على أن يحج عن ميتك فحج وكلفه الحج أربعة آلاف وجب عليه رد الستة آلاف، ولو أعطيته ثلاثة آلاف وحج واشترى الهدي وبلغت تكاليفه خمسة آلاف تعطيه الألفين، هذا بالنسبة للأجرة على البلاغ، وهي التي يمكن أن يقال بها دون ما ذكرناه، والله تعالى أعلم.

توجيهات لطلبة العلم في التعامل مع الحجاج

توجيهات لطلبة العلم في التعامل مع الحجاج Q بعض الحجاج يستفتي بعض طلبة العلم فما هو الطريق الصحيح لطالب العلم في مثل هذه الحالة؟ A لاشك أن تعليم الحجاج ودلالتهم على الخير من أعظم الطاعات وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، فإن الحجاج ضيوف على الله سبحانه وتعالى، والضيف يكرم ولا يهان يحسن إليه ولا يساء، ومن اتقى الله عز وجل في حجاج بيته فأحسن إليهم أحسن الله إليه في الدنيا والآخرة، فإن الله وصف الحجاج بأنهم آمون لبيته يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً، وأعظم شيء يطلبه الإنسان رضوان الله عز وجل، ولذلك قال الله عز وجل: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72]، وهذا الرضا جعله الله فوق الجنة، أي: زيادة على الجنة، كما في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن الله يطلع على أهل الجنة فيقول: يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: يا ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا! وأعطيتنا! وأعطيتنا فيقول الله تعالى: أو لا أزيدكم، أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم أبداً). نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحل علينا رضاه فلا يسخط علينا أبداً، اللهم إنا نسألك الرضا الذي لا تسخط بعده أبداً. فهذا الضيف الذي وعده الله عز وجل برضوانه وعفوه وغفرانه أن يعتق رقبته، وأن يعظم أجره ومثوبته، حتى أن الله لم يرض له جزاء إلا الجنة، يحتاج إلى تذكير بالله ودلالة على الخير، فإذا كان المسلم يستشعر أن الحاج ضيف على الله بهذه العبادة فليعلم أن أكمل ما تكون عليه العبادة هو العلم الشرعي المقرون بالعمل، ولا يمكن أن يكون حاجاً على أتم الحج وأكمله إلا إذا كان عالماً بالسنة ومطبقاً لها، ولا يمكن أن يتعلم إلا إذا وفقه الله عز وجل لمن كان على بصيرة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة؛ فعلمه وأفتاه وبين له الحق. أوصي طلاب العلم أن يتقوا الله سبحانه وتعالى، وأن يعلموا أن على أعناقهم ورقابهم أمانة وهي أمانة العلم، فتبليغ العلم أمانة، والله خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم من فوق سبع سماوات بأداء هذه الأمانة: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] فأمره أن يبلغ، وحتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحس أن هذا البلاغ حتم عليه وواجب، وأنه أمر عظيم ثقيل، وقف عليه الصلاة والسلام أمام الأمة في يوم حجة الوداع في يوم عرفة، وكان أول ما استفتح به عليه الصلاة والسلام أن قال: (أيها الناس! اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا أبداً، ثم قال: أيها الناس! إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟ قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت. فقال: اللهم فاشهد! اللهم فاشهد! اللهم فاشهد). هذا يدل على أن تبليغ العلم ودلالة الناس على الله عز وجل والقيام بهذا الواجب العظيم فريضة على كل من استبان له هذا الصراط المستقيم أن يدل الناس عليه، فالواجب أن تنظروا إلى الحجاج أنهم بحاجة إلى هذا العلم فتأخذوا بمجامع قلوبهم إلى الله، وأعظم ما تقدمونه لهم: صلاح دينهم وإيمانهم بالله عز وجل، وسلامة عقيدتهم بالإخلاص لله جل جلاله الذي من أجله كان الحج والعمرة، وشرائع الإسلام، وهو التوحيد الخالص والإيمان الكامل، ودلالتهم على صلتهم بالله عز وجل في الدعاء والاستغاثة والرجاء والذبح وغير ذلك من مسائل العقيدة المهمة التي عليها مدار الصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة، بل عليها قبول الأعمال وردها، بل من أجلها أنزلت الكتب وأرسلت الرسل، وأول أمر في كتاب الله أمر الله به خلقه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21]، وأول نهي في كتاب الله عز وجل نهى عنه خلقه: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]، فالواجب على طلاب العلم أن يبدأوا بهذا الأساس العظيم الذي عليه صلاح الدين والدنيا والآخرة واستقامة الأمور كلها. أما الأمر الثاني الذي يجب على طلاب العلم أن ينتبهوا له: تعليم الناس هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعلمونهم السنة وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحج، وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمر، وماذا كان يفعل، وماذا كان يقول، فهذا من أعظم ما يكون فيه الخير والبر: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها) هكذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نضر الله) النضارة: الحسن والنور في الوجه، فأهل السنة وجوههم مشرقة في الدنيا والآخرة. فلا يزال طالب العلم في نور ورحمة يخوض غمار رحمات الله عز وجل، ومن هنا يبارك الله لطالب العلم في علمه حين يعلم الناس ويحرص على دلالتهم على الخير، وإذا جئت تحج تنظر عن يمينك وشمالك من الذي يحتاج إلى فتوجيه فتوجهه ولكن بالتي هي أحسن، فتنظرون إلى كبيرهم كأب ووالد تقدرونه وتجلونه، وتنظرون إلى من في سنكم أنه أخ لكم في لا إله إلا الله وبينكم وبينه وشائج الإسلام، وتنظرون إلى من هو صغير أنه مثل فلذات الكبد عزيز عليكم تنزلونه المنزل اللائق به، وتفعلون ذلك لله وفي الله وابتغاء مرضات الله. لا تنظروا إلى لون ولا جنس ولا مصر ولا قطر ولا طائفة، ولكن انظروا إلى شيء واحد وهو الأخوة في الإسلام، وكونهم إخوة لكم في هذا الدين تحبونهم في الله، ولتعلموا أنهم ضيوف عليكم، والله يعلم أنهم ضيوف عليكم وأنهم يحبونكم في هذا الدين، وأنهم قد استودعوا صدورهم حسن الظن بكم، ولنسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم فوق ما يظن بكم من خير، والله أنعم على هذه البلاد نعمة عظيمة، فإن الناس يأتون هذا البيت ويزورونه فيخرجون بالمشاعر الطيبة، يخرجون وقد رأوا شعائر الإسلام وأخوة الإسلام، ورأوا أمة تقوم بصلاتها وزكاتها وعبادتها والتآلف فيما بينها، فهذا لا شك أنه نعمة عظيمة، يرون الإسلام أمام أعينهم بكم أنتم إذا وفقكم الله لتطبيقه والقيام بحقوقه والالتزام بفرائضه وأداء ما أوجب الله عليكم تجاه إخوانكم، فأحسنوا بهم الظنون، وأحسنوا إكرامهم، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعيننا وإياكم على ذلك الخير والبر، والله تعالى أعلم.

حكم الحاج إذا اعتمر عن الغير في أشهر الحج

حكم الحاج إذا اعتمر عن الغير في أشهر الحج Q من اعتمر في أشهر الحج عن الغير وحج عن نفسه؛ فهل تلك العمرة التي أداها عن الغير مؤثرة وتصير النسك إلى التمتع؟ A إذا اعتمر عن شخص وحج عن آخر أو حج عن نفسه أو العكس فليس حاله بحال المتمتع ولا يلزمه دم التمتع، ويكون اعتماره عن الغير كاعتمار الغير معه، كما لو جاء الغير معه معتمراً وهو حاج عن نفسه؛ ونحو ذلك: إذا نوى العمرة عن والده ثم حج عن نفسه أو العكس، لكن المشكلة لو أنه دخل من ميقات الجحفة ناوياً العمرة عن والده والحج عن نفسه؛ فإن الواجب عليه بعد انتهائه من عمرة الوالد أن يرجع فيحرم بالحج من ميقات الجحفة؛ لأنه مر بالميقات ناوياً النسكين، فيلزمه أن يرجع إلى الميقات ويحرم منه، فلا يحرم بالحج من هنا إلا إذا كان قد جاء بعمرة ولم ينو الحج في هذا العام، ثم طرأت عليه نية الحج وهو بمكة؛ فأصبح هناك صورتان: الصورة الأولى: أن يأتي من خارج المواقيت ناوياً النسكين بالنوعين اللذين ذكرناهما، فنقول: ليس بمتمتع، هذا الحكم الأول، الحكم الثاني: يرجع بعد العمرة لكي يأتي بالحج من الميقات، فلا يتمتع بالعمرة إلى الحج لأنها عمرة منفصلة عن الحج، وإنما تكون العمرة متصلة لو كانت عن الشخص نفسه {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة:196] فهي للشخص نفسه، أما لو كانت العمرة عن شخص والحج عن آخر فإنه يكون كحج لشخص وعمرة لشخص جاءا مع بعضهما، هل نقول: عليهما دم تمتع؟ نقول: لا، فكذلك إذا نواه عن الغير؛ لأنه نية الغير ليست له هو، ولم يتمتع بها لحجه هو، وكذلك إذا كان الحج لوالده فلم يتمتع بها لحج والده، ولذلك تقع لوالده حجة مفردة ولا تقع تمتعاً. الأمر الثاني: يلزمك أن تخرج إلى الميقات؛ لأنك مررت بالميقات في زمان الحج ناوياً النسكين، إلا إذا طرأت نية النسك الثاني وأنت بمكة فتحرم من مكة ولا شيء عليك، فإن لم يرجع إلى الميقات -في الصورة الأولى- وأحرم بالحج من مكة فعليه دم الجبران لا دم التمتع، وعليه جماهير السلف والخلف وأئمة الصحابة رضي الله عنهم ورحم الله أئمة العلم أجمعين. والله تعالى أعلم.

حكم طواف الإفاضة لمن عجز عنه

حكم طواف الإفاضة لمن عجز عنه Q من عجز عن طواف الإفاضة لكبر السن، وليس له مال يدفعه لمن يحمله ويطوف به، فما الحكم؟ A طواف الإفاضة ركن من أركان الحج، ومن حيث الأصل: التوكيل يجوز في الحج كله ويجوز في بعضه، وورد التوكيل في مسألة الرمي، فكان بعض مشائخنا رحمهم الله يقول: إذا طرأ عذر على الحاج ولم يستطع أن يطوف طواف الإفاضة وانتقل إلى بلده، مثلاً: حصل عليه حادث فانعاق كلية، أو حصل عليه ضرر لا يستطيع معه أن يطوف البتة، ففي هذه الحالة قولان: القول الأول: أنه لا يجب عليه أن يطوف، كالميت الذي وقصته دابته فلم يلزمه إتمام نسكه للعجز؛ ولكن هذا القول مرجوح، وهناك من بعض مشائخنا من ناظر في هذه المسألة مَن كان يقول بهذا القول وقال: الأشبه أن يوكل؛ لأنه تعذر عليه أصالةً، وقد صح شرعاً أن يوكل في كل الحج، فلأن يصح في جزء الحج من باب أولى وأحرى. القول الثاني: أنه يوكل غيره في حال عجزه الكلي، فإن كان لا يستطيع أن يطوف البتة، فإنه يمكن أن يقال بأنه يوكل من يطوف عنه، كما لو تعذر عليه الحج كله، فإنه يجوز أن يحج عنه غيره. وبناءً على ذلك: يستقيم أن يوكل من يطوف عنه طواف الإفاضة، ويبقى ممتنعاً حتى يُطاف عنه، يعني: يكون التحلل الثاني بالنسبة له متوقفاً على هذا الطواف. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.

باب العارية [3]

شرح زاد المستقنع - باب العارية [3] أباحت الشريعة عقد العارية حتى ينتفع الناس بعضهم من بعض، لكن لم تطلق الشريعة للمستعير أن يتصرف في العارية بما شاء، بل وضعت له ضوابط وقيوداً متى تعداها تحمل مسئولية هذا، فإذا اختلف هو وصاحب العارية فيرجعان إلى القضاء فيفصل بينهما بضوابط قد نص عليها العلماء.

أحكام التصرف في العارية

أحكام التصرف في العارية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتقبل منا ومنكم صالح الأقوال والأعمال، وأن يعيد علينا هذه الأيام المباركة بكل خير وبركة، وأن يجعلها عزاً لدينه ونصرة لأوليائه؛ إنه السميع المجيب. كان حديثنا عن جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بعقد العارية، وكنا قد ذكرنا أن هذا العقد يعتبر من أهم العقود التي تعم بها البلوى؛ لأن الناس يحتاج بعضهم إلى بعض بعد الله سبحانه وتعالى، فيحتاج المسلم إلى استعارة شيء من أخيه المسلم، وبيّنا مشروعية ذلك وجوازه، والأحكام المتعلقة بذلك، والمسائل المترتبة على هذا العقد.

حكم إعارة العارية

حكم إعارة العارية قال رحمه الله: [ولا يعيرها]. لا يجوز للمستعير أن يعير العارية للغير، وهذه مسألة مفرعة على ضابط العارية، بعض العلماء يقول: العارية إذنٌ بالمنفعة. وبعض العلماء يقول: العارية تمليكٌ للمنفعة. فهناك مذهبان: مذهب يقول: كل شيء تعيره للناس فقد ملَّكته لمن استعار. وهناك مذهب آخر يقول: كل شيء تعيره للناس فقد أذنت لمن استعار أن ينتفع به، توضيح ذلك بالمثال: لو كان عندك سيارة، وقلت: يا محمد! أعرتك سيارتي هذا اليوم تستفيد منها، وعند المغرب تردها لي، هذه عارية، وأخذ العارية وتحددت بالزمان وهو يوم، فلما نظرنا في كلامه: (خذ السيارة يوماً) وجدنا العلماء ينقسمون إلى طائفة تقول: محمد يملك منفعة السيارة، وطائفة تقول: صاحب السيارة أذن فقط لمحمد أن ينتفع. الفرق بين القولين: أن القول الأول الذي يقول: محمد ملك المنفعة، يكون من حق محمد أن يعطي السيارة لغيره لكي يركبها ويأذن لغيره بأن ينتفع مثلما أذن له؛ لأنه ملك هذه المنفعة، فمن حقه أن ينتفع هو وأن ينفع غيره، وأيضاً من حقه أن يأخذ السيارة منك عارية ويؤجرها للغير ويضمنها حتى يردها إليك. هذا بالنسبة للقول الذي يقول: إنه مالك للمنفعة. ويختار هذا القول أئمة الحنفية والمالكية والشافعية رحمهم الله، ويقولون: إن العارية تمليك للمنفعة. وقال طائفة من العلماء: العارية إذن بالمنفعة. وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله، وعليه المذهب، أن العارية إذن وسماح بالمنفعة، وإذا قلت: إذن. ننظر في هذا الإذن هل هو مقيد أو مطلق؟ وجدناه مقيداً؛ فأنت قلت: يا محمد خذ السيارة إلى المغرب، فليس من حق محمد أن يقيم غيره، وليس من حق محمد أن يؤجر على غيره، فمتى ما أجر على الغير لزمه أن يدفع الأجرة إلى المالك الحقيقي، وينتقل من كونه مستعيراً إلى كونه ضامناً للعين المعارة، وأيضاً ضامناً لأجرة السيارة طيلة هذا اليوم، حتى ولو قال لغيره: خذ هذه الدار واسكنها بدلاً مني؛ فإنه يضمن أجرة المستعير الثاني، ويكون المستعير الثاني في حكم المستأجر، لكن يضمن الأجرة المستعير الأول؛ لأنها أعطيت له إذناً ولم تعط لغيره، فصار الغير إذا سكن كأنه انتفع بمال غيره؛ فوجب عليه الضمان، من الذي مكنه من ذلك؟ مكنه المستعير الأول، فنقول للمستعير الأول: ادفع الأجرة. وعلى هذا: فإن العارية ليست بتمليك للمنفعة وإنما هي إذن، وهذا هو الأشبه والأقوى إن شاء الله. وشرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان ما يتعلق بالتصرف في العارية، فإذا أخذت من أخيك المسلم شيئاً على أنه عارية، كأن تأخذ دابة أو سيارة على أنك تنتفع بها مدة معينة، فإن الواجب عليك أن تتصرف في هذه العين التي استعرتها على وفق ما اتفقت عليه مع أخيك المسلم، فالأصل أنك أنت الذي تستفيد لا غيرك، ولذا قال رحمه الله: (ولا يعيرها)، بمعنى: أنك لو قلت لأخيك: أعرني سكنى دارك شهراً، قال: أعرتك، فإنه لا يجوز لك أن تقيم الغير مقامك على أحد قولي العلماء، وذكرنا هذا القول ووجهه عندما بينا حقيقة العارية، وقلنا: إنها إذن بالمنافع وليست بتمليك للمنفعة، فالذي يقول لك: اسكن داري، أذن لك أن تسكن ولم يأذن لغيرك، وأذن لك أن تستعير هذه السكنى ولم يأذن لك أن تتصرف فيها بالإجارة، فلا يحل لك بيع هذه المنفعة فتؤجرها على الغير. إذا ثبت هذا فيدك يد مأذون لها بالتصرف لك لا لغيرك، وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية أخرى: أن لك أن تعير للغير، وأن العارية تمليك للمنافع، واختارها بعض العلماء، وهو قول عند الحنفية والشافعية رحمة الله على الجميع؛ وبناء على هذا القول الذي اختاره المصنف لا يجوز لك شرعاً أن تقيم غيرك مقامك، فلو أخذت السيارة من أخيك على أن تستفيد منها ما بين المغرب والعشاء، لا يجوز أن تعطيها لآخر، ولا أن تبذل منفعة ركوبها للغير، هذا من حيث الأصل العام والذي اختاره المصنف. ولاشك أن الذي ينبغي للمسلم دائماً أن يحتاط في حقوق الناس، وأن يتصرف على وفق ما اتفق عليه مع الطرف الثاني دون زيادة أو خروج عن العقد؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، فأنت إذا قلت لأخيك المسلم: أعرني، قال: أعرتك، اختص الانتفاع بك لا بغيرك، فكما أنك لا تقبل أن يقوم غيره مقامه كذلك لا ينبغي لك أن تقيم غيرك مقامك، وكم من شخص يأذن لإنسان لحقه عليه ولا يأذن لغيره، خاصة في المنافع التي يكون بذلها للغير فيه إحراج لصاحبها ومالكها الحقيقي. قال رحمه الله: (ولا يعيرها) وهذا يدل على مسألتين: المسألة الأولى: سقوط الحق. المسألة الثانية: حصول الإثم؛ لأننا إذا قلنا: لا يملك المنفعة فإنه يأثم إذا صرف الدابة للغير، ويخرج عن الإثم بتحلل صاحب الدابة، مثلاً: أخذ سيارته وأعطاها لشخص آخر، يقول له: إني قد أخذت سيارتك على أني راكبها وأعرتها للغير فسامحني في حقك أو اجعلني في حل من حقك، ونحو ذلك.

حكم العارية إن تلفت عند المستعير الثاني

حكم العارية إن تلفت عند المستعير الثاني قال رحمه الله: [فإن تلفت عند الثاني استقرت عليه قيمتها] الفاء في قوله: (فإن) للتفريع، وإذا كان ليس من حقك أن تقيم غيرك مقامك فأقمته، فأخذ السيارة وتلفت فهذا فيه تفصيل: الحالة الأولى: أن تقيم الغير مقام عاريتك. الحالة الثانية: أن تقيم الغير مقام إجارتك، وهناك فرق بين أن تقول للغير: خذ هذه السيارة عارية مني فيما بين المغرب والعشاء، وبين أن تقول له: أجرتك السيارة فيما بين المغرب والعشاء، فيد العارية يد ضمان ويد الإجارة يد أمانة، إذا ثبت هذا فالشخص الثاني الذي تقيمه مقامك له صورتان: الصورة الأولى: أن يعلم بأن المالك الحقيقي للسيارة لم يأذن لك، وأنك قد تصرفت في ماله بدون حق، فيأخذ منك السيارة على أنك قد أعرته وهو يعلم أن السيارة ليست ملكاً لك، وأن مالكها لم يأذن لك بهذا التصرف. الصورة الثانية: أن لا يعلم بذلك ويكون جاهلاً، كجار للإنسان جاء فوجد السيارة التي استعارها جاره فظنها له، فقال: أعرني هذه السيارة أذهب بها لقضاء حاجة أو نحو ذلك، قال: خذها، فأخذها الجار يظنها ملكاً لجاره، أو يظن أن مالكها قد أذن لجاره أن يعيره. فالصورة الأولى: الجار هو المستعير الأول، أي: الطرف الأول الذي أذن له بأخذ السيارة والانتفاع بها، والمستعير الثاني: هو الذي أعطي السيارة سواءً كان عالماً أو غير عالم، وهو الذي فصلنا فيه، فأما بالنسبة للمستعير الثاني إذا أخذ السيارة وهو يعلم أنه لم يؤذن للمستعير الأول بالإذن بها، ويعلم أنها ملك لغيره فإنه ظالم، ولذلك يقول العلماء: إنه يعتبر في حكم الغاصب، وهذا أمر مهم جداً؛ لأنه يتفرع عليه ما لو أنه أخذ السيارة فحصل له حادث، أو أن السيارة تلفت بآفة سماوية أو بدون تفريط منه، فسواء تلفت بالتفريط أو بدون تفريط تكون يده يد ضمان، فتستقر عليه قيمتها على ما قاله المصنف. فهذه مسألة التضمين، وفيها تفصيل من حيث ترتب الأحكام كالآتي: تقول: المستعير الثاني إذا كان يعلم أن المستعير الأول قد تصرف بدون حق؛ فإنه لا يجوز له شرعاً أن يأخذ السيارة، فيعتبر في حكم الغاصب لو أخذها، ويلزمه ضمان أجرة السيارة في المدة التي أخذها، وضمان مثل السيارة إن كان لها مثلي إن أتلفها، أو قيمتها إن لم يكن لها مثلي، فهناك أحكام تترتب على أخذ المستعير الثاني مع علمه باعتداء المستعير الأول، فإن كان يعلم فهو أولاً: آثم، وثانياً: يده يد ضمان مطلقاً، حتى لو أن السيارة تلفت بدون تفريط أو تعدٍ، فنقول للثاني: يجب عليك أن تضمن السيارة؛ لأنه يعلم أن الشرع لا يأذن له بذلك، وأنها في حكم المغصوبة، ويتفرع على ذلك ضمانه لقيمة السيارة إذا لم يكن لها مثلي، أو مثلها إن كان لها مثلي، وكذا ضمانه لأجرتها. فلو أخذها المستعير الأول على أن يسافر بها من مكة إلى المدينة، ثم أعطاها للمستعير الثاني، وقال له: سآخذ السيارة من محمد على أنني سأسافر بها وأعطيها لك، فعلم المستعير الثاني بغش المستعير الأول، فأخذها المستعير الثاني وخرج بها من مكة إلى المدينة، فتلفت قبل وصوله إلى المدينة، نقول: أولاً: يأثم. هذه مسئولية الآخرة؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان، ثانياً: يلزمه ضمان هذه السيارة إن كان لها مثلي، وإن لم نجد في السوق مثل هذه السيارة نقول له: اضمن قيمتها، ويكون ضمان القيمة يوم التلف، فلو كانت السيارة حينما أخرجها من مكة قيمتها خمسة آلاف، فلما تلفت بعد أسبوع صارت قيمتها عشرة آلاف فإنه يضمنها يوم تلفت بعشرة آلاف، واستقرت عليه القيمة يوم التلف، ثالثاً: نقول له: عليك أجرة السيارة فيما بين مكة إلى المكان الذي تلفت فيه السيارة، والدليل على هذه الثلاث: أولاً: يأثم؛ لأن أموال الناس لا تستحق إلا بطيبة نفس منهم وتراضٍ، قال تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء:29] فالبذل مبني على التراضي، ومالكها رضي أن يبذلها منفعة للأول دون الثاني، فإذاً صار الثاني غير مأذون له من حيث الأصل، فترتب عليه الإثم. ثانياً: أنه أعان هذا الظالم على ظلمه بأخذه للسيارة مع علمه بعدم رضا المالك الحقيقي. ثالثاً: إذا ثبت أنه ظالم، ولا حق له في الانتفاع بهذه السيارة، فنقول: أصبحت يده يد اعتداء، ويد الاعتداء ضامنة بكل حال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فيده مثل يد الغاصب، وعلى هذا سنقول: إذا تلفت السيارة يضمن، وجهاً واحداً عند العلماء رحمهم الله، الذين يقولون بأنه لا تملك منافع العارية. رابعاً: نقول له: عليك أجرة السيارة من مكة إلى المكان الذي تلفت فيه. أما إذا كان لا يعلم، كما لو أن شخصاً أخذ سيارة من أخيه على أنه ينتفع بها مدة معينة، فأعطاه إياها على أنه ينتفع بها، فذهب وأعطاها شخصاً آخر ينتفع بها، فظن الشخص الثاني أن الذي أعطاه يملك السيارة، أو أن المالك الحقيقي قد أذن له بالتصرف فيها وإعارتها للغير، فتختلف هذه الصورة عن الصورة الأولى بأن المستعير الثاني عنده شبهة، ولا يعلم بالاعتداء، ويظن وجود الإذن بالتصرف؛ ففي هذه الحالة يسقط الإثم؛ لأنه لا اعتداء، وإنما وغرر به المستعير الأول؛ لأن الأصل أن الشخص إذا قال لك: خذ هذه السيارة، وأنت ترى أنها تحت يده، فهناك شيء يسميه العلماء: العمل بالظاهر، وظاهر الحال حينما ترى السيارة تحت يد شخص ومفتاحها عنده وقال لك: خذ سيارتي، الظاهر من الحال أنه مالك لها، وهكذا لو رأيته يقودها ويسير بها، وهذا يسمى العمل بالظاهر. والظاهر حجة، ومن حيث الأصل يعمل به، فهو إذا جاء إلى غيره وقال له: خذ السيارة هذه الليلة، فأخذها الثاني، فقد غرر به حيث ظن أنه مالك لها وليس بمالك، ويسقط عنه الإثم للشبهة، وفي هذه الحالة يسقط عنه ضمان الأجرة؛ لأنه مغرر به، ويثبت ضمان الأجرة على المستعير الأول وليس على المستعير الثاني. أما الدليل على أن المستعير الأول يضمن أجرة السيارة ويلزمه دفع قيمة المنافع التي استغلت تلك الليلة؛ فلأن صاحبها حينما أعطاها للمستعير الأول أذن له ولم يأذن لغيره، فإذا جاء يعطيها للغير فالغير لا يملكها، وما خرجت إلى يد الاعتداء إلا بسببه هو، وهو في هذه الحالة تصرف في منافع لا يملكها؛ لأن المنافع التي يملكها ما كانت له؛ فتصرف في منفعة الغير وحبسها المدة التي انتفع بها المستعير الثاني، فيلزمه ضمانها. على هذا لو أعطيته سيارة، فأعطاها لشخص يذهب بها إلى المدينة لزمته أجرته إلى المدينة، ولو أعطيته بيتاً يسكنه شهراً، فأسكن الغير لزمته أجرتها تلك المدة، سواء أسكن الغير بأجرة أو بدون أجرة، هذا من حيث الاستحقاق.

إلزام المستعير الثاني بالضمان عند تلف العارية

إلزام المستعير الثاني بالضمان عند تلف العارية لو أن المستعير الثاني أخذ السيارة إلى المدينة وهو يظن أن السيارة ملك للمستعير الأول وتلفت، من الذي يضمن؟ في هذه الحالة: يضمن المستعير الثاني؛ لأن المستعير وإن كان معذوراً لكنه أخذها بيد العارية؛ لأنه قال له: أعرني، فأعاره، فليس عنده شيء يسقط الضمان، والعارية توجب الضمان؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (بل عارية مضمونة). إذاًَ: هناك صورتان: الصورة الأولى: أن يكون المستعير الثاني عالماً باعتداء المستعير الأول؛ فيلزمه ضمان الأجرة وضمان العين إن تلفت تحت يده، أولاً: يلزمه ضمان الأجرة؛ لأنه تصرف في مال الغير بدون إذنه، وثانياً: ضيع عليه منفعة هذا الشيء فوجب عليه ضمانها، وثالثاً: يلزمه ضمان العين؛ لأنه قد اغتصب تلك العين فأخرجها إلى موضع لم يؤذن له بإخراجها إليه. الصورة الثانية: إذا كان المستعير الثاني لا يعلم، أو ظن وجود الإذن، أو ظن أن المستعير الأول مالك حقيقي لها؛ فوقع في التصرف بشبهة الملكية أو بشبهة الإذن، فإنه في هذه الحالة يأخذ حكم المستعير، إلا إذا أخذها إجارة، فله حكم ثانٍ، فإن أخذها استعارة من المستعير الأول يكون عليه ضمانها؛ لأن المستعير يضمن ولا أجرة عليه، والأجرة على المستعير الأول لا الثاني، وتلزم الأجرة المستعير الأول في هذه الصورة الثانية؛ لأنه غرر بالمستعير الثاني وتصرف في مال غيره بدون إذنه، فضمن قيمة المنفعة. أما لو أن المستعير الأول أجرها للشخص الثاني، فحينئذٍ الإجارة لا ضمان فيها إلا إذا تعدى، فلو قال المالك الحقيقي للمستعير الأول: خذ بيتي هذا واسكنه شهراً، فأخذه المستعير الأول وذهب إلى محمد وقال: يا محمد! هذا البيت لي -وكذب عليه- خذه وأسكنه شهراً بمائة، قال: قبلت، فأصبح الشخص الثاني مستأجراً لا مستعيراً، يعني: إما أن يغرر به مستعيراً أو يغرر به مستأجراً، إن غرر به مستعيراً ضمن؛ لأن يده يد ضمان، وإن غرر به مستأجراً ضمن الأجرة ولا يضمن العين إن تلفت؛ لأن يد الإجارة لا ضمان فيها إلا بالتعدي، كما تقدم في باب الإجارة. قال رحمه الله: [وعلى معيرها أجرتها]. هذه هي الحالة التي ذكرناها، إذا غرر بالمستعير الثاني فإنه يلزمه ضمان الأجرة على التفصيل الذي ذكرناه؛ فإذا كان المستعير الأول مغرراً بالمستعير الثاني ضمن الثاني الأجرة، والمستعير الأول حينئذٍ يضمن الأجرة ويضمن العين بالعارية، ولا يضمن الثاني؛ لأن يده يد أمانة.

تضمين المعير لأي المستعيرين شاء

تضمين المعير لأي المستعيرين شاء قال رحمه الله: [ويضمن أيهما شاء]. ويضّمن المالك أي الاثنين شاء، إن شاء ضمن المستعير الأول، وإن شاء ضمن المستعير الثاني؛ لأن المستعير الأول قد تصرف بالاعتداء وكذب على المستعير الثاني، وحينئذٍ يكون المستعير الثاني ضامناً مع الأول؛ لأن الأول مستعير والثاني مستعير؛ والثاني مغرر به، لكنه رضي بالعارية، وأنت إذا رضيت بالعارية ضمنت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بل عارية مضمونة) فكل شخص يقول: أعرني، كأنه يقول: أنا أضمن لك هذا الشيء الذي تعيرني إياه، على ظاهر الحديث؛ بناءً على ذلك يشترك الطرفان في مسألة العارية. وإن إذا كان الثاني مغرراً به ومعذوراً، فنقول للمالك الحقيقي: إن شئت ضمن الأول وإن شئت ضمن الثاني. فلو أن هذه الدار التي تلفت -واليد يد عارية- تساوي قيمتها المليون، نقول له في هذه الحالة إن تلفت: إن شئت أخذت المليون من المستعير الثاني وإن شئت أخذتها من المستعير الأول؛ لأن يد الأول ضمان ويد الثاني ضمان. وبالنسبة لحال عدم الضمان، كما لو أجر المستعير الأول لآخر وكان يظن أنه مالك؛ حينها يضمن المستعير الأول دون المستأجر؛ لأن المستأجر يده يد أمانة وليست بيد ضمان.

أحكام إشراك المحتاج في منفعة العارية

أحكام إشراك المحتاج في منفعة العارية قال رحمه الله تعالى: [وإن أركب منقطعاً للثواب لم يضمن]. يرد Q أنت حينما تأخذ العارية من غيرك وتعطيها للغير، حينئذٍ تنتقل العين من يدك إلى يد الغير، ويصبح الضمان فيها على التفصيل من وجود العذر وعدم وجوده، فعقد الإجارة شيء، وعقد العارية شيء، لكن السؤال: لو أركب منقطعاً؟ حينما يؤذن لك أنت أن تركب السيارة، معناه: أن المنفعة لك أنت لا لغيرك، وحينما تعطيها للغير عارية أو إجارة فقد أخرجتها باليد إجارة أو عارية، لكن لو أن الاثنين اشتركا في المنفعة، فهل تنتقل يد الأول، وتلغى أم لا؟ وهي التي يسمونها يد التشريك. فقوله: (وإن أركب منقطعاً)، أي: أعطيته دابتك، وقلت له: سافر بها من المدينة إلى مكة، فرأى في الطريق منقطعاً فأركبه، والمنقطع من حيث الأصل قد يجب عليك إركابه إذا خشي عليه التلف والموت؛ لأن إنقاذ النفس المحرمة واجب شرعاً، ولا يجوز أن تتركه إذا رأيته في حال الهلكة، حتى إن بعض الظاهرية يقولون: من رأى مسلماً على هلكة وهو قادر أن ينقذه فلم ينقذه فقد قتله قتل عمد، وإن كان هذا القول قولاً مرجوحاً، والصحيح أنه ليس بقاتل، لكنه يبوء بإثم عظيم، ومثله قالوا: كأن يراه غريقاً وهو يحسن السباحة فلا يسبح إليه، أو يراه جائعاً وعنده الطعام فلا يعطيه، أو يراه عطشاناً وعنده الماء فلا يعطيه، أو يراه منقطعاً وهو قادر على حمله ولا يحمله، ولهذا قال المصنف: (منقطعاً)؛ لأن المنقطع يتعين عليك حمله، وفي هذه الحالة يكون دخوله عليك بصورة اللزوم، فلو رأيت منقطعاً فأركبته المنفعة فقد أركبته منفعة ليست ملكاً لك، ونحن قررنا قاعدة: أن المستعير من حيث الأصل أذن له ولم يؤذن لغيره، فهل التشريك هنا يوجب الضمان أو لا يوجبه؟ فبين رحمه الله أنه لا يوجب فقال: (وإن أركب منقطعاً للثواب). ركوب المنقطع له صورتان: الصورة الأولى: أن تركبه بأجرة. الصورة الثانية: أن تركبه بدون أُجرة؛ فإذا ركب بدون أجرة فحينئذٍ لا إشكال، لكن إن ركب بأجرة صار بذل المنفعة في مسألة إجارة العين المستعارة توجب الضمان لمنفعتها كلها، وكذلك إجارة جزئها. فإذاً عندنا حالتان للمنقطع: إما أن يركبه لله بدون أجرة، كما قال: (للثواب) واللام للتعليل، أي: من أجل الثواب، فتبقى يد المستعير كما هي يد ضمان، ولا يلزمه دفع أجرة الراكب؛ لأنه في هذه الحالة متعين عليه أن يركبه؛ لأنه منقطع. وإما أن يركبه بأجرة، فركب معه، وحينئذٍ أصبحت المنفعة منقسمة إلى قسمين: قسم أخذه المستعير، وقسم أجره، في هذه الحالة يضمن أجرة ما أجره ويكون ذلك المال للمالك الحقيقي. وفي حالة ما إذا كان المالك الحقيقي قد أذن له باستعارتها فأركب منقطعاً بدون مال، تبقى يده يد ضمان، وهذا الراكب لا يضمن؛ لأنه يجب إركابه في هذه الحالة، وبقي الأصل وهو البذل، حتى المالك الحقيقي لو أنه مر على المنقطع لوجب عليه إركابه؛ لأن المسلم يجب عليه إنقاذ أخيه، لكن لو أجره وقال له: أركبك معي بمائة، فركب معه بمائة، ضمن أجرته. أما الدليل على تضميننا إياه لأجرته فنقول: الأصل في المنفعة يوجب الضمان إذا أجرها كلها، كذلك لو أجر جزءها، فأنت لو قلت له: خذ هذه الدار واسكنها شهراً عارية مني لك، فسكن نصف شهر وأجرها نصف الشهر، وجب عليه الضمان في نصف الشهر، وعليه: فإركاب الراكب معه تشريك له في المنفعة، فيجب ضمان الجزء الذي أجره للراكب، ويضمن بأجرة المثل. وفائدة المسألة: أنه لو أركب الراكب بمائة ريال وأجرة مثله مائتين؛ وجب عليه ضمان المائة الثانية، ففي هذه الحالة تكون الإجارة أجرة المثل.

مسائل الاختلاف بين المعير والمستعير

مسائل الاختلاف بين المعير والمستعير قال رحمه الله: [وإذا قال: آجرتك، قال: بل أعرتني أو بالعكس عقب العقد، قُبل قول مدعي الإعارة، وبعد مضي مدة قول المالك بأجرة المثل]. هناك صور في المسألة: الأولى: إن قال: آجرتك، قال: بل أعرتني. الثانية: إن قال: أعرتك، قال: بل آجرتني. الثالثة: إن قال: أعرتني، قال: بل غصبتني. الرابعة: إن قال: آجرتني، قال: بل غصبتني. هذه كلها مسائل يصطلح العلماء على تسميتها بمسائل الاختلاف، ومسائل الاختلاف: هي جملة من المسائل التي يختلف فيها العاقدان في كيفية العقد، ولا تختص بباب معين بل تشمل أكثر أبواب المعاملات إن لم يكن جلها، ففي كل باب من أبواب المعاملات شيء يسميه العلماء: مسائل الاختلاف، والحقيقة أن مسائل الاختلاف لو تأمل فيها طالب العلم لوجدها في الأصل راجعة إلى باب القضاء؛ لأن المراد بهذه المسائل معرفة من المدعي ومن المدعى عليه، وبعض العلماء يقول: هو مدعي والآخر مدعىً عليه، وهو مدعىً عليه والآخر مدعي. هذا كله بمعنى قولهم: فالقول قوله، فإذا قالوا: القول قوله، فمعناه: أنه مدعى عليه، وهذه المسائل كلها راجعة إلى باب القضاء. أما من حيث المنهجية الفقهية؛ فكان الأصل يقتضي أن هذه المسائل تؤخر إلى باب القضاء؛ لأن مسائل القضاء تختص بباب القضاء، ولكن السبب الذي جعل أهل العلم رحمهم الله يفردون مسائل الاختلاف في كل باب بحسبه: أن هذه المسائل حينما تدرس في كل باب بحسبه تعرف أصول الأبواب الراجعة إلى القضاء، ففي بعض الأحيان تكون قاعدة القضاء عامة، لكنها في باب الشفعة تنخرم، وتكون قاعدة القضاء عامة ثابتة ولكنها في باب العارية تنخرم، فلما تدرس مسائل الاختلاف في كل باب بحسبه يكون ذلك أضبط وأتم لمعرفة الأبواب المستثناة، ومعرفة أصول كل باب وتطبيقها حتى في مسائل الاختلاف، فكما عرفت العارية اتفاقاً تعرفها اختلافاً.

اختلاف المعير والمستعير في كون العقد عارية أم إجارة

اختلاف المعير والمستعير في كون العقد عارية أم إجارة فقد يختلف المعير والمستعير في عقد العارية، يقول: أعرتني، فيقول: ما أعرتك بل أخذتها غصباً، قال: أعرتني، قال: بل أجرتك، قال: آجرتني، قال: بل أعرتك، هل هناك فرق بين أن يقول: أجرتك، وبين أن يقول: أعرتك، وبين أن يقول: غصبتني؟ نعم، في بعض الأحيان حينما تكون السيارة ملكاً للشخص، ويدعي آخر أنه استعارها، فيقول المالك: بل أجرتك، فمن مصلحة المالك أن يقول: أجرتك، وفي بعض الأحيان يكون العكس، يقول له: أجرتني، قال: لا. بل أعرتك، فإن السيارة إذا تلفت الأفضل أن يقول: أعرتها؛ لأنها تضمن؛ لأنه لو قال: أجرتك، لا تضمن، أما لو كانت السيارة موجودة، فإن الأفضل أن يقول: أجرتك؛ لأنه يضمن قيمة المنفعة في المدة التي أخذها ذلك الرجل، فإذا قال: أجرتك. وجب عليه قضاءً -إذا قلنا القول قوله- دفع الأجرة، لكن هذا في الحقيقة يحتاج إلى ضوابط فقهية صحيحة. ومن هنا تجد المصنف رحمه الله رتب المسائل، فابتدأ أولاً فقال: إذا وقع الاختلاف بعد العقد مباشرة، أي: أن العين موجودة -التي هي السيارة- فالتلف غير موجود، فحينئذٍ لا ضمان، ولكن يبقى فقط مسألة المنفعة: هل تكون بأجرة أو بدون أجرة؟ هذا إذا كانت العين قائمة وموجودة، ويترتب الضمان على التسليم بكونها عارية، لكن إذا قال له: أجرتك، قال: بل أعرتني، قال: أعرتك، قال: بل أجرتني. والعين تالفة، فإن المالك في بعض الأحيان الأصلح له أن يقول: أجرتك، وفي بعض الأحيان يكون الأصلح له أن يقول: أعرتك. وتوضيح ذلك: لو أن العين تلفت فقلنا: قيمتها خمسة آلاف ريال، والعين مضى عليها عند الشخص خمس سنوات، فادعى المالك أنه أجره كل سنة بألفين، فالأفضل أن يقول: أجرتك؛ لأن له عشرة آلاف ريال، وإذا قال: أعرتك، سقطت أجرته ولزمه أن يدفع له ضمان المنفعة، وهو خمسة آلاف ريال، والعكس: فقد تكون الأجرة خمسة آلاف ريال، وقيمة العين عشرة آلاف ريال، فالأفضل أن يقول: أعرتك ولا يقول: أجرتك، إذاً: هناك مسألة مهمة وهي معرفة من الذي يقبل قوله؟ هل نقبل قول المالك مطلقاً، أم نقبل قول الآخذ سواء ادعى الإجارة، أو ادعى العارية مطلقاً؟ هذا فيه خلاف بين العلماء: بعض العلماء يقول: أنا أصدق المالك؛ لأن المال ماله، والأصل إذا قال: أجرتك، أن تكون المنفعة مملوكة ومستحقة، وإذا قال: أعرتك، فالأصل أن عينها تضمن، فلا نفوت حقوق الناس، لأننا إذا أسقطنا قوله في حالة ما إذا ادعى العارية والعين تالفة فوتنا عليه ضمان عينه وماله، وإذا أسقطنا قوله: أجرتك، فوتنا عليه قيمة المنافع، ولا يجوز تفويت حقوق الناس، ولذلك يقول: أنا مع المالك مطلقاً، وربما في بعض الأحيان يكون المالك قوله الأضعف ولا يقول بالأصلح؛ فيكون في هذه الحالة تنازل عن الأكثر، فلو كانت قيمة العين خمسة آلاف ريال وأجرتها عشرة آلاف ريال وقال: أجرتني، وقال المالك: بل أعرتك، يصبح في هذه الحالة لا إشكال؛ لأنه تنازل عن الخمسة آلاف الزائدة عن استحقاقه، لكن المشكلة إذا زاد عن الاستحقاق. وعلى هذا يقول بعض العلماء: أصدق قول المالك مطلقاً. وبعضهم يقول: أقبل الأقل وأعتبر الزائد ادعاء، فإذا قال له: أجرتك، والأجرة خمسة آلاف ريال، والآخر قال: بل أعرتني، والعارية ثلاثة آلاف ريال، يقول: اتفق الطرفان على ضمان ثلاثة آلاف، وبقيت الألفان هي محل الخلاف؛ فأنا آخذ باليقين وهي الثلاثة آلاف، وأقول: القول قول من قال موافقاً للثلاثة آلاف، فيعتبر قول الأقل؛ لأنه يقين ومتفق عليه بين الطرفين. مثال: إذا قال له: أجرتك، والإجارة بعشرة آلاف ريال، قال: بل أعرتني، والعين قيمتها خمسة آلاف ريال، لا نشك أن المالك يستحق خمسة آلاف ريال، فيقول: أقبل القول الذي يثبت الخمسة آلاف؛ لأنه القدر المتفق عليه بين الطرفين، وأعتبر المالك مدعياً للزائد؛ قال: كما لو اختلفا وقال له: استلفت مني ألف ريال، قال: بل استلفت ألفين، فإن الكل متفق على أن هناك ألف ريال أخذها وهي يقين، لكن الشك في الألف الزائدة، فيقول: آخذ باليقين وأترك الشك حتى يأتي الدليل على إثباته؛ لأن ذمة الطرف الثاني في الزائد -وهي الخمسة آلاف ريال- مشكوك فيها، فأبقى على اليقين وهو الأقل وألغي الزائد، وأسقط قول من قال بالزائد حتى يقيم البينة عليه، هذا معنى قولهم: أو فالقول قول من قال بالعارية. فالقول قول من قال بالإجارة. كل هذا محل خلاف بين العلماء، منهم من يقول: القول قول المالك، وقلنا: علته أنه يرى أن مال صاحب الحق لا يذهب هدراً، وإذا أردت أن تختصرها وتقول: المالك إما أن يريد ضمان عينه، وإما أن يريد ضمان أجرة العين، وفي كلتا الحالتين تضمن الأعيان والمنافع، لأن بيوت الناس إذا تلفت فهي مضمونة ولا تذهب هدراً، وسكنى البيوت والانتفاع بها الأصل أنه مضمون ولا يذهب هدراً، فنحن نقبل قول المالك مطلقاً، ومنهم من يقول: آخذ باليقين وألغي الشك. وكلا القولين له وجهه وتعليله، والمصنف رحمه الله يقول في هذه المسألة: (وإذا قال: آجرتك، قال: بل أعرتني أو بالعكس عقب العقد، قُبل قول المدعي الإعارة). وفي هذه الحالة إذا قبلت قول مدعي الإعارة ستسقط الأجرة. مثلاً: لو أن شخصاً أخذ سيارة من شخص وبقيت عنده شهراً كاملاً، ثم قال: آجرتني، قال: بل أعرتك، فحينئذٍ قالوا: العارية توجب ضمان العين والإجارة توجب ضمان المنفعة، فآخذ بالضمان الأتم الأكمل وأقول: أقبل قول من قال بالعارية لا قول من قال بالإجارة، وعلى هذا يقبل قول من قال بالعارية سواء كان المالك أو المستأجر، وفي كلتا الحالتين تارة تكون المصلحة للمالك أن يقول: أجرتك، وتارة تكون المصلحة أن يقول: أعرتك. قال رحمه الله: (وبعد مضي مدة قول المالك بأجرة المثل). ذكرنا أنهم يقولون: حينما يكون الاختلاف قبل فوات المدة يكون ضمان العين أفضل من ضمان المنفعة، فهو إذا قال: أعرتك، يقولون: عندنا صورتان: الصورة الأولى: أن يقع الاختلاف بعد العقد مباشرة، والصورة الثانية: أن يقع الاختلاف بعد مضي مدة تستحق فيها الأجرة، فقالوا: إذا وقع الاختلاف بعد العقد مباشرة فلا ضمان للمدد، أي: إذا قال له: أعرتك، قال: بل آجرتني. قال: آجرتك، قال: بل أعرتني، ولا مدة مضمونة؛ لأنه ما مضى شيء، فقالوا: نقبل قول من قال بالعارية؛ لأنه يوجب ضمان الرقبة بكاملها، وهذا أحظ من ضمان المنفعة التي هي الأقل، وحينئذٍ يقولون: المالك بين أمرين: إما أن يدعي العارية أو الإجارة، فإن ادعى العارية؛ فحينئذٍ نقبل قوله وهذه سيارته وهذا ملكه، ونقبل قول من قال بالعارية، وسقط استحقاقه للأجرة، لكن لو قال: آجرتك، وقال الذي أخذ: أعرتني، فسيتضرر المالك من جهة عدم وجود الأجرة، وستؤخذ عليه منفعة الدار بدون أجرة، فلماذا قبلنا قول من قال بالعارية في هذه الحالة؟ لأنه إذا قال له: أعرتك، تبدأ مسألة اللزوم وعدم اللزوم، فبعض العلماء لا يرى لزوم العارية، ويقول: إذا قلنا: نقبل قول من قال بالعارية، ففي هذه الحالة يكون المالك له خيار الإسقاط؛ لأنها ليست بلازمة له، {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91] يقول: أعرتك، ثم يقول: أعطني إياها، فيرجع مباشرة وينتهي الإشكال، وعلى هذا فحق المالك مضمون، ولا يفوت عليه الحق. وعلى القول بلزوم العارية، قالوا: ضمان العين أفضل من ضمان المنفعة، وعلى هذا: يكون الاستحقاق لليد عند فوات العين بضمانها أتم من استحقاق المنفعة والأجرة.

اختلاف المعير والمستعير في حصول الغصب وعدمه

اختلاف المعير والمستعير في حصول الغصب وعدمه قال رحمه الله: [وإن قال: أعرتني، أو قال: آجرتني، قال: بل غصبتني، أو قال: أعرتك، قال: بل آجرتني، والبهيمة تالفة، أو اختلفا في رد؛ فقول المالك]. هذه مسألتان: مسألة من يقبل قوله، ومسألة من يرد قوله ونعني بها الاختلاف بين المتعاقدين، وتحتاج إلى شيء من التفصيل.

مسألة التنازع في عقد المنفعة

مسألة التنازع في عقد المنفعة بينا المسائل المتقدمة، وبقي بيان ثلاث كلمات: آجرتني، أعرتني، غصبتني. مثلاً: سيارة أو دار ملك لشخص، وكان يسكنها شخص لمدة سنتين، ثم تلفت هذه الدار، فادعى الساكن للدار أنه كان مستأجراً أو كان مستعيراً، وادعى مالك الدار أنه كان غاصباً. فما الفرق بين قول الشخص في هذه المسائل: آجرتني أعرتني وقول المالك: غصبتني؟ إذا ادعى ساكن الدار أنه استأجر فهذا له حكم، وإذا ادعى أنه استعار فله حكم آخر، وإذا ادعى عليه المالك أنه غاصب فهذا له حكم ثالث. فإذا قال: آجرتني، فمعنى ذلك: أننا سنطالبه بضمان أجرة الدار لمدة سنتين، ولا نطالبه بضمان قيمة الدار، فرضنا أن هذه الدار التي تلفت قيمتها مائة ألف، وأجرة كل سنة عشرة آلاف، فإذا قال: آجرتني، فإنه يقر بأن عليه عشرين ألف ريال، لكن لا يطالب بضمان الدار بمائة ألف، فهو يدعي الأقل حتى يخرج من ضمان الأكثر. والسبب في هذا: أنه إذا قال: آجرتني، فإن المستأجر لا يضمن العين المؤجرة إلا إذا فرّط أو تعدى -كما تقدم-، فهو يقول: آجرتني، مع أنه سيغرم الأجرة، لكنه سيسلم من ضمان الدار. أو يقول: أعرتني، فإذا قال: أعرتني، يخرج من الأجرة ويلزمه ضمان الدار، ففي بعض الأحيان تكون الأجرة أغلى من قيمة الدار، كما لو سكن هذه الدار عشر سنوات، وكل سنة بعشرة آلاف ريال وقيمة الدار خمسون ألف ريال، فإذا قال: آجرتني، فسيدفع مائة ألف، وإذا قال: أعرتني، سيدفع خمسين ألفاً، فالأفضل أن يقول: أعرتني. فإذاً: العلماء رحمهم الله ذكروا قوله: آجرتني أعرتني قال: بل غصبتني هذا كله من جهة الحقوق المترتبة على العين التالفة. فالضمان بالأجرة والضمان للعين التالفة مستحق على من تلفت الدار تحت يده، فيضمن الدار إذا كان مستعيراً؛ لأن المستعير لا يدفع الأجرة ولكن يلزمه ضمان العين، لقوله عليه الصلاة والسلام: (بل عارية مضمونة). فإذا قال المالك: بل غصبتني، فإنه يستحق الأمرين، أجرة الدار؛ لأن المغصوب تضمن منافعه، ويستحق قيمة الدار؛ لأن المغصوب مضمون العين، وبناء على ذلك يضمن المنافع وقيمة الدار التي تلفت. فإذا قال: غصبتني، يكون له حقان: حق الأجرة، وحق قيمة الدار التي تلفت. فإذا اختلف الاثنان، فقال الذي في الدار: آجرتني، قال: بل غصبتني، هل: نصدق المالك أم نصدق الذي في الدار؟! هذه المسألة راجعة إلى مسألة قضائية، وسبق التنبيه عليها، وهي: من المدّعي ومن المدعى عليه؟! فإذا نظرت إلى المالك للدار أن الأصل أنه ملك هذه الدار، وأنه تضمن عين الدار وتضمن منافعها؛ لأن أموال الناس محترمة شرعاً ولا تخرج عن أيديهم إلا بضمان، نقول حينئذٍ: القول قول المالك، حتى يقيم الشخص الذي ادعى الإجارة أو العارية الدليل على أنه مستعير أو مستأجر، هذا معنى قوله: فالقول قول المالك. يعني: أن القاضي يقبل قول المالك أنه غاصب، ولكن يحلف المالك اليمين بالله على أنه غصبت منه هذه الدار، وأن هذا قد غصبها المدة التي يطالب بأجرتها. وبناء على ذلك: يكون المالك مدعىً عليه، والمستأجر أو مدعي الإجارة يطالب بالبينة. والقول قول المالك يكون في الصورتين، أي: سواء ادعى الذي في الدار الإجارة أو العارية؛ لأن في الدار شيئين: الشيء الأول: قيمة الدار التي انهدمت. والشيء الثاني: منفعة سكن الدار عشر سنوات. فلماذا قلنا: القول قول المالك؟ قالوا: أولاً: الأصل واليقين أن الإنسان لا يعطي الشيء إلا بقيمة أو بمقابل، فضمناه الأجرة. وثانياً: الأصل في أموال الناس أنها لا تذهب هدراً، فما دام أن الدار سقطت وهي تحت يد فلان فالأصل أنه ضامن حتى يثبت أن يده يد أمانة لا ضمان فيها. ولذلك لو اختلف اثنان، فقال أحدهما: أجرتني، قال: بل وهبتني، فإن الذي يدعيه خلاف الظاهر؛ لأن الأصل في الإنسان أنه لا يبذل الشيء إلا بمقابل، فهم يقولون: نضمنه الدار؛ لأن الأموال محترمة، ومادام سقطت تحت يده فالأصل أنه ضامن لها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه)، وليس عندنا دليل يسقط هذا الأصل، ونضمنه الأجرة؛ لأن هذه العشر سنوات لا تذهب هدراً حتى يقوم الدليل على أنه قد تبرع بها المالك الحقيقي. وليس عندنا دليل. هذا من جهة من يقول: القول قول المالك. القول الثاني: قول من يقول: القول قول من يدعي الإجارة؛ فهو في هذه الصورة مدعىً عليه؛ لأنه يقول: إنه أخذ العين بالمقابل، فجرى على الأصل من أنه مستأجر، وكونه يضمن الدار، أو يكون غاصباً ويحمله قيمة الدار هذا خلاف الظاهر؛ لأن الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها. وكل من قال قولاً خلاف الأصل فهو مدعي: والمدعي من قوله مجرد من أصل أو عرف بصدق يشهد فيقول: الأصل أن هذا الشخص الذي في الدار بريء، ومادام أنه قال: أنا مستأجر، والغالب أن الإنسان يأخذ الدار مستأجراً لمنافعها، فإذا تلفت نقول: تلفها مستحق على مالكها حتى يثبت أن هذا الشخص قد تحمل ضمانها بالإعارة، أو بالغصب. ثم قالوا أيضاً: الغصب خلاف الظاهر، والأصل أن المسلم لا يغصب لأن هذه تهمة، وبناء على ذلك نقول: لابد أن يقوم الدليل على أنه قد غصب؛ لأن الغصب تترتب عليه آثار من الإثم والتعزير، وهذا القول الثاني أيضاً من القوة بمكان. وعلى هذا ترددت أقوال العلماء بين الجانبين، بعضهم يقول: إننا نصدق الذي في الدار؛ لأنه مدعى عليه، ونطالب المالك بإقامة دليل على أنه غصب، وأخذت منه الدار، وأن هذا هو الذي غصب. ومنهم من يقول: نصدق المالك لأن أموال الناس ومنافع أعيانهم الأصل ضمانها. وكلا القولين له وجهه، وله تعليل وإن كان -كما ذكرنا- القول الثاني في مسألة الغصب -وهو القول بتصديق المالك- يضعف؛ لأنه تترتب عليه ما ذكرناه من المؤاخذة،؛ إذ لا يقف الأمر على ضمان الأعيان والمنافع بل يتعدى ذلك إلى الاتهام، والأصل براءة المتهم حتى تثبت إدانته.

اختلاف المعير والمستعير في رد العارية

اختلاف المعير والمستعير في رد العارية قال رحمه الله: [أو اختلفا في رد فقول المالك]. هذه المسألة غير المسألة الأولى، والعلماء رحمهم الله لما ذكروا مسائل العواري نبهوا على قضية الرد وعدم الرد، إذا قال: فلان أخذ مني سيارتي عارية، ولم يردها، فقال الذي أخذ: بل رددتها. هل نصدق الذي أخذ السيارة أم نصدق المالك؟ إن صدقنا الذي أخذ السيارة، فحينئذٍ نطالب المالك بإقامة دليل على أن فلاناً لم يرد السيارة، وإن صدقنا المالك وقلنا: إنك لم تردها، طالبنا الذي أخذ السيارة بالبينة والشهود على أنه قد رد السيارة. مثال: إذا قال له: رددتها، قال: لم تردها، سأل القاضي الذي أخذ السيارة: متى رددتها؟ قال: رددتها ليلة الجمعة، قال المالك: ما ردها ليلة الجمعة، فشهد شاهدان أن فلاناً المالك كان يقود سيارته صباح الجمعة، فهذه بينة تدل على كذبه، وأنه فعلاً قد ردت إليه السيارة؛ لأنه ادعى عدم الرد، وقد ثبت أنه ردها، لكن إذا لم توجد بينة، فهل نصدق الذي قال: رددت، أو نصدق الذي نفى الرد؟! عندنا مثبت للرد وعندنا ناف، وهذه المسألة ترجع إلى نفس المسألة السابقة: كيف نميز بين المدعي والمدعى عليه؟! فبعض العلماء يقول: إذا أخذ السيارة وادعى أنه ردها، وادعى صاحب السيارة أنه لم يردها، فعندنا شيء اسمه اليقين، وشيء اسمه الشك، واليقين لا يزال بالشك، فهو يعترف أنه أخذ السيارة، وكلا الطرفين مقر بأن هناك أخذاً للسيارة. فإذاً نقول: ما دمت أنك تقر أنك أخذت سيارة فلان فأثبت لنا يقيناً أو بما هو في حكم اليقين وبالبينة أنك قد رددتها؛ لأنك مقر أنك أخذتها، ومقر أن ذمتك قد شغلت بهذه السيارة. ففي هذه الحالة إذا قال: أعرتك، قال: نعم أعرتني ولكن رددت السيارة إليك، أعرتني دارك ولكن رددتها إليك. مادمت قد أقررت أنك أخذت فإن يدك تكون مشغولة بهذا الأخذ، ومحكوم عليك أنك آخذ حتى يثبت أنك قد رددت الذي اعترفت بأخذه، هذا وجه قول من قال من العلماء: إنه يصدق المالك. وهذا هو القول الصحيح، أنه إذا أقر واعترف بأنه أخذ السيارة عارية وردها، نقول: أقم البينة على أنك رددتها. وبعض العلماء يقول: نصدقه لأن الذي يقول: رددت، مثبت، والذي يقول: لم ترد، ناف، والمثبت مقدم على النافي، ولكن الصحيح أن القول قول المالك كما ذكر المصنف، وهذا هو الصحيح والخلاف هنا ضعيف. فإن قول من قال: يصدق الذي قال: رددت، قول ضعيف، خاصة وأن أصول القضاء تقوي أن القول قول المالك؛ لأن الذمة قد ثبت شغلها بالأخذ، فلابد من إثبات الدليل على براءتها بالرد.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين الإجارة والعارية من جهة تمليك المنافع وعدمه

الفرق بين الإجارة والعارية من جهة تمليك المنافع وعدمه Q ما الفرق بين تمليك المنافع في الإجارة وأحقية التصرف فيها، وتمليك المنافع في العارية وعدم أحقية التصرف فيها، مع أن الكل يضمن إن فرط وتعدى؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن المستأجر منك إذا استأجر داراً لمدة سنة بخمسة آلاف فمعناه: أنك لا تملك سكنى هذه الدار سنة كاملة، وتنازلت عنها لقاء خمسة آلاف ريال؛ يملك بها المستأجر هذه المنفعة ملكاً تاماً، من حقه أن ينتفع هو ومن حقه أن يقيم غيره مقامه، وأنت رضيت بهذا الملك، ورضيت بالمعاوضة عليها، والله أمرك بالوفاء وإتمام العقد على ما اتفقتما عليه. فالإجارة فيها عوض، ويجب عليك خمسة آلاف لقاء السكنى سنة، وأما في العارية فلن يدفع لك شيئاً، وصارت على محض الإحسان والتكرم والتفضل، وحينئذٍ تضعف يد الآخذ في العارية أكثر منها في الإجارة؛ لأن الإجارة قد عاوضك وأعطاك قيمة الشيء، وأما في العارية فلم يعطك في مقابل العارية شيئاً، وعلى هذا لا يستحق في العارية إذا وهبت له وأعطيت إلا في حدود الهبة والعطية، فتقيدت في العارية وأطلقت في الإجارة، واستحق في الإجارة ولم يستحق في العارية، فالفرق بينهما واضح، ولذلك يكون المستأجر مالكاً للمنافع في الإجارة غير مالك للمنافع في العارية، وهذا على القول بأنها إذن بالمنافع وليست بتمليك خلافاً للجمهور، والله تعالى أعلم.

حكم تضمين المستعير إن كانت العارية بها عيب وزاد عيبها عنده

حكم تضمين المستعير إن كانت العارية بها عيب وزاد عيبها عنده Q إن استعار شخص سيارة بها عيوب ثم تلفت في يديه من جراء تلك العيوب والأعطال التي بها سابقاً، فهل يضمن المستعير؟ A نعم تضمن في هذه الحالة؛ لأن يدك يد ضمان فرطت أو لم تفرط، وتضمنها معيبة ولا تضمنها كاملة، مثال: لو أخذت السيارة وهي في آخر رمق منها، تسير ساعة وتقف ساعتين، ففي هذه الحالة الشرع يقول لك: أي شيء تستعيره فإن يدك يد ضمان، فأنت الذي أدخلت على نفسك الغرر، معنى ذلك: إذا كانت السيارة في آخر رمقها فأنت ضامن، كأنك تقول: أنا أتحمل مسئولية ردها، فإذا لم تردها فيدك يد ضامنة تضمنها بحالتها، فإذا وجدت مثلها تسير ساعة وتقف ساعتين حينئذٍ تضمن المثلي، وإن كان لا مثل لها وقيمة مثلها ثلاثة آلاف، نقول: عليك ضمان هذه السيارة بالتلف، أي: بالعيوب الموجودة فيها، ولا تضمنها كاملة، وعلى هذا نقول: يدك يد ضمان وليست بيد أمانة حتى يفصل بين كون التلف بتفريط أو بدون تفريط، بسبب موجود أو غير موجود، فقوله: (أغصباً يا محمد! قال: بل عارية مضمونة) نص يدل على أن العواري تضمن، وأن من أخذ العارية فقد تحمل المسئولية. وهذا في الحقيقة حكمة من الشريعة؛ لأن الشخص الذي أعطاك العارية تكرم وتفضل بمنافعها؛ فجعل الشرع مكافأة له على هذه المنافع -كنوع من العدل، والشريعة قائمة على العدل- أنك تضمن ردها له تامة كاملة على الصفة التي أخذتها بالتمام والكمال، والله تعالى أعلم.

حكم تمكين الغير من استخدام العارية عند الحاجة

حكم تمكين الغير من استخدام العارية عند الحاجة Q لو أن شخصاً استعار سيارة في سفر، واحتاج أثناء الطريق لشخص آخر يقود السيارة عنه، فهل في ذلك حرج؟ A لا حرج إلا الضمان؛ فلو أن هذا الشخص الثاني تصرف فيها فتلفت تضمن؛ لأن الشخص الثاني إن أقمته مقامك عند الضرورة والحاجة يسقط عنك الإثم، لكن لا يسقط عنك الضمان، فإن الذي ملك السيارة أذن لك أن تقودها ولم يأذن للغير أن يقودها، ولذلك تقف حتى يتراد إليك نفسك؛ لأنه ما دام أنه قد أذن لك أنت أن تقود فإنه لم يأذن لغيرك بقيادتها، وهذه شريعة تامة كاملة تضمن حقوق الناس على أتم الوجوه، قد ترضى لمحمد يسوق ولا ترضى لغيره، فلو جئت تتساهل في هذا الشيء اليسير الذي لا خطر فيه، فقد تتساهل في شيء أعظم خطورة، وشيء أكثر مفسدة، ولذلك -من حيث الأصل الشرعي- لا يقوم غيرك مقامك؛ لأن الشريعة قالت: أذن لك ولم يأذن لغيرك، فتبقى أموال الناس مصونة ومحفوظة، ولا يمكن للغير أن يقوم مقامك إلا إذا أذن المالك الحقيقي بإقامته مقامك، والله تعالى أعلم. بالنسبة لهذه المسألة يستثنى منها الاشتراط، كأن تقول له: فإن تعبت يقود عني ابني، أو اجعلني في حلٍ إذا احتجت لغيري أن يسوق بي، فهذا إذن، أيضاً يدخل في هذه المسألة الإذن المعروف مثلما يقع بين الأصدقاء والأحبة، تعلم أن أخاك تطيب نفسه أن تقيم غيرك مقامك في حالات الحاجة، وذكروا دليلاً لذلك حديث أبي طلحة رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما سُمعت الصيحة في المدينة، خرج الناس فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من أروع الأمثلة على شجاعته -بأبي وأمي- صلوات الله وسلامه عليه، وثبوت قلبه وجنانه، فلما صارت الصيحة والفزع كان أول من خرج عليه الصلاة والسلام، فكان لا يبالي بالموت ولا يبالي بشيء صلوات الله وسلامه عليه؛ وهذا من كمال إيمانه، وكمال رجولته عليه الصلاة والسلام، فكان أتم الناس في قوة إيمانه وتوكله على ربه، فكان أول من خرج على فرس أبي طلحة، وأخذ فرس أبي طلحة من دون إذن أبي طلحة، وللعلماء فيه أوجه، منها: قالوا: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] فقالوا: إذا كان أولى بهم من أنفسهم فمن باب أولى أموالهم، وفي هذا الحديث لا يقل عن ثلاثين مسألة، فقط في أخذ فرس أبي طلحة. من هذه المسائل: أنه يجوز أن تأخذ مال الغير إذا علمت رضاه، فإنه ركب فرس أبي طلحة وهو يعلم أن أبا طلحة يحب ذلك ويرضى به، فأنت إذا أخذت الشيء عارية وأنت تعلم أن صاحبه لو وقف واطلع على الشيء الذي فعلته عند حالات الضرورة أذن لك، قالوا: في هذه الحالة يسقط عنك الإثم؛ لأنك تعلم أن من عادته وطبيعته أنه يأذن لك بهذا، وهكذا لو وجدت حذاءه -أكرمكم الله- وأنت محتاج لأخذه فأخذته، ولو وجدت دابته وأنت محتاج إليها فأخذتها؛ وهذا معروف بين الإخوة والأصدقاء والأحبة، قالوا: فيجوز أن تقيم الغير مقامك ليقود بك عند حالات الحاجة، أو تعرفه حليماً رحيماً إذا حكيت له هذا الظرف وافق على أن تقيم غيرك مقامك، فهذا لا بأس به، ولا إثم فيه، لكن لا يخرج الشيء عن يد العارية الموجبة للضمان.

حكم الجمع بين طواف الإفاضة وطواف الوداع بنية واحدة

حكم الجمع بين طواف الإفاضة وطواف الوداع بنية واحدة Q هل يصح أن أجمع بين طواف الإفاضة وطواف الوداع في وقت طواف الوداع بنية واحدة؟ A أولاً: على المسلم أن يلتزم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالخير كل الخير في اتباع هديه والسير على نهجه صلوات الله وسلامه عليه، إن المسلم حينما يعلم أن هديه عليه الصلاة والسلام في يوم النحر أنه نزل وطاف طواف الإفاضة، ثم رجع وبات بمنى ورمى الجمار، ثم رجع وطاف طواف الوداع فإنه يفعل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يترك هذه السنة، ولا يتساهل فيها، ولذلك حينما يقول: هذا واجب وهذا ركن، والواجب يندرج تحت الركن، يقول بعض العلماء: إن الفقه قد يكون وبالاً على صاحبه متى؟ حينما تجد من يتعلم الفقه يقول لك: هذه سنة فيتركها، بينما العامي يعلم أنها سنة ولكن يقتتل عليها حتى يحصلها، فانظر كيف أن هذا جاهل يفوز بالدرجات العلى وهذا عالم يحرم الخير. فلذلك لا ينبغي للإنسان أن يفرط بالسنة، هذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه نزل في يوم النحر وطاف طواف الإفاضة، فلماذا تترك هذه السنة؟ ما الذي أقدم الإنسان من آلاف الكيلو مترات أشعث أغبر من كل فج عميق، وتحمل المشاق؟ ثم يأتي الشيطان يحول بينه وبين الخير ويمنعه من خطوات يتبوأ بها الدرجات العلى والخير الكثير، ويصيب بها الرحمة ويشرفه الله بالطواف ببيته فيمتنع من هذا الخير كله ويتقاعس عنه، ويقول: أجمع بين طواف الإفاضة والوداع؛ لأن الفقهاء يقولون: يندرج الأصغر تحت الأكبر، لماذا يحرم الإنسان نفسه هذا الخير؟ نعم إن وجد عذر، كالمرأة الحائض تحيض في العيد، ويأتي يوم النحر وهي حائض، لا تستطيع أن تطوف طواف الإفاضة، ثم تبقى يوم التشريق الأول والثاني والثالث، ثم تطهر فتريد أن تطوف طواف الإفاضة وتريد أن تصدر، نقول: طوفي طواف الإفاضة ويكون مغنياً لكِ عن طواف الوداع، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجعلوا آخر عهدكم بالبيت طوافه). فهذه إذا طافت طواف الإفاضة ونوت تحته طواف الوداع أجزأ؛ لأنه واجب لا يتحقق إلا بالنية، وفي هذه الحالة قد تحقق مقصود الشرع بجعل آخر العهد بالبيت طوافه، لكن القادر والمستطيع وطالب العلم والعالم الذي يعلم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته ويقصر في ذلك، فهذا أمر لاشك أنه حرمان من الخير، وفوات للخير على العبد، وهو من تخذيل الشيطان للإنسان، فينبغي للمسلم أن لا يكون ذلك الرجل، ويحرص المسلم وتحرص المسلمة على أن تنزل يوم العيد وتطوف طواف الإفاضة في يوم النحر؛ لأن في ذلك الخير الكثير، قال تعالى: (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]. جعل الله أحب الأشياء إليه وأعظمها عنده زلفى وقربى منه سبحانه وهي الهداية، جعلها مقرونة باتباع هديه عليه الصلاة والسلام؛ وهي أ‘ظم مكافأة يجدها المسلم في اتباعه، قال سبحانه وتعالى: (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، فنتبع سنته عليه الصلاة والسلام، ونطوف طواف الإفاضة في يوم النحر، ونطوف طواف الوداع إذا صدرنا وخرجنا، ونجعله آخر العهد؛ فإن وجد العذر فلا بأس حينئذٍ، وأما إذا لم يوجد العذر وفعل الإنسان ذلك متعمداً فقد فاته الخير، وليس هناك دليل على الإلزام بشيء، والله تعالى أعلم.

حكم حج من أغمي عليه ولم يرم الجمرات

حكم حج من أغمي عليه ولم يرم الجمرات Q رجل أصيب بالإغماء في اليوم الثاني عشر ولم يرم، فما الحكم؟ A الحجة تامة، إذا كان ذلك بعد وقوع أركانه على الصفة المعتبرة، وفي هذه الحالة إذا أفاق فإنه يرمي ما لم تتأخر إفاقته إلى فوات الوقت؛ فمذهب طائفة من العلماء: أن الإغماء موجب لسقوط التكليف؛ وبناءً على ذلك: يسقط عنه التكليف بالإغماء على هذا القول، ومن العلماء من يفرق بين الإغماء الطويل والإغماء القصير، فيقولون: ما كان في حدود الثلاثة الأيام يكون المغمى عليه في حكم المكلف، ولذلك قالوا: إن عمار بن ياسر قضى الصلوات حينما أغمي عليه ثلاثة أيام، والأشبه من ناحية أصولية: أن المغمى عليه أشبه بالمجنون منه بالنائم، فإن من يقول: هو مكلف، يشبهه بالنائم، ومن يقول: إنه غير مكلف، يشبهه بالمجنون، وهذا أصح؛ لأن النائم إذا أيقظه الإنسان استيقظ، والمغمى عليه لو أيقظه لا يستيقظ، ولذلك هو أقوى -من حيث الأصل- شَبهاً بالمجنون، فيسقط تكليفه، والله تعالى أعلم.

حكم من اعتمر ليلة يوم التروية ثم تحلل وأهل بالحج

حكم من اعتمر ليلة يوم التروية ثم تحلل وأهل بالحج Q من يعتمر ليلة يوم التروية ثم يتحلل ويهل بالحج قبل ظهر يوم التروية، فهل هذا يعتبر متمتعاً؟ A نعم. يعتبر متمتعاً، من جاء بالعمرة قبل الوقوف بعرفة وتحلل منها، سواء وقع ذلك على الوجه الذي يدرك به السنة من يوم التروية، أو كان ذلك على وجه تفوت به السنة، كأن يأتي متأخراً، فما دام أن عمرته قد وقعت قبل الوقوف بعرفة وتحلل منها، ثم بعد ذلك أحرم بنسك الحج فإنه يكون متمتعاً وجهاً واحداً عند العلماء، والله تعالى أعلم.

حكم الفصل بين الطواف والسعي

حكم الفصل بين الطواف والسعي Q هل يؤثر الفصل بين الطواف والسعي سواء كان هذا الفاصل قليلاً أو كثيراً؟ A السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم الوصل بينهما، ويكون الفاصل بالمأثور وهو ما حفظ عنه عليه الصلاة والسلام من صلاته لركعتي الطواف، وشربه لماء زمزم، وتقبيله للحجر، ثم مضيه إلى السعي، هذا هو هديه عليه الصلاة والسلام، وخفف العلماء في الفاصل اليسير، كأن يستريح قليلاً ويكون من كبار السن، أو تكون معه رفقة يخشى عليهم الضياع فينتظر اجتماعهم، أو نحو ذلك مما هو خفيف يسير، فهذا لا يؤثر عند من يشترط الموالاة بين السعي والطواف، أما لو كان الفاصل بأجنبي، أو كان فاصلاً مؤثراً فاحشاً، كأن يذهب إلى استراحته وينام، ثم يرجع ويسعى فهذا فاصل مؤثر يفوت به شرط الموالاة عند من قال باعتباره، والله تعالى أعلم.

ما يشترط في الوكيل لرمي الجمرات

ما يشترط في الوكيل لرمي الجمرات Q هل يشترط في من وكل بالرمي عن العاجز أو المريض أن يكون مؤدياً للحج في نفس العام أم يجوز أن يوكل من لم يحج في هذه السنة ويرمي وكان قد حج الفريضة؟ A المسألة الأولى: لا يجوز التوكيل إلا عند وجود العذر، فمن كان معذوراً كأن يكون مريضاً أو به ضعف شديد أو عاجز لا يستطيع كالمشلول، فهؤلاء المعذورون هم الذين يرخص لهم في التوكيل، فإن كان العذر موجوداً صح التوكيل، وإن كان العذر غير موجود فإنه لا يصح التوكيل ولا يجزئ الرمي، فإن الشخص الذي يذهب يرمي يتعب نفسه إذا علم أن الشخص الذي وكله غير معذور، كالذين يتلاعبون بالحج فينزلون في يوم العيد ويوكلون أشخاصاً للرمي عنهم، فهؤلاء رموا أو لم يرموا فالرمي وجوده وعدمه على حد سواء؛ لأن مثل هذا غير معذور، فيشترط وجود العذر، فإذا وجد العذر صح التوكيل، وإذا لم يوجد العذر لم يصح التوكيل. المسألة الثانية: إذا وكل ينبغي أن يكون الوكيل قد حج في نفس العام؛ لأن الرمي عبادة لا تصح إلا من الحاج ولا تجزئ من غير الحاج، تعبد الله بها من كان في النسك ولم يتعبد بها من لم يكن في النسك، فيجب أن يكون الوكيل قد حج في ذلك العام، فالشخص الذي يوكله لابد أن يكون محرماً، ولا يكون من الحلال ممن لم يحج، فلا يجوز توكيل غير الحاج، ويبدأ الوكيل بنفسه، فيرمي الجمرات تامة، ثم يرجع ويرمي عمن وكله، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) فالرمي نسك تام، فيبرئ ذمته منه تماماً ثم يبرئ ذمة من وكله، فلو أنه رمى عمن وكله أولاً، ثم رمى نفسه لم يجزئ، وهل ينقلب رمي من وكله عن نفسه أو يلزمه الإعادة؟ وجهان للعلماء: من أهل العلم من قال: ينقلب رميه عن نفسه ثم يرمي عمن وكله، وحينئذٍ يعيد مرة واحدة على هذا القول؛ لأن الرمي الأول انقلب له، لكن الرمي الثاني نواه عن نفسه فلا ينقلب للغير فيعيد مرة واحدة، وهناك من أهل العلم من قال: يجب عليه أن يعيد الاثنين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد.

باب الغصب [1]

شرح زاد المستقنع - باب الغصب [1] حرم الله الظلم على نفسه وجعله محرماً بين العباد، ومن هنا حرم الله سبحانه الغصب وأخذ أموال الناس بغير حق، وتوعد عليه الوعيد الشديد سواء كان المغصوب عقاراً أو منقولاً على تفصيل عند العلماء في بعض الأشياء.

الغصب من كبائر الذنوب

الغصب من كبائر الذنوب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب الغصب]. الغصب: هو أخذ الشيء بالقهر والقوة. وليس هناك اختلاف كبير بين حقيقة الغصب في اللغة، وحقيقته في الاصطلاح، وقد عرفه المصنف رحمه الله بقوله: [هو الاستيلاء على حق الغير قهراً بغير حق]. وهذا النوع من المعاملات يقع بين الناس في سائر الأزمنة والأمكنة، فابتلى الله عز وجل الناس بعضهم ببعض، وجعل هذا البلاء فتنة: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20]. فالله من حكمته أن ابتلى العباد بعضهم ببعض، ابتلى الضعيف بالقوي وابتلى القوي بالضعيف، اختباراً لعباده وابتلاء لهم فيما يعملون. فمن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه ابتلاهم بهذا لكي يعظم الأجر للمبتلى فيما غصب منه، وكذلك يؤاخذ الغاصب بجنايته وظلمه لأخيه وأخذه لماله بدون حق. وباب الغصب باب مهم جداً، والعلماء رحمهم الله اعتنوا ببيان أحكامه في كتب الحديث وكتب الفقه، ولذلك أفردوه بباب مستقل تعظيماً لشأنه، وبياناً لمسائله وأحكامه. يقول رحمه الله: (باب الغصب) أي: في هذا الموضع سأبين لك جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بالاعتداء على أموال الناس، وأخذها بالقهر والقوة دون وجود مبررٍ شرعي لذلك الأخذ، وقد حرّم الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام الغصب، وانعقد إجماع الأمة على تحريم هذا الفعل، وأنه كبيرة من كبائر الذنوب التي توجب سخط الله وغضبه على العبد والعياذ بالله، وتوجب عقوبة الدنيا والآخرة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]. ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله حرّم على المسلم أن يأكل مال أخيه المسلم بالباطل، والغصب أكل الأموال بالباطل؛ لأن الباطل هو الذي لا وجه للحق فيه، وكل من اعتدى على أرض أخيه أو ماله أياً كان ذلك المال بدون وجه حق فقد غصبه، وإذا أخذه على سبيل القهر والغلبة -كما سيأتي- فيدخل في عموم الآية أنه أكل المال بالباطل. وأما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم عظم أمر الغصب، ومن أصدق الشواهد على ذلك أنه ثبت عنه حديثان يدلان على عظم الاعتداء على أموال الناس سواء ذلك بالغصب أو غيره، أحدهما: عام، والثاني: خاص. أما الحديث العام: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف في حجة الوداع، وكانت خطبته عليه الصلاة والسلام لأمته في ذلك الموقف وذلك اليوم، قال في أول الخطبة: (أيها الناس! اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا أبداً) فتصوروا هذه الكلمة والجملة! إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يودع الناس ويريد أن يقول كلاماً ينبههم على أنه قد يكون آخر الكلام، وأنه وصية عظيمة، فمعناه: أنه قد بلغ من الأهمية الغاية، فكان أول ما استفتح خطبته عليه الصلاة والسلام -بعد أن قال هذه الكلمات العظيمة التي خشعت لها قلوب الصحابة وأحس الصحابة أنه يودعهم، وأنه آخر العهد به عليه الصلاة والسلام في ذلك الموقف الذي ما وقف بعده عليه الصلاة والسلام، وما عاش بعده إلا قليلاً، قال عليه الصلاة والسلام: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) فعظم تحريم الدم والمال والعرض، فما أعظم حق المسلم عند الله عز وجل! حيث حرم ماله ودمه وعرضه. فكل انتهاك لهذه المحارم الثلاث فإنه عصيان لله ولرسوله، ونسيان لهذه الوصية، فإذا سفك دم أخيه المسلم أو انتهك عرضه ولو بلمزة ولو بغيبة: فلان فيه! فقد ضيع وصية النبي صلى الله عليه وسلم التي لما قالها عليه الصلاة والسلام في ذلك الموقف أشهد الله جل جلاله أنه بلغ رسالته وأدى أمانته. فقوله: (إن دماءكم) أتى بأسلوب التوكيد (إنَّ) ثم قال: (دماءكم) فجعل الدماء دماً واحداً، وقوله: (أموالكم) إذا اعتدي على مال أخيك المسلم فكأنه يعتدى على مالك، والذي يغصب من أخيك سيغصب منك، (وأعراضكم) وجعل الأعراض والأموال بمنزلة الدماء. فكما أنه لا يجوز لك أن تسفك دم أخيك المسلم، فإنه لا يجوز أن تغتابه ولا يجوز أن تحتقره، ولا يجوز أن تمس هذا العرض لأخيك المسلم دون وجه حق، فالغصب اعتداء على الأموال. ومن أسوأ أنواع الاعتداء: الغصب؛ لأن الغصب فيه نوع من القهر، والقهر فيه إذلال، والعبد قد يختار الموت على أن يعيش ذليلاً، ولذلك من الناس من إذا غصب حقه مات من الكمد والألم ولربما أصابه مرض نفسي فطاش عنه عقله، وعزب عنه رشده بسبب ما يجده من ظلم وقهر، ولذلك استعاذ صلوات الله وسلامه عليه بربه وقال: (أعوذ بك من قهر الرجال) فالقهر أمره عظيم. فالسارق إذا سرق بالليل أو سرق خفية أخذ المال وذهب، ولكن الغاصب يأتي بقوته واستعلائه وجبروته ويفرض على الإنسان أخذ ماله فيأخذ ماله ويستمتع به، والمغصوب منه يرى ماله يؤكل بدون حق، فهذا من أبلغ ما يكون من الأذية والإضرار وانتهاك حق المسلم وضياع ما أوجب الله عز وجل له من حقوق! كذلك أيضاً: صرح عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح بتعظيم أمر الغصب، وقال عليه الصلاة والسلام: (من ظلم قيد شبر من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) وهذا الحديث صحيح، يقول العلماء: فيه جملة من المسائل: أولها: أنه يدل على تحريم الغصب؛ لأن القاعدة في الأصول: أن الفعل إذا ترتبت عليه عقوبة في الدنيا وعقوبة في الآخرة أو فيهما معاً، أو جاء فيه وصف مشعر بالذنب دلّ على حرمته، وعدم جوازه، فهذا الحديث يدل على حرمة الغصب، وهذا محل إجماع. ثانياً: أنه يدل على أنه كبيرة من كبائر الذنوب؛ لأن القاعدة في الكبيرة: كل ذنب سماه الله ورسوله كبيرة، أو توعّد عليه بعقوبة في الدنيا أو عقوبة في الآخرة أو فيهما معاً، وهذا قد توعّد الله عز وجل عليه بأن يطوق صاحبه من سبع أرضين يوم القيامة، قال بعض العلماء: يطوق يوم القيامة من سبع أرضين على الحقيقة، والله على كل شيء قدير. قالوا: يمد عنقه -والعياذ بالله- حتى يسع القدر الذي اغتصبه من مال أخيه ويطوق من سبع أرضين على حقيقة، والله لا يعجزه شيء. فضرس الكافر الذي يعذب في نار جهنم يوم القيامة مثل أحد، وجبل أحد لا يقل عن أربعة كيلو مترات، وهذا الضرس فقط، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن الكافر -كما في الصحيح- مقعده في نار جهنم كما بين المدينة وبيت المقدس) فالله على كل شيء قدير، ولا يعجزه شيء سبحانه وتعالى. فيطوق على الحقيقة، وهذا الذي نؤمن به: أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطبنا بلسان عربي مبين، أنه إذا ظلم أخاه المسلم قدر شبر أنه يطوق يوم القيامة من سبع أرضين، أما كيف ذلك؟ فالله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء. وكذلك أيضاً أجمع العلماء -رحمهم الله- على أنه لا يجوز الغصب سواء كان ذلك في العقارات، أو كان في المنقولات، وأن الواجب على المسلم أن يحفظ لأخيه المسلم حقوقه، وألا يعتدي على تلك الحقوق، ولا يعين على الاعتداء عليها. وتحريم الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام للغصب لما فيه من الظلم، والظلم من أعظم الكبائر، قال تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا). فالأرض يعظم فيها الفساد ويكثر فيها الشر إذا انتشر فيها الظلم، والله يمسك قطره من السماء، ويمحق البركة في الأرض إذا كثرت مظالم العباد، وبالأخص كما ذكرنا في مسائل الغصب، فإن الغصب يقطع أواصر الأخوة، ويشتت الناس شيعاً وأحزاباً، ويجعل الناس لا تثق ببعضها، ويجعل حمية الدين تقتل في القلوب وتقطع، حينما يرى المسلم يؤكل ماله وينتهك عرضه ولا يغار عليه، ولا يحفظ له ذلك المال، ولا يحفظ له ذلك العرض. ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن الواجب على المسلم أن يبتعد عنه وألا يعين عليه، فقد يعين الإنسان على الغصب بكلمة تخرج من فمه، ولربما بإشارة، فالواجب على الإنسان أن يتقي هذه الكبيرة العظيمة وأن يخاف الله سبحانه وتعالى فيها. والعلماء ذكروا مسائل الغصب من وجوه، فيعتني الفقهاء رحمهم الله ببيان حقيقة الغصب وبم يكون الغصب؟! كذلك أيضاً يعتني الفقهاء رحمهم الله ببيان مواضع الغصب، وفي أي شيء يكون؟! وكذلك اعتنى العلماء ببيان الآثار المترتبة على الغصب. فإن الله لما حرّم الغصب أوجب لهذا الذنب تكفيراً يكون برد العين المغصوبة، سواء كانت زائدة أو كانت ناقصة أو كانت كما هي، فإن كانت كما هي فلا إشكال، ويجب ضمان أجرتها إذا حبسها، وإذا كانت ناقصة فيجب عليه ضمان النقص، وإذا كانت زائدة ردها مع الزيادة، سواء كانت الزيادة متصلة أو كانت منفصلة، ثم يتكلم العلماء على مسألة التصرف في المغصوب، فلو أنه تصرف فيه حتى غير شكله وغير هيئته فأنقص منافعه، أو تصرف فيه فتغيرت بعض المنافع وعوض عنها بمنافع أخر، فكل هذه المسائل يعتني العلماء رحمهم الله ببيانها، وهذا من كمال الشريعة الإسلامية. فالشريعة الإسلامية من سمو منهجها وكمال أحكامها وتشريعاتها أنها لا تقف عند تحريم الشيء، بل تبين حرمة الشيء والآثار المترتبة على تلك الحرمة، ولم يقف قضاء الإسلام يوماً من الأيام عاجزاً أمام مشكلة أو قضية سواء تعلقت بالغصوبات وآثارها أو بغيرها. فالعلماء يتحدثون عن هذه المسائل لأنها تبعات وآثار مترتبة على الغصوبات، وهذا هو الذي سيعتني المصنف رحمه الله ببيانه، وتختلف المتون الفقهية ما بين مطول ومختصر؛ ولعل الإطالة والاختصار بسبب أن الفقيه قد يكون يرى حكماً تترتب عليه آثار، وقد لا يرى غيره ذلك الحكم فلا تترتب الآثار، فالذي يرى الحكم يفصل في آثاره. فمثلاً: إذا قال: المغصوب تضمن زيادته، ولا يفصل سواء كانت الزيادة متصلة أو منفصلة، فحينئذٍ سيتكلم على جميع ما يكون من الزيادات، لكن إذا قال: لا يضمن الزيادة المنفصلة، ويفصل بين الزيادة المتص

تعريف الغصب

تعريف الغصب والشافعية والحنابلة -رحمهم الله- توسعوا في مسائل الغصب، وتوسعوا في مسائل ضمان الغصوبات، والمصنف عقد موضعين: الموضع الأول: بين فيه المسائل التي تقدمت. الموضع الثاني: بين فيه كيفية ضمان الغصب، وهو الفصل الثاني، وبين فيه حدود الضمان وصفة الضمان، واختلاط المغصوب بغيره، إلى غير ذلك من المسائل التي بينها رحمه الله برحمته الواسعة وجزاه وإخوانه من العلماء والأئمة سلفاً وخلفاً خير ما جزى عالماً عن علمه وعن أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله: [وهو الاستيلاء على حق غيره قهراً بغير حق من عقار ومنقول]. الاستيلاء يكون على صورتين: الاستيلاء الحقيقي: كأن يأتي ويدخل على داره ويخرجه من الدار، فيتمكن من نفس العين، فهذا استيلاء حقيقي، لا يستطيع صاحب الدار أن يدخلها، ولا يستطيع أن ينتفع بمنافعها. أيضاً: جاء إلى سيارته فأخذ مفاتحها ثم حال بينه وبينها، فحينئذٍ يكون الاستيلاء حقيقياً، لأنه حال بينه وبين العين ومنافعها. ويكون الاستيلاء حكمياً، مثلاً: يقول له: لا تدخل دارك، ولا تركب سيارتك، فإن دخلتها فعلت بك أو سأفعل بك، فهدده ومنعه، فحينئذٍ لم يستول عليها لكنه حال بينه وبين منافعها والانتفاع بها، فهذا أيضاً من الغصب ومن الأذية والإضرار، سواء كان الاستيلاء حقيقياً أو كان حكمياً بالحيلولة بين الإنسان وبين الشيء، مع أن العين في الصورة الثانية، -وهو الاستيلاء الحكمي- تكون تحت مالكها، لكن وجودها وعدمها على حد سواء، فحينما يقول له: إذا دخلت دارك أفعل وأفعل!! فوجود الدار وعدمه على حد سواء. وإذا قال له: إذا ركبت سيارتك، أو ذهبت على سيارتك أو انتفعت بسيارتك فإني سأفعل بك وأفعل! فالسيارة وجودها وعدمها بالنسبة له على حد سواء، فهذا يعتبر غصباً. وقوله: (الاستيلاء على حق الغير) خرج الاستيلاء على المباحات التي لا حق لأحد فيها، كأن يأتي شخص -مثلاً- إلى العشب والكلأ فيستولي عليه فإن هذا ليس بغصب. وقوله: (على حق الغير قهراً)، أن يستولي على سبيل القهر والقوة والغلبة، وبناء على ذلك: خرج الاستيلاء خفية كالسرقة، فإن السارق والمختلس -والعياذ بالله- يستولي على مال غيره خفية، وهنا يفرق بين السارق وبين الغاصب، فالغصب يكون عياناً وجهاراً، ولكن السرقة تكون خفية، فلا يسمى الغصب سرقة، فلا يقال لشخص جاء إلى آخر وأخذ منه سيارته قهراً أمام عينيه وهو يعلم أن فلاناً الذي أخذها، ما يقال: سرق مني سيارتي! لأن السرقة تكون خفية، ولكن يقال: اغتصب وغصبه حقه؛ لأنه أخذه على سبيل القهر. ويكون ذلك القهر إما بالتهديد وإما بالقوة والفعل والمس بالضرب، فجميع هذه الصور تعتبر من صور الغصب. وقوله: (بغير حق) خرج الاستيلاء على مال الغير وحق الغير بحق، كما لو أن القاضي أمر ببيع مال المفلس بسداد الديون، فإنه حينما تؤخذ أموال المفلس -كما تقدم معنا في باب التفليس- تؤخذ بقوة منه شاء أم أبى، وتباع لسداد ديونه؛ لأن ذمته مشغولة لحق الغير، فحينما أخذنا مال المفلس أخذناه بحق ولم نأخذه ظلماً. وبناء على ذلك: يكون هذا غير داخل في الغصب، وصحيح أنه أخذ بالقوة وأخذ بالقهر ولكن بوجه حق، وعلى هذا لا ينطبق عليه وصف الغصب. وهذا التعريف في الحقيقة من أجمع التعاريف التي ذكرها العلماء رحمهم الله في تعريف الغصب. وقوله: (من عقار ومنقول)، من: بيانية، وعقار: يعني: أن الغصب يدخل في العقارات وفي المنقولات، وقد بينا معنى العقار ومعنى المنقول. فغصب العقار من أمثلته: أن يغصب بيته، أو يغصب أرضه، ولو كان قدر شبر، فلو أخذ قدر شبر من أرضه فقد غصبه. ومثال الغصب في المنقولات: كأن يغصب سيارته، أو يغصب قلمه، أو يغصب ساعته أو ثوبه، وكل ذلك من غصب المنقولات.

حكم غصب كلب أو خمر ذمي

حكم غصب كلب أو خمر ذمي قال رحمه الله: [وإن غصب كلباً يقتنى أو خمر ذمي ردهما]. هذه المسألة متعلقة بالتعريف، وهو يقول: الاستيلاء على حق الغير، فلابد أن يكون عندنا غاصب ومغصوب منه، وشيء مغصوب، وهذا الشيء المغصوب يشترط فيه أن تكون له حرمة، وأن تكون له قيمة، فإذا كانت له قيمة كالثوب والدابة والأرض، وله حرمة وقيمة شرعاً، حرم شرعاً، فإذا لم تكن له حرمة مثل أن يغصب خمراً، فالخمر لا حرمة له شرعاً ولا قيمة، فلا نقول: إنه غصب، لكن يفصل بين من يجوز له أن يشرب الخمر وبين من لا يجوز له أن يشرب الخمر، فالذميون وأهل الكتاب يجوز لهم شرب الخمر ومباح في دينهم، فهو محترم بالنسبة لهم ومال وله قيمة في دينهم، لكنه ليس له قيمة عندنا نحن وليس له حرمة. ولو أنه غصبه ميتة، فالميتة لا قيمة لها ولا حرمة لها، فحينئذٍ لا نقول: هذا غصب، لكن في المسألة تفصيل. فقوله: (وإن غصب كلباً يقتنى). الكلب -أكرمكم الله- ينقسم إلى قسمين: ما أذن الشرع باقتنائه، وما لم يأذن الشرع باقتنائه؛ فقد أذن الشرع باقتناء كلب الصيد والحرث الذي يكون للحراسة، وكلب الماشية الذي يكون لحراستها أيضاً، وكلب الصيد لأن الله أحل لنا أكل صيد الكلاب: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4]، هذه الثلاثة الأنواع من الكلاب -أكرمكم الله- يباح اتخاذها، وأذن الشرع باقتنائها لمن يقتنيها لواحد من هذه الثلاثة: يقتنيها للصيد، أو لحراسة مزرعة، أو لحراسة ماشية، وما عدا ذلك فلا، وليس له قيمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرّم ثمن الكلب، وقال كما في الحديث الصحيح في الصحيحين: (ثمن الكلب سحت)، ونهى عن ثمن الكلب كما في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وفي حديث جابر لما سئل عن ثمن الكلب والسنور قال: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه)، وفي حديث ابن عباس في السنن: (إن جاءك يريد أخذ ماله -يعني: أخذ مال الكلب- فاملأ كفه تراباً). فإذاً: الكلب ليس له قيمة، فلو أنه غصب كلباً فإننا ننظر فيه: إن كان من غير الثلاثة فإن هذا الكلب يعتبر لا قيمة له، ولا يطلق على من أخذه أنه غاصب، لكن لو أنه أخذ كلباً يقتنى فإننا نقول: هناك مسألتان في الغصب: إن قتل الكلب وقضى عليه وأهلكه فلا نوجب عليه الضمان؛ لأنه لا قيمة للكلب، وإن كان الكلب موجوداً فنقول: يجب عليك رد الكلب لمن أذن له شرعاً باقتنائه، فنرخص بقدر ما رخص الشرع. فالذي يغصب الكلب له حالتان: إما أن يكون الكلب مما أذن باقتنائه، فحينئذٍ يجب عليه رده إن كان موجوداً ولا ضمان عليه إن أتلفه، وإن كان الكلب غير مأذون باتخاذه كأن يأتي شخص فيجد شخصاً يلعب بالكلب فيأخذ الكلب ثم يتلفه -كما لو كان مأموراً بقتله- فقتل الكلب، فنقول له: لا يجب عليك الضمان ولو كان الكلب حياً لا يجب عليك الرد؛ لأننا لو قلنا: إنه يرده فإن هذا الشخص الذي يقتني الكلب على وجه غير مأذون به شرعاً يعتبر متعاطياً للحرام. فالآخذ للكلب لو قلنا له: رده، أعان على الإثم والعدوان، فنقول: لا يجب الرد، إن كان الكلب غير مأذون باتخاذه، لكن إن كان مأذوناً باتخاده وجب الرد، فإن أتلفه فلا ضمان عليه. لكن يبقى Q إن كلب الصيد يعلّم، وربما كان أثناء تعليمه تحمّل مصاريف التعليم، ولربما استأجر شخصاً من أجل أن يعلّم الكلب، فهل يضمن ذلك أو لا يضمن؟ المنصوص عليه عند العلماء عدم الضمان، ويقوم القاضي بتأديب الشخص الذي أخذه، فيكون الضمان هنا للتأديب، ويكون دفع القيمة إجارة للمصلحة، فقالوا: هذا للمصلحة وقد علّم كلبه وحصلت له المصلحة، ثم بعد ذلك الضمان لا يضمن، لأن هذا من جنس ما يضمن. وهناك قول يقول: يجب عليه ضمان أجرة التعليم، فيضمن له أجرة تعليم الكلب؛ لأنه فوت عليه مصلحة مأذون بها شرعاً. إذاً: بالنسبة للكلب فيه تفصيل على الوجه الذي ذكرنا: إن كان مما أذن باقتنائه وجب رده إن كان حياً، ولا ضمان على من أتلفه، وإن كان غير مأذون باتخاذه نقول: لا يجب عليك رده ولا يجب عليك الضمان إن أتلفته. وقوله: (أو خمر ذمي). أي: إن أخذ خمر ذمي وجب عليه الرد إن كان الخمر موجوداً، ولا يجب عليه الضمان إن أتلفها؛ لأن الخمر لا قيمة لها، وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أنه قام في الغد من فتح مكة وأخذ بحلق الباب -كما في الرواية في السير- وقال عليه الصلاة والسلام في خطبته: إن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) فقال: (حرما بيع الخمر) فأسقط قيمة الخمر، ودل على أن حكم الشرع على أن الخمر لا قيمة لها بحكم الله ورسوله عليه الصلاة والسلام. وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما فتح عليه الصلاة والسلام الطائف، جاء له صديق في الجاهلية وأعطاه مزادتين من الخمر هدية له على الفتح، فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال للرجل: (أما علمت أن الله حرمها؟ -كان يظن أن الخمر مباح- فقال: ما علمت، فقام رجل فساره -أي: سار صاحب المزادتين- قال عليه الصلاة والسلام: بم ساررته؟ قال: أمرته أن يبيعها، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الذي حرّم شربها حرّم بيعها) فأسقط المالية عن الخمر، ودل على أن الخمر لا قيمة لها، فلو أتلف الخمر نقول: لا يضمن قيمة الخمر، سواء كانت خمر ذمي أو غيره. يقول قائل: الذمي مأذون له في الخمر وماله كمال المسلم بحكم عهد الذمة، قالوا: هذا شريطة ألا يظهر، فإن أظهر فقد أخرجها عن ضمان حقه.

حكم غصب جلد ميتة

حكم غصب جلد ميتة قال رحمه الله: (ولا يرد جلد ميتة). الميتة من غير الجلد متفق على تحريمها وعدم الانتفاع بها، إلا الشعر ففيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، وأما بالنسبة للجلد فقد تقدم معنا في كتاب الطهارة أن جلد الميتة فيه مذهبان، وجمهور العلماء على أن جلد الميتة لو أخذته ودبغته فإنه طاهر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) ومر على ميتة فقال: (هلا انتفعتم بإهابها؟! قالوا: يا رسول الله! إنها ميتة، قال: إنما حرم أكلها) فدل على أن التحريم يختص بالأكل ولا يشمل الانتفاع بالجلد. وعند الحنابلة -وهو القول الثاني في المسألة- لا يجوز الانتفاع به، وأن جلد الميتة لا يطهر بالدباغة، واستدلوا بحديث عبد الله بن عكيم الجهني رحمه الله -وهو من التابعين- قال: (أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بشهر أو شهرين وفيه: وألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) فقال: ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب وهو الجلد، ولا عصب، فدل على أن جلد الميتة لا يطهر بالدبغ، ولكن الحديث الأول أصح من هذا الحديث، والحديث الثاني مضطرب إسناده ومتنه، والعمل على عدم ثبوته. وبناء على ذلك نقول: إن جلد الميتة يجب رده، إذا كان جلد الميتة مما يمكن دبغه ومما أذن بدبغه من بهيمة الأنعام وما في حكمها، على التفصيل الذي قدمناه في الطهارة، فيجب ضمانه ويكون طاهراً بالدباغ، ويضمن من أتلفه إذا أتلفه بالغصب.

حكم إتلاف الكلب والخمر وجلد الميتة

حكم إتلاف الكلب والخمر وجلد الميتة قال رحمه الله: [وإتلاف الثلاثة هدر] (وإتلاف الثلاثة هدر) من أتلف الخمر، أو الميتة، أو الكلب، فإتلاف الثلاثة هدر، ففرق بين الرد وبين الإتلاف، فيرد الأولين وهما: الكلب لمن يقتنيه على الوجه المأمور به شرعاً، والخمر للذمي؛ لوجود الإذن الشرعي، وهذا في الرد. وقلنا: هناك جانبان: الرد والضمان. فبالنسبة للرد يجب إذا كان مأذوناً به، مثل: الكلب للصيد أو الحرث أو الماشية، والخمر للذمي؛ لأنه مأذون له به شرعاً. وأما بالنسبة للإتلاف فلو أتلف فلا ضمان عليه، سواء أتلف خمراً أو أتلف كلباً -على التفصيل الذي قدمنا- أو أتلف جلد ميتة، لكن قلنا: جلد الميتة فيه تفصيل؛ لأن المصنف -رحمه الله- درج على مذهب الحنابلة في هذه المسألة.

كلمة عن دعم المسلمين في كوسوفو

كلمة عن دعم المسلمين في كوسوفو أحب في الحقيقة أن أذكر الإخوان جميعاً بأمر مهم، لابد من العناية به خاصة في هذه الأيام، وهو ما أصاب إخواننا الألبان في كوسوفو، وهم الآن في أشد الحاجة إلى معونة إخوانهم المسلمين، والوقوف معهم، فإن الله جمع بالإسلام بين المسلمين وألف بين أرواحهم، وجعلهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ومن كمل إيمانه وكمل إسلامه كان مع أخيه كالجسد الواحد، يتألم بآلامه ويفرح بأفراحه، وإن المسلم ليأن ويتألم وهو في مشرق الأرض لأخيه في مغربها؛ لأن أخوة الإسلام أعز من أخوة النسب، بل وأعز من كل أخوة، وإن الله يرضى عن المسلم الذي تدمع عينه ويتقرح قلبه على إخوانه المسلمين؛ لأن هذا الألم وهذا الحزن يدل على كمال الإيمان، ويدل على الرحمة التي أودعها الله في القلوب، ومن رحم أخاه المسلم رحمه الله في الدنيا والآخرة. فالواجب علينا أن نتفكر وأن ننظر في أحوال إخواننا، وأن نحس بالمسئولية والواجب الذي يحتمه علينا ديننا، ويفرضها علينا إسلامنا، وأن يحس المسلم بما أصاب إخوانه من هذه الأذية وهذا الاضطهاد والظلم والعسف والجور، الذي ضيعت فيه حقوقهم، وانتهكت فيه أعراضهم، وسفكت فيه دماؤهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! الواجب على المسلم أن يبذل كل ما يستطيع -بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معانٍ- لنصرة إخوانه المسلمين، وهذا أمر يوجبه علينا إسلامنا وديننا، أن نرى هؤلاء المسلمين يشردون ويقتلون، وما نقموا منهم إلا الإسلام، والله لا الأرض، ولا المال، ولا النسب، ليس هناك إلا الإسلام، والمسلم العاقل الواعي يدرك هذه الحقيقة، فليس هناك أي أمر يؤذون من أجله إلا الدين، وما نقموا منهم إلا الإيمان بالله عز وجل في تلك البقعة التي قلّ أن يوجد فيها مسلم، حرق أعداء الله -شتت الله شملهم، وفرق جمعهم، وجعل بأسهم بينهم- حرقوا عندما رأوا الإسلام في عقر تلك الدار التي قلّ أن يوجد فيها مسلم، يبقى هذه القرون وهذا الردح من الزمن، وحينما رأوا أن هذه الأمة تفتخر بإسلامها، وأنها متمسكة بدينها تحس أنها مرتبطة بكم برابطة الدين، وهي اليوم تقف محتاجة في أمس الحاجة إلى رحمة ربها أولاً وقبل كل شيء ثم إلى رحمة إخوانهم من المسلمين، الله الله في إخوان الإيمان. وعلى طلاب العلم وعلى الأئمة والخطباء أن يعتنوا بهذا الأمر، لا يجوز خذلان المسلم، ومن خذل أخاه المسلم خذله الله في الدنيا والآخرة، والمصائب والنقم تحل على المسلمين إذا خذل بعضهم بعضاً، والله يرفع البلاء على المسلمين إذا كانوا متراحمين متعاطفين، يعطف بعضهم على بعض. كان بعض العلماء يمرض إذا سمع بكارثة نزلت على المسلمين في أي بلاد، وكان البعض منهم ربما يمرض حتى يعاد من شدة الألم والحزن، ونحن لا نبدي الخوف والضعف، والله يعلم ما تستكن به قلوبنا من الثقة في الله جل جلاله. وخير ما تنصرون به إخوانكم: أولاً وقبل كل شيء: ألا تنسوهم من صالح الدعاء، فإن الدعاء حبل متين، ولا يستهين إنسان بدعواه لعل الله أن يجعل لك دعوة تفتح لها أبواب السماء يكتب لك أجرها، فأنت إذا قلت: اللهم ارحم ضعفهم واجبر كسرهم، كتب الله لك كل ما يكون من هذه الدعوة، فتكون معهم بالدعاء في سجودك بين الأذان والإقامة في الأسحار، ادع لإخوانك. تصور أن هذه المرأة المنكوبة المكلومة المفجوعة المفزوعة أنها أم للإنسان أو أنها أخت أو أنها بنت، ماذا يكون حال الإنسان؟ أليس بيننا وبينهم الإسلام؟! أليست هناك وثيقة أعز وأعظم من وثيقة النسب؟ لو أن إنساناً من قرابتك أصابه عشر ما أصابهم لتقرح قلبك، وشعرت بالأسى والحزن والشجى، فكيف بإخوانك في الله والإسلام؟! فالله الله، على الأئمة والخطباء وطلاب العلم أن يوجهوا الناس وأن يذكروهم وأن يعظوهم بهذه الحقوق، ومن نصر المسلمين نصره الله في الدنيا والآخرة، وليس هناك أعز من أن نعتز بديننا وأن نشعر أن بيننا وبين إخواننا حقاً عظيماً، وأن ديننا حكم علينا الوقوف بجوارهم، وهذه هيئات الإغاثة والمؤسسات الخيرية -أسأل الله العظيم أن يمدهم بعونه وتوفيقه وتسديده وأن يلهمهم الصواب والرشد- قد فتحت ذراعيها للمعونة والمساعدة، فقد تزور إنساناً غنياً تقول عنده كلمة تأمره فيها بنصرة هؤلاء الضعفاء يكتب الله لك بها رضاه في يوم تلقاه، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يكتب الله له بها الرضا إلى يوم يلقاه، فتأتي إليه وتذكره بهؤلاء الضعفاء، وقد تكون الكربات سبباً في دخول الجنة، فكم من متكلم في هذه الحوادث والنكبات يكتب الله له رضاه بكلمات، وكم من كلمات حركت القلوب فكفكفت دموع اليتامى وجبرت قلوب الثكالى كتب الله عز وجل بها عظيم الحسنات. الله الله! واحتسبوا الأجر عند الله سبحانه وتعالى، فتكون المساعدة بالمال وبكل ما يستطيع الإنسان، فتجب علينا نصرتهم ومؤونتهم بكل ما تعنيه هذه الكلمة، فالمسلم أخو المسلم، ونصوص الكتاب والسنة واضحة جلية في هذا الأمر. والواجب علينا أن نستشعر هذا الأمر وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى -وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه استنصر وأنه رفع يديه وكفه إلى الله مستغيثاً مستنصراً- اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، اللهم إنا نسألك أن تجعل لإخواننا في كوسوفو وفي كل مكان من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية. اللهم ثبت أقدامهم، اللهم ثبت أقدامهم، وسدد سهامهم، وصوب آراءهم، اللهم اعطف قلوب عبادك عليهم، يا حي يا قيوم! اللهم اجبر كسرهم، وارحم ضعفهم، وفرج عنا وعنهم يا حي يا قيوم، اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت أن تدمر الكافرين ومن أعانهم، اللهم شتت شملهم، اللهم فرق جمعهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، اللهم احصهم عدداً، اللهم اقتلهم بدداً، اللهم لا تغادر منهم أحداًَ، اللهم اجعل بأسهم بينهم وسلم المسلمين من شرورهم، يا حي يا قيوم! يا حي يا قيوم! يا حي يا قيوم! إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه

الأسئلة

الأسئلة

حكم العبادة بمال أو في مكان مغصوب

حكم العبادة بمال أو في مكان مغصوب Q إذا بنيت العبادة على شيء مغصوب هل تصح؟ كمن صلّى على أرض مغصوبة، أو توضأ بماء مغصوب، أو حج بمال مغصوب؟! A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: هذه المسألة خلافية بين العلماء رحمهم الله، من صلّى على أرض أو دار مغصوبة فهل تصح صلاته أو لا؟ قولان مشهوران للعلماء. جمهور العلماء على أن الصلاة صحيحة وأنه آثم بالغصب، وذهب بعض العلماء إلى أن الصلاة باطلة، والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن النهي لا يقتضي فساد المنهي عنه إلا إذا رجع إلى ذاته، وذات الصلاة مأمور بها وليس بمنهي عنها شرعاً. وبناء على ذلك فإننا نقول: تصح صلاته بنص السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه ذكر أركان الصلاة في حديث المسيء صلاته وقال: (إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك) فنحن نحكم بصحة الصلاة وتمامها لتوفر أركانها وشرائط صحتها. وأما بالنسبة للغصب فإننا نقول: هو آثم لغصبه، وصلاته صحيحة، وتبرأ ذمته. وهكذا لو حج بالمال المغصوب فإن حجه صحيح ولكن يجب عليه بالنسبة للهدي الضمان؛ لأن الهدي يختلف عن مسألتنا فإن الهدي النهي فيه راجع لذاته، وهو يشترط في الحج إن كان متمتعاً أو قارناً فيضمن إن كان الهدي مغصوباً، أما أنه لو سافر وماله مغصوب وركب سيارة ونزل داره، فهناك فرق بين فعل العبادة وبين ذات الشيء المنهي عنه. وبناء عليه فإن حجه صحيح، ولكن هل يتقبل الله عز وجل حجاً من مال حرام؟ إذا حججت بمال لست تملكه فما حججت ولكن حجت العير لا يقبل الله إلا كل صالحة ما كل من حج بيت الله مبرور لو حج الإنسان مائة عام ولم يتقبل الله عز وجل حجه فما هي الفائدة؟ يتعب راحلته ونفسه. فالمال المغصوب يوجب عدم قبول الحج نسأل الله السلامة والعافية، والحج صحيح، ونقول: أجزأته عن حجة الإسلام، ولكن لا يقبل إلا إذا كان من مال حلال، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله طيب لا يقبل الله إلا طيباً) والله تعالى أعلم.

حكم أخذ الأب من مال ابنه بدون إذن

حكم أخذ الأب من مال ابنه بدون إذن Q هل للأب أن يأخذ من مال ابنه بغير إذن، وأنه مهما فعل بمال ابنه فإنه لا يعتبر آثماً؟ A أخذ الوالد من مال ولده جائز، فظاهر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما فاطمة بضعة مني) وبضعة الشيء كالشيء. وفي الحقيقة إذا سأل الوالد ولده المال فعلى الولد أن يبادر وأن يعلم أن حق الوالد كبير، وأن الوالد أعز من المال، وعليه أن يضحي من أجل والديه، وعلى الوالد أيضاً أن يتقي الله في الطلب، فلا يطلب إلا في حدود الحاجة، ويطلب بالمعروف ولا يضيق على ابنه، وإنما يكون ذلك على الوجه الذي لا ضرر فيه ولا إضرار، والله تعالى أعلم.

حكم رد الخمر إذا استحالت فأصبحت خلا

حكم رد الخمر إذا استحالت فأصبحت خلاً Q إذا استحالت الخمر خلاً هل يجب عليه أن يردها؟ A قال بعض العلماء رحمهم الله: إن الخمر إذا استحالت خلاً وجب ردها، وهذا تفصيل عند الشافعي -رحمه الله- وطائفة من أهل العلم في الغصوبات؛ لأن هناك فرقاً بين أن تخلل بنفسها وبين أن يخللها، فإذا خللها فهذا حرام، ولكن إذا تخللت بنفسها فحينئذٍ تكون قد انتقلت إلى مباح، ومن هنا قال بعض العلماء: يجب عليه ردها؛ لأنها انتقلت إلى مباح، وهذا المذهب قوي، أن الخمر إذا تخللت بنفسها ثم أصبحت خلاً وجب ردها؛ لأنها انتقلت عن العين المحرمة إلى العين المباحة. وبعض العلماء يقول: إن صاحب الخمر لا يدله، وإذا تخللت عند الغاصب فإنها تكون ملكاً للغاصب ولا تكون ملكاً للمغصوب منه. والأول أوجه وخاصة في الصور التي ذكرها المصنف رحمه الله: من خمر الذمي؛ لوجود اليد وثبوتها من جهة الإذن الشرعي للذميين بشرب الخمر، والله تعالى أعلم.

مسألة في تنفيذ الحدود على غير المسلمين

مسألة في تنفيذ الحدود على غير المسلمين Q أشكل عليّ مسألة تنفيذ الحدود بين المسلمين والكفار، إذا اختلف في كون الشيء محترماً عندهم أو غير محترم؟ A بالنسبة لتنفيذ الحد، فالذمي إذا كان في بلاد المسلمين له ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين، فحينئذٍ إذا زنى يقام عليه الحد كما يقام على المسلمين، والدليل على ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة اليهوديين الذين زنيا، فإنهما لما زنيا أقام عليهما النبي صلى الله عليه وسلم حكم الله عز وجل. وعلى هذا يفصل: إذا ارتكب الذمي الحد فينقسم إلى أقسام: تارة يرتكبون الحد ولا نطلِّع على ذلك، وتارة يرتكبون الحد ونطلع. فإذا ارتكبوا الحد ولم نطلع فلهم صورتان: الصورة الأولى: أن يرتكبوا الحد ويقيموا حدودهم بشريعتهم، فهذا لا دخل لنا مادام أنهم لم يترافعوا إلينا. الصورة الثانية: أن يقع الزنا بينهم ثم يرفعوه إلينا، فإن رفعوه إلينا هل نحكم بشريعتهم أم بشريعتنا؟ الراجح أن يحكم بشريعة الله، فقد أمر الله عز وجل بالحكم: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة:42] فأمر الله عز وجل أن نحكم بينهم بحكم الله عز وجل، والله جعل القرآن مهيمناً على الكتب والشرائع المتقدمة ناسخاً لها، فيجب إقامة حكم الله فيهم مادام أنهم ترافعوا إلينا. أما لو أنه وقع الزنا منهم أمام المسلمين أو شهد الشهود من المسلمين عليهم فحينئذٍ نقيم عليهم شرع الله عز وجل ويعتبر انتهاكهم لحرمة الله جهاراً يوجب إقامة حكم الله عز وجل عليهم بحكم الإسلام، ولا خيار في هذه المسألة ولا خلاف. لكن في المسألة السابقة إذا وقعت فيما بينهم وترافعوا إلينا هل يكون مخيراً أم لا؟ هذه المسألة الخلاف فيها مشهور بين أهل العلم لآيات المائدة المشهورة: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42] هذا فيه نوع من التخيير، وبعض العلماء يقول به، وبعض العلماء يقول: إن هذا التخيير نسخ. والذين يقولون بالتخيير قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على اليهوديين بالتوراة، يعني: نفذ ما في التوراة، فكان منفذاً ولم يكن حاكماً، قالوا: والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الشهود من أهل الكتاب، والشهود من أهل الكتاب لا تقبل شهادتهم إلا فيما استثناه الله عز وجل من الوصية على آية شهادة الوصية في السفر، وهي آية المائدة المشهورة. قالوا: ومما دل على ذلك كون النبي عليه الصلاة والسلام دعا الشهود ونفذ عليهم بحكم التوراة وليس بحكم الشرع، والصحيح: أنه كان منفذاً لحكم الله ولكن شهادتهم هنا في مسألة الإقامة تعتبر منسوخة بصريح القرآن أن الله سبحانه وتعالى أمر بالحكم بينهم، ونص على الحكم بشرع الله عز وجل فتكون آية المائدة ناسخة لآية التخيير؛ وعلى هذا فإنه يقام عليهم شرع الله عز وجل من هذا الوجه. فإذا أثبت هذا التفصيل ما يقع فيه إشكال؛ لأن مسألة الخمر للذمي غير مسألة انتهاك الحد، مسألة انتهاك الحد أوجدت الموجب والسبب المقتضي لإقامة الحد، ولكن مسألة المالية مختلفة، فمسألة المالية راجعة إلى ثبوت اليد وعدم ثبوتها، والذمي قد جعل الله له يداً على الخمر بخلاف المسلمين، فأنت تتعامل مع من أذن له لا مع من لم يؤذن له، فهذا وجه الفرق بين المسألتين، هذه المسألة وهذه المسألة ولا تعارض في حكم الله بين المسألتين، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.

باب الغصب [2]

شرح زاد المستقنع - باب الغصب [2] حتى تعود الحقوق إلى أهلها ألزمت الشريعة من غصب شيئاً أن يرده إلى موضعه الذي غصبه منه، ويتحمل ما يترتب على هذا من غرامة؛ لأنه هو الذي جنى واعتدى، ويضمن كل ما يترتب على غصبه من زيادة أو نقص في المغصوب، وهذا من كمال العدل.

وجوب رد المغصوب إلى صاحبه

وجوب رد المغصوب إلى صاحبه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وإن استولى على حر لم يضمنه، وإن استعمله كرهاً أو حبسه فعليه أجرته]. فقد تقدم معنا بيان حكم الغصب، وبيان حقيقته في اللغة والاصطلاح، وبينا أن للغصب آثاراً تترتب عليه، وقد اعتنى العلماء رحمهم الله ببيان هذه الآثار وذكر ما دل عليها من أدلة الكتاب والسنة، وإجماع أهل العلم رحمهم الله، ولا بد لطالب العلم من أن يعلم هذه الأحكام والمسائل في باب الغصب. أول ما يترتب على الغصب: الحكم بإثم الغاصب وقد تقدم، والسبب في ذلك: عصيانه لله عز وجل، واعتداؤه على حق أخيه المسلم، ونسيانه لحرمته، وتجاهله للأصول الشرعية التي حظرت عليه ذلك الفعل من الغصب. أما الأمر الثاني الذي يترتب على الغصب: وجوب رد الشيء المغصوب، وهذا بإجماع العلماء، أن الواجب على من غصب أن يرد الشيء الذي اغتصبه، سواء كان من العقارات أو من المنقولات، وأنه إذا تصرف في الشيء المغصوب فنقله من بلد إلى بلد ومن موضع إلى موضع، فإنه ملزم شرعاً برده إلى الموضع الذي أخذه منه، ولو كلفه ذلك ما كلفه، فلو أنه اغتصب دابة وسار عليها إلى بلد بعيد وجب عليه أن يردها إلى البلد الذي اغتصبها منه. كذلك لو أنه أخذ متاعاً ثم نقله إلى موضع؛ وجب عليه أن يرد ذلك المتاع إلى الموضع الذي اغتصب فيه ذلك المتاع. فإذاً: الرد، لكن مسألة رد المغصوب تتوقف على وجود الشيء المغصوب، فإن من غصب شيئاً تارة يبقى الشيء وتارة لا يبقى، فإذا بقي الشيء وكان على صفاته وجب رده على الصفة التي أخذه عليها ضماناً لنقصه من حيث الأصل، ووجب رده على صفة الكمال إن طرأ كمال وزيادة بعد الغصب، وهذا كله سنفصله إن شاء الله تعالى. وبناء على ذلك: ثبت عندنا أنه يجب رد المغصوب، فلو أن هذا المغصوب تلف، كرجل أخذ طعام أخيه المسلم ثم أكله، ففي هذه الحالة لا يمكن رد عين الشيء المغصوب، فيطالب برد مثله، فالأشياء المغصوبة لا تخلو من حالتين:

ضمان المثلي بمثله

ضمان المثلي بمثله الحالة الأولى: أن تكون من الأشياء التي لها مثليات، وذلك مثل المكيلات والموزونات، كرجل اغتصب صاعاً من بر، أو كيلاً من أرز ثم استهلكه واستنفذه وأكله فإنه مستحيل عليه أن يرد عين الذي أخذ، فنقول له: يجب عليك أن تنظر إلى مثل الطعام الذي أخذته في الصفة من حيث جودته ورداءته، ونفس النوع الذي أخذته، ثم ترده إلى صاحبه بالقدر، فإن كان صاعاً فصاع، وإن كان أكثر من ذلك فكل شيء بحسابه. إذاً: يرد عين المغصوب إذا كان موجوداً، وإذا تعذر رد عين المغصوب وجب رد مثله، وهذا المثلي -كما ذكرنا- في المكيلات والموزونات، فالمكيلات مثل: الحبوب، والموزونات مثل: القطن والحديد والنحاس، فلو أنه أخذ حديداً ثم أتلف الحديد على وجه لا يمكن رد العين به، فحينئذٍ ينظر إلى مثل الحديد الذي أخذه، فلو أخذ من جيد الحديد -وهو الصلب- طناً واغتصبه وجب عليه رد طن مثله، فإذاً: يرد مثله في النوع، ويرد مثله في الصفة من حيث الجودة والرداءة، ويرد مثله في القدر من حيث الكيل والوزن.

الضمان بالقيمة عند تعذر المثلي

الضمان بالقيمة عند تعذر المثلي فإن تعذر وجود المثلي انتقل إلى القيمة، ويتعذر وجود، إما حقيقة، وإما حكماً وتقديراً، وإما شرعاً، فيتعذر وجود المثلي حقيقة وحساً، مثل: أن يكون أخذ إناءً من الأواني التي لا تنضبط ويكون صنعها على وجه لا مثيل له من حيث التقدير، بحيث لا يمكن الإتيان بمثله في مثل ما ذكرنا، وتقدم معنا في السلم أن الأواني ونحوها التي ليس لها ضوابط في صفاتها -بخلاف الأواني الموجودة في زماننا هذا- كالأواني التي تصنع عند الحدادين ونحوهم لا يمكن رد مثلها، بحيث تنطبق الصفات على وجه تام كامل فعند ذلك ينتقل إلى القيمة، ونقول: تعذر وجود المثلي حقيقة وحساً. كذلك أيضاً: يتعذر وجود المثلي شرعاً كما تقدم معنا في خمر الذمي، فإنه على مذهب من قال: إن الخمر تضمن إذا كانت لذمي، فإن المسلم لا يمكنه أن يشتري الخمر؛ لأنه لا يجوز أن يتملكها، فحينئذٍ ينتقل إلى قيمتها ويضمنها لصاحبها؛ لأن أهل الذمة لهم حق كما تقدم معنا في باب الذمة. أما من حيث التعذر الحكمي فهذا من أمثلته كما ذكر العلماء: أن يكون قد أتلف شيئاً له مثل في السوق، ولكن سعره في السوق مبالغ فيه وقيمته أكثر من المثل، فوجد مثل هذه السيارة التي أتلفها ولكن يطلب فيها صاحبها أضعاف قيمتها، فهي موجودة حقيقة لكنها مفقودة حكماً؛ والله يقول: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194] فإذا كلفناه أضعاف قيمتها فهذا ليس بمثلي، ولذلك قالوا: هو موجود حقيقة، مفقود حكماً. إذاً: أولاً: نضمنه العين، فيجب رد العين، فإن تعذر؛ أوجبنا عليه رد المثل، فإن تعذر وجود المثلي حقيقة وحساً أو شرعاً أو حكماً؛ انتقلنا إلى القيمة.

يد الغاصب يد ضمان

يد الغاصب يد ضمان يتفرع على هذا أن تقول: القاعدة أن يد الغاصب ضامنة، فتضمن الزيادة وتضمن النقص، فإذا قلت: إنها ضامنة ففي ضمان النقص تضمن الشيء من الاثنين: ما كان بتعد منها وما كان بآفة سماوية بدون تعد منها. فمثلاً: لو أنه أخذ أرضاً واغتصبها، وكانت الأرض فيها مزرعة وجاء إعصار فيه نار فأحرق المزرعة، نقول: يجب عليك أن ترد الأرض كما هي، لأنك بمجرد اغتصابك تصبح يدك ضامنة، فأي تلف يحدث في العين لا نسأل عن سببه، سواء كان منك أو كان من غيرك فيلزمك أن ترد العين كما أخذتها، فإن حصل التلف فتضمن هذا التلف سواء كان بفعلك أو كان بفعل غيرك، وهذا معنى قول بعضهم: يضمن ما كان بأمر الله، أو ما كان إفساداً من مخلوقين، يعني: يضمن في كلتا الحالتين، ولا يقال: إن الضمان يختص فقط بحال التعدي، والسر في هذا أن يده لما اعتدت على هذه العين وأخذتها من مالكها يصبح عندنا أصل وهو الضمان، أي: أن يده يد ضمان، فواجب عليه أن يرد العين، فإذا قلت: يجب عليه شرعاً أن يرد العين وكما هي كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً، ومن أخذ عصا أخيه فليردها) نهى عليه الصلاة والسلام عن التعرض لأكل أموال الناس، ثم أمر كل من تعرض لمال أخيه المسلم أن يرده. فنقول في هذه الحالة: دل الأصل الشرعي على أنه يجب عليه الرد، فإذا حصل التلف والنقص وجب عليه أن يرد المغصوب كاملاً لا ناقصاً؛ لأنه أخذه كاملاً، ثم ما طرأ من النقص يكون متحملاً لمسئوليته، كما أن ما طرأ من الزيادة يكون أيضاً واجباً عليه ضمانه، وهذا كله سنفصله ونبين موقف العلماء رحمهم الله فيه. إذا تقرر هذا فالأشياء التي تغصب منها يكون من الأموال التي تباع وتشترى وهي محل للمعاوضات، وهذا ينقسم إلى عقارات ومنقولات، فيكون الغصب في العقارات كالأراضي والدور ونحوها، ويكون الغصب في المنقولات كالأطعمة والأكسية ونحوها.

كيفية ضمان العين إذا زادت أو نقصت

كيفية ضمان العين إذا زادت أو نقصت إذاً: يجب ضمان عين المغصوب، ويجب ضمان منفعة العين، فإذا قلنا بالضمان برد عين المغصوب أو ضمانه على التفصيل المتقدم يبقى السؤال في مسألة رد العين المغصوبة، فتارة تكون العين المغصوبة موجودة كما هي، ليس فيها زيادة ولا فيها نقصان، فحينئذٍ لا إشكال. فإذا جئت تحكم في هذه المسألة تقول: ننظر إن كانت العين قد مضت مدة على غصبها وجب ردها ومنفعتها، بدفع قيمة المنفعة التي هي الأجرة، وإن لم تمض المدة وجب رد العين وحدها، هذا إذا كانت العين كما هي بدون زيادة وبدون نقصان. أما لو أن العين اختلفت فإما أن تختلف بزيادة وإما أن تختلف بنقص، فإما أن تختلف فيزيد سعرها وتجمل وتكمل، وإما أن تختلف فينقص سعرها، وحينئذٍ يجب أن يفرق بين المسألتين ويفرق في حكمهما. فتارة تختلف العين بالزيادة، كرجل أخذ دابة هزيلة واغتصبها ثم اعتنى بطعامها وشرابها فأصبحت كأحسن ما تكون عليه الدابة، إذاً: اختلفت في الزيادة. أو أخذ أرضاً واستحدث فيها البناء وهي أرض بيضاء، فأحدث فيها البناء أو أحدث فيها الزرع، فحينئذٍ تكون العين المغصوبة قد زادت ولم تبق على حالتها الأصلية يوم أخذت، وهذه من أمثلة الزيادة في العين. وفي زماننا يأخذ سيارة -مثلاً- فيصلح مراكبها ويحسن مقاعدها، أو يتصرف في آلة السيارة، تكون السيارة على حالة ضعيفة فتصبح على حالة أفضل، فإذاً: تصرف بزيادة. الحالة الثانية: أن يأخذ العين على أحسن ما تكون فيردها على أسوأ ما تكون لكنها صالحة؛ لأنه إذا ردها وهي تالفة فالحكم حينئذٍ: الضمان على التفصيل الذي تقدم، لكن نتكلم في حالة أن العين باقية ولكن فيها نقص، كرجل أخذ دابة وهي سمينة صالحة على أحسن ما تكون عليه، فأساء علفها وإطعامها والقيام عليها، فأصبحت هزيلة، فحينئذٍ عادت ناقصة، وأخذها كاملة فردها ناقصة. وفي زماننا لو أخذ البيت واغتصب العمارة أو الأرض وفيها الزرع فأفسد زرعها، أو فيها نخل فأتلف النخل الذي فيها، أو عطش النخل حتى مات بعضه وبقي بعضه، فحينئذٍ عادت العين بالنقص. أما في حالة الزيادة وحالة النقص فكلتا الحالتين فيهما تفصيل من حيث الأصل الشرعي فنقول: كل زيادة حدثت في العين المغصوبة فإما أن تكون من فعل الغاصب، وتكون العين لا يمكن فصل الزيادة عنها، كالسمن لا يمكن أن نسحبه من الدابة مع صلاح حالها فهذا صعب جداً، ولا يمكن أن يحدث ذلك، فحينئذٍ ترد كاملة، ولو أخذ الرقيق فعلمه صنعة فلا يمكن سحب الصنعة منه، فيجب رده كاملاً على الصفة التي أصبح عليها. وأما إذا كانت الزيادة يمكن فصلها عن الشيء المغصوب، مثلاً: لو أنه وضع على الأرض بناءً من الصناديق، أو البيوت الجاهزة في زماننا فنقول: يجب عليه رفع ما له ورد الأرض كما أخذها إلى صاحبها، فلو أحدث الزرع فيها وجب عليه قلع الزرع ورد الأرض مستوية، وتطمس حفرها وتصلح كما كانت، ويضمن النقص لو أنها نقصت قيمتها بعد هذه الحفر واستصلاحها، وسنفصل هذا كله -إن شاء الله- ونذكر خلاف العلماء رحمهم الله. لكن نريد الآن أن نشير إلى مجمل مسائل الغصب حتى إذا دخلنا في التفصيل تكون الصور إن شاء الله واضحة. فمن حيث الأصل لما نظرنا إلى الزيادة، قلنا: في حالة الزيادة التي لا يمكن فصلها عن العين المستحقة وتابعة للعين، فيجب على الغاصب أن يرد العين بكمالها، ويضمن هذا الكمال، ويصبح الكمال ملكاً لصاحب الأرض، هذا إذا كان قد أحدث فيها زيادة لا يمكن فصلها. أما لو أحدث زيادة من ملكه يمكن فصلها نقول له: خذ ما لك واترك ما لغيرك، ورد الأرض كما أخذتها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديها) وترد الأرض على الصفة التي أخذتها عليها، حتى لو أنك نقلت النخلة عنها أو هدمت البناء الذي عليها فاختلفت صفاتها ونقصت قيمتها لزمك أن تدفع هذا الفارق، وسنفصل إن شاء الله. إذاً: يلزم برد الأرض على صفتها، ويأخذ ما له من الزيادة التي استحدثها، ولا يأخذها إن كانت متصلة لا يمكن فصلها عن العين. أما إذا كان هناك نقص وأحدث في العين المغصوبة نقصاً فيجب عليه أن يضمن النقص كاملاً، ويرد العين ويرد ضمان النقص، فلو كانت العين -أعني: الأرض- لما أخذها واغتصبها صالحة وطيبة وفيها زرع وكانت قيمتها تساوي مائة ألف مثلاً، ولما أراد أن يردها ردها بنقص نصف قيمتها نقول: رد الأرض وادفع نصف قيمتها إلى المغصوب منه، هذا من حيث الزيادة والنقص.

كيفية تقدير القيمة عند الضمان

كيفية تقدير القيمة عند الضمان وتقدر قيمة الشيء المغصوب ويجب عليه ضمان القيمة على التفصيل عند أهل العلم رحمهم الله كما سيأتي، فمنهم من يقول: نقدر قيمة المغصوب حين الغصب، وبعضهم يقول: نقدر قيمة المغصوب عند التلف. وفائدة المسألة: لو أن شخصاً أخذ سيارة واغتصبها من أخيه، واغتصبها في أول العام وكانت قيمة السيارة باهظة الثمن، فرضنا: كانت قيمتها خمسون ألفاً، ثم لما أصبحت في نهاية العام أتلفها وتعذر وجود مثلها وكانت قيمتها حين أتلفت تساوي خمسةً وعشرين، أي: نصف القيمة؛ لأن السيارة في أول العام تختلف قيمتها عن آخر العام، فهل ننظر إلى قيمة المغصوب عند أخذه وغصبه؟ أو ننظر إلى قيمة المغصوب عند تلفه؟ فمن قال: يضمن بالقيمة عند أخذه؛ لأن يده ضمنت ذلك الشيء بأخذه، قالوا: يدفع خمسين ألف ريال. ومن قال: يضمن المغصوب بقيمته يوم تلفه؛ لأنه استحق القيمة عند التلف، وكان الواجب عليه أن يرد، فلما امتنع من الرد وحصل التلف ننظر إلى وقت التلف فيدفع خمسة وعشرين أي: نصف القيمة. إذاً: تضمن المغصوبات بقيمتها يوم أتلفت أو بقيمتها يوم أخذت على الوجهين المشهورين عند أهل العلم رحمهم الله، وهذه كلها آثار مترتبة على الغصب، لكن هذه الآثار متعلقة بمسألة عين المغصوب.

وجوب ضمان منافع المغصوب

وجوب ضمان منافع المغصوب يبقى Q هذا الشيء الذي اغتصب وتلف قد يكون الغاصب استفاد منه ومضت مدة انتفع فيها منه؟! فالمغصوب إما أن يكون من العقارات أو من المنقولات، فيكون من العقارات كمن اغتصب بيتاً أو عمارة أو شقة وأخذها بالغصب وسكنها ثلاث سنين مثلاً، فهذا غصب لعقار مستفاد منه مدة الغصب، فهذه الثلاث سنوات لها أجرة وحينئذ إذا جئت تنظر إلى مسألة أجرتها رجعت إلى مسألة منافع المغصوب، فعندنا عين المغصوب، وعندنا منافع المغصوب، ففي منافع المغصوب من حيث الأصل الشرعي يجب ضمانها، وهذا قول فقهاء الحنابلة والشافعية رحمهم الله، والنصوص تدل على صحة هذا القول؛ لأن الله سبحانه وتعالى أوجب ضمان الأشياء بمثلها، ولا شك أن هذه المدة مستحقة للمالك، فلما كان الغاصب قد أخذها ومنع المغصوب منه من الانتفاع بها، ومنعه من تأجيرها على الغير، فإنه يجب عليه ضمانها حتى ولو لم يسكنها، فلو أنه منعه من دخول العمارة واستولى على العمارة، أو منعه من شقته أو منعه من سيارته، وعطلت هذه العين سنة كاملة سواء سكن أو ركب السيارة أو انتفع أو أجرها على الغير أو لم يفعل شيئاً من ذلك فإنه يضمن. وإذا سئلت عن وجه التضمين، فتقول: لأن المالك الحقيقي كان بإمكانه أن يستفيد من هذه العين، وأن يتحصل على حقه ولكن هذا الغاصب حينما غصبه وحال بينه وبين ماله امتنع وتعذر عليه أن يصل إلى ذلك الحق ووجب على الغاصب أن يضمن. إذاً: على الغاصب ضمان المنافع، والمنافع تشمل المركوبات كالسيارات والدواب، وتشمل المساكن كالبيوت والعمائر ونحو ذلك من الحرف والصنائع الموجودة في زماننا ومما يستفاد منه من الآلات. ففي زماننا لو أخذ آلة نجر الخشب للنجارة، أو أخذ آلة للحدادة، وأخذ هذه الآلة وعطلها سنة، فهذه الآلة يسأل أهل الخبرة كم أجرتها في سنة كاملة؟ سيقولون: أجرتها في كل شهر ألف ريال، فمعنى ذلك: أنه يلزم بدفع اثني عشر ألفاً استحقاقاً للمالك الحقيقي لهذه الآلة؛ لأنه حال بينه وبين الانتفاع بها. إذاً: يستوي أن يكون قد انتفع هو أو مكن الغير من الانتفاع أو حبس الآلة وعطلها؛ لأنه لما حبسها وعطلها كان ضامناً لذلك التعدي متحملاً لمسئوليته فيجب عليه دفع القيمة التي هي مستحقة لفوات ذلك الزمان

حكم غصب الحر وضمانه

حكم غصب الحر وضمانه وقوله: (وإن استولى على حر لم يضمنه) أما بالنسبة للأشياء التي لا تملك كالحر فإنه إذا غصب فإننا ننظر إلى مسألة استهلاكه كما سيأتي، فلو أن هذا الحر اغتصبه ثم مات عنده بأمر الله عز وجل وبقدر من الله عز وجل، فنقول: لا يضمنه؛ لأن الحر هذا ليس محلاً للمعاوضة، لكن لو كان رقيقاً فهذا أمر آخر، ولو كان دابة فهذا أمر آخر، لكن الحر ليس محلاً للمعاوضة؛ لأنه لا يباع ولا يشترى؛ ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى يقول: (ثلاثة أنا خصمهم ومن كنت خصمه فقد خصمته: رجل أعطى عهداً ثم غدر، ورجل باع حراً ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فلم يوفه أجره). فقوله: (ورجل باع حراً ثم أكل ثمنه) فجعله من كبائر الذنوب، ومن الأمور الموجبة للعقوبة الشديدة وهو كونه خصماً لله عز وجل -والعياذ بالله- يوم القيامة، وهذا يدل على أنه قد أخذ ما ليس له، وقد ظلم ببيع ما لا يباع؛ لأن الحر لا يباع. وإذا ثبت هذا فنقول: إذا مات فحينئذ لا نبحث في مسألة ضمانه، وهذا إذا مات قدراً، أما لو أنه تعدى عليه وقتله فهذا له باب الديات وباب القصاص، وينتقل من مسألة الغصب إلى مسألة التعدي، فالشريعة جعلت لكل شيء حكمه ولكل شيء شرعه: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3]. فأنت تقول: إذا أخذ هذا الحر واعتدى عليه بالضرب فهناك باب خاص بالاعتداء، فاعتداء المسلم على أخيه فيه الضمان، فإذا حصل تلف في العضو الذي ضربه عليه فإنه يضمن العضو الذي أتلفه على التفصيل الذي سيأتي في الديات. وإذا قتله بالضرب فحينئذٍ يفصل فيه فيما لو قتله عمداً أو قتله شبه عمد ولم يقصد قتله، وكان الذي ضربه غير قاتل خطأ، فهذا يفصل فيه في باب القتل وأحكام القتل. وإذا اقتصر على غصبه ولم يتعرض له بشيء فمات عنده فحينئذٍ يكون قد مات قدراً ولم يتعرض له بالتلف ولم يتعاط أسباب تلفه، فحينئذٍ يكون قد مات قدراً ومثله لا يضمن؛ لأن الحر لا يضمن إلا بالاعتداء، وهنا لم يحدث اعتداء فلا وجه للتضمين، هذا بالنسبة للحر. فابتدأ المصنف رحمه الله بهذه المسألة بأنها ليست محلاً للمعاوضة، ثم سيدخل بعد ذلك فيما هو محل للمعاوضات ببيان ما للمغصوب منه وما على الغاصب من الحقوق التي يجب عليه أداؤها، وتركبت على اعتدائه وغصبه لحق أخيه المسلم. فقوله: (وإن استولى على حر لم يضمنه). لاحظ (استولى)؛ لأن الغصب ما يكون إلا بالاستيلاء، وعلى هذا فالمستولي على حر لا يضمنه، أي: إذا استولى على حر فمات الحر عنده لم يضمنه، إلا إذا كان قد تعاطى أسباب موته وهلاكه، كأن يكون -مثلاً- وضعه بغرفة وأقفل عليه فيها، ثم نسي أن يطعمه ويسقيه حتى مات، وقال: ما قصدت قتله، إنما أدخلته على أساس أني أريد أن أروعه وأخوفه وأمنعه من أن يتعرض لي، فأقفلت عليه الغرفة ثم نسيت، فحينئذٍ إذا ثبت هذا وتقرر فهذا قتل خطأ؛ لأنه تعاطى السبب الذي أوجب هلاكه، ويضمن ديته على التفصيل الذي سيأتي في مسألة الخطأ. إذاً: لا يضمنه إلا إذا تعدى أو فرط في القتل، وهذا معنى قوله: (وإن استولى على حر لم يضمنه)، في تقدير: إن استولى على حر فمات، لكن مات بدون تعدٍ ولا تفريط لم يضمنه.

حكم استعمال الحر المغصوب أو حبسه

حكم استعمال الحر المغصوب أو حبسه وقوله: [وإن استعمله كرهاً، أو حبسه فعليه أجرته]. عندنا -كما تقدم-: الذات والمنفعة، فالحر ذاته لا تملك، وليس محلاً للبيع والشراء، لكن منافع الحر تملك ويعاوض عليها، ولذلك استأجر موسى عليه السلام نفسه على طعمة بطنه وعفة فرجه صلوات الله وسلامه عليه، فأجَّر نفسه ثماني حجج وأتمها إلى عشر، فجعلها إجارة ومعاوضة على مهره. فالحر لا يملك من جهة الذات، ولكن من جهة منافعه، وكما لا تملك ذاته لا تملك أيضاً أعضاؤه، فليست محلاً للبيع والشراء، ولذلك لا يجوز بيع الأعضاء ونقلها ونحو ذلك؛ لأنها ليس محلاً للمعاوضة، لا كلاً ولا جزءاً، فلا يجوز بيع كليته ولا قرنيته ولا بيع أجزائه؛ لأنها ليست محلاً للمعاوضة، والوعيد في قوله: (باع حراً ثم أكل ثمنه) يشمل الشخص نفسه إذا باع هذا الجزء؛ لأنه ليس محلاً للمعاوضة. فإذا ثبت هذا فيبقى Q هل منافع الحر كذات الحر؟ و A لا، فإن منافع الحر لها قيمة ويستفاد منها ويستفيد منها صاحبها، فلو أنه أخذ حراً وأقفل عليه، فهذا الحر إما أن يكون صاحب صنعة ويستفيد من عمله وعنده عمل فعطله عن عمله ومنافعه، فيضمن مدة تعطيله، سواء استعمله أو لم يستعمله، كرجل عنده عمل، فجاء شخص وأخذه وأغلق عليه في داره شهراً، فتعطل عن عمله، وعادة أن يكون له في هذا العمل ألف ريال، فنقول له: هذا حر يجب عليك ضمان منفعته التي عطلتها بمنعه والإغلاق عليه، فتضمن الألف ريال له، فيضمن منفعته ولا يضمن شيئاً آخر، ولو كانت أجرته في الشهر عشرة آلاف يجب عليه ضمان العشرة آلاف؛ لأنه حال بينه وبين هذا الانتفاع بسبب حبسه قاصداً الاعتداء؛ فوجب عليه أن يضمنه. إذاً: إذا منعه ولم يستعمله فإنه يجب عليه ضمانه إذا كان له عمل ومصالح عطله عنها وهو صاحب صنعة، أما لو استعمله ففيه تفصيل: فإنه إذا استعمله لا يخلو من حالتين: مثال: شخص أخذ صبياً، واغتصب هذا الصبي وأخذه من عند أهله، ثم أخرجه -مثلاً- إلى مزرعته خارج المدينة، وجلس هذا الصبي في مزرعة الرجل ثلاثة أشهر، وفرضنا أن هذا الصبي بالغ، أخذه وجلس معه ثلاثة أشهر، فإذا جلس هذا البالغ ثلاثة أشهر في المزرعة وعمل فيها فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون عمل بطواعية منه، كما لو جاء فوضعه في المزرعة، فرأى العمال يعملون فجاء وعمل معهم أو ساعدهم ولم يكرهه أحد على العمل، فحينئذٍ يكون فعله محض التبرع، ولا يجب على الغاصب أن يضمنه؛ لأنه محض تبرع، فقال: (استعمله كرهاً). إذاً: إذا حصل استغلال من الغاصب فلا يخلو من حالتين: إما أن يستغله بالعمل قهراً وكرهاً، فيجب عليه ضمان أجرة مثله في العمل، فلو كانت الثلاثة الأشهر عمل فيها ومثله يستحق في العمل الذي قام به في سقي الزرع -مثلاً- ثلاثة آلاف، فيجب عليه ضمان الثلاثة آلاف التي هي أجرته، ولو كانت أجرته ألفين في كل شهر فإنه يضمن ستة آلاف. إذاً: يشترط في استغلال الغاصب للمغصوب وعمل المغصوب عند الغاصب أن يكون بالقهر والقوة، أما لو كان باختياره والرضا فإنه لا يجب عليه الضمان؛ لأنه خرج إلى محض التبرع والإحسان ولا يجب ضمان مثل هذا.

لزوم رد المغصوب بزيادته

لزوم رد المغصوب بزيادته قال رحمه الله: [ويلزم رد المغصوب بزيادته]. (يلزم) أي: يجب، يلزم على الغاصب أن يرد المغصوب بزيادته، والباء للمصاحبة، أي: مصحوباً مع زيادته؛ لأن من معاني الباء المصاحبة: تعد لصوقاً واستعن بتسبب وبدل صحاباً قابلوك بالاستعلاء فمن معانيها المصاحبة، فقوله: (بزيادته)، هناك زيادة متصلة، وهناك زيادة منفصلة، وهناك زيادة من فعل الغاصب، وهناك زيادة بأمر الله عز وجل، وكل هذا فيه التفصيل الذي سيذكره المصنف رحمه الله عبر المسائل التي ستأتي. لكن هنا أراد أن يشير إلى قاعدة وهي: أن الواجب على الغاصب أن يرد الشيء المغصوب على حالته ولو كانت أفضل من حالته يوم غصب، سواء كانت الزيادة متصلة أو كانت منفصلة، سواءً كانت من نماء المغصوب أو كانت من فعل الغاصب مما لا يمكن انفصاله عن الشيء المغصوب على تفصيل سيأتي في مسألة الخلط والتي سيأتي بيانها -إن شاء الله- في الفرق بين زيادة القدر وزيادة صفات العين المغصوبة.

لزوم رد المغصوب إلى موضعه ولو غرم الغاصب

لزوم رد المغصوب إلى موضعه ولو غرم الغاصب قال رحمه الله: [وإن غرم أضعافه]. عندنا مسألتان: المسألة الأولى: وجوب رد المغصوب مع الزيادة. المسألة الثانية: وجوب الرد نفسه، وأن يكون الرد مع الزيادة. عندنا مسألتان: مسألة الزيادة ستأتي، لكن مسألة الرد هنا من حيث الأصل الشرعي العلماء كلهم مجمعون على أن الواجب -من حيث الأصل- على الغاصب أن يرد الشيء الذي اغتصبه، وأن يرد العين التي اغتصبها، سواء كانت من العقارات أو كانت من المنقولات، لكن لو أن شخصاً اغتصب شيئاً فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون الشيء في موضعه ويحول بينه وبين صاحبه، كرجل اغتصب أرضاً، فجاء وأخذ من أخيه -مثلاً- نصف أرضه، ووضع عليها الحواجز واغتصبها، فالحكم حينئذٍ رد المغصوب، وسيكون برجوعه إلى الحدود الأصلية التي كانت بينه وبين أخيه. أما الصورة الثانية: أن يكون المغصوب قد انتقل وحوّله الغاصب من موضع الغصب إلى موقع آخر وهذه هي المسألة التي قصدها المصنف رحمه الله، فيجب رد المغصوب بزيادته ولو غرم أضعافه، يعني: ولو كان رد المغصوب إلى البلد الذي وقع فيه الغصب يكلف أضعاف قيمته، وهذه مسألة مهمة جداً. ومن أمثلتها: لو أن شخصاً اعتدى على ماكينة زراعية لأخيه المسلم، فجاء وأخذها من أرضه واغتصبها ونقلها إلى أرض ثانية في بلد آخر، فإذا ثبت غصبه عند القاضي فيقول للغاصب: يجب عليك نقل هذه الماكينة وردها إلى الموضع الذي اغتصبتها منه. فإذا جئت تتأمل الماكينة تجد أن قيمتها عشرة آلاف ريال، لو جاء يردها ربما كلفه الرد ثلاثين ألف ريال، فحينئذ الرد سيكلف أضعاف قيمة العين المغصوبة، نقول: يجب عليك الرد ولو كلفك أضعافاً؛ لأن الرد مستحق. لكن لو أن الغاصب قال: أنا لا أستطيع أن أتحمل ثلاثين ألفاً، ولكن سأشتري له ماكينة من نفس النوع وجديدة من نفس البلد وأضعها في نفس المكان، فنقول: لا، إلا أن يرضى المغصوب منه. من حيث الأصل: لو أصر المالك وقال: ما أريد إلا ماكينتي، ترد له ولو كلفت أضعاف قيمتها؛ لأن العين مستحقة، وهذا حقي، وهذا من عدل الله بين العباد، فمثل ما أخذتها تتحمل مسئولية نقلها إلى موضعها، ما أحد أمرك أن تنقلها، فلما اعتديت بالنقل تحملت جميع ما يترتب عليه من آثار، ومنها: ضمان الأجرة المستحقة للنقل. فأولاً: عندنا حكم، وهو: وجوب الرد، فالقاضي يقضي بأنه يجب عليه رد الماكينة إلى موضعها، فإذا أصر المالك وقال: أريد ماكينتي، لا إشكال، نقول: يجب عليك ردها ولو كلفك أضعافاً، هذه المسألة الأولى. المسألة الثانية: لو قال: يا فلان! أعطيك مثلها وأضعها في المكان الذي اغتصبتها منه، قال المغصوب منه: رضيت، فلو قال: رضيت، تنتقل المسألة إلى مسألة الصلح، وتصبح القضية قضية صلح، والصلح جائز بين المسلمين، لكن الصلح إذا كانت فيه مناقلة ومبادلة يكون من باب البيع، فكأنه باعه ماكينته في ذلك الموضع بماكينة في هذا الموضع وتسري عليه أحكام البيع. فائدة قوله: تسري عليه أحكام البيع، أنه إذا ترتب عليه ربا النسيئة فلا يجوز، ولا يصح صلحاً، مثل: امرأة اغتصبت من امرأة كيلو من الذهب ونقلته من بلد إلى بلد، فهذا الكيلو من الذهب لو أنها جاءت ترده احتاجت إلى حفظه وحرزه، فيكلفها مالاً، فقالت: أنا أعطي مثله من الذهب هنا في مكة مثلاً، فحينئذٍ صار ذهباً بذهب، فيجب أن يكون في نفس المجلس وإلا كان ربا نسيئة فلم يصح. هذه فائدة قولنا: تنتقل المسألة إلى مسألة الصلح، فلا يصح الانتقال في الغصب إلى المثلي إلا إذا كان من جنس ما أذن الشرع فيه من الانتقال المثلي، فإن اشترط فيه التقابض وجب أن يكون في المجلس الذي اصطلحا عليه، فإن قال: غداً آتيك، أو قال: بعد ساعة أحضر الذهب، كان هذا ربا ولا يصح. فإذاً: لا بد أن نفصل فيه، الحكم الأصلي: وجوب الرد، ثانياً: أن هذا الرد ولو كلف أضعاف القيمة فهو ملزم به في الأصل إذا أصر المالك الحقيقي على عين متاعه وحقه، فهذا حق من حقوقه وليس لأحد أن يحول بين المالك وبين حقه، فإذا قال: أريد حقي، وجب إعطاؤه حقه، ورده إلى موضعه مهما كلف هذا. فإن اختار المالك أو رضي المالك صلحاً بالبدل عنه، فصل في أحكامه على ما تقدم في باب الصلح، وصارت مناقلة مبنية على المعاوضة بالبيع على التفصيل المتقدم. فقوله: [ويلزم رد المغصوب بزيادته، وإن غرم أضعافه]. (وإن غرم) يعني: خسر، (أضعافه) يعني: أضعاف المغصوب، فيجب عليه أن يرد المغصوب بزيادة وإن كلفه ما كلفه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم اتفاق الغاصب والمغصوب منه على بقاء البناء في الأرض المغصوبة

حكم اتفاق الغاصب والمغصوب منه على بقاء البناء في الأرض المغصوبة Q إذا طلب المالك من الغاصب أن يبقي البناء بدل هدمه، على أن يرد له قيمته سواء نقداً أو مقسطاً، هل له ذلك أم لا؟ A ليس فيه بأس، لو قال له: أبق هذا البناء وأعطيك قيمته، فإنه حينئذٍ يكون صلحاً بينهما، وهو مأجور على ذلك؛ لأنه خفف عنه ورفق به، والرفق يثاب عليه العبد، خاصة إذا لم يقصد به التضييق عليه، والله تعالى أعلم.

نصائح لطلاب العلم

نصائح لطلاب العلم Q كيف يمكن لطالب العلم وهو في خضم دروسه وطلبه أن ينظم وقته حتى يغتنمه ولا تتفارق عليه أيامه بدون فائدة؟ A لا شك أن الله سبحانه وتعالى إذا أحب طالب العلم ورضي عنه بارك له في أيامه ولياليه وفي عمره، ومن دلائل البركة: أن يستمسك الساعات واللحظات وهو يجد ويجتهد في سد ثغور الإسلام، وتعلم الشرائع والأحكام، لا يسأم ولا يمل ولا يكل ولا يشتكي، قد نصف وجهه لله، وجد واجتهد في طاعة الله. واعلموا أن الله يكتب ثوابه في كل كلمة يسمعها وفي كل حكم يحرره، وأن الله سبحانه وتعالى يعظم له الأجر والمثوبة في ذلك كله، فهذا كله من دلائل الرضا: البركة في الساعات واللحظات، ولن تكون هذه البركة إلا بالإخلاص وإرادة وجه الله سبحانه وتعالى، وطالب العلم الذي يريد أن يبارك الله له في وقته يبدأ بالإخلاص، ثم يأخذ بالأسباب التي منها تنظيم الأوقات، وإذا وفق الله طالب العلم وعرف قيمة زمانه وشعر أن الله سائله عن كل لحظة من أوانه، سعى في إصلاح ذلك الزمان في طاعة الله عز وجل، فينظم وقته ويرتبه. وعليه أن ينتبه لأمرين: هناك فرق بين العلم الحقيقي والعلم الذي يدخله الشيطان عليه من الهوى والغرور، فالوقت لا يبارك فيه بشيء مثل أن يستنفده في العلم الموروث من الكتاب والسنة. فمثلاً: إذا كان طالب العلم يحضر في مجالس العلم، ويفهم الأحكام، ويخاف من الله سبحانه وتعالى أن يستعجل في المسائل والأحكام لا يحدث الخطأ والخلل ويستنفد غاية جهده للضبط والتحصيل، بعد ذلك إذا جاءته نفسه تدعوه للاجتهاد، تدعوه للتقريب، تدعوه للنظر، وليست عنده آلة الاجتهاد، ولم يشهد له أهل العلم أنه مجتهد، فإن الشيطان يضيع له الوقت. ولذلك تجد طالب العلم قد يجلس في مجلس العلم ويسمع أن في المسألة قولين، وعنده استعداد أن يقول: لا، هذا ليس القول الراجح بل القول الأول أرجح من الثاني، فالشيطان يدخل عليه في النفس هوى، والنفس تساق إلى معصية الله عز وجل وتساق إلى هذه المعصية، إما من باب شر واضح المعالم، وإما من باب يدعى أنه خير. فقد يجد في مجلس العلم وهو لم يحصل درجة الاجتهاد والنظر لكي يعقب على كل كلمة، فيضيع عليه عمره ويقوم من المجلس يعتقد الباطل بدل الصواب والحق، ولربما ذهب يجلس ويضبط ويتعب في لم العلم ثم بعد أن يجمع المادة يتفرغ لنقدها وتقديم ما أخره العلماء، وتأخير ما قدمه العلماء، أو تصويب ما خطئوه، أو تخطئة ما صوبوه، وما عنده ملكة، ونحن لا نمنع من رزقه الله علماً وبصيرة ونوراً من الكتاب والسنة أن يجتهد، لكن أن يتطاول على شيء لم يحصله أو يضيع عمره ويذهب زمانه وتمحق بركة علمه، إما بعدم الإخلاص أو بالغرور. ولذلك تجد بعض طلاب العلم يجلس في مجلس العلم سنة واحدة فيفتح الله عليه بالفهم، ويفتح الله عليه في التحصيل، ويفتح الله عليه في بركة العلم، فيبارك له في كل ما سمعه؛ لأنه من اللحظة الأولى إلى آخر لحظة لم يشعر بالغرور في نفسه. فطالب العلم يحصل ويضبط ويكرر ويكرر ولا يدعي التعالم، ولا يرفع نفسه عن المقام الذي وضعه الله فيه، فإذا مضت عليه سنة وسنوات وهو يأخذ العلم الزكي النقي ممن يوثق في دينه وعلمه، فلا يزيد عليه ولا ينقص، ويكون أميناً حافظاً للعلم، يوشك أن يأذن الله عز وجل له بالفتح فيرتقي إلى درجة العلماء الذين أوتوا بصيرة العلم، وعندها تندرج له الأمور، فما كان من حق ثبت عليه، وما كان من خطأ صححه وقومه، ولكن بنور من الله وعلى سبيل وعلى رشد. فلا يضيع العمر على الشخص مثل أن يستعجل في طلب العلم، ولذلك تنظر في بعض طلاب العلم في بداية طلب العلم أوقاتهم محفوظة، لكن ما أن يدخل عليه الشيطان بالغرور حتى تجده يفلت الأوقات؛ لأنه في القديم كان يتعب نفسه في الحفظ وفي المراجعة والمذاكرة، لكنه اليوم يشعر أن ليس مثله يراجع، ليس مثله الذي يكرر كالمبتدئين، لا. كان أهل العلم مهما أوتوا العلم يتذللون للعلم؛ ولذلك قالوا: من افتقر لله أغناه، ومن ذل لله أعزه، ومن أهان نفسه بين يدي الله أكرمه. فذلٌ بين يديه عز، ومهانة بين يديه كرامة، وخضوع وضعة بين يديه رفعة، لكن إذا عرف طالب العلم حقه، ولذلك تجد العلماء الأئمة الراسخين في العلم قد عرفوا قدر أنفسهم قبل أن يعرفوا العلم، فتجد الواحد منهم مهما أوتي من العلم وتبين له الصواب وأنه أخطأ في مسألة فإنه مستعد أن يرجع عنها ولو كان على رءوس الأشهاد، وهذا هو العلم الذي يبارك الله فيه في الأوقات والأعمار، فاستنفدت في أنوار الكتاب والسنة حتى أصبحت القلوب مفرغة للوحي، مأمونة على الدين، أمانة صادقة كاملة مباركاً فيها. فطالب العلم تنزع منه البركة إذا حاد عن هذا الصراط السوي الذي أوله الإخلاص ومعرفة العبد قدر نفسه، فنحن نتعلم علماً موروثاً لا يجوز لنا أن نقدم فيه ولا نؤخر إلا إذا شهد أهل العلم لنا أننا أهل للتقديم والتأخير، قال الإمام مالك: (لا يحق لأحد أن يفتي في هذا الأمر حتى يشهد له أهل الشأن أنه أهل للفتوى، فما جلست في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أفتيت حتى شهد لي سبعون من أهل العلم في هذا المسجد أني أهل للفتيا). هذا العلم الموروث الذي يكون فيه الإنسان على نور من الله، يرجو ثوابه ورحمته، فيبارك له في كلمة يقولها، ويطيب الله العلم من لسانه؛ لأنه حفظه وحافظ عليه. لكن إذا خرج عن السنن وأصبح مغتراً بنفسه، ويضيف الإضافات، ويعلق التعليقات، ويذهب إلى المطولات ويأتي منها، ويفعل ويقدم ويؤخر، فاختلطت عليه الأمور، واختلط عليه الحابل بالنابل، فعند ذلك تنزع البركة من علمه، للناس، فيأتي بعلم ورثه وبعلم يدعيه، فما كان موروثاًَ ففيه البركة، وما كان مدعىً لا بركة فيه، ولربما نزع الله البركة منهما، فيمحق الله بركة ما ورثه بسبب ظلمه واعتدائه لحد الله فيما يدعي. فادعاء العلم صعب، وواجب على طالب العلم أن يعرف حق العلم عليه، فالبركة في الأوقات والأعمار مقرونة بمعرفة طالب العلم للواجب والفرض عليه، قال تعالى: {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4]. يقول بعض العلماء: من كان صادقاً في العلم فهو الأثر، ما معنى أثارة من علم؟ معناه: أنه جلس بين يدي العلماء فقال ما قالوه، وذكر ما ذكروه، لم يزد ولم ينقص، أمين يخاف الله جل جلاله. فالوقت يستوجب حفظ هذا العلم وضبطه، لا نقول: بالتعصب، بل نقول: بالتعصب بالحق، فإذا كان الذي تأخذ عنه العلم يتكلم بحجة من كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتكلم ببصيرة، فتتعصب للحق ولا تتعصب للرجل، ولكن تعرف حقه وتعرف قدره؛ لأن الله فتح عليه، والله يقول: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [النساء:162] فالناس يختلفون. فأئمتنا وعلماؤنا ومشايخنا الذين رزقهم الله البصيرة وعندهم علم وشهد لهم في هذا العلم وعرف لهم أهل الشأن حقهم في ذلك، نبقى على أثرهم، متقربين لله عز وجل بذلك؛ لأن الله فرض علينا أن نكون مع أهل العلم، متبعين لهم لا مبتدعين ولا مغيرين لا مبدلين، فإذا جئنا نطلب العلم ونجلس في مجالس العلم وبورك لنا في أوقاتنا وساعاتنا ولحظاتنا وكلها في العلم الموروث لا نزيد عنه ولا ننقص، والله كما بورك لأشياخك وأشياخ أشياخك ومن تلقيت عنهم ليباركن لك؛ لأنه كله موروث من الكتاب والسنة. ولكن ما يبارك لطالب العلم إلا إذا التزم بهذا المنهج، فعلينا أن نعرف قدر أنفسنا وحق علمائنا؛ فلذلك نقول: لا بد من المنهجية في تحصيل العلم من جهة الانضباط، فإذا رأينا طالب علم يحضر الدروس في أسبوعه، ووضع لكل درس وقتاً للمراجعة، لا يزيد ولا ينقص، وكان منضبطاً لهذه الدروس، أميناً على الأحكام التي سمعها وتلقاها دون أن يغير ويبدل، فبإذن الله سيبارك له؛ فالمنهجية تكون على أصول. أما كيف يكون المنهج؟ أي وقت أي ساعة كم القدر؟ هذا يختلف باختلاف الأشخاص، وقد كررت غير مرة كما كان بعض مشايخنا يقول: من الصعب أن يضع العالم لطالب العلم وقتاً معيناً إلا إذا كان بالطريقة القديمة طالب العلم مع العالم أربعاً وعشرين ساعة، وفرغ نفسه وارتحل إليه، هذا أمر ممكن، لكن الآن صعب، ولذلك لو وضعنا أوقاتاً معينة وصادف الإنسان أنه مشغول فيها قد يكل ويترك العلم، ولذلك من الصعب وضع برنامج معين. لكننا ننبه على ما هو أزكى وأفضل من البرنامج وما فيه الفتح من الله والتيسير من الله وهما الأمران: الإخلاص، والإلتزام، فكما قال السلف رحمهم الله: أن نكون متبعين فقد كفينا أن نتبعهم. وإذا لم نتبع العلماء من الذي يتبع؟!! وإذا لم نتبع الذي يأخذ بنص الكتاب من الذي يتبع؟! وإذا لم نتعصب للكتاب والسنة فلأي شيء نتعصب؟! فنحن نريد موازين صحيحة لكي يبارك الله في أوقاتنا وأعمارنا ويبارك أيضاًَ في علمنا. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجهه الكريم. اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وعملاً صالحاً! اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعل ما تعلمناه وعلمناه حجة لنا لا علينا! اللهم اجعلنا ممن قلت له بين يديك: صدقت، اذهبوا به إلى الجنة! اللهم لا تجعلنا ممن كذب على رءوس الأشهاد! اللهم إنا نسألك أن ترحمنا في ديننا ودنيانا وعلمنا وتعلمنا بالإخلاص لوجهك، وابتغاء ما عندك! اللهم ألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، ولا نادمين ولا مدبرين يا حي يا قيوم! يا رب العالمين! يا أرحم الراحمين! وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه.

حكم تلف أو ضياع المال الذي يعمل فيه المغصوب مكرها

حكم تلف أو ضياع المال الذي يعمل فيه المغصوب مكرهاً Q من استولى على حر واستعمله مكرهاً، ثم تلفت العين أو ضاع المال الذي يعمل فيه المغصوب كأن يقوم على الرعي فضل به الإبل، فهل يضمن هذا العامل المغصوب ما تلف أو ضاع؟ A هذه المسألة ترجع إلى مسألة ضمان الأجير، فقد تقدم معنا خلاف السلف في مسألة تضمين الراعي، قال طائفة من العلماء: إن الراعي يضمن، ومن أهل العلم من يرى أنه لا يضمن الراعي إلا إذا فرط. وصورة ذلك: يذهب بالإبل أو يذهب بالغنم أو يذهب بالدواب إلى أرض مسفعة، ويعلم أنها مسفعة وسيتلف شيء منها، فعند ذلك يضمن، وهكذا إذا تكاسل أو تساهل في لمّها وجمعها وحراستها وتشتت وتفرقت وضاعت فإنه يضمن، فهذه كلها من صور التعدي التي يكون فيها ضمان، والله تعالى أعلم. وبناء على ذلك: يسري عليه حكم الأجير؛ لأنه في هذه الحالة إذا غصبه غصبه على إجارة، ولذلك يجب عليه أن يدفع الأجرة، فيكون حكمه حكم الإجارة، وتسري عليه أحكام الإجارة، ومن هنا ألزمناه بقيمة الأجرة على التفصيل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.

حكم المطالبة برد المغصوب إلى غير موضعه

حكم المطالبة برد المغصوب إلى غير موضعه Q هل من حق المغصوب منه أن يطلب رد ما اغتصب منه في أي موضع غير الموضع الذي اغتصب منه فيه؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالأصل يقتضي أن الغاصب ملزم برد المغصوب إلى الموضع الذي غصبه منه، فلو طلب المغصوب منه رده إلى غير الموضع لم يكن من حقه ذلك، إنما الذي من حقه أن يرد إلى الموضع الذي اغتصب منه، فلو حصل بينهما صلح واتفقا على شيء فهذا أمر خارج، والصلح جائز على التفصيل الذي ذكرناه في مسألة المصالحة. أما من حيث الأصل الشرعي -ونحن نتكلم على الإلزام- فمثلاً: لو أنه غصب منه شيئاً في مكة ونقله إلى الطائف، وقال له مثلاً: انقلها لي إلى جدة، نقول: ليس من حقك أن تطلب نقلها إلى جدة ولو كانت المسافة واحدة، فلا يكون النقل إلا إلى نفس الموضع، هذا هو حقك، وإن أردت نقلها إلى غير ذلك وتم الاصطلاح بين الطرفين فلا بأس بذلك، والله تعالى أعلم.

حكم بناء مسجد على أرض مغصوبة

حكم بناء مسجد على أرض مغصوبة Q إذا غصب رجل أرضاً ثم بنى عليها مسجداً فما الحكم في هذه المسألة؟ A مطعمة الأيتام من كد فرجها لكن ليلى لا تزني ولا تتصدق يعني: شيء حرمه الله عز وجل ويبني عليه مسجد!! ذهب طائفة من العلماء إلى أن المسجد إذا بني على أرض مغصوبة لم تصح الصلاة فيه، لكن المراد بالغصب: الغصب الحقيقي، أما لو كان المسجد يحتاج إلى توسيعه وهناك دور متصلة بالمسجد وفيه مصالح، كالمساجد العظيمة كالحرمين ونحوها فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هدم دار العباس وعاوضه عليها، وأخذ بهذا الصحابة ولم ينكروا عليه رضي الله عنه وأرضاه. فإدخال الأراضي إلى المساجد بالقوة والقهر لوجود المصلحة العامة هذا مستثنى، أما إذا كان يأخذها ويبني عليها المسجد فهذا من أعظم الظلم، وتتقى الصلاة في مثل هذا، حتى أن الإمام أحمد رحمه الله وأصحابه يرون أن الصلاة في الدار المغصوبة لا تصح، وأنه لو صلّى في الدار المغصوبة لزمه أن يعيد الصلاة. ولذلك ينبغي أن يحتاط في هذا، وهذا أمر عظيم، والله عز وجل لا يطاع من حيث يعصى، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، فالله سبحانه طيب كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً). وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صدقة من غلول) وقد دل على أن التصدق ومحض التبرع والإحسان لا يكون إلا بشيء أحله الله ومن باب أذن به سبحانه، والغصب لم يحله الله ولم يأذن به. ولذلك لا يجوز هذا الفعل، ولا يسري على هذا المسجد أحكام المسجد، فالوقفية لا تثبت، فلو قال: أوقفت هذه الأرض، فالوقفية لا تثبت، ويصبح المسجد ملكاً لصاحبه الأصلي، ويهدم المسجد ثم ترجع الأرض إلى مالكها وهو بالخيار، إن شاء أن يبقيها مسجداً وإن شاء أن يهدمها فله ذلك، والله تعالى أعلم.

باب الغصب [3]

شرح زاد المستقنع - باب الغصب [3] حفظت الشريعة الحق لكل صاحب حق، فلو بنى غاصب على أرض مغصوبة أو زرع فيها، فإن الشريعة تحفظ حق الجميع، ولا تعطي أحداً على حساب الآخر، أما بالنسبة للغاصب فإنه يضمن كل ما جنته يده على حسب ما فعله، وهذا ما فصله العلماء في أنواع الضمان.

مسألة البناء على الأرض المغصوبة

مسألة البناء على الأرض المغصوبة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وإن بنى في الأرض أو غرس لزمه القلع]. (وإن بنى في الأرض أو غرس) فيه مسائل، ونبدأ -أولاً- بالبناء ثم بالغرس. من اغتصب أرضاً وأحدث فيها غرساً، فإنه يصدق عليه أنه غاصب، وهذا مذهب جمهور العلماء، أن الغصب يقع على الأراضي والعقار، وخالف في هذه المسألة الإمام أبو حنيفة والقاضي أبو يوسف عليهما رحمة الله، فقالا: لا غصب في العقارات؛ لأن الغصب عندهما يكون فيه شيء من الحيازة والنقل، والأرض لا تستطيع أن تنقلها من موضعها، ولذلك قالوا: إنه لا يتحقق فيها الغصب، وقد أجاب الجمهور عن ذلك بأدلة منها: أولاً: ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري وغيره: عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ظلم قيد شبر من الأرض) وفي رواية: (من غصب) وقوله: (من غصب قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) قال: (من الأرض)، فجعل الأرض محلاً للغصب، فدل على أن الغصب يقع في العقارات كما يقع في المنقولات. كذلك أيضاً مما يدل على هذا: عموم الأدلة الواردة في رد ما أخذ، والمنع من الاعتداء على حق المسلم، فيكون ذلك غصباً واعتداء على أموال الناس. ثالثاً: أن الاستيلاء على الأرض ومنع مالكها منها ومن التصرف منها يعد غصباً كالمنقولات، وما وجدنا فرقاً بين العقار والمنقول، فالشخص حينما يغتصب أرضاً ويمنع مالكها من الانتفاع بها، ومن سكناها ومن تأجيرها، لا فرق بينه وبين من اغتصب طعاماً، ولا فرق بينه وبين من اغتصب دابة، وكون الصورة ليس فيها نقل لا يؤثر، المهم أنه حال بينه وبين الانتفاع بها بالاستيلاء والقهر، وتلك حقيقة الغصب.

أقوال العلماء في مسألة البناء على الأرض المغصوبة

أقوال العلماء في مسألة البناء على الأرض المغصوبة نبدأ أول شيء بمسألة البناء، إذا أحدث في الأرض البناء وأردنا أن نرد العين المغصوبة إلى مالكها، وثبت عند القاضي أن هذا الشخص غاصب وأن البناء بني على أرض مغصوبة، فما الحكم؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال هي: أئمة الحنفية -رحمهم الله- يقولون: من اغتصب أرضاً وبنى عليها ففي ذلك تفصيل: فإما أن يكون البناء قيمته أكثر من قيمة الأرض، وإما أن يكون العكس، فتكون قيمة الأرض أكثر من قيمة البناء. مثال: لو أن شخصاً أخذ أرضاً قيمتها مليوناً، وأحدث بناء عليها بمليونين، فقيمة البناء أكثر من قيمة الأرض نفسها، والعكس: تكون قيمة الأرض مليونين والبناء قيمته مليوناً، فحينئذٍ تكون قيمة الأرض أكثر من قيمة البناء، قالوا: إذا كانت قيمة الأرض أكثر فحينئذٍ يكون الواجب على الذي غصب أن ينقل بناءه، أو يعاوضه المالك عما أحدثه في أرضه. فالمبلغ الذي بنى به البناء يجب أن يدفعه المالك ويسترد أرضه ويكون البناء ملكاً له. أما لو أنه أحدث بناءً أضعاف قيمة الأرض أو يزيد على قيمة الأرض فإننا نقول في هذه الحالة: ادفع لمالك الأرض قيمة أرضه ويبقى الغاصب في الأرض والبناء له. هذا مذهب الحنفية، يرون أنه ينظر في قيمة البناء الذي أحدثه الغاصب وقيمة الأرض، فإن كانت قيمة الأرض أغلى فيثبت المالك ويخرج الغاصب ويخرج قيمة البناء، وإن كانت قيمة البناء أغلى يثبت الغاصب ويخرج مالك الأرض، وهذا بنوه على القاعدة: إذا تعارضت مفسدتان روعي دفع أعظمهما بارتكاب أخفهما، فيقولون: يرتكب أخف الضررين وأهون الشرين. فلما كان ضرر المالك للأرض أعظم روعي حقه، والعكس بالعكس. المذهب الثاني: مذهب المالكية رحمهم الله، يقولون: إنه ينظر إلى حق المالك المغصوب منه، وننظر في البناء، فقالوا: نقدر البناء ونسقط من البناء الذي أحدثه الغاصب قيمة الهدم ونقل المهدوم، ثم يدفع له المالك ذلك الفضل، وإن شاء ألزم الغاصب أن يهدم وأن يخرج من أرضه، فيخير بين الأمرين. فقالوا: ننظر إلى حق المالك ونقول له: إن شئت أن تدفع لصاحب البناء قيمة البناء، وتنقص منها قيمة الهدم والنقل وأرش النقل، وإن شئت تقول له: اهدم بناءك واخرج عن أرضي ورد لي الأرض كما كانت، هذا مذهب المالكية. وبناءً على ذلك: يرون أن الأرض للمالك، فليس للغاصب أي طريقة على الأرض خلافاً للحنفية رحمهم الله، لكنهم قالوا: بالنسبة للشخص الذي غصب نقول له: ليس لك إلا قيمة البناء وننقص من قيمة البناء تكلفة الهدم. مثال: لو أن شخصاً غصب أرضاً، ثم بنى عليها بناء وثبت عند القاضي الغصب وأمر برد الأرض المغصوبة، فلما أمر برد الأرض المغصوبة قلنا للمالك: أنت بالخيار بين أمرين: تثمن البناء، فالبناء الموجود عظماً أو مفصلاً، قيمته يساوي مليوناً، وقال أهل الخبرة: هذا بناء يكلف مليوناً، نقول: لو هدم ونقل الأنقاض بعد الهدم، كم سيكلف؟ قالوا: مائتي ألف، فنقول له: إما أن تدفع له ثمانمائة ألف أو نلزم الغاصب بهدم البناء ورد الأرض كما كانت، فيخير المالك ولا يلزم بواحد منهما. وهذا مذهب لا شك أنه مما يردع الناس، وإن كان ما سيأتي من مذهب الشافعية والحنابلة ألزم للأصل. الشافعية والحنابلة رحمهم الله قالوا: ليس لعرق ظالم حق، وهذا منطوق الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: الغاصب معتدٍ، وحينئذ نقول له: انقل بناءك ورد الأرض كما كانت، وإن شاء في هذه الحالة أن يهدم بنفسه، وإن شاء أن يعطي كلفة هدم البناء للمغصوب منه فعليه أن يفعل ذلك. أما الأرض فإنها ترجع كما كانت، وليس له حق في هذه الأرض ولا يختلف الحكم عندهم لا ببناء ولا بغرس. وفي الحقيقة من حيث الأصول والأدلة فمذهب الحنابلة والشافعية أصح هذه المذاهب؛ وذلك لأن الغاصب معتدٍ على غيره، وبهذا الاعتداء بنى في غير ملكه، فلا يثبت للبناء حرمة؛ لأن الشرع لا يثبت الحرمة إلا لشيء مبني على أصل صحيح، وما بني على باطل فهو باطل، والفرع تابع لأصله، وهذا أصل حرام فكيف ينبني عليه استحقاق المعاوضة ونقول: من حقه أن يعاوض؟! أما ما ذكره أصحاب المذهب الأول من قولهم: يرتكب أخف الضررين وأهون الشرين، فنقول: يرتكب أخف الضررين فيما له حرمة، ويكون الضرران في شيئين لهما حرمة، وأما هذا فهو غاصب لا حرمة له، وتصرفه في مال غيره، وهذا مالك حقيقي ملك الأرض وهي أرضه وأفسدت عليه أرضه، وقد يكون أرادها لزرع فأصبحت لبناء، فليس لعرق ظالم حق، خاصة أنه صلى الله عليه وسلم نص على ذلك. ثانياً: نقول لهم: لو قلنا بمذهبكم لتلاعب الناس وأمكن للظلمة والأغنياء أن يتسلطوا على أموال الفقراء، فالأمر بسيط، يذهب إلى فقير ليس عنده مال، ويغصب أرضه ويحدث عليها بناء بالملايين، ثم يقول له: الذي أحدثته أغلى من أرضك، فخذ قيمة أرضك واخرج، وهذا لا شك أنه يفتح باب شر عظيم، ويؤدي إلى باطل لا تقره الشريعة، فأصبح المغصوب منه تؤخذ منه أرضه، ولربما لا يرضى ببيعه، وتؤخذ منه قهراً. وعلى هذا: الذي يصح هو مذهب من قال: إنه ليس لعرق ظالم حق، ونقول: على الغاصب أن يقلع البناء من الأرض، وأن يرد الأرض كما كانت، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله، فقال رحمه الله: (وإن بنى في الأرض أو غرس لزمه القلع). لزمه قلع البناء بالهدم، ورفع أنقاض البناء، فجميع الآثار الباقية بعد البناء ينبغي إزالتها، وإذا بقيت آثار حفر أو نحوها تردم، فإن ردمت وتشوهت الأرض بعد الردم وأصبحت معيبة وجب عليه دفع النقص، بحيث لو كانت قبل الغصب قيمتها ثلاثمائة ألف، وبعد الغصب صارت قيمتها مائتي ألف، فعليه أن يرد الأرض ومعها مائة ألف ضماناً للنقص الذي حدث بسبب آثار الغصب التي وقعت.

حكم من اغتصب أرضا وقام بزراعتها

حكم من اغتصب أرضاً وقام بزراعتها بقي Q لو أن رجلاً اغتصب أرضاً ثم قام بزراعتها، فما الحكم؟ A أنه إذا قام بغرس الأرض والزراعة فيها فلا يخلو: إما أن يكون الزرع مما تطول مدته ويمكن نقله كالنخيل وأشجار الفواكه ونحوها، وإما أن يكون الزرع مؤقتاً يمكن أن يصبر عليه الشهر والشهران ونحو ذلك كالحبوب.

الحكم في الزروع إذا كانت مما لا تطول مدتها

الحكم في الزروع إذا كانت مما لا تطول مدتها أما من زرع في الأرض شيئاً مما لا تطول مدته، كزروع الحبوب، مثل: الشعير والذرة ونحو ذلك، ففي هذه الحالة يحتاج هذا الزرع إلى أن يبقى مدة، ثم بعد ذلك تعود الأرض كما كانت، ف Q إذا قلنا للغاصب: اقلع هذا الزرع لم ينتفع به ولم ينتفع به صاحب الأرض، ففي هذه الحالة يسقط الزرع، حيث جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر وفق هذه المسألة. ففي حديث رافع بن خديج رضي الله عنه وأرضاه عند أبي داود والترمذي والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من زرع أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته) قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وفي رواية للنسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بهذه القضية وفصّل فيها أن الزارع وهو الغاصب ليس له في الزرع حق، ما يقول: آخذ هذا الزرع وأقلعه، ليس له في الزرع حق. وبناء على ذلك أسقط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزرع استحقاق الغاصب وأثبت للغاصب استحقاق النفقة، فيقدر له تعبه، وأجرة التعب قيل: تقدر له قيمة البذر وتقدر له قيمة الحراثة والكلف والمؤونة التي تكلفها في إنبات هذا الزرع بإذن الله عز وجل. إذاً: مذهب الحنابلة رحمهم الله على أن من اغتصب أرضاً وزرعها، والزرع باقٍ ولم يحن حصاده، ولم يحصده الغاصب ففي هذه الحالة فإنه يقضى بأنه لصاحب الأرض، ويعطى الغاصب نفقة البذر ومؤونة الزراعة. مثال ذلك: لو أن زيداً اغتصب أرضاً، فزرعها وكان قد تكلف بذره خمسمائة ريال، ثم قام بالحراثة والزراعة ومؤونة الحرث تكلف ثلاثمائة ريال، فحقه ثمانمائة ريال، ثم يخلي بين صاحب الأرض وبين الزرع، هذا بالنسبة لقضاء النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. لكن لو قال المالك للأرض: لا أعطيه شيئاً وليس عندي شيء أعطيه، فما الحكم؟ هل نقول: يجب عليه قلع الزرع، والزرع يحتاج إلى شهر أو شهرين حتى يحصد، فيكون إتلافاً للمال وإفساداً للثمرة؟ فقال فقهاء الحنابلة -رحمهم الله- في هذه الحالة: نقول لمالك الأرض: تمكن الغاصب من إبقاء الزرع إلى الحصاد ولك أجرة مثله. إذاً: هناك خياران لصاحب الأرض، الخيار الأول: نقول له: خذ الزرع وادفع قيمة البذر وكلفة المؤونة. والخيار الثاني: أن نقول له: اترك الغاصب حتى يحصد ولك أجرة الأرض حتى يكون الحصاد، ويكون له أيضاً أجرة المدة التي مضت، هذا بالنسبة لمذهب الحنابلة رحمهم الله. أما الشافعية فقالوا: إنه يؤاخذ بقلع الغرس ولا يضمن صاحب الأرض إلا إذا اتفقا وتراضيا فيما بينهما. وأما الحنفية فقالوا: إذا اغتصب أرضاً للزراعة، فإما أن تكون الأرض معدة للزراعة، وإما أن تكون الأرض معدة للإجارة، وإما أن تكون الأرض غير معدة لواحد من الأمرين، فإن كانت الأرض معدة للزراعة فينتقل العقد بين مالك الأرض وبين الغاصب عقد مزارعة، وينظر في العرف الموجود في ذلك البلد، كم يكون لصاحب الأرض؟ وكم يكون لصاحب الزرع؟ وتقسم الثمرة من الناتج بينهما على العرف، بناءً على القاعدة الشرعية التي تقول: العادة محكمة. وأما إذا كانت الأرض معدة للكراء، كرجل كان يعد أرضه للإجارة -كأن يؤجرها للناس مستودعات أو نحو ذلك- فاغتصبها شخص وزرعها قالوا: تقدر أجرة مثلها، وتدفع الأجرة، فتنتقل إلى الإجارة ويبقى الزرع حتى يحصده غاصبه. وهذا المذهب في الحقيقة من حيث الأصول له وجهه، لكن من حيث السنة التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسمت الأمر فهي تدل دلالة واضحة على أنه يجب في هذه الحالة تخيير المالك للأرض بين هذين الخيارين، نقول له: خذ الزرع وادفع لصاحبه المؤونة وقيمة البذر، أو اتركه وزرعه حتى يحصد ولك أجرة المثل. فلم نظلم صاحب الأرض؛ لأنه أخذ أجرة مثله، ولم نظلم صاحب البذر لخوف الفساد أو الإتلاف والإهمال، وإلا فالأصل أنه لا حق له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لعرق ظالم حق). كل هذا الكلام إذا كان الزرع في حال استوائه، لكن لو أنه كان قد استوى وحصده الغاصب حينئذٍ يضمن الغاصب أجرة الأرض، ويكون الزرع ملكاً له. مثال: لو أن رجلاً اغتصب أرضاً وزرعها وحصد الزرع ثم باعه وكانت قيمة الزرع خمسين ألف ريال فإننا في هذه الحالة نطالبه بأجرة الأرض، فقد تكون أجرة الأرض عشرة آلاف ريال، وعلى هذا لا نقول: إن صاحب الأرض يملك الزرع، إلا إذا كان الزرع قائماً موجوداً، أما إذا حصده الغاصب فليس لصاحب الأرض إلا أجرة المدة التي استغلها الغاصب في أرضه، وضمان ما يكون بعد تسوية الأرض وإصلاحها وردها على حالتها، وما يكون من النقص يضمنه. الخلاصة: إذا كانت الأرض قد اغتصبها وزرع فيها النخيل ففي هذه الحالة ذكرنا أنه إذا اتفق الطرفان على شراء النخل من مالك الأرض فإنه يلزم الغاصب بدفع الأجرة لما مضى، والعقد صحيح وينتقل إلى صلح بالبيع، وتسري عليه أحكام البيع التي تقدمت. ثانياً: إذا قال الغاصب: لا أبيع، نقول له: اقلع الغرس الذي هو الشجر، ثم بعد ذلك نسوي الأرض، ثم بعد ذلك ادفع أرش النقص بين القيمتين للأرض، وادفع أجرة الأرض للمدة التي مضت، هذا بالنسبة إذا كان قد اغتصب أرضاً وزرعها نخلاً. أما إذا زرع الزروع فقلنا: قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الزرع إذا كان قائماً فإننا نقول لمالك الأرض: خذ الزرع وادفع نفقته لمن زرع، ويدفع في هذه الحالة قيمة البذر وقيمة الكلفة. وأما إذا قال: لا أريد ذلك، فلا يكره عليه، ونقول له في هذه الحالة: اترك صاحب الزرع حتى يحصد زرعه؛ لأنه لا يمكن إتلاف هذا الزرع لأنه من باب الفساد في الأرض، والله لا يحب الفساد. بخلاف البناء، فإن البناء له شأن آخر وقد قدمنا التفصيل فيه.

الحكم إذا أصر الغاصب على نقل الزرع

الحكم إذا أصر الغاصب على نقل الزرع الحالة الثانية: أن يقول رب الأرض: أريد الزرع أن يبقى، ويقول الغاصب: أريد أن آخذ زرعي، فحينئذٍ يجبر رب الأرض على تمكين الغاصب من أخذ زرعه ونقله؛ لأن رب الأرض وصاحب الأرض يملك الأرض، والزرع ليس ملكاً له، فيترك صاحب الزرع ينقل زرعه. فإذا قال: أريد أن آخذ زرعي، وقال رب الأرض: بل تتركه وأعطيك قيمته، لم يفرض على الغاصب أن يتركه، وحينئذٍ يمكّن من نقل هذا الزرع، وتسري الأحكام التالية: أولاً: يطالب بضمان المدة التي أمضاها غاصباً، فيدفع أجرة الأرض طيلة مدة الغصب، فلو مكث سنتين وهو غاصب للأرض دفع أجرة السنتين. ثانياً: يطالب بقلع هذا الغرس في أقرب مدة، ولا يماطل ولا يتأخر، فكل تأخير وكل مماطلة إذا كانت بنوع من التلاعب فيستحق التعزير عليها، وإذا كانت بدون تلاعب خارجة عن إرادته ضمن أجرة مدتها -أي: إجارتها- لصاحب الأرض. ثالثاً: بعد قلع الغرس يطالب بتسوية الأرض، وإعادتها كما كانت. فإذاً: يطالب بالقلع، ثم يطالب بالأجرة، ثم يطالب بتسوية الأرض وإعادتها كما كانت، فيردم الحفر بعد نقل النخل، وكما هو معلوم في الزراعة أنه لا يمكن نقل النخلة لوحدها، بل تنقل بترابها حتى لا تفسد، ففي هذا يقول بعض العلماء: تضرب هذه الجذور ويقلع منها التراب، حتى إن بعض العلماء أو بعض القضاة من علماء المسلمين كان يأمر بوضع هذه الجذور حتى يستخلص منها التراب، وتخرج النخلة بجذرها فقط؛ لأن التراب ملك لصاحب الأرض، وهذا من أبلغ ما يكون في إحقاق الحق وإبطال الباطل. ولا شك أن الأصول تدل على هذا، لكن بعض العلماء تسامح في هذا وقال: إنه قد يفسد النخل، ومادام أنه يمكن ردم هذه الحفر ببديل يضمن له مثل الأرض، فيقوم بدفن هذه الحفر، ثم بعد الانتهاء من دفع الأجرة وقلع النخل وتسوية الأرض ينظر في حال الأرض، فإن كانت الأرض قد تشوهت وأصبح حالها بعد قلع الغرس منها مشوهاً ينقص من قيمتها قيل له: اضمن النقص، فيؤتى بأهل الخبرة الذين لهم معرفة في الأراضي، ويقال: كم قيمة الأرض قبل أن تغتصب؟ يقال: قيمتها مائتا ألف، يقال: بعد أن سويت وبعد أن وضعت بهذا الشكل كم قيمتها؟ يقولون: صارت مائة وثمانين، فيضمن له العشرين ألفاً التي هي فرق ما بين القيمتين؛ لأن ذلك كان بسبب الغصب. هذا من حيث حكمه: وجوب القلع على الغاصب، ثانياً: تسوية الأرض وإعادتها على الحالة التي كانت عليها، ثالثاً: ضمان النقص، رابعاً: ضمان الأجرة. هذه الأحكام مبنية على أدلة شرعية، فنطالبه بقلع الغرس؛ لأن الأرض ليست بأرضه، وإنما هي أرض أخيه المسلم وليس لعرق ظالم حق، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ليس لعرق ظالم حق)، والعرق: قال بعض العلماء: عرق الشيء جذوره التي يقوم عليها، فإذا كان ليس له حق في هذا فمن باب أولى ما بني عليه، كأنه يقول: إذا انهدم الأصل انهدم ما بني عليه. وبعض العلماء يقول: العروق تنقسم إلى أربعة أقسام؛ قسمان منها باطن، وقسمان منها ظاهر، فالغاصب إما أن يكون له عرقان باطنان، وإما أن يكون له عرقان ظاهران. فالعرقان الظاهران: البناء والغرس، والعرقان الباطنان: الآبار والعيون، فالبناء والغرس: كأن يغتصب الأرض فيبني فيها أو يغرس فيها فليس له حق، كما صلى الله عليه وسلم: (ليس لعرق ظالم حق). وأما العرقان الباطنان: كأن يحفر بئراً أو يجري عيناً، ففي هذه الحالة يطالب بردم البئر وكذلك ردم العين وإعادة الأرض كما كانت؛ لأنه ليس له حق لا في الظاهر ولا في الباطن لنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا إذا كان قد زرع فيها زرعاً مما تطول مدته فيطالب بهذا.

الحكم في الزروع إذا كانت مما تطول مدتها

الحكم في الزروع إذا كانت مما تطول مدتها وفي هذه الحالة يبقى السؤال بالنسبة للزروع مثل: أشجار النخيل، وأشجار الفواكه التي تبقى مدة طويلة كاللميون والتفاح والموز والبرتقال، فهذه الأشجار تبقى مدة طويلة وليست كالزروع الأخر. ففي هذه الحالة لو أنه زرع نخلاً واتفق مع البائع على أن يعطيه النخل فيسري على ثمرة النخل التفصيل الذي ذكرناه في بيع الثمار التابعة للأصول، ويسري عليها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من باع نخلاً وقد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع). لكن اختلف العلماء -رحمهم الله- هل يكون للغاصب حق في قوله: (فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع)؟ مادام أن الغصب لا حق فيه ولا استحقاق فيه فهل الثمرة أيضاً تسقط؟ وجهان للعلماء، وخصص بعض العلماء هذا بوجود الصلح بين الطرفين.

حكم اتفاق الغاصب والمغصوب منه على بقاء الزرع

حكم اتفاق الغاصب والمغصوب منه على بقاء الزرع أما إذا اغتصب أرضاً وكان قد زرع فيها نخلاً أو نحوه، فإن الحكم الشرعي أنه يطالب بنقل هذا النخل وإخراج هذا الزرع، ويقال له: اقلع هذا النخل وعليك مؤونة القلع، إلا إذا اتفق مع رب الأرض على أن يعطيه قيمة النخل وينصرف عنه. مثال ذلك: لو اغتصب أرضاً وزرع فيها مائة شجرة من النخيل من نوع النخلة منه بألفين، فإذا كانت مائة نخلة وكل نخلة بألفين فمعنى ذلك أن قيمة النخل مائتي ألف، فلو قال له رب الأرض: خذ المائتي ألف واترك هذا النخل، وتراضيا واصطلحا، فحينئذٍ لا إشكال، وتنتقل المسألة من الغصب إلى الصلح، وتسري عليها أحكام الصلح المتقدمة وتصبح بيعاً، لكن إذا أعطاه مائتي ألف ريال فإنه يضمن الغاصب المدة التي مضت وقد وضع يده على الأرض غصباً، فلو أنه مكث فيها سنتين، وكل سنة لها عشرة آلاف فإنه يدفع له ما عدا أجرة هاتين السنتين، فعشرون ألفاً مستحقة لصاحب الأرض، والمائتي ألف مستحقة للغاصب، فيعطى مائة وثمانين ألفاً. وبناء على ذلك: إذا اتفقا على إبقاء النخل، أو إبقاء الزروع والأشجار واصطلحا على ذلك فلا إشكال، وتنتقل المسألة إلى البيع، ويضمن الغاصب لرب الأرض المدة التي أمضاها غصباً وتدفع أجرتها، فلو تنازل صاحب الأرض وقال: لا أريد العشرين ألفاً وهي لك وقد سامحتك في المدة فذلك لهما؛ لأنه صلح ولصاحب الحق أن يتنازل عن حقه كله أو بعضه، هذا بالنسبة في حال اصطلاحهما على إبقاء الزرع كما هو.

أوجه الضمان في الغصب

أوجه الضمان في الغصب يمكن أن نفهم أن الغصب فيه الضمان من أحد ثلاثة أوجه. الوجه الأول: ما يسمى بضمان اليد. والوجه الثاني: ويسمى بضمان الجناية والتصرف. والوجه الثالث: يسمى بالضمان باليد والجناية. فالغاصب نضمنه إما من جهة اليد وهي يد الغصب التي يسميها العلماء: اليد العادية، وإما أن نضمنه من جهة الجناية، وإما أن نضمنه من الوجهين. ثم إذا ضمناه في اليد أو الجناية أو من الوجهين، إما أن نضمنه لمنفعة، أو نضمنه لعين، أو نضمنه للعين مع المنفعة، فأصبحت ثلاث صور.

الضمان باليد والجناية

الضمان باليد والجناية أما بالنسبة للحالة الثالثة: وهي الضمان باليد والجناية، فهذه صورتها أن يأخذ الشيء ويبقى عنده مدة لا يتصرف فيه، ثم يقدم على التصرف فيه، فالمدة التي لم يتصرف فيها في ذلك الشيء كما لو مضت سنة على سيارة محبوسة عند الغاصب، وبعد سنة أخذها وأتلفها، فإنه إذا حبسها ولم يستهلكها ولم يفعل بها شيء ضمن باليد، وضمن عين السيارة بالجناية، فهذا ضمان باليد وضمان بالجناية. ويجتمع فيه مجموع الدليلين، فنوجب عليه ضمان اليد بدليل اليد، ونوجب عليه ضمان الجناية لوجود الجناية، هذا بالنسبة للأموال المغصوبة: تضمن باليد وتضمن بالجناية وتضمن بمجموع الأمرين اليد مع الجناية، سواء كان الضمان بالمنافع أو كان الضمان للأعيان أو كان الضمان لمجموع الأمرين. وفي هذا دليل على عظمة هذه الشريعة وكمالها وسمو منهجها، أنها ضمنت للناس حقوقهم، وخاصة في هذا الزمان الذي أصبحت فيه الحقوق حتى في الأدبيات والاعتبارات والمعاني والحكميات، فلا شك أن ضمان حقوق الناس وصيانتها على هذا الوجه -وخاصة على أرجح أقوال العلماء رحمهم الله بإثبات ضمان اليد- يردع الظالم عن ظلمه، ويوجب إحقاق الحق ورد الحقوق إلى أهلها. ولو تصورنا أن الرجل تغتصب منه عمارته أو مسكنه وتمضي عشرات السنين وهو قد حيل بينه وبين حقه، ثم يقال: لا يأخذ إلا العين فقط، ولا يأخذ إلا عمارته! فخلال هذه السنوات كلها قد يستفيد الغاصب وينتفع، ولذلك كان من إحقاق الحق وإبطال الباطل أن يقال: على الغاصب أن يتحمل المسئولية بضمان المنافع وضمان الأعيان وضمانهما معاً سواء كان ذلك بجنايته وتصرفه أو كان بمحض اغتصابه وحيلولته بين أصحاب الحقوق وحقوقهم، أو كان بمجموع الأمرين. المالكية في المنافع يفرقون بين كونه يستغل أو لا يستغل، ويقولون: إذا استغل الغاصب بنفسه أو بغيره، استغل بنفسه مثل أن يسكن العمارة أو يركب السيارة، واستغل بغيره: كأن يؤجر السيارة على غيره، أو يؤجر المسكن على غيره فيضمن، أما لو أخذ السيارة وحبسها فقط فلا يضمن، وهذا ضعيف، والحقيقة أن مذهب الشافعية والحنابلة في التضمين باليد مذهب قوي، ولا شك أنه يضمن للناس حقوقهم، وأما الحنفية فعندهم أصل، حيث إنهم لا يرون تضمين المنافع مطلقاً، حتى ولو أنه استغل وسكن وأجر، ولو أن الغاصب أجر الدار عشر سنين فإنه لا يملك صاحب الدار إلا أن ترد له داره فقط، وهذا سنبينه ونبين دليلهم في ذلك وجوابهم إن شاء الله.

ضمان الجناية

ضمان الجناية ضمان الجناية ضابطه: أن يجني الغاصب على المنفعة أو على العين أو على الاثنين معاً. يغتصب من أخيه المسلم شيئاً فيتصرف في منفعته ولا يتصرف في العين، أو يتصرف في العين ولا يتصرف في المنفعة، أو يتصرف في الاثنين، فيلزمه ضمان المنفعة في الصورة الأولى، وضمان العين في الثانية، وضمانهما معاً في الثالثة. مثال ذلك: لو أن شخصاً اغتصب سيارة، وقام بركوب هذه السيارة واستغلال ركوبها شهراً كاملاً، فيضمن منفعة السيارة، فقد يرد السيارة وهي تامة كاملة ليس فيها أي نقص، فالعين تامة، ولكن الذي فات باستغلاله واستهلاكه وتصرفه هو المنفعة، فيقال له: ادفع منفعة السيارة، أي: ادفع أجرة السيارة لمدة شهر، هذا بالنسبة لضمان المنفعة بالجناية والتصرف. وأما ضمان العين بالجناية والتصرف كرجل اغتصب الزجاجة ثم كسرها مباشرة، نقول له: يلزمك ضمان هذه الزجاجة، فهو يضمن عين الزجاجة بالمثلي إذا كان له مثلي أو بقيمته إذا لم يكن له مثلي، على التفصيل الذي سيأتي في ضابط الضمان، هذا بالنسبة للجناية على العين. ويضمن المنفعة والعين بالجناية مثل: شخص أخذ سيارة وانتفع بها شهراً، ثم بعد شهر ذهب ورماها في الوادي وأتلفها تماماً، فحينئذٍ يضمن أجرة الشهر ضماناً للمدة، ويضمن قيمة السيارة إذا لم يكن لها مثلي أو مثلها إذا كان لها مثلي؛ لأن يده أتلفت بالجناية، فحينئذٍ يضمن المنفعة ويضمن العين، هذا بالنسبة لضمان العين والمنفعة بالجناية. بالنسبة لضمان الجناية الأصل فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً، ومن أخذ عصا أخيه فليردها) فقوله: لا يأخذ أحدكم متاع أخيه جاداً ولا لاعباً، يقول بعض العلماء: أي: أنه يورث العداوة، فالشخص حينما يكون مع أخيه فيأخذ كتابه ويأخذ قلمه ويمنعه من القلم هذا يورث الشحناء ويورث البغضاء حتى ولو كان بالمزاح، وخاصة أن الشخص لا يمزح إلا إذا رأى أخاه بحاجة للكتاب، فهذا يورث نوعاً من الحقد ونوعاً من الضغينة؛ ولذلك أقفل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب ومنع منه فقال: (لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً، ومن أخذ عصا أخيه فليردها) فأوجب الرد، وأوجب الضمان في الأخذ والتصرف، فدل على أن من تصرف بالشيء فإنه يضمنه، قال الله عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) دل على أن ما فعله الإنسان واجترحه يضمنه، ويكون مرهوناً به فقوله: (رَهِينَةٌ) فعيلة بمعنى: مفعولة، أي: مرهونة. وبناء على ذلك: بينت الآية أن من اجترح أذية أخيه المسلم بإتلاف عين ماله أو تفويت منفعته أو مجموع الأمرين، فإنه يكون مرهوناً بذلك الشيء ويجب عليه ضمانه.

ضمان اليد

ضمان اليد ضمان اليد يكون الغاصب قد اغتصب الشيء ولم يتصرف فيه، فحينئذٍ نضمنه بيد الغصب وهي التي أخذت، أو حالت بين المالك وملكه. ويد الغصب تثبت على الشيء بضابط الغصب الذي تقدم معنا، وفي هذه الحالة الغاصب لا يتصرف في الشيء المغصوب، فيأخذ أرضاً ولا يتصرف فيها، أو يأخذ سيارة ولا يتصرف فيها ولا يحركها ولا ينقلها من مكانها، فإذا كان الغاصب قد اغتصب شيئاً ولم يتصرف فيه ولكن حال بينه وبين صاحبه، فقهره عليه وأخذه منه بالاستيلاء -وهذا ما تقدم معنا مما يسمى بالاستيلاء الحكمي- إذا لم يكن هناك نقل حيازة، فإنه في هذه الحالة يضمن المنفعة، ويضمن العين، ويضمن العين مع المنفعة. وتصوير ذلك: لو أن رجلاً اغتصب سيارة وأخذ مفاتيحها من مالكها، وقال له: إذا قربت السيارة أو أخذت السيارة أفعل بك وأفعل؟! فهدده ومنعه من السيارة واستولى عليها حكماً أو استولى عليها قهراً، فالسيارة أصبحت منتقلة من يد الملكية من صاحبها إلى يد الغصب لمن اغتصب. فلما غصبها ما تصرف في السيارة، ما فتحها ولا ركبها ولا تصرف فيها بشيء، فالسيارة تلفت في موضعها، بقيت -مثلاً- عشر سنوات ثم تعطلت تماماً وتلفت، فلم يتلفها الغاصب ولم يتلفها أجنبي ولم يتلفها المالك، وإنما التلف وقع بطبيعة الحال، أو نزلت عليها صاعقة من السماء فأحرقتها، المهم أنها لم تتلف بيد الغاصب ولا بتصرفه، ولا بأجنبي ولا بمالك. في هذه الحالة نقول: اغتصابه يوجب ضمانه، وهذا ما يسمى بيد الغاصب، ويد الغاصب يقول بها جمهور العلماء، أنه بمجرد قهره لأخيه المسلم وأخذه لماله والاستيلاء عليه حقيقة أم حكماً، حقيقة: كأن يحوزه ويأخذ منه القلم فيجعله عنده في جيبه، أو يضعه في حقيبته، أو يضعه في درجه أو في دولابه، هذا النقل. أو حكماً: يكون المغصوب في مكانه ولا يستطيع صاحبه أن يصل إليه بسببب منع الغاصب. في هذه الأحوال كلها يضمن الغاصب، مع أنه لم يكن هو الذي أتلف، فيضمن المنفعة، ويضمن العين، ويضمن كذلك العين مع المنفعة. الصورة الأولى: يضمن المنفعة، مثال ذلك: لو أخذ داراً فأخذ مفاتيحها ومنع صاحبها من الدخول والاستفادة منها، ومضى على هذا الغصب سنة، لم يدخل الدار ولم يتصرف فيها، فهذه الدار منعت سنة كاملة وهي بكامل أجزائها وكامل منافعها، فلما كملت السنة ردت الدار لصاحبها كاملة، فالعين كاملة، لكن تعطلت منفعتها سنة كاملة، فالذي اغتصبها يضمن المنفعة، وهذا مذهب الجمهور: يدفع أجرة الدار سنة كاملة. الصورة الثانية: أن يضمن باليد العين، كأن يأخذ مثلاً سيارة لشخص ويقهره عليها فيغتصبها، ثم تتلف السيارة مباشرة بعد الغصب ولو بدقيقة، فبمجرد غصب الغاصب للعين تدخل إلى ذمته، سواء تلفت بتصرفه أو بتصرف غيره فيده ضامنة، وهذا ما يسمى بضمان اليد، فيضمن السيارة ولو تلفت بآفة سماوية. كما لو أخذ مزرعة واغتصبها ولم يتصرف في المزرعة أبداً، وجاء إعصار بعد الغصب ولو بثانية وأحرقها، ضمن المزرعة كاملة، وهذا ضمان العين. الصورة الثالثة: الضمان بالنسبة للعين مع المنفعة، مثل: أن يغتصب سيارة سنة، ثم تلفت هذه السيارة، ولم يتصرف فيها ولم يتلفها فقد ضمن بيد الغصب منفعة السيارة سنة، فيدفع أجرة استغلال السيارة سنة، ويدفع قيمة السيارة ضماناً للعين على التفصيل الذي تقدم في ضمان العين. إذاً: ضمان اليد يكون للمنفعة ويكون للعين، ويكون للعين والمنفعة معاً. ما الدليل على مسألة ضمان اليد؟! لماذا نضمن الغاصب ونلزمه بدفع أجرة الشيء أي: (منفعته) ونلزمه بدفع قيمة العين إذا تلفت، ونلزمه بدفع الاثنين إذا حصل الموجب للضمان بهما؟!! الدليل على ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فدل على أن الغاصب بمجرد غصبه: (على اليد ما أخذت) بمجرد غصبه وقهره لأخيه المسلم واعتدائه على ماله فقد صار إلى ضمان حتى يؤديه. فمن اغتصب عيناً وفيها منفعة ألزمناه بدفع المنفعة، وذلك بدفع الأجرة، فألزمناه بضمان المنفعة بدفع أجرتها. ومن أخذ عيناً وتلفت بعد أخذه ألزمناه بردها؛ لأنه قد أخذها إما حقيقة أو حكماً. ومن أخذ العين وحبسها مدة فيها منفعة وعطّلها عن صاحبها ضمن الأمرين، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر برد الحق كاملاً، فمن ضيع المنفعة قلنا له: رد هذه المنفعة بأجرتها، ومن ضيع العين قلنا له: رد هذه العين بضمانها، ومن ضيع الأمرين وجب عليه ضمانهما معاً. ضمان اليد يقول به جمهور العلماء وينازع فيه الإمام أبو حنيفة رحمه الله وبعض أصحابه، والإمام أبو حنيفة عنده قاعدة، والحنفية رحمهم الله يقولون: ليس هناك في الغصب ضمان للمنفعة، ولا يرون ضمان المنافع. وسيأتي هذا معنا -إن شاء الله- ونبين شبهتهم ودليلهم والجواب عليه في المسألة التي سيذكرها المصنف بعد هذه المسألة.

حكم قلع المبني أو المزروع في الأرض المغصوبة

حكم قلع المبني أو المزروع في الأرض المغصوبة قال رحمه الله: [وإن بنى في الأرض أو غرس لزمه القلع]. (لزمه القلع) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لعرق ظالم حق). قال رحمه الله: [وأرش نقصها]. ينظر في الأرض بعد القلع إن نقصت قيمتها، يقال: ادفع الأرش، وهو الفرق بين قيمتها كاملة وقيمتها ناقصة. قال رحمه الله: [وتسويتها]. ويلزم بتسويتها، يعني: إعادتها على وضعها وردم الحفر وإعادتها؛ لأنه أخذها مستوية فيردها مستوية، ولا يترك الحفر فيها؛ لأن هذا يشوه الأرض ويضر بمصلحة المالك.

منافع الأعيان المغصوبة مضمونة

منافع الأعيان المغصوبة مضمونة قال رحمه الله: [والأجرة]. ويلزمه دفع أجرة الأرض، وهذا مبني على الأصل الذي ذكرناه من أن منافع الأعيان المغصوبة مضمونة، وخالف في هذه المسألة الحنفية وأشد ما يكون خلافهم في العقارات، فالأرض عندهم أصل ما يثبت عليها غصب. يقولون: عندنا مالك وعندنا مملوك، فالأشياء إما أن تكون مالكة وإما أن تكون مملوكة، فالأرض التي غصبت مملوكة، فالشخص إذا جاء وأخذ الأرض قهراً فإنه لا يعتبر غاصباً لها؛ لأن هناك شيئاً يسمى التعدي بالتصرف، وهناك التعدي بدون تصرف، وهناك ما يجمع الأمرين، فإذا جاء الشخص وأخذ الشيء فقط ولم يتصرف فيه فإنه في هذه الحالة لا يكون غاصباً حقيقة؛ لأن الغصب عندهم يستقر بإزالة يد المالك عن الشيء، والعقار لا يمكن نقله ولا يمكن إزالة يد مالكه عنه؛ ولذلك لا يرون حقيقة الغصب تنطبق على العقارات في الأرض، سواء غرست أو بنيت، فلا يلزمون بدفع الأجرة؛ لأنهم لا يرون أن منافعه تضمن. وعندهم دليلان: الدليل الأول: يقولون: إن المنافع ليست بمال، وإنما تضمن الأموال وما في حكمها، والمنافع ليست بأموال عند الحنفية، ولكن عند الجمهور أنها أموال بدليل: أن الدار تؤجر وتسكن بمائة ألف -مثلاً- تدفع لقاء السكن، والدابة أو السيارة تركبها؛ فمنفعتها تدفع لقاءها مائة ريال أو خمسين ريالاً، إذاً: معنى ذلك: أن السكنى والركوب والمنافع لها قيمة، وتعتبر من جنس الأموال من هذا الوجه. الدليل الثاني: قالوا: عندما يأتي الشخص ويغتصب هذه العمارة ويأخذها، فإنه عند سكنى العمارة شهراً كاملاً -التي هي مدة الغصب- تكون جميع منافعها ومصالحها تحت ضمان الغاصب، والذي يتحمل مسئوليتها الغاصب، فمن حقه أن ينتفع، ومن حقه أن يغصب هذه المنافع، حتى زوائد المغصوب لا يدفعها ولا يضمنها، وهذا أصل عند الحنفية رحمهم الله، وهذا ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فألزم بضمان الشيء الذي أخذ، وقد أخذ المنفعة فيلزمه رد قيمتها؛ لأنه يتعذر رد المنافع بمثلها، فيلزم بدفع قيمتها وضمانها بالقيمة، وكذلك أيضاً يتعذر رد المنافع بأعيانها؛ لأن سكنى الدار شهراً ذهبت ولا تستطيع أن تردها. فما هي كالعين ترد! ولذلك لا يمكن رد المنافع بأعيانها، ولا يمكن رد المنافع بمثلها؛ لأنه ليس هناك دار مثل هذه الدار من كل الوجوه، فمثلاً: لو أنه اغتصب داراً في وسط المدينة، فإنه إذا وجد الدار في وسط المدينة لا يمكن أن يجد داراً في نفس المكان وبنفس الصفات، ولابد أن تكون مثلية؛ لأن المثلية يشترط فيها المساواة من كل الوجوه. وبناء على ذلك: لا يصح أن يقال: إن المنافع تضمن بالمثل، فتعذر وجود المثلي وتعذر رد عين المنافع، وتعذر رد المثل فوجب ضمانها بالقيمة؛ ولذلك إذا عطّل عليه منافعه ومنعه من سكنى الدار سواء استغل أو لم يستغل فإنه يلزم بضمانها.

حكم من غصب جارحا أو عبدا أو فرسا

حكم من غصب جارحاً أو عبداً أو فرساً قال رحمه الله: [ولو غصب جارحاً أو عبداً أو فرساً فحصل بذلك صيداً فلمالكها]. قوله: (ولو غصب جارحاً) غصب الجارح يشمل: الكلب المعلم، والطيور الجوارح مثل: الصقر والباز والشواهين والباشق ونحوها من جوارح الطير. فالجوارح المعلمة سواء كانت من الطيور أو كانت من السباع العادية، إذا اغتصبه وأخذه وصاد به فللعلماء في ذلك وجهان: قال بعض العلماء: إذا أخذ الكلب وصاد به ملك الغاصب الصيد ورد الكلب. وقال بعض العلماء: بل إن الصيد يكون ملكاً لصاحب الكلب، وهذا هو الصحيح الذي اختاره المصنف رحمه الله، والحنابلة والشافعية على هذا، أنه إذا اغتصب جارحاً فإن صيده يكون للمالك؛ وذلك لأن الجارح هو الذي أخذ الصيد، وأخذه وهو ملك لصاحبه، والشرع أحل لصاحبه المنفعة وأن ينتفع بذلك الكلب ويرتفق به. لكن أصحاب القول الأول قالوا: إن الجارح من حيث الأصل لا يملك؛ فليست هناك يد وإنما له يد على المنفعة، فإذا اغتصبه حينئذٍ لا يكون هناك ملك لصاحب اليد الأصلية، فيبقى الانتفاع للغاصب وليس للمغصوب منه. والصحيح: أن الصيد يكون للمغصوب منه. وقوله: (أو عبداً). أو غصب عبداً، فصاد هذ العبد وحصلت منه المنفعة، فإنه يكون ملكاً للمغصوب منه وليس للغاصب. وقوله: (أو فرساً). وهكذا الفرس لو أنه ارتفق به وانتفع، فإنه يضمن، وهذه المسألة تعرف بمنافع المغصوب، ومنافع المغصوب يمثل لها بالحيوانات، ويمثل لها بالعقارات؛ لأن الحيوان إما أن يكون آدمياً أو غير آدمي، فمثل لغير الآدمي بالجارح، ومثل للآدمي بالعبد، ومثل لغير المنقول بالعقار وهو الدار، ومثل للحيوان بالفرس. فأصبح إما أن يكون حيواناً يملك منفعته، وإما أن يكون حيواناً يملك ذاته، وإما أن يكون آدمياً بالنسبة للمنافع، ومنافع الحيوانات إما أن تكون منفعة من حيوان لا تملك ذاته كالأسد والكلب، ولكن تملك منفعته: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4] فإنه تملك منفعة الصيد به، ولذلك الكلب لا تملك عينه، وإذا أتلفه الغير فلا يضمن قيمة الكلب كما ذكرنا؛ لأن الشرع أسقط الثمن أو القيمة في الكلب، ففي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثمن الكلب سحت). فإذاً: غصب الحيوان يشمل الآدمي وغير الآدمي؛ فإن كان آدمياً مثل له بالعبد، وإن كان غير آدمي فإما أن يكون حيواناً تملك ذاته ومثل له بالفرس، فالمنفعة تابعة لملكية الذات، أو يكون حيواناً لا تملك ذاته ومثل له بالجارح، فهذا التمثيل المراد به التقسيم ببيان التنظير في أصل المسألة في ملكية المنافع. وقوله: (فحصل بذلك صيد فلمالكه). يعني: من الكلب أو العبد بأن صاد له، أو ركب الفرس وصاد عليه، ففي هذه الأحوال كلها المنافع تكون ملكاً للمالك الأصلي للمنفعة أو المالك للرقبة مع منافعها على التفصيل الذي ذكرناه.

الأسئلة

الأسئلة

انتقال العقد عند الحنفية من غصب إلى مزارعة

انتقال العقد عند الحنفية من غصب إلى مزارعة Q في قول الحنفية رحمهم الله: إذا كانت الأرض معدة للزراعة ينتقل العقد إلى عقد مزارعة بين المالك والغاصب، ما هي صورة عقد المزارعة بينهما؟ A تنتقل المسألة من الغصب ومن صورة الاعتداء -لأنهم لا يرون الغصب في العقارات- إلى المزارعة، فنقول في هذه الأرض: هذا المكان إذا دفعت لشخص لكي يزرعها، كم يتفق أهل الأراضي في ذلك الموضع؟ مثال: لو كانت الأرض قريبة من المدن وأعطيت لشخص لزراعتها، فيعطاها على أن له النصف ولصاحب الأرض نصفها، فتكون مشاطرة بين الطرفين، فيقال: فهذه الأرض -المغصوبة- تأخذ حكم الأراضي الموجودة حولها، فيكون نصف الزرع -مثلاً- للمالك، ونصف الزرع للذي غصبها، فالنتاج لصاحب الأرض وللغاصب، هذا إذا كانت الأرض يزارع عليها في مكانها ومحلها بهذا القدر. وبعض الأحيان يؤثر الشيء المزروع، فمثلاً: هناك مزارع يقع فيها عقد المزارعة؛ لأن عقد المزارعة يكون فيها العامل للبذر، فيبذر الأرض ويقوم عليها ويستصلحها ثم يشاركه صاحب الأرض في الإنتاج، فيكون صاحب الأرض قد قدم الأرض وقدم الماء الموجود فيها، ويكون العامل -الذي هو المزارع- قد دخل بالبذر وبالعمل، وهذا قدمناه وذكرناه حينما تعرضنا لمسألة المساقاة والمزارعة. فالشراكة الآن بين العامل وبين رب الأرض، وهنا الشراكة بين الغاصب وبين رب الأرض، وفي بعض الأحيان يكون التأثير بحسب الزرع المزروع، فالمنطقة التي فيها الأرض المغصوبة أو المأخوذة إذا زرع فيها -مثلاً- الشعير، جرى العرف عند أهلها أن تكون ثلاثة أرباع للمالك وربع للعامل. نقول: إذاً: للغاصب الربع ولمالك الأرض ثلاثة أرباع. ولو زرعت ذرة وجرى العرف في ذلك الموضع أن يأخذ العامل ثلثين، والثلث لرب الأرض، نقول: الثلثان للغاصب والثلث لرب الأرض، فيقاس على هذا، فيحددون المزارعة وقدرها على حسب العرف، لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، فهم يرون كأنهما اشترطا ودخلا العقد على هذا على حسب العرف بذلك، فننصف الطرفين ونعطي هذا حقه بالعرف، ونعطي مالك الأرض أيضاً قدره من المزارعة بالعرف، والله تعالى أعلم.

حكم صلاة العيد في الأودية

حكم صلاة العيد في الأودية Q يقول السائل: نحن نسكن في قرية تحيط بها الجبال، ولا يوجد مصلى للعيد إلا في وادي السيل، وقيل لنا: أن الصلاة لا تصح في الوادي، فهل هذا صحيح؟ وهل نترك الوادي ونصلي في الجامع، مع العلم أننا نخشى مداهمة السيل أو نحوه؟ A أما في الحقيقة من حيث الأصل فالسنة الصلاة في البراري والصحراء، لكن لو صليتم في الوادي فالصلاة صحيحة، ولا أعرف أحداً من أهل العلم يقول: إن الصلاة داخل الوادي باطلة، والله يقول عن مكة: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم:37] يعني: مكة التي هي قبلة المسلمين كلها في وادي، ولا أحد يقول: إن الصلاة في الوادي باطلة. لكن هل نطلب السنة على وجه يعرض أرواح الناس للخطر، في الأزمنة التي يغلب على الظن فيها وجود المطر في المنطقة أو حول المنطقة التي هي مراوي الوادي، لأن مشكلة الوادي وهذا معروف بالاستقراء والتتبع وقول أهل الخبرة ربما تكون مراوي الوادي على بعد مائتين كيلو. فالذي يظهر أنه لا يجوز تعريض أرواح الناس لمثل هذا. وأما إذا كان في زمان يغلب على الظن عدم وجود السيل، ويغلب على الظن عدم وجود الضرر فالأمر فيه أخف إن شاء الله، أما الصلاة -إن شاء الله- صحيحة، والله تعالى أعلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم.

حكم زراعة شخص في أرض شريكه دون إذن

حكم زراعة شخص في أرض شريكه دون إذن Q من زرع دون إذن شريكه، هل له أحكام الغاصب وذلك في الشق الذي لشريكه؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذه المسألة أفتى فيها بعض أهل العلم رحمهم الله: أنه إذا زرع في نصيب شريكه مكن الشريك من الزراعة في نصيبه عوضاً، فيقال له: ازرع لمدة ثلاثة أشهر، ويقال لشريكه: إذا فرغ تأخذ أنت أيضاً أرضه وتزرع وتأخذ كما أخذ. وهذا إنما يتأتى في حال استواء الأرضين، كما لو كانت الأرض بينهما مناصفة، وكانت القسمة قسمة مهايأة بين الشريكين وكلا الأرضين بصفات واحدة حيث يكون هناك عدل بين الطرفين. وهناك وجه لبعض العلماء رحمهم الله أنه ينزل الشريك منزلة الغاصب ويعتبره في حكم الغاصب، فإذا زرع وحصد ضمن أجرة الأرض مدة زراعته. فعلى الوجه الأول يمكن المظلوم من أخذ حقه بالزراعة، وعلى الوجه الثاني يمكن من أخذ حقه عن طريق المعاوضة بالإجارة، والله تعالى أعلم.

معنى النقص المستقر

معنى النقص المستقر Q قال الشارح رحمه الله في مسألة أرش النقص: (وكذا كل عين مغصوبة على الغاصب ضمان نقصها إذا كان نقصاً مستقراً) فما معنى قوله: مستقراً؟ A النقص ينقسم إلى صور، في بعض الأحيان يبقى ويؤثر في المالية ويؤثر في القيمة، وبعض الأحيان لا يبقى، فمثلاً: لو أنه أخذ العبد فمرض العبد ونقصت قيمته، ثم لما رده رده وقد شفي. أخذ منه فرساً، والفرس صحيح سوي، فمكث عند الغاصب ثلاثة أشهر، في الشهر الأول مرض وهذا نقص، لكنه غير مستقر؛ لأنه لما دخل في الشهر الثاني شفي، فرجع إلى حالته، ففي هذه الحالة لا يكون مضموناً ولا يلزم بدفع النقص؛ لأنه عاد على حالته والنقص الذي حدث عارض، فالعوارض التي لا تستقر ولا تثبت وليست بمؤثرة لا بالضمان في الأعيان ولا بالضمان في المنافع، والله تعالى أعلم.

قاعدة الغالب كالمحقق

قاعدة الغالب كالمحقق Q لو منع الغاصب المالك أن يزرع أرضه، فكيف يكون ضمان الغاصب، إذ لا ندري لو زرع المالك هل ستخرج ثمرته أم تفسد؟ A طبعاً هذا ليس بوارد من وجوه: أولاً: أنه إذا منعه من الزراعة فالقهر موجود، وصفة الغصب موجودة من جهة الاعتداء على أموال الناس، فيتحمل مسئولية هذا الاعتداء. ثانياً: قولك: نحن لا ندري هل يخرج الزرع أو لا، القاعدة في الشريعة أن الحكم للغالب، فالأرض أرض زراعية، والبذر موجود، والزمن زمن زراعة، فما هو الغالب؟! فالغالب أن يخرج الزرع. ولذلك تقول القاعدة -وهذه فائدة استخدام القواعد وتعملها-: إن الغالب كالمحقق، والحكم للغالب، والنادر لا حكم له، تقول: الغالب أن الأرض تخرج زرعها فيضمن له ذلك ولا عبرة بالنادر وكونه يحتمل أنها ما تخرج لا نعمل به، بل نعمل الغالب ونحكم بأنه ضامن لهذه الأرض هذه المدة، وعلى هذا يلزم بالضمان. الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله قرر في كتابه النفيس: قواعد الأحكام ومصالح الأنام مسألة الظنون الضعيفة، وقال: إن الشريعة تبني على الظن الراجح، وأكثر مسائل الشريعة على الظنون الراجحة، يعني: على غلبة الظن، والظنون الضعيفة -من حيث الأصل- والاحتمالات الضعيفة لا يلتفت إليها ألبتة. يقول رحمه الله: إذ لو ذهبنا نعمل مثل هذه الظنون الفاسدة لما استقامت الشريعة؛ لأننا إذا عملنا بهذه الظنون الفاسدة نقول: يحتمل أنها ما تخرج يحتمل تخرج! ولو أننا أعملنا بالاحتمال الضعيف ما بقي شيء، فأنت في أعظم الأشياء: الصلاة، التي هي ركن الإسلام وعموده، ويقف المسلم بين يدي ربه بالظنون؛ لأنه يستقبل القبلة بغالب الظن، فهو إن توجه إلى جهة القبلة هل هو قاطع 100% أنه على جهة القبلة؟! بل بغالب الظن. وإذا جاء وتوضأ هل هو يقطع 100% أنه على وضوئه؟ ربما دخله الشك أنه خرج منه شيء ولم يخرج، فالظنون الفاسدة لا يلتفت إليها. في الصيام لو جاء ورأى آثار مغيب الشمس هل يقطع 100% أنها غابت؟ لا يمكن، ففي بعض الأحيان لا يستطيع أن يقطع. وحينما تأتي لعالم وتسأله عن مسألة اجتهادية ويفيتك، فالغالب صوابه، وغلبة الظن حينما تراه إنساناً يوثق بدينه وعلمه وقد شهد له أهل العلم بأنه أهل لهذا العلم الذي يفتي فيه في العقيدة أو في الحديث أو في الفقه وفي المسائل والأحكام، وجئت تسأله في شيء بينك وبين الله عز وجل وتتعبد لله عز وجل، فقد يكون الشيخ مخطئاً، فيستحل الرجل وطء زوجته بغلبة الظن، ويقول له: لا، الطلاق ما وقع، فيحتمل أنه وقع، ويحتمل أن الشيخ أخطأ، لكن هذه الظنون كلها لا يلتفت إليها ولا يعتد بها، والحكم في الشرع لغالب الظن أنه مادام على علم وبصيرة والله وصف أمثال هؤلاء فقال: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ} [النساء:162] فوصفهم برسوخ العلم، وقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] ورد إليهم بغلبة الظن بصوابهم. ومن هنا كانت أحكام الشريعة والتعبد الله سبحانه وتعالى بغلبة الظن. فإذا جئنا للحقوق وفصل الحقوق ومقاطع الحقوق بين الخصمين نحكم فيها بغالب الظن إن لم نكن على يقين وقطع؛ لأن الله تعبدنا بهذا الغالب. وبهذا الغالب يمكننا أن نصل إلى حق كل ذي حق فنأمر من أخذ الحق برده، ونقول: إن هذه الأرض مادامت قد تهيأت للأسباب وهي صالحة للزرع فإنها تكون في حكم الأرض المزروعة، والله تعالى أعلم.

باب الغصب [4]

شرح زاد المستقنع - باب الغصب [4] المغصوب عند رده له ثلاث حالات: إما أن يرد وتكون فيه زيادة، أو يرد ويكون فيه نقص، أو يرد وتكون فيه زيادة من وجه ونقص من وجه آخر، وقد فصلت الشريعة كل هذه الحالات بأحكامها حتى لا يظلم أحد أحداً، وألزمت بإعطاء كل ذي حق حقه ولو كان ظالماً.

أحوال زيادة المغصوب ونقصانه

أحوال زيادة المغصوب ونقصانه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى وآله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإن ضرب المصوغ، ونسج الغزل، وقصر الثوب أو صبغه ونجر الخشب ونحوه، أو صار الحب زرعاً، أو البيضة فرخاً، والنوى غرساً رده، وأرش نقصه ولا شيء للغاصب، ويلزمه ضمان نقصه]. المغصوب له حالتان: الحالة الأولى: أن يرده الغاصب كما أخذه، دون زيادة أو نقصان، وفي هذه الحالة يكون صاحب الحق قد وصل إليه حقه كاملاً، إلا أنه يجب على الغاصب أن يضمن أجرة المغصوب إن كانت هناك منفعة منعها من الشيء المغصوب، وبينا هذا فيما تقدم. وبناء على هذا: يبقى Q إذا تصرف الغاصب في الشيء المغصوب؟ أو أن هذا المغصوب زاد من نفسه، أو نقص، أو تلف بعضه بآفة سماوية أو نحو ذلك؟ فالعلماء رحمهم الله يجعلون هذه المسألة تحت عنوان: زيادة المغصوب ونقصانه. فإذا زاد المغصوب أو نقص فله حالتان: الحالة الأولى: أن تكون الزيادة والنقصان قد نشأ كل منهما من الشخص الغاصب، فيزيد الشيء المغصوب بفعل من الغاصب، أو ينقص الشيء المغصوب بفعل من الغاصب، وحينئذٍ تكون يد الغاصب يداً معتدية في حال النقص، ويداً متفضلة في حال الزيادة. الحالة الثانية: أن تكون الزيادة والنقصان من المغصوب نفسه، فالمغصوب بنفسه نقص أو تلف بعضه كما لو أن شخصاً اغتصب طعاماً وأخذه من صاحبه، فتلف بعض الطعام وبقي بعضه وكان التلف من نفس الطعام، أو اغتصب عصيراً فصار العصير خمراً -والعياذ بالله- بسبب المدة، وهذا من نفس العصير؛ لأنه إذا طالت عليه المدة تخمر، فحينئذٍ حصل النقص من الشيء المغصوب. وقد تكون الزيادة من الشيء المغصوب أيضاً، مثل: ما لو أن هذا المغصوب أخذه الغاصب في حالة سيئة، ثم تحسنت حالته، كأن يكون مريضاً ثم شفي من مرضه دون أن يكون الغاصب قد عالجه أو سعى في علاجه، أو يكون العبد مجنوناً -كما في القديم- ثم أفاق من جنونه دون فعل من الغاصب، وحينئذٍ هذا الشيء الذي هو الزيادة والتحسن وقعت بفضل الله عز وجل وليس للغاصب فيها أثر. إذاً: عندنا مسألة أحوال الزيادة والنقص، وعندنا أحوال التغير التي هي الزيادة في المغصوب أو النقص، وعندنا منشأ هذا التغير، وهو أن يكون ناشئاًَ من العين المغصوبة، أو يكون ناشئاً من الغاصب. فالمصنف رحمه الله ذكر هذه المسائل، وفي الحقيقة كل من الزيادة والنقص ينقسم إلى أقسام: تارة تكون الزيادة والنقص في الذات، وتارة في المنفعة، وتارة في الصفة. فتزيد الذات وتزيد المنفعة، أو تنقص الذات وتنقص المنفعة، أو تزيد الصفات أو تنقص، هذه كلها أحوال للزيادة والنقص، فإن حدثت في العين المغصوبة زيادة فإما أن تكون في ذاتها، مثل: ما لو ولدت الغنم وتكاثرت، فهذه زيادة في ذات الغنم. أو تكون الزيادة في منفعة العين المغصوبة مثل: ما لو كانت العين المغصوبة على صفة وتصرف الغاصب فيها، فأصبحت تصلح للاستغلال في أكثر من شيء، كأن تكون السيارة للركوب فقط، ثم يتصرف فيها بطريقة ما فتصبح للركوب وللحمل عليها، فحينئذٍ زادت منافعها. وتارة تكون الزيادة في الصفة، مثل: ما كان في القديم يغصب رقيقاً، ويكون الرقيق جاهلاً فيعلمه، فإذا علمه صنعة تكون حينئذٍ الزيادة في الصفة، أو يغتصب إبلاً أو بقراً أو غنماً وهي مريضة فيردها صحيحة، أو يأخذها صحيحة ويردها مريضة، إذاً: النقص والزيادة في الصفات. وتكون الزيادة والنقص في القيمة، فيغتصبه سيارة وقيمتها أثناء الغصب عشرة آلاف ريال، ثم يرخص سعرها فتصبح بثمانية آلاف ريال، فهذا نقص في السوق والقيمة. أو يغتصبه أرضاً أو عمارة قيمتها مليوناً ثم تصبح قيمتها نصف المليون أو العكس، يأخذها وقيمتها مائة ألف ثم يردها وقيمتها مائتا ألف، فهذه زيادة القيمة ونقصها. فهذه أربعة أحوال في الزيادة والنقص؛ الذات، المنفعة، الصفات، القيمة. كل هذا تمهيد لما سيذكره المصنف رحمه الله من المسائل، فإما أن تكون العين المغصوبة زائدة أو ناقصة، وإذا زادت أو نقصت فإما من الغاصب وإما من غير الغاصب، ثم أحوال الزيادة والنقص إما في ذات العين المغصوبة أو منافعها أو قيمتها أو في صفاتها، هذه كلها أمثلة سيذكرها المصنف تدور حول هذه الضوابط التي ذكرناها.

حكم زيادة شيء في المغصوب يمكن فصله

حكم زيادة شيء في المغصوب يمكن فصله وقوله: (ولا شيء للغاصب (. فلو قال الغاصب: إني تكلفت في ضرب المصوغ، وتكلفت في نسج الغزل، وتكلفت في زرع الحب والنوى، وتكلفت في نجر الخشب، نقول: يدك يد اعتداء فلا يضمن لك فعلك؛ لأنه واقع في غير موقعه وغير مأذون به شرعاً، ولا تستحق عليه؛ لأنه لو قلنا باستحقاقه فمعناه أن غصبه صحيح؛ ولذلك يصف العلماء رحمهم الله يده بأنها يد عادية، ويسمونها اليد العادية، واليد العادية لا تستحق أن يضمن لها ما فعلت إلا إذا زادت أعياناً يمكن فصلها عن الشيء المغصوب، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له طالب العلم. إذا غصب شخص شيئاً وأدخل على الشيء المغصوب أعياناً يمكن فصلها ففي هذه الحالة الأعيان ملك للغاصب، ونقول للغاصب: خذ حقك ورد للناس حقوقهم، وما يمكن أن نقول له مثل المغصوب: خذ مالك وخذ مال غيرك؛ لأن الله لم يجعل له سلطاناً على مال أخيه. فنقول: الغاصب يرد ما اغتصبه، ثم بعد ذلك نقول للغاصب: خذ ما أحدثته من الزيادات التي يمكن فصلها عن العين المغصوبة، هذه المسألة خاصة خارجة عما نحن فيه، نحن نتكلم على الزيادات التي لا يمكن فصلها، فإن الحب إذا صار زرعاً والنوى إذا صار غرساً لا يمكنك أن ترد الغرس إلى نوى، ولا يمكن أن ترد الزرع إلى حالته الأولى حبوباً. فحينئذٍ نقول: يضمن له عين المغصوب ويضمن له النقص المترتب على فعله.

حكم البيض المغصوب إذا صار فرخا

حكم البيض المغصوب إذا صار فرخاً وقوله: (أو البيضة فرخاً). تفريخ البيض يحتاج إلى كلفة، ويحتاج إلى مؤونة وعمل، ولربما تكون الكلفة لها قيمة وهي إجارة من يقوم بتفريخ البيض، فلو اغتصب عدداً من البيض ثم استأجر من يفرخه أو قام بتفريخه، فهذا التفريخ قد يستحق مائة ريال مثلاً، على حسب عدد البيض. فنقول: ترده أفراخاً؛ لأن صاحب البيض مالك للبيض وما نشأ منه وكونه أفراخاً؛ لأن الفرع تابع لأصله، فلما ملك البيض ملك منفعته أو ما ينشأ عنه مما يتفرع عليه، فالفرع تابع لأصله والفرخ تابع لأصله البيض، فمالك البيض مالك للأفراخ. وثانياً: نقول له: تضمن النقص الذي ترتب على تفريخ هذا البيض. ولو قال: أريد مؤنتي وتعبي حينما نجرت الخشب ونسجت الغزل وفرخت البيض، نقول: ليس لك منه شيء؛ لأنك فعلت شيئاً لم تؤمر به، فلم يأمرك أحد أن تفرخ البيض أو تنجر الخشب أو تقصر الثوب، بل تصرفت بها من عند نفسك في يد عادية. واليد العادية يعني: المعتدية؛ لأن يده على الشيء ليست بيد حق وإنما هي يد عادية، لكن لو كانت يد حق لأثبتنا له حقه وضمن له ذلك الحق في تصرفه في الأعيان.

حكم من صير النوى المغصوب غرسا

حكم من صير النوى المغصوب غرساً وقوله: (والنوى غرساً). لو صار النوى غرساً، النوى من التمر والرطب ممكن أن تستفيد منه في أكثر من منفعة، وممكن أن يؤخذ النوى علفاً للدواب، فتسمن وتنتفع، وممكن أن يزرع، فالنوى فيه أكثر من منفعة. فإذا صرفه إلى منفعة الزرع فقد خصه ببعض المنافع، فنقول: تكون العين المغصوبة ملكاً لصاحبها، وما نشأ عنها تابع لها، فهذا الغرس تابع للنوى المغصوبة، فيكون ملكاً لصاحبه، هذا الحكم الأول. وثانياً: يجب عليه ضمان النقص بعد تقدير ما حدث من نقص بسبب هذا التصرف. وقوله: [رده وأرش نقصه]. (رده) في هذه الحالة يرد جميع الأعيان المغصوبة، وما تفرع عنها، فيرد الدنانير المضروبة والدراهم، ويرد النسيج، ويرد المنجور من الخشب، ويرد الزرع، ويرد النوى الذي صار نخلاً، والحب الذي صار زرعاً؛ يرده لأنه فرع تابع لأصله المغصوب. وثانياً: يلزمه ضمان النقص على التفصيل الذي ذكرناه.

حكم ضرب الذهب المغصوب

حكم ضرب الذهب المغصوب فقوله: (وإن ضرب المصوغ). أولاً: المصوغ يكون من الذهب والفضة، والذهب والفضة إما أن يكونا سبائك، وإما أن يكونا حلياً، وإما أن يكونا نقداً مضروباً؛ إن كان من الذهب فدنانير، وإن كان من الفضة فدراهم. فالذهب فيه منفعة الحلي، فيمكن أن يصاغ حلياً كالأسورة والقلائد، وفيه منفعة النقد فيكون ثمناً للأشياء كالدنانير، وفي زماننا الجنيهات، وإما يكون سبائك موضوعة من أجل غلاء السوق أو نقصه أو يجعلها الإنسان عنده بحيث يتصرف بها عند الحاجة، والفضة كذلك تكون سبيكة وتكون خاماً وتكون أيضاً حلياً، وتكون دراهم مضروبة. في حالة ما إذا غصب ذهباً أو فضة فإما أن يأخذها سبائك أو حلياً ويردها مضروبة أو العكس. والعلماء رحمهم الله لما قالوا: وإن ضرب المصوغ، دائماً نقول: ليس المهم المثال، المهم قاعدة المثال، فالذهب منه القلائد والأسورة والخواتيم، وفي الحقيقة فيه منفعة اللبس، وفيه زيادة الصنعة؛ لأن صنعته تكلف وجعله أسورة وقلائد وخواتم يكلف على الشخص، لأنه يحتاج إلى قيمة للصنعة، فإذا كان مصوغاً يمكن للمرأة صاحبة الذهب أن تتحلى به، وهذه منفعة، وممكن أن تصوغه وتضربه دراهم إذا كان فضة أو تضربه دنانير إذا كان ذهباً. لكن بالعكس، لو كان دراهم وأرادت أن تحوله حلياً فإن منفعة الدراهم قاصرة، لأنها في البيع والشراء، والأخذ والعطاء، ما يمكن للمرأة أن تتجمل بالدراهم، لكن بالنسبة للحلي تتجمل به ويمكن أن تضربه فيكون عملة سواء كان ذهباً أو فضة. ففي حالة ما إذا أخذه حلياً ثم صاغه وضربه دراهم أو دنانير فحينئذٍ نقصت المنفعة الموجودة فيه؛ لأن المنفعة الموجودة فيه بالحلي أتم وأكمل مما لو كان دراهم أو دنانير، فإذا أخذه وهو حلي وعبث به فصيره دنانير أو دراهم فقد أنقص منه الصنعة وكلفتها، وأنقص منه المنفعة. وعلى هذا اختلف العلماء، بعض من أهل العلم يقول: إذا أخذ الذهب أو الفضة وتصرف فيهما بأي تصرف بنقص أو زيادة فإنه يرد عين المغصوب، زائداً أو ناقصاً ولا نطالبه بالضمان. ومن أهل العلم من قال: إذا ضرب المصوغ دنانير أو دراهم فنطالبه برده إلى ما كان عليه، فيرد المغصوب على حالته التي كان عليها أو قريباً منها إذا تعذر عليه المثلية. ومنهم من قال: يرده ويضمن النقص الموجود، فمثلاً: لو كان حلياً وهذا الحلي كله أسورة، فأخذ كيلو غرام من الذهب كله حلي، وصاغه وصهره وصيره جنيهات، قالوا: نسأل الصاغة: لو أردنا أن نصير الكيلو الذهب مصاغاً وأسورة مثل ما كانت كم يكلف؟ قالوا: يكلف كل سوار خمسة ريالات مثلاً، وهي عشرة أسورة، فحينئذٍ استحق خمسين ريالاً، فقالوا: يرد المصوغ ويرد النقص الذي حدث بسبب التغير، فيضمنونه مغصوب، ويضمنونه النقص للمنافع، وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمه الله. قالوا: لأنه ظلم صاحب المصوغ ففوت عليه منفعة المصوغ، ويجب عليه رد العين، فنطالبه بالأمرين: نطالبه أن يرد الذهب، إذا كان كيلو غرام فإنه يرده على حالته مهما بلغ من الدنانير المضروبة من الذهب، أو الدراهم المضروبة من الفضة، ونطالبه بدفع القيمة لكلفة الصنعة. وفي هذه الحالة يُشكل على هذا القول مسألة الربا؛ لأنه حينما غصب ذهباً وجب عليه أن يرد المثل وزناً بوزن، ويداً بيد، فإذا طالبناه بالفضل، فضل الصنعة، كان هذا نوع من المبادلة مع الفضل والزيادة، ولذلك قال بعض العلماء رحمه الله: لا يستقيم أن يطالب بالزيادة من هذا الوجه. ومما يدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الفضل في التماثل بين الذهب بالذهب والفضة بالفضة في الصنعة والجودة، بدليل حديث التمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتي بتمر جيد قال عليه الصلاة والسلام: (أكل تمر خيبر مثل هذا؟ قالوا: لا، والله يا رسول الله! إنا نبيع الصاع من هذا -يعني: الجيد- بالصاعين من الرديء، فقال عليه الصلاة والسلام: أوه عين الربا رده، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً) الحديث. قالوا: فأسقط الجودة في لقاء الربوي بالربوي، وأوجب التماثل بغض النظر عن كون أحدهما جيداً والآخر رديئاً، وقد قررنا هذا في باب الربا والصرف، وبينا أن عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب) يقتضي التماثل بغض النظر عن الجودة في الصنعة، وبغض النظر عن الجودة في نفس الذهب معيار (21) و (24)، بينا هذا، وقلنا: إن مذهب السلف الصالح رحمهم الله على هذا بدليل قصة ابن عمر مع الصائغ، حينما قال: إني أبيع المصاغ وأستفضل -يعني: إذا بادلت بالذهب- قدر الصنعة والتعب، فنهاه ابن عمر واستدل بعموم الحديث. وهذا يدل على أن السلف من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان كانوا يفهمون العموم على ظاهره. فإذا ثبت هذا فإنه إذا رد الذهب بالذهب على القول الأول: لا يرد إلا عين المغصوب سواء نقصت منافعه أو زادت، قالوا: لا نضمنه ذلك النقص. ما هو جواب المصنف رحمه الله؟ وما هو جواب الحنابلة رحمهم الله عن هذا الإشكال؟!! بينا أنهم يقولون: يجب ضمان الصنعة، وهذا الضمان للصنعة يوجب أن يتحقق التفاضل، والله فرض علينا في مبادلة الذهب بالذهب التماثل، فردوا رحمهم الله -ويوافقهم على ذلك بعض الشافعية- فقالوا: إن هذا ليس من باب المبادلة والبيع، وإنما هو من باب الضمانات، والضمانات خارجة عن قاعدة الربا وليس لها علاقة؛ لأنه هو ما بادل الذهب بذهب، بل هذا عين الذهب الذي اغتصب، وهذا ضمان للتصرف في المغصوب، فلا توجد مبادلة، ومن الذي قال: إنه يبادل الذهب بذهب؟ وهذا الجواب سديد وصواب إن شاء الله؛ لأنه لم يبادل ذهباً من غير الذهب الذي أخذه، وإنما رد عين المأخوذ وليس فيه مبادلة حتى يرد إشكال الربويات في المسألة التي ذكروها. ولا شك وأرى فيما ظهر والله أعلم أن هذا القول من القوة بمكان؛ لأن الله تعالى قال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126]، وأوجب الله عز وجل ورسوله ضمان الحقوق لأهلها. فهذا الذي أخذ الذهب وتصرف فيه إذا رده وهو ناقص فإنه لم يرد الحق لصاحبه تاماً كاملاً، فنقول له: عليك أن ترد عين المغصوب ويلزمك أن ترد حق الزيادة التي انتقصتها بفعلك. ثم إن هذا الرجل الذي اغتصب الذهب تصرف، ونؤاخذه بتصرفه، فإيجاب الضمان عليه على ما فعله من ضرب المصوغ إنما هو إلزامه بما فعل وجنت يداه، ومؤاخذة الجاني بجنايته تدل عليه الأصول الشرعية وتقرره، ولذلك لا شك ولا إشكال -إن شاء الله- في رد المصوغ مع ضمان النقص الحاصل بسبب الضرب.

حكم نسج الغاصب للغزل بعد غصبه

حكم نسج الغاصب للغزل بعد غصبه وقوله: (ونسج الغزل). المسألة الثانية: مسألة نسج الغزل. المسألة الأولى: ينبغي أن ننبه على قضية وهي: إذا كان المضروب نقص وألزمناه بضمان النقص يرد Q لو أنه زاد فأصبح المصوغ بعد ضربه أفضل وأتم وأكمل مما لو كان مصوغاً؟ في الحقيقة بعض العلماء يذكر هذا وإن كان محل إشكال؛ لأن الحلي لا يشك أن منفعة الحلي مع وجود الصنعة أكبر، ولذلك اقتصرنا في الشرح على ما ذكرناه على أنه نقص وليس بزيادة. وقوله: (نسج الغزل) الشيء المغزول إذا أراد الإنسان أن يتصرف فيه فينسجه، وربما يأخذه ويتصرف فيه فيجعله رداءً أو لحافاً، فمن حيث الأصل: الشيء المغزول يمكن أن ينتفع به في أكثر من منفعة، ويمكن أن يصرف في أكثر من وجهة، فإذا أخذه وصرفه على وجهة معينة فقد عطل المنافع التي كانت فيه أولاً. وهذا مذهب بعض العلماء رحمهم الله: أن نسج الغزل يعتبر من إنقاص العين المغصوبة وليس من زيادتها، وبعض العلماء يقول: الزيادة، ويجعل نسجه -يعني: قيامه بالنسيج- كلفة وتعباً، وفي هذه الحالة يقول: استغل مادة الغزل واستفاد منها وجعل منها فائدة، وجعل لها قيمة، فمن هنا يكون المغصوب قد زاد، لم ينقص. والأول أظهر من جهة المنفعة، والثاني أظهر من جهة الصفة، فهناك فرق بين الصفة وبين المنفعة، إذا جئنا ننظر إلى أن الشيء وهو خام حينما تأخذ خام الصوف أو خام الوبر وتريد أن تصرفه لأكثر من جهة فأنت بالخيار بين أكثر من منفعة، فيمكن أن تصرفه إلى منفعة الملبوسات، ويمكن أن تصرفه إلى منفعة الفرش والبسط، فالمنافع فيه وهو خام أكثر وأتم إذا كان منسوجاً أو كان قد صرفه الغاصب إلى جهة معينة من المنافع. ومن جهة الصفة كونه أصبح منسوجاً لا شك أنه تكلفه الصنعة، وتحتاج منه إلى مال، خاصة إذا استأجر من يقوم بذلك، فهذه زيادة. فهي نقص من وجه، وزيادة من وجه آخر. وعلى هذا: إن شئت جعلت من زيادة المنفعة، وإن شئت جعلته من زيادة الذات ومن زيادة صفة الذات، وإن شئت جعلته من نقص المنافع. والثاني أظهر وهو: أنه من نقص المنافع لأن صاحب الصوف ربما أراده لشيء غير الشيء الذي فعله الغاصب، وعلى هذا يكون أضيق، ويكون في هذه الحالة ضامناً للنقص، فنقول له: يلزمك دفع هذا الشيء الذي نسجته، فيعطيه المغصوب منه بعينه. ثم ننظر ما الذي حدث من النقص؟ فلو كانت قيمته وهو غزل يساوي خمسين ألفاً في السوق، وبعد أن نسجه أصبحت قيمته أربعين ألفاً؛ لزمه ضمان النقص، ويرد الشيء المغصوب مع ضمان نقصه. وأيضاً لو كان زائداً فإنه يرده ولا يطالب بأجرة الصنعة والعمل، فلو أن هذا الشيء الذي نسجه كانت قيمته قبل أن يتصرف فيه مائة، وبعد أن تصرف فيه فأحدث فيه الصنعة كلفته الصنعة خمسين ريالاً فأصبح يباع بمائة وخمسين، فقال: أريد أن يضمن حقي؛ نقول: ليس لعرق ظالم حق. وعلى هذا: يسقط استحقاقه في هذه المنفعة ولا يضمن له كما سيأتي إن شاء الله في نص المصنف رحمه الله على هذه المسألة.

حكم تقصير الغاصب للثوب المغصوب أو صبغه

حكم تقصير الغاصب للثوب المغصوب أو صبغه وقوله: [وقصر الثوب أو صبغه]. يكون مفصلاً ويكون غير مفصل، والعرب تسمي غير المفصل ثوباً مثل: الإحرام، فالإحرام إذا ائتزرت به في أسفل البدن، وجعلت الثاني رداء على كتفيك قيل: ثوبان، ويقال: إن هذا ثوب وهذا ثوب، فالملبوس ثوب، إذا لم يكن مفصلاً له اسمه الخاص كالقميص ونحوه. فالثوب إذا كان مفصلاً فإن منفعته أكمل، لكن إذا أخذ منه وقصره وحوره فإن هذا ينقص منفعة الثوب ويضر بمصلحته، وحينئذٍ يكون النقص للذات، لاحظ أن الأمثلة الأولى فيها نقص للمنفعة ولكن تقصير الثوب في بعض الأحيان قد يقص من الثوب شيئاً، كما لو كان للثوب كمان طويلان وقص هذين الكمين نقص، وهكذا لو كان الثوب كاملاً سابغاً إلى أنصاف الساقين فقصه فصار في حكم القميص فهذا نقص. ففي هذه الحالة تصرفه في الثوب في قصارته نقص في ذاته، فلما فرغ من نقص المنافع شرع في نقص الذوات، فقال في هذه الحالة: لو أخذ من الشخص ثوباً وتصرف فيه فقصره وحوره ونقصت قيمته بالنصف، فإننا نطالبه برد الثوب ونطالبه برد النقص الذي وقع في القيمة بسبب تصرفه. ولو سأل سائل: ما الدليل على ذلك؟ نقول: نطالبه برد المغصوب؛ لأنه ملك لصاحبه وهو عين الثوب. ونطالبه بضمان النقص؛ لأنه من جناية يده، وقد أخذ الشيء كاملاً فرده ناقصاً، والله أوجب المعاقبة بالمثل ولا مثلية إلا بضمان النقص. فنقول: عليه أن يرد الثوب مع ضمان أرش النقص.

حكم نجر الغاصب للخشب المغصوب

حكم نجر الغاصب للخشب المغصوب وقوله: (ونجر الخشب ونحوه). في زماننا الآن الألواح الموجودة في الخشب، أو الأوصال التي تأتي شبه مادة خامة، ممكن أن يأخذ الألواح ويجعلها دواليب، أو يجعلها مكاتب، أو يجعلها في أسطحة المنازل، أو يجعلها في أكثر من منفعة، فهي كمادة خام تصلح لأكثر من منفعة. فلو أنه أخذها ونجرها ووضعها مثلاً في نجارتها كطاولات أو أبواب أو نوافذ حتى تستغل في هذه المنفعة فقد أنقص المنافع الموجودة في العين. فإذاً قد تقرأ قوله: (نجر الخشب) ما هو نجر الخشب؟ العلماء يريدون أصل المسألة وهي مسألة المنافع، أن الغاصب إذا اغتصب شيئاً فأنقص منافعه وجب عليه ضمان ذلك النقص، فإذا نظرت إلى ألواح الخشب بمنافعها التامة بعد نجارتها قد انتقصت فيجب علينا أن نقدر ذلك النقص بالرجوع إلى أهل الخبرة ونلزمه ضمانه، وهذا من العدل الذي أمر الله به ورسوله عليه الصلاة والسلام وقامت عليه السموات والأرض، هذا فعله وهذه جنايته. فنقول: رد الخشب بحاله منجوراً، ثم اضمن ذلك النقص الذي ترتب على فعلك، فيجب عليه أن يضمنه ويرده على صاحبه.

حكم الحب المغصوب إذا صار زرعا

حكم الحب المغصوب إذا صار زرعاً وقوله: (أو صار الحب زرعاً). وهنا إذا نظرنا إلى الحب نجد فيه أكثر من منفعة، ممكن للحب أن يطحن ويصير دقيقاً ثم بعد ذلك يكون فيه من المنافع الكثير، وممكن للحب أن يعطى للدواب فتغتذي به، وممكن للحب أن يغرس ويزرع. فلما يأتي ويضعه في الزرع يكون حينئذٍ حده في منفعة من تلك المنافع، وصيره إلى منفعة قد لا ترغب فيها ولا تحب هذه المنفعة، فنقول: إنه يصير ملكاً لصاحبه الذي هو المغصوب منه ثم يجب عليه ضمان النقص على الأصل الذي قررناه.

حكم خصي الغاصب للعبد المغصوب

حكم خصي الغاصب للعبد المغصوب قال رحمه الله: [وإن خصى الرقيق رده مع قيمته]. في الأمثلة الأولى أكثرها يمكن أن نجعلها تابعة لنقص المنافع على التفصيل الذي ذكرناه. وفي قوله: (وإن خصى الرقيق) هذا نقص للذات ونقص للمنفعة، نقص لذات المغصوب ونقص لمنفعته، فالخصاء من حيث الأصل الشرعي يقع على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون للآدميين. الصورة الثانية: أن يكون للبهائم. أما للآدميين فجماهير أهل العلم على تحريمه، ولا يجوز خصاء الآدمي؛ لأن الله سبحانه وتعالى خلقه من أجل النسل والتكاثر ويخلف بعضه بعضاً، فجعله في الأرض خليفة أي: أن آدم وذريته يستخلف بعضهم بعضاً، ويبقى هذا النسل لعمارة الكون بذكر الله عز وجل، وفي الخصاء تعطيل لهذا المقصود، وكذلك فيه إضرار بالآدمي؛ لأن الخصاء تعذيب وفيه تغيير للخلقة، ولذلك ذكره الله عز وجل من الأفعال المحرمة التي يسولها الشيطان للعصاة من بني آدم؛ فيأمرهم فيبتك آذان الأنعام ويأمرهم بتغيير خلق الله، ويأمرهم بالتصرف في هذه الذوات البشرية بإخراجها عن طبيعتها التي فطرها الله عز وجل عليها: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] لا يجوز أن يبدل خلق الله. وفي الحديث: (لعن صلى الله عليه وسلم الواشرة والمستوشرة، والواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)، فجعل العلة تغيير خلقة الله عز وجل، ومن لعنه الله لم يبق شيء في الأرض ولا في السماء إلا لعنه، ومن لعن طرد من رحمة الله، والطرد مراتب، فهناك لعنة تطرد صاحبها طرداً أبدياً فيختم على قلبه والعياذ بالله، وهي لعنة الكفر، ولعنة الكافرين -نسأل الله السلامة والعافية- التي يختم بها على أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم فهم صم بكم عمي. وهناك لعنات المعاصي في كبائر الذنوب وتتفاوت بحسب درجات الكبائر، فبعضها أشد من بعض على حسب ما حرم الله عز وجل مما يقع فيه الإنسان من كبائر. فالتغيير للخلقة له هذا الوعيد الشديد، واللعن من الله سبحانه وتعالى، فالأصل يقتضي عدم جواز التصرف في الآدمي بخصائه. ومن هنا يحرم إجراء العمليات الجراحية التي تؤدي إلى قطع النسل، وتؤدي إلى تعطيل منفعة الذرية والمنفعة التي يجدها الإنسان من التكاثر والنسل، ومنفعة الجماع والاستمتاع؛ إلا إذا وجدت الضرورة، مثل: الأورام الخبيثة التي يخشى بها ضرر البدن كله، فهذه تستثنى، أما من حيث الأصل فلا يجوز استئصال هذه الأعضاء. ومن هنا حرمت جراحة تغيير الجنس كلها؛ لأنها تغيير لخلقة الله عز وجل دون وجود دوافع توجب الإذن الشرعي لفعلها. فثبت أن الخصاء للآدمي لا يجوز، وحكى عليه غير واحد بالإجماع، وكانوا في القديم يفعلونه في الأرقاء ويعتبر من أسوأ العادات وأشنعها، ويعتبر من المظالم التي كان يظلم بها الأرقاء، كانوا يخصونهم خوفاً على الأعراض، لكنه -والحمد لله- انقرض وذهب لما فيه من تغيير خلقة الله عز وجل، والاعتداء على حرمة الآدمي. أما خصاء البهائم ففيه منفعة من جهة تطييب اللحم، وللعلماء فيه خلاف مشهور، بعض العلماء يقول: يجوز خصاء البهائم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين مقرونين موجوئين، والموجوء هو: الخصي. وقالوا: إنه في الأضاحي يطيب اللحم، فهو نقص من وجه وكمال من وجه آخر. وقال بعض العلماء: لا يجوز الخصاء؛ لأن هناك فرقاً بين الذي يحصل اتفاقاً وبين الذي يحصل قسراً، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أضحيته وجد الخصي أطيب لحماً -والأضحية تراد للحمها- فاشتراه، ولا يدل هذا على الإذن، والحقيقة أن القول بالجواز فيه قوة، وخاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى به، ولكن الشبهة موجودة. فإذا ثبت هذا؛ فإنه إذا خصى الرقيق فإنه يعطل منافعه؛ لأنه يتكاثر، ومن مصلحة المالك وجود هذا التكاثر، فهو تعطيل للمنفعة. وهذه المسألة مهمة وهي: أن الاعتداء على الأعضاء وتعطيل منافعها بالكلية يوجب ضمانها، فمن اعتدى على إنسان عمداً فشلّ يده -والعياذ بالله-، فإنه يضمن نصف ديته، ولو أنه عطل ما كان متعدداً كاليدين والرجلين تقسم الدية على حسب أعداده، وهذا سيأتينا -إن شاء الله- في كتاب الديات. فالأذنان في كل أذن نصف الدية، والعينان في كل عين نصف دية، ثم أجفان العين الأربعة يكون لكل جفن ربع دية، فبالاعتداء من الغاصب على الرقيق بخصائه عطل منفعة عضو كامل، ولذلك يفسد عليه جماعه ويفسد المنفعة المترتبة على الجماع. وعلى هذا: لو اعتدى شخص على آخر فضربه ضربة على خصيته وأضرت به وأماتت الخصيتين وجب أن يدفع الدية كاملة، ويلزمه ضمان الدية كاملة. في هذه الحالة نقول: اعتداؤه بالخصاء فوت منفعة هذا العضو وعطلها بالكلية فيجب ضمانها تامة كاملة، وهذا بالقيمة، فيضمن قيمته كاملة. وهناك خلاف في الاعتداء على الأرقاء، بعض العلماء يقولون: يضمنون بالديات نصف دية الحر، وبعضهم قال: يضمنون بالقيمة، وهذا مما يسمى بقياس الشبه، وقياس الشبه هو: أن يتردد الفرع المختلف فيه بين أصلين مختلفين في الحكم، كل منهما يوجد فيه شبه منه، فأنت إذا نظرت إلى الرقيق تجده آدمياً، فهذا يوجب إلحاقه بالحر فيجب أن يدفع نصف ديته إذا قتله، وتضمن منافعه بنصف ما في الحر، فلو كانت الدية مائة ألف وأتلف خصيته يدفع خمسين ألفاً، التي هي الدية الكاملة للرقيق. القول الثاني: يقول: لا، يضمن بالقيمة، ففي بعض الأحيان تكون قيمة الرقيق ضعفي دية الحر، لأن فيه منافع، ويباع -مثلاً- بمائتي ألف، فلو أنه أضر به وعطل عضوه التناسلي يدفع قيمته كاملة. فإذاً: يتردد بين الأصلين، هل نلحقه بالحر من جهة الآدمية فنوجب ضمانه كاملاً بالنسبة للديات، ويكون على الوجه المعروف؟ أم نلحقه بالأموال ونوجب ضمانه بالقيمة؟ وجهان سيأتي -إن شاء الله- بيانهما في باب الجنايات. فالذي يهمنا هنا أننا نقول للغاصب: عطلت منفعة لعضو كامل، وعطلته من صار كأنه غير موجود، فيجب عليك ضمان قيمة الرقيق بالغة ما بلغت، ويجب عليك رد الرقيق بحالته الناقصة.

حكم ضمان نقص سعر السوق

حكم ضمان نقص سعر السوق قال رحمه الله: [وما نقص بسعر لم يضمن]. تقدم في الأمثلة الأولى النقص في المنافع وفي الذوات، وانظر إلى قوله: (وإن خصى الرقيق) فجاء بجملة منفصلة عن الجملة المتقدمة؛ لأنه بإخصاء الرقيق صار اعتداء على الذوات، وبعض العلماء يرى أنه اعتداء على المنافع، فإذا جئت تنظر إلى أن العضو تعطل فلا ينتشر ولا يجامع فيكون نقصاً للذات، وإذا جئت تنظر إلى المنفعة المترتبة من الجماع يكون نقص منفعة، وأياً ما كان فقوله: (وإن خصى الرقيق) هذا للذات، ويبقى السؤال للنوع الثالث من النقص والزيادة وهو: السعر، فقضية نقص السعر ترجع إلى السوق، ويرجع فيها إلى أهل الخبرة، فقيمة الشيء المغصوب إذا نقصت أو زادت فيها الضمان، فإذا أخذ المغصوب وقيمته ناقصة ورده وقيمته كاملة فإنه يرده على حاله. مثلاً: لو أخذ شيئاً قيمته مائة ألف، ولما أراد أن يرده أصبح يساوي مائة وخمسين، فإنه يرده بحاله ولا يرد له المالك الخمسين، ولا يضمن له الخمسين. لكن لو أخذه وقيمته مائة، ورده وقيمته خمسون فإنه لا يضمن الغاصب؛ لأن هذا النقص ليس بيده وليس ناشئاً من تصرفه وليس له به علاقة، بل هو راجع إلى تقدير الله عز وجل وأمره سبحانه وتعالى. وهنا تكاد تكون المسألة إجماعية، أنه ما يضمن نقص السوق، إلا أن فيها شذوذاً وخلافاً حكي عن أبي ثور الفقيه المشهور إبراهيم بن خالد بن يزيد الكلبي -وكان شافعياً ثم أصبح صاحب مذهب واجتهاد وهو الذي يقول فيه الإمام أحمد رحمه الله: (أعرفه بالسنة منذ ثلاثين عاماً) فكان إماماً رحمه الله في الفقه والعلم والعمل- فهنا الإمام يرى أنه إذا نقص في السوق فإنه يدفع ويلزمه الضمان، بناء على هذا القول الضعيف الشاذ: لو أخذ السيارة وقيمتها خمسون ألفاً، ولما ردها بعد سنة أصبحت قيمتها خمسة وعشرين ألفاً فيردها مع خمسة وعشرين ألفاً، ويضمن النقص، ولكن الصحيح أنه لا يضمن نقص السوق. فإذاً: أصبح عندنا نقص الذوات مضمون، ونقص المنافع مضمون، ونقص السوق والسعر غير مضمون، على أصح قولي العلماء رحمهم الله.

حكم ضمان النقص بمرض

حكم ضمان النقص بمرض قال رحمه الله: [ولا بمرض عاد ببرئه]. هذا نقص الصفات. صورة المسألة: أخذ دواب وهي مريضة، كأن يغتصب إبلاً أو بقراً أو غنماً وهي مريضة، ثم ردها وهي صحيحة قد عوفيت وشفاها الله عز وجل، فلا يضمن المغصوب منه الزيادة، وكذلك لو أنه أخذها وهي سليمة صحيحة -وهي صورة المسألة التي معنا- ومرضت عنده ثم شفيت، فردها وهي صحيحة فلا ضمان عليه، فلو اغتصب خمسين رأساً من الإبل، وهي سليمة وبعد شهر ظهر فيها الجرب -والعياذ بالله- فأصبحت مريضة وردها مجروبة فحينئذٍ تقدر قيمتها وهي صحيحة، وتقدر قيمتها وهي جرباء ويدفع ويلزمه ضمان النقص، فلو أخذها وهي سليمة وردها ونصفها مريض، نقول: هذا المريض يرجع إلى أهل الخبرة فينظرون في النقص الحادث في هذا النصف، فنسألهم: كم قيمته؟ قالوا: خمسون ألف ريال. نقول له: رد الإبل المريضة بحالها وهي مريضة وادفع ضمان النقص. إذاً: لو أخذ الصحيحة وردها مريضة ضمن نقص المرض منها، ولو كان المرض من غير يده، لأن بعض الأمراض تأتي بسببه هو، وبعض الأمراض لا يتدخل فيها، فسواء تعاطى السببية فاعتدى أو لم يتعاط السببية فإنه يضمن، لو سألك سائل وقال لك: أنا أسلم لك أنه لو تسبب في مرضها مثل: أن يسقيها ماءً ملوثاً فمرضت بهذا الماء، فهذه سببية فإن قصد فهو عدوان، وإن لم يقصد فهو خطأ موجب للضمان؛ لأن السببية نوعان: سببية اعتداء، وسببية خطأ، فسببية الاعتداء أن يقصد أنها تمرض، فحينئذٍ لا إشكال أنه يضمن، يقول لك: أنا أقبل منك أنه لو وضع لها ما يتسبب في مرضها أنه يضمن، لكن لو أنها مرضت من الله سبحانه وتعالى، وجاءها المرض قضاء وقدراً، وماؤها طيب، ومرعاها طيب، ومرضت؛ فحينئذٍ لماذا نضمنه؟! تقول: من باب اليد العادية؛ لأن الضمان يكون بالتعدي ويكون باليد ويكون بالإفضاء، هذه كلها وجوه للضمان، فتضمنه من جهة اليد، إذا كان ما له دخل في الشيء، تقول: لأنه لما اغتصب صارت يده يد عدوان، ويد العدوان تضمن تسببت أو لم تتسبب. يقول لك: كيف وجه ذلك؟ تقول: لأنه لما اعتدت يده وأخذها وهي سليمة صحيحة فإن الله ألزمه في ذمته أن يردها صحيحة سليمة، فإذا نقصت وأصابها الضرر -ولو كان قضاء وقدراً- فإنه لم يرد الكامل كاملاً، وإنما رده ناقصاً فلم يرد المثل، فيجب عليه الضمان بيده التي اعتدت والتي يسميها العلماء: اليد العادية؛ لأنه بالغصب صار متحملاً للمسئولية. وعلى هذا: يجب عليه ضمان النقص في الصفات ولو لم يكن له تسبب. لاحظ في الأول -وهو النقص إذا كان في المنافع- الغالب أنه يفعل شيئاً ويتدخل، فيجعل المصوغ مضروباً، ويجعل النوى غرساً، والحب زرعاً، فهذا يتعاطى الفعل، لكن هنا في الصفات كثير منها قد يكون له تدخل منه، لكن كثيراً ما تكون الصفات من غير فعل منه.

ضمان النقص في العبد بعد تعليمه

ضمان النقص في العبد بعد تعليمه قال رحمه الله: [وإن عاد بتعليم صنعة ضمن النقص]. وهذه المسألة صورتها: أن ينقص الشيء المغصوب من وجه ويزيد من وجه آخر، فمثلاً: غصب رقيقاً، وعندما غصبه كان سليماً، فمرض عنده، نقول: يضمن النقص العارض بالمرض، فلو كان هذا النقص يوجب عليه ضماناً يقدر بخمسين ريالاً، حيث أخذه وقيمته مائة وهو صحيح، ورده مريضاً بنقص خمسين، تقول: يرده ومعه خمسون ريالاً. فلو أنه علم الرقيق صنعة، وهذه الصنعة زادت في قيمته خمسين ريالاً، فهو نقص من وجه وزيادة من وجه آخر، نقول: نجعلها بالمكافأة، فنجعل الخمسين بالنقص مقابل الخمسين بالزيادة؟ A فيه تفصيل، إن كانت الزيادة من جنس النقص كافأت، وإن كانت الزيادة من غير جنس النقص لم تكافئ؛ لأنه ثبت استحقاق صاحب المغصوب لضمان نقصه بالمرض، والتعليم خارج عن المرض، فالتعليم شيء والمرض شيء آخر. وعلى هذا: يكون عليه ضمان النقص، وأما الزيادة فلم يأمره أحد بتعليمه، وعلى هذا: الزيادة التي أدخلها من عند نفسه لا يكون له فيها استحقاق؛ لأنه لم يأمره أحد بهذا التعليم، فليست هناك مقابلة ومكافأة. لكن لو كانت الزيادة من جنس التعليم كما لو أخذه وهو متعلم لصنعة، ثم نسي هذه الصنعة، فأخذه وشغله في أعمال أخرى مجانسة لهذه الصنعة، فتعلم فيها جانباً من جنس الجانب الذي كان يتقنه أولاً ونسيه، فحينئذٍ نقول: إن هذا التعليم لما كان مقارباً لجنس الأول لم يكن النقص من كل وجه، فيمكنه أن يعارض ويكافئ، لكن في المرض لا، فالمرض مع التعليم جنسان مختلفان فلا يتكافئان ولا يتقابلان.

حكم الزيادة في العبد المغصوب ثم النقصان

حكم الزيادة في العبد المغصوب ثم النقصان قال رحمه الله: [وإن تعلم أو سمن فزادت قيمته ثم نسي أو هزل فنقصت ضمن الزيادة]. في الأول كانت الأمثلة كلها من جهة تصرفات الغاصب، وهنا الضمان يكون باليد العادية، فنضمن الغاصب من جهة اعتدائه، فلو أخذ المغصوب مريضاً ثم شفي عنده، ثم عاد مريضاً مرة ثانية، فرده مريضاً، نقول: لما شفي ويده يد عدوان ثبت عليه المغصوب كاملاً؛ لأن كل دقيقة وكل لحظة يقوم فيها الغصب فالخطاب متوجه عليه أن يرده، فلما سلم وعوفي وشفي توجه عليه خطاب الله عز وجل برد الحقوق إلى أصحابها فامتنع فأصبحت يده متحملة للمسئولية لو نقص، كما لو أخذه صحيحاً ثم مرض عنده، فإذا أخذه مريضاً ثم شفي عنده ثم عاوده المرض يجب عليه ضمان النقص العارض بالمرض. كذلك أيضاً: لو أخذه هزيلاً ثم أطعمه وحسن حاله وأصبحت صفاته كاملة بالسمن ونحوه، فعاد مرة ثانية وقصر فيه حتى أصبح هزيلاً، فرده هزيلاً نقول: اضمن النقص العارض بالهزال، وعلى هذا: يكون التضمين من جهة اليد العادية مركباً من أن الغاصب مطالب شرعاً برد المغصوب، فكل تأخير يوجب عليه الضمان. ومن أمثلة هذه المسألة في الودائع وما تقدم معنا في الوكيل، إذا أمر برد الشيء وقصر فيه وتأخر فهذا إهمال يوجب أن تنتقل يد الأمانة إلى يد الضمان والاعتداء، فإذا قصد ذلك صار معتدياً، وإذا قصر وأهمل صار مهملاً فيلزم بالضمان، وهذا هو الذي يؤثر في اليد، فاليد يد معتدية، والغاصب يده معتدية. ففقه المسألة: أنه إذا تحسنت حال المغصوب فإنها حال كمال، فيجب عليه أن يرده، فلما قصر وتأخر في الرد ضمن ذلك النقص الذي وقع عنده وتحت يده وتكون يده يد ضمان من هذا الوجه. قال رحمه الله: [ضمن الزيادة كما لو عادت من غير جنس الأول]. كما لو أنه أخذه وهو صحيح ثم مرض عنده وعلمه صنعة تكافئ المرض، فقد رده بزيادة من غير جنس الأول؛ لأن جنس الأول: الصحة، والزيادة: علم الصنعة، وعلم الصنعة ليس من جنس الصحة، فالصحة باب خاص والعلم باب خاص. فإذاً: نقول: يجب عليه ضمان النقص الذي حدث في حال اغتصابه للعين. قال رحمه الله: [ومن جنسها لا يضمن إلا أكثرهما]. صورة المسألة في هذا: لو أنه أخذ المغصوب وهذا المغصوب يتقن صنعة، ثم علمه صنعة ثانية من جنس الصنعة نفسها في النجارة أو الحدادة أو الكهرباء أو السباكة، فلما علمه إياها نسي الصنعة الأولى، فبالصنعة الأولى تكون قيمة الرقيق مائة ألف، وبالصنعة الثانية التي علمه إياها تبقى قيمة الرقيق كما هي، ويباع بمائة ألف. فليس هناك من نقص، فالصفة -وهي العلم- كاملة، بمعنى: الجنس واحد وليس هناك تأثير في العين المغصوبة، لكن لو أنه اغتصبه وهو يتقن صنعة ثم علمه صنعة ثانية وجعله يعمل فيها فنسي الصنعة الأولى التي هي من جنسها، وكانت الصنعة الثانية أقل، فصارت قيمته ثمانين ألفاً، وبالصنعة الأولى تكون قيمته مائة، فيضمن العشرين وهي النقص. فإذاً: إذا جئنا نقابل ونكافئ النقص الموجود بالزيادة الحادثة فإنه ينظر إلى اتحاد الجنس، فإن اختلف الجنس لم تؤثر الزيادة في النقص، ويجب ضمان النقص ورد العين زائدة دون دفع شيء للغاصب. أما إذا كانت الزيادة من جنس الشيء الناقص فإنه في هذه الحالة ينظر: فإما أن تساوي أو تكون أكثر أو تكون أقل، فإذا كانت مساوية فلا إشكال، وإن كانت أقل ضمن النقص، وإن كانت أكثر رده بالزيادة، هذا بالنسبة لقوله: (إلا أكثرهما).

الأسئلة

الأسئلة

حكم تنازل المغصوب منه عن حقه

حكم تنازل المغصوب منه عن حقه Q إذا صرف الغاصب الشيء المغصوب في منفعة أرادها المالك فما الحكم في ذلك؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: إذا تصرف الغاصب ورضي المغصوب منه عن تصرفه وأقره فهذه المسألة تأتي على صور عديدة، ومن أشهرها: أن تنتقل إلى مسألة الصلح، ويرضى المغصوب منه بما فعله الغاصب على سبيل الصلح والمعاوضة، خاصة إذا كانت هناك زيادات توجب المقابلة، بحيث يجعل حقه مقابل ما أحدثه الغاصب. أما من حيث الأصل الشرعي إذا رضي المغصوب منه تصرف الغاصب فقد سقط استحقاقه، أي: في هذه الحالة إذا قال: رضيت وما فعله أقبله، ولا أريد أن يدفع لي زيادة، فقد سقط استحقاقه. أخذ دواباً قيمتها -مثلاً- خمسون ألف ريال، وردها ناقصة مريضة قد أصبحت قيمتها ثلاثين ألفاً، فقيل له: ما حقك؟ قال: ما أريد شيئاً وأنا راضٍ بهذا التصرف، وتنازل عن حقه وأبرأه، فلا إشكال. فنحن نتكلم عن الأصل، أن الأصل يوجب الضمان لكن إذا رضي المغصوب منه وأقر فعل الغاصب، أو -مثلاً- ضرب المصوغ فرضي المغصوب منه وقال: أريد مضروباً، فحينئذٍ لا إشكال، فهو لا يريد أن يطالب بحق في ذلك، والتصرف الذي في ماله مقبول عنده، فيسقط استحقاقه بالرضا، والله تعالى أعلم.

أسباب ضعف الهمة في طلب العلم

أسباب ضعف الهمة في طلب العلم Q ما نصيحتك لمن يفتر عن طلب العلم ولا يصبر على مكابدة مسائله، وكيف تقوى الهمة في طلب العلم؟ A ضعف الهمة في طلب العلم له أسباب، أعظمها وأخطرها وأشدها: سوء النية وتغير الطوية، فالله تعالى يقول في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] فالعلم فيه حجة، فلربما دخل طالب العلم وقلبه لله، فإذا وجد حلاوة العلم ولذته؛ لأن للعلم حلاوة وله لذة وكرامة وأنس، ومن ذاق لذة العلم نسي كل لذة سواها، ومن خاض بحور العلم وخاض في هذه العلوم المستفادة والمستقاة من نور الكتاب والسنة ألهته عن كل شيء، وكان العلماء رحمهم الله يتحدثون بما وهبهم الله من فضله. ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (جنتي في صدري)، فالعلم جنة لا يعرف حلاوتها ولا لذتها ولا بركتها ولا خيرها إلا من وفقه الله عز وجل، فأتم عليه النعمة وكملها، أسأل الله العظيم بمنه وكرمه أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل. فإذا وجد لذة العلم وأحس أن الله علمه وأنه قد ارتقى عن مستوى الجهل ربما اغتر، وظن أن له من الحول والقوة والذكاء والحفظ ما مكنه من ذلك، فإذا غير ما بنفسه غير الله ما به، فسلبه الله حوله وسلبه قوته، وأصابه بالخذلان والفتور. النية هي التي تؤثر في همة طالب العلم، والنية هي الوقود الصالح الذي تتقد به القلوب وتشتعل بنور الإيمان حتى تتعلق بالله سبحانه وتعالى في كل كلمة وفي كل حرف، فلا تشتكي سآمة ولا مللاً. ولذلك نجد السلف الصالح رحمهم الله لما كانت نيتهم خالصة لله عز وجل -نحسبهم ولا نزكيهم على الله عز وجل- تغربوا عن الأوطان، وفارقوا الأهل والولدان، وحصل لهم من المشاق والمتاعب ما الله به عليم، وكان الرجل ينتظر الحديث الواحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي نجده اليوم من أسهل ما يكون مدوناً في الكتب، كان الرجل يجلس على طعامه ولم يفطر يوماً وهو في شدة الجوع فإذا جلس يهيئ طعامه بنفسه، قيل له: إن الشيخ الفلاني له مجلس في مسجد كذا يريد أن يحدث، فيترك طعامه وينطلق إلى الشيخ، وهو جائع ولكن الله يطعمه، وهو في شدة الإعياء ولكن الله يمده بحوله وقوته، جنة في الصدور تنسي الإنسان السآمة والملل والتعب والنصب. منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا، فتجد طالب العلم له الهمة الصادقة والإخلاص، ومن صدق مع الله صدق الله معه. أما الأمر الثاني الذي يؤثر في طالب العلم: الجهل بحقيقة هذا العلم، ومن عرف هذا العلم ومكانته عند الله سبحانه وتعالى وعاقبته المحمودة في الدنيا والآخرة؛ هان عليه كل شيء، وبذل كل ما يستطيع لبلوغ هذه المنزلة الكريمة، والدرجة الشريفة المنيفة، وهو يسأل الله صباح مساء أن يكون من أهلها، إذا عرف حق العلم وقدره لن يسأم ولن ينصب ولن يشتكي التعب ولا السآمة ولا الملل؛ ولذلك قال الله عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] ما رضي الله سبحانه بشيء يقرنه بأحب الأشياء إليه وأعظمها زلفى لديه وهو الإيمان به سبحانه وتوحيده الذي أنزل من أجله كتبه وأرسل من أجله رسله إلا العلم فقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] فقرنه بالإيمان. ثم قرنه بالإيمان في الثواب والعاقبة، وهذا من أفضل ما يكون وأجل ما يكون، لأنه لو قرن العلم بالإيمان من الجهة العامة على سبيل الإطلاق والعموم فليس كقرنه من جهة الثواب؛ لأن المقصود الأعظم من الأعمال والأقوال والطاعات: ثوابها وعاقبتها وجزاؤها؛ لأن العبد ينتظر من الله حسن الجزاء، فإذا قرن الله أعظم الأشياء عنده وأجلها وأكرمها عليه بالعلم دلّ على أن العلم في منزلة عظيمة، ومرتبة شريفة كريمة. ولذلك وقف الهدهد بين يدي سليمان عليه السلام الذي ما على وجه الأرض يومها أحد أكرم على الله منه، فوقف أمامه وهو طائر، ولكن بسبب العلم تشرَّف أن يقول له: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22] فللعلم مكانة ومنزلة، تبوأ بها صاحبه المنزلة الكريمة في الدنيا والآخرة. إذا أردت شرف العلم وعرفت ماذا يريد الله بهذا العلم جعلك الله عز وجل في همة كاملة، لا تسأم ولا تحس بالسآمة ولا الملل متى ما عرفت شرف ما تطلب. إن الذي تطلبه أحبه الله عز وجل وشرّفه وكرّمه، وأحب أهله وجعلهم من خيرة خلقه، فقال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلّمه) أحب الله العلم وشرّفه وكرّمه، فاختار أهله في أشرف المواطن وأحبها وأعزها عنده سبحانه وتعالى بعد التوحيد وهي الصلاة، فلا يتقدم لإمامة الناس إلا عالم، فقال صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) انظر كيف النبي صلى الله عليه وسلم يشرّف أهل العلم، فجعلهم بين الناس وبين ربهم في الإمامة التي هي المقام الشريف والمنصب المنيف، فيكون بين العباد وبين ربهم مؤتمناً على أركان الصلاة وشرائطها وواجباتها, فهو شرف عظيم فيتحمل حتى سهو المأموم، كذلك أيضاً شرف الله العلم ورفع قدر أهله إذا تكلموا به, ففي يوم الجمعة من تكلم وقال لأخيه: أنصت فقد لغى. ومن شرفه: أنه إذا تكلم بعلم أمر الله غيره أن ينصتوا, فلذلك تأتي الملائكة يوم الجمعة على أبواب المساجد ويكتبون من بكّر وابتكر, حتى إذا قام الخطيب يخطب طووا الصحف وأنصتوا, أنصتوا للعالم الرباني الذي يتكلم عن علم وبصيرة. ومن شرف العلم: أن الناس تنتظر من يدلها على الله ويهديها إلى صراطه, الناس أموات لا يمكن أن يحيوا إلا بالعلم, والناس في ظلام لا يمكن أن يهتدوا إلا بالله عز وجل ثم بالعلماء الذين هم ورثة الأنبياء, والناس في شقاء لا سعادة لهم إلا إذا تعلموا وعلموا, والناس في عذاب لا يمكن أن يرحموا إلا بالعلم, ولذلك قال الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] هذا فقط وأنت تستمع إلى القرآن, فكيف إذا استمعت ووعيت؟ فالرحمة تامة كاملة, فالأمة لا تزال في عناء وتعب وشقاء حتى تعرف قيمة هذا العلم وتعرف شرفه, ولذلك كان السلف الصالح رحمهم الله أعرف الناس بالعلم, وأولهم الصحابة رضوان الله عليهم, الذين عرفوا حق هذا العلم حينما صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبوه صغاراً وكباراً, ورجالاً ونساءً, فالنساء يقفن ويقلن: (يا رسول الله! غلب الرجال على حديثك فاجعل لنا يوماً). وهذا من محبتهن للعلم وشعورهن بفضله. وقال سهيل لما رجع إلى أهل مكة قال: (والذي يحلف به سهيل! ما رأيت أشد حباً من أصحاب محمد لمحمد صلى الله عليه وسلم, والله ما كلمهم إلا أطرقوا وكأن على رءوسهم الطير, وما رمقوه بأبصارهم). رضي الله عنهم وأرضاهم. وعرف السلف الصالح فضل هذا العلم حينما تتلمذوا على العلماء، فتجدهم حريصين على مجالستهم وعلى حبهم حريصين على نقل فتاويهم ونشر الخير عنهم؛ حتى أصبحت الأمة في عز مجدها وعلو شأنها لما عرفت حق العلم. والله لا يمكن لهذه الأمة أن تنال الخير في الدين والدنيا والآخرة إلا بهذا العلم, ولا يمكن أن تناله إلا بفضل الله ثم بفضل العلماء وطلاب العلم, ولا يمكن لطلاب العلم أن ينالوا هذا العلم بهمة صادقة لا تعب فيها ولا نصب ولا سآمة ولا ملل إلا إذا عرفوا حق هذا العلم. فالمقصود: أن الهمة تستقر بمعرفة منزلة العلم، وانظر إلى التاجر في موسمه يسهر ليله ويبلي جسمه وتصيبه الأمراض في بعض الأحيان، فيكون مريضاً، فإذا رأى الدنانير والدراهم ألهته عن مرضه وسقمه, فكيف بمن يرى رحمة الله عز وجل؟ فطالب العلم في كل كلمة يسمعها ترفع له درجة ومنزلة, وحالك اليوم ليس كحالك بالأمس. ومن شرف مجالس العلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يغفر للعبد الشقي الذي يمر ويجلس اللحظة من ذكر الله عز وجل في مجلس العلم, وجاء في الحديث: (تقول الملائكة: إن فيهم فلاناً -أي: أنه عبدٌ خطاء كثير الذنوب, مر فجلس معهم- فيقول الله تعالى: وله قد غفرت, هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) الله أكبر! حتى مجالس العلم فيها السعادة والرحمة، تقوم منها وأنت منشرح الصدر مطمئن القلب, إذا عرف طالب العلم قيمة العلم تعب من أجله. كذلك مما يعين على الهمة الصادقة الشكر: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] طالب العلم الذي يريد أن يقوم من المجلس يشتاق إلى الذي بعده وبمجرد ما أن ينتهي من المجلس وقلبه معلق بالله عارف بحق الله وحق عباده, فيشكر لله عز وجل ويقول: اللهم لك الحمد علمتني ما لم أكن أعلم. وكم من أمم تنتظر من يعلمها؟! كل سطر تقرؤه وتسمعه ترفع به الدرجات والحسنات، وهو رفعة لك في الدنيا ومرضاة لربك. فإذاً: إذا نظرت أنك أصبت رحمة وأصبت خيراً وبراً فقل: الحمد لله, يرضى الله عنك وفي الحديث: (إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها)، فكيف بمن أصاب لذة العلم التي هي أشرف من الطعام والشراب؟! فلا تقم من مجلس علم إلا وأنت تحمد الله وتشكره وتثني على الله بما هو أهله, فإن الله يقول لنبيه: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]. طالب العلم إذا شكر نعمة الله وهبه الله الفتح, وزاده من الهمة الصادقة، وكذلك عليه أن يشكر نعمة العلماء, فيذكر فضل السلف الصالح, سل نفسك: كم من مجلس علم جلسته ولما قمت من المجلس ترحمت على صاحب الكتاب, وسألت الله أن يرحم سلف هذه الأمة الذين حفظوا العلم ووعوه وتعبوا من أجلك حتى أصبح العلم اليوم سهلاً بين يديك, تنثر أمامك دواوين العلم من أئمة السلف الصالح, وتعيش الساعات واللحظات وأنت في أنس عظيم، بين يديك الأئمة وفحول العلم؟ فهل شكرت فضلهم بعد شكر الله عز وجل؟ ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله. فطالب العلم الميت القلب ا

باب الغصب [5]

شرح زاد المستقنع - باب الغصب [5] قد يتصرف الغاصب في المغصوب بخلطه مع غيره، فلا يؤدي هذا إلى سقوط حق المغصوب منه، بل يحفظ حقه ويؤدَّى على تفصيل عند العلماء. وكذلك قد يتصرف الغاصب في المغصوب بإعطائه للغير أو حتى لصاحب الحق لكن دون علمه، فكذلك لا يسقط حق المالك الأصلي بل يؤدى له على تفاصيل عند العلماء رحمهم الله.

أحكام اختلاط المغصوبات بغيرها

أحكام اختلاط المغصوبات بغيرها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: وإن خلط بما لا يتميز كزيت أو خلطه بمثلهما]. شرع المصنف -رحمه الله- في هذا الفصل في بيان جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالتصرف في الشيء المغصوب، بخلطه مع غيره، سواء كان ذلك الغير ينفصل عن المغصوب أو كان يمتزج معه حتى يصيرا كالشيء الواحد، ومن عادة العلماء -رحمهم الله- أنهم إذا بينوا أحكام الغصوبات أن يبينوا حكم هذه المسألة؛ لأن هناك مغصوباً يترك على حاله، ومغصوباً يتصرف فيه الغاصب، وهذا الفرض العقلي لا بد من بيان حكمه، وإذا تصرف فيه، فإما أن يتصرف في منافع المغصوب -وقد تقدم بيانها- وإما أن يتصرف في ذات المغصوب دون إضافة شيء عليه أو نقص شيء منه، وقد تقدم بيانه. أما اليوم فالحديث عن الخلط، بمعنى: إضافة شيء إلى المغصوب، وإذا خلط بالمغصوب غيره فهناك صورتان:

خلط المغصوب بشيء يمكن فصله وتمييزه

خلط المغصوب بشيء يمكن فصله وتمييزه الصورة الأولى: أن يكون ذلك الغير مما ينفصل عن المغصوب ولا يتصل به، بحيث يمكن أن يفصل كل واحد منهما عن الآخر. الصورة الثانية: أن يكون العكس، بحيث يمتزجان ويختلطان حتى يصيرا كالشيء الواحد، ويصعب حينئذ تمييز الشيء المغصوب عما خلط به. فأما الصورة الأولى، وهي: أن يقوم الغاصب بخلط المغصوب بغيره بحيث يمكن التمييز، فمن أمثلتها: أن يغصب تمراً، ثم يخلط التمر بالبر، فالبر شيء والتمر شيء، وحينئذ لا إشكال في تمكن الغاصب من فصل حق المغصوب منه عن حقه هو، فنقول له: يلزمك حينئذ أن تفصل المغصوب عما خلطته به وترده إلى صاحبه، في هذه الحالة -إذا خلط المغصوب بشيء يمكن تمييزه- عندنا حكمان: الحكم الأول: أنه مطالب بالتمييز. والحكم الثاني: وهو متعلق بالحالات الخاصة، وهي التي لا يمكننا فيها التمييز إلا بمشقة وكلفة وأجرة وعمل، فإن أمكن التمييز بأن يقول الغاصب: أنا أميزه، كرجل اغتصب أرزاً وخلطه ببر، وكان الأرز نصف صاع والبر نصف صاع، فشيء يسير يمكن فصله وفصل بعضه عن بعض، لكن لو اغتصب -مثلاً- عشرة آصع من البر وخلطها بعشرة آصع من الأرز، فهذا يحتاج إلى مشقة وعناء، وإلى وقت وإلى زمان، نقول: تستأجر من يقوم بذلك، ويلزم الغاصب بدفع القيمة؛ لأن الأمر بالشيء أمرٌ بلازمه، ولما كنا مأمورين برد هذا المغصوب إلى صاحبه وتوقف هذا الرد وإبراء ذمة الغاصب على استئجار من يقوم به، لزمه أن يستأجر وأن يرد الحق إلى صاحبه، ولو كلفه ذلك قيمة المغصوب أو أكثر، فلو فرضنا أن تمييز المغصوب عما خلط به يكلف مائة وقيمة المغصوب ثمانون، يقال: أنت ملزم بالفصل حتى ولو كانت التكلفة أكثر من القيمة؛ لأنها جناية يد يلزمه ضمانها كما تقدم معنا في أجرة رد الشيء المغصوب إلى المغصوب منه، هذا بالنسبة للصورة الأولى التي يخلط فيها الشيء المغصوب بما يمكن تمييزه، والحكم فيها واضح، والسبب في عدم ذكر المصنف -رحمه الله- لهذه الصورة: ظهور الحكم فيها ووضوحه.

خلط المغصوب بشيء لا يمكن تمييزه عنه

خلط المغصوب بشيء لا يمكن تمييزه عنه أما إذا خلط المغصوب بشيء لا يمكن تمييزه عنه، فهذا يأتي على أحوال: ففي ببعض الأحوال تكون عين المغصوب موجودة، ولكنها تمتزج مع الشيء الذي اختلطت به من جنسها كزيت بزيت، وأرز بأرز، وبر ببر، وتمر بتمر -من نوع واحد- فحينئذ عين المغصوب موجودة، ولكن لا نتمكن من فصل حق الغاصب من حق المغصوب منه. الصورة الثانية: أن يكون الخلط بشيء ليس من جنس المغصوب، كأن يخلط -كما ذكر المصنف- الدهن بالسويق، فحينئذ الدهن شيء والسويق شيء، لكن حينما خلطا مع بعضهما صارا كالشيء الواحد، وكمن اغتصب سمناً فصنع به طعاماً، وكمن اغتصب دهناً من زيت ونحوه فقلى به طعاماً أو نحو ذلك، ففي هذه الحالة يكون الحكم مخالفاً للمسألة الأولى. إذا خلط المغصوب بشيء من جنسه: كأن يجعل الزيت مع الزيت والأرز مع الأرز والتمر مع التمر، فحينئذ إما أن يكون الشيء الذي أدخله على المغصوب أغلى ثمناً وأجود، وإما أن يكون مثله في الجودة والثمن، وإما أن يكون أردأ منه، كرجل أخذ منك لتراً من زيت الزيتون ووضعه مع لتر آخر من زيت الزيتون، فإما أن يكون مثله في القيمة والجودة والرداءة ومن نوع واحد وقيمتهما واحدة، وإما أن يكون أغلى منه وأجود منه -الذي يكون حق الغاصب - أو يكون حق المغصوب أغلى وحق الغاصب أرذل. فإذا خلطه بمثله وكانا بصفة واحدة وثمن واحد، فحينئذ قال طائفة من العلماء: يجب على الغاصب أن يرد قدر المغصوب، فلو اغتصب صاعاً من تمر وخلطه مع صاع آخر، نقول له: خذ من هذا المخلوط صاعاً واحداً، وفقه المسألة يقوم على أن الغاصب له حق، والمغصوب منه له حق، وكلا الحقين مشتركان في الصاعين، فلو أننا قلنا لصاحب المغصوب: خذ الصاعين. ظلمنا الغاصب، ولو أننا قلنا للغاصب: خذ الصاعين. بقي الأصل كما هو والظلم كما هو، فالعدل أن يقال: رد إلى صاحب العين المغصوبة قدر ما اغتصبت صاعاً أو لتراً -إذا كان زيتاً أو نحوه- فإذا رده ربما يعترض معترض ويقول: إننا لم نرد عين المغصوب؛ لأن الذي رُدَّ هو المغصوب، ومعه حق الغاصب، ف A رددنا عين المغصوب ورددنا مثله، والضمان في الغصب إما أن ترد الشيء المغصوب أو ترد ما هو مثل له، فلو أنه اغتصب صاعاً وخلطه بصاع آخر وامتزجا مع بعضهما فإنه حينئذ لو أنك أخذت صاعاً من هذا المخلوط، وقدر نسبة المغصوب النصف، فالنصف الثاني يعتبر بمثابة المثلي للمغصوب؛ لأنه مثله في الجودة، ومثله في القيمة والسعر، فليس هناك ضرر، فإذا قال لك قائل: لماذا عدلت إلى المثلي؟ تقول: لأنه تعذر العين، وتعذر أن نضمن العين، فنلزمه بضمان المثل، والشريعة تلزم بالعين متى أمكن ردها، وتلزم بالمثلي إذا تعذر رد العين، وهذا هو المذهب الصحيح؛ أنه إذا خلط الصاع بصاع مثله؛ وجب ضمان الصاع من المخلوط، إذا اتفقا جودة ورداءة واتفقا قيمة، فحينئذ يضمن لصاحب الحق بقدر حقه قل أو كثر. وهناك من العلماء من يقول: يخير الغاصب، ونقول له: أنت بالخيار إن شئت أخذت صاعاً من هذا الذي اختلط، وإن شئت طالبت بالمثلي من خارج المخلوط، ولكن الصحيح ما ذكرناه، أنه يضمن له حقه؛ لأنه إما أن يأخذ العين أو يأخذ المثل، وعندنا قاعدة وهي: (أنه لا يصار إلى البدل متى ما أمكن الرجوع إلى العين). أي: ما دام أنه يمكننا أن نرجع إلى العين ونستوفي منها الحقوق، فلا يمكن أن ننتقل إلى البدل والمثل، وهنا لو قلنا له: أعطه صاعاً مثل الصاع الذي أخذته، فإنه يضمن البدل ولا يضمن الذات، ولا شك أنك لو ضمنت بعض الذات أفضل من أن يكون الضمان خارجاً عن الذات كلها، ولهذه القاعدة دليل سنبينه -إن شاء الله- في قصة حكومة سليمان مع داود عليهما السلام في قضية الغنم، حيث إن الله تعالى صوب حكم سليمان بمراعاته لهذه القاعدة. الحالة الثانية: أن يكون الشيء الذي أدخله على المغصوب أجود من الذي اغتصبه، مثال ذلك: لو أخذ أرزاً وخلطه بأرز أجود وأفضل من الأرز الذي أخذه، كأن يكون -مثلاً- الأرز الذي أخذه الكيلو منه بخمسة ريالات، والأرز الذي خلطه به من نفس النوع ولكن قيمة عشرة ريالات، فحينئذٍ يكون الخلط بما هو أجود وبما هو أغلى ثمناً، فما الحكم؟ قال بعض العلماء: إذا خلط الأرز أو الدقيق أو التمر ونحو ذلك بما هو أجود منه، ننتقل إلى المثل؛ لأنه لا يمكن فصله، فحينئذٍ نقول له: انتقل إلى مثله. ونترك الاثنين للغاصب، أي: العين المغصوبة -الذي هو الصاع المغصوب- مع ما هو أجود منه، يترك للغاصب، ونقول للغاصب: ابحث عن مثل ما اغتصبته، وهو صاع يعادل الصاع الذي أخذته في الصفة والقيمة. وقال بعض العلماء: يلزم الغاصب بدفع صاع من المخلوط الذي فيه الجيد الذي له، فإن أبى فرض عليه ذلك -هذا إذا رضي المغصوب منه- ونلزمه بأخذ صاع من هذا المخلوط حتى ولو كان أجود. وحينئذ يرد Q كيف نلزم الغاصب بدفع شيء من حقه، مع أنه أجود؟ قالوا: ألزمناه بدفع الصاع من هذا المخلوط؛ لأن عين المغصوب موجودة فيه، فإذا ألزمناه بدفع صاع كان بعض العين مضموناً، فيبقى الزائد بقدر الصاع مما يؤخذ من المخلوط وهو ملك لصاحبه؛ لأنه هو الذي تسبب في الخلط، فتصبح زيادة يستحقها صاحب المال؛ لأنها من تصرفات الغاصب التي فيها العمد والعدوان، بمعنى: كأن الغاصب هو الذي جنى على نفسه، وهو الذي يتحمل مسئولية جنايته، فلم يأمره أحد بالخلط، ويده يد عادية؛ لأنها دخلت على مال الغير، ورضي بإتلاف ماله بإدخاله مع مال الغير، فيتحمل مسئولية الضرر في النقص الحاصل على مالك، ونقول حينئذ: يلزمك أن تدفع الصاع، ويُلزم المغصوب منه. قالوا: لو قال المغصوب منه: لا أريد، وأريد صاعاً مثل صاعي من غير المخلوط، فهل يطاع ويلزم بضمان المثلي؟ قولان للعلماء، والصحيح: أنه لا يطاع بل يلزم بأخذ الصاع مما اغتصب منه، أي: من المخلوط. السؤال الذي يرد: لماذا ألزمناه؟ لأنه تبقى العين، وتبقى اليد في القدر الذي سيكون في داخل الصاع، هذا وجه. والوجه الثاني: وجود الجيد والأفضل إنما هو حقه وزيادة، وكونه يقول: لا آخذ. ليس له موجب شرعي، وإذا قال: لا آخذ، فهذا نوع من التفريط، فلو قال: أريد مِثلاً من خارج، صار فيه ضرر على المالك؛ لأنه في هذه الحالة يذهب ويتكلف شراء الصاع من خارج، وحقه مضمون والجيد فيه المثل وزيادة، فليس هناك من مظلمة حتى يقول: أريد الغير. فيجب حينئذ إعطاؤه صاعاً من المخلوط الذي هو أجود. إذاً: في حالة الاستواء وفي حالة الأجود يطالب الغاصب بدفع قدر مال المغصوب، سواء رضي المغصوب منه أو لم يرض، لكن لو خلطه بما هو أردأ. فقال بعض العلماء: يضمن له مثل ما أخذ، ولا يعطي من الخلط؛ لأنه في هذه الحالة كأنه أتلف، وكأنه استهلك العين. وقال بعض العلماء: يطالب بأخذ الموجود، ويضمن له قدر النقص من المال نفسه أو من مثله، وهذا هو الأقوى والصحيح. ففي الثلاث صور حكمنا بالضمان من نفس المال، وهذا راجع للقاعدة التي ذكرناها، فالأصل بقاء اليد حتى يدل الدليل على رفعها وتحويلها إلى المثل أو القيمة. والدليل على أننا نلزم المغصوب منه بالأخذ من عين ماله سواء كان في حالة الجودة أو الرداءة أو حال المثلية: قضية داود وسليمان وهي: رجل كان عنده غنم. وجاءت الغنم في الليل ورعت فأفسدت زرع رجل آخر، فاختصما إلى داود عليه السلام، فنظر داود عليه السلام فوجد أن قيمة الزرع تعادل قيمة الغنم، يعني: لو فرض أن الزرع قيمته مائة فالغنم قيمتها مائة، فحكم عليه السلام بأن صاحب الأرض يملك الغنم، وأثبت هذا الحكم من جهة أن صاحب الغنم مالك لها، متحمل لمسئوليتها ولكل ما ينشأ من الضرر منها، فألزمه بضمان حق صاحبه، فحكم بالغنم لصاحب الزرع، فلما خرج من عند داوود، قال سليمان: لو كان الأمر إليَّ لقضيت في هذا بغيره، قيل: وما تقضي؟ قال: أقضي بأن صاحب الغنم يأخذ الأرض فيعيد زراعتها ويردها كما كانت، وأحكم لصاحب الزرع أن يأخذ الغنم، فيحتلبها وينتفع من صوفها حتى يرد له صاحب الغنم أرضه كما كانت، فيرجع صاحب الزرع إلى زرعه وترجع الغنم إلى صاحبها. فأثنى الله على حكم سليمان، والسبب في هذا: أن داود عليه السلام حكم بأن الغنم تصبح مستحقة لصاحب الأرض، فأخرج ملكية الغنم، ونزع يد صاحب الغنم عن الغنم، مع أن الغنم ملك له في الأصل. فصوب الله حكم سليمان وجعله أصوب، وقال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79]، وهذا يدل على أن العلماء إذا اختلفوا وكل منهم اجتهد بدليل شرعي، فإن الكل مفهم من الله وكل لا يلام، وكل لا يثرب عليه، ولا يقبح الخلاف ولا يشنع ولا ينتقص من مكانتهم، بل يزيدهم فضلاً إلى فضلهم ونبلاً إلى نبلهم؛ لأنهم بذلوا ما في وسعهم. فحينئذ لما حكم الله سبحانه وتعالى بأن الغنم تبقى لصاحبها، والأرض تبقى لصاحبها أبقى اليد كما هي، وهذا هو الذي نريده: إبقاء الأصل على ما هو عليه، فأنت إذا نظرت إلى مسألة الغصوبات، فالأصل أن هذه العين المغصوبة تبقى ملكاً لصاحبها، ولا يحكم بانتقالها إلى الغاصب إلا بدليل، وحينئذ نقول: متى ما أمكن رد الزيت، أو الحبوب، أو الثمار التي خلطت بغيرها -مع أنه أجود أو أردأ- فإننا نقول بالرد، ونوجب على من فعل ذلك ضمان النقص إن وجد، ونلزمه بالدفع إن امتنع في الأجود والأحسن؛ لأنه هو الذي فرط وهو الذي ضيع ماله. هذا إذا كان الخلط للمغصوب من جنسه، وهو الذي يمكن أن تخرج قدر المغصوب منه، فمن غصب صاعاً أخرجت منه صاعاً، ومن غصب صاعاً وخلطه بصاع من بر، فيمكن أن تخرج من الاثنين صاعاً واحداً، ولكن الإشكال إذا حصل الخلط لطعام لا يمكن الفصل فيه، فمن أخذ السمن واستهلكه في الطعام أو أخذ الدهن وخلطه في السويق فلا يمكن أن ترد السمن إلى حاله، ولا يمكن أن ترد السويق إلى حاله، فحينئذ يحكم بإلزامه ضمان مثل العين التي أتلفها. الخلاصة: أنه إما أن يخلط على وجه يمكن التمييز والحكم فحينئذ يُطالَب الغاصب بالتمييز، وعليه مؤونة التمييز إن كان في ذلك كلفة ومشقة. الحالة الثانية: أن يخلطه فلا يمكن تمييزه، فإما أن يخلطه بشيء من جنسه كزيت بزيت، وبر بر، وتمر بتمر. فنقول له حينئذ: إن كان أجود أو كان مثلياً لزمك أن تدفع مثله. ويكون النقص على الغاص

حكم صبغ الغاصب لثوب غصبه

حكم صبغ الغاصب لثوب غصبه قال رحمه الله: [أو صبغ الثوب]. مسألة صبغ الثوب تعتبر من إدخال العين التي لا يمكن فصلها غالباً إلا مع الحرج أو مع الإضاعة للمغصوب، ففي القديم كانت أحوال الناس ضيقة، ولم يكن القماش بالسهولة التي تتيسر للناس الآن، فإذا أخذ ثوباً ربما يلبس الثوب هذا أربع سنوات ويبقى معه. ففي السنة الأولى يلبسه أبيض مثلاً، وفي السنة الثانية يصبغه أزرق وفي السنة الثالثة يصبغه بصبغ ثالث، وهذا لا يضره، بل هذا يدل على البركة التي كانت في أموالهم، كان الشيء يبقى. وهذا دليل على كثرة البركة في الأشياء. ولذلك أخبر عليه الصلاة والسلام أنه في آخر الزمان تنزع البركة كما في صحيح مسلم: (أنه إذا نزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان أنه توضع البركة في الأرزاق والأقوات، حتى إن الشاة الواحدة يطعمها أربعون رجلاً) وهذا من البركة، فكانوا في القديم يصبغون الثياب، وصبغ الثوب للحاجة؛ لأنه لا يستطيع أن يبقى به على لون واحد، فيصبغه للحاجة، فإذا صبغ الثوب فمادة الصبغ ستدخل داخل الثوب، ولا يمكن فصل مادة الصبغ عن الثوب، إلا إذا رد الثوب إلى اللون الذي كان عليه بصبغ ثاني فهذا شيء آخر. فلا يمكن فصل الثوب، إلا بعض العلماء قالوا: يمكن في بعض الأحوال بمشقة وعناء وفيه كلفة على الغاصب. فمن أهل العلم من قال: إذا غصب ثوباً فيلزم الغاصب بقلع الغصب. ومنهم من قال: لا يلزم بذلك، ويأخذ المغصوب منه ثوبه، فإذا أخذ الثوب مصبوغاً، فإما أن تنقص قيمته بسبب الصبغ، وإما أن تزيد قيمته بسبب الصبغ، وإما أن يبقى بقيمته التي كان عليها، فإذا نقصت القيمة نقول للغاصب: ادفع النقص، فمثلاً: لو كان الثوب بخمسين ريالاً بدون صبغ، ومع وجود الصبغ يباع بخمسة وعشرين، فنقصت النصف، فعند ذلك يلزم بضمان نصف قيمته، وإذا كان الصبغ يزيد في القيمة، فأصبحت قيمته مائة أو أكثر، فإنه يملكه المغصوب منه ولا شيء للغاصب، وأما إذا بقي على قيمته فلا إشكال. قال رحمه الله: [أو لت سويقاً بدهن أو عكسه]. (أو لت سويقاً بدهن) غصبه، أو غصب السويق ولته بدهن من ملكه، فالحكم مثل ما ذكرنا، إما أن يزيده أو ينقصه أو يساويه.

الانتقال من الغصب إلى الشراكة

الانتقال من الغصب إلى الشراكة قال رحمه الله: [ولم تنقص القيمة ولم تزد، فهما شريكان بقدر ماليهما فيه]. بقدر قيمة المالين، فعلى ما اختاره المصنف -رحمه الله- يدخلان شريكان في المالين بقدره، فصاحب الصبغ إذا كان صبغه يعادل سبع قيمة الثوب فله السبع، وإن زاد إلى الثلث فله الثلث، والعكس أيضاً، ويفصل في المسألة على نفس التفصيل الذي ذكرناه في الحقوق. قال رحمه الله: [وإن نقصت القيمة ضمنها]. إذا كان بسبب الغصب، بمعنى: أن نقص القيمة تارة يكون بسبب السوق وهذا لا نتكلم فيه؛ لأننا بينا أن غلاء سعر المغصوب أو نقصه ليس من دخل الغاصب ولا يتحمل الغاصب المسئولية؛ لأن هذا من قدر الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى لحكمته يتأذن برفع الأسعار وغلائها ويتأذن برخصها، على ما يشاء سبحانه وتعالى، وليس للناس في هذا دخل، ولا يلام الناس في هذا، فالغاصب إذا زادت القيمة فليس بملام، وإذا نقصت القيمة ليس بملام؛ لأن هذا ليس من يده ولا من صنعه، وقد بينا أن هذه المسألة إجماعية وأن الذي خالف فيها هو الإمام أبو ثور إبراهيم بن يزيد الكلبي رحمة الله عليه، وكان يقول: يلزمه ضمان النقص الحاصل بالأسواق، وبينا أن هذا القول ضعيف ولا يفتى به ولا العمل عليه. قال رحمه الله: [وإن زادت قيمة أحدهما فلصاحبه]. فإذا دخل شريكان في الثوب أو في السويق وغلت القيمة لأحدهما، فأصبح -مثلاً- الصبغ الذي صبغ به الثوب غالياً وارتفعت قيمته، فإنه يكون الغلاء من حظ الغاصب، ويدخل الغاصب في الشراكة بحسب القيمة التي زادت لصبغه، وكذلك أيضاً لو لتَّ السويق مع الدهن، لو غلا سعر الدهن كان للغاصب، ولو غلا سعر السويق كان الغلاء لصاحب العين المغصوبة، يفصل فيه على حسب. لأن فقه المسألة: أن الغاصب له حق والمغصوب منه له حق، فإن كان الغلاء في العين المغصوبة فهو حق لصاحب العين المغصوبة، ويحسب من قيمة العين، وإن كان الغلاء للشيء الذي أدخله الغاصب فهذا حقه ويضمن له حقه، فترد للمغصوب حقه بتقدير قيمة العين المغصوبة، وترد للغاصب حقه بتقدير قيمة الشيء الذي أدخله وخلطه مع المغصوب، حتى ولو كانت القيمة غالية، ويستحق قدر ماله إذا كانا شريكين، وحكم بالشراكة على ما اختاره المصنف رحمه الله. قال رحمه الله: [ولا يجبر من أبى قلع الصبغ]. هذه مسألة خلافية، بعض العلماء يجبره، فمثلاً: شخص له ثوب فأخذه غاصب وصبغه بلونه، فبعض العلماء يقول: لما جئنا للمغصوب منه وقلنا له: هذا ثوبك. قال: ثوبي أبيض. قلنا: الغاصب تصرف فيه وصبغه. قال: لا بد أن يرد لي ثوبي كما كان. في هذه الحالة صاحب الحق يطالب برجوع العين كما كانت، فبعض العلماء يقول: يتعذر في مثل هذا، وقد يكون فيه إتلاف للثوب، فلا يطاع ولا يجبر الغاصب على قلع الصبغ، واختلفوا في التعليل، فمنهم من يقول: لأننا إذا أجبرناه أتلفنا الصبغ وإتلاف المال منهي عنه شرعاً وهو إفساد؛ فما دام أن الثوب صبغ وصلح حال الثوب، وصار إلى تمام وأفضل، فحينئذ نقول له: خذ الثوب، وإن كان الصبغ أثر في الثوب وأنقص قيمته، قلنا له: اضمن له حقه، أما أن يطالب بقلع الصبغ ويصبح الأمر أشبه بالإضرار بالغاصب، وهو يقول: لا بد أن يقلع الصبغ عن ثوبي؛ لأنه إذا قلع الصبغ عن الثوب ربما أضر بالثوب، وتصبح عليه كلفة القلع وكلفة النقص الذي يحدث في الثوب بعد القلع، وحينئذ يكون الضرر أكثر مع إتلاف الصبغ، فهناك أكثر من مفسدة، فقالوا: لا نأمر بهذا. ولهذه المسألة نظائر، منها: لو أن رجلاً عنده أرض زراعية اغتصبها شخص ثم حفر فيها بئراً، فمن مصلحة المزرعة وجود البئر، فلو قال صاحب الأرض: ما أريد! ظاهر الحال يدل على أن مصلحة المزرعة في البئر، فأصبحت المسألة مسألة إضرار بالغاصب، وأصبح هناك شيء من التعنت والأذية. فبعض العلماء يقول: لا يطاع، ولا يلزم الغاصب بردمها، وإن كان بعض العلماء يقول: يلزم بردمها. لكن مسألة الصبغ أقوى من مسألة البئر؛ لأن مسألة الصبغ فيها إتلاف للثوب وضرر به، وإتلاف للصبغ نفسه، فأصبح إتلافاً للعين، وإتلافاً أيضاً للمنفعة الموجودة في العين دون وجود مصلحة، وعلى هذا قالوا: لا بجبر على قلع الصبغ.

حكم من اشترى أرضا تبين غصبها بعد الشراء

حكم من اشترى أرضاً تبين غصبها بعد الشراء قال رحمه الله: [ولو قلع غرس المشتري أو بناؤه لاستحقاق الأرض رجع على بائعها بالغرامة]. هذه مسألة تعم بها البلوى، وهي: أن يشتري شخص من آخر أرضاً زراعية، وتبقى هذه الأرض مدة من الزمان، ويتبين أن الأرض ليست ملكاً للبائع، وأنها ملكٌ لشخص آخر. فالأرض أخذها ميتة فأصبحت حية بالزرع، وأخذها بواراً فبنى واستحدث فيها، فحينئذ الأرض ليست ملكاً للبائع، وإذا لم تثبت يد البائع فمعناه: أن المشتري لا تثبت يده، فتنتقل الأرض للمالك الحقيقي، فقال المالك الحقيقي: أريد أرضي، فسنقلع غرس المشتري، وسنهدم أبنيته التي بناها. ف Q من الذي يتحمل مسئولية الضرر المترتب على هذا الخطأ؟ طبعاً المسألة لها صور: تارة يكون البائع الأول غاصباً للأرض ويبيعها لشخص ثم يتبين أنه غاصب، فيطالب صاحب الحق ويُثْبِت له القضاءُ الحق فلا إشكال، وقد تقدمت مسألة بناء الغاصب خاصة إذا اشترى منه الشخص وهو يعلم أنه غاصب. لكن إذا كان الشخص لا يعلم، وجاء إلى أرض وأحياها، وبعدما أحياها وزرعها باعها على شخص استخرج لها صكاً، وباعها على شخص -مثلاً- بمائة ألف، فأخذها الشخص الثاني فأحدث فيها بناء أو غرساً جديداً، حتى أصبحت مثلاً بخمسمائة ألف، ثم تبين أن للأرض صكاً أقدم من هذا الصك الذي بيعت الأرض به. فالسؤال: من الذي يتحمل مسئولية الضرر الذي سيقع على هذا الاستحقاق؟ A يطالب المشتري بقلع غرسه، ويطالب بهدم بنيانه وإعادة الأرض كما كانت، ثم نقول له: تأخذ قيمة ما دفعت -الذي هو قيمة الأرض- وتطالب الذي باعك بدفع قيمة الكلفة التي تحملتها في نقل الغرس وكذلك هدم البناء. فيكون المتحمل للمسئولية البائع الأول؛ لأن البائع الأول كما أن له ربح الأرض كذلك عليه غرمها وخسارتها، والمشتري اشترى على أن يده يد مالكة، وإذا تبين بأن يده ليست بيد مالكة، فحينئذ يضمن هذا التفريط في معرفة حقوق الناس، ويضمن هذا التفريط في الاعتداء على أموال الناس إن كان معتدياً، هذا بالنسبة إذا كان البيع من بائع واحد إلى مشترٍ واحد. لكن لو فرض أن خمسة أشخاص تناقلوا هذه الأرض، فالأول باع بمائة ألف، ثم اشترى شخص ثانٍ بعده ثم ثالث ثم رابع ثم خامس، فالخامس إذا طُولِب بهدم بنائه وقلع غرسه، ننظر في الضرر الذي ترتب على هذا القلع وعلى هذا الهدم وعلى هذا القلع، لو كان يساوي مائتي ألف، نقول له: ارجع بها على من باعك وهو البائع الرابع. فالبائع الرابع يدفع المبلغ للمشتري منه، ويرجع الرابع إلى البائع الثالث، ويقول له: تدفع لي المبلغ الذي دفعته لفلان، ثم يقيم الثالث دعوى على الثاني، والثاني يقيم دعوى على الأول حتى تصل للأساس الذي غرر بالجميع، فكل منهم يطالب من غره، ولا ينتقل المشتري الأخير إلى البائع الأول مباشرة. لا؛ لأنه ليس بينه وبين البائع الأول أي استحقاق، إنما الاستحقاق الذي وقع والبيع والمسئولية تترتب على البائع الذي ابتاع منه واشترى منه، وحينئذ يقول: اضمن لي حقي في تلف هذه الأعيان التي تلفت بالهدم أو النقص الذي حصل بنقل الغرس، فلو أنه نقل الغرس ومات -لأن الغرس إذا نقل شيء منه يموت وشيء منه يحيا- فيكون الضمان على الصورة التالية: أولاً: يتحمل مسئولية القلع للغرس، فلو كلفه القلع عشرة آلاف ريال يلزمه دفعها وتحسب، ثم لو فرضنا أن أعيان المغروسات نقصت بمقدار عشرة آلاف، بعضها مات بسبب النقل وبعضها تلف، وبعضها ضعف حاله، وتردى إنتاجه، فكل هذه الأضرار يتحملها البائع الأخير للمشتري الأخير، ثم يطالب الأخير من باعه بضمان هذه الحقوق حتى يتوصل إلى البائع الأول.

حكم من أكل طعاما يعلم أنه مغصوب

حكم من أكل طعاماً يعلم أنه مغصوب قال رحمه الله: [وإن أطعمه لعالم بغصبه فالضمان عليه]. شخص اغتصب طعاماً من شخص، ثم أخذ هذا الطعام المغصوب وأطعمه مسكيناً أو شخصاً آخر لا يعلم أنه اغتصبه، فلا يضمن المسكين، ولكن لو علم المسكين أنه اغتصبه ثم أكله؛ لزم الضمان الآكل، أما الغاصب فلا ضمان عليه، بمعنى: أن الآكل أو المسكين أكل مالاً علم أنه ليس للغاصب عليه يد، فمعنى ذلك: كأنه متعمد أن يأكل مال الأول، والغاصب ما أكل، فيضمن المسكين للغاصب، والغاصب يضمن لصاحب الحق، أما إذا كان لا يعلم فلا شيء عليه وإنما يضمن الغاصب، وعلى هذا تؤخذ مسألة الأطعمة، ومسألة الاستهلاك في الحقوق، وكلها مرتبة على هذا، ونفس الشيء في المنافع فيضمن له، ويكون الضمان على العالم إذا علم. لو أن شخصاً جاء واغتصب عمارة، ثم قال لشخص: اسكن في هذه العمارة سنة، فجاء واستأجرها بعشرة آلاف لمدة سنة، وهو لا يعلم بأنها مغصوبة، فهنا لا يضمن المستأجر، ولو تبين أنها مغصوبة أثناء مدة الإجارة انفسخت الإجارة، فصحت فيما مضى وبطلت فيما بقي، إلا إذا شاء صاحب العمارة أن يستمر مع المستأجر فلا إشكال، وهكذا بالنسبة للمركوبات ونحوها، فيكون الضمان على المستهلك، لكن لو علم أن العمارة أو السيارة مغصوبة وانتفع بها لزمه دفع الأجرة ويكون الضمان على العالِم، وكما يكون في الأعيان يكون أيضاً في المنافع. قال رحمه الله: [وعكسه بعكسه]. إذا أكل الطعام من لا يعلم أنه مغصوب لا يضمن، وإذا أكل الطعام من يعلم أنه مغصوب ضمن، فأصبحت المسألة في حال العلم وعدمه مختلفة الحكم، إن كان الآكل يعلم أنه مغصوب ضمن، والذي يضمن هو الذي أطعم وأعطى الغير ذلك الطعام.

متى تبرأ ذمة الغاصب

متى تبرأ ذمة الغاصب قال رحمه الله: [وإن أطعمه لمالكه أو رهنه، أو أودعه، أو آجره إياه، لم يبرأ إلا أن يعلم، ويبرأ بإعارته]. إذا اغتصب شخص من آخر حقاً أو عيناً فإنه تبقى ذمته مشغولة بهذا الحق وتبرأ الذمة بأحد أمرين: الأمر الأول: أن يرد عين الشيء الذي أخذه إلى صاحبه، فيأتيه ويقول له: هذه عمارتك أو هذه سيارتك التي أخذتها خذها، وضمن له نقصها، فحينئذ لا إشكال على التفصيل الذي ذكرناه. الأمر الثاني: أن يسامحه صاحب الحق، فيقول له: قد أبرأتك وعفوت عنك، فحينئذ يبرأ. ولكن هنا مسألة: لو أن صاحب الحق مات قبل أن يستسمحه الغاصب، كرجل اغتصب أرضاً من جاره ثم توفي الجار قبل أن يسامحه، فجاء إلى ورثته وسألهم أن يسامحوه فقالوا له: قد عفونا عن المال الذي أخذته من أبينا وسامحوه، فهل يبقى حق الميت؟ A اختار طائفة من العلماء أن الميت يكون خصماً لهذا الغاصب في المدة التي احتبس فيها حقه عنه إلى أن توفاه الله عز وجل، فلو أنه ظلمه في هذه الأرض عشر سنوات، فإنه يكون غاصباً عشر سنوات ويلقى الله بمظلمة أخيه ولو سامح الورثة، فهم سامحوا في حقهم وليس لهم حق في أن يسامحوا في حق غيرهم، وكل نفس لها حقها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كانت له عند أخيه مظلمة فليتحلله)، فجعل التحلل راجعاً إلى صاحب الحق الأصلي، لكن بالنسبة للغاصب لا شك أنه إذا سامحه الورثة، فالأمر أفضل وأحسن من كونه يتمادى في الغصب، لكن لا يسقط الاستحقاق الأصلي للمورث -وهو الوالد أو الميت- لأنه يبقى بمظلمته حتى يلقى الله عز وجل بتلك المظلمة، ولذلك يستحب بعض العلماء أن يتصدق عن هذا الميت بعدل حقه، أن يتصدق وينويها صدقه عن هذا الميت بعدل حقه، فإذا فعل ذلك، فإنه يرجى له الخير، وإن كان سيلقى الله عز وجل بمظلمة أخيه.

حكم انتفاع المغصوب منه بالمغصوب دون علمه

حكم انتفاع المغصوب منه بالمغصوب دون علمه وقوله: [وإن أطعمه لمالكه أو رهنه]. يبقى Q لو أن هذه العين المغصوبة أطعمها لمالكها، فالذي أكل الطعام هو الشخص الذي يملك الطعام؟ شخص اغتصب صاعاً من الأرز، ثم دعا صاحب الصاع عنده إلى وليمة وأطعمه إياه مرة أو مرتين أو ثلاثاً، ثم قال له: يا أخي! قد ظلمتني في الأرز، قال: الأرز قد أكلته. فما الحكم؟ A أنه إذا كان لا يعلم، فلا يزال الصاع في ضمان الغاصب ولو أكله المغصوب منه، والسبب في هذا: أن يد الغاصب -وهي يد الضمان- لم تسقط؛ لأنه لم يعلم المغصوب منه أن هذا الذي يطعمه من ماله، وإنما دخل في ضيافة، ويظن أن هذا استحقاق، فهو يأكل بحق منفصل عن حقه الذي هو واجب على الغاصب، ولذلك كونه أكل فهذا لا يؤثر، ويبقى استحقاقه للعين المغصوبة، ويجب على الغاصب أن يضمن له المثل إذا أطعمه للمغصوب منه. وقوله: (أو رهنه). إذا رهنه لمالكه ولم يعلم المالك أن هذا المال الذي رهنه هو نفس ماله فإنه لا يبرأ؛ لأن الرهن ينتقل إلى عند المرتهن وبينا في أحكام الرهن، أنه يكون الانتقال بالقبض، ويصبح الرهن لازماً بالقبض وفصلنا في هذه المسألة، وبناء على ذلك: إذا أقبض المالك رهنه، فمثلاً: لو أن شخصاً اغتصب من شخص سيارة، ثم استدان منه عشرة آلاف ريال وجعل السيارة عنده رهناً، فإن هذا لا يوجب أن تزول يد الغصب وتبقى السيارة مضمونة عند الغاصب إذا لم يعلم المغصوب منه، أما إذا علم فهذا شيء آخر. وقوله: (أو أودعه). جعله وديعة عنده. وقوله: (أو آجره إياه). أخذ منه السيارة واستأجرها للركوب، فركبها وسافر بها. وقوله: (لم يبرأ إلا أن يعلم). لم يبرأ الغاصب إلا أن يعلم المالك أن هذه السيارة هي سيارته، ويعلم المالك أن هذا الطعام هو طعامه، فإذا علم المالك أن هذا الطعام الذي يأكله هو طعامه، فحينئذ يكون قد أخذ حقه، وإذا علم أن هذه السيارة هي سيارته، فحينئذ تبرأ ذمة الغاصب في ضمان إجارتها المدة التي كانت عند المالك، وتكون يده حينئذ على العين المغصوبة، فإذا ردها للغاصب يكون هو المفرط وعلى هذا تبقى يد الغاصب على العين المغصوبة. وقوله: (ويبرأ بإعارته). لأن الإعارة تستلزم الضمان، فتنتقل يد الغاصب، وتنتقل العين المعارة من ضمان الغاصب إلى ضمان المغصوب منه، وإذا انتقلت العين المغصوبة إلى ضمان المالك، حينئذ فاتت يد الغصب وأصبحت في ملك صاحبها، ولا يضمن الغاصب في هذه الحالة؛ لأنه لا يمكن أن نجمع بين يدين متضادتين في الغصب، فنقول: تكون العين المغصوبة المعارة في ضمان الغاصب، وفي ضمان المالك. لا يمكن هذا؛ لأنها بالعارية تكون في ضمان المستعير، فالمغصوب منه -مالك السيارة- حينما يأخذها عارية سواء علم أو لم يعلم يكون ذلك موجباً انتقال الضمان إليه.

نصائح لطلاب العلم

نصائح لطلاب العلم أحب أن أنبه إلى أمر يقع في الدروس، وكثير من الناس حصل عنده لبس فإن البعض يخطئ بعض طلاب العلم، والحقيقة ليس هناك مجال للتخطئة، فالبعض يلاحظ على طلاب العلم أنهم عقب التسليم من الصلاة يقومون مباشرة إلى حلق العلم، وهذا ليس فيه أي غرابة، بل هذا يزكي طالب العلم ويرفع قدره ويشرفه، ويعظم الله عز وجل به أجره؛ لأن مسألة الحرص على القرب للاستماع ومن أجل أن يفهم ويعي أكثر ويتمكن من السؤال إذا أشكل عليه أمر، بعد الصلاة، فهذه كلها لا يقصد بها طالب العلم أنه يتقدم لأجل مصلحة دنيوية، إنما يتقدم من أجل (قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام) وقد ذكر الإمام الشاطبي رحمه الله أن الصحابة رضوان الله عليهم كان أعظمهم خيراً وبركة في حديث رسول صلى الله عليه وسلم أقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم. أما مسألة الاقتتال والازدحام فالنصوص في هذا واضحة: أولاً: القيام بعد الصلاة مباشرة، ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بمجرد أن صلى صلاة الفجر قام فزعاً إلى بيته، فلما قام عقب الصلاة مباشرة لم يقل أذكار الصلاة ولم يعقب عليها من أجل مصلحة معينة موجودة في بيته، والحديث في الصحيح، وقال العلماء: ترك النبي صلى الله عليه وسلم الذكر المعتاد لوجود العذر. فطالب العلم عندما يقوم من مقامه مباشرة من أجل العلم لا نثرب عليه، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حلق الحلاق في صلح الحديبية كاد الصحابة رضوان الله عليهم يقتتلون وهم يحلقون رءوسهم، فكيف إذا ازدحم طلاب العلم من أجل أن يسمعوا (قال الله وقال رسوله). فيجعل ذلك منكراً وخطأ! من يستطيع أن يجعل إنساناً يشتري رحمة الله ويتخوض فيها، لكن لا يسيء إلى غيره؟ لا نقول: إنهم يزدحمون ويقتتلون، لا. نقول: إن زحامهم من أجل العلم ومن أجل أن يعي ويسمع لا تثريب عليهم فيه. وقد كنا مع مشايخنا -رحمة الله عليهم- ربما يسبقنا الشخص والشخصان فلا نسمع الفتوى ولا نسمع السؤال ولا الجواب. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يليه أولو الأحلام، وكان يحب أن يليه من يعقل عنه عليه الصلاة والسلام. فهناك أشياء مخصوصة في مسألة الازدحام ومسألة التقدم حتى في صفوف الصلاة، بمعنى: الصف الأول معروف مكانه ومعروف من الذي فيه، فإذا تقدم الشخص والشخصان لضرورة الازدحام، فهذا لا تثريب عليه. فطلاب العلم الذين تفرغوا للعلم فرض عليهم أن يتعلموه، وأن يكونوا على إيمان تام به، وقد تفوت المسألة الواحدة بسبب التأخر، ولا يزال الرجل يتأخر حتى يؤخره الله، حتى كان بعض مشايخنا -رحمة الله عليهم- يكره من الشخص أن يجلس في طرف المسجد ويستند إلى الجدار والحلقة في مقدمة المسجد إلا إذا كان عنده عذر، والبعض يقول: لا أحب أن يكون بجانبي يشوش علي. وهو يقصد بذلك الخير، ولكن الأفضل والأكمل أن تتخوض رحمة الله، ولذلك تجد طالب العلم في اليوم الأول في الصف السادس، واليوم الثاني في الصف الرابع ثم الخامس ثم الثالث حتى يصل إلى أقرب الناس. يقول أنس رضي الله عنه وهو يفتخر بهذه المنزلة: (لقد كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت ناقته يمسني لعابها، أسمعه يقول: لبيك حجة وعمرة) فالذي يشكل عندي: كيف نجعل المعروف منكراً؟! فالحمد لله الذي ما أماتنا حتى رأينا بأم أعيننا من يحرص على هذا العلم، وهذا -والله- نعمة وفخر! الإمام مالك رحمة الله عليه سقطت عمامته أكثر من ثلاث مرات وهو على باب مشايخه، يزدحمون من أجل رواية حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحد يلومه، ويل للإنسان الذي يتتبع عورات طلاب العلم، فيأتي عامي جلف جاف لا يعرف من العلم شيئاً ويقول: ما هذا الإزعاج؟ لأنه لا يعرف ما الذي يخوض العباد من أجله في رحمة الله عز وجل، فنحن في زمان أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، فلا يلام طالب العلم في الحال ولا يمكن أن ينتقص، ولا يمكن أن يقال: إن هذا باطل؛ لأن هذه مسائل خاصة. في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا توضأ يقتتل الصحابة على وضوئه) ما معنى (يقتتل)؟ يقتتلون على وضوئه وهم يريدون فضلة وضوئه؛ لأن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لمكان المعجزة ولا يشاركه أحد. لكن نحن نقول: إذا كان الصحابة يقتتلون على قطرات الماء من وضوئه عليه الصلاة والسلام، فكيف بمن يبحث عن قطرات العلم التي يحيي بها ويثري بها الأمة؟! كيف بالذي يتخوض رحمة الله عز وجل وهو يبحث عن هذا العلم، وهو يريد أن يسمع كلمة تقربه إلى الله سبحانه وتعالى؟! لقد رأينا هذا من مجالس مشايخنا -ولا أجعله افتخاراً أو رياءً أو سمعة- والله لقد كنا نجلس في شدة الحر وكان يوافق رمضان، وكان الوالد -رحمة الله عليه- له أربعة دروس متواصلة بعد صلاة العصر، فكان عقب الفجر وعقب الظهر وعقب العصر، لكن أشدها الدرس الذي بعد العصر، آخر النهار، في شدة الصيف. وتجد الدرس درس صحيح مسلم ثم يعقبه درس الترغيب والترهيب ثم يعقبه درس السيرة، وكل درس من هذه الدروس تكون من بعد العصر، وهذا في الصيف طويل قد يصل إلى أكثر من ساعتين، فكنا نزدحم وإن الشخص يكاد بعض الأحيان يجد رائحة النتن مع حر الصيف. حتى إن الإنسان تجد أحياناً مثل الزبد على فمه من المشقة، فلا ينقص طالب العلم هذا، كنا نزدحم، وأقسم بالله إنه كان الرجل يضع رجله حتى في بعض الأحيان تتعب الركبة فما أستطيع أن أقف، فهذا لا ينقص طالب العلم شيئاً أبداً، ولا أحد يلوم أحداً، فكانت بينهم من المحبة والمودة ما يسامح فيه الأخ أخاه، ويتجاوز عنه ويحس أنه إذا نافس فإنه ينافس في جنة عرضها كعرض السماء والأرض، ينافس في رحمة الله عز وجل ويتمنى الأخ الخير لأخيه، والذي يهمني: ألا نجعل المعروف منكراً. أما مسألة السنة الراتبة بعد صلاة المغرب، فهناك من العلماء من يرى أنه لا بأس بتأخيرها إلى بعد العشاء، وأن المغرب والعشاء كالصلاة الواحدة، ويرى أنها سنة بعدية ولو وقعت بعد العشاء فهي بحكم السنة البعدية، وهذا مذهب بعض العلماء وأنا لا أفتي بهذا، وأرى السنة هي الأصل، لكن لو أن طالب العلم تأول القرب للعلم، فالسنة ليست بواجبة العلم فرض عليه، وليس القضية وجود السماعات والميكروفونات، فوجود السماعات والميكروفونات لا يساوي بين الناس، وإلا لاستوى من بخارج المسجد ومن بداخله، والذي بداخل المسجد الأقرب أعظم أجراً من الأبعد؛ لأن الأقرب هو الذي يبكر، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أعظم الناس أجراً في الجمعة من بكر إليها؛ لأنه بكر للعلم، وجعلت فضيلة الجمعة من أجل الخطبة، والخطبة لا تقوم إلا على العلم، وعلى الوحي؛ على قال الله وقال الرسول عليه الصلاة والسلام. فالمقصود: كم من مرة أجد بعض الإخوان يكتبون الملاحظات وأسكت، ولكني وجدت الأمر يتجاوز الحد إلى درجة اتهام طالب العلم بأنه غير منضبط، وبعض طلاب العلم يظن أن هذا نقص في العلم وأهله، لا والله أبداً، بل هذا مما يرفع قدر طالب العلم ما اتقى الله عز وجل وفعل ذلك لوجه الله وابتغاء مرضاته لا رياءً ولا سمعة، ولم يضر بإخوانه. وإن حصل من إخوانك لك ضرر فأحسن الظن بهم وليتسع صدرك لأخطاء إخوانك. هذا الذي أحببت أن أنبه عليه بحيث لا يكون هناك فهم خاطيء، فمسألة حرص طلاب العلم على التذكير ومحبتهم للخير أمر طيب، ولنحمد الله ونشكره، فكم ترى أعيننا أناساً يقتتلون وهم يشترون الخبز والطعام، ويقفون الساعات الطويلة، وتجد الرجل يدخل مسجداً وينتقد طلاب العلم وهو يرى بأم عينيه من يزدحم على كسرة خبز ولا ينتقده ولا يلومه بل يذهب ويقف معه، نحن في زمان غربة، غربة الحق وأهله، فأقول: الله الله في أعراض طلاب العلم، وينبغي علينا أن نتقي الله سبحانه وتعالى، وما دام طالب العلم عنده تأويل وعنده حجة، فإنه لا يلام على ذلك، وأسأل الله العظيم أن يبارك لنا ولكم فيما تعلمناه وعلمناه، ونسأله السداد والرشاد.

الأسئلة

الأسئلة

استفادة الشريك من أرض مشتركة دون علم شريكه

استفادة الشريك من أرض مشتركة دون علم شريكه السؤال: شريك باع أرضاً زراعية دون علم شريكه، وكان قد استفاد من محصولها قبل بيعها، فماذا للشريك الثاني؟ هل له نصف المبلغ المباع فقط، أم له المطالبة بفوائد المحاصيل؟ A إذا اشترك الاثنان في عين فتكون هذه العين بينهما بقدر الشراكة، فإذا كانت مناصفة فإنه يستحق نصف القيمة، ويستحق أيضاً نصف المحاصيل التي نشأت وترتبت ربحاً ونتاجاً للعين المشترك فيها، فهو -بلا شك- يستحق بقدر حصته للشركة قلت أو كثرت. وأما بالنسبة إذا باع دون إذن شريكه فهذا يختلف، ففي بعض الأحيان يوجد التفويض فيصح بيعه، وهناك أحوال تكون الشراكة فيها في الاستحقاقات، فيجب أن يرجع إلى شريكه ويستأذنه فيصح البيع في ماله، ولا يصح في مال شريكه، وبناء على ذلك يفصل في مسألة البيع وعدمه بين الشراكة التي يقصد بها المنافع وبين الشراكة التي تقتضي التفويض من كل وجه. والله تعالى أعلم.

حكم زوال عيب المغصوب بعد رده وقبض الأرش

حكم زوال عيب المغصوب بعد رده وقبض الأرش Q إن رد المغصوب معيباً، ثم زال عيبه في يد مالكه، وكان قد أخذ الأرش، فهل يلزمه رد الأرش للغاصب؟ A لا يلزمه؛ لأن العبرة بحال الأداء لا بما يطرأ بعد ذلك. والله تعالى أعلم.

الحث على غض البصر عن محارم الله

الحث على غض البصر عن محارم الله Q إن نعمة النظر من أجل نعم الله، وإن الله يثيب من غض عينه عن محارم الله، فكيف يمكننا أن نفوز بهذا الأجر، وخصوصاً من ابتلي بالنظر إلى ما حرم الله؟ A لا يوفق الإنسان لحفظ جوارحه مع حدود الله عز وجل إلا إذا عصمه الله بعصمته، وحفظه الله سبحانه وتعالى فصانه عما يغضبه جل شأنه وتقدست أسماؤه، ولذلك ينبغي للمسلم دائماً أن يسأل الله الحفظ. ومن أعظم ما يكون به الحفظ: أن يستعيذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن) فأول ما ينبغي على الإنسان أن يسأل الله العافية في سمعه وبصره وجوارحه. ثانياً: أن ينظر إلى نعم الله الذي نور بصره، وأطفأ بصر غيره، ولو أطبقت أطباء الدنيا على أن يعيدوا هذه النعمة لمن فقدها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً؛ ولذلك يحمد الله سبحانه وتعالى الذي أنعم عليه بهذه النعمة، وأن يعلم أنه مغبون فيها، وأن من شكر الله عز وجل أن يحفظ هذا البصر عن عورات وأعراض المسلمين، فإذا وفقه الله لهذا الشعور، وعرف قيمة نعمة الله واستحيا انكسر، وهذا من صلاح القلب؛ لأن القلب إذا صلح أثر على الجوارح، ولا يصلح القلب بشيء مثل: الإيمان بالله، والنظر في نعم الله عز وجل. كذلك مما يعين على غض البصر وحفظه عن حدود الله عز وجل: الأخذ بالأسباب، ومنها: البعد عن الأماكن التي فيها الفتن، والأماكن التي يتعرض الإنسان فيها للنظر إلى ما حرم الله، فيحفظ نفسه عن حضورها وشهودها والنزول فيها، حتى يحفظ الله له دينه، فإنه ما من نظرة إلى حرام إلا ولها أثر في القلب كما أخبر صلى الله عليه وسلم أنها تنكت في قلبه نكتة سوداء، حتى يصبح القلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه. ولله عقوبات في النظر إلى محارمه؛ فإنه ربما ابتلى الإنسان بالعمى على صراط جهنم والعياذ بالله، فعلى الإنسان أن يحفظ بصره. كذلك من العواقب الوخيمة للنظر إلى ما حرم الله: أن الله سبحانه وتعالى يفقد صاحبه نور البصيرة التي هي: الفراسة، فتصبح الأشياء عنده مستوية، والمؤمن عنده فراسة لا تخطئ غالباً؛ لأنه إذا حفظ جوارحه حفظه الله عز وجل وصانه وبارك له فيها. كذلك أيضاً: عليه أن ينظر إلى حسن العاقبة، فإنه إذا غض بصره عن حرمات الله عز وجل؛ أعظم الله له مثوبته، فما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه، ومن الإيمان بالله: ترك الشيء لله إذا كان تركه يرضي الله، فهذا من صريح الإيمان وصدقه، وهو من اليقين بالله سبحانه وتعالى أنه يأجره، ومن تصديقه لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن أعظم ما تكون الطاعة إذا كانت الفتنة أشد، فالنظر في الخلوة والنظر في الجمال الفاتن، والنظر في العورة الفاتنة أبلغ وأعظم، والغض عنه أعظم ثواباً وأجل، وخاصة إذا كان في حال الغيب، فإن الذي يخشى ربه بالغيب له مغفرة من الله وأجر عظيم وثواب كبير، وهذه المغفرة والأجر لا يعلم أجرها إلا الله وحده، فربما أعظم الله من وليه المؤمن الشاب الذي يتيسر له أن ينظر للحرام وهو في صحته وعافيته، أو ربما يفتن في نظرته للمرأة، ومع ذلك يستحي من الله جل جلاله، ويؤثر الله سبحانه على ما سواه، ويؤثر ما عند الله من حسن العاقبة وحسن الثواب، فيغض بصره لله وفي الله؛ فيعوض إيماناً بالله، وحلاوة يجدها في قلبه من الإيمان بالله سبحانه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح (كل العيون باكية أو دامعة يوم القيامة، إلا ثلاثة أعين: عين بكت من خشية الله، وعين سهرت في سبيل الله، وعين غضت عن محارم الله). نسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

حكم أخذ المغصوب منه عن الصاع من المغصوب صاعين

حكم أخذ المغصوب منه عن الصاع من المغصوب صاعين Q إذا خلط مالاً ربوياً كالبر بما هو أردأ أو العكس، وتصالحا على الصاع بصاعين من المخلوط، فما الحكم؟ A باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإذا وقع الصلح، جرت عليه أحكام البيع، فيجب التماثل ويجب التقابض، ولا يصح أن يكون أحدهما أزيد من الآخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عن ذلك كما في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت في حديث الأصناف، وفي الصحيحين من حديث عمر وأبي سعيد الخدري وغيره من الأحاديث التي دلت على وجوب التماثل في المطعومات، إذا كانت منها أصناف ربوية، فيجب التماثل ويجب التقابض، والله تعالى أعلم.

مسألة تضمين الغاصب عند تلف المغصوب بآفة سماوية

مسألة تضمين الغاصب عند تلف المغصوب بآفة سماوية Q أشكل عليَّ تضمين الغاصب إذا تلفت العين ولو بآفة سماوية، وعدم تضمينه عند نقص قيمة العين في السوق؟ A بالنسبة للتضمين، الأصل في يد الغاصب أنها يد معتدية وحينئذ هناك فرق بين التلف الذي يقع على اليد المعتدية متعلقاً بالعين، والتلف الذي يقع متعلقاً بالأحوال، فغلاء الأسعار ورخصها متعلق بالأحوال، والعين هي العين، موجودة كما هي، فالذي رده الغاصب هو عين المال، لكن إذا حصلت الآفة السماوية فإنه لا يرد عين المال؛ لأن التلف وقع على العين ووقع على الذات، وفرق بين النقص التابع للأحوال والنقص المتعلق بالأحوال؛ لأنه إذا نزلت الآفة السماوية على العين المغصوبة تضررت العين ونقصت، فنقول: إخراج المغصوب يوجب ضمانه، وحينئذ تلزم بالضمانة. بناء على ذلك: يوجد فرق بين غلاء الأسعار ورخصها؛ لأنه أحوال، وبين الآفة السماوية لأنها ضرر بالذات، والحقيقة عندما تحكم الشريعة بكون يد الغاصب يد ضمان هذا أصل شرعي وصحيح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) وإذا كانت العارية التي هي أخف من الغصب مضمونة، فكيف بإنسان يعتدي ويغصب؟ لكن على طالب العلم أن ينتبه أنه قد توجد بعض الأحوال الغريبة التي هي من الأحوال النادرة، لكنها لا تقدح في الأصل العام؛ لأنك لا تأتي وتلغي يد الغاصب المعتدية من أجل الآفة السماوية؛ لأنه ربما يخرجها فيتلفها غيره، من الذي أخرجها؟ ومن الذي يتحمل مسئولية الإخراج؟ فيد الغاصب يد معتدية وتتحمل مسئولية النقص المتعلق بالذات كما ذكرنا، دون النقص المتعلق بالأحوال مما هو من قدر الله عز وجل كالغلاء والرخص. والله تعالى أعلم.

باب الغصب [6]

شرح زاد المستقنع - باب الغصب [6] من عدل الشريعة أنها تلزم الغاصب بمثل ما غصب ولا تلزمه بما فوق ذلك، فإن لم يجد المثل انتقل إلى قيمته، وفي الأصل أن تصرفاته في المغصوب باطلة، ولكن لا يعني هذا أنه لا يقبل قوله أبداً في أي شيء يتعلق بالمغصوب، ولكن هذا له تفصيل عند العلماء رحمهم الله.

حكم تلف أو تغيب المغصوب

حكم تلف أو تغيب المغصوب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وما تلف أو تغيب من مغصوب مثلي غرم مثله إذاً، وإلا قيمته يوم تعذره]. شرع المصنف -رحمه الله- في هذه المسألة في بيان ضمان المغصوب إذا تلف أو تغيب وكان له مثلي، والمغصوب الذي له مثلي يكون من المكيلات ويكون من الموزونات، فلو أن شخصاً أخذ طعاماً كالأرز -مثلاً- أخذه غصباً من شخص وأتلف هذا الأرز فإنه يجب عليه أن يغرم له مثله، وهكذا لو اغتصب شيئاً فتغيب الشيء كما هو الحال في الدواب، فلو اغتصب ناقةً ففرت الناقة وغابت ولم يدر أين ذهبت، فإنه باغتصابه لهذه الناقة والدابة تكون يده يد ضمان، فيجب عليه أن يضمن مثلها.

ضمان المثلي بمثله

ضمان المثلي بمثله إذاً: مراد المصنف: أن الضمان للمثليات يكون بالمثل، والمثليات كالمكيلات والموزونات، وقد تكون المثليات من العدد كما هو موجود في زماننا كالسيارات ونحوها فيضمن مثلها، وللعلماء في هذه المسألة قولان: بعض العلماء يقول: أي شيء يغصب ويتلف يجب على غاصبه أن يدفع القيمة، ولا يرى أنه يدفع المثلي. وذهب طائفة من العلماء إلى أنه إذا كان الشيء المغصوب له مثل فإنه يجب عليه أن يضمن المثل، وهذا هو الذي درج عليه المصنف وهو مذهب الحنابلة -رحمةُ الله عليهم- في المشهور. فمن اغتصب شيئاً وهذا الشيء تلف وله مثلي، فإنه يجب عليه أن يرد لصاحبه المثل، ولا ننتقل إلى القيمة متى أمكن رد مثل الشيء الذي أتلفه، والدليل على ذلك: ما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أُتي بطعام من صفية رضي الله عنها وأرضاها، وكانت عنده أم المؤمنين عائشة وكانت صفية رضي الله عنها تحسن الطعام. ومن الجبلة والفطرة أن الإنسان ربما يغار، وخاصةً إذا كان مع أهل الفضل، فنساء النبي صلى الله عليه وسلم تصيبهن الغيرة، وهذا قد يكون -في بعض الأحوال- من أصالة المرأة؛ لأنها إذا كملت محبتها لزوجها تفانت في هذه المحبة إلى درجة أنها تغار. فلما أُتي بالطعام غارت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فضربت القصعة فكسرتها وسقط الطعام، حتى ورد في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يقول: (غارت أمكم، غارت أمكم، غارت أمكم) رضي الله عنها وأرضها، ومن الذي لا يغار على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فلما كُسر الإناء وذهب الطعام ندمت عائشة رضي الله عنها، وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يضيع سعي العبد إن خيراً فخير وإن شراً فشر، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ما صنعت، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضمان، وقال: (إناءٌ كإناء، وطعام كطعام) أي: اضمني إناءً مثل الإناء الذي كسرتيه، واضمني طعاماً مثل الطعام الذي أتلفتيه فدل هذا الحديث على أن الإتلاف والغصب يُبتدأ في ضمانه بالمثل، وأن من أتلف شيئاً نأمره أن ينظر إلى مثل ذلك الشيء إن وجد، وأننا لا ننتقل إلى القيمة متى أمكن وجود المثل، وهذا الأصل دلّت عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم ودلّ عليه صريح القرآن؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، وقال سبحانه وتعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، فقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} سمى ضمان الشيء ورد الشيء بمثله سيئة، وهذا ليس المراد منه أنها سيئة حقيقة؛ لأنه لو أساء إليك شخص فرددت إساءته بمثلها فلست بمسيء، فاستشكل العلماء -رحمهم الله- المثلية هنا، فقالوا: لأن الإنسان إذا أراد أن يرد سيئة ربما أخذته الحمية غالباً فزاد وجار، ولذلك قال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، والغالب أن الإنسان لا يحتمل نفسه ولا يستطيع أن يأخذ القصاص مثلاً بمثل؛ لأن الحمق والغيظ يدفعه إلى الزيادة، الشاهد في قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ} [النحل:126]، فوجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نعاقب بالمثل، ومن أتلف شيئاً فإنه يجب علينا أن نعاقبه على ذلك الإتلاف فنأمره بمثله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ}، فإذا كسر إناءً عاقبناه بالمثل وقلنا له: أحضر إناءً مثل الإناء الذي كسرته، ولو أخذ سيارة غصباً فأتلفها قلنا له: ائت بسيارة مثل تلك السيارة وأعطها لصاحبها، فتلك عقوبة بالمثل وامتثال لأمر الله سبحانه وتعالى في كتابه. وفي هذه الجملة دليل على أننا نضمن بالمثل، وهذا هو الصحيح من قولي العلماء؛ لظاهر القرآن وظاهر السنة، وهو مذهب الجمهور -رحمةُ الله عليهم- خلافاً للشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد. والسبب الذي جعل القائلين بأنه يضمن بالقيمة: أنهم استدلوا بحديث في الصحيحين في عتق الشرك: (أن من أعتق شركاً -يعني: نصيباً له في عبد- قوّم له قيمة عدل) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بضمان نصيب الآخر، بتقويم نصيب ذلك الآخر وإعطائه القيمة، ومثال ذلك: لو كان هناك عبد قيمته خمسة آلاف، وكان فيه شريكان، فأعتق أحد الشريكين نصيبه سرى العتاق، وحينئذٍ يضمن للشريك الآخر نصيبه بالقيمة على ظاهر الحديث. الشاهد: أنه أمر بالضمان بالقيمة، ولم يأمر بالضمان بالمثل، يعني: أمر أن يضمن نصيب صاحبه بالقيمة، وهذا كالإتلاف؛ لأنه فوت نصيب صاحبه بالعتق؛ ولا يمكننا هنا أن نأتي بالمثل؛ لأن هناك شراكة فلا نستطيع أن نذهب ونأخذ عبداً ونأتي بشخص ونقول له: شارك هذا الشخص حتى تتحقق المثلية، فحينئذٍ نقول: هذا الحديث نجيب عليه من وجوه: الوجه الأول: أن نقول: لا تعارض بين عامٍ وخاص، فالأصل في الضمانات المثلية إلا في مسألة عتق العبد فيضمن بالقيمة، فيصبح الحديث خاصاً في مسألة العتق، والضمان الأصل فيه عام، وهو: أنه يضمن بالمثل، هذا الوجه الأول، حيث تجعل الأصل عاماً وتجعل الحديث خاصاً، ولا تعارض بين عام وخاص. ثانياً: أن تقول: إن الأصل الذي يقتضي الضمان بالمثلية هو فيما يمكن فيه المثلية وأن يأتي بمثل ما أتلف، والحديث الذي معنا متعلق بالعتق ولا يمكن فيه الضمان بالمثل فانتقل للقيمة، وهذا من أقوى الوجوه وهو الوجه الثاني الذي يجاب به عن هذا الحديث.

ضمان قيمة المغصوب عند تعذر وجود مثله

ضمان قيمة المغصوب عند تعذر وجود مثله وقوله: [وإلا فقيمته يوم تعذره]. (وإلا) يعني: وإن لم يتمكن من وجود المثل لزمه أن يضمن حق أخيه المسلم بالقيمة، إذاً: القاعدة في الضمان: المثلية إن كان له مثل، فإذا لم يكن له مثل أو كان له مثل ولكن تعذر وجوده فحينئذٍ نقول له: اضمن قيمته، فالضمان يكون -أولاً- بالمثلية، فإن تعذرت المثلية انتقلنا إلى القيمة، والقيمة: أن نقوِّم هذا الشيء الذي أتلفه الغاصب، كشخص -مثلاً- أتلف سيارة غيره، سواءً كان متعمداً أو مخطئاً، فجئنا نطالبه بضمان ما جنته يداه من الإتلاف فقلنا له: ائت بسيارةٍ مثل هذه السيارة، فبحثنا ولم نجد، فحينئذٍ نقول: تقوّم هذه السيارة التي أتلفت ويطالب بدفع القيمة للمالك لها، فلو أتلف سيارةً وتعذر وجود مثلها أو لم يكن لها مثل فحينئذٍ نسأل أهل الخبرة: كم قيمة هذه السيارة؟ قالوا: قيمتها يوم تعذر وجود مثلها عشرة آلاف، نقول: يجب عليك الضمان بالقيمة لتعذر المثلي، فيرفع عشرة آلاف ريال لمالكها. وقوله: [وما تلف أو تغيب من مغصوبٍ مثلي غرم مثله إذاً، وإلا فقيمته يوم تعذره]. فقوله: (غرم مثله إذاً): التنوين هنا تنوين عوض، وهو عوض عن حرف وعوض عن جملة (فقيمته إذاً) أي: فقيمته في الحين الذي تعذر؛ لأن التنوين هنا عوض عن جملة كما قال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ} [الزلزلة:1 - 4] فالتقدير يوم تزلزل الأرض زلزالها وتخرج أثقالها ويقول الإنسان: ما لها {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4]، فهنا التنوين تنوين عوض عن جملة، فقوله: (قيمته إذاً) أي: في الحين إذا تعذر، وهذه مسألة خلافية. فائدة التنبيه على أن القيمة تكون حين التعذر: أنه ربما أتلف سيارةً في شهر محرم، وكانت قيمة السيارة في شهر محرم عشرة آلاف ريال، ثم بحثنا وكان للسيارة مثل، فجعلنا نبحث عن مثل هذه السيارة مدة أسبوع فنزلت قيمتها -مثلاً- إلى سبعة آلاف ريال، وتعذر وجودها، فالقيمة يوم التعذر سبعة آلاف والقيمة يوم التلف عشرة آلاف، ولربما تكون القيمة يوم الشراء عشرين ألفاً، فحينئذٍ العبرة بوقت التلف، وبعض الشراح يفهم من جملة (قيمته إذاً) أنه يجب حينئذٍ أن يضمن القيمة، وليس المراد يوم التعذر، فعلى هذا القول: يكون الضمان يوم التلف وليس يوم التعذر، (فقيمته إذاً) إشارة إلى الاستحقاق، أي: تلزمه القيمة بسبب عدم وجود المثل، والحقيقة كلا القولين له وجه وإن كان الثاني أظهر. قال رحمه الله: [ويضمن غير المثلي بقيمته يوم تلفه]. كانوا في القديم يصنعون أشياء لا يمكن أن يصنع مثلها من كل وجه، مثلاً: الأواني في زماننا يمكن إيجاد المثلي؛ لكن في القديم لا يمكن؛ لأنه إذا صنع الحداد إناء ربما وسع فيه وربما ضيق، ولم يكن هناك -مثل زماننا الآن- صبُّ الآنية بطريقة نظامية تعرف فيها أطوالها وتعرف فيها مقاساتها بشكل دقيق يمكن أن يوجد فيه المثل، فكانوا في القديم يمثلون بالأواني؛ لأن الغالب عدم انضباطها، فما كان من المغصوبات لا مثلي له، فحينئذٍ يجب ضمانه بالقيمة. لكن لو أن شخصاً أتلف مغصوباً لا مثلي له، وقلنا له: يجب عليك أن تدفع القيمة، فرضي صاحب المغصوب، وقال: أنا أرضى بالقيمة ما دام أنه ليس له مثل ثم قال: أنا اشتريته بعشرة آلاف، ونظرنا في الشيء المغصوب وجدنا أن صاحبه استخدمه سنتين كسيارة -مثلاً- فأصبحت قيمتها ثمانية آلاف، فهل العبرة بقيمتها يوم اشتراها، أم العبرة بقيمتها يوم أتلفها أم العبرة بقيمتها يوم اغتصبها؟ وفائدة ذلك: قد تكون قيمتها يوم الشراء غالية، وقيمتها يوم الاغتصاب دونها في الغلاء، وقيمتها يوم التلف أقل قيمة، فتكون القيمة بالشراء -مثلاً- عشرين ألفاً، فاغتصبها منه في شهر محرم وقيمتها عشرة آلاف، ثم بقيت مغصوبةً نصف سنة مثلاً، فأصبحت قيمتها خمسة آلاف عندما أتلفها، فهل يدفع عشرين ألفاً أو عشرة آلاف أو خمسة؟ اختلف العلماء في هذه المسألة، والأقوى في هذه المسألة قولان: القول الأول يقول: قيمتها يوم اغتصبها، والقول الثاني يقول: قيمتها يوم أتلفها، وهناك قول ثالث يقول: ننظر أغلى القيمتين؛ لأنه ربما كانت يوم التلف أغلى منها يوم الغصب وهذا قد يقع، ربما قد تكون قديمة فلما أتلفت أصحبت قيمتها أكثر أو ارتفع سوقها مثل: المجوهرات ونحوها، فاليوم الذي أتلفها فيه شاء الله أن قيمتها غالية، أو اغتصب بيتاً وهدمه، وقيمته يوم اغتصبه يعادل مائة ألف، ويوم أتلفه غلت قيمة المواد البنائية، فأصبحت قيمة بنائه خمسمائة ألف، فبعض العلماء يقول: نعتبر القيمة باليوم الذي اغتصب فيه الشيء، فإنه قد أصبح في ذمته ذلك الشيء، فنحن نوجب عليه ضمان القيمة بيوم الغصب. ومنهم من قال: لا. هو أخذ البيت الذي هو العقار، أو أخذ السيارة أو أخذ الدابة، ولكنه كان ملزماً بردها؛ لأنها موجودة، ولم يخاطب شرعاً بالضمان إلا بالتلف؛ لأن التلف هو الذي أوجب علينا أن نخاطبه بالضمان، وإلا لو كانت غير تالفة لردها، فأصبحت ذمته مشغولةً بالقيمة يوم التلف. وهذا القول من أقوى الأقوال: أن ضمانها يكون بقيمتها يوم تلفت، وإن كان الاحتياط بالنظر إلى أغلى القيم لا شك أنه أقوى، خاصةً وأن فيه نوعاً من التعزير، وهذا مقصود شرعاً للغاصب فيغرم أعلى القيمتين، وهذا على خلاف الشرع من حيث الأصل ولكن براءة لذمته، وبالاعتداء والغصب صار الأمر مختلفاً. الخلاصة: أننا نطالبه بالضمان بقيمة العين التالفة المغصوبة يوم تلفت ولا ينظر إلى قيمتها يوم اشتريت، ولا ينظر إلى قيمتها يوم اغتصبت، فيلزم بضمانها يوم تلفت؛ لأنه كان مغتصباً للعين مخاطباً بردها ولم يخاطب بالقيمة إلا لما أتلف، فأصبحت ذمته مشغولةً بالقيمة في يوم التلف وليس قبله؛ فلذلك نقول: يجب عليك دفع قيمتها يوم تلفت.

كيفية ضمان القيمة في حال تعذر المثلي

كيفية ضمان القيمة في حال تعذر المثلي وقوله: [وإن تخمر عصير فالمثل، فإن انقلب خلاً دفعه ومعه نقص قيمته عصيراً]. فقوله: (وإن تخمر عصير فالمثل). إن اغتصب عصيراً فبقي العصير عنده حتى صار خمراً، فحينئذٍ يتعذر ردّ المثل، وهذا يدل على دقة العلماء رحمهم الله، فهم أعطوك القاعدة وهي: أنه يجب عليك أن تحكم بضمان المغصوب بمثله، وإن تعذر المثل تنتقل إلى القيمة. يرد Q هل هناك صور يمكن أن توجد فيها العين المغصوبة ولا يطالب بردها، ويجب عليه ضمان مثلها، قالوا: نعم، إن أخذ العصير واغتصبه عصيراً وتحول هذا العصير إلى خمر، كعصير تفاح؛ لأن العصير إذا مكث مدة يتخمر، فأخذ عصير تفاح أو عنب فبقي عنده مدة يوم أو يومين فتخمر، فحينئذٍ لا يمكن رده؛ لأنه يجب إتلافه كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أبا طلحة رضي الله عنه أن يهريق الخمر وأن يكسر الإناء -وهو وعاء الخمر- فدلّ هذا على أنه يجب إتلاف الخمر. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المزادتين: (أن الرجل لما أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم المزادتين وحرم عليه بيعهما فتح المزادتين وسكبهما على الأرض)، وفي الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه أنه لما نزل تحريم الخمر جرت بها سكك المدينة عندما أهريقت وأتلفت، فالأصل أن الخمر تتلف، فلو أنه اغتصب عصيراً ثم تحول هذا العصير إلى خمر نقول: يد الغاصب يد ضمان، فيجب عليه أن يتلف هذا الخمر، وأن يرد لصاحب العصير مثله، وذلك لأن العصير يكون مثلياً فيجب عليه الضمان بالمثل، وقد يتحول الخمر إلى خل بطريقتين: الطريقة الأولى: أن يتحول بنفسه، وجمهرة أهل العلم: أن الخل إذا تحول بنفسه صار حلالاً طاهراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح: (نعم الإدام الخل)، والخل لا يمكن أن يصير خلاً إلا بعد أن يكون خمراً، وهذا المراد به: إذا تخلل بنفسه، والدليل على أنه يحل إذا تخلل بنفسه حديث أبي طلحة رضي الله عنه حينما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن خمر الأيتام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يريق الخمر، فلو كان يجوز تخليل الخمر لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقتها، فدل على أنه لا يجوز لمالك الخمر أن يخللها بنفسه، ولكن إن تخللت بنفسها فإنه يجوز وتكون طاهرةً حينئذٍ، فلو أنه اغتصب عصيراً فبقي العصير عنده مدةً من الزمان، فتحول فيها هذا العصير إلى خمر ثم صار خلاً، فإذا صار خلاً فالعين يمكن ردها إلى صاحبها، فنقول له: ردّ هذا الخل إلى صاحبه؛ لأن الخل فرعٌ عن العصير، والفرع تابعٌ لأصله، فالمال مال المغصوب منه، فيجب عليك رد الخل، ثم ننظر: هل اختلفت قيمة الخل والعصير، فلا تخلو من ثلاث صور: الصورة الأولى: أن تتفق القيمتان، كأن تكون قيمة العصير مائة ريال، فعندما غصبه كمية من العصير تخمرت ثم تخللت، فصارت قيمته خلاً بمائة ريال، فحينئذٍ يرده خلاً ولا إشكال. الحالة الثانية: أن تكون القيمة ناقصة بعد أن صار خلاً. الحالة الثالثة: أن تكون القيمة أغلى إذا صار خلاً. فإذا تخلل وصارت قيمته أقل، قلنا له: ردّ الخل وادفع الفرق، وقد بينا دليل هذه المسألة وأقوال العلماء فيها، وقررنا أن من اغتصب شيئاً وأمسك ذلك الشيء حتى نقصت قيمته فإنه يجب عليه الضمان، واستثنينا مسألة غلاء السوق ويكاد يكون إجماع أهل العلم عليها إلا قول أبي ثور إبراهيم بن خالد بن يزيد الكلبي رحمه الله الذي قال: تضمن قيمة غلاء السوق. أما إذا كان الأمر بالعكس فتكون قيمة الخل أغلى، كأن يغتصب عصيراً قيمته مائة فأصبحت قيمته خلاً مائتين، فحينئذٍ يرد الخل ولا ضمان عليه.

بطلان تصرفات الغاصب الحكمية

بطلان تصرفات الغاصب الحكمية قال رحمه الله: [فصل: وتصرفات الغاصب الحكمية باطلة]. (تصرفات الغاصب): هذا الموضع والمسائل التي ذكرها المصنف رحمه الله في بداية هذا الفصل تتعلق بالتصرفات في العقود من بيعٍ وهبةٍ ووقفٍ وغير ذلك، فبعد أن بيّن لنا تصرفات الغاصب الفعلية شرع في تصرفاته الحكمية ببيع المغصوب، و (الحكمية): أي: الحكم على الشيء من حيث الصحة والفساد، تصرفات الغاصب الحكمية المعنوية باطلةٌ، هذا أصل، والدليل على ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس لعرق ظالمٍ حق)، وقد حرم الله عز وجل أموال المسلمين، وجعل حُرمة المال كحرمة الدم، وإذا كان المال محرماً على الإنسان فتصرف فيه بدون ملكية وبدون إذنٍ وبدون ولايةٍ فتصرفه باطل؛ لأن المال ليس ملكاً له، فلو أن شخصاً جاء واغتصب سيارتك ثم باعها، فنحكم على البيع الثاني بالبطلان، ولو أخذ سيارتك ووهبها إلى شخص فإننا نحكم على هذه الهبة بأنها باطلة ويجب رد السيارة إلى مالكها. فقوله: (باطلة): الباطل لا تترتب عليه الأحكام الشرعية بحيث لا يحكم بصحة البيع ولا بصحة الهبة، ولا يحكم بالآثار المترتبة عليه، فمثلاً: لو أنه اغتصب جاريةً ثم وطئها، فإن هذا الوطء يعتبر وطء زنا بالنسبة له، وبالنسبة للجارية: إذا أكرهت على جماعه وعلى استمتاعه كان حكمها حكم الإكراه على الزنا وسيأتي -إن شاء الله- في باب الحدود، فإذا وطئها وهو غاصب لها، فإنه لا يجوز لها أن تمكنه من نفسها، فهذا التصرف بالوطء نعتبره زنا، فإذا كان متزوجاً فإنه يرجم وحينئذٍ نعتبره متعدياً لحد الله عز وجل مرتكباً للزنا؛ لأنه يعلم أن هذه الجارية لا تحل له، وعلى هذا: فإذا وطئها يكون حكمه حكم الزنا ولا إشكال في ذلك. لكن لو تصرف بالبيع أو تصرف بالهبة فيكون الضمان للعين ويجب عليه ردّ العين، وأما بالنسبة لما يترتب على الآثار المترتبة على هذا البيع وعلى الهبة؛ فإنه لا تترتب آثار شرعية، فكل ما بُني على هذا البيع فهو باطل. فلو باع سيارةً لإنسان بعشرة آلاف، والسيارة مغصوبةٌ ثم قام الثاني ببيعها لشخص آخر ثم بيعت إلى ثالث أو رابعٍ فجميع البيوع باطلة؛ لأن ما بني على باطل فهو باطل، والقاعدة: أن الفرع آخذ حكم أصله، فالبيع الثاني فرعٌ عن البيع الأول؛ لأن البائع في البيع الثاني باع بملكية يدعيها من البيع الأول وبناها عليه، فإذا أسقطت البيع الأول أسقطت ما بعده من البيوعات، ثم لو أن الأخير الذي اشترى وهب السيارة أو تصدق بها حكمنا ببطلان البيع والهبة والصدقة؛ لأن جميع ما بني على باطل يحكم ببطلانه ويجب رد هذه السيارة إلى صاحبها وضمانها.

اعتبار قول الغاصب في قيمة التالف وقدره وصفته

اعتبار قول الغاصب في قيمة التالف وقدره وصفته قال رحمه الله: [والقول في قيمة التالف أو قدره أو صفته قوله]. إذا كان الغاصب يجب عليه أن يدفع القيمة، فيبقى Q إذا اختلف الغاصب والمالك، نحن علمنا: أنه إذا أتلف الغاصب شيئاً ألزمناه بالقيمة، وأن هذه القيمة تقدر بيوم التلف، وبينا أن سبب ذلك: أن ذمته تشغل بضمان القيمة يوم التلف، فإذا ثبت هذا: فما الحكم إذا اختلف الغاصب مع صاحب العين، فقال صاحب العين: قيمتها مائة ألف ريال، وقال الغاصب: بل قيمتها تسعون ألفاً، فهل نصدق المالك ونقول للغاصب: ادفع مائة ألف، أو نصدق الغاصب ونقول له: ادفع تسعين ألفاً؟ A أن القول قول الغاصب إلا إذا قامت البينة على صدق المغصوب منه والمالك، وهذا مبني على أنه: إذا اختلف الاثنان في القيمة، فقال الغاصب: قيمتها تسعون ألفاً، وقال المالك: بل مائة ألف، فتجزم بأن التسعين ألفاً هي القيمة أي اليقين: أن التسعين ألفاً هي القيمة؛ لأنه لما قال الغاصب تسعين، وقال المالك: مائة، اتفقوا على أنها بلغت تسعين واختلفوا في العشرة آلاف الزائدة التي ما بين المائة والتسعين فهل نصدق المالك أو الغاصب؟ فتقول: التسعين لا إشكال أنها ثابتة، فيبقى السؤال في العشرة آلاف التي يدعيها المالك على الغاصب، وكل من ادعى شيئاً، فالقول بخلافه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناسٌ دماء أقوام وأموالهم ولكن اليمين على من أنكر)، فبين عليه الصلاة والسلام: أن المدعي للزائد يطالب بالبينة، وعلى هذا نقول: يجب على مالك السيارة أن يثبت بشهادة الشهود أو شهادة أهل الخبرة أن السيارة يوم التلف تستحق مائة ألف وإلا أخذ التسعين، وإذا أنكر الغاصب فإنه يحلف اليمين، وهذا هو معنى قولهم: (فالقول قوله مع يمينه) وعلى هذا: إذا ذهب الاثنان إلى القاضي، فسيقول القاضي للغاصب: كم قيمتها؟ يقول: قيمتها تسعون. ويقول للمالك: كم قيمتها؟ يقول: مائة. فيسأل المالك صاحب العين المغصوبة: ألك بينة؟ قال: ما عندي بينة. يقول له: ليس لك إلا يمينه. فيحلف الغاصب ويقول: والله إن قيمتها يوم التلف تسعون ألفاً، فإذا حلف برئ، وإلا ردت اليمين كما هو معلوم في القضاء. وقوله: (أو قدره). القدر يرجع إلى العدد، فإذا ادعى الغاصب أن له ثلاث سيارات، ثم قال المالك: بل أربع سيارات، واختلف في قدر المغصوب، هل هو ثلاث سيارات أو أربع سيارات؟ فنقول: القول قول الغاصب؛ لأن الغاصب يقول: ثلاث سيارات، والمالك يقول: أربع سيارات، فكلهم متفقون على ثلاث، والشك في الرابعة، والقاعدة: أن الغارم مدعىً عليه، وهذا عند بعض العلماء: أن كل من عليه الغرم يعتبر مدعىً عليه، فيكون القول قوله، فالغاصب الآن غارم، فإذا قلنا: إنه يقول له: بل أربع سيارات. فحينئذٍ القول قول الغاصب حتى يقيم المالك بينة وشهوداً على العدد الذي ادعاه فيكون القول قوله. وقوله: (أو صفته قوله). قال المالك للغاصب: إن السيارة التي أتلفتها من النوع الممتاز. قال الغاصب: لا. بل من النوع الرديء. كأن يكون هناك نوع من أغلى الأنواع الذي هو أجود أنواعها وفيها -مثلاً- أربعة أنواع، فقال له: إن الذي اغتصبته النوع الممتاز، وطبعاً سيقول المالك هذا؛ لأن هذا أحظ له وأكثر قيمة، قال الغاصب: أبداً، بل كانت السيارة من النوع الرديء، قال له: اغتصبت سيارة مكيفة، قال: لا. بل اغتصبت سيارة غير مكيفة، قال: اغتصبت إذاً سيارة أتوماتيكية، قال: لا. بل سيارة عادية، فهذه الأوصاف الموجودة التي تختلف من زمان إلى زمان ينظر فيها إلى القدر المشترك بين الطرفين، ونقول: اليقين أنها سيارة من نوع عادي، وأن أوصافها عادية حتى يثبت أنها من الأوصاف الممتازة، أو قال: أتلفت ساعةً من النوع الممتاز، وهو نوع كذا وكذا. قال: لا. بل أتلفت ساعة من نوع كذا وكذا، وهو نوع أردأ أو أقل، فنقول حينئذٍ: القول قول الغاصب حتى يثبت المالك أنها من النوع الممتاز أو الجيد، وهكذا في بقية الأمثلة، فالقول قوله، القاعدة هي هي، والمسألة هي هي، فنقول: القول قول الغاصب؛ لأنه غارم، وهذا وجه عند بعض العلماء، والغارم مدعى عليه، ولأنهما اتفقا على الرديء، وليس عندنا يقين على الجيد؛ ولأن الأصل هو براءة ذمته حتى يدل الدليل على شغلها، فلما أثبت أن المغصوب على هذه الصفة التي ذكرها من الرداءة، وقد أثبت للمغصوب المستحق صفةً يكون على مثلها، وادعى المالك ما هو زائد، فسيكون حينئذٍ مطالباً بالبينة والدليل، وكل هذه وجوه نخرج عليها هذا القول الذي اختاره المصنف وجماعة من أهل العلم رحمهم الله.

اعتبار قول المغصوب منه في رد المغصوب وعيبه

اعتبار قول المغصوب منه في رد المغصوب وعيبه قال رحمه الله: [وفي رده وعدم عيبه قول ربه]. هنا المسألة على العكس، إذا اختلفوا في القيمة والقدر والصفة فالقول قول الغاصب؛ لأنه سيتحمل المسئولية، لكن لو اختلف الغاصب والمالك في الرد، والمراد بالرد: رد المغصوب، كشخص اغتصب من شخصٍ سيارة، وذهب واشتكاه إلى القاضي، وقال: إن فلاناً اعتدى على سيارتي واغتصبها، وأطالب القاضي بمطالبته بإحضار سيارتي. فجاء الغاصب وقال: نعم، اغتصبت منه السيارة ولكن رددتها له. فحينئذٍ: الغاصب معترف بأنه اغتصب السيارة، فاعترف باليقين أنه اغتصب، ونشك هل رد أو لم يرد، والأصل أنه ما ردها؛ لأن نحن متأكدون ومستيقنون أنه حصل الغصب، وشككنا هل الغصب انتهى أم لا، فلا بد أن تكون هناك بينة ودليل على أن الغصب قد انتهى، فإما أن يقر المالك ويقول: ردّ عليّ حقي، أو يقيم المغتصب الشهود على أنه أحضر له سيارته التي ادعى أنها غصبت، ومثل هذا: الإقرار كأن يقول: ما ردّ السيارة، ثم يتذكر ويقول: نعم ردها، فهذا إقرار وتنقطع به الخصومة، مثال البينة والشهود: قال: اغتصب سيارتي في شهر محرم، ولم يردها إلى اليوم، فقال الغاصب: بل رددتها وعندي شاهدان يشهدان على أني رددتها يوم الخميس الماضي، والخصومة يوم السبت، فجاء الشاهدان وشهدا أن زيداً الغاصب جاء بالسيارة إلى عمرٍو المغصوب منه وسلمه السيارة وأعطاه مفاتيحها، وقد رأيا ذلك واطلعا عليه وشهدا عند القاضي، فنتحقق أن الغصب قد رد، ونقول للمغصوب منه: إنك قد أثبت غصباً، وثبت بالبينة انتقاله وارتفاعه ورد المغصوب إليك، فانقطع ما تدعيه ويكون القول قول الغاصب، وفي هذه الحالة: القول يكون قول المغصوب منه -وهو المالك- حتى يحدث الغاصب البينة. إذاً: حال الرد خلاف الأصل، فنحن مستيقنون والأصل عندنا أنه مغتصب، فمعنى ذلك: أننا لا ننتقل من هذا اليقين إلا بيقين مثله ونقول له: أنت تعترف أنك غصبت، وليس هناك دليل يدل على نقيض هذا الذي اعترفت به -وهو الغصب- من ردك للعين، فيجب عليك الضمان، ولا يصدق الغاصب أنه ردّ العين. وقوله: (وعدم عيبه). إذا اتفق الغاصب والمالك على أن الغاصب قد اغتصب سيارة، فقال المالك: السيارة كانت نظيفة وليس فيها أي عيب. فقال الغاصب: بل اغتصبت منه سيارة مصدومة، أو سيارة بها تلف في أجهزتها أو في أي شيءٍ منها. إذاً: الخلاف هل فيها عيب أو ليس فيها عيب، فالكل متفق على وجود الغصب، فلا إشكال أن السيارة مغصوبة، ولكن الإشكال هل هي كاملة لا عيب فيها أو هي ناقصة؟ فالقول هنا قول المالك؛ لأن الأصل في العين ألا تكون معيبة، والأصل في الأشياء أن تكون كاملة حتى يدل الدليل على نقصها، فنقول للغاصب: أنت اعترفت أنك اغتصبت سيارة، فنحن نقول: الأصل أنها سيارة نظيفة، والأصل أنها سيارة لا عيب فيها حتى تثبت بالشهود أنها كانت معيبة، أو يقر ويعترف صاحبها. وأيضاً لو اغتصب منه عمارة ولما جاء يردها إذا بالعمارة فيها شيء تالف مثل: الكهرباء أو في تسليك الماء أو في بنائها حدث فيه عطل أو انهدم بعض الدار، فقال الغاصب: أخذتها على هذه الصفة المعيبة الناقصة، وقال المالك: بل كانت عمارتي تامةً كاملة، فحينئذٍ نصدق المالك؛ لأن الأصل في العمارة: أنها كاملة ونظيفة وسالمة من العيب حتى يدل الدليل على أن فيها غيباً. والفرق واضح بين الأمرين: هناك في القيمة والصفة وقدر المغصوب يكون الغاصب مدعى عليه، ولكن هنا لما أخذ عيناً فعندنا أصول في الأعيان، ومنها: أن العين من حيث الأصل تكون كاملة، فالبيوت تكون كاملة لا عيب فيها، وكذلك السيارات، فإذا أخذت سيارة أو دابة فالأصل أنها غير معيبة حتى يدل الدليل على نقصها وتعيبها فنقول له: أقم البينة على صدق ما ذكرت وأنها كانت معيبة وإلا ألزمت بدفع قيمتها كاملةً أو ضمان ذلك النقص.

حكم المغصوب عند عدم معرفة صاحبه

حكم المغصوب عند عدم معرفة صاحبه قال رحمه الله: [وإن جهل ربه تصدق به عنه مضمونا]. (وإن جهل) أي: الغاصب جهل صاحب العين المغصوبة، مثال ذلك: شخصٌ اغتصب سيارةً ثمّ لم يدر من هو صاحبها الذي اغتصبها منه، مثل: شخص جاء بالقوة ووجد رجلاً راكباً في سيارته فهدده بالسلاح وأخذ سيارته منه، ثم لا يعرف من هو حتى يرد سيارته إليه، هذا كمثال، وفي القديم يقع في الدواب ويقع في الدور والأراضي، وهذه المسألة رتبها المصنف -رحمه الله- بعد المسائل المتقدمة، والترتيب منطقي وصحيح؛ لأن أول ما تتحدث عنه رد العين المغصوبة كاملةً إذا كانت موجودة، وإذا كانت غير موجودة ولها مثل رد مثلها، وإذا كانت غير موجودة ولا مثل لها رد قيمتها، فبعد أن انتهى المصنف من ذكر هذا كله، يرد في القيمة مسألة: هل هي كاملة أو هي ناقصة؛ لأن القيمة تتأثر بالكمال والنقص، فأدخل مسألة الخلاف في تعين المغصوب ونقصه وقيمته. إلى آخره، وبعدما فرغ من هذا: شرع -رحمه الله- في مسألة إذا جهل المالك، فكل المسائل المتقدمة إذا وجد المالك للمغصوب فحينئذٍ يتفاهم معه وكلٌ يأخذ حقه، لكن لو لم يعلم صاحب الشيء المغصوب، فما الحكم؟ هل هذه الأحكام المتقدمة تسقط؟ ضمان العين وضمان المثل وضمان القيمة؟ فإذا كان مالك السيارة لا يعرفه أو كان يعرفه ثم غاب عنه ولم يدر أين ذهب، ولا يعرف هل هو حيٌ أو ميت، فحينئذٍ يرد Q ماذا يفعل؟ و A في هذه الحالة قال بعض العلماء: يضمن إذا وجد مالكها، ويكون كاللقطة، يستحقها ويأخذها له حتى يجد صاحبها، وقال بعض العلماء: بل يتصدق بها على نية صاحبها، والسبب في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى يقتص للعباد بعضهم من بعض، ويكون القصاص في المظالم -إذا كانت حقوقاً مالية ونحو ذلك- يكون القصاص بالحسنات كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتدرون من المفلس؟ قالو: يا رسول الله! المفلس فينا من لا دينار له ولا درهم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إنما المفلس الذي يأتي يوم القيامة وقد شتم هذا، وأكل مال هذا، فيؤخذ من حسناته على قدر مظلمته)، لاحظ في قوله: (وأكل مال هذا، فيؤخذ من حسناته على قدر مظلمته)، المظلمة عامة: فشملت مظالم الغصوبات وغيرها، فيؤخذ من حسنات الغاصب على قدر مظلمته، فإذا تصدق بالمغصوب فإذا وافى الله يوم القيامة أخذت حسنات المغصوب وأعطيت لصاحبه فبرئت ذمته، فهذا المذهب هو أعدل المذاهب وأولاها -إن شاء الله- بالصواب، أن يتصدق به على نية صاحبه إبراءً لذمته. أما لو أنه تصدق وبعد زمن ظهر صاحبه؛ فحينئذٍ تكون الصدقة مبينة على ظن الموت وجهالة الحال، يعني: من حيث تعذر وصول الحق إلى صاحبه، فلما ظن تعذر ذلك وبان خطأ الظن سقط ذلك ووجب عليه الضمان؛ لأن القاعدة تقول: (لا عبرة بالظن البين خطؤه) فهو ظن أنه لن يستطيع أن يجد صاحبه، فلما ظن ذلك وتبين خطأ هذا الظن وجد عليه ضمان العين المغصوبة وحينئذٍ تكون له الحسنات ولا تكون للمالك الحقيقي، كأن التصدق فقط لدفع المظلمة، فإذا أمكن أن يأخذ حقه في الدنيا فإنه لا يصار إلى مظلمة الآخرة. إذا سرق مالاً لإنسان وتعذر عليه أن يعرف صاحب المال، فإنه يتصدق به على نية صاحبه، فمثلاً: شخص سرق -مثلاً- عشرة آلاف من بقالة ثم مات صاحب هذه (البقالة) التي سرق منها، وهو يعلم ورثته، فحينئذٍ لا يصح أن يتصدق؛ لأن المال انتقل إلى الورثة، وحينئذٍ يجب عليه أن يدفع إلى ورثة المسروق منه، فالغصب والسرقة يتصدق فيهما بالشيء مغصوب وبالشيءٍ مسروق إذا تعذر وجود صاحبه، فإذا وجده بعد ذلك أو وجد ورثته ضمن لهم على الأصل الذي قررناه في الضمان.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين الغصب والسرقة

الفرق بين الغصب والسرقة Q ما الفرق بين الغصب والسرقة؟ A هناك فروق بين الغصب والسرقة منها: أولاً: أن الغصب يكون بالقوة والقهر، والسرقة تكون بالخفية والخفاء، فالمغصوب يؤخذ بالقوة والغلبة، والمسروق يؤخذ بالخلسة، إلى درجة أن صاحبه لا يشعر أنه أخذ منه ذلك الشيء، فأثناء الأخذ إذا نظرت إلى الغصب ففيه علم، وإذا نظرت إلى السرقة ففيها جهل. ثانياً: أن الغصب لا يجب فيه من حيث حكم الشرع عقوبة محددة مقدرة، والسرقة فيها العقوبة المحددة المقدرة إذا وجدت الشروط واستوفيت. ثالثاً: أن وصف الشيء بكونه مسروقاً أو كونه مغصوباً يختلف؛ ففي الغصب يقع الوصف على كل قليل وكثيرٍ جليل وحقير وبإمكانك تقول: اغتصب مسواكاً وهو دون نصاب السرقة، لكن في السرقة لا يمكن أن نقول: سرق إلا إذا بلغ نصاب السرقة، فالسرقة لها حد، ولها قدر لا يمكن أن نصف الشخص بكونه سارقاً إلا إذا بلغ المسروق هذا الحد. رابعاً: أن السرقة لا يوصف المال فيها بكونه مسروقاً إلا إذا أُخِذ من حرز، فإذا كان المال في صناديق مغلقة، نقول: حينئذٍ: سرق المال وكسر أو عالج مفاتيحها، لكن الغصب سواءً كان المال موضوعاً في حرز أو في غير حرز ما دام أنه أُخِذ بالقوة فإنه يوصف بكونه مغصوباً، وهناك فروق أخرى، لكن هذه من أهم الفروق بين الغصب وبين السرقة، وهناك طبعاً مسألة ضمان المسروق، فقد اتفق العلماء: على ضمان المغصوب، لكنهم اختلفوا في ضمان المال المسروق، فبعض العلماء يقول: إنها تقطع يد السارق ولا يضمن المال، وبعضهم يقول: تقطع يده ويجب أن يرد المال إلى صاحبه، والله تعالى أعلم.

استغلال الأوقات في طاعة الله

استغلال الأوقات في طاعة الله Q الفراغ والشباب من نعم الله عز وجل التي يحاسب عليها يوم القيامة، فما توجيهكم تجاه هاتين النعمتين حتى يمكن استغلالها فيما يرضي الله عز وجل؟ A إن الله تعالى إذا أحب عبداً من عباده وأراده للخير والطاعة والبر بارك له في عمره وبارك له في ساعات ليله ونهاره، وهيأ له الخير في صبحه ومسائه، فلا تفتر له عزيمة، ولا يكلّ ولا يسأم من طاعة الله سبحانه وتعالى، فيجد ويجتهد، وكلما قضى طاعةً شمّر عن ساعد الجد لطاعةٍ غيرها، شاكراً لله، حامداً لنعمه، قائماً بحقوقه وفرائضه، مجتنباً لحدوده ومحارمه، يتلمس مرضاة الله في كل دقيقة وثانية وساعةٍ وبرهة، لا يعرف إضاعة الأوقات، ولا انتهاك المحرمات، ولا لهو الساعات، يستشعر أن كل دقيقة وثانية ربما قدمته إلى نار أو إلى جنة، فالبركة في الساعات والبركة في الأوقات رحمة من الله سبحانه وتعالى يرحم بها من يشاء. وكم من ساعةٍ أقام العبد فيها طاعة الله فحجبته عن عقابه وغضبه! وكم من ساعة انتهك فيها العبد حدود الله فزلت قدمه وساءت خاتمته! نسأل الله السلامة والعافية! فعلى الإنسان أن يعرف نعمة الله سبحانه وتعالى عليه بالعمر، ومما يعين الإنسان على التفكر والتدبر واغتنام ساعات العمر: أن ينظر إلى من حرم هذه النعمة، فينظر إلى الذين سلفوا وأقبلوا على ما قدموا، فيتذكر أهل القبور وما هم فيه من الحسرات، يتمنى الواحد منهم الساعات واللحظات لو أنها قضيت في الطاعات والمضاة، وتصوّر الإنسان أنه في هذه الساعة رهين الأكفان والبلاء بين يدي الله جل وعلا محتبساً مرهوناً في قبره يتمنى أن يزاد في صحيفة عمله تسبيحة أو استغفار أو تحميد لله سبحانه وتعالى. إن هذه العطلة وهذا الفراغ نعمة عظيمة من الله سبحانه وتعالى، ولا بد لكل مسلمٍ أن يهيئ الأسباب لكي يبارك الله له في هذه العطلة، ومن أعظم الأسباب: أن يكثر من الدعاء، فلا يصبح ولا يمسي إلا وقد ذكر ربه واطرح بين يدي الله بدعوةٍ صادقة، فإنه لا معين على الخير إلا الله سبحانه وتعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! الأمر الثاني: الأخذ بالأسباب التي يبارك بها في العمر، فإن الله تعالى إذا أراد أن يبارك للعبد في عمره هيأ له أسباب الخير، وليس هناك سبب بعد توحيد الله والإيمان بالله عز وجل يبارك بسببه في عمر الإنسان مثل بر الوالدين، فإن برهما والقيام عليهما ورعاية مصالحهما يبسط الله للعبد بذلك في رزقه وينسئ له في أثره، ويزيد له الخير والبركة في عمره، فلن تجد باراً إلا وجدته موفقاً، ما طرق باباً من الخير إلا فتحه الله في وجهه، ولا سلك سبيلاً من البر إلا يسره الله عز وجل من حيث لا يحتسب، البر بر الوالدين، فتمضي هذه العطلة وقد فاز العبد الموفق السعيد برضا والديه، وإياك ثم إياك وتوهين الشيطان، فإن بر الوالدين قد يكون بالجلوس عندهما، وقد يكون بالقيام على مصالحهما، وقد يكون برعايتهما وعلاجهما ومساعدتهما في التداوي حتى يتم شفاؤهما بإذن الله من الأمراض، فأي مصلحة وأي خيرٍ وأي نعمة تسديها إلى الوالدين فإنها من برهما. فاحرص كل الحرص على اغتنام العمر واغتنام هذه العطلة في رضا الوالدين فهذا من أفضل ما أنفقت فيه الأعمار وقضيت فيه ساعات الليل والنهار، فإن الله تعالى إذا علم من العبد حبه لوالديه وحرصه على برهما بلغه أعلى المراتب، فكل يوم تحرص على أنك تفوز بضاهما تحصل رضا أكثر من الرضا الذي كنت فيه من بر الوالدين، إن كانا في مدينة غير مدينتك سافرت إليهما، ولزمت أقدامهما وأدخلت السرور عليهما ومتعتهما بالنظر إليك والجلوس معك والأنس بك، وأدخلت السرور عليهما في قضاء الحوائج والمصالح والملاطفة، ذاكراً وصية الله من فوق سبع سماوات: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36]. كذلك مما يبارك بسببه في عمر الإنسان: صلة الرحم، فتمر عليك هذه العطلة فتأخذ أبناءك وبناتك وأهلك وزوجك إلى زيارة الأعمام والعمات والأخوال والخالات، فينظر الله سبحانه وتعالى إليك وقد غبرت قدميك خائفاً منه، راجياً رحمته، تلتمس عفوه في صلة الرحم، خرجت من بيتك مشفقاً، خائفاً وجلا من هذه الرحم التي يقطع الله من قطعها، راجياً لرحمةِ الله في هذه الرحم التي يصل الله من وصلها. الناس اليوم من أحوج ما يكونون إلى الصلة الاجتماعية، وأكثر ما وقع من الدمار والتردي الذي يعيشه الناس في النفسيات والهموم والكربات كان من أعظم أسبابه: قطيعة الرحم. كان الرجل قبل خمسين عاماً وفي أيام الشدة التي لا يعلمها إلا الله يسافر مئات الكيلو مترات من أجل أن يسلم على أخته أو يزور عمته أو خالته ملتمساً مرضاة الله، والله أعلم ما الذي يرجع به إلى أهله إذا رجع من هذه الصلة. صلة الرحم من أعظم الأسباب التي يبارك بسببها في الأعمار والأوقات، ومن أعظم الأسباب التي تنشرح بها الصدور،: خديجة رضي الله عنها، لما دخل عليها رسول الله عليه وسلم ذعراً مرعوباً مرهوباً، قالت له: (كلا والله، لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم)، فالذي يصل الرحم لا يخزيه الله، ولن ترى عينك واصلاً للرحم وهو في خزي أبداً، بل إنه في رحمة وفي توفيق من الله سبحانه وتعالى، وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: (إني أنا الله خلقت الرحم واشتققت لها اسماً من اسمي، فأنا الرحمن وهي الرحم، من وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته). الأخت حينما تدخل عليها خاصةً بعد موت الوالد والوالدة من أحوج ما تكون إلى زيارة أخ يصلها، ويمسح على رءوس أبنائها ويلاطفها ويشعرها أمام زوجها أن لها مكانة، فلا أحد يعلم مقدار هذه الأحاسيس والمشاعر ومقدار هذه الملاطفة وهذا الإحسان إلا الله وحده الذي وصىّ بصلة الرحم من فوق سبع سماوات، ورتب عليها الخير ورتب على عكسها وضدها ضد ذلك، فالحرص كل الحرص على صلة الرحم؛ لأن الإنسان أيام الدراسة وأيام العمل مشغول ولكن الآن لا يعذر، وإذا وصلت فينبغي أن تكون أكرم من وصلت وتسعى إلى درجات الكمال، فإن وجدت الأخت بحاجة قضيت حاجتها، وإن وجدتها في كربة وأنت قادر -بإذن الله- فرجت كربتها، وإن وجدتها في همٍ وغم ذكرتها الله جل جلاله الذي يبدد الهموم والغموم ويزيل الكربات، فلا يمر عليك أسبوع حتى ولو كنت في شغل ولك رحمٍ تصلها إلا بارك الله لك في عمرك: (من أحب منكم أن ينسأ له في أثره، وأن يبسط له في رزقه، وأن يزاد له في عمره؛ فليصل رحمه)، وقالوا: إنها من الطاعات التي تعجل فيها المثوبة والعقوبة، فصلة الرحم عقوبتها عاجلة، وأيضاً نعمتها وخيرها وبرها وأثرها وبركتها عاجله، مع ما أعد الله من الآجل للعبد. كذلك مما تنفق فيه الأعمار وتقضى فيه ساعات الليل والنهار وهو من أحب ما يرضي الله عز وجل: قيام الليل، فإن الإنسان إذا كان في أثناء عمله وشغله قد لا يستطيع أن يقيم الليل ويتعذر بالمشاغل، ولكن اجعل لك ساعات ولحظات تخلو فيها بربك إذا هدأت العيون وسكنت الجفون، قال أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه: (صلوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور، وصوموا يوماً شديداً حره لحر يوم النشور)، فمن أراد أن ينور الله ظلمة قبره، بل من أراد أن يسدد الله لسانه، وأن يقوّم بنانه وأن يصلح شأنه وحاله فليحرص على قيام الليل، فإن الله لما أوحى إلى نبيه بالرسالة -عجبت والله- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2]، فأول ما أمر الله به بعد توحيده قيام الليل، قالوا: لأن هذا يعين على الرسالة، فإذا أعان على أفضل الأشياء وأعظمها وأجلها فمن باب أولى أن يعين على غير ذلك، وذكر الله وبيّن سبحانه أن قيام الليل فيه خير كثير حتى على كلام الإنسان: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6]، قال بعض العلماء: لا يحافظ على قيام الليل أحدٌ إلا سُدد في لسانه وعصم من فتنة قوله وبيانه، فيحرص الإنسان على هذا الخير العظيم. كذلك من الطاعات: صيام الإثنين والخميس، وصيام يوم وإفطار يوم وهو أفضل الصيام وأحبه إلى الله عز وجل، وكذلك صيام الأيام البيض، وكذلك أيضاً من الطاعات والقربات التي ينبغي للمسلم أن يحرص عليها: طلب العلم، فإن الله عز وجل أحبه وأحب أهله، فيحرص على زيارة العلماء وغشيان حِلق الذكْر، ويجلس في رياض الخير يخلو فيها بطاعة الله عز وجل ومرضاته، لعل الله أن يحمله علماً نافعاً، وأن يبارك فيما تعلمه وعلمه، ويحرص إذا جلس في مجالس العلم على أن يكون في مراتب الكمال خشوعاً وتخشعاً، وتذللاً وتضرعاً لله سبحانه وتعالى، وإخلاصاً وصدقاً وإنابة، فيكون أفضل من يجلس في مجلس العلم، فلا يخرج من بيته وفي قلبه غير الله، ولا يجلس في مجالس العلم وفي قلبه غير الله، ولا يذاكر العلم ولا يسمع العلم إلا وهو يريد ما عند الله سبحانه وتعالى حتى يجعل الله له علماً نافعاً ويبارك له في هذا العلم، ويبارك له في السنة، ويبارك له في هذا النور والوحي الذي يأخذه. كذلك أيضاً: يحرص على زيارة إخوانه من طلاب العلم ومذاكرتهم وحبهم في الله، ويغيب في سرية قلبه لهم الخير، فهذا كله من الأمور التي يحرص عليها طالب العلم فيبارك له في وقته ويبارك له في عمره. والوصية الأخيرة التي هي جماع الخير كله: تقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله وفقه وسدده، وجعل له فرقاناً يفرق به بين الحق والباطل حتى ينتهي بذلك إلى جنة الله ورضوان الله. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا في أعمالنا، اللهم اجعل لنا خير أعمالنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

حكم الإفطار في صيام القضاء

حكم الإفطار في صيام القضاء Q هل يجوز الإفطار في يوم صيام القضاء، وإن لم يكن، فماذا يترتب عليه؟ A للعلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة قولان مشهوران: من أهل العلم من قال: لا يجوز للمسلم أن يفطر في قضاء رمضان، وذلك لأنه فرضٌ عليه، لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، أي: فأفطر، فيجب عليه أن يصوم عدةً من أيام أخر، فهي فرعٌ عن أصل واجب، والقاعدة: (أن الفرع يأخذ حكم أصله) فلا يجوز له أن يفطر على هذا الوجه، وإذا أفطر متعمداً كان كمن تعمد الفطر في رمضان، فيفصل فيه بين وجود العذر وعدم وجود العذر، حتى قال بعض الفقهاء من المالكية: من أفطر في القضاء متعمداً كان كمن أفطر في رمضان متعمداً، فيلزمه القضاء والكفارة؛ ولذلك جعلوا هذا القضاء منزلاً منزلة الأداء، حتى قالوا: لو جامع في القضاء وجبت عليه الكفارة؛ لأن الله تعالى قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، ولأن القاعدة تقول: (القضاء يحكي الأداء)، و (البدل يأخذ حكم مبدلِه) فيجب عليه الضمان من هذا الوجه. وذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز له أن يفطر، وهذا مذهب مرجوح ضعيف، والصحيح: أنه لا يجوز له في القضاء أن يفطر إلا من عذر؛ وذلك لقوة الأدلة التي ذكروها من الكتاب في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، أي: فأفطر فعليه عدةٌ من أيام أخر، أي: يلزمه أن يصومها، فإذا ثبت أنها منزلةٌ منزلة رمضان فحينئذٍ يكون حكمها حكم رمضان لعدم وجود دليل على الفطر فيها. أما الدليل الثاني: فدليل المفهوم، فهنا دليل منطوق وهناك دليل مفهوم، ودليل المفهوم مستنبط من قوله عليه الصلاة والسلام: (المتطوّع أمير نفسه)، مفهوم الصفة في قوله: المتطوع، يدل على أن غير المتطوع ليس بأمير نفسه، فلما قال: (المتطوع أمير نفسه)، يعني: من حقك أنك إذا كنت في صيام تطوع أن تفطر إذا شئت ولو لم يوجد عذر، وهذا بظاهر المنطوق، ومفهومه أن غير المتطوع ليس بأمير نفسه؛ لأن المفهوم عكس المنطوق كما هو معلوم، وبناءً على ذلك: اجتمعت دلالة المنطوق والمفهوم على عدم جواز فطره في قضاء رمضان إلا إذا وجد العذر، والله تعالى أعلم.

حكم الجماع في صيام القضاء

حكم الجماع في صيام القضاء Q هل يأخذ في يوم القضاء حكم اليوم في رمضان من حيث كفارة الجماع؟ A هذه مسألة راجعة إلى السبر والتقسيم في مسلك أصولي معروف، فالحديث في المجامع أنه قال: (جاء رجل يضرب صدره، وينتف شعره يقول: يا رسول الله! هلكت وأهلكت؛ جامعت أهلي في نهار رمضان وأنا صائم)، هذه ثمانية أوصاف، وهذه طبعاً أوصاف الموجود، (جاء رجلٌ) ما له تأثير؛ لأن الرجل والمرأة في الحكم سواء، فيسقط هذا الوجه وتقول: غير مؤثر، (يضرب صدره وينتف شعره) يعني: متفجع، هل الذي يتفجع يناسب أن يعاقب أو يخفف عنه؟ إذاً: ليس هناك مناسبة بين العقوبة وبين قوله: (يضرب صدره وينتف شعره) فيسقط قوله: يضرب صدره وينتف شعره. يقول: (هلكت وأهلكت) هذا تفجع بالقول، وهناك تفجع بالفعل، فكما سقط تفجع الفعل فإنه يسقط تفجع القول، وقوله: (جامعت) هذا الجماع، فإذا قلت: جامعت، وصفٌ مؤثر في وجوب الكفارة، فلو استمنى لن تجب عليه الكفارة؛ لأن الاستمناء ليس بجماع، ولو فاخذ المرأة فأنزل لم يجب عليه؛ لأنه قال: (جامعت) فلا بد من وجود الجماع، فيجب عليه الكفارة إذا حصل الجماع والمالكية والحنفية، قالوا: لا. (جامعت) هذا من جهة الشهوة، وكونه أفطر بالجماع فقد أفطر بالشهوة، فكل مفطرٍ بالشهوة كما لو استمنى أو داعب المرأة فأنزل وأنزلت وجب عليهما أن يكفرا، فنظروا إلى المعنى وقالوا: إن العلة حرمة رمضان، فإذا انتهك الحرمة بالفطر في موضع أمر بالصيام فيه لزمته الكفارة، فكأن الشرع جعل الحرمة للشهر، فيقولون: (جامعت) لا ننظر إليها بلفظها، وإنما ننظر إليها بمعناها، أنه إذا جامع أفطر، وإذا أفطر انتهك حرمة الشهر، فكل من أفطر منتهكاً للحرمة حتى ولو أكل أو شرب عليه الكفارة، هذا وجه من يقول: إن من أكل متعمداً في نهار رمضان عليه الكفارة؛ لأنه يرى أن الوصف هنا ليس بذاته يعني: الجماع فقط، إنما الجماع في حكمه، طبعاً الجمهور يقولون: إذا جامع أهله، فالإجماع على أن الكفارة تجب عليه، لكن لو زنى -والعياذ بالله- فجامع غير أهله، فالظاهرية يقولون: ليس عليه كفارة؛ لأنه قال: جامعت أهلي، والجمهور يقولون: إذا كان من جامع الأهل عليه كفارة! فمن باب أولى: إذا زنى فهو أولى أن يكفر، ولذلك هنا تدرك أن الشريعة تريد المعنى فقال: (جامعت أهلي في نهار رمضان) فإذا قيل: في نهار رمضان، نقول: هذا حكم خاص برمضان لا ينتقل إلى غيره، فالقضاء لا يأخذ حكم الأداء، وإذا قلنا: إن نهار رمضان سببه فرضية الصوم فيه، والله يقول: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، يكون الجماع في عدة من أيام أخر كالجماع في نهار رمضان، ومن هنا يقوى قول من قال: من جامع في القضاء عليه الكفارة، والله تعالى أعلم.

الفرق بين ضمان القيمة وضمان أرش النقص

الفرق بين ضمان القيمة وضمان أرش النقص Q أشكل عليّ ضمان القيمة يوم كذا ولم نقل مع ضمان أرش النقص؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد فضمان أرش النقص متعلق بمسألة ردّ عين المغصوب مع النقص، وضمان القيمة متعلق بمسألة تعذر ردّ العين، فهناك فرق بين المسألتين، ويضمن الغاصب أرش النقص إذا رد العين وقيمتها ناقصة بغير سعر السوق، أي: بسبب التغير أو بسبب جناية من الغاصب؛ لكن المسألة التي معنا هي: ضمان القيمة إذا أتلف المغصوب كلية، فهناك فرق بين المسألتين، والله تعالى أعلم.

باب الغصب [7]

شرح زاد المستقنع - باب الغصب [7] مما تعم به البلوى: إتلاف أموال الناس عمداً أو خطأ، وهذه المسألة ليست من مسائل الغصب، ولكنها تشترك مع الغصب في لزوم الضمان، ولهذا تحدث العلماء عنها وبينوا أحكامها مفرقين بين إتلاف المال المحترم وغير المحترم، ومفرقين بين العمد والخطأ في هذا كله.

أحكام إتلاف أموال الناس

أحكام إتلاف أموال الناس بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومن أتلف محترماً، أو فتح قفصاً، أو باباً، أو حل وكاء، أو قيداً، أو رباطاً، فذهب ما فيه، أو أتلف شيئاً ونحوه؛ ضمنه] هذه الجملة ليست في الحقيقة تابعةً لباب الغصب، وإنما هي متعلقة بمسألة مهمة تعم بها البلوى، ولا يخلو زمانٌ ولا مكان من السؤال عنها، وهي: مسألة إتلاف مال الناس، ومسائل الإتلاف متعلقةٌ بالغصب؛ لأنها توجب الضمان، والغصب يوجب الضمان، ولذلك ذكر المصنف رحمه الله مسائل الإتلاف والتعدي على أموال الناس وممتلكاتهم، فالأصل الشرعي يقتضي أن المسلم لا يجوز له أن يفسد في الأرض، وإتلاف الأشياء المحترمة محرمٌ بإجماع العلماء ما لم يدل الدليل على جواز الإتلاف، سواءً كان الإتلاف كلياً أو كان الإتلاف جزئياً، وسواءً كان الإتلاف للأعيان والذوات ككسر زجاج أو قتل حيوان أو إهلاك نبات أو كان إتلافاً للجزء والبعض، والأصل في تحريم هذه الإتلافات قوله تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56]، فقد فسر هذه الآية الكريمة أئمة السلف ودواوين العلم بأن المراد بها إتلاف الزروع وقتل الحيوانات ونحو ذلك، ومنهم الإمام مجاهد بن جبر تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما، هذا الإمام عرض القرآن على ابن عباس مرتين يستوقفه عند كل آية يسأله عن حلالها وحرامها وما تضمنته من أحكامها، وهذا الإمام الجليل الذي قال فيه بعض السلف: (ما أظن مجاهداً أراد بالعلم إلا وجه الله تعالى)، يقول مجاهد: إن المراد بقوله تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56]: إتلاف الأشياء المحترمة من إهلاك الزرع وقتل الحيوان ونحو ذلك، وقد أكدت هذا المعنى آيات أخر كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81]، ونفيه سبحانه لمحبة المفسدين: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة:64]، كل هذا يدل على تحريم الإفساد وإتلاف الأشياء، والتسبب في ذهاب المنافع، وأنه لا يجوز للمسلم أن يقتل حيواناً ولا أن يتلف منافع ذلك الحيوان، ولا أن يفسد في الأرض بإهلاك الزروع والنباتات، ولا أن يفسد في الأرض بهدم العمران والبيوت، وهكذا ما يكون من تعطيل المنافع الموجودة كالمرافق العامة التي يرتفق فيها الناس. وأشد ما يكون هذا الإفساد إذا كان في الأماكن التي لها حرمة مما يتعلق بالمساجد ودور العلم؛ لأنها أوقاف مسبلةٌ محبسة، ومما يعد لسقي الناس وشربهم أو ما يعد لركوبهم صدقةً عليهم، فلا يجوز للمسلم أن يتسبب في إتلافها، ولا أن يترك من يتولى أمره كأبنائه يفسدون فيها، فإنه متحملٌ للمسئولية كما سنبين أحكام ذلك كله، والناس يتساهلون في مثل هذا إلا من رحم الله، فيظنون أن الصبي إذا أتلف مثل هذا الشيء أو إذا تُرك الصبي يفعل ما شاء فأتلف هذه الأشياء أنه لا شيء عليهم، والواقع أنهم مسئولون أمام الله عز وجل عن تعاطي الأسباب، ومسئولون كذلك عن ضمان كل ما أتلفهُ أبناؤهم وصغارهم؛ لأن الله جعلهم قائمين عليهم، وأمرهم أن يقوهم من ناره وعذابه، فالإجماع منعقد على أنه لا يجوز للمسلم أن يتلف شيئاً مما فيه مصلحة ومنفعة إلا إذا أذن الشرع بذلك الإتلاف أو أمر به كتاب الله أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

أركان الإتلاف

أركان الإتلاف وقوله: (ومن أتلف محترماً) الإتلاف له ثلاثة أركان يقوم عليها، ومسائله عند أهل العلم مبنية على هذه الأركان الثلاثة، فعندنا متلف وشيءٌ يتلف أي: يقع عليه الإتلاف، والإتلاف نفسه، هذه ثلاثة أركان تقع بها جريمة الإتلاف إذا كانت عمداً، وحينئذٍ يرد السؤال عن أحكام هذه الأركان الثلاثة، وقد جمعها المصنف رحمه الله بقوله: (ومن أتلف محترماً) (من) هذا الشخص الذي يقوم بالإتلاف (أتلف) الفعل، (محترماً): المكان الذي وقع عليه الإتلاف، فالأحكام تتعلق بهذه الثلاثة الجوانب. فقوله: (ومن): من صيغ العموم وتشمل الذكور والإناث، والصغار والكبار من حيث الأصل إلا إذا دلّ الدليل على استثناءٍ في الخطاب، لكن من حيث العموم هي عامة شاملة للذكر والأنثى والصغير والكبير حتى أن الصبيّ لو أتلف شيئاً محترماً ولو كان عمره سنة فدفع برجله شيئاً فكسره وذلك الشيء ملكٌ للغير يجب ضمانه. الشيء المتلف: أي: شيء فيه مصلحة، لكن بشرط أن يكون محترماً شرعاً، فإذا كان الشيء له احترام وله أصل يدل على جوازه وإباحته، فإنه حينئذٍ يضمن إذا تلف كما سنبين إن شاء الله تعالى، ويشمل هذا إذا أتلف آدمياً من حيث الأصل، أو أتلف حيواناً أو بهيمةً فقتلها وأتلفها، أو أتلف نباتاً كزرعٍ أحرقه أو قلعه من الأرض فمات، أو أتلف الثمر قبل نضجه فقصه من النخلة، هذا بالنسبة للشيء المتلف سواءً كان حيواناً من الحيوانات آدمياً وغيره، أو من غير الحيوانات، كالزجاج والخشب، ونحو ذلك. نبدأ بقوله: (ومن) قلنا: يشمل الصغير والكبير، فنبدأ بالكبير، فالكبير البالغ العاقل، إذا أتلف شيئاً على حالتين: إما أن يتلفه متعمداً قاصداً إتلافه، وإما أن يتلفه مُخطئاً. مثال ذلك: لو أن رجلاً أخذ (منجلاً) وقلع نباتاً لجاره وقصد إتلاف النبات على صاحبه، فحينئذٍ هذا إتلاف موجب للضرر على سبيل العمد، فإذا وقع هذا النوع من الإتلاف من الكبير البالغ العاقل، سواءً وقع إتلافه على حي كحيوان أو غير الحيوانات، فيترتب عليه أمران: الأمر الأول: عقوبةٌ شرعية. الأمر الثاني: الضمان من حيث الأصل. فلو جاء وأتلف زرع جاره واشتكى جاره إلى القاضي، وقال القاضي: لمَ أتلفت زرع جارك؟ قال: أنا متعمد قاصد أريد أن أفسد ماله. فالقاضي يعزره ويؤدبه -وسنبين أحكام التعزير في باب التعزير، لا نتكلم هنا على عقوبته إذا كان متعمداً فلها باب خاص، إما أن تكون عقوبة مقدرة كما في الجنايات على الأرواح والأنفس وهذه لها باب خاص وهو باب القصاص ومسائل الاعتداء على النفس والأطراف- وتفصل فيه مسائل الاعتداء على النفس والأطراف، وفي هذه الحالة: إذا كان الكبير البالغ قد جنى جنايةً عمداً نعاقبه بما يليق به، ويطالب بضمان المال الذي أتلفه على أخيه المسلم بشرط أن يكون هذا المال محترماً شرعاً.

حكم إتلاف مال الغير خطأ

حكم إتلاف مال الغير خطأ الحالة الثانية: أن يقدم على إتلاف مال أخيه مخطئاً، كرجلٍ أخذ سيارة شخص فحصل حادث أتلف بسببه السيارة، فهو لم يقصد ولم يتعمد إتلافها، فنقول: يترتب شيء واحد، وتسقط العقوبة والتعزير؛ لأنه لا يقصد، ويجب ضمان حق أخيه المسلم. إذاً: ضمان الحق يستوي فيه أن يكون متعمداً أو مخطئاً، فالشريعة توجب ضمان حق المسلم سواءً كان متعمداً أو مخطئاً، ثم الضمان يختلف: فتارةً تجعل الشريعة النفس بالنفس كالقاتل يقتل، وتارةً توجب الضمان بالأموال، إذا كانت أموالاً كما سيأتي -إن شاء الله- تفصيله، إذاً: يتبين من خلال هذا: أن الكبير البالغ العاقل: إما أن يتعمد أو يخطئ، فإذا تعمد ترتب أمران: أولهما: عقوبته بالتعزير بما يليق به وبجنايته، والثانية: ضمان الحق لصاحبه. ومسألة إيجاب الضمان عليه إذا كان مخطئاً، هذه تحدث إشكالاً، فالله تعالى يقول: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، ويقول تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5]. فخذها قاعدة: أن الخطأ يجب فيه الضمان من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي، وتوضيح ذلك: أن الأحكام الشرعية التي يخاطب بها المكلف كإيجاب الصلاة والزكاة والصوم، هذه يكلف بها الإنسان ويخاطب بها، وإذا أخطأ سقط عنه الإثم، لكن ضمان هذه الحقوق لا يسقط بالخطأ، ونبدأ بحق الله، مثلاً: لو أن شخصاً قلت له: قم فصل الظهر، قال: صليت، وظن أنه صلى وهو مخطئ لم يصل، ثم لما مضت ساعة تذكر أنه كان مخطئاً حينما قال لك: صليت، فيجب عليه أن يصلي. إذاً: خطؤه أوجب سقوط الإثم عنه طيلة الفترة التي كان فيها مخطئاً، فلما تبين له أن ذمته مشغولة سقطت عنه المؤاخذة، وتوجه الخطاب عليه أنه لم يصل، فبناءً على هذا: إذا كان الشخص مخطئاً نسقط عنه الإثم، لكن نوجب عليه الضمان، ولذلك ترى نص القرآن حينما أمر الله عز وجل بالدية فيمن قتل أخاه المسلم مخطئاً: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92]، فالقتل إذا وقع بالخطأ وجب ضمانه بالدية، مع أنه مُخطئ، والله يقول: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، ففهمنا أن المؤاخذة من جهة التكليف وهي: وجوب ترتب الإثم على الفعل. إذاً: مسألة ضمان المتلفات يستوي فيها المخطئ والمتعمد، الكل يضمن، إذا ثبت هذا يرد Q لماذا تطالب الشريعة المخطئ بالضمان، قد يرد إشكال ويقول لك: هذا رجل أخطأ فصدم سيارةً أو قتل إنساناً بسيارته دهساً وهو لا يريد قتله، أو دهس بهيمةً أو كسر محلاً أو نحو ذلك لماذا توجب عليه الضمان مع أنه مخطئ؟ و A أن هذا يدل على سمو منهج الشريعة الإسلامية وكمالها؛ لأن الأموال لا تتلف إلا بشيء من التفريط، لا يمكن أن يقع إتلاف إلا بشيء من التفريط، فالدهس والقتل لا يقع إلا بسبب تفريط السرعة وعدم ضبط الإنسان لقيادته مثلاً، والدابة لا تتلف الأشياء وهي في ملكك إلا بسبب التساهل بتركها ترعى في أموال الناس وتتلفها. فلو فتح باب: أنه لا يجوز الضمان في الخطأ لضاعت حقوق الناس؛ ولذلك تجد الناس الآن إذا علم أنه لو حصل بينه وبين أخيه حادث أتلف به سيارته أنه يضمن، احتاط وأخذ بجميع الأسباب التي بإذن الله عز وجل تمنعه وتحول بينه وبين الوقوع في أذية أخيه المسلم. إذاً فمنهج الشريعة من أكمل ما يكون وأتم ما يكون في ضمان حقوق الناس، وهذا يحفظ للناس دماءهم وأموالهم وأعراضهم.

حكم إتلاف غير المكلف مال غيره

حكم إتلاف غير المكلف مال غيره الحالة الثانية: أن يكون الجاني صغيراً، فإذا كان الجاني صغيراً فإنه يسقط عنه جانب التكليف فلا نقول: إنه آثم، إذا وقع منه شيء متعمداً؛ لأن الصغير إما أن يتعمد كالكبير أو يخطئ، وهنا قاعدة ذكرها العلماء تقول: (عمد الصبي والمجنون خطأ)، هذه قاعدة تجعلها معك في المسائل الشرعية، أن كل شيء تعمده الصغير الذي هو دون البلوغ أو المجنون الذي لا يعقل تجري عليه أحكام الخطأ، ولا تجري عليه أحكام العمد. فلو أن صبياً -لا قدر الله- أخذ سلاحاً فقتل شخصاً دون أن يدفعه أحد ودون أن يكرهه أحد، فقتله متعمداً فإنه لا يقتص منه، بل ينزل منزلة الخطأ، وهذا بإجماع العلماء رحمةُ الله عليهم، وخاصةً إذا كان دون التمييز، وفيه خلاف ضعيف سنبينه -إن شاء الله- في باب الجنايات وهذا الخلاف إذا كان مميزاً عند بعض أصحاب الإمام أحمد رحمةُ الله عليه. إذاً: عمد الصبي والمجنون خطأ، فالمجنون لو جاء متعمداً وأخذ حديدة فكسر زجاجاً أو كسر محلاً لشخص فأتلف ماله، لو فعل هذا الفعل عاقل لعاقبناه وأوجبنا عليه الضمان، لكن إذا فعله المجنون قلنا: عمده خطأ وينزل منزلة الخطأ، فيجب الضمان ولا تترتب عليه العقوبة. أما الدليل على إسقاط المؤاخذة: ما ثبت في الحديث الصحيح عن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: الصبي حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق)، إذاً: دلّت السنة على أنه لا يؤاخذ الصبي ولا المجنون وإذا سقطت عنه المؤاخذة فإنه لا يعاقب على ذلك ولا تترتب على فعله العقوبة، هذا إذا تعمد الصبي، أما إذا أخطأ فالحكم واحد. إذاً: الصبي إذا أتلف شيئاً وجب ضمانه، فلو أنه أتلف مالاً للغير، وقال ولي الصبي: هذا صبي، نقول: إنه صبي ولكن يجب الضمان، فالصبي لا نؤاخذه ولا نعاقبه ولكن يجب الضمان عليه. وإذا أوجبنا الضمان على الصبي، فالصبي والمجنون لهما حالتان: الحالة الأولى: أن يكون عند الصبي مال، مثل: اليتيم، يتوفى والده ويترك له إرثاً فيرث -مثلاً- مائة ألف، ثم أقدم هذا الصبي على شيءٍ -مثلاً- قيمته عشرة آلاف ريال فأتلفه، فحينئذٍ تأخذ من ماله وتضمن لصاحب الحق، هذا إذا ترك له أو عنده مال ورثه من قريب؛ فإننا نأخذ هذا المال ونسد به ما وجب ضمانه، لكن بشرط، فيشترط إذا ضمنا المتلف من مال الصبي: ألا يكون هناك إفضاء وسببية من الولي، فلو أن الولي أمر الصبي بشيء فيه إتلاف وأتلفه فإنه يجب الضمان على الولي لا على الصبي، وذلك؛ لأن الصبي كالآلة مسلوب الإرادة والاختيار؛ لأنه لا يعقل، وهكذا المجنون: إذا أمره وليه أن يتلف شيئاً أو أمره أن يفسد شيئاً فإنه يجب الضمان على الولي، ومن أمثلة هذه المسألة: لو أن صبياً أمره بالغٌ وقهره على أن يقتل شخصاً سقط القصاص عن الصبي ووجب القصاص على الآمر، وسيأتي -إن شاء الله- في مسألة القتل بالأمر والقتل بالإكراه، الشاهد هنا: أن الصبي يضمن في ماله بشرط: ألا يكون للولي سبب في التعدي. وهكذا إذا كانت للولي سببية. ومن أمثلتها: ما يقع في حقوق الله عز وجل، فالحاج والمعتمر مأمورٌ باجتناب ما أمر الله باجتنابه من محظورات الإحرام، فإذا كان الصبي دون التمييز وأحرم عليه وليه فحججه وليه أو أعمره، فإنه إذا وقع في الإخلال فإنه يكون في مال الولي لا في مال الصبي، وبناءً على ذلك: يفصل في هذه المسألة في الضمان في حق الله عز وجل وحق المخلوق، فالصبي في جميع الأموال قلنا: يضمن إذا كان له مال، وإذا لم يكن له مال ضمن عنه وليه، ولو أن والد الصبي جاء به فأدخله إلى مكان فقام الصبي فأتلف شيئاً فإن والده يضمن ذلك الشيء إذا لم يكن للصبي مال، هذا بالنسبة للمتلف إذا كان آدمياً. أما إذا كان المتلف حيواناً فله حالتان: الحالة الأولى: أن يكون ملكاً لشخص، والحالة الثانية: أن يكون غير مملوك كالدواب المنفلتة والسائبة. فإذا كانت الدواب ملكاً لشخص فتارةً يضمن صاحبها وتارةً لا يضمن، وأما إذا كانت مسيبة فهذه فيها تفصيل عند العلماء في مسائل تارةً يكون فيها الضمان على بيت مال المسلمين عند بعض أهل العلم، وبعضهم يرى أن السائبة لا ضمان عليها مطلقاً. قال: (ومن أتلف) عرفنا من الذي يقوم بالإتلاف، (ومن أتلف): وأتلف الشيء: إذا أفسده وعطل منافعه وأذهبها، فإن كان الشيء من الحيوانات فقد يكون إتلافه كليةً بقتله وإزهاق روحه، وقد يكون الإتلاف جزئياً كما لو كسر يد البهيمة أو أتلف عضواً من أعضائها، ويكون الإتلاف لغير الحيوان مثل: الآلات والمصنوعات، فإذا أتلف بعضها وبقي بعضها: يكون إتلافاً جزئياً، وإذا أتلفها كلها يكون إتلافاً كلياً. فالإتلاف يكون بالقتل، ويكون بالتحريق، ويكون بالكسر، فكل شيء فيه تعطيل للمنافع وإذهاب للعين ومصالحها فإنه إتلاف، وتارةً يكون كاملاً وتارةً يكون ناقصاً.

حكم إتلاف الأشياء المحترمة

حكم إتلاف الأشياء المحترمة فقوله: (ومن أتلف شيئاً محترماً)، (شيئاً): نكرة، والقاعدة: أن النكرة تفيد العموم، (شيئاً) أياً كان هذا الشيء، سواءً كان حياً أو كان غير حي جامداً أو مائعاً، لكن بشرط أن يكون محترماً. قوله: (محترماً) قيد يخرج غير المحترم، وغير المحترم هو: الشيء الذي حرمه الشرع، ومن أمثلة ذلك: الميتة والكلب والخنزير، وكذلك السباع العادية، والفواسق، فهذه كلها غير محترمة، قال صلى الله عليه وسلم: (خمسٌ يقتلن في الحِل والحرم)، فلما ذكر الخمس الفواسق اللاتي يقتلن في الحِل والحرم ووصفهن بالفسق أسقط حرمتهن، وأجاز إتلافها وعد ذلك قربةً لله سبحانه وتعالى، وبناءً على ذلك: لا بد وأن يكون الشيء المتلف له حرمة. وكما يكون من الحيوانات غير محترم يكون من غير الحيوانات، مثل: الخمر من الشراب، والصليب، وآلات اللهو، فكل هذه لا حرمة لها شرعاً ولو أتلفت فإنه لا يجب ضمانها، وآنية الذهب وآنية الفضة كذلك؛ لأن الله عز وجل حرم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، فقال عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيح- من حديث حذيفة رضي الله عنه: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحائفهما، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) فلو هشم شخص إناء ذهب أو إناء فضة وكسره، فإنه لا يجب عليه ضمانه، وإذا ثبت هذا فإن كل شيء محترم يجب ضمانه إذا طالب صاحبه بحقه. فقوله: (ومن أتلف شيئاً محترماً) هذه الجملة صدر بها المصنف؛ لأنه سيذكر ما تفرع عليها من المسائل المبنية على قاعدة الإتلاف.

الإتلاف المباشر

الإتلاف المباشر قال رحمه الله: (ومن أتلف محترماً، أو فتح قفصاً، أو باباً). الإتلاف ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الإتلاف المباشر. القسم الثاني: الإتلاف السببي أو الإتلاف بالسببية. الإتلاف المباشر: أن يقوم الشخص بنفسه بفعل الإتلاف، كأن يحرق الدار بنفسه، أو يكسر الزجاج بيده فهذا إتلاف مباشر. أما الإتلاف السببي: يكون من الشخص إذا فعل الشيء الذي يقع به الإهلاك؛ لكن يباشر الإهلاك غيره، كشخصٍ بنى جداراً فجاء شخص وجلس تحته، فجاء آخر ودفع الجدار عليه؛ فالذي قتله الجدار، والذي أحدث الجدار هو صاحب الأرض، لكن الذي دفع وباشر الإتلاف بنفسه شخص آخر. ومن أمثلته: من حفر بئراً في مزرعته، أو حفر أرضاً لعمارته، فهذه الحفرة جاء شخص ودفع غيره فيها فقتله ومات، فالحفرة حفرها سبب في القتل، لكن الدفع فيها سبب مباشر للقتل، فهذا إتلاف مباشر، وهناك إتلاف بواسطة، فالإتلاف المباشر لا إشكال فيه، وعند العلماء عدة قواعد في مسألة الإتلاف بجميع صوره من القتل المباشر والقتل بالسببية، والجناية المباشرة والجناية السببية، والضرر المباشر والضرر بالسببية، فالإتلاف إذا كان مباشراً -أياً كان سواءً كان إتلافاً لحيوان أو غيره- يكون موجباً للضمان من حيث الأصل سواءً تعدى الشخص أو لم يتعدَّ. فتصبح القاعدة: المباشرة تقتضي الضمان مطلقاً، أما السببية فلا تقتضي الضمان إلا بالتعدي والتفريط، وعلى هذا سيكون -إن شاء الله- تفصيل العلماء رحمهم الله للمسائل. ابتدأ رحمه الله بقوله: (ومن أتلف شيئاً محترماً) تلاحظ أن العبارة المراد بها: المباشرة، بمعنى: أن الإتلاف للشيء وقع بمباشرة الإنسان وليس بواسطة، ومن أتلف شيئاً محترماً، سواءً أتلفه بيده أو برجله أو بسيارته، فكل هذا يعتبر إتلافاً مباشراً.

الإتلاف بالسببية

الإتلاف بالسببية وقوله: (أو فتح قفصاً) هنا الإتلاف بالسببية، وفيه كلام طويل للعلماء رحمهم الله، فالقفص قد يكون فتحه رحمة، وقد يكون فتحه عذاباً وبلاءً، فمثلاً: إذا كان هناك عصفور أو طائر فتحه الشخص شفقةً عليه ورحمة به؛ لكن إذا كان بداخله أسد أو كان بداخله سبع مفترس، فهذا لا شك أنه سيفضي إلى هلاك كثير من الناس والحيوانات، فلذلك يختلف فتح القفص من جهة الشخص الفاتح، لكن في صورة الأمر وحقيقته تلاحظ مسألة مهمة وهي: هل فتح القفص يكون مباشرة أو سببية، فيه وجهان للعلماء؟ الوجه الأول: بعض العلماء يرى أن كل من فتح قفصاً على حيوان ضار وخرج الحيوان منه وأضر فهذا كالمباشرة؛ لأن الحيوان لا عقل عنده ولا إدراك، ومثل هذا الفعل لا شك أنه مفضٍ للخروج، والخروج مفضٍ للهلاك والإتلاف والإفساد، فيقولون: مثل الذي أمسك حيةً بيده وقتل بها شخصاً، فحينئذٍ صحيح أن الحية هي التي قتلت، لكن من الذي حركها وقربها؟ فهنا ولو أن في الصورة شيئاً من السببية لكنها للمباشرة ألصق وأقرب والحكم بها أقوى، وهذا القول لا يفصل فيه، بل نقول: من فتح قفصاً مطلقاً سواءً خرج الحيوان بعد الفتح مباشرة أو تأخر فعليه الضمان؛ لأن الحيوانات لا تناط بها الأحكام؛ ولذلك تسند الأحكام إلى ما يناط إليه، فهذا الشخص هو الذي فتح وأتلف وحصل بفعله وفتحه ما حصل من الضرر. وبناءً على هذا القول: لا تفصيل، وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمه الله. الوجه الثاني: هناك من أهل العلم من فصل، فقال: من فتح قفصاً نظرنا: إما أن يقع خروج الحيوان بعد الفتح مباشرة كما لو كان على الباب فبمجرد فتحه خرج، فحينئذٍ نعتبره في حكم المباشرة، ونرى أن فتحه مؤثر وموجب للضمان، أما لو أنه فتح وتأخر وما خرج الحيوان أو الطير إلا بعد فترة أو برهة، فالخروج وقع من الحيوان بفعله، وصحيح أن الفتح موجود؛ لكن الخروج أصبح مؤثراً وأصبح مباشرةً من الحيوان، فصار سببية ومباشرة، فلا يوجبون عليه الضمان إلا إذا حركه ودفعه إلى الخروج وحرشه عليه. والفرق بين القولين: أن أصحاب القول الأول يضمنونه ويحملونه تبعة هذا الفتح وهذا التصرف سواءً خرج الحيوان مباشرة أو تأخر، فهو ضامنٌ متحملٌ المسئولية. أما القول الثاني فلا يضمن إلا إذا تعدى، وهذا الذي ذكرناه في القاعدة: أن السببية لا ضمان فيها إلا بالتعدي، فقالوا: فتح القفص سببية، فإن حرك الحيوان وحرشه أو دفعه للخروج وجب الضمان، وأما إذا سكن ولم يخرج الحيوان فإنه لا ضمان عليه. ويكون في حكم التحريش إذا كان الحيوان على الباب مباشرة، فبمجرد فتحه نهش وقتل ولدغ، فحينئذٍ يضمن، والحقيقة قول المصنف أقوى. والنظائر والأشباه توجب أن فتح القفص وفتح الباب على الشيء المحبوس يوجب الضمان، والبهيمة لا شك أنها تندفع إلى الخروج وتريد الخروج، وهذا شيء موجود في البهائم لفطرتها؛ لأن البهيمة -وإن كانت لا تعقل- فإن فيها تمييزاً للأمور، كما قال تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]، فقوله: (ثم هدى) أي: هداه لمصالحه، ودفع المضار عنه، فالبهيمة تدرك أن المصلحة في الخروج فتسعى لذلك وتطلبه، فمسألة أنه لا عقل لها ليس على كل حال يوجب إسقاط الضمان، فإذا فتح القفص وهو يعلم ما فيه وتساهل في ذلك فحصل الضرر؛ فإنه يتحمل المسئولية المترتبة على ذلك، وهكذا لو كان الذي بداخل الغرفة رجلاً شريراً معروفاً بالفساد والأذية والإضرار، فإذا جاء شخص وهو يعلم ففتح له وأخرجه فإنه يتحمل المسئولية، فيكون المباشر الشخص نفسه، ولكنه يكون حينئذٍ في حكم السببية فتخف المسألة عن المسألة السابقة من جهة أنها سببية إذا كان حياً يعقل، وتكون قريبةً من المباشرة آخذةً لحكمها إذا كانت في الحيوان ونحوه. وقوله: (أو باباً). أو فتح باباً كما ذكرنا، إذا كان داخل الغرفة شيء ضار كالسبع المفترس أو مجنون منه ضرر، قد يؤذي ويضر ويقتل وهو يعلم بذلك ثم فتح له الباب، فيكون قد مكنه بذلك من الإفساد، وتعدى بتعاطي السبب الموجب للضمان. وقوله: (أو حل وكاء). كانوا في القديم يحملون اللبن والعسل ونحوه من الأطعمة والأشربة في القرب، وتكون الأوعية مربوطة محكمة، فيأتي شخص ويفك هذا الرباط فتسقط القربة ويندفع ما فيها، فمن أهل العلم من فصل في حل الوكاء: فإن كان الشيء الذي عليه الوكاء لا يثبت ولا يستقر، بحيث إذا انحل الوكاء اندفع ما فيه، مثل: القرب إذا كانت على الأرض وحل الوكاء فإنه يندفع ما فيها من اللبن أو العسل فحينئذٍ يجب الضمان؛ لأنه لا إشكال أن حل الوكاء سيفضي إلى خروج ما في القربة؛ أما إذا كان الوعاء مستنداً إلى حائط وكان ثابتاً مستقراً ثم حل الوكاء فلا يجب الضمان إلا بالتعدي، كأن يدفعه فيسقط أو يتعاطى سبباً لسقوطه، فإذا لم يفعل شيئاً من ذلك ثم سقط الوعاء من نفسه بعد برهة -وكان الغالب استقراره- فلا ضمان عليه. وقوله: (أو رباطاً، أو قيداً، فذهب ما فيه). (أو رباطاً) كالسبع إذا كان مربوطاً فحل رباطه، (أو قيداً): كالكلب -أكرمكم الله- إذا كان مقيداً فحل قيده فخرج وعضّ أو قتل أحداً، فهذه كلها تفضي إلى الضرر وفيها تعدٍ، فأصحاب هذا القول يرون أن الحل والفك والفتح للباب ونحو ذلك يعتبر تعدياً من الفاعل، والسببية يجب فيها الضمان بالتعدي، فإذا ذهب ما في القفص -وهو إما أن يكون له قيمة أو لا قيمة له- فإذا ذهب ما فيه مما له قيمة كالعصفور أو النغر أو نحو ذلك وجب ضمانه، لأنه في قول طائفة من العلماء: يجوز حبس العصافير والطيور التي لها أصوات طيبة ويستدلون بحديث: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟)، قالوا: بشرط أن يطعمها وأن يحسن إليها وألا يعذبها. فعلى هذا القول: يكون حبسه سائغاً شرعاً، فإذا فتح القفص وطار هذا الطائر نقول له: اضمنه أو رُدّه. فإذا لم يستطع ردّه وجب عليه ضمانه. وقوله: (فذهب ما فيه) يعني: مما فيه من الطير، أو ذهب ما فيه من الطعام، فقد يكون بداخل القربة لبن أو عسل، فسُكِب على الأرض حتى فسد، فحينئذٍ يجب عليه ضمانه. وقوله: (أو أتلف شيئاً) (أو) للتنويع، فهذا الشيء إذا تسبب الإنسان أو باشر في إتلافه فإما أن يذهب فحينئذٍ يضمن إذا كانت له قيمة كالعصفور والحمام ونحوه، وإما أن يكون الشيء مضراً؛ ولذلك قال رحمه الله: (أو أتلف شيئاً) يعني: هذا الذي في داخل القفص كالأسد أو النمر لما فُتِح له خرج وقتل شخصاً أو خرج وكسر شيئاً، فحينئذٍ يجب عليه ضمان ذلك الشيء المتلف. إذاً: هذا الشيء الذي يخرج إما أن يكون مما له قيمة فيكون الضرر على صاحبه بخروجه وفراره وشروده، فنقول له: ردّه أو اضمن، وإما أن يكون خروجه موجباً للفساد والضرر كالحية تلدغ فتقتل، وكذلك العقرب، فالحية ليس لها قيمة، لكن ننظر إلى الضرر المترتب عليها: فمن دقة المصنف رحمه الله أن قال: (فذهب ما فيه أو أتلف شيئاً)، فذهب ما فيه مما له قيمة، أما إذا كان الشيء الذي ذهب لا قيمة له، كأن يكون كلباً عقوراً -أكرمكم الله-، فلا نقول: يجب عليه ضمان ما في داخل الشيء المفتوح. فإذاً: (ذهب ما فيه) إما أن يوجب الضمان لعين الشيء الذي ذهب إن كانت له قيمة، وإما أن يكون الضمان مترتباً على ضرر ناشئٍ عن الذهاب، ومن أمثلة ذلك ما ذكرنا من خروج البهيمة فتكسر شيئاً أو تعض شيئاً أو تقتل شيئاً فحينئذٍ يجب عليه الضمان على التفصيل الذي ذكرناه. وقوله: (أو أتلف شيئاً ونحوه ضمنه). (ونحوه) أي: الضرر، يكون بعض الأحيان بالإتلاف المباشر أو الإتلاف بالسببية، فيفصل في جميع ما يترتب عليه من الضرر.

الأسئلة

الأسئلة

حكم حبس الصيد في مكة

حكم حبس الصيد في مكة Q ما حكم حبس الصيد في مكة المكرمة، والحال أن الصيد في مكة محرم؟ A من حيث الأصل بعض العلماء يرى أن الوصف العارض بالحرمة يكون في الشخص، ويكون في الزمان، ويكون في المكان، فيكون في الأزمنة مثل: أزمنة الأشهر الحرم وتحريم القتال فيها، كما جاء بنص الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه الله عز وجل عن قتال المشركين فيها، وكذلك أيضاً: يكون بالمكان: كمكة والمدينة على أنها حرم، ويكون بالأشخاص: مثل المحرم، فبعض العلماء يجعلها بمرتبة واحدة فيقول: إذا طرأت هذه الحرمة زماناً ومكاناً وحالاً، أي: على الشخص وجب عليه أن ينظر إلى الحال ولا ينظر إلى ما سبق، بمعنى: إذا صاد خارج مكة وأدخلها بمكة نظر إلى حرمة المكان، وحينئذٍ لا يستصحبه، وتزول يده عن الصيد، ولا يبقى ممسكاً صيداً في مكة؛ لأنه صيد من حيث الأصل، ومن أهل العلم من قال: لا. إذا صاده خارج الحرم ودخل به إلى الحرم فليس من صيد الحرم، وإذا لم يكن من صيد الحرم، حلّ له أن يعامله معاملة المستأنس المملوك، مثل: الدابة التي يملكها من الدواجن والطيور ونحوها إذا أراد يذبحها ويأكلها فلا شيء عليه. والأولون يستدلون بدليل الحاج، فإن من أحرم للحج والعمرة، يجب عليه تخلية الصيد، فلو صاد قبل أن يحرم وأمسك صيداً ثم لبَّى لم يجز له أن يستصحبه، بل يجب عليه أن يفكه، يقولون: وتستوي الاستدامة سواءً كان المحرم مستديماً أو مبتدئاً، فيحرم الصيد بمكة ابتداءً استدامة، والواقع القول بأنه إذا صيد خارج الحرم ثم أدخل الحرم فإنه لا يأخذ حكم الصيد فيه قوة، ومذهب طائفة من العلماء رحمهم الله: أنه لا يأخذ حكم الحرم؛ لأنه لم يصد داخل الحرم، والله عز وجل خصص المكان بالتحريم، والتخصيص يقتضي أن يقيد الحكم بما خُصص به، وإلا ما فائدة التخصيص؟ وبناءً على ذلك: يقوى هذا القول. وأما مسألة محظورات الإحرام فإن فيها استدامة، فمثلاً: من محظورات الإحرام: النكاح، فلو أن الرجل أحرم بالحج والعمرة وهو متزوج من قبل، فهل ينفسخ عقده؟ الجواب: لا. فنقول: دل على أن نفس الإحرام فيه تفصيل، فما دل الشرع فيه على الاستدامة حكمنا بالاستدامة فيه، وما دل الشرع فيه على أن المحرم هو الابتداء قلنا بتحريم الابتداء، ولا شك أن الإنسان إذا تورع فهذا أفضل وأكمل وأبعد عن الشبهة، والله تعالى أعلم.

خطر الغرور وعلاجه

خطر الغرور وعلاجه Q من الأمور التي تطرأ على طالب العلم في أثناء الطلب داء الغرور فما هو العلاج لذلك؟ A إن العلم إذا أريد به وجه الله وابتغى به العبد ما عند الله عصمه الله من الزلل وسدده في القول والعمل، وحقق له كل ما يصبو إليه من مرجو وأمل، فالله هو المطلع على السرائر الذي لا يخفى عليه شيء مما غيبته الضمائر؛ فلذلك يجب على طالب العلم أن يحاسب نفسه دائماً بالإخلاص لله عز وجل وإرادة ما عند الله، وهذه المحاسبة إذا صحبها شيءٌ من الانكسار والاعتراف بعظيم نعمة الله جل جلاله الذي علم الإنسان ما لم يعلم وفتح عليه أبواب العلم، ويسر له سبيله ولولا الله ما فَهِم، ولولا الله ما علم، ولولا الله ما استطاع أن يصل إلى شيء من هذا العلم. قال تعالى مخاطباً نبيه وأشرف خلقه صلوات الله وسلامه عليه: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]، فالفضل فضل الله والنعمة والرحمة من الله وحده؛ ولذلك جعل لعباده السمع والبصر والفؤاد، وهي أسباب ووسائل يتوصل بها إلى العلم، فالواجب على الإنسان أن يحاسب نفسه دائماً في الإخلاص لله عز وجل مستصحباً أثناء محاسبته عظيم نعمة الله عليه وجميل وجليل منته لديه، فإذا عرف نعمة الله انكسر لله. والقلب المخلص كالوعاء النقي بل هو أشرف وأزكى من تلك الأوعية، ولكن الله ضرب المثل، فالقلب المخلص مليء بنور الله عز وجل القلب المخلص امتلأ بالله وحده، وما من قلب يمتلئ بالله إلا وقد انشغل وانصرف عن كل شيء سواه، ففي الله وحده سلوةٌ للإنسان عن كل شيء سواه، فإذا عرف الله بأسمائه وصفاته، وأخلص لله بقوله وعمله وأدرك نعمة ربه، وصاحب الإخلاص بالمعرفة التامة بنعمة الله عليه ذلّ لله وحده، وأصبحت تلك القلوب المخلصة النقية التقية الخلية من الشرك بريئة، ومن الرياء ومحبة المدح والثناء والغرور بالنفس معصومةً بإذن الله عز وجل، وهذه كلها أسباب تحول بين الإنسان وبين الغرور، ولن تجد إنساناً يبتلى بالغرور إلا وجدت في إخلاصه نقصاً وفي عبوديته لله خللا، فلا يدخل الغرور إلا بالانصراف عن الله جل جلاله، ومن جعل الله والدار الآخرة نصب عينيه زكاه ربه، وزكى عمله وجعل هذا العلم مقرباً له سبحانه، فلا يتعلم كلمة إلا وقربته من الله جل وعلا، ولا يسمع جملة إلا وحببته إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن القلب ما فيه إلا الله، فإذا انصرفت القلوب إلى الله طهرها ربها وتولى أمرها مقلب القلوب والأبصار، وتولى أمرها من يحول بين المرء وقلبه، والله يقول عن الذين انصرفوا عنه {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، نسأل الله بأسمائه وصفاته ألا يزيغ قلوبنا! ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة! كل من يجد الغرور ففيه نقصٌ من الإخلاص وفي إخلاصه دخن، فعليه أن يبحث عن الأسباب والوسائل التي تزيد من إخلاصه لله جل جلاله ومن أعظمها وأجلها: الدعاء، وسؤال الله سبحانه وتعالى، وأن يستشعر أن هذا العلم أمانة ومسئولية وتبعات، إما أن يفضي بالعبد إلى الدرجات، أو يهوي به في الدركات، فإذا خاف من هذا العلم أشفق على نفسه حتى إنك لتراه من أخلص الناس وهو يشك في إخلاصه ويقول: لا. ما أنا بمخلص، عملي ليس بمخلص وليس بخالص، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم، وقد قال عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: (أدركت سبعين كلهم يخاف النفاق على نفسه). أُثر هذا عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يخافون النفاق على أنفسهم، فكانوا يحركون القلوب بالإخلاص لله جل جلاله، والمغرور إذا انصرف قلبه عن الله أصابه الغرور، ولقد عتب الله على أقوام اغتروا بأنفسهم وفرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون. ليعلم كل طالب علم وليعلم كل متعلم أن الغرور يمحق البركة ويذهب الخير، ولربما صرف الإنسان من الرحمة إلى العذاب فيشقى من بعد السعادة ويهلك من بعد النجاة والعصمة، والله يقول: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} [النحل:94]، فمن دخله الغرور فإنه على مهلكة؛ لأن الله اختار القلب للنظر، فقال سبحانه: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال:70]، ليعلم الله في قلوبكم الإخلاص، فلا خير يراد إلا بالإخلاص لوجه الله جل جلاله، فالغرور يمحق البركة، والغرور يذهب الخير ويصرف العبد عن الله جل جلاله، ولا يزال العبد يغتر حتى يهلكه الله بغروره، وانظر إلى مكان الغرور وشؤمه وشره، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً ممن كان قبلنا يمشي إذ أعجبه برد عطفيه -يعني: نظر إلى ثوبه وهو جميل- فاختال في مشيته فأصابه الغرور فخسف الله به الأرض فهو يتزلزل فيها إلى يوم القيامة)، هذا في ثوب!! فكيف بمن يغتر بالعلم؟ من الغرور بالعلم: أن يتعاظم الإنسان على الناس وأن يحس أنه بعلمه قد أصبح حاكماً على الناس، فيحتقر من هو أعلم منه، وينتقص من هو مثله، ويترفع على من دونه. ومن الغرور: أن ينصب نفسه حاكماً على أئمة العلم ودواوين السلف الصالح الذين لهم القدم الراسخة، فوالله لو كانوا أحياءً لخرست أفواه هؤلاء، ولو كانوا أحياء لعموا حتى يقادوا بعلم هؤلاء إلى الجادة والسبيل؛ ولذلك ينبغي للإنسان أن يحفظ حرمة السلف الصالح، ويحفظ حرمة العلماء وخاصةً أئمة الكتاب والسنة وهم على درجات، فالعلماء الذين شُهِد لهم أنهم أئمة السلف وأجمعت الأمة على جلالتهم ورفعة قدرهم وحبهم وعلو شأنهم وزكاهم الله بالقبول، فوضع الله لهم القبول في الأرض، لا يأتي الإنسان بعد عشرة قرون يشكك في عقائد هؤلاء، أو يشكك في تبيينهم ومنهجهم مغتراً بنفسه، وهو بالأمس كان ضالاً شقياً بعيداً عن رحمةِ الله فما إن وقف في طلبه للعلم حتى يقف مجرحاً ثالباً منتقصاً مزدرياً للعلماء، فإياك ثم إياك أن تقرأ كتاباً أو تجلس في مجلس علم فتقوم وأنت محتقر للسلف، والله ما نصحنا لعلماء الأمة والدين إذا كانت كتبنا تقود إلى ازدرائهم وانتقاصهم والحط من أقدارهم، وتجد الإنسان إذا كان الإنسان فقيهاً، يشعر من معه من معه أنه لا فقه إلا فقهه، وإذا كان محدثاً يشعر أنه لا حديث إلا منه أو لا تصحيح ولا تضعيف إلا منه، فلا يبالي بعدها بالعلماء، ويقول: لا تغتر بفلان ولا تعبأ بفلان، هذا لا ينبغي، فإن أول ما يأتي الغرور يبدأ باحتقار أئمة ودواوين العلم الذين شُهِد لهم بذلك، فينبغي عليك أن تتقي الله في سلف الأمة، وأن تتصور هذا العالم الإمام حافظاً للكتاب والسنة، فما كان أحد يتصدر للعلم إلا إذا كان على قدم راسخة، الإمام مالك ما جلس يحدث الناس حتى شهد له سبعون من أئمة الفتوى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أهلٌ للعلم، فما كان يتقدم كل زاعق وناعق، فاتق الله ولا تغتر بنفسك إذا كنت مع علماء السلف وأئمة السلف، فينبغي أن نغرس في قلوب طلابنا وقلوب من يتلقى العلم عنا حب السلف وإجلالهم، والترحم عليهم، وذكرهم بالجميل، والإشادة بفضلهم وعلو شأنهم، وهذا من النصيحة لعلماء الدين، ولأئمة المسلمين. وكذلك النصحية للعلماء الأحياء بألا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوءٍ فهو على غير السبيل، فبعض طلاب العلم إذا جلس بمجلس عالم جعل ينتقد ويزدري غيره، وإن سمع علم شيخه أصم أذنه عن علم غيره، بل ينبغي على الإنسان أن يعلم أن هذا سنة، وأننا تحت رحمة الله منا المصيب ومنا المخطئ، وأننا لا نستطيع أن نزكي أنفسنا بأن نقول: نحن أصحاب الحق ونحن الذين على النجاة وعلى الصراط المستقيم، بل نبني على غالب ظنوننا ونجتهد بالدليل والحجة حتى نلقى الله سبحانه وتعالى، فإذا بذل الإنسان السبب فإن كان مصيباً فله أجران، وإن كان مخطئاً فله أجرٌ واحد، لكن لا يقتضي هذا ذم العلماء وسبهم وانتقاص غير شيخك، لا. بل تكون كفيف اللسان عفيف القلب إلا إذا كان هناك أمر فيه اعتداء لحدود الله، فتقول: هذا الأمر خطأ، وفلان أخطأ في هذا الأمر، إذا كان يخالف فيه نصاً صريحاً من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بالهوى، أو يأتي بعلم من عنده واجتهاد من عنده لا يُعرف له أصل عن أئمة السلف، فهذا شيءٌ آخر، ونحن نتكلم على مسائل شرعية يسع فيها الخلاف من الفرعيات وليس من الأصول، فعلى هذا ينبغي لطالب العلم ألا يغتر بشيخه، بل عليه أن يستعصم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعني هذا نسيان فضل أهل الفضل، ولا يعني هذا أن يترك طالب العلم شيخه! لا، بل يتبع شيخه بالدليل، وإذا رأى شيخه يتحرى الكتاب والسنة أحبه لحب الكتاب والسنة، وغار على الحق الذي أجراه الله على يديه وأحب سماع هذا الحق ما دام أنه يرى أنوار التنزيل عليه، وعلى هذا يسير طالب العلم. ولا يغتر أيضاً طالب العلم بانتقاص غيره، فلربما يكون شاباً اهتدى فرأى غيره من العوام فينتقصهم ويضحك منهم إذا أخطئوا، أو يستخف بهم إذا سألوا، لا ينبغي هذا، فإن الله قد يمقت العبد بذنب واحد، فيغضب عليه غضباً لا يرضى بعده أبداً: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه)، وقد يسخط الله على إنسان يغتر بعلمه فينتقص الناس، فإذا جلست بين عوام يريدون الفائدة فأظهر خشوعك ووقارك، لا من أجل أن يمدحك الناس ولا من أجل السمعة بل لله وابتغاء مرضاته، وقل: هذا العلم الذي شرفني وكرمني ينبغي أن أصونه وأن أحفظه كما أن الله جعله صوناً لي وحرزاً، فيكون الإنسان سهل الكلام مع الناس، سهل الكلام مع العامي إذا سأل أو إذا استشكل، فهذه من الأمور التي ينبغي لطالب العلم أن يراعيها. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا السداد في القول والعمل، وأن يعصمنا من الشرور والزلل إنه ولي ذلك والقادر عليه، ونسأل الله العظيم أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجهه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الضابط في معرفة المال المحترم

الضابط في معرفة المال المحترم Q أشكل عليّ الضابط في معرفة المال المحترم؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد المال: هو كل شيءٍ له قيمة، وسُمي المال مالاً؛ لأن النفوس تميل إليه وتهواه، ولذلك قال الشاعر: رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال فالمال كل شيءٍ له قيمة، وبناءً على ذلك: إذا قال العلماء: المال، فلا يختص بالذهب ولا بالفضة، وقد دل على ذلك دليل السنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصف غير الذهب والفضة بالمال، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما من صاحب مالٍ لا يؤدي زكاته -ثم ذكر الإبل، فقال- إلا فتح لها بقاع قرقر يجدها أوفر ما تكون لا يفقد منها فصيلاً، تطؤه بأخفافها وتعضه بأنيابها) الحديث، فذكر الإبل والبقر والغنم، ووصفها بأنها مال، وفي حديث الثلاثة النفر: الأقرع والأعمى والأبرص، فإن الأعمى لما جاءه الملك فقال له: (ابن سبيلٍ منقطع، فقال له الأعمى: كنت فقيراً فأغناني الله، كنت كذا وكذا -وذكر نعمة الله عليه- ثم قال له: والله لا أردك اليوم من مالي شيئاً، دونك الوادي خذ منه ما شئت -وكان ماله الغنم- فقال الملك -وهذا موضع الشاهد- أمسك عليك مالك)، فسمى الغنم مالاً، فإذاً: قول العلماء: مالاً محترماً، المال: هو كل شيء له قيمة سواءً من النقدين أو غيرهما، والعُرف الدارج عند الناس أنهم لا يطلقون المال إلا على النقدين من الذهب والفضة، وهذا في الاصطلاح خاص، لكن المعروف: أن المال عام، وبناءً على ذلك يشمل الأشياء كلها، لكن قولهم: (محترم) المحترم: هو الذي له حرمة، وهو المأذون باتخاذه، فإذن الشرع باتخاذ المال يعطيه الحرمة؛ لأن الله جعل لك -إذا ملكت هذا المال- حق التصرف فيه، فيصبح المال له حرمة، قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم وأعراضهم وحسابهم على الله)، فقال: (عصموا)، صار في عصمة وحرمة. فإذاً: قولهم: (مال محترم) أي: مال مسلم، ويدخل في ذلك: مال الذمي، لكن لو أنه أتلف مال كافر حربي فإنه لا يجب عليه ضمانه؛ لأن مال الكافر الحربي ملك لنا: ولا يكون له حرمة؛ لأن الشرع أسقط عنه الحرمة بدليل الغنيمة، وعلى هذا لا بد أن يكون المال محترماً، فيكون محترماً من جهة الشخص كما ذكرنا في المسلم والكافر، ويكون محترماً من جهة الوصف، فيكون نفس المال مأذوناً به شرعاً مثل: الأطعمة والأكسية ونحوها، ويكون ضدها الأطعمة المحرمة، مثلاً: لو جاء شخص إلى طعام خنزير، فإذا كان لذميّ فإنه محترم؛ لأن شرط العهد الذي بيننا وبينهم: أن نقرهم على دينهم وهذا مباح لهم في دينهم، لكن نحن نتكلم على الأصل العام: أن الخنزير ما له حرمة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام)، فلو أخذ الصنم وكسره فليس عليه ضمان، وهكذا لو كان هناك شيء من الأطعمة الفاسدة المحرمة فأتلفت، فإنها إذا أتلفت ليس لها حرمة ومن هنا ساغ للمحتسب -كما ذكر العلماء في أحكام المحتسب-: أنه إذا دخل السوق ووجد طعاماً فاسداً أتلفه؛ لأن الطعام الفاسد ما له حرمة، وإذا بقي عند الشخص ربما باعه على مسلم فقتله وأضر به، فمثل هذا يوجب سقوط الضمان، فإذا وقع الإتلاف على مثل هذه الأموال سقط ضمانها، والله تعالى أعلم.

مناسبة إدخال أحكام الإتلافات في باب الغصب

مناسبة إدخال أحكام الإتلافات في باب الغصب Q ما وجه مناسبة هذه الأحكام في باب الغصب مع أن أحكامها متعلقةٌ بباب الضمان؟ A تختلف مناهج العلماء رحمهم الله، فبعضهم يذكرها في باب الضمان، لكن المشكلة أن الضمان إذا كان بمعنى: الكفالة المتقدم معنا في باب الكفالة -فمن العلماء من يجعل الضمان والكفالة بمعنى واحد- فحينئذٍ لا يسوغ أن تجعل أحكام الضمان للإتلافات تحت باب الضمان؛ لأنك إذا جعلت الضمان والكفالة بمعنى واحد، فهذه متعلقة بالديون، فالضمان: كأن يأتي شخص ويريد أن يستلف سيارة مثلاً، فتقول: أنا أضمنه أن يسدد، فهذه ما لها علاقة بالإتلافات، لكن إذا كان الضمان بمعنى: ضمان الحقوق والإتلافات فهذا باب مستقل، فحينئذٍ يسوغ أن تفرده بمادته، والسائد والذائع عند العلماء رحمهم الله أنه قل أن تجد من وضع باب الضمان بمعنى ضمان المتلفات، والمؤلفات المعاصرة تعبر بالضمان وتدخل مسائل الإتلافات، وهذا مصطلح صحيح وسائغ؛ لأن اسم الضمان يسوغ أن تندرج تحته هذه المسائل؛ لكن المصنف رحمه الله منهجه هو الصحيح؛ فإن الغصب اعتداءٌ على الأموال والإتلاف اعتداء على الأموال، والمناسبة بينهما لا إشكال في وضوحها وتمامها. فإذا كانت عندك مادتان: مادة فيها نصوص ولها أصل، ولها باب مثل الغصب ولها نصوص خاصة وتفصيلات وتفريعات، ومادة ملحقة بهذا الباب مندرجة تحت أصله، فالأفضل أن تبدأ بالمادة الأولى وهي الغصب، ثم ترفقها بأحكام الضمان للمتلفات وأحكام الاعتداء، فالمصنف رحمه الله هنا سلك هذا المسلك، وإلا فبعض العلماء يجعل الضمان باباً مستقلاً، إلا أنه لم يجعل ضمان الاتلافات باباً مستقلاً؛ لأنا لو قلنا بهذا لوجب إدخال الديات والقصاص فيه؛ لأن هذه كلها ضمان للحقوق، وبناءً على ذلك: نجد كثيراً من العلماء لا يدخلون الإتلافات تحت باب الغصب، والشافعية عندهم هذا المنهج، والإمام الشافعي رحمه الله عليه من أئمة السلف ومع ذلك ذكر أحكام الإتلافات بعد الغصب، فجعل مسائل الإتلاف -كما في مختصر المزني في مسائله على الإمام الشافعي رحمه الله- بعد الغصب، والمصنف رحمه الله وأئمة الحنابلة رحمهم الله يذكرون هذه المسائل عقب الغصب وهذا وجيه، والمسألة كلها في الأولى والأحسن، والأمر واسع -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم.

باب الغصب [8]

شرح زاد المستقنع - باب الغصب [8] لم تضمن الشريعة الحق لصاحبه إذا أتلف ماله آدمي فقط، بل حتى لو أتلفت البيهمة شيئاً فإن الشريعة ألزمت صاحبها بضمان ما أتلفته حتى لا تضيع حقوق الناس، وهذا كله مُبَيَّن ومُفَصَّل في كتب العلماء رحمهم الله.

موجبات الضمان

موجبات الضمان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومن ربط دابة بطريق ضيق فعثر به إنسان]. تقدم معنا أن مسائل الضمان تعتبر من أهم المسائل؛ نظراً لعموم البلوى بها، وكثرة السؤال عن أحكامها، وقد بينا أن العلماء رحمهم الله منهم من يذكر مسائل الإتلاف بعد مسائل الضمان، فلما كان الغصب يوجب الضمان ناسب أن تذكر مسائل الإتلاف؛ لأنها تشترك مع الغصب في كونها توجب الضمان. وذكرنا أن الإتلاف يكون على صورة السببية وصورة المباشرة، وبينا إتلاف الشخص للأشياء بنفسه، كأن يحرق الشيء أو يتلف المنافع الموجودة فيه، سواء وقع الإتلاف لكل الشيء أو بعضه، وبينا أن الشريعة أوجبت على من اعتدى على أموال الناس أن يضمن ما جنت يداه، وأنه يطالب بدفع قيمة الأضرار المترتبة على اعتدائه. وسيشرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان حصول الضرر بالسببية، وحصول الضرر بالسببية ذكر من أمثلته: فتح القفص كما ذكرنا، وفتح الباب، وحل الوكاء، هذا على القول بأن التضمين هنا من سببية مؤثرة في المباشرة، وقد بينا خلاف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة. والآن عندنا مسألة ربط الدابة في الطريق الضيق، وقبل بيان هذه المسألة وما يتبعها من مسائل ينبغي أن يعلم أن هناك ثلاثة أمور لا بد من توفرها في الضمان، وهذه الثلاثة الأمور كالآتي: أولاً: وجود الاعتداء. وثانياً: أن يترتب على الاعتداء ضرر. وثالثاً: أن توجد سببية تربط بين الاعتداء وبين الضرر. فعندنا اعتداء، وعندنا ضرر الذي هو أثر الاعتداء، وسببية رابطة بين الاعتداء وبين الضرر. أما الاعتداء فيشمل ستة صور: الصورة الأولى: الإهمال. الصورة الثانية: التقصير. الصورة الثالثة: مجاوزة الحد. الصورة الرابعة: عدم التحرز. الصورة الخامسة: العمد. الصورة السادسة: الخطأ. هذه ست جهات يوصف فيها الشخص بكونه معتدياً.

العمد والخطأ يوجبان الضمان

العمد والخطأ يوجبان الضمان أما النوع الخامس: وهو العمد، والنوع السادس: الخطأ، فهما يقعان في نفس الأشياء التي تقدمت، فمن قصد الضرر بهذه الأشياء المتقدمة فهو متعمد، ومن وقعت منه هذه الأشياء عفوياً دون قصد ودون تعمد فإنه مخطئ، وحينئذ يجب الضمان، كشخص أحرق كتاب غيره، فنقول له: اضمنه. وهكذا لو أخطأ فسقطت النار من يده فأحرقت فراشاً أو أرضاً فإننا نقول: أنت ضامن سواء قصدت فكنت متعمداً أو لم تقصد، والفرق بين العمد والخطأ: أن العمد يوجب الضمان مع العقوبة، وأما الخطأ فإنه يوجب الضمان وحده، وقد تقدم بيان ذلك، وكل هذه الصور في الحقيقة هي أسباب للضمان، والمصنف رحمه الله أشار بصورة ربط الدابة للصورة الأولى وهي صورة الإهمال، وكما أنها تقع في الحيوانات فإنها تقع في غير الحيوانات. وقوله: (وإن ربط دابة بطريق ضيق فعثر به إنسان ضمن) قال: (عثر به إنسان) لا يشترط أن يعثر الإنسان، بل كل ما يترتب على وجود هذا الإخلال وهذا الإهمال من ضرر فإنه يتحمله؛ لكن ذكر (عثر به إنسان) لأن الإنسان غالباً يعقل ويتحفظ، فإذا كان يضمن ممن يعقل ويتحفظ فمن باب أولى أن يضمن إذا تسبب بضرر لغير الإنسان بوجود هذا الدابة والبهيمة.

الإهمال يوجب الضمان

الإهمال يوجب الضمان فأما قولنا: (الإهمال) إذا حصل الضرر مترتباً على الإهمال؛ فالمهمل يتحمل مسئولية ذلك الضرر، وكذلك بالنسبة لبقية الصور، لكن نريد أمثلة على الإهمال الموجب للضمان، بمعنى: الإهمال إما أن يقع في الأشخاص، وإما أن يقع في الأموال، فمثال الإهمال في الأشخاص: لو أن امرأة مرضعة -مثلاً- كانت ترضع صبياً فأهملته ولم تسقه ولم تقم على إرضاعه حتى مات، فهذا إهمال في القيام بواجبها ومسئوليتها التي تحملتها، فلو أن هذه المرضعة حملت هذا الصبي أو الخادمة أو الخادم أخذ الصبي ووضعه بجوار نار، وهو طفل رضيع فوضع جوار تنور النار أو وضع بجوار بركة ماء ولا حاجز لها فدب وسقط، فهذا إهمال بالسببية وصحيح أنه سقط بفعله، أي: باشر الصبي الذهاب للحفرة واحترق بالنار، أو باشر الذهاب إلى الحرب وسقط منه فمات، أو باشر الذهاب إلى فتحة الخزان وسقط فيها ومات، لكن كون هذه الفتحة موجودة في هذا الموضع وكون التنور موجوداً في هذا يستلزم ممن يحمل الصبي ألا يتركه دون أن يكون بجواره ودون أن يغلق عليه هذه المنافذ الموجبة للضرر، فإذاً: هذا الإهمال سبب في الضمان؛ لأنه نشأ الضرر، عنه، والصبي لا يعقل، فأصبحت مباشرته ساقطة، وأصبح من وضعه في هذا الموضع متحملاً المسئولية، ولذلك قالوا: لو أن امرأة نامت بجوار صبيها وانقلبت عليه في الليل وقتلته، فهذا قتل خطأ لكن فيه نوع إهمال ويكون المنشأ فيه من جهة الإهمال، هذا بالنسبة لضمان الأشخاص، فالإهمال يوجب الضمان في الأشخاص، وقد يوجب الإهمال الضمان في الأموال، فمثلاً: حينما تكون هناك مواد سامة أو ضارة ويحملها شخص، وحملها له طريقة معينة أو ينبغي أن تقفل الأوعية التي فيها هذه المواد فلم يقفلها كما ينبغي ولم يقم بحفظها في الأوعية التي يحفظ فيها مثلها فإن هذا الإهمال يوجب المسئولية عن جميع الأضرار المترتبة عليه. كذلك الإهمال في البناء أو النجارة أو الحدادة، أو الطب، فكل هذه الأمور إذا وقع فيها إهمال، فإن المهمل يتحمل مسئولية إهماله، فمن ربط دابته في الطريق هذا إهمال؛ لأن الطريق الضيق ليس موضعاً لربط الدابة، ولذلك قيده المصنف رحمه الله بالضيق بخلاف الطريق الفسيح، فلو أن شخصاً كانت معه ناقة أو بهيمة فربطها في طريق ضيق، فجاء شخص يمشي فعثر بحبلها وسقط فانكسرت يده أو حصل الضرر عليه أو كان يحمل شيئاً فسقط وانكسر فإن صاحب هذه الدابة يتحمل المسئولية عن هذا الضرر كله؛ لأن هذا الموضع ليس بموضع لربط الدواب، وثانياً: لأن صورة الربط توجب الضرر غالباً وتفضي إليه، فمثل هذه البهائم إذا ربطت في مثل هذا الموضع فإنها توجب الضرر حتى ولو كان برباطها الذي تربط به، فلو ربطه في منتصف الطريق فأضر بإنسان أو بسيارة أو بغيره فإنه يتحمل المسئولية عن هذا الضرر، لكن لو أنه أخذ بهيمته وربطها في صحراء، فجاء شخص ومر على حبلها وسقط، فيكون التقصير من الشخص وليس ممن ربطها، وليس هذا الموضع متعيناً لأن يسلكه الشخص، فلما أراد أن يسلكه تعين عليه أن يتحفظ، وحينئذٍ لا تكون كالصورة الأولى التي ضيق فيها على الناس وكان الضرر فيها بسبب وجود هذا الإهمال من صاحب الدابة. قال بعض العلماء: لا يضمن إن كان في طريق فسيح؛ لأن هناك قاعدة عند العلماء: أن مفاهيم الصفات في المتون معتبرة عند أهل العلم، فهنا لما قال: (طريق ضيق) نفهم منه: أنه إذا كان الطريق واسعاً فإنه لا يضمن، وتتفرع على هذه المسألة: لو جاء وأقفل بها طريقاً ضيقاً يسلكه الناس، فترتب بسببه ضرر على الناس في أرواحهم أو ترتب عليه ضرر في ممتلكاتهم أو أغراضهم وحوائجهم فإنه يتحمل المسئولية عن هذا الضرر؛ لأن هذا الموضع ليس بموضع إيقاف كما أن الطريق الضيق ليس بموضع ربط للدابة. فقوله: (ومن ربط دابته في طريق ضيق فعثر به إنسان) هنا اجتماع السببية والمباشرة، فصحيح أن العثر وقع بمشي الشخص وهو الذي باشر المشي في هذا الموضع فسقط، لكن وجود هذه الدابة وهذا الحبل في هذا الموضع على هذا الوجه موجب للضمان.

التقصير يوجب الضمان

التقصير يوجب الضمان السبب الثاني والصورة الثانية من موجبات الضمان: التقصير، فتضاف إلى هذه الصورة صورة التقصير، والتقصير هو نوع من الإهمال، لكن يفرق بين التقصير والإهمال: أن التقصير غالباً يكون في الأشياء التي لها حدود معينة، ويقوم الشخص بالتقصير بعدم فعل الشيء على أتم الوجوه فينتقص منه، فإذا قصر ألزم بعاقبة تقصيره، ومن أمثلة ذلك: إذا كان الشيء مما يربط فلم يربطه، أو كان الشيء مما يقفل فلم يقفله، فمثلاً: شخص وضع شيئاً في موضع مؤتمن فيه على أمانات الناس، فالذي جرى في العرف أنه يقفل هذا الموضع، فقصر في قفله أو تركه مفتوحاً فهذا إهمال من وجه وتقصير من وجه، فالتقصير نوع من الإهمال لكنه يختص بالأشياء التي لها ضوابط معينة، فمثلاً: لو أنه أخذ سيارة الأجرة من شخص أمانة لا يضمن، لكن إذا جرى العرف على أنه في كل مسافة معينة يقوم بفعل شيء فيها، إما من جهة غيار زيتها أو تفقدها فلم يتفقدها ولم يكشف على شيء من ذلك حتى تعرضت السيارة للتلف، فنقول: تضمن؛ لأن هذا إهمال من وجه وتقصير من وجه. السبب الثالث: مجاوزة الحد، وهو مثل التقصير يكون في الأشياء المحددة وهو عكسه، فالتقصير أقل والمجاوزة أكثر، فالمجاوزة تقع في الأموال وتقع في الأشخاص، فقد ذكر العلماء رحمهم الله في القديم -كما سبقت الإشارة إليه في باب الإجارة- الطبيب إذا جاوز الحدود المعتبرة عند أهل الصنعة، فمثلاً: لو عمل عملية جراحية لها حدود معينة فجاوز الحد المعتبر عند أهل الخبرة في قطع عضو أو دواء أو جرعة الدواء، وقد تكون جرعة الدواء تفضي إلى الإدمان، فإذا وصل إلى حد معين ولم يحتط وجاوز هذا الحد؛ فذلك يوجب الضمان في الأشخاص. كذلك أيضاً تقع مجاوزة الحد في الممتلكات والأموال، فمثلاً: مصعد له عدد معين من الحمولة، فركب فيه أشخاص أكثر عدداً فسقط هذا المصعد وقتلوا، فهذه الزيادة مجاوزة للحد ويتحملون مسئولية أنفسهم، فلا يكون مالك المصعد مسئولاً. كذلك لو أن شخصاً أعطى سيارته لآخر يعمل بها أو يسوقها ويؤجرها فأركب فيها حمولة زائدة حتى تلفت السيارة أو تسبب ذلك في حادث، فعند ذلك يضمن، وكذلك مجاوزة الحد في المواضع المخصصة للممتلكات فيضع فيها فوق الطاقة المحدودة، فكل شيء له ضابط عند أهل العرف أو عند أهل الصنعة أو أهل المهنة -إن كان من الصنائع والمهن- إذا جاوز فيه الشخص ذلك الحد فإنه يضمن ويتحمل المسئولية المترتبة على تلك المجاوزة.

عدم الاحتراز يوجب الضمان

عدم الاحتراز يوجب الضمان الصورة الرابعة الموجبة للضمان: عدم الاحتراز، بمعنى: ألا يتعاطى الشخص أسباب التحفظ من الضرر، وهذا يقع في الأشياء الخطرة، فإذا كان الشخص أمامه حفرة وعليها تعليمات معينة عند مروره بها ثم تجاوز الحد واقترب من المكان الخطر؛ فعند ذلك يتحمل مسئولية نفسه ولا يُضمن لو هلك أو تلف شيء من أعضائه؛ لأنه بمجاوزته وعدم احترازه وعدم توقيه تحمل مسئولية نفسه، كذلك المواضع المحمية التي منع من الاقتراب منها ومن دخولها فاقترب منها فإنه يتحمل مسئولية نفسه.

حكم من كان له كلب عقور أحدث ضررا

حكم من كان له كلب عقور أحدث ضرراً قال رحمه الله: [كالكلب العقور لمن دخل بيته بإذنه] الكلب -أكرمكم الله- هو الحيوان المعروف، والعقور: هو الذي يحبس الناس ويهجم عليهم ويؤذيهم ويضرهم وربما قتل، فالكلب العقور هو المعتدي على الناس، وأصل العقر في لغة العرب: الحبس، يقال: عقر الشيء؛ إذا منعه وحبسه، فالكلب العقور هو الذي يحبس الناس؛ لأنه يهجم ويعتدي عليهم، فوصف بهذا الوصف. هذا النوع من الكلاب -أكرمكم الله- مأمور بقتله، فالكلب إذا أصبح يتعرض للناس ويؤذيهم ويعضهم أو يقتلهم أو يمنعهم من سلوك الطريق ولم يكن الموضع مملوكاً لشخص فإنه يقتل، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، ويجوز قتله في الحل والحرم، وهو من ضمن ما أذن بقتله دفعاً للمفسدة الأعظم، والكلب العقور في الأصل لا يجوز للشخص أن يقتنيه؛ لأنه عندما يقتنيه يخالف النبي صلى الله عليه وسلم حينما أمر بقتله، فالنبي صلى الله عليه وسلم يريد قتله وهذا يريد استبقاءه، فإذا أدخل كلباً عقوراً بيته فقد أذن للكلب بالإضرار والإفساد، وحينئذ يتحمل كل ما يترتب على هذا الكلب العقور من ضرر، فإذا أذن لشخص بالدخول للبيت فقام الكلب وعضه فإنه يتحمل مسئولية هذه العضة، فلو أن هذه العضة أتلفت رجل المعضوض أو يده ضمن نصف الدية على التفصيل في باب الضمان. لكنه يضمن إذا أذن للشخص بالدخول في بيته، فإذا كان الشخص سارقاً أو هجم على البيت بدون إذن وابتلاه الله بكلب عقور فهذا لا يضمن، بل هو هدر؛ لأنه بدخوله هذا الموضع سقطت حرمته وحينئذ لا يتحمل صاحب الكلب المسئولية، فإذا أذن لأحد بالدخول إلى مزرعته والمزرعة فيها كلب عقور أو أذن لأحد بالدخول في بيته والبيت فيه كلب عقور فإنه يضمن، وأما إذا لم يأذن له وهجم الشخص كالصائل، فإذا صال عليه شخص جاز له أن يدفع الضرر. فالكلب العقور يضر بأرواح الناس ويضر بأعضائهم، ولهذا أمر بقتله دفعاً لهذا الضرر، فإذا حفظه الشخص وخالف الشرع بحفظه وبإدخاله إلى داره أو مزرعته وأذن لشخص بالدخول إلى ذلك المكان فعضه أو قتله فإنه يجب عليه ضمانه. وقوله: (أو عقره خارج منزله) جاء بالكلب العقور وحفظه وأطعمه وجعله بجوار بيته، فمر مار فعقره فإنه يضمن؛ لأن ما قارب الشيء أخذ حكمه؛ ولأن هذه المحافظة أو القيام على الكلب العقور توجب الضمان، وحينئذ يتحمل المسئولية عن كل ما ينتج عن هذا الكلب العقور من أذية وضرر.

ضمان مالك البهائم لما أتلفته من أموال الناس

ضمان مالك البهائم لما أتلفته من أموال الناس قال رحمه الله: [وما أتلفت البهيمة من الزرع ليلاً ضمنه صاحبها وعكسه النهار] بعد أن فرغ رحمه الله من التسبب في الإضرار بالشخص نفسه بفتحه للعصفور أو للمحبوس من الدواب المهلكة، أو فتحه للباب أو حله للوكاء، شرع في السببية عن طريق البهائم، فذكر صورة الكلب العقور، وبعد أن انتهى من الكلب الذي يهجم ويضر بأرواح الناس شرع في السببية عن طريق البهائم إذا أضرت بالأموال، فأصبح الشخص إما أن يضر بنفسه أو يضر بواسطة حيوان، وإذا أضر بالحيوان فإما أن يضر بأرواح الناس مثل: الكلب العقور، أو يضر بممتلكاتهم ومثل لها بالبهائم إذا أتلفت أموال الناس، فمن كان عنده بهائم كالإبل أو البقر أو الغنم ودخلت هذه البهائم إلى بستان شخص فأكلت زرعه وأفسدته فلا يخلو هذا الإفساد من حالتين: الحالة الأولى: أن يقع بالليل، والحالة الثانية: أن يقع بالنهار.

إسقاط جناية البهيمة إذا كانت بغير ما تقدم

إسقاط جناية البهيمة إذا كانت بغير ما تقدم قال رحمه الله: [وباقي جنايتها هدر، كقتل الصائل عليه، وكسر مزمار وصليب، وآنية ذهب وفضة، وآنية خمر غير محترمة] قوله: [وباقي جنايتها هدر] باقي جناية البهيمة هدر، والهدر: الذي لا ضمان فيه. وعلى هذا تستثنى الصور التي ذكرناها لوجود السببية المؤثرة ويبقى ما عداها تحت عموم النص الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العجماء جبار) ومن أهل العلم رحمهم الله من خالف الجمهور وقال: لا يسقط من البهيمة إلا جرحها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في رواية: (والعجماء جرحها جبار) فرأوا أن الذي يسقط هو أذيتها وإضرارها بالأنفس والأشخاص دون الأموال فإنه يجب الضمان مطلقاً، والصحيح ما ذكرناه من التفصيل لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعموم، ونخصص ما ورد الكتاب بتخصيصه أو دل الشرع على تخصيصه بوجود السببية المؤثرة.

حكم إرسال الدابة قرب ما تتلفه عادة

حكم إرسال الدابة قرب ما تتلفه عادة قال رحمه الله [إلا أن ترسل بقرب ما تتلفه عادة] لو جاء بناقته ودخل بها إلى السوق أو دخل بها إلى موضع فيه أطفال صغار وترك الناقة ثم دخل يشتري أو يتبضع فقتلت الناقة صبياً أو عضت صبياً أو أتلفت مالاً، في العادة لو ترك مثل هذه الدابة بجوار هؤلاء الأطفال غالباً أن يحصل الضرر والحكم للغالب، فقالوا: فكأنه لما قصر في ربطها وحفظها حيث قال: (إلا أن ترسل) والإرسال ضد أن يعقلها، فخرج ما لو عقلها فلو عقلها وجاء صبي وقرب يده منها فعضته، أو جاء شخص اقترب منها فعضته؛ فحينئذ المقترب هو الذي يتحمل المسئولية لكن إذا عقلت وحفظت فإنه لا إهمال من صاحبها ولا ضمان عليه فيما يترتب عن ذلك، لكن لو أرسلت وتركت بجوار طعام داخل السوق والسوق مليء بالأطعمة وتركها ثم ذهب ليتبضع، أو ذهب يقضي له حاجة فذهبت إلى الأطعمة فأفسدت، ففي هذه الحالة لا يمكن إسقاط الضمان فهذه يسمونها: السببية المفضية إلى الضرر؛ لأننا لا نشك أن تركها مرسلة سيفضي بالضرر، فحينئذ يوجب عليه ضمان ما يترتب على هذا الإرسال من ضرر.

ضمان راكب الدابة ما تتلفه بمقدمها لا بمؤخرها

ضمان راكب الدابة ما تتلفه بمقدمها لا بمؤخرها قال رحمه الله: [وإن كانت بيد راكب أو قائد أو سائق ضمن جنايتها بمقدمها لا بمؤخرها] هنا مسائل تختلف عن المسائل المتقدمة، فالمسائل المتقدمة تضمن فيها البهيمة بالملكية؛ لأن يدك يد ملكية فأنت ضامن لأنك مالك، لكن المسائل الآتية مبنية على قيادة البهيمة وهذا يقع في الدواب التي تركب، فلو ركب بعيراً، فإن أتلف البعير بمقدمه فإنه يجب الضمان على القائد، وإن أتلف بمؤخره لا ضمان عليه إلا إذا كان هو الذي رده إلى الخلف. مثال: لو قاد البعير حتى دخل إلى موضع فأفسد بدخوله، فإن الذي قاد البعير ودفعه للدخول والراكب أو القائد متحكم بزمام البعير، فلما أطلق له العنان وأدخله في هذا الموضع لا شك أنه متسبب في هذا الضرر، فحينئذٍ البعير مباشر والقائد متسبب فيلزمه الضمان؛ لأنه بهذه القيادة انتهى إلى الضرر وأفضى إليه، لكن لو أنه يسير ثم وقف أو استوقف البعير، ثم قام البعير ورفس رجلاً من ورائه وقتله أو أضر به، فحينئذٍ: (العجماء جبار) فيسقط الضمان، لكن لما كان هناك قائد يقود فإنه بهذه القيادة يتحمل، من أمثلتها: السيارة، فلو كان يقودها وحدث الضرر بمقدم السيارة فدهس -لا قدر الله- أو أتلف سيارة أخرى أو أتلف حائطاً أو فعل أي ضرر تسبب عن هذه القيادة، يتحمل المسئولية بمقدمها، ولو جاءه شخص من ورائه وضربه وصدم فيه يكون متحمل المسئولية الذي في الخلف، لكن لو أنه أرجع السيارة إلى الخلف -كما لو رد البعير إلى الخلف- إذا ردها إلى الخلف يضمن، وإذا وقع الإتلاف بالمقدم فإنه يضمن، ولا يضمن إذا جاءه شخص من ورائه وأضر به. لكن لو أنه أوقف السيارة في موضع لا توقف فيه وجاء شخص من الخلف وأتلفه هل يضمن؟ مثلاً: طريق ضيق وأوقف السيارة في هذا الطريق وهو يعلم أن طريق ضيق، فلا شك أنها سببية للضرر مثل ما ذكرنا في ربط البهيمة في داخل الطريق الضيق، فهذه المسائل كلها مفرعة على المسائل المتقدمة، فإن وقع الإتلاف بمقدم الدابة فإنه يضمن، وإن وقع الإتلاف بمؤخرها ففيه تفصيل إن كان حملها على الرجوع، وكان الإتلاف بالمؤخرة بتحريك منه وإثارة ضمن، وإن لم يحركها ورفست برجلها فإنه لا ضمان عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العجماء جبار) وإنما ألزمناه الضمان حينما أتلفت بمقدمتها؛ لأنه كان متسبباً في قيادتها ودفعها إلى ذلك الشيء الذي هو أمامه. لكن لو أنها أتلفت في منتصفها -أي: لا بالمقدمة ولا بالمؤخرة- فهذه من أمثلتها عند العلماء رحمهم الله: لو برك البعير على شيء فكسره، وطبعاً إذا برك حدث القتل بالوسط؛ لأنه يسقط على الشيء فيقتله، ونحن ذكرنا أن الذي يضمن إذا كان على البعير إذا كان بالمقدمة، فلو برك البعير يضمن أم لا ما يضمن؟ A إذا برَّكه كان ضامناً له، أما لو برك من نفسه قال بعض العلماء: لا ضمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العجماء جبار) وهو أمره أن يسير فبرك، فلما برك قتل شيئاً أو أفسد شيئاً، فحينئذ وقع البروك بفعل البعير لا من فعل الشخص نفسه. لو كان على البعير شخصان راكبان وأتلف البعير بمقدمه من الذي يضمن هل يضمن الذي في المقدمة أو يضمن الذي وراءه أو الاثنان؟ الواقع أن الذي يضمن هو الذي في المقدمة، لكن لو برك فيضمن الاثنان؛ لأنهما لما حصل البروك قال بعض العلماء: لو أنه وقع إنسان على آخر فقتله أو على بهيمة فماتت فإنه يضمن؛ لأنه وقع القتل بالثقل، وهنا لم يقع القتل بقضية البروك وحدها، فالكل مشتركون في الثقل فيضمن الذي في المقدمة والذي في المؤخرة ويكون الضمان على الجميع، وهذا الذي جعل بعض العلماء يجعل الضمان في حال البروك من المنتصف على الراكب بدون تفصيل؛ لأنه يرى أن الفساد وقع بالثقل، وقضية كونه تسبب في البروك أو عدمه لا تأثير له؛ لأن الذي حدث به الكسر وحدث به القتل وحدث به الإزهاق ثقل البعير مع الشخص الراكب عليه، ولذلك فصل في أحكام أن يتلف المقدمة أو بالمؤخرة أو بوسطه على هذا التفصيل.

الضمان إذا كان إتلاف البهائم للمال في الليل

الضمان إذا كان إتلاف البهائم للمال في الليل فإذا وقع الإفساد في النهار فإن صاحب البهيمة لا يتحمل المسئولية، وإن وقع الإفساد بالليل فإن صاحب البهائم يتحمل المسئولية عما أفسدت بهائمه من الزرع. والأصل في هذا التفريق: كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله عز وجل ذكر عن نبيه داود وسليمان عليهما السلام أنهما حكما في قضية نفش الغنم في الليل، فأوجب كل من داود وسليمان الضمان، لكن داود عليه السلام أوجب ملكية صاحب الزرع للغنم، وسليمان أبقى الملكية كما هي وأوجب ضمان الزرع الذي فسد، فكل من داود وسليمان متفق مع الآخر على وجوب الضمان لكن اختلفوا في كيفية التضمين، تفصيل الحادثة: رجل كان له غنم، فخرجت بالليل وأكلت زرع رجل آخر، فلما فسدت اختصموا إلى داود عليه السلام، فنظر داود عليه السلام فوجد أن قيمة الزرع الذي تلف تعادل قيمة الغنم؛ فقضى عليه السلام بأن صاحب الزرع يملك الغنم، فحكمه صحيح وما ظلم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- بل حكم بالعدل، لكن يقولون: هناك حكم يكون فيه الاجتهاد وهناك ما هو أصوب منه، فداود عليه السلام حكم من حيث الأصل بحكم له وجه من حيث العدل، فصاحب الزرع لما فسد زرعه وقيمته -مثلاً- ألف ريال، والغنم قيمتها ألف ريال؛ فلما حكم بأن الغنم لصاحب الزرع ما ظلم صاحب الغنم ولا ظلم صاحب الزرع، هذا من حيث حكم داود، لكن سليمان قال: لو كنت قاضياً في ذلك لأمرت صاحب الغنم أن يأخذ الزرع وينميه حتى يعود كما كان، ويأخذ صاحب الأرض الغنم ينتفع بحليبها وصوفها حتى ينمي ذلك له زرعه ويرجع كل إلى ماله، فأثنى الله على حكم سليمان؛ لأن حكم سليمان أبقى اليد كما هي؛ فأبقى لصاحب الزرع زرعه وأبقى لصاحب الغنم غنمه، فأثنى الله على هذا الحكم وقال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء:79] فأثنى على الاثنين، حتى كان إبراهيم النخعي رحمه الله يقول: لولا هذه الآية لأشفقت على المجتهدين. أي: لأشفقت على العلماء والمجتهدين الذين يجتهدون في الأحكام الفقهية؛ لأن الله أثنى على الاثنين وقال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء:79] فدل على أن الاجتهاد فيه سعة، فما دام أن الإنسان يتحرى الحق ويريد الصواب فلا تثريب عليه ولو خالف غيره، ما دام أن عنده دليل وحجة. فظاهر القرآن أن الغنم إذا نفشت في الليل فإنه يجب ضمانها، ولذلك داود حكم بضمان الزرع وسليمان حكم بضمان الزرع. فالكل متفق على أن الغنم إذا رعت في الليل فإنه يتحمل صاحبها المسئولية، لكن النهار جاء فيه حديث البراء بن عازب رضي الله عنه وأرضاه حيث كانت له ناقة ضارية واعتدت على مال لأنصاري، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بضمانها، وقضى أن حفظ الحدائق نهاراً على أصحابها، وحفظ الدواب ليلاً على أهلها؛ فدل على أن الدواب في الليل يحفظها أهلها، وأما في النهار فالحدائق والبساتين يحفظها أهلها، وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: هذا صحيح؛ لأن صاحب الزرع في النهار موجود داخل زرعه فلذلك يتحمل مسئولية المحافظة على الزرع، لكنه في الليل يأوي إلى فراشه ويرتاح والغنم في الليل عادة تسكن، فكونها تترك فهذا نوع من الإهمال والتفريط ولذلك لزم الضمان من هذا الوجه، وعلى هذا يفرق في الدواب بين كونها تفسد في الليل أو تفسد في النهار وهذا مذهب الجمهور. هناك من العلماء من قال: البهيمة لا ضمان فيما أتلفت وخاصة الجرح، واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (العجماء جبار) وقوله: (جبار) بمعنى: هدر، وإذا كانت العجماء هدر، فمعنى ذلك أن ما تتسببه من الأضرار فإنه هدر لا يجب ضمانه، والواقع أن هذا الحديث لا يعارض ما ذكرناه؛ لأن القاعدة تقول: (لا تعارض بين عام وخاص)، فالبهائم تسمى عجماء؛ لأنك لا تفهم كلامها، ويقال لها: بهيمة؛ لأنها أبهمت، والإبهام من الشيء المبهم المجهول، فلا تستطيع أن تفهم لغتها ولا كلامها، فالمراد بقوله: (جبار) ما يكون منها من إتلاف هدر، وظاهر الحديث أن كل ما يكون من جناية البهائم هدر، لكن لما جاء حديث البراء وأيده ظاهر الكتاب خصصنا عموم الحديث في السنة بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والقاعدة كما هو معلوم تقول: (لا تعارض بين عام وخاص) فنقول: إن العجماء هي جبار ما لم يكن الإفساد في الزروع، فإنها مستثناة من النص إذا وقع الإفساد بالليل دون النهار.

الأسئلة

الأسئلة .

حكم أم تركت ابنتها عند شيء أكلته فماتت

حكم أم تركت ابنتها عند شيء أكلته فماتت Q كنت في يوم من الأيام أعد الطعام، وكانت لي طفلة صغيرة تبكي، فوضعت عندها سفرة طعام لتلعب بها وتنشغل بها، حتى أكمل إعداد الطعام، فتأخرت عنها، فعدت وقد حاولت الطفلة بلع السفرة فاختنقت وماتت، فماذا علي؟ A لا شك أن هذا فيه تقصير، فبعض المواد قد تقتل كأكياس النايلون، فربما يختنق بها الصبي لو تركت عنده؛ لأنه لا عقل عنده فيدخل فيها رأسه، وكذلك الحقائب المفتوحة ربما أدخل أخاه وأغلق عليه، فهذا يحدث، ولذلك أي شيء فيه تقصير وإهمال لاشك أنه يوجب الضمان، فيجب على المرأة أن تصوم شهرين متتابعين إذا لم يمكنها العتق؛ لأن هذا قتل بالخطأ، والعلماء يقولون: إذا تعاطت الأم أسباب هلاك ابنتها وتركت عندها ما يوجب الضرر والهلاك؛ فإنها تضمن، حتى ترك الطفل عند الطعام خطأ، وأعظم من ذلك أن تقول: من أجل أن تعبث بالطعام!! فالطعام ليس محلاً للعبث وليس بشيء يعبث به، والذي يترك ابنه أو طفلته عند طعام من أجل أن يعبث به فلو داسه بقدمه ولو أتلفه فإنه يتحمل ذنبه وإثمه -والعياذ بالله- لأنه راض بهذا الفعل، مهيئ لأسبابه؛ ولذلك لا يجوز هذا ممن تتقي الله عز وجل، والذي يظهر في ترك الأشياء القاتلة مثل: الأكياس التي يختنق بها الصبيان، ومثل: ترك الأطفال بجوار الحفر أو تركهم بجوار الآبار أو تركهم بجوار برك السباحة أو نحو ذلك من الأمور التي لا حاجة لها دون مراقبة ومتابعة، فالذي يظهر أنه يوجب الضمان، والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

تحمل الوالدين مسئولية إتلاف أطفالهم

تحمل الوالدين مسئولية إتلاف أطفالهم Q إذا قام الأطفال بإتلاف السيارة كلها أو بعض أجزائها فما الحكم؟ A تقدمت معنا القاعدة التي تقول: (إن عمد الصبي والمجنون خطأ) وبناء على ذلك: فإن الأطفال إذا أتلفوا شيئاً وجب ضمانه وتسقط عنهم المؤاخذة بالعقوبة لكونها دون سن المؤاخذة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم النبي عليه الصلاة والسلام: الصبي حتى يحتلم) فهذا يدل على أنهم لا يؤاخذون، ولكن لا يعني هذا أن أموال الناس تذهب هدراً، بل إنه يجب ضمانها من أموال الصبيان، وبتقصير الآباء يتحملون مسئولية أبنائهم وما حصل من ضرر بهذا الإتلاف. وينبغي على الوالد أن يستشعر بالمسئولية أمام الله عز وجل، وكذلك الوالدة عليها أن تتقي الله عز وجل في أبنائها، بالمحافظة عليهم، وكون بعض الآباء يقول: هذا صبي، هذا جاهل، فهذا لن ينجيه أمام الله عز وجل، وإذا لم يحفظ ابنه فليعلم أن الله سينتقم منه، وأنه لا يأمن أن تأتي دعوة سوء على ابنه فتشقيه في الدنيا والآخرة، فإن أموال الناس لا شك أنها مضمونة وحقوقهم غير ضائعة، والله جل جلاله من فوق سبع سماوات يقول عن المال الذي فتنت القلوب به: {يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37] يعني: لو أن الله سبحانه وتعالى فرض على الناس أن يخرجوا زكاتهم على شكل فيه إجحاف لهم لحصل منهم -والعياذ بالله- البخل وحصل منهم من الابتلاء ما قد يكون سبباً في غضب الله عز وجل. (ويخرج أضغانكم) فإذا كان هذا لله الذي هو مالك الخلق وما ملكوا، فكيف إذا كان من مخلوق يعتدي على الأموال بالتساهل في ترك الأولاد يؤذون الناس في ممتلكاتهم وفي سياراتهم وفي بيوتهم، أو يفسدون المرافق العامة التي ينتفع بها الناس وخاصة الأوقاف، مثل: الثلاجات التي يشرب منها الماء، وأماكن الاستراحة في السفر؟! إن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه قال: (لعن الله من غير منار الأرض) وفي رواية (منارات الأرض) قال العلماء: هي العلامات التي يستدل بها المسافر أثناء مسيره، فكيف بمن أتلف على الناس سقاءهم وشرابهم وأماكن راحتهم؟! فالضرر في هذا عظيم ولذلك تصيبه اللعنة. فينبغي على الآباء أن يحفظوا أبناءهم وألا يتساهلوا في مثل هذه الأمور، والوالد الذي يحفظ أبناءه ويحافظ عليهم يبارك الله له في ذريته، والذي يتساهل في حفظ أولاده وذريته لا بد وأن يأتي اليوم الذي يريه الله عز وجل في ولده ما يكون سبباً في ندمه وألمه حين لا ينفع الندم والألم؛ ولذلك فالآباء الذين يفرطون في أبنائهم صغاراً يجنون ثمن هذا التفريط وهم كبار، فينشأ الابن مستهتراً بحقوق أبيه، مضيعاً لبره، مفرطاً في الأمانات والواجبات الملقاة عليه تجاه والده، لا يحترمه ولا يقدره ولا يرحم كبره، ولكن إذا نشَّأه على طاعة الله وعوده من الصغر بأن يأمره بالصلاة ويأخذ بيده إلى الصلاة فيصبح الابن دائماً تحت طوع أبيه، فمنذ نعومة أظفاره وهو تحت أمر أبيه، فإذا فعل ذلك ووفى لله عز وجل بحق أبنائه لم يمت ولم يخرج من الدنيا حتى يقر الله عينه به حياً أو ميتاً، فيقر الله به عينه حياً حينما يراه بالمشيب والكبر ساعده الأيمن، يقضي له الحاجات ويفرج الله به الكربات، إذا قال له: يا بني! اتق الله، ارتعدت فرائصه من خشية الله عز وجل، فيجده سامعاً مطيعاً محباً للخير له، وأما ما تقر به العين وهو في قبره وفي آخرته فالدعوات الصالحات؛ لأنه ينشأ الابن وفياً باراً بأبيه. أما التساهل في الأبناء والبنات وتضييع حقوق الذريات، وترك الحبل على الغارب باسم عدم تعقيد الابن، وباسم عدم التضييق عليه، فوالله إن الضيق كل الضيق في هذا الاستهتار، والضيق كل الضيق أن يرسل هذا الابن كالفرس الجموح الذي لا عماد له من أجل أن يفسد أموال الناس ويتلفها، فاليوم يفسد أموال الناس خارج البيت وغداً يفسد مالك داخل بيتك، وكما أضر بالناس فإنه يضر بأبيه وبأمه وبإخوانه وأخواته؛ ولذلك يقولون: إن السيئة تدعو إلى أختها، فالابن الذي ينشأ على أذية الناس في أموالهم يأتي اليوم الذي يؤذي ماله ويؤذي والديه، فعلى الوالد أن يتقي الله عز وجل وأن يحفظ أبناءه، وإذا جاءت الشكوى من الجار أو جاءت الشكوى من أخيه المسلم أن ابنه فعل؛ تتبع ذلك وتحرى فيه، وعاقب ابنه وزجره وأوقفه عند الحدود التي ينبغي أن يقف عندها، وإذا فعل ذلك ففيه خير له ولولده وللناس جميعاً، وإذا تساهل الناس في مثل ذلك تكون فتنة ويكون الشر العظيم، والبلاء الوخيم، أسأل الله العظيم أن يهدي أبناء المسلمين وذرياتهم، والله تعالى أعلم.

مسألة اجتماع السببية والمباشرة في الإتلاف

مسألة اجتماع السببية والمباشرة في الإتلاف Q أشرتم إلى مسألة السببية والمباشرة فلو اجتمعا فما الحكم؟ ثم هل يؤثر الاجتماع بين السببية والمباشرة مع الدليل؟ A باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فقد ذكرنا أن السببية والمباشرة تجتمعان، من أمثلتها: قلنا: أن يحفر شخص بئراً ويأتي شخص ويرمي غيره فيها، فالحفر سببية ورمي الشخص في البئر مباشرة فهذا الشخص مات بسقوطه في البئر، والبئر حفرها مالكها والذي باشر القتل هو الشخص الثاني لا الأول فيجب الضمان على الثاني لا الأول؛ ولذلك قالوا: إذا اجتمعت السببية والمباشرة سقطت السببية وأعطي الحكم للمباشرة، وبعضهم يقول: إذا اجتمعت السببية والمباشرة قدمت المباشرة على السببية، ومن أمثلة هذا: لو أن شخصاً وضع سكيناً في موضع، فجاء شخص وأخذه -والعياذ بالله- وقتل نفسه بها، فالقتل وقع بمباشرة الشخص، لكن وجود السكين في هذا الموضع سبب؛ لأنه يسر القتل، لكنه لم يفض إلى القتل مباشرة، بخلاف ما إذا فتح الباب فخرجت منه الدابة أو خرج منه شيء فأتلف، فإن هذا يفضي إلى الضرر غالباً، ولذلك السببية تسقط بشرط أن تكون المباشرة تقبل أن تسند إليها، وهناك سببية ساقطة من أصل الشرع كما في قوله عليه الصلاة والسلام (البئر جبار) دل هذا الحديث على أن من حفر فإنه لا يضمن، فلو أن شخصاً حفر بئراً وجاء شخص آخر وسقط فيها فلا يضمن صاحب البئر، لكن لو جرى العرف على أن هذه الحفر يوضع عليها حاجز ويوضع عليها ستار فأهمل؛ فيكون الضمان من جهة الإهمال؛ لأن الناس اعتادت أن هذه الحفر ينبهون عليها بمنبهات، واعتادوا ذلك وألفوه، فأسندت المحافظة إلى من يقوم بالحفر فقصر في ذلك فحينئذٍ يجب عليه الضمان. فإذاً: عند اجتماع السببية والمباشرة فإن المباشرة تقدم على السببية، وفي بعض الأحيان يشرك بين السببية والمباشرة، مثال ذلك: لو أن أشخاصاً اجتمعوا على قتل شخص فقام شخص وربطه، وجاء الثاني وسكب البنزين عليه، وجاء الثالث وأوقد النار، فالذي أوقد النار باشر القتل، لكن من الذي سكب المادة التي تعين على الاشتعال؟ فهنا سببية مفضية للهلاك، ومن الذي ربط؟ لو لم يربط لربما فر الرجل ولتعاطى أسباباً لنجاته، فتصبح السببية مع المباشرة مشتركة، ويكون الجميع بمثابة القاتل الواحد، فهنا اجتمعت السببية مع المباشرة. وكذلك أيضاً ربما تكون -الذي هو الطرف الثاني من السؤال- السببية منفردة كالصور التي ذكرناها، وتكون السببية مجتمعة، والمباشرة مجتمعة، فلو أن أشخاصاً أحرقوا مزرعة، فالذين أحرقوا هذه المزرعة أربعة منهم قاموا بإحضار مواد الوقود، وأربعة أشعلوا النار، وأربعة نقلوا النار من أجزاء إلى أجزاء، فهؤلاء كلهم مجتمعون سببية ومباشرة، فليس المباشرة مسندة إلى شخص واحد وليست السببية مسندة إلى شخص واحد، إنما تسند إلى أشخاص والدليل على ذلك: أن عمر رضي الله عنه لما قتل الجماعة الذين قتلوا الشخص في البئر، قال رضي الله عنه وأرضاه قولته المشهورة: (والله لو تمالئوا عليه أهل صنعاء لقتلتهم به) فدل على أن التشريك فيما يفضي إلى الإزهاق والقتل يوجب الضمان، وعلى هذا: إذا اجتمع جماعة سببية جماعة مباشرة فإنهم يضمنون، لكن هناك تفصيل في قوة السببية وقوة المباشرة في بعض الأحيان، فمثلاً: ربما يكون المتسبب لا يعلم بالقتل، فقالوا له: اذهب وأحضر فلاناً، وهم يريدون قتله، فأحضره، أو قيل له: اذهب وأحضر العصير، فذهب وأحضر العصير، فقام شخص ووضع السم في العصير، فالعصير سبب للقتل، وإحضار العصير سبب في القتل، فلو أن هذا الساقي الذي يحمل العصير لا يعلم أن العصير مسموم وجاء وقدمه للشخص فقام الشخص وأخذ العصير وشربه، فالقتل وقع بمباشرة الشخص نفسه؛ لأن الكأس ما تحرك بنفسه، والذي أدخل هذا السم إلى جوفه هو نفس الشخص المقتول، لكن هذه المباشرة لا تؤثر، بمعنى: أنها لا توجب إسقاط السببية؛ لوجود قصد بالقتل وتهيؤ لأسباب القتل، فحينئذ حامل الشراب لما كان لا يعلم سقطت سببيته وبقيت سببية واضع السم فتسقط المباشرة وتسقط السببية التي بجوارها، وتعمل السببية السابقة وهي وضع السم في العصير والإغرار بالفعل أو بالسبب المفضي إلى الزهوق. هذه كلها مسائل قد نفصل فيها -إن شاء الله- في كتاب الجنايات، وقد تقع السببية والمباشرة في الأموال، ففي بعض الأحيان بناء العمائر والمهن كالحدادة والنجارة والسباكة قد تكون هناك سببية وتكون فيها مباشرة، وكلها يفصل فيها على حسب الضرر المترتب على الفعل، ولذلك يقولون: المباشر هو: الفاعل الذي يفضي إلى الضرر بفعله، بحيث إن فعله هو الذي أفضى إلى الضرر مباشرة، كالإحراق والإغراق، فلو أخذ شخصاً فأغرقه فمات فإن هذا التغريق مباشرة، ومثل: إيقاد النار للإحراق، فهذا الحرق نفسه هو الذي قتل، والتغريق هو الذي قتل فهذا كله يعتبر مباشرة. وأما السببية فهي: وسيلة تفضي إلى الضرر بمعنى: لا تعتبر هي كالمباشرة، وإنما هي واسطة بين الفاعل وبين الضرر المترتب على فعله، والله تعالى أعلم.

حكم قتل الحيوان الأليف إذا توحش

حكم قتل الحيوان الأليف إذا توحش Q جاء في الحديث: (إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش) فلو أتلف البهيمة وهي في هذه الصورة متوحشة مالاً بالليل، فهل يضمن صاحبه أم أنها تلحق بالعقور؟ A البعير من عظيم آيات الله عز وجل، يقوده الطفل الصغير، لكن لو هاج ربما يقتل أشخاصاً ويتلف كثيراً من الممتلكات، فإذا ند كما قال صلى الله عليه وسلم (إن لهذه الحيوانات أوابد كأوابد الوحش، فما ند منها فاصنعوا به هكذا) هذا الحديث في الصحيح وهو حديث أبي رافع رضي الله عنه وأرضاه، وسببه: أنهم كانوا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم فهاج بعير وفر، فقام رجل وأخذ سهماً ورمى البعير بهذا السهم فعقره، فقال صلى الله عليه وسلم (إن لهذه الحيوانات أوابد كأوابد الوحش، فما ند منها -يعني: فر- فاصنعوا به هكذا) فالمسألة التي في الحديث ليست هي مسألتنا؛ لأن المسألة التي في الحديث إذا كانت عندك بهيمة داجنة، أي: من الحيوانات الأليفة، فالحيوانات الأليفة التي تؤكل كالإبل والبقر والغنم والدجاج والحمام والعصافير يجب عليك أن تذكيها بالذبح والنحر -الذبح فيما يذبح والنحر فيما ينحر- لكن لو عجزت عنها فشرد البعير وغلب على ظنك أنك لن تدركه فرميت السهم فضربت بطنه فسقط ومات، فحينئذٍ يعامل معاملة الصيد، وينتقل من كونه مستأنساً إلى كونه متوحشاً، وإذا صار متوحشاً حل أن يعامل معاملة المتوحش، وبناء على هذا: قال بعض العلماء: البهيمة في هذه الحالة تكون هدراً، فلو قتلها الإنسان لا شيء عليه، أي: لو أنا رأينا جملاً هائجاً في حديقة فيها أطفال أو فيها ممتلكات وغلب على الظن أنه إذا لم يقتل فإنه سوف يتلف هذه الممتلكات ويقتل الأطفال، فحينئذٍ نقول: يجوز قتله. لكن لو أمكن عقر هذا الجمل بضربه بفخذه أو ضربه في رجله أو يده فإنه يعقر ولا يقتل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم هذا الحديث ليبين هذا الأصل، وفي هذا الحديث ما لا يقل عن خمس وثلاثين مسألة: (إن لهذه الحيوانات أوابد كأوابد الوحش، فما ند منها فاصنعوا به هكذا) وهو الحديث الذي قال فيه الإمام أحمد رحمه الله: (لعل الإمام مالكاً لم يبلغه حديث أبي رافع). كانوا رحمهم الله يعتذر بعضهم لبعض ولا يشهر بعضهم بأخطاء بعض ولا يتتبع بعضهم عورات بعض، يقول الإمام أحمد: (لعل مالكاً لم يبلغه حديث أبي رافع)، فيحفظ كل منهم حق أخيه، رحمهم الله برحمته الواسعة وألحقنا بهم غير خزايا ولا مفتونين، والله تعالى أعلم.

باب الغصب [9]

شرح زاد المستقنع - باب الغصب [9] ليس كل ما يُتْلف فإنه يلزم الضمان بإتلافه، فهناك أشياء يجوز إتلافها ولا تضمن، ومن هذا دم الصائل، وكذلك المال الغير محترم شرعاً، وهذا كله من العدل ووضع الأمور في نصابها.

ملخص مسائل جناية البهيمة

ملخص مسائل جناية البهيمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد تقدم بيان المسائل المتعلقة بجناية البهيمة، وقد ذكرنا أن البهيمة إما أن يكون معها صاحبها، وإما أن تكون مرسلة، فإن كان معها صاحبها فلا يخلو إتلافها للشيء من أمور: إما أن يكون بمقدمة البهيمة كأن تتلف شيئاً بيديها، أو يكون الإتلاف برجليها والمؤخرة، أو يكون الإتلاف بوسطها، فإن كان الإتلاف بمقدمة البهيمة فإن الضمان يكون على القائد والسائق للبهيمة سواءً كان صاحبها أو كان غيره، فإنه يجب عليه ضمان ما أتلف؛ والسبب في ذلك: أن قائدها وسائقها يتحكم فيها إذا كان راكباً عليها، ويكون إقدامها على إتلاف الأشياء بسبب تعاطي القيادة والإرسال. وأما بالنسبة لإتلافها للشيء بظهرها، فإن ذلك لا يخلو من حالتين: إما أن يكون الشخص الذي معها هو الذي ردها إلى الخلف فحينئذٍ يكون الضمان على الشخص؛ لأن الإتلاف وقع بسبب الرد إلى الخلف وهو ناشئ من سببيةٍ تعاطاها القائد فيجب عليه الضمان، وإما أن يكون إتلافها بخلفها ناشئاً منها هي بدون أن يتحكم فيها القائد، فحينئذٍ لا إشكال أنه لا ضمان على قائدها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الضمان في إتلاف البهيمة، وأما إذا لم يكن معها أحد فإن كان صاحبها قد تعاطى أسباب التفريط والإهمال، كأن يرسلها بجوار شيءٍ يتلف عادةً أو تُقدم البهيمة على إتلافه أو حصول الضرر فيه، مثل: الأطفال وصغار السن إذا أرسل البهيمة بينهم، وليس المراد بالإرسال التحريش، كأن يغريها أن تذهب كما يظن البعض، لا. لأنه إذا حرشها أن تذهب فلا إشكال أنه يضمن، لكن المراد بالإرسال أن يطلق عنانها، بمعنى: أن يتركها دون أن يقيدها ودون أن يربطها فتذهب البهيمة بنفسها وتتلف، صحيحٌ أن الإتلاف وقع من البهيمة؛ ولكن كونه يرسلها بجوار شيءٍ غالباً ما تتلفه، كأن يأتي إلى موضع فيه زجاج أو موضع فيه شيءٌ خطير أو شيء فيه ضرر، والبهيمة عادةً يربطها صاحبها حتى تستقر في مكانها، فجاء وتركها دون أن يربطها فهذا معنى إرسالها، فإذا أرسلها بجوار ما تتلفه عادةً، أي: بجوار شيءٍ لو أرسلت بدون قيدٍ لأتلفته فإنه يجب عليه الضمان. إذاً: البهيمة من حيث الأصل عندنا فيها حديث: (العجماء جبار)، بمعنى: أن كل ما تتلفه هدر، واستثنينا عدة صور، وهي: إذا كان معها صاحبها؛ لأن الإتلاف لم ينشأ من البهيمة أصلاً وإنما نشأ ممن معها، فلا يمكن لأحد أن يعترض بالحديث: (العجماء جبار) على حالة ما إذا كان معها صاحبها؛ لأنه إذا كان معها صاحبها ففي الواقع أنه إنما حصل الإتلاف بسبب الإهمال والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (العجماء جبار)، فإذا تمحضت في الإتلاف، بمعنى: أن ينشأ الإتلاف دون وجود إهمال من صاحبها، فحينئذٍ يمكنك أن تنسب الإتلاف إلى البهيمة؛ لكن إذا كان معها صاحبها أو تعاطى صاحبها أسباب الإهمال، فإنه يجب عليه الضمان، وهذا حاصل ما ذكرناه في جناية البهيمة. وأحببنا أن ننبه على هذا الملخص؛ لأن بعض طلاب العلم تلتبس عليه المسائل ويتداخل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (العجماء جبار) مع حديث تضمين البهيمة إذا أتلفت بالليل؛ لأن حديث تضمين البهيمة إذا أتلفت زرع الناس بالليل يدل على ذلك؛ لأن الأصل أن البهيمة تحفظ في الليل، فلما أهمل صاحبها في حفظها وجب عليه الضمان، فذهبت السنة على أنه يضمن رب البهيمة إذا أهمل فيها أو تعاطى أسباب الإتلاف الذي حصل منها، وهذا هو العدل الذي قامت عليه السموات والأرض وعليه شرعُ الله عز وجل. وليس من العدل أن نقول للناس: كل ما أتلفته بهائمكم هدر. ثم يأتي الرجل ببهيمته فيتركها بجوار الأشياء الخطيرة أو بجوار أمتعة الناس ويقول: العجماء جبار، أو يأتي ببهيمته ويدخل بها في سوق فيه أطعمة وفيه مصالح الناس -والبهيمة إذا أرسلت رتعت في هذه المصالح- فيقول: العجماء جبار؛ لكن الله عز وجل نبهنا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وبهديه الكريم على أن البهيمة إذا أتلفت شيئاً وكان الإتلاف متمحضاً منها فلا ضمان؛ لأنها بهيمة، فإذا أتلفت من فعلها دون أن يفرط صاحبها فمثلها لا يحاكم ولا يترتب عليه المؤاخذة من حيث الأصل، ثم إذا حصل الإهمال من ربها وصاحبها وجب الضمان حينئذٍ.

حكم دفع الصائل

حكم دفع الصائل قال المصنف رحمه الله: [كقتل الصائل عليه وباقي جنايتها هدر] أي: باقي جناية البهيمة هدرٌ، أي: لا ضمان فيه لثبوت السنة به. بعد أن فرغ من جناية البهائم أدخل مسألة الصائل، والصائل هو: الشخص -والعياذ بالله- الذي يهجم على الإنسان إما من أجل أن يضره في نفسه كأن يريد قتله أو يضره في عرضه أو يصول على ماله، ولكن أكثر المسائل يذكرها العلماء في الصائل إذا اعتدى على الأنفس، فلو -والعياذ بالله- تعرض شخص لآخر فحمل عليه السلاح يريد قتله أو بدون أن يحمل السلاح جاءه وهجم عليه يريد قتله، فالصائل تارة يكون في الطريق، وتارة يكون في البيت والمنزل؛ ولذلك تخلتف الأحكام الشرعية، إلا أن هناك ضوابط ينبغي أن ننبه عليها: أولاً: أن الأصل العام يقتضي أن دم المسلم حرام ولا يجوز للمسلم أن يقتل غيره أو يتلف شيئاً من جسده إلا إذا أذن الشرع بذلك؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) هذه الأصول الشرعية تدل على أنه لا يجوز لأحد أن يقتل المسلم إلا إذا دل الشرع على جواز ذلك القتل وحله، فلو أن شخصاً مسالماً هجم عليه شخص في البيت ومعه سلاح ويريد قتله أو يريد أن يعتدي على عرضه، ففي هذه الحالة ينبغي علينا أن نبقي على الأصل ونقول: لا يجوز أن تتعرض لهذا الذي هجم فتقتله إذا كنت تستطيع دفع ضرره بالأخف، فلو أمكن الشخص أن يستغيث بعد الله بأشخاص يأتون من أجل أن ينقذوه دون أن يحصل قتل لم يجز له أن يقتله، ولو أمكن أن يستخدم وسيلة تحول بينه وبين هجوم الشخص عليه كقفل الباب، فحينئذ يجب عليه قفل بابه أو ركوب سيارته والهروب إذا أمكن أن يهرب، فإذا تلافى هذا الضرر دون أن يحدث ضرر عليه فعل، أما إذا أصبح أمام الموت بحيث هجم عليه هجوماً لا يمكن معه أن يدفع ضرره إلا بالقتل؛ فحينئذ ينظر: فإذا هجم عليه هجوماً لا يمكن أن يدفع الضرر إلا بضرر في نفس هذا الصائل أو في جسده فيفصل فيه: فلو هجم على الإنسان وهو يحمل السلاح بيده وأمكنك أن تضرب أنه حتى ولو تتلفها فحينئذ لا يجوز أن تقتله، أما إذا غلب على ظنك أنك لا تحسن ضرب يده، أو ستخطئ في ضرب يده وأنك إذا أخطأت هذه الطلقة نفسه فإنه سيقتلك؛ فحينئذ يحل لك شرعاً أن تقتله، قال: (يا رسول الله! أرأيت إذا جاء يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله. قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: أنت في الجنة) وقال صلى الله عليه وسلم (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون نفسه فهو شهيد). فالصائل الذي يصول على الإنسان يدفع بالأخف، فإذا لم يمكن دفع ضرره إلا بالأثقل جاز له أن يدفعه بالأثقل، والسبب في هذا: أن الصائل لما صال على المسلم سقطت حرمته وأصبح بهجومه على بيوت الناس وبهجومه على أرواح الناس يريد إزهاقها أو بهجومه على أعراض الناس يريد -والعياذ بالله- انتهاكها ساقط الحرمة، وحينئذ يصبح دمه هدراً، فإذا لم يمكنك دفع هذا الإخلال الشرعي منه إلا بقتله فإنه يحل قتله ودمه هدر، لكن كل هذا بشرط أنه لا يمكن دفع ضرره إلا بالقتل، والنصوص في هذا واضحة. أجمع العلماء رحمهم الله على أن من صال على المسلم فقتله فإن دمه هدر، وأنه لو قتل الشخص الذي هجم عليه فإنه شهيد؛ ولذلك يعتبر من الشهادة موت الإنسان وهو مدافع عن نفسه وموت الإنسان وهو مدافع عن عرضه وموت الإنسان وهو مدافع عن ماله، فهذه كلها شهادة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرأيت إن جاء يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه. قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال قاتله) وعلى هذا قال العلماء: إن الصائل تسقط حرمته وإذا سقطت حرمته ولم يمكن دفع ضرره إلا بالقتل قتل، لكن لو أن هذا الصائل هجم على الإنسان وأمكن للإنسان أن يتصل أو يستغيث بعد الله عز وجل بأشخاص ينقذونه أو أمكنه أن يقفل باباً، ولم يفعل هذه الأشياء وأقسم على قتله، فالضمان يجب عليه؛ لأن نفسه لا تحل له، ولا يحل له قتله، ومثل هذا له حكم معروف إن كان سارقاً فله حده، وإن كان صائلاً فله تعزيره، والمرجع في التعزير ليس للناس، فلو هجم شخص على شخص وأمكنه أن يتصل أو يستغيث أو يقفل بابه ولكنه قام بقتله فإنه يضمن، ويعتبر قتل شبهة إذا تأول كونه هجم عليه، فلا يوجب القصاص لكنه يعتبر قتل شبهة وينظر فيه ولي الأمر، والسبب في هذا: أنه لا يجوز للناس أن يتولوا القصاص من بعضهم، ولا أن يتولوا مثل هذه الأمور ما دام أن هناك من يقوم به ويتولى هذه الأمور، فهو الذي يتحمل مسئوليتها وما على الإنسان إلا أن يضع الأمر بين أيديهم وهم الذين يتحملون المسئولية، أما أن يقدم هو على قتل أخيه المسلم مع إمكانية دفع ضرره بالأخف فإنه في هذه الحالة ليس له مبرر شرعي في قتله، وعلى هذا لا يباح للشخص إذا صال عليه الغير أن يقدم على القتل هكذا ما لم يتقيد بهذه الضوابط. ومن هذه الشروط والضوابط التي ينبغي توفرها: أولاً: أن يكون صائلاً بظلم لا صائلاً بشبهة، بمعنى: لو أن اثنين اختلفا في أرض فجاء أحدهما ودخلها بحكم أنه يعتقد أن الأرض أرضه، فلا نقول: إن هذا صائل لأن الأرض ما ثبت أن فلان يملكها، فإذاً: يشترط أولاً: أن يكون الصائل ظالماً، فإذا كان مظلوماً وهجم على ظالم يريد أخذ ماله فلا تقل: إنه صائل، كشخص سرق من آخر كيلو من الذهب مثلاً، فجاء المسروق وهجم على السارق يريد أن يأخذ هذا الذي أخذ منه فقتله، فحينئذٍ لا نقول: إنه صائل؛ لأنه لم يتوفر الموجب لإثبات كونه صائلاً عليه وهو كونه ظالماً، فهذا ليس بظالم بل هذا مظلوم وهو صاحب الحق. ثالثاً: أن يكون الشخص الذي صال يخشى منه الضرر على النفس أو على المال أو على العرض، ويكون ضرراً مؤثراً، فإذا كان المال شيئاً تافهاً، كما لو جاء يريد أن يأخذ مسواكاً أو قلماً أو كتاباً، فلا نقول: إنه يباح قتله؛ لأن هذا شيء ما يأتي عند حرمة دمه، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن زوال الدنيا أهون عند الله من إراقة دم امرئٍ مسلم، فليست دماء المسلمين رخيصة بهذا الشكل فتستباح بشيء تافه حقير. رابعاً: أن يذكره بالله عز وجل، وينصحه إذا أمكن ذلك، فيعذر إليه ويحذره ويمنعه إذا أمكنه ذلك، فيقول له: إذا هجمت أو دخلت دون إذني سأقتلك، أو إذا اعتديت علي سأقتلك، فيعذر إليه وينبهه لاحتمال أن يكون مخطئاً، ودخل الدار خطأ ويظن صاحب المنزل أنه صائل وهو ليس بصائل، فقد يدخل الإنسان داراً خطأ ويظنها داره ويحدث مثل هذا الشيء، فلابد أن يحذر الإنسان حتى يخرج من التبعة والمسئولية. خامساً: ألا يتمكن من دفع ضرره إلا بالقتل، فإذا لم يمكنه دفع ضرره إلا بالقتل وكان الضرر على النفس أو على العرض أو على المال، فإنه يجوز له أن يدفع ذلك الضرر ولو بإزهاق روحه؛ لثبوت النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسقوط حرمته. هذا بالنسبة للاعتداء من الصائل على الإنسان، ولا شك أن الشريعة حينما جعلت الاعتداء على الناس موجباً لسقوط الحرمة فإن هذا يدل على عظم منهجها وكماله، وتعجز القوانين الوضعية أن تعالج مثل هذه الأمور بمعالجة الشريعة الإسلامية، والشريعة الإسلامية وضعت هذه القواعد والثوابت والضوابط وعدلت وأنصفت بين الطرفين، فحفظت دماء الناس وأرواحهم وممتلكاتهم وأعراضهم؛ ولذلك عندما ننظر إلى أن اليد لو سرقت قطعت، ولو اعتدى عليها شخص ضمنها بنصف الدية، نجد أنها لما كانت كريمة صارت عزيزة ولها قيمتها، ولما صارت لئيمة تعتدي على أموال الناس سقطت حرمتها، وهذا عين العدل أن تجعل لكل ذي حق حقه، فجعلت الشريعة الحزم في موضعه وجعلت اللين والرق في موضعه فالمسلم له حرمة وكرامة لكن بشرط ألا يعتدي على حرمات الناس وألا يعتدي على كرامتهم، ولتتصور لو أن الشريعة لم تبح دفع الصائل لسالت دماء الناس وانتهكت أعراضهم وأكلت أموالهم وحصل من الضرر ما الله به عليم. (كقتل الصائل): هذا تشبيه: أي: لا ضمان في جنايات البهيمة بالشروط التي ذكرناها، كما أنه لا ضمان على من قتل شخصاً صال عليه، وبينا حكم الصائل وهو: الشخص الذي يعتدي على الإنسان، وحاصل ذلك: أن الاعتداء إما على النفس أو على العرض أو على المال، فإذا اعتدى على نفسه سواءً اعتدى عليه بالقتل يريد أن يقتله ظلماً وبدون حق، أو اعتدى على عضوٍ من أعضائه، والجناية على العضو كالمرأة يريد أن يزني بها والعياذ بالله! أو يعتدي على عرضه، كأن يريد الصائل أن يعتدي على أحد محارم الرجل بالزنا -والعياذ بالله- أو بأي أذيةٍ تمس هذا العرض، أو يعتدي على ماله كأن يأخذ نقوده أو يتلف شيئاً من أمواله، فكل هذا يندرج تحت مسألة الصائل. نحب أن ننبه إتماماً لما تقدم من مسائل الصائل إلى أن جميع المسائل التي تقدمت معنا في حكم الصائل هي مبنية على قاعدةٍ شرعية مدارها على مسألة مشهورة عند العلماء وهي: مسألة مشروعية الدفاع عن حق الإنسان، أي: أن الشرع جعل لك الحق أن تدافع عما ملكه لك، سواءً كان ذلك من الأمور المادية كالمال أو كان من الأموال المعنوية كعرض الإنسان ونحو ذلك، فالأصل الشرعي يقتضي: أن من حقك أن تدافع عن نفسك وعرضك ومالك، وشرع الله لك أن تبذل الأسباب لدفع الظلم الذي يقع عليك في نفسك أو في عضوٍ من أعضائك، وكذلك شرع لك أن تدفع عن نفسك كل ظلمٍ يقع على عرضك، وشرع للإنسان أن يدفع الظلم عن ماله.

الدليل على مشروعية دفع الصائل

الدليل على مشروعية دفع الصائل أما الدليل على مشروعية الدفاع: قول الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]، شرع الله عز وجل للمظلوم أن يدفع الظلم عنه، والآية عامة شاملةٌ للاعتداء على النفس والمال والعرض. الدليل الثاني: قول الله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9]، فالله عز وجل شرع مقاتلة الباغي وجعل بغي الطائفة الثانية على الطائفة الأولى موجباً لنصرة الطائفة الأولى فقال: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى} بغت: اعتدت، والبغي: الاعتداء ومجاوزة الحد، قال الله عز وجل: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات:9]، فإذا شرع الله لنا أن ندفع الظالم عمَّن ظُلِم، فمن باب أولى أن يكون مشروعاً للشخص نفسه أن يدفع ذلك الظلم عن نفسه. كذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث الصحيحة التي تدل على مشروعية الدفاع عن النفس وعن العرض وعن المال، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد)، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: أنه جاءه رجل فقال: (يا رسول الله! أرأيت إن جاء الرجل يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه. قال: أريت إن قاتلني؟ قال: قاتله. قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار. قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: أنت في الجنة)، فهذا الحديث يدل على مشروعية دفاع الإنسان عن ماله، فقوله: (لا تعطه) أي: من حقك أن تمتنع؛ لأنه جاء بغياً وعدواناً فقال: لا تعطه، قال: (أرأيت إن قاتلني؟) بمعنى: أخبرني يا رسول الله عن الحكم لو أنه أصر إلا أن يأخذ مالي بالقوة، قال: قاتله، فأحل له أن يدافع، قال: (أرأيت إن قتلني؟! قال: أنت شهيد قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار). فدل على سقوط حق الصائل الذي يصول على مال الإنسان، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أسقط حرمة الصائل الظالم على المال فمن باب أولى أن تسقط حرمته إذا اعتدى على العرض وعلى النفس؛ لأن العرض أعظم من المال، والنفس أعظم من العرض والمال. كذلك ثبت في الصحيحين من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما وفيه: قاتل يعلى بن أمية رجلاً، فعض أحدهما الآخر، فانتزع يده من فمه، فسقطت ثنيته، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (أيعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل؟ لا دية له)؛ لأنه حينما عضه اعتدى على يده، وهذا العض ليس له مسوغ شرعي، وليس هناك إذن شرعي أن يعض، فلما عض سقطت حرمة أسنانه فلما انتزع المعضوض يده -المعضوض من حقه أن يدافع عن نفسه- فلما انتزع يده حصل بهذا الانتزاع المشروع سقوط ثنية العاض، فلم يوجب عليه الضمان ولم يوجب عليه الدية. فدل هذا الحديث دلالة واضحة على سقوط حرمة الصائل والظالم إذا ترتب على دفعه ضرر، وقال: (لا دية لك) أي: لا شيء لك كما في الرواية الأخرى في الصحيح فدل هذا على أنه لا حرمة للمعتدي. كذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه كان جالساً مع أهله فجاء رجلٌ وأصبح ينظر من خلل الباب -الفتحات التي في الباب- فأخذ عليه الصلاة والسلام في يده المرود (المكحلة) فأخذ كأنه يستهدف العين التي تنظر، كأنه يريد أن يرميه بالمرود حتى يفقأ عينه فذهب الرجل وانصرف، كان بعض العلماء يقول: لعله من المنافقين. وهذا أشبه أن يكون من أهل النفاق؛ لأنهم -عليهم لعائن الله تترى إلى يوم الدين- ما فتروا عن أذية النبي صلى الله عليه وسلم حتى في عرضه؛ ولذلك كانوا يؤذونه حتى في عرضه كما في الحديث الصحيح في السير: أن كعب بن الأشرف كان يؤذي نساء النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرجن إلى قضاء الحاجة في المناصع وكانت قريبة من بقيع الغرقد. فالشاهد: أن هذا الحديث لا يشكل على بعض طلاب العلم فيظن أن الصحابة يجرءون على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، فهم -إن شاء الله- أبعد من ذلك، والأشبه أن يكون هذا من المنافقين؛ لأن المدينة كان فيها المنافقون وكان فيها اليهود، فالغالب أن يكون من غير الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، فكونه عليه الصلاة والسلام يريد أن يفقأ عينه أسقط حرمة العين، فلو قال قائل: إذا كان منافقاً سقطت حرمته في الأصل، قلنا: لكن الظاهر يوجب معاملته معاملة المسلم؛ لأنه قال: (أمرت أن آخذ بظواهر الناس). والسنة الفعلية جاءت بإسقاط حرمة العين الناظرة، وكذلك جاءت السنة القولية عنه عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح في مسند الإمام أحمد وغيره: (لو أن رجلاً اطلع على عورة قومٍ ففقئوا عينه لم يكن عليهم شيء)؛ لأن هذه العين -والعياذ بالله- لما خانت هانت، فحرمة المسلم تقتضي أن لا تطلع هذه العين على العورة، فلما اطلعت وتحرت وقصدت ووجد منها القصد والترصد لفعل الجريمة سقطت حرمتها وكانت هدراً، فلو أن شخصاً نظر إلى عورة شخص واسترسل بنظره ففقأ عينه سقطت حرمة هذه العين إذا ثبت بالبينة عند القاضي أنها عينٌ جائرة مسترسلة في النظر في عورته. وهذا الحديث يؤكد حرمة العرض؛ وأن النظر إلى العورات خيانة، والعين الخائنة أسقط النبي صلى الله عليه وسلم حرمتها، فدل على مسألتين: الأصل وهو: أن العين عند اعتدائها تسقط حرمتها وتكون هدراً، فلو أن شخصاً فقأها في حال اعتدائها لم يضمن، والأصل العام أن هذا الحديث يدل على أن الصائل والمعتدي على أنفس الناس وأرواحهم وأعراضهم وأموالهم تسقط حرمته بهذا الاعتداء، هذا بالنسبة لدليل الكتاب ودليل السنة، وأجمع العلماء من حيث الجملة كما حكى الإجماع الإمام ابن قدامة رحمه الله وكذلك غيره من الأئمة، كالحافظ ابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وله كلام نفيس في مسائل دفع الصائل في مجموع الفتاوى فيحبذ لطلاب العلم أن يرجعوا إليه، وغيره من الأئمة رحمهم الله بينوا أن الصائل تسقط حرمته إذا صال على المسلم ظلماً وعدواناً، قلنا: بشرط أن يكون ظالماً، فإذا كان قد اعتدى على الشخص بحق وعدل فلا يعتبر صائلاً، ولا يأتي بحكم الصائل، وبينا أنه ينبغي على الشخص المهجوم عليه أن يحاول دفع الصائل بالأخف، فإذا لم يمكن إلا قتله جاز له قتله، وكذلك ينبغي عليه تحذيره وإنذاره كما يشترطه بعض فقهاء الشافعية -رحمهم الله- فيقول له: يا فلان اتق الله، يا فلان خف الله عز وجل، يا فلان! أناشدك الله أن تبتعد عني وأن تكفيني شرك، أن تترك عرضي، أن تترك مالي، فيناشده بالله عز وجل إن أمكنت مناشدته وينصحه ويعظه إن أمكنه ذلك، هذا بالنسبة لمسائل الصائل التي ذكرناها فيما تقدم وكلها تتعلق بالإنسان، فبقي السؤال عن الصائل إذا كان من الحيوان؟

حكم الاستسلام للصائل

حكم الاستسلام للصائل مسألة الصائل إذا هجم على الإنسان يريد قتله أو يريد إتلاف عضو من أعضائه أو يريد تعذيبه أو يريد الاعتداء على عرضه أو ماله: هل يجوز للإنسان أن يستسلم للصائل أم يجب عليه أن يدفعه؟ هذه المسألة اختلف فيها العلماء: هل الواجب على الإنسان إذا صال عليه أحد أن يصبر وأن يحتسب الأجر عند الله عز وجل وخاصةً إذا كان الصائل مسلماً، أم أنه يجب عليه ويتعين عليه أن يدفعه؟ هذه المسألة فيها تفصيل: أولاً: بالنسبة للاعتداء على العرض، فإذا أراد أن يزني بامرأة، فجمهرة أهل العلم على أنه إذا لم يمكنها أن تدفع ضرره إلا بالقتل فإنه يجب عليها قتله، فلا يرخص لها، إلا إذا أكرهت على وجهٍ لا يمكن معه أن تدفع عن نفسها الضرر هذا شيء آخر، أما أن يأتي بقصد أن يزني بها ولا يمكنها أن تدفعه عن الزنا إلا بقتله فيجب عليها أن تقتله؛ لأن اعتداءه على عرضها ليس بالأمر الذي يمكن تعويضه، ولا بالشر الذي يمكن دفعه أو المفسدة التي يسع الصبر عليها؛ ولذلك تقتله ويلقى الله عز وجل بمظلمتها ودمهُ هدر. وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فقتله -وحكى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم رحمه الله- فلما قتله وكان الرجل محصناً رُفِع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي بعض الروايات أنه جاء إلى عمر وهو يأكل فجلس مع عمر وصار يأكل، فجاء أولياء المقتول يطلبونه بدم صاحبه، فقال يا أمير المؤمنين: (إني ضربت بالسيف بين فخذي امرأتي) رفعت سيفي وضربت فإن كان الذي بين فخذيها شيء وقتل لا أتحمل هذا، فخذ امرأتي ضربت بينه بالسيف، ففهم عمر ماذا يقصد، أي: أنني وجدت زانياً، ولم يقذف الرجل، وهذا من فطنته؛ لأنه لو قال: إني وجدته زانياً صار قاذفاً وقاتلاً؛ ولذلك قال: إني وجدت بين فخذي امرأتي رجلاً وضربت بالسيف بين فخذي امرأتي، أي: أنه كان من حقي أن أضرب في شيء ليس أمام الناس، فقال عمر: (أكما قال؟ قالوا: نعم. قال: لا شيء لكم) أي: ما دام أنه قتله، لكن هذه المسألة ليست على إطلاقها؛ ولذلك الشريعة لم تفتح هذا الباب، فلو أن شخصاً قتل شخصاً وجده مع امرأته ولم يقم البينة على أنه كان يزني لقتل به، كما في الصحيحين من حديث سعد رضي الله عنه أنه لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! الرجل يجد لُكعاً قد تفخذها رجل، أيحضر الشهود فيبرأ الرجل من حاجته أو يقتله فتقتلوه؟) لاحظوا Q في الرواية الأخرى في الصحيح: (إن قتل قتلتموه -أي: ليس هناك بينة تشهد- وإن ذهب يحضر الشهود يفرغ الرجل من حاجته ويمضي)، فنزلت آيات اللعان المشهورة وخص الزوج. قال العلماء: من حكمة الله عز وجل أنه لم يفتح هذا الباب للناس؛ لأنه بإمكان أي شخص إذا كره امرأته وكره عدواً قتل الاثنين، فجاء برجل وأدخله بيته وقتله وقتل زوجته ثم ادعى أنهما كانا زانيين؛ ولذلك يفتح على الناس باب شر، فالشريعة وضعت الأمور كلها في نصابها، فلو ادعى أنه كان يزني بامرأته وقتل امرأته والرجل لا تقبل منه هذه الدعوى ما لم يقم دليلاً بأربعة شهود على أنه كان يزني بها، فلو جاء ثلاثة شهود لم يكف ذلك، ولذلك لا بد وأن يثبت عند القاضي أنه زانٍ وأنه محصن، الأمر الثاني: حتى ولو جاء بشهود ووجده يزني بامرأته فما يقتله، وليس من حقه أن يقتله؛ لأن القتل ليس إليه وإنما هو لولي الأمر. ولذلك إذا قتله في هذه الحالة: وأحضر أربعة شهود على أنه كان زانياً أسقط القاضي عنه حد القصاص وأوجب عليه التعزير؛ لأنه تعدى؛ لأن الله عز وجل جعل القضاة وجعل ولاة الأمر ونصبهم لكف الناس عن بعضهم البعض، فإذا قام بنفسه وقتل فإنه يعزر، وهذا حاصل ما قيل بالنسبة للاعتداء على العرض. وبقي الاعتداء على النفس والمال، هل يجوز للإنسان لو جاء رجل يريد قتله، هل يجوز له أن يستسلم أو يجب عليه الدفع ولا يجوز له أن يستسلم؟ للعلماء قولان: قال بعض العلماء: يجوز له أن يستسلم، وذلك لقصة قابيل وهابيل، حيث كان خير ابني آدم من سلم أمره لله عز وجل وفوّض أمره إليه سبحانه وتعالى. وقال بعض العلماء: لا يجوز له أن يستسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له الرجل: (أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله). قالوا: ولأنه إذا استسلم أعانه على قتل غيره؛ ولأنه إذا استسلم أعانه على الزيادة والإسراف والإنعاف والظلم والبغي والاعتداء على أعراض الناس وعلى أموالهم، وعلى أرواحهم؛ فلذلك لا يجوز له أن يستسلم بل عليه أن يدفع هذا الظلم، فإن قتل فإن هذا يحدث عند الصائل رهبةً من الاعتداء على الناس ويخاف المعتدون الاعتداء على أرواح الناس؛ لأنه إذا جاء وقتل شخصاً وأخذ ماله، والشخص دافع فإنه يعلم أن أخذ الأموال لا يكون بسهولة، فلا يجرؤ مرةً ثانية على فعل ذلك إلا وعنده شيء من الخوف والرهبة، ففي ذلك تحقيق لمصلحة كف الظالم، قال صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قال: يا رسول الله! أنصره إذا كان مظلوماً، فكيف أنصره إذا كان ظالماً؟ قال: حجزك له ومنعك إياه نُصرةٌ له)، أي: أنك إذا حجرته عن الظلم فقد نصرته، أي: نصرته على شيطانه وعلى نفسه الأمارة بالسوء؛ فلذلك قالوا: يجب الدفع، والحقيقة القول بأنه يجب على الإنسان أن يدافع يحتاج إلى شيء من التفصيل، ففي بعض الأحوال إذا كان الصائل شخصاً معروفاً وغلب على ظن الإنسان أنه لو قتله فسيدفع عن الناس شره؛ لأنه شخصٌ معروف الاعتداء على أرواح الناس وأموالهم وأسرف وأمعن وغلب على ظنه أنه إذا استسلم سيفعل بغيره مثل ما فعل به، فلا شك أن تعين مواجهته وكفه وحجزه لا شك أنه أقرب إلى الصواب، والقول بالوجوب في مثل هذه الحالة أشبه. وعكسه إذا كان شخصاً يمكن استصلاحه ويمكن التخلية بينه وبين المال حتى يستطيع بعد ذلك أن ينصحه أو يذكره أو يستدرجه فهذا أمر يكون فيه سعة، وقصة قابيل وهابيل شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا شرعٌ لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، أي: أن النصوص واضحة الدلالة؛ لذلك يقول بعض العلماء: إن الصائل ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: إذا كان كافراً، فالقول بوجوب مقاتلته ودفعه أنا لا أشك في رجحانه؛ لأن استسلام المسلم ذلة ومهانة، ولا يجوز للمسلم أن يستسلم لمثل هذا، بل عليه أن يدفعه ويقاتله ويجاهده لما في ذلك من إعزاز لدين الله وإعلاء لكلمة الله وفي ذلك بالغ الرضا من الله سبحانه وتعالى للعبد؛ لأن الله يحب إغاظة الكافر ويحب إهانته؛ ولذلك جعل الله ثواب المجاهدين أنهم ما وطئوا موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدوٍ نيلاً إلا كتب لهم، فكتب لهم الأجر في ذلك، ففي هذه الحالة وأشباهها لا شك أن القول بالوجوب يتعين، وأما إذا كان مسلماً فالأمر بالتفصيل فيه أشبه.

حكم الصائل من الحيوان

حكم الصائل من الحيوان والصائل من الحيوان تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك في الكلب العقور، والمراد بالصائل من الحيوان: هو الحيوان الذي يخرج عن طوره ويكون مملوكاً للغير، وهذا يقع في بهيمة الأنعام كالبعير إذا هاج والناقة إذا هاجت، ولربما يهج الثور فيؤذي الناس وتتعرض أرواحهم وممتلكاتهم للضرر فحينئذٍ يرد السؤال عن حكم هذا النوع الصائل. أما من حيث الإجماع فقد أجمعوا على أن الصائل من البهائم كالصائل من الآدميين؛ لأن حرمة الآدمي فوق حرمة الحيوان، فإذا صال الحيوان وهاج وغلب على ظننا أنه سيقتل حلّ قتله، أو غلب على الظن أنه سيتلف أعضاء الناس، كأن يكون بعيراً يعض وغلب على الظن أنه سيعض صبياً وسيهجم على صغير، أو غلب على ظنك أنه سيعضك وهاج عليك ورأيت الأمارات كلها على أنه اعتداء ولا يمكن الفكاك من هذا الضرر وهذه الأذية إلا بقتله حل قتله، وبقي Q هل يضمن أو لا يضمن؟ فجمهرة العلماء: أنه لا ضمان على قاتله، وقال بعض العلماء: إذا هاج فإنه يضمن بالنسبة للحيوان، وأما الآدمي فإنه لا يضمن. ففرقوا بين الآدمي وبين الحيوان، قالوا: لأن الحيوان لا يعقل والآدمي يعقل، وقتل الحيوان يجب فيه الضمان؛ لأنه من باب الحكم الوضعي وليس من باب الحكم التكليفي، وهذا مذهب بعض أهل الرأي. والصحيح: أنه إذا هاج الحيوان وهجم على مكان أو على مدينة أو على قرية وغلب على الظن أنه يقتل أو أنه يتلف الأشياء ويكسرها فحينئذٍ يجوز قتله كما يجوز قتل الآدميين. أما لو قتل في هذه الحالة وذكر اسم الله عند قتله، كأن يرمي عليه سهماً أو يرميه برصاصة ويسمي الله أثناء قتله، فمذهب بعض العلماء أن القتل بهذه الطريقة يبيح أكل لحمه، فحينئذٍ يكون هذا عوضاً لصاحبه إذا فاتته نفسه أن ينتفع بلحمه، ويكون هذا دفعاً للضرر بسبب وجود الضرورة والحاجة. وكل هذه مسائل التي ذكرناها مبينة على قاعدة: (ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها)، فالمسائل التي يباح فيها دفع الصائل تقول: بشرط: أن يتقيد الشخص بقدر الحاجة.

حكم كسر آلات اللهو

حكم كسر آلات اللهو قال رحمه الله: [وكسر مزمار]. المزمار هو: آلة الزمر، فأحل الله لعباده الدُّف، وثبت ذلك في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف)، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المرأة التي نذرت: إن سلمه الله ورجع من غزوته أنها تضرب على رأسه بالدف، فلو كان ضرب الدف حراماً لما حل الوفاء بالنذر، وقول عمر: (أمزمار الشيطان؟) وإنكاره لذلك لا يدل على التحريم؛ لأنه لا يمكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسكت على محرم حتى يأتي عمر ويتكلم بإنكار الحرام، إنما المراد أنه خلاف الأولى، وأما من حيث الدليل فلا يشك في استثناء هذا النوع؛ لأن الله لا يحل لعباده الحرام وضرب الدّف النص فيه صريح. وننبه على مسألة يخطئ فيها بعض المنتسبين إلى العلم وبعض الإخوان من باب الحرص على الخير، ولكن ينبغي للمسلم أن يتريث وألا يحرم ما أحل الله؛ لأن تحريم الحلال كتحليل الحرام، وهذا أمر ليس من السهولة بمكان، لأنه قولٌ على الله بدون علم، ففي بعض الأعراس إذا ضربت النساء بالدفوف وسمع ضرب الدف من النساء أنكر بعض طلاب العلم ذلك، والواقع أن الشريعة قصدت أن يرتفع صوت الدف حتى يسمع في البلد والقرية ويعلم الناس أن فلاناً تزوج فلانة: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف)، بمعنى: أن سماع هذا الدف مقصود، والمراد به: أن يشتهر النكاح، وهذا هو الفرق بين النكاح والسفاح؛ لأن الزنا يكون بالسر، ولكن الله شرع النكاح الذي استحل به المؤمن عصمة المؤمنة ودخلت في عصمته بكلمة الله عز وجل واستحل فرجها بذلك، فيعلن ويشهر ويسمع الناس هذا الدف فيتساءلون ما هذا؟ فيقال: زواج فلان من فلانة. فإذا جاء الولد وجاءت الذرية علموا أن فلاناً قد تزوج فلانة فيثبت نسبه؛ ولذلك النكاح على الإشهار، والزنا على الاستتار. أما أصوات النساء بالغناء فلا ترفع حتى يسمع الرجال ذلك؛ لأن صوت المرأة فتنة، ولا يجوز أن ترفع المرأة صوتها إلا من حاجة، والدليل على ذلك: أن الله عز وجل شرع للمرأة إذا أخطأ الإمام أن تصفق ولم يحل لها أن تتكلم كما قال: (إنما التسبيح للرجال والتصفيق للنساء)، فإذا كان هذا في وقت الحاجة بأن تفتح المرأة على الإمام وهي في الصلاة موطن الخشوع وموطن الخضوع فكيف بغيره؟! ولذلك قلّ أن تسمع المرأة ولو كانت مستفتية إلا وجدت فيها لحن القول، ووجدت الرجل إذا سمع صوتها افتتن؛ لأن هذه فطرة لا يستطيع أحد أن يكابر فيها ولا يستطيع أحد أن يدفعها ويمنعها، فالمرأة من حيث هي صوتها فتنةٌ للرجل وهذا أمر جبل الله عز وجل عليه الذكر والأنثى، فضرب الدف ينبغي ألا يسحب غناء النساء المسموع، أما ضرب الدف فلا إشكال في جوازه وحله؛ لأن الله تعالى لا يحل لعباده الحرام، ولا يجعل شرعية هذا النكاح ويطلب إعلانه بهذه الوسيلة إلا وهو مما أذن الله عز وجل به. قال بعض العلماء: إن هناك فرقاً بين الدف وبين آلات المعازف، فإن إغراء آلات المعازف بالفساد أبلغ وأقوى من الدف، والدف أقل أن تجد فيه ذلك؛ ولذلك يكون الدف حال الرقص بالسلاح فيكون مع القوة والحمية، ولكن لا تكون معه آلات العزف، وإذا جاءت آلات العزف مع الرقص بالسلاح فإنها لا تتفق معه في خشونته وفيما يكون فيه من إيثار الحمية والحماس؛ ولذلك استثني عن غيره، والدف يكون من جلد الغنم وهو المعروف إلى زماننا وهو موجود، وهذا هو المستثنى. وأما ما عدا الدف من آلات الزمر والغناء فإنها محرمة، وقد تقدم معنا بيان النصوص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع العلماء، وكلام الصحابة رضوان الله عليهم في هذه المسألة، وللإمام ابن القيم رحمه الله بحثٌ نفيس في إغاثة اللهفان فقد أجاد فيه وأفاد، وبين فيه النصوص النقلية والعقلية والمفاسد المترتبة على سماعه، وكذلك حكى أقوال أئمة السلف كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتاويهم في ذلك، فهذه الآلات إذا ثبت تحريمها؛ فإنها لا حرمة لها، فإذا أتلفت فإنه لا ضمان على متلفها إذا أتلف ما يكون به الغناء، وأما المادة فلا تتلف، فلو كانت مصنوعة من خشب، فإنه إذا كسره فلا ضمان عليه، ثم لو أحرق الخشب ضمن قيمة الخشب؛ لأن نفس المادة يمكن تصنيعها بخير وشر، فإن صنعت بشر فإنه يقتصر على إتلاف الفاسد منها، وهكذا الأشرطة، فلو كان الشريط مشتملاً على الغناء فإنه لا يكسر وإنما تمسح مادة الغناء؛ لأنه يمكن أن يوضع عليه ما هو مفيد، فإذا كسره ضمن قيمته بدون الغناء، وهذا هو الذي عليه جمهرة العلماء رحمهم الله من التفصيل، فالمواد التي تصنع ويتخذ منها ما هو حرام إن أمكن استصلاحها واستبقاؤها وجب ضمان أصلها الذي هو قيمة العين مجردةً من المحرم، ويبقى المحرم لا ضمان فيه، وليس على متلفه شيء.

حكم كسر الصليب

حكم كسر الصليب قال رحمه الله: وقوله: [وصليب]. وكذلك كسر الصليب، فالصليب يشرع كسره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح عنه في حديث الفتن والملاحم أن عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: (ينزل في آخر الزمان فيكسر الصليب ويقتل الخنزير)، هذا الحديث في الصحيحين، وهو يدل على أنه لا حرمة للصليب، وعلى هذا: فلو كسر صليباً فلا ضمان على كاسره.

حكم كسر آنية الذهب والفضة

حكم كسر آنية الذهب والفضة قال رحمه الله: [وآنية ذهب وفضة]. فلو كسر آنية الذهب والفضة؛ فإنه لا ضمان عليه؛ لأن الله عز وجل حرّم على المسلم اتخاذ آنية الذهب والفضة، ففي الصحيح من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وعن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحائفهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)، فهذا الحديث الصحيح أجمع العلماء على العمل به وأنه لا يجوز للمسلم أن يصنع آنية من ذهبٍ أو فضة، ولا يجوز له أن يأكل في آنية الذهب والفضة. وقال جمهرة العلماء: يستوي أن تكون الأواني من الذهب الخالص أو تكون فيها نسبة من الذهب، سواء كانت أكثر أو كانت مساوية أو كانت أقل، فالأكثر مثل: أن يصنع إناء ثلاثة أرباعه من الذهب والربع من الحديد أو من الزجاج، والأقل العكس، يكون الإناء زجاجاً ثم يطلى بالذهب أو يجعل حرف الإناء من الذهب، فكل ذلك محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عمم في الحكم فقليله وكثيره حرام حتى يدل الدليل على الاستثناء، ولم يستثن عليه الصلاة والسلام إلا المضبب، والمضبب بالفضة ثبت فيه حديث أنس رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (انكسر قدحه فسلسله بفضة)، وبينا شروط ذلك في باب الآنية، فإذا ثبت أن أواني الذهب والفضة لا يجوز اتخاذها، فلو أنه رأى إناء ذهب فكسره فلا ضمان عليه؛ لكن الذهب يبقى ملكاً لصاحبه؛ لأن الذهب يمكن تصنيعه فلو كسر هذا الإناء فلا شيء عليه؛ لأنه أتلف أمراً محرماً، وكذلك إذا كان مصنوعاً من الفضة فإنه إذا أتلفه لا ضمان عليه.

حكم كسر آنية الخمر غير المحترمة

حكم كسر آنية الخمر غير المحترمة قال رحمه الله: [وآنية خمر غير محترمة]. وكذلك كسر آنية خمرٍ يُشرب فيها الخمر، فإذا كسرها فإنه لا ضمان عليه، وقوله: (غير محترمة) استثناء: أخرج -رحمه الله برحمته الواسعة- الأواني إذا كانت أواني خمر أذن الشرع بها، فعندنا نوعان من الأواني: آنية خمرٍ لم يأذن الشرع بها، وهي آنية الخمر التي يشرب فيها المسلم، فهذه لا حرمة لها، فلو كسرها لا ضمان عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا طلحة أن يريق الخمر وأن يكسر الدنان -وهي: أوعية الخمر والآنية التي تخمر فيها- وكانت للأيتام فأمر بكسرها مع أنها ملك للأيتام، ومال اليتيم من أشد الأموال التي ينبغي الحفاظ عليها، ومع ذلك أمر بكسره، فدل على أن آنية الخمر لا حرمة لها، النوع الثاني: إذا كانت محترمة، وذلك إذا كانت من أواني الذميّ، فالذمي إذا كان في بلاد المسلمين وعنده في البيت آنية خمر يشرب بها مستتراً ولا يظهرها ولا يشرب أمام الناس كانت محترمة، فإذا شرب بها أمام الناس سقطت حرمتها، فحينئذٍ يجوز إتلافها، وإذا أتلفت فلا ضمان عليها؛ لأنها آنية خمرٍ غير محترمة.

الأسئلة

الأسئلة

توجيهات للآباء في تربية الأبناء

توجيهات للآباء في تربية الأبناء Q يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راعٍ، وكلكم مسئولٌ عن رعيته) فرب الأسرة مسئول عن أسرته، فما هو توجيهكم لكل ربّ أسرةٍ في هذه الإجازة الصيفية؟ A إن الله تبارك وتعالى إذا أنعم على الإنسان بنعمة الأهل والولد وأراد أن يبارك له في تلك النعمة وأن يتممها ويكملها، رزقه خوفه وتقواه سبحانه وتعالى، فاستشعر المسئولية وأحس بالأمانة، فجدّ واجتهد أن يأخذ بحجزهم عن النار، وأن يقيمهم على سبيل الأخيار حتى يكون سعيداً بأداء أمانته ورعايتها على الوجه المطلوب، فالأولاد أمانة، والأهل والزوجة أمانة في عنق الإنسان ومسئول عنها أمام الله جل جلاله، وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال: (والرجل راعٍ في بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها)، هذه الأمانة والمسئولية فيها جانبان: الجانب الأول: يتعلق بالدين وحقوق الله سبحانه وتعالى وحقوق العباد. والجانب الثاني: يتعلق بالدنيا، أما الذي يتعلق بالدين: فهناك فرائض وواجبات ينبغي أن يعلمها الأبناء والبنات، وأن ينشئ كل واحد من الوالدين أولاده على معرفة هذه الحقوق والواجبات، وأن ينشئ الأبناء على القيام بها على الوجه المطلوب، سواء كانت هذه الحقوق لله جل جلاله أو كانت الحقوق للناس، فيبدأ كل من الأب الصالح والأم الصالحة بحق الله جل جلاله، فيعلم الابن الصلاة، ولا يقف الأمر عند التعليم بل ينبغي أن يحببها إلى قلبه، وأن يهيء كل الأسباب حتى تصبح الصلاة قرة عين الولد، ليأنس إليها ويرتاح إليها ويحبها ويحب أداءها والقيام بها، ويكون الأب وتكون الأم قدوة للأبناء والبنات في ذلك. من حق الله جل جلاله على الوالدين أن ينشأ الأولاد على المعرفة بالله سبحانه وتعالى من توحيده والإخلاص لوجهه والرهبة والخوف منه سبحانه، فالبيت المسلم هو البيت الذي نُشئ أولاده على ألا يكون في القلب أخوف للابن من الله جل جلاله، ولا أحب إليه من الله سبحانه وتعالى، وهذا كله يكون بالكلمة الطيبة والنصيحة والقصص المؤثرة، فالأم قد تقص على بناتها قصة فيها عبرة تزيد من الإيمان، والأب قد يقص على ابنه قصة تزيد من يقينه بالله سبحانه وتعالى. كان أبناء المسلمين يتربون على الكتاب والسنة ويتربون على أيدي الآباء الأمناء الأتقياء المخلصين الأوفياء الذين يربون على مكارم الأخلاق ومحاسنها من الشيم والوفاء والكرم، وكان الطفل من صغره يعوّد كيف يجلس في المجلس، وكيف يستقبل الضيف وكيف يكرمه وكيف يخاطبه، فكان يعود على مكارم الأخلاق وينشأ نشأة حميدة زاكية في حضن أبٍ وأمٍ يخاف كلٌ منهما ربه، ويستشعر كل منهما بمسئوليته، فأصبحت الأمة كالحلقة المتصلة، كلما ذهب جيل جاء جيلٌ مثله، وكلما ذهب رعيل جاء رعيل مثله أو يقاربه فكانت الأمة بخير، فلما تخلى الآباء والأبناء والأمهات عن واجب التذكير بحق الله جل جلاله وحقوق العباد ورعاية أمر الدين وغرسه في نفوس الأبناء ضاعت الأمة. الابن يحتاج إلى أن يُعلّم حقوق الناس، فتبدأ أول شيء بتعليمهم حقوق الوالدين، فالأب يحرص على أن الابن يكون أبر الناس بأمه، ويغرس في قلبه حب الأم وإكرامها وإجلالها، والأم أيضاً تغرس في قلب البنت والابن حب الوالد وإكرامه، وهذا يحتاج إلى فعل وتطبيق وقدوة، فلا يمكن أبداً أن يتعلم الابن البر وهو يسمع الأب يسب الأم، ولا يمكن يتعلم إكرام الأم وهو يرى أول من يهين الزوجة زوجها، وكيف يتعلم الإحسان إلى والدته وهو يراها تذل وتضرب أو يصرخ في وجهها أو تسب أو تشتم أو تعير بأهلها وقرابتها، فتتدمر معاني الكمال في نفسية الأبناء والأطفال خاصة في الصّغر. كذلك الابن كيف ينشأ باراً بأمه وهي تعوده على إهانة أبيه، ودائماً تشتكي من أبيه أمامه، وتربي في نفس أبنائها وبناتها من الصغر الحقد على والدهم في الكبر؟ كل هذا دمّر الأمة وشتت شملها ودمّر المجتمعات، فالمجتمعات تقوم على طفل صغير، ما من عقلاء ولا حكماء في قديم الزمان ولا حاضرهم يريدون أن يبنوا مجداً إلا وابتدءوا من الصفر، فلم يستهينوا بالطفل حتى ولو كان في مهد الطفولة فلا يستهينون به؛ لأن نظرات الطفل محسوبة، سمعه محسوب، كلامه محسوب، كل شيء يراه ويسمعه يؤثر على التربية والسلوك. كذلك يعود الأبناء والبنات على إكرام الجار، وعلى إكرام الضيف، ويعوّدون على صلة الأرحام، ويعوّدون الوفاء، وعلى محاسن العادات والأخلاق، وأول من يجني هذه الثمرة هما الوالدان، يجنيانها في الدين والدنيا والآخرة، أما في دينه: فعظم أجره عند الله؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30]، والله إن من أعظم الإحسان ومن أعظم الخير -ليس لك أنت في بيتك بل للأمة جمعاء، وليس في مجتمعك فقط بل للأمة جمعاء- أن تخرج لهم ابناً كاملاً في بنوته، ورجلاً كاملاً في رجولته، وأن تخرج بنتاً صالحة تكون أماً صابرة مربية، فربما ينشأ على يديها رجلٌ يقود أمّة بالخير والسداد. إذاً: تربية الأبناء والبنات لا تكون بالتشهي ولا بالتمني، بل المسئولية عظيمة، ولكن تحتاج إلى شيء من الخوف من الله جل وعلا ومراقبته، وحسن التدبير وحسن الفعل وحسن القول، فإذا وفق الله عز وجل إلى القدوة الحسنة والكلمة الهادفة والنصيحة الموجهة، وجمع مع ذلك كله الرفق واللين والأخذ بمجامع تلك القلوب البريئة من الصغر إلى الخير وإلى الطاعة وإلى البر سمت هذه الأمة، وارتقت إلى معالي الكمال، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الخير في صلاح الصغار؛ ولذلك كان يقول الحكماء: (إذا رأيت الدين والخير في صغار أمةٍ فأمل لها الخير)؛ لأنه إذا كان في الصغار فإنهم في الغد هم الذين يوجهون وهم الذين يكونون قدوة للناس، (وإذا رأيته في كبارها فإن الخير يزول عنها عندما يذهب الكبار) نسأل الله السلامة والعافية. فالواجب تربية النشء الصغير على طاعة الله، وتحبيبه في مرضاة الله عز وجل وتعويده على الخير وعلى الطاعة والبر، وأول ما يبدأ بحق الله ثم حقوق العباد، ثم يبقى الأمر الدنيوي، فدائماً يحرص الوالدان على أن يكون الابن في أحسن وأفضل الأحوال، فيُعلّم الشجاعة ولا يعلم الجبن والخوف، ويعلّم الكرم ولا يعلم البخل، ويعلّم الأشياء الحميدة في دنياه التي يسموا بها إلى مراتب الكمالات، ودائماً يشجع ولكن لا يشجع بالقول دون العمل، ولا يجعل الخير بالقول دون القدوة، فالابن يصلي في المسجد متى ما رأى أباه يصلي في المسجد، والابن يخاف من الله جل جلاله عندما يأتي ويجد أباه قد هيئت له الدنيا في فتنة أو شهوة فيقول له: يا أبت! لمَ لا تفعل هذا؟ يقول: أخاف الله رب العالمين، فإذا بقلب الابن يخاف؛ ولذلك أنس رضي الله عنه بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فذهب -وكان أنس صبياً في العاشرة- ومرَّ على صبيان فجلس يعلب معهم، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقد تأخر عليه، فوقف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (والله يا غلام! لولا أني أخاف الله لضربتك بهذا المسواك)، فيصبح الصبي يحب الله؛ لأنه دفع عنه الضر، وأيضاً يخاف الله في هذا الأمر؛ لأنه إذا رأى من بداية طفولته من هو أكبر منه يخاف من الله أحس أن لله عز وجل حقاً عليه أن يخافه، وإذا وجد الأم متورعة بعيدة عن المحارم بمجرد ما يأتي ويتكلم في غيبة أو أحد يتكلم في غيبة تقول له: يا ابني! اسكت لا يجوز أن تغتاب الناس. وبمجرد أن يؤذي الابن الجار تقول له: اذهب واطلب السماح من جارك وإلا أدبك الله وفعل الله بك، فتنشأ الأسرة على طاعة الله ومحبة الله. النقطة الأخيرة: في هذه إجازة لا شك أنه ينبغي علينا أن نحافظ على هذا الأمر، وهذه قاعدة عامة لا تختص بإجازة ولا بغيرها، ونحن نحب دائماً أن نعتني بالقضايا الكلية، فمسألة الإجازة مسألة عارضة لكن المهم التربية الصالحة. وينبغي أن ينبه على أمرٍ مهم وهو: أن لا نيأس، البعض يقول: كثر الشر والأبناء أصبح يؤثر عليهم كل شيء، وأصبحوا ضائعين، هذا خطأ، فمن كان لله كان الله معه، والخير لا يبلى ولا يذهب ولا يزول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18]؛ ولذلك ينبغي ألا نيأس، لكن هناك أمور ينبغي التنبيه عليها باختصار، حتى لا يطول الوقت: أولاً: إذا عجزت عن أبنائك الكبار فالتفت إلى أبنائك الصغار، وهذا هو الذي ينبغي أن يعتني به الخطباء والأئمة عند توجيه الناس، فمن المسائل التي تذكر في تربية الأبناء، أنهم إذا عجزوا عن الكبار فليبدءوا بالصغار، ويعود الناس على صُحبة أبنائهم الصغار إلى المساجد، ومحبة طاعة الله عز وجل، ومحبة الخير. وعوّد ابنك من الصغر على أخذه إلى العمّ والعمة والخال والخالة، وعوّد ابنك من الصغر أن يراك وأنت تحترم أخاك الذي هو أكبر منك، وتحترم عمه الذي هو أكبر منك، وتقدر خاله الذي هو أسن منك، وعوده على أنك تكون له القدوة الصالحة في صلة الرحم، عوده على أن تكون له القدوة الصالحة في الإحسان إلى الأيتام وإلى الأرامل، خذه ولو يوماً من الأيام في يدك إلى بيت أرملة أو مسكين أو مكروب أو منكوب وأعطهم مالاً وقل له: يا فلان! أعط لفلان حتى يدعو لك، فينشأ من الصغر وهو يحب هذه الأمور، فالأبناء يتأثرون بآبائهم والبنات يتأثرن بأمهاتهن. فعلينا أن نتقي الله عز وجل في القدوة، وعلينا ألا نيأس مهما كان، فإن الله قد يبارك لك في ولدٍ واحد من ذريتك فيصلح به البيت كله، وقد يجعله الله عز وجل مشعل خير ليس للبيت بل للجماعة بل للقبيلة بل للأمة جمعاء حينما يخرج صالحاً هادياً مهدياً، فالله أعلم كم من أمٍ صالحة من أمهات السلف الصالح ربت عالماً إلى الآن نعيش على فضل الله ثم فضل علمه، وكل هذا بفضل التربية الصالحة بعد فضل الله عز وجل، كانت أم أحد السلف تقول لابنها -وقد نشأ يتيماً وأراد أن يتكسب للرزق وينشغل عن طلب العلم- فقالت له: (يا بني اطلب العلم! أكفك بمغزلي). تعني: أنا التي أعمل، ولكن تفرغ أنت لكتاب الله وس

مسائل سجود السهو

مسائل سجود السهو Q نرجو منكم توضيح مسائل سجود السهو في الصلاة؟ A السهو لا يخلو من ثلاثة أحوال كلها مندرجة تحت أصلين: التحقق والشك؛ فإما أن يتحقق الزيادة أو يتحقق النقص أو يشك أنه زاد أو انتقص، ثم كل هذه الصور لا يخلو المصلي فيها: إما أن يكون إماماً أو مأموماً أو منفرداً. فإذا سها في صلاته فزاد فيها وتحققت الزيادة وجب عليه أن يسجد لله سهواً، ويكون سجوده بعد السلام لا قبله كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة ذي اليدين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سلم من ركعتين في إحدى صلاتي العشي قال رضي الله عنه وأرضاه: وأنبئت أن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (ثم سجد سجدتين بعد ما سلم)، وهنا جهالة المنبئ لا تضر؛ لأنه صحابي، ولذلك عن صحابي وبذلك هذا الحديث حجة لطائفة من أهل العلم الذين يختارون التفصيل، فيقولون: إن ما كان من الزيادة يكون بعد السلام، ويؤيد هذا النظر الصحيح فإن الزيادة خارجة عن الصلاة فكان المنبغي جبرها بخارجٍ عن الصلاة لا بداخل فيها. وأما إذا تحقق النقص فإنه يسجد قبل السلام لا بعد السلام لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث المغيرة رضي الله عنه وأرضاه في صلاة المغرب، وحديث عبد الله بن مالك بن بحينه في الصحيحين وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قام عن التشهد الأول وسبح له الناس فأشار إليهم من وراء ظهره أن قوموا فقاموا، قال رضي الله عنه: ثم جلس للتشهد فقبل أن يسلم سجد عليه الصلاة والسلام سجدتين ثم سلم)، فهذا يدل على أن النقص يجبر قبل السلام. أما إذا شك هل زاد أو نقص فيبني على اليقين، فإذا شك في عددها بنى على الأقل، فإذا شك هل هي ثلاث ركعات أو أربع بنى على ثلاث، وإذا شك في قولٍ هل قال: سمع الله لمن حمده أو لم يقل، يقول: سمع الله لمن حمده إذا كان في وقت التدارك، أو شك هل سبح في سجوده أو لم يسبح بنى على أنه لم يسبح، هذا إذا كان الموضع يمكن فيه التدارك، أما لو فات الموضع ولم يمكن التدارك للواجبات فإنه يبني على أنه لم يفعلها، فيسجد قبل السلام على ما ذكرنا، إذاً: إذا تحققت الزيادة سجد بعد السلام، فإذا تحقق النقص سعد قبل السلام، وإذا شك بنى أنه على لم يفعل ثم يسجد قبل أن يسلم سجدتين لما في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدةً صلى أو اثنتين، فليبنِ على واحدة، فإن لم يتيقن اثنتين صلى أو ثلاثاً فليصل اثنتين ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان ما صلاه أربعاً -كما في رواية الصحيح- فالسجدتان ترغيم للشيطان، وإن كان ما صلاه خمساً -أي: الركعة التي زادها قطعاً للشك - فالسجدتان تشفعانه) بمعنى: تلغي الزيادة. بقي السؤال: ما هو الشيء الذي ينقص وما هو الشيء الذي يزيد؟ يشترط في الشيء حتى يثبت السهو به أن يكون من جنس أقوال الصلاة وأفعالها، بمعنى: الزيادة إما أن تكون بقول وإما أن تكون بفعل، فالذي يزيد في الصلاة إما أن يزيد قولاً وإما يزيد فعلاً، وإذا زاد قولاً أو فعلاً فلابد أن يكون هذا القول من جنس أقوال الصلاة، ويشترط أن يكون هذا الفعل من جنس أفعال الصلاة، فلو أنه زاد فعلاً ليس من جنس الصلاة، مثل: كان يصلي ففتح الباب، ففتح الباب ليس من جنس الصلاة، فحينئذٍ لا يسجد وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله. والفعل قد يكون من جنس أفعال الصلاة، مثل: أن يزيد ركعة أو يزيد سجدة، فهذا من جنس أفعال الصلاة. أما إذا زاد قولاً ليس من جنس أقوال الصلاة فحينئذٍ يرد التفصيل: قد يوجب بطلان الصلاة وقد لا يبطلها، على التفصيل في مسألة الكلام في الصلاة. وأما إذا كانت الزيادة بالقول أو الفعل من جنس أقوال الصلاة وأفعالها، فلا يخلو القائل من أن يكون إماماً أو مأموماً أو منفرداً، فإذا كان إماماً أو منفرداً فحكمه واحد، فإذا زاد في الصلاة أو انتقص منها أو شكّ فَعَلَ الشيء الذي ذكرناه على التفصيل، لكن إذا كان مأموماً وزاد وراء الإمام أو انتقص فإن الإمام يحمل عنه تلك الزيادة وذلك النقص بشرط: أن يكون من الواجبات لا من الأركان؛ لأن الأركان لا يدخل فيها السهو بالنسبة للنقص، فمن نقص من صلاته ركوعاً أو سجوداً أو لم يقرأ الفاتحة، فهذا يجب عليه أن يقضي ركعةً كاملة ولا يكفي أن يجبرها سجود السهو، فالذي يصلي وراء الإمام وينسى الفاتحة يجب عليه قضاء ركعة، والذي يصلي وراء الإمام وينسى الركوع أو السجود يجب عليه قضاء ركعة كاملة، ولو صلى وراء الإمام ولم يقرأ الفاتحة يقضي ركعة إلا في الأحوال المستثناة، لكن لو أنه ترك واجباً كما لو جاء وراء الإمام فقال الإمام: سمع الله لمن حمده. فرفع رأسه ونسي أن يقول: ربنا ولك الحمد، فقال الإمام: الله أكبر، فسجد معه فتذكر أنه نسي التحميد، نقول: يحمل الإمام عنك هذا السهو، فالإمام يحمل الواجبات، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: (الإمام ضامن)، والضمين هو: الحميل، فقوله: (الإمام ضامن) المراد به: أنه يحمل، وإذا كان الإمام يحمل: إما أن يحمل أركاناً أو واجبات أو سنناً، فلما علمنا أن الإمام لا يحمل الأركان وهذا بإجماع العلماء، علمنا أن المراد به إما الواجبات أو السنن التي لا يجب فعلها، ففهمنا أنه يحمل الواجبات ولا يحمل الأركان، وعلى هذا: فلو سها وترك واجباً قولياً أو فعلياً؛ فإنه يسجد للسهو ضماناً لهذا النقص إماماً ومنفرداً، وأما المأموم فإن الإمام يحمل عنه، والله تعالى أعلم.

حكم سماع الدف وضربه للرجال

حكم سماع الدف وضربه للرجال Q هل ضرب الدف مقيدٌ بالأعراس فقط أم يتعدى إلى الأعياد والمناسبات؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فمن حيث الأصل الشرعي في قوله عليه الصلاة والسلام: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف)، يدل على أن ضرب الدف مباح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحلّه وأذن به، وصحيح أنه أذن به بالنكاح لكن يقال: إنه من باب الإعلان، وإنما يستقيم تخصيصه بالنكاح إذا كان الأصل تحريم الدف، فجاء استثناء النكاح، وهذا معروف في الأصول عند العلماء رحمهم الله، أنه لا يقال: إن الشيء حرام ولا يجوز إلا في حالة كذا، إلا بدليلين؛ الدليل الأول يقتضي أن الأصل تحريمه، والدليل الثاني يستثني، فتقول: الأصل حرمته إلا ما دلّ الدليل على إذنه وحله وهي حالة الضرورة أو حالة الجواز فيتقيد بها، فيرد السؤال: هل الأصل حل الدف أو تحريمه؟ فلما كان الدف يختلف عن آلات الزمر والغناء، يختلف من جهة طبعه ويختلف من جهة تأثيره، وقد بينا هذا وأشرنا إليه، ومن هنا قال طائفة من أهل العلم رحمةُ الله عليهم واختاره بعض مشائخنا رحمهم الله أن الأصل جوازه حتى يدل الدليل على تحريمه وأنه باق على البراءة الأصلية، خاصةً وأن النبي صلى الله عليه وسلم اختاره للنكاح فقال: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف)، فاختار له المباح وترك المحرم على الأصل، فدل على أنه مباحٌ وجائزٌ من هذا الوجه. وقال بعض أهل العلم: أن الدُّف الأصل تحريمه، قالوا: لأنه من آلات الغناء، وآلات الغناء والمجون تثير الفاحشة وتدعو إليها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل لهوٍ باطل)، فنقول: إن الأصل تحريمه حتى يدل الدليل على جوازه، فجاء الدليل من النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف)، فنخصه بالنكاح، وهذا مُشكل؛ لأنه لو كان الأصل تحريمه لما أحله في نذر المرأة، فالمرأة نذرت أن تضرب على رأسه بالدف، فلو كان الأصل تحريمه لكان عليه الصلاة والسلام -وهو الذي لا يأذن بالحرام على رأسه- قال لها: يا أمةَ الله! غني ولا تضربي بالدف، فبالإجماع لكن كونه يأذن به في النذر، فبالإجماع أن النذر لا يجب الوفاء به إذا كان بمحرم، والشريعة لا تتناقض، ولا يمكن أن يأتي ويقول لها: أوفي بنذرك؛ لأن الوفاء بالنذر واجب؛ لأنه إذا كان محرماً فلا يجب الوفاء بمحرم. فدل على جواز الضرب به إذ لا يمكن أن يحل الله عز وجل لعباده شيئاً محرماً. فهذه مسألة خلافية، فلو قال شخص بتحليله وضرب به تأويلاً للسنة فلا ينكر عليه ولا يثرب عليه؛ لأن له وجهاً من السنة وله سلف يقولون بقوله، وإذا قال بالتحريم فلا ينكر عليه ولا يثرب عليه، بل يفعل ما يعتقده. وانظر إلى رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، لو كان الدف الأصل تحريمه وجاءت المرأة تضرب على رأسه، فهل يترك أذنيه تسمع الدف وهو أورع الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وهو أتقى الناس لله عز وجل؟ ثم أمر بالوفاء بالنذر، فهل يسكت عليه الصلاة والسلام ويتركها؟ وما أبيح للضرورة يقدّر بقدرها، فلو كان الأصل حرمة سماعه وحرمة ضربه لما أذن به عليه الصلاة والسلام وهو أتقى الخلق لله؛ ولذلك لا ينبغي أن تفخم هذه المسألة أكثر مما تستحق بأن يشنع على من يحرم أو يشنع على من يحل، فمن سمعه يتأول الحل فلا شيء عليه، ومن تركه يتقي الله عز وجل ويطلب الأورع لدينه فلا شيء عليه، لكن ننبه على مسألة: وهي أنه حتى ولو قلنا بحله فكون الإنسان يسمع الدف قائماً قاعداً ويجعل الدف دائماً عنده ويجعله سلوته لا شك أن هذا يؤثر على نفس الإنسان، فالضحك والمزح مباح، ولكن الإنسان إذا أكثر من سقطت مروءته ومات قلبه واستخف أمره نسأل الله السلامة والعافية، فحل الدف لا يقتضي من الإنسان أن يتوسع فيه أو أن نطبع الأشرطة ونعتني بالأشرطة التي فيها الدف ونتوسع في ذلك ونشغل الأخيار والصالحين بها! لا. بل ينبغي علينا أن نسمو إلى الأكمل وإلى الأفضل -حتى على القول بحله- وأن نشغل الناس بما ينفعهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم، وعلى هذا لا تفريط، فلو أنشدت الأناشيد الحماس التي تدعو إلى الجهاد في سبيل الله وتذكر بالسلف الصالح وأمجاد الأمة فهذا شيء ليس فيه من معارضة، وهو متفق مع الأصول الشرعية ويحدث في النفس محبة للخير ولبذل النفس في سبيل الله عز وجل، فكل هذا مندرجٌ تحت أصول شرعية تقره ولا تنكره، وتثبته ولا ترفضه. وعلى هذا: فإن الذي يظهر -والعلم عند الله- أنه يبقى على الأصل، لكن لا يتوسع في هذا الأمر كما سبق وأن بينا ونبهنا عليه، والله تعالى أعلم.

نصيحة تخص طلاب العلم

نصيحة تخص طلاب العلم Q أنا أطلب العلم ولكن بعض الأحيان يشق عليّ وأشعر أني لم أفهم شيئاً وخاصةً عند ذكر الخلافات فما هو الطريق الصحيح؟ A لا بد من التعب، والله تعالى يقول: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، والعلم هو أثقل شيء؛ لأنه مستمد من الوحي، والله عز وجل لما أوحى إلى نبيه أخذه جبريل فغطه حتى رأى الموت، وكان إذا نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في شدة الحر أو في شدة البرد يتصبب جبينه عرقاً -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه، وأسند إلى أبي هريرة رضي الله عنه وفخذه تحت فخذ النبي صلى الله عليه وسلم ونزل عليه الوحي فكادت فخذ أبي هريرة أن تنفصم من شدة الوحي الذي ينزل عليه النبي عليه الصلاة والسلام. وفي الصحيح من حديث صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه رضي الله عنه أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة فقال: يا رسول الله! ما ترى في رجلٍ أحرم بالعمرة وعليه ما ترى؟ قال: فنزل عليه الوحي فغطي عليه الصلاة والسلام، وكان رجلٌ يقول لـ عمر: (أحب أن أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوحى إليه) فكشف عن وجهه الثوب فإذا هو يغط كغطيط البكر من الوحي، وهذا مثل عند العرب: أن البكرة من الإبل إذا غطت من شدة ما تجد من اللأواء، قال: يغط كغطيط البكر من شدة ما يجد عليه الصلاة والسلام من الوحي، فهذا يدل على أن الوحي لا يؤخذ بسهولة؛ ولذلك قالوا في الحكمة: (من كانت له بدايةٌ محرقة، كانت له نهايةٌ مشرقة) وقال حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه وأرضاه: (ذللت طالباً وعجزت مطلوباً) فعليك بالجد والاجتهاد في التحصيل، ولما كانت مراتب العلم والعلماء عالية ومنازلهم سامية في الدنيا والآخرة الباقية جعل الله عز وجل سبيل العلم عسيراً صعباً ومشقة وعناء. طالب العلم يكدح وينصب في طلب العلم وهو في بداية الطريق، فيجد من المشقة والمثبطات والمخذلات ما الله به عليم، حتى إذا صار عالماً وضبط علمه، أصبحت في رقبته أمانة ومسئولية أن يعلم الجاهل وينبه الغافل ويرشد الحائر ويدل التائه وكلهم في رقبته وأمانة عليه، أمانة ومسئولية يسأل عنها بين يدي الله جل جلاله ويشفق على نفسه فيحمل هموم التعليم والتوجيه، فيأتيه الجاهل بجهله والسفيه بسفهه، ويحتقر ويؤذى، ومع ذلك: لو أن رجلاً تصور مقدار ما يحمله العالم وهو يحضر درسه، هل يحضر الدرس أو يستعد لأسئلة الناس وإشكالاتهم أو جهل الناس أو تجاهلهم أو الكلام الذي يقوله إذا فُسّر على غير ظاهره أو حُمِل على غير محمله، فكل هذا يحمله؛ لأن العلم كله عناء؛ لأن وراءه الجنة الغالية والسلعة الزاكية؛ لأن الله اختارها للعلماء: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، فهم أهل التقوى وهم أهل الرضا. فالذي يريد أن يطلب العلم لا يمكن أن يكون من أهل العلم ومن طلاب العلم بحق، إلا إذا جعل روحه في كفه، وجدّ واجتهد غاية جهده وبذل ما يستطيع بذله وصبر واصطبر، فإذا كان في بداية الطريق وهو طالب علم لا يستطيع أن يصبر في مجالس العلم فكيف غداً يسافر للناس؟! وكيف غداً يصبر الساعات على الفتاوى والمسائل التي فيها حل الفروج وفيها حل الدماء وحل الأموال؟! كيف يصبر على هذا كله؟ وكيف يسهر الليالي وهو يدارس العلم ويذاكره حتى لا يخطئ ويزل لسانه؟ كل هذا يحمل همه طالب العلم. العالم لا بد له من التعب، فالله جل جلاله لحكمته وعلمه بخلقه وتدبيره سبحانه وتعالى لعباده جعل بدايات الطريق دائماً لطلاب العلم في تعب ونصب حتى يميز الخبيث من الطيب، فيا لله من أطيب الطيبين الذي جدّ واجتهد فأصبحت سآمة العلم له انشراحاً وأنساً ولذة لا يعلم قدرها إلا الله جل جلاله. كان طالب العلم في القديم يهان ويتعب وينصب وهو غريب عن بلاده ووطنه، يسافر من أجل حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ذهب إلى باب العالم وجد الناس يقتتلون عند أبواب العلماء لرواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانت هناك الكتب مطبوعة، بل كان الحديث في الصدور لا في السطور، وكانت صدور العلماء جنة وروضة لهذا العلم، فكانوا يكدحون ويتعبون، يقفون على أبواب العلماء، ويزدحمون ويؤذون ويتساقطون ويدفع بعضهم بعضاً ويجلي بعضهم بعضا، وكل ذلك من أجل بلوغ العالم، فإذا بلغوا العلماء وأخذوا عنهم حملوا هم ضبط الكلام الذي يقال، ثم إذا قيل لهم حملوا هَمَّ مراجعته. كان أبو عبيد القاسم بن سلاّم الجمحي رحمه الله برحمةٍ واسعة إماماً من أئمة العلم والعمل، وكان آية في علم القراءات، آية في علم التفسير، آية في علم الحديث ورواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، آية في الفقه أبو عبيد القاسم بن سلاّم آية في العلم والعمل والصلاح والتقوى، وقد كان له أتباع، فيحدث عن نفسه في طلب العلم: أنه كان يسافر ويتغرب إلى بلادٍ بعيدة، وكان يذهب من الصباح الباكر فيجد العناء والمشقة، وإلى آخر الليل وهو يجمع للأمة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسأل الله العظيم أن ينور قبره، وأن يعظم أجره، وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأوفاه، هذا العالم لما تقرأ كتبه وما خلفه للأمة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومن الفقه ومن العلم الزاكي المليء بالضبط والإتقان تعرف أنه تعب وجد واجتهد، يقول عن نفسه: كنت أتعب وأكدح حتى لا يأتي منتصف الليل إلا وقد سقط منه كل عضو، لكن يقول: فإذا تذكرت العلم الذي حزته والحديث الذي جمعته هانت عليّ تلك المصائب. كانوا ناصحين للأمة. طالب العلم حينما يتفكر ويتدبر أنه ربما يكون وحيد أهله أو وحيد مدينته، أو وحيد مصره وبلده، فالكل يرجع إليه، حينما يتذكر أنه قد يمسي يوماً من الأيام ووراءه أمة، إما أن يقودها إلى الجنة أو إلى النار فحينئذٍ يشفق على نفسه، حينما يتذكر أن هذه الكلمة ربما يقف بها بين الجنة والنار. هناك مسائل كنا نسمعها في الصغر وما كنا نظن أن تكون لها أهمية، ثم وجدنا لها من عظيم البلاء والنفع ما الله به عليم، والله نشهد بذلك من كل قلوبنا رأيناه ولمسناه وحدثنا به العلماء رحمهم الله، فلا تتهم العلم بشيء، وإذا وجدت شيئاً صعباً فاجتهد أن تضبطه. عليك -يا طالب العلم- أن تعلم أن العلم مراتب، فإذا كنت في بداية الطريق فلا تشتغل بالخلاف وإنما خذ زبدة القول وخذ القول الراجح بدليله، ونبه على أن المسألة خلافية على أصح القولين أو على أصح ثلاثة أقوال تنبيهاً باختصار، فإذا انتهيت من الدرس أخذت ما رجح في نظر شيخك واعتنيت بدليله ولقيت الله بالدليل، فإذا بلغت مرتبة أعلى أمكنك فيها أن تحصل الأدلة والردود والمناقشات وأن تعرف ما لم تطلع عليه من الأدلة فحينئذٍ حي هلاً، وانتقل إلى مرتبة المقارنة والخلاف وإلا اقتصر على ما ذكرته لك من القول الراجح ولا تسأم ولا تمل، فالله أعلم كم في هذه الحروف من درجات، وأجورٍ وحسنات. ولا يصبر الطالب على العلم ويتحمل مشاقه إلا إذا صلح قلبه بالإخلاص لله جل جلاله، ولا يمكن أن يجد الإنسان هذه اللذة إلا إذا جعل الله والدار الآخرة نصب عينيه، فتعلم لله وعلم في الله وجلس في مجالس العلم لله وفي الله وابتغاء رحمته، فلربما مجلسٍ واحد تغفر فيه ذنوب العبد، وفي الحديث القدسي: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) وإذا أحب الإنسان أن يجد ويجتهد في العلم فليحرص على الإخلاص، وإذا أصبحت في كل دقيقة وكل ثانية تراقب الله جل جلاله وتقصد من مجلسك واستماعك وكتابك ومذاكرتك وجه الله جل وعلا زكاك ربك وبارك لك في علمك، فصار قليله كثيراً؛ ولذلك قال بعض السلف: (كم من عمل يسير عظمته النية)، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يملأ قلوبنا بالإخلاص لوجهه وابتغاء ما عنده، وأن يعفو عنا ويسامحنا فيما يكون من التقصير في إخلاصنا وإرادتنا لوجهه، والله تعالى أعلم. س

حكم إتلاف عضو غير عين المعتدي بالنظر

حكم إتلاف عضو غير عين المعتدي بالنظر Q بالنسبة الشخص المعتدي بالنظر، لو أتلف الشخص المعتدى عليه عضواً غير العين، فما الحكم في ذلك؟ A إذا أتلف غير النظر فإنه يضمن، ولا يحل له إلا إتلاف ما حصل منه الاعتداء، فإذا سرقت اليد تقطع اليد وما تقطع الرجل؛ لأن اليد هي التي سرقت، وبناءً على ذلك: الاعتداء وقع بهذا العضو فسقطت حرمته؛ لأن الجناية وقعت به، والقصاص أحله الله عز وجل والاعتداء في مقابل الاعتداء أحله الله عز وجل بشرط سقوط الحرمة للعضو الذي يقتص منه، والله تعالى أعلم.

باب الشفعة [1]

شرح زاد المستقنع - باب الشفعة [1] إن لله عز وجل في خلقه حكماً وأسراراً، ولا يكلفهم إلا ما يستطيعون، ولا ينهاهم إلا عن شيء ضار لهم في دينهم ودنياهم، لا يتلاءم مع حياتهم وأخوتهم الإيمانية، ومن أجل هذه الغاية فقد فرض الله حق الشفعة للشريك من شريكه دفعاً للضرر وحفاظاً على المصالح الدنيوية والدينية، وتقديراً للمشاعر، وجبراً للنفوس، فهو أحكم الحاكمين.

الشفعة تعريفها وحكمها

الشفعة تعريفها وحكمها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الشفعة].

شروط الشفعة

شروط الشفعة قال رحمه الله: [فإن انتقل بغير عوضٍ أو كان عوضه صداقاً أو خلعاً أو صلحاً عن دم عمدٍ فلا شفعة] يقول المصنف: (فإن انتقل) أي: نصيب الشريك (بغير عوضٍ) هذه المسألة متعلقة بشرط المعاوضة في نصيب الشريك، فلا تصح ولا تقع الشفعة إذا انتقل نصيب الشريك بدون عوض أو كان عوضاً عن خلعٍ أو كان عوضاً عن بضعٍ كما في المهر صداقاً لامرأة فإنه في هذه الحالة لا يستحق الشريك الانتزاع إذا انتقل بغير عوض أو هبة، كما لو قال: وهبت نصيبي لابني أو وهبت نصيبي لأخي، أو وهبت نصيبي من الشركة في الأرض الفلانية لفلان بن فلان صديقي، فإنه في هذه الحالة لا تثبت الشفعة؛ لأن الشفعة أصلاً ثبتت بصورة خاصة وهي التي تكون فيها المعاوضة بنفس الثمن، ولذلك في هذه الحالة يكون الضرر أخف مما لو إذا كانت في المعاوضة. وبعض العلماء يقول: إذا لم تكن بعوض فهذا مستثنى بالإجماع، ويشمل ذلك الإرث كما لو انتقلت إرثاً، فالورثة إذا ملكوا عن أبيهم أو ورثوا من أبيهم نصيبه في أرضٍ أو عقار فإنه لا شفعة للشريك، فلا يأتي الشريك ويقول: أنا شافع؛ لأنه في هذه الحالة يشفع بماذا؟ ما هو الثمن الذي سيدفعه في مقابل هذا النصيب؟ لأنه لم يبع صاحبه، ولذلك لا تقع الشفعة بغير عوض. قال: [أو كان عوضه صداقاً] أو كان عوضه -النصيب- صداقاً، كرجل شاركك في أرضٍ مناصفة ثم تزوج امرأةً وقال لها: نصيبي من الأرض الفلانية أو نصيبي من المخطط الفلاني صداقاً لكِ فرضيت به؛ فإنه حينئذٍ يكون قد انتقل نصيبه إلى المرأة ولكن عن طريق الصداق فلا تثبت الشفعة فيه. قال: [أو خلعاً]. كذلك لو كانت المرأة تملك نصفاً في أرضٍ، ثم أرادت أن تخالع زوجها -وقد تقدم معنا باب الخلع وبينا فيه أن من حق المرأة أن تخالع زوجها- بنصيبٍ يعادل المهر، فقالت: أنت مهرك عشرة آلاف ريال وأرضي الفلانية أملك نصفها تعادل عشرة آلاف ريال أعطيك هذا النصيب عوضاً عن مهرك وتخالعني، فرضي بذلك، فإنه حينئذٍ لا يكون من حق الشريك أن يشفع. قال: [أو صلحاً عن دم عمدٍ فلا شفعة] كرجلٍ -والعياذ بالله- قتل رجلاً وأرادوا أن يصطلحوا فللعلماء في هذه المسألة وجهان ذكرناهما في باب الصلح، فهل من حق أولياء المقتول أن يطالبوا بأكثر من الدية أو ليس من حقهم؟ فالأصل الشرعي يقتضي أنه ليس من حق الورثة أن يطالبوا بأكثر من الدية؛ لأن الله سبحانه وتعالى قدر المقادير وحد الحدود وجعل هذه الدية مائة من الإبل عدلاً لرقبة المسلم، فإذا أرادوا أن يقتلوا القاتل طالبوا بحقهم بالقصاص، وإذا تنازلوا عن القصاص وجب عليهم أن يرضوا بالدية التي حكم الله عز وجل بها ورسوله عليه الصلاة والسلام، وعلى هذا لا يزاد عليها ولا ينقص منها، وقلنا: هذا هو الأشبه بالسنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأوفق للأصول. فلو اصطلحوا وقلنا بجواز أن تعطى الزيادة على الدية من باب الصلح لا من باب أنها دية، وهذا مخرج بعض الفقهاء، وهو في الحقيقة لا يخلو من نظر، لكن لو قلنا بهذا القول فالبعض يبالغ، فقد يطالب أولياء المقتول بمليون ريال كدية صلح، بل بعض الأحيان بلغ ببعضهم أن يطالب بعشرة ملايين، فهذا يخالف النص والأصل الشرعي، أليس الله عز وجل جعل عدل هذه الرقبة وما يكون مقابلاً لها بهذا القدر؟ فإذاً: يجب أن نقف عند هذا القدر ونقول: ما حده الله عز وجل وقدره ينبغي الوقوف عنده، لا يزاد عليه ولا ينقص منه، فهذا هو حكم الله وهذه حدوده لا نعتدي بالزيادة عليها بالمطالبة بما هو أكثر؛ لأنه لو قيل: من حقهم أن يطالبوا بأكثر فمعناه أن الرقبة لا تعادل مائة ألف، ومعناه أن الله سبحانه وتعالى لم يعط أولياء المقتول حقهم في رقبة وليهم. فلما جعل الله عز وجل عدل الرقبة مائة ألف، وسن ذلك مائةً من الإبل بهدي النبي صلى الله عليه وسلم وثبت، فإننا ننظر إلى عدلها من القيمة، لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه؛ لأنه من شرع الله عز وجل المحكم الذي لا نسخ فيه، وعلى هذا لو اصطلحوا عند الحاكم سواءً كان بالزيادة أو نفس الدية فقال مثلاً: مائة من الإبل تعادل مائة ألف، فأعطيك أرضي الفلانية لي فيها النصف أو ثلاثة أرباعها، أعطيك هذا القدر الذي يساوي المائة ألف وتتنازل عن دم وليك، قال: قبلت، فحينئذٍ صار صلحاً عن دم عمدٍ، بعض العلماء يرى أنه في هذه الحالة ولو زاد عن الدية أنه لا شفعة للشريك؛ لأن الانتقال لم يكن على سبيل المعاوضة. وفي الحقيقة هذه المسائل فيها إشكال من حيث أن الشفعة في الأصل شرعت لدفع الضرر، والضرر سيقع بدخول هذا الأجنبي فلا فرق بين كونه داخل بالبيع أو داخل بصلح العمد أو داخل بسبب آخر، ولذلك في الحقيقة لا يخلو قول بعض العلماء من نظر باعتبار السبب الذي ذكرناه من أن الشفعة شرعت لدفع الضرر، فلا يخلو من نظر من هذا الوجه.

التحيل لإسقاط الشفعة حكمه وصورته

التحيل لإسقاط الشفعة حكمه وصورته قال رحمه الله: [ويحرم التحيل لإسقاطها] يحرم على المسلم أن يحتال لإسقاط الشفعة؛ لأن الحيلة تغيير لشرع الله وإبطال للحق وإحقاق للباطل، والحيلة لا خير فيها، ومن حيث الأصل الحيل تنقسم إلى قسمين: هناك حيلةٌ مشروعة، وهناك حيلة ممنوعة، فالحيل المشروعة هي التي أذن الله بها ورسوله عليه الصلاة والسلام، ويكون فيها بعض الكيد الواقع في موقعه، ومن ذلك ما احتال به يوسف عليه السلام على إخوته من أجل أخيه بنيامين، فإنه لما جاءوا أمرهم أن يأتوا بأخيهم، فالسبب في كونه يأمرهم بالإتيان لأنه كان يعلم أن الأسباط فيهم حسد وأذية له ولأخيه، فأمرهم أن يأتوا بأخيه، فلما جاءوا به وأخبره أنه أخوه واحتال لاستبقائه تحت يده؛ لأن أيديهم فيها خيانة، بدليل أنه رأى ذلك وعلمه منهم حينما رموه في الجب، فاحتال لكي يستحق أخاه بالحيلة، فخبأ الصاع في رحله، ثم ادعى أنهم سرقوه، وهذا يقول فيه بعض العلماء رحمهم الله: إنهم في الصغر آذوه، فكانت أذيةً في مقابل أذية. ويقولون: إنه فعل ذلك لدفع ما هو أعظم وأشد، فإنه لم يأمن أن يقتلوا أخاه؛ وعلى هذا فإن ادعاء كونهم سارقين مفسدة، ولكنها أخف بكثير من كونهم معتدين على أخيه إما بقتله أو بالإضرار به، وعلى هذا قالوا: احتال يوسف عليه السلام كما قال تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف:76] والكيد كما هو ثابت في كتاب الله عز وجل صفة من صفاته، من غير تأويل ولا تعطيل، ولا مشبهاً كيده سبحانه بكيد خلقه، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، أن الصفات تبقى على ظاهرها، فإذا جئنا نخرجها أثبتناها بأنه كيد واقع في موقعه، والكيد كيدان: كيد واقع في موقعه فهو مشروع غير ممنوع، وكيد غير واقع في موقعه فهو ممنوع وصفة نقص. فلما كان كيده سبحانه وتعالى كيداً كاملاً لا نقص فيه كانت صفة كمال لله عز وجل، ولما كان كيد المخلوق الغالب فيه أن يقع في غير موقعه صار صفة نقص وذم، وما للخالق لا يشابه ما للمخلوق، ولذلك نقوم بإثبات هذه الصفات، والشاهد عندنا أن الحيلة تكون مشروعة لدفع ما هو أعظم أو طلب ما هو أجل أو مصلحة أكبر. ومن أمثلة الحيلة الشرعية ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أُتي بصاعٍ من التمر -من صاع خيبر وكان من أجود التمر وأحسنه- ونظر إليه فأعجبه فقال كما في الحديث الصحيح: (أكل تمر خيبر هكذا؟ قالوا: لا يا رسول الله! إنا والله نبيع الصاع من هذا بالصاعين -يعني: هذا الجيد الذي تراه ندفع في مقابله صاعين مما هو أردأ منه- فقال عليه الصلاة والسلام: أوه -وهي كلمة توجع وتفجع- عين الربا! عين الربا رده -فأمر برده وإبطال البيع- ثم قال: بع الجمع بالدراهم ثم اشتر به) فدل هذا على حيلة شرعية، وهي أن تبيع القديم بالنقد ثم تشتري به الجديد. ومن أمثلته الذهب: فلو كان عند المرأة ذهب قديم وأرادت أن تستبدله بذهب جديد فلا يجوز إلا مثلاً بمثل يداً بيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالذهب إلى أن قال في آخر الحديث: مثلاً بمثل يداً بيد) وقال في حديث أبي سعيد في الصحيحين: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض) فإذا ثبت أنه لابد من التماثل فقد لا يبيع صاحب المحل الجديد بالقديم بنفس الوزن بل يقول: أريد الفارق فتقول له المرأة: اشتر مني هذا القديم، فتبيعه ثم تخرج من المحل حتى تتم الصفقة الأولى والبيع الأول؛ لأن (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) فإذا خرجت من المحل رجعت مرة ثانية بعد تمام الصفقة الأولى ووجوبها وثبوتها واشترت الجديد (بع الجنيب بالدراهم ثم اشتر به جديداً). فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لنا مخرجاً شرعياً جائزاً، أما إذا كانت الحيلة لإبطال حقٍ أو إحقاق باطل فإنها تعتبر محرمة، وهو صنيع بني إسرائيل الذين استحلوا ما حرم الله عليهم، ولذلك لما حرم الله عليهم الصيد في السبت وضعوا الشباك في يوم الجمعة ثم أخذوها يوم الأحد فاستحلوا ما حرم الله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] ولذلك قالوا: من يحتال على الشرع فهو مخادع، ومن يخادع الله يخدعه الله عز وجل، ومن كان تحت سطوة الله فلا تسأل عن حاله، فإن الله يخدعه في نفسه وأهله وعرضه وولده وماله، فإذا ظن أنه بهذه الحيل يستكثر ماله دمر الله تجارته ونزع البركة من ماله، فهو يظن أنه يصل إلى شيء فيحرمه الله عز وجل ذلك الشيء ويجعل احتياله عليه سبباً في حصول البلاء والوبال عليه في الدين والدنيا والآخرة. ولذلك ابن عباس رضي الله عنهما جاءه رجل، وكان عم هذا الرجل قد طلق امرأته ثلاثاً، وأراد هذا الرجل أن يتزوج المرأة كي يحللها لعمه، وهي مسألة خلافية، لكن الشاهد أن ابن عباس رضي الله عنهما لما سئل عن ذلك قال: (إن الله لا يُخدع) وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (من يخادع الله يخدعه) ومصداق ذلك في كتابه تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] ولذلك لا يجوز للمسلم أن يتعاطى مثل هذه الحيل، ومن ذلك تحليل المرأة المطلقة ثلاثاً، حيث يؤتى برجل ويقال له: تزوج هذه المرأة ونعطيك المهر، فإذا عقدت عليها ودخلت بها طلقها حتى تحل لفلان (فلعن الله المحلل والمحلل له) وهو التيس المستعار وقد تقدم الكلام عليه في باب النكاح، فهذا من الحيل المحرمة، ومن الحيل المحرمة ما كان عليه بنو إسرائيل مما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم حينما حرمت عليهم الشحوم فجملوها وأذابوها وقالوا: حرم الله علينا الشحوم ولم يحرمها علينا على هذا الوجه. فالواجب على المسلم أن يقف عند حدود الله عز وجل، وأن لا يحتال على الشرع، وقد تقع الحيل في العبادات وتقع الحيل في المعاملات ومن أسوأ ما ذكروه أنهم كانوا يقولون للتاجر: خذ زكاة مالك من الذهب أو الفضة وضعها في كيس حب، ثم أعطها للمسكين على أنك تنوي بها الزكاة، فإذا أخذها المسكين -وهو لا يدري أن بداخلها الذهب- قل له: إن هذا الكيس إن وهبتنيه أعطيتك أفضل أو أحسن منه، فالمسكين لا يدري أن بداخله الزكاة التي هي من الذهب أو الفضة، فيهبه له أو يرسل إليه التاجر من يأخذ منه الكيس، فكل هذا من التحايل والتلاعب في دين الله عز وجل وقس على ذلك من الحيل؛ لكن إذا كان للحيلة أصل شرعي ودليل يدل على جوازها فإنها مشروعة غير ممنوعة. فقوله: [ويحرم التحيل لإسقاطها]، اللام للتعليل أي: من أجل إسقاط الشفعة، ومن أمثلة ذلك: لو أن شخصاً أراد أن يبيع العقار لشخص فيدعي ويقول له: سأهب لك هذا النصف ثم تعطيني على هذه الهبة مكافأة، ومعلوم أن هذا النصف قيمته مائة ألف، فيعطيه مكافأة على ذلك مائة ألف، في الحقيقة الأمر قائم على معاوضة، وإنما احتال بالهبة من أجل أن لا يعترض الشريك فيشتريه، وبناء على ذلك تكون الهبة في الظاهر والبيع في الباطن، فهذا يعتبر من التحيل لإسقاط الشفعة؛ لأنه لا شفعة في هبة، ويقاس على ذلك الصور التي يقصد بها المتعاقدان إسقاط الشفعة عن الأجنبي. فلا يجوز للمسلم أن يتحيل لإسقاط الشفعة، وقد بينا نصوص الكتاب والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي تدل على تحريم التحيل على الشرع، وأن الواجب على المسلم أن يلتزم ما أمره الله بالتزامه، والتحيل على الشريعة فيه إثمان: الإثم الأول: تغيير شرع الله عز وجل بإحقاق الباطل وإبطال الحق. والإثم الثاني: عصيان ما أمر الله عز وجل به وما نهى عنه، فما أمر به يصير بالحيلة منهياً عنه، وما نهى عنه يصير بالحيلة مأموراً به أو -على الأقل- مباحاً، والله حرمه ومنع العباد منه، ولذلك أمر الله عز وجل عباده بالتسليم، وأخبر سبحانه وتعالى وأقسم بنفسه أنه لا يؤمن مؤمن إلا إذا سلم بحكمه والتزم بشريعته: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] فلابد من التسليم والإذعان لله عز وجل طواعية له سبحانه وتعالى، وتذللاً وتقرباً، مع العلم أنه لا أحكم من حكمه، ولا أتم من شرعه سبحانه وتعالى، فمن ذلك الشفعة. لقد جُبلت النفوس على حب المال، وإذا اشترى إنسان شيئاً وثبت لأخيه المسلم حق الشفعة ربما حرك الشيطان في نفسه كوامن الشح والبخل، فيضن عن إعطاء أخيه المسلم حقه الذي أعطاه الله عز وجل إياه، فيسعى بالحيلة لإسقاط الشفعة، ويتحيل على هذا الحق لأخيه المسلم حتى لا يمكنه منه، فيأتي بأمر أو يتصرف تصرفاً إما فيما بينه وبين البائع أو بإخباره للشريك أنه موهوب له أو نحو ذلك من أساليب الحيلة، فهذا كله حرام ولا يجوز للمسلم أن يفعله، وعلى من فعله التوبة من ذلك بالاستغفار والندم، وإخبار صاحب الحق وهو الشريك أن الشقص والنصيب انتقل إليه بالبيع، وإخباره كذلك بقيمة البيع، حتى يتمكن من حقه فإن شاء شفع وإن شاء ترك.

تعريف الشفعة لغة

تعريف الشفعة لغة الشفعة: مأخوذة من الشفع، وهو ضد الوتر، وقال بعض العلماء: سمي هذا العقد بهذا الاسم لأن الشريكين إذا اشتركا في عقار واحد، وأراد أحدهما البيع فشفع صاحبه بعد البيع، فإنه يضم نصيب صاحبه إلى نصيبه، وحينئذٍ يكون نصيبه شفعاً بعد أن كان وتراً، مثال ذلك: لو كنت مع رجل تملكان أرضاً مقسومة بينكما بالنصف، فنصيبك نصف الأرض ونصيبه النصف الآخر، فلو باع صاحبك هذا النصيب الذي له وطلبت الشفعة فإنك حينئذٍ قد ضممت نصيب صاحبك إلى نصيبك فصار نصيبك شفعاً بعد أن كان وتراً، وتملك الأرض كلها، هذا العقد عرفه بعض العلماء -كما سيذكره المصنف رحمه الله-: بأنه استحقاق انتزاع حصة الشريك ممن انتقلت إليه بنفس العوض الذي باعها به. والعلماء رحمهم الله ذكروا باب الشفعة بعد باب الغصب لمناسبة وهي: أن الشفعة تكون بالقوة والقهر، فأنت إذا كنت شريكاً لرجل في أرضٍ ثم باع نصيبه وأردت الشفعة؛ فإنك تأخذ نصيبه ممن اشتراه ولو لم يرضَ، فحينئذٍ تأخذ بنفس القيمة وبنفس الثمن الذي باع به شريكك، وبناء على ذلك قد لا يكون راضياً -أي: الذي اشترى من شريكك، ومن مقاسمك- بالبيع ولكنك تأخذها منه استحقاقاً شرعياً ثبتت به السنة من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حكم الشفعة

حكم الشفعة هذا النوع من العقود مشروع بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك بإجماع العلماء رحمهم الله، أما السنة فقد ثبت في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة) رواه البخاري، واتفق الشيخان على إخراج الجملة الأولى منه: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم) واختلف العلماء في اللفظة الأخيرة: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق) هل هي مدرجة من كلام الراوي أو هي مرفوعة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم؟ وصحح غير واحد من العلماء أنها مرفوعة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وجه الدلالة من هذا الحديث الشريف أنه قال رضي الله عنه: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وكلمة (قضى) تحتمل أمرين: تحتمل السنة القولية، وتحتمل السنة الفعلية، فأما بالنسبة للسنة القولية فإن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالشفعة، ويثبت الشفعة للشريك مع شريكه، فإذا أثبتها عليه الصلاة والسلام عبّر الصحابي وقال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم) لأن سنته يحكم بها ويقضى بها فصلاً بين الخصوم، فإن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالرجوع إلى سنته وهديه للفصل في الخصومات والنزاعات؛ ولذلك يقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الوجه الثاني: يكون المراد من قوله: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: أنه رفعت إليه قضية فحكم فيها عليه الصلاة والسلام بهذا الحكم، وحينئذٍ يكون قوله: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم) على ظاهره أي: حكم عليه الصلاة والسلام وقضى بذلك فتكون سنة فعلية من هديه عليه الصلاة والسلام، وسواء قلنا: إنها سنة قولية أو سنة فعلية؛ فكل يحتج به، لكن الفائدة أننا إذا قلنا: (قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم) تكون من أقضيته عليه الصلاة والسلام، ولذلك عد الإمام القرطبي رحمه الله هذا الحديث من أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ألف بعض العلماء في ذلك، ومن أشهر ما أُلف في ذلك كتاب القرطبي المشهور: أقضية النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة بين الصحابة. كانت الشفعة موجودة في الجاهلية، وكان يعرفها أهل الجاهلية، فجاء الإسلام وأقرّها؛ ولذلك تعتبر من العقود التي كانت معروفة في الجاهلية وأقرها الإسلام؛ لوجود المصالح المترتبة على إجازتها وحلها، وكذلك ترتب درء المفاسد على اعتبارها والعمل بها. وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الجار أحق بصقبه) وكذلك قال في حديث الترمذي وأبي داود في سننه من حديث سمرة: (جار الدار أحق بالدار) فهذا الحديث يدل على ثبوت الشفعة في الجار، وأنه إذا باع جارك الذي تشترك معه في طريق واحد أو منفعة واحدة كبئر واحدة -كما في المزارع- فإنه من حقك أن تشتري وأن تشفع؛ لورود الرواية الأخرى: (إذا كان طريقهما واحداً) دل هذا الحديث على مشروعية الشفعة بالجوار وسيأتي إن شاء الله تفصيل هذه المسألة وبيانها وبيان خلاف العلماء رحمهم الله فيها والقول الراجح ودليله إن شاء الله تعالى. وأما دليل الإجماع فقد أجمع العلماء رحمهم الله والسلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة على مشروعية الشفعة وثبوتها، وأنها سنة وهدي من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وخالف في ذلك الأصم، وخلافه شذوذ يحكى ولا يعول عليه، أي: لا يعتد بخلافه؛ لأنه خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه، وإجماع السلف رحمهم الله، قضى بهذه الشفعة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكذلك يحكى عن أبي بكر الصديق وعمر، وبناء على ذلك لا يعتد بخلاف من خالف في مشروعيتها.

تعريف الشفعة شرعا

تعريف الشفعة شرعاً يقول رحمه الله: [باب الشفعة] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بعقد الشفعة. قال رحمه الله تعالى: [وهي استحقاق انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه بعوضٍ مالي بثمنه الذي استقر عليه العقد]. قوله: (استحقاق) بعض العلماء يضيف عليه ويقول: (استحقاق الشريك) وهذا الاستحقاق ينتقل إلى الورثة على قول بعض العلماء، فهو للمالك الأصلي وكذلك لورثته؛ لأن الورثة يرثون الأعيان والاستحقاقات، وإذا كان لمورثهم استحقاق فإنهم يرثونه. قال رحمه الله: [استحقاق] استفعال من الحق، والمراد بذلك أن الشفعة تثبت للشريك الحق في أن ينتزع هذه الحصة (استحقاق الشريك انتزاعه) فالشيء المستحق هو الانتزاع (انتزاع حصة شريكه) إذاً لابد من وجود شركة ولابد من وجود خلطة في عقار على تفصيل سنذكره إن شاء الله تعالى. (فيكون استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه) (حصة) القدر الذي باعه شريكه، فلو أنه كان يملك شقصاً أو مساحة من الأرض فباع بعضها فالشفعة ثابتة في الحق الذي باعه. (انتزاع): ولذلك يقول العلماء: الشفعة تؤخذ قهراً، وليست اختيارية؛ فليس للأجنبي الخيار في قبول البيع أو عدم قبوله بل تؤخذ منه بالقوة، ولذلك قال بعض العلماء: إنه من هنا ناسبت أن تذكر بعد باب الغصب؛ لأن الغصب هو: الاستيلاء على الأموال قهراً؛ لكن الفرق بينهما أن الغصب بدون عوض، والشفعة بعوض، والغصب غير مشروع، والشفعة من المشروع. وقوله: [استحقاق انتزاع حصة شريكة] هذا الانتزاع القهري في الحقيقة اختلف فيه العلماء: بعض العلماء يقول: هذا الانتزاع أصل شرعي وليس بمستثنى من الأصول ولا بخارج عن القياس، يعني: هو بذاته باب مستقل أقرته الشريعة دون استثناء، وهذا مذهب البعض من العلماء رحمهم الله، واختاره الإمام ابن القيم وغيره من أهل العلم رحمة الله عليهم. وذهب جمهور العلماء إلى أن الشفعة مستثناة من الأصل، والمراد بالاستثناء من الأصل أن الأصل يقتضي أن من باع ما يملكه إلى مشترٍ أو إلى آخر بعوض بيعاً صحيحاً تام الشروط فإنه لا ينتزع هذا المملوك الذي بيع ممن اشتراه وهو الأجنبي إلا بحق. فالأصل الشرعي يقتضي أن الأجنبي حينما اشترى نصيب شريكي أنني لا أرغمه ولا أفرض عليه بيعه لي، ولهذا فإن كلام العلماء عندما يقولون: الشفعة خارجة عن الأصول يعني: استثنيت من الأصول، فالأصل الشرعي يقتضي أنه لا يصح أن نقهر شخصاً على البيع وأن نأخذ النصيب منه دون رضاه، ما الدليل على أن الأصل يقتضي ذلك؟ قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء:29] وهذا الأجنبي لا يرضى لأنه اشترى من أجل أن يبقى، ولا يرضى أن يشترى منه النصيب الذي اشتراه بنفس القيمة، صحيح لو أعطي ربحاً ربما رضي، ولكن أن يؤخذ منه بدون رضاه بالقوة لاشك أن هذا مستثنىً من الأصول. لو سأل سائل فقال: ما هو الأصل؟ نقول: الأصل أنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه وبرضاه، واستثنت الشريعة هذا لأنه من باب تعارض مفسدتين، روعي دفع أعظمهما بارتكاب أخفهما، وهذه القاعدة سبق أن ذكرنا أدلتها من الكتاب والسنة أنه إذا تعارضت مفسدتان قدمت الشريعة المفسدة العظمى فأمرت بارتكاب الصغرى دفعاً للمفسدة العظمى والمفسدة هنا داخلة على الشريك وقد بينا ذلك ووضحناه ولو فتح هذا الباب لتضرر الناس، ولذلك نقول: إنها مستثناة من الأصول؛ لأن الأصل يقتضي أن المسلم لا ينتزع منه ماله إلا برضاً منه وقد ينعدم الرضا في الشفعة. مسألة القياس فبعض العلماء يقول: إن الشفعة استحسان، يعني: أشبه بالاستحسان من جهة دفع الضرر ومن أمثلة ذلك: جواز رد المبيع بعد وجود العيب فيه، فأنت لو اشتريت سيارة مثلاً فإن البيع إذا تم وعقدت الصفقة على هذه السيارة مستوفية للشروط الشرعية وأخذتها، ثم وجدت في السيارة عيباً فمن حقك أن تفسخ البيع وأن ترد المبيع، هذا الحق أثبتته الشريعة لك دفعاً للضرر وبناء على ذلك فسخ عقد البيع، ورد بنفس الثمن لوجود الضرر، فلا فرق بين الشفعة وبين رد المبيعات بالعيب؛ لأننا في العيب ندفع الضرر عن المشتري، وهنا ندفع الضرر عن الشريك، وكما أن الشريعة فسخت بيعاً لوجود ضرر على المشتري كذلك تفسخ البيع وتعطي الحق لمن يترتب عليه الضرر أن يدفع هذا الضرر فيشتري النصيب ممن اشتراه بالثمن الذي استقر عليه العقد. قال: [استحقاق انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه] وهذا الشخص المشفوع منه هو الذي انتقلت إليه، ويشترط أن تنتقل إليه عن طريق المعاوضة بالبيع، فلو انتقلت إليه بالهبة فليس من حقك أن تشفع، لو أن شخصاً كان شريكاً معك في أرض ثم قال: وهبت أرضي لأخي، وكانت هبةً صحيحة فليس من حقك أن تشفع؛ لأن الشفعة قضي بها بالثمن والبيع والمعاوضات، وأما بالنسبة لانتقالها بالهبة فهذا قول جماهير السلف والخلف، حتى إن بعض العلماء يقول: كاد يكون عليه الإجماع. إنها إذا لم تنتقل بالبيع من حيث الجملة -وإلا فيه تفصيل- فلا شفعة فيها، والأمور التي تستثنى وتخرج من عقد البيع سيأتي إن شاء الله بيانها. قال: [بثمنه الذي استقر عليه العقد] أي: تكون الشفعة للشريك بنفس الثمن الذي استقر عليه العقد بين الشريك البائع وبين الأجنبي المشتري لا يزاد عليه ولا ينقص منه، وبناءً على ذلك تختص بالبيع كما ذكرنا؛ لأنه هو الذي فيه المعاوضات. قال رحمه الله: [استحقاق انتزاع حصة الشريك] لما قال المصنف: (حصة) يعني أنه المصنف يرى أن الشفعة تختص بالأعيان، ولا تقع الشفعة في المنافع، ومن أمثلة المنافع الإجارة، ومن أمثلتها في زماننا لو قلنا في الشفعة: إنها مستحقة بالجوار، فاستأجرت نصف عمارة، واستأجر غيرك النصف الآخر، فإذا قلنا: تثبت الشفعة في المنافع والإجارة كما تثبت في البيع، فلو أنكما اشتركتما في إجارة عمارة لموسم الحج بمائة ألف، ثم أراد صاحبك أن يبيع نصيبه، بمعنى أن يدخل أجنبياً شريكاً لك في هذه الإجارة فأدخله بمائة وعشرين ألفاً؛ فحينئذٍ من حقك أن تشفع وتطالب بهذه الشفعة دفعاً لهذا الضرر بدخول الشريك الأجنبي عليك، إذاً في هذه الحالة يكون الانتزاع شاملاً للأعيان والمنافع على القول بأنها لا تختص بالأعيان وإنما تشمل المنافع، وإن كان الأقوى والأشبه أنها تختص بالمبيعات ولا تشمل عقد الإيجار.

الحكم والفوائد من مشروعية الشفعة

الحكم والفوائد من مشروعية الشفعة أما بالنسبة للحكم والفوائد التي يمكن أن نستفيدها من مشروعية الشفعة: فأولاً: تصوير الشفعة تركناه إلى التعريف الاصطلاحي الذي سيذكره المصنف رحمه الله، فهو ذكر تعريفه الاصطلاحي ولذلك لن نذكر التعريف الاصطلاحي لأنه موجود في المتن. الشفعة تقوم على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون الاشتراك في العقارات. والصورة الثانية: أن يكون في المنقولات. فالشفعة المجمع عليها والمعمول بها هي الشفعة التي تكون في العقارات التي لم تقسم، ولذلك سنمثل ونصور الشفعة بهذا الشيء المجمع عليه، ومثال ذلك: لو أنك اشتركت مع رجل فاشتريتما أرضاً بمائة ألف دفع كل منكم نصفها، ثم بدا لصاحبك أن يبيع النصف الذي يملكه -قبل أن تقسم الأرض بينكما- بمائة ألف، فباعه لرجل آخر، فالشريعة تعطيك الحق متى ما علمت بهذا البيع أن تقول: أنا شافع، فإذا قلت: أنا شافع، وطلبت الشفعة؛ من حقك أن تأخذ هذا النصف الذي باعه شريكه بنفس الثمن الذي اتفق عليه الطرفان حتى ولو لم يرضَ. قضى بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبح مشروعاً لحكم عظيمة: منها: دفع الضرر الذي قد يقع عليك بقسمة العقار؛ لأن الشريك القديم ربما يرضى بكونك معه في العقار ولا يقاسمك، لكن إذا جاء الأجنبي ربما قال لك: أريد أن أميز نصفي عن نصفك، فأنت تتضرر، مثلا: لو كانت المزرعة مشتركة بينكما أو كان المخطط مشتركاً بينكما فإنك تستطيع أن تنتفع بجميع مصالحه وأن ترتفق بذلك؛ لكن إذا دخل هذا الأجنبي ربما أدخل عليك الضرر، وببيع صاحبك لنصفه كأنه ميز نصفه عن نصفك. الضرر الثاني: أنه ليس كل شريك ترضى به، فقد ترضى بالشريك الأول ولا ترضى بالشريك الثاني، وقد تأمن الشريك الأول ولا تأمن الشريك الثاني، فقد يكون عند الإنسان شركة مع رجل في أرض يحتاج إلى إخراج أهله أو عرضه لها كالمزارع ونحوها، فيأمن شريكاً ولا يأمن شريكاً آخر، وقد يتضرر بشريك أكثر من غيره، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [ص:24] والخلطاء يعني: الشركاء؛ ولذلك ما ترك القرآن شيئاً، كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: (ما من شيء إلا وهو في كتاب الله) حتى نفسية الشركاء وتعاملهم، والأضرار والمفاسد المترتبة على الإنسان منفرداً أو مشتركاً مع غيره بينها كتاب الله عز وجل. (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ) بين أن الغالب والأكثر حصول الضرر بالشركات، فإذا كانت هذه قاعدة، وهي: (أن الشراكة توجب الضرر) وأن اجتماع الاثنين فأكثر في شيء الغالب أن فيه ضرر، وأنه لا يأمن من هذا الأجنبي الذي دخل عليه؛ فإن الشريعة أعطت القديم الحق في دفع هذا الضرر، وبناء على ذلك تنظر إلى حكمة الشريعة: فأنت إذا دخل عليك أجنبي في أرضك إن كنت ترضاه ستسكت وستترك البيع كما هو وتقول: رضيت بك بدلاً عن فلان، وقد يكون خيراً من الشريك الأول، ولكن إذا كان فيه ضرر فإنك لا ترضى بذلك، وحينئذٍ لو جعلت الشريعة الشريك مكتوف اليد لتضرر، ولو أنها أجازت له أن يسترد بأي ثمن لضرت طالب الشفعة فعدلت بين الناس، قالت: من حقك أن تشتري هذا النصيب بنفس الثمن لا تزيد ولا تنقص منه، فلا يطالِب الأجنبي بزيادة، فلو اشترى بمائة ألف، وقال: أريد مائة وعشرين، تمنعه الشريعة من الزيادة، وتقول: ليس لك إلا المائة وحدها، وهذا عين العدل أخذ ماله ودفع الضرر، ثم إذا أراد أن يشتري عقاراً ثانياً فله ذلك، لكن هذا العقار الذي فيه شركة وخلطة لا ينبغي أن يفتح بابه، ولا ينبغي أن تكون معاملة البيع سبباً في إيقاع الضرر على المسلم، فدفع الله عز وجل هذا الضرر بإثبات الشفعة وشرعها لعباده، ولله في ذلك الحكمة التامة البالغة كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) [الأنعام:115] سبحانه وتعالى. هذا الباب يتكلم العلماء فيه عن الشفيع وهو الذي له حق طلب الشفعة، ويتكلم العلماء فيه عن الشخص الذي يشفع منه ويؤخذ النصيب منه وهو الأجنبي المشتري، وكذلك يتكلم العلماء فيه على المحل الذي تكون فيه الشفعة وهو النصيب الذي باعه الشريك، ما هو محل الشفعة؟ وما الذي تقع فيه الشفعة؟ وما الذي لا تقع فيه الشفعة؟ وما الحكم إذا تغير هذا المحل بزيادة أو نقص؟ كل ذلك يبين العلماء رحمهم الله أحكامه في باب الشفعة.

الأسئلة

الأسئلة

المرأة الصالحة من متاع الدنيا

المرأة الصالحة من متاع الدنيا Q كنت من الشباب المتحمسين لطلب العلم والدعوة، فلما تزوجت بامرأة ليست بملتزمة هبطت معنوياتي، وانعدمت أعمالي في الدعوة، وانصرفت عن طلب العلم؛ لأني انشغلت بأمور زوجتي، وأكثر شيء انشغلت به هو انشغالي في هم الديون بسبب الزواج فكانت أيامي كلها مشاكل ومصائب بين زوجتي وبين أصحابي، وحصلت أمور الفراق بيني وبين والدي ووالدتي وإخواني، وعشت في مشاكل لا تنتهي، وأنا الآن أبحث عن الحلول والخروج من هذه المشاكل، وأتمنى أن أرجع إلى طريقتي الأولى، على أن مشاكلي مع زوجتي بسبب المصاريف، ومشاكلي مع الشباب في أمور نفسية من الاستفزاز والغلظة في النصح، وفقكم الله أرشدوني إلى ما يصلح حالي بيني وبين زوجتي، والرجوع إلى طريق العلم والدعوة، وجزاكم الله خيراً؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهيئ لنا ولك الرشد، وأن يعيذنا وإياك ومن حضر ومن سمع من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، فإن هذا الزواج فتنة ومحنة عليك، وهو من أسوأ أنواع الفتن وهي فتنة الدين، وليس من ذات الزواج فالزواج ليس بفتنة إنما هو خير وبركة على الإنسان، وإنما جاءتك الفتنة حينما لم تظفر بذات الدين، وحينما تساهلت في أمور دينك، وأخذت امرأة وتركت ما هو خير منها في دينها واستقامتها، وقد زكاها الله عز وجل من فوق سبع سماوات: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة:221] فأنت لو اتقيت الله عز وجل في أول أمرك لما حدث لك هذا، فإنه من يتق الله يجعل له فرجاً ومخرجاً. أما الأمر الثاني: فإنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن الشؤم في المرأة) والشؤم الذي في المرأة إذا تزوجها الرجل فتح الله عليه أبواب البلاء، فمن النساء من هن بعيدات عن الله عز وجل، والشؤم فيهن ظاهر، وهذا أمر ثبت به النص ودل عليه، ولذلك يتزوج الرجل المرأة الصالحة فيفتح الله عليه أبواب الرزق، ويفتح الله عليه أبواب السرور وأبواب الخير والبركة في ماله وأهله وولده، ويتزوج من هي بخلاف ذلك فتكسد تجارته، وتسوء أحواله حتى مع ربه والعياذ بالله، ومما حدث في بعض من نعرفهم أنه كان من ألزم الناس للصفوف الأُول في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وأحرصهم على ذكر الله عز وجل، وكان طالب علم، وكان في أيامه في نشوة عظيمة في طلب العلم، فأراد أن يتزوج فكان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الجمال وهو عندي أهم شيء، أهم ما ينبغي الجمال، فكان ينصحه إخوانه ويقولون له: اتقِ الله! الدين أهم، عليك أن تتقي الله عز وجل، فتزوج امرأة جميلة سيئة في دينها، فكان أول ما ابتدأت به أن أصبح لا يشهد الصفوف الأول، ثم بعد ذلك أصبح يتخلف عن الجماعة، ثم بعد ذلك -نسأل الله السلامة والعافية- انقطع عن الصلاة مع الجماعة إلا قليلاً، ثم بعد ذلك -والعياذ بالله- تغيرت هيئته ومنظره وحلق لحيته وانتكس والعياذ بالله. نسأل الله العظيم أن يدفع عنا الشرور والشؤم كله، فالشؤم كله في معصية الله وفي أهل المعاصي، فالقرب منهم شر، ولذلك: لما أراد الرجل التوبة في آخر عمره وقد قتل مائة نفسٍ آخرها عابد جاء إلى عالم فسأله: هل لي من توبة؟ قال: وما يمنعك منها ولكن قريتك قرية سوء فاذهب إلى قرية كذا فإن فيها قوماً صالحين، فخرج إلى القرية الصالحة فأدركه الموت في الطريق -في القصة المشهورة المعروفة- فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأرسل الله إليهم ملكاً أن قيسوا ما بين القريتين وفي رواية: (أن الله رمى بصدره إلى قرية الصالحين) يقول بعض العلماء: أتعجب من هذا الحديث؟ فإن الله جعل الصالحين الذين هم مستقيمون على طاعة الله ومرضاته خيراً للإنسان حتى في حسن الخاتمة؛ لأنه خرج وهو يحبهم، وخرج وهو يريد أن يكون معهم وفي زمرتهم فما خيبه الله جل جلاله. فالإنسان إذا كان هذا حاله في رفقة الناس الذين قد لا يرافقهم إلا في العشية أو الضحى فكيف بامرأة لا يفارقها إلا قليلاً؟ فعلى المسلم أن يحرص في اختياره للزوجة التي تخاف الله عز وجل، فإذا ساءت أو تغيرت أو تنكبت قال لها: اتق الله، فرعدت فرائصها من خشية الله عز وجل. الدين كله خير، ومن ظن أن الدين شر فإنه -والعياذ بالله- يصير شقياً طريداً من رحمة الله، الدين كله خير: خير لك في زوجتك خير لك في ولدك في أهلك، وانظر إلى الناس منذ عهد قبل ثلاثين سنة أو أربعين سنة كانوا يُنشئون أبناءهم على الدين، وأهم شيء عندهم الدين، فكانت هذه حياة الناس وهم في أشد الفقر، ومع ذلك ما وجدنا أحداً مات من الجوع، وجدناهم في عزة وكرامة، وتجد الرجل حافي القدمين عاري الجسد إذا استنصره أخوه نصره، وإذا استعان به بعد الله أعانه، وتجد فيه كمال النخوة والأخوة والشيمة والوفاء، حتى وهو فقير يذهب يتدين من أجل أن يُقري ضيفه ويذبح له، هذه كلها معان كانت موجودة عندما كنا نحس أن الدين لنا ولأبنائنا. ثم نشأت ناشئة يقولون: إن الدين تعقيد للولد وللذرية، ولا أريد امرأة متدينة، فهي تعقدني وتضيق عليّ، فتزوج التي لا دين عندها فدمرت حياته وأشقته، وتنكب بها عن صراط الله عز وجل، فقفلت عنه -والعياذ بالله- أبواب الخير؛ لأن أبواب الخير كلها لا تأتي إلا من طاعة الله عز وجل، فالمرأة العاصية البعيدة عن طاعة الله كلها بلاء وشر، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا) الشر يأتي من العصيان، فالمرأة التي تخاف الله وتراقبه كلها خير. فلما أصبح الناس يخافون من الدين وأصبحوا يتغربون عنه، فيقول قائلهم: ما أريد امرأة متدينة، ما أريد أولادي يتدينون، حتى جاء اليوم الذي يقف فيه الابن على والده فيهزأ حتى من ثوبه، وجاء اليوم الذي يرى فيه الأب ابنه مكشوف الساقين فيموت كمداً وغيظاً أن ولده الذي كان يعرفه برجولته وفحولته أشبه بالمرأة في ضياعه وتكسره، نسأل الله السلامة والعافية. كل من انصرف عن الدين وظن بالدين ظن السوء فإن الله يخذله ويبتليه من حيث ظن؛ لأن الله عظيم، ومن يكابر الله فإن الله يهلكه ويمقته، فعلى الإنسان أن يتقي الله عز وجل إذا أراد أن يختار امرأة فيختار المرأة الصالحة. أما هذه المرأة إن كانت سبباً في بعدك عن والديك، وبعدك عن طاعة الله فإما أن تأمرها بطاعة الله وتلتزم وتعطيها ثلاثة أيام أو أسبوعاً بالكثير تلتزم فيه إلتزاماً صادقاً، تتأدب فيه مع والديك وأهلك، وتقيم فيه حق الله عز وجل وحق أهلك وإلا فطلقها، وأسأل الله أن يبدلك خيراً منها، فهذه المرأة لا خير فيها، وهي شؤم عليك، وما دامت بهذه المثابة بعيدة عن الله عز وجل وعن طاعته، فوالله لا تجني منها خيراً، وعلى هذا إذا أردت النجاة بنفسك فانج، وإذا أردت أن تستمر فيما أنت عليه فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعافينا من هذا البلاء، فإنه من أعظم البلاء أن يرى الإنسان النار أمام عينيه ويتقحمها على بصيرة، وهذه المرأة شقاء لك في دينك ودنياك وآخرتك. وإذا تزوجت المرأة راقبها في دينك، وراقبها في أهلك وولدك وبالأخص في الوالدين، وراقبها مع قرابتك كأخواتك، فامرأة تحببك في والديك وتأمرك ببرهما، وتحثك وتحضك على الوفاء لهما والإحسان إليهما وإكرام صحبتهما فإنها المرأة الصالحة، والمرأة التي تأمرك بإخوانك أن تصلهم ولا تقطعهم، وأن تحسن إليهم ولا تسيء، وأن تصلهم ببرك وحنانك وإحسانك وتكون معهم في الشدائد فإنها نعم المرأة والله، ونعم الفراش للإنسان، هذه هي المرأة التي ينبغي أن يحرص عليها الإنسان وأن يعض عليها، وإذا وجدها يكرمها ويحسن إليها حتى تثبت على طاعة الله، وتكون خيراً له في دينه ودنياه وآخرته. أما إذا وجدتها تبعدك عن والديك وتحتقر والديك وتسبهما في حضرتك، أو تنزع ثقتك من والديك، أو تسيء ظنونك بوالديك، أو تبعدك عن إخوانك وأخواتك وأهلك وقرابتك فذكرها بالله، فإن التزمت بطاعة الله وإلا فبادر بفراقها؛ لأن هذه المرأة سينتقل بلاؤها إليك، وستؤثر عليك يوماً من الأيام، أو على الأقل -وليس بقليل- ستؤثر على أولادك فينشئون عاقين لك والعياذ بالله، فكما أمرتك بالعقوق فستأمر من تحتها وتحثهم على ذلك وتحضهم، وعلى الإنسان أن يتقي الله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2]، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4] ومن يتقِ الله فإن الله يجعل له من كل ضيقٍ فرجاً ومخرجاً، فعلينا أن نتقي الله عز وجل، وكل شيء علمنا أن فيه خياراً بين الدين والدنيا فلنقدم الدين على كل شيء، ومن كان لله كان الله له، ومن حسنت نيته حسنت عاقبته، وأصلح الله له في أموره كلها، ويسر له الخير حيثما توجه. ولذلك جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يريد السفر فقال: (يا رسول الله! إني أريد السفر فزودني، قال: زودك الله التقوى، قال: زدني، قال: وغفر ذنبك، قال: زدني، قال: ويسر لك الخير حيثما توجهت) والخير لا يتيسر للعبد حيثما توجه إلا إذا كان كل من حوله يعينه على الخير ويثبته عليه، ومن ذلك المرأة تكون صالحة دينة تخاف الله، والصالحة التي زكاها الله عز وجل من فوق سبع سماوات: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] تأمنها على دينك تأمنها على صلاتك تأمنها على طاعتك لربك، إذا نمت عن الصلاة أيقظتك، وإذا أردت أن تزكي مالك ذكرتك بالزكاة وحثتك عليها وخوفتك من ربك، كذلك أيضاً تأمنها على أهلك وولدك وقرابتك، وعلى الناس أجمعين، فمثل هذه المرأة إذا ظفر بها الإنسان فليحسن إليها، وليكن عوناً لها على طاعة الله، وليشكر ما يكون منها من الخير. ولتكن هذه القصة عبرة لكل ملتزم، فإن الإنسان الصالح الذي وفقه الله لزوجة صالحة عليه أن يحمد الله على العافية، وبمثل هذه الحوادث يحس كل ملتزم عنده امرأة صالحة أنها أعظم من الجوهرة النفيسة وأغلى والله، والمرأة الصالحة في زمان الفتن و

جواز الائتمام بالمأموم إذا لم يدرك مع إمامه ركعة فأكثر

جواز الائتمام بالمأموم إذا لم يدرك مع إمامه ركعة فأكثر Q ما حكم من صلى خلف مأموم قام ليكمل صلاته بعد انتهاء الصلاة مع الجماعة، فهل صلاته صحيحة وجزاكم الله خيراً؟ A المأموم تبعاً لإمامه وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) فهو تابع وغير متبوع، ولو قلنا: إن المأموم يصير إماماً، فإن هذا لا يتحقق بوصف الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصلاة بين المأموم والإمام، والقسمة لا تقتضي التشريك، فدل على أن المأموم لا يكون إماماً ومؤموماً في وقت واحد، وبناء على ذلك نص العلماء على أنه لا يُقتدى بالمأموم لا في حال متابعته للإمام، ولا في حال إتمامه، بشرط أن يكون قد أدرك مع الإمام ركعة فأكثر، أما لو أنه أدرك الإمام في التشهد الأخير أو أدركه بعد الرفع من الركوع الأخير فإنه في حكم المنفرد، وهناك فرق بين إدراك فضيلة الإمامة وإدراك حكم الإتمام، ولذلك إذا أدرك الإمام بعد رفعه من الركعة الثانية يوم الجمعة يتمها ظهراً، فدل على أنه غير مرتبط بالإمام؛ لأنه لو كانت مرتبطة بالإمام لأتمها جمعة ولصلى ركعتين. فبناء على ذلك قال جمهور العلماء: هناك فرق بين إدراك الجماعة حكماً وبين إدراكها فضلاً، فهو بإدراكه ولو قبل تسليمة الإمام بلحظة واحدة فقد أدرك فضيلة الجماعة؛ ولذلك لا يجوز له أن ينتظر حتى يسلم الإمام ما دام داخل المسجد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أدركتم فصلوا) فنهى عن الشذوذ والخروج عن جماعة المسلمين، ولذلك قال للرجلين لما رآهما لم يصليا: (ألستما بمسلمين؟) وأمر المأموم أن يتابع الإمام وأن لا يرفع رأسه قبله، كل هذا لكي لا يحدث شذوذ عن جماعة المسلمين مادام وأنهم في مسجد واحد، وأمر من صلى في بيته أن يعيد الجماعة، كل هذا يؤكد أهمية الجماعة نفسها خلافاً لما قاله بعض أهل الرأي من بعض فقهاء الحنفية وغيرهم أنه يجوز له إذا لم يدرك الركوع الأخير أن يبقى حتى يسلم الإمام أو يحدث جماعة ثانية، ولذلك من قال بهذا القول لو قلنا له: يحدث جماعة ثانية، فالإجماع على أنه لا يجوز إحداث جماعة ثانية مادامت جماعة المسجد منعقدة، وهذا هو المحفوظ في كلام العلماء والأئمة رحمهم الله. فإذا كان لا يجوز إحداث الجماعة الثانية فمعنى ذلك أن الحق للجماعة الأولى، والجماعة الأولى لا تنتهي إلا بالتسليم، أضف إلى نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (ما أدركتم فصلوا) فدل على أن من أدرك الإمام ولو قبل التسليم بلحظة يجب عليه أن يصلي، وكذلك من الخطأ لو أدرك الإمام وهو ساجد أن يقف، فتجد بعض الناس يقف وينتظر حتى يرفع الإمام من السجود وهذا من الخطأ؛ لأن هذه السجدة يرفعك الله بها درجات، وأقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجداً، وتكفر بها الخطيئات، وقَمِنٌ أن يستجاب للعبد، كل هذه الفضائل يتركها الإنسان من تخذيل الشيطان له. ولذلك نقول: إن المأموم ملزم بمتابعة إمامه وصلاته بصلاة الإمام، فإذا سلم الإمام ولم يدرك معه شيئاً إلا التشهد أو السجدة الأخيرة أو السجدتين أو الرفع من الركوع فإنه يجوز حينئذٍ أن يصير إماماً؛ لأنه منفرد، ولذلك بالإجماع يكون في حكم المنفرد، ويقوم ويصلي الصلاة وهي تامة، وتكون الركعة الأولى ركعة أولى لصلاته؛ لأنه لم يدرك مع الإمام شيئاً، فلو دخلت مع رجل بعد رفع الإمام من الركوع الأخير، فإذا سلم الإمام ائتم بك وصحت لكما جماعة، ولكن وقعت الجماعة بعد تسليم الإمام وحصلتم على الفضيلة؛ لأن الشرع رغب في صلاة المسلم جماعة أكثر من صلاته منفرداً، وحث عليه كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفرد بسبع وعشرين -وفي رواية بخمس وعشرين- درجة) وبناء على ذلك فإنه يجوز للمأموم أن يأتم بالمأموم إذا لم يدرك مع إمامه شيئاً كركعة فأكثر، أما لو أدرك الركعة فأكثر فإنه لا يجوز أن يأتم به، والله تعالى أعلم.

المبطون شهيد بأي نوع من أنواع المرض

المبطون شهيد بأي نوع من أنواع المرض Q هل من يموت بمرض البطن يعتبر شهيداً من شهداء أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، كذلك مرض السرطان عافانا الله وإياكم؟ A كل من مات بمرض البطن فإنه شهيد، والشهادة على مراتب ودرجات أعظمها وأفضلها وأجلها عند الله سبحانه وتعالى الشهادة في سبيل الله، من قُتل وهو مقبل غير مدبر لإعلاء كلمة الله لا حميةً ولا شجاعةً ولا رياءً ولا سمعة، فإذا قُتل في سبيل الله عز وجل واستشهد فإن هذا أفضل أنواع الشهادة، ثم الشهادة في سبيل الله تختلف على مراتب، والشهداء عند الله عز وجل على مراتب، يفضل بعضهم على بعض، فأعظم ما تكون الشهادة إذا كان البلاء عظيماً، وتختلف هذه الشهادة العظيمة باختلاف الأحوال، فقد يستشهد الإنسان وما في جسده موضع إلا وفيه طعنة أو ضربة في ذات الله عز وجل، وقد يستشهد وهو لا يهاب الموت. يعني: هناك أمور تفضل بها الشهادة باطنة وظاهرة، فالأمور الباطنة ما يكون في قلبه من حب للجنة وشوق إليها، حتى إن في بعض الأحيان ربما يكون الإنسان في الجهاد ويرى موقفاً فيخاف من الموت طبيعة وفطرة، ولكن إذا كمل إيمانه ووصل إلى مراتب اليقين تصبح الجنة بين عينيه كما قال الصحابي رضي الله عنه: (إني لأجد ريح الجنة دون أحد) وكان هذا وهو في الحياة، فلما كمل طلبه للجنة وبيعه لنفسه لله وفي الله قال: (والله إني لأجد ريح الجنة دون أحد)، وهذا شيء فوق خيال الإنسان وفوق تصوره، أنه في الدنيا ولم تقبض روحه ولكن أبى الله إلا أن يبشره بالجنة قبل أن يخرج من الدنيا، (إني لأجد ريح الجنة دون أحد) وهذا كمال اليقين وكمال الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فتسلم لموعود الله مؤمناً بما عند الله عز وجل، كأن الجنة بين عينيك، وإذا كملت شهادة الإنسان عظمت منزلته وارتفعت، ثم شهادة الشهيد العالم ليس كالشهيد الذي هو دون ذلك، فإذا أراد الله أن يعظم للعبد مرتبة الشهادة جمع له بين العلم والشهادة، فيكون في أعلى المراتب التي نسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلنا وإياكم من أهلها. وأما بالنسبة لشهادة البطن فتكون بالأمراض التي تصيب الإنسان سواءً كانت -أعاذنا الله وإياكم- من مرض السرطان أو كانت بالقرحة أو غير ذلك من الأمراض، حتى ذكر بعض العلماء أنه لو ابتلع شيئاً وهو لا يعرف أن فيه الضرر ثم تسمم جوفه أو شيئاً من الحديد وهو لا يدري فقطع جوفه ومات بسبب ذلك أنه يعتبر مبطوناً، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، فقال عليه الصلاة والسلام: إذاً شهداء أمتي قليل، ثم ذكر عليه الصلاة والسلام: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، والمبطون شهيد، والحريق شهيد، وصاحب الهدم شهيد، والنفساء شهيد) إلى آخر الحديث، فعد عليه الصلاة والسلام من الشهداء من مات في بطنه، نسأل الله بعزته وجلاله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا شهادة في سبيله، وأن يتقبل ذلك خالصاً لوجه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم، والله تعالى أعلم.

التجاوز عن المعسرين من أفضل الأعمال

التجاوز عن المعسرين من أفضل الأعمال Q أقرضت شخصاً خمسمائة ريال، وبعد فترة طلب مني المسامحة والإعفاء فهل يجوز لي أن أسامحه وأعفيه، وهل يدخل ذلك في ربا الجاهلية؟ A هذا من ربا الآخرة إذا سامحته في خمسمائة أعطاك الله أضعافها؛ لكنه رباً طيب ورباً مباح ورباً مشروع، والله عز وجل يربي الصدقات كما أخبر سبحانه وتعالى أي: يزيدها ويضاعفها، يتلقاها بيمينه وكلتا يدي الرحمن يمين كما في الصحيح، فيربيها وفي رواية فينميها، (فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه -والفلو: هو صغير الخيل- حتى يجدها يوم القيامة أعظم ما تكون) ولذلك كان بعض العلماء رحمهم الله يقول: لا ينبغي للإنسان إذا نوى الصدقة أن يتأخر، يعني: ممكن أن تأتي على باب المسجد وتجد السائل وتقول: إذا خرجت أعطيه فهذا الوقت الذي أخرت فيه الصدقة لو أعطيتها السائل يضاعف الله فيه صدقتك أضعافاً كثيرة لا يعلمها إلا الله، وهذا هو الربا الذي يربيه الله عز وجل في الصدقات. وهذا مما ندب الله عز وجل إليه، ومن أفضل الصدقة وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى الصدقة على المديون، خاصة إذا كان معسراً أو كان في ضائقة واهتم واغتم لدينك، فجئته ووقفت عليه وقلت له: إني مسامحك لوجه الله، أو إني قد عفوت عن المال أو أنت في حلٍ من المال الذي أعطيتك، فإن هذا من أحب ما يكون، فالتجاوز عن المعسر والتسامح معه كل ذلك من القربات، والباقيات الصالحات التي يجدها الإنسان في الحياة وبعد الممات، ولذلك أخبر صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (كان فيمن كان قبلكم رجل يعطي الناس ماله ديناً وقرضاً، وكان يوصي أعوانه ويقول: إذا وجدتم معسراً فتجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا). الرحمة ما تكون في عبد إلا أصاب خير الدنيا والآخرة، هذه الرحمة التي وصف الله بها المؤمنين فقال: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] فيقول: (إذا وجدتم معسراً فتجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا) بخٍ بخٍ! إذا أعطى الله الدنيا للعبد فجعل الآخرة نصب عينيه، فهو الموفق السعيد وهذا العبد الصالح لما كانت التجارة بين يديه والدنيا بين يديه جعل الآخرة نصب عينيه، فهو يخاطب من تحته ويخاطب أعوانه قائلاً: (إذا وجدتم معسراً فتجازوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا) ففي الصحيح أنه يلقى الله عز وجل يوم القيامة فيقول الله لملائكته: (نحن أحق بالتجاوز عن عبدي، تجاوزوا عن عبدي فقد غفرت له). فهذه من أحب الأعمال إلى الله، وأحب القربات إلى الله سبحانه وتعالى، وبالأخص إذا كانت في حق المحتاجين والمعسرين كأصحاب الأسر الفقيرة والأيتام والأرامل، فمسامحتهم والتجاوز عنهم، كل ذلك مما يؤذن برحمة الله للعبد وحصول البركة والخير في المال والولد، فإن الصدقة خيرها عظيم ونفعها عميم، نسأل الله العظيم أن يوفقنا لما يرضيه والله تعالى أعلم.

لزوم إطعام عشرة مساكين في كفارة اليمين

لزوم إطعام عشرة مساكين في كفارة اليمين Q هل يجوز إعطاء المسكين الواحد كفارة خمسة أيمان أو فدية عدة محذورات؟ A هذا فيه تفصيل: إذا كانت على الشخص أكثر من يمين وأراد أن يكفر عنها فالواجب في كل يمين أن يطعم عشرة مساكين، فإذا أراد أن يطعم شخصاً واحداً لا يصح ولا يجزيه عن العشرة؛ لأن الله عز وجل أمر بإطعام العشرة وكسوتهم، فإذا أطعم شخصاً واحداً لم يتحقق شرط الشرع ولا وصفه، بناء على ذلك يجب عليه أن يطعم عشرة مساكين، لكن لو أنه نوى اليمين الأولى فأعطى لجاره محمد كفارة وتصدق عليه في اليوم الأول، ثم أعطى تسعة من الجيران المساكين الباقية فحينئذٍ سقطت اليمين الأولى، فيأتي في اليوم الثاني أو يأتي بعد ساعة بعد أن فرغ بنيته من اليمين الأول شرع في التكفير عن اليمين الثانية، فأطعمه وأعطاه فلا بأس على هذا الوجه أن يكون الإطعام لمسكين واحد في أيمان متفرقة، لا أن يحسب المسكين في اليمين الواحد متعدداً، فإن هذا لا يعتبر إطعاماً للعشرة على الشرط الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم. وبالنسبة للفدية قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه: (أطعم فرقاً بين ستة مساكين) وبناء على ذلك لابد وأن يكون الفرق -الفرق الذي هو ثلاثة آصع- مفرقاً بين ستة مساكين، معناه: أن لكل مسكين نصف صاع، وعلى هذا لابد أن يكونوا ستة مساكين بالنص والحديث، والله تعالى أعلم.

أحكام الله عز وجل فيها المصلحة للعباد

أحكام الله عز وجل فيها المصلحة للعباد Q أشكل عليَّ أن ثبوت الشفعة قد يؤدي إلى تقاعس الناس عن الشراء لأنهم يعلمون أنهم إذا شروا ما تثبت فيه الشفعة سوف ينتزع منهم؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه من والاه. أما بعد: ينبغي في الإشكال أن يكون المستشكل دقيق النظر يعني: كون الشفعة تؤدي إلى تقاعس الناس عن الشراء ليس على عمومها، لأن الشفعة أصلاً ما تقع إلا في الأشياء التي فيها شركة، وليست كل الأشياء التي تباع فيها شركة، بل لو قال قائل: إن هذا من أندر ما يكون أن يبيع الشريك نصيبه ما تقع إلا في العقارات التي فيها شركة، والغالب أن العقارات لا شركة فيها، ولذلك مسألة أن يتعطل الناس أو أن هذا يؤدي إلى فساد السوق أو إلى الإضرار بالشراء ليس بوارد، يكون وارداً لو كان هذا هو الأغلب أو هو الأعم، وحينئذٍ يكون فيه تضييق ويكون فيه ما ذكر من كونه يعيق الناس عن الشراء. ثانياً: أن الحالة الخاصة إذا ثبت أنها لا تقع إلا في النادر أو في القليل فإنها لا تؤثر، فإن النادر لا يضر؛ لأن النادر قليل والقليل محتمل الضرر، وعلى هذا نقول: على الله الأمر، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الرضا والتسليم، وثق ثقة تامة أنك لن تجد عقداً شرعياً أحله الله عز وجل في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أو بهديه وتستشكل فيه شيئاً إلا وجدت أضعافه إذا لم تقل بشرعيته، يعني: إذا كان مشروعية هذا العقد فيه إشكال واحد فعدم مشروعيته فيه إشكالات، وعلى هذا لا يمكن لشخص أن يجعل مثل هذا عائقاً أو مشكلاً يمنع من التسليم بمثل هذا الحكم، رضينا بالله ربا، ورضينا به حكماً فاصلاً يقص الحق وهو خير الفاصلين سبحانه وتعالى. وبناء على ذلك لا ضرر على السوق ولا مفسدة فيه. ثم الجواب الأخير أن نقول: إنما يكون المشتري متعرضاً للشفعة إذا طالب الشريك، فلربما يرضى الشريك أو يسكت، وحينئذٍ أيضاً هذا أمر آخر يضاف إلى ما ذكرناه وهو أنها لا تثبت إلا في أشياء نادرة، ثم أيضاً لا يقع فيها إلا إذا اعترض الشريك، وقد يعترض وقد لا يعترض، وبناء على ذلك لا يكون هذا أمراً مشكلاً مانعاً للتسليم بحكم الله عز وجل والرضا به، والله تعالى أعلم.

باب الشفعة [2]

شرح زاد المستقنع - باب الشفعة [2] الشفعة حق من حقوق الشراكة، وهي مأخوذة من الشفع الذي هو ضد الوتر، فإذا اشترك رجلان في عقار وأراد أحدهما البيع، فللشريك أن يشفع ويضم نصيب صاحبه إلى نصيبه فيصير نصيبه شفعاً بعد أن كان وتراً، وكما أن للشفعة أحوالاً تثبت فيها، فلها كذلك أحوال تسقط فيها.

الشفعة التي يصح ثبوتها للشريك

الشفعة التي يصح ثبوتها للشريك بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وتثبت الشفعة لشريك في أرض تجب قسمتها] هذه الجملة قصد المصنف رحمه الله فيها أن يبين محل الشفعة، هل كل شيء يمكن للإنسان إذا كان شريكاً للغير فيه أن يكون شافعاً إذا باع؟ عرفنا أنه لو اشترك اثنان في عمارة أو أرض ولم تقسم أنه لكل واحد منهما الحق أن يشفع إذا باع الآخر، لكن لو فُرض أنه قسم الشيء المملوك بين الاثنين فأكثر، فعرف كل واحد منهما نصيبه فهل الشفعة ثابتة لو باع أحدهم نصيبه؟ هذه المسألة تعرف بالشفعة في العقار المقسوم. الصورة الثانية: لو اشترك الاثنان في غير عقار كما لو اشتركا في سيارة -فالسيارة من المنقولات- قيمتها مائة ألف، ودفع كل واحد منهما خمسين ألفاً، ثم باع أحدهما نصيبه بسبعين ألفاً فقال الآخر: أريد الشفعة. فهل من حقه أن يشفع؟ وبعبارة أخرى: هل تثبت الشفعة في المنقولات كما تثبت في العقارات؟ أولاً: اتفق العلماء رحمهم الله على أن الشفعة ثابتة ومشروعة إذا كان الشريكان يشتركان في أرض، أي: في عقار ولم يقسم، ومن أمثلة ذلك في زماننا العقارات البور التي لم تبن ولم تستغل مثل أراضي المخططات، فلو أن اثنين لهما مخطط واحد اشترياه بمليون مثلاً، أو قطعة أرض كامنة ليس فيها بناء ولا غرس (بور) اشترياها بمليون، كل منهما يملك النصف أو لأحدهما الثلثان وللآخر الثلث فباع واحد منهما بالإجماع للآخر حق الشفعة؛ لأن الأرض أو العقار الذي لم يقسم بالإجماع تقع فيه الشفعة، والدليل على ذلك حديث جابر رضي الله عنه في الصحيح: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم) فهذا الحديث الصحيح يدل على أن الشفعة ثابتة في العقار الذي لم يقسم: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة). هذا الحديث يدل على مسألتين: المسألة الأولى: أن الشفعة في العقارات؛ لأنه قال: (إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) فدل على أن محل الشفعة إنما هو العقارات لا المنقولات، وهذا مذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم، بناءً على ذلك كل شيء من غير العقارات -من غير الأراضي- لا شفعة فيه، فإذا باع أحد الشريكين نصفه الذي في السيارة أو نصفه في صفقة طعام، أو شريكان في تجارة ألبسة أو غير ذلك فباع أحدهما نصيبه فليس للآخر حق الشفعة إذا كان من المنقولات، الشفعة تنحصر فقط في العقارات. ثم العقارات تنقسم إلى قسمين: العقار الذي لم يقسم، ولم يعرف كل واحد من الشريكين نصيبه، والعقار الذي قسم وميز فيه نصيب كل واحد منهما عن الآخر، فإذا كان العقار لم يقسم كأرض اشترك فيها اثنان ولم يقسماها بينهما، سواءً كانت مبنية كالعمارة أو كانت فيها غلة كالمزارع ونحوها، أو كانت أرض (بور) فجميع هذه الأنواع من العقارات تثبت فيها الشفعة. أما إذا كان العقار قد قسم ومن أمثلته: لو اشترى اثنان أرضاً ثم اتفقا على أن تقسم هذه الأرض بينهما بقدر حصة كل واحد منهما من رأس المال، فاتفقا على قسمتها مناصفة، فقسمت وبني الجدار بين الطرفين، أو اتفقا على أن يجعلا طريقاً بينهما فحينئذٍ انفصل كل منهما عن الآخر، فوقعت الحدود، وصرفت الطرق، ولذلك الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرّفت الطرق وفي رواية: صرفت الطرق -بعضهم يقول بالتشديد وبعضهم بالتخفيف، أي: تبينت الطرق- فلا شفعة) فقسم هذا الحديث الناس في الشركة إلى قسمين: عقار لم يقسم، وعقار قسم وعرف كل شريك نصيبه. فإذا كان العقار لم يقسم قلنا بالإجماع لا شفعة فيه، وأما إذا قسم وعرف كل واحد منهما نصيبه فاختلف العلماء رحمهم الله فيه، هل من حقك أن تشفع إذا كان العقار قد قسم وفصل كل واحد منكما نصيبه عن الآخر، أو ليس من حقك؟ كذلك يتبع هذه المسألة، هل من حقك أن تشفع في عقار جارك الذي يلاصقك؟ فلو أن جارك باع عمارته والعمارة ملاصقة لعمارتك، أو باع مزرعته وهي ملاصقة لمزرعتك، فهل المجاورة في العقار يثبت الشفعة أو لا؟ ظاهر الحديث اختصاص المسألة بمجاورة الدور، فكلام العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا شفعة للجار في دار جاره، وهذا هو مذهب الجمهور رحمهم الله من حيث الجملة المالكية والشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع. القول الثاني: تثبت الشفعة في العقار الذي قسم، وتثبت الشفعة لجار الدار إذا باع جاره داره، وهذا هو مذهب الحنفية رحمة الله عليهم. هناك قول ثالث توسط بين القولين وهو: إذا باع الجار داره وكانت ملاصقة لدارك، والطريق الذي بينكما واحد، وبينكما مرفق أو مصلحة مشتركة، كأن يبيع مزرعته، ومزرعتك ومزرعته تستقيان من بئر واحدة، فحينئذٍ من حقك الشفعة، فأصحاب القول الثالث يقولون: تثبت الشفعة في العقار الذي قسم، وللجار في أرض جاره بشرط اشتراكهما في مرفق من المرافق، إما طريق، أو بئر أو نحو ذلك من المصالح المشتركة حتى يثبت الضرر، بحيث إذا جاء جار غريب غير الجار الذي كنت ترتاح له أو كان معك سابقاً تضررت منه. والجمهور حين قالوا: لا تثبت الشفعة للجار، استدلوا بالحديث الذي تقدم معنا في الصحيح عن جابر رضي الله عنهما: (قضى رسول الله صلى عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة) هذا الحديث وجه الدلالة فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم منع الشفعة إذا عرف كل واحد نصيبه، فدل على أن الجار لا يملك الشفعة في أرض جاره. وأما أصحاب القول الثاني فقد استدلوا بأحاديث منها: ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الجار أحق بصقبه). والصقب اختلف في تفسيره: فمن العلماء من حمله على العموم واستدل به على مسألتنا. ومنهم من قال: إن المراد بالصقب الإحسان والبر والصلة، فالجار ينبغي للإنسان أن يتوخى وأن يكون شديد الحرص على الإحسان إليه والبر، وهو أحق ببر جاره من سائر الناس، بناءً على هذا الحديث (الجار أحق بصقبه) من حيث العموم يدل على الشفعة، أكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام في السنن: (جار الدار أحق بالشفعة في دار جاره، ينتظر بها إن كان غائبا) هذا الحديث نص على أن جار الدار من حقه أن يشفع فيأخذ دار جاره إذا بيعت. أما الذين قالوا بالتفصيل فقد استدلوا برواية عند أحمد في مسنده وأبي داود والترمذي في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جار الدار أحق بدار جاره، ينتظر بها إذا كان غائباً، إذا كان طريقهما واحداً) وفي الحقيقة هذا القول اختاره جمع من العلماء من فقهاء الشافعية، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم رحمة الله عليهم، وبعض المتأخرين كالإمام الشوكاني وغيرهم رحمهم الله، وهو أعدل الأقوال إن شاء الله وأولاها بالصواب؛ لأنه يجمع بين النصوص. فقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) فالأصل أنه إذا عرف كل واحد نصيبه فلا شفعة، وقوله: (إذا كان طريقهما واحداً) تخصيص من عموم، والقاعدة تقول: (لا تعارض بين عام وخاص) فنحن نسلم بالأحاديث التي أثبتت الشفعة في مال لم يقسم، ونسلم بالأحاديث التي أثبتت الشفعة في الجوار، بشرط وجود مصلحة ومرفق مشترك بينهما؛ ولأن العقل والنظر الصحيح يدل عليه، فإنهما إذا كانا شريكين في بئر واحدة، كأن تكون مزرعتان وبئرهما واحد، وجاء جار غير الجار الذي أنت ألفته ورضيته، ربما أضر بك وضايقك، وحصل من ذلك الأذية والضرر كما يحصل في حال اختلاط الاثنين في ملك واحد. وعلى هذا فإنه تثبت الشفعة لجار الدار إذا أراد أن يشفع في دار جاره بشرط أن يكون الطريق واحداً، وكذلك تثبت الشفعة لصاحب المزرعة إذا باع جاره مزرعته وكانت هناك مرافق بينهما مشتركة، كالعين الواحدة، والنهر الواحد، والسيل الواحد الذي يستقيان منه، والبئر الواحدة التي يستقيان منها، وبهذا يجمع بين النصوص، وعليه فإنه يعتبر تخصيصاً من العموم الدال على أنه لا شفعة من حيث الأصل إلا في الشريك المقاسم.

ما تثبت فيه الشفعة

ما تثبت فيه الشفعة قال رحمه الله: [ويتبعها الغرس والبناء لا الثمرة والزرع] ويتبع الشفعة في الأرض الغرس والبناء، فإذا كنتما شريكان في مزرعة فزرعتما فيها فباع شريكك نصيبه، فإن الشفعة تثبت في الأرض والغرس تابع، وكذلك لو اشتريتما أرضاً وبنيتما فيها فالشفعة ثابتة في الأرض والبناء تابع لها، وبناءً على ذلك تثبت الشفعة في الأراضي وفي الدور وفي المزارع، فلا تختص بالأرض فقط إذا كانت بوراً يعني: غير مبنية ولا مزروعة، بل تشمل الأرض البور وكذلك الأرض المستغلة التي فيها زرع أو بناء. قوله: (لا الثمرة والزرع)، أي: لا تثبت الشفعة في الثمرة إذا باعها وقد أُبرت، صورة المسألة: اثنان مشتركان في مزرعة، باع أحدهما نصفه من هذه المزرعة لرجل، واشترط المشتري الثمرة وكان النخل قد أُبر، فحينئذٍ أصبحت الصفقة فيها شيئان: الأرض مع ما عليها من الغرس، والثمرة التي هي نتاج الغرس، فالأرض مستحقة بالعقد، والثمرة مستحقة بالشرط، وقد تقدمت معنا هذه المسألة في كتاب البيوع، فإذا حصلت شفعة في أرض بيعت وفيها غرس والغرس له ثمرة ووقع البيع، أو فيها نخل قد أُبرت وثمرتها للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، فهذا الأجنبي الذي اشترى الأرض واشترط ثمرتها لو اعترض الشريك وقال: أنا شافع فإنه يستحق استرداد الأرض والزرع ولا يستحق استرداد الثمرة؛ لأن الشفعة إنما هي في العقارات لا المنقولات، والزرع منقول لكنه وقع تبعاً، والثمرة استحقت بالشرط -بترتب العقد- ولم تستحق بالعقد نفسه. قال: [فلا شفعة لجار] الفاء للتفريع، إذا ثبت أن الشفعة تثبت في الأرض التي لم تقسم فلا شفعة للجار، وقد بينا هذه المسألة، فلو سأل سائل: هل من حق الجار أن يشفع في أرض جاره إذا بيعت؟ قلنا: الجواب عن ذلك فيه تفصيل: إن كان طريقهما واحداً كان من حقه، وإذا لم يكن طريقهما واحداً فليس من حقه أن يشفع.

متى تثبت الشفعة ومتى تسقط

متى تثبت الشفعة ومتى تسقط قال رحمه الله: [وهي على الفور وقت علمه] (وهي) -أي: الشفعة- (على الفور) أي: لا يجوز للشريك أن يتأخر في طلب الشفعة، وهذا شرط من شروط ثبوت الشفعة، أنه بمجرد علمك أن شريكك قد باع تقول: أنا شافع، فبمجرد العلم تشفع، فإذا كنت في مكان بعيد عن أرضك، أو عن الموضع الذي فيه أرضك تشهد عدلين أنك شافع وتقول: اشهدا أني شافع، فإذا لم يطالب بها فوراً فقد سقط حقه. مثال ذلك: لو أن اثنين كانا شريكين في أرض، فباع زيد نصيبه، فلما علم عمرو سكت، مثلاً: جاءه شخص عصراً وقال له: إن زيداً قد باع نصيبه فسكت، فلما جاءت صلاة المغرب قال: أريد أن أشفع، أو لما جاء من الغد قال: أريد أن أشفع نقول: سقط حقك؛ لأن الشفعة لا تثبت إلا إذا طالبت بها على الفور، وهذا شبه إجماع بين العلماء رحمهم الله، ولذلك قضى به أئمة السلف، وممن قضى بذلك شريح الكندي رحمه الله قاضي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، أربعة من الخلفاء الراشدين تولى هذا الإمام الجليل رحمه الله القضاء لهم، وكان يقول: الشفعة لمن واثبها، يعني: بادر وعجل بها. ومفهوم ذلك: لا شفعة لمن لم يعجل بطلب الشفعة، ويروى هذا الحديث مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يصح ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نبه على ذلك الإمام الحافظ الزيلعي رحمه الله في نصب الراية، والأقوى أنه من قول شريح وقضائه، أن الشفعة لمن بادر، وأجمع العلماء على ما هو منصوص عليه في كتب أهل العلم، ولا يعرف مخالف أن الشفعة معجلة، ولو قلنا: إن الشفعة يجوز تأخيرها لانفتح بسبب ذلك باب من الضرر لا يعلم قدره إلا الله عز وجل، فيأتي شخص ويشتري من الشريك، فيسكت الشريك الآخر ويتركه حتى يبني الأرض، ثم بعد خمس سنوات أو ست يقول: أنا شافع، فهذا يفتح على الناس باباً عظيماً من الضرر. ولذلك قال بعض العلماء: الشفعة ضعيفة تسقط بالأقل يعني: تسقط بأوهن الأشياء، فهي ثابتة صحيحة، لكن جعل الشرع سقوطها لأنها على خلاف الأصل، فتسقط بأوهن الأشياء، وهذه عبارة أكثر من واحد من الأئمة رحمة الله عليهم، أن الشفعة ضعيفة وتسقط بأوهن الأشياء، وعلى هذا فلو تأخر عن المطالبة فهمنا من سكوته أنه راضٍ بدخول الشريك، ويكون إهمالاً منه وتقصيراً، ويسقط حقه بذلك في الشفاعة. قال رحمه الله: [فإن لم يطلبها إذاً بلا عذرٍ بطلت] (فإذا لم يطلبها) يعني: لم يطلب الشفعة (إذاً) أي: إذا علم فالتنوين عوض عن جملة ولم يطالب بالشفعة وقت علمه سقط حقه. قال رحمه الله: [بلا عذر] إذاً الشرط في إسقاط حق الشريك في مطالبته بالشفعة أن لا يكون عنده عذر، أما لو كان عنده عذر فإنه لا يسقط حقه؛ لأن المعذور معذور، وقد عذر الله عز وجل في حقوقه وعذر في حقوق عباده، فإذا كان عنده عذر فتأخر عن المطالبة لوجود هذا العذر فإنه حينئذٍ لا يسقط حقه، وسيأتي إن شاء الله الإشارة إلى بعض المسائل التي تنبني على هذا. قال رحمه الله: [وإن قال للمشتري: بعني أو صالحني، أو كذّب العدل، أو طلب أخذ البعض سقطت] تسقط الشفعة إما باللفظ الصريح أو بالشيء الضمني سواءً كان من الأقوال أو كان من الأفعال، فإذا كان هناك شريكان باع أحدهما وعلم الآخر فقال: لا أريد الشفعة، فهذا مسقط للشفعة، ويكون سقوطها هنا باللفظ الصريح: (لا أريد الشفعة) (لست بشافعٍ) (أبرأتك من الشفعة) (لا شفعة لي) كل هذا من الألفاظ الدالة على أنه ليس بشافع، فإذا تلفظ بلفظ صريح يدل على إسقاط حقه فلا إشكال في سقوط الشفعة، لكن هناك ألفاظ أو تصرفات تصدر من الشريك توجب سقوط الشفعة في حقه، فمثلاً: إذا قال للمشتري الجديد: (بعني) فمعناه أنه قد رضي بملكيته، كان المفروض أن يقول: أنا شافع، لكن حينما قال له: (بعني) فمعناه أنه قد اعترف بملكيته، ورضي بدخوله شريكاً له، فإذا قال له: بعني أثبت له اليد. ولذلك هناك عبارات ليست صريحة في الدلالة على شيء، لكنها تتضمن الدلالة عليه، فأنت إذا جئت إلى رجلين مختصمين يقول أحدهما للآخر: أعطني حقي الذي هو ألف ريال، فقال له: يا أخي! أعطيتك الألف، فإذا قال: أعطيتك الألف اعترف أنه قد أخذ منه ألفاً، هو لم يقل: أعترف أن لك عندي ألفاً وإنما قال: أعطيتك الألف، فمعناه أنه قد أقر أن في ذمته ألفاً لهذا المدعي، ويدعي هو أنه قد ردها، فإذاً قد نستفيد من بعض الألفاظ الدلالة على غيرها. فهو إذا قال له: بعني، دل على أنه قد رضي بكونه شريكاً له؛ لأنه لا يبيع إلا من يملك، ولا ملكية إلا إذا دخل شريكاً له بالعقار، ولا يدخل شريكاً له في العقار إلا إذا أسقط حقه في الشفعة، ولذلك يقول العلماء: إنه إذا قال للشريك: بعني، فقد سقط حقه في الشفعة. قال: [أو صالحني] إذا قال له: صالحني، عدل عن حقه إلى المصالحة، وبناءً على ذلك يكون اعترافاً ضمنياً بإسقاط حقه في الشفعة. قال: [أو كذّب العدل] جاءه رجل معروف بالصدق ومعروف أنه لا يكذب، أو يعرف أمانته واستقامته، والعدل: هو الذي يجتنب الكبائر ويتقي في أغلب أحواله الصغائر، والعدل الذي ترضى شهادته كما قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] فالعدل هو الذي يرضى في الشهادة ويرضى في الأخبار، فلو جاءه رجل من قرابته يعرفه أميناً صادقاً لا يكذب، وقال له: شريكك باع نصيبه، فقال له: لا ما باع نصيبه، وسكت ولم يطالب بشفعته، فمعناه أنه قد بلغه خبر البيع فلم يطالب بحقه فسقطت الشفعة؛ لأنها على الفور، فلما لم يبادر بها يكون تكذيبه للعدل واقعاً في غير موقعه، كما لو رأى الشيء؛ لأن العادل يصدقه، وإذا قال له: إن فلاناً قد باع فمعنى ذلك أنه لا عذر له في تكذيب هذا البيع، ولا عذر له في المطالبة بالشفعة، فلما لم يكن عنده عذر في جميع ذلك سقط حقه في الشفعة، وحينئذٍ لو طالب بها بعد ذلك فإنه لا شفعة له. قال: [أو طلب أخذ البعض سقطت] لو قال للمشتري الجديد أو الأجنبي الذي اشترى: هذه الألف متر التي اشتريتها أشتري منك نصفها، أو أنا شافع في نصفها، إذا قال: أشتري سقط حقه، إذا قال: أنا شافع في نصفها سقط حقه في الكل؛ لأنه لابد من أخذ الكل أو ترك الكل، فلا تتجزأ الشفعة ولا تتبعض.

الأسئلة

الأسئلة

إذا شفع الشافع في أرض فعليه دفع المبلغ كاملا إذا اشترط المشتري الثمرة

إذا شفع الشافع في أرض فعليه دفع المبلغ كاملاً إذا اشترط المشتري الثمرة Q إذا شفع شريك في أرض مزروعة وكان المشتري قد اشترط الثمرة فهل يدفع الشافع المبلغ كاملاً أم أنه ينقص منه بمقدار ثمن الثمرة؟ A الثمرة تستحق بالشرط، وقد ذكرنا هذا في باب البيع، وبناءً على ذلك يدفع قيمة الصفقة كاملة، وأما الثمرة فإنها مستحقة بالشرط وليست مستحقة بالثمن، وقد بينا هذه المسألة وفصلنا فيها، وذكرنا مذهب الجمهور والعلماء رحمهم الله، استناداً لحديث ابن عمر في الصحيحين: (من باع نخلاً قد أُبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع) فهذا الحديث يدل على أن الثمرة تتبع الأصل وهو النخل، وإذا كانت تتبع الأصل والنخل معناه أنها لا قيمة لها، وليست بمستحقة بالعوض، ولذلك جاز استحقاقها بالعقد؛ لأنها قبل بدوء صلاحها ممكن أن تستحق بالعقد، وممكن أن تستحق بالشرط كما ذكرنا، وعلى هذا فإنه يأخذ الأرض والنخل ولا يملك الثمرة، والله تعالى أعلم.

حكم من صلى بالناس إماما فغير نيته من فرض إلى فرض آخر دون علمهم

حكم من صلى بالناس إماماً فغير نيته من فرض إلى فرض آخر دون علمهم Q صلى أحد الشباب مرة بجماعة صلاة العصر، فلما كبر تكبيرة الإحرام كان يظن أنها صلاة الظهر وبعد تكبيرة الإحرام مباشرة تذكر أنها صلاة العصر فخرج مباشرة من صلاته بتسليم، ثم كبر مرة ثانية تكبيرة إحرام جديدة بنية لصلاة العصر، كل ذلك فعله والمأمومون خلفه لم يعلموا بتسليمه من الأولى وخروجه منها حيث لم يخبرهم بذلك ولم يشعروا بذلك، وصلوا خلفه بتكبيرته الأولى، فما حكم صلاة المأمومين خلفه في هذه الحالة؟ A هذه المسألة فيها مسائل: المسألة الأولى: من كبر ظاناً أنه قد صلى الظهر ثم تبين أنه لم يصلها، فإنه لا يصح أن ينتقل من فرض إلى فرض؛ لأن نيته للظهر بطلت حيث أن ذمته قد برئت من صلاة الظهر، ولا تصلى الصلاة مرتين على أنها صلاة واحدة كما في حديث أم المؤمنين حفصة: (نهى أن تعاد الصلاة مرتين) يعني: أن يعتقد كليهما فرضاً؛ لأن الله فرض عليك فرضاً واحداً، إذا ثبت هذا لا يمكن أن تكون ظهراً، فبطلت نيته عند تكبيرة الإحرام للظهر، وبطلت نيته للعصر؛ لأن العصر لا تصح نيته إلا مقارنة لتكبيرة الإحرام أو سابقة لتكبيرة الإحرام، ولا تصح نية الفريضة بعد تكبيرة الإحرام؛ لأنها تكون مع تكبيرة الإحرام ويجوز سبقها بتكبيرة الإحرام، بالزمن اليسير. إذا ثبت هذا فنحن نتكلم الآن عن الإمام، كان المنبغي من فقه الإمامة أن يبقى على نية النافلة؛ لأنها امتنعت ظهراً فريضة فتنتقل نافلة خلافاً لبعض الحنابلة الذين يقولون: إنها لا تصح فرضاً ولا نفلاً، فيقلبها نافلة وتصبح له نافلة، يصلي بهم متنفلاً وهم مفترضون، ويصح أن يصلي المفترض وراء المتنفل، فقدر الله وما شاء فعل، فلو أنه استمر بنية النافلة لصحت الصلاة له ولهم؛ صحت له نافلة، وصحت لهم اقتداءً فريضة ومجزئة وتبرأ ذمتهم، لكن عندما سلم وخرج عن الصلاة الأولى حينئذٍ لا يجوز أن يسبق المأموم إمامه في تكبيرة الإحرام، وما يمكن أن يقع اقتداء للمأموم بإمام قد سبقه المأموم بتكبيرة الإحرام، ولذلك قالوا: من أحرم منفرداً لا ينتقل مأموماً، فأصبحوا منفردين، ولو استخلف صحت، على قول من يرى الاستخلاف في هذه الحالة، فالاستخلاف لوجود العذر يصح، فصار عذراً شرعياً كالعذر الذي يتعلق بالطهارة ونحوها. لكن كونه قد سبقت تكبيرتهم؛ لأنه الآن في صلاة ثانية بالنسبة له، أحرم الإمام بصلاة غير الصلاة التي أحرم وراءه فيها المؤتمون، فلا يصح أن يكون إمامهم؛ لأن المأموم يسبق الإمام بتكبيرة الإحرام في صور مستثناة منها: إذا كبر وهو إمام مستخلف، يعني: تأخر الإمام فقدمنا شخصاً، فحضر الإمام أثناء تقدم الشخص يجوز أن يدخل الإمام ويكبر تكبيرة الإحرام ويؤخر الشخص أو يجعله عن يمينه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم تأخر في الصلح بين حيين من بني عوف، فلما حضر النبي صلى الله عليه وسلم ائتم به أبو بكر، فهذه سبق فيها تكبير المأموم لتكبير إمامه، ومن أمثلتها أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في مرضه مرض الوفاة بين العباس وعلي رضي الله عنهما يهادى بينهما رآه أبو بكر فذهب يتأخر، فأشار إليه أن مكانك، وجاء وصلى عليه الصلاة والسلام عن يسار أبي بكر، هو الإمام وأبو بكر يصلي بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر. هنا تقدم تكبير المأموم وهم الصحابة على تكبير إمامهم وهو النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا للعذر، وهذه المسألة مستثناة من الأصل؛ لأن الأصل وقوع تكبيرة المأموم وراء تكبيرة الإمام لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) فاستثنيت بالنص، واستثنيت بحق الإمامة، ولذلك يقول العلماء: هذا لشرف العلم؛ لأن الإمام لا يتقدم على الناس إلا وهو أعلمهم وأعرفهم بكتاب الله، فإذا حضر كان من حقه أن يتقدم، وفيه دليل على الاعتراف بفضل ذي الفضل؛ لأن الإمام صاحب حق، وعندما تأخر تأخر لعذر، فإذا حضر لا يصلي وراء غيره بل يرجع إلى مكانه؛ لأن الشريعة تبقي له الحق، وتعترف بفضله حينما صار إماماً راتباً في غالب أحوال الناس في ائتمامهم به. الشاهد من هذا: ما عندنا مسألة نستثني فيها تقدم تكبير المأموم على الإمام إلا هذه المسألة، ومسألتنا ليست منها. يبقى السؤال: ما حكم صلاة المأمومين؟ صلاة المأمومين عند فقهاء الحنابلة وطائفة من أهل العلم باطلة، لأنهم نووا وأحرموا ودخلوا بصلاتهم قبل أن يكبر الإمام بهم، وبناءً على ذلك سبقت تكبيرة الإحرام من المأمومين تكبيرة الإمام، فإذا نظرت إلى كونهم ائتموا به في هذه الصلاة وهم معتقدون أنه إمام فإن هذه النية باطلة؛ لأنها ليست مترتبة على الصلاة الحقيقية التي هم نووها، ولذلك يحكم ببطلان صلاتهم لوجود المفارقة بينهم وبين الإمام، ولا يحرم الإمام عنهم في مثل هذه الصلاة؛ لأنه أحرم بصلاة جديدة عقب إحرامهم، فيحكم بإعادتهم لهذه الصلاة على هذا الوجه، وعليه فالأحوط لهم أن يعيدوا هذه الصلاة، والله تعالى أعلم. مداخلة: الإمام صلاته باطلة أو صحيحة؟ الجواب: بالنسبة للإمام تعتبر صلاته صحيحة، وأما بالنسبة للمأمومين فالأفضل لهم والأكمل والأحوط أن يعيدون هذه الصلاة.

حكم تداخل الطواف بالبيت دون الفصل بركعتي الطواف

حكم تداخل الطواف بالبيت دون الفصل بركعتي الطواف Q هل يجوز وصل الطواف سبعة أشواط بسبعة أخرى من غير فصل بركعتي الطواف؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فللعلماء في هذه المسألة وجهان: من أهل العلم من يرى أن كل أسبوعٍ ينبغي أن يصلي بعده الركعتين ولا يصل أسبوعاً بأسبوع، وبناءً على هذا القول لو وصل أسبوعاً بأسبوع فصلى فإنه يكون في حكم من طاف مرة واحدة، أي: أسبوعاً واحداً، ولا يقولون بالانفصال، وإنما يحكمون بالتداخل. وقال بعض العلماء كما هو قول طائفة من السلف: يجوز، ويؤثر عن إبراهيم النخعي رحمه الله من أئمة التابعين أنه رخص أن يطوف ثلاثة أسابيع سبعاًً سبعاً سبعاً وأسبوعين ثم يصلي بعد ذلك ركعتين ركعتين لكل أسبوع، فيرى بأنه يمكن أن يؤخر الصلوات وأن يبدأ بالطواف. من صور هذه المسألة: قد يكون الإنسان في بعض الأحيان محتاجاً إلى ذلك كما لو طاف بعد صلاة الفجر، فالوقت فيه خلاف هل يصلي ركعتي الطواف أو لا يصلي؟ فإذا قيل بالحديث: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة من ليل أو نهار) إذا قيل به أنه أصل وأنه يصلي في كل وقت، حينئذٍ يكون الأمر فيه سعة، لكن إذا نظر إلى أنه يقوله: (لا تمنعوا أحداً طاف) المراد به عدم التعرض للطائف، وأما بالنسبة للصلاة نفسها فإنه قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بعد صلاة الصبح) فهذان حديثان متعارضان أحدهما قُصد منه رفع يد المكلفين عن منع الطائف وعن التعرض لمن يصلي ومن دخل في هذا المسجد؛ لأن بني عبد مناف كانوا هم المسئولون عن سدانة البيت، ولذلك نهوا عن التعرض، فأمروا أن لا يتعرضوا لمن طاف بالبيت، فيكون المقصود من الحديث: عدم التعرض فيكون أعم من موضع النزاع. فتقول: الأصل عندي أنه لا صلاة بعد صلاة الصبح، وأعتبر هذا الحديث عاماً دخله التخصيص بدليل أنه لو دخل والصلاة مقامة هل يصلي ركعتي الطواف؟ لا يصلي ركعتي الطواف، فإذاً معنى ذلك أن عمومه دخله التخصيص وخصصته بدليل وحدث؛ لأنك ترى أن هذا نص في الأمر الذي جاء من أجله وهو الصلاة المفروضة، ويقول لك القائل الذي يستثني: إن هذا نص في الوقت أنه لا يصلي، فإذا قيل: إنه لا يصلي ركعتي الطواف بعد الفجر كما كان فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الخليفة الراشد، كان إذا طاف بعد صلاة الصبح لم يصل الركعتين حتى تطلع الشمس، ومأثور أيضاً عن بعض أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أنهن كن إذا طفن بالبيت خاصة طواف الوداع، يؤخرن ركعتي الطواف حتى تطلع الشمس. فإذا احتاج الإنسان إلى تأخير ركعتي الطواف كأن يطوف أسبوعاً ثم أسبوعاً ثم أسبوعاً بعد صلاة الصبح ويريد أن يستكثر من الخير، ثم يجمع هذه الأسابيع بركعتي الطواف من كل أسبوع بعد الفراغ منها، فهذا نوع من الاحتياج، لكن من حيث الترجيح بين القولين، والذي تطمئن إليه النفس الاقتصار على السنة والوارد ما أمكن، وهو أنه لا يجمع بين أسبوعين فيصلي ركعتين من كل أسبوع، بل عليه أن يفصل وخاصة في الطوافات الواجبة واللازمة، وإذا ثبت هذا فعلى الإنسان أن يحتاط، لكن لو احتاج إلى ذلك وفعله من باب الزيادة في الخير أو الحرص على الطواف بالبيت فله وجه إذا ترجح عنده قول من يقول بجواز التداخل، والله تعالى أعلم.

إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة الكبير

إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة الكبير Q وردت أحاديث تدل على احترام الرجل المسلم كبير السن، والسؤال: متى نستثني هذا الأصل، ويشكل عليَّ قضية وجود كبار السن في المجالس، فهل أبدأ بالسلام أو سقي الشراب ونحوه من الجهة اليمنى أو بكبار السن، بارك الله فيكم؟ A تقدير الكبير واحترامه وإجلاله سنة من سنن المرسلين، ومن هدي الأخيار والصالحين، لا يعرف الفضل إلا أهله، ولا يحسن إلى كبار السن إلا من قذف الله الرحمة في قلوبهم، فكبير السن محتاج إلى من يرحمه ويكرمه ويجله، والشريعة تأمر بأشياء لأسباب ومقتضيات، فمما يعينك على ذلك أو يكشف لك جلية الأمر أنك إذا نظرت إلى كبير السن وقد وهن عظمه وخارت قواه وتولى أصحابه، كان بالأمس يخرج إلى أصحابه وأحبابه فإذا به اليوم يخرج إما لعيادة مريض منهم أو تشييع ميتهم أو يخرج لعلاج؛ لأنه قطعت به الدنيا فأصبح أحوج ما يكون إلى كلمة طيبة وإلى تقدير وإجلال، وإلى من يشعره أن له مكاناً بين المسلمين، ومن هنا قال رسول الرحمة صلوات الله وسلامه عليه الذي بعثه الله رحمة للعالمين وقال: (أنا رحمة مهداة) يقول عليه الصلاة والسلام: (إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة الكبير). فإذا تفكرت في هذه المشاعر، وتفكرت لو كنت مكانه فإذا بأصحابك كلهم قد ولوا وانقضوا أو أصبح كل واحد منهم طريح الفراش: اثنان لو بكت الدماء عليهما عيناك حتى يؤذنا بذهابِ لم يبلغ المعشار من حقيهما فقد الشباب وفرقة الأحبابِ فإذا أحببت أقواماً وإخواناً لك في الله، أو أقرباء أعزة عليك، فأصبحت لا ترى منهم أحداً، أو لا تسمع لهم خبراً، فإن القلب يتفطر من هذه الأشجان والأحزان، فيحتاج كبير السن إلى من يقدر له هذه العواطف، فهو في داخل نفسه يعيش كثيراً من الآلام، ولا شك أن الله يرفع بها درجته، ويعظم بها أجره، ويجبر بها كسره؛ لأن في الله سلوة عن كل شيء، ولذلك جعلت الشريعة كبير السن له الحق حتى في الإمامة في الصلاة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لـ مالك بن حويرث ومن معه: (إذا حضرت الصلاة فأذنا وليؤمكما أكبركما) رحم صلوات الله وسلامه عليه الصغير والكبير، ومن رحمته بالكبير أنه قال: (ليس منا من لم يوقر كبيرنا) وطبق ذلك فلما أتاه أبو قحافة رضي الله عنه والد أبي بكر يوم الفتح وقد أصبح أبيض شعر الرأس نظر إليه عليه الصلاة والسلام وقال: (أثقلتم على الشيخ هلا تركتموه حتى نأتيه في منزله) صلوات ربي وسلامه عليه، وكأنه يشعر الأمة ويشعر الناس أنه إن جاءني أبو قحافة أمام الناس فله حق لكبره، وله حق لسنه. فالكبير يقدر ويكرم ولا يهان، ويعز ولا يذل، ويرفع ولا يوضع، إذا جاء في المجالس فليكن له أطيب المجالس وأكرمها وأرفعها؛ لأن (من إجلال الله إجلال ذي الشيبة الكبير) وإذا تكلم ننصت إليه ونستمع، وإذا أشار برأي أخذنا برأيه، فهم أهل التجربة والمعرفة، ويقولون: إن كبار السن أعقل الناس؛ لأنهم مرت عليهم التجارب، والشباب فيه طيش واستعجال وتهور، ولا يمكن أن يكبح جماح هذا التهور إلا حكمة الكبار والمشايخ العقلاء؛ لأن هذا الكبير لما مرت عليه ويلات الدهر جعلته يحتاط في الأمور ولا يستعجل بها، فإذا اصطدمت مع الوالد أو مع العم أو مع كبير السن في قضية فوجدته يتشدد أو يضيق فيها فاعلم أن ذلك ليس من فراغ، وإنما من طول تجربة. فمن إجلال الكبير توقيره في المجلس، فيعطى أفضل المجالس، وإياك أن يراك الله في مجلس أرفع من كبير السن إلا إذا كان مجلس علم يؤمر برفعك؛ لأن عمر بن الخطاب كان يرفع مجلس ابن عباس رضي الله عنهما لمكان العلم، وهذا أمر مستثنى، أما أن تجلس وكبير السن دونك في المجلس فيأبى الله ويأبى رسوله عليه الصلاة والسلام، بل ينبغي علينا أن نكبرهم ونكرمهم، وإذا دخلت في حفلة أو في مكان أو في ضيافة سواءً كانت لك أو لقريبك ووجدت كبير السن في مجلس فخذ بيده وأجلسه في المكان الذي يليق به. ومن سنن المرسلين أن يوقر الكبار في مجالسهم، وأن تكون صدور المجالس لكبار السن، وأن يكون الحديث أول ما يكون لكبار السن، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حدثت قضية قتل عبد الله بن سهل في خيبر فجاء محيصة يتكلم وكان أصغر القوم فغضب عليه الصلاة والسلام وقال: (كبر كبر) يعني: اترك أخاك الذي هو أكبر منك يتكلم أولاً. حتى في الصلاة والوقوف بين يدي الله عز وجل قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سناً، فإن كانوا في السن سواء فأقدمهم سلماً). فالسن له حق وقدر، والشريعة جاءت بإعطاء أهل الحقوق حقوقهم، ولا يعرف الفضل إلا أهله، ونشتكي إلى الله عز وجل حينما يدخل الإنسان إلى المناسبات والمجالس فيجد كبار السن في أطراف المجالس، وتجد كبير السن يحضر المناسبات فقل أن يجد من يقدر خطواته التي يمشيها من بيته، لو كنا نعيش أشجان كبار السن وأحزانهم، كان بمجرد ما تراه يأتيك في مناسبة تقبل رأسه وتجله وتكرمه؛ لأنك تحسب أن الخطوة منه بآلاف الخطوات من غيره، وأن مجيئه إليك في شفاعة أو في حاجة أنه شيء كبير عندك، فلنتق الله عز وجل ونقدر كبار السن، ولنعلم الناس توقير الكبير وإجلاله، إننا إن فعلنا ذلك كان أتقى لربنا وأهدى في اتباع سنة نبينا. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكرمنا بمحاسن الأخلاق، وأن يصرف عنا شرها وسيئها لا يصرف عنا شرها وسيئها إلا هو.

طالب العلم وأهمية معرفة الأصول والمستثنيات

طالب العلم وأهمية معرفة الأصول والمستثنيات Q متى نقول عن مسألة في الحديث إنها تعتبر أصلاً ونستثني بعض الصور كالمزرعتين اللتين لهما بئر واحدة، ومتى نبقى على الأصل فنمنع القياس والاجتهاد؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: أما ما سألت عنه أخي في الله! من قضية الأصل، هذه المسألة تعتبر من أهم المسائل لطالب العلم، والعالم وطالب العلم الذي يعرف الأصول ويعرف القواعد العامة والمستثنيات يمكنه أن يفهم الشريعة، فلا يمكننا أن نفهم حكم الله عز وجل إلا إذا عرفنا ما هو الأصل وما هو المستثنى من الأصل، فلا نجعل الأصل فرعاً، ولا نجعل الفرع أصلاً، بل نعطي كل شيء حقه وقدره كما قال تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3]. فهناك أشياء تسمى الأصول، وخذها قاعدة: أن أي شيء في العبادة أو في المعاملة إذا كان أصلاً فابق عليه ولا تخرج عنه إلا بدليل، من عرف هذا سلم من الإشكال في ذهنه وفكره، وسلم من الخطأ في تصرفه، فأنت مثلاً في العبادة تقول: الأصل في العبادة التوقيف، فلا أتعبد ولا أتقرب لله عز وجل إلا بدليل، ومعنى توقيفي: أي هذا شيء موقوف على النص من الكتاب والسنة، لو جاء شخص وقال: إذا صليت المغرب فقم في الركعة الثانية قل في التشهد ادعُ بالعلم ويفتح الله عز وجل عليك العلم، ويقول لك: سؤال العلم مشروع، والدعاء في الصلاة مشروع، تقول له: يا أخي! الأصل أنه لا يجوز أن يحدث الإنسان أمراً وتشريعاً للناس يحصرهم فيه في وقتٍ معين أو زمان معين لذكر معين ودعاء معين إلا بدليل؛ لأن طلب العلم وسؤال الله العلم إعانة، وما قال الله عز وجل ولا قال رسوله عليه الصلاة والسلام أننا ندعوه ونسأل العلم في السجود -مثلاً- أو نسأل العلم في حال التشهد، فهذه كلها ضوابط وثوابت ينبغي أن يقف عندها المسلم: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:169] فمن عرف الأصل لا يمكنه أن يقول على الله ما لا يعلم، بل يقول ما علمه ربه أن يقول، فيلتزم الأصل ولا يخرج عنه. فنحن إذا علمنا أن الأصل في هذه العبادة توقيفي نقف، ومن هنا يختلف العلماء، فإذا جئت مثلاً لبعض المسائل تجد بعض العلماء يقول: أغلب هذا الأصل، وبعضهم يقول: أنا أفهم من هذا النص أنه أصل. فمثلاً: الذكر بين السجدتين، نجد العلماء رحمهم الله يقولون: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رب اغفر لي! رب اغفر لي!) وثبت عنه صلى الله عليه وسلم بين السجدتين أنه قال: (اللهم اهدني وارحمني وعافني وارفعني واجبرني) إلى آخر الدعاء المأثور، هذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والجمهور يقولون: ما بين السجدتين موضع للدعاء، لكن يشرع للإنسان أن يدعو، والأفضل والأكمل أن يدعو بالوارد. فإذا قال قائل: لا يجوز الدعاء في هذا الموضع! ونبه على ذلك شراح الحديث، فقالوا: هذا الدعاء أصل في أن هذا الموضع للدعاء، إذاًَ لو جئت تقول: لا يجوز أن يقول إلا: (رب اغفر لي رب اغفر لي) ويقول: (اللهم اهدني وارحمني) كما ورد، ولا يجوز في السجود أن يدعو إلا بما ورد، ولا يجوز أن يدعو بعد التشهد إلا بما ورد، نقول: إنه ليس بملزم بدعاء معين كما يقول الجمهور، وفرق بين (ملزم) وبين (الأفضل)، فيقال: ليس بملزم بهذا الدعاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم به الصحابة، بدليل أنه لما جاءت هذه السنة جاءت من صحابي واحد سمعه يقول: (رب اغفر لي) بين السجدتين إذاً لو كان لا يجوز لأحد أن يدعو بغير هذا الدعاء لقال: أيها الناس! إذا كنتم بين السجدتين فقولوا: كذا وكذا ولا تزيدوا، فلما صار الموضع موضع دعاء دعا فيه النبي صلى الله عليه وسلم صار أصلاً، ومسلك الجمهور في ذلك أنهم يقولون: نعتبره أصلاً في مشروعية الدعاء. هناك بعض العلماء كأصحاب الحديث رحمهم الله وبعض المتأخرين يرى أنه يتقيد بالوارد ويستند إلى الأصل، والصلاة -في الحقيقة- من حيث الأصل العام أذكارها توقيفية، لكن هناك أصل عام وأصل طارئ، فورود الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء يعتبره العلماء رحمهم الله أصلاً طارئاً، فمسألة الأصل مهمة في فهم كلام العلماء وعباراتهم. وبالمناسبة: لا أعرف أحداً من أهل العلم يقول: إن قول: (رب اغفر لي ولوالدي) بين السجدتين بدعة، لأني سمعت بعض طلاب العلم يقول: لا يجوز أن تقول بين السجدتين (رب اغفر لي ولوالدي) سبحان الله العظيم! إن كان النبي صلى الله عليه وسلم امتنع لسبب أتمتنع الأمة التي أمرت أن يترحم الإنسان على والديه وأن يدعو لهما؛ لأن هذا صار بدعة؟! وبالمناسبة لا ينبغي لأحد أن يقبل قولاً مني أو من متأخر ما لم يعلم كلام العلماء والسلف، أئمة السلف كتبهم موجودة وكلامهم موجود في شرح الأحاديث ودلالاتها، الأصول عندهم واضحة، والثوابت واضحة، فليس تقرير الأصل منا نحن المتأخرين، تقرير الأصول في كلام المتقدمين ومن ضوابطهم، وليس هذا تعصباً بل إحقاقاً للحق، لأنهم أهل العلم الذين ينبغي أن يرجع إليهم، وأهل العلم الذين ينبغي أن يقتدى بهم، وينبغي أن يُعلم العلم عن طريقهم، فنحن لنا سلفنا كم الأئمة ولا نعرف أحداً منهم يقول: إن هذا بدعة، نعم لو قال: رب اغفر لي بين السجدتين (ثلاثاً) فهذا بدعة، هذا هو الذي كان بعض العلماء المتأخرين رحمة الله عليهم يشدد فيه، أن تخصيص الثلاث لا أصل له، وأنه أقرب إلى البدعة من السنة، أما نفس الدعاء للوالدين والترحم على الوالدين فليس ببدعة. ولذلك فإن طالب العلم الذي لا يفرق بين الأصول وبين المعاني المستنبطة من الأصول يقع في كثير من الأخطاء، فلابد أن نعلم أن الأصول يجب الوقوف عندها وعدم التقدم والتأخر عنها. ومن أمثلة مسألة الأصل في العبادات: إذا رفع رأسه من الركوع، هل الأصل فيه الإرسال أو القبض؟ إذا نظرت إلى الأصل العام أنه لا يجوز أن يحرك العبد يده قابضاً ولا أن يضع يده على وضع معين إلا بدليل، فهذا أصل عام يقتضي الوقوف على الإرسال حتى يدل الدليل على القبض كما دل صراحة عليه قبل الركوع، إذا قلت: يقبض يديه، نقول: الأصل الخاص في الصلاة أنه لما كبر ودخل في الصلاة وقرأ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه وضعها على صدره قبل الركوع، فقالوا: نستصحب ما قبل الركوع إلى ما بعد الركوع. فهل قوله: (حتى رجع كل فقار إلى موضعه) يدل على أن المراد به القيام الخاص الذي قبل الركوع؟ هذا وجه؛ لأنه يرى أن الأصل في القيام القبض، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام وضع اليمنى على اليسرى، فلما رفع رأسه من الركوع قال الراوي: اعتدل قائماً، هل اعتدل قائماً كاعتداله الأول؟ لأن اعتداله قائماً راجع إلى اعتدال معروف مألوف، فقالوا: يقبض. والذين قالوا: (اعتدل قائماً) قالوا: نتمسك بالأصل أن الاعتدال في ذاته يستلزم أن يرسل يديه لا أن يقبضهما، فالذي يقبض لا حرج عليه، والذي يرسل لا حرج عليه، فعندما تعرف الأصل، وتعرف أنه حتى الأصل الذي تستدل به له أصل آخر يعارضه وله وجهه يستطيع الإنسان أن يفهم قوله وأن يفهم قول من خالفه. ولذلك وجدنا الأئمة والسلف رحمة الله عليهم يتناظرون ويختلفون وتؤلف الكتب، والله يا إخوان! إن من الواجب علينا أن نقرأ كتب العلماء المتقدمين ليس للعلم فقط بل لأدب العلم، تجد الرجل متمسكاً بقول يعتقد أن الدليل قد دل عليه، وأن من يتبعه من الأئمة قد سار على حق وهدى فيقول: لا يجوز كذا وكذا لقوله تعالى كذا وكذا ووجه الدلالة كذا وقال الشافعي رحمه الله: يجوز، لا يقول: وخالف هذه السنة الشافعي، ولا يقيم الدنيا على الإمام الشافعي أو الإمام أبي حنيفة أو الإمام أحمد أو الإمام مالك أبداً، كانوا يعرفون قدرهم؛ لأن العالم يعرف قدر العالم، ومن عرف العلم يعرف أهله، ولا يعرف الفضل إلا أهله، ومن عرف مسالك العلماء عذر من خالفه، وعرف كيف أن من خالفه له حجة. وثق ثقة تامة أنك لن تجد عالماً يشنع على عالم عن ورود نص لقول ثانٍ يستدل به من خالفه إلا وجدته يقع في نفس الأسلوب، ومن أمثلة ذلك مسألتنا: مسألة الاستثناء من الأصول، فتجد الشخص يتمسك بعموم ويشنع على من استثنى من العموم، ثم يأتي يرجح في مسألة ثانية ويستثني من هذا الأصل وتأتي لتفرق الاستثناءين فلا تجد فرقاً، كما قال الإمام الشافعي: أبى الله أن يتم إلا كتابه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]. فالبشر بشر، فلا يستطيع الإنسان أن يعرف العلم إلا إذا عرف الأصل، ومن فائدة معرفة الأصل: أنك إذا تمسكت بالأصل في مسألة ما، وجاءك شخص يريد أن يناظرك أو يناقشك ويعترض عليك تقول له: ما هو الأصل بيني وبينك، هل الأصل جواز هذا الأمر أو تحريمه؟ فإذا قال: الأصل جوازه، تقول: أعطني دليلاً على حرمته، فنحن متفقون أو كل منا متفق مع الآخر على الحل فأعطني الدليل على التحريم، وقس على هذا سواءً في العبادات أو المعاملات، لابد من معرفة الأصول، يبقى السؤال: كيف نعرف الأصول؟ هناك شيء يسمى: باب، وهناك شيء يسمى: مسألة، فهناك أصول للأبواب، وهناك أصول للمسائل، فأصول الأبواب مثلاً تقول: البيع باب من أبواب المعاملات، النكاح باب من أبواب المعاملات، نفس البيع ينقسم إلى مسائل، وقد تجعل المسألة في البيع بمثابة الباب، يعني: تجعلها أصلاً في البيع، لكن من حيث الأصل العام الباب الذي هو باب البيع تنظر إليه هل الشريعة أقرت هذا الباب على جهة العموم أو على جهة الخصوص؟ إذا أقرته على جهة العموم فهو أصل، وإذا أقرته على جهة الخصوص فهو مستثنى، فالبيع قال الله عز وجل فيه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] فأين العموم وأين الخصوص؟ نقول: العموم البيع والخصوص الربا، فالأصل حل البيع حتى يدل الدليل على تحريمه، ثم باب الربا نفسه باب خاص،

توضيح قول المصنف (وإن قال المشتري: بعني أو صالحني)

توضيح قول المصنف (وإن قال المشتري: بعني أو صالحني) Q نرجو منكم توضيح قول المصنف: [وإن قال للمشتري: يعني أو صالحني]؟ A هناك عبارات في المتن لا نشرحها ولا نتوسع في شرحها؛ لأنها تقدمت معنا، فنحن قلنا: إذا قال: بعني أو صالحني، أنا ما نسيت العبارة ولا تركتها، لكن طالب العلم ينبغي أن يكون على درجة من الفهم والذكاء والضبط، ونحن دائماً نقول: الضابط في هذه المسألة أن يأتي بشيء يدل ضمناً على الرضا، فإذا قال له: صالحني. فمعناه أنك ما تصالح شخصاً إلا وله حق، فلا يمكن أن تصالحه وهو لا حق له عندك، فإذا جاء وقال له: صالحني، معناه أنه اعترف أنه يملك هذا النصيب، فسواء قال له: بعني أو قال له: صالحني. ومعنى (صالحني) ما أعطيك القيمة كاملة، فالصلح يقتضي أن يتفاوضا على ما دون القيمة، فمثلاً: هو اشترى بمائة ألف يقول له: ما رأيك لو اصطلحنا على تسعين ألفاً، أو على ثمانين ألفاً؟ فهذا خلاف الأصل، وهذه فائدة قولنا: إن الشفعة ثبتت على خلاف الأصل، لماذا قال العلماء: إن الشفعة خارجة عن القياس؟ لأجل إذا جاءوا يدخلون مسائل غريبة نقول: إنها خلاف الشفعة الشرعية فتبطل، ومن المناقضات أن تجد الشخص يقول لك: الشفعة أصل، ثم إذا جاء إلى هذه المسألة يقول: لا يجوز وإذا قال: بعني أو صالحني سقطت الشفعة. لماذا أسقطتها ما دام أنها هي أصل؟ لا تسقط إلا إذا قلت إنها مستثناة من الأصل، فلا تصح إلا بالصورة الواردة، والصورة الواردة أن يدفع تمام القيمة وأن يقول: أنا شافع ولا يقول: أنا مصالح ولا يقول: أنا مشترٍ، فإن قال: صالحني أو قال: بعني فقد اعترف ضمناً بسقوط حقه بالشفعة، وعلى هذا فإن هذه العبارة في المصالحة أو البيع أو قوله: أعطني إياها هبة أو تصدق عليَّ، كل هذه تدل على سقوط الشفعة، فالأمر لا يختص بالبيع أو المصالحة، ونحن دائماً نقول في المتون: ينبغي أن يعلم أن العلماء رحمهم الله إذا ذكروا القواعد ذكروا الأمثلة كضوابط يمكن لطالب العلم أن يلحق بها غيرها، وأن يعرف أصلها الذي بنيت عليه أو تفرعت منه، والله تعالى أعلم.

باب الشفعة [3]

شرح زاد المستقنع - باب الشفعة [3] الشفعة لا تكون إلا بين الشركاء، فيجوز أن يكون الشافع واحداً من الشركاء أو كلهم، فتنقسم الشفعة على قدر الأنصبة في الأصل. ومن أحكام الشفعة أنها تثبت في العقار، وإن كان مع منقول فيفصل، ولو تلف جزء من العقار قبل الشفعة ألزم الشافع بدفع قيمة الباقي دون التالف.

وصايا لطلاب العلم

وصايا لطلاب العلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا ولكم في هذه الأوقات، وأن يجعلها عوناً على طاعته ومحبته ومرضاته، فإن الله إذا أحب عبده بارك له في عمره، ويسر له الخير في أوقاته، فإن العمر يمضي إما للإنسان وإما على الإنسان كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وإن خير ما يبارك بسببه في الأعمار والأوقات طاعة الله جل جلاله، وهي التي تؤذن بالبركة في العمر، والبركة في الفراغ وأوقات العطل، فمن ضحى لوجه الله عز وجل واغتنم أيام فراغه وعطلته فيما ينفعه في دينه أو دُنياه أو آخرته فإن الله يحبه، ويجعل ذلك العمل منه وسيلةً صالحة فيما بينه وبين الله عز وجل، وإن خير الطاعات الموصلة إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى طلب العلم والحرص على التزود من العلم النافع، والموروث من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا هو الذي يحيي الله به قلوب العباد، ويصلح به حال العبد في الدنيا والمعاد، يرفع به درجته ويُعْظِم به أجره، ويكفر به خطيئته، فالحمد لله على فضله، والشكر له على توفيقه وإحسانه وبره، فكم من محروم من العلم حال بينه وبين العلم ما حال من العوائق! ولكن الله لا ييسر العلم ولا يسهله إلا لمن أحب، ومن تيسير العلم تيسير مجالسه وسهولة ذلك من الله جل جلاله، حينما يبعد عن الإنسان الشواغل والمشاغل، فلنحمد الله جميعاً على توفيقه ونشكره على فضله ومنه.

الإخلاص في عمارة الأوقات بطاعة الله عز وجل

الإخلاص في عمارة الأوقات بطاعة الله عز وجل وإن مما ينبغي أن نتواصى به جميعُنا: التواصي بالإخلاص في عمارة الأوقات في طاعة الله عز وجل، فالإنسان إذا بارك الله له في عمره، فقضاه في طلب العلم أو في طاعة أو في قربة أو في صلة رحم أو في بر والد أو والدة أو غير ذلك من الطاعات لا ينقصه إلا أن يسأل الله الإخلاص، فيوطن طالب العلم نفسه دائماً على الإخلاص، وقد قال بعض العلماء: لو أن العالم يوصي طلابه في كل مجلس بل في كل ساعة بالإخلاص لوجه الله ما كان ذلك كثيراً على حق الله سبحانه. الإخلاص هو الخير كله، وجماع الخير كله في الإخلاص لله جل جلاله أن يقصد الإنسان وجه الله، وأن يخرج إلى حلق العلم يبتغي ما عند الله، وأن يجلس في حلق العلم يبتغي مرضاة الله سبحانه وتعالى، فعندها إذا أخلص لله قلبه أصلح الله له ظاهره، وفتح له أبواب رحمته، حتى ولو جلس في مجلس العلم ولم يفهم ما يقال فإن الله ينفعه بهذا المجلس، فقد تُغْفَر ذنوبُه، وتُسْتَر عيوبُه، وتُفرج كروبُه.

العلم كله خير وبركة

العلم كله خير وبركة العلم كله خير وبركة، فمن الناس من يعطيه الله العلم كاملاً، فيأخذه بضبطه وإتقانه والإخلاص لوجه الله فيه، ويحفظ كل مسألة، ويضبط كل ما يقال، ثم ينفعه الله عز وجل بالعمل وبالتعليم. ومن الناس من هو دون ذلك، فليس هناك أعظم بركة من هذا العلم؛ لأنه مأخوذ من القرآن والله يقول: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص:29] وإذا بارك الله في الأصل بارك في فروعه، والفرع تابع لأصله، فإذا أراد الإنسان أن يبارك الله له في علمه أتقنه على أتم الوجوه، فإذا جلس في مجلس العلم ولم يتقن المسائل كلها فليحمد الله جل جلاله أن الله بارك له في عمره فمرت عليه الساعة في ذكر الله عز وجل، وليحمد الله جل جلاله من كل قلبه أن الله آواه؛ وأن الله سبحانه وتعالى جعله يأوي إلى مجالس العلم، وإلى رياض الذكر، فهذه نعمة وكفى بها نعمة! (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) فقد يُحْرَم الإنسان مجالس العلم إذا لم يشعر بقدرها، فأنت مستفيد في مجلس العلم مهما كان حالك ما كنت متقياً لله مخلصاً لوجه الله عز وجل.

ترك السآمة والملل من كثرة المسائل

ترك السآمة والملل من كثرة المسائل الأمر الثالث: ربما أن الإنسان تصعب عليه المسائل ويريد ضبطها فتكثر عليه، فيجد نوعاً من السآمة والملل لكثرة المسائل، فلا ينبغي للإنسان أن يسأم، ولا ينبغي لطالب العلم الحق أن يمل: (منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا) وشتان ما بينهما! أحدهما: يخوض في غمار رحمة الله عز وجل، والآخر يخوض في الملهيات والمهلكات حتى تهلكه والعياذ بالله، فلا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك، فكما ترى -ولله المثل الأعلى- التاجر وهو في تجارته يسهر ليله، ويتعب جسمه، ويذل نفسه في بعض الأحيان، فلا يستكثر أن يقف موقفاً يتوسل ويرجو فيه الخادم والعامل عنده من أجل أن يربح الألف والألفين، ولربما قال العامل: إني أريد أن أخرج، فيقول: أرجوك أن تبقى معي نصف ساعة أو ساعة، يذل نفسه من أجل الدنيا، وأنت والله أشرف وأعظم وأكمل عند الله سبحانه وتعالى متى ما صبرت ولم تمل، فإن الله يمتحن كل من جلس في مجالس العلم بالشواغل ويمتحنه بالثناء والمدح والسمعة والرياء والسآمة والملل، فلا يمل الإنسان، ومن يمل كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؟! إنا أمة أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بما سواه أذلنا الله، فلا عز لنا إلا بهذا العلم. والله إن هذه الكلمات والمسائل ربما تراها أنها يسيرة، ولكن ضبطها وإتقانها رفعة للعبد في الدنيا والآخرة، ويخلف الله لك بهذا العلم الهيبة والمحبة والإكرام والإجلال في صدور الناس متى ما اتقيت الله عز وجل، ولتعلم أن كل مسألة تتعلمها وتضبطها وتعطيها حقها من الإتقان لوجه الله وفي الله وابتغاء ما عند الله ما هي إلا درجات لك عند الله سبحانه وتعالى، فلتستقل أو تستكثر. فينبغي علينا دائماً التواصي بحقوق هذا العلم، خاصة إذا أصبحت المجالس بالساعة والساعتين والثلاث، وكان العلماء رحمهم الله يجلسون من بعد صلاة الفجر إلى صلاة الظهر وهم في مذاكرة العلم ومدارسته ومناقشة المسائل. وإذا كنا نأخذ الفصل في مجلس أو مجلسين، فهم يأخذون السطر والسطرين ما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، وهذا ليس لأنهم في ضبطهم وإتقانهم فيهم ضعف لا والله، هم القوم أهل العلم والمعرفة والإتقان، وزمانهم قليل الفتن والمحن، لكنهم يريدون ضبط كل مسألة، فتُقرأ الكلمة، وتشرح لغة واصطلاحاً، ويبين حكمها ودليلها، ثم يُبين الخلاف فيها، ثم القول الراجح من بعد هذا كله، وكل ذلك يعرض على طلاب العلم، وكان الشيخ يجلس إلى العشرة إلى الخمسة عشر، وبعد أن يحفظ طلاب العلم المسألة يسأل هذا ثم هذا حتى يتم المسألة عليهم كلهم، فيمضي الوقت كله في مذاكرة هذين السطرين، وهذا كله من باب الإتقان والحرص، فهم يتدارسون السطرين في ثلاثة أو أربع أو خمس ساعات كلما جاءت ساعة يزداد شوقهم للعلم أكثر، وتزداد محبتهم وإجلالهم للعلم أكثر، لكن إذا كثرت الغفلة وتأخر الزمان صار العلم أصعب، وصار الصبر في مجلس العلم أصعب، فلذلك يحتاج طالب العلم دائماً أن يوصى بأن يصبر، وإذا زادت الشواغل للإنسان وصعب عليه التفرغ للعلم، وصعب عليه ضبط العلم فإن درجته عند الله أكبر، وثوابه عند الله أكثر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حال هذا الزمان وأمثاله: (للعامل فيهن -أي: في مثل هذه الأيام الكثيرة الفتن والمحن والشواغل- مثل أجر خمسين، قالوا: يا رسول الله! منا أو منهم؟ قال: بل منكم، إنكم تجدون على الحق أعواناً، وهم لا يجدون على الحق أعواناً). كان السلف يجدون العون من النفس الصالحة المؤمنة اللوامة التي تلوم الإنسان على كل ثانية وعلى كل لحظة، وكانوا يجدون على الحق أعواناً من قرنائهم، وكانوا يجدون على الحق أعواناً حتى من أبنائهم وذرياتهم وأزواجهم، ولكن اليوم لو أراد الإنسان أن يتفرغ لأيام يطلب فيها العلم شغل بأهله وشغل بولده، وشغل بمشاغل تحيط به من كل حدب وصوب.

أن يشعر طالب العلم أن العلم قريب إلى قلبه

أن يشعر طالب العلم أن العلم قريب إلى قلبه النقطة الأخيرة التي أحب أن أنبه عليها: ينبغي على طالب العلم أن يشعر أن هذا العلم قريب إلى قلبه، حتى ولو كانت المسألة غريبة فهي لا تبتعد عن العلم، يعني: من الأمور التي يحرم بها طالب العلم ضبط العلم، أن يحس أن المسألة غريبة وعجيبة وأنها بعيدة عن حاله وأنها فلا يزال يبتعد عنها فتبتعد عنه، وحينئذٍ يحرم درجتها وأجرها، فيجب على طالب العلم -خاصة المتفرغ لطلبه- أن يجعله شيئاً عظيماً فرض عليه أن يتقنه، وكم من مسائل تعلمناها ما كنا والله نظن أننا نسأل عنها فضلاً عن أن نبتلى بها، فإذا بنا في يوم من الأيام تقع لنا هذه المسألة ونحتاج إلى جوابها لأنفسنا، وإذا بنا نبتلى بالسؤال عنها أمام الناس وأمام الأمة فنفع الله بها ما شاء. لا تبتعد عن العلم، فالعلم هو بذاته بعيد عنك؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل الجنة محفوفة بالمكاره، فكيف إذا ابتعد الإنسان عنه؟ ولو حاول الإنسان أن يقترب منه تباعد العلم عنه حتى يعظم أجره، ولذلك إذا أردت أن تحفظ سورة من القرآن ربما تجلس الشهور وأنت تريد إتقانها وضبطها حتى تصل إلى ما تريد، يمتحن الله بذلك صبرك وحبك، فإذا وفقت لأكمل الدرجات وأفضلها أعطاك الله حفظها على أتم الوجه وأكمله. الشاهد من هذا: ألا نشعر أن مسائل هذا العلم بعيدة عنا، والله إن الأمة بخير ما اعتزت بهذا الدين، والاعتزاز بالدين أول ما يبدأ بالعلماء وطلاب العلم، لا تقل: هذه مسائل غريبة، ولا تقل: الفقهاء يهتمون بأشياء غريبة أبداً، تدرس المسائل وتتقنها؛ لأنها كلها مبنية على الكتاب والسنة، وعلى أصول صحيحة اقتضاها علماء الشريعة والأمة، فتصحب لهذه المسائل في قلبك المحبة والإجلال والرغبة؛ لأنك إذا رغبت شيئاً أتقنته، وإذا أحببت شيئاً طلبته، والسبب الذي يجعل طالب العلم يسأم ويمل ويعرض عن مجالس العلم أو يسأم من مجالس العلم هو عدم شعوره بعظم هذا العلم. ولما أحس الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم بعظم شأن الوحي -كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم- كانوا يجلسون في العشر الآيات لا يتجاوزوها حتى يتعلموها، ويعلموا حلالها وحرامها ويعملوا بها، فأعطوا العلم والعمل، وبورك لهم فيه، يقفون عند عشر آيات وهم جهابذة الحفظ والفهم، وأهل اللسان والبيان! وكان الرجل منهم يعرف مدلولات الكلام والألفاظ عامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، وظاهره وباطنه، ومفهومه ومنطوقه، كل هذا كان عندهم بين أيديهم كالشيء السهل المنال، ومع ذلك كانوا لا يتجاوزن العشر الآيات، فلما أتقنوا العلم على أتم وجوهه، وصبروا على منازله وأحواله، وصابروا بورك لهم في العلم. فينبغي علينا -وبخاصة طلاب العلم- أن نحب هذا العلم، وأن نعتز بهذا الدين، والله لو كنا في أصعب مسألة من مسائل الحيض والنفاس فهو ديننا، وهي شريعتنا التي بها نعتز وبها نفتخر، وحينما نرى أهل الدنيا وهم يتعلمون الكيمياء والفيزياء ويصبرون ويفتخرون، وتجد الهندسي يفتخر بهندسته، والكهربائي يفتخر بعمله، وكلاً يتباهى ويسمو ويعلو بما عنده من حطام الدنيا، فكيف وأنت تشتري سلعة الله الغالية؟! كيف بمن يطلب العلم؟! كيف بمن يطلب الوحي؟! فينبغي علينا أن نعتز بكل مسألة وبكل حكم وبكل شرع؛ لأنه {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]. فلما كان السلف الصالح رحمهم الله والتابعون لهم بإحسان على هذا النحو من استشعارهم لهذا العلم المبارك، فأعطوه خالص حبهم وصادق ودهم سلو بهذا العلم، فللعلم سلوة والله! تنسي الإنسان لذة النفس والأهل والمال والولد، من أعطي العلم كله بورك له في هذا العلم، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ذلك الرجل، وأن يبارك لنا فيما تعلمناه وعلمناه، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم.

جواز الشفعة لأكثر من شخص

جواز الشفعة لأكثر من شخص يقول المصنف رحمه الله تعالى: [والشفعة لاثنين بقدر حقيهما] هذه المسألة من مسائل الشفعة مفرعة على ما تقدم، فقد بينا أن الله عز وجل شرع الشفعة للشريك، وبينا محل تلك الشفعة، فلا إشكال أنه لو كان معك شريك لم يقاسم وباع نصيبه فأردت أن تشفع كان لك ذلك، لكن Q لو كانت الأرض التي وقعت فيها الشفعة بين ثلاثة أشخاص أنت ومعك شريكان، إذا باع واحد من الشريكين، فحينئذٍ يرد السؤال: هل الشفعة تكون لواحد منكما أو تكون لكليكما؟ وإذا كانت لك ولمن معك وهو الشريك الثاني، فهل تقسم بينكما بالسوية أو تكون على قدر الملك؟ المسألة الأولى: الشفعة تثبت للاثنين معاً وللثلاثة وللأربعة أي: لبقية الشركاء الذين لهم شراكة مع البائع في هذا العقار الذي لم يقسم، إذاً تثبت الشفعة لأكثر من واحد، وهذا قول جمهرة أهل العلم رحمهم الله، والسلف والخلف كلهم على أن الشفعة تثبت لأكثر من واحد، وأنها لا تختص بالاثنين فقط إذا باع أحدهما، بل يمكن أن تكون الشفعة لأكثر من واحد. المسألة الثانية: إذا كانت لأكثر من واحد فهناك صورتان: الصورة الأولى: أن يكون نصيب الشخصين الباقيين بقدر واحد، مثل: لو أن ثلاثة اشتروا أرضاً بثلاثمائة ألف ريال، فباع واحد منهما فمعنى ذلك: أنه قد بيع ثلث الأرض، والاثنان الباقيان كل منهما يملك ثلثاً من الأرض كلها، فإذا كان لكل واحد منهما مثل نصيب الآخر ما فيه إشكال؛ لأنهما سيقتسمان الشفعة، فنقول لكل واحد منهما: لك الحق أن تشفع في النصف، فإذا كانت الأرض بثلاثمائة ألف فباع واحد منا -ونحن ثلاثة- نصيبه بمائتي ألف، هذا النصيب الذي باعه بهذا المبلغ يقال لي ولمن معي: اشفعا في هذا النصيب الذي بيع بالنصف، فيدفع كل واحد منكما مائة ألف، ويأخذ نصف الأرض المباعة الذي هو سدس الأرض كلها، إذاً الشفعة للاثنين المتبقيين بقدر حقيهما. لكن المشكلة لو كانت الأرض التي بيعت لثلاثة شركاء أحدهم يملك الربع، والثاني له الربع، والثالث له النصف، فباع أحد الاثنين الأولين ربع الأرض الذي يملكه، لو فرضنا أن زيداً وعمراً ومحمداً اشتروا أرضاً، وكان محمد له نصف الأرض، وزيد له الربع، وعمرو له الربع، فباع زيد نصيبه الذي هو ربع الأرض فحينئذٍ يرد السؤال: كيف تكون الشفعة؟ هل هي بعدد الرءوس أو بقدر النصيب؟ إذا قلت: بعدد الرءوس تقسم الأرض بين الاثنين، فإذا كانوا اثنان يشفع كل واحد منهما في نصف الربع الذي هو الثمن، ويأخذه بنصف القيمة. وإذا قلت: يأخذون الأرض بقدر الحصة -وهو الصحيح- يصبح لمحمد الحق في أن يشفع في ثلثي الربع، وعمرو يشفع في الباقي وهو ثلث الربع؛ لأنها بقدر حصته، وبناءً على ذلك إذا تعدد الشركاء فكانوا ثلاثة فأكثر، فباع واحد نصيبه نظرنا إلى حصة الباقين وأعطيناهم حق الشفعة كلاً بقدر حصته، إن كان الثلث فالثلث، وإن كان الربع فالربع، وإن كان النصف فالنصف على التفصيل الذي تقدم. إذاً أولاً: الشفعة لا تختص بما إذا كان الشافع واحداً بل تشمل أكثر من شافع في الأرض الواحدة، حتى ولو كانوا أكثر من شريكين. المسألة الثانية: إذا ثبت أنها تكون لأكثر من شريكين فإنها تكون بقدر الحصص والحق لا بعدد الرءوس، وهذا على أصح قولي العلماء رحمهم الله؛ لأن الشفعة استحقت بالملك، وهذا يملك من الأرض أكثر مما يملكه أخوه، فاستحق أن يشفع بقدر ما ملك. فهذا مراد المصنف رحمه الله في قوله: (والشفعة لاثنين) أي: فأكثر (بقدر حقيهما) وذلك إذا تبقيا، وليس المراد بـ (اثنين) أنه إذا باع أحدهما والآخر أراد أن يشفع، إنما المراد إذا كان بقية الشركاء اثنين فأكثر. قال رحمه الله: [فإن عفا أحدهما أخذ الآخر الكل أو ترك] إذا قلنا: إن الاثنين فأكثر لهم حق المقاسمة في هذا النصيب الذي بيع فإن أحد الاثنين إذا قال: لا أريد، يرد السؤال: هل تشفع بقدر الحصة أو يجب عليك أخذ الكل؟ قال رحمه الله: إما أن يأخذ الكل أو يدع، أي: إما أن يأخذ النصف كله الذي بيع أو الربع كله الذي بيع أو الثلث كله الذي بيع وإلا امتنع عليه أن يأخذ قدر حصته، فيأخذ قدر حصته إذا زاحمه شريكه، أما إذا تراجع شريكه فنقول: إما أن تأخذ الكل وإما أن تترك الكل، وهذه المسألة فيها إجماع من أهل العلم رحمهم الله، وحكى الإجماع على ذلك الإمام ابن المنذر رحمه الله في كتابه المشهور الإجماع، بين فيه أن أهل العلم اتفقوا على أنه إذا كان الشركاء اثنين فأكثر ورجع أحد الشركاء عن الشفعة نقول للآخر: إما أن تأخذ الكل أو تترك.

الشفعة مجزأة على قدر النصيب

الشفعة مجزأة على قدر النصيب قال رحمه الله: [وإن اشترى اثنان حق واحد أو عكسه، أو اشترى واحد شقصين من أرضين صفقة واحدة فللشفيع أخذ أحدهما] كل هذه المسائل فروع على ما تقدم، وهي تجزئة الشفعة على قدر النصيب والحصص، وكذلك على حسب الضرر الداخل، فلو أنك شريك مع واحد في أرض، واشتريتما هذه الأرض بمائة ألف، ولكل واحد منكما نصفها، فباع صاحبك نصفه الذي يملكه على اثنين بمائتي ألف، وكل منهما أخذ ربعاً؛ لأنه إذا كان له النصف فتكون منقسمة بينهما على ربع، فلو اشتراه زيد وعمرو من شريكك، فيجوز لك أن تشتري من زيد أو تشتري من عمرو، فتدفع حصة واحد منهما وتشتريها؛ لأن الشفعة شرعت لدفع الضرر، فيجوز لك أن ترضى بشريك وترفض الآخر، فإذا رضيت بأحدهما شريكاً لك قلت: أنا أريد أن أشفع في نصيب زيد، أو أنا أرضى بعمرو ولا أرضى بزيد، أو العكس أرضى بزيد ولا أرضى بعمرو، أو الضرر يأتيني من زيد ولا يأتيني من عمرو، فاشتريت نصيب زيد، كان لك أن تأخذ نصيب زيد، ولك أن تأخذ نصيب عمرو، ولذلك في هذه الحالة يجوز التشطير وتفريق الصفقة؛ لأن كلاً منهما له نصيب، كما لو باع أحد الشركاء جاز لك أن تشفع في نصيبه. قال: [وإن اشترى اثنان حق واحد أو عكسه] اشترى اثنان حق واحد، أو واحد اشترى حق اثنين عكس المسألة التي قلنا، الأول: زيد الذي هو شريكك وعمرو باعا نصيبيهما إلى واحد وهو بكر فبكر لما اشترى منهما لك أن تشتري. وقلنا أنه باع زيد نصيبه إلى اثنين فلك أن تشتري من أحدهما وتترك الآخر، وبينا السبب وهو أنك تخشى الضرر من أحدهما ولا تخشاه من الآخر. فإذا كان في الصورة الأولى يشتري اثنان، فهنا على العكس؛ يشتري واحد، ويكون معك شريكان، فلو فرضنا أنكم اشتريتم قطعة أرض بتسعين ألفاً، فدفع كل واحد منكم ثلاثين ألفاً، فقسمت الأرض على ثلاثة -يعني: من حيث الأصل أثلاثاً- فلو كان معك زيد وعمرو فباع الاثنان نصيبيهما إلى بكر، فاشترى بكر الثلثين اللذين كانا لزيد وعمرو بمائة ألف، فمن حقك أن تقول: أنا شافع في نصيب زيد أو شافع في نصيب عمرو، يعني: تخصص جزءاً مما بيع؛ لأنه ربما دخل عليك بالضرر في النصف ولا يدخل عليك في الربع، ويدخل عليك في الثلثين ولا يدخل عليك في الثلث الواحد، ولذلك قالوا: يجوز أن تشتري نصيب أحدهما كما لو باع كل واحد منهما لأي شخص أجنبي. فيقولون: لو أن زيداً وعمراً باعا لبكر، فنقول: من حقك أن تقول: أنا أشتري نصيب زيد، أو أشتري نصيب عمرو فحينئذٍ لا إشكال، قالوا: هذا مثلما إذا اشترى اثنان أجنبيان من حقك أن تشري من أحدهما وتترك الآخر، فالأولى راجعة إلى دخول الضرر بالشخص، والثانية راجعة إلى دخول الضرر بالنصيب؛ لأن الشفعة شرعت لدفع الضرر من جهة الشريك الأجنبي إذا دخل عليك، فهذا راجع إلى الرءوس (الشركاء) وإما أن يدخل عليك الضرر في قدر الحصة، فإذا كنت تشارك اثنين وكل واحد منكم له الثلث، فليس هذا كمثل شخص يشاركك وله الثلثان، فالضرر هنا أعظم؛ لأنه أكبر منك وسيضر بمصالحك أكثر، فلك أن تدفع الضرر عن نفسك بشراء أحد النصيبين دون الآخر، كما لو باع زيد إلى خالد وباع عمرو إلى بكر كان من حقك أن تأخذ ما باعه زيد أو باعه عمرو وتفرق الصفقة، هذا بالنسبة إذا باع كل منهما إلى شخص واحد. فإذاً إذا باع الشريكان لشخص واحد أو باعا لشخصين فمن حقك أن تشفع، إن شئت أخذت الكل في كل المسائل ولا إشكال، وإن شئت أخذت البعض بقدر حصته وذلك جائز لك؛ دفعاً لضرر أجنبي دخيل عليك، إذا أردت أن تخرجه كلية، أو تخرج واحداً وتبقي الثاني في المسألة الأولى، أو دفعاً للحظ والنصيب الزائد الذي تتضرر بزيادته، فقد تقبل بشريك يساويك ولا تقبل بشريك هو أكثر منك؛ لأن المضرة ستكون أعظم، ويكون تصرفه أكثر، ويكون استحقاقه بالتصرف في الأعيان أكثر مما لو كان مالكاً لثلث أو كان مالكاً لما هو دون نصيبك.

حكم التفريق بين الصفقة في الشفعة

حكم التفريق بين الصفقة في الشفعة قال: [أو اشترى واحد شقصين من أرضين صفقة واحدة] صورة المسألة: لو كان لك شريك في أرض بداخل مكة، وأيضاً هناك أرض خارج مكة سواءً هذا الشريك أو غيره، نأخذ المسألة الأولى: لو اشتركت مع محمد في أرض بداخل مكة وأرض بخارج مكة مناصفة بينكما، اشتريتما الأرض مثلاً بمليون، فكانت التي في داخل مكة بنصف مليون، والتي في خارج مكة بنصف مليون، وكنت أتت تملك نصفها وهو يملك نصفها، فباع محمد نصيبه من الأرض التي في داخل مكة، ونصيبه من الأرض التي في خارج مكة في صفقة واحدة، واشترى خالد كلا النصيبين -مثلاً- بمليون، فمن حقك عندها أن تقول: أريد أن أشفع في نصيبي من الأرض التي في داخل مكة، ولا أريد أن أشفع بنصيبي الذي في خارجها، ولك أن تعكس فتقول: أشفع في الأرض التي في خارج مكة، ولا أريد أن أشفع في الأرض التي بداخل مكة. فإذا اشترى النصيبين من شريكك بصفقة واحدة جاز لك أن تفرق الصفقة ولو كانا بصفقة واحدة، وجاز لك أن تشتري أيضاً النصيب بالثمن الذي باعهما به إذا كنت شريكاً له في هذه وهذه، لكن لو كنت شريكاً له في الأرض التي في داخل مكة، وعنده أرض في خارج مكة مع شريك آخر، فاشترى منه الأجنبي هذه الأرض التي بداخل مكة والتي في خارج مكة في صفقة واحدة بمليون، في هذه الحالة لو قلت: أريد أن أشفع، فأنت تريد أن تفرق الصفقة الواحدة، بحيث نعرف كم كانت قيمة الأرض التي بمكة؟ وكم قيمة الأرض التي بخارج مكة؟ فتفرق الصفقة الواحدة، ولذلك قال رحمه الله: [صفقة واحدة] يعني: اشتراهما من شخص واحد صفقة واحدة، ففي هذه الحالة تفرق الصفقة، ما يقال: إنهما صفقة واحدة ولا نفرق الصفقة، كما هو مذهب بعض العلماء أن الصفقة الواحدة لا تجزأ ولا تفرق، والصحيح أنها تفرق، ونقول لأهل الخبرة: قدروا الأرض التي في مكة، كم قيمتها؟ فإذا قدرت قلنا له: إذا أردت الشفعة ادفع هذه القيمة وخذ الأرض. قال: [فللشفيع أخذ أحدهما] أخذ أحد النصيبين، ولا بأس بذلك على التفصيل الذي ذكرناه.

حكم تفريق الصفقة في الشفعة إذا وقعت بين عقار ومنقول

حكم تفريق الصفقة في الشفعة إذا وقعت بين عقار ومنقول قال الله: [وإن باع شقصاً وسيفاً أو تلف بعض المبيع فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن] هذه المسائل كلها يدخلها العلماء رحمهم الله من باب إثبات قوة الشفعة وضعفها، ففي بعض الأحيان تكون الشفعة جارية على الثمن وعلى البيع المعهود المعروف فلا إشكال، وفي بعض الأحيان تجري الشفعة على صور غريبة فيرد Q هل ترجع إلى الأصل أو تعتبر مستثناة ولها أحكام تخصها؟ فالأصل أن الإنسان يبيع العقار وتكون الشفعة في بيعة واحدة مستقلة، إذا باع العقار مع عقار ثانٍ قلنا: إن له أن يشفع، فيرد السؤال الآن من باب القسمة العقلية: هل إذا جمع بين العقار والمنقول يكون الحكم بثبوت الشفعة أو نقول: إن هذه المسألة مستثناة ولا تثبت فيها الشفعة؟ A أنه كما حكمنا بتجزئة الصفقة في العقارين -وأكثر من العقارين لو وقع ذلك- فإننا نجزئ الصفقة إذا وقعت بين عقار ومنقول، فنجعل قيمة العقار على حدة وقيمة المنقول على حدة ونثبت الشفعة في العقار، فأورد رحمه الله الشقص والسيف كمثال، وإلا قد يبيع شقصاً وطعاماً، فمثلاً لو قال له: أبيعك نصف أرضي التي بداخل مكة في المكان الفلاني مع مائة صاع من الأرز أو مع مائة كيس من الأرز، مثلاً: بخمسمائة ألف، قال: قبلت، هذا جمع بين العقار والمنقول، أو قال له: يا فلان! عندي سيارة وعندي نصف أرض، وأنا أعاني من ضائقة وأحتاج إلى نصف مليون، فما رأيك لو أعطيتك السيارة مع نصف الأرض التي لي بمكة بنصف مليون، قال: قبلت، إذاًَ باعه عقاراً وباعه مع العقار منقولاً. ففي هذه الحالة ننظر كم قيمة الطعام أو السيارة في الصفقة، وكم حظ النصف من الأرض من الصفقة التي هي نصف المليون، فوجدنا أن أهل الخبرة يقولون: هذه الأرض قيمتها ثلاثمائة ألف والسيارة أو الطعام قيمته مائتان، فنقول حينئذٍ: تجزأ الصفقة ويعرف نصيب العقار من نصيب المنقول، ويؤمر الشفيع بدفع ما يستحقه نصيب البائع من الأرض.

الحكم فيما لو تلف جزء من المبيع وأراد الشفعة

الحكم فيما لو تلف جزء من المبيع وأراد الشفعة قال: [أو تلف بعض المبيع] هذه المسألة صورتها: لو اشتريتما أرضاً في مخطط، وهذه الأرض جاء سيل فاجتاحها أو كانت على بحر فغرقت، وبقي ربعها لم يصبه شيء، وشريكك كان قد باع نصف هذه الأرض، وهذا النصف الذي باعه قبل أن تشفع جاءت هذه الكارثة فاجتاحت ما اجتاحت من الأرض فتلف بعض المبيع، فيرد Q هل من حق الشريك والشفيع أن يشفع فيما بقي من الأرض أو ليس من حقه؟ A كما جزأنا في حال الصفقات نجزئ في حال الإتلاف والفساد، فلو كان هناك مزرعة قيمتها مليون ريال، وباع شريكك نصيبه بخمسمائة ألف، ثم جاء إعصار وأحرق نصف الأرض وبقي نصفها، فهل من حقك أن تشفع؟ وإذا شفعت فهل يُقدر التالف فتسقط قيمته أم أنه يجب عليك أن تدفع القيمة كاملة؟ قال بعض العلماء: إذا نزلت مصيبة بالأرض وأتلفت بعضها أو أتلفت بعض الزرع فنقصت القيمة ينظر إلى قدر التالف ويحسب من قيمة الشفعة، فإذا كان هذا النصف الذي باعه شريكك من المزرعة وهي سليمة طيبة قيمته خمسمائة ألف، ثم بعد التلف أصبحت القيمة مائتين وخمسين ألفاً، ففي هذه الحالة يقولون: إنه يسقط قيمة التالف وتشفع وتعطي القيمة مائتين وخمسين ألفاً، يعني: التالف لا يحسب، ولا تشفع بأصل القيمة، إنما تشفع بقدر الحصة مما تبقى. مناسبة هذه المسألة أنها تابعة لمسائل تجزئة الصفقة، فكما أنها تجزأت الصفقة في حال الجمع بين العقار وغيره -سواءً كان من جنسه أو غير جنسه- كذلك في صورة العكس وهي النقص، فهناك حصلت زيادة فتجزأت، وهنا حصل نقص فتجزأت، ونقول: من باع نصيبه من أرض ثم تلف شيء من ذلك النصيب وبقي شيء فإن الشفيع يطالب بدفع قيمة الأرض بعد التلف لا قيمتها الأصلية، أي: لا نقول له: ادفع نصف مليون إنما نقول: ادفع مائتين وخمسين ألفاً إذا كانت قيمة الأرض بعد حدوث هذه الحادثة أو الكارثة تساوي هذا القدر. قال: [فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن] كما ذكرنا؛ لأن هذا الضرر والفساد والإتلاف لا يتحمله الشفيع.

حكم الشفعة في شراكة الوقف

حكم الشفعة في شراكة الوقف يقول المصنف رحمه الله: [ولا شفعة بشركة وقف] هذه المسألة تحتاج إلى شيء من الشرح والتوضيح، لكن محله إن شاء الله في باب الوقف، عند العلماء خلاف إذا أوقفت شيئاً من أرض أو نحوها كالمزارع ونحوها فهل يزول ملكك عنه بالكلية ويصبح ملكاً لله عز وجل أم أن ملكيته تبقى؟ إذا قلنا: إن الوقف تزول الملكية عنه بمجرد إيقاف صاحبه له، فحينئذٍ لن تستطيع أن تثبت الشفعة؛ لأن الشفعة يشترط فيها أن يكون الشفيع مالكاً، والواقف لا يملك الأرض، ولذلك هذا مقرر على أصل وهو أنه يشترط في الشفعة أن يشفع في شيء يملكه، ولو أنك كنت شريكاً مع شخص ثم بعت نصيبك أو وهبته ثم باع هذا الشخص نصيبه أو وهبه أو تصرف فيه، ليس من حقك بعد الهبة وبعد البيع أن تأتي وتشفع؛ لأنه زال ملكك، فإذا زالت ملكية الشفيع عن نصيبه الذي يستحق بسببه الشفعة قبل أن يطالب بالشفعة وقبل الحكم بالشفعة فإنه حينئذٍ تسقط الشفعة، فهو إذا أوقف الأرض أزال ملكيته عنها، فإذا أزال ملكيته من الذي يشفع؟ ومن هنا قال رحمه الله: [لا شفعة في شركة وقف] وتكون الشركة في الوقف عامة وخاصة، الأوقاف الخاصة مثل أن يقول: وقف على أولادي، ويخصص الوقف بأولاده، أو لبني فلان ويخصصهم، ويكون الوقف عاماً كأن يقول: لفقراء المسلمين ومساكينهم من المجاهدين ونحو ذلك، وهذا فيه نوع من العموم النسبي. فالشاهد هنا إذا قلت: إن الوقف لا يملك، يصبح في هذه الحالة إذا كان النصف المتبقي وقفاً، وباع شريك الوقف، من هو شريك الوقف؟ مثاله: لو أنك مع شخص اشتريتما أرضاً، فقام هذا الشخص وأوقف أرضه لله عز وجل على أي وجه من أوجه الأوقاف، فلما أوقفها بعت أنت نصيبك، ليس من حقه أن يشفع بشركة الوقف؛ لأن ملكيته قد زالت بالوقف، ومن شرط ثبوت الشفعة أن يكون الشفيع مالكاً حتى يستحق أن يدفع الضرر عن نفسه، قالوا: في هذه الحالة لا شفعة للوقف، وبناءً عليه يكون إسقاط الشفعة بشركة الوقف مبنياً على عدم وجود الملكية.

حكم الشفعة في ملك غير سابق

حكم الشفعة في ملك غير سابق قال رحمه الله: [ولا غير ملك سابق] لا يستحق الإنسان الشفعة إلا إذا كان له ملك سابق للبيع، أما لو وقعت ملكيته بعد شراء الأجنبي فحينئذٍ لا شفعة له، لو كان -مثلاً- هناك أرض بين زيد وعمر، فباع زيد لخالد، وباع عمرو لك أنت، ووقع بيع زيد لخالد قبل أن تشتري، فليس من حقك -بعد أن تشتري- أن تقول: أنا شافع؛ لأن البيع وقع قبل ملكيتك للنصيب الذي تستحق به الشفعة، وهذه كلها أمثلة يقصد منها المصنف التنبيه على بعض الأمور أو الشروط التي ينبغي توفرها، فلابد من وجود الملك ولابد من أن يكون الملك سابقاً لصفقة البيع. مثال آخر: لو كان الملك متراخياً بغير البيع، مثلاً: لو كان والد الإنسان معه شريك في أرض، فباع شريك الوالد أرضه، ووقع البيع في محرم، وبلغ الوالد لكنه سكت فسقط حقه في الشفعة، ثم توفي الوالد وانتقل النصيب إلى الورثة، فقال الورثة: نحن نريد أن نشفع في هذا البيع فنشتري نصيب شريك والدنا، نقول: إن ملككم لم يكن سابقاً للبيع وإنما وقع بعد البيع فلا تستحقون به الشفعة، إذاً لابد من أن يكون هناك ملك، فأخرج هذا الشرط الوقفية؛ لأن الوقفية لا ملك فيها كما سيأتي إن شاء الله تفصيله. ثانياً: يشترط أن يكون هذا الملك سابقاً، فإن كان الملك متأخراً فإنه لا يؤثر ولا يوجب ثبوت الشفعة.

حكم شفعة الكافر على المسلم

حكم شفعة الكافر على المسلم قال رحمه الله: [ولا لكافر على مسلم] أجمع العلماء على ثبوت الشفعة للمسلم على المسلم، وللذمي على الذمي، والخلاف لو وقعت الشفعة من ذمي على مسلم، فهناك ثلاث صور مجمع عليها: شفعة المسلم على المسلم، والذمي على الذمي، والمسلم على الذمي، لكن المسألة الخلافية هي الرابعة وهي: شفعة الذمي على المسلم. وهذه المسألة تقع إذا كان أهل الذمة في أرض واشترك مسلم وذمي في أرض، فلو اشترك مسلم وذمي في أرض، فإن باع الذمي سواءً باع على ذمي مثله أو باع على مسلم فمن حق المسلم أن يشفع، وهذا ليس فيه إشكال، لكن إن باع المسلم ننظر في بيعه إما أن يقع على ذمي فتصبح شفعة ذمي على ذمي وهي جائزة لعموم الأدلة، وإما أن تقع البيعة من مسلم على مسلم فحينئذٍ يرد Q هل للذمي شريك المسلم أن يشفع فيأخذ هذا النصيب من المسلم الداخل عليه؟ هذا في حال ما إذا باع مسلم على مسلم وكان شريكاً لذمي. أو كان هناك ذميان، فباع أحدهما نصيبه إلى مسلم، فحينئذٍ سيشفع الذمي الثاني على مسلم، هل من حقه أن يشفع على المسلم؟ اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، ووقع فيها قضاء لأئمة السلف كـ عمر بن عبد العزيز وإبراهيم النخعي رحمة الله على الجميع، وحاصل ما ذكروه في هذه المسألة أن فيها قولين: القول الأول: لا شفعة للذمي على المسلم، وهذا مذهب الحنابلة رحمهم الله، ولا يستحق الذمي أن يأخذ النصيب من المسلم إذا بيع له سواءً كان البيع من مسلم أو ذمي، وهذا القول هو الذي اختاره المصنف رحمه الله: أنه لا شفعة لكافر على مسلم. القول الثاني: أن الذمي يستحق الشفعة على المسلم وهو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله، ولذلك تعتبر هذه المسألة من مفردات المذهب الحنبلي، والمفردات عند العلماء هي: المسائل الفقهية التي انفرد فيها مذهب عن بقية المذاهب الأخرى، فهناك مفردات في المذهب الحنفي، ومفردات للمذهب المالكي والشافعي والحنبلي، ومن أنفس الكتب التي ألفت في المفردات ما ألفه الحافظ ابن كثير في كتابه المشهور: المسائل التي انفرد فيها الإمام الشافعي عن إخوانه من الأئمة، وذكر فيها مفردات المذهب الشافعي، كذلك مفردات المذهب الحنبلي جاء فيها نظم وشُرح هذا النظم في الكتاب المشهور منح الشفاء الشافيات في شرح المفردات للإمام شيخ الحنابلة الجهبذ العلامة البهوتي رحمه الله برحمته الواسعة، وهو من أنفس الكتب التي يذكر فيها مفردات مذهب أحمد. انفرد الحنابلة فقالوا: الذمي لا يشفع على مسلم، وهذا القول له أدلة، وتكلم على هذه المسألة الإمام ابن القيم رحمه الله كلاماً نفيساً، وذكر الحجج والأدلة في كتابه النفيس: أحكام أهل الذمة، وذكر فيه أكثر من عشرة أوجه لترجيح القول القائل: بأنه لا شفعة للذمي على المسلم؛ لأن الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه، وفي أخذ النصيب من المسلم قهر له وعلو عليه. ثانياً: أن الإسلام هو دين الله عز وجل، والمقصود إعلاء كلمته، ونشره في الأرض، حتى لا يكون للكافر سلطان على المسلم حتى في الأموال. فقالوا: في هذه الحالة إذا اشترى المسلم هذا النصيب وجاء الكافر واستكثر وتقوى على المسلم فيكون قد استظهر في أمر زائد عن حقه، ومما يؤكد هذا -حسبما قالوا- أن الله عز وجل شرع لنا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إذا لقينا الكفار أن نضطرهم إلى أضيق الطريق، وأن لا نبدأهم بالسلام، مع أنهم معنا في مكان واحد، لكن لابد أن يشعروا في بلاد المسلمين بالذلة والحقارة؛ لأنهم إذا لم يشعروا بذلك استعلوا على المسلمين، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان من السنن العمرية التي وضعها وجرى العمل عليها عند العلماء، وكاد يكون إجماعاً، على أن الكافر إذا كان بين المسلمين لا يبني بناءً يعلو به فوق المسلمين، فيكشف به عوراتهم، أو يكون له تميز أو علو عن المسلمين؛ لأن المقصود أن تكون كلمة الله هي الغالبة، وكما يكون الشعار للإسلام معنىً يكون له حساً. فإذا جاء الكافر يستظهر على المسلم بشراء النصيب، ويستظهر باتساع رقعته وملكيته بين المسلمين هذا لا شك أنه سيضر بمصالح المسلمين، وسيجعل له سلطاناً على المسلمين، والله عز وجل يقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141] ونحن بالشفعة نجعل للكافر على المسلم سبيلاً. فتكلم ابن القيم في هذا كلاماً نفسياً بأدلته النقلية والعقلية من أكثر من عشرة وجوه، وبين أن مقاصد الشريعة -بل حتى إن المقصود من الشفعة- قد لا تتحقق إذا مكنا الكافر من أن يشفع على مسلم؛ لأنها شرعت لدفع الضرر، وهل هناك أضر من كافر لا يدين دين الحق يستعلي على المسلم بماله؟! ولذلك لاشك أن من تأمل أصول الشريعة يقوي هذا الوجه، ويرى أن القول بثبوت الشفعة للكافر لا يخلو من نظر إذا كان على مسلم؛ لأن العمومات تخصص، وهناك قواعد وأصول للشريعة تخصص ما هو أقل درجة منها، فأنت إذا نظرت إلى نصوص الكتاب والسنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الفعلي والقولي من كف شعار الكفار، وعدم إعطائهم القوة لاستظهارهم على المسلمين ترى أن القول بعدم ثبوت الشفعة لهم أقوى وأظهر، وأنهم يصوغون القول بتخصيص عموم الأدلة الواردة؛ ولأن الأدلة في الأصل إنما وردت للمسلمين والكفار تبع، والتابع لا يقوى اندراجه تحت الأصل من كل وجه إذا عارض ما هو أقوى وأرجح أصولاً ومعنىً، ولذلك نقول: إن القول بإسقاط الشفعة للذمي على المسلم أقوى وأظهر، والله تعالى أعلم.

باب الشفعة [4]

شرح زاد المستقنع - باب الشفعة [4] الشفعة حق للشركاء، إلا أنها تسقط في بعض الأحوال كأن يكون نصيب الشريك تُصُرِّف فيه بوقف أو هبة أو رهن. وكما أن للشريك الحق في الشفعة إلا أنها تسقط إذا توؤفي قبل المطالبة بها، ولا يستحقها ورثته إلا إذا طلبها قبل الوفاة.

الأحوال التي تسقط فيها الشفعة

الأحوال التي تسقط فيها الشفعة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: قال رحمه الله تعالى: [فصل: وإن تصرف مشتريه بوقفه أو هبته أو رهنه لا بوصية سقطت الشفعة] صورة المسألة تقع إذا اشترى شخص نصيب شريكك وقبل علمك، وقبل أن تشفع أوقف هذا النصيب، فمثلاً: لو كانت هناك أرض بينك وبين شريكك، فباع شريكك إلى رجل فأوقف هذا الرجل نصيبه على بناته وذريته وعلى وجه من وجوه الخير، أو سبله، فما الحكم؟ وهذا يتأتى فيما لو قسم الحاكم في حال غيبتك، فمثلاً: اشتريتما أرضاً في مخطط بخمسمائة ألف وكان له نصفها، ثم باع النصف الذي له على شخص، وأحب هذا الشخص أن يبني مسجداً، فأوقف هذه الأرض للمسجد، فلما أوقفها احتاج في هذه الحالة أن يطالب الحاكم والقاضي في حال غيبتك أن يقسم بينه وبينك؛ لأنه ما يستطيع أن يوقف مجهولاً، ولابد أن يحدد نصيبه الذي عليه الوقفية. فالقاضي قضى بأن هذه الأرض تقسم فقسمت، فإذا قسمت في هذه الحالة أصبح هذا الوقف جاراً لك، فهو ملاصق لملكك وقد تكون المنافع واحدة، كما لو إذا كانت أرضاً فأوقف نصفها، ففي هذه الحالة يقول بعض العلماء: تثبت الشفعة بعد المقاسمة في صور منها هذه الصور وهي حال غيبتك البعيدة إذا طلب من القاضي أو الحاكم أن يقسم وقسم، فميز نصيبك من نصيبه، فتبقى أنت على شفعتك، مع أنها قد قسمت، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) وبينا هذا في مسألة قسمة العقار، لكن إذا وقعت القسمة قبل علمك وقبل مجيئك كما إذا قضى بها القاضي، فإذا وقعت على هذا الوجه وميز القسمان، وجئت وأردت أن تشفع فإنه إذا تُصرف بالوقفية لا شفعة لك؛ لأنه في هذه الحالة الوقفية لا يمكن تداركها، ويبقى النصيب وقفاً ولا شفعة لك فيه. قال: [أو هبته] وقد بينا فيما مضى أنه يشترط في ثبوت الشفعة أن تكون منتقلة بالمعاوضات، فإذا كان صاحبك أو شريكك قد وهب هذا النصيب لشخص، فإنك لا تستطيع أن تشفع؛ لأنه انتقل بهبة ولم ينتقل بالعوض، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة معاوضة ولم يقض بها وقفاً، ولذلك لا شفعة في وقف ولا موهوب. قال: [أو رهنه] وهكذا لو رهنه، فعلى أحد قولي العلماء رحمهم الله أنه ليس من حقك أن تشفع حتى ينتهي وقت الرهن، وقد فصلنا مسائل الرهن: إما أن يباع، وإما أن يبقى ملكاً، أو تعود الأرض كما كانت في حالتها الأولى؛ لأنه في حالة الرهن لو قيل بفسخه فيه ضرر على الطرف الثاني وهو صاحب الدين، ولذلك يقول بعض العلماء بجواز الرهن بمثل هذا، ويكون على طريق المقاسمة لأجل أن يتحقق فيه القبض. ولو أن شريكك أوصى بهذا النصيب، فإنه إذا لا ينتقل، يعني: لا يسقط حقك في الشفعة؛ لأن الوصية موقوفة إلى ما بعد الموت، وهي تصرف مسند إلى ما بعد الموت، وبناءً على ذلك إذا أوصى وقبل أن يموت جئت أنت وشفعت فمن حقك أن تشفع، هذا إذا اشترى شخص نصيب شريكك وتصرف به بالوصية، فإنه في هذه الحالة يمكن أن تلغي الوصية وتسترد النصيب. من أمثلة ذلك: لو كان معك شريك في مزرعة بينكما مناصفة، فباع شريكك نصيبه بمائة ألف إلى رجل، هذا الرجل الذي اشترى منه أوصى أن نصف هذه المزرعة يكون في وجوه الخير والبر، فقد أوصى بشيء مستحق بالشفعة، فإذا جئت من حقك أن تطالب بالشفعة وتسقط الوصية؛ لأن الوصية لا تسقط الاستحقاق في الشفعة.

الأحوال التي لا تسقط فيها الشفعة

الأحوال التي لا تسقط فيها الشفعة وقوله: [لا بوصية] إلا إذا كان بوصية فمن حقك أن تشفع، وسقطت الشفعة في الوقف، وفي الهبة؛ فأنت ما تستطيع أن تسترد الموهوب ولا تستطيع أن تشفع في شيء وهبه غيرك. قال: [سقطت الشفعة] لأن الشفعة استحقت بالبيع الأول، وسقطت بالوقفية وهي التصرف الثاني، وهكذا بالنسبة للمسألة الثانية في الهبة، الشفعة استحقت بالبيع من شريكك وسقطت بالهبة من المشتري، فإذا وهب المشتري سقطت شفعتك. قال: [وببيع فله أخذه بأحد البيعين] كل الكلام هنا إذا كان المشتري من شريكك أوقف أو وهب أو وصى، قلنا: تسقط الشفعة في الاثنين الأولين ولا تسقط في الوصية. يبقى Q لو أن هذا المشتري أخذ نصيب شريكك من المزرعة بخمسمائة ألف، فباعه على شخص ثانٍ بأقل أو أكثر أو مثل، فالسؤال: لما باع للشخص الثاني هل تسقط شفعتك بهذا البيع أو لا؟ قالوا: لا تسقط الشفعة بالبيع، وهذا قول جمهرة أهل العلم رحمة الله عليهم، حتى إن بعضهم يحكي الإجماع أنه لا يزال حقك في الشفعة ثابتاً. لكن يرد السؤال: هل من حقك أن تشفع بالثمن الأول أو بالثمن الثاني؟ إذا كان الثمن واحداً ما فيه إشكال؛ تدفع للثاني خمسمائة ألف فيرجع على الأول، أو يفسخ البيع وتأخذ النصيب بالشفعة ويكون المبلغ للأول، يكون وجهك على البائع الذي هو شريكك، ثم يرد للمشتري حقه وينتهي وتثبت الشفعة؛ لكن الإشكال إذا باع المشتري الثاني بأقل أو بأكثر، فمثلاً: شريكُك باع بخمسمائة ألف، ثم باع المشتري من شريكك بأربعمائة ألف، فالأفضل لك أن تأخذه من الثاني بأربعمائة ألف ويرجع على الأول إذا أحب الرجوع؛ لأنه رضي بالخسارة، فتأخذ النصيب بأربعمائة ألف، فهذا أفضل لك. لكن إذا كان العكس؛ شريكك باع بخمسمائة ألف، وباع المشتري الثاني بمليون، فحينئذٍ الأفضل لك أن تأخذ من شريكك، وتكون شفعتك ببيعة شريكك لا ببيعة المشتري، وعلى هذا يكون لك الخيار؛ إن شئت أخذت بالبيع الأول، وإن شئت أخذت بالبيع الثاني، وهذا في حال اختلاف البيعتين.

للمشتري الغلة والنماء المنفصل إذا تأخر الشفيع لعذر

للمشتري الغلة والنماء المنفصل إذا تأخر الشفيع لعذر قال رحمه الله: [وللمشتري الغلة والنماء المنفصل، والزرع والثمرة الظاهرة]. بالنسبة للشفعة إذا وقعت في العقار، إما أن يكون العقار جامداً مثل: الأراضي والمخططات، ولا يُبْنَى عليها ولا تُزْرَع وتبقى على حالها، حينئذٍ لا إشكال إذا بقيت على حالها. ولكن الإشكال إذا تصرف المشتري بزيادة أو نقص أو كانت الأرض ذاتها فيها بناء وله غلة، فما الحكم في هذه الغلة في حالة ما إذا طالت المدة بين شفعتك وأخذك للنصيب وبين البيع؟ وهذا يقع فيما لو كان لك أرض أو مزرعة مع شخص، وباع شريكك، ومكثت خمس سنوات لا تعلم بالبيع، فخلال الخمس سنوات نتاج الأرض وغلتها لمن تكون؟ فهذا أمر يحتاج إلى بحث، ويدل على كمال الشريعة الإسلامية، فالشريعة الإسلامية لما كانت تنزيلاً من حكيمٍ حميدٍ عليمٍ بعباده، حكيمٍ في شرعه سبحانه وتعالى، {يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57] عَلِم ما كان وما يكون وما لم يكن أنْ لو كان كيف يكون، أتت تعالج حتى المسائل الطارئة، ولذلك القوانين الوضعية تعجز عن معالجة المشكلات إلا بعد حدوثها، فهي لا تقنِّن للأشياء قبل الحدوث؛ لأنها عاجزة، ومن بشر ناقص، وتتأثر بالأعراف وبالأشخاص وبالأزمنة وبالأمكنة. فبعد وجود المشاكل تحدث قضايا وضعية، فيأتي ما يسمونه بالمشرع، وهو المخلوق الناقص العاجز، لكي يجمع قضاء فلان وقضاء فلان وقضاء فلان ويلفق من بين هذه الأقضية قضاءً، وهذا موجود، فالآن بعض التشريعات الوضعية تعتمد على القضاء الغربي في أوربا وكان في عصور مظلمة، فيأتون في زمان ويجمعون قضاء من البلد الفلاني، ومحكمة النقض في البلد الفلاني، ومحكمة الاستئناف في البلد الفلاني، فيجمعون منها تصورات، ثم من هذه التصورات تخرج المواد، مثل ما يسمونه بالتشريعات والتقنينات، ولما كانت هذه التقنينات حدثت في عصور قد لا تلائم هذا العصر ولا تتفق معه ولا تسايره، فيحتاجون عندها إلى تجديد وتغيير، ولذلك لن تجد أعقد من أحكامها ولا أكثر قصوراً منها؛ لأنها لا يمكن أن تعالج بشكل كامل، ولا يمكن أن تضع الحلول بشكل كامل. وإذا بفقهاء الشريعة وعلمائها لا يعالجون فقط المشاكل التي في عصرهم، وإنما يضعون قواعد مستنبطة من أصول الشريعة لما يسمى بالطوارئ والآثار المترتبة على العقود، وهذا في خلال القرن الأول والثاني وازدهر كثيراً في أواخر الثاني والثالث، في عصور بني العباس لما فُتحت الدنيا على الناس، فأصبحت المسائل تتعدد والمشكلات تكثر في آخر القرن الأول؛ لأن الصحابة كان عندهم الورع، وكانوا لا يفتون إلا في مسائل الواقع، وكانوا يسألون السائل: أوقع هذا؟ فإن قال: وقع أفتوا واستعانوا بالله وقضوا، وإذا قال: لم يقع، يقولون: دعوه حتى يقع، فكان عندهم من الخوف والورع، وهذا أحسن. ثم جاء من بعدهم -لأن الأمة كلما تأخر زمانها ضعف علمها وفقهها- فاحتاجوا أن ينصحوا لمن يأتي من الأمة، فجاءوا بما يسمى بالفرضيات، وهذه الفرضيات منها ما هو مبني على أصول، فهي ليست فرضيات من فراغ ومنها هذه المسائل، يعني: يكون العقل يعمل ويفكر في الشريعة، فتجد الفقه مرتباً منظماً، حتى الأشياء التي يمكن أن تطرأ في بعض العصور دون بعضها، يقول الله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فهذا الدين هو الكتاب السنة. فكل ما تفرع على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فهو كامل، ولذلك تجد الآية الواحدة تحتمل عشرة أوجه، والعشرة الأوجه هذه صالحة لكل زمان ومكان، وتجد الحديث يختلف فيه العلماء على ثلاثة أوجه -نفس المنهج الذي استنبطت منه الثلاثة الأوجه- تعالج مسائل يستفاد منها في غير هذا الحديث فضلاً عن هذا الحديث، فهذا كله من كمال الشريعة، فالعلماء رحمهم الله يذكرون المسائل النازلة، والمسائل التي هي آثار وطوارئ قد تتجدد وتطرأ على القول والحكم بالشريعة. قال رحمه الله: [وللمشتري الغلة] الشريعة أثبتت حكم الشفعة، فيرد Q إذا وقعت الشفعة متأخرة، وحصل ما بين وقت البيع وبين الطلب بالشفعة نماء أو غلة، وهذا يقع -مثلاً- في البستان، فلو كان لك بستان مع شريك ووقع البيع في شهر محرم، فقام شريكك بعد ذلك وباع نصيبه بثمره فلم تعلم بالبيع إلا بعد أن بدأ صلاح الثمرة، وبعد أن جذت الثمرة جئت وقلت: أنا شافع، فهل الثمرة تكون لك أنت الشافع، لأنك تستحق هذا النصيب من الأول بدليل أنك أخذته بنفس القيمة فيكون ملكاً لك بثمرته؛ لأن الفرع تابع لأصله، أم أن الثمرة تكون للمشتري، وتملك الأرض والأصول ولا تملك الثمرة؟ فصلنا هذه المسألة في مسألة رد المبيع بالعيب، وذكرنا أنه إذا كانت هناك ثمرة ونماء أنه يكون للمشتري، وبينا عدل الشريعة الإسلامية ودقتها في هذا، وبناءً عليه فإن الحكم هنا أن الشريعة لا تضطرب، ولذلك تجدها كالبناء المحكم المتماسك، فكما أنها قضت هناك بأن المشتري يده يد ضمان فيستحق الثمرة، كذلك هنا المشتري يده يد ضمان ويستحق الثمرة، وبناءً عليه يقول المصنف رحمه الله: إن هذا النماء يكون ملكاً للمشتري، والثمرة التي بدأ صلاحها أو أُبرت كلها ملك للمشتري؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت فيها ملكية المشتري. قال: [وللمشتري الغلة والنماء المنفصل والزرع والثمرة الظاهرة] (للمشتري الغلة) الغلة أو المحصول، (والنماء) الزيادة المنفصلة لا المتصلة، فإذا كان مثلاً: نخل تغير حاله، كأن يكون باعه الشريك وهو عطشان، فشاء الله وأنزل المطر فتحسن حال النخل وامتلأ، وأصبح بحال طيبة، هذا نماء متصل لا يملكه المشتري وإنما يبقى مع العين، ولذلك لا يستحق إلا النماء المنفصل، وهو الغلة والجزة الظاهرة، فمثلاً: لو كانت الأرض مزروعة بالبرسيم وذكرنا هذا في خيار العيب ونحوها من المسائل، أن هناك ما يتبع المبيع وما لا يتبعه في مسألة باب بيع الأصول والثمار، وفي هذه الحالة إذا باعه أرضاً مزروعة بالبرسيم، فإذا جزها قبل علم الشريك بالبيع، مثلاً: بقيت معه لمدة سنة، فنقول: يملك هذا الذي جزَّه وهو إنما جز وباع ملكاً له؛ لأنه على ضمانته. قال: [والزرع والثمرة الظاهرة] لا المخفية فإنه لا يملكها، وهي ثمرة السنة القادمة، كما لو شفعت وكانت المدة بين الشفعة وبين البيع هي مدة الكن، وهي الثلاثة الأشهر التي تستكن فيها الثمرة بعد جذاذها من النخل، وقبل ظهور الثمرة الجديدة للعام الجديد.

حكم المشتري إذا بنى وغرس

حكم المشتري إذا بنى وغرس قال رحمه الله: [فإن بنى أو غرس فللشفيع تملكه بقيمته وقلعه ويغرم نقصه، ولربه أخذه بلا ضرر] قوله: (فإن بنى أو غرس فللشفيع تملكه) هذه المسألة حقيقة فيها إشكال عند العلماء رحمهم الله، يبيع شريكك نصيبه ولا تعلم أنه باع، ويشتري أجنبي هذا النصيب، فيقوم ببنائه أو يقوم بالغرس فيه، فحينئذٍ يرد Q إذا جئت تشفع ما حكم هذا البناء والغرس؟ أنت تستحق الأرض أرضاً بيضاء، ولكن المشتري تصرف في الأرض فزاد فيها بالبناء أو زاد فيها بالعمران، فإن تصرف المشتري ينقسم إلى قسمين: إما أن يتصرف بشيء لا يدوم في الأرض، وإما أن يتصرف بشيء يدوم ويبقى في الأرض، فالذي لا يدوم في الأرض مثلاً كأن يتصرف بشيء مؤقت، مثل ما ذكرنا في غلة الزرع، أو يضع بيوتاً جاهزة، فهذه لا تدوم بل يمكن أن ترفع وتنقل وليس فيها إشكال، لكن المشكلة أن يتصرف بالدوام مثل البناء، أو الغرس، أو حفر الآبار، وقد ذكرنا أنواع الاستحداثات في كتاب الغصب، وبينا أن العروق منها ما هو ظاهر ومنها ما هو باطن، فاثنان ظاهران وهما: البناء والغرس، واثنان باطنان وهما: الآبار والعيون، إذا ثبت هذا فإذا تصرف المشتري فيما اشتراه وهو نصيب شريكك قبل أن تشفع، فحينئذٍ يرد السؤال: هل من حقك أن تجبره على رفع جميع ما أحدث، أم تُجبر أنت على شراء ما أحدث ويجُبر هو على بيعه، أو تصطلحان؟ فلو قلنا: إنه يرفع ما أحدث، الفترة التي مضت واستفاد من الأرض فيها بغرس أو نحوه هل لك الأجرة فيها أو لا؟ كلها مسائل تحتاج إلى نظر، من أهل العلم رحمهم الله من قال: إن المشتري إذا تصرف في الأرض قبل أن تشفع فإن تصرفه لاغٍ، ولذلك من حقك إجباره على قلع الغرس وهدم البناء، وهذا هو مذهب الشافعية ومن وافقهم، وفي الحقيقة أنه أقوى المذاهب والأقوال، ولهم في ذلك مسلك فقهي دقيق، حاصله أنهم يرون أن المشتري لما اشترى من صاحبك وشريكك، كان المنبغي أن لا يتصرف حتى يستأذنك؛ لأن الشريك مع شريكه في مثل هذا لا يتصرف باستحداث أرض، فإذا كنت شريكاً مع شخص، وجاء يريد أن يبني أو يريد أن يغرس، ليس من حقه أن يبني ولا يغرس حتى يستأذنك؛ لأن كل جزء من الأرض مشترك بينكما، فليس من حقه أن يبني فيه حتى يستأذنك، ولذلك يقولون: يسقط استحقاقه في هذا التصرف، ويكون تصرفه في غير موضعه، فيتحمل مسئولية ما بنى وغرس، وفي الحقيقة هذا القول من حيث الأصول قول صحيح وهو الأشبه إن شاء الله بالرجحان والاعتبار، وبناءً على ذلك يسقط حقه، ويطالب برفع غرسه وإزالة بنائه. إذا أردت أن تشتري منه البناء، أو تشتري منه الغرس فلك ذلك، وإذا أردت أن تشتريه واصطلحتما على ذلك فهذا لا إشكال فيه أما من حيث الأصل فليس من حقه أن يبني ويستحدث فيما هو ملك مشترك بينكما إلا بإذنك. قال: [وقلعه ويغرم نقصه] يقولون: له الحق أن يطالب فيه، فإذا قلعه يغرم النقص، وهذا يثبت أن الشريك لما تصرف يثبت له اليد، وهذا القول لا يخلو من نظر، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله أنه يضمن له النقص، وإذا قلع المشتري الغرس والبناء يُضمن نقص الأرض، لما دخل على الشريك من الضرر، كما سبق بيانه في كتاب الغصب، إذا بنى الغاصب واستحدث في الأرض المغصوبة؛ لأن تصرف الشريك هنا على غير وجهه. قال: [ولربه أخذه بلا ضرر] (ولربه أخذه) يعني: أخذ ذلك النصيب (بلا ضرر) كما لو كانت قيمته نازلة وكان السوق كاسداً، ففيه مضرة على المشتري إذا طالبه ببيعه، لكن نحن بينا في هذه المسألة أن المشتري لا يستحق التصرف فيها، ثم إذا أراد الشفيع أن يشفع وأن يشتري ذلك يشتريه بحقه أو يصطلحا.

بطلان الشفعة إذا مات الشفيع قبل طلبها

بطلان الشفعة إذا مات الشفيع قبل طلبها قال رحمه الله: [وإن مات الشفيع قبل الطلب بطلت] وإن مات الشفيع قبل أن يطالب بشفعته بطلت الشفعة؛ لأن الشفعة لا تورث، لكن لو طالب فإن الورثة يرثون استحقاق المطالب به، وقد تقدم معنا هذا فيمن يشفع، مثال هذه المسألة: لو أن شريكين باع أحدهما نصيبه إلى زيد، وتوفي الشريك الذي له حق الشفعة قبل أن يطالب بشفعته، فإنه يسقط الحق ولا يرث الورثة ما كان لمورثهم من المطالبة بالشفعة، ولذلك يقولون: الشفعة ضعيفة تسقط بأوهن الأسباب؛ لأنها خارجة عن الأصل، وقد ذكرنا هذا وبيناه.

يرث الورثة الشفعة إذا مات الشفيع بعد المطالبة

يرث الورثة الشفعة إذا مات الشفيع بعد المطالبة قال رحمه الله: [وبعده لوارثه ويأخذ بكل الثمن] وبعد الطلب إذا طالب بالشفعة وتوفي قبل أن يحكم القاضي بشفعته يرث ورثته المطالبة بالشفعة، و Q هل يختص الحكم بالعصبة ويشمل ذلك الأبناء الذكور دون الإناث وأبناء العم ونحوهم من العصبة، أم أن الشفعة تشمل جميع الورثة؟ و A ما دام أن الميت طالب بها ثبت الحق للورثة على حسب نصيبهم، فالزوجة إذا كان له ولد تستحق وتطالب بالشفعة وتدفع الثمن، ثم السبعة الأثمان للأبناء ذكوراً وإناثاً على حسب نصيبهم، فيدفع كل من المال على قدر حصته من التركة على الأصل المعروف في علم المواريث، فمثلاً: لو كان الميت أو الشفيع الذي طالب بالشفعة له ثلاثة أولاد: ابن ذكر وبنتان، في هذه الحالة يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، وتكون المسألة على أربعة أنصبة، نصيبان للذكر، واثنان كل واحد منهما لواحدة من البنتين، إذا ثبت هذا أنها منقسمة على أربعة أنصبة، وتوفي مورثهم وقد طالب بالشفعة، وكانت الأرض قد بيعت بأربعة آلاف، نقول للابن الذكر: ادفع ألفين وتستحق نصف نصيب الشريك، ونطالب كل واحدة من البنات أن تدفع ألفاً وتستحق ربع نصيب الشريك وبقدر حصصهم من التركة، وهذا القول يقول به جمع من العلماء، وممن اختاره من أئمة السلف الإمام الشافعي نفسه وهي من مسائل المختصر، وبين رحمه الله أنه يستحقها الورثة. قال: [فإن عجز عن بعضه سقطت شفعته] فإن عجز عن بعض ذلك النصيب سقطت شفعته، هذا شرط من شروط الشفعة، أنه يدفع المبلغ كاملاً، فإن عجز عن بعض المبلغ لا يستحق الشفيع الشفعة، بل لابد من دفع الثمن الذي بيعت به الأرض كاملاً، لو قال: أدفع النصف ولا أقدر على النصف الباقي نقول: ليس من حقك النصف فقط، ولو قال: أدفع ثلاثة أرباع وأنا عاجز عن الربع الباقي سقطت شفعته، فإما أن يأخذ الكل أو يدع الكل إلا في المسائل التي فصلنا فيها في تفريق الصفقة ونحوها، ففيها تفصيل، أما من حيث الأصل إذا أردت أن تشفع في نصيب شريكك تأخذه كله بالثمن الذي بيع به كاملاً، لا ضرر ولا ضرار، فلو قلنا: إنه من حقك أن تأخذ ببعض الثمن أضررنا بالمشتري، فلا يجوز أن يضر بالمشتري كما لا يجوز أن يضر بالشريك.

استحقاق الشفيع نصيب شريكه بما باعه مؤجلا أو عاجلا

استحقاق الشفيع نصيب شريكه بما باعه مؤجلاً أو عاجلاً قال رحمه الله: [والمؤجل يأخذه المليء به، وضده بكفيل مليء] لو باع شريكك نصيبه بالتقسيط بمائة ألف مؤجلة مقسطة على عشر سنوات، تستحق أخذ هذا النصيب مؤجلاً إلى عشر سنوات بالأقساط التي اتفق عليها الطرفان؛ لأن الشفعة تثبت بنفس الذي وقع بين المتعاقدين، إن كان مؤجلاً فمؤجل، وإن كان معجلاً فمعجل، وبناءً على ذلك إذا كانت مؤجلة تأخذها مؤجلة لكن بشرط أن تكون مليئاً قادراً على السداد، أما لو كان الشفيع عاجزاً عن السداد أو معروفاً بالفقر وقلة ذات اليد وليس عنده مال، ويخشى أنه يضر بالمشتري، نقول في هذه الحالة: من حقك أن تأخذه مؤجلاً بشرط أن تحضر كفيلاً مليئاً يكفلك ويضمنك أنك إذا لم تسدد يسدد عليك، على ما تقرر معنا في باب الكفالة. فمن حقك إذا كنت مشترياً أن تطالب الشفيع أن يحضر كفيلاً، تقول: أنا ما أستطيع أن أخاطر وأبيعك وأنت ضعيف أو فقير؛ لأن هذا يضر بمصالحي، وهذا معلوم أن الفقير يضر بمصالحك وربما عجز عن السداد فأصبح مفلساً، فالشريعة عدلت وقالت: من حقه أن يأخذ نصيبك لكن بالعدل، وذلك بأن يسدد كما تسدد، وعلى هذا فإنه إذا اتفق على هذا الوجه صحت الشفعة، أما أن يأخذه مؤجلاً على وجه مخاطر لصاحب الحق فهذا لا يصح. قال: [وضده بكفيل مليء] (وضده) يعني: بالثمن المؤجل من عاجل، يعني: إذا كان غير مليء يأتي (بكفيل مليء) بكفيل قادرٍ على السداد يرضاه صاحبه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الشفعة في الأرض التالفة إذا استصلحها المشتري

حكم الشفعة في الأرض التالفة إذا استصلحها المشتري Q إذا ما أتلف نصيب شريكي الذي باعه وقام الذي اشتراه بإصلاحه فهل لي الشفعة، وهل أعطيه قيمة الإصلاح؟ A إذا كان التلف موجوداً حال البيع، وبيع النصيب تالفاً فإنك تدفع قيمة الشيء التالف، هذا من حيث الأصل؛ لأنه ليس من حقه أن يتصرف في هذا الشيء إلا بعد إذن صاحب الملك ويتراضيان على ذلك، فإن رضيت بإصلاحه وأردت دفع العوض له كان لك ذلك، وإلا أخذ ما استصلحه على التفصيل الذي ذكرناه في الغرس والبناء، والله تعالى أعلم.

مسألة إذا أقيمت الصلاة وما زال بعضهم يصلي السنة

مسألة إذا أقيمت الصلاة وما زال بعضهم يصلي السنة Q إذا أقيمت الصلاة وقد شرعت في صلاة السنة الراتبة وتحية المسجد فهل الأفضل أن أقطعها أم أتمها؟ A في هذه المسألة تفصيل، فإذا كانت الإقامة قد وقعت ويمكنك أن تتمها قال الله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] ولأن إتمامها زيادة في الأجر وعظم في المثوبة، ولا ينبغي للمسلم أن يذهب بذلك الخير، وأما إذا ضاق الوقت وغلب على ظنك أنك لو أتممت فاتتك الركعة الأولى أو فاتك ركوع الإمام فإنه يجب عليك التسليم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) واستثنى العلماء المسألة الأولى؛ لأن الإجماع منعقد على أنه لو أقيمت الصلاة وأنت في التشهد الأخير أنك تتم الصلاة، وعلى هذا يكون ما قارب هذه المسألة مما غلب على ظنك أنك تدرك فيه الإمام يعتبر مستنثىً من هذا الحديث، والله تعالى أعلم.

أهمية الأذكار والأوراد للمسلم

أهمية الأذكار والأوراد للمسلم Q نرجو منكم بيان أهمية الأوراد والأذكار بالنسبة لكل مسلم؟ A من نعم الله عز وجل العظيمة على العبد أن جعل الأذكار حرزاً له من كل بلاء وشر وفتنة، كلمات طيبات مباركات، يقولها المؤمن وتقولها المؤمنة، مشتملة على توحيد الله والاعتصام به والالتجاء إليه، وتفويض الأمر إلى الله، فيحفظ الله بها عبده، ويعصم بها أَمَتَه، فيمسي في أمان الله، ويصبح في حرز من الله، لا يتسلط عليه معها عدو، ولا يتمكن منه شرير، محفوظ بحفظ الله الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، يقولها المؤمن بقلب موقن، ولسان صادق؛ فتفتح لها أبواب السماوات، مشتملة على الاعتصام والالتجاء والعوذ واللوذ بالله جل جلاله، فإذا به يحفظ بحفظ الله عز وجل من أمور لم تخطر له على باب، ويعلم الله جل جلاله أنه لولاه سبحانه ثم هذه الأذكار لما أصبح من مسائه ولما أمسى من صباحه. فالموت أقرب للإنسان من شراك نعله، ولو تأمل الإنسان أن روحه وجسده مسخر مقدر بلطف من الله جل جلاله فوق العقل، الأطباء يقولون: في الدم نسبة لو زادت (1%) أو نقصت (1%) لهلك الإنسان في ساعته، والأطباء يقفون عاجزين مستسلمين إذا حدث أي اختلاف يفضي بالإنسان إلى الموت، ولا يستطيع أحد أن يتكلم، ولا يستطيع أن يعرف شيئاً وإذا بهم يقولون: هنا ينتهي الطب، وهنا تقف عقولنا ويبقى الأمر لله جل جلاله، وهو لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، فتجد هذه الأشياء التي تفضي بهلاك الأنفس لا تختص بالصغير ولا بالكبير، يعني: قد يحدث خلل في رجل عاجز كبير السن، يغلب على الظن أنه ميت فيقول قائل: نعم لكبر سنه، فإذا بالله جل جلاله يأتيهم بطفل ما يبلغ حتى سنوات، ويوضع بين أيديهم، وإذا بهم يستسلمون، ثم يأتيهم بالشاب القوي الجلد في صحته وعافيته، وفجأة يحدث له ذلك، أو تأتيه السكتة أو يأتيه -نسأل الله السلامة والعافية- ما يأتيه وإذا بهم يقفون عاجزين، ما ينجيهم إلا الله جل جلاله. شرع الله هذه الأذكار والأوراد حرزاً من الشرور الظاهرة والباطنة من الشرور المجتمعة والمنفردة من أي شيء يصيبك في دينك أو دنياك، فالأذكار عصمة من الله جل جلاله للعبد، وهذه الكلمات يقولها الإنسان ملتجئاً إلى الله، فتكتب له حسنات تلاوتها إذا كانت من الآيات، وأجر ذكرها إذا كانت من الأحاديث، فما أكرم الله جل جلاله! وما أعظم رحمته بعباده! هذا والله هو الكرم وهذا هو الجود! مع أنها حرز لك، فهل وجدت أحداً يحرسك ثم مع ذلك يعطيك؟! لا يكون هذا إلا من الله وحده، ولذلك الناس اليوم في غفلة، وأبسط شيء -وليس بالبسيط- إذا ركبت وأنت في السفر، ولنضرب مثلاً بشيء موجود الآن: تركب الطائرة فتقول: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، إي والله سبحان الله الذي سخر هذا المخلوق العجيب، لو كان يوجد بالذكاء والله إن الأقدمين أكثر منا ذكاءً، ولو كان يوجد بالقوة والله إن الأولين أشد وأقوى منا كما أخبر الله عز وجل، أكثر منا قوة! وأكثر منا أموالاً! وأكثر منا صحة! ولكن الله سبحانه يعطي الأول ويعطي الآخر لأنه كريم، فتقف أمام هذا المخلوق العجيب، والذي صنع الطائرة حائر كيف تطير؟ صنع الطائرة وهو لا يدري كيف تطير هذه الطائرة! فالله هو الذي فتح باب رحمته وسخر هذا المخلوق العجيب للناس. والذي نريد أن نعرف فضله هو الذكر وفائدته، يقول الإنسان الأذكار قبل أن يركب طائرة، وقلبه يرجف من الخوف وليس له معاذ ولا ملاذ إلا إلى الله جل جلاله، أمة تحمل بين السماء والأرض -الأربعمائة والثلاثمائة والمائتان والمائة- يحملون في شدة الحر وإذا بهم في برد، ويحملون في شدة البرد وإذا بهم في دفء، ويمضون الساعات بطعامهم وشرابهم، ولربما أغدقت عليهم المترفات التي لا يعلمها إلا الله جل جلاله، ثم يسيرون في أمان من الله جل جلاله، يقول بعض الخبراء: لو حدث أقل خلل في الجهاز الكهربائي يمكن أن تنفجر هذه الطائرة بمن فيها، فلا يبقى فيها أحد، ويقول بعض مشايخنا: لولا أن المشاهد أن أغلب الرحلات تسلم، لما جاز للمسلم أن يركبها، لكن الحمد لله أكثر الأحوال السلامة، لكن من الذي سلم؟ الله سبحانه لا إله إلا هو! ولكن ما أظلم الإنسان كما وصفه ربه: {ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]! ومن أظلم الظلم ظلمه لنفسه وكفرانه لنعمة ربه، يحمله الله هذا المحمل بين السماء والأرض، وقد تلا الأذكار وسأل الله جل جلاله، فإذا نزل إلى الأرض لا يمكن أن يذكر الله، وقل أن تجد أحداً منذ أن تطأ رجله المطار يلهج لسانه بالثناء على الله بما هو أهله، ولكنه يخرج ويسرح ويمرح غافلاً عن النعمة والحفظ الذي حفظه الله جل وعلا، لو تصور الواحد منا أنه في ليلة بل والله لو في ساعة مر عليك كرب ومعك أهلك وأبناؤك -لا قدر الله- وقدر الله لك سبحانه من ينجيك من هذا الكرب، لو كنت على خوف أن تهلك أنت وذريتك ومن معك فجاء شخص وأنجاك من هذا لبقيت عمرك كله تتحدث بفضله عليك، يا لله العجب! وأنت ما من طرفة عين وما من لحظة إلا والله يحفظك، له معقبات من بين يديك ومن خلفك، ومن أمامك، ومن تحتك، وعن يمينك، وعن شمالك تحفظك مما لم يكتبه الله عز وجل أن يصيبك. الأذكار حفظ عظيم من الله جل جلاله، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله جل جلاله، فلما نزلت عليه المعوذات ترك سائر التعاويذ واقتصر على المعوذتين، الشرور الظاهرة والشرور الباطنة، الشرور الروحية والشرور المحسوسة كل هذا جمعته المعوذتان {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2] هل هناك شيء يخرج عن خلقة الله جل جلاله؟! الله أكبر! (قل أعوذ): ألوذ وألتجئ وأعتصم، لكن يقولها المؤمن وهو يستشعر ما معنى أعوذ؟ ويستشعر أن السماء تتفتح بهذا الدعاء، ولذلك ربما يقولها المسحور فيعذب ساحره، ويقولها المسحور فيتعذب بها حتى الجني والقرين، وتجده يجد من الشدة واللأواء كلما اتصل القلب بالله جل جلاله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] هاتان السورتان سورة الفلق وسورة الناس جعلهما الله عز وجل حلاً لعقدة السحر الذي أصيب به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من أشد السحر لما سحره لبيد بن الأعصم عليه لعنة الله {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:1 - 3] الغاسق: الذي هو النجم، و (إذا وقب) إذا دخل وتعمق، وغالب ابتداء الليل ساعة انتشار الشياطين، بعد غروب الشمس إلى اشتباك النجوم، ولذلك نهي عن إطلاق الصبية في مثل هذا الوقت: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) إذا قلت: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) شمل هذا جميع الشرور التي تكون على الأرض أو بين السماء والأرض أو تنزل من السماء على العباد؛ لأن الله يحفظك بقدرته سبحانه وتعالى بهذه الكلمة اليسيرة: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:2 - 5] لأن الضرر يأتيك من وجهين: إما أن يكون الضرر يأتيك بالسحر وخاصة الأذى الروحي، يأتيك بتسلط {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] والضرر إما أن يكون مقصوداً أو غير مقصود، فالنفاثات في العقد غالباً تضر وممن يريد بك الشر فيستعين بالجن بأقصى أنواع الاستعانة وهذا غالباً ما يكون في السحر؛ لأنه ما يؤثر السحر إلا إذا تقرب الساحر فذبح للجن، أو نذر لهم أو فعل فعل الجن، ولذلك بعض السحرة يطلب ممن يأتيه أن يذبح للجن، فهذا غاية التقرب لغاية الشر وهو إبليس وجنوده لعنهم الله، فإذا نجوت من هذا بقي الذي يأتيك عن غير قصد؛ لأنه ربما شخص يراك وهو لا يعرفك ويرى عليك نعمة من نعم الله فيبهر من هذه النعمة فينسى ذكر الله فتصيبك العين، والعين حق، فانظر حكمة القرآن! {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:4 - 5]. بعد هذا بقيت الشرور التي في النفس وهي الوساوس والخطرات، الآن كفيت الشرور الظاهرة فما بقي أحد لا من أعدائك ولا ممن لا يقصدك إلا وقد حفظت منه بهذه السورة العظيمة إذا بك تقول: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:1 - 3] ما ألذ الثناء على الله جل جلاله! فكل شيء إذا مدحته وأطريته ربما علمت أو تيقنت أنك مبالغ إلا الله جل جلاله، فإنك مهما أثنيت عليه فإنك مقصر في حقه سبحانه وتعالى، ما أحد يستطيع أن يبلغ الغاية في مدحه قال صلى الله عليه وسلم: (لا نحصي ثناءً عليك). {مَلِكِ النَّاسِ} [الناس:2] يعني: أن تخاف من الناس، من بعض الأمور التي جعلها الله سبحانه وتعالى بأيديهم لكنك في ذات الوقت تحس أنهم مملوكون وأنهم عباد لله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ} [الناس:1 - 2]. فالله سبحانه وتعالى مالك الدنيا ومالك الآخرة ومالك الجن والإنس: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [المؤمنون:88] من هذا الذي خرج عن ملك الله جل جلاله؟ {مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:2 - 3] المعبود الحق، الذي لا يستحق العبادة أحد سواه، {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:4 - 6] التأثير الفكري، فكما أن الشروط محسوسة تكون أيضاً معنوية غير محسوسة: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:6] وقد يكون هذا الوسواس الخناس أقرب الناس إلى الشخص، فقد يكون الولد، وقد يكون الوالد، وقد تكون الوالدة، وقد تكون الزوجة، وقد يكون ا

وجوب انتظار الغائب بالشفعة حتى يرجع

وجوب انتظار الغائب بالشفعة حتى يرجع Q فضيلة الشيخ أشكل عليَّ حديث (جار الدار أحق بالشفعة في دار جاره، يُنتظر بها في حال غيبته) في قوله صلى الله عليه وسلم: (يُنتظر بها في حال غيبته) هل ينتظر صاحب الدار في بيع داره إلى أن يعود جاره من سفره، أم المقصود أنه يبيعها ولجاره حق الشفعة حتى لو تأخر إلى سنة في سفره، وكيف تكون صورة الشفعة في هذه الحالة إذا بنى المشتري على الأرض التي اشتراها؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالجواب هو الوجه الثاني، وهو أن المراد من الحديث في قول أهل العلم رحمهم الله والشراح، وهو المحفوظ أنه ينتظر الشريك حتى يعود ثم يقال له: شريكك باع، هل تريد أن تشفع أو لا تريد؟ وعلى هذا لا تسقط الشفعة بطول الغيبة لقوله عليه الصلاة والسلام: (ينتظر بها -أي: ينتظر بشفعته- إن كان غائباً) وعلى هذا يكون الحديث دالاً على مسألتين: المسألة الأولى: أنه إذا كان حاضراً فحكمه واضح إما أن يطلب الشفعة وإما لا. المسألة الثانية: إن كان غائباً فإنه يجب انتظاره ولو كان إلى سنواتٍ عديدة، وهذا نص عليه العلماء، وجمهرة أهل العلم على أنه ولو غاب مائة سنة فإنه باقٍ على شفعته إذا حضر؛ لأن الشفعة لا تسقط بطول المدة، وأما مسألة البناء والغرس فقد تقدم بيانها وتفصيل أحكامها، والله تعالى أعلم.

باب الشفعة [5]

شرح زاد المستقنع - باب الشفعة [5] إن مما حفظه الشارع وحرص عليه سلامة الصدور من الشحناء والضغناء التي تقع بسبب المعاملات أو البيوع، ولذلك شرع الشفعة، والشفعة قد يكون فيها بعض الخلاف إذا حصل عيب أو تلف شيء من العقار، أو اختلف في القدر والقيمة فكل هذه لها حلول في شرع الله وهدي رسوله، وفيها تفاصيل بينها أهل العلم.

إذا اختلف الشفيع والشريك في ثمن المبيع وعدمت البينة فالقول قول المشتري

إذا اختلف الشفيع والشريك في ثمن المبيع وعدمت البينة فالقول قول المشتري بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [ويقبل في الخلف مع عدم البينة قول المشتري] (ويقبل في الخلف) عند اختلاف الشفيع والشريك، هذه مسألة من مسائل القضاء، وقد ذكرنا غير مرة أن العلماء رحمهم الله من منهجهم أنهم يذكرون مسائل القضاء في الأبواب الخاصة، فيذكرون مسائل الاختلاف في الرهن في باب الرهن، ومسائل الاختلاف في الشركة في باب الشركة، والوكالة في باب الوكالة، وهنا ذكروا الاختلاف في الشفعة في باب الشفعة، وقلنا: إن الأصل أن تذكر هذه المسائل في باب القضاء؛ لأنها من باب الخصومة والنزاع؛ لأنهم افتقروا فيها إلى معرفة المدعي والمدعى عليه، ومن الذي يكون القول قوله، وبينا أن العلماء رحمهم الله ذكروا هذه المسائل مفرقة على هذه الأبواب؛ لأنها في داخل هذه الأبواب قد تختص بأحكام معينة، فحينئذٍ يكون من الأفضل والأكثر ضبطاً أن تذكر في هذه الأماكن الخاصة. فذكر المصنف رحمه الله رحمه الله مسائل الاختلاف في الشفعة، ولما كانت الشفعة تفتقر إلى معرفة الثمن الذي باع به الشريك للأجنبي، بحيث يتمكن الشفيع من المطالبة بالنصيب بذلك الثمن، فإنه إذا اتفق المشتري الذي دخل مع الشفيع على الثمن فلا إشكال، كأن يقول: اشتريت هذا النصيب بمائة ألف، فصدقه الشفيع، فحينئذٍ تلزمه ولا إشكال، لكن الإشكال لو اختلف الشفيع مع المشتري، فقال المشتري: اشتريت هذا النصيب بمائة ألف، وبطبيعة الحال لابد وأن يدعي الشفيع ثمناً أقل، ويقول: بل اشتريت النصيب بثمانين أو بسبعين ألفاً؛ لأنه يدعي أنه قد طلب ما هو أكثر، فحينئذ يقع الخلاف بين المشتري وبين الشفيع. فهل نصدق المشتري أم نصدق الشفيع؟ الشفيع يدعي أن الثمن أقل، والمشتري يدعي ثمناً أكثر، فهل نقول: إن السبعين ألفاً أو الثمانين ألفاً التي يدعيها الشفيع متفق عليها بين الطرفين، والخلاف فيما زاد وهو ثلاثون ألفاً أو عشرون ألفاً، فهل نصدق الشفيع أم نصدق المشتري؟ هذه هي المسألة إن وجدت بينة كشهود يشهدون أنه تم البيع بمائة ألف ألزمنا الشفيع بدفع مائة ألف، وإن وجدت بينة تشهد بأن البيع وقع بثمانين ألفاً ألزمنا المشتري أن يأخذ الثمانين وتتم الشفعة. إذاً: إذا وجدت بينة ووجد شهود يشهدون بأحد الثمنين حكمنا بها. حسناً! لو وجدت بينة تشهد بالأمرين بينة تشهد للشفيع، وبينة تشهد للشريك، بينة تقول: البيع بثمانين ألفاً، وشهود يشهدون ويقولون: البيع بمائة ألف، فهل نصدق هذه البينة أم هذه البينة؟ بعض العلماء يرى في هذه المسألة أن الأصل عند اختلاف البينتين تصديق قول المشتري، فيغلب ويرجح البينة التي مع المشتري، وبناءً على ذلك إن وجدت بينة لا تعارض غيرها مما هو مثلها فإننا حينئذٍ نحكم بالبينة سواء شهدت للشفيع أو شهدت للمشتري. أما إذا لم توجد بينة، وقال المشتري: اشتريت بمائة ألف، وقال الشفيع: بل اشتريت بثمانين ألفاً، فحينئذٍ يقول بعض العلماء: نصدق المشتري، والقول قوله، وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمه الله، وعضد أصحاب هذا القول قولهم بأن المشتري أدرى بما اشترى به، فعلمه أقوى وأوثق، والأصل أن القول للمشتري والبائع لأنهما هما اللذان عقدا الصفقة فيؤتمنان على القول فالقول قولهما. فإذا قال الشفيع قولاً ناقصا ًعن هذا القول الذي قاله المشتري نطالبه بالبينة؛ لأنه خارج عن الأصل، وكل من خرج عن الأصل فهو مدع، وكل من وافق الأصل فإنه مدعىً عليه، والقول قوله مع اليمين. بناء على ذلك نقول للمشتري إذا لم يصدقه الشفيع: احلف بالله أنك اشتريت هذا النصيب بمائة ألف، فإن حلف ثبتت له المائة ألف، أما إذا قال: لا أحلف ونكل عن اليمين رددنا اليمين على الشفيع كما هو معروف في منهج القضاء والمدعي مطالب بالبينة وحالة العموم فيه بينة إلى أن قال: فإن أبى فلطالب بها قضي بلا يمين أو بها وذا ارتضي فإن نكل عن اليمين يطالب الشفيع بحلفها ثم يحكم له بالثمانين ألفاً هذا بالنسبة للخلاف بين الشفيع وبين المشتري. بعض الأحيان يقع الخلاف في صفة البيع، فيتفقان على المائة ألف كأن يقول المشتري: اشتريتها بمائة ألف، فيقول الشفيع: نعم اشتريتها بمائة ألف، ولكنها مؤجلة وليست معجلة ليست بنقد، فحينئذٍ يتفقان على القدر، ويختلفان في صفة العقد هل هو معجل أو مؤجل، الشفيع يقول: مؤجل، والمشتري يقول: معجل؛ لأن من مصلحة المشتري أن تكون المائة ألف نقداً، ومن مصلحة الشفيع أن تكون مقسطة أو مؤجلة، فإذا اختلفا في صفة الحكم، بعض العلماء يقول: الأصل في النقد التعجيل، لكن في الحقيقة المشتري أدرى بما اشترى به، ونصدقه والقول قوله حتى يعطينا المدعي وهو الشفيع دليلاً على صدق ما قاله وادعاه من قدر الصفقة الذي هو الثمن أو صفة العقد. يبقى Q لو أن المشتري -الذي هو زيد- اشترى من شريكي فإن الشريك بائع، فإذا جئت أنا أشفع من زيد وجئت آخذ النصيب الذي اشتراه يقول بعض العلماء: هل نطالب البائع بالشهادة لو اختلف الشفيع مع المشتري في المسألة الماضية، فقال المشتري: اشتريت بمائة ألفاً، وقال الشفيع: بل اشتريت بثمانين ألفاً، فقال المشتري: اسألوا البائع بكم باعني، فرجعنا إلى البائع فقال: بمائة ألف، فهل شهادة البائع تقوم مقام البينة أو تعتبر مرجحاً لقول المشتري؟ في أغلب الأحيان لا يشهد البائع مع المشتري إذا كان المشتري صادقاً، لكن من أهل العلم رحمهم الله من قال: البائع لا نقبل شهادته في هذه المسألة، والسبب في هذا أن البائع إذا شهد بالثمن شهد لحض نفسه؛ لأن الثمن هذا مستحق له هو، وسيأتينا إن شاء الله في كتاب القضاء أن الشهادة يشترط في قبولها أن لا يجر بالشهادة لنفسه نفعاً، ولا يدفع عنه ضرراً بشهادته، يعني يشترط في قبولنا للشهادة أن لا ينتفع الشاهد بشهادته في جلب خير أو دفع شر، فإذا كان الشاهد ينبني ويترتب على شهادته حصول نفع له، أو دفع ضرر عنه فإنه لا تقبل شهادته، والدليل على ذلك حديث الحاكم في مسنده، وصححه غير واحد من أهل العلم رحمة الله عليهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين) والظنين: هو المتهم، قال تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24] (على قراءة ظنين) أي: بمتهم عليه الصلاة والسلام، فالظنين: المتهم، قالوا: ومن التهمة أن يجر لنفسه نفعاً، مثل شريكان ادعى أحدهما أن فلاناً اشترى من فلان شركة بمائة ألف، فقال الآخر: بل اشتريت بسبعين ألفاً، فجاء الشريك الثاني يريد أن يشهد، والشريك الثاني له نصف الشركة، فمعناه أنه إذا حكمنا بشهادته فإنه سينتفع بنصف شهادته، فحينئذٍ تكون الشهادة شهادة تهمة فلا تقبل هذه الشهادة، ويعتبر وجود التهمة والظنة موجباً لرد شهادته. هنا البائع إذا شهد أنه باع بمائة ألف، وهو الثمن الأكثر؛ لأن الخلاف الآن عندنا إذا قال الشفيع: بل اشتريت بثمانين ألفاً، فقال المشتري: اشتريت بمائة ألف، فمعناه أن هناك عشرين ألفاً اختلفا فيها، فالبائع من مصلحته أن يقول: بعت بمائة ألف؛ لأنه يثبت له عشرين ألفاً زائدة على الثمانين ألفاً المتفق عليها في الخصومة، ولذلك قال بعض العلماء: لا نقبل شهادة البائع من هذا الوجه. وقال بعض أهل العلم: إذا شهد البائع لأحد الطرفين صدقنا شهادته وعملنا بها؛ لأن التهمة تعتبر مؤثرة بشرط أن تكون قوية، والتهمة هنا ضعيفة، خاصة إذا كان قد تم العقد وأعطاه، وحصل بينهما القبض والثمن فحينئذٍ لا يجر لنفسه أي نفع؛ لأنه بعد قبضه للمائة ألف انتهت منفعته، فحينئذٍ قالوا: التهمة هنا ضعيفة، والتهمة تعتبر قوية إذا كانت مؤثرة، وهذا أمر حرره أبو البركات ابن تيمية في النكت، فبين رحمه الله أن التهمة لا تكون مؤثرة إلا إذا كانت قوية، أما إذا كانت ضعيفة فإنها غير مؤثرة. بناء على هذا القول يمكن أن نسأل البائع، ويمكن أن يستشهد أحد الخصمين بالبائع، فلو قال البائع: بعت بثمانين صدقنا الشفيع، ولو قال: بعت بمائة ألف صدقنا المشتري، وأوجبنا على الشفيع أن يدفع مائة ألف. وهكذا الحال في صفة العقد فلو قال: اشتريت بمائة ألف، فقال: معجلة؟ قال: لا، بل مؤجلة بأقساط، فلو قال البائع: بعتها مؤجلة بأقساط صدقنا الشفيع، ولو قال: بعتها نقداً وفوراً فإننا نصدق المشتري ونحكم على البائع بالدفع فوراً، ويعتبر قول البائع دليلاً على صدق الدعوى. إذا شهد البائع تكون هناك يمين مع شهادته تتم بها البينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحديث الصحيح أنه قضى بالشاهد مع اليمين، والقضاء بالشاهد مع اليمين محله الحقوق المالية، وهنا اليمين متعلقة بالحقوق المالية أو ما يئول إلى المال كما في الديات ونحوها. وعلى هذا فإننا نقبل القول الذي شهدت به البينة أو شهد به البائع مع ضعف التهمة، أو نقبل قول المشتري إذا لم توجد بينة ولم يشهد البائع لأحد الخصمين.

الحالة التي يعتمد فيها قول المشتري عند الاختلاف في قيمة القدر المشفوع

الحالة التي يعتمد فيها قول المشتري عند الاختلاف في قيمة القدر المشفوع قال رحمه الله: [فإن قال: اشتريته بألف أخذ الشفيع به ولو أثبت البائع أكثر]. فلو قال المشتري: اشتريته بألف أخذ الشفيع النصيب بالألف أو بهذا القدر الذي قاله المشتري، وهذا مبني على القاعدة أننا نصدق المشتري لأنه أعلم وأدرى بما اشترى به، ونلزم الشفيع بدفع ذلك المبلغ، هكذا لو قال: اشتريت بمائة ألف نقداً، قال الشفيع: بل اشتريت بها مقسطة ومؤجلة، نقول: لا، القول قول المشتري ونلزم الشفيع بقوله. (ولو أثبت البائع أكثر) (لو) تشير إلى خلاف مذهبي، يعني: نحكم بقول المشتري ولو شهد البائع ضده، كأن المصنف رحمه الله رجح القول الذي يقول: لا أقبل شهادة البائع، هناك من يقول: أقبل شهادة البائع إذا شهد بالأقل؛ لأنه لا يجر نفعاً، بحيث لو اختلفوا بثمانين ألفاً أو مائة ألف وقال البائع: ثمانين ألفاً أقبل قوله؛ لأنه لا مصلحة له في الزيادة، والمحل المختصم فيه وهو العشرون ألفاً لا يثبت له؛ لأن الخلاف في العشرين الزائدة، والحقيقة إذا تأملت القول الذي يفرق بين القليل والكثير في قبول شهادة البائع من حيث الأصول وجدته قولاً قوياً جداً من حيث الأصول التي قررناها، ويتفق مع الأصل الذي قلناه: أنه إذا ضعفت التهمة وجب قبول الشهادة؛ لأن الله أوجب علينا قبول شهادة معروف بالأمانة مرضي القول، فإذا كان البائع عدلاً مقبول الشهادة وشهد؛ الأصل قبول شهادته، فإذا جاء يشهد بالثمن الأقل ما يدخل على نفسه نفعاً، لكن لو شهد بالمائة ألف فمعنى ذلك أن القاضي سيقضي أن البيع قد تم بمائة ألف، فلو حصل خلاف بين هذا البائع الذي شهد وبين الذي اشترى منه مستقبلاً فإنه يلزمه بدفع العشرين الزائدة، وإذا أرغم بدفع العشرين الزائدة بناء على أنه ثبت عند الحاكم أن البيع قد تم بمائة ألف فمعنى ذلك أنه سيأخذ العشرين لمصلحة نفسه. ومن هنا يقوى قول من قال بالتفصيل، فالمصنف هنا يشير إلى مذهب من يقول بالتفصيل، يقول: أقبل شهادة البائع بشرط: أن لا تتضمن النفع وذلك بالزيادة، فقال: (ولو بأكثر).

مسألة: إذا أقر البائع بالبيع وأنكر المشتري

مسألة: إذا أقر البائع بالبيع وأنكر المشتري قال رحمه الله: [وإن أقر البائع بالبيع وأنكر المشتري وجبت]. هذا نوع آخر من الخلاف، المشتري من مصلحته أن يقول: أخذت النصيب بدون بيع، يعني: بدون معاوضة كما ذكرنا، لأنه إذا قال: أخذته هبة، أو أخذته مهراً لابنتي فإنه في هذه الحالة لا تثبت الشفعة، فهو سيدعي أنه انتقل إليه النصيب بدون عوض وليس هناك بيع، جاء البائع فقال: بل بعته، وشهد البائع أنه قد باع، البائع إذا شهد وقال: إنه قد باع يقبل قوله كما ذكر المصنف رحمه الله ويعمل به، ويثبت للشفيع حق الشفعة الذي هو الشريك الثاني بناء على شهادة البائع. لكن هذا مشكل لماذا لا نقبل قول البائع في القدر ونقبله هنا في إثبات البيع؟ لو قال قائل: إن البائع هناك يثبت لنفسه نفعاً نقول: أيضاً هنا يثبت لنفسه نفعاً؛ لأن المشتري يقول: أخذته هبة، والبائع يقول: بل بعته، فلا يثبت العشرين ألفاً بل يثبت المائة ألف لنفسه، فالشهادة هنا تثبت نفعاً كما تثبت هناك النفع، ولذلك اختلفت مخارج بعض العلماء في هذا، ومن أنسب ما قالوا: لأنه في الصورة الأولى يوافق المشتري على أنه اشترى، فالتهمة قوية، لكن في الصورة الثانية نقبل قول البائع لأن المشتري لا يوافق على أنه اشترى، فحينئذٍ يكون خصماً للبائع سواء قبلت شهادته أو لم تقبل شهادة البائع، وهذا وجه الفرق بين المسألتين. وعلى هذا فإن البائع إذا قال: بعت، حكمنا بثبوت الشفعة، وإذا ادعى المشتري أنه أخذ النصيب هبة وعطية أو مهراً على القول أن المهر لا تثبت فيه الشفعة، ووافقه البائع فلا إشكال، وإن خالفه حكم بقول البائع فيما اختاره المصنف رحمه الله؛ لأنه في هذه الحالة يثبت البيع والمعاوضة، وهو الأصل. السؤال الآن: لماذا نقبل قول البائع أنه باع، والمشتري يقول: أخذته هبة؟ لماذا نجعل قول البائع هو الأصل، ونجعل قول المشتري خارجاً عن الأصل، مع أننا نعتبر قول المشتري في الأصل هو الأصل؟ قالوا: لأنه إذا قال البائع: بعت، وقال المشتري: أخذته هبة فهل الأصل أن الإنسان يأخذ أموال الناس بعوض أم بدون عوض؟ نقول: الأصل أخذها بعوض، فإذاً قول البائع أنه باع متفق مع الأصل، وكل من وافق الأصل يكون قول من قال بخلاف قوله دعوى يطالب صاحبها بإثباتها بالدليل والبينة.

الضمان في الشفعة إذا وجد العيب

الضمان في الشفعة إذا وجد العيب قال رحمه الله: [وعهدة الشفيع على المشتري وعهدة المشتري على البائع]. العهدة أصلها من العهد، وإذا تعهد الإنسان فمعناه أنه قد أخذ على نفسه الميثاق بفعل الشيء أو تركه، والعهد من أعظم الأشياء وأصعبها، فالمسلم إذا قيل له: تعهد بشيء فليعلم أن الله سيسأله بين يديه عن هذا الشيء ولو كان من أحقر الأشياء {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء:34] وبالأخص إذا كان عهداً لله، ولذلك يقول العلماء رحمهم الله: ما عاهد أحد ربه فنكث عهده إلا ابتلي بالنفاق إلا أن يرحمه الله برحمته، ولذلك قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:75 - 77] فهذا يدل على عظم العهد، إذا قيل لك: عهد الله أن تفعل، عهد الله أن تترك، فإياك أن تقبل هذا العهد إلا أن تضطر إليه! إلا أن يتوب الإنسان من قلبه فيتوب الله عز وجل عليه، فإن الله عز وجل قد تاب عن الشرك الذي هو أعظم الأشياء، لكن الشاهد أن العهد أمره عظيم. فالعهد أصله الميثاق، لكن العهدة هنا المراد بها ضمان السلعة، وهذه المسألة في الحقيقة كانت في القديم تباع بعض الأشياء التي لا يمكن للمشتري أن يعرف حقيقتها إلا بعد مرور زمن ومدة، فمثلاً كانوا ربما يشتري أحدهم الدواب من الإبل والبقر والغنم، لكن ما يستطيع أن يكشف حقيقتها إلا بعد يوم أو يومين أو ثلاثة، فقد يشتريها على أنها حلوب، ثم يتبين أنها ليست حلوباً، ولا يمكن أن يتبين ذلك عند شرائها، فربما تكون محقنة مصراة كما تقدم معنا في البيع، فإذا بقيت ثلاثة أيام انكشف أمرها هل هي حلوب أم ليست بحلوب، كذلك يشتري الفرس على أنه جيد وأنه سباق، فإذا أخذه وركبه المرة الأولى والمرة الثانية ما يمكن أن يتبين صفاته إلا بعد مدة. وهكذا في الرقيق ربما كان به مرض، ربما كان مجنوناً جنوناً متقطعاً، فيباع حال الإفاقة، لكن بعد شهور يتبين أن به هذا الضرر، فهذا شيء يسمونه العهدة، وقد ورد فيه قضاء عن بعض الصحابة كـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قضوا بالعهدة في الأرقاء، وورد عن أئمة السلف رحمهم الله كالإمام مالك والإمام الشافعي عنهما قضاء بالعهدة والضمان بالدواب ونحوها. وفي زماننا لا يزال يوجد عندنا ما يسمى بالضمان، كالضمان الذي يكون في السيارات تضمن الشركة السيارة بمسافة محدودة، أو بمدة محدودة يمكن للمشتري أن يختبر هذا الشيء الذي اشتراه، وفي الأجهزة الكهربائية ونحوها، الضمان هو الذي يسميه العلماء العهدة، فكان موجوداً. يعني: إذا كان العالم لا يعرفه إلا في عصرنا الحديث بسبب التقدم، فقد عرفه السلف رحمهم الله والأئمة، وهذا من سمو الشريعة الإسلامية التي عرفت حقوق الناس من قديم الزمن، ما وجدت هذه الحقوق واعترف بها بعد أن تفتح الناس وعرفوا كيف يعيشون في هذه الحياة، لكن الشريعة لما كانت تنزيلاً من حكيم حميد كان ضمان الحقوق معروفاً وكان ضمان حق المشتري معروفاً حتى عند أئمة السلف رحمة الله عليهم، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصروا الإبل ولا الغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين: إن شاء أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر) وفي رواية: (حبسها ثلاثاً) أي: حبسها ثلاثة أيام ليكتشف هل هي حلوب أم ليست بحلوب؟ فهذا لا يمكن أن يكون إلا بالضمان، لكنه ضمان من الشريعة، فالشريعة عندها عهدة، فيكون ضمان البائع للسلعة على صورتين: إما أن يضمن ضماناً ملزماً لا خيار له فيه، ولا يتحقق بمدة، ولا قدر له من حيث الزمان، وهذا النوع من العهدة والضمان هو ضمان العيوب، فأي عيب في السلعة ولو اكتشف بعد سنوات يوجب الرد، ولو كتب البائع على مائة فاتورة، ولو ملأ جميع وثائق البيع أنه بريء من العيب لا يغنيه ذلك شيئاً، لو قال: البضاعة لا ترد ولا تستبدل واشترط هذه الشروط (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط) لأن الشريعة لا تجيز شروطاً تسقط حقوق الناس، ولا تجيز شروطاً تعين على ظلم الناس، وأكل أموالهم بالباطل، هذا أمر مفروغ منه. فإذا ثبت هذا يأتي النوع الثاني من العهدة التي تكتشف فيها حقيقة السلعة، لو أن الشريك باع نصيبه من العمارة، أو باع نصيبه من المزرعة، أو باع نصيبه من الأرض ثم تبين وجود عيب في هذا النصيب، من الذي اكتشف العيب، اكتشفه إما الشفيع بعد أخذه بالشفعة، أو المشتري بعد شرائه من الشريك، في هذه الحالة إذا وجد العيب في المحل الذي وقعت عليه الشفعة يكون وجه الشفيع على المشتري، ووجه المشتري على الشريك الأصلي الذي باع، هذا هو المراد بقوله رحمه الله: وعهدة الشفيع على المشتري، يعني: يطالب المشتري بضمان حقه، فيما الشفيع وجد من العيوب في المبيع من العقارات، وكذلك أيضاً يطالب المشتري البائع بضمان حقه فيأخذ حقه من المشتري، والمشتري يأخذ حقه من البائع في ضمان العيوب الموجودة في النصيب المباع.

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة في احترام العلماء وتقديرهم وترك النقد لكتبهم وأقوالهم

نصيحة في احترام العلماء وتقديرهم وترك النقد لكتبهم وأقوالهم Q قول المصنف رحمه الله في الشفعة: (وإن تصرف مشتريه بوقفه أو هبته أو رهنه لا بوصية سقطت) ألا يكون ذلك تكراراً حيث ذكر ذلك رحمه الله بمفهوم قوله في تعريف الشفعة: (وهي استحقاق انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه بعوض مالي)؟ A الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن واله. أما بعد: فبناء الفروع على الأصول، وذكر المسائل المفصلة والتي تشتمل على التفصيل بعد تلك التعاريف المجملة ليس بتكرار، يعني: إذا ذكر المصنف رحمه الله في تعريفه، وطبق التعريف بالمسائل التي تفصل هذا التعريف لا يكون تكراراً؛ لأنه محتاج إليه، فلو أنه قال: هي استحقاق الشريك انتزاع حصته ممن انتقلت إليه بعوض وسكت، إذاً: ليس له هنا داعٍ أن يتكلم عن الشفعة كلها، وإلا كان تكراراً، فهذا كله تفصيل وبيان، ولذلك يقولون: بناء الفروع على الأصول محتاج إليه، فالتعريف أصل، والمسائل فروع مبنية على هذا الأصل الذي تعرف به حقيقة التعريف، ويتمكن طالب العلم من الضبط أكثر. وأنبه على مسألة: وهي أن الشريعة كلها تكرار، وهذا التكرار له مغازٍ عظيمة جداً، حتى إن البعض تجده يقول: إن المحاضرات مكررة، والكلام مكرر، فنقول: القرآن مليء بالتكرار، والتكرار من أقوى الأساليب في الإقناع وثبوت الحق في نفسية المخاطب إلى درجة أن تصبح هذه الحقائق من المسلمات التي لا جدل فيها، والشيء إذا كرر على الإنسان يثبت، وأنت في صلاتك تكرر، وأركان الدين قائمة على التكرار، والمؤذن يأتي بأذان بلفظ مخصوص كل يوم خمس مرات، ثم تأتي وتقول: لم يشتمل على التوحيد، وعلى أقدس شيء وأعظم شيء حتى يصل إلى درجة أن الإنسان ما يمكن أن يقبل أي جدال أو نقاش في هذا الشيء المكرر، وقصص الأنبياء تكرر في القرآن حتى توصل إلى حد القناعة والتسليم، ولذلك لما كانت الأمة الإسلامية ممنوعة من دخول الأفكار عليها، ودائماً تكرر لها البدهيات والموروثات -كما يقولون- كانت في حصن حصين، وحرز مكين من الله سبحانه وتعالى، وما إن أصبحنا نمل، حتى إن الشخص صار يجد في نفسه الكسل عن سماع المكرر، فلو يجد شخص عنوان محاضرة عن الصبر يحس أنه شيء مكرر، لكن لو أنني أذهب وأحضر المحاضرة وأستمع هذه المرة والمرة الثانية والثالثة يصبح موضوع الصبر عندي عقيدة لا تقبل النقاش، ومبدأ لا يمكن أن أحيد عنه بشعرة، هذه أمور ما جاءت من فراغ، التكرار في مجالس العلم لا يمل، لأنك إذا أحببت شيئاً ألفته وتلذذت بتكراره، فإذا كان هذا من شرع الله ومن كتابه وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا تمله أذن، ولا تسأمه نفس، بل إن الإنسان يفرح ويحب أن يكرر هذا الشيء، ويعاد كرة ومرة. فالعلماء رحمهم الله لا يكررون -بالتجربة والاستقراء- هذه المتون وهذا الكلام الموجود فيها إلا لتعلم أنه لا يضع المتن الفقهي إلا عالم مشهود له بالعلم، ولذلك خذ كتب الطبقات، لو جئت الأئمة والعلماء الذين بلغوا درجة الاجتهاد في مذهب الإمام أحمد لوجدت أنهم كثر، قد لا يحصون عدداً في كل قرن وزمان، بل في القرن الواحد، لو تأخذ أئمة الحنابلة في القرن السادس أو الخامس أو الرابع أو الثالث الهجري الذين بلغوا درجة الاجتهاد قد تجد بعضهم وقد لا تجد بعضهم؛ لأن الأموات الذين لم يحصوا ولم يذكروا أكثر، فإذا كان الأمر بهذه الصفة في أمم -ما من مائة من الزمان تمر إلا وفيها جهابذة العلم- ويبقى المتن عشرة قرون أو يبقى أحد عشر قرناً وهو يدرس ويقرأ، ونأتي في القرن الخامس عشر لنقول: هذا تكرار في المتن! يا إخوان! ينبغي أن نعرف منزلتنا، أنا لا أتهكم في السائل، أنا أتهكم في أشياء كانت معروفة عندما كان الإنسان يعرف قدر غيره، وأنبه على أمور من الآفات عند طالب العلم، تعود طلاب العلم اليوم على مسألة النقد، ولذلك دائماً مسألة التكرار تضاد النقد؛ لأن الشيء المكرر ما يستطيع الإنسان يقبل فيه قولاً ولا يتراجع عنه، لكن إذا كان الشيء فيه مدخل للنقد تصبح المسلمات والبدهيات محل شك، ولذلك تجد الطالب في بعض الأنشطة التي تكون ثقافية أو نحوها يعود على قراءة الكتب ونقدها، نقول: لماذا؟ يقول: حتى تكون له شخصية! شخصية جاهلة متهورة في تخطئة السلف، وقد جاءني طالب ذات مرة وقال: أعطي كتاب زاد المعاد للإمام ابن القيم لأربعة أشخاص لدراسته ونقده وهم طلاب ثانوية! يعني: لابد على الإنسان أن يخاف من الله عز وجل ويعلم أن العلم أمانة ومسئولية. التكرار والعيوب الموجودة في كتب العلماء تحتاج إلى تمحيص تحتاج إلى مراجعة تحتاج إلى سبر واختبار وكم من عائب قولاً سليماً وآفته من الفهم السقيم ينبغي أن يعلم أن هذا العلم عرض على دواوين وأئمة وعلماء وجهابذة، إن كان بالورع والصلاح فالله أعلم ولا نزكيهم على الله قد يكونون أتقى لله منا، وإن كان زمانهم الذي ملئ بالعلم والصلاح والخير أبلغ في ضبط العلم من الزمان الذي فيه الفتن، فأين يذهب عن الإنسان رشده وهو يرى هذه الحقائق التي تهيئ قبول هذا الحق والرضا به؟! اليوم ينبغي علينا أن نتعلم ضبط ما قاله العلماء، أول شيء لابد أن تفهم ماذا يقال في المتون، اترك مسألة النقد، يقول العلماء لطالب العلم: تعلم ثم تكلم، أولاً يتعلم وليس يتكلم ثم يتعلم، نتعلم ما هي هذه العبارات؟ ما هي معاني هذه المتون والكلمات التي اختيرت؟ والله إن بعض الكلمات تختار بعناية وتجمع أكثر من ثلاثة احتمالات؛ لأن المذهب يحتمل أكثر من احتمال، ما يأتون بكلام غير محتمل، يأتون بكلام محتمل حتى يجمع بصورة أوسع الخلاف الموجود داخل المذهب. فأقول: لا ينبغي لطالب العلم أن يتسرع في النقد، وليس معنى هذا أن نقبل الغث والسمين، إنما معنى هذا أن نتكلم بعلم، والخطوات المطلوبة كما يلي: أولاً: فهم طالب العلم لكلام العلماء، والعناية بالعبارات والجمل. ثانياً: معرفة معاني هذه الكلمات، والاعتناء بالجمل كما وردت عن العلماء لا يزاد فيها ولا ينقص منها، ثم معرفة ما معنى هذه الجملة، ولماذا قال المصنف كذا ولم يقل كذا؟ كما هو موجود في الشروح والحواشي والتقريرات التي ألفها أهل العلم. ثالثاً: معرفة الدليل الذي دل على هذه المسألة التي تضمنتها الجملة، وبعدما تفهم وتعرف الدليل تبقى على هذا الحق الذي له دليل من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى تجد دليلاً أقوى منه، أو حجة محكمة ناسخة للذي اعتقدته أولاً، فتحيد عنه لأنك تعرف أن الحق في غيره، وهذا إذا انتقلت إلى درجة ثانية وهي درجة الاجتهاد، أما وأنت في طلب العلم لا تشوش على نفسك، ولا تذهب يمنة ولا يسرة، المهم عندنا الآن أن تفهم كلام العلماء، وأن تعلم أنك إذا جلست في أي مجلس علم وسمعت أحكاماً ومسائل فاعلم أنها تنقل من ذمة العالم إلى ذمتك، وأنت مسئول أمام الله عز وجل عن هذه الكلمات، فاعتن بها وبضبط الدليل حتى تجد دليلاً أصح منه متى ما طلبت درجة الاجتهاد، ولذلك فلابد لطالب العلم أن ينضبط بهذا المنهج الذي أدركنا عليه أهل العلم رحمة الله عليهم، ويترك عنه التشويشات، ويترك عنه سوء الظن بالعلماء والقول: إنهم يخطئون وإنهم بشر فهذه كلمة حق أريد بها باطل، الخوارج قالوا: لا حكم إلا لله وهي كلمة حق، فهل أحد يقول: الحكم لغير الله، قال علي رضي الله عنه: (كلمة حق أريد بها باطل) الذي يأتي يقول لك: العلماء بشر يخطئون ويصيبون، ما وجدت إلا العلماء بشر، ما وجدت أن الله يقول: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [النساء:162] ما وجدت أن الله يقول: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، لكن نقول: إنهم بشر ونقف عند هذا الحد ما ينبغي هذا، العلماء ورثة الأنبياء، والله يقول عن نبيه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110] لكن ماذا بعدها: {يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف:110] ما وقف على مقامه البشري عليه الصلاة والسلام، لكن قال: (إنما أنا بشر مثلكم) وأكد هذا فقال: (مثلكم)، ثم قال: (يوحى إلي) فالذي يأتي ويقول: النبي صلى الله عليه وسلم بشر، فنقول: أليس برسول من الله عز وجل؟! فينبغي أن نجمع هذا مع هذا لأنه من العدل الذي أمر الله به، وإذا قال: العالم بشر، نقول: نعم هو بشر، لكن الله فضله بالعلم، وفضله بأنوار الوحي التي في صدره {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49]. ومما ينبغي علينا كطلاب علم فعله -وهذا روح العلم- أننا إذا كنا نقرأ دواوين السلف الصالح والأئمة لابد من أحد شعورين: إما شعور بالثقة حينما نعرف قدرهم ونعرف منازلهم وما فضلهم الله به، فعندها يفتح الله عز وجل على العبد، وأقول بالمناسبة خاصة الفقة فيه أخذ وعطاء، وفيه مسائل خلافية، وفيه ردود ومناقشات، والله إني لأقرأ الكلام للعالم وعندي أكثر من نقد عليه، فما إن أشعر بأنه أعلم، وأن الله فضله بذلك العلم وإذا بتلك الإشكالات حينما أعيد النظر المرة الأولى يتبدد بعضها ثم الثانية يتبدد بعضها ثم الثالثة يتبدد بعضها حتى تنكشف للإنسان الحقيقة، كالشخص الذي يخرج للشمس فإنه إذا كان في ظلام وداخل بيته ما يستطيع أن يتبين شعاع الشمس، وهكذا في العلم؛ فالطالب كان قبلاً في جهل، فإذا خرج فجأة للعلم لم يتبين له بوضوح. ولذلك كانوا يقولون: (أول العلم طفرة وغرور، وآخره كسرة وخشية لله سبحانه وتعالى) لماذا؟ لأنه في آخره عرف العلم وعرف قدره، وكم من مرة كنا نجلس مع العلماء من مشايخنا وهم يشرحون ونحب أن نأتي بكثير من الانتقادات في طريقة الشرح وأسلوبه، لكن والله ما إن تعلمنا حتى وجدنا أنهم أسمى وأرفع بكثير، عندما أحسسنا بالعبء الذي يحملونه، فأنت إذا كان عندك شعور بأن هذا من أهل العلم، وهذا العالم صاحب المتن من أهل العلم، وممن زكي علمه، ويكفيك أن الله أبقى كتابه قروناً وردحاً من الزمن، يدل على أن مذهب هذا الإمام من أئمة السنة والجماعة وغيره من المتون التي عرف أهلها بالصلاح والاستقامة، والحرص على دليل الكتاب والسنة، والتجرد

باب الوديعة [1]

شرح زاد المستقنع - باب الوديعة [1] لقد حث الإسلام على حفظ الودائع وصيانتها، وهي مما توثق الروابط بين المسلمين وتزيدها صلابة، وفي طيات هذا الدرس العديد من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالوديعة وما يترتب على التفريط فيها.

تعريف الوديعة لغة واصطلاحا

تعريف الوديعة لغة واصطلاحاً بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الوديعة]. الوديعة في لغة العرب مأخوذة من الودع، يقال: ودع الشيء إذا تركه، ومنه قول الحق تبارك وتعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] ما ودعك يعني: ما تركك، وما قلى، يعني: ما هجرك؛ لأن الوحي انقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم مدة من الزمن، فقالت امرأة تهزأ بالنبي صلى الله عليه وسلم: ما أظن نجيك إلا قلاك، فأنزل الله عز وجل: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:1 - 3] أقسم الله بالضحى الذي هو بداية النهار فكنايته عن النهار كله، {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:2] الذي هو ابتداء الليل، فأقسم الله بابتداء الليل وبابتداء النهار، والزمان كله إما ليل أو نهار، ثم قال تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] يعني: ما تركك، فالودع هو الترك، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم وغيره: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين) فقوله: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات) يعني: عن تركهم صلاة الجمعة، (أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين) فلا ينتفعون بموعظة أبداً، فالقلب إذا خُتم عليه -والعياذ بالله- لو صبت عليه مواعظ الدنيا لم تؤثر فيه شيئاً، نسأل الله السلامة؛ لأنه يغلق عليه تماماً. فلذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات) يعني: عن تركهم شهود صلاة الجمعة، فالودع هنا بمعنى الترك. وأما الوديعة في اصطلاح العلماء، فأهل العلم رحمهم الله إذا أطلقوا هذا المصطلح الشرعي فإنهم يعنون به التوكيل في حفظ مال ونحوه. وبعضهم يقول: تسليط الغير على حفظ المملوك أو المحترم شرعاً، والمعنى متقارب، فإذا كان عندك مال وأردت حفظه عند شخص فقلت له: خذ هذا المال وديعة عندك فقد وكلته، وأقمته مقام نفسك بحفظ هذا المال ورعايته وصيانته، فالوديعة توكيل وتفويض من الشخص المالك للغير في أن يحفظ المال، فنزله منزلته، وذلك لأنك لن تودع إلا عند من تأتمنه؛ لأن الوديعة أمانة، فتوكيل الغير المراد به التفويض في حفظ المال، مثل أن تقول له: هذه مائة ألف ضعها عندك وديعة، وهذا كيلو من الذهب ضعه وديعة عندك، هذا كله يعتبر توكيل بشيء مخصوص وهو الحفظ. ولما قال العلماء: الوديعة توكيل معناه أنه تنطبق على الوديعة ما ينطبق على الوكالة، فلا بد أن تكون الوديعة -أي: الإيداع وطلب الحفظ- صادرة من شخص له حق أن يودع، أو يصح من مثله أن يودع، ومثل هذا البالغ العاقل الرشيد الذي له حق التصرف في المال، فلا تصح الوديعة من صبي إلا إذا كان مميزاً مأذوناً له بالتجارة فهذا يستثنى؛ لأننا إذا أذنا للصبي بالتجارة فإن من لازم الإذن بالتجارة أنه يحتاج إلى حفظ ماله، والقاعدة أن الإذن بالشيء إذن بلازمه، فإذا أذن الوالد لولده أن يتاجر بماله، فجلس في دكانه، فإنه يصح لمثله أن يوكل، ويصح لمثله أن يودع إذا كان في حدود ما فوض إليه كما تقدم معنا في باب الوكالة. كذلك: لا تصح الوديعة من مجنون، فلو أن شخصاً مجنوناً أعطى مالاً لشخص، وقال: هذا وديعة عندك لم تنطبق عليه أحكام الوديعة، وهكذا بالنسبة للمحجور عليه لسفهٍ، فإنه ليس له حق التصرف في ذلك، وليس له حق إيداعه. كذلك من يودع عنده يشترط فيه أن يكون عاقلاً، وأن يكون رشيداً، وأن يكون حراً، وأن يكون بالغاً إلا على التفصيل الذي ذكرناه في المأذون له بالتجارة، والسبب في ذلك أنه إذا لم يكن عاقلاً فإنه لا يستطيع أن يحفظ ماله فضلاً عن أن يحفظ أموال الآخرين، فمثله ليس بأهل لأن يحفظ الوديعة؛ ولأن الغالب فيه أن يضيع المال، فيفوت المقصود من حفظ الوديعة. قول العلماء رحمهم الله: توكيل الغير في حفظ المال ونحوه، وبعض العلماء يقول: توكيل الغير في حفظ المملوك أو المحترم شرعاً، مثلاً: المال يشمل الذهب والفضة وغيرها من سائر الأشياء، بل قد تقول له: عمارتي وديعة عندك، فهو يشمل الأموال والعقارات، ولكن قول بعض العلماء أو المحترم شرعاً يشمل ما ليس مملوكاً، فالقرآن محترم شرعاً وليس بمملوك -على قول من يقول لا يجوز بيعه- فحينئذٍ يدخل في الوديعة، يمكن أن يأخذ مصحفاً ويقول لشخص: هذا وديعة عندك، فهو ليس بمال على القول بأنه لا يجوز بيعه، وهذا مذهب طائفة من العلماء: ومنع بيعه لدى ابن حنبل وكرهه لدى ابن شافع جلي وقد تقدمت معنا هذه المسألة في البيع، فإذا قلنا: إن الوديعة تختص بالأموال يشكل علينا أن هناك أشياء ليست بأموال وليست في حكم الأموال ويقال: إنها وديعة وتأخذ حكم الوديعة، كما مثلنا بالقرآن وما في حكمه.

الأدلة على مشروعية الوديعة والحكمة من تشريعها

الأدلة على مشروعية الوديعة والحكمة من تشريعها الوديعة مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع، أما كتاب الله عز وجل فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]، فأمر الله سبحانه وتعالى بأداء الأمانات، وهذا يدل على أنها كانت محفوظة عند أهلها، ومن هنا قال طائفة من أهل العلم: هذه الآية الكريمة أصل في مشروعية الوديعة، وأصل في جواز الإيداع عند الغير، وأنه يجب على من استودع أن يحفظ الوديعة وأن يرد الأمانات إلى أهلها. ومن السنة قوله عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك). وأجمع أهل العلم رحمهم الله على مشروعية الوديعة، وأنه يشرع للإنسان أن يحفظ ماله عند الغير، ويشرع له -أيضاً- أن يقوم بحفظ أموال الناس، لكن الواجب على المسلم أن لا يتحمل مسئولية حفظ الأموال ومسئولية الودائع إلا إذا غلب على ظنه أنه يحفظ حقوق الناس، وأنه لا يخاطر بهذه الحقوق، ولا يجوز لمسلم أن يضر بمصالح إخوانه المسلمين فيمكنهم من الإيداع عنده والغالب على ظنه أن ودائعهم لا تحفظ؛ لأن هذا خلاف النصيحة. ومن الحكم المستفادة من شرعية الوديعة أنها تعين على جلب المصالح ودفع المفاسد والمضار، ففيها مصلحة للشخص الذي يملك مالاً ولا يستطيع حفظه، كما لو أن شخصاً أراد السفر وغلب على ظنه أنه لو سافر يضيع ماله أو يتعرض للتلف، فاستودعه شخصاً؛ فإن هذا يدفع عنه الضرر ويحقق له مصلحة بقاء المال، كذلك فيه مصلحة للشخص الذي توضع عنده الودائع، لما في ذلك من الأجر العظيم والثواب الكبير، ولما فيها من التراحم والتواصل والتعاطف؛ لأن المسلم لا يحفظ مال أخيه المسلم إلا إذا رحمه، وأحس بما بينه وبين أخيه من أخوة الإسلام التي توجب عليه أن يحسن إليه وأن يبذل له ما يستطيع بذله خاصة عند حاجته ومن ذلك الوديعة، ففي الوديعة خير كثير، ولذلك تزداد المحبة بين الناس بالودائع، فلو أن شخصاً له مائة ألف وقال للآخر: ضعها عندك وديعة، فإن الشخص الذي يدفع الوديعة سيشعر أن أخاه أحسن إليه فيحبه؛ لأن القلوب جبلت على محبة من أحسن إليها. أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم لطالما استعبد الناس إحسان فالإحسان يوجب محبة الناس وإكرامهم للمحسن. كذلك أيضاً الوديعة فيها خير بالنسبة للشخص الذي يقوم بالوديعة، فإنه إذا جاءه أخوه وقال له: ضع هذه المائة ألف أمانة عندك فإنه سيشعر أن أخاه يثق فيه، وأن أخاه قد أنزله منزلة من بين سائر الناس إذ ائتمنه على عورة من عوراته، أو على حق من حقوقه، أو على أمواله، وهذا يدل على أن منزلة المودع عنده كبيرة، ولذلك ما أقبح أن يخون الإنسان هذه الأمانة أو يضيع هذه الوديعة، ومن هنا كان يقول بعض العلماء رحمهم الله: إن من سنن الله عز وجل أنه ما خان أحد وديعته ولا فرط فيها ولا ضيعها إلا عاقبه الله في الدنيا قبل الآخرة، وتأتي العواقب على أسوأ ما يكون، خاصة إذا كان في إنكار الوديعة وجحود الوديعة فإن الله يخذله. وكان العلماء يستشهدون بالحادثة المشهورة التي وقعت في زمان بني العباس، أن رجلاً أراد الحج إلى بيت الله الحرام، وكان معه هميان أو كمر، وجمع فيه ماله وتجارة عمره، وكان بداخله من الجواهر الغالية الثمن التي هي كل ما يملكه في حياته، فجاء إلى رجل في السوق يعرفه بينه وبينه مودة ومعاملة في التجارة، فقال له: خذ هذا الكمر والهميان أمانة ووديعة عندك حتى أحج وأرجع، فذهب إلى الحج ولما رجع اشترى له هدية من باب المكافأة، فلما دخل عليه إذا بالرجل يتنكر له، سلم عليه فرد عليه السلام بجفاء، فجلس بجواره يظن أنه منكوب أو مكروب فقال له: أولا تعرفني؟ قال: لا أعرفك، من أنت؟ قال: أنا فلان الفلاني، قال: ما أعرفك، فأنكر معرفته، فقال له: بلى أنت تعرفني وقد استودعتك مالي، قال: لا أعرفك وليس لك عندي مال، فحاول الرجل أن يسترد ما أودعه عند صاحبه المرة والمرتين والثلاث حتى يئس منه، فانطلق إلى الخليفة يقال أنه المعتضد رحمه الله، وكان المعتضد من أقوى الخلفاء فراسة ودهاءً وذكاءً، وشكا إليه ما وجد، فقال له: اذهب إلى الرجل وأمهله ثلاثة أيام، واجلس كل يوم باب دكانه لعله يعرفك أو يتذكرك، فلما مضت ثلاثة أيام رجع إليه وقال: لم يصنع شيئاً، بل طردني من أمام الدكان، وقال: لا أراك بعد اليوم تجلس في هذا المكان. فقال له الخليفة المعتضد رحمه الله: إذا كان من الغد فإني داخل السوق، فإذا دخلت السوق فسأمر بك فكن على مجلسك، وسأسلم عليك وأنت جالس مكانك فلا تتحرك، ولا تبد اهتماماً ولا تحدث أي شيء، وأعتني بك ولا تعتن بي، ثم أنصرف عنك، وانظر ماذا يكون من الرجل، فانطلق رحمه الله ومر عليه وهو بالسوق، فلما مر عليه قام السوق وقعد لدخول الخليفة فيه، فلما مر على الرجل سلم عليه فرد عليه السلام كأي شخص، فسأله عن حاله وعن حال أولاده وأهله وإذا به على حاله لم يتحرك فيه شيء، فلما مضى الخليفة إذا بالرجل قد أصابه الرعب مما نظر، الخليفة يسلم عليه ولا يبالي ولا يكترث به، وإذا بالخليفة يسأل عن أولاده وأهله، فعند ذلك استدعاه المودع عنده ولاطفه وقال له: ربما أني نسيت من أنت؟ فقال المودِع: أنا فلان بن فلان، تذكرت وديعتي؟ قال: نعم، قال: فأخرج له الهميان -نسأل الله السلامة والعافية- فإذا بالخائن قد خاف من المخلوق أكثر من خوفه من الخالق، قال: فأخرج له الهميان فإذا هو بعينه، فأخذ الهميان وانطلق إلى الخليفة وقال: يا أمير المؤمنين! هذا الرجل وهذا ما صنع، فأمر به رحمه الله فجلده في السوق، وعزره تعزيراً بليغاً. فهذه عاقبته في الدنيا، وعاقبته في الآخرة أشد وأنكى، قل أن يخون أحد وديعة إلا عجل الله له العقوبة في الدنيا قبل الآخرة، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) يقولون: حتى منع الشخص أن يخون الأمانة مع وجود الأذية، مع أن الله يقول: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، فلا يقابل المسيء بالإساءة في الأمانة؛ فإذا خان فلا تخن أنت؛ فإن الأمانة أمرها عظيم. يقول المصنف رحمه الله: (باب الوديعة) أي: في هذا الموضوع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالودائع، وحقوق الناس المحفوظة عند الغير، وهذا يشمل بيان حقيقة الوديعة، ويشمل عقد الوديعة، وما يترتب عليه من سقوط الضمان وعدمه، ومتى يكون الشخص المودع عنده ضامناً، ومتى يكون أميناً لا يلزمه الضمان.

الأمر المترتب على من تعدى أو فرط في الوديعة

الأمر المترتب على من تعدى أو فرط في الوديعة قال رحمه الله تعالى: [إذا تلفت من بين ماله ولم يتعد ولم يفرط لم يضمن]. يقول المصنف رحمه الله: إذا تلفت من بين ماله ولم يتعد ولم يفرط لم يضمن، وإذا شئت فقل بدل هذه العبارة: إن الوديعة أمانة، ويد المودَع عنده يد أمانة لا يضمن إلا إذا فرط أو تعدى؛ لأن إسقاط الضمان مع عدم التفريط والتعدي لا يكون إلا في يد الأمانة، وقد تكلمنا غير مرة في مسائل المعاملات على أن اليد تنقسم إلى يد ضمان ويد أمانة، يد الأمانة هي اليد التي لا نلزمها بالضمان إلا إذا تعدت أو فرطت، فلو حصل شيء سماوي مثل الصواعق والأعاصير فأتلفت وأحرقت هذا الشيء المودع دون أن تفرط ودون أن تتسبب في إحراقه فإنه لا ضمان عليك، هذه يد أمانة لا ضمان على الإنسان فيها إلا إذا تعدى أو فرط، وبناءً على ذلك تستطيع أن تختصر الجملة وتقول: إن الوديعة أمانة، ويد المودع عنده يد أمانة لا يضمن إلا إذا فرط أو تعدى. تقدم معنا مسألة التفريط فهناك أسباب لابد من وجودها وتوفرها إذا قصر الشخص في هذه الأسباب كلها أو بعضها وحصل الضرر فإنه يضمن. مثال قديم: لو قال شخص لآخر: خذ هذه الناقة وديعة عندك، فمن المعلوم أن الناقة إذا آوت فإنها تعقل؛ فإذا حل عقالها فهذا تفريط، وحينئذٍ يلزمه الضمان، ويخرج عن كون يده يد أمانة إلى كونه ضامناً، فلو فرت هذه الناقة لزمه ضمانها، لا نقول: إنه مودع عنده، وأنه مؤتمن ويده يد أمانة، نقول: يده يد أمانة ما لم يفرط. مثال آخر في زماننا: لو قال له: خذ هذه السيارة واجعلها عندك وديعة لا أسمح لك بركوبها ولا استخدامها، اجعلها عندك وديعة واحفظها في داخل الحوش، فأوقفها خارج الحوش، ثم حصل حريق فاحتقرت السيارة، نقول: عليه الضمان لأنه فرط؛ فقد أمره أن يضعها في حرز معين فلم يضعها في ذلك الحرز فيضمن. قال له: هذا مبلغ عشرة آلاف ريال احفظه عندك، أخذ المبلغ منه فوضعه على مكتبه دون أن يحفظه ثم ذهب، ثم جاء سارق وسرق المبلغ، فمن المعلوم أن العشرة آلاف لا توضع على المكتب، وإنما توضع في الأدراج وتحفظ وتصان، ولكنه لم يقم بصيانة المال، فهذا تفريط وإهمال، فالتفريط والإهمال يوجب الضمان على المودَع؛ فليس له أن يقول: يدي يد أمانة لا أضمن، ونقول: يدك يد أمانة بشرط أن لا تفرط، ولكنك فرطت في حقوق الناس، ولذلك يلزمك ضمان هذه الوديعة. والتعدي مجاوزة الحد، ويكون التعدي بتجاوز الحدود سواء كانت شرعية أو كانت عرفية، وهذه الحدود التي تعرف بالشرع أو بالعرف تصان بها الودائع، فإذا تجاوز المودع عنده هذا الحد، فحينئذٍ نقول: قد تعدى، أو تجاوز هذا الحد، ففي هذه الحالة يكون التعدي منه موجباً للضمان. مثال للتعدي فإذا قال له: خذ هذه السيارة وضعها عندك في المزرعة ولا تستعملها، فأخذها واستعملها فهذا تعدٍ؛ لأنه وضع له حداً وقال له: لا تستعملها. وإذا قال له: خذ هذه السيارة، آذن لك أن تستخدمها في ذهابك إلى المسجد ورجوعك، ولا آذن لك بغير ذلك، فخرج بها للنزهة والسفر، فهذا تعدٍ. إذا قال له: خذ هذه السيارة وديعة عندك، وآذن لك أن تستفيد منها بشرط أن لا تتجاوز السرعة بها عن مائة، فتعدى وتجاوز المائة والعشرين فلو حصل تلف أو حادث فإنه يضمن. إذاً: الوديعة لا تضمن إذا لم يتعد ولم يفرط، وسيذكر المؤلف رحمه الله صوراً جميلة هي تقارب السبعة أو الثمانية، وبعضهم يوصلها إلى التسعة، وهذه الصور كلها يخرج فيها المودَع عن كونه أميناً إلى كونه ضامناً، ولذلك المسائل في الوديعة غالبها يدور حول سؤال واحد: متى يكون المودَع ملزماً بالضمان ومتى يسقط عنه الضمان، متى نبقيه على الأصل فنقول: لا ضمان عليه، ومتى نخرجه عن هذا الأصل ونقول: ليست يده يد أمانة ويلزمه الضمان، وهذا الذي يبحثه العلماء رحمهم الله في مسائل الوديعة، ولما بحث أهل العلم رحمهم الله هذه المسائل بحثوها بالأمثلة، ويجعلون لكل سبب من أسباب الضمان ضابطاً، وربما في بعض الأحيان هذه الأسباب يدخل بعضها تحت بعض، يعني: التعدي والتفريط ممكن أن تعتبره أصلاً للجميع، فإما متعدٍ وإما مفرط، ولا يخرج عن كونه متعدياً أو مفرطاً كما سيأتي.

الإيداع يكون بالقول والفعل

الإيداع يكون بالقول والفعل الوديعة عقد من العقود على أصح أقوال العلماء، بناءً على ذلك الوديعة يكون عقدها بالأقوال وبالأفعال، وقد تكون هناك أفعال معروفة تدل على الايداع، الوديعة تكون بالأقوال يقول له: خذ هذه السيارة وديعة عندك، فهذا صريح، أو يقول: خذ هذه السيارة واحفظها، وهذا ضمني، فعندنا لفظ صريح في الإيداع، ولفظ دال على الإيداع ضمناً مثل احفظها اتركها عندك أبقها عندك، وفي عرفنا نقول: خليها عندك، لكن هذا يدل على أنه يريد الوديعة. إذاً الوديعة تكون بالقول. وتكون بالأفعال كل عرف بحسبه، فإذا وجدت أفعال معينة تدل على أنه يريد الإيداع مثلاً: شخص معروف أنه يحفظ ودائع الناس، فيعطيه شخص شيئاً محفوظاً، يعطيه صندوقاً، أو يعطيه كيساً مربوطاً ويكتب عليه اسمه، جرت العادة أنه يحفظ هذه الودائع بدون مقابل، فيأتي ويودعها عنده، قد لا يتكلم وإنما يأتي إليه مباشرة ويعطيه الصندوق، فيكتب البيانات الموجودة على الصندوق، مواصفات الصندوق ثم يكتب: ثلاثة أشهر أربعة أشهر دون أن يتكلم، حينئذٍ نعلم أنها وديعة. الطالب يريد أن يسافر إلى أهله جرت العادة أنه يجمع متاعه في سكنه الطلابي ونحوه، ويأتي ويغلف ما عنده ثم يضعها في مكان معد لهذه الأمور، نعرف أن هذه الأفعال دالة على الوديعة. فإما أن تكون معرفة الإيداع عن طريق الألفاظ صريحة كانت أو غير صريحة، وإما أن يكون الإيداع معروفاً بالأفعال، والأفعال تنزل منزلة الأقوال كما بينا في مسألة بيع المعاطاة. فالوديعة تقوم على الإيجاب والقبول، فإذا قال له: أودعتك هذه السيارة، فإنه يقول: قبلت، وفي زماننا يقول: لا يهمك، لا تشيل هم، لا يكون في بالك شيء، هذه كلها ألفاظ جرى العرف بها للدلالة على الرضا.

الوديعة عقد جائز لا لازم

الوديعة عقد جائز لا لازم يرد Q هل الوديعة تعتبر من العقود اللازمة التي لا يملك أحد الطرفين الرجوع عنها إلا برضا الطرفين معاً، أم هي عقد جائز؟ تقدم معنا مسألة العقود الجائزة في أول البيوع، المسألة التي معنا الآن: لو جاء شخص ووضع سيارته عند شخص وقال له: هذه السيارة وديعة عندك شهراً، ثم جاء بعد يوم أو يومين وقال: أعطني سيارتي، هل تقول له: لا، أنت وضعتها وديعة عندي شهراً فلا تأخذها إلا بعد شهر؟ هذا معنى لزوم العقد فلا يملك أحد المتعاقدين الرجوع إلا إذا رضي الآخر، مثل البيع إذا تم بين الطرفين لم يملك أحدهما الرجوع إلا إذا رضي الطرف الثاني، فهل الوديعة لازمة أو جائزة؟ الوديعة من العقود الجائزة من الطرفين، أي: سواء رجع صاحب الوديعة أو رجع الشخص الذي تكفل بالوديعة. فلو جاء شخص وقال لك: خذ هذه السيارة وضعها عندك وديعة شهراً، فقلت: قبلت، ثم بعد ساعة طرأ لك ظرف فقلت له: لا أستطيع خذ السيارة، ورددتها فإن من حقك ذلك، أي: أنك لست بملزم في عقد الوديعة. إذاً: عقد الوديعة ليس بلازم، وإنما هو من العقود الجائزة للطرفين للمودِع والمودَع، لا يلزم أحدهما به، إنما يلزم بمضمون الوديعة يلزم المودَع بأن يقوم بالوديعة بحقوقها وواجباتها كما سيأتي إن شاء الله تعالى. من أحكام الوديعة وجوب الحفظ والرعاية والصيانة على المودَع، فيقوم بحفظ مال أخيه المسلم ورعايته على الوجه التام، ويترتب عليها أنه لا يضمن لأن يده يد أمانة، ومن أحكام المودَع أنه يجب عليه رد الوديعة إلى صاحبها ودفعها إليه متى طلبها.

المعتبر في الحرز الذي توضع فيه الوديعة

المعتبر في الحرز الذي توضع فيه الوديعة قال المصنف رحمه الله: [ويلزمه حفظها في حرز مثلها]. (ويلزمه) أي: المودَع (حفظها) أي: حفظ الوديعة، (في حرز) الحرز دائماً يكون صيانة ووقاية للشيء، فالحرز واق بإذن الله عز وجل للأشياء، مثلاً: السيارات لها حرز، الدواب لها حرز، الأموال لها حرز، كل شيء له حرز، حرز الأموال في الصناديق المقفلة والخزانات الحديدية التي تحفظ المال بإذن الله عز وجل، لكن لا يمكن أن نقول أن حرز الأموال أكياس الورق، ليس هناك أحد يضع عشرة آلاف في بيته في كيس ورق؛ لأن كيس الورق ليس بحرز للمال، ولا بحفظ للمال. كذلك يكون الحرز للدواب الزريبة؛ زريبة الإبل، زريبة الغنم، زريبة البقر، توضع هذه الحيوانات في زرائبها، وقس على هذه المسألة غيرها من المسائل. فيجب على المودَع أن يحفظ الوديعة في حرز مثلها، فلو أعطاه ذهباً، فحرز الذهب الخزانة من الحديد. فإذا وضع الذهب في صندوق حديد مقفل، واحتاط فوضعه في داخل الدار -إذ لابد أن يكون هناك وعاء يحفظ المال- وكان المكان الذي يوضع فيه الذهب أميناً، فجاء شخص واعتدى على البيت وسرق هذا الصندوق، فإنه في هذه الحالة لا يلزمه ضمان؛ لأنه وضع الذهب في حرز مثله الذي هو الصندوق المقفل، في مكان أمين في داخل البيت، لكن لو جاء ووضع الصندوق المقفل أمام الناس أمام داره، فلا شك أن هذا يعرضه للسرقة ويعرضه للأخذ، فهو وإن وضعه في وعائه لكنه لم يضعه في مكانه المأمون الذي يمكن أن يكون محفوظاً فيه. ولو أعطاه سيارة وقال له: خذ هذه السيارة وضعها عندك وديعة -والسيارات تحفظ في جراش مخصوص- فجاء ووضعها في جراش البيت وأقفل عليها الجراش، فلو حصل شيء أو ضرر أو احترق بيته واحترقت السيارة؛ وهي في جراش البيت بدون تفريط وبدون تعدٍ منه ولم يمكنه إخراجها فحينئذٍ لا ضمان عليه؛ لأنه حفظ السيارة في حرز مثلها، ولم يتعد ولم يفرط فلا ضمان عليه. إذاً: يجب على المودَع أن يحفظ الوديعة في حرز مثلها. بقي شيء: لو اختصم اثنان المودَع والمودِع الذي هو صاحب الوديعة، وقال له: فرطت إذ لم تحفظ وديعتي في حرز مثلها، قال المودَع: بل حفظت وديعتك ولا ضمان علي، واختصما عند القاضي، فماذا يفعل القاضي؟ يسأل أهل الخبرة عن هذا الشيء الذي كانت فيه الوديعة هل هو في حرز مثلها أم لا، هذه المسألة تتفرع على القاعدة المشهورة عند العلماء وهي إحدى القواعد الفقهية الخمس: العادة محكمة، وهي الرجوع إلى الأعراف في الأشياء سواء في قيم المتلفات، أو في حرز ونحو ذلك، يرجع إلى أهل الخبرة ويقال: هل حرز الذهب في مثل هذا؟ هل السيارات تحرز في مثل هذا؟ هل الكتب تحرز في مثل هذا؟ فإذا جرى العرف أن مثل هذه الأشياء التي وضعت فيها الوديعة حرز لمثلها فإنه لا ضمان عليه.

المترتب على إحراز الوديعة في غير المكان الذي عينه المودع

المترتب على إحراز الوديعة في غير المكان الذي عينه المودِع قال المصنف رحمه الله: [فإن عينه صاحبها فأحرزها بدونه ضمن]. هناك قرابة تسعة أسباب سيذكرها المؤلف يخرج بها المودَع عن كونه أميناً إلى كونه ضامناً، وبعضهم يختصرها وبعضهم يفصل فيها، فهنا سيشرح بالتفصيل بالنسبة للحرز، يجب الضمان على المودَع إذا قصر في حفظ الوديعة، إذاً التقصير في حفظ الوديعة هو السبب الأول من أسباب كون المودَع ضامناً. التقصير في حفظ الوديعة يكون بعدم حفظها في حرز مثلها كما ذكرنا، ويكون التقصير أيضاً بمخالفة صاحب الوديعة فيما عينه. مثلاً لو قال له: هذا الكيلو من الذهب ضعه وديعة عندك، قال له: قبلت حفظه، قال: سآتي بعد شهر وآخذه منك، إذا قال له: خذ هذا الكيلو من الذهب وديعة عندك وسكت صاحب الوديعة فهنا نرجع إلى الأصل، ونحتكم إلى العرف هل وضعها في حرز مثلها عرفاً أو لا. إذا قال له: خذ هذا الكيلو من الذهب وضعه في صندوق الدكان -والرجل المودَع تاجر وعنده صناديق في الدكان وعنده صناديق في البيت- فقال له المودِع: ضعها في صندوق الدكان، فجاء ووضعها في صندوق الدكان فاحترق الدكان، فلا ضمان عليه؛ لأنه التزم بالتعيين الذي عينه له صاحب الوديعة، فأصبح صاحب الوديعة هو المسئول عن وديعته، لأنه قال: ضعها في صندوق الدكان، ففعل ورقع الاحتراق ولم يكن هناك تعدٍ من صاحب الدكان فإنه لا ضمان عليه. لو قال له: ضعها في صندوق الدكان فذهب ووضعها في صندوق البيت، أو ووضعها في خزنته في المزرعة أو خارج المدينة، فإنه بمجرد مخالفته لأمر صاحب الوديعة يلزمه الضمان، ولذلك ينبغي أن يتقيد بأمر صاحب الوديعة. قال المصنف رحمه الله: (فإن عينه صاحبها فأحرزها بدونه ضمن). فإن عينها يعني: عين الحرز، فأحرزه يعني: أحرز الشيء المراد حفظه والقيام عليه بدونه، يعني: في غير المكان الذي أمره به، لكن هذا الغير ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إما أن يكون مثل الحرز الذي طلب منه، وإما أن يكون أفضل منه، وإما أن يكون أدنى منه، فلو قال له: خذ هذه المائة ألف وضعها في صندوق من خشب، فذهب ووضعها في صندوق حديد، إذاً: عين صاحب الوديعة، فوضع المودَع الوديعة فيما هو أفضل مما عين، هذه صورة الأفضل أن يأمره أن يضعها في صندوق خشب فيضعها في حديد، يأمره أن يضعها في صندوق من حديد عنده في الدكان من نوع ضعيف وعنده صندوق في البيت من نوع جيد فيضعها في البيت؛ لأن فالبيت أستر وأضمن وأيضاً الحديد الذي فيه أجود، فهنا يكون أفضل وأجود من جهة المكان ومن جهة المحل الموضوعة فيه. كذلك يكون الحرز أدنى منه عكس ما سبق، كما لو أمره أن يضعها في صندوق من حديد فوضعها في صندوق من خشب، قال له: ضعها في البيت فوضعها في الدكان، فالخطر الذي في الدكان أشد منه في الخطر الموجود في البيت، ففي هذه الحالة يكون الحرز الذي اختاره أقل وأردأ. وقد يكون الحرز مثله ومساوياً كما لو كان الضرر الموجود في الدكان كالضرر الموجود في البيت، واحتمال الضياع الموجود في الدكان موجود في البيت بنسبة واحدة، والصندوق الذي وضعها في البيت مثل الصندوق الذي وضعها في الدكان، مثله نوعه ووضعه، فإذاً إما أن يحرزها فيما هو أضمن وأحفظ، وإما أن يكون حرزه دون ذلك، وإما أن يكون حرزه مساوياً لما أمره به. فإن كان طلب منه حرزاً معيناً فأحرزه في مثله أو أفضل منه فلا ضمان، قالوا: لأنه لما أحرز في مثله وافق قوله ولم يخالفه، وكان بذلك غير متعدٍ ولا مفرط؛ لأنه مثله لا فرق بينهما، تيسر له هذا المثل فوضعه فيه، لكن لو أحرز فيما دون ذلك حينئذٍ يكون مفرطاً ويلزمه الضمان. قال المصنف رحمه اللا: [وبمثله أو أفضل فلا]. (وبمثله) بمثل ما أمر به ومساوياً له، (أو أفضل) يعني: أن الحرز أقوى حفظاً وأكثر صيانة، كما لو قال: ضعها في وعاء من زجاج فوضعها في الحديد، ووعاء الحديد أبلغ فهو لا شك أفضل.

قطع العلف عن الدابة المودعة دون إذن صاحبها

قطع العلف عن الدابة المودعة دون إذن صاحبها قال المصنف رحمه الله: [وإن قطع العلف عن الدابة بغير قول صاحبها ضمن]. هذا السبب الثاني: التضييع للوديعة، التضييع للوديعة يضيع أكلها، وعلاجها ودواءها، لو قال له: خذ هذا الفرس وديعة عندك، آخذه منك بعد شهر، أخذ الفرس فقطع عنه الطعام فمات الفرس، أو أصابه الهزال، أو لم يقطع عنه الطعام لكن كان طعامه رديئاً أو قليلاً فمرض الفرس، فإنه في هذه الحالة يضمن، لكن لو قال له صاحب الفرس: أطعمه كل يوم من نوع كذا وكذا من الطعام سواء كان فرساً أو فحلاً أو ناقة أو شاة، كما لو قال: أطعم شياهي من الشعير، أعطها كل يوم صاعين من شعير، ثم بعد ثلاثة أيام قال: أعطها صاعاً واحداً، فأنقص الطعام لكن بإذن صاحب الوديعة، إذا أذن له وقال له: أنقص الطعام، أو قال: اقطع عنها الطعام فإنه في هذه الحالة لا ضمان عليه، لكن Q لو قال له: لا تطعم البهيمة، فهل من حقه أن يفعل ذلك؟ A إذا قال له: لا تطعم البهيمة، يقول له: هذا محرم؛ لأنه تعذيب للحيوان وإفساد في الأرض، وهذا لا يأمر الله عز وجل به؛ لأن من الإفساد في الأرض إهلاك الدواب، لو كان يريد تذكيتها وذبحها فلا بأس، أما لو حبس عنها الطعام ماتت وصارت ميتة لا ينتفع بها، وهذا لا شك من إضاعة المال، وقد نهى الله عن إضاعة المال فهل نطيعه، فالجواب أن يقول له: إما أن تأخذ وديعتك أو تسمح لي بإطعامها، أما أن يطيعه في معصية الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

إذا عين المودع جيب المودع مكانا للوديعة فتركها في كمه

إذا عين المودِع جيب المودَع مكاناً للوديعة فتركها في كمه قال المصنف رحمه الله: [وإن عين جيبه فتركها في كمه أو يده ضمن، وعكسه بعكسه]. هذا سبب ثالث يتعلق بالتعيين والمخالفة في التعيين، وبعض العلماء يجعل هذا السبب والسبب الأول الذي ذكرناه واحداً، لكن ذكر العلماء مسألة الكم والجيب؛ لأن الجيب أحفظ من الكم، لأنهم كانوا يضعون الأشياء بأكمامهم، فالكم ليس في الحرز كالجيب، فالجيب أحفظ وأصون، ولذلك يقولون: الكم قد تسقط منه الأشياء بخلاف الجيب فإنه يحفظ الأشياء أكثر، فلو أعطاه شيئاً وقال له: ضعفه في كمك، فوضعه في جيبه فالجيب أحرز، فحينئذٍ لا ضمان عليه ولو سرق، ولو قال له: ضعه في جيبك فوضعه في كمه وسرق أو سقط وتلف فإنه حينئذٍ يضمن لأنه خالف. إذا عين صاحب الوديعة مكاناً أو صفة وجب عليه أن يلتزم بذلك؛ لأنه صاحب المال وهو أدرى بماله وأدرى بطريقة الحفظ، فلا يجوز له أن يخالفه، فإذا خالفه ضمن، في بعض الأحيان قد يكون وضع الشيء في يده أحفظ منه في جيبه، مثلاً: يقول له: هذا الشيء ضعه في جيبك، فوضعه في يده، فالوضع في الجيب قد يكون مفضياً للهلاك أكثر من اليد، مثلاً: لو أعطاه بيض دجاج بيضة أو بيضتين، وقال له: ضعها في كيس، لو وضعها في جيبه ودخل في زحام فانكسرت، فوضعها في الجيب أخطر من وضعها في اليد؛ لأنه يمكنه أن يقيها من الكسر بيده، لكن لماذا العلماء اختاروا الكم؟ لأن أغلب الأشياء حفظها في الجيب أقوى من حفظها في اليد والكم، وعلى هذا فإنه لا يمتنع أن توجد بعض الأشياء التي يكون المخالفة فيها في اليد والجيب تكون من حق المودَع أن تكون في اليد أكثر من وضعها في الجيب.

نقل المودع الوديعة إلى طرف ثالث

نقل المودَع الوديعة إلى طرف ثالث قال المصنف رحمه الله: [وإن دفعها إلى من يحفظ ماله أو مال ربها لم يضمن]. هنا سبب آخر نقل الوديعة من عنده إلى طرف ثالث، هو ينقله بنفسه إلى شخص ثالث عنهما، في هذه الحالة من حيث الأصل لا ينقل الوديعة، من حيث الأصل هو مطالب بحفظها، لكن قد تأتي ظروف وأحوال ينقل فيها الوديعة إلى الغير، ويكون ذلك أصون وأحفظ وأمكن لرعاية الوديعة، فإذا دفع الوديعة إلى شخص آخر وكان هذا الشخص يأتمنه على ماله، ومن عادته أن يضع عنده ماله، فإنه ينزل منزلته، فقه المسألة أن الشخص المودع إذا قال له: خذ سيارتي وديعة عندك معناه أنه نزله منزلة نفسه، ولذلك يصدق في قوله ويؤتمن؛ لأنه ليس هناك أحد يعطي سيارته أو ماله إلا لشخص ينزله منزلة نفسه، ومن هنا قالوا: المودَع أمين، فإذا أعطاه سيارته أو أعطاه أي شيء من أملاكه وقال له: ضعه عندك وديعة، فمعناه أنه نزله منزلة نفسه في حفظه وصيانته، فإذا نزله منزلة نفسه في حفظه، فإنه إذا قام هذا الشخص بنقل الوديعة إلى مكان هو يأمن بهذا ويحفظه لنفسه كان بمثابة المودِع نفسه؛ لأنه رضيه متسلطاً على ماله، ولذلك بعض العلماء يقول: تسليط الغير على حفظ المال، فتضمنت الوديعة التوكيل والتفويض، وبناءً على ذلك فهو إذا وكل غيره وفوض غيره وكان ذلك الغير يوكله على ماله هو بنفسه فقد رضي لأخيه ما رضي لنفسه، وحينئذٍ يكون مثل ما لو نقل الوديعة إلى حرز يماثل الحرز الذي أمره بوضعها فيه، فانتقلت من عنده إلى شخص مثل نفسه ونزله منزلة نفسه فلا ضمان عليه. أو إلى شخص من عادة صاحب الوديعة أنه يضع أمواله عنده ويودع عنده، فإذا نقل الوديعة إليه فلا ضمان عليه. قال المصنف رحمه الله: [وعكسه الأجنبي والحاكم، ولا يطالبان إن جهلا]. وعكسه الأجنبي، يعني: شخص أجنبي، أجنبي هنا أصل المجانبة بمعنى البعد، مادة جنب تطلب بمعنى القرب وتطلق بمعنى البعد، تقول: فلان بجنبي يعني: قريب مني، وفلان مجانبني بمعنى: أنه مباعد ومبتعد عني، ومنه الجنابة لأنها تبعد الإنسان عن الصلاة والطواف بالبيت ودخول المسجد إذا تلبس بها، فهي من ألفاظ الأضداد، فمقصود العلماء بالأجنبي هو الطرف الثالث الذي يضع عنده المودَع الوديعة؛ فإذا قلت له: هذه السيارة وديعة عندك، هذا المنزل وديعة عندك، فأنت قد حددت الشخص الذي تكون عنده الوديعة، فإذا صرف الوديعة إلى طرف ثالث فهو أجنبي بالنسبة لكما كمتعاقدين أي أن كل واحد من الناس غيركما يعتبر أجنبياً؛ لأنه ليس داخلاً في العقد، فهو أجنبي بهذا المعنى، لكن إذا كان هذا الأجنبي تضع عنده مالك وتأتمنه على مالك، وتضع عنده الأشياء التي تهمك فأنت قد نزلت وديعة أخيك منزلة وديعتك ولا إشكال كما لو حفظتها عندك. فإن خرجت عن هذا المكان الذي هو أنت المودَع ومن يأتمنه صاحب الوديعة ومن تأتمنه أنت، صارت إلى أجنبي، فإنه يجب عليك الضمان بصرفها، وهذا من أسباب الضمان أن يصرفها لأجنبي. ومن هو الأجنبي؟ الأجنبي هنا هو الذي لا تضع ودائعك عنده ولا يضع صاحب الوديعة، يعني: لا يؤتمن على وديعته لا من المودِع ولا من المودَع، ففي هذه الحالة يجب الضمان. قال رحمه الله: (وعكسه الأجنبي والحاكم) لو جاء ووضعها عند القاضي فإنه يضمن؛ لأنه لم يؤمر بوضعها عند أجنبي، والقاضي أجنبي، صحيح أن له ولاية عامة على أموال الناس، لكن بشرط ألا يكون هذا على سبيل حقوق الناس نفسها، فالوديعة حق لصاحبها يودعها إلى من يريد. القاضي أجنبي عن هذا، ولايته عامة على الأموال التي لا يعرف صاحبها، لكن الأموال التي عرف أصحابها والودائع التي يعرف أصحابها لا سلطان للقاضي عليها، فإذا أودعها عند القاضي فالقاضي منزل منزلة الأجنبي، وحينئذٍ يضمن. ولا يطالبان إن جهلا، لا يطالبان بضمانها إن جهلا، لو أن المودَع أعطى السيارة لأجنبي، فتلفت عند الأجنبي ولم يكن يأتمنه لا هو ولا المودع عنده، فإنها إذا تلفت وجب الضمان على المودَع، والأجنبي إن فرط وحصل منه تعدٍ أقام المودَع دعوى ضد هذا المفرط وطالبه بالضمان، لكن لو تلفت بآفة سماوية كالمزرعة تحترق أو يأتي سيل ويجرفها فإنه يجب على الأجنبي أن يضمنها للمودَع، وعلى المودَع أن يضمنها لرب الوديعة وصاحبها، هذا إذا علم، أما إذا لم يعلم الأجنبي أو الحاكم وتلفت بآفة سماوية فإنه لا ضمان عليه؛ لأنها في حكم الوديعة؛ لأنه يظن أنها ماله، فلما استودعه قبل الأجنبي هذه الوديعة، على أنها مال للمودَع، فعنده شبهة تسقط عنه الضمان، من الذي يضمن الآن؟ المودَع. صورة المسألة: عندك سيارة أعطيتها لزيد، وقلت: يا زيد! خذ هذه السيارة وديعة عندك، فأخذ زيد السيارة وذهب بها إلى شخص لا يودع عنده ولا تودع أنت عنده؛ فهو أجنبي، فأخذ الشخص هذه السيارة وأوقفها في بيته ولم يتعد ولم يفرط، فالشخص الأجنبي حين قبل من زيد سيارته قبلها على أي أساس؟ على أنها وديعة، فعنده شبهة أنه مؤتمن، وإلا ما كان يدخل نفسه في شيء يوجب الضمان عليه، فلما قبل وهو يظن أنه يملك السيارة وأدخلها في حرز مثلها وجاءت صاعقة فأحرقتها أو جاء سارق وسرقها نقول: هذا الشخص الأجنبي الذي يجهل أنها وديعة عندك وقبلها على أنها وديعة لا ضمان عليه لأنه لا يعلم، لكن إن علم أن هذه السيارة لصاحبها الفلاني، وأن المودَع تعدى وأعطاه إياها فإنه يضمن، هذا معنى قوله: إن جهلا، فإن علم الحاكم والأجنبي أنه صرف الوديعة عن محلها ضمن، ويكون ضمانهما للمودع، والمودَع يضمن لصاحب الوديعة، لكن إذا جهلا يكون الضمان فقط على المودَع، ولا يضمن الحاكم ولا الأجنبي.

حال الوديعة عند سفر المودع

حال الوديعة عند سفر المودَع قال المصنف رحمه الله: [فإن غاب حملها معه إن كان أحرز، وإلا أودعها ثقة]. شرع المصنف رحمه الله في بيان موجب من موجبات الضمان في الوديعة، فإذا أعطى إنسان إنساناً وديعة فلا يخلو من قسمين: القسم الأول له حالتان: الحالة الأولى: أن يأذن له بالسفر بها إذا أراد أن يسافر. الحالة الثانية: أن يلزمه بأخذها معه إذا سافر. والقسم الثاني: أن يسكت. فإذا ألزمه بأخذها معه، فإنه حيئنذ يجب عليه أخذ الوديعة إذا أمره، ويكون مخيراً إذا خيره. فإن قال له -وهذه الحالة الأولى، وهي حالة الإذن-: إذا سافرت فإن شئت فخذها معك، وإن شئت فأبقها فيكون حينئذٍ مخيراً. كرجل أعطى رجلاً ساعة ثمينة وقال له: هذه الساعة وديعة عندك، وكان طالباً يدرس في مكان ففي مدة الدراسة يجلس في سكنه ثم يسافر في العطل، فقال له: إذا سافرت في العطلة؛ فإن شئت أخذتها وإن شئت حفظتها في درجك أو في مسكنك. في هذه الحالة خيره بين الأمرين؛ فإن سافر بها فلا ضمان عليه، وإن أبقاها في درجه فلا ضمان عليه؛ فهو مخير بين الأمرين؛ لأنه التزم ما أمره به صاحب الوديعة. الحالة الثانية: أن يلزمه بأخذها معه إذا سافر فيقول له: هذه الساعة وديعة عندك، ولكن إذا سافرت فخذها معك، هذه السيارة أمانة ووديعة عندك فإذا سافرت فلا تبقها، وسافر بها، ففي هذه الحالة لا يجوز له أن يتركها، فإذا تركها وحصل شيء ضمن، وإذا سافر بالسيارة وحصل عليها ضرر بحيث لم يتعد ولم يفرط فلا ضمان عليه، لأنه التزم ما أمره به صاحب الوديعة. هناك حالة أخرى تقتضيها القسمة العقلية تلتحق بهذا القسم: وهي أن ينهاه عن إخراجها، فيقول له: إذا سافرت فلا تأخذها. إذاً إما أن يأمره صاحب الوديعة بأخذ الوديعة معه إذا سافر، أو يأمره بإبقائها إذا سافر، أو يخيره بين الأمرين، فإن أمره بالإبقاء أو بالأخذ وخالف ضمن، وإن خيره فلا ضمان عليه، سواء أبقاها أو أخذها، ففي هذه الصور الثلاث تكلم صاحب الوديعة، وأمر، أو نهى، أو أذن، كل هذا نعتبره موجباً للضمان في حال المخالفة، ولا يوجب الضمان إذا لم يخالف المودِع. وإذا سكت صاحب الوديعة؛ يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فإن غاب حملها معه إن كان أحرز، وإلا أودعها ثقة]. إذاً في حال سفر المودَع إذا سكت صاحب الوديعة-وهذا هو القسم الثاني إذا سكت صاحب الوديعة فلم يأمره ولم ينهاه ولم يأذن له، في هذه الحالة نقول: ما هو الأصلح والأفضل لهذه الودائع؟ هل بقاؤها في السكن، أو بقاؤها في الخزائن، أو بقاؤها عند ثقة، والسفر بدونها أفضل وأكثر أماناً أو العكس؟ فحينئذٍ نحاسبه على حسب العرف؛ فإن كان السفر بها يوجب حفظها أكثر ويمنع من ضياعها وسرقتها، فحينئذٍ يجب عليه السفر بها، فإن لم يسافر بها فقد قصر فيلزمه الضمان، وأما إذا كان الأفضل أن يبقيها -لأن السفر فيه خطر عليه، وقد يتأخر تسليمها الى أصحابها كما لو كان من بلد بعيد ويصعب عليه ردها إلى أصحابها أو يتحمل أصحابها المشقة- فالذي يجب حينئذٍ أن يحفظ الوديعة عند الثقة الأمين. أما الدليل على كونه يعطي الوديعة أميناً وثقة، فلما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أراد الهجرة، وأذن الله له بالهجرة من مكة إلى المدينة، قام بإعطاء الودائع لـ أم أيمن رضي الله عنها وأرضاها حاضنته، وأمر علياً أن يرد هذه الودائع إلى أهلها، فلم يسافر صلى الله عليه وسلم بالودائع، وإنما تركها وأمر علياً رضي الله عنه أن يقوم بردها إلى أصحابها وأهلها. وبناءً على ذلك قال العلماء: من السنة إذا كان هناك الثقة والعدل الذي يرضى لحفظ الوديعة والغالب أنك إذا سافرت بها عرضت الوديعة الى الخطر، فإنك تحتاط في صيانتها فتعطيها إلى الثقة حتى تتمكن من القيام بما أوجب الله عليك. ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]. أمرنا بأداء الأمانات إلى أهلها، والأمر بالشيء أمر بلازمه، فلا تستطيع أن تؤديها إلا إذا حفظتها، فلما كان السفر بها يؤدي إلى ضياعها وعرقلتها عن أهلها ولربما يؤدي إلى سرقتها، فإنه يجب عليك أن تحتاط بإعطاء ثقة هذه الودائع ليردها إلى أهلها.

التصرف في الودائع والانتفاع بها

التصرف في الودائع والانتفاع بها قال المصنف رحمه الله: [ومن أُودع دابة فركبها لغير نفعها، أو ثوباً فلبسه، أو دراهم فأخرجها من محرز ثم ردها، أو رفع الختم ونحوه، أو خلطها بغير متميز فضاع الكل ضمن]. (ومن أُودع دابة فركبها لغير نفعها): ومن أودع دابة فركبها لغير نفعها، هذه مسألة التصرف في الودائع بالركوب والانتفاع. مثل رحمه الله بالدابة: في القديم كان الرجل يعطي الرجل حصانه ويعطيه ناقته ونحو ذلك مما يركب من الدواب. فإذا قال له: خذ هذا البعير وديعة عندك وجب عليه أن يحفظه، وأن لا يتصرف فيه، لأنه مؤتمن، وأن لا يقوم باستغلال هذا الشيء الذي أودع عنده؛ لأن استغلاله بالعمل والحركة يضر بذلك الشيء. الدابة إذا ركبها الإنسان فإن هذا قد يضر بالدابة، وقد يعرضها للتلف، وقد يعرضها للعطب، وقد يعرضها لحصول ضرر في جسدها، ولذلك ينبغي أن يحفظها وأن لا يتصرف بها. فشرع المصنف رحمه الله في بيان سبب من أسباب الضمان وهو التصرف في الودائع. إذا تصرف في الوديعة بركوبها كما مثل المصنف بالدابة، أو السيارة في زماننا، فإذا أعطاه سيارة وركبها بمجرد ركوبه للسيارة وإخراجها من حرزها يكون ضامناً، فلو حصل عطل في السيارة، أو ضرر حتى ولو لم يكن بيده يعني لم يكن بوسعه إنما كان بسبب سماوي، أو اعتدى عليه أحد أو سرق منها شيء ولم يعثر على سارقه، فإنه يضمن ذلك كله؛ لأن يده اعتدت بإخراج الوديعة. إذاً لا يجوز لمن وضعت عنده وديعة أن ينتفع بها بالركوب أو الاستخدام ما لم يأذن له صاحبها، فإذا قال له صاحبها: أذنت لك بركوب السيارة وجب عليه أن يتقيد بهذا الإذن، فإذا كان إذناً في داخل المدينة فيكون غير ضامن إذا ركبها داخل المدينة، وضامناً إذا ركبها خارج المدينة، إذا قال له: أذنت لك أن تركبها لقضاء مصلحة ما، فخرج عن هذه المصلحة إلى مصلحة ثانية وجب عليه الضمان. إذاً من أُودع دابة وفي زماننا السيارة؛ فلا يخلو صاحب الوديعة من حالتين: إما أن يأذن له بالتصرف فيها، وإما أن لا يأذن له فيمنعه من التصرف فيها بركوبها واستغلالها، فإن أذن له بركوبها واستغلالها والانتفاع بها لم يخل إذنه من حالتين: إما أن يكون مطلقاً، وإما أن يكون مقيداً. يقول له: هذه سيارتي وديعة عندك، وإذا شئت فاركبها في أي وقت وفي أي ساعة فقد أذنت لك، بمعنى أنه فوض إليه أن ينتفع ويرتزق بالمعروف، فلا يضمن في هذه الحالة إذا قيد أو أطلق إلا إذا اعتدى، فلو حمَّل السيارة حمولتها وفوق طاقتها فحينئذ يضمن، ولا نعتبر إذن صاحب الوديعة؛ لأن إذنه بالمعروف، وكونه يحمل السيارة فوق ما تحتمل خارج عن المعروف، فيجب عليه ضمانها. الحالة الثانية: أن لا يأذن له بركوبها، ولا يأذن له بالانتفاع، قال له: يا محمد! هذه سيارتي وديعة عندك، هذا مسجلي وديعة عندك، هذه ساعتي وديعة عندك، هذا قلمي وديعة عندك، فالواجب أن يحفظ الوديعة كما هي، فإن احتاج إلى إخراجها كالسيارة تركب، والدابة كما ذكر المصنف تركب، فيجوز له أن يركبها ويخرجها إذا كان في مصلحة الوديعة نفسها، مثلاً السيارات في زماننا إذا جلست وديعة عند الإنسان سنة، ربما تتضرر بطول الوقوف، ربما أخرجها بسبب انتقاله إلى بيت آخر أو إصلاح شيء فيها لازم، فهذا الإخراج إخراج بالمعروف لا ضمان عليه، لكن لو أخرجها لمصلحته هو، كأن يصل إلى مكان أو يوصل منقطعاً، فإنه يجب عليه الضمان. إذاً الضابط عندنا أن الوديعة من حيث الأصل لا يتصرف فيها الإنسان إلا بإذن صاحبها -الذي هو المودِع- فإن خرج عن حدود هذا الإذن، أو تصرف تصرفاً خارجاً عن المعروف وجب عليه الضمان، وبناءً على ذلك لا يضمن إذا أبقاها، ولا يضمن في حدود ما أذن له، ولا يضمن إذا كان تصرفه بالمعروف. هذا كله متعلق بمسألة التصرف في الودائع. الآن الأدوات الكهربائية الموجودة في زماننا؛ كالغسالات، والثلاجات، والمكيفات؛ لو أن شخصاً أعطى شخصاً مكيفاً وديعة، أو أعطاه ثلاجة وديعة، وجب عليه أن يحفظها، وعدم تحريكها وتشغيلها؛ لأنه لا مصلحة له في تشغيلها، فإذا جاء صاحبه ولو بعد عشرات السنين يعطيه إياها كما هي، لكن هناك أشياء لابد من استصلاحها ولابد من تحريكها حتى يكون ذلك أرفق وأحفظ بها، فهو لما أذن له بحفظها من حفظها أن يغير زيتها، من حفظها أن يتفقدها عند الحاجة. إذاً الإذن بالشيء إذن بلازمه ومن لوازم الحفظ القيام بذلك، فلا ضمان عليه إذا تصرف في حدود المعروف. (أو ثوباً فلبسه) إذا قال له: خذ هذا الثوب وديعة عندك، فأخذه فالواجب عليه أن يحفظه وأن لا يلبسه وأن لا يعرضه للتلف، فإذا أخذه وحفظه وصانه حتى جاء صاحبه فدفعه إليه فلا إشكال أنه لا ضمان عليه، فلو أخذه وحفظه وجاء ضرر على الثوب من حريق أو نحوه دون تعدٍ أو تفريط، فلا ضمان عليه، لكن لو أنه لبس الثوب، فأثناء دخوله لمكان انشق الثوب، أثناء قفزه لحفرة انقطع الثوب مثلاً، فهذه كلها أضرار دخلت على الثوب بسبب اللبس، ففي هذه الحالة إذا كان لبس الثوب بالمعروف؛ بمعنى أنه خاف على الثوب الضرر فلبسه، كيف يخاف على الثوب الضرر؟ كالعثة مثلاً؛ لأن الثوب إذا ترك في مكان فيه عثة مدة تصيبه العثة فتؤثر عليه، فحينئذٍ لابد أن ينقله إلى مكان آخر ليس فيه عثة، افرض أن بيته كله فيه عثة وليس هناك أمين يضع عنده الثوب، فحينئذ يلبس الثوب أو يحمله معه إذا أمكنه الحمل دون ضرر. (أو دراهم فأخرجها من محرز ثم ردها) أو كانت الوديعة دراهم فأخرجها من محرز، هذه كلها أمثلة مثل بها المصنف رحمه الله، الدابة تخرج إلى الضمان بالركوب وفيها منفعة الركوب، الثوب فيه منفعة اللبس، الدراهم معروف منافعها، وقد يأخذها لمنفعته ويتزين بها ويتجمل بها، كما في الحلي ونحوه إذا كان من ذهب أو فضة. مسألة الدراهم؛ إذا أعطى إنسان إنساناً دراهم، أو نقوداً ورقية، فالواجب عليه إذا أعطاه إياها وديعة أن يحفظ عين المُعطى، أن يحفظ عين الورق، ولا يتصرف في ذلك الورق ولا يستبدل به ورقاً آخر، فإن فعل ذلك وجب عليه الضمان. بل إن الفقهاء يعتبرون إخراجها من محرز فقط يعني لو أعطاه إياها داخل محفظة وقال له: خذ هذه المحفظة فيها خمسة آلاف ريال وديعة عندك، فأخرجها فقط ونظر فيها وجب عليه الضمان؛ لأن الوديعة تحفظ كما هي. إذا كانت هذه الخمسة آلاف الموجودة في المحفظة ردت بعينها، وردت داخل المحفظة، ومع ذلك وجب عليه الضمان بالإخراج فقط؛ لأنها أمانة، والشريعة تنظر إلى حقيقة الوديعة كوديعة، فما بالك إذا أخذ الخمسة آلاف واشترى بها وباع، أو أعطاها شخصاً آخر، ثم رد مثلها في العدد هل تكون وديعة؟ A لا. ومن هنا تتفرع مسائل الوديعة المصرفية الموجودة في زماننا، فالودائع المصرفية في زماننا، تنقسم إلى أقسام: هناك ودائع توضع لسحبها عند الحاجة، وهناك ودائع توضع كما هي وتؤخذ دون أن يتصرف البنك أو المصرف بأي تصرف تحفظ بعينها كما هي، ويمكن العميل من أخذ عين ماله وعين الشيء المودع دون أي تصرف للبنك. القسم الأول: يعرف في زماننا بالحساب الجاري، والحساب الجاري: أن يضع الشخص مبلغاً من المال في البنك تحت رقم معين، والتزام البنك أنه يمكنه من سحب المبلغ كله أو بعضه متى شاء وفي أي وقت، فلو جاء مثلاً بمليون ووضعها في البنك، وبعد دقيقة جاء وسحبها، مكنه البنك من سحبها، يلتزم بهذا، وأيضاً يلتزم البنك بإعطاء هذا المبلغ الذي وضع في الحساب الجاري للشخص نفسه ولغيره، وكالة بطرق معينة عن طريق الشيك، ونحو ذلك من الوثائق التي تثبت التوكيل بالسحب وأخذ المبلغ. بالنسبة لهذا النوع، وهو وضع المال في حساب معين، وسحبه عند الحاجة، لا تنبطق عليه أوصاف الودائع، لا من قريب ولا من بعيد، فليس هو في وديعة حقيقة، فتسميته وديعة مصرفية من ناحية العرف، وجريان هذا الاسم لا يمت إلى الحقيقة من جهة المصطلح الشرعي بصلة؛ لأن الوديعة تترك كما هي، ويؤخذ عين المال المودع. إذا ثبت هذا تفرع عليه أن المال إذا وضع يكون حكمه حكم القرض، بمعنى أنه بمجرد ما تضع مبلغاً في الحساب أصبحت مقرضاً للبنك ذلك المبلغ؛ لأنه لا ينطبق عليه وصف الوديعة، فليس بملتزم أن يرد لك عين المال، وليس بملتزم بحفظ المال، إنما التزم لك بمثل المال في أي وقت تشاؤه، إما أصالة أو نيابة بوكالة لشخص آخر. وقد تكلمنا على مسائل الوديعة المصرفية وفصلنا في أحكامها في دروس الربا والصرف، وبينا المشروع منها والممنوع وبينا المصطلحات الموجودة في زماننا، وحتى القوانين الوضعية توافق الشريعة الإسلامية في كون الوديعة المصرفية قرض وليست بوديعة، فتسيمتها وديعة ليس له حقيقة من جهة المصطلح الشرعي، وهذا أمر نحب أن ننبه عليه طالب العلم حتى لا يكون هناك اغترار بالاسم، وهنا ننبه على أنه ربما يكون هناك اختيار لبعض المصطلحات الشرعية من قبل عامة الناس وينخدع بها طالب العلم، وربما يظن أنها وديعة ويخضع لها أحكام الوديعة وهي ليست كذلك، وهذه هي فائدة التعريفات الاصطلاحية. فائدة وضع العلماء رحمة الله عليهم بالتعريف الاصطلاحي للمصطلحات الشرعية إنما هو معرفة ما تنطبق عليه حقيقة المصطلح الشرعي وما لا تنطبق عليه، حتى لا يصبح هناك تلاعب، وإلا ادعى كل إنسان ما شاء وألصقت المعاملات الشرعية بما ليس منها. لذلك لابد من تطبيق ضوابط الوديعة على الحساب الجاري، فلما طبقناها وجدناها أنها لا تنطبق على ذلك، يصبح حكمها حكم القرض، إذا أثبتنا أن حكمها حكم القرض يصبح أخذ أي فائدة سواء كان من العميل شرطاً أو عرفاً يعتبر موجباً للحكم بتحريمها، لأنها من الربا كما تقدم بيانه وتفصيله في دروس الربا والصرف. أما النوع الثاني من الودائع الموجودة في البنوك فهي الوديعة المستندية، وهذا النوع من الودائع يقوم العميل فيه باستئجار صندوق معين برقم يمكنه البنك من أخذ هذا المفتاح، وفتح هذا الصندوق، ووضع ما شاء فيه، وسحب ما شاء دون أن يكون هناك للبنك أي نظر للشيء المودع سواء كان مالاً، أو جواهر، أو مستندات، فهذا النوع لا شك أنه تنطبق عليه حقيقة الوديعة، هذا النوع الذي هو استئجار الصناديق البنكية لوضع الوثائق والمستندات ووضع الأموال، ووضع الجواهر، أو الأشياء النفيسة، لا شك أنه تنطبق عليه ضوابط الوديعة الش

الأسئلة

الأسئلة

حكم من تأخر عن دفع الوديعة في الوقت المحدد فتلف

حكم من تأخر عن دفع الوديعة في الوقت المحدد فتلف Q هل يضمن الشخص إذا حدد له المودِع وقتاً محدداً ثم انقضى هذا الوقت فتلفت العين بعد مضي الوقت بيوم أو يومين؟ A نعم يضمن إذا حدد له وقتاً للدفع وحدد له الدفع إلى شخص معين فتأخر في الدفع عن الوقت المحدد تخرج يده من يد الأمانة إلى يد الضمان، لكن بشرط أن لا يوجد عذر للتأخير، فإن وجد عذر للتأخير فإنه حينئذٍ لا ضمان عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه.

باب الوديعة [2]

شرح زاد المستقنع - باب الوديعة [2] في طيات هذا الدرس العديد من المسائل والأحكام منها: حكم التصرف في الودائع والانتفاع بها دون إذن صاحبها، واختلاف المودِع مع المودَع في رد الوديعة أو تلفها، وقول ورثة المودَع في رد الوديعة أو تلفها وغير ذلك.

باب إحياء الموات [1]

شرح زاد المستقنع - باب إحياء الموات [1] وقد حث الإسلام على إحياء الموات، ورغب في ذلك، وملَّك الأرض الموات لمن يحييها، لذلك أولى أهل العلم هذا الباب اهتماماً كبيراً؛ فذكروا في طيات مؤلفاتهم شروط وضوابط الإحياء، والمسائل المتفرعة عنها كالإقطاع، وهل هو خاص بالإمام أم لا، ومسألة الحمى، والسبق إلى المباح، واشتراك الناس في موارد المياه، والمرافق العامة وغيرها.

إحياء الموات تعريفه وشروطه وأدلة مشروعيته

إحياء الموات تعريفه وشروطه وأدلة مشروعيته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب إحياء الموات]: الحي ضد الميت، والإحياء لا شك أنه مما اختص به سبحانه وتعالى، فهو وحده لا شريك له الذي يحيي الموتى، لكن التعبير بالإحياء هنا نسبي، ويكون في الجمادات، حيث يقوم المكلف باستحداث العمران فيها، بناءً، أو غرساً، أو استصلاحاً، ويعتبر هذا إحياءً نسبياً، فلذلك يقول العلماء: باب إحياء الموات، فإذا كان الإحياء مما اختص به الله سبحانه وتعالى فلماذا يعبر العلماء بهذا التعبير؟ و A تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال في الحديث الصحيح عنه: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) فعبر بالإحياء ولهذا توسع فيه العلماء؛ لأن المراد به: الإحياء النسبي. وقوله رحمه الله: إحياء الموات: المراد بالموات: الأراضي البور. والأراضي التي تحيا ويحكم بإحيائها فيها تفصيل، فقد تكون الأرض ميتة لكنها ملك للغير فلا يصح إحياؤها، فالمراد بقوله: الموات: موات مخصوص؛ فهو إحياء لشيء مخصوص على صفة مخصوصة من شخص مخصوص، فليس على إطلاقه. والأصل في هذا الباب حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وجاء عن غيرها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ جابر رضي الله عنه عند أحمد في المسند، وأبي داود في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له)، وفي رواية من حديث عائشة (وليس لعرق ظالم حق)، فنبه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول على مشروعية إحياء الأرض الميتة، وقوله: (من أحيا) صيغة من صيغ العموم، فيشمل الصغير، والكبير، والذكر، والأنثى. ويختلف الإحياء بحسب اختلاف الأراضي وما يقصد منها، فتارة يكون الإحياء بالبناء، فإذا كان بالبناء فلا بد من وجود شيء يصدق عليه أنه إحياء بالبناء كما سيأتي، وتارة يكون بالغرس، فيغرس الأرض بالنخل أو الزروع، ويكون هذا إحياءً بالزراعة، وتارة يكون الإحياء بحفر البئر، فإذا حفر بئراً في مكان فقد أحياه، وهذه البئر قد تحفرها القبيلة من أجل سقي الدواب، وقد يحفرها الإنسان من أجل سقي دوابه، أو سقي مزرعته، حتى ولو كانت بعيدة عن مزرعته، فيكون لها حريم، وتكون لها حرمة. وقوله: (من أحيا أرضاً): أرضاً نكرة، والنكرة تفيد العموم، وبناءً عليه أخذ بعض العلماء من ذلك عموم الأراضي، لكن المسألة فيها تفصيل كما ذكرنا، فهذه الصيغة الدالة على العموم قد جاء ما يخصصها، ويفيد أن الحكم ليس على العموم من كل وجه، وهو قوله: (ليس لعرق ظالم حق) فدل على أن الأرض إذا كانت ملكاً للغير وهي ميتة، ثم جاء شخص وأحياها، وهو يعلم أنها ملك لفلان فقد ظلمه، أو لم يعلم ثم علم واستمر مالكاً لها، فقد ظلم ببقائه، فليس له فيها حق، وقوله عليه الصلاة والسلام: (ليس لعرق ظالم حق)، العروق تنقسم إلى أربعة أقسام -كما ذكرنا في باب الغصب- عرقين ظاهرين، وعرقين باطنين. فمن اعتدى على أرض ميتة، لأخيه المسلم، فأحياها وهو يعلم أنها ملك لأخيه المسلم، فيكون العرق منه ظالماً إما بظاهر وإما بباطن، فالعرق الظاهر الظالم يكون بشيئين: بالبناء فيها- وهذا اعتداء-، وبالغرس فيها -وهذا اعتداء-، والعرق الباطن الظالم يكون بشيئين: بحفر البئر في الأرض، وبإجراء النهر من الآبار والعيون ونحوها، فهذا كله يعتبر لاغياً شرعاً، وبينا الأحكام المترتبة على اغتصاب الأرضين، وذكرنا الوعيد الشديد الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. فالشاهد من هذا أن إحياء الأرض يشترط فيه ألا تكون الأرض ملكاً للغير، وهذا الشرط الأول. والشرط الثاني: أن تكون الأرض خالية عن الاختصاصات، والاختصاصات المراد بها: المصالح والمرافق العامة للمسلمين، التي تعلقت بها مصالح خاصة؛ مثل الطرقات فقد تعلقت بها مصلحة المسلمين بالمشي عليها، ومثل الأماكن التي يتجمع فيها الناس داخل المدن أو حتى خارج المدن في بعض الأحيان، ومثل أن يكون هناك مكان مختص بشيء، كأن تكون هناك أماكن لرمي النفايات خارج المدينة، وهي أرض ميتة، فلا يجوز لأحد إحياؤها؛ لأنه تعلق بها مصلحة جماعة المسلمين، فلابد أن تكون الأرض ميتة بوراً، ويكون الإحياء -كما ذكرنا- بالغرس، والبناء، والحفر. ويجري مجرى الإحياء: كف الماء عن الأرض، وهذا يقع عند الفيضانات من النهر أو السيل إذا غطى المناطق الصحراوية، فقام أحد بسحب هذا الماء من منطقة منها، وهيأها حتى أصبحت صالحة للزراعة، فهذه التهيئة إحياء. وفي حكم هذا تحجير الرياض، والمراد بالرياض: الروضات التي تكون في القرى، فيتخذون فيها أماكن لزرع الحبوب على الجبال ونحوها، ويحجرونها، ولا يبنون عليها ولا يزرعونها زرعاً ثابتاً كالنخيل ونحوه، بل زراعتهم تكون موسمية في مواسم المطر، فيحجرونها بتنظيف الأرض، ويضعون بجوانبها الحجار، فهذا نوع من الإحياء، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا) يشمل هذا كله. ومعنى قول المؤلف رحمه الله (باب إحياء الموات): أي: سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بإحياء الأرض الميتة، وما يترتب لمن أحياها إذا ثبت إحياؤه لها، من حيث انتفاعه بها ومليكته لها. وهذا الباب اعتنى به المحدثون، واعتنى به الفقهاء، فكثير من كتب الحديث اعتنت به، وأعني بكتب الحديث غير الصحيحين، التي ذكر مصنفوها حديث: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له)، وهم من كان هذا الحديث على شرطه، فهناك بعض الأبواب لا يوجد فيها إلا حديث واحد، فإذا لم يوجد فيها إلا حديث واحد فإن الأبواب تكون بحسب شرط المخرج، فهو ينظر إلى الحديث هل هو من شرطه أو لا؟ فإذا كان من شرطه ذكره، وإلا فلا. قال رحمه الله تعالى: [وهي الأرض المنفكة عن الاختصاصات، وملك معصوم]. أي: هي الأرض المنفكة التي لا تعلق فيها بالاختصاصات، مثل الطرق، والأماكن التي يخرج الناس إليها في حال نزول المطر، والأماكن التي تكون قريبة من المدن يتنزهون فيها، والأماكن التي يرمون فيها نفاياتهم، ولذلك يقولون: هناك حريم للمدن، وحريم للبيوت، وحريم للآبار، فحريم المدن: أماكن يمنع أن يستغلها شخص لمصلحته حتى لا يضر بمصلحة الجماعة، فالأماكن التي وضعت -مثلاً- لرمي النفايات لا نقول عنها: هي ميتة، ولو جاء شخص وزرع فيها أو بنى عليها فقد أحياها! لكن نقول: فيها تعلق بمصلحة جماعة المسلمين، فلا يصح إحياؤها، وكذلك الطرق التي يمشون عليها، فقد تكون هناك طرق من أراضٍ ميتة تعتبر مسالك لنقل الناس في أسفارهم أو نقلهم داخل المدن، فلا يجوز إحياؤها، ولا يجوز التسلط عليها بحجة الإحياء، والاختصاصات تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة، ففي القديم كانت هناك مراعٍ، والمراعي التي تكون لإبل الصدقة تسمى حمى، يخصها ولي الأمر لدواب المسلمين؛ لأنهم كانوا يجاهدون في سبيل الله فيحتاج بيت مال المسلمين إلى توفير الخيل والإبل، بحيث لو حدث حادث تكون الظهر -الخيل والإبل- جاهزة، فمثلاً لو كان بيت المال فيه ألف ناقة، فهذه الألف تحتاج إلى مرعى لتأكل منه، ولا يمكن أن تكون قريبة من المدينة إلا إذا هيئت لها أرض محمية يمنع منها الناس، فيمنع منها الخاصة لمنفعة العامة، وعلى هذا ذكروا القاعدة المشهورة: يحتمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، فهنا تدفع مضرة عامة بإحداث الحمى. والأصل في ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حمى النقيع، وهو على مسافة أكثر من ثلاثين فرسخاً من المدينة، وبعضهم يقول: من جهة النقيعة المعروفة الآن، وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه حمى الربذة، وهي المشهورة الموجودة الآن، ومن الحمى الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم العطن الموجود في المدينة، وهو بجوار مسجد السبق، فهذه المنطقة كان يفيض عليها شعب من شعاب جبل سلع، وكانت مرتعاً مخضراً، فكان يحميها لإبل الصدقة، وهل إبل بيت مال المسلمين، فهذه كلها اختصاصات، فلو جاء أحد يحيي شيئاً من هذه الأماكن فقد عطل مصالح بيت مال المسلمين، فلا يجوز الإحياء في مثل هذا المكان الذي تعلقت به مصالح بيت مال المسلمين، كالطرقات ونحوها. وقوله: (وملك معصوم) أي: لا يتعلق به ملك معصوم، فإذا كانت الأرض التي يراد إحياؤها ليست ملكاً لأحد، خالية عن الاختصاص؛ جاز إحياؤها، لكن إذا كانت ملكاً لأحد؛ فإما أن تكون ملكيته لها بالشراء، وإما أن تكون ملكيته لها بالإحياء، فلو أن شخصاً جاء إلى أرض بيضاء وبنى عليها أو غرس فيها، ثم تبين أنها ملك لغيره، فلا نقول ببطلان الإحياء إلا بالتفصيل، فإن كانت هذه الأرض ملكها السابق بالشراء فحينئذ الإحياء لاغٍ؛ لأن يده ثبتت عليها بالشراء والملك، لكن لو كان السابق ملكها بالإحياء، ثم عطلها حتى ماتت، ثم جاء الثاني وأحياها؛ ففيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، هل يبطل الإحياء الثاني الإحياء الأول أم لا؟ فعند بعض العلماء وبعض أئمة السلف رحمهم الله كالإمام مالك وغيره من فقهاء المدينة: أن من أحيا أرضاً، ثم تخلى عنها حتى رجعت بوراً، رجعت كما كانت لعامة المسلمين، فمن سبق إليها وأحياها فهي ملك له. وهذا القول من يتأمل فيه يجد أن فيه مصلحة عظيمة، خاصة في هذا الزمن الذي تجد الشخص فيه يأتي ويتكلف حتى يحيي الأرض ويأخذ الصك عليها، ثم بعد ذلك يتركها، والشريعة ما شرعت الإحياء لفراغ، وإنما شرعته لمصالح الجماعة؛ كي تحفز الناس لما فيه مصلحتهم، فيبني الرجل مثلاً بيتاً، أو يجعل له مزرعة فينفع وينتفع، لكن أن يأتي ويعطل هذه الأرض، فيقيم عليها مسكناً أو بناءً ثم يأخذ الصك، ثم تصبح الأرض جرداء بيضاء ما فيها شيء، ثم كل من جاء ليحييها يقول له: لا؛ هذه الأرض لي، وقد قضى القاضي لي بها، فهذا يضر بمصالح الناس، ويخرج مقصود الشرع من الإحياء، فمقصوده عمران المدن، ووجود الزرع، أما هذا الإحياء فهو تعطيل للناس، وإذا قلنا: إذا ماتت الأرض المحياة فتبقى في ملك من أحياها، فهذا

مسائل في إحياء الموات

مسائل في إحياء الموات بينا المراد بإحياء الموات، وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإذن بإحياء الموات، وقد قصدت الشريعة الإسلامية من تمليك المحيي للأرض مساعدة الناس ومعونتهم، والرفق بهم، وإحياء الموات يعين على حصول الخير لعموم المسلمين وخصوصهم، فيحصل الخير لعمومهم بإحياء الأراضي بالزراعة، فيستغني المسلمون عن غيرهم بوجود الزرع والنبات، وكذلك يكون فيه منفعة خاصة للمحيي، كما لو بنى بيتاً ليسكنه، ويستر عورته، ويكون فيه الرفق له ولأهله. ومن عادة العلماء رحمهم الله في هذا الباب أن يبينوا بعض المسائل التي تفرعت عن الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إحياء الموات، وهذه الأحاديث منها ما هو صحيح، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف، والضعيف منها شهدت الأصول باعتباره، أو جرى عمل السلف رحمهم الله به، ولذلك يعتنون ببيان أمور منها: أولاً: من الذي يحيي الأرض؟ ومن له حق الإحياء؟ ثانياً: ما هي الأرض التي يجوز إحياؤها، وإذا أحياها إنسان حكم بملكيته لها؟ ثالثاً: ما هي حقيقة الإحياء التي اشترطها عليه الصلاة والسلام للحكم بملكية المحيي؟ كما يبينون حقيقة الإحياء؛ لأنها تختلف بحسب اختلاف المقاصد، فإحياء الأرض بالزراعة يحتاج إلى ضوابط، وإحياء الأرض بالبناء يحتاج إلى ضوابط؛ ومن هنا لزم بيان هذه المسائل في باب إحياء الموات. وبعض أهل العلم يلحق بمسائل إحياء الموات مسائل (الاختصاصات)، كمن جلس في مكان عام لكل الناس لمصلحة مثل المسجد؛ فمتى يحكم بكونه أحق بالجلوس في هذا المكان؟ وهكذا من جلس في طريق، فوضع بضاعته ليبيعها، وعرضها وبسطها على الأرض؛ فمتى يكون أحق بهذا المكان من غيره؟ ونحو ذلك من المسائل، التي يذكرونها في باب إحياء الموات؛ لأنها وإن كانت استحقاقاً خاصاً لمدة معينة، فهي في حكم الإحياء من جهة الاستحقاق.

حكم إحياء الكافر للموات

حكم إحياء الكافر للموات قال رحمه الله: [فمن أحياها ملكها]. فمن أحيا الأرض الميتة بالزراعة -وسنبين كيف يكون الإحياء بالزراعة- أو بالبناء فيها فقد ملكها، أي: حكم له بها، فيكون مالكاً لها، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له)، فدل قوله: (فهي له) على أنه يملكها. وقد ذكر المصنف القاعدة العامة: (من أحياها ملكها) أي: حكم الشرع له بملكيتها، فلو نازعه أحد بعد إحيائه إياها، وثبوت ملكيته لتلك الأرض؛ فإنه لا يستحق شيئاً من تلك الأرض، وإنما هي ملك لمن أحياها. قال رحمه الله: [من مسلم وكافر]. (من) بيانية، أي: سواء كان المحيي مسلماً أو كافراً، والمسلم إذا أحيا مواتاً في أرض المسلمين فلا إشكال في ملكيته؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له)، لكن هل يجوز للكافر الإحياء في بلاد المسلمين؟ والبلاد التي يكون فيها كفار معاهدون أهل ذمة، فأحيا أحدهم أرضاً مواتاً فيها، فهل يملكها؟ اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، فمنهم من يقول: الكافر لا يحيي في أرض المسلمين ألبتة، وليس له حق إحياء أرض في أرض المسلمين حتى ولو كان من أهل الذمة؛ لأن المسلمين قد فتحوا هذه الأرض وأصبحت تابعة للمسلمين، فلا إحياء لكافر؛ لأن مقصود الشرع أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، فأحل الله لأهل الكتاب إذا صالحوا المسلمين أن يبقوا في ديارهم، وأن يتركوا على ما هم عليه، لكن لا يتوسعوا وتصبح لهم شوكة بسبب إكثارهم من ملكية الأراضي، وأشد من هذا وأعظم إذا جاءوا إلى بلاد المسلمين، وأرادوا الإحياء فيها، وبالأخص في جزيرة العرب، فإن النص فيها واضح؛ ولذلك لم يملك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر اليهود حينما كانوا بخيبر، ولم يحكم لهم بإحياء، بل قال عليه الصلاة والسلام ليهود خيبر -كما في الصحيحين- لما عاملهم على سقي الأرض: (نقركم فيها ما شاء الله)؛ فلم يجعلهم ثابتي اليد على الأرض، ولم يجعل لهم سلطاناً عليها. وعلى هذا: فالقول بأن الكافر لا إحياء له قول صحيح، وهو مذهب الشافعية وطائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم، ومقاصد الشريعة تدل على ذلك؛ لأن من مقصود الشرع: أن يكون الكافر تحت المسلم، وألا يكون له سلطان على المسلم، ولو فتح لهم مثل هذا -خاصة في بلاد المسلمين- فإن الشوكة تكون لهم، وتكون لهم القوة، وقد يضر ذلك بمصالح المسلمين، وقد يضيق هذا على من يريد الإحياء من المسلمين؛ وعلى هذا لا يفتح لهم الباب، والقول بمنعهم هو الأوجه والأرجح. ومن أهل العلم من أحل لهم الإحياء مطلقاً، وهو قول المصنف رحمه الله، ومن أهل العلم من قيد ذلك فقال: إذا أذن لهم الإمام أن يحيوا في ديارهم فلهم ذلك، ولهم أن يملكوا، وإذا لم يأذن لهم فإنهم لا يملكون. والقول بعدم فتح باب الإحياء لهم أصح، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- قال: (لا تبدءوا أهل الكتاب بالسلام، وإذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه)، وهم إذ ذاك أهل ذمة وتحت سلطان المسلمين، وقد فصلنا هذه المسائل في باب أحكام الذمة، وبينا أن مقصود الشريعة التضييق عليهم حتى يسلموا، فإذا نظرت إلى حكمة الشرع في أن الذمي إذا كان تحت حكم المسلمين لا يبدأ بالسلام، وإذا مشى في الطريق اُضطُر إلى أضيقه، ولا يرفع داره فوق دار المسلمين، ولا يكون لهم شعار ظاهر، فيصبح الشعار والظهور كله للإسلام؛ فيحس الذمي بالذلة والصغار، وهذا هو مقصود الإسلام؛ ولذلك قال تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فإذا شعروا بالذلة والصغار فإن ذلك يدفعهم لاعتناق الإسلام، وينفر ذلك المسلم عن الردة، حتى حديثي الإسلام يتألف قلوبهم إلى الإسلام بما يكون من حسن المعاملة، والتضييق عليهم إنما جاز للضرورة، وقد نبه على هذا الإمام ابن القيم رحمه الله في كلامه على بعض المسائل التي اختلف فيها في مساواة الذمي بالمسلم. فالذي تطمئن إليه النفس أنه لا يكون للكفار ملك بالأحياء في بلاد المسلمين. ومن أجازوا ذلك استدلوا بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له)، والعموم يخصص بالشريعة العامة، وخاصة في هذا الزمان، فلا يشك المسلم بحصول الضرر لحرص الكفار على التمكن من ديار المسلمين، ولا مانع من تخصيص العموم، إذ أن العموم خوطب به المسلمون، وإذا كان المخاطب به هم المسلمون فالحكم يكون لهم، وعلى هذا: لا يدخل أهل الذمة في هذا العموم، فهو عام مخصص بعرف الشرع أي: أن الشرع جعل الخطاب للمسلمين وقال: (من أحيا)، ومما يؤكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) أي: بشرط ألا يكون فيها حق لمسلم، وأراضي المسلمين التي لم تحيا وهي في بلادهم ملك لعامة المسلمين، وإذا مكن الكافر منها فلا شك أنه يخالف مقاصد الشريعة العامة، فالعموم هنا لا يخلو من نظر كما ذكرنا. قال رحمه الله: [بإذن الإمام وعدمه]. أي: سواء أذن الإمام أو لم يأذن. قال رحمه الله: [في دار الإسلام وغيرها]. أي: سواء أحيا في دار الإسلام أو في غير دار المسلمين كدار الحرب، فإذا كان الكفار ممن وقع بينهم وبين المسلمين حرب، وأحيا مسلم داراً فيها؛ فإنه يملكها. وقد ذكرنا مسألة: إذا فتحنا بلاد الكفار، وكان فيها ملك للمسلمين، فهل ترتفع عنها يد المسلم لكونها صارت مفتوحة عنوة أو لا؟ فيه تفصيل عند العلماء رحمهم الله، وقد ذكرنا هذه المسألة في كتاب الجهاد. قال رحمه الله: [والعنوة وغيرها]. أي: سواء فتحت عنوة أو فتحت صلحاً.

ضوابط إحياء الموات

ضوابط إحياء الموات قال المصنف رحمه الله: [ويملك بالإحياء ما قرب من عامر إن لم يتعلق بمصلحته]. الأراضي التي يقع عليها الإحياء الأصل أنها تكون خارج المدن، أما ما داخل المدن فالغالب فيها أنها مملوكة أو أنها من مصالح المسلمين ومرافقهم العامة، فالمناطق التي تحيا غالباً تكون في ضواحي المدن، وضواحي المدن تنقسم إلى قسمين: ما قرب من المدينة، وما بعد عنها. أما القريب منها فلا مجال لإحيائه إن كان هذا القريب متصلاً بالمدينة، وتتعلق به مصالح أهلها، فلا يفتح باب الإحياء فيه، ولا يُمكَّن أحد من الإحياء فيه، مثل الأماكن القريبة من المدن التي يرمي فيها الناس الفضلات والنفايات، أو الأماكن التي للفروسية والسباق بالخيول كما كان في القديم، أو أماكن اعتاد الناس أن يخرجوا ويتنزهوا فيها، وعرف أنها متنزه للناس، وقد كان العقيق -مع أنه داخل حدود المدينة- متنزهاً للصحابة رضي الله عنهم، وكانوا إذا نزل الغيث خرجوا إليه، وأثر هذا عن جمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهو قريب من المدينة، لكنه يعتبر متنزهاً ومتنفساً للناس فلا يملك؛ لأن تمليكه لمن يحييه يضر بمصالح المسلمين، فكل ما كان قريباً لا يمكن تمليكه لمن يحييه إذا أضر بالمصالح. ومن هنا نعلم أنه لا يصح الإحياء في عرفات بالنسبة لأهل مكة، مع أنها خارج حدود الحرم، وهذا مبني على أنها مشعر، وإحياؤها يضر بمصالح المسلمين، وهكذا منى ومزدلفة، فجمهرة العلماء رحمهم الله سلفاً وخلفاً على أنها لا تملك، ولا يملك أحد أرضاً فيها مهما كان، ولو ادعى أنه يريد إحياؤها فلا ملكية له ولا عبرة بهذا الإحياء؛ لأن منى مناخ من سبق، وتمليكها يضر بالناس في مشاعرهم؛ لأنها هيئت وأعدت من أجل أداء المناسك، فلا يملك أحد فيها ألبتة، واختار هذا القول سماحة الشيخ العلامة الإمام الجليل محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله برحمته الواسعة كما في فتاويه، ونبه أنه لا ملكية لأحد في هذه المشاعر، ولا يثبت لأحد استحقاق الملك فيها، ولا شك أن هذا القول هو القول الحق، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (منى مناخ من سبق)، فيتضرر بالإحياء فيها الحاج الذي يؤدي المناسك، فلا يملك أحد شيئاً في هذه المواطن؛ لأنها جعلت لعموم المسلمين، ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه أحيا شيئاً فيها؛ لأنها ليست من جنس ما يمكن الإحياء فيه. وهل هناك مصلحة في مضايقة من يؤدي هذا الركن العظيم من أركان الإسلام؟! فلذلك لا شك أن المشاعر ليست من الأماكن التي يحيا فيها، وهكذا بالنسبة للمتنزهات، ومواقف السيارات القريبة من المدن، ونحو ذلك، فهذه كلها لا تملك بالإحياء، ومن أراد الإحياء فليذهب إلى غيرها، وهذا مبني على القاعدة التي نبه عليها العلماء، وهي: الضرر يزال، فلو أننا قلنا بشرعية الإحياء مطلقاً لتضرر من يرتفق بهذه المصالح، والضرر لا يسمح به، بل الشريعة تأمر بزواله، ومما يدخل في هذه القاعدة -كما ذكر العلماء- أن يكون هناك مرفق لجماعة المسلمين، فيريد شخص مصلحةً خاصة من هذا المرفق بحيث يضر بالجماعة، فهي مصلحة فرد تضر بالجماعة، فهل نقدم مصلحة الفرد على مصلحة الجماعة أم نقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد؟ لا شك أن حكم الله عز وجل أن تقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد، فكيف إذا كانت مصلحة الجماعة دينية شرعية؟! فالحكم بها أولى وأحرى، ومما يدخل في هذه القاعدة ما ذكره الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه الموافقات أنه إذا رخّص التاجر سعر السلعة وحصل الإضرار بالسوق، فلا يقر؛ فهي مصلحة فرد يحصل بها الضرر للجماعة، فلا تقر الشريعة هذه المصلحة الخاصة بضرر عام، وإنما تدفع الضرر العام بالضرر الخاص، ومن قواعدها: إذا تعارضت مفسدتان إحداهما أعظم من الأخرى روعيت العظمى بارتكاب الصغرى.

حقيقة الإحياء

حقيقة الإحياء قال رحمه الله تعالى: [ومن أحاط مواتاً].

حفر بئر في أرض موات

حفر بئر في أرض موات قال المصنف رحمه الله: [أو حفر بئراً فوصل إلى الماء، أو أجراه إليه من عين ونحوها]. الآبار على نوعين: النوع الأول: ما يقوم على الجمة، وهي الآبار التي تكون في الأراضي الغنية بالماء، بحيث لو حفرت متراً أو مترين أو ثلاثة أمتار تمتلئ؛ لأن الأرض مليئة بالماء، فإذا حفر هذا القدر جاءت الجمة واجتمعت في البئر، فإذا نزحت الماء عادت مرة ثانية، فمثل هذا الماء إذا كان كافياً لإحياء الأرض، وكان نصف البئر المحفور يكفي ماؤه لإحياء الأرض فلا إشكال، فيحفر ويحيي الأرض، لكن إذا كان الماء قليلاً لا يكفي لإحياء الأرض، وكان من يعرف الزراعة يعرف أن هذا الماء لا يُمكِّن صاحبه أن يزرع الأرض؛ فلا يكفي هذا للحكم بإحياء الأرض. النوع الثاني: الآبار الجوفية، فهذه ماؤها غير ماء الأولى، الأولى لو حصل جفاف -كما لو قل المطر أو قحط الناس- انقطعت مياهها لأنها سطحية، ولذلك مثل هذه الآبار السطحية خاصة في المناطق النائية التي يقل فيها الماء، لا يكون مثلها موجباً للحكم بالإحياء، وعلى القاضي أن يحتاط في مثل هذا؛ لأنه ربما خدع في وقت امتلاء البئر، فيظن أن الأرض يمكن إحياؤها بهذا القدر من الماء، والواقع أن مثل هذا لا يكفي، لكن المياه الجوفية التي يكون الماء موجوداً فيها غالباً، فإنها سبب لحياة الأرض، فمثل هذه الآبار لا شك أنها تثبت الملكية بها. وللبئر حريم سيبينه المصنف، لكن نحن نتكلم هنا على أن حفره للبئر في الأرض التي سورها نوع من الإحياء، فإذا أرادها للزراعة أو للسكنى وحفر فيها بئراً؛ فهذا نوع من الإحياء، والبئر ينتفع بها حتى إذا كانت الأرض للسكنى، فيكون البئر للبيت كما في القديم أو للزراعة، ويكون إحياؤها بذلك الماء. وقوله: (أو أجراه إليه من عين ونحوها) أي: أو أجرى الماء إلى الأرض المحياة من عين، أو من غيرها، كأن يحفر في مكان تتوافر فيه المياه، ويجري الماء عن طريق القناطر أو عن طريق المواسير -كما هو موجود في زماننا- إلى هذا الموضع الذي ليس فيه ماء، وقد كانوا في القديم يستقون من العيون، بواسطة القناطر والمجاري التي تأتي من العيون والخيوف وتسقي المزارع، وتجري القنطرة من بئر بعيدة أو من عين بعيدة، فإذا حفر بئراً بعيدة، وأوصل ماءها إلى نفس المكان المحيا، فإنه نوع من الإحياء.

نزح الماء عن أرض مغمورة وحبسه عنها

نزح الماء عن أرض مغمورة وحبسه عنها قال رحمه الله: [أو حبسه عنه]. هنا الصورة عكسية، في الأول الأرض يابسة، وهنا الأرض مليئة مغمورة، فإذا كانت الأرض مغمورة كواد في النيل أو الفرات أو دجلة، فغمر النهر الأرض، فيقوم المحيي فيحول بين الماء وبين الأرض، فيحبس الماء عن أرضه، ويضع الحواجز التي تمنعه، فتنكشف الأرض، وتصلح للزراعة، وتكون خصبة، فهذا نوع من الإحياء، فهو يكشف الماء ثم بعد ذلك يدخره حتى يستقي منه، لكن بشرط: ألا يضر بالنهر، فإذا أضر به كأن يدفن جزءاً منه فلا يحق له ذلك؛ لأن هذا التضييق سيضر بالطرف الثاني من النهر، وإذا ضاق مجرى النهر قوي دفعه على ما بعده، فيكون دفعه شديداً كحال الفيضانات والأمطار ومثل هذا اعتداء، ولذلك يحكم العلماء بأن النهر لابد له من حمى عن يمينه وعن يساره، وهما ضفتا النهر أو ضفتا الوادي، فهذه حمى لا يجوز لأحد أن يدخل فيها فيضيق مجرى النهر، ولذلك قالوا: لا يملك بالإحياء ما كان داخل مجاري السيول؛ لأنه إذا دخل مجاري السيول فإما أن يعرض نفسه للخطر، فيغرق وتغرق دوابه ويفسد ماله ويذهب زرعه، وهذا موجود، ومن سنن الله عز وجل أن من غلب على الماء في مجاري الأنهار والسيول أن الله عز وجل يسلط عليه السيول الجارفة، وإما أن يضيق مجرى النهر أو مجرى الوادي، فإذا ضيق مجرى النهر أو مجرى الوادي أضر بمن هو أعلى منه، وبمن هو دونه، فإذا كان مجرى الوادي مائة متر، فضيقه بدخوله فيه حتى صار خمسين متراً، فمعنى ذلك: أن الماء سينحبس، فإذا جاء السيل فإنه سيضر بالناس ويؤذيهم؛ ولذلك لا يجوز الإحياء بسحب الماء أو الدخول على المجاري، فهذا هو مقصود المؤلف رحمه الله، أنه لا يضر بالنهر ولا يضر بمن يستقي من النهر. قال رحمه الله: [ليزرع]. اللام: للتعليل، أي: يحوط الأرض، ويحفر فيها، أو يجري لها الماء من بعيد بقصد الزراعة، فهذا إحياء للزراعة، كذلك من الإحياء للزراعة حراثة الأرض، وتنظيف الأرض من الحجارة، وتنظيفها من الشجر حتى يزرع فيها، وتكون صالحة للزرع، وكل هذا يعتبر من الإحياء. قال رحمه الله: [فقد أحياها]. أي: إذا حصل منه هذا فإنه يكون محيياً لها؛ لأنه إحياء خاص، وهو الإحياء بالزراعة.

إحاطة الأرض وزراعتها

إحاطة الأرض وزراعتها هنا فصل المصنف رحمه الله حقيقة الإحياء، فكأن سائلاً سأل: كيف يكون الإحياء؟ فقال رحمه الله برحمته الواسعة: (ومن أحاط مواتاً)، فالأرض إذا كانت على طبيعتها مواتاً، فلابد من فصلها عن غيرها، فالإحاطة تكون بالسور، أو برفع الأرض، أو بالتحجير بوضع جدار من الحجارة بعضها على بعض، أو من الخشب، أو الإحاطة بالأسلاك الشائكة الموجودة في زماننا، أو غير الشائكة من الزنك أو الحديد أو غير ذلك مما تحصل به الإحاطة، والمقصود فصل ما يريد إحياءه عما هو من أصل الموارد، فلابد أن يفصل أرضه؛ لأنه سيحكم له بملكية هذه الأرض، والملكية تنصب على معين لا على مجهول، فلابد -لكي نحكم له بالملكية- أن يحدد ما يحييه، ويكون التحديد -كما ذكرنا- بالإحاطة، والإحاطة قد تكون من جنس الأرض نفسها كرفع العقوم، وهو أن يرفع عقم التراب، فيحيط أرضاً مثلاً مائة متر في مائة متر، فهذه الإحاطة بالتراب نوع من الإحياء، لكن ليست كل الإحياء، فهناك مرحلتان للإحياء: المرحلة الأولى: تهيئة الأرض للإحياء، والمرحلة الثانية: إثبات الإحياء بالغرس أو البناء أو نحو ذلك، فإذا رفع عقوم الأرض، وبين عقومها، فحينئذ يشرع في الإحياء، وإذا سوى الأرض وجعلها مستوية، فجعل أعلاها مستوياً مع أسفلها، وساوى الأرض، فهذا شروع في الإحياء، وكذلك الرياض التي تكون على الجبال، وعلى مجاري الأنهار أو العيون إذا حجرها ووضع الحجارة حولها بحيث إذا جاء الماء ينحبس في نصيبه حتى يسقيه، ثم يرسل ما زاد عن حاجته، فهذا نوع من الشروع في الإحياء، وهذا الشروع في الإحياء لا يثبت الملكية، فلا يكون مالكاً بمجرد بناء سور أو بناء عقم؛ لأن من بنى سوراً على أرض لم يحيها حقيقة، إذ لو فتح هذا الباب فقد يأتي شخص إلى أرض واسعة (كيلو في كيلو)، ويبني عليها سوراً ويقول: أحييت هذه الأرض كلها! إنما يكون الإحياء إما بالزراعة وإما بالبناء، أو نحو ذلك مما يقصد به الإحياء، ومن الإحياء أن يجمع بين زراعتها وبنائها، أو يجعلها مستودعات أو نحو ذلك، لكن مجرد بناء السور أو الإحاطة لا يكفي. فإذا أحاط الأرض وقلنا: لا يملك بمجرد الإحاطة، فيرد Q ما هي فائدة قولنا: إن الإحاطة شروع في الإحياء؟ نقول: إنه بهذه الإحاطة يكون له حق السبق، بحيث لو جاء منافس يريد أن يحيي نفس الأرض نمنعه منها، ونقول لمن أحاطها: يا فلان! أحي هذه الأرض وإلا مكنا غيرك منها. إذاً: التحجير والإحاطة دون وجود إحياء فعلي في نفس الأرض لا يقتضي الحكم بالملكية، بل لابد من وجود الإحياء الحقيقي بزراعة أو استغلال يثبت بمثله الإحياء، فلو أنه حجر الأرض ونازعه غيره؛ قلنا: إن هذا التحجير يوجب الحكم بالسبق. يرد سؤال: لو أن شخصاً بنى سوراً على أرض كبيرة، ولم يحدث فيها بناءً ولا زرعاً، ولم يحيها إحياءً يثبت بمثله الملكية، وتم هذا البناء للسور ومكث مدة، ثم جاء أحد يريد أن يحيي هذه الأرض، فقال له: أنا بنيت الجدار، لكنه لم يحدث شيئاً، فهل يبقى الوضع هكذا على مر السنين والدهور مع أنه قد يفعل هذا حيلة فيبني الجدار ويحجر؟ هذا يسمى التحجير، ويروى فيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما -وفي سنده الحسن بن عمارة ضعيف- أنه قضى فيمن حجر أرضاً ثلاث سنين، ثم لم يفعل خلال الثلاث السنوات شيئاً، أنه يمكن غيره من الإحياء، ويرفع الأول يده، فنقول له: خلال الثلاث السنوات إذا أحييت ملكت، وأما إذا لم تحي فغيرك أحق، والعمل على هذا عند أهل العلم أنه يؤجّل ثلاث سنوات لإحيائها بالزراعة أو نحو ذلك. وهذا القول لا شك أنه يقفل باب الضرر الموجود في زماننا، فقد يأتي الشخص ويرفع عقم الأرض، ولا يحدث فيها شيئاً ألبتة، ويأتي الثاني ويبني جداراً على أرض ولا يحدث فيها أي إحياء، ثم يمتنع من تمكين غيره منها، فلا شك أن في هذا إضراراً وتضييقاً على المسلمين؛ وتصوّر المدينة أو القرية إذا أصبح كل شخص يبني سوراً طال أو قصر، وإذا بالناس يتباعدون، ولو أراد شخص أن يخرج خارج المدينة ليرتفق لا يجد مرفقاً أو منتزهاً إلا بعد عشرين أو ثلاثين أو أربعين كيلو متراً! فكأنهم حُبسوا في مدنهم! فهذا تضييق على الناس؛ ولذلك: لابد من وضع ضوابط شرعية، فلا يستغل كل شخص قضية الإحياء حتى يضيق على المسلمين في مصالحهم. إذاً: الإحاطة لا تكفي في الإحياء، بل هذا تحجير.

حريم البئر

حريم البئر قال رحمه الله تعالى: [ويملك حريم البئر العادية خمسين ذراعاً من كل جانب، وحريم البدية نصفها].

حريم البئر غير المطوية

حريم البئر غير المطوية البئر الصغرى التي تكون غير مطوية وغيرة ثابتة، محفورة باليد وما فيها طي، ومثل هذا النوع من الآبار مؤقت قد ينهدم ولا يبقى، لكن البئر العادية المبنية المطوية تبقى قروناً؛ لأنها ثابتة، لكن الآبار غير المطوية وغير المعتنى بها تبقى مؤقتاً، وقد يحفرها الشخص ثم يرتحل عنها؛ فيعطى من الحريم ما يناسبه، ومن العلماء رحمهم الله من عمل بهذا الحديث المرفوع وجعله أصلاً، ومنهم من قال: هذا أمر مختلف بحسب العرف، فنمكن صاحب البئر من أخذ حمى للبئر على قدر حاجته، فمثلاً: قبيلة حفرت بئراً فتحتاج حريماً إلى خمسين ذراعاً، والقبائل الصغرى ليست كالكبرى، فمثل هذا يختلف باختلاف أحوال الناس، وهذا مذهب الجمهور، وهذا قول قوي؛ لأنه لم يصح في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن عمل بهذا المرفوع، فلا بأس، وقد جرى عليه العمل عند بعض السلف رحمهم الله. قوله: (خمسين ذراعاً من كل جانب) لأن الناس عندما يردون على الآبار يستقون لدوابهم ما يريدون من مكان معين، والبئر في بعض الأحيان يكون لها منزح للماء وبرك وحياض في جهة معينة يستقى منها، لكن بالنسبة للبئر عموماً قد يستقي منها العشرة في آن واحد، كالبئر الكبيرة، وكل واحد له رشاء، وماؤها قريب ما تحتاج إلى بكرة ونحوها فينزح الناس منها، لكن إذا كان للبئر بكرة واحدة -يعني دلو واحد- فيحتاج الناس إلى حياض، وإلى قنطرة تسني إلى الحياض، وإلى ترتيب، فلذلك: ترك الأمر إلى اختلاف الأحوال واختلاف الأشخاص أنسب وأولى. قوله: (وحريم البدية نصفها). حريم الشيء حرمته، والمراد بذلك: ما ذكرناه أن هذه البئر تحتاج إلى مثل الحمى تحمى به حتى تبقى، وحتى يتمكن صاحبها الذي احتفرها من أخذ مصلحته التي يريدها منها برفق.

حريم البئر المطوية

حريم البئر المطوية (البئر العادية) نسبة إلى عاد، ومن عادة العرب أن القديم تنسبه إلى عاد، فالشيء القديم يقال عنه: العادي، والمراد بها هنا: البئر المطوية، وتكون إلى عين ومجرى، وما تكون بئراً مؤقتة كالتي تجتمع بالجمة. وكانوا في القديم يحفرون الآبار من أجل أن يستقوا لأنفسهم أو يحفروها سبيلاً للناس، أو يحفرها الرجل لخاصته مثل المزرعة، وقد نص العلماء رحمهم الله أنه لو حفر أحد بئراً واستخرج الماء من البئر فإن لهذه البئر حريماً، والحريم يشبه الحمى؛ لأن من حفر بئراً يحتاج إلى مسافة معينة ليستفيد من هذه البئر، فكانوا في القديم، تحفر قبيلة بئراً في مكان ما، فيقال: هذه بئر بني فلان، فيحتاجون إلى سقي دوابهم، فإذا جاءوا بدوابهم فإنهم يحتاجون إلى مكان متسع حتى يشربوا، ويحتاجون إلى أحواض ليكون فيها الماء، فالماء ينزح من البئر ويوضع في هذه الحياض حتى ترده الإبل والدواب، فهذا شيء رتبه العلماء رحمهم الله، ونظروا إلى أن الأعراف جارية بوجود مصالح مرتبطة بالبئر، وقد جاء حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نص على أن حريم البئر العادية خمسون ذراعاً، والبدية خمسة وعشرون ذراعاً، لكن من حيث العمل عند العلماء رحمهم الله أن حريم البئر مرتبط بمصلحة هذه البئر، فقد يطول وقد يقصر على حسب اختلاف المراد من هذه البئر.

إقطاع الأرض الموات لمن يحييها

إقطاع الأرض الموات لمن يحييها قال رحمه الله: [وللإمام إقطاع موات لمن يحييه ولا يملكه]. قال رحمه الله: (وللإمام) اللام: للاختصاص، الإقطاع مثل المنحة، وفيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، فمن أهل العلم من قال: يجوز للإمام أن يقطع وأن يمنح ولا يجوز لمن دونه ذلك، فيختص الإقطاع بالإمام وحده، وقالوا: إنه لا يقطع إلا في شيء فيه مصلحة للمسلمين؛ لأن أراضي المسلمين لهم جميعاً، ولا يجوز تخصيص بعضهم دون بعض إلا إذا وجدت مصلحة للمسلمين في ذلك التخصيص، وهذا هو الأصل الشرعي، وهو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت الإقطاع عنه عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة، ومنها حديث وائل بن حجر الكندي رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضاً بحضرموت، وكذلك أقطع عليه الصلاة والسلام الحارث بن بلال رضي الله عنه وأرضاه بالعقيق -ويقال: إنه العقيق الذي قرب الطائف- أقطعه منجماً، ولما كان زمان عمر رضي الله عنه وأرضاه قال له عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أقطعك لتحييه، ولم يقطعك من أجل أن تحتجزه من دون الناس، فما أحييته فهو لك، وما لم تحيه فالناس معك فيه سواء، فدلت هذه السنة العمرية على أن الإقطاع نفسه لا يقتضي التمليك، وأنه ولو قلنا بصحة الإقطاع لا يكون تمليكاً على أصح قولي العلماء رحمهم الله لدلالة السنة عليه، فيكون أولية وسبق، فإن أحياها وتعهدها وتولاها ثبتت ملكيته، وأما إذا لم يتمكن من ذلك فقد جاء عن عمر رضي الله عنه ما يدل على اعتبار الثلاث سنين مهلة للإحياء، فإن رجلاً أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً، ثم تأخر في إحيائها، فجاء قوم وأحيوها، فاختصم معهم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر: لو كان أبو بكر أقطعك إياها لتركتك، يعني: لأن المدة لم تصل إلى ثلاث سنوات، أما وقد أقطعك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تحيه فلا تملكه -أي: لا ملك لك- لو كنت تريده لأحييته، فيكون فائدة الإقطاع سبق الأولوية وكونه أحق من غيره حتى يقوم بعمارة الأرض، وإلا لو فتح الإقطاع عموماً لأضر بمصالح المسلمين، ومن هنا قالوا: إنه لابد من قيامه بالإحياء، وتعهده ذلك المكان بما يكون به الإحياء الموجب لثبوت الملكية. وبين رحمه الله بهذه الجملة مسائل:

إقطاع الإمام للأرض

إقطاع الإمام للأرض المسألة الأولى: أن من حق الإمام الإقطاع، وهذا مبني على مصلحة المسلمين كما ذكرنا؛ لأنه نائب عنهم، فما كانت المصلحة في إقطاعه أقطعه، وما لا مصلحة في إقطاعه فلا يقطع فيه، وهكذا ما أضر بهم فضيق عليهم فإنه لا يقطع فيه، فيكون الإقطاع لما فيه المصلحة.

تمليك الأرض بشرط الإحياء

تمليك الأرض بشرط الإحياء المسألة الثانية: إذا أقطع شخصاً فإن أحياه كان ما أقطعه ملكاً له على قضاء عمر رضي الله عنه وأرضاه، وهي سنة عمرية أن من أحيا ما أُقطع يملكه، كما قال للحارث: فما أحييته فهو لك، وما لم تحيه فلا تحتجزه من دون المسلمين، أي: ليس لك حق أن تحتجزه من دون المسلمين. المسألة الثالثة: مفهوم قوله: ولا يملكه -أي: لا يملكه بالإقطاع- أنه لا يصح بيعه قبل إحيائه، فحينئذ لا تثبت له يد الملكية بمجرد الإقطاع حتى يكون منه إحياء، وهو والمسلمون في ذلك سواء؛ مادام أنه لم يحيه، ولم تكن له يد عليه.

إقطاع الجلوس في الطرق لمن يبيع فيها

إقطاع الجلوس في الطرق لمن يبيع فيها قال رحمه الله: [وإقطاع الجلوس في الطرق الواسعة ما لم يضر بالناس]. للإمام الإقطاع للجلوس في الطرقات، والمراد بهذه المسألة الباعة، كانوا في القديم يختصمون في الطرقات؛ لأن الباعة يبسطون ما يبيعونه على الطريق من أجل أن يشتري الناس منهم، فللإمام الإقطاع للجلوس في الطرقات من أجل البيع وعرض السلع، فيحدد أماكن ويقول: المكان الأول لفلان والثاني لفلان وهكذا لأنه لو تركهم ربما حصلت فتنة بين الناس وحصل ضرر، فله الحق أن يتدخل من أجل كف بعضهم عن بعض تحقيقاً للمصلحة، ودرءاً للمفسدة، فيجعل لهم من يرتبهم، ويقسم بينهم الأماكن بالعدل والسوية، وإن حصلت مشاحة أو استواء أقرع بينهم أو نظر إلى ما يوجب تفضيل بعضهم على بعض مما يأذن به الشرع، فهذا إقطاع للجلوس على الطرقات، لكن بشرط: ألا يضر هذا الجلوس بالمسلمين، فإن كانت الأماكن التي أقطعت تضيق الطريق وتؤدي إلى ضيق الناس أثناء خروجهم من المساجد أو من المجتمعات أو نحوها؛ فحينئذ لا يقطع مثل هذا، بل يقطع على وجه لا ضرر فيه، ومما يضر بالناس في مشيهم في هذا الطريق زحام الناس على الباعة، فأصحاب البيوت يتضررون في خروجهم ودخولهم، ويتضرر نساؤهم، ويطلع على عوراتهم، فإن كان كذلك لم يقطع في مثل هذا، ومراد المصنف أن الحكم العام ينبغي ألا يضر بالمصالح الموجودة للمسلمين في ذلك المكان، ولذلك لابد من ترتيب هذا الأمر، والنظر إلى مصالح الناس، ومراعاة عدم حصول الضرر عليهم، وهذا الضرر قد يكون حسياً كالزحام الشديد في الطريق، وقد يكون معنوياً كصياح الناس ولغطهم، لا سيما إذا كان الإقطاع لهم بجوار المستشفيات أو بجوار الأماكن التي يكون فيها مرضى، أو فيها كبار السن، أو فيها مدارس، فيكون هذا إزعاجاً لهم، فكل شيء ينبغي أن يترتب، ويوضع في مكانه، فيكون الإقطاع على وجه لا ضرر فيه، والشريعة لا تأذن بالمصلحة التي فيها ضرر، إنما تريد المصلحة التي لا ضرر فيها، أو يكون الضرر فيها مقبولاً وسائغاً، ولذلك لابد أن يراعي الإمام عدم الإضرار بالناس. قال رحمه الله: [ويكون أحق بجلوسها]. ويكون المقطع أحق بالجلوس في هذا المكان ولا يملكه، فكونه أذن له بالجلوس في هذا المكان لا يقتضي ملكيته، فلو أزيل هذا الشارع مثلاً لم يعط شيئاً عوضاً عنه؛ لأنه لا يملك المكان بهذا الإقطاع، ولا يجوز أن يبيعه، فلو جاء وقال: أنا أخذت محلاً في المكان الفلاني لأبيع فيه في الموسم، فلا يجوز أن يقول لشخص: اشتر المكانه مني؛ لأنه لا يملكه، وشرط الشراء والبيع: أن يكون البائع مالكاً لما يبيعه، وهذا ليس بمالك، ولذلك لا يصح بيعه، لكن بعض أهل العلم يرخص في أخذه العوض للتنازل، وهذا مبني على مسألة: هل يجوز المعاوضة والنزول عن الاستحقاق أو لا؟ فبعض العلماء يرخص في هذا. لكن تجويز أن يبيع استحقاقاً لا يخلو من نظر، خاصة في مثل هذا؛ لأنك إذا جئت تنظر إلى أن الإقطاع من أجل مصلحة المسلمين، فإذا تأخر عن ذلك وقال: لا أريد، وأريد غيري، فيُخرج حتى يُمكن من هو أحق منه، وهذا هو الذي كان يختاره بعض مشايخنا: أن الاستحقاق لا يحق فيه أخذ العوض حتى ولو كان سابقاً، والسبب في هذا: أننا لو جئنا -مثلاً- إلى أماكن نريد أن نقطعها لأشخاص من أجل البيع فيها في الموسم، فرضنا أنها خمسمائة مكان، وتقدم ألف شخص، فإذا أقطعت هذه الأماكن، فإن الخمسمائة شخص سيأخذون هذه الأماكن، والخمسمائة الثانية من الأشخاص أولهم يستحق المكان الذي ينسحب منه أي شخص من السابقين؛ لأن كل مكان يخلو من الخمسمائة الأولى يستحق للخمسمائة الثانية، فهناك من هو أحق، فكيف يقدم من هو متراخٍ، ويكون ذلك للعوض؟ فلذلك كثيراً ما يحدث الضرر بمثل هذه الفتوى، فتجد من يتقدم لهذه الأماكن وهو لا يريدها، ولم يفكر في يوم من الأيام أن يبيع فيها، إنما مراده أن يأخذها حتى يقول: أنا أخذتها وسبقت، فأبيعها وآخذ عوضاً، فهو لا يريد إلا المتاجرة بهذا الاستحقاق، ولذلك قفل الباب في مثل هذا والمنع منه؛ أولى وأحرى إن شاء الله.

باب إحياء الموات [2]

شرح زاد المستقنع - باب إحياء الموات [2] الشريعة الإسلامية تسد كل باب يدعو إلى البغضاء والتنازع، وتنظم وترتب الأمور التي قد يحدث فيها تخاصم، فمن ذلك أنه من سبق الى مكان مباحٍ فهو أولى به، وإن سبق إليه اثنان ولم يمكن اشتراكهما فيه أقرع بينهما، وقد تكلم العلماء في أحكام السبق إلى مكان في المسجد، وحجز مكان فيه، وحكم من قام من مجلسه ثم رجع إليه، وهذا كله يدل على كمال الشريعة وحكمتها.

السبق معتبر في الإقطاع

السبق معتبر في الإقطاع بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومن غير إقطاع لمن سبق بالجلوس ما بقي قماشه فيها وإن طال]. هذه المسألة؛ ما فائدتها وتعلقها؟! المصنف رحمه الله رتب المسائل: فتكلم عن مسائل الإحياء وحقيقة الإحياء، ثم تكلم عن الإقطاع؛ لأن الإقطاع تكون الملكية فيه بعد الإحياء، فأثبت للمقطع الحق في السبق، ثم بين أنه لا يملك، وبين أن الإقطاع إما أن يكون للأرض من أجل أن تحيا، وإما أن يكون لأرض من أجل الجلوس، فبعد أن بين الإقطاع الأخف -وهو الذي للجلوس- شرع في مسألة المجالس، فمن يستحق المجلس ويقدم على غيره؟ ومتى يحكم للشخص بأنه أحق بهذا المكان الذي جلس فيه، بحيث لا يجوز لغيره أن يزاحمه فيه؟ نتكلم عن هذه المسألة: فأولاً: نذكر الأحقية بالسبق، وثانياً: هل هذه الأحقية تثبت؟ هناك أماكن إذا جلس فيها الإنسان وسبق إليها يبقى على الدوام، مثل أماكن البيع، مثلاً: شخص من عادته أن يبسط بسطته في أول الطريق، ما أقطعه أحد، لكن يأتي ويضع فراشه في هذا المكان، ويبسط بسطته، ويأتي البائع الثاني بجواره والثالث والرابع، فما دام قماشه موجوداً -كما ذكر المصنف- فهو أحق، فهو عادة يبسط بالنهار، فإذا غابت الشمس حمل متاعه وذهب وجاء في اليوم الثاني، فمن أهل العلم من يقول: كل مكان سبق إليه إنسان، وجرى العرف بجلوسه فيه لبيع أو غرض غير محرم شرعاً، فهو أحق به، وقد يكون هذا الغرض مما يتناوب، فالأماكن التي تكون ليلية ويأتي الشخص فيها ليلاً ويبسط قماشه فيها كل ليلة، ويداوم على ذلك المكان، فهو أحق به من غيره، فلو جاء في الليلة الثانية وقد سبقه جاره وجلس في مكانه فإنه لا يستحقه، فما دام أنهما في صنعة واحدة وفي عمل واحد وسبق هذا فيحكم له بالسبق ما داما في هذا المكان، ثم يفصل فيه على الأحوال، فإذا كانوا يبيعون في الليل فهو أحق به ليلاً، وإذا كانوا يبيعون في النهار فهو أحق به نهاراً، وهذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله فيرون أن مداومته على المكان في هذه المدة المؤقتة تثبت أحقيته فيه. وهذا بالنسبة للأمور الدنيوية مثل: البسطات المعروفة في زماننا للبيع، وقد تكون بعربية يوقفها في هذا المكان، أو بسيارته يوقفها في هذا المكان، فالمسألة واحدة، ففي القديم كان القماش، وفي زماننا السيارة، والعربية، وأي شيء يكون به عرض السلع على حسب اختلاف المبيعات واختلاف الأعراف فيما تحمل به تلك المبيعات.

اعتبار التخصيص شرعا

اعتبار التخصيص شرعاً ويتفرع على مسألة حجز مكان في المسجد، حجز مكان لدرس الشيخ، فهل يجوز حجز مكان له أو لا؟ فعلى القول الأول أنه اعتاد أن يأتي واعتاد أن يجلس فيه يصبح له رخصة، وعلى القول الثاني هل نترخص أو نأخذ بالأصل؟ هذه المسألة كان أحد المشايخ رحمة الله عليه يلاطف فيها ويقول: مما يدل على جوازه للشيخ أن النفوس طابت، يعني: النفوس تطيب بذلك، ولذلك يوسع فيه أكثر من غيره، فيجوز للشيخ والمفتي أن يختص بمكان من أجل أن يعرفه الناس داخل المسجد فيقصدونه للفتوى، لا سيما في المساجد الكبيرة كالحرمين ونحوها، ولابد أن يكون ذلك له مكان معين حتى يكون ذلك أسهل للناس لو أرادوا السؤال والفتوى، وقد كان بعض السلف رحمهم الله لا يجلس إلى سارية بعينها، ومنهم الإمام إبراهيم النخعي رحمه الله، مع أنه كان آية في العلم والفتوى، وممن ورث علم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فكان هذا الإمام العظيم لا يجلس إلى سارية بعينها خوفاً من الشهرة، لكن في ذلك الزمان كان العلماء موجودين، والأئمة متناثرين، لكن في زماننا الأمر صعب، وقد يأتي السائل وقد تعلق به سفره، وتعلقت به رفقة، وحصل حرج، وقد يأتي السائل قبل أن يؤدي عمرته كما في المسجد الحرام ويحتاج إلى أسئلة مباشرة وعاجلة، فإذا كان لا يعرف مكان من يفتي، ولا يعرف مكان من يوجهه؛ فإن هذا يضر بمصالح الناس، فخففوا في هذا لتعلق حاجة المصلين به، حتى أن أحد المشايخ رحمة الله عليه قال لبعض المشايخ ممن يقوي القول بأنه لا يستحق المكان حتى ولو عاد: إن قلت بهذا فلا تقدم إماماً؛ لأن الإمام في الأصل يحجز له هذا المكان؛ لأنه سيتقدم ويصلي بهم، فتعلقت به مصلحة الجماعة، فرأى شيخنا رحمه الله أن تعلق مصلحة الجماعة بالإمام، وإذن الشرع به، يدل على أن كل إنسان تعلقت به مصلحة دينية داخل المسجد فلا بأس باختصاصه بمكان، ويكون الأمر على السعة، ويدخل فيه القارئ تبعاً للشيخ، ويقاس عليه من هذا الوجه؛ لأن الإذن بالشيء إذن بلازمه، فلابد أن يكون له مكان قريب حتى يتسنى له أن يسمع الحاضرين.

القرعة بين سابقين إلى مباح

القرعة بين سابقين إلى مباح قال رحمه الله: [وإن سبق اثنان اقترعا]. (إن سبق اثنان) يعني: تنافس اثنان على مكان، (اقترعا) يعني: أجريت القرعة بينهما لتحديد المستحق، وقد ذهب جمهور العلماء رحمهم الله إلى أن القرعة من حيث الجملة يحتكم إليها، وهذا في حالة ضرورة أو حاجة، والأصل في شرعية القرعة قوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141]، وذلك أن يونس بن متى عليه الصلاة والسلام لما كان في المركب قالوا: لا نجاة لنا إلا برمي واحد منا، فاستهموا فخرجت القرعة على يونس -بلاء من الله عز وجل- فرمي في البحر، والمساهمة هنا هي: الاقتراع، فأخذ العلماء رحمهم الله مشروعية القرعة عند الازدحام، فلو كان أناس -مثلاً- في مركب وتعرضوا للغرق، ولا نجاة لهم إلا أن يغرق واحد لنجاة الجماعة، فقال بعض أهل العلم رحمة الله عليهم: يقرع بينهم، ويلقى من خرجت عليه القرعة، ونحن لا نفتي بهذا، لكن نقول: إنه قد جرى لدى أهل العلم إعمال القرعة، ومن ذلك أيضاً: لو أن اثنين ازدحما في مكان وجاءا في وقت واحد، ولا نعرف من منهما السابق، فالمكان لا يقبل التشريك، أو الاستحقاق لا يقبل التشريك، فدخلا معاً، ولا فضل لأحدهما على الآخر، فما الحكم؟ يفصل بينهما بالقرعة، وقالوا: القرعة خيار من الله، فمن اختاره الله لذلك فهو أحق به.

السبق إلى المسجد

السبق إلى المسجد هذا بالنسبة لأمور الدنيا، يبقى السؤال عن المسألة إن تعلقت بالسبق في أمور الدين، فمثلاً المساجد فيها أماكن يجلس الإنسان فيها للصلاة وللذكر ولقراءة القرآن، ويجلس فيها لطلب العلم، ويجلس فيها للفتوى حيث يأتي من يستفتيه، وقد ذكرنا أن من انتاب مكاناً واعتاد عليه، وأصبح ديدنه أنه يجلس في هذا المكان، ولهذا المكان مواسم معينة؛ فهو أحق به، وفرع على ذلك بعض الأئمة رحمة الله عليهم مسألة المسجد، فقال: من كان من عادته أن يداوم على الصلوات المفروضة في مكان معين، بحيث أن هذا المكان ما يسبقه إليه أحد، فإنه في هذه الحالة يكون أحق بهذا المكان، ويشمل ذلك مكان الصلاة، أو المعتكف، فالمعتكف إذا جلس في هذا المكان، واستوطن هذا المكان، ثم خرج بعد ذلك ورجع، فالمكان له على هذا القول، وكذلك إذا خرج بعد الفروض إلى بيته ثم رجع إلى ذلك المكان في فرض العصر والظهر والمغرب والعشاء والفجر فإنه أحق به. وفي الحقيقة أن هذا القول لا يخلو من نظر؛ لأنه ورد النهي عن توطن الإنسان لمكان معين في المسجد لا يصلي إلا فيه، ولو قيل بهذا القول فلا شك أنه بعيد عن ظاهر السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى)، والمراد بذلك: أن يبكروا بالحضور للمساجد، وألا يسبقهم من هو دونهم، وكان عليه الصلاة والسلام يحب أن يليه أولو الأحلام والنهى والعقول حتى يعقلوا عنه، ولهذا يستحب عند أهل العلم أن يقرب منهم الأكبر؛ لأنهم أكثر وعياً وأضبط، لكن لا يمنع أن الأصغر يتقدم، حتى في الصف الأول ما دام أنه سبق، وكان ابن عباس رضي الله عنهما من أسبق الصحابة، وكان يقدمه عمر رضي الله عنه ويجعله في مقدمة المجلس، وأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه، فهذا لا يمنع إذا عرف فضل الشخص، لكن نحن نتكلم عن الغالب، والذي يظهر -والله أعلم- أن المسألة لا تنضبط في المساجد، ولا يفتح الباب لكل من جلس إلى سارية أو جلس في مكان من المسجد أن يصبح هذا المكان محجوراً عليه؛ فإن المساجد لها حرمة عظيمة، والناس فيها سواسية، وجعل التفضيل فيها بالتقوى، أما أمور الدنيا فلا بأس فيها عند الحاجة دفعاً للضرر عن الناس، أما أمور الدين فلا، والقياس في هذا لا يخلو من نظر، ولذلك لم يجر عمل السلف على ترتب أماكنهم في المساجد، إذ لو كان هذا لفعله الصحابة رضوان الله عليهم، مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولفعله مع الخلفاء ولعرفت أماكنهم. فنقول: من سبق إلى المكان فهو أحق به، سواء كان سبق غيره في فرض غير هذا الفرض أو لا، ونبقي المساجد على حرمتها، ويشدد في المساجد أكثر من غيرها، فإن المساجد بيوت الله عز وجل، وأمور الدين لا ينبغي أن يفضل فيها أحد إلا بتقوى الله عز وجل، والناس في بيوت الله سواسية، ليس من حق أحد أن يحجز مكاناً بفراش أو يحجزه بشخص يستأجره للجلوس فيه، فإذا فعل ذلك فإنه يعتبر آثماً من وجهين: الوجه الأول: ظلمه لإخوانه المسلمين بمنعهم من الصلاة في هذا المكان، وتعطيله من ذكر الله عز وجل. الوجه الثاني: عدم رعايته لحرمة المسجد، ولذلك يقول بعض العلماء: الأذية في المسجد أعظم من الأذية خارج المسجد؛ لأن الإثم فيها أعظم لمكان حرمة المكان، ولا يجوز للإنسان أن يحجز مكاناً في المسجد إلا في حالة واحدة، وهي ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام من مجلسه لحاجته ثم عاد إليه فهو أحق به) وأضاف بعض العلماء -كالإمام النووي رحمه الله- كلمة: (في المسجد)، لكن لا أعرفها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تكون هناك روايات، لكن الرواية مطلقة: (من قام من مجلسه لحاجته ثم عاد إليه فهو أحق به) وقوله: (لحاجته)، فسرها جمهرة الشراح على قضاء الحاجة، ومعنى ذلك أنه مرابط في المسجد، أي: جالس في المسجد، والله يعلم أنه ما قام من هذا المكان إلا من أجل أن يقضي حاجته، فهو مضطر، أو من أجل أن يتوضأ كأن يحدث وهو جالس فيخرج للوضوء، فهذا هو الذي يرخص له، أما لو قام لحلقة علم ووضع سجادة في مكانه فلا يجوز له ذلك؛ لأن المسجد أرضه كلها مقصود عمارتها بذكر الله عز وجل، فمن جلس في هذا المكان يذكر الله فهو أحق به مدة جلوسه، فإذا قام عنه لقضاء الحاجة فهو أحق به إذا عاد للنص، بشرط: أن يتغيب بقدر الحاجة، ولا يزيد على ذلك حتى لا يضر بالناس، أما إذا قام لطاعة مثل طلب العلم أو السلام على إنسان أو تشييع جنازة أو نحو ذلك فإنه مخير بين أمرين: الجلوس في المكان ومراعاة فضل الجلوس فيه، أو الذهاب إلى هذه الطاعة، فإن اختار الذهاب إلى الطاعة من طلب علم وشهود جنازة ونحو ذلك لم يجز له أن يمنع غيره من عمارة المكان بذكر الله عز وجل؛ ولذلك لا يجوز حجز الأماكن في المساجد إلا لهذا الأمر خاصة، وأما غيره فإنه محرم، ومن ذلك واستئجار الناس ووضع الناس أو السجاجيد ونحوها لحجز الأماكن، فيذهب إلى بيته ليأكل ويشرب وربما ينام -نسأل الله السلامة والعافية- ثم يرجع إلى المسجد، فإذا وجد أحداً في مكانه سبه وشتمه وأضره، ولربما ركض ظهره أمام الناس، وربما حصل من الفتنة ما الله به عليم في بيوت الله عز وجل، حتى في الحرمين الذين هما أعظم حرمة عند الله سبحانه وتعالى، وقد يكون هذا في الصفوف الأول، وقد يكون هذا من أناس لا ينبغي لمثلهم أن يحدث هذا ككبار السن ونحوهم الذين هم أهل العقل وأهل الروية، فيحدث من الضرر ما الله به عليم بسبب هذا الحجز، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية -وهذا قول بعض أهل العلم- أنه لو وضع سجادته وذهب إلى بيته لغير ما استثني في الشرع -أنه يعتبر غاصباً للأرض، وشكك في صحة صلاته؛ لأن مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه وطائفة من السلف أن الأرض المغصوبة لا تصح الصلاة عليها، فإذا غصب مكاناً وصلى فيه -سواء في المسجد أو خارجه- لم تصح صلاته، فالأمر عظيم، وإن كان مذهب الجمهور أن الصلاة صحيحة، لكن نقول: انظروا كيف شدة السلف رحمهم الله وتعظيمهم لبيوت الله وتعظيمهم لحرمتها! فالواجب على المسلم أن يتقي الله عز وجل فيها، وألا يتسبب في الإضرار بغيره، فهذا المكان هو وغيره فيه على حد سواء ما لم يخرج لقضاء حاجته ثم يعود، فإنه أحق به من غيره كما هو نصه عليه الصلاة والسلام.

نظام الري من الماء المباح

نظام الري من الماء المباح قال رحمه الله: [ولمن في أعلى الماء المباح السقي، وحبس الماء إلى أن يصل إلى كعبه، ثم يرسله إلى من يليه]. هذه المسألة متعلقة بالباب من جهة الاستحقاق، كما أن إحياء الموات فيه استحقاق كما ذكرنا في مسائل الإقطاع ومسائل الأمكنة ونحوها، فشرع المصنف في مسألة استحقاق في السقي بالماء، وهذه المسألة تحدث فيها الخصومات والنزاعات، حتى وقعت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، حينما كان الصحابة رضوان الله عليهم يستقون من شراج الحرة، إذا كان هناك نهر، أو سيل، أو عين جارية، وهذه يُستقى منها بالترتيب، والحكم فيها أن الأقرب يقدم على الأبعد، فيستقي من هو أقرب إلى العين حتى يصيب القدر الذي حدده الشرع، ثم يجب عليه بعد ذلك أن يرسل الماء للذي بعده، ثم الذي بعده يستقي حتى يصيب القوام الذي حده الشرع، ثم يرسل الماء لمن بعده وهكذا. والأصل في هذه القضية ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه مع الأنصاري عندما اختصما في بعض مياه شراج الحرة. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم (قضى في شراج الحرة -وفي رواية: في مهزور ومذينيب من شراج الحرة- أن يسقي الأعلى فالأعلى)، ومهزور ومذينيب كانا واديين يسيلان من شرقي المدينة إلى وسطها، ومن ثم إلى بطحان ومن بطحان إلى مجمع الأسياف، والحرة المراد بها الحرة التي تسمى اليوم: الحرة الشرقية، وكانت تسمى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: بحرة واقم، فالحرة الشرقية كان يقال لها: حرة واقم، والحرة الغربية كان يقال لها: حرة الوبرة، والحرة الشرقية كانت أغنى ماءً من الغربية، والغربية كانت فيها خيوف وعيون أيضاً، ومهزور ومذينيب واديان يأتيان من أعلى الحرة الشرقية ويفيضان إلى جهة مسجد بلال الموجود في زماننا، فيلتقيان مع قربان وادي رانوناء الذي ينزل من وسط قباء من أمام المسجد ووادي بطحان، وتلتقي هذه الأربعة السيول قبل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تفيض إلى السيح الذي سمي سيحاً لسوح الماء فيه وكثرته، فهذان الواديان كانا في أعلى الحرة، وكان الصحابة يحدث بينهم بعض الخصومة بسبب إرسال الماء وعدمه، فقضى عليه الصلاة والسلام في مهزور ومذينيب من شراج الحرة أن يسقي الأعلى ثم يرسل الماء إلى من دونه، فجعل الحق للأقرب إلى العين أو الأقرب إلى النهر، فيسقي مزرعته. وما هو قدر السقيا؟ جاء أنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الزبير وقد اختصما على الماء، فقال عليه الصلاة والسلام: (اسق يا زبير! ثم أرسل الماء، فقال له الأنصاري: أن كان ابن عمتك! -فزل بذلك لسانه رضي الله عنه وأرضاه وقال هذه الكلمة- فغضب عليه الصلاة والسلام وقال: اسق يا زبير! حتى يبلغ الماء الجدار، ثم أرسل الماء) قال بعض الرواة: إنهم حزروا الجدار إلى قريب من الكعبين، وهذا الحزر -كما يقول بعض العلماء- محل نظر؛ لأن الجدار لا يصل إلى الكعبين، وهذا الحديث يحتمل أن يكون الأصل أنه يسقي إلى حد الكعبين كما أمره في أول الأمر، وكما جاء في بعض الروايات المنفصلة، فلما اعترض الأنصاري عزره النبي صلى الله عليه وسلم للاعتراض على الحكم، ولذلك يعتبر هذا من الجفاء، ومن هنا أخذ بعض العلماء أن من أساء الأدب مع القاضي فيجب على القاضي أن يعزره، ولا يسامحه القاضي؛ لأن الحق ليس للقاضي وإنما للشرع، قال الناظم: ومن جفا القاضي فالتأديب أولى وذا لشاهد مطلوب (ومن جفا القاضي) أي: قال له: ظلمتني، أو قال: ما حكمت بالعدل، أو: ما هذا بعدل، ولا بإنصاف. فيعزره حتى ولو كان القاضي طابت نفسه أن يسامح فيسامح الحق لنفسه، لكن مجلس القضاء مجلس شرع، فالتهكم به والاستخفاف به يعتبر استهزاء بالشرع واستخفافاً به، ومن هنا قال بعض العلماء: الاستهزاء بالعلماء استهزاء بالشرع، ولذلك قال الله فيمن استهزأ بالقرَّاء: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66]، وهم قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أجبن عند اللقاء، وأكثر عند الطمع، وأقل عند الفزع، فأنزل الله هذه الآية؛ لأنهم استهزءوا بحملة كتاب الله عز وجل. فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم عزره لقوله: أن كان ابن عمتك؛ لأن الزبير ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم صفية رضي الله عنها وأرضاها، فغضب عليه الصلاة والسلام وعزره بهذا. فبناء على ذلك: لا يسقي إلى الجدر؛ لأن الجدار فوق الكعبين بكثير، فالجدار قد يكون نصف قامة الإنسان، فالسقيا إلى هذا القدر كثير، لكن بعض العلماء رحمة الله عليه يقول: إن الزرع لا يمكن سقيه إلى الجدار الحقيقي فحزرهم بالكعبين مبني على أن الجدر تختلف، ففي بعض الأحيان تكون جدر -خاصة في الأماكن التي فيها العيون- صغيرة؛ حتى يتمكن الثاني من السقي بعد الأول، فيكون فيها منافذ للماء، فيكون قدر الكعبين مصمتاً ومغلقاً، وما زاد عن الكعبين فيه جدار، ولكن الماء يتسرب منه مثل الحجارة المرصوصة الموجودة إلى الآن في رياض الجبال ونحوها مثل الخيوف، فيخرج الماء من بين الحجارة، فهذا قد يكون فيه تحديد الكعبين وارداً. فدل هذا الحديث على أن الحق للأعلى، ثم يرسل إلى من بعده ولو قل الماء، فيسقي حتى يتم قوامه ثم بعد ذلك يرسل إلى من بعده.

حكم الاستقاء من غير استحقاق

حكم الاستقاء من غير استحقاق بناء على هذا يرد Q إذا كنا نقول: إن السقي من العيون يكون للأعلى فالأعلى، فتتفرع المسألة الموجودة في زماننا، فقد تكون هناك عيون، ويأتي شخص، ويسحب الماء من العين، بالوايت مثلاً، فتضعف العين ولا ترسل إلى من بعده، مع أنه ليس من أهل تلك الأرض، ولا يعتبر له استحقاق فيها، فإذا جاء ودخل فقد تخطى ترتيب الشرع؛ لأن ترتيب الشرع أن يسقي الأعلى فالأعلى، ولو فتح الباب للخارج عن هذه القسمة فمعنى ذلك أنه قد لا يصل الماء إلى الآخرين، خاصة باستخدام (المواطير) التي تسحب الماء بكثرة، فقد يأتي -مثلاً- عشرون أو ثلاثون (وايتاً) فما يبقى شيء من ماء العين، فلابد من بيان حكم الشرع في هذا. فيقال: إن المزارع والخيوف التي حول العين أحق ممن بعد؛ بدليل: أن الشرع جعل الثاني لا يسقي إلا بعد الأول، وجعل القرب من العين موجب للاستحقاق، فبناء عليه: لا يجوز دخول هذا الساقي من خارج إلا بتفصيل: إن كان هذا الساقي يريد الماء للشرب لإنقاذ الأرواح، ولم يجد مكاناً يستقي منه إلا هذا، فهذه حالات ضرورة تحتاج إلى المقارنة بين المزارع وسقيهم بالآلات وسقيهم بالعين، فإن كان عندهم بدل عن هذه العين وأمكنهم السقي بالنواضح وبالآلات ونحوها صرفوا إليها، وجاز لهذا أن يأخذ الماء منها؛ لأنه سينقذ الأرواح والأنفس، لكن هل يجوز له أن يتاجر بالماء، أو لا يجوز إلا من أجل إنقاذ الأنفس، هذا يحتاج إلى نظر. وقد تجد بعض أصحاب البيوت يسقي من العين مع وجود أنابيب توصل الماء إلى البيوت لكنها أكثر كلفة، فيملأ خزاناته من العين حتى يكون أربح له، فحينئذ يمنع؛ لأن الشرع جعل الاستحقاق للأقرب، وهو ليس بأقرب ولا في حكم الأقرب، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يقول: إذا كانت العين مرسلة، وكان أهل الزرع يستقون منها نهاراً، فيجوز لهذا المستقي أن يصرف إليه الماء ليلاً، فيأتي ويملأ (الوايت) في الليل ولا يملؤه نهاراً؛ لأن النهار تعلقت به مصلحة أصحاب الزرع، فيتوسط بين الحقين، لكن في بعض الأحيان يستقي أهل المزارع ليلاً ونهاراً، ولذلك لابد من التفصيل في هذا، وظاهر الحديث: أن الأقرب إلى العين أحق من الأبعد، فلا يجوز للأبعد أن يدخل على عين خاصة للبساتين تستقي منها، فيضر بمصالح المزارعين على الوجه الذي ذكرنا.

اتخاذ الإمام الحمى

اتخاذ الإمام الحِمى قال رحمه الله: [وللإمام دون غيره حمى مرعى لدواب المسلمين ما لم يضرهم]. وللإمام -على الاختصاص- حمى مرعى لدواب المسلمين ما لم يضرهم، والمراد بالحمى: أن يمنع الناس من الرعي في موضع مخصوص، ويجعل هذا الموضع لدواب المسلمين ولدواب الصدقة ولإبل الجهاد، فيتركها في ذلك المكان ترعى، فله الحق في ذلك، وهكذا في زماننا لو حمى الإمام أماكن يحتاج إليها لحماية الناس، أو مرتفعات من أجل حمايتهم، فتكون أماكن محمية؛ فلا بأس بذلك، وغير هذا لا حمى، فليس هناك حمى إلا ما حمى الله ورسوله، قال صلى الله عليه وسلم: (لا حمى إلا ما حمى الله ورسوله)، فلا يجوز للإمام أن يحمي مكاناً إلا إذا تعلقت به مصلحة المسلمين في ذلك الحمى، فيمنعهم من الرعي فيه من أجل دواب المسلمين، ولا يمنعهم لذات المكان، أما أن يمنعهم لذات المكان حتى يصير جميلاً أو محلاً للنزهة أو نحو ذلك فهذا ليس له أصل، فالأصل أنه لا يحمى إلا ما فيه مصلحة للمسلمين، ولم يحدث عليهم ضرراً، فلا يجوز أن يحمي مكاناً فيه كسب لبعض الناس، مثل أماكن برية أو بحرية يصطادون فيها. فيضر بأرزاقهم، فهذا رزق جعله الله لهم، والسابق مالك له، فما يحمي الإمام شيئاً إلا إذا وجدت المصلحة للمسلمين.

اعتبار المصلحة الضرورية

اعتبار المصلحة الضرورية والمصالح تنقسم إلى ثلاثة مراتب: مصلحة ضرورية، ومصلحة حاجية، ومصلحة تحسينية تجميلية كمالية. فيُحمى من أجل المصالح الضرورية التي يتوقف عليها حياة الناس، فإذا كانت حياة الناس موقوفة على حمى هذا المكان وجب أن يحمى، كما إذا خيف الضرر عليهم، فتحمى تكون أماكن تحصن من أجل أن يدفع منها العدو حتى لا يدخل منها ولا تكون ثغوراً، فيقال -مثلاً-: هذه الأماكن لا تزرعوا فيها، ويوضع فيها شيء لحراسة ثغور المسلمين، فهذه الحراسة التي جعلت في أرض محمية من أجل الحفاظ على أرواح المسلمين؛ هي مصلحة ضرورية، فيحمى مثل هذا المكان.

اعتبار المصلحة الحاجية

اعتبار المصلحة الحاجية والمصلحة الحاجية التي يكون فيها رفق بمصالحهم، ولا تصل إلى درجة الخوف على النفس، إنما يتضررون لو فاتت هذه المصالح، فمثلاً: الأماكن التي تلقى فيها النفايات، تبعد عن المدينة أو عن القرية ثلاثين كيلو متراً، فيقال للناس: هذا المكان محمي من أجل رمي الفضلات أو النفايات فيه، فلو لم نحم هذا المكان لا يموت الناس، ليست مصلحة ضرورية، لكنهم يتضررون؛ لأن الروائح الكريهة والنفايات لابد لها من مكان ترمى فيه، فلو عدم هذا المكان لأضر بالناس، ووقعوا في حرج وضيق، فصارت في مرتبة الحاجيات، فالضروريات هي الخوف على الأنفس أو الأطراف، والحاجيات ليس فيها خوف على الأنفس ولا على الأطراف، وإنما هي دون ذلك، بحيث يحصل الحرج والضيق إذا لم يمكنوا منها.

اعتبار المصلحة التكميلية

اعتبار المصلحة التكميلية والمصلحة التكميلية الجمالية مثل الأشجار الجميلة، فهذه جمالية تحسينية، فالحمى يكون للضرورية والحاجية، وأما غير الضروري والحاجي فلا حمى فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حمى إلا ما حمى الله ورسوله)، فيختص الحكم بوجود الضرورة ووجود الحاجة، فإذا وجدت الضرورة ووجدت الحاجة فحينئذ يجوز الحمى، ويكون الحمى لا لذاته وإنما من أجل مصلحة المسلمين العامة.

الأسئلة

الأسئلة

حكم صرف العملة في المسجد

حكم صرف العملة في المسجد Q هل الصرف داخل المسجد داخل في عموم النهي عن البيع في المسجد؟ A الصرف داخل المسجد كذلك؛ لأن الصرف نوع من البيوع، فلو كانت معه مائة فقال: اصرفها لي، فصرفها، فهذا عقد بيع، ولا يجوز فعله داخل المسجد، والله تعالى أعلم.

تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر ولا ثالث لهما

تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر ولا ثالث لهما Q هل من الذنوب ما ليس بصغائر ولا كبائر؟ A الذنوب إما صغائر وإما كبائر، وإذا لم يكن كبيرة ولا صغيرة فليس ذنباً؛ لأن الله يقول: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، فجعل الذنوب منقسمة إلى كبيرة وصغيرة، ولذلك جمهرة أهل العلم رحمهم الله -وهو مأثور عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ ابن عباس وغيره- على أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، وقال بعض العلماء: لا صغائر ولا كبائر، والذنوب لا يقال فيها: صغير وكبير؛ لأن الله أعظم من أن يقال في معصيته: صغيرة، لكن قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأما من لم يقل بالتقسيم فإنه لم يعرف الكبائر. يعني: لم يعرف ضابط الكبيرة من قال: لا يوجد صغائر وكبائر، والواقع: أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر بدليل الكتاب والسنة، أما دليل الكتاب: فكقول الله سبحانه وتعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، فوصف المنهيات بأن فيها كبائر، فقال: {كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء:31]، وكذلك قال تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7]، فالكفر خروج من الملة، ثم جعل من بداخل الملة إما فاسقاً وإما عاصياً، والفسوق: هو ارتكاب الكبائر أو الإصرار على الصغائر حتى تصل إلى حد الكبيرة، والعصيان: صغائر الذنوب. أما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيحين من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه وأرضاه-: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله ... ) الحديث، فقال: (أكبر الكبائر)، فوصف الذنب بأنه كبير، وأن الكبائر فيها أكبر، بصيغة (أفعل) التي تقتضي اشتراك الاثنين في الصفة، وأن أحدهما أقوى وأكبر من الآخر. فهذه النصوص كلها تدل على انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر، فالذنب إما صغيرة وإما كبيرة، وكل معصية لله عز وجل إما أن تكون صغيرة أو كبيرة. كذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحديث الصحيح: (الجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة، والصلوات الخمس مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)، فقال: (مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)، فجعل الذنب مكفراً إذا كان صغيرة، بشرط: اجتناب الكبيرة. فدل على أن الذنب إما كبير وإما صغير، وضابط الكبيرة هو: (كل ذنب سماه الله أو رسوله كبيرة، أو شرع الله له حداً في الدنيا، أو توعد عليه بعقوبة في الآخرة، أو بغضب، أو نفي إيمان، أو لعنة، أو نحو ذلك)، فهذا ضابط الكبيرة، وهذا القول -أعني: ضابط الكبيرة- مأثور عن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وبه يقول الإمام أحمد رحمة الله عليه، واختاره جمع من العلماء، كالإمام أبي محمد علي بن حزم الظاهري رحمه الله، وجمع من الأئمة المتأخرين، وهو -إن شاء الله- من أجمع الضوابط للكبائر، والله تعالى أعلم. نسأل الله العظيم أن يسلمنا من صغائر الذنوب وكبائرها، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

اشتراط المحرم وحكم المحصور

اشتراط المحرم وحكم المحصور Q امرأة أحرمت بالعمرة من الميقات وهي مريضة، فلما وصلت مكة لم تستطع أداء مناسك العمرة، علماً أن مرضها لا يرجى برؤه، فما تفعل الآن؟ وجزاكم الله خيراً. A نسأل الله العظيم، رب العرش الكريم؛ أن يفرغ عليها الصبر، وأن يربط على قلبها وعلى قلب ذويها، وأن يعجل لها بالشفاء، وأن يتداركها برحمته وهو أرحم الراحمين. السنة إذا أرادت المرأة أن تحرم أو أراد الرجل أن يحرم وهو مريض غير واثق من نفسه من المرض أن يشترط، لحديث ضباعة رضي الله عنها، قالت: (يا رسول الله! إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال عليه الصلاة والسلام: أهِلِّي واشترطي)، فهذه هي السنة، فإذا اشترطت المرأة فإنها تحل من إحرامها ولا شيء عليها؛ لأنها قد اشترطت، أما إذا لم تشترط ودخلت في نسك العمرة فعند العلماء خلاف: هل المريض محصر أو ليس بمحصر؟ وبعبارة أخرى: هل المرض يعد حصراً أم أن الحصر يختص بالعدو؟ فمن قال: إن المرض يكون إحصاراً خاصة في الأمراض الخطيرة، التي تعجز المرأة معها بالكلية عن إتمام عمرتها، فإنه في هذه الحالة يكون حكمها حكم المحصر، فتذبح شاة وتتحلل لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، فتذبح شاة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أحصر عن مكة فنحر وتحلل من عمرته، والله تعالى أعلم.

الانهزامية لدى بعض الآباء ونهيهم أبناءهم عن الخير

الانهزامية لدى بعض الآباء ونهيهم أبناءهم عن الخير Q والدتي حلفت أني لا أحضر للدورة، وحلفت أيماناً في أكثر من مجلس في أوقات متفرقة، ثم وافقت، فهل عليها كفارة يمين واحدة أو كفارات؟ وهل أكفر عنها من مالي؟ A في هذا السؤال عدة جوانب: الجانب الأول: على الوالدين أن يتقي كل واحد منهما ربه في الأولاد، وأن نعلم أن صلاح الدين والدنيا والآخرة في صلاح أبنائنا، فهذه الذرية إذا صلحت بالدين واستقامت عليه فإن ذلك الخير ليس لأهل البيت فحسب، بل يتعدى ذلك إلى المجتمع، بل قد يتعدى إلى الأمة، فكم من شاب صالح نشئ نشأة صالحة وأصبح إماماً من أئمة المسلمين! فنفع الله به أمة. فلذلك: على الوالدين أن يتقوا الله عز وجل، وعلينا أن ننزع من قلوبنا هذا الشعور بالغربة تجاه الإسلام والدين، أصبح الدين عند البعض كأنه شيء بغيض، وهذا إن لم يكن عداء صريحاً فهو عداء ضمني، فإذا كان الرجل يخاف إذا ذهب ابنه إلى المسجد، وإذا ذهب إلى حلقة، أو ذهب إلى عالم!! فما هذا الشعور؟! هذه غربة غربة كاملة وتامة؛ حيث يصير الإنسان منهزماً إلى درجة -والعياذ بالله- أن يتخلى عن دينه، ويصبح عدواً لدينه حتى في معاملته مع أولاده!! بينما كان السلف رحمهم الله يفرح أحدهم الفرح الشديد إذا علم أن ابنه يذهب إلى حلقة علم، وإذا علم أنه يحفظ القرآن، أو يشهد مجالس الذكر، فيقول: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يذكر الله عز وجل، والحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعبد الله لا يشرك به شيئاً. فما هذه الغربة التي يكون فيها الإنسان غريباً عن دينه إلى درجة أنه يخاف على ولده إذا ذهب دورة علمية! والسبب في هذا تضليل أعداء الإسلام للمسلمين، ولذلك تجدهم يحرصون دائماً على تصوير الإسلام دائماً في أبشع صورة؛ لأن قلوبهم مملوءة بالحقد على هذا الدين، وهذا الحقد على الدين ناشئ من أصل بينه الله عز وجل وهو: أن الكافر عدو لله عداوة بينة، فكل شيء قد يرضاه إلا الله، فما يريد شيئاً اسمه الإسلام، ولا يريد شيئاً اسمه الدين، ولذلك كل شيء يلصقونه بالدين، فالدين عندهم هو التخلف، والدين هو التحجر، والدين هو الهمجية، والدين هو الإرهاب، والدين هو كذا وكذا. ، وهذا كله عداوة لله عز وجل: {وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء:67]، فمن كفر الإنسان بربه -والعياذ بالله-، واعتدائه لحدوده؛ هذه الغربة التي أصبح فيها الحق باطلاً، والمعروف منكراً، فتجد الأم تحلف على ابنها أو تمنع ابنها، والأب يضيق على ولده لماذا هذا؟! سبحان الله! والله! إنك لتعجب من حلم الله على عباده! الله أكبر! يرى ابنه يذهب بالساعات والأيام والأسابيع بل والشهور مع قرناء السوء يمنة ويسرة وما يسأله يوماً واحداً: أين بات؟ وما إن يراه ذهب إلى مسجد إلا جلس يسأله: أين ذهبت؟ ومع من جلست؟ وماذا فعلت؟ وماذا قلت؟ لماذا هذا؟ أما علمت أنه تصرف لا ينبغي للمسلم، وأن عواقبه وخيمة؟ فينبغي علينا أن نعتز بديننا وألا ننهزم، وألا نكون في الحضيض؛ لأنا أمة أعزنا الله بهذا الدين، فمهما ابتغينا العزة فيما سواه أذلنا الله، وإذا كان الإنسان يتخلى عن دينه وعن إسلامه حتى في أهله وولده! فهذه مصيبة عظيمة. فهذا أمر ينبغي على المسلم أن ينتبه له، إذ أن عواقبه وخيمة، فمن كفر نعمة الله آذنه الله بزوال نعمته وحلول نقمته؛ فإن الله غني عن العالمين، فالله ليس محتاجاً لأحد، والله في غنى تام كامل عن خلقه: كما في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً)، الله عز وجل لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، فلنستحيِ من الله، ولنتقِ الله عز وجل في أنفسنا، ولنملأ هذه القلوب محبة للدين؛ حتى نشعر -صغاراً وكباراً وشباباً وشيباً- أن هذا الدين عز لنا وكرامة وشرف، وليس بذلة ولا بخوف، الأمان كله في الدين، والعزة كلها في الدين، والرفعة كلها في الدين، والصلاح أجمعه في دين الله عز وجل، ليس بيننا وبين الله حسب ولا نسب، فالعزة ما تأتي إلا بدينه وطاعته سبحانه وتعالى، والاستقامة على منهجه. وهذا أمر عظيم جداً، إذا كان المقصود من منع الأم مثل هذا الشعور، وقد أصبح موجوداً بين بعض الناس، والسبب في هذا: تضليل أعداء الإسلام للمسلمين، ولذلك يحرصون على جعل الإسلام في الصورة المشوهة، ألا شاهت وجوههم، وقطع الله دابرهم، وشتت شملهم، وفرق جمعهم، وأنزل بهم بأسه الذي لا يرد عن الظالمين، فإذا كان الشعور نابعاً من هذا فينبغي علاجه، وينبغي علينا أن نعيد النظر في قلوبنا، فإنها محل النظر من الله سبحانه وتعالى: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، ولذلك عزت الأمة وسادت وبزت عندما كانت المرأة تعتز بدينها في أولادها وذريتها، ولم يكن ذلك بأن يتعلم الولد، أو بأن يصلي ويركع فقط، ما كان السلف رحمهم الله يعتزون فقط بالصلاة، لا، والله! بل كانوا يعتزون حينما تسيل دماء أبنائهم وذراريهم في سبيل الله عز وجل! فتقول المرأة: الحمد لله الذي أكرمني بشهادتهم، فكانت لا يقر قرارها حتى يشرفها الله عز وجل بشهادة أبنائها في سبيل الله لإعلاء كلمة الله مقبلين غير مدبرين، صابرين مرابطين، فأين هذا من زماننا؟! فلذلك: ينبغي علينا أن نعيد النظر في هذا الشعور، وينبغي أن ينصح بعضنا بعضاً وأن يوجه بعضنا بعضاً، وأن يقول الابن لأمه ولأبيه: اتق الله عز وجل، ما يجوز هذا، ويذكره بالله عز وجل، وكراهية ذهاب الأبناء إلى حلق الذكر وطاعة الله عز وجل لا شك أنها عداوة لله عز وجل وعداوة لدينه، فلا يجوز هذا الشعور. الجانب الثاني: إذا كان منع الأم -وهي المسألة المهمة- لمصلحة متعلقة بها، أو خوف ضرر على الولد من أشياء موجودة في الطريق عند ذهابه، أو نحو ذلك من الأمور المبررة في حنان الأم وعاطفتها على ولدها؛ فلا بأس للأم أن تمنع ولدها، كأن يكون صغير السن وتخاف أن يتلقفه إنسان منحرف، فهذا شيء مبرر شرعاً وسائغ؛ لأن الله جعل الوالدين موجِّهين لولدهما فيأمرانه بما فيه الخير، وينهيانه عما فيه الشر، فإذا كان الدافع للأم الخوف على الولد من ضرر فنعم؛ ويحق لها منعه. كذلك -أيضاً- إذا وجدت مصلحة للأم أو مصلحة للوالد، كأن يكون عند الوالد عمل في تجارة أو دكان، ويتضرر بذهابك إذ لا يوجد من يساعده فهنا نقول: بر والديك، واجلس معهما والزمهما؛ فإن في ذلك خيراً كثيراً لك، فإن الذي أمرك بطلب العلم هو الذي أمرك ببر والديك، وانظر إلى أحد الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يأتي من أكثر من ألف كيلو يقطعها مهاجراً إلى الله ورسوله، ويقول: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد - أي: من أجل أن أجاهد معك وأعلي كلمة الله- فقال: أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد)، ولا أفضل ولا أكمل ولا أشرف من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ العلم عنه، وهو يريد الجهاد، فجميع الفضائل يسرت له، ومع ذلك يقول له: (أحي والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد). فأقول للأبناء: إذا كان الوالدان بحاجة فاحرص على قضاء حوائج الوالدين، وعند أن يأتيك الشيطان ويقول: بدلاً من أن تجلس في ذكر الله تذهب وتجلس في دكان أو مزرعة في السخط واللغط والغفلة عن ذكر الله عز وجل! فنقول لك: متى ما شعرت أن الذي تعبده في المسجد هو الذي تعبده في سوقك وتعبده في متجرك وتعبده في دكانك؛ فإنك تتقي الله عز وجل، فإن كان يوجد فتنة فغض بصرك، لكن تحرص على رضا والديك، وتحرص على ألا يخرج والدك ولا والدتك من هذه الدنيا إلا وهما راضيان عنك، واحرص على أن تكون في خدمتهم وقضاء حوائجهم بنفس مطمئنة، ونفس مرتاحة مستجمة، وتكون مع والديك، ووالله! إني أعرف من طلاب العلم من كان يذهب إلى السوق وإلى أماكن لو أعطي عليها عشرات الألوف لا يذهب، لكن ذهب براً لوالديه وامتثالاً لأمرهما؛ وطاعة لله وللرسول؛ فعوضه الله عز وجل من الخير والبركة ما الله به عليم! وكان يخرج قبل الأذان الأول للفجر لقضاء مصلحة دنيوية، فمنَّ الله سبحانه وتعالى عليه بقيام الليل وأعطاه من الخير ما هو سبحانه به عليم! ابدأ ببر والديك، ولو كنت في سوق تبيع وتشتري -ولو في أضعف الأشياء- وربما تحس أنها تنقص من حالك أمام الناس، فاصبر للوالدين، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، ولو كان والدك في أبسط الحرف فكن مع والدك، واحرص أن تجلس مع والدك، وأنت تحس أنها رحمة، ما تحس بالغضاضة ولا بالاحتقار، بل ينبغي على الابن أن يكون معتزاً بوالديه، ومفتخراً بوالديه، مثلما اعتز بك والدك وهو يحملك ولعابك على فمك، ومثلما اعتز بك صغيراً يحملك أمام الناس فكذلك أنت تعتز به، وكم كنت في هموم وغموم فكشفها عنك! فتفي له كما وفى لك، وتكون ابناً صالحاً كاملاً في برك لوالديك، قد يبر الابنُ أبويه، ولكن يشعر في داخل قلبه أنه محتقر بسبب هذا البر! لا ينبغي هذا أبداً، البر الكامل ما ذكرناه، والله! أعرف أناساً أعطوا من مناصب الدنيا الشيء الكثير، ومع ذلك إذا جاء عند والده لا يجلس إلا عند رجليه، ومنهم من أبوه يبيع في السوق ويكون ولده عنده كأنه عامل في الدكان، ولا يشعر بأية غضاضة، وإذا كان غائباً يسأل عنهم، ويتصل بهم ويتفقدهم، ويدعو لهم، ويشعرهم بعظيم الود لهما، سواءً غاب أو حضر امتثالاً لأمر الباري تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24]. فإياك إذا منعك الوالدان لمصلحة قد يريدانها، أو تعلم أنهما محتاجان إليك -ولو كان حناناً- أو الوالد كبير في السن ضعيف يريدك بجانبه، وقد يقول لك: لا تخرج، فعندئذٍ نقول لك: لا تخرج، اجلس معه، وتقرب إليه، يقول الوالد رحمة الله عليه: دخلت على أحد الجيران -وكان باراً بوالده- ووالده في مرض الموت، ورأيته بحالة مدهشة مع والده، فلما رأيتها بكيت، وتمنيت أني مكانه رجاء رحمة الله عز وجل ومرضاته. عن علي وعمر رضي الله عنهما أنهما رأيا رجلاً قد

حكم التصرف في الأموال المؤتمن عليها

حكم التصرف في الأموال المؤتمن عليها Q ما الحكم فيمن يتصرف في الأموال المؤتمن عليها، علماً بأنه لو جاء صاحب المال يطلبه أعطاه مباشرة ورد عليه ماله؟ فهل في ذلك حرج، علماً بأن أصحاب الأموال يعلمون من المودَع ذلك؟ A لا يجوز للمودَع أن يتصرف في الوديعة إلا إذا أذن له ربها، فإن تصرف فهو آثم، ويلزمه الضمان على التفصيل الذي ذكرناه، أما لو أخبرهم وأذنوا له ولم يمنعوه، فإن الوديعة حينئذ تكون قرضاً له، إذا أخذها يكون حكمها حكم القرض، فالأصل الشرعي يقتضي أن الودائع تحفظ، ولا يجوز لأحد أن يتصرف فيها إلا إذا أذن له ربها، فمن تصرف فيها على غير هذا الوجه فعليه أن يرد مثلها كاملة إلى أهلها، ثم يطلب من أهلها السماح إذا كان لم يستأذنهم من قبل. وعلم أهلها لا يكفي؛ لأنهم قد يعلمون منه هذا ولا يحبونه ولا يرضون، لكن يكونون مضطرين للإيداع عنده، ويعلمون أنه سيتصرف به، فالعلم لا يعتبر موجباً لسقوط الإثم، فلابد أن يتحلل من مظلمتهم في ذلك، وسؤالهم أن يحلوه، والله تعالى أعلم.

باب الجعالة

شرح زاد المستقنع - باب الجعالة لقد اعتنى العلماء بذكر جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بباب الجعالة؛ كبيان حقيقتها، ومتى يجزم بكونها عقد جعل، فبينوا صفتها من حيث العمل المطلوب، وكونه مجهولاً أو معلوماً، وصفة الشيء المجعول، وهل يجوز أن يكون مجهولاً، كما بينوا صفة عقد الجعالة: هل هو لازم أو جائز، ومتى يصير لازماً، وحكم فسخ عقد الجعالة، وغيرها من المسائل الذي تكلم عنها العلماء في باب الجعالة.

الجعالة وأحكامها

الجعالة وأحكامها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الجِعالة]. الجعالة: مثلثة الجيم: جِعالة وجُعالة وجَعالة، وهي الشيء الذي يضعه الإنسان لفعل مخصوص على وجه مخصوص. وهذا الفعل كرد الآبق والشارد، وفتح الشيء المقفل، (على وجه مخصوص) أي: على حسب ما يشترطه، فقد يشترط زماناً معيناً كقوله: من رد بعيري الشارد خلال شهر، أو من رد سيارتي الضائعة خلال سنة، أو نحو ذلك. فهذا كله من الجعالة، فيقوم عقد الجعالة على وجود حاجة من الجاعل؛ كرد شيء مفقود له يشترط على شخص مخصوص، أو على العموم. وصيغة الجعالة على شخص أن يقول: يا محمد! إن رددت سيارتي الضائعة فلك ألف ريال؛ فحينئذٍ يقع عقد الجعالة بين شخصين معينين: الجاعل والمجعول له، وهو الشخص محمد، فلا يسري إلى غيره. وربما جعل الحكم عاماً فقال: من رد عليّ بعيري فله ألف ريال. فقوله: (من) من صيغ العموم، فتشمل عموم الناس، ولا تختص في الطرف الثاني من العقد بشخص مخصوص. وهذا الباب يعتبر من الأبواب المهمة.

أدلة مشروعية الجعالة

أدلة مشروعية الجعالة والأصل في مشروعية الجُعالة: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقرها وأذن بها، واستحل أخذ الجعل بذلك. ومن أهل العلم من يقول: إن مشروعيتها ثبتت بدليل الكتاب، وهذه المسألة مبنية على مسألة أصولية تقدمت الإشارة إليها غير مرة، وهي: هل شرع من قبلنا شرع لنا أم لا؟ فقد جاء عن يوسف عليه السلام أنه قال: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72]. فجعل عليه الصلاة والسلام حمل البعير جعلاً، وحمل البعير معروف بالعرف؛ لأن البعير يحمل وسقاً كاملاً من التمر، وهو ستون صاعاً، فقال: من جاء بصواع الملك المفقود الضائع فنعطيه هذا القدر وهو ستون صاعاً. فهذا الفعل من يوسف عليه السلام قصه الله عز وجل في كتابه، ولم يرد في شريعتنا ما يخالفه، فدل على أنه يجوز للإنسان إذا ضاع له شيء أو هرب منه شيء أو أعجزه فتح شيء أو نحو ذلك أن يجعل الجعل لمن يقوم به. وأما دليل السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري: (أن طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا في سفرة سافروها، فمروا على حي من أحياء العرب وسألوهم أن يضيفوهم، فامتنعوا وبخلوا عليهم، فشاء الله عز وجل أن لُدغ سيد الحي، فلما لدغ ما تركوا شيئاً إلا فعلوه لعلاجه فلم يفده شيئاً، فقال بعضهم لبعض: إن هؤلاء الذين نزلوا عليكم قد يكون عندهم شيء، فلو سألتموهم، فجاءوا إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا لهم: إن سيدنا قد لدغ وما تركنا من شيء إلا فعلناه، فلم يفده في شيء، فهل عندكم من شيء؟ وكان فيهم راق، فقال: إننا قد استضفناكم فلم تضيفونا، فوالله لا أرقي لكم حتى تجعلوا لنا جُعلاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، فقام رضي الله عنه ورقاه بفاتحة الكتاب، فشفاه الله عز وجل، وقام الرجل كأنما نشط من عقال، ليس فيه منقلبة -يعني: لم يتغير به حال- صحيحاً كأن لم يصبه سوء، فأعطوهم الجُعل كاملاً ووفوا لهم، فلما أرادوا أن يقسموا الجعل، قال بعضهم لبعض: حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكرهوا ذلك، وأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اقسموا واضربوا لي معكم بسهم)، وفي رواية: (وما يدريك أنها رقية، خذوا القطيع واضربوا لي معكم بسهم، وضحك عليه الصلاة والسلام). ووجه الدلالة: أن الصحابة رضوان الله عليهم أخذوا الجعل على معالجة هذا الرجل وشفائه بإذن الله عز وجل، فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على أخذ الجعل على الرقية. وقد تفرعت على هذا الحديث مسألة الرقية التي سننبه عليها -إن شاء الله تعالى- بعد بيان مشروعية الجعل. الدليل الثاني: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نزلوا على ماء، ولما نزلوا إذا برجل قد لدغ إما من حية أو من عقرب، فسألهم سائل وقال: إن بالماء رجلاً لدغ، فهل عندكم من شيء؟ فقام رجل فرقاه بفاتحة الكتاب فشفاه الله عز وجل فأعطوه شاء، فلما أخذ الشاء وجاء إلى الصحابة غضبوا عليه وقالوا له: أخذت على كتاب الله أجراً! أخذت على كتاب الله أجراً! وما زالوا به حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إنه قد أخذ على كتاب الله أجراً، فقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم القصة، فقال عليه الصلاة والسلام: إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله). فهذا الحديث يدل على مشروعية أخذ الجعل، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة أن يأخذوا الغنم والشاء لقاء شفاء اللديغ. كذلك حديث خارجة بن الصلد عن عمه رضي الله عنه وأرضاه، وهو من بني تميم وقد واختلفوا في اسمه فقيل: عبد الله بن عثير، وقيل غير ذلك، وهو من بني تميم، أنه (أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من الوفاد على رسول الله صلى الله عليه وسلم سافر، فنزل على موضع، فإذا فيه رجل مجنون مكبل بالحديد، فقال له أهل ذلك الحي: إنكم أتيتيم من عند هذا الرجل الذي جعل الله الخير على يده، فهل عندكم من شيء لهذا المريض؟ فقام رضي الله عنه وأرضاه ورقاه ثلاثة أيام، وكان يرقيه بالفاتحة مرتين في اليوم، يجمع بريقه ويتفل عليه رضي الله عنه وأرضاه، فلما كان اليوم الثالث شفي الرجل؛ فأعطوه جعلاً، ومضى رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه، فقال عليه الصلاة والسلام: خذه، وأذن له بأخذه، وقال: لعمري من أخذ برقية باطل فلقد أخذت برقية حق). وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده وبعض أصحاب السنن. فجميع هذه الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم هي أصل عند أهل العلم في مشروعية أخذ الجعل إذا استعصى عليك شيء وصعب عليك أن تستأجر؛ لأن الفرق بين الجعل والإجارة: أن الإجارة تكلفك كثيراً، فلو جئت تستأجر شخصاً للبحث عن سيارتك الضائعة لكلفك كثيراً، فمن سماحة الشريعة أنك تجعل له مالاً على إحضار الشيء المفقود، أو الضائع، أو التائه، ثم بعد ذلك يقوم هذا الشخص بالبحث والتحري حتى يجده، فلا تتحمل بذلك المشقة والعناء خاصة من حيث الكلفة، وفي هذا رفق عظيم بالناس، وتيسير لهم في شرع الله تبارك وتعالى. أما من حيث الإجماع فقد أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية الجُعل، وأنه مأذون به شرعاً. وأما بالنسبة للعقل: فإن الحاجة داعية إلى وجود الجعل؛ لأن الناس تحصل لهم الظروف من ضياع الأشياء وسقوطها والإهمال في حفظها إلى درجة يحصل بها شيء من فواتها، ففي مشروعية الجعالة يسر وتخفيف على الأمة. والعلماء رحمهم الله يعتنون بذكر جملة من المسائل المتعلقة بالجعالة كبيان حقيقتها، وما هي الجعالة؟ ومتى نجزم بكونه عقد جعل؟ ثم يبينون صفة الجعالة من حيث العمل المطلوب، وكونه مجهولاً أو معلوماً، وصفة الشيء المجعول ما الذي يُجعل؟ وهل يجوز أن يكون مجهولاً أو يشترط فيه العلم؟ ويبينون صفة عقد الجعالة: هل هو لازم أو جائز؟ وإذا كان جائزاً -كما هو قول جماهير العلماء- فمتى يصير لازماً؟ وإذا تعاقد اثنان على عقد الجعالة ففسخ أحدهم العقد فما الحكم؟ كل هذه المسائل يتكلم العلماء رحمهم الله عليها في باب الجعالة. وهناك مناسبة بين باب الجعالة والأبواب السابقة من الوديعة، من جهة كونها تكون في حفظ الأموال ورعايتها؛ لأن الذي يبحث عن المال يوصله إلى صاحبه، والوديعة يقصد منها حفظ المال حتى يعود إليها صاحبها، فهناك مناسبة بين البابين من هذا الوجه.

من عقود الجعالة

من عقود الجعالة قال رحمه الله: [باب الجعالة]. أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بعقد الجعالة. ومن أشهر العقود الموجودة لعقد الجعالة في زماننا عقد الرقية. وقد انتشر هذا الباب في زماننا حتى احتاج كثير من الناس ومن طلاب العلم إلى معرفة جملة من الأحكام والمسائل التي ينبغي بيانها، حتى يستطيع الإنسان إذا أراد أن يقوم بالرقية أن يعطي الناس حقوقهم، دون أن يحصل شيء من الظلم، أو التعدي على حقوق الناس عن طريق الرقية بالجعل. ومن حيث الأصل الشرعي لا إشكال في جواز الرقية لقاء المال والجعل، ولكن ينبغي أن ينبه على أمور: منها ما يتعلق بالشخص الراقي، ومنها ما يتعلق بالشخص الذي يُرقى، ومنها ما يتعلق بأهله.

إذا خصص الجعل لشفاء المريض فلا يستحقه الراقي إلا بتمام شفائه

إذا خصص الجعل لشفاء المريض فلا يستحقه الراقي إلا بتمام شفائه كذلك مما ينبغي على الراقي: أن يعلم أن الجعل إذا خُصص لشفاء المريض فليس هو كالجعل الموضوع على مجرد القراءة، فهناك فرق بين أخذ الجعل على الشفاء، وبين أخذ الجعل على مجرد القراءة. فإذا اتفق العاقدان -الجاعل والمجعول له- على أنه إن شفي هذا الممسوس بإذن الله عز وجل فسيعطيه ألفاً؛ لم يجز له أن يأخذ منها شيئاً حتى يشفى شفاءً تاماً. وبناءً على ذلك: فإن فعل بعض أصحاب الرقية كما يفعل الطبيب، فيجعل حالات كشف، وكلما جاءه مريض أخذ منه قدراً معيناً؛ سبعين ريالاً أو مائة ريال على الكشف، فهذا لا يستقيم مع مسألة الرقية، فالرقية باب مخصوص له ضوابطه، والجعل له أحكامه، والإجارة الطبية لها أحكامها، فهذا شيء وهذا شيء، وقد نبهنا على هذا غير مرة. وجمهرة أهل العلم -فهو شبه اتفاق بين العلماء- على أن الجعل إذا وضع على شيء فلا تستحقه -ولو جئت بثلاثة أرباع الشيء- إلا إذا جئت به تاماً كاملاً. ولو شفي هذا الممسوس وظلت تنتابه النوبة يوماً في السنة؛ لم يشف، ولا يستحق الجعل كاملاً حتى يشفى شفاءً تاماً كاملاً؛ لأنه جعل المال من أجل شيء مخصوص يفوت بفواته كله أو بعضه. وهذا أمر لا يفرق فيه البعض، وهو أمر مهم جداً، حتى في أمور الطب؛ فإن الطبيب إذا جاءه المريض من أجل الشفاء وقال له: أعالجك وتشفى بإذن الله؛ لم يستحق أن يأخذ شيئاً من المال حتى يشفى المريض شفاءً تاماً. ومن هنا يحصل -بعض الأحيان- أكل المال بالباطل، فإذا جاء المريض عند الطبيب ووصف له المرض، فشخص المرض وأعطاه دواءً وعالجه، ثم تبيّن أن المرض ليس هو الذي قرره الطبيب؛ لم يستحق شيئاً، ويكفي أن المريض يدفع أجرة كشفه، ثم يدفع أجرة التشخيص، ثم يدفع بعد ذلك أجرة علاج لا يمت إلى مرضه بصلة، فبأي حق أكل هذا المال؟ وبأي وجه؟ إنه بالباطل، فإذا المريض للعلاج وكشف عليه وقال: عندك كذا، وقرر أن عنده مرضاً معيناً، وعالجه على أن عنده مرضاً، وتبين أنه ليس عنده ذلك المرض؛ فإنه يضمن له ذلك كله؛ لأنه غرر به؛ بل قد يعرضه للموت والهلاك؛ لأنه ربما يصرف له دواءً يضر بصحته، وقد يؤدي إلى تلف أعضائه. فهذه الأمور لابد من وضع الموازين لها، ولابد من وضع الأمور فيها في نصابها، حتى لا تؤكل أموال الناس بالباطل، وسواءً كان ذلك في الرقية أو في العلاج والمداواة، فأموال الناس محرمة إلا أن يأذن بها أهلها. فيشترط أن يكون هناك المقصود الذي من أجله شُرعت الرقية، ومن أجله اتفق العاقدان على الجعل، ولابد من وجوده. كذلك مما يترتب على ما ذكرناه من الأمور التي ينبغي توفرها في الراقي: أنه لا يجوز أن يتقلد هذه الرقية من كان جاهلاً، فالجاهل يعرض أرواح الناس وأجسادهم للضرر. وفي هذه الحالة أيضاً إذا وضع في الحسبان معالجة النساء؛ والرقية على النساء فإن هذا يتضمن كشفاً لعوراتهن، وسماعاً لأصواتهن، وربما يكون فيها بعض الفتنة، وربما تُكشفت، فلا يجوز أن يقوم بهذه الرقية وأن تكشف هذه المحظورات والمحرمات إلا عند الضرورة، ولمن هو أهل، أما أن يتقلد الرقية كل من هب ودب، وكل من أراد أن يقرأ على الناس يقوم بذلك فلا، ولابد أن يرجع إلى أهل الخبرة، وأن يسألهم وأن يتعلم منهم كيفية العلاج وآداب الرقية، وكيف يقوم بعمله على أتم الوجوه وأكملها.

أمور يجب أن يتصف بها الذي يرقى

أمور يجب أن يتصف بها الذي يرقى كذلك ينبغي أن تتوفر في الشخص الذي يُرقى أمور في بعض الأحوال خاصة إذا كان بإدراكه وشعوره: أولها وأعظمها: أن يوحد الله عز وجل، فما الراقي إلا سبب من الأسباب، فلا يجوز الاعتقاد في الناس، فيعتقد أن فلاناً هو الذي تشفي رقيته؛ بل علينا أن نعتقد اعتقاداً جازماً أن الفضل والأمر كله لله سبحانه وتعالى: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123] فإليه سبحانه يرجع الأمر كله، فترد الأمر كله لله سبحانه وتعالى. ومن تعلق بشيء وكله الله إلى ذلك الشيء، ومن وكله الله إلى غيره فقد خذله -نسأل الله السلامة والعافية- فيخرج الإنسان إلى الرقية من باب الأخذ بالمباح والأخذ بالأسباب، والأخذ بالرقية لا ينافي أصل التوكل، لكنه ينافي كمال التوكل، وهناك فرق بين أصل التوكل، وبين كمال التوكل. وقد تكلم على هذه المسألة الإمام ابن القيم رحمه الله كلاماً نفيساً في رده على المتصوفة الذين يقولون: إن الإنسان لا يسترقي الإنسان؛ لأنه يطعن في توحيد المؤمن، وبيّن رحمه الله أن الله عز وجل جعل الدواء والداء، ومن التوكل على الله كون الإنسان آخذاً بالأسباب بتناول الدواء. فسبحان من أنزل الداء وجعل له الدواء! فإذا وجدت أن الداء يُشفى بإذن الله عز وجل؛ تعجبت وازددت إيماناً بالله سبحانه وتعالى، الذي وضع الخير في هذا تذهب إلى غصن شجرة فيه أوراق فتأخذها بقدر معين ويجعلها الله شفاءً لمرض في صدر الإنسان أو بطنه، وتتعجب من شجرة في الصحراء، في أرض قاحلة، وإذا بالنفوس تبحث عنها؛ لأن الله جعل فيها الدواء!! عن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: (أتى الناس من هاهنا وهاهنا وقالوا: يا رسول الله! أنتداوى؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تداووا عباد الله! فإن الله ما أنزل من داء إلا وأنزل له دواء)، ولذلك يقول العلماء: حكم التداوي الندب، فإن كان المرض روحياً مثل الأمراض النفسية، فأعظم دواء جعله الله لها كتابه سبحانه وتعالى، الذي فيه الخير والبركة. وأفضل ما يكون التداوي بالقرآن أن تقرأه بحضور قلب وخشوع، حتى يجعل الله لبلائك ودائك ومصيبتك فرجاً ومخرجاً، حتى لو كان الشخص مسحوراً، فإنه إذا أكثر من تلاوة القرآن واستحضر قلبه عند سماع القرآن، ونظر أفضل القراء، الذين يتأثر بسماع تلاوتهم، فإن الله سبحانه وتعالى يجعل له فرجاً ومخرجاً. وكم سمعنا من قصص الصالحين من أهل الفضل والأخيار، الذين كمل إيمانهم بالله عز وجل -نحسبهم كذلك- حينما توكلوا على الله وهم في شدة البلاء؛ فأكثروا من تلاوة القرآن، فسحق الله من سَحَرهم، وأنزل بهم البلاء، فخرجوا من سحرهم من دون أن يمسهم السوء، وقد حصل هذا من أشخاص عديدين، فالشخص إذا سحر وأوذي وربط عن أهله -ومنهم من ربط عن الخير ودعوته- فأكثر من تلاوة القرآن؛ جعل الله له بكتابه فرجاً ومخرجاً. فيعتقد الإنسان في قرارة قلبه أن هناك أسباباً جعلها الله عز وجل، ولا يعتقد في الراقي، إنما يعتقد في الآيات والأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكلها تشتمل على التوحيد، كحديث: (أذهب الباس رب الناس) (أذهب) سؤال وابتهال ودعاء. (أذهب الباس رب الناس، واشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً)، فهو توحيد ودعاء، وثناء على الله بما هو أهله، وهو رب الجنة ورب الناس، رب كل شيء ومليكه، (واشفِ) دعاء وابتهال ومسألة، والله يحب أن تدعوه: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43] (واشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك) فلا زيد ولا عمرو ولا الطبيب ولو كان من أمهر الأطباء، فقد يعالج المريض اليوم وفي الغد يموت الطبيب ويعيش المريض؛ لأن الله بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، ولربما منعك الطبيب مما فيه الدواء، ولربما قال لك: لا تتناول كذا، وعلم الله أن شفاءك فيه. فلا أحد يستطيع أن يجاوز حده قدره؛ لأن الله عز وجل وضعه عند هذا الحد، فلا يتعلق المخلوق بالمخلوق وإنما يتعلق بالخالق، ولا يتعلق بمن لا يملك له ضراً ولا نفعاً؛ بل يتعلق بالله سبحانه وتعالى. فهذا أمر مهم جداً في الشخص الذي يُرقى؛ أن يكون تعلقه بالله سبحانه وتعالى، وتوكله على الله سبحانه وتعالى، ومن التوكل على الله أنه إذا جاء لشخص يرقيه ورقاه ولم تنفع رقيته؛ فليعلم أن الله يريد به خيراً، فقد يكون هذا البلاء وهذه المصيبة التي حلت به يريد الله أن يرفع بها درجته، ويعلي بها منزلته، ولذلك فلا يتعجل الفرج بقراءة زيد أو عمرو، حتى لا يصبح عنده ضعف؛ لأن النفوس مجبولة على التعلق بمن أحسن إليها، وقد يأتي فيها دواخن من وسوسة الشيطان، فتعييه الحيلة، ثم إذا بربه يأذن بشفائه في يوم لم يحسب له من حساب، فإذا به كأن لم يكن به شيء، فيزداد محبة لله سبحانه وتعالى، واعترافاً بفضله، والتجاءً إليه سبحانه. ومسألة طلب الرقية: قلنا: إنها تنافي كمال الإيمان؛ لحديث السبعين الذين لا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون، فطلب الرقية ينافي الكمال، والأكمل أن تتوكل على الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وأن ترقي نفسك، وأن تكثر من ذكر الله عز وجل، وأن تحافظ على الأذكار. وأما أهل الذي يريد أن يرقى، فعليهم النصيحة، فلا يذهبون به إلا لمن يوثق بدينه وأمانته، فلا يذهبون للمشعوذين، ولا إلى من فيهم شبهة. وتستطيع أن تعرف الشخص الصادق من الشخص الكاذب، فتجد الشخص الذي يرقي ورقيته شرعية يتكلم بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم كلاماً واضحاً معلوماً معروفاً، مأخوذاً من نور الكتاب والسنة، وأما الذي عنده شركيات وخرافات وطلاسم، وعنده تعاويذ ما أنزل الله بها من سلطان، فتجده يتمتم ويهمهم، وربما يكتب الحروز بكلمات غير مفهومة، وربما -والعياذ بالله- يستخدم الجن، فبلغ من تقربه لهم -والعياذ بالله- أن يعكس آيات القرآن في حروزه نسأل الله السلامة والعافية. فلا يجوز للمسلم، ولا يجوز لأهل المريض أن يذهبوا لأمثال هؤلاء، ولا يذهب الشخص للرقية حتى يسأل عن الراقي، فإن شُهد له بخير وعرف بالاستقامة، والمحافظة على الصلوات، والخوف من الله عز وجل، وتحري السنة؛ ذهب إليه وإلا فلا. كذلك ينبغي على الإنسان إذا أصابه مثل هذا البلاء -أي: الأمور التي تحتاج إلى رقية- أن يقتصر فيها على الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال بعض العلماء وهو مذهب طائفة: إنه لا رقية إلا من عين أو حمة، ويخصون الرقية بهذا حتى لا ينفتح الباب. فالأفضل والأكمل أن الإنسان ينحصر دائماً في المحل الذي يضطر إليه، وما زاد على ذلك فالأفضل فيه أن يفوض لله سبحانه وتعالى ويتوكل عليه، حتى يجعله الله عز وجل من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب. نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم منهم بمنه وكرمه، وهو أرحم الراحمين.

أمور يجب أن يتصف بها الراقي

أمور يجب أن يتصف بها الراقي فأما بالنسبة للشخص الذي يقوم بالرقية فلابد أن يتصف بعدة أمور: الأمر الأول: ينبغي عليه أن يصحح نيته فيما بينه وبين الله عز وجل، وأن يصلح سريرته في مداواته ومعالجته للناس، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح سريرته زكى الله علانيته. فأول ما يجب عليه أن يصدق مع الله عز وجل، وأن لا يجعل الدنيا أكبر همه ولا مبلغ علمه، ولا غاية رغبته وسؤله، فمن جعل الدنيا كذلك جعل الله الفقر بين عينيه، فهو فقير ولو كان أغنى الناس، وفتح عليه أبواب الدنيا حتى أصبح يلهث فيها، فلا يبالي الله به في أي أوديتها هلك. فالواجب على الإنسان أن يعلم أن الآخرة هي الأصل، خاصة وأنه يرقي الناس بكتاب الله، وبما ورد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعلم أن هناك جانباً شرعياً لابد من حفظه. الأمر الثاني: أن يعتقد أنه لا حول له ولا قوة في معالجة الناس، وأن الحول حول الله، وأن القوة من الله وحده لا شريك له. ولذلك فإن من كنوز الجنة: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، وكان أفضل الخلق عند الله صلوات الله وسلامه عليه يقول: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)، فإن الشيطان يتسلط على الراقي بالوساوس والخطرات، ويأتيه من أبواب لم تخطر له على بال، وقد يأتيه من باب يظن الرجل الراقي أنه باب خير، وإذا به باب فتنة عليه في دينه ودنياه. فالواجب عليه أن يوطن نفسه بالله عز وجل، ومن ذكر الله عصمه من هذه الوساوس، فهو إذا اعتقد في جميع أمره وشأنه وما أصبح ولا أمسى إلا وهو بريء من حوله وقوته، كثير الالتجاء إلى الله، كثير الاعتماد على الله؛ إلا كفاه الله أمره، وأصبح بخير حال. وإذا أصبح يعتقد أنه وصل إلى درجة يؤثر فيها على الناس، وإلى درجة تنفع فيها رقيته، وأنه الشخص الذي إذا رقى وضعت لرقيته القبول والتأثير؛ فقد يهلكه الله عز وجل بهذا الاعتقاد. وأكثر ما تأتي الآفات من نيات القلوب: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال:70]، ومفهوم ذلك: إذا سُلب هذا الخير فبقدر ما يُسلب من هذا الخير بقدر ما يكون محروماً والعياذ بالله! فالواجب تصحيح النية، واعتقاد الفضل لله وحده لا شريك له، الذي علمه ما لم يكن يعلم، علمه كيفية الرقية، وعمله ما يرقي به، وفتح له من أبواب الفضل؛ فيعتقد دائماً أنه لله ومع الله، ولا حول له ولا قوة إلا بالله عز وجل. الأمر الثالث: تَعلم الرقية، فلا يرقي الناس جاهل يتعلم. ولابد أن يتعلم أموراً في الرقية منها: ما هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية؟ وما الذي ورد عنه من صحاح الأحاديث والأخبار والآثار التي شُرعت للرقية؟ فلا يرقي الناس بشيء من عنده، ولا يأتي للناس ببدع ومحدثات، وإنما يوطن نفسه بالخوف من الله والأمانة والنصيحة لهذه الأمة ولعامتها، ويتحرى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن كان على السنة أصاب الإخلاص، وهداه الله الصراط المستقيم، وبارك له. الأمر الرابع: عليه أن يجعل هذا الهدي الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مطبقاً على الصفة الواردة، فلا يزيد عليها ولا ينتقص منها؛ بل يتعلم الوارد ثم يتقيد به، ولا يزيد عليه ولا ينقص منه، ويحاول قدر استطاعته عند قراءة الأذكار وقراءة القرآن أن يكون مستحضراً لعظمة الله جل جلاله، ومستحضراً لهيبته سبحانه وتعالى، فهي الخير كله والبركة كلها؛ لأن المعرفة بالله والإيمان به وتوحيده والإخلاص له عز وجل خير للعبد في جميع أحواله، ولو كان الإنسان في أي حالة فإنه يمكنه أن يوحد الله على تلك الحالة، ففي أي حالة من الأحوال يستطيع أن يتفكر ويعتبر ويدكر. فإذا كان في حال رقيته كلها يتلو كلام الله، ويستشعر أثناء تلاوته عظيم البركة التي وضعها الله عز وجل في كتابه: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص:29] بحيث إذا رقي به المريض شفي، وإذا قرئ على اللديغ نشط كأنما نشط من عقال، وإذا قرئ على الممسوس إذا به يفيق. ووالله إن العقول لتحار! فكم رأيت بعيني شخصاً يرقى فتراه أمامك كالطفل الصغير، وإذا به بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بآيات الله التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم إذا به يخرج من تلك البلية ومن ذلك البلاء كأن لم يكن به شيء، وقد يكون لا يعرف حتى نفسه التي بين جنبيه، وإذا به يرجع في أقل من طرفة العين بقدرة الله جل جلاله الذي هو على كل شيء قدير! فعندها تعلم أنه لا يمكن أن يخرج عن أمر الله في هذا الكون ولا في غيره شيء: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [المؤمنون:88]. فينبغي لأهل الرقية أن يكونوا من أكمل الناس توحيداً وإخلاصاً لو اعتبروا وادكروا، والراقي الذي يصل إلى هذه الدرجة ترى من سمته أنه يزداد توحيداً لله وتعظيماً له سبحانه وتعالى، فأبشر منه بكل خير. أما الراقي الذي يبدأ أول رقيته وهو لا يعرف شيئاً، فقد يستدرجه الشيطان. وكيف يعرف صلاح الراقي؟ يعرف كما إذا جاء المريض يشتكي فقال له: -إذا كان موحداً مؤمناً- أنا ليس عندي شيء من الأمر، بل الأمر لله إن شاء الله يشفيك ويداويك، فنسأل الله أن يذهب عنك الباس، وأبشر بخير، فالله رحيم بعباده، ولطيف بهم فيغرس في القلوب الإيمان. وهذه هي النصيحة لعامة المسلمين، والإمام أحمد رحمه الله لما دخلت عليه امرأة فقالت: يا إمام! إن ابني مريض فادع الله أن يشفيه. قال: يا أمة الله! إنك مضطرة، والله يجيب دعاء المضطر. فلما خرجت رفع كفه وقال: اللهم اشفِ مريضها. فقيل له: لم فعلت ذلك؟ قال: أخشى إن شفى الله ولدها أن تقول: شفى الله ولدي بدعوة أحمد، فهو يريدها أن تقول: شفى الله مريضي بدعائي وإخلاصي وتوحيدي له. والله ينزل البلاء من أجل أن ندعوه، فإذا دعوته وأجاب دعاءك ازددت إيماناً به، وتوحيداً وإخلاصاً له، وعرفت أنه لا منجى ولا ملجأ من الله إلا إليه، فسبحان من أنزل الداء والدواء! وسبحان من لا يعجزه شيء! فإذا بالراقي يزداد إيماناً. وقد أدركت رجلاً كبير السن كان من حملة كتاب الله، ومن خيار عباده، فجاءته امرأة في لدغة حية، فقرأ عليها ورقاها، ثم جلسنا من بعد صلاة الفجر حتى انبلج النهار في الضحى، وقد كانت بحالة كادت أن تموت، وأهلها يصيحون ويقولون: إن شاء الله يضع الله البركة، وجعل هذا الرجل يرقيها من بعد صلاة الفجر حتى شفاها الله، ثم قامت وهي تعاني بعض الشيء، فلما صار الضحى جاءه البشير وقاله له: الحمد لله لقد شفيت. فبكى وقال: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، وما ضحك وما اغتر بنفسه. فالراقي ينبغي أن يوطن نفسه على الإيمان بالله؛ لأن الجن والشياطين تخادع، وربما يستدرج؛ وهذا باب خطير. ولذلك تجد بعض القراء الصالحين الناصحين إذا ابتدأ الرقية بدأ بكتاب الله يرقي به، ولا يتكلم مع أحد، ولو حاولت الجن أن تقطعه فلا يلتفت إليهم؛ لأنه مشغول بلذة كلام الله، ولا يمكن الشيطان من ذلك؛ لأن الشيطان يريد أن يقطعه عن التلاوة والذكر؛ لأن التلاوة والذكر تتنزل لها الملائكة، وهم لا يريدون أن يستمر في خشوعه، فيشغلونه بالأحاديث والأخبار. ولذلك تجد بعض القراء إذا رقى شفي الإنسان شفاءً تاماً، ومنهم من هو بين بين، فالواجب على الراقي أن لا يجعل من رقيته ما يخسر به دينه وآخرته، وعليه أن يجعل من الرقية ما يعنيه على الإيمان بالله والإخلاص لله عز وجل، ولذلك إذا كمل هذا الشعور عنده عف عن الدنيا ولم يلتفت إلى المال، ولا إلى شيء من زخرف الدنيا، وإنما يلتفت إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى وحده.

أحكام ومسائل في باب الجعالة

أحكام ومسائل في باب الجعالة قال رحمه الله تعالى: [وهي أن يجعل شيئاً معلوماً]. قوله: (وهي) أي: الجعالة. وقوله: (أن يجعل شيئاً معلوماً) تصوير للمسألة؛ وليس تعريفاً لأن فيه دوراً، لأنك ما عرفت مادة جعل؛ فلا يصح أن تقول: الصلاة أن يصلي؛ لأنه ما عرف حقيقة الصلاة، ولا الجعالة أن يجعل، ولا الوديعة أن يودع، ولا البيع أن يبيع؛ فهو إلى الآن لم يعرف الجعالة، فكيف تقول له: أن يجعل؛ لأن الجعل يحتاج إلى تعريف. فمراد المصنف هنا أن يصوره، وأن يجعل له شيئاً معلوماً.

إذا اختلف الجاعل مع العامل قدم قول الجاعل

إذا اختلف الجاعل مع العامل قدم قول الجاعل قال رحمه الله: [ومع الاختلاف في أصله أو قدره يقبل قول الجاعل]. هذه المسألة تعرف: بمسألة الاختلاف، وقد تقدمت الإشارة إليها غير مرة، إذا حصل الاختلاف في البيع بين البائع والمشتري، وفي الرهن بين الراهن والمرتهن، وفي الشفعة إذا اختلف الشفيع والمشتري، كل هذا قد تقدم معنا. وهنا نتعرض لمسألة اختلاف الجاعل والشخص الذي يقوم بالبحث، فإذا اختلفوا في الشيء المجعول، وكان الباحث قد ذهب وبحث فوجد السيارة فجاء بها إلى صاحبها فقال: أعطني الجعل، فقال: هذه ألف، فقال الباحث: أنت قلت: سأعطيك ألفين. فإن اختلفوا في قدر الجعل أو نوعه كأن يقول له: هذه سيارتك قد وجدتها أعطني الجعل، فأعطاه ألف ريال، فقال: نحن اتفقنا على ألف دولار، والألف ريال قيمتها غير الألف دولار؛ لأنها ربما تساوي ثلاثة أضعافها، فيختلفون هنا في نوع الجعل، وقد يختلفون في جنسه: هل هو ذهب أو فضة؟ فمثلاً يقول له: هذه سيارتك وأعطني نصيبي الربع كيلو من الذهب، فيقول: لا. أنا قلت: ربع كيلو من فضة، فيختلفون في جنسها هل هو ذهب أو فضة؟ فإذا اختلفوا في الجعل؛ فالقول قول الجاعل مع يمينه؛ لأنه مدعىً عليه، فنقول للجاعل: ما الذي وضعته؟ لأنه أدرى ما الذي وضعه، فإن قال: وضعت ألف ريال، وخصمه يقول: بل ألف دولار، فنقول: أحضر شهوداً يشهدون أنها ألف دولار، وإلا حلف الجاعل وبرئ. إذاً: القول قول الجاعل مع يمينه، وهذا تنطبق عليه القواعد: أولاً: أن الجاعل أعلم بما جعل، ويكون الشخص الذي يدعي الزيادة مدع، و (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناس دماء أناس وأموالهم). ثانياً: أن الجاعل غارم، والقاعدة عند بعض العلماء: (أن الغارم دائماً مدعىً عليه)؛ فتنطبق عليه الضوابط. وكذلك لو قال له- مثلاً-: أعطني ثلاثة آلاف ريال، فقال: أنا جعلت ألفين. فكلا الطرفين متفق على أنها ألفان، والخلاف في الألف الثالثة، فلو قال له: هي ألفان. فقال: بل ثلاثة آلاف. فنقول: أعطه الألفين وأقم دليلاً على الألف الزائدة، بأنه فعلاً وضعها لك. إذاً: ينطبق عليها قاعدة: (الأصل واليقين)، فنبقى على اليقين والشك نلغيه؛ لأن الأصل براءة الذمة منه حتى يدل الدليل على شغلها. إذاً: القول قول الجاعل بيمينه، ما لم يُقِم المدعي -وهو الشخص المجعول له- بينة تدل على صدق دعواه.

من عمل عملا لغيره بغير جعل لم يستحق عوضا

من عمل عملاً لغيره بغير جعل لم يستحق عوضاً قال رحمه الله: [ومن رد لقطة أو ضالة، أو عمل لغيره عملاً بغير جعل؛ لم يستحق عوضاً]. من حيث الأصل: أن من قام بعمل دون أن يتفق مع صاحبه على شيء فنعتبر عمله محض تبرع؛ لأنه عمله على ظاهر حاله محض تبرع، ومحض بر وإحسان، فلا نستطيع أن نلزم الناس بدفع عوض وأجرة لمن يقوم بأعمال لم يلتزم بها. ولو فتح هذا الباب لانفتح باب عظيم عظيم لأكل أموال الناس، فقد توقف سيارتك وإذا بشخص يغسلها، ويقول: أعطني أجرة غسيل السيارة، وإذا بآخر يلمع الباب ويقول: أعطني أجرة البويا التي لمعتها، وينفتح باب عظيم لأكل أموال الناس. وأنا لا أريد هذا الشيء، ولي الحق أن أطلبه، ولي الحق أن لا أطلبه، فهذا مالي ولي مطلق التصرف فيه بإذن الله عز وجل، وبإذن الشرع لي. إذاً: لا نستطيع أن نلزم الناس بدفع تكاليف أعمال الغير التي لم يلتزموا بها، ودلالة الظاهر محتكم إليها، وإذا لم يوجد عقد بين الطرفين نقول لهذا الشخص الذي عمل العمل: هل ألزمك أحد بهذا؟ فإن قال: لا. فنقول: إذاً ظاهر حالك يدل على أنك متبرع، فنقبله منك تبرعاً ولا نلزم الطرف الثاني بالدفع، هذا من حيث الأصل. ولو جاء شخص ورفع لك ساقطاً، أو حفظ لك شيئاً ضائعاً أو نحو ذلك، فمن حيث الأصل لا يستحق شيئاً، إلا إذا كان هناك عقد. وفي هذه المسألة سنة عمرية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد قضى في بعض الأشياء بوجود استحقاق فيها، واستثنى مذهب الحنابلة رحمهم الله هذه الأشياء، وهناك خلاف عند العلماء في مثل هذه السنن: هل هي سنن مؤقتة لا يزاد عليها ولا ينقص فيها من حيث القدر المجعول فيها أم أنها سنن تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فيكون فعل عمر أصلاً في جوازها، ثم تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة في ضبطها وتقديرها؟ وسيأتي ذلك إن شاء الله.

ما يستحقه من رد العبد الآبق

ما يستحقه من رد العبد الآبق قال رحمه الله: [لم يستحق عوضاً إلا ديناراً أو اثني عشر درهماً عن رد الآبق]. هذا في مسألة رد الآبق، فقد جعل فيه اثني عشر درهماً، وقد فرق عمر رضي الله عنه بين الشيء الذي في داخل المدن، والشيء الذي في خارج المدن، ففرق رضي الله عنه في رد الآبق؛ لأنه إذا فر عن صاحبه وأتي به من خارج المدينة أعطي من أتى به ديناراً أو أعطي اثني عشر درهماً؛ لأن الدينار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر إلى زمان عبد الملك حيث ضُرب الدينار الإسلامي -كان يعادل اثني عشر درهماً، فجعل على التخيير، إما أن يعطيه ديناراً من الذهب أو يعطيه عدله من الفضة، وهذه السنة العمرية، بعض العلماء يقول فيها: إنها مؤقتة، فننظر إلى قيمة الدينار وما يعادله في جميع الأزمنة، كما في زماننا فينظر إلى ما يعادله فيعطه، وبعض العلماء يقول: إن ذلك الزمان تقدر فيه الكلفة بدينار، ففي كل زمان يقدره بحسب الموجود، ولهذه المسألة نظائر: منها: إعطاء الشاة أو مائتي درهم إذا كان هناك مثلاً سن واجب من الإبل، وعجز صاحب الإبل عن وجود هذه السن فأعطى ما دونها، فيعطي الفرق بين السن شاة، أو مائتي درهم، كما ورد في حديث أبي بكر رضي الله عنه في كتاب الصدقة. وبعض العلماء يقول: الشاة والمائتا درهم سنة توقيفية لجميع الأزمنة، ففي بعض الأحيان تكون الشاة فعلاً تعادل السن، وفرق ما بين السن والسن، وفي بعض الأحيان يكون الفرق بين البعير الذي في سن الجذعة والبعير المسن ثلاثة آلاف ريال، أو أربعة آلاف ريال، وتجد الثلاثة آلاف تعادل ثلاث شياه، والأربعة آلاف تعادل أربع شياه. فإذا قلنا: إنها سنة توقيفية، بقينا على الأصل (أنها شاة أو مائتا درهم)، وإذا قلنا: إنها سنة اجتهادية فيدفع الفرق بينهما، ويصبح في هذه الحالة يختلف الحكم باختلاف الأزمنة والأمكنة، فنقدر لكل زمان الفرق بين السن. هذا وجه. ومن نظائرها في الحمى: حمى النبي صلى الله عليه وسلم، وحمى وأبي بكر وعمر والصحابة، فهل يبقى الحمى إلى يوم الدين حمى؟ أو يمكن نزعه بحيث لو قلنا: إن في ذلك الزمان كان مرتعاً، واحتيج لإبل الصدقة مثل الربذة، فإذا قيل: إنها حمى فتبقى حمى إلى يوم الدين، لا تغير ولا تبدل، وإذا قيل: إنها حمى لمصلحة واجتهاد، فإذا وجد غيره وانتقل إلى غيره رجع إلى الأصل من كونه أرضاً مواتاً يمكن إحياؤها، والحكم في هذا مشهور، وهذا ظاهر مذهب الحنابلة، واختاره صاحب الأمصار كما نص عليه أنه يبقى التشريع إلى الأبد، ولا يغير فيه. قال رحمه الله: [ويرجع بنفقته أيضاً]. وهذا مذهب طائفة من العلماء، وهو أنه يرجع بالنفقة، فالعبد إذا وجده فإنه يحتاج أن يطعمه ويسقيه، وربما وجده عارياً فكساه، فإذا قام بهذه الأمور لحفظه حتى جاء به إلى صاحبه، فكلفه ذلك مائتي ريال، فهل من حقه أن يطالب بالنفقة؟ مذهب بعض العلماء: أن من حقه أن يطالب بالنفقة؛ لأن المال ماله، وحفظ المال من لازمه أن يوجد هذا الشيء فله أن يعود على صاحبه. وفي الحقيقة هذه المسألة فتح الباب فيها صعب؛ لأنها مخالفة للأصل، ولذلك لا تخلو من نظر وبحث، وحاصل ذلك: أن الأصل يقتضي أن من قام بعمل دون عقد فإنه لا يستحق شيئاً، ولما فتح هذا الباب رتبت عليها مسائل: منها: أنه لو شردت دابة من إنسان، فأمسكها آخر وحفظها وقام بسقيها، والإحسان إليها، وكلفه ذلك، فإنه يرجع بنفقها أيضاً على هذا القول الذي اختاره المصنف رحمه الله. وهذه المسائل كلها مخالفة للأصل، وقد سبق أن قلنا: أن المسائل: أصل، ومستثنى من الأصل، وإذا استثني من الأصل هل يقاس عليه أو لا؟ فإذا كان قضاء عمر رضي الله عنه برد الآبق مستثنى، فهل يقاس غيره عليه؟ من حيث الأصل لا يقاس غيره؛ لأنه فعل بمحض البر والإحسان، فلا نطالب صاحبه بدفع مال له. وقد يسأل سائل ويقول: لماذا لا ندفع له كلفة إحضاره؟ فنقول: سكوت صاحب المال عن وضع جعل وعن التعهد والالتزام بالجعل يبرئ ذمته، وهذا هو الأصل. وأخوه المسلم حينما جاءه ووجد هذا الشيء هناك، فإذا فاته حض من دنياه فهناك حض في الآخرة، فإننا نجد الشريعة تبقي أشياء لأخوة الإسلام ولمعاني الأخوة؛ بل قد تفسد المعاملة وتلغيها بسبب معارضتها للأخوة، وربما منعت ما أحله الله لمعارضته للأصول كقوله عليه الصلاة والسلام: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض)، ونهى عليه الصلاة والسلام أن يسوم المسلم على سوم أخيه، مع أن البيع جائز، والسوم جائز، لكن إذا أضر بالأخوة منع، فإذا كان الإنسان المسلم لا يستشعر الأخوة الإسلامية، وقد يبحث عن ضالة أخيه المسلم من أجل أن يأخذ نفقتها، فيكون هذا أمراً مؤثراً في محبة المسلمين وتعاطفهم. وما دام أن الله أعطاك القدرة على أن تجد هذا الشيء وتعثر عليه، فلماذا لا تحفظه لأخيك المسلم وترده له، ولا يكون لك منه شيء، فقد قال صلى الله عليه وسلم في بداية الهجرة لما أتى المهاجرون إلى المدينة، قال عليه الصلاة والسلام للأنصار: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يؤجرها)، ورواية مسلم: (ولا يؤاجرها)، فنهاهم عن الإجارة، وهي مباحة؛ لأن حالة المهاجرين حينما هاجروا في أول الأمر لا تسمح لهم أن يدفعوا الأجرة، ثم بعد ذلك رخص في شراء الأراضي؛ لأن الأمر اتسع وأصبح الناس في سعة. ففي بعض الأحيان يضيع الشيء من عندي ولا أستطيع أن أدفع تكاليفه، ولا أستطيع أن أدفع شيئاً لمن وجده، ففتح باب المعاوضة لا يخلو من نظر وبحث؛ لأن هناك أصولاً معروفة من هدي الشرع ينبغي الاحتكام إليها، ولعل الأشبه أنه لا يأخذ شيئاً، لكن لا ينبغي لصاحب الشيء أن يفوت المكافأة والإحسان لأخيه المسلم؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه)، وهذا يدل على أنه يدخل تحت باب المكافأة، لكن لا يلزم بشيء لأنه لم يلتزم. وهذا هو الأشبه من حيث الأصول، والله أعلم.

وجوب كون الجعالة معلومة على شيء معلوم أو مجهول

وجوب كون الجعالة معلومة على شيء معلوم أو مجهول وقوله: (أن يجعل له شيئاً) نكرة تشمل القليل والكثير، فمن حقك أن تقول: من أحضر لي كذا أعطيه ريالاً، وهذا قليل بالنسبة للعرف، أو أعطيه عشرة أو مائة، فكله جعالة، سواءً كان قليلاً أو كثيراً. وقوله: (معلوماً) خرج به المجهول، فلا يجعل شيئاً مجهولاً، كما لو قال: من عثر على سيارتي الضائعة فأرضيه، أو أعطيه شيئاً، أو أعطيه مالاً، أو له مكافأة، فهذا لا يجوز؛ لأنه مبهم، والجعل مجهول، ولا يجوز أن يجعل جعلاً مجهولاً، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله، فلا يقول: أعطيه مكافأة؛ لأنه ربما ذهب المسكين وتعب وظن أن المكافأة فوق ألف ريال، ولو علم أنها دون الألف ريال لما أتعب نفسه، فيأتي وإذا بها مائة ريال، فإذا جاء يقول: لماذا لم تعطني إلا مائة؟ قال: أنا قلت: لك مكافأة، وهذه مكافأة. إذاً: لا يغرر بالناس، ولابد أن يكون الجعل معلوماً، فلا يصح أن يقول: أرضيك، ولا يصح أن يقول: مكافأة، ولا يصح أن يقول: نعطيه ثوباً، أو نعطيه سيارة، حتى يصف الثوب الذي سيعطيه أو السيارة التي سيعطيه، بمعنى: أن يحدد الثواب والجعل الذي وضعه؛ لقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72]، والحمل معروف -كما ذكرنا- في الوصف وهو ستون صاعاً، فقال: {حِمْلُ بَعِيرٍ}؛ لأنه معروف بالعرف، فيجوز أن يطلقه لمعرفته عن طريق العرف. فقوله رحمه الله: (أن يجعل شيئاً معلوماً)، أي: أن يجعل شيئاً معلوماً ببداية العقل، ويقول له: هذا الشيء المعلوم، وهو يشمل جميع الأموال، سواءً كانت من الأعيان من الحيوانات أو من غيرها، فكل ذلك يصح حتى ولو كان من العقار، فإن قال: من وجد لي سيارتي الضائعة أعطيه أرضية في موضع كذا وكذا، فيصح أن يجعل الشيء من العقار، فهذا عام شامل لجميل الأموال. قال رحمه الله: [لمن يعمل له عملاً معلوماً]. كقوله: إن خطت لي قميصاً من نوع كذا وكذا، أو خطت لي ثوباً من نوع كذا وكذا، والجعالة قد تكون في بعض صور الإجارة المحرمة، توسعة من الله على العباد، فيقول له: من خاط لي قميصاً من نوع كذا وكذا، أو خاط لي ثوباً من نوع كذا وكذا، أعطيه كذا وكذا. إذاً: لو قال مثلاً: من خاط لي ثوباً من نوع كذا أعطيه مائة، فخياطة الخياط عمل معلوم، أو يقول: من بنى لي جداراً ثلاثة أمتار في مترين، فهذا معلوم، فيجوز على العمل المعلوم. وتجوز الجعالة على العمل المجهول، لقوله: [أو مجهولاً]، كأن يقول: من رد لي سيارتي الضائعة، والبحث عن السيارة الضائعة له وسائل عديدة وطرق متعددة، فإذا أطلق وقال: من رد لي سيارتي -أي: بأي طريقة وبأي وسيلة- أعطيه ألفاً أو أعطيه ألفين.

تحديد المدة في الجعالة

تحديد المدة في الجعالة قال رحمه الله: [مدة معلومة]. كأن يقول: من عثر على سيارتي المفقودة خلال هذا الشهر أعطيه عشرة آلاف ريال، أو من عثر على ابني الضائع خلال هذه الأسبوع أعطيه ألفاً، فهذه مدة معلومة. وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: هل يجوز أن يحدد مدة معلومة للبحث أم لا؟ وكلهم متفقون على أنه إذا أطلق وقال: من وجد سيارتي الضائعة، أو من وجد ابني الضائع، أو من وجد ساعتي المفقودة، أو من وجد كتابي أو مسجلي أو قلمي أعطيه كذا، ولم يحدد مدة، فكلهم متفقون على أنه يجوز. لكن الخلاف إذا حدد مدة معينة، فقال: من عثر على سيارتي خلال شهر رمضان، أو من عثر على سيارتي خلال سنة، أو من عثر على كتابي خلال يوم، أو خلال ساعة، فحدد مدة معلومة، فمذهب الجمهور على جواز ذلك، وقال بعض العلماء: لا يصح أن يحدد مدة معلومة، والأصح هو مذهب الجمهور. وقوله: [أو مجهولة]: كما ذكرنا، مثل أن يقول: من عثر على كتابي، ولم يحدد، ولذلك إذا قال: من عثر على سيارتي فتبقى إلى الأبد، إذا لم يفسخها ولم يوجد من قام ببعض العمل، فإذا فسخت فحينئذٍ تنفسخ على تفصيل سيذكره إن شاء الله تعالى.

أمثلة استحقاق الجعل

أمثلة استحقاق الجعل قال رحمه الله: [كرد عبد]. تمثيل لتقرير ما سبق، وقد كانوا قديماً ربما فر العبد أو ضاع، فيقول: من رد لي عبدي الضائع فله كذا. قال: [ولقطة]. كأن تسقط منه ساعة فيقول: من وجد ساعتي من نوع كذا وكذا فله كذا وكذا. فهذه لقطة: من وجد ساعتي، من وجد قلمي، كأن يسقط القلم في المدرسة، أو في المكتب، أو في مكان معين ويقول: من وجد لي قلمي فأعطيه كذا وكذا، فهذه لقطة، فالقلم إذا سقط والتقطه أحد صار بحكم اللقطة، وسيأتي إن شاء الله بيان أحكامها. قال: [وخياطة]. كأن يقول: من خاط لي قميصاً، أو خاط لي ثوباً، ونحو ذلك. قال: [وبناء حائط]. كأن يقول: من بنى لي سوراً على مزرعتي مائة متر في مائة في علو مترين أو متر ونصف، أعطيه ثلاثين ألفاً. فهذا رخص فيه بعض العلماء على أنه من باب الجعالة.

متى يستحق الجعل

متى يستحق الجعل قال رحمه الله: [فمن فعله بعد علمه بقوله استحقه]. قوله: (فمن): من صيغ العموم. (فمن فعل) أي: رد الشارد، وعثر على اللقطة، وخاط القميص، وبنى الحائط، فمن فعل هذه الأشياء بعد قوله استحق الجعل. وقوله: (بعد علمه بقوله) إذا فعله بعد قوله فإنه يستحق الجعالة بلا إشكال؛ لأنه التزم، وهذا عقد بين الطرفين، سواءً كان لمعلوم أو مطلق لعمل جميع الناس، فإذا فعل ذلك بعد قوله استحق الجعل؛ لأنه اشترط والتزم. ولذلك يكون كأنه التزم بالمال أن يدفعه عند وجود هذا الشيء الذي هو رد الآبق، والعثور على الضائع ونحوه، فإذا عثر عليه لزمه أن يدفع، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، فهو التزم أن يدفع له، فيجب عليه الوفاء بما التزم به، ويلزمه القاضي، فإذا حدد عشرة آلاف أو مبلغاً معيناً على رد الضائع وجيء له بالضائع؛ لزمه أن يدفعها لمن وجدها. وقوله: (استحقه) أي: استحق الجعل كاملاً، لكن يشترط أن يكون الفعل كاملاً، فلو أنه عثر على المفقود، وقبل أن يعطيه لصاحبه بساعة توفي، فإنه ينفسخ عقد الجعالة؛ لأنه ما أتم الفعل؛ إذ لابد أن يصل إلى الشخص نفسه، وحينئذٍ من حيث الأصل لا يستحق الجعل كاملاً؛ لأنه لم يفعل فعلاً كاملاً. إذاً: يستحق الجعل من قام به على وجهه، وعلى الشرط الموجود في قول الجاعل، أما لو فعل البعض فهذا فيه تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى.

الاشتراك في الجعل

الاشتراك في الجعل قال رحمه الله: [والجماعة يقتسمونه]. بعد أن قرر أن من فعل بعد القول استحق الجعل كاملاً، فإن كانوا جماعة اقتسموا؛ فلو فر بعير وشرد فانطلق ثلاثة أشخاص، فقال صاحب البعير: من أمسك لي بعيري الشارد أعطيه ثلاثة آلاف، فانطلق ثلاثة أشخاص وكلهم اجتمعوا على ذلك البعير وأمسكوه وجاءوا به، فإذا جاءوا به استحقوا ما جعله الجاعل ويقسم بينهم؛ لحديث الجعل: (قالوا: اقسموا. قالوا: والله لا نقسم حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسأله)، فلما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يشكون في جوازه قال لهم: (اقسموا واضربوا لي معكم بسهم، وضحك عليه الصلاة والسلام). أي: أنه شيء مباح، فأذن بقسمته، فدل هذا على أن الجعل قد يقسم إذا كان هناك أكثر من شخص، أو طائفة اجتمعت في العثور على ضائع أو وجود شيء مفقود؛ فإنهم يستحقونه ويقسم الجعل بينهم على الشرط الذي التزم به صاحبه.

استحقاق الجعل في أثناء القول

استحقاق الجعل في أثناء القول قال رحمه الله: [وفي أثنائه يأخذ قسط تمامه]. قوله: (وفي أثنائه): صورة المسألة في أثناء قوله: كأن تضيع مني السيارة يوم السبت، فجعلت أبحث عنها يوم السبت كله، فبحث شخص دون أن يتعاقد معي، وعثر عليها يوم الأحد، وفي يوم الأحد أعلنت أن من أحضر السيارة أعطيه ألفاً؛ فحينئذٍ يستحق ما بعد الإعلان لا ما قبله، فإن كان الذي بعد الإعلان له أجرة وله قدر، فحصل ما يوجب انتقالها إلى المعاوضة بالإجارة، ويستحق قدر الذي يكون بعد القول لا الذي قبله. وهذا في مسائل منها: مسألة الرجوع عن النفقة في البحث والتحري، ففي بعض الأحيان تلزم، وفي بعض الأحيان لا تلزم، كأن تقول: من بحث عن بعيري سأعطيه مائة ونفقته عليّ، فحينئذٍ يستحق النفقة التي بعد القول لا التي قبل القول؛ لأنك التزمت له من ذلك الوقت، فيستحقها بعد القول لا قبله. فقوله: (وفي أثنائه يأخذ قسط تمامه) أي: قسط تمام الفعل ما بين القول والعثور على الشيء الذي ضاع من صاحبه.

صحة فسخ عقد الجعالة من الطرفين

صحة فسخ عقد الجعالة من الطرفين قال رحمه الله: [ولكلٍ فسخها]. شرع رحمه الله في صفة عقد الجعالة، فقال رحمه الله: [ولكلٍ فسخها]. فعقد الجعالة عقد جائز، بمعنى: أن من حقك أن تفسخ متى شئت، ومن حق الشخص الذي يقوم بالبحث أن يفسخ عقد الجعالة، ولو أن شخصاً قال: يا محمد! ابحث لي عن سيارتي الضائعة وأعطيك عشرة آلاف ريال. فقال: قبلت. فلما قال: قبلت التزم أن يبحث، ولو أنه بعد ما قال: قبلت، قال: لا أريد أن أبحث، فهل يلزم؟ A لا يلزم؛ لأن هذا عقد جائز وليس ملزماً به. لكن بالنسبة للشخص الذي وضع الجعل إذا قال: فسخت الجعالة، فحينئذٍ فيه تفصيل؛ لأنه في بعض الأحيان يفسخ الجعالة ويضر بمصالح الأشخاص الذين يبحثون، فمثلاً يقول: من عثر على سيارتي أعطيه مائة ألف، فيذهب الناس ويتكبدون المشقة والعناء، وفي نفس الطريق وقبل وصولهم يقول: قد فسخت. إذاً: في هذه الحالة صاحب الجعل أو المالك لا يستحق أن يرجع عن عقد الجعالة؛ وفي ذلك تفصيل: فإذا أضر رجوعه بحق العامل وجب عليه أن يدفع للعامل أجرة العمل ما بين الاتفاق والفسخ. وأما إذا كان لا يضر به، فإنه لا إشكال في كونه لا حرج عليه في الفسخ. كذلك ينفسخ عقد الجعالة بالموت، فلو أن الباحث بحث ووجد ثم مات قبل التسليم، فإن العقد في هذه الحالة ينفسخ، وكذلك لو قال: من عثر على سيارتي أعطيه عشرة آلاف، ثم توفي بعد ساعة وعثر عليها بعد ساعتين، أو قال: من عثر على سيارتي أعطيه عشرة آلاف ريال، ثم بعد ذلك زالت أهليته، فكل هذا يؤثر في العقد، والعقد ضعيف من العقود الجائزة، فإذا كان لا ضرر في الفسخ، فإنه يصح فسخها من العامل ومن رب الشيء المفقود. قال رحمه الله: [ولكلٍ فسخها فمن العامل لا يستحق شيئاً]. قوله: (من العامل) أي: إن وقع الفسخ من العامل فلا يستحق شيئاً؛ لأنه فوت على نفسه المال، وفوت على نفسه الجعل، فيتحمل مسئولية نفسه، فلو أنه بحث سنة كاملة ولم يجد، ثم قال: لا أريد أن أتم البحث، فذلك له، ويكون قد أسقط حقه بفسخه. قال رحمه الله: [ومن الجاعل بعد الشروع للعامل أجرة عمله]. فإن فسخت الجعالة من المالك والجاعل بعد شروع العامل، أو بعد شروع أكثر من شخص في البحث والتحري وقال: فسخت؛ لزمه أن يدفع له الأجرة ما بين قوله والفسخ، فمثلاً: لو ضاعت السيارة، أو ضاعت الإبل، أو ضاعت الغنم في صحراء، والصحراء تبعد عن المدينة مائة كيلو، فخرج اثنان للبحث عنها، وبعد يومين فسخ الجاعل العقد، فكانوا قد وصلوا إلى المكان الذي فيه الشيء المفقود، فالسفر الذي تكبدوه للذهاب إلى ذلك الموضع يعتبر استحقاقاً لهم على المالك والجاعل، فتقدر أجرة مثلهم، ويفسخ العقد، ويعطيهم حقهم في هذا العمل الذي عملوه؛ لأن في ذلك تفويتاً عليهم، ويجب عليه أن يضمن لهم ذلك الحق.

الأسئلة

الأسئلة

الجمع بين حديث: (تداووا)، وحديث: (وإن شئت صبرت ولك الجنة)

الجمع بين حديث: (تداووا)، وحديث: (وإن شئتِ صبرت ولك الجنة) Q أشكل عليّ فهم هذين الحديثين: الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: (تداووا عباد الله). والحديث الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام للمرأة التي أصيبت بالصرع: (اصبري ولكِ الجنة)؟ A حديث المرأة السوداء في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لبعض أصحابه يوماً: (ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟) وكانت مبشرة بالجنة إذ التزمت بشرطها وهي تمشي على وجه الأرض: (تلك المرأة السوداء أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني أصرع فادع الله أن يشفيني، فقال عليه الصلاة والسلام: إن شئت دعوت لك، وإن شئت صبرت ولك الجنة، فقالت: أصبر). وهذا الحديث الجواب عنه من وجوه: الوجه الأول: أن الأصل التداوي، وهذه القضية قضية عين لا عموم لها، والقاعدة: (قضايا الأعيان لا تصبح دليلاً للعموم). فما هو ضابط قضية العين؟ قضية العين: أن تأتي على وجه لا يمكن إلحاق الغير بها، وتخالف أصلاً، فإذا جاءت مخالفة للأصل فتخصها في قضية عين -هذا الشخص بعينه- مثلاً شهادة زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه لما جعله النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة رجلين، فهل يمكن أن نقيس غير زيد عليه؟ لا يمكن ذلك؛ بل نقول: هذه قضية عين لا تصلح دليلاً للعموم. إذاً: إذا وجد فيها ما يدل على التخصيص والاختصاص، فنقول: هذه قضية عين لا تصلح للعموم، فالمرأة لما كان شفاؤها بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم محتماً قال: (إن شئت دعوت لكِ، وإن شئت صبرت ولك الجنة، فقالت: أصبر)، فهذا أمر فيه اشتراط من جهة الشرط: (إن شئت صبرت ولكِ الجنة)، فاختارت الصبر، وهذا لا يطعن في مسألة التداوي، ولا يعارضها؛ لأن هذا شيء من الغيب، وشفاؤها محقق أنه لو دعا لها واستجيبت دعوته عليه الصلاة والسلام ستشفى. إذاً: قضية العين فيها واردة، ويكون ورود هذه الحادثة تعليماً للأمة وتوجيهاً لكل مبتلىً، خاصة بالأمراض النفسية والأمراض الروحية، أنها سبيل إلى الجنة إذا صبر عليها العبد واحتسب الهم والغم والأحزان، والأمراض النفسية مثل الصرع وفي حكمها الجنون، لا شك أن الصبر عليها من أعظم الأسباب الموجبة لغفران الذنب؛ لأن البلاء يغفر الله به ذنوب العبد، وبناءً على هذا فقصة المرأة تكون قضية عين، ولا تصح لأن تكون دليلاً للعموم. الوجه الثاني: أن المرأة لم تعارض الحديث؛ لأن الحديث يقول: (تداووا عباد الله)، والدعاء خارج عن الدواء الذي أمر به من حيث هو؛ لأن التداوي شيء والدعاء شيء آخر، فالدعاء بين العبد وبين ربه، والرقية تكون من التداوي وفيها أدعية، لكن التابع ليس أصلاً، فجاءت تبعاً ولم تأتِ أصلاً. فجعل التداوي في الوسائل المعروفة مثل: الأسقية، والأشياء الموجودة في الأعشاب ونحوها مما يتداوى بها العبد، فجاء الشرع لبيان أن التداوي بها لا يعارض ولا ينافي التوكل ولا يضاده، وقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن شئت دعوت لك) يصبح خاصاً من عام. ويكون التعارض لو كان عاماً مع عام، وهنا لا تعارض؛ لأنه حديث خاص في نوع خاص وهو الدعاء، وحديث عام في التداوي الذي يشمل الأسقية والأدوية، والرقية من الدعاء تبع له ولا تكون أصلاً. لكن الدعاء هنا جاء أصلاً: (إن شئت دعوت لكِ) أي: فشفيتي بدعائي، فيكون خاصاً من عام، والخاص من العام لا يقتضي المعارضة من كل وجه أبداً. فمثلاً: تقول: لو أن شخصاً قال: أريد أن أتداوى، وقال شخص آخر: بل أسأل الله عز وجل أن يشفيني، وسأستمر على الدعاء، فليس هناك تعارض بين هذا وهذا، فيدعو هذا، وإذا أراد أن يتداوى تداوى، فيكون هذا خاصاً من عام، ولا تعارض، بمعنى: أن كونه يدعو لا يعارض التداوي، إنما تكون المعارضة بين الحديثين لو كان الدعاء غير التداوي، فيضاده من كل وجه، كأن يقول عليه الصلاة والسلام: (تداووا عباد الله)، ثم يأتي حديث آخر ويقول: (لا تتداووا) فهذا تعارض، أما إذا جاء: (تداووا عباد الله)، وجاء الدعاء كنوع من أنواع التداوي، وأعرضت عنه المرأة توكلاً على الله، فهذا إعراض عن خاص لا عام. فلذلك لا يعتبر اختيار المرأة للجنة والصبر معارضاً لمسألة التداوي، وعلى هذا يمكن أن يكون هذا جمعاً بين الحديثين. الوجه الثالث: أن الشريعة من حيث هي فيها الحسن والأحسن، فيكون قوله عليه الصلاة والسلام: (إن شئت دعوت لك) دواءً وعلاجاً لها، وهذا حسن، والأحسن أن تتوكل وتفوض أمرها إلى الله إذا وجدت الضمان، وقد قال بعض العلماء: إن وثق من نفسه. كما في حديث الرقية، قالوا: يترك الرقية إذا وثق من نفسه. ولذلك الذي تكون الرقية شفاءً له، ويغلب على ظنه أنه إذا لم يسترق يضعف إيمانه فيتسخط على القضاء والقدر، فقد تكون الرقية واجبة عليه؛ لأن التداوي واجب في بعض الأحيان؛ لإنقاذ نفسه، أو خشية الفتنة. فعلى هذا نقول: إن حديث التداوي لا يعارض حديث المرأة من هذا الوجه. والله تعالى أعلم.

اشتراط العلم في استحقاق الجعل

اشتراط العلم في استحقاق الجعل Q ذكر المصنف رحمه الله تعالى في تعريف الجعالة عملاً معلوماً أو مجهولاً مدة معلومة أو مجهولة، فلم يجعل العلم بالعمل والمدة شرطاً لأخذ الجعالة، ثم قال بعد ذلك: (وفي أثنائه يأخذ قسط تمامه)، فكيف جعل العلم شرطاً في استحقاق الجعل في هذا؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. المسألة من حيث الالتزام: أن صاحب الشيء الضائع إذا التزم فله صورتان: الصورة الأولى: أن يلتزم لشخص مخصوص، فلا يلزمه غيره، فإذا قال: يا محمد! ابحث لي عن سيارتي الضائعة، فوجدها بكر أو عمر، فلا يلتزم بدفعها لعمر، وتصبح المسألة تابعة للمسألة التي ذكرناها: (من وجد شيئاً ضائعاً)، هذا من حيث التزامه للشخص المخصوص. أما من حيث التزامه عموماً وقوله: (من وجد)، فكل من وجد فإنه قد التزم له أن يعطيه هذا الجعل في ظاهر العبارة بعد علم الشخص الذي وجد ذلك الشيء بالمكافأة والجعل؛ لأنه نوى في قرارة قلبه والتزم بهذا العقد من حيث الأصل إذا كان يعلم بالجعل. أما إذا كان لا يعلم بالجعل فصحيح أن الذي وضع الجعل وضعه لجميع المسلمين، لكن لمن رضي أن يتعاقد معه، وهو لم يتعاقد معه، فذهب ووجد هذا البعير الشارد وليس في نيته أن يأخذ عوضاً، فيبقى على نيته، ويكون محض تبرع وبر وإحسان. هذا من حيث الأصل الشرعي. وقد فرق رحمه الله بين أن يعلم وبين أن لا يعلم، لكن هذا لا يقع في المعاملة مع الله، وبعض الفقهاء يقيس هذا على المعاملة مع الله، وهذا ضعيف جداً، ويقولون: إنك لا تنال الأجر إلا إذا استشعرت الثواب الموضوع على العمل، وهذا لا ينطبق على كرم الله سبحانه وتعالى وما أعده لعباده. فما ورد من الأحاديث في الفضائل فعمله العامل مستشعراً للثواب أو غير مستشعر له؛ فإن الله يعطيه ذلك الثواب، وجماهير العلماء رحمهم الله على ذلك، وقد فعل الصحابة أعمالاً، وأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون لهم من الأجر والمثوبة، وما كان عندهم علم أنهم سيعطون؛ لأن هذا القول نسي أصلاً، وهو أن هناك فرقاً بين مسألة الجعل وبين مسألة المعاملة مع الله. والفرق بينهما: أن الشخص عندما يذهب ويجد بعيراً شارداً، ويعرف أنه لفلان ويأتي به إليه، ما خطر على باله أنه يأخذ شيئاً، لكن الذي يعمل الطاعة فهو بمجرد إيمانه يعمل الصالحات ويثاب عليها وينوي ثوابها، بمعنى: أن أي عمل تعمله من الأعمال الصالحة تستشعر أن الله سيجزيك عنه. فهناك فرق واضح بين الشخص الذي يعمل العمل الصالح وينتظر الثواب من الله، وبين المتصوفة الذين يقولون: لا نعمل طلباً لجنته ولا خوفاً من ناره -أعوذ بالله! - فلسنا بأتقى لله عز وجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين عملوا خوفاً من النار وطلباً للجنة. فنعمل خوفاً من عذاب الله ونرجو رحمة الله، ولا يقدح ذلك في توكلنا ولا في إيماننا؛ لأنه ليس هناك أعظم من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أعلى درجة منه، وهو يخاف من نار الله عز وجل ويرجو جنته، قال عليه الصلاة والسلام: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)، وهو يسأل الله عز وجل: (اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها) أما هؤلاء فيقولون: الإنسان يعبد الله لأنه ربه فلا يعبده من أجل جنته أو ناره!! فالعامل من حيث هو يعمل للعمل الصالح، وهو يعلم أن هناك جزاءً وثواباً: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} [النحل:97]، فجعل الجزاء مرتباً على العمل. فبناءً على ذلك لا نستطيع أن نقيس عملاً بدون العلم بالتعاقد؛ لأن المخلوق مع المخلوق لابد من التعاقد بينهما، وأما المخلوق مع الخالق فهذه مسألة قد تكلم عليها شيخ الإسلام رحمه الله وأشار إليها في مصطلح العقد، والعلماء تكلموا عليها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]. وبعض المفسرين من السلف كـ الحسن البصري وغيره أخذ هذا اللفظ على عمومه، وقال: إن العقد يقع بين المخلوق والخالق: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ} [التوبة:111]، فجعله تعاقداً: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة:111]، وكقوله لله عليّ أن أصوم، لله عليّ أن أعتق، لله عليّ أن أفعل كذا وكذا، فهناك تعاقد بين المخلوق والخالق، وهناك تعاقد أصلي من الخالق، أن أي عمل صالح لا يضيعه: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195]. فلا نستطيع أن نقول: أن الثواب لا يحصل على الأعمال الصالحة إلا بالنية، مثلاً: ليلة القدر، يقولون: لا يغفر له ما تقدم من ذنبه إذا أحيا العشر الأواخر وليس في نيته أن يغفر الله له ما تقدم له من ذنبه، وهذا غير صحيح، فسواء نوى أو لم ينوِ فالله سبحانه وتعالى أكرم من يعامل، فله الفضل والمنة التامة الكاملة. فمسألة النية ليست واردة هنا؛ لأن قياس هذا على مسألة الجعل والاستحقاقات في تعاقد المخلوق وتغليب النظر والفقه على هذا ضعيف، ولذلك يبقى الأصل أن المخلوق ينال الأجر ولو لم يكن عنده شعور بذلك الأجر، لكن ينبغي أن يكون عنده الأساس وهو الإخلاص لله، ورجاء الثواب من الله عز وجل، وهذا يكفي إجمالاً من حيث الإجمال، ومسألة التفصيل: أن يعلم أنه إذا قام هذه العشر الأواخر وأصاب ليلة القدر يغفر له ما تقدم من ذنبه، ويطلب منه ذلك، فليس هذا بوارد، إنما هو محض فضل من الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن قياس هذه المسألة على المسألة التي وردت أن المخلوق مع المخلوق لا يكون له تعاقد وهو في الجعل إلا بعد علمه. والله تعالى أعلم.

الشراكة في الجعالة بالرفقة

الشراكة في الجعالة بالرفقة Q كيف توزع وتقسم الجعالة على الصحابة كلهم مع أن القارئ كان واحداً؟ A قد استشكل بعض العلماء هذا الحديث، لكنهم يقولون: تكون الشراكة في بعض الأحيان بالرفقة. فإذا سافر فإنهم يشتركون جماعة في الغنم والغرم، فالضرر الذي يأتي يأتي عليهم كلهم، والنفع يأتي لهم كلهم، وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم كان يقول: هذا الحديث فيه هذا الإشكال، ويمكن أن يجاب عنه: أنه كان يمكن لكل شخص منهم أن يرقي، فلما اختار أحدهم أن يرقي صارت الكلفة عليه، والأجرة للجميع. ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: (واضربوا لي معكم بسهم وضحك)؛ لأن الشرع له وجه؛ فإن الرقية جاءت من دلالته عليه الصلاة والسلام، وهو الذي أنزلت عليه الفاتحة، ويكون على هذا قوله: (اضربوا لي معكم بسهم وضحك) أي: كما استحققتم أنتم بحكم أن كلاً منكم كان يمكن أن يرقي، فإن الشرع له وجه من جهة أن الفاتحة كانت من شرع الله عز وجل ومن دينه. والله تعالى أعلم.

حكم وضع الجعالة على المسابقات ونحوها

حكم وضع الجعالة على المسابقات ونحوها Q هل تكون الجعالة بالأمور المعنوية كأن يقول المعلم لطلابه: من حل مسألة كذا فله عشر درجات، ونحو ذلك؟ A السنة واضحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة المسابقة: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر)، فهذا نص واضح ليس فيه أي إشكال، فنؤمن بما جاء ونلتزم ونسلم به، فلا يجوز وضع الجوائز إلا على هذه الثلاثة، والسبب: أن الجوائز تحدث الشحناء والبغضاء، وتحدث نوعاً من التنافس، وما تنافس قوم غالباً إلا حرص أحدهم أن يكون هو الأسبق. قال بعض العلماء: فاستثنيت هذه الثلاثة الأشياء لأمور لا تعارض الأصل الذي منع منه في وضع الجوائز؛ لأن: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر) كلها في الجهاد في سبيل الله، كما تقدم معنا في باب السبق، فحينما يسبقك أخوك وتراه يسبقك فإنك تفرح؛ لأنه سيكون أعظم نكاية للعدو، وسيكون أقوى في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وحينما يكون أكثر رمياً منك تفرح لما سيكون له من حسن البلاء في العدو والنكاية بهم. وقالوا: إنها أجيزت لوجود الحاجة إليها في الجهاد. وأياً ما كان فإن هذا نص واضح بأنه لا يجوز وضع المسابقات؛ لأنها تحدث الشحناء والبغضاء بين الناس إلا فيما استثنى الشرع. وعلى هذا: فالمسابقة الثقافية داخلة تحت هذا العموم، والحديث يقول: (لا سبق) أي: لا جعل يجعل على السباق إلا في هذه الثلاث، فنلتزم بهذه السنة ولا نفتح مجال القياس والرأي، ولو قلنا: إنها باب الجعل، فقد خالفت الجعل، فالجعل أن تحتاج الشيء كبعيرك الشارد تحتاجه وأنت عاجز عنه، وسيارتك الضائعة تحتاجها وأنت عاجز عنها، وجدارك الساقط، وقلمك الضائع، فالجعل يكون في شيء تحتاجه وأنت عاجز عنه. لكن المسابقة ماذا يحتاج منها؟ هو يعرفها ويعلمها، فأين الجعل من إيجاد شيء، ولذلك لا منفعة فيها، ومن هنا يقول العلماء: لا يصح الجعل إذا لم توحد مشقة على العامل، وقد ذكر هذه المسألة الإمام النووي وغيره وأشار إليها في الروضة: كما لو قال: من أخبرني بوقت خروج فلان فله كذا. قالوا: لم يستحق؛ لأن الإخبار بالخروج ليس فيه أي عناء ولا أي جهد. هذا إذا كان العامل لم يتحمل مشقة، فكيف إذا كان الجاعل لا مصلحة له؟ فأي مصلحة للجاعل حينما يقول: من حل المسألة الفلانية وهو يعلم حلها؟ إذاً: لا مصلحة له في معرفتها. وقد يقول قائل: المصلحة أن الطلاب يتنافسون. فنقول: نعم. يتنافسون ويتباغضون ويتحاسدون بسبب هذا التنافس، ولذلك رأينا بأعيننا أن الطلاب إذا وضع لهم الجعل على مسابقة حقد بعضهم على بعض، حتى لقد رأيت بعيني من بعض الزملاء أنهم كانوا إذا جرت بينهم مسابقة في الحفظ تمنى بعضهم أن يخطئ أخوه في القرآن وفي كتاب الله عز وجل، ناهيك عن أنه إذا كان صغيراً وأعطي الجعل على حفظ كتاب الله عز وجل ينشأ متعلق القلب بهذه الدنيا، وربما يمر عليه العام كاملاً ولا يراجع القرآن إلا إذا أعطي مسجداً يقوم فيه للتراويح، أو طلب للمسابقة، أما غير ذلك فلا. وكتاب الله والأمور العلمية ينبغي صيانتها من الدنيا ما أمكن، وينبغي حفظها والمحافظة عليها، ومن صان العلم صانه الله في الدنيا والآخرة، ومن حفظ العلم لآخرته حفظه الله في دنياه وآخرته، وبارك له في هذا العلم، وبارك له فيما يجد. ولذلك تجد من يتعلق بالحوافز والجوائز تدخل عليه من الفتن الشيء الكثير، ولا يبارك له في علمه، ولا ينتفع؛ حتى إن نفسه ربما ضعفت عن الاحتساب إذا لم يوجد الثواب، وتجده متقاعساً في الأمور التي يكون فيها نفع للعامة، ولا يبارك له في علمه كالشخص الذي يصون علمه عن أن ينافس به أحداً. وانظر إلى طالب العلم يأتي مع طالب علم آخر، ويأتون إلى أجل المسائل الفقهية أو الشرعية ويتنافسان ماذا نريد من تنافس الاثنين؟ حتى نعلم من هو أعلم فالأفضل لك أن لا تتعالم بعلمك، والأفضل لك أن لا تشعر الناس أنك أعلم. إذاً: هذه المسابقات لا تتفق مع مقاصد الشريعة، ولا تتفق مع معالي الإخلاص والتوحيد التي من أجلها قامت هذه الشريعة؛ لأنها تفسد النيات، وتحدث الدخن بين طلاب العلم مع بعضهم ومع معلميهم، فينبغي صيانة العلم عن مثل هذا. والأعظم بلاءً والأشد إذا كانت الأشياء المسئول عنها في الثقافة أشياء لا ينتفع بها المسلم، فربما كانت عن تاريخ ميلاد كافر أو فاجر أو عاهر، وفي هذه الحالة إذا وضعت هذه الأسئلة عن تاريخ كافر أو فاجر، يصبح أبناء المسلمين متعلقين بقراءة كتب الكفار، ويصبح عندهم نوع من التغليب اللاشعوري، فيذهب ويشتري الكتب التي تتحدث عن تاريخ الكفار، فإذا قيل له: ماذا تريد منها؟ فيقول: ربما أسأل عنها فيزيد من ثقافتي، ويصبح الذي يجيب عن هذه الأسئلة الغريبة محل إشادة أنه أوسع معلومة! فهذه أمور تجر إلى مفاسد وأضرار، ولذلك ينبغي إغلاق هذا الباب؛ لأنه إذا فتح في أمور الدين فتح علينا في أمور الدنيا، وحصل في ذلك من الضرر ما الله به عليم، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، وصيانة العلم وحفظه، ومن حفظ العلم وصانه كما قال الشاعر رحمه الله برحمته الواسعة: ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما ولذلك من حفظ العلم حفظ الله له كرامة العلم في وجهه وفي أهله وماله وحيثما كان، ويبارك له في علمه ما صانه وجعله لآخرته، فيتكلم به لله، ويتعلمه لله، ويعلمه لله، أما إذا فتحت أمور الدنيا خاصة على النشء والصغار فإن هذا يعودهم على التعلق بالدنيا. ولنا في سفلنا الصالح أسوة، فقد قادوا الأمة والعالم من المحيط إلى المحيط وكانت مدارس المسلمين منتشرة في كل صقع، وما كانوا يعرفون مسابقة، ولا جوائز؛ بل كانوا يثنون الركب في حلق العلم، محتسبين الأجر عند الله سبحانه وتعالى، مبتغين الثواب منه سبحانه وتعالى، فبارك الله لهم، وبارك في علمهم، وبقي علمهم إلى اليوم خالداً، حتى إنك تجد كتاب العالم من علماء المسلمين محفوظاً في دول الكفر على أنه تراث، فسبحان الله! لأن اليد خطت لله، والعلم دون لله، فسخر الله عدوه أن يحفظه. وهذه كلها آيات وعبر في الإخلاص والتوحيد؛ ولذلك تجد بعض حفظة كتاب الله عز وجل يحفظ من أجل جوائز الدنيا، فإذا به ميت القلب لا ينتفع بالقرآن، نسأل الله السلامة والعافية. وربما تجد الشخص عنده نصف القرآن لكنه مخلص لله، يقوم به الليل، ويبكي من آياته إذا تلاها، وينتفع بها، وتجد الرجل يأتي ويلقي القرآن من أجمل ما يكون قراءة، ولم يدخل في قلبه منها أثر، فالإخلاص لابد منه. فالواجب علينا أن نجعل الآخرة وما عند الله نصب أعيننا: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ} [القصص:83] انظر إلى هذه الآية وتأملها كما يقول أهل العلم: ما قال: الدار الآخرة؛ بل قال: ((تِلْكَ))، وهذا إشارة إلى العلو ورفعة المنزلة {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ} [القصص:83]، فقد علت وسمت فعلا أهلها وسموا عن حطام الدنيا؛ لأن الدنيا ضرتها تماماً، فمن أراد الدنيا فإنه لا يريد الآخرة: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا} [القصص:83] ويجعل الله لك الآخرة متى؟ (لِلَّذِينَ) اللام تفيد الاختصاص: {لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص:83]، الذين اتقوا الله في هذا العلم {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]. فينبغي على أهل العلم صيانة العلم، وينبغي أن يعود طالب العلم من الصغر على طلب العلم لله وفي الله، وابتغاء ما عند الله عز وجل، حتى يبارك له في علمه، فإذا فعلنا ذلك وجدنا الخير والبركة، ووجدنا من يستطيع أن يخرج من بيته من الصباح ولا يرجع إلى بيته إلا في الليل، وهو عاكف في بيت من بيوت الله يعلم أبناء المسلمين، أما إذا وضعت على ذلك الحوافز والجوائز فربما تعلق قلبه بها، والقلب إذا تعلق بشيء فتن به، نسأل الله السلامة والعافية. ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن: (الدنيا معلونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، أو عالماً أو متعلماً) أي: من أراد وجه الله، وإلا فما عدا ذلك فهو ممحوق البركة. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ممن أراد بهذا العلم وجهه، وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم، وأن يصرف عنا فتنة العلم ما ظهر منها وما بطن. والله تعالى أعلم.

باب اللقطة

شرح زاد المستقنع - باب اللقطة الإنسان في حياته معرض لضياع ماله عنه، وبما أن الضائع غالباً ما يجده إنسان آخر ويلتقطه؛ فلهذا وضعت الشريعة للقطة أحكاماً تتعلق بمن يأخذ اللقطة، وما الشيء الذي يجوز له التقاطه، وما الذي لا يجوز له التقاطه، وكيف يعرفها حتى يجد صاحبها، وما هو المال الذي يعرف والذي لا يعرف، وما الذي يترتب على عدم مجيء صاحبها، وغير ذلك من الأحكام الخاصة بباب اللقطة، وهذا كله من كمال الشريعة وشمولها.

اللقطة وأحكامها

اللقطة وأحكامها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: يقول المصنف رحمه الله تعالى: (باب اللقطة) أراد أن يشرع المصنف رحمه الله في بيان أحكام الضائعات من الأموال ونحوها، وقد بينت الشريعة الإسلامية ما يجب على المسلم إذا وجد مال أخيه المسلم؛ من حفظه، ورعايته، والسعي في تحصيل الأسباب بمعرفة صاحبه ورده إليه، فإن الإنسان ربما سقط منه ماله وهو لا يدري، ولربما ضاع منه، فيحتاج إلى حفظ ذلك المال، حتى يتمكن صاحبه من وجدانه، وقد جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة من الأحاديث التي اشتملت على أحكام اللقطة، وفصلت في بيان ما يجب على الملتقط، ومتى يحكم له بأخذها والتصرف فيها، وما الذي يترتب على ذلك الأخذ، وأنه إذا وجد صاحبه في يوم من الأيام فإنه يكون ضامناً له. وقد ذكر المصنف رحمه الله باب اللقطة بعد باب الجعالة، والمناسبة: أن باب الجعالة تضمن جملة من المسائل والأحكام التي غالباً ما يكون فيها الجعل في الأشياء الضائعة، واللقطة من الضائعات، فهناك توافق بين باب الجعالة وبين باب اللقطة. وقوله رحمه الله: (باب اللقطة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة باللقطة.

ضابط المال الذي يأخذ حكم اللقطة

ضابط المال الذي يأخذ حكم اللقطة قال رحمه الله: [وتتبعه همة]، الاهتمام بالشيء: العناية به، والأموال منها ما يهتم به الإنسان، ومنها ما لا يكترث به، فالفقهاء رحمهم الله يريدون أن يفرقوا بين الشيء الذي يأخذ حكم اللقطة العامة والشيء الذي لا يأخذ هذه الأحكام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق في سنته، فلما قال جابر رضي الله عنه: (خفف عنا في السوط والعصا)، هذا يدل على أن الشيء اليسير لا يحتاج إلى تعريف به، ولا يأخذ حكم اللقطة العامة. إذاً: نحتاج إلى وضع ضابط، ووضع ميزان نفرق به بين الشيء الذي يأخذ حكم اللقطة، وبين لشيء الذي لا يأخذ حكم اللقطة، فوضعوا ضابطاً وهو: همة أوساط الناس، وقالوا: وسط؛ لأنه دائماً في التقديرات الغالبة ينظر إلى أوساط الناس، فمثلاً: قاعدة: العادة محكمة، لما جاء العلماء يضعون قاعدة الاحتكام إلى العرف وضعوا الضابط الغالب، فالغالب هو الذي يكون في الوسط، ليس لأهل الغنى ولا لأهل الفقر، فكذلك هنا بالنسبة للأموال، لا ننظر إلى الأشياء الغالية ولا إلى الأشياء الرخيصة، ولكن ننظر إلى الأشياء الوسط، ونجعلها هي التي تسري عليها أحكام اللقطة، فنقول: من باب أولى إذا كانت أغلى من هذه، وعلى هذا وضع المصنف رحمه الله قيد: أوساط، والوسط هو المقام الذي يكون بين الطرفين: الغالي والرخيص، فاللقطة هي الشيء الذي ليس بالرخيص جداً، بل كان رخصه تتبعه همة أوساط الناس؛ لأنه يمكن أن يكون الرخيص عندي قيمته مائة ريال لغناي، وقد يكون عندي الرخيص قيمته ألف ريال، وقد يكون عشرة آلاف ريال وهكذا. إذاً: ننظر إلى أوساط المجتمع، وهذا يختلف باختلاف الأعراف، والأزمنة والأمكنة، فالقاضي والشيخ والمفتي وطالب العلم إذا سئل عن شيء: هل هو لقطة أم لا؟ فينبغي أن ينظر إلى الوسط، والمصنف رحمه الله ابتدأ بهذه الجملة؛ لأن أول ما تبحث من أحكام اللقطة أن تعرف ما هو الشيء الوسط الذي تتبعه همة أوساط الناس، حتى تقول بعد ذلك: يجب تعريفه، ويجب كذا وكذا من أحكام اللقطة، فهو يقول: نضع ضابطاً لأوساط الناس. وأوساط الناس تختلف باختلاف الزمان والمكان؛ فقد تجد مجتمعاً يكون وسط المال فيه ألف ريال، بحيث أن ما دون الألف يكون شيئاً يسيراً. وقد تجد زمناً الوسط فيه مائة ريال، بحيث أن ما نزل عن المائة يكون يسيراً، وقد يكون العشرة ريال، فيرد هذا إلى كل عرف بحسبه. قال رحمه الله: (وتتبعه همة أوساط الناس) أي: يهتم صاحبه بالبحث عنه؛ لأننا لا نستطيع أن نكلف شخصاً أن يعتني بما لا يريده صاحبه، أي: لا ينشغل به صاحبه، ففي ذلك عناء ومشقة، وأحكام اللقطة صعبة، والتعريف باللقطة فيه عناء ومشقة.

أحوال الملتقط من جهة قصد التعريف وعدمه

أحوال الملتقط من جهة قصد التعريف وعدمه قال رحمه الله: [وله التقاط غير ذلك من حيوان وغيره إن أمن نفسه على ذلك]. قوله: (من حيوان) (من) بيانية، على التفصيل الذي تقدم معنا فيما يجوز أخذه من الحيوانات وغيرها، وقوله: (وله التقاط)، هذا الالتقاط على التفصيل الذي ذكرناه، وقد بين المصنف هذا هنا؛ لأن الأحكام المتعلقة بالالتقاط مفرعة عن معرفة الشيء الذي يلتقط، فبعد أن بين رحمه الله الشيء الذي يلتقط، بين أحوال التقاط اللقطة، فالذي يلتقط اللقطة يلتقطها على صور: الصورة الأولى: أن يلتقطها بقصد تعريفها وردها إلى صاحبها، والصورة الثانية: أن يلتقطها بقصد أن يملكها وأن يأخذها. ففي الصورة الأولى إذا أخذها بقصد تعريفها، والوصول إلى صاحبها، إن كانت من جنس ما تنطبق عليها أحكام اللقطة فلا إشكال، فيعرفها ثم بعد انتهاء مدة التعريف يكون مالكاً لها، كما سيأتي. الصورة الثانية: من أخذ اللقطة قاصداً أن يملكها مباشرة، كمن وجد قلماً أو كتاباً له قيمة، ولا يستطيع أن يجد صاحبه، أو وجد ذهباً أو فضة، فحملها وقال: أريد أن أنفق من هذا المال، فهذا حكمه حكم الغاصب، أي أنه في الصورة الأولى يكون حكمه حكم الملتقط، وفي الثانية يكون حكمه حكم الغاصب، ففي الأولى لا يضمن، وفي الثانية يضمن. فائدة هذه المسألة: أنه لو التقط على الوجه الأول، ونيته فيما بينه وبين الله أن هذه العشرة الآلاف التي وجدها سيوصلها إلى صاحبها، فأخذها عنده، فضاعت، أو سرقت من دون تعدٍ ولا تفريط، فلا ضمان عليه؛ لأنه ما تعدى ولا فرط، ويده يد أمانة، لكن لو أخذها من أجل أن ينفقها، ولم يفكر لا في تعريفها ولا في شيء، إنما قال: الحمد لله على هذا الرزق الذي جاءنا -والبعض يحمد الله حتى ولو كان المال من سرقة! - فأخذ هذا المال وفي نيته أن يصرفه، وقال: أريد الآن أن آخذه حتى أسدد ضائقة، أو أشتري شيئاً، فلما أخذها ابتلاه الله في الليلة التي أخذها بأنه سرق منه أو ضاع منه، فلو عرف صاحبها، وجب أن يرد عليه المال، فهو في الأول أمين وفي الثاني غاصب، وهذه فائدة النية في الالتقاط. فيفصل في الالتقاط بهذا: فإن التقطها بالوجه المعروف، كانت يده يد أمانة، ولا يضمن إلا إذا تعدى وفرط، أما إذا وجد شيئاً وفي نيته أن يأخذه لحظه وأهله، دون قصد التعريف، فإنه في هذه الحالة يكون ضامناً، وحكمه حكم الغاصب. وقوله: (إن أمن نفسه على ذلك)، هذا شرط، وهو أن يأمن نفسه على المال الذي أخذه، قال: [وإلا فهوكغاصب]، ومفهوم الشرط أنه إذا لم يأخذها على هذه النية، وأخذها من أجل أن ينفق على نفسه -ولذلك تجده يأخذها ولا يريد أحداً أن يشعر أنه أخذ هذا المال، ولا يريد أحداً أن ينتبه له؛ لأنه يريد أن يأخذه لنفسه- (وإلا فهو كغاصب) أي: فحكمه حكم الغاصب، كما تقدم.

حكم التقاط اللقطة

حكم التقاط اللقطة قال رحمه الله: [وله التقاط غير ذلك من حيوان وغيره، إن أمن نفسه على ذلك، وإلا فهو كغاصب]. يقول المصنف رحمه الله: (وله) أي: للشخص الواجد للضائع (التقاط) أي: أخذ الشيء الضال أو الضائع من غير الذي ذكرناه وهي الأشياء اليسيرة التي ليس لها قيمة، ومن أهل العلم من قال: الأفضل والأكمل أن لا يلتقطها، ومن أهل العلم من قال: الأفضل والأكمل والأعظم أجراً أن يحتسب ويأخذه صيانة لمال أخيه المسلم، ومن أهل العلم من قال: إن المسألة على الإباحة، فلا نقول الأفضل الأخذ، أو الأفضل الترك إلا بالتفصيل، فإن كان الشخص يأمن على نفسه، فيعرف من نفسه أنها لا تتعلق بهذا الشيء، وأنه سوف يقوم بحقوق التعريف، وأن يده سوف تكون يد أمانة ومحافظة على الشيء، ويغلب على ظنه أنه سوف يوصل الشيء إلى صاحبه، أو أن صاحبه سوف يعود؛ فإنه يأخذه. وألحق بهذه الأحوال حالة ذكرها بعض العلماء ونصوا فيها على وجوب الأخذ، وهي: أن يكون الموضع الذي وجد فيه المال فيه سراق أو فساق، أو أناس لا يحفظون حدود الله وحقوق المسلمين، بحيث يأخذونها وربما استغلوها في أشياء محرمة، فيجب على الإنسان أن يأخذها في هذه الحالة، بحيث يأمن على نفسه الفتنة، ويغلب على ظنه أن هذا المال لو ترك فيأخذه فاسق، وقد يستعين به على حرام، ويغلب على ظنه أنه قد يجد صاحبه، ففي هذه الأحوال يجب عليه أن يأخذه، فإن خاف، أو وجد غيره ممن يمكن أن يقوم بهذا الأمر، فغلب على ظنه أنه إن لم يأخذه فإنه سيأتي إنسان صالح، ويغلب على ظنه أنه سيقع في يد إنسان غيره ممن يقوم بحقوق التعريف، وهذا الغير أفضل منه؛ فالأفضل الترك، ويروى هذا عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر أنهم كانوا يكرهون أخذ اللقطة، ويكرهون التعرض لها؛ لما في ذلك الورع، وابتعاد الإنسان عن المسئولية، هذا إذا خاف على نفسه، وإذا وجد الغير ولم يأمن على نفسه الفتنة. أما إذا وجد الغير وغلب على ظنه أنه لو أخذ هذا المال فإنه يفتن به، وربما لم يأمن نفسه عليه؛ لأن النفوس تختلف والأزمنة تختلف، وربما تأتي الضائقات والحاجة، فتضطر الإنسان إلى أخذ ما حرم الله عليه، ولذلك استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من غلبة الدين؛ لأن الإنسان إذا غلبه الدين كذب في قوله، وأخلف في وعده؛ لأنه يقهر على ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من غلبة الدين لهذا؛ وهو ذل بالنهار وهم بالليل، فالإنسان إذا غلب على ظنه أنه سيهتم بهذا الأمر، ويشغله عما هو أفضل، ويوجد غيره ممن يقومون به؛ فالأفضل أن يتركه إلى ذلك الغير، والأفضل له التورع وصيانة نفسه. وفي حكم هذه المسألة أيضاً إذا كان الموضع أهله أهل شر؛ بحيث لو أخذ هذا المال تسبب له بفتنة واتهم بالسرقة، وتعرض للضرر، فيكون تركه حينئذ مقدماً على أخذه. فيفصل في مسألة أخذ اللقطة أو تركها بهذا التفصيل: أن الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال مختلفة، والإنسان يتقي الله على قدر استطاعته، فما كان موافقاً لشرع الله بحيث يتأكد الحكم بوجوب أخذ اللقطة فيه، أو ندبها واستحبابها، فإنه يحكم له بوجوب الأخذ واستحبابه، وما كان بالعكس فعلى العكس، وما انتفت فيه الموانع، وانتفت فيه الدوافع، فإنه يبقى على الأصل وهو الحل. ولذلك قال المصنف: (وله) فنص على مرتبة الإباحة، أي: يجوز له أن يأخذها، وهذا على سبيل التخيير، ويبقى التفصيل، فتارة يجب، وتارة يسقط هذا الحل، لوجود العارض عند وجود الموانع.

حكم التقاط الشيء اليسير

حكم التقاط الشيء اليسير وقوله: (فأما الرغيف) الفاء للتفريع، أي: إذا ثبت أن اللقطة مال ضائع عن صاحبه، وتتبعه همة مالكه، فإنه إذا كان رغيفاً، أي: شيئاً لا قيمة له، فإنه لا يعتبر لقطة، فهو أراد أن يفرع من التعريف السابق، بحيث يخرج ما ليس بلقطة من التعريف، فقال: (فأما الرغيف فلا تتبعه همة صاحبه)، ولكن قد يكون -مثلاً- مجمع من الناس في نزهة، والرغيف عندهم له قيمة، أو رفقة في سفر من الفقراء والضعفاء، فلا نستطيع أن نقول: إن من وجد الرغيف فهو له؛ لأن الرغيف هنا يختلف عن الوضع العام، والمؤلف يتكلم عن الغالب، وإلا فقد يكون الرغيف له شأن، خاصة في أيام المجاعة والشدة، فتتبعه همة صاحبه، فهذا التعبير إنما هو للغالب، والفقهاء يختارون أمثلة للغالب. قال: (والسوط) وهو الذي يضرب به الناس ونحوه، والمراد: مما لا تتبعه همة الناس، ولا قيمة له ذات بال، فيملك بلا تعريف، أي أن صاحبه إذا فقده ووجدته، فإننا نحكم بانتقال ما في يده إليه، فتملكه بمجرد ما تأخذه بدون تعريف، كما يقول بعض العلماء: فهو لواجده، ومنهم من يقول: فهو لملتقطه، وهنا قال المصنف: (فيملك بلا تعريف)، فأراد أن يبين أن الشيء التافه واليسير، كالسوط الذي لا تتبعه همة صاحبه، يملك بلا تعريف، لكن في بعض الأحيان إذا كنا نستطيع معرفة صاحب السوط فنرده إلى صاحبه، وليست المسألة هكذا مطلقة، ولكن المراد: الغالب، مثل: الرغيف، فإنه لا تتبعه همة صاحبه، ولكن إن كان في موضع وفي حال يمكن الحصول فيه على صاحبه، فيجب أن يرد إلى صاحبه؛ لأن أموال الناس مملوكة لأصحابها، ولا يحكم بالانتقال متى أمكن ردها إلى أهلها.

ما يحرم التقاطه وضابطه

ما يحرم التقاطه وضابطه قال رحمه الله: [وما امتنع من سبع صغير كثور وجمل ونحوهما، حرم أخذه] لما بين رحمه الله الشيء الصغير الذي لا قيمة له، ولا تتبعه همة صاحبه، شرع في ضده وعكسه، فقال: (وما امتنع من سبع صغير). ومن المعلوم أن الآيات والأحاديث إذا جاءت فإما أن تأتي نصاً في شيء معين، فتختص بذلك المعين، وإما أن تأتي على سبيل التعبد، فلا يبحث في علتها، وإما أن تأتي على سبيل التعقل ومعرفة معناها حتى يقاس غيرها عليها وهي الأصول. إذاً: عندنا نصوص لا يمكن أبداً أن نجاوزها عن موضعها، كما لو جاءت في مخصوص خص به عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب:52]، فهذا نص خاص به عليه الصلاة والسلام، ويحكم بالخصوص، فهو خاص أراد به الخصوص، وهناك خاص جاء على سبيل التعبد، فلا نستطيع أن نقدم أو نؤخر فيه، حيث جاء كوضوح الشمس أنه تعبد، كما جاء في فرضية صلاة الظهر بعد الزوال، فما نستطيع أن نحدث صلاة ثانية قياساً على صلاة الظهر، ولا نستطيع أن نحدث عبادة قياساً على هذه العبادة، ولكن هذا شيء تعبدي نقتصر فيه على هذا الوجه الذي جاء. وأما ما أريد به العموم، فيكون قاعدة ينبني عليها غيرها، وأصلاً يتفرع عليه ما لا يحصى من المسائل، وهذا هو منهج الشريعة في أكثر النصوص؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، فالكمال أن تكون نصوص الشريعة قواعد عامة، حتى تصلح لكل زمان ومكان، ومن أمثلة ذلك: مسألة اللقطة، عندما جاء الحديث في ضالة الإبل، قال عليه الصلاة والسلام: (مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشعر حتى يلقاها صاحبها) هذا اللفظ من الحديث بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز أن يتعرض الإنسان لضالة الإبل، لكن هل المراد بذلك الإبل فقط، بحيث لا يقاس عليها غيرها، ونقول بأن غيرها يلتقط ويأخذ حكم اللقطة، أم أن المراد بذلك أن الإبل تمتنع وتدفع، ويقاس على الإبل غيرها مما يأخذ حكمها؟ لا شك أن الأمر هو الصحيح. ولما جاء ذكر الغنم قال عليه الصلاة والسلام: (إنما هي لك أو لأخيك أو للذئب) فأسْقِطْ كلمة: (لك) فيبقى إما لأخيك أو للذئب، المالك هو أخوك المسلم، وقيل: لأخيك، أي: إذا ما أخذتها أنت فسيأتي شخص آخر ويأخذها، لكن على الأصل نقول: قوله: لأخيك من باب المقابلة، (إنما هي لك) فيقاس غيرك إذا كان مكانك، وهذا أنسب، بمعنى: إنما هي لك أو لأخيك مالكها إن وجدها، فهذا أفضل؛ لأنه لما قال: (لك) نزل غيرك من وجدها كما وجدتها، فإذا أسقطنا (لك) بقيت (لأخيك) أو للذئب، لأخيك إن وجدها، (أو للذئب) إن لم يجدها، فلما ذكر الذئب دل على أن في الحيوان الضال معنى، وهو كونه يدفع عن نفسه أو لا يدفع، فوجدنا أن الغنم لا يمكن أن تدفع عن نفسها صغار السباع، أما كبار السباع فلا يمكن لا للإبل ولا للغنم أن تدفعها. فلما قرر عليه الصلاة والسلام أن الإبل تترك على حالها، فمعناه: أن هناك علة لهذا الترك، وهي قوله: (معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر)، لكن الغنم يمكن أن تجد شيئاً تستقي به، ويمكن أن تسير المسافات الشاسعة، لكن لا يمكن أن تدفع الذئب، فقوله: (أو للذئب) يدل على أن مسألة اعتداء السبع عليها مؤثرة في الحكم، وأن هذا الأمر الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ينبه على العلة التي من أجلها شدد في الإبل، ويسر وخفف في الغنم، ومن هنا استنبط العلماء المعنى، فقالوا: لا يستطيع أن يدفع من صغار السبع، فمثلاً: الناقة تستطيع أن تدفع لو جاءها صغير الذئب، أو جاءها صغير الأسد، أو السباع العادية؛ لأن الإبل شديد البطش، فيمكن أن يدفع، وعلى هذا قالوا: إن العلة هي كونه يدفع عن نفسه، وجعلوا الضابط صغار السبع؛ لأن كبار السباع تعتدي على الإبل ومع ذلك جعل الإبل سائدة هائمة حتى يلقاها ربها، فدل ذلك على أن العلة كونها لا تستطيع أن تدفع عن نفسها صغار السبع.

ما يلحق بالإبل في حرمة التقاطه

ما يلحق بالإبل في حرمة التقاطه قال رحمه الله: [وما امتنع من سبع صغير]. كالإبل كما ذكر عليه الصلاة السلام، ويقاس على ذلك الضباء، والوعول، وتيس الجبل، وبقر الوحش، فإذا وجدت ظبياً فإنه يجوز صيده، وهذا لا إشكال فيه؛ لأنه من المباحات، وقد أحله الله عز وجل لعباده، وكذلك الوعل وتيس الجبل، كلها أحلها الله عز وجل، فالمصنف لما قال: (وما امتنع من سبع صغير) مراده أن يكون هذا الظبي ملكاً لشخص، فالظباء والوعول والريم والغزلان إذا كانت ملكاً لأشخاص، وضلت وضاعت، فإنها تترك حتى يلقوها؛ لأنها تدفع عن نفسها صغار السباع، وكذلك يدخل في هذا ما يدفع عن نفسه من صغار السباع بالتوحش والفرار، حتى ولو كان من الطير، وبناء على هذا: فالحمام الذي يربى في البيت، لا يجوز لأحد أن يأخذه؛ لأنه يمتنع من نفسه، ويمكنه أن يدفع عن نفسه، حتى يرجع إلى ربه وصاحبه. فهذه ينطبق عليها أنه لا يؤوي الضالة إلا ضال؛ إذ ما المعنى أن يأخذه إلا الاعتداء على مال أخيه المسلم، فيترك حتى يعود إلى صاحبه ومالكه، إلا إذا كان المتلفظ يعرف صاحبها، فأخذها على نية أن يعطيها لصاحبها، فلا إشكال، أما إذا لم يعرف صاحب هذه الحمام، وعرف أنه من النوع البيتي الذي يربى، فإنه يطرده عنه ولا يجوز أخذه، وهو في مثل هذا كالإبل التي تدفع عن نفسها، ويمكن للحمام أن يعيش حتى يرجع إلى صاحبه. قال رحمه الله: [كثور وجمل]. الثور والجمل يدفع، وكذلك البقر القوي، ومن أهل العلم من جعل البقر خارجاً عن حكم الإبل، والصحيح أنه يأخذ حكمها؛ لأن جريراً رضي الله عنه وأرضاه أعطاه حكم الإبل، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يؤوي الضالة إلا ضال)، والسبب في التفريق بين الإبل وبين والبقر: أن الإبل تصبر أكثر من البقر، والبقر إذا ضاع في الفيافي والصحراء فغالباً ما يهلك، بخلاف الإبل فإنها تصبر على الماء أكثر، والبقر أضعف في الصبر من هذا الوجه، وإلا فمن حيث القوة، ومن حيث الوصف، هناك شبه بين البقر وبين الإبل. وبالمناسبة: بعض العلماء يلحق البقر بالإبل في أكثر المسائل الشرعية، يقولون: وجدنا الشريعة تجعل الإبل والبقر في حكم واحد، فمثلاً: يضحى بالبقرة عن سبعة، ويضحى بالبدنة عن سبعة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحى عن نسائه بالبقر، فجعل البقر محلاً للتشريك كالإبل، فأنزلها منزلة الإبل. ومن هنا قالوا: إن البقر تنحر ولا تذبح، قياساً على الإبل، ومن أهل العلم من جعل البقر تارة تلتحق بالإبل وتارة لا تلتحق بالإبل، وتختلف أحكامه، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في يوم الجمعة: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة)، ففرق بين الإبل والبقر، وأجيب: بأن هذا من باب الفضل لا من جهة الحكم، وقد يتفق الاثنان حكماً ويختلفان فضلاً، فيكون أحدهما أفضل من الآخر، ولكن هذا لا يقتضي عدم تشريكهما في الحكم. قال رحمه الله: [ونحوهما]، أي: ما يكون قوياً يستطيع الدفع عن نفسه، [حرم أخذه] أي: لا يدخل في جواز الالتقاط. فأصبحت الأشياء والأموال منها ما يجوز أخذه، ومنها ما يحرم أخذه، ومنها ما يجب أخذه مما يكون الغالب فيه الضياع أو التلف، فيجب على الإنسان أن يأخذه، أو إذا كان يعرف صاحبه، فيجب عليه أن يأخذه حتى يعطيه إلى صاحبه.

أركان اللقطة

أركان اللقطة يقول المصنف رحمه الله: (باب اللقطة) أي: سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق باللقطة، ويشمل ذلك: (الركن الأول): وهو الشيء الملتقط، و (الركن الثاني) وهو الشخص الملتقط، و (الركن الثالث): وهو صفة الالتقاط، والأحكام المترتبة على هذه الأركان الثلاثة، فيبين لنا من هو الذي يجوز له الالتقاط، والذي لا يجوز له الالتقاط، وما الحكم إذا التقط غير الأهل، ومن يتولى عنه. والركن الثاني: الشيء الملتقط، على التفصيل الذي ذكرناه فيما يجوز التقاطه وما لا يجوز التقاطه. والركن الثالث: صفة الالتقاط، سواء من جهة كونه يلتقط بقصد الملكية، أو يلتقط بقصد التعريف، وتارة يكون في حكم الغاصب، وتارة يكون في حكم الملتقط، وأخذ بهذا يبين الأحكام المتعلقة بهذه الأركان الثلاثة.

تعريف اللقطة

تعريف اللقطة قال رحمه الله تعالى: [وهي مال أو مختص ضل عن ربه، وتتبعه همة أوساط الناس، فأما الرغيف والسوط ونحوهما فيملك بلا تعريف]. استفتح المصنف باب اللقطة ببيان حقيقة اللقطة؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ومن عادة العلماء رحمهم الله أن يبدءوا أولاً بالتعريف؛ لأنه عن طريق التعريف يمكن للإنسان أن يحكم على الشيء، قال رحمه الله: (وهي) أي: اللقطة، (مال) والمال: هو كل شيء له قيمة، وسمي بذلك لأن النفوس تميل إليه وتهواه، ويشمل ذلك الذهب والفضة وغيرهما، فاللقطة مال، سواء كانت من الذهب أو من الفضة، أو الأكسية، أو الأغطية، أو الأغذية، أو الأقلام أو الكتب، أو غير ذلك مما له قيمة. وقوله رحمه الله: (وهي مال)، هذا العموم له تخصيص، وسيأتي -إن شاء الله- أن اللقطة تختص بالذهب والفضة وما في حكمها، دون بهيمة الأنعام، فهذا النوع من الضائعات والضوال له حكم خاص. وقوله: (وهي مال أو مختص) اختصاص الإنسان بالشيء تميزه به دون غيره، والخاص ضد العام، ومعنى ذلك: أنه شيء يثبت لك على سبيل الرخصة وعلى سبيل الخصوصية، وتكون مختصاً به، ومن أمثلة ذلك: كلب الصيد، فلو قال المصنف: (اللقطة مال) وسكت، لم يشمل كلب الصيد؛ لأن ذلك كلب الصيد يمكن أن يضيع من صاحبه، ويأخذ حكم اللقطة، إذا كان قد اختص به الإنسان، حيث أذن له الشرع أن يصيد به، أو كلب حراسة أذن له أن يستخدمه في الحراسة، فمثل هذا لو ضاع فإنه يأخذ حكم اللقطة؛ من تعريفه ورده إلى صاحبه. وقوله: (ضل عن ربه) ضل بمعنى: تاه، فإما أن يضل عن ربه، أو يسقط من صاحبه، كالنقود تكون في جيب الإنسان ثم تسقط، وهذا الوصف وهو قوله: (ضل) يخرج به المسروق والمغصوب، فلا يسمى لقطة؛ لأنه أخذ من صاحبه قهراً، والذي يؤخذ من صاحبه على سبيل الخفية، إما خلسة، أو غفلة، فهو سرقة، فلا يأخذ حكم اللقطة، واللقطة نعرف أنها ضلت عن صاحبها بأن نجدها ساقطة في الطرقات، أو نجدها -مثلاً- في أماكن الجلوس، فمن عادة الناس أنهم إذا جلسوا أن يضعوا أمتعتهم بجوارهم، فإذا وجدنا الكيس من المال أو الحقيبة فيها المال أو الأغراض في نفس المكان أو بجوار المكان، فنعلم أن صاحبها قد نسيها، فلم تضل هي ولكن صاحبها غفل عنها حتى نسيها في المكان، والمراد من هذا: أن صاحبها افتقدها، سواء كان ذلك بإهمال منه، أو كان بأي سبب من الأسباب، فكل شيء ضاع من صاحبه، فإنه يحكم بكونه لقطة من حيث الجملة.

أقسام اللقطة من حيث القيمة

أقسام اللقطة من حيث القيمة وقوله: (وتتبعه همة أوساط الناس) اللقطة تنقسم إلى قسمين: فإما أن تكون شيئاً له قيمة، وإما أن تكون شيئاً لا قيمة له، فلما قال المصنف رحمه الله: (مال) هذا عام، ولو نظرت إلى الشيء الغالي فهو مال، وإذا نظرت إلى الشيء التافه فهو مال، فالتمرة هي مال، والقلم يعتبر مالاً، والدفتر يعتبر مالاً؛ لأن له قيمة، وقد يكون شيئاً نفيساً قيمته عشرات ومئات الألوف، فهو مال، إذاً قوله رحمه الله: (وهي) أي: اللقطة، (مال) عام، والشريعة خصصت هذا العموم، وبينت أن اللقطة التي لا تتبعها همة صاحبها، وهي الشيء اليسير الذي لا قيمة له، أو له قيمة ليست بذات بال في أوساط الناس، مرخص فيها ومخفف في أمرها، والأصل في ذلك: أنه ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على تمرة، فقال عليه الصلاة والسلام: (لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها)، فالتمرة مال، وقد كان الرجل ينزح الدلو الواحد بتمرة واحدة، فلها قيمة، ولربما كان طعام الرجل ليومه من تمرة واحدة، ومع ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها)، وهذا الورع من أتم ما يكون، فقد تورع عليه الصلاة والسلام عنها، وقوله: (لأكلتها) يدل على أن يد صاحبها قد خلت عنها، وهذا يدل على أن الشيء الذي ليست له قيمة، ولا تتبعه همة صاحبه، بمعنى: أنه لا يطلبه، ولا يبحث عنه، كالتمرة إذا سقطت من الإنسان فإنه لا يبحث عنها غالباً، وهكذا الحفنة اليسيرة من الأرز في زماننا، والحفنة من البر والحفنة من التمر، يخفف في حكمها، ولا يجب تعريفها، ولا تأخذ أحكام اللقطة العامة. ومن الأدلة أيضاً حديث جابر رضي الله عنه أنه قال: (خفف علينا -وفي رواية: رخص لنا- في السوط والعصا يأخذه واجده)، والسوط هو الذي تضرب به الدواب، فلو وجده الإنسان فإنه يأخذه مع أنه بحكم اللقطة، ولكن لما كان السوط لا تتبعه همة صاحبه، وكذلك العصا ونحوها لا تتبعها همة صاحبها؛ خفف فيها، ففي زماننا لو وجد قلماً رخيصاً فيأخذه واجده، وهكذا بالنسبة للثياب، إذا كان الملبوس لا قيمة له، وقيمته يسيرة ليست بذات بال، فيجوز للإنسان إذا أخذه أن يملكه مباشرة، ولا يحتاج إلى تعريف.

أقسام اللقطة

أقسام اللقطة ومن أجمع الأحاديث التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان أحكام اللقطة: حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه وأرضاه، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب والفضة، فقال عليه الصلاة والسلام: (اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، فإذا أتاك صاحبها فأعطها إليه، وإلا فشأنك بها، فإن جاء ربها يطلبها يوماً من الدهر، فأعطها له. ثم سأله عن ضالة الإبل، فقال عليه الصلاة والسلام: مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر، حتى يلقاها ربها. ثم سأله عن ضالة الغنم، فقال عليه الصلاة والسلام: إنما هي لك أو لأخيك أو للذئب) متفق عليه، هذا الحديث الشريف اشتمل على جملة من الأحكام، فبين مشروعية التقاط اللقطة، ما لم تكن من ضالة الإبل، حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز أخذ ضالة الإبل، فقال: (مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر)، فحرم أخذها، وحمل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يؤوي الضالة إلا ضال)، وقد عمل بذلك جرير بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه، فإنه كان في سفر، وكان معه بهمه وبقره، فجاءت بقرة ودخلت بين البقر، فطردها رضي الله عنه، وأمر بطردها، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يؤوي الضالة إلا ضال). ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بين هذين النوعين، وبين أن هناك شيئاً يجوز التقاطه، وشيئاً لا يجوز التقاطه. فالشيء الذي يجوز التقاطه هو الذهب وسائر الأموال، ولما سئل عنها صلى الله عليه وسلم قال: (اعرف وكاءها وعفاصها)، (والوكاء): هو الخيط الذي يشد به القرطاس، ويشد به كيس المال، (والعفاص): هو الوعاء، وقيل: الشيء الذي يوضع على فم القارورة أو الزجاجة، فالعفاص: المراد به الوعاء الذي تحفظ فيه اللقطة، وفي زماننا الحقائب والصناديق، والمعنى: اعرف الشيء الذي كانت اللقطة موجودة فيه، أي: نوع الحقيبة ولون الحقيبة، وكذلك أيضاً اعرف وكاءها، وفي زماننا تعرف هل لها قفل أو ليس لها قفل؟ فكل الأوصاف التي يمكن عن طريقها أن يستدل بها على اللقطة يضبطها الواجد والملتقط ويحفظ ذلك، وإذا خاف النسيان كتبه. ثم أمر عليه الصلاة والسلام أن يعرفها سنة، وسنبين كيفية التعريف، وحكم التعريف. وقد اشتمل الحديث على أنه بعد مضي سنة كاملة إذا لم يأتِ صاحبها فإنه يملكها -أي: يملك اللقطة حكماً- واجدها، ولذلك قال: (فهي وديعة عندك)، فاعتبرها كالوديعة، بمعنى: أنه يملكها حكماً، لكن ليست بالوديعة الاصطلاحية التي تقدمت معنا أحكامها، إنما أراد أن صاحبها كأنه وضعها عندك وديعة، أي: إذ أذن لك الشرع بأخذها والتصرف فيها، فإنما هو حكماً لا حقيقة، بحيث لو جاء صاحبها فلا تقل له: ولقد عرفتها سنة ولم تأتِ، فأنا أملكها، إنما أراد أن يبين أنه بعد مضي سنة في حالة عدم إتيان صاحبها، فإن من حقك أن تتصرف فيها، وتكون كالمالك لها لكن حكماً، بحيث لو جاء صاحبها لم ترتفع يده الحقيقية عن ذلك المال، قال: (فإن جاء صاحبها يطلبها يوماً من الدهر)، وهذا فيه دليل على أنه سواء طالت المدة أم قصرت، فيده لا زالت باقية على المال، وطول المدة -كما يسمى في عرفنا بالتقادم- لا يسقط الحقوق، وهذا يرد على ما تسير عليه بعض القوانين الوضعية من إسقاط الحقوق بالتقادم، سواء كان في عقود المنافع أو عقود المعاوضات الأخرى، فتجد -مثلاً- من يغسل الثياب يقول: إذا لم تأتِ خلال ستة أشهر فلا تسأل عن مالك، وهذا ليس له من أصل، ولا يعتبر شرعاً موجباً للحكم، فصاحب المال أحق بماله متى وجده ولو بعد دهر من الزمان، فالعبرة في رجوع الحق إلى صاحبه، بغض النظر عن المدة طالت أو قصرت. فبين عليه الصلاة والسلام أنه مع كون الملتقط يتعب في السؤال عن صاحبه، ويتحمل مشقة التعريف، وعناءه، وعبء الحفظ للمال، ويطول الزمان، ويتصرف في المال، ويأخذه حكماً، ومع ذلك لا يسقط ذلك حق صاحبه؛ لأن المال لصاحبه، فأموال المسلمين محرمة إلا إذا أذن بها صاحبها، أو أخذت باستحقاق أذن به الشرع. ثم بين عليه الصلاة والسلام النوع الثاني من اللقطة وهو: ضالة الإبل، وسأله زيد رضي الله عنه عن ضالة الإبل فقال: (مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها)، أي: لا خوف عليها، فالإبل لا يضرها شيء، ولو مضت المدة طويلة؛ لأنها تصبر على الماء وترد على الشجر وتأكل، ويستطيع صاحبها بالتحري والسؤال أن يجدها، ثم إن الإبل من المعروف أنها تحن إلى مكانها ومرعاها، وربما باع الرجل إبله في مكان بعيد جداً قد يبلغ مئات الكيلو مترات، ثم يفاجأ يوماً من الأيام وقد رجعت إليه الإبل، وهذا معروف، ومن ذلك القصة المعروفة للجرمي، لما أجلت خزاعة جرهماً عن البيت، أي: أبعدتهم عن مكة، وابتعدوا أكثر من ثلاثمائة كيلو متراً، ثم حنت إبلهم، ونزحت إلى مكة، ودخلت حتى نحرت في مكة، وهي التي صارت فيها القضية المعروفة، وفيها الأبيات المشهورة: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر فأسباب هذه الأبيات: أن الإبل حنت إلى مرعاها بمكة، وقد كانوا على بعد أكثر من ثلاثمائة كيلو متراً، وهذا يكون حتى بين العشية والضحى، فالإبل ربما تجلس ثلاثة أيام وأربعة أيام في مكانها الجديد، ثم تحن إلى مرعاها القديم. إذاً: ضالة الإبل لها حكم خاص، وقد خصتها الشريعة بهذا الحكم، وهو أنه لا يتعرض لها الإنسان، فهي تدفع عن نفسها، فلو هجم عليها صغار (السباع) فهي تدفع عن نفسها، ولذلك لا يتعرض لها أبداً. وأما النوع الثالث الذي اشتمل عليه الحديث فهو: ضالة الغنم، ولما سئل عنها عليه الصلاة والسلام خفف في حكمها وقال: (إنما هي لك أو لأخيك أو للذئب)، فبين عليه الصلاة والسلام أن هذا النوع من الضوال -وهو الغنم- لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، ولا يستطيع أن يبقى في المكان الذي هو فيه، فإذا تُرِك أكله الذئب، فلا يستطيع أن يدفع عن نفسه، أو يأتي صاحبها فيجدها، ولكننا إذا لم نجد صاحبها، ودلنا على هذا أنه لو كان موجوداً لما أصبحت في العراء، فالاحتمال الثالث أن تأخذها. وانظر إلى حكمة الشريعة كيف اشتمل هذا الحديث على الثلاثة أنواع: النوع الأول: الضعيف الذي لا يمكن أن يجد صاحبه، ولا يمكنه أن يدفع عن نفسه، وبقاؤه ضياع وتلف، وهو الغنم، فتملك بالأخذ، ثم النوع الثاني: وهو الذي تتبعه همة صاحبه، ويحصل عنه السؤال والبحث والتحري، وهي لقطة الذهب والفضة، والنوع الثالث: والذي هو أعلى، فيمكنه أن يدفع عن نفسه، ويمكنه أن يبقى في مكانه مدة طويلة، وهو ضالة الإبل، فأعطت الشريعة الإسلامية لكل نوع حكمه، وهذا يدل على كمال الشرع، وأنه تنزيل من حكيم حميد سبحانه وتعالى، الذي قص الحق وهو خير الفاصلين، قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115]. فالشيء الذي يجوز التقاطه هو الذهب وسائر الأموال، ولما سئل عنها صلى الله عليه وسلم، قال: (اعرف وكاءها وعفاصها)، (والوكاء): هو الخيط الذي يشد به القرطاس، ويشد به كيس المال، (والعفاص): هو الوعاء، وقيل: الشيء الذي يوضع على فم القارورة أو الزجاجة، (فالعفاص): المراد به الوعاء الذي تحفظ به اللقطة، وفي زماننا الحقائب والصناديق، يعني: اعرف الشيء الذي كانت اللقطة موجودة فيه، يعني: نوع الحقيبة ولون الحقيبة، كذلك أيضاً، اعرف وكاءها، وفي زماننا تعرف هل لها قفل أو ليس لها قفل. فكل الأوصاف التي يمكن عن طريقها أن يستدل على اللقطة يضبطها الواجد والملتقط ويحفظ ذلك، وإذا خاف النسيان كتبه، ثم بين عليه الصلاة والسلام أنه يعرفها سنة، فأمر عليه الصلاة والسلام أن يعرفها سنة وسنبين كيفية التعريف، وحكم التعريف، واشتمل الحديث على أنه بعد مضي سنة كاملة إذا لم يأتِ صاحبها فإنه يملكها أي: يملك اللقطة حكماً واجدها، ولذلك قال: فهي وديعة عندك، فاعتبرها كالوديعة، بمعنى: أنه يملكها حكماً، لكن ليست بالوديعة الاصطلاحية التي تقدمت معنا أحكامها، إنما أراد أن صاحبها كأنه وضعها عندك وديعة، أي: إذ أذن لك الشرع بأخذها والتصرف فيها، فإنما هو حكماً لا حقيقة، بحيث لو جاء صاحبها لا تقول له: والله عرفتها سنة ولم تأتِ فأنا أملكها، إنما أراد أن يبين أنه بعد مضي سنة في حالة عدم إتيان صاحبها فإن من حقك أن تتصرف فيها، وتكون كالمالك لها لكن حكماً، بحيث لو جاء صاحبها لم ترتفع يده الحقيقية عن ذلك المال، (فإن جاء صاحبها يطلبها يوماً من الدهر) هذا فهي دليل على أنه سواء طالت المدة أم قصرت، فيده لا زالت باقية على المال، وطول المدة -كما يسمى في عرفنا بالتقادم- لا يسقط الحقوق، وهذا يرد على ما تسير عليه بعض القوانين الوضعية من إسقاط الحقوق بالتقادم، سواء كان في عقود المنافع أو عقود المعاوضات الأخرى، فتجد مثلاً من يغسل الثياب يقول: إذا لم تأتِ خلال ستة أشهر فلا تسأل عن مالك، وهذا ليس له من أصل، ولا يعتبر شرعاً موجباً للحكم، فصاحب المال أحق بماله متى وجده ولو بعد دهر من الزمان، فالعبرة في رجوع الحق إلى صاحبه، بغض النظر عن المدة طالت أو قصرت، فبين عليه الصلاة والسلام أنه مع كون الملتقط يتعب في السؤال عن صاحبه، ويتحمل مشقة التعريف، وعناءه وعبء الحفظ للمال، ويطول الزمان، ويتصرف في المال، ويأخذه حكماً، ومع ذلك لا يسقط ذلك حق صاحبه، فالمال لصاحبه، فأموال المسلمين محرمة إلا إذا أذن بها صاحبها، أو أخذت باستحقاق أذن به الشرع. ثم بين عليه الصلاة والسلام النوع الثاني من اللقطة وهي ضالة الإبل، وسأله زيد رضي الله عنه عن ضالة الإبل، فقال: (مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها)، أي: لا خوف عليها، فالإبل لا يضرها شيء، ولو مضت المدة طويلة، لأنها تصبر على الماء وترد على الشجر وتأكل، ويستطيع صاحبها بالتحري والسؤال أن يجدها، ثم إن الإبل من المعروف أنها تحن إل

أحكام تعريف اللقطة

أحكام تعريف اللقطة قال رحمه الله: [ويعرف الجميع في مجامع الناس غير المساجد حولاً]. ما تقدم من الأشياء الملتقطة التي تأخذ حكم اللقطة يجب تعريفها، والتعريف مأخوذ من المعرفة، والمراد بذلك: أن يأخذ الإنسان بالأسباب التي يتوصل من خلالها إلى معرفة صاحبها.

حكم اللقطة بعد انتهاء وقت التعريف

حكم اللقطة بعد انتهاء وقت التعريف قال رحمه الله: [ويملكه بعده حكماً، لكن لا يتصرف فيها قبل معرفة صفاتها، فمتى جاء طالبها فوصفها، لزم دفعها إليه]. (ويملكه) أي: يملك المال الملتقط، (بعده) أي: بعد التعريف سنة، (حكماً) لا حقيقة، بحيث يتصرف فيه فيجوز له هبته، أو التصدق به، لكن يتصرف به حكماً لا حقيقة، بحيث لو جاء صاحبه يوماً يطلبه ووصفه بالصفة التي يُعْرَف بها؛ وجب عليه أن يضمن له مثله إذا لم يكن موجوداً، وهذا هو معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (فليكن وديعة عندك، فإن جاء صاحبها يطلبها يوماً من الدهر فأدها إليه). لكنه لا يتصرف بالمال إلا بعد أن يعرف صفاته، فيكتب جنس النقود: ذهب أو فضة، ثم يكتب نوعها إذا كانت من الفضة -مثلاً- ريالات أو من الدراهم، أو من أي عملة من العملات، وهل هي من فئة المائة ريال أو من فئة الخمسمائة، وهل هي محفوظة برباط أو مفرقة، وهل كلها في موضع واحد في حقيبة، أم مفرقة في مواضع، وإذا كانت موضوعة في شيء كأن تكون داخل كتاب هل هي مفرقة أو مجموعة، فيكتب الصفات التي يمكن أن يتوصل بها إليها. وتنقسم الصفات إلى: صفات خارجة عن الشيء الملتقط، وصفات ملتصقة بالشيء الملتقط، فالشيء الخارج مثل: الوعاء والرباط، وأرقام الحقيبة إذا أمكنه أن يعرفها، وكذلك نوعية الحقيبة ولونها، وهل هي قديمة أو جديدة، وصفة الحالة التي كانت عليها، والمكان الذي وجدها فيه، مثلاً: في السوق، أو في الكرسي الذي يجلس عليه الإنسان، فالإنسان غالباً يتذكر مثل هذه الأشياء، فهذه الصفات الخارجة يضبطها ويكتبها، وهذا أحوط، فيكتب ملاحظات المكان الذي وجدها فيه، والصفات التي وجدها عليها في هذه الحقيبة. كذلك أيضاً الصفات للمال نفسه، من جهة نوعه وقدره، وفي زماننا نوعية العملة، وقد يكون المال مشتركاً من الريالات والدولارات، وقد تكون ثلاث عملات، فيكتب صفات هذه العملات وصفات وضعها في الحقيبة، وهل معها شيء آخر أو ليس معها، كل هذا يكتبه ويدونه، ثم يتصرف في المال، فيبيعه أو يهبه أو يتصدق به لمن يشاء، فإذا جاء صاحب اللقطة يسأله يوماً من الدهر قرب الزمن أو بعد، فالواجب عليه أن يضمن إذا وصف بالصفات المعتبرة.

إعطاء اللقطة لصاحبها إذا جاء وما يشترط فيه

إعطاء اللقطة لصاحبها إذا جاء وما يشترط فيه وفي الحقيقة لا يكلف صاحب اللقطة أن يصف صفات دقيقة؛ بل يكفي لو وصف صفات غير مكتملة ولكنها تدل على صدقه، والرجل معروف بالأمانة فنرضى به؛ إذ ليس كل أحد يستطيع أن يتذكر، فقد يضع الشخص المال في الحقيبة وهو لا يعرف هل هو مربوط أم لا، مثل الأشخاص الذين يكونون في تجارة، فتارة يربط المال وتارة لا يربطه، فلا يستطيع أن يتذكر أن هذا الشيء على هذه الصفة، فلا يحرج صاحبها ذلك الإحراج، بل هناك دلائل تدل فعلاً على صدقه، فمثلاً: شخص جاء وقال: لقد ضاعت علي حقيبة من النوع الفلاني، وكان ضياعها في المطار، أو في محطة السيارات الفلانية، وكان ذلك يوم الجمعة، وكنت أضعها بين رجلي تحت الكرسي، لكنه لا يستطيع أن يقول لك: الذي بداخلها من فئات المئات أو من فئات الخمسينات، لكنه يقول: إنها عشرة آلاف ريال، أخذتها ووضعتها في الحقيبة، وفي بعض الأحيان يمكن أن يصف لك وصفاً صحيحاً من الخارج لكنه يعجز أن يعرف ما بداخلها، ويعطي شيئاً تقريبياً يغلب على الظن معه أنه ماله، وهو رجل معروف بالأمانة والاستقامة ومتدين، وفيه خير، فإذا جاء وقال: في اليوم الفلاني بعت واشتريت، فأدخلت مالاً وأخرجت مالاً، وقد خرجت من البيت ومعي عشرون ألف ريال، وبعت واشتريت بحدود خمسة آلاف ريال، وأظن أن المبلغ ما بين خمسة عشر ألف ريال وعشرين ألف ريال، فلا ينقص عن خمسة عشر ولا يزيد عن عشرين، فعندما تنظر إلى هذا الكلام، مع أمانة الرجل وعدالته، وشهود الناس له على صدقه، تطمئن غالباً له. إذاً: الوصف من صاحب الوديعة لا يشدد عليه إلا في أحوال، مثل أن يعرف منه الاحتيال والكذب، وقد سبق أن جاء بعض الأشخاص وعرفوا بعض الصفات، أو استطاعوا أن يطلبوا بعض الصفات، حتى يغلب على الظن انحصارها في الصفة الفلانية، ففي هذه الحالة يحتاط الإنسان. فإذاً: لا بد من النصيحة، وهذا يختلف باختلاف الأحوال وظروف الأشخاص، فإن المال إذا كان بين أمة معروفة بالصدق ليس كحال ما لو كان على العكس. وقوله: [فمتى جاء طالبها فوصفها، لزم دفعها إليه]. فلم يحدد زماناً معيناً، ولا وقتاً معيناً، فهو حق لا يسقط بالتقادم -كما ذكرنا- بل يلزمه ويجب عليه دفع اللقطة إلى صاحبها.

وقت انتهاء التعريف باللقطة

وقت انتهاء التعريف باللقطة قال رحمه الله: (حولاً) أي: سنة. وقد اختلف العلماء في القدر الذي تعرف فيه اللقطة، فورد عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بالتعريف ثلاث سنين، ومن أهل العلم من ضعف الرواية عنه في ذلك؛ لأن الرواية فيها شك، حيث قال: (لا أدري قال: ثلاثاً أو سنة) فضعفت؛ لأن في الرواية الصحيحة (حولاً وسنة)، فالثابت في السُنة أنه يعرفها سنة كاملة، وعليه العمل عند جمهرة أهل العلم. فإذا قلنا: إن السنة هي الحد الأعلى، فتختلف الأموال واللقطات بحسب غلائها وقيمتها وتتبع همة صاحبها، فإذا كانت -مثلاً- مائة ريال، فإنه تتبعها همة صاحبها، لكنها ليست بذلك المال الكثير الذي يكلف ملتقطه بالتعريف سنة، فيخفف في المدة، فيمكن أن تكون إلى ثلاثة أشهر، أو إلى ثلث السنة أو ربعها وهو ثلاثة أشهر، أو نصفها وهو ستة أشهر، فيكون ذلك على حسب الأموال نفسها، فإن كان المال له بال كعشرة آلاف ريال أو أربعة آلاف ريال، وله همة وله حاجة بحيث إن صاحبه قد يبحث عنه طيلة العام، فإنه يعرف سنة كاملة. هذا من حيث مدة التعريف، فيعرف سنة كحد أعلى، وبعد السنة يحكم بملكيته. وأما إذا كان دون المال الكثير، وتتبعه همة صاحبه ولكنه ليس بذاك الذي له قيمة غالية، كالكتب أو الثياب أو الملبوسات أو الساعات أو نحوها، فيمكن أن يعرف بعض السنة، ولذلك أفتى الإمام أحمد رحمه الله بالتعريف إلى شهر، وبالتعريف إلى ثلاثة أشهر، وبعضهم يفتي بالتعريف إلى جمعة واحدة، وذلك إذا كان الشيء تتبعه همة صاحبه، ولكنه ليس بذلك الشيء الذي له القيمة التي يكلف لأجلها بالتعريف سنة كاملة. (حولاً) أي: سنة؛ لأن السنة فيها جميع الفصول، وإذا سقط منه في أيام من السنة، فربما لا يعود إلا فيما هو قريب منها أو مثلها، فالسنة هي غاية نهاية اليأس غالباً، فإذا مرت سنة فإننا نقول: إنه ضائع عن صاحبه، فجعلت السنة كحد أعلى.

مكان التعريف باللقطة

مكان التعريف باللقطة قال رحمه الله: (في مجامع الناس). فيكون التعريف في مجموعة من الناس؛ لأنه حق ضائع، فكل شخص من أهل ذلك الموضع يحتمل أن يكون صاحب المال، فالتعريف يكون في مجامع الناس. ومجامع الناس مثل: أمام المساجد، بشرط أن لا يشوش على المصلين والذاكرين، وفي الأسواق العامة والخاصة؛ لأن الناس تجتمع فيها، والحدائق التي يجلس فيها الناس، وهكذا بالنسبة للأماكن الخاصة التي يرتادونها؛ كالمدارس ونحوها، والدوائر إذا كانت قريبة منها، فيكون التعريف في المجامع. وقوله: (غير المساجد)، أي: داخل المساجد، فيجوز أن يعرف عند باب المسجد، بشرط أن لا يزعج الناس، ومن هنا يفرق بين وضع ورقة الضائعات داخل المسجد وخارج المسجد، فإنه منهي عن نشد الضالة داخل المسجد، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً قال: أيكم رأى البعير الأحمر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا رده الله عليك، ثم قال: من رأيتموه ينشد ضالته في المسجد، فقولوا: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تُبْنَ لذلك)، وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]، فالمساجد هي بيوت الله، وقد بنيت من أجل ذكر الله، ولم تُبْنَ لأمور الدنيا. وعلى ذلك فلا يجوز التعريف بالأشياء الضالة في المساجد، ولا نشدها في المساجد، ويجوز خارج المسجد، ويجوز أن يضع إعلاناً، ولكن الأفضل أن لا يوضع على أبواب المساجد؛ لأن الإعلانات على أبواب المساجد لا تجوز، فمثلاً: إذا كانوا يريدون استئجار محل، أو ينشدون شيئاً ضائعاً، فسينشغل الناس عن ذكر الله، ولذلك فإن الأفضل والأحسن صيانة المساجد، بحيث تكون على أطراف الجدران خارجة عن المسجد، أما أن يوضع على الباب نفسه فسيؤدي إلى مضايقة الناس ومضايقة الداخل والخارج، وقد يفتح الباب نفسه إلى داخل المسجد، فيكون حكمه حكم داخل المسجد، فلا يجوز وضع إعلانات الضالة على الأبواب، إلا إذا كان الباب إلى الخارج، وبشرط ألا يضر، لكن المشاهد أنه يضر، وأنه يشغل الناس عند خروجهم. وعلى هذا فينبغي أن يكون الإعلان في ركن المسجد، أو في طرف المسجد، أو بعيداً من الباب، ولا يضيق على الداخل والخارج، ولو وضعه على الباب فضيق على الداخل والخارج فإنه يحمل الوزر في ذلك، حتى الإعلان عن محاضرة يؤدي إلى تزاحم الناس عند المداخل، ولذلك فلا ينبغي أن يتسبب الإنسان بأذية المصلين الداخلين أو الخارجين، فيوضع الإعلان في مكان خاص، وكون الشخص يحرص على أن يعرف الكل، هذا ليس بمهم، المهم أننا نتقي الله عز وجل، ونضع لوحة الإعلان في مكان بعيد عن الباب، ومن يريد الخير سيأتي، فلو جاء عشرة من الذين يريدون الخير وممن هم أهل الخير، فإن هذا أفضل من الغثاء الذين لا خير في حضورهم، وقد يكون حضورهم فيه ضرر.

حكم تعريف اللقطة

حكم تعريف اللقطة وقد اختلف العلماء رحمهم الله: إذا وجدت مالاً وكان المال مما تتبعه همة صاحبه، وحكمنا بكونه لقطة، فهل التعريف به واجب أو ليس بواجب؟ وجهان لأهل العلم رحمهم الله، أصحهما: أن التعريف واجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، وعليه جرى أمر الخلفاء الراشدين في فتاوى بعضهم، كـ عمر وعلي رضي الله عنهما وغيرهما، فقد أفتوا بالتعريف وألزموا به وأمروا به.

وقت التعريف ابتداء

وقت التعريف ابتداء ثم هذا التعريف فيه تفصيل عند العلماء، فيرى بعض أئمة السلف والعلماء رحمة الله عليهم أن الأسبوع الأول الذي وجد فيه المال يكون التعريف فيه أشد، بحيث يعرف فيه في كل يوم، ففي اليوم الأول والأسبوع الأول الأمر أشد، ففي اليوم الأول لا يقتصر على مجرد وجدانه؛ بل عليه أن يسعى بالسؤال والتحري في موضع المال الذي وجده فيه، أو في المظان، فإذا كان الموضع الذي وجد فيه المال فلاة، وبجوار الفلاة منتدى يرتاده الناس، أو مسجد يصلي فيه الناس، فيحرص على أقرب المواضع مما هو مظنة أن يجد صاحب المال فيه، أو يرتاده صاحب المال، فيسعى في اليوم الأول، ويكون جهده في التعريف أكثر من الأيام التالية؛ لأنه في اليوم الأول تكون الهمة أشد، والاعتناء أكبر. ومن الخطأ أن تجد البعض بمجرد أن يأخذ المال يذهب به إلى بيته، فيصير الالتقاط سبباً في إضاعة المال على أصحابه، لأنه إذا لم يذهب به ربما جاء صاحبه ووجده في مكانه، فيصبح التقاطه على هذا الوجه مخالفاً لمقصود الشرع، وعلى ذلك جعل العلماء رحمهم الله اليوم الأول من الالتقاط أشد من غيره، والتعريف فيه آكد من غيره، خاصة إذا وجدت الأمارة، أو القرينة، أو العلامة، كأن يكون -مثلاً- مقصوداً لعبادة كيوم الجمعة، فلو سقط المال في يوم جمعة -وهنا أمارة من الزمان على أن صاحبه سيعود إليه- فينتظر إذا وجد المال بعد صلاة الجمعة ويقف عنده ويحتسب الأجر عند الله عز وجل، ويسأل ويراقب من يأتي ويبحث، وهذه هي النصيحة لعامة المسلمين، فينصح لصاحب المال. وحبذا لو أن الخطباء يتعرضون لمثل هذه المسائل التي تتضمن بعض التنبيه على السنن الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم مما تعم به البلوى، فالناس اليوم -إلا من رحم الله- بمجرد أن يأخذ المال يذهب به، وربما يجده في بلد غير بلده، فيسافر بالمال، فيغرر بحق صاحب الحق. ولذلك فيجب أن يكون التعريف في اليوم الأول آكد وأشد، ثم الأسبوع الأول عند طائفة من أهل العلم يعرف فيه يومياً؛ لأن الغالب أن هذا الأسبوع يبحث به صاحبه، فإن لم يتيسر له العودة في اليوم الأول لعذر؛ تيسر له في اليوم الثاني، وإن لم يتيسر له في اليوم الثاني، تيسر له في اليوم الثالث إلى الجمعة، فإنه ربما لم يتيسر له في أيام العمل، فيأتي يوم الخميس والجمعة ويبحث عن ماله في موضعه. هذا بالنسبة للواجب في التعريف من حيث الأصل، أن حكمه الوجوب، ويكون في الأيام الأول آكد منه من الأيام الأخر، ثم بعد ذلك إذا قلنا بالتعريف سنة، فمن أهل العلم من قال: يؤكد التعريف أسبوعياً، ففي كل جمعة يقوم في الناس، أو يضع إعلاناً، ويتحرى عن صاحبه ويسأل، ومن أهل العلم من قال: إذا بحث عن صاحبه في اليوم الأول والأسبوع الأول، انتقل الحكم إلى الشهر، وكلما جاء شهر يجدد التعريف والسؤال والبحث والتحري عن صاحب المال حتى يجده، فالحكم أن التعريف لازم له. ويصح أن يعرف بنفسه، أو يوكل غيره، فيقوم بنفسه ويقول: أيها الناس! ويذكر الشيء مجملاً كما سيأتي في صورة التعريف، أو يوكل، أي: يقول لشخص: قم ونادِ: من ضاع له شيء فليأتني، من أجل أن يتعرف على الشيء الضائع، فيصح التعريف بوكالة من شخص آخر.

التعريف باللقطة

التعريف باللقطة أما صفة التعريف: فالواجب أن يحذر، فلا يذكر من المال ما يمكن أن يتمكن من معرفته به، أي: لا يذكر الصفات التي تختص بذلك المال، أو يُهتدى إليه عن طريقها، وإنما يقول: من ضاع له شيء فليأتِ، ولا يقول: من ضاع له ذهب، أو من ضاعت له حقيبة، فإن بعض العلماء يرى أن يجمل عموماً؛ لأن أهل الشر ربما تجمعوا عليه أربعة أو خمسة، فلو قال: من ضاعت عليه حقيبة؟ لأتى الأول وسيعرف أن المال في حقيبة، فإذا قال له: ما لونها؟ قال: بيضاء، فإذا قال: ليست بيضاء، فيأتي الثاني فيقول: حمراء وخضراء، فيقرب أهل الشر إلى المال، ولذلك الأفضل والأحسن أن يبهم، فيقول: من ضاع له شيء فليأتِ، وإذا قلنا -على الوجه الأول-: إنه يبهم، فيشمل ذلك النقود وغيرها، وعلى الوجه الثاني يصح أن يقول -مثلاً-: من ضاعت عليه ساعة؟ من ضاع له قلم أو كتاب؟ فيحدد الجنس، ويمكن أن يحدد النوع، لكن القول الأول أحوط وأفضل وأولى، فإنه أكثر دلالة على صدق صاحب الشيء؛ لأنه لو جاء أحدهم وقال: ضاعت علي حقيبة حمراء، وفيها عشرة آلاف ريال، ففي هذه الحالة تطمئن له؛ لأنك ما ذكرت له شيئاً، لكن لو أنك قلت: من ضاعت عليه حقيبة وفيها نقود فليأتِ -على قول الإجمال- فسيأتي الأول ويقول: ضاعت علي حقيبة صفراء، فيها -مثلاً- عشرة آلاف، والثاني يقول: ثمانية آلاف، حتى يصلوا إلى عين المال، فإنه يمكن إذا كانوا ستة أو سبعة أشخاص أن يعرفوا قدر المال، ولذلك فإن الاحتياط في هذا الأمر أولى، فيأخذ الإنسان بالاحتياط، نصيحة لصاحب المال، ولصاحب الحق.

تعريف اللقطة إذا كان الملتقط قاصرا

تعريف اللقطة إذا كان الملتقط قاصراً قال رحمه الله: [والسفيه والصبي يعرف لقطتهما وليهما]. هذه الجملة شرع فيها المصنف رحمه الله في بيان الركن الثاني، فعندما بين اللقطة، وصفة الالتقاط، شرع في بيان الشخص الملتقط، فلا بد أن يكون بالغاً عاقلاً، ولا يكون صبياً أو مجنوناً أو سفيهاً، فالصبي ليس له ولاية على نفسه؛ وإذا كان لا يلي على نفسه فمن باب أولى أن لا يلي مال غيره، فإذا التقط الصبيان مالاً وجاءوا به، فإننا نطالب ولي الصبي أن يقوم مقامه، فوالد الصبي يقوم بتعريف المال على الصفة التي ذكرناها، ووالد المجنون كذلك، أو المسئول عنه، فإن كان محجوراً عليه لسفه، أو كان رقيقاً، فالسيد يقوم مقام عبده إلا إذا أذن له بذلك.

حكم أخذ ما يظهر أن صاحبه تركه قصدا

حكم أخذ ما يظهر أن صاحبه تركه قصداً قال رحمه الله: [ومن ترك حيواناً بفلاة لانقطاعه، أو عجز ربه عنه، ملكه آخذه]. عند العلماء شيء يسمى: (الأصل)، وشيء يسمى: (الظاهر)، ففي الشريعة تتعلق بعض الأحكام بالأصول ونقول: الأصل كذا، ونلقي الحكم على هذا الأصل، فمثلاً: إذا كان عندك ماء في البيت وحوله أطفال، أو سقطت نجاسة حوله، وأنت لا تدري هل سقطت في الماء نجاسة أم لا؟ فنقول: الأصل واليقين أنه طاهر، ولا يُحكم بنجاسته، أو كان عندك فراش يلعب عليه أطفال، فيحتمل أن البول أصابه أو أن النجاسة أصابته، فنقول: اليقين أنه ما حدث شيء من هذا، فهو طاهر حتى تتأكد وتتيقن من أن هناك نجاسة، فتبقى على الأصل دائماً حتى تجد ما ينقلك عن الأصل، وهناك شيء يسمى: دلالة الظاهر، والظاهر يحتكم إليه ويعمل به، والشريعة أناطت به أحكاماً، فيبني عليها المسلم، ولا ينتقل إلى ضد ذلك الظاهر حتى يدل الدليل على خلافه. فبالنسبة للحيوان، إذا كان الحيوان من جنس ما يأخذ حكم اللقطة، ولكن جاءت دلائل على أن صاحبه لا يريده، أو على أن صاحبه قد تخلى عنه، فهذه الدلائل إن كانت بصريح قوله، كأن يقول: أيها الناس! من يريد أن يأخذ هذا المال فليأخذه، فهذا صريح القول، وهناك دليل ظاهر، ليس بقولي لكنه فعلي، فتستبيح به الشيء، فتأكل وتشرب وتعتبره حلالاً بهذا الظاهر، كما لو أن شخصاً فتح على جدار بيته صنبوراً وأخرجه على الطريق، ووضع براد الماء، فصار الناس يشربون من هذا الماء، فبمجرد أن تمر على هذا الصنبور تعلم أن صاحبه قد أذن بالشرب منه، وهذه دلالة الظاهر. ولو بنى مسجداً وفتح أبوابه علمنا أنه قد أوقف هذا المسجد، مع أنه لم يتلفظ بذلك، وليس هناك دليل صريح من عباراته، لكن دلالة الظاهر دالة على أنه قد تصدق بهذا الشيء. وأيضاً: في القديم كان الناس على الخير ولا يزالون -وقد رأيت هذا بعيني على مسارح المدينة- فقد كانوا إذا أرادوا الصدقة بالنخل يغرس صاحب البستان نخلات خارج السور، ويسقيها من داخل المزرعة، فكل من مر يعلم أن هذه النخلات صدقة، وإلى الآن ما زالت توجد في قباء في بعض المزارع من مزارع قدماء المدينة، فتجد السور مبنياً وهناك أربع نخلات خارج السور، فهذه دلالة ظاهر على أنها صدقة، لكن لا يستطيع أحد أن يأتي إلى داخل السور ويدخل إلى النخل ويقول: إنه مباح؛ لأن السور حينما بني عليه دل على أنه لصاحبه، وأن صاحبه لم يأذن بالدخول فيه. فهذه كلها دلالة ظاهر، يعمل بها ويحتكم إليها على تفصيل في القول. ومن دلالة الظاهر: أنهم كانوا في القديم تسير القافلة من الإبل ثم يتركون أشياء وراءهم، فيعرف السابلة وابن السبيل أن هذه الأشياء تركت لمن جاء، فمثلاً: تأتي إلى موقد وتجد فحماً فتعرف أنهم تركوه استغناء عنه، فتملكه وتأخذه، فهذه دلالة ظاهر دالة على التنبيه والإذن بالانتفاع، ويكون تمليكاً للمنفعة، وتارة يكون تمليكاً للذات، فسواء كان تمليكاً للمنفعة أو تمليكاً للذات، فإنه يعمل بهذا الظاهر ويحتكم إليه. ومن هذا: المسألة التي ذكرها المصنف رحمه الله، فمن يترك حيواناً أو يترك مالاً غير الحيوان، فهذه دلالة ظاهر دالة على الإذن بأخذه. ومن أمثلتها في الشريعة: تقليد الهدي، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أفتل قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم)، فكانت الإبل وبهيمة الأنعام تهدى إلى البيت، وتوضع القلائد عليها حتى يعلم كل شخص يجدها في الطريق أنها للهدي، فيحفظها ويسوقها إلى البيت، ثم إذا عطبت ولم تستطع السير ولم يمكن إيصالها إلى البيت، نحرت، ثم لطخ دمها في رقبتها للإشعار، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في الصحيح- عندما أراد أن يحج حجة الوداع أشعر هديه وقلد هديه، فهذا الإشعار فائدته: أنها لو عطبت دون البيت ومرضت وانقطع السير، فإنها تنحر؛ لأجل من يمر من أهل السبيل إذا وجد عليها الشعار عرف أنها من هدي البيت، وأنها صدقة، فيأكل، ولهذا فإن الشافعية لما منعوا بيع المعاطاة، ولم ينزلوا الصيغ القولية منزلة الفعلية، استثنوا مسألة الهدي؛ لأن النص فيها واضح، والسنة فيها ماضية، فالشريعة جعلت دلالة الظاهر مُنَزَّلة مَنْزِلَة التصريح عن الباطن، وبناء على ذلك فإذا وجد شيئاً ودلت الدلائل على أن صاحبه تركه، وأذن بأخذه، فإنه يؤخذ ذلك الشيء، ويملكه واجده. وقوله: (لانقطاعه) أي: لعلة الانقطاع، (أو عجز صاحبه عنه) ففي بعض الأحيان يعجز الإنسان عن أن يسوق حيوانه معه، فيتركه، ويرى أن من المصلحة أن لا ينشغل به، كأن يكون حصل ما هو أهم، فحينئذ يملكه من وجده، ولا يأخذ حكم اللقطة، فيستثنى من أحكام اللقطة.

حكم أخذ النعل ونحوه لمن وجدها مكان نعله

حكم أخذ النعل ونحوه لمن وجدها مكان نعله قال رحمه الله: [ومن أخذ نعله ونحوه ووجد موضعه غيره، فلقطة]. انظر إلى الورع عند العلماء رحمهم الله، فإن الشخص يذهب ليصلي وينال أجر الجماعة، ويرجع إلى بيته بدون حذاء، فتقول له زوجته: أين حذاؤك؟ فيقول: سرقت، فيقع في إثم التهمة بالسرقة، فهنا يقول المصنف: (ومن أخذ) ولم يقل: (ومن سرق)، ولذلك كان العلماء ينهون عن هذا، والشخص بنبغي له أن يتورع، فأنت إذا قلت: سرق، فإن هذا يعني أن الشخص الذي أخذ حذاءك سارق، وربما كان الشخص الذي أخذه كفيف البصر، فأخطأ في حذائك، أو شخصاً استعجل ووقع يده على حذائك، ولربما ظن أنه مثل حذائه فأخذه، فإذا قلت: سرق، فهذه تهمة، ولذلك لا يقال: سرق، بل يقال: أخذ، أو لعلي وضعته في موضع غير الموضع الذي بحثت عنه فيه. قال رحمه الله: (ومن أخذ نعله)، وهذا يقع كثيراً في مجامع الناس، فإنه يحصل الخطأ في أخذ الحذاء، وقد يكون هناك نوع من التعمد -نسأل الله السلامة والعافية- والإثم في هذا أعظم، فإنه إذا تقصد أخذ الحذاء وسرقته فهذا أعظم؛ لأن الظلم في بيوت الله أعظم من الظلم خارج بيوت الله عز وجل. ولأن من خرج من بيته لطاعة الله عز وجل فهو في ذمة الله عز وجل حتى يعود؛ لأنه خارج في طاعة الله وإلى بيوت الله، ولذلك جعله النبي صلى الله عليه وسلم في حكم المصلي، فنهاه أن يشبك بين أصابعه، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا عمد أحدكم إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه، فإنه في صلاة)، ولذلك كره العلماء رحمهم الله إذا خرج الإنسان إلى المصلى أن يبيع أو يشتري في طريقه إلى المسجد؛ لأنه في حكم المصلي، فلا يشتغل بشيء يلهيه عن الصلاة. إذا ثبت هذا، فإن الأمر في أخذ الأحذية والتقصد بأذية الناس وأخذ أحذيتهم من المساجد، يعتبر اعتداء على المال، واعتداء على حرمة المصلي، وانتهاكاً لحرمة المسجد، والأدهى والأمر إذا كان هذا في يوم شديد الحر فإن المشقة تكون فيه أشد، فيرجع الإنسان حافياً في وهج الشمس، وهذا يضره أكثر، فكلما ترتب على سرقته ضرر، فإن الإثم فيه أشد، ولذلك يعظم الأمر بحسب ما ترتب عليه من ضرر -نسأل الله السلامة والعافية- ولذا لزم على الإنسان أن يحتاط، ولذلك كان بعض الفضلاء إذا وجد حذاءً يشبه حذاءه لم يأخذه، حتى ولو كان يشبهه، ولو كان أقل منه قيمة وفيه شبه، بحيث يغلب على ظنه أنه قد أُخذ حذاؤه، بحيث يقول: هذا بهذا، وحقي أجود، لكنه ما كان يأخذه، فيتركه حتى يأتي صاحبه، أو ينوي الصدقة به على من أخذه، وهو الأفضل، ويحتسب الأجر عند الله عز وجل، وقد كانوا يستبشرون بعظم البلاء في الطاعة، فكانوا يقولون: من دلائل القبول كثرة البلاء في الطاعة، وتجد الناس قديماً عندما يريدون الحج يجدون المشقة في السفر، ويجلسون الأيام والشهور وهم في رحلة الحج، فالأجر أعظم والثواب أكثر، لكن إذا كان الإنسان لا يجد المشقة، فهذا من كرم الله عليه.

حكم أخذ ما يشبه ما تملكه إذا وجدته موضعه عوضا عنه

حكم أخذ ما يشبه ما تملكه إذا وجدته موضعه عوضاً عنه وقوله رحمه الله: [ومن أخذ نعله أو نحوه]. كمن أخذ قلمه، أو أخذ كتابه، وهذا يقع كثيراً في الأشياء المتشابهة، فقد يقع هذا في غير النعل، لكن النعل أكثر؛ لأن النعل يمكن أخذه بدون أن يدري الإنسان، لكن إذا كان صاحبه بجواره فلا يمكن، فإذا وضعت كتباً يشبه بعضها بعضاً، أو وضعت ألبسة، كأن يضع الإنسان ألبسته مع قوم وجماعة من الناس، أو النساء في بعض الأحيان يخلعن لباسهن من العبي وغيرها، فيحصل كثير من الخطأ فيها، فالأفضل للإنسان أن ينوي الصدقة، وأن يحسن الظن بأخيه المسلم، والله يأجره؛ فالأفضل أن تنوي الصدقة حتى يكتب لك الأجر، فلا يتشدد الإنسان؛ لأنه لو أخطأ عليه أخوه فما عليه فيه تبعة، قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب:5]، وهو بشر فلا يؤاخذ على الخطأ، فالأفضل لك والأكمل أن تنوي به الصدقه حتى تحصل على الأجر. وقوله رحمه الله: [ووجد موضعه غيره، فلقطة]. أي: في موضع الحذاء، فبعض العلماء يقول كما ذكرنا: لا يأخذ الحذاء، وليس من حقه أن يأخذه، لاحتمال أن حذاءه سرق، وأن هذا الحذاء لغيره، لكن المصنف يقول: (ووجد موضعه غيره) ومعناه: أنه وجد مكان حذائه حذاء الغير، وهذا التفات للظاهر كما ذكرنا، وعند العلماء شيء يسمى: تعارض الأصل والظاهر، وقد ذكرنا الأصل والظاهر، ففي بعض الأحيان يتعارض الأصل والظاهر، فهل نقدم الأصل أو نقدم الظاهر؟ بعض العلماء يقدم الأصل، وبعضهم يقدم الظاهر، فالحذاء إذا وجده في موضع كالمسجد فالأصل أنه لغيره، أي: أنه ليس لقطة؛ لأنه مكان يرتاده الناس، وليس عندك دليل على أن صاحبه قد أضله، فتتركه، والظاهر أنه ما دام قد وضع حذاءه مكان حذائي فمعناه أن صاحبه قد أخطأ في حذائه، فتسري عليه أحكام اللقطة؛ لأن صاحبه لن يعود؛ لأنه أخذ حذاءً بدل حذائه، لكن هذا ليس على كل حال؛ لأننا لو نظرنا لوجدنا أنه ربما أخذ حذاءك وجاء شخص مسكين يريد أن يصلي ووضع حذاءه مكان حذائك، فهو يريد أن يصلي ويخرج، وعندما يخرج لن يجد حذاءه، ولذلك فليس كل من وجد مكان حذائه حذاء آخر يأخذه على أنه بحكم اللقطة، فربما كان لشخص آخر غير الشخص الذي أخذ حذاءك، خاصة في مجامع الناس، مثل المساجد والمدارس والأماكن التي يكون فيها تجمع الناس، أو يدخل فيها أناس ويخرج أناس، فمن الصعوبة بمكان أن تقول: إن هذا الحذاء الذي وجدته مكان حذائي هو للذي أخذ حذائي، ويأخذ حكم اللقطة؛ لأن الأصل أنه لصاحبه حتى يدل الدليل على أنه بحكم اللقطة، وعلى هذا فلا يأخذ حكم اللقطة. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

حكم لقطة الحرم

حكم لقطة الحرم Q هل تسري هذه الأحكام على لقطة الحرم؟ A اختلف العلماء رحمهم الله في لقطة الحرم؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحرم: (ولا تلتقط لقطته إلا لمنشد -وفي رواية: إلا لمعرف)، فهذا يدل في ظاهره على أن لقطة الحرم لا يحل أخذها إلا بقصد التعريف، وأنها لا تملك، بل تعرف للأبد، هذا مذهب بعض العلماء رحمهم الله وبعض السلف. ومن أهل العلم من فصل في هذا الحديث فقال: حديث الحرم لا يعارض أحاديث اللقطة، فالأصل العمل بأحاديث اللقطة لأنها عامة، وجاء حديث الحرم: (لا تلتقط لقطته) لأن الناس في لقطة الحرم ينتابهم شعور لا يوجد في غير لقطة الحرم في الغالب، وهذا الشعور مبني على أن مكة يأتيها الزوار دائماً، فربما استخف الناس بلقطتها فيئسوا من أصحابها، فأخذوها للتملك، ولم يأخذوها للتعريف، فجاءت السنة بهذا المعنى؛ لأن الأحكام أيامها لم تستقر بعد، فبين عليه الصلاة والسلام أن لقطة الحرم لا تؤخذ بقصد الملك، وإنما تؤخذ بقصد التعريف، فقال عليه الصلاة والسلام: (ولا تلتقط لقطته إلا لمعرف -وفي رواية-: لمنشد). وهذا الوجه يختاره الحافظ ابن حجر، وبعض الأئمة والشراح، وهو قوي جداً، وفيه الجمع بين النصوص. والذي يظهر أنه إذا عرفها وقام بها أنه يكفيه ذلك، لكن في الحقيقة لما وجد في زماننا من يقوم على هذه اللقطات، ووجدت مكاتب خاصة في الحرم، جرى العمل في فتوى بعض مشايخنا رحمة الله عليهم، ومنهم الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله، حيث يرى أنها لا تملك، وأنها تكون لبيت مال المسلمين، وهذا يكون باختيار من ولي الأمر، وولي الأمر إذا اختار قولاً من أقوال العلماء وجب العمل به، وما دام أنه أخذ بهذه الفتوى -والشيخ عبد الله رحمه الله عليه إمام زمانه، وإمام الأئمة فقهاً وورعاً، وفتاويه موزونة بالفقه، ويعتبر من الأئمة والعلماء الذين جمعوا بين فقه الأثر والنظر، ومن يعرف الفقه ويعرف فتاويه يعرف دقته وبعد نظره والتزامه بمنهج السلف رحمهم الله في تقرير الفتوى، وآداب الفتوى وضوابطها، وهو رحمه الله العالم العابد الذي تنعم العين بفتواه، وممن اختارهم الله برحمته الواسعة- فينبغي على الناس الالتزام بهذا ما دام أنه وضع وجرى العمل به، فتضم إلى بيت المال، ويكون حكمها حكم الصرف إلى بيت المال، فيعمل بهذه الفتوى، وحينئذ لا يجري على الخلاف الذي ذكرناه، والآن قد هيئت مكاتب للضائعات خاصة في داخل الحرم، فترد وتصرف إلى هذه المكاتب، وهي تتولى شأن هذه الضائعات، والله تعالى أعلم.

حكم االزكاة عن اللقطة إذا بلغت النصاب

حكم االزكاة عن اللقطة إذا بلغت النصاب Q هل تخرج الزكاة من اللقطة إذا بلغت نصاب الزكاة؟ A لا تفرض الزكاة من اللقطة إذا كانت خلال السنة والحول؛ لأن الملكية لصاحبها، والزكاة لا تصح إلا بالنية، فلابد أن يكون صاحبها قد نوى زكاتها، فلو أخرجها من التقطها فلا تصلح زكاة؛ لأنه لم يؤمر بها، ويد صاحبها لم تزل إلى الأبد، بل هي باقية في يده، ولذلك قال المصنف رحمه الله: (يملكها حكماً)، وعلى هذا فلا تجب زكاتها على الملتقط؛ لأنه ليس بالمالك الحقيقي، ولا بالموكل لإخراج زكاتها، والأصل في الزكاة أنها لا تصح إلا بالنية، ولا نية في ملك هذا، فلا تجب فيها الزكاة. وإذا قلنا: إنه لا تجب الزكاة على الملتقط، فإذا مضت سنوات ووجد صاحب اللقطة العشرة الآلاف، أو العشرين ألفاً، فإنه يزكي عنها لسنة واحدة، هذا هو الذي عليه العمل عند جمهور العلماء رحمهم الله، أن المال إذا فات عن صاحبه ويئس منه ثم وجده، فإنه يزكيه عند وجدانه لسنة واحدة، وإن مضت عليه عدة سنوات.

حكم الدعوة إلى المناسبات داخل المسجد

حكم الدعوة إلى المناسبات داخل المسجد Q هل تجوز الدعوة إلى الوليمة أو المناسبة في داخل المسجد؟ A رخص فيها بعض أهل العلم وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم عقد النكاح في داخل المسجد، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه زوج الواهبة نفسها داخل المسجد، فقالوا: إن في النكاح معنى التعبد، أي: العبادة، فليس هو مثل البيع الذي يحرم أن يعامل به؛ لأن في النكاح شيئاً من التعبد، ودعوة الناس إليه دعوة إلى المحبة والإلف، وتحقيق مقاصد الشريعة، ففيه وجه في الإذن به. ومن أهل العلم من منع الإجابة، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (إذا سمعتم الرجل ينشد ضالته في المسجد، فقولوا: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبنَ لذلك) قالوا: إن جملة (إن المساجد لم تبنَ لذلك) تعليلية، كقوله عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بالماء والسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه طيباً ولا تحنطوه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)، فدل على أنه منع نشد الضالة لأن المساجد بنيت للعبادة، والنكاح ليس بعبادة، والدعوة إلى الأكل ليست بذاتها عبادة في أصلها، فمنعوا من هذا، وإذا احتيط فهو أقرب، لكن إذا جرى العرف في موضع وعملوا بما رخص، فلا ينكر عليهم، ولا يشدد عليهم.

حكم تملك الأرض ببناء الحائط عليها

حكم تملك الأرض ببناء الحائط عليها Q جاء في الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحاط حائطاً على أرض فهي له)، ألا يفهم من هذا الحديث أن من أحاط السور على الأرض فقد أحياها وتملكها؟ A ذكرنا في مسألة الإحياء أن الإحياء يكون على مراحل، ومنها: تسوية الأرض وبناء الحائط، وقلنا: إن بناء الحائط لا يوجب الملكية، فيشكل على ذلك هذا الحديث، وهذا الحديث من رواية الحسن عن سمرة عند أحمد والترمذي، وسماع الحسن من سمرة فيه خلاف، ومن أهل العلم من صححه كله، وحكم باتصاله، كما هو صنيع الإمام الترمذي، ومنهم من ضعفه كله كما قال بذلك بعض أئمة الحديث، ومنهم من فصل فيه واستثنى بعض الأحاديث، وليس هذا الحديث منها. وهناك شيء مهم جداً في مسألة تحسين الأحاديث وتصحيحها والعمل بها إذا تضمنت معنى زائداً عن المعنى الثابت في الأصول، فالحديث الذي يأتي حسناً لغيره؛ أي: من روايات جمعت طرقها، ورقينا الحديث إلى درجة الحسن لغيره، فتدخله شبهة الرواية بالمعنى، فلا نجعل هذا الحديث معارضاً لما هو أصح وثابت، فقوله: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) نص على الإحياء، (ومن بنى حائطاً) فيه شيء من الرواية بالمعنى، وقد يطلق الحائط بمعنى البستان، ويكون في هذا نوع من التجوز في العبارة. لكن مسألة الاقتصار على الحائط نفسه أنه إحياء، فجمهرة أهل العلم على أنه ليس بإحياء، وفي ذلك سنة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد بينا أن ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحيا) وجود الإحياء، فلو قلنا: إن بناء الحائط على ظاهره، والحديث فيه ما فيه، فإن هذا من الصعوبة بمكان، وتجد الآن أن بناء الحائط من أيسر ما يكون، ولربما جاء الرجل إلى قطعة من الأرض تبلغ الكيلومترات وأحاط بها في يوم أو يومين، وهذا تضييق على المسلمين، ومنع للمقصود من الإحياء، وحصول للضرر حتى على الناس من الإحياء بهذه الصورة، فكل شخص يبني له حائطاً، وينتهي الإشكال، وفي هذا من الضرر ما الله به عليم، ولذلك فإن هذا الحديث -وإن كان بعض العلماء يرى تحسينه- لا يقوى على معارضة المحفوظ الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع معارضته للأصول، ولذلك ينبغي أن يكون الإحياء إحياء يثبت بمثله الحكم.

الحكم في اشتباه الوعاءين بنجاسة وطهارة

الحكم في اشتباه الوعاءين بنجاسة وطهارة Q إذا اشتبه وعاءان أحدهما طهور والآخر نجس، فقد ذكرتم رحمكم الله في الدرس الخامس من الزاد أن هذا يجري على مذهب المصنف في التفريق بين القليل والكثير، والإشكال أن خليلاً رحمه الله ذكر المسألة وهو لا يرى التفريق، فهل يمكن أن يقال: الوعاءان بعد اليقين بطهورية أحدهما ونجاسة الآخر، طرح فيهما شُراب ونحوه مما لا يؤثر في الطهورية، فاختفت المعالم فلا يظهر لون ولا ريح، وجزاكم الله خيراً؟! A في الحقيقة هذا إشكال جيد، والذي وضع هذا الإشكال أحسب أنه طالب علم، وهو إشكال في موضعه. ومختصر خليل هذا المتن معتمد عند متأخري المالكية، وقد اختصره من كتب كثيرة من مذهب المالكية، وهو من أوسع كتب المالكية التي بني عليها فقههم، خاصة من بعد القرن التاسع الهجري، والمالكية عندهم أن القليل الذي دون القلتين لو وقعت فيه نجاسة، فلا نحكم بنجاسته إلا إذا غيرت لونه أو طعمه أو رائحته. واشتباه وعاءين أحدهما طهور والآخر نجس يستقيم هذا على مذهب الشافعية والحنابلة، الذين يقولون: إن ما دون القلتين ينجس بمجرد وقوع النجاسة ولو لم تغيره، فيمكن أن يحصل الاشتباه، لكن عند من يرى أننا نحكم بانتقال الطهور إلى النجاسة بالتغير الحقيقي، قد لا تقع هذه المسألة، وهذا في الغالب، والكلام الذي ذكرناه في الشرح كلام صحيح ومستقيم ويمشي على الأصول؛ لأن المالكي يفرق بوجود أحد الأوصاف الثلاثة: اللون أو الطعم أو الرائحة، فإذا اشتبه عنده طهور ونجس، ذهب إلى النجس في أوصافه، إما طعم النجاسة أو لونها أو رائحتها. وذكر خليل للمسألة لا يشكل على الذي ذكرنا؛ لأن خليلاً ذكرها لاحتمال آحاد الصور، ومعنى هذا: أنه يمكن أن يوجد إناءان، أحدهما نجس والآخر طهور، وتغير لون الطهور، لكن طعمه لا يوجد فيه طعم النجاسة، ورائحة النجاسة لا توجد، لكن لونه كلون الدم، والذي عنده الوعاءان رجل كفيف البصر، ففي هذه الحالة لا يستطيع أن يرى اللون، أو مثلاً: يتغير طعمه، ويكون الشخص مصاباً بالزكام، فلا يشم الرائحة أو يجد النكهة، وهكذا إذا كان سقيماً عليلاً لا يستطيع أن يميز الطعم للسقم، فالفقيه يجد لهم مخرجاً على كل حال. فـ خليل رحمه الله عندما ذكر هذا ذكره لآحاد الصور، ونحن ذكرناه للغالب؛ لأن الغالب في المذهب أنه يقع على هذا الوجه، وأنه يمكن أن يقع الاشتباه على مذهب الشافعية والحنابلة، لكن لا يقع على مذهب من يفرق بين النجس والطهور من جهة اللون والطعم والرائحة، إلا أنه لا يمنع وجود بعض الصور في الأحوال المنفردة على ما ذكرنا، وهذا لا يرد على ما ذكرنا، فيمكن أن يقال: إن الإمام خليلاً رحمه الله نبه في ذلك على بعض الصور، والله تعالى أعلم.

توضيح حديث: (رب مبلغ أوعى من سامع)

توضيح حديث: (رب مبلغ أوعى من سامع) Q هل يفهم من قوله عليه الصلاة والسلام: (رب مبلغ أوعى من سامع) أن العالم قد يأتي بقول لم يسبق لأحد أن قال به؟ A هذا أمر غريب! فقوله: (أوعى) الوعاء يحفظ الشيء، والمعنى: رب مبلغ أكثر حفظاً من سامع، هذا وجه، وفي رواية: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، وهذا ليس له علاقة من جهة أنه يستنبط مسائل لم يسبق إليها؛ لأن مراد الحديث: أن فتوح الله على العباد مختلفة، فهناك أناس أعطاهم الله الحفظ ولم يعطهم الفهم، ومنهم من أعطاهم الله الفهم ولم يعطهم الحفظ، ومنهم من جمع الله لهم بين الاثنين، وفضله، قال تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4]. فنبه عليه الصلاة والسلام إلى أن الشريعة تحفظ بالأمرين: بالحفظ والفهم، وهذا دليل على مسلك من يأخذ بظاهر النصوص، ومن يأخذ بمعنى النصوص، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، فدل على أن العبرة بالفهم وبالوعي، ومن هنا قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29]، فجعل العلة التدبر والفهم، والتدبر من الدبر، ودبر الشيء: آخره، ولن تستطيع أن تفهم الشيء إلا إذا بلغت إلى آخره، ولا يمكن أن يصل الإنسان إلى تدبر الأشياء إلا إذا كان على قدم راسخ من العلم، يدرك فيه ظاهرها وباطنها، وهذا يحتاج إلى قراءة النصوص ومعرفة الأصول والفروع، وكيف تبنى الأصول على الفروع، وكل هذا يفهم من منهج السلف، والأئمة المتقدمين رحمهم الله. أما أن يأتي بفهم في قرننا أو حتى بعد القرون الأولى ويقال: إن هذا فتح من الله، فينبغي عليك أن تعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)، ومعناه: أن تفسير كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لم يفت الطائفة المنصورة، وإذا مرت عشرة قرون، والأمة لم تفهم هذا الفهم، ثم يأتي رجل في القرن الرابع عشر فيستنبط فهماً ما سبق إليه، فمعنى هذا أن تكون الأمة كلها في ضلال عن فهم الحديث، ويكون هذا على صواب، وما أظن أن أحداً هكذا؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]. وهذا ليس بالعلم؛ لأن العلم الحق الذي زكاه الله من فوق سبع سماوات، زكاه بصفات منصوص عليها بآية في كتابه، قال تعالى: {بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4]، فلا يكون العلم صادقاً إلا إذا كان أثرياً، وكان هذا الأثر مبنياً على نص ووحي؛ لأنه ربما يكون الأثر رأياً اجتهادياً ليس مبنياً على أصول، بل يصطدم مع الشريعة، والأثارة مبنية على علم، وهو الوحي الكتاب والسنة. إذاً: لا نستطيع أن نفهم من النصوص فهماً لم يفهمه سلفنا، ولا نستطيع أن نفسر القرآن بتفاسير عصرية تبالغ في جر القرآن وجر الآيات في تفسيرها، حتى نجد من يتبجح ومن ينتسب إلى فهم القرآن وهو ممن ليس عنده إيمان، ونقرأ تفسيره وكلامه وليس عنده إيمان بأصول التفسير، ولا يعرف منهج السلف في التفسير، ولا يعرف ماذا قال الصحابة ولا التابعون لهم بإحسان في تفسير الآية، كقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:16 - 19]، فلقد سمعت من يشار إليه بالبنان في الإعجاز يقول: الآن نفكر أن نقول: إن معنى الآية هو الصعود إلى القمر؛ لأننا لا نصعد إلا آخر الشهر عند ضعف القمر لا إله إلا الله!! {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق:19] * {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} [الانشقاق:17] * {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [الانشقاق:18] آيات من الزمان مرتبة ترتيباً يقصد منه الكمال؛ لأن الله يقسم بأول الزمان وآخره، حتى يجمع الكل بقسمه سبحانه، ويقسم بأول الشيء وآخره للدلالة على ذلك الوقت بعينه، كقوله تعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1 - 2]، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس:1 - 2]، يقسم بالزمان والمكان تنبيهاً عليه، فقوله: (والقمر إذا اتسق) أي: اكتمل، وقوله: (لتركبن طبقاً عن طبق) أئمة التفسير والصحابة يقولون: أي: أنكم ستمرون في المراحل التي فيها البرزخ، يبعثكم الله فيها، ثم طبق آخر، ومرحلة ثانية، ومراحل النشر، والخروج من القبور، ثم عرصات القيامة، من عرصة إلى عرصة، كما أخبر الله سبحانه وتعالى، وهو الذي جادل فيه المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يجوز أن نأتي ونلغي هذا التفسير كله، ونقول: إن معناه الصعود إلى القمر؟! لماذا هذا التهور والجرأة على كتاب الله وكلام الله؟! أنترك كلام المشايخ والعلماء ونأخذ بهذه النظرية، والنظرية قابلة للأخذ والعطاء؟! فليس بمجرد أن نسمع بنظرية نقيم الدنيا ولا نقعدها، ونجر كتاب الله من أجل هذا الاكتشاف، حتى إذا جاء من يخطئ هذه النظرية نُخطئ كتاب الله عز وجل!! لا يمكن هذا، ولا يجوز هذا، ولذلك ينبغي علينا التورع والتحفظ، وأن نضرب بالأفهام عرض الحائط إذا خالفت أقوال السلف، فنحن أمة قديمنا جديد وجديدنا قديم، لا صلاح لنا إلا بما سار عليه سلفنا وأئمتنا، وثق ثقة تامة أن كل شيء ينزع عن سلفك الصالح أنه ضلال مبين، وأي شيء ينهاك عن اتباع السلف أو يشكك في علمهم، أو يخفف من حبك لهم؛ فاعلم أنه بداية الضلال والنهاية، وإذا أردت أن تلقى الله على السبيل والمحجة والهداية فاستمسك بالذي كان عليه السلف الصالح رحمهم الله، ولا تعتقد في كتاب الله أي فهم، ولو قلت: هو من عندي، حتى تعرف من الذي قال بهذا الفهم، وهل هذا الفهم مبني على علم ونور اتصل سنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأئمة المشهود لهم الذين زكاهم الله عز وجل، وجعلهم أئمة في هذه الأمة، واختارهم؛ كالسلف الصالح، وشهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالخيرية والفضل، فإن كان ذلك فنعمت به العين، فليستمسك به الإنسان. ثم اعلم أن الاستمساك به أن تستمسك به بقوة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور)، ومحدثات الفهم، ومحدثات المنهج، فأي شيء يخالف هذا المنهج الموروث، فإننا لا نقبله ولا نعمل به، والكرامة كل الكرامة في اتباع السلف رحمهم الله. وقد تجد ضالاً أو مبتدعاً يقول في دين الله ما لا علم له، فيكون جريئاً على أقوال السلف ويضرب بها عرض الحائط، ويأتيك بفهم من عنده في كتاب الله وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإذا بلغت به الجرأة في كتاب الله وسنة المصطفى هذا الحد، فلماذا لا تكون جريئاً على التمسك بالحق؟ كما قال علي رضي الله عنه -وهو يتعجب من أهل الأهواء-: (فواعجباً من اجتماع هؤلاء على ضلالة، وتفرقكم على الحق!!). فينبغي أن نستمسك بالحق، وأي فهم في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقبل إلا من عالم له الحق، أن يتكلم في كتاب الله وسنة المصطفى، وما كان عليه السلف الصالح من أحاديث ونصوص، وما وضعوا لها من قواعد في شرحها وفهمها، ووالله لو أفنينا أعمارنا في تتبع ما قاله الأئمة في دواوين العلم في تفسير كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لفنيت أعمارنا وما حصلنا من ذلك إلا على ما أذن الله لنا منه، فكيف يأتي الإنسان ويقول: إننا لا نحتاج إلى هذا كله، بل نفهم مباشرة؟! فربما يأتي الإنسان بفهم لا يفهمه الأوائل. فلا ينبغي ولا يجوز للإنسان أن يخون الأمة، وعلى كل طالب علم أن يتقي الله في علمه، فإذا جلس في مجلس علم، واستمع له الناس؛ فليعلم أنه على شفير جهنم، فقبل أن ينظر إلى مدح الناس، عليه أن ينظر إلى نار جهنم أمام عينيه إن زلت قدمه، أو أصابه الهوى في قلبه فأصبح يقول على الله ما لا علم له، فيجب أن لا تقول إلا بحجة، فإن الناس لم يأتوا يستمعون إليك -سواء في محاضرة أو في درس أو في كتاب تؤلفه في الإعجاز، أو غير ذلك من المسائل المستنبطة -إلا وهم يأمنونك على دين الله وعلى شرع الله، فينبغي أن تتقي الله فيما تقول، وتتقي الله فيما تقرر وفيما تبين، ولا بد أن نكون على شرع الله عز وجل الذي أمر به وأذن به لعباده، قال تعالى: {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس:59]، وقال تعالى: {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [يونس:60]، ما ظنهم بالله سبحانه وتعالى؟! ولذلك قرن الله بالشرك أن نقول على الله ما لا علم لنا به، ولذلك ينبغي على المسلم أن يخاف الله عز وجل، وأن يجمع بين العلم وبين الخوف من الله سبحانه وتعالى، وأصل العلم الخشية من الله تعالى. فأقول: إن كل من يشككك في السلف، أو ينزع الثقة من السلف، بطريق مباشر أو غير مباشر، فلا تلتفت إليه ولا تعول عليه، ويكفيك ما عند السلف من العلماء المشهود لهم بالعلم، والذين اتصل سندهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخذ بعلمهم ودع ما سوى ذلك، وإذا جاء شخص يقول: لا تتبع أحداً إلا أنا، وأنا صاحب السنة وحدي، فقد زكى نفسه على الله، والسلف تجدهم يقولون: قولي صواب يحتمل الخطأ، وهو كأنه يقول: قولي صواب لا يحتمل الخطأ، ويأتي ويقول بلسان حاله: كلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا قولي أنا! بدليل أنه يأتي إلى المسألة ولا ينبه إلى أن هناك قولاً مخالفاً، فيختار هو باختياره وفهمه، ولا يقول: على قولين أصحهما، أو هناك قول ثانٍ وثالث؛ ويقول الله تعالى، ويقول عليه الصلاة والسلام

ضابط اللحية وحكم أخذ ما زاد منها على القبضة

ضابط اللحية وحكم أخذ ما زاد منها على القبضة Q هل يجوز أخذ شيء من اللحية؟ أو أخذ شيء منها مما ينبت على الخدين؟ وما هو حد اللحية؟ وما صحة ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يأخذ ما فوق القبضة؟ A اللحية عند العلماء فيها وجهان: فمن أهل العلم من قال: إن اللحية ما نبت على عظم اللحي والذاقن، فعظم اللحية الفكان، وعلى هذا فتخص هذا اللحية بما على الفكين، وما كان فوق مما على الوجنة أجازوا أخذه، وما نزل مما على الحلق أو على الرقبة وتحت الصدر مما يلي الرقبة يجوز أخذه، قالوا: إنه ليس بلحية، ولذلك لو نبت لشخص شعر على رقبته، ولم ينبت له على وجهه، فليست بلحية؛ لأن اللحية أصلها عند العرب من اللحي، وقوله عليه الصلاة والسلام: (أرخو اللحى) جاء مخصوصاً بهذا الوجه. هذا ما ذهب إليه طائفة من العلماء رحمهم الله، فرخصوا في حلق شعر الوجنة، وهو الشعر الذي على الخدين، وقالوا: يجوز أخذه حلقاً أو تخفيفاً. وبعض أهل العلم يقول: إن التعبير باللحية هو الأصل، وما قارب الشيء أخذ حكمه، ولذلك اعتبر أن اللحية ما نبت على الخدين، فلا يؤخذ منه شيء، وكذلك ما نبت على الرقبة مما يلي اللحية لا يؤخذ منه شيء. فمن ترجح عنده القول بأن اللحية على الضابط الأول وأخذ برخصته، فلا ينكر عليه، وله أئمة وله سلف، ومن أخذ بالقول الثاني، فذلك أتقى لربه وأورع، وهو أنه لا يأخذ مما على الخد شيئاً؛ بل يتركه، لكن لا ينكر على من فعل ذلك؛ لأن له سلفاً وله علماء، وهناك علماء أجلاء من أهل العلم من السابقين ومن الماضين ومن الأحياء يرى هذا القول، فلا ينكر عليه، ولا يحتقر العالم إذا بقيت لحيته على اللحي وتأول في ذلك قول من قال بهذا، فلا ينكر عليه لأن له وجهاً، وله سلفاً، حتى إن قوله له أصل من اللغة، لكن الأورع والأتقى لله عز وجل أن يترك ذلك كله، وأن لا يؤخذ منه إلا السبَلة وهي الشعر الذي تحت الشفقة السفلى، فقد كانت اليهود تتركها، ولذلك تجد الآن بعض الشباب يحلق اللحية كلها ويترك هذه السبَلة، وهذا فعل اليهود، والسبَلة قد خفف فيها بعض الصحابة حتى كان بعضهم يأخذها، ويأخذ بعضها ويخفف منها، ويقولون: إن هذا يرخص فيه من جهة العشرة الزوجية، فخففوا في هذا، وخففوا في الأخذ منها، ومن أطرافها، وقد جاء هذا عن بعض السلف رحمهم الله، فلا ينكر على من أخذ شيئاً منها، لكن الأتقى أن يترك الإنسان ذلك كله، وأن يبقيه على الأصل، وهو إن شاء الله أولى بالصواب، وإنما ذكرنا هذا حتى لا ينكر على من خالف. أما ما ورد عن ابن عمر فقد ورد بأصح الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر، وهي السلسلة الذهبية، وهو أصح ما ورد عن ابن عمر، فليس هناك رواية وردت عن ابن عمر أصح من هذه الرواية، وهي أنه كان إذا حج قبض على لحيته، وأخذ ما زاد، وهذا الفعل للعلماء فيه وجهان: فبعض العلماء يقول: ابن عمر هو الذي روى حديث اللحية، وقد كان من ألزم الصحابة للسنة فلا يعدل عنها، ولا يحيد عنها، فكيف وهو في النسك؟! والرواية عنه واردة أنه كان إذا حج واعتمر قبض على لحيته، وأخذ ما زاد عن القبضة، وما تطاير من العارضين، ولم يستمسك إلا بما هو من أصل اللحية، فقالوا: إن ابن عمر كان حريصاً على السنة، حريصاً على اتباعها، فلن يفعل شيئاً إلا وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، وبناء على هذا القول يرى أصحابه أنه في حكم المرفوع، حتى إن بعض العلماء في تكبيرات صلاة الجنازة يرفع اليدين، ويقول: إنه لا يعقل عن ابن عمر أنه يرفع يده في الصلاة إلا وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع، قال: فإذا كان هذا في الصلاة فكيف في الأمور التي هي دون الصلاة! ولا شك أن ابن عمر كان يسمى: الأثري، من كثرة لزومه للسنة، فقد كان يخرج من المدينة إلى مكة ولا ينزل إلا في المكان الذي نزل فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ومراده بذلك تحري السنة، ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم متابعة تامة كاملة، فقالوا: لا يعقل من مثل هذا أن يفعل هذا الفعل في النسك من نفسه، خاصة أن الحلق والتقصير من النسك، فقالوا: إن الأشبه فيه أنه مرفوع هذا هو الوجه الأول. الوجه الثاني: بناء على هذا الوجه تكون السنة في اللحية إرخاؤها، فما زاد عن القبضة فمحل الرخصة، إن شاء تركه، وإن شاء أخذ منه، فإن أخذ منه فبناء على القول بأن فعل ابن عمر يكون فعلاً من النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان؛ لأن الثابت عنه أنه كان إذا رجل لحيته ملأت صدره، وكان كث اللحية عليه الصلاة والسلام، فعلى هذا يكون هذا الفعل في بعض الأحوال إذا كانت مرفوعة، أما إذا كان هذا الفعل من ابن عمر اجتهاداً، كما يقول بعض العلماء أنه كان يتأول قوله تعالى: (مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) [الفتح:27]، فيحلق رأسه ويخفف من لحيته فيما زاد عن القبضة بالتفصيل الذي مضى؛ فيراه اجتهاداً. وهذا القول في الحقيقة يسوغ فيه اجتهاد، فقوله عليه السلام: (أعفوا اللحى) أقل ما يصدق عليه اللحية يكون ما فعله ابن عمر، فيكون تفسيراً، بحيث نقول: إن ما دون القبضة لا يؤخذ به؛ لأن ابن عمر رضي الله عنه فسر اللحية بالقبضة فما فوق، فما دونها لا يجوز أخذه، والبعض يأخذ القبضة بأصبعه الإبهام والتي تليها، وهذه ليست بقبضة؛ بل هذا حلق؛ لأنه لا يبقى منها شيء، فلا ينبغي الاحتيال. وبعضهم يقول: المراد قبضة مطلقة، بحيث لو قبضت ابنته الصغيرة أو ابنه الصغير فهي قبضة، وهذا التلاعب لا ينبغي؛ بل يبقى كلٌ على قبضته، فيقبض ويأخذ ما زاد عن قبضته، فإن أراد أن يأخذ بهذا القول فلا ينكر عليه، وإن أراد الأفضل والأكمل وهو أن يترك لحيته، فهو هدي النبي صلى الله عليه وسلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

باب اللقيط

شرح زاد المستقنع - باب اللقيط هذه الشريعة السمحة جاءت بالرحمة والإحسان، تدعو الخلق إلى رحمة بعضهم بعضاً، والإحسان إلى بعضهم بعضاً، ومن ذلك ترغيبها في حفظ اللقيط والقيام بشئونه وما يحتاج إليه، وفي ذلك أحكام كثيرة، ومسائل متنوعة؛ بينها أهل العلم رحمهم الله.

تعريف اللقيط لغة وما يتعلق به من أحكام

تعريف اللقيط لغة وما يتعلق به من أحكام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب اللقيط]: اللقيط هو: الشخص الذي يلتقطه الإنسان ولا يُعْرَف والداه، مأخوذ من الالتقاط، وأصل الالتقاط: رفع الشيء من الأرض، والمراد باللقيط: الطفل الذي لم يعرف أبواه، إما أن يكون منبوذاً بمعنى: أن والده أو والدته وضعاه تخلصاً من تبعته، كما يقع -والعياذ بالله! - من المرأة في حال زناها، أو يكون من الوالد والوالدة بتواطؤٍ منهما، كما يقع من بعض ضعاف النفوس في حال الفقر؛ أنهم ربما تخلوا عن أولادهم. واللقيط له أحكام، تكلم العلماء رحمهم الله عليها، ووردت عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جملة من القضايا في حكم التقاط اللقيط، وما يترتب على ذلك الالتقاط. ومناسبة ذكر اللقيط بعد باب اللقطة: أنه نوع خاص مما يلتقط، ويُرفع ويؤخذ، فاللقطة تقدم معنا أنها في الأموال، وأما اللقيط، فإنه في الإنسان خاصة، وسيأتي إن شاء الله تعريف اللقيط اصطلاحاً كما سيذكره المصنف رحمه الله، ونبين حقيقته، فهو نوع خاص من الالتقاط، وتكون المناسبة بين باب اللقيط وباب اللقطة: أنه شروع في الخاص بعد العام؛ لأن الكل متعلق بالضائع والمفقود والموجود للغير. وهذا الباب يبين العلماء رحمهم الله فيه أموراً: الأمر الأول: حقيقة الملتقط، وهو الشخص الذي يلتقط. الأمر الثاني: حقيقة الشخص الذي يحق له الالتقاط. الأمر الثالث: صفة الالتقاط. فيبينون الأحكام والمسائل المتعلقة بوجوب النفقة عليه، وهل تكون من الملتقط أو من بيت مال المسلمين، والآثار المترتبة على هذا الالتقاط من حيث ولائه وميراثه وتبنيه، وغير ذلك من المسائل والأحكام التي تترتب على أخذ اللقيط. ولا يزال هذا الأمر موجوداً في كل عصر، وفي كل زمان ومكان، ولا يختص وجود اللقيط بحال الخوف من الزنا أو الفقر، وإنما يقع في بعض الأحيان بسبب الضياع، كأن تفقد الأم صغيرها، أو يكون الولد مع والده، ثم يضيع عنه ويتيه، فكل هذا من أسباب وجود اللقيط. وقوله: (باب اللقيط). أي: في هذا الموضع سنذكر جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بأحكام التقاط الأطفال.

تعريف اللقيط اصطلاحا وأسباب وجوده

تعريف اللقيط اصطلاحاً وأسباب وجوده قال المصنف رحمه الله: [وهو طفل لا يعرف نسبه ولا رقه، نبذ أو ضل]. قوله: (وهو طفل) خرج البالغ، فالبالغ لا يوصف بكونه لقيطاً، فمن بلغ لا نحكم بكونه لقيطاً. ولكن لو أن بالغاً وجده إنسان في مكان فيه أناس يخشى عليه منهم، وهو يستطيع حمايته ونصره وحفظه حتى يخرج من هذا البلاء، فإنه يجب عليه أن يحفظه، وأن يأخذه ويصونه وينصره؛ لأن من ولاية المسلم لأخيه المسلم أن ينصره ويحفظه وينصح له، وقد نص العلماء رحمهم الله: أنه لو جاء رجل غريب إلى موضع، وخشيت عليه أن يتعرض للضرر، أو غلب على ظنك أنه لو ترك وحده أوذي في ماله أو عرضه أو نفسه، فحينئذٍ وجب عليك نصرته؛ لأنه مسلم، والمسلم أخو المسلم لا يسلمه للضرر، ولا يخذله إذا استنصر به، وقد قال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72]، فالله سبحانه وتعالى أمر بنصرة المسلم، وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، وقال صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً، أو مظلوماً)، فلا يجوز التخلي عن حفظ المسلم ورعايته، متى احتاج إلى حفظك بعد الله سبحانه وتعالى، وأمكنك أن تقوم بهذا الحفظ، ولم يوجد غيرك؛ وجب عليك ذلك، أما لو وجد غيرك وقام بهذا، فإنه فرض كفاية، فإذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين! والأطفال ينقسمون إلى قسمين: القسم الأول: من كان دون سن التمييز. القسم الثاني: من كان مميزاً. من كان دون التمييز، فهذا بالإجماع لقيط، فإذا قلنا: التمييز من سبع سنوات، ووجدنا طفلاً عمره سنة أو سنتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً أو ستاً، فهو دون التمييز، وبالإجماع أنه يكون لقيطاً. لكن إذا بلغ سن التمييز، ففيه قولان للعلماء: من أهل العلم من يقول: اللقيط من كان دون التمييز من الأطفال، أما من ميز وبلغ السابعة، أو العاشرة على قول، فليس لقيطاً، وبعضهم يقول: يربط التمييز بالصفة، فالصبي المميز هو: الذي يفهم الخطاب ويحسن الجواب، فمن كان كذلك فلا يعتبر لقيطاً، ويتركه وشأنه إذا كان قد استقل بنفسه؛ لأنه في السابعة يستطيع أن يصرف نفسه، والصحيح أنه من كان دون البلوغ سواءً كان مميزاً أو دون التمييز، فإنه لقيط اعتباراً للغالب، وهو أن الشخص لا يكون خارجاً عن هذا الوصف إذا وجد، إلا إذا كان بالغاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم-: الصبي حتى يحتلم)، فهو لا عقل عنده، ولا حلم عنده ولا يؤمن أن يدخل الضرر على نفسه، ولذلك احتاج إلى رعاية، وقد قرر العلماء: أن قوام الالتقاط وأساس الالتقاط وموجب الالتقاط إنما هو خوف الضرر؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يرعى نفسه في مثل هذه السن؛ وذلك لفقد العقل والإدراك وحسن التصرف في الأمور، فمن كان دون البلوغ فإنه ينطبق عليه ذلك. وقد يحسن تصرف بعض المميزين في بعض الأحوال وهذا نادر، والنادر لا حكم له. إذاً: اللقيط هو: من كان دون البلوغ على أصح أقوال العلماء رحمهم الله، سواء كان مميزاً أو كان دون التمييز. وقوله: (طفل) عام يشمل الذكر ويشمل الأنثى، وهذا الطفل له صفات ذكرها بقوله: (لا يعرف نسبه) فخرج الذي يعرف نسبه، فلو جاء جار لجاره، أو ابن عم لقريبه، وقال له: إن أولادي كثر، وهذا ابني فلان، أريد أن أدفعه إليك، تحفظه وترعاه وتقوم عليه، فليس هذا لقيطاً، وقد كان هذا من عادات الناس حتى في الجاهلية، فكان الأخ ربما يعين أخاه في رعاية أولاده، وهذا المنبغي على المسلم أنه إذا أحس أن أخاه بحاجة إلى إعانة؛ وذلك لكثرة ولده، وأحس أن هناك مشقة على أخيه وأهله؛ سعى في رعاية ولده مع ولده، وضم أولاده أو بعض أولاده إليه، تخفيفاً عن أخيه، وهذا من أفضل البر، ومن أعظمه ثواباً، وأحسنه عاقبة، وبالأخص إذا كان القريب يتيماً، كأن يموت أبوه، فيقول للأم: ضمي أولاد أخي إليَّ، أو اتركي أولاد أخي يأتون إليَّ، يطعمون من طعامي، أو يتولاهم بالرعاية والإحسان، فهذا لا يسمى: لقيطاً، فلا يأخذ حكم اللقيط من كان والده معروفاً ووالدته معروفة، أو والداه معروفين. فاللقيط هو مجهول الوالدين، فيوجد مثلاً في مضيعة، كقافلة نزلت في مكان ونسيت هذا الولد، أو يوجد في برية، كأن يوجد في البساتين، أو يوجد في مجامع الناس، أو في الحدائق ونحوها، أو يكون ضائعاً، كأن يوجد في الأسواق، أو في الأماكن التجارية التي ينتابها الناس، وهو يبكي لا يعرف والديه، أو يكون ممن لا يحسن الكلام, أو يكون طفلاً في مهده يصيح ولا يعرف له والد، فهذا كله يأخذ حكم اللقيط، ويوصف بكونه لقيطاً، لعموم قوله: (وهو طفل لا يعرف نسبه)، والنسب في اللغة الإضافة، يقال: نسب الشيء إلى الشيء، إذا أضافه إليه، والنسب في اصطلاح العلماء هو: القرابة، ووصف القريب بكونه نسيباً؛ لأنه يضاف إلى قريبه، فيقال: محمد بن عبد الله، فهذه الإضافة نسبه، وكذلك يقال: ابن عم فلان، والنسب سمي: نسباً؛ لوجود الإضافة فيه. قوله: (ولا رقه)، يعني: لا يعرف هل هو حر أو رقيق، فوجود الجهالة فيه مشترط للحكم بكونه لقيطاً. قوله: (نبذ)، أصل النبذ الطرح، وقد يطلق المنبوذ بمعنى المتروك من الناس، أي: الذي قد جفاه الناس وتركوه، فيطلق النبذ بمعنى: الجفاء كما قال تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران:187]، أي: جفوا كتب الله عز وجل وشرع الله سبحانه وتعالى، وكأنهم ألقوها وراء ظهورهم -نسأل الله السلامة والعافية- إعراضاً عنها، وتركاً للعمل بها. ويطلق النبذ بمعنى: الطرح، ومنه سمي النبيذ: نبيذاً؛ لأنه ينبذ في الماء التمر أو نحوه، ثم يترك أياماً حتى يوصف بكونه نبيذاً، فالنبذ أصله الطرح، لكن هل اللقيط يكون منبوذاً؟ اللقيط يترك في الحقيقة، وليس معناه أن أمه لا تريده، وليس معناه أن أباه لا يريده، ولكن المراد أن أمه أو أباه تجليا عنه لوجود ضرر كما في حالة -والعياذ بالله- زنا المرأة، فقد تزني المرأة بالغصب والقهر، وتستتر في حملها، وتختفي ولا تعلم أحداً بذلك، فإذا وضعت، أرادت أن تتخلص من تبعة هذا الضرر الذي دخل عليها، فتأخذ الولد إلى مكان وتتركه منبوذاً، أي: متروكاً. وقد يشق على والديه تبعة النفقة عليه، فيحمله والده أو تحمله والدته إلى مكان فيه أقوام أغنياء، فهي تحس أن الولد لو بقي عندها يتضرر، ولا تستطيع أن تأتيهم وتقول لهم: ربوا هذا الولد، فتتركه منبوذاً حتى يشفقوا عليه , وتعطف قلوبهم عليه، فيحملوه، وقد تفعل ذلك لأسباب أخرى، وهذا حال النبذ، أما حال الترك والنسيان كما لو جاءت أمه إلى موضع ثم نسيته فيه. قوله: (أو ضل) كالطفل الذي يمشي ومعه والدته، ثم فجأة يتيه في زحام الناس، ولا يُعرف أين ذهب، ويعجزها أن تجده، ففي هذه الحالة يكون ضائعاً، وفي الحالة الأولى تكون هناك أسباب ودوافع للضياع من المرأة، أو من والد الطفل أو منهما معاً، وفي الحالة الثانية: يكون ضياعه بسبب من الطفل نفسه لا من والديه.

حفظ اللقيط فرض كفاية على المسلمين

حفظ اللقيط فرض كفاية على المسلمين قال المصنف رحمه الله: [وأخذه فرض كفاية]. أي: وأخذ اللقيط فرض كفاية، والأصل في الالتقاط عمومات الشريعة وأصولها التي تدل على: أن المسلم مطالب برعاية أخيه المسلم ودفع الضرر عنه، وتحصيل الخير له ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فهذه نسمة بريئة، كما لو وضعت قصداً والذنب ذنب غيرها، كأن تكون بنت زنا والعياذ بالله! فلا تحمل إثم غيرها، ولا خطيئة غيرها. ففي هذه الحالة فإن الشريعة أوجبت على المسلم أن يرعى أخاه المسلم، وأن يسعى في حفظ النفس المحرمة، ولذلك قال تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32]، فالطفل الضائع لو لم يلتقطه أحد ربما أكله السبع، وربما داسته سيارة، أو نحو ذلك إذا كان في مكان خطر، فهو آيل إلى الهلاك إذا لم يُلتقط، والله أمرنا بحفظ الأنفس المحرمة، وبين أن من أحياها وسعى في إحيائها -بتعاطي الأسباب- فكأنما أحيا الناس جميعاً، قال بعض المفسرين: أي: في الأجر والثواب، فقوله: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) أي: أنه لو رحم هذه النفس، فإنه سيرحم كل الناس؛ لأن المعنى الموجود في هذه النفس موجود في غيرها. فلذلك أصول الشريعة العامة تدل على أن النفس المحرمة ينبغي السعي في استبقائها، ومن هنا قال العلماء: لو رأيت مسلماً يغرق، وغلب على ظنك أنه يمكنك إنقاذه بسباحة أو رمي وسيلة تكون سبباً في إنقاذه؛ فحينئذ يتعين عليك إنقاذه، ووجب عليك إنقاذه إذا لم يوجد غيرك يقوم بهذا. ومن هنا قالوا: التقاط اللقيط فرض؛ لأن حفظ الأنفس المحرمة والسعي في استبقائها واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهذه نفس محرمة ضائعة، إذا لم نسع في نجاتها فإنها هالكة، وقد قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]، فمن أبر البر أن يحفظ المسلم ولد غيره، فهذا من بره لأخيه المسلم، وقد جاء عن: عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما حكما بالتقاطه، فجاء عن سنين أبي جميلة أنه وجد لقيطاً، وقيل: إن أهله وجدوا لقيطاً، فذهب به إلى عمر فلم يجده، ثم جاءه في اليوم الثاني، فلما قدم على عمر، غضب عمر رضي الله عنه، وقال كلمة ثقيلة في حق الرجل، وكان من عادة عمر أنه يجعل على كل قبيلة وجماعة عريفاً، فقال العريف -واسمه سنان -: يا أمير المؤمنين! إن الرجل معروف بالخير -يقصد أبو جميلة سنين - فقال عمر: أو ذاك؟ قال: نعم، قال: إذا كان كذلك، فهو حر -يعني اللقيط- ولك ولاؤه، وعلينا نفقته، وفي رواية: وعلينا رضاعه. فهذا يدل على مشروعية الالتقاط وضم اللقيط إلى ملتقطه، لقضاء عمر بذلك، ولا شك أن التقاط اللقيط من الأعمال الصالحة، والإجماع بين أهل العلم رحمهم الله منعقد على مشروعية الالتقاط في الجملة، وأنه يشرع على المسلم أن يلتقط اللقيط إذا وجده في ديار المسلمين.

الحكم بحرية اللقيط على الأصل

الحكم بحرية اللقيط على الأصل قال المؤلف رحمه الله: [وهو حر]. أي: أن اللقيط محكوم بحريته، قال العلماء: لأن الله جعل آدم وذريته من حيث الأصل أحراراً، والرق طارئ وعارض، فيصطحب الأصل بحريته، ولا نحكم بكونه رقيقاً حتى يدل الدليل على كونه رقيقاً، فيتبع من هو رقيق له، أما إذا لم يقم الدليل على ذلك بقينا على الأصل، فهو حر محكوم بحريته. والحر ضد الرقيق، والأصل في ذلك ما ذكرناه، وهو أن الأصل الحرية حتى يدل الدليل على الرق، وقد جاء عن عمر رضي الله عنه -في قضائه في القصة التي سبق الإشارة إليها- أنه قال: وهو حر، ولك ولاؤه، فأثبت له الحرية، ويترتب على هذا الحكم مسائل، منها: مسألة جنايته على غيره، ومسألة جناية غيره عليه، وهل يملك أو لا يملك، فكل هذه مسائل تتفرع على الحكم بحريته، فلو أن هذا اللقيط اعتدى عليه أحد بعد سنة أو سنتين، كأن داسه بسيارته فمات، أو قتله بجناية خطأ، فإنه يلزمه دية، وتكون هذه الدية لبيت مال المسلمين، ولو فرضنا أنه جاء رجل وأقام شاهدين على أنه ولده، فحينئذٍ يحكم بكونه وارثاً له، ويأخذ الدية ويستحقها. ولكن إذا حكم برقه فحينئذٍ يكون الأمر مختلفاً، فدية الحر غير دية الرقيق، فيختلف الحكم من حيث الدية، وما يتبع الدية من مسائل الأحكام، وكذلك لو أنه جنى على شيء فكسره، وأتلفه، فالحكم يختلف إذا حكمنا بحريته وتتفرع مسائل: منها: أن يكون ولاؤه لبيت مال المسلمين، بمعنى: أن بيت مال المسلمين يحمل عنه العاقلة في جنايته، كما أن بيت مال المسلمين يستحق الدية إذا اعتدي عليه.

حكم ما وجد مع اللقيط من المال الظاهر والمدفون والمتصل والقريب

حكم ما وجد مع اللقيط من المال الظاهر والمدفون والمتصل والقريب قال المصنف رحمه الله: [وما وجد معه أو تحته ظاهراً أو مدفوناً طرياً، أو متصلاً به كحيوان وغيره أو قريباً منه؛ فله] قوله: (وما وجد معه)، أي: إذا كان هذا اللقيط معه مال، حكمنا بملكيته للمال، وهذا ينبني على أن الصبي يملك، وقد اختلف الفقهاء: هل الصبي يملك أو لا يملك؟ إذا قلت: إن الصبي يملك، ففي هذه الحالة له يد على جميع ما معه من النقود، أو من اللباس، أو من الأشياء التي يجلس عليها، كالفراش ونحوه، وقد يكون فراشاً ثميناً، أو يكون على دابة غالية الثمن، فجميع ما يتصل به من المال، يحكم بكونه مالكاً له؛ لأنك إذا قلت: إنه لا يملك، فهذا المال يضم إلى بيت مال المسلمين؛ لأن صاحبه غير معروف، لكن لو قلت: إنه يملكه اللقيط، فهذا المال ينفق عليه. فهناك فرق بين قولنا: إنه يملك، أو لا يملك، والحكم عند العلماء أنه يملك، وجرت العادة خاصة إذا كان اللقيط من الزنا نسأل الله العافية! وكانت أمه ثرية غنية، أنها تشفق عليه، وتضع مالاً كثيراً معه؛ لأنها تعلم أنه سينفق عليه سنوات، ومدة طويلة، فتضع المال بجانب الثوب الذي عليه، أو بين الثوب وبين صدره محمولاً معه، أو في محفظة مربوطة به، أو ملتصقة بثيابه، أو تضع النقود تحت الولد بينه وبين فراشه، بحيث لو جاء أحد يحمله رأى النقود، فجميع هذه الأشياء يحكم بكون اللقيط مالكاً لها، وإذا حكمت بكونه مالكاً لها، جاز الصرف منها مباشرة، وهل يفتقر إلى حكم القاضي أو لا يفتقر؟ إذا قلنا بالقول الأول: إنه يملك، فإنه يصح بيعها مباشرة إذا كانت أعياناً، ولم تكن نقوداً، ثم ينفق عليه منها، وإن قلنا: إنه لا يملك يرجع إلى القاضي، وينتظر حتى يحكم القاضي له، ويأذن له بالولاية عليه، ثم يأذن له بالتصرف فيما فيه مصلحته. وقوله: (أو تحته)، أي: تحت الصدر مثلاً أو بينه وبين فراشه، فهذه الأموال التي وجدت معه أو تحته، أو في جيبه، أو متصلة به؛ نحكم بكونها له، بدليل الظاهر، ونحن ذكرنا أن الدليل يكون أصلاً، ويكون ظاهراًً، فهذه من أدلة الظاهر، فإذا وجدنا لقيطاً ووجدنا تحته نقوداً، أو وجدنا في جيبه نقوداً، فالظاهر من الحال أن وليه قد وضع هذه النقود لمصلحة هذا الصبي، وللقيام على شئونه، فنعمل بهذا الظاهر. وأما المال المستتر الخفي: مثل النقود المدفونة تحته، فهذه فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، هل يحكم بكونها من ماله أو لا يحكم بكونها من ماله؟! وسيأتي بيان الحكم في هذه المسألة. وقوله: (ظاهراً) بحيث يوجد دليل على الظاهر، والشريعة تحكم بالظاهر، ولذلك لو أن اثنين اختصما في بعير، أحدهما يركب في المقدمة، والثاني يركب في المؤخرة، فنحكم بكونه للذي في المقدمة؛ لأن ظاهر الحال أنه هو القائد، والقائد هو الذي يملك الدابة، ويتصرف فيها، وهكذا في زماننا لو اختصم اثنان في سيارة، أحدهما في مقعد السائق، والثاني في المقعد الخلفي، فإننا نحكم بالذي يقود؛ لأن الظاهر أنه مالك لهذا الشيء، وهكذا لو اختصما في شيء محمول، أحدهما يحمله، والثاني لا يحمله، فالظاهر يدل على أنه ملك للذي يحمله، فالظاهر تحكم به الشريعة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: كما في الحديث الصحيح: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس)، وهذا يدل على أن الظاهر يُحْتَكَمُ إليه، فنحن إذا ظهر لنا أن مع الصبي نقوداً معلقة به، أو موضوعة في جيبه، أو موضوعة بجواره ملتصقة به، فإن هذا الظاهر يدلنا على أن هذه الأموال للذي وضعه، وقصد منها أن تكون لمصلحة اللقيط، فإذا قلت: إنها للقيط، فإنه يحكم بها له لما تقدم، أما لو لم تأخذ بهذا الظاهر، فإنه يصبح حكمه حكم اللقطة، فيصبح اللقيط له حكم، والمال الموجود معه له حكم آخر، والأول يعامل معاملة أحكام اللقيط والآدمي، والثاني -وهو المال الذي معه- يعامل معاملة اللقطة، والصحيح أنه ليس بلقطة، وإنما يؤخذ مع اللقيط ويكون ملكاً له. وقوله: (أو مدفوناً طرياً) وذلك كما لو حمل اللقيط، ثم نبش الأرض تحته فوجد مالاً، فهل نحكم بأن هذا المال المستتر الباطن حكمه حكم الظاهر؟!! من أهل العلم من قال: لا يحكم إلا بما مع اللقيط أو ملتصق به، كأن يكون بجواره، أو قريباً منه، وهذا لا إشكال فيه؛ لأن الإنسان إذا جلس وضع رحله بجواره، ووضع متاعه بجواره، فما وجد بجوار اللقيط أعطيناه حكمه، والقاعدة تقول: ما قارب الشيء أخذ حكمه، فنحن نحكم للقيط بما قاربه؛ لأنه في حكم ماله وتابع له، لكن إذا كان مدفوناً تحته فليس بملك له، ونعتبره لقطة، ويأخذ حكم اللقطة، سواءً كان الحفر طرياً، أو كان غير طري. ومن أهل العلم من فصَّل، وهو اختيار طائفة من العلماء، وممن اختاره القاضي ابن عقيل وغيره من فقهاء الحنابلة، فقالوا: إذا كانت الأرض التي تحت اللقيط هشة طرية، حديثة العهد بالنبش، وفيها مال؛ فإننا نعلم من دلالة الظاهر أنها موضوعة من أجل اللقيط، ويغلب الظن أنها للقيط، وحينئذ ينفق عليه منها، ويكون مالاً له، وأما إذا كانت يابسة غير طرية، فنبشت ووجد مال، فنحكم بكونه لقطة، وتأخذ حكم اللقطة. وقوله: (أو متصلاً به) أي: كحيوان متصل به، كأن يكون مربوطاً بجواره، أو وجد متاع بجواره، كحقيبة فيها مال أو فيها ثياب له، ونحو ذلك. وقوله: (أو قريباً منه) أي: أن القريب منه يأخذ حكم المتصل به كالسجاد التي يجلس عليها، والفراش التي ينام عليها والحافظة التي يوضع فيها، فكل هذا يكون متصلاً به. وقوله: (فله)، أي: للصغير، فاللام للتمليك، والضمير عائد لهذا الطفل اللقيط، ويحكم بكونه مالكاً له.

الإنفاق على اللقيط من بيت مال المسلمين إذا لم يكن معه مال

الإنفاق على اللقيط من بيت مال المسلمين إذا لم يكن معه مال قال المصنف رحمه الله: [وينفق عليه منه وإلا فمن بيت مال المسلمين] قوله: (وينفق عليه منه) أي: ينفق ملتقطه من ذلك المال عليه؛ لأن المال ماله، فينفق عليه من ذلك المال. واللقيط إذا التقطه الإنسان فإنه لا يخلو من حالين: الحالة الأولى: أن يتبرع ملتقطه بالنفقة عليه، فإذا تبرع ملتقطه بالنفقة عليه، حفظ المال الذي معه، وإذا بلغ قال له: هذا مالك. الحالة الثانية: ألا يتبرع، فيقول: ما عندي مال، وأريد أن أنفق عليه، فحينئذ يبيع الأشياء التي معه إذا كانت لها قيمة، ولم يكن هناك نقد وسيولة، ويصرف عليه منها، فإذا صرف عليه ولم تكف المصاريف؛ رجع إلى بيت مال المسلمين، وهذا لمن يريد النفقة ويطالب بها، أما إذا تبرع من عنده فلا إشكال، وأما إذا لم يتبرع وأراد أن ينفق عليه من ماله، سواء كان غنياً أو فقيراً فإنه من حقه، فمن حق الملتقط أن يقول: لا أريد أن أنفق عليه؛ لأن الله لم يوجب عليّ نفقته، إلا في حالة ما إذا لو لم أنفق عليه لهلك، وكان في موضع لا يستطيع أن يأخذ له من بيت مال المسلمين، فينفق ويحتسب، وبعد أن يرجع له أن يطالب بيت المال، ويصرف عليه منه، على خلاف عند العلماء. كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وشريح وغيرهما من أئمة السلف يقضون بأنه إذا أنفق عليه ناوياً الرجوع فلابد أن يقيمه الحاكم، وبعضهم يقول: يحلفه بالله أنه أنفق عليه وفي نيته أن يرجع، وقد تقدمت معنا مسألة من قام بمعروف لأحد دون أن يكون بينهما تعاقد، فإنه لا يستحق أجره، فمن غسل سيارتك دون أن تأذن له بغسلها، أو أصلح دارك دون أن تأذن له بإصلاحه، فإنه لا يستحق الأجرة، والإنفاق على اللقيط مثل هذا، فحينئذ لو أنفق على اللقيط بدون أن يكون هناك عقد، فالأصل يقتضي أنه ما يعطى، لكن مسألة اللقيط خارجة عن الأصل؛ لأنه يتعذر أن يخاطب القاضي، أما لو أمكنه أن يثبت فلا إشكال، لكن قد يكون في موضع لا يتيسر له الإشهاد، أما لو تيسر له أن يشهد الشهود، ويقول: أنا سأنفق عليه وأرجع بنفقته على بيت المال، فإذا أتى بالشهود وشهدوا بذلك استحق نفقته بعد بلوغه، أو إذا رجع إلى القاضي وطالب بالنفقة. وقوله: (وإلا) استثناء أن يكون له مال غير كاف، أو لم يجد معه مالاً، فمن بيت المال.

أقوال العلماء في الحكم بإسلام اللقيط

أقوال العلماء في الحكم بإسلام اللقيط قال المصنف رحمه الله: [وهو مسلم]. أي: اللقيط محكوم بإسلامه. واللقيط إذا وجد له حالتان: الحالة الأولى: أن يوجد في بلاد المسلمين. الحالة الثانية: أن يوجد في غير بلاد المسلمين. ففي الحالة الأولى: إن وجدناه في بلاد هي من حيث الأصل بلاد إسلامية كالجزيرة مثلاً، فهذا لا إشكال أن الولد محكوم بإسلامه، وسنذكر الدليل على ذلك. الحالة الثانية: أن تكون بلاداً إسلامية مفتوحة، والحكم فيها للمسلمين على الغالب، وإذا كان الحكم على الغالب فلا يخلو من صورتين: الأولى: أن يكون من في هذه الأرض -المحكوم بكونها تابعةً لبلاد المسلمين- مسلمون، فلا إشكال، مثل البلدان التي فتحت وأسلم أهلها، فحكمها إلى حكم النوع الأول، محكوم بإسلامها، ومحكوم بإسلام أطفالها إذا وجدوا، ويعاملون معاملة أطفال المسلمين. الصورة الثانية من الحالة الثانية: أن تكون بلاد المسلمين بالغلبة وبينهم كفار، كما لو كانوا أهل ذمة، فتحت بلادهم وأصبحت بلاداً للمسلمين، لكن فيها أهل كتاب عوملوا معاملة أهل الذمة. ففي هذه الحالة إذا وجد بين المسلمين كفار من أهل الكتاب، فإذا وجد لقيط هل نقول: إنه للمسلمين أو نقول: إنه لأهل الذمة؟ الأمر محتمل، لكن قالوا: يأخذ حكم المسلمين، ونقول: إنه مسلم؛ لأن الغالب وجود المسلمين والشعار للمسلمين، فإن كان أغلبهم من الكفار، والمسلمون فيهم قلة، فمذهب الجمهور أنه يحكم بإسلامه، حتى قال بعض العلماء: لو كان في هذا البلد الذي فتحه المسلمون وبقي فيه الكفار على دينهم وكفرهم، ووجد بينهم مسلم واحد، ويمكن أن ينجب وأن يكون اللقيط له؛ فإننا نحكم بأن هذا الولد مسلم، لاحتمال أن يكون الولد لهذا المسلم. وبناء على ذلك، يصبح كون الدار دار إسلام أمراً مهماً في الحكم، سواء كانت دار إسلام أصلية أو كانت دار إسلام مفتوحة، وصار لها حكم غلبة المسلمين عليها، فإن كانت مفتوحة والغالب فيها مسلمون فلا إشكال، وإن كانت مفتوحة والغالب فيها الكفار فلا إشكال أيضاً؛ لأننا نغلِّب حكم الإسلام، والشبهة قائمة لاحتمال أن يكون هذا الولد من المسلمين، وما دام هناك احتمال للمسلم على هذا الوجه، ووجود الغلبة للمسلم، فإننا نحكم بكونه مسلماً، لكن الإشكال إذا كانت بلاد كفر، فإن كانت بلاد كفر، وليس بينهم مسلم، فالولد كافر، ومحكوم بكفره، وسنذكر الدليل، وإن كانت بلاد كفر، وفيهم مسلمون، مثلما كان في القديم وإلى الآن تجار يسافرون إلى بلاد الكفر، أو طلاب يدرسون في بلاد الكفر دراسات دنيوية، فما دام أن بينهم مسلماً، فيرد Q هل نحكم على ظاهر الدار ونقول: الولد كافر؛ لأن احتمال وجود المسلم فيه ضعيف أم نقول: الولد مسلم؛ لأن بينهم مسلماً؟ فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله. فإن حكمنا بكون الولد مسلماً، سواء في دار المسلمين المحضة، أو في دار المسلمين التي غالبها مسلمون، أو في دار فيها أهل ذمة وبينهم رجل مسلم، أو دار الكفار الذين بينهم مسلمون، ففي هذه الأحوال كلها نحكم لهذا الولد بالإسلام؛ لأن السنة دلت على أن الأصل في الإنسان الفطرة كما قال عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، فحكم عليه الصلاة والسلام بأن المولود مولد على الفطرة، والفطرة هي التوحيد والإخلاص، كما قال طائفة من شراح الحديث رحمة الله عليهم، فيصبح الأصل كونه مسلماً، ومن هنا قال بعض العلماء: لو ماتت النصرانية وفي بطنها جنين يُقَبَّلُ الجنين إلى القبلة، فيكون ظهرها إلى جهة القبلة ووجهها إلى غير القبلة؛ لأن الجنين الذي في بطنها إذا وجدت منه حركه ثم مات، يحكم بكونه في حكم المسلمين، وهذا مبني على أن الأصل في الإنسان أنه على الفطرة، وأن أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. فإذا كان في بلاد المسلمين فالعمل على ظاهر الدار، وظاهر الدار يحتكم إليه، فإذا جئت في بلد إسلامية ومررت على شخص لا تدري أهو مسلم أو لا؟ فهل تسلم عليه أو لا؟ تسلم؛ لأن الدار دار إسلام، ولو وجدت ذبيحة فيها، وما تدري هل هي مذكاة شرعية أو لا؟ فتقول: الظاهر أنها من مسلم، وهذه المسألة يسمونها: العمل بحكم الظاهر، ويتفرع عليها ما لا يقل عن ثمانين مسألةمن المسائل الشرعية، فمسألة العمل على ظاهر الدار مسألة مشهورة عند العلماء رحمهم الله، فإذا كان البلد بلداً مسلماً حكمنا بالأصل. يرد سؤال عندما قال: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، كيف حكمنا أن أولاد النصارى في حكم النصارى، وأولاد المشركين في حكم المشركين، وأولاد المسلمين في حكم المسلمين؟ الولد من حيث الأصل ليس بمسلم ولا بكافر، وهذا من حيث تصرفاته وإقراراته واعتقاداته؛ لأنه ما عنده عقل، ولا عنده إدراك حتى نقول: إنه مسلم أو كافر، وهذه المسألة مفرعة على قاعدة تكلم عليها الإمام العز بن عبد السلام كلاماً نفيساً في كتابه النفيس: قواعد الأحكام ومصالح الأنام، وهذه القاعدة تقول: (التقدير: تنزيل المعدوم منزلة الموجود، وتنزيل الموجود منزلة المعدوم)، وهذه تتفرع عليها مسائل كثيرة جداً في العبادات والمعاملات، وقولهم: (تنزيل المعدوم منزلة الموجود) يدخل فيها مسألة الطفل، فالطفل في المهد، لا ينطق بالشهادتين؛ لأنه في سن لا يتكلم فيه، حتى ولو كان في سن يتكلم فيه، فإنه لا يعقل ما يقول، فحينئذٍ نزلنا المعدوم وهو الإسلام منزلة الموجود، وهذا من جهة التقدير والحكم، ولهذا أصل، فإن الإجماع منعقد على سريان هذا الحكم بتنزيل المعدوم منزلة الموجود، مثال ذلك: لو قُتِلَ شخص وهو نائم، كأن داسته سيارة وهو نائم فمات، فهل نقول: قتل مسلماً أو كافراً، أو نقول: لا مسلماً ولا كافراً؟ الإيمان حال النوم غير موجود، لكنه لما كان قبل نومه مؤمناً مسلماً، بقي على هذا الأصل، فنُزِلَ المعدوم حال النوم منزلة الموجود؛ لأن النوم من الموت كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42]، فالشاهد أنه نوع من الموت، ولذلك لا يكلف صاحبه فيه، فنزل الإسلام المفقود منزلة الموجود، وحكمنا بكون المقتول مسلماً؛ لأنه قبل نومه كان مسلماً، فيبقى على هذا الأصل، وينزل المعدوم حال نومه منزلة الموجود ونقول: بكونه مسلماً، أما لو داس كافراً وهو نائم، فإننا نقول: داس كافراً؛ لأنه قبل نومه كان كافراً. وهذه القاعدة فيها مسائل كثيرة، ومنها مسألة أغرب من هذه، فقد ذكر الإمام العز بن عبد السلام في هذه القاعدة مسألة لو أطلق رمى على فريسة فقال: باسم الله، وقبل أن يصل السهم إلى الفريسة مات هذا الرامي، وبعده ماتت الفريسة، فهل نحكم بكونها مذكاة ذكاة شرعية أو لا؟ وهل تؤكل أو لا تؤكل؟ إذا قلت: إنه ينزل المعدوم منزلة الموجود، فهو لما أطلق السهم وهو ذاكر لله، وتوافرت شروط الذكاة الأصلية وحصل الإزهاق، فينزل المعدوم منزلة الموجود، ولها نظائر كثيرة منها: لو طرأ شيء يمنع الميراث كالقتل، وفيها مسائل كثيرة في العبادات والمعاملات، فينزل فيها المعدوم منزلة الموجود، ومنها مسألة: اللقيط، فينزل الإسلام المعدوم منزلة الموجود، ويحكم بكونه مسلماً، ويعامل معاملة المسلمين إذا حكمنا بكونه مسلماً، فيترتب على ذلك مسائل في الجنايات وغيرها من الأحكام التي يفرق فيها بين الكافر وبين المسلم. ومما يتفرع على حكمنا بإسلامه: أن هذا اللقيط لو كان في بلد فيه يهود أو نصارى، فلما بلغ اختار اليهودية أو النصرانية، إن قلنا: إنه أثناء صباه محكوم بكونه مسلماً، فلما بلغ كفر فتهود أو تنصر، وصار مرتداً، فحينئذ يستتاب فإن تاب وإلا قتل، أما إذا لم نحكم بكونه مسلماً وتهود أو تنصر بعد البلوغ؛ والدار فيها قوم من أهل الذمة فإنه يلحق بهم ونأخذ منه الجزية، ولا يكون حكمه حكم المرتد ولا يقتل، فهناك فرق بين حكمنا بإسلامه وعدم حكمنا بإسلامه. وهناك مسائل كثيرة في الاستحقاقات، منها: إذا حكمنا بكونه مسلماً، ثم تبين أن له أختاً ادعت أنه أخوها، وبينه وبينها صلة ميراث، ثم ماتت وهي يهودية أو نصرانية، فما الحكم؟ كل هذا يتفرع على مسألة الحكم بكونه مسلماً أو كافراً، إذا قلت: نحكم بكفره، ففي هذه الحالة لا يعطى من أموال بيت المسلمين، ولا يتحمل بيت مال المسلمين نفقته، وتلحق به أحكام الكفار، وإن حكمنا بكونه مسلماً فلا إشكال على ما ذكرناه من الحقوق، فيصرف عليه من بيت مال المسلمين، ويكون ولاؤه للمسلمين غنماً وغرماً.

حكم حضانة اللقيط وشرط الحاضن

حكم حضانة اللقيط وشرط الحاضن قال المصنف رحمه الله: [وحضانته لواجده الأمين] أي: أن حضانة اللقيط لواجده الأمين، وهذا شبه إجماع بين السلف رحمهم الله، فحضانته والقيام على أمره، وتعهد مصاريفه وتكاليفه والأمور المترتبة عليه يتولاها من وجده؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قضى بذلك، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضوان الله عليهم، وهي سنة راشدة؛ ولأن واجده سبق غيره، ومن سبق إلى ما لم يسبق به فهو أحق، فالحضانة تكون لواجده. وشرط أن يكون الملتقط أميناً، وبناءً على ذلك لو التقط اللقيط شخص معروف بالخيانة والعياذ بالله! أو ليست فيه أمانة، فقال بعض العلماء: ينزع منه اللقيط، ولا يبقى معه؛ لأنه ربما أخذه وباعه، وادعى أنه من مواليه، لذلك لا يؤمن عليه إذا كان فاسقاً أو معروفاً بالخيانة، ولأنه لو أعطي المال للنفقة عليه، ربما تركه وضيعه وأخذ المال وأكله، فلذلك لا تترك يده عليه، وقال بعض العلماء: الحضانة والكفالة تكون للواجد ولو كان خائناً، لكن يضم ولي الأمر عليه شخصاً ثانياً أميناً، فيكون معه يراقبه، وكل هذا إثبات ليد الوجدان، فما دام أنه وجده فإنه أحق به من غيره، فإن كانت فيه صفة الخيانة قالوا: يمكن أن تجبر هذه الصفة بوجود شخص آخر معه، يراقبه، ويحفظ حقوق اللقيط.

جواز الإنفاق على اللقيط بغير إذن الحاكم أو القاضي

جواز الإنفاق على اللقيط بغير إذن الحاكم أو القاضي قال المصنف رحمه الله: [وينفق عليه بغير إذن حاكم]. قوله: (وينفق عليه بغير إذن حاكم) اختلف الفقهاء لو وجد إنسان لقيطاً ووجد معه نقوداً، هل يفتقر الحكم بالتصرف في هذه النقود بالنفقة على اللقيط إلى إذن وحكم القاضي أم أنه ينفق عليه مباشرة؟ الصحيح أنه لا يفتقر إلى قضاء القاضي، وإنما يقوم عليه من وجده ويتعاهده بالمعروف، ويتحمل المسئولية، ولا يحتاج إلى قضاء القاضي.

حكم ميراث اللقيط وديته

حكم ميراث اللقيط وديته قال المصنف رحمه الله: [وميراثه وديته لبيت المال]. قوله: (وميراثه) أي: ميراث اللقيط. قوله: (وديته لبيت المال) أي: لو أن هذا اللقيط قتله شخص خطأً، فوجبت الدية، فإنها تصرف إلى بيت المال؛ وكذلك ميراثه إذا عرف والده، وليس له إلا والد، وثبت بشهادة الشهود أن هذا اللقيط ولد فلان، فورث من أبيه مثلاً مائة ألف، ثم توفي قبل أن يبلغ ويتزوج ويكون له ذرية، فحينئذ ماله يذهب إلى بيت المال. وهكذا لو وجد شخص لقيطاً، ووجد معه عشرة آلاف ريال، ثم بعد يوم أو يومين توفي هذا اللقيط، فماذا يصنع بالعشرة آلاف؟ تضم إلى بيت المال، ويرثه بيت المال، وهذا عين العدل؛ لأن بيت المال يتحمل خسارته، فله غنمه، وعليه غرمه، فبيت مال المسلمين هو الذي يقوم بالنفقة على اللقيط، والقيام بكل ما يحتاج إليه في نفقته، فإذا كان للقيط ميراث وتوفي فحينئذٍ استحقه بيت المال، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في حديث عائشة عند أبي داود، وهذا الحديث مجمع على العمل به-: (الخراج بالضمان) ومثله القاعدة المعروفة (الغنم بالغرم)، فلما غرم بيت مال المسلمين عليه، غنم ميراثه، وبعض العلماء يقولون: يؤخذ هذا الإرث، ويصرف على اللقطة، ويكون إرث اللقيط للقيط آخر بالمجانسة، يعني: يكون في بيت مال المسلمين ونصرفه للقيط ومن في حكمه.

حكم الولاية على اللقيط

حكم الولاية على اللقيط قال المصنف رحمه الله: [ووليه في العمد الإمام، يتخير بين القصاص والدية]. إذا عرفنا أن بيت المال يتحمل نفقته وخسارته، ويتولى ماله الموروث، يبقى السؤال في استحقاقات أخرى، فلو أن هذا اللقيط جنى عليه شخص وقتله عمداً، فما الحكم؟ هو لا يعرف له قريب فمن الذي يتولى أمره؟ فهل أمره إلى عموم المسلمين أم إلى ولاة المسلمين؟ إذا لم يكن له ولي يرث حق القود والقصاص، فإن ولي أمر المسلمين هو وليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: (فالسلطان ولي من لا ولي له)، فحينئذ ولي الأمر هو الذي ينظر ويخير. وبعض العلماء يقول: ليس من حقه أن يطلب القصاص، ويسقط القصاص في هذه الحالة؛ لوجود الشبهة؛ لأن القصاص يكون للشخص الذي يملك، فلو أن أحداً قطع يداً لإنسان، فهذا الإنسان المجني عليه له أن يعفو أو يطلب القصاص، لكن إذا قتل ما نستطيع أن ننزل غيره منزلته؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ونشك هل السلطان وليه من كل وجه أو من بعض الوجوه؟ فحينئذ لا نستطيع أن نستبيح دم القاتل بإذن السلطان من هذا الباب. والصحيح أن السلطان وليه، وأن من حق السلطان -إذا رأى المصلحة- أن يأمر بقتل قاتله، وإن رأى المصلحة أن يأخذ الدية أخذها منه، فينظر للأصلح فيقضي به ويُحكم به.

بيان مسألة ادعاء اللقيط

بيان مسألة ادعاء اللقيط قال المصنف رحمه الله: [وإن أقر رجل أو امرأة ذات زوج مسلم أو كافر أنه ولده؛ لحق به ولو بعد موت اللقيط] هذه مسألة ادعاء اللقيط، إذا ادعى اللقيطَ شخصٌ، وقال: هذا ولدي، فإن كان مسلماً، فإننا نحكم بإقراره، ويضم هذا الولد إليه ويحكم به ما دام أنه ليس له منازع، لكن بشرط أن يكون هذا الشخص يتأتى من مثله أن يولد له هذا اللقيط، وإذا كان لا يتأتى من مثله أن يولد له، فقد قام الحس على تكذيب دعواه، والدعوى إذا كذبها الحس الصادق، فإننا نحكم بسقوطها، فلو أن رجلاً في الثلاثين من عمره ادعى أنه والد اللقيط الذي لا يعرف والده، وقد بلغ اللقيط خمساً وعشرين سنة، فهذا دعاء كاذب؛ لأنه لا يمكن للشخص أن يولد له وعمره خمس سنوات، فالحس يكذب هذه الدعوى فتسقط. إذاً: يشترط إذا كان مسلماً أن يتأتى من مثله أن يولد له هذا اللقيط، فإذا لم يتأت من مثله أن يولد له، فحينئذ لا يحكم بكونه ولداً له. وقوله: (أو امرأة ذات زوج مسلم) أي: فيصبح في هذه الحالة أبواه مسلمين، فلو ادعت وقالت: هذا الولد ولده، فإننا نصدق المرأة؛ لأنه ربما هي التي فرطت في الولد، أو ضاع منها الولد، ونصدق الرجل؛ لأنه إذا أقر على نفسه، فمعناه: أنه سيقر على نفسه بهذا الولد، ويتحمل تبعة نسبته إليه، وفي الأصل أننا نصدق إقراره حتى يدل الدليل على كذبه في الإقرار، فما عندنا دليل على كذب الرجل ولا كذب المرأة، فنحكم بكونه ولداً لهذا الرجل وولداً لهذه المرأة. وقوله: (أو كافر أنه ولده)، أي: تقول المرأة: هذا ولدي من فلان النصراني حينما كنت على النصرانية، فهي كانت ذات زوج كافر، ثم أسلمت وادعت هذا اللقيط، فحينئذ يضم اللقيط إليها. وقوله: (لحق به) كما ذكرنا. وقوله: (ولو بعد موت اللقيط)، فيه خلاف، فبعض العلماء يرى: أن الدعوى تصح ما دام حياً، لكن بعد موته لا يحكم بهذه الدعوى، وأشار المصنف رحمه الله إلى ذلك بقوله: (ولو بعد موته)، والصحيح أنه يقبل إقرار كل منهما، في حال حياة اللقيط، وبعد موته، لكن إذا ادعى بعد الموت أنه ولده، فهناك تهمة هي أنه سيأخذ الميراث، وخاصة إذا كان له ابن، فحينئذ يكون الإقرار فيه شبهة جر المنفعة، والإقرار إذا دخلته التهمة يكون ضعيفاً؛ لأن التهمة تسقط الشهادة وتسقط الإقرار، فالإقرار بليغ وحجة لكن وجود التهمة فيه توجب ضعف العمل به، وبعض العلماء طعن في الإقرار بعد الموت؛ لأن كونه يسكت في حياته كلها، ثم بعد موته عندما أصبح لا عبء فيه ولا كلفة ولا عناء فيه، بل سيرثه، يأتي يدعي أنهولده، فيصبح هذا الأمر موجباً للتهمة في صدقه.

حكم ادعاء الكافر للقيط

حكم ادعاء الكافر للقيط قال المصنف رحمه الله: [ولا يتبع الكافر في دينه، إلا ببينة تشهد أنه ولد على فراشه] المراد بهذا هو الاحتياط لحق اللقيط، لا نقول بكونه كافراً ويأخذ حكم أولاد الكفار إلا إذا قامت البينة، بينما إذا أقر الرجل أو أقرت المرأة نقبل ذلك، ولكن نرفع عنه حكم الإسلام، بل يحكم بكونه مسلماً، فالإقرار من الكافر محدود ولا يتعدى للقيط، فنقبل الإقرار على نفسه، ونضمه إليه، ونحكم بكونه ولده، ولكن لا نحكم بكونه منتقلاً عن الإسلام إلا ببينة تشهد أنه وُلِدَ على فراشه، فأولاد الكفار من حيث الأصل يتبعون آباءهم وأمهاتهم، فيحكم بكفرهم من حيث الأصل العام، وبذلك يعاملون في الظاهر، كما أن أولاد المسلمين يعاملون في الظاهر بحكم المسلمين، فهذا من حيث التبعية، فهناك حكم من حيث الأصل، وهناك حكم من حيث التبعية. قد يسأل سائل ويقول: قد يتعارض هذا مع حديث: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، لكن لا يوجد إشكال ففي الغالب أنه سيتبع والديه، وهذا من جهة التبعية، والحكم بالكفر يكون بالتبعية، كما أن أبوي المسلم سيبقيانه على الفطرة. وقوله: (ببينة)، تقدم معنا: أن البينة مأخوذة من البيان، وهي ما يظهر الحق ويكشف وجه الصواب، فالبينة سميت بذلك؛ لأنها تكشف الحق، وتظهر وجه الصواب، فلا يلتبس الأمر بها، وجعل الله عز وجل البينة شهادة الشاهدَيْنِ، إلا ما اشترط أكثر من شاهدين كشهادة الزنا، فهذه البينة إذا ثبتت حكم بها، وهي الشاهدان العدلان. وقوله: (أنه ولد على فراشه). أي: أنه ولد على فراش الكافر لقوله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش)، فراش الكافر زوجته، فيقال: ولد اللقيط على فراشه، فحينئذٍ نلحقه بهذا الكافر؛ لأن الولد للفراش، والفراش هي المرأة، فإن كان زوجها مسلماً فمسلم، وإن كان كافراً فكافر.

حكم اعتراف اللقيط بالرق أو الكفر

حكم اعتراف اللقيط بالرق أو الكفر قال المصنف رحمه الله: [وإن اعترف بالرق مع سبق مناف، أو قال: إنه كافر لم يقبل منه]. تقدمت معنا هذه المسألة في الوديعة، وذكرنا: أن الاعتراف بالشيء مع السبق المنافي يوجب التهمة في الاعتراف، والصفة في ذلك أنه يكذِّب نفسه، وما نلمس العذر على وجود الاختلاف في الحالين، فإذا وجد العذر قُبل منه، وقد فصلنا هذه المسألة في الوديعة. وقوله: (أو قال: إنه كافر لم يقبل منه)؛ لأنه خلاف الأصل.

بيان مسألة ادعاء جماعة للقيط، وحجية القيافة

بيان مسألة ادعاء جماعة للقيط، وحجية القيافة قال المصنف رحمه الله: [وإن ادعاه جماعة قدم ذو البينة، وإلا فمن ألحقته القافة به] أي: إن ادعى اللقيط جماعة أكثر من واحد، ففي هذه المسألة تفصيل: أن يدعيه اثنان، ويتنازل أحدهما للآخر، أو تدعيه جماعة، ويتنازل بعضهم لبعض، فيرجع بعضهم عن دعواه، فحينئذٍ لا إشكال، فالولد للمدعي الذي رجع غيره عن معارضته. أما أن يدعيه اثنان وكل منهما يصر على قوله بأن هذا الولد ولده، فهل نحكم بقول هذا أو بقول هذا؟ نحن ذكرنا: أنه إذا أقر شخص أنه ولده حكم له، فلو أن اثنين كل واحد منهما يقول: هذا ولدي، ففي هذه الحالة إما أن يقيما بينة، أو يقيم أحدهما بينة ويعجز الثاني، فإذا أقام أحدهما بينة وعجز الثاني حكمنا للذي أقام البينة، أما لو أقام كل منهما بينة، فالعلماء مختلفون في هذه المسألة، قيل: تسقط البينتان ثم نرجع إلى المرجح وهو القائف، والقائف هو: الذي يعرف الولد عن طريق الأثر، فينظر إلى الصبي، وينظر إلى الرجلين، ويلحقه بأقواهما شبهاً، فنرجع إلى القائف لترجيح أحد القولين. والقيافة دل الدليل على العمل بها، وأنها حجة مقبولة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عمل بها، وبنى عليها أموراً، ففي الحديث الصحيح: (أنه دخل على عائشة رضي الله عنها، تبرق أسارير وجهه من السرور والفرح، وقال لها: ألم تري إلى مجزز المدلجي نظر آنفاً إلى أسامة وزيد، وقد التحفا وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض)، وقد كان لون أسامة ووالده زيد مختلفين، وهو حب الرسول صلى الله عليه وسلم وابن حبه، فكان يطعن فيهما أناس من أهل الجاهلية، ويقولون: كيف أن هذا ولد هذا؟! فمر هذا المدلجي، وكان بنو مدلج معروفين بالقيافة، ومعرفة الأثر، فلما نظر إليهما وهما ملتحفان، وأقدامهما بادية ظاهرة، وكانا مستترين، ولم ينظر إلى وجهيهما ولا يعرفهما، فلما نظر إلى الأقدام قال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فكذَّب من يطعن في نسبيهما، والقيافة تُعْرَفُ بالقدم، وتعرف بالساق، وتعرف بالوجه، وتعرف باليد، وتعرف بغير ذلك مثل المشي، فلو مشى الولد ممكن أن يشابه والده أو عمه أو قريبه. فالقيافة تقوم على هذه الصفات، ففيها دلائل ترجح إحدى البينتين، إما أن ترجح قول هذا أو قول هذا. ومما يدل على حجية القيافة أيضاً: أنه لما لاعن عويمر العجلاني رضي الله عنه امرأته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلف الأيمان، وحلفت الأيمان، فقال عليه الصلاة والسلام: (حسابكما على الله، الله يعلم أن أحدكما كاذب)، يعني: إما أنها كاذبة أو هو كاذب، فلا يمكن أن يكونا صادقَيْنِ، هذا يقول: إنها زنت، وهي تقول: إنها لم تزن، وحلف كل منهما الأيمان، فقال: حسابكما على الله، يعني: لما تعارضت الأدلة انتقلت المسألة من حكومة الدنيا إلى حكومة الآخرة؛ لأنه لا يوجد دليل نستطيع أن نحكم به، فارتفعت هذه المسألة عن قضاء الدنيا، ولذلك قال لها: (عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة) وذكّرها بالله عز وجل لما أرادت أن تحلف يمينها الأخيرة، فلما حلفت وأصبح الأمر متعارضاً قال عليه الصلاة والسلام: (انظروا إليه، فإن جاءت به على صفة كذا وكذا، فقد صدق وهي كاذبة، وإن جاءت به على صفة كذا وكذا، فقد كذب وهي صادقة والولد ولده)، فجاءت به يشبه من اتهمت بالزنا به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لولا الأيمان، لكان لي معها شأن)، فهذا يدل على أنها كانت كاذبة، وهو قال: (انظروا فإن جاءت به، خدلج الساقين، محمراً محدودباً)، وذكر صفاتٍ في الخلقة، وهذا يدل على أن القيافة لها حجية، وخالف في هذا الإمام أبو حنيفة رحمه الله، والجمهور على أنه يحتكم إليها من حيث الجملة، وأنها ترجح الأدلة من حيث الجملة. فلو أن اثنين ادعيا الولد، فنأتي بقائف، وهذا القائف ينبغي أن تتوافر فيه شروط من أهمها: العلم بالقيافة، ونعرف أنه قائف بالسماع، وهذا يسمى: شهادة السماع، يعني: أن نسمع الناس يقولون: إن فلاناً يجيد علم القيافة، أو خبير بالقيافة، وأنه من أهل القيافة، فإذا سمعنا هذا واستفاض بين الناس، فشهادة السماع والاستفاضة محكوم بها ومعمول بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل شهادة الناس حجة، فقال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (سل جيرانك، فإن قالوا: أحسنت فقد أحسنت، وإن قالوا: أسأت فقد أسأت)، فهذا في أمر الشرع وهو أعظم، فالناس يحتكم إليهم وإلى شهاداتهم، وبناءً على هذا إذا اشتهر بينهم أنه قائف حكمنا بذلك، ويمكن أن نختبره بأن نأتي بولد لرجل معروف، وندخل هذا الرجل بين أربعة أو خمسة رجال، ونقول: انظر هذا الولد أخرج والده من بين هؤلاء الرجال، فإن استطاع أن يخرجه، وعرفنا منه الدقة والإصابة مرتين وثلاثاً، فحينئذٍ نعرف أنه من أهل القيافة، ونحكم بقوله، فيجمع هؤلاء الذين ادعوا الولد ويؤتى بالولد، ويقال للقائف: ألحقه بأقواهما شبهاً، أو ألحقه بأبيه، فإذا نظر وحدد أحدهم، فحينئذ لا إشكال، فنحكم بكونه ولداً للذي حدد، لكن لو أن القائف قال: فيه شبه من الكل، وهذا قد يقع بعض الأحيان، فيقول القائف: إنه يشبه الكل، كما يقع بين أولاد العم أو بين أخوين يتنازعان ولداً لقيطاً، فهذا يقول: هذا ولدي، ويقول الآخر: بل هو ولدي، وهذا يمكن أن يقع؛ كأن يسافر ولدان في سفرة واحدة، وأحدهما مات، والثاني فُقِدَ، فقال أحد الأبوين: ولدي الذي فقد، أصبحا يتنازعان، والشبه في الإخوة وأولاد العمومة أقوى من أي إنسان آخر، فحينئذ يكون الأمر أشد، وتكون المهمة على القائف أشد، وقد يقول القائف: الشبه فيهما، يعني: ما أستطيع أن أرجح هل هو لهذا أو هو لهذا؟! فإذا تحير القائف أو قال: الشبه فيهما، فذهب طائفة من العلماء إلى أنه يخير الولد بينهما، وجاء عن عمر رضي الله عنه وأرضاه: أنه ادعى والدان الولد اللقيط، فقال له: عمر اختر أيهما شئت، وفي رواية: والي من شئت منهما، يعني: الذي تختاره منهما هو والدك، والنفس تحن، ففي بعض الأحيان تجد الإنسان يحن إلى شخص أكثر من الآخر، ويقع هذا بين الأبناء، فهذا يعقوب عليه السلام يقول كما حكى عنه عز وجل: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [يوسف:94]، وكان منه على بعد مئات (الكيلومترات)، فيقولون: يقع هذا في بعض الأحيان، وذكروا عن هلال بن أمية: أنه لما خرج ابنه أمية بن هلال إلى الجهاد، وكان من أبر الناس وأرضاهم لوالده، حتى ضرب به المثل في البر، فلما خرج إلى الجهاد، تعب أبوه وذهب بصره، واشتد عليه الأمر، حتى قال فيه الأشعار، فبلغ عمر أمره، فكتب إلى أبي عبيدة: إذا جاءك كتابي هذا، فلا تلبث حتى تبعث إليّ بـ أمية بن هلال، وكان الأمر سراً، وقال: لا تخبر أحداً، فجاء أمية ولم يشعر عمر إلا وأمية على رأسه، وقال: أنا أمية بن هلال، فقال: اجلس، ما بلغ بك من برك بأبيك؟ فذكر أموراً من البر حتى بكى عمر رضي الله عنه، فقال له: احلب الناقة، ثم أمر بـ هلال فأُتي به، فلما جاء هلال، قال: ما بلغ من بر ولدك بك؟ قال: كان يفعل وكان يفعل، فأجهش عمر بالبكاء مما ذكر من إحسان ولده له، وقال: يا هلال! أمّل خيراً، ثم أعطاه اللبن، فلما شرب، قال: والله! يا أمير المؤمنين! إني لأجد ريح أمية في اللبن! فهذا حنان الوالدين، ونزعة الولد لوالديه، والوالدين للولد واضحة، وفي قصة سليمان مع المرأتين حين قال: ائتوني بسكين أذبحه بينهما، فقالت إحداهما: لا تفعل -يا نبي الله- هو ولدها، فالأم الحنون تنازلت عنه حتى لا يقتل. فهناك أمارات واضحة تدل على صدق المدعي، فـ عمر رضي الله عنه عمل بهذا، وقال للقيط: والي من شئت منهما. وأُثر عن علي رضي الله عنه: أنه رد الأمر إلى الصبي، وقال له: والي من شئت منهما، يعني: إن شئت أن توالي هذا الأب أو هذا الأب، فكل منهما له دليله الذي يدل على أنك ولده، فيخيره بين الوالدين. وهذه المسألة واقعة في اللقيط وواقعة في مسألة الوطء بشبهة، فقد توطأ المرأة في طهر من رجلين شبهة، وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قضى في مسألة وطء المرأة من رجلين في طهر واحد، وحصل الاختلاف في الولد، ونزع الولد للاثنين؛ لأنه فيه شبه من هذا، وفيه شبه من هذا، فقال: والي من شئت، وعن علي أنه قضى بهذا أيضاً. وبعض العلماء في مثل هذه المسائل يقول: إذا وجد الدليل من الطرفين فحينئذٍ تجرى القرعة، ومن خرجت له القرعة حكم له بالولد، ومن أهل العلم من لا يجري القرعة في هذا، والإمام ابن قدامة رحمه الله ذكر في المغني وفي العمدة مسائل الحكومة بالقرعة، وذكر أن القرعة تفصل في حال ادعاء المرأتين للولد، وفي حال ادعاء الرجلين للولد. وبناء على هذا الأصل: لو تعارض القائف مع قائف آخر، وصعب الترجيح، فإنه يحكم بالقرعة، ويرجح بين هذه الأقوال بها. ومن أهل العلم، من قال: اختلاف الثلاثة فأكثر في الولد اللقيط حكمه حكم الاثنين، وجعلوا قضاء علي وعمر رضي الله عنهما أصلاً يقاس غيره عليه، ويرون أنه في هذه الحالة يمكن أن يترك الولد لخياره، ويختار من شاء من هؤلاء الذين ادعوه ولداً لهم. والخلاصة: أن الذي عنده بينة يحكم له ببينته، منفرداً كان أو مجتمعاً مع غيره، سواءً كانوا اثنين أو أكثر، فالذي عنده بينة لا منازع له في بينته فاللقيط له؛ لأن المدعي مطالب بالبينة، فإذا أثبت البينة التي تدل على صدق قوله ودعواه حكمنا له بها، وأما إذا تعارض مع غيره، فكان عند غيره بينة، وتعارضت البينا

الأسئلة

الأسئلة

هل المجنون البالغ يكون لقيطا؟

هل المجنون البالغ يكون لقيطاً؟ Q قول المصنف: (طفل)، هل يدخل المجنون البالغ في ذلك؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آلة وصحبه ومن والاه. البالغ بالإجماع لا يعد لقيطاً، وإذا جن اللقيط بعد بلوغه فإنه يستصحب حكم الأصل، وهذا مثلما ذكرنا من المسائل المفرعة على الحكم بإسلامه، أنه إذا جن استصحبنا حكم الأصل، أما لو وجد مجنوناً، فإننا في هذه الحالة نحث من وجده أن يقوم على رعايته إذا أمكنه ذلك، وإلا رفعه إلى السلطان أو الوالي ليتولى أمره، والله أعلم.

حكم إلحاق اللقيط بنسب الملتقط ومحرمية أهل الملتقط

حكم إلحاق اللقيط بنسب الملتقط ومحرمية أهل الملتقط Q ما حكم اللقيط من حيث نسبه، ومن حيث محرميته في أقارب الملتقط؟ A أما من حيث النسب، فلا يجوز أن ينسب اللقيط إليه؛ لأنه ليس بوالده، وقد لعن الله عز وجل من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه، وهذا أمره عظيم، فإذا كان ملتقطاً له فإنه ينبغي عليه أن يحتاط، وألا ينسب اللقيط إليه؛ لأنه إذا نسبه إليه فقد ادعاه، والله يقول: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5]، فلا يجوز أن يدعي نسبة الولد إليه وهو ليس بولده، ثم يدخله على أهله وبناته، فينظر إلى عورات لا يحل له النظر إليها، ويصافحهن ويرث، وتقع المحاذير الشرعية، ويترتب على هذا مسائل شرعية صعبة، لكن الحل في مثل هذا إذا خشي من الفتنة أن يجعل اللقيط يرتضع من زوجته، حتى يصير بمثابة الابن في مسائل المحرمية، والتكشف ونحوها، ويحتاط إذا خشي أن ينسب اللقيط إليه، وذلك بأن يشهد شهوداً على أن هذا لقيط وليس بولده، حتى يحفظ حقوق أولاده ولا يضيعها، والله تعالى أعلم.

حكم زواج اللقيط وموضع زواجه

حكم زواج اللقيط وموضع زواجه Q إذا كَبُرَ هذا اللقيط فخطب، فمن يكون وليه في هذه الحالة؟ A إذا كان رجلاً، فإنه يخطب لنفسه، ويتزوج من يريد، ولا يشترط الولي للزوج؛ لأن الرجل يجوز له أن يزوج نفسه، لكن هذه المسألة عند بعض العلماء من المشتبهات، وتدخل في مسألة التورع؛ لأنه يُخشى أن يخطب أخته، أو يخطب بنت أخته، أو يخطب قريبته، فمسألة النكاح فيها إشكال كبير من جهة إذا غلب على ظنه وجود والديه في بلده، أو تكون هناك شبهة بالزنا -والعياذ بالله! - أو يكون من غير زنا، فيخشى أن يتزوج قريبته. وبالنسبة لشبهة كونه ابن زنا يعرف ذلك بالأحوال والدلائل، فإذا وجد في مكان التقاطه نقود على صفةٍ تبين تخلي والديه عنه، فالشبهة قائمة على أنه ابن زنا والعياذ بالله! وفي حالة ما إذا كان ابن زنا، فتفصل المسألة على خلاف العلماء، هل الزنا يؤثر في المحرمية أو لا يؤثر؟ فذهبت طائفة من العلماء إلى أن الزنا لا يؤثر كالشافعية ومن وافقهم، وذهبت طائفة أخرى من العلماء إلى أن الزنا يؤثر، فتحرم الأخت من الزنا، والعمة من الزنا، ويثبت الزنا المحرمية، كما تثبت في النسب، والقول بأن الزنا لا يؤثر ورد عن بعض الصحابة، مثل: عبد الله بن مسعود حيث قال: إن الحرام لا يحرم الحلال، فعلى هذا يمكن له أن يتزوج من الموضع؛ لأن الزنا لا يؤثر، ومذهب الجمهور إنه يؤثر؛ لأن العبرة بالمعاني لا بالأسماء، وقد ذكرنا هذا في مسألة المحارم، وهي: هل البنت من الزنا مَحْرَمٌ؟ وهل الأخت من الزنا محرم؟ وهل يجوز نكاحها؟ وقلنا: إن هذا من المشتبه الذي لا يفتى بحله ولا بحرمته، فيكون القول الذي اخترناه، قريب من مذهب الجمهور، ففي هذه الحالة إذا كان اللقيط في موضع على صفةٍ يغلب على الظن أن فيه شبهة الزنا، فإنه يبتعد عن البلد الذي وجد فيه، ويتعاطى أسباباً تبعده، حتى قال بعضهم: أحب أن يتزوج من موضع غير الموضع الذي وجد فيه، يعني: يتزوج من مكان آخر، حتى يبتعد عن الشبهة في هذا، وهذا مذهب بعض العلماء. إذاً: لا بد أن تعرف أولاً: هل هذا اللقيط من جنس الزنا أو من غيره؟! مثال من كان من جنس غير الزنا: الطفل الذي يكون ضائعاً في مجامع الناس، فالغالب ألا يكون هذا ابن زنا؛ لأنه لا يصل بالأم أن تتهرب من الولد وعمره أربع سنوات أو خمس سنوات أو ست سنوات، وهذا لا يخفى، ولا يمكن أن تتهرب دون أن تضع في جيبه ما يقوم به، فالزنا له دلائل، وهناك دلائل تغلب على الظن وجود تهمة الزنا، وهناك دلائل تغلب على الظن أنه ليس بابن زنا، فإذا وجدت الدلائل التي يحكم بكونه ليس ابن زنا، فالأمر أشد وأعظم؛ لأنه في هذه الحالة يحتمل أن كل واحدة في هذه القرية، أو في هذه المدينة بينه وبينها صلة توجب المحرمية، فالأمر صعب جداً، ولذلك يكون الأمر فيه أشد مما لو كان من الزنا، فالمسألة ليست سهلة، فإن وقعت يفتى فيها، فالإنسان يتورع من مثل هذه المسائل، لكونها تحتاج إلى نظر، وقد تكلم العلماء رحمهم الله عن هذه المسألة في باب النكاح، وأشار إليها الإمام النووي رحمه الله، والإمام الماوردي، في الحاوي، والإمام ابن قدامة، وأشار إلى جملة من مسائلها المتفرقة في النكاح، فهي مسألة مشهورة عند العلماء، وفيها إشكال، إلا أنه إذا تعاطى الأسباب، وعمل على غالب الظن بالسلامة، فإن شاء الله لا بأس في نكاحه وزواجه، والله تعالى أعلم.

عدم جواز الخروج من المسجد بعد الأذان للمؤذنين وغيرهم

عدم جواز الخروج من المسجد بعد الأذان للمؤذنين وغيرهم Q مؤذن يؤذن ثم يذهب إلى بيته، ويؤدي راتبة الظهر القبلية فيه، ثم يأتي ويقيم الصلاة، ويقول: إن الصلاة الراتبة في المنزل أفضل، فهل هذا العمل صحيح؟ A حتى المؤذنين صاروا مجتهدين! يا إخوان! الاجتهاد في الأدلة والمسائل والأحكام ليس لكل أحد، كان العلماء رحمة الله عليهم الواحد منهم يجثو على ركبتيه، ولا يريد أن يفتي في المسألة، ولا يريد أن يجتهد، والأدلة أمامه، خوفاً من الله سبحانه وتعالى وتورعاً. ثم نقول: هذا اجتهاد خاطئ وفعل خاطئ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخروج من المسجد بعد الأذان، فلا يجوز الخروج بعد الأذان من المسجد إلا من عذر، وفعل الفضائل ليست بعذر، ولا يجوز طلب السنة بارتكاب النهي، وأداؤه السنة الراتبة في المسجد أفضل من أدائها في البيت، يقول أبو هريرة رضي الله عنه -لما رأى رجلاً خرج من المسجد بعد الأذان-: (أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم)، ومن عصى الرسول صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله، فما يمكن أن نقول: اطلب سنة بمعصية الله، ولو أن رجلاً يريد أن يقبل الحجر، وعلى الحجر الطيب، وقد نهي عن الطبيب للمحرم، فعليه أن يترك سنة التقبيل؛ لأنه إذا تعارض المسنون مع النهي وجب تقديم النهي، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا فقال: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عنه فانتهوا)، فجعل مسألة النهي أعظم وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63]، فلذلك ينبغي على هذا المؤذن أن يتقي الله، وأن يبقى في المسجد، ولا يجوز له الخروج. وننبه أن الأئمة والمؤذنين وطلاب العلم والخطباء هم قدوةٌ للناس، فلا ينبغي للمؤذن أن يؤذن ويخرج من المسجد، أو يخرج ويجلس خارج المسجد، أو في غرفته التي بالمسجد ثم يأتي عند الإقامة، ولماذا نتعالى على الناس؟ ولماذا نتميز على الناس؟ ولذلك ينبغي ترك الأماكن الخاصة التي لا يدخل منها إلا الخاصة، ولا يخرج الإنسان من المسجد بعد الأذان إلا من عذر، ويكون هناك نوع من التحفظ والصيانة، وإذا كلف الإنسان ولاية من الولايات الشرعية، كالأذان والإمامة والفتيا والتعليم والتدريس، فينبغي أن ينتبه لمسألة القدوة، ويجب عليه أن يحفظ حق إمامته وأذانه، فهذا الذي يخرج من المسجد، هل نعلم أنه سيصلي السنة الراتبة في البيت؟! وهل كل الناس سيحسن به الظن؟! والناس إذا رأوا بأم أعينهم أن المؤذن دخل المسجد عند الإقامة، فمعنى ذلك أن يتأخذوا ولا يدخلوا إلا عند الإقامة؛ لأن المؤذن لم يدخل إلا عند الإقامة، فلذلك ينبغي أن نكون بعيدي النظر، وأن ننتبه لهذا، والواجب على المؤذنين أن يتحفظوا ما أمكن. وانظر إلى مسجد فيه مؤذن يؤذن، ثم يبقى فيه يقرأ كتاب الله عز وجل، أو يصلي، فوالله! إنه يعظم في عينك، ووالله! إن من الناس من يجل المؤذن أكثر مما يجل الإمام، مما يرى من حرص المؤذن على السنة، وحرصه على الخير، ولما فيه من بشائر الخير التي تدل على أنه أهل للأذان، فعلينا أن نشكر نعمة الله سبحانه تعالى، فإذا جعلت إماماً، أو جعلت مؤذناً، فلتعلم أنك ما جعلت بحولك ولا بقوتك، وإنما بتفضيل الله لك، وتفضيل الله لك نابع من هذا الشرع والدين، فاحرص على أن تحبب الناس في هذا الدين، واحرص على أن ينظر الناس لهذا الدين نظرة الهيبة لا نظرة الاستخفاف، فإذا خرج المؤذن من المسجد بعد أذانه استخف الناس بالجلوس في المسجد، ولربما يطرأ أمر في المسجد يحتاج إليه، وربما يطرأ أمر مكروه لا قدر الله، فوجود المؤذن أمر مهم جداً، ولا ينبغي في الحقيقة الخروج، بل ولا ينبغي التميز نهائياً؛ لأن الدخول عند الإقامة من هدي الأئمة، ولذلك لا ينبغي أن يشابههم غيرهم من الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل عند إقامة الصلاة، وكان بلال -كما في الصحيح- إذا سمع الخشخشة من وراء الستر أقام الصلاة، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوموا حتى تروني)، فهذه الأمور يتميز بها الأئمة ولا يشاركهم فيها غيرهم، ولا ينبغي أن نتفضل على الناس ونتقدم على الناس إلا بتقديم الشرع، وكان المشايخ رحمة الله عليهم يشددون في هذا، حتى والله! إنهم كانوا إذا جلسوا في مجالس مميزة، وأراد من هو قريب منهم من طلاب العلم أن يجلس بجوارهم، فإنهم ينهرونه، وإذا جلس طالب العلم في مجلسهم قبل مجيئهم، شدوا عليه وأغلظوا عليه، فلا ينبغي الدخول من الأماكن الخاصة، أو التنفل في موضع الإمام، فهذا يترك للإمام، ونحن عندما نتقدم على الناس، ونتصدر على الناس، فهناك شيء من الآداب علينا أن نتحلى بها، فلا بد لطالب العلم والمؤذن ومن ينتسب للشرع أن يكون متحلياً بالأكمل، وأن يكون عنده تحفظ، ويعلم ما الذي يترتب على فعله هذا، فكل شيء فيه تميز على الناس، وتصدر على الناس، سواء في الخروج أو الدخول، أو صفة الخروج أو صفة الدخول؛ فلا ينبغي أن تكون إلَّا لمن خص بهذا الحق، فالناس لهم حق، ولا يجوز أن يعلو عليهم أحد إلا بحق، فلو كان هناك مدخل خاص بالإمام، فلا يجوز أن يدخل كل أحد منه، فالإمام له فضل على جميع من في المسجد، فإذا جاء أي واحد ودخل مع الشيخ من مدخله مثلاً، أو مع الإمام من مدخله؛ كان هذا نوعاً من التميز، ولربما قد يقصد به التزكية لنفسه بأنه مع الشيخ، وتكون فتنة للتابع وفتنة للمتبوع، فطالب العلم التابع لمشايخه ينبغي عليه أن يحفظ حقوق الناس، ولا يتعالى على أحد من الناس، ولا يتميز في صفة ولا سمت إلا إذا فضله الله عز وجل بذلك. ولذلك كان بعض العلماء يكره إذا انتهت الصلاة أن يتقدم الشخص على الصف، إذا كان في الصف الأول، إلا إذا كان من ضرورة كمرض أو نحوه، وكانوا يستحبون أن يتأخر عن الصف؛ لأنه لما يتقدم على الصف فهذا تميز، وكذلك أداء السنة في مكان الإمام فيه تميز، ومن هنا نص بعض العلماء على أنه إذا صلى الإمام وانتهى من الأذكار، فإنه لا يبقى في مصلاه؛ لأنه جاز له التقدم لضرورة وحاجة وهي الإمامة، فإذا انتهى منها فلينتقل إلى مكان آخر. وكنا نرى بعض المشايخ الكبار، كان لهم موضع يجلسون فيه للفتوى، وما يجلس أحدهم في نفس المصلى، وكانوا يتكئون على سارية، أو مكان مخصوص يجلسون فيه بعد الجمعة أو بعد الصلاة، فينتقل الشيخ إلى هذا المكان ويجلس فيه، فالسائل يأتيه فيه، ولا يتميز على الناس، وهذا من التورع، والناس لهم حقوق ولا ينبغي التعالي عليهم، إلا باستحقاق شرعي. فالواجب على المؤذن: ألا يجتهد في فهم النصوص بغير علم، ومن قال في الدين برأيه فقد أخطأ ولو أصاب، وفي ذلك حديث، والحديث تكلم في سنده، لكن العمل عليه عند أهل العلم، ومعنى ذلك: أنه أخطأ بالجرأة على الاجتهاد، وهو ليس من أهل الاجتهاد، ولو أصاب الحق، فهذه الإصابة شيء آخر، ولكننا نتكلم عن كونه اجتهد وهو ليس بأهلٍ للاجتهاد، كمن يتعاطى أسباب الضرر، وهو يعلم أنه لا يتحفظ منها. فعلى الإنسان أن يتقي الله عز وجل، فلا يجتهد من عنده، حتى لا يكون ضالاً في نفسه، وقد يجعله الله مضلاً لغيره والعياذ بالله! إذا لم يتحفظ. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يقينا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

الفرق بين اللقيط واليتيم وحكم كل منهما

الفرق بين اللقيط واليتيم وحكم كل منهما Q هل يأخذ اللقيط حكم اليتيم من كل وجه؟ A اللقيط ليس بيتيم، ولا يجوز أن نحكم بأنه يتيم، أو يأخذ حكم اليتيم؛ لأن اليتيم هو من فقد أباه وهو دون البلوغ فهذا من جهة الآدمي، وأما من جهة الحيوان، فقالوا: اليتيم من فقد أمه. فليس هناك دليل على أن اللقيط يتيم، أو أن والده موجود أو غير موجود، فلذلك لا يأخذ اللقيط حكم اليتيم، لكن الشفقة عليه والإحسان إليه والبر به، وتفقده ونحو ذلك، لا شك أنه من أجلِّ الأعمال وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين)، وهذا بسبب الرحمة، فإن كافل اليتيم إنما نزل هذه المنزلة وتبوأ هذه الدرجة العظيمة بسبب الإحسان إليه، وجعل الله لمن كفله هذا الثواب العظيم، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (خير البيوت بيتٌ فيه يتيم يُحسن إليه)، فإذا دخل البيت كان بركة على أهله، وخيراً على أهله، وكان العلماء يستحبون أن يضم الإنسان إليه يتيماً إذا أمكنه ذلك، كأن يذهب إلى دور الأيتام ويأخذ يتيماً فيضمه إليه؛ حتى يضع الله الخير والبركة في بيته، فتبوأ كافل اليتيم لهذا كله من جهة الرحمة، وقد يكون اللقيط أشد من اليتيم؛ لأن اليتيم عرف أبويه، وعرف نسبه، ولكن اللقيط لم يعرف، واليتيم يتعذب دون البلوغ، فإذا بلغ واستوى على أشده كافح وانتفى عنه الضرر الذي كان موجوداً عليه في حال يُتْمِه، ولكن اللقيط لا يزال في حيرة من أمره، وعناء في نفسه، وانكسار في قلبه، حتى يواريه الثرى، فلا ينفك عنه هذا البلاء، كلما نظر إلى رجل ظنه أباً له، وكلما نظر إلى أم ظنها أماً له، وتارة تنتزع الخواطر وإحسان الظن بوالديه إلى أنهما كانا فقيرين أو ضعيفين، وتارة تنتزعه الخواطر إلى إساءة الظن بأمه وأنها كانت زانية، فهو في شيء من العناء لا يخطر على بال، ولذلك فالتقاط اللقيط ليس كاليتيم؛ لأن اللقيط يؤذى ويضر، والناس تسأله: من أنت؟ ومن أمك؟ ومن أبوك؟ ومن أين جئت؟ فالأمر في حقه أشد وأعظم من جهة المشاعر، والرحمة في حقه قد تفوق اليتيم، إلا أن اليتيم إن تعلق بوالده كانت الرحمة به في بعض الأحيان أشد؛ لأنه قد يفقد والده بعد أن يكون مميزاً، كأن يكون مثلاً ابن سبع سنين، وأدرك والده يحمله ويأخذه ويذهب به ويجيء، وإذا به بعد فقد والده لا يُحمل ولا يذهب به، وكلما رأى صبياً مع والده تقطع قلبه، وكلما رأى صبياً يكرم من والديه أصابته الحسرة، فالمشاعر الموجودة في اليتيم قد تفوقها مشاعر اللقيط، والله عز وجل يرحم الرحماء، فإن وقعت الرحمة إلى محتاج إليها، كان ثوابها من الله أعظم، وجزاؤها من الله أكبر، ويتولى أرحم الراحمين الرحمة بأضعاف ما رحم به المخلوق، ولذلك قال الله تعالى: (تجاوزوا عن عبدي فنحن أحق بالتجاوز منه) فصفح عن عبده في عرصات يوم القيامة؛ لأنه كان يرحم الناس، ويتجاوز عن المديونين، فكيف إذا رحم الضعيف الذي لا حول له ولا قوة؟ والرحمة كلما عظمت من المخلوق للمخلوق، ووقعت في موقعها، عظمت رحمة الله به، ولذلك قَلَّ أن تجد إنساناً معروفاً بالرحمة وتسوء خاتمته، بل غالباً أن الذي يرحم الناس ويحسن إليهم يتولاه الله عز وجل بإحسانه وبره، وما ينتظره في الآخرة أعظم وأجل من ذلك، وما سكنت الرحمة في قلب إنسان إلا كان من السعداء، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما مر عليه الأقرع بن حابس وهو يقبل ولده، فقال: (إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم، قال: أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك)، فالرحمة لا تدخل إلا في قلب سعيد، وما قام هذا الدين إلا على الرحمة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إمام الرحماء وإمام الكرماء عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام رحيماً بالناس، فالذي يرحم اللقيط ويحسن إليه ويتفقد مشاعره أجره عظيم. ولذلك قال بعض أهل العلم ممن أدركناه من مشايخنا: إن أمر اللقيط صعب؛ لأنك تحتاج أول شيء أن تقوم بحقوقه، وتتحفظ من أذيته، ويكون له داخل البيت وضع خاص؛ خاصة إذا لقط وهو صغير لم يميز الأمور، ولما يميز قد يبدأ يسأل: من أبوه؟ من أمه؟ ويكون الأمر في حقه صعباً ومحرجاً، ولذلك أمر اللقيط فيه ثواب عظيم، وقد يفوق الإحسان إلى اليتيم، إذا اتقى لاقطه الله عز وجل، وبالغ في إكرامه والإحسان إليه، وقد قال تعالى: {إنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30].

حكم إعطاء اليتيم من الزكاة للإنفاق عليه

حكم إعطاء اليتيم من الزكاة للإنفاق عليه Q ما حكم إعطاء اليتيم من الزكاة للإنفاق عليه؟ A اليتيم -من حيث الأصل- مرده إلى بيت مال المسلمين، ولذلك يصرف عليه من بيت مال المسلمين، وأما الزكاة فلا يعطى منها -من حيث الأصل- إذا كان ولي الأمر يتولى أمره، والأيتام الآن وجدت لهم دور أيتام، تقوم عليهم، ويصرف عليهم من بيت مال المسلمين، فحينئذٍ لا يستحقون من الزكاة؛ لأنه أَسند أمرهم ولي الأمر إلى من يتفقدهم، فإن وجدت حاجة وعوز فحينئذٍ يمكن أن يصرف لهم من الزكاة، لكن هذا عند الضرورة، أما إذا صرف عليهم من بيت مال المسلمين، فإنهم يستَكْفُوْن به، والله تعالى أعلم.

حكم إعطاء اللقيط من الزكاة للإنفاق عليه

حكم إعطاء اللقيط من الزكاة للإنفاق عليه Q هل يعطى اللقيط من الزكاة للإنفاق عليه؟ A اللقيط إذا كان له مصرف من بيت مال المسلمين، فإنه لا يعتبر محتاجاً، ما دام أن بيت مال المسلمين يتكفل به، ففي هذه الحالة ما يعطى من الزكاة، والزكاة إنما تعطى للفقير والمسكين، ومن سمى الله عز وجل من أهلها، والله تعالى أعلم.

حكم التعريف باللقيط عند وجدانه

حكم التعريف باللقيط عند وجدانه Q هل يجب التعريف باللقيط عند وجدانه والبحث عن والداه؟ A نعم، في حالة وجدانه يعرف به إذا غلب على الظن الضياع، وتوضيح ذلك أنه إذا وجد صبياً أو صبية، وغلب على الظن أنه مفقود من والديه، فعليه أن يعلم أن هناك ضرراً مترتباً على عدم رده لوالديه؛ لأن الأم تتضرر بفقدان ابنها أو بنتها، وتصيبها الوساوس، وربما فقدت عقلها، فهذا نبي الله يعقوب عليه السلام فقد بصره، وهو من أهل الصبر، وهو يعلم أن ولده سيعود إليه، فما ظنك بمن فقد ولده بدون عودة؟! ومن هنا لم يحل للمسلم أن يخرج إلى الجهاد حتى يستأذن والديه؛ لأنها مسألة فقد، فيعمل الوسيلة التي يكون بها رجوع الولد إلى والده، كأن تكون هذه الوسيلة عن طريق الإعلام، أو عن طريق نشر صورته، وغيرها من الوسائل التي يمكن أن يستدل بها عليه، فعلى لاقطه أن يستخدمها حتى يصل الولد إلى والديه، حتى وإن اضطر إلى تصويره، فإنه يفعل ذلك؛ لأن في ذلك رحمة بأمه وبأبيه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أراد أن يبين للصحابة عظيم رحمة الله بخلقه، فإنه بين لهم عظيم ذلك حينما ضرب لهم المثل، ولله المثل الأتم الأكمل، وذلك أن امرأة جاءت تسعى سعياً حثيثاً حين رأت ولدها، فأخذته فضمته إلى صدرها، فقال صلى الله عليه وسلم (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا، يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده! لله أرحم بعباده من هذه بولدها)، فالشاهد من هذا: أنه لما أراد أن يضرب المثل بعظيم رحمة الله اختار رحمة الأم بالولد، وجعل ذلك عند الفقد، فرجوع الابن لأمه والبنت لأمها له شأن عظيم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من فرق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة)، فالأمر عظيم، وما دام أنه يمكن الاتصال به، ويمكن السؤال والتحري والتعريف؛ فإنه يجب علينا أن نتعاطى ذلك؛ لأن السكوت عن ذلك فيه ضرر، وضياع لحقوق الولد، وإدخال للضرر على الولد مستقبلاً، وإدخال الضرر على والديه، ولا يجوز إدخال الضرر على المسلم، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: (لا ضرر ولا ضرار)، والله تعالى أعلم.

كتاب الوقف [1]

شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [1] مما ينفع الإنسان عند ربه في الدنيا بل والآخرة بعد موته أن يوقف وقفاً لله تعالى، يدر عليه الحسنات كما لو كان حياً يعملها، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على مشروعيته وفضله والحث عليه.

الأدلة على مشروعية الوقف من الكتاب والسنة

الأدلة على مشروعية الوقف من الكتاب والسنة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الوقف] هذا الكتاب يعتبر من أهم الكتب التي بحثها الفقهاء رحمهم الله، وبينوا مسائلها، وما اشتمل عليه هذا الكتاب من أحكام، ونظراً لعظم أمره، وعموم البلوى به في كل زمان ومكان، ناسب أن يذكره المصنف رحمه الله في هذا الموضع. وعبر بالكتاب، لكي يفصله عن الأبواب السابقة، فالأبواب السابقة متعلقة بالمعاملات المالية، والوقف يجمع بين المعاملة المالية من وجه، وبين العبادة من وجه آخر، وهو من حيث الأصل تسبيل لله عز وجل، ولذلك يخرج عن معنى المعاوضة من هذا الوجه، وعبر بالكتاب حتى لا يُظن أنه تابع للمعاوضات المالية. وإلا فالأصل أن العلماء رحمهم الله يخُصون الكتاب بالأبواب الكثيرة، مثل أن يقال: كتاب المناسك ويقال: كتاب الصلاة؛ لأن أبوابه كثيرة، والوقف ليست له أبواب كثيرة؛ ولكنه منقطعٌ عما قبله، فلو قال المصنف: باب الوقف؛ لظن ظانٌ أنه تابع للمعاملات المالية التي تقدمت معنا في الدروس الماضية. وقوله رحمه الله: (كتاب الوقف) أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالوقف. وهو: حبس أو تحبيس العين، وتسبيل المنفعة والثمرة، والمراد بالعين: العين الموقوفة، سواء كانت من العقارات، أو كانت من المنقولات، وسيأتي إن شاء الله بيان هذا التعريف وحقيقته، حينما ذكره المصنف رحمه الله في صدر الكتاب.

مشروعية الوقف من الكتاب

مشروعية الوقف من الكتاب والوقف يعتبر مشروعاً بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة من العلماء رحمهم الله، فأما دليل الكتاب فإن الوقف داخلٌ تحت عموم الآيات التي دلت على الطاعات والخير، والندب إلى البر، ولذلك يعتبره العلماء رحمهم الله من التعاون على البر والتقوى الذي أمر الله عز وجل به في كتابه بقوله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]. وإن المسلم إذا أوقف بيته أو سبَّل مزرعته، خاصة إذا جعلها للضعفاء والفقراء والمساكين، أو أوقف مسجداً للصلاة فيه، وانتفع الناس بعبادة ربهم وذكرهم لله عز وجل في هذا الموضع الموقوف، وكذلك بحلق الذكر في تلك المساجد الموقوفة، أو جعل صدقة كتسبيل المياه من حفر الآبار، وسقي العطشى، سواءً كانت داخل المدن، أو كانت خارج المدن، خاصة إذا كانت في السبل والمفازات التي تكون الحاجة فيها ماسة إلى وجود الماء، وهكذا إذا برّده أو وضع البرادات للماء، أو الأسباب التي تعين على تهيئته للعطشى والمحتاجين، ونحو ذلك من أفعال البر؛ فلا يشك أحد أنه من التعاون على البر والتقوى، وأنه من طاعة الله عز وجل، فهو داخل في عموم الصدقات والإحسان إلى المسلمين.

الوقف عند الصحابة رضي الله عنهم

الوقف عند الصحابة رضي الله عنهم وقد وقع الوقف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجاء كذلك عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه أوقف بئر رومة، فلما فعل ذلك أقره النبي صلى الله عليه وسلم، بل ندب إلى ذلك، وقال: من يشتريها وله الجنة، فاشتراها عثمان رضي الله عنه وأرضاه وجعلها صدقة على المسلمين. وكذلك أيضاً أوقف الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه على ذرِّيته، وكانت له أموال كثيرة، فأوقف جملة من أمواله حتى جاء في بعض الآثار أنه أوقفها على بناته، وخص الإناث دون الذكور، وهو وجه لبعض أهل العلم رحمهم الله، ووجهه أن الرجل ربما يخشى على بناته من بعده الطلاق والضيعة، والرجل يستطيع أن يأوي إلى أي مكان، ولكن البنت لا تستطيع، فلذلك أجاز بعض العلماء -كما سيأتينا في مسائل الوقف- أن يَخُص بعض ذريته كالإناث، فيقول مثلاً: بيتي للمطلقة أو الأرملة من بناتي، وقد أثر ذلك عن الزبير بن العوام رضي الله عنه، وهو قول اختاره طائفة من أهل العلم رحمهم الله، فهذا صحابي جليل قد أوقف، حتى قال جابر رضي الله عنه وأرضاه كما في الرواية عنه: (ما من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو مقدِرة إلا أوقف في سبيل الخير). وهذا يدل على فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبهم للخير وحرصهم على الآخرة، ولذلك آثروا الآخرة على الدنيا، وهذا هو شأن الحكيم العاقل الموفق، فإن الله عز وجل إذا وهب العبد النعمة، وأراد أن يتمم له بركتها وخيرها وجه صرفه إياها إلى ما ينفعه في الآخرة، وسلطه على إهلاك ذلك المال في الحق وسُبُل الخير كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الدنيا لأربعة نفر) وذكر منهم: من أعطاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق. يعني: سلطه على إهلاك المال في طاعة الله عز وجل ومرضاته.

مشروعية الوقف من السنة

مشروعية الوقف من السنة وأما دليل السنة فإنه صريح في الدلالة على مشروعية الوقف، فالفرق بين دليل القرآن والسنة على مشروعية الوقف أن دليل القرآن عام، وأما دليل السنة فإنه ورد في الوقف بخصوصه، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه: (أصاب عمر رضي الله عنه أرضاً بخيبر، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأمِره فيها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت حبست أصلها وسبّلت -وفي رواية تصدقت- على أنها لا تباع ولا توهب ولا تورث). هذا الحديث فيه فوائد عظيمة أولها قول عبد الله بن عمر: (أصاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرضاً بخيبر) جاء في الرواية الأخرى أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بخيبر هي أعز ما أصبت من مال، فما تأمرني فيها)؟ فانظر إلى فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرصهم على الرجوع إلى العلماء، والرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة ما هو الخير والأحظ للإنسان في دينه ودنياه وآخرته. فلا يزال العبد موفقاً مسدداً ملهماً للصواب ما رجع إلى أهل العلم، وأحبهم، واستشارهم، فإن الله يضع له البركة في ذلك؛ لأن الدافع في الرجوع إلى العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، مرضاة الله سبحانه وتعالى، وإجلال شعائر الدين، ولذلك يُوفَّق من يرجع إليهم، ويسدد ويلهم الخير. فهذا الصحابي الجليل عمر الفاروق رضي الله عنه وأرضاه، أصاب هذا المال الذي هو أعز ما يملك، فلم يتصرف فيه بمحض رأيه واجتهاده، مع أن التصرف مباح له شرعاً، فلو أنه باعها أو تصدق بها أو فعل بها ما شاء، فإن ذلك له، وهذا بتمليك الله عز وجل له ما دام أنه تصرف بما أحل الله وشرع؛ ولكن كان الصحابة رضوان الله عليهم لا يقدمون ولا يؤخرون إلا بالرجوع إلى الوحي والرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولذلك عظمت منزلتهم، وارتفعت درجتهم، وأثنى الله عليهم من فوق سبع سماوات في كتابه، حتى بقي الثناء عليهم إلى يوم الدين يتلى في كتابه. كل هذا بمحبة الوحي والرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنزال المسائل به، حتى يُصيب الإنسان الأقوم، والأسلم، والأرشد له في دينه ودنياه وآخرته، ولا شك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أصاب بمشورة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير دينه ودنياه وآخرته. وانظر إلى الأسلوب حين يرجع الإنسان إلى من هو أعلم وأفضل: (فما تأمرني)، ولم يقل: فماذا تشير علي؟ ولكن (فما تأمرني؟) وكأن الأمر أمره عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن شئت حبست أصلها)، فالوقف: هو التحبيس، فإذا أوقف الإنسان فقد حبس العين الموقوفة، فقوله: (حبّست) يعني أوقفت؛ لأن الشيء المحبوس موقوف عن الحركة وممنوع منها، فأصل الوقف الامتناع عن السير والحركة، يقال: وقفت الدابة؛ إذا أمسكت عن السير والحركة، ويقال: وقف الظل؛ إذا كانت الشمس في منتصف السماء وأمسكت عن الحركة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت حبست أصلها) وهذا بالنسبة للأرض، وقد كانت خيبر أرض زرع، وكانت من أفاضل أراضي الجزيرة من حيث الزراعة ووجود النخل فيها، وكانت عامرة بذلك، ولا تزال إلى اليوم فيها بقية باقية من ذلك العمران، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت حبست أصلها) يعني حبست أصل الأرض، والمراد بذلك الأرض التي هي العين الموقوفة، وما عليها من الزروع والنخيل. قال عليه الصلاة والسلام: (وتصدقت بها -وفي رواية: وسبلت- وجعلت ثمرتها في ذوي القربى) فقوله: (وتصدقت بها): يعني بنتاج الأرض، وهذا يقع في وقف المزارع، حيث توقف المزرعة فيشمل ذلك الأرض التي هي العقار المحبوس، وكذلك ما عليها من النخيل والزروع، (وحبست ثمرتها): ثمرة النخيل كالتمر والرطب والبلح، وكذلك إذا كان فيها العنب أو غير ذلك من المزروعات، وتصدقت بثمرتها. فدل على أن العين تُحبس، وأنه إذا أوقف مزرعة وسبّلها؛ فإن ثمرتها تكون محبوسة، وذلك بصرفها في الوجه الذي خص الوقف به. وقوله عليه الصلاة والسلام: (على أنها) يعني الأرض: (لا تباع ولا توهب ولا تورث) إذاً: معنى ذلك أن ملكية الواقف لها قد زالت، ومن هنا استدل طائفة من العلماء رحمهم الله على أن من أوقف شيئاً فقد زال ملكه عنه. وبناءً عليه يتفرع أن الشخص ربما أوقف مسجداً، وجعل يتصرف فيه دون أن يشترط نظارة المسجد له، ولربما ضمه إلى جهة مختصة بالمسجد؛ لكنه يتصرف فيه، ويأمر وينهى وكأنه يملكه، ولربما منع أو أخرج الناس من المسجد، فهذا مخالف للأصل؛ لأنه بإيقافه للمسجد خرج المسجد عن ملكيته، وقد قرر العلماء رحمهم الله أن الوقف يخرجه الإنسان من نفسه صدقة لله عز وجل. ولذلك يُعتبر من المعاملة بين المخلوق والخالق، والله عز وجل يملك المخلوق وما ملك، ولكنه سبحانه وتعالى جعل ابن آدم مستخلفاً في المال لكي يبتلي المحسن في إحسانه والمسيء في إساءته. وقوله عليه الصلاة والسلام: (على أنها لا تباع ولا توهب ولا تورث) البيع أصل في المعاوضات، أي: لا يجوز لك أن تعاوض عليها، ولذلك أجمع العلماء من حيث الأصل على أن الوقف لا يباع إلا في مسألة، وهي أن تتعطل مصالح الوقف، كرجل أوقف مزرعة ثم إن هذه المزرعة نضب ماؤها وتعذر سقيها، واحتيج إلى الانتقال إلى مكان آخر، فحينئذ يرفع إلى القاضي، فيحكم القاضي بجواز بيعها، فتباع ثم يشترى بدلاً منها ما يقوم مقامها. أما من حيث الأصل فلا يجوز بيع الوقف، فلو أوقف عمارة -مثلاً- صدقة على المساكين، أو صدقة على طلاب العلم، أو رباطاً لهم، ثم أراد أن يبيعها ويشتري غيرها؛ فنقول: لا يجوز بيع الوقف، والأصل أنه محبّس، وممنوع صاحبه من التصرف فيه، إلا في حدود ما اشترط من نظارته لمصلحة الوقف. فلو أنه أوقف أرضاً ثم وهبها لزيد أو وهبها لعمرو فإن الهبة لا تصح؛ لأن الهبة تفتقر إلى ملك، ومن هنا بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملك زال ولا تصح الهبة. وتتفرع المسألة المشهورة من هبة أعضاء الآدمي، فإن الآدمي ليس بمالك لنفسه حتى تصح هبته، فلما كان الوقف قد زالت ملكيته عن الإنسان بالوقفية، لم تصح هبته للغير، فكذلك كل شيء لا يملكه الإنسان لا يملك الهبة فيه. ولما قال صلى الله عليه وسلم: (لا توهب ولا تورث) جمع عليه الصلاة والسلام بهذا الثلاثة الأصول: الانتقال بعوض، كما في البيع وجعل البيع أصلاً له، والانتقال بدون عوض كما في الهبة، وهذا انتقال اختياري، والانتقال الجبري كما في الإرث، وانظر إلى بديع هذه السنة ودقتها، وهذا يدل على صحة القياس؛ لأن الشريعة جاءت بأصل لكل باب على حدة، حتى تنبه على غيره. فإذا تقرر هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين في هذا الحديث مشروعية الوقف، وبين جملة من الأحكام والمسائل التي تترتب على الوقف. فهذا الحديث يعتبر عند العلماء أصلاً في مشروعية إيقاف المزارع والأرضين والعقارات، وتسبيل ثمرتها، وكذلك يعتبر أصلاً يقاس عليه غيره، فيقال: يجوز أن يوقف الإنسان كل عين في حكم المزرعة من جهة بقائها ودوامها، كما سيأتي إن شاء الله في شروط صحة العين الموقوفة. أما الدليل الثاني: فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره أن سعداً رضي الله عنه جاءه وقال: (يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها) يعني ماتت فجأة، وكان سعد رضي الله عنه من أبر الناس بأمه (إن أمي افتلتت نفسها، وما أراها لو بقيت إلا أوصت، أفأتصدق عنها؟) وكانت قد توفيت وهو خارج المدينة في غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وفُجع بها رضي الله عنه، وكان يحبها حباً شديداً، فلما أتى وأُخبر بخبرها قال: (يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها وما أراها لو بقيت إلا أوصت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم). وفي رواية في صحيح البخاري: (فجعل لها حائط الخراف) وحائط الخراف: بستان من بساتين المدينة، وقد كانت العرب تسمي البساتين بأسماء، أي: تصدق به عنها براً منه رضي الله عنه بأمه، فدل على مشروعية الصدقة عن الميت، ولو كانت بالوقف، فصح الوقف عن الحي، والوقف عن الميت. ومن أوقف على والديه جعل الله له الأجر من وجهين: أجر بر والديه، وأجر الصدقة، فهو مثاب من الوجهين كالصدقة على ذي القرابة، فإن الله يجعلها صدقةً وبراً وصلة. فالشاهد من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر وقفية المزرعة وأجازها، وقد فعل ذلك رضي الله عنه استئذاناً من النبي صلى الله عليه وسلم. أما الدليل الثالث من السنة: فما ثبت في صحيح مسلم وغيره أنه قال عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية). فقوله: (صدقة جارية) يدل على مشروعية الوقف؛ لأن الصدقات الجارية هي الصدقات المحبوسة الموقوفة، بحيث تبقى بعد موت صاحبها، كمن حفر بئراً أو أجرى نهراً أو قنطرة لسقي المزارع، وسقي الدواب، وسقي الناس، وكذلك الصدقة الجارية كمن بنى بيتاً وجعله للضعفاء والفقراء والأيتام والمحتاجين، أو جعله لقرابته، صلة رحم لهم، أو جعله لطلاب العلم رباطاً يستعينون به بعد الله عز وجل فيأوي إليه ضعيفهم. وكذلك لو أوقف كتباً، فإنها صدقة جارية؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (صدقة جارية)، فلما أقر عليه الصلاة والسلام الوقف على هذا الوجه، أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعيته.

فضل الوقف لوجه الله

فضل الوقف لوجه الله فهذا هو شأن الموفق السعيد، فالوقف لا يُشك أنه مشروع، وأنه من خصال البر والطاعة، ولكن بشروط لا بد من توفرها، وهناك أُسس لا يكون الوقف خيراً للعبد في دينه ودنياه وآخرته إلا إذا حققها، أولها وأساسها أن يوقف لوجه الله وابتغاء مرضاته لا رياءً ولا سمعة، لا يطلب من الناس مدحاً ولا ثناءً، وإنما يوقف أمواله لوجه الله عز وجل يحتسب ثوابها عند الله سبحانه وتعالى. وكأنه تأمل ونظر وتفكر فوجد أن هذا المال لو بقي عنده انتفع به في الدنيا، فارتاحت نفسه، وارتاح أهله وولده، ووجد لذة هذا المال، سواءً كان مزرعة أو عمارة أو أرضاً، ولكن إذا تصدق به فإن الله يتقبل الصدقة من عبده الصالح بيمينه، وكلتا يدي الرحمن يمين، فينميها له، فلا يزال تكثر صدقته، ويعظم أجره حتى يلقى الله سبحانه وتعالى فيجد صدقته أضاعفاً كثيرة، لا يعلم قدرها إلا الله سبحانه وتعالى. ويتفاوت الناس في مضاعفة الله لهم في الصدقات على حسب نيتهم وعظم بلائهم في هذه الصدقة، فإذا نظر بين الأمرين وبين الخيارين، اختار ما عند الله على الدنيا، ومما ذكروا عن بعض الصالحين في زمان قريب أنه بنى بيتاً أنفق عليه أكثر أمواله، وكان من أفضل البيوت وأحسنها بالمدينة، واستغرق بناؤه سنوات، فلما كمل بناؤه وأحسنه وأتمه وأدخل فيه أزواجه وذريته، فلما استقروا فيه من أول النهار جمعهم في الظهيرة وقال: يا أبنائي! كيف وجدتم البيت؟ قالوا: وجدناه من أحسن ما يكون. فكل يثني على صفة موجودة في البيت. فلما انتهوا وفرغوا من ثنائهم، قال: إني فكرت ونظرت ووجدت أن هذا البيت هو أعز ما أملكه في الدنيا، وأن أفضل ما يكون مني أن أقدمه صدقة لآخرتي، يقول لي الوالد رحمة الله عليه -نقل الثقة-: ما رد عليه أحد من أولاده أو زوجه؛ لأن العبد الصالح إذا حسنت نيته، ونشّأ تنشئة صالحة، وجد ثمار هذا الصلاح حينما يأمر بطاعة الله أو يلتمس مرضاة الله، والعكس بالعكس، فمن يقصر في تربية ذريته وأهله وزوجه، ولا يكون قائماً على البيت كما ينبغي أن يكون، يخذله الله في مثل هذه المواقف كما خذل دين الله. فالشاهد أنه ما رد عليه أحد، بل وافقوه كلهم، فيقسم هذا الرجل الثقة للوالد يقول: والله لقد خرجوا في عز الظهيرة في الشمس، في الصيف من بيتهم إلى بيتهم القديم، وما غابت الشمس إلى وهو مليء بالأيتام والأرامل وضعفة المسلمين. فالعبد الصالح إذا عظمت الآخرة في عينه، وأراد ما عند الله سبحانه وتعالى، هانت عليه الدنيا، وإذا أحس أنه يعامل الله سبحانه وتعالى فإنه يقدم على الوقف بكل شجاعة ورضا، ويبذل وقفه ويحس أنه الرابح والغانم، وأنه لا يخسر في المعاملة مع الله عز وجل شيئاً. فأجمع العلماء رحمهم الله على أن الوقف من أعظم الطاعات وأجلها، ثم يختلف الوقف بحسب اختلاف أحواله، فالوقف الذي تكون الجهة المستحقة فيه جهة عامة ومصلحة عامة من مصالح الدين، فإن الأجر فيه أعظم، كبناء المساجد والمدارس، فإن المساجد نفعها وخيرها عام، خاصة إذا كانت من مساجد الجمعة، فإن الأجر فيها لا يقتصر على الجماعات وإنما يشمل الجمعة والجماعات. كذلك أيضاً المساجد تتفاوت، فالمساجد إذا كانت في أمكنة عُرف أهلها بالمحافظة والحرص على الصلوات، وربما لم يكن هناك مسجد غير هذا المسجد الذي بني، فلا شك أن الأجر فيها أعظم، والوقف في هذا المكان أفضل من الوقف في غيره. كذلك أيضاً من المصالح العامة، وهي من أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى حفر الآبار، فإن الماء يحتاج إليه خاصة في الصيف، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله غفر الذنوب بسقي الماء. فالبغي من بغايا بني إسرائيل مرت على كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش فرحمته فاستقت له من البئر، فغفر الله لها ذنوبها. فإذا كان هذا في كلب وبهيمة، فكيف إذا كان إحساناً بضعفة المسلمين في القرى والهجر البعيدة التي يحتاج أهلها إلى الماء، أو يطلبون الماء من أماكن بعيدة، أو يشتري الإنسان لهم سيارة لنقل الماء، فهذه الصدقة لا شك أن نفعها أعظم، وخيرها أعظم وبِرها أكثر، فيكون الوقف على هذا الوجه أفضل من الوقف على غيره. كذلك الوقف على ذي القربى والإحسان إليهم أعظم أجراً، كما ثبت في حديث زينب -امرأة عبد الله بن مسعود - رضي الله عنها أنها لما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقة على أقرباء زوجها، فأخبرها عليه الصلاة والسلام أنها صدقة وصلة. أي أن الله يأجرها على أنها تصدقت ويأجرها على أنها صلة رحم. كذلك يفضل الوقف بحسب الغايات الموجودة فيه، ولذلك قرر الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه النفيس (قواعد الأحكام) في مسألة الفضائل أن الأعمال تتفاضل بحسب المقاصد والوسائل. فإذا نظرت إلى الوقف على طلبة العلم، من بناء البيوت لهم، أو إعانتهم على الكتب، كإيقاف المكتبات للقراءة والمراجعة والمذاكرة، وكذلك شراء الكتب وتحبيسها عليهم، ونحو ذلك من الأمور التي تعين طالب العلم على طلب العلم، فإن الوقف عليها أفضل؛ لأنه ليس هناك أحب إلى الله عز وجل من ذكره سبحانه وتعالى، وليس هناك أفضل من طلب العلم، والعلم أفضل من العبادة، كما أخبر صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: (وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب). فدل على أن الوقف على العلم أفضل من الوقف على غيره، ويُقاس على ذلك بناء المساجد لتعليم أبناء المسلمين، وخاصة إذا وُجدت الحاجة الماسة للمحافظة على عقيدتهم؛ كأن يكونوا في بلد يحتاج إلى بناء مدرسة ويخشى عليهم أن يضلوا عن سبيل الله، أو يصرفوا عن الإسلام بتهويدهم أو صرفهم بالنصرانية أو نحو ذلك. فإن بناء المساجد في مثل هذه المواضع أجره عظيم، وثوابه كبير، فالوقف في هذه الحالة يكون أفضل من هذا الوجه، فإذا عظم بلاء الوقف وعظم نفعه، وكان نفعه عاماً، فالفضل فيه أعظم، والأجر فيه أكبر، ومما ذكره العلماء بناء البيوت في الطرقات نزلاً للمسافرين كما كان في القديم، حيث كانوا يبنون على طرقات السابلة بنياناً يجعلونه سبيلاً ووقفاً على من نزل فيه من المسلمين. كل هذه الأعمال فضُلت من جهة كونها عامة، والمصلحة فيها لا تختص بشخص، ولا بطائفة، ولا بجنس ولا بأفراد دون أفراد، وإنما نفعها عام، ففضلت من هذا الوجه. وأما بالنسبة للوقف الخاص، فالوقف الخاص لا بأس به، وهو مشروع، وسيأتي إن شاء الله بيان بعض المسائل المتعلقة به، ومن أمثلتها أن يوقف على ذريته، فإذا أوقف على ذريته أو قرابته، كأن يقول: صدقة على آل فلان، ويخص آل فلان، من قرابته، وقد يُخصِّص القرابة فيجعلها في العصبة، وقد يعمم القرابة، ففي هذه الحالة ينفذ الوقف، ويتقيد بما قيده الواقف، كما سيأتي إن شاء الله في شرط الواقف. لكن يختلف من جهة الفضل، ومن جهة عظم الأجر وحسن البلاء، وأياً ما كان، فإن الواجب على من أراد أن يوقف، أن يتحرى السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أراد وقفاً خاصاً -أن يوقف على بعض ولده- أن يتحرى العدل، وقد ذكرنا قضية الزبير رضي الله عنه وأرضاه، وهي محل خلاف بين أهل العلم رحمهم الله. ولذلك يقولون: قد يوقف الإنسان فيظلم بعض الورثة، ولا يسلم الإنسان غالباً من هذا الظلم إلا إذا رجع لأهل العلم وسألهم، فالواجب على من أراد أن يوقف أن يستشير العلماء، وأن يسألهم الرأي السديد في الوقف، وأن يتحرى السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله.

تعريف الوقف في الشرع

تعريف الوقف في الشرع قال رحمه الله تعالى: [وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة] (وهو) أي الوقف (تحبيس) يقال: حبس الشيء إذا منعه، ومنه الحبس؛ لأنه منع من الخروج، وقوله رحمه الله: (تحبيس الأصل) أي: سواء كان من العقارات كما ذكرنا في المزارع والدور، أو من المنقولات كالدواب والحيوانات ونحوها، وفي أزمنتنا السيارات فيمكن تسبيلها، مثل شراء السيارات لنقل طلبة العلم ولنقل الماء، وهذا من أعظم ما يكون فيه الأجر خاصة في هذا الزمان، فربما كان الناس يبعدون عشرات الكيلو مترات عن الآبار وتحصل المشقة لهم في سقي دوابهم، وسقي أهليهم وذويهم، فشراء مثل هذه السيارات يعتبر تحبيساً للأصل. (وتسبيل المنفعة): وقد ذكرنا أن هناك العين وهناك المنفعة، فالعين هي الرقبة ذاتها كالبيت والمزرعة، وأما المنفعة فهي المصلحة الناشئة من العين، مثلاً: السيارة منفعتها الركوب، ومنفعتها الحمل عليها، فإذا أوقف مثلاً سيارة نقل الماء فإنه يحبِّس العين وهي السيارة، لا تباع ولا توهب ولا تورث، والمنفعة وهي نقل الماء مسبّلة على الجهة عمّمَها أو خصّصَها، فهذا تحبيس للعين وتسبيل للمنفعة. كذلك أيضاً لو أوقف بيتاً أو عمارة وقال: هذه العمارة للمطلقات الفقيرات، أو الأرامل، أو للضعفة والفقراء ونحو ذلك، فإن الرقبة أو العين وهي البيت لا تباع ولا توهب ولا تورث، فحُبِسَت؛ لكن منفعة السكنى فيها والجلوس فيها لمن سمى عمّم أو خَصَّص، كذلك المسجد، فالعقار (الأرض) والبناء الذي عليه لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ولكن منفعة الجلوس فيه، والصلاة فيه، وذكر الله عز وجل فيه، من تلاوة القرآن، وطلب العلم، فإنه يعتبر منفعة مسبّلة للمسلمين. إذاً تحبيس العين وتسبيل الثمرة مستقى من قوله عليه الصلاة والسلام: (إن شئت حبّست أصلها وتصدقت بثمرتها) ومن هنا نعلم أن العلماء رحمهم الله يحتاطون في التعريفات الشرعية حيث إنهم يأخذونها غالباً من السنة، ومن الأدلة التي دلت على حقيقة الشيء. فلما بين النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث حقيقة الوقف، وقال: (إن شئت حبّست أصلها وسبلت وتصدقت بثمرها) دل على أن حقيقة الوقف تحبيس العين وتسبيل المنفعة.

بم يصح الوقف

بم يصح الوقف قال رحمه الله: [ويصح بالقول وبالفعل الدال عليه كمن جعل أرضه مسجداً وأذن للناس في الصلاة فيه، أو مقبرة وأذن في الدفن فيها] قوله: (ويصح بالقول): أي ويصح الوقف شرعاً بالقول الدال عليه، وسيأتي أن القول ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون صريحاً كقوله: أوقفت وحبّست وسبّلت، أو يكون كناية كقوله: حرّمت أبّدت تصدقت، فهذا كله من ألفاظ الوقف، ويختلف اللفظ الصريح عن الكناية من جهة أنه لا يحتاج إلى نية، وسيأتي إن شاء الله الكلام على أحكام اللفظ. فبيّن رحمه الله الركن الأول المتعلق بالوقف وهو الصيغة، فالوقف له صيغة، والصيغة تنقسم إلى قول وفعل، بعض العلماء يقول: الوقف لا يكون إلا بالقول فقط، ولا يقع الوقف بالفعل ولو دل عليه، فيرون أن الوقف لابد فيه من اللفظ، وأنه إذا لم يتلفظ لا يقع الوقف، كما يختاره أئمة الشافعية رحمهم الله، وهذا تقدم معنا في مسألة بيع المعاطاة، هل تشترط الصيغة أم أن الفعل يُنزل منزلة القول، ولـ شيخ الإسلام رحمه الله برحمته الواسعة كلام نفيس في كتابه النفيس: القواعد النورانية، بيّن فيه إجماع السلف الصالح، وذكر فيه نصوص الكتاب والسنة، وهدي السلف الصالح على أنهم كانوا ينزلون الأفعال منزلة الأقوال في الدلالة، فلا يشك المسلم بأن الشخص إذا بنى بناءً على شكل المسجد، ثم فتح أبوابه وأَذِن للناس في الصلاة فيه دون أن يتكلم؛ أن هذا الفعل كما لو قال لهم: أوقفت. كذلك أيضاً، لو أنه جاء إلى خزان ماء، فأخرج منه صنبور الماء ووضع كيزان الماء على الطرق العامة أو السابلة، أو أجرى قنطرة من الماء كما في القديم، انصبت في مكان عال لسقي الدواب أو سقي الناس، فلا يشك أحد أنه يقصد من هذا الفعل سقي المسلمين، ولا يحتاج أن يقول: وقّفت أو أوقفت هذا، أو سبلت هذا أو حبّست هذا، وإنما ننزل فعله منزلة قوله، ويكون الوقف ثابتاً بالفعل كما هو ثابت بالقول. ولا شك أن هذا المذهب الذي يقول: إن الأفعال تُنزّل منزلة الأقوال هو المذهب الصواب إن شاء الله، خاصة وأن نصوص الكتاب والسنة تتضمنه، وكذلك إجماع السلف الصالح رحمهم الله يدل على أنهم كانوا ينزلون الأفعال منزلة الأقوال. إذا ثبت هذا فمعناه أن الصيغة التي هي ركن من أركان الوقف تكون بالقول وتكون بالفعل، فبيّن رحمه الله الصيغة بقوله: (ويصح بالقول وبالفعل الدال عليه). وقوله: (وبالفعل الدال عليه): يشترط في الفعل أن تكون له دلالة، فإذاً: ليس كل فعل نقبله ونلزم الناس بأنها أوقفت وحبّست وسبّلت، بل لابد وأن يتضمن ذلك الفعل دلالة كما ذكرنا، مثلاً: البناء الذي يكون على شكل المسجد، وتجد فيه هذه القبة التي توضع على المساجد، وهي ليس من باب العبادة، إنما نشأت في أواخر عصور بني العباس، وكانت طريقة هندسية يُراد منها إيصال الصوت. ولذلك المساجد التي تجد فيها هذه الفراغ يسري فيها الصوت أكثر من المساجد المصمَتة التي تكون مثل الغرف، وهذا مجرب، ووجدنا هذا في بعض الأحيان، فكنا إذا انقطعت الكهرباء في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الإمام في المحراب ونسمع صوته من آخر المسجد الأحمر. وهذا شيء ليس له علاقة بمسألة عبادة، إنما أن تحصر القباب في بنائها على الأولياء والقبور والمشاهد، فهذه من المنكرات والبدع التي ينبغي إزالتها وعدم جواز بقائها، لكني أتكلم أن القبة مما اصطلح الناس على وضعها في المساجد خاصة، لتأثيرها في نقل الصوت بداخل المسجد بشكل أوضح لا أنها أمر تعبدي. فإذا بنى إنسان بناء على شكل المسجد ووضع مثلاً هذه القبة عليه، وأشرع المنارة، فهذا الفعل منه دال على أنه يريد أن يجعله مسجداً، وقد ثبت عن بلال رضي الله عنه في رواية حسنها بعض العلماء وبعضهم يقول: إنها ترتقي إلى درجة الصحيح لغيره، أن بلالاً كان يؤذن أذانه الأول للفجر على سطح بيت الأنصارية بجوار المسجد، والرواية فيه مشهورة، وهي التي جاء فيها أنه كان يؤذن ثم يلعن المشركين، حتى إذا قارب الفجر للانبزاغ نزل رضي الله عنه فصعد ابن أم مكتوم وأذن. فالشاهد أنه كان يؤذن على مكان عال بقصد بلوغ الصوت لأنه كان يُحتاج إلى ذلك. ثانياً: من فوائدها أنها تدل على المساجد، فأنت إذا جئت إلى بلد، وتريد أن تصلي وأنت لا تعرف البلد، ولا تعرف مساجده، لا تستطيع أن تستهدي للمسجد إلا بهذا البناء وهذه الأمارة. فالبناء على هيئة وشكل المسجد دال على إرادة وقفه مسجداً لله عز وجل. فإن فتح بابه، وأشرعه للناس جاز للغير أن يدخل فيه وأن يصلي فيه، ويعتبره وقفاً، ويكون فعله منزلاً منزلة قوله: أوقفت هذا المسجد لله عز وجل. ولما قال المؤلف: (يصح بالقول وبالفعل الدال عليه) لم يجعل الفعل موجباً للوقفية دون أن تكون فيه دلالة، والدلالة تنقسم إلى قسمين: الدلالة الخفية، والدلالة الظاهرة. والمعتبر عند العلماء رحمهم الله -الذين يقولون بأن الأفعال تُنزّل منزلة الأقوال- الدلالة الظاهرة لا الدلالة الخفية، فإن الوقف يُوجب خروج المال عن ملكية صاحبه، ويوجب زوال يده عنه، والأصل أنه مالك، والأصل أنه متصرف فيه، فحينئذٍ لا نحكم بكونه وقفاً إلا إذا كان قاصداً له ودالاً عليه. بناءً على ذلك لو أننا وجدنا شخصاً أراد أن يقيم مسجداً في موضع، أو كان في الموضع مسجد، وهدم هذا المسجد من أجل البناء، فجاء وقال للناس: صلّوا في الحوش عندي مثلاً، صلوا في البيت نفهم أن قوله: صلوا في البيت ليس المراد به وقفية البيت للمسجد، وإنما مراده: ما دمتم محتاجين إلى مكان تصلون فيه، فإني قد وهبتكم بيتي ووهبتكم حوشي أو مكاني هذا من أجل الصلاة فيه حتى يتيسر بناء المسجد. فهذا الفعل غير دال على الوقف رغم دلالته في الظاهر، لكن بساط المجلس والحال الذي وقع فيه العرض من الشخص ليس دالاً على الوقفية، فلا نعتبره موجباً للحكم بكون ذلك الموضع قد زالت ملكية صاحبه عنه أو صار وقفاً أو مسجداً. إذاً يشترط أن يكون الفعل دالاً، وقلنا: العبرة بالدلالة الظاهرة لا بالدلالة الخفية. قال رحمه الله: [كمن جعل أرضه مسجدا وأذن للناس في الصلاة فيه] (كمن) الكاف للتشبيه، أي: كشخص جعل أرضه مسجداً، وأذن للناس بالصلاة فيه، وجعلها مسجداً، معناه: أن هيئة الأرض، وبناءه لها، وعمارته لها كانت على شكل المسجد، فحينئذ نعتبره وقفاً، فمن فعل هذا الفعل نعتبره قد أوقف الأرض، فلو تُوفي وجاء ورثته، وقالوا: الأرض أرض مورِّثنا، ونريد أن نبيعها، نقول إنه لما بناه على هيئة المسجد وأشرعه للناس، وأذن للناس بالصلاة فيه، فإنها دلالة ظاهرة تُنزَّل منزلة قوله: أوقفت هذه الأرض مسجداً. قوله: (وأذن للناس في الصلاة فيه) لابد من وجود الإذن، والإذن أصله الإباحة، يقال: أذنت له بالدخول: أي أبحت له الدخول، فالأصل أن الأرض لها حرمة، كبيوت الناس ومساكنهم، فلا يجوز لأحد أن يدخلها إلا بإذن، فإذا بناه على هيئة المسجد وأذن للناس بالصلاة فيه؛ فإننا نعتبره فعلاً دالاً على الوقفية. لكنه قد يبنيه على هيئة وشكل المسجد، ولا يأذن لأحد بالصلاة فيه، يقول: أريد أن أبيعه بحيث من يشتريه يجعله مسجداً، وهذا سائغ ويجوز، كما لو اشترى سيارة مثلاً لنقل طلاب العلم أو نحوها، وقصد من ذلك أن يبيعها على من يوقفها، فقال: أريد أن أبتاعها من أجل أن يشتريها من يريد إيقافها، فالمقصود أن يأذن بالصلاة فيه، فيوجب الفعل الدال على أنه قصد الوقفية وتسبيلها لله عز وجل. وإذا أَذِنَ وخرج منه القول واللفظ الدال على الوقفية، فإن العلماء رحمهم الله يقولون: تنتقل الملكية عنه، وهذا على أصح قولي العلماء أن من أوقف وقفاً عاماً أو خاصاً على جهة معينة، أو على أفراد، فإنه صدقة عليهم، مثل المسجد مثلاً، تزول ملكيته عن ذلك الشيء، وإذا زالت ملكيته وامتنع بيعه، فلو أن هذا المسجد تهدّم وأصبحت أرضه مثلاً خالية، أو احتيج حاجة ماسّة مثلاً إلى هدمه وتعويضه بمسجد آخر، يرد الإشكال، فكيف نبيع هذا المسجد ولا مالك له؟ وبناءً عليه قال العلماء: لابد من الرجوع إلى القاضي؛ لأن القاضي ولي من لا ولي له، وهو من الأحباس المسبّلة لوجه الله عز وجل، ومنه يقولون: ينتقل لله عز وجل، والقاضي والسلطان والإمام يتولى النظر في مثل هذه الأمور، فيكون منزَّلاً منزلة من يملكه حتى يصح البيع ويكون بيعاً شرعياً؛ لأن البيع لا بد فيه من وجود بائع ومشتر، والبائع لابد أن يكون مالكاً، أو له ولاية. فالقاضي إذا تولى المسجد وباعه، فإنه يكون من باب الولاية لا من باب الملك، وهذه الولاية سببها أن الملك قد زال عن الأرض بإيقافها، سواءً كانت مسجداً، أو كانت مقبرة أو غير ذلك مما سُبِّل في وجوه الخير. قال: [أو مقبرة وأذن في الدفن فيها] المقبرة: واحدة المقابر، والأصل في هذه التسمية قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21]، وجعل الله عز وجل من رحمته لبني آدم، وإكرامه لهم سبحانه أن الميت منهم لا يُترك على وجه الأرض؛ لأنه إذا ترك على وجه الأرض أكلته السباع، وانتهشته الجوارح، وأنتن وآذى الناس وأضر. فمن حكمته سبحانه وتعالى أن علّم وألهم بني آدم أن يقبر بعضهم بعضاً، فالمقبرة يُحتاج إليها لدفن الموتى، فإذا كان الإنسان يملك أرضاً وأراد أن يجعلها لآخرته، وأن يكسب البر والثواب بإيقافها فأوقفها مقبرة، فإنه بفعله لتسويرها، وفتح بابها، وإِذنه للناس إذناً ضمنياً أو إذناً صريحاً أن يُدخلوا موتاهم، وأن يقبروهم في ذلك الموضع؛ فإنه يكون هذا الفعل منه دالاً على الوقفية، فتكون الأرض وقفاً، إن كانت عامة فعامة، وإن كانت خاصة فخاصة، كأن تكون مقابر مخصوصة لآل بيت، كقرابته، فيقول: هذا الحوش أريده مقابر لي ولآل بيتي أو قرابتي، فيكون قد أوقفه على نفسه، وعلى أهل بيته. فكل من كان تنطبق عليه هذه الصفة، يجوز أن يُقبر ويدفن فيها، لكنها تكون صدقة، ويكون وقفاً، ويكون فعله دالاً على الوقفية كقوله.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الجهر بالقراءة في الصلاة

حكم الجهر بالقراءة في الصلاة Q هل الجهر بالقراءة في الصلاة ركن من أركانها أم من المسنونات؟ سؤال: هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، منهم من يوجب، ومنهم من لم يوجب ذلك، وهم كلهم متفقون على أنه ليس بركن، ولكنه يكون إما واجباً أو سنة، فمن أهل العلم من قال: إنه واجب، ومنهم من قال: إنه سنة، فالذين قالوا بوجوبه قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم جهر فيما جهر فيه، وأسر فيما أسر، وقد أعلمنا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه: (فما جهر فيه جهرنا، وما أسر فيه أسررنا) فوجب التقيد بما ورد من سنته وهديه عليه الصلاة والسلام وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي). ومن أهل العلم من قال: الجهر سنة، وهذا هو الصحيح؛ أن الجهر سنة والإسرار سنة، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر في السرية، ولو كان الإسرار في السرية لازماً، والجهر في الجهرية لازماً لما جهر في السرية صلوات الله وسلامه عليه، كما في الحديث الصحيح في صلاة الظهر أنه كان يسمع الصحابة الآية والآيتين؛ لأنه لو كان الإسرار لازماً، والجهر لازماً، لا يغير ولا يبدل؛ لما خالف الصفة، فلما رفع صوته عليه الصلاة والسلام وجهر في السرية؛ نبه بالمثل على مثله وبالنظير على نظيره، فدل على أن الإسرار ليس بواجب، ولو كان واجباً لما خالفه. وفائدة الخلاف أنك لو نسيت في صلاة الصبح فصليت ركعتين ولم تجهر فيهما، فإذا قلنا: إن الجهر واجب لزمك سجود السهو القَبلي، وإذا قلنا: إن الجهر سنة لا يلزم سجود السهو القَبلي إلا على مذهب من يرى سجود السهو في المسنونات؛ لأن السهو عندهم من جهة دخول السهو بغض النظر عن كونه في واجبٍ أو غير واجب، كما يختاره بعض المالكية وأهل الظاهر رحمة الله على الجميع. وأياً ما كان فلا ينبغي للمسلم أن يخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا خير في مخالفة هديه عليه الصلاة والسلام وسنته، فالعلماء مع أنهم اختلفوا في الجهر والإسرار، لكن الأولى ألا تخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان من جهر تجهر وما كان من إسرار تسر. ولذلك يشرع إذا صلى الإنسان الفجر، حتى ولو لم يدرك مع الإمام إلا لتشهد فله أن يجهر بالقراءة، لا كما نجده من كثير من الناس إذا لم يدرك إلا التشهد الأخير فلا تسمع له صوتاً، ولا تسمعه ينبس بكلمة، ولذلك ينبغي تنبيه هؤلاء على السنة، فيقال لهم: هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم. ومن علامات القبول وأماراته أن الإنسان يوفق لاتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في العبادة، بالتزام السنة والحرص عليها وتطبيقها كما وردت، مما يجعله الله عز وجل سبباً لقبول عبادة الإنسان، وعِظَم أجره فيها، والله تعالى أعلم.

حكم إمضاء الوقف المضر بالورثة

حكم إمضاء الوقف المضر بالورثة Q إذا أضر الوقف بالورثة، كمن أوقف داره الوحيدة واحتاجها أولاده للسكنى، فهل يمضي الوقف أم يرد؟ A هذا فيه حديث متكلم في سنده، أما إذا أوقف فإن وقفه ينفذ، ويخرج عن ملكيته، وليس للورثة سلطان على ما أوقفه مورثهم خارجاً عنهم؛ لأنه زالت ملكيته عنه في حياته، كما لو باع ووهب في حياته، وبناءً على ذلك لا سلطان للورثة على ما أوقفه مورثهم إلا في الحدود الشرعية. مثلاً: إذا رأى الورثة أن بستان مورثهم الذي تصدق به على الفقراء قد ضيعه ناظر الوقف، وكان ناظر الوقف أجنبياً عنهم، فمن حقهم أن يشتكوه؛ لأن هذا من بر والدهم وقريبهم أن يبقى الوقف على أحسن الأحوال، فإذا وجدوا الناظر قد أخل به فهم أحق من يشتكيه، وأحق من يحرص على حصول الأجر لمورِّثهم. فمن البر الحرص على إبقاء أوقاف الموتى، فمن بر الوالدين، ومن بر الجد، ومن بر قرابة الوالدين من الموتى الحرص على بقاء أوقافهم التي ينتفعون بها بعد موتهم لحصول الأجر والثواب لهم، والله تعالى أعلم.

حكم صرف الوقف غير المحدد على الأصناف الثمانية من أهل الصدقات

حكم صرف الوقف غير المحدد على الأصناف الثمانية من أهل الصدقات Q إذا أوصى الواقف أن يُتصدق بمزرعته ولم يذكر أي جهة، فهل تصرف للأصناف الثمانية من أهل الصدقات؟ A بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد: اختار طائفة من العلماء أنه إذا قال: تصدقت بهذه الأرض أو سبّلت هذه الأرض فقال: هذه صدقة، فإنها تكون عامة. إذا قال للفقراء اختصّت بالفقراء من بين الأصناف الثمانية، لكن إذا قال: صدقة، فمذهب طائفة من العلماء كما اختاره الإمام النووي والإمام ابن قدامة وغيرهم رحمة الله عليهم أنها تصرف في الأصناف الثمانية؛ لأنه مصطلح شرعي يكون مستحَقاً لجهته. ومن أهل العلم من قال: تُصرف وتكون في عموم وجوه الخير والبر، وفائدة الخلاف أنه إذا كان منها سيولة أو نقد، فإذا قلنا: إنها خاصة بالأصناف الثمانية؛ صرفت لأهل الزكاة، وإذا قلنا: إنها لا تختص بالأصناف الثمانية جاز أن يؤخذ من سيولتها لطبع الكتب، ونشر العلم، وبناء المساجد، وحفر الآبار، وإصلاح الطرقات وغير ذلك من وجوه الخير العامة؛ لأنه لم يخصص، وهذه كلها صدقات، فتكون صدقات عامة لعموم المسلمين، وتكون صدقات خاصة، وأياً ما كان فكلا القولين له وجه، لكن القول بأنها تكون لأهل الزكاة فيه احتياط، إلا أنه من جهة اللفظ والدلالة إذا قال: صدقة، أن هذا عام لا يختص بصنف، أو يشمل الأصناف الثمانية وغيرهم، ويكون في أوجه البر العامة؛ لأنه يشملها قوله: صدقة. فمثلاً: لو قال: أريد أن أُحبِّس هذه العمارة على أن تقسم غلتها أثلاثاً: ثلث منها لإصلاح العمارة إذا تعطل شيء من منافعها، وثلث منها لورثتي، وثلث صدقة، إذا قال: الثلث صدقة، وجئنا وأخذنا هذا الثلث، وبنينا به مسجداً، فإن المسجد يوصف بكونه صدقة وطاعة؛ لأن الصدقة سميت صدقة؛ لأنها تدل على صدق إيمان صاحبها، فكل ما كان من أعمال الخير والبر دالاً على صدق إيمان صاحبه بالله عز وجل، وتصديقه بموعود الله عز وجل؛ فإنه يدخل في هذا المعنى العام. إذ لو كان مراده أهل الزكاة لقال: صدقة على أهل الزكاة، ولما قال: صدقة؛ فإن هذا اللفظ عام، لكن لو أنها اختَصَّت بالضعفاء والفقراء الذين هم من أهل الزكاة واحتيط فيها فهذا أفضل، لأنه يُخرج من الخلاف، ويوجب أكثر الأجر؛ لأنهم أحوج من يكون إلى هذه الصدقة والبر.

حكم الأخذ من ماء المسجد

حكم الأخذ من ماء المسجد Q إذا احتجت إلى الماء، فهل لي أن آخذ من ماء المسجد؟ A إذا كان الماء مخصوصاً بالمسجد فلا يجوز إخراجه عن المسجد، مثلاً: الماء الذي في دورات المياه، فإنه لا يشك أحد أن صاحب المسجد قصد منه الوضوء، وقصد منه الطهارة، وقصد منه الإعانة على الصلاة، فكل ما كان داخلاً في هذا الشيء الذي يدل عليه الحال، فإنه يجوز للإنسان أن يرتفق به. أما لو أخرجه عن هذا الحد كأن يملأ الماء ويذهب به إلى بيته من أجل الشرب أو غير ذلك، فإن هذا يضر بمصلحة المصلين، ويضر بمصلحة من في المسجد، والأشد من ذلك والأدهى أخذ المياه من دورات المياه لغسل السيارات، أو نحو ذلك من المصالح الخاصة، فهذا الأمر فيه أشد؛ لأن الماء موقوف، ودلالة الحال تدل على أنه مخصوص بهذا الموضع. فالماء الموجود في المسجد مخصوص بالمسجد؛ لأنه لو يريده خارج المسجد لأخرجه عن المسجد، ولذلك ينبغي أن يُقيد به، ومن هنا قال أهل العلم: إذا وضع القرآن أو المصحف في المسجد لم يجز إخراجه، وإذا وُضِعت كتب العلم في مكتبة وخُصّت بها لم يجز إخراجها إلا إذا كانت -مثلاً- المدرسة نفسها تابعة للمكتبة أو نحو ذلك مما هو في حكم التبعية لهذا الموضع الذي خُصت به. فلا بد من التقيد في الأوقاف بأحوالها وصفاتها، ونحن قلنا: إن دلالة الأفعال كدلالة الأقوال، فصاحب المسجد إذا وضع خزاناً على دورات المياه فلا يشك أحد أنه وضعه من أجل دورة المياه، فإذا أخرج للناس ماءً من أجل أن يشربوا فهذا للسابل والطريق، لكن إذا أدخله إلى المسجد فما الذي دعاه أن يتكلّف مئونة وعبء إدخاله إلى المسجد، إلا قصد أن يكون صدقة على من في المسجد. ويتفرع على هذا أنه لو وضع ثلاجة ماء من أجل أن يشرب منها الناس، فلا يجوز لأحد أن يتوضأ أو يغتسل منها؛ لأن هذا الماء مجعول من أجل الشرب، وليس بمجعول من أجل الوضوء أو الغسل، ولذلك إذا اغتسل أو توضأ منها الناس أضروا بمصلحة المبرد للماء -الثلاجة- ولربما تضررت، وإذا وضعت من أجل السقي جاءها المحتاج للسقي، لكن يجدها فارغة؛ كلما بردت فُرِّغت من أجل الوضوء أو الاغتسال، أو قد يقل تبريدها وتقل مصلحتها، ويقل أجرها في نفع من يحتاج إلى الشرب الذي أُوقفت عليه. فلابد من العناية بهذا، فما جُعل وقفاً على جهة أو على وجه فإنه يتقيد به، وهذا إن شاء الله سنبينه أكثر عند بياننا لشرط الواقف ولزوم التقيد به.

حكم الجمع بين صلاتين متما للأولى وقاصرا للثانية

حكم الجمع بين صلاتين متماً للأولى وقاصراً للثانية Q هل يجوز أن يجمع بين صلاتين متماً للأولى قاصراً الأخرى، وذلك أن الأولى دخل وقتها، وهو مقيم ثم سافر؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: قد سبق وأن ذكرنا مسألة الأصل وما يستثنى من الأصل، والجمع مستثنى من الأصل، والأصل أن تصلي كل صلاة في وقتها؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، فلما ألزمنا الله عز وجل بكل صلاة في وقتها، وحدد للصلوات الإتمام والكمال في الرباعية، التزم العلماء هذا الأصل، وما ورد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم استثناءً خصوه بالوارد، وهذا هو الفقه، أي: أن تعرف الأصل فتستمسك به، وما وردت السنة به استثناءً تقصر فيه على صفة السنة. من هنا شدد جمهور العلماء في مسألة الجمع وجعلوا له شروطاً وضوابط؛ لأنه مخالف للأصل، ومرادنا بمخالف للأصل ليس المراد به مخالفة السنة، بل المخالف للأصل عندهم أن الأصل في الصلوات أنها مؤقتة، وهذا الأصل يدل عليه أكثر من دليل في الكتاب والسنة، والإجماع منعقد عليه. فخالف الأصل بمعنى أنه استثني من الأصل وجاء على خلافه، هذا معنى مخالفة الأصل، وخالف الأصل لأنك تجعل الأولى في وقت الثانية في جمع التأخير، كما في الظهر إذا صليتها مع العصر، والمغرب إذا صليتها مع العشاء، وتجعل الثانية في وقت الأولى كما في جمع التقديم؛ لأن الأصل أن تجعل الثانية المؤخرة في وقتها والأولى في وقتها، فإذاً لا يُشك أنها مخالفة لصورة الأصل الوارد، وهذه المخالفة مخالفة شرعية، وليس المراد به المخالفة المنكرة. فإذا قلت: إنه مخالفة للأصل، قال بعض العلماء: لا يقع جمع إلا إذا كان بين صلاتين مقصورتين إلا ما استثناه الشّرع من صلاة المغرب مع العشاء، قالوا: الأصل أن الصلاة تقصر، فلما كان المغرب من جنس ما لا يُقصر فإنه لا يقع الجمع في صلاة تقصر إذا كانت تامة؛ كأن يسافر في أول وقت الظهر ويجمعها إلى صلاة العصر، فحينئذ قالوا: إنه يصلي الظهر في وقتها، ويصلي العصر في وقتها، ولا يترخص بالجمع، بناءً على هذا المذهب؛ لأن الأولى لم تقع مقصورة، والجمع الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قصر، فلم يجمع بين صلاتين إحداهما تامة والأخرى مقصورة. قال بعض العلماء: إنه يمكن أن يجمع بين صلاة الظهر وصلاة العصر بناءً على أن العبرة عندهم بآخر الوقت، فيجوز له أن يقدِّم العصر ويصليها مع الظهر، ولكن هذا الذي قال بالجواز يشترط أن يكون جمعك بعد خروجك، لا أن تجمع قبل الخروج؛ لأنك قبل الخروج مقيم، فإذا أردت أن تجمع والأولى تامة لا بد أن يقع خروجك للسفر قبل خروج وقت الأولى. مثال ذلك لو أَذّن الظهر وأنت بمكة لا تستطيع أن تجمع بين الظهر والعصر وأنت على نية السفر إلا إذا خرجت من حدود مكة قبل خروج وقت الظهر، فإذا خرجت قبل خروج وقت الظهر فالعلماء الذين يجيزون يقولون: يصلي الظهر أربعاً ثم يضيف لها العصر، فصلَّى الظهر أربعاً؛ لأنه خوطب بها أربعاً بدخول الوقت، فلا يصح له أن يقصر، وجاز له أن يجمع العصر إليها؛ لأن موجب الرخصة بالجمع هو السفر، وهو مسافر، فقد جمع وحالته حالة سفر، هذا وجه من يجيز ويرخص، وله وجهه. ويقوي هذا بأن المغرب تضاف إلى العشاء والمغرب لا قصر لها؛ لكن يُنقض هذا القياس؛ لأن المغرب ليست من جنس ما يقصر حتى يصح القياس، ومن هنا لو احتاط الإنسان فهذا أفضل وأكمل، ولكن لو وقع منه هذا الجمع ففيه وجه على التفصيل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.

حكم تكرار قراءة الفاتحة في الركعة الواحدة لمن ابتلي بالوسوسة

حكم تكرار قراءة الفاتحة في الركعة الواحدة لمن ابتلي بالوسوسة Q الفاتحة ركن من أركان الصلاة لا تصح إلا بها، فمن كان يقرأها ثم تأتيه الظنون والوساوس بأنه لم يقرأها فأعادها أكثر من مرة في الركعة الواحدة، فما الحكم في ذلك، وما توجيهكم فضيلة الشيخ في هذا الأمر؟ A من ابتلي بالوسوسة فليشتكِ إلى الله عز وجل، وليكثر من سؤال الله سبحانه وتعالى أن يعافيه أو يربط على قلبه في هذا البلاء حتى يسلم من شره، ولا يكون للشيطان عليه سبيل. إذا ابتلي الإنسان ببلية يسأل الله رفع هذا البلاء، وإلا إذا لم يرفعه سبحانه وكتب أنه سيبقى مع هذا البلاء يسأله أن يُفرغ عليه من اليقين والصبر والإحسان -مرتبة الإحسان التي هي صدق اللجوء إليه سبحانه- ما يخفف به عنه هذا البلاء ويجعله خيراً له في دينه ودنياه وآخرته. فالوسوسة أمرها عظيم، قد جعل الله عز وجل آياته حجاباً وحرزاً وحفظاً لعباده من الوسوسة، وأمرهم أن يستعينوا به سبحانه وهو رب الجِنّة والناس، {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:4 - 6]. فأمر نبيه وصفوة خلقه صلى الله عليه وسلم، والأمر لأمته من بعده، أن يستعيذوا به من الوسوسة، وهذا يدل على عظيم خطرها وبلائها، والوسوسة قد تنزل على الإنسان بلاءً من الله لكي يرفع درجته ويُعظم أجره، وهذا في حال؛ كأن يبتلى بالوسوسة مثلاً في طهارته فيُسبغ ولا يغلو، فإذا توضأ مرتين، وتبين له أنه أخطأ في وسوسته كتب له أجر الوضوء مرتين، ولو صلى مرتين، وسوس في الأولى ثم صلى ثم تبين له بعد الانتهاء من الثانية أنه صلى مرتين أو ثلاثاً كتب الله له أجر الفريضة ثلاثاً. لو فعلها غيره كان مبتدعاً، فهو الوحيد الذي ينال أجر الفضيلة مرتين؛ لأنه ابتلاء من الله سبحانه وتعالى، فهو مثاب فعلى ما ظنه واعتقده، وأُمر بالبناء على غالب ظنه، فإذا وسوس وغلب على ظنه أنه لم يفعل ثم فعل كتب الله له الأجر مرتين. لكن لو فعلها وهو عاقل عالم وكرر مرتين؛ فإنه في المرة الثانية مبتدع، ولا أجر له ولا ثواب، ففي الحديث الصحيح (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصلى الصلاة مرتين) أي يعتقد كلاًّ منهما فريضة، هذا من البدعة والحدث، لأن الله أوجب عليه صلاة واحدة وهو يصلي صلاتين والله يقول: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171] فقد غلا في دنيه، وزاد ما لم يأمره الله عز وجل بزيادته. المقصود أن الوسوسة تكون ابتلاءً لرفع الدرجة للعبد من هذا الوجه، وتكون أيضاً بسبب ذنب وخطيئة سلط الله عز وجل بها الشيطان على الإنسان، ومن أعظم ما يسلط به: عقوق الوالدين وقطيعة الرحم وأذية الصالحين والعلماء وغيبتهم وسبهم وشتمهم والاستهزاء بهم. وهذا سبب فتنة فاعل ذلك في دينه؛ لأن هذا الأمر -أذية المسلمين، وأذية القرابة كعقوق الوالدين وقطيعة الرحم- مظنة الحرمان من الخير {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]. فيصاب الإنسان بالبلاء بسبب الذنوب، ولذلك أخبر سبحانه وتعالى أن من يعش عن ذكره يقيض له شيطاناً فهو له قرين، فالوسوسة من الشيطان، وقد يكون سببها الغفلة عن ذكر الله عز وجل، كأن يكون حافظاً للقرآن فيترك مراجعة القرآن، ويترك مذاكرته، ويعرض عن القرآن حتى يهجره -نسأل الله السلامة والعافية- فيسلط الله عليه الوسوسة في وضوئه أو طهارته واستنجائه. أو يكون بسبب ذنب كالسخرية ممن ابتلي بذلك، كأن يأتي موسوس فيهزأ به أو يستخف به فيعافيه الله ويبتليه، أو يهزأ من شخص ذو عاهة، فيبتليه الله بعاهة وفتنة في دينه كالوسوسة، ومنها الوسوسة في الناس، والوسوسة في عقائدهم، والوسوسة في أفكارهم، والوسوسة في مناهجهم، والوسوسة في صلاحهم، وفي تقواهم، فيبتلى بالوسوسة؛ فيأتي إلى عبد صالح فيتشكك فيه ويُدخل في قلبه شيئاً من ذلك فيتسلط الشيطان عليه، لأن كل شيء فيه أذية للمسلمين دخل بدون حق إلى قلب المؤمن؛ فمعناه أن الشيطان قد تمكن من شعبة من شعب القلب؛ فإن كان الذي قد وسوس فيه الإنسان عبداً صالحاً تقياً يحبه الله؛ فإن الله يجعل بلاء من يشك في أمثال هؤلاء أعظم، وبلاء من يؤذيهم أجل، كالوالدين مثلاً فإن حقهم عظيم، فإذا أساء الإنسان الظن بهم ربما ابتلاه الله بالوسوسة في أهله وولده كما عق والديه، وهكذا بالنسبة للمظان الأخر، والذي يريد العافية من الوساوس والخطرات وتسلط الشيطان، فليستعصم بعصمة الله بالبعد عن الذنوب وكثرة الاستغفار. ولذلك كان بعض العلماء يوصي من ابتلي بالوسوسة يقول له: أكثر من استغفار الله، وقل: اللهم إني أستغفرك من ذنب سلط عليَّ هذا البلاء، فإن الله يقول: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]، وأي بلاء يبتلى به الإنسان، سواءً كان في الشهوات أو الشبهات أو الشكوك، يسأل الله أن يغفر له ذنباً سلط عليه هذا البلاء. ولذلك أُثر عن محمد بن سيرين أنه ابتلاه الله بالدَّين في آخر عمره، حتى أنه سُجن فيه رحمه الله برحمته الواسعة، ولما توفي أنس رضي الله عنه كان قد أوصى أن محمداً يغسِّله، فما استطاعوا أن يغسلوه حتى أخرجوه رحمه الله برحمته الواسعة. ولما كان يوماً من الأيام مع أصحابه قال: أعرف الذنب الذي من أجله ابتليت بالدين، قلت لرجل منذ أربعين سنة: يا مفلس. فابتلاه الله عز وجل بالدَّين في آخر عمره، فلا يهزأ الإنسان من الناس، وإذا رأى موسوساً في وضوئه فلا يضحك منه ولا يستخف به، وإذا رأى ذا عاهة فليحمد الله سبحانه وتعالى. الله سبحانه وتعالى يقول: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24 - 25]، الكلمة الطيبة إن رأيت مبتلى، فتقول له: اصبر واحتسب، فتصبح كلمة طيبة تؤتي أكلها كل حين؛ فكلما جاءه البلاء تذكر تصويرك له، وكلمتك له، ولربما بقيت معه إلى عمره، كلما تذكرها صبَّت في ميزان حسناتك حسنات وأجور ترفع بها درجات. فالإنسان يحرص دائماً على البعد عن المظالم وأذية الناس، فلن يوفق إنسان في دينه إلا إذا استعصم بعصمة الله عز وجل، وابتعد عن الذنوب. والحل في هذا أن الفاتحة إذا قرأها الإنسان وشك هل قرأها أم لم يقرأها؛ فإن كان الشك بعد مُضي وقت يغلب على الظن أنه قرأ فيه فحينئذٍ لا يلتفت إلى الوسوسة، بل يستصحب ويقوي نفسه بالدلائل، وقالوا: إنه إذا حصلت الوسوسة في الوضوء أو حصلت في القراءة، أن الأفضل والأكمل أن يكون معه إنسان، كالمرأة في بيتها تكون معها بنتها أو ابنها فتقرأ، حتى رخص بعض العلماء في مسألة الجهرية والسرية في الموسوسة أنها تقرأ وتنبس حتى تسمع نفسها وتستعين بالغير لإثبات ذلك قطعاً للوسوسة عنها. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم العفو والعافية، ودوام العافية والمعافاة التامة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب الوقف [2]

شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [2] من الأهمية بمكان أن يدرك المسلم ما يلحقه من العمل بعد موته، والوقف هو مما يلحق ثوابه العبد بعد موته، وللوقف أركان لابد من الإحاطة بها، وكل ركن من هذه الأركان له شروط يجب تحققها حتى تتوفر الصفة الشرعية للوقف.

صيغ الوقف

صيغ الوقف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإن للوقف أركاناً لابد من وجودها حتى يتحقق الوقف، ومن هذه الأركان: الصيغة. والوقف يستلزم وجود الواقف، وهو الشخص المالك للشيء الموقوف، وهو الذي يصدر منه الوقف، وسيأتي إن شاء الله بيان هذا الركن. فالركن الأول: الواقف، والركن الثاني: الشيء الموقوف، والمراد بالشيء الموقوف: المحل الذي يراد وقفه، سواءً كان من المساجد أو غيرها، وسيذكر المصنف رحمه الله ما يتعلق بهذا الركن من أحكام. الركن الثالث: الصيغة، وهي التي تشتمل على العبارة الموجبة للحكم بالوقف، وفي حكمها الأفعال، وقد تقدم أنها تنزل منزلة الأقوال في الدلالة على الوقف. الركن الرابع: الموقوف عليه، كأن يُوقف على أشخاص معينين؛ كأولاده وذريته، أو يوقف على شخصٍ معين، كصديق له، أو على جهة معينة، كقوله للفقراء، أو لطلاب العلم، أو نحو ذلك ممن سيأتي إن شاء الله بيانه عند الحديث عن جهة الوقف العامة والخاصة. إذاً: لابد من وجود الواقف -الشخص الذي يملك الوقف- وصيغة تدل على الوقفية، ومحل يراد ويقصد وقفه، وموقوف عليه يكون له منفعة ذلك الوقف.

تعتبر صيغ الوقف غير الصريحة بأمور

تعتبر صيغ الوقف غير الصريحة بأمور قال رحمه الله: [وتشترط النية مع الكناية] الكناية لا يُحكم بالوقف بها إلا بأحد ثلاثة أمور: الأول: أن ينوي في قرارة قلبه، ونحن لا نستطيع أن نكشف عما في ضمائر الناس، ولا نستطيع أن نطَّلع على ما في قلوبهم، فذلك أمره إلى الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، ولذلك قال تعالى: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:9 - 10]، وقال: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال:43]، فهو وحده سبحانه الذي يعلم ما في قرارة النفوس، وما انطوت عليه القلوب، لكن لنا حكم الظاهر، فإذا تلفظ بهذا اللفظ المحتمل، فإننا نتوقف؛ لأن اللفظ المتردِّد يوجب التوقف، فكل ما تردد بين شيئين لم يجز لك أن تصرفه إلى شيء دون آخر يحتمله إلا بدليل. ولذلك يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، فلما كان خبر الفاسق متردداً بين كونه صدقاً وبين كونه كذباً أوجب التوقف، فكل شيء متردِّد يوجب التوقف ما لم يقم الدليل على رُجحان ظن من الظنون على بقيتها. فإذا كانت ألفاظ الكناية محتمِلة فإنا نتوقف ونقول: هذا لفظ لا يدل على الوقفية صراحة. اختصم إليك ورثة، وقال أحدهم: سمعت أبي يقول: سبّلت مزرعتي، فقال بعضهم: هذا وقف، وقال بعضهم: قصد التسبيل في ذلك العام، نقول: إنه ليس من ألفاظ الوقف الصريحة ما لم يكن الميت قد صرح لهذا الذي يزعم الوقفية أنه قصد الوقفية؛ لأنه أمر متعلق بالنية، فإذا لم يصرح له فإنا نسأل: هل هناك لفظ آخر غير قوله: سبّلت بمزرعتي؟ قال: ما قال إلا تصدقت بمزرعتي. فنقول: هي صدقة في ذلك العام قطعاً من حيث الأصل؛ لكن لا يُحكم بوقفيتها على الدوام ما لم يصرح بنيته أو يوجد دليل آخر من اقتران لفظ، أو وجود حكم من أحكام الوقف الخاصة به، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فإن خلا لفظ الكناية عن هذه الثلاث فلا نحكم بالوقفية بمجرده؛ لأنه ليس بصريح. قال رحمه الله: [أو اقتران أحد الألفاظ الخمسة] (أو اقتران أحد الألفاظ الخمسة) هذا الأمر الثاني، وهو أن يقترن بقوله: (داري صدقة موقوفة)، فإنه لما قال (داري صدقة) لم يدل على الوقفية صراحة؛ إنما يدل دلالة محتمِلة، فلما قال (موقوفة) دل هذا على أنها وقف، وأن لفظ (صدقة) لما وصف بكونه وقفاً أوجب الحكم بالوقفية. وكذلك إذا قال: (داري صدقة مسبّلة)، (داري صدقة محبوسة)، (داري صدقة مؤبَّدة)، (صدقة محرمة)، فهذه هي بقية الألفاظ الخمسة، وحينئذ فإننا نحكم بالوقفية. فهذا هو الأمر الثاني، فإما أن توجد النية، وهذا يفتقر إلى أن يُخبرك الشخص المتلفظ، أو يخبر العدلين حتى يُحكم بذلك إذا لم يكن موجوداً كالميت ونحوه. أو يقترن بهذا اللفظ الذي هو من ألفاظ الكناية الثلاثة (تصدقت حرمت وأبدت) لفظ من ألفاظ الأوقاف سواء كان لفظاً صريحاً أو لفظ كناية؛ لأن الكناية مع الكناية عزّزت من المقصود وارتقت من الاحتمال إلى كونها أشبه بالصريح، فغلّبت الظن بأنه قصد الوقفية، وحينئذٍ يُحكم بكونه وقفاً إذا اقترن بأحد الألفاظ الخمسة. والمراد بذلك أنك إذا اخترت لفظاً من ألفاظ الكناية بقيت خمسة ألفاظ، ثلاثة صريحة، واثنان منها كناية، فإذا قال: تصدقت، أو قال: حرّمت، أو قال: أبّدت؛ فإنه لابد أن يضيف إليها لفظاً من هذه الألفاظ الخمسة الباقية. قال رحمه الله: [أو حكم الوقف] هذا هو الأمر الثالث الذي نحكم بسببه بالوقفية إذا اقترن بالكناية، كأن يقول: (داري صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورَّث)، فالذي لا يباع ولا يوهب ولا يورث إنما هو الوقف، فإذا صرّح بذلك فقد دل على أنه قصد بها صدقة الأوقاف، وأنه أراد تحبيسها وإيقافها، فيحكم بوقفها. فلا يحكم بالوقف بلفظ الكناية إلا مع أحد ثلاثة أمور: أولها: النية، وهذا يفتقر إلى كلام الشخص نفسه، وإخباره أنه قصد الوقفية. والأمر الثاني: اقتران لفظ من الألفاظ الخمسة الباقية. والأمر الثالث: أن يقرن بلفظ الكناية حكماً من أحكام الوقف، فيقول: (مزرعتي صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث)؛ فإن هذا من اختصاص الوقف، ومن أحكام الوقف، فيكون ذكر هذا الحكم دالاً على إرادته للوقفية فيُحكم بكون الوقف ظاهراً، وحينئذٍ يكون لفظ الكناية بمثابة الصريح الموجب للوقفية.

صيغ الوقف غير الصريحة

صيغ الوقف غير الصريحة ثم قال رحمه الله: [وكنايته: تصدقت وحرمت وأبّدت] ابتدأ بالصريح لأنه أقوى وهذا من باب التدرج من الأعلى إلى الأدنى. وقوله: (وكنايته): من كنّ الشيء إذا استتر، ومنه الكن، وهو الشيء الذي يُتقى به المطر، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما استسقى ونزل الغيث وفر الناس إلى الكن ضحك عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواجذه وقال: أشهد أني رسول الله)، صلوات الله وسلامه عليه. فالكن أصله الاستتار، والكنايات ألفاظ تحتمل معنيين فأكثر، فإذا تلفظ بهذه الألفاظ احتمل أن يكون قصده الوقفية، واحتمل أن يكون قصده شيئاً آخر مما يحتمله اللفظ. وبناءً على ذلك لا نحكم بالوقفية بمجرد تلفظه بهذه الألفاظ المحتمِلة؛ لأن الله جعل لكل شيء حقه وقدره، فما كان صريحاً نعامله معاملة الصريح، وما كان محتمِلاً سألناه عن نيته، أو يذكر لفظاً أو حكماً يوجب الدلالة على الوقفية. قوله رحمه الله: (وكنايته) يعني: كناية الوقف. وقوله: (تصدقت): إذا قال: تصدقت بمزرعتي، فيحتمِل أمرين، يحتمل أنه تصدق بثمرة هذه السنة للفقراء، ولا يقصد الصدقة الأبدية؛ لأن الوقف صدقته أبدية، ويحتمِل أن يكون مراده الوقفية، فقوله: تصدقت بمزرعتي، يَحتمِل أنه يقصد الوقفية إلى الأبد. فاللفظ محتمِل ومتردد بين هذين المعنيين، فيُسأل عن نيته، هل نويت حينما قلت: تصدقت بمزرعتي؛ الوقفية؟ إن قال: نعم. حكمنا بالوقفية، وإذا قال: لم أنو الوقفية، لم نحكم بها، هذا بالنسبة لما بينه وبين الله عز وجل من نيته، لكن لو قال: تصدّقت بمزرعتي وقفاً لله عز وجل فحينئذٍ لا إشكال؛ لأنه إذا قرن بها واحداً من الألفاظ الخمسة فقد أكد إرادته للوقفية كما سيأتي. وقوله: (وحرمت) التحريم يحتمِل منع الإنسان نفسه من ذلك الشيء، كأن يقول: حرام علي أن آكل من مالي، حرام علي أن آكل من بستاني، حرام علي أن آكل طعامي، فهذا منهي عنه شرعاً، لا يجوز للمسلم أن يحرِّم ما أحل الله له، ويجعله حراماً؛ لأن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله. وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تحلوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها). ولذلك قال تعالى لنبيه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1]، وهذا كله يدل على أنه لا يجوز للمسلم أن يحرِّم ما أحل الله له؛ لكنه لو تلفظ بهذا اللفظ فقال: حرمت بستاني، احتمل أنه محرِّم لبستانه على نفسه، واحتمل أنه محرم لبستانه على أهله وولده وذريته وقرابته، واحتمل أن يكون محرِّماً بستانه أن يباع، أو نحو ذلك من الاحتمالات. واحتمل أن يكون مقصودُه الوقفية، فيقول حرّمت بمعنى أنه جعله محرماً عليه كأنه خرج عن ملكيته؛ لأن الشيء إذا خرج من ملكيتك صار ممنوعاً عليك، لا تستطيع أن تتصرف فيه كمال الأجنبي، فمن أوقف أرضاً، أو أوقف عقاراً أو منقولاً، فقد أخرجه عن ملكيته فصار بالوقفية كالمحرم عليه. فهو لفظ محتمِل ويعتبر من ألفاظ الكناية، ولذلك لا يحكم بالوقفية بمجرد صدوره من المكلف. قوله: (وأبّدتُ) الأبد: مدى الدهر، ولا يتقيد بزمان، والوقف مبني على التأبيد، ومن شرطه التأبيد، فلا يصح أن يكون مؤقتاً، وليس لأحد أن يقول: أوقفت داري شهراً، ولا يصح أن يقول: أوقفت مزرعتي سنة، فإذا كان الوقف من صفاته التأبيد، وقال: أبدت مزرعتي، احتمل أن يقصد الوقفية، واحتمل أن يقصد غير الوقفية من الأمور التي يحتملها هذا اللفظ، وقد تكون هناك احتمالات عرفية، وقد تكون هناك احتمالات لفظية. فإذا قال: أبّدت، فإنه لفظ متردد، ولا يدل على الوقفية صراحة، ومن هنا اعتبره العلماء من ألفاظ الكنايات، فلا نحكم بكونه وقفاً حتى يضيف لفظاً آخر مؤكداً لوقفيّته، أو تكون هناك نية دالة على الوقفية، أو يَقْرِن به حكماً من أحكام الوقف فينصرف اللفظ إلى الوقفية.

صيغ الوقف الصريحة

صيغ الوقف الصريحة شرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان الصيغة. والصيغة القولية تنقسم إلى قسمين: فمن وقف وكان وقفه باللفظ فلا يخلو من أن يكون لفظه صريحاً: وذلك يكون بعبارة لا تحتمل إلا معنى الوقف، أو كناية: أي بعبارة محتملة للوقف وغيره، فللصريح حكم، وللكناية حكم. فقال رحمه الله: [وصريحه] الضمير عائد إلى الوقف والصريح هو الذي لا يحتمل معنى غير الوقف. قوله: [وقفت] والأصل في الوقفية هذا اللفظ، يقول: وقفت بيتي، وقفت عمارتي، وقفت مزرعتي، فهذا صريح في الوقفية. اللفظ الثاني [حبّست] يقول: حبّست مزرعتي صدقة للمساكين، حبّست مزرعتي على ذريتي. اللفظ الثالث: [سبّلت]، كقوله: سبّلت كتبي لطلبة العلم، فقوله: وقّفت أو حبّست أو سبّلت، هذه ثلاثة ألفاظ أجمع العلماء رحمهم الله على أنها صريحة في الوقفية. ودليل كون هذه الألفاظ صريحة في الوقف السنة والإجماع، أما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمر بن الخطاب: (إن شئت حبّست الأصل وسبّلت الثمر)، فاستخدم التحبيس وعبارة التسبيل، وبذلك نجد العلماء يطلقون على الأوقاف: الحُبُس، فيقال: ولا يجوز هذا إلا في الأحباس، أي الأوقاف. فالتحبيس والتسبيل وردت بهما السنة، والوقف هو الأصل، ولذلك يدل على الوقفية لغةً وعرفاً، فإذا قال شخص: وقفت منزلي، وقفت داري؛ فإنه إذا ثبت بشاهدة العدلين عند القاضي أنه قال هذه الكلمة حكم بالوقفية، فلو قال: قصدت غير الوقفية لم يقبل قوله؛ لأنها صريحة في الدلالة على الوقفية، ففائدة اعتباره صريحاً أنك تحكم بالوقفية دون أن تتوقف على لفظ آخر، أو على نية، أو على شيءٍ يُقرن به ذلك اللفظ حتى يُحكم بالوقفية. إذاً صريح الوقف هذه الثلاثة الألفاظ، فمن قال: وقفت أو حبّست أو سبّلت، حكمنا بالوقفية، حتى قال بعض العلماء: إنها لا تفتقر إلى لفظ آخر حتى نحكم له بالوقفية، فصريح الوقف كصريح الطلاق، فإذا قال: طلقت زوجتي؛ حكمنا بالطلاق ولو قصد شيئاً آخر، ما لم تقم بينة أو تقم قرينة دالة على أنه لا يريد الطلاق كما تقدم معنا في كتاب النكاح. إذاً هذه ثلاثة ألفاظ، دل على كونها صريحة دليل السنة والإجماع، وفائدة اعتبارها صريحة: أننا نحكم بالوقفية بمجرد صدورها عن المكلف دون افتقار إلى لفظ أو إلى حكم أو إلى نية. وبعض العلماء يقول: إنه لو قال: وقّفت، ولم يقصد الوقفية، ولم ينو الوقفية، وإنما قصد معنىً آخر فإنه في الظاهر يحكم بالوقفية، لكن في الباطن لا تثبت الوقفية، كما لو قال: طلقت زوجتي، فإنها تطلق قضاءً ولا تطلق ديانة كما تقدم معنا في كتاب النكاح. فقال رحمه الله: [وصريحه: وقفت وحبّست وسبّلت].

ما يشترط في الوقف

ما يشترط في الوقف قال رحمه الله: [ويشترط فيه المنفعة دائماً] شرع رحمه الله ببيان الشروط المتعلقة بالأوقاف، وشروط الأوقاف تنقسم إلى أقسام على حسب الأركان، فهناك شروطٌ تتعلق بالشخص الواقف، وهناك شروط تتعلق بالشيء الذي يراد وقفه، وهناك شروط تتعلق بالجهة، أو بمن يُوقف عليه.

أن يكون الوقف على جهة قربة

أن يكون الوقف على جهة قربة قال رحمه الله: [وأن يكون على بِرٍ، كالمساجد والقناطر والمساكين، والأقارب من مسلم وذمي، غير حربي وكنيسة ونسخ التوراة والإنجيل وكتب زندقة] في المثالين السابقين (كعقار وحيوان) العقار لا يزال إلى زماننا موجوداً، والحيوان لا يزال إلى زماننا موجوداً؛ ويدخل في حكم الحيوانات السيارات في زماننا، فلو أن شخصاً أراد الخير، وأراد مرضاة الله عز وجل، فعلم أن هناك طلاب علم يفتقرون إلى وسيلة تنقلهم إلى مدارسهم، فأوقف سيارةً لنقل طلاب العلم، أو طلبة التحفيظ، من أجل أن يحفظوا كتاب الله عز وجل في مسجد بعيد، فأوقف هذه السيارة من أجل نقلهم، أو أوقف سيارة لنقل المصابين والمرضى، كما في سيارات الإسعافات ونحوها، إن احتسب الأجر عند الله في مكان يفتقر إلى وجودها، فاشترى سيارة وقال هذه السيارة وقف لنقل المصاب والمريض، أو كانت في الجهاد في سبيل الله عز وجل لنقل المصابين، فهذه في حكم وقف الحيوان، يحبِّس الأصل التي هي رقبة السيارة، وتسبّل منفعتها من الركوب عليها. وقد يكون للواقف احتياط في بقاء العين كما سيأتي إن شاء الله، فالسيارة قد تحتاج إلى مئونة كالدابة فتسري عليها أحكام الدواب، فالدواب كانت تحتاج إلى علف وتحتاج إلى رعاية من بيطرة ونحوها إذا مرضت أو أصابها شيء، فبعضهم يحتاط فيجعل الرقبة متصدقاً بها، ويجعل جزءاً من منافعها يُستغل بحيث يكون ما يُستغل موجباً لدفع التكاليف التي يُحتاج إليها، ويمكن أن يوقف أكثر من سيارة، فيجعل بعضها للاستغلال من أجل أن تبقى الرقاب، وبقية السيارات التي يقصد بها الرفق، سواءً كانت في إسعاف المرضى والمصابين، أو كانت لنقل طلاب العلم، أو غير ذلك مما يُقصد به وجه الله والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى. هكذا لو كان له قرابة، ويحتاجون إلى سيارة يتنقلون بها، فقال لهم: هذه السيارة أوقفتها عليكم، فأوقفها على قرابته من أجل أن يرتفقوا ويقضوا عليها مصالحهم، فهذا يمكن أن يكون من وقف الخير والبر، ويُثاب الإنسان عليه، ويكون صدقة وصلة رحم. ونحو ذلك مما هو موجود في زماننا كالآلات، فالآلات مثلاً يمكن أن تُوقف، كما في القديم كانت الآلات التي يُجاهد بها من أسلحة القتال والجهاد في سبيل الله منها ما هو موقوف، وذكر العلماء في ذلك حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمّا بعثه النبي صلى الله عليه وسلم للصدقة كما في الصحيحين فقال: منع خالد والعباس وابن جميل فقال صلى الله عليه وسلم: (وما تنقمون من خالد فإنه احتبس أَدرُعه ومتاعه في سبيل الله)، فجعل الآلات الدروع التي يُجاهد بها محبوسة، فدل هذا على جواز ومشروعية احتباس الآلات. وفي زماننا لو حبّس أي آلات يُنتفع بها في مصالح المسلمين عامة كحفر القبور، وآلات يشق بها الطرقات كما هو موجود الآن عندنا في بعض الوسائل التي يستعان بها لتكسير الصخور، ولحفر الآبار، ولشق الطرقات، فهذا كله مما يمكن إيقافه، فيُحبَّس الأصل وتُسبّل ثمرته ومنفعته، ويكون وقفاً على من سماه الواقف. قوله رحمه الله: [وأن يكون على بر] أي: ويشترط في صحة الوقف أن يكون على بر، والبِر كلمة جامعة لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال، وأكثر ما يكون البر في الأفعال، ولذلك عمّمه الله سبحانه وتعالى، فجعل من البر ما يكون من الاعتقادات والأعمال الظاهرة، ومنه الإيمان بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وجعل من البر إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وجعل من البر الوفاء بالعهد، وجعل من البر الصدقة على المساكين وذوي القربى والمحتاجين. فهذا معنى البِرّ العام، ولذلك قرن الله سبحانه وتعالى البِرّ بالتقوى، فجعل البِرّ تقواه سبحانه وتعالى إشارة إلى عمومه وشموله لأصول الإسلام ومحاسنه، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} [البقرة:189]، فجعل البار الكامل في بره من اتقى الله سبحانه وتعالى. فدل على أن البر من الألفاظ العامة الشاملة لما يحبه الله ويرضاه من الطاعات والقربات، سواءً كانت من الأمور المتعلقة بالاعتقاد، وهي أفضل البِر وأحبه إلى الله سبحانه وتعالى، كالإيمان به سبحانه وتوحيده، وحسن الظن به جل جلاله، ومحبته، وخشيته، والاستعانة به، والتوكل عليه ونحو ذلك من أعمال القلوب، أو كانت من الأعمال الظاهرة من شعائر الإسلام العظيمة كإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. فلو أوقف شيئاً، وقصد به البِر صح وقفه، وبعض العلماء يقول: على بِرِّ ومعروف، والمعروف أكثر ما يكون في الأقوال، ولذلك يقال: أمر بالمعروف، ويجعل بعض العلماء بين البِر والمعروف عموماً وخصوصاً، وإذا أوقف على بِرٍّ يشمل فإنه وقف المساجد من أجل الصلاة فيها، وإقامة حلق الذكر والمحاضرات والدروس، هذا كله من البِر الذي يحبه الله ويرضاه. كذلك أيضاً لو أوقف كتباً يُتعلم منها، ويستفاد منها، فهذه صدقة جارية تكون وقفاً؛ لأنها على بِر وعلى طاعة، كمن أوقف مصاحف يقرأ فيها الناس، ويتعلم أو يحفظ منها طلاب العلم، فإن أوقفها على مدرسة فغالباً ما تكون للحفظ، أو أوقفها على مسجد، فغالباً ما تكون للقراءة، وهذا كله من البِر. كذلك يُوقِف بقصد الصلة للرحم، كأن يوقف على قرابته، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه. فقوله رحمه الله: (أن يكون على بِر) يعني يكون الوقف على بِر، مفهوم ذلك أن الوقف لا يكون على معصية، فإذا أوقف على معصية الله عز وجل، فإنه وقفٌ ممنوع، وليس بوقف مشروع. ومن هنا مثل العلماء رحمهم الله بوقفية آلات اللهو والمعازف، وكذلك الوقف على المعاصي، مثل قطع الطريق وإخافة الآمن، ونحو ذلك مما فيه ضرر على المسلمين عامهم أو خاصهم، فلا يجوز مثل هذا، وليس من الوقف الشرعي، بل هو وقف محرّم ولا يعتد به. قوله رحمه الله: [كالمساجد] فإن المساجد تعتبر من أَبَرِّ البر، وأعظم ما يكون من طاعة الله عز وجل بعد توحيده أن يقيم المسلم صلاته، والمساجد محلٌ لإقامة الصلاة وذكر الله عز وجل، فالوقف عليها فيه أجرٌ عظيم وثوابٌ كبير، ثم يختلف البِر في المساجد، فالبِر في المساجد التي تقام فيها الجمعة أعظم من البِر في المساجد التي تكون فيها الجماعات، مساجد الجمعة والجماعات أفضل من مساجد الجماعة فقط؛ لكن بعض العلماء يقول: مساجد الجماعة قد تكون أفضل من مساجد الجمعة من وجه، وهذا في أحوال خاصة؛ كأن يبني مسجداً في حي مكتظ بالناس يصلون فيه، ويمتلئ المسجد في الصلوات الخمس. فإذا حسبت ما يكون طيلة الأسبوع من الفروض الخمس مقروناً بمسجد تقام فيه الجمعة والجماعة، ولكن العدد قليل فقد يفوقه في الأجر من هذا الوجه، لكن هذا فيه نظر كما قال بعض مشايخنا رحمة الله عليه، وذلك أن الجمعة من حيث الأصل لها فضيلة، وصلاة الجمعة مفضّلة بتفضيل الله عز وجل ليومها ولهذه الشعيرة، فوجود الفضل الخاص لها يعطي مزية في الوقف على مسجدٍ مشتمل على المعنى العام، وهي في الصلوات الخمس دون هذه المزية الخاصة. فلا نستطيع أن ننزِّل الصلوات الخمس منزلة الجمعة من هذا الوجه، حتى إن بعض العلماء كان يرى أنها الصلاة الوسطى كما ذكرنا في الخلاف في تعيين الصلاة الوسطى، وإن كان الصحيح أنها صلاة العصر؛ لكن الشاهد أن الله سبحانه وتعالى فضل الجمعة وخصها بخصائص، فإذا أوقف على مسجد فيه جمعة وجماعات، فذلك أفضل من الإيقاف على مسجد فيه جماعة فقط. ثم ينبغي على من يوقف على المسجد أن يراعي أموراً تزيد في الخير والبر؛ فمثلاً: إذا كان في موضعٍ لا يدري هل يبقى أهله على الإسلام أو لا، أو أهله مقصرون في الصلاة، فليس مثل أن يكون بمثل موضع عرف أهله بالمحافظة على الصلوات ويغلب على الظن بقاء المسجد دهراً طويلاً. فوقفية المساجد في الأماكن التي يستقر فيها الإسلام، ويكون الناس حريصين فيها على الصلوات أفضل، وكذلك في الأماكن النائية حيث الحاجة شديدة، كالبوادي ونحوها، حيث يكون الخير فيهم أكثر، والأجر فيهم أعظم مما لو أوقف في مكانٍ لا يضمن أن أهله ينتكسون عن الإسلام أو يتحولوا عن الموضع الذي هم فيه، فتتفاضل المساجد بحسب ما يكون فيها من الخير والبِر. ثم أيضاً إذا أوقف على المسجد، وكان أهله حريصين على ذكر الله وإقامة المحاضرات ومجالس الذكر، والجلوس في المسجد أكثر من غيرهم، فالوقف على أمثال هؤلاء أفضل من الوقف على غيرهم. وقال بعض مشايخنا رحمة الله عليهم: إن الوقفية في الأماكن المفضلة أفضل من الوقفية في الأماكن المفضولة، فالمسجد في مكة والمدينة أفضل من غيرهما، فإن وقفية المسجد في الحرمين ليس كوقفية المسجد في غيرهما، وهذا راجع إلى التفضيل بالمكان؛ لأنه مزية فضل، ويقولون: إن هذا أعظم في أجره وأفضل مما لو صرفه في غيره. وقوله: (والقناطر) أي: بناء القناطر، وكانوا في القديم يحتاجون، القناطر تكون لمجرى الماء، كانوا يبنون القناطر للمياه يستقي منها الناس، ويسقون منها مزارعهم، ويسقون منها دوابهم، فهذه القناطر تكون مسبّلة على عموم المسلمين، غالباً ما تكون الوقفية فيها على عموم المسلمين، فالأجر فيها أعظم، كالمساجد تكون على عموم المسلمين، ولا تختص بطائفة ولا بجنس، وغالباً ما تكون على عموم المسلمين مثلما كان في بعض المدن الإسلامية تجري الأنهار في داخلها، فوجود القناطر تحفظ المياه وتصونها، وجري الماء في القنطرة يسهِّل وصوله إلى الناس. وربما احتاجت القنطرة إلى بناء فبناها وأوقفها، فهذا لا شك أنه أفضل وأعظم أجراً، وتتفاضل القناطر أيضاً بحسب ما يكون منها من النفع، فالقناطر التي ينتفع بها العامة، ويستقي منها الناس، وتسقى منها المزارع والدواب، ليست كالقناطر الخاصة التي تكون منحصرة، فالقناطر متفاوتة في الفضل بحسب ما يكون منها من الخير والبِر. قوله: (والمساكين): لأن المساكين يكون البر من جهة الرفق بهم؛ لأن الإحسان إلى المساكين والإنفاق عليهم من البِر، فهذا تعبير بالشخص الذي يُعطى، أو بالمحل الذي يوقف عليه، وقد تكون (المساكن)؛ أي: (كالمساجد والقناطر والمساكن)؛ لأن المساكن يُؤوى إليها، فمثّل بالمساجد التي فيها منافع دي

وجود المنفعة مع بقاء العين الموقوفة

وجود المنفعة مع بقاء العين الموقوفة فقال رحمه الله: [ويشترط فيه المنفعة دائماً] (ويشترط فيه) يعني: في محل الوقف، فلا يقع الوقف على شيء إلا إذا استوفى شروطاً، ولا نحكم بوقفية كل شيء، وبعبارة أخرى أن الوقف يختص بأشياء دون أشياء. وبناءً على ذلك يرد Q ما هي الأشياء التي يمكن وقفها؟ A كل عين فيها منفعة قابلة للانتقال بالتمليك، ودائمة لا تفوت العين بها. فلمّا قلنا: كل عينٍ، خرجت المنافع؛ لأن الأشياء أعيان ومنافع، فالعين هي الرقبة مثل الدار والمزرعة، فكل عين لها منفعة يمكن أن يتعلق الوقف بالعين، ويمكن أن يتعلق بالمنفعة، فإذا تعلق بالعين تبعت المنفعة العين، وأما إذا تعلق بالمنفعة فإن هذا لا يستلزم وقفية العين. وبناءً على ذلك فالوقف لا يصح إلا إذا كان بالعين، فلا يتعلق الوقف بالمنافع، ومن أمثلة المنافع السكنى، فلو أن شخصاً ملك منفعة دارٍ شهراً، كأن يستأجر عمارة لمدة شهر، أو يستأجر عمارة سنة، أو يستأجرها عشر سنوات، ثم قال: أوقفت هذه المنفعة عشر سنوات على طلاب العلم؛ فإنه لا يصح؛ لأن الوقف لا يتعلق بالمنافع. ولذلك يشترط في محل الوقف أن يكون من الأعيان لا من المنافع، وهكذا لو قال: أوقفت الركوب على الدابة، فلا يصح، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم مشيراً إلى هذا الشرط: (إن شئت حبّست الأصل وسبّلت الثمر)، فجعل المنفعة تابعة للعين وجعل الوقفية متعلقة بالعين. ثانياً: أن تكون هذه العين مشتملة على منفعة لا تفوت بفواتها لو تعلقت الوقفية بها، فإذا أوقف عيناً ولها منفعة وكانت المنفعة لا تتحقق إلا بذهاب العين لم تصح الوقفية، ومن أمثلة ذلك أن يوقف طعاماً على فقير فإن انتفاع الفقير بالطعام لا يمكن أن يكون إلا بالأكل، وحينئذٍ تكون منفعة الموقوف مفضية إلى ذهاب عين الموقوف. ولا يصح الوقف على هذا الوجه، فلا يصح وقف الطعام على هذا الوجه؛ لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا بذهاب عينه، والنبي صلى الله عليه وسلم عبّر في الوقف بعبارتين (إن شئت حبّست الأصل وسبّلت الثمر)، فلو قلنا بصحة وقفية الطعام ووقفية الأعيان التي تذهب بالانتفاع بها، فإن هذا يناقض الوقف؛ لأن الوقف حبس الشيء: (إن شئت حبّست الأصل)، وهو إذا قال أوقفت هذا الطعام صدقة على المسكين؛ فإن انتفاع المسكين مفتقر إلى فوات الطعام، والوقف حقيقته أن يبقى الأصل محبوساً، فلا تتحقق الوقفية، ولا يمكن أن يكون الطعام باقياً؛ لأنه يُستنفد ويستهلك بالأكل. ومن هنا تخرّجت أيضاً مسألة وقفية الدراهم والدنانير، كأن يقول: هذه مائة ألف وقف على الفقراء والمساكين، فهذا لا يصح؛ لأن الذهب والفضة لا يصح وقفها في قول عامة أهل العلم كما حكاه الإمام ابن قدامة رحمه الله وغيره، فذكر أن وقف الأثمان لا يصح، لأنه لا يمكن أن ينتفع بالذهب والفضة إلا بالشراء وبذلها، فإذاً منفعتها موجبة لذهاب عينها، والوقف يستلزم بقاء العين. فصار هناك تناقض بين حقيقة الوقف ووجود الثمرة والمقصود من التحبيس والوقفية، ومن هنا لا بد وأن تكون العين باقية، وألا يكون الانتفاع بهذه العين موجباً لفوات العين، إلا أن بعض العلماء استثنى من الذهب والفضة أن يكون من الحلي كالأسورة والقلائد ونحوها، فقال: يصح وقفية الحلي يعار للضعفاء والفقراء يتجملون به ويلبسونه، فهذا يخفِّف فيه بعض العلماء فيقول ستبقى القلادة، فحقيقة الوقفية منضبطة؛ لأن القلادة ستبقى، والمنفعة بالتزين ممكنةً، وهذه مسألة لها أصل تقدم في مسألة إجارة الحلي، وأياً ما كان من حيث الأصل لا تصح وقفية الدراهم والدنانير، فلو قال: هذه مائة ألف وقف لم تصح وقفيتها. وهنا مسألة انتشرت في بعض البلدان الإسلامية، ويوجد من يفتي بها وهي مسألة عجيبة، يقولون: يمكن للغني بدل أن يعطي الفقراء والضعفاء أموال الزكاة، قال بعض المتأخرين والباحثين بأنه يجوز أن تؤخذ هذه الزكاة وتبنى بها عمائر، أو تبنى بها محلات تجارية قبل إعطائها للفقراء ثم يؤخذ ريع هذه العمائر ويُتصدق به على الفقراء. يقول: هذا أفضل من أن نعطيهم النقود لأنهم يضيعونها أو يتلفونها، ثم إن هذا استثمار يدر عليهم أرباحاً أكثر وأفضل مما لو أخذوا هذا المال، وهذه فتوى باطلة، لا تستند لاجتهاد صحيح؛ لأن الزكاة حق في المال للفقراء ومن سمى الله من أهل الزكاة كما قال تعالى: {وفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:24]، فهذا يدل على أن الزكاة حق للمسكين، وإذا كانت حقاً للمسكين؛ فإن بناء العمارة بها، أو شراء الأرض من أجل بناء العمائر عليها، أو ما يستغل أو يستثمر يفتقر إلى وجود الإذن من المالك، والفقير ما فوّض الغني بأن يبني له، ولم يفوضه أن يقوم بهذا الاستثمار، فحينئذٍ يبنيها الغني على ملكه، ويصبح فعله هذا معطِّلاً للزكاة، ولا يترتب عليه ملكية المساكين وأهل الزكاة لهذا المال. ثم إذا قلنا: إنها حق لمن سمى الله عز وجل من أهل الزكاة فمن الذي يستحق هذه العمائر من الأصناف الثمانية، ومن الذي تكون له هذه الاستثمارات؟ فمثل هذه الاجتهادات التي لا تستند إلى أصولٍ صحيحة، ولا تتفرع على أصول علمية ذكرها العلماء والأئمة؛ فإنه لا يعوّل عليها، ولا يلتفت إليها وهي باطلة. فالشاهد من هذا أنه لا تصح وقفية الدراهم والدنانير؛ لأنه لا يمكن الانتفاع بها إلا بذهاب عينها؛ فإذاً لا يمكن أن تبقى وقفاً، وإذا انتُفع بها تعطلت الوقفية، وإذا بقيت وحُبِّست امتنعت عن المنفعة، فأصبح الأمر متناقضاً، ولذلك قال العلماء رحمهم الله: لا تصح وقفية الأثمان ولا المطعومات ولا الرياحين، ومثلوا بالرياحين؛ لأنها تُشَم وتُعصر فإذا شُمّت تلفت وفسدت وذهب ما فيها من النكهة والرائحة، وإذا عصرت أيضاً فسدت، فالمنفعة فيها موقوفة على إتلاف عينها، فلا تصح وقفيتها من هذا الوجه. قال رحمه الله: [ويشترط فيه المنفعة دائماً من عين ينتفع به مع بقاء عينه] (دائماً) لأن الوقف على التأبيد، وذلك كما أشرنا إلى أن الوقفية لا تصح مؤقتة، فلو قال: أوقفت داري شهراً، أو أوقفت مزرعتي سنة، فإن هذا لا يصح؛ لأن الوقف المؤقت باطل، فلابد وأن يكون الوقف على التأبيد، ولذلك يذكر العلماء من شروط صحة الوقف أن يكون على التأبيد. فإذا كان الوقف على التأبيد فهو أن تبقى العين غالباً، وأن يكون تحبيسها وإيقافها إلى الأبد. قال رحمه الله: [كعقار وحيوان] (كعقار) أي كما لو أوقف عقاراً، كأن يوقف عمارة، أو يوقف بيتاً، ويجعله مسكناً للأيتام والأرامل والمحتاجين، أو يوقف عمارة على طلاب العلم، أو على أهل العلم يأخذون ثمرتها وغلتها، فإذا أوقفها على طلاب العلم من أجل أن يسكنوا فيها كما في الأربطة فلا إشكال، ويكون استحقاقه من جهة السكن، وإذا أوقفها على أهل العلم على أنها تُستغل ويكون لأهل العلم أخذ غِلتها، فهذا شيء آخر، فيُقسم نتاج الأجرة كما هو معلوم. [كعقار وحيوان] وقوله: (كعقار وحيوان) مثّل رحمه الله بالعقار والمنقول، والحيوان مثل الإبل والبقر والغنم، بأن يُوقِف الدابة ويوقف منافعها، يحبِّس الأصل ويسبّل الثمرة، وإذا سبّل الثمرة في البهيمة، فإما أن يسبّل ركوبها مثل البعير يجعله للركوب في سبيل الله عز وجل، سواءً للجهاد في سبيل الله، كأن يقاتَل عليه ويجاهد في سبيل الله عز وجل، وكذلك الفرس لو أوقفها في سبيل الله عز وجل، وتكون البهيمة محبّسة الأصل مسبّلة الثمرة أيضاً بأن يُتصدق بحليبها، فيُجعل حليبها كما في البقرة أو في الشاة، يحبِّس أصلها ويجعل حليبها صدقة للضعفاء والفقراء.

الأسئلة

الأسئلة

مسح البول دون غسله

مسح البول دون غسله Q إذا أصاب البدن بول ثم مسح بالمنديل ونسي الغسل ولم يذكر إلا بعد الصلاة فما الحكم؟ A الطهارة بالماء في غير القبل والدبر لازمة، ولا تحل الطهارة بالتراب أو الحجر ونحوه من الطاهرات محل الماء في تطهير البدن أو الثوب أو المكان إذا أصابته النجاسة، إلا في مسألة واحدة ذكرها بعض العلماء وهي أن يصيب الثوب نجاسة وليس عنده ماء فقالوا: يُشرع أن يتيمم لهذه النجاسة التي عليه. هذا قول بعض العلماء، ويجعل الطهارة الترابية بدلاً عن طهارة الماء، أما من حيث الأصل فالذي دل عليه الأصل أن الطهارة من النجاسة لا تكون إلا بالماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: (اغسلي عنك الدم وصلي)، فقال: (اغسلي)، وجعل تطهير النجس بالغسل، فهذا هو الأصل أنه يجب الغسل. والماء أصل لحديث أنس في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن بول الأعرابي: (أريقوا عليه سجلاً من ماء)، ولم يجعل نشاف البول، ولا تبخره بالشمس موجباً للحكم بطهارة الموضع، خلافاً للحنفية الذين يقولون إنه يمكن إذا ظهرت عليه الشمس فتبخرت النجاسة أن يحكم بطهارة المكان. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور أنه لابد من الغسل، وإذا ثبت هذا فالمنديل لا يعتبر مطهراً إلا في القُبل والدُّبر إذا خرجت منهما نجاسة، فيعتبر في حكم الاستجمار؛ لأن الاستجمار يجوز بكل طاهر ما عدا العظم والروث، ونحوه من المحترمات، وكذلك ما لا ينقي. فإذا أنقى بالمنديل في القبل والدبر حكمنا بالجواز، بشرط أن لا يتجاوز الخارج الموضع والصفحتين فإذا تجاوز وجب الغسل، هذا من حيث الأصل. أما بالنسبة للمسألة المذكورة أنه أصابته النجاسة فمسحها بالمنديل ثم نسي غسلها ثم صلى، فأصح أقوال العلماء في هذه المسألة أن صلاته صحيحه إذا لم يتذكر إلا بعد السلام والفراغ من الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في نعليه وكانت فيهما نجاسة، فأتاه جبريل فأخبره أنهما ليستا بطاهرتين، فخلعهما عليه الصلاة والسلام ولم يعد الصلاة من أولها، فبنى على ما مضى، فدل على أن الكل إذا تم دون علمه أنه معذور وصلاته صحيحة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

نتاج الدابة هل يعتبر تابعا للأصل

نتاج الدابة هل يعتبر تابعاً للأصل Q من أوقف دابة فهل نتاجها وما في بطنها يُعتبر وقفاً، وهل يعتبر النتاج من الأصل أم من المنفعة؟ أثابكم الله. A هذا يُرجع فيه إلى شرط الواقف، وسيأتي التفصيل فيه، فإذا أوقف دابة قد يسبّل ركوبها، ولا يسبّل حليبها، وقد يسبّل الدابة بحليبها وثمرتها؛ لكن الأصل أن الثمرة تتبع العين، وإذا سبّلها على أن تكون منافعها كلها تابعة لها فلا إشكال، وتكون على المصرف الذي حدده. فلو قال مثلاً: أوقفت هذه الدابة على أن حليبها يُباع، وينفق عليها من حليبها، فحينئذ تكون الوقفية مختصة بالركوب ولا تشمل الشراب، وقد يقول: أوقفت هذه الدابة يُشرب من حليبها، ولكن يستغل ظهرها من أجل أن ينفق عليها بقدر الحاجة أو النفقة عليها. فالمقصود أن هذا يختلف باختلاف شرط الواقف، ويتقيد في حكمه بشرط الواقف، والله تعالى أعلم.

تجزؤ الوقف

تجزؤ الوقف Q إذا كانت لدي دار فهل يجوز أن أسكن في دور وأوقف باقي الأدوار؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، فأجاز بعض العلماء أن يُوقف من الدار علويّها، وأن يُبقي أسفلها على الأصل، وممن اختار هذا القول الإمام النووي رحمه الله كما نص عليه في الروضة، وأشار إلى أنه وجه عند الشافعية رحمهم الله. فبناءً على ذلك يرتَفِق بالأسفل منها ويوقف أعلاها، وقال بعض العلماء: إن أسفل الدار حكمه حكم أعلاه وأعلى الدار حكمه حكم الأسفل، ولا يمكن أن نحكم بالوقفية باختصاص الأعلى دون الأسفل ولا العكس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوِّقه من سبع أرضين)، فجعل أسفل الشيء تابعاً لأعلاه؛ ولأن الإجماع منعقد على أن من اعتكف في مسجد فصعد إلى سطوحه أنه لم يخرج عن المسجد؛ فدل على أنها سارية إلى الأعلى كما أنها ثابتة في الأسفل، ولذلك صح الطواف بالدور الثاني من بناء البيت، وصح الطواف على سطح المسجد الحرام؛ لأن أسفل الشيء وأعلاه في حكمٍ واحدٍ من هذا الوجه، إذا ثبت هذا فلا يصح أن تقول إن الأعلى موقوف دون الأسفل، أو الأسفل دون الأعلى. ومن هنا تتخرج مسألة ما إذا بنى مسجداً، وجعل تحته أماكن للاستغلال، أو جعل فوقه سكناً يُستغل، فإذا قيل إن أسفل المسجد وأعلاه حكمه واحد، وهو الصحيح والأقوى من حيث الأصول؛ فإن هذا يُمنع، ولا يمكن أن تكون أسافل المساجد لا حرمة لها كأعلاها، ولا أن يكون أعلاها خالياً من الحرمة كأسفلها. ولذلك فالأشبه بمثل هذا أن الحكم للأعلى والأسفل، ومن هنا نبّهنا على مسألة شراء الشقق، فإن الشقة إذا اشتُريت، وهي في الدور الثاني فإن هذا يوجب السؤال إذا كان الأصل أن فضاء الشيء تابع لأسفله فحينئذ تصبح الشقة تابعة للأسفل. فلو قلنا: إنه بنى داراً من شقتين في كل دور شقة؛ فلن يتحقق تقسيم الأرض بينهما؛ لأن الذين يبيعون الشقق يبنون فوق هذه الشقة أدواراً أخرى، ويبيعون الشقق، والمالك الحقيقي يقول: بعتك الشقة فقط أنا ما بعتك سطح الشقة، فهو مالك لسطحها، فإذا بنى عليها سيبيع ذاك الذي بناها، ثم يبني عليها آخر ويبيع الذي عليه. لكن لو أنه اشترى الشقة على أنه مشترٍ لنصف البيت، وأن هذا البيت بينهما فإنه يصح، ولا ينصب البيع على الشقة؛ ولكن يقول: أشتري منك هذه العمارة نصفها بمليون على أننا نقسم قسمة مُهايا، يسمونها قسمة المُهايا كما يقع بين الوارثين ونحوهم، تكون الشقة العليا لك والسفلى لي أو العكس؛ فحينئذ لا يكون الملكية لعين الشقة، وإنما تكون قسمة مُهايا. فالمقصود أن مسألة العلوي تابع للسفلي مسألة مهمة جداً، لا يمكن أن نفرق فيها في الأحكام، فتارةً نقول المعتكف لا يبطل اعتكافه إذا صعد إلى سطح المسجد؛ لأن أعلى المسجد من المسجد، ثم نقول يصح أن يوقف أعلى المسجد دون أسفله، فهذا تناقض، فإما أن يُقال بأن الفضاء تابع للأسفل عموماً، والأسفل يتبع علويّه كما في البدروم أو نحوه، وإما أن يقال بالتفصيل، أما من تناقض في مسائل العبادات نعطيه حكماً، وفي مسائل المعاملات نعطيه حكماً فهذا ليس من الفقه. إنما الفقه أن يبنى على أصل واحد، وانتزعنا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين)، فقه هذا الحديث، جعل العلماء أسفل الأرض كأعلاها لأنه جعل العقوبة عليه مضاعفة بما يساوي الأرض كلها قال: (من سبع أراضين)، فمع أنه اغتصب في الأرض العلوية، لكنه عذب بما سفل؛ لأنه من ملك الأعلى ملك الأسفل. ولأن الإجماع منعقد على أنك إذا ملكت أرضاً فمن حقك أن تحفر فيها، حتى لو استطعت أن تصل إلى الأرض السابعة؛ لأن هذا ملك لك، فإذاً لا نستطيع أن نقول: إنه يملك أعلى الأرض وأسفلها، ثم نقول بجواز وقفية أعلاها دون أسفلها أو العكس، فهذا تناقض. ولذلك فالأشبه أنه لا يكون المسجد إلا موقوفاً كلّه أسفله وأعلاه، وتكون الحرمة لأعلاه كأسفله، ولا يجوز -بناءً على هذا- أن تكون دورات المياه أسفل منه؛ لأنه في هذه الحالة كالمصلي فوق الحمام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في الحمام، وإذا كان علوي الشيء كسفليه فحينئذ لا يتأتى. فتقاس على هذه المسائل كلها ويقرر الأصل على هذا الوجه الذي يُفهم من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الأقوى والأولى، والله تعالى أعلم.

كتاب الوقف [3]

شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [3] ليس كل شيء يجوز الوقف عليه، بل إن هناك أشياء يحرم الوقف عليها، منها: بناء الكنائس والوقف للكافر الحربي، ونسخ التوراة والإنجيل، وكتب أهل البدع والزندقة، وإذا أوقف على ذلك فإنه يصار إلى أقرب شيء موافق وشبيه للموقوف عليه في الشرع، والأصل أن العبد إذا أوقف وقفه بشروط غير ممنوعة شرعاً، فإنه ينبغي العمل والتقيد بشروط الواقف وعدم العدول عنها.

ما لا يجوز الوقف عليه

ما لا يجوز الوقف عليه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد: فهناك وجوه لا يجوز الوقف عليها، وهي الوجوه التي حرمها الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى نهى عباده المؤمنين عن جملة من الأمور، فلا يجوز لهم أن يستحلوها كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تحلوها). فالوقف على هذه الأشياء يُعين على معصية الله عز وجل، ويعزز ويقوي هذا الأمر المحرم، ولذلك حظر الله عز وجل على عباده أن يكونوا سبباً في المعونة على الإثم والعدوان، كما قال سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]. وأعظم الإثم أن يعين على ما يؤثر في العقيدة والتوحيد، فإن إفساد إيمان الناس بالله، والتحريض على ما يصرفهم عن توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة؛ هو أعظم المنكر الذي حرمه الله عز وجل، فأنزل من أجل تحريمه كتبه، وأرسل رسله سبحانه وتعالى.

عدم صحة الوقف على نفسه

عدم صحة الوقف على نفسه قال رحمه الله: [والوقف على نفسه] أي: لا يصح أن يوقف على نفسه؛ لأن الوقف إخراج للمال المملوك عن ملكيته لله سبحانه وتعالى، خاصة إذا كان على وجوه البر كما تقدم، فإذا أوقف على نفسه فإنه في هذه الحالة لم يصنع شيئاً وليست هذه هي حقيقة الوقف. ومن هنا قال بعض العلماء: لا يصح وقف الإنسان على نفسه بغير خلاف، يعني لا خلاف بين أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة، لكن لو أنه جعل لنفسه حظاً في حال حياته من الوقف فإنه يصح، كأن يجعل له نصيباً من هذا الوقف مدة حياته. وهكذا لو اشترط النظارة فقال: هذا البيت يكون وقفاً علي وعلى ذريتي من بعدي، ولكن لي حق النظارة في حال حياتي، ولو أوقف بيته على الفقراء والمساكين واشترط النظارة عليه؛ صح، فإذا اشترط النظارة لنفسه أو نصيباً من الوقف لنفسه، فإنه لا بأس بذلك. وقال بعض العلماء: إن الإمام أحمد رحمه الله قد نص على أنه إذا اشترط لنفسه جزءاً أو شيئاً مخصوصاً مدة حياته أنه لا بأس بذلك ولا حرج عليه.

عدم جواز الوصية على محرم

عدم جواز الوصية على محرم قال رحمه الله: [وكذا الوصية] أي: ولا تجوز الوصية على الكنائس، ولا الوصية لنسخ كتب الأديان السماوية الأخرى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى عمر رضي الله عنه يقرأ في صحف أهل الكتاب غضب عليه الصلاة والسلام فقال كما في الصحيح: (والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي). وهذا عمر رضي الله عنه الذي تؤمن عليه الفتنة، ومع ذلك صرفه عن شغل وقته، وإضاعة وقته في قراءتها (والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)، فإذا كانت الوصية لهذه الأمور المحرمة فإنها تكون باطلة، لكن هل تبطل من أصلها أو تصرف إلى ما هو أقرب من وجوه الخير؟ على التفصيل المتقدم.

الوقف على الحربي

الوقف على الحربي يقول المصنف رحمه الله: [غير حربي] أي: لأن الحربي المحارب لله ورسوله، محارِب للمسلمين مباح الدم. مثلاً: إذا وقعت حرب بين المسلمين والكفار؛ فإن هؤلاء من أهل الحرب ليس لهم حق على المسلمين، لمحاربتهم للمسلمين، ولذلك تستباح دماؤهم، وتباح أعراضهم، فتُسبى ذراريهم ونساؤهم، وكذلك لا يجوز ولا يشرع أن يُعاملوا معاملة الحسنى؛ لأنهم حاربوا الإسلام ومنعوا نشره، ففي هذه الحالة لا يجوز أن يُوقِف عليهم؛ لأنه ليس بِبِِِر، بل يعينهم على المسلمين، فلا يُشرع الوقف عليهم.

الوقف على الكنائس ونحوها

الوقف على الكنائس ونحوها يقول رحمه الله: [وكنيسة] وكذلك الوقف على كنيسة لا يصح ولا يجوز؛ لأن الكنائس جاز استبقاؤها للضرورة، ولذلك فإذا هُدمت لم تُبن، وقد تقدم معنا أحكام الكنائس في أحكام أهل الذمة، وبيّنا الشروط العمرية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتلقي الأمة لها بالقبول. فلا يجوز الوقف على بناء الكنائس، سواءٌ كانت في ديار المسلمين، أو كانت خارج ديار المسلمين، ولا يجوز المعونة على بنائها، ولا ما يقوي من نشاطها، فكل ذلك محظور؛ لأن الوسائل تأخذ حكم المقاصد، فلما كان دين أهل الكتاب ديناً منسوخاً، فلا يجوز المعونة عليه.

الوقف على نسخ التوراة والإنجيل

الوقف على نسخ التوراة والإنجيل يقول رحمه الله: [ونسخ التوراة والإنجيل] كما أن الوقف يكون على المحسوسات من بناء الكنائس محظوراً كذلك يكون على المعنويات، وهي الأمور الفكرية التي تؤثر في عقائد الناس، من نَسْخ التوراة المنحرفة والإنجيل المحرف، وقد نَسَخ الله عز وجل العمل بالكتابين بكتابه سبحانه وتعالى الذي أنزله مهيمناً وناسخاً للشرائع. فنسخ التوراة والإنجيل، لا يجوز الوقف عليه، وكانوا في القديم يحتاجون إلى نسخ الكتب، سواءً كانت من الكتب المنزلة، أو كانت كتب علم، فبقاء الدين موقوف على نسْخ هذه الكتب، فنسخ التوراة والإنجيل مثال ضربه المصنف رحمه الله لكي يلحق به غيره. ومما يدخل في هذا كتب البدع؛ فإن الكتب التي تشتمل على البدع المنكرة من الأذكار والصلوات والأوراد التي لا أصل لها في الشرع، لا يجوز نسخها ولا المعونة عليها، ولا بثها بين الناس؛ لأن هذا يُفسد عليهم دينهم وإخلاصهم لله عز وجل، ويجعلهم يعتقدون ما لم يأذن الله عز وجل باعتقاده، ويعتقدون نسبتها إلى الشرع، والشرع لم يأذن بهذه الأشياء ولم يأمر الله عز وجل بها. فلا يجوز الوقف على طبع كتب أهل البدع، سواء كانت في الأذكار أو كانت تحمل أفكاراً تصرف الناس عن السنة، ومذهب أهل السنة، أو تشكك في عقائد الناس، أو توهن إيمان الإنسان بالله عز وجل، ككتب الزندقة والإلحاد والفلسفة التي تجعل الباطل حقاً، وتجعل الحق باطلاً، وهكذا مثّل بعض العلماء بكتب السحر -أعاذنا الله وإياكم منه ومن أهله- وغير ذلك من الكتب التي تشتمل على أضرار دينية. وهكذا لو كانت الكتب تشتمل على أمورٍ إباحية تُفسد أخلاق الناس، أو تثير الغرائز، ونحو ذلك من الأمور المحرمة لا يجوز الوقف عليها؛ لأن ذلك كله يدخل في المعونة على الإثم والعدوان، والله حرم التعاون على الإثم والعدوان. وقد أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم الوقف على مثل هذا، ويبقى Q إذا أوقف على كتب محرّمة أو على كتب بدع وضلالة أو نحو ذلك، فهل يبطل الوقف من أصله، أو ينظر إلى قريبه وشبهه؟ هذه المسألة من أمثلتها أن يوقف مثلاً على طبع كتب محرّمة، ككتب البدع ونحو ذلك، ثم يعرض الأمر على القاضي بعد أن انتهى من وقفيته وأتمها، فهل نقول: الوقف صحيح، والجهة التي يصرف لها باطلة، فيصرف إلى أقرب شيء منها، أو نقول: الوقف باطل من أصله، ويرجع المال إلى صاحبه. قال بعض العلماء: إذا أوقف على أمر محرّم، سواء كان بناء ما يحرم بناؤه، أو نَسْخ ما يحرم نسخه، فإن الوقف باطل من أصله، وبناءً على ذلك يرجع المال إلى صاحبه. وعلى هذا القول لو أن ميتاً أوقف داره على طريقة من طرق المبتدعة، أو على طبع كتب من الكتب المحرمة، من كتب البدع؛ فإن الورثة يستحقون هذا الذي أوقفه ويرجع ميراثاً شرعياً؛ لأن الوقف باطل من أصله، هذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله. وبعض العلماء يرى أنه لما تلفظ بالوقف أخرج المال عن ملكيته، وحُظِر عليه الصرف في الممنوع، فوجب البذل للمشروع، فلو قال: أوقفت هذه الدار -مثلاً- على الطريقة الفلانية، أو على البدعة الفلانية ولا يراها بدعة، أو على الشيء الفلاني وهو بدعة. فيقولون: نرى أنه قد أوقف، والأصل الإعمال، ولذلك نُعْمِل وقفيته، ثم لما قال: على الطريقة الفلانية أو الأمر المبتدع الفلاني؛ فإنه يُمنع صرف هذا الوقف إليه، ويصرف إلى ما أذن الله به، ثم يصرف بالأشبه والأقرب مما أوقف عليه. فإن كان أوقف على نَسْخ التوراة والإنجيل صُرف إلى نسخ وطبع القرآن، وإذا كان طبع القرآن متيسراً؛ فإنه يصرف إلى طبع كتب العلم أو كتب التفاسير أو كتب الحديث؛ لأنها أشبه بالذي أوقف عليه، فلما أوقف على الممنوع نفذ وقفه من جهة الإخراج -أنه أخرجه عن ملكه- فنعمل هذا ونبقيه على ما هو عليه، ثم نمنع من صرف المال أو صرف الغلة إذا كان للوقف غلة إلى ذلك الممنوع، ونصرفها إلى أشبه شيء من المشروع. كذلك لو أوقف على أصحاب طريقة وقال: داري هذه أوقفتها من أجل الأذكار والصلوات والخلَوات وهي أمور غير مشروعة، فنقول: تُصرف لطلاب العلم. فالمقصود أنه إذا اعتقد أن هذا من المشروع؛ فإنه يُلغى هذا الأمر المحرّم، وننظر إلى ما هو أشبه، وهو الذي يذكر الله عز وجل، فوجدنا طالب العلم ذاكراً لله، وهو أشبه بوقفيته، ويقاس على هذا بقية المسائل. هذا القول الثاني اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه وطائفة من المحققين، أن من أوقف على الممنوع ينفذ وقفه في الأصل؛ ولكن يُصرف من الممنوع إلى المشروع، وهذا مبنيٌ على أنه قد أخرج من ذمته المال فنبقي إخراجه على ما هو عليه، ثم يُصرف إلى الجهة التي أذن الله بها. قال رحمه الله: [وكتب زندقة] وهكذا كتب الزندقة، ومن أعظم ما يكون جرأة على الله سبحانه وتعالى الجرأة على إفساد عقائد الناس، وأعظم منكر على وجه الأرض أن يُصرف الناس من التوحيد والفطرة والإخلاص لله عز وجل، إلى عبادة غير الله وتعظيم غير الله، وتنصَب هذه الكتب أو هذه الأوقاف على إفساد عقائد الناس بتعظيم غير الله، فيُصرف ما لله لغير الله سبحانه وتعالى، وهو أعظم الظلم {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]. (إن) التي تفيد التوكيد {الشِّرْكَ لَظُلْمٌ} [لقمان:13]، وصفُه بالظلم، وجاء نكرة {لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] ثم يقول الله: (عَظِيمٌ)، وليس بعد عظيم الله عظيم، فمثل هذه التصرفات، مثل كتب الزندقة وكتب الإلحاد التي تُدس فيها السموم لصرف الناس من التوحيد الخالص، ومن الفطرة السوية إلى غير ذلك مما فيه المحاربة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ومما يدخل في ذلك كتب الاستهزاء بالدين، أو التشكيك في الدين، أو التشكيك في الحقائق والثوابت الدينية، وكتب الاتجاهات الفكرية في كل زمان ومكان، حتى في الزمان المعاصر حيث تصرف من تعظيم الدين وحب الدين والتعلق بالدين، إلى الاستهزاء والسخرية به، ونحو ذلك من الأمور المنكرة. كل ذلك لا يجوز الوقف عليه، ومن فعل ذلك فقد أعان على أعظم الإثم واعتدى حدود الله عز وجل، ومن اعتدى حدود الله فقد حارب الله سبحانه وتعالى، ومن ذا الذي يقوى على محاربة الله عز وجل؛ فإن الله سبحانه وتعالى له سنن لا تختلف، وله آيات بينات أنزلها سبحانه وتعالى بمن كفر بدينه وغير شرعه؛ فإنه لا يفلت من عقوبة الله العاجلة والآجلة. فلا يجوز طبع مثل هذه الكتب، ولا توزيعها، ولا نشرها، ولا الإشادة بها، بل ينبغي الحذر كل الحذر من ذلك الأمر، والعلماء نصوا على أنه لا تجوز الوقفية عليها، فينبغي أن يفهم طالب العلم أن المسألة ليست مسألة وقفية فحسب، لكن المسألة أن هذه وسيلة إلى أمر محرم، فيجمع جميع الأسباب، والوسائل، والأمور التي تعين على هذا المنكر العظيم، سواءً كانت بالأقوال أو كانت بالأفعال، أو بالمادة أو بالمحسوسات أو بالمعنويات، أو بأي سبيل وبأي طريق كان هذا الإفساد، فإنه محاربة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتغيير لدين الله عز وجل. وكل من طبع هذه الكتب، أو أعان على نشرها وتوزيعها، فمن ضل وأضل بها غيره فعليه إثمه وإثم من يُضِل إلى يوم القيامة والعياذ بالله {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13]، فمثل هذه الأمور ينبغي الحذر منها، وعدم التساهل فيها، فكتب الزندقة حذر منها العلماء رحمهم الله في القديم، ولا زال أئمة الإسلام في كل عصر ومصر يحذرون من هذا، وينبغي قفل جميع الأسباب التي تعين على نشر الزندقة. الزندقة ما دخلت على المسلمين إلا في عصور ترجمة المنطق، ولما أدخلها المأمون على المسلمين حصلت المفاسد العظيمة، والشرور الكبيرة، فصار الباطل حقاً، والحق باطلاً، ولبِّس على الناس دينهم، فدخلت الأمة في النقاشات، وفي الاتجاهات الفكرية حتى أصبحت السنة كالبدعة في أنظار هؤلاء الذين زاغوا وأزاغوا. فمثل هذا المنكر العظيم لا يجوز المعونة عليه بطبع كتبه أو نشرها، حتى الإشادة بها، بل ينبغي للمسلم دائماً أن يعلم أن الوسائل تأخذ حكم المقاصد، وهذا ما قرره العلماء رحمهم الله، وللإمام العز بن عبد السلام رحمه الله كلام نفيس في كتابه: قواعد الأحكام ومصالح الأنام، بين أن الوسائل إلى المنكرات تختلف آثامها على حسب عظم المنكر، فالوسيلة إلى الشرك أعظم من الوسيلة إلى الزنا، والوسيلة إلى القتل أعظم من الوسيلة إلى السرقة، فأعظم وسيلة ما كان وسيلة إلى الشرك؛ لأنه ليس بعد الشرك ذنب وإثم يُعصى به الله سبحانه وتعالى. فإذا كان الفعل أو القول أو أي شيء يقدُم عليه الإنسان وسيلة إلى هذا المنكر العظيم؛ فإنه في أسوء منازل الوسائل المحرمة. يذكر بعض العلماء رحمهم الله أن الزندقة لا تختص بالزندقة المباشرة، فقد تكون زندقة ضمنية مثل من يجرؤ على تفسير القرآن وتفسير السنة بالهوى والرأي، أو ليّ النصوص الواردة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم عن حقيقتها، وعن تفسير السلف الصالح رحمهم الله لها، إلى تفسيرات توقع الناس في البلبلة، وتوقع الناس في ريب من هذا الكتاب الذي أنزله الله عز وجل هدى ونوراً للعباد، كل هذه الأمور من المحرمات العظيمة. والوسائل التي هي في أعظم درجات الإثم أعظم إثماً، وأعظم جرأة على الله عز وجل، ولكن ينبغي أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى متكفل بدينه، وأن الله سبحانه وتعالى غالب على أمره، فوالله لو اجتمع أهلُ الأرض، جنهم وإنسهم، كبيرهم وصغيرهم، على أن يغيروا كلمة الله عز وجل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وليختلفن الليل والنهار ولا يمكن أن تتبدل كلمة الله سبحانه وتعالى، مهما رأيت من كتب الزندقة والهوى والجرأة على تغيير الحق والاستهزاء بالحق وأهل الحق، فاعلم أن لله سطوات، وأن الباطل مهما كان حاله، ومهما كان شأنه؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقذف بالحق عليه فيدمغه. ولكن لهذا الحق رجال يسخِّرهم الله عز وجل لهذه الأمة، كما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، هم الذين يذبُّون عن الشريعة، وتغار قلوبهم وألسنتهم على الحق، فيصدعون بالحق، لا يبالون ب

شروط الموقوف عليه

شروط الموقوف عليه قال رحمه الله: [ويشترط في غير المسجد ونحوه أن يكون على معيّن يملك، لا ملَكٌ وحيوان وقبر وحمل لا قبوله ولا إخراجه عن يده] أي: ويشترط في الوقف إذا كان على غير مسجد ونحوه أن يكون على معيّن. والمعين: ضد المبهم والمجهول سواءٌ حدّد الجنس أو لم يحدده، فلو قال مثلاً: داري هذه وقف على أحد هذين الرجلين لم يصح؛ لأننا لا ندري أيهما، ولم يحدد أي الرجلين، فلو جئنا نصرف لأحدهما احتمل أن يكون الآخر، فلا بد من التعيين. فلا يصح أن يقول مثلاً: أوقفت داري هذه على رجل من المسلمين، أو على واحد منكم، دون أن يُعيِّن، ففي هذه الحالة لا يصح الوقف؛ لأنه وقفٌ على مبهم، وقد نص الأئمة كالإمام ابن قدامة رحمه الله والإمام النووي أن من شرط صحة الوقف أن يكون على معيَّن، وأن يكون هذا المعيَّن يملك، فلا يصح أن يوقف على من لا يملك كما سيذكره المصنف رحمه الله. قوله (في غير مسجد): المسجد إذا أوقفه الإنسان فهو ليس على معين؛ لأنه لعموم المسلمين، فإذا أوقف المسجد أو أوقف سبيلاً للشرب، أو نحو ذلك، فهذا على غير معيَّن، والوقف في هذه الحالة صحيح مع أنه لم يحدده بشخص معين أو جهة معينة. قوله: (أن يكون على معين)، في بعض الأحيان يجعل التعيين بالشخص فيقول: داري هذه وقف على فلان وذرِّيته من بعده، ويسميه، فحينئذ عيَّن، وذريته من بعده مستحقين لهذا الوقف. وفي بعض الأحيان يعيِّن بذكر صفة من الصفات كقوله: داري هذه وقف على الفقراء، داري هذه وقف على المساكين، داري هذه وقف على طلبة العلم، ونحو ذلك، فهذا يُنظر فيه، فيكون كل من اتصف بهذه الصفة من الفقر والمسكنة وطلب العلم؛ مستحقاً لهذا الوقف. قوله: (يملك) أي: يشترط أن يكون الوقف على معين، وأن يكون هذا المعين يملك، فخرج الحمل، لأنه لا يملك، وهكذا الملَك، فلو قال: داري هذه وقف على مَلَك من الملائكة أو على الملائكة فهذا ليس بصحيح، ولا يصح الوقف على هذا الوجه، ولذلك قال: (لا مَلَكٌ)، وكل هذا تطبيق للشرط، أي لا يصح الوقف على مَلَكِ. وقال: (وحيوان) لأن الحيوان لا يملك، فلو قال -مثلاً-: أوقفت مزرعتي هذه على أن يُصرف ثلث منها طعمة للدواب، فهذا من الصدقات، أو قال -مثلاً-: أوقفت هذا المال سقيا للدواب على الطريق، مثلما يقع في بعض الآبار تكون وقفاً وسبيلاً يُستقى منها للدواب، فإذا أوقف على هذا الوجه فليس مراده أن يملك الحيوان، وإنما مراده الرفق بالحيوان بشربه وانتفاعه، فالوقف صحيح على هذا الوجه. وقال: (وقبر)، أي: وهكذا لو أوقف على قبر، لأن الإنسان لا يملك بعد موته ملكاً مستأنفاً. وقال: [وحمل]، أي: إذا سمى أثناء الوقف أو رتّب، فإذا قال مثلاً: داري هذه وقف على أولادي، وعنده جنين في بطن أمه لم يستحق شيئاً في تلك السنة، ولو كانت المرأة حاملاً به أثناء تلفظه بالوقف، فإذا خرج حياً فحينئذٍ يملك. ولذلك فمن حكم الله عز وجل وفي شرعه أن الجنين لا يرث إلا إذا استهل صارخاً، أي: إذا خرج من بطن أمه حياً، ولو للحظة واحدة، وصرخ ثم مات فإنه يستحق الإرث، أما إذا نزل ميتاً فإنه لا يستحق، لأن الجنين لا يملك.

لا يشترط القبول من الموقوف عليه

لا يشترط القبول من الموقوف عليه قال: [لا قبوله] أي: ولا يشترط قبول الموقوف عليه، وهذا مما يختص به الوقف كالوصية، على تفصيل عند العلماء رحمهم الله في الوصية وسيأتي إن شاء الله تعالى، فلو قال: أوقفت داري هذه على محمد وأولاده من بعده، فالوقف على الرجل وذريته من بعده، فلو جئنا نشترط القبول، فالقبول متيسر من محمد إذ كان حياً، لكن ذريته لا يمكن أن يتأتى منهم قبول، فالقبول ليس بشرط في صحة الوقف، فإذا أوقف الواقف نفذ وقفه ولو لم يقبل الموقوف عليه.

لا يشترط مع الصيغة في الوقف أن يخرجه الواقف عن يده

لا يشترط مع الصيغة في الوقف أن يخرجه الواقف عن يده قال: [ولا إخراجه عن يده] (ولا إخراجه عن يده): هذه المسألة سبقت الإشارة إليها، فمن أهل العلم من قال: إن مجرد صدور صيغة الوقف يُعتبر مُلزماً للوقفية موجباً لثبوتها، فلو قال: داري هذه وقفٌ، أو هذا المسجد وقفٌ، أو هذا السبيل وقفٌ على المسلمين؛ فإنه يحكم بالوقفية مباشرة، ولا يُشترط أن يتصرف تصرفاً يدل على خروجه عن ملكيته. فإذا تلفّظ وحصلت الصيغة؛ فإن ذلك وحده كافٍ في الحكم بالوقفية، وقد بيّنا أن هذا هو أرجح قولي العلماء رحمهم الله في هذه المسألة. فإذاً مجرد الصيغة وحصول التلفظ بالوقف كاف للحكم بثبوته والعمل به، ولا يشترط إخراجه كما يقول بعض أصحاب الشافعي رحمهم الله.

الأسئلة

الأسئلة

حكم نسيان النذر

حكم نسيان النذر Q امرأة نذرت ونسيت نوع النذر الذي نذرته، ما هو السبيل لإبراء الذمة من هذا النذر؟ A هذا النذر إذا كانت لا تعرف منه شيئاً، ولا تتذكر منه شيئاً، فالحكم أنها ليست بمكلفة، وليس هناك نذرٌ أصلاً حتى تعلمه وتعرفه ثم تُلزم به، فلا إلزام بالمجهول، أما إذا كانت تعرف أصل النذر، وتقول: أنا نذرت نذر صدقة نذرت نذر صيام نذرت نذر صلاة، فإذا كانت تعرف أصل النذر، فتُطَالب بأقل ما يَصْدُق عليه ذلك الأصل. فإذا قالت: أنا نذرت نذر صدقة، لكني لا أعلم بكم أتصدق، نقول لها: تصدقي بأقل ما يُسمى صدقة، إذا قالت: نذرت أن أذبح ولا أتذكر هل نذرت أن أذبح شاة، أو بقرة، أو ناقة، نقول: تذبحين أقل ما يقوم به الذبح، وهو الشاة، فتأخذ بالأقل إذا كانت عرفت نوع النذر، ولم تستطع أن تحدد قدره، والله تعالى أعلم.

حكم ترك الصلاة من الكبير العاجز

حكم ترك الصلاة من الكبير العاجز Q امرأة كبيرة في السن ومريضة، ولا تستطيع أن تقوم عن السرير، ولا تتذكر أذكار الصلاة، وإذا علِّمت تنسى، فما الحكم فيما لو تركت الصلاة؟ A إذا غيّبت بالكلية، وأصبحت لا تعي؛ فإنها غير مكلفة، إنما تكون المرأة ويكون الرجل مكلفاً إذا كان يعقل، أما إذا نسي، وأصبح عنده فقدان للذاكرة، أو أصبح مضيعاً لا يستطيع أن يتذكر شيئاً، وإذا صلى لا يعرف كيف يصلي، أو يصلي بعض الصلاة، ويتلاعب ويضيع بعضها، ونحو ذلك مما يدل على أنه لم يعد مدركاً؛ فإنه لا تكليف عليه، والله تعالى أعلم.

حكم الصلاة بدون وضوء نسيانا

حكم الصلاة بدون وضوء نسياناً Q صليت الفجر بدون وضوء، ولم أتذكر إلا بعد صلاة العصر، فما هو الواجب علي؟ A أما صلاة الفجر فإنها لا تصح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، فيلزمك أن تعيد صلاة الفجر، وأما صلاة الظهر والعصر فلا تصح واحدة منهما إلا بعد أن تُبْرِئ ذمتك من الفجر، لأن الترتيب مشترط؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]. فلا تصح الظهر وصلاة الفجر باطلة، بل عليك أن تصلي الظهر بعد الفجر، فيلزمك قضاء الفجر، ويلزمك قضاء الظهر والعصر مرتبة على الصفة الشرعية، وأنت مأجور على كل حال، والله تعالى أعلم.

حكم الإفطار بدون عذر في صيام النافلة

حكم الإفطار بدون عذر في صيام النافلة Q ما حكم من أفطر عمداً في صيام النافلة؟ A إذا أفطر متعمداً في صيام النافلة فلا شيء عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المتطوع أمير نفسه)، ولكن لا ينبغي للإنسان أن يزهد في الخير، بل عليه أن يكون حريصاً على الطاعة والبر، وليعلم أنه إذا أفطر باختياره في النافلة فإنه قد حُرم خيراً كثيراً؛ فإن هذا اليوم لا شك أنه لو وفِّق لصيامه كان أعظم لأجره وأرضى لربه سبحانه وتعالى. فمع كونه أميراً لنفسه، فالأفضل والأكمل أن لا يُبطل عمله؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، فالأفضل والأكمل أن يُتم الطاعة، وأن يمضي فيها ما لم يجد طاعة أفضل منها، أو يجد خيراً أرضى لله عز وجل منه، قال صلى الله عليه وسلم: (إني والله لا أحلف على يمين فأجد غيرها خيراً منها، إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير)، فإذا كان هذا في اليمين، فكيف في الأمور التي هي دون ذلك، وليست بمُلزمة كإلزام اليمين، والله تعالى أعلم.

العلة في جرد عروض التجارة وخرص النخل عند إخراج الزكاة

العلة في جرد عروض التجارة وخرص النخل عند إخراج الزكاة Q النخل يُقدَّر بالخرص، وعروض التجارة لا بد لها من جرد، وذلك في إخراج الزكاة، فهل هناك علة، أم أن الأمر تعبدي؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهناك فرق كبير بين النخل وبين عروض التجارة، فثمرُ النخل لا تستطيع أن تعرف قدره إلا إذا أخرجته من العِرق، وإذا أخرجته من العرق فقد تريده تمراً، والوقت الذي يُراد تقدير الزكاة فيه هو عند بدو الصلاح، وعند بدو الصلاح لا يمكن قطفه. فإذاً متعذر أن تعرف الحقيقة لذلك الشيء الذي تريد زكاته، فلمّا تعذّر أن تعرف قدر كيلِه انتُقِل إلى الخرص والتقدير، وهذا السنة به ثابتة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إلى نخل خيبر قبل وفاته؛ لأنه جعل خيبر بينه وبين اليهود نصفين، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر أنه عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها. فكان يخرصها حتى يعرف ما الذي لهم، وما الذي لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فاعتَبَر التقدير، والقاعدة أنه لا يُصار إلى التخمين والتقدير عند القدرة على اليقين، فإذن القدرة على اليقين متعذِّرة فيُنتقل إلى غالب الظن، والشريعة تتعبَّد المكلَّفين بغالب الظن، فغلبة الظن في البصير الحاذق الخارص الذي له خبرة ومعرفة أنه يُصِيب. وهذا شيء رأيناه بأعيينا، والله إن الرجل كان يأتي إلى مزرعة الوالد رحمه الله، ويقول: هذه النخلة خرصُها كذا، فما تزيد ولا تنقص بقدرة الله عز وجل، وتأتي بالرجلين لهما خبرة في خرص النخل أحدهما من جهة، والثاني من جهة، ويقفان تحت النخلة، ويقول الأول: هذه بين كذا وكذا، ويأتي الثاني لا يعلم ما الذي قاله الأول فيقدر قريباً مما قاله الأول، ويأتي الثالث ويقدر قريباً مما قدر الثاني، وهذا كله احتياطاً من الوالد رحمه الله من أجل أن يعرف القدر ويحتاط بالأكثر، لكن الشاهد أنك تجد الثلاثة كلهم يتفقون، ولم يعلم أحدٌ منهم بما قاله الآخر. هذه قدرة من الله سبحانه وتعالى جعلها في الإنسان، قد تجد الشخص منذ نعومة أظفاره وهو تحت الشجر، يعرف الثمر، ويعرف خرصه، ويعرف تقديره، فمن حيث الأصل فالخرص حجة ومعمول به، وقد أجازته الشريعة في الزكوات، وأجازته في تقدير الحقوق، وفي المساقاة، وفي المزابنة حينما أجاز بيع التمر على رءوس النخل يؤخذ بِخَرصِه تمراً، كل هذا لأن الغالب فيه الصواب. أما بالنسبة لعروض التجارة فهي موجودة بين يديك، يمكن أن تقدرها، ويمكن أن تُجري فيها الصّاع، وتعرف قدرها كيلاً، وتعرف قدرها وزناً. فالقدرة على اليقين تمنع من الشك، فلا يمكننا أن نصير إلى الحدس والتخمين في عروض التجارة مع إمكان الجرد، ولذلك من الخطأ ما يفعله بعض التجار أنه يستثقل جرد المحل بأكمله، ووالله لو أنه أراد شيئاً من مصالح تجارته لجرده قطعة قطعة، ولم يتعذّر عليه ذلك، بل تجده يعرف القليل والكثير ويحسب ذلك حساباً دقيقاً. ولكن إذا كان للطاعة وللبر وللخير فهذا شيء آخر، ولذلك لا ينبغي التساهل مع الناس في هذا، ولا ينبغي التلاعب بالفتوى، يجب على التاجر أن يجرد بضاعته. وهناك أمور نفسية نريد زرعها في التجار، التاجر إذا احتاج إلى يوم أو يومين أو ثلاثة أيام لجرد محله فلا يضره أن يغلق محلّه الثلاثة الأيام، ويشعر أنه في عبادة. وكما أنه يريد تجارة الدنيا فهناك تجارة للآخرة، فتصبح النفوس ليست معلقة طيلة أيام العام بالدنيا وأمور التجارة، يُحس عنده العامل، ويحس عنده التجار، ويحس كل موظف عنده في هذه التجارة أن للشرع سلطاناً على أموال الناس، وعندها يشعر الإنسان بتقوى الله عز وجل. وهذه أمور مهمة جداً، فليست القضية قضية زكاة وقدرها، فهذه وإن كانت مهمة، ولكن هناك قضية أهم وهي تقوى الله عز وجل {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، فإذا شعر الناس أنهم يُعاملون الله سبحانه وتعالى، وأنهم مع الله عزّ وجل، وأن التاجر يحاسب على الصغيرة والكبيرة لمعرفة حق الله الذي وجب عليه، فعندها تكون تقوى الله عز وجل. أما إذا أصبح يخمِّن، ويتلاعب بحق الله عز وجل، فهذا أمر لا شك أنه مخالف لشرع الله الذي أوجب عليه أن يعطي المسكين ومن سمى من أهل الزكاة، حقوقهم من ماله الذي استخلفه الله فيه، والله تعالى أعلم.

مدى تعارض الصيام مع طلب العلم

مدى تعارض الصيام مع طلب العلم Q طالب علم عندما يصوم صيام نافلة فإنه يتعطل عن أمورٍ منها طلب العلم، فهل يترك الصيام لكي يقوى على الطلب وقراءة القرآن، وما توجيهكم فضيلة الشيخ في هذا الأمر؟ A في الحقيقة بالنسبة للصيام، صيام النافلة نوعان: الصيام المقيد، كصوم الإثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر والأيام البيض على القول بأنهما نوعان من الصوم، هذه لا تُرهق طالب العلم إرهاقاً يشغله عن طلب العلم. فلا ينبغي للإنسان أن يبالغ في وصف هذه الأمور أنها تعيق عن طلب العلم، بل إنها تعين على طلب العلم، وليعلم طالب العلم أن سرور الدنيا وبهجتها، وأن أُنسه كله في طلب العلم مقرونٌ بالعبادة، وإذا أردت أن ترى طالب العلم في أكمل صوره وأجمل أحواله فانظر إليه في العلم والعمل. الصيام عمل بالعلم، وقيام الليل عملٌ بالعلم، وكثرة تلاوة القرآن عمل بالعلم، فينبغي على طالب العلم دائماً أن لا يفرِّق بين علمه وعمله، فهما مقترنان، لكن إذا جاءت أحوال خاصة وأمور خاصة، فلا بأس بالنظر في الأولى منهما، وهذه المسائل أصبحت كثيراً ما تُطرح، ويُقعَّد فيها ويفصَّل، وهي مسائل واضحة لا تحتاج إلى إشكال. الصحابة رضوان الله عليهم وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأخذون من سنته وهديه وسمته ودلَّه -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- وهم في أعلى الدرجات في طلب العلم، وفي أعلى درجات التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كانوا في صيام وقيام وجهاد في سبيل الله، لا في صيام وقيام فقط، بل وجهاد في سبيل الله في ساعة عسرة، ولذلك زكاهم الله عز وجل -لتلك الأمور- من فوق سبع سماوات، وأثنى عليهم، ورضي عنهم وأرضاهم سبحانه وتعالى. هذا كله ما ضرّهم، بل جعلهم في أحسن الأحوال وأتمِّها وأكملها، ولن يسعنا إلا ما وسع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنفوس إذا جَعلت بينها وبين العبادة والطاعة عوائق فإن الله سبحانه وتعالى يبتليها دائماً، وخذها قاعدة، إذا نويت قيام الليل بعد سهر معقول في طلب العلم، ونمت على تلك النية وهيأت نفسك، فعند ذلك تأتيك المعونة من الله سبحانه وتعالى، ويأتيك التوفيق والسداد، وتُرشد وتصيب الخير من أمورك على أتم الوجوه وأكملها. والعكس بالعكس، فإذا تخاذل طالب العلم وقال: أنا إذا صمت لا أستطيع أن أحفظ، وأنا إذا قمت لا أستطيع أن أقوم، فإنه يختلق لنفسه أموراً قد يكون في عافية منها. فأحسن الظن بالله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما في مسند الإمام أحمد يقول: (يقول الله تعالى: أنا عند حسن ظن عبدي بي، فمن ظن بي خيراً كان له). والله إن أسعد أيام العمر في طلب العلم كانت الأيام التي يكون فيها الإنسان على أتم الوجوه وأكملها في قيام الليل وصيام النهار، ولن تجد والله في الصيام إعاقة، بل الصيام يعين على كل خير وبِر، فلذلك قال عبد الله بن مسعود: (من سعادة العبد كثرة الصلاة، وكثرة الصيام، وصحبة العلماء). فلا بد من اقتران العبادة بالعلم؛ فاجتهد رحمك الله في أن تصيب الخير على أتم الوجوه وأكملها مستعيناً بالله، واثقاً محسناً الظن بالله عز وجل. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهيئ لنا من أمورنا رشداً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير قوله تعالى: (رب إني نذرت.

تفسير قوله تعالى: (رب إني نذرت ... ) Q ما معنى قوله تعالى حكاية عن امرأة عمران: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران:35]، هل هو من قبيل حبس الذرية على الطاعة والعبادة؟ A ليس هو النذر على حقيقته المعروفة بحبس الذرية من كل وجه، إنما المراد بذلك الاصطفاء للطاعة والخير والبر، كما ذكره بعض أئمة التفسير رحمهم الله، والأصل أن الإنسان إذا رُزِق الذرية أن يَجتهد في إصلاحها وإقامتها على طاعة الله عز وجل. فهي تعبِّر بما يكون من أمرها؛ أن هذه الذرية ستكون لله سبحانه وتعالى، ومن لازم ذلك العناية بتنشئتها على الخير، ومحبة الله ومرضاته، فكأنها التزمت بأنها تقوم بحق الله عز وجل في ولدها وذريتها، والله تعالى أعلم.

حكم دخول الواقف ضمن من أوقف عليهم

حكم دخول الواقف ضمن من أوقف عليهم Q من أوقف وقفاً للفقراء والمساكين، ثم أصبح الواقف فقيراً بعد سنوات، فهل يجوز له الارتفاق بهذا الوقف لدخوله ضمن هذا الوصف؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فمن أوقف على غيره فإنه لا يدخل في ذلك الغير ولو تحققت فيه صفته، وقال بعض العلماء: إنه يمكن أن يدخل أحد من ذريته لكن هو لا يدخل، ومن حيث الأصل، الأورع أنه لا يدخل هو ولا ذريته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما فاطمة بضعة مني). ووجه هذا الحكم أنه حينما قال: أوقفت هذه الدار على الفقراء، ولم يجعل له نصيباً ولا لذريته؛ فُهِم من ذلك أنه لا حظ له مطلقاً سواء تحقق فيه هذا الوصف أو لم يتحقق. وبناءً على ذلك فإن الأشبه والأولى أنه لا استحقاق له فيه، والله تعالى أعلم.

حكم اقتطاع جزء من أرض موقوفة لمسجد لبناء سكن للإمام

حكم اقتطاع جزء من أرض موقوفة لمسجد لبناء سكن للإمام Q إذا أوقف شخص أرضاً محددة لتكون مسجداً، فهل يجوز بناء مسكن للإمام والمؤذن داخل هذه الأرض أم أن جميع مساحتها تكون مسجداً؟ A من حيث الأصل أن من أوقف الأرض كاملة للمسجد فإنها تبقى وقفاً على المسجد؛ لأنه قصد أن تكون محلاً للصلاة والعبادة، وإذا أراد أن يبني للإمام أو للمؤذن موضعاً فلا بأس بذلك، فيخص قطعة من المسجد قبل أن يوقف كل المسجد، أو يقول في هذا المسجد: إن ثلثي أرضه مسجد، والثلث الثالث يكون نزلاً للإمام، أو يكون مرافق تابعة للمسجد. فهذا من حق الواقف، أما من حيث الأصل فإنه إذا أوقف الكل فالكل وقف، ويبقى وقفاً تاماً شاملاً لجميع الأرض، إلا أن بعض مشايخنا في الأزمنة المتأخرة -في حالة وجود الحاجة إلى قرب الإمام من المسجد-، يفتي أو يخفِّف في انتزاع قطعة من المسجد سكناً للإمام؛ لأن هذا يحقق المقصود من جماعة المسجد، وحَصَل نقاش في هذه المسألة بين بعض المشايخ المتأخرين رحمهم الله، وكان البعض يستمسك بالأصل وهو أن الأرض كلها وقف، ولا ينبغي صرف شيء منها إلى غير ذلك. وهذا لا شك أنه من حيث الأصل أقوى دليلاً وألزم، والذين يفتون بجواز أن يُقتَطع منها جزء لإمام المسجد ونحو ذلك، فهذا مبني على شيء قرره بعض العلماء رحمهم الله، وهو أنه يجوز التعرُّض لبعض الوقف لاستصلاح كل الوقف. وهذه المسألة هي المسألة المشهورة: يجوز إتلاف بعض الوقف لاستبقاء باقيه، واستدلوا بقصة موسى عليه السلام مع الخضر، فإنه كسر لوح السفينة حتى تنجو السفينة كاملة، فقالوا: إذا تعطلت مصالح الوقف وأصبح لا سبيل إلا أن يؤخذ شيء من الوقف فلا بأس بذلك. وأُلحق بهذه المسألة مسألة الإمام، قالوا: لأن الإمام إذا لم يكن قريباً من المسجد ستتعطل مصالح الإمامة، وهذا ليس على كل حال، أما في بعض الأحيان فنعم، وفي بعض الأحيان لا؛ لأن الفرض في الإمام أن يتقي الله عز وجل، وأن لا يكون إماماً إلا وهو يستشعر أنه محافظ على صلواته محافظ على حدوده. ولذلك إذا ارتبط الشخص بمهمة أو عمل تجده يحضر لها من مئات الكيلومترات؛ لأنه يشعر بالمسئولية ويشعر بالأمانة، فلا شك من حيث الأصل أن القول الأول أشبه وأقوى وأورع، وأنه إذا أُوقفت كاملة فليس من حق أحد أن ينتزع منها شيئاً إلا لما خصصت له، والأولى شراء قطعة أرض يبنى عليها منزل للإمام بجانب الأرض الموقوفة. ثم كان بعض مشايخنا الذين يمنعون من قطع جزء من الأرض ما دام أنها موقوفة كلها يقول: إنه لو قلنا بفتوى من يجيز إتلاف البعض لاستبقاء الكل فليست منطبقة على هذا من كل وجه؛ لأنه لا يكون ذلك إلا إذا كان المسجد في موضع لا يتأتى فيه سكن للإمام بجواره، وهذا ليس على كل حال. فإذاً تحتاج المسألة إلى تحرير، أما كقاعدة وكأصل، فالأصل يقتضي أنه إذا أُوقفت الأرض كاملة على مسجد أو مدرسة أو أي سبيل من سبل البر؛ فإن جميع الأرض مستحقة لهذا السبيل ولا يجوز صرفها عنه إلا في الأحوال المستثناة التي سيأتي إن شاء الله بيانها، والله تعالى أعلم.

حكم التصرف في بعض الوقف لمصلحة الوقف

حكم التصرف في بعض الوقف لمصلحة الوقف Q رجل لديه إبل، وأوقف لبنها على الفقراء والمساكين، وعجزت ذريته من بعده عن نفقة هذه الإبل وإطعامها، فهل يبيعون شيئاً من لبنها لشراء علَفها وما فيه إصلاح لشأنها؟ A في الحقيقة مسائل الوقف ينبغي أن يُعلم أنها ألصق بالقضاء منها بالفتوى، لا بد من الرجوع إلى القاضي في مسائل الوقف؛ لأن الوقف أمرُه أضيق من غيره، والسبب في هذا ملكية الوقف، فالواقف نفسه لا يملك وقفه؛ لأنه بمجرد ما أوقف خرجت عن ملكيته، فيحتاج الأمر إلى حكم القاضي، فالقاضي له ولاية شرعية؛ فإذا نظر ووجد المصلحة في بيع شيء من الأوقاف فإنه يُباع أو يُصرف؛ فهذا أمر مردّه إلى القضاء. أما من حيث الفتوى فهذا إذا لم يوجد القضاء، إذا أوقف غلّتها أو ركوبها وظهرها، فالأصل أن يبقى الوقف على ما هو عليه، وعلى الوارث أن يَبَر مورثه وأن يحتسب الأجر ما أمكنه، إلا إذا وصل الأمر إلى شيءٍ فوق طاقته، فيرفع الأمر إلى القاضي، والقاضي يحكم بما يراه.

كتاب الوقف [4]

شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [4] من المسائل المتعلقة بالوقف التقييد والإطلاق، فعندما يطلق الواقف في وقفه فيلزم العمل بإطلاقه، وإن قيد وجب العمل بقيده، ومن المسائل التي يدخل فيها التقييد والإطلاق ما يتعلق بدخول الذكور والإناث، وكذلك دخول البطن الثاني من الأولاد مع البطن الأول، ودخول أهل البيت والقرابة والمساكين وغيرهم.

كتاب الوقف [5]

شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [5] الوقف عقد من العقود اللازمة التي لا يجوز فسخها بأي حال من الأحوال لانتفاء الملكية عن الموقف، ولا يباع إلا أن تتعطل منافعه وبحكم من القاضي، ولا يصرف ثمنه إلا فيما يشابه الموقوف ويماثله.

أنواع العقود

أنواع العقود بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن من أهم الأحكام التي تتعلق بالوقف بيان لزومه، وأن من صدر منه الوقف على وجه صحيح معتبر شرعاً فإنه ملزم بهذا الوقف، ولا يجوز له الرجوع عن هذا الوقف، ومن هنا شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان حكم عقد الوقف، وقد تقدم أن العلماء رحمهم الله يبحثون في العقود مسألة نوعية العقد، فهناك عقود إذا صدرت من المكلف فإنه يُلزم بها شرعاً، وليس له الخيار في الرجوع إلا إذا رضي الطرف الثاني. من أمثلة ذلك: البيع والإجارة، فإذا باع شيئاً وتم البيع على الوجه المعتبر، فليس من حق البائع أن يرجع، ولا من حق المشتري أن يرجع إلا إذا تراضى الطرفان، واتفقا على الرجوع برضاً منهما. هذا النوع يوصف باللزوم، فحقيقة العقد اللازم عند العلماء: هو العقد الذي لا يملك فيه أحد الطرفين الرجوع عنه إلا برضا الطرف الثاني، وهناك نوعٌ من العقود جائز، ويمكن لكل واحدٍ من الطرفين أن يرجع ولو لم يرض الطرف الآخر، فلو نظرنا إلى بعض العقود التي سامحت فيها الشريعة كالهبة والعطية؛ فإنها ليست بلازمة ما لم تُقبض، فلو قال له: وهبتك سيارتي، فقال: قَبِلت، فهذا يُسمَّى عند العلماء عقد هبة، لكن إذا لم يعطه السيارة ولم يستلمها فله الحق في الرجوع، وسنبيِّن هذه المسألة إن شاء الله. وفي الصدقة إذا قال: تصدقت عليك بمائة دينار، أو مائة ريال، أو بألف، وقال الآخر: قبلت. فهذا عقد صدقة، ولكن لو لم يُعطِه الصدقة، ولم يقبضها؛ فله الحق أن يرجع، وللطرف الثاني -المسكين، أو الموهوب له- الحق أن يقول: قبلت، ثم يقول: لا أريد، فليس بملزم بقبولها، ولا بقبول العطية. وهذا النوع يسمى: العقد الجائز، وجوازه للطرفين. وهناك عقود وسط بين هذين النوعين، تَلزم أحد الطرفين ولا تلزم الطرف الآخر، كالجُعل، وتقدم معنا أن رجلاً لو قال: من وجد سيارتي الضائعة أعطيته ألف ريال، فإنه من حقه أن يرجع عن هذا الكلام الذي قاله، فلو قال شخص: قبلت فسأبحث لك عنها، فإن وجدتها فلي ألف ريال. فاتفق الطرفان ثم رجع الرجل الأول، أو رجع الرجل الثاني، كلٌ منهما له حق الرجوع، ما لم يجد السيارة فيكون الطرف الجاعل مُلزماً بدفع الجُعل، فتلزم الجعالة الجاعل دون المجعول له، فلو قال شخص هذه المقالة: من وجد سيارتي، أو إذا عالجت لي هذا الممسوس، وقرأت عليه ورقيته أُعطيك ألفاً؛ فإن من حقه أن يرجع عن هذا الجعل إذا اتفقا. لكن لو شرع الراقي وأمضى وقتاً أو جهداً كما تقدم معنا؛ فإنه لا يملك الجاعل الرجوع إلا برضا الثاني ما لم يعطه حقه واستحقاقه في تعبه في الوقت الذي فات عليه ما بين العقد وما بين الفسخ. إذاً هناك عقود تلزم الطرفين، وعقود تلزم أحد الطرفين دون الآخر، وعقود لا تلزم الطرفين ألبتة. هذا من حيث أنواع العقود.

الوقف عقد لازم لا يجوز فسخه

الوقف عقد لازم لا يجوز فسخه الوقف من العقود التي تلزم الواقف ولا يملك الرجوع عنه، فلو قال: أوقفت داري هذه على المساكين، فإنه إذا صدر الوقف على الوجه المعتبر لم يملك الواقف الرجوع عن وقفه، وليس من حقه أن يُبطل هذا الوقف إذا تم صحيحاً معتبراً شرعاً. ولذلك قال المصنف: [والوقف عقد لازم] الوقف عقد، وقد تقدم أن العقد ربط أجزاء التصرف. وربط أجزاء التصرف يكون بالإيجاب والقبول، مثل: أوقفت داري عليك، فقال: قبلت، فهذا عقد وقف، فإذا تم عقد الوقف على الوجه المعتبر شرعاً فإنه لازم، وقد أجمع العلماء من حيث الجملة على أن الوقف عقد لازم، والدليل على ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن أبيه - عمر بن الخطاب رضي الله عنه- في قصته حينما أوقف بستانه بخيبر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إن شئت حبّست الأصل، وتصدّقت بالثمرة، غير أنه لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث). فإذا تأملت قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث)؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ألزمه بالصدقة التي خرجت منه، ونقل ملكيتها عنه، بدليل أنه لم يصحِّح بيعها بعد ذلك، ولا هبتها ولا أي تصرف فيها، فقال: (غير أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث). فقوله: (لا يباع ولا يوهب)، وهذا تصرُّف في الحياة، (ولا يورث) لما يكون بعد الموت، وبناءً على ذلك فإنه ألزمه بما يصدر منه من الوقفية، فدل على أن عقد الوقف لازم. فالعلماء مجمعون على هذا، لكن هناك خلاف عند بعض أهل العلم رحمهم الله حيث قال: يجوز للواقف أن يرجع عن وقفه بشرطين: الشرط الأول: ألا يقضي قاض بهذا الوقف. والشرط الثاني: ألا يكون وصية بعد الموت. فإذا أوقف داراً أو مزرعة ولم يجعلها كوصية، وقبل أن تُرفع إلى القاضي فيحكم بالوقفية، فإن من حقه أن يرجع، وهذا القول هو قول الإمام أبو حنيفة رحمه الله، ويحكيه العلماء -ولا أعرف له سنداً صحيحاً- عن علي، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع، لكن المشهور أن الذي خالف في هذه المسألة هو الإمام أبي حنيفة رحمه الله، أما جماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله فإن الوقف عندهم لازم مطلقاً، لا يملك الواقف الرجوع عنه. والذين قالوا: إنه من حقك أن ترجع عن الوقف ما لم يقض به القضاء، أو يكن وصية، استدلوا بحديث عبد الله بن زيد الأنصاري صاحب الأذان رضي الله عنه وأرضاه أنه تصدق ببستان، ثم جعله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: جعل النظر فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رُفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء أبواه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالا: يا رسول الله إنه لا مال لنا، أو لا طُعمة لنا إلا من هذا البستان، وقد تصدق به، فرد عليه الصلاة والسلام صدقته وجعلها لوالديه. وهذا الحديث رواه المحاملي وغيره، ووجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطل وقفية عبد الله بن زيد رضي الله عنه لمزرعته، فدل على أن الوقف ليس بلازم، وأن من حقك أن ترجع عن الوقف، ورد الجمهور بأن هذا الحديث على فرض صحته فيه إشكالان، الإشكال الأول أنه قال: تصدَّقَ، والرواية (جعله صدقة)، والصدقة غير الوقف؛ لأن الصدقة قد تكون من الإنسان تبرعاً لا يقصد به الوقفية بل يقصد فيه مطلق الهبة. والإشكال الثاني وهو الأقوى في A أن الحديث نفسه فيه: (وجعل الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم) فمعناه أنه جعل إمضاء هذه الصدقة على هذا الوقف مشروطاً بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رُفع الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبتّه صدقة، ولم يبته وقفاً؛ لأنه معلق على رضاه، وحينما اشتكى له والداه صرفه عليه الصلاة والسلام إلى والديه، ولذلك وُرث البستان من بعد ذلك كما جاء في الرواية. هناك أجوبة أخرى لكن في الحقيقة لا يقوى هذا الحديث على معارضة الحديث الذي معنا. فإن قال قائل: إننا قدّمنا أن لفظ (تصدقت) يُعتبر من ألفاظ الوقف، فالجواب عنه: أن اللفظ جاء في الحديث وصفاً ولم يأت وقفية، ولذلك قال: (جعلها صدقة)، وفرق بين أن يكون من كلام عبد الله بن زيد (جعلتها صدقة) وبين أن يُحكى أنه تصدق بها، فهناك فرق بين اللفظين، ومن هنا يقوى مذهب جماهير السلف والخلف أن الوقف لا يملك صاحبه الرجوع عنه، وأنه إذا صدر على الوجه المعتبر شرعاً فإن العقد به لازم. قال رحمه الله: [والوقف عقد لازم لا يجوز فسخه] فقوله رحمه الله: (لا يجوز فسخه) الفسخ: الإزالة، وقد تقدم معنا أن فسخ العقود إبطالٌ لها، وأننا إذا حكمنا بفسخ البيع فقد أبطلناه، وإذا أبطلناه أوجب هذا الحكم أن نرُد الثمن للمشتري، والمُثمن للبائع، هذا بيّناه فيما تقدم معنا في البيع. ولذلك قال رحمه الله: (والوقف عقد لازم لا يجوز فسخه): أي لا يجوز للقاضي أن يفسخ وقفاً إذا ثبت على الوجه المعتبر، ولا يجوز للشخص نفسه أن يحكم بأن وقفه باطل، وأنه لا يُعتد به، ما دام أن الوقف صحيح، ولا يجوز له أن يستحل من هذا الوقف ما لا يُستحل من الأوقاف باسم أنه مفسوخ أو أنه باطل، كأن يقول: هذا الوقف أبطلته أو فسخته، أو مزرعتي التي أوقفتها رجعت عن وقفيتها أو أبطلتُ وقفيتها أو فسخت وقفيتها. وكل هذا شرطه أن يكون الوقف قد استجمع الصفات المعتبرة شرعاً للحكم بصحته ولزومه واعتباره شرعاً، كل هذا إذا ثبت في الوقف فلا يجوز فسخه، وإذا قيل: لا يجوز فسخه فمعناه أنه لو قضى قاض بأن هذا الوقف فاسد وفسخه، دون أن يكون عنده مبرر شرعي للفسخ؛ فإن قضاءه لاغٍ، والحكم به باطل ويأثم شرعاً. وكذلك الواقف لو قال: مزرعتي التي أوقفتها أبطلت وقفيتها، فيا أبنائي خذوها أو اقسموها ميراثاً، فإنه قد انتهك حدود الله، واستحل ما حرّم الله عز وجل عليه، فقوله: (لا يجوز فسخه)، أي لا يجوز الفسخ لا من الواقف، ولا من أي شخص. لكن هناك استثناءات في مسألة المناقلة في الوقف، وهذه مسألة مستثناة فنبين أن لها ضوابط، وأنها جائزة عند الضرورة والحاجة.

حكم بيع الأوقاف

حكم بيع الأوقاف قال المصنف رحمه الله: [ولا يباع إلا أن تتعطل منافعه] قوله رحمه الله: (ولا يباع) أي: لا يجوز بيع الوقف، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عمر رضي الله عنه: (غير أنه لا يباع)، وهذا الحديث نصٌ صريح في تحريم بيع الوقف، وأن الوقف مؤبّد لا يجوز لأحدٍ أن يبيعه بعد صدور الوقفية، لكن إذا وُجدت الحاجة والضرورة فهذه مسألة مستثناه، ولا تعارض هذا الأصل. ولذلك كالميتة فإنها محرمة، لكن إذا وُجدت الضرورة حلّت، وإباحتها وحِلها عند الضرورة لا يقتضي أنها مباحة في الأصل. فقوله: (لا يباع) أي: لا يجوز بيعه، فلا يجوز بيع الأوقاف بإجماع العلماء رحمهم الله كما جاء في الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غير أنه لا يباع)، وفي رواية: (ولا يبتاع)، أي لا تبيعه ولا تشتريه، إلا إذا قضى القاضي بجواز بيعه. وما دمنا أننا قد عرفنا أن الأثر قد دل على أن الوقف لا يُباع، فما هو الدليل من جهة النظر ومن جهة الأصول؟ والجواب أن الوقف إذا حكمنا بصحته، فإنه تخلو يد الواقف عنه، أي: تزول ملكية الواقف له، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غير أنه لا يباع ولا ويوهب ولا يورث)، فجعل تصرفات المالك لاغية، فمعناه أنه لا يملك الوقف، وهذا مجمع عليه. فإذا اثبت أن ملكية الواقف قد زالت عن الوقف؛ فالبيع يشترط فيه الملكية، ولا يمكن أن يبيع شيئاً لا يملكه، وأنت قد استدللت بالسنة على أن الواقف قد خلت يده من الملكية وعريت، وإذا كان الأمر كذلك؛ فإنه لا يصح أن يبيع الوقف، لكن يبيعه القاضي، وهذا الذي جعل العلماء دائماً يقولون: إن الأوقاف لا يصح بيعها إلا بقضاء القاضي؛ لأنها ليست مملكة لشخص بعينه بحيث يكون هو الذي يملك، فالواقف قد أخرجها عن ملكيته. ولذلك يقولون: تخرج الملكية مؤبداً، أي: تخرج خروجاً مؤبداً، فلا يملك أن ترجع إليه بعد فترة، ولذلك ذكرنا أن من قال: أوقفت داري هذه سنة، أنه لا يصح؛ لأنه سيعيد ملكيتها إليه، والوقف يُخلي اليد عن الملكية ويعريها، فالسنة قاضية بهذا، فإذا أُثبت أن السنة أخلت يد الواقف عن ملكية الوقف، فإنه لا يصح أن يبيعه؛ لأن شرط صحة البيع أن يملك البائع التصرف في البيع بملك أو ولاية. والسنة دلت على أن الواقف لا يملك، فصار بيع الوقف من الواقف دون وجه شرعي بيعاً باطلاً؛ لأنه بيعٌ لما لا يملكه، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث حكيم بن حزام في السنن: (لا تبع ما ليس عندك). وعلى هذا قالوا: لا بد من أن يقضي القاضي؛ لأن القاضي جُعل في الشرع للنظر في الحقوق والأموال التي لا يُعرف مالكها، فهو يتصرف بولاية عامة؛ لأن ولي الأمر فوض له النظر في مثل ذلك، فإذا كان وقفاً لا مالك له، فإنه حينئذٍ يقضي بجواز بيعه بعد أن تتوفر الأسباب الداعية للحكم ببيعه. وقد قال المصنف رحمه الله: [ولا يجوز بيعه إلا أن تتعطل منافعه] (إلا) استثناء، والاستثناء: إخراجٌ لبعض ما يتناوله اللفظ، فإذا كان الوقف لا يجوز بيعه؛ فهناك أحوالٌ مستثناة يجوز فيها بيع الوقف، فقال رحمه الله: (إلا أن تتعطل منافعه) أي: يجوز بيع الوقف بشرط أن تتعطل المنافع، والمنافع: جمع منفعة، ومنافع الوقف مثل: السكنى فيه، ومثل: الثمرة من البستان. فتتعطل منفعة السكنى بأن تتهدم العمارة، وتتهدم الغرف الموقوفة للسكن بحيث تصبح غير صالحة للسكن ولا يمكن سكناها، أو تتعطل منافعها بأن يغرق المكان، ولا يمكن لأحد أن يسكن فيه، فحينئذٍ تعطلت المنافع، ولا يمكن أن ينتفع الموقوف عليه بهذا الوقف. وتتعطل منافع المزرعة بأن ينضب الماء، أي: يكون فيها ماء ثم تجف عيونها أو آبارها، أو تنقطع الموارد التي تغذيها بالماء، فيموت النخل، فحينئذٍ تعطلت منفعة البستان. فإذا تعطلت منافع الوقف دون أن يكون هناك تقصير أو تفريط من قبل الناظر، فالناظر للوقف مسئولٌ أمام الله عز وجل عن رعاية مصالح الوقف والنظر فيه، وكل هذا أمانة في عنقه يُحاسب عنها بين يدي الله عز وجل. فالواجب عليه أن يبذل كل الأسباب لبقاء الوقف، وأن ينصح للوقف، وتكون نصيحته للواقف، خاصة إذا سبّله على وجوه الخير، وكان ميّتاً ينتظر الأجر والثواب، وينصح للموقوف عليهم كالفقراء والضعفاء والأيتام والأرامل والمحتاجين، وبالأخص إذا كانوا قرابة فإنهم أحوج إلى حصول هذه المنافع من الوقف. فإذا تعطّلت المنافع دون تفريطٍ منه؛ اشتكى إلى القاضي، ورفع الأمر إليه أن هذا الوقف قد تعطلت منافعه، ويُخرج القاضي أناساً من أهل الخبرة، وذوي النظر للتأكد من صحة دعوى الناظر. فإذا ثبت أن الوقف قد تعطلت منافعه، فيَنظُر: هل بالإمكان أن يتنازل عن جزء من هذا الوقف في مكان، بحيث يبيع قطعة منه ويُبقي الباقي وقفاً ويصلح به الباقي؛ فحينئذٍ يفعل، لأن بيع الجزء مقدمٌ على بيع الكل، وبيع الأقل مقدم على بيع الأكثر. فالأصل عدم جواز بيع الوقف، فإذا أمكن أن يُبقي الوقف في مكان، كأن تجف عيون البستان، ولكن يقول أهل الخبرة: إن هذه الجهة غزيرة بالمياه، وهي غير الجهة التي كانت فيها آبار الوقف الأولى، وتحتاج إلى حفر آبار، والوقف معطلة منافعه، فيحتاج أن يبيع قطعة من الوقف من أجل أن يحفر بثمنها آباراً، ويغذِّي بها ما بقي من البستان، فيفعل ذلك، ولا يجوز أن يحكم مباشرة بالبيع؛ لأن ما جاز للضرورة والحاجة يُقدّر بقدرها. فإذا أردنا أن نبيع الوقف ننظر: هل المصالح التي نريد تحقيقها وعَود الوقف ذا منفعة تتحقق ببيع الكل أو ببيع الجزء، فإن كان ببيع الجزء وجب على القاضي أن يحكم ببيع الجزء الذي تتحقق به المصلحة، وتندرئ به المفسدة، ولا يقضي القاضي ولا يفتي المفتي بجواز بيع الكل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن بيعه فقال: (لا يباع)، فإذاً لا نبيع إلا إذا وجدت الحاجة، فلما كانت الحاجة يمكن تحقيقها ببيع الجزء لم نستبح بيع باقيه؛ لأنه باق على الأصل الموجب للتحريم. وهذا أمر في الحقيقة مهم جداً، ولا يتساهل في كل دعوى من الناظر أنه يباع الوقف. المسألة الثانية: إذا ادعى الناظر أنه يريد بيع الوقف؛ لأن المنفعة قليلة في هذا المكان، كثيرة في مكان آخر، فإذا كانت دعواه على هذا الوجه فإنه لا تُلبى حاجته، ولا يُجاب إلى طلبه ما دام الوقف له منفعة، ولو كانت المنفعة قليلة في زمان، فقد يأتي زمان تستعيد فيه هذه الأرض الموقوفة قيمتها ومنفعتها، فلا يجوز أن تباع؛ لأنه لو فُتح هذا الباب لتلاعب الناس في الأوقاف في كل زمان. من أمثلة ذلك: لو قلنا إن قلة المنفعة مثلاً كانت عمائر تؤجر بمليون فأصبحت تؤجر بمائة ألف، لكن المائة ألف يمكن تحقيق الصدقات بها، وتطبيق الأمور التي اشترطها الواقف وذكرها، فنزلت المصلحة إلى العُشر، وما دام الوقف باقياً، ونزل إلى العشر فإنا نبقيه على حاله، ولا نفتي بجواز بيعه، ولا يقضي القاضي بجواز بيعه لغيره؛ لأنه لو فُتح هذا الباب؛ فيمكن أن يأتي شخص ويقول: إني ناظر على وقف فلان، أو مزرعة فلان، والتمر لا يأكله الناس اليوم، فأُريد -مثلاً- أن أُغير هذا الوقف بوقفٍ آخر لأن المنفعة أكثر؛ فليس للناظر أن يتدخل في مثل هذه المسائل، وليس لأحد أن يغير الوقف. فإنه قد تكون المزرعة في زمان ليست فيها تلك المنفعة العظيمة، ولكنها في أغلب الأزمنة ذات منفعة، فلا يجوز العبث في الأوقاف ببيعها إلا عند الضرورة الحقيقية، ولا يجارى فيها بأهواء الناس، ولا بدعواهم، بل الواجب أن يُقتصر في هذه المسألة على الضرورة وعلى الحاجة، وأن يتحقق القاضي أن مصالح الوقف قد تعطلت، وأن هذا التعطُّل لا دخل للناظر فيه. فإن كان له دخل بأن تلاعب في الوقف فعطل منافعه، أو فعل أشياء أو أضر بأشياء من أجل أن يدّعي أن الوقف قد تعطلت منافعه؛ فإنه يغرم ويلزمه ضمانها، ويعاد الوقف إلى حالته التي كان عليها، لأن يده على هذه الحال يد جناية. فالمقصود أنه لا يحكم ولا يفتى ولا يقضى بجواز بيع الأوقاف إلا عند الضرورة والحاجة على التفصيل الذي ذكرناه. قال المصنف رحمه الله: [ويصرف ثمنه في مثله] أي: إذا حُكِم بجواز بيعه، وقد عرفنا أنه لا يجوز بيع الوقف إلا عند الضرورة والحاجة، والضرورة والحاجة تكون عند أن تتعطل منافعه، فإن تعطلت منافعه، وحكم القاضي ببيعه وبِيع؛ فإنه يصرف إلى مثله، فإن كانت مزرعة وجب على القاضي أن يشتري بثمنها مزرعة مثلها، وإذا كانت عمارةً أُوقفت رباطاً للسكن ونحو ذلك، فإنه حينئذ يحكم القاضي بالانتقال إلى سكن يماثل السكن الذي يتحقق به شرط الواقف، مثل الوقف الأول الذي حُكم بجواز بيعه.

أحكام متعلقة بنقل أوقاف المسجد

أحكام متعلقة بنقل أوقاف المسجد قال المصنف رحمه الله: [ولو أنه مسجد وآلته وما فضل عن حالته، جاز صرفه إلى مسجد آخر والصدقة به على فقراء المسلمين] قوله رحمه الله: [ولو أنه مسجد] أي: ولو كان الوقف مسجداً. والمساجد أمرها عظيم، بل كل الأوقاف، بل ينبغي للمسلم وطالب العلم والعالم والمفتي والقاضي والناس جميعاً أن يتصوروا أن الواقف لم يوقف ولم يتخل عن ماله غالباً إلا وهو يرجو الثواب من الله سبحانه وتعالى، وكثيراً ما تكون الأوقاف من أموات هم أَحوج ما يكونون إلى الحسنة وإلى الثواب. وكان بعض العلماء حينما يذكر العقوق بعد الموت، يقول: من العقوق بعد الموت تعطيل أوقاف الوالدين والتلاعب أو التقصير أو الإهمال فيها، والناظر قد يكون رجلاً صالحاً، ولكنه مهمل، يُهمل النظر في وقف والده الذي أوقفه على الضعفاء أو الفقراء، فالمسلم إذا تصدق بماله وقفاً؛ فالغالب أنه يرجو الثواب، وأنه يريد الأجر عند الله سبحانه وتعالى. فالمساجد الحرص على الأجر فيها أكبر، ومن هنا لا يجوز أن يُضيَّق على الواقف في استحقاقه لهذا الأجر وطلبه له، ويتمثل ذلك في أمور: أولها أنه إذا بنى مسجداً ينبغي المحافظة على هذا المسجد وبقائه على حاله، خاصة إذا أمكن أن يصلي فيه المصلي وأن تتحقق المصلحة المطلوبة من بنائه. والمسجد إن كان قوياً متماسكاً فلا يجوز لأحد أن يهدمه، ولا أن يفتي بتغييره حتى ولو وجد متبرع، إذا وجد المتبرع يصرف إلى مسجد آخر أحوج، وإلى مسجد لم يبن، كان العلماء رحمهم الله تحدث بينهم خلافات ونزاع، بل أعرف رسائل أُلِّفت واطلعت على بعضها تتكلم عن سقف مسجد هل يُبدل أو لا يُبدل، لوجود مضرة معينة في السقف فهل هذه المضرة ترخص تغيير السقف أو لا ترخص؟ حتى إن الذي أفتى بجواز كشف هذا السقف يُقيِّد أنه لا يجوز أن يُباع شيء من هذا الخشب، ولا أن يُتصرف فيه بالمناقلة إلا عند الضرورة والحاجة خوفاً من الله سبحانه وتعالى ومراقبة لله عز وجل. فتجد المسجد مبنياً ولكن يقولون: مسجد قديم، وقد يكون مبنياً بناءً مسلحاً لكن يريدون أن يكون مبنياً بشكل فخم، وأن يكون مفروشاً بالفراش الوثير، وأن يكون وأن يكون، فيُهجم على حسنة الميت، وعلى حقه، ويهدم هذا المسجد ويبنى غيره. فالمساجد أمرها عظيم، ولا يمكن لأحد أن يفتي بهدم مسجد، ولا يمكن لأحد أن يستحل هدم المسجد إلا بفتوى وقضاء شرعي، ولا يملك كل أحد أن يهدم، لأنها أُوقِفت وسُبِّلت، وخاصة إذا كان الذي أوقفها وبناها ميتاً. ومن هنا حرم الشرع بناء مسجد جوار مسجد، وهو مسجد الضرار، وأفتى بعض العلماء أن الصلاة لا تصح في المسجد الثاني الذي يُضيَّق به على المسجد الأول، وإذا أردنا أن نبني مسجداً كبيراً للجمعة وتضرر الناس يوم الجمعة فإن أمكن توسيع هذا المسجد بهدم جداره الأخير والزيادة فيه من آخره فلا بأس، ويمنع هدمه كله وبناؤه من جديد. كل هذا تعظيماً لحدود الله ومحارمه، ولذلك وصف الله عز وجل تهديم المساجد بأنه من أعظم ما يكون انتهاكاً لحرمته، فلا يجوز لأحد أن يُقْدِم على تغيير مسجد أو هدمه أو التصرف فيه إلا بنظر شرعي صحيح من فتوى أو قضاء، ولا يجوز للمفتي ولا للقاضي أن يُفتي أو يقضي إلا إذا وجدت الأسباب والضوابط الشرعية المعتبَرة للحكم بمثل هذا. فإذاً: المسجد لا يُهدم ولا يُتصرف في شيء من أوقافه إلا في حدود الضرورة والحاجة بحكم القاضي أو من له الأمر والنظر في هذا المسجد. وإذا كان المسجد ضيقاً يُوسّع، ثم إذا وُسِّع فلا يُهدم أولاً ثم يُوسَّع، بل من الممكن أن يُوسَّع بإضافة بناء لاحقٍ له، فالمساجد ليست محلاً للمفاخرة والمباهاة، بحيث لا بد أن تكون على الصورة الفلانية، أو الشكل الفلاني، بل إذا أُوقفت فيجب أن تبقى على بنائها القديم حسنة للميت، وثواباً للميت؛ لأنه حتى الرمل الذي وضعه، والمال الذي أنفقه على هذا الشيء الذي شيده يثاب عليه مدة بقائه. وهذا أجر عظيم لا يرضى أن يُضيع عليه هذا الأجر، فلو كان ميتاً فإنه لا يرضى أن يأتي من يهدم مسجده، والحسنة جارية عليه من هذا المسجد. فإذاً لا يُهدم، وإذا احتيج إلى توسعته يُفتى بقدر الضرورة والحاجة، مع الخوف من الله ومراقبة الله سبحانه وتعالى، والنظر الصحيح الذي ينبني على المصلحة. ثم إذا احتيج إلى هدمه بالكلية فهذه مسألة، وإذا احتيج إلى بيعه مسألة أخرى، فإذا تعطل المسجد بأن تهدم ولم يمكن تجديد سقفه، فإن تهدم سقفُه وجدرانه مشيدة؛ فلا يجوز هدم جدرانه، وإن تهدم سقفه وأعمدته قائمة؛ لا يجوز هدم عموده؛ لأن هذا كله من الإفساد {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة:64]، وهذا من الإسراف، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة المباهاة بالمساجد، فتجد أهل الحي يرغبون أن يُجدد المسجد، وكأنهم ينافسون، وهذا حدث بسبب التساهل في الفتوى في هدم المسجد. فلا يجوز التلاعب بحقوق الناس في أوقافهم، وبالأخص في المساجد، بل ينبغي أن يُقيد ذلك كما ذكرنا بالضرورة، فإن كان الضرر من سقفه، يغير السقف، إن كان تغيير السقف مع بقاء الأعمدة القديمة، فإنها تبقى وتُجدد ولا يُناقل بها، ولا يعوّض عنها؛ لأنها موقوفة مسبّلة على هذا المسجد، ليس ثم وجهٌ صحيح يجيز بيعها. فإذاً لا يهدم سقفه ولا يهدم شيء منه فضلاً عن هدمه كله، إلا عند الضرورة والحاجة، فإن انهدم كله وتعطلت منفعة الصلاة فيه بالكلية واحتيج إلى بنائه؛ فإنه يُبنى على أرضه كاملة، ولا يجوز أن يُنتقص من هذه الأرض شيء لأنها موقوفة كلها مسجداً للصلاة فيه، فلا يجوز أن يُغيَّر فيه، ولا أن يبدل فيه؛ لأن الوقف للمسجد تام على الأرض كاملة، فينبغي أن تبقى وقفاً كاملة دون أن يؤخذ منها أَي شيء. أما الإضافة إليها فهذا شيء آخر، أما أن يؤخذ منها فلا؛ لأن الميت حينما أوقف أوقف كامل هذه القطعة، وليس هناك قضاء شرعي، ولا نظر شرعي يُسوِّغ لأحد أن ينتقص من هذه القطعة شيئاً. وهذه أمانة ومسئولية، والناظر إذا هدم المسجد فالواجب عليه أن يستكمل جميع قطعة المسجد وقفاً مسبَّلاً كما شاء واختار صاحب المسجد، ثم إذا بُنِيت وأعيدت فلا إشكال؛ لأن الأرض الموقوفة باقية كما هي، ولو أراد الزيادة فلا بأس، لكن لو كان المسجد في مكان واحتيج إلى بيع، ف Q هل تحدث حاجة لبيع المسجد؟ A نعم، يمكن أن يقع هذا كما ذكره بعضٌ من أهل العلم رحمة الله عليهم، ومن أمثلته أن يكون المسجد في مكان، ويكون في هذا المكان أناس يرتحلون عنه، وهذا موجود حتى في زماننا، تكون هناك شركات تعمل في مكان، ثم فجأة تتغير أحوالها، وتصبح هذه الأمكنة مهجورة، وليس فيها من أحد، ولا يأتيها أحد، وفيها أرض موقوفة، فيرفع الناظر إلى القاضي، فيفتي القاضي ببيع هذه الأرض التي للمسجد، فتُباع، وإذا بيعت يُبحث عن مسجد يماثل هذا المسجد ويبنى، وتكون الأرض وقفاً لهذا المسجد. وبعض العلماء يفصِّل، ويقول: حتى عند بيع الأرض، ينبغي أن تكون القيمة بكاملها للمسجد، فإذا بيعت الأرض الموقوفة مثلاً بخمسمائة ألف فيجب أن يبني مسجد بخمسمائة ألف. وبعض العلماء يقول: إذا بِيع المسجد المعطل نظر: فإن كانت القيمة للبناء والأرض فتقسم للأرض الجديدة ما بين الأرض والبناء، لأن الوقفية موزعة عليهما، وإن كان المسجد قد تهدم فالوقفية للأرض، فيجوز أن نأخذ من الغير تبرعاً للبناء، فلا بأس بالمزاحمة. فائدة الخلاف: لو كان لقريب لي مسجد، ورفع إلى القاضي بأن هذا المسجد تهدم، فحكم القاضي بجواز بيع أرضه، فالذي بيع هو الأرض فقط، بِيعت بنصف مليون مثلاً، فأردت أن أبني المسجد، فجاء شخص وقال: بدل أن تشتري أرضاً بمائتين وخمسين، وتبني بالمائتين وخمسين، اشتر أرضاً بالخمسمائة، وأنا أبني هذه الأرض مسجداً، قالوا: يجوز لأن الأصل هو الأرض، وسعة الأرض أعظم ثواباً للميت، وأعظم مصلحة ونصيحة له، ففي هذه الحالة تُشترى الأرض، ويُفضّل أن يوجد من يبنيها، ويكون الأجر للاثنين، لصاحب الأرض، ولصاحب البناء. ثم إذا نظرنا إلى وقفية المسجد، فالمال الذي يُؤخذ من الأرض المباعة لا إشكال أنه يُشترى به ويبنى، لكن هنا مسألة وهي التي أشار إليها المصنف في مسألة أجزاء المسجد، حينما تُباع أرض الوقف فلا تباع عند انهدام المسجد بيعاً مجرّداً عن الأرض إذا وُجدت أنقاضٌ موقوفة على المسجد يمكن بيعها واستغلالها. فمثلاً: لو كان المسجد قد تهدم، ولكن هناك أعمدة وهناك مواد خام موجودة في الهدم يمكن استخراجها وبيعها، فتباع الأرض على حدة، وتباع هذه المواد على حدة، ولا يُباع هكذا؛ لأن هذا يضيع حقوق الوقف، فإذا أفتي بجواز بيع الوقف لتعطُّل مصالحه؛ فينبغي أن يُنظر في جميع المال الموقوف، الأرض وما عليها، ولو كان البناء مهدماً ما دام أن هناك شيئاً يمكن بيعه واستغلال ثمنه في المسجد الجديد، أو البناء المعوَّض عن الوقف الأصلي. بقي السؤال في مسألة التبرع لبناء المسجد: فالمال الذي يُدفع لبناء المسجد، إذا تبرع شخص فقال: هذا نصف مليون لبناء هذا المسجد، فبُنِي المسجد بأربعمائة ألف، أو بني المسجد وأُنفق عليه وكمُل تجهيزه بنصف المبلغ، فما حكم النصف الباقي؟ الحكم عند طائفة من العلماء رحمهم الله أنه يصرف إلى مثله، السؤال: كلمة (إلى مثله). إذا كان المال مدفوعاً للبناء؛ يُبحث عن بناء مسجد، وإذا كان المال الزائد للتجهيز يُصرف في تجهيز المسجد بأن ينظر مسجد آخر محتاج إلى تجهيز، مثلاً: لو قال: هذا مليون لبناء مسجد، الخمسمائة ألف لبنائه وتشييده، والخمسمائة الباقية يصرف نصفها مثلاً لفراشه وإنارته وإضاءته إلخ، والنصف مثلاً للمكيفات، فالذي زاد كائن من النصف الذي يتعلق بالثلاجات والمكيفات التي وضعت لمصلحة الرفق بالمصلين، وما دام أن المتصدق جزأ نفقته على مثل هذا الوجه، فيُؤخذ هذا القدر الزائد، ويُصرف في مثله في مسجد آخر، فلا يُصرف في مسجدٍ آخر في بنائه؛ لأن مصلحة هذا المال الموقوف محبوسة وموقوفة على شيء معين فيُصرف إلى مثله من جنس المساجد. وبناءً على ذلك، المناقلة يُشترط فيها المثلية، سواءً كانت مناقلة تامة كالانتقال من مسجد إلى مسجد، أو مناقلة غير تامة، وهي التي تكون في بعض أجزاء المسجد، فيتصرف ا

الأسئلة

الأسئلة

الصفات الواجب توفرها في ناظر الوقف

الصفات الواجب توفرها في ناظر الوقف Q ما هي صفات الناظر التي ينبغي أن يتصف بها؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: صفات الناظر تنقسم إلى قسمين، القسم الأول: أن يحدد الواقف صفات معينة، فيجب التقيّد بها على شرط الواقف، قال مثلاً: وأشترط أن يكون الناظر من ذريتي، وأن يكون أَرشد الذرية، أو يكون أفقههم، أو يكون أحفظهم لكتاب الله، أو أعلمهم بالسنة، فإذا اشترط فيه شروطاً، فنتقيّد بهذه الشروط، ويُلزم من يلي هذا الوقف -القاضي وغيره- أن يبحث عمن تتوفر فيه هذه الصفات، فهي صفات مقيدة من الواقف نفسه. فإذاً: هذه الصفات يُزاد فيها وينقص منها على حسب اشتراط الواقف، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أوقف جعل النظارة لبنته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها من بعده، فولي نظارة وقفه -بستانه بخيبر- في حياته، ثم صرف الوقفية من بعده إلى بنته، فهذا الصرف لم يشترط فيه ذكورة لأنها أنثى، وقيدها من بعده -لما صرف النظار من بعده إلى بنته- بشخصٍ معين، فيجب التقيُّد، وهذا عمل من أعمال السلف، وسنة راشدة من فعل عمر رضي الله عنه، وأخذ العلماء منها دليلاً على أن الواقف إذا اشترط شروطاً في الناظر يجب العمل بها، ولا تسلم النظارة إلا لمن توفرت فيه هذه الشروط. أما إذا أطلق وقال: أوقفت هذه الدار للمساكين والفقراء، ولم يتكلم عن الناظر بأنه من ذريته أو من غيره، فحينئذ فالأصل حينئذ أن تكون النظارة للموقوف عليهم، وقد بيّنا أن نظارة الأوقاف للأشخاص الموقوف عليهم ما لم يكونوا جهات لا يمكن حصرها بحيث يتولون النظارة على الوقف. ففي هذه الحالة إذا اشتجروا ونظر القاضي أن يكون الوقف عند بعضهم دون البعض، فيمكن أن يقيدها القاضي ببعضهم دون بعض، وتعتبر مسائل تعيين الناظر في الأوقاف من مهمة القاضي، ولذلك ذكر العلماء رحمهم الله في كتاب أدب القضاء أن القاضي إذا عُين في مكان فأول ما يبحث في الأوقاف، وينظر في النُّظَّار الذين عُيِّنوا ومن الذي يستحق أن يبقى في نظارته؟ لأنه ربما كان مستحقاً في أيام القاضي الأول، لكنه لا يستحق في أيام القاضي الثاني، فتجد مثلاً في كتاب أدب القاضي للإمام الماوردي، وكذلك أدب القاضي للصدر الشهيد الخصاف مع شرحه، أدب القاضي للسمناني، ونحوها من كتب القضاء كتبصرة الحكام لـ ابن فرحون ذكروا أن مسألة نُظَّار الأوقاف راجعة إلى القاضي، والقاضي ينظر إلى الأصلح فالأصلح. ولا شك أنه لا بد أن يكون عدلاً مأموناً في دينه بحيث لا يكون معروفاً بالخيانة، ولا يكون معروفاً بالكذب، يكون ممن عرف بأمانته وديانته بعيداً عن الشدة في الوقف؛ لأن البعض يكون شديداً معروفاً بالبخل، فهذا البخل يضر الضعفاء، ويضر الفقراء، ولربما إذا جاء يصرف أموال الوقف أجحف بهم، ولا يكون عنيفاً يسب الناس ويشتمهم، فإذا كان الوقف على أيتام وأرامل وضعفة ربما نفَّرهم من الوقف، ونفّرهم من الوصول إلى حقوقهم. ولا يكون معروفاً بالمماطلة والتسويف؛ لأن هذا يُؤخِّر عن أهل الحقوق حقوقهم، ولا يكون ضعيفاً بحيث إذا جاءت مصالح الوقف لا يستطيع أن يدافع عن الوقف، ولا أن ينتزع حقوق الوقف فيما إذا اعتدي على الوقف. ولذلك كان عمر رضي الله عنه يشتكي إلى الله ويقول: اللهم إني أشتكي إليك ضعف الأمين وقوة الخائن. يعني إذا ولّيت إنساناً أميناً يكون ضعيفاً ومتساهلاً مع الناس، فكان يبعثهم من أجل جبي الزكاة، فالأمين المحافظ إذا ذهب وجاء أحد يشتكي له أَخَّر وسوّف، فتعطلت مصالح بيت المال، لكن إذا عين الشديد الذي ينتزع الأمور، ويحافظ على أخذها كاملة قد يكون خائناً. فقال: أشكو إلى الله ضعف الأمين وقوة الخائن. ما يكون قوي إلا عنده نوع من التلاعب، وهذه من حكم الله سبحانه وتعالى، فلا كمال إلا له سبحانه وتعالى. فالشاهد من هذا أن تعيين النظار مما يوكل أمره إلى القاضي، فهو الذي ينظر إلى صلاحه في دينه، وصلاحه في أمانته، ولا يقف الأمر على قضية العدالة والأمانة؛ لأن الوقف قد يحتاج إلى قوة الشخصية، قد تجد شخصاً قوياً، والوقف في أوضاع يفتقر فيها إلى مثل هذا الشخص، أو قد تجد شخصاً عملياً والوقف متهدم يحتاج إلى من يبنيه ويشيده. هذه الأمور كلها ترجع إلى دقة نظر القاضي وحكمته، وبُعد نظره وحسن تصرفه، ولا شك أن القاضي الناصح لا يزال له معه من الله معين وظهير يسدده بإذن الله، ويوفقه، ويعينه على حسن الاختيار في مثل هذا، والله تعالى أعلم.

حكم قراءة المسبوق في الركعة الأخيرة للتشهد الأخير مع الدعاء

حكم قراءة المسبوق في الركعة الأخيرة للتشهد الأخير مع الدعاء Q في الركعة الأخيرة وقبيل السلام هل يقرأ المسبوق التشهد الأخير ويدعو؟ A في هذه المسألة وجهان مشهوران عند العلماء رحمهم الله: بعض العلماء يقول: إذا صلى المسبوق وراء الإمام اعتد بنفسه لا بالإمام؛ لأنه صلاته مع الإمام هي الأولى، وفي مثل هذه الحالة لا يتابعه في الباطن دون الظاهر، كالتشهد الكامل في الركعة الأخيرة لا يتابعه فيه كاملاً؛ لأنه مخالفة في الأركان والواجبات وهو لم يجب عليه التشهد الأخير لأنه ليس في التشهد الأخير الذي هو ركن، والله أوجب عليه التشهد ركناً واحداً في الصلاة، ولم يوجب عليه أكثر من تشهد؛ لأنك لو قلت إنه يلزمه لصار عنده ركنان من التشهد الأخير، وهذا لا يقول به أحد من حيث الأصل؛ لأن الله فرض عليه ركناً واحداً من التشهد الأخير ولم يجعله عليه مكرراً. فيُتابِع الإمام في الصورة، فإذا انتهى من التشهد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً عبده ورسوله، سكت وانتظر سلام الإمام واغتُفِر ما بينهما، كما لو طول الإمام في الثالثة والرابعة من الرباعية في غير الظهر التي ورد فيها النص بقراءة سورة الإخلاص فإنه يقتصر على السكوت؛ لأنه ليس ثم ذكر شرعي له في هذا الموضع. ومن أمثلتها أيضاً: لو أنه صلى الجنازة، فصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وطول الإمام في الصلاة فإنه يبقى ساكتاً، فالسكوت أولى من الزيادة؛ لأنه إذا سكت عند التشهد التزم الأصل؛ لأنه تَشهُّدٌ قبل التشهد الذي فيه السلام، وكل تشهُّد قبل التشهد الذي فيه السلام لا دعاء فيه. هذا أصل شرعي أن التشهد الذي يسبق تشهد السلام لا دعاء فيه، فيبقى على هذا الأصل الشرعي، ويبقى ساكتاً متابعةً للإمام فلا يحكي التشهد كاملاً، هذا وجه لبعض العلماء للأدلة التي ذكرنا وهو أقوى الوجهين. هناك وجه ثان يقول: يُتَابِع الإمام في حال المتابعة ظاهراً وباطناً ويخالفه عند المفارقة. بناءً على هذا القول يقول التشهد كاملاً ويدعو وكأنه يريد أن يسلم، فإذا سلم الإمام توجه عليه الخطاب حينئذٍ بالانفصال، فصارت صلاته منفصلة حينئذٍ، لا قبل ذلك، فيلزمونه بالمتابعة في هذا. وهذا فيه إشكال؛ لأن الإلزام بالمتابعة بينه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا)، فذكر الأركان والواجبات، ولم يذكر ما زاد عن الركن والواجب من السنن ونحوها، فحينئذٍ لا يُتَابع فيه. ولا بأس بسكوته، ولذلك لو قال: ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وقال الدعاء المأثور وطوّل الإمام فإنه يبقى ساكتاً، هذا كله سكوت لعذر، ولا يؤثر فيه شيء، ولذلك إذا سكت لم يُضر؛ لأنه ليس بملزم بذكر، وإذا تكلم فإنه يحتمل أن يكون زائداً على الأصل، واتقاء الزيادة أولى من الوقوع فيها إذا شُك في شرعيتها؛ لأن الاحتياط بها أولى، والله تعالى أعلم.

حكم من توضأ ثم رأى نجاسة تحت أظفاره

حكم من توضأ ثم رأى نجاسة تحت أظفاره Q من توضأ ورأى تحت أظفاره نجاسات فهل يُعيد الوضوء؟ A بالنسبة للذي تحت الأظفار فيه تفصيل، إذا كان الموضع موضعاً مما يُغسل كما لو كان الجرم كبيراً وأخذ جزءاً من الإصبع المأمور بغسله، فهذا لم يصح وضوءه؛ لأنه مطالب بإزالة ذلك مثلما يقع في العوازل، من يأخذ العوازل وأظافره طويلة، فإن العوازل يبقى لها قدر تحت الأظفار يغطي جزءاً من رأس الإصبع المأمور بغسله كاملاً هذا يُؤثر في الوضوء كله، فيجب إزالة العازل والإعادة من الموضع الذي فيه العازل بشرط تحقق الموالاة. أما إذا كان الظفر وما تحته من نجاسة لا يمنع محلاً للفرض فإن الوضوء صحيح؛ لأنه قد غسل ومسح ما أمر الله بغسلِه ومسحِه، فحينئذٍ يزيل النجاسة ويغسل موضعها؛ لأنها ليست مؤثرة في وضوئه، والله تعالى أعلم.

مسافر نوى العشاء قصرا ودخل مع جماعة يصلون المغرب في الركعة الثانية

مسافر نوى العشاء قصراً ودخل مع جماعة يصلون المغرب في الركعة الثانية Q مسافر أراد أن يصلي العشاء قصراً، فدخل مع أناس يصلون المغرب وكانوا في الركعة الثانية، فصلى معهم هاتين الركعتين الأخيرتين بنية العشاء، فهل هذا الفعل صحيح؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فجمهور العلماء رحمهم الله -إلا وجهاً شاذاً ضعيفاً عند بعض أصحاب الشافعي - أنه لا تصح المغرب وراء العشاء، ولا العشاء وراء المغرب؛ لأن صورة الصلاتين مختلفة فلو كانت المغرب وراء العشاء فسيتعطل عن متابعة الإمام في الركعة الرابعة. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، وقال: (فلا تختلفوا عليه)، وقد خالف الإمام وخالف النص وعارضه من هذا الوجه. أما لو كان مصلياً للعشاء وراء المغرب فسيستحل الجلوس بعد الركعة الثالثة للتشهد الأخير للإمام، وهو يقصد صلاةً رباعية، فإما أن يجلس فحينئذٍ يضيف جلوساً كاملاً في موضع لم يأذن له الشرع أن يجلس فيه؛ لأن الثالثة والرابعة من العشاء لا جلوس بينهما، وإما أن يفارق الإمام فيحدث ما ذكرناه من أنه مفارق. ولذلك جمهور العلماء من السلف والخلف على عدم صحة اقتداء المغرب بالعشاء والعشاء بالمغرب، وعلى هذا فالصلاة باطلة والاقتداء غير صحيح ويلزم بإعادة الصلاة، والله تعالى أعلم.

كيفية الجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي.

كيفية الجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي ... ) وأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر Q في قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب)، هل هذا قبل أن يخبر الله تعالى نبيه بالمغفرة لما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهل يفهم من الحديث أن الذنوب هي التي تذهب الخشوع؟ A هذا الحديث يرويه أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وأبو هريرة أسلم في أواخر السنة السادسة عند فتح خيبر وقصة إسلامه مشهورة، و {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا} [الفتح:1]، كانت بعد ذلك بزمان، فمن حيث الآية والحديث لا إشكال فيهما؛ لأنه حتى ولو فرض أن الحديث بعد إخباره، فالعلماء ذكروا أن الأحاديث التي ورد فيها سؤال المغفرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد منها تعليم الأمة، وبعضهم يقول: تكون درجة زائدةً له، لأنه إذا استغفر المستغفر ربه وقد غفر الله له وليست عنده ذنوب بُدِّل بالاستغفار درجات. فالاستغفار على كل حال مثاب عليه، فليس في هذا إشكال أبداً، سواء كان قبل المغفرة أو بعد المغفرة، فهذا ليس بمؤثر لأن قصد التعليم موجود، وزيادة الدرجة موجود، وأياً ما كان فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكمل الخلق خوفاً من الله والتجاءً إلى الله واعتصاماً بالله سبحانه وتعالى. ولو وقع مثل ذلك بعد مغفرة الله له فإنه تعليم لكل عبد صالح أن لا يغتر بصلاحه، وأن يكون واثقاً بالله سبحانه وتعالى كثير الذلة لله جل جلاله. فإذا كان أكرم الخلق على الله عز وجل يسأل المغفرة، ويختار لصديق الأمة لما سأله دعاءً يدعو به في صلاته دعاء المغفرة فكيف بنا؟ وذلك لأنه إذا غفر الله للعبد ذنبه كفاه شر الدنيا والآخرة، كل البلاء من الذنب {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]، فالشرور كلها من الذنوب، ولذلك لما وقف عليه الصلاة والسلام في الصلاة في هذا الحديث قال: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي)؛ لأنه يستقبل أعظم المواقف، وأجلها، وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، وهو موقف الصلاة. فعلم الأمة أن تدعو بهذا الدعاء؛ لأنه ربما وقف العبد في صلاته فحال بينه وبين الخشوع ذنب من الذنوب، وربما حال بينه وبين قبول صلاته ذنب من الذنوب، وربما حال بينه وبين ساعة الإجابة وساعة القبول للصلاة ذنب من الذنوب، فيسأل الله أن يباعد بينه وبين أسباب الخذلان، ويسأل الله أن يباعد بينه وبين أسباب الحرمان، ويسأل الله أن يباعد بينه وبين سبب الذلة والقلة والفاقة ودمار الدين والدنيا والآخرة وكل ذلك من الذنوب. فالذنب شره عظيم، وبلاؤه عظيم، ولما سأل صديق الأمة النبي عليه الصلاة والسلام أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته قال: (قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً) فإذا كان صديق الأمة يقول: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً) فما بالنا ونحن أرباب الخطايا والذنوب، اللهم ارحمنا برحمتك. والإنسان إذا نظر إلى مثل هذه الأحاديث وجدها تحتاج إلى تأمل ووقفات، ودعاء الاستفتاح دعاء عظيم، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاحه، حتى في خطبة الحاجة كان يقول: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا)، فاستعاذ بالله من سبب الحرمان والخيبة والبلاء وهو الذنب. ونعوذ بالله: أي نلتجئ ونعتصم بالله عز وجل الذي لا عصمة ولا التجاء إلا إليه سبحانه وتعالى. من شرور أنفسنا: فالذنب كله شر وبلاء، فدعاؤه عليه الصلاة والسلام بمغفرة الذنب وسؤاله لله عز وجل تعليم للأمة، وكأنه ينبه على خطر الذنب وأنه ينبغي للأمة دائماً أن تكون في استغفار، ومن لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ومن كل بلاء عافية. وقل أن تجد إنساناً يُكثر من الاستغفار إلا وجدته في رحمة، وإن كمُل استغفاره كملت رحمة ربه له، فالمستغفر بلسانه ليس كالمستغفر بلسانه وقلبه، والمستغفر بلسانه وقلبه مستشعراً لعظمة ربه ليس كالذي يستشعر عظمة الله مع استشعاره لعظيم التفريط في جنب الله عز وجل، فيستغفر وهو يحس أنه مذنب، ويحس أنه ما كان له أن يعصي ربه، وأنه ينبغي أن ينيب إلى الله عز وجل من الذنوب والعصيان، ويسأل الله عز وجل العفو والمغفرة. فهذه كلها حالات من وفق لصلاح دينه ودنياه وآخرته، فهذا الدعاء دعاء عظيم (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب)، والمشرق والمغرب لن يجتمعا، ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم بهما المثل. فهذا الحديث كما ذكرنا إما أن يكون تعليماً للأمة، أو يكون استغفاراً حقيقياً، أو يجمع بين الأمرين: بين كونه عليه الصلاة والسلام تكون له بذلك درجة الاستغفار، ويكون تعليماً لأمته صلوات الله وسلامه عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب الهبة والعطية [1]

شرح زاد المستقنع - باب الهبة والعطية [1] باب الهبة والعطية باب من أبواب الفقه الإسلامي، وحري بالعبد المسلم أن يلم بأهم ما فيه من أحكام، وفي هذا الدرس بيان مشروعية الهبة من الكتاب والسنة، والمقاصد الشرعية من الهبة، وأركان الهبة، وأقسامها وشروطها وما تنعقد به الهبة.

مشروعية الهبة والعطية من الكتاب والسنة

مشروعية الهبة والعطية من الكتاب والسنة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف -رحمه الله-: [باب الهبة والعطية] هذا الباب قصد المصنف -رحمه الله- أن يبين فيه المسائل والأحكام التي تتعلق بالتبرعات، ولما كان الوقف نوعاً من أنواع التبرع ناسب أن يذكر أحكام الهبة والعطية بعده، فمناسبةُ باب الهدية والعطية لباب الوقف من هذا الوجه ظاهرةٌ. وقد دلت النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على مشروعية الهبة والعطية، فالآيات التي وردت في استحباب الإحسان وبذله إلى الناس، والآيات التي دلت على الترغيب في المعروف، وإسداء الخير إلى الناس من حيث الأصل، تعتبر دالةً على مشروعية الهبة والعطية، خاصةً وأن الهبات والعطايا قد يراد بها وجه الله عزَّ وجل حينما يهب المسلم لأخيه المسلم شيئاً مما يملكه حتى تزداد المحبة بينهما، وتقوى أواصر الأخوة ووشائج الإسلام التي تربط بين المسلم وإخوانه، فتكون الهبة والعطية عبادةً من هذا الوجه. وأما بالنسبة للسنة فقد دلت أحاديث كثيرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم على مشروعية الهبة، بل رغَّب عليه الصلاة والسلام فيها كما في حديث السنن عن أبي هريرة وعائشة وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تهادوا تحابوا). فقد رغب النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث في الهدية وإعطاء المسلم لأخيه المسلم على سبيل المحبة، وبين حسن العاقبة في ذلك، وأنها تزيد من المحبة والألفة، وهذا مقصود شرعاً، فكل ما يدعو إلى قوة المحبة بين المسلمين مندوب إليه وتحصيله مرغوب فيه. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري أنه قال: (لو أهدي إلي كراعاً لقبلت)، وهذا من تواضعه عليه الصلاة والسلام حيث بين أنه لو كانت الهدية له عليه الصلاة والسلام كراعاً لقبلها عليه الصلاة والسلام ولم يردها، وهذا يشير إلى أن الهدايا تختلف باختلاف الناس، فلا تحتقر الهدية، خاصةً إذا جاءتك من الضعيف الفقير والذي ليس عنده طَوْل ولا عنده مال، فتعلم أن المقصود هو التودد إليك والمحبة، فلا تكسر له خاطراً، بل تجبر بخاطره، وتقبل هديته، ولو كانت شيئاً يسيراً، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تحقرنَّ جارةٌ لجارتها ولو فِرْسن شاةٍ)، وهذا يدل على فضل العطية والإحسان خاصةً من الجار لجاره. حتى كان بعض العلماء رحمهم الله يقول: يا ليت كل مسلم كلما مرت فترة أو مر زمان يسأل نفسه: هل قدَّم لجاره شيئاً؟! كذلك أيضاً ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قَبِل الهدية حتى من الكافر، كما في قصة المقوقس. وثبت عنه عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح أنه أهدى إلى النجاشي رحمه الله، وتوفي النجاشي قبل أن تبلغه هدية النبي صلى الله عليه وسلم. لأجل هذا أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية الهدية والعطية؛ لأن سنةَ النبي صلى الله عليه وسلم وهديَه دالة على مشروعيتها، بل قد جاء في صفته عليه الصلاة والسلام في الكتب السماوية أنه يقبل الهدية ويرد الصدقة. وقال العلماء رحمهم الله: إن الهدية مشروعة لما فيها من جلب المصالح ودرء المفاسد. أما المصالح التي تحققها الهدية فمن أعظمها أنها تزيد المحبة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (تهادوا تحابوا). وأما درء المفاسد فإنها تقطع سوء الظنون، وتزيل من النفوس الإحَن والشحناء، وكذلك ربما أزالت الحسد وأطفأت ناره من القلب؛ لأن الإنسان إذا رأى أخاه في نعمة وحسده عليها، إذا بالمحسود يقدم هدية وعطية ويشارك ذلك الحاسد فيعطيه شيئاً، فإن هذا يكسر قلبه، ويطفئ نار الحسد التي في نفسه، نسأل الله السلامة والعافية. إضافةً إلى أن الهدية إذا كانت إلى المحتاج والمسكين تكون قربة لله عزَّ وجلَّ وطاعةً لله سبحانه وتعالى.

الفرق بين الهبة والهدية والعطية

الفرق بين الهبة والهدية والعطية يقول المصنف رحمه الله: [باب الهبة والعطية] هناك فرق بين الهبة والعطية، يقال: وهب الشيء يهبه هبةً إذا منحه للغير. والعطية في معنى الهبة؛ لكن العلماء رحمهم الله يفرقون بين الهبة والعطية، فهناك هبة وهناك هدية وهناك عطية، وهناك صدقة. فأما بالنسبة للهدية فهي الشيء الذي يحمله الإنسان للغير إكراماً له وإجلالاً، فإذا أعطى إنسانٌ إنساناً شيئاً وحمل الشيء إليه، فإن هذا هدية. لكن الهبة لا تُحمل، يقول له: خذ هذا الشيء، أي: وهبته لك. فإذاً: الهدية فيها معنىً زائدٌ عن الهبة، فالهبة من حيث الأصل تمليك، ويُقصَد بها تمليكُ الغيرِ المالَ الذي يملكه الواهب على سبيل المعروف والإحسان، لا معاوضة فيه، فإذا وهبت الشيء وحملته للموهوب فهذا هو معنى الهدية، وأما إذا قلت له: خذ هذا الشيء، وارفع هذا الشيء، وهذا الشيء لك، فقد وهبته. وأما بالنسبة للعطية: فالعطية تكون لما بعد الموت، يهبه ويعطيه الشيء لما بعد موته، مسنداً لما بعد موته. وأما بالنسبة للصدقة: فالهبة والهدية إذا أعطاها الإنسان غالباً ما تكون لحظوظ الدنيا، وقد يكون فيها معنى العبادة كما ذكرنا؛ لكن الصدقة تُعطَى وتُبذَل ويُراد بها وجه الله سبحانه وتعالى، ويطلب المتصدق والمعطي ما عند الله عزَّ وجل، بخلاف الهبة والهدية فإن الهدية قد يعطيها من باب كسب القلب، وهذا أمر قد يكون دنيوياً، خاصةً إذا كان يخشى شر الإنسان فأعطاه الهدية ونحو ذلك، فهذه كلها مقاصد دنيوية، لكن الصدقة تكون العطية فيها مراداً بها وجه الله سبحانه وتعالى، ويُقصَد منها التقرب إليه جلَّ وعَلا.

أركان الهبة

أركان الهبة أما بالنسبة للأركان التي تقوم عليها الهبة، فإنها تقوم على أربعة أركان: الواهب، والموهوب له، والشيء الموهوب، والصيغة، هذه الأربعة أشياء إذا وُجِدَت، وُجِدَت الهبة. أما الواهب: فهو الشخص الذي يملك الشيء الموهوب، ويقوم ببذله وإعطائه للغير. ويشترط فيه: أن يكون جائز التصرف، وذلك يتحقق بملكيته للشيء الذي يريد هبته، ويأذن له الشرع بالبذل والهبة. وبناءً على ذلك يكون: مالكاً، حراً، رشيداً، بالغاً، عاقلاً. فإذاً: لا بد من توفر هذه الشروط، فلا تصح الهبة من مجنون أو من صبي، أو من السفيه والمحجور عليه سواء كان لفَلَسٍ أو غيره، ولا يصح أن يهب شيئاً هو ملك لغيره، أو يهب شيئاً ليس بملك له أصلاً، أو لا تدخله الملكية، فإذا فعل ذلك فإنها لا تكون هبةً، ولا تسري عليها أحكام الهبة. وأما بالنسبة للحرية فإن المملوك تقدم معنا أنه هو وما مَلَكَ مِلْكٌ لسيده، إلا أن يأذن له السيد بالتصرف فهذا مستثنى. أما بالنسبة للشيء الموهوب: فيُشترط فيه أن يكون مالاً قابلاً للتمليك. فقوله: (أن يكون مالاً) يخرج ما ليس بمال ولا في حكم الأموال، ومن هنا لا تصح هبة أعضاء الآدمي، وهي مفرَّعة على هذا الأصل؛ لأن أعضاء الآدمي ليست فيها ملكية، إذ مِن شَرْطِ صحة الهبة والعطية أن يكون الواهب مالكاً للشيء الذي يهبه. فلو قال قائل: إن الله عزَّ وجل مكَّن الإنسان أن يستفيد من كليته أو يده أو رجله ونحو ذلك. نقول: إن هذا التمليك على سبيل الإذن والإباحة، والتمليك معنىً زائدٌ على الإذن والإباحة، وهناك فرق بين أن يؤذن للشخص بأن ينتفع بالشيء ويرتفق به، وبين أن يُمَلَّك هذا الشيء بحيث يصح أن يبذله للغير. مثلاً: المصالح العامة، كالمواقف ونحوها، هذه مأذون لك أن تنتفع بها شأنك شأن سائر الناس؛ لكن لا يصح أن تبيعها لغيرك؛ لأن الإذن بانتفاعك بها لا يستلزم ملكيتك لها، والله عزَّ وجل أذن للمخلوق أن ينتفع بجسده وهو ليس بمالك له، ومما يدل على ذلك أنه لا يجوز له أن يبيع نفسه، فلو كان مالكاً لنفسه لصح أن يبيع نفسه؛ وقد اتفق العلماء رحمهم الله على أن كل ما جاز بيعه جاز هبته. وبناءً على ذلك: فالأعضاء ليست محلاً للملكية، وإنما هي من خلق الله عزَّ وجل الذي أذن للإنسان أن ينتفع بها. هذا مذهب من يقول بعدم صحة التبرع بالأعضاء، ويقيم هذا على هذا الأساس الذي دلت عليه الأصول الشرعية. ومما يقوي هذا: أن من يقول بالهبة وجواز هبة الأعضاء يقول: لا يجوز بيعها، وهذا تناقض؛ لأنه إذا أُذِن بالهبة فمعناه أن الهبة فرع على الملكية، ومَن مَلَك شيئاً جاز له أن يبيعه. وهناك مسألة مهمة وهي أنه حتى ولو قيل: إن الإنسان يملك أعضاءه فإن هناك فرقاً بين الملكية والتمليك، فقد يكون الشيء ملكاً للإنسان ولا يصح أن يملِّكه للغير، ومن أمثلة ذلك: أم الولد، فإن الجارية إذا ملكها الإنسان بتمليك الله عزَّ وجل له، واشتراها وأصبحت ملكاً شرعياً له، ووطئها وتسرَّاها، فحملت وأنجبت وأصبحت أم ولد، فعلى القول بعدم صحة بيعها كما ورد في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها حينئذٍ ملكٌ للإنسان لا يصح أن يُمَلِّكها للغير، ولذلك قال: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3]، وبالإجماع أنها ملكٌ له، ولذلك تَعْتِق عليه بعد موته. ومن هنا مذهب من قال بعدم صحة هبة الأعضاء يفرِّعها على الأصول المقررة في الشريعة: أنه لا تصح الهبة إلا لشيء يملكه الإنسان، فالواهب يُشترط فيه أن يكون مالكاً للشيء الذي يهبه، فلا يصح أن يهب مال غيره. أما الركن الثاني وهو الشيء الموهوب، فتشترط فيه شروط: أن يكون مالاً كما ذكرنا، وأن يكون مملوكاً للواهب أو مأذوناً له بالتصرف فيه. وإذا قلنا: أن يكون مالاً، خرج ما لا قيمة له في الشرع، كالميتة والخمر والخنزير والأصنام، فهذه الأشياء لا تصح هبتها، ولذلك لو أنه أخذ حيواناً محنطاً غير مُذَكَّىً فإنه نجس وميتة، فلو وهبه، فإن هذا ليس بمحلٍ للهبة وليست بهبة شرعية. وأما الموهوب له فهو الطرف الثالث الذي تصرف الهبة إليه، وهذا الطرف يشمل الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والأمر في الموهوب له أوسع من الواهب. وأما بالنسبة للصيغة فهي: الإيجاب والقبول. الإيجاب قوله: وهبتُك سيارتي أو داري أو أرضي. وأما القبول: أن يقول: قبلتُ الهبة، وسيأتي -إن شاء الله- بيانهما. ويحل محل الإيجاب والقبول ما دل عليهما، فإذا جرى العرف بالدلالة على الهبة مثل ما يجري مثلاً في الزواج؛ يأتي الشخص بهدية ويحملها إلى صاحب الزواج أو الزوج ويعطيه هذه الهدية دون أن يتكلم، ويقبض الآخر هدية أخيه دون أن يقول الواهب: وهبتك، ويرد الموهوب له بقوله: قبلت هديتك، لكن جرى العرف أن هذا الفعل من المعاطاة دال على الهبة والهدية. ولا شك أنه ينبغي أن يراعى في الشيء الموهوب والهدية أن يكون معلوماً، ولا تصح هبة الأشياء المجهولة، وسيأتي إن شاء الله تفصيل هذه الشروط وبيانها. يقول المصنف رحمه الله: [باب الهبة والعطية] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالهبات والعطايا.

تعريف الهبة والعطية

تعريف الهبة والعطية قال -رحمه الله تعالى: [وهي التبرع بتمليك مالِه المعلومِ الموجودِ في حياته غيرَه] أي: الهبة والعطية. قوله: [التبرع] وهو بذل الشيء للغير، والتبرع لا يكون إلا في الشيء الذي لا مقابل له، فخرج بهذا القيد البيع؛ لأن البيع ليس بتبرع، وإنما معاوضة، فيعطيه داره لقاء مائة ألف، أو يعطيه سيارته بعشرة آلاف، فهو لم يتبرع له، ولم يعطِها على سبيل الإحسان، وإنما أعطاه إياها على سبيل المعاوضة، وهذا النوع من العقود لا يدخل في الهبات والعطايا. قوله: [بتمليك مالِه المعلومِ] هذا محل التبرع، تبرَّع بماله المعلوم على سبيل التمليك، فخرج ما إذا تبرع بمنفعته على سبيل العارية والقرض. فالشخص -مثلاً- إذا أعطى مائة ألف ريال لرجل ديناً، فإنه تبرع له وتنازل له بإعطاء المبلغ مدةً معلومة، فهو لم يتنازل له بالإعطاء على سبيل التمليك، وإنما أعطاه ذلك على أساس أن يرد عوضاً عنه. والعارية: لو أنه أعطاه ماله -كسيارة- وقال له: خذ هذه السيارة شهراً، أو إني مسافر وهذه سيارتي تبقى عندك أسبوعاً وأذنت لك أن تتصرف فيها أو تذهب بها. فلا يدخل هذا في باب الهدايا والعطايا. قوله: [الموجودِ] فخرج ما ليس بموجود، كأن يهبه ثمرة بستانه للسنة القادمة، أو يهبه ثمرة البستان سنين، أو يهبه ما تحمله هذه الدابة وليس فيها حمل، فهذه هبة لشيء غير موجود، فيشترط في صحة الهبة أن تكون في شيء موجود، والشيء الغير موجود لا تصح هبته. قوله: [في حياته] خرج بما بعد الموت -كما ذكرنا- العطايا والوصايا. قوله: [غيرَه] وهو الموهوب له: والغير هنا نكرة، يعني: يشمل كل ما عدا الإنسان الواهب، حتى ولو من ولده، فلو وهب بنته أو ابنه، فإنه داخل في الغير، ويشمل الصغير والكبير. فالهبة تصح في هذا كله، والغير يعتبر طرفاً ثانياً عن الشخص نفسه.

أقسام الهبة

أقسام الهبة قوله: [فإن شَرَط فيها عوضاً معلوماً فبيعٌ] الهبة تنقسم إلى قسمين: - إما أن يهب الإنسان الشيء ولا يريد عوضاً عليه. - وإما أن يهب الشيء ويريد عليه العوض. فالنوع الأول: هو مطلق الهبة، يقال: هذه هبة، والنوع الثاني: يقال له: هبة الثواب. تقيَّد؛ لأنها مقصودة، ويراد منها أن يرد الموهوب له هذه الهبة. أما بالنسبة للنوع الأول فغالباً ما يكون من الكبير للصغير، كالأغنياء إذا وهبوا الفقراء، فإنها تكون هبة، والأمر فيها واضح، أن الغني إذا أعطى الفقير غالباً لا يريد شيئاً منه في مقابل هذه الهبة، وهبة الوالد لولده ونحو ذلك، هذه كلها هبات مطلقة. لكن هبة الثواب أن يعطي الهدية يريد أحسن منها أو مثلها، وهذا النوع من الهبات حرمه الله عزَّ وجل على نبيه، وذلك في قوله سبحانه: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] أي: لا تهب الهبة تريد ما هو أكثر منها؛ لأن هذا هو شأن الضعفاء. وهذا النوع وهو هبة الثواب جائز، وشبه الإجماع منعقد عليه؛ لكنه محرم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو من الأشياء التي اختُص النبي صلى الله عليه وسلم بتحريمها، وغيره من سائر الأمة لا يدخل في هذا، وحرمه الله عزَّ وجل على نبيه؛ لأنه فيها منقَصَة. وتعرف هبة الثواب: إما بالشرط، وإما بالعرف. بالشرط: يشترط عليه أن يرد عليه هديته، فيقول له: هذه السيارة هدية، فإن جاءتك سيارة من نوع كذا وكذا فهبها لي، هذه لها أحكام خاصة. العرف: يدل على هبة الثواب، ومن أمثلته: ما يجري في الزواج، وهذا موجود من القديم أن الشخص يأتي في زواج قريبه ويعطيه هدية بهذه المناسبة، وجرى العرف أنه إن تزوج الواهب فإن الموهوب له يرد له هديته. في هذه الحالة عموماً، هبة الثواب: إما أن يعطيه مثلما أعطى، أو يعطيه أفضل مما أعطى، لكن لا يعطي الأقل. ومما يدل على هبة الثواب بالعرف: الهبة للعظماء والكبراء، إذا كانت من الضعفاء. فمثلاً: إذا كان الإنسان غنياً ثرياً وجاءه فقير وأعطاه هدية، فإنه واضح أنه يريد منه مكافأةً، ويريد منه رداً لهذا الجميل والمعروف، فيكون حكمه حكم هبة الثواب. والسبب في التفريق: أن هبة الثواب فيها حقوق، وجرى العرف بأن فيها حقاً للشخص الذي يهب، فلو امتنع الموهوب له وقال: لا. ما أرد، فإنه حينئذٍ يُلزم، لأن لها حكماً خاصاً بخلاف الهبة العامة، فإذا كانت الهبة جرى العرف أنها تُرَد، تردُّها وتكافئ من وهبك وأعطاك؛ سواء كان ذلك للمناسبات مثل الزواجات ومثل المولود إذا وُلد، يُعطى والده. وفي الحقيقة: هي عادة طيبة ومحمودة؛ لأن الإنسان في زواجه قد لا ترضى نفسه أن يأخذ من الناس شيئاً على سبيل الصدقة، ولا ترضى نفسه أن يطلب ويسأل الناس، فمثل هذه الهبات والهدايا تعينه وتساعده على الزواج وإعفاف نفسه، إضافةً إلى أنها تزيد من المحبة بين الناس حتى ولو وقع من بعضهم تفريط فإنه تحت وجود وطأة هذه الأعراف يحس أنه مضطر إلى أن يحضر هذا الزواج والنكاح، وفي هذا أيضاً تحقيق لمقصود الشرع من إجابة الوليمة والدعوة. فهبة الثواب لها حكم خاص، وسواء وقعت بالشرط أو بالعرف فإنها تكون في حكم البيع، وتكون هبة معاوضة، تتفرع عليها مسائل، سيأتي بيانها -إن شاء الله- عند تقرير المصنف -رحمه الله- أنها في حكم البيع. على كل حال الهبة تنقسم إلى هذين القسمين: الهبة المحضة، والهبة بقصد الثواب. وتُعْرَف الهبة بقصد الثواب: إما بالشرط، وإما بالعرف. فإذا وقعت بالشرط فلا إشكال، يهبه ويشترط عليه الرد، وأما إذا كانت الهبة للثواب بالعرف فإنها تأخذ أيضاً حكم البيع، أما إذا كانت هبة مطلقة فلا إشكال فيها. قوله: (فإن شَرَط فيها عوضاً معلوماً فبيع) العوض هو: المقابل، عاوض الشيءَ بالشيء إذا جعله مقابلاً له. قال: وهبتُك هذا العسل على أن تعطيني -مثلاً- كتابك الفلاني أو على أن تعطيني كذا وكذا. وسمَّى شيئاً معلوماً، فحكمها حكم البيع. فائدة: كوننا نحكم أنها كالبيع: أنه لو وهبه سيارةً واشترط عوضاً لها شيئاً آخر، فأعطاه ذلك الشيء ثم تبين أن السيارة الأولى معيبة، فهل يستحق الرد؟ هذه المسألة قال بعض العلماء: يستحقه. وهو الصحيح، أنها إن جرت مشارَطَةً أو أخذت حكم البيع وظهر العيب، قال له: وهبتك ساعتي على أن تهبني ساعتك. فقال: خذ ساعتي. فصارت ساعة بساعة، ثم تبين أن إحدى الساعتين فيها عيب. فيستحق الرد. فإذاً: إذا أخذت حكم البيع جرى عليها ما يجري على البيع من أحكام، ويكون فيها الخيار على القول واللزوم. فبيانه -رحمه الله- أن المشارطة فيها: للعوض المعلوم، ولذلك يشترط أن يكون العوض معلوماً؛ لأن البيع لا يصح بالمجهول، كما تقدم.

هبة المجهول

هبة المجهول قوله: [ولا يصح مجهولاً إلا ما تعذر علمُه] أي: ولا تصح هبة المجهول إلا ما تعذر علمُه. فلو قال له: وهبتُك شيئاً، فإنها لا تصح، ولا تنعقد الهبة؛ لأننا لا ندري ما هو هذا الشيء، فلا بد أن تكون الهبة بالشيء المعلوم. إذا قال: وهبتُك سيارتي هذه، فحينئذٍ يكون وهبه معيناً، أو يهبه شيئاً يصفه وصفاً يخرجه عن الجهالة، ومن أمثلة ذلك: كانوا في القديم -مثلاً- يقول أحدهم: وهبتُك ما تنجبه جاريتي، فإن الذي تحمله الجارية وتضعه لا يُدرَى أذكر هو أو أنثى، أحي أو ميت، هذا مجهول. وكذلك لو قال له: وهبتُك ما في بطن هذه الناقة، فإنه مجهول الوجود ومجهول السلامة ومجهول الصفات، فاجتمعت فيه الجهالة من كل هذه الأوجه. مجهول الوجود: لأنه قد تكون الناقة منتفخة البطن ليس فيها حمل، فيكون مرضاً، وليس بحمل حقيقي. حتى لو تأكدنا أنه جنين، فإننا لا ندري أحي هو أو ميت. كذلك لا ندري هل يبقى حياً إلى الولادة. ثم إذا خرج حياً بعد أن تلد الناقة، فإننا لا ندري أكامل الصفات يخرج أو ناقصها. وبناءً على ذلك: لا تصح الهبة على هذا الوجه.

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة للزوجة التي تتضجر من زوجها لطلبه العلم

نصيحة للزوجة التي تتضجر من زوجها لطلبه العلم Q ما نصيحتكم للزوجة الملتزمة التي تتضجر من زوجها أثناء طلبه للعلم، وتتمنى لو لم تتزوج طالب علم وتقف أمامه عائقاً في طلبه؟ A لا -والله- ليست بملتزمة! فالملتزم بشرع الله هو المحب لله والمحب لطاعة الله والمحب لكل شيء يحبب في طاعة الله عزَّ وجل، فلا توصف هذه بأنها ملتزمة صادقة في التزامها! وهل هناك أفضل وأكرم وأحب إلى الله بعد الأنبياء من العلماء العاملين؟! وهل هناك سبيل للعلم إلا بطلب العلم؟! فتضجرها من العلم وكراهتها له وقولها بلسانها أنها تتمنى أنها لم تتزوج طالب علم -نسأل الله السلامة والعافية ونعوذ بالله من الخذلان والحرمان- ينافي التزامها. والمحروم من حُرِم الثواب: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله عزَّ وجل ما يلقي لها بالاً). ما هو العلم؟! العلم: قال الله، قال رسوله عليه الصلاة والسلام. فإذا كانت قالت: يا ليتني لم أتزوج بعالم أو طالب علم، فإن هذا من أعظم العقوق من الزوجة لزوجها؛ لأن هذه الكلمة تخرج من المرأة ولا تدري ما الذي يترتب عليها، من تحقير ما أمر الله بتوقيره، وإذلال ما أمر الله بإعزازه، وتحطيم لنفسية طالب العلم؛ لأنها تدمره من خلال هذه الكراهية، ومن خلال هذه الكلمات القاسية التي ربما فتنته في دينه. فلا شك أنها كلمة عظيمة، وهذا الشأن في كل شيء فيه طاعة الله عزَّ وجل ومرضاته. لا يجوز لأحد أن يقول مثل هذه الكلمات. فمثلاً: لو كان عنده عامل يعمل ومحافظ على الصلوات، يقول: يا ليتني لم آتِ بك، كما يقول بعض مَن بلَغَنا عنهم من أصحاب المؤسسات الذين لهم مصالح دنيوية، إذا تخلف عمالهم في صلاة الجمعة أو الجماعة، وهو تخلف يسير ليس فيه تلاعب، أما التخلف الذي فيه تلاعب فينبغي أن نعلم أنه ليس من الصلاة، إنما هو من نفس العامل الذي ليست عنده أمانة يحفظ بها الوقت، ويأخذ الضرورة بقدر حاجتها وبقدر وقتها، فيقول: يا ليتني لم آتِ بهؤلاء العمال المسلمين. حتى يتمنى أن يكون جاء بعمال كافرين. اللهم إنا نعوذ بك من عمى البصيرة، فمن زاغ أزاغ الله قلبه والعياذ بالله، وهذا من الزيغ؛ أن يتهكم الإنسان من طلاب العلم من أولياء الله عزَّ وجل، خاصةً إذا عُرِفوا بالتمسك بالدين وبطاعة الله عزَّ وجل أو نفع الله بهم الأمة وصلحت أحوالهم بالعلم، فهؤلاء ينبغي أن يُكْرَمُوا وأن يُجَلُّوا وأن يُعانُوا على طلبهم للعلم، وأن تُبْذَلَ كلُّ الأسباب التي تثبت أقدامهم على هذا الطلب؛ لأن الله تعالى أمر نبيه فقال له: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52]، ومن فوق سبع سماوات يعاتب نبيَّه عليه الصلاة والسلام في طالب علم: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:1 - 3] ما جاء للدنيا إنما جاء لطلب العلم، فعاتب الله نبيه عليه الصلاة والسلام من فوق سبع سماوات في طالب علم، وعاتبه في مجلس واحد، فكيف بامرأة كلما دخل عليها زوجها تذمرت وإذا حضر مجالس العلم تسخطت وضاقت?! إن لذة الدنيا عاجلة فانية، ولو مكث الزوج عند قدمها، وأعطاها حقها وحقوقها واستمتعت به ما شاءت، فإنه لا خير في تلك الشهوة إذا لم يباركها الله عزَّ وجل، ولا بركة في زواج ولا في شهوة ولا في لذة ما لم تكن بطاعة الله عزَّ وجل، وكم من طالب علم يُحبَس عن أهله ويُحبَس عن ولده ويُحبَس عن حقوق أهله، ولكن الله يضع البركة له في عمره وفي وقته بما لم يخطر له على بال. فالله تولى هؤلاء، خاصةً طلاب العلم الذين عُرِفوا بالصلاح والخير ومحبة العلم محبة صادقة؛ فلا يجوز لأحد أن يخذِّلهم، حتى في المجلس، بأن تأتي تجلس فتزاحمه أو تؤذيه، فربما يكون حجرة عثرة؛ لأنه بدل أن يأتي المجلس منشرح الصدر ينقبض من تصرفاتك، حتى ولو كان بأي شيء، ولو أن تزعجه في المجلس بأصوات (الجوال)، أنا لا أبالغ، أقول هذا حقيقة، فأي إنسان كدر على طالب العلم، فسيسأله الله يوم القيامة عن ذلك؛ لأنه في روضة من رياض الجنة، والملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم، ووجبت محبة الله لطلاب العلم الذين جلسوا له سبحانه وتعالى ومن أجله ومن أجل طاعته سبحانه وتعالى. فأمثال هؤلاء يُكْرَمُون ولا يُهانُون، ويُعَزُّون ولا يُذَلُّون، ويُرْفَعُون ولا يُوْضَعُون. فلا يجوز للمرأة أن تقول هذا الكلام، وعليها أن تتوب إلى الله، وأن تستغفر الله عزَّ وجل. وأوصي زوجاً تجرؤ امرأتُه على التهكم بالعلم واحتقاره وأذية العلماء أن يوصيها أن تلتزم بالأدب وإلا طلقها وأبدله الله خيراً منها، فإن الله تعالى أنزل من فوق سبع سماوات آيات معلومة في المنافقين الذين استهزءوا بالقراء. فينبغي للإنسان أن يتقي أمثال هؤلاء. وطالبُ العلم الذي يجلس مع امرأة بهذا الشكل وهو يعظها ويذكرها بالله عزَّ وجل ولم تتعظ بل زاد تمردها، وأصبح ديدناً لها، فإنه لن يستطيع أن يبقى على طلب العلم، ومسئوليات العلم بعد العلم أعظم من مسئولياته وهو طالب علم. فغداً ستخذِّله عن الدعوة إلى الله وعن الخطب والمحاضرات وعن التضحية للناس، وحينئذٍ تُمْحَق بركة علمه إن أطاعها. فنسأل الله العظيم أن يهدينا إلى سواء السبيل. ثم هنا وصية أخيرة أختم بها: أنه لا يعني هذا أن نُغْفِل جانب حقوق النساء، فعلى طالب العلم أن يكون دَيِّناً تقياً يؤدي حقوق أهله، فمع طلبه للعلم يوفر لها حاجتها ولا يحوجها لأحد حتى تكره طلبة العلم، وعليه أن يرتب وقته وينظمه. ففي بعض الأحيان يغفل الرجل عن امرأته إلى درجة أن تخشى على نفسها الحرام والفتنة، فحينئذٍ هو الذي يأثم، وعليه أن يتقي الله عزَّ وجل، وأن يحفظ للمرأة حقوقها، وأن يجمع بين طلبه للعلم وقيامه بحقوق أهله وولده. انظر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثاني رجل في الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه كان يتخلف عن نصف العلم؛ لأنه كان يشهد يوماً، ويذهب إلى أهله وعمله في اليوم الثاني، وهذا لا يضر الإنسان شيئاً؛ لأن هناك حقوقاً لو ضيعها الإنسان فربما وقع في الفتنة، وضاع عليه علمُه وعملُه. نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل. وصلى الله وسلم على نبيه محمد.

حكم مخالعة الرجل لزوجته إذا لم يشترط عوضا

حكم مخالعة الرجل لزوجته إذا لم يشترط عوضاً Q إذا طلبت المرأة من زوجها الخلع، فطلقها زوجُها بغير شرط، فهل المهر للرجل أو للمرأة؟ A الخُلع له أحكام خاصة، إذا كانت المرأة التزمت بحل عصمة الزوجية عن طريق الخُلع، يجب عليها رد المهر كاملاً. وأما إذا طلقها الزوج بدون عوض وبدون خُلع فلا يجب عليها أن تدفع شيئاً. مثال الصورة الأولى: تقول له: لا أريدك، فيقول لها: خالعيني، فتقول: أدفع لك مهرك، فيطلقها عند القاضي. فهذه المسألة مسألة خُلع، ترد له المهر كاملاً. والطلاق في حال عدم المخالعة أن تقول له: طلقني. فيقول: لا أطلقك، فتقول: طلقني، فيطلقها، فلا يستحق شيئاً؛ لأنه لم يقع بينهما ارتباط ومعاقدة على الخُلع. وبناءً على ذلك: فالزوج إذا طلق بمحض اختياره، أو تضرر من الزوجة فإنه لا مهر له. ولا يجوز للمرأة أن تسأل طلاقها من زوجها -نسأل الله السلامة والعافية- بدون عذر؛ لأن في هذا وعيداً شديداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الجنة عليها حرام، نسأل الله السلامة والعافية. فالمرأة تتقي الله عزَّ وجل في ذلك وتبتعد عن هذه الأمور، وتطلب الخُلع بالمعروف على الوجه الذي بيَّنه الله عزَّ وجل وبينته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.

حكم دخول تكاليف الزواج ضمن المهر عند المخالعة

حكم دخول تكاليف الزواج ضمن المهر عند المخالعة Q هل تدخل تكاليف الزواج في المهر إذا خالَعَت المرأة؟ A هذا ليس بصحيح، تكاليف الزواج لا تدخل في المهر، وهذا من أقبح ما يكون، أنهم في هذه العصور المتأخرة، يقولون: تكاليف الزواج، لأننا لم نعرف في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في قضاء الصحابة ولا في كتب أهل العلم من نص على أن تكاليف الزواج تُدفع. تكاليف الزواج -وهذا معروف- تصل في بعض الأحيان إلى مائة ألف، وقد أخذ عوضها من الناس الذين دعاهم إلى الزواج عن طريق الهبات والهدايا، فكيف يأخذ تكاليف الزواج؟! والحق الشرعي الذي أثبته الله عزَّ وجل في كتابه، وأثبته النبي صلى الله عليه وسلم في سنته أن المرأة لا تدفع له إلا مهرها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة)، هذا حكم الله عزَّ وجل، ولا جناح عليهما فيما افتدت به من زوجها. أما تكاليف الزواج فهذا مما لا أعرف له أصلاً، لا في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وكل من نظر في الإجحاف الواقع على النساء بمطالبتهن بتكاليف الزواج لا يشك أن هذا تعطيل لشرع الله، فإن المرأة تتزوج في زماننا بما لا يقل عن مائة ألف في بعض الأحيان بسبب العزائم والولائم للنساء وللرجال، وقصور الأفراح وغير ذلك من الأمور الباهظة في الثمن التي تصل إلى مئات الألوف، وإذا قيل لها: ادفعي هذا المال، فإنها لن تستطيع أن تدفع ذلك. وبناءً على ذلك: عُطِّل شرع الله بخلاصها من زوجها، والشرع جعل لها الخلاص. وينبغي علينا أن نتأمل ونكون بعيدي النظر، فإن الزوج قد استمتع بها وأصابها واستحل فرجها، ولكن الله تكرُّماً منه وتفضُّلاً أعطاه المهر، ومع ذلك يطلب ما هو زائد، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (فلها المهر بما استحل من فرجها)، فجعل المهر لقاء الاستمتاع، ولذلك كان السلف والعلماء يحددون للزوج أن يترك شيئاً من المهر ولو كان من باب الكرم والفضل، حتى إن العلماء الذين أجازوا أخذ الزائد عن المهر -وأنا لا أرى جوازه- قالوا: هذا من صنيع اللئام، أما الكريم فلا يفعل هذا، ولا يقبل أن يأخذ فوق مهره ألبتة. لكن -مع هذا- ندعو أولياء النساء إذا كان الرجل تزوج امرأة ودفع لها مهراً، وعنده ضيق في المال، والمرأة لا تريده، ودخل عليها وتكلف بعض الأشياء، فالله عزَّ وجل يقول: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237]، فولي المرأة إذا نظر إلى أن بنته أو أخته تسببت في الضرر عليه فلا بأس أن يساعده بالمعروف ويقف معه، فهذا من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، فيقول له: يا أخي! هذا مهرك، وهذه عشرة آلاف مني أو عشرة آلاف منا أو نحو ذلك تقديراً لظروف الزوج، فهذا شيء آخر من باب الفضل والإحسان لا من باب الفرض والإلزام. والله تعالى أعلم.

حكم جريان الربا في هبة الثواب

حكم جريان الربا في هبة الثواب Q هل يجري الربا في هبة الثواب حيث إنها مبادلة مال بمال؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه. أما بعد: فمن حيث الأصل إذا وقعت على صورة الصرف يجري فيها، وهكذا إذا كانت مبادلةً بالمكيل والموزون، على الأصل الذي قررناه في باب الربا والصرف، فتجيء من هذا الوجه أخذاً لأحكام البيع. فإذا حصل فيها ما يدل على الربا أخذت حكمه، وهذه ليست بعقود بيع؛ لكنها تئول إلى حكم البيع، ويجري فيها حكم الربا والبيع من الوجوه كلها على الأصل. ومن أمثلة ذلك: لو صالحه بعوض عن مال أقرَّ به، وكان مما يدخله الصرف، وجب أن يكون يداً بيد، وأن يكون القبض في مجلس الصلح، ولا يكون هناك تأخيرٌ أو نَسَأٌ. والله تعالى أعلم.

حكم صدقة الزوجة من مال زوجها

حكم صدقة الزوجة من مال زوجها Q الزوجة إذا أعطاها زوجها مالاً للبيت والأبناء، فهل لها أن تتصدق من هذا المال أو تهديه دون إذن الزوج؟ A المرأة الرشيدة إذا أعطاها زوجها المال عليها أن تتقي الله في نفسها وفي بيتها، فتبدأ أول ما تبدأ بمن تعول، ولا يجوز لها أن تخاطر بأولادها وببيت زوجها من حيث الأصل؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم قال للرجل: (ابدأ بنفسك وبمن تعول) فإذا كانت النفقة على حدود الحاجة ولا يمكن التصدق معها، فلا يجوز للمرأة أن تتصدق، لما في ذلك من إضاعة الحق الواجب، وحينئذٍ يُمنع ويُحظر عليها البذل والمعروف. أما إذا كان المال في سعة وزيادة وفائض ويمكن أن تتصدق منه ولا يستضر الأولاد بذلك، فإنها تؤجر على ذلك إذا كان بالمعروف، وبشيء مقبول، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذَكَر أن الخادم الأمين والرجل المؤتمن إذا تصدق بالمعروف أُجِر كأجر صاحب المال. فالمرأة الصالحة إذا أنفقت من مال زوجها تحتسب النفقة عند الله عزَّ وجل لا رياء ولا سمعة ودون إضرار بحقوق البيت، فإنها مأجورة كزوجها. والله تعالى أعلم.

وضع اليد على الوجه عند الأذان

وضع اليد على الوجه عند الأذان Q هل من السنة وضع اليد على الوجه عند الأذان؟ أثابكم الله. A ليس هناك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على سنية وضع اليدين على الوجه أو إحدى اليدين على الوجه أثناء الأذان. والذي استحبه العلماء عملاً بما في حديث السنن: أن يضع إصبعيه في أذنيه؛ لأنه أبلغ في قوة الصوت وبلوغه، وأكثر عوناً له على ذلك. والله تعالى أعلم.

حكم القصر والجمع في المطار الذي في داخل المدينة

حكم القصر والجمع في المطار الذي في داخل المدينة Q لو كان المطار في داخل المدينة، فهل يجوز للمسافر أن يقصر ويجمع؟ A رُخَص السفر لا تستباح إلا بعد الخروج من آخر عمران المدينة، فإن كان الإنسان على سفر، ونوى السفر ولم يخرج من المدينة فليس بمسافر؛ لأن الضرب في الأرض الذي نص الله عزَّ وجل عليه -وهو الأصل في السفر- يقتضي الظهور والخروج، فلا يوصف الإنسان بكونه ضارباً في الأرض، ولا بكونه مسافراً إلَّا إذا أسفر، والعرب تقول: أسفر إذا ظهر، ومنه قولهم: أسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته وأظهرته، وأسفر الصبح إذا بان ضوءه، كما قال تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر:34]. فإذا ثبت هذا فإنه لا يُحكم بجواز الرخص المتعلقة بالسفر إلا بعد الخروج من آخر عمران المدينة، فلا يجوز أن يجمع ولا أن يقصر الصلاة إلا إذا تحقق هذا الشرط، فلو أذن المؤذن قبل أن يخرج من آخر عمران المدينة لزمته الصلاة أربع ركعات، ولزمته صلاة الظهر في وقتها، فلا يصح أن يؤخرها إلى وقت العصر جمعاً؛ لأن رخصة الجمع لا يستبيحها المقيم في هذه المسألة؛ لأنه في حكم المقيم، وعلى هذا فلا بد أن يخرج من آخر العمران. وما ورد عن بعض السلف في مسألة الصيام أنهم كانوا يفطرون وهم في داخل المدينة، أجاب عنه الإمام ابن قدامة وغيره بأن هذا اختيار منهم واجتهاد؛ لكن جماهير السلف -رحمهم الله- من الصحابة والتابعين والأئمة على أن رخص السفر لا تستباح إلَّا بعد الظهور والبروز. والله تعالى أعلم.

حكم استعمال الزيت لتنعيم وتطويل الشعر

حكم استعمال الزيت لتنعيم وتطويل الشعر Q ما حكم استعمال زيتٍ فيه دواءٌ لتنعيم الشعر للمرأة أو تطويله؟ A لا بأس للمرأة أن تستعمل الدهون الطاهرة والمباحة لتسريح شعرها، وقد كان صلى الله عليه وسلم يرجِّل شعره، وكما في حديث النسائي، قال عليه الصلاة والسلام: (اكتحلوا ... ) وهو حديث ضعيف؛ لكن هناك حديث أقوى منه في تسريح الشعر:: (نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم أن يمتشط أحدنا كل يوم) أي عليه ألَّا يَدَّهن كل يوم، ولا يسرح شعره كل يوم لما فيه من المبالغة في الترف. وإذا ثبت هذا، فمن حيث الأصل يجوز، والتي تحظر هي الدهون النجسة، المشتقة من الميتات، أو التي تكون من المخدرات كالحشيش، فإن زيوت الحشيش تؤثر في الشعر، تجعله ناعماً، وهي محرمة، ونحوها من الزيوت المحظورة، لأنها مواد نجسة أو مخدِّرة، وكلها لا يجوز استعماله. إضافةً إلى أن الأطباء ذكروا أن تسريح الشعر؛ لأن الجلد يمتص هذه الأشياء، ولذلك -والعياذ بالله- قد يسبب الإدمان في بعض الأحيان، كما ذكر لي بعض الأطباء أن زيت الحشيش ينفذ إلى الجسم، حتى إن بعض من يستعمله ويداوم لو تركه يوماً من الأيام يصيبه الصداع، وتحدث له أعراض قريبة من أعراض الإدمان. فتُتَّقَى مثل هذه الأنواع من الزيوت والمستحضرات التي لا يجوز استعمالها ولا استخدامها. والله تعالى أعلم.

حكم من دخل المسجد قبل أذان الفجر ولم يوتر ولا يتسع الوقت إلا لركعة واحدة

حكم من دخل المسجد قبل أذان الفجر ولم يوتر ولا يتسع الوقت إلا لركعة واحدة Q إذا دخلتُ المسجد قبل صلاة الفجر ولم أوتر، فهل أصلي تحية المسجد أو الوتر، علماً أن الوقت لا يتسع إلا لركعة واحدة؟ A في هذه الحالة تصلي الوتر ركعة واحدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيح-: (صلاة الليل مثنىً مثنىً، فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة)، فأمر مَن خشي الفجر أن يوتر، وبناءً على ذلك: توتر. هنا سؤال: هل يكون الوتر مُسْقِطاً لركعتي التحية على القول بالتداخل؛ لأن بعض العلماء يرى أن مقصود الشرع ألَّا تجلس حتى تصلي، ولما كان أقل ما يُصَلِّيه المكلفُ ركعتين من حيث الأصل العام استثنيت هذه الحالة؛ لأنه أُمِر بالوتر في هذه الحالة فيصلي، فيكون في هذه الحالة مُخَرَّجاً على هذا الوجه. وكان بعض مشايخنا يقول: يصلي الوتر ثم إذا انتهى من وتره قام، وتكون جلسته الخفيفة من أجل السلام كجلسة الخطيب يوم الجمعة إذا جلس عند أذان المؤذن، لورود الإذن الشرعي به. بعض العلماء يقول في خطبة الجمعة: كل خطبة عن ركعة، فإذا خطب الخطبة الأولى وجلس صار كمن أدى ركعة وجلس طبعاً. والإشكال في هذا أنه جلس قبل الخطبة؛ لكن بالنسبة للجلسة الثانية بعض العلماء يرى أن الخطبتين قائمتان مقام الركعتين، ولذلك لا يتكلم فيهما وأُمِر بالإنصات، وترتبت عليها أحكام أشد من غيرها من الخُطَب الأُخَر، كخطبة العيد التي خفف فيها النبي صلى الله عليه وسلم ووسع فيها على الناس، لمن شاء أن ينصرف ولمن شاء أن يجلس.

حكم من ترك الصلاة لمرض ثم مات

حكم من ترك الصلاة لمرض ثم مات Q والدي -رحمه الله- قبل أن يتوفى ترك صلاة عشرة فروض لمرضه، فقد نُصِح من قِبَل الأطباء بعدم الحركة، فما الحكم، مع العلم أنه كان محافظاً على الصلاة ولا يتركها؟ أثابكم الله. A الله المستعان! لا يجوز للمسلم أن يترك الصلاة، ولا يجوز له أن يخرجها عن وقتها إلا إذا أُذِنَ له شرعاً بذلك، كما في حالة الجمع إذا كان ممن يُرَخَّص له أن يجمع بين الصلاتين وأخَّر الأولى إلى وقت الثانية، أما غير هؤلاء فلا يجوز لهم أن يؤخروا الصلاة عن وقتها، كما قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5]، توعدهم الله بـ (ويل)، حتى قال بعض أئمة السلف: إنه وادٍ في جهنم لو سُيِّرَت فيه جبال الدنيا لذابت من شدة حره، فما أضعف الإنسان أن يطيق عذاب الله عزَّ وجل! فأمر الصلاة عظيم! لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها، فضلاً عن تركها بالكلية. أما بالنسبة للمريض: فإن أمكنه أن يصلي على حالته يصلي، في القيام والركوع والسجود، ويفعل أركان الصلاة، وأما إذا لم يمكنه فإنه يؤدي الصلاة على قدر طاقته، حتى ولو بالإيماء برأسه، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فقد قال صلى الله عليه وسلم لـ عمران بن حصين -رضي الله عنه- لما ابتُلي بالبواسير: (صَلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]). فعلى المرضى وعلى قرابة المرضى أن ينبهوهم أنهم إذا عجزوا عن أفعال الصلاة أنهم يصلون ولو بالإيماء، ولا يكلفهم الله عزَّ وجل إلا ما في وسعهم. وأما بالنسبة للوالد فلا تملك إلا أن تدعو الله له؛ خاصةً أنك لم تتبيَّن هل صلى فعلاً أو لا؛ لأن حكمك عليه بعدم الصلاة يحتاج أن يخبرك أنه لم يُصَلِّ، فلربما كان المريض لا يتحرك ولا يتكلم، ولكنه يصلي في قرارة نفسه، ويعلم هذا الحكم، خاصةً وأنه كان محافظاً على الصلاة، ونسأل الله العظيم أن يجعل الأمر كذلك، أنه صلى ولم تستطع أن تحكم عليه بعدم الصلاة؛ لأنه كان ممنوعاً من الحركة. أما إذا كان أخبرك بأمره، وكان يظن أن الصلاة ساقطة عنه لمكان المرض، فهذا جهلٌ، ويجعل بعضُ العلماء مثل هذه المسألة من المسائل التي يُستثنى ويُعذر فيها للجهل، وحينئذٍ يكون الحكم فيه أن أمره إلى الله تعالى، ولا يلزم الورثة في هذا الأمر شيء؛ لأن الصلاة لا تدخلها النيابة، ولا يمكن أن تُقضى عن الأموات. والله تعالى أعلم.

كيفية الجمع بين قاعدة: (قضايا الأعيان لا تصلح دليلا للعموم) وقاعدة: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)

كيفية الجمع بين قاعدة: (قضايا الأعيان لا تصلح دليلاً للعموم) وقاعدة: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) Q كيف نجمع بين هاتين القاعدتين: (قضايا الأعيان لا تَصْلُح دليلاً للعموم) و (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)؟ A اختصاراً: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) أي: إذا نزلت آية في كتاب الله، أو حكم عليه الصلاة والسلام بحكم وكان في حادثة معينة، وجاء لفظ الآية ولفظ حكمه عليه الصلاة والسلام عاماً فإن العبرة بعموم لفظه لا بخصوص سببه، الذي من أجله جاءت هذه الحادثة. فمثلاً: قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]، هذه الآية الكريمة -كما في الصحيحين- نزلت في كعب بن عجرة رضي الله عنه وأرضاه حيث قال: (حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال عليه الصلاة والسلام: ما كنتُ أُرَى أن يبلغ بك الجهدُ ما أَرَى. ثم قال له عليه الصلاة والسلام: أطعم فَرَقاً بين ستة مساكين أو صم ثلاثة أيام أو انسك نسيكة) أي: اذبح ذبيحة. هذا اللفظ الذي جاء في الآية الكريمة عام، {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} [البقرة:196]؛ ولكن السبب خاص؛ لأن كعب بن عجرة رضي الله عنه فرد من أفراد الأمة والحكم نزل له خاصاً وبسببه. فنقول: العبرة بعموم اللفظ، أي: لفظ الآية، لا بخصوص سبببها. وهكذا قضية المرأة لما جادلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها رضي الله عنها وأرضاها، واشتكت إلى الله، فنزلت آية الظهار، فآيات الظهار وكفارة الظهار نزلت بسبب خاص وهي قضية ثعلبة رضي الله عنه لَمَّا ظاهَر من امرأته؛ لكن لفظها عام، {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:2]. فهذا عام ويأخذ حكم العموم، فـ (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب). الخلاصة: هذه القاعدة الأولى تدل على أنه ينبغي علينا في التشريع أن نجعل الألفاظ العامة عامةً للأمة، وتشمل جميع الأمة، إلا ما خصة الشرع وأخرجه من هذا العموم. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة:21]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104] هذا كله من ألفاظ العموم، {مَنْ كَانَ مِنْكُمْ} [البقرة:232]، {وَعَلَى الَّذِينَ} [البقرة:184] هذه كلها عامة. وإذا نظرنا إلى هذه القاعدة، فإنه يشترط فيها طبعاً أن يكون هناك لفظ عام، فإذا جاء اللفظ خاصاً ومخاطَباً به المكلف بنفسه فهذا شيء آخر. أما القاعدة الثانية: (قضايا الأعيان لا تَصْلُح دليلاً للعموم) فهذا النوع -في الحقيقة- فِعلاً يُشْكِل. (قضايا الأعيان): القضية التي وقعت لصحابي بعينه، أو صحابية بعينها، لا تصلح دليلاً للعموم. لما وقعت قضية اليهودي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد خزيمة بن ثابت رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادته له بالدرع بشهادة رجلين، وحكم بها، مع أن الله تعالى فرض علينا في الحقوق المالية وما في حكمها شهادة الرجلين من الرجال أو عن كل رجل امرأتان. فقبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة رجل واحد؛ لكنها في قضية معينة، وهي قضية خزيمة بن ثابت وقال له: (ما الذي حملك على ذلك؟ قال: أصدقك في وحي السماء ولا أصدقك في درع!) أي: إذا كنت في وحي السماء أصدقك أفلا أصدقك في درع؟! فشهد له بذلك، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين. لكن هل كل من صدق النبي صلى الله عليه وسلم نجعل شهادته بشهادة رجلين؟ نقول: لا. (قضايا الأعيان لا تَصْلُح دليلاً للعموم). هنا يتنازع العلماء ويختلفون: هل هذا الحديث نجعله قضية عين أو نجعله عاماً؟ ومن أمثلتها: مسألة رضاع الكبير. سالم مولى أبي حذيفة صحابي تربى عند أبي حذيفة وزوجته، ونشأ منذ الصغر عندهما، ولما كبر أصبح أجنبياً، وهو مولى من موالي أبي حذيفة رضي الله عنه وأرضاه، فلما أخذت أبا حذيفة الحمية، جاءت زوجته تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (ما كنا نعد سالماً إلا كواحد منا -يعني: كأولادنا- وإنه حدث ما ترى -أي: أنه أصبح أجنبياً- فقال صلى الله عليه وسلم: أرضعيه خمساً تحرمي عليه). هذا الحديث من العلماء من يقول فيه: قضية عين لا تَصْلُح دليلاً للعموم، فليس غيرُ سالم مشاركاً لـ سالم في هذا الحكم، فلا يصح للكبير أن يرتضع من امرأة. ومنهم من قال: لا. بل الحديث أصل في أن رضاع الكبير يؤثر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه)، فجعل المحرمية مركبة على الرضاع، والرضاع أثبت الشرع به المحرمية، فإذا ثبتت للصغير ثبتت للكبير؛ لأن النص اعتبرها للكبير. فعندي أصل أن الرضاع يوجب التحريم، كأنه يقول: جعلته محرماً لك بالرضاع، وهذا يدل على أن العبرة بوصول اللبن، يستوي فيه الكبير والصغير؛ لأنه كما أثر في الصغير سيؤثر في غيره. فكل من ارتضع من امرأة أو شرب لبن امرأة خمساً حرُمت عليه. هذا رأي من يقول: إنها ليست بقضية عين؛ لأنه يرى أن العلة صالحة للتعميم. والذين توسطوا قالوا: قضية سالم فيها حرج ومشقة، وهناك أصل عام: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233]، قد جعل أمد الرضاعة في الحولين، وقال عليه الصلاة والسلام: (إنما الرضاعة من المجاعة) أي: أن الرضاعة في الصغر، وقال: (ما أنشز العظم وأنبت اللحم)، وهذه كلها أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم بينت أن الرضاعة تنشز العظم وتنبت اللحم، وهذا يكون في الصغر لا في الكبر. إذاً: كيف يجعلونها قضية عين؟ من فوائد المشايخ رحمة الله عليهم أنهم ضبطوا قضية العين أن يكون هناك أصل يعارضها، فالأصل عندنا أن الرضاعة للصغير، فلما جاءت الرضاعة للكبير على خلاف الأصل استثنيت وصارت قضية عين وما في حكمه، بحيث تقول: من كان مثل سالم فله أن يفعل مثل فعل سالم. وهذا -والله- تطمئن إليه النفس؛ لأن الكبير كابن الخال أو العم إذا نشأ في بيت خاله أو عمه، ويرى أن زوجة خاله أو عمه كأمه، ينشأ عنده شعور أنه ينظر لها بهذا المعنى، كأنها أمه وكأنه والده، فتبعُد الفتنة. لكن لا يؤتى بشاب ويرتضع من شابة فإنه لا يؤمن أن يقعا في الحرام، ولذلك يُنْظَر إلى مقتضى الشرع؛ أن المرأة تحرجت من كون هذا كواحد من أولادها، وأنه كان بينهم من الود والتواصل والإحسان لهذا الولد ووجود الحرج للزوج، فجاء حكم الله عزَّ وجل رحمةً وتيسيراً، فنقول: كل من نشأ في بيت وتربى فيه وهو ينظر إلى هذه المرأة كأم، وينظر إلى هذا الرجل كأب، كما يحدث في الأيتام وأبناء الجيران وأبناء العمومة والخَئولة ونحوهم، فإنه يمكن أن يرتضع من هذه المرأة أو من بنت المرأة حتى يصير محرماً لهذه المرأة؛ لأنه ينزلها منزلة الأم، فيتحاشى بناتها؛ لأنهن كأخوات له، والشعور والمعنى موجدان فيه. إذاً نقول: هذه قضية عين. فانظر كيف يحدث الخلاف بين العلماء في قضية سالم لأنه قال: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه). لكن كيف تطبق قاعدة (العبرة بعموم اللفظ ... ) ممن يقول بذلك في هذا الحديث؟ يقولون: لأن العلة دلت على التعميم، العلة هي وجود الرضاعة، كأنه يقول: المحرمية مرتبة على علة وهي الرضاع، وقد قال: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه)، فصارت جملةُ (تحرمي عليه)، التي هي جملة حكمية، حكمتُ بالمحرمية لأنكِ أرضعتيه خمساً، وهذا كما ذكرنا يستوي فيه الصغير والكبير. كذلك أيضاً الاشتراط في الحج والعمرة. ضباعة رضي الله عنها أرادت أن تحج وهي مريضة، والأصل يقتضي أن المريض لا يحل من إحرامه من حيث الأصل؛ لأنه تعالى قال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة:196]، فأوجب الله على المريض الفدية، فكيف يكون المرض عذراً في الفسخ، والأصل يقتضي إتمام الحج والعمرة؛ لأن الله يقول: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]؟ فلما جاءت هذه المرأة وقالت: (إني أريد الحج وأنا شاكية) ذكرت في سؤالها أمراً لا يمكن اسقاطه، وهو قولها: (شاكية) معناه: أن عندها حالاً يصعب معه الحج، ومع ذلك تجشمت الحج مع وجود هذا العذر، بخلاف الذي طرأ عليه المرض بعد الدخول في الإحرام وإلزام نفسه. فطائفة من العلماء توسطوا في هذا وقالوا: هذه قضية عين لا تصلح دليلاً على العموم، كل امرأة جاءت تحج تقول: حبسني حابس. فإذا جاء عذرها ولت وتركت إحرامها لو كان هذا سائغاً. وقضية ضباعة وقعت قبل الإحرام في ذي الحليفة؛ لأنها وقعت بالمدينة -وهذا بالإجماع- قبل خروجه عليه الصلاة والسلام إلى ذي الحليفة؛ لأنه قال: (أهِلِّي واشترطي)، وقد خاطَبَتْه في المدينة تسأله: هل تحج أو لا تحج؟ ووقع هذا في حجة الوداع، فإذا كان قبل الحج قال لها: (أهِلِّي واشترطي إن حبسك حابس) ولَمَّا جاء عليه الصلاة والسلام إلى الميقات - كما في الصحيح من حديث عائشة - قال: (أيها الناس! من أراد منك أن يهلَّ بحج فليهلَّ، ومن أراد منكم أن يهلَّ بعمرة فليهلَّ، ومن أراد منكم أن يهلَّ بحج وعمرة فليهلَّ) وما قال: فليشترط، مع أن الناس يحتاجون للشرط؛ لاحتمال أن يحدث طارئ، والمرأة قد يصيها العذر وقد يطرأ عليها شيء؛ ولكنه لم يذكر الشرط، فهمنا من هذا أن هناك معنىً في كون المكلف يحرم بالحج أو بالعمرة مع أنه مريض ولا يتحمل صعوبة النص الذي يُلزم بإتمام الحج أو العمرة على ما هو عليه. ونقول: الأصل في كل مسلم أن يتم حجه وعمرته لقوله تعالى: {

باب الهبة والعطية [2]

شرح زاد المستقنع - باب الهبة والعطية [2] من أحكام الهبة التي يجدر الإحاطة بها: معرفة ما تنعقد به، وما تصير به لازمة، وهل الإبراء من الدين يدخل في باب الهبة، وما هي الأشياء التي تجوز فيها الهبة، وغير ذلك من الأحكام، وكل ذلك موضح في هذا الدرس.

ما تنعقد به الهبة والعطية

ما تنعقد به الهبة والعطية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد شرع المصنف رحمه الله في بيان الأمور التي يتم بها عقد الهبة. فالهبة تارةً تنعقد بالقول وتارةً تنعقد بالفعل، وإذا وهب الإنسان شيئاً وقبله أخوه المسلم؛ فقد تم عقد الهبة. فقال رحمه الله: [وتنعقد بالإيجاب والمعاطاة] الإيجاب هو قول الواهب: وهبتك سيارتي أو دابتي أو بيتي. والقبول قول الموهوب له: قبلتُ، رضيتُ، ونحو ذلك من الألفاظ. فإذا قال الواهب: وهبتك، وقلت أنتَ: قبلتُ، فقد تمت الهبة وتم عقدها. وحينئذٍ صرح المصنف -رحمه الله- بأن هذه الصيغة القولية تقتضي ثبوت عقد الهبة. وكما تنعقد الهبة بالأقوال تنعقد بالأفعال، فإذا جرى العرف بأن فعلاً معيناً يدل على الهبة؛ فإنه يُحكم بثبوتها بذلك الفعل. ومن أمثلة ذلك: ما يقع في الهدايا والهبات في المناسبات، فقد جرى العرف أنه لو صارت للإنسان مناسبة من زواج أو غيره فجاء شخص بهدية وحملها معه ليلة زواجه ودفعها للشخص الذي له المناسبة دون أن يتكلم وأخذها الموهوب له دون أن يتكلم أيضاً، فإن هذا الفعل تنعقد به الهبة، ويحصل القبض على الصفة التي سنذكرها -إن شاء الله- وتكون الهبة والهدية ملكاً للموهوب والمُعطى. إذاً: عندنا قول، وعندنا فعل. قوله رحمه الله: (والمعاطاة) أي: تنعقد بالمعاطاة؛ وهذه هي الصيغة الفعلية، وقد بينا أن شيخ الإسلام -رحمه الله قرر في أكثر من موضع في مجموع الفتاوى وفي كتابه النفيس القواعد النورانية: أن الشريعة لا تلزمنا بألفاظ مخصوصة إلا فيما دل الشرع على التقيد فيه باللفظ المخصوص، ولا تلزمنا بصيغة القول إلا إذا دل الشرع على التقيد بالصيغة القولية، وأن الأصل أنه إذا جرى العرف بين المسلمين أن فعلاً ما يدل على شيء من العقود فإنه يُحكم بذلك الفعل. فإذاً: مراده رحمه الله أننا لا نتقيد بالقول، فلو أن شخصاً جاء وأعطى ساعةً لأخيه المسلم في مناسبة، فقبضها الموهوب له دون أن يتكلم، ثم قال: أنا لم أقصد الهبة أو العطية، نقول: الدلائل والقرائن كلها دالة على الهبة والهدية، فتُلزم بها؛ لأنها قد قُبضت، ونُنَزِّل الأفعال منزلة الأقوال، ولا نقيد الحكم بالقول؛ لأن العرف في الإسلام مُحْتَكَمٌ إليه، وقد ذكرنا غير مرة أن من قواعد الشريعة التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة وأجمع العلماء على العمل بها قولهم: (العادة مُحَكَّمَة). فإذاً: إذا جرى العرف بأن فعلاً ما يدل على الهبة أو الهدية، وأن فيه ما يدل على القبول والرضا، فإنه يُحْكَمُ بذلك ويُعْتَدُّ به.

ما تصير به الهبة لازمة

ما تصير به الهبة لازمة قال المصنف رحمه الله: [وتلزم بالقبض بإذن واهبٍ إلا ما كان في يد مُتَّهِبٍ]. قوله: [وتلزم بالقبض] عندنا عقد الهبة والهدية والعطية، وعندنا اللزوم. الهبة والهدية من حيث الأصل تبرُّعٌ وإحسان، والإنسان إذا أعطى هديةً لأخيه المسلم أو وهبه شيئاً فإنه في حكم المحسن، والله تعالى يقول: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91]؛ لكن هذا الإحسان نلزمه به، وتصبح العين الموهوبة ملكاً للموهوب له بوصفٍِ شرعي أو بشرط أجمع العلماء رحمهم الله على اعتباره والعمل به، وأنه يصيِّر الهبة والهدية ملزِمة. هذا الشرط هو القبض، فإذا خاطب إنسان غيره وقال: وهبتُك سيارتي أو هذه الساعة أو هذا القلم، فقال الآخر: قبلتُ أو رضيتُ، فقد تم عقد الهبة والهدية. فلو أنه رجع عن هبته وقال: رجعتُ، أو طرأ عليه ظرف، فامتنع من إنفاذه، فإنه لا يُلزم به؛ لأن الشرط المعتبَر للإلزام حصول القبض، فإذا قُبض الشيء الموهوب لزم، والأصل في ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه لما حضرته الوفاة قال لابنته عائشة رضي الله عنها: (يا بُنَيَّة! إني كنت قد وهبتك عشرين وسقاً جاداً من أرضي بالغابة -وهي شمالي المدينة، وكان له فيها مزارع- فلو أنك قبضتها لكانت ملكاً لكِ اليوم، أما وإنك لم تقبضيها فأنت اليوم وإخوتك فيها سواء). هذا الخليفة الراشد سنته مُحْتَجٌّ بها، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على العمل بما دل عليه هذا الأثر، من حيث أن القبض يصير الهبة لازمة، فهو قد وهبها وأعطاها عشرين وسقاً من التمر من مزرعته، ولكنها تأخرت في قبض هذه الهبة والعطية، فعندما حضرت أبا بكر الوفاة رجع عن هبته وأعطيته، فإذا حضرت الوفاة للشخص الواهب، ولم يتم قبض الهدية والهبة، فحينئذٍ يكون حكمها حكم التصرف بالتبرعات في مرض الموت، حكمها -كما سيأتينا ونبهنا غير مرة- أنها لا تصح إلا في حدود الثلث، فما زاد عن الثلث، فهذا يُرجع فيه إلى الورثة، إن أجازوه وأمضوه فلا إشكال، وإلَّا فلا. إذاً: أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه لم يحكم بلزوم هبته وعطيته لأم المؤمنين رضي الله عنها إلا بالقبض، ولذلك قال لها: (لو أنك قبضتيه -وفي رواية: حزتيه - لكان ملكاً لك اليوم، أما وإنك لم تفعلي ذلك، فأنت وإخوتك فيه اليوم سواء). فدل هذا على أن القبض معمول به، وقد حكى الإمام ابن قدامة وابن أبي هبيرة في الإفصاح وغيرهم من الأئمة والفقهاء الإجماع على أن الهبة تلزم بالقبض. وبين المصنف رحمه الله أن هناك مرحلتين: المرحلة الأولى: مرحلة الصيغة والعقد، والمرحلة الثانية: مرحلة القبض. فكل هبة صدرت من إنسان اشتملت على عقد وقبض حكمنا بلزومها. أما ما قبل ذلك فلا نحكم بلزومها، أي: إذا وقع العقد ولم يحصل القبض كأن يقول شخص لآخر: وهبتك كذا، فيرد عليه: رضيت، ولم يقبضها، فإنه لا يُلْزَم الواهب بالهبة التي وعد بها أو تلفظ بها، ولو كانت حاضرة. فطالما لم تمتد يد الموهوب له، لقبضه بإذن الواهب فإنه لا يُحكم بلزوم الهبة والهدية والعطية إلا بعد تحقق هذا الشرط. إذاً: هناك عقد، وهناك قبض، وقد يجتمع الاثنان مع بعضهما، مثلما ذكرنا، كأن تأتي في مناسبة -زواج أو غيره- إلى أخيك ومعك الهدية أو الشيء الذي تريد أن تهبه، ولا تتكلم، فتعطيه إياها، فيجتمع الفعل في الدلالة على الصيغة، ويكون قبضُه لذلك الشيء الموهوب ملزم للواهب لهبته.

قبض الهبة صوره وأحكامه

قبض الهبة صوره وأحكامه وقوله: [وتلزم بالقبض بإذن واهبٍ] القبض يختلف بحسب اختلاف الأشياء، والأصل عند العلماء رحمهم الله -وهي قاعدة نبهنا عليها في المعاملات- أن كل شيء اشترطه الشرع ولم يضع له قيوداً معينة وأطلقه؛ فإنه يُرجع فيه إلى عرف الناس. فالقبض ليس في الكتاب والسنة تحديد لضوابطه وما يُحكم به، ولذلك يقول العلماء: يُرجع في القبض إلى العرف. فكل ما سماه العرف قبضاً حكمنا بكونه قبضاً. فمثلاً: في البيوت والعمائر والمساكن والعقارات، يتمثل القبض في إعطاء المفتاح، ويخلِّي بينه وبين العمارة أن يفتحها، فحينئذٍ لو لم يُمْكِنْه أن يقبض العمارة فهل يستطيع أن يقبضها بيده؟ لا يمكن، هذا مستحيل. فنقول: القبض في البيوت والدور والمساكن والمزارع بالتخلية، وهذا نص عليه العلماء. فإذا مكَّنه من مفاتيح المزرعة والدار والعقار، وقال له: وهبتك مزرعتي، وأعطاه المفاتيح وخلى بينه وبينها، فقد تم القبض. والقبض -مثلاً- في السيارة في أعرافنا اليوم: أن يعطيه مفاتيحها ويخلي بينه وبين ركوبها، فإن ركبها وأدار محركها، فلا إشكال في أنه قد قبض. والقبض في الطعام يكون قبضاً حقيقياً، فلو أنه وهبه صاعاً فليأخذ الصاع وليقبضه، إذ لا بد فيه من الحيازة، فإذا حازه حكمنا بثبوت القبض. ويستوي في ذلك أن يقبض الموهوبُ بنفسه أو يقبضه وكيلُه نيابةً عنه، فيقول: يا محمد! اقبض عني السيارة، أو خذ السيارة من فلان، أو خذ هديتي التي أعطانيها فلان، فإذا قبض وكيله نُزِّل منزلة الأصيل؛ لأن القاعدة: أن الوكيل مُنَزَّل منزلة الأصيل. يكون القبض في الأشياء العادية بإمساكها، فالقلم يأخذه ويمسكه ويضعه في جيبه أو حقيبته. ففي هذه الأحوال كلها يختلف القبض بحسب اختلاف الأشياء الموهوبة، وما جرى العرف باعتباره قبضاً. ومن هنا نص العلماء -رحمهم الله- على أن القبض في المبيعات يختلف بحسب اختلافها، ويُحتكم إلى العرف في تحديد ضابط القبض، حتى يحكم القاضي والمفتي بثبوت الهبة والهدية إذا تحقق وجوده. لكن الشرط في القبض أن يكون بإذن الواهب. فالقبض له صورتان: - الصورة الأولى: أن يأذن الواهب للموهوب له بالقبض، فيقول له: وهبتك سيارتي، خذ هذه المفاتيح. ويرمي مفاتيحها إليه. - أو: خذ قلمي هذا، أو وهبتك قلمي، أو كتابي، ويعطيه إياه. فإذا كان القبض بإذن من الواهب فالإجماع منعقد على أنه قبض معتبر. لكن لو أن القبض بدون إذن الواهب، كرجل وهب سيارة، فقام الموهوب له وأخذ مفتاح السيارة بدون علم الواهب، وركبها وقادها، ثم رجع الواهب عن هبته، فإننا نقول: الهبة غير لازمة؛ لأنه لم يقع القبض المعتبر بإذن الواهب. إذاً: يشترط في لزوم الهبة: القبض، وهذا القبض يختلف بحسب اختلاف الأشياء الموهوبة. ويشترط أيضاً أن يكون بإذن الواهب، فلو قبض الموهوب له بدون إذن الواهب لم يكن قبضه مؤثراً. قوله: [إلا ما كان في يد مُتَّهِبٍ] في الحقيقة هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله؛ فبعض العلماء يقول: يشترط القبض بإذن الواهب ولو كان الشيء في يد المُتَّهِب. مثال ذلك: جاءه وقال: أريد السيارة أذهب بها إلى مكان. فقال له: خذها. فذهب بالسيارة وقضى بها حاجته، فلما جاء يردها قال: وهبتُكها، وهي في يده، فهل يُستدام حكم القبض ويكون كأنه قبض مستأنف، فتكون السيارة له مِن كونه يقول له: خذها، وهبتُكها. أو جاء بالقلم يكتب به، ثم جاء ليرده فقال له: وهبتُكَه. فأخذ القلم ووضعه، ولم يرده إلى صاحبه. أو جاء وقال له: يا فلان! إني استعرت منك الكتاب وأريده مدةً أطول، فقال: هو هبة لك، فقال: قبلتُ؟ فهل يُشترط أن يرده ويقبضه مرة أخرى حتى يفرق بين اليدين: اليد الأولى واليد الثانية؛ لأن اليد الأولى: يد عارية، واليد الثانية: يد تمليك. فالأولى: تكون له يدٌ على سبيل التمليك للمنفعة، وأما الثانية: فتمليك للعين والمنافع. فبعض العلماء يقول: إنه يشترط أن يقع القبض حتى ولو كان في الشيء الذي تستدام فيه اليد، كما لو أعطاه داراً يسكنها شهراً، ثم في نهاية الشهر قال: وهبتُها لك، أو أعطاه سيارة ليحمل عليها متاعه، ثم قال: وهبتُها لك. فإنه يُحكم بثبوت اليد الأولى، ويكون في حكم من أقبض وأنشأ القبض. وبعض العلماء يقول: لا بد أن يردها، ثم بعد ذلك يعطيه إياها حتى يتحقق القبض المشترط. ولا شك أن إحداث القبض ورد العين ثم حصول القبض على الصفة المعتبرة أسلم وأفضل وأبرأ خروجاً من الخلاف. فائدة الخلاف: لو أن رجلاً مكن شخصاً من عمارة ليسكنها شهراً ثم وهبه له، ثم توفي الواهب. فإذا قلنا: يشترط أن تسترد ويَقْبِض الواهب عمارته ثم يُقْبِض الموهوب له بعد ذلك بإقباض جديد، فإن لم يحصل هذا الأمر واعترض الورثة فإن الهبة تلغى، وتكون في حدود الثلث، حكمها حكم الوصية إن كانت في مرض الموت ونحوه. أما إذا لم نشترط ذلك الشرط، فإنه يملكها الموهوب له، ولا يؤثر طَرَيان الموت بعد ذلك. قوله: [ووارث الواهب يقوم مقامه] أي: يقوم مقام الواهب في التمكين وحكم الهبة؛ لأن الورثة يأخذون حكم مورثهم، ولذلك جعل الله الاستحقاقات للوارث مكان مورثه.

الإبراء من الدين

الإبراء من الدين قوله: [ومَن أبرأ غريمَه من دَينه] من أحب الطاعات إلى الله سبحانه وتعالى إدخال السرور على المسلم بتنفيس كربته وتفريج همه وغمه وقضاء دَينه. والدَّين -كما لا يخفى- من أعظم البلايا وأشد الرزايا؛ لأن الإنسان يتحمل تبعةً عظيمة من حقوق الناس، فهو ذل النهار وهم الليل، ومن تحمل حقوق الناس تنغصت حياته، وتنكَّد عيشه، ولربما شوش عليه ذلك حتى في صلاته وعبادته، حتى كان بعض العلماء يقول في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن مرهونة بدَينه)، يقول: الحديث عام، فقد تجد الرجل صالحاً دَيِّناً خيِّراً؛ ولكنه يُعاق عن كثير من الطاعات بتعلق نفسه بحقوق الناس، التي هي في رقبته، ومسئول عنها. فلا شك أن الإنسان يصيبه الهم والغم من تبعة الدَّين، فإذا أبرأه صاحب الدَّين؛ فإن ذلك من أعظم الإحسان وأفضله وأجزله ثواباً عند الله سبحانه وتعالى حتى ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كان في من كان قبلكم رجلٌ يُدَيِّن الناس، وكان يقول لغلمانه ووكلائه: إذا وجدتم معسراً فتجاوزوا عنه؛ لعل الله أن يتجاوز عنا. قال: فلقي الله، فقال الله تعالى: يا ملائكتي! نحن أحق بالعفو من عبدي، تجاوزوا عنه)، وهذا يدل على فضل التجاوز على المعسر، وخاصةً إذا وجد الإنسان الصدق في هذا المعسر، وأنه أخذ المال لأنه احتاجه، مثل: أن يسكن هو وأهله، فاستدان من أجل أجرة السكن، أو من أجل طعامه وطعام أولاده. فالتخفيف عن أمثال هؤلاء والتوسعة عليهم وتفريج الكربة وإزالة الهم والغم عنهم بمسامحتهم وإبرائهم، من أحب الأعمال إلى الله تعالى، وأعظمها أجراً وثواباً عند الله سبحانه وتعالى، ومما يبارك الله به وبسببه في مال العبد، وهذا هو المال الصالح عند الرجل الصالح، الذي يتزكى ويرجو زكاة نفسه وماله بالتوسعة على إخوانه المسلمين.

صيغ الإبراء من الدين

صيغ الإبراء من الدين قال المصنف رحمه الله: [بلفظ الإحلال أو الصدقة أو الهبة ونحوها] قوله: [بلفظ الإحلال] أي: أنت في حل، أو بلفظ الإبراء: أبرأتك، أو بلفظ الهبة: وهبتُك دَيني. ولا عبرة باللفظ بل يرجع إلى العرف؛ لأن الأعراف تختلف، وبعض الكلمات يستحي الواحد من ذكرها، فتكون صريحة عند العلماء؛ لكنها في العرف صعبة، فيختار لفظاً مناسباً بالعرف، فكل ما دل على الإبراء وجرى العرف به؛ فإنه يُحكم به ويُعتد، كما سبق بيانه في الصيغة الفعلية. قوله: [برئت ذمته] أي: ذمة المديون. قوله: [ولو لم يقبل] هناك خلاف عند العلماء -رحمهم الله- في شخص لك عليه دَين وقلت له: سامحتُك وأبرأتُك. فقال: لا. سأرد الدَّين. ثم توفي هذا الشخص. فإن قلنا: إن القبول شرط؛ فإنه حينئذٍ يُخصم من تركته على قدر الدَّين، ويجب الوفاء؛ لأن ذمته مشغولة بهذا الدَّين. وإن قلنا: إن قبول المديون ليس شرطاً، فحينئذٍ لزمه الإبراء، وقد سقط الدَّين، ولا يؤخذ من تركته بقدر دَينه. فهذه فائدة الخلاف. فأشار رحمه الله بقوله: [ولو لم يقبل] إلى خلاف في المذهب، فبعض العلماء يقول: يشترط القبول؛ لأن من حقي ألَّا أقبل هذا الإبراء؛ لأنه ربما يكون غضاضة على الإنسان ومنقصةً له، ولذلك يقولون: لا يمكن أن نلزمه بهذه الهبة؛ لأنه قد يحصل له غضاضةٌ، فمن حقه أن يمتنع وأن يرد الحق إلى صاحبه، ولا شك أنه إذا كان هناك مثل هذه المعاني يُخشى من الإنسان الذي وهب أن يكون له غرض سيئ، أو يكون ممن يمن على الإنسان أو يشهِّر به فيقول: أعطيتُ فلاناً، وفعلتُ مع فلان، وفلان استدان مني فسامحته، وفلان كان لي عليه دَين ففعلت معه كذا، فمن حقك أن تدفع هذه الغضاضة. فالحقيقة: القول باشتراط القبول من القوة بمكان. وبعض العلماء يقول: لا يشترط القبول، وهو اختيار المصنف، لكن -في الحقيقة- قبول الإبراء إذا نُظِر إلى وجود الضرر فيه في بعض الأحوال فلا شك أن الأصل يقتضيه؛ لأن من الحق أني أخذت المال ملتزماً برده، والعقد بيني وبينه على أن أرده، وهذا أكمل لكرامة الإنسان، وأصون لماء وجهه. فإذا مُكِّن من هذا فلا شك أنه أحظ له. أما أن يقال: أنه لا يشترط، ويُلزم بذلك، ثم يصبح الرجل يمتن عليه أو يؤذيه بذلك أو يستغله في أمور لا تُحمَد، فإن هذا يؤدي إلى المفاسد، والشريعة جاءت لدرء المفاسد، فاعتبار الأصل من هذا الوجه أقوى.

صور الإبراء والإحلال من الدين

صور الإبراء والإحلال من الدين قوله: [ومَن أبرأ غريمَه] يكون الإبراء على صورتين: الصورة الأولى: أن تجود نفسُك بدون أن يطلب منك أخوك المسلم، فهذا أفضل وأكمل وأعظم ثواباً وأجراً؛ وذلك لأنه إذا سألك فقد أحوج نفسه، وأصابه ذل السؤال؛ لكن كونك أنت الذي تتفضل وتقول: يا فلان! لا أريد من هذا الدَّين شيئاً؛ فإن هذا أعظم ثواباً. وكان بعض العلماء رحمهم الله إذا جاءه أحد إخوانه يسأله الدَّين نوى من أول إعطائه المجاوزة، أنه لا يريد هذا الدَّين، ويوصي ورثته ويكتب: أن ديني عند فلان قد أسقطته وأبرأته، وهو في حل منه، ولو جاء يرده فلا تأخذوه منه، ويقول: ما أعطيتك هذا المال وأنا أرجوه يوماً من الأيام. وهذا من أفضل ما يكون من الإبراء؛ لأنك إذا أبرأت الغريم، وقد جاءك معسراً أو محتاجاً، وأعطيته ديناً في أول محرم إلى آخر السنة، إن سامحته من أول أخذه؛ كتب الله لك ثواب الأجر تاماً كاملاً من أول لحظة من الدين؛ لكن لو انتظرت حتى يأتي وقت السداد، كان أجر المال قرضاً في الفترة التي يستغرقها مستقرضاً، ثم يكون بعد ذلك فضل الإنسان بالمسامحة، وهذا أقل ثواباً، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (إن الله يتلقى الصدقة من عبده بيمينه، وكلتا يدي الرحمن يمين، فينميها له ويربيها له كما يربي أحدكم فُلُوَّهُ حتى يجدها يوم القيامة أوفر ما تكون). فهذا يدل على فضل الإبراء عند أول الدين، ولا شك أن هذا -كما قلنا- أفضل وأعظم ثواباً وأجراً. أما الصورة الثانية من الإبراء فهي: الإبراء الذي يكون بعد الطلب أو السؤال أو اطلاع الإنسان على حالة المحتاج، فهذا أقل ثواباً وأقل فضيلة من الأول. وهناك ما يسمى بالإبراء المعلق، والإبراء المعلق يدخل في الصورة الأولى، مثاله: أن يعطيه الدَّين ويقول: إن وجدتَ سداداً فردَّه، وإذا لم تجد سداداً فإني مسامحك وأنت في حل. هذا يكون فيه معلقاً بين الأمرين؛ لكن الأول أفضل وأكمل. حتى كان بعض المحسنين والصالحين ممن أدركناهم يخبر عن والده الذي كان من أكثر أهل المدينة فضلاً وإحساناً على الناس، فيقول: لما حضرته الوفاة -وكان عنده سجلان في تجارته- قال لولده: ناشدتك الله أو أسألك بالله، هذا السجل الأول لا تفتحه، ولا تسأل أحداً ما في هذا السجل، وأما السجل الثاني فهذا فيه الغرماء القادرون على السداد والعطاء، فأما الأول فوالله ما وضعتُ فيه إلا أيتاماً وأرامل ومحتاجين، فإياك أن تفتحه، واستسمح إخوانك من حقوقهم فيه، وأحرقه مباشرة. قال: فبمجرد ما توفي نفذنا وصيته، فأحرقنا السجل، ولا نعلم من هي الأسر الموجودة فيه. وهذا من أكمل ما يكون من التوفيق. لكن إذا كان أبرأه إبراءً بالطلب وقال له: يا فلان! إني عاجز عن السداد، فقال: أنت في حل، أو قال: إني عاجز عن رد المبلغ فقال: أبرأتُك، فحينئذٍ إذا أبرأه مَلَكَ مالَه، وحُكِم ببراءة ذمة المديون، ولا يلزم أن يرد المال ثم يبرئه. وهذه المسألة مثل الهبة لكنها اختلفت في وجود الدَّين السابق، ثم بعد أخذه للدَّين سامحه صاحب الدَّين وأبرأه، فهل يشترط أن يرد له ثم يعطيه؟ و A أنه إذا أبرأه فقد برئ، وإذا جعله في حل؛ فقد أصبح حلالاً من تبعة ذلك المال أو الدَّين.

ما تجوز فيه الهبة

ما تجوز فيه الهبة قوله: [ويجوز هبةُ كلِّ عينٍ تُباعُ] الشيء الموهوب هو كل عين تُباع، فكل ما جاز بيعه جازت هبته. فمثلاً: يجوز أن يهب العقارات، كالأرضين والدور والمساكن والمزارع والمنقولات المباحة، مثل السيارات في زماننا والدواب والأطعمة والأكسية والأغذية، هذه كلها أعيان تباع وتجوز هبتها. مفهوم ذلك: أن ما لا يجوز بيعه لا تجوز هبته. ومن أمثلة ذلك: الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقد صح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما سمع النبي صلى الله عليه وسلم غداة فتح مكة يقول: (إن الله حرم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام)، فهذه منصوص على تحريم بيعها، فلا تصح هبتها. فلو وهبه خمراً أو ميتة مثل الحيوانات المحنطة غير المذكاة ذكاة شرعية مما تشترط لها الذكاة، أو وهبه خنزيراً أو ما هو مُصَنَّع من الخنزير ومن شحومه، أو وهبه أصناماً أو صوراً مجسمة، فإنها لا تصح هبتها؛ لأن الشريعة نصت على أن هذه الأمور لا يجوز بيعها، وجمهرةُ العلماء نصوا على أن كل ما جاز بيعه جازت هبته. وبناءً على ذلك: يشترط أن يكون مالكاً لهذا الشيء الذي يهبه، وأن يكون الشرع قد أذن بالمناقلة فيه والملكية. ومن هنا يظهر الخطأ في قول من قال: يجوز التبرع بالأعضاء؛ ويُحَرِّم بيعها. فالأصل أنه كل ما جاز بيعه جازت هبته. فإذا قالوا: بأنه لا يجوز بيع الأعضاء؛ دل هذا على أنه لا يملكها، وإذا كان لا يملكها فإن أصل الهبة قائمة على الملكية. ومن هنا ضَعُف قول من يقول بجواز التبرع، من هذا الوجه؛ لأنه يرى أن الملكية ليست بثابتة، بدليل أنهم يقرون بعدم جواز بيعها، وإذا ثبت أن الملكية ليست بثابتة، فإنه لا يصح أن يهب الإنسانُ شيئاً لا يملكه. ثم لو سُلِّم فرضاً أنها مملوكة للإنسان فهذا التمليك قاصر، ولذلك لا يجوز للإنسان أن يبيع نفسه، فقد تملك الشيء ولا يجوز أن تعطيه للغير، كما في أم الولد، فإن المرأة ملك لسيدها ويطؤها وهي ملك يمينه، ولا يجوز له بيعها، فقد جاء في الحديث: (أنه لا يجوز بيع أمهات الأولاد). ولذلك نص العلماء كالإمام النووي وغيره أن الشيء قد يكون ملكاً غير قابل للتمليك وغير قابل للبذل بأن يملكه للغير. فالشاهد أن مسألة الهبة يشترط فيها أن تكون مما أذن الشرع وسلط المكلف على التصرف فيه بالبذل للغير، خاصةً وأنه بذل بدون عوض. فيجوز هبة العقارات والمنقولات والمبيعات المباحة، ولا بأس بذلك. قوله: [وكلبٍ يُقْتَنى] أي: يجوز هبة الكلب الذي يُقْتَنى مثل كلب الصيد والماشية والزرع، فهذه الأنواع الثلاثة من الكلاب -أكرمكم الله- أذن الشرع فيها بهذه المنافع، فإذا وهبها من أجل هذه المنافع صحت هبته، كما اختاره المصنف -رحمه الله- ونص عليه.

الأسئلة

الأسئلة

وقت الدعاء المستجاب للصائم

وقت الدعاء المستجاب للصائم Q للصائم دعوةٌ مستجابةٌ عند فطره، فمتى تكون هذه؟ هل قبل الفطر أو بعده؟ وجزاكم الله خيراً. A عند الشيء قربُه، ولو كان مراد الشرع ما بعد وجود الفطر، لقال: بعد أن يفطر؛ ولكنه خص ذلك بما قبل الفطر بالوقت اليسير، وهذا له نظائر في الشريعة، ولذلك تجد في الصلاة أن الدعاء قبل السلام مظنة الإجابة فيعطى العبد مسألته، كما قال صلى الله عليه وسلم لما سئل: (أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الآخِر وأدبار الصلوات المكتوبات)، أدبار: ودُبُرُ الشيءِ مِنْهُ. وكذلك الزكاة، فإنه إذا جاء ليزكي ويعطي الزكاة يستغفر له الإمام ويدعو، {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] وهذا عند قبضها. ومعلومٌ أن القبض يسبق إنفاق الزكوات وصرفها للمستحقين، فلذلك تكون قبل تمام العبادة، كأنه وفَّى لله والله يوفَِّي له، فإذا وفَّى لله وقام بحق الله على أتم الوجوه؛ رُزِق هذه الدعوة الصالحة. فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه عند فطره، يعني: عند مقاربة الفطر، فينادي الله -عزَّ وجلَّ- ويدعوه، وقد ضمرت أحشاؤه وخوت أمعاؤه، يسأل ربه سبحانه بتلك الكلمات الطيبات المباركات، فيلهج بهن بخلوف أطيب عند الله من ريح المسك. فيسأل ربه قبل الإفطار مباشرة، فهذا من أفضل ما يكون، وهو الذي يدل عليه ظاهر الحديث، وتدل عليه النظائر. والله تعالى أعلم.

دعوة المظلوم

دعوة المظلوم Q دعوة المظلوم مستجابة، فهل هذا إذا كانت على مَن ظَلَمَه، أم أنها مستجابة حتى لو دعا لنفسه في وقت كونه مظلوماً؟ A دعوة المظلوم مستجابة، النص فيها صحيح صريح. ولذلك روى النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله يقول: وعزتي وجلالي لأنصرنكِ ولو بعد حين)، فدعوة المظلوم مستجابة إذا كانت على مَن ظلمه. وينبغي أن يكون دعاؤه في حدود مظلمته. ويشمل دعاء المظلوم على عدة أوجه: الوجه الأول: أن يسأل الله عزَّ وجلَّ أن يكفيه شر الظالم وأذيته، وهذه دعوة السلامة. فيقول: اللهم إني أدرأ بك في نحر فلان، وأعوذ بك من شره، أو يقول: اللهم اكفني شر فلان بما شئت، اللهم إن عبدك فلان قد ظلمني وأساء إلي أو انتهك عرضي أو أخذ مالي، اللهم اكفني ظلمه بما شئت، اللهم اقطع عني أذيته، واكفني شر بليته، ونحو ذلك من دعاء السلامة. فهذا الدعاء إذا دعاه الإنسان لا يُذهب أجره، وليس فيه اعتداء على الظالم، وليس فيه نقصان لأجره؛ لأنه يكتب له أجر الأذية التي حصلت فيما مضى؛ لأنه لم يدعُ على مَن ظَلَمَه، وإنما سأل الله أن ينجيه من هذا البلاء. أما النوع الثاني من دعاء المظلوم: فهو دعاء السلامة مع الدعاء على الظالم في نفسه أو ماله أو ولده أو غير ذلك، فإذا دعا على الظالم فأيضاً يُفَصَّل فيه: فتارةً يدعو على الظالم دعوةً يسأل ربه فيها ألَّا يسلطه على غيره، فيقول: اللهم إن عبدك قد ظلمني، أسألك اللهم أن تحول بينه وبين عبادك المسلمين فلا يظلمهم، أو أسألك اللهم أن تقطع دابر أذيته عن المسلمين، أو نحو ذلك من الدعاء الذي يُقصد به كف شر الظالم عنه وعن المسلمين. فهذا عند بعض العلماء لاحق بالأول، ويقرنون حكمه بدعاء السلامة من هذا الوجه. لكن إذا دعا على الظالم في نفسه أو ماله أو ولده فلا يخلو من حالتين: فيقول مثلاً: اللهم إن فلاناً ظلمني فافعل به كذا وكذا، أو خذ منه كذا وكذا، أو أنزل به كذا وكذا، ففيه تفصيل: إما أن يدعو في حدود مظلمته، فهذا قد أخذ حقه بسؤال ربه على قدر مظلمته. وإما أن يدعو أكثر من حقه، فمثلاً: لو جاء إنسان وظلمه وأخذ منه القلم، فقال: اللهم إني أسألك أن تعمي بصره، فأخذ البصر ليس كأخذ القلم، فليست هناك موافقة. وأما حينما يدعو عليه أو على ولده أو أهله، فهذا النوع من الدعاء يعتبره العلماء اعتداءً. قالوا: وفي حكم هذا الدعاء على ولاة الأمر والعلماء؛ لأن الضرر إذا نزل بهم يتعدى إلى المسلمين، ويكون ضررهم عاماً، فلو دعا على عالم، فإنه ربما ضر بإخوانه المسلمين وانقطع نفعه عن المسلمين، فهذا من الاعتداء. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أنه قال: (يأتي في آخر الزمان أقوام يعتدون في الدعاء وفي الطهور). فدل هذا على أنه ممنوع منه، حتى قال بعض العلماء: إن هذا يؤمَن عليه من القصاص، وأخذ حقه منه. وفي حكم هذا: أن يدعو على ولده، ويقول: اللهم نكِّد عليه عيشه في أهله وولده وكذا وكذا، فهذا يرونه من الاعتداء. لكن بعض العلماء يقول: من حقه أن يدعو دعوةً قاصمةً لظهر الظالم إذا كانت هناك مظلمة يتعدى ضررها من الشخص بالتشهير به أو انتهاك عرضه. ومن أمثلة ذلك: فعل السلف الصالح رحمهم الله، فإن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كذب عليه أهل الكوفة وآذَوه، وهذه هي سنة الله في الأخيار والصالحين، أنهم يُتَّهمون ويُقْذَفون ويُنْتَقصون حتى يبرئهم الله -جلَّ جلالُه- من فوق سبع سماوات. فـ سعد رضي الله عنه صحابي جليل كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدته ورخائه، وكان سدسَ الإسلام يوم أسلم رضي الله عنه وأرضاه، وهو الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارمِ، فداك أبي وأمي) من عظيم ما كان من شأنه في الإسلام، فهو أول من رمى في سبيل الله، وأول من جمع له النبي صلى الله عليه وسلم بين والديه. هذا الصحابي الجليل كذبوا عليه، حتى جاءوا إلى عمر وقالوا له: (إنه لا يحسن كيف يصلي). انظروا -يا إخوان- وفي هذا العبرة لكل داعية وصالح وتقي! أنه إذا جاء الكلام فيه من ورائه فإنه يُطْعَن في كل شيء، حتى في دينه في عقيدته، في منهجه، في فكره؛ لأن هناك أناس ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بالناس، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20]! رجل من أهل الكوفة يأتي إلى عمر ويقول له: هذا الرجل الذي وضعتَه لنا لا يعرف كيف يصلي. فقام عمر رضي الله عنه وأمر باستدعاء سعد إليه، وقطع هذه المسافة الشاسعة من الكوفة إلى المدينة من أجل ذلك، تصوروا كيف يطوي تلك المسافات الشاسعات وتمضي عليه ساعات الليل والنهار وهو في هم الظلم، حتى جاء إلى المدينة. فقام وفد الكوفة الظالم الجائر فقال قائلهم: (أما وقد سألتنا عن سعد، فإنه لا يقسم بالسوية ولا يعدل في الرعية، ولا يحسن كيف يصلي بنا). الله أكبر! هذا الصحابي الجليل يصل إلى هذا القدر! فقال سعد رضي الله عنه: (والله ما كنتُ آلو أن أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أطوِّل في الأوليين، وأخفف في الأخريين، اللهم إن كنتُ تعلم أن عبدك هذا قد كذب وفجر فيما قال، اللهم أطل عمره، وخُذ بصره، وعرِّضه للفتن)، ثلاث دعوات. فاستجيبت دعوته رضي الله عنه. فعُمِّر الرجل فوق مائة سنة، وكف بصره والعياذ بالله، وأصبح يتغزل النساء في آخر عمره والعياذ بالله، فتقول له المرأة: (اتقِ الله وأنت كبيرُ سِن). فيقول: (أصابتني دعوة الرجل الصالح). واشتكت امرأة إلى عمر وتكذب على سعيد بن زيد رضي الله عنه حيث ادعت أنه ظلمها في بئرها. فقال سعيد: (اللهم إن كنت تعلم أنها كاذبة اللهم اجعل قبرها في بئرها). فعمي بصرُها -والعياذ بالله- فسقطت يوماً من الأيام في البئر فماتت، فكان البئر قبراً لها. فهذه كلها نقم من الله سبحانه وتعالى. وفي بعض الأحيان يُسَلَّط على من يؤذي عباد الله سبحانه وتعالى من حيث لا يحتسب، خاصةً إذا لم يدعُ المظلوم، فإنه إذا لم يدعُ تولى الله سبحانه وتعالى أمره. حتى ذكروا عن بني إسرائيل من قصصهم المعتبرة: أن رجلاً ظَلَم امرأة، فابتُلي -نسأل الله السلامة والعافية- ببلية لم يُدْرَ لها علاج. فاشتكوا إلى حبر من أحبار اليهود، فقال لهم: ما شأنه؟ قالوا: ظلم فلانة. قال: اذهبوا إلى فلانة، واسألوها أن تسامحه. فامتنعت أن تسامحه. وكان قد ظلمها مظلمةً عظيمة. فقال لهم: اذهبوا إليها، وأكثروا من ذكر سيئاته التي كان يفعلها بها حتى يثور غضبُها وتتكلم. فصاروا يذكرون أذيَّته لها حتى دعت عليه، فذهبت البلية التي كانت على الرجل ونزلت به الدعوة التي دعت عليه بها، فخف البلاء أكثر من الأول. فقالوا له: كيف علمتَ ذلك؟ قال: لأنها سكتت، فتولى الله جلَّ جلالُه نصرتها، فلما أصابها الغيظ وانتصرت لنفسها، زال البلاء، وأصبحت مستشفيةً لغيظها. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا وأن يسلم منا، وأن يتوب علينا ويتجاوز، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبيه محمد.

المفاضلة بني اتباع الجنازة وبين الجلوس في المسجد حتى طلوع الشمس

المفاضلة بني اتباع الجنازة وبين الجلوس في المسجد حتى طلوع الشمس Q أيهما أفضل بعد صلاة الفجر: أن أنتظر حتى طلوع الشمس كما جاء في الحديث، أم المشي في الجنازة إذا وافَقَت جنازةٌ في صلاة الفجر؟ A الجنازة تنقسم إلى قسمين: إذا كانت جنازةَ مَن يعظُم حقُّه ويلزم بره كالوالدين ونحوهما، فلا إشكال؛ لأنها لازمة، ولا يُفَضَّل بين اللازم الواجب وبين المستحب المرغَّب. أما إذا كانت جنازةً مِن عامة الناس، فحينئذٍ يكون السؤال مبنياً على التفضيل بين الحج والعمرة التامة التامة بالجلوس بعد صلاة الفجر إلى الإشراق وصلاة الركعتين، وبين تشييع الجنازة، فإذا نُظر إلى التشييع ونُظر إلى الحج والعمرة وُجد أن فضل الحج والعمرة أعظم من التشييع؛ لأن الحج والعمرة من جنس الأركان، وفضيلة الحج والعمرة لا يُشك أنها من أعظم الفضائل وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله قال: (إيمان بالله، ثم حج مبرور) فذَكَر الحج المبرور بعد الإيمان بالله -عزَّ وجلَّ-. هذا الوجه، دائماً إذا تعارضت عندك الفضائل في الطاعات ردها إلى الأصول، فالطاعة التي هي من جنس الأركان ليست كالطاعة التي هي من جنس المستحبات، والطاعة التي من جنس الواجبات ليست كالطاعة التي من جنس السنن والرغائب، وهكذا. هذه أصول عند العلماء تُعرف عند ازدحام الفضائل، فجنس الحج والعمرة مقدم على جنس التشييع؛ لكن عند العلماء أصل آخر وهو أن الفضائل المتعدية ليست كالفضائل القاصرة، فتشييع الجنازة فيه فضيلة متعدية، وذلك من حصول الانتفاع للإنسان في نفسه والاتعاظ والاعتبار، وتعزيته للمصابين بمواساته لهم، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر إذا رأى بدعةً ونهى وزجر عنها، فإن هذه الفضائل متعدية وأجورها عظيمة، قد تقتضي تفضيل الشهود على الحج والعمرة. لكن يشكل على هذا أن التفضيل النسبي لا يقتضي التفضيل من كل وجه، فإن هذا الذي ذُكر إنما يقع في بعض الجنائز دون بعضها، فليس في كل جنازة منكر، ثم إن المنكرات تختلف درجاتها، ثم ليس هناك في كل جنازة يتمكن الإنسان من بعض الفضائل المتعدية بحيث يمكن أن يحكم بها، فقد تكون الجنازة ليس لها أقرباء، ويكون كغريب توفي وليس له أقرباء يُعَزَّون، ونحو ذلك. فهذا تفضيلٌ نسبي، والتفضيل النسبي لا يقتضي التفضيل من كل وجه. بناءً على ذلك، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن بقاءه إلى طلوع الشمس أعظم في أجره -إن شاء الله تعالى- من حيث الأصول. لكن لا يمنع إذا وُجدت جنائزَ فُرادَى فيها نِسب تقتضي التفضيل من بعض الوجوه فإن هذا يقتضي تخصيص الحكم بها، وليس بعام من كل وجه. ولذلك -وهذه الفائدة مهمة جداً- في بعض الفتاوى تجد المفتي يفضل شيئاً على شيء بالتفضيل النسبي؛ لأنه يُشكل عليه، فيرى ويقول: ربما لو أنك شهدتَ الجنازة لفعلتَ وفعلتَ، فيحكم بالتفضيل، وهذا ينبغي التنبه له؛ لأن التفضيل النسبي لا يقتضي التفضيل المطلق. ومن هنا أبو بكر رضي الله عنه فضُل على جميع الصحابة، مع أن بعض الصحابة خُصُّوا ببعض المناقب والمزايا؛ لكن التفضيل النسبي لم يقتضِ تفضيلاً مطلقاً على أبي بكر رضي الله عنه، فقد قال لـ سعد: (ارمِ، فداك أبي وأمي)، وخص حذيفة بن اليمان بأسرار المنافقين، حتى إن عمر احتاج أن يسأله، ويقول له: (أناشدك الله! أكنتُ فيمن سمى لك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ قال: لا. ولا أزكي بعدك أحداً)، فهل هذا يعني أن حذيفة أفضل من عمر؟! نقول: هذا التفضيلُ نسبيٌّ. فالتفضيل النسبي وورود الشرع بفضيلة خاصة من وجه خاص لا يقتضي الحكم بالعموم. وهكذا في الفضائل هنا، فإنه إذا نُظر إلى وجود بعض الفضائل في بعض الجنائز لا يقتضي تفضيل شهود الجنائز على فضيلة الحج والعمرة من كل وجه. والله تعالى أعلم.

حكم منع الرجل زوجته من قضاء الصيام مخافة على جنينها

حكم منع الرجل زوجته من قضاء الصيام مخافةً على جنينها Q امرأة حامل تريد قضاء ما فاتها من رمضان الماضي، وزوجها يمنعها خشيةً على جنينها، فهل له أن يمنعها أم لا؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه. أما بعد: فإذا كانت المرأة حاملاً، وغلب على ظنها أنها تضع حملها، وتطهر من نفاسها قبل دخول رمضان الثاني، فيجب عليها طاعة زوجها؛ لأن قضاء رمضان موسَّع وليس بمضيَّق، والدليل على ذلك حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في الصحيح: (إن كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان)، فدل هذا على أن المرأة يجوز لها أن تؤخر القضاء إلى شعبان. وعلى هذا فلو غلب على ظنها أنها تضع الولد في رجب كأقصى مدة للحمل، وتطهر في شعبان -مثلاً- في منتصفه، ويبقى منتصفه الآخر، فحينئذٍ تؤخر الصوم، ومن حق الزوج أن يمنعها، أما لو كانت في بداية حملها وغلب على ظنها أنه لا يمكنها أن تحصِّل شعبان للقضاء، فحينئذٍ فيه تفصيل: إن قال الأطباء: إن صومها يؤثر على الجنين، كان الحق مع زوجها. وإن قالوا: لا يؤثر الصوم على الجنين وجب عليها أن تقضي. وهذه من الصور التي ينتقل فيها رمضان من القضاء الموسع إلى القضاء المضيَّق، ويلزمها أن تعجِّل؛ لأنه غلب على ظنها أنها لا تتمكن من قضائه قبل رمضان الثاني إلا على هذا الوجه، و (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، فيُفصَّل في هذه المسألة على هذا الوجه. والله تعالى أعلم.

فضائل الذكر

فضائل الذكر Q نرجو منكم بيان الفضائل المترتبة على الذكر، وما أثر ذلك على طالب العلم؟ A ذكر الله سبحانه من أحب الطاعات، وأشرف القربات الموجبةِ لرفعة الدرجات، وغفران الذنوب والسيئات، وانشراح صدور المؤمنين والمؤمنات. ولو لم يكن في ذكر الله عزَّ وجلَّ إلا أن الله عظَّمه وأكبَرَه من فوق سبع سماوات، فقال سبحانه وتعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]. قال بعض العلماء: إنه أكبر من كل شيء؛ لأن توحيد الله سبحانه وتعالى قائم على ذكر الله، فهو مشتمل على أحب الأشياء وأعظمها زلفى عند الله سبحانه وتعالى وهو توحيد الله سبحانه، فالذاكر لله موحد لله عزَّ وجلَّ. وللذكر فضائل عظيمة: - منها: ما بين الإنسان ونفسه في أمور دينه. - ومنها: ما يرجع إلى أمور الدنيا. - ومنها: ما يرجع إلى أمور الآخرة. وقد تكلم العلماء رحمهم الله على كثير من الفضائل المترتبة على الذكر، وبينوها وهي مأخوذةً من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكن لا يستطيع الإنسان أن يستوعب ذلك كله خاصةً لضيق الوقت. فمن أعظم وأفضل ما يكون في الذكر: أن الله تعالى أخبر أنه يذكر مَن ذكره، قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]، فمن كان في بلاء وذكرَ اللهَ -جلَّ جلالُه- وأثنى على الله بما هو أهله؛ جعل الله له من بلائه فرجاً ومخرجاً، ومن كان في ضيق وذكرَ اللهَ جلَّ جلالُه مخلصاً من قلبه وتوجه إلى الله بصدق وإخلاص؛ جعل الله ضيقه سعةً عاجلاً أو آجلاً، فالله تعالى جعل مزية الذكر في ذكره لعبده، فقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] سواء كان الإنسان في شدة أو رخاء، فإن كان في رخاء بارك الله رخاءَه، فأصبحت نعمتُه واسعةً عليه مباركاً له فيها، سواء كانت نعمةَ مال أو ولد أو صحة أو علم أو غير ذلك من نعم الله جلَّ جلالُه. ومن أعظم فضائل الذكر المتعلقة بالدين: أنه الله جعله حرزاً حصيناً من الشيطان الرجيم، من الوساوس والخطرات المهلكات المرديات، فإذا تسلط الشيطان على الإنسان أهلكه، فإن آدم عليه السلام وسوس له الشيطان أن يأكل من الشجرة فحصل ما حصل له من البلاء، وهو في المرتبة الكريمة والمنزلة الشريفة العظيمة، فانظر -رحمك الله- إلى هلاك الإنسان إذا لم يتداركه الله برحمته. فالإنسان إذا لم يتداركه الله برحمته سيهلكه الشيطان، وهذا كله بقدرة الله جلَّ جلالُه، فيحتاج إلى أن يستعصم بالله سبحانه وتعالى، ولذلك ترى الصالحين إذا أدمنوا ذكر الله، فأكثروا من تلاوة القرآن ومن التسبيح والتحميد والتكبير وذكرِ الله جلَّ جلالُه، وجدتهم في ثبات على الطاعة وقوة على الخير، وتجد النفس نشيطةً على الإحسان والبر، راضيةً مرضيا عنها. لكن ما أن يغفل ولو كان من أصلح عباد الله إلا تسلط الشيطان عليه، فلربما هدم الشيطان بوساوسه ما سبق له من البنيان، ولربما استزله إلى شهوة أو شبهة، فأردته -والعياذ بالله- فخُتم له بخاتمة السوء، نسأل الله السلامة والعافية. فما أحوج الإنسان إلى الذكر حتى يستعصم بالله عزَّ وجلَّ من الشيطان. كذلك من فوائد الذكر: أن الإنسان ضعيف، ومن ضعفه أنه إذا توالت عليه هموم الدنيا وتكالبت عليه غمومها، فإن ذلك قد يفت من عزيمته ويكسر من قوة شوكته، فيحتاج إلى شيء يطمئن به قلبه، ولن يكون ذلك إلا بذكر الله سبحانه وتعالى، {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. يكون الإنسان في ضيق من أشد ما يكون الضيق وتجده من أضعف خلق الله؛ فقيراً وحيداً، وتجده في حالة قد يغلب على ظنك أنه لن ينجو؛ ولكن يستعصم بربه فيلهج لسانه بذكر الله ويلتجئ إلى الله ويحتمي بالله سبحانه وتعالى فيأتيه الفرج من حيث لا يحتسب. ذو النون -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- وحيدٌ فريد وهو في الظلمات، ومع ذلك أخرجه الله عزَّ وجلَّ بفضله ومنته من تلك الظلمة بالتوحيد والذكر. فالذكر طمأنينة للقلب، والإنسان إذا نزلت عليه كروب الدنيا وتشتت ذهنه وتفرقت نفسه هلك. وقد كان السلف يستدلون على النصر والتأييد بالثبات عند حصول الفواجع والقوارع، فإذا وجدت العبد إذا نزلت به المصائب والشدائد ثابت القلب قوي الجنان ذاكراً للرحمن مستعصماً بالديان، فاعلم أنه منصور بإذن الله عزَّ وجلَّ؛ لأن السكينة تتنزَّل على قلبه، يثبت الله بها جَنانه، ويسدد بها لسانه وبيانه، حتى ينجو من هلكته، ويعصمه ربه بعصمته. كذلك من فؤائد الذكر: أن الله سبحانه وتعالى يرفع به درجة العبد، وأحوجُ ما يكون الإنسان احتياجُه إلى رفعة الدرجة! فالإنسان لو أنه بُلِّغ الجنة وهو في درجاتها التي ليست بالعلى، أصابه الغم وخسر هذه الدنيا، إذْ لم يصل إلى الدرجة العالية الكاملة، وهذا الخسران النفسي، وليس الخسران بالمعنى الأعم المطلق، إنما المراد به أنه يحس أنه مغبون، ولذلك سمى الله يوم القيامة بيوم التغابن؛ لأنه ولو كان صالحاً أصابه الغم، أنه لم يستكثر من الخير والبر؛ ولكن بذكر الله يُدْرِكُ مَن فاته، ويسبق مَن بعده، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (سبق المفرِّدون. قالوا: يا رسول الله! وما المفرِّدون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات). المفرِّدون: التالون لكتاب الله آناء الليل وآناء النهار. المفرِّدون: المسبحون الحامدون المستغفرون المُثْنُون على الله عزَّ وجلَّ بما هو أهله. كذلك أيضاً: قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط). قالوا: إن انتظار الصلاة بعد الصلاة لا يكون إلا للذاكرين؛ لأن القلب معلق بذكر الله؛ والصلاة من أعظم الذكر. فإذا كان انتظارها وشغف القلب بها موجباً لرفع الدرجة، فكيف بمن كان دأبه على عمارة وقته وساعات ليله ونهاره بذكر الله عزَّ وجلَّ؟! وأياً ما كان فلا يزال ذاكر الله سبحانه وتعالى في عصمة من الله في أمور دينه ودنياه وآخرته، حتى يأتيه الموت وهو على طاعة من الطاعات، فيُختم له بخاتمة السعداء، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه من الدنيا (لا إله إلَّا الله) دخل الجنة). ولذلك يقول بعض العلماء: إن الإنسان إذا أكثر من تلاوة القرآن آناء الليل والنهار، فالغالب أن يُختم له على كتاب الله. وهذا مجرَّب، فكثيراً ما تجد حفاظ القرآن الذين يتلون كتاب الله آناء الليل وآناء النهار ما يختم لهم إلا بأحسن الخواتم، فإما أن تجده مصلياً فيُختم له وهو راكع أو يموت وهو ساجد، ووالله رأينا بأعيننا من خواتم السعداء من أمثال هؤلاء الذين يكثرون من ذكر الله عزَّ وجلَّ، والله عزَّ وجلَّ يعصمهم بعصمته ويحسن لهم الخاتمة بفضله ومنِّه. نسأل الله تعالى أن يجعل لنا ولكم من ذلك أوفر الحظ والنصيب. ومن أفضل الذكر وأحبه إلى الله سبحانه وتعالى: - ذكرُ العلم بحفظِ القرآن، ومدارسته ومذاكرته، والجلوس في مجالسه، والحث عليه دون سآمة أو ملل، وتقدير أهله من الأحياء والأموات، والترحم على الأموات، وذكرهم بالجميل، والدعاء لهم، والاستغفار لهم، كل هذا من ذكر الله عزَّ وجلَّ. ومن ترحم على علماء المسلمين وذكرهم بالخير، وسأل ربه أن يغفر لهم ذنوبهم وأن يرفع لهم درجاتهم؛ قيَّض الله له بعد موته من يفعل به كفعله أو أفضل من فعله. فيحرص الإنسان على هذا الخصلة العظيمة، خاصةً طلاب العلم، فأحق من يكون من الذاكرين هم طلاب العلم، فإذا انتهى من مجالس الذكر قام يتلو القرآن، وإذا جلس بين الناس جلس مستغفراً مسبحاً حامداً مهللاً مكبراً لله سبحانه وتعالى، وبذلك يكون أمة وقدوة للناس. وجماعُ الخير كله أن يحرص الإنسان على ذكر الله عزَّ وجلَّ بالوارد الذي دلت عليه نصوص الكتاب ونصوص السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يدع ما سوى ذلك، فإذا ذكر الله بالوارد عظُم أجره وثقُل ميزانه. والله تعالى أعلم.

الوقت المفضل لأذكار المساء

الوقت المفضل لأذكار المساء Q ما هو الوقت المفضل لأذكار المساء؟ أيكون بعد صلاة العصر أم بعد المغرب؟ A هذا فيه تفصيل، ما ورد مقيداً من الأذكار يُقَيَّد، منه ما يكون بعد أذان المغرب بدخول الليل، كقوله عليه الصلاة والسلام: (مَن قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه)، فقوله: (في ليلة) لا يتحقق قبل أذان المغرب، وإنما يتحقق بعد أذان المغرب مباشرة؛ لأن الليل يدخل بعد الأذان. فهذا من أذكار المساء المقيدة بالغروب. وهكذا ما ورد من الأحاديث الأخر التي تكون بعد غروب الشمس، كقوله: (اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك، أسألك أن تغفر لي)، فهذا مقيد. وما كان مقيداً بصلاة المغرب لا يصح قبل صلاة المغرب، ولا يصح قبل غروب الشمس، مثل: التهليل عشر مرات قبل أن يثني رجله وقبل أن يكلم غيره، وقول: (حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) سبع مرات، قبل أن يثني رجله وقبل أن يكلم غيره. فهذا مقيد. أما بعد صلاة العصر، فالتهليل عشر مرات عقب الصلاة مباشرة؛ لثبوت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فيهلل عشر مرات، مثل ما ذكرنا في صفة المغرب. ويبقى هذا الوقت ما بين العصر وما بين غروب الشمس وقتاً لأذكار المساء: (اللهم بك أمسينا وبك أصبحنا)، وكذلك التسبيح وقول: (لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) مائة مرة، ناوياً بها المساء؛ لأن المساء يكون بعد صلاة العصر، وهكذا (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، وغيرها من الأذكار المطلقة في المساء تكون بعد صلاة العصر، ويمكن أن تكون قبل غروب الشمس. وأما ما ورد من تلاوة المعوذتين و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فإنه يكون بعد دخول المغرب في اختيار بعض العلماء رحمهم الله كما في حديث عبد الله بن عبيد رضي الله عنه وأرضاه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (قل. قلت: ما أقول؟ قال: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) والمعوذتين إذا أمسيت وأصبحت، تكفيك من كل شر). فهذا فضل عظيم؛ ولكن بعض أهل العلم استحبوا أن يكون بعد غروب الشمس وقبل الصلاة. والله تعالى أعلم.

باب الهبة والعطية [3]

شرح زاد المستقنع - باب الهبة والعطية [3] مما يعزز ترابط الحياة الأسرية عدل الآباء والأمهات بين أولادهما في كلا الجانبين المادي والمعنوي، وقد دلت نصوص الشريعة على وجوب العدل والتسوية بين الأولاد في العطايا ونحوها. وهناك أحكام خاصة بهذه المسألة، منها: كيفية العدل بين الذكور والإناث، وحكم رجوع الوالد عن هبته لابنه، وغيرها من المسائل المذكورة هنا.

الأحكام المتعلقة بعطية الأولاد

الأحكام المتعلقة بعطية الأولاد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: يجب التعديل في عطية أولاده على قدر إرثهم]. شرع المصنف رحمه الله في بيان الأحكام المتعلقة بعطية الأولاد، وقد وردت نصوص الشريعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان أحكام عطية الأولاد، وهذه المسألة تعتبر من أهم المسائل نظراً لعموم البلوى بها، وكثرة حاجة الناس إلى معرفة أحكامها، وقد جرت عادة العلماء والأئمة والفقهاء أن يذكروا أحكام هذه المسألة في كتب الحديث والفقه؛ ففي كتب الحديث تُذكر في باب الهبة، ويعتني العلماء رحمهم الله ببيان مسائلها في أحاديث الهبات، كما هو صنيع أئمة الحديث وأصحاب السنن رحمهم الله، وأما الفقهاء فإنهم يذكرون أحكامها ومسائلها في باب العطية والهبة.

حكم رجوع الواهب عن هبته

حكم رجوع الواهب عن هبته قال رحمه الله: (ولا يجوز لواهب أن يرجع في هبته اللازمة). يحرم على من وهب غيره أن يرجع في تلك الهبة، أما الدليل على التحريم فما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يأكل قيئه)، وعند علماء الأصول رحمهم الله قواعد أو أسباب يستدل بها على التحريم، قالوا: ومما يدل على تحريم الشيء وصفه بأشنع الصفات التي لا تجيزها الشريعة ولا ترضى بها، فضرب المثل بالكلب -والعياذ بالله- من أسوأ ما يكون، وإذا كان ليس لنا مثل السوء فمعناه: أن من فعل هذا الفعل فليس على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وليس على شريعته، وليس على سنته صلوات الله وسلامه عليه، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام عن أكثر من خرج عن هديه وسنته بهذا الأسلوب، فهو بدل أن يقول: يحرم الرجوع في العطية، جاء بهذه الكلمات: (ليس لنا مثل السوء). وهذا -كما يسميه العلماء- من الأساليب المؤثرة، وينبغي للداعية والواعظ والمعلم والموجه والمربي أن يختار بعض الكلمات المؤثرة، شريطة ألا تشتمل على الغرور، وألا تشتمل على الخروج عن السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام ما كان يقول: أيها الناس! لا يجوز الرجوع في الهبة، أو يحرم الرجوع في الهبة، لكنه جاء بهذا الأسلوب النبوي الكريم: (ليس لنا مثل السوء)، فاقشعرت الأبدان ووجلت القلوب ما هو مثل السوء الذي سيذكر؟ وما هو الفعل الذي استوجب أن يوصف بهذه الصفة المذمومة الممقوتة التي تنفر منها النفوس، ولا ترضاها الطباع السليمة؟ قال: (العائد في هبته كالكلب)، فشبهه بالكلب، ثم قال: (يقيء ثم يأكل قيئه)، فوصفه بهذه الصفة، يقول بعض العلماء: نستدل بصدر هذا الحديث على تحريم الرجوع، ونستدل بالتمثيل بقوله: (كالكلب يقيء ثم يأكل قيئه) وأكل الإنسان لقيئه فضلاً عن الكلب محرم عليه؛ لأن القيء نجس، فإذا كان نجساً فمعناه: أن الرجوع اشتمل على محرم، وعلى هذا قالوا: لا يجوز للمسلم أن يرجع في هبته. ويرد Q ما هي الحكم التي يمكن أن تستفاد من هذا التحريم؟ يقال: إن هناك حكماً عظيمة؛ لأن الشريعة شرعت الهبة كسباً لمودة القلوب، وإذا أعطى الهبة والعطية والهدية ورجع فيها؛ كان هذا من أبلغ ما يكون جرحاً للنفوس وإيلاماً لها، فإن الإنسان إذا فرح بالعطية ثم يفاجئ بصاحبها يقول: أعطني ما وهبتك؛ فقد أذله وأهانه، وربما أشعره أن قلبه قد تغير عليه بهذا، وأن منزلته قد سقطت، وأن هناك أمراً ما قد بلغه عنه استوجب تغيير الإحسان إلى الإساءة بأخذ هذه الهبة والعطية التي أعطاه إياها. ثم إن هذه الصفة ليست من صفات الكرام؛ بل هي من صفات اللئام، فإن اللئيم -والعياذ بالله- هو الذي يرجع في هبته؛ لأن الكريم لا يرجع في هبته أبداً، ويختار أن يموت ولا أن يقول لرجل: أعطني ما وهبتك، فالكريم لا يرضى بهذا؛ لأن النفوس الطيبة والمعادن الكريمة الأصيلة مجبولة على الرحمة، وإذا نظر إلى أن أخذ هذه الهبة سيجرح أخاه ويؤلمه؛ اختار أن يُجرح بما ينزل عليه من المصائب والمتاعب، ولا أن يمس مشاعر أخيه، فيوصف بكونه راجعاً في هبته وعطيته. وللسلف الصالح رحمهم الله قصص عجيبة في هذا، وللفضلاء والأخيار على مر العصور والدهور مواقف كريمة في هذا، فلا يرجع الكريم في عطيته، ولا يرجع في هبته، والمسلم الصالح إذا حدثته نفسه بالرجوع وتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم منعه من ذلك وبيّن له أنه لا يجوز؛ فإنه لن يرجع مهما كلفه ذلك الأمر، ثم يرضى بالله عز وجل عوضاً عن كل فائت. فمن استغنى بالله عز وجل ورضي بحكم الله واطمأن أن الله سيخلف عليه؛ فإن الله سيعود عليه بكل خير، وقد حدّث بعض العلماء رحمهم الله فقال: ما وجدت أعجب من موقف أحسن فيه بصدقة أو هبة أو هدية، فيحدث عندي الظرف القاهر المؤلم، يقول: حتى لولدي، مع أنه يحل للوالد أن يرجع في هبته لولده، ولكنه يقول: مع ذلك كان من أعظم وأصعب المواقف عليّ، فأمتنع من الرجوع إلا وجدت خلف الله عليّ بأحسن الخلف، مما يعوضه عليَّ في ديني أو دنياي أو أهلي أو مالي أو ولدي. فلذلك ينبغي على المسلم دائماً أن يسمو بنفسه إلى الكمالات، وأن يربأ بنفسه عن هذه الأمور التي نفر منها النبي صلى الله عليه وسلم وحذر منها، وبيّن أنها ليست على سنته وهديه. وقد بيّن المصنف رحمه الله أنه لا يجوز الرجوع في الهبة ما لم يقبض الموهوب له الهبة، وقد بينّا هذا بحيث لو قلت لشخص: سأعطيك عشرة أو مائة، وطرأت عندك ظروف جعلتك لا تستطيع أن تعطيه، وقد تقول له: إن شاء الله في السنة القادمة إذا أتيت إلي سأحل لك هذا الموضوع، وأنت تظن أن الأمور والأحوال طيبة، وقدر الله عز وجل أن تغيرت الظروف، فتشرح له ظروفك، والله عز وجل يقول: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91]، فإذا طرأت عليك الظروف القاهرة التي لا تستطيع أن تمضي هبتك وهديتك، فما دام أنه لم يقبض؛ فمن حقك أن ترجع، ولا يملك هو الهبة إلا بقبضها، أما وقد قبض الهبة وأخذها؛ فإنه يحرم عليك الرجوع؛ لأنه يملكها بالقبض، كما قدمنا وبينّا.

حكم رجوع الأب عن هبته لولده

حكم رجوع الأب عن هبته لولده قال رحمه الله: (إلا الأب) أي: إلا الأب فإن له الرجوع في عطيته لولده من ابن أو بنت، فلو أعطى الوالد ابنه سيارة ثم رجع عنها، أو أعطاه -مثلاً- أرضاً ثم رجع عنها؛ كان من حقه ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث السنن: (لا يحل لرجل مسلم أن يعطي العطية ثم يرجع فيها، إلا الوالد مع ولده)، وفي رواية (إلا الأب مع ولده)، وهذا الحديث حسنه غير واحد من العلماء، وهو حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل على أن من حق الوالد أن يرجع في عطيته مع أولاده. لكن ينبغي التنبيه على مسألة وهي: أن الوالد يجوز له الرجوع في عطيته لولده لعدة أمور: أولاً: أن الولد مع الوالد كالشيء الواحد، وقد بيّن هذا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الصحيحين لما بلغه أن علياً يريد أن يتزوج ابنة أبي جهل، وفهم عليه الصلاة والسلام أن هذا الأمر فيه نوع من الإغاضة والأذية لبنته وله عليه الصلاة والسلام، فرقى المنبر وقال: (والله لا آذن، والله لا آذن، والله لا آذن، إنما فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها، والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله). فالشاهد في قوله: (إنما فاطمة بضعة مني)، والبضعة من الشيء القطعة منه، فإذا كان يريد أن يرجع فكأنه يرجع في ماله هو، ولذلك فلا يجوز للوالد أن يعطي زكاته لولده، ولا يجوز للولد أن يعطي زكاته لوالده؛ لأن الوالد والولد كالشيء الواحد، وإذا ثبت هذا فالأب دلت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه مستثنى، فمن حق الوالد أن يرجع. ثانياً: أن المحبة التي يكنها الابن لأبيه والبنت لأبيها لا يمكن أن تغيرها مثل هذه الأمور الدنيوية، خاصة مع عظيم الإحسان والفضل في سالف الزمن من الوالدين على الولد من النعمة العظيمة والمنة الجليلة الكريمة، التي لا يمكن أن يدخل معها الشك وسوء الظن، فانظر إلى حكمة الشريعة حينما تحرم الشيء لأسباب، فإذا زالت الأسباب؛ حكمت بحله. ولذلك قال العلماء رحمهم الله: يجوز للأب أن يرجع في عطيته لابنه وبنته، ويكاد يكون الإجماع بين العلماء على ذلك. وهناك قول ضعيف وشاذ -خاصة أنه يخالف السنة، والحديث واضح في هذا- يقول: ليس من حق الوالد أن يرجع في عطيته لولده، ويفصل في المنع، لكن الصحيح ما ذكرناه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز الرجوع، لكن Q هل الجد والأم ينزلان منزلة الأب؟ من حيث الأم فوجهان: الوجه الأول: بعض العلماء يقول: إن الأم تنزل منزلة الأب؛ لأن المعاني الموجودة في الأب موجودة في الأم، والمفاسد التي تخشى من الرجوع مدفوعة في الأم أكثر منها في الأب؛ لأن إحسان الأم أعظم من إحسان الأب، ولذلك بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنها الأحق بحسن الصحبة، وحقها آكد وأوجب. الوجه الثاني: قال بعض العلماء: الأم ليست كالأب، كما هو رواية عن الإمام أحمد، ولذلك لما سئل عن هذه المسألة فرق بين الأب والأم، وبيّن أن للأب ولاية على ولده، والأم ليست لها ولاية على الولد، والفرق بين الوالد والوالدة في بعض الأمور التي نص الشرع على التفريق فيها بين الأب والأم يؤكد على أنه يملك الأب الرجوع دون الأم. ولكن من جهة النظر والمعنى يقوى قول من قال: إن الأم تنزل منزلة الأب. أما الجد فقد سماه الله أباً فقال: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]، وقال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي} [يوسف:38]، فسمى الجد أباً، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحسن: (إن ابني هذا سيد)، وهو ابن بنته، وهو عليه الصلاة والسلام جد له، فالجد ينزل منزلة الأب في كثير من أحكام الشريعة. وبناءً على ذلك قال طائفة من العلماء رحمهم الله: الجد له الرجوع كما للأب أن يرجع.

حكم أخذ الوالد من مال ولده

حكم أخذ الوالد من مال ولده قال رحمه الله: [وله أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره ولا يحتاجه] قوله: (وله) أي: للأب. وقوله: (أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره ولا يحتاجه)، أما من حيث الحكم بجواز الأخذ من أموال الأولاد فالسنة ثابتة في هذا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه من حديث عائشة في السنن أنه قال: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم)، وفي حديث جابر -وقد اختلف في سنده وحسنه بعض العلماء- في قصة الولد مع والده في قضاء الدين قال: (أنت ومالك لأبيك)، ونظراً لورود السنة بهذا؛ قالوا: للوالد أن يأخذ ويتملك من مال ولده، لكن بشرط ألا يكون هذا الأخذ فيه ضرر على الولد، وألا يكون الولد محتاجاً لهذا المال المأخوذ. فالزائد عن حاجة الولد لا بأس للوالد بأخذه، فلو كان الولد عنده خمسون ريالاً هي مصاريفه لطعامه وولده، وجاء الوالد يريد أن يأخذها، والولد محتاج إليها، فلا يقال: إن من حق الوالد أن يأخذها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابدأ بنفسك وبمن تعول)، وقد جعل إعالته لنفسه في هذا مقدمة على إعالة الغير. فإذا ثبت هذا فلا يأخذ ما يضره ويحتاج إليه، ويكون أخذ الوالد بالمعروف، فإذا قلنا: إنه يجوز للوالد أن يأخذ من مال ولده، فيأخذ بالمعروف، وهذا أصل في الشريعة أنها إذا أجازت أخذ الحق، فأخذه يكون بالمعروف، ولذلك هند رضي الله عنها لما اشتكت زوجها أنه قصر في نفقتها كما في الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فللوالد أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره وما لا يحتاج إليه. ومن الأسباب التي يضع الله بها البركة في مال الإنسان، وليس هناك سبب بعد طاعة الله عز وجل وأداء حق المال من الزكوات والصدقات، ليس هناك أعظم من بر الوالدين، فالله يضع به البركة في المال، ويجعله سبباً في حسن عاقبة الإنسان في ماله، ولا يأخذ الوالد من مال ولده إلا تأذن الله لذلك الولد بالخير والحسنى في ماله، مع ما ينتظره عند الله من عظيم الأجر. والقصص في هذا كثيرة، وقد ذكر عن بعض من نعرف من المتأخرين أنه كان من أغنى الناس، وكان إذا اشترى أرضاً أو داراً أو شيئاً وأعجب والده، جاء والده وقال: يا بني! اكتب هذا باسمي، فلا يمكن أن يراجعه بكلمة، بل يكتبه مباشرة باسمه، حتى وضع الله له البركة والخير، فأقر الله عينه في المال والولد، فما من شيء يبارك الله فيه مثل بر الوالدين. والأحوال في الإحسان للوالدين مختلفة، فالذي يعطي والديه قبل أن يسألاه، والذي يعطي الوالدين في أحلك وأشد الظروف، والذي يراقب الوالدين بحيث لا يجعلهما في حاجة إلى أحد بعد الله سبحانه وتعالى غيره، ويبادلهما بالعطية قبل أن يسألاه، فهذا من خير المنازل عند الله عز وجل، ولا يوفق لذلك إلا الموفق، حتى إن الإنسان يصل رحمه فينسأ له في أثره، ويزاد له في عمره، وهذا في الرحم، فما بالك ببر الوالدين! وقد ذكروا عن بعضهم أنه عمر فوق المائة والثلاثين سنة، حتى سقط حاجباه وهو متماسك ويمشي بقوته، لكنه لا يصبح حتى يذهب إلى آخر خيمة من قرابته ورحمه، وقبل أن يفطر الناس يسقيهم اللبن، فكان يقول: ما زالت الصدقة تبارك لنا في أعمارنا حتى مللنا العيش. فكيف ببر الوالدين! خاصة في حاجتهم إلى الطعام أو الكساء أو الدابة والسيارة والركوب، أو الخدمة أو العلاج والدواء، أو الحاجة إلى السفر لمصلحة ولقضاء حاجة، فلا يستوجب الإنسان الرحمة والخير من الله سبحانه وتعالى بشيء بعد توحيده مثل بر الوالدين. فإذا ثبت هذا فعلى الإنسان دائماً أن يحرص على الكمالات، وأن يعلم أنه لا خير في هذا المال ما لم يتق الله عز وجل فيه، ومهما أعطي من الأموال فإن المال لا قيمة له إلا أن يكون في طاعة الله عز وجل، فيكون سبباً في سعادة العبد، ومن ظن أن المال المحض سبب في سعادته حتى يمنع والده منه، ويصبح المال أعز عليه من والده؛ فهذا من شر المنازل عند الله، ولو كان المال سبباً في السعادة لكان أسعد الناس قارون، الذي أوتي الكنوز التي كانت تنوء العصبة أولو القوة بحمل مفاتيح الخزائن التي كان فيها هذا المال والخير، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. فالمال لا يأتي بالسعادة إلا إذا ابتغي به وجه الله، فيأتي بسعادة الدين والدنيا والآخرة، فيتأذن الله سبحانه وتعالى لصاحبه برضاه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الصدقة والإحسان بالمال يحجب العبد عن سيئته المتقدمة والمتأخرة، ففي الصحيحين أنه قام عليه الصلاة والسلام في غزوة العسرة، فسأل الناس أن ينفقوا في سبيل الله، فجاء عثمان رضي الله عنه وصب الذهب، ثم قام عليه الصلاة والسلام مرة ثانية، فذهب عثمان مرة ثانية وصب الفضة في حجره، فأخذ عليه الصلاة والسلام يقلب الذهب والفضة ويقول: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) لا ما تقدم ولا ما تأخر. فانظر كيف وهب الله لـ عثمان المال فكان سبباً في سعادته في الإنفاق في الجهاد، والجهاد بعد بر الوالدين، فإذا كان عثمان قد أنفق هذا المال في الجهاد وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل البر مقدماً على الجهاد، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها. قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله). فإذا أنفق ماله في بر والديه فأجره أعظم، ولا شك أن الوالد إذا نظرت ولمست منه الحاجة إلى المال والمساعدة والمعونة، فلا تقف مكتوف اليد، ومن أسوأ ما يكون أن الوالد يحتاج ويقف في مواقف عصيبة، فيأتي لولده ويذل نفسه لولده ويقول: يا بني! أنا محتاج إلى مال، أحتاج إلى كذا وكذا، فيقول: والله ما عندي يا أبت، والله يشهد من فوق سبع سموات أن عنده المال، وأن المال زائد عن حاجته. فهذا والله إذا أردت أن ترى محروماً؛ فانظر إلى هذا المحروم من بر والديه، وهذا من العقوق إنسان قادر على أن يفرج كربة والده -بعد الله سبحانه وتعالى- أو والدته ويقف مكتوف اليد تحت إغراء نفس أمارة بالسوء، وشيطان يعده الفقر ويأمره بالفحشاء والمنكر، وزوجة تثبطه عن بر الوالدين وتخذله، وولد مجبنة مبخلة، يؤثر بذلك كله على الإحسان الوالدين وإسداء المعروف إليها، مع أن لهم على الإنسان ديناً ما وفاه، وجميلاً ما كافأه، فلا شك أن هذا من أعظم الحرمان. فالإنسان يحرص إذا كان يريد مراتب الكمالات أن يجعل لوالديه حظاً من راتبه، ويجعل لوالديه حظاً من الخير الذي يأتيه إذا جاءه، وقد كان البعض إذا جاءته أي هدية أول من يأخذ وأول من يقسم له وأول من يستمتع بهذه الهدية والداه، وهذا لا شك أنه من أعظم التوفيق من الله سبحانه وتعالى للعبد، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل.

حكم مساواة الذكر والأنثى في العطية

حكم مساواة الذكر والأنثى في العطية قوله: (يجب التعديل) هذا الوجوب يشمل الوالدين الأب والأم. وقوله: (في عطية أولاده) الأولاد هنا يشمل الذكر والأنثى، فيسوي بين الذكر والأنثى، فكما أعطى الذكر يعطي الأنثى، لكن هناك فرق بين التسوية في مطلق العطية وبين التسوية في قدر العطية، فكما أعطى الذكر يعطي الأنثى، لكن القدر الذي أعطاه للذكر يكون مثل حظ الأنثيين؛ لأنها قسمة الله من فوق سبع سموات. ولذلك قال رحمه الله: (على قدر إرثهم)، فجعل للذكر ضعف ما للأنثى، وهذا استحبه جماهير العلماء رحمهم الله والأئمة والسلف، ومنهم من قال: إنه هو الأصل؛ لأن العدل الذي قامت عليه السموات والأرض قسمة الله التي تولاها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وبهديه، وهو هنا تفضيل الذكر على الأنثى، ونصوص الكتاب والسنة كلها دالة على هذا. ولا يستطيع أحد أن يرد شيئاً حكم الله به من فوق سبع سموات، فقد خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، ثم خلق حواء من بعد ذلك من آدم، وفرَق بين تكريم آدم بالنفخ بالروح وسجود الملائكة له وتشريفه وتكريمه بهذا الفضل العظيم، ثم جعل خلق الأنثى تبعاً للذكر بقوله سبحانه: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]، فهي تبع للرجل، وهي نصوص لا يمكن للإنسان أن يرد فيها حكم الله أو أمر الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سموات، فلا يستطيع الفقير أن يقول: لم جعلني ربي فقيراً؟ ولا يستطيع الغني أن يقول: لم جعلني ربي أتعذب بغناي؟ فإن هذا حكم الله {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68]. فلذلك وجد التفضيل من حيث الخلق والقدرة وصفة الخلق، وكذلك من حيث التكاليف الشرعية، حتى جعل النبوة في الرجال ولم يجعلها في النساء، فالتفضيل من حيث الحقوق والواجبات والتكاليف لا يمكن لأحد أن يكابر فيها، والنصوص الشرعية واضحة فيه. وإذا ثبت هذا فالعدل أن يجعل ما للذكر ضعف ما للأنثى، هذا هو حكم الله سبحانه وتعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، ولا يستطيع أحد أن يقول: إن الأنثى تستحق أكثر مما أعطاها الله سبحانه وتعالى؛ فهذه قسمة الله من فوق سبع سموات، وهذا حكمه، وهذا شرعه {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41] و {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23] سبحانه وتعالى علواً عظيماً. فقوله رحمه الله: (على قدر إرثهم) إشارة إلى ما ذكرناه من أنه يجعل للذكر ضعف ما للأنثى.

الواجب على من فضل بعض أولاده على بعض في العطية

الواجب على من فضل بعض أولاده على بعض في العطية قال رحمه الله: [فإن فضل سوى برجوع أو زيادة]. الفاء للتفريع، فإذا علمت أنه يجب على الوالد أن يسوي بين أولاده في عطيتهم، فيعطي للذكر ضعف ما يعطيه للأنثى، فإنه إذا اختل ذلك فإنه يجب عليه أن يرجع إلى الأصل، فلو أعطى بعضهم ولم يعط البعض الآخر، قلنا له: يجب عليك أن تعطي من حرمت؛ لأن الله عز وجل أوجب عليك العدل، فإما أن تعطي المحروم أو ترجع عن عطيتك لذلك الولد. مثال ذلك: رجل له ثلاثة من الأولاد، فأعطى أحدهم ولم يعط الآخرَين، ولم تكن العطية لسبب خاص كما سيأتي، فأعطى أحدهم سيارة وهناك أخوان لم يعطهما شيئاً، فنقول له: إما أن تعطي الأخوين سيارة مثل هذه السيارة في قيمتها وقدرها وصفاتها وفضلها، وإما أن تسحب السيارة التي أعطيتها لهذا المفضَّل، فإما أن تعطيهم جميعاً أو تحرمهم جميعاً. هذا هو ما نص عليه رحمه الله تحقيقاً للأصل الذي أمر الله عز وجل به من العدل؛ لأن العدل لا يتحقق إلا بهذا، إما أن يعطيهم جميعاً فيعدل ويسوي، أو يحرمهم جميعاً فيعدل ويسوي.

حكم إنفاذ عطية من لم يعدل إذا مات

حكم إنفاذ عطية من لم يعدل إذا مات قال رحمه الله: [فإن مات قبله ثبتت] أي: فإن مات قبل أن يرجع، مثال ذلك: لو أن رجلاً أعطى أحد أبنائه الذكور أرضاً، ثم توفي قبل أن يعطي أخويه الباقيين مثلما أعطى أخاهم، فتوفي قبل أن يرجع وقبل أن يسوي ويعطي الآخرين مثله، فالسؤال حينئذٍ: إذا كان الذي أعطيت له الأرض قبضها وحازها وتمت الهبة؛ فحينئذٍ تثبت هذه الهبة، ويلقى هذا الوالد ربه بمظلمة الأخوين، فيلقى الله سبحانه وتعالى بهذا، فإن سامحه ولداه فهما مجزيان خيراً، والله يخلفهما خيراً، وإن أرادا حقهما؛ فإنه مسئول عن هذا الحق، إما أن يعطيهم جميعاً أو يحرمهم جميعاً. فإذا أدركته ساعته وقبضت روحه -نسأل الله السلامة والعافية- قبل العدل وقبل الرجوع، فإنه حينئذٍ تثبت العطية، ويملك هذا الولد ما أعطاه والده، والأفضل براً لوالده وإدراكاً لحق أخويه أن يستسمح أخويه أو يرضيهما حتى لا تكون على والده تبعة ومسئولية مما فعل.

أدلة وجوب التسوية في العطية بين الأولاد

أدلة وجوب التسوية في العطية بين الأولاد قال المصنف رحمه الله: (يجب التعديل في عطية أولاده) بين رحمه الله في هذه الجملة أنه يجب على الوالد أن يسوي ويعدل في عطيته لأولاده. قوله: (ويجب) الواجب: ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه. وبناءً على هذه العبارة فإنه يلزم الوالد إذا أعطى أحد أولاده أن يعطي البقية، والدليل على ذلك عدة نصوص وردت في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبسبب هذه النصوص ذهب طائفة من العلماء كما هو مذهب الإمام أحمد في رواية عنه، وكذلك داود الظاهري وإسحاق بن راهويه وطاوس بن كيسان وغيرهم من أئمة السلف رحمهم الله برحمته الواسعة إلى أنه على الوالد والوالدة أن يعدلوا بين أولادهم، ولا يفضلوا بعض الأولاد على بعض، إلا في أحوالٍ مستثناة ومسائل معينة سنذكرها إن شاء الله تعالى. والجمهور يقولون: لا يجب، إنما يستحب، والأفضل والأكمل إذا كان لك أولاد أن تسوي بينهم في العطية، لكنه ليس بلازم عليك. واستدل من قال بالوجوب بدليل الكتاب والسنة: أما دليل الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل:90]، والعدل يكون في رعية الإنسان، والأبناء والبنات رعية كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، فيجب على الوالد أن يعدل بينهم؛ لأن الله أمر بهذا العدل، فلو فضل الوالد أحد أولاده على غيره من إخوانه وأخواته، فإن هذا ليس بالعدل. والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير قال: (إني لا أشهد على جور)، فجعل تفضيل بعض الولد على بعض من الجور، والله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل:90]، فإذا كان العدل واجباً مأموراً به فضده الجور والظلم، وهو منهي عنه شرعاً، فإذا دلت السنة على أن تفضيل بعض الولد على بعض ليس من العدل؛ كان ذلك دليلاً على أنه تجب المساواة في العطية بين الأولاد، كما هو مذهب من ذكرنا من العلماء رحمهم الله. أما الدليل الثاني: فحديث النعمان بن بشير رضي الله عنها، وله قصة ثابتة في الصحيحين؛ (أن أمه عمرة بنت رواحة رضي الله عنها سألت أباه أن يعطيه عطية، فأعطاه عطية، وقالت له: أشهد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق والده بشير رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأله أن يشهد على عطيته لولده، فقال صلى الله عليه وسلم: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ قال: لا. قال: اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم)، وفي رواية: (أشهد على هذا غيري)، وفي رواية: (سووا بين أولادكم)، وفي رواية: (إني لا أشهد على جور)، فهذا كله يدل دلالة واضحة على أنه يجب على الوالد أن يسوي في عطيته وهبته بين أولاده، وألا يفضل أحداً منهم على الآخرين. ومن خلال هذه النصوص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم قال هؤلاء الأئمة: يجب على الوالد أن يعدل، فهو واجب وفرض عليه، ثم إن العقل يدل على ما دل عليه النقل، فإن الشريعة قامت على جلب المصالح ودرء المفاسد، وقد شرعت العطية زيادة في المحبة وطلباً للقربة والمودة، فإذا كانت العطية لبعض الولد دون بعض توجب الشحناء والبغضاء وإغارة صدور بعضهم على بعض، كان هذا من أعظم المفاسد والشرور؛ لأن من أعظم ما يكون من الشر قطيعة الرحم، وهي بذلك تقطع أواصر المحبة بين أولى الناس بالمحبة، فغن أولى الناس بالمحبة والألفة هم الإخوة والأخوات. وتشهد بهذا أيضاً أصول الشريعة، كما في قصة يوسف عليه السلام مع إخوته الأسباط {قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8]، ولذلك قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف:111]، فالله عز وجل جعلها عبرة لكل والد مع ولده؛ نبهه بها على مشاعر أولاده، ونبهه على ما يكون في نفس ولده من الألم والشجى والحزن إذا فضل أخاه عليه، أو فضل أخته عليه. ومن هنا نقول: إن النقل والعقل دالان على وجوب التعديل وعدم جواز التفضيل، إلا إذا وجد المبرر الشرعي لذلك التفضيل. وذهب الجمهور إلى أنه ليس بواجب، فهم يقولون: نحن نسلم بهذا الحديث، ونسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الله واعدلوا)، وهذا أمر، والأمر للوجوب، لكن لما جاءت زيادة في الرواية وهي ثابتة وصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم ناقش بشيراً فقال له: (أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟) أي: هل يسرك أن يكونوا بارين لك براً واحداً، فلا يمتنع بعضهم عن البر؟ قالوا: فالسؤال بمثابة التنبيه على العلة والتي من أجلها أمر بالمساواة، فالعلة هي كما أنه يحب أن يكونوا له في البر سواء، فينبغي أن تكون عطيته لهم سواء، وألا يفضل بعضهم على بعض، قالوا: فنصرف النص من ظاهره الموجب للوجوب إلى الندب والاستحباب. والقول بالوجوب -كما اختاره المصنف رحمه الله- هو أولى القولين بالصواب إن شاء الله تعالى، فيجب على الوالد والوالدة أن يسووا بين أولادهم في العطية، وألا يفضلوا أحداً على أحد، حتى كان السلف الصالح رحمهم الله من أشد الناس في هذا، فقد كانوا يسوون بين الأولاد حتى في القُبلة، فلو قَبَّل ولداً بجوار أخيه قبل أخاه معه، ولا يفضل ولداً على ولد، خشية أن يقع بينهم ما يكون موجباً لدخول الشيطان على القلوب فيفسدها ويقطع أواصر المحبة بين الأقارب.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الرجوع في الشيء لاختلاف كونه دينا أو هبة

حكم الرجوع في الشيء لاختلاف كونه ديناً أو هبة Q رجل وهب والده مبلغاً من المال، والآن يطالبه عند القضاء بإرجاع ماله، فلو أقر الوالد بأنه أخذ من ولده مالاً، وحصل الخلاف في كونه هبة أو ديناً فما الحكم؟ A المخرج هو الصدق، قال أحدهم: يا بني! اصدق حيث تظن أن الصدق يضرك؛ فإنه لا يضرك بل ينفعك، ولا تكذب حيث تظن أن الكذب ينفعك؛ فإنه لا ينفعك بل يضرك. لكن لو رفع إلى القضاء وأقر أنه أخذ هذه الهبة وقبضها، فالقاضي يقضي بثبوت الهبة، وإذا ثبتت الهبة فلا يملك الرجوع فيها، على تفصيل عند العلماء، وهذا يختلف بحسب اختلاف ما يرجحه القاضي. وبعض العلماء يرى أن الهبة والهدية إذا أعطيت لزمت ولا يملك أحد الرجوع فيها؛ لأن النص فيها واضح، وبيّن فيها النبي صلى الله عليه وسلم حرمة هذا الفعل، وبناءً على ذلك قالوا: لا يملك أن يرجع، وقال بعض العلماء: له الحق أن يرجع ويأثم بالرجوع، لكن من حقه أن يأخذ المال، وهذا يختلف بحسب اختلاف ما يرجحه القاضي في هذه المسألة. والله تعالى أعلم.

الفرق بين الإتمام والقضاء للمسبوق في الصلاة

الفرق بين الإتمام والقضاء للمسبوق في الصلاة Q إذا أدركت الركعة الثالثة والرابعة مع الإمام، فهل تكون في حكم وهيئة الأولى والثانية بالنسبة لي من حيث قراءة الفاتحة وسورة؟ A هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: فبعض العلماء يقول: ما أدركت مع الإمام فاعتبره أول صلاتك، فإذا أدركت الركعتين الأخيرتين فتقرأ بعد الفاتحة سورة، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ فيهما بعد الفاتحة سورة الإخلاص، وبعض العلماء يقول: بل صلاتك مع الإمام هي الأخيرة؛ لأنك ستقضي ما فاتك، والصحيح أنه إذا سلم الإمام فيتم ولا يقضي، وبناءً على ذلك تكون صلاته مع الإمام هي الأولى. وعلى هذا فإن الأولى والأقوى أنه يعتبرها أول صلاته، فيقرأ الفاتحة ويقرأ بعدها سورة. والله تعالى أعلم.

وجوب شكر الله تعالى على نعمه

وجوب شكر الله تعالى على نعمه Q إذا كانت النعم تتوالى على العبد ولا يحدث لها شكراً، فهل هذا استدراج من الله؟ A إن شكر الله سبحانه وتعالى على نعمه من أعظم الأسباب التي توجب محبة الله للعبد، ولذلك أثنى الله من فوق سبع سماوات على عبده نوح، فقال: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3]، وأخبر سبحانه وتعالى عن عظيم فضل الشكر، وأنه من ذكره سبحانه وتعالى، ومن عبادته وطاعته وتوحيده، بل وأحب الله الشكر وأحب الشاكرين، وتأذن بالمزيد لأهله {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، وتأذن بوضع البركة لعبده، فما من عبد يشكر الله في نعمة إلا بارك الله له فيها. وأحب الله الشكر؛ لأنه إقرار واعتراف بفضله سبحانه، ومدح وثناء وتمجيد لله عز وجل، والله يحب المدح ويحب أن يثنى عليه سبحانه بالذي هو أهله، وهذا من حقوقه سبحانه على عباده، أنه يشكر سبحانه على ما أسدى وأولى، فالذي يشكر الله وحده يوقن ويؤمن بأن هذه النعمة والفضل كله لله سبحانه وتعالى، ومن أعظم مقامات العبودية أن يستشعر العبد نعمة الله جل جلاله عليه. ولذلك لما رأى سليمان عليه السلام عرش بلقيس ما قال: انظروا كيف أصبحنا! انظروا كيف أصبحت المسافات البعيدة قريبة إلينا! أو تقدمنا أو تطورنا، أو كذا إنما رجف قلبه لله سبحانه وتعالى، وكان أول ما نطق به {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40]، أي: ليس بحولي ولا بقوتي، ولكن بفضل الله وحده لا شريك له. فهنيئاً ثم هنيئاً لكل عبد شاكر، إذا دخل إلى بيته فرأى الأمن والأمان في أهله وولده قال: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40] اللهم لك الحمد، اللهم لك الشكر هنيئاً لعبد إذا أنعم الله عليه بالعافية فنظر إلى مريض أو سقيم قال في قرارة قلبه وبلسانه مناجياً ربه: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40]، هنيئاً لعبد شاكر لن تمضي عليه طرفة عين إلا وهو متفكر متدبر في نعم الله وآلاء الله التي تترى عليه صباح مساء، فإن هذه المنن والنعم والخير هي رزق من الله وحده لا شريك له. والشكر طريق الخير والبركة للعبد في الدنيا والآخرة، وأسعد الناس في هذه الدنيا هو من شكر الله؛ لأن الله لا يعطي الشكر إلا لأصلح عباده، ولا تجد عبداً شكوراً إلا وجدته صالحاً؛ لأن الإنسان لا يعطى نعمة الله سبحانه وتعالى إلا بفضل من الله سبحانه وتعالى، والله أعلم حيث يضع فضله {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54]. ومن الشكر أن يشكر العبد ربه على أعظم النعم وأجلها وهي نعمة الإسلام، فنحمد لله الذي لم يجعل سجودنا لحجر ولا لشجر ولا لبقر ولا قبر، ولم يجعلنا نعتقد فيما سواه سبحانه، بل جعل قلوبنا له وحده لا شريك له، فهذه أعظم نعمة أنعم الله عز وجل بها على عبده، وأعظم منة يمتن بها سبحانه علينا {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات:17]، ولا نعمة فوق هذه النعمة، فمن أعظم الشكر أن تستشعر هذه النعمة العظيمة، وتقول: اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام. وقف عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه على الصفا فقال: اللهم إنك قلت في كتابك: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] اللهم كما وهبتني نعمة الإسلام؛ فلا تسلبها مني حتى تتوفاني عليها وأنت عني راض. فانظر إلى هذا الصحابي الجليل لما أعظم نعمة الله عليه بالإسلام؛ شكر الله عليها، وانظروا إلى عباد القبور والأشجار والأحجار والأبقار {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:12 - 13]. وتصور لو أن الإنسان -والعياذ بالله- في بيئة تعكف على هذه الأصنام والأوثان، كيف سيكون حاله؟! فاللهم لك الحمد على نعمة الإسلام، وقد فضَّل الله هذه النعمة وزادها أن جعلك في خير الأديان وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، فجعلك من أتباع خير رسله وأفضل رسله، صلوات الله وسلامه عليه. ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي في ندائك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا فلم يعطك نعمة التوحيد فقط، بل وجعل شريعتك أفضل الشرائع التي تتبعها وتسير على نهجها وتهتدي بهدي نبيها صلوات الله وسلامه عليه، فمن الشكر أن تستمسك بالسنة، وأن تستمسك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تمتثل لهذا الهدي، وأن تحب كل شيء يدعوك إليه، من العلماء العاملين والمتمسكين بالسنة من السلف الصالح لهذه الأمة والتابعين لهم بإحسان، فتحبهم وتشهد مجالسهم، وتدعو لهم بخير، شكراً لله على نعمه. ومن أعظم النعم التي أنعم الله عز وجل عليك بها: نعمة وجود الرغبة في العلم وطلب العلم وتيسير ذلك، فكم من مريض على الفراش أو على الأسرة يتمنى أن يجلس في مجالس العلم، وكم من جاهل في بادية أو جبل أو نجد أو وهد يتمنى أنه جالس بين يدي العالم، فقل: الحمد لله على فضله ومنه وكرمه أن يتصل سندك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق عالم أخذ العلم عن أهله، فإن هذه نعمة وفضل من الله سبحانه وتعالى. وكذلك أيضاً من أعظم النعم التي تستوجب الشكر: نعمة الوالدين، والله يقول: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14]، فجعل الله شكر الوالدين مقروناً بشكره سبحانه وتعالى، فكلما دخلت على والدك أو والدتك شكرت نعمتهما بعد نعمة الله عز وجل. ولذلك كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: السلام عليكِ يا أماه ورحمة الله وبركاته، رحمك الله كما ربيتيني صغيراً، فتقول له: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، رحمك الله كما بررتني كبيراً. فهكذا يكون الإنسان شاكراً لنعمة الله عز وجل عليه. ولذلك أثنى الله على خليله وحبه إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، فقال سبحانه: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} [النحل:121]، فجعله أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يكن من المشركين، لما أثنى عليه بثناء التوحيد، مع أنه إذا كان حنيفاً ولم يكن من المشركين فالحنيفية قائمة على الشكر، ومع ذلك خص الله الشكر بقوله: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} [النحل:121]. فالله سبحانه وتعالى جعل الخير كله في الشكر، فيشكر الإنسان ربه، ويعترف أن هذه النعمة من الله وحده لا شريك له، ويعتقد الفضل لأهل الفضل؛ كوالديه، ومن علمه، ومن أسدى إليه معروفاً، كما إذا تولى رعايته وهو صغير، كأن ينشأ يتيماً، وله أخ قام عليه أو قريب، فمثل هذه الأمور من نعم الدين والدنيا ينبغي شكرها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من لا يشكر الناس لا يشكر الله) أي: لم يشكر الله شكراً كاملاً من لم يشكر الناس، فمن شكر الله أن يشكر الناس؛ لأن الله جعل الناس سبباً من أسباب رحمته بعبده، فالله لا يحب نكران الجميل، وكفر النعمة، وجحد الفضل يجلس الإنسان مع والديه ثم يكفر نعمة الوالدين، أو يجلس مع قريبه الذي رباه وقام عليه أو أخوه الأكبر الذي أحسن إليه حتى إذا شب وكبر كأن لم يكن هناك إحسان أو فضل، نسأل الله السلامة والعافية. فمن أسوأ ما يكون من العبد كفره للنعمة ونكرانه للجميل، فلا يجوز للمسلم أن يكون بهذه المنزلة الممقوتة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (حفظ العهد من الإيمان). وكذلك مع العلماء والأئمة والسلف الصالح نقرأ كتبهم ونتعلم وننال فضلهم، ثم بعد ذلك نجلس نسلب هؤلاء العلماء أو نتتبع سقطاتهم وأخطاءهم على سبيل التشنيع بهم، فهذا من كفران النعم، بل نقول: رحمهم الله برحمته الواسعة، وأجزل لهم المثوبة، ونذكرهم بالجميل، ونتحدث بفضلهم ونشيد بمآثرهم، اعترافاً بفضلهم وطلباً لرحمة الله سبحانه وتعالى لهم. قال صلى الله عليه وسلم: (حفظ العهد من الإيمان)، وقد كان رسول الأمة صلى الله عليه وسلم مع علو منزلته ودرجته يذكر فضل خديجة بعد موتها، ومن أعظم الشكر أن تذكر فضل الإنسان بعد موته وذهابه، فذكر فضل خديجة رضي الله عنها يوماً (فقالت عائشة رضي الله عنها: ألم يبدلك الله خيراً منها، ألم تكن عجوزاً أبدلك الله خيراً منها، فغضب عليه الصلاة والسلام فقال: لا والله) قسماً أقسم به صلوات الله وسلامه عليه، وفاءً وبراً وصدقاً (لا والله، ما أبدلني الله خيراً منها)، وقد كان بعض العلماء يستدل به على أن خديجة أفضل من عائشة رضي الله عنها (لا والله، ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كذبني الناس، وصدقتني وكذبني الناس، وواستني بنفسها ومالها، ما أبدلني الله خيراً منها). كان بعض مشايخنا رحمة الله عليه له زوجة قامت على حاله وشأنه، فلما كبر وكبرت؛ جاءه أحد المشايخ من زملائه وقال له: يا شيخ! هلا تزوجت الثانية، فقال: أما أنا فقد أصبحت من الحطمة، ولكن أين الوفاء؟ وحتى لو كانت لي قوة فأين الوفاء؟ وكيف أكسر خاطر زوجتي في آخر حياتي؟ وهذا لا يعني أن نترك التعدد، بل المراد حفظ العهد، فإنه رأى أن زوجته قد ينكسر قلبها وخاطرها بهذا، وقد رزقه الله الولد والذرية. فالشاهد: أن الإنسان يحفظ عهد الزوجة، ويحفظ عهد الأخ والأخت والابن، وكل من أسدى له معروفاً يشكر معروفه بعد شكر فضل الله عز وجل عليه بالإحسان وذكر الجميل، وألا يكفر هذه النعمة، فيستبدلها بالإساءة ونحو ذلك، فهذا كله مما لا يحبه الله ويرضاه. ولذلك كان نبي الأمة صلى الله عليه وسلم إمام وقدوة الشاكرين، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقام حتى تفطرت قدماه، فقالت له أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها: (لم تصنع هذا وقد غفر الله لك ما

حكم التداوي بما حرم الله عز وجل

حكم التداوي بما حرم الله عز وجل Q ما حكم التداوي بما حرم الله تعالى إذا استعمل كل طريقة للعلاج ولم تنفع، مثل التداوي بشحم الخنزير؟ A اختصاراً: لا يجوز التداوي بما حرم الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله لم يجعل شفاء أمتي بما حرم عليها)، ولذلك فلا يحوز التداوي بشحم الخنزير، ولا يجوز التداوي بأي شيء من الخنزير، وقال بعض العلماء: إنه يجوز التداوي به؛ لقوله سبحانه: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، لكن هذا محل نظر؛ لأن الحقيقة التي ينبغي أن يتنبه لها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله جعل لكل داء دواء إلا الموت والهرم)، فلم يجعل لهما دواءً كما صح عنه عليه الصلاة والسلام. فإذا ثبت أن لكل داء دواء، فليعلم من يبحث عن الدواء أنه إذا لم يجد دواءً فليس العيب في عدم وجدانه، إنما العيب أنه لم يجد طبيباً يعرف الدواء والداء، ولذلك فلا يرخص، وقد يستعجل بعض العلماء ويفتي بأنه مضطر، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه ما أنزل من داء إلا وله دواء، عرفه من عرفه وجهله من جهله، فأصبح الخطأ والتقصير في البحث ممن هو حاذق في علاج هذه الأمور. وكثير من الأمور كنا نمنع الناس منها، وهي محرمة، وإذا بنا نتفاجأ بعد مدة برجل يأتي ويقول: الحمد لله اتقيت الله فجعل الله لي فرجاً ومخرجاً، فإذا بي أجد علاجاً في كذا، أو أجد دواءً في كذا، فما اتقى الله عبد إلا جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل داء دواءً، فالإنسان يحتسب، ويحرص على سؤال أهل الخبرة والعلماء بالطب الحاذقين به، فإن الله سبحانه وتعالى سيلهمه ما هو أنجع وأنفع لدائه وبلائه. والله تعالى أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه.

حكم هدية الطالب لمعلمه أو الموظف لمديره

حكم هدية الطالب لمعلمه أو الموظف لمديره Q أشكلت عليّ مسألة: ما حكم قبول الهدية من الطالب لمعلمه أو من الموظف لمديره؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فمن كان في عمل أو وظيفة، وقام بهذا العمل والوظيفة، فلا يجوز له أن يقبل من الناس شيئاً، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام (أنه أرسل رجلاً على الصدقات، فجاء فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا لكم وهذا لي -أي: هذه الصدقات وهذه هدايا خاصة بي- فقام عليه الصلاة والسلام خطيباً وقال: ما بالي أستعمل الرجل على مال الله عز وجل، ثم يأتي ويقول: هذا لكم وهذا لي، هلا قعد في بيت أمه فينظر أيهدى له أم لا!). فدل على أن هذه الهدية جاءت بسبب العمل، وجاءت بسبب المصلحة المتعلقة بجماعة المسلمين، ومن هنا عتب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وبيّن عليه الصلاة والسلام عدم استحقاقه؛ لأنها جاءت تابعة للعمل، وقد نص جماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله على أنه لا يجوز للإنسان أن يقبل الهدية على عمله. وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: (كانت الهدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، أما اليوم فإنها رشوة)، يعني أنه كانت النفوس أولاً طيبة وتعطي لله وفي الله، ولكن لما دخلت الدواخل وكثرت المصالح، وأصبح الإنسان يفعل الفعل وهو يجعل الدنيا أكبر همه -نسأل الله السلامة والعافية- ولا يجعل الآخرة أكبر همه -إلا من رحم الله- خاف العبد الصالح وتورع من هذا. فالمعلم والموظف ومن في حكمهما لا يجوز لهم أن يأخذوا الهدية، إلا من شخص كان يهدي إليه قبل العمل والوظيفة، فإذا كان الشخص يهاديك من قبل فلا بأس بقبول هديته؛ لأنه لا يختلف الحال؛ لأن هذه الهدية لا شبهة فيها. وأيضاً: لا يجوز لك أن تقبل دعوته الخاصة، بحكم أنه ليس الأمر موقوفاً على الهدايا؛ بل قد يدعوك إلى وليمة خاصة، فإذا بالموظفين ومن تحته يصنعون الولائم ويتملقونه، وفي الحديث: (من أكل طعام قوم ذل لهم)، فلو كان أضعف موظف عند الإنسان ودعاه إلى طعامه كسر عينه، ولم يستطع أن يقف في وجه يوماً من الأيام؛ لأن النفوس مجبولة على الحياء ممن أحسن إليها، والورع والذي يخاف الله ويتقيه يبتعد عن هذه الأمور كلها. وللسلف الصالح رحمهم الله في ذلك أروع المواقف، حتى ذكروا عن هارون الرشيد رحمه الله برحمته الواسعة أنه دخل عليه قاضٍ من قضاة السلف رحمهم الله فقال: أنا بالله ثم بأمير المؤمنين أناشدك الله أن تقبل كتابي. فقد كان قاضياً وإذا قبل الخليفة الكتاب فمعناه أنه قد أقاله من القضاء. فقال له هارون: لا أقبل حتى تقص لي السبب الذي من أجله امتنعت من القضاء. فقال: يا أمير المؤمنين! إني عرضت عليّ قضية من القضايا، فجاءني رجل عظيم غني ثري ومعه خصمه، قال: فنظرت في القضية فإذا بها تحتاج إلى تأمل ونظر، فلم أبت فيها، ووعدت الخصمين أن يعودا إليّ بعد أيام، قال: فسمع الغني أني أحب التمر، فذهب واشترى وجمع تمراً من أنفس وأجود أنواع التمر، ثم فوجئت بكاتبي قد دخل عليّ بذلك التمر، فقلت له: ويحك ما هذا؟! قال: هذا من فلان بن فلان. فأمرت بجلد الكاتب وطردته، ورددت العطية إلى صاحبها، ووبخته وعزرته. قال: ثم لما حضر عندي الخصمان بعد هذا الفعل، قال: والله يا أمير المؤمنين ما أن جلسا بين يديّ -مع هذا الاحتياط- ما استويا في عيني. قال بعض العلماء: كان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يقول: يحتمل أن معنى قوله: (ما استويا في عيني) أنه وجد أن هذا الغني لما تكلف المال واشترى ثم رده عليه أنه انكسر، فجاءه شيء من الرحمة، أو أنه ما زال حانقاً غضبان على هذا الذي رشاه، وتوقع أنه يفعل مع غيره كفعله، ونظر إلى جرأته مع أنه عزره، لكن لا زال قلبه يحدثه أنه يستحق أكثر من ذلك، فلما جلسا في القضية لم يستطع أن يراهما بمنزلة واحدة، فسأله أن يعفيه من القضاء. هذه هي منزلة الورع، فقد كان السلف رحمهم الله يخافون خوفاً شديداً من الهبات والهدايا والعطايا، والإنسان إذا أراد النجاة فيحرص كل الحرص على الأمانة، وإذا جاء إلى وظيفة أو عمل أو تدريس فلا يسأل الأجر إلا من الله سبحانه وتعالى. والله سبحانه وتعالى هو الذي يتولى جزاءه، وهو الذي يتولى مكافأته {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96]، وأنعم بالجزاء إذا كان من الله سبحانه وتعالى، وأنعم بالعطية إذا كانت من الله، وانظر إلى حالك حينما يأتيك مخلوق ضعيف يقدم لك عرضاً من الدنيا، فتنظر إلى ما عند الله وما عند المخلوق، فتؤثر ما عند الله على ما عند المخلوق. وقد تكون في أمس الحاجة إلى هذا الشيء الذي يعرض عليك فترده، فيعوضك الله سبحانه وتعالى من حسن الخلف ما لم يخطر لك على بال، فليس هناك أعظم من مكافأة الله لعبده، وهذا شيء نقوله بألسنتنا، لكن يعرف لذة ذلك وطعمه وقدره من عرفه، فالمعاملة مع الله رابحة، ولا يظن الإنسان أنه إذا أصبح عفيفاً في عمله أو وظيفته أو تدريسه فإنه سيخسر؛ فإن المعاملة مع الله عز وجل ليست فيها خسارة أبداً، فهم يرجون تجارة لن تبور، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله. قال بعض العلماء: إن الله سبحانه وتعالى بعد أن ذكر أن الحسنة بعشرة أمثالها في أكثر من آية، وذكر أنها كمثل حبة من سنبل أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، قال: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261]، قالوا: يضاعف بالتوحيد والإخلاص؛ لأن الشخص الذي تعرض عليه هدية غالية الثمن وهو فقير محتاج، ليس كالشخص الذي تعرض عليه هدية وهو غني غير محتاج، ولأن الشخص الذي تعرض عليه الهدية والرشوة من قوي قادر، ليس كالشخص الذي تعرض عليه وهو قوي قادر من ضعيف، فتحصل المضاعفة والفضل من الله سبحانه وتعالى على قدر البلاء. فإذا جاءك الطالب يريد أن يعطيك الهدية فلا يجوز لك أخذها، ولا يجوز للمدرس أن يقبل من طلابه عطية ولا هبة ولا هدية، وهذا -كما ذكرناه- نص عليه العلماء رحمهم الله لورود السنة به؛ لأنك تؤدي عملاً واجباً عليك؛ ولأن فتح هذا الباب يفتح على الناس كثيراً من البلاء، فيحابي صاحب الهدية ويجامل، ولذلك يجب على الإنسان أن يبتعد عن هذه الأمور نصيحة لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام ولعامة المسلمين، فيما هو مربوط به من المصالح العامة للمسلمين. والله تعالى أعلم.

كيفية العدل بين الزوجات مع الاختلاف في عدد الأولاد

كيفية العدل بين الزوجات مع الاختلاف في عدد الأولاد Q من كان له بيتان وأعطى كل بيت مصارفه التي يحتاجها، فهل هذا عدل أم أن العدل أن يساوي في العطية، كأن يخصص مبلغاً متساوياً بين البيتين، ولو لم يكن في البيتين نفس العدد من الأبناء؟ A العدل بين الزوجات واجب شرعاً، وأجمع العلماء رحمهم الله على وجوب العدل بين الزوجات، أما طريقة العدل فعندنا أصول، وعندنا فروع، فالزوجات أصول، والأولاد فروع، فالزوجة التي لا ولد لها لها حكم يخالف حكم الزوجة التي لها ولد، فإذا جاء يعطي فيقدر المبلغ للرأس الذي هو الأصل ويقدر مبلغاً للأولاد، فإذا كان يعطي الزوجة مائتين على الرأس، والولد يقدر نفقته في كل شهر مثلاً مائة إذا كان عنده مصاريف للدراسة، وإذا لم يكن عنده مصاريف قدرها بخمسين. فحينئذٍ الزوجة التي لا ولد لها يعطيها مائتين، والزوجة التي لها ولد يعطيها مائتين لها هي، ثم أولادها يفضل بينهم بحسب النفقات، فالولد الذي تصرف عليه أمه في ملبسه ومطعمه ودراسته ليس كالولد الذي يصرف عليه في مطعمه وملبسه فقط. هذا من حيث الأصل، فالأولاد يقدر نفقتهم في الطعام والشراب، ويعطي أمهم ذلك، فإذا كان يعطي الولد خمسين ريالاً، وعندها ولدان، فيعطيها مائة ريال، فتصبح مائتين لها ومائة لأولادها، إذاً هذه المرأة لها ثلاثمائة، والمرأة الثانية ليس لها ولد فيعطيها مائتين فقط، فيكون قد عدل بين الزوجات. فإن ولدت الثانية؛ فحينئذٍ ينظر إلى ولد هذه وإلى ولد هذه وما يحتاجه من النفقة، فإذا كان كل واحدة عند ولادتها يحتاج ولدها إلى ملبس أو علاج أو أي شيء، كان العدل بالعطية من جهة الأسباب والضرورة، فالتي عندها ولد ينفق عليه في ملبسه أو حضانته أو نحو ذلك، وإذا ولدت الثانية عاملها مثلما يعامل ولد الأولى، وهذا العدل لا نقول له من البداية يعطي هذه مثلما يعطي تلك؛ لأن هذه لها سبب خاص، فيعدل بين الزوجتين في حال الولادة، ويعطي هذه مثلما يعطي هذه. فحينئذٍ يكون قد عدل بينهن، وليس المراد أنه مثلاً لو ولدت خديجة، وعائشة لم تلد، فأعطى خديجة خمسين، فنقول له: أعطِ عائشة خمسين، فهذا خطأ، ويخطئ فيه بعض طلاب العلم، فالأسباب الخاصة العدل فيها إذا طرأ مثلها عند الأخرى، فيكون عادلاً بين زوجاته وأولاده في في الأصل وفيما يطرأ على الأصل، في الأصل من حيث النفقة كالطعام والشراب فيعطيهم مثل بعضهم ويسوي بينهم. لكن عند بعض العلماء خلاف في مسألة اختلاف الأماكن، فقد تكون امرأة في منطقة العيشة فيها رخيصة، وامرأة في منطقة العيشة فيها غالية، فيقولون: يجب عليه أن يعدل بإسكانهما معاً في المكان الذي فيه عيشة رخيصة أو عيشة غالية، فإذا لم يتيسر له ذلك عامل في النفقة بحسب الحال، فيعطي لهذه التي في العيشة الغالية بما يتناسب مع حالها غنىً وفقراً، على الأصل المقرر في النفقات، ويعطى تلك في العيشة الرخيصة بما يتناسب مع حالها، فمثلاً: متوسط الحال في العيشة الغالية تكون نفقة الولد مائتين، والأعلى ثلاثمائة، والأدنى مائة، فأعطاها مائتين، وفي العيشة الدنيا يكون الأعلى مائة والأوسط خمسين والأدنى مثلاً عشرين، فيعطيها خمسين، فيكون قد سوى في العطية بحسب البيئة وبحسب المكانة. وعلى هذا فإذا عدل واتقى الله سبحانه وتعالى فأعطى الزوجات وسوى بينهن في القدر والعطية، وأعطى عند الأسباب والموجبات؛ فإنه حينئذٍ يكون قد برئت ذمته وسلم إن شاء الله من التبعة. والله تعالى أعلم.

كتاب الوقف [4]

شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [4] من المسائل المتعلقة بالوقف التقييد والإطلاق، فعندما يطلق الواقف في وقفه فيلزم العمل بإطلاقه، وإن قيد وجب العمل بقيده، ومن المسائل التي يدخل فيها التقييد والإطلاق ما يتعلق بدخول الذكور والإناث، وكذلك دخول البطن الثاني من الأولاد مع البطن الأول، ودخول أهل البيت والقرابة والمساكين وغيرهم.

وجوب العمل بشروط الواقف

وجوب العمل بشروط الواقف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ويجب العمل بشرط الواقف في جمعٍ وتقديم وضد، ذلك واعتبار وصفٍ وعدمه، وترتيب ونظر وغير ذلك] قوله: (ويجب العمل بشرط الواقف) أي يجب على من تولى نظارة الوقف أن يعمل بالشرط الذي اشترطه المُوقف. فالواقف إذا اشترط شروطاً، أو وضع أمارات وعلامات معينة للاستحقاق في وقفيته؛ فالواجب العمل بذلك، ولا يجوز إخراج هذه الشروط ولا العبث بها، وذلك بإجماع العلماء رحمهم الله؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لما كتب وصيته وفيها وقفيته لأرضه التي بخيبر جعل النظارة لأم المؤمنين حفصة رضي الله عنها وأرضاها، ثم من بعدها للأرشد والعدل من الذرية، وجعل شروطاً في صرف الوقف وعُمل بها، وجرى العمل عند أئمة الإسلام وقضاة المسلمين على أن شروط الواقف ينبغي العمل بها، ولا يجوز تعطيلها، ولا تبديلها، ولا تغييرها، ولا تحريفها. ولذلك قال المصنف: (يجب) فعبر بالوجوب الذي يدل على إثم من خالفه، فلا يجوز أن يُتصرف في هذه الشروط، إلا إذا قضى القاضي في أحوال مستثناة سيأتي إن شاء الله بيانها، أما من حيث الأصل فالواجب العمل بهذه الشروط وتنفيذها، والشروط تختلف من حيث الأصل، فالذي يُوقِفُ الأرض أو غيرها قد يشترط النظارة لشخص معين، وقد يشترط جهة معينة يُصرَف إليها الوقف، وقد يشترط في هذا الصرف صفات معينة. ثم إذا جعل الوقف لطائفة أو لجماعة، فإما أن يُعمم وإما أن يخصص، وإما أن يُطلق، وإما أن يقيد، ثم التقييد تارة يكون بالترتيب فيقول مثلا: ًعلى أولادي، ثم أولاد أولادي، ثم أولاد أولاد أولادي إلى أن ينقطع نسلي، أو إلى أن لا يبقى أحد من ذريتي، فهذا مستغرق لذريته، وربما يُخرج هذا الوقف بالشرط عن ذريته إلى جهة أخرى فيقول: هذا الوقف لأولادي ثم أولاد أولادي، فإذا ماتوا فإلى الفقراء والمساكين من بعدهم، فيجعل الوقف بالنسبة لذرِّيته للبطن الأول والثاني، ولا يجعل للثالث استحقاقاً. وقد يجعل شرطاً من جهة الصرف، فيخصّه ببعض الذرِّية دون بعض، فيخصَّه بالذكور دون الإناث، أو العكس فيجعله للإناث دون الذكور يقول: داري هذه وقف على بناتي للمطلقات منهن، وهذا أثر عن الزبير ويحكى عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه أوقف داره على المطلقات ومن كانت أرملة من ذريته. فالشاهد من هذا أن شرط الوقف معمولٌ به، والإجماع منعقد على أنه يجب على الناظر أن ينفِّذ هذه الشروط، ويجب على القاضي أن يُلزم بها الناظر، وإذا ظهر من الناظر إخلالٌ بهذه الشروط أو تغييرٌ لها؛ فإن القاضي يُلزمه شرعاً بالعمل بهذه الشروط إلا في الأحوال المستثناة. ويجب على من ولي الوقف أن يعمل بشرط الواقف تعميماً وتخصيصاً، وتقييداً وإطلاقاً، وترتيباً على الصفات، وعلى الأحوال، كل ذلك يجب أن يُتقيد به وأن لا يُغيَّر ولا يُبدَّل. قوله: [في جمع وتقديم] الجمع كأن يقول: أولادي، وأولاد أولادي، فإذا قال: أولادي وأولاد أولادي، فمذهب طائفة من العلماء أن البطن الأول والثاني يستوون، مثلاً لو كان له ابنان زيدٌ وعمرو، فتوفي زيد وبقي عمرو، فذرية زيد تستحق مع وجود عمهم؛ لأن الوقفية مشركة حيث جمع بين البطنين الأول والثاني. لكن إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فثم هنا فرّق بها بين البطن الأول والبطن الثاني، وحينئذٍ ينبغي أن يُركَّز على الشرط الذي اشترطه، ولا يجوز أن يأخذ أحداً من الدرجة الثانية مع وجود أحد من الدرجة التي قبلها. وهكذا لو جمع وقال: على أولادي. فهذا جمع يشمل الذكور والإناث والخناثى، حتى ولو كان فيهم خناثى فإنهم يستحقون من الوقف لأنهم أولاد له، والله سمى الولد للذكر والأنثى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فالولد في لغة العرب يشمل الذكر والأنثى، فجمع بين الذكر والأنثى فقال: على أولادي، لكن ممكن أن يقول: هذه الدار وقف على بناتي، فحينئذٍ فرَّق بين الذكر والأنثى، فجعل الاستحقاق للأنثى دون الذكر، فله أن يجمع وله أن يفرِّق. قوله: (وتقديم): أي: كأن يقول على أولادي ثم أولاد أولادي، هذا ترتيب، وإذا جعل الوقف على الترتيب وجب التقيُّد بهذا الترتيب، فلا يُعطَى المؤخر مع وجود المقدم، أو مع وجود من هو أعلى منه مرتبة. قوله: [وضد ذلك] أي: ضد الجمع التفريق. قوله: [واعتبار وصف] أي: لو قال مثلاً: للمريض من أولادي، أو الفقير، أو المطلقة من بناتي، أو قال على الفقراء على المساكين على طلبة العلم على الغرباء، هذه كلها أوصاف ينبغي أن يتقيد بها، ولا يجوز أن يغيرها الناظر، بل يصرف على هذا القيد الذي ذكره الواقف. قوله: [وعدمه] أي: عدم التقييد، كما لو قال: على أولادي، ولم يقيد لا بذكر ولا بأنثى. قوله: [وترتيب] أي: كذلك إذا لم يرتب فإنه في هذه الحالة يبقى الجميع على حد سواء، فإذا قال: أوقفت هذه المزرعة على أن تكون غلتها لأولادي والمساكين؛ فحينئذٍ جمع بين أولاده والمساكين، ولو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فحينئذ لا نعطي المساكين إلا إذا عُدم أولاده. فإذاً نعمل بالجمع والتفريق، ونعمل أيضاً بالأوصاف وعدمها، فإذا جاءت خالية من الأوصاف فإننا نبقي الوقف على عمومه وشموله. فالمقصود من هذا أنه يلزم الناظر أن يتقيد بشرط الواقف على الصفة التي ذكرها في وقفيته. قوله: [ونظرٍ] أي: هكذا النظارة، لو قال: نظارة هذا الوقف لي، فهذا شرط يستحقه وتكون له النظارة، فإذا قال: ثم للأرشد فالأرشد من أولادي، فحينئذٍ تكون للأرشد، أو قال: للأعلم من ذريتي، فحينئذ تكون للأعلم، والدليل على ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كتب كتابه في الوقف، جعل النظارة لابنته حفصة رضي الله عنها وأرضاها ثم للأرشد من ذريته. فهذا يدل على أن من حق الواقف أن يخص النظارة، وأن يجعلها لبعض الموقوف عليهم، سواءً كانوا من الموقوف عليهم أو كانوا من غيرهم، فقد يقول: هذا البيت وقف على أولادي والناظر عمهم فلان، وقد يجعل رجلاً أجنبياً فيقول: النظارة لفلان -وهو غريب وليس بقريب- ولذريته من بعده، فحينئذٍ تكون النظارة على الشرط الذي ذكره الواقف. قوله: [وغير ذلك] أي: (وغير ذلك) من الأمور التي يذكرها الواقف؛ لأنه إذا اشترط فله على ربه ما اشترط، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ ضباعة رضي الله عنها: (أهلِّي واشترطي وقولي: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني، فإن لك على ربك ما اشترطت). وهذا دليل على أن العبد إذا اشترط على ربه، وكان الشرط شرعياً فإن له ذلك الشرط، فإذا جعل الناظر شروطاً في الوقف فإنه ينبغي التقيُّد بها، مثل أن يقسم الوقف أثلاثاً، ويقول هذا الثلث أشترط أن يكون للقرابة بشرط أن يكونوا بحاجة، أو يكونوا أيتاماً، أو تكون أرملة من النساء، ونحو ذلك من الأمور التي يضيفها الواقف.

الوقف المطلق

الوقف المطلق من أوقف لا يخلو إما أن يشترط، وإما أن يترك الشرط، فإذا اشترط في وقفه شروطاً، وكانت هذه الشروط شرعية؛ وجب العمل بها والتقيد بما فيها، وقد بينا وجه ذلك وأنه يُلزم ناظر الوقف بتنفيذ هذه الشروط، وصرف مستحقات الوقف على ضوء ما اشترطه الواقف. وإذا حصل الإخلال بما تقدَّم من التقييد؛ فإن الناظر يتحمل المسئولية، ويكون حينئذٍ ضامناً لكل ما يترتب على هذا الإخلال والصرف الذي لم يقع على الوجه المعتبر. بقي السؤال عن الحالة الثانية: وهي أن يصدر الوقف خالياً من الشروط، وهذه الحالة تعتبر حالة إطلاق، بمعنى أن يَنُص على الوقف دون أن يقيد، ودون أن يشترط؛ فالحكم حينئذٍ أنه يبقى المطلق على إطلاقه، ولا يمكننا أن نضيف قيوداً، ولا أن نضيق واسعاً، فإذا أطلق صاحب الوقف عملنا بإطلاقه؛ لكن هذا الإطلاق في بعض الأحيان تترتب عليه بعض المسائل. ومن هنا بيّن المصنف رحمه الله أنه إذا حصل الإطلاق عمل به، فلو قال: وقفت هذه المزرعة على أولادي. استوى في ذلك الغني والفقير، فنعطي أولاده، سواء كانوا من الأغنياء أم كانوا من الفقراء، كذلك يستوي ذكرهم وأُنثاهم، فنعطي الذكر ونعطي الأنثى؛ لأنه سوى بينهم وشرّك فقال: أولادي، فيستوي الذكور والإناث والخناثى فكلهم يدخلون في هذا، ويُصرف لهم من مستحق الوقف. وهكذا إذا قال: وقفت هذه المزرعة وثمرتها تصرف على المساكين، فإننا نصرفها على كل من يصدُق عليه أنه مسكين، سواء كان في غاية الصلاح كالصالحين، أو كان في المستوى العام لعموم المسلمين، بخلاف الحالات الأُول فإنه إذا قال: وقفت داري على أولادي الذكور؛ تَقيَّد الوقف بهم، ولو قال: وقفت داري على المطلقات من بناتي، فحينئذٍ يختص بالمطلقات، أو قال: أوقفت داري على أولادي الأفقه منهم، يُقدَّم الأصلح أو يقدم الأرشد وهكذا.

كيفية توزيع عطاء الوقف بين الأولاد

كيفية توزيع عطاء الوقف بين الأولاد إذا أطلق وقال: داري وقفٌ على أولادي، فإنا نُسَوِّي بين الأولاد جميعاً، حتى إن الولد الذي يكون من الصغار ولم يبلُغ يدخل في هذا، بل بمجرد أن يولد يثبت استحقاقه في الوقف، ويكون له نصيبه، ويقسم الوقف بينهم بالسوية. فمثلاً لو أن مزرعة أوقفها على أولاده، وفيها مثلاً مائة صاع، وله من الولد خمسة، فإننا نقسم المائة صاع بين الخمسة بالسوية، لا نفضِّل الذكر على الأنثى، ولا نعطي الكبير دون الصغير، ولا نخص الصالح دون غيره، بل يستوي الجميع في هذا الاستحقاق؛ لأنه أطلق وقال: على أولادي. ومن هنا قال بعض العلماء: إنه لو قال: وقفت داري على أولادي، وأولاد أولادي، ونسلي إلى أن ينقطع أو على عقبي حتى ينقطع، فقد سوَّى بين الطبقات، فالبطن الثاني يدخل مع البطن الأول لأنه لم يرتب، فلو قال: أوقفت داري هذه على أولادي. فإنه لو كان له ولدان: محمد وعلي، وخلّف محمد ثلاثة؛ فإن الثلاثة يقاسمون أباهم وعمهم؛ لأنه قال: أوقفت على أولادي؛ لكن في الحالات الأُوَل التي سبقت الإشارة إليها يقول: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذٍ لا يشارك البطن الثاني البطن الأول، وتختص القسمة بالبطن الأول دون الثاني؛ لكن إذا قال: أوقفت داري، أو مزرعتي على أولادي فإن انقطع نسلي أو انتهى عقبي فللمساكين، فحينئذٍ يستوي جميع أولاده كما سيأتي إن شاء الله في مسألة الولد وشموله للبطون، وسيذكرها المصنف رحمه الله. بين المصنف في هذه العبارة أن الإطلاق يخالِف التقييد، وهذا كله عمل بما كان من الواقف، ويؤكِّد ما تقدم أننا ملزمون بما فعله الواقف، إن قيد أو اشترط وجب علينا الوقوف عند قيده وشرطه، وإن أطلق ولم يقيد فإننا نبقى على هذا الإطلاق، ويرد السؤال في مسألة من هذه المسائل، وهو: إذا أطلق وصعُب علينا أن نشمل الجميع، فهل نخص البعض دون البعض؟ هذا سيأتي الكلام عليه، لكن القاعدة العامة أننا في التقييد نتقيد بما قيّد، وفي الإطلاق نعمل بالمطلق على إطلاقه. قوله: [وضدهما]. استوى الغني والذكر مع ضدّهما، يعني ضد الغني وهو الفقير، وضد الذكر وهو الأنثى، فالإناث من الولد ضد الذكور، فنسوّي بينهم، ولا نفضِّل الذكور على الإناث. وهذا قول عامة أهل العلم رحمهم الله؛ أن من قال وقفت مزرعتي هذه على أولادي، فإننا نقسم غلة المزرعة بين أولاده بالسويّة، ولا نفضّل الذكر على الأنثى، لكن استحب طائفة من السلف رحمهم الله، ونص عليه غير واحد من الأئمة وهو الحق إن شاء الله، أن يقسم بين أولاده بقسمة الله تبارك وتعالى، فيجعل حظ الذكر ضِعف حظ الأنثى؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل هذه القسمة من فوق سبع سماوات، وهي قسمة العدل الحكيم الخبير اللطيف الذي هو أعلم بعباده سبحانه وتعالى، ولا أعدل من الله. وهذا لحكمة بالغة، فإن الله حمّل الرجال المسئولية عن النساء، فالأصل في المرأة أن ترعى بيتها، وأن تقوم على ولدها، وأن تقر في قرارها، والعمل مخالفٌ للأصل؛ لأن الله نص في كتابه فقال: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]. فالأصل في الخلقة والشرعة أن التعب للرجال، ولذلك قال: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، ولم يقل: (فتشقيا)؛ لأن الرجل هو المسئول، وهو المتحمل لتبعة النفقة والقيام على المرأة، فإذا كان هذا هو الأصل فإن الله سبحانه وتعالى جعل الحق في النفقة على الرجال، ولم يجعله على النساء. فتبين أن التبعات والأمور التي يتحملها الرجال أكثر من الأمور التي تتحملها النساء، وإذا كان الأمر كذلك؛ فالله عز وجل جعل نصيب الرجل ضِعف نصيب الأنثى، فإذا أراد أن يُعطي ولده فإنه يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، ويقول مثلاً: وقفت مزرعتي هذه على أولادي وللذكر مثل حظ الأنثيين، فيفضِّل بينهم بتفضيل الله عز وجل، والله سبحانه فضل جنس الرجال على جنس الإناث، ولذلك خلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته، ونفخ فيه من روحه، ثم بعد ذلك خلق منه حواء، فجعل الرجل هو الأصل، وكل مؤمن مطالب بالتسليم، وينبغي أن يرضى بهذا الحكم وأن يذعن له، وأن يسلِّم بهذه القضية التي ليست مثار جدلٍ أو نقاش. لأن هذا التفضيل حكمٌ من الله، ولا يستطيع أحد أن يقول: لماذا خلقني الله قصيراً وخلق غيري طويلاً؟ لماذا خلقني فقيراً وخلق غيري غنياً؟ فالله يفضِّل وله الحكمة التامة البالغة، والله يحكم ولا معقب لحكمه، ففضل هذا الجنس على هذا الجنس. فنحن نفضِّل بتفضيل الله عز وجل، ولا يغض هذا ولا يُنقص مكانة المؤمنة أبداً، بل عليها أن تسلم، فإذا أراد الوالد أن يُوقف على هذا الوجه فإنه يعدل بين أولاده، ويجعل نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم). ومن هنا كان مذهب طائفة من العلماء أن عطية الولد ضعف عطية الأنثى، وهذا لا شك أنه معتبر من حيث الأصول الشرعية. والمصنف رحمه الله يقول: إنه يستوي الذكر والغني وضدّهما، يعني ضد الذكر وضد الغني، فيستوي غنيهم وفقيرهم، فلو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، وكان له ولدان أحدهما غني والثاني فقير، فإننا نعطي الغني مثلما نعطي الفقير، ونعطي الفقير مثلما نعطي الغني، ولا نفضِّل أحدهما على الآخر.

من تكون له نظارة الوقف عند الإطلاق

من تكون له نظارة الوقف عند الإطلاق قال رحمه الله: [والنظر للموقوف عليه] من أوقف شيئاً إما أن يجعل لنظارته شروطاً يحددها ويبينها، فيقول: والنظارة لهذا الوقف للأرشد فالأرشد من أولادي، ففي هذه الحالة يستحق النظارة من توفر فيه شرط الرشد فيقدَّم الأرشد. لكن إذا أَطلق وقال: هذه المزرعة وقفٌ على أولاده وسكت، ولم يذكر لمن تكون النظارة، ولم يحدد من هو الناظر ولم يضع شروطاً ولا صفاتٍ ولا أمارات معينة لمن نجعله ناظراً على وقفه، فإنه في هذه الحالة تكون النظارة للموقوف عليه. بمعنى أن الأشخاص الذين أَوقف عليهم هذه المزرعة هم الذين لهم حق النظر؛ لأنهم هم القائمون على الوقف، وهم المالكون لثمرته، وهم الذين سيمحضون هذا الوقف النصيحة، فهم أولى وأحق بالنظر في مصالحه، وليس هناك أصلح مِن نظر الإنسان بنفسه فيما هو له؛ لأنه لا يغش نفسه غالباً؛ ولأنه سيحرص على ما فيه مصلحة نفسه، ومصلحة من معه. فلو أوقف الوالد على ولدين فالنظر لهما، لا يستبد أحدهما دون الآخر، ولا يتصرف أحدهما في الوقف دون إذن الآخر، فهما شركاء في هذا الاستحقاق؛ لكن لو أنهم اتفقوا على أن يفوضوا شخصاً منهم، فقالوا نحن خمسة، وهذا الوقف يحتاج إلى شخص واحد متفرغ؛ فنحن وكلنا وفوضنا فلاناً، فحينئذٍ يكون من فوّضوه متصرفاً أصالةً عن نفسه، ووكالة عن غيره، فهو في هذه الحالة الذي له حق النظارة برضا الجميع واختيارهم. فالنظر للموقوف عليهم إن كانوا معينين فلا إشكال في ذلك، إذا كانوا معينين كقوله مثلاً: أوقفت داري هذه على أولادي، وأولاده عشرة، تفاهموا فيما بينهم وجعلوا ناظراً، أو كان العشرة كلهم يديرون هذا الوقف ومصالح الوقف لا إشكال. لكن المشكلة إذا كان الموقوف علمه جهة من الجهات، كأن يقول: وقفت مزرعتي هذه على المساكين، فلا يمكن أن يكون كل المساكين نظراء على هذا الوقف، وذلك من الصعوبة بمكان، وقد يتعذر هذا، ففي هذه الحالة يختار القاضي بعضهم للقيام على مصلحة الوقف على التفصيل الذي ذكرناه.

مسائل الوقف على الأولاد

مسائل الوقف على الأولاد قال رحمه الله: [وإن وقف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين، فهو لولده الذكور والإناث بالسوية، ثم ولد بنيه دون بناته؛ كما لو قال: على ولد ولده وذرّيته لصلبه] فقوله رحمه الله: (وإن وقف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين، فهو لولده الذكور والإناث بالسوية) فيه مسائل: المسألة الأولى: إذا قال على ولدي. المسألة الثانية: إذا قال: على ولد فلان. المسألة الثالثة: إذا قال: على ولدي ثم على المساكين.

دخول الذكور والإناث في الوقف على القرابة وأهل البيت والقوم

دخول الذكور والإناث في الوقف على القرابة وأهل البيت والقوم قال رحمه الله: [والقرابة وأهل بيته وقومه يشمل الذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه وجدِّه وجد أبيه] أي: فإن قال: وقف على أقربائي وأهل بيتي، أو أهلي، أو وقفٌ على المسكين من أهلي، أو على المحتاج من أهلي، فإنه يشمل الذكور والإناث. يقال إن أهل أصلها: آل، وهذا قول سيبويه من أئمة اللغة، وأُبدلت الهمزة هاءً. وأهل الإنسان، وآل الإنسان، وقرابة الإنسان تشمل فروعه من الأصول. وقومه كذلك، إن قال: للضعفاء، للفقراء، لطلبة العلم من قومي، فإنه يستوي فيه الذكور والإناث، إلا أن يَخُص، ولذلك قال: [يشمل الذكر والأنثى من أولاده] أي: لأن الآل لا تختص بالذكور دون الإناث، قال صلى الله عليه وسلم: (إنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)، والإجماع قائم على أن قوله: (آل محمد)، شاملة للذكور والإناث، وأهل مثل آل، فلو قال: على أهل بيتي؛ فإنها تشمل الإناث، وفي حديث الكساء أنه عليه الصلاة والسلام جلّل فاطمة رضي الله عنها وجعلها من أهل البيت، وهي من أهل بيته بالإجماع. فأهل بيت الإنسان وآله وقرابته يستوي فيهم الذكور والإناث، قال تعالى: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود:73]، فالخطاب متوجه لزوجة إبراهيم عليها السلام لما عجبت من أمر الله عز وجل فقيل لها: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:73]. فأهل الإنسان تطلق على الزوجة {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [طه:10]، تُطلق الأهل بمعنى البيت خاصة، سواء كان للزوجة وأولادها ومن هو قريب من ذلك كالخدم والحشم، وتُطلق بمعنى العموم، ويقال: أهل الإنسان ومرادهم كل من يمت إليه بالقرابة والصلة. وقوله: (وأولاد أبيه): وهم من يجتمعون معه في الأصول، فيشمل ذلك أعمامه وعماته الأشقاء، وهم الذين شاركوا أباه في أصليه، والعمة لأب، والعمة لأم من حيث الأصل، لكن بالنسبة لمن فوقهم يختص بالأصول وهو جد أبيه ومَن علا. قال: [وجد أبيه] أي: جد أبيه، وجد جده، ونحو ذلك؛ لأنها كلها أصول وتدخل في آله وقرابته. قال رحمه الله: [وإن وُجدت قرينة تقتضي إرادة الإناث أو حرمانهن عُمل بها] يريد إناثه؛ كان يقول: بيتي وقف على المطلقة من بناتي، أو على المطلقة من ذريتي، أو على المطلقة من نسلي، أو وقفٌ على المحتاجة من قرابتي، هذا يخص الإناث دون الذكور، فالذكر لا يستحق في هذه الحالة، ولا يدخل. وأُثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنه أوقف على الإناث من ذريته، وهذا قول لبعض العلماء، فيرى أنه يجوز تخصيص بعض الولد عند الموجب، وفي النفس منه شيء، لكن عمل به بعض الصحابة رضوان الله عليهم، ويؤثر عن الزبير وابنه عبد الله بن الزبير رضي الله عن الجميع أنه خشي على بناته فجعله للمطلقة والأرملة؛ لأن الذكر يستطيع أن يكافح، ولكن الأُنثى إذا طُلِّقت أو مات عنها زوجها خُشي عليها. فيوقف على المحتاجة من ذريته إذا طُلِّقت أو أصبحت أرملة خوفاً عليها من العار، وهذا يجوزه بعض العلماء؛ لأنهم يقولون: يجوز أن يَخُص الوالد بعض ولده للعوز والحاجة، مثل أن يكون ابنه -لا قدر الله- مشلولاً، فيجوز أن يعطيه ما لا يُعطي الصحيح، ولو كان ابنه طالب علم يحتاج إلى نفقة خاصة أعطاه نفقة طالب علم، فهذا التفضيل للسبب، فيرى أنه إذا فضّل بعض ولده بالوقف عليهم لسبب، أو مثلاً جعل للذكور حظاً، وجعل للإناث حظاً، فأوقف على الذكور داراً، وأوقف على الإناث مزرعةً وعدل بينهم، فهذا له وجهه. الشاهد أنه إذا قيّد بالأنثى؛ فإنه يعمل بتقييده، سواء كان ذلك بأمارة، أو كان صريحاً، فقال: للمطلقة أو للأرملة إذا رُمِّلت، فإن قال: للمطلقة فإنه يكون مقيداً بالمطلقة ولا يشمل الكل، وإذا قال: للأرملة، أو قال: التي لا زوج لها، إذا قال: التي لا زوج لها فهذا أعم، لأنه يشمل الصغيرة التي لم تتزوج بعد، فمن حقها أن تسكن، ومن حقها أن تأكل من هذا الوقف، لكن إذا قال: للمطلقة؛ فلا بد أن تكون زُوِّجت ثم بعد ذلك طلِّقت، ويُراعى في هذا وجود الحاجة إلى الستر.

دخول الإناث في الوقف دون أولادهن إذا عنى الواقف ببني فلان القبيلة

دخول الإناث في الوقف دون أولادهن إذا عنى الواقف ببني فلان القبيلة قال رحمه الله: [إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن]. وذلك على التفصيل السابق، أنه إذا شركت بين الذكور والإناث فتعتبر البطن الأول وتلغي ذرية الإناث من البطن الثاني بنفس التفصيل، ثم البطن الثاني تعطي الذكور والإناث مستويين، ثم تلغي البطن الثالث من بنات البطن الثاني، وهكذا يصبح الحكم مطرداً في جميع البطون.

اشتراك الذكر والأنثى

اشتراك الذكر والأنثى فالعلماء كلهم متفقون على أن من قال: على ولدي أنه يشمل الذكور والإناث؛ لأن العرب عندما تُطلِق هذا اللفظ تريد به الإناث مع الذكور {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]. فشرّك سبحانه وتعالى بين الذكر والأنثى تحت مسمى الولد، فدل على أن الولد يشمل الذكور والإناث معاً، وهكذا الخناثى فإن الخنثى المُشْكِل يدخل في الولد. فإذاً المسألة الأولى أنه إذا قال: على ولدي، فجميع أولاده وجميع نسله من الذكور والإناث داخلون في هذا، هذا كله في البطن الأول. والولد إما أن يكون من البطن الأول، وإما أن يكون من غيره، والبطن الأول هو الولد المباشر الذي هو ولدك مباشرةً ذكراً كان أو أنثى، فالبطن الأول هو أول ما أنجب الإنسان، ويليه بعد ذلك البطن الثاني، وهو ابن الابن، وبنت البنت، وبنت الابن، وابن البنت، هذا البطن الثاني الذي بينك وبينه واسطة. وهذه الواسطة هي فرع من البطن الأول، إما ذكر وإما أنثى، يتمحّض ذكوراً أو يتمحّض إناثاً، أو يجمع بينهما، يتمحض ذكوراً كابن ابنك، ويتمحض إناثاً مثل بنت بنتك، ويجمع بينهما ابن البنت وبنت الابن، والبطن الثاني فيه التفصيل، فالبطن الأول لا إشكال أنه إذا قال: وقفت داري على ولدي أن الذكور والإناث داخلون، وأنهم مستوون في الاستحقاق كما قدمنا.

دخول البطن الثاني وما بعده مع البطن الأول في الانتفاع بالوقف عند الإطلاق

دخول البطن الثاني وما بعده مع البطن الأول في الانتفاع بالوقف عند الإطلاق لكن البطن الثاني فيه تفصيل وفيه مسائل: المسألة الأول: هل إذا قال: وقفتُ على ولدي. يدخل البطن الثاني ومن بعده أو يختص بالبطن الأول؟ فمثلاً: لو أن رجلاً قال: وقفت مزرعتي هذه على أولادي ثم على المساكين، فأولاده الذين هم من صلبه مباشرة لا إشكال أنهم مستحقون؛ لكن الإشكال: متى ننتقل للمساكين؟ هل قوله: (أولادي) يشمل جميع نسله حتى ينقطع، أو يختص بالبطن الأول ثم نحكم بانتقال الوقف وصيرورته إلى المساكين؟ لهذه المسألة وجهان عند العلماء، فالمنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سُئِل عن هذه المسألة فنص على أن ولد الولد يدخل في حكم الولد، وأن من قال: على أولادي. فإننا نُلحق أولاد البطن الثاني بأولاد البطن الأول، ولا ينتقل للمساكين إلا إذا انقطع نسله أو انتهى عقبه. وهناك وجه ثانٍ وقول ثانٍ لبعض العلماء، يقول: إذا قال: وقفت على أولادي أو على ولدي ثم على المساكين؛ فإنه حينئذٍ ينتقل الوقف إلى المساكين بعد موت البطن الأول. وعلى هذا القول يكون قوله: (أولادي) خاص بالبطن الأول فقط، فلا نلحق أولاد الأولاد مكان الأولاد ولا ينزّلون منزلتهم. والصحيح الأول، وهو أنه إذا قال: وقفت على ولدي فإنه يلتحق ولد الولد حتى ينقطع نسله وعقبه، ثم بعد ذلك ينتقل إلى المساكين كما سبق، لكن كل هذا الخلاف محلّه ألا يأتي بقيد أو بعبارة تدل على أنه يريد ولد الولد، فإذا قال مثلاً: على أولادي إلى أن ينقطع نسلي ثم على المساكين، أو يقول: على أولادي والمساكين من بعدهم إذا لم يوجدوا، أو على أولادي فإن انقطع عقبهم فللمساكين؛ فحينئذٍ لا إشكال، والإجماع منعقد على أننا ننزِّل الطبقة الثانية بعد الطبقة الأولى، وهكذا بالنسبة للطبقات. هذه المسألة الأولى، نخرج منها بخلاصة وهي أن من قال: وقفت على أولادي ثم على المساكين، أن الانتقال إلى المساكين لا يكون إلا بعد انتهاء الولد، بحيث ينقطع نسله وعقبه. وهذا على الصحيح من أقوال العلماء، فإن وجدت قرينة فقولٌ واحد أنه لا يُنتقل إلى المساكين إلا بعد انقطاع النسل كقوله: على أولادي فإذا انقطع نسلهم فعلى المساكين.

اشتراك البطن الثاني وما بعده مع الأول في الانتفاع بالوقف

اشتراك البطن الثاني وما بعده مع الأول في الانتفاع بالوقف المسألة الثانية: إذا قال: وقفت على أولادي، وقلنا: إن البطن الثاني يستحق، يرد Q متى نحكم بدخول البطن الثاني مع البطن الأول؟ فلو قال: مزرعتي هذه وقفٌ على ولدي ثم على المساكين؛ وقلنا إن البطن الثاني يستحق كما يستحق البطن الأول؛ لكن هل هو على الترتيب أو على التشريك؟ و A أنه على التشريك وأنه إذا قال: وقفت مزرعتي هذه على أولادي، فإننا نُلحِق البطن الثاني بالأول، والبطن الثالث أيضاً بهم، فجميعهم ولدٌ له، فبمجرد ما يُولد من البطن الثاني أو الثالث يستحق، وكل من يولد من هذه البطون مشترك في الاستحقاق؛ لأنه قال: (على أولادي) وقد سبق أن قلنا: فإن أطلق استوى الذكر والغني وضده، أي: يستوي الجميع في الاستحقاق. فائدة المسألة: لو كان له محمد وعبد الله -من البطن الأول- ثم زيد وعمرو من البطن الثاني -أولاد عبد الله- في هذه الحالة تُقسم الثمرة بين الأربعة، وندخل البطن الثاني مع البطن الأول ولو ولد الساعة؛ لأنه شرك بين أولاده ولم يرتِّب، وأطلق في هذا التشريك، فنقول: البطن الثاني مشترك مع البطن الأول. فلو أن زيد بن عبد الله الذي هو البطن الثاني تزوج وخلف أحمد، فإن أحمد يشارك أعمامه، ويشارك عم أبيه وجده في القسمة. إذاً: لا ننتظر للبطن الثاني في استحقاقه موت البطن الأول، ولا ننتظر للبطن الثالث في استحقاقه موت البطن الثاني؛ لأنه شرك وأطلق، فهؤلاء كلهم يُنزّلون منزلة واحدة. إذاً لو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فإننا نحكم بأن أولاده يستحقون: الذكر والأنثى، البطن الأول والبطن الثاني والثالث، فلا يختص ببطن دون آخر ما لم يقل: الأقرب فالأقرب، أو: البطن الأول ثم الذي يليه ثم الذي يليه. فإذا قال بالترتيب، كأن يقول: وقفت على أولادي من البطن الأول، فإن مات منهم أحد نُزِّل ولده منزلته، فحينئذٍ يكون أيضاً دخول للبطن الثاني مع البطن الأول لكن بالترتيب، وبالشرط أنه يُنزّل منزلة والده، وحينئذٍ نقسم على القسمة الأصلية، فإذا كان له ثلاثة أولاد نقسمه على ثلاثة، وتُصبح خطوط الإرث على الثلاثة هذه، وكل ورثة من بطن يُنزّلون منزلة أصلهم. وعلى هذا فلو قال لنا: وقفت على أولادي ثم المساكين، أو على ولدي فلان، مثلاً شخص يكون عنده ذرية، ويريد أن يتصدق بالثلث على قريب، لما فيه من صلة الرحم، ولأن الصدقة عليه أعظم ثواباً، فقال: وقفت مزرعتي هذه -وهي تساوي الثلث- على ولد عمي صالح، فكل ذرية عمه صالح يدخلون في هذا الوقف، يستوي ذكورهم وإناثهم، هذا بالنسبة للبطن الأول، وبالنسبة للبطن الثاني فإنه يشارك البطن الأول، وكذلك البطن الثالث مثلما تقدم.

اختصاص أولاد الذكور في البطن الثاني وما بعده دون أولاد الإناث

اختصاص أولاد الذكور في البطن الثاني وما بعده دون أولاد الإناث يبقى السؤال في مسألة تشريك البطن ذكوراً وإناثاً، ففي البطن الأول يشرِّك بين الذكر والأنثى، وفي البطن الثاني يخُص الاستحقاق بأولاد الذكور دون أولاد الإناث، مثلاً: إذا كان له محمد، وعبد الله، وصالح، وفاطمة، فكلهم يشتركون ويُقسم الاستحقاق على أربعة يستوي فيه الذكور والإناث. فإذا أنجبت فاطمة فإن أولادها لا يستحقون؛ لأن أولادها أولادٌ لغيره وليسوا ولداً له. بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد ولذلك يُنسب للرجل ولا ينسب للمرأة كما هو معلوم، فحينئذٍ يشرك بين الذكر والأنثى في الطبقة الأولى، ثم ينظر في الطبقة الثانية التي هي البطن الثاني إلى ذرية الذكور دون ذرية الإناث، ثم هذا البطن الثاني وهم أولاد محمد وعبد الله وصالح يستوي ذكورهم وإناثهم، لكن الأنثى منهم لو أنجبت بطناً ثالثاً لا يكون له استحقاق في الوقف لأنه ليس من ولد الميت، إنما يختص ولده بالذكر والأنثى، وولد الذكر المحض. كما أنه في الميراث لا يرث ابن البنت إلا من جهة ذوي الأرحام، وهذه مسألة سيأتي تفصيلها إن شاء الله في كتاب الفرائض، فما جعل الله عز وجل لهم استحقاقاً وإرثاً، لا فرضاً ولا تعصيباً من حيث الأصل، فابن البنت ابن لوالده الذي هو غريب عن الواقف، ولا يعتبر آخذاً حكم ابن الابن. إذاً المسألة الثانية أننا نجعل أولاده مستوين ذكوراً وإناثاً بالنسبة للبطن الأول، وفي البطن الثاني نعطي الوقف لذرّية الذكور من البطن الأول، دون ذرية الإناث سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً، فلو أن البنت أنجبت ابناً أو أنجبت بنتاً فالحكم واحد؛ لأن ابن البنت ابناً للغير، ولو أنه يُنسب إليه تجوُّزاً أو مسامحة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (إن ابني هذا سيد)، فهذا من باب المسامحة. وقال عليه الصلاة والسلام في النعمان بن مقرن رضي الله عنه: (ابن بنت القوم منهم). فهذا كله مسامحة، لكن في حكم الله عز وجل في الاستحقاقات {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3]. ولذلك تجد نسبة هذا الولد من البنت إلى أصلٍ ثان وهو أصل أبيه، ولا ينسب إلى والد أمه الذي هو الجد، فالذكور لهم حكم والإناث لهن حكم، وسلسلة النسبة والإضافة متعلقةٌ في حكم الدنيا بالآباء دون الأمهات.

لا ينتقل الوقف على الولد إلى المساكين بموت البطن الأول

لا ينتقل الوقف على الولد إلى المساكين بموت البطن الأول قال رحمه الله: [وإن وقف على ولده أو ولد غيره، ثم على المساكين]. بقي Q لو قال: على ولدي ثم المساكين، أو على أولادي ثم المساكين، كلمة (ثم) تقتضي الترتيب، فنحن لا نحكم بانتقال الوقف من ولده إلى المساكين إلا بعد انقطاع النسل والذرية، فإذا انقطعت ذريته، أو انقطع عقبه فإننا نحكم بأن الوقف قد صار إلى المساكين، أو قال: إلى الفقراء، أو قال: إلى طلبة العلم، أو غير ذلك، أو مثلاً لبني عمي، فهذا ينتقل على حسب ما اشترط صاحب الوقف. إذا قال: على ولدي أو ولد فلان، فالمصنف رحمه الله أدخل مسألة ولد فلان، يعني أن الحكم لا يختص بولده هو، فلو قال: على ولد عمي صالح، فحينئذ ننظر إلى أولاد عمه صالح ونشرّك بين البطن الأول والبطن الثاني، ونسوي بين الذكور والإناث في البطن الأول، ونلحق البطن الثاني بالبطن الأول إذا كان من ذرية الذكور دون الإناث على التفصيل الذي تقدم بيانه. [ثم على المساكين فهو لولده الذكور والإناث بالسوية] أي: ما لم يُفضِّل فلو قال: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)، فقد فضل. قال: [ثم ولد بنيه دون بناته] هذا البطن الثاني. إذاً لو قال: على ولده، وعنده محمد وعبد الله وصالح، لم يُنجب من هؤلاء الثلاثة إلا محمد، فالذين أنجبهم محمد نسوِّي ذكورهم وإناثهم، لأنهم يدلون بذكر، لكن بالنسبة للأنثى من محمد فليس لذريتها ونفسها استحقاق في الوقف.

حالات تنزيل أفراد البطن الثاني مكان أفراد البطن الأول وعدم تنزيلهم

حالات تنزيل أفراد البطن الثاني مكان أفراد البطن الأول وعدم تنزيلهم [كما لو قال على ولد ولده وذريته لصلبه] يريد المصنف أن يشير إلى المسألة الخلافية وهي: هل إذا قال على ولدي. اختص الحكم بالبطن الأول، أو يشمل البطن الأول والثاني، فقال: إنه لا فرق بين أن يقول: على أولادي، أو أولادي وأولاد أولادي. لكن في الغالب أنه إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذٍ لا نعطي البطن الثاني مع وجود البطن الأول. مثال: لو قال: هذه المزرعة وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. نقول: نشرِّك بين أولاده في البطن الأول، فلو جاء البطن الثاني يبقى محبوساً ولا يأخذ شيئاً في الوقف حتى يموت البطن الأول كله، ولو مات واحدٌ من البطن الأول ذكراً كان أو أنثى قُسِم نصيبه على البقية. ولو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، فلو كان له من الولد في الصلب ابنان ذكران فنقسم الوقف بينهما، ولو أنجب أحدهما ولم ينجب الآخر، أو أنجب الاثنان فلا ننظر في ذريتهما ولا ننظر في البطن الثاني؛ لأنه قال (ثم)، فالبطن الأول هو المسئول عنه، والبطن الثاني غير مسئول عنه؛ لأنه لم يصل الاستحقاق إليهم. فلو توفي واحد من الولدين أخذ الثاني النصيب كاملاً، فإذا توفي هذا الثاني من البطن الأول نَزَل الاستحقاق للبطن الثاني، واستحق أصحاب البطن الثاني بالتفصيل الذي ذكرناه في مسألة الذكور والإناث إذا كان عنده ذكور وإناث في البطن الأول. إذاًَ: إذا قال: على ولدي ثم ولد ولدي، أو أولادي ثم أولاد أولادي، أو أولادي ثم الذين يلونهم، أو: ثم مَن بعدهم، فكل هذا ينبه على أنه لا يُنزِّل البطن الثاني منزلة البطن الأول إلا بعد انتهاء وانقراض البطن الأول.

اختصاص الذكور بالوقف عند قوله: (على بني أو بني فلان)

اختصاص الذكور بالوقف عند قوله: (على بنيّ أو بني فلان) قال رحمه الله: [ولو قال على بنيه أو بني فلان اختص بذكورهم إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن من غيرهم] فقوله رحمه الله: (ولو قال على بنيه أو بني فلان اختص بذكورهم) بعد أن بين المصنف رحمه الله اللفظ الذي يقتضي العموم بقوله (أولادي) شَرَع فيما يقتضي التخصيص، فلو قال: على بَنِيّ، أو أبنائي، أو على بناتي، فحينئذٍ يَختَص بالبنين إن نص عليهم، ويختص بالإناث إن سماهن. إذاً فالابن لا يشمل الذكر والأنثى، وإنما يختص بالذكور دون الإناث، وعلى هذا مذهب العلماء قاطبة رحمهم الله. لكن لو قال: على بني فلان، أو على الفقراء من بني سلمة، أو من بني زياد، أو من بني عمرو، فلفظة (بني) هذه تطلق على القبيلة فيستوي ذكورها وإناثها؛ لأن العُرف واللغة يقتضي ذلك، ولقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرمي أنه جعل البنوة شاملة للذكور والإناث، تقول: هؤلاء من بني عبد الله. قال صلى الله عليه وسلم: (الأنصار وجهينة ومزينة وغفار وأسلم وبنو عبد الله من غطفان) غطفان هي مُطير الموجودة الآن، وبنو عبد الله فخذ منهم، وكانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أشبه بالقبيلة، قال: (وبنو عبد الله من غطفان موالي الله ورسوله) كما في الصحيح، فسماهم قال: (بنو عبد الله) وشرّك، وهذا مُقتضٍ لتشريك الذكور والإناث؛ لأنهم أسلموا وكان لهم بلاء في الإسلام. فالبنوة تُطلق على القبيلة ويُراد بها العموم والشمول، فتشمل الذكور والإناث، تقول: بنو فلان فتشمل ذكورهم وإناثهم، إن قال: بنو عمي، بَنِيّ، بنو خالي، بنو أخوالي، هذا كله يختص بالذكور، لا يشمل الذكور والإناث معاً، لكن إذا قال: بنو فلان وهي قبيلة فإننا نحكم بالتشريك بين الذكور والإناث؛ لأن هذا اللفظ وإن كان يختص بالذكور دون الإناث؛ لكنه يطلق ويُتجوّز فيه فيعم الذكر والأنثى.

الوقف على جماعة يمكن حصرهم

الوقف على جماعة يمكن حصرهم قال رحمه الله: [وإن وقف على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتساوي] وذلك كما لو قال: على ولدي، وولده -مثلاً- عشرون، أو يبلغون الأربعين أو الخمسين؛ فحينئذٍ نقسم على الأربعين والخمسين لأنه أَمكن حصرهم، لكن إذا قال: وقفت داري هذه على طلبة العلم أو: وقفت ثمرة بستاني هذا صدقة على المساكين، أو على الفقراء، وكان بموضعٍ فيه حاجة وفيه عوز، ولا يمكن حصر الفقراء فيه. فقد عرفنا أنه إذا أطلق أطلقنا، وإذا قيد قيدنا، وعملنا بما يقول والتزمنا ما اشترطه الواقف فيما بينه وبين ربه، لكن الإشكال أننا في بعض الأحيان إذا أردنا أنا نُعمِّم أو نعمل بالمطلق لا نستطيع استيعاب الكل، والأصل الشرعي يقتضي أنه يجب استيعاب الكل، فلو قال: على ولدي؛ فإنه يجب قسمة هذا الوقف على الولد، ولا يجوز تخصيص بعض الولد دون بعض، ومن هنا يكون الناظر آثماً شرعاً، وظالماً معتدياً لحدود الله إن حجب بعض الورثة وبعض المستحقين مع علمه باستحقاقهم، بل يجب عليه أن يسوِّي بين الجميع إذا سوَّى بينهم الواقف. فهذا الذي بينه وبين الله، فالواقف أخرج من ذمته هذا الوقف على هذا الوجه، وجعله مُمَلكاً -على القول بأن غلته مملوكة للموقف عليهم- لهؤلاء الذين سماهم، فلا يجوز حرمان بعضهم، وهذا تعد لحدود الله. لكن لو أن الجهة التي خُصت بالوقف لا يمكن حصرُها، ولو جئنا نحصر الفقراء والمساكين لم نستطع، مثل بلد فيها فقر شديد أو قال: على طلبة العلم، وطلاب العلم كثيرون جداً، فيجوز تخصيص بعضهم دون بعض، لكن يُرجع في هذا إلى القاضي، ويجوز للناظر إذا عدم القاضي أن يجتهد ويتقي الله في اجتهاده. فمثلاً إذا قال: أوقفت غلة هذا البستان على أولادي، ولا يمكن حصر أولاده؛ فقام الناظر بحصر المحتاجين فقدّم المحتاجين على غير المحتاجين، فهذا تصرف حكيم، والقاضي لو كان مكانه لتصرف بذلك؛ لأنه إذا أصبح الوقف عاماً للجميع ولا يمكن تعميم الجميع؛ والذين سيتضررون إن حرموا هم المحتاجون، فحينئذٍ نقول: لما كان الغني غير محتاجٍ، ويصعب حصر الأغنياء مع الفقراء، قُدِّم الفقراء على الأغنياء؛ لأن سبيلهم أعظم ثواباً وأعظم أجراً، فيُعطون ويُصرف لهم. ولو كان المحتاجون أيضاً لا يمكن حصرهم، كالمحتاجين من طلبة العلم، وممكن أن يكون هناك طلبة علم في ثغر أعظم بلاءً من غيرهم، فنُقدِّم هؤلاء الذين هم أعظم بلاءً، مثلاً طالب العلم الذي له عشر سنوات في طلب العلم نقدمه على طالب العلم المبتدئ، وطالب العلم الذي ينضبط في الدروس نقدمه على طالب العلم الذي لا يأتي الدرس إلا في الأسبوع فيُفضَّل بين المستحقين بتفضيل شرعي، ومبرر صحيح، ولا بأس بذلك؛ لأنه إذا تعذر حصر الكل صُرف إلى الأولى فالأولى، كما قال المصنف رحمه الله: [وإلا جاز التفضيل والاقتصار على أحدهم] أي: جاز أن يُفضل بعضهم، أو الاقتصار على أحدهم، مع أنه من حيث الأصل يُراعى شمولية الوقف للأكثر ما أمكن.

الأسئلة

الأسئلة

استخلاف المسبوق في الصلاة

استخلاف المسبوق في الصلاة Q إمامٌ طرأ عليه عذر فقدم رجلاً من خلفه وكان هذا المقدّم مسبوقاً بركعة، فكيف يصنع، خصوصاً أن وراءه من أدرك الصلاة مع الإمام من بدايتها؟ A هذا هو الفقه، خذوها قاعدة، الإمام عندنا فيه سنة وعندنا أصل، وكثير من المسائل تتفرع على السنة والأصل، والأصل العام مستنبط من السنة، لكن المراد بالسنة هنا الحديث الخاص: (إنما جعل الإمام ليؤتم به). أما الأصل فإنك مطالب بعدد من الركعات في الصلاة لا تزيد عليه ولا تنقص منه، فما الحكم إذا قدم مسبوقاً؟ إذا فرضناً أنه مسبوق بركعة، في هذه الحالة يصلي ويُتم الصلاة كفعل الإمام، فإذا بقيت له الركعة الباقية ثبت أهل المسجد يتشهدون، وقام لوحده، وأتم الركعة ثم تشهد، ومن هم خلفه يطولون في الدعاء والمسألة حتى ينتهي من الركعة، ثم يتشهد ثم يسلِّم بهم. لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى صلاة الخوف، ثَبَتت الطائفة الأولى وتشهّدت، ثم أتم بالطائفة الثانية الركعة، ثم جلس يتشهد فقامت الطائفة الثانية وأتمت لنفسها، ثم تشهد بالطائفتين وسلم؛ عليه الصلاة والسلام. هذه أحوال طارئة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم في حال الخوف كانت عنده ركعات زائدة على ركعات المأمومين، ومن هنا أخذ العلماء أنه إذا اختل الأمر فاحتاج المأموم أن يزيد، أو احتاج الإمام أن يزيد، فحينئذٍ يترك الإمام على زيادته ويبقى المأموم معذوراً. تخرجت على هذه مسألة ما إذا زاد الإمام، وأنت تعلم أنه في الخامسة تبقى في التشهد ولا تتابعه، ولا أعرف أحداً من أهل العلم يقول إنه إذا قام الإمام للخامسة قام المأموم وراءه، هذا لا يقول به إلا بعض المتأخرين ولا أدري من أين جاء به. والأصل يقتضي أن تبقى؛ لأن الله أمرك بأربع ركعات، ولم يأمرك بإحداث خامسة ولا سادسة، وأمرك بمتابعة إمامٍ في الصلاة لا فيما هو خارج عن الصلاة، والخامسة ليست من الصلاة، وأنت تعتقدها خارجة من الصلاة، ولا يجوز لك أن تتعبد الله عز وجل بها، لذلك لا يجوز لك أن تأتم بإمام إلى قبلة غير القبلة التي تراها. وإذا كان هذا في الشرط فكيف في الركن؟ فإذاً: من حيث الأصل الإمام تتابعه في الحدود الشرعية، فإذا زاد الخامسة معذوراً لسهوٍ، أو معذوراً لنقصٍ، ثَبَتّ متشهداً حتى يُتم خامسته ثم تتابعه في التشهد. يبقى السؤال: لماذا لا تُتم وتسلم؟ لو أتممت وسلّمت لنفسك لا نقطعت عن الجماعة وفات أجر الجماعة؛ لأن الجماعة من التكبير إلى التسليم. ففائدة المسألة: أنك تثبت حتى تبقى فيسلِّم بك، ولذلك فهذان الأمران: الإحرام والتسليم، من سبق الإمام فيهما بطلت صلاته؛ لأنهما أعظم ما في الإمام من أركان، بخلاف بقية الأركان: فإذا ركع قبله رجع فتدارك، وإذا سجد قبله رجع، إلا إحرامٌ وسلام، فإن سبق المأموم الإمام فيهما بطل اقتداؤه، أي: بطل كونه مأتماً به. فالحاصل أن تبقى معه وتكون القاعدة المعروفة: ما جاز لعذر بطل بزواله، وما أبيح للضرورة يُقدَّر بقدرها. فهو مضطرٌ إلى زيادة ركعة، وأنت تنفصل عنه بقدر الزيادة، فإذا أتم الركعة وجلس للتشهد تبقى وراءه، وترجع إلى الأصل وهو أنك ملزم بمتابعته، وليس عندك دليل يُجيز لك أن تنفصل عنه وتتم وتتشهد؛ لكن إذا كان الأمر بالعكس، فمثلاً لو كان الذين وراء الإمام جاءوا مسبوقين، فالحكم واضح وهو أنهم يتموا وراء الإمام، ثم إذا تشهد وسلم قاموا وأتموا ما سبقهم فيه الإمام وخليفته. وأما إذا جاء المأمومون كلهم مع بعض في الركعة الثالثة، والإمام حصل له عذر فقدم أحدهم، تابعوه متابعة كاملة لأن صلاته وصلاتهم واحدة، لكن يبقى الإشكال في الركعتين الأخيرتين، لأنه لو صلى وراء الإمام لجلس بعد الثالثة بالنسبة للإمام، لكن هنا لا يجلس بعد الثالثة، وإنما يقوم ويأتي بالركعتين الأخيرتين تامة، ويتابعه المأمومون. وفي هذه المسالة عشر مسائل مبسوطة، أعني مفرّعة، لأنها تختلف في الرباعية والثنائية والثلاثية بحسب اختلاف السبق والتأخر عن الإمام. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الجمع بين جواز الوقف على الوارث وعدم جواز الوصية لوارث

الجمع بين جواز الوقف على الوارث وعدم جواز الوصية لوارث Q أشكلت علي مسألة، وهي تخصيص الوقف على البنات دون الأولاد أو العكس مع مسألة عدم الوصية للوارث. A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالوصية شيء، والوقف شيء آخر، فالوقف منجَّز، والوصية موقوفة على الموت، والوقف لا رجعة فيه، والوصية يملك الإنسان الرجوع فيها ما لم يمت كما سيأتي تفصيله في باب الوصية. الوقف شيء والوصية شيء آخر، فالوقف يكون في الحياة، يقول: أوقفته على ولدي. ويسري في حياته، لكن نحن عندما نقول بالوقف، نقول: إنه يجوز أن يجعل للإناث، ويجعل للذكور؛ لكن بالعدل، لو أنه أَوقف على الذكور، وأوقف على الإناث، وعدل بين الذكور والإناث فلا إشكال. فلو أن رجلاً حصل له مُوجب ورأى بناته يُطلَّقن ويتعرّضن للأذية والإضرار فأَوقف لهن، ونظر أن هذا من النصيحة والرعاية لولده، وحسن التفقد لهم، فذكوره بخير، وأبناؤه بخير، ولكن إناثه وبناته في ضيعة إذا لم يترك لهن مأوىً يحفظهن، ولم يترك لهن بيتاً يأوين إليه خاصة في الظروف التي تطرأ، فهذا له مُبرر ويكون قد فعله لسبب شرعي ومصلحة معتبرة. وهذا يختاره الوالد وطائفة من أهل العلم رحمهم الله، وعمل به طائفة من الصحابة، لكن نقول: يعدل، وإذا وُجد الموجب للتّفضيل من حيث الخوف، خاصة عند فساد الزمان، فهذا شيء يلقى الله عز وجل به. ويستقيم على مذهب من يقول: يجوز تفضيل بعض الولد على بعض عند وجود الموجب، والشريعة حينما تجعل الأنثى في هذه الحالة، إنما يدل ذلك على عظيم رعايتها للإناث، وعظيم إحسانها للمرأة، فالمرأة ينظر لها بطبيعتها الفطرية، ولا يُنظر لها خارجاً عن طبيعتها الفطرية، ومن أخرج المرأة عن طبيعتها الفطرية فقد كلّفها ما لا تطيق، فإن قصد إكرامها فوالله لقد أهانها، وإن قصد الرحمة بها فقد عذبها، وإن قصد إعزازها فقد أذلها؛ لأنه لا كرامة، ولا عزة، ولا رفعة، ولا رحمة بالمرأة إلا من حيث شرع الله جل جلاله. فإذا نظر إلى أنها تُحفظ من الضيعة إذا طُلِّقت، أو أصبحت أرملة، أو أصبحت في حاجة، وقصد شرع الله عز وجل من حسن النصيحة لبناته، وتذكّر أن النبي صلى الله عليه وسلم لفت النظر إليهن: (ما من مسلم يكون له ثلاث من البنات فيحسن تأديبهن إلا كن له حجاباً من النار. قالت امرأة: يا رسول الله! واثنتين؟ قال: واثنتين) فبين فضل حسن الرعاية للبنت. البنت تحتاج إلى رعاية أكثر مما يحتاجه الذكر، فإذا كان خص الأنثى بهذا، وفضّلها بهذا، خاصة إذا نظر إلى أن أولاده كافحوا، وعندهم ما يسدهم ويكفيهم، فهذا وجه لبعض العلماء، ولكني لا أُفتي به، أنا أقول: هذا وجه لبعض أهل العلم، وله سلف، وخاصة أن ابن الزبير والزبير نفسه حُكي عنه هذا، واختاره بعض العلماء، لكن من تورع وتحفظ وترك الأمر لقسمة الله عز وجل من فوق سبع سماوات، وتركه ميراثاً شرعياً؛ فلا شك أنه قد أصاب وأحسن، والله تعالى أعلم.

إصلاح الوقف من نصيب الموقوف عليهم كل على قدر نصيبه

إصلاح الوقف من نصيب الموقوف عليهم كل على قدر نصيبه Q ترك والدٌ لأولاده بيتاً، فاحتاج البيت إلى إصلاح، فهل تدفع الأنثى نصف ما يدفعه الذكر؟ A لاشك في هذا أن الغنم بالغرم، والخراج بالضمان، فالأنثى تدفع في الخسارة نصف ما يدفعه الذكر، وتأخذ في الناتج نصف ما يأخذه الذكر، لا تظلم ولا تُظلم، فكما أنها في الربح والناتج تأخذ نصفه، كذلك في الخسارة يلزمها في إصلاح البيت نصف ما يدفعه الذكر، فإذا احتيج لإصلاح البيت إلى ثلاثة آلاف، أو ثلاثين ألفاً وهناك ذكر وأنثى فإن الذكر يدفع عشرين ألفاً وتدفع الأنثى عشرة آلاف من الثلاثين ألفاً، ويدفع الذكر ألفين وتدفع الأنثى ألفاً إذا كان الإصلاح بثلاثة آلاف. فالذكر يدفع ضعف ما تدفعه الأنثى في حال الغرم، كما يأخذ ضعف ما تأخذه في حال الغنم، والقاعدة: (أن الغنم بالغرم والخراج بالضمان)، والله تعالى أعلم.

تعيين حصة لناظر الوقف

تعيين حصة لناظر الوقف Q لو عيّن الواقف ناظراً لوقفه واتفق على عشر نتاجه من المزرعة، فهل هذا التصرف صحيح أم أنه مبني على الجهالة والغرر، إذ لا يُعلم كم سيكون نتاج المزرعة؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالأفضل في ناظر الوقف أن يحتسب في نظارته وأن يأكل بالمعروف، وهذا هو المحفوظ في حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين أنه جعل لمن ولي النظارة على وقفه أن يأكل بالمعروف غير متأثل ولا مُتموّل، وقد تقدّم معنا. لكن إذا جعل للناظر نصيباً، أو قال الناظر: أريد نصيباً، وكانت مصالح الوقف والأمور التي يلي نظارتها تحتاج منه إلى كلفة وعناء ومشقة، وربما تحبسه عن الرزق، وتحبسه عن مصالحه، فلا بأس أن يجعل القاضي له نصيباً، فإذا جعل له الواقف فلا إشكال، كأن قال الواقف: وقد جعلت عُشر الوقف لمن ولي النظارة. وإذا ثبت أنه يأخذ العشر أو الربع أو الثمن أو الخمس أو ما سمى الواقف فالسؤال: هل هذا يعتبر جهالة؟ الواقع من حيث الأصل أن النسبة فيها نوع جهالة، فثمن الغلّة أو ربع الغلة أو خمس المحصول، لا يُشَك أنه جهالة؛ لأنه وإن كان معلوم النسبة لكنه مجهول القدر، فإننا لا ندري كم سيكون الربع في هذه السنة؟ مثلاً لو أُجر الوقف بمليون، أو أن المصالح الموجودة في الوقف تُدِر المليون، عُشرها مائة ألف، لكن تأتي السنة الثانية يكون عشرها مثلاً عشرة آلاف ريال بحيث تكون المصالح كلها مائة ألف مثلاً، ويكون عُشرها عشرة آلاف، فإذاً لا يمكن أن يُعلم قدر هذا العشر. فبعض العلماء يجعله مخرَّجاً على المساقاة مُلحقاً بها؛ لأن الشيء إذا تعذر الإجارة عليه في الغلة المعينة يُصار إلى تحديد النسبة احتياجاً، وبعضهم يقول: بل نقيسه على المساقاة والمزارعة والمضاربة، وهذا مسلك الحنابلة والشافعية رحمهم الله الذين يعتبرون أن المضاربة شركة، وأنها ليست بخارجة عن الأصل، ولكن الحنفية والمالكية كما تقدم معنا في باب الإجارات والمضاربة لا يصححون القياس على هذا الوجه، لكنه قد يُغتفر بوجود الحاجة في مثل هذا، والله تعالى أعلم. لكن لا يُشك أن السنة أولى، فمن يلي نظارة الوقف لا يُقال: له العشر، ولا الربع، ولا الثمن، ولا الخمس، بل يقال له: أنه يأكل بالمعروف، هذا هو الذي فعله عمر، وقضى به النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لو أن القاضي حكم أنه يأخذ العشر فإنه يُعمل به؛ لأن حكم القاضي يرفع الخلاف، وقد ذكر بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أنه قد اصطلح في هذا الزمان على أن يأخذ الناظر العشر، لكثرة الفساد، وقل أن يوجد المحتسب الذي يعمل في الوقف بدون أن يأخذ شيئاً، ويأكل بالمعروف. ثم إذا وجد من يقول: أريد أن آكل بالمعروف؛ يصير المعروف منكراً، فيأخذ كل شيء ويقول: والله هذا ما فيه شيء، فكلما جاءت غلّة أكلها، وقال: أنا الناظر، ويرى أن هذا هو المعروف. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه)، والدنيا فتنة، خاصة في الأوقات التي تكون غلات الأوقاف فيها كبيرة، لكن لو وضع العشر -وهذا ما يسمى بالمصلحة المرسلة- وألزم به، وأصبح يُتَابع في التسعة الأعشار متابعة دقيقة، ويعرف كيف أخذها وأين صرفها، فهذا يكون أكثر ضبطاً في كثير من المسائل. لكن هذا كما ذكرنا اجتهاد، وله وجهه، وإذا قضى به القاضي عُمل به على وفق ما ذكرناه، والله تعالى أعلم.

باب الهبة والعطية [4]

شرح زاد المستقنع باب الهبة والعطية [4] من المسائل المتعلقة بالهبة والعطية: تصرف الوالد فيما وهبه لولده، سواء كان بعد رجوعه عن الهبة أو قبله، وسواء كان التصرف ببيع أو عتق أو إبراء، فكل حالة لها حكمها الشرعي، ويلحق بهذه المسألة حكم تصرف الوالد في مال ولده، وحكم مطالبة الولد لوالده بدينه ونحوه وهذه المسائل كلها مفصلة في هذه المادة.

أنواع التصرفات المالية للوالد في مال ولده

أنواع التصرفات المالية للوالد في مال ولده بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد تقدم معنا في المجلس الماضي بيانُ جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق برجوع الوالد في هبته إذا وهب أحد أولاده، وبينا أن السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت بجواز رجوع الوالد في هبته، ومن أسباب هذا الرجوع، ومن الحِكَم التي يمكن أن تستفاد من هذا الرجوع: أن الأب يستدرك ظلمه لأولاده فيما لو أعطى بعضهم ومنع البعض، فأجازت الشريعة له الرجوع حتى يستدرك هذا، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حينما منع والد النعمان بن بشير - وهو بشير - رضي الله عنه وأرضاه عن تخصيص بعض ولده بالعطية. ثم بعد ذلك بينا مسألة استحقاق الأب في مال ابنه، وبينا أن النبي صلى الله عليه وسلم صحت عنه السنة بمشروعية أخذ الوالد من مال ولده، حتى قال عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم). وبينا أن في ذلك الخير الكثير للولد، وأن الله يضع البركة في مال الولد إذا أحسن إلى والده، فمكَّنه من ماله وأكل الوالد من مالِه بالمعروف، فهذا من خير وأعظم ما يكون للولد براً لوالده. فقد بينا أن من حق الوالد أن يأكل من مال ولده، لكن يرد Q هل من حق الوالد أن يبيع أملاك ولده، وأن يتصرف فيها فيهبها للغير؟! أو إذا كان للولد دَين على آخرين فأراد الوالد أن يسامحهم ويبرئهم من الديون نيابةً عن ولده بدون إذن الولد هل له ذلك؟! و A إن كان هناك إذن ووكالة من الولد فلا إشكال، وقد تقدم أن الوكالة موجبة للإذن وصحةِ التصرف في حدود ما أذن به الموكل لوكيله؛ لكن الكلام أن يأتي الوالد إلى مال ولده ويتصرف فيه بالبيع، أو يشتري بمال ولده شيئاً، أو يبرئ مديوناً، ونحو ذلك من التصرفات المالية والتي تكون بعوض وبدون عوض. فمن الممكن أن يتصرف الوالد في مال ولده بالعوض، كأن يبيع سيارة ولده بعشرة آلاف مثلاً، فهذا تصرف بعقد فيه عوض، وقد يكون هذا أيضاً في المنافع، ومن أمثلته: أن يكون للولد عمارة، فيقوم الوالد بتأجير عمارته، أو أن يكون له مزرعة فيؤجرها، فهل هذه التصرفات التي بعوض صحيحة أو غير صحيحة؟ النوع الثاني من التصرفات: تصرفات بدون عوض، مثل: الهبة، كأن رأى مالاً لولده فأخذ منه وأعطاه لشخص آخر، وقال: هذا هبة أو هدية أو عطية. أو كأن يأتي شخص إلى والد صاحب المال فيقول له: إن له عليّ عشرة آلاف، وأنا ضائق الحال وفي شدة وكربة، أو قال: لك نصفها، أو ربعها، أو ثلثها، فالتصرف بإسقاط الدين كله أو أغلبه أو أقله تصرف بدون عوض؛ لأن الوالد لم يقبض عوضاً لقاء هذا الشيء الذي تبرع به. وكما تكون التصرفات بدون عوض في الهبات تكون أيضاً في العتق، وفي القديم كان يُملك الرقيق، ويكون للولد أرقاء، فيقول الوالد لعبيد ولده: أنتم أحرار، أو يا فلان أعتقتك، أو أنت حر، ونحو ذلك. فأصبحت هناك نوعان من التصرفات: تصرفات بعوض، وتصرفات بدون عوض، فإن تصرف الوالد في مال ولده بما ذكرنا فإنه لا يخرج من حالتين: إما أن يقر الولد والده على تصرفه ويجيزه ويمضيه فلا إشكال، فحينئذٍ يمضي والتصرف معتبر؛ لأنه أشبه بما تقدم معنا في مسألة تصرف الفضولي، وبينا أن تصرف الفضولي يعتبر من العقود الموقوفة، والعقد الموقوف ينقسم إلى أقسام من حيث الصحة وعدمها، ومن حيث النفاذ وعدمه، وهذا الثاني منه العقد الموقوف والعقد النافذ. فالعقد الموقوف تبقيه حتى تسأل صاحب الحق: هل أنت راضٍ بهذا التصرف أم لا؟ فإن أمضاه صح، وإلا فلا. والإشكال: إذا اعترض الولد على تصرف والده، فقال: لم آذن لك ببيع العمارة، وهذه العمارة أريدها، أو قال: لم آذن لك أن تسامحه في الدين، وأنا محتاج لهذا الدين، أو أن هذا الرجل لا يستحق أن يسامح، أو نحو ذلك، فإذا امتنع الولد من إمضاء تصرفات الوالد؛ فهل تصرفات الوالد صحيحة أم غير صحيحة؟ هذا ما شرع المصنف رحمه الله ببيانه، فأصبحت الأفكار مرتبة كالآتي: أولاً: تكلم عن الهبات، وبين أحكامها، ثم دخل في نوع خاص من الهبات وهو هبة الوالد لولده، وبين أحكامها من حيث الاعتبار، ومن حيث الصحة، ومن حيث الرجوع. وبعد أن فرغ من هذا تكلم على مسألة جواز أخذ الوالد من مال ولده، وينبغي لطالب العلم أن يفرق بين مسألة جواز الأخذ من مال الولد، وبين التصرف في مال الولد. فجواز الأخذ كأن يأتي ويجد -مثلاً- عشرة آلاف فيأخذ منها ألفاً، أو يقول: يا بني أعطني نصف راتبك، أو ربع راتبك أو ألفين من راتبك ونحو ذلك، أو كأن تكون للولد مزرعة فيأتي ويأخذ من رطبها وثمارها ونحو ذلك، أو يكون الأخذ في المنافع، مثل أن تكون هناك سيارة للولد، فيركبها الوالد لقضاء مصالحه أو نحو ذلك، فهذه كلها بينا أنها جائزة، لكن مسألة التصرفات المرتبطة بالعقود، وذلك بأن يتولى الوالد عن ولده عقوداً، فيمضي عقوداً عن الولد، سواء كانت عقود معاوضات مالية من البيع والشراء، أو كانت عقود إرفاقات كالقرض والهبة ونحو ذلك. قال رحمه الله: [فإن تصرف في ماله]. قوله: (فإن تصرف) أي: الوالد، (في ماله) أي: في مال الولد، والتصرف في مال الولد كما ذكرنا: إما بعوض وإما بغير عوض. وقوله رحمه الله: (إن تصرف في ماله) أخرج غير الأموال، كأن يطلق زوجة الولد، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق)، وقد بينا أحكام تطليق الوالد عن ولده، وفصلنا بين الصغير وغير الصغير، والمميز والذي لا يميز، لكن الكلام هنا في الأموال فقط.

حكم تصرف الوالد فيما وهبه لولده

حكم تصرف الوالد فيما وهبه لولده قال رحمه الله: [ولو فيما وهبه له]. قوله: (ولو) هذه إشارة إلى خلاف مذهبي، أي: ولو كان التصرف في مال كان الوالد قد وهبه لولده، مثال ذلك: قال: يا بني! هذه المزرعة وهبتها لك، وقد بينا أنه إذا قال: وهبتها؛ فلا تلزم الهبة إلا بالقبض، فإذا أخذ الولد هذه المزرعة وقبضها وتم القبض، وحكم بانتقال اليد فأصبحت المزرعة ملكاً للولد، فحينئذٍ يرد Q لو أن الوالد يوماً من الأيام جاء وتصرف فيما وهبه لولده، فما الحكم؟ و A أن الوالد إذا تصرف فيما وهبه لولده لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يتصرف بعد الرجوع، فيقول: رجعت عن هبة بستاني، أو يفعل فعلاً مع نيته أنه رجع، فقد بينا أنه يشرع للوالد أن يرجع في هبته، فإذا كان التصرف بعد الرجوع فلا إشكال في جواره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت للوالد الحق في الرجوع في هبته لولده. لكن الإشكال إذا تصرف فيما وهبه له قبل الرجوع، فقال رحمه الله: (ولو فيما وهبه له)، فهناك قول بجواز التصرف مطلقاً في كل ما وهبه له، وكأن هذا التصرف يعتبر رجوعاً في الهبة، وهذه هي الحالة الثانية. وزيادة في الإيضاح عندنا صورتان: الصورة الأولى: أن يقول: هذه المزرعة هبة لك، فقال: قبلت، وقبض المزرعة، وحكمنا بلزوم الهبة، وكتب صكها باسم الولد، وفي يوم من الأيام قام الوالد فباع المزرعة التي وهبها. فإن كان قد قال: رجعت عن هبتي، وبعد أن قال: رجعت عن هبتي باعها، أو قال: يا بني! هذه المزرعة التي وهبتها لك أنا راجع عن هبتي، أو قال: أيها الإخوان -وهناك عنده شهود- اشهدوا أني رجعت عن هبتي المزرعة لولدي، وقد بعتها لفلان، فإن وقع فلا إشكال أنه وقع التصرف بالبيع بعد الرجوع في الهبة، والبيع صحيح، وتصبح المزرعة راجعة للوالد وسقط حق الولد. والدليل: أن السنة أثبتت أنه يحق للوالد أن يرجع عن هبته. الصورة الثانية: أن يقول: بعت هذه المزرعة. وكان قد وهبها لولده، ولم يثبت رجوعاً لا بالقول ولا بالفعل المقترن بالنية، فحينئذٍ لا يصح هذا التصرف. أو قال: أوقفتها، فهذا تصرف بغير عوض، ولا يصح، أو قال: بدل أن يأخذها ولدي فلان قد وهبتها لفلان، للولد الآخر، فلا يصح، ما دام أنه لم يثبت رجوعاً قبل تصرفه في مال ولده الموهوب.

تصرف الوالد فيما وهبه لولده بيعا أو عتقا أو إبراء

تصرف الوالد فيما وهبه لولده بيعاً أو عتقاً أو إبراءً قال رحمه الله: [ببيع أو عتق أو إبراء]. قوله: (ببيع) قلنا: التصرفات إما أن تكون بعوض وإما أن تكون بدون عوض، والذي بدون عوض إما أن يكون بين المخلوق والمخلوق، وإما أن يكون بين المخلوق والخالق. وقوله: (ببيع) هذا تصرف بعوض. وقوله: (أو عتق) هذا بدون عوض فيما بين المخلوق والخالق؛ لأنه يعتق لوجه الله. وقوله: (أو إبراء) تصرف بدون عوض فيما بين المخلوق والمخلوق، وانظر إلى دقة العلماء رحمهم الله، حينما قال المصنف: (ببيع) الفقيه يعرف أن المصنف لا يريد البيع وحده؛ بل يريد جميع عقود المعاوضات المالية التي تندرج تحت البيع، مثل: الإجارة، فلو سألك سائل وقال: والد وهب عمارة لولده، ثم لم يرجع عن هبته وأجرها قبل الرجوع، فما الحكم؟! فتقول: الإجارة باطلة، إلا إذا أجازها الولد، فهذا لا إشكال فيه، فهي باطلة إذا كان الولد امتنع منها. أو قال: وهب سيارة لولده ثم أجر هذه السيارة، فهذا تصرف بعوض وهو الإجارة، فتقول: لا يصح، ما دام أنه لم يثبت رجوعه، وتدرج جميع عقود المعاوضات تحت هذه الصورة، حتى ولو شارك -جعلها شركة- أو ضارب بها فجعلها قراضاً، فأعطاه مالاً ثم بعد ذلك أمر الغير أن يضارب به، فجميع تصرفات المعاوضات المالية إذا تصرف الوالد فيما وهبه لولده قبل الرجوع باطلة. وقوله: (أو عتق) كأن أعطاه عبيداً، ثم جاء وقال: هؤلاء العبيد أحرار لوجه الله، قبل أن يثبت رجوعاً بالقول أو بالفعل المصحوب بالنية، فحينئذٍ نقول: هذا تصرف من الوالد فيما وهبه لولده، ولم يثبت رجوعه؛ فلا يصح هذا التصرف. أو يكون الولد نفسه يملك عبيداً، فجاء الوالد وقال: أنتم أحرار لوجه الله، أو قال: يا فلان -وكان من عبيد ولده- أنت حر أعتقتك كفارة عن ظهار أو قتل، أو غير ذلك مما يوجب العتق، فهذا كله لا يصح. وقوله: (أو إبراء) هذا فيما بين المخلوق والمخلوق، والإبراء: أن تبرئ المديون، والبراءة من الشيء توجب خلو التبعة والمسئولية عن الشخص من ذلك الشيء، فإذا قلت: أنا بريء من هذا الشيء، فحينئذٍ لست بمسئول عنه وليست عليك تبعة. ويستخدم الإبراء في الحقوق، وذلك أن كل شخص ثبت لك عليه حق؛ فإن ذمته تبقى مرهونة مشغولة بهذا الحق حتى يؤديه، ولا يفك إلا بسداده أو تبرئة منك. فالإبراء أن تقول: أسقطت حقي، سامحتك عن الدين، عفوت عنك، أبرأتك، أبرأت ذمتك من الدين، ونحو ذلك من الإبراءات. فإذا أبرأ الوالد المديون لولده، فهناك صورتان: الصورة الأولى: أن يكون الوالد قد أعطى مالاً لولده فأقرضه الولد لشخص، مثلما يقع في بعض الأحيان بين الإخوة، كأن يعطي الوالد الأولاد جميعهم كل واحد عشرة آلاف ريال، فيستقرض زيد من محمد العشرة الآلاف التي له، فالعشرة آلاف في الأصل ملك للوالد وهبها لمحمد ولده، فلما استقرضها زيد من محمد أصبحت ذمة زيد مشغولة لأخيه محمد، فلو قال الوالد يوماً من الأيام: يا زيد! دين محمد عليك أنت منه بريء، أو أبرأتك من هذا الدين، أو لا دين عليك، أو أسقطته، أو عفوت عنك، فهذا إبراء من الوالد في مال ولده الذي وهبه له ولم يثبت رجوعه عنه، فهذا الإبراء ساقط. الصورة الثانية: أن تكون العشرة آلاف ملكاً لمحمد في الأصل، من ماله ولم يعطها له والده، فقام محمد وأعطاها ديناً لشخص، فجاء الوالد وأبرأ ذلك الشخص، فقد قلنا: ليس من حقه إلا إذا أجاز ذلك محمد، ولا يصح هذا التصرف بالإبراء. والإبراءات لها باب واسع، حتى في مسألة القصاص، فلو جنى شخص على شخص فقطع يده، فقال المجني عليه: لا أريد القصاص لكن أريد نصف الدية؛ لأن اليد فيها نصف الدية، فجاء الوالد وقال: عفوت عنك هذا النصف، أو أسقطت عنك هذا النصف، أو عفوت عن دين ولدي، فلا يملك الوالد الإبراء، وليس من حقه أن يبرئ عن مال ولده. قال بعض العلماء: حتى ولو كان صغيراً؛ لأن الوالد يلي مال ولده بالمعروف، وفي الإبراءات والعفو إضرار بمصلحة الولد، ولذلك قلنا: لا يصح الإبراء. فلو عفا الوالد عن جانٍ جنى على ولده فقطع يده، فقال الولد: أريد القصاص، أريد أن تقطع يده كما قطع يدي، أو تقطع أصبعه كما قطع أصبعي، أو تقطع رجله كما قطع رجلي، أو أي جناية يمكن فيها القصاص، فإذا ثبت حق الولد في هذه الجناية وجاء الوالد وقال: سامحت هذا الجاني، فليس ذلك من حقه؛ لأن الإبراء إنما يكون للولد وليس للوالد، وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل هذه المسائل في مسألة العفو عن الحقوق في الدماء والقصاص. لكن إذا كان الوالد هو ولي الدم، فقيل له: هل تريد القصاص أو الدية؟ فقال: أريد الدية وعفا عن القصاص، فهذا يصح، وإن قال: لا أريد دية ولا قصاص قد عفوت لوجه الله فيصح؛ لأنه ولي الدم، أما إذا كان ولي الجناية وولي الحق في الجناية حياً عاقلاً له حق التصرف؛ فحينئذٍ لا يملك الوالد أن يدخل عليه وأن يتصرف بإسقاط حقه في الجناية.

حكم أخذ الوالد ما وهبه لولده قبل الرجوع في هبته

حكم أخذ الوالد ما وهبه لولده قبل الرجوع في هبته قال رحمه الله: [أو أراد أخذه قبل رجوعه]. أي: أراد أخذ المال الذي وهبه قبل أن يثبت رجوعه -كما قدمنا-، كأن يكون قد وهبه سيارة ثم قال: أريد السيارة التي أعطيتك إياها، وذلك قبل أن يثبت رجوعها بالقول أو بالفعل، فبعض العلماء يقول: إذا قال له: أعطني السيارة؛ صار هذا بمثابة الرجوع ويكفي، ولا يشترط أن يكون معه النية. وقوله: [أو تملكه بقول أو نية]. قلنا: الرجوع يثبت للواهب ملكية العين التي وهبها، فإذا قال: رجعت عن هبتي؛ رجعت الهبة ملكاً له، أي: تثبت الملكية للواهب، وحينئذٍ إذا كان التصرف قبل ثبوت الملكية بالرجوع، لم يصح إلا أن يأذن الولد، وأما إذا ثبتت ملكيته أو ثبت رجوعه وتصرف بعد ذلك؛ صح البيع وثبت. والعلماء يضعون هذه المسائل لأهميتها، ولوقوع الخصومات فيها، كرجل -مثلاً- وهب ابنه مزرعة، ثم باع هذه المزرعة في غيبة ولده لشخص ما، ثم توفي الوالد وجاء الشخص الذي اشترى يطالب بهذه المزرعة، فحينئذٍ القاضي إذا ثبتت ملكية الولد للمزرعة وثبتت الهبة؛ لا بد أن يثبت رجوع الوالد عن هبته، ولا يصحح هذا البيع إلا بعد ثبوت الرجوع، فهذه كلها مسائل يحتاج إليها خاصة إذا وقعت هناك استحقاقات، وأكثر ما تقع إذا توفي الوالد أو جُن -نسأل الله السلامة والعافية-. وقوله رحمه الله: [وقبض معتبر]. كما ذكرنا: أنه يشترط في صحة الهبة وجود القبض، والقبض قلنا: مما ترك الشرع ضابطه للعرف، والقبض يختلف باختلاف الشيء، واختلاف العرف، واختلاف الأزمنة والأمكنة، فكل ما عده الناس قبضاً وحيازة حكم بكونه قبضاً وحيازة، كما يقال في الحرز في السرقات -كما سيأتينا في كتاب الجنايات-: أن حرز كل مال على حسب العرف، وهذا مما يدرجه العلماء رحمهم الله تحت القاعدة المشهورة: العادة محكمة. فقال المصنف: (قبض معتبر)، وقد يكون هناك قبض غير معتبر، وهو الذي يكون بدون إذن الواهب، وقد بينا هذا، فالقبض المعتبر هو الذي أذن فيه الواهب، فإذا ثبتت الهبة وثبت القبض بإذن الواهب صحت وثبتت الهبة، وأصبح المال الموهوب ملكاً للموهوب له. أما لو كان قبضاً غير معتبر، كأن قال له: يا بني! وهبتك مزرعتي، فقال: يا أبتي! أعطني إياها، أعطني مفاتيح المزرعة حتى أتصرف فيها، فقال: انتظر إلى نهاية الأسبوع، ثم قبل نهاية الأسبوع توفي الوالد، فلا تثبت الهبة؛ لأنه لم يحدث فيها قبضاً معتبراً. إذاً: لابد أن يكون هناك قبض معتبر، كما جاء في الصحيح عن أبي بكر رضي الله عنه أنه لما حضرته الوفاة قال لابنته عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين: (أي بنية! إني كنت قد نحلتك عشرين وسقاً جاداً، فلو أنك احتزتيه -وفي رواية: جديتيه- لكان ملكاً لك اليوم، أما وإنك لم تفعلي ذلك؛ فأنت اليوم وإخوتك فيه سواء). فدل على اشتراط القبض، ومن هنا أجمع العلماء على أنه لا تثبت ملكية الهبة للموهوب له إلا بالقبض المعتبر. وقوله: [لم يصح بل بعده]. أي: لم يصح تصرف الوالد بما ذكر آنفاً، لكن يصح إذا وقع بعد الرجوع حصول القبض المعتبر كما سيأتي. فإذا كان قد باع السيارة بعد أن أثبت رجوعه عن هبته لولده؛ فإنه يصح بيعه، ولو باع العمارة التي وهبها لولده بعد أن أشهد أو أثبت رجوعه عن هبتها؛ فحينئذٍ يصح بيعه وتصح إجارته ويصح سائر تصرفه؛ لأن المال رجع لملكه.

حكم مطالبة الولد لوالده بدين أو نحوه

حكم مطالبة الولد لوالده بدين أو نحوه قال رحمه الله: [وليس للولد مطالبة أبيه بدين ونحوه]. قوله: (وليس للولد) أي: ليس من حق الولد أن يطالب أباه بمال ديناً كان أو غيره، إلا النفقة التي أوجبها الله عز وجل على الوالد لولده. وقد بين المصنف رحمه الله في هذه العبارة أنه لا يجوز للولد أن يطالب والده بالحقوق المالية التي تجري بينه وبين والده، ومن أمثلة ذلك: القرض، فلو أنه اقترض الوالد من الولد مالاً، ثم تأخر الوالد في السداد، فقام الولد بمطالبة والده، قال المصنف: ليس للولد أن يطالب، وإذا قلت: ليس له، فيتفرع على هذا أنه لا يجوز، ويحكم بإثم الولد إذا فعل ذلك؛ لأن الله يقول: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83] أي: أحسنوا إلى الوالدين إحساناً، وهذا من أبلغ ما يكون وصية حينما جاء بالمصدر (إحساناً)، وكأنه يحتم على الولد أن يكون مع والده على سبيل الإحسان لا على سبيل الإساءة. ومن الإساءة أن يطالب والده بدين، ومن أعظم الإساءة أن يطالبه في القضاء أو يشتكيه أو يخاصمه، فهذا ليس من الإحسان في شيء، وليس من البر الذي أوصى الله به الأولين والآخرين، وحث عليه عباده أجمعين، حتى ولو كان الوالد من الكافرين، فقد أمر به وحتمه وقرنه بتوحيده سبحانه وتعالى تعظيماً لشأن البر. ويشمل هذا المطالبة الفردية فيزعج والده، يقول: أعطني ديني، يا أبتي تأخرت! يا أبتي أعطني مالي! يا أبتي كذا فليس من حقه، حتى ولو تلطّف في المطالبة فلا يطالبه: (أنت ومالك لأبيك) كما جاء في حديث السنن. وهذا كله مفرع على الأصل من أن الواجب على الولد أن يحسن إلى والده لا أن يسيء إليه. وأيضاً: هناك حقوق للوالد على ولده، وإحسان لا يستطيع الولد أن يجازيه ويكافئه، إلا أن يجد والده رقيقاً فيشتريه ويعتقه، فيفك رقبته من الرق كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا الإحسان الذي قام به الوالد على ولده منذ صغره، وهذا البذل الذي كان يبذله على ولده بدون حساب، لا يمكن أن يكافئه عليه، وليس من شرع الله عز وجل أن يقف يوماً من الأيام يضيق على والده في حطام من الدنيا، فيقول له: أعطني الدين! يا أبتي تأخرت! يا أبتي سدد! يا أبتي أنا محتاج! فهذا كله -والعياذ بالله- من العقوق، ومما يوجب الله عز وجل بسببه محق البركة من المال، فإن هذا من كفران النعمة، والله تعالى قد أخبر في كتابه أنه يجازي كل كفور، فيسلبه بركة ماله، ولربما سلبه نعمة المال، فأصبح المال نقمة ووبالاً عليه -نسأل الله السلامة والعافية-. والخلاصة: أن المطالبة غير جائزة، فتثبت أولاً: أنه لا يجوز أن يطالبه لا فردياً ولا أمام الناس، وأمام الناس أشد وأعظم. ثانياً: تثبت أنه يأثم، فيحكم بإثمه إذا طالبه، وأن هذا من العقوق والأذية والإضرار. ثالثاً: لو تقدم إلى القضاء وطالب والده بالمال؛ فإن دعواه تسقط؛ لأن الدعوى من أصلها غير ثابتة وغير معتبرة شرعاً، فليس فيها استحقاق؛ إذ ليس للولد حق على والده أن يطالبه بمثل هذا. وقوله: (وليس للولد مطالبة أبيه) بعض العلماء يقول: ليس له مطالبة والديه، فيشمل الأب والأم، وحق الأم آكد، لكن بعض أهل العلم خص الأب لورود النص فيه؛ لأن الأب دائماً يتكفل بالنفقات، ولا شك أن السنة بينت أن الأم لها حق أعظم من حق الوالد، قال كما جاء في الحديث: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)، فجعل حق الوالد بعد ثلاثة حقوق للأم. ولذلك قالوا: إنه لو توفي والداه وأراد أن يحج عنهما؛ بدأ بالأم قبل الأب؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببرها، ولو تعارض حق الأم والأب؛ قدم حق الأم على حق الأب، وهذا لثبوت السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكد ذلك فقال: (أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)، وهذا كله يدل على عظيم حقها، وعظيم ما لها من المعروف العظيم، فإذا أثبتت السنة للوالد شيئاً وأمكن من حيث النظر في العلة إلحاق الأم؛ فإن الأم أولى به. لكن بعض العلماء يقول: إن هذه المسألة فيها خصوصية، وقد سبق التنبيه على هذا، وهي رواية عن الإمام أحمد، أنه جعل الرجوع للأب دون الأم، وقد بينا أن الصحيح أن الأم تملك الرجوع كما يملكه الأب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل بقوله: (أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟) وهذه علة مشتركة بين الأم والأب. وقد بينا وجه هذه المسألة، حتى إن الظاهرية مع أنهم يتمسكون بظاهر النص قالوا: الأب والأم في هذا سواء، ونص على ذلك الإمام ابن حزم رحمه الله في المحلى. والشاهد من هذا: أن المصنف نص على الأب، والأم تلتحق به وتأخذ حكمه. وقوله: (بدين ونحوه). كذلك الأم لا يجوز للولد أن يطالبها بدين نسأل الله السلامة والعافية، نعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم أن نقف هذا الموقف، أو يبتلينا وذريتنا بذلك، من يستطيع أن يقول لأمه ويطالبها بدين؟! قد يكون في بعض الأحيان لا يتحمل أن يرى أمه في ضائقة حتى يأتي ويجثو عند قدميها ويبذل ما يملك من ماله، كل هذا فداء لهذه الأم، فهو وماله فداء لهذه الأم الكريمة التي ربت وأحسنت، وقدمت الكثير الذي لا يمكن أن تجازى عليه إلا من الله سبحانه وتعالى، الذي يجزي الإحسان بأحسن منه. نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجزي والدينا عنا أحسن ما جزى والداً عن ولده. وقوله: (بدين ونحوه) ونحوه مثل: الأروش التي تكون في الجنايات وغيرها، والمصنف رحمه الله ذكر الدين على الأصل، ويتبع هذا كل ما فيه استحقاق، فلا يطالب فيه الولد والده. فلو سكن الوالد في عمارة الولد؛ فلا يأتي ويقول له: ادفع أجرة هذا المسكن، أو ركب معه فيما يؤجره للناس فقال له: ادفع الأجرة مثلك مثل الناس، أو نحو ذلك، فلا يطالبه بدين ونحوه، أي: من الأشياء التي فيها استحقاقات.

حكم حبس الوالد لنفقة ولده الواجبة عليه

حكم حبس الوالد لنفقة ولده الواجبة عليه قال رحمه الله: [وحبسه عليها]. أي: أن يطلب من القاضي أن يحبسه، وهذا كما قيل: إذا لم يكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها فإذا كان هناك أب ظالم مانع لنفقة ولده، وأصبح الولد يخشى على نفسه أن يقع في الحرام أو الآثام، فقال: يا أبتي -بالمعروف- أعطني حقي، فلم يمكنه من حقه، ثم قال له: يا أبتي! أعطني حقي، فسأله وحاول معه فلم يعطه حقه، فحينئذٍ له أن يشارعه إلى القضاء، وأن يطالب القاضي بحبسه حتى ينفق عليه بالمعروف. ومن حق الزوجة أيضاً أن تشارع زوجها وتطلب من القاضي حبسه حتى ينفق عليها، وهذا كله من الحقوق الواجبة، فإن الحقوق الواجبة من النفقات تحكم الشريعة فيها، وإذا حكم القاضي بأن النفقة وجبت لفلان على فلان، فالواجب على من وجبت عليه النفقة وهو قادر على بذلها أن يبذلها، فإذا امتنع وطلبه القاضي فقال له: ادفع، وقال: ما أنا بدافع فمن حق القاضي أن يسجنه حتى يدفع الحق الواجب عليه، ويبذل لأولاده حقوقهم ويعطيهم ما فرض الله عليه إعطاءهم. فإذا طالب الولد القاضي بذلك كان من حقه؛ لأنه قد يصل إلى مقام الضرورة إذا لم يعط النفقة، وهكذا الزوجة من حقها أن تطالب ولو بسجن الزوج حتى يبرئ ذمته من الحق الواجب عليه. وتشدد الشريعة في النفقات يدل على عظمة وكمال هذه الشريعة، فالمشاكل التي تعج بها المجتمعات من السرقات والاعتداء على أموال الناس، كثير منها يقع بسبب إضاعة الحقوق كما ذكرنا. فإذا كان الذي يماطل منع ذا الحق حقه، فإن هذا قد يدفع الممنوع من حقه أن يلتمس وجوهاً محرمة، وسبلاً مشبوهة، فيطلب الحرام، وقد يتعامل بالمعاملات المحرمة، فالشريعة تقفل هذه الأبواب، وقد تأتي إلى شخص يقع في حرام فتقول له: لم تفعل هذا؟! فيقول: أنا مضطر ليس عندي من حيلة، وقد تقع المرأة -والعياذ بالله- في الزنا، فيقال لها: لماذا؟ فتقول: لئلا يضيع أولادي. ولذلك شدد الشرع في هذا، وزجر كل من يمتنع من النفقات حتى ولو بالحبس، حتى ولو كان والداً فيسجن بحق ولده، ولا شك أن هذا من أكمل ما يكون في زجر الناس وإيقاف كل إنسان عند حدوده، وإلزاماً لما فرض الله عليه مما يعود بالخير على الأفراد والمجتمعات. والوالد نفسه يأمن من الشر والبلاء من هذا، ولهذا فإن المجتمعات الغربية والمجتمعات الكافرة كثيراً ما يقع الاعتداء من الأولاد على الوالدين بسبب الظلم في الحقوق، سواء في حقوق النفقة وغيرها. وإنما نبهنا على هذا الأمر لأنه قد يستغرب الإنسان كيف يحبس الولد والده بسبب النفقة؟! وينبغي لكل طالب علم بل للناس عامة أن يعلموا علم اليقين أن أي حكم في شرع الله عز وجل وفي الفقه الإسلامي مستنبط من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فيه قوة وفيه شدة، فلن تستطيع أن تدرك الحكم الموجودة فيه إلا إذا خالفت هذا الحكم ونظرت إلى الأسباب المترتبة على عكسه. ولذلك قد تجد الابن يعق والده، ولربما يقتله -والعياذ بالله- بسبب الدينار والدرهم، وقد وقع في بعض المسلمين -نسأل الله العافية والسلامة- أن والداً كان ظالماً بخيلاً، فكان يهضم أولاده وزوجته، وقد فتح الله عليه من أموال الدنيا الشيء الكثير، فلما بلغ هذا البخيل الظالم لولده سكرات الموت، قام ولده وجثا على صدر أبيه، وانتزع دفتر الشيكات من صدره، فقال له: اذهب -نسأل الله السلامة والعافية- إلى كذا وكذا من غضب الله عز وجل، فلم يرحم والده في آخر عمره، ولم يرحم حالته تلك، وهي حالة تنكسر فيها القلوب القاسية وتلين فيها مما ترى، وليس شيء بعد الدين أعز من الوالدين، وبعدما أمر بتقديمه على الوالدين ليس هناك أحد أعز عليه من والديه. وصدق قول الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق- حينما قال: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم ما يفتح الله من زهرة الدنيا، فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم)، فهلاك الناس بالدنيا والمال، ولذلك لا ينبغي التساهل في هذا، فالشريعة تحكم بما يزجر؛ لأنه ربما يأتيك شخص بشبهة ويقول: كيف تأمر الشريعة ببر الوالدين، وتجيز للولد أن يحبس والده في النفقة؟! فقل: نعم، هذا أمر له تبعات وله آثار وله تداعيات مترتبة عليه، والشريعة دائماً تنظر إلى العواقب، ولذلك قال الله عز وجل: {أفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82]، ودبر الشيء: آخره، فإذا كنت تنظر إلى آخر الشيء فمعنى ذلك أنك قد أحطت بالشيء، وإذا بلغ النظر أنك استوعبت الشيء إلى أن وصلت إلى آخره فقد تم نظرك في هذا الشيء. فكل حكم مستنبط من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي يقول فيها: (لقد أوتيت القرآن ومثله معه) تنظر إلى دبره وعواقبه وآثاره فيما لو عكس هذا الحكم من حيث السلب، وفيما لو حكمنا بهذا الحكم من جهة الإيجاب، فلا ترى حكماً أتم من حكم الله عز وجل، ولا أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون، ولقوم يعقلون، ولقوم يفقهون، ولقوم يدركون، ففيه الخير وكل الخير، فنسأل الله العظيم أن يرزقنا حسن التدبر في شرعه وحكمه.

حكم مطالبة الولد والده بنفقته الواجبة عليه

حكم مطالبة الولد والده بنفقته الواجبة عليه قال رحمه الله: [إلا بنفقته الواجبة عليه]. قوله: (إلا): استثناء، والاستثناء: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، فأخرج من اللفظ الذي سبق حالة النفقة، فالنفقة من حق الولد أن يطالب والده بها، ومن حقه أن يطالب الوالد بذلك ولو بالقضاء؛ لأن هذا يضر بالولد كثيراً؛ فالله عز وجل أوجب على الوالد أن ينفق على ولده، وفرض عليه ذلك، وإذا كان ملزَماً بذلك؛ فلا يجوز له أن يضيع حق الله في ولده، قال صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)، يقول بعض مشايخنا رحمة الله عليهم: علوم الاجتماع كلها في قوله عليه الصلاة والسلام: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)، فلا يمكن لمجتمع أن يسعد إلا بهذا الحديث. فلو أن كل من يعول قليلاً أو كثيراً يقوم بحقوق الإعالة كما ينبغي لما حدثت مشكلة؛ لأن المشاكل كلها تقع بسبب تضييع حق الإعالة، سواء كانت زوجة أو أولاداً، وحتى إنه يضيع من يعول بالسهر، فيضيع الإنسان حق زوجته، فيضيع حق أولاده في مراجعتهم ومذاكرتهم ومتابعتهم في دروسهم، وفي أصحابهم وقرنائهم، وكل المشاكل إنما نشأت من عدم القيام بحق من استرعاك الله عليهم، وحينما يقوم كل راعٍ بحق رعيته تحل كل المشاكل، فما أبلغ قوله عليه الصلاة والسلام! وما أحسنه وما أجمله وما أجله وأكمله! (كفى بالمرء إثماً) بمجرد أن تسمع هذه الكلمة إذا بالنفوس تقشعر والقلوب ترجف ومن الذي يتحمل أن يلقى الله بالإثم والوزر سواء كان في الدين أم في الدنيا؟! والإثم لا يزال سبباً في هلاك الإنسان ودماره، حتى لربما تسبب في سوء خاتمته -والعياذ بالله-، ولربما تسبب في أن يكون قبرُ الإنسان حفرةً من حفر النار -والعياذ بالله-، ولربما تسبب في شقائه الأبدي بدخول نار جهنم خالداً مخلداً فيها بالإثم أو الشرك أو الكفر ونحو ذلك مما يوجب الخروج من الملة، فالإثم سبب كل بلاء وعناء، ولذلك قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]. هذا الإثم يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)، فالوالد جعل الله عليه حق النفقة لأولاده، وجعله قائماً على بيته، يأمرهم بما أمر الله وينهاهم عما نهى الله عنه، فمن حقوقهم المادية: أن ينفق عليهم بالمعروف، فإذا امتنع الوالد مع القدرة على الإنفاق فحينئذٍ ظلم وجار، ومن حق الولد أن يقول له: يا أبتي! أعطني حق النفقة؛ لأن الولد لو لم يطالب والده بحقه لربما وقع في الحرام، ولربما تعرض للسرقة، ولربما تعرض للفواحش بسبب عدم وجود النفقة -عياذاً بالله- والسنة دلت على هذا، ومن ذلك قصة الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار، وفيهم الرجل الذي أراد الزنا بالمرأة فإنه لم يتمكن من الزنا إلا لما احتاجت إلى المال. وهذه حكم نبهت عليها الشريعة، ونبهت عليها السنة الغراء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبين عليه الصلاة والسلام أن من أعظم الإثم إضاعة من يعول، فإذا ضيع الوالد ولده ولم ينفق عليه، كان من حق الولد أن يطالب والده بالنفقة. وقوله: (إلا بنفقته الواجبة عليه) هناك نفقة واجبة ونفقة مستحبة، فإذا كان طعام الولد وشرابه وكسوته في حدود المائة، فلا مانع أن يزيد ويحسن إلى ولده، ومما يضع الله فيه البركة للإنسان، ويحسن به العاقبة في الأمور كلها دائماً ألا يبقى على قدر الفرض الواجب الدائم؛ بل يسمو إلى الكمال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرءاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى). فإذا أراد أن ينفق على أولاده فالنفقة واجبة ومستحبة، والنفقة الواجبة التي يكون بها السداد ويحصل بها سد الحاجة والكفاية، والنفقة المستحبة إذا وسع الله عليك وسعت على ولدك. ولا يجلس الإنسان يدقق في ولده ويحاسبه على الصغير والكبير، قد تكون المحاسبة في حدود معقولة، لكن إذا رأى أن الله بسط عليه وأحسن إليه، فكما أحسن الله إليك تحسن، ولذلك قيل لـ قارون: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77]. فتحسن إلى ولدك، ومن المجرب المعروف ما ذكره العلماء بالتجربة: أنك لن تجد رجلاً في بيته يعامل زوجته وأولاده بالسماحة واليسر، ولا يشعرهم بالتضييق والعناء، سمحاً إذا أعطى، وسمحاً إذا أخذ، وسمحاً إذا أمر، وسمحاً إذا نهى، وسمحاً إذا جاد؛ إلا وجدت أموره ميسرة مكفياً من الله سبحانه وتعالى، فكما تدين تدان، ومثلما عاملت الناس يعاملك الله، فلا تجد منه سبحانه إلا الرفق والإحسان والحلم؛ بل أضعاف أضعاف ما ترجوه. فالنفقة المستحبة: هي الفضل والزيادة على النفقة الواجبة. فلو أن والداً أعطى ولده المائة، وهي سد الحاجة والكفاية، والولد يريد أن يدرس ويريد الزيادة فقال: أريد مائة وعشرين، أو أريد مائة وخمسين، فإنه يطالب فوق المائة بالعشرين والخمسين، وهي في قدر المستحب وليس في قدر الواجب، فهذا ليس من حقه أن يطالب به، لكن إذا أراد أن يتفاهم مع والده على أن والده يكرمه ويزيده؛ فهذه شئون بين الولد ووالده، فيلاطفه ليحاول أن يعطيه القدر الزائد، فمثلاً: ولد أعطاه والده مائة وهو يريد مائة وعشرين، فتلطف مع والده حتى يعطيه العشرين، وبحث عن أمور مؤثرة والمفاتيح التي تفك قفل والده، فهذا ليس بالمحرم. أما النفقة المستحبة فالأمر فيها واسع، فإن الإنسان إذا كان بينه وبين أحد ود ومحبة وأراد أن يوسع عليه، وكان بينهما من الأخوة، وبين الوالد وولده من الصفاء والنقاء ما يطلب فيه الولد الأكثر دون أن يعنت الوالد، فلا بأس بذلك. قال رحمه الله: [فإن له مطالبته بها]. أي: بالنفقة الواجبة.

الأسئلة

الأسئلة

حكم استدانة الولد لتلبية متطلبات والده الضرورية

حكم استدانة الولد لتلبية متطلبات والده الضرورية Q أحياناً يطلب مني الوالد أكثر مما أطيق، كأن يطلب زيادة على ما أعطيه، ولا أجد قدرة على ذلك، فهل أستدين وألبي رغبته؟ A هذا الحقيقة فيه تفصيل، فمن حيث الأصل لست بملزم، لكن هناك ظروف تطرأ على الوالد، وهذه الظروف صعبة؛ كعلاج ضروري، وهذا العلاج بخمسمائة ريال، وحدود النفقة التي تعطيها أنت للوالد مثلاً مائتا ريال، لكن العلاج هو محتاج إليه الآن، ولو أنك استدنت الخمسمائة وفرجت -بعد الله- كربة أبيك، ثم استعنت بعد ذلك على سدادها من راتبك دون أن تقع في حرج وضيق، فهذا من أفضل وأكمل ما يكون، وتحتسب ذلك عند الله. فمن حيث الأفضل والأكمل أقول لك: لن تعدم من الله عز وجل الخير والبركة ما دمت باراً لوالدك، وأكمل ما يكون البر في الشدائد، أما من حيث الواجب فلا يجب عليك الشيء الزائد عن حاجتك، والزائد عن قدرتك، والذي لا تستطيع: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]. لكن كن على علم ويقين أن الله لن يضيعك، وأن الله سيفتح لك من أبواب البركة والخير ما لم يخطر لك على بال، فما وجدنا البر سيئ العاقبة أبداً؛ بل إن البار في أحسن الأحوال وأكمل ما يكون عليه المآل في الدنيا والآخرة، ولذلك تجد البار ما يسلك طريقاً إلا سهله الله له، ولن يقرع باباً إلا فتحه الله في وجهه ميسرة أموره. وأنت إذا أخذت الأمر بالدقة وقلت: أنا لا أستطيع! أنا لا أريد! لا تحملني ما لا أطيق! وكفحته في وجهه، وأنت ترى ظرفاً قاهراً وأموراً تحتاج منك أن تكون الابن الأكمل والأفضل، وأن تسمو بنفسك إلى معالي الأمور، وتحس عندها أن الله يسمعك، وأن الله يراك، وأن من أعظم ما يكون من الخير سرور تدخله على مسلم، فكيف بوالديك؟!! فإذا ألزمت نفسك الشدة وأنت متوكل على الله، مفوض أمرك إلى الله؛ فإن الله لن يخيبك، فسيفتح الله لك من اليسر والمعونة والتوفيق، ويربط على قلبك وييسر لك من أمرك ما لم يخطر لك على بال، والله حتى ولو أصبحت في ضيق لكن الله سيبارك لك في عيشك، وليقرنّ الله عينك عاجلاً أو آجلاً، وليجمعن الله لك بين حسن العاقبة من برك وحسن النظر في أهلك وولدك غداً، فمن برّ والديه برّه أبناؤه وبناته، وقرّ الله عينه بالبر حياً وميتاً. فلا يظن الإنسان أنه إذا وقف عند الحدود الواجبة أنه يعدل عند الله المعونة إذا خاطر بماله ووقته لا؛ بل إن الله يعينه ويوفقه. وأياً ما كان فليس بفرض، ولكن الأفضل والأكمل أن تحتسب، ونسأل الله عز وجل أن يمدنا وإياكم بعونه وحوله، والله تعالى أعلم.

تفسير قاعدة (العادة محكمة)

تفسير قاعدة (العادة محكمة) Q نرجو منكم توضيح هذه القاعدة: العادة محكمة؟ A العادة محكمة هي إحدى القواعد الخمس التي قام عليها الفقه الإسلامي، وهي: الأمور بمقاصدها، والمشقة تجلب التيسير، والضرر يزال، واليقين لا يزال بالشك، والعادة محكمة. والعادة مأخوذة من العود؛ لأن الإنسان إذا اعتاد شيئاً رجع إليه مرة بعد مرة، ولذلك سمي العيد عيداً؛ لأنه يتكرر ويعود إليه الإنسان في كل عام مرتين. والمراد بالعادة: ما اعتاده أهل العرف الإسلامي، وعند العلماء ضوابط، فليس كل عادة في بلد يحتكم إليها، وليس كل شيء يعتاده الناس يحتكم إليه ويعمل به، فالشريعة جاءت بأشياء حكم فيها بأحكام معينة، وحددت هذه الأحكام، وفصلت فيها، فمثلاً: بينت مقادير الزكوات، وفرضت على الناس أداءها، فبينت زمانها والأصناف التي تجب فيها، ومن تدفع إليه الزكاة، والأوقات التي تجب إلى آخره. لكن هناك أشياء أوجبتها وتركت تقديرها لأعراف المسلمين، وهناك أشياء دعت إليها واستحبتها وتركت تقديرها لأعراف المسلمين، والسبب في هذا: أن العقول جعلها الله نوراً للناس، ولذلك جعل الله نور العقل ونور الوحي، فالشخص تكمل عليه نعمة الله إذا جمع بين نور الشرع ونور العقل الذي وهبه، كما قال تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35]. فالذي عنده عقل سليم لا يفعل إلا الشيء السليم؛ لأن العقل يعقل ويمنع عما لا يحمد، فالمسلَّم من حيث الأصل أن الناس في الأعراف الإسلامية في الغالب يعتادون أجمل الأشياء وأكملها وأحسنها، فإذا جئنا -مثلاً- إلى عرف بلد إسلامي فوجدناهم اعتادوا أمراً، وهذا الأمر نحتاجه لتقدير حكم أو ضبط شيء أمر الشرع بضبطه بعرف الناس؛ رجعنا إليه، فنجد النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت) وهذا يعتبر من خوارم المروءة، فإذا جئت تبحث ما هي المروءة تقول: المروءة أن يكون الإنسان في أكمل وأحسن الأحوال التي تليق به في خاصته، فالعالم له وضع، وطالب العلم له وضع، وعامة الناس لهم وضع. فمثلاً: الأكل في المطعم أمام الناس، أو مثلاً: الأكل في الشارع، فقد يأتي شخص ويأخذ طعامه ويضعه في فمه أمام الناس، فهذا لا يمكن أن يقبل من عالم أن يأتي أمام الناس ويأكل إلا في أمور مستثناة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب القدح أمام الصحابة، وأكل أمام الصحابة للتعليم في السفر، فهذه أمور مستثناة، لكن في داخل المدينة وبإمكانه أن يأكل في بيته، فيخرج طعامه أمام الناس في السوق أو في المجامع ويجلس أمامهم، فهذا يسقط المروءة، ومع أنه مباح وجائز، لكن الناس إذا رأوا هذا الشيء استهجنوه، وليس له حكم في الشريعة، فإن الشريعة لم تحرم علينا أن نأكل، فالأكل جائز، لكن الأكل أمام الناس بهذا الشكل أصله مباح: وما أبيح وهو في العيان يقدح في مروءة الإنسان فنقول: هذا مردود، ولا نقبله منك أيها العالم، ولا نقبله منك يا طالب العلم؛ لأن عادة المسلمين وعرفهم لا يقبلون هذا. ولو خرج إنسان بملابسه الداخلية، أو بملابس النوم، فهو أمر مباح، فإنه يجوز للشخص أن يخرج بالقميص، ولا بأس به، لكن في عرفنا وما اعتاده الناس أن هذا يزري بالإنسان، ولا شك أن هذا الشيء من خوارم المروءة. قالوا: لأن الإنسان الذي لا يبالي بالناس ليس عنده عقل، فكونه يخرج أمام الناس لابساً هذا اللبس الذي لا يليق إلا أن يلبسه داخل البيت، يدل على نقصان عقله، فانخرمت مروءته، لكن هذا الحكم ما أخذناه من نص من الكتاب والسنة، لكن أخذناه من أعراف المسلمين الكاملة الفاضلة. وإذا جاء شخص وجلس أمام الناس وهو -مثلاً- من أعيان الناس وكبارهم، فيحتاج إلى أن يكون على وقار وعلى سمت وعلى جلالة قدر تليق به؛ كالعالم، وطالب العلم، فجلس يضحك ويفعل الأمور التي لا تليق به، ويتهكم ويستخف، أو يأتي بالنكت ويسخر من هذا ويضحك من هذا، ويمزح مع هذا، فماذا نعد هذا؟! تجد عامة الناس العاقل منهم ينظر إليه نظرة غريبة، مع أنه لم يفعل محرماً، فاللهو مباح، والضحك مباح، لكن من مثله في هذا المكان بهذه الصفة لا يليق، فيعتبر خارماً للمروءة، لكن لما حكمنا بكونه لا يليق ليس بنص من الكتاب ولا من السنة، ولكن من عرف المسلمين وعادتهم الكريمة التي جبلوا فيها على أحسن وأكمل وأفضل ما يكون عليه الناس، ولأن الله اختار لهم أفضل الأديان وأحسنها، فاختار لهم أحسن العادات. ومن هنا تتخرج مسألة لبس المرأة للقصير أمام النساء، فالذي يحدث من بعض من يلبس على الناس دينهم ومن أنصاف المتعلمين يقول: عورة المرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل، وعورة الرجل ما بين السرة والركبة، إذاً تكشف المرأة ساقيها، ولها الحق أن تكشف عن صدرها وتلبس الملابس العارية؛ لأنها مباحة، ولا يوجد دليل على التحريم. فنقول: إن هذا الشيء من حيث الأصل العام أن عورة المرأة مع المرأة من جهة حد التحريم الأصلي، لكن لا يقتضي هذا الهجوم على عادات الناس ومكارم الأخلاق، وسل العادات الحميدة من النفوس الطيبة التي ألفت هذه العادات، وسنّ القدوة السيئة حتى يقتدى بها الغير والتي تفتح شراً على المجتمع، هذا هو الذي يعاتب عليه، وهذا الذي يمنع منه، فالمرأة التي تأتي كاشفة عن ساقيها ساقطة المروءة، سقطت عدالتها، وهذا ذكره العلماء، وبينوا أن الأمور المباحة إذا فعلت في العيان في الحفلات وفي مجامع الناس أوجبت سقوط المروءة، ودلت على نقصان عقل الإنسان، وقد تدل على نقصان دينه. وعندما تجد الشخص يأتي ويقول لهم: هذا الفعل ليس فيه شيء، واتركوا بناتنا يفعلن هذا الشيء، واتركوا نساءنا يفعلن! هذا إنسان يريد أن يهدم المجتمع، ويريد أن يقوض العادات الكريمة المستقيمة. والشاب الآن حينما يأتي وهو رجل فيأتي كاشفاً عن فخذيه ويقول: هناك من العلماء من يقول: إن العورة هي السوءتان فقط، وأن الفخذ ليست بعورة، فيأتي أمام مجامع الناس لابساً هذا اللباس معتدياً على حرمات المسلمين؛ لأن للمسلمين حرمة، فليس من حق أحد أن يكشف محاسنه فيفتن الغير بها؛ لأن هذا أمام الناس، ولو كان في بيته فهو حر في نفسه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مع هذا كله: (الله أحق أن يستحيا منه) حتى مع كون الإنسان وحيداً، وفي الحديث قيل للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! عورتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك، قالوا: يا رسول الله! أحدنا يكون خالياً، قال: الله أحق أن يستحيا منه)، وقال في الحديث الصحيح: (إن معكم من لا يفارقونكم)، وهم الملكان الكرام الكاتبون، الذين يعلمون ما تفعلون: (إن معكم من لا يفارقونكم فاستحيوهم وأكرموهم). ثم الشاب الذي يأتي فيكشف عن فخذه لا ينبغي أن يسكت عليه الغير، فحينما تراه تأتي وتنصحه بالتي هي أحسن. وقد رأيتُ شاباً ذات مرة بهذه الصفة فناديته وقلت: يا أخي! أولاً: هذا الذي تفعله ليس من حقك شرعاً، فليس من حقك شرعاً أن تكشف شيئاً مما يوجب الفتنة لغيرك. ثانياً: أنا أريد أن أسألك سؤالاً: لما رأيتني بالثوب ورأيتني بهذا اللباس ناشدتك الله هل ترى في ثوبي عيباً؟ قال: لا. قلت: لبسك لهذا الشيء طعنٌ في هذا الشيء، أنت في أمة كاملة وفي بلد قدوة للأمة كلها تنظر إليهم النظرة الفاضلة الكاملة، وتعتدي على مكارم العادات ومحاسن العادات! ومن ناحية شرعية: لا إشكال في كونه يقلد الغرب، وهذا سنأتي عليه، وقد بينته له بعد ذلك، وبينت له أن لبسك لهذا اللباس تبعاً لغيرك يدل على انهزامك، وأنك تبع للغير، (من أحب قوماً حشر معهم) وأنت خيرت بين لباسين: - لباس الكمال والفضيلة. - ولباس النقص والذي يقود إلى الرذيلة. فهل هناك عاقل يرضى لنفسه أن يلبس هذا اللباس؟! إن هذا اعتداء على قيم الناس. ثم الرجل الواحد والمرأة الواحدة التي تأتي في الحفلة وتلبس لباساً فيه نوع من الاشتهار، يدخل في لباس الشهرة، وقد جاء في الحديث: (ومن لبس لباس شهرة ألبسه الله ثوباً من نار)، نسأل الله السلامة والعافية، ومن لبس لباس الشهرة شهَّر الله به في الدنيا والآخرة. فالحذر! والله لا ترضى المسلمة أنها تربت في بيت ترى فيه أمها كاشفةً عن فخذيها، والمرأة التي تكشف عن فخذيها أمام بناتها وأمام المجتمع تسأل نفسها: لو أنها استفاقت يوماً من الأيام وقد رأت أمها كاشفة فخذها هل ترضى ذلك لأمها؟! فكيف ترضاه لبناتها؟! فنحن لا ننظر إلى القدوة، مع أن القدوة لها أثر. إذاً: (العادة محكَّمة) قاعدة صحيحة، ويرجع إليها في تقدير النفقات، فالنفقة الزوجية يُرجَع فيها إلى العادة، ونقول: إذا كنتَ غنياً تقدِّر بنفقة الغنى، وإذا كنتَ فقيراً تقدِّر بنفقة الفقر، وإذا كنتَ متوسطاً بنفقة الوسط، والمهور يُرجَع فيها إلى مهر المثل، وهذا من الرجوع إلى القاعدة والاحتكام إلى العادة، وقس على ذلك. لكن الذي يُنبَّه عليه: أنه لا يحتَكَم إلى العادة الخاطئة، ولذلك قالوا: لو تعارف الناس على أمر محرم انتشر بين المسلمين فأصبح عادةً لم يرتبط به حكمٌ شرعي، حتى قالوا: لو اعتادوا -مثلاً- على حلق اللحى وأصبح عادةً فإن هذا لا يُحتكم إليه؛ لأن شرط العادة: أولاً: أن تكون في المشروع، لا في الممنوع. ثانياً: أن تطرد اطراداً في أغلب الناس أو أكثر الناس، خاصة إذا شملت المجتمع كله، فهذا مما يُحتكم إليه ويثبت العمل به. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

حكم تصرف الوالد في مال ابنه من الرضاعة

حكم تصرف الوالد في مال ابنه من الرضاعة Q هل يحق للوالد التصرف في مال ابنه من الرضاعة؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالرضاعة لا توجب ما ذكرناه من الحكم، ولذلك فليس من حق الوالد أن يتصرف بمال ولده من الرضاعة، فإنه يختص الحكم فيما يكون من النسب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب)، فجعل الحكم بالمحرمية، فدل على أن بقية الأحكام لا تأخذ فيها الرضاعة حكم النسب، والله تعالى أعلم.

حكم أخذ الولد دينه لأبيه المتوفى من تركته

حكم أخذ الولد دينه لأبيه المتوفى من تركته Q إذا مات الأب وللابن عنده دين فهل يسقط أم يطالب إخوته أم يأخذه من التركة؟ A هذا على ما تقدم، من حيث الأصل: أن الوالد إذا أخذ الدين من ولده وهو يريد سداده، فالمنبغي على الورثة ما دام أن هذا هو الأصل وهو المستصحب أن يسددوا عن والدهم، خاصة وأنه يكون فيه نوع من التفضيل، ويتحمل فيه الولد الذي دين تبعة ذلك الدين أكثر من غيره، فحينئذٍ يسدد له الدين، وأما إذا كان الوالد قد امتنع عن السداد مع القدرة، وفهم منه عدم إرادته للسداد، فلا إشكال، وحكمه حكم ما ذكرناه، والله تعالى أعلم.

متى تسقط نفقة الوالد على ولده

متى تسقط نفقة الوالد على ولده Q النفقة تجب من الوالد لولده، فمتى يزول هذا الوجوب، هل بمجرد بلوغ الابن؟ A إذا بلغ الولد وكان قادراً على الكسب، قادراًَ على أن يعول نفسه، ويقوم بكفايتها؛ سقطت النفقة عن الوالد، وحينئذٍ فلا يلزم الوالد بالنفقة على ولده، مثال ذلك: إذا بلغ ووجد وظيفة أو وجد عملاً؛ فحينئذٍ تسقط النفقة عن الوالد ويقوم الولد بإعالة نفسه. أو كان الولد عنده قوة ويستطيع أن يعمل عملاً أو يتكسب بالعمل المباح، فحينئذٍ يتكسب، وللوالد أن يقول له: اذهب وتكسب، فإذا قصر وامتنع من التكسب كان من حق الوالد أن يمتنع من النفقة عليه ما دام قادراً على الكسب، فالشريعة لا تدعو إلى البطالة، ولا تعين على البطالة. ومن هنا ننبه على أن من أفضل ما يكون للإنسان أن يربي الوالد ولده دائماً على الكسب باليد؛ لأنه خُلُق الأنبياء الذين اختار الله لهم الكسب الطيب، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أكلوا من كسب أيديهم، فداود كان في الحدادة يأكل من كسب يده، وكذلك يحيى وزكريا عليهم الصلاة والسلام، فهذا كله لا ينقص قدر الإنسان. والشاب الذي تجده يكدح ويتعب من أول شبابه، ويستفتح حياته بأن يكون متوكلاً على الله، آخذاً بالسبب؛ فإن الله يبارك له في صحته، ويبارك له في وقته، ويبارك له في ماله وكسبه، لكن إذا نشأ عالة على والده، يحمل والده النفقة، ولو كان الوالد راضياً بذلك، فإن هذا لا تحمد عقباه، وليس بالأكمل والأفضل. بل على الإنسان دائماً أن يسعى في طلب المباح، وقد أخبرني الوالد رحمه الله: أن جدي كان يحفظهم القرآن من وقت الحر إلى طلوع الشمس، فكان يوقظهم من السحر، وكان رحمة الله عليه كثير التهجد والعبادة، حتى إن العمات الآن يقلن: لا يأتي قبل الفجر بساعة ونصف إلا وهن مستيقظات؛ لأنه عودهن من الصغر رحمة الله عليه. فمما كان من سيرته: أنه كان إذا صلّى الفجر يجلس مع أولاده إلى الإشراق، وإذا أشرقت الشمس أخذ الألواح التي يحفظون بها -كانوا يكتبون القرآن فيجمعون بين حفظه بالكتابة والرسم والتلقي والسماع-، فإذا طلعت الشمس سحب هذه الألواح منهم وأمرهم أن يذهبوا لكسب العيش، فيذهبون، ومن المعروف أنهم كانوا في بادية، فيذهبون ويطلبون القوت، ولم تكن هناك أعمال لهم، فالذي يذهب يحتطب، والذي يذهب ويقوم على رعي الغنم ومراعي الإبل، المهم ألا يبقى عاجزاً، وألا يبقى عالة. وقد كان عنده من الخدم ما يسد حاجته، لكن لابد أن يكدح كل شخص منهم ويلتمس رزقه، ولا يكون عالة على غيره، فهذا هو الأكمل والأفضل؛ أن يعود الوالد ولده، وإذا نشأ الشباب على هذا الشعور فإنهم سيجدون المال الطيب بالكسب المباح الذي ليس فيه شبهة ولا حرام، ويبارك الله لهم في أوقاتهم. ولذلك تجد الشاب الذي يتعود على البطالة وعلى والديه لم يهنأ له العيش، حتى إنك تجد الواحد منهم تصب في حجره عشرات الألوف وهو من أنكد الناس -نسأل الله العافية والسلامة- ومن أبأسهم حالاً، وتجده في أشد ما يكون من الضيق والعناء. ولذلك ينبغي البعد عن هذه البطالة، وعلى الإنسان أن يبحث عن الكسب الطيب الذي يصون به نفسه وماء وجهه عن سؤال الناس أو الحاجة إلى الناس، قيل لـ إبراهيم بن أدهم -وهو من عباد الناس الصالحين وقد كان في البحر في سفينة، فأصابتهم الريح، فمالت السفينة وكادت أن تغرق، ثم نجاهم الله عز وجل، فقيل: (يا إبراهيم! ألم تر إلى هذه الشدة وهذه الكربة؟ فقال رحمه الله: إنما الشدة الحاجة إلى الناس). فالذي لا يتعود على الكسب بيده، ولا يتعود على طلب رزقه، وسؤال الله المعونة، فإنه سيكون في أسوأ الأحوال، فليس هناك أشد من أن يقف الإنسان أمام الغير ليسأله حاجة من حوائج الدنيا، فنسأل الله العظيم ألا يجعل لنا ولكم إلى لئيم حاجة، والله تعالى أعلم.

باب تصرفات المريض من الهبة والعطية [1]

شرح زاد المستقنع - باب تصرفات المريض من الهبة والعطية [1] لقد حفظ الشرع حقوق الورثة عندما منع الموصي من الوصية بما زاد على الثلث، وكذلك حجر المريض مرضاً مخوفاً من إعطاء أو هبة ما زاد عن ثلث ماله، وأما من مرض مرضاً غير مخوف فتصرفه يعتبر تصرفاً لازماً صحيحاً، سواء مات في ذلك المرض أو لم يمت، والضابط في معرفة المرض المخوف من غيره هو سؤال أهل الخبرة والأطباء المسلمين أصحاب الثقة والأمانة.

حكم تصرف المريض فيما زاد على الثلث والحكمة من ذلك

حكم تصرف المريض فيما زاد على الثلث والحكمة من ذلك بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل في تصرفات المريض]. كان الحديث فيما مضى عن أحكام الهبات والعطايا، وهو موصولٌ بأحكام الأوقاف، وقد بينا الصلة بين البابين، وسبب ذكر العلماء رحمهم الله لباب العطية والهبة بعد باب الوقف. أما بالنسبة لتصرفات المريض، فالمراد بالمريض هنا: المريض مرض الموت من حيث الأصل، لكن العلماء رحمهم الله يذكرون أحكام تصرفات المريض عموماً في هذا الموضع، وقد يسأل سائل فيقول: ما هي المناسبة في كون المصنف يذكر هذا الفصل في هذا الباب المتعلق بالهبات والعطايا؟ و A أن الهبة والعطية تبرعٌ محض، يعطيه الإنسان لغيره، وهذا التبرع المحض بينا أنه مشروع وجائز، ولكن هناك نوع من الناس منعت الشريعة الإسلامية تصرفه وعطيته وهبته في حدٍ معين، فأجازت له أن يعطي ولكن بحدود، وأباحت له أن يهب ولكن بقيود، وهذا النوع هو المريض مرض الموت، والسبب في هذا: أن المريض مرض الموت تنظر الشريعة الإسلامية إلى حاجة ورثته إلى المال، ولو فتح المجال للتبرعات والهبات والصدقات مطلقاً للإنسان عند حضور الأجل، وتصدق الناس بأموالهم جميعها؛ لأضروا بمصالح الورثة؛ وذلك لأن الإنسان يخاف إذا نزل به الموت أو نزلت به أماراته، وخاصةً إذا أخبر من الأطباء أو أهل الخبرة أن الغالب أنه لن يسلم، فإذا انقطع رجاؤه من الحياة أقدم على نفسه، فأصبح مقبلاً على آخرته وبذل ماله كله وتصدق به، والشريعة في هذه الحالة لا تنظر إلى جانب دون اعتبار جوانب أخر، فكما أن الميت والإنسان له حق في ماله، لكن ما دام أن هناك ورثة يرثونه من بعده، وهؤلاء الورثة قد يكونون ممن هم أوثق بالإنسان كوالديه وأولاده وزوجته فربما تعرضوا للضياع من بعده، فمنعت الشريعة من التصرف من المريض مرض الموت فيما زاد عن الثلث بالهبة والعطية والوصية ونحو ذلك، صيانةً لحق الورثة. وقد يعترض معترض ويقول: المال مال الشخص سواء تصدق به أو وهبه أو أعطاه، فلماذا نمنعه؟ والجواب: أن الشخص إذا كان يرجو الله والدار الآخرة إذا تصرف بإعطائه للمال لم يخلُ من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون تصرفه بالصدقات والهبات، فصدقته على أقربائه أفضل، وعطيته لأولاده وذريته من بعده أفضل والله يأجرك على كل درهم بل على كل خردلةٍ تركتها لورثتك من بعدك، والصدقة على القريب أعظم ثواباً وأجزل عطاءً وأحسن مئاباً عند الله من غير القريب، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أم المؤمنين في الصحيح: أنه كان عندها جارية تملكها، فأعتقت الجارية لله، فدخل عليها عليه الصلاة والسلام، فقالت: (يا رسول الله! هل شعرت أني أعتقت فلانة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لو أنك أعطيتها لأخوالك لكان أعظم لأجرك عند الله). إذاً: العطية للقريب أعظم من العطية لغير القريب. أيضاً: أن القريب له حقٌ واجب على الإنسان كأولاده وذريته، فهؤلاء يتضررون ببذل المال لغيرهم، فكيف يحسن الإنسان لمن هو بعيد ويترك ويضيع من هو أقرب؟! ومن هنا لما سأل الصحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صدقته بماله، قال -بعد أن بين له حق نفسه-: (ثم أدناك أدناك) وقال: (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول)، فيدل هذا على أنه إذا كان الشخص في مرض الموت وأراد أن يتصدق بماله من أجل الإحسان إلى الناس، فإحسانه إلى الورثة أعظم، وهذا من حيث الاحتمال الأول، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى حينما دخل على سعد رضي الله عنه وأرضاه، وكان سعد مريضاً وخشي على نفسه أنه يموت فقال: (يا رسول الله! إن عندي مالاً ولا وارث لي كما علمت إلا ابنة أفتصدق بمالي كله؟ قال: لا. قال: فبنصفه؟ قال: لا. قال: فبثلثه؟ قال: الثلث والثلث كثير) فقال: ثم بين عليه الصلاة والسلام العلة والسبب في كونه يمنعه أن يتصدق بجميع المال: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ لك من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس). فقوله عليه الصلاة والسلام: (إنك إن تذر) أي: تترك ورثتك وأولادك من بعدك أغنياء عندهم مال؛ يكون لك في ذلك أجر؛ لكونك سترت عورتهم، وسددت خلتهم وحاجتهم ولم يخرجوا إلى الناس، فذلك خيرٌ لك في دينك ودنياك وآخرتك؛ لأنه قال: (خير) وخيرٌ نكرة شملت جميع الخير، مع أنه قد قال: أفأتصدق؟ فـ سعد رضي الله عنه يريد الصدقة، ويريد أن يقدم شيئاً لآخرته، فقال له: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ لك من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس). إذاً: هذا من جهة إذا كان قصده من التصرف في مرض الموت الإحسان والصدقة، فقد بينا أن إحسانه إلى الأقرباء أعظم وأفضل ثواباً من الإحسان إلى الغرباء، ومن هنا قال العلماء: من أراد أن يوقف أو يتصدق فالمنبغي عليه أن ينظر أول ما ينظر إلى قرابته؛ لأن الإحسان إلى الأقرباء أعظم، والبر بهم والصلة لهم أجزل ثواباً عند الله عز وجل من غيرهم. الحالة الثانية: أن يكون قصده غير حسن، كأن يرى أن هذا المال تعب فيه وشقي في جمعه، فلا يريد أن يبقى لورثته من بعده، فيريد أن يصرفه للغرباء حتى يحرمه الأقرباء، فهذا لا شك أنه عين الإساءة، ومثل هذا من حقك أن تحجر عليه وتمنعه؛ لأن الشريعة جاءت بالمصالح ولم تأت بالمفاسد، ولذلك عاملت بنقيض القصد؛ ولذلك من طلق زوجته من أجل أن يحرمها من الميراث في مرض الموت، ذهب بعض الصحابة إلى أنها تورث على رغم أنفه، وهذا كله من باب المعاملة بنقيض القصد؛ لأنه يريد غير شرع الله، ويريد تعطيل ما أعطى الله عز وجل ووهبه لعباده. إذاً: إما أن يكون قصد المريض حسناً، فالإحسان إلى القريب أولى، وإما أن يكون سيئاً فمنعه من إساءته أولى وأحرى. ومن هنا نجد -والعياذ بالله- في بلاد الكفر في الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر أن الرجل منهم يجلس سنوات آخر عمره لا يصله أحد من أقربائه -نسأل الله السلامة والعافية- فإذا كان عنده الأموال الكثيرة ربما أوصى بها إلى الحيوانات -أكرمكم الله- وهذا من الانهيار الخلقي والدمار الداخلي الذي يعيشه أعداء الله؛ لأن الله كتب أن أموالهم يعذبون بها في الدنيا، وعلينا ألا نعجب لما هم فيه من النعيم والأموال؛ لأن الله سيجعلها زهقاً لأنفسهم حتى في آخر حياتهم؛ فتزهق أنفسهم ويعذبون بأموالهم، يعذب بها المورث ومن يرثه، فيحرم من الابن ومن الملايين التي توصى -والعياذ بالله- ولعل بعضكم سمع القصص التي لا خير في سماعها أصلاً، لكنها عبرة خير وعبرة لمن يعتبر، فهم يريدون أن ينتقموا من الورثة. إذاً: هذا الاحتمال الثاني: أن يتصرف بماله عند مرض الموت بقصد حرمان الورثة وقطعهم من حقهم الذي أعطاهم الله من فوق سبع سماوات، فهذا تصرف إساءة، والشريعة جاءت بدرء المفاسد وجلب المصالح، وهذا بالنسبة للأصل العام. فالشريعة تدخلت في تصرف المريض مرض الموت في أمور تتعلق بحقوق الغير، فلم تمنع مطلقاً؛ ولم تجز مطلقاً بل جاءت بالعدل والوسطية، فأجازت له أن يتصرف بالمال، ولكن دون أن يضر بورثته، ودون أن يضر بمن يعول من بعده. قوله: (فصلٌ في تصرفات المريض) في كتب الفقهاء رحمهم الله الباب ينقطع عما قبله، وقد يجتمع مع ما قبله في الأصل العام الذي هو الكتاب، فتقول مثلاً: كتاب الصيام، باب ثبوت رمضان، ثم تقول: باب وجوب الصوم، باب السحور، باب الفطر، وكلها أجزاء وأبواب منفصلة، فالسحور غير الفطر؛ لكنه يندرج مع الفطر في أصل عام وهو الكتاب، لكن (الفصل) قسيم (الباب)، ومعناه: أن مسائل الفصل أو قاعدة الفصل العامة مندرجة تحت الباب، ولما كانت عطية المريض داخلة تحت باب العطايا، قال المصنف رحمه الله: فصل في تصرفات المريض. وقوله: (تصرفات) جمع تصرف، يقال: صرف الشيء: بذله للغير، ومنه المصارفة؛ لأن الإنسان يجعل الشيء مبذولاً لقاء الشيء، والمراد بالتصرف: التصرف في الشريعة الإسلامية، ويكون بالعقود ويشمل ذلك البيع والإجارة والرهن والهبة والوقف والعتق، وغيرها من التصرفات الأخرى. وقوله: (فصلٌ في تصرفات المريض) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل التي تتعلق بحقوق المريض مرض الموت المركبة والمترتبة على أمواله، فإذا باع ماله ما حكم بيعه؟ وإذا أجر ما حكم إجارته؟ وإذا وهب ما حكم هبته؟ وإذا وصى فما حكم وصيته؟ كل هذا سيبينه رحمه الله في هذا الموضع. وقال: (تصرفات) بصيغة الجمع؛ لأنها أكثر من شيء، فهناك تصرف في المعاوضات، وهناك تصرف بالإرفاقات، والتصرف بالأنكحة والطلاق والخلع وغيرها من المسائل، لكن العلماء والفقهاء منهم من يستقل ومنهم من يستكثر، والمصنف رحمه الله جمع جملةً لا بأس بها من المسائل والأحكام. وقوله: (المريض)، ضد الصحيح، والمريض: هو السقيم، والمراد بالمرض: خروج البدن عن حد الاعتدال، فبدن الإنسان فيه طبائع، فإذا اعتدلت هذه الطبائع اعتدلت صحة الإنسان، وذكروا منها السوداء والصفراء والبلغم، فهذه إذا اعتدلت واستوت في جسم الإنسان، فصحته سليمة، لكن إذا اختلت انتابته الأسقام والأمراض والعلل. وسيذكر أحكام تصرفات المريض، سواء كان مرضاً مخوفاً، وهو المرض الذي يموت الإنسان منه غالباً، أو كان تصرفه في مرضٍ غير مخوف، سواء مات في ذلك المرض أو لم يمت فيه. وفي هذا الموضع من عادة العلماء رحمهم الله أن يبينوا أنواع الأمراض -عافنا الله وإياكم من الأمراض والأسقام ظاهرها وباطنها- وفي الحقيقة: لسنا بحاجة إلى أن نصف هذه الأمراض؛ لأن المرَدّ في هذه المسائل إلى الأطباء وأهل الخبرة، والأزمنة تختلف، وبعض الأمراض لا نستطيع أن نقول: إنه المرض الفلاني؛ لأنه في القديم كانت له أسماء وفي الحديث له أسماء أخرى؛ ولذلك ننبه على أننا سنعطي بعض القواعد والضوابط التي من خلالها يعمل بما ذكره المصنف رحمه الله من أحكام؛ لكن المرَدّ في هذا كله من حيث الأصل إلى الأطباء، فالأطباء هم الذين يقررون هل هذا المرض مرضٌ مخوف أو مرضٌ غير مخوف؟ فإذا قال الأط

حكم تصرف المريض مرضا غير مخوف

حكم تصرف المريض مرضاً غير مخوف قال رحمه الله تعالى: [من مرضه غير مخوف كوجع ضرس وعين وصداع يسير فتصرفه لازم كالصحيح ولو مات منه]. من حيث الأصل العام: المريض نمنعه من التصرف فيما زاد عن حدود الثلث، فلا يهب ما زاد عن الثلث، ولا يُعتق -كما كان قديماً- ما زاد عن الثلث، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه رد العتق في هذا)، ولا يوقف في قول طائفة من العلماء بما زاد عن الثلث، ولو أوصى بوصية لوارث فقال: لفلان كذا وكذا، وهو وارث منه، فلا تصح هذه الوصية؛ لأنه لا وصية لوارث، ما لم يجزها الورثة، كما سيأتي -إن شاء الله- تفصيله في كتاب الوصايا. والحجر عليه يكون في حدود الثلث، فلو كانت عنده ثلاثة ملايين فمن حقه أن يهب أو يتصدق بالمليون أو ما دونه، وأما ما زاد على ذلك فإنه من حيث الأصل العام محجورٌ عليه، والمراد بالحجر: المنع من التصرف، فلا ينفذ التصرف إلا برضا الورثة، فإذا تصدق بمليونين ومجموع ما تركه ثلاثة ملايين، فنقول: تنفذ صدقته في المليون، ثم نجمع ورثته ونسأل هؤلاء الورثة: ما رأيكم في المليون الزائد على الثلث الذي هو الثلث الثاني، هل أنتم راضون بإنفاذه أو لستم براضين؟ فإن أمضوه مضى ونفذ، وهناك قولان للعلماء: هل نعتبر الثلث الثاني الزائد على الثلث مبنياً على عطية المريض فيمضي من وقت العطية، فيكون حكمه حكم وقف العطية أنه مملوك لصاحبه، على التفصيل الذي سيأتي في الوصايا، أم أنها عطية مبتدأة؟ فبعض العلماء يقول: إذا رضي الورثة بإعطاء المليون الزائد فإنه في هذه الحالة تكون عطية منهم لا من الميت. إذاً: المنع في حدود الثلث اعتبره العلماء نوعاً من الحجر، ويختص بالثلث، فيخالف بقية أنواع الحجر الأخرى؛ لأن الحجر يشمل الثلث وغيره؛ كالحجر على المجنون أو الصبي أو المفلس، فهذا يكون حجراً تاماً، لكن في المريض مرض الموت يكون حجراً في حدود الثلث، وأشار إلى ذلك بعض الفقهاء كالمالكية رحمهم الله فقالوا: الزوجة لا تجوز عطيتها ولا تنفذ فيما زاد عن الثلث كالمريض مرض الموت، والسبب في هذا: أن المرأة من حيث الأصل في الشريعة مخدرة محجبة بحجابها الذي جعله الله عز وجل طهراً لها، وصيانةً لها، فلا تخالط الناس، ولا تبيع ولا تشتري، والغالب أنها تجهل هذه الأمور، فما كان هناك تبرج ولا خروج، تقول أم عطية: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج العواتق وذوات الخدور) فما كان النساء يعرفن الخروج والولوج، بل كانت المرأة أجهل ما تكون في مخالطة الناس ومعرفتهم، من كثرة الحفاظ والطهر الذي كانت فيه هذه الأمة، والعفة التي صان الله عز وجل بها نساء الأمة، ولا زال صائناً سبحانه وتعالى لنساء الأمة بالتمسك بهذه المبادئ الكريمة. فالشاهد: أن المرأة كانت تجهل من خلال هذه الأمور، فبعض العلماء وهو قول شريح يرويه عن عمر بن الخطاب كما جاء في المصنف: (عهد إليّ عمر ألا أجيز لامرأةٍ عطيتها حتى تحول حولاً أو تلد ولداً)، يعني: بعد ما تحول الحول وتخالط الرجل وتعرف الأمور، فحينئذٍ تنفذ، لكن قبل ذلك كانوا يمنعونها؛ لأنها كانت تجهل هذه الأمور، فالمالكية يرون الحجر على المرأة في حدود الثلث، والصحيح هو مذهب الجمهور: أن المرأة ما دامت عاقلة رشيدة فإنها حرة في مالها، بشرط ألا تسرف ولا تبذخ، وأما القول الأول فهو قول مرجوح، وقد أشار إلى هذا القول المرجوح بعض العلماء بقوله: وزوجةٌ في غير ثلث تعترض كذا مريضٌ مات في ذاك المرض الشاهد في قوله: (كذا مريض مات في ذاك المرض)، إذاً: في المرض المخوف سيكون الحجر في حدود الثلث، فأولاً: نمنعه نمنعه من التصرف فيما زاد عن الثلث. وثانياً: نمنعه من التصرف بالهبة، أما لو باع واشترى وتعاطى بالمعاوضات فهذا شيءٌ آخر من حيث الأصل، ولا اعتراض ما دام أنه عاقل رشيد يبيع ويشتري من حيث الأصل، لكن أن يصرف الهبات والعطايا وما يدخل الضرر على الورثة، فهذا فيه تفصيل سيذكره المصنف رحمه الله.

أمثلة للمرض غير المخوف

أمثلة للمرض غير المخوف وقوله: (من مرضه غير مخوف كوجع ضرس). أي: أن يكون المرض من جنس الأمراض التي لا يخاف منها على الإنسان أن يموت بسببها، فوجع الضرس لا يؤدي إلى الموت غالباً. وقوله: (وعين). إذا آلمته العين مثل: التهابات الأعين، فإنها لا تؤدي إلى الموت، لكن ثبت في بعض الأحيان أنه قد يكون المرض مستحكماً في الجسم وله أعراض ودلائل في مواضع أخر، فقد يكون الألم في جهة ومع الإنسان مرض قاتل، فيظن أن هذا من المرض اليسير، وهذا هو السبب الذي جعلنا نقول: نرجع إلى الأطباء وأهل الخبرة، فهم الذين يقررون أن هذا المرض مخوف أم لا. ووجع العين في الغالب أنه لا يؤدي إلى الموت. وقوله: (وصداع يسير). أما الصداع المستحكم ففي بعض الأحيان -أعاذنا الله وإياكم- قد يكون دليلاً على أمراض خبيثة، وقد يكون دليلاً على أمراض أخرى تؤدي إلى الموت، وقد يكون دليلاً على التسمم، وهذه أحوال مستثناة لا نريد أن ندخل في التفصيل؛ لأن الدخول في التفصيل يدخل الوسوسة على الناس، فبعض الأحيان إذا ذكرت بعض الأمور بعض الأعراض يصبح الشخص شاكاً حتى في كل شيء، ولكن على الشخص أن يتوكل على الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل لطيف بعباده، لكن بالنسبة للأمراض وتحديدها فهو معروف عند الأطباء، فربما يكون المرض قاتلاً وعلامته في مكانٍ آخر، فقد يكون في الباطن ويأتيه صداع، لكن هذا كله يتوقف على قول الأطباء، وإلى الله المشتكى. وعلى العموم: الإنسان طبيب نفسه، والعادة جرت: أن الصداع يأتي من أشياء تافهة، مثل ضرب الهواء، وقد يأتي بسبب الجوع، وقد يأتي بسبب الإرهاق والتعب، فالأمر يسير، فليس كل صداع يفضي إلى الموت، لكن أياً ما كان قال المصنف رحمه الله: (وصداعٌ يسير)؛ لأن الغالب أن الصداع اليسير لا يكون مهلكاً، أما إذا كان قوياً مستفحلاً وعرف فيما بعد أنه مرض خبيث، أو أنه تسمم وأقعده حتى توفي، فحينئذٍ يكون في حكم المريض مرض الموت. وتوضيح المسألة: لو أنه آلمه ضرسه، فتصدق بمائة ألف ريال في مشروع الخير، وشاء الله عز وجل بعد ساعتين أن توفي، والثابت أنه تصدق بالمائة الألف التي يملكها كلها ومعه وجع الضرس، فإن قلت: وجع الضرس مرضٌ مخوف؛ فحينئذٍ لا ينفذ إلا في حدود ثلث المائة الألف، وأما الباقي فيوقف على إجازة الورثة. أما إذا قلت: إن وجع الضرس ليس بمخوف، وهذا هو المعتبر والمعمول به؛ فحينئذٍ تنفذ المائة الألف ولا حق للورثة فيها، ويكون قد مات قضاءً وقدراً، والمائة الألف جاءت هبةً من رجلٍ صحيح سليم العقل تصح عطيته ونفذت على وجه برٍ وخير، فحينئذٍ تمضي صدقته ولا يعترض عليها، وإن آلمته إحدى عينيه -مثلاً- وتصدق بما ذكرناه، ثم توفي بعد هذا الألم، ولم يقل الأطباء: إن هذا الألم متصل بعارض آخر أو بمرض آخر، فحينئذٍ نقول: وجع العينين ليس بمرض مخوف، وعطيته عطية صحيحٍ نافذةٌ في جميع المادة. وقوله: [فتصرفه لازم كالصحيح]. بمعنى: لو باع سيارته ومعه هذا المرض غير المخوف، أو وهب أو أجّر؛ فتصرفه لازم وصحيحٌ معتبر، فإذا تم القبض للهبة تمت الهبة ولزمته، وحينئذٍ لا يملك الورثة أن يعترضوا على هذا التصرف بإبطاله، وقوله: (كالصحيح)، أي: أن حكمه حكم الصحيح، فهذه الأمراض والآلام لا توجب هلاكاً ولا توجب تلفاً غالباً؛ فحينئذٍ يكون تصرفه في حال ما ذُكِر تصرفاً صحيحاً معتبراً شرعاً؛ لأنه ليس هناك مانع من صحة العقد، والأصل هو اللزوم إذا وقع مستوفياً للشروط، وقد باع ووهب وأوقف ورهن وتصرف بتصرفات في حال اكتمال رشده، فنعمل عقده ولا نهمله ولا نبطله؛ لأنه لا موجب للإنكال والإبطال، والمرض ليس بمرض مؤثر، فلا يوجب بطلان هبته وتصرفاته.

حكم تصرف من مرض مرضا غير مخوف ومات منه

حكم تصرف من مرض مرضاً غير مخوف ومات منه قال رحمه الله: [ولو مات منه]. من أصابه المرض غير المخوف فله حالتان: الحالة الأولى: ألا يموت، بل يتصرف ثم تشفى عينه، أو يتصرف وبه صداع ثم يشفى من صداعه، فهذا بالإجماع لو أنه تصرف ورأسه يؤلمه بصداع يسير، أو تصرف ومعه ألمٌ في عينيه، فوهب ماله كله، ثم بعد ذلك شفي، ثم رجع عليه مرض فمات، أو مات من ليلته بعد أن شفي واكتمل شفاؤه وعوفي، فإننا نقول: قد مات بسبب آخر، ومرضه الأول ليس بمخوفٍ، وتصرفه صحيحٌ كالصحيح، أي: أنه تصرف في حال السلامة، فيحكم بصحة تصرفه ونفوذه. الحالة الثانية: أن يموت بعد المرض، كأن يأتيه الصداع أو وجع الضرس أو ألم العين ثم يموت، فإذا جاءه الصداع أو وجع الضرس أو ألم العينين ثم اتصل إلى أن مات بعده، فللعلماء وجهان: الأول: جمهور العلماء على أن تصرفه صحيح، وأن الموت ليس بهذا المرض؛ لأن هذا المرض طبيعة وعادةً لا يموت منه الإنسان، والله قد جعل العادة آية ودليلاً وحجةً، فما نجد أن الصداع اليسير يفضي إلى الموت، ولا نجد أن ألم العين يفضي إلى الموت عادةً، لذلك سقط اعتباره، فقال المصنف: (ولو مات). القول الثاني: يقول بعض العلماء: لو اتصل الموت بهذا المرض اليسير فإنه لا ينفذ تصرفه، والمصنف رحمه الله يريد أن يشير إلى القول الثاني، فالجمهور يقولون: من كان مرضه غير مخوف واتصل الموت بهذا المرض فمات بعده، فهبته صحيحة وتصرفه صحيح كالصحيح سواءً بسواء. وهناك خلاف عند بعض الحنابلة رحمهم الله يقولون: إذا مات بعد ألم العين والمرض غير مخوف، واتصل هذا المرض بالموت، فإننا نعتبره في حكم المرض المخوف، وهذا القول مرجوح، والصحيح: أنه لا يعتبر في حكم مرض المخوف؛ لأن الحكم للغالب، والقاعدة تقول: (النادر لا حكم له) ولأننا بحكم التجربة والعادة قد نجزم بأن هذا الموت جاءه قضاءً وقدراً بسببٍ آخر، لا أن ألم العينين ونحوها كان سبباً في وفاته وموته.

حكم تصرف المريض مرضا مخوفا

حكم تصرف المريض مرضاً مخوفاً قال رحمه الله: [وإن كان مخوفاً كبرسام، وذات الجنب، ووجع قلب، ودوام قيام، ورعاف، وأول فالج، وآخر سل، والحمى المطبقة، والربع، وما قال طبيبان مسلمان عدلان أنه مخوف، ومن وقع الطاعون ببلده، ومن أخذها الطلق، لا يلزم تبرعه لوارث بشيء ولا بما فوق الثلث إلا بإجازة الورثة لها إن مات فيه، وإن عوفي فكصحيح]. قوله: (وإن كان مخوفاً كبرسام). هذه الأمراض القديمة كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم لا يحب أن يفصل في أماراتها؛ لأنه لا بد أن يقدر أن هناك ضعيف النفس، وهناك المرأة ضعيفة النفس ربما تخيلت كل شيء يأتي أنه هذا الشيء، ولذلك كان من الحكمة ترك هذه التفصيلات. والبرسام نوع من الأمراض القاتلة -أعاذنا الله وإياكم- وهذا المرض موجود الآن، وله اسمٌ خاص عند الأطباء، وهو يفضي إلى الهلاك غالباً، فإذا قال الأطباء: إن أمارات المرض الموجودة مع هذا المريض هي أمارات المرض الفلاني الذي هو البرسام -أعاذانا الله وإياكم- حكم العلماء رحمهم الله بكونه مرضاً مخوفاً؛ لأن هذا المرض الغالب أنه يفضي بصاحبه إلى الموت. وقوله: (وذات الجنب). هو نوع من بعض الأمراض التي تفضي إلى الهلاك -نسأل الله السلامة- تلازم صاحبها والغالب أنها تفضي إلى هلاكه. وقوله: (ووجع قلب). الآن يمكن أن نعتبر الإنسان عند القيام له بعمليات جراحية خطيرة أنه في حكم المريض مرض الموت، وبعض الأحيان تكون نجاته من هذه العمليات بنسب ضئيلة، وشفاؤه بعد العملية بنسب ضئيلة، والمهم: أنه يوجد عارض يؤثر في الجسد، والغالب أنه لا يسلم صاحبه، هذا هو الضابط، وأسماء الأمراض وتفصيلها هذا أمرٌ يرجع إلى أهل الخبرة. ومن الممكن أن طريق الأطباء والعلماء يحكمون إذا اختلف الورثة وقالوا: هذا مرضٌ مخوف، فيطالبون بالتقارير التي تثبت أنه مصاب بهذا المرض، والأمر -والحمد لله- الآن متيسر، والمستشفيات موجودة، والتحاليل والأجهزة بعددٍ لا يخطر للناس على بال، فلو أن الناس تفكروا في عظيم نعمة الله عليهم مما تيسر من وسائل الطب التي تكشف الأمراض لحارت عقولهم، وهذا لا شك أنه يستوجب على كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلهج بالثناء على الله بما هو أهله، فإن الناس وصلوا إلى شيء لم يكن للخيال أن يتصوره، فمن كان يتصور أن القلب يفتح ويشق ويستخرج ما فيه من الأمراض ويعاد، وتداوى علله وتشوهاته الخلقية، وتوضع له العروق التي وضعها الله سبحانه وتعالى في الساق، فتنقل هذه العروق وتوضع في قلب الإنسان إذا حصل عنده انسداد الشرايين من كان يتصور أن هذا يحدث؟! ولكن: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:83]، وهذا يدل على عظمة الله جل جلاله، وعلى كرمه وحلمه ورحمته بهذا المخلوق وتكريمه لبني آدم، وهذه النعم من الله على العبد لا يشعر بها إلا القليل، وهذه النعم التي سخرها الله سبحانه وتعالى والمنن ما جعلها الله سبحانه وتعالى إلا آيةً على توحيده وعظمته حتى يكون الإنسان شاكراً لأنعم ربه. إذاً: كثير من الأمراض ومنها الانسداد في الشرايين، الغالب أنه يهلك إذا لم يسعف ويفك هذا الانسداد، فإذا كان عنده انسداد في شريان القلب، فيعني أنه مهدد بين العشية والضحى أن يأتيه قدر الله، فمثل هذه الأمراض الخطرة في القلب والتي يقول الأطباء: إنها خطرة والغالب عدم السلامة منها؛ فإنه يحكم بكونها أمراضاً مخوفة. فليس كل مرض قلب أو ألمه يعد مرضاً مخوفاً؛ لأن شرب المشروبات الغازية -وهذا ثابت طبياً- يؤثر على القلب، ولربما تأتي بأعراض مثل أعراض الذبحة الصدرية أعاذنا الله وإياكم منها، وغالباً ليس هناك ذبحة صدريةولا أي شيء، إنما هي غازات تضغط على غشاء الإنسان فيظن أن قلبه فيه علة وما فيه علة، فمثل هذه الأمور لا بد فيها من الرجوع إلى الأطباء، ومن أهم ما كان يوصي به بعض الحكماء والعقلاء: أنه ليس هناك طبيب للإنسان مثل نفسه، فإذا وجدت أن نفسك تغيرت، فانظر فقد يكون طعامك قد تغير، فلو تغير طعامك تغيرت نفسيتك، ولو تغير جسدك تتغير طاقتك ويتغير وضعك، فالشاهد: أنه ليست كل أمارة أو علامة يحكم بكونها مرضاً، ولا بد من الرجوع إلى الأطباء وأهل الخبرة في هذا. وقوله: (ودوام قيام). هو استطلاق البطن أعاذنا الله وإياكم، فإذا استطلقت بطنه ولم تتماسك فإن الغالب في ذلك أنه يؤدي إلى الهلاك والموت إذا لم يتداركه الله برحمته، وقد تكون أمارة على مرض معدٍ أو على مرض مهلك، فدوام استطلاق البطن يعتبر من الأمراض المخوفة. وقوله: (ورعاف). أي: إذا نزح وكان رعافاً شديداً؛ لأن هذا غالباً مرض مخوف؛ لأنه قد يكون الرعاف في بعض الأحيان بسبب الأمراض الدموية التي تكون في دم الإنسان، في صفائح الدم، وكذلك في حكم خروج الدم خروجه من داخل البدن، كالقرحة التي تكون في معدة الإنسان إذا انفجرت، أو استقاء الدم وكان في درجاته الأخيرة، فهذه غالباً مخوفة، لكن إذا كانت في بدايتها فيمكن أن يتدارك ولا يكون المرض مخوفاً. وقوله: (وأول فالج وآخر سل). كل هذه الأمراض مخوفة، والغالب أن الإنسان لا يسلم منها، حمانا الله وإياكم منها. وقوله: (والحمى المطبقة). مثل: الملاريا، فالملاريا إذا استحكمت وتمكنت من إنسان فالغالب أنها تقتله، وإذا أطبقت على الإنسان وأصبح محموماً وأثر عليه، فإنها غالباً ما تقتل الإنسان، إذا كانت مستحكمة ووصلت إلى درجاتها الخطيرة. وقوله: (والربع). وهي الحمى التي تأتيه في اليوم الأول، ثم تمكث يومين ثم تأتي في اليوم الرابع. وبعض العلماء رحمهم الله كان يقول: سمعت بعض المشايخ سأل بعض الأطباء فقال: هي علامة على بعض الأمراض الخطرة في البدن -يعني: أنها ليست بذاتها- والغالب أن مثل هذه الأمراض تستحكم في الإنسان حتى تقتله.

حكم التداوي عند طبيب كافر

حكم التداوي عند طبيب كافر وقوله: [وما قال طبيبان مسلمان عدلان]. يشترط في الطبيبين أن يكونا من أهل الخبرة، فلا نسأل عن مرض في البطن طبيبين مختصين بالرأس، أو بأمراض الأنف والحنجرة، فيشترط فيهما الخبرة. وفي القديم ما كان هناك تخصص إلا في بعض الجرائح والوصائف، فقد كان هناك بعض التخصصات الطبية التي أشار إليها الإمام ابن القيم رحمه الله في الطب النبوي، والجرائح: هي التي تطبب بالجراحة، والوصائف: هي التي تطبب بالوصف، وهذا كله تخصص، والآن كأنه خرج هذا عن مجال الطب، من حيث جُعلت الصيدلة على حدة، وجعلت الكيمياء على حدة وجعلت مداواة الأبدان على حدة، فأي مرض نريد أن نحكم عليه فنرجع إلى أهل الاختصاص به، فإذا كان المرض مرض القلب -أعاذنا الله وإياكم- فنرجع إلى المتخصصين في القلب، فإذا شهد طبيبان عدلان مسلمان -كما ذكر المصنف- وحكما بكونه مخوفاً، فقالا: هذا المرض الغالب أنه يموت منه، فحينئذٍ يكون مرضاً مخوفاً. وقوله: (مسلمان) هنا مسألة: وهي الإسلام في الطبيب، فبعض العلماء رحمهم الله يقول: لا تقبل في الأحكام والمسائل شهادة الطبيب الكافر؛ لأنه غير مأمون، فربما كذب؛ لأن الكافر قد كذب على الله بالشرك، وادعى أن لله ولداً، وأن الله ثالث ثلاثة فمن باب أولى أن يكذب على المخلوق، وقد وصف الله عز وجل من كان على الكفر بأنه عدوٌ مبين للمسلمين، فالعدو لا يصدق لعدوه. ولكن هذا القول خالفه قولٌ آخر وهو: أن الطبيب الكافر إذا عرفت منه الأمانة والانضباط وعدم الخيانة فإنه يؤمن بقوله، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العمل بقول الكافر، والاستعانة بالكافر إذا عرف أنه ناصح، ويدل على ذلك حديث عائشة في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استأجر عبد الله بن أريقط -وهو رجلٌ من بني الديل- هادياً خريتاً)، فـ عبد الله بن أريقط كان يعرف الطرقات، فكان دليلاً أخذه النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته من مكة إلى المدينة، فلاحظ أنه كان بالإمكان لهذا الكافر، أن يذهب بهم إلى طريق معطش ويهكلان، وبالإمكان أن يذهب بهما إلى طريقٍ يكشف من قريش، لكن النبي صلى الله عليه وسلم عرف فيه أمانة، وعرف أنه محل ثقة فوثق به، وهذا دليل على أن الكافر إذا عرف أنه ثقة فيعمل بقوله. كما أن عندنا حديثاً ما ذكره الأئمة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وممن فصل في هذه المسألة الإمام ابن القيم رحمه الله في أحكام الاستعانة بالكافر في أحكام أهل الذمة، وابن تيمية في الفتاوى المصرية، وكذلك جاء في مواضع في مجموع الفتاوى أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم على هذا، والإمام ابن القيم أشار إلى هذا حينما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعين -بعد الله- بخزاعة على قريش، وكانت خزاعة على دين الشرك وعلى ملة الكفر، ولكنها كانت تحب النبي صلى الله عليه وسلم، وبينها وبين جد النبي صلى الله عليه وسلم قصي بعض الحلف: اللهم إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا فكانت بين خزاعة وبين النبي صلى الله عليه وسلم مودة، وهذه المودة كانت عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم يستقلها، فكانت خزاعة لا ترى قريشاً تدبر أمراً مكيدة للنبي صلى الله عليه وسلم إلا أخبرته صلى الله عليه وسلم، فهذا استعاذة من كافر، لكن عُرِف من خزاعة النصح، ولذلك قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وكانت خزاعة عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم. كذلك أيضاً مما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم في مسألتنا كان يأمر الصحابة أن يستطبوا الحارث بن كلدة، وكان كافراً، ومع ذلك كان يأمرهم بالتداوي عنده والعمل بما يقوله لهم، فهذا كله يدل على جواز الاستعانة بالطبيب الكافر والعمل بقوله. لكن هناك من أئمة السلف وهو مذهب الإمام أحمد رحمةُ الله عليه، فقد كان للإمام أحمد طبيب يهودي، وكان يعمل بمشورة هذا اليهودي ويستطبه، ولكن لا يقبل قوله في الصلاة والعبادات كالصوم، فلو قال له: لا تصم، فما يقبل قوله حتى يتأكد من طبيب مسلم، ولو قال له مثلاً: لا تركع أو لا تسجد، فإنه لا يثق به في أمور الديانة. ومن هنا فرق العلماء في قول الطبيب الكافر بين العبادة وأمور الديانة ومصلحة البدن، فيمكن أن تقبل لكن إذا قال لك: سجودك يؤثر على البصر، أو يؤثر على العملية في الظهر، فحينئذٍ عليه أن يستوثق بطبيب مسلم يمكن الرجوع إليه، لكن إذا عمت البلوى ولم يجد الإنسان إلا طبيباً كافراً فإنه يعمل بخيرهم، وهكذا بخير الكفار، فالكفار فيهم من هو خير من الآخر؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (إن بالحبشة ملكاً لا يظلم عنده أحد)، وكان ملك الحبشة على دين الكفر، فامتدحه بما فيه من خير؛ لأنه لا يظلم الناس؛ ومثل هذه الأشياء قد توجد في الأطباء الكفار، فمن عرف بالنصح عمل بقوله واستثبت. أما لو فسد الزمان ولم يوجد طبيب عادل، فقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن فرحون في تبصرة الحكام، والإمام ابن القيم رحمهم الله وغيرهم من الأئمة: أنه إذا تعذر وجود العدل عُمِل بشهادة أمثل الفساق، فإذا لم يوجد وتعذر وجود الطبيب العدل، فانظر إلى أحسن الأطباء الموجودين في نظرك والذي يمكن أن تؤثر عليه وتناشده أن ينصح لك، فتعمل بقوله وتثق بخبره.

وجود الحاجة إلى الطبيب المسلم

وجود الحاجة إلى الطبيب المسلم قال رحمه الله: [وما قال طبيبان مسلمان عدلان]. المسلمون بحاجة إلى الأطباء، وهذا يدل على أن تعلم الطب فيه خير كثير للإسلام والمسلمين؛ لأنه يحتاج إلى الطبيب المسلم، ومن هنا كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى. لأن الشريعة منها ما يتعلق بالباطن كأمور الاعتقادات، ومنها ما يتعلق بالظاهر كالصلوات والأذكار، فهذه لمصلحة الدين، وأما مصلحة الدنيا فللبدن؛ لأن البدن فيه دين ودنيا، فبقيت مصلحة الدنيا فصار ثلثاً من هذا الوجه، فقال: ضيعوا ثلث العلم. وبعض العلماء يقولون: الطب نصف العلم؛ لأن العلم للدين والدنيا، فيرى أن الطب هو قوام الأجساد، ولا يمكن أن تقوم هذه الأرض ولا أن يسمح للعباد والبلاد إلا بصلاح أبدانهم، فأصبح نصف العلم من هذا الوجه، فهو -أي: علم الطب- علم عزيز وعلم شريف إذا حفظت فيه حدود الله عز وجل، وكان هدف الطبيب الإحسان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر: (أن الله تعالى غفر لامرأةٍ بغي من بغايا بني إسرائيل ذنوبها حينما سقت كلباً يلهث الثرى)، فما بالك بالمريض المسلم الذي يعجز عن صلاته وعن طاعته لربه، والذي لا يكون البلاء مختصاً به بل يشمله ويشمل أهله، فكيف بتفريج كربته! وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة نفس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة)، ومن أراد أن ينظر إلى آثاره الحميدة فليتأمل حينما يكون الإنسان عاجزاً عن شهود الجمعة والجماعات، وعن قراءة القرآن وذكر الله عز وجل، وحين يكون عاجزاً عن مصالح دنياه، كيف إذا شوفي وعوفي بإذن الله ثم بفضل هذا الطبيب كم يكون لهذا الطبيب إذا حسنت نيته من الأجر والخير الكثير! فلا شك أنه من أفضل العلوم، فنحن بحاجة إلى الأطباء المسلمين الذين يسدون عجز الأمة في مثل هذا، فيرجع إلى قولهم، ويوثق بخبرهم وشهادتهم. فقوله: (وما قال طبيبان مسلمان عدلان أنه مخوف). إذا قالا: إن هذا المرض مرض مخوف -كما ذكرنا- وشهدوا بأن هذا المرض مرض مخوف، لكن ينبغي أن ينبه إلى أن العمل بوجود الأمارات والعلامات الدالة على وجود المرض، فلا بد من وجود التحاليل والتقارير التي تثبت أنه مصاب بهذا المرض، فإذا ثبت ذلك حكم بكونه مريضاً مرض الموت.

الأسئلة

الأسئلة

حث طالب العلم على إعانة إخوانه في طلب العلم

حث طالب العلم على إعانة إخوانه في طلب العلم Q بعد الانتهاء من درس العالم أحب أن أجالس طالب علم لتدارس المسائل، فهل إذا رفضت الإجابة عن بعض المسائل طلباً مني أن يجتهد الزميل ويبحث، وليس السبب شيئاً يتعلق بشيء في الصدر، فهل فعلي صحيح؟ A هذا حسن، وأحسن منه أن تعطيه، هذا حسن أنك تقصد أن تشخذ همته؛ لأن هذا يدعو إلى التعب والجد والتحصيل، لكن لو أنك أخبرته أثابك الله على إخباره وتعليمه، ووضع الله البركة في علمك بقدر ما نشرت، ومن يضمن لك أن تبقى؟ ومن يضمن لك أنه ينال هذه المسألة؟ فلربما افترقتم افتراقاً لا تلتقيان بعده أبداً، وحيل بينه وبين بلوغ هذه الفائدة، فنزلت به هذه النازلة وهو أشد ما يكون حاجةً إليها، فيسألك الله عن ذلك، فأنت تبذل ما عندك. ومن أفضل ما وجدنا تضحية طالب العلم مع أخيه، فإن الشيطان يأتي بالدواخل حتى في الاختبارات، وبعضهم يقول: لا تعطه ملخصك، فهذا يعوده على الكسل والخمول لا، فقد تلي أمر أخيك المسلم فترفق به فيرفق الله بك، فإذا احتاج إليك في مسألة أو معضلة أو مشكلة أو نازلة، أو ملخص أو كتاب ورفقت به وأعطيته حاجته؛ فإن الله يرفق بك كما رفقت به: (وإن الرفق ما كان في شيءٍ إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه)، وإني والله لأعرف من طلاب العلم من كان يكتب الملخصات حتى إنه في بعض الأحيان يصور لإخوانه ولا يأخذ على تصويرها شيئاً، ويرجو بهذا أن ينال الأجر والثواب، وأن الله سيبارك له في علمه كما أسدى وأولى إلى إخوانه من الخير والمعروف، فلا يحرص طالب العلم على التضييق. ولذلك ينبغي أن الإنسان يوسع على الناس، فلا يأخذهم بالشدة، ولا يضيق عليهم، فالأكمل والأفضل أن تحتسب الأجر والثواب عند الله فتعلم أخاك، ولا شك أن شحذ الهمة لطلب العلم له أساليب أخرى، فلا يشحذ همة الشيء مثل الإخلاص لله جل وعلا، فإذا أردت أن تكون همتك صادقة فتعود على الإخلاص، فلا تجلس معه في مجلس إلا وتذكره بالله الحي القيوم الذي لا تأخذه سنةٌ ولا نوم، وتقول له: يا أخي! أوصيك ونفسي بتقوى الله عز وجل أن تنظر ماذا في قلبك وأن أنظر ما في قلبي ونحن في مجلس طلب العلم، وقد كان بعض السلف إذا قالوا لبعضهم: حدثنا، قال: حتى تأتي النية. فيراقبون أنفسهم في الإخلاص، فإذا أردته يجد ويجتهد فادعه إلى الإخلاص، وكذلك عليك أن تدعو له بظاهر الغيب أن الله يفتح عليه، وأن يرزقه الجد والإخلاص والاجتهاد في طلب العلم، وإذا أردته أن يجد ويجتهد فاسأله سؤال المذاكر. فهناك أساليب أخر، فلا تقتصر على أنك تبخل عليه وتمن عليه وتمنعه من التعليم والتوجيه، بل عليك أن تجد وتجتهد في ذلك لعل الله أن يبارك في علمك، وتأخذ بالأكمل والأفضل من الرفق بإخوانك، وهذه وصية في كل من ولاك الله أمره أن تكون على رفق به، فلا تأخذ بالشدة ولا تضيق عليه، ولو جاءك الشيطان يقول: هذا حزم. فقد يكون الأفضل في بعض الأحيان الحزم ولكن في حدود ضيقة، أما الأفضل والأكمل دائماً فهو أن يرفق الإنسان بإخوانه، قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمور أمتي شيئاً فرفق بهم فاللهم ارفق به)، حتى في مسألة التكبير إذا جاء إلى التشهد الأول، وقد حصلت مذاكرة بين بعض مشايخنا رحمةُ الله عليهم في مسألة عندما يجلس الإمام في التشهد الأول ويقول: الله أكبر، فيشعر الناس أنها للجلوس، فكان بعض المشايخ رحمةُ الله عليهم يقول: عليه أن يقول: الله أكبر، تكبيراً واحداً لا مد فيه حتى يعودهم على حفظ الصلاة، فقال بعض مشايخنا رحمةُ الله عليهم: أولاً: أنا لا أشك غالباً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتأثر تكبيره؛ لأنها طبيعة وسجية في الإنسان أنه يتأثر بحاله منتقلاً. ثانياً: أن هذا ليس أمراً متعلقاً بالتعبد، وإنما هو رفق بالتذكير، فإذا قال: الله أكبر بالمد، رفق بالناس وذكرهم؛ لأن فيهم مشغول البال، والمهموم والمغموم والمكروب، فإذا كان الله عز وجل قد شرع سجود السهو لما ينتابهم في صلاتهم، فهذا أمر لا يستطيع الإنسان أن يخالف الفطرة والسليقة، فالرفق بالناس دائماً هو حال الكمال وهو الأفضل والأكمل. نسأل الله العظيم أن يرزقنا الرفق وأن يجعلنا من أهله، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

مسألة تفضيل صدقة الفقير على صدقة الغني

مسألة تفضيل صدقة الفقير على صدقة الغني Q في قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أفضل الصدقة: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر)، هل فيه دليل على أن صدقة المعسر أو المسكين أفضل من صدقة الموسر أو الغني؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فالصدقة النسبية وصدقة الأحوال لا تقتضي التفضيل من كل وجه، وتوضيح ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخاف الفقر وتأمل الغنى)، أي: في عز شبابك، تخاف الفقر كما يقال: يخاف المستقبل، وتأمل الغنى أي: أنه يرجو أموراً صالحةً في مستقبله، فإذا جاء -مثلاً- يجمع مالاً لزواجه، فلو أراد أن يتصدق لجاءه الشيطان وقال له: كيف تتزوج إذا تصدقت؟ فهو حينئذٍ يأمل شيئاً من وراء جمع المال، فإذا تصدق مع وجود هذه الرغبات وهذه الشهوات، وآثر ما عند الله سبحانه وتعالى عظم أجره. أما إذا كان في آخر عمره، فهذه أشياء نسبية، فما فضل كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم من حال العبد ألبتة بين ما يكون من وزر السيئة وأجر الحسنة على أحوال العمر مفرقاً على أحوال الأشخاص غنىً وفقراً، وقوةً وضعفاً، وعزاً وذلاً، على حسب أحوال الإنسان كلها، ومنها الصدقة، فالصدقة في الأحوال لا تقتضي التفضيل من كل وجه، بمعنى: كأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: تدارك شبابك؛ فإن الصدقة في الشباب والقوة والحاجة إلى المال أعظم من الصدقة في غير ذلك، وهذا لا يمنع أن الغني يتبوأ من رحمةِ الله ما لا يخطر له على بال، فهذا عثمان رضي الله عنه أغدق الله عليه من المال والخير وجعل الله يده يد بركة، فما اشترى شيئاً إلا بورك له في صفقة يمينه، ومع ذلك كان أثرى الصحابة وأكثرهم صدقة، وجعل الله عز وجل صدقاته سبباً في رحمةِ الله له. فوجود الغنى لا يمنع أن ينال الإنسان أجره وثوابه، فلو تصدق الإنسان وهو غني بالأموال الكثيرة، وستر العورات وفرج الكربات فله دعوات الناس، وله كذلك أجر تفريج الكربات التي فرجها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما جاءه الصحابة وقالوا: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور). فهذا يدل على أن أهل الغنى يفوزون بالدرجات العلى، وأن الغنى يجعل الإنسان يفوز بالأجر الكثير، لكننا نبهنا على أن الصدقة تضاعف بحسب ما يكون من البلاء فيها، فبلاء الفقير في الصدقة أعظم من بلاء الغني، وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (سبق درهم مائة درهم)، فرجل لا يملك إلا درهماً فتصدق به، ورجل يملك المال الكثير فأخرج من عرض ماله مائة درهم، فالمائة درهم إذا قورنت بجوار عشرات الألوف من الدراهم فإنها لا تتساوي شيئاً، والدرهم بجوار العشرة الدراهم يعتبر عشر المال، فإذا أخرجه فإنه يساوي شيئاً كثيراً، وهذه مسألة نسبية، لكن لو أن غنياً تصدق بعشرة آلاف ريال، فهي يسيرةٌ في ماله، لكن العشرة آلاف ريال فرجت كربة مكروب كان في أمس الحاجة إليها، فأجره عند الله عظيم: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام:132]، والله سبحانه وتعالى لا يضيع أجره. وهناك أمرٌ لا بد من وضعه في الحسبان: وهو وجود الدعوات، ووجود الأمور التي تحتف بالصدقة؛ كالإخلاص والصدق والرغبة وعدم الغرور؛ والقبول من الله سبحانه وتعالى مقرون بمثل هذه الاعتبارات، ومن هنا قول بعض العلماء رحمهم الله وهو قول معتبر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (للعامل فيض مثل أجر خمسين). فجعل أجر العامل في أيام الشدة -كأيامنا، نسأل الله عز وجل أن يجعل ذلك- أو أيام الفتن الشديدة، كأجر خمسين رجلاً، فإذا جاء الإنسان يتصدق، تكلمت عليه زوجته، وتكلم عليه أولاده، وجاءه الخوف أنه لا يستطيع أن يؤمن مستقبله كما يقولون، وجاءته الضائقة في دراسته وفي عمله ووظيفته من جهة أنه كان يريد سيارة يركبها، ويريد بيتاً يسكنه، فهذه الأمور كلها التي آثار مرضاة الله عز وجل عليها في وجود مضاعفة الحسنات وجزيل الثواب على صدقته، فينال بها أضعاف أضعاف ما كان يؤمل مما لو تصدق في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، فإن الرجل إذا تصدق في عهد الصحابة جزته أمه خيراً وجزاه أبوه خيراً، وأثنى عليه الناس وأحبوه وذكروه بالخير، أما اليوم فقل أن يجد من يعينه على الحق؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم تجدون على الحق أعواناً، ولا يجدون على الحق أعواناً)، فجعل مضاعفة أجر العامل في أيام الصبر بأجر الخمسين لعدم وجود المعين على الحق. فدل على أن الجزاء والثواب يضاعف فيما يحيط به من البلاء والفتن، ومن هنا تكون صدقة الغني لها أجرها وصدقة الفقير لها أجرها، والله تعالى أعلم.

كتاب الوقف [4]

شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [4] من المسائل المتعلقة بالوقف التقييد والإطلاق، فعندما يطلق الواقف في وقفه فيلزم العمل بإطلاقه، وإن قيد وجب العمل بقيده، ومن المسائل التي يدخل فيها التقييد والإطلاق ما يتعلق بدخول الذكور والإناث، وكذلك دخول البطن الثاني من الأولاد مع البطن الأول، ودخول أهل البيت والقرابة والمساكين وغيرهم.

وجوب العمل بشروط الواقف

وجوب العمل بشروط الواقف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ويجب العمل بشرط الواقف في جمعٍ وتقديم وضد، ذلك واعتبار وصفٍ وعدمه، وترتيب ونظر وغير ذلك] قوله: (ويجب العمل بشرط الواقف) أي يجب على من تولى نظارة الوقف أن يعمل بالشرط الذي اشترطه المُوقف. فالواقف إذا اشترط شروطاً، أو وضع أمارات وعلامات معينة للاستحقاق في وقفيته؛ فالواجب العمل بذلك، ولا يجوز إخراج هذه الشروط ولا العبث بها، وذلك بإجماع العلماء رحمهم الله؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لما كتب وصيته وفيها وقفيته لأرضه التي بخيبر جعل النظارة لأم المؤمنين حفصة رضي الله عنها وأرضاها، ثم من بعدها للأرشد والعدل من الذرية، وجعل شروطاً في صرف الوقف وعُمل بها، وجرى العمل عند أئمة الإسلام وقضاة المسلمين على أن شروط الواقف ينبغي العمل بها، ولا يجوز تعطيلها، ولا تبديلها، ولا تغييرها، ولا تحريفها. ولذلك قال المصنف: (يجب) فعبر بالوجوب الذي يدل على إثم من خالفه، فلا يجوز أن يُتصرف في هذه الشروط، إلا إذا قضى القاضي في أحوال مستثناة سيأتي إن شاء الله بيانها، أما من حيث الأصل فالواجب العمل بهذه الشروط وتنفيذها، والشروط تختلف من حيث الأصل، فالذي يُوقِفُ الأرض أو غيرها قد يشترط النظارة لشخص معين، وقد يشترط جهة معينة يُصرَف إليها الوقف، وقد يشترط في هذا الصرف صفات معينة. ثم إذا جعل الوقف لطائفة أو لجماعة، فإما أن يُعمم وإما أن يخصص، وإما أن يُطلق، وإما أن يقيد، ثم التقييد تارة يكون بالترتيب فيقول مثلا: ًعلى أولادي، ثم أولاد أولادي، ثم أولاد أولاد أولادي إلى أن ينقطع نسلي، أو إلى أن لا يبقى أحد من ذريتي، فهذا مستغرق لذريته، وربما يُخرج هذا الوقف بالشرط عن ذريته إلى جهة أخرى فيقول: هذا الوقف لأولادي ثم أولاد أولادي، فإذا ماتوا فإلى الفقراء والمساكين من بعدهم، فيجعل الوقف بالنسبة لذرِّيته للبطن الأول والثاني، ولا يجعل للثالث استحقاقاً. وقد يجعل شرطاً من جهة الصرف، فيخصّه ببعض الذرِّية دون بعض، فيخصَّه بالذكور دون الإناث، أو العكس فيجعله للإناث دون الذكور يقول: داري هذه وقف على بناتي للمطلقات منهن، وهذا أثر عن الزبير ويحكى عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه أوقف داره على المطلقات ومن كانت أرملة من ذريته. فالشاهد من هذا أن شرط الوقف معمولٌ به، والإجماع منعقد على أنه يجب على الناظر أن ينفِّذ هذه الشروط، ويجب على القاضي أن يُلزم بها الناظر، وإذا ظهر من الناظر إخلالٌ بهذه الشروط أو تغييرٌ لها؛ فإن القاضي يُلزمه شرعاً بالعمل بهذه الشروط إلا في الأحوال المستثناة. ويجب على من ولي الوقف أن يعمل بشرط الواقف تعميماً وتخصيصاً، وتقييداً وإطلاقاً، وترتيباً على الصفات، وعلى الأحوال، كل ذلك يجب أن يُتقيد به وأن لا يُغيَّر ولا يُبدَّل. قوله: [في جمع وتقديم] الجمع كأن يقول: أولادي، وأولاد أولادي، فإذا قال: أولادي وأولاد أولادي، فمذهب طائفة من العلماء أن البطن الأول والثاني يستوون، مثلاً لو كان له ابنان زيدٌ وعمرو، فتوفي زيد وبقي عمرو، فذرية زيد تستحق مع وجود عمهم؛ لأن الوقفية مشركة حيث جمع بين البطنين الأول والثاني. لكن إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فثم هنا فرّق بها بين البطن الأول والبطن الثاني، وحينئذٍ ينبغي أن يُركَّز على الشرط الذي اشترطه، ولا يجوز أن يأخذ أحداً من الدرجة الثانية مع وجود أحد من الدرجة التي قبلها. وهكذا لو جمع وقال: على أولادي. فهذا جمع يشمل الذكور والإناث والخناثى، حتى ولو كان فيهم خناثى فإنهم يستحقون من الوقف لأنهم أولاد له، والله سمى الولد للذكر والأنثى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فالولد في لغة العرب يشمل الذكر والأنثى، فجمع بين الذكر والأنثى فقال: على أولادي، لكن ممكن أن يقول: هذه الدار وقف على بناتي، فحينئذٍ فرَّق بين الذكر والأنثى، فجعل الاستحقاق للأنثى دون الذكر، فله أن يجمع وله أن يفرِّق. قوله: (وتقديم): أي: كأن يقول على أولادي ثم أولاد أولادي، هذا ترتيب، وإذا جعل الوقف على الترتيب وجب التقيُّد بهذا الترتيب، فلا يُعطَى المؤخر مع وجود المقدم، أو مع وجود من هو أعلى منه مرتبة. قوله: [وضد ذلك] أي: ضد الجمع التفريق. قوله: [واعتبار وصف] أي: لو قال مثلاً: للمريض من أولادي، أو الفقير، أو المطلقة من بناتي، أو قال على الفقراء على المساكين على طلبة العلم على الغرباء، هذه كلها أوصاف ينبغي أن يتقيد بها، ولا يجوز أن يغيرها الناظر، بل يصرف على هذا القيد الذي ذكره الواقف. قوله: [وعدمه] أي: عدم التقييد، كما لو قال: على أولادي، ولم يقيد لا بذكر ولا بأنثى. قوله: [وترتيب] أي: كذلك إذا لم يرتب فإنه في هذه الحالة يبقى الجميع على حد سواء، فإذا قال: أوقفت هذه المزرعة على أن تكون غلتها لأولادي والمساكين؛ فحينئذٍ جمع بين أولاده والمساكين، ولو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فحينئذ لا نعطي المساكين إلا إذا عُدم أولاده. فإذاً نعمل بالجمع والتفريق، ونعمل أيضاً بالأوصاف وعدمها، فإذا جاءت خالية من الأوصاف فإننا نبقي الوقف على عمومه وشموله. فالمقصود من هذا أنه يلزم الناظر أن يتقيد بشرط الواقف على الصفة التي ذكرها في وقفيته. قوله: [ونظرٍ] أي: هكذا النظارة، لو قال: نظارة هذا الوقف لي، فهذا شرط يستحقه وتكون له النظارة، فإذا قال: ثم للأرشد فالأرشد من أولادي، فحينئذٍ تكون للأرشد، أو قال: للأعلم من ذريتي، فحينئذ تكون للأعلم، والدليل على ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كتب كتابه في الوقف، جعل النظارة لابنته حفصة رضي الله عنها وأرضاها ثم للأرشد من ذريته. فهذا يدل على أن من حق الواقف أن يخص النظارة، وأن يجعلها لبعض الموقوف عليهم، سواءً كانوا من الموقوف عليهم أو كانوا من غيرهم، فقد يقول: هذا البيت وقف على أولادي والناظر عمهم فلان، وقد يجعل رجلاً أجنبياً فيقول: النظارة لفلان -وهو غريب وليس بقريب- ولذريته من بعده، فحينئذٍ تكون النظارة على الشرط الذي ذكره الواقف. قوله: [وغير ذلك] أي: (وغير ذلك) من الأمور التي يذكرها الواقف؛ لأنه إذا اشترط فله على ربه ما اشترط، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ ضباعة رضي الله عنها: (أهلِّي واشترطي وقولي: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني، فإن لك على ربك ما اشترطت). وهذا دليل على أن العبد إذا اشترط على ربه، وكان الشرط شرعياً فإن له ذلك الشرط، فإذا جعل الناظر شروطاً في الوقف فإنه ينبغي التقيُّد بها، مثل أن يقسم الوقف أثلاثاً، ويقول هذا الثلث أشترط أن يكون للقرابة بشرط أن يكونوا بحاجة، أو يكونوا أيتاماً، أو تكون أرملة من النساء، ونحو ذلك من الأمور التي يضيفها الواقف.

الوقف المطلق

الوقف المطلق من أوقف لا يخلو إما أن يشترط، وإما أن يترك الشرط، فإذا اشترط في وقفه شروطاً، وكانت هذه الشروط شرعية؛ وجب العمل بها والتقيد بما فيها، وقد بينا وجه ذلك وأنه يُلزم ناظر الوقف بتنفيذ هذه الشروط، وصرف مستحقات الوقف على ضوء ما اشترطه الواقف. وإذا حصل الإخلال بما تقدَّم من التقييد؛ فإن الناظر يتحمل المسئولية، ويكون حينئذٍ ضامناً لكل ما يترتب على هذا الإخلال والصرف الذي لم يقع على الوجه المعتبر. بقي السؤال عن الحالة الثانية: وهي أن يصدر الوقف خالياً من الشروط، وهذه الحالة تعتبر حالة إطلاق، بمعنى أن يَنُص على الوقف دون أن يقيد، ودون أن يشترط؛ فالحكم حينئذٍ أنه يبقى المطلق على إطلاقه، ولا يمكننا أن نضيف قيوداً، ولا أن نضيق واسعاً، فإذا أطلق صاحب الوقف عملنا بإطلاقه؛ لكن هذا الإطلاق في بعض الأحيان تترتب عليه بعض المسائل. ومن هنا بيّن المصنف رحمه الله أنه إذا حصل الإطلاق عمل به، فلو قال: وقفت هذه المزرعة على أولادي. استوى في ذلك الغني والفقير، فنعطي أولاده، سواء كانوا من الأغنياء أم كانوا من الفقراء، كذلك يستوي ذكرهم وأُنثاهم، فنعطي الذكر ونعطي الأنثى؛ لأنه سوى بينهم وشرّك فقال: أولادي، فيستوي الذكور والإناث والخناثى فكلهم يدخلون في هذا، ويُصرف لهم من مستحق الوقف. وهكذا إذا قال: وقفت هذه المزرعة وثمرتها تصرف على المساكين، فإننا نصرفها على كل من يصدُق عليه أنه مسكين، سواء كان في غاية الصلاح كالصالحين، أو كان في المستوى العام لعموم المسلمين، بخلاف الحالات الأُول فإنه إذا قال: وقفت داري على أولادي الذكور؛ تَقيَّد الوقف بهم، ولو قال: وقفت داري على المطلقات من بناتي، فحينئذٍ يختص بالمطلقات، أو قال: أوقفت داري على أولادي الأفقه منهم، يُقدَّم الأصلح أو يقدم الأرشد وهكذا.

كيفية توزيع عطاء الوقف بين الأولاد

كيفية توزيع عطاء الوقف بين الأولاد إذا أطلق وقال: داري وقفٌ على أولادي، فإنا نُسَوِّي بين الأولاد جميعاً، حتى إن الولد الذي يكون من الصغار ولم يبلُغ يدخل في هذا، بل بمجرد أن يولد يثبت استحقاقه في الوقف، ويكون له نصيبه، ويقسم الوقف بينهم بالسوية. فمثلاً لو أن مزرعة أوقفها على أولاده، وفيها مثلاً مائة صاع، وله من الولد خمسة، فإننا نقسم المائة صاع بين الخمسة بالسوية، لا نفضِّل الذكر على الأنثى، ولا نعطي الكبير دون الصغير، ولا نخص الصالح دون غيره، بل يستوي الجميع في هذا الاستحقاق؛ لأنه أطلق وقال: على أولادي. ومن هنا قال بعض العلماء: إنه لو قال: وقفت داري على أولادي، وأولاد أولادي، ونسلي إلى أن ينقطع أو على عقبي حتى ينقطع، فقد سوَّى بين الطبقات، فالبطن الثاني يدخل مع البطن الأول لأنه لم يرتب، فلو قال: أوقفت داري هذه على أولادي. فإنه لو كان له ولدان: محمد وعلي، وخلّف محمد ثلاثة؛ فإن الثلاثة يقاسمون أباهم وعمهم؛ لأنه قال: أوقفت على أولادي؛ لكن في الحالات الأُوَل التي سبقت الإشارة إليها يقول: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذٍ لا يشارك البطن الثاني البطن الأول، وتختص القسمة بالبطن الأول دون الثاني؛ لكن إذا قال: أوقفت داري، أو مزرعتي على أولادي فإن انقطع نسلي أو انتهى عقبي فللمساكين، فحينئذٍ يستوي جميع أولاده كما سيأتي إن شاء الله في مسألة الولد وشموله للبطون، وسيذكرها المصنف رحمه الله. بين المصنف في هذه العبارة أن الإطلاق يخالِف التقييد، وهذا كله عمل بما كان من الواقف، ويؤكِّد ما تقدم أننا ملزمون بما فعله الواقف، إن قيد أو اشترط وجب علينا الوقوف عند قيده وشرطه، وإن أطلق ولم يقيد فإننا نبقى على هذا الإطلاق، ويرد السؤال في مسألة من هذه المسائل، وهو: إذا أطلق وصعُب علينا أن نشمل الجميع، فهل نخص البعض دون البعض؟ هذا سيأتي الكلام عليه، لكن القاعدة العامة أننا في التقييد نتقيد بما قيّد، وفي الإطلاق نعمل بالمطلق على إطلاقه. قوله: [وضدهما]. استوى الغني والذكر مع ضدّهما، يعني ضد الغني وهو الفقير، وضد الذكر وهو الأنثى، فالإناث من الولد ضد الذكور، فنسوّي بينهم، ولا نفضِّل الذكور على الإناث. وهذا قول عامة أهل العلم رحمهم الله؛ أن من قال وقفت مزرعتي هذه على أولادي، فإننا نقسم غلة المزرعة بين أولاده بالسويّة، ولا نفضّل الذكر على الأنثى، لكن استحب طائفة من السلف رحمهم الله، ونص عليه غير واحد من الأئمة وهو الحق إن شاء الله، أن يقسم بين أولاده بقسمة الله تبارك وتعالى، فيجعل حظ الذكر ضِعف حظ الأنثى؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل هذه القسمة من فوق سبع سماوات، وهي قسمة العدل الحكيم الخبير اللطيف الذي هو أعلم بعباده سبحانه وتعالى، ولا أعدل من الله. وهذا لحكمة بالغة، فإن الله حمّل الرجال المسئولية عن النساء، فالأصل في المرأة أن ترعى بيتها، وأن تقوم على ولدها، وأن تقر في قرارها، والعمل مخالفٌ للأصل؛ لأن الله نص في كتابه فقال: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]. فالأصل في الخلقة والشرعة أن التعب للرجال، ولذلك قال: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، ولم يقل: (فتشقيا)؛ لأن الرجل هو المسئول، وهو المتحمل لتبعة النفقة والقيام على المرأة، فإذا كان هذا هو الأصل فإن الله سبحانه وتعالى جعل الحق في النفقة على الرجال، ولم يجعله على النساء. فتبين أن التبعات والأمور التي يتحملها الرجال أكثر من الأمور التي تتحملها النساء، وإذا كان الأمر كذلك؛ فالله عز وجل جعل نصيب الرجل ضِعف نصيب الأنثى، فإذا أراد أن يُعطي ولده فإنه يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، ويقول مثلاً: وقفت مزرعتي هذه على أولادي وللذكر مثل حظ الأنثيين، فيفضِّل بينهم بتفضيل الله عز وجل، والله سبحانه فضل جنس الرجال على جنس الإناث، ولذلك خلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته، ونفخ فيه من روحه، ثم بعد ذلك خلق منه حواء، فجعل الرجل هو الأصل، وكل مؤمن مطالب بالتسليم، وينبغي أن يرضى بهذا الحكم وأن يذعن له، وأن يسلِّم بهذه القضية التي ليست مثار جدلٍ أو نقاش. لأن هذا التفضيل حكمٌ من الله، ولا يستطيع أحد أن يقول: لماذا خلقني الله قصيراً وخلق غيري طويلاً؟ لماذا خلقني فقيراً وخلق غيري غنياً؟ فالله يفضِّل وله الحكمة التامة البالغة، والله يحكم ولا معقب لحكمه، ففضل هذا الجنس على هذا الجنس. فنحن نفضِّل بتفضيل الله عز وجل، ولا يغض هذا ولا يُنقص مكانة المؤمنة أبداً، بل عليها أن تسلم، فإذا أراد الوالد أن يُوقف على هذا الوجه فإنه يعدل بين أولاده، ويجعل نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم). ومن هنا كان مذهب طائفة من العلماء أن عطية الولد ضعف عطية الأنثى، وهذا لا شك أنه معتبر من حيث الأصول الشرعية. والمصنف رحمه الله يقول: إنه يستوي الذكر والغني وضدّهما، يعني ضد الذكر وضد الغني، فيستوي غنيهم وفقيرهم، فلو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، وكان له ولدان أحدهما غني والثاني فقير، فإننا نعطي الغني مثلما نعطي الفقير، ونعطي الفقير مثلما نعطي الغني، ولا نفضِّل أحدهما على الآخر.

من تكون له نظارة الوقف عند الإطلاق

من تكون له نظارة الوقف عند الإطلاق قال رحمه الله: [والنظر للموقوف عليه] من أوقف شيئاً إما أن يجعل لنظارته شروطاً يحددها ويبينها، فيقول: والنظارة لهذا الوقف للأرشد فالأرشد من أولادي، ففي هذه الحالة يستحق النظارة من توفر فيه شرط الرشد فيقدَّم الأرشد. لكن إذا أَطلق وقال: هذه المزرعة وقفٌ على أولاده وسكت، ولم يذكر لمن تكون النظارة، ولم يحدد من هو الناظر ولم يضع شروطاً ولا صفاتٍ ولا أمارات معينة لمن نجعله ناظراً على وقفه، فإنه في هذه الحالة تكون النظارة للموقوف عليه. بمعنى أن الأشخاص الذين أَوقف عليهم هذه المزرعة هم الذين لهم حق النظر؛ لأنهم هم القائمون على الوقف، وهم المالكون لثمرته، وهم الذين سيمحضون هذا الوقف النصيحة، فهم أولى وأحق بالنظر في مصالحه، وليس هناك أصلح مِن نظر الإنسان بنفسه فيما هو له؛ لأنه لا يغش نفسه غالباً؛ ولأنه سيحرص على ما فيه مصلحة نفسه، ومصلحة من معه. فلو أوقف الوالد على ولدين فالنظر لهما، لا يستبد أحدهما دون الآخر، ولا يتصرف أحدهما في الوقف دون إذن الآخر، فهما شركاء في هذا الاستحقاق؛ لكن لو أنهم اتفقوا على أن يفوضوا شخصاً منهم، فقالوا نحن خمسة، وهذا الوقف يحتاج إلى شخص واحد متفرغ؛ فنحن وكلنا وفوضنا فلاناً، فحينئذٍ يكون من فوّضوه متصرفاً أصالةً عن نفسه، ووكالة عن غيره، فهو في هذه الحالة الذي له حق النظارة برضا الجميع واختيارهم. فالنظر للموقوف عليهم إن كانوا معينين فلا إشكال في ذلك، إذا كانوا معينين كقوله مثلاً: أوقفت داري هذه على أولادي، وأولاده عشرة، تفاهموا فيما بينهم وجعلوا ناظراً، أو كان العشرة كلهم يديرون هذا الوقف ومصالح الوقف لا إشكال. لكن المشكلة إذا كان الموقوف علمه جهة من الجهات، كأن يقول: وقفت مزرعتي هذه على المساكين، فلا يمكن أن يكون كل المساكين نظراء على هذا الوقف، وذلك من الصعوبة بمكان، وقد يتعذر هذا، ففي هذه الحالة يختار القاضي بعضهم للقيام على مصلحة الوقف على التفصيل الذي ذكرناه.

مسائل الوقف على الأولاد

مسائل الوقف على الأولاد قال رحمه الله: [وإن وقف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين، فهو لولده الذكور والإناث بالسوية، ثم ولد بنيه دون بناته؛ كما لو قال: على ولد ولده وذرّيته لصلبه] فقوله رحمه الله: (وإن وقف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين، فهو لولده الذكور والإناث بالسوية) فيه مسائل: المسألة الأولى: إذا قال على ولدي. المسألة الثانية: إذا قال: على ولد فلان. المسألة الثالثة: إذا قال: على ولدي ثم على المساكين.

اشتراك الذكر والأنثى

اشتراك الذكر والأنثى فالعلماء كلهم متفقون على أن من قال: على ولدي أنه يشمل الذكور والإناث؛ لأن العرب عندما تُطلِق هذا اللفظ تريد به الإناث مع الذكور {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]. فشرّك سبحانه وتعالى بين الذكر والأنثى تحت مسمى الولد، فدل على أن الولد يشمل الذكور والإناث معاً، وهكذا الخناثى فإن الخنثى المُشْكِل يدخل في الولد. فإذاً المسألة الأولى أنه إذا قال: على ولدي، فجميع أولاده وجميع نسله من الذكور والإناث داخلون في هذا، هذا كله في البطن الأول. والولد إما أن يكون من البطن الأول، وإما أن يكون من غيره، والبطن الأول هو الولد المباشر الذي هو ولدك مباشرةً ذكراً كان أو أنثى، فالبطن الأول هو أول ما أنجب الإنسان، ويليه بعد ذلك البطن الثاني، وهو ابن الابن، وبنت البنت، وبنت الابن، وابن البنت، هذا البطن الثاني الذي بينك وبينه واسطة. وهذه الواسطة هي فرع من البطن الأول، إما ذكر وإما أنثى، يتمحّض ذكوراً أو يتمحّض إناثاً، أو يجمع بينهما، يتمحض ذكوراً كابن ابنك، ويتمحض إناثاً مثل بنت بنتك، ويجمع بينهما ابن البنت وبنت الابن، والبطن الثاني فيه التفصيل، فالبطن الأول لا إشكال أنه إذا قال: وقفت داري على ولدي أن الذكور والإناث داخلون، وأنهم مستوون في الاستحقاق كما قدمنا.

دخول البطن الثاني وما بعده مع البطن الأول في الانتفاع بالوقف عند الإطلاق

دخول البطن الثاني وما بعده مع البطن الأول في الانتفاع بالوقف عند الإطلاق لكن البطن الثاني فيه تفصيل وفيه مسائل: المسألة الأول: هل إذا قال: وقفتُ على ولدي. يدخل البطن الثاني ومن بعده أو يختص بالبطن الأول؟ فمثلاً: لو أن رجلاً قال: وقفت مزرعتي هذه على أولادي ثم على المساكين، فأولاده الذين هم من صلبه مباشرة لا إشكال أنهم مستحقون؛ لكن الإشكال: متى ننتقل للمساكين؟ هل قوله: (أولادي) يشمل جميع نسله حتى ينقطع، أو يختص بالبطن الأول ثم نحكم بانتقال الوقف وصيرورته إلى المساكين؟ لهذه المسألة وجهان عند العلماء، فالمنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سُئِل عن هذه المسألة فنص على أن ولد الولد يدخل في حكم الولد، وأن من قال: على أولادي. فإننا نُلحق أولاد البطن الثاني بأولاد البطن الأول، ولا ينتقل للمساكين إلا إذا انقطع نسله أو انتهى عقبه. وهناك وجه ثانٍ وقول ثانٍ لبعض العلماء، يقول: إذا قال: وقفت على أولادي أو على ولدي ثم على المساكين؛ فإنه حينئذٍ ينتقل الوقف إلى المساكين بعد موت البطن الأول. وعلى هذا القول يكون قوله: (أولادي) خاص بالبطن الأول فقط، فلا نلحق أولاد الأولاد مكان الأولاد ولا ينزّلون منزلتهم. والصحيح الأول، وهو أنه إذا قال: وقفت على ولدي فإنه يلتحق ولد الولد حتى ينقطع نسله وعقبه، ثم بعد ذلك ينتقل إلى المساكين كما سبق، لكن كل هذا الخلاف محلّه ألا يأتي بقيد أو بعبارة تدل على أنه يريد ولد الولد، فإذا قال مثلاً: على أولادي إلى أن ينقطع نسلي ثم على المساكين، أو يقول: على أولادي والمساكين من بعدهم إذا لم يوجدوا، أو على أولادي فإن انقطع عقبهم فللمساكين؛ فحينئذٍ لا إشكال، والإجماع منعقد على أننا ننزِّل الطبقة الثانية بعد الطبقة الأولى، وهكذا بالنسبة للطبقات. هذه المسألة الأولى، نخرج منها بخلاصة وهي أن من قال: وقفت على أولادي ثم على المساكين، أن الانتقال إلى المساكين لا يكون إلا بعد انتهاء الولد، بحيث ينقطع نسله وعقبه. وهذا على الصحيح من أقوال العلماء، فإن وجدت قرينة فقولٌ واحد أنه لا يُنتقل إلى المساكين إلا بعد انقطاع النسل كقوله: على أولادي فإذا انقطع نسلهم فعلى المساكين.

اشتراك البطن الثاني وما بعده مع الأول في الانتفاع بالوقف

اشتراك البطن الثاني وما بعده مع الأول في الانتفاع بالوقف المسألة الثانية: إذا قال: وقفت على أولادي، وقلنا: إن البطن الثاني يستحق، يرد Q متى نحكم بدخول البطن الثاني مع البطن الأول؟ فلو قال: مزرعتي هذه وقفٌ على ولدي ثم على المساكين؛ وقلنا إن البطن الثاني يستحق كما يستحق البطن الأول؛ لكن هل هو على الترتيب أو على التشريك؟ و A أنه على التشريك وأنه إذا قال: وقفت مزرعتي هذه على أولادي، فإننا نُلحِق البطن الثاني بالأول، والبطن الثالث أيضاً بهم، فجميعهم ولدٌ له، فبمجرد ما يُولد من البطن الثاني أو الثالث يستحق، وكل من يولد من هذه البطون مشترك في الاستحقاق؛ لأنه قال: (على أولادي) وقد سبق أن قلنا: فإن أطلق استوى الذكر والغني وضده، أي: يستوي الجميع في الاستحقاق. فائدة المسألة: لو كان له محمد وعبد الله -من البطن الأول- ثم زيد وعمرو من البطن الثاني -أولاد عبد الله- في هذه الحالة تُقسم الثمرة بين الأربعة، وندخل البطن الثاني مع البطن الأول ولو ولد الساعة؛ لأنه شرك بين أولاده ولم يرتِّب، وأطلق في هذا التشريك، فنقول: البطن الثاني مشترك مع البطن الأول. فلو أن زيد بن عبد الله الذي هو البطن الثاني تزوج وخلف أحمد، فإن أحمد يشارك أعمامه، ويشارك عم أبيه وجده في القسمة. إذاً: لا ننتظر للبطن الثاني في استحقاقه موت البطن الأول، ولا ننتظر للبطن الثالث في استحقاقه موت البطن الثاني؛ لأنه شرك وأطلق، فهؤلاء كلهم يُنزّلون منزلة واحدة. إذاً لو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فإننا نحكم بأن أولاده يستحقون: الذكر والأنثى، البطن الأول والبطن الثاني والثالث، فلا يختص ببطن دون آخر ما لم يقل: الأقرب فالأقرب، أو: البطن الأول ثم الذي يليه ثم الذي يليه. فإذا قال بالترتيب، كأن يقول: وقفت على أولادي من البطن الأول، فإن مات منهم أحد نُزِّل ولده منزلته، فحينئذٍ يكون أيضاً دخول للبطن الثاني مع البطن الأول لكن بالترتيب، وبالشرط أنه يُنزّل منزلة والده، وحينئذٍ نقسم على القسمة الأصلية، فإذا كان له ثلاثة أولاد نقسمه على ثلاثة، وتُصبح خطوط الإرث على الثلاثة هذه، وكل ورثة من بطن يُنزّلون منزلة أصلهم. وعلى هذا فلو قال لنا: وقفت على أولادي ثم المساكين، أو على ولدي فلان، مثلاً شخص يكون عنده ذرية، ويريد أن يتصدق بالثلث على قريب، لما فيه من صلة الرحم، ولأن الصدقة عليه أعظم ثواباً، فقال: وقفت مزرعتي هذه -وهي تساوي الثلث- على ولد عمي صالح، فكل ذرية عمه صالح يدخلون في هذا الوقف، يستوي ذكورهم وإناثهم، هذا بالنسبة للبطن الأول، وبالنسبة للبطن الثاني فإنه يشارك البطن الأول، وكذلك البطن الثالث مثلما تقدم.

اختصاص أولاد الذكور في البطن الثاني وما بعده دون أولاد الإناث

اختصاص أولاد الذكور في البطن الثاني وما بعده دون أولاد الإناث يبقى السؤال في مسألة تشريك البطن ذكوراً وإناثاً، ففي البطن الأول يشرِّك بين الذكر والأنثى، وفي البطن الثاني يخُص الاستحقاق بأولاد الذكور دون أولاد الإناث، مثلاً: إذا كان له محمد، وعبد الله، وصالح، وفاطمة، فكلهم يشتركون ويُقسم الاستحقاق على أربعة يستوي فيه الذكور والإناث. فإذا أنجبت فاطمة فإن أولادها لا يستحقون؛ لأن أولادها أولادٌ لغيره وليسوا ولداً له. بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد ولذلك يُنسب للرجل ولا ينسب للمرأة كما هو معلوم، فحينئذٍ يشرك بين الذكر والأنثى في الطبقة الأولى، ثم ينظر في الطبقة الثانية التي هي البطن الثاني إلى ذرية الذكور دون ذرية الإناث، ثم هذا البطن الثاني وهم أولاد محمد وعبد الله وصالح يستوي ذكورهم وإناثهم، لكن الأنثى منهم لو أنجبت بطناً ثالثاً لا يكون له استحقاق في الوقف لأنه ليس من ولد الميت، إنما يختص ولده بالذكر والأنثى، وولد الذكر المحض. كما أنه في الميراث لا يرث ابن البنت إلا من جهة ذوي الأرحام، وهذه مسألة سيأتي تفصيلها إن شاء الله في كتاب الفرائض، فما جعل الله عز وجل لهم استحقاقاً وإرثاً، لا فرضاً ولا تعصيباً من حيث الأصل، فابن البنت ابن لوالده الذي هو غريب عن الواقف، ولا يعتبر آخذاً حكم ابن الابن. إذاً المسألة الثانية أننا نجعل أولاده مستوين ذكوراً وإناثاً بالنسبة للبطن الأول، وفي البطن الثاني نعطي الوقف لذرّية الذكور من البطن الأول، دون ذرية الإناث سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً، فلو أن البنت أنجبت ابناً أو أنجبت بنتاً فالحكم واحد؛ لأن ابن البنت ابناً للغير، ولو أنه يُنسب إليه تجوُّزاً أو مسامحة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (إن ابني هذا سيد)، فهذا من باب المسامحة. وقال عليه الصلاة والسلام في النعمان بن مقرن رضي الله عنه: (ابن بنت القوم منهم). فهذا كله مسامحة، لكن في حكم الله عز وجل في الاستحقاقات {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3]. ولذلك تجد نسبة هذا الولد من البنت إلى أصلٍ ثان وهو أصل أبيه، ولا ينسب إلى والد أمه الذي هو الجد، فالذكور لهم حكم والإناث لهن حكم، وسلسلة النسبة والإضافة متعلقةٌ في حكم الدنيا بالآباء دون الأمهات.

حالات تنزيل أفراد البطن الثاني مكان أفراد البطن الأول وعدم تنزيلهم

حالات تنزيل أفراد البطن الثاني مكان أفراد البطن الأول وعدم تنزيلهم [كما لو قال على ولد ولده وذريته لصلبه] يريد المصنف أن يشير إلى المسألة الخلافية وهي: هل إذا قال على ولدي. اختص الحكم بالبطن الأول، أو يشمل البطن الأول والثاني، فقال: إنه لا فرق بين أن يقول: على أولادي، أو أولادي وأولاد أولادي. لكن في الغالب أنه إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذٍ لا نعطي البطن الثاني مع وجود البطن الأول. مثال: لو قال: هذه المزرعة وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. نقول: نشرِّك بين أولاده في البطن الأول، فلو جاء البطن الثاني يبقى محبوساً ولا يأخذ شيئاً في الوقف حتى يموت البطن الأول كله، ولو مات واحدٌ من البطن الأول ذكراً كان أو أنثى قُسِم نصيبه على البقية. ولو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، فلو كان له من الولد في الصلب ابنان ذكران فنقسم الوقف بينهما، ولو أنجب أحدهما ولم ينجب الآخر، أو أنجب الاثنان فلا ننظر في ذريتهما ولا ننظر في البطن الثاني؛ لأنه قال (ثم)، فالبطن الأول هو المسئول عنه، والبطن الثاني غير مسئول عنه؛ لأنه لم يصل الاستحقاق إليهم. فلو توفي واحد من الولدين أخذ الثاني النصيب كاملاً، فإذا توفي هذا الثاني من البطن الأول نَزَل الاستحقاق للبطن الثاني، واستحق أصحاب البطن الثاني بالتفصيل الذي ذكرناه في مسألة الذكور والإناث إذا كان عنده ذكور وإناث في البطن الأول. إذاًَ: إذا قال: على ولدي ثم ولد ولدي، أو أولادي ثم أولاد أولادي، أو أولادي ثم الذين يلونهم، أو: ثم مَن بعدهم، فكل هذا ينبه على أنه لا يُنزِّل البطن الثاني منزلة البطن الأول إلا بعد انتهاء وانقراض البطن الأول.

دخول الإناث في الوقف دون أولادهن إذا عنى الواقف ببني فلان القبيلة

دخول الإناث في الوقف دون أولادهن إذا عنى الواقف ببني فلان القبيلة قال رحمه الله: [إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن]. وذلك على التفصيل السابق، أنه إذا شركت بين الذكور والإناث فتعتبر البطن الأول وتلغي ذرية الإناث من البطن الثاني بنفس التفصيل، ثم البطن الثاني تعطي الذكور والإناث مستويين، ثم تلغي البطن الثالث من بنات البطن الثاني، وهكذا يصبح الحكم مطرداً في جميع البطون.

الوقف على جماعة يمكن حصرهم

الوقف على جماعة يمكن حصرهم قال رحمه الله: [وإن وقف على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتساوي] وذلك كما لو قال: على ولدي، وولده -مثلاً- عشرون، أو يبلغون الأربعين أو الخمسين؛ فحينئذٍ نقسم على الأربعين والخمسين لأنه أَمكن حصرهم، لكن إذا قال: وقفت داري هذه على طلبة العلم أو: وقفت ثمرة بستاني هذا صدقة على المساكين، أو على الفقراء، وكان بموضعٍ فيه حاجة وفيه عوز، ولا يمكن حصر الفقراء فيه. فقد عرفنا أنه إذا أطلق أطلقنا، وإذا قيد قيدنا، وعملنا بما يقول والتزمنا ما اشترطه الواقف فيما بينه وبين ربه، لكن الإشكال أننا في بعض الأحيان إذا أردنا أنا نُعمِّم أو نعمل بالمطلق لا نستطيع استيعاب الكل، والأصل الشرعي يقتضي أنه يجب استيعاب الكل، فلو قال: على ولدي؛ فإنه يجب قسمة هذا الوقف على الولد، ولا يجوز تخصيص بعض الولد دون بعض، ومن هنا يكون الناظر آثماً شرعاً، وظالماً معتدياً لحدود الله إن حجب بعض الورثة وبعض المستحقين مع علمه باستحقاقهم، بل يجب عليه أن يسوِّي بين الجميع إذا سوَّى بينهم الواقف. فهذا الذي بينه وبين الله، فالواقف أخرج من ذمته هذا الوقف على هذا الوجه، وجعله مُمَلكاً -على القول بأن غلته مملوكة للموقف عليهم- لهؤلاء الذين سماهم، فلا يجوز حرمان بعضهم، وهذا تعد لحدود الله. لكن لو أن الجهة التي خُصت بالوقف لا يمكن حصرُها، ولو جئنا نحصر الفقراء والمساكين لم نستطع، مثل بلد فيها فقر شديد أو قال: على طلبة العلم، وطلاب العلم كثيرون جداً، فيجوز تخصيص بعضهم دون بعض، لكن يُرجع في هذا إلى القاضي، ويجوز للناظر إذا عدم القاضي أن يجتهد ويتقي الله في اجتهاده. فمثلاً إذا قال: أوقفت غلة هذا البستان على أولادي، ولا يمكن حصر أولاده؛ فقام الناظر بحصر المحتاجين فقدّم المحتاجين على غير المحتاجين، فهذا تصرف حكيم، والقاضي لو كان مكانه لتصرف بذلك؛ لأنه إذا أصبح الوقف عاماً للجميع ولا يمكن تعميم الجميع؛ والذين سيتضررون إن حرموا هم المحتاجون، فحينئذٍ نقول: لما كان الغني غير محتاجٍ، ويصعب حصر الأغنياء مع الفقراء، قُدِّم الفقراء على الأغنياء؛ لأن سبيلهم أعظم ثواباً وأعظم أجراً، فيُعطون ويُصرف لهم. ولو كان المحتاجون أيضاً لا يمكن حصرهم، كالمحتاجين من طلبة العلم، وممكن أن يكون هناك طلبة علم في ثغر أعظم بلاءً من غيرهم، فنُقدِّم هؤلاء الذين هم أعظم بلاءً، مثلاً طالب العلم الذي له عشر سنوات في طلب العلم نقدمه على طالب العلم المبتدئ، وطالب العلم الذي ينضبط في الدروس نقدمه على طالب العلم الذي لا يأتي الدرس إلا في الأسبوع فيُفضَّل بين المستحقين بتفضيل شرعي، ومبرر صحيح، ولا بأس بذلك؛ لأنه إذا تعذر حصر الكل صُرف إلى الأولى فالأولى، كما قال المصنف رحمه الله: [وإلا جاز التفضيل والاقتصار على أحدهم] أي: جاز أن يُفضل بعضهم، أو الاقتصار على أحدهم، مع أنه من حيث الأصل يُراعى شمولية الوقف للأكثر ما أمكن.

الأسئلة

الأسئلة

استخلاف المسبوق في الصلاة

استخلاف المسبوق في الصلاة Q إمامٌ طرأ عليه عذر فقدم رجلاً من خلفه وكان هذا المقدّم مسبوقاً بركعة، فكيف يصنع، خصوصاً أن وراءه من أدرك الصلاة مع الإمام من بدايتها؟ A هذا هو الفقه، خذوها قاعدة، الإمام عندنا فيه سنة وعندنا أصل، وكثير من المسائل تتفرع على السنة والأصل، والأصل العام مستنبط من السنة، لكن المراد بالسنة هنا الحديث الخاص: (إنما جعل الإمام ليؤتم به). أما الأصل فإنك مطالب بعدد من الركعات في الصلاة لا تزيد عليه ولا تنقص منه، فما الحكم إذا قدم مسبوقاً؟ إذا فرضناً أنه مسبوق بركعة، في هذه الحالة يصلي ويُتم الصلاة كفعل الإمام، فإذا بقيت له الركعة الباقية ثبت أهل المسجد يتشهدون، وقام لوحده، وأتم الركعة ثم تشهد، ومن هم خلفه يطولون في الدعاء والمسألة حتى ينتهي من الركعة، ثم يتشهد ثم يسلِّم بهم. لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى صلاة الخوف، ثَبَتت الطائفة الأولى وتشهّدت، ثم أتم بالطائفة الثانية الركعة، ثم جلس يتشهد فقامت الطائفة الثانية وأتمت لنفسها، ثم تشهد بالطائفتين وسلم؛ عليه الصلاة والسلام. هذه أحوال طارئة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم في حال الخوف كانت عنده ركعات زائدة على ركعات المأمومين، ومن هنا أخذ العلماء أنه إذا اختل الأمر فاحتاج المأموم أن يزيد، أو احتاج الإمام أن يزيد، فحينئذٍ يترك الإمام على زيادته ويبقى المأموم معذوراً. تخرجت على هذه مسألة ما إذا زاد الإمام، وأنت تعلم أنه في الخامسة تبقى في التشهد ولا تتابعه، ولا أعرف أحداً من أهل العلم يقول إنه إذا قام الإمام للخامسة قام المأموم وراءه، هذا لا يقول به إلا بعض المتأخرين ولا أدري من أين جاء به. والأصل يقتضي أن تبقى؛ لأن الله أمرك بأربع ركعات، ولم يأمرك بإحداث خامسة ولا سادسة، وأمرك بمتابعة إمامٍ في الصلاة لا فيما هو خارج عن الصلاة، والخامسة ليست من الصلاة، وأنت تعتقدها خارجة من الصلاة، ولا يجوز لك أن تتعبد الله عز وجل بها، لذلك لا يجوز لك أن تأتم بإمام إلى قبلة غير القبلة التي تراها. وإذا كان هذا في الشرط فكيف في الركن؟ فإذاً: من حيث الأصل الإمام تتابعه في الحدود الشرعية، فإذا زاد الخامسة معذوراً لسهوٍ، أو معذوراً لنقصٍ، ثَبَتّ متشهداً حتى يُتم خامسته ثم تتابعه في التشهد. يبقى السؤال: لماذا لا تُتم وتسلم؟ لو أتممت وسلّمت لنفسك لا نقطعت عن الجماعة وفات أجر الجماعة؛ لأن الجماعة من التكبير إلى التسليم. ففائدة المسألة: أنك تثبت حتى تبقى فيسلِّم بك، ولذلك فهذان الأمران: الإحرام والتسليم، من سبق الإمام فيهما بطلت صلاته؛ لأنهما أعظم ما في الإمام من أركان، بخلاف بقية الأركان: فإذا ركع قبله رجع فتدارك، وإذا سجد قبله رجع، إلا إحرامٌ وسلام، فإن سبق المأموم الإمام فيهما بطل اقتداؤه، أي: بطل كونه مأتماً به. فالحاصل أن تبقى معه وتكون القاعدة المعروفة: ما جاز لعذر بطل بزواله، وما أبيح للضرورة يُقدَّر بقدرها. فهو مضطرٌ إلى زيادة ركعة، وأنت تنفصل عنه بقدر الزيادة، فإذا أتم الركعة وجلس للتشهد تبقى وراءه، وترجع إلى الأصل وهو أنك ملزم بمتابعته، وليس عندك دليل يُجيز لك أن تنفصل عنه وتتم وتتشهد؛ لكن إذا كان الأمر بالعكس، فمثلاً لو كان الذين وراء الإمام جاءوا مسبوقين، فالحكم واضح وهو أنهم يتموا وراء الإمام، ثم إذا تشهد وسلم قاموا وأتموا ما سبقهم فيه الإمام وخليفته. وأما إذا جاء المأمومون كلهم مع بعض في الركعة الثالثة، والإمام حصل له عذر فقدم أحدهم، تابعوه متابعة كاملة لأن صلاته وصلاتهم واحدة، لكن يبقى الإشكال في الركعتين الأخيرتين، لأنه لو صلى وراء الإمام لجلس بعد الثالثة بالنسبة للإمام، لكن هنا لا يجلس بعد الثالثة، وإنما يقوم ويأتي بالركعتين الأخيرتين تامة، ويتابعه المأمومون. وفي هذه المسالة عشر مسائل مبسوطة، أعني مفرّعة، لأنها تختلف في الرباعية والثنائية والثلاثية بحسب اختلاف السبق والتأخر عن الإمام. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تعيين حصة لناظر الوقف

تعيين حصة لناظر الوقف Q لو عيّن الواقف ناظراً لوقفه واتفق على عشر نتاجه من المزرعة، فهل هذا التصرف صحيح أم أنه مبني على الجهالة والغرر، إذ لا يُعلم كم سيكون نتاج المزرعة؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالأفضل في ناظر الوقف أن يحتسب في نظارته وأن يأكل بالمعروف، وهذا هو المحفوظ في حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين أنه جعل لمن ولي النظارة على وقفه أن يأكل بالمعروف غير متأثل ولا مُتموّل، وقد تقدّم معنا. لكن إذا جعل للناظر نصيباً، أو قال الناظر: أريد نصيباً، وكانت مصالح الوقف والأمور التي يلي نظارتها تحتاج منه إلى كلفة وعناء ومشقة، وربما تحبسه عن الرزق، وتحبسه عن مصالحه، فلا بأس أن يجعل القاضي له نصيباً، فإذا جعل له الواقف فلا إشكال، كأن قال الواقف: وقد جعلت عُشر الوقف لمن ولي النظارة. وإذا ثبت أنه يأخذ العشر أو الربع أو الثمن أو الخمس أو ما سمى الواقف فالسؤال: هل هذا يعتبر جهالة؟ الواقع من حيث الأصل أن النسبة فيها نوع جهالة، فثمن الغلّة أو ربع الغلة أو خمس المحصول، لا يُشَك أنه جهالة؛ لأنه وإن كان معلوم النسبة لكنه مجهول القدر، فإننا لا ندري كم سيكون الربع في هذه السنة؟ مثلاً لو أُجر الوقف بمليون، أو أن المصالح الموجودة في الوقف تُدِر المليون، عُشرها مائة ألف، لكن تأتي السنة الثانية يكون عشرها مثلاً عشرة آلاف ريال بحيث تكون المصالح كلها مائة ألف مثلاً، ويكون عُشرها عشرة آلاف، فإذاً لا يمكن أن يُعلم قدر هذا العشر. فبعض العلماء يجعله مخرَّجاً على المساقاة مُلحقاً بها؛ لأن الشيء إذا تعذر الإجارة عليه في الغلة المعينة يُصار إلى تحديد النسبة احتياجاً، وبعضهم يقول: بل نقيسه على المساقاة والمزارعة والمضاربة، وهذا مسلك الحنابلة والشافعية رحمهم الله الذين يعتبرون أن المضاربة شركة، وأنها ليست بخارجة عن الأصل، ولكن الحنفية والمالكية كما تقدم معنا في باب الإجارات والمضاربة لا يصححون القياس على هذا الوجه، لكنه قد يُغتفر بوجود الحاجة في مثل هذا، والله تعالى أعلم. لكن لا يُشك أن السنة أولى، فمن يلي نظارة الوقف لا يُقال: له العشر، ولا الربع، ولا الثمن، ولا الخمس، بل يقال له: أنه يأكل بالمعروف، هذا هو الذي فعله عمر، وقضى به النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لو أن القاضي حكم أنه يأخذ العشر فإنه يُعمل به؛ لأن حكم القاضي يرفع الخلاف، وقد ذكر بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أنه قد اصطلح في هذا الزمان على أن يأخذ الناظر العشر، لكثرة الفساد، وقل أن يوجد المحتسب الذي يعمل في الوقف بدون أن يأخذ شيئاً، ويأكل بالمعروف. ثم إذا وجد من يقول: أريد أن آكل بالمعروف؛ يصير المعروف منكراً، فيأخذ كل شيء ويقول: والله هذا ما فيه شيء، فكلما جاءت غلّة أكلها، وقال: أنا الناظر، ويرى أن هذا هو المعروف. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه)، والدنيا فتنة، خاصة في الأوقات التي تكون غلات الأوقاف فيها كبيرة، لكن لو وضع العشر -وهذا ما يسمى بالمصلحة المرسلة- وألزم به، وأصبح يُتَابع في التسعة الأعشار متابعة دقيقة، ويعرف كيف أخذها وأين صرفها، فهذا يكون أكثر ضبطاً في كثير من المسائل. لكن هذا كما ذكرنا اجتهاد، وله وجهه، وإذا قضى به القاضي عُمل به على وفق ما ذكرناه، والله تعالى أعلم.

إصلاح الوقف من نصيب الموقوف عليهم كل على قدر نصيبه

إصلاح الوقف من نصيب الموقوف عليهم كل على قدر نصيبه Q ترك والدٌ لأولاده بيتاً، فاحتاج البيت إلى إصلاح، فهل تدفع الأنثى نصف ما يدفعه الذكر؟ A لاشك في هذا أن الغنم بالغرم، والخراج بالضمان، فالأنثى تدفع في الخسارة نصف ما يدفعه الذكر، وتأخذ في الناتج نصف ما يأخذه الذكر، لا تظلم ولا تُظلم، فكما أنها في الربح والناتج تأخذ نصفه، كذلك في الخسارة يلزمها في إصلاح البيت نصف ما يدفعه الذكر، فإذا احتيج لإصلاح البيت إلى ثلاثة آلاف، أو ثلاثين ألفاً وهناك ذكر وأنثى فإن الذكر يدفع عشرين ألفاً وتدفع الأنثى عشرة آلاف من الثلاثين ألفاً، ويدفع الذكر ألفين وتدفع الأنثى ألفاً إذا كان الإصلاح بثلاثة آلاف. فالذكر يدفع ضعف ما تدفعه الأنثى في حال الغرم، كما يأخذ ضعف ما تأخذه في حال الغنم، والقاعدة: (أن الغنم بالغرم والخراج بالضمان)، والله تعالى أعلم.

الجمع بين جواز الوقف على الوارث وعدم جواز الوصية لوارث

الجمع بين جواز الوقف على الوارث وعدم جواز الوصية لوارث Q أشكلت علي مسألة، وهي تخصيص الوقف على البنات دون الأولاد أو العكس مع مسألة عدم الوصية للوارث. A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالوصية شيء، والوقف شيء آخر، فالوقف منجَّز، والوصية موقوفة على الموت، والوقف لا رجعة فيه، والوصية يملك الإنسان الرجوع فيها ما لم يمت كما سيأتي تفصيله في باب الوصية. الوقف شيء والوصية شيء آخر، فالوقف يكون في الحياة، يقول: أوقفته على ولدي. ويسري في حياته، لكن نحن عندما نقول بالوقف، نقول: إنه يجوز أن يجعل للإناث، ويجعل للذكور؛ لكن بالعدل، لو أنه أَوقف على الذكور، وأوقف على الإناث، وعدل بين الذكور والإناث فلا إشكال. فلو أن رجلاً حصل له مُوجب ورأى بناته يُطلَّقن ويتعرّضن للأذية والإضرار فأَوقف لهن، ونظر أن هذا من النصيحة والرعاية لولده، وحسن التفقد لهم، فذكوره بخير، وأبناؤه بخير، ولكن إناثه وبناته في ضيعة إذا لم يترك لهن مأوىً يحفظهن، ولم يترك لهن بيتاً يأوين إليه خاصة في الظروف التي تطرأ، فهذا له مُبرر ويكون قد فعله لسبب شرعي ومصلحة معتبرة. وهذا يختاره الوالد وطائفة من أهل العلم رحمهم الله، وعمل به طائفة من الصحابة، لكن نقول: يعدل، وإذا وُجد الموجب للتّفضيل من حيث الخوف، خاصة عند فساد الزمان، فهذا شيء يلقى الله عز وجل به. ويستقيم على مذهب من يقول: يجوز تفضيل بعض الولد على بعض عند وجود الموجب، والشريعة حينما تجعل الأنثى في هذه الحالة، إنما يدل ذلك على عظيم رعايتها للإناث، وعظيم إحسانها للمرأة، فالمرأة ينظر لها بطبيعتها الفطرية، ولا يُنظر لها خارجاً عن طبيعتها الفطرية، ومن أخرج المرأة عن طبيعتها الفطرية فقد كلّفها ما لا تطيق، فإن قصد إكرامها فوالله لقد أهانها، وإن قصد الرحمة بها فقد عذبها، وإن قصد إعزازها فقد أذلها؛ لأنه لا كرامة، ولا عزة، ولا رفعة، ولا رحمة بالمرأة إلا من حيث شرع الله جل جلاله. فإذا نظر إلى أنها تُحفظ من الضيعة إذا طُلِّقت، أو أصبحت أرملة، أو أصبحت في حاجة، وقصد شرع الله عز وجل من حسن النصيحة لبناته، وتذكّر أن النبي صلى الله عليه وسلم لفت النظر إليهن: (ما من مسلم يكون له ثلاث من البنات فيحسن تأديبهن إلا كن له حجاباً من النار. قالت امرأة: يا رسول الله! واثنتين؟ قال: واثنتين) فبين فضل حسن الرعاية للبنت. البنت تحتاج إلى رعاية أكثر مما يحتاجه الذكر، فإذا كان خص الأنثى بهذا، وفضّلها بهذا، خاصة إذا نظر إلى أن أولاده كافحوا، وعندهم ما يسدهم ويكفيهم، فهذا وجه لبعض العلماء، ولكني لا أُفتي به، أنا أقول: هذا وجه لبعض أهل العلم، وله سلف، وخاصة أن ابن الزبير والزبير نفسه حُكي عنه هذا، واختاره بعض العلماء، لكن من تورع وتحفظ وترك الأمر لقسمة الله عز وجل من فوق سبع سماوات، وتركه ميراثاً شرعياً؛ فلا شك أنه قد أصاب وأحسن، والله تعالى أعلم.

كتاب الوقف [4]

شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [4] من المسائل المتعلقة بالوقف التقييد والإطلاق، فعندما يطلق الواقف في وقفه فيلزم العمل بإطلاقه، وإن قيد وجب العمل بقيده، ومن المسائل التي يدخل فيها التقييد والإطلاق ما يتعلق بدخول الذكور والإناث، وكذلك دخول البطن الثاني من الأولاد مع البطن الأول، ودخول أهل البيت والقرابة والمساكين وغيرهم.

وجوب العمل بشروط الواقف

وجوب العمل بشروط الواقف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ويجب العمل بشرط الواقف في جمعٍ وتقديم وضد، ذلك واعتبار وصفٍ وعدمه، وترتيب ونظر وغير ذلك] قوله: (ويجب العمل بشرط الواقف) أي يجب على من تولى نظارة الوقف أن يعمل بالشرط الذي اشترطه المُوقف. فالواقف إذا اشترط شروطاً، أو وضع أمارات وعلامات معينة للاستحقاق في وقفيته؛ فالواجب العمل بذلك، ولا يجوز إخراج هذه الشروط ولا العبث بها، وذلك بإجماع العلماء رحمهم الله؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لما كتب وصيته وفيها وقفيته لأرضه التي بخيبر جعل النظارة لأم المؤمنين حفصة رضي الله عنها وأرضاها، ثم من بعدها للأرشد والعدل من الذرية، وجعل شروطاً في صرف الوقف وعُمل بها، وجرى العمل عند أئمة الإسلام وقضاة المسلمين على أن شروط الواقف ينبغي العمل بها، ولا يجوز تعطيلها، ولا تبديلها، ولا تغييرها، ولا تحريفها. ولذلك قال المصنف: (يجب) فعبر بالوجوب الذي يدل على إثم من خالفه، فلا يجوز أن يُتصرف في هذه الشروط، إلا إذا قضى القاضي في أحوال مستثناة سيأتي إن شاء الله بيانها، أما من حيث الأصل فالواجب العمل بهذه الشروط وتنفيذها، والشروط تختلف من حيث الأصل، فالذي يُوقِفُ الأرض أو غيرها قد يشترط النظارة لشخص معين، وقد يشترط جهة معينة يُصرَف إليها الوقف، وقد يشترط في هذا الصرف صفات معينة. ثم إذا جعل الوقف لطائفة أو لجماعة، فإما أن يُعمم وإما أن يخصص، وإما أن يُطلق، وإما أن يقيد، ثم التقييد تارة يكون بالترتيب فيقول مثلا: ًعلى أولادي، ثم أولاد أولادي، ثم أولاد أولاد أولادي إلى أن ينقطع نسلي، أو إلى أن لا يبقى أحد من ذريتي، فهذا مستغرق لذريته، وربما يُخرج هذا الوقف بالشرط عن ذريته إلى جهة أخرى فيقول: هذا الوقف لأولادي ثم أولاد أولادي، فإذا ماتوا فإلى الفقراء والمساكين من بعدهم، فيجعل الوقف بالنسبة لذرِّيته للبطن الأول والثاني، ولا يجعل للثالث استحقاقاً. وقد يجعل شرطاً من جهة الصرف، فيخصّه ببعض الذرِّية دون بعض، فيخصَّه بالذكور دون الإناث، أو العكس فيجعله للإناث دون الذكور يقول: داري هذه وقف على بناتي للمطلقات منهن، وهذا أثر عن الزبير ويحكى عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه أوقف داره على المطلقات ومن كانت أرملة من ذريته. فالشاهد من هذا أن شرط الوقف معمولٌ به، والإجماع منعقد على أنه يجب على الناظر أن ينفِّذ هذه الشروط، ويجب على القاضي أن يُلزم بها الناظر، وإذا ظهر من الناظر إخلالٌ بهذه الشروط أو تغييرٌ لها؛ فإن القاضي يُلزمه شرعاً بالعمل بهذه الشروط إلا في الأحوال المستثناة. ويجب على من ولي الوقف أن يعمل بشرط الواقف تعميماً وتخصيصاً، وتقييداً وإطلاقاً، وترتيباً على الصفات، وعلى الأحوال، كل ذلك يجب أن يُتقيد به وأن لا يُغيَّر ولا يُبدَّل. قوله: [في جمع وتقديم] الجمع كأن يقول: أولادي، وأولاد أولادي، فإذا قال: أولادي وأولاد أولادي، فمذهب طائفة من العلماء أن البطن الأول والثاني يستوون، مثلاً لو كان له ابنان زيدٌ وعمرو، فتوفي زيد وبقي عمرو، فذرية زيد تستحق مع وجود عمهم؛ لأن الوقفية مشركة حيث جمع بين البطنين الأول والثاني. لكن إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فثم هنا فرّق بها بين البطن الأول والبطن الثاني، وحينئذٍ ينبغي أن يُركَّز على الشرط الذي اشترطه، ولا يجوز أن يأخذ أحداً من الدرجة الثانية مع وجود أحد من الدرجة التي قبلها. وهكذا لو جمع وقال: على أولادي. فهذا جمع يشمل الذكور والإناث والخناثى، حتى ولو كان فيهم خناثى فإنهم يستحقون من الوقف لأنهم أولاد له، والله سمى الولد للذكر والأنثى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فالولد في لغة العرب يشمل الذكر والأنثى، فجمع بين الذكر والأنثى فقال: على أولادي، لكن ممكن أن يقول: هذه الدار وقف على بناتي، فحينئذٍ فرَّق بين الذكر والأنثى، فجعل الاستحقاق للأنثى دون الذكر، فله أن يجمع وله أن يفرِّق. قوله: (وتقديم): أي: كأن يقول على أولادي ثم أولاد أولادي، هذا ترتيب، وإذا جعل الوقف على الترتيب وجب التقيُّد بهذا الترتيب، فلا يُعطَى المؤخر مع وجود المقدم، أو مع وجود من هو أعلى منه مرتبة. قوله: [وضد ذلك] أي: ضد الجمع التفريق. قوله: [واعتبار وصف] أي: لو قال مثلاً: للمريض من أولادي، أو الفقير، أو المطلقة من بناتي، أو قال على الفقراء على المساكين على طلبة العلم على الغرباء، هذه كلها أوصاف ينبغي أن يتقيد بها، ولا يجوز أن يغيرها الناظر، بل يصرف على هذا القيد الذي ذكره الواقف. قوله: [وعدمه] أي: عدم التقييد، كما لو قال: على أولادي، ولم يقيد لا بذكر ولا بأنثى. قوله: [وترتيب] أي: كذلك إذا لم يرتب فإنه في هذه الحالة يبقى الجميع على حد سواء، فإذا قال: أوقفت هذه المزرعة على أن تكون غلتها لأولادي والمساكين؛ فحينئذٍ جمع بين أولاده والمساكين، ولو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فحينئذ لا نعطي المساكين إلا إذا عُدم أولاده. فإذاً نعمل بالجمع والتفريق، ونعمل أيضاً بالأوصاف وعدمها، فإذا جاءت خالية من الأوصاف فإننا نبقي الوقف على عمومه وشموله. فالمقصود من هذا أنه يلزم الناظر أن يتقيد بشرط الواقف على الصفة التي ذكرها في وقفيته. قوله: [ونظرٍ] أي: هكذا النظارة، لو قال: نظارة هذا الوقف لي، فهذا شرط يستحقه وتكون له النظارة، فإذا قال: ثم للأرشد فالأرشد من أولادي، فحينئذٍ تكون للأرشد، أو قال: للأعلم من ذريتي، فحينئذ تكون للأعلم، والدليل على ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كتب كتابه في الوقف، جعل النظارة لابنته حفصة رضي الله عنها وأرضاها ثم للأرشد من ذريته. فهذا يدل على أن من حق الواقف أن يخص النظارة، وأن يجعلها لبعض الموقوف عليهم، سواءً كانوا من الموقوف عليهم أو كانوا من غيرهم، فقد يقول: هذا البيت وقف على أولادي والناظر عمهم فلان، وقد يجعل رجلاً أجنبياً فيقول: النظارة لفلان -وهو غريب وليس بقريب- ولذريته من بعده، فحينئذٍ تكون النظارة على الشرط الذي ذكره الواقف. قوله: [وغير ذلك] أي: (وغير ذلك) من الأمور التي يذكرها الواقف؛ لأنه إذا اشترط فله على ربه ما اشترط، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ ضباعة رضي الله عنها: (أهلِّي واشترطي وقولي: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني، فإن لك على ربك ما اشترطت). وهذا دليل على أن العبد إذا اشترط على ربه، وكان الشرط شرعياً فإن له ذلك الشرط، فإذا جعل الناظر شروطاً في الوقف فإنه ينبغي التقيُّد بها، مثل أن يقسم الوقف أثلاثاً، ويقول هذا الثلث أشترط أن يكون للقرابة بشرط أن يكونوا بحاجة، أو يكونوا أيتاماً، أو تكون أرملة من النساء، ونحو ذلك من الأمور التي يضيفها الواقف.

الوقف المطلق

الوقف المطلق من أوقف لا يخلو إما أن يشترط، وإما أن يترك الشرط، فإذا اشترط في وقفه شروطاً، وكانت هذه الشروط شرعية؛ وجب العمل بها والتقيد بما فيها، وقد بينا وجه ذلك وأنه يُلزم ناظر الوقف بتنفيذ هذه الشروط، وصرف مستحقات الوقف على ضوء ما اشترطه الواقف. وإذا حصل الإخلال بما تقدَّم من التقييد؛ فإن الناظر يتحمل المسئولية، ويكون حينئذٍ ضامناً لكل ما يترتب على هذا الإخلال والصرف الذي لم يقع على الوجه المعتبر. بقي السؤال عن الحالة الثانية: وهي أن يصدر الوقف خالياً من الشروط، وهذه الحالة تعتبر حالة إطلاق، بمعنى أن يَنُص على الوقف دون أن يقيد، ودون أن يشترط؛ فالحكم حينئذٍ أنه يبقى المطلق على إطلاقه، ولا يمكننا أن نضيف قيوداً، ولا أن نضيق واسعاً، فإذا أطلق صاحب الوقف عملنا بإطلاقه؛ لكن هذا الإطلاق في بعض الأحيان تترتب عليه بعض المسائل. ومن هنا بيّن المصنف رحمه الله أنه إذا حصل الإطلاق عمل به، فلو قال: وقفت هذه المزرعة على أولادي. استوى في ذلك الغني والفقير، فنعطي أولاده، سواء كانوا من الأغنياء أم كانوا من الفقراء، كذلك يستوي ذكرهم وأُنثاهم، فنعطي الذكر ونعطي الأنثى؛ لأنه سوى بينهم وشرّك فقال: أولادي، فيستوي الذكور والإناث والخناثى فكلهم يدخلون في هذا، ويُصرف لهم من مستحق الوقف. وهكذا إذا قال: وقفت هذه المزرعة وثمرتها تصرف على المساكين، فإننا نصرفها على كل من يصدُق عليه أنه مسكين، سواء كان في غاية الصلاح كالصالحين، أو كان في المستوى العام لعموم المسلمين، بخلاف الحالات الأُول فإنه إذا قال: وقفت داري على أولادي الذكور؛ تَقيَّد الوقف بهم، ولو قال: وقفت داري على المطلقات من بناتي، فحينئذٍ يختص بالمطلقات، أو قال: أوقفت داري على أولادي الأفقه منهم، يُقدَّم الأصلح أو يقدم الأرشد وهكذا.

كيفية توزيع عطاء الوقف بين الأولاد

كيفية توزيع عطاء الوقف بين الأولاد إذا أطلق وقال: داري وقفٌ على أولادي، فإنا نُسَوِّي بين الأولاد جميعاً، حتى إن الولد الذي يكون من الصغار ولم يبلُغ يدخل في هذا، بل بمجرد أن يولد يثبت استحقاقه في الوقف، ويكون له نصيبه، ويقسم الوقف بينهم بالسوية. فمثلاً لو أن مزرعة أوقفها على أولاده، وفيها مثلاً مائة صاع، وله من الولد خمسة، فإننا نقسم المائة صاع بين الخمسة بالسوية، لا نفضِّل الذكر على الأنثى، ولا نعطي الكبير دون الصغير، ولا نخص الصالح دون غيره، بل يستوي الجميع في هذا الاستحقاق؛ لأنه أطلق وقال: على أولادي. ومن هنا قال بعض العلماء: إنه لو قال: وقفت داري على أولادي، وأولاد أولادي، ونسلي إلى أن ينقطع أو على عقبي حتى ينقطع، فقد سوَّى بين الطبقات، فالبطن الثاني يدخل مع البطن الأول لأنه لم يرتب، فلو قال: أوقفت داري هذه على أولادي. فإنه لو كان له ولدان: محمد وعلي، وخلّف محمد ثلاثة؛ فإن الثلاثة يقاسمون أباهم وعمهم؛ لأنه قال: أوقفت على أولادي؛ لكن في الحالات الأُوَل التي سبقت الإشارة إليها يقول: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذٍ لا يشارك البطن الثاني البطن الأول، وتختص القسمة بالبطن الأول دون الثاني؛ لكن إذا قال: أوقفت داري، أو مزرعتي على أولادي فإن انقطع نسلي أو انتهى عقبي فللمساكين، فحينئذٍ يستوي جميع أولاده كما سيأتي إن شاء الله في مسألة الولد وشموله للبطون، وسيذكرها المصنف رحمه الله. بين المصنف في هذه العبارة أن الإطلاق يخالِف التقييد، وهذا كله عمل بما كان من الواقف، ويؤكِّد ما تقدم أننا ملزمون بما فعله الواقف، إن قيد أو اشترط وجب علينا الوقوف عند قيده وشرطه، وإن أطلق ولم يقيد فإننا نبقى على هذا الإطلاق، ويرد السؤال في مسألة من هذه المسائل، وهو: إذا أطلق وصعُب علينا أن نشمل الجميع، فهل نخص البعض دون البعض؟ هذا سيأتي الكلام عليه، لكن القاعدة العامة أننا في التقييد نتقيد بما قيّد، وفي الإطلاق نعمل بالمطلق على إطلاقه. قوله: [وضدهما]. استوى الغني والذكر مع ضدّهما، يعني ضد الغني وهو الفقير، وضد الذكر وهو الأنثى، فالإناث من الولد ضد الذكور، فنسوّي بينهم، ولا نفضِّل الذكور على الإناث. وهذا قول عامة أهل العلم رحمهم الله؛ أن من قال وقفت مزرعتي هذه على أولادي، فإننا نقسم غلة المزرعة بين أولاده بالسويّة، ولا نفضّل الذكر على الأنثى، لكن استحب طائفة من السلف رحمهم الله، ونص عليه غير واحد من الأئمة وهو الحق إن شاء الله، أن يقسم بين أولاده بقسمة الله تبارك وتعالى، فيجعل حظ الذكر ضِعف حظ الأنثى؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل هذه القسمة من فوق سبع سماوات، وهي قسمة العدل الحكيم الخبير اللطيف الذي هو أعلم بعباده سبحانه وتعالى، ولا أعدل من الله. وهذا لحكمة بالغة، فإن الله حمّل الرجال المسئولية عن النساء، فالأصل في المرأة أن ترعى بيتها، وأن تقوم على ولدها، وأن تقر في قرارها، والعمل مخالفٌ للأصل؛ لأن الله نص في كتابه فقال: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]. فالأصل في الخلقة والشرعة أن التعب للرجال، ولذلك قال: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، ولم يقل: (فتشقيا)؛ لأن الرجل هو المسئول، وهو المتحمل لتبعة النفقة والقيام على المرأة، فإذا كان هذا هو الأصل فإن الله سبحانه وتعالى جعل الحق في النفقة على الرجال، ولم يجعله على النساء. فتبين أن التبعات والأمور التي يتحملها الرجال أكثر من الأمور التي تتحملها النساء، وإذا كان الأمر كذلك؛ فالله عز وجل جعل نصيب الرجل ضِعف نصيب الأنثى، فإذا أراد أن يُعطي ولده فإنه يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، ويقول مثلاً: وقفت مزرعتي هذه على أولادي وللذكر مثل حظ الأنثيين، فيفضِّل بينهم بتفضيل الله عز وجل، والله سبحانه فضل جنس الرجال على جنس الإناث، ولذلك خلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته، ونفخ فيه من روحه، ثم بعد ذلك خلق منه حواء، فجعل الرجل هو الأصل، وكل مؤمن مطالب بالتسليم، وينبغي أن يرضى بهذا الحكم وأن يذعن له، وأن يسلِّم بهذه القضية التي ليست مثار جدلٍ أو نقاش. لأن هذا التفضيل حكمٌ من الله، ولا يستطيع أحد أن يقول: لماذا خلقني الله قصيراً وخلق غيري طويلاً؟ لماذا خلقني فقيراً وخلق غيري غنياً؟ فالله يفضِّل وله الحكمة التامة البالغة، والله يحكم ولا معقب لحكمه، ففضل هذا الجنس على هذا الجنس. فنحن نفضِّل بتفضيل الله عز وجل، ولا يغض هذا ولا يُنقص مكانة المؤمنة أبداً، بل عليها أن تسلم، فإذا أراد الوالد أن يُوقف على هذا الوجه فإنه يعدل بين أولاده، ويجعل نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم). ومن هنا كان مذهب طائفة من العلماء أن عطية الولد ضعف عطية الأنثى، وهذا لا شك أنه معتبر من حيث الأصول الشرعية. والمصنف رحمه الله يقول: إنه يستوي الذكر والغني وضدّهما، يعني ضد الذكر وضد الغني، فيستوي غنيهم وفقيرهم، فلو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، وكان له ولدان أحدهما غني والثاني فقير، فإننا نعطي الغني مثلما نعطي الفقير، ونعطي الفقير مثلما نعطي الغني، ولا نفضِّل أحدهما على الآخر.

من تكون له نظارة الوقف عند الإطلاق

من تكون له نظارة الوقف عند الإطلاق قال رحمه الله: [والنظر للموقوف عليه] من أوقف شيئاً إما أن يجعل لنظارته شروطاً يحددها ويبينها، فيقول: والنظارة لهذا الوقف للأرشد فالأرشد من أولادي، ففي هذه الحالة يستحق النظارة من توفر فيه شرط الرشد فيقدَّم الأرشد. لكن إذا أَطلق وقال: هذه المزرعة وقفٌ على أولاده وسكت، ولم يذكر لمن تكون النظارة، ولم يحدد من هو الناظر ولم يضع شروطاً ولا صفاتٍ ولا أمارات معينة لمن نجعله ناظراً على وقفه، فإنه في هذه الحالة تكون النظارة للموقوف عليه. بمعنى أن الأشخاص الذين أَوقف عليهم هذه المزرعة هم الذين لهم حق النظر؛ لأنهم هم القائمون على الوقف، وهم المالكون لثمرته، وهم الذين سيمحضون هذا الوقف النصيحة، فهم أولى وأحق بالنظر في مصالحه، وليس هناك أصلح مِن نظر الإنسان بنفسه فيما هو له؛ لأنه لا يغش نفسه غالباً؛ ولأنه سيحرص على ما فيه مصلحة نفسه، ومصلحة من معه. فلو أوقف الوالد على ولدين فالنظر لهما، لا يستبد أحدهما دون الآخر، ولا يتصرف أحدهما في الوقف دون إذن الآخر، فهما شركاء في هذا الاستحقاق؛ لكن لو أنهم اتفقوا على أن يفوضوا شخصاً منهم، فقالوا نحن خمسة، وهذا الوقف يحتاج إلى شخص واحد متفرغ؛ فنحن وكلنا وفوضنا فلاناً، فحينئذٍ يكون من فوّضوه متصرفاً أصالةً عن نفسه، ووكالة عن غيره، فهو في هذه الحالة الذي له حق النظارة برضا الجميع واختيارهم. فالنظر للموقوف عليهم إن كانوا معينين فلا إشكال في ذلك، إذا كانوا معينين كقوله مثلاً: أوقفت داري هذه على أولادي، وأولاده عشرة، تفاهموا فيما بينهم وجعلوا ناظراً، أو كان العشرة كلهم يديرون هذا الوقف ومصالح الوقف لا إشكال. لكن المشكلة إذا كان الموقوف علمه جهة من الجهات، كأن يقول: وقفت مزرعتي هذه على المساكين، فلا يمكن أن يكون كل المساكين نظراء على هذا الوقف، وذلك من الصعوبة بمكان، وقد يتعذر هذا، ففي هذه الحالة يختار القاضي بعضهم للقيام على مصلحة الوقف على التفصيل الذي ذكرناه.

مسائل الوقف على الأولاد

مسائل الوقف على الأولاد قال رحمه الله: [وإن وقف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين، فهو لولده الذكور والإناث بالسوية، ثم ولد بنيه دون بناته؛ كما لو قال: على ولد ولده وذرّيته لصلبه] فقوله رحمه الله: (وإن وقف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين، فهو لولده الذكور والإناث بالسوية) فيه مسائل: المسألة الأولى: إذا قال على ولدي. المسألة الثانية: إذا قال: على ولد فلان. المسألة الثالثة: إذا قال: على ولدي ثم على المساكين.

اشتراك الذكر والأنثى

اشتراك الذكر والأنثى فالعلماء كلهم متفقون على أن من قال: على ولدي أنه يشمل الذكور والإناث؛ لأن العرب عندما تُطلِق هذا اللفظ تريد به الإناث مع الذكور {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]. فشرّك سبحانه وتعالى بين الذكر والأنثى تحت مسمى الولد، فدل على أن الولد يشمل الذكور والإناث معاً، وهكذا الخناثى فإن الخنثى المُشْكِل يدخل في الولد. فإذاً المسألة الأولى أنه إذا قال: على ولدي، فجميع أولاده وجميع نسله من الذكور والإناث داخلون في هذا، هذا كله في البطن الأول. والولد إما أن يكون من البطن الأول، وإما أن يكون من غيره، والبطن الأول هو الولد المباشر الذي هو ولدك مباشرةً ذكراً كان أو أنثى، فالبطن الأول هو أول ما أنجب الإنسان، ويليه بعد ذلك البطن الثاني، وهو ابن الابن، وبنت البنت، وبنت الابن، وابن البنت، هذا البطن الثاني الذي بينك وبينه واسطة. وهذه الواسطة هي فرع من البطن الأول، إما ذكر وإما أنثى، يتمحّض ذكوراً أو يتمحّض إناثاً، أو يجمع بينهما، يتمحض ذكوراً كابن ابنك، ويتمحض إناثاً مثل بنت بنتك، ويجمع بينهما ابن البنت وبنت الابن، والبطن الثاني فيه التفصيل، فالبطن الأول لا إشكال أنه إذا قال: وقفت داري على ولدي أن الذكور والإناث داخلون، وأنهم مستوون في الاستحقاق كما قدمنا.

دخول البطن الثاني وما بعده مع البطن الأول في الانتفاع بالوقف عند الإطلاق

دخول البطن الثاني وما بعده مع البطن الأول في الانتفاع بالوقف عند الإطلاق لكن البطن الثاني فيه تفصيل وفيه مسائل: المسألة الأول: هل إذا قال: وقفتُ على ولدي. يدخل البطن الثاني ومن بعده أو يختص بالبطن الأول؟ فمثلاً: لو أن رجلاً قال: وقفت مزرعتي هذه على أولادي ثم على المساكين، فأولاده الذين هم من صلبه مباشرة لا إشكال أنهم مستحقون؛ لكن الإشكال: متى ننتقل للمساكين؟ هل قوله: (أولادي) يشمل جميع نسله حتى ينقطع، أو يختص بالبطن الأول ثم نحكم بانتقال الوقف وصيرورته إلى المساكين؟ لهذه المسألة وجهان عند العلماء، فالمنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سُئِل عن هذه المسألة فنص على أن ولد الولد يدخل في حكم الولد، وأن من قال: على أولادي. فإننا نُلحق أولاد البطن الثاني بأولاد البطن الأول، ولا ينتقل للمساكين إلا إذا انقطع نسله أو انتهى عقبه. وهناك وجه ثانٍ وقول ثانٍ لبعض العلماء، يقول: إذا قال: وقفت على أولادي أو على ولدي ثم على المساكين؛ فإنه حينئذٍ ينتقل الوقف إلى المساكين بعد موت البطن الأول. وعلى هذا القول يكون قوله: (أولادي) خاص بالبطن الأول فقط، فلا نلحق أولاد الأولاد مكان الأولاد ولا ينزّلون منزلتهم. والصحيح الأول، وهو أنه إذا قال: وقفت على ولدي فإنه يلتحق ولد الولد حتى ينقطع نسله وعقبه، ثم بعد ذلك ينتقل إلى المساكين كما سبق، لكن كل هذا الخلاف محلّه ألا يأتي بقيد أو بعبارة تدل على أنه يريد ولد الولد، فإذا قال مثلاً: على أولادي إلى أن ينقطع نسلي ثم على المساكين، أو يقول: على أولادي والمساكين من بعدهم إذا لم يوجدوا، أو على أولادي فإن انقطع عقبهم فللمساكين؛ فحينئذٍ لا إشكال، والإجماع منعقد على أننا ننزِّل الطبقة الثانية بعد الطبقة الأولى، وهكذا بالنسبة للطبقات. هذه المسألة الأولى، نخرج منها بخلاصة وهي أن من قال: وقفت على أولادي ثم على المساكين، أن الانتقال إلى المساكين لا يكون إلا بعد انتهاء الولد، بحيث ينقطع نسله وعقبه. وهذا على الصحيح من أقوال العلماء، فإن وجدت قرينة فقولٌ واحد أنه لا يُنتقل إلى المساكين إلا بعد انقطاع النسل كقوله: على أولادي فإذا انقطع نسلهم فعلى المساكين.

اشتراك البطن الثاني وما بعده مع الأول في الانتفاع بالوقف

اشتراك البطن الثاني وما بعده مع الأول في الانتفاع بالوقف المسألة الثانية: إذا قال: وقفت على أولادي، وقلنا: إن البطن الثاني يستحق، يرد Q متى نحكم بدخول البطن الثاني مع البطن الأول؟ فلو قال: مزرعتي هذه وقفٌ على ولدي ثم على المساكين؛ وقلنا إن البطن الثاني يستحق كما يستحق البطن الأول؛ لكن هل هو على الترتيب أو على التشريك؟ و A أنه على التشريك وأنه إذا قال: وقفت مزرعتي هذه على أولادي، فإننا نُلحِق البطن الثاني بالأول، والبطن الثالث أيضاً بهم، فجميعهم ولدٌ له، فبمجرد ما يُولد من البطن الثاني أو الثالث يستحق، وكل من يولد من هذه البطون مشترك في الاستحقاق؛ لأنه قال: (على أولادي) وقد سبق أن قلنا: فإن أطلق استوى الذكر والغني وضده، أي: يستوي الجميع في الاستحقاق. فائدة المسألة: لو كان له محمد وعبد الله -من البطن الأول- ثم زيد وعمرو من البطن الثاني -أولاد عبد الله- في هذه الحالة تُقسم الثمرة بين الأربعة، وندخل البطن الثاني مع البطن الأول ولو ولد الساعة؛ لأنه شرك بين أولاده ولم يرتِّب، وأطلق في هذا التشريك، فنقول: البطن الثاني مشترك مع البطن الأول. فلو أن زيد بن عبد الله الذي هو البطن الثاني تزوج وخلف أحمد، فإن أحمد يشارك أعمامه، ويشارك عم أبيه وجده في القسمة. إذاً: لا ننتظر للبطن الثاني في استحقاقه موت البطن الأول، ولا ننتظر للبطن الثالث في استحقاقه موت البطن الثاني؛ لأنه شرك وأطلق، فهؤلاء كلهم يُنزّلون منزلة واحدة. إذاً لو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فإننا نحكم بأن أولاده يستحقون: الذكر والأنثى، البطن الأول والبطن الثاني والثالث، فلا يختص ببطن دون آخر ما لم يقل: الأقرب فالأقرب، أو: البطن الأول ثم الذي يليه ثم الذي يليه. فإذا قال بالترتيب، كأن يقول: وقفت على أولادي من البطن الأول، فإن مات منهم أحد نُزِّل ولده منزلته، فحينئذٍ يكون أيضاً دخول للبطن الثاني مع البطن الأول لكن بالترتيب، وبالشرط أنه يُنزّل منزلة والده، وحينئذٍ نقسم على القسمة الأصلية، فإذا كان له ثلاثة أولاد نقسمه على ثلاثة، وتُصبح خطوط الإرث على الثلاثة هذه، وكل ورثة من بطن يُنزّلون منزلة أصلهم. وعلى هذا فلو قال لنا: وقفت على أولادي ثم المساكين، أو على ولدي فلان، مثلاً شخص يكون عنده ذرية، ويريد أن يتصدق بالثلث على قريب، لما فيه من صلة الرحم، ولأن الصدقة عليه أعظم ثواباً، فقال: وقفت مزرعتي هذه -وهي تساوي الثلث- على ولد عمي صالح، فكل ذرية عمه صالح يدخلون في هذا الوقف، يستوي ذكورهم وإناثهم، هذا بالنسبة للبطن الأول، وبالنسبة للبطن الثاني فإنه يشارك البطن الأول، وكذلك البطن الثالث مثلما تقدم.

اختصاص أولاد الذكور في البطن الثاني وما بعده دون أولاد الإناث

اختصاص أولاد الذكور في البطن الثاني وما بعده دون أولاد الإناث يبقى السؤال في مسألة تشريك البطن ذكوراً وإناثاً، ففي البطن الأول يشرِّك بين الذكر والأنثى، وفي البطن الثاني يخُص الاستحقاق بأولاد الذكور دون أولاد الإناث، مثلاً: إذا كان له محمد، وعبد الله، وصالح، وفاطمة، فكلهم يشتركون ويُقسم الاستحقاق على أربعة يستوي فيه الذكور والإناث. فإذا أنجبت فاطمة فإن أولادها لا يستحقون؛ لأن أولادها أولادٌ لغيره وليسوا ولداً له. بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد ولذلك يُنسب للرجل ولا ينسب للمرأة كما هو معلوم، فحينئذٍ يشرك بين الذكر والأنثى في الطبقة الأولى، ثم ينظر في الطبقة الثانية التي هي البطن الثاني إلى ذرية الذكور دون ذرية الإناث، ثم هذا البطن الثاني وهم أولاد محمد وعبد الله وصالح يستوي ذكورهم وإناثهم، لكن الأنثى منهم لو أنجبت بطناً ثالثاً لا يكون له استحقاق في الوقف لأنه ليس من ولد الميت، إنما يختص ولده بالذكر والأنثى، وولد الذكر المحض. كما أنه في الميراث لا يرث ابن البنت إلا من جهة ذوي الأرحام، وهذه مسألة سيأتي تفصيلها إن شاء الله في كتاب الفرائض، فما جعل الله عز وجل لهم استحقاقاً وإرثاً، لا فرضاً ولا تعصيباً من حيث الأصل، فابن البنت ابن لوالده الذي هو غريب عن الواقف، ولا يعتبر آخذاً حكم ابن الابن. إذاً المسألة الثانية أننا نجعل أولاده مستوين ذكوراً وإناثاً بالنسبة للبطن الأول، وفي البطن الثاني نعطي الوقف لذرّية الذكور من البطن الأول، دون ذرية الإناث سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً، فلو أن البنت أنجبت ابناً أو أنجبت بنتاً فالحكم واحد؛ لأن ابن البنت ابناً للغير، ولو أنه يُنسب إليه تجوُّزاً أو مسامحة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (إن ابني هذا سيد)، فهذا من باب المسامحة. وقال عليه الصلاة والسلام في النعمان بن مقرن رضي الله عنه: (ابن بنت القوم منهم). فهذا كله مسامحة، لكن في حكم الله عز وجل في الاستحقاقات {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3]. ولذلك تجد نسبة هذا الولد من البنت إلى أصلٍ ثان وهو أصل أبيه، ولا ينسب إلى والد أمه الذي هو الجد، فالذكور لهم حكم والإناث لهن حكم، وسلسلة النسبة والإضافة متعلقةٌ في حكم الدنيا بالآباء دون الأمهات.

لا ينتقل الوقف على الولد إلى المساكين بموت البطن الأول

لا ينتقل الوقف على الولد إلى المساكين بموت البطن الأول قال رحمه الله: [وإن وقف على ولده أو ولد غيره، ثم على المساكين]. بقي Q لو قال: على ولدي ثم المساكين، أو على أولادي ثم المساكين، كلمة (ثم) تقتضي الترتيب، فنحن لا نحكم بانتقال الوقف من ولده إلى المساكين إلا بعد انقطاع النسل والذرية، فإذا انقطعت ذريته، أو انقطع عقبه فإننا نحكم بأن الوقف قد صار إلى المساكين، أو قال: إلى الفقراء، أو قال: إلى طلبة العلم، أو غير ذلك، أو مثلاً لبني عمي، فهذا ينتقل على حسب ما اشترط صاحب الوقف. إذا قال: على ولدي أو ولد فلان، فالمصنف رحمه الله أدخل مسألة ولد فلان، يعني أن الحكم لا يختص بولده هو، فلو قال: على ولد عمي صالح، فحينئذ ننظر إلى أولاد عمه صالح ونشرّك بين البطن الأول والبطن الثاني، ونسوي بين الذكور والإناث في البطن الأول، ونلحق البطن الثاني بالبطن الأول إذا كان من ذرية الذكور دون الإناث على التفصيل الذي تقدم بيانه. [ثم على المساكين فهو لولده الذكور والإناث بالسوية] أي: ما لم يُفضِّل فلو قال: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)، فقد فضل. قال: [ثم ولد بنيه دون بناته] هذا البطن الثاني. إذاً لو قال: على ولده، وعنده محمد وعبد الله وصالح، لم يُنجب من هؤلاء الثلاثة إلا محمد، فالذين أنجبهم محمد نسوِّي ذكورهم وإناثهم، لأنهم يدلون بذكر، لكن بالنسبة للأنثى من محمد فليس لذريتها ونفسها استحقاق في الوقف.

حالات تنزيل أفراد البطن الثاني مكان أفراد البطن الأول وعدم تنزيلهم

حالات تنزيل أفراد البطن الثاني مكان أفراد البطن الأول وعدم تنزيلهم [كما لو قال على ولد ولده وذريته لصلبه] يريد المصنف أن يشير إلى المسألة الخلافية وهي: هل إذا قال على ولدي. اختص الحكم بالبطن الأول، أو يشمل البطن الأول والثاني، فقال: إنه لا فرق بين أن يقول: على أولادي، أو أولادي وأولاد أولادي. لكن في الغالب أنه إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذٍ لا نعطي البطن الثاني مع وجود البطن الأول. مثال: لو قال: هذه المزرعة وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. نقول: نشرِّك بين أولاده في البطن الأول، فلو جاء البطن الثاني يبقى محبوساً ولا يأخذ شيئاً في الوقف حتى يموت البطن الأول كله، ولو مات واحدٌ من البطن الأول ذكراً كان أو أنثى قُسِم نصيبه على البقية. ولو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، فلو كان له من الولد في الصلب ابنان ذكران فنقسم الوقف بينهما، ولو أنجب أحدهما ولم ينجب الآخر، أو أنجب الاثنان فلا ننظر في ذريتهما ولا ننظر في البطن الثاني؛ لأنه قال (ثم)، فالبطن الأول هو المسئول عنه، والبطن الثاني غير مسئول عنه؛ لأنه لم يصل الاستحقاق إليهم. فلو توفي واحد من الولدين أخذ الثاني النصيب كاملاً، فإذا توفي هذا الثاني من البطن الأول نَزَل الاستحقاق للبطن الثاني، واستحق أصحاب البطن الثاني بالتفصيل الذي ذكرناه في مسألة الذكور والإناث إذا كان عنده ذكور وإناث في البطن الأول. إذاًَ: إذا قال: على ولدي ثم ولد ولدي، أو أولادي ثم أولاد أولادي، أو أولادي ثم الذين يلونهم، أو: ثم مَن بعدهم، فكل هذا ينبه على أنه لا يُنزِّل البطن الثاني منزلة البطن الأول إلا بعد انتهاء وانقراض البطن الأول.

اختصاص الذكور بالوقف عند قوله: (على بني أو بني فلان)

اختصاص الذكور بالوقف عند قوله: (على بنيّ أو بني فلان) قال رحمه الله: [ولو قال على بنيه أو بني فلان اختص بذكورهم إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن من غيرهم] فقوله رحمه الله: (ولو قال على بنيه أو بني فلان اختص بذكورهم) بعد أن بين المصنف رحمه الله اللفظ الذي يقتضي العموم بقوله (أولادي) شَرَع فيما يقتضي التخصيص، فلو قال: على بَنِيّ، أو أبنائي، أو على بناتي، فحينئذٍ يَختَص بالبنين إن نص عليهم، ويختص بالإناث إن سماهن. إذاً فالابن لا يشمل الذكر والأنثى، وإنما يختص بالذكور دون الإناث، وعلى هذا مذهب العلماء قاطبة رحمهم الله. لكن لو قال: على بني فلان، أو على الفقراء من بني سلمة، أو من بني زياد، أو من بني عمرو، فلفظة (بني) هذه تطلق على القبيلة فيستوي ذكورها وإناثها؛ لأن العُرف واللغة يقتضي ذلك، ولقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرمي أنه جعل البنوة شاملة للذكور والإناث، تقول: هؤلاء من بني عبد الله. قال صلى الله عليه وسلم: (الأنصار وجهينة ومزينة وغفار وأسلم وبنو عبد الله من غطفان) غطفان هي مُطير الموجودة الآن، وبنو عبد الله فخذ منهم، وكانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أشبه بالقبيلة، قال: (وبنو عبد الله من غطفان موالي الله ورسوله) كما في الصحيح، فسماهم قال: (بنو عبد الله) وشرّك، وهذا مُقتضٍ لتشريك الذكور والإناث؛ لأنهم أسلموا وكان لهم بلاء في الإسلام. فالبنوة تُطلق على القبيلة ويُراد بها العموم والشمول، فتشمل الذكور والإناث، تقول: بنو فلان فتشمل ذكورهم وإناثهم، إن قال: بنو عمي، بَنِيّ، بنو خالي، بنو أخوالي، هذا كله يختص بالذكور، لا يشمل الذكور والإناث معاً، لكن إذا قال: بنو فلان وهي قبيلة فإننا نحكم بالتشريك بين الذكور والإناث؛ لأن هذا اللفظ وإن كان يختص بالذكور دون الإناث؛ لكنه يطلق ويُتجوّز فيه فيعم الذكر والأنثى.

دخول الإناث في الوقف دون أولادهن إذا عنى الواقف ببني فلان القبيلة

دخول الإناث في الوقف دون أولادهن إذا عنى الواقف ببني فلان القبيلة قال رحمه الله: [إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن]. وذلك على التفصيل السابق، أنه إذا شركت بين الذكور والإناث فتعتبر البطن الأول وتلغي ذرية الإناث من البطن الثاني بنفس التفصيل، ثم البطن الثاني تعطي الذكور والإناث مستويين، ثم تلغي البطن الثالث من بنات البطن الثاني، وهكذا يصبح الحكم مطرداً في جميع البطون.

دخول الذكور والإناث في الوقف على القرابة وأهل البيت والقوم

دخول الذكور والإناث في الوقف على القرابة وأهل البيت والقوم قال رحمه الله: [والقرابة وأهل بيته وقومه يشمل الذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه وجدِّه وجد أبيه] أي: فإن قال: وقف على أقربائي وأهل بيتي، أو أهلي، أو وقفٌ على المسكين من أهلي، أو على المحتاج من أهلي، فإنه يشمل الذكور والإناث. يقال إن أهل أصلها: آل، وهذا قول سيبويه من أئمة اللغة، وأُبدلت الهمزة هاءً. وأهل الإنسان، وآل الإنسان، وقرابة الإنسان تشمل فروعه من الأصول. وقومه كذلك، إن قال: للضعفاء، للفقراء، لطلبة العلم من قومي، فإنه يستوي فيه الذكور والإناث، إلا أن يَخُص، ولذلك قال: [يشمل الذكر والأنثى من أولاده] أي: لأن الآل لا تختص بالذكور دون الإناث، قال صلى الله عليه وسلم: (إنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)، والإجماع قائم على أن قوله: (آل محمد)، شاملة للذكور والإناث، وأهل مثل آل، فلو قال: على أهل بيتي؛ فإنها تشمل الإناث، وفي حديث الكساء أنه عليه الصلاة والسلام جلّل فاطمة رضي الله عنها وجعلها من أهل البيت، وهي من أهل بيته بالإجماع. فأهل بيت الإنسان وآله وقرابته يستوي فيهم الذكور والإناث، قال تعالى: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود:73]، فالخطاب متوجه لزوجة إبراهيم عليها السلام لما عجبت من أمر الله عز وجل فقيل لها: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:73]. فأهل الإنسان تطلق على الزوجة {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [طه:10]، تُطلق الأهل بمعنى البيت خاصة، سواء كان للزوجة وأولادها ومن هو قريب من ذلك كالخدم والحشم، وتُطلق بمعنى العموم، ويقال: أهل الإنسان ومرادهم كل من يمت إليه بالقرابة والصلة. وقوله: (وأولاد أبيه): وهم من يجتمعون معه في الأصول، فيشمل ذلك أعمامه وعماته الأشقاء، وهم الذين شاركوا أباه في أصليه، والعمة لأب، والعمة لأم من حيث الأصل، لكن بالنسبة لمن فوقهم يختص بالأصول وهو جد أبيه ومَن علا. قال: [وجد أبيه] أي: جد أبيه، وجد جده، ونحو ذلك؛ لأنها كلها أصول وتدخل في آله وقرابته. قال رحمه الله: [وإن وُجدت قرينة تقتضي إرادة الإناث أو حرمانهن عُمل بها] يريد إناثه؛ كان يقول: بيتي وقف على المطلقة من بناتي، أو على المطلقة من ذريتي، أو على المطلقة من نسلي، أو وقفٌ على المحتاجة من قرابتي، هذا يخص الإناث دون الذكور، فالذكر لا يستحق في هذه الحالة، ولا يدخل. وأُثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنه أوقف على الإناث من ذريته، وهذا قول لبعض العلماء، فيرى أنه يجوز تخصيص بعض الولد عند الموجب، وفي النفس منه شيء، لكن عمل به بعض الصحابة رضوان الله عليهم، ويؤثر عن الزبير وابنه عبد الله بن الزبير رضي الله عن الجميع أنه خشي على بناته فجعله للمطلقة والأرملة؛ لأن الذكر يستطيع أن يكافح، ولكن الأُنثى إذا طُلِّقت أو مات عنها زوجها خُشي عليها. فيوقف على المحتاجة من ذريته إذا طُلِّقت أو أصبحت أرملة خوفاً عليها من العار، وهذا يجوزه بعض العلماء؛ لأنهم يقولون: يجوز أن يَخُص الوالد بعض ولده للعوز والحاجة، مثل أن يكون ابنه -لا قدر الله- مشلولاً، فيجوز أن يعطيه ما لا يُعطي الصحيح، ولو كان ابنه طالب علم يحتاج إلى نفقة خاصة أعطاه نفقة طالب علم، فهذا التفضيل للسبب، فيرى أنه إذا فضّل بعض ولده بالوقف عليهم لسبب، أو مثلاً جعل للذكور حظاً، وجعل للإناث حظاً، فأوقف على الذكور داراً، وأوقف على الإناث مزرعةً وعدل بينهم، فهذا له وجهه. الشاهد أنه إذا قيّد بالأنثى؛ فإنه يعمل بتقييده، سواء كان ذلك بأمارة، أو كان صريحاً، فقال: للمطلقة أو للأرملة إذا رُمِّلت، فإن قال: للمطلقة فإنه يكون مقيداً بالمطلقة ولا يشمل الكل، وإذا قال: للأرملة، أو قال: التي لا زوج لها، إذا قال: التي لا زوج لها فهذا أعم، لأنه يشمل الصغيرة التي لم تتزوج بعد، فمن حقها أن تسكن، ومن حقها أن تأكل من هذا الوقف، لكن إذا قال: للمطلقة؛ فلا بد أن تكون زُوِّجت ثم بعد ذلك طلِّقت، ويُراعى في هذا وجود الحاجة إلى الستر.

الوقف على جماعة يمكن حصرهم

الوقف على جماعة يمكن حصرهم قال رحمه الله: [وإن وقف على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتساوي] وذلك كما لو قال: على ولدي، وولده -مثلاً- عشرون، أو يبلغون الأربعين أو الخمسين؛ فحينئذٍ نقسم على الأربعين والخمسين لأنه أَمكن حصرهم، لكن إذا قال: وقفت داري هذه على طلبة العلم أو: وقفت ثمرة بستاني هذا صدقة على المساكين، أو على الفقراء، وكان بموضعٍ فيه حاجة وفيه عوز، ولا يمكن حصر الفقراء فيه. فقد عرفنا أنه إذا أطلق أطلقنا، وإذا قيد قيدنا، وعملنا بما يقول والتزمنا ما اشترطه الواقف فيما بينه وبين ربه، لكن الإشكال أننا في بعض الأحيان إذا أردنا أنا نُعمِّم أو نعمل بالمطلق لا نستطيع استيعاب الكل، والأصل الشرعي يقتضي أنه يجب استيعاب الكل، فلو قال: على ولدي؛ فإنه يجب قسمة هذا الوقف على الولد، ولا يجوز تخصيص بعض الولد دون بعض، ومن هنا يكون الناظر آثماً شرعاً، وظالماً معتدياً لحدود الله إن حجب بعض الورثة وبعض المستحقين مع علمه باستحقاقهم، بل يجب عليه أن يسوِّي بين الجميع إذا سوَّى بينهم الواقف. فهذا الذي بينه وبين الله، فالواقف أخرج من ذمته هذا الوقف على هذا الوجه، وجعله مُمَلكاً -على القول بأن غلته مملوكة للموقف عليهم- لهؤلاء الذين سماهم، فلا يجوز حرمان بعضهم، وهذا تعد لحدود الله. لكن لو أن الجهة التي خُصت بالوقف لا يمكن حصرُها، ولو جئنا نحصر الفقراء والمساكين لم نستطع، مثل بلد فيها فقر شديد أو قال: على طلبة العلم، وطلاب العلم كثيرون جداً، فيجوز تخصيص بعضهم دون بعض، لكن يُرجع في هذا إلى القاضي، ويجوز للناظر إذا عدم القاضي أن يجتهد ويتقي الله في اجتهاده. فمثلاً إذا قال: أوقفت غلة هذا البستان على أولادي، ولا يمكن حصر أولاده؛ فقام الناظر بحصر المحتاجين فقدّم المحتاجين على غير المحتاجين، فهذا تصرف حكيم، والقاضي لو كان مكانه لتصرف بذلك؛ لأنه إذا أصبح الوقف عاماً للجميع ولا يمكن تعميم الجميع؛ والذين سيتضررون إن حرموا هم المحتاجون، فحينئذٍ نقول: لما كان الغني غير محتاجٍ، ويصعب حصر الأغنياء مع الفقراء، قُدِّم الفقراء على الأغنياء؛ لأن سبيلهم أعظم ثواباً وأعظم أجراً، فيُعطون ويُصرف لهم. ولو كان المحتاجون أيضاً لا يمكن حصرهم، كالمحتاجين من طلبة العلم، وممكن أن يكون هناك طلبة علم في ثغر أعظم بلاءً من غيرهم، فنُقدِّم هؤلاء الذين هم أعظم بلاءً، مثلاً طالب العلم الذي له عشر سنوات في طلب العلم نقدمه على طالب العلم المبتدئ، وطالب العلم الذي ينضبط في الدروس نقدمه على طالب العلم الذي لا يأتي الدرس إلا في الأسبوع فيُفضَّل بين المستحقين بتفضيل شرعي، ومبرر صحيح، ولا بأس بذلك؛ لأنه إذا تعذر حصر الكل صُرف إلى الأولى فالأولى، كما قال المصنف رحمه الله: [وإلا جاز التفضيل والاقتصار على أحدهم] أي: جاز أن يُفضل بعضهم، أو الاقتصار على أحدهم، مع أنه من حيث الأصل يُراعى شمولية الوقف للأكثر ما أمكن.

الأسئلة

الأسئلة

تعيين حصة لناظر الوقف

تعيين حصة لناظر الوقف Q لو عيّن الواقف ناظراً لوقفه واتفق على عشر نتاجه من المزرعة، فهل هذا التصرف صحيح أم أنه مبني على الجهالة والغرر، إذ لا يُعلم كم سيكون نتاج المزرعة؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالأفضل في ناظر الوقف أن يحتسب في نظارته وأن يأكل بالمعروف، وهذا هو المحفوظ في حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين أنه جعل لمن ولي النظارة على وقفه أن يأكل بالمعروف غير متأثل ولا مُتموّل، وقد تقدّم معنا. لكن إذا جعل للناظر نصيباً، أو قال الناظر: أريد نصيباً، وكانت مصالح الوقف والأمور التي يلي نظارتها تحتاج منه إلى كلفة وعناء ومشقة، وربما تحبسه عن الرزق، وتحبسه عن مصالحه، فلا بأس أن يجعل القاضي له نصيباً، فإذا جعل له الواقف فلا إشكال، كأن قال الواقف: وقد جعلت عُشر الوقف لمن ولي النظارة. وإذا ثبت أنه يأخذ العشر أو الربع أو الثمن أو الخمس أو ما سمى الواقف فالسؤال: هل هذا يعتبر جهالة؟ الواقع من حيث الأصل أن النسبة فيها نوع جهالة، فثمن الغلّة أو ربع الغلة أو خمس المحصول، لا يُشَك أنه جهالة؛ لأنه وإن كان معلوم النسبة لكنه مجهول القدر، فإننا لا ندري كم سيكون الربع في هذه السنة؟ مثلاً لو أُجر الوقف بمليون، أو أن المصالح الموجودة في الوقف تُدِر المليون، عُشرها مائة ألف، لكن تأتي السنة الثانية يكون عشرها مثلاً عشرة آلاف ريال بحيث تكون المصالح كلها مائة ألف مثلاً، ويكون عُشرها عشرة آلاف، فإذاً لا يمكن أن يُعلم قدر هذا العشر. فبعض العلماء يجعله مخرَّجاً على المساقاة مُلحقاً بها؛ لأن الشيء إذا تعذر الإجارة عليه في الغلة المعينة يُصار إلى تحديد النسبة احتياجاً، وبعضهم يقول: بل نقيسه على المساقاة والمزارعة والمضاربة، وهذا مسلك الحنابلة والشافعية رحمهم الله الذين يعتبرون أن المضاربة شركة، وأنها ليست بخارجة عن الأصل، ولكن الحنفية والمالكية كما تقدم معنا في باب الإجارات والمضاربة لا يصححون القياس على هذا الوجه، لكنه قد يُغتفر بوجود الحاجة في مثل هذا، والله تعالى أعلم. لكن لا يُشك أن السنة أولى، فمن يلي نظارة الوقف لا يُقال: له العشر، ولا الربع، ولا الثمن، ولا الخمس، بل يقال له: أنه يأكل بالمعروف، هذا هو الذي فعله عمر، وقضى به النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لو أن القاضي حكم أنه يأخذ العشر فإنه يُعمل به؛ لأن حكم القاضي يرفع الخلاف، وقد ذكر بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أنه قد اصطلح في هذا الزمان على أن يأخذ الناظر العشر، لكثرة الفساد، وقل أن يوجد المحتسب الذي يعمل في الوقف بدون أن يأخذ شيئاً، ويأكل بالمعروف. ثم إذا وجد من يقول: أريد أن آكل بالمعروف؛ يصير المعروف منكراً، فيأخذ كل شيء ويقول: والله هذا ما فيه شيء، فكلما جاءت غلّة أكلها، وقال: أنا الناظر، ويرى أن هذا هو المعروف. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه)، والدنيا فتنة، خاصة في الأوقات التي تكون غلات الأوقاف فيها كبيرة، لكن لو وضع العشر -وهذا ما يسمى بالمصلحة المرسلة- وألزم به، وأصبح يُتَابع في التسعة الأعشار متابعة دقيقة، ويعرف كيف أخذها وأين صرفها، فهذا يكون أكثر ضبطاً في كثير من المسائل. لكن هذا كما ذكرنا اجتهاد، وله وجهه، وإذا قضى به القاضي عُمل به على وفق ما ذكرناه، والله تعالى أعلم.

إصلاح الوقف من نصيب الموقوف عليهم كل على قدر نصيبه

إصلاح الوقف من نصيب الموقوف عليهم كل على قدر نصيبه Q ترك والدٌ لأولاده بيتاً، فاحتاج البيت إلى إصلاح، فهل تدفع الأنثى نصف ما يدفعه الذكر؟ A لاشك في هذا أن الغنم بالغرم، والخراج بالضمان، فالأنثى تدفع في الخسارة نصف ما يدفعه الذكر، وتأخذ في الناتج نصف ما يأخذه الذكر، لا تظلم ولا تُظلم، فكما أنها في الربح والناتج تأخذ نصفه، كذلك في الخسارة يلزمها في إصلاح البيت نصف ما يدفعه الذكر، فإذا احتيج لإصلاح البيت إلى ثلاثة آلاف، أو ثلاثين ألفاً وهناك ذكر وأنثى فإن الذكر يدفع عشرين ألفاً وتدفع الأنثى عشرة آلاف من الثلاثين ألفاً، ويدفع الذكر ألفين وتدفع الأنثى ألفاً إذا كان الإصلاح بثلاثة آلاف. فالذكر يدفع ضعف ما تدفعه الأنثى في حال الغرم، كما يأخذ ضعف ما تأخذه في حال الغنم، والقاعدة: (أن الغنم بالغرم والخراج بالضمان)، والله تعالى أعلم.

الجمع بين جواز الوقف على الوارث وعدم جواز الوصية لوارث

الجمع بين جواز الوقف على الوارث وعدم جواز الوصية لوارث Q أشكلت علي مسألة، وهي تخصيص الوقف على البنات دون الأولاد أو العكس مع مسألة عدم الوصية للوارث. A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالوصية شيء، والوقف شيء آخر، فالوقف منجَّز، والوصية موقوفة على الموت، والوقف لا رجعة فيه، والوصية يملك الإنسان الرجوع فيها ما لم يمت كما سيأتي تفصيله في باب الوصية. الوقف شيء والوصية شيء آخر، فالوقف يكون في الحياة، يقول: أوقفته على ولدي. ويسري في حياته، لكن نحن عندما نقول بالوقف، نقول: إنه يجوز أن يجعل للإناث، ويجعل للذكور؛ لكن بالعدل، لو أنه أَوقف على الذكور، وأوقف على الإناث، وعدل بين الذكور والإناث فلا إشكال. فلو أن رجلاً حصل له مُوجب ورأى بناته يُطلَّقن ويتعرّضن للأذية والإضرار فأَوقف لهن، ونظر أن هذا من النصيحة والرعاية لولده، وحسن التفقد لهم، فذكوره بخير، وأبناؤه بخير، ولكن إناثه وبناته في ضيعة إذا لم يترك لهن مأوىً يحفظهن، ولم يترك لهن بيتاً يأوين إليه خاصة في الظروف التي تطرأ، فهذا له مُبرر ويكون قد فعله لسبب شرعي ومصلحة معتبرة. وهذا يختاره الوالد وطائفة من أهل العلم رحمهم الله، وعمل به طائفة من الصحابة، لكن نقول: يعدل، وإذا وُجد الموجب للتّفضيل من حيث الخوف، خاصة عند فساد الزمان، فهذا شيء يلقى الله عز وجل به. ويستقيم على مذهب من يقول: يجوز تفضيل بعض الولد على بعض عند وجود الموجب، والشريعة حينما تجعل الأنثى في هذه الحالة، إنما يدل ذلك على عظيم رعايتها للإناث، وعظيم إحسانها للمرأة، فالمرأة ينظر لها بطبيعتها الفطرية، ولا يُنظر لها خارجاً عن طبيعتها الفطرية، ومن أخرج المرأة عن طبيعتها الفطرية فقد كلّفها ما لا تطيق، فإن قصد إكرامها فوالله لقد أهانها، وإن قصد الرحمة بها فقد عذبها، وإن قصد إعزازها فقد أذلها؛ لأنه لا كرامة، ولا عزة، ولا رفعة، ولا رحمة بالمرأة إلا من حيث شرع الله جل جلاله. فإذا نظر إلى أنها تُحفظ من الضيعة إذا طُلِّقت، أو أصبحت أرملة، أو أصبحت في حاجة، وقصد شرع الله عز وجل من حسن النصيحة لبناته، وتذكّر أن النبي صلى الله عليه وسلم لفت النظر إليهن: (ما من مسلم يكون له ثلاث من البنات فيحسن تأديبهن إلا كن له حجاباً من النار. قالت امرأة: يا رسول الله! واثنتين؟ قال: واثنتين) فبين فضل حسن الرعاية للبنت. البنت تحتاج إلى رعاية أكثر مما يحتاجه الذكر، فإذا كان خص الأنثى بهذا، وفضّلها بهذا، خاصة إذا نظر إلى أن أولاده كافحوا، وعندهم ما يسدهم ويكفيهم، فهذا وجه لبعض العلماء، ولكني لا أُفتي به، أنا أقول: هذا وجه لبعض أهل العلم، وله سلف، وخاصة أن ابن الزبير والزبير نفسه حُكي عنه هذا، واختاره بعض العلماء، لكن من تورع وتحفظ وترك الأمر لقسمة الله عز وجل من فوق سبع سماوات، وتركه ميراثاً شرعياً؛ فلا شك أنه قد أصاب وأحسن، والله تعالى أعلم.

استخلاف المسبوق في الصلاة

استخلاف المسبوق في الصلاة Q إمامٌ طرأ عليه عذر فقدم رجلاً من خلفه وكان هذا المقدّم مسبوقاً بركعة، فكيف يصنع، خصوصاً أن وراءه من أدرك الصلاة مع الإمام من بدايتها؟ A هذا هو الفقه، خذوها قاعدة، الإمام عندنا فيه سنة وعندنا أصل، وكثير من المسائل تتفرع على السنة والأصل، والأصل العام مستنبط من السنة، لكن المراد بالسنة هنا الحديث الخاص: (إنما جعل الإمام ليؤتم به). أما الأصل فإنك مطالب بعدد من الركعات في الصلاة لا تزيد عليه ولا تنقص منه، فما الحكم إذا قدم مسبوقاً؟ إذا فرضناً أنه مسبوق بركعة، في هذه الحالة يصلي ويُتم الصلاة كفعل الإمام، فإذا بقيت له الركعة الباقية ثبت أهل المسجد يتشهدون، وقام لوحده، وأتم الركعة ثم تشهد، ومن هم خلفه يطولون في الدعاء والمسألة حتى ينتهي من الركعة، ثم يتشهد ثم يسلِّم بهم. لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى صلاة الخوف، ثَبَتت الطائفة الأولى وتشهّدت، ثم أتم بالطائفة الثانية الركعة، ثم جلس يتشهد فقامت الطائفة الثانية وأتمت لنفسها، ثم تشهد بالطائفتين وسلم؛ عليه الصلاة والسلام. هذه أحوال طارئة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم في حال الخوف كانت عنده ركعات زائدة على ركعات المأمومين، ومن هنا أخذ العلماء أنه إذا اختل الأمر فاحتاج المأموم أن يزيد، أو احتاج الإمام أن يزيد، فحينئذٍ يترك الإمام على زيادته ويبقى المأموم معذوراً. تخرجت على هذه مسألة ما إذا زاد الإمام، وأنت تعلم أنه في الخامسة تبقى في التشهد ولا تتابعه، ولا أعرف أحداً من أهل العلم يقول إنه إذا قام الإمام للخامسة قام المأموم وراءه، هذا لا يقول به إلا بعض المتأخرين ولا أدري من أين جاء به. والأصل يقتضي أن تبقى؛ لأن الله أمرك بأربع ركعات، ولم يأمرك بإحداث خامسة ولا سادسة، وأمرك بمتابعة إمامٍ في الصلاة لا فيما هو خارج عن الصلاة، والخامسة ليست من الصلاة، وأنت تعتقدها خارجة من الصلاة، ولا يجوز لك أن تتعبد الله عز وجل بها، لذلك لا يجوز لك أن تأتم بإمام إلى قبلة غير القبلة التي تراها. وإذا كان هذا في الشرط فكيف في الركن؟ فإذاً: من حيث الأصل الإمام تتابعه في الحدود الشرعية، فإذا زاد الخامسة معذوراً لسهوٍ، أو معذوراً لنقصٍ، ثَبَتّ متشهداً حتى يُتم خامسته ثم تتابعه في التشهد. يبقى السؤال: لماذا لا تُتم وتسلم؟ لو أتممت وسلّمت لنفسك لا نقطعت عن الجماعة وفات أجر الجماعة؛ لأن الجماعة من التكبير إلى التسليم. ففائدة المسألة: أنك تثبت حتى تبقى فيسلِّم بك، ولذلك فهذان الأمران: الإحرام والتسليم، من سبق الإمام فيهما بطلت صلاته؛ لأنهما أعظم ما في الإمام من أركان، بخلاف بقية الأركان: فإذا ركع قبله رجع فتدارك، وإذا سجد قبله رجع، إلا إحرامٌ وسلام، فإن سبق المأموم الإمام فيهما بطل اقتداؤه، أي: بطل كونه مأتماً به. فالحاصل أن تبقى معه وتكون القاعدة المعروفة: ما جاز لعذر بطل بزواله، وما أبيح للضرورة يُقدَّر بقدرها. فهو مضطرٌ إلى زيادة ركعة، وأنت تنفصل عنه بقدر الزيادة، فإذا أتم الركعة وجلس للتشهد تبقى وراءه، وترجع إلى الأصل وهو أنك ملزم بمتابعته، وليس عندك دليل يُجيز لك أن تنفصل عنه وتتم وتتشهد؛ لكن إذا كان الأمر بالعكس، فمثلاً لو كان الذين وراء الإمام جاءوا مسبوقين، فالحكم واضح وهو أنهم يتموا وراء الإمام، ثم إذا تشهد وسلم قاموا وأتموا ما سبقهم فيه الإمام وخليفته. وأما إذا جاء المأمومون كلهم مع بعض في الركعة الثالثة، والإمام حصل له عذر فقدم أحدهم، تابعوه متابعة كاملة لأن صلاته وصلاتهم واحدة، لكن يبقى الإشكال في الركعتين الأخيرتين، لأنه لو صلى وراء الإمام لجلس بعد الثالثة بالنسبة للإمام، لكن هنا لا يجلس بعد الثالثة، وإنما يقوم ويأتي بالركعتين الأخيرتين تامة، ويتابعه المأمومون. وفي هذه المسالة عشر مسائل مبسوطة، أعني مفرّعة، لأنها تختلف في الرباعية والثنائية والثلاثية بحسب اختلاف السبق والتأخر عن الإمام. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب الوقف [4]

شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [4] من المسائل المتعلقة بالوقف التقييد والإطلاق، فعندما يطلق الواقف في وقفه فيلزم العمل بإطلاقه، وإن قيد وجب العمل بقيده، ومن المسائل التي يدخل فيها التقييد والإطلاق ما يتعلق بدخول الذكور والإناث، وكذلك دخول البطن الثاني من الأولاد مع البطن الأول، ودخول أهل البيت والقرابة والمساكين وغيرهم.

وجوب العمل بشروط الواقف

وجوب العمل بشروط الواقف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ويجب العمل بشرط الواقف في جمعٍ وتقديم وضد، ذلك واعتبار وصفٍ وعدمه، وترتيب ونظر وغير ذلك] قوله: (ويجب العمل بشرط الواقف) أي يجب على من تولى نظارة الوقف أن يعمل بالشرط الذي اشترطه المُوقف. فالواقف إذا اشترط شروطاً، أو وضع أمارات وعلامات معينة للاستحقاق في وقفيته؛ فالواجب العمل بذلك، ولا يجوز إخراج هذه الشروط ولا العبث بها، وذلك بإجماع العلماء رحمهم الله؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لما كتب وصيته وفيها وقفيته لأرضه التي بخيبر جعل النظارة لأم المؤمنين حفصة رضي الله عنها وأرضاها، ثم من بعدها للأرشد والعدل من الذرية، وجعل شروطاً في صرف الوقف وعُمل بها، وجرى العمل عند أئمة الإسلام وقضاة المسلمين على أن شروط الواقف ينبغي العمل بها، ولا يجوز تعطيلها، ولا تبديلها، ولا تغييرها، ولا تحريفها. ولذلك قال المصنف: (يجب) فعبر بالوجوب الذي يدل على إثم من خالفه، فلا يجوز أن يُتصرف في هذه الشروط، إلا إذا قضى القاضي في أحوال مستثناة سيأتي إن شاء الله بيانها، أما من حيث الأصل فالواجب العمل بهذه الشروط وتنفيذها، والشروط تختلف من حيث الأصل، فالذي يُوقِفُ الأرض أو غيرها قد يشترط النظارة لشخص معين، وقد يشترط جهة معينة يُصرَف إليها الوقف، وقد يشترط في هذا الصرف صفات معينة. ثم إذا جعل الوقف لطائفة أو لجماعة، فإما أن يُعمم وإما أن يخصص، وإما أن يُطلق، وإما أن يقيد، ثم التقييد تارة يكون بالترتيب فيقول مثلا: ًعلى أولادي، ثم أولاد أولادي، ثم أولاد أولاد أولادي إلى أن ينقطع نسلي، أو إلى أن لا يبقى أحد من ذريتي، فهذا مستغرق لذريته، وربما يُخرج هذا الوقف بالشرط عن ذريته إلى جهة أخرى فيقول: هذا الوقف لأولادي ثم أولاد أولادي، فإذا ماتوا فإلى الفقراء والمساكين من بعدهم، فيجعل الوقف بالنسبة لذرِّيته للبطن الأول والثاني، ولا يجعل للثالث استحقاقاً. وقد يجعل شرطاً من جهة الصرف، فيخصّه ببعض الذرِّية دون بعض، فيخصَّه بالذكور دون الإناث، أو العكس فيجعله للإناث دون الذكور يقول: داري هذه وقف على بناتي للمطلقات منهن، وهذا أثر عن الزبير ويحكى عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه أوقف داره على المطلقات ومن كانت أرملة من ذريته. فالشاهد من هذا أن شرط الوقف معمولٌ به، والإجماع منعقد على أنه يجب على الناظر أن ينفِّذ هذه الشروط، ويجب على القاضي أن يُلزم بها الناظر، وإذا ظهر من الناظر إخلالٌ بهذه الشروط أو تغييرٌ لها؛ فإن القاضي يُلزمه شرعاً بالعمل بهذه الشروط إلا في الأحوال المستثناة. ويجب على من ولي الوقف أن يعمل بشرط الواقف تعميماً وتخصيصاً، وتقييداً وإطلاقاً، وترتيباً على الصفات، وعلى الأحوال، كل ذلك يجب أن يُتقيد به وأن لا يُغيَّر ولا يُبدَّل. قوله: [في جمع وتقديم] الجمع كأن يقول: أولادي، وأولاد أولادي، فإذا قال: أولادي وأولاد أولادي، فمذهب طائفة من العلماء أن البطن الأول والثاني يستوون، مثلاً لو كان له ابنان زيدٌ وعمرو، فتوفي زيد وبقي عمرو، فذرية زيد تستحق مع وجود عمهم؛ لأن الوقفية مشركة حيث جمع بين البطنين الأول والثاني. لكن إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فثم هنا فرّق بها بين البطن الأول والبطن الثاني، وحينئذٍ ينبغي أن يُركَّز على الشرط الذي اشترطه، ولا يجوز أن يأخذ أحداً من الدرجة الثانية مع وجود أحد من الدرجة التي قبلها. وهكذا لو جمع وقال: على أولادي. فهذا جمع يشمل الذكور والإناث والخناثى، حتى ولو كان فيهم خناثى فإنهم يستحقون من الوقف لأنهم أولاد له، والله سمى الولد للذكر والأنثى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فالولد في لغة العرب يشمل الذكر والأنثى، فجمع بين الذكر والأنثى فقال: على أولادي، لكن ممكن أن يقول: هذه الدار وقف على بناتي، فحينئذٍ فرَّق بين الذكر والأنثى، فجعل الاستحقاق للأنثى دون الذكر، فله أن يجمع وله أن يفرِّق. قوله: (وتقديم): أي: كأن يقول على أولادي ثم أولاد أولادي، هذا ترتيب، وإذا جعل الوقف على الترتيب وجب التقيُّد بهذا الترتيب، فلا يُعطَى المؤخر مع وجود المقدم، أو مع وجود من هو أعلى منه مرتبة. قوله: [وضد ذلك] أي: ضد الجمع التفريق. قوله: [واعتبار وصف] أي: لو قال مثلاً: للمريض من أولادي، أو الفقير، أو المطلقة من بناتي، أو قال على الفقراء على المساكين على طلبة العلم على الغرباء، هذه كلها أوصاف ينبغي أن يتقيد بها، ولا يجوز أن يغيرها الناظر، بل يصرف على هذا القيد الذي ذكره الواقف. قوله: [وعدمه] أي: عدم التقييد، كما لو قال: على أولادي، ولم يقيد لا بذكر ولا بأنثى. قوله: [وترتيب] أي: كذلك إذا لم يرتب فإنه في هذه الحالة يبقى الجميع على حد سواء، فإذا قال: أوقفت هذه المزرعة على أن تكون غلتها لأولادي والمساكين؛ فحينئذٍ جمع بين أولاده والمساكين، ولو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فحينئذ لا نعطي المساكين إلا إذا عُدم أولاده. فإذاً نعمل بالجمع والتفريق، ونعمل أيضاً بالأوصاف وعدمها، فإذا جاءت خالية من الأوصاف فإننا نبقي الوقف على عمومه وشموله. فالمقصود من هذا أنه يلزم الناظر أن يتقيد بشرط الواقف على الصفة التي ذكرها في وقفيته. قوله: [ونظرٍ] أي: هكذا النظارة، لو قال: نظارة هذا الوقف لي، فهذا شرط يستحقه وتكون له النظارة، فإذا قال: ثم للأرشد فالأرشد من أولادي، فحينئذٍ تكون للأرشد، أو قال: للأعلم من ذريتي، فحينئذ تكون للأعلم، والدليل على ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كتب كتابه في الوقف، جعل النظارة لابنته حفصة رضي الله عنها وأرضاها ثم للأرشد من ذريته. فهذا يدل على أن من حق الواقف أن يخص النظارة، وأن يجعلها لبعض الموقوف عليهم، سواءً كانوا من الموقوف عليهم أو كانوا من غيرهم، فقد يقول: هذا البيت وقف على أولادي والناظر عمهم فلان، وقد يجعل رجلاً أجنبياً فيقول: النظارة لفلان -وهو غريب وليس بقريب- ولذريته من بعده، فحينئذٍ تكون النظارة على الشرط الذي ذكره الواقف. قوله: [وغير ذلك] أي: (وغير ذلك) من الأمور التي يذكرها الواقف؛ لأنه إذا اشترط فله على ربه ما اشترط، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ ضباعة رضي الله عنها: (أهلِّي واشترطي وقولي: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني، فإن لك على ربك ما اشترطت). وهذا دليل على أن العبد إذا اشترط على ربه، وكان الشرط شرعياً فإن له ذلك الشرط، فإذا جعل الناظر شروطاً في الوقف فإنه ينبغي التقيُّد بها، مثل أن يقسم الوقف أثلاثاً، ويقول هذا الثلث أشترط أن يكون للقرابة بشرط أن يكونوا بحاجة، أو يكونوا أيتاماً، أو تكون أرملة من النساء، ونحو ذلك من الأمور التي يضيفها الواقف.

الوقف المطلق

الوقف المطلق من أوقف لا يخلو إما أن يشترط، وإما أن يترك الشرط، فإذا اشترط في وقفه شروطاً، وكانت هذه الشروط شرعية؛ وجب العمل بها والتقيد بما فيها، وقد بينا وجه ذلك وأنه يُلزم ناظر الوقف بتنفيذ هذه الشروط، وصرف مستحقات الوقف على ضوء ما اشترطه الواقف. وإذا حصل الإخلال بما تقدَّم من التقييد؛ فإن الناظر يتحمل المسئولية، ويكون حينئذٍ ضامناً لكل ما يترتب على هذا الإخلال والصرف الذي لم يقع على الوجه المعتبر. بقي السؤال عن الحالة الثانية: وهي أن يصدر الوقف خالياً من الشروط، وهذه الحالة تعتبر حالة إطلاق، بمعنى أن يَنُص على الوقف دون أن يقيد، ودون أن يشترط؛ فالحكم حينئذٍ أنه يبقى المطلق على إطلاقه، ولا يمكننا أن نضيف قيوداً، ولا أن نضيق واسعاً، فإذا أطلق صاحب الوقف عملنا بإطلاقه؛ لكن هذا الإطلاق في بعض الأحيان تترتب عليه بعض المسائل. ومن هنا بيّن المصنف رحمه الله أنه إذا حصل الإطلاق عمل به، فلو قال: وقفت هذه المزرعة على أولادي. استوى في ذلك الغني والفقير، فنعطي أولاده، سواء كانوا من الأغنياء أم كانوا من الفقراء، كذلك يستوي ذكرهم وأُنثاهم، فنعطي الذكر ونعطي الأنثى؛ لأنه سوى بينهم وشرّك فقال: أولادي، فيستوي الذكور والإناث والخناثى فكلهم يدخلون في هذا، ويُصرف لهم من مستحق الوقف. وهكذا إذا قال: وقفت هذه المزرعة وثمرتها تصرف على المساكين، فإننا نصرفها على كل من يصدُق عليه أنه مسكين، سواء كان في غاية الصلاح كالصالحين، أو كان في المستوى العام لعموم المسلمين، بخلاف الحالات الأُول فإنه إذا قال: وقفت داري على أولادي الذكور؛ تَقيَّد الوقف بهم، ولو قال: وقفت داري على المطلقات من بناتي، فحينئذٍ يختص بالمطلقات، أو قال: أوقفت داري على أولادي الأفقه منهم، يُقدَّم الأصلح أو يقدم الأرشد وهكذا.

كيفية توزيع عطاء الوقف بين الأولاد

كيفية توزيع عطاء الوقف بين الأولاد إذا أطلق وقال: داري وقفٌ على أولادي، فإنا نُسَوِّي بين الأولاد جميعاً، حتى إن الولد الذي يكون من الصغار ولم يبلُغ يدخل في هذا، بل بمجرد أن يولد يثبت استحقاقه في الوقف، ويكون له نصيبه، ويقسم الوقف بينهم بالسوية. فمثلاً لو أن مزرعة أوقفها على أولاده، وفيها مثلاً مائة صاع، وله من الولد خمسة، فإننا نقسم المائة صاع بين الخمسة بالسوية، لا نفضِّل الذكر على الأنثى، ولا نعطي الكبير دون الصغير، ولا نخص الصالح دون غيره، بل يستوي الجميع في هذا الاستحقاق؛ لأنه أطلق وقال: على أولادي. ومن هنا قال بعض العلماء: إنه لو قال: وقفت داري على أولادي، وأولاد أولادي، ونسلي إلى أن ينقطع أو على عقبي حتى ينقطع، فقد سوَّى بين الطبقات، فالبطن الثاني يدخل مع البطن الأول لأنه لم يرتب، فلو قال: أوقفت داري هذه على أولادي. فإنه لو كان له ولدان: محمد وعلي، وخلّف محمد ثلاثة؛ فإن الثلاثة يقاسمون أباهم وعمهم؛ لأنه قال: أوقفت على أولادي؛ لكن في الحالات الأُوَل التي سبقت الإشارة إليها يقول: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذٍ لا يشارك البطن الثاني البطن الأول، وتختص القسمة بالبطن الأول دون الثاني؛ لكن إذا قال: أوقفت داري، أو مزرعتي على أولادي فإن انقطع نسلي أو انتهى عقبي فللمساكين، فحينئذٍ يستوي جميع أولاده كما سيأتي إن شاء الله في مسألة الولد وشموله للبطون، وسيذكرها المصنف رحمه الله. بين المصنف في هذه العبارة أن الإطلاق يخالِف التقييد، وهذا كله عمل بما كان من الواقف، ويؤكِّد ما تقدم أننا ملزمون بما فعله الواقف، إن قيد أو اشترط وجب علينا الوقوف عند قيده وشرطه، وإن أطلق ولم يقيد فإننا نبقى على هذا الإطلاق، ويرد السؤال في مسألة من هذه المسائل، وهو: إذا أطلق وصعُب علينا أن نشمل الجميع، فهل نخص البعض دون البعض؟ هذا سيأتي الكلام عليه، لكن القاعدة العامة أننا في التقييد نتقيد بما قيّد، وفي الإطلاق نعمل بالمطلق على إطلاقه. قوله: [وضدهما]. استوى الغني والذكر مع ضدّهما، يعني ضد الغني وهو الفقير، وضد الذكر وهو الأنثى، فالإناث من الولد ضد الذكور، فنسوّي بينهم، ولا نفضِّل الذكور على الإناث. وهذا قول عامة أهل العلم رحمهم الله؛ أن من قال وقفت مزرعتي هذه على أولادي، فإننا نقسم غلة المزرعة بين أولاده بالسويّة، ولا نفضّل الذكر على الأنثى، لكن استحب طائفة من السلف رحمهم الله، ونص عليه غير واحد من الأئمة وهو الحق إن شاء الله، أن يقسم بين أولاده بقسمة الله تبارك وتعالى، فيجعل حظ الذكر ضِعف حظ الأنثى؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل هذه القسمة من فوق سبع سماوات، وهي قسمة العدل الحكيم الخبير اللطيف الذي هو أعلم بعباده سبحانه وتعالى، ولا أعدل من الله. وهذا لحكمة بالغة، فإن الله حمّل الرجال المسئولية عن النساء، فالأصل في المرأة أن ترعى بيتها، وأن تقوم على ولدها، وأن تقر في قرارها، والعمل مخالفٌ للأصل؛ لأن الله نص في كتابه فقال: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]. فالأصل في الخلقة والشرعة أن التعب للرجال، ولذلك قال: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، ولم يقل: (فتشقيا)؛ لأن الرجل هو المسئول، وهو المتحمل لتبعة النفقة والقيام على المرأة، فإذا كان هذا هو الأصل فإن الله سبحانه وتعالى جعل الحق في النفقة على الرجال، ولم يجعله على النساء. فتبين أن التبعات والأمور التي يتحملها الرجال أكثر من الأمور التي تتحملها النساء، وإذا كان الأمر كذلك؛ فالله عز وجل جعل نصيب الرجل ضِعف نصيب الأنثى، فإذا أراد أن يُعطي ولده فإنه يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، ويقول مثلاً: وقفت مزرعتي هذه على أولادي وللذكر مثل حظ الأنثيين، فيفضِّل بينهم بتفضيل الله عز وجل، والله سبحانه فضل جنس الرجال على جنس الإناث، ولذلك خلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته، ونفخ فيه من روحه، ثم بعد ذلك خلق منه حواء، فجعل الرجل هو الأصل، وكل مؤمن مطالب بالتسليم، وينبغي أن يرضى بهذا الحكم وأن يذعن له، وأن يسلِّم بهذه القضية التي ليست مثار جدلٍ أو نقاش. لأن هذا التفضيل حكمٌ من الله، ولا يستطيع أحد أن يقول: لماذا خلقني الله قصيراً وخلق غيري طويلاً؟ لماذا خلقني فقيراً وخلق غيري غنياً؟ فالله يفضِّل وله الحكمة التامة البالغة، والله يحكم ولا معقب لحكمه، ففضل هذا الجنس على هذا الجنس. فنحن نفضِّل بتفضيل الله عز وجل، ولا يغض هذا ولا يُنقص مكانة المؤمنة أبداً، بل عليها أن تسلم، فإذا أراد الوالد أن يُوقف على هذا الوجه فإنه يعدل بين أولاده، ويجعل نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم). ومن هنا كان مذهب طائفة من العلماء أن عطية الولد ضعف عطية الأنثى، وهذا لا شك أنه معتبر من حيث الأصول الشرعية. والمصنف رحمه الله يقول: إنه يستوي الذكر والغني وضدّهما، يعني ضد الذكر وضد الغني، فيستوي غنيهم وفقيرهم، فلو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، وكان له ولدان أحدهما غني والثاني فقير، فإننا نعطي الغني مثلما نعطي الفقير، ونعطي الفقير مثلما نعطي الغني، ولا نفضِّل أحدهما على الآخر.

من تكون له نظارة الوقف عند الإطلاق

من تكون له نظارة الوقف عند الإطلاق قال رحمه الله: [والنظر للموقوف عليه] من أوقف شيئاً إما أن يجعل لنظارته شروطاً يحددها ويبينها، فيقول: والنظارة لهذا الوقف للأرشد فالأرشد من أولادي، ففي هذه الحالة يستحق النظارة من توفر فيه شرط الرشد فيقدَّم الأرشد. لكن إذا أَطلق وقال: هذه المزرعة وقفٌ على أولاده وسكت، ولم يذكر لمن تكون النظارة، ولم يحدد من هو الناظر ولم يضع شروطاً ولا صفاتٍ ولا أمارات معينة لمن نجعله ناظراً على وقفه، فإنه في هذه الحالة تكون النظارة للموقوف عليه. بمعنى أن الأشخاص الذين أَوقف عليهم هذه المزرعة هم الذين لهم حق النظر؛ لأنهم هم القائمون على الوقف، وهم المالكون لثمرته، وهم الذين سيمحضون هذا الوقف النصيحة، فهم أولى وأحق بالنظر في مصالحه، وليس هناك أصلح مِن نظر الإنسان بنفسه فيما هو له؛ لأنه لا يغش نفسه غالباً؛ ولأنه سيحرص على ما فيه مصلحة نفسه، ومصلحة من معه. فلو أوقف الوالد على ولدين فالنظر لهما، لا يستبد أحدهما دون الآخر، ولا يتصرف أحدهما في الوقف دون إذن الآخر، فهما شركاء في هذا الاستحقاق؛ لكن لو أنهم اتفقوا على أن يفوضوا شخصاً منهم، فقالوا نحن خمسة، وهذا الوقف يحتاج إلى شخص واحد متفرغ؛ فنحن وكلنا وفوضنا فلاناً، فحينئذٍ يكون من فوّضوه متصرفاً أصالةً عن نفسه، ووكالة عن غيره، فهو في هذه الحالة الذي له حق النظارة برضا الجميع واختيارهم. فالنظر للموقوف عليهم إن كانوا معينين فلا إشكال في ذلك، إذا كانوا معينين كقوله مثلاً: أوقفت داري هذه على أولادي، وأولاده عشرة، تفاهموا فيما بينهم وجعلوا ناظراً، أو كان العشرة كلهم يديرون هذا الوقف ومصالح الوقف لا إشكال. لكن المشكلة إذا كان الموقوف علمه جهة من الجهات، كأن يقول: وقفت مزرعتي هذه على المساكين، فلا يمكن أن يكون كل المساكين نظراء على هذا الوقف، وذلك من الصعوبة بمكان، وقد يتعذر هذا، ففي هذه الحالة يختار القاضي بعضهم للقيام على مصلحة الوقف على التفصيل الذي ذكرناه.

مسائل الوقف على الأولاد

مسائل الوقف على الأولاد قال رحمه الله: [وإن وقف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين، فهو لولده الذكور والإناث بالسوية، ثم ولد بنيه دون بناته؛ كما لو قال: على ولد ولده وذرّيته لصلبه] فقوله رحمه الله: (وإن وقف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين، فهو لولده الذكور والإناث بالسوية) فيه مسائل: المسألة الأولى: إذا قال على ولدي. المسألة الثانية: إذا قال: على ولد فلان. المسألة الثالثة: إذا قال: على ولدي ثم على المساكين.

اشتراك الذكر والأنثى

اشتراك الذكر والأنثى فالعلماء كلهم متفقون على أن من قال: على ولدي أنه يشمل الذكور والإناث؛ لأن العرب عندما تُطلِق هذا اللفظ تريد به الإناث مع الذكور {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]. فشرّك سبحانه وتعالى بين الذكر والأنثى تحت مسمى الولد، فدل على أن الولد يشمل الذكور والإناث معاً، وهكذا الخناثى فإن الخنثى المُشْكِل يدخل في الولد. فإذاً المسألة الأولى أنه إذا قال: على ولدي، فجميع أولاده وجميع نسله من الذكور والإناث داخلون في هذا، هذا كله في البطن الأول. والولد إما أن يكون من البطن الأول، وإما أن يكون من غيره، والبطن الأول هو الولد المباشر الذي هو ولدك مباشرةً ذكراً كان أو أنثى، فالبطن الأول هو أول ما أنجب الإنسان، ويليه بعد ذلك البطن الثاني، وهو ابن الابن، وبنت البنت، وبنت الابن، وابن البنت، هذا البطن الثاني الذي بينك وبينه واسطة. وهذه الواسطة هي فرع من البطن الأول، إما ذكر وإما أنثى، يتمحّض ذكوراً أو يتمحّض إناثاً، أو يجمع بينهما، يتمحض ذكوراً كابن ابنك، ويتمحض إناثاً مثل بنت بنتك، ويجمع بينهما ابن البنت وبنت الابن، والبطن الثاني فيه التفصيل، فالبطن الأول لا إشكال أنه إذا قال: وقفت داري على ولدي أن الذكور والإناث داخلون، وأنهم مستوون في الاستحقاق كما قدمنا.

دخول البطن الثاني وما بعده مع البطن الأول في الانتفاع بالوقف عند الإطلاق

دخول البطن الثاني وما بعده مع البطن الأول في الانتفاع بالوقف عند الإطلاق لكن البطن الثاني فيه تفصيل وفيه مسائل: المسألة الأول: هل إذا قال: وقفتُ على ولدي. يدخل البطن الثاني ومن بعده أو يختص بالبطن الأول؟ فمثلاً: لو أن رجلاً قال: وقفت مزرعتي هذه على أولادي ثم على المساكين، فأولاده الذين هم من صلبه مباشرة لا إشكال أنهم مستحقون؛ لكن الإشكال: متى ننتقل للمساكين؟ هل قوله: (أولادي) يشمل جميع نسله حتى ينقطع، أو يختص بالبطن الأول ثم نحكم بانتقال الوقف وصيرورته إلى المساكين؟ لهذه المسألة وجهان عند العلماء، فالمنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سُئِل عن هذه المسألة فنص على أن ولد الولد يدخل في حكم الولد، وأن من قال: على أولادي. فإننا نُلحق أولاد البطن الثاني بأولاد البطن الأول، ولا ينتقل للمساكين إلا إذا انقطع نسله أو انتهى عقبه. وهناك وجه ثانٍ وقول ثانٍ لبعض العلماء، يقول: إذا قال: وقفت على أولادي أو على ولدي ثم على المساكين؛ فإنه حينئذٍ ينتقل الوقف إلى المساكين بعد موت البطن الأول. وعلى هذا القول يكون قوله: (أولادي) خاص بالبطن الأول فقط، فلا نلحق أولاد الأولاد مكان الأولاد ولا ينزّلون منزلتهم. والصحيح الأول، وهو أنه إذا قال: وقفت على ولدي فإنه يلتحق ولد الولد حتى ينقطع نسله وعقبه، ثم بعد ذلك ينتقل إلى المساكين كما سبق، لكن كل هذا الخلاف محلّه ألا يأتي بقيد أو بعبارة تدل على أنه يريد ولد الولد، فإذا قال مثلاً: على أولادي إلى أن ينقطع نسلي ثم على المساكين، أو يقول: على أولادي والمساكين من بعدهم إذا لم يوجدوا، أو على أولادي فإن انقطع عقبهم فللمساكين؛ فحينئذٍ لا إشكال، والإجماع منعقد على أننا ننزِّل الطبقة الثانية بعد الطبقة الأولى، وهكذا بالنسبة للطبقات. هذه المسألة الأولى، نخرج منها بخلاصة وهي أن من قال: وقفت على أولادي ثم على المساكين، أن الانتقال إلى المساكين لا يكون إلا بعد انتهاء الولد، بحيث ينقطع نسله وعقبه. وهذا على الصحيح من أقوال العلماء، فإن وجدت قرينة فقولٌ واحد أنه لا يُنتقل إلى المساكين إلا بعد انقطاع النسل كقوله: على أولادي فإذا انقطع نسلهم فعلى المساكين.

اشتراك البطن الثاني وما بعده مع الأول في الانتفاع بالوقف

اشتراك البطن الثاني وما بعده مع الأول في الانتفاع بالوقف المسألة الثانية: إذا قال: وقفت على أولادي، وقلنا: إن البطن الثاني يستحق، يرد Q متى نحكم بدخول البطن الثاني مع البطن الأول؟ فلو قال: مزرعتي هذه وقفٌ على ولدي ثم على المساكين؛ وقلنا إن البطن الثاني يستحق كما يستحق البطن الأول؛ لكن هل هو على الترتيب أو على التشريك؟ و A أنه على التشريك وأنه إذا قال: وقفت مزرعتي هذه على أولادي، فإننا نُلحِق البطن الثاني بالأول، والبطن الثالث أيضاً بهم، فجميعهم ولدٌ له، فبمجرد ما يُولد من البطن الثاني أو الثالث يستحق، وكل من يولد من هذه البطون مشترك في الاستحقاق؛ لأنه قال: (على أولادي) وقد سبق أن قلنا: فإن أطلق استوى الذكر والغني وضده، أي: يستوي الجميع في الاستحقاق. فائدة المسألة: لو كان له محمد وعبد الله -من البطن الأول- ثم زيد وعمرو من البطن الثاني -أولاد عبد الله- في هذه الحالة تُقسم الثمرة بين الأربعة، وندخل البطن الثاني مع البطن الأول ولو ولد الساعة؛ لأنه شرك بين أولاده ولم يرتِّب، وأطلق في هذا التشريك، فنقول: البطن الثاني مشترك مع البطن الأول. فلو أن زيد بن عبد الله الذي هو البطن الثاني تزوج وخلف أحمد، فإن أحمد يشارك أعمامه، ويشارك عم أبيه وجده في القسمة. إذاً: لا ننتظر للبطن الثاني في استحقاقه موت البطن الأول، ولا ننتظر للبطن الثالث في استحقاقه موت البطن الثاني؛ لأنه شرك وأطلق، فهؤلاء كلهم يُنزّلون منزلة واحدة. إذاً لو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فإننا نحكم بأن أولاده يستحقون: الذكر والأنثى، البطن الأول والبطن الثاني والثالث، فلا يختص ببطن دون آخر ما لم يقل: الأقرب فالأقرب، أو: البطن الأول ثم الذي يليه ثم الذي يليه. فإذا قال بالترتيب، كأن يقول: وقفت على أولادي من البطن الأول، فإن مات منهم أحد نُزِّل ولده منزلته، فحينئذٍ يكون أيضاً دخول للبطن الثاني مع البطن الأول لكن بالترتيب، وبالشرط أنه يُنزّل منزلة والده، وحينئذٍ نقسم على القسمة الأصلية، فإذا كان له ثلاثة أولاد نقسمه على ثلاثة، وتُصبح خطوط الإرث على الثلاثة هذه، وكل ورثة من بطن يُنزّلون منزلة أصلهم. وعلى هذا فلو قال لنا: وقفت على أولادي ثم المساكين، أو على ولدي فلان، مثلاً شخص يكون عنده ذرية، ويريد أن يتصدق بالثلث على قريب، لما فيه من صلة الرحم، ولأن الصدقة عليه أعظم ثواباً، فقال: وقفت مزرعتي هذه -وهي تساوي الثلث- على ولد عمي صالح، فكل ذرية عمه صالح يدخلون في هذا الوقف، يستوي ذكورهم وإناثهم، هذا بالنسبة للبطن الأول، وبالنسبة للبطن الثاني فإنه يشارك البطن الأول، وكذلك البطن الثالث مثلما تقدم.

اختصاص أولاد الذكور في البطن الثاني وما بعده دون أولاد الإناث

اختصاص أولاد الذكور في البطن الثاني وما بعده دون أولاد الإناث يبقى السؤال في مسألة تشريك البطن ذكوراً وإناثاً، ففي البطن الأول يشرِّك بين الذكر والأنثى، وفي البطن الثاني يخُص الاستحقاق بأولاد الذكور دون أولاد الإناث، مثلاً: إذا كان له محمد، وعبد الله، وصالح، وفاطمة، فكلهم يشتركون ويُقسم الاستحقاق على أربعة يستوي فيه الذكور والإناث. فإذا أنجبت فاطمة فإن أولادها لا يستحقون؛ لأن أولادها أولادٌ لغيره وليسوا ولداً له. بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد ولذلك يُنسب للرجل ولا ينسب للمرأة كما هو معلوم، فحينئذٍ يشرك بين الذكر والأنثى في الطبقة الأولى، ثم ينظر في الطبقة الثانية التي هي البطن الثاني إلى ذرية الذكور دون ذرية الإناث، ثم هذا البطن الثاني وهم أولاد محمد وعبد الله وصالح يستوي ذكورهم وإناثهم، لكن الأنثى منهم لو أنجبت بطناً ثالثاً لا يكون له استحقاق في الوقف لأنه ليس من ولد الميت، إنما يختص ولده بالذكر والأنثى، وولد الذكر المحض. كما أنه في الميراث لا يرث ابن البنت إلا من جهة ذوي الأرحام، وهذه مسألة سيأتي تفصيلها إن شاء الله في كتاب الفرائض، فما جعل الله عز وجل لهم استحقاقاً وإرثاً، لا فرضاً ولا تعصيباً من حيث الأصل، فابن البنت ابن لوالده الذي هو غريب عن الواقف، ولا يعتبر آخذاً حكم ابن الابن. إذاً المسألة الثانية أننا نجعل أولاده مستوين ذكوراً وإناثاً بالنسبة للبطن الأول، وفي البطن الثاني نعطي الوقف لذرّية الذكور من البطن الأول، دون ذرية الإناث سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً، فلو أن البنت أنجبت ابناً أو أنجبت بنتاً فالحكم واحد؛ لأن ابن البنت ابناً للغير، ولو أنه يُنسب إليه تجوُّزاً أو مسامحة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (إن ابني هذا سيد)، فهذا من باب المسامحة. وقال عليه الصلاة والسلام في النعمان بن مقرن رضي الله عنه: (ابن بنت القوم منهم). فهذا كله مسامحة، لكن في حكم الله عز وجل في الاستحقاقات {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3]. ولذلك تجد نسبة هذا الولد من البنت إلى أصلٍ ثان وهو أصل أبيه، ولا ينسب إلى والد أمه الذي هو الجد، فالذكور لهم حكم والإناث لهن حكم، وسلسلة النسبة والإضافة متعلقةٌ في حكم الدنيا بالآباء دون الأمهات.

لا ينتقل الوقف على الولد إلى المساكين بموت البطن الأول

لا ينتقل الوقف على الولد إلى المساكين بموت البطن الأول قال رحمه الله: [وإن وقف على ولده أو ولد غيره، ثم على المساكين]. بقي Q لو قال: على ولدي ثم المساكين، أو على أولادي ثم المساكين، كلمة (ثم) تقتضي الترتيب، فنحن لا نحكم بانتقال الوقف من ولده إلى المساكين إلا بعد انقطاع النسل والذرية، فإذا انقطعت ذريته، أو انقطع عقبه فإننا نحكم بأن الوقف قد صار إلى المساكين، أو قال: إلى الفقراء، أو قال: إلى طلبة العلم، أو غير ذلك، أو مثلاً لبني عمي، فهذا ينتقل على حسب ما اشترط صاحب الوقف. إذا قال: على ولدي أو ولد فلان، فالمصنف رحمه الله أدخل مسألة ولد فلان، يعني أن الحكم لا يختص بولده هو، فلو قال: على ولد عمي صالح، فحينئذ ننظر إلى أولاد عمه صالح ونشرّك بين البطن الأول والبطن الثاني، ونسوي بين الذكور والإناث في البطن الأول، ونلحق البطن الثاني بالبطن الأول إذا كان من ذرية الذكور دون الإناث على التفصيل الذي تقدم بيانه. [ثم على المساكين فهو لولده الذكور والإناث بالسوية] أي: ما لم يُفضِّل فلو قال: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)، فقد فضل. قال: [ثم ولد بنيه دون بناته] هذا البطن الثاني. إذاً لو قال: على ولده، وعنده محمد وعبد الله وصالح، لم يُنجب من هؤلاء الثلاثة إلا محمد، فالذين أنجبهم محمد نسوِّي ذكورهم وإناثهم، لأنهم يدلون بذكر، لكن بالنسبة للأنثى من محمد فليس لذريتها ونفسها استحقاق في الوقف.

حالات تنزيل أفراد البطن الثاني مكان أفراد البطن الأول وعدم تنزيلهم

حالات تنزيل أفراد البطن الثاني مكان أفراد البطن الأول وعدم تنزيلهم [كما لو قال على ولد ولده وذريته لصلبه] يريد المصنف أن يشير إلى المسألة الخلافية وهي: هل إذا قال على ولدي. اختص الحكم بالبطن الأول، أو يشمل البطن الأول والثاني، فقال: إنه لا فرق بين أن يقول: على أولادي، أو أولادي وأولاد أولادي. لكن في الغالب أنه إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذٍ لا نعطي البطن الثاني مع وجود البطن الأول. مثال: لو قال: هذه المزرعة وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. نقول: نشرِّك بين أولاده في البطن الأول، فلو جاء البطن الثاني يبقى محبوساً ولا يأخذ شيئاً في الوقف حتى يموت البطن الأول كله، ولو مات واحدٌ من البطن الأول ذكراً كان أو أنثى قُسِم نصيبه على البقية. ولو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، فلو كان له من الولد في الصلب ابنان ذكران فنقسم الوقف بينهما، ولو أنجب أحدهما ولم ينجب الآخر، أو أنجب الاثنان فلا ننظر في ذريتهما ولا ننظر في البطن الثاني؛ لأنه قال (ثم)، فالبطن الأول هو المسئول عنه، والبطن الثاني غير مسئول عنه؛ لأنه لم يصل الاستحقاق إليهم. فلو توفي واحد من الولدين أخذ الثاني النصيب كاملاً، فإذا توفي هذا الثاني من البطن الأول نَزَل الاستحقاق للبطن الثاني، واستحق أصحاب البطن الثاني بالتفصيل الذي ذكرناه في مسألة الذكور والإناث إذا كان عنده ذكور وإناث في البطن الأول. إذاًَ: إذا قال: على ولدي ثم ولد ولدي، أو أولادي ثم أولاد أولادي، أو أولادي ثم الذين يلونهم، أو: ثم مَن بعدهم، فكل هذا ينبه على أنه لا يُنزِّل البطن الثاني منزلة البطن الأول إلا بعد انتهاء وانقراض البطن الأول.

اختصاص الذكور بالوقف عند قوله: (على بني أو بني فلان)

اختصاص الذكور بالوقف عند قوله: (على بنيّ أو بني فلان) قال رحمه الله: [ولو قال على بنيه أو بني فلان اختص بذكورهم إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن من غيرهم] فقوله رحمه الله: (ولو قال على بنيه أو بني فلان اختص بذكورهم) بعد أن بين المصنف رحمه الله اللفظ الذي يقتضي العموم بقوله (أولادي) شَرَع فيما يقتضي التخصيص، فلو قال: على بَنِيّ، أو أبنائي، أو على بناتي، فحينئذٍ يَختَص بالبنين إن نص عليهم، ويختص بالإناث إن سماهن. إذاً فالابن لا يشمل الذكر والأنثى، وإنما يختص بالذكور دون الإناث، وعلى هذا مذهب العلماء قاطبة رحمهم الله. لكن لو قال: على بني فلان، أو على الفقراء من بني سلمة، أو من بني زياد، أو من بني عمرو، فلفظة (بني) هذه تطلق على القبيلة فيستوي ذكورها وإناثها؛ لأن العُرف واللغة يقتضي ذلك، ولقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرمي أنه جعل البنوة شاملة للذكور والإناث، تقول: هؤلاء من بني عبد الله. قال صلى الله عليه وسلم: (الأنصار وجهينة ومزينة وغفار وأسلم وبنو عبد الله من غطفان) غطفان هي مُطير الموجودة الآن، وبنو عبد الله فخذ منهم، وكانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أشبه بالقبيلة، قال: (وبنو عبد الله من غطفان موالي الله ورسوله) كما في الصحيح، فسماهم قال: (بنو عبد الله) وشرّك، وهذا مُقتضٍ لتشريك الذكور والإناث؛ لأنهم أسلموا وكان لهم بلاء في الإسلام. فالبنوة تُطلق على القبيلة ويُراد بها العموم والشمول، فتشمل الذكور والإناث، تقول: بنو فلان فتشمل ذكورهم وإناثهم، إن قال: بنو عمي، بَنِيّ، بنو خالي، بنو أخوالي، هذا كله يختص بالذكور، لا يشمل الذكور والإناث معاً، لكن إذا قال: بنو فلان وهي قبيلة فإننا نحكم بالتشريك بين الذكور والإناث؛ لأن هذا اللفظ وإن كان يختص بالذكور دون الإناث؛ لكنه يطلق ويُتجوّز فيه فيعم الذكر والأنثى.

دخول الإناث في الوقف دون أولادهن إذا عنى الواقف ببني فلان القبيلة

دخول الإناث في الوقف دون أولادهن إذا عنى الواقف ببني فلان القبيلة قال رحمه الله: [إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن]. وذلك على التفصيل السابق، أنه إذا شركت بين الذكور والإناث فتعتبر البطن الأول وتلغي ذرية الإناث من البطن الثاني بنفس التفصيل، ثم البطن الثاني تعطي الذكور والإناث مستويين، ثم تلغي البطن الثالث من بنات البطن الثاني، وهكذا يصبح الحكم مطرداً في جميع البطون.

دخول الذكور والإناث في الوقف على القرابة وأهل البيت والقوم

دخول الذكور والإناث في الوقف على القرابة وأهل البيت والقوم قال رحمه الله: [والقرابة وأهل بيته وقومه يشمل الذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه وجدِّه وجد أبيه] أي: فإن قال: وقف على أقربائي وأهل بيتي، أو أهلي، أو وقفٌ على المسكين من أهلي، أو على المحتاج من أهلي، فإنه يشمل الذكور والإناث. يقال إن أهل أصلها: آل، وهذا قول سيبويه من أئمة اللغة، وأُبدلت الهمزة هاءً. وأهل الإنسان، وآل الإنسان، وقرابة الإنسان تشمل فروعه من الأصول. وقومه كذلك، إن قال: للضعفاء، للفقراء، لطلبة العلم من قومي، فإنه يستوي فيه الذكور والإناث، إلا أن يَخُص، ولذلك قال: [يشمل الذكر والأنثى من أولاده] أي: لأن الآل لا تختص بالذكور دون الإناث، قال صلى الله عليه وسلم: (إنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)، والإجماع قائم على أن قوله: (آل محمد)، شاملة للذكور والإناث، وأهل مثل آل، فلو قال: على أهل بيتي؛ فإنها تشمل الإناث، وفي حديث الكساء أنه عليه الصلاة والسلام جلّل فاطمة رضي الله عنها وجعلها من أهل البيت، وهي من أهل بيته بالإجماع. فأهل بيت الإنسان وآله وقرابته يستوي فيهم الذكور والإناث، قال تعالى: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود:73]، فالخطاب متوجه لزوجة إبراهيم عليها السلام لما عجبت من أمر الله عز وجل فقيل لها: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:73]. فأهل الإنسان تطلق على الزوجة {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [طه:10]، تُطلق الأهل بمعنى البيت خاصة، سواء كان للزوجة وأولادها ومن هو قريب من ذلك كالخدم والحشم، وتُطلق بمعنى العموم، ويقال: أهل الإنسان ومرادهم كل من يمت إليه بالقرابة والصلة. وقوله: (وأولاد أبيه): وهم من يجتمعون معه في الأصول، فيشمل ذلك أعمامه وعماته الأشقاء، وهم الذين شاركوا أباه في أصليه، والعمة لأب، والعمة لأم من حيث الأصل، لكن بالنسبة لمن فوقهم يختص بالأصول وهو جد أبيه ومَن علا. قال: [وجد أبيه] أي: جد أبيه، وجد جده، ونحو ذلك؛ لأنها كلها أصول وتدخل في آله وقرابته. قال رحمه الله: [وإن وُجدت قرينة تقتضي إرادة الإناث أو حرمانهن عُمل بها] يريد إناثه؛ كان يقول: بيتي وقف على المطلقة من بناتي، أو على المطلقة من ذريتي، أو على المطلقة من نسلي، أو وقفٌ على المحتاجة من قرابتي، هذا يخص الإناث دون الذكور، فالذكر لا يستحق في هذه الحالة، ولا يدخل. وأُثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنه أوقف على الإناث من ذريته، وهذا قول لبعض العلماء، فيرى أنه يجوز تخصيص بعض الولد عند الموجب، وفي النفس منه شيء، لكن عمل به بعض الصحابة رضوان الله عليهم، ويؤثر عن الزبير وابنه عبد الله بن الزبير رضي الله عن الجميع أنه خشي على بناته فجعله للمطلقة والأرملة؛ لأن الذكر يستطيع أن يكافح، ولكن الأُنثى إذا طُلِّقت أو مات عنها زوجها خُشي عليها. فيوقف على المحتاجة من ذريته إذا طُلِّقت أو أصبحت أرملة خوفاً عليها من العار، وهذا يجوزه بعض العلماء؛ لأنهم يقولون: يجوز أن يَخُص الوالد بعض ولده للعوز والحاجة، مثل أن يكون ابنه -لا قدر الله- مشلولاً، فيجوز أن يعطيه ما لا يُعطي الصحيح، ولو كان ابنه طالب علم يحتاج إلى نفقة خاصة أعطاه نفقة طالب علم، فهذا التفضيل للسبب، فيرى أنه إذا فضّل بعض ولده بالوقف عليهم لسبب، أو مثلاً جعل للذكور حظاً، وجعل للإناث حظاً، فأوقف على الذكور داراً، وأوقف على الإناث مزرعةً وعدل بينهم، فهذا له وجهه. الشاهد أنه إذا قيّد بالأنثى؛ فإنه يعمل بتقييده، سواء كان ذلك بأمارة، أو كان صريحاً، فقال: للمطلقة أو للأرملة إذا رُمِّلت، فإن قال: للمطلقة فإنه يكون مقيداً بالمطلقة ولا يشمل الكل، وإذا قال: للأرملة، أو قال: التي لا زوج لها، إذا قال: التي لا زوج لها فهذا أعم، لأنه يشمل الصغيرة التي لم تتزوج بعد، فمن حقها أن تسكن، ومن حقها أن تأكل من هذا الوقف، لكن إذا قال: للمطلقة؛ فلا بد أن تكون زُوِّجت ثم بعد ذلك طلِّقت، ويُراعى في هذا وجود الحاجة إلى الستر.

الوقف على جماعة يمكن حصرهم

الوقف على جماعة يمكن حصرهم قال رحمه الله: [وإن وقف على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتساوي] وذلك كما لو قال: على ولدي، وولده -مثلاً- عشرون، أو يبلغون الأربعين أو الخمسين؛ فحينئذٍ نقسم على الأربعين والخمسين لأنه أَمكن حصرهم، لكن إذا قال: وقفت داري هذه على طلبة العلم أو: وقفت ثمرة بستاني هذا صدقة على المساكين، أو على الفقراء، وكان بموضعٍ فيه حاجة وفيه عوز، ولا يمكن حصر الفقراء فيه. فقد عرفنا أنه إذا أطلق أطلقنا، وإذا قيد قيدنا، وعملنا بما يقول والتزمنا ما اشترطه الواقف فيما بينه وبين ربه، لكن الإشكال أننا في بعض الأحيان إذا أردنا أنا نُعمِّم أو نعمل بالمطلق لا نستطيع استيعاب الكل، والأصل الشرعي يقتضي أنه يجب استيعاب الكل، فلو قال: على ولدي؛ فإنه يجب قسمة هذا الوقف على الولد، ولا يجوز تخصيص بعض الولد دون بعض، ومن هنا يكون الناظر آثماً شرعاً، وظالماً معتدياً لحدود الله إن حجب بعض الورثة وبعض المستحقين مع علمه باستحقاقهم، بل يجب عليه أن يسوِّي بين الجميع إذا سوَّى بينهم الواقف. فهذا الذي بينه وبين الله، فالواقف أخرج من ذمته هذا الوقف على هذا الوجه، وجعله مُمَلكاً -على القول بأن غلته مملوكة للموقف عليهم- لهؤلاء الذين سماهم، فلا يجوز حرمان بعضهم، وهذا تعد لحدود الله. لكن لو أن الجهة التي خُصت بالوقف لا يمكن حصرُها، ولو جئنا نحصر الفقراء والمساكين لم نستطع، مثل بلد فيها فقر شديد أو قال: على طلبة العلم، وطلاب العلم كثيرون جداً، فيجوز تخصيص بعضهم دون بعض، لكن يُرجع في هذا إلى القاضي، ويجوز للناظر إذا عدم القاضي أن يجتهد ويتقي الله في اجتهاده. فمثلاً إذا قال: أوقفت غلة هذا البستان على أولادي، ولا يمكن حصر أولاده؛ فقام الناظر بحصر المحتاجين فقدّم المحتاجين على غير المحتاجين، فهذا تصرف حكيم، والقاضي لو كان مكانه لتصرف بذلك؛ لأنه إذا أصبح الوقف عاماً للجميع ولا يمكن تعميم الجميع؛ والذين سيتضررون إن حرموا هم المحتاجون، فحينئذٍ نقول: لما كان الغني غير محتاجٍ، ويصعب حصر الأغنياء مع الفقراء، قُدِّم الفقراء على الأغنياء؛ لأن سبيلهم أعظم ثواباً وأعظم أجراً، فيُعطون ويُصرف لهم. ولو كان المحتاجون أيضاً لا يمكن حصرهم، كالمحتاجين من طلبة العلم، وممكن أن يكون هناك طلبة علم في ثغر أعظم بلاءً من غيرهم، فنُقدِّم هؤلاء الذين هم أعظم بلاءً، مثلاً طالب العلم الذي له عشر سنوات في طلب العلم نقدمه على طالب العلم المبتدئ، وطالب العلم الذي ينضبط في الدروس نقدمه على طالب العلم الذي لا يأتي الدرس إلا في الأسبوع فيُفضَّل بين المستحقين بتفضيل شرعي، ومبرر صحيح، ولا بأس بذلك؛ لأنه إذا تعذر حصر الكل صُرف إلى الأولى فالأولى، كما قال المصنف رحمه الله: [وإلا جاز التفضيل والاقتصار على أحدهم] أي: جاز أن يُفضل بعضهم، أو الاقتصار على أحدهم، مع أنه من حيث الأصل يُراعى شمولية الوقف للأكثر ما أمكن.

الأسئلة

الأسئلة

تعيين حصة لناظر الوقف

تعيين حصة لناظر الوقف Q لو عيّن الواقف ناظراً لوقفه واتفق على عشر نتاجه من المزرعة، فهل هذا التصرف صحيح أم أنه مبني على الجهالة والغرر، إذ لا يُعلم كم سيكون نتاج المزرعة؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالأفضل في ناظر الوقف أن يحتسب في نظارته وأن يأكل بالمعروف، وهذا هو المحفوظ في حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين أنه جعل لمن ولي النظارة على وقفه أن يأكل بالمعروف غير متأثل ولا مُتموّل، وقد تقدّم معنا. لكن إذا جعل للناظر نصيباً، أو قال الناظر: أريد نصيباً، وكانت مصالح الوقف والأمور التي يلي نظارتها تحتاج منه إلى كلفة وعناء ومشقة، وربما تحبسه عن الرزق، وتحبسه عن مصالحه، فلا بأس أن يجعل القاضي له نصيباً، فإذا جعل له الواقف فلا إشكال، كأن قال الواقف: وقد جعلت عُشر الوقف لمن ولي النظارة. وإذا ثبت أنه يأخذ العشر أو الربع أو الثمن أو الخمس أو ما سمى الواقف فالسؤال: هل هذا يعتبر جهالة؟ الواقع من حيث الأصل أن النسبة فيها نوع جهالة، فثمن الغلّة أو ربع الغلة أو خمس المحصول، لا يُشَك أنه جهالة؛ لأنه وإن كان معلوم النسبة لكنه مجهول القدر، فإننا لا ندري كم سيكون الربع في هذه السنة؟ مثلاً لو أُجر الوقف بمليون، أو أن المصالح الموجودة في الوقف تُدِر المليون، عُشرها مائة ألف، لكن تأتي السنة الثانية يكون عشرها مثلاً عشرة آلاف ريال بحيث تكون المصالح كلها مائة ألف مثلاً، ويكون عُشرها عشرة آلاف، فإذاً لا يمكن أن يُعلم قدر هذا العشر. فبعض العلماء يجعله مخرَّجاً على المساقاة مُلحقاً بها؛ لأن الشيء إذا تعذر الإجارة عليه في الغلة المعينة يُصار إلى تحديد النسبة احتياجاً، وبعضهم يقول: بل نقيسه على المساقاة والمزارعة والمضاربة، وهذا مسلك الحنابلة والشافعية رحمهم الله الذين يعتبرون أن المضاربة شركة، وأنها ليست بخارجة عن الأصل، ولكن الحنفية والمالكية كما تقدم معنا في باب الإجارات والمضاربة لا يصححون القياس على هذا الوجه، لكنه قد يُغتفر بوجود الحاجة في مثل هذا، والله تعالى أعلم. لكن لا يُشك أن السنة أولى، فمن يلي نظارة الوقف لا يُقال: له العشر، ولا الربع، ولا الثمن، ولا الخمس، بل يقال له: أنه يأكل بالمعروف، هذا هو الذي فعله عمر، وقضى به النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لو أن القاضي حكم أنه يأخذ العشر فإنه يُعمل به؛ لأن حكم القاضي يرفع الخلاف، وقد ذكر بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أنه قد اصطلح في هذا الزمان على أن يأخذ الناظر العشر، لكثرة الفساد، وقل أن يوجد المحتسب الذي يعمل في الوقف بدون أن يأخذ شيئاً، ويأكل بالمعروف. ثم إذا وجد من يقول: أريد أن آكل بالمعروف؛ يصير المعروف منكراً، فيأخذ كل شيء ويقول: والله هذا ما فيه شيء، فكلما جاءت غلّة أكلها، وقال: أنا الناظر، ويرى أن هذا هو المعروف. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه)، والدنيا فتنة، خاصة في الأوقات التي تكون غلات الأوقاف فيها كبيرة، لكن لو وضع العشر -وهذا ما يسمى بالمصلحة المرسلة- وألزم به، وأصبح يُتَابع في التسعة الأعشار متابعة دقيقة، ويعرف كيف أخذها وأين صرفها، فهذا يكون أكثر ضبطاً في كثير من المسائل. لكن هذا كما ذكرنا اجتهاد، وله وجهه، وإذا قضى به القاضي عُمل به على وفق ما ذكرناه، والله تعالى أعلم.

إصلاح الوقف من نصيب الموقوف عليهم كل على قدر نصيبه

إصلاح الوقف من نصيب الموقوف عليهم كل على قدر نصيبه Q ترك والدٌ لأولاده بيتاً، فاحتاج البيت إلى إصلاح، فهل تدفع الأنثى نصف ما يدفعه الذكر؟ A لاشك في هذا أن الغنم بالغرم، والخراج بالضمان، فالأنثى تدفع في الخسارة نصف ما يدفعه الذكر، وتأخذ في الناتج نصف ما يأخذه الذكر، لا تظلم ولا تُظلم، فكما أنها في الربح والناتج تأخذ نصفه، كذلك في الخسارة يلزمها في إصلاح البيت نصف ما يدفعه الذكر، فإذا احتيج لإصلاح البيت إلى ثلاثة آلاف، أو ثلاثين ألفاً وهناك ذكر وأنثى فإن الذكر يدفع عشرين ألفاً وتدفع الأنثى عشرة آلاف من الثلاثين ألفاً، ويدفع الذكر ألفين وتدفع الأنثى ألفاً إذا كان الإصلاح بثلاثة آلاف. فالذكر يدفع ضعف ما تدفعه الأنثى في حال الغرم، كما يأخذ ضعف ما تأخذه في حال الغنم، والقاعدة: (أن الغنم بالغرم والخراج بالضمان)، والله تعالى أعلم.

الجمع بين جواز الوقف على الوارث وعدم جواز الوصية لوارث

الجمع بين جواز الوقف على الوارث وعدم جواز الوصية لوارث Q أشكلت علي مسألة، وهي تخصيص الوقف على البنات دون الأولاد أو العكس مع مسألة عدم الوصية للوارث. A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالوصية شيء، والوقف شيء آخر، فالوقف منجَّز، والوصية موقوفة على الموت، والوقف لا رجعة فيه، والوصية يملك الإنسان الرجوع فيها ما لم يمت كما سيأتي تفصيله في باب الوصية. الوقف شيء والوصية شيء آخر، فالوقف يكون في الحياة، يقول: أوقفته على ولدي. ويسري في حياته، لكن نحن عندما نقول بالوقف، نقول: إنه يجوز أن يجعل للإناث، ويجعل للذكور؛ لكن بالعدل، لو أنه أَوقف على الذكور، وأوقف على الإناث، وعدل بين الذكور والإناث فلا إشكال. فلو أن رجلاً حصل له مُوجب ورأى بناته يُطلَّقن ويتعرّضن للأذية والإضرار فأَوقف لهن، ونظر أن هذا من النصيحة والرعاية لولده، وحسن التفقد لهم، فذكوره بخير، وأبناؤه بخير، ولكن إناثه وبناته في ضيعة إذا لم يترك لهن مأوىً يحفظهن، ولم يترك لهن بيتاً يأوين إليه خاصة في الظروف التي تطرأ، فهذا له مُبرر ويكون قد فعله لسبب شرعي ومصلحة معتبرة. وهذا يختاره الوالد وطائفة من أهل العلم رحمهم الله، وعمل به طائفة من الصحابة، لكن نقول: يعدل، وإذا وُجد الموجب للتّفضيل من حيث الخوف، خاصة عند فساد الزمان، فهذا شيء يلقى الله عز وجل به. ويستقيم على مذهب من يقول: يجوز تفضيل بعض الولد على بعض عند وجود الموجب، والشريعة حينما تجعل الأنثى في هذه الحالة، إنما يدل ذلك على عظيم رعايتها للإناث، وعظيم إحسانها للمرأة، فالمرأة ينظر لها بطبيعتها الفطرية، ولا يُنظر لها خارجاً عن طبيعتها الفطرية، ومن أخرج المرأة عن طبيعتها الفطرية فقد كلّفها ما لا تطيق، فإن قصد إكرامها فوالله لقد أهانها، وإن قصد الرحمة بها فقد عذبها، وإن قصد إعزازها فقد أذلها؛ لأنه لا كرامة، ولا عزة، ولا رفعة، ولا رحمة بالمرأة إلا من حيث شرع الله جل جلاله. فإذا نظر إلى أنها تُحفظ من الضيعة إذا طُلِّقت، أو أصبحت أرملة، أو أصبحت في حاجة، وقصد شرع الله عز وجل من حسن النصيحة لبناته، وتذكّر أن النبي صلى الله عليه وسلم لفت النظر إليهن: (ما من مسلم يكون له ثلاث من البنات فيحسن تأديبهن إلا كن له حجاباً من النار. قالت امرأة: يا رسول الله! واثنتين؟ قال: واثنتين) فبين فضل حسن الرعاية للبنت. البنت تحتاج إلى رعاية أكثر مما يحتاجه الذكر، فإذا كان خص الأنثى بهذا، وفضّلها بهذا، خاصة إذا نظر إلى أن أولاده كافحوا، وعندهم ما يسدهم ويكفيهم، فهذا وجه لبعض العلماء، ولكني لا أُفتي به، أنا أقول: هذا وجه لبعض أهل العلم، وله سلف، وخاصة أن ابن الزبير والزبير نفسه حُكي عنه هذا، واختاره بعض العلماء، لكن من تورع وتحفظ وترك الأمر لقسمة الله عز وجل من فوق سبع سماوات، وتركه ميراثاً شرعياً؛ فلا شك أنه قد أصاب وأحسن، والله تعالى أعلم.

استخلاف المسبوق في الصلاة

استخلاف المسبوق في الصلاة Q إمامٌ طرأ عليه عذر فقدم رجلاً من خلفه وكان هذا المقدّم مسبوقاً بركعة، فكيف يصنع، خصوصاً أن وراءه من أدرك الصلاة مع الإمام من بدايتها؟ A هذا هو الفقه، خذوها قاعدة، الإمام عندنا فيه سنة وعندنا أصل، وكثير من المسائل تتفرع على السنة والأصل، والأصل العام مستنبط من السنة، لكن المراد بالسنة هنا الحديث الخاص: (إنما جعل الإمام ليؤتم به). أما الأصل فإنك مطالب بعدد من الركعات في الصلاة لا تزيد عليه ولا تنقص منه، فما الحكم إذا قدم مسبوقاً؟ إذا فرضناً أنه مسبوق بركعة، في هذه الحالة يصلي ويُتم الصلاة كفعل الإمام، فإذا بقيت له الركعة الباقية ثبت أهل المسجد يتشهدون، وقام لوحده، وأتم الركعة ثم تشهد، ومن هم خلفه يطولون في الدعاء والمسألة حتى ينتهي من الركعة، ثم يتشهد ثم يسلِّم بهم. لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى صلاة الخوف، ثَبَتت الطائفة الأولى وتشهّدت، ثم أتم بالطائفة الثانية الركعة، ثم جلس يتشهد فقامت الطائفة الثانية وأتمت لنفسها، ثم تشهد بالطائفتين وسلم؛ عليه الصلاة والسلام. هذه أحوال طارئة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم في حال الخوف كانت عنده ركعات زائدة على ركعات المأمومين، ومن هنا أخذ العلماء أنه إذا اختل الأمر فاحتاج المأموم أن يزيد، أو احتاج الإمام أن يزيد، فحينئذٍ يترك الإمام على زيادته ويبقى المأموم معذوراً. تخرجت على هذه مسألة ما إذا زاد الإمام، وأنت تعلم أنه في الخامسة تبقى في التشهد ولا تتابعه، ولا أعرف أحداً من أهل العلم يقول إنه إذا قام الإمام للخامسة قام المأموم وراءه، هذا لا يقول به إلا بعض المتأخرين ولا أدري من أين جاء به. والأصل يقتضي أن تبقى؛ لأن الله أمرك بأربع ركعات، ولم يأمرك بإحداث خامسة ولا سادسة، وأمرك بمتابعة إمامٍ في الصلاة لا فيما هو خارج عن الصلاة، والخامسة ليست من الصلاة، وأنت تعتقدها خارجة من الصلاة، ولا يجوز لك أن تتعبد الله عز وجل بها، لذلك لا يجوز لك أن تأتم بإمام إلى قبلة غير القبلة التي تراها. وإذا كان هذا في الشرط فكيف في الركن؟ فإذاً: من حيث الأصل الإمام تتابعه في الحدود الشرعية، فإذا زاد الخامسة معذوراً لسهوٍ، أو معذوراً لنقصٍ، ثَبَتّ متشهداً حتى يُتم خامسته ثم تتابعه في التشهد. يبقى السؤال: لماذا لا تُتم وتسلم؟ لو أتممت وسلّمت لنفسك لا نقطعت عن الجماعة وفات أجر الجماعة؛ لأن الجماعة من التكبير إلى التسليم. ففائدة المسألة: أنك تثبت حتى تبقى فيسلِّم بك، ولذلك فهذان الأمران: الإحرام والتسليم، من سبق الإمام فيهما بطلت صلاته؛ لأنهما أعظم ما في الإمام من أركان، بخلاف بقية الأركان: فإذا ركع قبله رجع فتدارك، وإذا سجد قبله رجع، إلا إحرامٌ وسلام، فإن سبق المأموم الإمام فيهما بطل اقتداؤه، أي: بطل كونه مأتماً به. فالحاصل أن تبقى معه وتكون القاعدة المعروفة: ما جاز لعذر بطل بزواله، وما أبيح للضرورة يُقدَّر بقدرها. فهو مضطرٌ إلى زيادة ركعة، وأنت تنفصل عنه بقدر الزيادة، فإذا أتم الركعة وجلس للتشهد تبقى وراءه، وترجع إلى الأصل وهو أنك ملزم بمتابعته، وليس عندك دليل يُجيز لك أن تنفصل عنه وتتم وتتشهد؛ لكن إذا كان الأمر بالعكس، فمثلاً لو كان الذين وراء الإمام جاءوا مسبوقين، فالحكم واضح وهو أنهم يتموا وراء الإمام، ثم إذا تشهد وسلم قاموا وأتموا ما سبقهم فيه الإمام وخليفته. وأما إذا جاء المأمومون كلهم مع بعض في الركعة الثالثة، والإمام حصل له عذر فقدم أحدهم، تابعوه متابعة كاملة لأن صلاته وصلاتهم واحدة، لكن يبقى الإشكال في الركعتين الأخيرتين، لأنه لو صلى وراء الإمام لجلس بعد الثالثة بالنسبة للإمام، لكن هنا لا يجلس بعد الثالثة، وإنما يقوم ويأتي بالركعتين الأخيرتين تامة، ويتابعه المأمومون. وفي هذه المسالة عشر مسائل مبسوطة، أعني مفرّعة، لأنها تختلف في الرباعية والثنائية والثلاثية بحسب اختلاف السبق والتأخر عن الإمام. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب تصرفات المريض من الهبة والعطية [2]

شرح زاد المستقنع - باب تصرفات المريض من الهبة والعطية [2] من مرض مرضاً مخوفاً كالطاعون وغيره، فإن تصرفه بما زاد على الثلث غير صحيح، ولا ينفذ إلا بالثلث، ويلحق به إذا التحم الصفان، أو من حكم عليه بالقتل ونحوه، وإذا مرض مرضاً مخوفاً ثم عوفي فإن تصرفه صحيح ونافذ، ومن أصابه مرض مخوف لم يقعده على الفراش فتصرفه صحيح، سواء بعطية أو وصية، وهناك فرق بين العطية والوصية مبينة في هذه المادة.

حكم هبة المطعون

حكم هبة المطعون بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومن وقع الطاعون ببلده، ومن أخذها الطلق لا يلزم تبرعه لوارث بشيء ولا بما فوق الثلث إلا بإجازة الورثة لها]. لا زال المصنف رحمه الله في معرض بيانه للأحكام المترتبة على مرض الموت، وهذا يستلزم بطبيعة الحال أن يبين الأمراض المخوفة، فقد تقدم بيان جملة منها، لكن هناك أشياء تقع وتكون عامة، وأشياء تقع وتكون خاصة، فما تقدم من المرض المخوف المتعلق بالإنسان نفسه في خاصته تقدم بيانه، لكن الكوارث العامة والأمور التي تنزل في البلد فتشمل أكثر أهله ونحو ذلك؛ كالأمراض الوبائية، فهذه تأخذ حكم المرض المخوف ولو كان الإنسان سالماً منها، فلو نزل -والعياذ بالله- الطاعون في بلد، وهو نوعٌ من الأمراض التي تنتهي بصاحبها إلى الموت -والعياذ بالله-، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان على من قبلنا عذاباً ورجساً، كما جعله الله عز وجل على قوم فرعون، وجعله الله لهذه الأمة رحمةً وشهادة، فأيما إنسان مات بالطاعون فإنه نوعٌ من أنواع الشهادة، فالمطعون شهيد، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عنه. وهذا النوع من الوباء ذكر بعض العلماء أنه في هذه العصر الأشبه به مرض (الكوليرا) أعاذنا الله وإياكم منه ومن غيره، فهذا النوع من المرض يقول بعض العلماء: إنه هو الطاعون، ويحتاج الأمر إلى تحرير والرجوع إلى أهل الخبرة والأطباء. فالشاهد: أن هذا المرض إذا أصاب الإنسان فإنه يهلكه، وإذا وقع في بلدٍ وفيه إنسان فالسنة أنه لا يجوز للمسلم أن يدخل بلداً فيه الطاعون، ولا أن يخرج من بلدٍ فيه الطاعون، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها، وإذا سمعتم به في أرضٍ فلا تدخلوها)، ولما أراد عمر رضي الله عنه دخول الشام لما وقع طاعون عمواس منع بهذا الحديث. والسبب في هذا: ما ذكر العلماء أن هذا النوع من المرض إذا كان الإنسان موجوداً في البلد نفسه وخرج منه وسلم، ربما اعتقد أن خروجه هو الذي نجاه، وهذا يؤثر في عقيدة المسلم وفي توحيده وإيمانه بالله عز وجل، فالذي خلق الأسباب جعلها مؤثرة بقدرته جل وعلا، ولو شاء الله ألا تؤثر لما أثرت. ولذلك قال العلماء: إنه منع من الخروج من البلد حتى لا يعتقد المعتقد أن خروجه ينجيه، فيتعلق الناس بالأسباب دون أن يتعلقوا برب الأرباب، أو يشركوا بين الله وبين الأسباب -نسأل الله السلامة والعافية- والشريعة تحرص كل الحرص على أساس الدين، وعلى العقيدة التي عليها نجاة العبد وصلاح أمره في الدين والدنيا والآخرة. ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة)، قيل المراد: أن يعتقد الإنسان أن العدوى تضر بنفسها، حتى إنك تجد الإنسان إذا مر على مزكومٍ أو على من به مرض من الأمراض المعدية يقطع ويجزم جزماً تاماً أنه إذا صافحه أو سلم عليه أو جلس إليه أو سمعه فإنه سيضره، ولا يكون عنده من التوحيد والإيمان واليقين ما يجعله يعتقد بالله سبحانه وتعالى أكثر وأعظم، ويجعل قدرة الله هي الأساس، وأن الله قادر على أن يجعله لا يصاب بشيء، فكم من أناسٍ بروا بوالديهم وكان الوالد أو الوالدة مصاباً بمرض معدٍ، وبقوا معهم السنين، ومع ذلك ما أصابهم شيء؛ لأن الله لم يرد لهم ذلك. فالله سبحانه وحده هو القادر على كل شيء؛ ولذلك لما خرج القوم من بني إسرائيل خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243]، لأنهم ظنوا أن خروجهم هو الذي سينجيهم من بلاء الله عز وجل وقدره، فإذا اعتقد الإنسان في السبب اعتقاداً مؤثراً في عقيدته فإن هذا أمرٌ خطير، فالطاعون إذا وقع في بلدٍ فلا يجوز الخروج منه ولا الدخول إليه؛ لأنه إذا دخل ربما اعتقد أن دخوله هو الذي أفضى به إلى الإصابة بهذا البلاء. وأيضاً: فيه جمعٌ بين السبب وبين المسبب، فالله سبحانه وتعالى هو الذي جعل لهذه الأسباب تأثيراً، ولذلك فالنار الأصل أنها تحرق، ولكن جبار السموات والأرض الذي أطت له وذلت لم يأذن لها أن تحرق إبراهيم؛ بل جعلها الله برداً وسلاماً عليه، فالله على كل شيءٍ قدير، وهذا النوع من الأمراض الغالب فيه الهلاك، وأنه إذا أصيب به الإنسان فإنه لا ينجو، وإذا ثبت في الغالب أنه مرضٌ فتاك أو مهلك أو مخوف، فإن القاعدة في الشريعة تقول: (إن الغالب كالمحقق)، وإن أحكام الشريعة تناط بالشيء الغالب، والنادر لا حكم له، والغالب في الأمراض المعدية أنها إذا وقعت في بلدٍ فإنها تنتشر، فكل من في هذا البلد الغالب في سنة الله عز وجل وبقدرته جل جلاله أنهم يصابون به بحكم المخالطة والمداخلة، وبحكم الهواء الذي ينقل، وهذا كله بأمر الله عز وجل وقدره، فلو وقع الطاعون في بلدٍ وفيه رجل، وبعد وقوع الطاعون تبرع بمائة ألف، وماله كله يعادل مائتي ألف، فمعنى ذلك أنه تبرع بنصف ماله، فنصحح تبرعه في حدود الثلث؛ لأننا حكمنا بكونه في حكم المريض مرض الموت، وهذا بالنسبة لمن وقع الطاعون في بلده وغلب على الظن أنه يصاب في هذا البلد. وهكذا بالنسبة لبقية الأمراض المهلكة المعدية التي يغلب على الظن أن صاحبها لا ينجو وأنها تنتشر وتفتك بالجماعات، وبالقرى والمدن إذا وقعت فيها، فإنها تعتبر في حكم المرض المخوف، وتأخذ أحكاماً على التفصيل الذي تقدم.

حكم تصرف من أخذها الطلق

حكم تصرف من أخذها الطلق وقوله: [ومن أخذها الطلق]. أي: المرأة إذا أخذها الطلق عند الولادة، فإذا حضرها الولاد فإنها تكون بين الموت والحياة، وهذه هي أشد الساعات، وقد بين الله جل جلاله لعبده عظيم فضل أمه عليه حينما قص ما تعانيه الأم في قصة عيسى عليه السلام مع أمه، وانظر كيف كان اختيار الله سبحانه وتعالى، فإن عيسى كلمةُ الله وروحٌ منه، ومع ذلك قال الله تعالى عن أمه: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ} [مريم:23]، (فأجاءها) أي: ألجأها واضطرها: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:23]، فهذا يدل على عظم ما تعانيه الأم، فإذا كان هذا العبد الصالح الذي هو كلمة الله وروحٌ منه ألقاها إلى مريم وفي الحفظ الإلهي الكامل التام، ومع ذلك تقول أمه: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:23] فكل مسلمٍ يقرأ هذه الآية ويتدبر ويتفكر ما الذي عانته الوالدة تجاهه، ولذلك جعل الله حق الأم أعظم من حق الأب، وجعل فضلها على الولد أعظم من فضل الأب عليه، ولذلك جاء في الحديث: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صاحبتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)، فجعل له الحق بعد حق الوالدة مكرراً دالاً على فضلها وعظيم ما عانته تجاه ولدها. فإذا ثبت هذا: فإن الطلق قد تنجو المرأة فيه وقد تهلك، واختلف العلماء في مسألة الحمل والولادة وما بعد الولادة: متى يحكم بكون المرأة في حكم الحالة الخطيرة التي لا يصح فيها تبرعها فيما زاد عن الثلث، وتأخذ الأحكام المتقدمة في مرض الموت؟ فبعض العلماء يقول: إذا حملت المرأة ومضى على حملها ستة أشهر، فإنها تدخل في حكم المريض مرض الموت، وهي بين السلامة وبين الهلاك، وبين النجاة وبين الموت، فإذا تم لحملها هذا القدر حكمنا بكونها في حكم مريض مرض الموت، وفائدة هذا القول: أنها لو حملت وبعد ستة أشهر من حملها وتمام الحمل أعطت شخصاً أو تبرعت بمائة ألفٍ، وهذه المائة ألف تعادل مالها كله أو نصفه، أو تعادل ما هو أكثر من الثلث، فإذا قلنا: إنها في حكم المريض مرض الموت، فنرد هذه العطية إلى الثلث إن ماتت، وتكون في حكم المريض مرض الموت، وإن قلنا: إنها ليست في حكم المريض مرض الموت؛ صحت ونفذت ومضى تبرعها. القول الثاني يقول: ليست العبرة بتمام الحمل ستة أشهر، وإنما العبرة بابتداء الطلق، وهذا القول هو الذي اختاره جمعٌ من المحققين، ومنهم الإمام ابن قدامة رحمه الله وغيره وصححه، وبينوا أنه هو الأولى بالصواب: أن العبرة ليست بالحمل، وإنما العبرة بحال الولادة إذا أخذها الطلق، فإذا ابتدأ معها الطلق فإنه حينئذٍ يحكم بكونها في حكم المريض مرض الموت، فلو أنها في هذه الحالة وصت أو أعطت ووهبت فحكمها حكم المريض مرض الموت، وهذا القول هو الراجح إن شاء الله تعالى، أي أن العبرة بحالة الولادة، وعلى هذا درج المصنف رحمه الله. فإذا وضعت الولد وبقي طلق من باقي المشيمة، ولم تكتمل ولادتها، فإنها تكون في حكم المريض مرض الموت؛ لأن الأمر مخوف في هذه الحالة، وكذلك أيضاً إذا أصابها نزيف بعد الولادة وكان نزيفاً خطيراً يخشى عليه هلاكها، فتكون في حكم المريض مرض الموت، وهذا نص عليه الإمام ابن قدامة رحمه الله وغيره من الأئمة، وبينوا أن المراة إذا وضعت ولدها وتعرضت بسبب الوضع إلى أمورٍ يخشى معها على نفسها، فإنها تكون في حكم المريض مرض الموت. وقوله رحمه الله: (لا يلزم تبرعه لوارث بشيء). أي: لا يلزم تبرع أحد هؤلاء لوارثه بشيء، فهناك حكمان: الحكم الأول: متعلق بالوصية، والحكم الثانية: متعلق بالعطية. أما الحكم الذي يتعلق بالوصية: فإذا قلت: إن هذه الأحوال يكون الإنسان فيها في حكم المريض مرض الموت، فإنه تسري عليه أحكام الوصية، فلا تصح وصيته لوارث، فلو وصت المرأة في هذه الحالة لابنتها الوارثة فإنه لا تصح وصيتها ابتداءً، وإنما تورث على إجازة الورثة كما سيأتي؛ والسبب في هذا: أن الله سبحانه وتعالى أمر عباده بالوصية، ثم نسخ هذا الحكم بعد نزول آيات المواريث، فأعطى الله جل جلاله لكل ذي حقٍ حقه من التركة، وتولى قسمتها من فوق سبع سماوات، وبين نصيب البنين والبنات وغيرهم من سائر القرابات، فأعطى كل ذي حقٍ حقه من التركة، وفصل في حكم ما يتركه الإنسان من بعد موته من المال. وبعد بيان المواريث بين صلى الله عليه وسلم أنه: (لا وصية لوارث)، فمنع من الوصية للوارث وأجاز الوصية لغير الوارث، فدل هذا على أن الإنسان إذا كان قد كتب وصيته، أو عهد بها إلى أشخاص يأخذونها من بعده، وفي الوصية: أعطوا ابني فلاناً كذا وكذا، أو زوجوا ولدي بخمسين ألفاً أو بعشرة آلاف أو نحو ذلك، فهذه وصية لوارث لا تصح إلا إذا أجاز الورثة كما سيأتي، فيقال لبقية الورثة: هل تجيزون وصية أبيكم؟ فإن قالوا: نعم. فإنها تمضي، وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل هذه المسألة وبيان كلام العلماء رحمهم الله في كتاب الوصايا، وهل الوصية باطلة في أصلها أم أنها موقوفة؟ وعلى كل حال: إذا قلنا: إنها باطلة فلها حكم، وإذا قلنا: إنها موقوفة على إجازة الورثة فلها حكمٌ ثانٍ، فبين رحمه الله أنه لا تصح وصيته كل من كان مريضاً بهذه الأمراض المخوفة أو هذه الحالات المخوفة، فلا يصح تبرعه فيما زاد عن الثلث، ولا تصح وصيته لوارث. ويتلخص مما سبق: أن هناك أمراضاً وهناك أحوالاً، فالأمراض يرد فيها القول إلى أهل الخبرة والأطباء، ونسأل الأطباء: ما هي الأمراض المخوفة؟ ويسأل كل طبيب في تخصصه الذي عُرِف ضبطه فيه وإلمامه به، وأما بالنسبة للأحوال، فقد ذكر المصنف منها حالة الطاعون، ويلتحق بهذه الحالة أحوال في مسائل منها:

أحوال تلحق بمن كان مرضه مخوفا وتأخذ حكمه في التصرف بالمال

أحوال تلحق بمن كان مرضه مخوفاً وتأخذ حكمه في التصرف بالمال ومما يلتحق بمسألة من مرض مرضاً مخوفاً: مسألة التحام الصفين وتقابل المتقاتلين، فإذا وقع القتال بين المسلمين والكافرين، وتقابل الصفان والتحم الجيشان، فإذا ابتدأ القتال فيحكم على أهل المعركة من المسلمين أنهم في حكم المريض مرض الموت، فلا تصح وصيتهم لوارث، ولا تنفذ عطيتهم فيما زاد عن الثلث؛ لأن هذه الحالة الغالب فيها عدم السلامة، وقل أن يخرج الإنسان منها سالماً. وفي حكم ذلك: من كان محكوماً عليه بالقتل، كرجل قتل رجلاً ظلماً وعدواناً فحكم عليه بالقصاص، وإذا حكم عليه بالقصاص ومضى الحكم وتم وثبت عند القاضي وحكم به، فمذهب طائفة من العلماء أنه بحكم المريض مرض الموت، فلا يصح تبرعه فيما زاد عن الثلث، ولا تصح وصيته لوارث. وكذلك أيضاً يدخل في حكم هذه المسألة: أحوال الخوف التي تقع في وسائل النقل، فمثلاً: ركوب البحر، فذكر العلماء رحمهم الله في القديم ركوب البحر، فإذا كان البحر ساكناً فلا إشكال والغالب السلامة، وأما إذا هاج البحر وماج وجاءت ريح عاصف، وأصبحوا في حالة الخوف والكرب، فإنهم حينئذٍ يحكم بكونهم في حكم المريض مرض الموت، فلو أن شخصاً في تلك الحالة قال: مالي كله في سبيل الله، أو أوصيت بمالي كله في سبيل الله، أو أوصيت بمالي إلى فلان، أو أعطيت ولدي فلاناً، فحينئذٍ لا يصح تصرفه في العطية فيما زاد عن الثلث، ولا تصح وصيته لوارث، هذا إذا كان البحر في حالة الهيجان. وكذلك أيضاً من الأحوال التي تلتحق بما سبق: إذا تعرض المركوب -كطائرة أو سيارة أو قطار- إذا تعرض إلى حالة من حالات الخوف أو الهلاك الغالبة، فإنها تلتحق بما ذكره العلماء رحمهم الله في القديم من كون الإنسان في حكم المريض مرض الموت.

حكم تصرف من أصيب بالجروح وحوادث السير

حكم تصرف من أصيب بالجروح وحوادث السير بقي السؤال عن مسائل الطعن والجروح والحوادث التي تقع الآن، فقد يصدم الإنسان في سيارة، أو تصدمه سيارة وتستنفذ مقاتله، أو يطعن أو يضرب بطلقات نارية حتى تستنفذ مقاتله بحيث يغلب على الظن أنه ميت، فما حكم مثل هذا؟ ينقسم مثل هذا إلى قسمين من حيث القول باعتباره كمرض الموت وعدم اعتباره: فإن كانت الإصابة لم تذهب عقله بحيث يكون عنده التركيز والشعور، فإنه حينئذٍ يصح تصرفه على التفصيل المعتبر، ويكون في حكم المريض مرض الموت، وهنا عندنا مسألتان: المسألة الأولى: هل نعتبر وصاياه؟ المسألة الثانية: هل هو في حكم المريض مرض الموت؟ فاعتبار وصيته موقوف على كونه عاقلاً، وأن هذه الإصابة لم تذهب عقله. وحوادث السيارات -نسأل الله السلامة والعافية- بعض إصاباتها قد تذهب عقل الإنسان وتمييزه وإدراكه، وحينئذٍ فلا يصح تصرفه، وأما إذا كان عنده الإدراك والعقل، وشعوره معه، فإنه يحكم بصحة وصيته، ولكن يسري عليها ما يسري على وصية المريض، وكذلك عطيته تصح ويكون حكمها حكم عطية المريض مرض الموت، هذا إذا كانت الإصابة قد أثرت فيه أثراً الغالب أنه يموت بسببه. أما الدليل على كوننا نحكم بأن وصيته وعهده صحيح وتصرفه صحيح مع أن الغالب أنه سيهلك وسيموت: فهو أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الصحيح: أنه لما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي -لعنه الله- وحُمِل إلى بيته، ثم جاء من يعالجه ويداويه وأمر بسقيه اللبن فخرج اللبن مع الجرح وعلم أنه ميت، فلما علم ذلك وصى رضي الله عنه وأرضاه وعمل الصحابة بوصيته؛ فدل هذا على أن الطعن أو الإصابة أو الحادث أو إصابة الحادث إذا كان الغالب أنها تهلك الإنسان، لكن شعوره معه وإدراكه معه، فإنه يحكم بصحة تصرفاته، ولكن تبقى هذه التصرفات في حكم تصرفات المريض مرض الموت. أما لو أنه غيب وأصبح يخلط مثلما يقع -نسأل الله السلامة والعافية- في بعض الإصابات في الرأس التي تذهب العقل، وقد يأتي معها نزيف في الدماغ أو نحو ذلك، ويصبح عند الإنسان خلط وعدم ضبط، فمثل هذا لا يصح تصرفه، ويعتبر في حكم المجنون، ويحجر عليه، ولا تصح منه هبةٌ ألبتة، بمعنى: لا نحكم بصحة هبته، فلو قال مثلاً: تصدقوا وأعطوا الفقراء والمساكين، والأطباء يقولون: إن هذه الإصابة قد أثرت في عقله وأصبح لا يميز، فإنه قد تقدم معنا أن المجنون محجورٌ عليه وأنه لا ينفذ تبرعه، وحينئذٍ ينتقل المال كله للورثة. هذا بالنسبة لمسالة الإصابات، لكنها إذا كانت الإصابة خطيرة والغالب أن صاحبها يهلك، فإنها تكون في حكم مرض الموت بلا إشكال عند العلماء رحمهم الله. قال رحمه الله تعالى: (ولا بما فوق الثلث). أي: ولا تصح عطيته بما فوق الثلث، فإذا كان عنده ثلاث مائة ألف وأصابته هذه الأمراض المخوفة، أو تعرض لهذه الحالات التي نحكم فيها بكونه في حكم مرض الموت فإنه لا ينفذ تبرعه فيما زاد عن الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ سعد رضي الله عنه لما قال: (أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا. قال: فبثلثيه؟ قال: لا. قال: فبالنصف؟ قال: لا. قال: فبالثلث، قال: الثلث والثلث كثير)، فبين صلى الله عليه وسلم بذلك أنه لا حظ له فيما زاد عن الثلث، وأنه لا يجوز له أن يجاوز هذا الثلث إلزاماً، لكن لو رضي الورثة وطابت خواطرهم بذلك فحينئذٍ لا إشكال؛ لأن الحق لهم، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم)، فكل عطيةٍ أعطاها ومرضه مرض مخوف فإننا ننظر في قدرها من رأس المال والتركة، فإن عادلت ثلث ماله أو أقل صحت ونفذت، وإن كانت فوق ذلك فإنها تصح في الثلث ويبقى ما زاد عن الثلث موقوفاً على إجازة الورثة. وقوله: (إلا بإجازة الورثة لها) استثناء، أي: إلا إذا أجاز الورثة ما زاد عن الثلث، وقد جاء ذلك مرفوعاً في الأثر: (إلا أن يجيز ذلك الورثة)، فإذا أجاز الورثة فإنهم يجيزون أمرين: الأمر الأول: أن يجيزوا وصيته للوارث، فلو أنه قال: أعطوا ولدي محمداً مائة ألفٍ من تركتي، لكن محمد وارث، فحينئذٍ نقول: لا يجوز له أن يوصي لوارث، ثم نسأل بقية الورثة: هل تجيزون وصيته لأخيكم؟ فإن قالوا: نعم، أجزنا وصية أبينا لأخينا، فحينئذٍ تمضي، ولكن هل تعتبر عطيةً مبتدأة أو تعتبر عطية ماضيةً كانت موقوفةً ثم نفذت؟ فنبني على ذلك فروعاً سيأتي بيانها -إن شاء الله تعالى- في كتاب الوصايا. الأمر الثاني: أن يجيزوا وصيته بما زاد عن الثلث، فإن أجازوها مضنت ونفذت، وإلا فلا.

حكم تصرف من مرض مرضا مخوفا ثم عوفي منه

حكم تصرف من مرض مرضاً مخوفاً ثم عوفي منه وقوله: [إن مات منه]. أي: إن مات من الطاعون، فهذا شرط، لكن لو أنه جاء الطاعون في بلده وأوصى أو أعطى ثلاثمائة ألف في سبيل الخير، وهذه الثلاثمائة ألف تعادل ماله كله، ثم ارتفع الطاعون عن بلده ومات بعد ارتفاعه بأسبوع أو بشهر بسبب غير الطاعون، فعند ذلك عطيته صحيحة؛ لأن اعتبار الطاعون مبني على الغالب، لكن إذا زال الطاعون وارتفع فحققنا أن ذلك الظن قد بان خطؤه، ولا نحكم بظنة كونه في حكم المريض مرض الموت؛ لأنه سلم وتبين أنه من الناجين، مع أن سنة الله عز وجل أن القليل من يسلم ومن ينجو لكن الله جعله من القليل، فلما اختلط من ينجو ومن لا ينجو، وذلك لعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى؛ بقينا في الحكم الغالب أنه لا ينجو وقلنا: لا يجوز تصرفه، فإن ارتفع الطاعون وسلم منه ثم مات بسببٍ آخر كحادث سيارة، أو مات بسكتة قلبية أو بمرضٍ آخر، فحينئذٍ نصحح عطيته حينما أعطى وهو في حالٍ الغالب أنه يهلك، لكنه لما ارتفع هذا الحال ولم يصب بسوء؛ فلم يكن له أي تأثيرٍ على عطيته، فتنفذ الثلاثمائة ألف وتصح عطيته؛ لأنه أعطاها وتبين أنه في حكم السالم لا في حكم المريض، فقوله: (إن مات منه)، هذا شرط بأن يقع الموت بهذا السبب الغالب تأثيره. وقوله: [وإن عوفي كصحيح]. إن عوفي تماماً من السل أو من الفالج أو مما تقدم من أمراض مخوفة فإن عطيته التي أعطاها تكون صحيحة. أما إذا كان معه مرض -لا قدر الله- يخشى عليه من الهلاك فنوقف العطية ونقول لصاحب العطية: انتظر، فإن مات من هذا المرض فليس لك ما زاد عن الثلث؛ لأن هناك استحقاقاً للورثة، ولك شريك مستحق، فلا يجوز أن تنفرد بهذه العطية كاملة ما دام أنها زائدة عن الثلث، وإن لم يمت فحقك يأتيك وتأخذ العطية كاملة، وبناءً على ذلك: الأمراض المخوفة إذا كان الإنسان مصاباً بها فنحجر على ماله ونمنع تصرفاته فيما زاد عن الثلث؛ لأن الغالب أنه يهلك في هذه الأمراض المخوفة، فإن شُفي من هذا المرض المخوف، وسلمه الله عز وجل منه، فإننا نحكم بكونه في حكم الصحيح وعطيته نافذة، ولا يقيد بالثلث فيما كان من هباته وصدقاته وعطاياه.

تصرف المريض مرضا مخوفا لم يقعده على الفراش

تصرف المريض مرضاً مخوفاً لم يقعده على الفراش قال رحمه الله: [ومن امتد مرضه بجذام أو سلٍ أو فالج ولم يقطعه بفراش فمن كل ماله والعكس بالعكس]. قوله: (ومن امتد مرضه بجذام أو سلٍ أو فالج). هذه الأمراض يصاحبها على حالتين: الحالة الأولى: إما أن تقعده عن الفراش وتمنعه من الخروج لقضاء حوائجه، فحينئذٍ لا إشكال أنه في حكم المريض مرض الموت، وأما إذا كان يذهب ويأتي ويقضي أموره ويفعل ما يفعله الصحيح، إلا أنها تؤثر في صحته بعض الشيء، فهذا لا تأثير له فعطيته نافذة وحكمه حكم الصحيح. إذاً: العبرة فيما ذكر من الأمراض -كالفالج والجذام- أن هذه الأمراض كلها إذا لم تعق صاحبها وتحبسه في بيته فإنها لا تؤثر، ومثل ذلك: الهرم وكبر السن، فالكبير في سنه يضعف في أحواله ويضعف في أموره، ولا يستطيع أن يقضي مصالحه كما يقضيها من هو شابٌ جلد، فحينئذٍ لا نقول: إن الهرم يجعله في حكم المريض مرض الموت ولا يصح تصرفه فيما زاد عن الثلث، بل إنه يعامل معاملة الصحيح، والأمراض كذلك، فإن كان معه هذه الأمراض كالفالج والجذام -نسأل الله السلامة والعافية- ولم تقعده فإنه يكون في حكم الصحيح، لكن إذا أقعدته وألزمته الفراش ثم مات وامتدت إلى الموت، فيعتبر صاحبها في حكم المريض مرض الموت منذُ أن أقعدته، كما إذا أدخل المستشفى ثم لزم المستشفى حتى توفاه الله، فإن كانت عطيته قبل دخوله وكان يذهب ويقضي مصالحه قبل الدخول، مع أنه قرر الأطباء أنه مصاب بهذا المرض، فمثلاً: قرر الأطباء أنه مصاب في بداية محرم، فأعطى عطيةً وهو يذهب ويأتي ويقوم بمصالحه، فأعطى عطيةً، ثم بعد فترة أقعدته على الفراش فأعطى عطيةً ثانية، فالعبرة في عطيته الثانية بالثلث، وأما عطيته الأولى فإنها ماضيةٌ تامة. وقوله: (ولم يقطعه بفراش). وهكذا بالنسبة للهرم وكبير السن، إذا أقعده هرمه ولزم الفراش فإنه يصح تصرفه في الثلث فما دونه، ويكون حكمه حكم المريض مرض الموت. وقوله: (فمن كل ماله والعكس بالعكس). أي: من امتد مرضه ولم يقطعه بفراشه، بمعنى: أنه لم يعقده، فعكسه من أقعده على الفراش، فإنه يوجب الحكم بكونه في حكم المريض مرض الموت إذا امتد به ومات بسبب ذلك المرض.

العبرة في الثلث الموصى به أو المعطى عند الموت

العبرة في الثلث الموصى به أو المعطى عند الموت قال رحمه الله: [ويعتبر الثلث عند موته]. إذا ثبت ما تقدم أن العبرة بالحالة الموجبة لحكمنا بكون الإنسان في حكم المريض مرض الموت، وبينا الأمراض والأحوال التي توجب الحكم على الشخص في ذلك، وما الذي يترتب على هذا الحكم، وأنه لا يصح تبرعه فيما زاد عن الثلث ولا تصح وصيته لوارث، فيبقى Q هذا الثلث، هل العبرة فيه بالوقت الذي وصى أو أعطى فيه أم بوقت الموت؟ وفائدة هذا الخلاف: أنه ربما يكون الشخص -مثلاً- عنده مائة ألف ريال، فيوصي بهذه المائة الألف ريال في أول محرم وهو مريض مرض الموت، فإذا كان مريضاً مرض الموت وأصابه المرض في أول محرم وأعطى مائة ألفٍ هبةً أو عطيةً أو صدقةً فما الحكم؟ نقول: إنه في حكم المريض مرض الموت، فلا ينفذ إلا ثلثها، هذا من حيث الأصل؛ لكن لو أنه توفي في الخامس عشر من محرم وقبل وفاته بأسبوع وهب مائة ألف، ثم توفي فورث مائتي ألف، فأصبح مجموع تركته عند الوفاة ثلاثمائة ألف، وأصل تركته عند العطية مائة ألف، فهل العبرة بوقت العطية أم العبرة بوقت الموت؟ العبرة بالموت، فإن كان الوقت الذي مات فيه تعادل عطيته الثلث فما دون صحت، ولو كانت قبل أكثر، والعكس بالعكس، فلو أنه أعطى مائة ألفٍ وقد دخل المستشفى -مثلاً- في بداية محرم، وحكم الأطباء أن هذا المرض مرضٌ مخوف وأنه لا ينجو إلا إذا شاء الله سبحانه وتعالى، فلما أدخل المستشفى كانت تركته تعادل ثلاثمائة ألف، فقال لأولاده: هذه مائة ألف ريال، اجعلوها في المساجد وفي سبل الخير والبر، إذاً: وصيته في حدود الثلث، ولا إشكال فيها، والمائة ألف تعادل الثلث من الثلاثمائة ألف، فلما مرض وأدخل المستشفى احتاج إلى علاج بمائة ألفٍ، فأصبحت تركته ناقصة فلما توفي في منتصف محرم إذا تركته مائتا ألف، فهل العبرة بوقت ما أوصى ووقت ما أعطى وتصدق ووهب، أم العبرة بوقت الموت؟ بين رحمه الله أن العبرة بالوقت الثاني وهو الأخير، وألا ننظر إليه قبل ذلك فقراً ولا غنىً، فإن العبرة بوقت الموت، فإن كان المال الذي وصى به أو أعطاه معادلاً للثلث في ذلك الوقت حكمنا بكونه صحيحاً، وإن نقص أو زاد على التفصيل الذي ذكرنا.

الفرق بين الوصية والعطية

الفرق بين الوصية والعطية قال رحمه الله: [ويسوى بين المتقدم والمتأخر في الوصية]. شرع المصنف رحمه الله في بيان الأمور التي يفرق فيها بين الوصية والعطية، وفي الحقيقة أن هذا الفصل -تصرفات المريض- هو وسط بين العطية وبين الوصية؛ ولذلك تتداخل أحكام الوصية والعطية، ويحتاج المصنف إلى بيان الأمور التي يفرق فيها بين الوصية والعطية. فالوصية: عهد من الميت لورثته أو لمن يقيم على وصيته من بعد موته، فهي إسناد لما بعد موته، كقوله: إذا مت فابنوا لي مسجداً، أو احفروا بئراً، أو افعلوا كذا وكذا من الأمور التي يرجو بها الثواب والأجر بعد موته، فهذه هي الوصية، فإذا وقعت من الإنسان بعطيةٍ أو بمال، فإن كانت من شخصٍ واحد فلا إشكال، لكنه لو أعطى ثلاثة أشخاص، كأن أعطى محمداً وزيداً وعمراً، فوصى لمحمد بمائة ألف، ثم بعد يوم وصى لزيد بمائة، ثم بعد يوم وصى لعمرو بمائة، فهذه ثلاثمائة ألف ريال أوصى بها، وكانت تركته مثلاً تسعمائة ألف ريال، إذاً: هي في حدود الثلث ولا إشكال، لكن عند موته أصبحت تركته -مثلاً- أربعمائة ألف ريال، فنقصت فلم تعادل الثلث أو نقصت عن الثلث، فما الحكم؟ ننظر إلى المال الذي خلفه عند موته ونأخذ ثلثه ونقسمه أثلاثاً، لمحمد الثلث، ولزيدٍ مثله، ولعمرو مثله، فننظر نسبة ما وصى به لكل واحدٍ ويسوى بينهم، فيسوى بين المتقدم وبين المتأخر، فعلى هذا الوصية يشرك فيها بين الأوصياء، فنقدم متى وصى لزيد ومتى وصى لمحمد، فمحمد متقدم ثم بعده زيد ثم بعده عمرو، في الوصية: لا تنظر إلى التاريخ فتقدم من هو مقدم ونؤخر من هو مؤخر، فلا يجتمع الكل عند الموت؛ لأن الوصية في الأصل لا ينتقل الاستحقاق فيها إلا بعد موت الشخص، فهي مسندة لما بعد الموت، فما قبل الموت يكون قد قدم هذا أو أخر هذا فلا تأثير له؛ لأنهم عند الموت اشتركوا جميعاً في كونهم موصىً إليهم. قال رحمه الله: [ويبدأ بالأول فالأول في العطية]. العطية عكس الوصية، فمثلاً: لو أن الذي حدث في الوصية حدث في العطية، ففي الوصية قال: إذا أنا مت فأعطوا محمداً مائة ألف، وبعد يوم قال: إذا أنا مت فأعطوا زيداً مائة ألف، وقال لعمرو مثل ذلك، لكن في العطية جاء قبل وفاته أو في مرض الموت وقال: يا محمد! خذ مائة ألف من مالي، (خذه) هذه حالة ما أسندها إلى بعد الموت، بل قال: خذ، أو أعطوا محمداً مائة ألف من مالي، وهذا الكلام وقع في أول النهار، وبعد ساعة دخل عليه زيد، فقال: أعطوا زيداً مائة ألف من مالي، ثم بعد ساعة دخل عليه عمرو فقال أيضاً: أعطوا عمراً مائة ألف من مالي، فهذه عطيةٌ لثلاثة أشخاص، ولكنها لم تقع في وقت واحد، فحينئذٍ يقدم المقدم ويؤخر المؤخر، فلو أنه كان في وقت قوله: (أعطوا)، تعادل الثلاثمائة ألف ثلث ماله، ثم تأخروا في القبض ولم يقبضوها حتى أصبح ماله -مثلاً- ثلاثمائة ألف، فحينئذٍ لا تستطيع أن تعطي كل واحدٌ منهم مائة ألف، وأصبح الثلث مائة ألف، فهل تقسم الثلث بينهم؟ A لا، في العطية نبدأ بالمقدم، وهو أول من أعطاه، فحينئذٍ يعطى المائة الألف، وأما الآخران فلا شيء لهم؛ لأنه زائدٌ عن الثلث، فهذا بالنسبة لمسالة التسوية في الوصية والمفاضلة في العطية. والسبب في هذا: أن الموجب -يسمونه العلماء: الموجب أو السبب- يختلف في الوصية والعطية، فالعطية تلزم بالقبول وعقدها معتبر، فإذا قال: أعطيتك مائة ألف، وقال الآخر: قبلت، فحينئذٍ تم العقد، والعقد الأول مقدم على العقد الثاني، بمعنى: أن العطية الأولى والعدة بها مقدمةٌ على العدة الثانية وهكذا الثانية بالنسبة للثالثة بخلاف الوصية، أما الوصية فإنها موقوفة على الموت، فإذا كان الإنسان حياً فإنه لا يحل لأحد استحقاق المال، فهؤلاء الثلاثة كانوا كلهم في حال حياته ولو قبل موته بلحظة كلهم في كونهم موصىً إليهم، فهم جميعاً مشتركون، بخلاف العطية، فالعطية لا تنتظر الموت، بل العطية مباشرة؛ لأنه لم يعلقها على موت ولم يعلقها على شرط، وعلى هذا فإنه يقدم في العطية الأول فالأول. وأما في الوصية فيسوى بينهم ويشرك، على خلافٍ بين العلماء في قضية التشريك، فبعضهم يقول: على قدر حصته، بمعنى: ينظر إلى نسبة المبلغ الذي أعطاه مع شركائه كما ذكرنا، فإذا كانوا متساوين في المبالغ، فيعطى كل واحدٍ منهم الثلث إذا كانوا ثلاثة -أي: ثلث الثلث- وأما إذا قال: أعطوا محمداً -مثلاً- خمسمائة ألف، وأعطوا زيداً مائتين وخمسين ألفاً، وأعطوا عمراً مائتين وخمسين ألفاً، فعند ذلك نعطي الأول سهمين منها -وهو النصف- ونعطي الثاني ربع الثلث، ونعطي الثالث ربع الثلث، وهذا إذا كان يفاضل بينهم، فحينئذٍ النسبة بين الخمسمائة والمائتين والخمسين للآخرين نسبة النصف، فمجموع عطيته مليون، فلو ترك قدراً لا يعادل ثلثه المليون، بل يكون الثلث نصف مليون، فإذا كان قد أعطى محمداً خمسمائة وأعطى زيداً مائتين وخمسين وعمراً مائتين وخمسين، فإذا كان الثلث خمسمائة ألف فيعطي مائتين وخمسين لمحمد ومائة وخمسة وعشرين لكل واحدٍ من الآخرين، وهذا بالنسبة للقسمة عند المفاضلة في الوصايا إذا ضاقت عن الثلث. وقد تقدم في المجلس الماضي أن الوصية تخالف العطيّة في جملة من المسائل، وذكرنا بعض هذه المسائل التي أشار إليها المصنف رحمه الله، ثم شرع في بيان مسألة من هذه المسائل التي تخالف فيها الوصية العطية، وهي: أنه لا يملك الرجوع في العطية، بخلاف الوصية. فلو أن مريضاً مرض الموت أعطى عطية وقبِلها المعطَى، وحُكم بلزومها، فإنه لا يملك المريض الرجوع فيها، ولا يحق للورثة أن يُطالبوا المعطَى بما أعطاه مورِّثهم؛ لأنها أصبحت لازمة، وحينئذٍ تكون ملكاً للذي أُعطِي، فلو أعطاه سيارة مثلاً، أو أعطاه أرضاً، أو أعطاه نقوداً، وحكم بلزوم العطية؛ فإنه حينئذٍ لا يملك صاحب العطية الرجوع فيها، وهكذا ورثته ليس من حقهم أن يطالبوا بنقض هذه العطية ورد المال إليهم. قال رحمه الله: [ولا يملك الرجوع فيها]. أي: بخلاف الوصية، فإن الوصية من حقك أن تبدل فيها وتغير؛ لأن الوصية تصرف لما بعد الموت، وحينئذٍ من حقك أن تغير في هذا التصرف، وقد وسّع الله على عباده في تغيير الوصية، فلو كانت الوصية لا يملك الإنسان الرجوع فيها لحصل في ذلك من الضرر والمفاسد على العباد شيءٌ كثير. فقد يوصي الإنسان بشيءٍ بناءً على أن أولاده صغار، ثم يتغير الحال فيصبح أولاده كباراً، وقد يوصي لشخصٍ يعرفه بالأمانة والديانة والاستقامة والصلاح وحسن النظر في الأمور، ثم يتغير حاله فيكبر سنه، أو تأتيه ظروف تغير من حاله بحيث يكون من الصالح لورثته من بعده وذريته ألا يليهم مثل هذا، وبناءً على ذلك وسع الله عز وجل على عباده في الوصية، وجعل لهم حق الرجوع فيها والتغيير والتبديل، ولذلك قال بعض الأئمة رحمهم الله: إن الله رحم العباد بجواز التغيير في الوصية، فلولا ذلك لما أقدم أحدٌ على الوصية خوفاً من أن يُلزم بشيء لا يملك الرجوع فيه من بعد. فالشاهد: أن الوصية والعطية بينهما خلاف، فالعطية لا يملك الرجوع فيها، والوصية يملك الرجوع فيها، ولا شك أن الإلزام بالعطية مستقيم مع مقاصد الشريعة العامة وأصولها التي تعتبر العطية بمصالحها المترتبة عليها. بخلاف الوصية فإن الحكم يختلف فيها، ولذلك جاز الرجوع فيها. الأمر الثاني: أن الوصية معلقة على الموت، فالتصرف فيها بعد الموت كما ذكرنا، فأنت لست بملزم بشيء، ويجوز لك فسخها، فما دام أنه لم يقع الموت فمن حقك أن تغير وتبدل، وتقدم وتؤخر، فلا حرج عليك في ذلك. فمثلاً: لو أنه أوصى أن يُعطى ربع ماله إلى قريب، ثم نظر في هذا القريب فوجد أموره قد تحسنت، كأن كان فقيراً حينما كتب الوصية، وكان محتاجاً حينما كُتبت له الوصية، ثم بعد سنة أو سنتين -والوصية موجودة- تغير حال هذا القريب فأصبح أغنى حتى من الموصي، فحينئذٍ يتدارك الموصي، وينظر من هو أحوج منه، ولربما كان ورثته وذريته أحوج، فيبطل الوصية ولا يوصي لأحد، ويبقي المال لورثته؛ لأنه يرى في ذلك أنه أعظم لأجره وأحسن عاقبة لذريته وولده. فمن حقه أن يبدل ويغيِّر، ويقدم ويؤخر في الوصية كما ذكرنا؛ لوجود المصالح المترتبة على هذا التغيير؛ ولأن الناس بحاجة إليه، فوسع الله على عباده في ذلك. وقوله: [ويعتبر القبول لها عند وجودها]. أي: ويعتبر القبول للعطية عند وجودها، فإذا قال له: أعطيتك سيارتي، أو أعطيتك أرضي، وكانت دون الثلث في مرض الموت، وقال: قبلت، فإنه إذا قال: قبلت، تمت الصيغة بإيجابها وقبولها، وحينئذٍ يكون له ما أعطي؛ لأنه قبل في حياة المعطِي، فلابد أن يكون القبول حين العطية، بخلاف الوصية، فالوصية يمكن أن يتأخر قبولها إلى ما بعد الموت؛ لأنها في الأصل مسندة ومضافة، والتصرف فيها معتبر لما بعد الموت، فأُعطِي كل عقد من هذين العقدين حقه. وقوله: [ويثبت الملك إذاً]. أي: ويثبت الملك للمعطى، وقوله: (إذاً): التنوين عِوض عن كلمة، أي: إذا قبله، أي: إذا قبل فإنه يثبت له الملك حينئذٍ، وأما إذا لم يقبل فحينئذٍ تُلغى العطية لأنها متوقفة على قبول المعطَى. وقوله: [والوصية بخلاف ذلك]. أي: أنها ضد العطية في الأحكام التي ذُكرت، وبناءً على ذلك: لا تكون الوصية كالعطية، فيسوَّى بين المتقدم والمتأخر في الوصية، ولكن يراعى الأقدم فالأقدم في العطية، ولا يملك الرجوع في العطية، ويملك الرجوع في الوصية.

الأسئلة

الأسئلة

مسألة إعتاق ثلث العبيد

مسألة إعتاق ثلث العبيد Q بناءً على أن الرقاب من الأموال، هل من أعتق عبيده يرد هذا العتق إلى الثلث أم أن العتق أقوى؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالرقاب هي من الأموال، وإذا وصى فيجزأ عبيده ويقرع بينهم وينظر في الثلث مما يقرع بينهم، وهذا فيه قضاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي أعتق عبيده ولا مال عنده غيرهم، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم وجزأهم أثلاثاً وأقرع بينهم، فمن خرجت قرعته عتق ومن لم تخرج قرعته فإنه لا يصح عتقه؛ لأن المال الذي أعتق منه هذا السيد ليس بملكٍ له؛ لأن الزائد عن الثلث يصبح ملكاً للورثة، فإذا أعتق ما زاد عن الثلث من عبيده ومواليه فإنه قد أعتق في مال غيره، كما لو أعتق عبد غيره ومولى غيره فإنه لا يصح عتقه، والله تعالى أعلم.

حكم جعل صدقة جارية من تركة الميت قبل تقسيمها

حكم جعل صدقة جارية من تركة الميت قبل تقسيمها Q هل يجوز أن نضع صدقةً جارية للوالد من التركة قبل تقسيمها دون رضا الورثة؟ A هذه مسألة مهمة، وهي أن بعض الورثة تغلبهم العاطفة ويحدثون في تصرفاتهم بعد وفاة الميت أموراً غير شرعية، ومن ذلك: أنهم يأخذون من المال ويصرفون منه بنية صالحة على سبيل الإحسان إلى الميت، وهذا لا يجوز إلا بإذن الورثة، فالمال للورثة، وينبغي استئذان الورثة، فإذا أذن الجميع وكان الصرف الذي صرفوه مشروعاً وأذن الله به، فإنه لا إشكال في جوازه واعتباره، وتكون عطيةً من الورثة وبراً منهم لوالديهم. أما أن يأتي شخص ويأخذ من تركة الشخص مالاً ويقول: نعطيه لطلاب العلم، أو للفقراء أو للمساكين، أو ننفقه في بناء المساجد دون استئذان من الورثة، فهذا غير صحيح ولا يلزم مثل هذا، بل يرد المال إلى أهله الورثة ويستأذنون، ولا ينفذ هذا التصرف؛ لأن مالكه الحقيقي لم يأذن به، ولا يحل مال امرئٍ مسلم إلا بطيبة نفسه، وإذا وقع شيء بين الورثة باتفاق منهم أن يبنوا مسجداً أو يبروا والدهم شيئاً من البر والخيرات، فهذا من بر الوالدين، ومما يضع الله فيه البركة للورثة في مالهم الموروث من ميتهم ومورثهم. لكن هنا مسألة نحب أن ننبه عليها وهي: أن بعض الإخوة يحرج أخواته وأقرباءه في الصدقة، فيأتي -مثلاً- عند قسمة المال ويقول: يا إخوان! نريد أن نخرج مائة ألف صدقة عن والدنا، أو نريد أن نخرج كذا وكذا عن والدنا، فحينئذٍ كل من الورثة عندما يقال له مثل ذلك الكلام فإنه يستحي ويجامل، وهذا الحياء والمجاملة يقتضي أنه قد نزع منه المال بدون طيبة نفسٍ منه، فعلى كل أخٍ كبير أو وصي قائم على مال أن يتقي الله عز وجل في حقوق الورثة، والذي أوصي به أن ينظر -أولاً- إلى حال الورثة، فقد تكون هناك الأخت المديونة المعسرة، وقد تكون عندها ظروف في أولادها وأطفالها أحوج من أي صدقة، وصرف هذا المال إليهم أفضل من إعطائه لأي قريب، وترك مال أبيهم وأمهم وجد الأولاد لهم يكون أجره للوالد الذي ترك أعظم من الصدقة للغريب، وهذا أمر لا يدركه الكثير، بمعنى: أن العاطفة تغلب على البعض فيقول: نتصدق به، ولماذا نتركه لأولاده؟ وكأنهم يظنون أن المال لو بقي للأولاد فإنه لا أجر فيه، والصحيح هو العكس، فبقاء المال لإخوانك وأخواتك من والدك ووالدتك أعظم أجراً لهما من الصدقة به لغيرهم؛ لأنه صدقة من الوالد على فلذة كبده وعلى قريبه، وخاصةً إذا كانت أختك معسرة أو محتاجة، أو أولادها بحاجة، أو هناك زوجة محتاجة وتريد أن تتجمل معها، وتريد أن تحسن إليها وتكفيها حاجتها. فهذا أمرٌ ينبغي التنبه له، وعلى الخطباء والأئمة أن ينبهوا الناس على مثل هذه الأمور، لوقوع مظالم كثيرة وخاصةً في ميراث النساء، فقد يخرجون النساء مع أنه قد يكون عند البنت من الذرية والأطفال والنسل من هو أحوج إلى إرثها؛ فعلى هذا ينبغي التنبيه على أن الواجب على الوصي أو من يقوم على توزيع التركة ألا يحرج إخوانه. والحل الأمثل: أن يقولوا: إن هذا المال تركه والدنا، ومن أراد منكم أن يتصدق فليتصدق الصدقة الخفية التي هي أقرب للتقوى وأعظم للأجر، فينوي كل شخص بماله ويتصدق به على والده، أو يقول: يا إخواني! هذا مال تركه لكم أبوكم، فلا تنسوا فضل الوالد عليكم فتصدقوا عنه واذكروا والدكم بالصدقة؛ لأنه شُرِع التصدق عن الميت، كما في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا تصدق الابن عن أبيه غيباً دون أن يعلم إخوانه ودون أن يطلعوا على أنه أخرج من مال أبيه مالاً، فهذا أتقى لله وأعظم أجراً، وينبغي تقديم الأقارب على غيرهم، فإن الصدقة عليهم أعظم والثواب فيهم أتم وأكمل، والله تعالى أعلم.

أفضلية الصلاة داخل الحجر

أفضلية الصلاة داخل الحجر Q هل هناك أي ثواب خاص لصلاة النفل داخل الحجر؟ A الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى داخل البيت)، فإن تيسر للإنسان أن يصلي داخل البيت فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وفيه تأسٍ بالسنة، وإن تعذر عليه وصلى في الحجر فهذا نوع من التأسي والاقتداء، وله فضل بالاهتداء برسول صلى الله عليه وسلم، والدليل على ذلك: أن عائشة رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلي داخل البيت، فمنعها وأمرها أن تصلي في الحجر، وجعل الحجر من البيت، كما في الحديث الصحيح، على الخلاف في القدر الذي تركته ما بين ثلاثة أذرع وزيادة، فأخبرها عليه الصلاة والسلام أن صلاتها داخل الحجر كصلاتها في البيت، وقلنا: إن الإنسان يشرع له التأسي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى داخل البيت لتيسر ذلك، فإن لم يتيسر لك فـ عائشة لم يتيسر لها، لأنهم ذكروا عدة علل منها: أنه يقع زحام من الرجال للنساء داخل البيت، فإذا كان البيت مفتوحاً فالأفضل أن يترك الحجر للنساء لوجود مجال للرجال أن يصلوا، فيترك الحجر للنساء، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة، لكن إذا قفل البيت وما تيسر الدخول إلا في أوقات معينة؛ لأن هذا راجع إلى سادن البيت، وهذا حق من حقوقه، وهو أمر شرعي وله أصل في الشريعة، فإذا فتح البيت وأمكن للإنسان أن يصلي في داخله متأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بأس، ولكنه ليس بواجب ولا لازم، إنما له أجر لمتابعته للنبي صلى الله عليه وسلم، وكون النبي صلى الله عليه وسلم يتكلف ويدخل إلى البيت ويرقى حتى يدخل داخل البيت -حيث أنه كان الباب مرتفعاً كما هو موجود الآن- فيصعد إليه ويتكلف الدخول إليه ليس هذا إلا لمعنى. وعلى هذا: فإن تسير له ذلك فالحمد لله، وإن لم يتيسر له وصلى في الحجر فهو على خير، وفيه نوع من التأسي؛ لأنه لم يستطع الصلاة في داخل البيت، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة أن تصلي في الحجر عند تعذر دخولها إلى البيت، وهذا أصلٌ عام، والله تعالى أعلم.

رطوبة فرج المرأة

رطوبة فرج المرأة Q السائل الذي يخرج من المرأة أثناء الحمل هل هو ناقضٌ من نواقض الوضوء؟ A السائل الخارج من فرج المرأة أو ما يسمى برطوبة فرج المرأة له حكم النجاسة على أصح قولي العلماء رحمهم الله. وهذا السائل فيه حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان في أول الإسلام إذا جامع الرجل امرأته ولم تنزل لا غسل عليه ولا عليها، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طرق على أحد الأنصار، فخرج الأنصاري فجأة وكان ملماً بأهله، فقال صلى الله عليه وسلم: (لعلنا أعجلناك، إذا أعجلت أو أقحطت فلا غسل عليك)، وفي رواية: (لتغسل ما أصابك منها)، فأمره إذا لم يقع الإنزال أن يغسل العضو؛ لأنه حكم بنجاسة ذلك السائل؛ لقوله: (لتغسل ما أصابك منها)، والذي أصابه منها رطوبة الفرج. فهذه المسألة مسألة واضحة، فالسنة فيها واضحة، ولا تحتاج إلى كلام طبيب ولا غيره؛ لأن هناك مسائل شرعية الحكم فيها واضح ليس فيها أي إشكال. فقوله: (لتغسل ما أصابك منها) لا يصيبه منها إلا الرطوبة التي جعلها الله عز وجل مثل المذي في الرجل، وهذا شيء ذكره العلماء رحمهم الله المتقدمون وأشاروا إليه، أن رطوبة فرج المرأة بالنسبة للمرأة كالمذي بالنسبة للرجل، ويكون عند شدة الشهوة وزيادتها، وكل هذه الأمور واضحة لا لبس فيها، لا من جهة الأثر ولا من جهة النظر، فالقول بكونها نجسة لا إشكال فيه، وإذا ثبت كونها نجسة فحكمها حكم النجاسة، فاجتمع حينئذٍ خروجها من الفرج ووصف الخارج، وإذا اجتمع المخرج والخارج وصفاً مؤثراً حكم بانتقاض الوضوء، وحينئذٍ تكون كالبول، فنقول: يجب الوضوء من رطوبة الفرج؛ لأنها سائلٌ نجس أوجب الشرع في نصوص السنة الثابتة وجوب الوضوء من كل سائل نجسٍ خارج من الفرج، بدليل المذي والبول والودي ودم الاستحاضة، فكلها سائلة، ودم الاستحاضة ليس ببول ولا غائط، لكنه سائل نجس خارج من الموضع. فعلى كل حال: إذا ثبت المخرج والخارج وكان الخارج نجساً فإن هذا يؤثر؛ لأن مسألة انتقاض الوضوء فيها تفصيل عند العلماء: هل نعتبر المخرج ولا نلتفت للخارج؟ أو نعتبر الخارج ولا نلتفت للمخرج، أو نعتبر الأمرين؟ فإذا قلت: أعتبر الخارج ولا أعتبر المخرج، فحينئذٍ تقول: العبرة عندي بالنجاسة، فالمخرج ليس له تأثير، فلو خرج حصى أو خرج دود من القبل، وهذا الخارج طاهر -كالحصى- فحينئذٍ لا ينتقض الوضوء، وإذا خرج النجس وهو الدم من غير المخرج كالرعاف فينتقض الوضوء، وهذا مسلك الحنفية والحنابلة، ولذلك أوجب الحنابلة رحمهم الله الوضوء من الدم الكثيف إذا خرج من سائر البدن، فأوجبوه من الرعاف وأوجبوه من الحجامة؛ لأنه سائل نجس خارج من البدن، فلم يلتفتوا إلى مخرجه ولكن التفتوا إلى الخارج. وهناك مذهب آخر يقول: الثابت عندنا بالمخرج لا بالخارج، فكل شيء خرج من المخرج أثر، ولا عبرة بنوعية الخارج؛ وبناءً على ذلك وفي زماننا لو أدخل المنظار أو أدخلت آلة الكشف من القبل أو الدبر ثم أُخرجت، نقضت الوضوء؛ لأنها خرجت من المخرج، والعبرة عندهم بالمخرج لا بالخارج، فسواء كان الخارج طاهراً أو نجساً فإن العبرة عندنا بالمخرج. ودليل من ينظر إلى أن العبرة بالخارج لا بالمخرج: أن القيء قد أوجبت الشريعة الوضوء منه، كما في حديث ثوبان: (قاء فتوضأ)، مع أنه لم يخرج من المخرج بل خرج من الفم، والفم ليس بمخرج نجس، لكنه لما كان القي نجساً أثر في الحكم، فدل على أن مناط الحكم هو الخارج النجس وليس المحل، وبناءً على ذلك قالوا بانتقاض الوضوء منه واعتدوا بالخارج لا بالمخرج. وأما الذين يرون العبرة بهما على تفصيل، فيعتبر مذهبهم من أقوى المذاهب؛ لأن الشريعة تشهد بالمخرج وتشهد بالخارج، لكن مسألة القيء وكونه ينقض الوضوء أجاب الأولون عنها وقالوا: إن الشريعة أوجبت الوضوء من القيء؛ لأنه نجس، لكنه نجس من الموضع الذي هو المعدة، فاستوى خروجه من الأعلى أو من الأدنى، وأيضاً القيء لا يعتبر مؤثراً -وهذا بإجماعهم كلهم- إلا إذا استحال الطعام وتغير، قالوا: فإذا استحال الطعام وتغير كان في حكم الفضلة التي يستوي خروجها من أعلى البدن، أو من أسفل البدن، فنظروا إليه فضلةً ولم ينظروا إليه في مسألة كونه نجساً، وقالوا: الدليل على هذا: أننا لو نظرنا إلى القيء لم يستحكم فيه التغير كالقلس أو لم يؤثر فيه تأثيراً قوياً لا نحكم بانتقاض الوضوء به، ويؤكد هذا أنه لو فتحت في المعدة فتحة وكانت تحت السرة وخرج منها خارج، حكمنا بانتقاض وضوئه؛ فدل على تأثير المادة نفسها من الموضع وليس كونها نجسة أو طاهرة، وهذا المسلك فيه كلام طويل للعلماء رحمهم الله، وفيه خلاف مشهور بين جهابذة أهل العلم رحمهم الله. أما مسألة الرطوبة وخروجها من الفرج فلا إشكال في قوة تأثير هذا النوع من الخارج ونقض الطهارة به، فإذا أصبح مسترسلاً فحينئذٍ نقول للمرأة: عليها أن تضع القطن، فإذا كان يغلب القطن فإنها تشد الفرج، كما وصى النبي صلى الله عليه وسلم في الاستحاضة، وعندنا السنة واضحة، ومسائل التخفيف واضحة، فلو قال قائل: كيف تنقضون الوضوء وكيف تحملون النساء مسألة الوضوء كل دقيقة؟ قلنا: ما دام أنه نجس وينقض الوضوء فهذا لا يفصل بالمشقة؛ لأن عندنا المستحاضة أنه إذا غلبها رجعت إلى التخفيف، فجمعت جمع تأخير إن شاءت، أو جمعاً صورياً إن شاءت، وإن شاءت توضأت بدخول وقت كل صلاة وصلت الفرض، وهذا ليس فيه مشقة، بدليل أن الشريعة قد حكمت بذلك في المستحاضة، فما الفرق بين المستحاضة التي غلبها الدم وبين التي معها رطوبة الفرج؟ لا فرق بينهما، فهذه أخرجت فضلةً نجسة وهذه أخرجت فضلةً نجسة، فوجب الحكم بالتخفيف في هذه كما وجب الحكم بالتخفيف لهذه ولا فرق بينهما، والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الوصايا [1]

شرح زاد المستقنع - كتاب الوصايا [1] شرع الله عز وجل الوصية في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعيتها واستحبابها، وقد كانت في البداية واجبة، ثم نسخ وجوبها وبقي استحبابها لغير الوارث، ويختلف حكمها باختلاف الحقوق الواجبة على الموصي، فقد تكون الحقوق لله تعالى وقد تكون للمخلوقين، ولها صفة معلومة يذكرها العلماء في بابها.

تعريف الوصية ومشروعيتها

تعريف الوصية ومشروعيتها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول رحمه الله تعالى: [كتاب الوصايا] الوصايا: جمع وصية، وهي: عهد بالتصرف مسنداً لما بعد الموت. وقد عبر رحمه الله بالكتاب؛ لأن هذه الأحكام والمسائل ليست مبنية على ما تقدم؛ بل إنها منفصلة عن الأبواب والكتب السابقة. ونظراً لاختصاص هذا العهد بجملة من المسائل والأحكام أفرده العلماء رحمهم الله بكتاب مخصوص، فقالوا: كتاب الوصايا. وأصل الوصية: الوصل، يقال: وصَّى بالشيء ووصَّى الشيء إذا وصله. والوصية في الأصل: عهدٌ من الإنسان للغير، وقد تكون بالأموال وقد تكون بغير الأموال، وفي اصطلاح العلماء: هي التصرف في الشيء بما بعد الموت، أو التصرف بالشيء مسنداً لما بعد الموت. فخرج بذلك التصرف في حال الحياة. وهذا الكتاب يبين العلماء رحمهم الله فيه مشروعية الوصية للإنسان، وما يجوز له أن يوصي به، ولمن يُوصَى، وما يترتب على الوصية من الآثار والأحكام والمسائل. يقول المصنف رحمه الله: (كتاب الوصايا) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بالوصايا. وقد جمعها المصنف رحمه الله لاختلاف أنواعها، فهناك وصية مشروعة، وهناك وصية ممنوعة، وهناك وصية موقوفة، وكل من المشروعة والممنوعة والموقوفة تشتمل على عدد من الأنواع من الوصايا؛ فلذلك جمعها المصنف رحمه الله إشارة إلى تعدد أنواعها واختلافها.

مشروعية الوصية بالكتاب والسنة والإجماع

مشروعية الوصية بالكتاب والسنة والإجماع ولقد شرع الله عز وجل الوصية في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية الوصية وجوازها، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:180]. فقد كانت الوصية مفروضة في أول التشريع، والله عزّ وجل جعل الوصية للإنسان، يوصي لأقربائه؛ سواءً كانوا أصولاً كالوالدين، أو فروعاً كالأولاد، أو ما يتصل بذلك من القرابة والحواشي. فكان الأمر في أول الإسلام أن المريض مرض الموت يصرف ماله إلى قرابته، فيقول: أَعطوا فلاناً كذا وكذا، وأعطوا فلاناً كذا وكذا من قرابته، فيبدأ بوالديه، ثم الأقرب فالأقرب، ولم تكن هناك مواريث، فكان كلٌ يوصي لقرابته بما يراه. ثم إن الله تعالى تولَّى قسمة المواريث من فوق سبع سماوات، فلم يكلها إلى ملك مقرب ولا إلى نبي مرسل، فنسخت فرضية الوصية، وبقي استحبابها لغير الوارث، وتكون هذه الآية: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} [البقرة:180]، أي: فُرِض، ثم قال الله في خاتمتها: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:180]. وهذا يدل على الوجوب واللزوم، لكن هذه الآية منسوخة حكماً لا تلاوةً، فهي مما بقيت تلاوته، ونُسخ حكمه، فهي محكمة تلاوةً لا حكماً. وقد بيّن الله سبحانه وتعالى في آيات المواريث في مواضع عديدة من الكتاب استحقاق كل وارث؛ سواءً كان من ذوي الفروض من الأصول أو من الفروع، وبينت السنة أيضاً أحكام العصبات وما يستحقون في الإرث. وبعد هذا البيان للفرائض نُسخت فرضية الوصية، وبقيت على الاستحباب بالنسبة لغير الوارث. وأما السنة فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مشروعية الوصية، لكن السنة فصّلت في حكم الوصية: فالشخص لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون عليه حقوق لله عز وجل، أو لعباده، أو لهما معاً. الحالة الثانية: أن لا تكون عليه حقوق. فإن كانت عليه حقوق واجبة لله عز وجل، أو لعباده أو لهما؛ فإن الوصية فرضٌ عليه، فيكتب الوصية ويبيّن حق كل ذي حق، وقدر ذلك الحق الذي وجب عليه؛ وذلك كشخص حضرته الوفاة وعليه كفارات، فيكتب في وصيته أن عليه إطعام ستين مسكيناً من كفارة ظهارٍ مثلاً إذا كان لم يستطع الصوم، ولم يستطع العتق، أو جماع في نهار رمضان، أو يكتب إن عليه دماً واجباً جبراناً لواجبٍ في حج، وهكذا بالنسبة لبقية الحقوق، فيكتب في وصيته ما هو حق عليه لله سبحانه وتعالى. والوصية فرض عليه في هذه الحالة؛ لأنه يجب عليه الوفاء بحق الله، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فلما كان الوفاء بهذا الحق متوقفاً على أن يعهد إلى ورثته من بعده أن يقوموا بأداء هذه الكفارات وإيصالها إلى أهلها؛ وجبت عليه الوصية بهذا. إذاً: الوصية بالحقوق لله سبحانه وتعالى واجبة؛ لأنه وسيلة للقيام بالواجب. وكذلك إذا كان عليه حقوق للناس، مثل ديون لأشخاص، فإنه يكتب في وصيته أن فلان ابن فلان علي كذا وكذا، أو في ذمتي كذا وكذا، ويبيِّن في وصيته اسم ذلك الشخص كاملاً وعنوانه، خاصة إذا خُشي التباسه بغيره، أو صعُبت معرفته إلا عن طريق ذلك، فيجب عليه بيانه. كذلك أيضاً تجب عليه الوصية في غير الأموال. الشاهد: أن السنة بينت أن الوصية لها حالتان: فإذا كانت هناك حقوق وواجبات مالية على العبد، فالوصية واجبة عليه، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى في حديث ابن عمر في الصحيحين: (ما حق امرئٍ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي به إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه). فهذا الحديث بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم لزوم ووجوب الوصية، لكن إذا كان هناك شيء، بمعنى: إذا تعلقت ذمته بحقوق للناس، أو بحقوق لله عز وجل، فليس من حقه أن يضيِّع هذه الحقوق، أو يتعاطى أسباب تضييعها بالتفريط في الوصية. وأما إذا كان الإنسان خُلواً من الحقوق والواجبات التي لله عز جل وللناس، وذمته بريئة من هذا كله، فقد تكون الوصية واجبة عليه من حقوق غير مالية، مثل أن يكون عنده أولاده، وهؤلاء الأولاد دون البلوغ، ولا شك أن الإنسان عرضة للموت في لحظاته فضلاً عن دقائقه، فضلاً عن ساعات عمره، فضلاً عن أيامه، فهو عرضة للموت بين العشية والضحى، فالواجب عليه إذا كانت عنده ذرية ضعيفة، كالقُصّار والأولاد الصغار، أن يكتب وصية يعهد فيها إلى شخصٍ يثق بدينه وأمانته وعقله وحسن نظره في أمر ذرِّيته من بعده؛ لأن هذا من النصيحة للولد، وأعظم الحقوق بعد حقوق الوالدين حقوق الأولاد؛ لأن الله حمّل العبد مسئوليتهم، وألزمه أمانتهم، فالواجب عليه أن لا يدّخر وسعاً إذا علم أمراً فيه صلاح دينهم أو دنياهم أو آخرتهم أو مجموع ذلك كله إلا ووصى به، فيوصي بذريته الضعيفة، كما أمر الله سبحانه وتعالى وأشار إلى ذلك بقوله: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9]. فوصى الله سبحانه وتعالى من ابتلي بالذرية الضعيفة؛ كالأيتام والقُصّار من بعده، والنساء -ولو كن بالغات فهن يحتجن من يزوجهن ومن ينظر في أمورهن ومصالحهن- أن يكتب وصيته إلى من يثق بدينه وأمانته وعقله من قرابته، فيبدأ بالأقرباء لأنهم أستر وأكثر حفظاً للعرض، وأكثر حفظاً للسر، فإذا لم يجد في القرابة من تتوفر فيه الصفات وتبرأ به الذمة، عهِد إلى من يثق به من إخوانه المسلمين. وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية الوصية، وقد فعل ذلك أئمة السلف وخيار الناس من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الخلفاء الراشدون الأئمة المهديون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فقد وصى أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم، ووصى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصى التابعون لهم بإحسان، والأئمة، ولذلك فلا يُشك في مشروعية الوصية، وأنها من أعظم الخير الذي يُسديه الإنسان لأهله وولده من بعد موته.

صفة الوصية

صفة الوصية ينبغي على المسلم إذا أراد الوصية أن يبدأ بحمد الله عز وجل والثناء عليه، سواءً كانت مكتوبة، أو ملقاة، فيبدأ أولاً بذكر اسم الله عز وجل، كما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه فيما حكاه عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يبدءون وصاياهم ببسم الله الرحمن الرحيم. وهذا أصلٌ عند العلماء: أن الأمور التي فيها تذكير بالله عز وجل، وذكر لله سبحانه، تُستفتح باسمه؛ لأن اسم الله مبارك، كما قال تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن:78]، فاسم الله فيه البركة والخير، وما كان في قليل إلا كثره، ولا يسير إلا باركه، فليس هناك أبرك من اسم الله عز وجل. فيبدأ وصيته ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم يحمد الله ويثني عليه بالذي هو أهله، ثم يبدأ بأعظم الوصايا وأجلها وهي الوصية بتوحيد الله عز وجل، كما أخبر الله عن أنبيائه وصفوته من خلقه صلوات الله وسلامه عليهم، فقد وصى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب بنيهم أن لا يشركوا بالله شيئاً، وأن يُفرِدوا الله بالعبادة، وأن يقوموا بحق الله عز وجل، وأعظم تلك الحقوق توحيده سبحانه وتعالى. فيُوصِي أولاده بتوحيد الله أولاً، وإخلاص العبادة لله عز وجل، والقيام بحقوقه الواجبة من إقامة الصلوات، وإيتاء الزكوات، وصوم رمضان، وحج البيت، وغيرها من فرائض الإسلام، فيُجمِل أو يفصِّل تفصيلاً مناسباً لا إطالة فيه. ثم بعد الوصية بحق الله عز وجل يبدأ بالأهم فالأهم من أموره؛ فيبدأ أول ما يوصِي به بعد ذلك أن يوصي بتجهيزه وتغسيله وتكفينه والصلاة عليه على وفق السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُحذّر ذريته من البدعة والحدث، وإحداث الأمور التي لم يأذن الله عز وجل بها في تغسيله، أو تكفينه، أو الصلاة عليه، أو تشييعه، أو دفنه، فيحذرهم من البدع في ذلك كله، ويأمرهم بما أمر الله ورسوله به، ويذكرهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويأمرهم بالرجوع إلى العلماء ومن يوثق بدينه وعلمه؛ لكي يقوم بذلك على وجهه المعتبر. ثم بعد ذلك يوصي بما يتبع ذلك من العزاء وغيره من الأمور، ألا يُحدث فيها شيء من البدع، ويوصيهم بالصبر واحتسابه عند الله عز وجل، وأن في الله خلفاً من كل فائت، فالله عِوض للعبد من كل ما يفوته من الدنيا وما فيها، ومن كانت سلوته بالله عز وجل جبر كسره، وأعظم أَجره، وأخلف عليه بأحسن الخلف سبحانه وتعالى، ويوصيهم بالدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم في المصائب من الاسترجاع وسؤال الله الخلف، وهو حديث أم سلمة الثابت في الصحيحين. ثم بعد ذلك يوصيهم بحقوق القرابة التي هي أعظم الحقوق بعد حق الله عز وجل، فيوصهم ببر الوالدين، فإن كان والداً وصاهم ببره من بعد موته؛ بالدعاء له والترحم عليه والاستغفار له، وسؤال الله عز وجل أن يُفسح له في قبره، وأن يحسن له فيما يكون من آجل أمره. ويوصيهم ببر والدتهم إن بقيت من بعده، فيوصيهم بوالدتهم خيراً، وفاءً لزوجه وحفظاً لحقها، وكذلك أيضاً يوصيهم ببعضهم خيراً إن كانوا إخوة؛ أن يحفظوا حقوق الأخوة، وأن يجتمعوا ولا يفترقوا، وأن يتواصلوا ولا يقطع بعضهم بعضاً، وأن يتقوا الله عز وجل في بعضهم فيُحسنوا ولا يسيئوا. كذلك أيضاً يوصيهم بأضعفهم، فيوصي الذكور بالإناث خيراً؛ لأن المرأة ضعيفة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم حقها فقال عليه الصلاة والسلام: (إني أحرج حق الضعيفين المرأة واليتيم)، فيوصي الذكور بأخواتهم خيراً؛ أن يحسنوا إليهن، وأن يكونوا على أحسن ما يكون الأخ لأخته، خاصة أن الأنثى بعد فقد الوالد تشعُر بفراغ كبير، وعجز عظيم، فإنها تفقد حناناً عظيماً، والله عز وجل إذا أراد بها خيراً بارك لها في أخيها، فكم من أخ مبارك قام على إخوانه مقام والده! فيُوصِي الإخوان بأخواتهم خيراً، ويذكِّرهم بصلتهم وزيارتهم وتفقد أحوالهم من بعد موته، ودائماً يكون الأخ حافظاً لهذه الوصية حتى ولو لم يوصِ بها الوالد، فإن للأخت على أخيها حقاً عظيماً، وتحتاج إليه ولو كانت مزوجة؛ بل قد تكون الأخت بعد زواجها أحوج ما تكون إلى عطف أخيها وبره وصلته، أكثر مما لو كانت غير ذات زوج. فتحتاج إلى أن تستشيره، وتحتاج إلى معونته ومواساته، وتحتاج إلى كلمة منه تثبتها في همومها وغمومها، فهذا مما يُوصَى به -حقوق الإخوان والأخوات- ويوصي الأخوات بإخوانهن خيراً كذلك. ثم ينظُر إلى الأمور التي يحتاج إليها من بعد موته، فيوصيهم أن لا تُفرق الدنيا بينهم خاصة في أمور الإرث؛ فيوصِي الذكور بحفظ حقوق الإناث، ويوصي القوي أن يحفظ حق الضعيف، وأن يتقي الله جل جلاله في حقوق إخوانه القُصّار كالأيتام والضعفة، فلا يأكل أموالهم بناءً على أنهم صغار ويقول: إذا كبروا أعطيهم المال، فهذا من التفريط؛ لأنه لا يأمن أن تتغير أموره، ولا يأمن الفقر، فيحفظ أموالهم كاملة تامة غير منقوصة، ويحرص على حسن النظر فيها إذا كانت المتاجرة بها فيها خير ومصلحة، ويوصيهم بحفظ حق العاجز والمحتاج، مثل المتخلف في عقله، أو الذي فيه سفه في تصرفه، فيوصي بعضهم ببعض خيراً على هذا الوجه. ويُفضّل أن يجعل أحدهم قائماً عليهم، ويكون كالخليفة من بعده في ولده، وبالأخص إذا كان أكبرهم سناً، فإن الأكبر له حق على الأصغر وهو مقدَّم عليه، ولذلك ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة القَسَامة أنه لما أراد حويصة أن يتكلم قال عليه الصلاة والسلام: (كبر كبر)، فيقدِّم الكبير إذا كان أكثر عقلاً، وأكثر نظراً، وأكثر رحمة وشفقة. وينظر إذا كان الكبير ليس بهذه المثابة، وعلم أن أصغر أولاده، أو الأوسط، أو أحدهم ممن هو أصغر منه أكثر ديانة، وتقوى لله عز وجل، وحفظاً للحقوق، فإنه يجعل العهد إليه، ويسلّي من هو أكبر؛ فيعتذر له بالتي هي أحسن، ويقول له قبل موته: إني كنت سأوصي إليك، ولكن يعتذر إذا استطاع حتى ولو بالتورية، ويقول: أراك مشغولاً، ولا أريد أن أحملك، أو نحو ذلك، مما يكون فيه جبر لخاطره، وإطفاء لنار الفتنة أن يوغر صدره على أخيه. فيوصي بالأرشد فالأرشد من أولاده، والأتقى لله عز وجل؛ لأن التقي يخاف الله عز وجل، ويرجع إلى العلماء حتى يسعى في فكاك نفسه من النار، فيحرص على أن يولي أمرهم من يخاف الله عز وجل ويتقيه فيه. وإذا كانت هناك أمور يحتاجها، مثل أن يتصدق بصدقات أو هبات فيُسمِّي هذه الصدقات، ويقول: أخرجوا من مالي كذا وكذا في سبيل البر، أو في سبيل الخيرات، أو أخرجوا من مالي كذا وكذا إفطاراً للصائمين، أو أضحية، أو نحو ذلك من الوصايا التي يجعلها من بعد موته في حدود الثلث فما دونه كما سيأتي. كذلك أيضاً إذا أراد الوصية ينتبه لحقوق الناس، فيوصي أولاده بالأقرباء من الأعمام والعمات والأخوال والخالات، فيوصيهم بالقرابة خيراً، ويوصيهم بأهل وده ومحبته من بعد موته، أن يُوصلوا ولا يُقطعوا، وأن يُحسن إليهم ويبرّوا ويكرموا؛ إنفاذاً لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم ببر الوالدين في ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه). فإذا كان له إخوان وأصدقاء فيهم حاجة، وهو غني ثري وترك لورثته مالا، ًوكان يتفقد إخوانه وأصدقاءه بالمال، فيوصي أولاده أن يتفقدوا هؤلاء الإخوان والخلان؛ لأن هذا من حفظ العهد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (حفظ العهد من الإيمان)، فإذا كانت بينك وبين أخيك محبة ومودة ولو مجلساً واحداً جلسته معه على ذكر الله وطاعة الله فأحببته في الله، فإنه يربطه بك حق عظيم. فهذا من حفظ العهد، أن توصي بإخوانك وأصدقائك وخلانك أن يُزاروا، فربما زارهم ابن من أبنائك ففرّج الله به كرباتهم، فكان سبباً في الترحم عليك والدعاء لك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه)؛ لأنه إذا جاء الابن بعد وفاة أبيه لزيارة صديقه تذكّر الصديق ما كان عليه صديقه من المحبة، ولربما بكى فخشع قلبه فترحم عليه، ولربما سامحه في حقوقه التي هي عليه، فهذا كله فيه خير كثير للميت. ولم تأت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم به من فراغ، فيحرص على وصيتهم بأصدقائه وإخوانه، ووصيتهم بالجيران، وغير ذلك مما وصى الله به من الأعمال الصالحة. فإذا كانت الوصية مستجمعة للخير أعظم الله الأجر للموصي، وكتب ثوابه، وختم له بخاتمة الحسنى؛ لأنه عمل صالح من بعد موته يأجره الله عليه، فكم من أبناء وبنات صلُحت أحوالهم بالوصايا! فالوصايا لها وقعٌ بليغ في القلوب والنفوس. ومما وقع أن رجلاً كان له أولاد، وكانوا على أشر ما أنت راءٍ من الفرقة والعداوة والتقاطع والتهاجر، فكتب وصيته، فأوصاهم بتقوى الله عز وجل، وذكّرهم بحقوق الأخوة من بعد موته، فلما مرض مرض الموت اجتمعوا عنده، وأمرهم أن يقرءوا وصيته من بعده، فلما توفي تأثروا جميعاً، وانكسرت قلوبهم، فلما فتحوا وصيته وقرءوها بكوا جميعاً، وأقبل بعضهم على بعض، وسامح بعضهم بعضاً، وكانوا على خير ما يكون الأخ مع أخيه، فالله يكتب له ثواب إصلاح ولده من بعده، فالوصايا لها أثر عظيم في القلوب. ويُستحب أن تُقرأ الوصية قبل تجهيزه وتكفينه؛ لأنه ربما كانت فيها أمور كأن يوصِي لشخص معين أن يغسله، كأن يكون عالماً، أو طالب علم، فيُحسن تغسيله على السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما وصّى بشيء يُخرج عنه، أو حق يُؤدى عنه، فهذا كله فيه احتياط، وهو كونها تقرأ قبل تجهيزه وقبل الصلاة عليه؛ لأنهم إذا فعلوا ما فيها آجره الله وأعظم ثوابه. والوصية إذا جَمعت هذا الخير الكثير؛ لا شك أنها تحقق الهدف الذي من أجله شُرعت، فالله عز وجل فتح أبواب رحمته لعباده، ولم يجعل الإحسان للعبد في حال حياته فقط؛ بل جعل له أبواب الخير بعد موته من صدقات فيُوصِي بها مثل الأوقاف، فإذا رأى من المصلحة أن يكون هناك وقف أوقف، ووصَّى من يراه صالحاً بالنظارة وعهد به إليه، كما فعل الخلفاء الراشدون كـ عمر رضي الله عنه وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا استجمعت الوصية هذه المقاصد ا

اختيار الكلمات الجامعة النافعة في الوصية

اختيار الكلمات الجامعة النافعة في الوصية فيحرص الإنسان على الوصية، ولا يقول: قد أثقل أو أطول عليهم، فقد تكون مقاصد الوصية وكلماتها لها أبلغ الأثر، واختيار العبارات المؤثرة، فإن الورثة ينظرون إلى هذا الكتاب وهذه الوصية أنه بقية مما ترك والدهم، وينظرون إلى كلماته كلمات ميت إلى أحياء، ويحسون وهم يقرءون الوصية أنها من والدهم، وأن والدهم مشفِق في هذه الكلمات، فتقع في نفوسهم موقعاً بليغاً وتؤثر أثراً عظيماً. فإذا اخترت لها جوامع مقاصد الإسلام العظيمة فقد أعذرت إلى الله عز وجل، وأيضاً حركتهم للخير، فقد تجد الرجل العاقل الحكيم يقول كلمة في وصيته فيفتح بها -بفضل الله- أبواب الخير لذريته، فيقول في وصيته مثلاً: أوصي أولادي بمحبة العلماء والرجوع إلى العلماء، فيمكن أن تكون هذه الوصية سبباً في سعادة ولده في الدنيا والآخرة؛ لأنه لما ربطهم بأهل العلم، ووصاهم بأهل العلم، فقد وصاهم بما فيه صلاح دينهم ودنياهم وآخرتهم. وتجد الآخر يقول: أوصيهم بلزوم السنة ومحبتها، واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فيصبح الولد كلما سمع شيئاً فيه سنة وهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم حرص على تطبيقه واتباعه ولزومه. والكلمات الجامعة والوصايا العظيمة المؤثرة البليغة هي التي تصل إلى المراد {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63]، ولذلك فإن الله عز وجل اختار للمواعظ وللوصايا ما يؤثر، وقال في الوصية في الذرية الضعيفة: {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9]. ولن يكون القول سديداً إلا إذا وافق الحق، وسُدد صاحبه، فأصبح لسانه يقول ما قال الله، وقال رسوله عليه الصلاة والسلام، ويوصي بما وصّى به الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، ويقرأ المسلم وصايا السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ويهتدي بهذا الهدي المبارك.

أمور ينبغي توفرها في الوصية

أمور ينبغي توفرها في الوصية وينبغي للمسلم أن تكون وصيته جاهزة، فلا يبيت إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه، وينبغي عليه أن يحتاط في هذه الوصية، فيُشهد عليها عدلين إذا كانت فيها حقوق؛ لأن هذا يثبت الوصية، ويعين على وصول الحق إلى أهله، وإذا كُتبت فتكون بخط واضح ومقروء. كذلك أيضاً يضعها في مكان أمين بحيث إذا احتيج إليها بعد وفاته يُعرف مكانها، فيقول: يا أولادي! وصيتي في هذا المكان، أو في هذا الدرج، أو مكتوبة عند رأسي، فإذا توفِّيت فخذوا هذه الوصية، وليس المراد أن يضعها تحت رأسه كما يفعل البعض؛ لأنه قد يكون فيها ذكر الله عز وجل وأسمائه وآياته، إنما عند رأسه يعني قريبة منه، ولأن الإنسان إذا توفي في نومه يبحث عن الأشياء القريبة منه فتوجد وصيته، وهذا يدل على أنه ينبغي أن تكون قريبة منه، ولذلك يحرص الوالد، وتحرص الوالدة، ويحرص كل مسلم على وضع الوصية في مكان تُحفظ فيه. كذلك أيضاً في بعض الأحوال خاصة إذا كان الشخص عنده مال وافتُتِن بكثرة المال، وافتُتِنَت ذريته، ويكون في أولاده -لا قدر الله- من فيه جرأة على تغيير الوصية، أو التلاعب فيها، فينبغي أن يحتاط. فإذا علم أن هناك من ورثته من يتلاعب ويغير في الوصية؛ كتب الوصية وعهد بها إلى قريب من أقربائه، أو إلى رجل أمين، ويجعل الوصية عنده إذا خاف من أولاده أن يتلاعبوا في الوصية، أو يضيعوا، كما يكون في بعض الأحيان فقد يعتدي الذكور على حقوق الإناث، فيحتاط بذلك، أو يعلم أن الكبار لا يرضون بوصيته للصغير، فيحتاط بكتابة الوصية وإعطائها من يحفظها، بحيث إذا احتاج ولده إليها من بعد موته فتكون محفوظة، إلى غير ذلك من الأمور التي يتحقق بها المقصود في الوصايا. وإذا اتقى العبد ربه جعل له من أمره يسراً، فشرح صدره، ويسر أمره، ورزقه التوفيق والسداد في أموره كلها.

الأسئلة

الأسئلة

حكم التصدق عند الموت بثلث المال

حكم التصدق عند الموت بثلث المال Q التصدق بثلث المال عند الموت، هل هو مندوب إليه ومن السنة، وهل ورد فيه فضل خاص؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمريض مرض الموت أن يتصدق بثلث ماله، وقال: (الثلث والثلث كثير)، لكن هذا على سبيل الإباحة، ثم يُفصَّل في الناس، فإذا كان الشخص غنياً، وماله كثير، وهناك أقرباء لا يرثونه، وهم محتاجون، فإنه حينئذٍ يُستحب له أن يُوصِي لمثل هؤلاء؛ لما فيه من الصلة والبر، ولأنه لا يضر ورثته. أما لو كان قليل المال، أو المال الذي يتركه ليس بذاك، أو ترك مالاً ولكن ترك عيالاً كثيرين، وهم محتاجون لهذا المال، فحينئذٍ يبدأ بأقربائه، فيترك ورثته على غِنَىً أفضل من أن يتصدق، وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)، فمن أفضل ما تصدق به الإنسان بعد موته أن يترك ورثته أغنياء لا يحتاجون إلى الناس؛ فإن من أعظم البلاء والكرب حاجة الإنسان إلى الغير. فنسأل الله العظيم أن لا يجعل لنا ولا لكم إلى لئيم حاجة، فالذل والفاقة تكسر الإنسان، ولربما كذب الصادق وخان الأمين بسبب الفقر والعياذ بالله! والفقر قد يهلك الإنسان، وقد يجرُّه إلى ما لا تُحمد عقباه، فيعد ولا يفي، ويقول ولا يصدق، وكل ذلك تحت الضرورة، وتحت وطأة الفقر وشدته. فلذلك لو ترك الورثة على غِنَىً وكفاف، وعدم حاجة، فلا شك أن هذا أفضل، أما إذا كان المال كثيراً، وهناك قرابة محتاجون، ولا شك أنه إذا أوصى لهم يجبر كسرهم، ويكون له فيه أجر كثير، فحينئذٍ يُستحب له أن يوصي، ويكون له في ذلك الأجر من الصلة والبر، والله تعالى أعلم.

حكم شراء الكفن وجهاز الموت حال الحياة

حكم شراء الكفن وجهاز الموت حال الحياة Q إن في كتابة الوصية تذكير العبد برحيله من الدنيا، فهل من السنة أيضاً أن يشتري أكفانه ويضعها عنده، وكذا ما يُحتاج إليه من الجهاز للموت؟ A هذا الأمر في الحقيقة فيه تفصيل: فإن كان الشخص يخاف من المال الحرام، ومن الكفن بمال حرام؛ فإنه يحتاط، وله الحق أن يُوصي، ولذلك وصى أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه في كفنه ألا يكون فيه مال فيه شبهة، فإذا كان الإنسان يخاف من المال الحرام، أو هناك أقرباء له، وأعمالهم مشبوهة، وتجارتهم فيها حرام، وفيها كسب حرام، واحتاط فاشترى كفنه، فلا شك أن هذا فيه خيرٌ كثير له، وفيه سلامة له وعافية، فمثل هذا لا بأس به. وأما إذا كان الأمر على سعة فالأمر فيه على سعته، فلا داعي أن يضيق على نفسه، أو يُعين له كفناً معيناً، لكن ليس هناك من بأس، وقد أُثر حتى عن بعض السلف الصالح رحمهم الله في قضية الكفن أنهم اختاروا لأنفسهم أكفانهم وألزموا بها، ولا بأس في ذلك، لكن المُعَوَّل أن يكون كسب الكفن من حلال لا من حرام، والله تعالى أعلم.

حكم وضع المحتدة للصبغة أو الإثمد على العينين للضرورة

حكم وضع المحتدة للصبغة أو الإثمد على العينين للضرورة Q امرأة توفي عنها زوجها، وهي تشتكي عينيها، فهل يجوز أن تضع فيها صبغة أو إَثمداً يسكن هذا الألم، مع أنها كبيرة في السن؟ A الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نَهى عن الزينة بالنسبة للمرأة المحتدة، ولمّا اخبرته المرأة أن ابنتها تشتكي عينيها قالت: (أفنضمدها بالصبر؟ قال عليه الصلاة والسلام: لا)، ومنعها من ذلك؛ لأنه فيه زيادة التجمل، واغتفر بعض العلماء الدواء الذي لا زينة فيه، فإذا تيسرت القطرة التي لا زينة فيها فلا إشكال؛ لأنه يوجد البديل الذي لا زينة فيه، وأما إذا كان الدواء يشتمل على تزيُّن، ويوجد هناك دواء لا زينة فيه، فلا شك أنه يتعين ما لا زينة فيه، ومن هنا وجود القطرات التي يمكن وضعها والتداوي بها تغني عن مثل هذا، والله تعالى أعلم.

الوصية بكتب العلم ووقفها

الوصية بكتب العلم ووقفها Q هل الكتب لطالب العلم تعتبر من الأموال فلا يزاد عن الثلث فيما لو أراد أن يوقفها على طلاب العلم ونحو ذلك؟ A أما من حيث الأصل فالكتب أموال، وتأخذ حكم التركة، فلو ترك كتباً من بعده فتقيم هذه الكتب، فلو كانت بستة آلاف وأوصى بثلثها؛ فإن وصيته تنفذ في الثلث، ولا تنفذ فيما زاد إلا بإذن الورثة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، أما الكتب فإنها مال، ومن أفضل المال وأطيبه. لكن بالنسبة لقضية وقفية الكتب ينبغي أن يكون الإنسان بعيد النظر في الوصية، فإذا كانت الوصية بكتب فينبغي أن يضع في حسبانه أن الكتب تحتاج إلى أماكن توضع فيها، وتحتاج إلى قيم يقوم عليها، وهذا أمر يحتاج إلى احتياط، فلا يُحمّل الورثة ما لا يطيقون من بعد موته، ولا يلزمهم بشيء يعلم أنهم لا يقومون به، أو لا يستطيعون القيام به فيُدخِل عليهم الإثم، ولا ينصح لهم. فإذا كانت الكتب يمكن وقفيتها، ووضعها في أوقاف عامة، مثل المدارس التي يُحتاج فيها إلى وجود المكتبات، أو الجامعات والمكتبات العامة، فهو أفضل، والمهم أنه يحتاط ويضع في حسبانه الأمور اللازمة لوقفية المكتبات، ولا يحرج ورثته، ويحملهم ما لا يطيقون، الأمر الذي قد يفضي بهم إلى الإثم والعقوبة، والله تعالى أعلم.

حكم من نسي صلاة الفجر إلى ما بعد العشاء

حكم من نسي صلاة الفجر إلى ما بعد العشاء Q من تذكّر أنه لم يصل صلاة الفجر، وهو قد صلى العشاء، فهل يعيد صلاة الفجر فقط أم يعيد من صلاة الفجر إلى العشاء على الترتيب؟ A هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: فقالت طائفة من أهل العلم: يجب الترتيب، ولا تصح العشاء إذا لم يصل المغرب، وبناءً على هذا القول: يلزمه أن يعيد الفجر ثم الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وهذا القول هو الذي دل عليه دليل الكتاب والسنة. أما دليل الكتاب: فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، فنص سبحانه على تأقيت الصلاة، والتأقيت هو التحديد. وبناءً على ذلك: لا تصح الظهر إلا بعد الفجر، ولا تصح العصر إلا بعد الظهر، ولا تصح المغرب إلا بعد العصر، ولا تصح العشاء إلا بعد المغرب، كما رتبها الله عز وجل. وأما السنة: فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: أنه لما شُغِل يوم الخندق -قبل شرعية صلاة الخوف- عن الصلوات، ففاتته صلاة العصر؛ صلى العصر ثم المغرب ثم العشاء، فراعى الترتيب عليه الصلاة والسلام، مع أن الوقت الذي صلى فيه كان محتاجاً إلى تدارك وقت المغرب؛ لأنه أتاه عمر رضي الله عنه وقد غربت الشمس فقال: (يا رسول الله! والله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال صلى الله عليه وسلم: والله ما صليتها، قوموا بنا إلى بطحان ... ). يقول: (حتى كادت الشمس تغرب)، ومعناه: أنه بعدها صلاها غابت الشمس مباشرة، فاحسب حساب وضوئه وصلاته للعصر -أعني عمر - ثم مجيئه للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (قوموا بنا إلى بطحان). ومن يعرف المدينة يعرف أن الثغر الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يناضل فيه المشركين، ويرميهم بالنبل، بعيد عن بطحان، فهناك مسافة بين الجبهة التي كان فيها الرمي وبين بطحان بما لا يقل عن ربع ساعة تقريباً، إذا نزل الإنسان من طرف الثغر الذي كان يرامي ويراشق فيه المشركين -صلوات الله وسلامه عليه- وهو سفح جبل سلع الشمالي الغربي، فنزل عليه الصلاة والسلام وقال: (قوموا بنا إلى بطحان)، فنزل إلى بطحان، وتوضأ من بطحان ثم صلى، قال الراوي: (فصلى العصر والمغرب والعشاء). فلا شك أنه كان محتاجاً إلى تدارك وقت المغرب؛ لأن أقل ما فيه أنه سيدرك آخر وقت المغرب؛ فكونه عليه الصلاة والسلام يبدأ بالعصر قبل المغرب، مع أن المغرب يُخشى فواتها، يدل على لزوم الترتيب، وهذا هو الأصل، وهو القول الصحيح إن شاء الله في هذه المسألة، أن من نسي صلاة فإنه يعيدها ويعيد ما بعدها من الصلوات؛ لأنه لا تصح صلاة إلا وهي مرتبة على التي قبلها. وهناك قول يَغتفر الترتيب ويصحح الصلاة البعدية إذا نسي القبلية، فيصلي القبلية ولو صلى بعدها الصلوات، والصحيح ما ذكرناه، والله تعالى أعلم.

السنة في التعزية

السنة في التعزية Q ما هي السنة في التعزية والجلوس لها؟ A أولاً: تعزية المسلم لأخيه المسلم جبرٌ لخاطره، ومواساة له في مصابه، يثبت الله بها قلبه، ويسدد بها لسانه، ويشرح بها صدره، فكم من كلمات طيبات مباركات من المؤمنين والمؤمنات، في الحوادث والملمات، دفعت عن أهلها هموماً وغموماً، لا يعلمها إلا الله عز وجل، فالمسلم يحتاج إلى تعزية أخيه ومواساته. وخاصة في حال فقد العزيز من والد أو والدة أو أخ أو أخت أو ابن أو بنت، فيواسي المسلم أخاه المسلم، فيذكره بما عليه السنة في المصيبة من الاسترجاع، وسؤال الله عز وجل حسن الخلف، وحسن العِوض. ويذكِّره بأن الله سبحانه وتعالى فيه عوض عن كل فائت، فلو زالت الدنيا عن العبد، فإن الله تعالى إذا تأذن له بحسن الخلف سيعوضه خيراً منها عاجلاً أو آجلاً، وكم من مصائب وكوارث ومتاعب عادت على أهلها بكل خير في دينهم ودنياهم وآخرتهم، فأول ما ينبغي عليه أن يثبت قلب أخيه. ثانياً: إذا جاء في التعزية يراقب حال أخيه فإن رآه على سنة ثبّته عليها، وإن رأى منه خطأً أو تقصيراً أو بدعة أو ضلالة ذكره بالله، ونصحه، فأمره بالمعروف، ونهاه عن المنكر، وحذره من معصية الله عز وجل في عزائه من إحداث القُرّاء وإحداث البدع في البيوت، والمبالغة في وضع الكراسي ووضع الأنوار على البيوت، مما قد يكون في بعض الأحيان من أموال اليتامى والقُصّار، ففيه اعتداء على الأموال التي أمر الله بحفظها لأهلها، أو الإتيان بالقُرّاء أو الذبائح، أو إطعام أهل العزاء، ونحو ذلك من الأمور المنكرة التي ما أنزل الله بها من سلطان، التي أحدثها الناس بمحض أهوائهم، وجارى بعضهم بعضاً محاباةً. فينبغي تذكير الناس في مثل هذا، وينبغي على طلاب العلم أن ينصحوا، وعلى أئمة المساجد أن يذكروا، فكلمة الحق منهم غالباً مسموعة، وألا يجامل الناس في مثل هذا، فإذا كان المبتدع لم يجامل في بدعته، ولم يخف منك، فينبغي عليك وأنت على الحق وعلى السنة ألا تجامل، وألا تخاف منه؛ بل تبدي له الحق وتقول له: يا أخي! هذا لا يجوز، وهذا فيه اعتداء على السنة. ولو أن العزاء يذكِّر فيه الناس بعضهم بعضاً بالسنة، ويحذر بعضهم بعضاً من البدعة؛ لأحيِيَت سنن المرسلين ولأميتت بدع المضلين، ولكن السكوت على مثل هذه المنكرات، ومجاراة الناس فيها، كل ذلك جرّأ أهل الباطل على باطلهم، فلا ينبغي لطلاب العلم، ولا للأخيار ولا للصالحين أن يسكتوا عن مثل هذا. وكذلك يُسن في التعزية أن يتفقد الإنسان ما يحتاج إليه الميت بعد موته؛ فإذا كانت هناك أمورٌ يوصي ورثته بها مما فيه خير في أمور دينهم ودنياهم وآخرتهم فإنه يأمرهم بها. وليس هناك لفظ معين في العزاء، فكل شيء قاله مما يَجبُر به كسر أخيه المسلم فلا بأس به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُلزم الناس بكلمة معينة. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (إن لله ما أعطى وله ما أخذ، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب)، فهذا وقع قبل موت الغلام، كما هو معلوم ومعروف من سياق القصة، قاله لأنها أرسلت إليه أن اشهد؛ فقال صلى الله عليه وسلم: (فمرها فلتصبر ولتحتسب). فهذا ليس بإلزام بلفظ العزاء، لكن لو قاله الإنسان لأخيه فهو على سنة وخير؛ لأنه لفظ يتضمن المعاني المقصودة: (إن لله ما أعطى وله ما أخذ، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب)، وهذا شيء طيب، وكلام مناسب، يناسب الصدمة ويناسب الحال؛ لكن لا نستطيع أن نفرضه على الناس، ونقول: لا يقول أحد عند العزاء إلا هذا، بحيث لو جاء أحد يقول لأخيه: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، فنقول له: هذا بدعة. ولو كان هناك لفظ مخصوص لما سكت الكتاب والسنة عنه؛ لكن لما تُرك الناس لما يكون فيه جبر للخاطر، ومواساة له، فكل كلام تقوله تجبُر به خاطر أخيك، وتجبر به كسره؛ فإنه مما فيه الخير له ومن البر والصلة، وأنت مأجور عليه. وإذا اخترت الوارد -كما ذكرنا- فهذا أفضل، لكنه ليس بلازم وفرض على الإنسان أن يقوله، وأياً ما كان فينبغي الحرص على السنة، وأمر الناس بها، ودلالتهم عليها في التعزية وغيرها، والأمور التي يفعلها الناس مما يكون منها في مقام العبادات يُتوقف فيه على الوارد، وما يكون منها خارجاً عن العبادات فإنهم لا يُلزمون بما ليس بلازم. فإذا أراد أن يعزِّي القرابة فيبدأ بكبيرهم وذي الحق منهم، ويبدأ بمن هو أعظم مصيبة؛ كأولاد الميت ونحو ذلك، يبدأ بهم لأن الحق لهم آكد، وقد جاء لحقٍ فيبدأ به، قال العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح من حديث عتبان حينما قال له: (إني أريدك أن تأتي إلى بيتي فتصلي في مكان أتخذه مصلىً) فلما دخل البيت -بيت عتبان -، كان أول ما كلمه قال: (أين تحب أن أصلي لك؟). فقالوا: إن في هذا الحديث دليلاً على أن من جاء لأمرٍ فيبدأ به قبل كل شيء، وكان عتبان قد ذبح وأعدّ طعاماً، وصنع طعاماً، فقبل أن يطعم النبي صلى الله عليه وسلم طعامه بدأ بالشيء الذي جاء من أجله. فلمّا كان المقصود هو التعزية وجاء من أجل التعزية، فإنه يبدأ بأحق الناس بالتعزية، وهم أقرباؤه كالوالدين، والمرأة تبدأ بالوالدة، وأولاد الميت، فيبدأ بذي الحق، ثم بعد ذلك الأقرب فالأقرب. وما يحدث من الناس في بعض الأحيان أنك ترى الكبير يرتب بعضهم بعضاً، فيقف الكبير ثم من بعده الصغير، فإن هذا قد اغتفره العلماء والمشايخ، وقد أدركنا أهل العلم لا يُنكرون في مثل هذا؛ لأنك لا تستطيع أن تأتي بين أمة على القبر في بعض الأحيان يَصِلُون إلى ألف شخص فتظل تبحث عن قرابة الميت. فلابد أن تعرف قرابة الميت، فحينما يصطفون ويُعرف كبيرهم، ويُعرف ذو الحق منهم، فهذا أمر وسَّع فيه العلماء، وما أدركنا أحداً من مشايخنا رحمة الله عليهم يُشدِّد في هذا؛ لأنهم لا يقصدون به العبادة، ولا يُقصد به شيء معيَّن للتعبديات. لكن من البدعة والحدَث وضع الأيدي على الأكتف، فإن هذا شيء ليس له أصل، بل تسلم عليه وتصافحه، فالمصافحة هي السنة، وتأمره بالصبر واحتساب الأجر، وكذلك تعزِّي أكثرهم ألماً، ومن ترى فيه الحزن أكثر تشد عليه وتذكره أكثر، فهذا أمر ينبغي مراعاته أثناء العزاء. أما كونهم يَجتمعون في بيت الميت فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يعدون الجلوس في بيت الميت من النياحة، وهذا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان الناس قليلين، ويمكن أن تعزي الرجل وتراه في المسجد. ولكن في زماننا توسع العلماء رحمهم الله من المتأخرين في مسألة حضورهم في بيت واحد؛ لأن ذلك أرفق على الناس، ومن الصعوبة بمكان -خاصة في الأزمنة المتأخرة- أن تنتقل بين عشرة أو عشرين بيتاً -وهم قرابة الميت- في مدينة واحدة، وهذا لا شك أن فيه صعوبة عليهم، فإذا اجتمعوا في بيت أكبرهم، أو في بيت القريب الأقرب، وجاء الناس وعزّوهم جميعهم في مكان واحد، فهذا لا بأس به، وقد خفّف فيه بعض العلماء. ولكن الجلوس لغير الحاجة، مثلما يقع من بعض الناس من الإتيان إلى أهل الميت وإطالة الجلوس عندهم، كل هذا من البدع والمحدثات، ولا شك أنه يترتب عليه ضرر لقرابة الميت، والمنبغي هو التخفيف عليهم والتوسعة عليهم. وكذلك إحضار الطعام، والتكلف في الولائم، كل هذه من الأمور التي أحدثها الناس، إلا ما وردت به السنة عند الصدمة الأولى من صُنع الطعام في اليوم الأول، فإن وافق الموت ظهراً صُنْع لهم طعام الغداء، وفي الحقيقة الذي يظهر هو جواز صنع طعام الغداء، أما طعام العشاء ففي النفس منه شيء، ويكون ذلك مرة واحدة؛ لأنه قال: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً)؛ لأن الإنسان يطعم في يومه. والذي يظهر أنه في حدود الحاجة كالغداء، وأما أن يُصنع الغداء ثم العشاء ثم الغداء في اليوم الثاني ثم العشاء، ويُرتِّبون على ذلك ثلاثة أيام، فإن هذا من البدع والحدث، وما أنزل الله بها من سلطان، ولذلك شدّد الناس على أنفسهم، وضيّقوا على أنفسهم في هذا، فكلفوها ما لا تطيق من الذبائح والولائم. نسأل الله العظيم أن يرزقنا التمسك بالسنة، وأن يعيذنا من البدعة، والله تعالى أعلم.

حكم من ماتت وعليها صيام قضاء وصيام نذر

حكم من ماتت وعليها صيام قضاء وصيام نذر Q امرأة كانت إذا حاضت لا تقضي الصيام، وكانت لا تصوم أيضاً، وعندما كبرت ندمت، وقالت: يا رب إن أبقيتني حية لأصومنّ ستة أشهر، فصامت منها شهرين ونصف، فما الحكم؟ A إذا نذر المؤمن أو المؤمنة شيئاً، وكان في ملكه ذلك الشيء؛ لزمه الوفاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)، فأمر عليه الصلاة والسلام الناذر إذا كان نذره نذر طاعة أن يَفِي بنذره، فدل على لزوم النذر إذا التزمه الإنسان. وإذا عجزت المرأة عن إتمام الصوم، ولم تستطع ذلك؛ فإنه لا وفاء في نذر لا يملكه الإنسان، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا عتق فيما لا يملك، ولا نذر فيما لا يملك)، فإذا كان يتعذر عليها الصوم، أو حصل ما علقت عليه النذر بعد عجزها عن الصوم؛ فإنه يسقط عنها الصوم، وحينئذٍ يرى بعض العلماء أنه يسقط كليّة، وبعضهم يرى أنه يلزمها أن تُكَفِّر؛ لأن نذرها انعقد. ولا شك أنها إذا عجزت بالكلية، أو وافق وقت الوفاء عجزاً كلياً فإنه يسقط النذر على ظاهر السنة التي ذكرنا. أما بالنسبة للصوم الذي تركته حينما كانت تحيض، فالصوم الذي تركته يجب عليها قضاؤه، وهو مقدّم على نذرها، فتبدأ أول شيء بالصوم الذي فرضه الله عز وجل عليها وتُبرئ ذمتها منه. وأما الجهل فليس لها فيه عذر؛ لأن هذا مما يمكن السؤال عنه، والعذر بالجهل يكون في أحوال مخصوصة، ومسائل ضيقة جداً، أما شخص يأتي في ركن من أركان الإسلام، أو في أمر من أمور دينه فرض عليه أن يسأل عنه ويتعلمه، ثم لا يسأل ولا يتعلم، ثم يقول: كنت جاهلاً؛ ثم نعذره بالجهل أبداً. وذلك مثل شخص يأتي للحج والعمرة، فيفعل ما يشاء في عمرته، ويفعل ما يشاء في حجه، ثم يقول: لم أكن أعلم، فلا يُقبل من ذلك؛ فإن الله قد فرض عليه أن يتعلم، وفرض عليه أن يسأل، وفرض عليه أن يرجع إلى أهل العلم: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فيقصِّر في الرجوع ثم نعطيه الرخصة، حاشا وكلا! ومثل هذا ليس بمعذور؛ بل هو مفرِّط، ومن فرَّط أُلزم بعاقبة تفريطه، ومثل هذه المرأة تلزم بقضاء ما كان عليها من الصوم، وإن لم تستطعه تحديداً بنت على تقديرها، وحسبت كم أيام عادتها، ثم بعد ذلك تحسب السنوات التي كان عليها صيام من رمضان فيها، فتقضيها جميعها، والله تعالى أعلم.

من يقدم في الطاعة من الوالدين؟

من يقدَّم في الطاعة من الوالدين؟ Q في قول النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي: (أمك ثم أمك)، يُشكل علي هذا الحديث أني إذا دخلت على الوالدين فلا أدري من أبدأ بالسلام، وكذا لو اتصلت بالهاتف لا أدري من أطلب منهما، وأخشى لو ابتدأت بالأم أن أجرح الوالد، أو أن يشعر أن في ذلك انتقاصاً له، فما الحل لهذا الإشكال؟ A من حيث الأصل حق الأم أعظم من حق الأب، وهذا لا إشكال فيه، ولذلك اختار جمع من العلماء أنه لو مات والداه ولم يَحُجا وأراد أن يحج عنهما، فيبدأ بالأم قبل الأب؛ لعظيم حقها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لما سأله الرجل: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك). فجعل حقه بعد حقها مرتباً ثلاثاً، وعظم حقها بالتكرار ثلاثاً، ولذلك جعلوا لها من الحق أضعاف ما للوالد، والواقع يصدق ذلك؛ فإنها حملته وهناً على وهن، وتحملت في حمله ووضعه وإرضاعه وفصاله ما لم يتحمله الأب، فعظم الله عز وجل حقها، فالأم أحق من هذا الوجه. لكن ولاية الأب على البيت، وولايته على الأسرة، قد يكون هذا خاصاً، بمعنى: أنك إذا دخلت في مكان فتنظر إلى ذي الحق، فالوالد في البيت حقه أقوى من حق الأم من جهة الولاية، ولذلك جعل الله الولاية للرجل على أهله، قال عليه الصلاة والسلام: (الرجل راع في بيته ومسئول عن رعيته)، أي: مسئول عن زوجته وأولاده؛ لأن الله جعل المرأة تبعاً للرجل تقوم على شأنه، كما قال تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]، فالرجل له حق الولاية، ومن دخل في مجلس، أو دخل في مكان ابتدأ بذي الحق. ولذلك إذا دخلت في مجلس؛ فالسنة أن تبدأ بذي الحق فتسلم عليه، وكذلك في الطعام والشراب تبدأ بذي الحق أولاً؛ لأن إكرامه واجب، وحقه آكد، ثم تأخذ عن يمينه، فتجمع بين الفرض والسنة، أما أن يأخذ الإنسان مثلاً بحديث خاص في قوله: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك)، فهذا من ناحية الإحسان والبر والقيام والرعاية، لكن في الدخول في المجالس يُبدأ بذي الحق، ولذلك ابتُدئ به عليه الصلاة والسلام في المجالس، وكان يُبتدأ بالتحية، وبالإجلال والإكرام صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن له حقاً. فإذا كان في مجلس فيه الوالد فحقه في الولاية آكد، وهذا الحق بالمناسبة، فإذا جئت إلى مجلس وسألت: من الذي يُبدأ به السلام؟ فإنك تبدأ بمن له الولاية في المجلس، فإن كان مجلس علم فالولاية للعالم، وإن كان مجلس ولاية وسلطة، فتبدأ بصاحب تلك الولاية والسلطة، وإذا كان في مجلس سفر مثلاً لثلاثة ركب فأكثر، وعليهم شخص هو المسئول عنهم، فالولاية له. وقد أعطى الإسلام كل شي حقه، فتبدأ بذي الولاية، وتشرفه وتكرمه، وتقدمه على غيره، ثم بعد ذلك تسلِّم على الأم، وتأخذ بخاطرها، وتبرها كما أمرك الله عز وجل ببرها. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب الوصايا [2]

شرح زاد المستقنع - كتاب الوصايا [2] الوصية قبل الموت تتنوع بحسب حالها، فقد تكون الوصية واجبة إذا كانت متعلقة بحق لله أو بحقوق للمخلوقين واجب، وقد تكون مستحبة إذا قصد بها سبل الخير، وقد تكون محرمة إذا كانت تأمر بعقوق أو بقطيعة رحم، أو أن يصرف بعض المال في دعم أفعال محرمة أو مبتدعة، وقد تكون مكروهة. ولا تجوز الوصية بأكثر من الثلث، والأفضل أن يوصى بأقل من الثلث، فإن كان ولابد فالثلث والثلث كثير.

أنواع الوصايا

أنواع الوصايا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [يسن لمن ترك خيراً]. شرع المصنف رحمه الله في بيان الأحكام والمسائل المتعلقة بالوصية، فابتدأ بمسألة حكم الوصية، فبين رحمه الله أن من السنة واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصي المسلم وتكون وصيته بعد موته، وهذا هو الذي دل عليه كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد عبر المصنف رحمه الله بقوله: (يسن)، ومعنى ذلك: أن الوصية ليست بواجبة، وهذا هو قول جمهور العلماء رحمهم الله، أن الوصية تعتريها عدة أحكام؛ فتارة تكون واجبة لازمة، وتارة تكون مندوبة مستحبة، وتارة تكون محرّمة ممنوعة، وتارة تكون مكروهة يثاب تاركها، ولا يعاقب فاعلها. فهذه أربعة أحكام تتعلق بالوصية، لكن الأصل العام أنها مسنونة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سن لأمته سنن الهدى، ومن ذلك الوصية التي يكتبها المسلم، فيأمر فيها بما أمر الله، أو ينهى فيها عما نهى الله عز وجل عنه، أو يجمع بين الأمرين.

الوصية الواجبة

الوصية الواجبة أما كونها واجبة: فإن أي شخص تعلّقت به حقوق لله عز وجل أو لعباده، فإنه يجب عليه أن يَكتب وصيته، وأن ينبه على هذه الحقوق، والدليل على ذلك: أن الله فرض علينا أداء هذه الحقوق والواجبات، فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]، فلو كانت عند الإنسان حقوق ومظالم للناس، ولا طريق للوصول إلى أدائها إلى أهلها والتحلل منها إلا بالوصية؛ صارت الوصية واجبة. ومن أمثلة ذلك: لو استدان شخص مبلغاً من المال وكتب عليه صاحب المبلغ سنداً وأشهد فلا إشكال؛ لأن صاحب الحق محفوظ حقه بوجود البينة. لكن لو أنه يُحبُّك وتحبه وبينكما مودة، وحصل شيء من الاستحياء أو الثقة، فلم تكتبا، فاطمأن إليك؛ فالواجب عليك أن تكتب في وصيتك أن لفلان علي مبلغاً من المال؛ لأنك لو لم تكتب ذلك لأدى إلى ضياع حقه وحرمانه مما له عليك، والله قد أمرك بأداء هذه الأمانة، وأداء هذا الواجب متوقف على الوصية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. إذاً: كل شخص عليه حق لله أو حق للمخلوق، فينبغي عليه أن يكتب وصيته، وأن ينبه على هذا الحق؛ صيانة لحقوق الناس، وأداءً للأمانات ووفاءً بها. أما حقوق الله تعالى فتشمل الكفارات، كأن تكون عليه كفارات، أو تكون عليه فدية في حج أو عمرة، كما لو وقع في بعض المحظورات ولزمته الفدية ولم يؤدها؛ فالواجب عليه ألا يبيت إلا وقد كتب في وصيته أن عليه فدية من كذا وكذا، أو عليه كفارة كذا وكذا، أو عليه صيام، على القول بأن الولي يصوم عن وليّه إذا كان صيام نذر أو كان صيام كفارة، فإذا كان صياماً عن قضاء فيكتب هذا وينبِّه عليه؛ لأن الله فرض عليه أن يقوم بحقه، وقد جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: (إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى). فمن كانت عليه حقوق لله عز وجل؛ من صيام، أو وجب عليه الحج ولكنه قصّر في ذلك مع قدرته واستطاعته؛ فالواجب أن يُخرج من تركته وماله ما يحج به عنه، أو يقوم بعض ورثته بذلك مجزياً من الله بأعظم الجزاء وأحسنه، وهذا بالنسبة لحقوق الله عز وجل. أما حقوق المخلوقين: فمثل الدين، والودائع والأمانات، كأن تكون استعرت كتاباً من أخيك، فالواجب أن تكتب في وصيتك، وأن تُنبه على هذا الكتاب والحق الذي لأخيك المسلم، حتى لا يضيع؛ لأنك لو لم تكتب ذلك ولم تنبه عليه لربما ضاع هذا الحق، ولربما ضُم الكتاب إلى كتبك، فإذا استعار طالب العلم كتاباً فينبه أو يكتب في وصيته أن الكتاب الفلاني لفلان، وكذلك لو استعار شيئاً من أخيه؛ كالأدوات والآلات ونحو ذلك من الأشياء التي هي حقوق للناس؛ فالواجب أن يكتب ذلك في وصيته، وينبه عليه إذا توقف أداؤه على مثل هذا. إذاً: فالوصية واجبة إذا كانت بحق لله أو حق للمخلوقين ويدخل في هذا الوصية بالأمر بما أمر الله به والنهي عما نهى الله عنه، فإذا كان يعلم أن ورثته من بعده قد يقعون في بعض المحرمات والأمور التي لا تُرضي الله عز وجل؛ فعليه أن يكتب في وصيته أنني أوصيكم بتحري السنة في تغسيلي وتكفيني وتجهيزي والصلاة علي، وإذا كان يعلم أنهم سيبالغون في البكاء فيوصيهم بأن لا يفعلوا ذلك، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه)، وقال بعض العلماء: إن هذا في حالة علم الميت أنه سيُبكى عليه ويبُالغ في البكاء حتى يوصل إلى الحد المحرم، فسكت على ذلك ولم ينه عنه. إذاً: لابد أن تشتمل الوصية على إحقاق الحق وإبطال الباطل، فمتى ما توقف إحقاق الحق وإبطال الباطل على ذلك؛ فإنه يجب عليه أن يكتب الوصية بذلك فإنها واجبة، وهكذا إذا علم حقوقاً بين الناس، كأن يعلم أن هناك حقاً لفلان على فلان، فيكتب ذلك وينبه على ذلك. المهم أن الوصية تكون واجبة إذا توقف عليها أداء الحقوق وردها لأهلها وأصحابها.

الوصية المستحبة

الوصية المستحبة ثانياً: تكون الوصية مستحبة إذا قصد الإنسان منها سُبُل الخير، وطلب بها مرضاة الله سبحانه وتعالى في الأمور غير الواجبة عليه، مثل أن يُوصي بالصدقات، أو يوقف شيئاً من أملاكه، أو يوصي بعمل بر من بعد موته غير واجب عليه، فإذا وصَّى بمثل هذا؛ فإن الوصية تكون أفضل وأعظم استحباباً وأجراً وثواباً عند الله سبحانه وتعالى عندما تكون لأقرباء الإنسان الذين لا يرثون، فيُوصي -مثلاً- لعمه، أو لخاله، أو لأولاد عمه، أو لأولاد خاله، ويوصي لخالته، ولعمته، عندما يعلم أن هناك زيادة في المال، وأن العم والعمة والخال الخالة وجميع آله وقرابته محتاجون للمال لقضاء دين أو تفريج كربة؛ فيكتب في وصيته: أن أخرجوا من مالي مبلغ كذا لعمي، أو اجعلوا المبلغ الفلاني لأعمامي، أو اجعلوه لإخواني الذين لا يرثون؛ لأنه قد يكون عنده أبناء يحجبون الإخوة، فهو يريد أن يصل إخوانه وأخواته، ويعلم أن أخته مديونة، أو أن أخاه مديون، فأراد أن يفرِّج كربته؛ فأوصى أن يُقضى دين أخيه، أو يُقضى دين أخته، أو يوصي وصية عامة ويقول -إذا أحب أن يوصي بالثلث-: ثلث مالي يُتَصدق به على أقربائي في قضاء ديونهم، أو يكون ثلث مالي لأيتام أخي، أو يكون ربع مالي من بعد موتي لأيتام أختي، ونحو ذلك من الوصايا التي يُقصد بها البر وطاعة الله سبحانه وتعالى. فأفضل الصلة عندما تكون للرحم، وقد اختلف العلماء رحمهم الله: هل الرحم تتساوى مراتبها من حيث العموم فكل ما كان للرحم فله فضله من دون تفصيل أم أن هناك تفصيلاً؟ فاختار بعض الأئمة وبعض المحققين رحمهم الله أن الوصية المستحبة تتفاوت درجاتها ومراتبها بحسب تفاوت القرابة والرحم، فأوّل من تقدم القرابة من جهة النسب، ثم يليهم القرابة من جهة الرضاعة، ثم يليهم القرابة من جهة المصاهرة، ثم الولاء. فأما بالنسبة للقرابة من جهة النسب فقالوا: تقدم المحارم على غير المحارم، فمثلاً: وصيته لعمه وعمته أفضل من وصيته لابن عمه وابن عمته؛ لأن المحرَمية في العم والعمة، فإذا وصت لعمها أو وصى لعمته؛ فإن العم والعمة من المحارم، فالوصية لهم أفضل وأعظم أجراً عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله جعل مرتبتهم مقدمة على مرتبة غيرهم. كذلك أيضاً لو كان له أبناء عم، وبعضهم أقرب من بعض، فمثلاً: ابن العم الشقيق الوصية له أفضل من ابن العم لأب، وابن العم الشقيق الوصية له أفضل من ابن العم لأم ونحو ذلك، فالقرابة من جهة النسب تتفاوت مراتبهم. والذي اختاره جمع من العلماء: أن الوصية للأرحام الذين يكونون من الذكور والإناث أفضل وأعظم ثواباً عند الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك جعل الشرع لهم من الحق ما لم يجعله لغيرهم، وقال: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال:75]، فقدَّمُوا الرحم - أي: المحرمية- من هذا الوجه. ثم يأتي بعد القرابة الوصية للأقرباء من جهة الرضاعة، كأمه التي أرضعته -سواء كانت محتاجة أو غير محتاجة- ويوصي لأقربائه من جهة الرضاعة؛ كأمه وأخته وعمته من الرضاعة، ونحو ذلك من القرابات من جهة الرضاعة، ويُقدم محارمه على غيرهم، وتكون صلةً وبراً يعظُم من الله عز وجل أجرها وثوابها. وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم عِظم أمر الرضاعة، وأن لها حقاً على المسلم، ولما خرج عليه الصلاة والسلام إلى الطائف، وقاتل هوازن، وغنم الغنائم، اتقى الله فيهم ورعى الرحم، فلم يقسم غنائم حنين مباشرة، وكان صلى الله عليه وسلم ينتظر أن يكلموه حتى لا تُسبى ذراريهم، ولا تُقسم أموالهم شفقة عليهم منه صلوات الله وسلامه عليه، وحفظاً للرضاعة من حليمة السعدية التي أرضعته صلوات الله وسلامه عليه. فلما ذهب إلى الطائف وفتحها وبعد رجوعه ونزوله بالجعرانة قسم صلى الله عليه وسلم الغنائم، فلما قسمها تألمت هوازن، وجاءه عليه الصلاة والسلام وفدها، وقام خطيبهم وقال له: يا رسول الله! إن اللاتي بالحظائر ما هن إلا عماتك وخالاتك من الرضاعة، فتأثر عليه الصلاة والسلام أثراً بليغاً، وقال له عباس بن مرداس السلمي في أبياته المشهورة والتي منها: امنن على نسوة قد كنت ترضعها إذ فوك تملؤه من محضها الدرر إلى غير ذلك مما كان من الأبيات التي ذكرته حق الرضاعة، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما كان لي ولبني هاشم فهو لكم)، وقالت الأنصار مثل ذلك، وهذا كله يدل على حفظه صلى الله عليه وسلم لحق الرضاعة. فالمرضعة والأقرباء من جهة الرضاعة يوصَلون بالوصية، وتكون الوصية مستحبة في حقهم؛ لأنهم لا يرثون. ثم بعد الرضاعة القرابة من جهة المصاهرة، فلو لم يكن له أقرباء لا من جهة النسب، ولا من جهة الرضاعة؛ فحينئذٍ ينظر إلى أصهاره، وهم أقرباؤه من جهة زوجته أو زوجة والده أو زوجة ولده؛ فهؤلاء يصلهم لتكون رحماً وصلة يرجو ثوابها من الله سبحانه وتعالى. هذا بالنسبة للوصية المستحبة التي تكون لغير الوارث، وتكون صلة وبراً للأقرباء، وهي أفضل وأعظم ما تكون أجراً وثواباً من الله سبحانه وتعالى، وقد قرر العلماء أن الوصية للأقرباء أعظم أجراً من الوصية لغير الأقرباء؛ لثبوت النصوص بذلك، ولذلك لما دخل عليه الصلاة والسلام على أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنه وقالت: (يا رسول الله! هل شعرت أني أعتقت فلانة -أي: أعتقتها لوجه الله- فقال صلى الله عليه وسلم: أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك). مع أن العتق أمره عظيم، وإذا أعتق الإنسان فإنه يُعتق بكل عضوٍ من المعتَق عضو منه من النار، ومع هذا يقول لها (لو أنك أعطيتها أخوالك) أي: لو أبقيتِها على العتق ووصلت بها القرابة لكان أعظم لأجرك عند الله سبحانه وتعالى.

الوصية المحرمة

الوصية المحرمة ثالثاً: وقد تكون الوصية محرمة، وهذا هو النوع الثالث من الأحكام المتعلقة بالوصية، وتكون الوصية محرمة إذا اشتملت على حرام، وقد مثّل العلماء لذلك بأن يوصي لكنيسة، أو يوصي بنسخ التوراة أو الإنجيل أو الكتب المحرفة، أو الكتب التي تشتمل على الضلالات والبدع والأهواء التي تُضل الناس وتخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فمثل هذه لا تُرضي الله ولا ترضي رسوله عليه الصلاة والسلام. وكذلك إذا وصَّى بحرام؛ كأن يغضب الأخ على أخيه فيقول: لا يشهد فلان جنازتي، ولا يحضر تغسيلي ولا تكفيني، ولا يفعل كذا ولا كذا فهذه قطيعة للرحم، وأمر بمعصية، وأمر بما لا يحبه الله ولا يرضاه، فإن الله يحب من القريب أن يشهد قريبه، ويترحم عليه، ويدعو له، والأقرباء أبلغ شفقة من غيرهم، فإذا وصى أنه لا يدخل بيته ولا يشهد تغسيله ولا يحضُر جنازته، فهذه من القطيعة، وقد يكون هذا بين الوالد وولده والعياذ بالله! فهذه -نسأل الله السلامة والعافية- من الوصايا المحرمة. حتى ذكر العلماء رحمهم الله أن الوصية المحرمة من علامات سوء الخاتمة -والعياذ بالله- للإنسان؛ لأنه يختم ديوانه وعمله -والعياذ بالله- بالقطيعة وبعقوق الوالدين وبالمظلمة، وإذا خُتم له بعقوق الوالدين أو عقوق الأولاد أو قطيعة الرحم؛ فإن هذه كبائر توجب دخول النار ما لم يغفر الله الذنب، فيُختم له بخاتمة سيئة تكون سبباً في دخوله النار تعذيباً إذا كان من الموحدين، ثم يخرج منها بفضل الله وهو أرحم الراحمين، وهذا ممن يعمل بعمل أهل الجنة فيسبق عليه الكتاب في بعض العمل إذا لم يكن مخلداً في النار فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها مطهّراً من ذنب كبير. وهذا هو أحد الأوجه عند العلماء رحمهم الله في قوله عليه الصلاة والسلام: (وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة)، فيكون عبداً صالحاً ثم يغضب على ولده أو على قريبه، ثم يكتب هذه الوصية الجائرة الظالمة التي تشتمل على عقوق أو تشتمل على قطيعة، فيختم له -والعياذ بالله- بهذه الخاتمة السيئة، نسأل الله السلامة والعافية. فلا يجوز أن يوصي بالمحرمات، فإذا وصى بمثل هذه الوصايا فهي وصية باطلة، ولا يجوز للورثة أن يطيعوا، ولا يجوز حتى للقريب أن يطيع قريبه في قطيعة الرحم، ولو قالت الأم: لا تزر خالك، أو لا تزر عمك، أو لا تزر قريبك؛ فلا تطاع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الطاعة في المعروف)، وهذا ليس بمعروف، ولأن الله أمرك بصلة الرحم، وغيرك نهاك عنها؛ فتُقدم أمر الله على سائر الأوامر، وطاعة الله على سائر الطاعات، فلذلك لا تنفذ مثل هذه الوصايا، ولا يجوز العمل بها.

الوصية المكروهة

الوصية المكروهة رابعاً: وقد تكون الوصية مكروهة، مثل أن يكون الشخص قليل المال وورثته محتاجون لهذا المال فيُوصي بصدقة، فإن هذه الصدقة تُضيق على ورثته في الإرث، فمثلاً: لو كان الورثة محتاجين لهذا المال، أو كان عنده ولد، والولد مديون مكروب، وترك ألفاً أو ألفين قد لا تفي بسداد دينه، فجاء ووصى بثلثها، فهذا يضيق على ولده ويضيق على وارثه إلى درجة أنه قد لا ينتفع النفع المرجو من التركة، فحينئذٍ كره العلماء رحمهم الله مثل هذه الوصية، وبيّنوا أن الوصية في حق الفقير أو قليل المال مكروهة إذا كانت تضيق على الورثة وتوجب لهم ما ذكرنا من الحرج. هذا بالنسبة لأحوال الوصية الواجبة، والمندوبة المستحبة، والمحرمة، والمكروهة، فما عدا ذلك من حيث الأصل العام فالوصية سنة، أي: سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله شرع لهذه الأمة سنن الهدى، وذلك بأقواله وأفعاله بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، التي جعلها الله أسوة للمؤمنين، وقدوة للأخيار والصالحين، فلا أكمل من هديه بأمي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.

اختلاف العلماء في حكم الوصية

اختلاف العلماء في حكم الوصية قال رحمه الله: [يسن لمن ترك خيراً]. الخير: هو المال الكثير كما فسره المصنف رحمه الله. وقوله: (المال) لا يشترط السيولة، إنما المال كل شيء له قيمة، فلو لم يترك نقوداً، وإنما ترك (عمائر)، فلو ترك عشر عمائر فهي مال، وإن لم يترك أي ريال في محفظته أو في رصيده، فهو يُعتبر ممن ترك خيراً، فلا يشترط أن تكون هناك سيولة بالنقد، إنما العبرة بقيمة المال؛ سواءً كان من الأعيان أو من غيرها. فقوله: (يسن لمن ترك خيراً) أي: من بعد وفاته، ولذلك العبرة بما يكون في حال مرض الموت ويغلب على ظنه أنه يموت فيه، فلو أنه وصى وهو غني ميسور، ثم أصابته أمراض، أو جاءت كربات أو نكبات على أمواله فخسر؛ فالعبرة بحاله عند مرض الموت لا عندما كتب الوصية. وقوله: (لمن ترك خيراً) أي: ينظر في حال مرضه للموت ودنو الأجل، فلو كتب وصيته قبل موته بسنة أو قبل موته بشهور، فإن هذا لا يُعتد به؛ لأن العبرة بحاله عند موته، أو بما هو قريب من موته؛ وذلك لأن هذا سيؤثر على مصالح الورثة، والعبرة في المال الكثير والخير الكثير بما يكون سابقاً للأجل لا بما قبل ذلك، فالورثة ماذا يستفيدون لو كان قبل وفاته بسنة عنده ملايين الأموال، ولما حضرته المنية لم يكن عنده إلا يسير من المال؛ فالعبرة بما يؤول إليه الأمر وينتهي إليه الحال، فقوله رحمه الله (لمن ترك خيراً) أي: بعد وفاته، وغلب على ظنه أنه سيكون بعد وفاته. والخير كما قال: (المال الكثير) وهذا تأسٍ بالكتاب؛ لأن الله نص على الوصية وألزم بها إذا ترك خيراً. وقوله رحمه الله: (يسن) فيه رد على من يقول: إن الوصية واجبة، فقد ذهب بعض السلف كـ الزهري وأبي مجلد رحمة الله عليهما إلى أن الوصية واجبة، سواءً كان الإنسان عليه حقوق أو لم تكن عليه حقوق، فيجب عليه أن يوصي، والأصل أنهم استدلوا بظاهر قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة:180]، و (كُتِبَ) بمعنى: فُرِض، وهذا القول عارضه قول جمهور العلماء رحمهم الله من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. وهو قول طائفة من السلف كـ إبراهيم النخعي وسفيان الثوري وغيرهم من الأئمة -رحمة الله على الجميع- بأن الوصية ليست بواجبة من حيث الأصل. وهناك قول ثالث في المسألة يقول: الوصية واجبة لأقربائك الذين لا يرثون، وهذا هو قول الظاهرية، وهو قول بعض السلف كـ مسروق صاحب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ورحم الله الجميع، وكذلك قال به طاوس بن كيسان وقتادة من تلامذة ابن عباس رضي الله عنهما، يقولون: إن الوصية واجبة للقريب الذي لا يرث، فمن كان عنده قريب لا يرث فيجب أن يكتب في وصيته له شيئاً، ويرون أن الآية منسوخة بالنسبة للوارثين، وتبقى محكمة في غير الوارث: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] قالوا: (كُتِبَ) بمعنى: فُرِض، فنسخ الله ذلك في أهل المواريث، فبقي الأقرباء الذين لا يرثون؛ فيجب عليك أن توصي لهم. والصحيح هو ما ذهب إليه الجمهور، وهو: أن الوصية ليست بواجبة، والدليل على ذلك حديث ابن عباس الصحيح، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)، وقد اختلف في الجملة الأولى هل هي مدرجة أو من كلامه صلى الله عليه وسلم؟ فقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) يدل من حيث الأصل على أن آية المواريث التي نزلت في سورة النساء وغيرها قد نسخت فرضيّة الوصية، فلم تكن هناك مواريث في أول الإسلام، وإنما الشخص يُوصِي ويكتب: أعطوا فلاناً، وأعطوا فلانة، فيتولى قسمة تركته قبل موته، ولكن الله سبحانه وتعالى تولى قسمة المواريث من فوق سبع سماوات: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:176]، والكلالة: هي أن يموت الرجل وليس له والد ولا مولود، قال الناظم: ويسألونك عن الكلالة هي انقطاع النسل لا محالة لا والد يبقى ولا مولود انقطع الآباء والجدود فاستفتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فقال الله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:176]، فتولى جبار السموات والأرض قسمتها من فوق سبع سماوات قسمة العدل، فأعطى كل ذي حقه. فإذا كانت النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم قد قسمت الحقوق، وأعطت كل ذي حق حقه؛ فحينئذٍ ليس من حق أحد أن يقول: إن هناك من الأقارب من له حق يجب عليك أن توصي له؛ لأنه لو كان هناك لبيّن الله تعالى كيف يُقسم للأقارب الذين لا يرثون، وبناءً على ذلك: فلا يُعتبر القول بأنها محكمة في الأقارب الذين لا يرثون صحيحاً من هذا الوجه. والذي يترجح: أن الوصية ليست بواجبة عليك إلا في الأحوال التي يتوقف عليها أداء حق الله عز وجل، أو إيصال حقوق الناس إليهم، على التفصيل الذي ذكرناه، وهذا القول هو قول الجمهور بقوة دليل السنة، على أن آية الوصية منسوخة وليست بمحكمة. ومما يقوي هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عمر في الصحيحين: (ما حق امرئ مسلم عنده شيء يوصي فيه أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه)، فهذا يدل على أن الوصية لو كانت واجبة لسكت النبي صلى الله عليه وسلم، وترك آية الوصية دالة على اللزوم؛ لكنه لما بين أن الوصية تكون واجبة في مثل هذه الحالة؛ دل على أن الأصل عدم وجوبها، وعلى هذا قال المصنف رحمه الله: (يسن لمن ترك): أي للشخص الذي ترك، سواءً كان رجلاً أو امرأة، وسيأتي من هو الذي يوصي، وما هي الشروط المعتبرة في الأوصياء.

ضابط المال الكثير

ضابط المال الكثير قال رحمه الله: [وهو المال الكثير]. الكثير: وصف للمال، وكيف نعرف أن هذا المال كثير أو أنه ليس بكثير؟ هذا يُرجع فيه إلى العرف، وتجري في ذلك القاعدة المشهورة: العادة محكَّمة، فإذا كان العرف أن هذا المبلغ الذي تركه يُعتبر كثيراً فهو كثير، فلو نظرنا قبل خمسين سنة فربما كانت العشرة ريالاً تُعتبر من المال الكثير جداً، والعشرة الريال ربما تعادل الآن أكثر من مائة ألف، مما يشتري بها الإنسان من رُخص الأشياء وعزة المال وقلته وندرته، لكن اليوم لو كانت تركته مائة أو ألف ريال فقد تكون قليلة، فيرجع إلى العرف، وقد بيّن الله تعالى في كتابه وفي هدي رسوله صلى الله عليه وسلم أن عُرف المسلمين محتكم إليه، ولذلك رُدت كثير من القضايا والمسائل والأحكام والتقديرات إلى الأعراف، فما دل عرف المسلمين أو عرف الميت على أنه كثير فهو كثير، وما دل العرف على أنه قليل فهو قليل.

القدر الذي يوصى به من المال

القدر الذي يوصى به من المال قال رحمه الله تعالى: [أن يوصي بالخمس، ولا تجوز بأكثر من الثلث لأجنبي، ولا لوارث بشيء إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت فتصح تنفيذاً]. قوله: (أن يوصي بالخمس): إذا كانت الوصية مسنونة، ومستحب للإنسان أن يوصي، فما هو القدر الذي يوصي به؟ من حيث الأصل: فإن الإجماع قائم على أنه لا يجوز للشخص أن يوصي فوق الثلث؛ لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يُوصَى فوق الثلث، كما في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، فإنه لما مرض بمكة، ودخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إني لا وارث لي إلا ابنة -أي: ليس لي وارث إلا ابنة واحدة- وعندي مال كثير، أفأوصِي بمالي كله؟ قال: لا، قال: أفأوصي بثلثيه؟ قال: لا. قال: فبنصفه؟ قال: لا. قال: فبالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس). ثم قال له قولته المشهورة: (اللهم اشف سعداً، اللهم اشف سعداً، لعلك أن تخلَّف فينتفع بك أقوام ويُضر بك آخرون)، فقد كان سعد يظن أن أجله قد حضر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اشف سعداً، اللهم اشف سعداً) فاستُجيبت دعوته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فشفي سعد، ثم قال: (لعلك أن تخلَّف فينتفع بك أقوام ويُضر بك آخرون)، فرفع لواء الجهاد في سبيل الله؛ فأعلى الله به كلمته، وكبت به أعداءه، وكان على يديه من الفتوح والخيرات على الإسلام والمسلمين ما الله به عليم، نسأل الله العظيم أن يجزيه بخير الجزاء وأعظمه وأسناه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لعلك أن تعمَّر -فمُد له في عمره رضي الله عنه وأرضاه- فينتفع بك أقوام، ويُضر بك آخرون). ثم قال: (اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم خاسرين، لكن البائس سعد بن خولة) يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة. وهذا الحديث المشهور قد اشتمل على بعض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وجملة من المسائل والأحكام، منها: مسألة الوصية، فإنه يعتبر قاعدة عند العلماء في باب الوصية. ولذلك قال له: (الثلث والثلث كثير)، فلما قال: (أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا)، وهذا يقتضي التحريم والمنع، فلما قال: (بالثلثين؟ قال: لا)، وهذا يقتضي التحريم ومنع الوصية بالثلثين. (فبنصفه؟ قال: لا)، وهذا يقتضي التحريم والمنع أيضاً، ثم قال له: (بالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير)، فسن عليه الصلاة والسلام الثلث من حيث الحد الأعلى. فاتفق العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز للموصِي أن يجاوز الثلث، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدّق عليكم بثلث أموالكم عند موتكم زيادةً في أعمالكم)، فهذه رحمة من الله عز وجل بالإنسان أنه يتصدق ويوصي في حدود الثلث ولا يزيد، فيصل رحمه، ويكون له من الأجر والخير في تلك الصلة، فيتدارك بعض الأعمال الصالحة، ولا يزيد على الثلث. لكن Q هل يوصي بالثلث كاملاً أو يُنقص من الثلث؟ وإذا أنقص من الثلث فهل يقارب الثلث أو يبتعد عن الثلث؟ لكل ذلك تفصيل عند العلماء، فمن أهل العلم من قال: يوصي بالثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم)، ولذلك قال عمر رضي الله عنه فيما رواه عنه البيهقي: (الثلث وسط، لا نقص فيه ولا شطط). فقول عمر رضي الله عنه: (الثلث وسط لا نقص فيه)؛ بحيث إن الإنسان عندما ينقص من الثلث تقل حسناته وأجره، وقوله رضي الله عنه: (ولا شطط)؛ لأنه ليس فيه تضييق على الورثة؛ فقد ترك للورثة ثلثي ماله؛ فحينئذٍ كان عدلاً. وقال بعض العلماء: إنه يغض من الثلث، أي: يُنقص منه ولا يبلغ الثلث على الأفضل، وكلهم متفقون على جواز الوصية بالثلث، فإن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على أنها ماضية وصيته؛ لكن الإشكال: هل الأفضل أن تستغرق الثلث كاملاً فتتصدق وتعمل الأعمال الصالحة وتبقى لك صدقات جارية بعد موتك، أم أن الأفضل أن تحد وتنقص من الثلث؟ قلنا: إن بعض السلف يرى أنه يستغرق الثلث، فيتدارك به الأعمال الصالحة، وقد تبقى أشياء، مثل: أن يحفر آباراً، وقد يبني مساجد، وقد يشيِّد أربطة ينتفع بها الفقراء والضعفاء، فتبقى له حسنات جارية من بعد موته، وهذا لا شك أن فيه تداركاً لكثير من الخير، وقال بعض السلف: لا يصل إلى الثلث. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لو أن الناس غضوا من الثلث، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الثلث والثلث كثير)، فقوله: (لو أن الناس غضوا) أي: لا يصلون إلى الثلث، بل يغضون منه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير). ومذهب أبي بكر وعلي رضي الله عنهما وطائفة من الصحابة أن المستحب هو الخمس، ولذلك وصَّى أبو بكر رضي الله عنه -مع أنه كان له مال- بخمس ماله، وقال في وصيته المشهورة: (إني رضيت بما رضي الله لنفسه) يقصد قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41]، فقال: (رضيت بما رضي الله لنفسه)، وهو الخمس، فجعل الوصية في الخمس. وكذلك علي رضي الله عنه قال: (من أوصى بالسدس أحب إليّ من الربع، ومن أوصى بالربع أحب إليّ ممن أوصى بالثلث)، وهم يريدون من ذلك أن يكون للورثة الحظ الأكثر. قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل منعه لـ سعد بقوله: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)، فهم يرون أن المال الذي يُترك للورثة فيه صدقة على الورثة، والصدقة على القريب أعظم أجراً من الصدقة على الغريب، وعلى هذا قالوا: إنَّه يفضل ألا يبلغ الثلث، وألا يصل إلى الثلث؛ مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير).

الأسئلة

الأسئلة

حكم تخصيص بعض الورثة ببعض الميراث

حكم تخصيص بعض الورثة ببعض الميراث Q سائل لديه أبناء معاقون، وآخر لديه بنت لم تتزوج، فهل إذا مُلِّكُوا داراً أو شقة يُحتاج فيه أيضاً إلى إذن الورثة، أم أن عذرهم هذا شفيع لهم؟ A السؤال فيه بعض الغموض، هو يقول: إن هناك ورثة معاقين، وإن هناك بنتاً لم تتزوج لآخر؛ فهل إذا مُلِّكوا شقة أو (عمارة) لابد من إذن الورثة؟ فهل مقصوده كونه يعطي أولاده المعاقين، أو يوصِي لأولاده المعاقين بالشقق أو العمائر، بمعنى: أن يملِّكهم إياها شفقة عليهم لوجود الإعاقة؟ في الحقيقة الحكم واحد، والقاعدة في عدم جواز الوصية للوارث شاملة للوارث المحتاج ولغير المحتاج، فمثلاً: لو كانوا ثلاثة أبناء وواحد من الأبناء معاق، فأحب الوالد أن يَخُص هذا المعاق بشيء ويوصي له بشيء خاص؛ فإنه لا وصية لوارث، كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، والدليل: أن الحديث عام لم يفصِّل بين وارث معاق وغير معاق، أو وارث محتاج أو غير محتاج، فيبقى العام على عمومه، وهذا من حيث الأصل عند العلماء بلا خلاف، وهو أنه لا وصية لوارث بدون تفصيل، لكن لو أنه نظر إلى أنه بحاجة إلى شيء معين، وأحب أن يخصَّه بهذا الشيء المعين، فلا بأس أن يرضي إخوانه، فيقول لإخوانه: أنتم تعلمون حاجة أخيكم، وتعلمون اضطراره، فأنا أوصي له بكذا وكذا، فأخذ رضاهم، فلا بأس بهذا، وهو -إن شاء الله- مأجور على ذلك؛ لأن هذا من الرحمة، لكن من حيث الحكم الشرعي ليس من حقه أن يَخُص بعض الورثة بشيءٍ دون وجود إذن الورثة جميعاً في ذلك. تبقى مسألة تمليكهم شقة أو (عمارة): بالنسبة لتمليك الشُّقق قد أبدينا عليه ملاحظة، بمعنى: أنه لا يصح لشخص أن يبيع شقة من عمارة، وقد فصّلنا في هذا فيما تقدم من الدروس، وبيّنا أنه إذا أراد الشخص أن يدخل شريكاً لصاحب العمارة فيقول له: أشتري نصف العمارة، أو ربعها أو ثلثها، أما شقة من العمارة فلا، وبيّنا أن السبب في ذلك أنه إذا نظرنا إلى أصول الشريعة فنجد أن من ملك أرضاً ملك باطنها وظاهرها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أراضين)، فجعل باطن الشيء تابعاً للشيء، فإذا جاء يملك شقة وقلنا أنه يملك الشقة، فمعناه: أنه يملك الشقة وما تحتها من حيث الأصل العام، ولذلك صح الطواف في الدور الثاني ونُزِّل منزلة الدور الأول، فإن من ملك أرضاً ملك سماءها، وصح للمعتكف أن يصعد إلى سطح المسجد الحرام ولا يبطل اعتكافه ما دام أنه من داخل المسجد؛ لأن هذا كله في حكم الأرض نفسها، وتابع للأرض نفسها. فإذا جئنا نقول: إنه يملك الشقة فقط التي في الدور الثاني، فيبقى السؤال الآن بالنسبة للدور الأول والثالث والرابع والخامس، فكل شخص يملك فيه شقة، ولو كانت العمارة من أربعة أدوار، فلمن تكون السطوح؟ قالوا: ملك للمالك الأصلي، والمالك الأصلي سيبني شقة، ثم يبني في الدور الخامس والسادس والسابع إلى ما شاء الله سبحانه وتعالى ويقول: أنا مالك للسطوح، فيفعل فيه ما يشاء؛ لأنه لا يعتد ولا يرى أن من ملك أرضاً ملك سماءها بالنسبة لأصحاب الشقق، وحينئذٍ يحدث الغرر، ووجه الغرر: أنه اشترى شقة، وهذه الشقة باقية ببقاء العمارة، فقد تنهدم العمارة بعد سنة أو بعد عشرين سنة، وقد تنهدم بعد ثلاثين سنة، فهو ملك مؤقت مثل المستأجر، كأنه ملكها مدة بقائها، وملكية البيع لا تقتضي هذا؛ بل ملكية البيع تنصب على ذاتها، فتكون مالكاً للأرض، ومن دخل في عمارة بالبيع الشرعي المعروف، فيدخل مالكاً لربعها أو لنصفها أو لثلثها. ويصح أن يقول شخص: عندي عمارة ثلاثة أدوار، ومن أراد أن يشتري مني ثلث هذه العمارة فليدفع مائة ألف؛ فيصبح عندي شريكاً في الثلث وأعطيه شقة من الشقق، وهذه يسمونها: (قسمة المهايأة)، فهذه جائزة، والشريعة -والحمد لله- لم تضيق على الناس، لكن لا ندخل في عقود لا يعرفها المسلمون، بل استحدثت عليهم، وقد تدخل عليهم اللبس، فمثلاً: افرض أنه في يوم من الأيام أراد صاحب العمارة أن يهدمها، فقال لأصحاب الشقق: اخرجوا، فبأي تعليل شرعي تمنعه؟ فقد يقول: الأرض أرضي، فتقول: نحن نملك الشقق، فيقول: لكن أنا أريد أن أهدم هذه العمارة وأبني أرضي؛ لأني أملك الأرض الأساسية، ولأنك أبحت له أن يبني الدور الأعلى والذي أعلاه؛ لأنه مالك للأرض وما عليها. إذاً: فكيف تجعل صاحب الشقة يملك فقط هذه الشقة من العمارة؟ فالغرر في هذا واضح، ولذلك لا يعرف المسلمون مثل هذا البيع، ولا يُعرف هذا البيع في بلاد المسلمين قبل خمسين سنة تقريباً، إنما طرأ قريباً ودخل على المسلمين، وهو من البيوع التي فيها الإشكال الذي ذكرناه، لكن أن تدخل مع مالك العمارة بالملك الشرعي الذي تتحمل فيه مسئولية العمارة، وتأخذ ربح العمارة سواءً بسواء مثل أخيك، وعلى قدر حصتك من الملكية، فهذا هو الصحيح، أما أن تدخل على وجه فيه غرر، فهذا لا يجوز. فإذا قال له: أُمَلِّك شقة، فلا، وإنما يملكه جزءاً من العمارة، ويقول: وهبت له نصف العمارة أو ربعها أو ثلثها، ويُعطي قدراً من العمارة وتُقدر العمارة، فإذا بلغت الثلث فحكمها حكم الوصية بالثلث، وإذا كانت أكثر من الثلث فتصح فيما نقص، وتبطل فيما زاد عن الثلث، والله تعالى أعلم.

حكم من عليه أقساط شهرية ويريد أن يوصي

حكم من عليه أقساط شهرية ويريد أن يوصي Q إذا كانت عليّ حقوقٌ مالية تشتمل على أقساط شهرية، فهل تتغير كتابة الوصية في نهاية كل شهر؟ A من حيث الأصل يمكن للشخص أن يقول: المؤسسة الفلانية لها علي مائة ألف، أو لها علي سيارة مقسطة بقسط كذا وكذا، فيسأل عما بقي من الأقساط، وهذا يكفي إن كان من أحلت عليه صادقاً. وينبغي للشخص الذي عليه أقساط أن يحتفظ بالأوراق التي تُثبت دفعاً؛ لأن هذا يحفظ حقوق الورثة، ويحفظ لهم المال من بعد موته ولا يُغرر بهم، حتى يعرفوا ما الذي له وما الذي عليه، والله تعالى أعلم.

حكم قراءة الجنب للقرآن الكريم

حكم قراءة الجنب للقرآن الكريم Q إذا توضأ الجنب وأراد أن ينام فهل له أن يقرأ أذكار النوم المتضمنة لآيات من القرآن؟ A الجنب لا يقرأ القرآن، وقد بينا هذه المسألة وذكرنا الأدلة على أن الجنب لا يقرأ القرآن، وأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحجزه عن القرآن وجود الجنابة، وعلى هذا أشرنا إلى الحديث الذي رواه أبو يعلى في مسنده، وهو من أقوى ما ورد شاهداً لرواية: (كان لا يحجزه شيء عن القرآن إلا الجنابة)، وهذا الشاهد قواه غير واحد من العلماء رحمهم الله، وأثبتوا أن الجنابة تمنع من قراءة القرآن، ويقوي هذا ما ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر عليه الرجل، وكان قد قضى حاجته، فسلم عليه عليه الصلاة والسلام، فاستدار إلى الجدار وضرب بكفيه فتيمم، ثم رد السلام وقال: (إني كنت على غير طهارة فكرهت أن أذكر الله)، فإذا كان هذا في الحدث الأصغر فمن باب أولى الحدث الأكبر. وأياً ما كان فإن الجنب لا يجوز له أن يقرأ القرآن، لكن إذا كان الجنب أو الحائض يخشى الضرر، مثل: أن يخشى السحر أو العين، وضاق عليه الوقت ودخل عليه وقت المغرب أو دخل عليه وقت الفجر وعليه جنابة، وخَشي أن يُبتلى؛ فقد رخص بعض العلماء في قراءة المعوذات خوفاً من السحر، وفي هذه الحالة: الأفضل له أن يتيمم ويخرج من الإشكال ثم يقرأ القرآن، فهذا أكمل وأفضل، وأما أذكار النوم فما كان منها من غير القرآن فإنها تُقرأ، سواءً كان على الإنسان جنابة أم لا، وأما ما كان من القرآن كقراءة آية الكرسي ونحوها، فلا بد فيه من الطهارة، والله تعالى أعلم.

حكم تأخير دفن الجنازة ليصلي عليها من لم يصل

حكم تأخير دفن الجنازة ليصلي عليها من لم يصلِّ Q من صلى على جنازة ثم تبعها، وقبل أن تدفن أراد من لم يدرك الصلاة أن يصلي عليها، فهل يجوز له أن يصلي معهم مرة ثانية؟ A السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا حضرت الجنازة دفنها مباشرة، وهذا هو المحفوظ من هديِه، ولذلك إذا صُلِّي عليها مع الجماعة فمن أدرك فالحمد لله، ومن لم يدرك فلا حاجة إلى تأخير دفنها؛ لأن هذا من تأخير الجنازة لمصلحة الحي، والميت من مصلحته المبادرة. وهذه سنة تخفى على الكثير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه قال: (أسرعوا بالجنازة)، وهي إذا كانت صالحة تقول: قدموني قدموني، فأي تأخير فإنه حجزٌ لها عن الفضل وحجزٌ لها عن الخير، فلا يجوز في هذه الحالة أن يُعتدى على الميت بتأخيره لمصلحة الحي. وقد يقول قائل: إنه سيدعي له ويترحم عليه، فنقول: إن هذا متدارك بالدعاء له حتى بعد دفنه، فليس الأمر موقوفاً على الصلاة عليه فقط؛ لأن الصلاة عليه قُصدت للدعاء، وقد حصل هذا المقصود وتحقق بصلاة الجماعة، خاصة إذا كان في الحرمين أو نحو ذلك، فكلما جيء بجنازة قبل دفنها توضع ثم يقال: من لم يصل فليصل ونحو ذلك، فهذا فيه تكلف. والذي يظهر من ظاهر السنة أننا مطالبون بالإسراع، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أسرعوا بالجنازة)، فهذا أمر يقتضي المبادرة والتعجُّل، وحق الميت في هذا ينبغي حفظه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله). ومن هنا وصَّى أهل العلم رحمهم الله بأنه لا يجوز تأخير الجنائز، وهذا أمر تساهل فيه كثير من الناس إلا من رحم الله، فينبغي المبادرة بالجنائز والإسراع بها، وهذا فضل للميت وخير له، وقد صح عن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم أن الله كشف له الغيب، وبيّن أن الجنازة تصيح وتقول: قدموني قدموني إذا كان صالحة، فنسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلنا ذلك القائل: قدموني قدموني؛ لما يرجو من رحمة الله والخير، ونقول: الدعاء له متدارك بعد دفنه، خاصة وأن هناك قولاً -وإن كان مرجوحاً- بجواز الصلاة عليه بعد الدفن، والله تعالى أعلم.

معنى قول العلماء: (قياس مع الفارق)

معنى قول العلماء: (قياس مع الفارق) Q نرجو من فضيلتكم توضيح قول الفقهاء رحمهم الله: (قياس مع الفارق)؟ A القياس دليل شرعي، وهذا الدليل الشرعي لا يجوز لأحد أن يستخدمه إلا إذا علم ضوابط الشريعة فيه، فالسلف والعلماء والأئمة أكثر من عشرة قرون قد قعَّدوا هذا الدليل الشرعي، وبيّنوا ضوابطه، فلا يجوز لأي شخص أن يستخدم هذا النوع من الأدلة إلا وهو يعرف أركانه وشروط، أي: الأركان المعتبرة للعمل به وإثباته، فلا يأتي أحد فيقيس شيئاً على شيء دون علم ومعرفة؛ لأنه قد يحلِّل ما حرم الله، وقد يحرم ما أحل الله، والرأي قد يكون مزلّة للإنسان إذا لم يحسنه؛ لأن الرأي سلاح ذو حدين، فإما أن يكون سبباً في بناء الشرع وتميُّز أحكامه ومعرفتها والوصول إلى الحق في المسائل المشكلة، وإما أن يكون العكس والعياذ بالله! ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتابه المشهور الذي كتبه لـ أبي موسى الأشعري، وهو من أعظم كتب الفقه، وقد اشتمل على قواعد مهمة للفقيه، حتى إن الإمام ابن القيم رحمه الله شرحه في أكثر من مائة صفحة، وهو كتاب عمر رضي الله عنه الذي قال فيه: (اعرف الأشباه والنظائر، ثم قس الأمور بأمثالها)، فبدأ بالمعرفة، فتحتاج إلى أن تعرف ما هو الأصل؟ وما هي العلة التي تربط بين الأصل والفرع؟ وتعرف الحكم المستنبط والذي تتوصل إليه، والذي من أجله أثبتَّ القياس. والقياس يقوم على أربعة أركان: 1 - فرع مختلف فيه. 2 - وأصل متفق عليه بين الطرفين. 3 - وحكم لذلك الأصل. 4 - وعلة تربط بين الفرع وبين الأصل. فمثلاً: نقول: لا يجوز التفاضل في الأرز كما لا يجوز في التمر، بجامع الكيل عند الحنفية، والقوت والادخار عند المالكية، والطعم عند الشافعية، والطعم مع الكيل أو الوزن على رواية عند الحنابلة رحمهم الله، أو الطعم على الرواية الثانية، أو الكيل على الرواية الثالثة، فهذا القياس قد ألحقت الأرز بالتمر فقلت: لا يجوز أن يُباع الرز بالأرز متفاضلاً، ويجري فيه الربا مثل التمر والشعير؛ لأنك ترى أن الأرز والشعير لا فرق بينهما من حيث القياس. إذاً: الفرع هو الأرز؛ لأنه لم يرد فيه نص لا في الكتاب ولا في السنة، والأصل المتفق عليه هو التمر؛ بأنه لا يجوز بيع التمر بالتمر متفاضلاً، والحكم: هو عدم جواز التفاضل، والعلة: ما ذكرناه في المذاهب الأربعة مفصلة، وفي هذه الحالة يجري القياس. ويشترط في الأصل الذي تقيس عليه من الشروط: ألا يكون معدولاً به عن سنن القياس؛ فلابد أن يكون صالحاً لأن يقاس عليه غيره، فإذا كان معدولاً به عن سنن القياس فلا يصح، فمثلاً: المرأة إذا قذفها زوجها -والعياذ بالله- بالزنا فإنه يلاعنها إذا لم تكن له بينة، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك)، وذلك في حديث ابن عباس لما قذف هلال بن أمية رضي الله عنه امرأته بـ شريك بن سحماء، فقال صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك)، فاشتكى هلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه نزل فيك وفي صاحبتك قرآن)، فجاءت فتلاعنا، فالرجل مع زوجته إذا قذفها فإنهما يتلاعنان، لكن لو أن أخاً قذف أخاه والعياذ بالله، فهل يجري بينهما اللعان؟ فلو جاء شخص يجهل ضوابط القياس فقال: يجري اللعان بين الأخ وأخيه كما يجري بين الزوج وزوجته، بجامع وجود القرابة في كلٍ؛ فنقول: هذا قياس فاسد؛ لأن الأصل معدولٌ به عن سنن القياس. إذاً: هناك شروط وضوابط في الأقيسة، فمثلاً: إذا كانت الجوارب خفيفة، وقد كان الموجود على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن الجوارب سميكة، فنزلت الجوارب السميكة منزلة الخف؛ لأنه مثله في الوصف وقريب منه، حتى إنهم ربما يواصلون عليه المشي ولا يسترون أقدامهم، حتى إنهم يلفُّون التساخين لأجل الوقاية من الحجارة، ولا تكون كذلك إذا كانت رقيقة، فإذا كان الأمر كذلك، فلو جاء أحد يقيس فقال مثلاً: يجوز المسح على الخفيف من الجوارب كما يجوز المسح على الخفين، فنقول: هذا قياس مع الفارق؛ لأن الخف يمكن مواصلة المشي عليه، وهو ساتر للرجل بخلاف هذا الشفاف الرقيق، ولأن الخف في الأصل رخصة عُدل بها عن الأصل الذي هو غسل الرجلين، وهذه الرخصة ينبغي أن تتقيد بما ورد وثبت في السنة، والمحفوظ في زمان النبي صلى الله عليه وسلم هو الخف، والجورب الثخين، ولذلك جاء في رواية السنن: (الجورب المنَعَّل)، أي: الذي يكون في أسفله جلد، فإذا ثبت هذا، ثم إذا جاء أحد يقيس -وأعني: عند من لا يرى المسح على الخفيف- فنقول: إن هذا قياس مع الفارق؛ لأن الثخين في حكم الخف، ولذلك جاز المسح على الجوارب لأنها في حكم الخفاف، فلا يجوز قياس الخفيف عليها، وهذا كله قياس مع الفارق، فتثبت الفارق بينهما؛ فإذا أثبتّ الفارق قَدَحْت في القياس. والقياس مع الفارق يسميه العلماء: قادح من قوادح القياس، وهذا القياس الذي أثبته العلماء كدليل وحجة يُعترض عليه، ويُقدح فيه من أربعة عشر وجهاً، منها: فساد الاعتبار، والقلب، والنقض، ومنها: أن يقال: هذا قياس مع الفارق، فتثبت أن هناك فرقاً بين الأصل وبين الفرع، وتُضعِّف إلحاق الفرع بالأصل من هذا الوجه. فالقياس مع الفارق قادح من قوادح القياس الأربعة عشر، وإذا سلّم الخصم أن هذا الفارق مؤثر فحينئذٍ يبطل قياسه، أو يلزم بدليل آخر بدلاً عنه، والله تعالى أعلم.

جدة الزوجة محرم للزوج

جدة الزوجة محرم للزوج Q هل يكون زوج المرأة محرماً لجدة تلك المرأة من أبيها، أي: هل يدل قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء:23] على ذلك؟ A نعم، أم الزوجة من جهة أبيها ومن جهة أمها أم لها، ولذلك تعتبر مَحرَماً له، وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] يشمل الأم المباشرة والأم بواسطة، سواءً تمحضت بالإناث كأم الأم، أو تمحضت بالذكور كأم أب الأب، فجدة الزوجة سواءً كانت من جهة أمها -وهي الجدة التي تمحضت بالإناث وهي أم أم الزوجة- أو كانت جدتها من جهة أبيها؛ كأم أبيها أو أم أبي أمها، فإنها مَحرَم؛ لأنها في حكم الأم؛ للعموم الذي ذكرناه بنص الآية الكريمة، والله تعالى أعلم.

تخصيص شعبان بكثرة الصيام

تخصيص شعبان بكثرة الصيام Q هل ورد فضل للصيام في شهر شعبان سواءً كله أو بعضه؟ A لم يرد في شعبان دليل على تخصيصه بالصيام من جهة الفضل، لكن ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم ويكثر في شعبان من أجل التقوي على رمضان، وليس المراد من هذا خصوص الشهر، ولا يراد به الاعتقاد في الشهر، وإنما يُراد به التقوي على رمضان، ولا يخفى أن من دخل عليه رمضان، ولم يكن قد صام شيئاً من شعبان؛ فإنه يضعف في أول رمضان، وقد يتعب في الأيام الأُوَل من رمضان، ويُنهك بدنه؛ لأنه لم يألف الصوم، ولم يتعود عليه قبل دخول رمضان، فإذا أراد أن يكون قوياً في رمضان، ويتقوى على صيامه؛ فالأفضل ألا يبالغ في صيام شعبان، ولا يترك -أيضاً- صيام شعبان؛ لأنه إذا بالغ في صيام شعبان فإن رمضان سيدخل عليه وهو منهك، فيؤذيه الصوم، فيكون قد اشتغل بالنافلة عن الفرض، وإذا ترك صيام شعبان كلية دخل عليه رمضان فأضعفه بالصوم، ولذلك فإن من يعتاد الصيام في شعبان إذا دخل عليه اليوم الأول فلا يصدع رأسه، ولا ينهك بدنه، ولا تخور قواه، لكن بعض الناس ممن لا يألف الصوم ربما سقط من بعد صلاة الظهر، وإذا به لا يتحرك، وقد لا يستطيع أن يُصلي العصر من شدة ما يأتيه من وطأة الصوم عليه. فالمقصود من صيام شعبان هو التقوي على صيام رمضان، وهذا وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن هنا نُهي عن الصيام بعد منتصف شعبان؛ لحديث العلاء بن عبد الرحمن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصوم بعد منتصف شعبان)؛ لأنه إذا انتصف شعبان وبالغ في الصوم أنهكه عن رمضان، ولما نهى عن الصوم بعد المنتصف، كأنه يحبب الصوم قبل المنتصف، وهذا مفهوم مخالفة، فإذا صام بعد منتصف شعبان، وبالغ في الصيام؛ ضعُف عن رمضان. ونقول: إنه يُفصَّل في ذلك: فمن كان الصوم لا يُضعفه فيجوز له الصوم، ليتقوى به على رمضان، ويدل على ذلك حديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين). وهذا أصح من حديث النهي عن الصوم بعد منتصف شعبان، فلما نهى عن ذلك وقال: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين) نبه على أنه يجوز تقدمه بصوم أربعة أيام أو خمسة، وذلك من باب التقوي على رمضان، وهذا أمر يخفى على الكثير، حتى في بعض الخلافات التي وقعت بين العلماء رحمهم الله في هذه المسألة أن صوم شعبان لا يُراد لذاته، وإنما يراد به التقوي على رمضان، بحيث إذا دخل عليه وقد ألفت نفسه الصوم قوي عليه في فريضته، ولم يُبالغ في ذلك إلى درجة يُنهك بسببها في صيام رمضان الفريضة، والله تعالى أعلم.

وصايا مهمة لمن يحضر الدروس العلمية

وصايا مهمة لمن يحضر الدروس العلمية Q نود منكم نصيحة لمن يضع سيارته خلف سيارات يريد أصحابها الخروج فلا يستطيعون بسبب تلك السيارة، ونريد نصيحة أخرى لمن يؤذي المسلمين أثناء الدرس بفتح نغمات التلفون أو بالكلام؟ A لا يجوز للمسلم أن يتسبب في الإضرار بأخيه، وأوصي كل طالب علم، وأحرِّج عليه بالله عز وجل -لما وجدنا من الأذية في الدروس، وإزعاج بعض العوام وتشويشهم- أنه إذا أوقف سيارته ألا يوقفها وهي مقفلة على أحد، ولو أن يضعها على بعد كيلو من المسجد، فلا يحضر مجلسي أحد قد آذى أحداً بقفل سيارته على إخوانه، وهذا أمر قد تكرر أكثر من مرة، سواء في درس جدة أو في درس مكة أو غيره من الدروس، فرجائي للإخوة أن يتقوا الله عز وجل في أنفسهم، وأن يتقوا الله في إخوانهم، وقد حدث في بعض الدروس أن كان بعض الجيران عنده مريض، واحتاج إلى إسعافه، فلم يستطع، لأن أحدهم أقفل بسيارته على سيارة صاحب المريض. وبعضهم يأتي وكلما وجد سيارة ظنها سيارة طالب مثله، فيقفل عليها، فهذا لا ينبغي أبداً، فإذا أردت أن توقف سيارتك فلا تقفل على أحد وإلا حملت الإثم والوزر، وخاصة إن كنت طالب علم أو كنت منتسباً للعلم. الأمر الثاني: مما كثرت الشكوى فيه: قضية الجوّالات وأصوات البيجرات أثناء الدروس، فأُناشدكم الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه ألا يجلس أحد في مجلس علم -وأخص مجلسي- وقد فتح جواله، فإذا أراد أن يجلس ويغلق الجرس فليجلس، أما أن يجلس ومعه جواله وقد فتح جرسه، فلا آذن له، والله يشهد على ذلك، وأشهد الله أنه مؤذٍ لإخوانه ومضر بهم، سواءً كان ذلك عن طريق فتح الجرس فيُزعج من حوله -وهذه الأجراس تعرفون أن كثيراً منها موسيقية وذات نغمات لا تليق في بيت الله عز وجل- أو كان ذلك عن طريق التكلم والتحدث أثناء الدرس، وهذا قد تكرر أكثر من مرة، وقد بعث لي الإخوة رسائل في درس جدة ومكة، أنه بلغ ببعضهم أنه يتكلم أثناء الدرس وداخل الحلقة، وما رأيت ذلك، لكن لا أشك أنه ظالم لإخوانه؛ لأنه إذا أراد أن يكلم أحداً فليخرج من الحلقة، والأغرب من هذا أن البعض يخرج ويتخطى الرقاب ثم يرجع مرة ثانية، ولا أرى له شرعاً أن يعود إلى المكان. وعليه: فالذي يريد أن يتصل ويكلم الناس فليجعل كلامه في الخارج، وليبتعد عن الحلقة، فهذا مكان علم، ومكان تتلى فيه آيات الله والحكمة، وليحمد الله المسلم أن الله شرفه وكرمه بسماع آيات التنزيل والأحكام، وهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى يغبط عليها، فهذه الثواني والدقائق إن كانت عندك قليلة فإنها عند الله ليست بالقليلة، بل هي التي تكفر فيها السيئات، وترفع فيها الدرجات، وكفى الإنسان لغط الدنيا وهمومها، ألا يستطيع أن يصبر ساعة في ذكر الله جل جلاله؟ والبعض قد يأخذ معه جواله وبيجره إلى الصلاة، فيزعج ويُشغل فلا يعرف كيف صلى، نسأل الله السلامة والعافية، اللهم إنا نعوذ بك من قسوة القلوب أنت أثناء الصلاة في آخرتك، فالإنسان يقضي الساعات كلها في أمور الدنيا، أفلا يستطيع أن يصبر نفسه دقائق؟! فالصلوات لا تبلغ بعض الأحيان ربع ساعة، أفلا يستطيع أن يُغلق جوَّاله؟! وهل الذي يتصل عليه أعز عليه من ربه الذي يلقاه ويستقبله ويذكره ويمجده ويثني عليه بالذي هو أهله سبحانه وتعالى؟! إن ذلك كله بسبب قسوة القلب والعياذ بالله! ولا أشك أن هذه من الفتن التي فُتحت على الناس حتى شُغلوا في موقفهم بين يدي الله جل جلاله. فينبغي على الإنسان أن يكون منتبهاً لهذه الأمور، فبمجرد أن آتي إلى المسجد أُغلق جوالي، أو أفتح جوالي وأتركه في السيارة وليتصل من أراد، ثم إذا رجعت رجعت إلى دنياي، لكن إذا دخلت في آخرتي مقبلاً على ربي فليس هناك أي شيء يشغلني عن الله جل جلاله، ولأن الشخص إذا اتصل عليه أحد في الصلاة، فإنه يتشوش ويقول في نفسه: من هذا الذي اتصل؟ أهي الزوجة أم الأهل أم غيرهم؟ أمور كلها تُدخِل على الإنسان الوساوس وتشغله عن ذكر الله عز وجل. فهذا أمر قد كثرت فيه الشكاوي، ولذلك أعود وأكرر: إني أحرج بالله على كل شخص يحضر مجلسنا ألا يتسبب في أذية إخوانه، سواءً عن طريق البيجرات أو عن طريق الجوالات، ولينصح بعضكم بعضاً. وإذا حضر إلى الدرس فهذا درس علم ومجلس علم، يُذكر فيه الله جل جلاله، ويَبتعد الإنسان عن أي شيء يزعج إخوانه أو يؤذيهم، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدينا إلى سواء السبيل، وأن يعصمنا من الزلل وأن يوفقنا في القول والعمل، فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم قد عظم أذية المسلم إلى درجة أنه أسقط صلاة الجماعة عمن أكل ثوماً، وهذا الثوم رائحة فقط، فإذا جئت لتصلي وتقف بين يدي الله شوش عليك في الرائحة؛ فكيف وأنت تستمع حكماً شرعياً تنتظره أمم من طالب العلم؟ فالأمر ليس بالسهل، الأمر تتقطع له القلوب حرقة، وقد كنا نرى من مشايخنا من يسقط طالب العلم من عينه لمجرد غلطة يذيعها أثناء درسه وحضوره مجلس العلم. ربما أثناء اتصال الجوال يكون إخوانك متجهة أفهامهم وأنظارهم لمسألة، فقطعتهم وحرمتهم منها، أليس هذا ظلم؟ أليس هذا جور؟ أليس هذا اعتداء لحدود الله عز وجل؟ وهذه المسألة قد تكون من أهم المسائل، وقد تكون معضلة من المعضلات، فقد جاء طالب العلم ربما من عشرات الكيلو مترات من أجل (قال الله وقال رسوله)، فأنصت وأصغى وأحضر قلبه، حتى إذا أراد أن يصل إلى النتيجة جاء هذا الاتصال وقطعه عنها، فمن الذي يُسأل أمام الله عن هذا؟ وأي ضرر يحصل للإنسان في مثل هذا؟ وإذا كان الشخص لا يُعظِّم مثل هذا، فإننا والله نعظم حدود الله ونعظم شعائره، وعندنا الكلمة من العلم تساوي شيئاً كثيراً، وعندنا الحكم الشرعي كبير جداً؛ لأن هذا العلم هو الذي رفعنا على رءوس الناس بفضل الله سبحانه وتعالى، وهو الذي رقينا به المنابر، وهو الذي نلنا به الخير والسعادة والبركة؛ فكل قليل منه عندنا كثير وكبير جداً، فلا نستخف بمثل هذا. فإذا جاء أحد ومعه جواله وبيجره فليحتط، ولا يتسبب في أذية إخوانه، فالأمر ليس بالسهولة مثلما يظن البعض، وينبغي علينا أن نتواصى بالحق، وأن يزجر بعضنا بعضاً، فالشخص الذي يفعل هذا لا يفوتك، وقل له بعد الصلاة: يا أخي! اتق الله، فهذا لا يجوز، وهذا من الاعتداء على حدود الله عز وجل، فيأتمر المسلم بما أمر الله، وينهى أخاه عما حرم الله عز وجل من أذيته والإضرار به. والأمر أيضاً عند النساء: قضية الأطفال، وإزعاج طالبات العلم بهم، وقد تكررت الشكوى من النساء، حتى إن بعض النسوة قد ناشدنني فقلن: اتق الله فينا، فإننا نحضر من مسافات بعيدة، ونريد هذه الساعة في الأسبوع لسماع الذكر وسماع الأحكام، ونحن أحوج ما نكون، فيأتي الأطفال ويشوشن علينا، ولربما يصل الأمر إلى تدليل الأطفال وعبثهم ولعبهم على مرأى ومسمع من والدتهم، وهذا لا يجوز. فلا يجوز ترك الأطفال -سواءً عند الرجال أو عند النساء- بطريقة تشوّش على طلاب العلم، فهذه بيوت الله، وليخش والد الطفل أن يُدعى على طفله دعوة تكون سبباً في شقائه؛ لأن بعض الناس لا يتمالك نفسه، وقد يأخذه القهر لأنه يأتي من عشرات الكيلو مترات للعلم الذي يريد أن يُفني له عمره وحياته، ويضحِّي له بالغالي والرخيص، فيأتي من يشوِّش عليه سواءً ممن يعقل أو لا يعقل. فعلى المرأة أن تحفظ أطفالها، وإذا غلب على ظنها أن حضور الأطفال يُشوِّش على أخواتها فلتتقي الله عز وجل، ولتخف منه سبحانه وتعالى، ولتجلس في بيتها وتسمع الشريط، أما أن تأتي إلى بيت الله عز وجل بأطفالها، وتزعج من حضر من طالبات العلم، وتُسبب في ضياع تركيزهن وضبطهن للعلم، ونحن أحوج ما نكون إلى طالبة علم تضبط هذا الدين وتقوم بحقوقه، فهذا لا يجوز، فأوصي أخواتي بأن يراعين ذلك، وأن يتقي الله بعضنا في بعض، نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، إنه المرجو والأمل، والله تعالى أعلم. وأختم هذا الدرس بوصيتكم بما وصى الله به المسلم تجاه أخيه المسلم: بأن يُعينه وأن يناصره وأن يؤازره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). فكم من مسلم دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب، فجعل الله سعادته في دعوته، فقال الملك: آمين، ولك مثله، وكم من كربة ونكبة وفاجعة فُرِّجت عن مسلم بفضل الله ثم بدعوة أخ له صادق بظهر الغيب! فأعظم الله أجر الداعي، وأحسن العاقبة لمن دُعي له، وإن إخوانك في الشيشان يعانون كرباً وبلاءً عظيماً لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فقد شرِّدوا، وأخرجوا من ديارهم،، وفرق بين الوالدة وأولادها، وبين الأخ وأخيه، وعانوا من البلاء ما الله به عليم عندما طرقتهم أبواب البرد في مكان هو من أشد أرض الله عز وجل برداً وزمهريراً! فلا يعلم ما الذي يكابدون ويجدون من كيد وحقد أعداء الإسلام والمسلمين على هذا الدين إلا الله سبحانه وتعالى، فما أحوجهم منكم إلى النصرة بكل ما تعنيه هذه الكلمة، وهذا أصل شرعي، وهو: أن الله فرض على المسلم أن ينصُر أخاه المسلم. وإن مما ينصر به المسلم الدعاء، ولا يستهين المسلم بالدعاء، فإن الله تعالى قد زلزل عروش الظالمين وشتّت شملهم أجمعين بدعوة المظلومين، والله يرفع دعوة المظلوم ويقول: (وعزتي وجلالي لأنصرنكِ ولو بعد حين). فاضرعوا إلى جبار السموات والأرض، وابتهلوا لهم بخالص الدعاء، خاصة في مظان الإجابة من الأسحار وبين الأذان والإقامة بقلوب خاشعة متجهة إلى الله سبحانه وتعالى، بل بكل ما يستطيع المسلم من خشوع وإخبات وإنابة، فيستجمع بها ما يكون سبباً في قبول دعوته نصيحة لإخوانه المسلمين. وعلى الأئمة أن يضرعوا إلى الله بالدعاء في القنوت، فيقنتوا ويستحضروا الخشوع، ويستحضروا عظمة الله جل جلاله، الذي لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، والله على كل شيء قدير، ولا يعجز الله شيء أبداً، فإن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وما أهون الكافر على ربه! وما أهون العبد على ربه إذا أراد أخذه! وإن أخذ الله أليم شديد، فاضرعوا إلى الله بالدعاء، وابتهلوا بسؤال الله سبحانه وتعالى حتى يفرِّج

كتاب الوصايا [3]

شرح زاد المستقنع - كتاب الوصايا [3] من المسائل المتعلقة بالوصايا: أن الوصية بأكثر من الثلث أو تخصيص بعض الورثة بشيء من المال لا يجوز إلا بموافقة الورثة. ومنها: أنه يكره للفقير أن يوصي بشيء من ماله وعنده ورثة محتاجون، ومنها من مات ولا وارث له، فهل يوصي بماله كله أم أنه يقتصر على الثلث؟ ومسألة تزاحم الوصايا، وغيرها من المسائل التي فصل فيها الشيخ هنا.

حكم الوصية بما زاد على الثلث

حكم الوصية بما زاد على الثلث بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ولا تجوز بأكثر من الثلث لأجنبي، ولا لوارث بشيء إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت، فتصح تنفيذاً]. بين المصنف رحمه الله في هذه الجملة أن الوصية لا تصح فيما زاد على الثلث، وقد بيّنا أن الأصل في هذه المسألة حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير) ومن هنا أخذ العلماء دليلاً على أنه لا يملك الإنسان في وصيته ما زاد على الثلث، وإذا فعل ذلك فإنه يطالب الورثة بالإذن أو الامتناع، فإن شاءوا امتنعوا فتُلغى الوصية فيما زاد على الثلث، وإن شاءوا وافقوا فتمضي، كما ذكر المصنف رحمه الله، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، أن الذي يملكه الإنسان في صدقته ووصاياه في حدود الثلث. وفي هذا حكمة من الله عظيمة؛ لأن الإنسان إذا حضره الأجل عظُم خوفه من الآخرة، وانكشفت له حقائق الأمور، وزال عنه اللهو والغرور، وأصبح مقبلاً على آخرته، فعندها لو مكّن الله الإنسان من جميع ماله لتصدّق بجميع ماله؛ لأنه يريد أن يفتدي من عذاب الله عز وجل، وأن يَسلم من تبعات الأموال التي جمعها، والخيرات التي حصَّلها؛ فإذا وقف على آخر الدنيا فإنه يغلِّب مصلحة نفسه على مصلحة ورثته، ولو فُتح هذا الباب لما أبقى ميت لورثته شيئاً، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل الثلث، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم)، أي: عند الوفاة، حتى تكون من وصية الإنسان لآخرته يستصلح بها ما فسد، ويتدارك بها ما فات؛ فيصل بها رحمه، ويجعل بها صدقة جارية عليه بعد موته، فهذا من الخير والرحمة التي جعلها الله عز وجل لعباده المؤمنين. قال رحمه الله: (ولا تجوز بأكثر من الثلث) أي: لا تصح الوصية في الشيء الزائد على الثلث، فالثلث نستخرجه من جميع ما تركه الميت؛ سواءً كان من النقود أو من غيرها، فمثلاً: لو كان قد ترك سيولة من النقد ما يقارب مائة ألف، وترك (عمائر) وأراضي وعقارات وأموراً أخرى، ففي هذه الحالة لو قال: أَوصيت بمائتي ألف، فالسيولة تُعادل المائتي ألف، فإننا لا نقول: إنه قد أوصى بكل ماله، وإنما ننظر كم قيمة العقارات التي تركها والسيارات التي كان يملكها، ولو كان عنده أطعمة في بيته، مثل أكياس الأرز التي للتجارة، ونحوها، فإذا كانت تجارات ونحوها فإنها تُقوَّم وتنظر قيمتها، ثم ينظر المبلغ الذي وصى به هل يعادل ثلث جميع التركة أو لا يعادلها؟ فلو أننا وجدنا العقارات تساوي مليوناً، وهو قد أوصى بمائتي ألف، فلا شك أن المائتين نافذة؛ لأنها دون الثلث، فتصح وصيّته وتمضي، ولكن إذا كانت العقارات مجموعها يُعادل مائة ألف، كأن يكون مجموع ما عنده من الأراضي -مثلاً- أربع قطع، وكل قطعة تساوي خمسة وعشرين ألفاً، فهذه مائة ألف، ثم هو قد أوصى بمائتي ألف، فالمائتان تعادل ثلثي التركة، فحينئذٍ تَصِح في المائة، وتبقى المائة الزائدة ويسأل عنها الورثة: هل يمضونها أم لا؟ وينبغي أن يكون إمضاء الورثة بدون إحراج، فبعض الورثة قد يُضايق بعضاً في إنفاذ وصية الوالد والوالدة فيما زاد على الثلث، وهذا أمر لا ينبغي؛ لأن الذي يخرج بوجه الحياء وبالإكراه لا خير فيه، وربما أن هذا المال إذا أخذه الإنسان على هذا الوجه فقد يكون منزوع البركة، فتأتي العاقبة الوخيمة لمن أخذه من صاحبه بدون رضاه ولا بطيب نفس منه. فينبغي ألا يضايق بعض الورثة بعضاً في هذا، فيقول مثلاً: إن الوالدة قد وصّت بالمائة ألف لكي نخرجها، وفي ذلك إضرار، فقد يكون بعض الورثة مديوناً، وقد يكون معسراً، وقد يكون عنده من العيال والضعفة ما يجعله يحتاج إلى أن يأخذ من الإرث حتى يواسيهم، أو يُصلح من شئونهم، فينبغي النظر في مثل هذه الأمور، وعدم تغليب العواطف على الأمور الشرعية المقررة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن المواريث والفرائض التي قسمها الله من فوق سبع سماوات أمرها عظيم، وقد بينها في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى تصل الحقوق إلى أهلها. وقد تترك الوالدة -مثلاً- حلياً، وهذا الحلي في بعض الأحيان يعادل أربعين ألفاً، وفي بعض الأحيان يعادل مائة ألف، وبعض النساء قد يعادل حليها عشرات الآلاف أو مئات الآلاف، فتجد بعض الورثة يقول: نأخذ حليها ونتصدق به، فلا ينبغي هذا؛ بل ينبغي وضع الأمور في نصابها، ومعرفة ما الذي خلّفه الميت، وما الذي ينفذ من وصاياه إلزاماً، وما الذي ينفذ اختياراً، أي: باختيار الورثة وموافقتهم، وينبغي الرجوع إلى أهل العلم وسؤالهم في مثل هذا، وعدم تغليب العواطف في هذه الأشياء؛ حتى يكون الإنسان على السنن، وتكون طاعته لله عز وجل على بصيرة ونور.

توقف إمضاء الوصية بما زاد على الثلث على قبول الورثة

توقف إمضاء الوصية بما زاد على الثلث على قبول الورثة وقوله: (ولا لوارث بشيء إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت فتصح تنفيذاً (قوله: (إلا) استثناء أي: إلا أن يجيز الورثة ما زاد عن الثلث، فنسأل الورثة ونقول: هذا الزائد عن الثلث هل نمضيه أو لا نمضيه؟ فمثلاً: لو كان الثلث مائة ألف، وهو قد أوصى بمائتي ألف، فحينئذٍ نسأل الورثة عن المائة الزائدة؛ لأن الوصية تصح في المائة الأولى، وتبقى المائة الثانية موقوفة على إجازة الورثة، فإذا سألنا الورثة فإن جوابهم لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يتفقوا. الحالة الثانية: أن يختلفوا. وإذا اتفقوا فإما أن يتفقوا على الإمضاء، وإما أن يتفقوا على الإلغاء، فإذا اتفقوا على الإمضاء، وقالوا: رضينا ما وصى به والدنا، أو ما وصت به الوالدة، فحينئذٍ تمضي المائتان، وتنفذ الوصية في المبلغ كاملاً، في المائة الأولى استحقاقاً للميت، والمائة الثانية إما تنفيذاً وإما ابتداءً. وأما إذا اتفقوا على إلغاء الوصية، كأن يكون الورثة فقراء ضعفاء، ووالدهم ترك لهم مائتي ألف، وتصدّق بما زاد على الثلث فقال: نصف مالي صدقة، أو أُوصي أن نصف مالي يُتصدق به، فنسأل الورثة فيما زاد: هل توافقون؟ فإن قالوا: نحن أحوج، ونريد هذا المال، ولا نريد إمضاء هذا الزائد على الثلث، فنقول: هذا من حقكم، ولا تثريب عليكم، وهذا ليس بعقوق للوالدين، فلا يظن أحد أن هذا عقوق، ولو كان عقوقاً لما أمر الله به، ولما أحله من فوق سبع سماوات، ولكن قد ينظر الوالد شيئاً لحظ نفسه، وأيضاً الوارث ينظر لحظ نفسه، فالوالد ينظر إليه تطوعاً وتفضلاً، والوارث يراه لحظ نفسه واجباً وإلزاماً؛ فلو كان -مثلاً- أحد أولاده عليه ديون أو حقوق، ورأى أن والده أوصى لغيره، فلو أنه أمضى وصيته فيما زاد على الثلث لتضرر هو فيما يكون من استحقاقه من الإرث، فعند ذلك من حقه أن يقول: لا أمضيها، تقديماً لحقوق أولاده؛ لأن الأولاد لهم حق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ابدأ بنفسك وبمن تعول)، فجعل بعد النفس من يعول، ففي هذه الحالة إذا اتفقوا على الإمضاء أو اتفقوا على الإلغاء فلا إشكال. الحالة الثانية: أن يختلفوا، فيقول بعضهم: نمضي، ويقول بعضهم: لا نمضي. فمثلاً: لو أنه ترك ابناً وبنتاً، فوصّى بما زاد على الثلث، ثم سألنا الابن والبنت، فقالت البنت: أنا أُجيز ما أمضاه والدي، وقال الابن: لا أُجيز، فحينئذٍ تنفذ بقدر ثلث ما زاد على الثلث؛ لأن الزائد على الثلث استحقاق للابن والبنت، والابن له مثل حظ الأنثيين، فمعنى ذلك: أن للابن سهمين فيما زاد على الثلث، وللبنت سهم واحد فيما زاد على الثلث، فإن أمضت البنت مضى ثلث ما زاد على الثلث، وإن أمضى الذكر مضى ثلثا ما زاد على الثلث. فلو كان الذي زاد على الثلث ثلاثة آلاف ريال، فسألنا البنت فقالت: أمضوه، وقال الولد: أنا محتاج، فحينئذٍ نمضي ألفاً ونبقي ألفين، فصحت في الألف والتغت في الألفين. وعلى هذا فإنه يُنظر إلى نصيب كل وارث، فإن اختلفوا فيصح في استحقاق كل ذي حق بقدر نصيبه من ذلك الزائد على الثلث.

توقف إمضاء الوصية بما زاد عن الثلث على قبول الورثة

توقف إمضاء الوصية بما زاد عن الثلث على قبول الورثة وقوله: (ولا لوارث بشيء). فلا يصح أن يوصي لوارثه بشيء، فلو خص بعض الورثة وقال: أوصي بأن يُعطى فلان من أولادي الثلث أو الربع، أو يُعطى مائة ألف من التركة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حرم هذا ومنعه، حيث قال: (لا وصية لوارث)، وجاء في حديث ابن عباس -وقد سبقت الإشارة إليه- إلا أن العلماء اختلفوا في قوله: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)، فهذا يدل على أن الوارث لا يُوصى له. والعبرة بالوارث هو ما يكون بعد الموت، فإذا كان غير وارث حين الوصية، ثم أصبح وارثاً بعد الموت، أو كان وارثاً حال الوصية ثم أصبح غير وارث عند موته، فهذا كل سيأتي بيانه إن شاء الله. أما من حيث الأصل فلا يجوز للميت أن يُوصي لمن يرثه، سواءً كان من الذكور أو من الإناث، وفي هذا حكمة عظيمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قسم المواريث وأعطى كل ذي حق حقه من التركة، فينبغي أن لا تترك القسمة؛ لأنها هي العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض. فإذا جاء يوصي وقال: بناتي، أو أبنائي أريد أن أزيدهم، فكأنه يستدرك على الشرع، ولذلك قُطع من هذا ومُنع. كما أن الوصية للوارث توغر صدور الورثة بعضهم على بعض، وتوغر صدورهم أيضاً على مورثهم، سواءً كان من الرجال أو من الإناث، كما حرّم الله عز وجل تخصيص بعض الورثة بالعطيَّة دون بعضهم كما تقدم معنا.

توقف إمضاء الوصية للوارث على إجازة الورثة

توقف إمضاء الوصية للوارث على إجازة الورثة وقوله: (إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت فتصح تنفيذاً) قوله: (إلا) استثناء، والاستثناء: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، (إلا بإجازة الورثة لها) وإجازة الورثة لأمرين: الأمر الأول: لما زاد على الثلث، وقد تقدم بيانه. الأمر الثاني: إذا خص بعض الورثة بشيء ما، كأن يكون واحد من أبنائه معاقاً ويحتاج إلى المال أكثر، فخصّه بشيء، فقال: سيارتي، أو بيتي الفلاني، أو عمارتي الفلانية لهذا الابن المعاق، أو نظر إلى ابنته ولها أطفال، ولها وضع معين، وأراد أن يستسمح الورثة، فوافقوا في حياته أو بعد موته؛ فإن هذا يمضي ولا إشكال فيه؛ لأن الحق حقهم، وإذا كان الحق لهم، فإنهم كما يملكون بذله يملكون إمضاء وصية والدهم أو وصية والدتهم إذا وصى أحدهما بذلك.

الفرق بين التنفيذ والابتداء في إجازة الوصية للوارث أو ما زاد على الثلث

الفرق بين التنفيذ والابتداء في إجازة الوصية للوارث أو ما زاد على الثلث وقوله: (تنفيذاً) إذا وصى لوارثٍ واتفق الورثة على إمضاء الوصية، أو وصّى بما زاد على الثلث واتفق الورثة على إمضاء هذا الزائد، فهل هذا الذي أمضَوه يُعتبر ابتداءً أو تنفيذاً؟ بعض العلماء يقول: إذا أمضى الورثة وصية مورثهم للوارث، فهذا تنفيذ للوصية، وإذا كان تنفيذاً؛ فحينئذٍ إذا وقع القبول من الموصى إليه في زمانٍ، ثم أجاز الورثة بعد ذلك، كأن أجازوا مثلاً بعد شهر أو شهرين؛ فإن قلنا: إنه تنفيذ، وخلال الشهر والشهرين أُجِّرت الدار، وهذه الدار إجارتها بألف أو ألفين، أو أجرت السيارة أو أجرت الدابة، وحصل منها دخل، فإن قلت: إجازة الورثة تعتبر تنفيذاً لما وصَّى به الميت؛ فحينئذٍ الأجرة مستحقة لمن أوصي له، والذي وُصِّي له يستحق هذه الأجرة؛ لأن ملكيته تثبُت بمجرد أن يجيزوا، فتثبُت بقبوله -كما سنبينه إن شاء الله- إذا قبل بعد الموت، فلو حصل قبوله في أول شهر محرم، فقالوا: إن أباك قد وصَّى بهذه السيارة لك، فقال: قبلت -أي: جاءه بعد وفاة والده- وحصل هذا في أول محرم، ثم حصل للورثة ما حصل من أخذ وعطاء، فرتّبوا أمورهم، فلما جاءوا إلى وصية وارثه قالوا: إن والدكم أوصى بهذه السيارة فهل تجيزون ذلك؟ فقالوا: نجيز، وهذا حدث بعد شهرين، فخلال هذين الشهرين لو حصل زيادة في الشيء الذي وُصِّي به أو نماء؛ فإنه يكون في ملك هذا الشخص الذي وُصِّي له. وأما إذا قلنا: إنها ابتداء، فحينئذٍ يستحق الورثة الأجرة لما بين إجازتهم وبين قبوله؛ فإنها تكون في ملكهم، ولا تكون في ملك من وُصِّي له. وقوله: (إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت) بعض العلماء يقول: إذا أخذ رضا الورثة في حياته فإنه يكون هذا مسقطاً للإثم من ناحية تخصيص بعض الورثة، لكن الوصية أصلاً لا تنفذ ولا تُعتبر -كما سيأتي- إلا بالموت، وعلى هذا فإنه لا بد أن يكون قبول الورثة وإجازتهم بعد موت المورِّث الذي وصَّى، فعليه إذا وقعت الإجازة من الورثة على هذا الوجه بعد موت مورثهم، بأن اتفقوا، أو قال بعضهم بإجازتها وامتنع البعض؛ صحَّت بحسب الحال الذي ذكرناه، فإما أن تصح كلاً إذا كان الجميع قد وافقوا، وإما أن تصح بالجزء الذي وافق صاحبه.

كراهة وصية الفقير الذي وارثه محتاج

كراهة وصية الفقير الذي وارثه محتاج قال رحمه الله: [وتكره وصية فقير وارثه محتاج] تقدَّم معنا أن الوصية تعتريها الأحكام التكليفية، فقد تكون محرمة، أو مكروهة، أو واجبة، أو مندوبة، وبيّنا هذه الصور كلها وأدلة كل صورة، وهنا يقول المصنف: (تكره) أي: تكره الوصية من الشخص الفقير، والفقر والغنى أمرٌ عرفي، فيُرجع في ذلك إلى العرف، فلو كانت عنده خمسة آلاف ريال، والعرف يقول: من عنده خمسة آلاف ريال فهو في حكم الفقير، فهو فقير، فمثله يُكره له أن يوصي؛ بشرط أن يكون له وارث محتاج. إذاً: لابد من أمرين: أولاً: أن يكون المال الذي يتركه قليلاً، بحيث يُوصَف معه بالفقر والحاجة. ثانياً: أن يكون وارثه محتاجاً إلى هذا المال. فإذا تحقق الشرطان فالوصية مكروهة، وبعض العلماء يقول: إنها خلاف الأولى، وبعضهم يقول: مكروهة، وقد اختلف علماء الأصول: هل خلاف الأولى يعتبر مكروهاً أم لا؟ أما كونها خلاف الأولى، فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم بين هذا بالدليل الصحيح، فإن ميمونة رضي الله عنها أخذت جارية من جواريها فأعتقتها، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له: (يا رسول الله! هل شعرت أني أعتقت فلانة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لو أنك أعطيتِها لأخوالك لكان أعظم لأجرك)، مع أن الإنسان إذا أعتق لوجه الله عُتِق كل عضوٍ منه بما أَعتق، حتى ينجو من النار بهذا العتق، إذا وقع على الوجه المقبول عند الله سبحانه وتعالى، خالصاً لوجهه الكريم، ومع هذا يقول لها: لو أبقيتِها على الرق ووهبتِها لأخوالك فوصلتِ بها الرحم؛ لكان أعظم لأجرك. فجعل العِتق خلاف الأولى، ووجه ذلك أنها تصدقت على غريب، مع وجود حاجة القريب. وبناءً عليه: أخذ العلماء أن البداءة بالغريب مع وجود حاجة القريب خلاف الأولى، وهل خلاف الأولى مكروه؟ حينئذٍ ترد المسألة الأصولية التي ذكرناها، لكن بعض العلماء يقول: إن الورثة قد بين النبي صلى الله عليه وسلم تأكد الأمر في حقهم بقوله: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)، فهو فقير، والمال ليس بذاك، ومعناه: أنه إذا لم يترك لأولاده هذا المال، فالغالب أن أولاده سيحتاجون، وعلى ذلك قالوا: إنه يكره، ولا شك أن القول بالكراهة له وجهه وله قوته؛ لأنه لا شك يُضيِّق على الورثة، ويجحف بهم، وعلى ذلك تكون صدقته على الورثة خيراً له من أن يعطي المال للغريب، ولو كان ذلك الغريب محتاجاً؛ بل إن تركه للمال نوع من الإحسان ونوعٌ من الصلة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلة يبدأ بها الإنسان بأدنى الناس منه، ولذلك قال: (ثم أدناك أدناك)، وعلى هذا فيبدأ بورثته قبل أن يبدأ بالناس.

حكم الوصية بجميع المال لمن لا وارث له

حكم الوصية بجميع المال لمن لا وارث له قال رحمه الله: [وتجوز بالكل لمن لا وارث له]. يرد هنا Q لو أن شخصاً ليس له وارث، وأراد أن يوصي صدقة وبراً بجميع ماله، فهل يصح ذلك وتمضي صدقته، أم أنها لا تصح وصيته إلا في حدود الثلث؟ في المسألة قولان للعلماء: قال بعض العلماء: إنه إذا أوصى بماله كله وليس له وارث، مثل: شخص أسلم وقرابته كلهم كفار، وليس له من وارث، ثم حضرته المنيّة وعنده أموال، فقال: جميع أموالي من بعدي تكون في بناء المساجد، أو في تشييد الأربطة، وغير ذلك من أعمال البر والإحسان، وهذه الوصية قد شملت جميع المال، فقال أصحاب هذا القول: إذا وصَّى بجميع ماله ولا وارث له صحت وصيته، كما ذكر المصنف رحمه الله، وهذا القول مروي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان يرى أنه إذا وصَّى بجميع ماله فله ذلك، فهو أحق الناس بماله. وأيضاً: أكدوا هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل العلة هي وجود الورثة حين قال: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)، قالوا: فجعل هذا بمثابة التعليل للأمر. وخالف هذا القول طائفة من أهل العلم، وهو القول الثاني في المسألة فقالوا: تصح في الثُّلث، والزائد على الثلث يُرد إلى بيت مال المسلمين، وهذا القول اختاره جمهور العلماء رحمهم الله، والسبب في هذا: أولاً: أن من لا وارث له فوارثه بيت مال المسلمين. ثانياً: أن بيت مال المسلمين هو الذي يُكفنه لو لم يترك مالاً، فلو أنه لم يترك مالاً فمن أين سيُكفَّن؟ ومن أين سيُقام على مئونة تجهيزه وحوائجه إلا من بيت مال المسلمين، فكما أن المسلمين غرموا؛ فكذلك يغنمون في حال وصيته على هذا الوجه، فقالوا: يرجع الثلثان إلى بيت مال المسلمين رداً. ويكون هذا أيضاً فيه إحسان إلى عموم المسلمين، فالإحسان به مقدم على الإحسان إلى بعضهم، وهذا القول الثاني من القوة بمكان؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)، جاء من باب الوصف، ولم يجئ من باب التقييد بالحكم، بمعنى: أنه إذا لم يكن لك ورثة فإنه يجوز لك أن تفعل بمالك ما شئت. والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال له سعد: (يا رسول الله! لي مال كثير ولا وارث لي إلا ابنة، أفأتصدق بمالي كله؟)، فلو كان الأمر فيه سعة في حالة عدم وجود الوارث؛ لضيق النبي صلى الله عليه وسلم الأمر في حدود عدم الإضرار بالابنة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الرد إلى الثلث. وأكد أصحاب القول الثاني هذا بقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم)، فدل على أن الذي يملكه هو الثلث، وحينئذٍ إذا تصدق وليس له وارث بما زاد على الثلث فقد تصدق بما لا يملكه؛ لأن المال في هذه الحالة يكون رداً إلى بيت مال المسلمين، فكما أنه إذا زاد على الثلث في حال وجود الوارث دخل في ملك الغير، فكذلك في حال صدقته بجميع ماله ولا وارث له دخل على بيت مال المسلمين، فتكون وصيته في حدود الثلث إعمالاً للأصل؛ لأن الحديث الذي ذكرناه: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم) من حيث المنطوق أقوى من حديث: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء) لأنه ربما يكون بمثابة الوصف -كما ذكرنا- لا من باب التقييد بالعلة.

مسألة تزاحم الوصايا

مسألة تزاحم الوصايا قال رحمه الله: [وإن لم يف الثلث بالوصايا فالنقص بالقسط] بعد أن بيّن لنا ما الذي يُشرع من جهة المقدار، وهو أن يكون في حدود الثلث؛ بيّن حكم ما زاد على الثلث، وحكم ما نقص عن الثلث أنه ماض، فورد Q لو أن شخصاً وصَّى وازدحمت الأشياء التي وصَّى بها، وأصبح الثلث لا يسعها، فوصّى بمبلغ معين لشخص، ثم بمبلغ ثانٍ لشخص آخر من قرابته غير الوارثين، فأصبح ما وصّى به زائداً على الثلث، فازدحم الشخصان وللتوضيح أكثر: شخصٌ توفي وترك تسعة آلاف ريال -مثلاً- فمعنى ذلك: أن ثلث التركة هو ثلاثة آلاف ريال، وفي وصيته قال: أَعطوا محمداً -الذي هو المحتاج- ألفين، وأعطوا صالحاً -المحتاج الثاني- ألفين، فأصبح مجموع ما يُعطاه الشخصان يعادل أربعة آلاف ريال، والثلث ثلاثة آلاف ريال، فكيف نقسم الثلاثة آلاف ريال على أربعة آلاف ريال؟ بيّن المصنف رحمه الله أنها تكون بالقسط، وهذه المسألة في الحقيقة فيها تفصيل:

ازدحام الوصايا مع كونها متساوية

ازدحام الوصايا مع كونها متساوية أولاً: إذا ازدحمت الوصايا، فلا تخلو إما أن تكون مستوية أو أن تكون مختلفة، وازدحام الوصايا المستوية مثل أن تكون في حقوق واجبة، أو في أمور مستحقة استوت من جهة الاستحقاق. فمثلاً: لو أن رجلاً وصَّى أن يُحج عنه، والحج كان واجباً عليه فماطل وتأخر، فوصَّى أن يُخرج من ماله ما يحج به عنه، وأيضاً وصَّى بكفارات، وهذه الكفارات عِدْلُها -مثلاً- ألف ريال، والحج عنه يكون بألف ريال، والثلث ألف ريال، فحينئذٍ لا يمكن للألف ريال التي هي ثلث ماله أن تستوعب الوصية بالحقين، والحق الأول واجب، والحق الثاني واجب كذلك، فازدحم حقان واجبان لله عز وجل.

ازدحام الوصايا مع كونها مختلفة

ازدحام الوصايا مع كونها مختلفة الحالة الثانية: أن يكون الازدحام عند الاختلاف، مثل أن يُوصِي بحق واجب كالحج، ويوصي بمستحب، فيقول مثلاً: أخرجوا من الثلث ما يُحج به عني حجة فريضة، وأخرجوا من الثلث عشرة آلاف ريال لفلان صدقة مني عليه، فعندما جئنا ونظرنا وإذا بثلثه لا يمكن أن يُحج عنه وتُخرج العشر آلاف ريال، أي: لا يستوعب الأمرين، فوجدنا أن الحج عنه فريضة واجبة لازمة، والعشرة آلاف صدقة مستحبة، فازدحمت الوصيتان إحداهما واجبة والثانية مستحبة. وهذه كلها تُعرف عند العلماء بمسائل الازدحام في الوصية، فإذا ازدحمت الوصايا وكانت كلها واجبة؛ فمذهب بعض العلماء رحمهم الله أنه يُنظر إلى صفة الوجوب من حيث اللزوم، مثل الحج في لزومه وفرضيته آكد من غيره. وبعض العلماء يقول: لا يُنظر إلى مثل هذا، وإنما تُقدم الكفارات لأنها دين، والحج لا يجب مع الدين، بمعنى: أن الحج يسقط مع الدين، فإذا كان الشخص مديوناً فالحج يسقط، فحينئذٍ حقوق الكفارات الواجبة عليه مقدمة على الحج؛ لأنه لو كان حياً وأراد أن يسأل لقلنا له: أدِّ الكفارات الواجبة عليك ثم حج؛ لأن الحج لا يجب على من عليه دين، فقُدِّمت الكفارات والنذور والأيمان من هذا الوجه، وهذا القول عند النظر والتأمل أقوى. أما بالنسبة لازدحام الواجب مع المستحب والمندوب فلا إشكال، فلو أنه وصى بالحج وبالصدقة، حججنا عنه ثم نتصدق بما بقي. فمثلاً: لو كان الحج عنه بألفي ريال، ووصّى بعشرة آلاف ريال لرجل صدقة، فلنفرض أن الثلث ثمانية آلاف ريال فنخرج منه ألفين للحج عنه، وندفع الستة آلاف الباقية للشخص الذي وصّى له، ويكون له ما فضل عن الواجب، فتكون المستحبات استحقاقُها في الوصية عند الازدحام مع الواجبات فيما فضل وزاد. هذا بالنسبة لازدحامها، أما في حال الاجتماع بالاستواء مثل: المستحبات، فلو كانت وصاياه كلها مستحبة، كأن يقول: أعطوا محمداً ثلاثة آلاف ريال، وأعطوا زيداً ثلاثة آلاف ريال، وأعطوا عمراً ثلاثة آلاف ريال، فهذه تسعة آلاف ريال، وثلث التركة ثلاثة آلاف ريال، فكيف تقسم ثلاثة آلاف على تسعة؟ في هذه الحالة ننظر إلى سهم كل واحد منهم من أصل مسألة في مجموع الوصايا، فإذا وصى لكل واحد من الثلاثة بثلاثة آلاف ريال، فمعناه: أن نصيبهم مستوٍ، فتنظر إلى عدد رءوسهم وهم ثلاثة، فتُعطي كل واحدٍ منهم ثلث الثلث، وهذا هو معنى: بالقسط وبالحساب. وعلى هذا: ننظر إلى الرءوس واستحقاقها بنسبة المال الذي وصّى به، فلو اختلفت فقال: أعطوا محمداً ألفين وزيداً ألفاً وعمراً ألفاً، فحينئذٍ تكون متفاوتة؛ لكن بين الألفين والألف تناسب، فتكون مقسومة على أربعة، فيصبح لمحمد نصف الثلث، ولزيد ربع الثلث، ولعمرٍ الربع الآخر، فلو كان الثلث يعادل أربعة آلاف ريال، فنقول في هذه الحالة: يمضي نصف الثلث لمحمد -وهي الألفان- ثم لزيدٍ ألف ولعمرٍ ألف؛ لأنها تعادل ربع الثلث. ومسألة أن تجزِّئ بالأقساط هي مسألة مفرعة على مسألة العَوْل في الفرائض، ومسألة العَوْل في الفرائض حُكِي فيها إجماع الصحابة رضوان الله عليهم، والأصل في ذلك قضية عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع المرأة لما تُوفِّيت وقد تركت أختين وزوجاً، فالزوج له النصف، والأختان لهما الثلثان، فأصبح لا يمكنك أن تُعطي نصف التركة للزوج؛ لأنك إذا أعطيته النصف بقي النصف، ولو أعطيت الأختين الثلثين بقي الثلث، والزوج يريد النصف، فحينئذٍ ماذا يُفعل؟ لما وقعت هذه الحادثة في زمان عمر بن الخطاب جمع الصحابة رضوان الله عليهم وشاورهم في هذا الأمر، وكان عمر رضي الله عنه إذا نزلت به النازلة يبدأ بأفاضل الصحابة والسابقين للإسلام، ويُقدِّم المهاجرين، ثم الأنصار، ثم يشاور عموم الناس بعد ذلك، ولا يشاور قبل أهل العلم أحداً أبداً، فيبدأ أولاً بأهل العلم فيُشاورهم، فإن وجد عندهم حلاً أمضاه؛ لأنهم هم أمناء الأمة، وأعلم بدين الله وشرعه، وهم أتقى لله وأقرب إلى الإخلاص، والبصيرة فيهم نافذة بتوفيق الله سبحانه وتعالى لهم. فشاور رضي الله عنه فقهاء الصحابة وأجلاءهم، وكان فيهم الزبير رضي الله عنه وأرضاه، فقال: (يا أمير المؤمنين! ما أرى هذه المسألة إلا كرجل توفي وعليه دين عشرة وترك أقل من ذلك، فننظر نصيب كل واحد من أصلها). ومراده بذلك: أننا ننظر إلى ما تركه الميت ويُجزأ، ويكون النقص داخلاً على كل شخص بقدر سهمه، فإذا كان الثلثان مع النصف فتعول المسألة إلى سبعة، فبدلاً من أن نقسمها على ستة نقسمها على سبعة، وحينئذٍ يكون للأختين الثلثان أربعة، ويكون للزوج النصف ثلاثة، ويقسم النصيب فينقص صاحب النصف بقدر مناسب لصاحب الثلثين، ويدخل النقص على الجميع بقدر السهم، كما سيأتي إن شاء الله بيانه وتفصيله في كتاب الفرائض. وهذه المسألة عندما وقعت بين الصحابة صارت أصلاً عند العلماء في النماء والفضل إذا ترك التركات والمال، وصارت أصلاً -أيضاً- في العد والنقص، ففي هذه الحالة لو ازدحمت الوصايا وعيّن وقال: لفلان ألفان، والثاني له ألفان، والثالث له ألفان، وترك ثلاثة آلاف، فحينئذٍ نُدخل النقص على كل واحدٍ بقدر حصته من أصل المسألة، وهذا شبه إجماع بين الصحابة رضوان الله عليهم في هذه المسألة، وقد فرّع العلماء رحمهم الله عليها مسائل الازدحام.

حكم من كان وارثا أو غير وارث قبل الوصية ثم تغير حاله

حكم من كان وارثاً أو غير وارث قبل الوصية ثم تغير حاله قال رحمه الله: [وإن أوصى لوارث فصار عند الموت غير وارث؛ صحّت، والعكس بالعكس]. قوله: (إن أوصى لوارث) نستطيع أن نمثل لهذه المسألة بمثال يكون أصلاً لغيره، فمثلاً: الأخ لا يرث مع وجود الابن الذكر؛ لأن كلاً منهما يرث بالعصبة، فعصبة الأخوة بعد البنوة. فإذا أردت أن تجعله في حال الوصية وارثاً، وتجعله عند الموت غير وارث، فتجعل الرجل بدون ابن، ثم يوصي لأخٍ، فحينئذٍ الأخ وارث، فإذا وُلِد له الولد صار غير وارث عند الموت، فإذا وَصَّى لأخٍ على أنه وارث، مع أنه كان وارثاً أثناء الوصية، ثم وُلِد له ابن ذكر، وتُوفِّي، فقد أصبح الوارث -وهو الأخ- غير وارث بعد الموت، فتصح الوصية؛ لأن العبرة في الوصية بما بعد الموت، ولذلك يستطيع أن يُلغيها ويستطيع أن يرجع فيها، ولا عبرة بالقبول قبل الموت، وكل شيء موقوف فيها على ما بعد الموت، فنحن لا ننظر إلى ما كان عليه هذا الشخص، وهو أن الأخ قبل الموت وأثناء كتابة الوصية أو التلفظ بها كان وارثاً، لكن المهم هو ما كان عند الموت، فلما توفي الرجل إذا به قد أصبح غير وارث، ويكون هذا عند حال الشك، فتكون زوجته مثلاً حاملاً فيوصِي، فإذا كانت أنثى فالأخ له الباقي؛ لأنه عصبة، وإذا كان ذكراً، فحينئذٍ ليس للأخ من شيء. وفي بعض الأحيان الأفضل للأخ أن يكون ذكراً، وبعض الأحيان يكون العكس، فمثلاً: قد يكون وارثاً ويوصي له، مثل الأخ، فقد يكون غير وارث ثم يصبح وارثاً، فقال: أَعطوا أخي فلاناً عشرة آلاف ريال من ثلثي وصية، وعنده ولد ذكر، فالأخ غير وارث مع وجود الولد الذكر، فأخذ الموصي بالسنة فوصَّى لقريب لا يرث، فشاء الله أن تكون منية الابن الذكر قبل أبيه، فتوفي بحادث وجاء الخبر لوالده فمات، فحينئذٍ الأخ الذي لم يكن وارثاً أصبح وارثاً؛ لأنه لما توفي الابن في هذه الحالة تقدمت درجة الأخوة، وأصبح الأخ في هذه الحالة من الوارثين، لكنه عند الوصية كان غير وارث، فالعبرة بما بعد الموت، فحينئذٍ تكون وصية لوارث، وعلى هذا فيكون الحكم واحداً؛ لأنه من حيث الأصل هو الذي وصِّي له، وهو الذي يرث المال، بمعنى: هو الذي يوصي له، وهو الذي يكون مسئولاً عما زاد إذا لم يترك غيره. وقوله: (والعكس بالعكس). أي: إن كان غير وارث فأصبح وارثاً، أو وارثاً ثم أصبح غير وارث، فالحكم بما بعد الموت، ولا تأثير لما تقدم على ذلك.

الإيجاب والقبول من أركان الوصية

الإيجاب والقبول من أركان الوصية قال رحمه الله: [ويعتبر القبول بعد الموت وإن طال لا قبله]. الوصية لها أركان وهي: الموصي، والموصى إليه: وهو الوصي، والموصى به: وهو الشيء أو محل الوصية، والصيغة. فهذه أربعة أركان للوصية: فالشخص الذي يوصي، والشخص الذي يوصى إليه، والمحل الذي يوصي به (الشيء الذي يوصي به) والصيغة. والصيغة: هي الإيجاب والقبول، الإيجاب بالنسبة للميت الذي كان حياً حينما وصّى، ويشترط فيه شروط سيأتي إن شاء الله بيانها، والذي يُوصَى إليه أيضاً يُشترط فيه شروط لابد من توفرها، فلا بد من وجود الصيغة من هذا الشخص الذي وصّى. إذاً: هي الإيجاب والقبول، الإيجاب من الموصي، والقبول من الوصي أو الموصَى إليه، وإذا وقع الإيجاب فإنه ينقسم إلى قسمين: الأول: أن يكون الإيجاب باللفظ. الثاني: أن يكون بغير اللفظ. فالإيجاب يكون صريحاً إذا كان باللفظ، مثل قوله: وصَّيت بعشرة آلاف لفلان، فهذا لفظ صريح، ويعتبر إيجاباً واضحاً في الدلالة ليس فيه أي احتمال. والألفاظ الضمنية التي تدل على الوصية ضمناً ما جرى به العرف من الألفاظ المعروفة، كقوله: أعطوا فلاناً من ثلثي كذا وكذا، فنعتبرها وصية، رغم أنه ما قال: وصية مني، بل قال: أعطوا فلاناً، لكن (أَعطوا) تدل ضمناً على أنه يريد الوصية، فهذا هو اللفظ الصريح واللفظ غير الصريح. وهناك أمور أخرى تدل على الوصية من الأفعال، مثل الكتابة، فلو كتب وصيته وأشهد عليها عدلين صحت الوصية، لو كان أخرس لا يتكلم لكن عنده إشارة مفهومة ومعروفة؛ فالإشارة في هذا تنزل منزلة العبارة، أو كان يسمع ولكنه لا يستطيع الكلام، فقيل له: هل تريد أن توصي؟ فأشار برأسه أن نعم، فقيل له: السنة ألا تزيد على الثلث، فهل تريد أن توصي بالثلث كله؟ فهز رأسه بنعم، أو قال: لا، فقيل له: الخمس مثلاً، فأشار بنعم، فهذه إشارات ليس فيها لفظ فتُعتبر من الصيغة الدالة على الوصية، فالإيجاب يكون من الوصي، والقبول يكون من الشخص الذي وصَّى إليه. ومن حيث الأصل عند العلماء رحمهم الله لا بد من وجود الصيغة؛ لأنها ركن الوصية، وإذا وقعت الصيغة يكون الإيجاب فيها والقبول. والعقود تنقسم إلى قسمين: هناك عقود يُشترط فيها أن يقع القبول بعد الإيجاب مباشرة، بحيث لو دخل بين الإيجاب والقبول أي فاصل مؤثِّر فإنه يسقط الإيجاب ولا يُعتد بذلك القبول، مثل: البيع، والإجارة، والصرف، والسلَم، والنكاح. فلو قال شخص لشخص: زوّجتك بنتي فلانة بعشرة آلاف، فسكت ولم يُجب، ولم يفعل أي فعل دالٍ على القبول، ثم ذهب إلى الغرفة ورجع، وبعد أن افترقا قال: قبلت، فهذا الفاصل يقطع الإيجاب الأول، ولا يصح العقد بهذا، فلابد من إيجاب جديد؛ لأن القبول وقع متراخياً مع وجود فاصل مؤثِّر، والفاصل يكون بالأقوال ويكون بالأفعال. ولو قال له: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، فقال له: كيف حالك؟ عساك طيب، فتكلم بكلام أجنبي، فهذا الكلام الأجنبي يُخرج الإيجاب؛ لأنه لو كان قابلاً لقال مباشرة: قبلت، فلما قال: كيف حالك؟ كيف فلان؟ كيف الوالد؟ كيف مريضك؟ فمعناه: أنه خرج بالكلية، وأعرض عن الإيجاب، فسقط الإيجاب ولم يُعتبر. إذاً: العقود تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: عقود لابد فيها من وجود القبول مترتباً على الإيجاب بدون فاصل. القسم الثاني: عقود يُغتفر فيها الفاصل. ومن العقود التي يُغتفر فيها الفاصل: عقد الوصية، فإذا قال: أعطوا فلاناً عشرة آلاف ريال -من ثلث ماله- فهذه وصية، وفلان مسافر، وتوفِي الرجل، ولم يأت إلا بعد عشر سنوات، فقيل له: يا فلان! إن فلاناً قد وصّى لك بعشرة آلاف من ثلثه، فقال: قبلت، فهنا صحَّت الوصية ونفذت، مع أن القبول كان بعد فاصل طويل جداً، فلو طال الزمان فإنه يصح القبول. إذاً: القبول في الوصية لا يُشترط فيه أن يكون تابعاً للإيجاب، وهو ما يسمى بالقبول المنجَّز، فالوصية تخرج من القبول المنجَّز، لكن النكاح والبيع والإجارة والصرف والسلم ونحوها من العقود لابد أن يكون القبول فيها منجَّزاً. وقوله: (ويعتبر القبول بعد الموت) القبول إما أن يقع في حياة الموصي، وإما أن يقع بعد موته، فإذا وقع في حياته فلا عبرة به؛ لأن الوصية لا تكون لازمة على الميت ويجب تنفيذها إلا بعد وفاته، أما قبل وفاته فإنه يستطيع أن يرجع عنها أو أن يبدل أو يغير فيها، وعلى هذا فإن العبرة بموت الموصِي، فالقبول لا بد أن يكون بعد الوفاة، فإذا قال: قبلت، وكان ذلك بعد وفاته؛ صحت الوصية إذا كانت على الوجه المعتبر.

حكم سكوت الموصى له عن قبول الوصية ورفضها

حكم سكوت الموصى له عن قبول الوصية ورفضها وقوله: (وإن طال (، أي: وإن طال الزمان الفاصل بين الإيجاب والقبول. لكن هنا مسألة وهي: لو أن شخصاً وصَّى لشخصٍ فقال: أعطوا فلاناً عشرة آلاف ريال من ثلث مالي، ثم توفي الرجل الذي وصَّى، فجئنا إلى الموصى له وقلنا له: إن فلاناً وصى لك بعشرة آلاف من الثلث، فلم يقل: نعم، أو قبلت، أو رضيت، ولم يقل: لا أقبل، فلم يقبل ولم ينف؛ بل سكت، أما إذا قبل فإننا نعطيه وتنفذ الوصية بالشروط التي ذكرناها، وإذا لم يقبل فحينئذٍ نرد المال للورثة ويقسم كإرث؛ لأننا لا نستطيع أن نجبر أحداً على أخذ المال، لكن لو سكت، فلم نعرف قبوله من رفضه، فهل يُجبر على أن يقبل أم لا يُجبر؟ قال بعض العلماء: إذا امتنع حكمنا بأنه لا يريد، ونرد المال إلى الورثة، فيكون امتناعه عن الرد وعن الإجابة موجباً للحكم عليه، كما يقول الشافعية والحنابلة رحمهم الله، ويعتبرونه موجباً لصرف المال للورثة، فيُرد المال؛ لأنه لو كان قابلاً لقال: قبلت، فيقولون: نعتبر دلالة الحال كدلالة المقال؛ لأنه لو كان راضياً لقال: قبلت، فكونه لم يقبل ولم ينص على القبول؛ فإن في هذه دلالة على أنه لا يريد، وحنيئذٍ يُرد المال إلى الورثة ويُقسم عليهم. وقوله: (لا قبله (، أي: لا قبل الموت.

ثبات ملكية الموصى به بالقبول بعد الموت

ثبات ملكية الموصى به بالقبول بعد الموت قال رحمه الله: [ويثبت الملك به عقب الموت] قوله: (ويثبت المُلك -والمِلك والمَلك- به) أي: بالقبول، بشرط أن يكون عقب الموت، ويكون المِلك بعد موت الموصِي، فتثبت ملكية العقار وملكية النقد والأثمان على ما هو معلوم في الوصايا. وإذا ثبتت الملكية بعد القبول فتتفرع المسألة التي ذكرناها، وهي: أن المدة التي ذكرناها فاصلة، فبعض العلماء يقول: المال لا يستحق نماءه من وُصِّي له، فلو مرض مثلاً فقال: أعطوا فلاناً ناقتي الفلانية وصية من الثلث، فحددها وقال: الناقة الفلانية تُعطى من ثلث مالي لفلان، والناقة في مرض موت الموصي كانت حاملاً ثم وضعت، ثم بعد وضعها مباشرة توفي الرجل، وقبل من وُصِّي له، فإذا جئنا ونظرنا إلى وقت الوصية، فلو قلنا: يثبت الملك بمجرد ما وصَّى، فما دام أنه قبَِل الوصية فلنرجع إلى الزمان الذي تلفظ به الموصي، فيكون بذلك ولد الناقة تابعاً للناقة، ومن ثم سيملكه، فقال المصنف: (يثبت الملك به)، أي: بالقبول بعد الموت لا قبله، وحينئذٍ لا يستحق هذا النماء المنفصل، وإنما يكون للورثة، فيكون ولد الناقة ملكاً للورثة؛ لأنه مستحق على مال مورثهم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الوراثة بالرضاعة والوصية لهم

حكم الوراثة بالرضاعة والوصية لهم Q لو لم يكن للمورث إلا ابناً من الرضاعة، فهل يرث أم للمورِّث أن يوصي له بماله؟ A الابن من الرضاعة ليس له ميراث، فليس هو من الوارثين بإجماع العلماء رحمهم الله، فالرضاعة لا تُوجب الميراث، وبناءً على ذلك يجوز أن يُوصِي له، وعند العلماء رحمهم الله أن الشخص إذا أراد أن يُوصِي لغير الوارث فيبدأ بالأقرباء الذين لا يرثون، فأخوه من النسب مقدَّم على أخيه من الرضاعة، فلا يذهب ويوصي بثلث ماله لإخوانه من الرضاعة وإخوانه من النسب موجودون؛ لأن الإخوة من النسب إذا لم يكونوا وارثين؛ فإن الأجر فيهم أعظم والصلة بهم أبر؛ فيبدأ بهم. ثم بعد النسب تأتي الرضاعة، وبعدها المصاهرة والرحم، فيوصي لقرابته من جهة الرضاعة، كأمه من الرضاعة، وأخته من الرضاعة، وبنته من الرضاعة، وابنه من الرضاعة، فيوصي لهم ويراعي قربهم، وهذا لا شك أن الله عز وجل يثيبه عليه، ثم المصاهرة، والمصاهرة مثل أن يوصي لأم زوجته، ووالد زوجته، وذي الرحم منه، فيصل رحمه، فهذا مما يكون فيه الأجر والمثوبة. قال صلى الله عليه وسلم: (إلا أن لكم رحماً سأبلها ببلالها)، فهذا نوع من الرحم، فقرابة الزوجة ذو رحمٍ منه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستفتحون أرضاً يُذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم ذمة ورحماً) يقصد: مصر؛ لأن لهم رحِماً من جهة إسماعيل؛ لأن أمه هاجر، ولهم رحم من جهة مارية؛ لأن ابنها إبراهيم؛ فهذا يدل على أن القرابة من جهة الزوجة لهم حق، وإذا أراد الإنسان أن يصلهم فإنه يراعي مرتبهم في الصلة، ولا شك أن الله يأجره على ذلك، والله تعالى أعلم.

مسألة رفض الموصى له للوصية

مسألة رفض الموصى له للوصية Q أشكل عليّ في مسألة رفض الموصَى له أخذ الوصية أنها ترجع إلى الورثة، ولم نصرفها في وجوه البر، خصوصاً أن نية المورث في بذل الخير وأنه أراد الصدقة؟ A أشققت عن قلبه؟! بعض الأحيان قد يُوصِي لشخصٍ محاباة، وبعض الأحيان قد يوصي لشخص من باب المكافأة له على معروفٍ بينه وبينه، وبعض الأحيان قد يوصي لشخص لدفع ضرره عن أولاده وذرِّيته من بعده. وأياً ما كان السبب، فغير مسلَّم أن نقول: إن هذا مُتعيّن أن قصده البر والصلة، فليس كل الناس يوصي لأشخاص معينين وقصده البر والصلة، وعلى هذا فالحكم الشرعي أن من أَوصى لمُعيّن وفات المعين؛ فاتت الوصية بفواته، على تفصيل عند العلماء في مسألة ما يشترط له القبض وما لا يشترط له القبض؛ لكن الكلام إذا لم يقع القبول وتوفي ولم يمكن إنفاذ الوصية، ففي هذه الحالة يرجع المال إلى الورثة، فهم أحق به وأولى، والله تعالى أعلم.

يلزم المأموم بالتأمين إذا أدرك موضع التأمين

يلزم المأموم بالتأمين إذا أدرك موضع التأمين Q أدركت الإمام بعد فراغه من قراءة الفاتحة وقبيل التأمين، فهل إذا أمن أؤمِّن معه، أم أن التأمين يكون لمن أدرك الفاتحة؟ A يُشرع التأمين لمن أدرك موضع التأمين، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا قال: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] فقولوا: آمين)، فأمر عليه الصلاة والسلام بالتأمين لكل من حضر موضع التأمين، وعليه فإنه يُلزم المأموم بالتأمين إذا أدرك هذا الموضع، والله تعالى أعلم.

حكم حرمان الوالد لأبنائه من الميراث

حكم حرمان الوالد لأبنائه من الميراث Q إذا غلب على ظن الوالد أن أبناءه سيصرفون الإرث فيما لا يُرضي الله، فهل له أن يوصي بأكثر من الثلث؟ A باب الوصية باب عظيم، وفيه أمور مهمة جداً، والناس مأمورون بشرائع هي سنن الهدى، قد دلَّت عليها نصوص الكتاب والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما عليهم إلا أن يلتزموها، ويسيروا على نهجها، ويتركوا الأمور إلى الله سبحانه وتعالى، فالله جل وعلا أمر من يوصِي ألا يتجاوز هذا الحد، وعليه أن يلتزم بذلك وألا يجتهد، وما يدريه فلعل هؤلاء الذين ينظر إليهم أنهم فاسدون أن يكونوا من خيار عباد الله الصالحين بعد موته، فكم من أناس كانوا على ضلال ثم اهتدوا بعد موت والدهم أو بعد موت والدتهم! وكم من أناس فُجِعوا بموت الأقرباء فأصبحوا من الأخيار والسعداء: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19] قالوا: ومن هذا أن تأتي المصيبة لعبدٍ فيقلب الله حاله من حال الشقاء إلى حال السعداء، وهذه رحمة من الله سبحانه وتعالى يتدارك بها عبده. وقد ترى الرجل كأسوأ ما أنت راءٍ في عقوق الوالدين وقطيعة الرحم، فما أن يموت والده حتى يتفطر قلبه ويكون من أرحم أولاده به بعد موته، وقد يكون الولد من أبرّ الناس بوالده في حال حياته، ثم يفتح الله عليه الدنيا بعد موت أبيه، أو يفتح الله عليه من الفتن فينشغل بأولاده وزوجته، حتى إنه لربما مر عليه اليوم والأسبوع وربما الشهر لا يذكر والده برحمة أو دعوة إلا قليلاً، مع أنه كان من أبر الناس بوالده في حياته. فالأمور لا يعملها إلا الله سبحانه وتعالى، فالله وحده هو المطلع على السرائر وعلى الضمائر، وهو الذي قدر كل شيء وفصله: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء:12]، فمسألة أن الإنسان يرى أولاده عصاةً اليوم؛ فيريد أن يوصي بالمال كله حتى لا يعصوا الله تعالى به، فهذه أمور منوطة بالغيب، ولذلك فما عليه إلا أن يلتزم الأصل الشرعي، وهو الالتزام بالثلث، وما زاد على الثلث فلا يجاوزه؛ التزاماً بالشرع، وتسليماً لحكم الله سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم.

فضل قيام الليل

فضل قيام الليل Q في قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18] هل يُشترط قضاء وقت الليل بالصلاة للدخول في هذا الوصف؟ ولو عكف طالب العلم معظم الليل على طلب العلم فهل يدخل في هذا الوصف؟ A هذه الآية الكريمة اشتملت على خصلة جليلة عظيمة جعلها الله للأنبياء والأخيار والصالحين، فما من عبدٍ يفتح الله عليه باب قيام الليل إلا فَتح له أبواب الرحمات، فهو شأن الصالحين، ودأب أولياء الله المتقين، كما ذكر الله في كتابه المبين، حتى إن الله سبحانه وتعالى لما أَراد أن يبيِّن عظيم منزلة قيام الليل، وأنه مفتاح كل خير للعبد، أول ما أمر الله به نبيه عليه الصلاة والسلام في صبيحة الوحي بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2]، وهذا يدل على أن قيام الليل فيه أمور عظيمة تكون سبباً في سعادة العبد في دنياه وآخرته. لقد جعل الله عز وجل في قيام الليل سداد اللسان، وإذا استقام اللسان استقامت الجوارح والأركان، قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6]. وجعل الله قيام الليل سبباً في هبات الآخرة، مع أنه سبب في صلاح دين العبد في دنياه، فإنه سبب في هبات الله ونعمه وخيره للعبد في الآخرة: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، فجعل الله المقام المحمود مقروناً بقيام الليل، وهذا يدل على عظيم ما في قيام الليل، حتى إن بعض العلماء يقول: عجبت من الليل كيف جعل الله عز وجل فيه هذه الخيرات العظيمة! حتى إن فرضية الصلاة والإلزام بها وتقديرها وبيانها الذي شرف الله به نبيه عليه الصلاة والسلام جعل ذلك كله في الليل، فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1]، وجعل الآيات العظيمة لنبيه عليه الصلاة والسلام في ذلك الليل، فأُرِي عليه الصلاة والسلام من الآيات ما امتلأ قلبه بها إيماناً وتوحيداً لله جل جلاله، فالله أعلم حينما أصبح رسول الهدى بذلك الإيمان واليقين بعد أن أُرِي آيات الله العظيمة، وكل ذلك جعله الله عز وجل في الليل. ومن ذلك قال العلماء: إن قيام الليل من أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى، ولما سُئل عليه الصلاة والسلام عن أفضل الأعمال بعد الطاعات والمكتوبات قال: (وركعتان يركعهما العبد في جوف الليل الآخرة)، فهذا يدل على فضل قيام الليل. لكن ما ورد في آية الذاريات من قوله: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18] ثناءٌ من الله عز وجل بذكر خاص بعد عام، والخاص هو الاستغفار؛ لأن قيام الليل يقوم على الذكر عموماً، ومن أشرفه وأفضله: كثرة تلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والتمجيد والتوحيد لله عز وجل بالثناء عليه بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، ومن ذلك: الاستغفار، فجعل الله عز وجل الاستغفار سبباً في الرحمة: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18]، فهذا الوقت استحب العلماء رحمهم الله فيه لمن أصابه أن يُكثر فيه من الاستغفار، وأن يسأل الله عز وجل فيه العفو والمغفرة؛ لأن الله سبحانه وتعالى اختاره فينزِل الله فيه جل وعلا نزولاً يليق بجلاله وعظمته وكماله، ويبسط لعباده الخير والرحمة، ينزل نزولاً حقيقياً يليق بجلاله وكماله وعظمته، فيقول: (هل من داع فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟) عَلِم سبحانه شدة حاجة عباده وفاقتهم إليه؛ فجعل لهم هذا الوقت المبارك للرحمة والعفو والمغفرة، والله أعلم في تلك الساعة كم من رقاب عُتقت! وكم من ذنوب غُفرت! وكم من درجات رُفعت! وكم من فضائل ونوائل ورحمات أبوابها فُتِّحت! فقيام الليل باب من أبواب الرحمة، وعلى العبد أن يحرص على السحر والاستغفار فيه، ولذلك سهام الليل في الأسحار، فما من عبد يدعو دعوته في السحر ويلازم دعاء السحر إلا شرح الله صدره. وقد كان العلماء رحمهم الله والأئمة يوصون أهل الذنوب والذين كانوا في بداية هدايتهم وصلاحهم بلزوم الأسحار بكثرة الدعاء والاستغفار فيها، وهكذا من تغير حاله فضاقت عليه الدنيا، وأصابه الكرب والهم والغم، فليلزم الأسحار؛ لأنها ساعات رحمة؛ لثبوت السنة والخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتعرض لنفحات الله ورحماته التي يرحم بها عباده. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل لنا من ذلك أوفر حظ ونصيب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب الوصايا [4]

شرح زاد المستقنع - كتاب الوصايا [4] من المسائل المتعلقة بالوصايا: أن من قبل الوصية ثم ردها لم يصح هذا الرد، ومنها أنه يجوز للموصي أن يتراجع عن وصيته، وتراجعه قد يكون باللفظ وقد يكون بالفعل، ومنها أنه يجب على الورثة إخراج الحقوق والواجبات التي في ذمة الميت قبل القسمة؛ لأن نفس الميت معلقة بتلك الحقوق، وينبغي على المسلم أن يبتعد عن الاستدانة قدر المستطاع؛ وذلك لأن أمر الدين عظيم، ومن استدان وهو يريد قضاء دينه أدى الله عنه.

حكم قبول الوصية ثم ردها

حكم قبول الوصية ثم ردها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومن قبلها ثم ردها لم يصح الرد] بيّن المصنف رحمه الله في هذه الجملة أن من وقع منه قبول الوصية، وتم هذا القبول بعد وفاة الموصِي؛ فإنه حينئذٍ لا يصح رده لها، ولا رجوعه عن ذلك القبول، والسبب في ذلك: أنه إذا أَوصَى شخص إلى شخص آخر بوصية، فقبلها على الوجه المعتبر؛ فإن ملكيته تثبت لتلك الوصية. فلو قال زيدٌ من الناس: أوصيت لعمرٍ بعشرة آلاف، ثم قال عمرو لما أُخبِر أن زيداً توفي وأوصَى له بعشرة آلاف: قبلت، فإذا قال: قبلتُ بعد وفاة الموصي، فقد ثبتت ملكية العشرة آلاف له، فإذا قال بعد ذلك: رجعت عن القبول؛ فقد رجع عما يملك، ورجوع الإنسان عما يملكه لا يُعتد به، فلو أن شخصاً يملك بيتاً فقال: هذا البيت لي، وليس المراد به على وجه الإقرار، وإنما المراد أنه يريد أن يخرج ملكيته عنه لا على وجه الهبة ولا على وجه الصدقة ولكن هكذا، فإنه لا يصح رجوع المالك عن الملكية بعد ثبوتها على الوجه المعتبر. وحينئذٍ نقول: إن قبولك بعد وفاة الموصِي يُثبتُ ملكيّتك لهذا الشيء الذي وصِّي به إليك، وحينئذٍ إما أن تتصدق به، أو تهبه، أو تتصرف فيه، أما الرجوع فلا يُعتد به، وهذا كما ذكرنا شبه قول جماهير العلماء رحمهم الله، أن الرجوع بعد ثبوت الملكية ليس من حقه. وهناك من العلماء من قال: له أن يرجع؛ لأن الإنسان حر في نفسه، فله أن يختار في وقتٍ يرى من المصلحة أن يقبل، وله أن يختار الرد في وقتٍ يرى من المصلحة أن يرده.

جواز رجوع الموصي في وصيته حال حياته

جواز رجوع الموصي في وصيته حال حياته قال رحمه الله: [ويجوز الرجوع في الوصية]. يقول المصنف رحمه الله: (ويجوز) أي: يُباح للمسلم إذا وصّى بوصية أن يرجع عنها، وذلك لأن الإجماع منعقد على أن الوصية ليست بعقدٍ لازم في أول الحال، وقد تقدم معنا أن العقود منها ما هو لازم، ومنها ما هو جائز، والذي يُوصف باللزوم إما أن يكون لازماً للطرفين، إما أن يكون لازماً لأحد الطرفين، وقد بيّنا هذا وفصلناه في مقدمات البيوع، وعند الكلام على باب الخيار. والوصية في الأصل أنها عقدٌ جائز في حق أحد الطرفين، لازم في حق الآخر؛ لأن الموصي من حقه أن يُغيِّر ويقدم ويؤخر ويبدل في وصيته ما لم يمت، وهذا حق من حقوقه، وعلى هذا شبه إجماع بين العلماء رحمهم الله، وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى؛ لأنه لو ضُيِّق على الإنسان في وصيته لما أمكنه أن يتدارك كثيراً من المصالح، ولما أمكنه أن يدرأ عن نفسه كثيراً من المفاسد، ولو أن الشريعة ضيَّقت على الموصي أن يرجع عن وصيته لتحاشى الناس الوصية؛ لأنهم يعلمون أن أي وصية يقومون بها سيُلزمون بها. وحينئذٍ كان من رحمة الله تبارك وتعالى ولطفه بعباده كما قال العلماء: أن يسَّر على المسلم في رجوعه في وصيته، فيقدم ما حقه التقديم، ويؤخر ما حقه التأخير، على حسب اختلاف الأوقات والأزمنة والأحوال، فلربما كان في وقت يرى من المصلحة أن يوصي لغير الوارث، فيوصي بثلث ماله أو بربعه إلى قرابة له لا يرثون، ثم يشاء الله أن تكثر ذريته وتتغير الأحوال، وحينئذٍ تكون ذريته أحوج ما تكون إلى هذا المال، فيكون من المصلحة أن يلغي الوصية بالثلث، وأن يلغي الوصية بالربع، وأن يلغي الوصية لغير الوارث، وأن يُقدِّم ورثته الذين هم أحوج، وهذا لا شك أن فيه رحمة من الله وتوسعة على العباد. وممن أشار إلى هذا القرافي في كتابه (الذخيرة)، فقد بيّن أن الله تعالى تدارك عباده برحمته حينما وسَّع عليهم في الرجوع عن الوصية، فلو لم يملك الإنسان الرجوع عن الوصية لصارت الوصية محل ضرر على الناس من جهة، ولتحاشي الناس الوصية من جهة أخرى. قال: (يجوز) أي: يباح، فمن أوصى وصية ورأى من المصلحة أن يلغيها ويكتب غيرها، أو يُلغي بعضها ويثبت بعضها؛ فالأمر عائد إليه، وعلى هذا شبه إجماع بين العلماء رحمهم الله، وفيه أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رواه الإمام البيهقي في السنن، أثبت مشروعية الرجوع عن الوصية.

الرجوع عن الوصية بالقول

الرجوع عن الوصية بالقول والرجوع يكون بالقول، ويكون بالفعل، والرجوع بالقول يكون صريحاً ويكون ضمنياً، فالرجوع القولي الصريح كقوله: رجعت عن وصيتي، وكذلك أيضاً ما يدل على إلغائها: أبطلت وصيتي، وألغيت وصيتي، ولا تنفِّذوا وصيتي، ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على أنه قد رجع عما وصَّى به، فإذا قال ذلك فإن الوصية تبطُل. وأما الرجوع الضمني: فكأن يقول: يا محمد! أوصيت لك بهذه السيارة، ثم قال بعد ساعة، أو بعد يوم أو شهر: يا أولادي! السيارة بيعوها وسددوا بها ديني، فعلمنا أنه لا يريد تنفيذ الوصية الأولى، وإنما يريد أن يرجِع عنها حينما جعلها في سداد الحقوق، فعلى هذا: إذا رجع صراحة، أو رجع ضمناً، كما ذكرنا في التصرفات كالبيع أو الهبة، فمثلاً: كان قد وصى ببيت، وقال: هذا البيت يُعطى لابن عمي فلان، وابن عمه ليس من الورثة، فوصّى لغير وارث، ثم شاء الله عز وجل أن قال لهم بعد ذلك بزمان قصير أو طويل: هذا البيت بيعوه ثم افعلوا بثمنه كذا وكذا -خلافاً لما أوصى به أولاً- فنعلم أن هذا التصرف يدل على أنه قد رجع عن الوصية الأولى وألغاها.

الرجوع عن الوصية بالفعل

الرجوع عن الوصية بالفعل وأما الرجوع الفعلي فمثل أن يتصرف بالفعل، فبدلاً من أن يبيع بالقول يتصرف بالمعاطاة، فمثلاً يقول: يا محمد! هذا الكتاب وصية مني لك بعد موتي، ثم جاءه شخص بعد ذلك وقال له: يا فلان! بعني هذا الكتاب بهذه المائة، فأعطاه الكتاب مناولة وقبض المائة، فتصرفه ببيع المعاطاة يُوجب إلغاء الوصية. وهكذا لو فعل فعلاً استنفَذ ما وَصَّى به، كأن يكون المُوصَى به طعاماً، ثم أكله أو أعطاه أولاده ليأكلوه، أو تصرف فيه بالفعل؛ فإن هذا الفعل يوجب إلغاء الوصية الأولى، واعتبار الفعل الثاني سواء كان وصية أو كان غير ذلك. إذاً: بيّن المصنف رحمه الله أنه يجوز الرجوع، وقال: (يجوز)، فلا يجب ولا يحرم ولا يكره، فهذا الأمر إليك، فمتى ما رأيت المصلحة أن تُقدِّم في الوصية أو تؤخر فيها فإن ذلك راجع إليك، سواء وُجِد السبب للرجوع أو لم يوجد؛ فالإجماع قائم على أن من حقك أن تُغير في وصيتك، سواء وُجد سبب يقتضي هذا التغيير أو لم يوجد سبب. لكن ينبغي لمن أراد أن يرجع عن وصيته أن يحتاط، فعندنا وصية منسوخة ووصية متأخرة ناسخة، فالوصية المنسوخة إذا كانت موثَّقة في القضاء، أو موثقة بحكم قاضٍ، أو موثقة بشهود، أو مكتوبة، فينبغي على من يرجع أن يحتاط في الرجوع فيشهد شاهدين عدلين، فيوثِّق هذا الرجوع كما وثَّق الوصية، وألا يعرِّض حقوق الورثة للضياع حينما لا يحتاط بتوثيق الرجوع، أو الدلالة عليه على وجه معتبر بحيث يُرجع إليه بعد وفاته.

الوصية المعلقة بشرط

الوصية المعلقة بشرط قال رحمه الله: [وإن قال: إن قدم زيد فله ما أوصيت به لعمرو، فقدم في حياته فله، وبعدها لعمرو]. إن قال: (إن قدم زيد فله ما أوصيت به لعمرو) هذه وصية معلّقة، كأن يقول مثلاً: إن قدم زيدٌ إن ذهب عمرو إن حصل كذا وكذا إن افتقر فلان فأعطوه، وإلا أعطوا فلاناً، المهم أن هذه الوصية المعلقة مبنية على شرط، وينبغي علينا أن نتقيد بهذا الشرط. فإذا قال: إن قدم زيد فله، أي: قد أوصيت له بما أوصّيت به لعمرو، كأن يكون عنده عشرة آلاف ريال، وزيد هو ابن عمه القريب، وعمرو ابن عمه البعيد، فأراد أن يوصي للأقرب ثم الأقرب، فقال: هذا المال لزيد بشرط أن يقدم قبل وفاته، فإذا لم يقدم قبل وفاته قال: فإنه لعمرو، وهذا هو معنى قوله: (إن قدم زيد فله) (له): بمعنى يملك، والوصية التي وصّيت بها لعمرو من عقار ومن منقول له، أي: لزيد، فزيد لا يملك هذا الموصى به إلا إذا تحقق الشرط وهو: قدومه قبل الوفاة، كما أخبر: إن قدم زيدٌ فله ما وصّيت به لعمرو، أياً كان هذا الشيء الذي وصَّى به. فقوله: (إن قدم زيدٌ) أي: قبل وفاته؛ وهذا أمر واضح بأنه يُرتَّب القدوم على أساس أنه يَقْدم قبل وفاته، فإن توفي ولم يَقْدم زيد؛ سقط استحقاق زيد وبقيت الوصية على ما هي عليه. وبناءً على ذلك: يفصل في هذه المسألة فنقول: إنه من حيث الأصل أراد المصنف بهذا التمثيل أن يبيِّن أن الوصية المعلقة ينبغي علينا أن نتقيد بشروطها وبالتعليق الوارد فيها، كأن يقول: إن قدم زيدٌ إن جاء الغد وقدم زيدٌ إن انتهى الشهر إن انتصف الشهر إن جاءت الجمعة إن غابت الشمس، فهذه كلها وصايا معلقة، فتعلق بالزمان، أو بالمكان، أو بالأفعال، فأي شيء اشترطه الموصِي، وكان شرطاً معتبراً خالياً من الغرر والإبهام والجهالة، فإنه محتكمٌ إليه؛ لأن من حق الموصِي أن يوصِي مطلقاً، ومن حقه أن يوصِي مقيداً، فمن حقه أن يقول: وصَّيت لعمرو بعشرة آلاف، ولا يعلِّق ولا يقيِّد ولا يشترط؛ ومن حقه أن يقول: وصَّيت لزيد بعشرة آلاف بشرط ألا يَقْدم عمرو قبل وفاتي، أو ألا يكون فلان محتاجاً؛ لأنه في بعض الأحيان تجده يقول: هذه عشرة آلاف ريال تُعطى لبني عمي من بني فلان إذا كانوا محتاجين وإلا فتعطى لبني فلان. فمعنى ذلك: أننا نصرفها إلى الأول الموصَى إليه بشرط تحقق وجود الحاجة، ونصرفها إلى الثاني متى ما تخلف الشرط في الأول، وهذا أمر معتبر، أي: أنه يجب علينا أن نتقيد بشروط الموصِي. ومناسبة هذه المسألة: أنه ذكرها بعد الرجوع، وهذا فيه نوع من اللطف، وهو أن الرجوع تارةً يكون رجوعاً مطلقاً، مثل أن يقول: وصّيت لعمرو، ثم يقول: ألغوا الوصية، فهذا رجوع مطلق، وتارةً يكون رجوعاً بقيد؛ لأنه حينما قال: إن قدم زيدٌ فله ما وصيت لعمرو؛ معناه: أنه رجع عن وصيته لعمرو بشرط قدوم زيد، فصار رجوعاً معلّقاً. فبعد أن فرغ -وهذا من دقته رحمة الله عليه- من الرجوع المطلق، شرع في الرجوع المعلق، وإلا فالأصل أن مسائل الأشياء التي يُوصِي بها -المعلقات- سيأتي بيانها والإشارة إليها.

وجوب سداد الحقوق التي على الميت بعد موته

وجوب سداد الحقوق التي على الميت بعد موته قال رحمه الله: [ويُخرج الواجب من دين وحج وغيره من كل ماله بعد موته وإن لم يوص به] قوله: (يخرج الواجب)، أي: يجب على ورثة الميت أن يتّقوا الله عز وجل في مورِّثهم، فيخرجوا من ماله الحقوق الواجبة، سواء كانت لله عز وجل، أو كانت للمخلوقين، فهم مسئولون أمام الله عز وجل عن إخراج هذا الحق، فالأصل يقتضي أننا نبدأ أولاً بمئونة التجهيز، فيجهز، ويغسل، ويكفن، ويُحمل، ويصلى عليه، ويدفن، وكل هذه الأمور إذا احتاجت إلى مئونة، فتكون من مئونة التجهيز. ومن أهل العلم من قال: يُقضى الدين قبل مئونة التجهيز، وهذا لا شك -إِن تيسّر- أنه من أبر البر للوالدين، ومن أعظم الصلة للقريب، ومن أفضل ما يقدَّم للميت؛ أن تُبرأ ذمته وتقضى الحقوق عنه قبل أن يُغسّل وقبل أن يُفعل به شيء؛ حتى إذا ترحم الناس عليه وسألوا الله له المغفرة يكون خالصاً من حقوق الناس وبريئاً من عهدهم، فهذا لا شك أنه من أفضل ما يكون؛ أن يُقضى الدين، ويُبادر به مبادرة تامة. فإذا قُضي ابتدئ بعد قضاء الدين بمئونة التجهيز على القول الذي ذكرناه، ثم بعد ذلك إذا لم يقض الدين وابتدئ بمئونة التجهيز، فينظر في أصحاب الحقوق وأصحاب الديون، وتُسدد هذه الديون كاملة، ولا يجوز للورثة أن يُؤخِّروا سداد الدين؛ لأن كل من مات حلّت ديونه حتى ولو كان الدين على أقساط لعدة سنوات؛ لأن القاعدة تقول: إن من مات حلّت ديونه، فلو أن شخصاً اقترض مائة ألف على أن يكون سدادها على عشر سنوات، ثم توفي في السنة الأولى، فهنا تصبح المائة ألف حالة عليه، أي: يجب أن تُسدد فوراً، والسبب في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينة) أي: مرهونة به، نسأل الله السلامة والعافية، وكذلك بيّن نص الكتاب، فقال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12] {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:11] {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12]، فقدم سبحانه وتعالى الدين والوصية على قسمة التركات وإعطاء الوارثين حقوقهم، فالواجب أن يُبدأ بسداد الدين؛ لأن أمر الدين عظيم، فإذا جُهز الميت نُظِر في ديونه العامة والخاصة، وديونه فيما بينه وبين الله عز وجل، وديونه التي بينه وبين العباد. فدُيونه التي بينه وبين الله تبارك وتعالى مثل أن يكون عليه دم واجب لفوات واجب في حجه، أو عليه فدية أو كفارة ظهار، ونحو ذلك من الحقوق الواجبة على الميت لله سبحانه وتعالى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرأيت لو كان على أمكِ دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى).

حكم تأخير سداد ديون الميت لمصلحة الورثة

حكم تأخير سداد ديون الميت لمصلحة الورثة وبالنسبة للديون، قد يكون التعجيل بقضائها في بعض الأحيان يتضمن بعض الضرر على الورثة، مثل: كساد السوق، ورخص الأسعار، فمثلاً: لو أن الميت توفي وعنده (عمارة)، حتى ولو كان يسكنها أولاده، وليس عندهم سكن غيرها، فإنه يجب أن يُسدد دينه ولو أن تُباع (العمارة)؛ لأن هذا ماله، ونفسه معلقة ومرهونة بدينه، وهو قد قام بإسكان وستر ورثته ومن يعول مدة حياته، فإذا وفّى لهم فالواجب أن يُوفُّوا له بعد موته، فلا تُعطل ديونه وتبقى نفسه معلّقة مرهونة بالدين، وقد ترك وفاء لهذا الدين. وأعجب من هذا وأعظم ظلماً للميت حينما يكون الميت قد ترك سداداً، مثل أن يكون عنده مزارع وأرضٍ وسيارات، ولكن الورثة يُؤخِّرون ذلك من أجل كساد السوق حتى يفضُل لهم فضل من الإرث! فهذا من الظلم للميت. فيجب أن يُبادر بسداد دين الميت، ولا يجوز تأخير سداد الدين؛ لأن المال هو مال الميت، ولا يجوز أن يُحبس الحق عن صاحبه، والميت محتاج أن تُبرأ ذمته. وقد اختلف العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (نفس المؤمن معلقة بدينه)، فقال بعضهم: مرهونة: بمعنى: محبوسة؛ لأن الرّهن في أصل اللغة: الحبس، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، فهي فَعِيلة بمعنى: مفعولة، ورهينة بمعنى: مرهونة محبوسة. وقال بعض العلماء في تفسير هذا الحديث إن معنى ذلك: أنه لا يُنعَّم حتى يُقضى عنه الدين، فيحبس عن النعيم حتى يُقضى عنه الدين، وإلا فما معنى (نفس المؤمن مرهونة)؛ لأن الحبس إما حبس عن النعيم، أو حبسٌ فيه عذاب، وإذا كان الحبس فيه عذاب فهذا الأمر أعظم، نسأل الله السلامة والعافية. فالأمر جد خطير، فلا ينبغي التساهل في حقوق الموتى من قضاء ديونهم، وهذا يُحتِّم على كل شخص أن يتدارك الحقوق الواجبة عليه، فيحتاط، فإذا علم من ورثته من يوثق بدينه وأمانته أَسند إليه وبيّن له الحقوق وكتبها، وأوصل الحقوق إلى أهلها، وخاصة إذا كان هناك أمرٌ يحتاج إلى أمين وثقة يقوم عليه.

السبب في وجوب سداد الحقوق التي على الميت

السبب في وجوب سداد الحقوق التي على الميت والسبب في تشديد الشريعة في هذا الأمر ونصّ العلماء رحمهم الله على أهمية قضاء الديون: لما فيها من حقوق العباد، فإن حقوق الناس والخلق مبنية على المشاحة والمقاصّة، وإن من الظلم أن يكون الإنسان قادراً على سداد ديونه، ويؤخر الناس في سدادها. قال صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم يبيح لومه وعرضه)، يعني: أن من امتنع عن سداد حقوق الناس فإنه ظالم، فإذا كان الميت قد ترك سداداً وامتنع ورثته من السداد، فقد أصبح الظلم من جهتين: ظلم لأصحاب الحقوق بتأخيرها، وظلمٌ للميت حينما تُرهن نفسه وتُعلق. وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يغفر للشهيد كل شيء)، ثم نزل عليه الوحي فقال عليه الصلاة والسلام: (إلا الدين سارّني به جبريل آنفاً)، فالشهيد الذي له المنزلة والمكانة، وهو الذي يُغفر له عند أول قطرة من دمه، ويؤمَّن من الفتان، ويبعث يوم القيامة وجرحه يثعب دماً، ويزمّل في ثيابه حتى تشهد له دماؤه وجراحه كما قال صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد: (زمِّلوهم في ثيابهم، فإني شفيع لهم وشهيد بين يدي الله). فهذه المنزلة العظيمة التي تبوأها الشهيد حتى أَُمِّن من عذاب القبر، لم يفك عنه حقوق الناس. فالواجب أن يحتاط الإنسان، وألا يدخل في الدين إلا مِن حاجة ماسة، وإذا دخل في الدين سأل الله المعونة.

نصيحة لمن أراد أن يستدين

نصيحة لمن أراد أن يستدين وإذا أراد الإنسان أن يقترض شيئاً فعليه بأمرين مهمين: الأمر الأول: ألا يقترض إلا من حاجة شديدة ماسة، فإن من نزلت به فاقة وحاجة فردها إلى الله عز وجل، أوشك الله له بالفرج العاجل، فجعل الله قليله كثيراً، ويسيره عظيماً، وبارك له، ومن يصبر يصبِّره الله. وإذا ضاقت عليه الأمور لحاجة ماسة، مثل: طعام الأولاد والأهل، أو لشقة يستأجرها، أو يستدين لشراء سيارة من أجل نقلهم، وقد يكون عدم وجود هذه السيارة زيادة دين، فهذه حوائج يُضطر إليها الإنسان فتُبيح له الدين، وتبيح له المسألة، وإذا لم توجد حاجة ماسة فليتق الدين؛ فإن الدين في الحقيقة تبعة ومسئولية وبلاء على العبد، ولذلك قال بعض السلف في الدين: (هم الليل وذل النهار). وهذا إبراهيم بن أدهم حينما ركب البحر، فهاج البحر، وجاءت أمواج عظيمة حتى كادوا أن يغرقوا، فقيل له: يا إبراهيم! ألم تر إلى هذه الشدة؟ فقال: إنما الشدة الحاجة إلى الناس. نسأل الله العظيم بوجهه الكريم ألا يجعل لنا ولكم إلى لئيم حاجة، وأن يجعل لنا ولكم الغنى به سبحانه والفقر إليه. فالمقصود: أن الإنسان يصبر قدر المستطاع، فإذا ضاقت عليه الأمور ووُجِدت الحاجة، فيطلب دينه ممن يعرف منه السماحة وحسن النفس وطيبها، ومن لا يُضيق بالاستدانة منه؛ لأن مثل هذا حرِيٌ به أن يُسامح، وحريٌ به أن يوسِّع عليه، فلا يُضيق على نفسه مع وجود السعة، فإذا وجد غنياً كريماً طيباً، وفيه الخير، ويحب معونة الناس؛ عرض عليه أمره، أما إذا كان الإنسان الذي يريد أن يسأله ويطلب منه -حتى لو كان قريباً- يعلم أنه سيضيق عليه، فالأفضل أن لا يُضيق عليه؛ لأن المال الذي في الدين يُبارك لصاحبه إذا أخذه على الوجه الحسن، ويضع الله فيه البركة، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم من كان سمحاً إذا قضى سمحاً إذا اقتضى، فلابد أن يكون الإنسان سمحاً، فلا يُضيق على الناس في الدين، ولا يُحرج أحداً بذلك ما أمكنه. الأمر الثاني الذي ينبغي توفُّره: حسن النية، فينوي في قرارة قلبه أن يرد هذا المال عاجلاً أو آجلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله). فقوله عليه الصلاة والسلام: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها)، أي: في نيته وقرارة قلبه، والله يشهد ومطَّلع عليه أنه أخذها ليسدِّد عند وجود اليسر والسعة، ومن أخذها يريد إتلافها، أو أن يتلاعب بها، فكما أخذ ديناً وقضى ديناً جاء إلى دين آخر، ثم أخذ من فلان وفلان وأخذ يتلاعب، وهو يعلم أنه لن يستطيع السداد، ويعلم أنه يستطيع أن يُضيق على فلان مع أنه غني فيماطله ويؤخره حتى ييأس من حقه، ثم ينفلت من التبعة، لكنه لن ينفلت من عقوبة الله جل جلاله، ولو كان صاحب الحق غنياً، فالحق حق، ولذلك أمر الله بالشهادة العادلة ولو كانت على فقير: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:135]، فلو كان الذي له الحق غنياً فلا تقل: إن هذا فقير، وقد استدان وهو ضعيف، وهذا غني، لا، فما دام أنه أخذ حقاً فليرده إلى صاحبه، سواء كان غنياً أو فقيراً، فلا يجوز أن يأخذ أموال الناس وهو يريد إتلافها. فمن يأخذ الأموال تلو الأموال وهو يعلم من قرارة قلبه أنه لن يسدد، بل أصبحت عادةً له، فمن فعل ذلك فإن الله يفتح عليه باب الاستدراج حتى لا يُبالي به في أي أودية الدنيا هلك؛ ولذلك ينزع الله البركة من المال الذي يأخذه، ولربما جعل الله حتفه ونقمته عليه في الذي أخذ، فيبني (عمارة) فتكون سبباً في شقائه ومرضه، أو يأخذ سيارة فيكون فيها حتفه ونهايته والعياذ بالله، أو حتف ولد من أولاده، أو حتف عزيز عليه؛ لأنه كما يضر بالناس يضر الله به. فالنية مهمة جداً، فلا يأخذ الإنسان الدين إلا من وجود حاجة وضرورة، ولا يأخذ إلا وفي نيته وفي قرارة قلبه أن يقضيه، ثم يستعين بالله عز وجل على قضاء دينه بأمرين أعظمهما وأجلهما: كثرة الدعاء، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من غلبة الدين وقهر الرجال، فيستعيذ بالله من غلبة الدين، ثم يُبادر بالسداد ولو كان عنده ريال واحد من عشرة آلاف، فكلما تيسر له السداد قليلاً كان أو كثيراً فليسدد، فإن هذا من أفضل وأبرك ما يكون في سداد الديون؛ لأن مثل هذا حري أن يُعينه الله عز وجل، ويفتح له أبواب الفرج من حيث لا يحتسب. وعلى كل حال: الدين أمره عظيم، حتى إنهم قالوا: إن الإنسان قد يُؤذى في عبادته وخشوعه وصلاته وطاعته بسبب حقوق الناس، فتجد الرجل أخشع ما يكون قلباً، فإذا وقع في الدين تغير حاله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه) أي: مرهونة بدينه، ولم يفرق بين الحياة والموت، وهذا الذي جعل بعض العلماء يتحاشى الدين ولا يُحبه ولا يرضاه، حتى إنه يخشى أن يُؤثر على صلاحه واستقامته؛ لأن صاحب الحق إذا طلب حقه أَجحف بالإنسان، وشوّش عليه في عبادته، وآذاه وأضره.

تيسير الله قضاء دين المحسنين

تيسير الله قضاء دين المحسنين وأياً ما كان فالدين جائز ومشروع، فهذا رسول الأمة صلى الله عليه وسلم قد استدان، وإن كان بعض العلماء قد اعتذر فقال: رسول الأمة صلى الله عليه وسلم نِيطت به حقوق، والناس كلهم يعوِّلون عليه صلى الله عليه وسلم، وذلك مثلما يوجد في الفضلاء والكبراء، كشيخ القبيلة أو أميرها، فغالباً أنه يدخل في الشفاعات، ويواسي المعدومين والمحتاجين، فمثل هؤلاء غالباً يقعون في الدين؛ لكن لهم من الله عز وجل المعونة؛ لأنهم أخذوا الدنيا معونة على الدِّيْن، فما دام أنهم لا يريدون بها جاهاً ولا سمعة ولا فخراً، وإنما يفعلون ذلك رحمة بالناس، فمن رحِم حريٌ أن يرحمه الله عز وجل، وأن يبارك له في رزقه، وأن ييسر له من أمره. ولقد جعل الله عز وجل للغارمين الذين يتحملون الديون، وهم رؤساء العشائر من الكبار الذين لهم مكانة، وأهل العلم وأهل الفضل الذين تأتيهم حوائج الناس دائماً، وكذلك أهل الكرم، فهؤلاء لا يستطيعون أن يعتذروا، والكريم في بعض الأحيان يفضل أن يموت ولا أن يعتذر لصاحب الحاجة، وهذا شيء وضعه الله في القلوب، وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (ثلاثة لهم علي فضل، وذكر منهم: رجل نزلت به حاجة فاختارني من بين الناس)، أي: جاء إليّ من بين الناس ووقف عليّ وسألني هذه الحاجة. فلا شك أنه لم يوجد ولن يوجد رجل عُرف برحمة الناس -وكان ذلك بحسن نية- فضاق عليه الأمر إلا ووسعه الله عز وجل، وهذا شيء لا يُخطر على بال، وقد رأينا من العلماء والفضلاء وأهل الفضل العجب في هذا. ولذلك فلن تجد إنساناً كريم النفس يستدين إلا تكفّل الله عز وجل برزقه، فنحن حينما ذكرنا مسألة الدين، قد يكون بعض الناس فيه رحمة، وأفضل ما يكون الكرم والإحسان في رجل عطوفٍ شفوق رحيمٍ بذوي رحمه، فتجده دائماً ينظر إلى أخواته المحتاجات وإخوانه وقرابته المحتاجين، وينظر إلى العجزة وكبار السن من قرابته؛ فيستدين لهم ويتحمل عنهم؛ فإن الله سبحانه وتعالى يجعل لمثل هذا من الفرج ما لم يخطر له على بال. وهذا رجل ضاقت عليه الأرض بما رحبت في دين أهمه وأغمه -وكان من أفضل الناس في جماعته إحساناً وكرماً، وكان من حفاظ كتاب الله عز وجل، ومن الصالحين الأخيار رحمه الله، نحسبه ولا نزكي على الله أحداً- يقول: إنه ضاق عليه الأمر في مبلغ كبير، حتى وقف عليه صاحب المبلغ وآذاه وسبّه وشتمه؛ لأنه تأخر عليه، وقد وعده أكثر من مرة أن يفي فلم يستطع، يقول: فنزلت إلى بيت الله، فطفت فيه -وقد كان رجلاً معروفاً بمواساة المحتاجين، وهذا شيء أدركته عليه، وقد كان من أعجب ما رأيت من الرجال، تجد بيته بيت الأيتام والأرامل والمحتاجين، لا يبالي بالدنيا أقبلت أو أدبرت من صلاحه رحمه الله- يقول: وأنزلت حاجتي بالله سبحانه وتعالى، فوالله إني عند المقام أصلِّي ركعتي الطواف، وإذا برجل ثري غني موفَّق جاء وصلى بجواري، قال: فسلّم عليّ وتبسم في وجهي وناولني كيساً، فإذا فيه ثلاثة أضعاف المبلغ الذي أردته!! فمن أنزل حاجته بالله عز وجل فإن الله لا يُخيِّبه، وما من أحد أحسن إلى الناس وضيّع الله إحسانه أبداً، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان. ومن غريب ما رأيت في هذا: أن الوالد رحمه الله كان لا يمسك المال، ولا يبالي بالدنيا أقبلت أو أدبرت، وهذا شيء شهدته ورأيته فيه رحمه الله، وأشهد أمام الله أني رأيت فيه من الكرم والإحسان إلى الضعفة والمساكين ما الله به عليم، فمما حدث: أنه جاء في مرض موته رحمه الله، وكان عندنا عمال قد احتاجوا إلى مبلغ من المال، وقد كان رحمه الله يعطي الأجير أجره قبل نهاية الشهر، وقد كانت وفاته رحمه الله في آخر شهر جمادى -أي: قرابة الرابع والعشرين- فاحتاج العمال إلى المال، فجئت إليه وقلت له: إنهم يحتاجون إلى مبلغ كذا وكذا، وكان هذا بعد صلاة العصر في اليوم الذي سبق وفاته، فتألم وتغيّر وجهه، وقال: ليس عندي الآن شيء، لكني أرجو من الله ألا يُضيق عليّ أمراً إلا وسّعه. والله ما زاد على هذه الكلمة، وأشهد بالله العظيم أنه ما إن انتهى من الكلمة إلا والباب يُقرع، فإذا بأحد أبناء العم من القرابة جاء لزيارة الوالد، وقد كان عليه دين لوالدي -وقد توفي والدي وله على الناس ما لا يقل عن ثلاثة ملايين، وما وقفنا على أحد نسأله ديناً للوالد، ولا نعلم ذلك أبداً من قبل، وفي آخر حياته كان يقول له بعض الناس: ألك حقوق على الناس؟ فيقول: حياتي كلها ما وقفت على رجل أقول له: أدِّ ديني، أبعد أن شابت لحيتي وابيض شعري أَفْعَل ذلك؟ فالشاهد: أنه جاء هذا القريب -انظر إلى تقدير الله عز وجل- ولو واجه الوالد لما قبل منه المال، لكن الوالد كان مريضاً، فأدخلته في غرفة الضيوف، فجاء وقال لي: أُريد أن أسلم على الوالد -وكان مريضاً جداً إذ كانت عليه الحمى رحمه الله، وذلك في اليوم الذي سَبق وفاته- فقلت له: لا يستطيع الآن أن يقابلك، ولو أنك عدت بعد العشاء أو في وقت آخر، فقال لي: سلم عليه وأعطه هذه الرسالة، وكنت لا أدري ما الذي بداخلها -انظر إلى تقدير الله عز وجل- فلو أنه جاء إلى الوالد وأعطاه المبلغ لغضب عليه ورفض قبوله، وأنا أعرف أنه إذا أعان أحداً فلا يأخذ منه بعد ذلك ما أعطاه إياه، ولو وسَّع الله عليه، رحمة الله عليه- فالشاهد: أنه أَعطاني هذا الظرف، وأُقسم بالله العظيم أَن المبلغ الذي فيه هو راتب العمال الثلاثة، لا يزيد ولا ينقص، فجلست مع الوالد وقلت له: فلان يسلِّم عليك، ويقول: هذه الأمانة التي أخذها منك، فتغير وجهه وقال: أمانة ماذا؟ ففتحتها فإذا فيها المبلغ الذي يعادل ألفين وأربع مائة، وهي تُعادل حقوق الثلاثة العمال. وهذا من أعجب ما رأيت؛ لأن كلمته لما قال: أرجو من الله ألا يضيق عليَّ شيئاً إلا وسّعه، فالدين إذا لم يَسد به حوائج المحتاجين، ويواسي به المكروبين، ويقف به مع الضعفة والمحتاجين، فلاشك أن الأولى الابتعاد عنه ما لم يضطر الإنسان إلى ذلك. وأما في هذا الزمان فلا شك أن الأمر أضيق، فقد كان أهل الفضل وأهل الكرم وأهل المال -من قبل- يحبون أهل العلم وطلاب العلم، ويواسونهم، لكن اليوم قلَّ أن تجد من يُكرم أهل العلم، وقل أن تجد من يقف عليه طالب العلم في حاجة لأحد إلا أذله وأهانه، ولاشك أن الله يأجُر طالب العلم على هذا، لكن قد تكون النفس عزيزة، فتربأ بالإنسان أن يقف هذا الموقف مخافة أن يكون في ذلك تبعة عليه أمام الله سبحانه وتعالى. فقد تغير الزمان وفسد، إلا من رحم ربي، وإن كان -والحمد لله- لا يزال هناك بعض أهل الخير، لكن الأمور قد تغيرت، وقد كان أهل العلم معروفين بهذا، وقصة الأوزاعي في ذلك مشهورة، كل هذا تحملوا فيه حقوق الناس، وأياً ما كان فالإنسان عليه أن يبتعد عن الدين ما لم يحتج إليه. وقد كانت أم المؤمنين ميمونة رضي الله تتدين وتستدين كثيراً، فقيل لها في ذلك، فقالت: ما أترك الدين منذ أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)، فكانت تعول على أن الله لا يخيبها، ولم يخيبها ربها سبحانه، فقد قُضيت ديونها، وكُفيت حاجتها، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يغنينا من فضله، وأن يكفينا بحلاله عن حرامه. ولقد بيّن المصنف رحمه الله أنه يُبدأ بالدين وبالحقوق الواجبة، وينبغي على طالب العلم أن ينتبه إلى أن المسألة التي ذكرناها حينما قلنا: أن يكون الذي وصَّى به من الواجبات، أو يكون من المستحبّات، بمعنى: أن يكون الدين ضمن الوصية، فيجعل في وصيته من الثلث، كأن يقول: اقضوا ديني من الثلث، وحجوا عني من الثلث، وتصدقوا بكذا وكذا من الثلث، فلما جئنا نقضي الدين وجدناه سبعة آلاف ريال، ووجدنا -مثلاً- أن الحج عنه بألف ريال، ووجدنا الذي وصى به أربعة آلاف ريال، فأصبح المجموع اثني عشر ألفاً، وكان ثلث ماله عشرة آلاف ريال، وهذه مسألة التقديم، فنقدم الدين، ونقدم الحج، ثم نتصدق بنصف الأربعة آلاف تتمةً للعشرة آلاف ريال، فمسألة التقديم هذه لا تُشكل على طالب العلم؛ لأن الحقوق الواجبة يجب سدادها سواء وصّى أو لم يوص، وإنما أدخلناها في الثلث أولاً إذا نص على أنها تكون ضمن الثلث، فيقول: اقضوا الدين من الثلث، وحجوا عني من الثلث، واعتمروا عني من الثلث، وأدوا ثلاث فديات من الثلث، فيجعلها حقوقاً واجبة. فحينئذٍ يُنظر فيها على التفصيل الذي ذكرناه في مسألة الثلث، وأما من حيث الأصل فلا إشكال أن الذي يجب هو المبادرة بسداد الدين، سواء وصَّى أو لم يوصِّ.

إخراج الواجب من مال الميت وإن لم يوص به

إخراج الواجب من مال الميت وإن لم يوص به قال رحمه الله: [ويُخرَج الواجب كله من دين وحج وغيره]. (من): بيانية، كقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة:1]، فـ (من) هنا بيانية، وقد بين المصنف رحمه الله أن من الواجب الدين، وأن من الواجب الحج، فمثّل للدين بحقوق العباد، ومثّل للحج بحق الله عز وجل، ومن مات ولم يحج حج عنه وليه. ويجب أن يُستأجر عنه إذا كان الولي لا يريد أن يحج، أو لا يتيسر له الحج، فيُستأجر من يحج عنه، وتدفع له مئونة الحج، ونفقة الحج ذهاباً وإياباً. ثم إما أن يُحدد موضعاً، فيقول له: حج عني من المدينة، فعند ذلك يجب أن يلتزم بوصيته، وإما أن يكون قد توفي أثناء الحج ولم يكن قد فعل الواجبات، فيوصي أن يكمل عنه، فيُكمل من الموضع، ويكون إحرامه من الموضع الذي توفي فيه، وإما أن يُطلق، فإذا أطلق قال بعض العلماء: إذا وجب عليه الحج وقصّر حتى توفي فيجب الإحرام من الموضع الذي هو فيه؛ لأن الوكيل منزّّل منزلة الأصيل، فلو كان من أهل المدينة فلا يصح أن نقول لرجل من أهل جدة: حج عنه، فيحرم من جدة؛ لأنه وجب عليه وتعين عليه أن يحرم من المدينة، وهو الميقات الأبعد، فلا يحرم من ميقات أدنى إذا وجب عليه من الأبعد، وهذه مسألة صحيحة تشهد الأصول الشرعية بصحتها؛ لأن النائب عن الإنسان في الحج قائم مقامه، وعلى هذا يجب أن يحج عنه من الموضع الذي وجب عليه الحج وقصّر فيه؛ لأن ذمته مشغولة بالحج على هذا الوجه. وعلى كل حال: يجب أداء الحج عن الميت إذا ترك، سواء وصّى أو لم يوص، وعلم وارثه بذلك. قال رحمه الله: [من كل ماله بعد موته وإن لم يوص به]. أي: الواجب، فإذا كان الحج حج نافلة، فيُحج من الثلث، ولا يُحج من أصل المال، وينبغي أن تفرَّق بين أمرين: فالحقوق والواجبات والديون تُقضى قبل قسمة المال، أو التركة عموماً، فهي في رأس المال، لكن بالنسبة للوصايا والصدقات، وما خصص شيئاً داخل الثلث، فهذه يتقيد فيها بالثلث، فيُنظر فيها بعد الانتهاء من الوجبات، وهذا هو الفرق بين الأمرين، فبيّن رحمه الله أنه يُقضى الواجب من كل تركته، ويُبدأ به؛ لورود النص في كتاب الله عز وجل بالأمر بكتابة الوصية والدين على قسمة المواريث. قال رحمه الله: [فإن قال: أدوا الواجب من ثلثي؛ بُدئ به]. وذلك لأن الثلث في الحقيقة يُؤخَّر من حيث الأصل، أي: يؤخر على الدين الواجب، فإذا أدخل الواجب في الثلث بُدئ به، وكونه واجباً ثم جعله في الثلث لا يُسقط ذلك مرتبته؛ بل يبدأ به، وهذا هو مراد المصنف. فمثلاً: الميت عليه دين عشرة آلاف ريال، فقال: لصالح عليّ عشرة آلاف ريال، أدُّوها من الثلث، فيُبدأ بها، ولا يقال: إنها وصية في الثلث فتوفر، بل يُبدأ بها؛ لأن الدين الواجب يُبدأ به قبل قسمة المواريث، وعلى ذلك فتقدم، وكونها واجبة، وكونه يجعلها في الثلث، لا يقتضي تأخيرها عن مرتبة الوجوب كما ذكرنا.

تزاحم الحقوق الواجبة مع المستحبة في الوصية

تزاحم الحقوق الواجبة مع المستحبة في الوصية قال رحمه الله: [فإن بقي شيء أخذه صاحب التبرع وإلا سقط] قوله: (فإن بقي شيء) بمعنى: إذا كان قد وصَّى بقضاء الدين من الثلث، ووصى بأشياء من الثلث، فإنه سيحدث ازدحام بين الدين وبين الصدقات والهبات، فلو قال: اقضوا ديني من الثلث، ووصيت لمحمد ابن عمي بعشرة آلاف ريال، ثم وجدنا الثلث عشرين ألفاً، والدين الذي عليه خمسة عشر ألف ريال، فمعنى ذلك: أننا سنعطي ابن عمه خمسة آلاف، فسقط ما زاد على الثلث، ونعتبر الدين مقدماً، فهذا أول شيء نقوم به؛ لأنه واجب، ثم بعد ذلك تعطى الوصية؛ لأن الاحتمال الذي جعل أهل العلم ينصّون على هذه المسألة: أنه قد يقول قائل: فلننقل الحقوق الواجبة إلى أصل التركة، ونبقي الثلث حتى ننفذ الوصايا، فنقول: هذا لا يصح، فما دام أنه أدخل الدين ضمن وصيته بالثلث فيجب التقيد بذلك، ثم يُعطى المستحب والنوافل بعد الواجب، فصارت المسألة راجعة إلى المسألة التي ذكرناها، وهو أنه لا يُعطى المستحب مع وجود ما هو أوجب وآكد منه، فرجعت إلى الأصل وهو: البداءة بالواجبات قبل المستحبات والصدقات. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجهه الكريم، نافعاً يوم لقائه العظيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

باب الموصى له

شرح زاد المستقنع - باب الموصى له يشرع لمن ترك ذرية ضعفاء وخشي عليهم بعد موته، أن يختار شخصاً مسلماً عاقلاً بالغاً حراً عدلاً، ويوصي إليه ليقوم بأمرهم، وبتفريق الأموال حسب الوصية، ويجوز للمرأة أن تكون وصية على اليتامى وعلى الأموال. كما أن الوصية تصح لكل من يصح أن يملك، حتى وإن كان حملاً تحقق وجوده، ولا تصح الوصية لملك من الملائكة أو لحيوان أو لميت؛ لأنه لا يصح تملكهم.

مشروعية الوصية بالذرية إلى من يقوم عليهم ويرعاهم

مشروعية الوصية بالذرية إلى من يقوم عليهم ويرعاهم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه وعلى أفضل رسله، سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الموصى له]. شرع المصنف رحمه الله في هذا الباب في بيان ركن من أركان الوصية، وهو الشخص الذي يوصى له ويُعهد إليه، والوصية تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يتعلق بالوصية بالأموال. القسم الثاني: يتعلق بالوصية بالأيتام والضعفة الذين يخلفهم الإنسان من وراء ظهره، كقرابته الذين يحتاجون إلى رعاية وعناية. فأما بالنسبة للأموال، فيُوصَى للشخص أن يأخذ ذلك المال، ويُوصَى للشخص أن يقوم بتفريق الأموال، ولابد في هذا الوَصِي -الذي أُقيم لتفريق الأموال أو لرعاية اليتامى والقيام على حقوقهم والإحسان إليهم من بعد أبيهم- أن تتوفر فيه أمور، ومن خلال هذه الأمور يمكن أن تتحقق المصالح التي من أجلها شرع الله الوصية، وكذلك تندرئ المفاسد والشرور التي شرع الله الوصية لدرئها ودفعها، والله سبحانه وتعالى ما ترك خيراً إلا ودل عباده عليه، وما ترك شراً إلا وحذرهم منه. والأصل في الوصية للأشخاص الذين يقومون برعاية اليتامى وبتفريق الأموال ممن يوثق بدينه وأمانته قول الله تبارك وتعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِين لَوْ تَرَكُوا مِن خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9]، فبينت هذه الآية الكريمة أن على كل مسلم حضره الموت، أو كان في عافية ولكنه يخشى أن يدهم عليه الأجل -وليس هناك أحد يضمن عمره- أن يتقي الله في هؤلاء اليتامى. والإنسان لا يضمن -ولو كان في عز شبابه واكتمال صحته وعافيته- أن ينزل به أمر الله في ليل أو نهار، ولذلك من وُلِد له فليتق الله في مولوده ولو كان صغيراً؛ لأنه لا يضمن أن يعيش له، فأمر الله تبارك وتعالى من خشي على ذريته من بعده: {وَلْيَخْشَ الَّذِين لَوْ تَرَكُوا مِن خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء:9]، فوصف الذرية بأنها ضعيفة، ووصف الشخص بأنه يخاف، إذاً: تكون الذرية ضعيفة إذا كانت من اليتامى، سواء كانوا ذكوراً أو كانوا إناثاً، واليتم في الأنثى أشد منه في الذكر، فلذلك قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِين لَوْ تَرَكُوا مِن خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّة ضِعَافًاً} [النساء:9] أي: أولاداً ضعافاً، بخلاف ما إذا كان هؤلاء الأولاد عندهم إخوة كبار، وهم بالغون وفيهم أمانة، فيمكنهم أن يقوموا مقام الآباء، ويسدوا مسده في رعاية إخوانهم القصّار واليتامى. فأولاً: أن تكون الذرية ضعيفة لا تملك لنفسها حولاً ولا قوة. ثانياً: أن يخشى هذا الرجل على هذه الذرية، وفي بعض الأحيان تكون الخشية بسبب عدم وجود قريب يقوم عليهم، فيخشى على أموالهم أن تُؤكل، ويخشى على حقوقهم أن تَضيع؛ بل ربما خشي على أعراضهم أن تنتهك، وهذا لاشك أنه يتأكد خاصة عند فساد الزمان وتغيُّر الناس. بل قد يخشى الإنسان من أقرب الناس منه، فكم من عم وكم من أخ أكل أموال قرابته! وكم من أيتام ضاعوا بسبب اعتداء أعمامهم على أموالهم! وكم من أيتام ضاعوا بسبب اعتداء إخوانهم على تلك الأموال! فإذا كان الأب يعلم أن ابنه الأكبر أو أن أبناءه الكبار فيهم قسوة، وفيهم جُرأة على حدود الله عز وجل، أو كراهية لإخوانهم القصار؛ فعليه أن ينتقل حتى ولو لشخص أجنبي غريب يأمنه.

شروط يجب توافرها في الوصي

شروط يجب توافرها في الوصي ولا بد أن تتوفر في هذا الشخص الأمور التي ينبغي مراعاتها في كل من يقوم بهذه الولايات؛ من جهة الدين ومن جهة الدنيا، فهناك أمور من جهة دينية، وهناك أمور من جهة دنيوية. أما من أوصي إليه بالقيام على اليتامى ونحوهم، فمن الأمور التي تشترط فيه من ناحية دينية: أولاً: الإسلام، فلو أنه لم يجد في أبنائه الكبار من يحسن النظر لليتامى من أولاده، ووجد أخاه، ولكن أخاه كافر، فلا يجوز أن يقيم الكافر وصياً على الأيتام المسلمين، بأي حال من الأحوال؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِين عَلَى الْمُؤْمِنين سَبِيلًا} [النساء:141]، والذي يوصي إلى الكفار قد جعل السبيل للكافر على المسلم بالولاية عليه، وقال سبحانه وتعالى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانةً مِن دُونكُمْ لا يَأْلُونكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِن أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118]، وما عرّف أحدٌ بعدوٍ مثل تعريف الله جل جلاله لعباده المؤمنين بأعدائهم، ولذلك يقول في كتابه: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} [النساء:45]. فبيّن سبحانه وتعالى أن الكافر لا يراعي مصلحة المسلم مهما كان الأمر، إلا إذا كان هناك ضرر أكبر، أو كان هناك خديعة أو مكر، والله عز وجل {يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِين} [الأنعام:57]. فلن تجد أصدق منه حديثاً، ولا أصدق منه قيلاً، ولا أصدق منه حكماً، ولذلك قال تعالى: {لا يَرْقُبُون فِي مُؤْمِن إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10]، والإل: هو القرابة، والذمة: هي العهد، فالكافر لا يرقب في المؤمن إلاً ولا ذمة، إلا إذا كانت له مصالح، فعندها يخاف من المصلحة أن تفوت، لا مراعاة للإل ولا للذمة، فليس عندهم عهد ولا ذمة، فالمقصود: أن الله تعالى لم يجعل للكافر على المؤمن ولاية لهذه النصوص. ولما ولى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه كاتباً له نصرانياً -وكان بالشام- لأنه لم يجد في المسلمين من يحسن له الكتابة وتنظيم الكتابة، فعهد بذلك إلى نصراني من أهل الشام، فبلغ عمر ما فعله، فكتب إليه بهذه الآية: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانةً مِن دُونكُمْ لا يَأْلُونكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنتُّمْ} [آل عمران:118]، فقوله تعالى: {وَدُّوا مَا عَنتُّمْ} [آل عمران:118] أي: ودوا عنَتَكم، وهذا يدل على أنه لا خير فيهم، فلا يجوز أن يكون الكافر وصياً على الأيتام، ولا قائماً على شئونهم؛ لهذه النصوص. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يعلو ولا يُعلا عليه)، واليتيم المسلم كالمسلم؛ لأن هذا عند العلماء مُقعَّد على القاعدة المشهورة التي ذكرها الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه: قواعد الأحكام، التي هي: (تنزيل المعدوم منزلة الموجود)، فأيتام المسلمين محكوم بإسلامهم تبعاً لوالديهم. الشرط الثاني: العقل، فلا يعهد لأولاده وأيتامه وذريته من بعده ولا يُوصِي لشخص مجنون؛ لأن المجنون لا يُحسن النظر لنفسه فضلاً على أن ينظر في مصلحة غيره؛ ولأن الشريعة الإسلامية إنما جعلت الوصية على اليتامى من أجل طلب مصالحهم ودرء الشرور -بإذن الله- عنهم، وهذا لا يمكن أن يتحقق بمن فقد العقل، حتى لو كان جنونه متقطعاً فإنه لا يقام وصياً؛ لأنه لا يؤمن منه الضرر. الشرط الثالث: أن يكون بالغاً؛ لأن الصبي لا يُحسن النظر، وفيه كذلك قصور، قال تعالى في كتابه: {َالَّذِين لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} [النور:58]، فبيّن أن الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم دون العقل والتمييز والإدراك للأمور، فلو أُقيم صبي وصياً على يتامى، أو وصياً على أموال في تفريقها؛ فإنه لا يُحسن النظر، ولربما خُدع وضحك عليه لنقص عقله. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم-: الصبي حتى يحتلم) أي: حتى يكتمل عقله ويُحسن النظر بفضل الله عز وجل، ثم بهذا العقل الذي يميز فيه بين الأمور صالحها وضارها. الشرط الرابع: أن يكون حراً؛ لأن العبد المملوك بيّن الله تعالى أنه مشغولٌ بخدمة سيده؛ ولأنه لا ولاية له على نفسه، فكيف يلي على غيره؟ الشرط الخامس -في الوصي الذي يوصَى إليه بالقيام على أمور اليتامى-: أن يكون من أهل العدالة، والعدل هو الذي يجتنب الكبائر ويتقي في أغلب أحواله الصغائر، قال الناظم. العدل من يجتنب الكبائرَ ويتقي في الأغلب الصغائرَ فالعدل هو الذي استقام على طاعة الله تبارك وتعالى، والتزم شرائعه، وفعل ما أمره الله به، وترك ما حرّم الله عليه، والفاسق هو من يرتكب الكبائر -ولو كبيرة واحدة- أو يصر على صغيرة حتى تصل إلى مقام الكبيرة، فمثل هذا يقولون: كما أنه ضيع حق الله بفسقه؛ فإنه سيضيع حقوق اليتامى؛ لأن أصل الفسق: الخروج عن الشيء، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت قشرتها، والفاسق سُمِّي فاسقاً لأنه قد خرج عن طاعة الله عز وجل، فإن خرج خروجاً كلياً -والعياذ بالله- بالكفر فهذا فسق الكفر، وإن خرج خروجاً لا يخرجه عن الملة، فهذا فسق العصيان الذي لا يوصل الإنسان إلى حد الكفر. فمثل هذا الذي يفعل الكبائر وفيه فسق لا يؤمن أن يضيع حقوق اليتامى ويتلاعب بها، فربما قبل الرشوة، فباع أموال اليتامى بثمن بخس، أو باعها حين يكون البيع ضرراً على اليتامى، أو يشتري حيث يكون الشراء ضرراً على اليتامى. فالمقصود: أنه بفسقه فيه تهتك وفيه تساهل، فلا يؤمن منه أن يضيع حقوق هؤلاء اليتامى، وحينئذٍ يكون مقصود الشرع تحقيق المصالح، فتكون ولايته مضيِّعة لمقصود الشرع. هذا من جهة الأمور التي ينبغي توفرها في الشخص الذي يُوصَى إليه.

أمور يستحب توافرها في الموصي

أمور يستحب توافرها في الموصي وهناك أمور تُستحب في الموصي، وينبغي لمن يُوصِي أن ينظر إلى الأكمل والأفضل؛ ومن هذه الشروط المستحبة: أولاً: ألا يخرج عن القرابة، فإذا أراد أن يوصي لأيتامه فيبدأ بأقرب الناس إليه، ممن يُحسن النظر؛ لأن القريب في الغالب فيه شفقة القرابة، ويخاف من الله جل وعلا أكثر؛ لأن القرابة تدعو إلى الشفقة وإلى الرحمة، فإذا كان هناك من أقربائه من يمكن أن يقوم بالنظر في عياله وأولاده وأيتامه من بعده، فلا يعدل إلى الغريب، ولا ينتقل إلى الأجنبي، ولأنه ربما احتاج الوصي أن يخاطب أمهم، ولربما احتاج أن يختلط باليتامى، فعندما يكون من الأقربين يكون ذلك أخف على أولاده وأيتامه وأجبر لقلوبهم، بخلاف ما إذا كان أجنبياً فإنه يكون أدعى إلى التُّهَم، ويكون في ذلك من التضييق والعنت ما الله به عليم، فيبدأ بالأقرباء قبل الغرباء. ثانياً: من أهم ما ينبغي أن ينتبه له بعد هذه الشروط الدينية هو مراعاة الأمور الدنيوية المهمة التي من أهمها: حُسن النظر في الأمور؛ فإن الله عز وجل فضل الناس بالعقول، وفضّلهم بحسن النظر، فهذا العقل هو الذي ارتقى الإنسان به من مستوى البهيمية إلى مستوى الآدمية والتكريم من الله جل وعلا، وهو نور من الله سبحانه وتعالى تنكشف به حقائق الأمور، فيميِّز الإنسان بهذا العقل بين الصالح وبين الضار، ولذلك تجد من فقد عقله بسكر أو جنون -والعياذ بالله- يكون حاله في بعض الأحيان أردأ من حال الطفل، ولربما ذهب ورمى بنفسه في النار، مع أن البهيمة إذا رأت النار فرت منها، ولكنه ربما جاء في حال سكره وحال ذهاب عقله -والعياذ بالله- فيرمي بنفسه، ولربما قتل نفسه والعياذ بالله، فالعقل من أتم النعم التي أنعم الله عز وجل بها على العبد بعد نعمة الدين، ولذلك وصف الله الدين مع العقل بأنه نور على نور. فإذا جاء الإنسان يوصِي بقرابته وأوليائه إلى شخص فعليه أن ينتبه لهذه الجوانب المهمة من اكتمال العقل، فقد يكون عاقلاً ولكنه غير مكتمل العقل، فينظُر إلى الشخص الذي عُرف بسداد الرأي، فمثلاً: إذا كان الذي يريد أن يوصي غنياً ثرياً، فينبغي أن يتنبه إلى جانب حفظ المال وتنميته، فإذا وُجد الشخص المعروف بحسن النظر في تنمية الأموال واستثمارها عهد إليه بالقيام على أمواله؛ لأن مال اليتيم يحتاج إلى ذلك، وهذا أكمل وأفضل، فيُحفظ المال وينمو، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اتّجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة). فندب إلى أن يكون الولي ممن يُحسن النظر في استثمار الأموال وحسن رعايتها، وهذه المرتبة مرتبة الأحسن والأكمل، أما إذا لم يجد الموصي من يُحسن تنمية أموال أيتامه؛ فليبحث عن الشخص الذي عُرف بالحيطة والحذر والخوف في حفظ الأشياء، وله أن يختبره حتى يعلم أمانته وحفظه، حتى إذا لقِي الله جل جلاله ووقف بين يدي الله وأبناؤه خصومه فيمن ولاّهم عليه يقول: رضيت لهم ما أرضاه لنفسي. فعليه أن يَنْظُر وكأنه يتيم من هؤلاء اليتامى، فينظر الذي يُرضَى في حفظه ورعايته لهذه الأموال، سواء كان من القرابة أو من غيرهم. فالإنسان عندما لا يجد من يُحسن الاستثمار، أو وجد رجلاً يستثمر الأموال ولكنه يخاطر في استثماراته، ووجد شخصاً غيره لا يستثمر، لكنه إذا أمسك شيئاً حفظه حتى يؤديه على أتم وجوه؛ فحينئذٍ تجتنب جانب المخاطرة، وتعهد بأبنائك إلى من عُرف بالحفظ، فالحفظ حسن والاستثمار أحسن، لكن حينما كان الاستثمار فيه مخاطرة وصاحبه لا يُعرف بالحذر، فتعدل إلى من يعرف بالحفظ؛ لأن المسلم لا يخاطر لنفسه، فكذلك لأيتامه الذين أُمر بالنظر في مصالحهم. كذلك أيضاً عليه أن يبحث في الأمور الدنيوية من ناحية أخلاق الرجل في دينه وحسن معاملته؛ لأن أيتامه من بعده ربما احتاجوا أن يدخلوا على هذا الرجل المرة بعد المرة، وقد يكون الرجل فظاً غليظاً، فقد تجده يحسن حفظ الأموال أو استثمارها، لكن أخلاقه شرسة ومعاملته سيئة؛ فيعيش اليتيم تحت القهر، فلا يستطيع أن يبث حاجته وأن يبث حزنه، ولا يستطيع أن يسأل حاجته، أو أن يصل إلى ماله ومالُه بين يديه، فلا ينبغي أن يولي عليهم من عُرف بالشدة والأذية والتضييق، وإنما يُراعي فيه الأخلاق الطيبة، والتواضع والإلف والحلم والرحمة، ويوصيه بتقوى الله عز وجل، وحسن النظر في أيتامه وأولاده من بعده، وقد كان السلف الصالح رحمهم الله يحتاطون في هذا الأمر كثيراً.

حكم وصية الرجل إلى المرأة بالقيام على الأيتام والأموال

حكم وصية الرجل إلى المرأة بالقيام على الأيتام والأموال ويجوز أن تُولّى المرأة، فإذا كانت زوجة الإنسان معروفة بالصلاح والأمانة، ومعروفة بالرعاية والضبط التام لأموال اليتامى، وكذلك برعايتها؛ عهد إليها؛ لأن المرأة -على أصح أقوال العلماء- يجوز أن تلي وأن يُوصَى إليها برعاية الأيتام، وكذلك بحفظ المال وتفريقه، والدليل على ذلك فعل السلف، فإن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تولت أمور أيتام أخيها عبد الرحمن رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه توفي قبلها، فوَلِيت أمور أيتامه من بعده؛ فكانت هي التي تقوم على شئونهم وترعى أحوالهم. وكذلك صح عن عمر رضي الله عنه -كما في الصحيحين- أنه عهِد بالوقف الذي أوقفه بخيبر -وقد تقدم معنا- وأوصَى أن تكون بنته أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها هي التي تليه على الوقف. فدل ذلك على أنه يجوز أن يُوصَى بتفريق الأموال إلى المرأة، قياساً على فعل عمر في الوقف، وبرعاية الأيتام نصاً في خبر أم المؤمنين عائشة، حيث وقع فعل هذا بحضور الصحابة وبعلمهم رضي الله عنهم ولم يُنكر عليها ذلك، وهي من فقهاء الصحابة رضي الله عنها وأرضاها. وقد شدد في هذا بعض السلف، فكان عطاء بن أبي رباح رحمه الله لا يرى أن يُوصَى للمرأة، والصحيح: أنه يجوز ويصح أن يُوصِي للمرأة، وخاصة إذا عُرفت بالأمانة والحفظ وحسن الرعاية والتدبير لأموال أيتامه من بعده.

اشتراط كون الموصى له يصح تملكه

اشتراط كون الموصى له يصح تملكه يقول رحمه الله: [باب الموصى له] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بالشخص الذي يُوصَى له، فيُعهد إليه برعاية أيتامٍ أو تفريق مال، أو يُوصَى له مباشرة بأن يقال: أعطوا محمداً عشرة آلاف، أو أعطوه الثلث، أو نحو ذلك، فإنه يشمل هذا ويشمل هذا، فهناك يكون موصَىً له، وأيضاً يعتبر وصِياً من جهة كونه قائماً بالرعاية للمال والأيتام. قال رحمه الله: [تصح لمن يصح تملكه]. إذا وصَّى بمال فلابد أن يكون الشخص الذي يُوصَى له ممن يصح تملكه للمال، فإن كان ممن لا يصح تملكه للمال؛ كالمعدوم، كأن يقول: أعطوا ابن فلان، ولم يولد له بعد، وليس هناك حمل تحقق وجوده، فهذا غير موجود. وكذلك أيضاً بيّن أنه لا بد أن يكون ممن يصح تملكه، فيُوصَى للشخص الذي يكون أهلاً للولاية على المال، وكذلك استحقاقه. فأما إذا كان لا يصح تملكه للمال؛ مثل الحربي، فلو وصى بماله لحربي فلا يصح تملكه للمال، ولا تجوز الوصية له؛ لأن أموال الكفار ملكٌ للمسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم). فدلّ هذا على أن الحربي -أي: المحارب للمسلمين من الكفار إذا لم يفعل ذلك، فمعناه أنه لم يسلم، وأنه باقٍ على محاربته للمسلمين؛ وحينئذ لا استحقاق له في المال، فلو قال: وصّيت لأخي فلان بعشرة آلاف، وكان أخوه حربياً كافراً، لم يصح؛ لأنه ليس له يد على ذلك المال؛ لأن الشريعة رفعت يد الكافر عن ماله إذا كان محارباً. وقوله: (تصح) أي: الوصية (لِمَن) أي: للشخص الذي (يصح تملكه)، فلو قال مثلاً: وصَّيت لبهيمة، فإنه لا يصح تملكها، وكذلك أيضاً لو قال: وصّيت لملك من الملائكة، فلا يصح تملك هؤلاء؛ لكن إذا وصَّى لشخصٍ معين يصح تملكه صحّت الوصية؛ لأن الوصية يراد منها إيصال الحق إلى شخص، سواء كان ذلك على سبيل الصلة والبر، أو على سبيل المحاباة وكسب المودة، وهذا المعنى لا يتحقق فيمن لا يصح تملكه، كالبيهمة، والملك، والحربي، ونحوهم. وظاهره العموم كما ذكر المصنف، فيشمل الذكر والأنثى، ويشمل الصغير والكبير، فيصح أن يوصي بماله لصغير فيقول مثلاً: ثلث مالي وصية لذلك الولد، ولو كان دون البلوغ، وهكذا لو وصَّى لحملٍ تحقق وجوده فإنه يصح تملكه. فعلى هذا لا بد أن يكون الشخص الذي يُوصَى له ممن يصح تملكه، ويشمل ذلك الرجال والنساء كما ذكرنا.

حكم الوصية بالمال للعبد

حكم الوصية بالمال للعبد قال رحمه الله: [ولعبده بمشاع كثلث]. أي: وتصح الوصية لعبده بمشاع كثلث، كأن يقول: ثلث مالي لعبدي فلان، وذكر العبد هنا؛ لأن الإشكال في العبد أنه بعد وفاة سيده يكون ملكاً للورثة، فإذا وصّى له فإن جميع ما يوصَى به لهذا الرقيق سيكون إلى الورثة، فصارت الوصية في ظاهرها لغير وارث وفي حقيقتها أنها لوارث، ومن هنا يذكر العلماء مسألة الرقيق من هذا الوجه، ومرادهم التمثيل على وصية في ظاهرها للغير ولكنها في حقيقتها آيلة إلى الورثة. لكن إذا قال: وصّيت بثلث مالي لفلان، من أرقائه وعبيده، أو قال: أوصيت أن يُعتق فلان من ثلثي ونحو ذلك، فحينئذٍ يُنظر، فإذا استغرق الثلث الذي وصِّى به قيمة العبد فهو حر، فلو كانت قيمته تسعة آلاف ريال، وكان قد ترك سبعة وعشرين ألفاً، فالثلث تسعة آلاف، فحينئذٍ يعتق من هذا الثلث، وأما إذا كان زائداً فحينئذٍ يعتق ويملك ما زاد، فلو قال: وصيت بثلثي لمحمد -وهو من عبيده- والثلث تسعة آلاف، وقيمة الرقيق ثلاثة آلاف؛ عتق بالثلاثة وملك ستة آلاف؛ لأنه تكون له يد على المال، وحينئذٍ يعتق ويملك. قال رحمه الله: [ويعتق منه بقدره ويأخذ الفاضل]. قوله: (ويأخذ الفاضل) الفاضل هو الزائد، يقال: فضل الشيء إذا زاد، ومنه فضلُ الإنسان، إذا كان محافظاً على الطاعة؛ لأن الطاعة والبر إذا كانت غير واجبة فهي فضل وزيادة على الواجب. قال رحمه الله: [وبمائة أو معين لا تصح له]. فإن عيّن وقال: بمائة درهم، أو أوصيت له بألفٍ، فهذه المائة أو الألف ستعود إلى الرقيق وليست في رقبته، وإنما تعود ملكاً له، وبمجرد ما تقع يده على ذلك المال سينتقل إلى ورثة الموصِي، فكأنه يوصي إلى ورثته؛ لأن الرقيق لا يملك، والدليل على أنه لا يملك قوله تعالى: {عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل:75]، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع)، فأخلى يد الرقيق عن الملكية، وجعل ماله إما للبائع وإما للمشتري، فدل على أنه لا يملك. وعلى هذا فلو وصّى له بمعيّن -كمائة أو ألف أو ألفين- فهذا المعين بمجرد أن تحكم بصحة الوصية سيدخل إلى ملكية العبد، والعبد وما ملك سيكون لسيده، فهو في الحقيقة سيؤول إلى وصية لوارث، بخلاف ما ذكرناه في مسألة المشاع والثلث.

صحة الوصية بحمل أو لحمل تحقق وجوده

صحة الوصية بحملٍ أو لحملٍ تحقق وجوده قال رحمه الله تعالى: [وتصح بحمل ولحمل تحقق وجوده]. قوله: (وتصح بحمل)، أي: إذا وصّى بحمل جاريته؛ لأن الحمل يكون من الرقيق تبعاً لأمه. أو يكون الحمل حمل ناقة أو حمل شاة، فقال: ما في بطن هذه الشاة -والحمل موجود- يُعطى لمحمد أو يُعطى لعلي، فهذه وصية منه بهذا الحمل، فتصح الوصية بحمل. وقوله: (ولحمل تحقق وجوده قبلها)، أي: قبل الوصية، فالضمير عائد للوصية، إذاً: يُشترط أن يُتحقق من وجود الحمل قبل الوصية حتى تصح الوصية؛ لأنه إذا لم يُتحقق من وجود الحمل قبل الوصية كانت لمعدوم، ولا تصح حينئذٍ الوصية من هذا الوجه، فإذا وصى لحمل كأن يكون -مثلاً- ولد أخيه، أو أخته، فيقول مثلاً: وصيت بألف ريال تُعطى لحمل فلانة، فيشترط في هذا الحمل أن يُتحقق من وجوده حتى تصح الوصية، وقد يوصي للحمل لأنه سيكون يتيماً، كأن توفي أخوه وزوجته حامل، فأحب أن يصل أولاد إخوانه من اليتامى، فقال: أُوصِي بثلث مالي لحمل فلانة، يقصد زوجة أخيه.

إذا أوصى أن يحج عنه بمال يكفي لأكثر من حجة

إذا أوصى أن يحج عنه بمال يكفي لأكثر من حجة قال رحمه الله: [وإذا أوصى من لا حج عليه أن يحج عنه بألف؛ صرف من ثلثه مئونة حجة بعد أخرى حتى ينفد]. الإنسان إذا وصى بالحج أو بالعمرة، فإما أن يكونا واجبين عليه، وإما أن يكونا غير واجبين، فإن كانا واجبين فلا إشكال، فإنها ستُخرج سواء وصى أو لم يوص؛ لأن دين الله أحق أن يُقضى؛ ولكن إذا وصّى وقال: حجوا عني، فإن حدد مالاً فقال: هذه العشرة آلاف يُحج بها عني، أو ثلث مالي يحج به عني، فحينئذٍ نأخذ هذا الثلث كاملاً نُحجج عنه، فإذا حججنا عنه لم يخلُ من حالتين: فإما أن يكفي الثلث، وإما أن لا يكفي. فإن كان الثلث كافياً فعلى ضربين: إما أن يكفي ويزيد، وإما أن يكفي ولا يزيد. فإن كان يكفي ولا يزيد فلا إشكال، مثال ذلك: لو أنه قال: خذوا من مالي ألف ريال وحجوا بها عني، ثم جئنا لشخص وقلنا له: أتحج عن فلان؟ قال: نعم، فنظرنا في مئونة الحج وكلفته فإذا هي ألف ريال؛ فحينئذٍ وصّى بمال يكفي للحج ولا يزيد، فحينئذٍ لا إشكال. الحالة الثانية: أن يكفي ويزيد، فإذا كفى المال وزيادة؛ حُج عنه بالأصل، ثم كُرِّر الحج سنوات حتى ينفُد المال كله؛ لأن هذا المال شبه الموقوف على هذه الطاعة، فيحجَّج بهذا المال عنه. لكن الإشكال إذا كان المال يكفي لأربع حجج، فهل تكون هذه الأربع الحجج متتابعة، بحيث نحج عنه في أربع سنوات، أو يُمكن أن يُستأجر أربعة أشخاص في حجة واحدة؟ هذا فيه تفصيل عند بعض العلماء، فبعض العلماء يقول: لا يُحج عن الميت إلا حجة واحدة؛ لأن البدل آخذ حكم مبدَله، كما أنه لا يمكن أن يأتي بحجتين في عام واحد؛ فكذلك لا يصح أن يُحجّج عنه حجتين في عام واحد؛ ولأننا لو فتحنا هذا الباب في باب النوافل لصح أن يأتي هو بحج ويستأجر الغير معه ليحج أيضاً عنه، على القول بجواز التنفل عن الحي مع القدرة، وهذا من حيث النظر صحيح، ومن حيث الأصل أيضاً له وجهه. وبعض العلماء يقول: بل يمكن أن يُحجّج عنه أربعاً أو خمساً في زمان واحد على حسبه، فمثلاً: لو ترك خمسة آلاف، وكل ألف ريال تكفي لحجة عنه، فبعض العلماء يقول: أستأجر خمسة أشخاص؛ وذلك لأنني لا أضمن في العام القادم أن تكون الحجة بألف، وقالوا: إنه يجوز في الأموات بعد موتهم ما لا يجوز للإنسان في حال حياته، فيخفف في هذا من هذا الوجه. وأياً ما كان فكلا القولين له وجهه، وما ذكرناه من أنه لا يُجمع بين الحجتين في عام واحد له قوة. هذا بالنسبة إذا كانت تكفي وزيادة، والحكم الذي يهمنا أنه ما دام قد قال: ثلث مالي يصرف في الحج، أو هذه الألف يُحج بها عني، فإن هذا المال كله يُنفق في الحج، ولا نقتصر على حجة واحدة إلا إذا قال: خذوا من ثلث مالي حجة واحدة؛ أو عمرة واحدة، فحينئذٍ يُقتصر على ما طلب وسأل، ويُصرف من المال بقدره. أما إذا كان لا يكفي أن يُحج عنه، فبعض العلماء يقول: إنه يُنظر إلى أقرب الأماكن؛ لأنه لا يمكن أن يُحج عنه من بلده ومن مكانه، ويمكن أن ينظر إلى أقرب الأماكن، كأن يُستأجر شخص من أهل مكة ويَحج عنه، أو يُنظر ممن يرضى بالقليل ويقوم بالحج عنه، وأياً ما كان فإن المال الذي عين للحج مصروفٌ في ذلك الحج، إلا إذا تعذر الوجود وتعذّر من يحج عنه، فحينئذٍ يُنتظر حتى يُتمكن من صرف ذلك المال في الحج. وقوله: (صرف من ثلثه مئونة حجة بعد أخرى حتى ينفد)، أي: حتى ينفذ الثلث؛ لأنه لم يخص حجة واحدة، ولا عمرة واحدة، لكنه لو خص وقال: يُحج عني حجة واحدة، أو يُحج عني السنة القادمة، أو يُحج عني حجتين، فحدد وعيّن، فيتعين الحكم ويختص الحكم بما عُيِّن من أجله، أما إذا كان قد أطلق فإننا نستنفد الثلث كاملاً، ولو شمل ذلك عشر حجج، لكن على التفصيل الذي ذكرناه.

حكم الوصية للملائكة أو للبهائم أو للميت

حكم الوصية للملائكة أو للبهائم أو للميت قال رحمه الله: [ولا تصح لملك وبهيمة وميت]. فلا تصح الوصية لمَلَك، كأن يقول مثلاً: هذه الألف لجبريل، فلا تصح الوصية، وهذا من الأمور المبتدعة التي يفعلها أهل الجهل، مثلما يقول بعضهم: وهبت ثواب قراءتي وصلاتي إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا يقال له: أنت وصلاتك وعبادتك كلها في ميزان حسنات النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى جعل له أجر الأمة كلها، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (من دعا إلى هدى كان له أجره)، فذلك تحصيل حاصل. وقد قرر الأئمة رحمهم الله أن هذا من الأمور المستحدثة على المسلمين، فالثواب حاصل، ومقام النبي صلى الله عليه وسلم أعلى وأرفع من أن تتصدق عليه بحسنة ذكر أو طاعة، فمقامه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه أجل وأكرم عليه الصلاة والسلام. فالمقصود من هذا: أنه لا يوصَى لملك، ولا لبهيمة، فمثلها لا يملك؛ لأنه يتعذّر هذا الإيصال، وهكذا إذا كانت لمُبهم، كقوله: أوصي لرجل؛ قال طائفة من العلماء: لا تصح؛ لأنه لا يمكن الإيصال، فمن هو هذا الرجل؟ لا يمكن تعيينه، ففي هذه الحالة يتعذّر الإيصال إلى الملك، والمبهم يتعذر التعيين ما لم يعين هو، والأصل يقتضي أن تكون الوصية واضحة، وأن تكون بيّنة معلومة. وقوله: (وبهيمة)، كقوله: أوصي لبهيمة، مثلما يقع عند أهل الكفر والعياذ بالله، فيترك ورثته عالة يتكففون الناس، ويوصي بملايينه لكلبه، نسأل الله السلامة والعافية! وصدق الله جل جلاله حيث يقول: {إِن هُمْ إِلَّا كَالأَنعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]، فبمجرد ما يخرج الإنسان عن الدين ويترك شرع ربه؛ فإنه ينزل إلى مستوى أحط من البهيمة: {إِن هُمْ إِلَّا كَالأَنعَامِ} [الفرقان:44]، وليس هذا فقط: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]، فهم أضل سبيلاً وأضل فكراً، وهل من عنده عقل يوصي لبهيمة؟! فالكلب عندهم -أكرمكم الله- أحب وأكرم من صلة القرابة؛ لأنها مجتمعات مدمرة منحطة، ولو مُدحت وأُثني عليها ووضعت في السماء، لكن هذا كله خلاف الحقيقة، ولذلك من أراد الحقيقة والجوهر فلينظر إلى عظمة هذا الدين، وعظمة هذا الإسلام الذي بُعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فهو العز والكرامة. فالوصية للكلاب وللبهائم لا يفعلها إلا إنسان ليس عنده عقل، ولو وصّى لبهيمة لم تصح، والوصية للكلاب ولدور الكلاب ولدور الحيوانات لا تصح. لكن في بعض الأحيان يقول بعض العلماء: إذا جعل قدراً من بستان أو من طعام عنده صدقة على بهائم المسلمين، أو علفاً لدواب المسلمين، أو علفاً لدواب الجهاد في سبيل الله ونحو ذلك، فهذا اغتفره العلماء رحمهم الله، وله وجهه. لكن أن نقول: هذه العشرة آلاف أعطوها الكلب الفلاني، أو ضعوها في رصيده -والعياذ بالله- في البنك، فهذا لا يصح في شريعة الله عز وجل، والشريعة قد أعطت كل ذي حق حقه. ولذلك يُصرف المال في وجهه، لكن عند العلماء إشكال فيما إذا وصى مثل هذه الوصايا، فهل تبطل الوصية من أصلها، أم أنه ينظر إلى جهة يمكن أن تصحَّح بها الوصية، فتصرف لضعفة المسلمين ولفقرائهم؟ نقول: هذا فيه تفصيل عند أهل العلم رحمهم الله باختلاف أنواع الوصايا، ومن أمثلتها: الوصية إلى ما لا نفع فيه، أو الوصية إلى ما فيه ضرر، فلا تجوز الوصية إلى دور فيها محرمات، فهل تبطُل الوصية من أصلها أو تصرف، فبدلاً من أن تذهب إلى دور المحرمات تذهب إلى دور المساجد وإلى دور العلم؟ اختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه إِذا وُصِّي بها -مثلاً- إلى طوائف ضالة، أو إلى ملل أو نِحل، كأن: وصَّى بماله -والعياذ بالله- في المساهمة في بناء الكنائس، أو طبع التوراة أو الإنجيل، فلا تصح؛ لأنها وصية بضلال، فيقولون: إنه قد يكون جاهلاً ويظُن أن الطاعة في مثل هذا، فننظر إلى الطاعة الحقيقية فنصحح وصيته؛ لأن القاعدة: أن الإعمال أولى من الإهمال. ومن أهل العلم من قال: تبطل الوصية من أصلها ولا تصحّح، فعند العلماء هذا التفصيل في هذه المسألة. وهكذا لو وصَّى لميت فلا يصح؛ لأن الوصية يشترط فيها القبول، والميت يتعذر منه القبول.

حكم من وصى لحي وميت يعلم موته أو يجهله

حكم من وصى لحي وميت يعلم موته أو يجهله قال رحمه الله: [فإن وصى لحي وميت يَعلم موته فالكل للحي]. إذا وصى الموصي فقال: هذه عشرة آلاف من ثلثي، تعطون زيداً خمسة آلاف وعمراً خمسة آلاف، وهو يعلم أن زيداً قد مات، فحينئذٍ لا تصح لزيد؛ لكن هل يأخذ عمرو الخمسة أم العشرة كاملة؟ قال بعض العلماء كما اختاره المصنف: تُصرف العشرة آلاف كلها لعمرو؛ لأنه لما كان يعلم أن زيداً قد مات فكأنه يقول: اصرفوها كلها لعمرو. ولكن هذا فيه نظر، والأقوى ما ذكره بعض العلماء: أنه إذا كان يعلم موته، فنبقى على الأصل مادام ميتاً؛ لأنه ربما كان يعلم موته ونسي -ذهَل أو غفَل- فتكون كالوصية للميت الذي لا يعلم موته، ولأنه عيَّن وحدد، والمعيّن لا يُصرف إلى غيره؛ لأن فائدة التعيين الحصر والقصر بذلك الذي سَمّى، فلما كان الذي سماه وعينه ممن تبطل الوصية بالنسبة له، بطلت في حقه، وبقيت في حق غيره صحيحة. قال رحمه الله: [وإن جهل فالنصف]. قوله: (وإن جَهل) أي: جهل موته، يعني فلا يدري هل هو حي أم ميت، فقال لهم: أعطوا زيداً خمسة آلاف وعمراً خمسة آلاف، ولا يدري هل زيد حي أو ميت، ثم تبيّن أن زيداً كان ميتاً؛ فحينئذٍ يصرف النصف لعمرو، فالمصنِّف يختار التفصيل. والصحيح: أنه لا تفصيل، فالنصف لعمرو في كلتا المسألتين، أي: هو لعمرو في حال علمه بموت زيد لاحتمال أن يكون نسي، ولعمرو في حال عدم علمه أو جهله بالحال أو شكه في حياته؛ لأنه قد عيّن، وفائدة التعيين صرف الحق لمن عُيِّن له.

حكم من وصى بماله لابنيه وأجنبي

حكم من وصى بماله لابنيه وأجنبي قال رحمه الله: [وإن وصى بماله لابنيه وأجنبي، فردَّا وصيته فله التسع]. من المعلوم أنه إذا وصّى بالمال كله فلا يصح إلا في حدود الثلث، فمعنى ذلك: أن الوصية باطلة في الثلثين وصحيحة في الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له سعد: (أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا)، فدل على أن المال كله لا تصح الوصية به إلا في حدود الثلث، فإذا صحّت في حدود الثلث فهنا قد سَمّى المصنف ثلاث جهات، الجهتان الأوليان: ابناه زيد وعمرو مثلاً، والجهة الثالثة: الأجنبي، وليكن علياً، فزيد وعمرو يستحقان ثلثي الثلث، والأجنبي -الذي هو علي- يستحق ثلث الثلث؛ لأن الوصية بطلت في الثلثين وصحت في الثلث. فمثلاً: لو كان عندك تسعة آلاف ريال، وأوصيت بجميع التسعة آلاف ريال لهؤلاء الثلاثة، فنقول: ليس من حقك أن تعتدي على حقوق الورثة وتوصي بالتسعة آلاف كاملة، بل تصح وصيتك في ثلاث آلاف، وتبطل في ستة آلاف، والستة آلاف تقسم ميراثاً شرعياً حكم الله سبحانه وتعالى به من فوق سبع سماوات، ويعطى كل ذي حق حقه. وابناه من الوارثين، يعني: ابناه ذُكرا في الثلث الذي سنصحح الوصية به، فابناه زيد وعمرو لما كانا ابنين له فلا وصية لوارث؛ فبطلت أيضاً في الابنين، ولا يستحقان إلا أن يجيز الورثة، وتبقى الوصية لعلي الأجنبي، فيستحق ألف ريال، والألف ريال بالنسبة للتسعة آلاف ريال -التي هي أصل المال- هو التسع، فقال رحمه الله: (صحت في التسع) أي: أُعطي علي -الأجنبي- تُسع ماله؛ لأنها لم تصح في الثلثين؛ لأنها زيادة على القدر الذي أباحه الله في الوصية، ولم تصح في زيد وعمرو وهما ابناه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا وصية لوارث)، فبقيت ثلاثة آلاف قُسمت بين الابنين والأجنبي، فبطلت في حق الابنين، وذلك بألفين، وصحت في حق الأجنبي، وذلك بألف ريال، وهي تعادل تسع ماله.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الوصية بالدفن في مكان معين

حكم الوصية بالدفن في مكان معين Q هل يُشرع أن يوصِي الشخص أن يدفن ببلد ما، أو مكان معين، وإذا شق ذلك على الورثة فهل لابد من إنفاذ الوصية؟ A لا بأس أن يُوصِي بدفنه في مكان معيّن أو في بلد معين، ما دام أنه في ذلك البلد، وفي هذا تفصيل. فإذا كان -مثلاً- في نفس البلد، وليس هناك حرج ولا مشقة على الورثة في تنفيذ وصيته، فلا بأس، وقد أُثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنهم وصَّوا في دفنهم، فتارة يُوصِي بأن يُدفن في مكان لا يعلم به أحد؛ كالرجل الصالح والعالم يخاف الفتنة، أو كان بين أُناس يعظمونه وهو يخاف الفتنة، فيأمر أن يُغَيّب في مكان لا يطّلع عليه أحد، كأن يخاف -نسأل الله السلامة والعافية- أن يغلوا فيه، كما أُثر عن علي رضي الله عنه أنه وصى أن يدفن في داره بالكوفة، فدُفِن ليلاً وغُيِّب قبره؛ لأنه كان هناك من يعتقد -والعياذ بالله- أنه إله، ويعظِّمونه، فخاف من عبادته وتعظيمه. فإذا وُجدت مقاصد شرعية بالتعيين فلا بأس، ومثل أن يكون في موضع يعلم أن هذا الموضع عُرضة للسيل، وأن قبره قد يكشف، فقال: إذا أنا مت فادفنوني في موضع كذا، أو في المقبرة الفلانية. أو يكون هناك مقبرة تدفن على السنة، ومقبرة لا تراعي السنة، فيقول: ادفنوني في المقبرة التي تراعي السنة، أو يكون هناك مقبرة فيها لحد ومقبرة فيها شق، فيختار ما اختار الله لنبيه عليه الصلاة والسلام من مقبرة اللحد، فيقول: إذا أنا مت فأُوصِي أن يكون دفني في القبور التي فيها لحد، ونحو ذلك من المقاصد الشرعية، وهذا من حق الإنسان، وهو من الوصية المشروعة. لكن التكلف في الانتقال من بلد إلى بلد، هذا لا يجوز؛ لتعطيل الميت من أجله، ولذلك ثبت في حديث شداد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله). فتعطيل الجنائز وتأخيرها من أجل نقلها ونحو ذلك لا ينبغي، وقد يصل إلى درجة الحرمة، خاصة إذا أدى إلى تعفُّن الميت وتفسخه وتضرر من يحمله، وتأذي المصلين عليه في المسجد، فهذه أمور لا بد أن توضع في البال، وأعظم من هذا أن يُشق، ثم بعد ذلك يُحنّط من أجل يظل فترة طويلة. فكل هذه الأمور ينبغي اتقاؤها والبعد عنها؛ لأنها مخالفة لشرع الله؛ لما فيها من الاعتداء على حرمة المسلم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة عند ابن ماجة أنه قال: (كسر عظم المؤمن ميتاً مثل كسره حياً)، أي: في الإثم، فللميت حرمة، ولا يجوز تعطيل الجنائز حتى يحضر ولده، أو يحضر فلان أو فلان، مجاملة له أو عاطفة، فالميت إذا مات فإنه يُسرع بتجهيزه وتكفينه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (أسرعوا بالجنازة)، فهذا أمر يقتضي المبادرة، لكن لو وُجدت حالات ضرورية تؤدي إلى تأخير دفنه، مثل أن يُراد أن يُعرف سبب وفاته، أو وُجدت أمور مهمة لابد من الاطلاع عليها في سبب وفاته، فهذه أحوال استثنائية تؤخَّر بقدر الضرورة والحاجة. وعلى كل حال: التوسع في هذا الأمر وتأخير الجنائز من أجل نقلها إلى أماكن أُخَر بوصية أو غيرها لا تُشرع عند تأثُّر جثة الميت، وهذا -كما ذكرنا- مخالف للأصل الذي دلت عليه السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

حكم دفع صداق الزوجة المتبقي بعد موت الزوج

حكم دفع صداق الزوجة المتبقي بعد موت الزوج Q هل بقية الصداق للزوجة يعتبر ديناً يجب سداده مباشرة؟ A هذا حق لازم يجب دفعه ويُعتبر ديناً، فإنه إذا مات الزوج فإنه وذمته مرهونة لزوجته حتى يؤدي مهرها كاملاً. وهنا مسألة مهمة في السؤال وهي: أن من مات حلّت ديونه، وهذه قاعدة مهمة، فلو كان عليه أقساط من البنك مؤخرة، أو كان عليه أقساط لمن يديِّنه مؤجلة، فقد حلّت ديونه، أي: يجب سدادها فوراً؛ لأن روحه تبقى مرهونة، قال صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن مرهونة بدينه)، والمرهون هو: المحبوس، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] أي: محبوسة، وقال بعض العلماء: محبوسة عن النعيم حتى يُؤَدى عنه الدين، ولذلك قال أبو قتادة رضي الله عنه لما توفي الأنصاري وعليه ديناران -كما في الصحيح- قال: (فلم يزل يلقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: هل أديت عنه؟ فأقول: لا بعد، لا بعد، حتى لقيني ذات يوم فقال: هل أديت عنه؟ فقلت: نعم. فقال: الآن بردت جلدته)، مع أن أبا قتادة رضي الله عنه قد تحمل عنه الدين. وبعض الورثة يقول: أنا أتحمل عن والدي، وكأنه يظن أنه قد انتقلت الذمة إليه، مع أنه لا تبرأ ذمة الميت حتى يؤدى دينه حقيقة؛ لأن أبا قتادة تحمل، وقال: هما علي يا رسول الله! ثم كان يسأله عن قضائه، فلما، قال: نعم، قال عليه الصلاة والسلام: (الآن بردت جلدته)، وهذا يدل على عِظم أمر الدين، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين، سارّني به جبريل آنفاً). فالمهر دين، ويجب على الزوج أن يسدده، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج)، فإذا قال لها: صداقك نصفه معجّل ونصفه بعد سنة أو بعد سنتين، أو إذا أنا مت، فهذا يجب الوفاء به عند أجله، ولا يجوز التأخير، خاصة إذا كان قادراً على السداد؛ لأنه ظلْم، وما دام أن المرأة قد أعطته حقه فينبغي عليه أن يعطيها حقها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)، فإذا كان هذا بين البهائم فكيف يكون بين الآدميين؟! وهذه حقوق لا يجوز التساهل فيها. وكذلك ينبغي أن ينبه على الورثة أن كل شخص من القرابة له دين على الميت والقريب، فالأفضل والأكمل أن يأخذوا الدين ويعطوه للقريب، ولا يحرجوه بقولهم: أتسامح الميت أم لا؟ فكل إنسان قد يستحي، والمرأة قد تُجامل، لكن عليك أن تعطيها مالها في يدها، وتعطيها إرثها واستحقاقها كاملاً، ثم هي أدرى، فقد تسامح، وقد يكون فضلها في أخذ هذا المال والتصدق به على أقرباء أولى من زوجها، فهي أدرى بمالها، وهذا حق من حقوقها، فلا ينبغي التضييق على الزوجات في ذلك، ولا منعهن مما جعل الله لهن، والله تعالى أعلم.

حكم إحرام المقيم بمكة للعمرة من بيته

حكم إحرام المقيم بمكة للعمرة من بيته Q إذا أحرم المقيم للعمرة من بيته ولم يخرج إلى الحل، فما حكم عمرته؟ A العمرة صحيحة إذا قام بها على وجهها، ولكن عليه دم؛ لأن ميقات المكي أن يخرج في العمرة إلى الحل، وأن يجمع بين الحل والحرم؛ لأنه في الحج يجمع بين الحل والحرم، ولذلك صح في الحج أن يُحرم من بيته، وأما بالنسبة للعمرة فلا يُحرم إلا من الحل، والدليل على ذلك: ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام في حديث عائشة رضي الله عنها: (لما سألته صلى الله عليه وسلم أن تُحرم بعمرة، فأمر عبد الرحمن أن يُعمِرها من الحل)، وهذا واضح الدلالة؛ لأن عائشة رضي الله عنها أنشأت العمرة بمكة. وقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة). أولاً: هذه الزيادة مختلف في كونها مرفوعة أو موقوفة؛ لكن حديث عائشة مرفوع، فيُقدّم المرفوع الذي لا شك في رفعه على المخْتَلف في رفعه. ثانياً: قوله: (حتى أهل مكة يهلون من مكة) عام مخصص؛ لأن حديث عائشة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث ابن عباس متقدم على حديث عائشة، ولذلك يؤخذ بآخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أشبه بتخصيص العموم في قوله إذا صح مرفوعاً: (حتى إن أهل مكة يهلون من مكة)، فـ عائشة لا نستطيع أن نقول بأنها آفاقية؛ لأن بعضهم يقول: إذا كان المكي آفاقياً فإنه يخرج إلى الحِل، وإذا كان من أهل مكة فلا يخرج، وفي الحقيقة: أن هذه التفصيلات لا نعرف لها أصلاً. ولذلك أُوصي كل طالب -خاصة في هذا الزمان، وأُشدد عليه في الوصية- أنه إذا كان يريد أن يتقي الله ويأخذ علماً بحق على منهج السلف؛ فعليه أن يعرف كل قول يقال به الآن هل هو قول قال به أئمة العلم أم لا؟ ولا نريد من أحد ممن ينتسب إلى العلم -سواء في زماننا أو من المتأخرين- أن يأتينا بشيء من عنده، فالعلم هو الأثر والاتباع، وهذا هو السير على منهج السلف الصحيح، وإذا جاء أحد يتكلم في فهم حديث فنقول له: هل هذا الفهم فهم منك أنت باجتهادك ونظرك، والأمة منذ أربعة عشر قرناً لم تفهم؟ فحينئذٍ هذا لك، وتتولى تبعته أمام الله سبحانه وتعالى، وهو خروج عن سواد الأمة الأعظم. ولذلك كان بعض العلماء يقول: إذا اختلف العلماء في فهم النص على قولين، ومضت على ذلك القرون المفضلة، فإنه لا يجوز استحداث فهم جديد خارج عن هذا الفهم؛ لأنه لا يعقل أن القرون المفضلة كلها تقول: إما كذا أو كذا، ويأتي هذا ويفهم فهماً آخر، ولا شك أن هذا هو سبيل المؤمنين، فإذا مضت القرون المفضلة كلها على هذا السبيل فقد استبان أن الحق إما في هذا أو في هذا، فإذا جاء يُحدث قولاً ثالثاً خرج به عن سواد الأمة، سواء كان من متأخري المتأخرين أو من متقدمي المتأخرين، ونحن أمة يرتبط أولها بآخرها، قديمها جديد، وجديدها قديم، بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نريد جديداً من عندنا. والمشكلة: أنه ليس عندنا ضبط للأصول، ولا ضبط لقواعد الفهم؛ لأن أبسط ما ينبغي أن يكون في الإنسان الذي يجتهد -وهو ليس بالبصير بالقاعدة التي يدل عليها الشاهد- هو الورع. فإذا كان الشخص ليس عنده ورع إلى درجة أن يأتي ويجتهد، فهذه مصيبة، فأساس الاجتهاد الحق هو الورع، ولذلك لا تجد أحداً من أئمة الاجتهاد ودواوين العلم السابقين الذين فُتح عليهم في فهم الاجتهاد إلا وقد قام علمه على الورع، وانظر إلى أئمة الإسلام، تجدهم أئمةً في الورع، وبهذا استقامت أمور الفهم لهم؛ لأن من تورّع فَتح الله عليه، ومن قال فيما لا علم له: الله أعلم؛ ورّثه علم ما لم يعلم، وفتح الله عليه {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:113]. فالإنسان الذي يأتي بالأفهام من عنده، ويأتي ويخترع في الأحاديث، ويجلس طلاب العلم يتناقشون في أحاديث ويأتون فيها بأفهام جديدة، وكل يوم يأتينا فهم جديد، فبعض طلاب العلم يقول كذا، وبعضهم يقول كذا يا أخي! من هذا الذي يقول؟ ومن هذا الذي نصّب نفسه ليتكلم في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؟! كان بعض العلماء يقول: (حق على من يفسر كلام الله أو يؤول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقل نفسه بين الجنة والنار)، نريد الشيء الذي قاله العلماء، نريد شيئاً مبنياً على أصل صحيح وحجة ومحجَّة تلقى الله عز وجل بها راضياً مرضياً عنك، أما أن نأتي بأفهام وحجج جديدة لا أصل لها، فهذا لا ينبغي. أما حديث عائشة فهو واضح، ودلالته واضحة، حيث إنها أنشأت عمرتها من مكة، ولا أعرف أحداً من أهل العلم من المتقدمين يقول: إن هذا خاص بـ عائشة. وأقولها من الآن: على كل طالب -والطالب خاصة الذي يدرس في الفقه، والذي يريد أن يُعلِّم الناس- أن يتقي الله عز وجل ويعرف كل قول -حتى ولو كان مني- هل قال به أحد من أهل العلم ممن مضى وعنده دليل وحجة أم لا؟ وهذا هو العلم، وهذا الذي يُوصَى به طلبة العلم، وهذه هي النصيحة لله ولدينه وشرعه، من كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى تكون الأفهام واضحة، فلا يشوش على علم السلف بعلم الخلف الذي لا أصل له، ولا يشوش على هذه المحجة الواضحة التي ورثتها الأمة جيلاً بعد جيل، ورعيلاً بعد رعيل، واجتهادات العلماء تحتاج إلى من يَضبطها فضلاً عن أن نأتي أيضاً باجتهادات وآراء جديدة، واليوم يجتهد البعض في مسائل واضحة في الأحكام، وغداً -والعياذ بالله- قد يدخلون في العقيدة وفي صميم الدين، فيحدِثون ما لم يكن عليه أئمة الإسلام فيضلوا ويضلوا، نسأل الله السلامة والعافية، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعصمنا من الزلل.

الضابط في الترويح يوم العيد

الضابط في الترويح يوم العيد Q ما هو الضابط في الترويح على الأهل والقرابة في أيام الأعياد والمناسبات؟ A إن الله تبارك وتعالى جعل يومي عيد الفطر والأضحى يومين من أيام الإسلام، وعيدين لأهل هذه الملّة، وجعلهما يوم فرحة وسرور، يوسِّع المسلم فيهما على نفسه وعلى أهله وولده، وعلى إخوانه المسلمين، حتى شرع الله زكاة الفطر من رمضان طهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين. وقال عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس: (أغنوهم عن السؤال يوم العيد وليلته)، فهذا يدل على أن المقصود هو التوسعة؛ حتى يشهد الناس الفرح والسرور المأذون به شرعاً في هذا اليوم المبارك الذي أتموا فيه ركناً من أركان الدين، ووفقهم الله عز وجل لصيام هذا الشهر الذي فرض عليهم صيامه، وشكراً لله عز وجل على توفيقه لهم على قيام ما استطاعوا أن يقوموه من هذا الشهر المبارك، فالفرحة والسرور أول ما تنبغي أن تكون فرحة بنعمة الله، وأن تكون فرحة برحمة الله التي هي أحق أن يُفرح بها وأن يفرح فيها. وهذه الفرحة تكون حينما يستشعر الإنسان كيف مضت عليه هذه الثلاثون يوماً؛ فيفرح أن الله وفقه لصيامه، ولو شاء الله جل جلاله لأصابه المرض فما استطاع أن يصوم، ولو شاء الله جل جلاله لأصابته فتنة في دينه فما استطاع أن يصوم، ولو شاء الله جل جلاله أن يبتليه في هذه العبادة بشيء يُفسد عليه أجره، ويُحبط عليه عمله، لما أعجز الله عن ذلك شيء. إذاً: يُحس الإنسان أن الله وفقه لهذا الخير في ثلاثين يوم أو تسعة وعشرين يوماً؛ فيكون به في فرحة وغِبطة أن الله استكمل له شهره، فيسأل الله عز وجل ويحسن الظن بالله أن يكمل له أجره، والله لا يُضيع أجر من أحسن عملاً، فإذا به يصبح يوم العيد فرحاً مسروراً بنعمة الله؛ لأن الله يعطي الدنيا من أحب ومن كره، ولكن الدين والتوفيق للدين لا يُعطيه إلا لمن أحب، والله أعلم حيث يجعل هذه البركات والخير؛ لأن الإسلام كله بركة، ولذلك وصف الله القرآن بأنه مبارك، فمن التزم أوامره وسار على نهجه فقد أصاب بركة الإسلام وخيره وطُهره وعِفّته. فإذا أصبح في يوم العيد، أصبح وقلبُه معلَّق بالله جل جلاله، مليء بالفرح والسرور، فهذا أول ما ينبغي، فإذا استقر هذا الفرح في القلب وجب عليه أن يشكر، فلهج لسانه بالذكر والشكر، فقال بملء قلبه ولسانه: الله أكبر {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185]. هذه هي الفرحة الأولى التي دل عليها كتاب الله من فوق سبع سماوات، وهي أن يمتلئ قلبك بتوحيده والبراءة من الحول والقوة، وسؤال الله جل جلاله أن يجعل هذا الشهر في ميزان حسناتك فتلقاه أمامك، فإذا بالله جل جلاله يضاعف أجر الصوم، حتى قال الله جل جلاله في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به). فإذا شعر الإنسان أنه سيُثاب ويكافأ من الله؛ فرح فرحاً شديداً برحمة الله جل جلاله بعد فرحه بتوفيق الله، ولذلك شرع الله التكبير إكباراً له سبحانه، وشُرع التكبير بمجرد مغيب شمس آخر يوم من رمضان، فيقول المسلم: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد) شكراً لله وثناءً عليه وتمجيداً له وإعظاماً لنعمته. فإذا شكر الله عز وجل وابتدأ بتوحيد الله؛ فتح الله عليه بركات ذلك اليوم وخيره وطُهره. ومن أعظم الفرحة في يوم العيد: فرحة الاجتماع، فقد شرع الله عز وجل الاجتماع في هذا اليوم بصلاة العيد، حتى إن المرأة الحائض والمرأة ذات الخدر التي أُمر بسترها ولزومها لبيتها تُخرج إلى صلاة عيد الفطر، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تخرج العواتق وذوات الخدور والحيَّض، وقال: (أما الحيَّض فليعتزلن الصلاة وليشهدن الخير ودعوة المسلمين)، فيشهدن الخير في هذا اليوم المبارك. فالضوابط كلها منحصرة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيتذكر المسلم وهو خارج لصلاة عيد الفطر كيف خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإنه لم يخرج مختالاً ولا فخوراً، ولا أشراً ولا بطراً، ولا غروراً، إنما خرج لله وفي الله، خرج خاشعاً متخشِّعاً متذللاً لربه سبحانه وتعالى في ذلك اليوم، وخرج -كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها- حين بدا حاجب الشمس، فما وصل إلى المصلى إلا وقد ارتفعت الشمس، فابتدأ أولاً بالصلاة -عليه الصلاة والسلام- ثم بعد ذلك خطب فذكّر الناس ووعظهم، وأمر النساء بالصدقة، ثم أَذن للأمة بكل ما فيه توسعة وخير ما لم يكن من الحرام، أو فيه إسراف في المباح، وهذا هو شرع الله، فشرع الله هو الوسطية، ولما قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [الأعراف:31] نقلنا من تعذيب النفوس بالجوع والعطش والرهبنة، وقال: {وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31]، ثم منعنا وحجزنا عن الغلو في ذلك، كما هو عمل أهل الترف. فنحن نقول: افرحوا، فليس يوم العيد بيوم حزن ولا نكد ولا نحس؛ بل يفرح المسلم؛ ولكن يفرح برحمة الله عز وجل وبنعمته، ولا يغلو في فرحه إلى الوقوع في المحرمات. لقد وسع عليه الصلاة والسلام، ومن دلائل توسيعه: أنه لما رأى أهل الحبشة وهم يلعبون بالسلاح في داخل المسجد فما أنكر عليهم ذلك، رغم أنه المسجد الذي شعَّت منه أنوار الرسالة، والذي تفجّرت فيه ينابيع الحكمة، وهو المسجد الذي دوَت في جنباته آيات التنزيل، وهو الذي كانت فيه مواقف الصدق -قولاً وعملاً واعتقاداً- من تلك الأمة المصطفاة المجتباة، هذا المسجد المطهّر المشرّف المكرّم الذي شرفه الله، وجعل الصلاة فيه بألف صلاة، وإذا بهم يلعبون فيه!! فانظر إلى عِزة الإسلام وإلى مرونته المنضبطة، وليست مرونة منفلتة، فيوم الفرحة يوم فرحة، ويوم الشدة يوم شدة، ويوم العبادة يوم عبادة. أصبح عليه الصلاة والسلام يوم العيد والأحباش يعلبون بالحراب، وبالأمس كان البكاء والخشوع والخضوع والاستكانة والتهجد بين يدي الله جل جلاله يا لعظمة هذا الدين! دين مرن منضبط في مرونته، ليس بدين لعب، ولا دين عبادة برهبانية يجلس الإنسان فيها دهره كله وهو لازم معتكفه. إنها أيام مضت، وعشر ليال انقضت، هي مدرسة لأولي العزائم الصادقة والنفوس الأبية المؤمنة المستجيبة لله جل جلاله، حتى إن قائدها وخيرها صلوات الله وسلامه عليه كان يدخل في المعتكف من أجل أن يتفرغ لعبادة ربه سبحانه وتعالى، ويُصبح يوم العيد وإذا بالناس يلعبون في المسجد: المسجد بالأمس مليء بالعبادة واليوم يلعبون فيه! فجاء عمر ليحصبهم، فنهاه وزجره، وقال: (هذا يوم عيدنا)، يوم عيدٍ للإسلام والمسلمين، ويوم فرحة لأولياء الله الذين ظمئت أحشاؤهم، وجاعت أمعاؤهم، وتفطّرت أقدامهم وهم منتصبون في جوف الليل بين يدي الله جل جلاله ركّعاً وسجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً. فإذا بذلك المسجد يُصبح محلاً للفرح والسرور؛ لكنه فرح منضبط، فلا يستطيع أحد أن يتّهم هذا الدين بالتضييق، ولا يستطيع أحد أن يطعن في هذا الدين؛ وإذا برسول الأمة عندما رأى أهل الحبشة يأذن لهم، ولم ينقم عليهم ذلك. ولا يقف الأمر عند هذا؛ بل عندما دخل بيته فإذا بحبه وزوجه عائشة رضي الله عنها وأرضاها تسأله أن تنظر إليهم، فما منعها من النظر، ولا قال لها: لا تنظري، فما منعها من شيء يدخل السرور عليها، وهذا بشرط أمن الفتنة؛ لأن الحبشة كانت الفتنة فيهم مأمونة، ولا ينبغي لأحد أن يقول: يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجال، ويستدل بهذا الحديث؛ لأن قوله ذلك يصبح غلواً في الفرح لتفرح المرأة ولكن بشرط ألا يكون هذا الفرح فتنة للأهل والولد؛ لأن في ذلك مخالفة لشرع الله، وهذه الحواجز والقيود يُقصد بها صلاح الدين والدنيا والآخرة. فقامت تنظر، وما قال لها: أنا رسول الأمة، وانتظري حتى يأتي أخوك ويقف لك، لم يقل لها ذلك، بل وقف عليه الصلاة والسلام على قدميه رسول الأمة صلى الله عليه وسلم الذي وقف بين يدي الله جل جلاله راكعاً ساجداً يبتغي فضلاً من ربه ورضواناً، ويشتري رحمة ربه بإدخال السرور على أهله بالوقوف على قدميه الشريفتين، وقف عليه الصلاة والسلام، ووقفت من ورائه، تقول رضي الله عنها: (وأنا أنظر إليهم من ورائه)، وهذه هي الحشمة والعفاف، فقد كانت رضي الله عنها على حشمة وعفاف، فكانت تفرح أيضاً، ويدل هذا على أن المرأة تفرح لكن بشرط أن تكون محتشمة، عفيفة، رزاناً، حصاناً، متحفِّظة. فقالت رضي الله عنها: (وأنا أنظر إليهم من خلفه)، وما قالت: أنظر من خلف الباب، بل من وراء النبي صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ فإن المرأة المؤمنة بدلاً من أن تذهب إلى الفرح بغيبة محرمها، عليها أن تبحث عن محرمها حتى يصونها ويحفظها، وهذه أم المؤمنين رضي الله عنها تحرِص على ذلك. ثم تقول رضي الله عنها: (فيقول لي: هل فرغت؟ فأقول: لا بعد. فيقول: هل فرغت؟ فأقول: لا بعد)، ثم تقول رضي الله عنها وأرضاها: (فاقدروا قدر الصبية الجهلاء)، ومعناه: أنها أخذت -كما يقولون- راحتها واستجمام قلبها، وفي هذا دليل على أمور: أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لها في الفرحة، فدل هذا على أن من السنة في يوم العيد أن تُحدِث فرحة لأهلك، ومن الفرحة: أن تأخذهم إلى مكان تتسع وتنشرح فيه صدورهم، والمؤمن دائماً يكون عاقلاً، وقد كان من مشايخنا وأهل الفضل والعلماء في بعض الأحيان يدخلون السرور حتى بطريق غير مباشر، فالزوجة إذا كانت تستحي من زوجها وتألف ولدها، فيأمر ولدها أن يأخذها، فعليك دائماً أن تحرص على إدخال السرور عليهم؛ لأنك إذا وسعت على أهلك وسع الله عليك، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، والنبي صلى الله عليه وسلم أذن بالتوسعة على بيوت المسلمين حينما وقف عليه الصلاة والسلام. ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن بالتوسعة بفضول النظر؛ لأن اللعب من الفضول، والنظر إلى اللعب من الفضول فأذن بذلك؛ لكنه بشرط أمن الفتنة والمحافظة. ثالثاً: وهذه وقفة تحتاج إلى أن نتأملها ف

باب الموصى به

شرح زاد المستقنع - باب الموصى به تجوز الوصية بما يعجز عن تسليمه؛ كالعبد الآبق ونحوه، وتجوز بالمعدوم والمجهول، كالصيد ونحوه مما فيه منفعة من جهة معينة، وتبطل الوصية بتلف الشيء الموصى به، ولا يعدل عنه إلى غيره.

أحكام ومسائل متعلقة بالشيء الموصى به

أحكام ومسائل متعلقة بالشيء الموصى به بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الموصى به]. شرع المصنف رحمه الله في هذا الباب في بيان ما يتعلق بالشيء الموصَى به، ويعتبر هذا الشيء ركناً من أركان الوصية؛ لأن الإنسان يعهد بالشيء إلى غيره، وهذا الشيء منه ما تصح الوصية به، ومنه ما لا تصح الوصية به. فنظراً لاختلاف حكم الشرع فيه؛ ناسب أن يعقد المصنف رحمه الله له باباً مستقلاً، فيبيّن ما هي الشروط التي ينبغي توفرها في الشيء الذي يُوصَى به، ومن عادة الشريعة أنّها تُفرِّق في محل العقود، فالموصَى به مَحَلٌ للوصية، كما أن الشيء المَبيع محل لعقد البيع، والشيء المؤجر محل للإجارة، والشيء الموهوب محل للهبة. فتارة تُشدد الشريعة في الأشياء التي هي محل للعقود، وتشترط شروطاً لابد من توفرها للحكم بصحة عقودها، وهذا التشدد من الشريعة قَصَدت به حفظ الحقوق للناس، فلا تقصد به تضييقاً عليهم، ولا تعسيراً في تشريعاتها لهم، وإنما قصدت حفظ الحقوق، فالشيء المبيع له شروط، والشيء المؤجر له شروط، والشيء الموهوب، والشيء الموصَى به، كل ذلك له شروط معينة. فتارة تكون الشروط قوية -كما ذكرنا- وتارة تكون خفيفة، والموصَى به أمره خفيف، والشرع يخفف في شروطه، والعلماء رحمهم الله يبينون جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بهذا الشيء الموصى به، ويظهر من خلال هذا البيان أن الشريعة قصدت التوسعة، والسبب في هذا: أن يعلم طالب العلم أن الشيء الموصَى به في الغالب أشبه بالهبة، والشخص إذا وهب الشيء فهو محسن متفضل، والله تعالى يقول: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91]. فلك أن توصي بالقليل، ولك أن توصي بالكثير، ما دام أنه دون الحد الذي حده الشرع، ولك أن تزيد عن هذا الحد إذا سامح أصحاب الحق -وهم الورثة- فأجازوا وصيتك. والمقصود: أن الشيء الذي يُوصَى به تارة يكون مأذوناً بالوصية به، وتارة يكون غير مأذونٍ به. فهنا يتكلم العلماء رحمهم الله على الأشياء التي يكون من حق الإنسان أن يُوصِي بها، فإذا تضمنت الوصية بالشيء ما يقصده الشرع من حصول المحبة، وحصول البر والإحسان والصلة والرفق، أجازت الشريعة الوصية، وإذا تضمن الشيء الموصَى به ما يكون وسيلة لحرام، أو يكون وسيلة إلى غرض يهدم أصول الشريعة أو يعارضها؛ فحينئذٍ لا تجوز الوصية، فلو وصَّى بكتبٍ محرمة، ككتب السحر، وكتب الضلالات التي فيها الأمور التي تؤثر في العقيدة وتُضِل الناس، فلا تجوز الوصية؛ لأن هذا شيء مُوصَى به محرم. كذلك لو وصَّى بآلات اللهو التي لم يأذن بها الشرع فإنه يتضمن معارضة الشرع؛ ولو قالت الشريعة: تجوز الوصية بذلك، لتناقضت، فكيف تقول: إنها آلات محرمة، ثم تجيز الوصية بها؟ فلابد من أن يكون المحل الذي ترد عليه الوصية مأذوناً به شرعاً، ولأجل التفريق بين ما يحل وما يحرم وما يُباح؛ فإنه لا بد من بيان المسائل والأحكام التي سيعرِّج المصنف رحمه الله في بيانها. يقول رحمه الله: (باب الموصى به)، أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالشيء الذي يجوز أن يُوصَى به، والشيء لا يجوز أن يُوصَى به.

حكم الوصية بما يعجز عن تسليمه

حكم الوصية بما يعجز عن تسليمه قال رحمه الله: [تصح بما يعجز عن تسلميه؛ كآبق وطير في الهواء، وبالمعدوم، كما يحمل حيوانه وشجرته أبداً أو مدة معينة، فإن لم يحصل منه شيءٌ بطلت الوصية]. قوله: (تصح بما يُعجز عن تسليمه)، الشيء المعجوز عن تسليمه يصح في بعض الأحيان أن تتعامل وتتعاقد به، كما في الوصية هنا، ولا يصح في بعض الأحيان التعامل به، فلو كان الشيء المعجوز عن تسليمه مُباعاً؛ لم يصح البيع. والمقصود بالمعجوز عن تسليمه: عجز عن الشيء إذا لم يستطع، ومعنى ذلك: أنك تُوصِي بشيءٍ أنت عاجزٌ عن دفعه وإيصاله للمُوصَى له، ويعجز من يقوم مقامك من الورثة عن إيصاله إلى الموصَى له. وقوله: (كآبق) أي: مثل العبد إذا أبق وشرد عن سيده، ولم يستطع معرفة مكانه، أو لم يستطع أخذه؛ فحينئذٍ يكون معجوزاً عن تسليمه، فصاحبه المالك له يعجز عن تسليمه، وإذا وصَّى بعبدٍ آبق، أو بعيرٍ شارد، وهم يمثلون بهذه الأمثلة لأنها كانت في زمانهم، كما إذا شرد البعير، أو شردت البقرة، أو شردت الشاة؛ فحينئذٍ يصعُب أن يحصل الإنسان عليه في الغالب، فإذا لم يستطع أن يجده فإنه لن يستطع تسليمه للغير، فهو معجوزٌ عن تسليمه. فكل شيء فُقد ولم يستطع صاحبه أن يعرف مكانه، أو عرف مكانه ولكنه لا يستطيع أخذه، مثل: المغصوب ونحوه؛ فإنه معجوزٌ عن تسليمه، فهذا النوع من الأشياء لا يجوز أن تتعامل به في عقود المعاوضات. فلا تُجيز لك الشريعة أن تبيع شيئاً معجوزاً عن تسليمه، ولكن تجيز لك أن تُوصِي به وما الفرق بين الأمرين؟ لأنه في البيع إذا اشترى منك إنسان شيئاً ضائعاً منك؛ كساعة مفقودة، أو بعير شارد، أو دابة فرت منك، أو طير طار منك، كان عندك ثم طار؛ فإنه في هذه الحالة تُغرِّر به؛ لأنه يُحتمل أن يأخذ ذلك الشيء ويحتمل ألا يأخذه، والغالب أنه لا يأخذه، فأصبحت آخذاً لمال أخيك بدون حق. وهذه العلة أشارت إليها السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث أنس في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها)، ثم علل عليه الصلاة والسلام وقال كما تقدم معنا في البيع: (أرأيت إن منع الله الثمرة) أي: أخبرني، لو بعت هذا الشيء المعجوز عن تسليمه ولم يستطع من اشتراه منك أن يصل إليه، ثم قال عليه الصلاة والسلام (فبم تستحل مال أخيك؟) أي: بأي حق تأخذ الخمسمائة ريال التي دفعها لك أخوك المسلم لقاء ذلك البعير، فإذا أصبح غير مستطيع الوصول إلى البعير، كان أخذك لهذه الخمسمائة من أكل المال بالباطل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فبم تستحل مال أخيك؟). وهذا يدل على أن الشريعة في المعاوضات تريد إيصال كل عِوض إلى صاحبه، وهذا هو ما قرره الأئمة رحمهم الله، ولـ شيخ الإسلام رحمه الله في بيع المعدوم كلام نفيس في مجموع الفتاوى، بين أن العدل أَن يُعطى كل ذي حق حقه في المعاوضات. فمن اشترى شيئاً لقاء شيء فإنه ينبغي أن يُمكّن من ذلك الشيء الذي اشتراه؛ فإذا لم يُمكَّن منه فقد ظُلِم؛ لأنه أعطى غيره ولم يأخذ منه، وهو إنما أعطى الغير ليأخذ؛ فالبائع أعطى السلعة من أجل أن يأخذ الثمن، والمشتري أعطى الثمن من أجل أن يأخذ السلعة؛ فإذا ظلم أحدهما الآخر فأخذ منه ولم يعط، فقد أكل ماله بالباطل، وهذا هو الذي جعل الأمر يختلف بين الوصية وبين البيع، وحينئذٍ في الوصية حينما يقول الشخص: أوصيت ببعيري الشارد لمحمد، فهذه الوصية ليس لها عوض يقابلها، أي: لم يدفع محمد مالاً إلى الميت الذي وصَّى، وإنما تفضل الميت وتبرع وأحسن وأفضل حينما قال: هذا البعير الشارد أَعطوه محمداً، فإن حصل محمد على البعير الشارد فقد تحقق المقصود والموصِي له أجره، وإن لم يحصل فلا ضرر عليه؛ لأنه لم يدفع شيئاً في مقابل هذا البعير. ومن هنا صحت الوصية بالمجهول، وصحت بالمعدوم، وصحت بالمعجوز عن تسليمه؛ لأنه لا غرر في ذلك، فتصح الوصية بالبعير الشارد، والطير في الهواء، والسمك في الماء، فلو أن سمكة كان يملكها ثم سقطت في الماء فوهبها، صحّت؛ لأن هذا كله لا غرر فيه على الموصَى له. وقوله: (وطير في الهواء) الطير في الهواء -طبعاً- يصعب الوصول إليه، ولكن أياً ما كان فالوصية تخالف البيع؛ لأن الوصية لا عوض فيها، والبيع فيه عوض.

حكم الوصية بالمعدوم

حكم الوصية بالمعدوم وقوله: [وبالمعدوم] كالذي تحمل أَمته، أو الذي تحمل نخله؛ فالذي تحمل أمته أو جاريته قد يكون أثناء الوصية غير موجود، لكنه يوجد بعد ذلك، فحينئذٍ يكون ملكاً للمُوصَى له، ولو قال: ثمرة بستاني السنة القادمة، فهنا ثمرة البستان معدومة الآن. والمعدوم: هو غير الموجود والذي يُرجَّى حدوثه، وقد لا يحدث أصلاً؛ لكنه معدوم، فالنخل له زمان يكون الثمر موجوداً فيه، وزمان لا يوجد فيه الثمر، فلو جاء الموصِي في الزمان الذي ليس فيه ثمر -والذي يسمونه مرحلة السكون، وهي تقارب شهرين يسكن فيها النخل فلا طلع فيه ولا ثمر، والشهران هذان اللذان هما بين الجَدّاد جَد النخل وبين الطلع- فلو وصّى فيهما فقال: ثلث ثمر البستان السنة القادمة؛ فأثناء الوصية يكون معدوماً، أي: غير موجود؛ فحينئذٍ تَصِح، والذي يُخرجه البستان يعطى منه النصيب الذي وصى به. وقوله: (كما يحمل حيوانه وشجرته أبداً). أي: كالذي يحمل حيوانه، مثلما ذكرنا في الناقة والبقرة والشاة والشجر والنخيل، كأن يقول: نخل البستان، أو يكون عنده عنب؛ فيقول: ثم العنب للسنة القادمة أوصيت به لفلان، أو أوصيت به لأبناء عمومتي، أو نحو ذلك، يختص بها من سَمّى في وصيته؛ فإنه يصح. وقوله: (أو مدة معينة). سواء كان مطلقاً أو مقيداً أو مدة معينة، فيقول: أوصيت بثمرة بستاني هذه السنة، أو أوصيت بثمرة بستاني لمدة سنتين لمحمد، أو ثلاث سنوات لأرحامي أو قرابتي، أو نحو ذلك. وقوله: (فإن لم يحصل منه شيء بطلت الوصية). الفاء: للتفريع، وذلك من دقة العلماء رحمهم الله، وهم يذكرون الأمثلة من باب ترتيب الأفكار في الذهن، وهذا يُعين طالب العلم على فهم المسائل، ويعين المفتي على الإفتاء، ويعين القاضي على القضاء، فعند العلماء أصول، وعندهم فروع مترتبة على هذه الأصول، ولذلك قسمت المسائل في الأبواب والفصول حتى تُركِّز وتنتبه لها، فالأبواب الرئيسية تعتبر أصولاً، ثم الفصول مبنية على هذه الأصول، ثم قد يكون في داخل الفصل والباب أصل وفرع. فأول ما تبحث في مشروعية الشيء، أي: في إذن الشرع به، فإذا ثبت هذا الشيء، فتقول: ما الذي ينبني أو يترتب على ثبوته؟ فإنه هنا عندما قال: ثمرة بستاني للسنة القادمة لمحمد، ويقتضي عقلاً إما أن يحمل البستان وإما ألا يحمل، فالفاء هنا للتفريع. فيريد أن يبيِّن حالة عدم خروج الثمرة؛ لأن السؤال الذي يحتاجه من يستفتي ويقضى به في القضاء هو في حالة عدم وجود شيء، فقد يأتي الموصَى إليه ويطالب الورثة ببديل، ويقول: ما دام أن الوصية ثابتة، ولي عند الموصي هذا الشيء الذي وصَّى به؛ فإنني لم أجد شيئاً؛ لأن الثمرة لم تخرج، ولذلك أُطالبكم ببدل وعوض عنه من ماله. فنقول في هذه الحالة كما يقول المصنف رحمه الله: (فإن لم يحصل منه شيء بطلت الوصية)، فلا شيء له، وهذا لا شك أنه عين العدل والإنصاف، حيث وصَّى بثمرة بستانه، فإذا لم يخرج من البستان شيء فلا شيء له؛ لأن هذا مترتب على وجود شيء من البستان، أما إذا لو يوجد شيء فلا شيء له.

حكم الوصية بكلب الصيد ونحوه

حكم الوصية بكلب الصيد ونحوه قال رحمه الله: [وتصح بكلب صيد ونحوه]. بيّن المصنف رحمه الله أنه يجوز ويصح للمسلم أن يُوصِي بشيء معدوم وبشيء معجوزٍ عن تسليمه، ولكن إذا كان الشيء الموصَى به فيه منفعة، وهذه المنفعة مأذون بها في أحوال ضيِّقة وخاصة؛ فإنه لا يصح إلا الذي أذِن به الشرع، مثال ذلك: الكلب، فإن الكلب -أكرمكم الله- منه ما حرم الشرع، ومنه ما أذن بمنافعه، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل نوع من الكلاب، وحرّم اتخاذ الكلاب مُطلقاً في الأصل، ثم خصَّص واستثنى عليه الصلاة والسلام ثلاثة أنواع من الكلاب: كلب الصيد، وكلب الحراسة في الماشية والزرع. فهذا الذي استثناه عليه الصلاة والسلام هو الذي يجوز للمسلم أن يتخذه من الكلاب، فله أن يتخذ كلباً من أجل الصيد، أو يتخذ كلباً من أجل أن يحرس زرعه وحرثه وما يكون في بستانه، ويتخذ كلباً لحراسة الماشية من الذئب ونحوه، فهذا الذي أذن به الشّرع يجوز أن يوصي به إذا كانت فيه هذه المنفعة، وهي منفعة الصيد، ولذلك قال: (بكلب صيد)، حتى يفهم أن كلب الحرث والماشية كذلك؛ فإذا وصَّى بكلب الحرث والماشية صحت الوصية؛ فلا يفهم منه كلب الصيد فقط؛ لأن الحاجة في الحرث والماشية أشد من الصيد، وهذا من دقة المصنف حيث إنه ينبه بالأدنى على الأعلى. فلما قال: (كلب صيد) شمل ذلك كلب الحرث وكلب الماشية، والإذن بكلب الصيد -من ناحية فقهية- أقوى من الإذن بكلب الحرث والماشية؛ لأن الإذن بكلب الصيد جاء نصاً في القرآن، حيث قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4]، والإذن بكلب الماشية والزرع جاء بالسنة في الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حديث صحيح: (من اتخذ كلباً إلا كلب صيد أو حرث أو ماشية). فهذا نوع من التمثيل قصد به المصنف أن يُبيِّن أن كل شيء فيه منفعة وأصله محرم -أي: فيه أشياء محرمة ومنافع مباحة- فإنه تجوز الوصية به إذا كان للشيء المباح. وقد ذكر هذه المسألة وفصّل فيها الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني، وذكر من ذلك: الوصية بالطبل وبالدُّف، وكذلك بآلات اللهو، وبيّن أن الأشياء المحرمة مطلقة التحريم لا تجوز الوصية بها مطلقاً، فلو وصَّى بآلات محرمة فلا تصح الوصية، وهي باطلة، ولو وصى بخمرٍ أو ميتةٍ أو خنزيرٍ فإنها لا تصح الوصية، لكن لو وصَّى بدفٍ حلت وصحت الوصية، وهي وصيَّة مأذون بها شرعاً، والدُّف حلال لمن وُصِّي له؛ لأن الشرع أذن به في النكاح. فهذا عند العلماء رحمهم الله أصل في المنافع، فبعد أن وَصَّى بالذوات، شرع في بيان المنافع، فكل ما كانت فيه منفعة مباحة وَصَّى صاحبه قبل موته بمنافعه إلى شخص؛ أُعطي هذه المنافع ومُكِّن منها. فمثلاً: البيت فيه منفعة السكن، والسيارة فيها منفعة الركوب، والفندق فيه منفعة السكن أيضاً، ونحو ذلك، فهذه الأشياء لو أُعطيت منافعها مدة معلومة لشخص معين، أو وُصِّي بها مدة معلومة؛ صحَّت الوصية تلك المدة، ومُكِّن من أخذ حقه منها، بناء على وصية الميت المالك لذلك الشيء.

حم الوصية بالزيت المتنجس

حم الوصية بالزيت المتنجس قال رحمه الله: [وبزيت متنجس]. هناك الزيت النجس والزيت المتنجس، فالزيت النجس: هو النجس بعينه، ولا يمكن بحال أن تطهره، فلو جئنا وأخذنا زيتاً مستخرجاً من شحوم الميتة ومن أدهانها، فإنه نجس، ونجاسته عينية، ولو صببت عليه ماء الدنيا كله لما طهره، ولو طبخته فإنه لا يطهُر أيضاً؛ لأنه نجسٌ بعينه. والمتنجس: هو الشيء الذي يكون في أصله طاهراً ودخلت عليه النجاسة، فتقول: هذا ثوب متنجس، أي: دخلت عليه النجاسة ويقبل التطهير. فهناك فرق بين النجس وبين المتنجس، فما كان من الأشياء المتنجسة ويمكن تطهيره فإنه يجوز بيعه، فمثلاً: لو كان الثوب متنجساً صح بيعه، لكن لو كان زيتاً نجساً لم يصح بيعه ولا شراؤه؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله: (إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام، قالوا: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة؟ -أي: أدهانها والزيوت المستخلصة منها والسمن ونحوه- فإنه يطلى بها السفن ويُستصبح بها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: قاتل الله اليهود! حرِّمت عليهم الميتة فجملوا شحومها ثم أذابوها فباعوها؛ فاستحلوا ما حرم الله عليهم بأدنى الحيل). فهذا يدل على أن النجس بعينه لا يجوز بيعه، ولذلك جاءت الرواية الأخرى: (لا، هو حرام) أي: لا يجوز الانتفاع بالأدهان النجسة بأعيانها؛ لأنه لا يمكن تطهيرها، لكن لو كان عند إنسان زيت زيتون وقع فيه بول، أو اختلط بنجاسة، فعند العلماء خلاف: إذا تنجس الزيت فهل تكون نجاسته نجاسة ممازجة أم نجاسة مجاورة؟ وهذا قد سبق الكلام عليه في باب بيع الزيت. فحينئذٍ: لو كان الزيت متنجساً لا نجساً بعينه؛ فقال -مثلاً-: زيت الزيتون هذا الذي وقعت فيه نجاسة وصّيت به لمحمد، أو وصيت به لزيد، صحت الوصية؛ لأنه يمكن تطهير هذا الزيت؛ إما بالطبخ وإما بالغسل، وقد قلنا: يُغسل الزيت بأن تزيد ماءً على النجاسة الواقعة فيه بما يخالط هذه النجاسة ويذهب عينها. والدليل على ذلك: حديث الأعرابي، فإنه لما بال في المسجد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُصب عليه ذنوب من ماء، وهذا الذنوب أكثر من البول، فدل ذلك على أن النجاسة إذا ورد عليه الماء الطهور الأكثر منها طهرها، فالزيت المتنجس عندما يقع فيه البول فإنه لا يمازجه ممازجة تامة، وحينئذٍ يبقى منفصلاً عنه، وتجد طبقة البول منفصلة عن طبقة الزيت؛ لأن الزيت والسمن لا يقبلانها؛ ففي هذه الحالة يُصب عليه الماء، فيختلط الماء بالبول، ويُصبح بكثرته مكاثراً له، ويُحكم بطهارة ذلك النجس، وحينئذٍ يُحكم بطهارة الزيت، ويصح الانتفاع به أكلاً وشرباً ودهاناً، كما سبق بيانه في كتاب البيع. وقوله: [وله ثلثهما ولو كثر المال إن لم تجز الورثة]. فإذا كان وصّى بالزيت، أو وصى بالكلب، أو وصى بالأشياء التي ذكرناها من المعدومات والمعجوز عن تسليمها، وكانت تعادل الثلث؛ فإنه يأخذها كاملة. وإن كانت دون الثلث؛ فإنه يأخذ ما يعادل الثلث من المال كله من ذلك الشيء الذي وصّى به، فيكون له ثلثه. وقال بعض العلماء: له ثلث المعين، فإذا قال: هذا المعين لفلان؛ فإنه حينئذٍ يشاركه الورثة في ثلثيه، ولكن العمل بما ذكرناه، أنه يستحقه كاملاً إن كان ذلك الشيء دون الثلث، وقد اختار المصنف رحمه الله ما ذكرناه من أنه يقتطع ثلث الموصَى به، وقد بيّنا أن الصحيح أنه يقتطعه كاملاً إذا كان يعادل الثلث فأقل. وقوله: [ولو كثر المال إن لم تجز الورثة]. (ولو) إشارة إلى الخلاف، وإذا أجازت الورثة فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ما زاد عن الثلث إذا أجازه الورثة فإنه نافذ، وقد تقدمت معنا هذه المسألة في حكم من وصى بما هو أكثر من الثلث، بأن وصيته تصح وتمضي إذا أجاز الورثة؛ لأن الحق لهم، وهل يكون ذلك تنفيذاً للوصية أو يكون عطية مستأنفة؟ بينا هذه المسألة وبينا أقوال العلماء رحمهم الله فيها.

حكم الوصية بالمجهول

حكم الوصية بالمجهول قال رحمه الله: [وتصح بمجهول كعبد وشاة]. أي: وتصح الوصية بمجهول، فلو أن رجلاً عنده سيارات فقال: وصيت بسيارة من سياراتي لمحمد، أو وصيت بعبد من عبيدي، أو بشاة من غنمي، أو بناقة من إبلي ونحو ذلك، فإذا وصى بمجهول فهناك حالتان: الحالة الأولى: أن يقول: بعبد من عبيدي. والحالة الثاني: أن يقول: بعبد. ونمثل بما هو موجود الآن، فإن قال: وصيت بعمارة من عماراتي إلى خال أولادي، ولنفرض أن عنده ثلاث عمائر، وكل عمارة تعادل مليون ريال، فإنه: يعطى عمارة من هذه العمارات الثلاث، وهنا يختلف العلماء، فإذا كانت العمائر متفاوتة، ففيها العمائر الغالية الجيدة، وفيها العمائر التي هي دون ذلك؛ فعند ذلك يأخذ أقل ما يصدق عليه أنه عمارة منها، أي: أقلها ثمناً وأقلها قيمة مما يصدق عليه أنه عمارة؛ لأنه وصّى بعمارة من عماراته، واليقين أن الأصل أنها ملك للورثة، فلما قال: بعمارة من عماراتي، فأقل ما يصدق عليه أنها عمارة يعطاها، وهذا مذهب طائفة من العلماء، ومنهم أئمة الحنابلة رحمهم الله. وخالف بعض الفقهاء كبعض أصحاب الإمام الشافعي فقالوا: يعطى أحسن العمائر، فيبحث عن أفضلها وأغلاها ثمناً وأجودها ثم يُعطى ذلك. والصحيح: أنه يُنظر إلى أقل ما يصدق عليه أنه عمارة، كما اختاره المصنف رحمه الله؛ لأن الأصل أنها ملك للورثة، فلما قال: عمارة من عماراتي، فهذا الوصف يصدق على أقل عمارة، فهي عمارة من عماراته، فلو كان يريد الأجود للزمه أن يقول: أفضلها وأحسنها؛ لأنه وصف زائد عن الاستحقاق، فكان الواجب ذكره، فلما لم يذكره فهمنا أنه يريد أقل ما يصدق عليه أنه عمارة. وهذا من جهة الألفاظ، ولذلك لو أن شخصاً قال: إذا نجح ولدي فلله عليّ أن أطعم مسكيناً، فإذا قال ذلك ولم يحدد، فنقول له: أطعم أقل ما يصدق عليه أنه إطعام، وهذا في الاستحقاقات، فعلى هذا نقول: إنه يعطى أقل هذه العمائر مما يصدق عليه الوصف الذي ذكره في الوصية. وفي الحالة الثانية إذا قال: أوصيت بعمارة لفلان، فإذا لم يكن عنده عمائر، فلا إشكال أنه يؤخذ من ماله ما يكفي لشراء أقل ما يصدق عليه أنه عمارة في عرفنا، فمثلاً: لو وجدنا أن العمارة في عرفنا تصدق على دورين، أو على ثلاثة أدوار، فنشتريها بحسب العرف. فننظر إذا كانت قيمة هذه العمارة مثلاً خمسمائة ألف، والذي ترك ثلاثة ملايين، فهي إذاً هي دون الثلث، فيشترى له عمارة بخمسمائة ألف ويُعطاها، لكن لو قال في هذه الحالة: أوصيت بعمارةٍ، وعنده عمائر، وعنده سيولة، فهل نعطي الموصى له من العمائر التي يملكها الشخص، أم أن الورثة يشترون له عمارة من الخارج؟ والسبب في هذا: أنه ربما تكون عنده ثلاث عمائر، وكل عمارة بمليون، مع أنه لو اشتُريت له عمارة من الخارج فستكون قيمتها مائة ألف، فمن مصلحة الورثة أن يشتروا له عمارة من الخارج، فقال بعض العلماء: ما دام أنه قال: أوصيت بعمارة، وسكت، ولم يبيِّن أنها من عمائره؛ فحينئذٍ من حق الورثة أن يشتروا له عمارة من الخارج، ويكون حينئذٍ قد برئت الذمة، ويستحق هذا الشيء الذي يصدق عليه أنه عمارة؛ لأنه لو كان يريد من عمائره لقال: بعمارة من عمائري. وعلى هذا تدخل مسألة السيارة، ومسألة المزرعة، فإذا كان يملك مزارع فحينئذٍ من حق الورثة صرفه عن مزارعه بشراء مزرعة؛ لأن الوصية تصح بذلك. قالوا: لأنه لو أراد مزرعته لقال بمزرعة من مزارعي، وبسيارة من سياراتي، وبعمارة من عمائري، فلما قال: بسيارةٍ، أو أرضٍ، أو بكتابٍ، أو بمزرعةٍ، فحينئذٍ أقل ما يصدق عليه هذا الوصف يشترى ويعطاه.

اعتبار العرف في الوصية بالمجهول

اعتبار العرف في الوصية بالمجهول قال رحمه الله: [ويعطي ما يقع عليه الاسم العرفي]. هناك ثلاثة أنواع من الحقائق، يسميها العلماء: الحقائق: النوع الأول: الحقيقة اللغوية. النوع الثاني: الحقيقة العرفية. النوع الثالث: الحقيقة الشرعية. فالحقيقة اللغوية: هي التي تعارف عليها واصطلح عليها أهل اللغة، واللسان العربي في الجاهلية وصدر الإسلام، على خلاف في مسألة الاحتجاج بصدر الإسلام في الشواهد والأشعار، وإن كان الصحيح أنه يُعتبر من الحقائق اللغوية ويُعمل بها. وهذه الحقائق، والمسمّيات اللغوية، قد تكون في بعض الأحيان أعم من المسميات الشرعية، فمثلاً: الصلاة، فالصلاة في لسان العرب تشمل الدعاء، وتشمل الرحمة، وتشمل البركة، ثم جاءت الشريعة -وهذه هي حقيقة شرعية- وأطلقت الصلاة على عبادة مخصوصة، وإن كانت الشريعة تستعمل في بعض الأحيان الصلاة بالمعنى العام الذي هو الدعاء، كقول كعب بن عجرة رضي الله عنه: (كم أجعل لك من صلاتي؟) يعني: من دعائي. وقد تأتي بمعنى الرحمة: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56]؛ لأن الصلاة من الله على نبيه عليه الصلاة والسلام رحمته له عليه الصلاة والسلام. فالشاهد: أنه إذا استعملت الصلاة بمعنى الرحمة، أو البركة، أو الدعاء، فهذه حقيقة لغوية وإطلاق لغوي، وإذا استعملت الصلاة بمعنى العبادة المعروفة ذات الركوع والسجود، المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم بنية التقرب إلى الله عز وجل؛ فهذا لا إشكال أنه حقيقة شرعية. ومثلاً: الوضوء، فالوضوء في لغة العرب: غسل الشيء، تقول: توضأت؛ إذا غسلت يديك، وإذا أردت الحقيقة الشرعية تقول: توضأ، وقصدك: غسل ومسح الأعضاء التي أُمر المسلم بغسلها ومسحها، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الجنب لما سُئل هل ينام وهو جنب؟ فقال لـ عمر: (توضأ واغسل ذكرك ثم نم). فهل نحمل قوله: (توضأ) على الحقيقة اللغوية ونقول: مراد النبي صلى الله عليه وسلم غسل مواضع الأذى وغسل الفرج؟ أم أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء المعروف الخاص بالأعضاء؟ وهذا من تعارض الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية. أيضاً: يتعارض العرف مع الحقيقة اللغوية كما تتعارض الشرعية، فمثلاً: لو أن شخصاً قال: والله لا آكل اللحم -والفقيه وطالب العلم لا بد أن يفهم هذه الحقائق ومدلولاتها، وما الذي يُقدَّم منها- فهل معنى ذلك: أننا نحرم عليه لحم الإبل والبقر والغنم والطيور والأسماك والصيد وكل ما يصدق عليه أنه لحم في لغة العرب؟ أم أننا نخصص التحريم، ونقول له: يحرم عليك اللحم التي تأكله في عرفك وبيئتك؟ لأنه لو قال: نحن في بيئتنا لا نأكل إلا لحم الدجاج، وإذا قصد الدجاج فحينئذٍ لا إشكال، لكن لو قال: والله لا آكل اللحم، فهل نصرفه إلى ما يتعارف عليه، أو نصرفه إلى الحقيقة اللغوية؟ هذه كلها مباحث ومسائل يبحثها العلماء رحمهم الله ويتعرضون لها؛ لأنها تتصل بأحكام شرعية مهمة. وكذلك هنا الذي وصى، فإن قال: أوصيت بمزرعة لمحمد، وقد يكون ثرياً، وهناك مزارع بمليون، ومزارع بنصف مليون، ومزارع بمائة ألف، فهل نقول: العبرة به هو أم العبرة بعرفه وبيئته وما يصدق عليه أنه مزرعة؟ نقول: العبرة بالعرف والبيئة، فنشتري له أقل ما يصدق عليه أنه مزرعة. وكذلك لو قال: أوصيت لمحمد بسيارة، وهذا الغني الثري لو أراد أن يشتري سيارة لنفسه لاشترى بمائتي ألف، فهل معنى ذلك: أن الورثة يُطالَبون بشراء سيارة ذات القيمة الغالية بناءً على الشخص الموصي؟ نقول: لا، وهذا الذي قصده المصنف في عرفه. مسألة ثانية: لما قال بالعُرف، فالعبرة بعرف الموصِي، لأنك تجد السيارات في بعض الدول تُشترى -مثلاً- بخمسة آلاف ريال، وفي بعض الدول تشترى بعشرة آلاف، وفي دول أخرى بمائة ألف، وفي بعضها بأكثر، فنقول: العبرة بعرف الموصي، أي: بيئته التي هو فيها، ومدينته التي هو فيها، فأقل ما يصدق عليه أنه سيارة، فتشترى له، وتتم الوصية على هذا الوجه.

إذا أوصى بثلث ماله ثم طرأ مال جديد

إذا أوصى بثلث ماله ثم طرأ مال جديد قال رحمه الله: [وإذا أوصى بثلثه فاستحدث مالاً ولو دية دخل في الوصية]. يقول رحمه الله: (وإذا أوصى بثلثه فاستحدث مالاً) أي: طرأ المال بعد الوصية، وهذا هو المراد بالاستحداث، وصورة المسألة ومثالها: شخصٌ وصى بمليون، وهو يملك مليونين، فالمليون يعادل النصف، فاستحدَث مالاً، أي: طرأ مالٌ بعد الوصية، فأصبح يملك ستة ملايين، فأصبح المليون دون الثلث، فإذا حدث شيء بعد الوصية وعند الموت، كان الذي أوصى به دون الثلث، ونفذت الوصية ومضت، وفائدة هذه المسألة أيضاً في النسب والتقديرات، فإنه لم يوص بمبلغ معين -وفي الصورة الأولى أوصى بمبلغ معين- فاستحدث مالاً في الأنصبة، وهذا مراد المصنف، كأن يقول: أوصيت بثلث مالي، وهو يملك ستة ملايين، فمعناه: أنه سيكون للموصَى له مليونان، والمليونان تعادلان ثلث الستة ملايين، وبعدما انتهت الوصية ملك -مثلاً- ستة ملايين أخرى، فحينئذٍ تنتقل الوصية من المليونين إلى أربعة ملايين، فالنسب تدخل في المستحدثات، فكلما حدث من زيادة فإن النسبة تدخل عليه؛ لأنه قال: بثلث مالي. والعبرة بماله عند وفاته، والعكس بالعكس، فلو حدث نقص فإنه حينئذٍ يؤثر، فلو قال مثلاً: أوصيت بثلث مالي، وكان يملك ستة ملايين، فقلنا: الأصل أن الموصى له يأخذ مليونين، ثم حدث انكسار وعجز، فأصبح يملك ثلاثة ملايين؛ فإنه يعطى مليوناً واحداً، فيحتمل الغرم والغنم.

مسألة دخول الدية في الإرث والوصية

مسألة دخول الدية في الإرث والوصية وقوله رحمه الله: (ولو دية) (لو): إشارة إلى خلاف مذهبي، فإن للعلماء في الدية خلاف، والصحيح: لو أن شخصاً وصّى وقال مثلاً: وصيت بثلث مالي لمحمد، ومحمد هذا من قرابته غير الوارثين، ثم قُتل خطأً -الذي هو الموصي- فمعنى ذلك: أنه سيرتفع نصيبه بالدية، فهل تدخل الدية في الإرث أو لا تدخل؟ الذي عليه العمل عند الأئمة والعلماء أن الدية موروثة وتدخل في الإرث، ولذلك قال الإمام أبو عبد الله إمام أهل السنة رحمه الله أحمد بن حنبل: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية في الإرث)، يعني: أنها تدخل في الميراث. فالمرأة ترث من دية زوجها، ويرث الزوج من دية زوجته، فالدية تابعة للإرث، وهذا قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكره الإمام أحمد رحمه الله وغيره من أئمة الإسلام. وعلى هذا فقوله: (ولو دية) إشارة إلى خلافٍ، فبعض العلماء يقول: إن الدية لا يُدخل فيها الوصية، ولا ترفع نصيب الموصَى له؛ لأن الدية -مثلاً- لو كانت مائة ألف لرفعت نصيب الموصَى له. فلو قال مثلاً: وصيت بثلث مالي، وعنده عشرون ألف ريال؛ فثلث المال سيكون دون السبعة آلاف بكسر؛ لكن لو أدخلنا الدية، والدية مائة ألف، فسيكون ثلث ماله أربعين ألفاً، فيأخذ أربعين ألفاً؛ لأنه يصبح الذي تركه الموصي مائة وعشرين ألفاً، مائة من الدية، والعشرين من أصل المال، فيصبح تاركاً لمائة وعشرين، فيأخذ ثلثها وهو أربعون ألفاً، وعلى كل حال: فإن الوصية تدخل وتحتسب من الدية، والدية تورث.

بطلان الوصية بتلف المعين الموصى بها

بطلان الوصية بتلف المعين الموصى بها قال رحمه الله: [ومن أوصي له بمعين فتلف بطلت]. عند العلماء: المعين والموصوف في الذمة، وهذا من أروع ما تميزت به هذه الشريعة الإسلامية، التي جاءت بتشريعات وأحكام ومسائل وافية شاملة عامة كاملة، وهذا من أعجب ما يكون، أن الشريعة دخلت حتى في تفصيلات العقود، فتفرِّق بين التعيين والوصف في الذمة. والعلماء يقسمون الأشياء في العقود إلى: معين، وموصوف في الذمة. فأنت إذا بعت، أو أجّرت، أو وهبت، فإما أن يقع عقدك على معين، أو موصوف في الذمة، فالمعين كأن تقول له: بعني بهذه العشرة، فهذا معين، فلو تلفت العشرة فسد البيع، ولا يقام غيره إذا كان المبيع على معيّن يفوت بفواته، هذا إذا تم التعاقد على معين يفوت بفواته، وفي الإجارة على مركوب معين، فلو قال: استأجر امرأة لترضِع طفلاً معيناً، ثم أصيب هذا الطفل بمرض وتعذَّر إرضاعه؛ انفسخت الإجارة. وكذلك لو استأجر داراً وقال: أؤجرك هذه العمارة، وهذه كلها معينات، وبناءً على ذلك: لو جئت تشتري كتاباً، وقلت له: بكم تبيعني هذا الكتاب؟ فقال: بعشرة ريال، ثم دفعت العشرة الريال وخرجت من المكتبة فوجدت الكتاب قد طُمست منه صفحة أو صفحتان، فرجعت إليه، وقلت له: هذا الكتاب فيه صفحة مطموسة أو صفحتان، وهذا عيب يؤثر، فرُد لي العشرة، فقال: لن أرد العشرة ولكن سأعطيك بدلاً منه؛ فهنا ليس من حقه أن يعطيك بدلاً منه؛ لأن البيع وقع على معين يفوت بفواته، لكن لو قلت له: أعطني نسخة من بداية المجتهد، أو من زاد المستنقع، فقال لك: بعشرة ريال، فجاءك بنسخة ووجدت فيها عيباً، ولو كانت كلها مطموسة الصفحات، فقلت له: أعطني العشرة، فهنا لا تملك إلزامه؛ لأن البيع كان على موصوف في الذمة، ومن حقه أن يأتي ببديل عن الذي اشتريته. إذاً: العقود إما أن تكون على شيء معين يفوت العقد بفواته، وإما أن تكون على موصوف في الذمة. وهنا في الوصية يبحث العلماء في محل الوصية في المعين والموصوف، فحينما يقول: أوصيت بعمارة، وذكر أوصافها، فهذا وصف يصدق على كل عمارة تتحقق فيها هذه الأوصاف التي ذكرها الموصي، أما لو قال: وصيت بهذه السيارة، وهذه السيارة دون الثلث، ثم شاء الله عز وجل عندما توفي أن تلفت السيارة؛ فعند ذلك تبطل الوصية، وإن قال: وصيت بهذه الشاة، فلما توفي ماتت الشاة، فحينئذٍ تبطل الوصية؛ لأنه يستحيل تنفيذ الوصية؛ فحينئذٍ تبطل وتفوت بفواته، وهذا هو معنى قوله: (بمعيّن). وهذه المسألة قد حُكي الإجماع عليها، وممن حكى الإجماع عليها الإمام ابن المنذر رحمه الله، ونَقَل هذا عن الإمام ابن قدامة رحمه الله، وغيرهم من الأئمة، حيث قال: أجمع كل من نحفظ عنه العلم -يعني: من الأئمة والعلماء رحمهم الله جميعاً برحمته الواسعة- أن الوصية بالمعيّن إذا تلف فاتت بفواته. أي: يُحكم ببطلانها. قال رحمه الله: [وإن أتلف المال غيره فهو للموصَى له إن خرج من ثلث المال الحاصل للورثة]. يعني: إذا وصَّى بسيارة لمعيَّن صحّت الوصية، وإذا تلفت هذه السيارة فاتت الوصية بفواتها. وفائدة هذه المسألة الأولى التي ذكرنا فيها الإجماع: أنه لو تلفت السيارة وقال الموصَى له: أريد بدلاً عنها؛ لأن الميت وصّى لي، وقد تلفت السيارة، فأعطوني بدلاً عنها؛ لم يكن من حقه ذلك؛ لأنه وصّى له بمعين فات بفواته. والعكس: فلو وصَّى له بسيارة، وكانت السيارة دون الثلث أثناء الوصية، ثم لما توفي الموصي أو قبل وفاة الموصي، وهناك أموال غير السيارة، فشاء الله عز وجل أنه توفي عن مزرعة والسيارة، فالسيارة قيمتها تعادل الثلث من المال، فمثلاً: قيمة المزرعة مائة ألف، والسيارة قيمتها خمسون ألفاً، فالسيارة تعادل ثلث المال، فعند ذلك صحت الوصية ومضت؛ لكن أراد الله عز وجل أن احترقت المزرعة أو تلفت، فأصبحت قيمتها عشرة آلاف ريال، أو تلفت بالكلية فلم تساو شيئاً، فأصبح حينئذٍ لا يوجد إلا السيارة، فحينئذٍ يكون له ثلثها، ولا يدخل عليه الضرر -من حيث الأصل-، لكن لا يؤثر فوات المال من غيره على الموصَى به، فلا يفوت الوصية كلها؛ لأن تلف غيرها ليس تلفاً لها بعينها، وحينئذٍ تبقى الوصية في المعين كما هي.

الأسئلة

الأسئلة

علة إذن الشرع بالرجوع في الوصية دون الهبة

علة إذن الشرع بالرجوع في الوصية دون الهبة Q أشكل عليَّ أن الوصية تشابه الهبة في وجوه وتختلف في وجوه أخرى؛ فمثلاً: يجوز الرجوع في الوصية، ولا يجوز في الهبة، فما توضيح ذلك؟ A الوصية يجوز الرجوع فيها لحِكم وأسرار عظيمة، وقد نبّه العلماء رحمهم الله على جملة من هذه الحكم ومنهم: الإمام القرافي في كتابه النفيس: الذخيرة. ومن أعظم هذه الحِكم: أولاً: أن الشريعة لما أذنت بالرجوع في الوصية فتحت باب الوصية، وشجّعت الناس على أن يُوصوا؛ لأن الإنسان لو علم أنه لا يملك أن يرجع في وصيته لخاف من الوصية؛ لأنها ستكون إلزاماً، ولا يستطيع أن يعدل أو أن يبدل أو يغير. ثانياً: أن الوصية مترتبة على الموت، فهي تصرُّف مضاف إلى ما بعد الموت، والإنسان لا يعلم متى أجله، وكم من مريض مد الله في عمره فعاش أكثر من الصحيح! وكم من صحيح اغتر بحاله فمات في طرفة عين! فالآجال لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فلا يضْمن الإنسان أن يُمد له في عمره، وينسأ له في أجله، وأيضاً: لا يضمن أن يأتيه الأجل فجأة، فجمعت الشريعة بين الاثنين: خوف إتيان الموت فجأة، فتكتب الوصية بناءً على هذه الحالة. وإن مُد في العمر وطرأت أمور، فمثلاً: قد أُوصِي لأجنبي وليس عندي أحد من أولادي، ثم يشاء الله أن يأتيني بولد، فأغير وأبدِّل تلافياً لما جد وطرأ، فهذا عين الحكمة، وعين العدل، وعين المصلحة، فقد جاءت الوصية على الصفة التي تحقق الهدف منها. وقد يوصي الإنسان وليس عنده أولاد، ثم بعد ذلك يطرأ له أولاد، وقد يوصي بالقليل وعنده أولاد، ثم بعد ذلك قد يموت أولاده قبله، ففتحت الشريعة باب الرجوع تحقيقاً للمصالح ودرءاً للمفاسد، وتداركاً لما يمكن أن يفوت لو حُكِم بعدم الرجوع. هذا بالنسبة لإذن الشريعة بالرجوع في الوصية. وقد منعت الشريعة من الرجوع في الهبة، وهذا ما يقوله العلماء: أن الشريعة تجمع بين المتضادين في حُكْم، وتفرِّق بين المتماثلين في حُكْم، فهنا منعت من الرجوع في الهبة وأجازته في الوصية؛ لأن المقصود من الوصية: إيصال الحقوق إلى أهلها، وحصول البر للموصِين بها من الأجر والمثوبة والصلة، فهو بوصيته إذا أمكنه الرجوع تتحقق هذه المصالح، أما في الهبة فالأصل في مشروعية الهبة إنما هو طلب المحبة والمودة والصلة بين الناس، ويدل على هذا: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تهادوا تحابوا)، فالمقصود من الهبة: حصول المحبة والألفة وتقوية أواصر الأخوة بين المسلمين؛ فإذا حصل الرجوع وقعت الضغينة والشحناء، وتقطعت أواصر المحبة، وهذا عكس ما تريده الشريعة من الهبة، فيصبح الرجوع على العكس تماماً، ولذلك ما سُمِح بالرجوع عن الهبة إلا في حالة خاصة، وهي رجوع الوالد في هبته لولده؛ لأن المقصود من الهبة الصلة والبر، فحينما يأتي الوالد ويُعطي بعض ولده ويحرم البعض، فحينئذٍ يحصل عكس المقصود؛ فأذن الشرع هنا بالرجوع. أما الرجوع لغير الوالد مع ولده، مثل أن يهب صديقه ويرجع، فإن ذلك يؤدي إلى أن يحقد عليه صديقه أو يتألم، وعلى الأقل -وليس بالقليل- أن صديقه يقول: لابد أن فلاناً قد تغيّر قلبه نحوي، ثم تحدث القطيعة. لكن الوالد مع ولده لو أعطى ولداً وحرَم الآخر؛ فإن الواجب عليه: أن يعدل، فصارت الهبة هنا لا تُحقق البر والصلة، وإنما تحقق الشحناء بين الأبناء بعضهم على بعض، وجاء الأمر بعكس ما هو موجود في الهبة نفسها، فجاءت الهبة مصادِمة للشريعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم مشيراً إلى هذا المعنى في حديث النعمان: (أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ قال: لا يا رسول الله! قال: أشهد على هذا غيري، فإني لا أشهد على جور)، وفي رواية: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)، فجعل الهبة لبعض الولد دون البعض ظلماً وجَوراً لا يُحقق العدل، فأمره بالرجوع، والأمر قد جاء ضمناً بأن هذا جور، والجور لا يجوز، فمعنى كلام النبي صلى الله عليه وسلم: (جور) أي: ارجع عن هبتك. وقد جاء في الحديث الآخر في السنن: (لا يحل لأحد أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما وهب لولده)، فأذن للوالد أن يرجع في هبته؛ لأن هذا الرجوع يُحقق العدل بين الأبناء، ويوجب المحبة، ويزيل الشحناء وحقد بعضهم على بعض، ولذلك قال: (أشهد على هذا غيري؛ فإني لا أشهد على جور)، فأجاز الرجوع في حالٍ ومنع الرجوع في حال، وكل ذلك مبني على تحقيق مقاصد الشريعة من حصول العدل. وهذا مما يقوي مسلك أئمة الإسلام رحمهم الله وجمهور الفقهاء من أن الشريعة تراعي المعاني، وليس الألفاظ فقط، فما جاءت الشريعة بالألفاظ فقط، وإنما جاءت بمعان مضمونة مضمنة، وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين). فالمقصود: أن الشريعة أجازت الرجوع في الوصية، تحقيقاً للمصالح، ودرءاً للمفاسد، وطلباً لما يُراد من شرعية الوصية، وهو تدارك ما فات، والوصول إلى الخير والبر والإحسان فيما يقصد منه البر والإحسان وصلة الرحم، إذا قصد صلة الرحم ونحو ذلك. وأيضاً: ربما أوصيت لشخص وهو فقير، ثم عند الموت صار غنياً، وربما أوصيت لشخص مديون، ثم قُضي دينه فأصبح غير محتاج للوصية، فالإذن بالرجوع عنها هو تحقيق للمصالح ودرءٌ للمفاسد. وأما الرجوع عن الهبة فإنه يوجب الشحناء، ويزيل المحبة، ويفسد الإخاء؛ ولذلك جاز الرجوع في الوصية، وحرُم الرجوع هنا، ولله الأمر فيهما، وصدق الله جل جلاله إذ يقول في كتابه {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115]، والله تعالى أعلم.

متى يحكم على المسألة بأنها من قول الجمهور

متى يحكم على المسألة بأنها من قول الجمهور Q في الحكم على مسألة بأنها من قول جمهور العلماء: ما هو أقل عدد يُطلق عليه هذا اللفظ؟ A المسائل الخلافية تنقسم إلى أقسام: القسم الأول: أن يكون الخلاف بين الأئمة أنفسهم، أي: الأئمة الأربعة، ويُضاف إليهم مذهب الظاهرية. القسم الثاني: أن يكون الخلاف بين أتباع الأئمة، بمعنى: أن المسألة جدَّت وطرأت، فليس لأئمة المذاهب فيها قول. القسم الثالث: أن يكون الخلاف بين بعض الأئمة، وليس هنا نص عن الأئمة، وإنما خالف أصحاب الإمام فيها. وتوضيح ذلك: إذا كان الخلاف بين الأربعة فالثلاثة جمهور والواحد خارج عنهم، فلا يُعتبر من الجمهور، فإذا قيل: وهذه المسألة تصح على قول الجمهور خلافاً للإمام أبي حنيفة، فتَعلم أن الثلاثة يقولون بهذه المسألة، وإذا قيل: تصح هذه المسألة في قول الجمهور إلا الشافعي، فتفهم أن الذي خالف إنما هو الإمام الشافعي رحمه الله. إذاً: الجمهور يطلق على الثلاثة، ولا يُطلق على اثنين في مقابل اثنين، فلو كانت المسألة -مثلاً- بين الشافعي وأحمد من جهة، والإمام مالك وأبي حنيفة من جهة أخرى، فلا يقال فيها جمهور. هذا بالنسبة للخلاف بين الأئمة، وبعض العلماء يعتبر المسألة فيها جمهور إذا تكافأ اثنان في مقابل اثنين، وانسحب أحد أصحاب الاثنين مع الطرف الثاني، فإذا كان أصحاب الإمام أبي حنيفة لا يوافقون إمامهم ويرجحون المذهب الشافعي والحنبلي؛ فيقال لمذهب الشافعية: جمهور؛ لكنه لا يخلو من نظر، وقد يُعبّر به في بعض الأحيان عند بعض طلاب العلم الذين عندهم دقة وعناية، أو يستشهد بهؤلاء تعزيزاً للقول فيقال في الترجيح: حتى إن أصحاب الإمام أبي حنيفة يميلون إلى كذا. هذا بالنسبة لمسألة الخلاف بين الأئمة الأربعة أنفسهم، فإذا وقع الخلاف بين أصحاب الأئمة الأربعة فنفس المسألة كما تقدم، فإذا قيل: وبه يقول الإمام أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، فهذا خلاف الأئمة أنفسهم، وإذا قيل: وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، فلا يستلزم أن يكون هناك نص للإمام، فينتبه طالب العلم، إذا قيل: وهو قول الإمام أبي حنيفة ومالك، فالمسألة عن الإمام نفسه، وهي مسألة في القرون المفضلة، وإذا قيل: وهو قول الحنفية؛ فهذا لا يستلزم أن تكون في القرون المفضلة، بل ربما طرأت أو وجدت بعد القرون المفضلة. وعلى كل حال: فإذا كان الثلاثة من المذاهب في مقابل واحد فهم جمهور، وإما إذا كان بعض الخلاف منوعاً، كما لو لم يكن هناك نص عن الإمام مالك في المسألة، ولا عن الإمام الشافعي، وهناك نص عن الإمام أبي حنيفة وأحمد، فيقع الخلاف بين الإمام أبي حنيفة وأحمد مع أصحاب الشافعي ومالك، فإذا انسحب أصحاب أحدهما إلى أحد القولين فهي جمهورية، فتقول: وهو قول الإمام أحمد وأبي حنيفة وأصحاب الشافعي؛ فحينئذٍ تصير جمهورية، ويكون قول المالكية قولاً منفرداً إذا اختاروا خلاف هؤلاء الثلاثة. وعلى كل حال: ينبغي التورع في نسبة هذه المذاهب، ولا يتناول أحد نسبة الأقوال إلى المذاهب إلا إذا درس الفقه على أئمة وعلماء لهم يد وباع في مثل هذا، ولا يقتصر على قراءة الكتب، والنسبة أمر يحتاج إلى التنبيه إليه؛ فإن الأوهام تقع في نسبة الأقوال للأئمة ونسبة الأقوال لأصحاب المذاهب، ولذلك من أصعب ما يمر على المفتي إذا كان يخاف الله عز وجل تحرير قول على مذهب. فمن أصعب ما يقال أن يقال لك: ما قول الشافعية أو الحنابلة؟ فإنك تسأل أمام الله عز وجل عن مذهبهم كاملاً، وهذا شيء تشيب فيه رءوس أئمة المذاهب أنفسهم، فضلاً عن إنسان لم يُحصِّل، فلا بد أن يكون على علم بالمصطلحات التي هي داخل المذاهب، وأن يكون على علم بالطرق والمناهج التي توصل بها إلى المذهب، من ناحية قواعده وأصول المذهب. فهذا أمر يحتاج إلى دراسة معمقة، وهو الذي يسمى: الاجتهاد المذهبي؛ لأن الاجتهاد إما أن يكون مذهبياً داخل المذهب؛ فمثلاً: شيخ الإسلام رحمه الله تجده يقول: (وهذه المسألة أصول الإمام أحمد تقتضي فيها الجواز)، فلم يقل: إن الإمام أحمد يقول: إنها تجوز، بل قال: (أصول الإمام أحمد). وفي بعض الأحيان يقول: وهذه المسألة تجري على قول أصحاب الإمام أحمد، ففرق بين الإمام وبين الأصحاب؛ لأنه عايش الفقه، وبدأ فيه بالمذهب دون تعصب، وبالدليل، تقرؤه وتضبطه، ثم بعد ذلك تنظر في دليله، ثم بعد ذلك تنظر فيمن خالفه، وتتحرى الحق والصواب حتى تصل إلى ما هو أقرب وأوفق لشرع الله عز وجل وصراطه. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدينا إلى الحق فيما اختلفوا فيه، وأن يرزقنا محبته والعلم به والعمل به، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

حكم الزواج بزوجة أبي الزوجة بعد وفاته

حكم الزواج بزوجة أبي الزوجة بعد وفاته Q زوجتي مات أبوها، فأريد أن أجمع شمل عائلتها، فهل لي أن أتزوج زوجة أبي الزوجة؟ A في الأصل: أنه يجوز أن يتزوج الإنسان زوجة أبي زوجته إذا لم تكن أماً لهذه الزوجة كما هو معلوم؛ لأنها أجنبية، فلو كان عند زيد -مثلاً- زوجتان إحداهما لها بنات، والتي لها بنات تزوَّج شخص إحدى بناتها؛ فإن الزوجة الثانية ليست بمحرم له، فلا يجوز له أن يصافحها، ولا يجوز له أن يختلي بها، ويجوز له أن يتزوجها بعد وفاة زوجها، ولكن الله المستعان! لقد كانت ضرّةً لأمها ثم تأتي بها ضرة عليها هي! وقد يختلف هذا الأمر باختلاف البيئات والأعراف، ولكن الله المستعان! تجمع لها بين مصيبتين، إلا إذا كان تأخذ بثأر أمها فإن هذا ممكن؛ لأنها قد تكون هي أقل سناً، لكن على كل حال: إن السلامة من سلمى وجارتها ألا تمر بوادٍ حول واديها أما من حيث الجواز فيجوز ولا بأس، لكن يُتَّقى ما تنشأ عنه المشاكل، فإذا كان ذلك يتسبب في أضرار؛ لأن أم الزوجة ستتأثر، ولا شك أن أم الزوجة إذا أُخذت ضرتها مع بنتها، فهذا من أشد ما يكون عليها، إلا إذا كان قد ماتت وصفا الجو، فهذا أمر آخر، أما أم الزوجة فلا يُطاق خلافها وشرها، فهذا يفتح باب مشاكل للإنسان. وهذه الأمور كان الناس كبار السن يوجهون أبناءهم، لكن الله المستعان! اليوم قد يأتي الواحد ويُغلِّب عاطفة في جانب ويُغفِل جوانب أخرى مهمة. وعلى كل حال: فحكم الشريعة: الجواز، لكن تحذر من حصول المشاكل؛ لأن هذا يفتح باباً للمشاكل، وأول ما قد تأتي المشاكل مع أمها. أما إذا كانت أم الزوجة حية، فهذا في الحقيقة في النفس منه شيء؛ لأن الغالب أنه سيجرح الرحم، وسيجرح أم الزوجة. إلا أن الأصل في ذلك هو الجواز، والأعراف والبيئات تختلف، فإذا كان الإنسان غلب على ظنه أن في هذا مصلحة، وأن هذا يعين على الخير والبر، فلا شك أن الله سبحانه وتعالى يأمر بذلك ويحبه، والله تعالى أعلم.

الفتور بعد العبادة

الفتور بعد العبادة Q عند الانتهاء من العبادة ومضي زمانها وأيامها يأتيني إرهاق وفتور في العبادة، فكيف أتخلص من هذا الفتور، خصوصاً أني أخشى أن هذا من علامات عدم القبول؟ A الله المستعان! نسأل الله ألا يحرمنا من فضله، وألا يحول بيننا وبين بره بسبب ما يكون من معاصينا، وهناك أمر مهم جداً، ولعل هذا السؤال متصل بأحب الشهور إلى الله، وهو شهر الصيام والقيام، والإنسان بعد رمضان لاشك أنه سيجد نوعاً من الضعف على الطاعة أكثر مما كان في رمضان، والسبب في هذا واضح. فينبغي أن يعلم كل مسلم أن الشهور التي فضّلها الله عز وجل وكرمها واصطفاها واجتباها مثل شهر رمضان أن فيها من البركة والخير ما لا يعلمه إلا الله جل جلاله، ولذلك يُنَادى: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، وهذا يدل على أن الموسم موسم رحمة، ولذلك شتان ما بين يوم العيد وآخر أيام رمضان، ولا يظهر الفرق إلا إذا بدأ الإنسان بالابتعاد أكثر فأكثر، وذلك كالشخص الذي يكون قريباً من الجنة وقريباً من رحمة، وقريباً من مكان مؤنس تنشرح فيه الصدور وتطمئن فيه القلوب، فلا يحس بلوعة هذا الفراق إلا إذا تباعد عنه أكثر فأكثر. وأرجو أن لا يجعلها الله دليلاً على عدم القبول، فليس هناك أرحم من ربك بك، والله أكرم وأحلم سبحانه وتعالى من أن يخيِّب عبده، وخاصة إذا وفَّقه للصيام، ووفقه لقدر ما يستطيع من القيام. لكن بالنسبة للفتور: فإن هذا الزمان زمان صعب، والفتن فيه كثيرة، والمحن فيه كثيرة، ولا يعلم مقدار غربة المسلم في هذا الزمان إلا الله وحده لا شريك له، فواللهِ أنه لا يستطيع أحد أن يعلم مقدار غربة المسلم في هذا الزمان -الذي بعُد فيه عن عصر نبيه صلى الله عليه وسلم وعن سنته وهديه صلوات الله وسلامه عليه- إلا الله. لقد كان الإنسان إذا خرج من بيته إلى بيت من بيوت الله جل جلاله وجد حلق الذكر، ووجد الذاكرين، ووجد المساجد ممتلئة بالمصلين والخاشعين قبل الأذان بساعات. والآن ربما جاء ودخل المسجد وهو في آخر ركعة أو في التشهد، ويرى الناس أفواجاً يقدمون إلى الصلاة، هذا إذا وجد من يصلي، وهذا في الصلاة التي هي عماد الدين، والتي شأنها في الإسلام لا يَخفى، ناهيك عن الطاعات والقربات الأخرى. ولو أراد الإنسان أن يتصدق بماله لوجد من يخذِّله، ووجد من يسفِّهه، ووجد من يثرِّب عليه، وكأنه فعل ما لا يمكن فعله من الأمور المحرمة العظيمة، فتجد الشخص تطمع نفسه أن يُوقف بيتاً بعد موته، أو يوصي بشيء من خصال البر والرحمة، وإذا بالنفوس الضعيفة والمفتونة تتكالب عليه من كل حدب وصوب، تلومه وتوبخه، وتثرب عليه، وقد تجده منطلقاً إلى مجلس من مجالس الذكر وإلى طاعة من الطاعات، وإلى خير يريده لآخرته، أو علم ينتفع به ويتزود به إلى لقاء ربه، فإذا بأمٍ تثبطه، أو والد يخذله، أو صديق يسفِّهه، وإذا به يجد من يصفه بالنقص وبالجهل بالأمور، وأن عليه أن ينطلق في الدنيا، وأن يؤمن مستقبله. إلى غير ذلك من الفتن التي لا يعلمها إلا الله جل جلاله. فلا يعلم مقدار غربة المسلم في هذا الزمان إلا الله، وكلما ارتقت درجته وصار إماماً يصلي بالناس، فإذا بهذا يأتيه ويقول له: طوِّل صلاتك فقد تلذذنا بالقرآن، ثم يأتيه إنسان ويقول له: يا هذا أرهقتنا وأتعبتا وأزعجتنا، ثم يأتيه الثالث ويقول له: في كل يوم وأنت تدرس، وفي كل يوم تلقي كلمة! ويأتيه الرابع ويقول له: أنت تقول كذا وتفعل كذا، فإذا بها أمور تشيب منها الرءوس، وإذا به يُقبل على الإمامة بنفس منشرحة وصدر منشرح للخير والذكر والبر؛ فيجد من العوائق والعلائق ما لا يعلمه إلا الله جل جلاله. هذا في مسجده؛ فضلاً عن بيته وأهله، فقد يخرج من بيته من أجل أن ينفع أبناء المسلمين خطيباً أو مدرساً أو معلماً في بيت من بيوت الله أو محاضراً، فإذا بزوجته تشتكي وتقول: أَضعت أوقاتنا، وضيعت أبناءك، وفعلت وفعلت، وإذا بإخوانه يقولون له: تعرض نفسك للأسفار. وهكذا. فتجد غربة لا يعلم قدرها إلا الله جل جلاله، ولكن طوبى ثم طوبى لمن نَصب وجهه لله، وأنِس بالله إذا استوحش ممن يوحِشه في سبيل طاعة وبر يرجو بها رحمة الله جل جلاله، فطوبى لمن سمَت نفسه وتعلّق قلبه بربه، فلم يبالِ بمن يخذله، فإذا سمع قول المخذلين والمثبطين ارتقت روحه إلى رحمة أرحم الراحمين، فوجد في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح ما يجعله يحتقر نفسه وهو في ذرى العلياء من الكمال والفضل والطاعة لله جل جلاله. هذه كلها فتن تثبط الإنسان عن الطاعة والخير، فإذا كان في موسم الخير كان الأمر أهون، وكان الشر أقصر، ولكن إذا ابتعد عن زمان الطاعة والخير والبر تكالبت عليه هذه الفتن والمحن من كل حدب وصوب، فهذا الزمان زمان غربة، ولا يمكن للإنسان أن يعلم ذلك إلا إذا قرأ الكتاب والسنة وتفحّص، وأعرف الناس بغربة هذا الزمان هم العلماء وأهل العلم الذين كشفوا دلائل الكتاب والسنة، وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحاح الآثار والأخبار، فانكشفت لهم حقائق الأمور. وعلى كل واحد يلتزم بدين الله عز وجل أن يكون قوياً في التزامه، فلا يثبطه ولا يخذله شيء أبداً؛ لأنه ليس بينك وبين الجنة إلا الجد والاجتهاد في العمل الصالح بعد توفيق الله، وهذان أمران إذا حزتهما فقد أصبت الجنة وفزت برحمة الله عز وجل، فعليك بالجد والاجتهاد في طاعة الله عز وجل حتى لا تبالي بأحدٍ لا مادحاً ولا ذاماً. وأكمل ما يكون للعبد الموفق السعيد الذي يريد الله به خيراً في خاتمته أنه يكره من مدحه أكثر ممن يذمه، وهذه الهمة الصادقة التي يتجه بها العبد إلى الله جل جلاله قلباً وقالباً، وليس لنا إلا الله جل جلاله، فلا تلتفت إلى موسم، ولا إلى وقت ولا إلى زمان. فلا يكن الإنسان ممن يعرف ربه فقط في رمضان، وإذا ابتعد عن مواسم الخير أصابه التثبيط أبداً، بل كن قوي الشكيمة والعزيمة. وأُنبِّه على أمر أيضاً: وهو أنه لو وقع الإنسان في حضيض المعاصي، ثم يكون من أشد الناس التزاماً وطاعة، فقد تأتيه فتنة من الفتن. فهذا زمان غريب، وينبغي علينا أن نعلم ونعلِّم الناس أنه إذا كان الإنسان في زمان الغربة فليعلم أنه سيلاقي في الفتن أكثر ممن يسير على الشوك، ولكن الموفق لا يبالي، فنحن لسنا في عصر الصحابة، ولا في عصر التابعين، ولا في القرون المفضلة؛ بل نحن في عصر القابض على دينه كالقابض على جمر، وإن لم يكن هذا الزمان فلست أدري أي زمان يكون هو! فحينئذٍ مهما وقع الإنسان في فتن من ضعف الطاعة، مثلما ذكر أن الإنسان قد تضعف طاعته، أو حتى لو وقع في معصية؛ فعليه أن يوجه وجهه إلى الله ويشمر عن ساعد الجد بالتوبة النصوح ولا يبالي؛ لأن الشيطان يُخذِّل الإنسان دائماً. فإذا كنت في رمضان في خشوع وخضوع وإنابة واستكانة لله جل وعلا، ابتلاك الله عز وجل، فتسلط عليك الشيطان فجاءك وقال لك: أنت كذا أنت كذا، حتى تضعف همة الخير؛ لأن الإنسان في بعض الأحيان تكون قوته في روحه ونفسه. فإذا جاء الشيطان وقال: لو تقبل الله طاعتك في الصيام لكنت الآن من قوامي الليل وصوامي النهار، فأنت الآن لا تقوم الليل، ولا تصوم النهار، فعندها قل: اخسأ عدو الله، فإن الله الذي أرجو رحمته في رمضان أرجوه في شعبان وفي شوال وفي كل زمان، والله الذي أرجو رحمته لو سجدت له حتى تُقبض روحي ما وفّيت شيئاً من حقه، وكل ذلك من فضله، ولو كان من الإنسان ما كان من الطاعة فالفضل كله لله، وقل: اللهم إن قصر عملي فإني أرجو رحمتك، وكم من عبدٍ رجا رحمة الله جل جلاله ففاز بدرجات لم يفز بها من جد واجتهد بذلك؛ لأن هذا الشعور هو التعلق بالله سبحانه وتعالى. فتستمسك بالذي أوحي إليك، ولو حصل منك ما حصل من الفتن والشهوات وغيرها، فربما تجد العبد من أصلح خلق الله، أو طالب علم، ربما تحدث منه فتنة فيتسلط عليه الشيطان بقوله: لو كنت طالب علم بحق لما وقعت في هذه الفتن، ولو كنت طالب علم لعصمك الله من هذه الفتن. حتى يُسيء ظنه بالله؛ لأن أهم شيء يتوصل إليه عدو الله هو إساءة ظنك بالله. ولذلك تجد في بعض الطائعين من الانتكاسة ما لا تجده عند المجرمين -والعياذ بالله- في بعض الأحيان بسب هذا الشعور؛ لأن الشيطان يعلم أن قِوام المسلم في حسن ظنه بالله وكمال اعتقاده في الله، فإذا أصاب هذه الروح الزاكية المتعلقة بربها بالشكوك وإساءة الظن بالله عز وجل؛ فإنه -والعياذ بالله- سيهوي به إلى أسفل سافلين، ولكن لا تبال ولا تهتم ولا تغتم لشيء إلا لرحمة ربك: (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته). فتستمسك بالذي أوحي إليك، وتعُظ على الخير والطاعة والبر، فإن وجدت خيراً حمدت الله، وإن وجدت طاعة وبراً ذكرت الله وشكرته، وإن تكالبت عليك الفتن عن يمينك وشمالك، ومن أمامك ومن وراء ظهرك، ومن فوقك ومن تحتك، فاستعن بالحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ووجه وجهك للذي فطر السموات والأرض، وقل: اللهم ليس لي من أحد سواك، اللهم كما أرجوك طائعاً فإنه عظُم رجائي فيك مذنباً، وإنه لا يَخيب من رجاك، ولا يُحرم من سألك، وترجو رحمة الله، وتتملق لله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، فإذا بالسيئات تبدل حسنات، ومن صدق مع الله صدق الله معه. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يدفع عنا ويصرف عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نعوذ بك من فتن المفتونين، ومن ضلال المضلين، اللهم اهدنا ولا تضلنا، وارحمنا ولا تعذبنا، وسامحنا ولا تؤاخذنا، وزدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا، نسألك أن تجعل خير أعمالنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم وبارك على البشير النذير.

باب الوصية بالأنصباء والأجزاء

شرح زاد المستقنع - باب الوصية بالأنصباء والأجزاء إذا أوصى المورث لشخص بمثل نصيب أحد الورثة وعينه فعند ذلك يعطى الموصى له مثل نصيب ذلك الوارث المعين، وإن لم يعينه أعطي الموصى له مثل أقل الورثة نصيباً، وإن وصى بسهم من المال للموصى له؛ أعطي الموصى له السدس، وإن وصى بجزء من المال أو شيء أو حظ؛ أعطي الموصى له ما يصدق عليه أنه مال.

معنى الأنصباء والأجزاء

معنى الأنصباء والأجزاء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الوصية بالأنصباء والأجزاء]. الأنصباء: جمع نصيب، ونصيب الإنسان حظه المقدّر، والمراد هنا: ما قدره الله تبارك وتعالى للوارثين، فقد جاءت نصوص الكتاب والسنة بإعطاء الوارثين حقوقهم، فأعطى الله جل جلاله كل ذي حق حقه من التركة، وجعل هذا الإعطاء مقدراً بمقادير معيّنة، أو يكون تعصيباً ينال الإنسان به ما فضل عن أصحاب المواريث، كما سيأتي -إن شاء الله- في كتاب الفرائض. فالمراد هنا بقوله: (بالأنصباء): نصيب الوارث، وقوله: (الأجزاء): جمع جزء، وجزء الشيء بعضه، سواء كان أكثر البعض، أو نصفه، أو أقل من ذلك. وقوله رحمه الله: (باب الوصية بالأنصباء والأجزاء)، هذا الباب يذكر فيه الموصِي أنه قد أعطى من أُوصِي له قدراً معيناً أو مبهماً يمثِّله بنصيبٍ لوارث؛ كأن يقول: أعطوا خال أولادي مثل أُخته، فأخته زوجة، ولها نصيب في كتاب الله عز وجل حيث ترث الثمن إذا كان هناك أولاد، فلما قال: أعطوه مثل نصيبها، فمعناه أنه يريد أن يعطيه الثمن. وفي بعض الأحيان يقول: أعطوا فلاناً أقل نصيبٍ لوارث، فحينئذٍ لا يُحدِّد، وإنما يبيّن أن له الأقل، فننظر فربما كان الأقل أثناء كتابته للوصية شيئاً، ثم يختلف بعد موته فيكون شيئاً آخر. وفي بعض الأحيان يقول: أعطوا فلاناً من تركتي جزءاً أو سهماً أو حظاً أو شيئاً، فيبهم، ففي هذه الأحوال -أي: كلها- درس العلماء رحمهم الله هذا النوع من الوصايا، وعند التأمل والنظر نجد أن هذا النوع من الوصايا يرجع إلى كتاب الفرائض. والمسائل فيه مسائل حِسابية، ولكن المصنف رحمه الله والعلماء يفردونه بباب مستقل عناية به، وقد تقدم بيان السبب في هذا، وهو أن أهل العلم رحمهم الله ربما يقتطعون من الباب العام أو الكتاب العام مسائل تُذكَر في مواضع خاصة مفرقة على حسب مناسبات كتبها وأبوابها. فقد تقدم معنا أن كتاب القضاء ينتضمن أحكام الشهادات والبيِّنات، فربما ذكر العلماء رحمهم الله مسائل من القضاء في كتاب البيوع، ويذكرون مسائل البيوع المتصلة بالقضاء؛ لأنهم يرونها في هذا الباب ألطف. وعلى كل حال: هذا بابٌ مهم، ولذلك يقول عنه الإمام النووي رحمه الله في الروضة: (هذا فن طويل، ولذلك جعله العلماء علماً برأسه، وأفردوه بالتدريس والتصنيف). قوله: (هذا فن طويل جعله العلماء علماً برأسه) يعني: من عناية أهل العلم به أنهم جعلوه رأساً، وإلا فالمفروض أن يكون مندرجاً تحت الفرائض؛ لكنهم جعلوه رأساً مستقلاً، وأفردوه بالتصنيف والتدريس، فصنفوا فيه، ولذلك قال المصنف رحمه الله: (باب الوصية بالأنصباء والأجزاء)، فأفرده ببيانه وتدريسه. وهذا الباب مسائله كثيرة جداً، وهو من أمتع الأبواب في دراسة مسائله الحسابية، لكن بعد إتقان الفرائض، ولا يستطيع الإنسان أن يضبطه ضبطاً تاماً إلا بعد إتقانه للفرائض، مع الإلمام بأصول الأحكام المتعلقة به.

أحكام ومسائل الوصية بالأنصباء والأجزاء

أحكام ومسائل الوصية بالأنصباء والأجزاء يقول رحمه الله: (باب الوصية بالأنصباء والأجزاء) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالوصايا التي يُذكر فيها النصيب، أو يذكر فيها الجزء، ويتبع هذا ذكر الوصايا بالسهم وبالشيء المجهول. وإذا وَصَّى الإنسان فإما أن يذكر قدراً معيناً من التركة بالنسبة، كقوله: أعطوا فلاناً نصف مالي، أو أعطوا فلاناً بعد موتي ثلث مالي، فإذا حدد بالنسبة ففي هذه الحالة تنقسم المسألة إلى ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يعطيه الثلث. الصورة الثانية: أن يعطيه أكثر من الثلث. الصورة الثالثة: أن يعطيه أقل من الثلث. فإذا أعطاه الثلث فأقل فبالإجماع أنه تنفذ وصيته على التفصيل الذي قدمناه، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير)، فأعطى المريض مرض الموت أن يتصرف في ثلث ماله فيعطيه من شاء. إذاً: النص يدل على أن من حقك أن توصي بثلث مالك وصية شرعية معتبرة، وكذلك دل النص على أن ما دون الثلث يجوز للإنسان أن يوصي به. الصورة الثالثة: أن تكون وصيته أكثر من الثلث، فقد ذكرنا أنها لا تجوز، وأنه ليس من حق الميت أن يُوصِي بأكثر من الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم منع سعداً من ذلك. وبيّنا إجماع العلماء رحمهم الله على هذا، وقد اختلف العلماء إذا أوصى بأكثر من الثلث فأجاز الورثة ورضوا: هل هي عطية مبتدئة أو عطية تنفيذية؟ ثم ذكرنا خلاف العلماء والثمرة المتعلقة بهذا الخلاف. إذاً: مسألة أن يُحدد نسبة معينة من المال كله لا إشكال فيها. الحالة الثانية: أن يذكر نصيباً أو جزءاً أو حظاً، فإذا أعطى مثل نصيب الوارث فقال: أَعطوا خال أولادي مثل محمد، أو أعطوا خال أولادي مثل أخته، فإذا حدَّد نصيب الموصَى إليه بنصيب وارث لم يخل الورثة من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون نصيب الورثة مستوياً، فيأخذ كلٌ منهم مثلما يأخذ الآخر، مثاله: لو تُوفي رجل عن ابنين ليس له غيرهما، فحينئذٍ المال يُقسم بينهما بالسوية، فإذا قال: أعطوا فلاناً -عم أولادي، أو خال أولادي- مثل نصيب أحدهم؛ فحينئذٍ لا إشكال أن المال يُقسَم بين الجميع على حد سواء، وكأنه ابن ذكر دخل بينهم. الحالة الثانية: أن يكون النصيب مختلفاً، فيقول: أعطوا خال أبنائي مثلما تأخذه أخته، فحينئذٍ الذي تأخذه الزوجة هو الثمن، ولو توفي وترك زوجة وثلاثة أولاد أبناء ذكور، ففي هذه الحالة تجعل المسألة من ثمانية، فتعطى الزوجة الثمن، ويعطى كل واحد من الأبناء ثمنين، فتصبح المسألة من سبعة، ثم يدخل هذا الخال معهم فتصبح المسألة من ثمانية. فإذا اختلفت الأنصبة بين الورثة فإننا في هذه الحالة ننظر إلى الشخص الذي عيّنه، ونضيف سهم الشخص الذي أدخله من غير الوارثين في الوارثين بذلك السهم، مضافاً إلى أصل المسألة، كما سيأتي -إن شاء الله- بيانه وشرحه. إذاً: اتفقت أنصبة الورثة، فيكون كواحدٍ منهم، وإذا اختلفت فتعطيه سهم من سَمّى من الورثة -كالزوجة ونحوها- وتدخله في المسألة حتى ولو عالت المسألة، وسيأتي -إن شاء الله- توضيح هذه الأمثلة. وإذا أبهم وقال: أعطوا خال أولادي أو عمهم مثل نصيب وارث، ولم يحدد الأقل ولا الأكثر، والورثة مختلفون، فهل نعطيه نصيب الأكثر أو نعطيه نصيب الأقل؟ جمهرة أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة على أنه يُعطى مثل نصيب أقلِّهم؛ لأنه هو اليقين الذي يجب صرفه إليه، ولا يُعطى مثل نصيب الأكثر. أما لو قال: أعطوه جزءاً من مالي، أو شيئاً من مالي، فحينئذٍ نقول للورثة: أعطوه أي شيء ترضاه أنفسكم، فأقل ما يصدُق عليه أنه مال إذا أعطوه إياه فقد نفذَت الوصية وتمت؛ لأنه قال: أعطوه شيئاً، والشيء يصدق على القليل والكثير، فكل ما طابت به أنفس الورثة فإنه هو المجزئ تنفيذاً لهذه الوصية. وبقيت مسألة أخيرة وهي: إذا قال: أعطوا فلاناً سهماً من مالي، فبعض العلماء يقول: نعطيه أقل نصيب من الورثة، وهذا قول اختاره الإمام الشافعي رحمه الله وطائفة من أهل العلم. وبعض العلماء يقول: نعطيه سدس المال؛ لأن السهم في كتاب الله عز وجل -كما هو معلوم، وكما تقدم معنا في كتاب الجهاد وغيره- هو السدس، وهذا هو الذي يكون نصيباً له إذا عبّر الميت بالسهم. وهذا القول أفتى به علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود، وقضى به إياس بن معاوية القاضي المشهور، واختاره جمع من الأئمة رحمهم الله. هذا حاصل ما يذكر في الأنصبة والأجزاء، وسيفصل المؤلف رحمه الله في هذه المسائل في هذا الباب.

الوصية بمثل نصيب وارث معين

الوصية بمثل نصيب وارث معين قال رحمه الله: [إذا أوصَى بمثل نصيب وارث معين فله مثل نصيبه مضموماً إلى المسألة] لو أوصى أن يُعطى مثل ابنه محمد، وله ثلاثة أبناء، فحينئذٍ في الأصل -قبل أن يدخل هذا الشخص- أن يُقسم المال على ثلاثة، فكل واحد من أبناء الذكور يأخذ ثلث المال، فإذا أدخل هذا الأجنبي ووصى له فإنه في هذه الحالة يقسم المال على أربعة، فيكون لكل واحد من هؤلاء الأبناء الربع، وله هو أيضاً الربع، فنصيبه مثل نصيب الوارث. هذا هو معنى قوله: (فله مثل نصيب الوارث مضافاً إلى أصل المسألة). ونبدأ المسألة بالتدريج، فإذا وصَّى لشخص بمثل نصيب وارثه، وليس له وارث إلا ابن ذكر واحد، ففي هذه الحالة يكون لهذا الوارث مثل نصيب الابن الذكر؛ فيُقسم المال بينهما مناصفة، فإذا قسمناه بينهما مناصفة فحينئذٍ سيكون حظه فوق الثلث، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصية فيما زاد عن الثلث، فتصح في الثلث، ونقول لهذا الوارث: هل تأذن له بما زاد أو لا تأذن؟ فإن أذن مضت الوصية، وكان له نصف المال، وإن لم يأذن لم يكن له إلا الثلث. وأما إذا كان له ابنان، ففي هذه الحالة يكون المال مقسوماً بين الابنين، وكل منهما يأخذ النصف، فإذا دخل هذا الأجنبي الذي وصَّى له فسيكون المال منقسماً على ثلاثة، ولكل واحد منهم الثلث؛ لأن الابنين شرَّكا هذا الأجنبي بقوله: (مثل نصيب الوارث)، ففي هذه الحالة يكون له الثلث، وإذا كان له ثلث المال فهذا حظُّه ونصيبه الذي تجوز الوصية به. وإذا كان له ثلاثة أبناء ذكور، ففي هذه الحالة يكون لكل ابن ثلث المال قبل دخول الأجنبي، فلما دخل هذا الأجنبي أصبح المال منقسماً على أربعة، فيكون للأجنبي ربع المال، وكل واحد من الأبناء يأخذ ربعاً، فتتم القسمة على أربعة، وعلى هذا تسير المسألة. قال المصنف رحمه الله: [فإذا أوصى بمثل نصيب ابنه وله ابنان فله الثلث]. قوله: (فله الثلث) بدأ بهذا، ولم يذكر إذا كان له ابن واحد؛ لأن المسألة فيها زيادة على الثلث؛ لأنه سيكون له النصف، فابتدأ رحمه الله بالثلث الذي هو أصل الاستحقاق، فإذا كان له ابنان ووصى له بمثل نصيب أحدهم، فإنه في هذه الحالة يكون له ثلث المال وللابنين الثلثان. قال رحمه الله: [وإن كانوا ثلاثة فله الربع]. لأن المال منقسم على ثلاثة، وكل واحد سيأخذ الثلث، ثم لما دخل الأجنبي انقسم على أربعة؛ لأنه جعله كواحد منهم، فينقسم على أربعة، فيكون له ربع التركة. قال رحمه الله: [وإن كان معهم بنت فله التسعان] أي: إن كان الثلاثة الأبناء الذكور معهم بنت وأجنبي، فالثلاثة الأبناء الذكور لما دخلت معهم البنت سيكون لكل واحد منهم اثنان وللبنت واحد، فتكون المسألة من سبعة، وفي هذه الحالة سيدخل هذا الأجنبي معهم كواحد من الذكور، فتصبح المسألة من تسعة، فيكون له تُسعان، ولكل واحد من الذكور تسعان. ففي هذه الحالة تجعل الأجنبي داخلاً بمثل نصيب الوارث مضافاً إلى أصل المسألة، فهم ثلاثة ذكور مع أختهم، والثلاثة: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فتضربهم في اثنين فتصبح من ستة، والأنثى لها واحد، فتصبح المسألة من سبعة، فأصل المسألة من سبعة، فلكل ذكر سبعان، والأنثى لها سُبع واحد، فلما دخل الأجنبي أصبحت المسألة من تسعة، فبدلاً من أن يكون للذكر سُبعان سيكون له تسعان، ويكون للأجنبي التُسعان، هذا إذا قال: له مثل الذكر، أما لو قال: مثل بنتي؛ فيكون له ثمن المال.

الوصية بمثل نصيب أحد الورثة دون تحديد الوارث

الوصية بمثل نصيب أحد الورثة دون تحديد الوارث قال المصنف رحمه الله: [وإن وصى له بمثل نصيب أحد ورثته ولم يبين، كان له مثل ما لأقلهم نصيباً]. إذا وصى له بمثل ما لوارثه ولم يبين، فلم يقل: أعطوه مثل ابني أو ابنتي، أو مثل فلان؛ فمن العلماء رحمهم الله من قال: يُعطى مثل أقلهم؛ لأن هذا هو اليقين، وهذا هو الذي عليه كثير من العلماء رحمهم الله، وعليه الفتوى والعمل. فإذا قال: أعطوه مثل ما للأنثى، وعنده وارث من الذكور يرث سهمين، ووارث من الإناث يرث سهماً واحداً، ففي هذه الحالة نُعطيه مثل ما للأنثى، وتكون المسألة التي قدمناها -في الثلاثة الذكور والأنثى- من ثمانية؛ فيكون للأنثى الثمن، وللثلاثة الذكور لكل واحد منهم ثمنان. فإذا كانوا ثلاثة فلهم ستة والأنثى معهم السابعة، فتكون المسألة من سبعة، من حيث الأصل، فعندما قال: أعطوا فلاناً مثل ما لوارثي، ولم يبيِّن، فحينئذٍ نعدل به إلى الأنثى، وإذا عدلنا به إلى الأنثى فمعناه: أنه سيأخذ مثل الأنثى، وإذا أخذ مثل الأنثى فمعناه: أن له سهماً واحداً، فبدلاً من أن تكون المسألة من سبعة ستكون من ثمانية، فيكون لكل ذكر سهمان من ثمانية، وهما الثمنان، فتكون ستة أثمان للذكور، ويبقى الباقي -وهو الثمنان- منقسماً بين البنت وبين هذا الأجنبي، هذا إذا لم يُسَمِّ. ولماذا قال العلماء بالأقل؟ هناك عند العلماء قاعدة تقول: (اليقين لا يُزال بالشك)، وهذه القاعدة تفرّعت عليها من المسائل ما لا يحصى كثرة، ولذلك اعتبرها الأئمة رحمهم الله من أمهات القواعد الفقهية الخمس المشهورة، فيقولون: إذا قال: أعطوه مثل ما لوارثي، فعندنا وارث ينال الأقل، ووارث ينال الأكثر، فإذا أعطيناه الأقل فلا نشك أنه ينال هذا الحظ الذي هو السهم، ولكن نشك في السهم الزائد، والأصل أنه ليس له حق في التركة؛ لأنه أجنبي، فنبقى على اليقين، ولا نعطيه ما زاد عن هذا النصيب الأقل حتى يَنُص صاحب المال على أنه يزاد له في حظه. هذا هو السبب في أننا نعطيه الأقل؛ لأنه اليقين، وقد ثبت بيقين أنه يأخذ هذا السهم، وما زاد عنه باقٍ على الأصل، وهو أنه لا حظ له حتى يدل الدليل؛ لأنه لو أراد أن يعطيه أكثر لقال: أعطوه مثل فلان، فلما قال: أعطوه مثل ما لوارثي؛ أَلست إذا أعطيته مثل نصيب البنت تكون قد أعطيته نصيب وارث؟ بلى، فالبنت وارثة، فإذا كانت البنت ترث، ووصف الإرث متعلق بها؛ فإنك إذا أعطيته مثل نصيب الأقل فقد أعطيته نصيب الوارث، وهذا مذهب طائفة من العلماء كما ذكرنا، وهو الذي عليه العمل والفتوى؛ لصحة دلالة قواعد الشريعة عليه. لكن في الحقيقة يبقى الإشكال: وهو أن أحد مشايخنا رحمة الله عليه أورد مسألة لطيفة وهي: إذا قال: أعطوه مثل نصيب وارثي، وكان أبناؤه كلهم ذكوراً، وزوجته حامل، فلما توفي وضعت أنثى، فالوارث في الأصل هم الذكور، فكان المفروض أنه يدخل معهم بنصيب أفضل، لكن وضعت الأم بنتاً وماتت الأم، فإن نصيب البنت سيكون الأقل، والواقع أننا نعطيه مثلما نعطي الإناث؛ لأنه بعد الموت -والوصية مضافة لما بعد الموت- يصدُق وصف الإرث على الأنثى كما يصدق على الذكر، ولذلك تسري نفس القاعدة الأولى، وهذه من بعض الإشكالات التي يورِدها بعض العلماء. وهناك من يقول: يُعطى مثل الذكر؛ لأنه وإن لم يُسم الذكر فقد عُلِم من دلالة الحال أنه يريد الوارث الذكر، ولكن هذا لا يخلو من نظر؛ لمسائل نظيرة لهذه المسائل يفتي فيها حتى العلماء الذين يقولون بأنه يكون له مثل نصيب الوارث مع كونه أقل، وعلى هذا فإنه يأخذ نصيب الأقل بكل حال. وقوله: [وإن وصَّى له بمثل نصيب أحد ورثته ولم يبين؛ كان له مثل ما لأقلهم نصيباً، فمع ابن وبنت ربع]. فالابن له سهمان، والبنت لها سهم واحد، ففي هذه الحالة تصبح المسألة من ثلاثة، فإذا أَعطيت الابن السهمين وأعطيت البنت سهماً، فقد أعطيت الذكر مثل حظ الأنثيين، فتصبح المسألة من ثلاثة. وفي هذه الحالة إذا قال صاحب الورث: أعطوا محمداً مثل ما لوارثي، فإذا كان عنده ابن وبنت، فالابن له اثنان، والبنت لها واحد، فتصبح المسألة من أربعة، فالبنت لها سهم واحد، والأجنبي له سهم واحد؛ لأنه هو السهم الأقل، والابن الذكر له سهمان، فتصبح المسألة من أربعة، ويُقسم المال بينهما، لكلٍ من الأجنبي والبنت الربع، وللابن الذكر نصف المال الذي هو الربعان. وقوله: [ومع زوجة وابن تسع]. لأن المسألة في الأصل من ثمانية، فالزوجة لها الثمن واحد، والابن له سبعة أثمان؛ لأن الابن عصبة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر)، فالابن عصبة، ودائماً إذا اجتمع صاحب فرضٍ وصاحب تعصيب وليس هناك غيرهما، فصاحب الفرض يأخذ فرضه، وتصح المسألة من نفس المقام الذي للفرض، ثم تُعطِي الباقي للعصبة، فالزوجة تأخذ الثمن لوجود الابن، فيبقى سبعة أثمان تَصرِفها إلى الابن الذكر. فلما قال: أعطوا مثلما لوارثي، فالزوجة وارثة، فنعطيه مثل الحظ الأقل وهو الثمن، فيكون له سهم واحد، فتعول المسألة، فبدلاً من أن كانت من ثمانية فتصبح المسألة من تسعة، فيكون له التُّسع وللزوجة التُّسع، وسبعة أتساع للابن الذكر.

الوصية بسهم من المال

الوصية بسهم من المال قال رحمه الله: [وبسهم من ماله فله سدس]. قوله: (وبسهم من ماله) كما لو قال: أعطوا فلاناً سهماً من مالي، فمن أهل العلم من قال: يُعطى أقل ما يصدُق عليه أنه مال؛ لأنه سهم، ومنهم من قال: يُعطى السدس، كما ذكرنا، وهو الذي أفتى به بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ علي وابن مسعود رضي الله عنهما، وفيه حديث مرفوع -لكنه حديث ضعيف- (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيمن وصى بالسهم بالسدس)، ولكن هذا الحديث ضعيف السند، والعمل على أنه يأخذ السدس؛ لأنه هو السهم في كتاب الله عز وجل، فيُعْطَى سدس المال.

الوصية بشيء أو جزء أو حظ من المال

الوصية بشيء أو جزء أو حظ من المال قال رحمه الله: [وبشيء أو جزء أو حظ أعطاه الوارث ما شاء]. إذا قال: وصيت لفلان بجزءٍ أو بشيءٍ من مالي، فننظر إلى أقل ما يصدُق عليه أنه مال -وهو الواجب- فيجب على الوارث أن يعطيه أقل ما يصدُق عليه أنه مال، فإذا أحب الورثة أن يزيدوا فهذا أمر يعود إليهم. أما الذي يستحقه فهو أقل ما يصدُق عليه أنه مال؛ لأنك إذا أعطيته ولو ريالاً واحداً؛ فإنه شيء من المال، وإذا أعطيته ريالاً من التركة فإنه جزء من المال، وإذا أعطيته ريالاً من التركة فهو بعض من المال، ويصدُق عليه أنه بعض وأنه جزء، وعلى هذا فيعطيه الوارث ما شاء.

الأسئلة

الأسئلة

بيان معنى تأدية الله للدين عن بعض عباده

بيان معنى تأدية الله للدين عن بعض عباده Q كيف يجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن مرهونة بدينه)، وبين قوله عليه الصلاة والسلام: (من أخذ حقوق الناس يريد أداءها أدى الله عنه)؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فقوله عليه الصلاة والسلام: (نفس المؤمن مرهونة بدينه) المراد به: أن الميت إذا مات وعليه دين فإن نفسه تُرهن، والعرب تقول: الشيء مرهون إذا كان محبوساً، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]. أي: محبوسة، فعِيلة بمعنى: مفعولة. فالمراد: أن النفس تُحبس، وقد اختلف العلماء في هذا الأمر، والحقيقة: أن الأمر فيه شيء من الغيب، فإنه لم يرِد تفصيل عن كيفية حبس نفس الإنسان إذا مات وهو مديون، لكن ورد حديث صحيح، وهو حديث أبي قتادة رضي الله عنه، وهو يدل على أمر عظيم، حاصله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بميت فقال: (هل عليه من دين؟ قالوا: نعم ديناران، فقال صلى الله عليه وسلم: هل ترك وفاءً؟ قالوا: لا. قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة رضي الله عنه: هما عليّ يا رسول الله! فصلَّى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو قتادة: فلم يزل يلقاني ويقول: هل أديت عنه؟ فأقول: لا بعد، حتى لقيني ذات يوم فقال: هل أدّيت عنه؟ قلت: نعم، قال: الآن بردت جلدته)، فحتى ولو تحمل عن الميت بعض الورثة فيقول: أنا أتحمل عن أبي، فلا يكفي ذلك حتى تُسدِّد بالفعل، فهناك تبرأ الذمة بالفعل. وقوله صلى الله عليه وسلم: (الآن بردت جلدته)، هذا شيء لا يستطيع الإنسان أن يدركه؛ لأنه علم غيب، فأمور القبر والبرزخ أمور غيبية متعلقة بالسمعيات والنصوص التوقيفية، ولا يستطيع أحد أن يجتهد فيها، ولا يستطيع الإنسان أن يكشف غيبها؛ لأن علم الغيب استأثر الله به، حتى الأنبياء والرسل لا يعلمون الغيب إلا إذا أطلعهم الله عز وجل على شيء من ذلك. وبناءً على هذا: فلا يُخاض في حقيقة الرهن والحبس، لكن الإشكال كيف نقول هذا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه)؟ اختلف العلماء في قوله: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها)، وقد كانت أم المؤمنين رضي الله عنها حفصة كثيرة الدين، وكانوا يلومونها كثرة الدين، فقالت: (لا أترك الدين)، لكنها ما كانت تستدين من أجل أن تبني لنفسها أو تمتع نفسها، فقد كانت من أكرم الناس كأبيها رضي الله عنها وأرضاها، فكانت كريمة سخية لا تُمسك شيئاً في يدها، وهكذا كن أمهات المؤمنين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهن تربين على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفن حقيقة هذه الدنيا وهوانها، فكانت لا تُمسك شيئاً فكثُر عليها الدين، فأصبحوا يلومونها، فقالت رضي الله عنها: لا أترك الدين منذ أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه)، فقال بعض العلماء: معنى قوله: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها) أي: أنه عندما يأتي ليستدين اطلع الله على قلبه ونيته أنه يريد أن يُسدد، فصيها ويُيَسِّر الله له السداد ولو بعد حين، حتى ولو توفي فإن الله يعين ورثته حتى يسددوا. وهذا في الذي يأخذ أموال الناس يريد أداءها، أما الذي يأخذها -والعياذ بالله- لا يريد أداءها؛ فإن الله يحول بينه وبين ذلك ولو تمنى، فكلما جاء يُسدد يُحدث الله له مشكلة، ويفتح الله عليه باب فقر، حتى لربما تُوفِّي وهو لم يسدد الناس، ثم عجز ورثته من بعده، ولربما نُسي، فعذِّب بذلك الدين، نسأل الله السلامة والعافية. إذاً: هذا الأداء المراد به المعونة. وقال بعض العلماء -وهو القول الثاني-: المراد أدى الله عنه يوم القيامة؛ لأن الله يقول: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119]، فكل من صدق في نيته وكانت نيته صالحة، فإن الله يتولى أمره بحسن نيته، حتى ولو كان فيما بينه وبين الله، وقد ورد في الخبر أن العبد يُوقف بين يدي الله فتُكشَف له ذنوبه ويشفق على نفسه، فيقول الله: (عبدي! أما وإنك قد فعلت ذلك فقد كنت تخافني وترجوني)؛ وذلك لما كان في ضميره وقلبه، فالشخص إذا كان في ضميره وقلبه أن يُسدد الناس وعجز عن السداد في حياته، ولقي الله يوم القيامة وقد جاء خصومه يطالبونه بالديون، أدى الله عنه؛ لأنه علم منه حسن النية وصِدق القصد في أن يؤدي؛ فكانت هذه رحمة من الله عز وجل. وفي الحقيقة: أمر الدّين عظيم، وعلى الإنسان -من حيث الأصل- أن يتقيه ما أمكنه، وبعض العلماء يُخفف في هذا إذا كانت نية الإنسان صادقة في السداد، ويعلم الله أنه ما استدان إلا لظروف وضرورة، فيرى أولاده وزوجته، ويرى من يعول محتاجاً، فيذهب يستدين من أجلهم، ويتحمل من أجلهم، كما استدان عليه الصلاة والسلام من أجل عورات المسلمين، وسد حاجاتهم، والقيام عليهم، فأدى الله سبحانه وتعالى عنه دينه، وقد تُوفِّي عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة في صاعين من شعير ليهودي. فالمقصود: أن الدين يخفِّف فيه بعض العلماء، وخاصةً إذا جاءت ظروف تضطر الإنسان إلى أن يستدين. وعلى كل حال: فالإنسان عليه أن يتقي الدين ما أمكن، فهو ذل النهار وهم الليل، نسأل الله بعزته وجلاله وقدرته على كل شيء أن يؤدي عنا حقوق عباده، وأن يخرجنا من هذه الدنيا وقد سلمنا وسُلِّم منا وهو على كل شيء قدير، وعلى هذا: فليس هناك تعارض ولا إشكال، فمن أخذ أموال الناس وهو يريد أداءها أدى الله عنه، ويُصبح مستثنىً من الأصل، فإذا أردت أن تجمع بينهما بالعموم والخصوص، أو تقول: أدى الله عنه، لكن لا يمنع أنه مرهون ومحبوس حتى يؤدي الله عنه، بخلاف الذي كانت نيته غير صالحة فيجمع الله له بين العذابين: بين حبس نفسه، ثم لا يؤدي الله عنه، فيؤخذ من حسناته على قدر مظالم الناس، فيُصبح قوله: (أدى الله عنه) إذا حُمل على أداء الآخرة، فتكون نفس المؤمن مرهونة أو محبوسة بدينه من البرزخ إلى لقاء الله عز وجل، ثم يؤدي الله عنه بحسن نيته، هذا إذا قلنا: إن الأداء هو في الآخرة، وأما إذا كان الأداء في الدنيا، فلا إشكال فيه على التفصيل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.

من أوصى لغير وارث بمثل نصيب وارث

من أوصى لغير وارث بمثل نصيب وارث Q أشكلت عليّ مسألة وهي قوله: (وقع زوجة وابن تسع) كيف يكون الموصَى له التسع، أليس له الثمن كحق الزوجة لأنه أقل إرثاً؟ A في هذه الحالة ستعطيه ثمناً مثل الزوجة، وأصل المسألة من ثمانية، فمعنى ذلك: أنك ستقسم ويكون للزوجة الثمن؛ لأنه أعطاه مثل نصيبها، فلا تستطيع أن تعطيه ثمناً آخر، لأن المسألة أصلاً لا تصح على هذا الوجه، وفي هذه الحالة يكون له النصيب مثل نصيب الوارث. وبعض العلماء -وهو مذهب آخر- يرى التشريك حتى في الزوجات، فلو قال: له مثل الزوجة، وكانت له زوجتان؛ فتصح تصح المسألة من ثمانية، ويُقسم الثمن بينهما، ثم تعول لكل واحدة منهما واحد على ستة عشر، ويكون له واحد على ستة عشر، أي: جزء النصيب في الميراث، وفرق بين جزء النصيب في الميراث وبين النصيب في الإرث الذي هو الثمن، والذي يظهر هو ما اختاره المصنف أنه يكون له مثل الثمن؛ لأن الذي ذكرته أنت يكون له فيها جزء الميراث، وهذا يرده غير واحد من أهل العلم رحمهم الله، والصحيح: أنه يكون له الثمن رأساً، وتكون المسألة من تسعة؛ للزوجة تسع وله تسع، والباقي للرجل الذكر على التفصيل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.

معنى قول العلماء: (لا مشاحة في الاصطلاح)

معنى قول العلماء: (لا مشاحة في الاصطلاح) Q ما معنى قول العلماء رحمهم الله: لا مشاحة في الاصطلاح؟ A الاصطلاح لا مشاحة فيه، بمعنى: أن لكل قوم أن يَصطلحوا على تسمية الشيء باسمه كاصطلاح بينهم، فلا يأتي واحد ويخطئهم، أو يبين عوارهم في اختيار هذا، فهذا مصطلح لهم، ولا مشاحة في الاصطلاح. وإذا اختلف اثنان، فإما أن يختلفا حقيقة أو صورة، فالخلاف ينقسم إلى: خلاف حقيقي وخلاف لفظي، فالخلاف اللفظي هو خلاف المصطلحات. فمثلاً: لو جاء شخص وسَمّى شيئاً معيناً باسم معين لا يُعطيه حكم ذلك الاسم الشرعي، واصطلح مع غيره على هذه التسمية، فمثلاً: لو جاء بعض العلماء وأخرجوا بيع الصرف من البيع -فإن: بعضهم يراه بيعاً، والإجماع منعقد على أن الصرف يسمى بيعاً- ووضع تعريفاً، ورأى أن باب الصرف باب يستحق أن يُفرد بكتاب، وأن يفرد بمسائل حتى يُضبط أكثر ويُتقن أكثر. وذلك مثل المالكية رحمهم الله في مذهبهم حيث أفردوا الصرف بباب مستقل، وبتعريف مستقل، وميزوه عن تعريف البيع العام، وأفردوا السلم عن باب البيع، مع أنه نوع من أنواع البيع؛ لأنه رخصة وبيع للمعدوم، فأفردوا السلم والصرف باسمهما وبباب مستقل، ووضعوا لكل منهما تعريفاً مستقلاً. فلما جاءوا في كتاب البيع يعرِّفون البيع أخرجوا هذين النوعين من البيع؛ لكنهم أخرجوهما اصطلاحاً لا حقيقة؛ لأنهم في الحقيقة يسلِّمون أنهما نوعان من أنواع البيع؛ لكن في الظاهر جاءوا في التعريف فقالوا في البيع: عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة لذة ذو مكايسة. وهنا ينتهي تعريف البيع العام، ثم قالوا: أحد عِوضيه غير ذهب ولا فضة، معيّن غير العين فيه. فلما قالوا: أحد عِوضيه غير ذهب ولا فضة؛ أخرجوا بيع الصرف، ولما قالوا: معين غير العين فيه، أخرجوا بيع السلَم، ولكن لم يخرجوهما من البيع حقيقة؛ لأنهم يرون أن كلاً منهما بيع، لكنهم اصطلحوا في مذهبهم على إفراد هذين النوعين من البيع، وهذا مصطلح خاص بالمذهب، لكنهم في الحقيقة يرون الصرف بيعاً والسلَم كذلك بيعاً، فهم في الحكم متفقون، وفي الاصطلاح مختلفون؛ فنقول: لا مشاحة في الاصطلاح. فلا يأتي شخص ويقول: هذا التعريف خطأ؛ لأنه أخرج الصرف والسلَم وهما من البيع، بل نقول: هذا إخراج اصطلاحي لا حقيقي فلا يؤثِّر؛ لأنه لا مشاحة في الاصطلاح. مثال آخر: الواجب والفرض، فبعض العلماء يرى أن الخلاف بين الحنفية رحمهم الله وبين الجمهور في الواجب والفرض خلافٌ لفظي؛ لأن الحنفية يرون أن الفرض ما ثبت بدليل قطعي، وإذا كان ثابتاً بدلالته بدليلٍ قطعي، ودلالته قطعية وثبوته قطعي، فيكفَّر جاحده، ويعطونه أحكام الفرض من حيث أنه يثاب فاعله ويعاقب تاركه. والجمهور عندهم أن ما ثبت من الواجبات بدليل قطعي، وصار معلوماً عند الإنسان ثبوته ثبوتاً ودلالة أنه قطعي، وعلم وقامت عليه الحجة، بإجماع الجمهور أنه يكفر إذا جحده، فمثلاً: الصلاة عند الحنفية فرض، وعند الجمهور تسمى فرضاً وتسمى واجباً، والحنفية لا يطلقون الواجب إلا على الذي ثبت بدليل ظني، فإذا أنكر شخص الصلاة، وقال: الصلاة ليست واجبة، فعند الجمهور وعند الحنفية أنه يُكفَّر، فالنتيجة واحدة، فالخلاف اللفظي والاصطلاحي نتيجته واحدة، ولكن من حيث الاصطلاح يختلف، فلكل مذهب اصطلاحه. ولو أن أناساً داخل البيت اصطلحوا على تسمية شيء باسم، مثل البئر، فالبئر معروف، ومصطلح الناس العام في البئر معروف، ولكن لو كان عندك داخل البيت حوض صغير، وتقول دائماً لأولادك: ضعوها في البئر، اطرحوها في البئر، فيأتي شخص ويقول لك: لماذا سَمّيت هذا الحوض بئراً؟ فتقول له: هذا مصطلح بيني وبين أولادي، ولكن لو جاء شخص من الخارج وقال: ارمِ هذا في البئر، فذهب ووضعه في حوض؛ فنقول: هذا خالف الاصطلاح العام، فلا يمكن أن يُحمل لفظه على مصطلح خاص، لكن أنت فيما بينك وبين أولادك لكم مصطلح خاص، ولا مشاحة في الاصطلاح. ولو وصَّى شخص بحفر بئر فلا نحفر حوضاً؛ لأن هذا خارج عن الاصطلاح العام، ففي الأحكام هذا شيء آخر، ولكن من ناحية التعارف اللفظي واتفاق الناس لكل قوم ما اصطلحوا عليه، فهم يصطلحون على ما شاءوا عليه، ولكن في الحقائق والأحكام لا يُعرف إلا ما ثَبت؛ إما بدليل الشرع، أو الطبع الذي هو الحقيقة الوضعية أو اللغة، والله تعالى أعلم.

حكم ترك الصلاة أو بعضها لمن كبر سنه

حكم ترك الصلاة أو بعضها لمن كبر سنه Q والدي كبير في السن، ومريض، ويترك بعض الصلوات، فهل يقضيها؟ ومتى تسقط عنه الصلاة؟ A هذا السؤال فيه تفصيل، فإذا كان الوالد حين تركه للصلاة مدركاً عاقلاً؛ فحرام عليه أن يترك فريضة الله التي فرض عليه، ولا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها إلا لمن رخص الله له بالتأخير. أما إن كان مريضاً فيصلي على حاله، ولا يجوز له أن يؤخِّر الصلاة عن وقتها حتى ولو كان مريضاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمران بن الحصين رضي الله عنهما: (صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، والله تعالى يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]. فلا يجوز أن يترك الإنسان الصلاة، وأما إذا كان الوالد -لا قدّر الله- عنده خلل يُغَيِّب تارة ويرجع إليه عقله تارة، فإذا رجع إليه عقله خُوطِب بالصلاة، وإذا غَيَّب فإنه لا يخاطب بها، وليس بملزم بالصلاة؛ لأنه في حكم المجنون الذي رفع عنه القلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم-: المجنون حتى يفيق)، فدل هذا على أنه لا يخاطب إذا غَيَّب وذهب عنه عقله، والله تعالى أعلم.

الجد من جهة الأم محرم للزوجة

الجد من جهة الأم محرم للزوجة Q هل الجد من جهة الأم محرم للزوجة؟ A جد الزوج هم آباؤه من جهة أبيه، وآباؤه من جهة أمه، وهم محارم للزوجة؛ لأن الله تعالى قال: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23]، فذكر من المحرمات حليلة الابن، وحليلة الابن هي زوجة الابن، سواءً كان مباشراً أو كان بواسطة، ولا شك أن الجد من جهة الأم زوجة ابن بنته تعتبر حليلة ابنه؛ لأن البنت ابن، قال صلى الله عليه وسلم عن الحسن: (إن ابني هذا سيد)، وقد قال الله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء:23]، فدل دليل السنة على أن ابن البنت ابن للجد، وإذا كان ابناً للجد؛ فدليل القرآن يقول في المحرمات {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23]، فجد الزوج من أمه، وجده من أبيه، وجد جده وإن علا منهما، يُعتبر محرماً لزوجة ابن بنته وإن نزل، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله، بدليل ظاهر كتاب الله عز وجل، وظاهر السنة، والله تعالى أعلم.

من اعتمر في أشهر الحج ثم عاد إلى بلده وأحرم بالحج فليس متمتعا

من اعتمر في أشهر الحج ثم عاد إلى بلده وأحرم بالحج فليس متمتعاً Q من اعتمر في أشهر الحج ثم رجع إلى بلده وحج من عامه، فهل يُعتبر متمتعاً؟ A هذه المسألة بإجماع العلماء على أنه ليس يتمتع، فمن كان من أهل المدينة وجاء بعمرة في شوال أو في ذي القعدة أو في أول ذي الحجة، ثم رجع، ثم أحرم بالحج من ذي الحليفة، فالإجماع على أنه ليس بمتمتع؛ لأن الله يقول: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]. ولذلك قال الأئمة كما أشار الإمام ابن المنذر وغيره: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة:196] أي: لم يسافر بعد عمرته، بمعنى: لم يرجع إلى بلده، وهذا لم يتمتع بعمرته الأولى؛ لأنه لما أدى العمرة رجع إلى بلده، وإنما يكون متمتعاً لو أنه بقي بمكة وأنشأ الحج منها، فقد تمتع بسفر العمرة الأول فلزمه الدم، ولذلك لم يلزم أهل مكة؛ لأنهم أحرموا بالنسكين من موضع الإحرام وهو مكة. أما بالنسبة لمن قال: يعتبر متمتعاً، فهذا مذهب شاذ، وهو قول طاوس بن كيسان تلميذ ابن عباس، ولذلك قال الإمام ابن رشد في بداية المجتهد: وشذ طاوس فقال: هو متمتع وإن رجع إلى بلده! والقول الشاذ لا يفتى ولا يُعمل به، فهو قول مهجور عند الأئمة سلفاً وخلفاً، فمن أدى العمرة في أشهر الحج ثم رجع إلى بلده، ثم أحرم بالحج من بلده فليس بمتمتع بإجماع العلماء، ومن عدّه متمتعاً فقول شاذ يُحفظ ولا يُعوّل عليه، والله تعالى أعلم.

حكم الطواف من داخل الحجر

حكم الطواف من داخل الحجر Q رجل اعتمر، وفي الشوط السابع من الطواف أراد أن يختصره فدخل من الحِجر وأتم عمرته، فهل عليه شيء؟ A هذه عمرة مختصرة، والله يقول: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة:196]، فلا يصح هذا، والطواف لابد أن يُتِم بالبيت، ولذلك جمهور العلماء على أنه إذا دخل بين الحِجر وبين البيت لم يصح ذلك الشوط الذي دخل فيه، والدليل على هذا: قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، و (العتيق): القديم، والمراد به ما كان على قواعد إبراهيم، وقواعد إبراهيم فيها شيء من الحجر كما هو معلوم، فالخمسة الأذرع إلى الستة الأذرع -كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام- تابع للبيت؛ فإذا دخل بين الحجر وبين البيت، فقد اقتطع جزءاً من البيت ولم يستتم الطواف بالبيت. فالوصف بالتعتيق جاء لحكمة في كتاب الله عز وجل، ولذلك لم يقل: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ) فقط؛ لأنه لو قال: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ) فقط؛ لكان بالإمكان أن يحسب ذلك الشوط، والحنفية يتهربون من هذا الإشكال، ويقولون: العتيق؛ لأن الله عتقه من الجبابرة، وليس المراد بالعتيق القديم. والصحيح: أن البيت العتيق المراد به: ما كان على قواعد إبراهيم عليه السلام، فلا يصح الطواف بين الحجر وبين البيت على أصح قولي العلماء وهم الجمهور، وعلى هذا: فيلزمه أن يعيد طوافه، وإن قيل بعدم صحة السعي إلا بعد الطواف فيلزمه إعادة الطواف والسعي، ثم يتحلل بعد ذلك، والله تعالى أعلم.

حكم الخصم الجزائي على الموظف

حكم الخصم الجزائي على الموظف Q في بعض الأحيان يكون غياب العامل ساعة أو أقل أو أكثر يضر بمصلحة العمل، فنخصم عليه نصف يوم تأديباً وردعاً لغيره، فهل يجوز ذلك؟ A يقول صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر)، أي: يجيء شخص فيقول له: أمَّنِّي، فأعطاه الأمان بالله على أنه لا يفعل به شيئاً، فإذا مكنه من نفسه غدر به وأضر به، أو أعطى عهده على أنه على بيعته للإمام أو ولي أمره ثم غدر، فهذا خصمه الله عز وجل، ومن كان خصمه الله فقد خصمه. وأما الثاني: (ورجل باع حراً فأكل ثمنه). وأما الثالث: (ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره). وهذا رجل عمل عندك إحدى عشرة ساعة، فعليك أن تعطيه أُجرة إحدى عشرة ساعة كاملة غير ناقصة، وإن غاب ساعة فتخصم عليه ساعة، لا تزيد ولا تُنقص، وهذا هو القسط الذي أمرك الله به، والله تعالى يقول: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:85]، وهذا ظلم، فإذا كان قد عمل يوماً ثم اخترم من اليوم جزءاً فتأتي وتأكل من ماله، وهو من عرَقِه وتعبه ونصبه، بدون حق على سبيل التأديب، فهذا ليس بوارد وليس بصحيح. وبعض المتأخرين من العلماء اجتهد في هذه المسألة وقال: إنه يجوز من باب التعزير. ولكن هذا ليس بصحيح، فإن هذه نصوص واضحة، والنصوص الواضحة لا اجتهاد فيها، فالأجير له أجره كاملاً، فلا يجوز أن يُنقص من أجره شيئاً، وإذا أردت أن تؤدبه فقل له: ما دمت بهذه المثابة فلا تعمل عندي، والواجب علينا أن ننظر بالعدل والإنصاف، فالعامل إذا غاب ساعة فانظر إن كانت عنده ظروف، وأنت تعرفه بالجد والاجتهاد والمحافظة، فاعلم أنه إن غاب وقصّر فذلك بدون اختياره، وإذا قصّر مرة فليسعه حلمك، والوفي الكريم هو الذي لا ينسى الفضل، والشخص الذي يحاسب الناس بهذه الدقة سيشدد الله عليه كما شدد على الناس، فينبغي على الإنسان أن يكون بعيد النظر، وخاصة مع هؤلاء الضعفاء المستأجَرين المستخدمين، ولذلك فإن الله تولى أمرهم؛ لأن الغالب في الأجير أنه يكون ضعيفاً، ولذلك قال: (أنا خصمه)، فالله سبحانه هو خصيم هؤلاء، فعلى المسلم أن يتّقي الله عز وجل. فإذا استأجرت أجيراً أو عاملاً وقام لك بعمل ولم يتمه، فأعطه حقه فيما قام به غير منقوص، وتلقى الله سبحانه وتعالى وأنت بريء من حقوق الناس. فليس هناك أعظم من حق إخوانك عليك، فقد يتحمل الشخص ذنوباً وسيئات فيما بينه وبين الله فيغفرها الله له في طرفة عين؛ لأنها من حقوق الله، والله يتجاوز عنها؛ لكن حقوق الناس لا يتجاوز الله عنها، ولا بد أن يسامح صاحب الحق، والغالب أن الضعفاء إذا أُكِل كدُّهم ونصبهم وتعبهم أنهم لا يسامحون، فينبغي على الإنسان ألا يخرج أحداً من هؤلاء الضعفاء إلا وقد وفىَّ له أجره. ومسألة العقوبة بالتعزيرات هذه مسألة مقدرة بأشياء مخصوصة، منها ما ورد في الزكاة: (إنا آخذوها وشطر ماله)، فالذين قالوا بالجواز قاسوها على الزكاة، وهذا غير صحيح؛ لأن الحديث: (إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا)، فهذا نص جاء يستثني الزكاة؛ لأن الله يملك الناس وأموالهم، لكن الأجير لا تملكه وماله، بل تملك عمله ومنفعته، فإذا أعطاك العمل والمنفعة ناقصة بعض الشيء فأعطه بعض الشيء. والوقفة الأخيرة: يا أخي الكريم! ليسأل كل واحد منا نفسه، فقد يتأخر بعض الأحيان العامل وقتاً يسيراً عن العمل، فيقيم صاحب العمل الدنيا ويُقعدها على هذا التأخر، وقد يتأخر ابنه في شيء يرسله فيه فيحصل عند الابن بعض التساهل ويتأخر فيقيم الدنيا ويقعدها، وقد تتأخر زوجته فيقيم الدنيا ويقعدها، وهو لا ينظر إلى نفسه وهو يتأخر عن ركن من أركان دينه، وهي الصلاة، فإن الله قد فرض عليك أن تصلي مع الجماعة، فسل نفسك متى جئت وكبّرت تكبيرة الإحرام مع الإمام؟ لماذا يشدد الإنسان دائماً في معاملة الغير وينسى نفسه؟! أذكر ذات مرة أنه حصل ظرف مع أحد الأشخاص فتأخر بعض من يقوم عليهم، فعاقبهم عقوبة شديدة، فقلت له: يا أخي! هذا لا يجوز، وليس هذا من حقك، فقد كانت عقوبة خارجة حتى عن الأصل الذي من حقه أن يعاقب فيه، فقلت: ليس ذلك من حقك، فقال: حتى يتأدب. فسألته: أنشدك الله ألا تتأخر عن الصلاة التي فرضها الله عليك؟ قال: بلى، فقلت: يا أخي! إذا كنت أنت تعذر نفسك في الصلاة وأنت تتأخر عنها، وأنت شبعان ريان تسمع نداء الله عز وجل، وأنت في أتم عافية، وعندك سيارة، ومع ذلك لا تدرك تكبيرة الإحرام ولا تؤدي حق الله كاملاً، فتحاسب -بكل تشدد وبكل أذية- هؤلاء الضعفاء!! والله لا آمن أن يُشدد الله عليك مثلما شددت عليهم. فالإنسان عليه أن يتقي الله عز وجل، وليعلم أنه مثلما يعامل الناس سيعامله الله؛ لأنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً كان يديِّن الناس، وكان يقول لأوليائه وعماله: إذا وجدتم معسراً فتجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، قال: فلقي الله فتجاوز الله عنه)، فمثل ما تفعل فيمن تحتك يفعل الله بك. ومما ذكره الحكماء: أنك لن تجد رجلاً يرفق بالضعفاء الذين من تحته إلا وضع الله له القبول فيمن فوقه، وثق ثقة تامة أن الله عدل، وتجد الذي يعسر على من تحته منكدة أموره ممن فوقه؛ لأن الله عدل، وهذا الكون لا يظن أحد أنه سدى، بل إن أزِمَّته ومقاليد أمره بيد جبار السموات والأرض، والقسط بيده سبحانه يخفضه ويرفعه سبحانه وتعالى. فعلى الإنسان أن يدرك أن حقوق الضعفاء لا يُتسلط عليها؛ بل تُدفع إليهم كاملة، فإذا عمل عندي تسعة وعشرين يوماً وترك يوماً من الشهر أخصم عنه يوماً واحداً، ولا أزيد، وإن نقصت في الخصم فجزاك الله خيراً، وإن تجاوزت عنه تجاوز الله عنك، إذا نويت وجه الله عز وجل وابتغيته. فمثل هذه الأمور أُوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل فيها، وبالأخص في الأبناء والبنات والزوجات والأهلين، وكذلك العمال والخدامين والخدامات والمستأجرين من الضعفاء، فليتقِ الإنسان فيهم ربه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وليضع نُصب عينيه أنه تحت قدرة الله عليه. فقد جاء في الحديث الصحيح: أن أبا مسعود قال: (كنت أجلد غلاماً لي؛ فلم أشعر إلا وبرجل من وراء ظهري يقول: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، قال: فالتفت فإذا هو رسول الله، قال: فقلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله). لقد كان الصحابة بمجرد وعظهم يُوعظون ويتركون الذنب، فقال له عليه الصلاة والسلام: (الله أقدر عليك)، فقَرن النبي صلى الله عليه وسلم بين قدرته عليه وقدرة الله، وهذا يدل على أن الله سيعامل الإنسان مثل معاملته مع الغير، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا مفاتيح للخير، وأن يُيسِّر بنا ولا يُعسِّر، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

حكم صلاة وترين في ليلة

حكم صلاة وترين في ليلة Q ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وتران في ليلة)؟ A قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الثابت: (لا وِتران في ليلة) يدل على مسائل: المسألة الأولى: أنه لا يجوز للمسلم أن يُصلي وترين في ليلة ويقتصر عليهما؛ لأن الوتر ينبغي أن يكون آخر الصلاة حتى يكون العدد وترياً لا شفع فيه، فإذا صلى وِترين في ليلة واحدة فقد شفع الوتر الأول بالوتر الثاني، وبناءً على ذلك: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال: (لا وِتران في ليلة). المسألة الثانية: دل هذا الحديث على أن الوتر ينقض الوتر؛ لأنه لما نهى عن أن يوتِر وترين، دل على أن الوتر الثاني مؤثر في الوتر الأول، ومن هنا أخذ جمهور العلماء رحمهم الله جواز نقض الوتر بالوتر، ثم بعد ذلك يصلي شفعاً شفعاً ثم يوتر، كما أُثر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فيما لو أَوتر أول الليل ثم نام، ثم قام آخر الليل فإنه يُصلي ركعة ينقض بها الوتر الأول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)، فلما قام آخر الليل وأراد تحصيل هذه السنة التي أمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بجعل آخر الصلاة وتراً، فإنه ينقض الوتر الأول بركعة، ثم يصلي ركعتين ركعتين ثم يوتر. المسألة الثالثة: قوله: (لا وتران في ليلة)، هذا محمول على الوتر النافلة، فيخرج من هذا وتر الفريضة مع النافلة؛ لأن المغرب وتر، والوتر للنوافل وتر، فصارا وتران في ليلة، فالمراد من هذا الوتر في النوافل، وإلا هناك وتران: وتر المغرب، ووتر النافلة، فقال العلماء: إن المراد بالحديث وتر النافلة، والمغرب وتر الفرائض، فجعلوا المغرب وتراً للفرائض، وجعلوا الوتر الشرعي وتراً للنوافل. وفي الحقيقة: جعل المغرب وتراً للفرائض محل نظر، لأنه لو كان هناك وتر للفرائض لكانت العشاء ثلاثاً، لأن الوتر يكون آخرها، ومما يضعف هذا القول: أن الوتر يبتدئ بدخول وقت صلاة العشاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أمدكم -وفي رواية: زادكم- بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، الوتر جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر)، فدل هذا على أن وقت الوتر يبتدئ بصلاة العشاء. وفائدة هذه المسألة: أنك لو كنت في سفر وجمعت بين المغرب والعشاء في وقت المغرب، وأردت أن تصلي الوتر فنقول: تأخَّر حتى يدخل وقت العشاء ثم صل الوتر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر). وقال بعض العلماء: قوله: (جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء): وقوعاً، وليس المراد وقتاً، بحيث لو صلى العشاء متبوعة مع المغرب ثم أوتر، فقد وقع وتره ما بين عشائه وفجره، فيرخِّصون من هذا الوجه، والأحوط أنه ينتظر إلى دخول وقت العشاء. المسألة الرابعة والأخيرة: في هذا الحديث فضيلة للوتر؛ لأن الله وتر ويحب الوتر، وإذا صلى الوتر مع الوتر لم يتحقق له وِتره؛ فأُمِر بأن يقتصر على وتر واحد تحقيقاً لهذا الأصل، واعتباراً لهذا الفضل، والله تعالى أعلم.

دعوة من الشيخ لدعم المسلمين في الشيشان

دعوة من الشيخ لدعم المسلمين في الشيشان Q وردنا خطاب من مؤسسة الحرمين الخيرية حول جمع التبرعات لصالح إخواننا في الشيشان، ويأملون من فضيلتكم توجيه الحضور بالاحتساب في ذلك؟ A أولاً: نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك جهود الإخوة في معونة المحتاجين والمنكوبين، وأن يعينهم على ذلك، وأن يرزقنا وإياهم فيه الإخلاص لوجهه، فإن الأعمال مدارُها على الإخلاص لوجه الله الكريم، وإن من أحب الأعمال وأعظمها ثواباً عند ذي العزة والجلال: تفريجُ الكربات، وإدخال السرور على المؤمنين والمؤمنات، والاحتساب في ذلك مع وجود المشقَّة والعناء أجرُه عظيم عند الله. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الله أعظم من العبد صدقته، وأعظم منه إحسانه وبره حتى لربما كف النار عن وجهه بنصف تمرة، فربما ينفق نصف تمرة لوجه الله، يحتسبها عند الله، فيجعلها الله له حجاباً من النار، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة). وفي الحديث الصحيح: (أن امرأة دخلت على عائشة وهي تحمل بنتين، فاستطعمتها، فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل بنت تمرة ثم أخذت التمرة الثالثة تريد أكلها، فاستطعمتها إحدى بنتيها، فأطعمتها التمرة، فعجبت عائشة من صنيعها وإيثارها! فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بخبرها فقال صلى الله عليه وسلم -نزل الوحي علي من ساعته-: إن الله قد أوجب لها بها الجنة). فيكف إذا كان إخوانكم وهم في شدة البرد والزمهرير يعانون وطأة الحروب، وفراق الأهل والأولاد والذريات، في نكبة وفاجعة لا يعلم قدرها إلا الله؟! فاحتسبوا بارك الله فيكم في تفريج كرباتهم، ومواساتهم في مُصابهم، والله لا يُضيع أجر من أحسن عملاً. إلى الله العظيم فارج الهم كاشف الغم رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما نتوجه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، ونسأله بعزته وقدرته على خلقه، هو الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه، اللهم اجعل لإخواننا في الشيشان وفي كل مكان من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية. اللهم ثبت أقدامهم، اللهم سدد سهامهم، اللهم صوِّب آراءهم، اللهم اجمع شملهم يا حي يا قيوم! اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين حيثما كانوا يا ذا العزة والجلال! اللهم شتِّت شملهم، اللهم فرِّق جمعهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت نبرأ إليك بعزتك وقدرتك، ووحدانيتك يا ذا الجلال والإكرام! نشكو إليك بغي الكفار على أوليائك وأهل دينك وطاعتك، اللهم اسلبهم عافيتك، اللهم اشدد عليهم وطأتك، اللهم أنزل بهم رجزك وعذابك يا إله الحق، لا إله إلا أنت. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

باب الموصى إليه

شرح زاد المستقنع - باب الموصى إليه لابد من توافر صفات في الموصى إليه تؤهله لأن يقوم بحقوق الأيتام على الوجه الأكمل الأتم، منها: الإسلام، والعدالة، والتكليف، والرشد، وغيرها من الصفات المعروفة لكامل الأهلية، وتصح الوصية إلى اثنين على تفصيل معروف عند العلماء. ولابد لصحة الوصية أن يكون الموصي مالكاً لما أوصى فيه، فإن أوصى بما لا يملك بطلت الوصية. ويجب على الوصي تنفيذ الوصية كما أوصاه الميت، فإن ظهر شيء من الحقوق بعد تنفيذها لم يضمن شيئاً من ذلك.

أحكام ومسائل تتعلق بصفات الموصى إليه

أحكام ومسائل تتعلق بصفات الموصى إليه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب الموصى إليه]. لقد ترجم الإمام المصنف رحمه الله بهذه الترجمة التي تتعلق بالشخص الذي يُعهد إليه بتنفيذ الوصية، ولا شك في أن الوصية -عند بيان أحكامها ومسائلها- تفتقر إلى بيان الأمور التي ينبغي توفرها في الأشخاص الذين يعهد إليهم بتنفيذ الوصايا، فتحقيق المصالح ودرء المفاسد التي من أجلها شرع الله الوصية لا يمكن أن يكون على أتم الوجوه وأكملها إلا إذا كان الأشخاص الذين تناط بهم الوصايا ويناط بهم تنفيذها والقيام بها من الأشخاص الذين توفرت فيهم الصفات المعتبرة، ومن هنا اعتنى العلماء والأئمة رحمهم الله ببيان الصفات التي ينبغي توفرها في الموصى إليه، حتى لا يتساهل الناس ولا تضيع الحقوق، فإن الوصية إذا عُهِد بها إلى الشخص الذي ليس هو بأهل؛ ضيع حقوق الله عز وجل فيها، وربما أوصى الشخص بحق عنه، فضيع هذا الحق، وكذلك ضيع حقوق الناس، فلربما ضيع حقوق اليتامى وحقوق الأرامل إذا كان غير أهل. ومن هنا وجب بيان هذه المسائل، والاعتناء ببيان الشروط التي ينبغي توفرها في الموصى إليه. يقول رحمه الله: (باب الموصى إليه) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بصفات الشخص الموصى إليه، وما ينبغي عليه، وما يجب من الأمور التي تلزم ويلزم مراعاتها ممن يُعهد إليه بتنفيذ الوصايا. ومما ينبغي التنبيه عليه: أن الوصايا قد تشتمل على حقوق لله عز وجل، كمن وصَّى أن يحج عنه ويعتمر، أو وصَّى بأن يصام عنه صيام نذر، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صوم نذر صام عنه وليه)، أو يوصي بحقوق من الكفارات والفدية في حجه أو عمرته، تكون لازمة عليه، أو يوصي بحقوق من كفارات أيمان، أو كفارات قتل أو ظهار أو جماع في نهار رمضان، أو غير ذلك، فهذه وصيةٌ مشتملة على حقوق الله عز وجل، وقد تشتمل الوصية على رعاية الأيتام، والإحسان في النظر في مصالحهم وما هم محتاجون إليه، وقد تشتمل الوصية على أمور أوصى بها من المستحبات؛ كالصدقات، والإحسان إلى المحتاجين والمساكين، فيوصي بثلثه للفقراء، ويعهد إلى شخص، ويوصي إليه أن يقوم بتنفيذ هذه الوصية. إذاً: الوصية تتعدد وتختلف، وكل جانب من هذه الجوانب قد يصلح فيه شخص ولا يصلح فيه آخر، وقد يكون من تَعهد إليه برعاية شئون الأيتام من بعد الموت والوفاة يحتاج إلى أن يكون خبيراً بالأسواق، خبيراً بالأموال، وقد تحتاج إلى شخص قوي يدفع الضرر عنهم، فأمور اليتامى تختلف، وأمور الوصية أيضاً تختلف، فنظراً لاختلافها قد يوصي لشخص بشخص واحد، وقد يوصي لأكثر من شخص، فيجعل أحدهم لتنفيذ الثلث، ويجعل الثاني لرعاية مصالح اليتامى، ويجعل الثالث للقيام بحقوقٍ واجبة عليه يقوم بأدائها، ويجعل شخصاً رابعاً لرد الأمانات ورد حقوق الناس؛ لأن فيه أمانة أكثر من غيره. المهم أن الشخص الموصى إليه لا بد أن تكون فيه صفات تتناسب مع هذه المهام، ومع هذه المصالح التي يريد تحقيقها، والمفاسد التي يطلب درءها، وهذا يختلف بحسب اختلاف الأشخاص كما ذكرنا. قال رحمه الله: [تصح وصية المسلم إلى كل مسلم مكلف عدل رشيد ولو عبداً].

من صفات الموصى إليه: أن يكون مسلما رجلا كان أو امرأة

من صفات الموصى إليه: أن يكون مسلماً رجلاً كان أو امرأة قال رحمه الله: [تصح وصية المسلم إلى كل مسلم]. قوله: (تصيح وصية المسلم) أي: أنها معتبرة شرعاً، والشيء الصحيح هو الذي تترتب عليه الآثار الشرعية المعتبرة، فتصح وصية المسلم إلى كل مسلم، والوصية إما أن تكون من مسلم، وإما أن تكون من كافر. والكلام هنا إذا كانت الوصية من مسلم، فتصح الوصية من المسلم إلى كل مسلم، فدل على أنه لا يجوز للمسلم أن ينصب الكافر على أمواله، ولا أن ينصب الكافر لتنفيذ وصاياه أياً كانت هذه الوصايا. أما كون الكافر لا يصلح للولاية: فهذا مبني على أصل شرعي دل عليه دليل الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]، فأخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا يسلط الكافر على المشرك، فدل على أن الكافر لا تكون له ولاية على المسلم، وهذا خبر بمعنى الإنشاء. وكذلك أخبر الله عز وجل عن صفات في الكفار لا يمكن أن تتحقق بمثلها -وبسبب وجودها- المصالح التي تطلب من الوصايا، ولا يمكن أن تتحقق المفاسد التي يراد درؤها بالوصية بأمثال هؤلاء، فقال تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة:10]، فأخبر سبحانه وتعالى الذي وصف نفسه بأنه أصدق القائلين، وأصدق حديثاً ولا أصدق منه قيلاً، وهو القائل: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} [النساء:45]-أخبر عن هذا العدو بأنه لا يرقب في مؤمن إلَّاً ولا ذمة، و (الإلّ) هو القرابة، تقول: آل فلان، أي: قريبه من جهة النسب، و (والذمة): العهد، فهم ليسوا بحافظين لحق القرابة، وليسوا بحافظين للعهد والذمة التي بينهم وبين المسلمين في غالب أحوالهم، والله عز وجل أصدق حديثاً وأصدق قيلاً. فأخبر سبحانه أنهم لا يرقبون في مؤمن إلَّاً ولا ذمة، فالكافر ولو كان قريباً، فإنه لا يرعى حق القرابة في المسلم. ومن هنا وجب إقصاؤهم وإبعادهم عن هذا، ولذلك حينما كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه حينما كان بالشام، ولى كاتباً نصرانياً عنده يكتب، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين) وكتب إليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118]. فقوله تعالى: (لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) أي: أنهم يسعون في أذية المسلم إلى درجة قد يفقد الإنسان عقله من كثرة ما يرى من أذيتهم وإضرارهم به، فقد يصل إلى درجة الخبل، (لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) أي: أنهم يبذلون جهدهم لأذيتكم والإضرار بكم، يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم. (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) الود: هو خالص الحب، أي أنهم يحبون من صميم قلوبهم عنتكم، و (ما): مصدرية بمعنى عنتكم وتعبكم وشقاءكم، هذا هو الذي يودونه ويطلبونه، فدلت هذه الآية الكريمة على أنه لا مصلحة في ولاية الكافر على المسلم. وكذلك أيضاً دلت السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه عهد بأمر من أمور المسلمين إلى كافر ألبتة، وإنما كان عليه الصلاة والسلام على السنن الذي أقامه الله عز وجل عليه، من حفظ المسلمين، وإبعادهم عن أذية أو تسلط الكافرين عليهم. فلا يجوز تولية الكافر على المسلم في الوصية، والإجماع منعقد على هذا، ولذلك حكى في الشرح الكبير بقوله: (بغير خلاف)، أي: لا تجوز ولاية أو توصية الوصي الكافر على الأيتام المسلمين، أو على حقوق المسلم من بعده، أو على وصيته من بعده بغير خلاف بين أهل العلم رحمهم الله. وقوله: (إلى كل مسلم) فيه عموم، فـ (كل) عند العلماء من ألفاظ العموم، فلما قال المصنف رحمه الله: (إلى كل مسلم) معناه: أنه يشمل المسلمين ذكوراً وإناثاً، فيجوز أن يعهد بوصيته إلى رجل توفرت فيه الشروط ليقوم بتنفيذ وصاياه، ويجوز أن ينصب المرأة، وتنصيب المرأة في تنفيذ الوصايا ورعاية الأيتام ونحو ذلك من الأمور التي تصح فيها ولاية النساء، فهو أمر مشروع، ولذلك قال جمهرة السلف رحمهم الله -من الصحابة والتابعين- بهذا القول؛ أنه يجوز أن يعهد الرجل بوصيته إلى المرأة لكي تنفذها، ويدل على ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه عهد إلى أم المؤمنين حفصة بنته، فقامت على وقفه الذي كان بخيبر، فكانت وصية له من بعده رضي الله عن الجميع. وقد فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة متوافرون، فهي سنة من سنن الخلفاء الراشدين، ولم ينكر عليه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فكان هذا بمثابة الإجماع السكوتي، ولذلك اتفق الأئمة الأربعة على جواز تنصيب المرأة من أجل القيام على مصالح الوصايا بتنفيذها، فيعهد إليها زوجها، أو أبوها، أو أخوها، فإن من النساء من فيهن من رجاحة العقل وحسن النظر وحسن التدبير ما يكون في ولايتها الخير الكثير، فقد تكون أم أيتامه أولى برعاية أيتامه، والشفقة عليهم، وحسن النظر في مصالحهم، فإذا وجدها بهذه الصفة عهد إليها. فإذا أحس أن هناك خوفاً يخشاه من جهة تحقيق المصالح، من ناحية أنها لا تستطيع أن تخالط الرجال في الأمور التي يحتاج إليها من مصالح الأيتام، عهد إلى أخيها معها، وهو خال أولاده مثلاً، أو إلى من يراهم من قرابته ليكون مساعداً أو معيناً لها. فالشاهد: أن ولاية المرأة على تنفيذ الوصايا أمر يقول به السواد الأعظم من علماء هذه الأمة رحمهم الله، من السلف والخلف، وقد خالف في هذه المسألة عطاء بن أبي رباح تلميذ ابن عباس رحمه الله، وقال: (لا يجوز أن تلي المرأة تنفيذ الوصايا)، وهذا قول مرجوح، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، أنه يجوز أن يعهد الرجل بتنفيذ وصاياه إلى المرأة، ولا بأس في ذلك.

من الموصى إليه: أن يكون مكلفا

من الموصى إليه: أن يكون مكلفاً قال رحمه الله: [إلى كل مسلم مكلف]. قوله: (مكلف) أي: بالغ عاقل مختار، فلا يكون صبياً ولا مجنوناً ولا مكرهاً. فأما المجنون والصبي؛ فإن كلاً منهما لا يستطيع أن يلي أمر نفسه، فمن باب أولى وأحرى ألَّا يلي أمور غيره، ولذلك فإن الصبي يحجر عليه، فلا يصح بيعه ولا شراؤه، إلا إذا كان مأذوناً له على التفصيل الذي تقدم معنا في باب الحجر. إذاً: لا يصح أن يعهد بالوصية إلى صبيانه، أو إلى الصغار الذين هم دون البلوغ، لكن يجوز أن يقول: وصيت أو عهدت إلى أخي فلان أن يقوم بالنظر على أيتامي، فإذا بلغ ابني محمد، فإنه هو الوصي من بعده. فقد جعل الوصية إلى أخيه، لكن قبل أن يبلغ ابنه، فإذا بلغ ابنه فإنه وصيه، فعلى هذا الوجه يصح أن يكون عهده إلى صبي، ويكون العهد في الأساس إلى كبير بالغ، مستوفٍ للشروط، مما يجعل الصبي من بعده تعليقاً، وهذا لا بأس به، وقد اختاره غير واحد من العلماء رحمهم الله، ومن أهل العلم من منعوا من ذلك، والصحيح جوازه؛ لأن هذا النوع من الوصية إلى الصبي إنما هو عند بلوغه، فتكون الوصية والقيام بمصالح أبنائه وبناته من بعده لهذا الصغير إذا بلغ. وكذلك أيضاً يشترط: الاختيار، فلا يصح أن يكون الموصى إليه مكرهاً، فلو هدد الموصي شخصاً، وفرض عليه أن يكون وصياً له من بعده، ووافق؛ فإنه لا تصح الوصية؛ لأنه يشترط فيه أن يكون بالغاً عاقلاً مختاراً. وهذا هو المعتبر لأهلية التكليف. وبالنسبة للمجنون يستوي فيه أن يكون جنونه متقطعاً أو مستديماً؛ لأنه في بعض الأحيان يختلف الأمر في الذي جنونه متقطع، لكن بالنسبة للوصية لا يصح أن يعهد إلى مجنون، سواء كان جنونه مطبقاً أو متقطعاً، فلو كان يجن أحياناً ويفيق أحياناً، وعهد إليه في حال إفاقته؛ فإنه لا يصح هذا العهد، فالعهد إلى المجنون باطل أصلاً، وبغير خلاف بين العلماء رحمهم الله. لكن لو أنه عهد إلى شخص أن يقوم بالنظر في وصيته من بعده بتنفيذها ورعاية شئون ذريته من بعده، ثم جن قبل أن يموت الموصي، بطلت الوصية، وحينئذ يعهد إلى شخص آخر ويقيمه مقامه.

من الموصى إليه: أن يكون عدلا

من الموصى إليه: أن يكون عدلاً قال رحمه الله: [عدل]. العدل: هو الذي يجتنب الكبائر، ويتقي في أغلب أحواله الصغائر، قال الناظم: العدل من يجتنب الكبائرا ويتقي في الأغلب الصغائرا وكبائر الذنوب: كبائر: جمع كبيرة، والكبيرة: كل ذنب سماه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كبيرة، وكذلك كل ذنب وردت عليه العقوبة في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما، أو توعد عليه بنفي إيمان أو غضب أو لعنة أو نحو ذلك. مثل: شهادة الزور، وعقوق الوالدين، والشرك بالله -والعياذ بالله- فهذه أكبر الكبائر، ومذهب جمهور السلف والخلف رحمهم الله أن الذنوب تنقسم إلى: كبائر وصغائر، خلافاً لمن قال: إن الذنوب كلها ليس فيها صغير ولا كبير، وأنها مستوية، والصحيح أن منها ما هو كبير وما هو صغير؛ لأن الله يقول: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31]، فأخبر أن الذنوب منها كبيرة، ومنها دون هذه الكبيرة، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32]، فأخبر أن الذنب منه صغير ومنه كبير، ومنه اللمم: وهو صغار الذنوب، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ... ) وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العمرة إلى العمرة ورمضان إلى رمضان والصلوات الخمس مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)، فجعل المكفر الصغائر بشرط اتقاء الكبائر، فدلت هذه النصوص كلها على أن الذنوب فيها صغير وكبير. ومن هنا قال العلماء: الكبيرة موجبة للفسق، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7]، فبين سبحانه وتعالى انقسام المعاصي إلى ثلاثة أقسام: الكفر: وهو أعظمها وأكبرها، والفسوق: وهو الذي بين الصغائر وبين الكفر والخروج من الملة، وذلك بارتكاب الكبائر، والعصيان: الذي يكون بارتكاب صغائر الذنوب، والفسوق: هو الذي تنتقض به العدالة، يقال: فسقت الرطبة، إذا خرجت من قشرتها، فالفاسق خارج من طاعة الله عز وجل، مجانب لها، وذلك بارتكابه لكبير الذنب، أو إصراره على الصغير، فإذا أصرَّ على صغيرة، وأصبح إصراره ومداومته يعادل في الذنب الكبيرة لو فعلها مرة، فإن حكم هذه الصغيرة يكون في حكم الكبيرة، فتسقط عدالته، ويكون جرحه مؤثراً فيه. وقوله (عدل) أي: يشترط أن يكون الوصي عدلاً، ولا تصح الوصية إلى فاسق. وفي الحقيقة تفصيل عند العلماء: فالفاسق له أحوال: فتارة يكون فاسقاً بارتكابه بعض الذنوب، ولكنه في نظره بالوصية وقيامه على الوصية يحكم القيام بها على أتم الوجوه وأكملها، فحينئذ فسقه لا يؤثر في الوصية، فالحنابلة رحمهم الله عندهم يرون أن الفاسق لا يولى؛ وذلك لأن الفاسق إذا نقض حقاً من حقوق الله بارتكاب الكبيرة، فلا نأمن منه أن يضيع حقوق عباد الله، ومن هنا لا تقبل شهادته، ولم يجز تنفيذ العهد إليه بتنفيذ الوصية؛ لأنه كما ضيع حق الله لا يؤمن منه أن يضيع حقوق عباده، وذلك من باب أولى وأحوط. ومن أهل العلم من قال: إننا نشاهد من الفساق من يرتكب بعض الأمور، ولكنه لا يخل بديانته ودينه في الأمور الأخرى، فتجده يشرب الخمر، ولكنه لا يمكن أن يكذب، ولا يمكن أن يخون أمانته، ولا يمكن أن يضيع حقاً من الحقوق، لكن الله ابتلاه بشرب الخمر، وقد يكون -والعياذ بالله- مبتلىً بزنا أو فسوق آخر، ولكنه محافظ على الحقوق والواجبات؛ فإذا حدث صدق، وإذا وعد وفىَّ، وإذا اؤتمن لم يخن. فقالوا: إنه قد يكون عند الشخص تقصير يؤثر في عدالته، ولكن نشاهد منه الصدق في قوله، والأمانة في فعله، ونجد عنده التحفظ، وهذا ابتلاء ابتلي به في جانب من دينه، لا يستلزم أن يسري الحكم إلى ما عداه. والحق هو مذهب الجمهور، والتفصيل فيه قوة؛ أي: إذا كان الفاسق ممن يؤثر فسقه في الوصية؛ فلا شك أنه يجتنب ولا يعهد إليه، وأما إذا كان فسقه لا يؤثر في الوصية، والغالب أنه يقوم بالوصية؛ كأن يكون قريباً كعم الأولاد وخال الأولاد، وعنده من الشفقة والرحمة ما يغلب على الظن أنه ينفذ الوصايا على أتم الوجوه وأكملها؛ فإنه لا بأس بالوصية إليه. فالتفصيل في هذا أقوى، ومذهب الجمهور أرجح في هذه المسألة إن شاء الله تعالى.

من صفات الموصى إليه: أن يكون رشيدا

من صفات الموصى إليه: أن يكون رشيداً قال رحمة الله: [رشيد]. ينقسم الرشد إلى: رشد الدين، ورشد الدنيا. فرشد الدين: هو الإيمان، والذي يكون منه صلاح الإنسان واستقامته، كما قال الله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256]، وسمي الرشد رشداً؛ لأن الإنسان يصيبه فيه القوام والسداد في أموره المتعلقة بدينه. وأما رشد الدنيا: فهذا يكون في مصالح الدنيا، ويضبطه العلماء رحمهم الله بوصفين فيقولون: الرشيد في الدنيا، هو الذي يحسن الأخذ لنفسه، والإعطاء لغيره، فإذا أراد أن يبيع شيئاً باعه بقيمته، فلا يغش ولا يضحك على أحد، فلو أراد أن يبيع بيتاً أحسن الإعطاء لغيره، فالبيت قيمته مثلاً مليون، فيبيعه بالمليون وزيادة، فهذا رشيد، لكن إذا كانت قيمته مليون، فيبيعه بثمانمائة ألف، فهذا غير رشيد؛ بل سفيه، ولا يحسن أن يولى السفيه النظر في المصالح المتعلقة بالأموال؛ لأنه محجور عليه في تصرفه في ماله، فمن باب أولى أن لا يلي مال غيره، كما قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]. وقد أشار الله عز وجل إلى رشد الدنيا في الأموال بقوله سبحانه: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء:6] أي: وجدتم فيهم الرشد؛ لكونهم يحسنون الأخذ لأنفسهم والإعطاء لغيرهم. فلا يجوز للمسلم أن يولي على أمواله من بعده من لا يحسن النظر فيها، فلو ولى سفيهاً أو طائشاً أو أحمق لا يحسن الأخذ لنفسه، ولا الإعطاء لغيره، فقد ضيع الأمانة، وضيع حقوق ورثته من بعده، والغالب من مثل هذا أن لا تتحقق به مصالح الوصية، ولا تندرئ به مفاسدها، بل تزداد المفاسد أكثر مما هي عليه. فبين رحمه الله أنه يشترط في الشخص الذي يولى في الوصية أن يكون رشيداً، وهذا من التصرفات المالية.

حكم الوصية إلى العبد

حكم الوصية إلى العبد قال رحمه الله: [ولو عبداً]. (ولو) إشارة إلى خلاف مذهبي، والعبد: هو الرقيق، وبين بهذا أنه يجوز أن يعهد بالوصية إلى الرقيق، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة: فذهب طائفة من أهل العلم إلى أن العبد لا يكون وصياً؛ لأنه لا يلي أمر نفسه، فمن باب أولى ألا يلي أمر غيره. لكن المصنف هنا يقول: إنه يولى العبد ويستأذن سيده، فإذا أذن سيده له كان وصياً. وهذا لا يخلو من نظر؛ لأنه إذا أذن له سيده لا نضمن أن يموت سيده، فينتقل العبد من الإذن له بالانشغال في مصالح ورثة الموصي وقيامه على الوصية ينتقل إلى ورثة سيده، والوصية تحتاج إلى وقت، وهذا فيه تغرير بحقوق الأيتام، وحقوق الأرامل، وما المقام عليه بالوصايا، فالوصية إلى العبد فيها مخاطرة؛ لأن هذا العبد في الأصل جعله الله ملكاً ليمين سيده، ومشغول بخدمة سيده، فلو أن سيده أذن له الآن فربما باعه في الغد، وإذا باعه فقد باعه إلى من لا يأذن له، فهذا تغرير بالوصية، ومخاطرة بها والصحيح هو قول من قال: إن العبد لا يلي أمر الوصية، والمسألة فيها ثلاثة أقوال: فمنهم من منع مطلقاً، ومنهم من أجاز، ومنهم من فصَّل، فالذين منعوا مطلقاً هم الشافعية، والذين أجازوا هم الحنابلة، ومعهم المالكية، والذين فصلوا هم الحنفية، قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: يجوز أن يعهد إلى عبد نفسه، كما كانوا في القديم، إذا كان عنده أولاد صغار وعنده عبيد، وفيهم عبد صالح وديِّن ومستقيم وأمين، فيقول له: قم على شئون ورثتي من بعدي، فيعهد إليه بوصاياه من بعده، وفعلاً يكون على أحسن وأتم وأكمل الوجوه، ولكن الأمر لا يخلو أيضاً من نظر؛ لأنه إذا عهد إلى هذا الرقيق، فإن أحد الأبناء سيكبر ويبلغ؛ وحينئذ سيكون هذا العبد ملكاً له، فهو وليه من وجه، ومولى عليه من وجه آخر، فتلزمه طاعته، ويكون تحت أمر الصبي؛ لأن الصبي يملكه، ومن حقه أن يأمره وينهاه. إذاً: القول بالتفصيل من ناحية شرعية فيه نظر، والصحيح: أن الرقيق لا يكون ولياً في الوصايا؛ لأنه لا يلي على نفسه، فمن باب أولى أن لا يلي على غيره. قال رحمه الله: [ويقبل بإذن سيده]. أي: يقبل الوصية بإذن سيده، فليس له قبول مطلق، وإنما يقيد قبوله بإذن السيد، فإذا أذن السيد له أن يقوم بتنفيذ وصايا هذا الموصي؛ صح، وإلا فلا.

حكم الوصية إلى اثنين

حكم الوصية إلى اثنين قال رحمه الله: [وإذا أوصى إلى زيد وبعده إلى عمرو ولم يعزل زيداً اشتركا]. هذه المسألة صورتها: أن يقول لزيد: أنت وصيي من بعدي، فيعهد إليه، ثم بعد ذلك بقليل أو كثير من الزمان يقول لشخص آخر: أنت وصيي من بعدي، فهل الوصية الثانية ناقضة للوصية الأولى، أم أن الوصية الثانية مشتركة مع الوصية الأولى؟ الثاني هو الأقوى: أن الوصية الثانية ليست ناقضة للوصية الأولى؛ لأنه لو أراد نقض الوصية الأولى؛ فإنه ينبغي أن يكون نقضها صريحاً بيناً، كما أن إثباتها وقع صريحاً بيناً، ولا يمتنع أنه قصد الاثنين؛ لأنك ربما عهدت إلى شخص واحد وأموالك قليلة، ثم طرأت أموال أخرى كثيرة يغلب على ظنك أن فلاناً وحده لا يقدر على القيام عليها، بل يحتاج إلى من يعينه، وربما عهدت إلى شخص في حال، ثم وجدت فيه ضعفاً بعد فترة، فاحتجت أن تقرن إليه شخصاً آخر يعينه ويساعده في حال آخر، فالذي يظهر أنه يعتبر وصياً ثانياً؛ وفي هذه الحالة يشترك الاثنان. وهذا إذا وصى لوصي ثانٍ بعد وصي أول. فصورة مسألتنا: أنه إذا اتفقا في المكان الذي وصي به، مثل أن يقول: أنت وصيي من بعدي في رد ودائعي، والقيام على أيتامي، وصرف الثلث. إلخ، فيعطيه وصية مطلقة لجميع أموره وشئونه، ثم يقول للثاني نفس الذي قاله للأول، فحينئذ لا إشكال؛ فالوصية الأولى عامة، والوصية الثانية عامة، فيشتركان في العموم. الصورة الثانية: أن تكون الوصية الأولى عامة، والثانية خاصة، كأن يقول له: أنت وصيي من بعدي في جميع أموري، ثم بعد ذلك يقول لشخص ثان: أنت وصيي من بعدي في رعاية أموال أيتامي، فحدد له فقط رعاية أموال اليتامى، فيكون الثاني مشاركاً للأول في هذا الخاص الذي ذكره الآن، ولا يشاركه في غيره، فصورة المسألة التي ذكرها المصنف رحمه الله تقع إذا كانت الوصيتان فيها عموم، هذه حالة. والحالة الثانية: أن يكون في الوصيتين خصوص، لكل واحد منهما خصوص موافق، فيقول له: أنت وصيي من بعدي في رعاية أيتامي، ثم يقول للثاني: أنت وصيي من بعدي في رعاية أيتامي، لكن لو قال للأول: أنت وصيي من بعدي في رعاية أيتامي، وقال للثاني: أنت وصيي من بعدي في الحج عني، أو في تقسيم الثلث، فاختلفت الوصيتان، فحينئذ هذا وصي في رعاية الأيتام، وهذا وصي في تنفيذ الثلث، فلا يشتركان. إذاً صورة المسألة: أن يكون لفظه في الوصية الأولى موافقاً للفظه في الوصية الثانية، فإن اختلفا، فلا يخلو من حالين: إما أن يكون بينهما عموم وخصوص، فحينئذ يشتركان في الخاص، وينفرد الأول بالعام، وإما أن يفترقا فيكون لكل منهما أمر لا يكون للآخر؛ فحينئذ لا يشتركان، وكل منهما ينفذ وصيته فيما اختص به من الأمور التي أناطها به الموصي.

حكم انفراد أحد الوصيين بتصرف لم يجعل له

حكم انفراد أحد الوصيين بتصرف لم يُجعل له قال رحمه الله: [ولا ينفرد أحدهما بتصرف لم يجعله له]. أي: لم يجعله له الموصي، بمعنى: أن الاثنين يشتركان في الوصية إذا كانت عامة، فلو أراد أحدهما أن يبيع بيتاً من بيوته بعد وفاته؛ فنقول له: ليس من حقك أن تبيع البيت حتى يأذن الوصي الثاني، فلا بد من اتفاق كلمة الاثنين على أن المصلحة في البيع حتى يباع، أو يتفقان على أن المصلحة في عدم البيع فيبقى البيت، أو يتفقان على أن المصلحة في تأجير بيوت اليتامى فتؤجر. إذاً: لا بد أن يكون تصرفهما معاً، فلو أن أحدهما أجر دون الآخر، وبدون رضاه أو إقراره؛ فإنه لا يصح ذلك، حتى يوافق الآخر؛ لأنه عهد إليهما معاً، فلا يصح تصرف أحدهما بدون رضا من الطرف الثاني.

من شروط صحة الوصية أن تكون في تصرف معلوم يملكه الموصي

من شروط صحة الوصية أن تكون في تصرف معلوم يملكه الموصي قال رحمه الله: [ولا تصح وصية إلا في تصرف معلوم يملكه الموصي؛ كقضاء دينه، وتفرقة ثلثه، والنظر في صغاره]. قوله: (ولا تصح وصية إلا في تصرف معلوم) هذا هو الشرط الأول، والشرط الثاني: (يملكه الموصي)؛ لأن الفرع آخذ حكم أصله، والوصية بالمجهول فيها غرر، ولا يمكن أن تتحقق بها المصلحة، ولا أن تدرأ بها المفسدة، وإذا عهد إليه، فلابد أن يحدد ما عهد إليه، فيقول له: أنت وصيي من بعدي في رد المظالم -الحقوق إلى أصحابها- فتقضي عني الديون، وترد الودائع، والأشياء التي استعرتها، مثال ذلك: شخص له مكانة في قومه، فاستعار من أناس أشياء، أو عنده أمانات وضعها عنده أناس، فقال: هذه أمانة فلان، وهذه أمانة فلان، وهذه أمانة فلان. كذلك أيضاً بينه وبين أشخاص خصومات ومظالم وقعت، فقال: يا فلان: أنت وصيي في رد المظالم والحقوق إلى أهلها، وقضاء ديوني، ورد العواري والودائع إلى أصحابها، فحينئذ تكون الوصية واضحة ومعلومة وبينة. كذلك أيضاً من حقه أن يوصي بهذا الشيء، فيوصي بالحج والعمرة عنه، ويوصي كذلك بولاية مصالح أيتامه؛ لأنه في الأصل هو الذي يطالب بالحج، وفي الأصل هو الذي يطالب بالعمرة، وفي الأصل هو الذي يطالب بالكفارات وبالفدية، فيجوز أن يقوم غيره مقامه؛ لأنه كالوسيط. لكن لو لم يكن من حقه أن يتصرف في هذا الشيء، فليس من حقه أن يوصي به، فلو أوصى بأن يتصرف في أموال أخيه، فقال له: أنت وصيي من بعدي أن تبيع مزرعة أخي، وليس من حقه هو أن يبيعها، فمن باب أولى أن لا يكون للوصي ذلك. إذاً: يشترط في الشيء الذي يعهد به إلى الوصي أو يوصى به: أن يكون مما للموصي فيه حق التصرف، وعلى هذا فالمرأة ليست بمسئولة عن أيتام، وإنما ولاية النظر لمن أقامه أبوهم أو أقامه الحاكم والقاضي للنظر في مصالحهم، فهي لا تلي أمورهم بالأصل، فمن باب أولى أن لا تقيم غيرها مقامها. قال رحمه الله: [كقضاء دينه]. وذلك كأن يقول له: فلان له عليَّ مائة ألف، وفلان له عليَّ خمسون، وفلان له عليَّ كذا، وفلان أخذت منه سيارة، ورد الودائع والعواري والأمانات؛ فكل هذه أمور خاصة ومعلومة. قال رحمه الله: [وتفرقة ثلثه]. وكذلك تفرقة الثلث، كأن يقول له: ثلث مالي اجعله صدقة على الفقراء، أو نصف الثلث يكون صدقة للفقراء، والنصف الثاني يكون في سبيل الله، ويقوم فلان بصرف هذا الثلث، والقيام عليه، فحينئذ يكون هذا الوسيط مطالباً بتنفيذ ما ذكره الميت والموصي في وصيته من تخصيص نصف الثلث للفقراء والمحتاجين، والنصف الثاني يصرفه في سبيل الله، على الشرط الذي اشترطه الميت والموصي. قال رحمه الله: [والنظر لصغاره]. أي: يقوم على أموالهم فينظر فيها، والنظر في الأيتام: إطعامهم بالمعروف، وكسوتهم بالمعروف، وإذا احتاجوا إلى دواء أو علاج قام بعلاجهم، وإذا احتاجوا إلى سيارة تنقلهم؛ استأجر من ينقلهم، أو اشترى لهم سيارة، واستخدم أو استأجر من يقوم بنقلهم، وإذا احتاجوا لشراء أرض أو بيت يؤويهم ويسكنون فيه يقوم هو بشراء البيت، ويبحث لهم عن سكن، وينظر في الأصلح، هل يشتري سكناً غالياً أو وسطاً أو أدنى. هذا كله أسند إليه النظر فيه، فهو مسئول أمام الله عز وجل عنهم، فيُنزل نفسه منزلة والدهم، شفقة، وإحساناً، وبراً، فيعطف عليهم، ويقوم برعاية مصالحهم؛ لأنه من أعظم الأشياء أن شخصاً ينزله كمنزلته في النظر لأولاده، وهذا أمر ليس بالهين، وثقته ليست باليسيرة. فالعبد المؤمن يخاف من الله عز وجل، ويتقي الله سبحانه وتعالى في هذه الأمانة، وينصح ويحس أن هؤلاء الأيتام كأنهم أولاد له، فيحسن النظر فيهم، ولذلك ضرب السلف الصالح والفضلاء والصلحاء المثل السامي في حسن النظر للأيتام، ورعايتهم الأيتام الذين عهدوا إليهم برعايتهم، حتى جاء في بعض القصص أنه كان بعض الصالحين يقوم على رعاية أيتام أخيه أكثر من رعايته لأولاده، مع أنه لا يضيع حقوق أولاده، لكنه يشفق عليهم الشفقة ويرحمهم الرحمة التي بلغت الأوج والكمال في حسن النظر والتفقد، حتى أثر عن بعضهم أنه كان إذا زار أختاً له وعندها أيتام، يتحرج حتى من أكل ضيافتها، خشية أن يكون آكلاً لمال اليتيم، وهذا كله من الورع والخوف من الله عز وجل؛ لأن حقوق الناس أمرها عظيم، فالذنب الذي بين العبد وبين ربه، لو استغفر ربه غفر له، لكن حقوق الناس لابد فيها من القصاص، فلا يمكن أن تزول قدماه حتى يقتص منه؛ فيؤدي الذي عليه ويأخذ الذي له. {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، وقال تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256]، فيأتي بها الله جل جلاله الذي هو أحكم الحاكمين، يقص الحق وهو خير الفاصلين، فإذا كانت لليتيم فأمرها عظيم، وإذا كانت على وجه الأمانة فأمرها أعظم؛ لأن الإنسان إذا أقيم على أيتام وعلى وصية، وقال له الميت: إني قد عهدت إليك بكذا وكذا، ووافق وقبل، فإن عليه أن يفي بهذا العهد الذي بينه وبين أخيه المسلم أو قريبه. فإذا كانت من القريب فعهدها أعظم، فالواجب حينئذ أن يحسن النظر في مصالح هؤلاء الأيتام، والنظر في مصالحهم يشمل: إطعامهم، وكسوتهم، وإيواءهم، ونقلهم، ونحو ذلك من المصالح، فلو ترك لهم والدهم سيولة من المال، ورأى الموصى إليه أن هذا المال لو بقي لأكلته الزكاة، فرأى من المصلحة أن يشتري لهم أراضي، أو يشتري لهم عمائر، أو يستثمر المال ويتاجر فيه، فقد أحسن النظر في مصالحهم. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اتجروا في أموال اليتامى؛ لا تأكله الصدقة)، فدل هذا على أنه ينبغي للولي والوصي أن يحسن النظر في شئون الأيتام، فيحقق المصالح المطلوبة، ويدرأ المفاسد التي يخشى منها، فلو وجد مثلاً أنه ترك لهم أرضين، والسوق يخشى أن يكسد، فخاف من كساده، فليبادر ببيعها، وإذا كان هناك أشياء تركها لليتامى يخشى منها الضرر، كأن يكونوا في مكان بعيد عن المدينة، وفيه ضرر عليهم، ويخشى عليهم، قربهم إذا خشي على أعراضهم، وأبعدهم عن الأماكن التي فيها فساد وتأثير على أخلاقهم. المهم أنه ينصح لأخيه المسلم في ذريته من بعده، ومن كفل اليتيم وأحسن الرعاية له، كان له عند الله حسن الجزاء، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين)، وكان بعض العلماء يقول: (ما رأيت أحداً وفى بمسلم في أيتامه إلا أحسن الله له العاقبة في ولده)، فما رأى إلا خيراً، وجعل الله له قرة العين، وبهجة النفس وسرورها في ولده {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، وما ينتظره عند الله أعظم وأكبر، فلا شك أن القيام على الوصايا وحسن الرعاية لها وحسن النظر فيها، من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل.

حكم وصية الموصي فيما لا يملكه

حكم وصية الموصي فيما لا يملكه قال رحمه الله: [ولا تصح بما لا يملكه الموصي، كوصية المرأة بالنظر في حق أولادها الأصاغر، ونحو ذلك]. لأن هذا ليس إليها، وإنما لمن ولاه والدهم؛ لأنه حق متعلق بالعصبة، وهم الذين ينظرون في مصلحة هؤلاء الأيتام.

لا يجوز للموصى إليه التصرف إلا فيما أوصي إليه

لا يجوز للموصى إليه التصرف إلا فيما أوصي إليه قال رحمه الله: [ومن وصي في شيء لم يصر وصياً في غيره]. لأن الوصية اختصت بذلك الشيء، فلا تنصرف إلى غيره، فلو قال له: أوصيت إليك برعاية أيتامي، فلا يقم بتفريق الثلث، ولو قال له: بتفريق الثلث، فلا يقم برعاية الأيتام، وليس له دخل في موضوع اليتامى. إذاً: تتقيد الوصية إن قيدها الموصي، وتكون مطلقة إن أطلقها.

عدم ضمان الوصي ما ظهر من الحقوق بعد تفرقة الوصية

عدم ضمان الوصي ما ظهر من الحقوق بعد تفرقة الوصية قال رحمه الله: [وإن ظهر على الميت دين يستغرقه بعد تفرقة الوصي لم يضمن]. قوله: (بعد تفرقة الوصي) أي: للمال، وصورة المسألة: لو كان الدين مائة ألف، وترك تسعين ألفاً أو ترك مائة ألف، ولكن هذا الدين لم يكونوا عالمين به، وقام الموصى إليه بتفريق الثلث كما أمره الموصي، وأخذ الثلثين وقضى بهما، حينئذ يرد سؤال هو: لو ظهر هذا الدين فهل يطالب باسترداد الثلث؟ لأنه هو الذي فرقه، وهو الذي صرفه. نقول: لا يضمن؛ لأنه عهد إليه بتفريقه، فقام بالتفريق، فالضمان يكون على الميت وليس على الموصى إليه؛ لأن الموصى إليه نفذ ما أمره به الموصي؛ ولم يتعد، واليد التي قامت بتفريق هذا الثلث يد مأذون لها شرعاً بهذا التفريق، فيتحمل المسئولية الميت وهو الموصي، وتكون هذه الديون باقية لسدادها، ويتحمل الورثة سداد الدين على الأصل الذي تقدمت الإشارة إليه في سداد الدين.

تصرف الوصي في الثلث إذا خول في التصرف فيه

تصرف الوصي في الثلث إذا خول في التصرف فيه قال رحمه الله: [وإن قال: ضع ثلثي حيث شئت، لم يحل له ولا لولده]. هذه المسألة فيها خلاف عند العلماء رحمهم الله، فبعض أهل العلم يقول: إذا قال له: ضعه حيث شئت، فهو يضعه حيث شاء. فلو وضعه في جيبه، فقد شاء أن يضعه في جيبه، حيث جعل له الخيار المطلق، وهذا لفظ الرجل وكلامه، فينفذ هذا القول، ومن حقه لو أخذها لنفسه إن كان محتاجاً، أو رأى أنه أقرب الناس منه فأخذ هذا المال، فإنه يكون له ذلك. وقال بعض العلماء: إذا قال له: ضعه حيث شئت، فمن حقه أن يصرفه لولده، لكن لا ينتفع هو لنفسه، وقد أورد هذين القولين الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني احتمالاً، أي: ما يحتمله هو، وقال: إنه يعطي أولاده ولا يأخذ هو؛ لأنه جعله مفرقاً للمال ولم يجعله آخذاً؛ لأنه قال له: ضعه؛ فحينئذ فهمنا من هذا أنه موكل بتفريق المال، وليس موكلاً بأخذه. ومن أهل العلم من قال: لا يأخذ هو ولا أولاده، حتى ولو ذكر صفة تنطبق عليه، بحيث لو قال: ضع ثلثي للفقراء -صدقة للفقراء- وخذ هذا الثلث ووزعه للفقراء والمحتاجين، وهو فقير ومحتاج، قالوا: لا يأخذ لا هو ولا ولده، مع أن الصفة موجودة فيه، والحقيقة أن الإمام ابن قدامة أشار في هذه المسألة إلى احتمالات جيدة، منها: أنه ينظر إلى دلائل الحال والقرائن التي يفهم منها أنه قصد أن يقوم بالتفريق، فلا يأخذ هو، ولكن من حقه أن يعطي قرابته بدون محاباة. ثانياً: أن تكون هناك قرائن تدل على أنه فوضه، إلى درجة أنه لو أراد أن يأخذ فإنه يأخذ، والأورع أن لا يأخذ، وأن يجتنب هذا، ومن ذلك: مسألة التوكيل في الزكاة، كأن يقول له: خذ هذه المائة ألف واصرفها للمساكين والفقراء، ففي هذه المسألة لا شك أنه ليس من حقه أن يأخذ؛ لأنه قال له: خذ هذه المائة واصرفها على للفقراء والمساكين، فلا يشك في أنه وكيل، والزكاة عبادة صرفت؛ لأن صاحبها نوى أن تصرف للفقراء والمساكين من غيره؛ لأنه قال له: اصرفها للفقراء والمساكين، واللام للتخصص، ولو قصده لقال له: خذ منها؛ لأنه يعلم أنه فقير، أو قال له: خذ منها أنت والفقراء والمساكين، لكن عندما لم يصرح بذلك فهمنا من ذلك أنه وكيل بالصرف، وليس له استحقاق، ففي هذه الحالة لا يجوز للذين يقومون بتوزيع أموال الزكاة أن يأخذوا منها. ومن العجيب أن بعضهم يقول: إنهم من العاملين عليها، وهذا خطأ واضح؛ لأن العامل على الزكاة في جلبها لا في تفريقها، العامل على الزكاة إنما يكون في جلبها، وهم السعاة الذين كان يبعثهم الإمام لأخذ زكاة الإبل والبقر ونحوها من بهيمة الأنعام، وزكاة الحبوب والثمار والخارج من الأرض، فهؤلاء يأخذون على التفصيل الذي تقدم معنا في كتاب الزكاة، أما الذي يفرق الزكاة ليس له من حق، وقد نص الجمهور رحمهم الله على هذا، فأمثال هؤلاء موكلون بالتفريق، وليس لهم يد على المال أن يأخذوا منه، فعليهم أن يتقوا الله عز وجل. ومن هنا تأتي المسألة في استثمار أموال الصدقات، واستثمار أموال الزكوات، ففي بعض الأحيان تكون الأموال لجهة خيرية، فالذين أعطوا المال للجهة الخيرية، لم يعطوه وكالة أن يتاجروا في هذا المال، وإنما أعطوهم المال وكالة في إعطائه للمحتاجين، وحينئذ ليس من حقه أن يبيع أو يشتري بهذا المال، ولو لمصلحة المحتاج؛ لأنه لم يوكله رب المال ولم يوكله المحتاج. فحينئذ لا يصح في الأموال التي توضع في الصدقات إلا إذا اُستؤذن أصحابها، فيقال لهم: هذه صدقة مستثمرة، فالذي يقترح على الجمعيات الخيرية وعلى جمعيات البر ونحوها، أنها إذا أرادت أن تستثمر الأموال في الأسواق الخيرية أن تضع بنداً خاصاً، وتقول: صدقة مستثمرة، إذا وضعت هذا فكل من يضع يعلم أن الصدقة ستستثمر، ثم إن الشخص الذي يضع المال وقصده أن يصل إلى الفقير وإلى المحتاج، فمراده أن يصل على أسرع ما يمكن؛ لأن هذه هي النصيحة؛ لأن الصدقة إذا وصلت إلى المحتاج، نماها الله عز وجل لصاحبها منذ أن تصل، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يتلقى الصدقة بيمينه، وكلتا يدي الرحمن يمين، فينميها لعبده ويربيها له كما يربي أحدكم فلوه)، والفلو: هو صغير الخيل، كما ثبت في صحيح مسلم. فهذا الحديث يدل على أن الوكيل الذي يوكل بصرف الأموال لا ينبغي له أن يتأخر فيها، ولا ينبغي له أيضاً أن يصرفها كمعاشات أو نحوها لشخص يقوم بصرفها؛ لأنه في الأصل وكل بصرفها، ولم يوكل بإعطائها إلى شخص غير المحتاج وغير المسكين. وهذا أمر واضح وبين، ولذلك ينبغي على كل من يلي أمثال هذه الصدقات أن يتقي الله عز وجل، وأن يرجع إلى العلماء، وأن يستبين من أمره، وأن لا يجتهد من عند نفسه، فيتقحم النار على بصيرة -نسأل الله السلامة والعافية- بل عليه أن يتقي الله في هذه الأمانة، وأن يحسن القيام فيها؛ فمن وكله بالصرف يصرفه، ومن وكله باستثمار أمواله يستثمرها بالمعروف، على الوجه المعتبر فيها شرعاً.

من يتولى تركة الميت إذا لم يوجد حاكم ولا وصي

من يتولى تركة الميت إذا لم يوجد حاكم ولا وصي قال رحمه الله: [ومن مات بمكان لا حاكم به ولا وصي، جاز لبعض من حضره من المسلمين تولي تركته، وعمل الأصلح حينئذ فيها من بيع وغيره]. هذه المسألة تشتهر الآن في أماكن الأقليات، حيث يكون في بلد فيه مجموعة من المسلمين، وليس هناك قاض ولا حاكم مسلم، ولم يعهد هذا الميت بأيتامه إلى أحد ولم يوص، فحينئذ من يتولى؟ ننظر، فإذا كان هناك إمام يصلي بهم، أو طالب علم، وعنده علم ومعرفة بمثل هذا، فهو الذي تناط به مصالح أمثال هؤلاء؛ إذا كان طالب علم، وعنده معرفة بالأحكام الشرعية، وكان أهلاً لولاية أمره، فيلي أمورهم في مثل هذا: ففي النكاح يزوجهم، وكذلك في أمور المصالح التي تقع أو الخصومات التي تقع بينهم، إذا كان عنده من العلم ما يؤهله لذلك؛ وإلا رجعوا إلى العلماء فاستفتوهم. أما بالنسبة للنظر في ماله، فإنه يليه أي واحد من المسلمين ممن يعلم حاله، ويمكنه أن يقوم بمصالحه من بعده، فأي واحد من إخوانه المسلمين يلي ذلك، وهذا من فروض الكفايات، فإذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، أما إذا وجد قاضٍ، فإنه يعهد إليه، قال صلى الله عليه وسلم: (فالسلطان ولي من لا ولي له). وبعد هذا الباب يأتي كتاب الفرائض، ويغلب عليه -بطبيعته- المسائل الحسابية، وقد جرت العادة في قراءة المتون الفقهية -بالنسبة إليَّ- أن أفرد كتاب الفرائض بدراسة مستقلة. وعليه: فنرجئ شرح هذا الكتاب -كتاب الفرائض- حتى ننتهي من المتن إن شاء الله. نسأل الله عز وجل أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجهه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم. والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

هل يعتبر الوصي وليا للمرأة في تزويجها

هل يعتبر الوصي ولياً للمرأة في تزويجها Q إذا أوصى الميت إلى شخص بأن يلي اختيار الأزواج لبناته، فهل يعتبر هذا الوصي ولياً للمرأة دون إخوتها؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: هل وصي الأب ينزل منزلة الأب، ويقدم على بقية العصبة، الذين لهم حق في الولاية؟ فمن أهل العلم من جعل الفرع تابعاً لأصله، وقال: هذا وصي الأب؛ فينزل منزلة الأب، ومن أهل العلم من قال: إن الولاية في النكاح على مراتب. فإذا توفي الأب، انتقلت من بعده إلى ابنه، فحينئذ يلي أمر الولاية على هؤلاء النسوة ابنه، الذي هو أخوهن، وقال بعض العلماء: إنه يلي الجد من بعد الوالد، ثم من بعد ذلك تكون الولاية لابن المرأة التي يراد تزويجها إذا كانت مزوجة من قبل، أو يليها أخوها؛ لأن بعد درجة البنوة: الأخوة، وهم الإخوة الأشقاء أو الإخوة لأب فقط، وهم الإخوة الذين هم عصبة المرأة التي يراد زواجها. ومن أهل العلم من فرق بين كون المرأة دون البلوغ -صغيرة- فينزل الوصي منزلة الأب، وبين أن تكون كبيرة؛ فحينئذ يكون الولي هو الجد من بعد الأب، ولا يقدم عليه وصي الأب. لكن مثل هذه المسائل الأفضل ردها إلى القضاء، والقاضي يعمل بما يترجح عنده فيها، ونظراً لكونها تترتب عليها أمور مهمة، خاصة في هذا الزمان، فترد إلى القضاء، فإن شاء القاضي نزل وصي الأب منزلة الأب، وإن شاء قدم غيره من العصبة ممن هم أحق. والله تعالى أعلم.

صيغ الإجماع

صيغ الإجماع Q أشرتم إلى قول صاحب الشرط السديد أنه قال: (لا تصح الوصية للكافر بلا خلاف)، فهل قوله: (بلا خلاف) تدل على الإجماع، وما الفرق بين قوله: (اتفق) و (أجمع)؟ A هذه مسألة أصولية، تعرف عند العلماء رحمهم الله بمسألة: (صيغ الإجماع)، وصيغ الإجماع تنقسم إلى قسمين: القسم الأول يسميه العلماء: الصيغ الصريحة، وهي أقوى صيغ الإجماع، وهي صيغة: (أجمعوا)، و (أجمع أهل العلم)، و (أجمعوا واتفقوا)، و (اتفق أهل العلم)، و (اتفق العلماء)، فهاتان الصيغتان: (أجمعوا) و (اتفقوا) تعتبر من صيغ الإجماع القوية النصية، التي لا احتمال فيها، وبعض العلماء يقول: إن (أجمعوا) غير (اتفقوا)، فاتفقوا: للأئمة الأربعة، وأجمعوا: للجميع، وهذا باطل، والمعروف عند العلماء أن صيغة (اتفقوا) من صيغ الإجماع كصيغة (أجمعوا)، لكن قد يكون هناك مصطلح خاص لبعض العلماء، فيذكر في كتابه (اتفقوا) للأئمة الأربعة، ويذكر (أجمعوا) لإجماع العلماء والأئمة، إذا كان هذا فهذا مصطلح خاص، لكن المعروف عند العلماء أن (اتفقوا) من صيغ الإجماع الصريحة والقوية كـ (أجمعوا). أما بالنسبة للصيغ الضعيفة والصيغ المشتملة فمثل: (لا خلاف)، (بغير خلاف)، (لا نعلم خلافاً)، (لا نعلم مخالفاً)، فهذه صيغ مشتملة، فقوله: (بغير خلاف نعلمه) أضعف من قوله: (بغير خلاف)؛ لأنه إذا قال: (بغير خلاف) فهي أقوى من قوله: (بغير خلاف أعلمه) أو (بغير خلاف نعلمه)؛ لأنه ربما كان بحثه في المسألة فيه قصور، وحينئذ قد يوجد مخالف، لكنه لم يطلع على ذلك المخالف، أما إذا جزم وقال: (بغير خلاف) فهذه أقوى من تقييده بالعلم، هذا هو المعروف عند العلماء رحمهم الله. والنوع الأول من الصيغ: هو الذي يحكى به الإجماع، وإذا قيل: (بغير خلاف) فإنه معتبر، خاصة إذا كانت كلمة (بغير خلاف) من علماء وأئمة عُرفوا بتتبع أقوال العلماء رحمهم الله، فمثلاً: إذا قال شيخ الإسلام: (بغير خلاف)، فالغالب أن مثل هذا يقارب الإجماع، إن لم يكن إجماعاً؛ لأن شيخ الإسلام رحمه الله كان عنده سعة واطلاع كبير في العلم، حتى إنه نقد (مراتب الإجماع) للإمام ابن حزم، ولذلك لما ناظره العلماء في مسألة من مسائل أهل البدع، قال له: والله ما من بدعة في الإسلام إلا وأنا أعلم أول من قالها، ومتى قالها، وما هي شبهته في قولها. وهذا من سعة علمه رحمه الله واطلاعه على أقوال الأئمة والسلف، رحمه الله برحمته الواسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

حكم من جاوز الميقات دون أن يحرم منه

حكم من جاوز الميقات دون أن يحرم منه Q قدمت وعائلتي من الرياض بالطائرة بنية العمرة ولم أحرم، فهل يجوز لي أن أحرم من هذا المسجد، أم أرجع إلى ميقاتي؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فلا يجوز للمسلم أن يمر بالميقات ولم يرحم منه، ولا يحرم، وفي نيته النسك؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (وقَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحُليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، وقال: هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج والعمرة). فأوجب عليه الصلاة والسلام على من مر بهذه المواقيت، وعنده نية للحج، أو عنده نية للعمرة، أو هما معاً كالقارن، أن يحرم منها، فعلى المسلم أن يطيع الله ويطيع رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن يأتمر بأمر الله؛ لأنه قال: (هن لهن)، وهذه صيغة إلزام، أي أنها لازمة لمن مر بها بنية النسك، فلا يجوز له أن يترك الإحرام، فعليك أخي أن ترجع إلى ميقاتك فتحرم منه، وهو ميقات السيل إن كنت قادماً من جهة الرياض، مع التوبة والاستغفار، والله تعالى أعلم.

حكم الإفطار في قضاء رمضان

حكم الإفطار في قضاء رمضان Q من كان عليه قضاء من رمضان، وعين يوماً يصوم فيه هذا القضاء، فهل يحرم عليه أن يفطر في ذلك اليوم، أم له أن يفطر ويصوم يوماً غيره؟ A هذا السؤال فيه تفصيل: فإذا عين اليوم وقال: غداً أصومه قضاءً عن رمضان، ولم يدخل فيه بالعبادة -أعني عبادة الصوم بالإمساك- فإنه لا يلزم، وله أن ينتقل إلى يوم ثانٍ، فتعيين يوم للقضاء أو يومين أو ثلاثة، أو كان قال: الأسبوع القادم أصومه قضاء، أو تقول المرأة: أصومه قضاء لعادتي، فلا يلزم صيامه إذا لم يدخل فيه بالصوم، أما إذا دخل فيه بالصوم فإن الله يقول: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، فجعل الأيام الأخر مُنَزَّلة مَنْزِلة رمضان، ولا شك أنها إذا نزلت منزلة رمضان لم يجز الإفطار فيها، كما لا يجوز الإفطار في رمضان، وعلى هذا يفرق بالتعيين بين أن يريد الإفطار في ذلك اليوم قبل أن يشرع في صيامه، وبين أن يريد الإفطار وقد شرع في صيامه، والقاعدة: أن القضاء يأخذ حكم الأداء، فلما كان لا يجوز له في الأداء -أي: في صيام رمضان- أن يفطر بدون عذر، فكذلك في قضائه لا يجوز له أن يفطر بدون عذر، والله تعالى أعلم.

نصيحة للأزواج في التوفيق بين مشاغلهم الدينية وبين القيام بحقوق زوجاتهم

نصيحة للأزواج في التوفيق بين مشاغلهم الدينية وبين القيام بحقوق زوجاتهم Q أحياناً تتضجر الزوجة حين ترى انشغال زوجها بطلب العلم، وكثرة الانصراف إلى العبادة، ويتهم بالتقصير في حق الأهل، فما الضابط في تقسيم الوقت لهذه الحقوق؟ A الله المستعان! الفتوى ليست بالهينة، ووضع ضابط في المسائل هذا أمر ليس بالهين، وينبغي أن يشفق السائل في الفتوى على من يستفتيه من أنا حتى أضع للناس برنامجاً أو ضابطاً يوفق فيه بين طلبه للعلم وحقوق زوجته؟ فهذا أمر ليس بالسهل، فأقول: لا يمكن الإجابة على هذا السؤال، وأبرأ إلى الله، فما أستطيع أن أتحمل مسئولية وضع الضابط وأقول: إنه ضابط شرعي، وينسب إلى الشرع بقولنا، ولذلك كثرت الاجتهادات في هذا الزمان في وضع الضوابط والقيود، والأولى أن يقال: مثلاً: بماذا تنصح الزوج؟ وبماذا تنصح الزوجة؟ فنقول: إن الله عز وجل شرع لعباده القيام بحقوق الزوجية، وإذا اتقى العبد ربه، جعل الله له من أمره يسراً، وجعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً. فنوصي الزوجة أولاً أن تتقي الله في نفسها، وأن تتقي الله في زوجها، وأن تحمد الله جل جلاله على العافية، خاصة في هذا الزمان، فكم من امرأة تقرَّح قلبها ودمعت عينها على هلاك بيتها في الفتن والمحن التي لا يعلمها إلا الله عز وجل. وكم من امرأة تمسي وتصبح مع زوج تنال معه الشقاء والعناء في جحيم الخمور والمسكرات، والمصائب والتبعات التي تأتي من الشرور التي لا يعلم قدرها إلا الله جل جلاله. فلتحمد الله على العافية، يوم جعل بيتها تلهج فيه الألسن بذكر الله، وتشكر الله عز وجل يوم شرفها وفضلها بخدمة من يخدم المسلمين، ورعاية من يحسن إلى عباد الله، فأمثال هؤلاء يعظم الأجر فيهم، ويعظم الثواب من الله عز وجل لمن احتسب في معونتهم على ما هم فيه والله ما من إمام ولا داعية ينصح لله ولكتابه، ولرسوله عليه الصلاة والسلام، ولسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، ولأئمته، فيعينه أحد في دعوته إلا آجره الله جل جلاله، وأعظم ثوابه. ووالله ما وجدنا في صحبة العلماء ورفقة طلاب العلم إلا خير الدين والدنيا والآخرة، هذا ما نشهد به، وهذا ما رأيناه من البذل الكريم الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً. فعلى المرأة المؤمنة أن تحمد الله جل جلاله، وأعظم ما يكون من العبد في حق ربه كفره بنعمة الله، وكم من امرأة تتمنى أن ترى زوجها مصلياً، فضلاً عن أن يكون داعية إلى الله، كم من امرأة تتمنى أن تسمع من زوجها ذكراً لله في بيتها، وكم من نساء تتشوق قلوبهن لرؤية الخير والبر في أزواجهن، فلتحمد الله على العافية، ولتعلم أن الشهوة واللذة متاع قليل، ظل زائل ومتاع حائل، لذة ساعة وبعدها تعب الدهر، فعليها أن تقدم آخرتها على دنياها، وأن تحتسب عند الله عز وجل. والزوج إذا كان مقصراً بسبب الحقوق والواجبات، ووجدته زوجته قائماً برعاية المسلمين وعنايتهم، ووجدت عليه مسئوليات وأمانات في الفتوى وفي التدريس وفي التعليم، فوقفت بجواره، واستعانت بربها، وصبرت واصطبرت، ورابطت في الله جل جلاله، فسيريها الله حسن العاقبة فيما كان منها من صالح العمل، ولا تبالي حتى ولو وجدت زوجها فظاً غليظاً، أو غافلاً عن بعض حقوقهم. ووالله إنك لتصحب العالم وتكون بجواره وتحسن إليه وتخدمه، فيفعل حتى عن أن يقول لك كلمة طيبة، بسبب الهم الذي هو فيه، وبسبب الضغط النفسي، وتصور أخي لو أنك تريد أن تلقي كلمة أمام ثلاثة أو أربعة من رفقتك، فسوف يتشتت ذهنك، ويصعب عليك الأمر، وتحمل الهم في قلبك، فكيف بمن يواجه الأمة، يواجههم وهو يبين الحلال والحرام، مسئول أمام الله عز وجل، ومسئول أمام خلقه، فربما زل بكلمة واحدة تشيب لها الرءوس، قيل لـ هشام بن عبد الملك: عاد لك الشيب؟ قال: ما لي لا أشيب وأنا أعرض عقلي على الناس كل أسبوع مرة! لأنه يقف في المنبر ويخطب، وقيل لآخر من خلفاء بني أمية: عاد لك الشيب؟ قال: شيبتني المنابر. يعني مواجهة الناس، ومواجهة الناس ليست بالهينة؛ فأنت تواجه الحليم، وتواجه العاقل والعالم، وتواجه من هو أعلم منك، ومن هو مثلك ومن هو دونك، وتواجه من يحبك ويجلك ويكرمك، وتواجه من يكرهك ويحسدك. إذاً: فهذا ابتلاء من الله سبحانه وتعالى، فقد جعل بعض الناس لبعضهم فتنة حيث تواجه أموراً لا يعلمها إلا الله، فهذا الداعية يحتاج إلى من يعينه، وإلى من يوفقه، ووالله إن كان بعض طلاب العلم ليشفق على أن يشوش عليه حتى في درسه، وفي بعض الأحيان لا يستطيع أن يتحرك الحركة، حتى لا يشعره أنه تذمر منه، وفي بعض الأحيان تجد طالب العلم يجلس مع عالمه الساعات الطويلة، ولا يستطيع أن يري الملل لشيخه وأستاذه، يخاف أنه لو رأى شيخه منه الملل؛ لسأم من تعليم طلاب العلم من بعده. فالمعاملة مع العلماء والدعاة والخطباء ومن يتحمل مسئولية الدعوة صعبة جداً؛ لكن من كان عنه قلب حي وضمير حي أولاً: يخلص لوجه الله عز وجل، ويحتسب الثواب عند الله سبحانه وتعالى، فإذا كان عنده هذا القلب الحي والإخلاص؛ فسيفتح الله عليه، وينزل نفسه منزلة هذا العالم ومنزلة هذا الداعية، فالمرأة تنزل نفسها منزلة زوجها، فلو أنها تقارع هذا الأمر وهي في بيتها مع أولادها وأطفالها، ولا تستطيع أن تتحمل وهم أطفالها، ولربما سبت وشتمت في ساعة الضيق، فكيف بمن يتحمل هموم الأمة؟! وكيف بمن يتحمل هموم طلابه وخاصته؟! فتجده يحمل الهم في تعليمه: كيف يكون هذا التعليم؟ ثم يحمل هماً في الكلمات التي يقولها، والعبارات التي يبينها، وربما دخلت الدواخل من العبارات، وفسرت على غير ظاهرها، ثم يحمل الهم في المناقشات والأسئلة والتبعات، وعندها تدرك إدراكاً يقينياً -لا شك فيه ولا مرية- أن هذا العلم تكل أمره كله إلى الله والله لا بقولنا ولا بقوتنا ولا بذكائنا، ولكن الله جل جلاله هو الذي تولى الأمور كلها. ولقد نسمع من العلماء والأئمة والخطباء والمعلمين ما يثير الدهشة والعجب والاستغراب يقول الإمام: إني أدخل ولا أعي ما أقول من شدة ما أجد من المرض والعناء في قيام رمضان. وحدثني غير واحد من الأئمة الفضلاء رحمهم الله من المشايخ يقول: والله إني أدخل وأنا أحتاج إلى من يحملني إلى المحراب، فما أن أقف وأكبر إلا وفتح الله من معونته ما لم يخطر لي على بال، فإذا بالصدر ينشرح، وإذا بالنفس تبتهج، وإذا باللسان ينطلق، يقول: قبل الصلاة كأن لساني معقود، وما أستطيع أن أتكلم بكلمة، ولكن {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58]، كيف وهم على ثغور الإسلام!! كيف وهم ينفعون الأمة!! كيف وهم ينصحون لدين الله عز وجل!! وإذا لم يعن الله هؤلاء فمن يعين؟! فأمثال هؤلاء لهم عند الله معين، ولهم من الله ظهير، فإن قصرت المرأة وابتعدت عن هذا فخذلته، فإن الله ينصره ويعينه، وسيجعل الله عز وجل ويهيئ من هو أصلح من هذه المعونة بالمعية، ولذلك أوصي المرأة أن تعينه والله سوف يعينها. لكن مع هذا أوصي الزوج أن يتقي الله في حقوق زوجته، وأن يكون الأئمة والخطباء وطلاب العلم قدوة لغيرهم، وإذا عجزت عن القيام ببعض الحقوق، فلا تفوتك الكلمة الطيبة إن الذي يجرح النساء المؤمنات ويؤثر عليهن أنهن لا يسمعن كلمة طيبة، لكن قد يكون بعض المشايخ لا يمدح الطلاب، ولا يثني على من يخدمه، والله يعلم أنه يريد له الأجر أكثر، ويريد له الثواب أعظم، وثق ثقة تامة أنك لن تكون سعيداً في هذه الحياة إلا إذا وطنت نفسك دائماً على أن لا تنتظر شكراً من أحد إلا من الله، الذي يشكر الأعمال الصالحة، سبحانه وتعالى. من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب الفضل بين الله والناس فلا يذهب المعروف عند الله، فالمعروف لا ينسى، والخير لا يبلى، والحسنة لا تنسى، فالله لا يضيع من عبده من الحسنات مثقال خردلة وأقل من ذلك، فوطن نفسك دائماً إذا كنت في معاملتك مع الناس الخاصة والعامة، حتى ولو كنت براً بوالدك، فلا تنتظر من والدك كلمة شكر، وقد كان بعض البارين يتمنى أن لا يشكره والده، حتى يكون أجره عند الله أعظم، وثوابه عند الله أجل. وجماع الخير كله أن نتواصى بأداء الحقوق والواجبات، فإن المرأة في هذا الزمان تتعرض لفتن كثيرة،؛ خاصة إذا خرجت، فيحرص الزوج على إعفاف أهله والإحسان إليهم. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأسأله أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب النكاح [1]

شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [1] النكاح عقد يفيد حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر، فقد جاء الحث عليه في الكتاب والسنة، ليعصم الإنسان نفسه من الوقوع في الزنا الذي جاء في الشرع التحذير منه بشدة، والعمل بالأسباب التي تعين على الوقاية منه. والزواج يكون به تكثير سواد المسلمين، ويوجب ارتباط بعضهم ببعض، وهذا من مقاصد الشريعة في الزواج.

مشروعية النكاح وحكمه

مشروعية النكاح وحكمه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب النكاح]. النكاح في اللغة: يُطْلَق بمعنى الجمع والضم، ومنه قول العرب: تناكحت الأشجار إذا اجتمعت ودخل بعضها في بعض، والمناسبة من هذا المعنى اللغوي ظاهرة؛ لأن النكاح يقوم على الاستمتاع الموجب لاجتماع الزوجين وارتباط كلٍّ منهما بالآخر. وأما في اصطلاح الشرع، فإن معنى النكاح اختلفت عبارات العلماء رحمهم الله فيه، ومن أنسب ما عُرّف به النكاح: أنه عقد يفيد حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر، وبناءً على هذا فقول العلماء: (عقد) المراد به الإيجاب والقبول، والإيجاب أن يقول ولي المرأة مخاطباً الزوج: زوجتك بنتي فلانة، والقبول أن يقول الزوج: قبلت، أو قبلت نكاح فلانة. وقولهم رحمهم الله: (عقد يفيد) الفائدة: ما يعود من الشيء، ومعنى ذلك: أن عقد النكاح ينشأ عنه ويترتب عليه حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر. وقولهم رحمهم الله: (حل استمتاع) لأن الأصل أنه لا يجوز للرجل أن يستمتع إلا بما أحل الله أن يستمتع به من المرأة المنكوحة أو ملك اليمين. قولهم: (حل استمتاع كل من الزوجين) الاستمتاع من المتعة، والمتعة تشمل الشيء الذي فيه اللذة سواء كانت متعلقة بالبصر أو متعلقة بالجوارح الأُخر، وقولهم: (استمتاع) يشمل جميع أنواع الاستمتاع التي هي المقدمات من التقبيل ونحوه، وغاية المتعة من الجماع، فالكل أحله الله عز وجل للزوج، ولذلك قال الله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187]، فهذا العقد الشرعي والرباط الذي أذن الله به للزوجين يفيد حل استمتاع كل منهما بالآخر، فالمرأة تستمتع بالرجل والرجل يستمتع بالمرأة. وهذا النوع من العقود دل على مشروعيته دليل الكتاب والسنة والإجماع. أما دليل الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] فندب الله عباده إليه، ودلت الآية الكريمة على أن النكاح مأذون به شرعاً، وقال سبحانه: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32] والآيات في هذا المعنى كثيرة. وأما دليل السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج)، فقوله: (فليتزوج) أصل يدل على مشروعية النكاح والإذن به، وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس وغيره: (تزوجوا الودود الولود فإني مفاخر بكم الأمم)، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه فعل النكاح فتزوج عليه الصلاة والسلام، وأقر الصحابة على الزواج فاجتمعت دلالة السنة قولاً وفعلاً وتقريراً. وأما بالنسبة للإجماع: فقد أجمعت الأمة على مشروعية النكاح وحله وجوازه، ولا خلاف بينهم بحمد الله في ذلك، وأما الحكمة أو الحكم التي يمكن أن تستفاد من هذا العقد الشرعي، فإن الله تعالى شرع النكاح وجعل في شرعيته تكثير سواد الأمة وإبقاء النسل البشري، فعن طريق النكاح يتكاثر الناس ويتناسلون بالذريات والأولاد والأحفاد، فيبقى النسل ولا ينقطع، وبقاء النسل عمارة للكون بطاعة الله عز وجل كما لا يخفى. كذلك في النكاح إعفاف للرجل وإعفاف للمرأة عن ما حرم الله، وصيانة لهما عن الزنا ونحوه من المحرمات، فشرع النكاح لهذه الحكم العظيمة، وتتبعها آثار هي حكم جليلة؛ منها: أن الناس يتواصلون وتحدث بينهم الألفة والمحبة والصفاء والنقاء، وهذا يقوي أواصر الإسلام، ويوجب ارتباط المسلمين بعضهم ببعض، فإن الرجل يتزوج فيُغرب في نكاحه، فيتزوج امرأة من قبيلة غير قبيلته أو امرأة من مصر غير مصره، وحينئذٍ يتعلق المسلم بأرحام له في ذلك البلد، ويتعلق أهل ذلك البلد بأرحام لهم في بلد آخر، فترتبط جماعة المسلمين وتحصل بالنكاح أواصر المحبة والألفة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط -يعني مصر- فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم رحماً). فالمقصود: أن هذا الرحم يوجب الألفة والمحبة والتواصي بالخير، ومقصود الإسلام: أن يتواصل المسلمون وأن يتراحموا، وأن يتعاضدوا، وأن يكونوا كالبيت الواحد وكالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ومن هنا إذا حصل التعدد وتزوج الرجل من أكثر من قبيلة ومن أكثر من جماعة أصبح البيت الواحد يقوم على بيوت، ولو وقعت بلية أو مصيبة في بيت من هذه البيوت تألم الجميع وكأنه بيت واحد وكأنه أسرة واحدة. وكذلك أيضاً من حكم النكاح: أنه كفاية للمئونة، فإن الرجل إذا تزوج المرأة كفى أباها أن يعيلها وأن تكون عبئاً عليه، خاصة وأن الأب في آخر عمره يثقل عليه أن يقوم على بناته وأن يرعاهن، أو يرعى أولاده، ففي ضم هذه البنت وضم تلك البنت لاشك أنه تخفيف للأعباء والمئونة إلى غير ذلك من الحكم العظيمة والأسرار الكريمة، فإن الزوج تسليه زوجته وتواسيه، وتخفف عنه الأشجان والأحزان، وإذا كانت صالحة ثبتته على الصراط وقوت قلبه على الطاعات، فاستفاد خيراً كثيراً لدينه ودنياه وآخرته. هذا العقد -وهو عقد النكاح- اختلفت أنظار العلماء إليه، وتكلموا على حكمه، فقالوا: هل النكاح واجب أو مندوب؟ على قولين مشهورين: جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الحديث رحمة الله على الجميع على أن النكاح ليس بواجب وأنه مندوب ومستحب، وهذا في حالة الاعتدال كما سيأتي. وذهب فقهاء الظاهرية رحمهم الله إلى القول بوجوب النكاح، وأنه يجب على الرجل أن ينكح على الأقل واحدة، ثم من بعد ذلك يبقى نكاح الاثنتين والثلاث والأربع على سبيل الندب والاستحباب لا على سبيل الحتم والإيجاب، واستدل الظاهرية على قولهم بوجوب النكاح بدليل الكتاب والسنة. أما دليل الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة قالوا: إن الله أمر، والقاعدة في الأصول: أن الأمر محمول على الوجوب حتى يدل الدليل على صرفه عن هذا الظاهر، فأمرنا الله أن ننكح فأصبح النكاح واجباً لازماً علينا، واستدلوا بقوله تعالى أيضاً: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:32] قالوا: هذا أمر والأمر يدل على الوجوب ولا صارف له عن ظاهره. واستدلوا بالسنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج) ووجه الدلالة من الحديث أن النبي صلى لله عليه وسلم قال: (فليتزوج) وهذا أمر والأمر للوجوب، كذلك أكدوا هذا بقوله عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا الودود الولود)، وفي رواية لحديث آخر: (تناكحوا تناسلوا) لكنه متكلم في سنده، والحديث رواه عبد الرزاق في مصنفه، وكذلك الإمام أبو حنيفة في مسنده، وله روايات في مصنف ابن أبي شيبة وغيره بلفظ: (تناكحوا تناسلوا) وفي رواية (تناكحوا تكثروا)، وفي رواية: (تناكحوا تكاثروا فإني مفاخر بكم الأمم)، وفي رواية: (فإني مباهٍ بكم الأمم) هذا الحديث كما ذكرنا أخرجه عبد الرزاق في مصنفه وابن ماجة في سننه، وكذلك أخرجه الديلمي في مسنده؛ مسند الفردوس، وأكثر طرقه ضعيفة لكن رواية: (تزوجوا الودود الولود) قالوا: هذا أمر لقوله عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا) ففيه حث بالغ يقوي جانب الأمر. أما الجمهور فإنهم قالوا: إن النكاح ليس بواجب، وهذه الأوامر الواردة في الكتاب والسنة ليست على ظاهرها، فإن قوله سبحانه: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] قالوا: إنه ليس للوجوب بدليل قوله: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]، فلو كان أمراً للوجوب لوجب أن ينكح اثنتين وثلاثاً وأربعاً، ولكن الله قال: {فَانكِحُوا} [النساء:3] وجعل الأمر مرتبطاً بالمثنى والثلاث والرباع، فدل على عدم إرادة الوجوب والفرضية، كذلك أيضاً كأنهم يقولون: إن في الآية قرينة تدل على عدم الوجوب؛ لأنه أمر بالتثنية والتثليث، وكونه تكون عنده أربع وهو الحد الأقصى للنكاح فهذا كله على سبيل الندب والاستحباب عند الجميع، فدل على أن الأمر في قوله: {فَانكِحُوا} [النساء:3] للندب والاستحباب وليس للحتم والإيجاب. أما قوله عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر) قالوا: إن في الحديث قرينة تدل على عدم الوجوب وهي قوله: (فإنه أغض) فإن (أغض) على وزن أفعل التفضيل، وأفعل التفضيل لا يدل على الوجوب؛ لأن المطلوب أن يغض بصره، فإذا صار النكاح أغض كأنه يحصل الواجب وهو غض البصر بما دون النكاح، وعلى هذا قالوا: إنه أمر للندب والاستحباب لا للحتم والإيجاب. وهذا هو الصحيح: أن النكاح مستحب ومندوب إليه في حالة الاعتدال، وهي الحالة التي يسميها العلماء: انتفاء الدوافع وانتفاء الموانع، وقد قرر العلماء وهم الجمهور أن النكاح تعتريه الأحكام الخمسة؛ فيكون واجباً في حالات، ويكون مندوباً في أُخر، ويكون محرماً في أُخر، ويكون مكروهاً في أُخر، ويكون مباحاً في أُخر. فيكون النكاح واجباً إذا كان الشخص يخاف على نفسه الزنا، وغلب على ظنه أنه إذا لم يتزوج وقع في الحرام، وعنده قدرة على النكاح؛ فهذان شرطان: أن لا يأمن الحرام، وأن تكون عنده القدرة أن يتزوج، ووجه الوجوب هنا أنه فرض عليه أن يمنع نفسه عن الحرام، وواجب عليه أن لا يتسب

ترتيب العلماء لكتاب النكاح

ترتيب العلماء لكتاب النكاح يقول المصنف رحمه الله: [كتاب النكاح] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بالنكاح. والعلماء رحمهم الله إذا ذكروا كتاب النكاح فإنهم يعتنون بتنظيمه وبيانه مرتباً في الأحكام الفقهية، ففي الأبواب يقررون أولاً: ابتداء النكاح، وكيف يمكن للإنسان أن يصيب السنة والهدي في زواجه؟ وهذا المبحث يسمى عند العلماء بمبحث: مقدمات النكاح، ومقدمات النكاح تستلزم أن تبحث عن المرأة التي يندب طلبها والزواج منها، فيبينون ما هو الأفضل نكاحه من النساء كقولهم: أن تكون ودوداً ولوداً بكراً، دينة صالحة إلى آخره، كذلك يبحثون في المقدمات المسائل المتعلقة بخطبة النكاح بالنظر إلى المخطوبة، وخطبة النكاح، وصفة الخطبة، والأمور التي ينبغي أن يتقيها المسلم في خطبته من الخطبة على أخيه المسلم وخطبة المعتدة ونحو ذلك من الأمور التي ينبغي أن تتقى في خطبة المسلم وطلبه للنكاح. وبعد أن يبينوا مقدمات النكاح يدخلون في الشروط المعتبرة لصحة عقد النكاح، وهذا ما يسمى عند العلماء بالتسلسل الفكري، إذ يراعون تسلسل الأمور فيقدمون الحوادث والمسائل والأحكام على حسب الوقوع. كذلك يبحثون بعد المقدمات في شروط صحة عقد النكاح، وهذا يستلزم النظر فيمن هو ولي الزوجة الذي من حقه أن يتولى عقد نكاحها من عصبتها؟ وتبين بعد بيان أصناف الولاية: الأبوة، البنوة، الأخوة، العمومة، وأبناء كل، وبعد أن تبُين أصناف الأولياء تُبين مراتب الأولياء، وتقديمهم على حسب الجهة، ثم القرب، ثم القوة في القرابة، ثم بعد ترتيب الأولياء في النكاح يتكلمون على الآثار إذا زوج الولي الأبعد مع حضور الأقرب وهكذا، هذا بالنسبة للولي، ثم بعد ذلك يتكلمون على أنه يشترط للنكاح وجود الشاهدين، وصفات الشاهدين، وقد يؤخر بعضهم الكلام على صفة الشهود في باب القضاء عند الكلام على الأصل العام في الشهادة. كذلك أيضاً ينبهون على شرط الصداق؛ فيتكلمون في حكم الصداق، وجنس الصداق، وقدر الصداق، وصفة الصداق، والصداق المعجل والمؤجل، والخصومة في الصداق إلى غير ذلك من الأحكام المترتبة على شرط الصداق. وبعد الانتهاء من هذه الأمور الثلاثة المعتبرة لعقد النكاح، ينبه العلماء رحمهم الله على المسائل المترتبة على العقد الصحيح والمسائل المترتبة على عقد النكاح الفاسد، فيعتنون بمباحث تتصل بالنكاح المشروع وبالنكاح الممنوع، فهناك نوع من النكاح أذن الشرع به وهو الذي استجمع شروطاً يحكم من خلالها بصحة العقد واعتباره شرعاً، وهناك نوع من النكاح لم يأذن الشرع به لمصادمته للشرع أو اشتماله على أمور نص الشرع على عدم صحة النكاح بسبب وجودها. فيبينون أولاً: الموانع، ويبينون موانع النكاح المؤبدة والموانع المؤقتة، فالموانع المؤبدة: أن تكون المرأة قريبة بالنسب قرابة تمنع من النكاح؛ كالأمهات، والبنات، والأخوات، وبنات الأخوات، وبنات الإخوان، والعمات، والخالات، ثم بعد ذلك المحرمات بالمصاهرة، ثم المحرمات بالرضاع، بعد هذا يتكلمون على المحرمات تحريماً مؤقتاً؛ كالمحرمات بسبب الجمع، كأخت الزوجة، وعمة الزوجة، وخالة الزوجة، ثم يتكلمون على مانع الدين، وهو مانع مؤقت إن تابت وأسلمت، وكذلك أيضاً مانع الزواج؛ مثل كونها منكوحة للغير إلى غير ذلك من بقية الموانع المعتبرة في النكاح. ثم يتكلمون أيضاً في النكاح الممنوع على النكاح الذي نص الشرع على عدم الإذن به؛ كنكاح الشغار، ونكاح المتعة، وهل خطبة الرجل على خطبة أخيه توجب فساد النكاح؟ فعلى القول بأن النكاح يفسد يكون النكاح غير مشروع، كذلك أيضاً نكاح المحلل إذا نكح امرأة من أجل أن يحللها للغير، سواء في حالة التواطؤ أو عدم التواطؤ. بعد بيانهم لهذا الممنوع يشرعون في بيان المشروع، وأثر النكاح المشروع، وهذا يستلزم أن يبينوا ما يترتب على عقد النكاح؛ من العشرة بالمعروف، والحقوق الواجبة من النفقة والسكنى ونحو ذلك، ثم بعد الانتهاء من بيان مقدمات النكاح وبيان الشروط المعتبرة للصحة، وأمارات فساد عقد النكاح، والآثار المترتبة على العقد المشروع والممنوع يشرع العلماء في بيان الأمور التي تزول بها العصمة؛ إما كلية أو مؤقتاً، وهذا يستلزم الكلام على كتاب الطلاق، فيشرعون في كتاب الطلاق، وكتاب اللعان، وكتاب الظهار، ثم بعد ذلك يبينون الأثر والخلع والإيلاء، ثم يبينون الأثر المترتب على الطلاق وزوال العصمة، أو ما يكون في حكم ذلك، فيبينون أحكام الرجعة وأحكام المرأة المعتدة، وأحكام العدة، والحقوق الواجبة المترتبة على ذلك، ثم يختمون بالحداد وما يتعلق بمسائل الحداد، ثم بعد ذلك ينتهي كتاب النكاح. هذا كله صورة مجملة؛ لأنه مما يستحب في الفقه قبل الدخول في الكتب أن يكون عند طالب العلم تصور إجمالي حتى يستطيع أن يعرف ترتيب الأفكار، وهذا الترتيب الذي تعب العلماء لتقريره وضبطه وحسن صياغته بعد توفيق الله عز وجل لهم، قصد منه: ترتيب الأفكار للفهم، وترتيبها للإفهام، وترتيبها للفتوى وللقضاء؛ لأن الفقه يحتاجه الإنسان لنفسه عملاً، ويحتاجه لغيره تعليماً، ويحتاجه لغيره فتوى، ويحتاجه لغيره قضاءً، فلذلك ينبغي أن تكون هذه المادة مرتبة، فإذا رتبت وجاءك السؤال عن مسألة ما فمباشرة تنصرف إلى الباب الذي درسته، وتتذكر مسائله، هل هذه المسألة فيه أو ليست فيه؟ وهذه فائدة قراءة الفقه؛ أنه يعين طالب العلم على أن يفهم وعلى أن يُفهم؛ لأن الفقه حصيلة لإفهام علماء من قرون عديدة وليس بالسهل، هذا الفقه ثمرة جهود لا يعلمها إلا الله جل جلاله، وعلى هذا أحببنا أن ننبه على هذا الترتيب حتى يحصل إن شاء الله بيان المسائل وترتيب الأبواب خاصة عند مباحث المناسبات.

سنية النكاح

سنية النكاح قال رحمه الله: [وهو سنة] الضمير عائد إلى النكاح، أي: من هديه عليه الصلاة والسلام النكاح، وهذه الجملة قصد منها بيان الحكم؛ لأن القاعدة عند العلماء رحمهم الله: أنهم إذا أتوا إلى أي باب أو كتاب يعتنون بجزئيتين مهمتين: الأولى: أن يبينوا حقيقة الباب الذي هو جزئية التعريفات، ثم بعد التعريف يأتي الحكم -حكم الباب- مثلاً: في كتاب الطلاق، يقول: كتاب الطلاق، ثم يبين حكم الطلاق فيقول: وهو مباح، وإذا قال مثلاً: الظهار، فإنه يبين حكمه فيقول: وهو محرم. فالمقصود: أنهم يبتدئون أولاً بالحكم، ويقدمون التعريف على الحكم؛ لأن القاعدة أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولا يمكن أن تحكم على النكاح حتى تعرف ما هو النكاح، وحتى تعلم بعد ذلك أن الذي أباحه الله هو ذلك الشيء، وأن الذي حرمه الله هو ذلك الشيء، وقد تقدمت الأدلة من الكتاب والسنة على شرعيته، وعلى هذا اختار المصنف ما اختاره جمهور العلماء من أن النكاح ليس بواجب، فعبر بهذه الجملة حتى ينبه على أن مذهب الجمهور في مقام الندب والاستحباب وليس في مقام اللزوم والإيجاب.

اختلاف العلماء في تفضيل النكاح مع الشهوة على نوافل العبادات

اختلاف العلماء في تفضيل النكاح مع الشهوة على نوافل العبادات قال رحمه الله: [وفعله مع الشهوة أفضل من نوافل العبادات] هذه الجملة أولاً: ما معناها؟ ثانياً: ما موقف العلماء منها؟ المراد بهذه الجملة: أن إعفاف الرجل لنفسه وإعفافه لزوجه بالوطء أفضل من نوافل العبادات، وبناءً على هذا يترتب أن النكاح فيه عبادة؛ لأنه لا يفضل على نوافل العبادات إلا ما كان مشتركاً بينها وبينها في حصول الثواب، فقوافل العبادات من قيام ليل ونحو ذلك، قال بعض العلماء: النكاح أفضل منها، فأصبح النكاح عبادة من هذا الوجه، فيحتاج المصنف إلى دليل شرعي يدل على أن النكاح يعتبر عبادة، وهذا الدليل جاء في قوله عليه الصلاة والسلام: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟!) فدلت هذه الجملة على أن النكاح فيه جانب العبادة، وأنه بإعفافه لزوجه يكون قد حصَّل ثواباً قد يفضل نوافل العبادات. المسألة الثانية: ما موقف العلماء من هذه المسألة؟ الجمهور يفضلون النكاح على نوافل العبادات، والشافعية يخالفون في هذه المسألة ويرون أن النكاح شهوة، وأنه لذة وهو إلى الدنيا أقرب منه إلى الدين، ولذلك قرنه الله بشهوة الذهب والفضة في قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران:14] فالله سبحانه جعله من متاع الدنيا ولم يجعله عبادة ولم ينص على كونه عبادة، وقرنه بالمال وبالقناطير والمقنطرة وبالمغريات في الدنيا وفتنها، فقالوا: إنه ليس بأفضل من نوافل العبادات لهذا النص. والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور، وأن النكاح فيه جانبان: جانب دنيوي، وجانب ديني؛ وأن الجانب الديني مُثاب صاحبه، ومأجور غير مأزور، ويعظم ثوابه أكثر في مسائل: إذا قصد بها وجه الله عز وجل، كرجل يتزوج ثانيةً عَرَف منها الدين والاستقامة، وأصبحت أرملة بعد زوج، فأراد أن يضمها إليه لعلمه أنها تُفْتَن أو أنها تحتاج إلى من يعولها، فأشفق عليها وأحسن إليها، أو زوجة مات عنها أخوه، فأراد أن يضمها لأيتام أخيه، أو أراد أن يضمها لأيتام عندها من أبناء عمه أو أبناء عمومته أو قرابته، يقصد بذلك الإحسان والبر، فمثل هذه المواقف في النكاح لا شك أنها تفضله وتزيد من أجره وتزيد من ثواب صاحبه. والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور لصحة الدليل على ذلك.

وجوب النكاح على من يخاف الزنا

وجوب النكاح على من يخاف الزنا قال رحمه الله: [ويجب على كل من يخاف الزنا بتركه] الواجب: يثاب فاعله ويعاقب تاركه، فإن خاف على نفسه الزنا بترك النكاح ويقدر عليه -عنده مئونة وقدرة أن يتزوج- فحينئذٍ يجب عليه أن ينكح، وقد بينا وجه ذلك؛ لأنه إذا لم يتزوج وقد استيقن أو غلب على ظنه الوقوع في الحرام فمعنى ذلك أنه سيقع في الحرام لا محالة، والله عز وجل حرم الحرام والوسيلة إلى الحرام، ولذلك حرم الزنا وحرم وسائل الزنا، فحرم النظر للأجنبية، ولمس الأجنبية، والسفر مع الأجنبية بدون محرم، والخلوة مع الأجنبية بدون محرم، حتى حَرَّم على المرأة أن ترفع رجلها فتضربها على الأرض ليُعْلَم ما تخفيه من زينتها، من باب منع الوسائل المفضية إلى الزنا، وهو المقصد والغاية من هذه الوسائل التي نص الشرع على تحريمها. فكأن الشرع حينما نص على تحريم هذه الوسائل قصد أمرين: - تحريم الأصل الذي يسمى بعبارة العلماء وبمصطلحهم: مقصداً وغاية. - وتحريم الوسيلة المفضية إليه. قالوا: فسكوته عن زواج نفسه وسيلةٌ مفضية إلى الوقوع في الحرام، كما لو خلا بأجنبية فكأنه يتعاطى أسباب الوقوع في الحرام. ومفهوم هذا: أنه إذا أمن الحرام أو أخَّر لزمان يراه أصلح له في اجتهاده ونظره أنه لا يصل إلى الوجوب متى ما علم أنه واثقٌ من نفسه وغلب على ظنه، فإذا استيقن أو غلب على ظنه فلا إشكال.

التنبيه على قضية إزعاج الأطفال في المساجد

التنبيه على قضية إزعاج الأطفال في المساجد أحب أن أنبه على أمر وهو قضية الأطفال، فقد كثر صياحهم وإزعاجهم، فأفضِّل لا آمر ولا أنهى، لأني لا أستطيع أن أمنع أمة الله إذا احتاجت إلى إحضار أولادها، وكذلك لا أستطيع أن أمنع الأولاد؛ لكني أفضل للمرأة وللرجل إذا أمكن ألا يأتوا بالأطفال حتى لا يزعجوا طلاب العلم، ولا يتسببوا في الضرر على غيرهم، وإن كان بعض العلماء يرى أنه إذا وصل الأمر إلى حالة من الإزعاج والصراخ أنه قد لا تخلو المرأة من إثم، وكذلك الرجل. فأنا أفضل أن يُتَّقى هذا، وإذا كانت المرأة لا تستطيع أن تترك أولادها فيمكن أن تستعين بعد الله بالشريط، وأحبِّذ ألَّا يحضر الأطفال ما أمكن، وقد اشتُكي إليَّ أكثر من مرة، فحبذا لو أن طالبات العلم والأخوات وأيضاً الأزواج يراعون ذلك. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يغفر ذنوبنا، وأن يتجاوز عنا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

كتاب النكاح [2]

شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [2] جاء في الشريعة الحث على طلب صفات معينة في الزوجة، مثل أن تكون صالحة دينة، وأن تكون بكراً ولوداً، وقد أبيح النظر إلى المخطوبة إذا علم من حال الخاطب أنه يريد النكاح فعلاً، فيباح له النظر إلى الوجه والكفين، ولا يختلي بها في حال النظر.

الصفات التي يستحب توافرها في المرأة

الصفات التي يستحب توافرها في المرأة قال المصنف رحمه الله: [ويسن نكاح واحدةٍ دَيِّنةٍ أجنبيةٍ بكرٍ ولودٍ بلا أم] يقول: من السنة أن ينكح واحدة، وهذه الواحدة لما قال: (يسن) كأنه يشير إلى الهدي والسنة أن يتزوج واحدة، ومن نظر إلى السنة علم أن السنة التعدد، وأن الواحدة خلاف الأفضل، وأن الأفضل إن قدر على أن يعدد عدد، وإذا لم يقدر أو خاف عدم العدل -كما تقدم- فلا إشكال، لكن إذا كان قادراً على أن يعدد فالأفضل والسنة أن يعدد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عدد في نكاحه، فيكون قوله: (يسن واحدة) السنة من حيث الأفضلية، والأحسن والأكمل أن يعدد؛ لأن التعدد له مصالح ذكرناها وأشرنا إليها، خاصة إذا كان الرجل هدفه من التعدد الإحسان إلى المرأة أو الإحسان إلى أيتامها، أو تخفيف الشر على المسلمين بالزواج ونحو ذلك من المقاصد الحسنة.

أن تكون المرأة دينة

أن تكون المرأة دينة قال رحمه الله: [دينة] أي: ذات دين، والدين تختلف مراتبه، فهناك المرأة الدينة التي بلغت أعالي الدرجات في دينها واستقامتها ومحافظتها، وهذا النوع أثنى الله عليه من فوق سبع سماوات وأشاد بفضله ومكانته، فقال سبحانه وتعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] والمرأة الصالحة الدينة أفضل من غيرها، وقدمها المصنف؛ لأن خير الناس وأفضل الناس من كان عنده دين، وبقدر الدين يتفاضل العباد، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، (قيل: يا رسول الله! من خير الناس؟ -من هو خير الناس، ومن هو أفضلهم، ما قال صلى الله عليه وسلم: أغناهم، ولا أرفعهم حسباً أو نسباً- قال: أتقاهم) أي: خير الناس أتقاهم لله سبحانه وتعالى، فخير النساء أتقاهن لله عز وجل، ويعبر العلماء بمعنى التقوى في قولهم: دينة. وعلى هذا فهناك مراتب للمرأة: المرتبة الأولى: أن تكون ذات دين، بمعنى: تحافظ على الصلوات، وتحافظ على الواجبات، وتمتنع من المحرمات، لكنها ليست بحريصة على الفضائل. المرتبة الثانية: أن تكون محافظة على الواجبات، تاركة للمحرمات، تفعل الفضائل أحياناً وتتركها أحياناً. المرتبة الثالثة: أن تكون كما سبق، ولكنها لا تترك فضلاً ولا طاعة، كلما علمت باب خير حرصت عليه، فحينئذٍ المرأة في هذه المرتبة لا تخلو من ضربين: النوع الأول: أن تكون حريصة على الفضائل والنوافل لنفسها، كقيام الليل وصيام النهار ونحو ذلك من الطاعات التي يكون نفعها خاصاً بها، وقد يلتحق بهذا النفع المتعدي نسبياً، كأن يكون عندها مال ودائماً تنفق فيكون نفعها متعدياً، لكن في الغالب ليس عندها علم، وهذا مرادنا، أن طاعتها ودينها وكثرة الخير فيها من جهة النوافل والطاعات. النوع الثاني: أن يكون نفعها كهذه ومتعدٍ إلى الغير، كطالبة علم، وداعية إلى الله ونحو ذلك، فأفضلهن الأخيرة، فإن كانت ذات علم ومحافظة على دينها واستقامتها، وتنشر علمها وتدعو، فهذه أفضل وأكمل ولكنها تحتاج إلى رجل صابر، يعني: ينبغي أن يعلم أن اشتغالها بالدعوة وعلمها سيكون على حساب أمور في بيتها. فمثل هذه عليها في الأصل أن تحفظ بيتها، ولا تخرج للدعوة وتترك ما فرض الله عز وجل عليها من تربية أولادها وبناتها؛ لأن الله فرض عليها أن تدعو الأقربين أولاً؛ فتبدأ ببيتها، ولا شك أنه من الخطر أن تترك حقوق البيت وحقوق الزوج لتخرج إلى الدعوة، وتحضر المجالس والمحاضرات وتضيع هذه الحقوق الآكد والأوجب، ولكنها تقوم بترتيب نفسها وإحسان التصرف مع بعلها وحقوق أولادها بحكمة وفطنة، والزوج الصالح يساعدها، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، يعني: يساعدها ويعينها لكن في حدود شرعية بشرط أن لا يعرض نفسه للحرام، وأن لا يعرض أولاده للضياع. فالمرأة التي بلغت أعالي الدرجات مثل هذا النوع من الداعيات الصالحات لا شك أنه أفضل، لكن ينبغي كما ذكرنا على الزوج إذا أقدم على هذا النوع من النساء أن يضع في حسبانه اشتغالهن بالدعوة وحرصهن على الخير، وأن هذا يترتب عليه تبعات ومسئوليات، فقد يحدث ما يوجب النفرة بين الزوجين بسبب عدم إحسان التصرف في مثل هذا النوع من النساء. أما النوع الذي هو دون ذلك، فإن الفضل في زواجه يتفاضل على حسب المراتب، لكن هناك نوع في بعض الأحيان تفضل فيه المرأة من جهة القرابة إذا كانت قريبة ووجدت أمور تفضل النكاح منها، فالدينة القريبة لا شك أنها أولى وأحرى، وسنبين هذا عند قوله: [أجنبية]. فقد يفضل نكاح الدينة بوجود صفات أُخر، وخاصة إذا اقترن نكاح المرأة ببر الوالدين، فإن الرجل الذي يحرص على الزواج من امرأة يرضى عنها والده وترضى عنها والدته حري به أن يبارك الله له في زواجه، وأن يبارك الله له فيما أقدم عليه من نكاحها، أما إذا أقدم على النكاح بشيء فيه عقوق للوالدين فقد تنزع البركة من هذا النوع من النكاح، فيحرص على أن يطلب امرأة يجمع فيها بين رضى الله سبحانه وتعالى ورضى والديه. فإن كانت المرأة غير دينة، فهذا طبعاً يتفاوت بحسب ما ذكرنا من النساء في الدين، فكما أن الدين يتفاوت كذلك ضعف الدين يتفاوت، فإذا كانت غير دينة، يعني: تختلف لكنها في الأصل مسلمة؛ لأن غير المسلمة لا نتكلم عليها، والكتابية لها أحكام خاصة سنتكلم عليها، أما المشركة والوثنية والملحدة التي لا دين لها -نسأل الله السلامة والعافية- فهذا النوع من النساء لا يجوز نكاحه إلى الأبد حتى تسلم، فإذا أسلمت جاز نكاحها، أما وهي على وثنيتها فلا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في المجوس: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم). فالشرك والوثنية أمرهما عظيم، ولكن الله خص الكتابية؛ لأن هناك نوعاً من الرضا بالدين؛ لأنها ذات دين، وهناك قاسم مشترك وإن كان هناك اختلاف بين الديانات؛ فمادام أنها ارتضت الدين ارتضت الطاعة فإنك تستطيع أن تدخلها في الإسلام، ولذلك جاز نكاح الكتابية ولم يجز أن ينكح الكتابي مسلمة، وهذا يدل على أن القصد التأثير. قلنا: إذا لم تكن دينة فهذا يتفاوت، لكن هناك المرأة التي هي ضعيفة الدين ويكون ضعفها بترك الواجبات أو فعل المحرمات، فيختلف هذا؛ لأن هناك واجبات إذا تركتها حكم بكفرها فلا إشكال، وهناك محرمات إذا وقعت فيها تعدى ضررها إلى الغير، مثل الزانية التي هي ناقصة الدين، فالزانية لا يجوز أن يتزوجها، ولذلك قال الله عز وجل: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3]، ومذهب طائفة من العلماء رحمهم الله: أنه لا يجوز نكاح الزانية إلا بشرطين، الشرط الأول: استبراؤها من الزنا؛ أن تنهي عدتها، والشرط الثاني: أن تتوب إلى الله من الزنا، ولذلك لما جاء مرثد بن أبي مرثد وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكح عناق منعه من ذلك ونزلت الآية. وأما ما ورد من قول: (إن امرأتي لا ترد يد لامس) فهذا حديث ضعيف، وتكلم الإمام ابن القيم رحمه الله عليه كلاماً نفيساً وبين ضعفه، ولكن على القول بتحسينه كما حسنه الحاكم، وبعض المتأخرين يميل إلى تحسينه، على هذا القول لو فرض أنه حسن أجاب ابن القيم بجواب حسن وقال: (إن المراد بقوله: (لا ترد يد لامس) ما كان عليه أهل الجاهلية، فقد كانوا يتركون للعشيق أن يستمتع بالمرأة باللمس ونحو ذلك ولا يصل إلى الزنا، لكن هذا الحديث في الحقيقة حتى لو صح فيه دليل يدل على أنه لا يجوز استبقاء مثل هذا؛ لأنه قال له: (يا رسول الله! إن امرأتي لا ترد يد لامس، قال: طلقها، قال: يا رسول الله! إني أخشى أن تتبعها نفسي، فقال عليه الصلاة والسلام: فأمسكها) فكأنها حالة ضرورة. (أن تتبعها نفسي) يعني: أني تعلقت بها وأحببتها، فإن طلقتها سأعود وأزني بها، فقال: (أمسكها) وهي مسألة تعارض المفسدتين، وللعلماء فيه كلام، لكن الذي تطمئن إليه النفس أن الحديث غير ثابت، وعلى القول بثبوته يصرف إلى مسألة اللمس الذي لا يصل إلى الزنا، فيكون قوله: (فأمسكها) يمسكها لمفسدة اللمس من الأجنبي التي هي أخف من مفسدة وقوعه في الزنا، فيكون تخريجه على الوجه الذي اختاره الإمام ابن القيم على فرض ثبوت الحديث. نرجع إلى مسألتنا: إن كانت المرأة غير دينة يسأل عنها الذي يريد زواجها: هل هي تضيع الواجبات؟ ويسأل عن نوع الواجبات، ويسأل عن نوع المحرمات، فإن كانت المحرمات الضرر فيها متعدٍ فلا يطلبها؛ لأنه لا يؤمن أن يسري الفساد إلى أولاده وذريته، وهناك تفصيلات في مسألة الزواج من غير الدينة، فإذا غلب على ظن الناكح أنه سيهديها وأنه سيؤثر عليها خاصة إذا كانت قريبة، فإنه يعزم ويتوكل على الله إذا أمره والداه وغلب على ظنه أنه سيدعوها ويؤثر عليها، وهذا مخرج من نكاح الكتابية، فإن نكاح الكتابية يجوز من أجل دعوتها إلى الإسلام، فإذا كانت قريبة وأمر بها الوالد وكان دينها خفيفاً لكنك إذا تزوجت بها قوي دينها وقويت استقامتها، فإنه مما يرغب أن تنكحها، ولا بأس في هذه الحالة من الإقدام على زواجها والنكاح منها.

أن تكون المرأة أجنبية

أن تكون المرأة أجنبية قال رحمه الله: [أجنبية] الأجنبية مأخوذة من المجانبة بمعنى: المباعدة، ومنه سميت الجنابة؛ لأن صاحبها يبتعد عن فعل الصلاة، والأجنبية ضد القريبة، ومعنى ذلك: أن المصنف يميل إلى تفضيل نكاح الرجل من غير قرابته، وهذا مبني على أنه أنجب للولد، ويذكر بعض الأطباء من المتقدمين والمتأخرين أن النكاح من غير القريبة أفضل لنجابة الأولاد، ومنه الأثر المشهور عن ابن عمر: (اغتربوا لا تضووا) قالوا: إن الاغتراب أن ينكح من غير قريبة، وهي التي يعبر عنها بالأجنبية. والحقيقة: نكاح القريبة له فضائل وله محاسن، ونكاح الأجنبية له فضائل وله محاسن، والأفضل أن تترك المسألة لتقدير الشخص، فالشخص نفسه يستطيع في بعض الأحيان أن يرى أن زواجه من قريبته أفضل، فحينئذٍ يقدم ويتزوج من القريبة، وأما التزهيد في نكاح القريبة فهذا في الحقيقة لا يخلو من نظر، فإن القريبة إذا تزوج منها كان أوصل للرحم، وكون الإنسان يستر قريبته وتكون في كنفه ويضمها إلى رعايته لا شك أن هذا من الإحسان إلى القرابة ومن صلة الرحم. وثانياً: أن القريبة أصبر على الزوج من غير القريبة، فإنه لو طرأ في مستقبله أمور أو حوادث أو أصيب بعاهة أو ضرر أو نحو ذلك لوجد أصبر الناس عليه قرابته، ولو تغير مركزه أو جاهه وأصبح في ضيق صبر عليه أرحامه، وثبتته قرابته، وأحست أن ما دخل عليه من الضرر دخل عليها، وأن ما جاءه من السوء جاء إليها، كذلك أيضاً تكون القريبة أكثر قدرة على احتواء الوالد والوالدة والأخوات والقرابات، لعلمها بطبيعة المعاشرة وكيفية كسب رضا أقربائها، وهذا نقصد به القريبة العاقلة التي تحسن تقدير الأمور، ولذلك تركنا الأمر لكل رجل أن ينظر في نوعية القريبة. فأنا أقول: إذا كانت القريبة بهذه المثابة، أو كانت القريبة من أسرة فيها صلاح، وفيها دين، وفيها استقامة، فإنك تنتفع منها في نصح القرابات، واتخاذ طريقة لاغتنام زواجك منها في الخير، فهناك أمور تقوي جانب القريبة في مثل هذه الأحوال، وأما الغريبة وهي غير القريبة فتارة يكون النكاح منها أحظ للإنسان من حيث سلامة الولد، والبعد عن بعض الأمراض التي قد تكون موجودة وراثة في البيت والأسرة، وكأنه يريد أن ينصح لولده من هذا الوجه؛ من باب تعاطي الأسباب، وإلا فلا ينجي حذر من قدر، ولربما فر من أقربائه لعاهة فابتلاه الله بأسوأ منها، ولربما فر من عاهة الدنيا فاحتقر قرابته -خاصة إذا كان لمقصد سيئ- فابتلاه الله عز وجل بعاهة الأخلاق، فخرج أولاده على سوء وبلاء، نسأل الله السلامة والعافية. ولذلك النكاح من الغريبة قد تخفى على الإنسان فيه أمور. وأياً ما كان فأفضل ما ينبغي للزوج أن يبحث عنه: أولاً: أن يبحث عن طبيعة البيت الذي يريد أن يتزوج منه، وهو الذي يسمى بالحسب، والحسب من الحساب، والحسب أن تقول: أبي فلان العالم، وجدي الأول الشيخ فلان، ووالد جدي كذا، فتحتسب ما لآبائها، وهذا من باب معرفة فضل البيت، ومن باب إنزال الناس منازلهم، وهذا النوع من الحسب إذا وجد فالغالب أن الأسر التي هي ذات علم أو ذات شهامة كبيوت المشيخة والإمرة، وهؤلاء غالباً يترفعون عن عوام الناس في تصرفاتهم، فيكون فيهم الكرم، وتكون فيهم الشجاعة، ويكون فيهم الحرص على السمعة الطيبة، فتكون فيهم خصال حميدة، ومواقف طيبة تعين على التأسي بهم في الذرية، ولذلك إذا سمع الولد أن جدَّه فلانٌ وأن جد والدتِه فلانٌ دعاه ذلك أن يسأل: من هو فلان؟ وماذا كان يفعل؟ وكلٌّ منا يدرك ذلك، فإنه حينما يعلم أنه من بيت دَيِّن أحس أن عليه مسئولية وأن عليه أمانة، وأن عليه أن يحفظ لهذا البيت حقه، وأن يحفظ لهذا البيت قدره، فيحرص على أن يتوخى الحذر في أقواله وأفعاله وتصرفاته، فهذه أمور حميدة في الذرية والأسرة، فيحرص الإنسان عند نكاحه على هذا النوع وهي المعادن الطيبة والكريمة، فإن الله تعالى يضع الخير حيث شاء: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54]. فالبيوت التي عُرفت بالذرية الصالحة، وعُرفت بالاستقامةِ والمحافظةِ يكون الزواجُ منها خيراً وبركة، وينبغي كذلك أن يتوخى الحذر في الأخلاق، فيبتعد عن الأسر المعروفة بالحمق والعصبية والنزعات الجاهلية، حتى لا يؤثر ذلك عليه وعلى زوجه وعلى أولاده وذريته. فإذا أراد أن يختار الزوجة فيبحث عن الدِّين الذي هو أساس كل خير ومنبع كل فضيلة، حتى إن المرأة ربما كانت من أسرة غير دَيِّنة وهي دَيِّنة، لكنها بدينها بعد فضل الله عز وجل تستطيع أن تتقي كثيراً من السلبيات وأن تتلافاها وتبتعد عنها. الحرص على المعادن الطيبة مع الدِّين، فإن اجتمع الدين والدنيا فهذه نعمة عظيمة وخير على خير ونور على نور، قال صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذا المعنى: (تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) ومعنى الحديث: أن العائلات والأسر فيها معادن، (تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة) قد تجد معدناً من أخلص الذهب وأصفاه وأعلاه وأجوده، وهذا المعدن الكريم في الناس، ومعدن تجده من أضعف المعادن وأكثرها شوباً وعيباً. وكذلك بالنسبة للأخلاق، فتجد بعض الأسر فيها حمق وفيها جاهلية وعصبية، وإذا جاءها الدين ترفضه، وتقدم العادات والتقاليد على الدين، فأصحاب هذه النعرات الجاهلية والمآخذ السيئة في الدِّين إذا تزوج الإنسان منهم لا يأمن أن تسري هذه الصفات إلى الأولاد والذرية، وكم من رجل صالح بحث عن امرأة جميلة فوجدها في منبت السوء فدمرته وأشقته -نسأل الله السلامة والعافية-، وكم من امرأة أخرجت زوجها من بر والديه حتى عقهما فدعا عليه والداه آناء الليل وأطراف النهار، وكان من قبل يجلس عند قدم أبيه! وكم من امرأة -والعياذ بالله- دمرت الإنسان فصرفته عن طلب العلم وعن حلق الصالحين! وهذا معروف وموجود ومشاهَد، فمن نظر إلى شيء غير الدين نزع الله البركة منه، ومن تزوج امرأة وهو ينظر إلى يدها وغناها لم يزده الله إلا فقراً وضياعاً؛ لأن الله يعامله بنقيض قصده، فإذا قصد متاعَ الدنيا معناه أنه يستغني بغير الله ويفتقر إلى غير الله، وذلك شقاء العبد، فسعادة العبد في الاستغناء بالله جل جلاله، والافتقار إلى الله سبحانه وتعالى. يقول بعض العقلاء يوصي ولده: يا بني! تزوج امرأة تنظر في يدك ولا تنظر في يدها، يعني: امرأة تنظر إليك وتحس أن عندك الكثير من الدِّين والاستقامة؛ لكن إذا جاءت المرأة أغنى منك فأصبحت تنظر إلى غناها، وتنظر لما في يدها من راتبها، أو تنظر إلى ما في يدها من غنى والدها وأنها سترث وأنها كذا، فإن الله لا يزيدك إلا فقراً. العاقل الحكيم ينظر هذه النظرة البعيدة؛ أن الزواج ينبغي أن يبنى على الدين، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى فقال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) وذكر المرغبات في النكاح من المال والجمال والحسب، والذي يدخل معه النسب والدين ثم قال: (فاظفر) وكأنه كنز وشيء عظيم وغنيمة (فاظفر بذات الدين تربت يداك) وهذا يدل على أن الدين يغني عن هذه الأشياء كلها، فكم من امرأة فقيرة ولكن الله سبحانه وتعالى أغناها بالدين! وكم من امرأة ضعيفة ولكن الله قوَّاها وجعل عزَّها بدينها! وكم من امرأة يراها الإنسان فيزدريها ولكن الله جعل فيها قلباً يخافه ويخشاه فيحبها سبحانه! فمثل هذه المرأة الصالحة قد يكرم الله بها الإنسان فتخرج له أولاداً صالحين تقر عينه بهم، وخاصةً عند المشيب والكبر. فالمقصود: أن من كان قصده ما عند الله سبحانه، والحرص على الدين، فلا شك أن الله عز وجل سيوفقه وسيجعل له من ذلك خيراً كثيراً.

أن تكون المرأة بكرا

أن تكون المرأة بكراً يقول المصنف رحمه الله: [بكر ولود بلا أم] ذكر المصنف رحمه الله هذه الجملة التي بين فيها الصفات التي ينبغي للمسلم أن يراعيها في اختياره للزوجة، وهذا البيان فيه تأسٍ بالسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفات التي ينبغي أن يطلب المسلم من خلالها زوجته، وكذلك أثنى الله عز وجل على الصالحات من فوق سبع سماوات حتى يلفت الأنظار إلى أمانتهن وحفظهن وقيامهن بحقوق الزوجية. قوله رحمه الله: [بكر] أي: يسن نكاح البكر، وهذه الصفة ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حينما قال لـ جابر رضي الله عنه: (هَلَّا بكراً تلاعبها وتلاعبك)، وفي البكر مميزات تعين على غض البصر وحفظ الفرج. ومقصود الشرع من النكاح: أن يغض المسلم بصره، وأن يحفظ فرجه، فالبكر معينة على ذلك. وأما بالنسبة للثيب فإن فيها صفاتٍ تفضَّل بها على البكر باعتبارٍ آخر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أكثرُ نسائه كن ثيبات، وهذا مبني على أمورٍ: إذا نكح الرجلُ المرأةَ الثيبَ من خلالها عَظُم أجرُه وكان محصلاً لثواب، فيجمع بين خيري الدنيا والآخرة، فمن ذلك: أن تكون الثيبُ أرملةً، أو يكون للثيب أيتام يحب أن يتزوجها فيحفظ أيتامها ويجبر خاطرها، أو يكون لهذه الزوجة وجه صلة؛ كأن تكون زوجةً لأخيه فيموت عنها ويخلف أيتاماً له، فيحب أن يقوم على زوجة أخيه ويرعى أيتامه. فمثل هذه الأمور ومثل هذه المقاصد يعظم بها الأجر، وتفضَّل بها الثيب على البكر؛ لأنها مقاصد شرعية، وثواب الإنسان فيها قد يكون أعظم من حظه لنفسه، وهذا هو الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد نكح جملةً من النساء كن أزواجاً لأصحابه رضي الله عنهم، فطيَّب الخواطر، وكذلك جمع الشمل. فمثل هذه المقاصد العظيمة والمعاني الكريمة تفضَّل بها الثيب؛ لكن من وجه. ومما يدل على هذا الاستنباط الذي اختاره بعض العلماء: أن جابراً رضي الله عنه لما ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تزوج، فقال له لما أخبره أنها ثيب: (هَلَّا بكراً تلاعبها وتلاعبك) فذكر جابر العلة؛ وهي أن والده عبد الله بن حرام رضي الله عنه وأرضاه توفي وترك له أخوات، فأحب أن ينكح الثيب حتى تقوم عليهن وترعاهن، وهذا مقصد عظيم يعظم به الأجر ويكثر به الثواب، فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، ودل هذا على أن الثيب قد تُفَضَّل باعتبارات مثل هذه.

أن تكون المرأة ولودا

أن تكون المرأة ولوداً قال رحمه الله: [ولود] أي: يسن نكاح الولود؛ وهي الصفة الخامسة، والولود هي التي تنجِب، فإذا كان الرجل مخيراً بين امرأة ولود وامرأة لا تنجب، فإنه يقدم الولود على العقيم، والسبب في هذا: أن الولود يُكَثَّر بها سواد الأمة، وكذلك يحفظ بها الرجل بإذن الله تعالى نسله، ولا شك أن بقاء النسل إذا كان صالحاً من الخير الذي يبقى للعبد بعد موته، كما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث -وذكر منها- أو ولد صالح يدعو له) فأجمع العلماء على استحباب نكاح الولود، وفيه الحديث المشهور: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثرٌ بكم -وفي رواية: مفاخر بكم- الأمم يوم القيامة -وفي رواية: مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة-) قالوا: فالولود فيها تكثير لسواد الأمة. ثم إن الشرع قصد هذا المعنى بإباحة نكاح الأربع وذلك حتى يكثُر سواد الأمة بكثرة الإنجاب، فيُعَزُّ دين الله وتُنْصَر كلمته، وذلك مقصود من مقاصد النكاح الشرعية.

عدم وجود الأم

عدم وجود الأم قوله: [بلا أم] الصفة السادسة: بلا أم، وعند النظر لم يثبُت حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بيَّن استحباب أن تكون المرأة بلا أم، ولذلك تصدير المصنف للجملة بقوله: (يُسَنُّ)، ثم ذكر هذه الصفة السادسة: بلا أم، محل نظر، ومسألة وجود الأم وعدمها ليس فيها نص شرعي معين، الأم تارةً يكون وجودها حسنة، وفيه خير كثير على المرأة، إذ تثبت ابنتها وتؤدبها وتدلها على ما فيه صلاح دينها ودنياها، وتارةً تكون الأم على خلاف ذلك، والناس فيهم الصالح وفيهم من هو بخلاف ذلك، نسأل الله السلامة والعافية، والخير والشر أمر نسبي، ويختلف الناس فيه بحسب وجود الأسباب التي تبعث عليه، فالعلماء حينما قالوا: يُفَضَّل نكاحُ المرأة التي لا أم لها فإنما هو من جهة دفع ضرر التخذيل، فإن الأم ربما غارت لانقطاع ابنتها عنها، وربما أفسدت البنت على زوجها. وأيّاً مَّا كان فهذا أمر يختلف باختلاف الأحوال وباختلاف البيئات، والرجل ينظر الأحظ لنفسه، وقد تكون الأم موجودة والمرأة صالحة، فلا ينبغي ترك الصالحات لمثل هذه الأسباب المحتملة، وقد قرر الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه النفيس: (قواعد الأحكام) مسألة تعارض المفاسد بعضها مع بعض، وتعارض المصالح مع المفاسد، وقرر في أكثر من موضع أن هذا أمر يختلف باختلاف الأحوال والبيئات والأشخاص والأزمنة، ومن هنا يُتْرَك النظر إلى الإنسان، فإذا عَلِم أن الأم تفسد الزوجة من خلال أخواتها اللاتي سبق نكاحهن وغلب على ظنه أنه لا يستطيع أن يمنعها من ذلك، فإنه حينئذٍ يحتاط لأمره والعكس بالعكس، لكن ليس في ذلك نص معين كما يفهم من قوله رحمه الله: (يسن).

جواز النظر إلى المخطوبة

جواز النظر إلى المخطوبة قال رحمه الله: [وله نظر ما يظهر غالباً مراراً بلا خلوة] هذه هي الجملة الثالثة التي اشتمل عليها هذا الفصل، وهو النظر إلى المخطوبة، ومن دقة العلماء والفقهاء رحمهم الله، أنهم يرتبون المسائل والأحكام على حسب الوقوع، فمن عادة الناس أنهم يختارون أولاً، ثم بعد الاختيار يطلب النظر إلى المخطوبة، فشرع رحمه الله في بيان شرعية النظر إلى المخطوبة، وبيان محل النظر والقدر الذي يجوز للمسلم أن يراه من مخطوبته. وفي هذه الجملة مسائل: المسألة الأولى: أجمع العلماء رحمهم الله كما حكى غير واحد؛ منهم: الإمام ابن قدامة، وكذلك الإمام النووي، والحافظ ابن عبد البر رحمة الله على الجميع على مشروعية نظر الخاطب للمخطوبة من حيث الجملة، لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: (أنظرت إليها؟ قال: لا. قال: انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)، وقوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الصحيح: (انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً) ونحو ذلك من الأدلة الصحيحة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإجماع منعقد على مشروعية النظر إلى المخطوبة. المسألة الثانية: هذا النظر تترتب عليه مقاصد شرعية، ففيه جلب مصلحة ودرء مفسدة: أما المصلحة، فقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: (فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) فهو يحقق الألفة والمحبة، وطمأنينة كل من الزوجين إلى الآخر. وأما المفسدة، فإن الرجل إذا لم يكن على علم بصفات المرأة ربما كرهها إذا نظر إليها بعد الدخول بها، وحينئذٍ تقع المفاسد التي لا تحمد عواقبها، فمن حكمة الله سبحانه وتعالى أن شرع لعباده النظر على هذا الوجه حتى تتحقق المقاصد الشرعية وتندرئ المفاسد المترتبة على دخول الرجل على زوجته من غير سبق نظر، ثم في هذا النظر حكمةٌ من جهة أن الله تعالى أعطى الزوج حق المعرفة لصفات زوجته، وكذلك الزوجة تنظر إلى زوجها حتى تكون على بينة من أمرها. وكذلك أيضاً هناك مسألةٌ رابعة وهي: ما هي أحوال النظر؟ النظر له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون دون علم المرأة. والحالة الثانية: أن يكون بعلم منها. وفي كلتا الحالتين لا يجوز للمسلم أن يقدم على النظر إلا إذا غلب على ظنه -خاصةً في الحالة الأولى- أنه يُقبل، ومن هنا قال بعض العلماء: إنه إذا غلب على ظنه أنه لا يُقبل وأن المرأة لا ترضاه ووليها لا يقبله زوجاً لها، فإنه لا ينظر إليها؛ لأنه ليس ثَمَّ موجبٌ شرعي لاستثنائها من الأصل الذي يُحَرِّم عليه النظر إلى الأجنبية. فأما النظر دون علم المرأة فهو أن يختبئ الرجل للمرأة ويراها في حال خروجها وحال مخالطتها في الخارج للناس حتى ينظر إلى حشمتها وحيائها وطريقة محافظتها على دينها، والمرأة العفيفة الصالحة لها سمات ولها أمارات وعلامات، والخير الذي غيبته القلوب يظهره الله في القوالب، فإن المرأة إذا كانت صالحة ظهر صلاحها في حشمتها وعفتها وبُعدها عن مخالطة الرجال حتى في طريقة مشيها، فإن هناك صفات تدل على الموصوف والشخص الذي أتى بها، فالبعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فإذا رآها خرَّاجة ولَّاجة، ورآها إذا مرت على الرجال لم تستحي ولم تحتشم ودخلت بينهم، أو رآها ترفع بصرها فتكثر التلفت يميناً وشمالاً، فمثل هذه الصفات ومثل هذه الأفعال توجب للمسلم أن يتوقف ويتريث عن التعجل في أمره. وكذلك أيضاً هناك مصالح من النظر: فربما نظر في بعض صفاتها ما يحببه فيها ويرغِّبه فيها بعد وجود الصفات الشرعية التي سبقت الإشارة إليها، وهي التي تدل على عفة المرأة وصلاحها واستقامتها. فأما النظر على هذا الوجه؛ وهو أن يختبئ لها، فقد أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في عموم قوله: (انظر إليها) وكان جابر رضي الله عنه -كما ثبتت الرواية عنه- يختبئ لها حتى رأى منها ما يدعوه إلى نكاحها، وكذلك قال الإمام عبد الرحمن الأوزاعي فقيه الشام المعروف رحمه الله برحمته الواسعة، قال: انظر إليها دون أن تعلم حتى لا تتزين، أمر بالنظر إلى المخطوبة دون علم منها حتى لا تتكلف الزينة ولا تتكلف في الطبائع والخلق، وأما النظر الخاص فهو أن يطلب من أوليائها على الوجه المعروف الذي فيه حشمة وفيه محافظة أن يمكن من النظر إلى الموضع الذي أحل الله النظر إليه من المرأة المخطوبة، فإذا رضي أولياء المرأة بالرجل، ورغب الرجل في النكاح، وعلم منه صدق الرغبة، دخلت المرأة بحضور وليها مع الزوج أو بحضور أمه، المهم أنها لا تختلي معه، فتدخل وتكون كاشفة عن وجهها وكفيها، وهذا هو القدر الذي يباح النظر إليه في أصح أقوال العلماء رحمهم الله، خلافاً لمن قال: يجوز له النظر إلى جميع المخطوبة عدا السوءتين كما هو قول الظاهرية، أو ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها كما يقول الحنفية رحمهم الله. ووجه ذلك: أن اختيار الوجه والكفين مبني على أن الأصل عدم جواز نظر الرجل إلى المرأة كلها، فلا يجوز النظر إلى أي شيء من المرأة، وهذا هو الأصل، ولذلك أمر الله الرجل أن يغض بصره عن أمة الله، وأن لا ينظر إليها: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] فأمر الله بغض البصر وحفظه، وعدم النظر إلى المرأة الأجنبية، وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النظرة المسمومة إلى المرأة التي لا تحل، ولوى عنق الفضل وقال: (رأيت شاباً ينظر إلى شابة) فلم يأمن عليهما الفتنة صلى الله عليه وسلم. فالوجه والكفان اختارهما الإمام أحمد رحمه الله ومن وافقه من العلماء؛ لأن هذا القدر يحصل به المقصود وتتحقق به الحاجة، والقاعدة في الشريعة: أن ما جاز لعذر أو جاز لضرورة أو جاز لحاجة يقدر بقدرها، فأما الوجه فإنه يدل على محاسن المرأة وما وراءه من الأمور التي تكون تبعاً للوجه غالباً من طبيعة الجمال وحدوده؛ لأن أكمل ما يكون الجمال في الوجه، وأما بالنسبة لليدين والكفين فإن النظر إليهما لمعرفة طبيعة البشرة، وهذا يتحقق به المقصود من المرأة، يبقى قوامها وطبيعتها، وهذا يكون عند دخولها، فإنه يتمكن من رؤيته مع الحشمة ومع التحفظ كما سبقت الإشارة إليه. وليس معنى الإذن بالنظر أن يختلي بالمرأة أو يخرج معها كما يفعل بعض من يتساهل بحدود الله عز وجل ومحارمه، فالمرأة إذا خُطبت تُركت تذهب مع مخطوبها قبل العقد عليها بحجة أن يرى أخلاقها وترى أخلاقه، أو يرى طبيعتها وترى طبيعته أو نحو ذلك من الحجج التي لم ينزل الله بها من سلطان، والتي تغري بالفتنة وتدعو إلى الفاحشة، ومقصود الشرع سد الذرائع المفضية إلى ما حرم الله، فلا يجوز للرجل أن يختلي بمخطوبته، وعليه نص العلماء على أن هذا النظر يكون بالحدود الشرعية؛ فأولاً: لا يختلي بها وإنما يكون بحضور محرمها أو بحضور عدد من النساء من اللاتي يجوز له رؤيتهن كأخواته وأمه، فهذا هو الذي ينبغي مراعاته من جهة الخلوة، وأما نظره فإنه يكون إلى الموضع الذي يحصل به المقصود كما تقدمت الإشارة إليه. ثم يبقى النظر، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله ودعا إليه؛ فأما فعله فإن الواهبة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما قامت وسألته أن ينكحها صعد بصره فيها وصوبه، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد الرغبة حتى طال الأمر فقال رجل: يا رسول الله! زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، فالشاهد: أنه نظر إليها وصعد النظر صلى الله عليه وسلم وصوبه، وهذا يدل على مشروعيته بالسنة الفعلية إضافة إلى السنة القولية، نظر الخاطب لمخطوبته مستحب في أصح أقوال العلماء رحمهم الله، لكن لو أن رجلاً خطب امرأة ووافق أولياؤها وعقد له عليها، ثم دخل بها ولم ينظر إليها، فإن هذا لا يوجب بطلان النكاح، والنكاح صحيح ولكن فاتته السنة، والخير كل الخير في اتباع هديه صلوات الله وسلامه عليه، والحرص على سنته صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله جعل الهداية والرحمة في متابعته صلى الله عليه وسلم.

كتاب النكاح [3]

شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [3] التصريح والتعريض في الخطبة يختلف بحسب اختلاف حال المرأة، فإن كانت ليست بذات زوج وليست معتدة فيجوز التصريح ويجوز التعريض، ولا يجوز التصريح في حالة ما إذا كانت المرأة في عدة طلاق أو عدة وفاة أو فسخ، بخلاف التعريض، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في ألفاظ الخطبة على قولين، منهم من يقول بالوجوب ومنهم من يقول بعدم الوجوب.

التصريح والتعريض في الخطبة

التصريح والتعريض في الخطبة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويحرم التصريح بخطبة المعتدة من وفاة والمبانة دون التعريض] بعد أن بين رحمه الله أحكام النظر، بقيت الخطبة وبقيت الأحكام المتعلقة بها، وخطبة النكاح كلماتٍ تذكر ليُعرب بها عن الرغبة في المرأة ومحبة الزواج منها، وهذه الكلمات تكون على وجهين: الوجه الأول: ما يكون خطبة سابقة للعقد على وجه التعريض. والوجه الثاني: ما يكون خطبة سابقة للعقد على وجه التصريح، وقد يكون في العقد. فأما بالنسبة للتعريض والتصريح فهذه هي جملة من الكلمات التي يقولها الرجل أو يقولها وكيله أو يقولها وليه، فيقول الرجل لولي المرأة: إني أرغب في الزواج من فلانة، فهذه خطبة وتعتبر خطبة صريحة، والصريح: هو اللفظ الذي لا يحتمل معنى غيره، وكذلك يسمى النص في الدلالات عند الأصوليين في قول الجمهور، والحنفية يسمونه صريحاً، فاللفظ الصريح: هو الذي لا يحتمل معنى غيره، فالرجل إذا قال لولي المرأة: إني أرغب في الزواج من فلانة، فقوله: في الزواج منها، صريح في محبته لنكاحها ورغبته فيها، فإذا أجاب الولي: قبلنا زواجك منها، أو نرضى زواجك منها، أو نرغب في زواجك منها، فهذا أيضاً إجابة للخطبة بالإيجاب وعكسه السلب إذا قالوا: لا نرغب أو هي مخطوبة أو نحو ذلك مما يقصد منه الصد، فاللفظ الذي يستخدم في الدلالة والرغبة في المرأة يأتي على وجهين: إما صريحاً كقوله: أرغب في نكاحكِ -يخاطب المرأة- وفي الزواج منكِ، وإما أن يكون تعريضاً؛ والتعريض ذكر العلماء أنه يأتي على صور أشار إلى جملة منها شيخ الإسلام رحمه الله قال: من الخطبة بالتعريض أن يذكر صفات نفسه، ومثل لذلك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما خطب أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، فذكر أنه رسول الله، وأنه خيرته من خلقه، وأن مكانه من قومه لا يخفى عليهم، فاعتبره تعريضاً وكأنه ينبهها على رغبته صلى الله عليه وسلم فيها. والوجه الثاني من التعريض: أن يذكر محاسن المرأة وفضل المرأة، مما يدل على أن مثلها لا يفرط فيه، وأنها كريمة لا تضيع على مثله ونحو ذلك مما لا يصرح فيه باللفظ، فيقال: مثلكِ لا يعدل عنه، مثلكِ يرغب فيه، فهذا اللفظ وأمثاله يعتبر من التعريض، فهنا لفظ بالتصريح ولفظ بالتعريض. شرع رحمه الله في بيان أحكام لفظ الخطبة، وخطبة النكاح اختلف العلماء رحمهم الله فيها على قولين مشهورين: القول الأول لجمهور أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة رحمهم الله: أن الخطبة ليست بواجبة، وذهب طائفة من أصحاب داود الظاهري رحمة الله على الجميع إلى القول بوجوبها، ومذهب الجمهور هو أصح القولين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في نكاح الواهبة نفسها أنه لم يذكر الخطبة في تزويجه للواهبة من الرجل، وإنما قال: (أنكحتكها بما معك من القرآن) قالوا: فدل على أن الأفضل والأكمل اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك على الندب والاستحباب وليس على الحتم والفرضية والإيجاب. وعلى هذا فإن الخطبة مسنونة مستحبة لما فيها من ذكر الله عز وجل، ولما فيها من التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، ولفظها يستحب في قول جمهور العلماء أن يكون بخطبة الحاجة الثابتة في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ثم يذكر الآيات: آية آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. وآية النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. ثم يختم بالآية الثالثة وهي آية الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. فهذه الكلمات هي المسنونة المستحبة أن تقال. وأما ما يعتاده البعض من التكلف في الكلمات والزيادة في هذه الخطبة، وإيهام العامة أن لخطبة النكاح شيئاً زائداً عن هذا الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الالتزام، ولربما لا تخلو بعض هذه العبارات من كلمات فيها تنطُّع وخروجٌ عن السنن، فذلك مما لم يثبت به شيء في الشرع، والدين يسر وسماحة، فهذه الخطبة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كافية في تحقيق المقصود، ثم يشرع في بيان ما يريده من خطبة المرأة ونكاحها. قال رحمه الله: [ويباحان لمن أبانها دون الثلاث كرجعية]: يقول رحمه الله: (ويباحان): الإباحة: الجواز، يقال: هذا شيء مباح إذا أحله الله، واستوى طرفاه، فلم يُحَرَّم ولم يؤمر به، وحينئذٍ يكون في مرتبة الإباحة. وقوله: (يباحان): أي: يباح التصريح والتعريض. بالنسبة لمسألة التصريح والتعريض تختلف بحسب اختلاف حال المرأة، فإن كانت المرأة خِلواً ليست بذات زوج وليست بمعتدة، فإن له أن يصرح، وله أن يعرِّض إذا رأى أن المصلحة أن يبتدئ بالتعريض قبل التصريح، فيباح التصريح ويباح التعريض إذا كانت المرأة خِلواً من الرجال، وليست بمعتدة لا من عدة طلاق ولا من عدة وفاة، وأما إذا كانت المرأة معتدةً، فحينئذٍ لا تخلو عدتُها من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون معتدةً من طلاق. والحالة الثانية: أن تكون معتدة من غير طلاق، كمن توفي عنها زوجها. فأما التي تعتد من الطلاق فلا تخلو عدتها من ضربين: إما أن تكون عدتها عدة رجعية، فإذا كانت معتدة عدة رجعية حرم التصريح والتعريض؛ لأن المرأة في حال عدتها الرجعية تكون في حكم الزوجة، قال الله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً} [البقرة:228] وللزوج في هذه الحالة أن ينبهها أو يبين رغبته في عودتها إليه تصريحاًً وتعريضاً؛ لأنها لم تخرج عن عصمته بالكلية، وله حق الرد. وأما الضرب الثاني: وهو أن تكون مطلقةً طلاقاً بائناً بينونةً صغرى أو بينونةً كبرى، فإنه يحل أن يعرِّض بخطبتها فيقول: إني في مثلِكِ راغب، مثلُكِ يُرْغَب فيه، هذا بالنسبة للتعريض، أما التصريح: فلا يجوز أن يصرح لامرأة معتدة حتى ولو كانت من عدة وفاة، فالتصريح لا يجوز أن يكون لا في عدة الطلاق ولا في عدة الوفاة ولا في عدة الفسخ، وإنما يختص التعريض بالطلاق البائن، قال تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ} [البقرة:235] فأباح الله عز وجل التعريض بخطبة النساء، وهذا في حال إذا كانت العدة للمرأة من طلاق بائن. وأما بالنسبة للتصريح فإن منطوق الآية الكريمة يبيح التعريض، ومفهوم الآية الكريمة يحرم التصريح؛ لأن الله يقول: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة:235]، فقوله تعالى: (وَلا جُنَاحَ) هذا من صيغة الإباحة، وعند علماء الأصول: أن لا جناح ولا حرج -نفي الحرج والجناح- من صيغ الإباحة، كأن الله يبيح ويحل لعباده في حال رغبة الرجل في المرأة وهي معتدة من زوجها إذا كانت في عدتها أن يعرِّض ويقول: إني في مثلِكِ راغب، فقال: {فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة:235] فقوله: (فِيمَا عَرَّضْتُمْ) مفهوم ذلك: أن الجناح والحرج في التصريح، وحكى بعض أهل العلم الإجماع على حرمة التصريح بخطبة المرأة وهي معتدة، سواءً كانت من طلاق أو من وفاة أو من فسخ وخلع. قال رحمه الله: [ويحرمان منها على غير زوجها]: مفهوم ذلك: أن الزوج إذا كانت زوجته معتدة منه، أنه يحل له أن يصرح ويحل له أن يعرِّض، وذكر بعض العلماء أن المنع من التصريح لما فيه من إفساد المرأة على زوجها، وإحداث الضغائن؛ لأن المرأة تنصرف إلى زوجها خاصةً في حال كونها مطلقةً طلاقاً رجعياً، فالمعتدة من طلاقٍ رجعي مقصود الشرع بعدتها أن يعيد كلٌّ منهما النظر حتى يفيء إذا رأى الخير في الفيء، كما قال الله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق:1]، فهذا مقصودٌ عظيم، أو يتفرقا فيغني الله كلَّاً من سعته. مَن تأمل حكمة الشرع والمعاني التي تنبني على تشريع هذه العدة للمطلقة الرجعية، والأحكام التي قررها الإسلام لمثلها علم أنه لا أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون، فهذه حكم عظيمة، فكون هذا الغريب يدخل بين الزوج وزوجته ويصرِّح لها، فلا يبعد أن تُفْسَد النساء، وتحدثُ الضغائن، وتتشتت الأسر، وقد تكون الزوجة ذات عيال والرجل يرغب أن يعود إلى عياله، وإنما يريد أن تتريث المرأة في عجلتها، وأن تعيد النظر في تصرفاتها لعلها أن تتأدب بهذه الطلقة، فإذا بالغريب يهجم بالتصريح فيغريها أن تنزع عنه وتنصرف عنه، فهذا كله يفسد ما قصد الشرع إصلاحه، ويبدد ما قصد الشرع جمعه، فحينئذٍ أجمع العلماء -كما حكى بعض أهل العلم- على أنه لا يجوز التصريح للمطلقة طلاقاً رجعياً لهذا المعنى. وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم التعريض كما سبقت الإشارة إليه في حديث أم سلمة رضي الله عنها، وقول جماهير العلماء على مشروعيته في الأحوال التي أذِنَ الشرع بها في العدة من الطلاق أو من الوفاة على التفصيل الذي تقدمت الإشارة إليه.

تحريم خطبة المسلم على خطبة أخيه

تحريم خطبة المسلم على خطبة أخيه قال رحمه الله: [فإن أجاب ولي مُجْبَرَة أو أجابت غير المجبرة لمسلم حَرُم على غيره خطبتها] قوله: (فإن أجاب ولي مجبرة) بعد أن بين رحمه الله مشروعية الخطبة ببيان هذه الأحكام، وبيَّن أحوالها وأحكامها؛ متى تجوز؟ ومتى تحظر؟ وما الذي يحظر من أنواعها؟ شرع في بيان مسألة مهمة، مما تعم به البلوى في مسائل الخطبة؛ وهي مسألة خطبة المسلم على خطبة أخيه، وقد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (أنه نهى عن خطبة الرجل على خطبة أخيه) فالأصل الشرعي دال على حرمة أن يخطب مع علمه بأن أخاه المسلم قد سبقه في الخطبة، وهذا -أعني: تحريم خطبة المسلم على أخيه- محل إجماع. وذكر بعض أهل العلم حِكَماً عظيمة في هذا التحريم، منها: أن مقصود الشرع أن يجتمع شمل المسلمين، وأن يتآلفوا وأن يتراحموا ويتعاطفوا، وهذا هو الذي يقصد من كثير من شرائع الإسلام، ولذلك من تأمل أحب الأعمال إلى الله وأزكاها عند الله عز وجل بعد الشهادتين وهي: الصلاة، وجدها صلاةً مع الجماعة، تنتظم التآلف والتعاطف والتكاتف وكأنهم كالجسد الواحد. وهذا المقصود الشرعي من الاجتماع، وقد دعا إليه بالترغيب فيه والتأليف فيه، ونهى عن ضده، حتى حرم بيع المسلم على بيع أخيه؛ لأن بيعه على بيعه يقطع أواصر الأخوة، ويحدث الشحناء والبغضاء، وحرم بيع الغرر ونحو ذلك من البيوع التي وردت السنة بتحريمها، مما يُقْصَد منه دفع الشحناء والبغضاء بين المسلمين. كذلك في كتاب النكاح، جاءت هذه الصورة من الحكم الشرعي لكي تبين أن مقصود الشرع أن يجتمع شمل المسلمين، وألَّا تكون هذه المقاصد الدنيوية وسيلة، وإن كانت فيها معانٍ شرعية من وجوه؛ لكن ينبغي ألَّا تكون وسيلة لقطع أواصر الإسلام ووشائج المحبة بين المسلمين، ثم إن هذا الحكم من العدل الذي قامت به السموات والأرض، فالسابق له حقه في السبق، فإذا جاء الثاني من بعده أفسد عليه، وكذلك ضيع حقه في السبق، فإذا علم المسلم أن أخاه قد تقدم فلا يخلو من أحوال: الحالة الأولى: أن يجاب الخاطب الأول، فإن أجيب بالرغبة فلا يجوز بإجماع العلماء أن يتقدم الثاني، وإن أجيب بالنفي فبالإجماع يجوز للثاني أن يخطب، وأصبحت الخطبة الأولى وجودُها وعدمُها على حدٍ سواء، وإن تُوُقِّف في الرجل لكي يسأل عنه، فهذا ظاهر النص أنه لا يجوز حتى يستقر الأمر، وقال بعض العلماء: يجوز لحديث فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، حيث جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت أن أبا الجهم ومعاوية بن أبي سفيان قد خطباها، فقال صلى الله عليه وسلم: (أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو الجهم فرجل لا يضع العصا عن عاتقه، انكحي أسامة) فخطب لها عليه الصلاة والسلام مع وجود خطبة معاوية وأبي الجهم قالوا: إنه لم يحصل فيها ركون، فوقعت خطبتان ولم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فهذان وجهان مشهوران لأهل العلم، وأستأذن سماحة الشيخ أن يرجح في هذه المسألة. - ما رأيكم يا شيخ! في هذه المسألة؟ - ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أشار عليها بـ أسامة ولم يخطبها له. - نعم. - ولكنه رأى لها أن تقدم أسامة، وأسامة لم يخطب على خطبة أبي جهم ولا معاوية، فكان هذا على نيته وهذا على نيته، ولا يوجد دليل على أن واحداً خطبها وهو يعلم بخطبة الآخر، كل واحد خطبها على ما أراد، ولم يعلم بخطبته أحد. - جزاكم الله خيراً، حفظكم الله، ترون أنه يبقى الأصل الشرعي من عدم جواز الخطبة على الخطبة؟ الشيخ ابن باز: ما فيه شك، وهذا هو الأصل. - جزاكم الله خيراً. الشيخ ابن باز: ومن ظن أن النبي خطبها لـ أسامة فقد غلط، أسامة خطب مع الخاطبين؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم رجَّح لها أسامة يعني: أشار عليها بـ أسامة. - جزاكم الله خيراً، الله يحفظكم.

الحالات التي يجوز فيها الخطبة على خطبة الغير

الحالات التي يجوز فيها الخطبة على خطبة الغير قال رحمه الله: [وإن رُدَّ]: أي: الأول، والرد من المرأة ومن وليها ينبغي أن يفصل فيه، فإذا ردت المرأة فينبغي عليها ألَّا تستعجل في ردها وأن تسأل عن الرجل من تثق به من مواليها وقرابتها، فإذا كان دَيِّناً صالحاً كفؤاً كريماً فعليها أن تبادر بالقبول؛ لأنها نعمة من الله سبحانه وتعالى، والنعمة تُشْكر ولا تُكْفر، ومن شكر نعمة الله عز وجل أن تقبل هذا الزوج الصالح الدَّيِّن، وأن ترضاه لكي يكون معيناً لها على طاعة الله ومرضاته. وهكذا الولي، فإن الله جعله ولياً على المرأة لكي يتقي الله عز وجل في نظره، فيطلب الأصلح لها في دينها ودنياها حتى يؤدي أمانته على الوجه الذي يرضي الله، فإذا خالفت المرأة هذا الأصل وخالف الرجل فرُدَّ الكفء الصالح؛ فإنها لا تأمن من عقوبة الله عز وجل، فمن سنن الله عز وجل أن من رد نعمته وقابلها بالكفر ألَّا تُؤْمَنَ له العاقبة، وقَلَّ أن تعرض المرأة عن الرجل الصالح والكفء إلا ابتليت، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عظيم) فالرد ينبغي أن يكون بتأمل، وأن تنظر المرأة الأحظ لها في أمر دينها. فإذا رُدَّ الخاطب الأول جاز للخاطب الثاني أن يتقدم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حرم خطبة الثاني على خطبة الأول لمكان الإفساد، ولما يترتب عليه من حصول الضغائن والشحناء، وقد جاء الإسلام بما يوجب المحبة والألفة والمودة، وقفل الأبواب والوسائل المفضية إلى ضد ذلك. قال رحمه الله: (جاز) وهنا جواب قوله: (وإن رُدَّ) أي: جاز للخاطب الثاني أن يتقدم سواء علم بالرد من ولي المرأة، أو سمع من الناس ممن يوثق به أن فلاناً تقدم ولم تقبل خطبته، فحينئذٍ يجوز له التقدم. قال رحمه الله: [أو أذن أو جُهِلت الحال جاز]: (أو) للتنويع، فهذه حالة ثانية يجوز فيها للرجل أن يتقدم بخطبته للمرأة إذا أذن له الخاطب الأول، وذلك لأن الخطبة الأولى من حق المتقدم الأول، فإذا تنازل عن حقه وأذن للثاني جاز للثاني أن يتقدم. وقوله رحمه الله: (أو جُهِل الحال): كرجل تقدم ولم يعلم بخطبة الأول فخطب خطبة ثانية، فإنه لا بأس ولا حرج عليه؛ لأنه لا علم له بخطبة الأول، فانتفى فيه قصد الإضرار؛ لأن التكليف مبنيٌّ على العلم، وهذا لا علم عنده، فارتكابه للمحظور لم يأتِ عن قصد، ولذلك يعتبر في هذه الحالة معذوراً، وحمل عليه خطبة معاوية وأبي الجهم وأسامة على أنهم تقدموا دون علم بعضهم لبعض، على أحد الأوجه في الحديث.

الوقت المستحب للخطبة

الوقت المستحب للخطبة قال رحمه الله: [ويسن العقد يوم الجمعة مساءً بخطبة ابن مسعود]. بعد أن بيَّن رحمه الله مشروعية الخطبة، والأحوال التي تجوز فيها الخطبة، والأحوال التي تحظر فيها الخطبة شرع رحمه الله في بيان الميقات المستحب للخطبة، وهذا على ما اختاره. قال رحمه الله: (وَيُسَنُّ)، والسنة: الطريقة، والمراد بها هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان عليه، سواء ثبت بقوله أو فعله أو تقريره صلوات الله وسلامه عليه، فيقال: هذا من السنة، إذا ثبت به الدليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصل أن هذه العبارة لا ينطق بها إلا بحجة، فلا يقال: من السنة كذا، ولا يقال: يُسَن، إلا بدليل يدل على ثبوت ذلك الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حسب علمي في حديث صحيح أنه استحب النكاح يوم الجمعة أو دعا إليه أو رغب فيه، ويوم الجمعة يوم له فضله ولكن النص على السنية والحكم بكونه من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لا يخلو من نظر، ولذلك يبقى الأمر مطلقاً كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلو قيل بسنية يوم الجمعة لتحرى الناس بخطبتهم يوم الجمعة، وهذا يؤدي إلى اعتقاد في اليوم، ولم يرد النص بهذا التقييد على هذا الوجه، فالذي يظهر أنه يتوقف أو يمنع من الحكم لكونه سنة حتى يثبت الدليل، ولا أعلم دليلاً حسب علمي. قوله: (بخطبة ابن مسعود). خطبة ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما قيل لها خطبة ابن مسعود لأنها جاءت من روايته رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم التشهد في الصلاة، والتشهد عند الحاجة: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم تذكر الآيات، منها آية آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] وآية النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] ثم يختم بآية الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. ثم يشرع بعد ذلك في خطبته، فيذكر مضمون خطبته من طلب نكاح المرأة، وإذا كان ولياً للزوج كمن يريد أن يزوج ابنه الصغير ذكر ذلك وبين أنه يرغب بتزويج ابنه، أو كان وكيلاً عن الزوج ذكر بعد هذه الخطبة ما يريده من طلب المرأة لموكله ونحو ذلك، فيبتدئ الخاطب ويذكر هذه الخطبة، ثم يذكر المضمون الذي يريده من طلب زواج المرأة ونكاحها، هذا بالنسبة للخاطب، وهل تكرر بالنسبة للمخطوب؟ قال جمع من العلماء: إنما تشرع للخاطب الأول ويقتصر على ذلك ولا حاجة أن يقول ولي المرأة هذه الخطبة، وإن قالها؟ قالوا: لا بأس بذلك لكن الأصل الوارد والأولى بالإتباع كما اختاره الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني أنه اقتصر في ذلك على الخاطب الأول.

أركان النكاح

أركان النكاح

الزوجان الخاليان من الموانع

الزوجان الخاليان من الموانع قال رحمه الله: [فصل: وأركانه الزوجان الخاليان من الموانع، والإيجاب والقبول]. قوله: (وأركانه) أي: أركان عقد النكاح؛ (الزوجان الخاليان من الموانع). من عادة العلماء رحمهم الله والفقهاء خاصة أن يعتنوا ببيان أركان العبادات وأركان المعاملات؛ لأن هذا مما يعين على التصور وفهم المسائل وضم بعضها إلى بعض، فإذا عرفت أركان العقد ضمت مسائل كل ركن إلى ما جانسها وشاكلها، ولذلك هذا التقسيم الذي درج عليه الفقهاء رحمهم الله يعين على التصور والفهم كثيراً، إضافة إلى أنه قد تترتب الأحكام الشرعية على معرفة الأركان في العبادة، وهي التي يحكم ببطلانها عند فقد واحد منها. وقوله رحمه الله: (الزوجان الخاليان من الموانع). (الزوجان): مثنى زوج، والمراد بالزوجين هنا: الذكر والأنثى، ويختصان بجنس بني آدم فلا يشملان غيرهما، ومن هنا نص العلماء على أنه لا زواج بين الإنس والجن، ومسألة الزواج من الجنية نص بعض علماء السلف رحمهم الله على أنه لا يعتد به ولا يعتبر مثل هذا الزواج؛ لأن الله تعالى يقول: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] فبين الله تعالى أن الزوجة من الإنسان تكون له كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم:21] فجعل الحكم خاصاً على هذا الوجه، فدل على أنه لا زواج عند اختلاف الجنسين، ومن هنا قال الإمام مالك رحمه الله: (لو فتح هذا الباب لادعت كل زانية أنها منكوحة من جني، وفتح باب الفساد على هذا الوجه). وقوله: (الزوجان) قلنا: يشمل الذكر والأنثى، وعلى هذا ينظر في الخنثى؛ فإن تبين أنه رجل أعطي حكم الرجال، وإن تبين أنه أنثى أعطي حكم النساء، وإن أصبح مشكلاً توقف فيه. وقوله رحمه الله: (الخاليان من الموانع). الموانع: جمع مانع، والمانع هو: الحائل بين الشيئين؛ كالجدار ونحوه. وأما في الاصطلاح: فالمانع هو الذي يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه وجود. والموانع التي تمنع من النكاح تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: الموانع المؤبدة، وهي تشمل: مانع النسب، ومانع الرضاع، ومانع المصاهرة. فأما مانع النسب فهو لسبع من النسوة: الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت؛ فهؤلاء سبع محرمات من جهة النسب على ظاهر آية النساء: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء:23] وأما المانع الثاني: فهو مانع المصاهرة ويشمل أربعاً: الأول: زوجات الآباء؛ وهي كل أنثى عقد عليها الأب أو أبوه وإن علا، سواء دخل بها أو لم يدخل لظاهر قوله سبحانه: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22]. وزوجات الأبناء لقوله سبحانه: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23] وهي: كل أنثى عقد عليها الابن أو ابنه وإن نزل، سواء دخل أو لم يدخل؛ لأن المرأة تكون حليلة له بالعقد. والثالثة: بنت الزوجة، وهي الربيبة سواء كانت في الحجر أو لم تكن في الحجر؛ أما إذا كانت في الحجر فلقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء:23]، وأما بالنسبة للتي ليست في الحجر فعلى ظاهر حديث أم حبيبة رضي الله عنها وأرضاها في الصحيح: (فلا تعرضن عليَّ بناتكن ولا أخواتكن) وخرجت الآية مخرج الغالب، والقاعدة: (أن النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه). وأما النوع الرابع: فهي أم الزوجة، وهي تحرم على زوج ابنتها لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء:23] وتحرم بمجرد العقد. وأما بالنسبة للربيبة فإنها تحرم بشرط الدخول. فهؤلاء أربع من المصاهرة وهو المانع الثاني من النكاح. وأما المانع الثالث الذي يمنع النكاح: فهو الرضاع، ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، وعلى هذا فإن المرأة تحرم بواحد من هذه الثلاث الموانع إلى الأبد، فالأم حرام إلى الأبد، وهكذا البنت وبقية من ذكرنا، وقد تحرم المرأة إلى الأبد لعارض كما في زوجة الملاعن كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة عويمر العجلاني، وقصة هلال بن أمية لما قذف امرأته بـ شريك بن سحماء ففرق بينهما النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الزهري: مضت السنة أن يفرق بين المتلاعنين، فهذا مانع إلى الأبد لعارض. القسم الثاني من الموانع التي تمنع النكاح: الموانع المؤقتة، فهذه موانع لها أسباب تزول بزوالها، فمنها: مانع الجمع؛ كالجمع بين الأختين، والجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، أما تحريم الجمع بين الأختين فلظاهر آية النساء: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:23] وأما بالنسبة للجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها فلما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه نهى أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها) فهذا المانع -وهو مانع الجمع- يزول إذا طلق الأخت الأولى وخرجت من عدتها، وهكذا بالنسبة للعمة والخالة. أما بالنسبة للنوع الثاني من الموانع المؤقتة: فهو مانع الشرك؛ لأن الله حرم نكاح المشركة والوثنية: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221] فهذا مانع إلى أمد لقوله: {حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221] والقاعدة: (أن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها في الحكم) فحرم نكاح الوثنية حال شركها وكفرها، فإن أسلمت زال المانع، ولا يحل نكاح مجوسية، قال صلى الله عليه وسلم: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم). كذلك أيضاً من الموانع التي تكون إلى أمد: مانع المطلقة ثلاثاً، فإنه يمتنع نكاحها حتى تنكح زوجاً غيره وتذوق عسيلته ويذوق عسيلتها على ظاهر السنة، لحديث امرأة رفاعة رضي الله عنها وعنه. كذلك أيضاً من الموانع المؤقتة: الزوجية؛ وهو أن تكون زوجة للغير، لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:24] فلا يحل نكاح المرأة إذا تزوجت، لكن هذا يختص بالنساء دون الرجال، فالرجل يجوز له أن ينكح إلى أربع. كذلك أيضاً هناك مانع مؤقت وهو: مانع العدد، فمن نكح أربعاً من النسوة لم يحل له النكاح حتى يفارق واحدة منهن وتخرج من عدتها حتى لا تبقى في العصمة، فإذا مات لا يجمع في عصمته بين خمس. فالمقصود: أن هذه الموانع تزول بزوال موجباتها وأسبابها، فإذا زالت حل النكاح، فلا نحكم بكون النكاح نكاحاً شرعياً إذا خالف فنكح من منعه الله من نكاحه، فلو نكح محرماً له لا نعتبره نكاحا ًوإنما يعتبر زنا والعياذ بالله، وهكذا نكاح بنته من الرضاع، أو أخته من الرضاع مع العلم بوجود الرضاع المؤثر، فالمقصود: أنه لا يحكم بكون النكاح نكاحاً شرعياً إلا إذا كان الزوجان خاليين من الموانع؛ يشمل ذلك الموانع المؤبدة والموانع المؤقتة على التفصيل الذي ذكرناه.

الإيجاب والقبول

الإيجاب والقبول قوله رحمه الله: [والإيجاب والقبول]. الركن الثاني: الإيجاب، والثالث: القبول. على ما اختار الشارح، فقد جعل قوله: (الزوجان الخاليان من الموانع) الركن الأول، ثم جعل (الإيجاب) الثاني، (والقبول) الثالث. بعض الفقهاء يقول: النكاح يقوم على ركن واحد وهو الصيغة، نظراً إلى أن الصيغة تفتقر إلى موجب وقابل، فالإيجاب والقبول يرد على محل، فلا خلاف بين القولين؛ لأن النتيجة واحدة والثمرة واحدة، وأين ما كان. قوله رحمه الله: (الإيجاب)؛ مثل قوله: زوجتك، أو نكحتك أو أنكحتك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أنكحتك هذه بما معك من القرآن)، فالإيجاب قول الولي: زوجتك وأنكحتك، والقبول قول الزوج: قبلت ورضيت، ونحو ذلك من العبارات الدالة عن القبول والرضا. والإيجاب والقبول هما ركنا الصيغة، والنكاح يفتقر إلى صيغة، ولا يمكن أن تتحقق إلا بالإيجاب والقبول، فإذا وجدت الصيغة: زوجتك بنتي فلانة، وقال: قبلت، فقد تمت، وحينئذٍ يترتب اللزوم، فلزوم العقد مترتب بوجود الصيغة الكاملة المستوفية للشروط المعتبرة، فإذا حصلت الصيغة على هذا الوجه صار النكاح لازماً.

ألفاظ النكاح

ألفاظ النكاح قال رحمه الله: [ولا يصح ممن يحسن العربية بغير لفظ: زوجت، أو أنكحت، وقبلت هذا النكاح، أو تزوجتها، أو تزوجت، أو قبلت]. الإيجاب والقبول لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون باللفظ العربي. والحالة الثانية: أن يكون بغير العربية. فأما إذا كان باللفظ العربي فإما أن يكون باللفظ الصريح وإما أن يكون باللفظ غير الصريح، وإن كان بلفظ العربية وقال: زوجتك، وهو اللفظ الصريح، فبالإجماع أن الصيغة معتبرة، فقد أجمع العلماء رحمهم الله على صحة النكاح باللفظ الصريح، وجعلوا للصريح لفظين: الأول: أنكحتك، والثاني: زوجتك، قال تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ} [القصص:27] فقال: (أن أنكحك) فالإنكاح يعتبرونه من صريح ألفاظ النكاح، كذلك أيضاً الزواج، قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37]. فيعتبر العلماء رحمهم الله لفظي الإنكاح والتزويج من الصريح، والإجماع منعقد على أن ولي المرأة إذا قال: زوجتك ابنتي فلانة، أو قال له: أنكحتك ابنتي فلانة، وقال الآخر: قبلت، فإن النكاح صحيح والصيغة معتبرة. أما اللفظ غير الصريح مما يدل على إرادة النكاح إما بحسب العرف، أو تكون دلالة بألفاظ مخصوصة، وذكر العلماء رحمهم الله منها لفظ (ملكتك) وكذلك أيضاً (وهبتك) و (أعطيتك) ونحو ذلك، فإن قال له: ملكتكها أو أعطيتكها أو وهبتها لك، فاختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين مشهورين: القول الأول: أنه لا يصح النكاح إلا باللفظ الصريح دون غيره، وهذا هو مذهب الشافعية رحمهم الله، واختاره جمع من أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع. والقول الثاني: أنه يصح بهذه الألفاظ وبكل ما دل على النكاح عرفاًَ أو بسبب وجود القرينة كذكر مهر ونحو ذلك، وهذا هو مذهب الجمهور، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكذلك الإمام ابن القيم، وبين أن النصوص وهدي السلف الصالح رحمهم الله على عدم تقييد النكاح بلفظ معين؛ لأن العبرة في معرفة الرضا والوصول إليه، وقد تكلم على هذه المسألة بكلام نفيس في كتابه النفيس: (القواعد النورانية) عند بيانه لمسألة البيع بالمعاطاة، وذكر أن السلف الصالح رحمهم الله ما كانوا في العقود يقتصرون على ألفاظٍ معينة بل كانوا يُنَزِّلون دلالة الظواهر والأعراف منزلة الألفاظ الصريحة، ومن أمثلة ذلك مما اشتهر: كمن بنى مسجداً وفتح أبوابه، وكمن أخرج صنابير الماء للسقيا والشرب، فإن هذا كله يدل على الإذن، قال: فتنزل هذه الدلائل العرفية منزلة الألفاظ القولية، ولن يحصر النكاح بلفظ معين، وأكد هذا بما ثبت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله في حديث الواهبة: (أملكتكها بما معك من القرآن). وفي لفظ: (ملكتكها بما معك من القرآن). وعلى هذا القول الراجح الذي دلت عليه السنة ودل عليه هدي السلف الصالح: أنه يصح النكاح بكل لفظ يدل على الرضا، حتى ولو جرى العرف بألفاظ ليست من صريح النكاح، فإنه يحكم بالاعتداد بها واعتبارها. الحالة الثانية: أن يكون الزوج والولي لا يحسنان العربية، فهل يجب عليهما أن يتعلما العربية حتى ينطقا باللفظ المخصوص، أم أنه يصح النكاح بما يدل عليه في لغتهم؟ فمقتضى ما سبقت الإشارة إليه من كلام شيخ الإسلام رحمه الله وهذا يختاره جمع من المحققين: أن من لا يحسن العربية يزوج باللفظ المعروف في عرفه، وأنه يكفي ذلك، ولا يجب عليه أن يتعلم الألفاظ العربية في النكاح بل يزوج بالألفاظ التي عرفت في لسان قومه ولغتهم.

حكم من جهل ألفاظ النكاح

حكم من جهل ألفاظ النكاح قوله: [ومن جهلهما لم يلزمه تعلمهما وكفاه معناهما الخاص بكل لسان]. هذا هو الذي تقدمت الإشارة إليه من أنه لا يشترط أن يتقيد باللفظ العربي، بل إن الألفاظ الغير العربية تُنَزَّل منزلة الألفاظ العربية؛ لأن العبرة بوجود الرضا، وإذا خطب الرجل بلسان قومه وأجيب فإن هذا يدل على الرضا كما لو خطب بالعربية، فالعبرة بوجود الرضا الذي تنبني عليه العقود ويحكم باعتبارها بسبب وجوده. وعلى هذا فيصح بغير العربية كما يصح بالعربية بجامع وجود الرضا.

حكم تقدم القبول على الإيجاب والعكس

حكم تقدم القبول على الإيجاب والعكس قال رحمه الله: [فإن تقدم القبول لم يصح]: بعد أن بين رحمه الله لزوم الإيجاب والقبول، وبين نوع الإيجاب والقبول من حيث اللغة واللسان، شرع في مسألة تقدم الإيجاب على القبول والعكس، فالأصل أن الإيجاب يسبق القبول، يقول ولي المرأة: أنكحتك ابنتي فلانة بعشرة آلاف مثلاً، فيقول الزوج: قبلت، أو يقول وكيله: قبلت أو رضيت، فحينئذٍ تقدم الإيجاب وترتب القبول عليه، وعلى هذا فبإجماع العلماء: أنه إذا وقعت الصيغة على هذا الوجه أن النكاح صحيح والعقد معتبر؛ لأن الأصل في الإيجاب أن يتقدم على القبول، سواءً جاء بصيغة الإنكاح أو التزويج أو غيرها، المهم أنه إذا سبق الإيجاب القبول اعتد به. وأما إذا حصل العكس، وهو أن يتقدم القبول على الإيجاب كقول الزوج: زوجني ابنتك فلانة. قال: قبلت. أنكحني ابنتك فلانة، قال: قبلت. فللعلماء في هذه المسألة قولان مشهوران: القول الأول: أنه لابد من ترتب القبول على الإيجاب، وبهذا القول قال فقهاء الحنابلة رحمهم الله. والقول الثاني: أنه يجوز تقدم القبول على الإيجاب، ولا بأس في ذلك، وهو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله. بناءً على هذا: يجوز أن يتقدم القبول على الإيجاب، وهذا بلا إشكال؛ لأن المقصود حصل بذلك، فإنه إذا تقدم القبول على الإيجاب استُفِيد منه ما استُفِيد من ترتب القبول على الإيجاب، وعلى هذا يستوي أن يتقدم الإيجاب على القبول أو يتأخر عنه. قوله: [وإن تأخر عن الإيجاب صح ما داما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعهما]. من مسائل الإيجاب والقبول أن الأصل أن يقع القبول بعد الإيجاب، فإذا قال له: زوجتك ابنتي فلانة بعشرة آلاف مثلاً، قال: قبلت، فإنه ينبغي أن يكون القول: قبلت في الأصل مرتباً على الإيجاب بحيث لا يقع الفاصل المؤثر بينهما، فإذا وقع الفاصل؛ فتارة يكون بالأقوال وتارة يكون بالأفعال. فأما الفاصل بالأقوال: أن يقول له: زوجتك ابنتي فلانة بعشرة آلاف مثلاً، فلا يجيبه الزوج أو الخاطب بالقبول، ثم يتكلمان في أمر غريب خارج عن هذا الأمر من بيع أو إجارة أو سؤال عن حال أحد، ثم بعد ذلك يقول: قبلت، فإذا وقع الفاصل الأجنبي من هذا الكلام الأجنبي فيعتبر فاصلاً مؤثراً عند من يرى تأثير الفصل، وأما إذا كان الفاصل من الأقوال من جنس الخطبة ومن جنس الإيجاب والقبول، بمعنى أن يكون في شأن النكاح مثل أن يقول له: زوجتك ابنتي فلانة بعشرة آلاف، قال: كم عمرها؟ وأين عملها؟ وأخذ يسأل عن أمور تتعلق بها وطالت الأسئلة، ثم لما أجابه عنها قال: قبلت، فنص طائفة من العلماء على أن هذا الفاصل لا يؤثر؛ لأنه داخل في الإيجاب والقبول وليس بأجنبي. وأما بالنسبة للفصل بالأفعال: فمثل أن يخرج من مجلس العقد، كما لو قال: زوجتك ابنتي فلانة، فيخرج الخاطب ويفترق عن المجلس ثم يرجع ويقول: قبلت، فقالوا: إنه إذا خرج عن المجلس فقد انقطع القبول عن الإيجاب؛ لأن الأصل في العقود أن تكون في المجلس، ولذلك جعل الشرع الخيار للمجلس، أما إذا افترقا عن المجلس صار خروجه عن المجلس قبل قبوله بمثابة الإعراض، فلابد من إنشاء إيجاب جديد وقبول جديد. قال رحمه الله: [وإن تفرقا قبله بطل]. أي: قبل القبول، وقوله: (بطل) يعني: الإيجاب، وعلى هذا فإنه لا يصح أن يأتي بعد المجلس ويقول: قبلت؛ لأن التفرق يرفع حكم المجلس الأول وما كان فيه من إيجاب. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

كتاب النكاح [4]

شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [4] النكاح الشرعي له شروط لابد من وجودها حتى يحكم بصحته، منها تعيين الزوجين، ومنها أيضاً رضاهما، ومن الناس من لا يشترط رضاه لإتمام عقد النكاح؛ كالبالغ المعتوه، والمجنون، والصغير، والبكر.

تعيين الزوجين شرط من شروط عقد النكاح

تعيين الزوجين شرط من شروط عقد النكاح بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل اجتماعنا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألَّا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً. وفي بداية هذه الدروس أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإن الله إذا أحب عبداً من عباده رزقه التقوى وجعله من أهلها ووفقه لخصالها وخلالها، وطالب العلم عليه مسئولية عظيمة فيما بينه وبين الله سبحانه وتعالى، وفيما بينه وبين العلم، وأعظم مسئولية بينه وبين الله سبحانه: إرادة وجه الله الكريم، والقصد لما عند الله. ولو أن طالب العلم في كل مجلس يستفتح مجلسه ويختمه بالوصية بالإخلاص لما كان ذلك كثيراً، فحق الله أعظم الحقوق؛ إخلاص الدين لوجهه وإفراده بالعبادة، وترك الرياء والسمعة وحب الظهور، ويتجه طالب العلم بكليته إلى الله سبحانه حتى يحبه وإذا أحبه وفقه. وخير ما نتواصى به: أن يجدد طالب العلم في قلبه الإخلاص لوجه الله سبحانه وتعالى، وأن يتفقد ما في سريرته، فإن من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح لله سريرته أصلح الله له علانيته، فنسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم إخلاص القول والعمل. ستكون دروسنا إن شاء الله تتمة لما مضى من مسائل النكاح، وقد قدمنا بيان جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بمقدمات كتاب النكاح، واليوم إن شاء الله نتم الحديث عن الشروط التي ينبغي توفرها وينبغي وجودها للحكم بصحة عقد النكاح، فالنكاح الشرعي يفتقر إلى صفات وأسباب لابد من وجودها لكي يُحْكَم من خلالها بصحة العقد. يقول المصنف رحمه الله: [فصل: وله]: أي: لعقد النكاح [شروطٌ]: أي: أمارات وعلامات لابد من توفرها، وهي شروط لصحة عقد النكاح. [أحدها: تعيين الزوجين]: فلا يصح النكاح حتى يعيِّن الولي الزوجة، ويعيَّن الزوج الذي يريد نكاحها، والمعين ضد المجهول، فلا يصح نكاح المرأة المجهولة، فلو قال له: أزوجك امرأةً، فإن (امرأةً) نكرة، وحينئذٍ تصدق على أي امرأة، وكذلك لو قال له: أزوجك بنتاً من بناتي. وعنده أكثر من بنت مختلفة الصفات، فإنه في هذه الحالة لا تجيز الشريعة هذا العقد؛ لأنه ربما انصرف ذهن الزوج إلى الجميلة فصرفه الولي إلى من هي أردأ. في عقود المعاوضات تشدد الشريعة على الجهالة، فلا تجيز العقد بالمجهول، ففي الزواج لابد أن تكون الزوجة معلومة ويكون الزوج معلوماً، فلو قال الولي لجماعة من الناس: زوجت واحداً منكم بنتي فلانة، فقوله: (واحداً منكم) هذا كلام مجهول، فلا يصح العقد على مجهول، ولا ندري من هو، أو قال: زوجتُ بنتي لواحدٍ من أبنائك، وعنده خمسة أبناء، ولم يحدد أحدهم، فإن العقد لا يصح، فلابد من معرفة الزوجة والزوج. وهذا هو مراده رحمه الله من قوله: (أحدها: تعيين الزوجين)، والتعيين بمعنى أن يعينه؛ ويكون التعيين بالاسم، ويكون بالصفة، ويكون بما يتميز به، فلو كان عند الولي خمس بنات في المجلس، فأشار إلى واحدة منهن وقال: زوجتك بنتي هذه، فهذا يصح؛ لأنه يقع بالإشارة، ويقع بالاسم، ويقع بما يتميز به الشيء. قال رحمه الله: [تعيين الزوجين، فإن أشار الولي إلى الزوجة أو سماها أو وصفها بما تتميز به]: قوله: (فإن أشار الولي إلى الزوجة). كأن يقول: هذه -كما ذكرنا- فالإشارة تعيين، كما لو قلت له: أبيعك كتابي هذا أبيعك سيارتي هذه أبيعك بيتي هذا، فالشريعة الإسلامية توجب صرف الجهالة، يعني: في العقود لابد أن يكون المعقود عليه معلوماً لا مجهولاً، فقال رحمه الله: (فإن أشار) الفاء للتفريق، يعني: إذا ثبت هذا فإنه ينبني عليه أنه إذا حصل التعيين إما بالوصف أو بالاسم أو بالإشارة، كأن يقول: زوجتك بنتي المتعلمة، وعنده بنت متعلمة وبنت غير متعلمة، أو يقول: زوجتك بنتي البالغة، وعنده بنت بالغة وبنت صغيرة، فلما قال: البالغة، عيَّن وحدَّد فينصرف العقد إليها. فإذاً: التعيين يكون بالوصف، وبالاسم، وبالإشارة، ويكون بما يتميز به. في بعض الأحيان يبهم الولي، ولكن هذا الإبهام ينصرف إلى معلوم، كقوله: زوجتك بنتي. وليس عنده بنت غيرها، فإنه حينئذٍ نعلم أن مراده فلانة التي ليس له غيرها، فيصح العقد كما لو قال له: زوجتك عائشة، وليس له بنت غيرها. [أو قال: زوجتك بنتي وله واحدة لا أكثر صح] هذا كما يقولون: المجهول الذي يئول إلى العلم، فعندنا مجهول يئول إلى العلم، وهذا يصح به العقد، ومجهول لا يئول إلى العلم وإنما يبقى على جهالته، فهذا لا يصح، فلو قال رجل عنده بنتان فأكثر: زوجتك بنتي بعشرة آلاف قال: قبلت، لم يصح العقد؛ لأننا لا ندري هل يعني الكبيرة أو الصغيرة، هل يعني الجاهلة أو المتعلمة، هل يعني الصالحة أو غير الصالحة، فيتردد، والشريعة لا تجيز التردد؛ لأن التردد يحدث الخصومات والنزاعات، فلربما أحببت أن تأخذ الأفضل فيقول: إنما زوجتك بنتاً من بناتي فيلزمك أن تأخذ الأردى، وقد تقدم معنا شرح هذا في كتاب البيوع حينما ذكرنا جهالة المبيع، وأن الجهالة سبب من أسباب النزاع، والشريعة الإسلامية أغلقت جميع الأبواب والأسباب المفضية إلى النزاع والخصومة.

رضا الزوجين شرط من شروط النكاح

رضا الزوجين شرط من شروط النكاح قال رحمه الله تعالى: [فصل: الثاني: رضاهما] قوله: (الثاني) أي: الشرط الثاني من شروط النكاح رضا الزوجين، فلا يعقد عقد النكاح بدون الرضا، والرضا يفسد به الاختيار وينعدم، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده ولطفه وتيسيره، وشريعتنا شريعة رحمة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. عقود المعاوضات مثل البيع، فإنك في البيع تدفع عشرة ريالات في مقابل كتاب، وفي الزواج تدفع عوضاً عن المرأة ثلاثين ألف ريال مهراً لها، فالمهر في مقابل المرأة. إذاًَ: عقد النكاح عقد معاوضة، وإذا كان عقد معاوضة ففيه معاوضة من وجوه عديدة، ولذلك قال الله عز وجل في بيت الزوجية للنساء وللرجال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} [البقرة:228] فلا يمكن أن تلزم المرأة بنكاح ولا يمكن أن تلزم الرجل بنكاح وليس هناك الرضا، خاصة وأن العشرة الزوجية وصفها الله بأنها مودة ورحمة، فقال سبحانه: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] فلا يمكن أن تتحقق المودة ولا يمكن أن تكون الرحمة إذا لم يكن هناك إلف وود بين الزوجين، ولهذا لن يكون بالإكراه ولن يكون بالغصب، فالمرأة إذا زُوجت ينبغي أن تكون راضية عن الزواج، والزوج إذا زُوج ينبغي أن يكون راضياً عن الزواج؛ لأنه إذا تزوج بشيء يحبه ويألفه ويرضاه حصل مقصود الشرع من الألفة والمحبة، وكانت المرأة سكناً لزوجها، وكان الزوج أيضاً سكناً لها، وعصمة من الله سبحانه وتعالى يعصمها بها من السوء والردى. إذا ثبت هذا فلو أن رجلاً هدده رجل وانطبقت عليه شروط الإكراه، وهذا سنبحثه إن شاء الله في الطلاق، فسنذكر في كتاب الطلاق ما هي شروط الإكراه؟ ومتى نحكم بكون الإنسان مكرهاً؟ فلو أكره رجل وهدد وقيل له: لابد أن تتزوج بنت فلان وجاء تحت التهديد والإكراه فقيل له: زوجناك فلانة قال: قبلت، قيل: على عشرة آلاف قال: قبلت، لكنه مكره، ففي هذه الحالة لا يصح العقد ولا النكاح، ولو أن ولي المرأة هُدد وأُكره على النكاح وهو غير راضٍ بالنكاح ولا يريده ولا يرغبه ثم جيء به فقيل له: أترضى فلاناً يكون زوجها؟ فقال وهو غير راضٍ: زوجته أو زوجت بنتي فلانة على فلان، أو قبلت زواج فلان من موليتي فلانة، فكل ذلك لا ينبني عليه الحكم بصحة عقد النكاح لفوات الشرط المعتبر وهو الرضا.

الأشخاص الذين لا يشترط رضاهم في النكاح

الأشخاص الذين لا يشترط رضاهم في النكاح قال رحمه الله: [إلا البالغ المعتوه] وقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم الرضا في حق النساء، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (البكر تستأذن وإذنها صُماتها، والثيب أحق بنفسها من وليها -وفي رواية: والثيب تستأمر، يعني: لها أمر نفسها-) فجعل للمرأة حظاً في النظر، وهذا إن شاء الله سنبينه في الولاية على عقد النكاح. قوله رحمه الله: (إلا البالغ المعتوه) هناك نوعان من الناس: نوع توفرت فيه الأهلية للقيام بالعقود، فهذا النوع يلي نفسه كالرجل البالغ العاقل، فله أن يزوج نفسه ويتزوج من شاء، ولكن لو فسدت أو انعدمت الشروط المعتبرة للأهلية في ولاية عقد النكاح أو في النكاح، كرجل بالغ، يعني: بلغ ولكنه معتوه، والعته: نوع من الجنون وهو يفسد شرط التكليف، ليس بمكلف وليس عنده الأهلية لكي ينظر مصلحة نفسه، فالمعتوه الأخرق حتى ولو كان عنده نوع من الخرق ليس بجنون كامل لكنه نوع من نقص في العقل بحيث لا يحسن النظر لمصلحة نفسه، فهذا النوع من الناس الشريعة تجعل له قريباً يليه، وهذا ما يسمى بالولاية، وهذا النوع من الولاية يسمى: الولاية الخاصة، والولاية الخاصة: هي أن يتولى المسلم النظر في أمر خاص لأخيه المسلم؛ لأن الولاية نوعان: ولاية عامة وولاية خاصة، وهذا نوع من الولايات الخاصة، فالبالغ المعتوه هو بالغ -والبالغ ينظر في مصلحة نفسه- وقد بلغ سن التكليف لكن كونه معتوهاً، يعني: عنده نقص في العقل والإدراك، وعنده نقص في التمييز، فمثل هذا يولى عليه، فوليه يكون من قرابته -كما سنبينه في أولياء المرأة- فوالده يمكن أن يعقد عنه، وأيضاً قريبه، كأخيه الشقيق، وابن أخيه الشقيق، وأخيه لأب، وابن أخيه لأب، وعمه الشقيق، وابن عمه الشقيق، وعمه لأب، وابن عمه لأب ونحو ذلك فهؤلاء يتولون النظر له، وإنما قلنا من قرابته؛ لأن القريب يعطف على قريبه، والإنسان مع قرابته يحس أن عيب القريب عيب له، وأن الضرر على القريب كالضرر عليه، فلذلك جعل الله أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض، وجعل القرابة يلي بعضهم النظر في مصالح البعض رحمة من الله عز وجل ولطفاً بعباده. [إلا البالغ المعتوه] إلا: حرف استثناء، والاستثناء: إخراج لبعض ما يتناوله اللفظ، فهو يقول: [رضاهما -رضا الزوجين- إلا البالغ المعتوه] أي: البالغ المعتوه ليس لنفسه أن ينظر وإنما ينظر له وليه ومن يلي مصالحه، وجرت العادة أن أحد أقرباء قاصري العقل والنظر هم الذين يتولون مصالحه. قال: [والمجنون] تقدم معنا ضابطه، وبعض العلماء يقول: المجنون لا يلي عقد النكاح، وفي الواقع من العلماء من يفصل بين الجنون المستمر والجنون المتقطع، فيرى أنه إذا كان جنونه متقطعاً يمكن أن يلي عقد النكاح -يعني: ممكن أن يزوج نفسه في حال الإفاقة- وفائدة الخلاف: أنه إذا رُفع إلى القاضي رجل يجن أحياناً وقد زوج نفسه حال الإفاقة، فعلى القول الذي لا يعتبر الجنون مطلقاً سواءً متقطعاً أو مستمراً فإنه يلغي النكاح ويرد الأمر إلى أوليائه والعكس بالعكس، وعلى القول الثاني: يصح العقد في حال الإفاقة ولا يصح في حال وجود العذر وهذا أقوى. يقول المصنف: [والصغير والبكر ولو مكلفة، لا الثيب، فإن الأب ووصيه في النكاح يزوجانهم بغير إذنهم] قوله: [والصغير] الصغر هو الصبا، والصبا دون البلوغ، والصبي هو: الذي لم يبلغ الحلم، والحلم طور وحالة وهيئة، ينتقل فيها الإنسان من طور الصبا إلى طور العقل والإدراك، قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} [النور:58] أي: لم يبلغوا سن العقل. فبالنسبة للصغير يمكن أن يزوجه والده سواءً رضي أو لم يرضى، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نكح عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست، ودخل بها وهي بنت تسع سنين، فإن عائشة رضي الله عنها فوجئت بأمها ومعها النسوة قد أخذنها إلى الماشطة ولم تشعر إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل عليها. فإذاً: لم يكن لديها علم بالمسألة، وما استشيرت ولا أخذ رأيها، قد يقول قائل: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن فقه المسألة: أن الوالد عنده من العطف والشفقة والرحمة ما يبعد معه أن يدخل الضرر على ولده، ويدل على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث فاطمة: (إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها) فجعلها كالقطعة منه، والقطعة من الشيء كالشيء. فكما أن الوالد يلي حظ نفسه، كذلك يلي حظ أولاده الصغار ذكوراً كانوا أو إناثاً. صورة المسألة: لو قال رجل عنده بنت صغيرة ورجل آخر عنده ابن صغير مثل ما يقع بين أولاد العم، يقول: بنتي لابنك فلان، فيقول: قبلت، إذاً حدث زواج، وإذا تم بشروطه ودفع المهر ثم العقد وصارا زوجين من حيث الأصل، ولم نسأل هل هما راضيان أو غير راضيين؟ لكن في الأصل تم العقد، يعني: يمكن للأب أن يزوج بنته ولو كانت بنت تسع سنين. فبما دون التسع سنوات من ست سنوات سبع سنوات ثمان سنوات فالأب له ولاية قوية عليهم، والأب غالباً لا يسعى في الضرر على ولده، ولذلك قالوا: لو قتل الوالد ولده لم يقتل به في قول طائفة من العلماء، قالوا: لأنه يبعد أن يتخطى الوالد حاجز الرحمة والحنان والشفقة التي ملأ الله بها قلبه فيقتل ابنه، ولذلك قالوا: لا يقاد به؛ لأن الغالب أنه لا يضربه إلا وهو يريد الأدب له؛ ولأنه فيه شبهة الأدب، والحدود تدرأ بالشبهات. فالشاهد: كمال شفقة الوالد على ولده، وإذا ثبت هذا فإن الوالد يزوج ولده الصغير ويزوج بنته الصغيرة إذا كانت دون البلوغ. قال: [والبكر ولو مكلفة] البكر ضد الثيب، وقوله: (ولو مكلفة) ولو إشارة إلى خلاف أي: ولو كانت مكلفة، فإذا بلغت سن التكليف فإنه في هذه الحالة يجوز أن يزوجها والدها بدون رضاها كما ذكرنا لقوة ولاية الوالد؛ لأن البكر في الغالب تجهل الرجال، وكانت المرأة يسمونها: ذات الخدر، كما في الصحيحين من حديث أم عطية: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج العواتق وذوات الخدور والحيض) فكانت المرأة (ذات خدر) يعني: في داخل خدرها لا تعلم ما هي الحياة، فكان والدها هو الذي يلي أمورها، فإذا كانت بكراً فالغالب أنها تجهل أمور الناس، وتجهل الرجال، فلو أن والدها زوجها بدون علمها وبدون رضاها فالأمر في الوالد أخف من غيره من بقية الأولياء كما سيأتي إن شاء الله. وقوله: (لا الثيب) الثيب نص النبي صلى الله عليه وسلم عليها فقال: (والثيب أحق بنفسها من وليها) والفرق بينهما واضح، فإن المرأة الثيب عاشرت الرجال وابتليت بالأخذ والعطاء مع زوجها السابق وانفصلت عنه، فهذا الانفصال ما وقع إلا بعد حياة زوجية، ولذلك قالوا: إنه لابد من رضا الثيب وهي أحق بنفسها من وليها ولو كان أباً. قال: [فإن الأب ووصيه في النكاح يزوجانهم بغير إذنهم] وصي الأب في النكاح هو الشخص الذي يقول له الوالد: زوج بنتي فلانة، ويحدد له، كأن يقول: زوج بنتي فلانة من فلان، فهذا وكيل وفيه نوع من الوصاية، أو يطلق له ويقول: انظر لابنتي الأصلح فزوجها منه، فحينئذٍ يكون وصياً على بناته لكن في خصوص أمر النكاح، والأصل في هذا عند من يقول بهذا القول مبني على قاعدة شرعية مأخوذة من النصوص الشرعية: أن الفرع تابع لأصله وراجع إلى أصله. فوصي الوالد منزل منزلة الأب؛ لأنه وصاه، فله الحق كوالده، وبعض العلماء يمنع من هذا ويقول: إذا عين له وحدد فيجوز ويكون الأمر كأنه للوالد، أما لو أطلق له فلا. قال: [كالسيد مع إمائه وعبده الصغير] السيد يزوج إماءه لمن شاء وبدون إذنهن؛ لأنه يملك الرقبة بنص الشرع، وهكذا بالنسبة لمواليه الذكور الصغار دون البالغين.

حكم تزويج الأولياء غير الأب للصغيرة والصغير والكبيرة العاقلة

حكم تزويج الأولياء غير الأب للصغيرة والصغير والكبيرة العاقلة قال رحمه الله: [ولا يزوج باقي الأولياء صغيرة دون تسع ولا صغيراً ولا كبيرة عاقلة ولا بنت تسعٍ إلا بإذنهما] قوله: (ولا يزوج باقي الأولياء) كالأخ الشقيق، فلو أن أخاً شقيقاً أراد أن يزوج أختاً له دون تسع لم يصح؛ لأن هذا خاص بالوالد، أو يزوج أخته دون البلوغ بدون رضاها، أو بكراً مكلفة دون رضاها لم يكن له، وإنما هذا خاص بالوالد، والعلة في هذا: أن في الوالد من الشفقة والرحمة ما ليس في غيره كما بيناه وقررناه، فالأمر في الوالد يختلف عن بقية الورثة وبقية الأولياء، والذي سيأتي من هؤلاء الذين ذكرهم المصنف هو في الحقيقة عكس ما تقدم، يعني: إذا أثبت أن الأمر للوالد فعكس هذه الجملة أن غير الوالد لا يزوج، والأمر في هذا واضح. قال: [صغيرة دون تسع ولا صغيراً ولا كبيرة عاقلة] يعني: لا يزوج الصغيرة ولا يزوج الكبيرة العاقلة إلا بالإذن والرضا، فإن رضيت وأذنت فلا إشكال، وإن لم ترض ولم تأذن لا يصح، وليس له حق ولاية النظر عليها في هذا. قال: [ولا بنت تسع إلا بإذنهما] يعني: إذا كانت البنت لها تسع سنين فلا يحق له أن يزوجها إلا إذا أذنت ورضيت، والغالب أن المرأة في التسع -خاصة في المناطق الحارة- تبلغ، وقد قدمنا هذا في باب الحيض، وذكرنا قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: إذا بلغت الصبية تسع سنين فهي امرأة، يعني: تتأهل لأن تكون امرأة ويأتيها الحيض. قال: [إلا بإذنهما وهو صمات البكر ونطق الثيب] هناك جانبان لابد من التنبه لهما في الولاية على النكاح: الجانب الأول: يتعلق بالذكر، والجانب الثاني: يتعلق بالإناث، وإذا قلنا: الإناث، فنخص بالزوجة التي يراد إنكاحها وتزويجها، وإذا قلنا: الذكور، فمرادنا الأولياء وليس الزوج. نحن نتكلم على مسألة تزويج المرأة، فعندنا مزوجة، وعندنا شخص يريد تزويجها، ومن حكمة الله عز وجل ومن حكمة الشريعة وكمال علمه سبحانه وتعالى أن جعل الرضا منقسماً بين الطرفين، والشريعة جاءت بالوسطية التي لا إفراط فيها ولا تفريط، فأعطى الرجال حقوقهم وأعطى النساء حقوقهن، ونريد أن نعرف كيف أخذت المرأة حقها؟ وكيف أخذ الرجل حقه؟ إذا علم طالب العلم حق الرجل وحق المرأة اتضحت له مسائل الباب في الولاية وفي الرضا؛ لأنه في بعض الأحيان تتداخل النصوص ويحصل شيء من الخلط فيها بحيث يصعب الفهم. فعندنا إفراط وتفريط، فتارة تجد وجهة نظر تقول: النظر كله للرجل، يعني: الذي يلي عقد النكاح ويبرم عقد النكاح ويبت في عقد النكاح هو الرجل فقط، بحيث لا يكون للمرأة أي نظرة، هذه وجهة نظر، وتارة تجد في مقابلها وجهة نظر أخرى تقول: المرأة لها كل شيء، بحيث يمكن أن تأتي برجل ليس بأهل فتتزوج منه على رغم أوليائها حتى لو كان فيه ضرر عليهم. والعدل أن نقول: للنساء ما لهن من الحقوق، وللرجال ما لهم من الحقوق، ونرجع إلى طبيعة حقوق النساء وطبيعة حقوق الرجال، فانظر رحمك الله إلى كمال هذه الشريعة، فالمرأة لها حقها من حيث الرغبة في الرجل؛ فإن للنساء نظرة، وهذه النظرة جبلية فطرية من ارتياحها للرجل وحبها لمعاشرته، فالشريعة أعطتها هذا الحب وهذا الميل القلبي الذي لا تملكه، فتنظر في الرجل فإن أعجبها وقبلته فالحمد لله، وإن لم يعجبها هل يفرض عليها فرضاً؟ وهل تكره على معاشرة شخص لا تريده؟ لا يمكن. مسألة محبتها وكراهيتها ترجع إلى تقديرها، فإن كانت المرأة كرهت الرجل لدمامة في خِلقته فهذا شيء لا يستطيع الإنسان أن يفرض عليها فيه، فقد جاءت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (يار سول الله! إني امرأة أكره الكفر بعد الإسلام -أنا امرأة أخشى أن أقع في معصية الله بعد طاعة الله- زوجي لا أحبه، قال: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، وأزيده، فقال للرجل: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) فالمرأة نفرت من زوجها لأسباب ذكرتها في الحديث، فكما أن الرجل يذهب ويختار المرأة التي يريدها، كذلك المرأة تختار الرجل الذي تريده، فإذا كان في الرجل أشياء معينة بينتها المرأة أو أن قلبها نفر منه، والمرأة صادقة ليست بمتلاعبة ولا متهتكة فرأيها يحترم ويقدر؛ لأنه شيء جعله الله فطرة في المرأة، فلا يمكن أن نأتي بالرجل وندخله عليها فجأة ونقول لها: هذا زوجكِ شئت أو أبيتِ، حاشا. هذا لا يرضي الله عز وجل وليس من دين الله عز وجل. إذاً: لابد أن نعطي المرأة حظ النظر، لكن إغراق النساء في هذا الحظ وتوسعهن ومبالغتهن يوجب تدخل الولي بقدر، فمثلاً: الأب عنده شفقة وعنده رحمة ويخاف على بنته أن تقع في الحرام، خاصة إذا كان هناك بواعث للفتنة، فجاء واختار لها زوجاً كفئاً كريماً جميع الصفات الحسنة متوفرة فيه، لكن جماله نسبي ليس بكامل، فقالت المرأة بنوع من الاستخفاف: لا أريده. ولم تذكر السبب، حينئذٍ تكون ولاية الرجل؛ لأن الرجل أكمل عقلاً في هذا، ومن حقه إذا خاف على ابنته أنها إذا لم تتزوج من هذا أنها في الغد تقع في الحرام، أو تبقى عانسة. إذاً: هناك ولاية للرجال وولاية للنساء، فالمرأة لها حقها، ولا تستغل هذا الحق لكي تدخل في أمور تسيء إلى قرابتها. هذا حق النساء فما هو حق الرجال؟ من المعلوم أن المجتمعات يترابط بعضها ببعض ويتصل بعضها ببعض، والرجال أعرف بالرجال، فهناك أشياء إذا قُبلت أضرت بسمعة القرابة، فالرجل الشرير أو الفاسد أو الذي يكون منه الضرر، إذا تزوج هذه المرأة فإنه سيجر الضرر والعار على قرابتها، فليس من المعقول أن نرضخ لعاطفة المرأة على حساب أمة، وليس من المعقول أن نضر بجماعة على حساب فرد، وقواعد الشريعة تقول: الضرر يزال، فهذا النوع من الرجال يضر، مثل ما يقع مثلاً في بعض الأحيان بأن يكون الرجل معروفاً بفساده وسوء أخلاقه، فمثل هذا -أعاذنا الله وإياكم- لو أنه تزوج امرأة أُناس محافظين ولهم مكانتهم أضر بهم وأضر بسمعتهم وأضر بمكانتهم، فلو جاءت المرأة تقول: أريد أن أتزوج بفلان، وقال الولي: لا. فانظر إلى قول المرأة، وانظر إلى قول الرجل، وانظر إلى الضرر الذي يلحق المرأة، والضرر الذي يلحق الرجل؛ فتجد ما يلي: تجد أن الرجل لو لم نوافق عليه فهناك البديل، والمرأة إذا منع عنها الرجل فإنها قد تقع في الحرام، وهذا في حالة عدم وجود البديل، فهذا الضرر يمكن تلافيه، لكن لو أن هذا الرجل تزوج من هذه الجماعة لأضر بهم ولألحق بهم في بعض الأحيان عاراً لا ينمحي عنهم، فهذا الضرر لا يمكن إزالته، وخاصة أضرار العار التي تلحق بها من السب والنقيصة والضرر، أو يكون رجلاً شريراً كثير الاعتداء على الناس، فكل يوم يقال: هذا زوج ابنتكم، أبو أولادكم، ويتضرر أولادها، والشريعة لم تأت بالزواج فقط، بل جاءت بالنظر إلى مصالح ومفاسد قريبة وبعيدة، وأضرار خاصة وعامة، ومصالح خاصة وعامة. فلابد من النظر بين الجانبين. فالخلط يقع في المسائل الفقهية والاجتهادات والأقوال وشروح الأحاديث، فهناك أحاديث ليس المراد بها إذن المرأة بإطلاق، وليس المراد ولاية الرجال بإطلاق، وإنما المراد أن يعدل كل واحد ويتقي الله في حقه وما له وما عليه، فالمرأة تتقي الله في أهلها وقرابتها، فلا تقول: زوجوني من فلان، وإذا لم تزوجوني من فلان فلن أتزوج، وإذا لم تزوجوني من فلان فلن أدخل بيت الزوجية أبداً، هذه كلها أمور مبنية على الإساءة والإضرار، والشريعة لا تجيز هذا، ولو قالت هذا الكلام فليس من حقها، ومن حق الأولياء إذا خافوا عليها الحرام والوقوع فيه أو خافوا عليها أن يلحقوها بزوج كفء كريم ويزوجونها منه. إذاً لابد من الجانبين: جانب الرجل وجانب المرأة، ولما كانت هذه القاعدة معروفة اعتنى العلماء بمسألة الرضا وسيتبعونها فيما بعد بمسألة الولاية على النساء في النكاح. فبين رحمه الله مسألة رضا المرأة، وأن النكاح لا يصح بدون رضاها. والمرأة -خاصة إذا كانت بكراً- إذا زُوجت من رجل لا ترغبه أو من رجل فيه نقص يؤذيها أو يضر بها أو ينفرها، فإن هذا من أعظم الإضرار، ومن أعظم الظلم أن لا يتقي الولي في موليته، فيحابي ويجامل ويرضخ لأمور معينة يتنازل بها عن حق الولاية الذي فرضه الله عز وجل عليه من حسن النظر لموليته. قال رحمه الله: [إلا بإذنهما وهو صمات البكر ونطق الثيب] (إلا بإذنهما) فلابد من إذن الزوج البالغ وإذن الزوجة البالغة، ورضا الزوج البالغ ورضا الزوجة البالغة، والإذن بالنسبة للمرأة يختلف باختلاف البكر والثيب، فالبكر تُستأذن، فيقال لها: يا فلانة! إن فلاناً يرغب بك، يا فلانة! إن فلاناً تقدم للزواج منكِ، فإذا كانت لا تريده قالت: لا أريده، وإذا سكتت كان صماتها وسكوتها قرينة دالة على الإذن؛ وهذا نوع من التيسير من الله عز وجل؛ لأن البكر تستحي، لكن إذا كان الصمات عن خوف وإكراه فوجوده وعدمه على حدٍ سواء، فالمقصود بالصمات هو صمات الحياء، وهو الصمات الذي تستحي فيه من بيان الموافقة. أما إذا كان صمات خوفٍ بأن تخشى أن تزعج والدها فذهبت إلى أمها وقالت: لا أريده، فعلى والدها أن يتقي الله عز وجل، وأن يعلم أن الله سائله عن هذه الأمانة، فإنها قد تبقى عمرها عند هذا الرجل، فخير له ألا يصاب بدعوات السوء، فكم من امرأة والعياذ بالله ظلمها والدها فدعت عليه، فمثل هذا يتقى، فعلى الإنسان أن يتقي ربه ما أمكنه في حقوق الأبناء، وبخاصة البنت، فإن ظلم الوالد لها من أعظم الظلم، فإنها إذا ظلمت من والدها واضطهدت قد تسكت وقد تصبر، فتصبح بين نارين؛ نار العذاب الذي تجده من هذا الزوج الذي ليس بأهل، ونار والدها أن تخالفه، ولذلك ينبغي للوالد أن يقدر هذه المشاعر وأن يرحمها، والله سبحانه وتعالى لاشك أنه سيعوضها خيراً، لكن المراد بيان الحكم الشرعي من حيث الأصل. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

كتاب النكاح [5]

شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [5] وجود الولي هو أحد شروط عقد النكاح التي لا يتم عقد النكاح إلا بها، فلا نكاح إلا بولي، والولي له شروط لابد أن تتوافر فيه، منها: التكليف، والذكورية، والحرية وغيرها من الشروط، والولاية لابد أن تكون حسب الترتيب، فلا يجوز أن يقدم الأخ الشقيق على الأب إلا لعذر.

وجود الولي شرط من شروط عقد النكاح

وجود الولي شرط من شروط عقد النكاح بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: الثالث: الولي] الشرط الثالث من شروط صحة عقد النكاح: الولي، والولاية على الشيء القيام بأمره، وقد تقدم معنا شرط الولاية، والولاية تكون خاصة وعامة، فيشترط لصحة عقد النكاح الولي، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس وأبي هريرة وغيرهما رضي الله عنهم: (لا نكاح إلا بولي) فهذا نص، وأصل التقدير: لا نكاح صحيح إلا بولي، أو لا نكاح معتبر إلا بولي، وفي قوله عليه الصلاة والسلام من حديث عائشة رضي الله عنها وغيرها: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل! باطل! باطل -وفي رواية: فنكاحها باطل! فنكاحها باطل! فنكاحها باطل-) وفي حديث أبي هريرة: (البغي -وفي رواية-: الزانية هي التي تزوج نفسها). فالمرأة لابد من أن يلي عقدها الرجل، وهذا هو الولي الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إلا بولي) فلا يصح النكاح إلا بالولي، ويتفرع على هذا أن المرأة لا تزوج نفسها ولا توكل رجلاً بتزويجها؛ لأن الأصل لا تملكه فمن باب أولى فرعه، فلو قالت: يا فلان! زوجني من فلان، لم يصح؛ لأن الأصل الذي وكل ليس له حق الولاية على نفسه فضلاً عن أن يوكل غيره، كذلك أيضاً كما لا يصح أنها هي بنفسها تلي عقد النكاح لنفسها لا يصح أن تكون ولياً لغيرها، فلو أن امرأة زوجت بناتها لم يصح، فلو قالت: يا فلان! زوجتك بنتي فلانة، لم يصح؛ لأنها لا تملك الولاية على نفسها فمن باب أولى أنها لا تملكها على غيرها. السبب في هذا: نحن قدمنا أن هناك جانباً للنساء وجانباً للرجال، فجانب الرجال اعتبرته الشريعة، ومن الأدلة على اعتبار جانب الرجال حديث الولي في النكاح، والسبب في هذا: أن الرجال أعرف بالرجال، والمرأة لا تعرف الرجل خاصة إذا كانت بكراً، فالرجل هو الذي يعرف الرجل، ولربما خُدعت المرأة بالرجل ولربما كذب عليها، وهذا يقع في المجتمعات التي هي غير مسلمة، وتجد فيها المرأة يمكن أن تزوج نفسها، فتجد الرجال يتلاعبون بالنساء كما يشاءون، وممكن أن يأتيها في أحسن حالة في هيئته الظاهرة، فيظهر لها أنه غني وأنه ثري ويخدعها بسيارة غيره، وعمارة غيره، ويمكن أن تنخدع وتنجر معه، وفي النهاية يتبين أنه فقير لا مال عنده، وأن هذه الأشياء كلها مستأجرة، لكن من يستطيع أن يعرف حقيقة هذا الرجل في وضعه وفي غناه وفقره، وفي قوة وضعف شخصيته، وفي كذبه وصدقه، وفي أمانته وخيانته، وفي ظاهره وباطنه وفي جميع شئونه؟ لا يستطيع أن يعلم ذلك إلا رجل مثله، يدخل مدخله ويخرج مخرجه، ويمكنه أن يسأل من تحت يده ومن فوقه، ومن يتعامل معه، وقرابته حتى يستجلي حقيقة أمره. إذاً: أعطي الأولياء حظ النظر للجوانب التي لا يمكن للنساء أن يطلعن عليها. فولاية الرجل تقوم على جوانب، أول شيء منها وأهمها: اختيار الكفء الكريم، سواء تقدم الكفء طالباً أو بحث عنه الولي بنفسه، فإن الولي الصادق الذي يريد الخير لبناته وأخواته إذا تأخر زواجهن وتأخر من يتقدم لهن تأخذه الحمية والغيرة وحب الخير حتى ربما عرض بنته من أجل أن يحفظ دينها وأمانتها وعرضها، وهذا فعله من هو خير منا، كـ عمر رضي الله عنه وأرضاه وغيره من الصحابة والأفاضل خوفاً على مولياتهم، كل ذلك من تمام الولاية. إذا ثبت هذا فالرجل ينظر في كفاءة الرجل ويستلزم هذا جوانب مهمة؛ يستلزم النظر في صفات الرجل الخلقية والخُلقية والدينية والدنيوية، فيأخذ صورة كاملة عن شخصية الرجل وطبيعته، ولذلك لما جاءت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها تستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: (إن أبا الجهم رجل لا يضع العصا عن عاتقه، ومعاوية صعلوك لا مال له) فنظر إلى وضعه الدنيوي، (صعلوك لا مال له)، ونظر إلى شخصيته الذاتية من حيث سرعة الغضب والعصبية (لا يضع العصا عن عاتقه) معنى ذلك أنه شديد على أهل بيته، فقال لها بعد ذلك: (انكحي أسامة). فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر لها حظ الرجال، ووجَّهها أيضاً إلى طرف ثالث، فكل هذا من باب نظر الأولياء أو نظر من يستشار فينزل منزلة الأولياء في النظر في مصلحة المرأة.

الشروط الواجب توافرها في الولي

الشروط الواجب توافرها في الولي

التكليف

التكليف قال رحمه الله: [وشروطه: التكليف]: لماذا يدرس طالب العلم شروط الولي؟ أولاً: لكي تعرف أن الولي شرطٌ في صحة عقد النكاح، فلو سألك سائل: زوَّج فلانٌ فلاناً بنته هل يصح النكاح؟ تعرف أن من شروطه الولاية، فهل فلان هذا الذي زوج هذه المرأة ولي لها أو لا؟ وإذا كان ولياً لها فهل الشروط المعتبرة في الولي متوفرة فيه أو لا؟ فنبحث الشروط التي سيذكرها المصنف رحمه الله، فلا يمكن لنا أن نقول لكل شخص: تعال ولياً للزواج، ولا يمكن أن نقبل كل شخص للولاية في النكاح، فهناك نواقض من ناحية الدين ومن ناحية الأمانة من ناحية الصفات في الرجل ذاته، فلابد من توافر شروط لكي نحكم بصحة الولاية. إذاً: عندنا جانبان: أولاً: نثبت شرط الولاية، وقد بينا دليله من السنة. ثانياً: ما هي صفات الولي أو الشروط المعتبرة في الولي؟ جمهور العلماء على اشتراط الولي، وخالف الإمام أبو حنيفة النعمان عليه من الله الرحمة والرضوان فقال: يجوز للمرأة أن تزوج نفسها، واستدل بقوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:232] فقال: أسند النكاح إلى النساء وقال: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة:232] وهذا ضعيف، ولذلك يقول الإمام الشافعي: إن هذه الآية حجة لإثبات الولي أكثر من أنها حجة لإلغاء الولي؛ لأن الله خاطب الأولياء فقال: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة:232] فدل على أن المرأة إذا كان من حقها ورأت أنه صالح لها لو كانت تلي نفسها لكان أباح الله لها أن تتزوج؛ لكن لما وقف الأمر على مخاطبة الأولياء: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة:232] دل على أن النظر للأولياء، وأن الذي يلي عقد النكاح إنما هم الأولياء وليس النساء. ومما يدل عليه كذلك: قوله تعالى: {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:221] فوجه الخطاب للأولياء، وهذا يدل على اشتراط الولاية، ناهيك عن صريح السنة فيما ذكرناه من حديث ابن عباس رضي الله عنه وعائشة وأبي هريرة رضي الله عن الجميع كما تقدم. قوله: [التكليف]: والتكليف بينا أنه يكون بالعقل والبلوغ وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل وبينا هذا، فإذا قيل: التكليف، فلابد من شرطين: البلوغ: فلا يصح أن يكون الولي صغير السن صبياً، فلو أن امرأة لديها أخ عمره اثنتا عشرة سنة ولم يبلغ، وليس عندها أب ولا أولياء أقرب من الأخ الشقيق، فجاء أخوها الشقيق وزوجها من رجل، فإن هذا النكاح لا يصح؛ لأن الولاية شرط في صحة عقد النكاح وهذا الصغير ليس بولي؛ لأن من شرط صحة عقد النكاح التكليف، والصبي غير مكلف. وهكذا المجنون، فالتكليف شرطه البلوغ والعقل، فلو كان مجنوناً لا يصح أن يلي عقد النكاح، ولو كان سكراناً؛ فمن شرب الخمر أو تعاطى المخدرات، وأثناء تعاطيه للمخدرات زوَّج أخته أو زوَّج بنته وقال: يا فلان! زوجتك بنتي فلانة، لم يصح؛ لأننا قلنا: شرطه العقل، فمثل هذا لا يصح إنكاحه وتزويجه.

الذكورية

الذكورية قال: [والذكورية]: لأن المرأة لا تزوج نفسها ولا تزوج غيرها، ولذلك اشتُرِطت الولاية؛ لأنها متصلة بالرجال، فقوله: (لا نكاح إلا بولي) يدل على أن المرأة لا تزوج نفسها ولا تزوج غيرها.

الحرية

الحرية قال: [والحرية]: لأن الرقيق بحكم الشرع لا يملك نفسه فكيف يملك غيره؟ ولذلك جماهير السلف والخلف رحمهم الله على أن الرقيق لا يملك؛ لأن الرقيق تحت ضغط سيده وربما تنازل عن حقوق المرأة وأضر بمصالحها وليس كالحر.

الرشد في العقد

الرشد في العقد قال: [والرُّشد في العقد] الرُّشد يستخدم لمعانٍ، فعندنا رشد الدين وعندنا رشد الدنيا، أما رشد الدين فمنه قوله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256] فالرُّشد هنا: الإسلام والهداية، وضده الغيِّ الذي هو الكفر، ويطلق الرُّشد بمعنى صلاح النظر في الدنيا، تقول: فلان رشيد، إذا كان يحسن التجارة ويحسن الأخذ لنفسه والإعطاء لغيره، مثل الشخص الذي يحسن البيع فإنه يعلم كيف يبيع ويشتري، فإذا أحسن النظر في أمواله قالوا: فلان رشيد. ومنه قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6]، قوله: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا) يعني: إحساناً للتصرف في المال، وهذا هو النوع الثاني من الرُّشد. هناك نوع ثالث من الرُّشد، وهو رشد الولاية في النكاح، ورشد الولاية في النكاح أن يحسن الولي النظر لموليته، فيكون إنساناً عاقلاً يعرف الرجال ولا يخدع، ولا يكون ساذجاً يضحك عليه أو فيه غفلة أو تسرع في الأمور، كل من جاءه يقول له: زوجني بنتك يقول: زوجتك، فبعض الناس عنده نوع من الغفلة والتسرع، يعني لو كنا في مجلس وجاء رجل لأول مرة وقال لشخص: يا فلان! إني أحبك، قال: وأنا أحبك، قال: زوجني بنتك قال: زوجتك بنتي، هذا ليس من الرُّشد وليس من العقل. ومن هنا ندرك أن الشريعة ما جعلت الولاية للرجال يتصرفون فيها كيف شاءوا، فالولاية على النساء من الرجال مبنية على خوف من الله عز وجل وتقوى وورع، وإنصاف وعدل، وبحث عن مصالح وبحث عن كيفية الخروج من الموقف بين يدي الله عز وجل، يقول له: لمن زوجت بنتك؟ ولمن زوجت أختك؟ فيقول: لفلان الذي يُرضى في دينه وخلقه وعقيدته وسلوكه وجميع ما يكون من شئونه وأحواله، هذا هو الرُّشد، فكأنه إذا أحسن النظر للمرأة التي يلي عليها فقد رشد بنفسه ورشد بغيره، وأصاب الرُّشد، يعني: أصاب الحق والصواب والسنن فيما ولاه الله عز وجل وفيما أنيط به من أمانة.

اتفاق الدين

اتفاق الدين قال: [واتفاق الدين سوى ما يذكر] قوله: (واتفاق الدين) يعني: المسلم لا يلي الكافرة، والكافر لا يلي المسلمة، فلو كان والدها كافراً تسقط ولايته، وتنتقل الولاية إلى من هو أقرب كأخيها الشقيق، فلو أن امرأة مسلمة كان أبوها وأخوها وعمها وأبناء عمومتها كفاراً إلا ابن ابن عم مسلم يلغى هؤلاء الأولياء كلهم وتنتقل الولاية إلى ابن ابن عمها المسلم؛ لأن أهل الإسلام بعضهم أولى ببعض، وأما الكافر فلا ولاية له على المسلمة، قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141] فلو قلنا: إن والدها الكافر هو الذي يزوجها فقد جعلنا لكافر على مؤمن سبيلاً. وقوله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141] يقول العلماء: خبر بمعنى الإنشاء، وهذا من أساليب القرآن، يعني: أن الله سبحانه وتعالى في حكمه وشرعه لا يجعل الكافر على المسلم، فلا يمكن بالولاية عليه، ولأنه لو كان وليها كافراً لربما زوجها من كافر، ولأن وليها إذا كان كافراً قد يضرها، ولذلك تجد في بعض الأحيان إذا كان الوالد فاسداً والبنت صالحة قد يضرها ويزوجها -والعياذ بالله- نقمة منها على صلاحها -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا من أسوأ ما يكون، يراها دينة صالحة فيوقعها في رجل شرير انتقاماً من صلاحها، فكيف إذا كان كافراً؟ من باب أولى وأحرى، ولذلك يقرر العلماء هذا الشرط، يقولون: لأن الكفر يحمل على الأذية وفيه عداوة دينية وهي أشد من عداوة الدنيا، ولذلك لا يلي الكافر عقد المسلمة، وتنتقل ولايتها إلى من هو أقرب فأقرب. قال: [سوى ما يذكر] هناك خلاف: هل يزوج اليهودي إذا كانت بنته نصرانية والعكس؟ يعني: اليهود والنصارى أهل كتاب وهم في ترتيب الشريعة أقرب من غيرهم من الكفار، ولذلك قال الله عز وجل في سورة الروم: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:1 - 3]، ثم قال: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:4 - 5] فجعل نصر أهل الكتاب نصراً من الله عز وجل؛ لأنهم أهل دين سماوي بخلاف المجوس والمشركين وعبدة الأوثان ونحوهم، فهؤلاء أبعد في كفرهم؛ لأن الله عدل، ومن عدله سبحانه وحكمة هذه الشريعة أنها جعلت لكل شيء حظه وقدره، فالكفار ولو كانوا كفاراً فإن الله تعالى يقول: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام:132] فالكفر له مرتبته، فاختلفوا في اليهود والنصارى فهم أهل كتاب. هناك خلاف مطرد في أبواب الفقه وسيتكرر معنا، وقد يأتينا في بعض الأبواب الآتية، فبعض العلماء يرى أن اليهود والنصارى في حكم الملة الواحدة، فتسري عليهم أحكام الملة الواحدة، وعلى هذا القول يزوج اليهودي النصرانية ويزوج النصراني اليهودية. فائدة الخلاف: إذا كانوا تحت المسلمين وارتفع إلى القاضي المسلم أن يهودياً زوج بنته النصرانية، فهل يحكم بصحة النكاح أو لا؟ فعلى القول بأن الولاية تقع مع اختلاف الدين -كما سيأتي- يصح، وعلى القول بأن اختلاف الدين مؤثر يسقط ولايته.

العدالة

العدالة قال: [والعدالة] العدالة: الاستقامة، والعدل: الوسط، والوسط هو العدل أيضاً، ومنه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] أي: عدولاً خياراً، وقالوا: إن الشيء عدل؛ لأن ضد العدل المعوج، وإذا اعوج إما أن يذهب إلى اليمين أو يذهب إلى الشمال، فإذا اعتدل قالوا: عدل، ولما كان طرفا النقيض هما الضرر -الإفراط والتفريط- جاء العدل بينهما، ولذلك قالوا: العدل -الشخص العدل- هنا ليس المراد به الوسطية المطلقة يعني: مثلاً عندنا فاجر بلغ نهاية الفجور، وفاجر في بداية الفجور، فهل نقول: هذا وسط بين الاثنين، لا. الوسط هنا أن الحق نفسه وسط؛ لأن الحق يأتي دائماً بين الإفراط وبين التفريط: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، يأتي دائماً وسطاً. فالعدل يوصف به الشخص، والعدل هو الذي يجتنب الكبائر ويتقي في أغلب أحواله الصغائر، قال الناظم: العدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الأغلب الصغائر إذاً له وصفان: الوصف الأول: أن لا يقع في كبائر الذنوب وهي المحرمات الكبيرة كالقتل وعقوق الوالدين ونحوها من المحرمات، هذه الكبائر إذا فعلها سقطت عدالته. الوصف الثاني: أن يجتنب في أغلب أحواله الصغائر، وهي صغائر الذنوب، يعني: تنظر في أغلب أحواله أنه على الطاعة والخير والاستقامة ولا يفعل المحرمات، لكن لا يوجد أحد يسلم من صغائر الذنوب كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما) فاللمم وصغار الذنوب لا يسلم منها أحد، ولذلك قال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32] فاللمم لا يسلم منه أحد، لكن يُنظر إلى غالب حاله، فإن كان غالب حاله أنه يتقي الصغائر فهو عدل. فلابد وأن يكون وليها عدلاً؛ لأن ضد العدل الفاسق، والفاسق: من فسق الرطب إذا خرجت عن قشرها، ويقولون: الفاسق هو الذي خرج عن طاعة الله عز وجل، ويخرج بارتكاب الكبائر كما ذكرنا أو الإصرار على الصغائر، فلا يلي الفاسق الولاية في قول طائفة من العلماء، قالوا: لأن الفاسق فيه جرأة على حدود الله عز وجل، وإذا كان جريئاً على حدود الله وضيع حق الله فمن باب أولى أن يضيع حقوق عباده، ولكن في المسألة تفصيل، فبعض العلماء يقول: الفاسق يلي عقد النكاح، ويمكن أن يزوج بنته بشرط أن يكون فسقه بعيداً عن الولاية، قالوا: فإننا وجدنا الرجل تقع منه محرمات مثل القذف، فلو أنه قذف يحكم بفسقه، ومن قذف رجلاً أو قذف امرأة فإنه فاسق، لكن تجده من أعدل الناس في أموره الأخرى، ولا يمكن أن يتنازل، ولا يمكن أن يخون أمانة، وتجده من أوفى الناس في أمانته، لكن هل كونه فقط قذف لا يقبل منه شيء نهائياً؟ قالوا: لا. ما دام أنه فسق خارج عن الولاية وليس له تأثير في الولاية نقبله، لكن إذا كان فاسقاً وفسقه يسري إلى الولاية، وهذا يرجع إلى النظر، فإننا نجد بعض الآباء وبعض الأولياء عندهم تقصير، ولكنه إذا جاء يلي أمور أبنائه وبناته يليها في بعض الأحيان أفضل من غيره ممن هو دين ومطيع، وهذا مجرب وموجود، فتجده ينصح، ويذهب ويسأل عن الرجل ويتحرى عنه، وعنده حمية وعنده فطرة ومحبة للخير لأبنائه، فمثل هذا لا يضره فسقه على نفسه، وشره على نفسه لا يتعدى إلى الولاية، فمثل هذا يقبل ولياً ولا يضر ولا يؤثر. لكن إذا كان شخصاً معروفاً بالتهتك وبالجرأة وبالإضرار بمصالح أولاده، ولربما يغيب عن بيته الزمن الطويل، يعني: مثلاً إذا ثبت عند القاضي أن هذا الرجل يغيب بالثلاثة أشهر والأربعة أشهر عن بيته ويتركهم بلا طعام وشراب، هل مثل هذا يؤمن على تزويج بنته؟ إذا كان ترك البيت بكامله وضيع حقوقه بكامله أفلا يضيع حق امرأة؟ يمكن أن يجامل شخصاً شريراً مثله فيزوجه بنته، فمثل هذا لا يقبل ولياً؛ لأن فسقه سارٍ إلى الولاية، فإذاً: لابد من التفصيل، وهذا أمر يرجع إلى القضاة، ومنهم النظر -كما ذكر العلماء رحمهم الله- فيمن تقبل ولايته ومن لا تقبل. فائدة الخلاف: لماذا يشترطون العدالة وعدمها؟ يعني لو فرض مثلاً: أن ولي امرأة كانت فيه هذه الملاحظات وأراد أن يزوج بنته من رجل لا يصلح، وعلم أخوها الشقيق أو علم عمها الشقيق الذي هو وليها من بعده، فذهب إلى القاضي وقال: فلان يزوج بنته من فلان، وفلان معروف بالفسق وكذا وأيضاً يضيع حق هذه البنت، فإن الرجل الذي اختاره ليس بكفء، فإذا ثبت عند القاضي هذا نزع ولايته، ونقلها إلى من هو أولى منه بالولاية ممن توفرت فيه الشروط. قال رحمه الله: [فلا تزوج امرأة نفسها ولا غيرها] الفاء للتفريق، ونحن دائماً نقول: الفقهاء يذكرون الشروط ثم يذكرون مفاهيم الشرط، فلا تزوج المرأة نفسها لما أثبت الولاية، فإذا ثبت أن الولي يلي عقد المرأة فمعنى ذلك أنها لا تزوج نفسها وأيضاً لا تزوج غيرها، فلا تلي عقد نفسها ولا تلي عقد غيرها.

مراتب الأولياء

مراتب الأولياء قال رحمه الله: [ويقدم أبو المرأة في نكاحها] بدأ رحمه الله بمسألة، وانظروا إلى كيفية ترتيب العلماء رحمهم الله للمسائل، أولاً: الولاية، ثانياً: من هو الولي وما هي صفاته؟ ثالثاً: ما هي مراتب الأولياء؟ ثم إذا أثبت مراتب الأولياء التي سنذكرها، ما الحكم إذا تخطى أحد مرتبته فزوج البعيد مع حضور القريب، وزوج الأبعد مع حضور من هو أقرب منه؟ هذه كلها مسائل سنبحثها الآن. الولاية لها جهات: الجهة الأولى: الأبوة، ويتبعها الجدودة من الأبوة المباشرة والأبوة بواسطة. فأولاً الأبوة، ثم البنوة على خلاف؛ فابن المرأة الذكر وابن ابنها ممن تمحض بالذكور في ولايته خلاف من جهة البنوة، فبعض العلماء لا يرى أن الابن يلي عقد نكاحها؛ لأن الابن قطعة من أمه ولا يمكن أن يصير ولياً عليها، وفي هذا حديث ضعيف عن عمر بن سلمة أنه زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة لكن الحديث فيه ضعف، والذي يعنينا الآن الأبوة، ثم الحواشي وفروعها، ويسمونها: حواشي النسب وحواشي النسب تنقسم إلى قسمين: إما حاشية تجتمع معك في أصليك الذين هما الوالد والوالدة، أو حاشية تجتمع معك في أصل أصليك. فنبدأ بالحواشي التي تجتمع معك في أصلك؛ الذين هم: الأخ الشقيق، والأخ لأب، ثم الأخ الشقيق وابنه، ثم الأخ لأب وابنه، هؤلاء يجتمعون معك في الوالد والذين هم أصولك، وهناك حواش تجتمع معك في أصل أصلك، وأصل الأصل الذي هو الجد؛ لأن أصلي والدي وأبو الوالد الجد، فإما أن تجتمع معك الحاشية في الأقرب الذي هو الوالد وهم إخوانه وبنوهم، وإما أن يجتمعوا معك في أصل أصلك الذي هو الجد، فهؤلاء الأعمام وبنو الأعمام. فنبدأ أول شيء بالآباء، أولاً: الأب وأبوه وإن علا، فأول من يلي عقد النكاح الأب ولا يقدم على الأب أحد ألبتة إلا إذا اختلت فيه الشروط، لكن الأصل أن الأب هو الذي يلي وهو أحق، ثم بعد الأب أبوه وإن علا، فلا يزوج الجد مع وجود ابنه؛ لأنه الواسطة بينه وبين المزوجة، ولا يمكن أن نجعل الفرع حاكماً مع وجود الأصل، فهو يدلي بواسطة الأب، فلا يمكن أن يسقط الأب مع وجوده كالميراث، ففي الميراث الأب يحجب والده الذي هو الجد، فلو مات وترك أباً وجداً حجب الأب أباه، وعلى هذا قالوا: عندنا الأب وأبوه وإن علا، ثم الابن وابنه وإن نزل، لكن بالذكور؛ كابن ابن وابن ابن ابن وإن نزل، فلو أن امرأة عندها ابن وعمر الابن عشرون عاماً، وجاء رجل يتقدم وقال له: يا فلان! زوجني أمك، ذهب إلى والدته واستشارها وسأل عن الرجل فوجده كفئاً، والأم هذه ليس لها أب قالوا: يلي عقدها ابنها، ويقول: زوجتك أمي فلانة، ويتم العقد معه. أو ابن ابنه لكن لابد أن يتمحض بالذكور؛ لأن الولايات الضابط فيها دائماً العصبة، يعني لا يدخل فيها نساء، فأبو الأم لا يدخل؛ لأنه يدلي بأنثى، وابن البنت لا يدخل؛ لأنه يدلي بأنثى، فلابد أن يتمحض بالذكور، الابن وابنه وإن نزل، هذا بالنسبة للآباء والأبناء؛ وهم الأصول والفروع، ثم تنتقل إلى الحواشي كما ذكرنا، وحواشي الأصل كالأخ الشقيق، فيقدم الأخ الشقيق أولاً من الإخوان كلهم، فإذا كان هناك أخ شقيق وأخ لأب فيزوج الأخ الشقيق قبل الأخ لأب، وإذا كان هناك ابن أخ شقيق وأخ لأب الذي هو عمه لأب فإنه في هذه الحالة يقدم ابن الأخ الشقيق على الأخ لأب، فالأخ الشقيق هو الذي شاركك في أصليك، والأخ لأب هو الذي شاركك في أبيك فقط الذي هو أحد الأصلين، ولا يدخل الأخ لأم؛ لأنه يدلي بأنثى، ففي الولايات لا تدخل. ثم بعد الأخ الشقيق تنتقل إلى أبنائه، وبعد الأخ لأب تنتقل إلى أبنائه، وتنتقل بعد ذلك إلى العم الشقيق وأبنائه وابن العم لأب وأبنائه، فلو أن امرأة لها أولاد عم وليس لها آباء ولا أبناء، وليس لها إخوة أشقاء ولا أبناء إخوة أشقاء ولا إخوة لأب ولا أبناء إخوة لأب نسأل: هل لها أعمام؟ قالوا: أعمامها توفوا جميعاً، سواء الأعمام الأشقاء أو الأعمام لأب، ثم نسأل: هل لها أبناء عم؟ قالوا: نعم، عندها ابن عم شقيق وابن عم لأب، فنقدم الشقيق على الأب، ولو كان لها ابن ابن ابن ابن ابن عم شقيق يعني مرتبته الخامسة أو السادسة، وابن عم لأب مباشرة، قدمنا ابن ابن ابن ابن ابن عم الشقيق وإن نزل فبالجهة التقديم ثم بقربه وبعدهم التقديم بالقوة اجعل (فبالجهة التقديم): تقدم الآباء على الإخوة، هذه الجهات. (ثم بقربه): فابن ابن شقيق يقدم على ابن ابن ابن شقيق، وهذا من ناحية القرب. (وبعدهم التقديم بالقوة اجعل): فابن الأخ الشقيق مقدم على ابن الأخ لأب؛ لأن القوة في الأشقاء أقوى من القوة في الأب، فابن الأخ الشقيق لو نزل إلى رابع مرتبة أو خامس مرتبة فإنه مقدم على ابن أخ لأب ولو كان في أعلى مرتبة، بل حتى لو كان الأخ لأب حي قدم عليه؛ لأن القوة في ابن الشقيق أقوى من الأخ لأب؛ لأن الفرع تابع لأصله، والشريعة هكذا، فلو ترك ميراثاً وترك ابن ابن ابن عم شقيق، وعم لأب مباشرة قدم ابن ابن ابن العم الشقيق على العم لأب؛ بسبب قوة الأشقاء؛ لأن صلته بالرحم من جهتين أقوى من صلته بالرحم من جهة واحدة، وقد أعطى الله لكل حقه وحظه. قالوا: والسبب في هذا التقديم: الشفقة، فإن شفقة القريب من ناحية الأشقاء أقوى من شفقة القريب من ناحية الأب وحده، ولذلك جعلت الشريعة لكلٍ حظه وحقه. قال رحمه الله تعالى: [ويقدم أبو المرأة في نكاحها ثم وصيه فيه] ثم وصيه في النكاح، كما ذكرنا أن الفرع تابع لأصله إذا أوصى أن يزوج بناته. قال: [ثم جدها لأب وإن علا] وجدها لأم هل يلي أو لا يلي؟ لا يلي؛ لأنه أدلى بأنثى. قال: [ثم ابنها ثم بنوه وإن نزلوا] ابن المرأة، وقد قلنا: إن الشافعية ومن وافقهم لا يصححون ولاية الابن؛ لأن الابن فرع عن الأم، ولا يمكن أن يكون ابناً لها ويكون ولياً عليها. قال: [ثم أخوها لأبوين] الذي هو الشقيق. قال: [ثم لأب، ثم بنوهما كذلك، ثم عمها لأبوين] بعض العلماء يرى أن الأخ الشقيق وبنوه يقدمون على الأخ لأب، ثم الأخ لأب وبنوه، وبعضهم يرى أن الأخ الشقيق ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ الشقيق ثم ابن الأخ لأب، فيجعل الجهات تبحث بعد الأصول، والأول فيه قوة كما ذكرنا، يعني: أن الجهة أقوى. قال: [ثم عمها لأبوين] الذي هو عمها الشقيق، والعم الشقيق: هو الذي شارك أباها في أصليه، الوالد والوالدة. قال: [ثم لأب، ثم بنوهما كذلك، ثم أقرب عصبة نسباً كالإرث] قوله: (ثم أقرب عصبة نسباً كالإرث) هذا يكون في فروع القبائل، الله سبحانه وتعالى خلق بني آدم وجعلهم على قبائل وطوائف، فترتيب القرابة والقبيلة والجماعة راجع إلى الأجداد، فهناك جماعة تجتمع معهم في الجد الثالث، وجماعة تجتمع معهم في الجد الخامس، وجماعة تجتمع معهم في الجد العاشر، كقريش، فإنها تجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجد العاشر، فهناك مراتب، فإذا انتهى هذا البيت وهذه المجموعة التي أنت منها تنظر إلى أقرب فخذ إليك، فإن هذا في قرابته وعصبته منك أقرب من غيره الذي يلتقي معك في جدٍ أعلى، فيقدم القريب في الجد الأقرب على القريب الذي في الجد الأبعد، على نفس الترتيب الذي ذكرناه. فمثلاً: لو أن امرأة أسلمت، وجميع قراباتها من العصبة كفار -والعياذ بالله- أو أموات، وعندها رجل من نفس البيت لكن يجتمع معها في الجد العاشر وهذا عصبة، نسأل: هل هناك ممن أسلموا من قرابتها أقرب من هذا؟ قالوا: لا. فيكون هذا هو الذي يلي عقد النكاح؛ لأن النسب والعصبة موجودة فيلي نكاحها. قال: [ثم المولى المنعم] لقوله عليه الصلاة والسلام: (الولاء لحمة كلحمة النسب) كما في الصحيحين، فنزل الولاء منزلة النسب، والولاء هو الذي ينتج عن العتق، فالعبد إذا أعتقه سيده فإنه يصير له ولاؤه، قال صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله أحق وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق) كما في حديث عائشة في الصحيحين، فقال: (إنما الولاء لمن أعتق) فأثبت الولاء بالعتق، وقال في الحديث الصحيح الآخر: (الولاء لحمة كلحمة النسب) يعني: تسري عليه أحكام النسب، فلو أن امرأة ليس لها من عصبتها أحد فينتقل إلى مولى أبيها الذي أعتقه؛ لأن موالي أبيها كمواليها، فإنهم يلون عقدها. فالذي أعتقها يقدم على غيره من سائر قرابته وهو المعتق، ثم أبوه وإن علا، ثم ابن المعتق وإن نزل على القول بأن الأبناء يتبعون، ثم الأخ الشقيق، ثم بنوه، ثم الأخ لأب ثم بنوه، ثم العم الشقيق، ثم عم المعتق نفسه، وتسري المسألة إلى المعتق، هذا ترتيبه، وهذا في القديم، فقد كان في القديم يحتاج إلى كثير من هذا، خاصة في الفتوحات. قال: [ثم أقرب عصبته نسباً، ثم ولاءً، ثم السلطان] قوله: (ثم ولاء). ولاء المولى؛ لأنه في بعض الأحيان يكون الولاء مركباً على الولاء، ويكون الذي أعتقه هو أيضاً قد أعتق من غيره، فيكون حراً معتقاً من غيره، وليست القضية قضية الولاء والعتق، وإنما مراد الفقهاء: حفظ الضابط ومراعاة الترتيب فقط، يعني: عندما يقرأ طالب العلم هذه المتون يظن أن هذا هو المقصود، والمراد فقه المسألة، فهم عندما يذكرون الأمثلة فإنما هو لترويض الذهن، بحيث إذا سُئلت تعرف كيف تقدم الأقرب فالأقرب، وكيف تقدم الأحق على من هو دونه في الحق، وكيف تنظر إلى مراتب الأشياء وتقديراتها، وكيف تنظر إلى أن الذي يشارك في الأبوين ليس كالذي يشارك في أب واحد، وكيف أن ابن الأخ الشقيق الذي شارك في الأبوين ينزل منزلة أبيه ويقدم على غير الشقيق، هذا كله ترويض للذهن مع أن فيها أحكاماً شرعية لابد أن تعلم كما ذكرناها. قال: [فإن عضل الأقرب أولم يكن أهلاً أو غاب غيبة منقطعة لا تقطع إلا بكلفة ومشقة زوج الأبعد] قوله: (فإن عضل الأقرب) عرفنا ترتيب الأولياء، لكن ترد مسألة: لو أن شخصاً اعتدى وزوج مع وجود من هو أحق منه؟ فلو أن أخاً شقيقاً زوج مع وجود الأب -هذا يقع- أو أن العم الشقيق زوج مع وجود أولاد أخيه، فما الحكم؟ هذه مسائل يحتاج إلى النظر فيها، فهذه مسألة: اختلال الترتيب، فمتى يسمح بمخالفة هذا الترتيب ومتى لا يسمح؟ وهذه من عادة الفقهاء، والسبب في هذا: أنهم إ

كتاب النكاح [6]

شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [6] من الشروط الواجب توافرها في عقود النكاح وجود الشاهدين، لما في وجودهما من حفظ للحقوق في الحياة وبعد الممات، ولما في ذلك من دفع للضرر عن الزوجين، وعن ذريتهما مستقبلاً. ولا يكون الشاهد في النكاح معتبراً إلا إذا كان ذكراً عدلاً مكلفاً غير أصم ولا أبكم.

الشهادة شرط من شروط عقد النكاح

الشهادة شرط من شروط عقد النكاح الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين: أما بعد: قال رحمه الله تعالى: [فصل: الرابع: الشهادة]: الرابع من شروط عقد النكاح: الشهادة، وتطلق بمعانٍ؛ يقال: شهد الشيء إذا حضره، قال تعالى: {وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [القصص:44] يعني: من الحاضرين، وقيل: سمي الشهيد شهيداً؛ لأنه تحضره الملائكة كما ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه لما استشهد عبد الله بن حرام والد جابر رضي الله عنه وعن أبيه جعل جابر يكشف الثوب عن وجه أبيه ويبكي، وقيل للنبي: إن أخته تبكيه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ابكيه أو لا تبكيه فما زالت الملائكة تظله حتى رفعتموه) فقالوا: الشهادة الحضور، ويقال: شهد بالشيء إذا علمه، ومنه قولك: أشهد أن لا إله إلا الله، أي: أعلم علماً يقينياً، وتقول: أشهد أن محمداً صادق، وأشهد أن محمداً بر، ونحو ذلك، أي: أعلم هذا منه. فالشهادة تطلق بمعنى العلم وتطلق بمعنى الحضور. وقوله: (الشهادة): الشهادة شرط لصحة عقد النكاح، وذلك للتفريق بين النكاح والسفاح، ومن مميزات الشهادة على عقود النكاح أنها تدفع الضرر، فإن حقوق المرأة تضيع إذا لم يكن هناك شهود يثبتون أنها زوجة لفلان، ولربما جحد الرجل أنه زوج لفلانة، فوجود الشهود يحفظ الحقوق سواءً في الحياة أو بعد الموت، ثم الشهادة تحفظ حقوق الذرية، فلربما مات الزوجان أو ذهبا في حادثٍ أو نحوه، فيبقى النسل، ويشهد الشهود بأنه نكاح صحيح، وأن هذا الولد منهما من زواج صحيح، فالشهادة للاستيثاق والحقوق، وفرق بين النكاح والسفاح، والدليل على اشتراط الشهادة قوله عليه الصلاة والسلام: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) فلابد من وجود عقد النكاح في قول جمهور العلماء رحمهم الله.

الشروط التي يجب توافرها في الشهود

الشروط التي يجب توافرها في الشهود قال رحمه الله: [فلا يصح إلا بشاهدين عدلين]: لا يصح النكاح إلا بحضور شاهدين عدلين، والعدل تقدم ضابطه. والدليل على ذلك: أن الله تعالى قال في الرجعة: (وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] فقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] هذا في الرجعة، والرجعة مبنية على النكاح، فإذا أمر الله بالشهادة في الرجعة فلَأَن تثبت الشهادة في الأصل من باب أولى وأحرى، ولذلك قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ} [الطلاق:2] وخص الشهادة بالعدول، ومما يدل على اشتراط العدالة في الشهادة على النكاح وغيره قوله تعالى في الشهود: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] وإنما يُرْضَى من كان مستقيماً في دينه وشهادته. قال: [ذكرين] فالنساء لا تقبل شهادتهن في غير الأموال. والدليل على ذلك أن الله تعالى خص بدلية النساء عن الرجال في شهادة الأموال في قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282] وهذا على الوصية في المال في السفر فقال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة:282]، ولما جاء في حد الزنا لم يقبل إلا شهادة الأربعة من الشهود الذكور، ولم يذكر البدل، ولذلك قال جماهير العلماء: لا يقبل النساء في غير شهادة الأموال. والسبب في هذا: أن في النساء من الخصائص ما ليس في الرجال، وهذه الخصائص التي جعلها الله في النساء كمالاً لهن في أمورهن الخاصة لا تقوى معها المرأة على تحمل الشهادة؛ ومن ذلك أنها من قوة العاطفة فيها ضعف حفظها، وهذا ثابت حتى طبياً الآن، ولذلك قال تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282]. فلا تقبل شهادة المرأة في الجنايات والجرائم، وهذا مشاهد مجرب؛ لأن المرأة كما ذكرنا في طبيعتها الضعف، وهذا الضعف هو الذي جعله الله رحمة بالرجل، فكملت نقص الرجل بالرحمة والضعف الذي فيها، لكن هذا الضعف لا يستطيع أن يقف في الحوادث، ولذلك تشاهد المرأة إذا جاءت أمام جريمة أو أمام حادث تضع يديها مباشرة على عينيها ولا تحب أن ترى، ولا تستطيع؛ لأنها لا تتحمل، ولو قلنا أنها تشهد، فقد حملناها ما لا تطيق، فعندما نقول: إن شهادة المرأة ترد، فإن هذا ليس طعناً في الإسلام كما يفهم السذج، بل هو كمال في الإسلام، لما فيه الرحمة والتيسير على المرأة وإعطائها حقها وقدرها؛ لأن الله عز وجل عدل فأعطى كل ذي حقٍ حقه، فلا يستطيع أحد أن يدخل في شرع الله عز وجل، ولذلك المرأة عندما تخرجها عن طبيعتها وفطرتها وتحملها ما لا تطيق تعذبها، وتجعلها في عنت لا يعلمه إلا الله عز وجل. فالشاهد: أن الشهادة في غير الأموال لا تستطيعها المرأة، ومن هنا لا تتحمل حتى في الأموال، قال تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282] وفي قراءة: {فَتُذْكِرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282] أي: تقويها حتى تصير بمرتبة الذكر من القوة التي في الذكر، فالشاهد: أن النساء في الحدود والجرائم وفي غير الأموال لا تقبل شهادتهن لحكمة من الله سبحانه وتعالى، {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41] قبل الله شهادتهن في الأموال فقبلنا، ولم يذكر شهادتهن في غير الأموال. والأصل فيهن أن يقرن في بيوتهن، فليس هناك مجال لاستشهادهن وهن في أمور أتقن لها وأحفظ لها وأرعى لها من الرجال، وهذا من حكمة الله، فقد جعل لكل ذي حقٍ حقه؛ خلق الله الأسد وجعل فيه من القوة والشكيمة ما الله به عليم، وإذا رأيت الأسد في البطش عجبت منه وقلت: لا إله إلا الله، يعني: عن حكمة الله وقدرته في خلقه والقوة التي جعلها فيه، ثم إذا جئت لأي أمر يحتاج إلى رحمة ولين وعطف فوضعت الأسد أمامه فإذا به يفسده غاية الإفساد، فتجد تلك القوة لا تصلح في هذا المقام، فتجد الشديد في مقام العطف لا ينفع، وتجد الضعيف في مقام القوة لا ينفع. فمن يكلف الأشياء ضد طباعها ليس عنده حكمة ولا عنده عقل، فعندما تأتي إلى جنس ضعيف لطيف، الله سبحانه وتعالى خلقه وقدره، حينما تجده يقوم على بيته وعلى ولده، ويعطف على أسرته بحنانه وعطفه وإحسانه تسبح الله وتذكره لعظيم تدبيره، وحينها تعرف كيف تقوم البيوت، وكيف تتربى الأسر والأجيال بهذا العطف والحنان، هذا العطف والحنان الذي جبلت عليه المرأة لا تستطيع أن تكلفه القوة وتحمله ما لا يطيق، وإنما تجعله على قدره وحقه وما يطيق. تقبل شهادة الذكور دون الإناث كما ذكرنا، وسيأتي إن شاء الله بيان هذه المسألة في كتاب الشهادة، ونذكر أقوال العلماء وتفصيلاتهم في هذه المسائل، وما الذي يستثنى من هذا العموم. قال: [مكلفين] فلا تقبل شهادة المجنون ولا الصبي، فالصبي لا تقبل شهادته، والسبب في هذا: أن الصبي يقبل التلقين، ولا تقبل شهادة الصبيان إلا في مسائل مفردة استثناها بعض السلف؛ منها: قضاء عبد الله بن الزبير، فقد كان يقبل شهادة الأحداث والصغار في الجرائم بشرط أن يؤخذوا من مسرح الجريمة -يعني: مكان الجريمة- مباشرة قبل أن يلقنهم الكبار وقبل أن يختلطوا، فكان يقبل شهادة الصبيان فقط في حال إذا وقع بينهم شيء وأخذوا مباشرة دون أن يوجد هناك أحد يلقنهم أو يتصلوا بأحد يلقنهم، هذا الذي استثناه عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وعن أبيه في هذا، وسنذكر هذه المسألة ونبينها، أما غير ذلك فلا تقبل شهادة الصبيان؛ لأن الصبي ضعيف الإدراك فيستعجل في الأمور، ضعيف التمييز فلا يحسن الإخبار عن الأمور، ولذلك يفرق بينه وبين غيره فليس كالكبير البالغ. قال: [سميعين] لأن الشهادة تحتاج إلى سمع، فلا تقبل شهادة الأصم؛ لأنه سيشهد أن فلاناً زوج فلانة، فإذاً لابد أن يسمع الولي مزوجاً الزوج، فإذا كان أصمّ لا يسمع لا يمكن أن يشهد، فالأصم لا تقبل شهادته. قال: [ناطقين] لأنه سيُحتاج إلى شهادته للاستيثاق، فلابد أن يكون قادراً على الكلام قادراً على الإفصاح عن مكنون نفسه، فإذا كان لا يتكلم لا تقبل شهادته.

بيان معنى الكفاءة وأنها ليست شرطا في صحة النكاح

بيان معنى الكفاءة وأنها ليست شرطاً في صحة النكاح قال رحمه الله: [وليست الكفاءة: وهي دين، ومنصب: وهو النسب والحرية شرطاً في صحته] قوله: (وليست الكفاءة وهي دين) الدين من حيث الإسلام والكفر، فلا يمكن أن يزوج كافر بمسلمة، ونص القرآن في هذا واضح، لكن بالنسبة للدين من حيث الاستقامة والطاعة، فلو أن رجلاً مستقيماً صالحاً وامرأة ليس عندها تلك الاستقامة وذلك الصلاح؛ إنما هي تصلي، وتؤدي فقط الأمور الأساسية لكنها قد تقع في بعض المحرمات، وعندها بعض التقصير، ولا تصل إلى درجة الصلاح، فهل يجوز زواج غير الصالحة بالصالح؟ A نعم، فلربما أصلحها، وأيضاً: يجوز زواج غير الصالح بالصالحة فلربما أصلحته، وإن كان الأولى والأحرى أن يحتاط في هذه الأمور، لكن من حيث الأصل يجوز؛ لأن هناك شيئاً اسمه صحة النكاح، فالنكاح هنا يصح، فلو أن امرأة صالحة جاءها ابن عمها أو قريب لها وهو على غير صلاح، فقال لها والدها: فلان يريدكِ، فقالت: ما دام والدي اختاره لي، وهذا ابن عمي فأتقي الله عز وجل وأصل الرحم، وأقوم بحقوقه، ولعل الله أن يهديه على يدي، ونوت ذلك فيما بينها وبين الله، فهذه تؤجر وتثاب، ولها من الله معين وظهير، وزواجها تؤجر عليه؛ لأنها نوت الخير، فما دام أن في نيتها أن تصلحه فهذه هي الداعية بحق؛ لأنها نظرت أن أحق من يدعى أقرب الناس منها، ووقع من هذا شيء كثير، حتى إن من الرجال من أصلحهم الله بصلاح بنات العم وبنات الخال. وفي بر الوالدين بركة وخير، فالمرأة إذا برت والديها جعل الله لها فيه خيراً كثيراً، كأن تكون المرأة بنت خمس عشرة سنة وهي في عز جمالها وشبابها ونظارتها، ويأتيها والدها بصديق له ماتت زوجته، وقد يكون ابن أربعين سنة، أو خمس وأربعين سنة، أو ابن خمسين سنة، ويقول لها: يا فلانة! فلان يريدكِ، وأريد أن أزوجكِ من فلان، فتقول له: ما دمت تريده أنا موافقة، وتتزوج ابن أربعين وهي بنت خمسة عشر عاماً، وتتزوج ابن خمسين وهي بنت خمسة عشر عاماً، بشرط أن يكون قادراً على حقها ويعطيها حقها في فراشها، فسيعطيها الله عز وجل من السعادة والرحمة والراحة ما الله به عليم؛ لأنه مع كبر سنه يحس أنها كالهدية، فيغدق عليها من الإحسان والخير ما الله به عليم. لكن لما أصبحت المرأة لا تبالي بأبيها، وأصبحت تتأثر التأثر بآراء الذين ليس عندهم بر بآبائهم، فأصبحت المرأة يأتيها أبوها بزوج في سنها كابن عمها أو قريبها ويقول لها: يا فلانة! عمكِ جاءني يريدكِ لابنه، فتقول: لا. هذا مستقبلي، لا تدمر حياتي، لا تنغص عيشتي، فلقنت، وكانت المرأة لا ترفع رأسها في وجه أبيها، ولا يمكن أن تحل شيئاً عقده والدها، من الإكرام والإجلال، وتجد من الخير ما الله به عليم، والله كم عرفنا من القرابة وغير القرابة ومن الأسر من بيوت بنيت بالبر وصلحت بالبر. أصبحت بعض النساء -وهذا ملموس من الأسئلة والفتاوى- تحس دائماً أن والدها إذا تدخل في الزوج أنه يريد أن يهدم مستقبلها؛ لأن كل ما قرأته من القصص المعاصرة والواقع المعاصر ينصب في هذا؛ أن الوالد لا يتدخل في شيء، وهذا من أكبر الخطأ، ومما ينبغي على النساء أن يحفظنه ويحافظن على إحيائه في أخواتهن وفي النساء تقوى الله في بر الوالدين، فالمرأة إذا اتقت الله وبرت والديها جعل الله لها من السعادة والخير وعوضها خيراً كثيراً، وكم والله رأيت من قصص عجيبة، فتجد الرجل يحب امرأة معينة وتأتيه والدته وتصرفه إلى امرأة أخرى، فيتقي الله عز وجل ولا يقول: أنتِ تتدخلين في أمري، أنتِ كذا، أنتِ كذا، أبداً، بل يسلم لوالدته ويطيع فيجعل الله له من الخير ما لم يكن له في حسبان. فإن أحدهم أصرت عليه أمه أن يتزوج ابنة خالته، وكانت ليست بدينة -هذا على مسألة إذا زوجت الصالحة من غير الصالح والصالح من غير الصالحة- فقالت له: يا بُني! هذه بنت خالتكِ، وأحب أن يكون بيني وبين أختي شيء من الصلة، فيا ليتك تدخل السرور عليَّ بزواجك من بنت خالتك. فاتصل بي وقال: كيف تتدخل والدتي في أمري، وكيف وكيف مما هو سائد وموجود، فقلت له: يا أخي! هذا بر للوالدين إذا لم يكن فيها عيب ينفرك منها، قال: هي تصلي، وتقوم بحق الله لكن دينها ليس بذاك، ولكني أريد فلانة الصالحة، جارته أو من بنات جيرانه، فأصر على ما هو عليه، فمكث أكثر من شهر وهو يراجعني، حتى شاء الله عز وجل في آخر لحظة أن يلين قلبه، قال: أوافق على ما قالت الوالدة؛ لأني قلت له في الأخير: ما دمت مصراً على رأيك لا تستشرني، قد قلت لك رأيي، وقد قلت لك وجهة نظري؛ أنك إذا بررت والدتك وكانت نيتك صالحة فلن يخيبك الله. فوالله فوجئت قبل سنة أو سنتين وأنا داخل إلى مدينة من المدن وإذا به يشير إليَّ فوقفت، فقال لي: تعرفني؟ قلت: لا أذكر، قال: أنا الذي اتصلت بك وكنتُ كذا وكذا وإذا به يذكرني بحادثته، قال لي: الآن الذي معي بنت خالتي التي أصرت والدتي على الزواج بها، أصبحت من أصلح خلق الله، وداعية إلى الخير، ولي منها الآن أطفال، وأنا الآن في سعادة لا يعلمها إلا الله، وبنت الجيران التي كنت أريد زواجها انتكست -والعياذ بالله- بعد زواجها، وسبحان الله قد يصرفك الله إلى خير لك ببر الوالدين، تشعر أو لا تشعر، إذا كان البر يضر فالعقوق أضر. إذا كانت المرأة تقول: والدي يتدخل في مستقبلي. لا والله، لا يوسد والدكِ في قبره إلا وقد خرج من هذه الدنيا وهو راضٍ عنكِ لأنكِ أشعرته بالأبوة. إذا أصبح الوالد ليس له أمر في زواجكِ ولا يختار لكِ، فما هي حياتكِ معه؟ فينبغي أن تنزع المرأة من نفسها هذه المشاعر التي هي دخيلة على المسلمين، وينبغي على المرأة أن تنظر إلى الرجل، ولو أنها تزوجت غير الصالح، فإذا حدث مرة أنها تزوجت غير صالح وحصلت مشاكل وحصل الطلاق والفراق، وحدث أن بعضهن تقول: قد بررت والدي وحدث ما حدث، ورغم ذلك لم أنعم في حياتي الزوجية، فأقول لها: ثقي ثقة تامة أن هذا الزواج الأول الذي وقعت بسببه في الألم والاضطهاد والأذية من هذا الرجل غير الصالح سيكون درساً نافعاً لك، بحيث إذا تزوجت ثانية تكونين كأحسن ما يكون، فإن الذي يذوق المرارة ويذوق من بعدها الحلاوة يحس بلذة الحلاوة، وذق شيئاً مراً ثم ذق بعده حلواً، فإنك تجد للحلو لذة، وإن كنت تراه قبل المرارة حلواً فإنه بعد المرارة أحلى. وكان من كلام العقلاء الحكماء ومما ذكره بعض أهل الحكم: أن عظيماً من العظماء أراد أن يتزوج، فقال لجلاسه: اختاروا لي امرأة، فقال أحدهم: عليك بالجميلة، وقال الآخر: عليك بالطويلة، وعليك! وعليك، فأخذوا بضروب النساء وأصنافهن، فقال كلمتين: ابغوا لي امرأة يطلب مثلها -يعني: فيها صفات المرأة من حيث هي ولو كان جمالاً نسبياً- لكن ماذا قال؟ أدبها الفقر فعرفت قيمة الغنى، أي: أدبها الفقر وأدبها الضعف والشدة حتى إذا جاءت إلى بيت الزوجية بعد هذا عرفت قدر الغنى. فالمقصود: أنه إذا زوج الصالح من غير الصالحة والصالحة من غير الصالح وكان هذا الزواج مبنياً على بر الوالدين فسيجعل الله فيه خيراً، ويجعل فيه منفعة في مستقبل المرأة وفي حياتها، وإن كان الأولى والمنبغي دائماً أن يزوج الطيب من الطيبة كما قال تعالى: {الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور:26]. قال: [ومنصب: وهو النسب والحرية] يكون هذا بالنسبة للكفاءة، يعني: لو زوجت الغنية من الفقير، وزوجت الرفيعة من الوضيع، هذا الارتفاع والضعة هذا شيء نص الله عز وجل عليه بقوله: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف:32]. فالمرأة التي مثلاً لها بيت يكون بيتها بيتاً له. هناك شيء يسمى: الحسب والنسب، النسب هو: الإضافة؛ فلان ابن فلان من قبيلة فلان من بني فلان من جماعة فلان، وهذا موجود في سائر الأجناس، والحسب موجود في سائر الأجناس، لكن كل جنس بحسبه، والحسب يخالف النسب؛ لأن الحسب يحتسب الإنسان به أجداده، يعني: مثلاً يقولون: هذه فلانة، والدها فلان الكريم، يعني: رجل مشهور بالكرم والإحسان إلى الناس والصدقات حتى أصبحت الناس تذكره بالخير وتثني عليه حياً أو ميتاً، فهذا يسمى: حسب أو يقال: جدها فلان الشجاع، له شجاعة وله مكانة، وأبلى بلاءً حسناً، فهذا من الحسب، أو يقال: جدها العالم فلان، هذا أيضاً من الحسب؛ لأن العلم أعظم الشرف، فتجمع بين شرف الدين والدنيا في هذا. فإذاً: الحسب: أن يحسب الإنسان آباءه أو يعدهم، ولذلك قد: يتكاثر الناس، وتجد إذا حصل بينهم ذلك يعدون هذه المآثر والمفاخر، وإذا كان على سبيل الحق فلا بأس، كأن يقال: فلان له حق علينا، فإن والده فلان، أو هو من ذرية فلان، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال في الحديث الصحيح: (أنزلوا الناس منازلهم) ولذلك قال صلى الله عليه وسلم حينما مر على سفانة وهي أسيرة، وقالت لـ علي أن يشفع لها، فقال لها: إذا مر رسول الله صلى الله عليه وسلم فدونكِ تكلمي، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: (يا محمد! إن أبي كان يقري الضيف ويحمل الكل، ويعين على نوائب الحق، فقال لها: من أبوكِ؟)، قالت: حاتم الطائي، قال: (خلوا عنها -يعني: أطلقوها من أسرها- فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، لو كان أبوكِ مسلماً لترحمنا عليه) فعدت هذه المفاخر والمآثر وهي في الجاهلية، فكيف إذا اقترنت بالإسلام وعرفت المرأة أنها بنت فلان، والسبب في هذا: أن البيوت المعروفة سواءً كانت بيوت فضل وكرم وشجاعة ينتقل السر إلى الأولاد، فالبيوت المعروفة بالبخل والشح -نسأل الله السلامة والعافية- وعدم الإنفاق والخوف على الدنيا ينتقل بلاؤها إلى الأولاد، وكذلك أيضاً بيوت الكرم والشجاعة يبقى فيهم السر، كما قال الشاعر: إن الأصول الطيبات لها فروع زاكية والإنسان دائماً إذا كان من بيت طيب يستحي وينكف وينزجر عما لا يليق به، فلو أن المرأة كانت من بيت حسيب فزوجت ممن هو دون، فليس هذا من الحق والعدل إذا وجد الكفء لها، يعني مثلاً: الآن نجد بعض النساء تقول: إنها تريد أن تتزوج، فيصر والدها على تزويجها من ابن عمها، نقول: نعم تتزوج ابن عمها إذا كان كفئاً كريماً فهو أولى وأحق،

باب المحرمات في النكاح [1]

شرح زاد المستقنع - باب المحرمات في النكاح [1] لقد أكرم الله عز وجل الإنسان وهذب أخلاقه، ورفعه عن الحياة البهيمية، حيث نظم حياته، ونظم علاقته مع المرأة: زوجة، وأماً، وأختاً، وبنتاً، وبين ما يحل له وما يحرم من هؤلاء النساء. ولقد حرم الله على الإنسان أنواعاً من النساء تحريماً مؤبداً من جهات ثلاث. من جهة النسب، ومن جهة الرضاع، ومن جهة المصاهرة، وألحق بالتحريم المؤبد الملاعنة، وكذلك بين حكم كل نوع من هؤلاء. وهذا من فضل الله عز وجل على عباده ومن حكمته سبحانه.

مقدمة في المحرمات في النكاح

مقدمة في المحرمات في النكاح بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فالمصنف رحمه الله تعالى يقول: [باب المحرمات في النكاح] قوله: (باب المحرمات في النكاح) هذه مقدمة عن المحرمات في النكاح. والمحرمات في النكاح هن: النساء اللاتي حرم الله الزواج منهن، وينقسمن إلى نوعين: النوع الأول: المحرمات إلى الأبد. والنوع الثاني: المحرمات إلى أمد. المحرمات إلى أبد: هي كل امرأة لا تحل إلى أبد الآبدين. والمحرمات إلى أمد: يعني: مؤقتاً، ويزول تحريمها بزوال السبب، وموانع النكاح. والمحرمات من النكاح لها أسباب، وهذه الأسباب تنقسم إلى الأقسام التالية: - النسب. - ثم الرضاع. - ثم المصاهرة. - ثم الكفر. - ثم الرق. - ثم العدد. - ثم الجمع. - ثم مانع التطليق ثلاثاً. - ثم الزنا. - ثم مانع اللعان. - والأخير مانع الزوجية. هذه أحد عشر مانعاً تمنع من النكاح؛ لكن بعضها يمنع إلى الأبد، وبعضها يمنع إلى أمد. مثلاً: قلنا: النسب: وهن سبع جاء ذكرهن في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:23] الآية، سبع من النسوة يحرمن من جهة النسب، والنسب أصله الإضافة؛ لأنك تقول: فلان بن فلان، فنسبته إليه يعني: أضفته إليه. وهذا هو النسب. ثم المصاهرة: المصاهرة مثل، زوجات الآباء وزوجات الأبناء، يعني: زوجات الأصول وزوجات الفروع، وبنت الزوجة وأم الزوجة، وهؤلاء أربع من جهة المصاهرة. الرضاع: مثل النسب يعني: الذي يحرم من جهة النسب يحرم من جهة الرضاع. هذه ثلاثة موانع: النسب، والمصاهرة، والرضاع. ثم مانع الكفر: فالمشركة لا يجوز نكاحها، ولا إنكاح المشرك، فأصبح الشرك والوثنية مانعين من الزواج: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10]، وسنبين هذا. ومانع الرق: بالنسبة للحر في زواجه من الأمة، وله شروط، وزواج العبد من الحرة، وسنبين هذا. هذا مانع الرق. ثم مانع العدد: رجل عنده أربع نسوة، لا يجوز له أن يتزوج حتى يطلق واحدة وتخرج من عدتها، فينكح بدلها واحدة، هذا مانع من جهة العدد، أنه استوفى العدد الذي له، وسنشرح هذا إن شاء الله ونبينه. ثم مانع الجمع: وهو أن تجمع بين المرأة وأختها، والمرأة وعمتها أو خالتها، كما سيأتي تفصيله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:23] هذا مانع الجمع. ثم مانع التطليق ثلاثاً: فلا تحل حتى تنكح زوجاً غيره، هذه امرأة طلقها رجل ثلاث تطليقات نقول: هذه محرمة عليك؛ لكن محرمة إلى أمد، وهو أن تنكح زوجاً غيرك ويذوق عسيلتها وتذوق عسيلته، فيحل لك إذا طلقها أن ترجع إليك. ثم مانع الزنا: الزانية: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3]، وسيأتي إن شاء الله تفصيله. كذلك أيضاً عندنا مانع الزوجية: امرأة منكوحة للغير: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:24]، فالمرأة المحصنة التي هي في عصمة الغير لا يجوز للغير أن يتزوجها إلا ما استثنى الله، وهي أن تكون ذات زوج وأُسِرَت واستُرِقَّت: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:24] فتُسْتَبرأ بعد سبيها كما جاء في حديث سبي أوطاس، وسيأتي إن شاء الله. هذه كلها موانع النكاح، بعد ذلك كل مانع له تفصيلات. فبالإجمال هؤلاء المحرمات: منهن محرمات إلى الأبد، ومنهن محرمات إلى أمد. ثم المحرمات إلى الأبد منهن من تثبت لهن المحرمية، فبسبب حرمة نكاحها يجوز لك أن تصافحها، وأن تسافر معها، وأن تختلي معها، التي هي مثلاً: المحرمات من النسب، مثل: الأم والبنت والأخت والخالة والعمة، فهذه محرمة محرمية، وكذلك هناك محرمة ليست بذات محرم وهي المحرمة إلى أمد، والمحارم يشمل النسب والرضاع والمصاهرة والزوجة: - فهن سبع من جهة النسب: وهن السبع اللاتي ذكر الله. - وأربع من جهة المصاهرة: أم الزوجة، وبنت الزوجة، وزوجة الأب، وزوجة الابن. - وكان من جهة الرضاع: يعني: ما كان من الرضاع منهما: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب). - والزوجة. هؤلاء الأربع أي واحدة منهن تحريمها يوجب المحرمية؛ لكن البقية لا. فمثل ما يقع بعض الناس في الخطأ يقول: أخت زوجتي حرام عليَّ، فهي محرم لي، نقول: لا. هي حرام وليست بمحرم.

بيان المحرمات من النساء وجهات التحريم المؤبد

بيان المحرمات من النساء وجهات التحريم المؤبد تقدم معنا أن الله عز وجل حرم على المسلم أن ينكح جملة من النساء، وأن هؤلاء المحرمات لا يجوز للمسلم أن ينكحهن إما على التأبيد وإما على التأقيت، فقسم من النساء حرم الله نكاحهن والزواج منهن إلى الأبد، وقسم من النساء حرم الله نكاحهن والزواج منهن إلى أمد، يزول الحكم بزوال السبب. فأما المحرمات إلى الأبد فذكرنا: أن هذا يشمل المحرمات من جهة النسب، والمحرمات من جهة المصاهرة، والمحرمات من جهة الرضاع، ويتبع ذلك تحريم الملاعنة، فهؤلاء النسوة لا يحل نكاحهن إلى الأبد، فعندنا: النسب، والمصاهرة، والرضاع، والملاعنة. أما بالنسبة للمحرمات من النسب فسبع من النساء حرم الله عز وجل نكاحهن. أولهن: الأم ثم البنت ثم الأخت ثم بنت الأخ ثم بنت الأخت ثم العمة ثم الخالة، فهؤلاء سبع من النسوة، الأصل والفرع ومن شاركك في أصلك في فروعه من النساء، ومن شارك أصل أصلك في أصله، فنقول: الأم وأم الأم وأمها وإن علت كما سيأتي التفصيل. والبنت فرع هي وفروعها أو كانت من فرع ذكر كبنت الابن، فعندنا الأصل الأمهات وعندنا الفرع البنات، وعندنا شيء شاركنا في الأصل الأخوات، ولما كان الأخ الذكر لا يدخل في النكاح أسقط فصارت بنته، فقيل: بنت الأخ، فأصبحت من المحرمات، ثم يتبع ذلك العمة والخالة، فالعمة شاركت الأب الذكر، والخالة شاركت الأم الأنثى. وهؤلاء المحرمات السبع شملتهن آية النساء.

بيان المحرمات من النسب وحكم كل نوع منها

بيان المحرمات من النسب وحكم كل نوع منها يقول المؤلف رحمه الله: [تحرم أبداً الأم] والأم: هي كل أنثى لها عليك ولادة، والدليل على تحريمها قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23]، والأم تشمل الأم المباشرة والأم بواسطة، فأمك وأم أمك وأم أبيك كلهن محارم، يحرم نكاحهن إلى الأبد، وهي محرم يجوز الجلوس معها والخلوة بها والسفر معها، فالأم الدليل على تحريمها -كما قلنا- قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23]، والآية لما قالت: (أمهاتكم)، عممت فشملت كل أم، ولذلك لو سئُلت عن أم الجد أو أم جد الجد أو أم الأب أو أم أب الأب فكلهن محارم ومحرمات، لو قال لك: ما الدليل؟ تقول: عموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23]، فالله عز وجل لم يفرق بين أم وأخرى. ومن هنا قال العلماء: أمهات الأصول أمهات للفروع، وأجمع أهل العلم رحمهم الله على أن هذا النوع من النساء لا يحل نكاحه إلى الأبد، سواء كانت أماً مباشرة أو أماً بواسطة. قال: [وكل جدة وإن علت]. الأم وأمها وإن علت، فقوله: (كل) من صيغ العموم، (كل جدة)، فلم يفرق بين الجدة من الوالد والجدة من الوالدة. قال: [والبنت] قوله: (والبنت) هذا النوع الثاني من المحرمات، وضابط البنت عند أهل العلم: هي كل أنثى لك عليها ولادة، يعني: جاءت منك أو جاءت من نسلك، فسواء كانت بنتاً مباشرة أو بنتاً بواسطة، والبنت بواسطة سواء جاءت بواسطة الذكور: كبنت الابن أو بنت ابن الابن، أو بواسطة الإناث كبنت بنتك، فجميع هذا النوع من النسوة محرم إلى الأبد، ويجوز لك أن تصافح أي واحدة من هؤلاء، وأن تختلي بها، وأن تسافر معها، فهي محرم لك، ولو سئُلت عن الدليل؟ تقول: عموم قوله تعالى: {وَبَنَاتُكُمْ} [النساء:23]، ووجه الدلالة من الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى لم يفرق بين بنت وأخرى، فقال سبحانه: (وبناتكم)، وبنت البنت بنت لجدها والد أمها وبنت الابن بنت لجدها والد أبيها، وعلى هذا فيحرم هذا النوع من المحرمات وهن البنات. قال: [وبنت الابن] قوله: (وبنت الابن)، كما قلنا: البنت وبنتها وإن نزلن، سواء تمحضت بالذكور، أو تمحضت بالإناث، فمن تمحضت بالذكور: كبنت ابنك، ومن تمحضت بالإناث: كبنت بنتك، كل ذلك محرم بإجماع العلماء رحمهم الله. قال: [وبنتاهما من حلال وحرام وإن سفلن] وبنتاهما من حلال بالإجماع، أما من حرام فهذه مسألة خلافية، نحن علمنا أن البنت من النكاح الصحيح ومن الحلال محرم ومحرمة، لكن لو أنه -والعياذ بالله- زنى بامرأة فولدت بنتاً، هل يحل له نكاحها؟ أو ولدت بنتاً ثم البنت تزوجت فولدت بنتاً، هل يحل له أن ينكح بنت بنته من الزنا، أو بنت ابنه من الزنا؟ جمهور العلماء: على أن الشريعة تحرم الزواج من بنته من الزنا كما تحرم الزواج من بنته من الحلال، ووجه ذلك: أنها بضعه منه ومخلوقة من مائه، وهي بنته من حيث الحقيقة، وإن كان الشرع قد أسقط هذه البنتية من حيث الحكم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش)، قالوا: إن الحرام يحرِّم، وهذا مذهب الجمهور، وفي هذه المسألة يقولون: العبرة بالمعاني لا بالألفاظ وحدها، فلما نظروا إلى المعنى في قوله تعالى: {وَبَنَاتُكُمْ} [النساء:23] قالوا: إنها فرع عنه، فإن بنت الزنا فرع من مائه، ومخلوقة من مائه فتنزل منزلة البنت من الحلال. وذهب طائفة من العلماء كما هو قول الشافعية: أن البنت من الزنا يجوز نكاحها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)، ووجه الدلالة من هذا الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البنت منسوبة إلى الفراش، وأسقط ما بينها وبين الزاني، وقطع الصلة بالزاني كلية، فجاز له أن يطأها كالأجنبية. وهذه المسألة تعتبر من مفردات المذهب الشافعي، ولذلك قال بعض من ينتقد المذاهب، في بعض اعتذاره عن اتباع مذهب الشافعية: وإن قلتُ: شافعياً، قالوا: بأنني أبيح نكاح البنت والبنت تحرم وفي بعض ألفاظ البيت: أبيح نكاح الأخت والأخت تحرم فهم يبيحون نكاح الأخت من الزنا والبنت من الزنا، فنكاح الأخت من الزنا كرجل زنى بامرأة فاستولدها بنتاً، فجاء ابنه وتزوجها، فإنه يتزوج أخته من الزنا والعياذ بالله! لكن الصحيح والذي يظهر والعلم عند الله: أن هذا النوع من النساء مشتبه، لا يفتى بحله ولا يفتى بحرمته؛ لأن فيه شبهاً من الحلال وشبهاً من الحرام، فشبهه من الحلال: قوله عليه الصلاة والسلام: الولد للفراش)، فأسقط ما بينه وبين الوالد من الصلة، وأهدر ماء الزنا. وشبهه من الحرام: أن الماء ماؤه، وأن التخلق من الماء موجودة فيه، وقد نص على ذلك عليه الصلاة والسلام في حديث سبي أوطاس، فإنه لما نهى عن وطء المسبية حتى تستبرأ، فرأى رجلاً كأنه يريد أن يدخل على أمة مسبية، فقال صلى الله عليه وسلم: (أيغذوه في سمعه وبصره، لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره)، فجعل وطأها أثناء حملها محرماً، فقال: (أيغذوه في سمعه وبصره)، مع أن الولد للأول، ويكون دخول الثاني لا تأثير له. لكن الذي يظهر كما ذكرنا: أن هذا النوع من النساء ممتنع للشبه من الوجهين، فنقول: لا نحلله ولا نجزم بحله، ولا نحرمه ولا نجزم بتحريمه، وبطبيعية الحال لا يستطيع الواحد أن يتزوج هذا النوع الذي لا يجزم بحله ولا بحرمته. هذه المسألة تسري في جميع المسائل، يعني مثلاً: أم بنته من الزنا، وهكذا بالنسبة للتحريم من جهة المصاهرة كالتحريم من جهة النسب في المسألة التي ذكرناها. قال: [وكل أخت] أي: ومما حرم الله كل أخت، الأخت ضابطها عند أهل العلم: هي كل أنثى شاركتك في أحد أصليك أو فيهما معاً، فشمل ثلاثة أنواع من الأخوات: الأخت الشقيقة: وهي التي شاركتك في الأصلين الأب والأم. والأخت لأب: وهي التي شاركتك في أحد الأصلين من جهة الأب. والأخت لأم: كذلك هي التي شاركتك في أحد الأصلين من جهة الإناث. هذا النوع من النساء يحرم إلى الأبد، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء:23]، ولم يفرق بين أخت وأخت، وعمم سبحانه وتعالى فشمل الأخت الشقيقة ولأب ولأم، وأجمع العلماء على تحريم الأخوات سواءً كن شقيقات أو أخوات لأب أو لأم. قال: [وبنتها] قوله: (وبنتها) بنت الأخت الشقيقة، وبنت الأخت لأب، وبنت الأخت لأم، بإجماع العلماء محرمة؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء:23]، فقد نص سبحانه وتعالى على تحريم بنت الأخت ولم يفرق بين أخت وأخرى. وبنت الأخت: هي كل أنثى لأختك عليها ولادة. قال: [وبنت بنتها]. قوله: (وبنت بنتها)، أي: بنت بنت الأخت: وهي كل أنثى لأختك عليها ولادة بواسطة، فيشمل أن تكون بنت ابن الأخت وبنت بنت الأخت، يعني: مثل ما ذكرنا في الأصول أنه يستوي في فروعه ما تمحض بالذكور أو تمحض بالإناث، كذلك في بنت الأخت وبنت الأخ؛ لأن بنت بنت الأخت وبنت ابن الأخت هي بنت للأخت، والله تعالى يقول: {وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء:23]، ولم يفرق بين بنت أخت وأخرى، فشمل الصلب وشمل الواسطة. قال: [وبنت كل أخ وبنتها] قوله: (وبنت كل أخ وبنتها) بنت كل أخ لم يذكر الأخ؛ لأن الذكر -كما ذكرنا- لا يدخل في التحريم؛ لأنه ليس من جنس ما ينكح، فقال: بنت الأخ، وبنت الأخ ضابطها عند العلماء: هي كل أنثى لأخيك عليها ولادة، سواء كانت مباشرة كبنته بصلب، أو بواسطة كبنت بنت الأخ، وبنت ابن الأخ، يعني: سواء كانت البنت بواسطة ذكر أو أنثى، والدليل على تحريم هذا النوع من النساء قوله تعالى: {وَبَنَاتُ الأَخِ} [النساء:23]، ويشمل الأخ الشقيق والأخ لأب والأخ لأم، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله. قال: [وبنت ابنه] قوله: (وبنت ابنه) بنت ابن الأخ، فلو أن لأخيك ابناً وأنجب فإنك تصبح عماً لأبيها، وعم الأب عم للفرع كما ذكرنا، فبنت ابن الأخ وبنت بنت الأخ الحكم فيهما سواء. قال: [وبنتها وإن سفلت] نعم هذا واضح. قال: [وكل عمة وخالة وإن علتا] قوله: (وكل عمة) العمة: هي كل أنثى شاركت أباك في أحد أصليه أو فيهما معاً، كل أنثى شاركت أباك في أحد أصليه مثل العمة لأب والعمة لأم، أو فيهما معاً وهي العمة الشقيقة، فثلاثة أنوع من العمات: العمة لأب: هي التي والدها ووالد أبيك واحد ولكن الأم مختلفة. والعمة لأم: هي التي والدتها ووالدة أبيك واحدة وهي جدتك، والعمة الشقيقة: هي التي شاركت والدك في الأصلين معاً في الوالد والوالدة. هذا النوع من النساء أجمع العلماء على تحريمه مطلقاً؛ العمة الشقيقة، والعمة لأب، والعمة لأم، والدليل على ذلك نص الله عز وجل في التنزيل: {وَعَمَّاتُكُمْ} [النساء:23]، فنص على تحريم العمات ولم يفرق بين عمة وأخرى. قال: [وخالة] قوله: (وخالة) الخالة: هي كل أنثى شاركت أمك في أحد أصليها أو فيهما معاً، كل أنثى شاركت أمك في أحد أصليها مثل الخالة لأب، والخالة لأم، أو فيهما معاً وهي الخالة الشقيقة، فلو أن الوالدة لها أخت من أب وأم تقول: هذه خالتي شقيقة، وإن كانت لها أخت من أب تقول: هذه خالتي لأب، لأنها شاركت والدتي في أبيها، وإن كانت لها أخت من أم تقول: هذه خالتي لأم، هذا بالنسبة للعمات والخالات. إذاً: العمة والخالة محرمتان، وكذلك عمات الأصول يكنّ عمات للفروع، وخالات الأصول يكن خالات للفروع، فكما حرمنا عليك خالتك وعمتك نحرم عليك خالة الأم وخالة الأب، وعمة الأم وعمة الأب، فلو سألك سائل عن خالة وعمة جده: هل هي محرم؟ تقول: نعم، هما محرم لك يجوز لك أن تختلي بهما، وأن تجلس معهما، وأن تسافر بهما، وأنت محرم لهما؛ لأن خال أصلك خال لك، وخالة والدك وخالة والدتك كخالتك، وعلى هذا فإنه يسري التحريم في الخالات والعمات إذا كنّ للأصول، كما يكون تحريماً للشخص نفسه، والدليل على ذلك عموم قوله تعالى: {وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ} [النساء:23]، وقد أجمع العلماء على أن عمات الأصول

التحريم بسبب اللعان وحكمه

التحريم بسبب اللعان وحكمه قال رحمه الله: [والملاعنة على الملاعن]. هذا النوع نوع آخر من المحرمات الملاعنة، والملاعنة: مفاعلة من اللعن، والمفاعلة تستلزم وجود شخصين فأكثر، كالمقاتلة والمشاكلة، وتقع الملاعنة بين الزوج والزوجة، وسمي اللعان لعاناً لوجود اللعن فيه والعياذ بالله! ولذلك يبتدئ الرجل: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، شهد الرجل على نفسه باللعن، مع أن المرأة تشهد على نفسها بالغضب، والغضب أشد من اللعن؛ لأن الغضب -والعياذ بالله- أسوأ وأشد من لعنة الله عز وجل؛ وذلك لقوله تعالى: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81]. ولأن ملاعنة المرأة للرجل لا تكون إلا بعد تمام الأيمان من الرجل، وتمام الأيمان من الرجل لا يكون إلا بعد اليمين الخامسة: {أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7] نسأل الله السلامة والعافية! الملاعنة هي أن يتهم الرجل امرأته بالزنا بعد أن يراها، أو يسمع بأذنه، ويعلم الشيء يقيناً، أو يأتي بشهادة عدول يثق فيهم على خلاف بين العلماء، أو ينفي ولداً أنه ولده، كأن يكون هذا الولد وقع في حالة غيبة يستحيل معها أن يكون منه، أو يكون وجود الشبهة، فالمهم سيأتي إن شاء الله ما يتعلق بأحكام اللعان. لكن الذي يهمنا هنا مسألة وهي: أن الرجل إذا لاعن امرأته والعياذ بالله! ووقع اللعان بينهما، وتمت الأيمان، فرق بين الزوج والزوجة فراقاً إلى الأبد، فلا تحل له أبداً، حتى لو رجع عن لعانه وكذّب نفسه فهي حرام عليه إلى الأبد؛ ولذلك قال الراوي للحديث، أي: حديث عويمر العجلاني الذي في الصحيح: (مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما فلا يجتمعان أبداً). وعلى هذا فإن اللعان يوجب الفرقة الأبدية، لكن هناك فرق بين التحريم في النسب الذي ذكرناه، وهن السبع النسوة اللاتي ذكرن، وبين التحريم في اللعان، والفرق أن التحريم في اللعان فرقة، يعني: تكون المرأة محرمة وليست بذات محرم، وفي النسب محرمة ومحرم، يعني: يجوز للرجل أن يجلس مع أمه وأخته وعمته، لكن إذا لاعن المرأة يفرق بينهما ولا يجلس معها، ولا يعتبر بينهما أي صلة إلى الأبد. وعلى هذا تجد العلماء يقولون -في المرأة التي يحل لك أن تسافر معها والتي تأخذ حكم المحرمية- يقولون: هي كل أنثى محرمة إلى الأبد إلا الملاعنة. أي: أن الملاعنة لا تدخل مع أنها محرمة إلى الأبد. والملاعن والملاعنة يفرق بينهما ولا يجوز للملاعن بعد ذلك أن يأتي ويقول: أريد أن أتزوجها من جديد، أو أريد أن أنكحها؛ قال: (يا رسول الله! مالي -بعد أن لاعنها وتم اللعان بينهما قال: مالي، يعني: المهر الذي أعطيتها- فقال: إن كنت صادقاً فهو بما استحللت من فرجها -فمهرك الذي دفعته لقاء استمتاعك قبل زناها-، وإن كنت كاذباً فهو أبعد لك منها)، فقوله في الصحيح: (هو أبعد لك منها) دل على أنها هي بعيدة عنه، كما بعد المهر، وأن بينهما مباعدة وبينهما حرمة فلا يجتمعان أبداً.

بيان المحرمات من الرضاع وحكم كل نوع منها

بيان المحرمات من الرضاع وحكم كل نوع منها [ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب] (ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، الرضاع: مص الثدي، وسيأتي إن شاء الله بيان مسائله وحقيقته؛ لأن العلماء أفردوا للرضاع باباً مستقلاً، إذ يحتاج الفقيه وطالب العلم أن يعلم حقيقة الرضاع، وكيفية الرضاع، ومتى يحكم بالرضاع، والآثار المترتبة على الحكم به، وهذا له باب مستقل، لكن الذي يهمنا هنا أن الرضاع يؤثر كالنسب، والحجة في ذلك صريح السنة وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، فأم من رضاع وبنت وأخت وعمة وخالة وبنت أخ وبنت أخت، كل هؤلاء محرمات من الرضاع كما يحرمن من النسب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على ذلك، وألحق بذلك المحرمات من المصاهرة، كأم الزوجة من الرضاع، وكذلك بنتها من الرضاع كلهن محرمات، وزوجة أبيه من الرضاع، وكذلك بنت زوجته من الرضاع كلهن محرمات، ويلتحقن في قول جماهير السلف والخلف رحمهم الله، وحكى بعض العلماء الإجماع على ذلك. قال: [إلا أم أخته]. قوله: (إلا أم أخته)، أي: أم أخته من الرضاع، لو أن خديجة ومحمداً ارتضعا من فاطمة، فإن محمداً تحرم عليه فاطمة، لكن لا تحرم عليه أم أخته خديجة؛ لأنها أجنبية، خديجة ومحمد ارتضعا من فاطمة، ففاطمة أمهما من الرضاع هذا ما فيه إشكال في كونها محرمة، لكن أم الأخت من الرضاع التي لم يرتضع منها، القيد هنا: (التي لم يرتضع منها) لكن أم أخته من الرضاع التي رضع منها بالإجماع محرمة؛ لأنها أمه، لكن أم أخته من الرضاع إذا اشتركا في امرأة وكان للأخت التي شاركته في الرضاع أم غير التي رضع منها فإنها أجنبية، ففي الأصل أنها أجنبية وليست بمحرم، في النسب تحرم أم الأخت، ولكن في الرضاع لا تحرم أم الأخت إذا كانت على هذا الوجه. قال: [وأخت ابنه] قوله: (وأخت ابنه) أي: من الرضاع، مثلاً: زيد من الناس عنده زوجة، وأثناء ما هي عنده وولدت له وثاب اللبن من وطئه أرضعت محمداً، فمحمد ولد لك حيث رضع من لبن زوجتك، فهو ناشئ عن مائك الذي ثاب منه اللبن، فمحمد هذا لو كانت له أخت حلّ لك نكاحها؛ لأن الأخت بالنسبة لك أجنبية، والذي دخل للمحرمية هو محمد الذي ارتضع من زوجتك، فتبقى أخواته وإخوانه -على الأصل- أجانب يحل نكاحهم، سواء من الإناث أو الذكور، فيبقى التحريم للشخص الذي رضع، وهذا سنفصله إن شاء الله أكثر في كتاب الرضاع، وذكره المصنف هنا للاستثناء، وأن الأصل يقتضي أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، لكن استثنيت هاتان المسألتان لشهرتهما، وهذا على سبيل التنبيه، وإلا سيأتي إن شاء الله تفصيل مسائل الرضاع، وبيان مسألة لبن الفحل والآثار المترتبة على الرضاع.

بيان المحرمات بالمصاهرة وحكم كل نوع منها

بيان المحرمات بالمصاهرة وحكم كل نوع منها قال رحمه الله: [ويحرم بالعقد زوجة أبيه وكل جد] قوله: (ويحرم بالعقد) هذا النوع الرابع من المحرمات، أولاً: المحرمات بالنسب، وهن السبع اللاتي تقدمن، ثم بعد ذلك المحرمات بالملاعنة التي ذكرنا، ثم بعد ذلك النوع الثالث الرضاع وانتهينا منه. ثم بعد ذلك سيشرع الآن في النوع الرابع وهو المصاهرة. والمصاهرة: مفاعلة من الصهر، ويأتي هذا في الأصول والفروع من حيث الزوجية، فتأخذ أصلك وتأخذ فرعك، وتنظر إلى زوجة الأصل وزوجة الفرع حتى تضبط المحرمات من المصاهرة وهي أربع، ولابد أن تحفظهم؛ لأن هؤلاء النسوة محارم لك، والمحرمات من المصاهرة يحرمن إلى الأبد، وهن محارم. وقلنا: المحارم ثلاثة: النسب، والرضاع، والمصاهرة، والواجب على كل مسلم بالغ أن يعلم هؤلاء المحارم حتى يعرف من هي المرأة التي يجوز له أن يختلي بها، والتي يجوز أن يصافحها، والتي يجوز أن يسافر معها، فبيّنا حكم النسب، وبيّنا أن الرضاع يأخذ حكم النسب، بقي المصاهرة وهو النوع الثالث من المحارم، وهو الرابع مما ذكره المصنف. المصاهرة إذا أردت أن تضبطها أربع من النساء، والأربع تأخذ اثنتين منهن لأصلك ولفرعك، واحدة لأصلك وواحدة لفرعك، زوجة أصلك وزوجة فرعك، ثم اثنتين منهن أصل لزوجتك، وفرع زوجتك، وهما أم الزوجة، وبنت الزوجة، حتى تحفظ المصاهرة تأخذ هذا الضابط، فعندك أصولك وفروعك فانظر إلى نسائهم، زوجات الآباء وزوجات الأبناء، هذان نوعان من النسوة من جهة الأصول والفروع، وعندنا نوعان من النسوة من جهة الزوجة: أصلها وفرعها، فتقول: أم الزوجة وبنت الزوجة، فأصبحن أربعاً. نبدأ أولاً بزوجات الأصول: هي كل أنثى عقد عليها والدك وإن علا، سواء دخل بها أو لم يدخل، سواء طلقها أو بقيت في عصمته أو مات عنها، فإنها محرم لك إلى الأبد. زوجات الأصول: وهي كل أنثى عقد عليها أبوك أو أبوه وإن علا، وسواء كان من جهة الأب أو من جهة الأم كوالد الأم وأبيه، والدليل على هذا النوع الأول من أنواع المصاهرة قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22] معنى قوله: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) قيل: إن إلا بمعنى: ولا ما قد سلف، ومنه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:92] أي: ولا خطأً كأن يتساهل ويتعاطى الأسباب. ومنه قول الشاعر: وكل أخٍ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان أي: والفرقدان. وحمل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (ثمن الكلب سحت إلا الكلب الضاري) أي: والكلب الضاري لا يحل شراؤه وبيعه. الشاهد: أن قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22] أي: ولا ما قد سلف، فلا تستديموا نكاحهن وفارقوهن. ما موضع الشاهد من هذه الآية؟ موضع الشاهد أن الله يقول: {وَلا تَنكِحُوا} [النساء:22] فحرم علينا أن ننكح ونتزوج ما نكح آباؤنا، وانظر إلى قوله: (ما نكح) والمرأة منكوحة للرجل بالعقد، فإنك تصف المرأة أنها منكوحة للإنسان بمجرد العقد عليها، ومن هنا قالوا: لا يشترط في تحريم زوجة الأب أن يدخل الأب بها، فلو أنه عقد عليها الساعة وطلقها مباشرة فهي محرم لك إلى الأبد، ومحرمة عليك إلى الأبد. قوله: (ولا تنكحوا ما نكح) أي: ما عقد عليه آباؤكم سواءً بقين أو طلقن أو مات الآباء عنهن وهن في عصمة إلى آخره. فلو سألك سائل: عن امرأة عقد عليها جده لأبيه ثم توفي عنها، أو طلقها، أو لم يدخل بها وطلقها قبل الدخول؟ تقول: هذه محرم لك إلى الأبد، وعلى هذا قالوا: يشمل هذا الأب من جهة الذكور ومن جهة الإناث، أي: الذي يدلي بذكور ويدلي بإناث، فإن زوجته محرمة إلى الأبد. قال رحمه الله: [وزوجة ابنه وإن نزل] قوله: (وزوجة ابنه) النوع الثاني من المحرمات من المصاهرة: زوجات الأبناء، زوجات الأبناء يأخذن نفس الحكم، بمجرد أن يعقد ولدك على امرأة يحل لك أن تقابلها، وأن تصافحها، وأن تختلي بها، وأن تسافر معها، سواء دخل بها أو لم يدخل، ما الدليل على ذلك؟ قوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23]، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله حرم علينا حليلة الابن: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء:23]؛ لأن الآية الكريم صدرت بقوله جل ذكره وتقدست أسماؤه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} [النساء:23]، فالعقد يقول: وحرمت عليكم حلائل أبنائكم، فلما كان هذا أصل التقدير معناه: أنه إذا كانت المرأة حليلة لولدك فإنها بمجرد أن تصير حليلة فهي محرم لك. حسناً! لو أن الابن طلقها بعد العقد مباشرة أو مات عنها بعد العقد مباشرة فهي محرمة عليك إلى الأبد، فالله تعالى يقول: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء:23]، قال العلماء: وصف الله هذا النوع من المحرمات بكونه حليلة، وبالإجماع: أن الولد لو عقد على امرأة صارت حليلة له ومحرماً لوالده، أي: أن المرأة حليلة للرجل بمجرد أن يعقد عليها، وهذا بحكم الشرع، والشرع وصف حليلة الابن بكونها محرمة، إذاً فالقاعدة: أن كل امرأة عقد عليها الابن فهي محرمة على والده إلى الأبد. يشمل هذا ابنك المباشر وابن ابنك وابن بنتك وإن نزل، فلو سئُلت عن ابن بنت ونحو ذلك تزوج امرأة وعقد عليها جاز لك بعد العقد مباشرة أن تدخل وتسلم عليها؛ لأنها أصبحت محرماً لك بمجرد العقد عليها. قوله: (وإن نزل) ابن ابن وابن بنت وإن نزل، تمحض بالذكور أو تمحض بالإناث كما ذكرنا، والدليل عموم قوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء:23]، ولم يفرق بين ابن وآخر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف الحسن بأنه ابن له، مع أنه بواسطة أنثى، فدل على أن من تمحض بالذكور أو تمحض بالإناث أنه ابنك ما دام أنه فرع لك. قال: [دون بناتهن وأمهاتهن] قوله: (دون بناتهن وأمهاتهن)، فمثلاً: زوجة الأب لها بنت الذي هي ربيبة الأب، الوالد تزوج خديجة فخديجة بنتها محرم لوالدك؛ لأنها ربيبته، يجوز لك أن تتزوج ربيبة والدك، فهي حرام على والدك وحلال لك أنت، فتحريم المصاهرة يختص بمن ذكرنا. قوله: (وأمهاتهن)، مثل: أن يتزوج الابن خديجة بمجرد عقد الولد على خديجة تحرم عليه أمها؛ لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء:23]، لكن هذه الأم تحل لأبيه، فيجوز لأبيه أن يتزوجها، مثلما ذكرنا في الربيبة التي هي بنت زوجة الإنسان فهي محرم له ويحرم عليه نكاحها، ويجوز لابنه أن يتزوجها، وكذلك زوجة الابن أمها محرم للابن وحرام عليه أن يتزوجها، لكن يجوز لوالده أن ينكحها. فالتحريم قيده الله عز وجل بضابطه، فأنت إذا قلت: بنت زوجتي حرام عليَّ وهي الربيبة، لكن ليست على الولد بحرام، فالابن يجوز له أن يتزوج الربيبة التي هي بنت زوجتك وهي حرام عليك، وكذلك أم زوجتك حرام عليك لكنها ليست بحرام على ابنك فيجوز له أن يتزوجها، والدليل على هذا قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء:24]، فإن التحريم قصر على الابن إذا تزوج امرأة أن ينكح أمها، لكن لم يحرم على أبيه ذلك، وقصر على الأب إذا كان قد تزوج امرأة لها بنت أن ينكح بنتها، لكن لم يحرم على ابنه ذلك، فيجوز له أن ينكحها؛ لأنها ليست بربيبة له وإنما هي ربيبة لأبيه، وكذلك أم زوجة أبيه ليست بأم زوجته وإنما هي أم لزوجة أبيه، فالحكم واضح في هذا، تقصر التحريم على موضعه الذي ورد به وتبقي ما عدا ذلك على الأصل من الجواز، وإذا راجعت المسألة فهي واضحة إن شاء الله. قال: [وتحرم أم زوجته وجداتها بالعقد] قوله: (وتحرم أم زوجته وجداتها بالعقد)، هذا النوع الثالث أم الزوجة. عندنا نوعان باقيان: أم الزوجة، وبنت الزوجة، وانظر إلى حكمة الله سبحانه وتعالى، وكمال لطفه، ودقة هذه الشريعة الإسلامية العظيمة، حينما جاءت تحرم أم زوجة الإنسان، الغالب أنه إذا عقد الرجل على امرأة فالبنت أجمل من أمها، وقلّ أن تجد رجلاً يطلق بنتاً ويتزوج أمها، فجعل الله تحريم أم الزوجة بمجرد العقد على ابنتها، ولأن البنت يصيبها من الغيرة الشديدة والأمر العظيم من الحقد على أمها لو أباح الشرع أنه لا يحرم التزوج بأمها إلا بعد الدخول بها، لكن جعل تحريم الأم بمجرد العقد على البنت، أما العكس إذا تزوج أماً فإن البنت وهي الربيبة لا تحرم إلا بعد الدخول بأمها، وذلك لقوله تعالى: ((وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ)) [النساء:23]؛ فانظر كيف التوسعة! وفي الغالب أن الرجل لا يطلق امرأة ويتزوج أمها؛ لأن الغالب أن البنت أجمل من أمها وأكمل وأحظى عند الزوج، وهذا شيء جبلي فطري، والشريعة لا تعارض الغرائز والأشياء الطبيعية، إنما تريد أن تهذّب وتقوّم وتضع كل شيء في نصابه: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} [الأعراف:52]، فحكم الله الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين سبحانه! سبحانه ما أحكمه! وينبغي على طالب العلم إذا تعلم هذه الأحكام أن يزداد من العقيدة والإيمان، ما فائدة أن يعرف الإنسان الحكم ويقول: هذا حلال أو حرام فقط، هذا لا يكفي، بل ينبغي أن يصحبه اليقين، وأنه ليس هناك أكمل ولا أبدع ولا أجمل ولا أتقن من حكم الله سبحانه وتعالى قال سبحانه: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام:115] وقال سبحانه: {والله يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41]، من هذا الذي يستطيع أن يستدرك على رب العزة والجلال، جل جلاله وتقدست أسماؤه؟!! لقد جعل الله تحريم الأم بمجرد العقد على البنت، لكن البنت التي هي أحظى وأجمل إنما جعل تحريمها بالدخول على أمها، فجعل الأمر على السعة.

باب المحرمات في النكاح [2]

شرح زاد المستقنع - باب المحرمات في النكاح [2] إن المحرمات إلى أمد يحرم نكاحهن حتى يزول المانع، فإذا زال المانع فإنه يجوز نكاحهن. والمحرمات إلى أمد أنواع: منها أخت معتدته، وأخت زوجته، وبنتاهما وعمتاهما وخالتاهما وغيرهن ممن يحرمن على التأقيت. والحكمة من التحريم هو الإبقاء على المحبة بين هؤلاء، وعدم التقاطع والتباغض، وهذه حكمة عظيمة.

بيان المحرمات من النساء على التأقيت

بيان المحرمات من النساء على التأقيت قال رحمه الله: [فصل: وتحرم إلى أمد]. قوله: (وتحرم إلى أمد) هذا النوع الثاني من المحرمات وهو التحريم إلى أمد. فبعد أن بين رحمه الله المحرمات إلى الأبد شرع في بيان المحرمات إلى أمد، وهذا نوع من النسوة يحرمن مؤقتاً، مثلاً: عندنا المرأة المحرمة لا يجوز لك أن تتزوجها حتى تحل من إحرامها، وكذلك المرأة الزانية لا يجوز نكاحها حتى تتوب وتستبرئ من زناها، كذلك المرأة الكافرة لا يجوز نكاحها إلا ما استثناه الشرع من الكتابيات على التفصيل الذي سنذكره، لكن إذا أسلمت يجوز، إذاً معنى ذلك أن هؤلاء النسوة تحريمهن من جهة العوارض والأسباب، ويزول التحريم بزوال سببه.

من المحرمات إلى أمد أخت الزوجة

من المحرمات إلى أمد أخت الزوجة قال رحمه الله: [أخت معتدته]. قوله: (أخت معتدته)، أي: أخت الزوجة، وهي محرمة عليك سواء كانت الزوجة في عصمتك أو كانت في حال العدة، فهو قال: (أخت معتدته) حتى يُعْلَمَ أنها إذا كانت باقية في عصمته فهي محرمة من باب أولى وأحرى، وهذا النوع من النساء يدخل تحت مانع الجمع. فالموانع عدة وهي: مانع النسب، ومانع المصاهرة، ومانع الرضاع، ومانع اللعان، هذه أربعة موانع تقدمت، ثم نشرع الآن في مانع الجمع، وهو الجمع بين الأختين، والمرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، هذا بالنسبة لمانع الجمع. فابتدأ بالأخت وعادة العلماء يقولون: تحرم أخت الزوجة ما دامت الزوجة في العصمة أو كانت في عدتها، فإذا طلقت وخرجت من عدتها حلت أختها. دليل هذا النوع من التحريم قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:23]، (إلا ما قد سلف) أي: ولا ما قد سلف -كما ذكرنا-، فينبغي فراقهن، فيكون على العطف تشبيك الحكم، ومن حكمة الله عز وجل أنه حرم على الرجل أن يتزوج أخت زوجته في حال بقاء أختها في عصمته؛ لما في ذلك من قطع الأرحام، وظهور الحقد بين الأخوات، وقد جاء في الحديث الآخر في الرواية: (إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم)، فهذا يدل على أن العلة خوف قطيعة الرحم، ومن هنا يقول العلماء: إن التحريم هنا درء لمفسدة قطيعة الرحم، وأجمع العلماء على عدم جواز الجمع بين المرأة وأختها. لكن هذا النوع من الموانع الذي هو مانع الجمع لا يوجب المحرمية كما ذكرنا، ويخطئ بعض الناس عندما يجلس مع أخت زوجته، فإذا قيل له: لماذا؟ يقول: هذه محرمة فهي كالأم والبنت، وهذا خطأ، فإنها محرمة إلى أمد، والمحرمة إلى أمد لا تأخذ حكم المحرمة إلى الأبد. والأخت تشمل أخت الزوجة الشقيقة، وأخت الزوجة لأب، وأخت الزوجة لأم، فالحكم هنا عام، وألحقت بها الأخت من الرضاعة، فإنه لا يجمع بين المرأة وبين أختها من الرضاعة. وعليه فلا يجمع بين المرأة وبين أختها من النسب، ولا أختها من الرضاعة. قال: [وأخت زوجته] قوله: (وأخت زوجته) أخت معتدته، هي أخت زوجته، يعني: كأنه يقول: إن أخت الزوجة محرمة إلى أن تطلق وتخرج من عدة الطلاق، لكن ما دامت في عدة الطلاق لا، ومن هنا يلغزون ويقولون: رجل يعتد، وهو الذي يريد الزواج من أخت الزوجة، ومن كان عنده أربع نسوة وأراد أن يتزوج بامرأة خامسة لا يحل، فنقول له: فارق واحدة وتزوج الخامسة، فإذا طلق الواحدة لا يحل له أن يعقد على الخامسة حتى تخرج هذه من عدتها؛ لأنه لو أبحنا له أن ينكح الخامسة قبل أن تخرج الرابعة من عدته ومات، يكون قد مات وفي عصمته خمس من النسوة بحكم الشريعة؛ لأن المرأة في العدة آخذة حكم المرأة، ولذلك قالوا: إنه لابد من خروجه من العدة في قول جماهير السلف رحمة الله عليهم، وقضى به بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وعليه قالوا: لو ألغز يقال: رجل يعتد، بينما الأصل أن العدة تكون للمرأة، يقولون: هو الرجل الذي يريد الخامسة، فإنه إذا طلق الرابعة يعتد، يعني: لا يتزوج حتى تخرج الرابعة من عدتها، وهكذا لو طلق الزوجة وأراد أن ينكح أختها فإنه ينتظر إلى خروجها من العدة، لكن لو أن أختها ماتت، جاز له مباشرة أن ينكح أختها، في هذه الحالة ليست هناك عدة، فبمجرد موتها يحل له نكاح أختها.

حكم الجمع بين المرأة وبنت أختها أو عمتها أو خالتها

حكم الجمع بين المرأة وبنت أختها أو عمتها أو خالتها قال رحمه الله: [وبنتاهما وعمتاهما وخالتاهما]. قوله: (وبنتاهما) فلا يجوز أن يجمع بين المرأة وبنت أختها؛ لأنه جمع بين المرأة وخالتها، ومعلوم أنه لا يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها. قوله: (وعمتاهما وخالتاهما) لما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: (نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها)، ومن هنا يعتبر العلماء: أن السنة تزيد على القرآن في الحكم، وهذا خلاف لبعض أصحاب الرأي الذين يقولون: إن السنة لا تزيد على القرآن، فهنا زاد التحريم الجمع بين المرأة وعمتها، فإن ظاهر القرآن يبيح؛ لأن الله يقول: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:23]، والله تعالى حرم المحرمات ثم قال بعد ذلك: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، فالأصل يقتضي أن التحريم يختص بالجمع بين الأختين، مفهوم ذلك: أن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها جائز بحكم القرآن؛ لكن جاء النص من السنة بالزيادة، وهذا مما يذكره العلماء: أن السنة تزيد على القرآن، بخلاف من يقول: إن السنة مفسرة مقيدة لمطلق القرآن، مخصصة للعموم إلى آخره، وهذا ليس على كل حال، بل السنة تزيد على القرآن، وتأتي بأحكام زائدة على القرآن، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا ألفين أحدكم جالساً على أريكته شبعان ريان يبلغه الحديث عني فيقول: ما وجدت هذا في كتاب الله، ولقد أوتيت القرآن ومثله معه)، ولقد صدق بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فكم من جالس على أريكته أشر بطر كفر نعمة الله عز وجل، ورد سنة النبي صلى الله عليه وسلم مدعياً أنه لا يجد ذلك في كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم غنية عنه وعن أمثاله.

جواز التزوج ببنت أخت المرأة وعمتها وخالتها بعد انتهاء عدتها

جواز التزوج ببنت أخت المرأة وعمتها وخالتها بعد انتهاء عدتها قال رحمه الله: [فإن طلقت وفرغت العدة أبحن]. قوله: (فإن طلقت وانتهت العدة) هذان شرطان. إذاً: لابد من الأمرين: الطلاق، وانتهاء العدة، لكن لو ماتت فإنها تحل. قال: [وإن تزوجهما في عقد أو عقدين معاً بطلا] يا إخوان! الحقيقة أن متون الفقه ومتون العلم ألَّفها علماء أجلاء، ومن الخطأ أن يظن الظان أن أهل العلم المعروفين بالورع والصلاح يأتون بشيء من عندهم، فالبعض يقول: هذه آراء واجتهادات، العلماء عندما يأتون بهذه المسائل الغريبة فهي منبنية على الأصول، ولو تأملت الآن المتون الفقهية وأمعنت النظر فيها، وركزت في الأدلة المستنبطة منها هذه الأحكام، لوجدت أنها لا تخرج عن أصل صحيح شرعي، لكن تختلف الأنظار هل هذا الأصل أولى أو ذاك؟ فهم الآن حينما يتكلمون على مانع الجمع، فإن القرآن فيه نهي عن الجمع، لكن قد يرد Q لو أن رجلاً جمع بين أختين -والعياذ بالله- معاً، وهذا الرجل جاهل بحكم الشريعة، كأن يكون أسلم حديثاً، ثم جاء وتزوج أختين مع بعض، وقيل له: هذا لا يحل، فما الحكم: هل نلغي النكاحين؟ أم نبقي النكاحين؟ أم نلغي أحدهما ونبقي الآخر؟ هذا فيه تفصيل: إن كانت إحداهما سابقة للأخرى بطل نكاح الأخيرة، وبقي نكاح الأولى على ما هو عليه؛ لأن الإخلال جاء من إدخال عقد الثانية على الأولى، فالأصل في عقد الأولى أنه صحيح وأصله مستصحب، ونلغي الثاني فكان وجود العقد وعدمه سواء، فنقول له: فارق الأخت الثانية، ويلزمك مفارقتها ويبقى عقد الأولى على ما هو عليه. لكن لو تزوجهما معاً، دخل بهما معاً وعقد بهما معاً، فما الحكم؟ نقول: بطل نكاحهما معاً؛ لأنه مبني على أصلٍ فاسد، لا يصح النكاح على هذا الوجه، إذا لم تسبق إحداهما الأخرى وعقد عليهما معاً، يقع صورة هذه المسألة: ككفار أسلموا وهم حديثو عهد بالإسلام فقال أحدهما للآخر: يا فلان! زوجتك أختين لي، قال: قبلت، فقد وقع العقد على الاثنتين، نعم تزوج أختين مع بعض، فحينئذٍ جمع بين الأختين في عقد واحد، فيلغى عقد الأولى والثانية. قال: [فإن تأخر أحدهما أو وقع في عدة الأخرى وهي بائن أو رجعية بطل] قوله: (فإن تأخر أحدهما) ما رأيكم تأخرت إحداهما، أو تأخر أحدهما؟ تأخر أحدهما بالتذكير التفاتاً للعقد، أي: فإن تأخر عقد إحداهما عن عقد الأخرى بطل نكاح الثانية دون نكاح الأولى كما ذكرنا، وهكذا لو وقع في عدتها فإنه يبطل نكاح الثانية، يستوي أن يقع في عدتها أو يقع في حال العصمة كما ذكرنا.

من المحرمات إلى أمد المحصنة والمعتدة

من المحرمات إلى أمد المحصنة والمعتدة قال رحمه الله: [وتحرم المعتدة والمحصنة]. قوله: (وتحرم المعتدة) قال تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة:235]، فالمرأة المعتدة من طلاق تنتظر حتى تتم عدتها، وبعد ذلك تحل للأزواج، فلا يجوز أن ينكحها في حال عدتها، وقد حرم الله عز وجل المرأة المحصنة والمعتدة، وهذا مانع جديد غير المانع السابق. قوله: (والمحصنة) هذا مانع الزوجية. وضابط الزوجية: أن تكون المرأة في عصمة الغير، والدليل على ذلك في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:24] عطف المحصنات من النساء على قوله: (حرمت)، أي: حرمت عليكم المحصنات من النساء، والمحصنة: هي المرأة المزوجة؛ لأن الإحصان يطلق على الزواج، فيقال: أحصن الرجل إذا تزوج: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25]، فهنا الإحصان الأول بمعنى الزواج، ويطلق الإحصان بمعنى العفة: حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل ومنه قوله تعالى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء:25] يعني: عفيفات غير زانيات، قوله: (مسافحات) يعني: زانيات، والسفاح هو الزنا، {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَان} [النساء:25] يعني: متخذات أصدقاء مثلما يقع عند أهل البغي والفجور. فالمقصود: أن المرأة المحصنة في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ} [النساء:24] من المحرمات إلى أمد، وهي: كل امرأة في عصمة الغير، فلا يجوز للرجل أن يتزوج منكوحة غيره، وإذا تزوج منكوحة غيره فهو زانٍ، هذا إذا كان يعلم أنها منكوحة لغيره، ويعلم بالتحريم، فحكم هذا أن يرجم إن كان محصناً. والمرأة التي هي الزوجة إن رضيت به، أو كذبت وقالت: ما لي زوج ولها زوج، وتزوجت بزوج ثان عالمة بالحكم فهي زانية وترجم بزناها، هذا إذا ثبت عند القاضي أنها فعلت ذلك توصلاً إلى وطئه، ويكون حينئذٍ طلباً للزنا؛ لأن العقد باطل، فكأنها تبيح له ما حرم الله عز وجل دون إذنٍ شرعي فهو زنا. فالمقصود: أن المرأة المحصنة لا يحل نكاحها، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ} [النساء:24]، ويتبع ذلك المعتدة، فالشريعة حكمت بأن المعتدات في حكم الزوجات، وفائدة العدة أن يقوم الزوج بردها؛ وذلك لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] فجعل المرأة المعتدة تابعة لبعلها، فقال: (وبعولتهن) وهذا يدل على أنها لا تنكح، ولا يجوز للغير أن يدخل على زوجة الأول إلا بعد خروجها من العدة.

عدم جواز وطء المسبية إلا بعد استبرائها

عدم جواز وطء المسبية إلا بعد استبرائها قال رحمه الله: [والمستبرأة من غيره]. قوله: (والمستبرأة من غيره) المستبرأة من البراءة، وهي: التي تطلب براءة الرحم، مستبرأة من غيره مثلما يقع في الإماء، يقول الله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:24] لا يحل للمسلم أن يطأ أو يتزوج امرأة مزوجة بغيره، إلا في حالة واحدة وهي: أن تكون كافرة، وتؤخذ أسيرة، وكانت زوجة لكافر قبل أن تسبى وتسترق، فإذا أخذت بالسبي يلغى نكاح الكفار، ويصير لها بحكم السبي حكم جديد، ولذلك قال الله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:24]، فالسبي والنساء المسترقات في السبي يجوز وطؤهن، ولو كن زوجات للكفار قبل القتال وقبل الجهاد، فبالجهاد نشأ حكم جديد، فألغي زواجهن الأول وأصبحن ملكاً؛ لأنه لو لم يكن هذا لما وقع شيء اسمه ملك يمين، فقال الله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:24] فاستثنى الله عز وجل الوطء بملك اليمين للمحصنة، لكنها تُسْتَبْرَأُ فلا يجوز وطؤها قبل الاستبراء؛ لأنه إذا وطأها ولم يستبرئها فإنه يدخل ماءه على ماء الكافر قبله، وهكذا لو كانت المرأة منكوحة لغيره ووقع الوطء شبهة، لا بد أن يستبرئها إذا كانت موطوءة من غيره، وسنتكلم إن شاء الله على العدد وأحكام الاستبراء في بابها إن شاء الله، والدليل على أن المستبرأة لا توطأ حديث سبي أوطاس، وذلك لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يريد أن يلم بالمسبية، يعني: يطأها، هذه المرأة المسبية كانت فراشاً للذي قبل، وفيها حمل بيّن، والمفروض أنه ينتظر حتى تضع حملها، وحينئذٍ يستبرئ الرحم، ويصبح خلواً له، فيطأ بملك اليمين، لكن ما يجوز أن يأتي بمسبية حامل ويطأها؛ لأن هذا يدخل ماءه على ماء غيره، فقال صلى الله عليه وسلم -لما رآه على باب الخيمة وهو يلم بها-: (أيلم بها، أيغذوه في سمعه وبصره -يعني: لو وطأها وهي حامل لانتشى ولد غيره بمائه- لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره)، وفي هذا يقول بعض العلماء: إن هذا يدل على عظم أمر الزنا؛ لأنه إذا زنى وأدخل على أهله ولداً ليس منهم، وأغذاه في سمعه وبصره -والعياذ بالله- وأدخل من يطعم من طعام قوم لا يحل له أن يطعم، ويشرب من شراب قوم لا يحل له أن يشرب، وأن ينظر إلى نسائهم وهم ليسوا بمحارم، فكل هذا من الآثار المترتبة على اختلاط الماء، ولذلك قال: (أيغذوه في سمعه وبصره، لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره)، فهذا يدل على أنه لا يجوز الوطء للمرأة التي علق ماؤها من الغير، وكذلك لا يجوز وطء معتدة غيره وامرأة غيره بعد فراقهما إلا بعد استبرائهما.

من المحرمات إلى أمد الزانية

من المحرمات إلى أمد الزانية قال رحمه الله: [والزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها]. ولا يجوز نكاح الزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها، هذان شرطان: الشرط الأول: يتعلق بصلاحها واستقامتها وتوبتها من الزنا. والشرط الثاني: يتعلق بطهارة فرجها ورحمها، فأما بالنسبة للدليل على تحريم نكاح الزانية فقوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3] قيل: إن هذه الآية نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه وقد أراد أن ينكح عناقاً، ونكاح الرجل للمرأة الزانية يدخل الضرر على أولاده وذريته ونسله، وتختلط الأنساب، ولا يأمن منها أن تدنس فراشه، وتلوث نسبه والعياذ بالله! فتدخل عليه من الشر والبلاء، وتدخل على جماعته وجيرانه من السوء ما الله به عليم، فإن المرأة الزانية مشئومة وفيها من الشؤم والبلاء ما قد يكون سبباً في الضرر على غيرها، فكم أفسدت وأهلكت من بيوت وأسرٍ، ودمرت من أناسٍ بسبب ما يكون منها من الزنا نسأل الله السلامة والعافية! فالزانية شر عظيم، ولذلك حرم الله نكاح الزانيات، فقال تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور:3]، وعلى الصحيح من قولي العلماء: أن الزنا يمنع النكاح، فيحرم على المسلم أن ينكح الزانية، وهذا مانع آخر، فقد ذكرنا قبلاً مانع الجمع، ومانع الزوجية، ومانع العدة، والعدة في حكم الزوجية، وذكرنا بعد ذلك الاستبراء، ثم هانحن نذكر مانع الزنا، هذا المانع الرابع من موانع المحرمات إلى أمد، وتستطيع أن تجعل المستبرأة في حكم ذات الزوج؛ لأنها تابعة لماء الأول، وتجعل هذا مانعاً ثالثاً مؤقتاً، وهو مانع الزنا، والصحيح من أقوال العلماء: أن الزنا يمنع من النكاح ويحرم. وعليه فلا يجوز أن ينكح المسلم الزانية إلا بشرطين: الشرط الأول: أن تتوب، وتوبتها تكون بما يظهر من صلاح حالها واستقامتها وبعدها عن الحرام. وقال بعض العلماء: لا توبة لها إلا إذا اختبرت وظهرت براءتها، وقالوا: اختبارها أن تراود على الزنا فلا تعود، وهذا شرط صعب، فإن المرأة قد تتوب توبة نصوحاً، ولكنها إذا ذكرت بماضيها ربما ضعفت، ولذلك أمر التوبة في هذا من الصعوبة بمكان؛ لكن ظواهر الحال والقرائن الظاهرة إن شاء الله كافية. بعض العلماء يعتبرون بصلاح الحال أغلب الحول، أي: أنه إذا مضى عليها أغلب الحول وهي مستقيمة طائعة نادمة على ما فات، وظهر من أحوالها التوبة صح منها ذلك، مثال ذلك: أنها كانت تخرج فصارت تقر في بيتها، وكانت تتصل بالناس فقطعت صلتها بالناس، فظهرت أمارات ودلائل وآثار تدل على صدق توبتها، حينها نحكم بتوبتها، فإذا حكمنا بتوبتها وظهر ما يدل على صلاحها واستقامتها، فإنه يستبرئ ما يكون منها، فلا يجوز له أن يطأها قبل أن تستبرئ من وطء الزنا؛ لأن هذا يوجب خلط الأنساب. لكن لو كان الذي زنى -والعياذ بالله- يريد كما يقولون: أن يستر الزانية، فيتزوجها بعد أن خدع المرأة وأصابها فوجدها بكراً فيطمع فيها. فمذهب طائفة من السلف: أنه يجوز له أن يتزوجها ويسترها. وقال بعض الصحابة: أوله حرام وآخره حلال، وأوله سفاح وآخره نكاح، فخففوا في ذلك، وقال به بعض الأئمة. وذهب طائفة من أهل العلم رحمهم الله، وهو الأقوى والصحيح: أنه لا يجوز له أن يعقد عليها حتى تتوب توبة نصوحاً، وتستبرئ من الحرام، حيث لا يجوز إدخال الحلال على الحرام، والسنة قاضية على أنه يجب التفريق بين الحلال والحرام، وذلك في حديث وطء المسبية فإنه يدل على أنه لا يجوز، وكما هو معلوم فإن عندنا نصاً يدل على أن ماء الزنا حرام، وليس للرجل فيه حق: (الولد للفراش)، فكيف نقول: يتزوجها من أجل أن يسترها، فحينئذٍ إن سترها ضيّع حق الولد فإنه يدخل ولداً على ذريته ليس منهم؛ ولذلك نص عليه الصلاة والسلام بقوله: (الولد للفراش)، فهذا يدل دلالة واضحة على أن هذا الولد ليس من حقه، فهو يتذرع بأن هذا الولد ولده، ويريد أن يبقيها في عصمته من أجل هذا الولد، والواقع أنه ليس بولده، وهذا الولد لابد وأن يأخذ حكمه الشرعي في كونه ولد سفاح، فإذا جاء يقول: أنا أسترها، إنما سترها بمحرم، وأدخل السفاح على النكاح، فأدخل ولداً ينسب إليه، ويقارن بأبنائه وبناته، يشاركهم ويزاحمهم في الإرث هو وذريته وذرية ذريته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إن بقي نسله، وكل ذلك مما ليس له أصل شرعي. صحيح أن ستر المرأة مشروع، وأن الزاني يستر غيره ويستر نفسه فهذا لا بأس به، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه ماعز قال له: (ويحك ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه) لكن أن يدخل الحلال على الحرام فلا؛ لأنه سيضر بحقوق الورثة، وهذا الولد ليس له حق؛ لأن هذا الماء الذي وطِئَ وأُنجب منه، واغتذى به الفرج، وحصل منه الإنجاب، ماء لا حرمة له، فهو بهذا الستر يدخل الحرمة، وبالإجماع على أنه يشرع الستر ما لم يتضمن إضراراً بالغير، وفواتاً لحقه، لو أن الرجل توفي وليس له ولد إلا هذا الولد الذي من الزنا، وفرضنا أنه طلق أم هذا الولد وتزوج زوجة ثانية وليس له إلا هذا الولد الذي من الزنا والعياذ بالله! ففي هذه الحالة تنتقل المرأة من إرثها من الربع إلى إرثها من الثمن، بسبب ولد الزنا؛ لأن هذا الولد يحجبها، ثم إن العصبة الذين هم قرابته أحق بميراثه، فيأتي ابن الزنا -والعياذ بالله- ويأخذ الميراث منهم تعصيباً. فالمسألة ليست مسألة عاطفة، المسألة مسألة أحكام، ولذلك فإن قول من قال: لا يدخل الحرام على الحلال ولا يدخل الحلال على الحرام أقوى، والأصول شاهدة له، والسنة دالة عليه. والذي تطمئن إليه النفس أنه لا يصح هذا، وهو اختيار جمع من العلماء وطائفة من مشايخنا رحمة الله عليهم، وهو أولى بالصواب إن شاء الله تعالى؛ لدلالة النصوص والأصول الشرعية عليه.

من المحرمات إلى أمد المطلقة ثلاثا

من المحرمات إلى أمد المطلقة ثلاثاً قال رحمه الله: [ومطلقته ثلاثاً حتى يطأها زوج غيره] قوله: (ومطلقته ثلاثاً) إذا احتسبنا المستبرأة داخلة تحت المعتدة، فالنوع الرابع مطلقته ثلاثاً لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا -أي: الطلقة الثالثة- فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] فهذا نص على أن المرأة المطلقة ثلاثاً لا تحل حتى تنكح زوجاً غيره، وجاءت السنة بزيادة شرط فإن ظاهر القرآن: {حَتَّى تَنكِحَ} [البقرة:230] ظاهره العقد، وأنه إذا عقد عليها زوج حلت للأول الذي طلقها ثلاثاً إن طلقها الثاني أو بانت منه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن في حديث امرأة رفاعة بن رافع القرظي رضي الله عن الجميع حينما بانت من رفاعة وتزوجت عبد الرحمن بن الزبير رضي الله عنه وأرضاه، وجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكت، وقالت حينما نكحت عبد الرحمن بن الزبير: (إنه ليس معه إلا مثل هدبة الثوب، فقال صلى الله عليه وسلم: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ فقال: لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك)، فهي لما طلقها رفاعة الطلقة الثالثة بانت منه، وبت طلاقها وتزوجت عبد الرحمن بن الزبير فأرادت أن ترجع إلى رفاعة، وقيل: أن ما اتهمت به عبد الرحمن بن الزبير ليس بصحيح؛ لأنها لما جاءت تشتكي ابن الزبير كان معه ولد، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (أهذا ولدك؟ قال: نعم) فعلم كذبها، وأنها تريد أن ترجع إلى الأول، ففطن صلى الله عليه وسلم لذلك، وعلى هذا ينبغي على القاضي والمفتي أن يكون ذا فطنة وذا علم وبصيرة، وأن ينتبه إلى ما يدعيه المدعي، وأن تكون عنده من الفراسة ما يمكنه من معرفة الكلام الذي يقال، والدعوة التي تذكر من الخصمين. الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يردها إلى رفاعة إلا بعد أن يذوق الثاني العسيلة، وهذا مكنىً به عن الجماع، ولذلك أجمع العلماء على أنها لا تحل للأول إلا بعد وطء الثاني لها، ويكون ذلك بإيلاج الحشفة أو قدرها إن كانت مقطوعة، وحصول الإيلاج في الفرج أمر شرعي معتبر، ثم إن أراد أن يطلقها بعد ذلك فإنه جائز؛ لكن بشرط ألا يكون نكاح محلل، فإذا وقع ذلك وطلقت ورجعت إلى الأول حلّت له، وسيأتي إن شاء الله بيانه في مسائل الطلاق، هل تحل له بثلاث طلقات جديدة، أو تحل له بطلقة واحدة على تفصيل عند العلماء رحمهم الله، هذا مانع التطليق ثلاثاً، وهو من الموانع المؤقتة، لأنها إذا نكحت زوجاً غيره مطلقها حلّت للذي قبل.

من المحرمات إلى أمد المحرمة

من المحرمات إلى أمد المحرِمة قال رحمه الله: [والمحرمة حتى تحل]. مانع الإحرام مانع مؤقت، وقد بيّنا مانع الإحرام في كتاب المناسك، وبيّنا أن الصحيح من مذهب الجمهور: أن المحرم لا ينكح ولا يُنكح ولا يخطب، وبيّنا صريح السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدل على رجحان هذا القول، وأجبنا عن أجوبة المخالفين، وأنه لا يحل نكاح المرأة المحرمة حتى تتحلل من إحرامها، ولا يجوز للرجل المحرم أن ينكح، ولو كانت المنكوحة حلالاً فلا يجوز نكاح المحرمين، ولا نكاح محرمة من حلال، ولا نكاح حلال من امرأة محرمة، ولا محرم من امرأة حلال، لا يجوز هذا سواء كان الاثنان محرمين، أو كان أحدهما محرماً، والآخر حلالاً، فلا يجوز النكاح على هذا الوجه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا ينكح المحرم -إذا كان زوجاً رجلاً- ولا يُنكح -إذا كان امرأة-)، فجمع بين الاثنين، ودل على تحريم النكاح بالإحرام.

حكم تزويج الكافر بمسلمة

حكم تزويج الكافر بمسلمة قال رحمه الله: [ولا ينكح كافر مسلمة]. هذا مانع الكفر (لا ينكح كافر مسلمة)؛ لقوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة:221]، فحرم الله عز وجل على الكافر أن ينكح المسلمة، وأباح للمسلم أن ينكح الكتابية مع أنها كافرة؛ وذلك لأن سلطان الرجل أقوى من سلطان المرأة، ولو أن الكافر تزوج المسلمة لأغواها، فإن المرأة أضعف من الرجل، وتسلط الرجل عليها أقوى، فجعل حق القوامة والعلو للإسلام لا للكفر، ولذلك لا يحل أن يكون الزوج كافراً، وقال تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة:10] إذا آمن الكافرات وهاجرن وثبت إيمانهن فلا يجوز أن نقوم بإرجاعهن إلى الكفار؛ لقوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] فنص الله عز وجل على أنها حرام على الكافر في استدامة العقد، فمن باب أولى في إنشاء العقود، يعني: يستوي في ذلك أن تسلم فنمنعها من زوجها الكافر، أو يكون كافراً يريد أن يتزوج مسلمة، فلا يجوز للكافر أن يطأ المسلمة بالنكاح لا ابتداء بعقد نكاح ولا استدامة، فبمجرد إسلامها يفرق بينه وبينها.

حرمة تزوج المسلم بالكافرة باستثناء الكتابية

حرمة تزوج المسلم بالكافرة باستثناء الكتابية قال رحمه الله: [ولا مسلم ولو عبداً كافرة إلا حرة كتابية]. لا يجوز للمسلم أن يتزوج الكافرة؛ وهذا من الولاء والبراء الذي يقوم عليه دين الإسلام، فلا يجوز للمسلم أن يوالي أعداء الله عز وجل، والنكاح بطبيعة الحال مداخلة، وفيه من الود والمحبة ما قد يؤثر على الدين، وفتنة الدنيا قد تعمي البصيرة والعياذ بالله، ولذلك قطع الله عز وجل الروابط بين المسلمين والكافرين، وقدم حق الإسلام وحق طهارة العقيدة وسلامتها من المؤثرات والدواخل على شهوات النفوس؛ لأن البديل موجود، وفي الإسلام غناء عن الكفر، فلا يجوز للمسلم أن يتزوج الكافرة، فالكافرة شر وبلاء، وإن كان رجلاً قوياً قادراً على كفها ومنعها من التسلط عليه إذا أرادت أن تغويه، فإنه لا يستطيع أن يمنع سلطانها على أولاده، فإن الأم لها قوة ونفوذ على الأولاد، ولذلك أصبح لهذا الأمر خطران: خطر على الزوج، وخطر على الأولاد. أضف إلى ذلك: أنه ما من رجل مسلم ينكح امرأة كافرة إلا وسيدخلها على قومه وجماعته وبيئته، فربما أغوت وأضلت كما ضلت، فكانت غاوية مغوية لغيرها فتفسد بيئة المسلمين، ولو أن كل مسلم ذهب وأتي بكافرة فُتن بجمالها، ثم أتى بها إلى بلاد المسلمين فإن هذا يدمر الإسلام، ويحدث فجوة عظيمة داخل البيوت وداخل الأسر، وأعظم ما تقوم عليه الأمم والمجتمعات الأسرة، وهو الكيان الذي منه ينطلق صلاح المجتمع، فلابد أن تكون قائمة على تقوى الله عز وجل، وتؤسس على تقوى من الله ورضوان، وتؤسس على صلاح الدين والإيمان بالله عز وجل. فلا يجوز نكاح الكافرة: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10] فحرم الله عز وجل الإمساك بعصم الكوافر، وحرم نكاح المشركات: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221] فحرم نكاح الكافرات، لكن استثني الكتابية؛ لأن الكتابية لها دين سماوي، وأَلِفَتِ التعبد بذلك الدين السماوي، فهناك مدخل أن يؤثر عليها للإسلام، فيتزوجها وفي نيته أن يصلحها، ويقدم حق الله عز وجل على حق نفسه، ففي هذه الحالة الزواج من الكتابية على مطمع إسلامها مباح في أصل الشرع، وجماهير السلف رحمهم الله والخلف والأئمة والفتوى على جواز نكاح الكتابية؛ لأن الله يقول: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5]، فنصه سبحانه وتعالى على حلّ المحصنات من أهل الكتاب، ويستوي في ذلك اليهود والنصارى. وعند العلماء تفصيل: بعض العلماء يقول: يشترط أن تكون كتابية الأبوين، يعني: والدها كتابي وكذلك أمها كتابية، فإن كانت من أحدهما لم يصح، وظاهر القرآن أن العبرة بها؛ وذلك لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة:5]، فإن كانت هي تدين بدين أهل الكتاب حلّ نكاحها على نص القرآن وظاهره، وهذه التفصيلات فيها محل اجتهاد ولا تخلو من نظر. لكن مسألة الزواج من الكتابيات أمر يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والعصور والدهور، فلا يفتح باب النكاح من الكتابيات، ففي زماننا من المجرب والمعروف أنه شر عظيم وبلاء عظيم، وقوة نفوذ أهل الكتاب خاصة في العصور المتأخرة، فإن المرأة الكتابية قد تتزوج المسلم ثم بعد ذلك تأخذ أولادها منه بالقوة وتنتزعهم منه شاء أو أبى، وتستطيع أن تستغل نفوذاً أوسع من نفوذها، ولذلك لابد من فقه الفتوى في الزمان، والنظر إلى ما يجر على المسلمين ومجتمعات المسلمين من فتح هذا الباب من الشر العظيم والبلاء الوخيم، إضافة إلى ما يعرف منهن من أن بعضهن لا يعرفن إلا التهتك، يعني: ليس عندهن إلا الاسم فقط من كونهن كتابيات، والتهتك والعهر والفساد -والعياذ بالله- منتشر بينهن، أضف إلى ما عرف منهن من الكيد للإسلام والخديعة للمسلمين، والتظاهر بمحبة الإسلام من أجل أذية المسلمين، ولذلك لابد من وضع هذه الأمور كلها في الحسبان، فلا نأتي ونقول مثلاً: الله أحل لنا نساء أهل الكتاب، بل أحل لك أن تنكح المرأة المسلمة؛ لكن إذا أردت أن تتزوج امرأة مسلمة ولكنها شريرة، وتؤذي جيرانها، وتؤذي أهلك، ولربما كانت نمامة تنقل الحديث، هل يحل لك أن تدخلها على بيئتك ومجتمعك، أم تقف أمام حدود الله ونصوص الشرع من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فتتقي الله في جيرانك وأهلك وأمتك ومجتمعك؟ كذلك أيضاً أهل الكتاب في زماننا، فإننا وإن وجدنا النص يحل نكاح النساء منهم، ونظرنا إلى الواقع والحقيقة وما يجر ذلك من تبعات وأضرار، فإننا نعطي كل زمان حقه وقدره، فنقول: من أراد أن يأخذ بهذا الحلال، ينبغي أن يضع في حسبانه جميع الآثار والسلبيات والنتائج المترتبة على مثل هذا، والله عز وجل بمنه ورحمته قد أغنى المسلمين عن أمثال هؤلاء، وإنما يقع هذا خاصة في القديم حينما كان أهل الكتاب أهل ذمة وتحت المسلمين، وكانوا يتأثرون بالمسلمين، فالمرأة كانت تحب الإسلام، وهذا كان يقع في المجتمعات التي كان فيها أهل ذمة، ولكن بحكم بيئتها لا تستطيع أن تسلم، فإذا انتزعها المسلم من تلك البيئة وجاء بها أسلمت، ووقع هذا في عصور حينما كانت العزة للإسلام وأهله، ولا زالت والحمد لله العزة للإسلام وأهله، ولكن هناك أمور لابد من وضعها في الحسبان، ولا ينبغي أن نفتح الباب هكذا. هناك بعض الباحثين كتب في هذه المسألة ورغّب وبيّن أنه حق، وبعض المحاضرين أتى بمحاضرة في نكاح الكتابيات وأنه أمر جائز، دون التفات إلى السلبيات والآثار التي ينبغي وضعها في الحسبان، فالشيء يكون حلالاً، لكنه في زمان يحتاج إلى نظر وتأمل، لا نقول: إننا نحرمه، ولكن نقول: من أراد أن يقدم على هذا الشيء، فعليه أن ينظر إلى الآثار السيئة الموجودة المترتبة على هذا الشيء، ثم يقارن: هل يستطيع أن يلقى الله سبحانه وتعالى وقد دفع عن الأمة وعن نفسه وعن ذريته وأهله وولده هذه كلها، أم أنه مستعد لأن يلقى الله سبحانه وتعالى بتبعة ذلك وسيئاته وآثامه؟

حكم تزوج الحر المسلم بأمة مسلمة

حكم تزوج الحر المسلم بأمة مسلمة قال رحمه الله: [ولا ينكح حر مسلم أمة مسلمة إلا أن يخاف عنت العزوبة لحاجة المتعة أو الخدمة ويعجز عن طول حرة أو ثمن أمة] قوله: (ولا ينكح حر مسلم أمة مسلمة) هذا المانع يسمى: بمانع الرق، تعرفون أن الرق في الإسلام لا يختص بجنس ولا بلون ولا بطائفة ولا بطبقة، إنما هو لمن كفر، فإذا كفر وحاد الله ورسوله وشاق الله ورسوله، ووقع الجهاد الشرعي بالصفة الشرعية، وأذن الإمام في الرق، حينئذٍ كانت منقصة من جهة الكفر، فالحر المسلم إذا تزوج مثل هذا النوع الذي في أصله على الكفر فإن هذا يضر بولده ويضر بذريته؛ لأن الولد يتبع أمه رقاً وحرية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش)، وهذا من حق الولد على والده. فالحر المسلم لا ينكح الأمة إلا بشرطين، وهذان الشرطان لا بد من تحققهما للحكم بالجواز وقد جمعتهما آية النساء: الشرط الأول: أن لا يستطيع طول الحرة، يعني: ليس عنده مال ولا قدرة على الزواج من حرة، فلو كان أقل زواج الحرة يكلف مثلاً خمسة آلاف، وليس عنده خمسة آلاف، والنص على اشتراط العجز في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} [النساء:25]. الشرط الثاني: أن يخشى على نفسه الزنا، والنص على الشرط الثاني قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النساء:25]، ومع ذلك فضّل الصبر، رعاية لحق الولد. فهنا شرطان: أولاً: أن يخاف على نفسه الزنا. وثانياً: ألا يملك طولاً. فإن كان قادراً على الصبر صبر؛ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن يصبر يصبره الله، ومن يستعفف يعفه الله). وأما بالنسبة لما يلتحق بمسألة خوف العنت، ألحق بعض العلماء الخدمة، كأن يكون مثلاً رجلاً كبير السن ولم يجد حرة يتزوجها، قالوا: يجوز أن يتزوج أمة، وفي هذه الحالة يتزوجها لوجود الحاجة والضرورة كما ذكرنا. فمانع الرق هو أن لا يجوز أن ينكح حر مسلم أمة، فجاز للعبد أن ينكح الأمة للمساواة، وهذا تفريق من الشرع لا أحد يتدخل فيه، ولا يحق لأحد أن يقول: الإسلام يفرق أو ما يفرق، والله لو فرق الإسلام بين أرواحنا وأجسادنا لنعمت عيوننا، ويخسأ أعداء الإسلام، ولا نجلس ونحاول تحليل بعض الشبهات ونهدر جانب العبودية. فالمرأ إذا وجد حكماً من أحكام الله عز وجل، والمرأة إذا وجدت حكماً من أحكام الله عز وجل في أمر فرق الله عز جل فيه بين مجتمعين، أو ساوى فيه بين مختلفين أو متضادين في الحكم، ما يملك الواحد منا إلا أن يقول: سمعنا وأطعنا، ولا نتكلف الرد ونجلس نحلل وكأننا مهزومون أمام أعدائنا، نقول للعدو: رغم أنفك، وعلى رغم أنفك نقبل ذلك، نعم نحن نفرق، وهناك فرق بين الرجل والمرأة نعم، وتقول المرأة بملء فِيها: رضيت بما يحكم الله عز وجل به، نعم ترضى بذلك وتؤمن به وتسلم به؛ حتى يخسأ عدو الله، أما أن نجلس نلفق ونقول: إن الإسلام لا يقبل هذا إلا في حالات اضطرارية وفي حالات استثنائية، ولا يبيح الرق إلا في حالة كذا وكذا، هذه أحكام شرعية لا يتدخل فيها المكلف، ولا يقيد شيئاً أطلقه كتاب الله وأطلقته سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يحاول أن يتكلف في الجواب عن شبهة هي من أصلها ساقطة؛ لأن أهل الشبهة يريدون من المسلم أن يقف موقف المهزوم، لكن لو أننا اعتدنا كلما جاءنا أعداء الإسلام بشبهة نقول: نعم، نرضى بذلك وإن رغم أنفك البعيد، نعم رضينا بذلك، وأبو بكر رضي الله عنه حينما جاءه كفار قريش وقالوا: قد زعم صاحبك أنه ذهب إلى بيت المقدس، قال: هو يقول ذلك؟ -وما زاد على هذا- قالوا: نعم، قال: صدق. هو قادر أن يقول: إن الله على كل شيء قدير، وإن الله من قدرته قادر على أن يبين لهم، لكن أراد أن يخسئهم، قال: هو يقول ذلك؟ قالوا: نعم، قال: صدق. ولو أن كل امرأة مسلمة من نساء المؤمنين كلما دخل عليها داخل بالشبهات تقول: نعم رضيت، الإسلام يعطي الذكر مثل حظ الأنثيين، نعم رضيت بملء قلبي وملء لساني، وما الذي يضرني؟ لا يضرني شيء؛ لأني أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله بحكمه حكيم عليم، فمثل هذه الأمور ينبغي وضعها في الحسبان. فحينما يجعل الإسلام للرجل الحر أن يتزوج الأمة بشروط فهذا حكم الإسلام، ومن عايش الوضع، يعني حينما يكون الإسلام في زمان بينه وبين ملة تخالفه وتضاده وتعاديه، وهذا مشاهد فإن عدو الإسلام إذا تركته جاءك، فلابد للإسلام أن تكون له الكلمة، فلما امتنع هذا من قبول كلمة الإسلام، ووقف وأشهر السلاح في وجه الإسلام، والله عز وجل بحكمه من فوق سبع سماوات أمرنا بقتال هؤلاء، وأباح لنا استرقاقهم، ويصبح العبد مسلوب الحرية، ثم نأتي ونقول: لا ما يسلب الحرية، ما يضرب عليه الرق، ونجد من يقول: ما يضرب الرق إلا في حالات، والإسلام فتح أبواب الخروج من الرق، مع أن الكافر يسترق الحر أكثر من استرقاق الإسلام له، والإسلام لما استرق أعطى حقوقاً تعجز الأمم كلها عن الإنصاف فيها مثلما أنصف الإسلام. فالمقصود أننا ننبه على أنه لا ينبغي العجز أمام أعداء الإسلام في مثل هذه الشبهات، في مسألة النكاح؛ لأن هذه من الشبهات التي أثيرت، يقولون: انظروا كيف يفرق الإسلام! مع أنهم هم يفرقون بين طبقات مجتمعاتهم وبيئاتهم تفريقاً أسوأ من التفريق الذي يفرقه الإسلام. فالمقصود: أن حكم الإسلام أنه يجوز للحر أن ينكح الحرة، لكن لا يجوز له أن ينكح الأمة إلا بشروط، وهذا شيء قرره الله عز وجل وأثبته في كتابه، لا يملك المسلم إلا أن يقول: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]، فمانع الرق ثابت ومعتبر على التفصيل الذي بينَّاه ووضَّحناه.

عدم جواز نكاح العبد لسيدته والسيد لأمته إلا بعد العتق

عدم جواز نكاح العبد لسيدته والسيد لأمته إلا بعد العتق قال رحمه الله: [ولا ينكح عبد سيدته ولا سيد أمته] قوله: (ولا ينكح عبد سيدته) أنتم تعلمون أن السيد يملك عبده بنص الشرع، وهذه الملكية يخالفها حق الزواج، فلا يمكن أن يكون عبداً ويكون زوجاً، آمراً ومأموراً، مملوكاً ومالكاً؛ لأنه إذا تزوج ملك منافع الوطء، وإذا بيع رقيقاً ملكه من اشتراه، فهذا نوع من التضاد، وهذا مسلك فقهي صحيح، وهو تضارب العقود، ولذلك أجمع العلماء على عدم صحة هذا النوع من العقود، ما يمكن أن نقول: إنه عبد وزوج، ما يمكن للعبد أن يتزوج سيدته، تريد أن يتزوجها تعتقه ثم يتزوجها، وهكذا بالنسبة للعكس، فالسيد لا يتزوج أمته؛ لأنه يحل له وطؤها بملك اليمين، فإذا أراد أن يطأها يطؤها بملك اليمين، أما إذا أراد أن يتزوجها نكاحاً بعقد، نقول في هذه الحالة: أعتقها ثم اعقد عليها عقداً شرعياً.

جواز نكاح أمة الأب دون نكاح أمة الابن

جواز نكاح أمة الأب دون نكاح أمة الابن قال رحمه الله: [وللحر نكاح أمة أبيه دون أمة ابنه] قوله: (وللحر نكاح أمة أبيه) يعني: لو أن رجلاً لا يستطيع أن ينكح الحرة، ويخاف على نفسه الزنا، فأمة أبيه ليست ملكاً له وإنما هي ملك لأبيه، فصارت كالأجنبية، فجاز له أن ينكح أمة أبيه، أظن هذا واضحاً، نقول: يجوز لابن السيد أن يتزوج أمة والده إذا تحقق فيه شرط زواج الحر من الأمة؛ لأن الشرط موجود ولا يمتنع، لماذا حلّ له؟ لأن في هذه الصورة الولد لا يملك مال أبيه، ولا يوجد ملكية ونكاح، هنا فقط نكاح. أما الوالد فإنه لا يجوز أن يعقد على أمة ابنه؛ لأن الولد وما ملك لأبيه، قال صلى الله عليه وسلم: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم)، فجعل الفرع تابعاً لأصله، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما فاطمة بضعة مني)، فرد الفرع إلى أصله، فقالوا: لو كانت الأمة للرجل وأراد أن يعقد عليها فإنه بالإجماع لا يصح، ولو سئلت لماذا؟ تقول: لأنه يجمع بين النكاح وبين ملكية الأمة، وهذا لا يصح، إما أن يجعلها مملوكة ويطأها بملك اليمين يتسراها، وإما أن يجعلها منكوحة فيعتقها وينكحها، هذا في حكم من كان مالكاً، أما لو كانت أمة ابنه فأمة ابنه كأمته، فكما يحرم على ابنه أن يعقد عليها كذلك يحرم عليه؛ لأن الولد تابع لأبيه.

عدم جواز أن تنكح الحرة عبد ولدها

عدم جواز أن تنكح الحرة عبد ولدها قال رحمه الله: [وليس للحرة نكاح عبد ولدها] قوله: (وليس للحرة نكاح عبد ولدها)، فالأم لا تتزوج عبد ولدها؛ لأن ولدها يملك هذا العبد ومال ولدها في حكم: (أنت ومالك لأبيك)، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما فاطمة بضعة مني) فهذا للذكر والأنثى فالأم والأب سواء. يا إخوان! حتى تتضح الصورة، ما هو ضابط هذه المسائل؟ إذا كان الذي يريد أن يعقد على أمة وهو مالك لها فإنه لا يصح أن يجمع بين نكاح وبين ملك، تقرر على هذا أنه يستوي أن يكون هو المالك أو في حكم المالك، كوالد مع ولده فتجعل الرقيق أنثى، أو أم مع ولدها وتجعل الرقيق ذكراً، فتقول: أم مع عبد ملك لولدها، وأب مع أمة ملك لولده لا يجوز نكاحهما، كما لا يصح لسيدة أن تنكح عبدها، ولا يصح لسيد أن ينكح أمته، هذا ضابط المسألة، وبهذا لا يشكل عليك الأمر. يعني: بعض الإخوان يجد صعوبة في مسألة الأمة مع سيدها، ويجد نوعاً من التضارب، أهم شيء هي القواعد، وميزة المتون الفقهية وأهم ما فيها أنك تستطيع أن تتصور وتعرف الضابط، هذا قبل الدخول في المثال، والضابط يدور حول عدم الجمع بين الملكية والنكاح، فلا يصح أن يكون مالكاً وزوجاً في آن واحد، فهذا تضارب، ولا يصح أن تكون سيدة وزوجة في آن واحد، فإما هذا وإما هذا، إذا قررت هذا الأصل فيمكنك أن تأتي بالفروع؛ لأن الفقه أصول وفروع. إذا كان هذا الأصل وهذا الذي أجمع عليه العلماء في حكمه، وفي ما يلتحق به أن تكون امرأة تطلب عبداً لولدها، أو رجل يطلب أمة لولده، لكن إذا كان العكس يصح، مثلاً: ولد يطلب أمة لوالده، فإن الولد لا يملك أمة والده فيصح أن ينكح بشرط؛ لأنه لا يجمع بين الملكية وبين النكاح، ولو أن بنتاً تطلب رقيقاً لوالدها وكانت مملوكة، كما يقع في الكفر، وكانت بنته كافرة يصح، ولا بأس في هذا.

من الأحوال التي ينفسخ فيها عقد النكاح

من الأحوال التي ينفسخ فيها عقد النكاح قال رحمه الله: [وليس للحرة نكاح عبد ولدها] قوله: (وليس للحرة نكاح عبد ولدها)، فالأم لا تتزوج عبد ولدها؛ لأن ولدها يملك هذا العبد ومال ولدها في حكم: (أنت ومالك لأبيك)، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما فاطمة بضعة مني) فهذا للذكر والأنثى فالأم والأب سواء. يا إخوان! حتى تتضح الصورة، ما هو ضابط هذه المسائل؟ إذا كان الذي يريد أن يعقد على أمة وهو مالك لها فإنه لا يصح أن يجمع بين نكاح وبين ملك، تقرر على هذا أنه يستوي أن يكون هو المالك أو في حكم المالك، كوالد مع ولده فتجعل الرقيق أنثى، أو أم مع ولدها وتجعل الرقيق ذكراً، فتقول: أم مع عبد ملك لولدها، وأب مع أمة ملك لولده لا يجوز نكاحهما، كما لا يصح لسيدة أن تنكح عبدها، ولا يصح لسيد أن ينكح أمته، هذا ضابط المسألة، وبهذا لا يشكل عليك الأمر. يعني: بعض الإخوان يجد صعوبة في مسألة الأمة مع سيدها، ويجد نوعاً من التضارب، أهم شيء هي القواعد، وميزة المتون الفقهية وأهم ما فيها أنك تستطيع أن تتصور وتعرف الضابط، هذا قبل الدخول في المثال، والضابط يدور حول عدم الجمع بين الملكية والنكاح، فلا يصح أن يكون مالكاً وزوجاً في آن واحد، فهذا تضارب، ولا يصح أن تكون سيدة وزوجة في آن واحد، فإما هذا وإما هذا، إذا قررت هذا الأصل فيمكنك أن تأتي بالفروع؛ لأن الفقه أصول وفروع. إذا كان هذا الأصل وهذا الذي أجمع عليه العلماء في حكمه، وفي ما يلتحق به أن تكون امرأة تطلب عبداً لولدها، أو رجل يطلب أمة لولده، لكن إذا كان العكس يصح، مثلاً: ولد يطلب أمة لوالده، فإن الولد لا يملك أمة والده فيصح أن ينكح بشرط؛ لأنه لا يجمع بين الملكية وبين النكاح، ولو أن بنتاً تطلب رقيقاً لوالدها وكانت مملوكة، كما يقع في الكفر، وكانت بنته كافرة يصح، ولا بأس في هذا.

انفساخ النكاح إن ملك أحد الزوجين الآخر حقيقة أو حكما

انفساخ النكاح إن ملك أحد الزوجين الآخر حقيقة أو حكماً قال رحمه الله: [وإن اشترى أحد الزوجين أو ولده الحر]. انظروا إلى دقة العلماء! بحيث لو قرأت المتن أولاً تحس بشيء غريب، لكن لما تمسك الضوابط تحس بمتعة هذه المتون الفقهية ودقة العلماء رحمهم الله، والفقه رياضة الذهن. المصنف أعطانا الضابط الأصلي، وهو أنه لا يجمع بين الملكية والنكاح في الأصل، ويلزم أن تبني على ذلك ما كانت الملكية تبعاً كوالدٍ مع ولده أنثى أو ذكر، أم أو أب. بعد هذا تأتي أشياء مفرعة على المسألة، أنت تقرر أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج أمة إذا كان مالكاً لها. إذاً افرض أنها زوجة له وطرأت الملكية، انتبه! هناك ابتداء وهناك استدامة، فهل الحكم الذي ثبت في الابتداء يؤثر أيضاً في الاستدامة؟ وهذا تقدم معنا في أكثر من مسألة، أنه لما يأتي بموانع النكاح ينبه عليها في الابتداء ثم ينبه عليها في الاستئناف، فهذه من مسائل الاستئناف، ومن هنا سيدخل في الاستئناف. حسناً! لو طرأت الملكية كامرأة اشترت زوجها، كان زوجاً لها ثم اشترته، يقع في المملوكية إذا اشترته وأذن لها سيدها، في هذه الحالة صار ملكاً لها، ومثل هذا مثل ما يقع بين السيدة وعبدها ومملوكها، قلنا: لا يصح، فحينئذٍ كما يؤثر في الابتداء يؤثر في الاستدامة هذا ضابطه، والآن انظر إلى المسألة. قوله: (وإن) لما يؤتى بهذا غالباً يفرع على ما قبله، فهو لما يقول: وإن حصل كذا وكذا، كأنه يبني هذه المسألة على ما قبلها. قوله: (وإن اشترى أحد الزوجين) يعني: هو زوج لها فاشترته، أو هي زوجة له فاشتراها، مثلاً: مثلما ذكرنا الحر لا يستطيع طولاً، فينكح ماذا؟ ينكح الأمة، ثم أصبح هذا الحر غنياً ثرياً، فضايقه سيد زوجته، فاشتراها منه، فما الحكم؟ يصبح حينئذٍ سيداً من وجه وزوجاً من وجه آخر، فدخول الملكية يفسد النكاح، فأصبح مانعاً من الابتداء ومانعاً من الاستدامة؛ لأن هناك شيئاً يمنع من الابتداء والاستدامة، وهناك شيئاً يمنع من الابتداء ولا يمنع من الاستدامة، هناك موانع لا تمنع من الاستدامة. الآن مثلاً: عندنا الإحرام مانع من الابتداء؛ لكن لو أن زوجين أحرما مع بعضهما هل نقول: يفرق بينهما؟ لا، ما يقال ذلك، فإذن مانع الإحرام يمنع الابتداء ولا يمنع الاستدامة، وعندنا مانع يمنع الابتداء والاستدامة، وهذا كله مبني على أصول شرعية، يعني: هذه المسائل مبنية على أصول شرعية، لكن يراد بها رياضة الذهن، وإذا قام طالب العلم بالتجربة وقرأ في المطولات واستمر في مسائل الفقه، فإنه يصبح عنده الفقه ملكة. هذه المسائل التي ترى ما كانت موجودة في المتون المتقدمة قبلها، لكن المتون المتقدمة قبلها نصت على مسائل فتّحت الأذهان لهذه المسائل التي طرأت، وهذه القراءة الآن تفتح بها مسائل قد تطرأ عليك في عصرك الآن، لأنك إذا أخذت الضابط بالاستدامة والابتداء فإنك تستطيع أن تقرر مسائل أخر تأتي جديدة سواء في المعاملات المالية أو الشخصية أو الجنايات، كل هذا يراد به رياضة الذهن وتقويته، لكن ينبغي أن يكون مقيداً بالنصوص من الكتاب والسنة، ما يخرج إلى تكلف الآراء التي لا نص فيها ولا أصل لها، أو تعلل بعلل ضعيفة واهية. قوله: (أو ولده الحر) يعني: عنده ولد حر، فرضنا أن زيداً تزوج خديجة وأنجب منها محمداً، وخديجة حرة وزيد حر، ثم بعد ذلك ماتت خديجة فأراد والد زيدٍ أن يتزوج وليس عنده مال ليتزوج حرة، ما الحكم؟ يجوز له نكاح الأمة، فلما تزوج الأمة بالشرط المعتبر شرعاً، أصبحت زوجته أمة وعنده ولد حر من غيرها، وبعد زمان اشترى الولد الحر زوجة أبيه الأمة، وقد قلنا في الضابط: إن الولد في حكم الوالد، فحينئذٍ كما أثر في الابتداء في مسألة الولد والوالد فإنه مؤثر في الاستدامة. أظن هذا واضحاً، فبعد فهم الضابط ليس هناك إشكال في المسألة؛ لأن الأمر واضح سواء اشترى هو أو اشترى فرعه، ثم يأتون بمثال الأم مع ولدها.

انفساخ نكاح المكاتب أو المكاتبة إن ملك أحدهما الآخر

انفساخ نكاح المكاتب أو المكاتبة إن ملك أحدهما الآخر قال رحمه الله: [أو مكاتبة الزوج الآخر] بعض الأحيان يأتون بشيء أغرب من هذا: وهو الذي يكون في حكم ملكية الشخص كالمكاتبة، فلو قال: أو مكاتبهم، نفس الحكم؛ لأن المكاتب إذا كان يكاتبك ليس بحر، ما دام في حال الكتابة، إنما يصير حراً بعد أداء نجوم الكتابة، ففي حال كونه مكاتباً اشترى الأمة التي تزوجها، كولدك الذي اشترى الأمة التي تزوجها، فالمسألة كلها تدور حول الضابط.

انفساخ النكاح عندما يملك أحد الزوجين جزء الآخر

انفساخ النكاح عندما يملك أحد الزوجين جزء الآخر قال رحمه الله: [أو بعضه انفسخ نكاحهما]. أي: لو اشترى الكل أو اشترى البعض فالحكم واحد، نحن استفدنا فائدة: أنه سواء كانت الملكية للكل أو الملكية للبعض، فلو أن هذه الأمة التي تزوجها والده ملك لشخصين زيد وعمرو، فاشترى الولد نصف ملك زيد، فأصبح يملك نصف أمة هي زوجة أبيه، إذاً يصبح أبوه يملك نصف المرأة التي اشتراها ولده وزوج لكلها، حينئذٍ ينفسخ النكاح؛ لأنه كما أثر في الكل فإنه يؤثر في الجزء، فالحكم في ذلك سواء. انظروا كيف يدخلون العبارات في بعض؛ لأنهم يريدون الاختصار، فيجيبون: أو مكاتبه أو كذا؛ لأنه لو أراد أن يشرح لك القواعد لاحتاج إلى صفحات؛ لكن هو يشرحها بهذه الأمثلة، أرأيت هذه الأمثلة التي قد يتهكم بها البعض، هذه هي التي تفتح ذهن الطالب إلى الأصل، فالعلماء ما مرادهم بهذا التمثيل كمثال، وهذه الأمثلة لما تراها ترى شيئاً غريباً وتقول: هذا من أين جاء؟ أو من أين أتى؟ أتى من نص الكتاب والسنة كقاعدة، فلو جاء الفقيه يريد أن يشرح هذه القواعد لاحتاج إلى مطولات واحتاج إلى وقت، فهم إنما جعلوا المتون الفقهية أمثلة، وجعلوا شرح هذه القواعد وأدلتها للفقهاء والعلماء الذين يشرحون، وكلاً على حسب قوته وطاقته، ثم أصبح الفقه مجموعاً في هذه المتون تحت أمثلة هي في الواقع أصول لغيرها. وليس المراد الإحاطة بهذه الأمثلة ذاتها والعجز عن الإتيان بغيرها، بل لابد أن يلم بأصلها فيستطيع أن يلحق بها غيرها، فيصبح عند طالب العلم الفقه القديم والفقه الجديد، وهذه ملكة تعين على مسألة التخريج الفقهي، يعني: أنه إذا ضبط هذه الأمثلة وأعانه الله عز وجل على فهم ضوابطها، فإنه يستطيع بإذن الله أن يتكلم على المسائل والنوازل التي تجدّ وتطرأ على زمانه، ويمكنه أن يعرف حكم الله عز وجل فيها.

حكم وطء المحارم بملك اليمين

حكم وطء المحارم بملك اليمين قال رحمه الله: [ومن حرم وطؤها بعقد حرم بملك يمين إلا أمة كتابية] هذه مسألة فيمن ملك ذات محرم منه، لا يجوز أن يطأ أخته بملك اليمين، ولا يجوز أن يطأ عمته بملك اليمين، لو أنه أسلم ثم أسرت عمته واسترقت وبيعت فاشتراها، فالأصل يقتضي أن من ملك ذا محرم منه فقد عتق عليه على تفصيل سيأتي في باب العتق، لكن على القول أنها لا تعتق وأراد أن يطأها بملك اليمين فإنه لا يجوز، هذه مسائل ملحقة، ووجه إدخالها في باب النكاح هو إلحاقها بمسألة الجمع بين الأختين، فإن الجمع بين الأختين اختلف فيه: هل يجوز أن يجمع بين الأختين بملك اليمين؟ لو أن رجلاً اشترى أمتين أختين هل يجوز أن يطأهما معاً بملك اليمين؟ هذه المسألة اختلف فيها السلف رحمهم الله، فكان عثمان رضي الله عنه إذا سئل عن هذه المسألة يقول: أحلتهما آية وحرمتهما آية، أحلتهما آية وهي قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، وقوله في الاستثناء: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:24] في المحرمات، وحرمتهما آية وهي قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] فأطلق، ومن جهة المعنى يقوى المنع كما ذكرنا في الزنا، ولذلك الشبهة موجودة فيه كالشبهة في الجمع بين الحلال والحرام، كما قدمناه في مانع الزنا.

حكم من جمع بين محللة ومحرمة في عقد واحد

حكم من جمع بين محللة ومحرمة في عقد واحد قال رحمه الله: [ومن جمع بين محللة ومحرمة في عقد صح فيمن تحل] أي: من جمع بين محللة ومحرمة في عقد واحد صح فيمن تحل وحرم فيمن تحرم. المصنف رحمه الله ذكر الموانع، وبين حكم العقد على المحرمة، وأنه يفسخ النكاح؛ لأن الحرام يمنع من الابتداء والاستدامة، فإذا عرفنا الحرام المحض وعرفنا الحلال المحض، فما الحكم لو جمع بين حرام وحلال؟ كأن يقول له رجل في عقد واحد: زوجتك فلانة وفلانة، وكان هذا الرجل ولياً لامرأتين: إحداهما يحل لك نكاحها، والثانية يحرم عليك نكاحها، فزوجكهما معاً، صح العقد فيمن حلت وحرم فيمن حرمت؛ وذلك للقاعدة التي تقول: تصحيح العقود ما أمكن. فلما كان الأصل صحة العقد إلا ما دل الدليل الشرعي على تحريمه وبطلانه، حكمنا بالتحريم فيما حرم وحكمنا بالحل فيما حل. وقال بعض العلماء: ينهدم العقد من أصله فيبطل في الاثنين.

حكم نكاح الخنثى المشكل

حكم نكاح الخنثى المشكل قال رحمه الله: [ولا يصح نكاح خنثى مشكل قبل تبين أمره] قوله: (ولا يصح نكاح خنثى) الخنثى من عنده آلة الذكر وآلة الأنثى، وينقسم إلى قسمين: خنثى تبين أمره وانكشف، بأن تبين أنه رجل فحكمه حكم الرجل، أو تبين أنه أنثى فحكمه حكم الإناث، لكن هناك نوع من الخنثى الذي هو المشكل الذي لا يتبين حاله، وهذا له أحكام شرعية، وتقدم معنا في العبادات. وبعض العلماء يقول: الخنثى يعطى حكم الأنثى إلا في مسائل، ويعطى حكم الأضعف حتى يتبين أنه ذكر؛ وذلك لأننا على يقين بالأقل حتى نستيقن ما هو أعلى منه، وهذا أصل صحيح، وذكره العلماء في قاعدة: اليقين لا يزال بالشك، وفرعوا مسائل الخنثى عليها، لكن الخنثى المشكل لا يجوز نكاحه؛ لأنه ربما زوج على أنه امرأة فبان ذكراً، أو زوج على أنه ذكر فبان أنثى، فلذلك يتوقف في أمره حتى يستبين.

الشروط في النكاح

شرح زاد المستقنع - الشروط في النكاح الشروط بين المتعاقدين منها ما هو شرعي ومنها ما هو جعلي، وقد أجاز الشرع للمتعاقدين في عقد النكاح أن يشترطا شروطاً من عندهما، وهذه الشروط تسمى شروط في النكاح، إلا أن هذه الشروط منها الصحيح، ومنها الفاسد في نفسه، ومنها المفسد للعقد، وعليه فيثبت الخيار للزوجين عند انتفاء الشرط الصحيح.

الشروط في النكاح

الشروط في النكاح قال رحمه الله تعالى: [باب الشروط والعيوب في النكاح] الشروط تنقسم إلى قسمين -كما تقدم معنا في البيوع-: شروط شرعية وشروط جعلية، وتقدم تعريف الشروط، والمراد من هذا أن هناك شروطاً نص عليها الشرع: كالولي، والشاهدين، ورضا الزوجين، وغير ذلك مما ذكرناه في شروط صحة النكاح، لكن الكلام هنا في الشروط التي يجعلها أحد الطرفين المتعاقدين، إما الزوج أو الزوجة أو الولي. وفي الحقيقة عندنا سؤال مهم، يعتبر كمدخل فقط ندخل به في مسألة الشروط وهو: لو سألك سائل وقال لك: كيف يقول المصنف: باب الشروط والعيوب، ونحن إلى الآن ما دخلنا في تفصيلات كتاب النكاح؟ يعني: كان المفروض أن تكون مسائل الشروط في آخر كتاب النكاح. والجواب عن ذلك: أن ترتيب المصنف ترتيب صحيح، وفي علم المناسبات فإنه على حسب الأصول التي ذكرها العلماء يقوى ترتيب المصنف، توضيح ذلك: أن المصنف ذكر مقدمات النكاح، فذكر الخطبة، وذكر من تخطب، وصفات المرأة المخطوبة، وأحكام الخطبة، وما يتعلق بها، ثم ذكر أركان عقد النكاح، والصيغة، والعاقدين، إلى آخره، ثم ذكر شروط صحة عقد النكاح، فبعدما توفرت هذه المقدمات تسأل: من المرأة التي تحل لي فأتزوجها، والمرأة التي لا تحل لي فلا أتزوجها؟ فإذا عرفت المرأة التي تحل والمرأة التي لا تحل، ماذا تفعل؟ مباشرة ستعقد، وقد تقدمت مقدمات العقد، وفي أثناء العقد ستذكر الشروط، فتذكر ما لك من شروط على المرأة، والمرأة تذكر ما لها من شروط على الزوج، فإذاً ناسب أن يذكر باب الشروط بعد المحرمات من النساء من أجل أن يبين ما الذي يمكن أن يوضع في عقد النكاح. وأيضاً يرد إشكال آخر وهو: إذا كانت الشروط لها هذه المناسبة فأنا مسلّم وهذا صحيح، لكن العيوب، إما أن تكون في مقدمات النكاح: لا تتزوج كذا، ولا تتزوج كذا، وإما أن توضع في آثار النكاح. والواقع أن ترتيب المصنف صحيح، فإن الشروط في الحقيقة من ناحية فقهية وتنظير فقهي تعتبر من الخيارات، يعني: إذا تم العقد بين الطرفين هناك شيء يسمى: الخيار وهو: أن يدخل أمراً أو يشترطا شرطاً يوجب الخيار لأحدهما أو كليهما -كما تقدم معنا في البيوع- وفي الواقع أن الشروط في الأصل توضع في العقود ويقصد منها الخيار، بحيث لو اشترط أن المرأة على صفات معينة وتبين أنها ليست على تلك الصفات كان له الخيار، فمعنى ذلك: أن الشروط متصلة بالعقد من حيث الأساس والتركيب، ومتصلة بالخيار من حيث الثمرة، فإذاً هي في التنظير في باب الخيارات، فالتصقت العيوب بها؛ لأن الشرط والعيب والغرر والعتق كلها من خيارات النكاح، إذ هناك أربعة أشياء مما يوجب الخيار في النكاح: الشرط، العيب، العتق، الغرر، أو وجود الغبن ونحو ذلك، هذه أربع من موجبات الخيار، فناسب أن يلحق العيوب بالشروط، وعلى هذا فتنظير المصنف رحمه الله تنظير صحيح. سنذكر باختصار مسألة أنواع الشروط.

أقسام الشروط في النكاح

أقسام الشروط في النكاح الشروط في النكاح تنقسم إلى قسمين: شروط معتبرة شرعاً يجب الوفاء بها، وشروط غير معتبرة شرعاً وفيها تفصيل، فأما الشروط المعتبرة شرعاً فإنه يجب على الزوج أن يفي بها، ويجب على الزوجة أن تفي بها، وهي الشروط التي أحلها الله ورسوله على الصفة التي سنذكرها -إن شاء الله- وهي تتضمن مصلحة، ولا تضاد شرع الله، ولا تخالف شرع الله عز وجل، وليست مما حرم الله، فهذه الشروط جعلية معتبرة، اشترطت المرأة مثلاً: أن يكون مهرها من الذهب، أو اشترطت: أن يكون مهرها من الفضة، أو اشترطت: أن يكون متاعها من نوع معين، هذه كلها شروط معينة لا تعارض الشرع ولا تضاده. لكن الشروط التي تخالف الشرع تنقسم إلى قسمين: شروط توجب فساد العقد فيفسد الشرط والعقد، وشروط يحكم ببطلانها ويبقى العقد صحيحاً فلا يجب الوفاء بها. فأما الشروط التي يحكم ببطلانها وبطلان العقد كقوله: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، وهذا نكاح الشغار، أو: زوجتك ابنتي سنة، أو زوجتك ابنتي شهرين، أو ثلاثة شهور، أو زوجتك ابنتي مدة إقامتك عندنا، وهذا نكاح المتعة، أو زوجتك ابنتي على أنك إذا وطئتها وحلت لزوجها الأول طلقتها، فهذا الشرط لاغٍ والنكاح فاسد، وهو شرط يوجب فساد العقد، وهناك شروط تصحح فيها العقود وتلغى هذه الشروط، فلو تزوجها على أن لا مهر لها فحينئذٍ نلغي هذا الشرط؛ لأنه خلاف كتاب الله حيث قال الله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء:24]، فالله عز وجل فرض على المسلم أن يعطي المرأة حقها، فإذاً لو أنه اشترط أن لا مهر لها نسقط هذا الشرط، ونقول: لها مهر مثلها، وأما بالنسبة لتفصيلات هذه الشروط وبيانها فسيفصلها المصنف رحمه الله فيما يأتي.

الشروط الصحيحة في النكاح

الشروط الصحيحة في النكاح شرع المصنف رحمه الله في الشروط التي يرى صحتها؛ لأن الشروط اختلف العلماء رحمهم الله فيها، فتارة يحكم بصحة الشرط واعتباره ولزوم الوفاء به، وتارة يحكم بعدم اعتباره وعدم وجوب الوفاء به، فتختلف أقوال العلماء رحمهم الله في هذا النوع من الشروط ويتكلمون على مسائله في هذا الموضع.

اشتراط طلاق الزوجة الأولى

اشتراط طلاق الزوجة الأولى فقال المصنف رحمه الله: [إذا شرطت طلاق ضرتها] صورة المسألة: أن تقول المرأة: رضيت به زوجاً بشرط أن يطلق زوجته، فتارة يكون الزوج الذي يريد أن يتزوج عنده زوجة واحدة وتارة تكون عنده أكثر من زوجة، فإذا كان عنده زوجة واحدة تقول: أشترط أن يطلق زوجته فلانة، أو تقول: أشترط أن يطلق زوجته السابقة ولا تسمي فهذه صورة، ومن صورها أن تقول إذا كان عنده أكثر من زوجة: أشترط أن يطلق جميع نسائه، وتارة تقول: أشترط أن يطلق بعض نسائه أي: الأول، فسواءً اشترطت طلاق زوجة أو طلاق زوجتين أو أكثر فإن هذا الشرط للعلماء فيه قولان: فقال بعض العلماء بصحته كما درج عليه المصنف رحمه الله، واختاره أبو الخطاب من الأصحاب، وغيرهم رحمة الله عليهم، وعللوا ذلك بأن فيه مصلحة للزوجة، وأن الزوجة تخاف من الضرر بوجود الضرة، كأن تكون شديدة الغيرة، إلى آخر ما ذكروه، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج) قالوا: فهذا الحديث يدل على أنه يجب الوفاء بالشرط؛ لأن شرط النكاح أحق ما يوفى به. وذهب طائفة من العلماء إلى أنها لو شرطت عليه طلاق ضرتها فالشرط باطل ولا يلزمه الوفاء به، ولو حدث نكاح ورفع إلى القاضي فإنه يحكم ببطلان الشرط وبقاء النكاح على صحته، وهذا هو الصحيح وعليه المذهب كما أشار إلى ذلك صاحب الإنصاف، وصححه في المذهب، أنه ليس من حقها أن تشترط هذا الشرط؛ لما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ولا تسأل المرأة طلاق ضرتها) وكذلك في اللفظ الآخر: (لا تسأل المرأة طلاق ضرتها لتنكح) وفي اللفظ الآخر: (نهى أن تسأل المرأة طلاق ضرتها لتكفأ ما في صحفتها) فدل هذا على أنه لا يجوز للمرأة أن تشترط طلاق المرأة قبلها. وهذا هو الذي نميل إليه: أنه ليس بشرط شرعي، وأنه لا يلزم الوفاء به، فإن اعترض معترض وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج) نقول: جوابه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط) فكيف وقد نص على بطلان مثل هذا الشرط في قوله: (لا تسأل المرأة) ونهى عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، فهذا أمر حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان محرماً فكيف نقول بمشروعيته؟ وكيف نقول بلزوم الوفاء به؟ فالصحيح أنه شرط غير معتبر. وعلى هذا فإننا نقول: لا يصح للمرأة أن تسأل طلاق ضرتها؛ لكن يعتذر للعلماء الذي قالوا بأنه صحيح بأنه يحتمل أنهم لا يقصدون مطلق الشرط وإنما قصدوا شيئاً معيناً -والله أعلم- كما لو اشترطت المرأة طلاق امرأة شريرة قبلها أو طلاق امرأة فاجرة تخاف من فجورها وضررها، فصار هناك مسوغ وهو دفع الضرر، فتقول: أنا لا أتزوج منك وفلانة في عصمتك، طلقها ثم انكحني، ففي هذه الحالة ممكن أن يشترط هذا الشرط، أما أن يكون شرطاً معتبراً بإطلاقٍ فلا. والضرة سميت ضرة لأنها تضار، وغالباً مع وجود الغيرة يحصل الضرر.

اشتراط عدم التسري على الزوجة

اشتراط عدم التسري على الزوجة قال رحمه الله: [أو لا يتسرى عليها] السرية: هي الأمة التي تنكح بملك اليمين، فتقول له: أرضاك زوجاً بشرط ألا تطأ أو لا تتسرى عليَّ، أي: ما يطأ النساء اللاتي في ملك يمينه، وهذا الشرط للعلماء فيه وجهان: صححه طائفة كما ذكرنا، وأبطله طائفة، والصحيح أنه باطل، وذلك لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1] فالله أحل له أن يطأ سريته، والمرأة تحيض ويأتيها العذر ويأتيها المرض الذي يعيقه من إعفاف نفسه فيبقى معلقاً عن حلال أحله الله له، فهذا من تحريم ما أحل الله وليس من جنس الشروط التي يجب الوفاء بها.

اشتراط عدم الزواج على الزوجة

اشتراط عدم الزواج على الزوجة قال رحمه الله: [ولا يتزوج عليها] وهذا أشد وأعظم؛ لأن الرجل بهذا يمتنع مما أحل الله له، ومع ما فيه من مصلحة الأمة، ومصلحة الجماعة والأفراد، وصورة المسألة أن تقول له: أرضاك زوجاً بشرط ألا تتزوج عليَّ، فمثل هذا الشرط اختلف فيه العلماء رحمهم الله سلفاً وخلفاً: فأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعمرو بن العاص وسعد بن أبي وقاص، وكذلك قال به طاووس بن كيسان تلميذ ابن عباس، وقال به الأوزاعي فقيه الشام وطائفة كـ إسحاق بن راهوية من أهل الحديث أن هذا الشرط صحيح ويجب عليه أن يفي للمرأة بما التزم به، فإن قالت: أشترط أن لا تكون لك سابقة ولا لاحقة ولا تتزوج عليَّ، فإنه يجب عليه الوفاء، واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج) وذهب طائفة من العلماء كما هو مذهب جمهور العلماء سلفاً وخلفاً إلى أن هذا الشرط باطل، وأنه ليس من حقها أن تحرم عليه ما أحل الله له، واحتجوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1] وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)، والذي في كتاب الله الندب والاستحباب لزواج الثانية والثالثة والرابعة: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] فندب الله الأمة إلى تكثير سوادها وحصول الإعفاف لنساء المؤمنين، وهذه المرأة تحرم ما أحل الله لمصلحتها الذاتية، وكونها ذات غيرة فإن هذه الغيرة ضرر خاص بها لا تستضر به جماعة المسلمين، وكم من مطلقة وأرملة تحتاج إلى من يعفها ويسترها وقد تكون ابنة عم وقد تكون ابنة خال وقريبة فلا يستطيع أن ينكحها لوجود هذا الشرط. ومن تأمل الواقع وجد أن الشرع يؤكد أن هذا الشرط باطل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ألغى الشرط الذي يعارض كتاب الله عز وجل، فهو يقول: (كل شرط ليس في كتاب الله) والذي في كتاب الله: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] ولا يستطيع الشخص أن يدرك خطر هذا الشرط إلا إذا نظر إلى رجل عنده امرأة تزوجها ونكحها وأنجب منها أولاداً، فإذا قلنا بصحة الشرط وثبت أن للمرأة هذا الشرط فمعناه أنه متى نقض الشرط كان لها الخيار، فإذا نقض الشرط وقالت: لا أريده، تنفسخ مباشرة، ولا يستطيع إرجاعها إلا بعقد جديد، وهذا معروف عند من يعمل بهذا الشرط، فوجدنا هذا الضرر وهذه المفاسد العظيمة، فمن كان عنده أولاد لا يستطيع أن يتزوج الثانية لعلمه أن أولاده سيستضرون بطلاق هذه وانفساخ عقدها فهذا كله مما يعارض هذا الشرط. والأصل حل نكاح الثانية والثالثة والرابعة، فالمرأة إن أرادت أن تتزوج اشترطت شروطاً لا ضرر فيها قبلنا، وإلا رددنا كل ما صادم كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأوجب الحرج على المسلمين، فضيق ما وسع الله على عباده، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تحلوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان) فلا يليق بالمسلم أن يحرم ما أحل الله له ابتغاء مرضات النساء والأزواج كما نص الله عز وجل على تحريم ذلك.

اشتراط عدم خروج الزوجة من دارها أو بلدها

اشتراط عدم خروج الزوجة من دارها أو بلدها قال رحمه الله: [أو لا يخرجها من دارها] إذا اشترطت عليه أن لا يخرجها من دارها أو من بلدها، فهذا الشرط اختلف فيه العلماء رحمهم الله أيضاً سلفاً وخلفاً: فعن عمر بن الخطاب رواية بكلا القولين: روي عنه أنه أقر هذا الشرط، وروي عنه أنه أبطل هذا الشرط، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أبطل هذا الشرط، ولما رفعت إليه قضية المرأة التي اشترطت على زوجها ألا يخرجها من بلدها قال رضي الله عنه: كتاب الله أسبق، أي: أن الله عز وجل أحل للرجل أن ينقل امرأته حيثما انتقل؛ لكي تعفه عن الحرام وتصونه عن الآثام بإذن الله عز وجل. وقال طائفة من السلف: إنه يشرع هذا الشرط، وإذا اشترطت عليه المرأة ذلك فإنه لا يخرجها من دارها ويجب عليه الوفاء؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج) وفي الحقيقة القول بجوازه أقوى؛ لأن هذه المسألة ليست كالمسألة السابقة، والضرر في هذه ليس كالضرر في سابقتها، وكثير من النساء يشترطن ألا يخرجن من دورهن خوفاً على الوالدين ولمصالح ذاتية، والغالب أن المرأة لا تشترط مثل هذا الشرط إلا وهناك ما يؤثر عليها ويضر بها إضراراً معتبراً خاصة في حق والديها وقرابتها، فنقول: هو أقوى، وفرق بين قولنا: أرجح وأقوى، وقد نبهنا على ذلك غير مرة. قال: [أو بلدها] كذلك الحكم في البلد، وقد تكون هناك مبررات، فقد تكون المرأة صغيرة السن فيقول والدها: أشترط عليك ألا تخرجها من المدينة؛ لأنه يعلم أن ابنته في هذا السن يخشى عليها وأن بيئته أو جماعته أو مدينته فيها مفاسد، فمثل هذا أنا لا أشك في اعتباره، وأنها شروط شرعية؛ لأنه يقصد منها مقصود شرعي، أما إذا قصد التضييق على الرجل فهذا شيء آخر، لكن من حيث النظر في غالب الأحوال فهذا الشرط يقصد به تحقيق مصالح ودرء مفاسد، ومثل هذا لا يشك في اعتباره والعمل به.

اشتراط نقد معين في المهر أو اشتراط زيادته

اشتراط نقد معين في المهر أو اشتراط زيادته قال رحمه الله: [أو شرطت نقداً معيناً] قالت: أشترط أن يكون صداقي مائة ألف ريال من الفضة القديمة، أو أشترط أن يكون صداقي -مثلاً- ثلاثين ألف ريال من الورق، أو أشترط أن يكون صداقي مائة جنيه من الذهب السعودي مثلاً أو غيره، فهذا كله اشتراط نقد معين، فهذا يجب الوفاء به، فإنه استحل فرجها بهذا الشرط، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج). قال: [أو زيادة في مهرها صح] لأنه يجوز لها أن تشترط في المهر القليل والكثير، فليس هناك محظور شرعي. قال: [فإن خالفه فلها الفسخ] (خالفه) الضمير عائد إلى الشرط (فلها الفسخ) لها أي: تملك الفسخ، وهذا كما ذكرنا أن الشروط في العقود من موجبات الخيار، وإذا قلنا: لها الفسخ، ففرق بين الفسخ والطلاق، فالمرأة إذا كان لها الفسخ فمعنى ذلك أنها إذا اختارت الفسخ فإنه لا يستطيع أن يعود لها إلا بعقد جديد، ولكن إذا قلنا: تطلق، فقد تطلق وتكون رجعية كما لو كانت الطلقة الأولى ويمتلك ارتجاعها بدون رضاها، وإنما قلنا: لها الفسخ؛ لأننا لو قلنا بدون الفسخ بأن قلنا مثلاً: إنها تكون في حكم المطلقة لأمكنه أن يطلقها ثم يعيدها بعد ذلك فيفوت المقصود من الشرط، ولذلك يقول: (لها الفسخ) أي أنها إذا قالت: لا أريد ولست براضية، يقال لها: أنتِ بالخيار إما أن ترضي بهذا الواقع الذي هو فيه وإما أن تفسخي نكاحكِ، فتفسخ نكاحها ولا يرجع عليها بمهر؛ لأن المهر يكون بما استحل من فرجها.

الشروط المبطلة للعقد

الشروط المبطلة للعقد النوع الثاني من الشروط: هي الشروط الباطلة التي توجب بطلان العقد، فهي فاسدة ومفسدة للعقد. والشروط على أقسام: النوع الأول: الشروط الصحيحة التي يجب الوفاء بها، وإن كنا قد استثنينا بعضها لمصادمته للكتاب والسنة، الشروط الممنوعة، وتنقسم إلى قسمين: شروط ممنوعة توجب فساد العقد وهو الذي شرع به الآن فانتقل من الأعلى إلى الأدنى.

نكاح الشغار

نكاح الشغار قال رحمه الله: [وإذا زوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته ففعلا ولا مهر بطل النكاحان] إن شرط أن يزوجه موليته أو ابنته، فقال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك فهذا نكاح الشغار، مأخوذ من قول العرب: شغر الكلب رجله إذا رفعها ليبول -أكرمكم الله-، فكأنه يقول: لا تستمتع بموليتي بشغر الرجل -وضع الجماع- حتى أستمتع بموليتك، فكأنه جعل البضع عوضاً عن البضع، وهذا النوع من النكاح كان نكاحاً جاهلياً، والشريعة لما جاءت لأنكحة الجاهلية أقرت وأبطلت وفصلت، فهناك أنواع أبطلتها بالكلية وهناك أنواع أقرتها، وهناك أنواع فصلت في أحكامها كما سيأتي -إن شاء الله- في أنكحة الكفار. فالنكاح الذي ألغته نكاح الشغار، وكان من أنواع الأنكحة التي يظلم فيها النساء، والظلم في نكاح الشغار يقع بصورتين: الصورة الأولى: أن الرجل يقول: ابنتي بابنتك ولا مهر، فيجعل البنت مقابل البنت والبضع مقابل البضع، فلا يستمتع حتى يستمتع الآخر، وهذا من أبشع الظلم؛ فإنه قد يكون أحدهما غير مرضي، وقد يكون الاثنان غير مرضيين، فكل منهما يخون أمانته ويضيع حق موليته طلباً لربحه ومنفعته، فكأنه يطلب حظ نفسه في نكاح الثانية بالإضرار بابنته، والآخر يضر بابنته، فقد يكونان كبيرين في السن وقد تكون فيهما من العاهات والآفات ما لا يقبل معه مثلهما زوجاً، ولكن يضحي كل منهما بحق موليته لمصلحته في مولية الآخر، فهذا الظلم الأول. النوع الثاني من الظلم: أن يكون لا مهر، فيضران بالمهر، فيخفف من مهر هذه لقاء مهر تلك أو يسقطان المهر كلية. وأياً ما كان فنكاح الشغار بتلك الصورتين سواءً كان هناك مهر -على الصحيح من أقوال العلماء- أو لم يكن هناك مهر -بإجماع العلماء رحمهم الله في الصورة الثانية- لا يصح وهو نكاح فاسد، وإذا ثبت هذا فكل من زوج أخته أو ابنته أو موليته أياً كانت بمولية الآخر فالنكاح فاسد؛ لما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه (نهى عن نكاح الشغار). وأما قول الراوي: أن يزوجه موليته على أن يزوجه موليته ولا مهر بينهما كما اختاره المصنف فهذا على الصحيح أنه من قول نافع وليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وليس بتفسير مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أضرار الشغار: أنه إذا تزوج هذه بهذه فإنه متى ظلمت هذه ستظلم هذه ويصبح وسيلة للإضرار، فالمرأة ضحية في كل هذه الصور، ولذلك يعتبر من سماحة الإسلام ويسره ورحمته للمرأة تحريم هذا النوع من النكاح، فلا يجوز نكاح الشغار سواءً وجد المهر أو لم يوجد. لكن لو أن رجلاً خطب ابنة رجل فزوجه وبعد أسبوع أو بعد شهر دون مواطأة ودون وعد وبدون ترتيب خطب الآخر ابنته فإنه يصح، فإذا لم يكن بمواطأة ولم يكن بمقابلة فإنه يجوز ولا بأس بذلك، خاصة إذا لم يكن فيه ظلم، كرجل تزوج أخت رجل فأراد الآخر أن يتزوج أخته، وهذا يقع كثيراً، فإن الرجل يأتي إلى البيت ويرغب في بنت من بناته، فإذا شوهدت البنت ورغب فيها وعقد النكاح تعارفت الأسرتان فنظرت أم هذه المنكوحة إلى بنت من بنات أرحامهم فأعجبتها ورضيتها لابنها الذي هو أخ للزوجة المنكوحة، فخطبتها دون اتفاق ودون ترتيب، فمثل هذا لا بأس به ولا حرج فيه، بل إنه لا يسلم منه كثير من المجتمعات، ويكون -غالباً- نوعاً من التواد والتواصل ويتحقق به شيء من الألفة. وعلى هذا فنكاح الشغار نكاح محرم، وقد أجمع العلماء رحمهم الله أنه من الأنكحة المنهي عنها شرعاً. قال: [فإن سمي لهما مهر صح] هذا على ما اختاره المصنف وطائفة من أصحاب الإمام أحمد، والصحيح ما ذكرناه من أنه سواء سمي المهر أو لم يُسَمَّ ما دام أنه قال له: ابنتي بابنتك، أو أختي بأختك، أو زوجني فلانة أزوجك فلانة؛ فهذا كله من نكاح الشغار، وجد المهر أو لم يوجد؛ لأنه بضع ببضع وامرأة بامرأة.

نكاح التحليل

نكاح التحليل قال رحمه الله: [وإن تزوجها بشرط أنه متى حللها للأول طلقها]. قوله: (وإن تزوجها بشرط أنه متى حللها للأول طلقها) هذا نكاح المحلل وهو التيس المستعار كما قال صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من التيس المستعار؟ هو الرجل ينكح المرأة حتى يحلها للأول) ولعن المحلل والمحلل له، وهذا يسميه العلماء نكاح المحلل، وصورته: أن تطلق المرأة ثلاثاً من زوج سابق فيتزوج اللاحق هذه الزوجة لأجل أن يحللها للأول، وهذه على صورتين: الصورة الأول: أن يكون ذلك بشرط واتفاق وتمالؤ، فهذا باتفاق جماهير العلماء أنه لا يجوز، والنكاح فاسد ويعتبر من الأنكحة المحرمة التي لا تصح. والصورة الثانية: أن يكون في نيته أن يحللها للأول، فقد جاء عن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً جاءه وقال: يا ابن عم رسول الله! إن عمي طلق امرأته ثلاثاً وإن نفسه قد تبعتها وإني أخشى عليه، أفأنكحها حتى أحلها له؟ قال: أي بني! إن الله لا يُخادع. يعني: هذا من الخديعة، فأنت لا تريد نكاحها ولكنك في الحقيقة تريد أن تحللها لعمك، فالله لا يخادع فهو مطلع على السرائر والضمائر. فقالوا: الباطن كالظاهر، يعني: سواءً أظهر أو أبطن فإنه لا يجوز ذلك، لكن لو أن المرأة حنت لبعلها الأول ورغبت في زوجها الأول لم تلم على ذلك، يعني: إذا رضيت بالزوج الثاني ووطئها ثم لم ترده فهذا من حقها؛ لأن امرأة رفاعة لما وطئها عبد الرحمن بن الزبير حنت لزوجها الأول وجاءت واشتكته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟) وهذا في الصحيحين، فصرح لها بمكنون نيتها، ثم قال: (لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتكِ) فالمرأة غير الرجل؛ لأن المرأة أصل مشروعية دخول الزوج الثاني أن تعرف قيمة الأول وأن ترجع إلى صوابها ورشدها، وانظر إلى حكمة الشريعة، فالطلقة الأولى رجعية، والطلقة الثانية رجعية، فقد يغلط الإنسان المرة الأولى والمرة الثانية ويخطئ، لكن لا يعطى مهلة ثالثة، فالمرة الأولى يتأدب بها ثم يرجعها: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] فإن طلقها الثانية كذلك أعطي مهلة، فقد تكون الطلقة الأولى غلطة منه وتكون الطلقة الثانية غلطة منها. وقد يقول قائل: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، فالطلقة الواحدة كافية، فنقول: نعم، الطلقة الواحدة كافية؛ لأنه ربما كانت الخطيئة منه والغلطة منه فاستعجل فطلق، لكن قد تكون هناك غلطة من المرأة فتأتي الطلقة الثانية لاحتمال أن تكون الطلقة بسبب المرأة، فإن كانت الطلقة الأولى والثانية بسبب الرجل نفسه تعنتاً منه وأذية فطلق الثالثة ندم أشد الندم وعرف مقدار هذا الطلاق، فأصبح إذا تزوج امرأة ثانية يتحاشى الطلاق، وإذا عادت له عادت له وقد عرف قيمة هذه المرأة، وحينما يتزوجها غيره ويطؤها ترغم نفسه ويناله من الألم والأسى والحزن ما الله به عليم، مما يعينه على إصلاح نفسه لو عادت له بعد طلاقها من الثاني. فانظر كيف تهذب النفوس وتقوم، وكيف تتحقق المصالح وتدرأ المفاسد، فكأنه إذا تزوجت المرأة من زوج ثانٍ مقصود الشرع أن يتأدب كلا الزوجين، فالمرأة إذا تزوجها الثاني تنظر في هذا الثاني، فلو أن الثاني كان رجلاً كريماً محسناً فلا يمكن أن تفرط فيه؛ لأنها لما جربت الأول ووجدت الثاني أفضل منه لا يمكن أن ترجع للأول، هذا بالنسبة للمرأة، وأما إذا كان على خلاف ذلك في عشرته أو على خلاف ذلك في طبعه وأخلاقه فمن حقها أن تدفع الضر عن نفسها وتحن للأول؛ لأن القلوب لا تمنع. فأياً ما كان إذا دخل الرجل بنية أن يحلل المرأة للأول فلا، سواءً صرح بذلك عن طريق العقد أو لم يصرح بأن خبأ تلك النية وكانت في مكنونه، وأثر عن بعض الصحابة والسلف رضوان الله عليهم كـ الحسن وغيره أنهم خففوا في ذلك، وخفف فيه بعض التابعين إذا غيب النية في قلبه، وأن نكاح المحلل المراد به أن يضع ذلك شرطاً أو يتمالأ عليه فيأتي ولي المرأة ويقول: يا فلان! تزوج ابنتي وحللها لفلان، أو يأتي الزوج لصديقه ويقول: حلل لي فلانة، فهذا ملعون -نسأل الله السلامة والعافية- وملعون من أمره بذلك ورغبه أو دعاه إلى ذلك سواءً كان ولياً أو كان زوجاً.

النكاح المعلق

النكاح المعلق قال رحمه الله: [أو قال: زوجتك إذا جاء رأس الشهر] هذا النكاح المضاف إلى المستقبل، واختلف فيه العلماء، فمنهم من أجازه ومنهم من أبطله، فبعض العلماء يقول: يجوز أن يقول له: زوجتك إذا جاء رأس الشهر وهو نكاح معلق كالطلاق المعلق، فكما أن العصمة تبين تعليقاً وتنفصل تعليقاً كذلك النكاح يثبت تعليقاً، وقالوا: أياً ما كان إذا قال له: إذا جاء رأس الشهر فقد زوجتك فإنه قد تم الإيجاب والقبول معلقاً فيبقى معلقاً حتى يأتي أول الشهر، ورد قوم -وهو اختيار المصنف وطائفة من أصحاب الإمام أحمد - بأن النكاح إنما هو على البت، وإذا قال: إلى غد أو بعد غد أو بعد وقت فإنه يغرر به فلا ندري هل يبقى الزوجان أو لا يبقيان وهل يحدث شيء كأن يتغير حال الزوج، أو يتغير حال الزوجة، فقالوا: إنه لا يصح من أجل هذا الوجه، وكلا القولين له وجهه. قال: [أو إن رضيت أمها] كذلك إذا قال: (إن رضيت أمها) مجهول؛ لأننا لا ندري أترضى أو لا ترضى، فأثناء العقد ليس هناك بت، وعندهم أنه إذا أسند العقد أو أضيف إلى شيء مجهول صار من عقود النكاح المشتملة على الغرر، هذا وجهه، فيغرر به ويقول له: زوجتك إن رضيت أمها، وما ندري أمها ترضى أو لا ترضى، فهو زواج وليس بزواج، زواج إن رضيت وليس بزواج إن لم ترضَ فيقولون: هذه الإضافة تؤدي للتردد الموجب للغرر فلا يصح العقد إلا بالبت، فيرون أن النكاح على البت وليس فيه تعليق.

نكاح المتعة

نكاح المتعة قال رحمه الله: [أو إذا جاء غد فطلقها أو وقته بمدة بطل الكل] هذا نكاح المتعة، أن يقول له: أزوجك إلى غدٍ فإن جاء غد فطلقها، أو يقول: أزوجك إلى شهرٍ فإن جاءت نهاية الشهر فطلقها، أو يقول: أزوجك مدة إقامتك معنا فإن رجعت إلى بلدك فطلق ابنتي أو طلق أختي، كل ذلك من نكاح المتعة، فنكاح المتعة هو تحديد النكاح بأمد، وكان مباحاً في أول الإسلام وذلك لوجود الحاجة، فقد تمتع الصحابة رضوان الله عليهم متعة النساء؛ لأنهم كانوا يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستضرون بعدم وجود النساء معهم؛ لأنهم كانوا في القتال والجهاد يخافون السبي فإذا غزوا ومعهم النساء وخسروا فإن النساء يؤخذن وهذا معروف في عادة العرب أنهم يخشون من الغزو بالنساء خشية الاسترقاق؛ لأنهم إذا انكسروا وهزموا أُخذ النساء أسارى وحينئذٍ يكن من السبي وتسترق المرأة. ففي بعض الأحيان -كهذه الحالة- تأتي ظروف لا يستطيع الإنسان أن يسافر بامرأته، كالمرأة الحامل أو نحو ذلك، فأجيز في أول الأمر نكاح المتعة، ثم حرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم نكاح المتعة، والتحريم ثابت في الأحاديث الصحيحة في عام خيبر، كذلك أيضاً ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في خطبة حجة الوداع أنه خطب الناس وحرم نكاح المتعة، وقد كانت خطبة حجة الوداع قبل وفاته بزمن يسير، وهذا يدل على أن إباحته من الأمر الأول، ولذلك قال أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه كما في الصحيح: (متعتان لا تصلح لنا إلا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: متعة الحج، ومتعة النساء) ومراده بمتعة الحج وجوب فسخ الحج بعمرة، وقد بينا هذا في كتاب مناسك الحج، وأن متعة النساء كان مما اختص به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم نسخت الإباحة.

حكم الزواج بنية الطلاق

حكم الزواج بنية الطلاق لكن يبقى Q لو تزوج المرأة وفي نيته أن يطلقها، كرجل يسافر إلى بلد ومكث فيه الشهور لعمل أو وظيفة أو نحو ذلك، فمذهب طائفة من السلف والعلماء رحمهم الله جواز ذلك وأن الرجل يجوز له أن يتزوج المرأة وفي نيته ألا تستمر معه وذلك لخوف الضرر والوقوع في الزنا، والأصل في هذا أنهم قالوا: إن الرجل وإن نوى الطلاق فالعقد في ظاهره صحيح، ونيته في باطنه مترددة؛ وربما أعجبته المرأة فبقيت معه، وهذا موجود، ولذلك لو كان هذا محرماً أو من المتعة كان بمجرد مضي المدة وجب عليه التطليق، وبالإجماع أنه لا يجب عليه أن يطلقها، فلو تزوجها وفي نيته أن يطلقها بعد شهر فبالإجماع أنه لا يجب عليه تطليقها بعد شهر، ولو غير نيته جاز بالإجماع، وعلى هذا قالوا: إنه ليس من نكاح المتعة في شيء. ونص طائفة من أهل العلم ومن أئمة المذاهب الأربعة على جواز ذلك ومشروعيته، وهو مشروع، خاصة في زماننا؛ فإن الرجل تكون زوجته مع الأطفال وترتبط بمدينتها أو بلدتها، والرجل يسافر إلى بلد محتم عليه السفر إليه، أو تقتضي ظروف عمله أن يسافر إلى هذا البلد، فإن قلنا له: لا تتزوج، فإنه سيقع في الحرام، وربما وقع في الزنا، خاصة إذا كان في أماكن فيها فتن ومغريات، فلو قيل له: لا تتزوج، لما استطاع ولربما وقع في الحرام، ولو قلنا له: تزوج، مطلقاً، فإنه بإمكانه أن يتزوج ويأتي بها، لكن إذا كانت المرأة لا يمكن أن تأتي معه وفي نيته أنه إذا انتهى منها تركها لأهلها وهي راضية بذلك فإنه لا بأس. ومن تأمل أحوال السلف والأئمة والناس في عصور الإسلام السابقة يجد أن الرجل كان يسافر للتجارة وينزل في البلد الشهر والشهرين، ولا يمكث اليوم واليومين حتى يتزوج وينجب ثم يسافر ويترك امرأته ويطلقها ويسافر، وكان هذا معروفاً بين المسلمين؛ لأن الرجل -خاصة التاجر- تجده يوماً هنا ويوماً هناك، وإذا أراد السفر فغالباً أنه لا يستطيع أن ينقل امرأته معه، خاصة في القديم حيث كانت الأضرار والخوف، بل حتى المرأة لا ترضى أن تسافر معه. فزواج المرأة بنية التطليق، أولاً: نصوص الشرع من حيث العموم دالة على جوازه، فإنه نكاح مستوفٍ للشروط مستوفٍ للأركان، وخذها قاعدة: أن أي مسألة من مسائل النكاح إذا اختلف فيها في صحة النكاح وفساده فانظر إلى أركانه وشروطه، فإن توفرت الأركان والشروط فقل: الأصل صحته وحله حتى يدل الدليل على فساده، فإن اعترض بأن هذا الزواج تم بنية الطلاق، فيجاب بأنه قد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس وأن أكل سرائرهم إلى الله) فإن قال قائل: إن المحلل في نيته أن يحلل، قلنا: إن هذه نية غير شرعية؛ لأنه نوى مضادة الشرع ولذلك قال ابن عباس: إن الله لا يخادع، ففرق بين شيء في أصله محظور وبين شيء في أصله مباح، فإن نكاح المرأة وتخليتها مباح، لكن أن ينكح المرأة من أجل أن تنكح لزيد ولا ينكحها من أجل أصل النكاح -وهو الاستمتاع- كما هو الحال في المحلل فلا، فافترقت تلك الصورة عن صورة المحلل، وقياسها على المحلل ضعيف، فإنه إذا تؤمل الأصل والفرع وجد الفارق بينهما جلياً، فنكاح المحلل واضح فيه أنه ما نكح للنكاح ولا نكح للعفة ولا نكح للاستمتاع لنفسه ولا نكح من أجل أن يعف المرأة، ونحوها من مقاصد الشرع المعروفة الشرعية، ولكنه نكح من أجل أن يحلل، والشريعة كأنها حرمت نكاح هذه المرأة حتى تنكح زوجاً غيره فتعيش معه، فترى مره وحلاوته فتحن للأول، فإذا جاء المحلل ينكحها اليوم واليومين ويطلقها فإنه لا يحصل مقصود الشرع، فكأنه يهدم مقصود الشرع بالتطليق المباشر، لكن من تزوج وفي نيته أن يطلق تزوج من أجل أن يعف نفسه عن الحرام، بل إنه ما وقت النكاح لحاجته والوقت الذي هو فيه إلا من أجل أن يعف نفسه عن الحرام، فهو يخاف على نفسه الزنا، فقال في نفسه: إنه في مدة إقامته يفعل ذلك، وهذه النية ليست بقطع، ويحتمل أن يلغي هذه النية ويغير نيته. فإن قال قائل: إن المرأة تستضر، قلنا: إن المرأة إذا ضحت وبذلت وتحببت إلى زوجها وقامت كما ينبغي أن تقوم الزوجة لا يمكن أن يفرط فيها، بل إن الرجل يضحي بأهله وبلده من أجل المرأة -وهذا معروف- إذا ملكته المرأة بإحسانها وفضلها فأياً ما كان فالفرق بينهما واضح، وأصول الشريعة تقوي صحة ما ذكرناه، وعلى هذا فإنه يجوز أن يتزوجها مؤقتاً.

الشروط الفاسدة مع بقاء صحة العقد

الشروط الفاسدة مع بقاء صحة العقد قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وإن شرط أن لا مهر لها أو لا نفقة أو أن يقسم لها أقل من ضرتها أو أكثر أو شرط فيه خياراً أو إن جاء بالمهر في وقت كذا وإلا فلا نكاح بينهما بطل الشرط وصح النكاح] هذا النوع الثالث من الشروط -وهو النوع الثاني من الحالة الثانية-: أن يصح العقد ويبطل الشرط، فتصحح العقد وتقول: هذا الشرط باطل.

اشتراط عدم المهر

اشتراط عدم المهر قال رحمه الله: [وإن شرط أن لا مهر لها] فهذا شرط لاغٍ؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24] وأمر بإعطاء المهر إلى النساء فريضة، وعلى هذا فإنه إذا شرط أن لا مهر يكون قد خالف شرع الله، فألغي هذا الشرط وصحح العقد، ويصحح العقد بمهر المثل، وهذا مما يرجع فيه إلى القاعدة المعروفة: العادة محكمة، وهي إحدى القواعد الخمس المشهورة في الفقه الإسلامي وهي: الأمور بمقاصدها، والمشقة تجلب التيسير، والضرر يزال، واليقين لا يزال بالشك، والعادة محكمة، أي: العرف، فنحن إذا أبطلنا هذا الشرط وقلنا: إنه لابد في النكاح من المهر فيرد Q كم نعطيها من المهر؟ نقول: نرجع إلى مهر مثلها، فينظر إلى المرأة من حيث نسبها ووضعها في بيئتها، فلو كان مهر أرفع النساء الأبكار ثلاثين ألفاً، وكان مهر الوسطى عشرين ألفاً، وكان مهر عامة الناس ومن لا ميزة له عشرة آلاف، فإنها إن كانت من الأعلى فثلاثون، وإن كانت من الأسفل فعشرة، وإن كانت بينهما فعشرون، وهكذا يكون لها مهر المثل.

اشتراط عدم النفقة على الزوجة

اشتراط عدم النفقة على الزوجة قال رحمه الله: [أو لا نفقة] لو قال: أتزوجكِ بشرط أن لا أنفق عليكِ، قالت: قبلت، فإن تزوجها ودخل بها فإن الشرع يلزمه بالنفقة عليها، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) وهذا يتضمن شرط الضرر والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا ضرر ولا ضرار) فهذا شرط فيه مضرة ومخالفة لشرع الله عز وجل؛ فإن الرجال عليهم نفقة النساء والقيام بحقوقهن.

اشتراط عدم المساواة بين النساء في القسم

اشتراط عدم المساواة بين النساء في القسم قال رحمه الله: [أو أن يقسم لها أقل من ضرتها أو أكثر] كذلك إذا شرط أن تكون لها ليلة من أربع ليالٍ وليس عنده إلا ضرة، فيجعل ثلاث ليالٍ لتلك وليلة لهذه، فهذا ليس في كتاب الله، والذي في كتاب الله العدل بين الزوجات في القسم والمبيت.

اشتراط الخيار في المهر والنفقة

اشتراط الخيار في المهر والنفقة قال رحمه الله: [أو شرط فيه خياراً] علق ما سبق على خيار، بأن قال لها مثلاً: أنا بالخيار إن شئت وطئتكِ وإن شئت لم أطأ، أو إن شئت أنفقت عليكِ وإن شئت لم أنفق عليكِ، فجعل الخيار له، كل ذلك ليس من حقه والشرط باطل؛ لأنه يهدم ما أمر الله به، ويناقض شرع الله فلا يعتد به.

اشتراط الولي على الزوج الإتيان بالمهر في وقت معين وإلا فسخ العقد

اشتراط الولي على الزوج الإتيان بالمهر في وقت معين وإلا فسخ العقد قال رحمه الله: [أو إن جاء بالمهر في وقت كذا وإلا فلا نكاح بينهما] إذا قال له: زوجتك، وقال: قبلت فقد تم العقد، فإن قال له: إن جئت بالمهر قبل الشهر فالنكاح صحيح، وإن تم الشهر ولم تأتني به فلا نكاح بيننا، فإنه يلغى هذا الشرط ويترك الأمر بالمهر على سنن الشرع كما سيأتي في باب المهر، من أنه لا يدخل حتى يقدم شيئاً منه، ويكون ذلك موجباً لفساد الشرط دون العقد فالعقد باقٍ. قال: [بطل الشرط وصح النكاح] قوله: (بطل الشرط) لأنه ليس في كتاب الله، والسنة دالة على بطلانه، وكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لا تتفق نصوصهما مع هذه الشروط فتبطل، ويصح النكاح؛ لأن الأصل صحته، وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] وهناك قاعدة قررها العلماء على هذه الآية تقول: تصحيح العقود ما أمكن، وفرع أيضاً عليها قاعدة تقول: الإعمال أولى من الإهمال، فإعمال العقود وإمضاؤها أولى من إلغائها وإهمالها وإبطالها، فمثلاً عندنا رجل قال لآخر: زوجتك ابنتي وتم النكاح بشروطه المعتبرة وأركانه المعتبرة، ثم قال الرجل: لا أنفق عليها، فنقول: العقد الذي وقع وهو قوله: زوجتك ابنتي، وقوله: قبلت، صحيح والشرع يلزم بالوفاء به، وهذا الشرط شيء ممنوع دخيل على شيء مشروع، فنلغي الممنوع ونبقي المشروع، وهذا معنى: تصحيح العقود ما أمكن والإعمال أولى من الإلغاء وأولى من الإهمال.

شروط الكمال في النكاح

شروط الكمال في النكاح

اشتراط الإسلام في الزوجة

اشتراط الإسلام في الزوجة قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإن شرطها مسلمة فبانت كتابية] هنا يدخل في مسألة شروط الكمال، وهي شروط شرعية يشترطها غالباً الرجل على المرأة، كأن يشترط جمالاً، أو يشترط مالاً، أو يشترط حسباً، أو يشترط نسباً، أو يشترط ديناً، أو يشترط صفات من كتابة وتعلم أو وظيفة أو نحو ذلك فهذه تسمى شروط الكمال. قال: [وإن شرطها مسلمة فبانت كتابية]. هنا الخيار للرجل قال له: زوجتك ابنتي، قال: بشرط أن تكون مسلمة، فبانت كافرة فإنه لا يصح حينئذٍ أن يلزم بهذا، لكن لو بانت كتابية فإنه يجوز نكاح نساء الكتابيات، لكن هو اشترطها مسلمة ففي هذه الحالة نقول: لك الفسخ، يعني: أنت بالخيار إن شئت أمضيت العقد ورضيت بهذا النقص فلا إشكال، وإن شئت ألغيت العقد فمن حقك الفسخ.

اشتراط البكارة والجمال والنسب في المرأة

اشتراط البكارة والجمال والنسب في المرأة قال رحمه الله: [أو شرطها بكراً] أو شرطها بكراً فبانت ثيباً، قال: زوجتك ابنتي أو أختي قال: أشترط أن تكون بكراً قال: هي بكر، ثم تبين أنها ثيب، أو قال له: أشترط أن تكون لم تتزوج وتبين أنها قد سبق وأن تزوجت أو قال: أشترط أن تكون دون العشرين، فبان أن سنها عشرون فأكثر، فالمهم أن يشترط شرطاً معيناً لمصلحته يريده هو، ويسمونها شروط الكمال. قال: [أو جميلة] فبانت غير جميلة، فإنه في هذه الحالة من حقه الفسخ. قال: [أو نسيبة] أي: لها نسب فبانت غير نسيبة، فله الفسخ.

اشتراط نفي العيب الغير مؤثر في النكاح

اشتراط نفي العيب الغير مؤثر في النكاح قال رحمه الله: [أو نفي عيب لا ينفسخ به النكاح فبانت بخلافه فله الفسخ] لأن العيوب نوعان: نوع منها يفسخ النكاح، كالجنون والجذام والبرص -نسأل الله العافية- وهذه هي العيوب المؤثرة وسيأتي بيانها، والمرأة إذا كان بها عيب ولم يتبين للرجل إلا بعد الدخول بها وبعد العقد فله الفسخ، وهذا يسمونه خيار العيب. وأما هنا فالخيار من جهة الشرط، لأن عندنا خيار عيب وخيار شرط، فخيار الشرط مثل أن يشترط شرطاً أو تشترط المرأة شرطاً، ويثبت الخيار إذا لم يتحقق الشرط، وأما خيار العيب فإذا وجد العيب فإننا ننظر فيه، فإذا كان مؤثراً ثبت الخيار فيفسخ النكاح إن شاء أو يبقيه إن شاء كما سيأتي. فهناك فرق بين كونه له خيار العيب وبين كونه له خيار الشرط، فهنا من خيار الشرط أن يشترط سلامتها من عيب لا يوجب مثله الفسخ، مثلاً: الجهل، كأن تكون المرأة أمية لا تكتب ولا تقرأ فهذا عيب مثلاً في عرفه أو عرف جماعته فقال: أشترط أن لا تكون أمية، بمعنى: أن تكون متعلمة، ثم تبين أنها أمية فله الفسخ، وهذا معنى قوله: (عيب لا يوجب الفسخ)، أما لو كان عيباً يوجب الفسخ فسواء اشترط أو لم يشترط؛ لأنه لو قال: (عيب يوجب الفسخ) لفُهم أن العيوب التي توجب الفسخ ما توجب الفسخ إلا بالشرط، ومن هنا من دقة المصنف قال: (عيب لا ينفسخ به النكاح) (فله الفسخ) [فله أي: يملك خيار الفسخ.

ثبوت خيار الفسخ للمعتقة تحت عبد

ثبوت خيار الفسخ للمعتقة تحت عبد قال رحمه الله: [وإن عتقت تحت حر فلا خيار لها بل تحت عبد] هذه الكتب ما كانت تؤلف وهذه المتون أصلاً ما كان يعترف لأحد من أهل العلم أن يضعها إلا إذا كان له شخصيته الفقهية والعلمية، وحتى المتن لا يشتهر ولا يشرح إلا إذا كان مثله أهلاً، وكذلك كتابنا رحمة الله على مؤلفه. الآن عندنا خيار الشرط وخيار العيب، والمصنف قال: باب الشروط والعيوب في النكاح، لكن مسألة عتق المرأة ليس لها علاقة لا بالشروط ولا بالعيوب، إلا أن بعض العلماء يقول: خيار العتق دخل في العيب من جهة أنه إذا كانت أمة عند عبد فعتقت الأمة فإنه من النقص لها والعيب أن تكون تحت عبد، هذا من حيث نظرتهم، لكن الواقع أن المصنف قصد إدخالها من جهة التبعية، مثلما يدخلون أحكام السواك في الوضوء من جهة أن الوضوء طهارة لأعضاء البدن والسواك مطهرة للفم، فناسب ذكر الطهارة الخاصة مع الطهارة العامة، وهنا نقول: ذكر الخيار الخاص مع الخيار العام. ونقول: إن الخيار في النكاح يأتي من جهة العيب، ويأتي من جهة الشرط، ويأتي من جهة العتق، فعندنا ثلاثة أشياء: خيار الشرط إذا لم يتحقق الشرط، وخيار العيب: إذا وجد في الرجل عيب فمن حق المرأة أن تفسخ وكذلك العكس بالنسبة للمرأة مع الرجل، وخيار العتق: فإذا كانت مملوكة ثم عتقت تحت عبد فإنه يكون لها الخيار؛ لثبوت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فإنه لما عتقت بريرة -وكانت تحت مغيث مولى بني مخزوم- طلبت الفسخ، وكان مغيث يحبها حباً جماً فتعلق بها وكان مشغفاً بها، وسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترجع إليه فقالت: (يا رسول الله! أتأمرني أو تشفع؟) أي: هل تأمرني فأعود أو أنت شافع؟ قال: (إنما أنا شافع) فلم تعد إليه؛ لأنه ما دام شافعاً فلا تلزم طاعته، ولا شك أن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أحرى أن تقبل، لكنه عليه الصلاة والسلام لا يلزم الناس ولا يكرههم. الشاهد: دليلنا على إثبات الخيار بالعتق هذا الحديث الصحيح، فيكون للمرأة الخيار إذا عتقت بشرط أن يكون زوجها رقيقاً، فإن كان زوجها غير رقيق أي: كان حراً، وعتقت وهي تحته فلا خيار في هذه الحالة، وهذا النوع من الخيار فيه عدل، فالله سبحانه وتعالى جعل هذا الخيار للمرأة؛ لأنها وهي أمة ليست كحالها وهي حرة، فإن الرق سببه الكفر ولذلك فيه نقص؛ لأنه لا رق إلا بسبب الكفر، ونظراً لوجود هذا النقص، فإن عتقت أعطيت حقها، فإن شاءت بقيت وإن شاءت فسخت النكاح.

العيوب في النكاح

شرح زاد المستقنع - العيوب في النكاح من الأمور المقصودة للنكاح تحصيل الاستمتاع وإعفاف النفس، ووجود العيوب في أحد الزوجين مما يؤثر في هذا، فمتى كان العيب مؤثراً أوجب الخيار وإلا فلا، وهذه العيوب منها المشترك بين الرجل والمرأة ومنها الخاص بأحدهما.

العيوب في النكاح

العيوب في النكاح قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ومن وجدت زوجها مجبوباً أو بقي له ما لا يطأ به فلها الفسخ] هذا فصل في بيان العيوب، وعيوب الزوجين في النكاح تنقسم إلى قسمين: عيوب عامة، وعيوب خاصة، فالعيوب العامة هي التي تكون في الرجل وتكون في المرأة، أي: ما تختص بالرجال ولا تختص بالنساء، ومن أشهرها مما يوجب الفسخ ثلاثة عيوب -أعاذنا الله وإياكم منها ومن غيرها مما فيه ضرر-: الجنون والجذام والبرص، هذه الثلاثة العيوب مؤثرة وتوجب الخيار، وهي تكون في الرجال وتكون في النساء، فالجنون لا يختص بالرجال دون النساء ولا العكس وكذلك الجذام وكذلك البرص، وسيأتي بيانها إن شاء الله. وهناك عيوب خاصة بالرجال كالمجبوب -مقطوع الذكر- والعنين -الذي لا ينتشر عضوه- فهذه خاصة بالرجال، والخصي ونحو ذلك، والخاصة بالنساء القرن، والعتل، والرتق، والفتق فهذه كلها خاصة بالنساء، ثم ما يختص بالرجال وما يختص بالنساء ينقسم إلى قسمين: منها ما هو مؤثر ويوجب الخيار، ومنها ما ليس بمؤثر ولا يوجب الخيار، وسيأتي بيان كل هذا إن شاء الله.

تخيير المرأة في الرجل المجبوب

تخيير المرأة في الرجل المجبوب قال رحمه الله: [ومن وجدت زوجها مجبوباً] يعني: مقطوع الذكر، فإن هذا عيب لا يمكن معه حصول المقصود من النكاح من إعفاف المرأة وإحصانها، ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله -كما نقل الأئمة- على أنه عيب يوجب الخيار للمرأة في أن تفسخ، وإذا رضيت المرأة بالبقاء فإنها تبقى، وإذا لم ترضَ فإن لها الفسخ؛ لأن هذا ضرر عظيم، وقد تتعرض للحرام، فيكون من حقها أن تفسخ، إذا كان الرجل مجبوباً مقطوع العضو بالكلية، أو لم يبقَ منه ما يمكنه به إعفافها، فإن كان في الحالة الثانية بقي منه ما يمكنه به إعفافها فلا خيار. قال: [أو بقي له ما لا يطأ به فلها الفسخ] كما ذكرنا؛ لأن هذا يفوت مقصود الشرع من الإعفاف، لكن لو أن المرأة رضيت فلها ذلك، كما لو تزوجت كبير سن لا يجامع، والنساء تختلف رغباتهن في الزواج، فقد تتزوج المرأة وليس مرادها قضية الفراش وليست هي كل شيء عندها، وقد تتزوج لمعانٍ أسمى وأعلى من هذا كله، لكن حكم الشريعة اعتبر الجبلة والفطرة، واعتبر مقصود الشرع من حصول الإعفاف، خاصة وأن المرأة من حقها ذلك.

حكم العنين

حكم العنين قال رحمه الله: [وإن ثبتت عنته بإقراره أو بينة على إقراره أُجل سنة منذ تحاكمه] العيب الأول: الجب، والعيب الثاني: العنة، وكلاهما متعلق بالرجال، فالعنة أن لا ينتشر العضو، فما يستطيع الرجل أن يجامع المرأة، فإذا اشتكت المرأة وقالت: إن زوجها عنين، فسأله القاضي فقال: نعم إنه عنين ولا ينتشر عضوه، فحينئذٍ يؤجله القاضي سنة، وهذا قضاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، ومذهب جماهير السلف رحمهم الله أنه يؤجل العنين سنة، وحكى بعض العلماء الإجماع ومضى قضاء المسلمين على أن العنين يؤجل سنة ويترك سنة؛ لأنه ربما كانت العنة في فصل دون فصل، وربما كانت بأسباب من خوف أو رهبة أو طروء النكاح عليه أو نحو ذلك من الأمور فيؤجل سنة؛ لأن السنة فيها اختلاف الفصول الأربعة، فإذا مرت عليه الفصول الأربعة وثبت أنه لا يستطيع الجماع كان من حقها الفسخ، ويكون ابتداء ذلك من حين إقراره، والإقرار أقوى الحجج. قوله: (أو بينة على إقراره) البينة على إقراره كأن يجلس في مجلس وفيه شهود عدول فيسمعونه يقول: إنه عنين، فحينئذٍ لو اشتكته المرأة فأنكر وقال: لست بعنين، فجاءت بهذين الشاهدين على عنته ثبتت، وهذه شهادة على دليل وهي مقبولة؛ لأن العنة من الأمور الخفية التي لا يمكن أن تعرف إلا من الشخص نفسه أو من زوجه، ولو فتح الباب لكل زوجة أن تدعي أن زوجها عنين لادعت النساء وكذبن في ذلك؛ لأن النساء لسن على حد سواء، ففيهن من تكون جريئة على حدود الله فتكذب، وقد ترغب في الطلاق، وقد ترغب في إضرار زوجها، وقد تريد أن تنتقم من زوجها فتدعي أنه عنين، فإذا ادعت عليه فإننا لا نستطيع الحكم؛ لأن عندنا زوجاً يثبت أنه رجل وأنه ليس فيه هذا العيب، وعندنا امرأة تدعي هذا العيب، فهل نصدق الرجل أو نصدق المرأة؟ فحينئذٍ غالباً ما يثبت هذا بالإقرار، فإذا أقر الرجل أو شهد عدلان على أنه أقر أنه عنين فيؤاخذ بإقراره. قوله: (أُجل سنة منذ تحاكمه) (أُجل) أي ضرب له أجل، وهو سنة هلالية كاملة (منذ تحاكمه) يعني: منذ أن حاكمته المرأة ورفعته إلى القاضي لا من ابتداء النكاح؛ لأنه في حينها لم تكن ثبتت عنته بعد، فالعبرة بمجلس القاضي، والتأجيل يتعلق بحكم الحاكم، فلما كان التأجيل متعلقاً بحكم الحاكم وبمجلس القضاء كانت العبرة بالترافع، فإذا تأخرت المرأة في رفع قضيتها فهي التي أدخلت الضرر على نفسها، فحينئذٍ يكون تأجيله سنة من حين أن رفعته إلى القاضي، وهذا معنى: (منذ تحاكمه) يعني: إذا حاكمته ورفعته إلى القاضي، وإذا تأخرت فإنها تتحمل مسئولية تأخيرها من قبل، كالرضا بالعيب. قال رحمه الله: [فإن وطئ فيها وإلا فلها الفسخ] يعني: وطئ خلال السنة فحينئذٍ تكذب المرأة في قولها: إنه عنين؛ لأنه ثبت أنه قادر، ويتبين بهذا أنه مرض عارض، أو أن هذا بسبب النفرة من الزوجة، وإذا وطئ خلال السنة فحينئذٍ يبطل الاعتداد بهذا العيب. قال: [وإن اعترفت أنه وطئها فليس بعنين] وإن اعترفت هذه المرأة أنه وطئها من قبل فليس بعنين، أو اعترفت بأنه وطئها خلال السنة فليس بعنين. قال: [ولو قالت في وقت: رضيت به عنيناً سقط خيارها أبداً] من دقة المصنف رحمه الله أن ذكر لك العيب وهو العنة، ثم ذكر لك دليل إثبات العيب وهو الإقرار والشهادة على الإقرار، ثم ذكر لك الحكم وهو التأجيل سنة، ثم ذكر متى يبتدأ بالتأجيل ومتى يحسب وهو من حين الترافع، وشرع بعد ذلك رحمه الله في مسألة الرضا بالعيب؛ لأن الرضا يكون بعد وجود العيب، فإذا ثبت عند القاضي أنها رضيت بعد أن علمت بعنته سقط حقها، مثلاً: رجل أراد أن ينكح امرأة فجاء إلى وليها وقال: إنه عنين، فعلمت المرأة أنه عنين وعقد النكاح فلا خيار لها إجماعاً؛ لأنها رضيت بالعيب، وإذا رضيت بالعيب حال العقد، أو بعد العقد؛ فرضيت وسكتت فحينئذٍ سقط حقها، أما لو علمت بعد العقد ورفعت مباشرة فإنه لا يسقط حقها.

عيوب النساء التي يكون للرجل الخيار بسببها

عيوب النساء التي يكون للرجل الخيار بسببها قال رحمه الله تعالى: [فصل: والرتق والقرن والعفل والفتق واستطلاق بول ونجو وقروح سيالة في فرج وباسور وناسور وخصي وسل ووجاء وكون أحدهما خنثى واضحاً، وجنون ولو ساعة وبرص وجذام يثبت لكل واحد منهما الفسخ]. يقول رحمه الله: (والرتق) هنا شرع المصنف في ذكر العيوب التي تتعلق بالنساء، وإذا تأملت العيوب السابقة في الرجل تجدها عيوباً تمنع حصول الوطء، وكما أن هذا يقع في الرجل كذلك أيضاً يقع في المرأة، فتكون فيها عيوب خلقية تؤثر في الوطء مثل: الرتق وهو انسداد الفرج، والقرن: وهو العظم في موضع الجماع يعيق الجماع، والعفل: وهو الورم من اللحم يكون في موضع الجماع ويعيق الجماع ولا يمكن من المتعة، كذلك الفتق وهو اختلاط المسلكين عند المرأة كل ذلك مما يؤثر في المتعة وفي الجماع فيمنعه كلية أو يمنعه لحد مؤثر، فهذه العيوب كلها مختصة بالنساء لكنها تؤثر وتوجب الخيار للرجل، لكن بنفس الضابط السابق، فإن علم بالعيب أثناء العقد سقط خياره، وإن علم بعد العقد ورضي وسكت سقط كذلك، وإن علم به بعد العقد وطالب مباشرة فالحكم أن له الخيار، فنقول له إذا طالب: إن شئت رضيت هذا العيب في المرأة، وإلا إن شئت فافسخ النكاح.

عيوب الخيار المشتركة بين الرجال والنساء

عيوب الخيار المشتركة بين الرجال والنساء قال رحمه الله: [واستطلاق بول] لأنه يؤذي في الجماع، فعندنا ما يمنع الجماع مثل: الرتق، وكذلك أيضاً القرن، وعندنا ما يؤذي ولكنه لا يمنع من الجماع كاستطلاق البول، وكذلك استطلاق النجو، وعندما يقرأ طالب العلم المتون الفقهية يجد أن العلماء رحمهم الله يقررون هذه المسائل للوصول للضوابط وهذه المسائل ما هي إلا أمثلة؛ لأن الضابط يدور حول المنع من الوطء، ومتى يكون للزوج الحق في فسخ النكاح؟ ومتى يكون هذا العيب مؤثراً؟ قال: [واستطلاق بول ونجو] استطلاق البول والغائط يكون مرضاً مزمناً، لكن إذا كان في حال دون حال فهذا لا يؤثر، إنما المراد أن يكون عيباً ثابتاً ويشهد أهل الخبرة أو قرينات المرأة أو أهلها بأن يقولوا: نعم، نعرف فلانة أن معها استطلاق البول، أو نعرف أن معها استطلاق الغائط الذي هو استطلاق النجو، فهذا كله من العيوب المؤثرة التي توجب الخيار للرجل والفسخ. قال: [وقروح سيالة في فرج] القروح السيالة مثل السيلان وهي نوع من أنواع أمراض الزهري -أعاذنا الله وإياكم منها- ونحو ذلك من الأمراض المعدية الخطيرة، فإذا ثبت أن المرأة بها هذا المرض وموجود فيها فإنه حينئذٍ من حق الرجل أن يطالب بالفسخ؛ لأنه يستضر إذا جامعها، فهناك ضرر بجماعها أثناء الجماع وضرر إذا انتهى من جماعها؛ لأنه تنتقل إليه العدوى، وعلى هذا فإنه يعتبر من العيوب المؤثرة. قال: [وباسور وناسور] الباسور: يكون في المقعدة، والباسور والناسور واستطلاق البول واستطلاق النجو والقروح السيالة تكون في الرجل والمرأة وليس خاصاً بالنساء، فمن الممكن أن يكون السيلان في الرجل وممكن أن يكون -أعاذنا الله وإياكم- في المرأة، وممكن أن يكون الباسور والناسور في الرجل وممكن أن يكون في المرأة، فهذه من العيوب المشتركة التي لا تختص لا بالرجال ولا بالنساء. قال: [وخصي] فإن هذا يضر الرجل في حال جماعه وكذلك في ذريته. قال: [وسل] قطع الخصية وسل الخصية: إخراجها مع وجود اللحم، ورض الخصية: الوجاء، وضرب العروق، هذا كله من العيوب المؤثرة؛ لأن هذا يؤثر في جماع الرجل ويؤثر في رغبته في المرأة، ولذلك تتضرر المرأة بهذا فإنها تكون منكوحة لبعض الرجل لا لكل الرجل وهذا يضرها، ويضر حتى ذريتها. قال: [وكون أحدهما خنثى واضحاً] فإنه حينئذٍ لا يجوز؛ لأن الخنثى لا يجوز نكاحها، فلو أنه تزوج امرأة على أنها امرأة فتبين أنها خنثى فإنه حينئذٍ يكون من حقه الفسخ، فلو كانت امرأة أصلها خنثى، يعني: كانت خنثى ثم تبين أنها امرأة، بمثل: ظهور الثدي وظهور علامات النساء فيه، وظهر أنه امرأة وثبت كلياً أنه امرأة فلما جاء الرجل يتزوج تزوجه على أنه امرأة ثم تبين أنه خنثى، فحينئذٍ من حقه الفسخ؛ لأن هذا عيب ونقص في الخلقة ولو أنه كمال في الصورة، يعني: زيادة في الصورة لكنه نقص في الخلقة، وعيب مؤثر في الخلقة وعلى هذا يكون له حق الفسخ. وهكذا لو تزوجت المرأة رجلاً على أنه رجل ثم ظهر أنه خنثى فإن هذا يعتبر موجباً للفسخ؛ لأن جماع الرجل الخنثى ليس كجماع الرجل المحض، وكذلك جماع المرأة الخنثى ليس كجماع المرأة المحض، وهذا من العيوب المؤثرة. قال: [وجنون ولو ساعة] الجنون: من جن الشيء إذا استتر، وسمي البستان جنة؛ لأنه يستر من بداخله، والجنون استتار العقل وذهابه كلية إما لكل الوقت أو لبعضه، فإن كان لكله فهو جنون مطبق، وإن كان لبعضه فهو جنون متقطع، فالجنون -أعاذنا الله وإياكم- في الرجل أو المرأة إذا ثبت أنه مجنون سواءً كان جنونه متقطعاً أو كان جنونه مستديماً مطبقاً فإن من حق المرأة أن تطلب الفسخ، وكذلك الرجل من حقه أن يطلب الفسخ إذا تبين أن زوجته مجنونة، سواءً كان جنون أحدهما متقطعاً أو مستديماً فكله عيب. قال: [وبرص] الله سبحانه وتعالى إذا ابتلى الإنسان بالبرص قد يكون في هذا علو درجة له، ولا شك أنه إذا كان مؤمناً فهو علو درجة له في الدنيا والآخرة، والله يعلي قدره بهذا البلاء ويعظم أجره، فلا شك أنه بلاء في ظاهره ولكنه رحمة في باطنه، وإذا نقصت خلقة الإنسان فكل نقصٍ في خِلقته يعوضه الله عز وجل عنه من الأجر والمثوبة، وقد تكون له درجة في الجنة لا ينالها بكثير صلاة ولا صيام فيجعل الله له هذا البلاء سبيلاً إليها، وأما كون البرص عيباً في النكاح فهو من وجهين: الوجه الأول: أن البرص في الجبلة والفطرة يؤثر على المرأة في جماعها وعلى الرجل في جماعه، فهو مؤثر في الجماع، فكما أن العيوب الحسية تؤثر في الجماع فكذلك العيوب المعنوية تؤثر في الجماع، فالبرص يؤثر من ناحية معنوية ويؤثر من ناحية النسل والذرية، فهو يؤثر من الوجهين، ولذلك فيه ضرر قاصر وضرر متعدٍ، وعلى هذا يعتبر مؤثراً، ويستوي أن يكون البرص مطبقاً عليه كله أو يكون في بعض أعضائه ولو كان في بعض الأعضاء الخفية، بخلاف البهق فإن البهاق ليس بعيبٍ موجبٍ للفسخ، لأنه لا يعتبر من البرص ولا يأخذ حكم البرص من حيث العيوب، ولكنه يعتبر عيباً إذا كان برصاً محضاً سواءً كان في كل الأعضاء أو بعض الأعضاء. قال: [وجذام] كذلك الجذام نوع من الأمراض -نسأل الله العافية- تساقط فيه الأعضاء، فهذا من الأمراض المعدية وفيه ضرر معنوي وضرر حسي، ويتعدى ضرره إلى المرأة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) فالمرأة تتأثر بهذا النوع من المرض وكذلك الرجل.

الفسخ بالعيب

الفسخ بالعيب قال رحمه الهل: [يثبت لكل واحد منهما الفسخ] أي للرجل وللمرأة. قال: [ولو حدث بعد العقد أو كان بالآخر عيب مثله] قال: (ولو حدث بعد) ولو: إشارة إلى الخلاف، فلو فرضنا أن الجنون عيب، وأنه عيب إذا كان قبل العقد، فكذلك لو أن الجنون طرأ عليه بعد العقد، فإنه إذا جن الزوج ثبت للمرأة الخيار، ونقول لها: إن شئتِ بقيتِ وتحملتِ وصبرتِ والله يأجركِ على ذلك وأنتِ مثابة وهذا صنيع الصالحات، وإن شئتِ طالبتِ بالفسخ؛ لأن المرأة لا تحمل ما لا تطيق، والعكس بالنسبة للرجل، لو أن امرأته أصابها جنون، فإن أراد أن يصبر فكريم يؤجر وهو مثاب على ذلك والله سبحانه وتعالى سيعوض صبره ويعظم أجره ويحسن الذخر له، وإن قال: لا أستطيع أو لا أتحمل ذلك فمن حقه، فيفسخ النكاح. قال: (أو كان بالآخر عيب مثله) تزوج المرأة وبها مرض، مثلاً: قروح سيالة، ورضي بها، ثم لما وطئها تبين أن فيه عيباً مثلها، وأن فيه قروحاً انفجرت وسالت، فلما عرفت قالت له: ما أريدك، فقال: بكِ مثل ما بي، يعني: الحال واحد هنا وليس هناك فرق وما ظلمتكِ، فقال طائفة من العلماء: إن كان به من العيب مثلها فلا خيار؛ لأنه ليس فيه ظلم واضح؛ لأن هذا عيب بعيب، كما قالوا: بئر بغطاه، فهم يقولون: هذا العيب لقاء هذا العيب، فإذا قالت: هذا نقص لي، فهو بها، فليس فيه نقص، ولو قالت: ضرر بي، فهو استضر على ضررها والعكس، وقال بعض العلماء: بل إنه يثبت فيه الخيار لمن لم يتنازل عن حقه منهما. والأول أشبه بالمعنى والثاني أشبه بالنظر، ولذلك يقوى الثاني أكثر من الأول؛ لأنه لما علم بها وسكت عن عيبها سقط حقه، فيكون الحكم مستأنفاً بالنسبة لها، فكونه أعطي الحق أولاً ورضي لا يجعلنا نلزمها برضاه؛ لأن لكل واحد رضاً مستقلاً، فالعيب إذا طرأ عليه فإنه يثبت لها الخيار؛ لأنها إنما رضيت به كاملاً، فإذا تبين به العيب كان لها الخيار مستأنفاً، وهذا أفقه وأقوى أي: القول بأن له الخيار ولو كان بالثاني عيب كما قال المصنف: (ولو كان به مثله) فلو كان بالآخر مثله حق له الفسخ، وذلك لأن الأول قد رضي بإسقاط حقه ولكن الثاني لم يرض بإسقاط حقه، فمن حيث الفقه هذا القول أقوى وهو اختيار المصنف.

ما يسقط الفسخ بالعيب

ما يسقط الفسخ بالعيب قال رحمه الله: [ومن رضي بالعيب أو وجدت منه دلالته مع علمه فلا خيار له] بعد أن بين العيوب المؤثرة شرع في بيان ما يسقط الفسخ العيوب، (من رضي بالعيب) رضي به بعد أن علم أنه معيب فهذا: لا خيار له، أو وجدت منه دلالة الرضا، مثلاً: امرأة اطلعت على زوجها أنه معيب وبه عيب مؤثر فسكتت شهوراً، ثم بعد ذلك اختصمت معه فقالت: به عيب، فنقول: سكوتكِ هذه المدة دليل على الرضا، فتؤاخذ بهذا السكوت ويعتبر دليلاً؛ لأنها علمت ورضيت، وكونها تسكت هذه المدة ولا تتكلم إلا عند الغضب فهذا نوع من الانتقام؛ لأنها صارت تبحث عن أي عيب لتفسخ النكاح، فلابد أن يوجد عيب مؤثر، وأن يوجد من صريح قول صاحب الحق ما يدل على الفسخ، يعني: أنه لا يرضى بالعيب. فإن وجد العيب ووجد الرضا سقط الفسخ، فليس من حقه أن يفسخ، وإذا وجد منه ما يدل على الرضا فنقول: إن ما يدل على الرضا ينزل منزلة الرضا الصريح، فحينئذٍ إذا رضي ووجد منه ما يدل على الرضا فإننا نحكم به ويحكم بإسقاط الخيار له.

لا يتم الفسخ إلا بحاكم

لا يتم الفسخ إلا بحاكم قال رحمه الله: [ولا يتم فسخ أحدهما إلا بحاكم] ولا يتم الفسخ إلا بحاكم، ولا يرتفع العقد إلا عن طريق الحاكم، فترفع أمرها إلى القاضي ويرفع أمره إلى القاضي ويحكم القاضي بما يتفق مع أصول الشريعة.

حكم المهر في حال الفسخ بالعيب

حكم المهر في حال الفسخ بالعيب قال رحمه الله: [فإن كان قبل الدخول فلا مهر] مثلاً: رجل عقد على فاطمة وحدث العيب قبل الدخول فلا مهر؛ لأنه قبل الدخول؛ والمهر مركب على الاستمتاع، فإن حصل الفسخ قبل الدخول فإنهما يتفرقان ويغني الله كلاً من سعته، هذا بالنسبة للحكم الشرعي إذا وقع الفسخ، فينظر في العيب الذي هو موجب الفسخ ومتى يحكم بخيار الفسخ، وإذا ثبت أنه يحكم به فيرد Q إن حُكِم به قبل الدخول فهل يثبت المهر؟ وإن حُكِم به بعد الدخول وثبت المهر فما الحكم؟ فالمصنف رتب الأفكار بعضها على بعض فقال رحمه الله: (فإن كان قبل الدخول) أي: إن كان حكم القاضي بالفسخ واعتداده به قبل الدخول فلا مهر؛ لأن المهر مركب على الاستمتاع: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24] فترد المرأة المهر كاملاً للرجل. قال: [وبعده لها المسمى ويرجع به على الغار إن وجد] (وبعده) أي: بعد الدخول (لها) أي: للمرأة (المسمى) الذي هو المهر الذي سماه لها، فإذا جعل لها عشرين ألفاً فإنه يكون حقاً لها بما استحل من فرجها بعد أن يدخل بها، قال صلى الله عليه وسلم: (فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها) وقال لـ عويمر العجلاني رضي الله عنه لما سأله المهر بعد أن وقع اللعان بينه وبين زوجته: (إن كنت صادقاً فبما استحللت من فرجها) فجعل المهر لقاء الاستمتاع والاستحلال، لكن يبقى السؤال: هذا الرجل غرر به ودفع المهر على امرأة كاملة وتبين أنها ناقصة فهذا فيه ظلم للرجل؟ قالوا: المرأة تأخذ حقها وهو المهر كاملاً، لكن الرجل حقه ممن يأخذه؟ يأخذه ممن غره وممن غشه وخدعه حتى نكح المرأة وقال له: إنها ليست بمعيبة، فإن كان وليها يأخذه من وليها وحينئذٍ يضمنه له، فيقيم دعوى ثانية: أن فلاناً زوجه موليته المعيبة بعشرين ألفاً أو بثلاثين ألفاً، وفوت هذا المهر بغشه، فإذا ثبت عند القاضي هذا وحكم به فحينئذٍ يوجب له الرد بموجب ما ثبت من ظلمه له بالتغرير.

حكم تزويج القاصرة مع العلم بالعيب

حكم تزويج القاصرة مع العلم بالعيب قال رحمه الله: [والصغيرة والمجنونة والأمة لا تزوج واحدة منهن بمعيب] هنا انتهت أحكام العيب، لكن هنا مسألة وهي مسألة التزويج مع العلم بالعيب، فإذا كان عندنا امرأة صغيرة أو مجنونة أو أمة أراد وليها أن يزوجها من مجنون أو من معيب فليس من حقه ذلك، فقال رحمه الله: (والصغيرة والمجنونة والأمة لا تزوج واحدة منهن بمعيب) لا تزوج واحدة منهن بمعيب، وذلك لأن الصغيرة ينتظر إلى أن تبلغ وتنظر ما فيه مصلحتها، أما أن يؤتى بها وهي صغيرة ويزج بها إلى مجنون أو يزج بها إلى إنسان به عيب حتى ولو قالت: أرضاه، فمذهب طائفة من العلماء أنها ليست بكاملة العقل وليست بكاملة الإدراك فهي تخاطر بنفسها، فربما ندمت بعد بلوغها وربما تحدث أمراً لا تحمد عقباه، ونص المصنف على هؤلاء لأن الصغيرة والمجنونة والأمة تحت ملك غيرهم، فالصغيرة لوالدها أن يمنعها حتى ولو رضيت، والمجنونة كذلك لوليها، والأمة لسيدها.

تزويج الكبيرة مع العلم بالعيب

تزويج الكبيرة مع العلم بالعيب قال رحمه الله: [فإن رضيت الكبيرة مجبوباً أو عنيناً لم تمنع بل من مجنون ومجذوم وأبرص] قوله: [فإن رضيت الكبيرة مجبوباً] لأنه ليس النكاح فقط للجماع، كما ذكرنا أن من النساء من تنظر في النكاح إلى شيء غير الجماع، فإذا رضيت مجبوباً فإن لها ذلك، ويزوجها وليها مادام أنها رضيت به، كما لو تزوجت كبير سن لا يجامع فإن هذا يرجع إليها، فإنها قد تريد خدمته، وقد تريد الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى، وقد تريد رجلاً يحميها من الاعتداء عليها، فهناك مقاصد كثيرة، فليس النكاح فقط موقوفاً على الجماع، ومن عموم الشريعة أنها ليست مقصورة على جوانب معينة، فميزة الحكم الشرعي أنه تنزيل من حكيم عليم، والتشريع عندما يكون من عليم يحيط بالأمور كلها ما كان وما يكون وما لم يكن فإن حكمه سيكون لما كان ولما يكون ولما لم يكن، فيأتي الحكم شمولياً، بينما القوانين الوضعية إنما وضعت لأحوال، ثم إذا جدت أحوال صار هذا الحكم لا يصلح لهذه الحالة، فتحتاج أن تجدد شيئاً جديداً فتضطرب مع الأزمنة وتختلف مع الأزمنة والأمكنة، لكن الشريعة لا. ولما كان فقه العلماء مبنياً على فقه الكتاب والسنة صار عندهم شيء من الشمول في النظرة والشمول في الاستيعاب، ومثل ما ذكرنا أنه ما ينظر فقط إلا أن المرأة تريد نكاحاً وجماعاً وأن الرجل يريد فقط جماعاً ونكاحاً، فنقف عند العيوب فقط ونقول: إذا كان ليس هناك جماع فليس هناك مصلحة وعليه فليس هناك نكاح، لا. بل هناك مقاصد عظيمة وهناك مقاصد شرعية، وهناك مقاصد تتبع النكاح، فالمرأة قد تتزوج الرجل وهي في بيئة لا تجد أحداً يخطبها لكن تريد رجلاً يحميها من الذئاب، ويحميها ممن يعتدي عليها فتقول: أنا أرضى فلاناً وإن كان مجبوباً؛ لأنه شجاع. وقد تكون المرأة مثلاً بها عيب، فقد يكون الرجل مجبوباً وتكون هي رتقاء فترضى بهذا، فأياً ما كان ليس هناك إلزام للمرأة أنها لا تتزوج من كان معيباً، بل كل منهما يتزوج ولا بأس بذلك ولا حرج إذا حصل الرضا. قال: [أو عنيناً] إذا كان عنيناً وقالت: أرضى به، فإنها إذا كانت كبيرة عاقلة تنظر مصلحتها وهي أعلم بحالها، فلا يجوز لوليها أن يمنعها. قال: [بل من مجنونٍ] لخوف الضرر عليها؛ لأن المجنون يضرها. قال: [ومجذومٍ] لأن هذا سينقل إليها العدوى. قال: [وأبرص] لأن الحق لذريتها وأولادها، فإذا امتنع أولياؤها من تزويجها كان من حقهم، لكن لو أنها هي برصاء وجاء أبرص ينكحها وخاف وليها أنه ما أحد يتزوجها ورضيت فإنه لا بأس ولا حرج.

استدامة نكاح الكبيرة بعد العلم بالعيب

استدامة نكاح الكبيرة بعد العلم بالعيب قال رحمه الله: [ومتى علمت العيب أو حدث به لم يجبرها وليها على الفسخ] الفقهاء يذكرون الابتداء والاستدامة حتى تحفظ الصور فتقدم أنها لا تجبر ابتداء على النكاح من شخص معيب، فلو علمت بالعيب من زوجها بعد الدخول فما حكم الاستدامة؟ وهذا الفقهاء يضعونه في المتون رياضة للذهن حتى يصبح عند الفقيه والقاضي والمفتي والمعلم شيء من الشمولية في الفتوى والتعليم والقضاء فيتنبه لما يترتب على المسائل من أحكام وآثار، فهنا لو قال لك قائل: هي لا تجبر ابتداء، فلو أنها علمت بالعيب بعد دخول الرجل عليها فهل يجبرها وليها على الفسخ؟ ف A أن وليها يكون له حق المنع ابتداء، لكن لو أنه طرأ العيب بعد ذلك قال: لا يجبرها لو رضيت بالاستدامة، ولا تجبر على الفسخ، وليس من حق أحد أن يجبرها على الفسخ.

باب نكاح الكفار

شرح زاد المستقنع - باب نكاح الكفار للكفار الذين يعيشون بين ظهراني المسلمين أحكام فيما يتعلق بأحوالهم الدينية والدنيوية، ومن هذه الأحكام ما تكون مشابهة لما عند المسلمين، ومنها ما يستقلون عن أحكام شريعتنا في تناوله وتطبيقه، ونكاح الكفار هو من الأحكام المستقلة التي يقرهم عليها الإسلام ولا يتدخل فيها إلا إذا طرأ طارئ الإسلام على الزوجين أو أحدهما فعندها يكون التفصيل.

نكاح الكفار

نكاح الكفار يقول المصنف رحمه الله: [باب نكاح الكفار] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بنكاح الكفار، وهذا الباب من الأبواب المهمة المتعلقة بكتاب النكاح وهو الزواج من الكافرات، وحكم طريان الكفر على الزوج -والعياذ بالله إذا ارتد-، وحكم الكفار باختلاف أديانهم ومللهم، وقد اعتنى الفقهاء رحمهم الله بهذا النوع من الأبواب وذكروه في مسائل النكاح.

حكم نكاح الكفار

حكم نكاح الكفار قال المصنف رحمه الله: [حكمه كنكاح المسلمين] حكم نكاح الكفار كحكم نكاح المسلمين فهو يُقر ويثبت، لكن على تفصيل في هذه الأنكحة؛ فلو أن شخصاً كافراً جاء يريد حكم الشريعة في النكاح فإنه يلزم بنكاح المسلمين، ويكون نكاحهم كنكاح المسلمين، لكن من حيث التفصيل والأحكام هناك أحكام ومستثنيات ينبغي تفصيلها فقال رحمه الله: (حكمه كنكاح المسلمين) فنقرهم، وينبني على هذه القاعدة أننا نقرهم على أنكحتهم، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم ما تدخل في أنكحة الكفار ممن كان تحته من أهل الذمة ومن المعاهدين كبني قريظة ونحوهم وما قال لهم: انكحوا بهذه الطريقة وافعلوا هذه الطريقة، إنما تركهم على نكاحهم. فكل أهل ملة ودين يفعلون النكاح على ملتهم ودينهم، والكفار على قسمين: أهل الملل الذين لهم أديان سماوية كالكتابيين من اليهود والنصارى، فهؤلاء يفعلون الأنكحة على وفق دينهم ويُقرون على دينهم، أما بالنسبة للذي لا دين له كالحربي الوثني، أو المجوسي الذي ليس له دين سماوي على القول بأن المجوس ليسوا في حكم الكتابيين، وكذلك أيضاً الذي لا دين له كالشيوعي والملحد فما حكم نكاحه وهو ليس له دين؟ ف A أن نكاحه كنكاح المسلم، فلو أن من لا دين له كملحدٍ تزوج ملحدة، مع أنهم في بعض الأحيان ما عندهم ولي وشاهدان ومهر، بل يلقى الرجل المرأة -والعياذ بالله- في الطريق ويطؤها على أنه زوج لها ويتعارفون على هذا، وهم ما عندهم دين، فإننا نقرهم على هذا إذا أسلما الاثنان؛ لأن أهل الجاهلية في جاهليتهم كانوا لا دين لهم، فلما أسلموا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم صحابياً أن يجدد نكاحه، مع أنهم في الجاهلية كانوا يوقعون الأنكحة على غير السنن الشرعية، ولذلك قالوا: يفرق بين الابتداء والاستدامة، وأنكحة الكفار يختلف فيها الحكم الابتدائي والاستدامي الذي يستدام به العقد، وسيبين المصنف رحمه الله جمل المسائل وأحكامها كما سيأتي. فقال: (حكمه كنكاح المسلمين) من حيث الأصل، فإذا أسلم الكافران الزوج والزوجة ما نأتي نبحث عنه، وهذه فائدة حكمه كحكم نكاح المسلم، ولذلك أبقى النبي صلى الله عليه وسلم هذا النكاح. النكاح يعتبر من العقود التي أبقتها الشريعة على حالها من الجاهلية، وهذه العقود منها قسمة المواريث وقسم الحقوق، فإذا قسم الكفار حقوقهم في حال الكفر ثم أسلموا فإنه يبقى قسم الجاهلية على ما هو عليه لقوله عليه الصلاة والسلام: (ما كان من قسم الجاهلية فهو على ما هو عليه) ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وهل أبقى لنا عقيل من رباع) لأن عقيل بن أبي طالب بقي على الكفر إلى قرب الفتح فورث جميع بني هاشم الذين كانوا كفاراً، ولم يتوارث بنو هاشم الذين أسلموا فأصبح الإرث كله لـ عقيل، ثم لما أسلم عقيل ما قال له: تعال نقسم، فجعل هذه العقود: النكاح والقسم والمواريث تبقى على حكم الجاهلية، فإن أسلموا فإنه يستأنف الحكم فيما لم يمضِ ولم يتم، أما ما تم وبت فيه فيبقى على ما هو عليه، فلو أنه عاشرها لحظة على أنها زوجة له وعرفهم جارٍ بهذا -والعياذ بالله- ودخلوا في الإسلام مباشرة فهما زوجان، وهذا أصل عند العلماء، ويكاد أن يكون إجماعاً بين أهل العلم؛ لأن فيه نصوصاً واضحة من هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابة، فلم يسأل صحابياً أن يجدد نكاحه على زوجته.

متى يقر الكفار على النكاح الفاسد؟

متى يقر الكفار على النكاح الفاسد؟ قال رحمه الله: [ويقرون على فاسده إذا اعتقدوا صحته في شرعهم ولم يرتفعوا إلينا] قال: [ويقرون على فاسده] بشرطين: إذا اعتقدوا صحته في دينهم، مثلاً: يهودي تزوج يهودية بخمر أو خنزير، فديننا لا يصحح هذا؛ لأن الخمر والخنزير ليس بمهر، بينما الخمر والخنزير يعد مالاً في دينهم ومذهبهم، لكنه في حكم الإسلام لا، لكن نقرهم عليه ما دام أن دينهم يقرهم على ذلك، وبشرط: أن لا يترافعوا إلينا، فإن جاءونا حكمنا بحكم الإسلام، وهذا يقع في أهل الذمة عندما يكونون تحت حكم المسلمين، فإذا فتحت بلادهم فقالوا: ندفع الجزية ونبقى على ديننا، فدفع الجزية يبقيهم على دينهم، فإذا تناكحوا بطريقتهم وبدينهم، فليس للمسلمين أن يتدخلوا في ذلك؛ لأن هذا أصل عقد الجزية الذي أبرمه عمر بن الخطاب وأبو بكر رضي الله عنهم، فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مصالحتهم أبقاهم على ما هم عليه من دينهم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان مع يهود بني قريظة ويهود خيبر ويهود بني النضير كلهم على هذا الحكم، وهو أنه يتركهم على دينهم وعلى شرعهم، فأما إذا ترافعوا إلينا وجاءوا إلينا وسألونا أن نحكم بينهم فإننا نحكم بحكم الإسلام. فإذاً الشرط: أن يكون دينهم يقرهم على ذلك -إذا كان لهم دين سماوي- وأن لا يترافعوا إلينا، فإن ترافعوا إلينا أو فعلوا أمراً لا يقرهم عليه دينهم ألغي هذا العقد، فمثلاً: يهودي تزوج أخته وهو ذمي تحت المسلمين، وبلغ المسلمين ذلك فإنهم يلغون هذا النكاح؛ لأنه تحت حكمهم، ومثل هذا النكاح لا يقره دينه ولا يقره ديننا، فلا يبقون على مثل هذه الأنكحة كنكاح المحارم، لكن لو كان دينهم وشرعهم يقرهم على ذلك أقررناهم على ما أقرهم عليه دينهم بشرط ألا يترافعوا إلينا. فلو أن يهودياً ويهودية جاءا إلينا وقالا: نريد أن تعقدوا لنا عقد النكاح بدينكم {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة:42] فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بحكم الإسلام، وأنزل القرآن مهيمناً على الكتب السماوية من قبل، فحينئذٍ يحكم ويبت بينهم، ولذلك رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين الزانيين المحصنين بحكم الإسلام، وإن كانت التوراة كذلك فيها الرجم كما وضع أحدهم يده على آية الرجم لكن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بينهم لقوله: (فدعا بالشهود) فأجرى القضية على أنها قضية قضائية إسلامية، فإذا ترافعوا إلينا حكمنا بينهم بشرعنا. قال: [فإن أتونا قبل عقده عقدناه على حكمنا] وإن أتونا بعد عقده أبقيناه على حكمهم. قال: [وإن أتونا بعده أو أسلم الزوجان والمرأة تباح إذاً أقرا] قوله: (أو أسلم الزوجان والمرأة تباح إذاً) يعني: أسلم اليهودي واليهودية فصارا مسلمين والمرأة مباحة صح، لكن لو أنه تزوج أم زوجته فليست تباح إذاً، فإذاً الشرط: أن يسلما والمرأة مباحة، يعني: ممن يحل نكاحها، فإذا تزوج أجنبية منه وبعد ذلك أسلم الزوج والزوجة أبقيناهما على عقدهما في حال الكفر، لكن لو كانت المرأة لا يقر نكاح جنسها فحينئذٍ يفسخ النكاح، كأن يكون قد تزوج أم زوجته أو ربيبته فإنه لا يحكم بصحته؛ لأن الشريعة لا تقر هذا، (والمرأة تباح إذاً أقرا) أي: تباح بحكم الشرع فإنه حينئذٍ يُقر.

متى يفرق بين الكفار في النكاح الفاسد؟

متى يفرق بين الكفار في النكاح الفاسد؟ قال رحمه الله: [وإن كانت ممن لا يجوز ابتداء نكاحها فرق بينهما] مثلما ذكرنا كأم زوجته وربيبته. أو أسلم كافر مثلاً وعنده ست نسوة فلا يباح له الست إنما يباح منهن أربع، كما قال عليه الصلاة والسلام لـ غيلان رضي الله عنه وأرضاه: (انكح أربعاً وفارق سائرهن) يعني: سائر من سوى الأربع، وهذا الحديث يدل على أنه لابد أن يستأنف الحكم إذا كان هناك ما يعارض الشرع، كما لو أسلم بنكاح فيه نظر للشرع من جهة المرأة التي تحل، أما من جهة الصداق وكيفية العقد فهذا لا يتدخل فيه الشرع، فلو أنه أسلم وعنده ست نسوة أو ثمان نسوة فنقول: انكح أربعاً وفارق الباقي. قال: [وإن وطئ حربي حربية فأسلما وقد اعتقداه نكاحاً أقرا وإلا فسخ] الحربي: هو الكافر الذي بينه وبين المسلمين حرب، وطبعاً إذا كان من الوثنيين الذين لا دين لهم فأسلم وعنده زوجة تزوجها مثلما يقع من الكفار، يعاشر المرأة ويتفقان فيما بينهما على أنهما زوجان بدون عقد ولا صفات معينة معتبرة، فإنهما إذا أسلما يقران على حالهما بشرط أن تكون المرأة من جنس ما أذن الشرع بنكاحها. قال: [وإلا فسخ] (وإلا فسخ) لو أنه عاشرها كعشيقة -والعياذ بالله- أو كما يسمونها صديقة قال تعالى: {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء:25] والخدن الصديق، فكانوا في الجاهلية المرأة يكون لها زوج ويكون لها صديق، فالصديق يستمتع بالقبلة أو نحو ذلك مما دون الفرج، والزوج يستمتع بالفرج، فحرم الله هذا، فلو أنه عاشرها كصديقة ثم أسلما فلم يسلما كزوجين وإنما أسلما كعشيقين، وهذا ليس من جنس ما يحكم فيه بالنكاح، فإذاً لابد أن يعتقداه نكاحاً، وهذا هو الذي جعل المصنف يقول: (وقد اعتقداه نكاحاً) فلابد أن يكون في اعتقادهما أنه نكاح، فحينئذٍ نصححه ونبقيه نكاحاً.

حكم المهر المقبوض والمؤجل

حكم المهر المقبوض والمؤجل قال رحمه الله: [ومتى كان المهر صحيحاً أخذته] إذا تزوجها في الجاهلية وأخذت مهرها ما عندنا إشكال، ولا نحتاج أن نبحث فيما مضى، لكن المشكلة إذا تزوجها وأخر مهرها، فالزواج سنبقيه صحيحاً على ما هو عليه لكن يبقى النظر في المهر حيث إنه لم يقبض، فيستأنف فيه حكم الإسلام، بخلاف لو أنه تزوجها في الجاهلية وأعطاها مهراً لا يصح مثل الخمر والخنزير والأصنام ونحو ذلك من المحرمات وقبلته فإنه يصح، لكن لو أنه أخر المهر فكان المهر خمراً ثم بقيت هذه المرأة في عصمته ودخلا في الإسلام، فحينئذٍ يرد Q هل الحكم مبتدأ أو مستدام؟ الحكم مستأنف ومبتدأ، فننظر في هذا المهر فإن كان شرعياً ألزمناه به؛ لأن الشرع يلزم به، وإن كان غير شرعي فإنه لا يحكم به ويكون لها مهر المثل. قال: [وإن كان فاسداً وقبضته استقر] تأخذه كما ذكرنا؛ لأن المهر يملك بالقبض. قال: [وإن لم تقبضه ولم يسم فرض لها مهر المثل] حينئذٍ يكون لها مهر مثلها.

حكم النكاح إذا أسلم أحد الزوجين

حكم النكاح إذا أسلم أحد الزوجين قال رحمه الله تعالى: [فصل: وإن أسلم الزوجان معاً أو زوج كتابية فعلى نكاحهما] عرفنا الأنكحة التي تبقى والأنكحة التي لا تبقى، والسؤال الآن: مسألة تجديد النكاح إذا أسلم الزوجان، وإذا أسلم أحدهما دون الآخر، فقال رحمه الله: (إذا أسلم الزوجان) إذا أسلما معاً فنبقي النكاح على ما هو عليه، وهذا بالإجماع وليس عندنا فيه إشكال، لكن إذا أسلم أحدهما دون الآخر فإما أن يكون زوجاً وإما أن يكون زوجة، فإن أسلم الزوج قبل الزوجة وكانت الزوجة وثنية فلا إشكال؛ لأن المسلم لا ينكح الوثنية ولا يستدام نكاحه لها إذا بقيت هي على الكفر. لكن إذا كانت كتابية فيجوز نكاح المسلم للكتابية، ففرق المصنف في إسلام الزوج بين أن تكون زوجته كتابية أو تكون غير كتابية وهذا مرده إلى النص الشرعي، ومن هنا تلاحظ أن المتون الفقهية تتركب من الأحكام المنصوص عليها، فهي تأتي بصورة الأمثلة لكنها تحكي الأحكام الشرعية، فهو يقول: (إذا أسلم الزوجان) لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهما في حال كفرهما فمن باب أولى أن يقرا بعد إسلامهما ما عندنا إشكال، لكن لو أسلم أحدهما ففيه تفصيل: إن كان الزوج هو الذي أسلم فحينئذٍ ننظر في زوجته، فإن كانت من جنس ما تحل زوجة للمسلم -وحينئذٍ تكون كتابية؛ لأن غير الكتابية وهي الوثنية ما يحل نكاحها {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221] أما الكتابية فيجوز- فإنه يبقى على نكاحه ولا يفسخ النكاح، فهنا لو سئُلت: متى يبقى نكاح الكافر على ما هو عليه؟ فتقول: إذا أسلما أو أسلم زوج كتابية، فإن أسلم زوج وثنية فإنه في هذه الحالة ينفسخ النكاح؛ لأنه لا نكاح بينهما على التفصيل الذي نذكره من الاستبقاء والإمهال للعدة. قال: [فإن أسلمت هي أو أحد الزوجين] انتهى المصنف الآن من الرجل، وعرفنا أنهما إذا أسلما أقرا، وإن أسلم الرجل فصل فيه، فإن كانت زوجته وثنية فلا إشكال وإن كانت كتابية بقي الحكم وأقرا، فإن أسلمت هي فحينئذٍ يرد الإشكال؛ لأنه لا يحل للكافر أن ينكح المسلمة سواءً كان كتابياً أو غير كتابي: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] فالكافر ليس له على المسلمة سبيل، فإسلام المرأة غير إسلام الرجل. قال: [فإن أسلمت هي أو أحد الزوجين غير الكتابيين قبل الدخول بطل] فإذا أسلمت المرأة فالنكاح منفسخ، لكن ينبغي أن ننتبه لقضية وهي: أن المرأة المدخول بها إذا فسخنا نكاحها فهناك مهلة وهي العدة، فاختلف حكم النساء إذا أسلمن بين أن يكون قبل الدخول أو يكون بعد الدخول؛ لأن الفسخ قبل الدخول لا عدة فيه، والفسخ بعد الدخول فيه عدة، وإذا كان الفسخ بعد الدخول فيه عدة فالعدة مهلة، يعني: نعطيه مهلة أن يسلم إلى أن تخرج من عدتها، فإن أسلم قبل خروجها من العدة عادت إليه، وإن أسلم بعد خروجها من العدة لم تعد إليه، هذا إذا كان بعد الدخول، أما لو كان قبل الدخول فإنه ينفسخ النكاح مباشرة لأن فسخه يتم بدون عدة.

حكم المهر في حال الفسخ

حكم المهر في حال الفسخ قال رحمه الله: [فإن سبقته فلا مهر وإن سبقها فلها نصفه] عرفنا إذا وقع إسلامها قبل الدخول وبعد الدخول، وأنه قبل الدخول يوجب الفسخ وبعد الدخول يوجب الفسخ، لكن تبقى له مهلة إلى نهاية مدة العدة أن يرجع إليها، فإن أسلم رجع إليها مثلما وقع لـ صفوان رضي الله عنه وأرضاه في قصته المشهورة، فـ صفوان بقي بعد فتح مكة على الكفر، وشهد حنيناً وهو على الكفر ثم أسلم رضي الله عنه فرد النبي صلى الله عليه وسلم له زوجته، وهذا باستمهال العدة، وهو حديث مشهور كما قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: شهرته أغنت عن إسناده، وحسنه طائفة من العلماء. الشاهد: أن المرأة إذا كانت مدخولاً بها أعطي زوجها الكافر مهلة إلى نهاية مدة العدة، لكن يبقى النظر في المهر، فإن كان الذي أسلم الزوج فله حكم، وإن كان الذي أسلم الزوجة فله حكم؛ لأنه إذا أسلم الزوج كان الطلاق والفسخ من ناحيته، وإن أسلمت المرأة كان الطلاق والفسخ من ناحيتها وهي التي تسببت فيه، فقال رحمه الله: (فإن سبقته فلا مهر) (فإن سبقته) في حال تطليقها قبل الدخول (فلا مهر) ليس لها مهر؛ لأن هذا حكم الشرع، أنه إذا فسخ النكاح قبل الدخول فلا مهر. (وإن سبقها فلها نصفه) وإن سبقها للإسلام ثم أسلمت فحينئذٍ لها نصف المهر إذا كان قد فرض لها فريضة؛ لأنه طلاق قبل الدخول، مثل الحكم في الإسلام.

التفريق بين الزوجين بعد إسلام أحدهما

التفريق بين الزوجين بعد إسلام أحدهما قال رحمه الله: [وإن أسلم أحدهما بعد الدخول وقف الأمر على انقضاء العدة] يعني: نحكم بالفسخ، لكن ما يثبت الفسخ ويفرق بينهما إلا إذا مضت العدة ولم يسلم الآخر. قال: [فإن أسلم الآخر فيها دام النكاح وإلا بان فسخه منذ أسلم الأول] إذا لم يسلم الآخر قبل انتهاء العدة حكمنا بفسخه منذ إسلام الأول، يعني: من حين الإسلام تبين لنا الفسخ. قال: [وإن كفرا أو أحدهما بعد الدخول وقف الأمر على انقضاء العدة وقبله بطل] هذه الردة -والعياذ بالله- (إن كفرا أو أحدهما بعد الدخول وقف الأمر على انقضاء العدة) يفرق بينهما، ثم يعطى مهلة إلى انقضاء العدة، فإن تاب ورجع قبل انتهاء العدة فلا إشكال، وإن كان بعد انقضاء العدة فرق بينهما.

باب الصداق [1]

شرح زاد المستقنع - باب الصداق [1] من الأمور المشروعة في النكاح فرض الصداق، وهو حق للمرأة يدلها على صدق الرجل في نكاحها، ويسن عدم المغالاة فيه، فإن كان الصداق مما لا يصح وجب لها مهر مثلها، وهكذا إذا لم تأذن لغير أبيها، وقد يعجل الصداق أو يؤجل بحسب ما يتفقون عليه، لكنه يدخل في ضمان المرأة وملكها من حين العقد.

أحكام الصداق

أحكام الصداق قال رحمه الله تعالى: [باب الصداق] الصداق: قيل: هو المهر، وسمي بذلك؛ لأن الرجل يظهر به صدق الرغبة في المرأة، ويسمى: الصداق والمهر والفريضة والحباء والمتعة، وهذه كلها من أسماء الصداق، وهذا الباب من الأبواب المهمة المتعلقة بالنكاح؛ لأن الله سبحانه وتعالى فرض على الأزواج أن يعطوا الزوجات حقوقهن في المهر، والعلماء من المحدثين والفقهاء رحمهم الله يعتنون بهذا الباب، ويذكرون النصوص الشرعية وما اشتملت عليه من الأحكام في بابه: باب الصداق والمهر. يقول رحمه الله: (باب الصداق) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بمهور النساء وصداقهن، والأصل في مشروعيته قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4]، وثبتت السنة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول والفعل، فقال عليه الصلاة والسلام: (فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها) وكذلك أصدق عليه الصلاة والسلام نساءه، وجعل عتق صفية صداقاً لها ومهراً، وكذلك سأل عبد الرحمن بن عوف (ما أصدقتها؟ قال: وزن نواة من ذهب) كل هذا ثابت، السنة القولية كقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها) والفعلية: أنه أعتق صفية، والتقريرية: في حديث عبد الرحمن بن عوف، فهذه ثلاثة أنواع من السنة: القولية، والفعلية، والتقريرية، وأجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية الصداق وأنه مما يشرع في النكاح.

مشروعية تخفيف الصداق

مشروعية تخفيف الصداق [يسن تخفيفه] يسن تخفيف الصداق وعدم المغالاة فيه؛ لما فيها من الأضرار والمفاسد العظيمة؛ فالمغالاة في المهور تؤخر الزواج وتعطله، وتكثر من العوانس بين الناس الأمر الذي يفضي للفتنة والشر المستطير، فالسنة تخفيفه تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك خفف في مهور نسائه، فدل هذا على أن المهر ليس بمحل للمزايدة والمغالاة، وأجمع العلماء رحمهم الله على كراهية المغالاة في المهور، ونص بعض العلماء على أنه يوجب الإثم إذا وصل إلى حد الإضرار بحيث يقول: لا أزوج ابنتي إلا بمائة ألف، وهو يعلم أن هذه المائة ألف قد تكون سبباً في عدم زواج ابنته، ولربما عنست وكبرت ولم تتزوج فإنه يبوء بإثمها والعياذ بالله. فالمغالاة في المهور مجمع على كراهتها، وقال المصنف: [يسن تخفيفه] لأن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم هو التخفيف؛ ولأن الحكمة تقتضي هذا، فإن الرجل إذا دفع مهراً كثيراً في المرأة، فإن هذا سيضر بالمرأة أثناء عشرتها، فهو يظن كأنه اشتراها، فإذا رأى منها أقل خطأ، عظم هذا الخطأ، ورأى أنه كبيرة لا تغتفر، وحينئذٍ تحدث المشاكل، وينتقم منها ويضر بها، وربما أجحف بها حتى تخالعه وترد له المال الذي دفعه، إضافة إلى أنه إذا غالى الناس في المهور، فإنه سيتحمل الزوج أعباء هذه المهور المبالغ فيها، فلربما وقع في وطأة الدين، فيدخل إلى بيت الزوجية مهموماً مغموماً، فتنعكس الآثار على نفسيته وعلى زوجته حتى لربما عاش عيشة منغصة مليئة بالمشاكل والأضرار بسبب المغالاة في المهور. فلا خير في المغالاة في المهور، والسنة التخفيف تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا جاء حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (خير النساء -وفي رواية: أبرك النساء- أيسرهن مئونة) فالتيسير في مئونة النكاح والتخفيف هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والسلف الصالح والتابعين لهم بإحسان رحمة الله على الجميع.

تسمية المهر في العقد ومقداره

تسمية المهر في العقد ومقداره [وتسميته في العقد] ويسمى المهر في العقد فيقول مثلاً: زوجتك موليتي فلانة بعشرة آلاف فيسمى ويذكر؛ لأن هذا أولى وأحرى في قطع النزاع وقطع الخصومة، وكذلك يرجع إليه عند الاختلاف، ولربما مات الزوج وماتت الزوجة ومات الولي والشهود، والزوج والزوجة والولي ممن يعلم بقدر المهر، فيضيع حق المرأة، فالتسمية تدفع كثيراً من المشاكل التي تقع في المستقبل، ولذلك قال العلماء: شرع الله الكتابة للديون والحقوق؛ لأجل أن لا يظلم الناس بعضهم بعضاً، ولأجل أن تصل الحقوق إلى أصحابها. [من أربعمائة درهم إلى خمسمائة] لأن هذا الحد -من أربعمائة درهم إلى خمسمائة- هو الحد الذي جاء في رواية السير في صداق أم حبيبة بنت أبي سفيان حينما أصدقها النجاشي لزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر مطلق، أي: الأمر في هذا واسع لا يقيد بقيد معين ولا يحدد بحد، ويختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، والضابط فيه أن يكون فيه يسر لا عسر، واليسر والعسر يختلفان، فمثلاً: قبل أربعين سنة ربما لو تزوج بريالين أو ثلاثة ريالات لكانت شيئاً كثيراً، والآن لو تزوج بثلاثة آلاف أو أربعة آلاف لكان شيئاً يسيراً، فهذا أمر يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة. والذهب والفضة هما من الأثمان التي جعلها الله سبحانه وتعالى قيماً تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فيصعب وضع حد معين، ولذلك ليس لليسر في المهر حد لا في الكثرة ولا في القلة وإنما يرجع فيه إلى العرف.

ما يصح مهرا وما لا يصح

ما يصح مهراً وما لا يصح قال رحمه الله: [وكل ما صح ثمناً أو أجرة صح مهراً وإن قل] قوله: (وكل ما صح ثمناً) أي: في البيع مثل الذهب والفضة، فلو قال لها: أصدقتكِ ألف ريال من فضة أو قال: أصدقتكِ مائة جنيه من ذهب، أو أي شيء يمكن أن يكون ثمناً وقيمة للأشياء، حتى ولو كان من المثمونات مثل أن يقول: صداقي لكِ هذه السيارة، صداقي لكِ مزرعتي هذه، ولو حتى ثوبه إذا كان عنده غيره مما يستره، فيقول: هذا الثوب صداق لكِ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال ذاك الرجل: (ليس معي إلا إزاري) لم يعتب عليه الإزار، وإنما عتب عليه أنه لا يجد غيره وأنه عرضة للانكشاف. فالمقصود: أنه يجوز أن يكون الصداق كل ما يجوز ثمناً، ومعنى هذا أن ما لا يجوز أن يكون ثمناً وعوضاً في البيع لا يجوز أن يكون عوضاً في النكاح ولا مهراً، فلا يجوز أن يجعل مهرها كلباً ولا خنزيراً ولا خمراً ولا شيئاً مما يحرم بيعه. قوله رحمه الله: (أو أجرة) كما في قصة موسى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص:27] فجعل الإجارة لقاء النكاح مهراً وعوضاً، قالوا: وفي هذه الحالة تكون أُجرة الإجارة قائمة مقام المهر نفسه، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه. [وإن أصدقها تعليم قرآن لم يصح بل فقه وأدب وشعر مباح معلوم] هذا على القول بعدم جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وهذا -كما ذكرنا- أنه مذهب الحنابلة والحنفية رحمة الله عليهم، وسنفصل هذه المسألة إن شاء الله في كتاب الإجارة من شرح الزاد. أما من حيث تعليم القرآن فعلى القول بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن يجوز أن يكون صداقاً، والدليل على ذلك حديث الواهبة نفسها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم سورة كذا وكذا، قال: أنكحتك هذه بما معك من القرآن) قالوا: فدل هذا على جواز جعل تعليم القرآن صداقاً كما يقول المالكية والشافعية رحمة الله عليهم والظاهرية وطائفة من أهل الحديث، من أنه يجوز أن يجعل تعليم القرآن صداقاً للمرأة، وإذا جعل تعليم القرآن صداقاً، فلابد أن يحدد السور التي تكون مهراً، ويحدد كذلك الطريقة التي يمكن أن ينضبط بها التعليم؛ لأن الإجارة على الشيء تستلزم أن تكون إجارة شرعية ولا تكون بمجهول، فلابد أن يحدد ويبين الشيء الذي يعلم وقدره ومدة التعليم حتى تخرج الإجارة عن الإجارة بالمجهول المحرمة، وقال الحنابلة معتذرين عن هذا الحديث: بأن قضايا الأعيان لا تصلح دليلاً للعموم، فرأوا أن حديث الواهبة خاص ولا يصلح دليلاً للعموم. [بل فقه] فإذا علمها الفقه حدد الأبواب، فإذا علمها مثلاً جزءاً من كتاب الطهارة حدده، فإذا قال: أعلمها شيئاً من كتاب الطهارة، لم يصح حتى يبين قدره، فيقول مثلاً: أعلمها باب الوضوء، أعلمها باب الحيض، أعلمها باب الغسل، أعلمها باب الوضوء ومسح الخفين، أعلمها باب التيمم، فيحدد الأبواب التي سيعلمها، فلابد أن تكون الإجارة على شيء معلوم لا على شيء مجهول. [وأدب] كان الناس يتعلمون الأدب، وفي الأدب عدة فوائد: أولاً: الأدب الإسلامي أدب رفيع ويشتمل على مغازٍ ومقاصد عظيمة، فهو يشتمل على جملة من الشعر والنثر الذي تكون فيه مكارم الأخلاق ويتحدث عن محاسن العادات وكرائم الخلال وحميد الخصال، كل ذلك يعتبر من الأدب، فكانوا يحفظونهم الأشعار التي فيها الشجاعة وفيها الكرم وفيها الحمية والغيرة وفيها النخوة وفيها المعاني السامية، هذا هو الأدب، وما سمي أدباً إلا لاشتماله على تأديب النفوس، وليس كل شيء يقال له: أدب، وإنما الأدب ما حمل النفوس على مكارم الأخلاق، أما المجون الساقط والدعوة إلى العنف والفساد، فهذا شر ورذيلة وليس هو بالأدب. فالغاية من الأدب أن يحمل على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وله باب مستقل عند المتقدمين والعلماء الأوائل، وفيه كتب مشهورة تعتني بذكر القصص، وهناك كتب في الأدب مثل: عيون الأخبار لـ ابن قتيبة، فهذا الكتاب النفيس فيه جملة من الأدب، يتحدث مثلاً: عن الأدب مع الخاصة، إذا جالست العظماء والكبراء فكيف تجالسهم؟ وكيف تحادثهم؟ وكيف تخاطبهم؟ وما هي صفاتهم؟ وكيف تأمن شرهم وتطلب خيرهم؟ وكيف تعاملهم في حالة غضبهم وفي حالة رضاهم؟ كذلك أيضاً أدب الإخوان، فهناك كتاب خاص يسمى: كتاب الإخوان، في الأدب، كيف تعاشر الناس؟ من هو الصديق الذي تختاره؟ وما هي صفاته التي ينبغي أن تتوفر فيه؟ وكيف تعامله إذا أساء؟ وكيف تعامله إذا أحسن؟. كل هذا يأتيك عن طريق القصص، فيكون إيحاءً غير مباشر، فهو: يأتيك بقصص، وعندما تقرأ القصة تلو القصة تتأثر، مثلما أن القرآن ذكر الحكم والفضائل في القصص: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120]، فالقصص تثبت في النفوس المعاني، فإن كانت ساقطة أسقطت النفوس وإن كانت كاملة رفيعة حملت النفوس على مكارم الأخلاق، وسمت بها من حضيض الرذيلة إلى عُلا الفضيلة، وجعلت الإنسان يحدث نفسه أن يكون مثل فلان أو يكون له مثل ما لفلان، فالنفوس الطيبة حين تقرأ الشيء وتحبه تتأثر به، وتحب أن يكون لها مثل ما له، فهذا هو الأدب. فالأدب جملة من المنثورات والأشعار تدور حول مغازٍ، وفيها ما هو كتاب يتعلق بالعشرة حتى العشرة الخاصة عشرة النساء، فتقرأ في الأدب صفات المرأة محاسنها ومساوئها، وكيف كانوا يتعاملون مع المرأة السيئة؟ وكيف كانوا يتعاملون مع المرأة الطيبة؟ تجد فيها كل شيء مما يتصل بك مع الناس، وأيضاً فيها كتاب خاص لمعاملة الناس في حال الغضب وفي حال الإساءة، حال الإساءة باللسان، وحال الإساءة بالسنان، فهذا هو الأدب. الأدب الإسلامي كان يشتمل على جملة من الكتب والأبواب، فهناك مثلاً كتاب السؤدد، فيقول الرجل عند عقد النكاح: أعلمها -مثلاً- كتاب السؤدد، وهذا الكتاب يدور حول المعاني التي تسموا بالإنسان إلى السؤدد والشرف، ويمكن أن يعلمها كتاباً معيناً من كتب الأدب، حتى لو يرويها الشعر كأن يرويها المعلقات، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر بتعليم الشعر الجاهلي حتى يُعْلَم الكتاب، وكان يمدح قصيدة زهير بن أبي سلمى ولما سُئل عن أشعر العرب وأحكم العرب قال: الذي يقول: ومن ومن، يعني: معلقة زهير بن أبي سلمى؛ لأنها اشتملت على الحكم. ومن محاسن العلماء الأولين من الأدباء أنهم لما أرادوا نفع المتأخرين صنفوا هذه الكتب، فاختاروا أحسن ما يقال، ولذلك ليس الأدب كما ذكرنا لكل ما هب ودب، ولما سُئل بعض الحكماء العقلاء العلماء: من هو الأديب؟ قال رحمه الله كلمة بديعة جميلة قال: (الأديب هو الذي يقرأ أحسن ما يوجد)، فلا يقرأ كل شيء بل يقرأ أحسن ما يوجد (ويكتب أحسن ما يقرأ)، فلا يكتب كل ما هب ودب وإنما يختار، ويسمونها المختارات، ولذلك تجد مختارات فلان يعني: اختار عيون الشعر وعيون الحكم، فيقرأ أحسن ما يجد ويكتب أحسن ما يقرأ (ويحفظ أحسن ما يكتب)، فالذي يحفظه ويدخله إلى ذاكرته هو أفضل وأحسن ما يكتب من الحكم والمنثورات أو الأشعار التي ينبغي أن يعتنى بمثلها، ثم قال رحمه الله: (ويحدث بأحسن ما يحفظ)، أي أنه عندما يحدث الناس يحدثهم بأحسن محفوظاته؛ فهذا هو الأديب الرفيع المستوى الذي هو في أعلى مكان، وهذا هو الأدب الحقيقي، أما الأدب الأجوف الذي هو دعوى بدون حقيقة؛ فلا يمكن أن يكون الأدب أدباً إلا إذا كان رفيع المستوى، بأن يقرأ أحسن ما يوجد؛ لأن فكره ووقته وانشغال هذه الطاقة الفكرية لا يكون إلا لشيء يستحق أن ينشغل به، ثانياً: أن يكتب من هذا الذي قرأه أحسنه، كأنه في جنة وبستان فينتقي أطايبها، فإذا انتقى أطايب ما يقرأ كتبه، وإذا كتبه نظر فيه فأحسن الاختيار لحفظه، فحفظ أحسن ما كتب، ثم إذا جالس الناس وحدثهم انتقى لهم أحسن ما يحفظ، فهناك كلام يقال في الخاصة، وهناك كلام يقال في العامة. فعلم الأدب علم مستقل، وإذا قيل: يعلمها الأدب، فليس المراد المحرم، فينتبه لهذا، وهذا الذي دعانا أن نتطرق لهذه القضية؛ لأنها حاصلة معنا، فلو أنه قصد من تعليمها الأدب: المجون والحرام؛ فهذا عقد على حرام مثل: أشعار الغزل التي فيها حرمة، أما أشعار الغزل التي لا تقصد للإغراء بالفاحشة، وإنما تقصد لمعانٍ أخر مما جرت به عادة أهل الجاهلية، فهذا شيء أقره النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال كعب: بانت سعاد، الأبيات المشهورة، فالمقصود من هذا: علوم الأدب التي لا تضر بالدين ولا تسيء إلى الدين، ولا تحمل على مساوئ الأخلاق. وكتب الأدب كثيرة، وفيها كتب نفيسة؛ مثل عيون الأخبار لـ ابن قتيبة، وهناك أيضاً كتاب الحصري أدب الكاتب، وكتب الأدب منها ما هو متقدم ومنها ما يكون متأخراً، فمما يعتني بالنقل عن المتقدمين مثل: كتاب عيون الأخبار، وهناك كتاب مثل: العقد الفريد، لكن فيه تشيع، وفيه نقول جيدة، وفيه كلام نفيس لكن صاحبه فيه تشيع. وأما الأدب بالنسبة لعصور بني العباس فما بعدهم فهو الذي يسمونه: الأدب الرفيع، الذي يحكي قصص الخاصة وما ينبغي أن يكون عليه الإنسان في معاملة الناس الخاصين، فهذا من أنفس ما كتب فيه: مشوار المحاضرة للتنوخي، وأما كتب الأدب الموسعة فنهاية الأرب وصبح الأعشى للقلقشندي ونحوها من الكتب المطولة، فهذه يمكن لطلاب العلم أن يستفيدوا منها ويأخذوا منها ما صفا ويدعوا ما كدر، وإلا فهي كثيرة سواء للمتقدمين أو للمتأخرين، لكن يمكن أن يستفيد طالب العلم منها مثل: أن يقرأ المعلقات وما كتب من أشعار في دواوين خاصة، مثل: ديوان الحماسة لـ أبي تمام، ومختارات الحماسة، والفروسية، والشجاعة التي تعتني بذكر الأشعار في الشجاعة والكرم والتضحية والجود والسخاء ونحوها من المعاني الطيبة، وهناك كتب نفيسة كثيرة في الأدب، وأياً ما كان فهو علم يقصد منه تهذيب النفوس وتعويدها على

استحقاق المرأة لمهر مثلها إذا بطل ما سماه لها مهرا

استحقاق المرأة لمهر مثلها إذا بطل ما سماه لها مهراً [وإن أصدقها طلاق ضرتها لم يصح ولها مهر مثلها] قوله: (وإن أصدقها طلاق ضرتها) هذا لا يجوز؛ لأنه محرم، فإذا قال لها: أتزوجك على أن أطلق فلانة، فقالت: إذا طلقت فلانة فهو مهري، فهذا لا شك أنه ضرر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا ضرر ولا ضرار). قوله: (لم يصح ولها مهر مثلها) أي: لم يصح المسمى لأن يكون مهراً، ويبقي زوجته ثم يعطيها مهر مثلها إن دخل بها. [ومتى بطل المسمى وجب مهر المثل] قوله: (ومتى بطل المسمى) يعني: كان باطلاً لا يقره الشرع والنكاح صحيح (وجب مهر المثل) لأن مهر المثل لا وكس ولا شطط، ولذلك قضى به ابن مسعود رضي الله عنه في قصته بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة المفوضة التي توفي عنها زوجها قال: (أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان، لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط وعليها العدة -يعني عليها الحداد- فقال رجل: والله لقد قضيت فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا، فقال: الحمد لله)، فحمد الله أن وافق قضاؤه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حكم التردد في قيمة الصداق

حكم التردد في قيمة الصداق قال رحمه الله تعالى: [فصل: وإن أصدقها ألفاً إن كان أبوها حياً وألفين إن كان ميتاً وجب مهر المثل] إذا قال: إن كان أبوها حياً فلها ألف وإن كان ميتاً فلها ألفان أو العكس فهذا صداق مجهول؛ لأنه يغرر بها، فقد تطمع به؛ لأنها تظن أن لها الألفين على أن أباها ميت فيتبين أنه حي، ففي هذه الحالة لا يصح؛ لأنه غرر، وقد ذكرنا هذا في البيوع: التغرير بالقيمة المترددة، وذكرنا أنه من الغرر المنهي عنه شرعاً. [وعلى إن كانت لي زوجة بألفين أو لم تكن بألفٍ يصح بالمسمى] إن كان لي زوجة فألفان؛ لأن الضرر أعظم، وإن كان لا زوجة لي فألف؛ لأن الضرر أخف، فخففوا في هذا فقالوا: إن هذا ليس بالمتردد وإنما هو لخوف الضرر، فالضرر مصحوب بالحقيقة؛ فإن كان له زوجة دفعت ضررها بالألف الثانية، وإن كان ليس له زوجة ففي هذه الحالة تبقى على الأصل الذي هو الألف، وليس في هذا تردد يوجب الغرر والإضرار، بخلاف ما إذا قال لها: إذا كان حياً أو ميتاً، فهذا ليس بمرتبط بمصلحة أو درء مفسدة، ففرق بين المسألتين من هذا الوجه.

تأجيل الصداق

تأجيل الصداق [وإذا أُجل الصداق كله أو بعضه صح] يؤجلانه ولا يدخل بها حتى يعجل لها بعضاً من الصداق. [فإن عين أجلاً وإلا فمحله الفرقة] إن عين أجلاً، قال لها: أصدقكِ عشرة آلاف إلى نهاية هذه السنة، أعطيكِ إياها نهاية السنة، فهذا مؤجل، فإذا قال لها: صداقكِ عشرة آلاف فأجله إلى الفرقة، ويلزم بدفعه عند الفرقة، ويبقى ذلك موسعاً فيه إلى أن يفارقها. [وإن أصدقها مالاً مغصوباً أو خنزيراً ونحوه وجب مهر المثل] (وإن أصدقها مالاً مغصوباً) لأنه لا يملكه (أو خنزيراً) لأنه محرم أو خمراً فإنه محرم (وجب مهر المثل) يبطل المسمى ولها مهر المثل؛ لأن الخنزير والخمر كلها ليست من جنس ما يباح أن يكون صداقاً.

حكم العيب في الصداق

حكم العيب في الصداق [وإن وجدت المباح معيباً خُيرت بين أرشه وقيمته] هذه مسألة جديدة، فبعد أن ذكر أحكام الصداق السابقة، شرع في مسألة العيب في الصداق، وتقدم العيب الكلي: المغصوب، والخمر، والخنزير، أن المسمى يلغى ويكون لها مهر المثل، لكن لو كان العيب في البعض، كأن يكون قسم منه معيب وقسم منه صالح، مثلاً قال لها: مزرعتي لكِ، ثم بان أن المزرعة فيها عيب ينقص قيمتها وهي كانت تظنها أنها كاملة، أو قال: سيارتي هذه صداق لكِ، قالت: قبلت، وتم النكاح ثم تبين أن في السيارة عيباً، فنقول لها: أنتِ بالخيار بين أمرين: أن يبقى ويدفع لها أرش العيب. قوله: (خيرت بين الأرش ومهر المثل) يعني: إن شاءت أخذت الأرش وإن شاءت أخذت مهر المثل.

حكم الحباء للأب

حكم الحباء للأب [وإن تزوجها على ألف لها وألف لأبيها صحت التسمية] وإن تزوجها على أن لها ألفاً وألفاً لأبيها صحت، وحينئذٍ تكون الألف للأب؛ لأن البنت بضعة منه وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما فاطمة بضعة مني) وقال عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) فهذا يسمى حباءً إذا كان هناك حباء للأب. [فلو طلق قبل الدخول وبعد القبض رجع بالألف ولا شيء على الأب لهما] (رجع بالألف ولا شيء على الأب لهما) إذا طلقها يصير له نصف المهر، فهل يأخذ الألف الذي هو نصف الألفين وتكون خمسمائة للمرأة وخمسمائة لأبيها، فيأخذ نصف المهر ونصف الحباء أم أن الذي يتنصف المهر وحده؟ A الذي يتنصف المهر وحده، ولذلك لا يملك إلا المهر، والحباء كان محض هبة وتبرع للأب، والأب يملك عن ابنته، فمن حقه أن يأخذ حباءً في زواج ابنته وجرى على ذلك عمل السلف رحمهم الله، لكن لا ينبغي أن يكون ذلك على وجه الإضرار، لكن لو حصل خلع فإنه لا يطالب برد الحباء. ومن أكبر الخطأ أن النساء إذا خالعن بلغ ببعضهم أن يلزمهن برد قيمة الزواج، وهذا ليس في دين الله عز وجل وليس من دين الله في شيء كما سيأتي إن شاء الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) ما قال لها: ردي عليه كلفة الزواج، ولا قال لها: قولي لأبيكِ يرد الحباء، ولا سأله هل حبوت أباها شيئاً؟ فهذا كله نص صريح واضح جداً على أن المرأة إذا خالعت ترد نفس المهر، وفي الطلاق قبل الدخول لا ترد إلا نصف المهر. وحينئذٍ يشطر المهر فقط، أما أن يأتي الرجل وينكح المرأة ويدفع في وليمة النكاح قرابة خمسين ألفاً، ثم يقال: هذا ضرر، وما دام أنها ما تريده فإنها ترد عليه الخمسين ألفاً فهذا خطأ كبير؛ لأنه من المعروف والمعهود والمشاهد أنه يفعل الوليمة بخمسين ألفاً فيأتيه من الناس في بعض الأحيان مائة ألف بسبب هذه الوليمة، فيأخذ من الناس مائته ويأخذ من الزوجة الخمسين ويرهق كاهلها، وتمنع مما أباح الله لها من الخلع، فهذا كله مما يخالف شرع الله عز وجل، ولا نحفظ هذا لا في نص الكتاب ولا في نص السنة، إنما ترد له نفس المال في هذه المسألة ولا تطالب برد الحباء الذي يكون للأب، ومن باب أولى كلفة الزواج. [ولو شرط ذلك لغير الأب فكل المسمى لها] لأنه ليس هناك وجه للغير أن يأخذ، فالأولياء الباقون ليس من حقهم هذا فكله لها، وفي الرد يكون حكمه حكم المهر.

حكم تزويج البنت بأقل من مهر المثل

حكم تزويج البنت بأقل من مهر المثل [ومن زوج ابنته ولو ثيباً بدون مهر مثلها صح] لأن الأب قد يفعل هذا لمصالح، فقد يخشى على ابنته، وقد يخشى أنها لا يأتيها أحد، وقد يريد أن يستعجل في زواجها لمقاصد، وقد يعوضها بالزوج الكريم، فالأب فيه من الشفقة ما يمنع أن يؤذي ابنته، فلا يفعل مثل هذا الإضرار إلا وله مقصد ومصلحة أعظم، ولذلك يقبل من الأب ما لا يقبل من غيره، فقد زوج أبو بكر رضي الله عنه عائشة رضي الله عنها قبل بلوغها، وهذا يدل على قوة سلطة الأب أكثر من غيره من الأولياء. [وإن زوجها به ولي غيره بإذنها صح وإن لم تأذن فمهر المثل] إذا زوج غير الأب المرأة بأقل من مهر المثل رجع الأمر إلى المرأة، إن رضيت وأذنت أو أقرت فلا إشكال، أما إن قالت: لا، فإن هذا الولي يصير قد تعدى وقصر في ولايته فلا يصح ذلك؛ لأن هذا يعتبر من الظلم أن يكون مهر مثلها عشرين ألفاً، وفيأتي ويمهرها خمسة آلاف ريال، وهذا مما وقع فيه بعض الصالحين بحسن نية، فيكون أبوه متوفى فيأتي إلى صديق له فيزوجه أخته ويقول: ادفع ألفاً أو ألفين أو ثلاثة آلاف، فلا يجوز ذلك إلا برضا الأخت، فإذا رضيت الأخت وتنازلت عن حقوقها صح، ولا شك أنها مأجورة وهو مأجور، ويفعل هذا من فيه صلاح من باب الخير، لكن ينبغي رد الحقوق إلى أهلها. فالمهر حق من حقوق المرأة لا يجوز لأحد أن يتدخل في هذا المهر، إلا الأب فله سلطة وولاية، أما غيره فلا، والمرأة هي التي لها الحق في المهر، تقدره بما تراه بشرط أن لا يكون ذلك على طريقة فيها نوع من الأذية للأولياء، كأن تماطل في زواجها وتتخذ من المهر ذريعة للمماطلة، فإذا زوجها وليها بمهر مثلها فحينئذٍ زواجها صحيح ومعتبر.

تزويج الأب لابنه بأكثر من مهر المثل

تزويج الأب لابنه بأكثر من مهر المثل [وإن زوج ابنه الصغير بمهر المثل أو أكثر صح في ذمة الزوج] الأب عنده من العاطفة والشفقة ما لا يتهم معه، فإذا زوج ابنه بمهر المثل أو أكثر صح ذلك، كأن تكون الزوجة مثلها تأخذ ثلاثين ألفاً فزوجه بأربعين، فلما بلغ الابن قال: لا أرضى بذلك، فنقول: صح العقد وتضمن المهر؛ لأن ولاية الأب تلزمه في هذه الحالة، ويكون الحكم على حسب العقد الذي أبرمه، فلا يأتي بعد بلوغه ويقول: لا؛ لأن فائدة ولاية الأب عليه في حالة صباه أنه يبت بما فيه مصلحته، فلما اجتهد في مصلحته وبت ذلك ألزم الابن بعد بلوغه بالدفع. [وإن كان معسراً لم يضمنه الأب] مثلاً إذا زوجه بأربعين ألفاً فالابن يضمن، فإذا كان الابن معسراً هل نرجع على الأب ونقول: أنت السبب فتدفع؟ A لا، {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] ولا يرجع إلى الأب، وإنما يبقى في ذمة الابن الصغير حتى يفتح الله عليه وهو خير الفاتحين.

تملك المرأة للصداق وأحكامه

تملك المرأة للصداق وأحكامه شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بصداق المرأة، وكما تقدم معنا أن العلماء رحمهم الله يعتنون عادةً ببيان الأصول، ثم يذكرون المسائل المتفرعة في الفصول، وهذا الفصل ينبني على ما تقدم. فنحن ذكرنا أن الشرع جعل للمرأة حق الصداق، وإذا أثبتنا أن الصداق حق من حقوق المرأة فإنه يرد Q متى يدخل في ملكية المرأة؟ ومتى يُحكم بأن الصداق انتقل من يد الزوج إلى يد الزوجة؟ وهذه مسألة مهمة، فهناك صداق يُعجل، وهناك صداق يُؤجل، وهناك صداق يُعجل بعضه ويُؤجل بعضه. فلا بد من بيان هذه المسائل والأحكام، وكثير من هذه المسائل تتفرع على مسائل البيوع، خاصةً في مسألة الضمان وانتقال الملكية، ولربما تصرفت المرأة في الصداق قبل قبضه، كأن تبيعه أو تتصدق به أو تهبه قبل أن تأخذه من الزوج، فيرد السؤال عن هذه المسائل وعن أحكامها، فلا بد من بيانها وتفصيلها.

أحوال الصداق من جهة قبض المرأة له

أحوال الصداق من جهة قبض المرأة له الصداق له حالتان: الحالة الأولى: أن يعطيه الزوج للزوجة، فإذا أخذته الزوجة وقبضته فحينئذٍ نحكم بكونه انتقل إلى يد الزوجة وملكيتها. مثال ذلك: لو قال لولي المرأة: أدفع لك هذه المزرعة صداقاً لابنتك، قال: قبلت، فأعطاه المزرعة ومكَّنه منها، فقبضها، فللمرأة غنم المزرعة وعليها غرمها. فلو أخذت هذه المزرعة وقبضتها وتم الاستلام، فأصبحت غالية، أو أتت آفة سماوية فأحرقتها وأتلفتها، فالربح لها والخسارة عليها. فإذا أعطيت المرأة مهرَها وقبضته فلا إشكال. لكن الإشكال إذا سُمِّي الصداق ولم يُقْبَض، كأن يقول الولي: زوجتُكَ ابنتي بسيارتك هذه، أو زوجتك ابنتي بعمارتك الفلانية، أو بأرضك الفلانية، أو قال: زوجني ابنتك بهذه المائة ألف، ولم يعطه إياها، لكن قال: بهذه المائة ألف، فإذا سمى صداقاً للمرأة ولم تقبضه فعلى حالتين: الحالة الأولى: أن يكون الصداق معيناً. والحالة الثانية: أن يكون مستقراً في الذمة وموصوفاً في الذمة. ونحن سبق وأن ذكرنا في كتاب البيوع تفصيلات العلماء في ضابط العين والذمة، وبيَّنَّا بيع العين وبيع الذمة. فإذا قال لوليها: صداقها هذه المزرعة، أو صداقها هذا البيت، أو صداقها هذه العمارة، أو صداقها هذه السيارة، فقد تعين الصداق، وأصبح صداقها هذا الشيء المعين. فحينئذٍ عندنا التعيين وعندنا القبض، ففي العقد ثبت أن هذه العمارة أو أن هذه السيارة أو أن هذه العين لفلانة، فقال وليها: رضيت وقبلت، فقد تعين الصداق، ويرد السؤال حينئذٍ: هل المعين يكون في ملك الزوجة، أو يكون في ملك الزوج، أو يتوقف الأمر على القبض؟ هذا خلاف بين العلماء رحمهم الله؛ لكن التعيين يؤثر في الملكية في الصداق، فإذا قال: صداقها هذه السيارة، فحينئذٍ تكون السيارة في ملكية المرأة.

وقت دخول الصداق في ملكية المرأة

وقت دخول الصداق في ملكية المرأة فقال رحمه الله: [وتملك المرأة صداقها بالعقد ولها نماء المعين قبل القبض وضده بضده]. (ولها نماء المعين): ومعنى هذا: أنها تملك بالعقد. إذاً: عندنا جملتان: الجملة الأولى: قضية (تَمْلِكُ المرأةُ صداقَها بالعقد). الدليل على ذلك: قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق، فإنه حينما توفي عنها زوجها قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لها بمهر المثل وهو لم يدخل بها بعد، فدل على أنه بمجرد العقد تصبح المرأة مالكةً للمهر، والأصل الشرعي يقتضي صحة هذا. وكما ورد الدليل الخاص في بيان انتقال الملكية إلى المرأة في حديث بروع، وصححه غير واحد من العلماء والأئمة رحمة الله عليهم، كذلك فإنه قد شهدت الأصول بصحة ذلك؛ لأن الشريعة أمرت بالوفاء بالعقود، فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]. والعقد إيجاب وقبول، فإذا بذل الولي المرأة وبذل الزوج الصداقَ وتم الاتفاق بينهما فقد التزم كل منهما للآخر بما التزم به، فتُصبح المرأة مالكةً لصداقها بالعقد، ويُصبح الرجل مالكاً للانتفاع بالمرأة تدخل في عصمته بمجرد العقد، وسبق أن بيَّنَّا أن عقد النكاح فيه مكارمة وفيه معاوضة. المكارمة: بيناها. والمعاوضة: ذكرناها في أكثر من مرة، خاصةً حينما شرحنا عقود البيوع؛ فالمعاوضة في النكاح أن الرجل يستمتع بالمرأة، فيملك منافع البضع، والمرأة تملك المهر. والله جعل المهر عوضاً عن الاستمتاع فقال: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24] فإذا أثبتنا أن عقد النكاح يقوم على هذه المعاوضة، ووقع الإيجاب والقبول بين الزوج وبين ولي المرأة على هذه المعاوضة، وكان مستوفياً للشروط، فيجب على الرجل أن يفي بالتزامه ويجب على الولي أن يفي بالتزامه، والتزام الرجل أن يعطيها هذا الصداق. فإذاً: تملك المرأة صداقها بالعقد، وهذا نص عليه جمهور العلماء رحمهم الله، ويتفرع على هذا المسائل التي سيذكرها المصنف. فالمرأة تملك الصداق؛ بمعنى أن لها حق المطالبة بالصداق من حيث الأصل ما لم يكن مؤجلاً، على اختلاف صور الصداق واتفاق المتعاقدين على الصداق، فمنه معجل، ومؤجل قبل الدخول، ومؤجل بعد الدخول. الشاهد أنها من حيث الأصل تملك، بمعنى: أن الصداق ثابت لها، فإن رضيت بتأخيره لم تملك مطالبته مقدماً، وإن لم ترضَ بتأخيره وبتت فلا يدخل بها حتى يعطيها مهرها. وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة صداقها بعد موت زوجها، وألزم بإعطائها صداقها من زوجها المتوفى ولم يدخل بها، فلو كان الصداق موقوفاً على قضية الاستمتاع لسقط في حال موت زوج بروع بنت واشق رضي الله عنها، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب على ورثة زوج بروع أن يدفعوا لـ بروع حقها من الصداق، فدل على أنه مبني على العقد، وليس بمتوقف على الدخول إذا تم الإيجاب والقبول عليه. والباء في قول المصنف (وتملك المرأة صداقها بالعقد): سببية، أي: تملك المرأة صداقها بسبب العقد، فإذا تم العقد فإن هذا العقد يثبت لها ملكية الصداق.

حكم نماء المهر المعين غير المقبوض

حكم نماء المهر المعين غير المقبوض قال رحمه الله: (ولها نماء المعين قبل القبض) نحن ذكرنا أنه إذا اتفق الطرفان على الصداق فأعطى الزوج صداق المرأة لوليها وقبضته، فلا إشكال، لكن الإشكال إذا لم يعطها الصداق، فحينئذٍ عندنا حالتان: الحالة الأولى: أن يكون الصداق معيناً، والمعين أن يقول: هذه السيارة، أو هذه العمارة، أو هذه الشقة، هذا معين، حتى لو قال: هذه العشرة آلاف، فإنها معينة، فإذا عين سيارة أو عين أرضاً أو عين عمارة أو عين داراً، واتفقا على ذلك، فإن هذا المعين ملك للمرأة. فإذا ثبت أن المرأة تملك الصداق بالعقد، فحينئذٍ يكون الغُرم على المرأة والغنم للمرأة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الضامن يملك الربح وكذلك يضمن الخسارة، فقال صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان) فدل على أن من يضمن الخسارة يأخذ الربح. فالمرأة إذا أثبتنا لها النماء والربح، فعليها الخسارة، فإذا قلت: إن المعين يصير إلى ملكية المرأة بالعقد، تقول: لها غنمه وعليها غرمه، بحيث إنه لو أصدقها عمارة، فسقطت وانهدمت، فإن خسارتها على المرأة، ولو أن العمارة زادت وربحت، فزيادتها للمرأة، لأنها دخلت في ملكيتها بسبب التعيين؛ لأن العقد إذا وقع على معين لا ينصرف إلى غيره ما دام هذا المعين موجوداً. والشرع ألزم المتعاقدين إذا تعاقدا على شيء أن يفي كل منهما بالتزامه، فلما التزم لها أن يعطيها هذه العمارة وجب عليه أن يعطيها هذه العمارة وثبتت لها، فإذا غلت كان نماء، وإذا رخصت كان غرماً، ففي كلتا الحالتين تأخذ الغنيمة وتتحمل الغرم.

حكم تلف المهر المعين

حكم تلف المهر المعين قال رحمه الله: [وإن تلف فمن ضمانها إلا أن يمنعها زوجها قبضه فيضمنه] وإن تلفت العين المعينة فإن الضمان على المرأة؛ مثلاً: لو قال لها: هذه المائة شاة صداق لك، أو هذه المائة ناقة صداق لك، فقال وليها: قبلت، فحينئذٍ هذه المائة صداق معين، فإن نمت وتكاثرت فالفرع تابع لأصله، وإن تلفت من غير تعدٍ فإنها تتحمل التلف، كما لو مات بعضها أو جاءت آفة سماوية، فأهلكت نصف المائة، فإنها تأخذ الخمسين ولا تستحق الرجوع. فالمهر المعين يكون في ضمان الزوجة ولا يكون في ضمان الزوج، وعلى هذا فإنها تأخذ الربح وعليها الخسارة، فتتحمل كلا الأمرين؛ لأن الشريعة شريعة عدل، فلا يعقل أن الإنسان يأخذ الربح ولا يضمن الخسارة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عائشة رضي الله عنها في السنن: (الخراج بالضمان)، وهذا الحديث -كما ذكر الأئمة- أجمع العلماء على معناه، وقد حكى الإمام أحمد رحمة الله عليه أنهم مجمعون ومتفقون على أن الخراج لمن يضمن الخسارة. قوله: (إلا أن يمنعها زوجها قبضه فيضمنه). (قبضه) يعني: قبض الصداق المعين. (فيضمنه) أي: عليه ضمانه. إذا أثبتنا أن هذه المائة شاة أو مائة ناقة تصبح ملكاً للزوجة وتصبح في ضمان الزوجة، بحيث إنها لو نمت يكون النماء لها، ولو تلفت يكون التلف عليها، فلو أنها سألت الزوج أن يعطيها هذه الغنم فامتنع، فإنه حينئذٍ يكون قد غصبها حقها، ما لم يكن بينهم اتفاق بالتأجيل، لكن إذا استحقت المطالبة وطالبت بمعين، فمنعها وظلمها، فإنه يكون كالغاصب للمال، والغاصب يضمن، والمغصوب يكون نماؤه للمالك وخسارته على الغاصب، وفي هذه الحالة لطالب العلم أن لا ينظر لمسألة المهر، بل ينظر إلى القاعدة في الضمانات، وهكذا أي مسألة تأتي ولها أصل ينبغي أن ينتبه لأصل المسألة، فالمسألة عندنا في مهر المرأة: إن كان الزوج مكنها من الأخذ وقالت: اتركه عندك، كأن يكون مثلاً: مائة رأس من الغنم، فلا تستطيع أن تأخذها وتقوم عليها، فقالت الزوجة: دعها عندك حتى أطالبك بها، فرضي بذلك، فإذا بقيت عند الزوج فإنها تبقى على ضمان الزوجة، إن حصل خير فلها وإن حصل شر فعليها، وهي التي تضمن في الوجهين، فتأخذ الربح وعليها الخسارة. لكن لو منعها الزوج فطالبته الزوجة وقالت له: أعطني مهري، فقال لها: لا أعطيك الآن، وماطلها وتأخر في إعطائها، مع أن المهر مهرها والواجب شرعاً أن يعطيها، فإذا قال: لا أعطيكِ، انتقلت يده إلى يد الضمان، وتصبح المسألة مفرعة على قاعدة الضمان، حيث خرجت المسألة إلى مسألة الغصب، فإذا قال: لا أعطيكِ، فإنه غاصب، والغاصب القاعدة فيه: أنه يضمن الخسارة وتلف المغصوب، ويكون الربح والنماء للمالك الحقيقي، وحينئذٍ لو سئلت عن المستثنى من قاعدة: الغنم بالغرم أو (الخراج بالضمان) كما ورد في الحديث تقول: مما يستثنى من ذلك: مسألة الغاصب، فإنه يضمن المغصوب ويكون الربح للمالك الحقيقي.

حكم تصرف المرأة في المهر المعين

حكم تصرف المرأة في المهر المعين قال رحمه الله: [ولها التصرف فيه وعليها زكاته]. (ولها) أي: من حقها أن تتصرف في مهرها المعين قبل قبضه، كأن تتصدق به، قالت: هذه المائة رأس أجعلها صدقة، أو هذه المائة ناقة أنحرها للفقراء والمساكين، فهذا تصرف بالصدقة، أو قالت: هذه المائة ناقة وهبتها لأخي فلان، أو وهبتها لابن عمي فلان، أو أعطيها فلاناً، فأعطته هبة أو صدقة، أو باعت المائة شاة إلى زيد من الناس، فإننا نصحح البيع. وفي هذه الحالة قال رحمه الله: (ولها التصرف فيه) يعني: من حقها أن تتصرف في هذا المعين قبل قبضه. (وعليها زكاته) وهذا من الغرم، فالمال مالها، والزكاة -كما تقدم معنا في كتاب الزكاة- متعلقة بالمالك الحقيقي، فهي مالكة لمالها، فعليها زكاته.

حكم النماء المنفصل في الصداق إذا طلق قبل الدخول

حكم النماء المنفصل في الصداق إذا طلق قبل الدخول قال رحمه الله: [وإن طلق قبل الدخول أو الخلوة فله نصفه حكماً دون نمائه المنفصل]. هذا محل إجماع: أن الصَدَاق يتشطر إذا طلق الزوج زوجته قبل الدخول لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237] فأثبت الله سبحانه وتعالى للزوج نصف المهر وللزوجة نصف المهر، وهذا ما يسميه العلماء بالتشطير. أما إذا دخل بها فإن المهر يكون لها كاملاً؛ لقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24] وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها). فإذاً المهر له حالتان: - أن يتشطر ويكون للمرأة نصف المهر، إن وقع الطلاق قبل الدخول. - أن يكون لها المهر كاملاً، إن وقع الطلاق بعد الدخول. فإذا ثبت أن المرأة لها نصف المهر إن وقع الطلاق قبل الدخول، فحينئذٍ هذا المهر المعين لو كان له نماء فإن نصف المهر بنمائه يكون ملكاً لها مادام أنه قد فرضه وسماه، وذلك لقوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة:237] فنص سبحانه وتعالى على نصف المفروض، والمفروض تملك المرأة أصله ونماءه المتصل. والنماء المتصل مثل السِّمَن، والزيادة بالصفات، والزيادة بالأجزاء، وسبق وأن ذكرنا في كتاب البيوع تفصيلات النماء المتصل والمنفصل في خيار العيب وفصلنا في ذلك. قوله: (أو الخلوة) إذا خلا الرجل بالمرأة الخلوة التي يمكن فيها الزوج من وطء الزوجة ولم يطأ، فإنه يثبت لها المهر كاملاً بتلك الخلوة، كما لو قال: أريد زوجتي، فجاء وليها ومكنه من الدخول بها، فدخل واختلى بها لكنه لم يصبها، فإنها لما مكنته من نفسها كان التقصير منه. وحينئذٍ يكون حقها كاملاً، كالأجير: إذا استأجرت شخصاً ومكنك من نفسه أن يعمل عندك يوماً كاملاً ولم تطالبه بعمل، فإنه عند نهاية اليوم يستحق أجرته كاملة؛ لأن التفريط منك أنت، وأنت الذي تتحمل مسئولية عدم مطالبته بالعمل. فالرجل هو الذي يتحمل مسئولية عدم الدخول بها، فهناك دخول حقيقي ودخول حكمي: الدخول الحقيقي: أن يدخل ويطأ ويصيبها ويستمتع بها. والدخول الحكمي: أن يُمكن من الدخول، ولا يكون هناك أي عائق من جهة المرأة يمنعه من إصابتها ولا يصيبها. لكن لو أن وليها مكنه من الدخول واختلى بها، فأراد أن يصيبها، فدفعته ومنعته فإنها لا تستحق المهر كاملاً؛ لأنه في هذه الحالة وإن دخل في الظاهر لكنه لم يدخل في الحقيقة؛ لأنها لم تمكنه من نفسها. فإذاً الدخول الحكمي شرطه أن لا يكون هناك مانع من المرأة يمنع من إصابته لها. (فله نصفه حكماً) أي: قهراً، وهذا من جهة انتفاء الخيار، كالحضانة ونحوها يحكم بها ولا خيار، وكذلك الوصايا من الميت تكون للموصى له حكماً ولا يملك الخيار في إسقاطها. (فله نصفه حكماً) لأن الله سبحانه وتعالى نص على ذلك: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237] فيثبت هذا النصف له، والله عز وجل حكم بذلك من فوق سبع سماوات. وله بعد ذلك أن يتنازل عن هذا النصف، وقد اختلف العلماء في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237] فقوله سبحانه: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237] يعتبره علماء التفسير وعلماء الأصول من المشترك، وهو المتردد بين معنيين، لأن الاسم الموصول وصلته في قوله: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237] هو من الاشتراك بالأسماء الموصولة، وهو متردد بين شخصين إما أن يكون الذي بيده عقدة النكاح هو الولي، وإما أن يكون الزوج، فالولي بيده عقدة النكاح؛ لأنه هو الذي يوجب عن موليته وينشئ العقد عن موليته، والزوج أيضاً بيده عقدة النكاح؛ لأنه يملك تطليق المرأة ويملك أيضاً العقد على المرأة، فاختلف العلماء في ذلك، وإن كان الأقوى من جهة المقابلة: أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، فيعفو الزوج عن النصف ويسامحها ويترك لها المهر كاملاً، وذلك أقرب إلى التقوى وأعظم أجراً له.

حكم النماء المتصل بالصداق في حالة تشطير الصداق

حكم النماء المتصل بالصداق في حالة تشطير الصداق قال رحمه الله: [وفي المتصل له نصف قيمته بدون نمائه]. إذا أثبتنا أن النماء المتصل يكون تبعاً للمرأة لأنها ملكت الأصل، فحينئذٍ يكون له نصف قيمة المهر دون النظر إلى نمائه المتصل. فلو أنه جعل صداقها -مثلاً- من الغنم مائة رأس، ونما هذا الغنم، فهذا النماء في المعين -وهو المائة شاة- ملك للمرأة؛ لأنه نماء حدث في ملكيتها، فهي التي قامت عليها وأعلفتها، فهذا النماء في ملكيتها. في هذه الحالة إذا ثبتت الزيادة في ملكيتها فإن الزوج لا يملك إلا نصف المهر الذي أعطى، وليس نصف المهر الموجود حالياً الذي قيمته غالية؛ لأن المهر الموجود حالياً في ملكية المرأة، ونماؤه وزيادته حدثت في ملكية المرأة. فمن العدل أن يرد له نصف ماله الحقيقي، فينظر إلى أصل المهر حينما أعطاها إياه وأوجبه لها دون نظر إلى وجود الزيادة، فلو كانت الرأس حينما أصدقها هذا المهر قيمتها خمسمائة ريال وبالزيادة صارت القيمة سبعمائة، فإننا نعطيه نصف المهر من قيمة الخمسمائة وليس من قيمة السبعمائة بالزيادة. وهذه مسألة ذكرنا أن العلماء يذكرون فيها الأصل وما تفرع منه، فأنت إذا أثبت أن النماء المتصل في المعين يكون تابعاً للمرأة فينبني على ذلك أنه إذا جاء يطالب بحقه فإنك ترده إلى الأصل، ولا ترده إلى عين فيها نماء.

اختلاف الزوجين في الصداق

اختلاف الزوجين في الصداق قال رحمه الله: [وإن اختلف الزوجان أو ورثتهما في قدر الصداق أو عينه أو فيما يستقر به فقوله وفي قبضه فقولها]. غالباً إذا اختلف الزوج والزوجة فبطبيعة الحال أن الزوجة تدعي الأكثر والزوج يدعي الأقل، فلا يختلفون غالباً إلا على هذا. فالمرأة تقول: أصدقتني خمسين ألفاً، والزوج يقول: بل أصدقتكِ أربعين ألفاً، فدائماً المرأة تطالب بالأكثر والرجل يطالب بالأقل؛ لأنه لو كان الأمر بالعكس فإنه سيعطيها وينتهي الإشكال, فإذا كانت المرأة تقول: أصدقتني خمسين، وهو يقول: لا، بل أصدقتك أربعين، فمن المدعي؟ ومن المدعى عليه؟

بيان المدعي والمدعى عليه في اختلاف الزوجين في قدر الصداق

بيان المدعي والمدعى عليه في اختلاف الزوجين في قدر الصداق سبق وأن ذكرنا أن المدعي من يوافق قوله الأصل أو العرف، فبعض العلماء يقول: القول قول الزوج -كما ذكر المصنف- لأن المرأة تطالبه بزيادة، فهي تدعي عليه؛ لأنه إذا قال الزوج: أصدقتكِ أربعين، والمرأة قالت: بل أصدقتني خمسين، فنحن متأكدون وعلى يقين أن المهر أربعون، واختلفنا في العشرة الآلاف الزائدة، فنحن نقول: الأصل واليقين أنها ليست على الزوج؛ لأن الأربعين متأكدون منها، وأما الزائد فتدعيه المرأة، فأصبحت المرأة مدعية والزوج مدعىً عليه، وقلنا بأن المدعى عليه القول قوله، والمدعي يطالب بالبينة، فيقال للمرأة: أنتِ تستحقين أربعين، فأثبتي الزيادة؛ لأنا على يقين من الأربعين، والعشرة الزائدة نشك فيها. فالمدعي من قوله مجرد من أصل أو عرف بصدق يشهد وقيل من يقول قد كان ادعى ولم يكن لمن عليه يُدَّعى فالمرأة تقول: قد كان المهر خمسين، والزوج يقول: ما كان ولم يكن، فهو مدعًى عليه، فالقول قول الزوج، وهذا وجهه.

اختلاف ورثة الزوجين في قدر الصداق

اختلاف ورثة الزوجين في قدر الصداق (أو ورثتهما) أي: يختلف ورثة الزوجين، وفي الحقيقة أن الشريعة وضعت للناس البينات والمعالم، وأمرتهم في الحقوق أن يكتبوا وأن يستشهدوا وأن يحتاطوا، وأن لا يضيعوا حقوقهم بالمجاملات. فإذا كان عقد نكاح فلا ينبغي أن تترك الحقوق سائبة، بل ينبغي أن يستوثق بالشهادة ويستوثق بالكتابة وتحفظ حقوق الناس، فغالباً ما تقع المشاكل بين أولياء المرأة والرجل، أو ورثة المرأة وورثة الرجل، والسبب: التساهل بكتابة الحقوق، لأنه لو كان هناك كتابة وكان هناك استيثاق فلن يقع اختلاف؛ لأنهم إذا اختلفوا رجعوا إلى المكتوب ورجعوا إلى البينات التي عندهم فقطعت النزاع الذي بينهم. فصورة المسألة: لو أن الزوجين وقع بينهما النكاح ثم توفي الزوج وتوفيت الزوجة، أو توفيت الزوجة والزوج والولي، فإلى من نرجع؟ والقول قول من؟ فأولياء المرأة يطالبون أولياء الرجل بخمسين ألفاً، وأولياء الرجل يدعون أن المهر أربعون، فالقول قول من؟ نفس الحكم في الخلاف بين الزوجين، فإذا قلت: القول قول الزوج، فالقول قول أوليائه وورثته، فالفرع قائم مقام أصله، فإذا كان الزوجان حيين فالقول قول الزوج، وإذا كانا ميتين فالقول قول ورثة الزوج، ويصبح ورثة الزوجة مدعين لما هو أكثر، فلا يقبل منهم الأكثر إلا ببينات.

اختلاف الزوجين في تعيين الصداق

اختلاف الزوجين في تعيين الصداق (أو عينه) أي: تعيين الصداق، فإنها إذا قالت: أصدقتني هذه السيارة، فقال: بل أصدقتكِ هذه السيارة، فالغالب أنه لا ينقلها إلا إلى ما هو أقل، وهي تدعي ما هو أكثر، فتكون نفس القضية السابقة، فالقول قوله.

اختلاف الزوجين فيما يستقر به الصداق

اختلاف الزوجين فيما يستقر به الصداق (أو فيما يستقر به) أي: هل يكون معجلاً أو مؤجلاً، ودائماً إذا طولب الزوج بما هو زائد أو بما هو خلاف الأصل فالقول قوله؛ لأنه مدعىً عليه. بعض العلماء يقول في هذه المسألة: إذا اختلف الزوج والزوجة في قدر الصداق فإنه ينظر إلى الأشبه، أي أنه: يحتكم إلى العرف فيقول: إن وجدنا العرف يشهد بقول الزوجة فالقول قولها، وإن وجدنا العرف يشهد بقول الزوج فالقول قوله. مثال ذلك: قالت: صداقي ثلاثون ألفاً، قال: بل صداقكِ عشرون ألفاً، وهي بكر، والعرف أن مثلها من الأبكار يزوجن بثلاثين، فالقول قولها؛ لأن العرف قد شهد بصدقه، فحينئذٍ يكون القول قولها. لكن ضعف هذا القول ورجح قول المصنف ومن وافقه؛ لأنه ربما تراضى الزوجان على ما هو أقل.

اختلاف الزوجين في قبض الصداق وعدمه

اختلاف الزوجين في قبض الصداق وعدمه (وفي قبضه) قال: أعطيتك المهر وقبضته، فقالت: ما أعطيتني، ولم أستلم المهر ولم آخذه، فاليقين أنها لم تأخذ، وقد تقدم في البيوع أنه حينما يقول البائع للمشتري: سلمتك البضاعة، يقول المشتري: ما استلمتها، فالقول قول المشتري؛ لأن البائع يدعي عليه، والأصل عندنا أن المشتري ما استلم حتى يثبت استلامه باليقين؛ لأن البائع إذا اعترف بأنه باع وأنه قبض الثمن فقد اعترف بأنه أصبح مديناً، فلا بد أن يثبت أنه أبرأ ذمته من دينه. فإذا قالت الزوجة: لم تعطني مهري، فقال: بل أعطيتك، فالقول قول الزوجة حتى يثبت أن الزوج قد أعطاها؛ لأن القاعدة: أن اليقين لا يزال بالشك، والأصل بقاء ما كان على ما كان. فالأصل أن الزوج مدين لزوجته بالمهر حتى يثبت أنه أبرأ ذمته من هذا الدين وأعطاها.

باب الصداق [2]

شرح زاد المستقنع - باب الصداق [2] جعل الشرع للمرأة أن تفوض أمرها في الصداق لوليها أو لغيره، ويثبت لها مهر مثلها إذا دخل بها زوجها أو مات عنها قبل الدخول، وذلك إذا لم يسم المهر، ولها أن تمتنع من زوجها حتى تقبض مهرها الحال.

التفويض في النكاح

التفويض في النكاح قال رحمه الله تعالى: [فصل: يصح تفويض البضع بأن يزوج الرجل ابنته المجبرة]. التفويض من مسائل الصداق والمهر، واعتنى به العلماء والأئمة رحمهم الله، وهو ينقسم إلى تفويض المهر، وتفويض البضع. وتفويض المهر: أن تفوض المرأة إلى وليها أن يزوجها بأي مهر، أو أن يزوجها بدون مهر، أو تفوض للزوج أو يفوض وليها للزوج المهر فيقول له: المهر ما شئت، والمهر ما تريد، أو ما تدفع، فهذا تفويض، كذلك أيضاً أن يفوض لأجنبي، كأن تفوض المرأة لأجنبي فتقول: مهري ما يقوله فلان، لعمها أو خالها أو قريب لها، فتفوض إلى أجنبي. فهذه كلها من مسائل التفويض في المهر، والتفويض في البضع سيأتي إن شاء الله، وسيذكره المصنف رحمه الله، وكلا النوعين من التفويض يُعنى به الأئمة رحمهم الله. أما مناسبته للصداق فظاهرة؛ لأن المرأة تترك الصداق وتقديره إلى طرف أجنبي، أو إلى الطرف المقابل لوليها وهو الزوج، أو إلى وليها.

التفويض في البضع

التفويض في البضع (يصح تفويض البضع بأن يزوج الرجل ابنته المجبرة) فإنه بدون أن يأخذ رضاها وبدون أن يستأذنها يزوجها، وقد تقدم هذا معنا في مسائل الاستئذان، فإن الأب ذكرنا أن فيه من العاطفة والحنان والرحمة ما لا يشك معه، أو ما يغلب معه على الظن أنه يطلب الأصلح في الأمور لابنته، وأنه ليس هناك أب يسعى في جلب الضرر على ابنته، أو يتسبب في الإضرار بابنته، هذا هو الأصل؛ فالغالب أن الأب فيه من الحنان والرحمة ما يمنعه من أذية ابنته، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنما فاطمة بضعة مني) والإنسان لا يضر نفسه، فالأب يزوج ابنته المجبرة، وإذا زوجها كان الأمر كله بيده، من جهة الإيجاب عنها بدون التفات إلى رضاها وإذنها، وكذلك أيضاً في المهر، وبطبيعة الحال أنها إذا كانت مجبرة، فالغالب أنها لا تتكلم حتى في المهر. وعلى هذا فيكون تفويضاً من كل وجه، فيزوج الأب ابنته المجبرة، فيقع العقد في هذه الحالة على هذه الصورة، ويكون وليها الذي أجبرها تولى أمرها كلية؛ من جهة تزويجها ومن جهة تحديد الصداق الذي يكون لها، أو يجعلها بدون مهر، فيفوض الأمر للزوج، كأن يزوج ابنته الصغيرة ويقول للزوج: المهر ما تعطي، وبطبيعة الحال ما استشارها ولا رجع إليها، ففي هذا تفويض من كل وجه ففوض إلى الزوج وزوجها.

التفويض في المهر

التفويض في المهر قال رحمه الله: [أو تأذن المرأة لوليها أن يزوجها بلا مهر]. لأن المهر ملك لها، والله عز وجل نص على أنه حق من حقوقها، فإذا طابت نفسها وقالت: أنا راضية أن تزوجني بلا مهر، فمن حيث الأصل يصح العقد دون تسمية المهر. المصنف هنا يفرع المسائل على ما تقدم، وكل المسائل في وجود المهر، ولو وقع العقد بدون مهر فإنه يصح، ثم ستأتي الأحكام المترتبة على هذا المهر من نكاح صححناه. والدليل على أن النكاح يصح بدون تسمية المهر ما ثبت في حديث بروع بنت واشق رضي الله عنها، فإن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه سُئل عن امرأة نكحت بدون أن يسمى لها الصداق ثم توفي عنها زوجها، فقال رضي الله عنه: (أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، للمرأة صداق مثلها لا وكس ولا شطط، وعليها العدة ولها الميراث). فحكم بثلاثة أحكام: (مهر المِثل لا وكس ولا شطط) يعني: تأخذ مهر مثلها من النساء كما سيأتي، دون زيادة ودون نقص (لا وكس ولا شطط) العدل الذي أمر الله به. (وعليها العدة) التي هي الحداد، أي: عليها أن تحد، فاعتبرها زوجة. (ولها الميراث) أي ترثه مع أنه لم يدخل بها؛ لأن العقد يوجب أن تكون من نسائه. فلما فرغ من قضائه قال له معقل بن سنان الأشجعي رضي الله عنه وأرضاه: (والله لقد قضيت فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا). فأصبح قضاؤه رضي الله عنه موافقاً لقضاء النبي صلى الله عليه وسلم، فهو سنة، وعلى هذا جرى العمل. الشاهد من الحديث: أنه إذا قضى النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة التي لم يفرض لها صداق أن لها مهر المثل بوفاة زوجها فقد أثبت النكاح وصححه، مع خلو العقد عن ذكر المهر، فما سمي المهر ولا حدد، فدل على أن تحديد المهر وتسمية المهر في العقد ليس بشرط في صحته، وهذا موضع الشاهد. ولذلك جعل الله تعالى هذا الحكم من كونها يكون لها مهر المثل، وهذا عدل، فالعقد من حيث الأصل صحح؛ إذ لا يمكن أن نحكم بمهر المثل إلا في نكاح صحيح، فلو كان النكاح فاسداً لما أثبت لها مهر المثل. وأيضاً فقد اشترط الله عز وجل في ثبوت التشطير في الطلاق قبل الدخول أن يكون هناك فريضة مسماة، ومفهوم النص أنه لو طلقها من دون أن يسمي لها فإن النكاح موجود، ولذلك أثبت لها المتعة فقال: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236] فإذا وقع الطلاق قبل المس وقبل التسمية فإنه يكون لها المتعة، والعلماء يقولون: نفي الجناح من الصيغ التي تدل على الإباحة، قال: {إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة:236]، فدل هذا على أنه اعتبرها من نسائه، واعتبر الطلاق طلاقاً صحيحاً، والواقع أنه لم يسمِّ لها مهرها، فدل هذا على صحة النكاح بدون تسمية المهر. في بعض الأحيان يقولون في العقد: بما اتفق عليه، وهذا غالباً يكون في مسمى متفق عليه بين الطرفين، لكن بعض الناس -أصلحهم الله- يقول: بما اتفق عليه، فيوهم الكاتب أن هناك شيئاً متفقاً عليه، والواقع أنهم لم يتفقوا، وهذا خطأ؛ لأنهم إذا اختصموا إلى القضاء غداً فسيُظن أن هناك شيئاً متفقاً عليه، وأن العقد وقع بعد الاتفاق على شيء، فالمنبغي أن لا يقال: بما اتفق عليه، إلا وقد حددوا واتفقوا على شيء، وهذا أمر ينبغي أن يتنبه له وأن يوضع في الحسبان، أنه لا يقال: بما اتفق عليه، إلا إذا كان هناك اتفاق، أما إذا لم يكن هناك اتفاق، فينبغي أن يصرح بأنها مفوضة، وأنه لم يُسَمَّ لها مهر معين. قال رحمه الله: [وتفويض المهر بأن يزوجها على ما يشاء أحدهما أو أجنبي]. (بأن يزوجها على ما يشاء أحدهما) قال العلماء: صورة ذلك أن تقول مخاطبة وليها: قبلت نكاحه على أن لي من المهر ما شِئتُ؛ أي: أطالب بالمهر الذي أشاؤه، أو تفوض له وتقول: رضيت نكاحه على أن المهر ما شاء، أي: على أن المهر الذي يأتي به، مثلما يقول: الذي تأتي به، أو الذي تقوله، أو الذي تستطيعه. هذا كله تفويض للزوج أو للولي، تقول المرأة: رضيت نكاح فلان والمهر ما شِئتَ، تخاطب أباها أو تخاطب أخاها على أنه يتولى المهر بما يراه. قال رحمه الله: [ولها مهر المثل بالعقد]. ثلاثة أمور: - عندنا عقد. - وعندنا دخول يعتبر بمثابة الإمضاء والإتمام للعقد. - وعندنا طلاق أو فسخ أو فرقة قبل الدخول. هذه ثلاثة أمور ينبغي أن يتنبه لها طالب العلم في مسائل المهور، فالعقد يثبت للمرأة المهر. وفائدة كونك تقول: لها مهر المثل بالعقد: أنه ممكن أن يتم العقد -والمرأة مفوضة- في زمان، ثم يحصل الدخول في زمان آخر ويحكم لها بمهر المثل، فقد يكون قد عقد عليها العام الماضي ومهر مثلها خمسمائة، وفي هذه السنة يصبح مهر مثلها ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، فلا بد أن يحدد، فإذا قيل: مهر المثل، يحدد، هل هو بالعقد أو بالدخول؟ فقال رحمه الله: (ولها مهر المثل بالعقد) المثل: الشبيه، يقال: هذا مثل هذا إذا شابهه، وبعض العلماء يقول: هناك فرق بين المثل والشبيه من جهة الصفات. قال بعض العلماء: ضابط مهر المثل أن يُنْظَر إلى قرابة المرأة وقيل: أن ينظر إلى من هو من أترابها، أي: من لداتها، وأترابها هن النساء اللاتي في سنها بنفس الأوصاف؛ لكن كما يقول العلماء وصرح به غير واحد من الأئمة كالإمام النووي وغيره: أن الركن الأعظم في مهر المثل: النسب، فيُنْظَر إلى نسبها، ففي بعض الأحيان يكون مهر المثل للبكر التي من بيت علم أو من بيت شرف وسؤدد يكون مثلاً: أربعين ألفاً، ويمكن أن يكون مهر المثل لمن هي دونها في النسب: عشرين، وللوسطى: ثلاثين، فإذاً: يُنْظَر إلى مثلها في النسب، ومثلها في الصفات كذلك، فيقال: نسيبةٌ جميلةٌ بكرٌ، بعض العلماء يقول: يُبْتَدأ بقراباتها، فيُنْظَر إلى من تزوجت، فعندما تزوجت أختُها أو تزوجت بنتُ عمتها أو بنتُ عمها أو بنتُ خالها، أي: في نفس نسبها وقراباتها كم كان المهر؟ وجدنا أن قريباتها الجميلة منهن زُوِّجت بأربعين، والوسطى بثلاثين، وقليلة الجمال بعشرين أو بخمسة عشر، فيُنْظَر إلى جمالها، وهذا كله عن طريق النساء. وعندما يذكر العلماء هذه الضوابط فإنه يُقْصَد منها العدل، ولذلك قال ابن مسعود: (لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط) ولا تستطيع أن تصل إلى الذي لا وكس فيه ولا شطط في مهر المثل إلا بالسؤال والرجوع إلى أهل الخبرة. وكان هذا معروفاً في عصور المسلمين الأولى، وجود النساء من ذوات الخبرة، ودائماً القضاة في كل بيئة يرجعون إلى أهل الخبرة ويختارون -على حسب الأمور- من النساء ومن الرجال مِن أهل الخبرة مَن يوثق في دينه وأمانته وبصيرته وعلمه ويُثنى عليه، فإذا حدثت قضايا مثل هذه يُرْجَع إليهم. ولذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ربما سأل ابنته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها عن النساء، ولما نزلت به نازلة غياب الناس عن أزواجهم سأل أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها: كم تصبر المرأة؟ فالرجوع يكون إلى أهل الخبرة وإلى من له علم ومعرفة في مثل هذا. فيُحكم في مثل هذا بالرجوع إلى أهل الخبرة في السن وفي الأوصاف وفي اللِّدَات والأتراب من أمثالها، ويُنْظَر إلى زمان العقد؛ لأنها استحقت المهر في زمان العقد. قال رحمه الله: [ويفرضه الحاكم بقدره] فالقاضي يحكم بمهر المثل بقدره، أي: على قدر ما يتفق عليه أهل الخبرة.

الحكم فيما لو مات أحد الزوجين قبل الدخول وتسمية المهر

الحكم فيما لو مات أحد الزوجين قبل الدخول وتسمية المهر قال رحمه الله: [ومن مات منهما قبل الإصابة والفرض ورثه الآخر ولها مهر نسائها] (ومن مات منهما قبل الإصابة) أي: قبل أن يدخل بها ويصيبها توفي، فإننا ننظر إلى مهر المثل كما ذكرنا في حديث معقل بن سنان الأشجعي في قصته مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فحديث بروع بنت واشق حديث ثابت ويدل دلالةً واضحة على أنه: يحتكم إلى مهر المثل. هذا الحكم الأول. وثانياً: أنه يكون عليها الحداد والعدة. وثالثاً: أنه يكون لها الميراث؛ لأنها من نسائه. (قبل الإصابة والفرض) أي: وقبل أن يفرض لها، فالحكم مثلما ذكرنا في الحديث، لكن لو فرض لها فريضة، مثلاً: لو أن زوجاً فرض لامرأته عشرة آلاف صداقاً، وتم النكاح، أي: تم العقد، ثم توفي هذا الزوج، فنقول: يجب على ورثته أن يخرجوا من ميراثه عشرة آلاف فقط؛ لأنها المسمى، فهذه المسائل هي إذا لم يُسَمَّ الصداق، وقد ذكرنا أن التفويض لا تسمية فيه. [ورثه الآخر ولها مهر نسائها]. (ورثه الآخر) لأن العقد من أسباب الميراث الثلاثة، وهي: النكاح والولاء والنسب. أسباب ميراث الورى ثلاثة كل يفيد ربه الوراثة وهي نكاح وولاء ونسب ما بعدهن للمواريث سبب هذه ثلاثة أسباب، فالنكاح من أسباب الميراث، وهذا بإجماع العلماء، فكل امرأة عقد عليها رجل، ثم توفي قبل أن يدخل بها، فإنها من نسائه وترثه، ولو توفيت هي ورثها، فهو يرثها وترثه.

حكم المطلقة قبل الدخول إذا لم يسم المهر

حكم المطلقة قبل الدخول إذا لم يسم المهر قال رحمه الله: [وإن طلقها قبل الدخول فلها المتعة بقدر يسر زوجها وعسره] أي: وإن طلقها المفوض، وهم يقولون: مفوِّضة ومفوَّضة، يقولون: امرأة مفوِّضة إذا فوضت لوليها أو للزوج أو لأجنبي، ومفوَّضة أي: فُوِّض أمرها إلى الغير. إذا طلقت هذه المفوَّضة قبل الدخول، ففي هذه الحالة ليس عندنا فريضة وليس هناك مهر مسمى، فالشريعة جاءت بأنه إذا وقع فراق وطلاق قبل الدخول وليس هناك مسمىً فإن للمرأة المتعة؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236]. وفي الآية الثانية قال في المطلقة عموماً: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] وذكروا عن شريح أبي أمية القاضي الكندي رحمه الله -وكان ولي القضاء لثلاثة من الخلفاء الراشدين، فنعم المولي ونعم المولى، ولي لـ عمر وعثمان وعلي رضي الله عنه وكان إماماً في القضاء- أن رجلاً طلق امرأة فأمره أن يمتعها فأبى، فتلا عليه الآية الأولى، فامتنع، ثم تلا عليه الآية الثانية، فامتنع، الآية الأولى: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236] والآية الثانية: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] فأصر الرجل وقال: ما دامت متعة وليست بواجب فلا أريد أن أمتعها، من غضبه من زوجته -نسأل الله السلامة والعافية- صم وعمي عن أمر الله عز وجل وندبه، فشاء الله عز وجل أن تمر الأيام فاحتاج قوم إلى شهادة هذا الرجل، فجاءوا به إلى شريح فقال: والله لا أقبل شهادته، إنك أبيت أن تكون من المحسنين، وأبيت أن تكون من المتقين، فاصرف وجهك عني، فطرده ولم يقبل شهادته؛ لأن المؤمن لا يرد هذه الأوامر الشرعية ولا يستخف بها، والله يقول: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237]، ولذلك لا ينبغي إذا وقع الطلاق والفراق أن ينسى كل من الزوجين الآخر، بل ينبغي أن يكون هناك نوع من الحفظ للعهد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (حفظ العهد من الإيمان). فلو سُئلت عن المطلقة قبل الدخول، تقول: لها حالتان: إن كانت قد سمي لها المهر فنصف ما سمي. وإن لم يُسَمَّ المهر فلها المتعة حقٌ واجبٌ على المحسنين، والدليل قوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:236] أي بما جرى عليه العرف، أو بالمعروف، والمعنى: أنه يمتعها مصاحباً للمعروف، بدون منة، فلا يعطيها المتعة يمتن بها، أو يؤذيها أو يصيبها بنوع من الإضرار، إنما يكون هذا بالمعروف على سبيل المكارمة على الوجه الذي أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم: {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236]. فهذه الآية تدل دلالة واضحة على إثبات المتعة، والمتعة تكون بالمعروف، أي: على حسب حال الزوج، فإن كان الزوج غنياً نظر في مثله، فمثلاً: لو جرى العرف أن مثله يمتع بهدية بثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، فيشتري لها ذهباً بثلاثة آلاف ويبعثه إليها. والسبب في أن الله جعل على الموسع قدره وعلى المقتدر قدره: أنه إذا كان من بيئة غنية فالله يريد أن يربط بين الزوج والزوجة بحفظ العهد، فحينما يعطيها شيئاً يليق بغناه ويسره تكون فعلاً هدية، ويكون لها معنى الهدية، لكن حينما يكون غنياً ثرياً بسط الله عليه من رزقه ويأتيها بشيء تافه يصبح بدل أن يتضمن معنى المكارمة يصبح متضمناً لمعنى الإهانة، فيخرج عن مقصود الشرع. فإذاً لابد أن ينظر إلى حال الزوج، وأن يتقي الله عز وجل فيما أمره الله به وندبه إليه. قال رحمه الله: [ويستقر مهر المثل بالدخول]. إذا دخل الزوج على زوجته وهي مفوضة فيستقر مهر المثل بالدخول، ويثبت في هذه الحالة، ويكون حقاً كاملاً لها. قال رحمه الله: [وإن طلقها بعده فلا متعة]. أي: طلقها بعد الدخول فلها المهر كاملاً، وليست من الممتعات، يريد أن يقول: إنه يثبت لها المهر. وقوله: (فلا متعة) ليس المراد أنه ما لها شيء، إنما مراده أنها لا تصبح من ذوات المتعة، وإنما تصبح من ذوات الصداق، أي: اللاتي لهن المهر والصداق كاملاً.

حكم المهر في العقد الفاسد

حكم المهر في العقد الفاسد قال رحمه الله: [وإن افترقا في الفاسد قبل الدخول والخلوة فلا مهر]. رحمة الله عليهم، مثلما ذكرنا دائماً يحرصون على ترتيب الأفكار، ذكر أولاً: حكم الصداق وصفات الصداق. ثم: متى تملك المرأة صداقها؟ ثم بعد ذلك: إذا تغير الصداق بالزيادة والنقص، ثم بعد ذلك: إذا نكحت المرأة بدون صداق، ثم تدرج معنا في مسائل المفوضات إذا نكحها بدون صداق فطلقها قبل الدخول، وإذا نكحها بدون صداق فمات عنها، وإذا نكحها بدون صداق فطلقها بعد الدخول. فهذه كلها أفكار مرتبة، وبعد أن انتهى من هذا كله شرع رحمه الله في فرع جديد.

الحكم فيما لو حصل التفريق في نكاح فاسد قبل الدخول

الحكم فيما لو حصل التفريق في نكاح فاسد قبل الدخول قال رحمه الله: [وإن افترقا في الفاسد قبل الدخول والخلوة فلا مهر]. العلماء رحمة الله عليهم، مثلما ذكرنا دائماً يحرصون على ترتيب الأفكار، ذكر أولاً: حكم الصداق وصفات الصداق. ثم: متى تملك المرأة صداقها؟ ثم بعد ذلك: إذا تغير الصداق بالزيادة والنقص، ثم بعد ذلك: إذا نكحت المرأة بدون صداق، ثم تدرج معنا في مسائل المفوضات إذا نكحها بدون صداق فطلقها قبل الدخول، وإذا نكحها بدون صداق فمات عنها، وإذا نكحها بدون صداق فطلقها بعد الدخول. فهذه كلها أفكار مرتبة، وبعد أن انتهى من هذا كله شرع رحمه الله في فرع جديد، فقال: (وإن افترقا في الفاسد قبل الدخول) شرع في مسألة تتعلق بالنكاح الفاسد، إذ أن ما سبق كله في النكاح الصحيح الشرعي، لكن لو أن رجلاً تزوج امرأة بنكاح الشغار، أو لو أن رجلاً تزوج امرأة بنكاح التحليل، أو لو أن رجلاً تزوج امرأة بنكاح المتعة والعياذ بالله، فهذه الأنكحة كلها باطلة وحكم الشرع بفسادها، وما بني على باطل فهو باطل، والفرع تابع لأصله، ففروع الأنكحة وما يترتب على الأنكحة إنما يترتب على أنكحة صحيحة ينهدم بانهدامها، أي: إذا حكم بفساد النكاح فإنه يحكم بفساد آثار النكاح. وعلى هذا: ففي نكاح المتعة مثلاً، إن تزوج رجل امرأة وحدد مدة الزواج فقال لها: أتزوجك شهراً أو شهرين، أو سنة أو سنتين، فاتفقا على هذا النوع من النكاح، وجعل المهر خمسة آلاف، وكان رجلاً جاهلاً ثم تبيّن له أن هذا حرام، أو كانوا في بيئة ليس بها علماء ثم ارتفعوا للعلماء وسألوا فقالوا لهم: إن هذا حرام، فحينئذٍ سيفرق بينهما ويلغى النكاح ولم يدخل بها بعد، فيفرق بينهما ولا يترتب أي أثر على هذا، ويصبح وجود هذا النكاح الفاسد وعدمه على حد سواء، فالله تدارك باللطف أنه لم يقع دخول. فأي نكاح فاسد قبل الدخول لا يلتفت إليه إذا فسخ وألغي؛ لأنه لاغ من أصله وليس له أثر، فهذا هو الذي يقصده المصنف: أن الأنكحة الفاسدة لا يترتب عليها صداق إذا وقعت الفرقة قبل الدخول.

الحكم فيما لو حصل التفريق في نكاح فاسد بعد الدخول

الحكم فيما لو حصل التفريق في نكاح فاسد بعد الدخول قال المصنف: [وإن افترقا في الفاسد قبل الدخول والخلوة فلا مهر وبعد أحدهما يجب المسمى]. (وبعد أحدهما) لو أن رجلاً نكح امرأة بمهر ثم تبين فساد هذا النكاح، كأن ينكحها بدون ولي، وفرض لها مهراً خمسة آلاف ودخل عليها، فلها المهر بما استحل من فرجها، قال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها) فحكم ببطلان النكاح، وأثبت لها المهر بالدخول (فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها). ثم ننظر، فإن وقع الاتفاق على مهر معين فقد رضيت لنفسها أن يصيبها، وتنازلت عن حقها بهذا المسمى، فيكون لها المسمى، فيفرض لها المسمى الذي اتفق عليه.

حكم المهر لمن وطئت بشبهة أو إكراه

حكم المهر لمن وطئت بشبهة أو إكراه قال رحمه الله: [ويجب مهر المثل لمن وطئت بشبهة أو زناً كرهاً]. (ويجب مهر المثل لمن وطئت) الموطوءة بالزنا كرهاً أو الموطوءة بالشبهة الأصل أن وطأها لا يجوز، ولكن وجود العذر من الإكراه على الزنا أوجب لها مهر البكر كاملاً إن كانت بكراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها)، فهي مغلوبة على أمرها، وحينئذٍ يكون لها مهر مثلها؛ لأنه فوت عليها هذا الحق، ويدرأ عنها الحد لوجود الإكراه على الصحيح من أقوال العلماء، وسيأتينا -إن شاء الله- في باب الجنايات أنه يدرأ عنها الحد ولا يقام عليها إذا أكرهت؛ لأن الله أسقط بالإكراه الردة، فمن باب أولى الزنا الذي هو دون الردة، ويكون لها مهر المثل يفرضه عليه الحاكم. وكذلك نكاح الشبهة، شبهة عقد، أو شبهة اعتقاد، أو شبهة ملك، هذه ثلاثة أنواع من الشبهة تؤثر في النكاح، شبهة عقد بأن يعقد على امرأة يظن أنها تحل له بهذا العقد، مثلما يقع في عقد نكاح الشغار، مثلاً: لو أن رجلاً زوج ابنته لآخر على أن يزوجه الآخر ابنته بنكاح الشغار، ولم يعلما حكم الشغار، وحصل الوطء، هذا وطئ ابنة هذا وهذا وطئ ابنة هذا، فحينئذٍ يصبح هذا وطء شبهة، أي: عنده شبهة، وهي شبهة العقد، حيث يظن أن هذا العقد عقد نكاح صحيح، وتكون كذلك شبهة العقد فيما لو أن رجلاً عقد على امرأة وهو لا يعلم أنها متزوجة ويظن أنها خلو، وعقد بها عقداً شرعياً، ودخل بها، ثم تبين أنها خدعته وأن أولياءها خدعوه. وكذلك يدخل في شبهة العقد ما إذا غاب رجل غيبة، وانقطع عن زوجته، فحكم الحاكم بانتقالها عن زوجها فطلقها، فتزوجت بزوج ثانٍ، فإن هذا العقد يبيحها له ويحلها له، فلو رجع الغائب، فمن يقول: إنها على عقد الأول، يرى أن وطء الثاني وطء شبهة عقد؛ لأنها في الأصل تابعة للأول، وعلى هذا يكون من شبهة العقد. شبهة الملك، مثل: شبهة أنها مملوكة له، مثلما يقع في ملك اليمين، كما لو اشترى أمة ووطئها بملك اليمين، ثم تبين أنها حرة وبيعت مغصوبة، فإنه كان يطؤها على أنها ملك يمين له، ثم تبين أن هذه الشبهة غير صحيحة. فمثل هذه المسائل يكون فيها المهر للمرأة، فيجب عليه المهر على التفصيل الذي ذكرناه، ويرجع على من غشه ويطالبه بالضمان، وحينئذٍ يضمن الذي غشه، والحاكم (القاضي) يعزر هذا الذي اقتات وظلم المرأة ببيعها وهي حرة. فالشاهد أنها إذا وطئت بشبهة أو بزناً لكن بشرط الإكراه فلها المهر، فلو كان الزنا -والعياذ بالله- برضا من المرأة لم يكن لها حق، فلا مهر لبغي، ولذلك (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الدم وحلوان الكاهن ومهر البغي) فالبغي لا مهر لها؛ لأنها رضيت -والعياذ بالله- بإسقاط حقها، وأتت ما حرم الله عز وجل بطيبة نفس منها، فيضيع حقها وليس لها المهر بسبب ذلك. قال رحمه الله: [ولا يجب معه أرش بكارة]. (ولا يجب معه) أي: مع مهر المثل (أرش البكارة) وبعض العلماء يسمونه: العقر، ويحكم بالعقر في بعض المسائل في الشبهات، ولكن اختار المصنف هنا ما ذكرناه من أن لها مهر المثل.

ضوابط تسليم المرأة نفسها في الصداق المعجل والمؤجل

ضوابط تسليم المرأة نفسها في الصداق المعجل والمؤجل

امتناع المرأة من التسليم حتى تقبض صداقها المعجل

امتناع المرأة من التسليم حتى تقبض صداقها المعجل قال رحمه الله: [وللمرأة منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال] إذا اتفقا على كون الصداق معجلاً وحالاً فإن من حقها أن تقول: أنا لا أمكنك من نفسي ولا تدخل عليّ حتى تدفع لي مهري، هذا من حقها؛ لأن الله يقول: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24] فأثبت المهر لها. فإن اتفق معها على أنه يعقد عليها بصداق معجل يدفعه قبل الدخول، فإن من حقها أن تمتنع من تمكينه من الدخول؛ لأنه يستند في التمكين من الدخول إلى العقد، والعقد معلق على شرط، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج).

حكم امتناع المرأة إذا كان الصداق مؤجلا

حكم امتناع المرأة إذا كان الصداق مؤجلاً قال رحمه الله: [فإن كان مؤجلاً أو حل قبل التسليم أو سلمت نفسها تبرعاً فليس لها منعها]. قال رحمه الله: (فإن كان مؤجلاً) إن كان الصداق مؤجلاً، بأن يكونا قد اتفقا على أنه يعطيها الصداق بعد خمس سنوات وأنه يدخل بها متى شاء، فجاءها وقال: أريد أن أدخل بك، فقالت: لا تدخل حتى تعجل لي الصداق، فإنه يفرض عليها الحاكم أن تمكنه من الدخول بها؛ لأنها رضيت بتأخير الصداق، فليس من حقها أن تمنع نفسها منه إن رضيت بتأجيله؛ لأنها أسقطت حقها في التعجيل.

حكم امتناع المرأة إذا كان الصداق مؤجلا وقد حل وقت أدائه

حكم امتناع المرأة إذا كان الصداق مؤجلاً وقد حل وقت أدائه قوله رحمه الله: (أو حل قبل التسليم). أي أنها اتفقت معه على أن الصداق مؤجل، فحل أجله قبل التسليم، فمن حقه أن يدخل بها قبل أن يعطيها. توضيح ذلك: مثلاً لو أنها اتفقت معه على دفعه لها بعد سنتين أو ثلاث سنوات، فقد رضيت بتأجيله، فحينئذٍ لا يتوقف الدخول على دفع المهر، فلو حل هذا الصداق وجاء أجله والزوج ماطل وتأخر فمن حقه أن يدخل بالزوجة، ثم هي تقيم دعوى على مطالبته بحقوقها، فإن كان غنياً أعطاها حقها، لكن لا تمنعه من حق وطئها كزوج، وهذا من انفصال الجهة، إذ هو له حق الوطء والاستمتاع، وهي لها حق المطالبة بالمهر، ثم المهر يتعجل ويتأجل على ما يتفقان عليه، فإن هي رضيت به مؤجلاً لم يكن من حقها أن تمنع الدخول بتأجيله؛ لأنها رضيت به مؤجلاً، والعكس كذلك. فالشاهد: أنها إذا أوجبته عليه معجلاً كان من حقها أن تمنعه من الدخول حتى يعطيها حقها، فكلا الطرفين له حقه، فإن قالت المرأة: رضيت بمهري مؤجلاً بعد خمس سنوات أو ست سوات فقد رضيت بتأجيله، فحق الزوج أن يدخل عليها حتى قبل أن يعطيها؛ لأنها رضيت بالتأجيل، فيدخل بها، وإذا امتنعت فإنه يوجب عليها الحاكم الطاعة لزوجها. هذه فائدة الخلاف: أنها إذا امتنعت يفرض عليها الحاكم وعلى أوليائها أن يسلموها لزوجها؛ لأنه من حق الزوج أن يستمتع بزوجته، فإذا ماطلت وامتنعت فرض عليها ذلك بحكم العقد، ولو أن الزوج وافق أن يعطيها صداقها قبل الدخول فقال لها: ما عندي الآن وأريدكِ كزوجة لا تمنعيني من نفسكِ، فقالت: لا تدخل عليّ حتى تدفع المهر، واختصموا، فالقاضي يقضي على أنه لا يدخل بها حتى يعطيها مهرها. فإذاً: عندنا حق للزوج في الدخول، وحق للزوجة من جهة المهر، فإن اتفقا على التأجيل جاز الدخول قبل حصول الأجل، وإن اتفقا على التعجيل فمن حقها أن تمتنع حتى يعطيها حقها، وإذا تنازلت عن حقها فالأمر إليها.

حكم إعسار الزوج بالمهر الحال

حكم إعسار الزوج بالمهر الحال [فإن أعسر بالمهر الحال فلها الفسخ ولو بعد الدخول ولا يفسخه إلا حاكم]. (فإن أعسر) أي: الزوج، مثلاً: رجل عقد على امرأة بعشرة آلاف ريال، ثم أصبح فقيراً معسراً والمهر حال عليه، فالمرأة لما رأته معسراً قبل الدخول رفعت أمرها إلى القاضي، وقالت: أريد أن تفسخ نكاحي من فلان ما دام معسراً، فأنا لا أريد أن أعرض نفسي لضرر الفقر، وأخشى على نفسي إن كنت عند رجل فقير أن أتعرض للحرام، أو أتعرض لأذية أقاربي. إلخ المهم أنها لم ترضَ هذا الزوج بإعساره، فحينئذٍ من حقها ذلك ويفسخ النكاح؛ لأن النكاح مبني على المقابلة والمعاوضة، فإذا ماطل الزوج في حقها واشتكت إلى القاضي، فللقاضي أن يفسخ النكاح، وحينئذٍ يفرق بينهما. (ولو بعد الدخول) كذلك بعد أن يدخل بها إن أعسر بمهرها فلها ذلك، لأن النكاح مبني على المعاوضة، وحينئذٍ من حقها أن تفسخ النكاح، وهذا يسمى خيار الإعسار، ويكون تارة إعساراً من جهة الزوج في نفقته على زوجته، ويكون تارة من جهة الزوج في مهر زوجته، هاتان صورتان ذكرهما العلماء رحمهم الله في الإعسار.

الرجوع في قضايا الفسخ بالإعسار إلى الحاكم

الرجوع في قضايا الفسخ بالإعسار إلى الحاكم [ولا يفسخه إلا حاكم]. ولا يفسخ هذا النوع من الأنكحة إلا حاكم، وهو القاضي الذي له حق النظر في هذه الخصومات، فلا يأتي طالب علم فيفتي في هذه المسائل، لأن مسائل الخلاف بين الناس تحتاج إلى القضاة، والقاضي ينصف الخصمين بأصول الشريعة، والضوابط الشرعية في القضاء أنصفت كلا الخصمين. فالمفتي في هذه المسائل لا يتدخل، وطالب العلم لا يفتي في هذه المسائل، إنما يحيلهم على القاضي؛ لأنها مسائل يحصل فيها الخلاف، فالإعسار يحتاج إلى إثبات، والإثبات يحتاج إلى نظر ورجوع إلى أهل الخبرة، فليس كل من هب ودب يفتي في هذه المسائل أو يتكلم، فيها وإنما ترد إلى القضاة. ومن هنا في هذه الأزمنة جرت العادة في مسائل الطلاق أن لا يفتي فيها كل أحد، من كثرة مشاكل الناس والكذب. فالمسائل التي فيها خلاف ويحدث فيها تلاعب ترد إلى القضاة وترد إلى ولاة الأمر؛ لأن الناس بغير ذلك يصبحون في فوضى. ففي زماننا مثلاً يأتيك الرجل -وهذا قد حدث وسمعناه ورأيناه- ويقول لك: قلت كذا وكذا، فتأتي المرأة تقول: لا، بل قال: كذا وكذا، ويأتي الرجل ويقول لك: قلت كذا وكذا، ويترك كلمة أو لفظه أو حالة للمرأة، والمرأة أيضاً تقول شيئاً غير الذي يقوله الرجل، فعندما تربط هذه المسائل بالقضاء وتربط بكبار العلماء يعرف الناس خطر الطلاق، ويعرف الناس خطورة هذا الباب، فما كل واحد يطلق، فإنه حينما يتعنى ويتعب، ويظل يتصل بأشخاص معينين وبعلماء معينين، ويجد نوعاً من التعب والعنت، فيهاب هذا الباب، ويصبح من مصالح الناس وعامة الناس أن يربطوا بكبار العلماء أو يربطوا بالقضاة، حتى يشعروا بخطر الطلاق، ولا يتلاعب بالطلاق. وهذا يقع، خاصة عند فساد الأزمنة، تجد الرجل -نسأل الله السلامة والعافية- في بعض الأحيان لا يخاف الله ولا يتقيه، فربما يأتي ويقول لك: قلت: أنتِ طالق، وهو قد يكون قال لها: أنتِ طالق بالثلاث، وقد يقول: قلت لها: أنتِ طالق طالق طالق، فيسمع أنه إذا قال: أنتِ طالق طالق طالق، تحتمل المرة، فيصرف في الألفاظ ويحرف في الألفاظ على ضوء ما يسمع من الفتاوى، ويأتي إلى شيخ جليل معروف موثوق به، أو يقول لأولياء المرأة: نذهب إلى فلان نقبل فتواه، فيأتيه بالعبارة التي سمع أنها لا تؤثر، وهذا من أبلغ ما يكون في انتهاك حدود الله -نسأل الله السلامة والعافية- فإنه لو غير لفظة أو كلمة يريد أن يحتال بها على الله وعلى دين الله فلن ينفعه؛ لأن فتوى المفتي وقضاء القاضي لا يحل الحرام، ويصبح هو وامرأته على الزنا -والعياذ بالله- لو كانت حراماً عليه. فالأمر في هذا جد خطير، ولذلك العلماء قالوا: الفسخ عند الحاكم [ولا يفسخه إلا حاكم] أي: في مسائل الخلاف، وفي عصورنا الآن جرت العادة أن ترد مسائل الطلاق لكبار العلماء؛ لوجود الخلاف بين الناس ووجود التلاعب بين الناس. واقتضت الحكمة أن مثل هذه المسائل لا يفتح فيها الباب لكل من هب ودب أن يفتي، حتى لا يصبح الناس فوضى، هذا يقول: حلال، وهذا يقول: حرام، وهذا يقول بالتفصيل، فيضيع الناس، ولا يدرون أين يذهبون. فالفتاوى في مثل هذه المسائل، والبت والحكم في هذه المسائل يرجع فيه إلى من له حق النظر فيها، حتى يكون أبلغ في إقامة الناس على السنن.

باب وليمة العرس

شرح زاد المستقنع - باب وليمة العرس من مظاهر الائتلاف بين المسلمين اجتماعهم في وليمة العرس، وهذه الوليمة مشروعة من غير إسراف، ومن حقوق المسلم إجابة دعوته لهذه الوليمة إلا إذا كانت مشتملة على منكر، وهي من إعلان النكاح المأمور به، وهذه الأحكام وغيرها تجدها في هذه المادة.

مشروعية وليمة العرس

مشروعية وليمة العرس بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [باب وليمة العرس] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الآداب والسنن والأحكام المتعلقة بالوليمة لعقد النكاح. والوليمة لعقد النكاح سنة وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفظت من هديه، بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لـ عبد الرحمن بن عوف حينما رأى عليه تغيراً في حاله وهيئته (مهيم؟) أي: ما هو الشأن والحال؟ وهي كلمة استفهام بلغة أهل اليمن، فقال: تزوجت، فقال: (بارك الله عليك! ما أصدقتها؟) قال: وزن نواة من ذهب، فقال صلى الله عليه وسلم: (أولم ولو بشاة)، فقوله عليه الصلاة والسلام: (أولم) أمر، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام الأمر بالوليمة، فدل على مشروعية الوليمة للعرس والنكاح، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أولم لنسائه، وما تزوج امرأة إلا وأولم لزواجها، فدل على مشروعية وليمة النكاح.

المصالح في وليمة العرس

المصالح في وليمة العرس ومن المقاصد والمصالح العظيمة المترتبة على هذه الوليمة: أنها فرق بين النكاح والسفاح، فهي من إعلان النكاح، والنكاح يعلن، والسفاح يُسَرّ، فإذا أولم عرف الناس أن هناك زواجاً. ومن مصالحها: ثبوت النسب، فإذا جاءه الولد من هذه المرأة عرفوا أنه من زوجته، وثبت النسب للولد، وما يستطيع أحد أن ينكره، فلو مات هذا الزوج وقال أولياؤه: هذا ليس بولدنا، شهد الناس أنه ولده، فتثبت الحقوق للناس. ومن مصالحها: حصول الألفة والمحبة والمودة بين الناس، فهي سبب لترابط الناس وتواصلهم، لا من جهة القرابة فحسب بل حتى الأباعد، فإنهم يتواصلون، والمسلم يحب في حال فرحه أن يرى الناس بفرحه يفرحون، وبذلك يحس بأخوة الإسلام، ويشعر بالمودة والمحبة، فتقوى أواصر الأخوة بين المسلمين، ويتكاتفون ويتعاطفون. إضافة إلى ما جرت به العادة في مثل هذه الولائم من بعض الأمور الطيبة، كمساعدة الناس بعضهم لبعض، سواءً وقعت المساعدة والمعونة مادياً أو معنوياً فكل ذلك مما يدخل السرور، ومما يكون فيه دلائل وشواهد على المحبة والأخوة، ففيها مصالح عظيمة، وقد جاء الشرع بتحقيق المصالح ودرء المفاسد.

مقدار وليمة العرس

مقدار وليمة العرس قال رحمه الله: [تسن بشاة فأقل]. تسن وليمة النكاح بشاة، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: (فأقل) أي: ممكن أن يكون أقل من الشاة، كأن يصنع طعاماً بدون لحم، وهذا أيضاً من السنة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم على صفية بالسويق والتمر، وهذا ليس فيه لحم. لكن الأفضل والأكمل أن يذبح؛ لما في ذلك من الإكرام، شريطة ألا يصل ذلك إلى الإسراف والخيلاء والرياء والسمعة، فمن راءى راءى الله به، ومن سمع سمع الله به، والمبالغة في ولائم النكاح لا تُقرب البعيد، ولا تُبعد القريب، وإنما تأتي بالشر والوبال على صاحبها، فقد يمحق بها بركة زواجه. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن خير النساء أيسرهن مئونة، وهذا مشاهد ومجرب، فإن المرأة إذا نكحت وغالى أولياؤها في المهر، وغالوا في كلفة الزواج؛ قل أن يبقى الزوج مع زوجته، وإذا بقي معها لم يبارك له فيها، والعكس بالعكس، فكم وجدنا من أنكحة بقيت وبورك فيها بسبب يسرها، وعدم وجود الكلفة فيها. فالسنة ألا يتكلف، لكن لو أن إنساناً له قرابة كثيرون، فدعا أقرباءه، ودعا جيرانه، ودعا أصدقاءه؛ لأنه إنسان معروف، وأحبته ومن يعاشره كثيرون، فجمعهم وقصد وجه الله في جمعهم وهو قادر على أن يخصها ببعض القرابة، لكن جمع هؤلاء وذبح وهو لا يريد الرياء ولا يريد السمعة؛ فهو على خير وبركة، خاصة إذا قصد معاني الأخوة الطيبة فإن الله يأجره. ولذلك يقولون: العادة تنتقل عبادة بالنية، فإذا نوى أجر، أما لو فعل ذلك على أصل مباح فلا أجر ولا وزر.

حكم وليمة العرس

حكم وليمة العرس قال رحمه الله: (تسن)، وقال بعض العلماء: تجب، والوجوب من حيث النص أقوى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عبد الرحمن بن عوف: (أولم ولو بشاة)، وهذا أمر، والأمر للوجوب على الأصل، ولا صارف. لكن صرف بعض الفقهاء هذا الأمر عن ظاهره بأن النكاح نفسه ليس بواجب فمن باب أولى ما بني عليه، ورد بأن ابتداء السلام ليس بواجب فإذا وقع فإنه يجب رده، فلا يمتنع أن يكون الشيء ليس بواجب ويكون ما ينبني عليه واجباً، فقد تكون الصلاة نافلة لكن إذا دخل فيها وشرع فيها صارت لها أركانها وشرائطها وواجباتها، فالنكاح في الأصل ليس بواجب عليه لكن إذا دخل فيه لزمه أركانه وشروطه، وقالوا: إنه يكون حينئذٍ مترتباً على الدخول في النكاح، وليس مبنياً على النكاح.

وقت وليمة العرس

وقت وليمة العرس مسألة: بعض العلماء يقول: تفعل الوليمة قبل الدخول، مثلما يقع الآن حيث تكون الوليمة في ليلة الدخول كعشاء للناس أو غداء، ثم يدخل على المرأة بعد حصول العشاء أو الغداء. وقال البعض: لا تكون الوليمة إلا بعد الدخول؛ لأن عبد الرحمن رضي الله أولم بعد دخوله، والنبي صلى الله عليه وسلم أولم بعد أن بنى بـ صفية، والأصل والأقوى أن تكون الوليمة بعد الدخول؛ لأنه يتحقق فعلاً وقوع الزواج. لكن سامح العلماء في ذلك وقالوا: إذا جرى العرف بشيء فإن الإنسان يساير العرف ولا بأس في ذلك، يعني: إذا جرى العرف بهذا فإن الإنسان يفعل ما تعارف الناس عليه، ومن الصعوبة بمكان أن الإنسان يخالف المعروف المألوف فيما هو من جنس المباحات؛ لأن هذا من جنس المباحات وليس من جنس الإلزام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل الوليمة بعد الدخول إلزاماً، وهناك فرق بين الواقع قصداً والواقع اتفاقاً، وأياً ما كان فإنه لو بنى بالمرأة ثم صنع الطعام بعد ذلك فلا بأس، ولو حصل العكس فلا بأس، وكل ذلك -إن شاء الله- واسع.

حكم إجابة الدعوة لوليمة العرس

حكم إجابة الدعوة لوليمة العرس قال رحمه الله: [وتجب في أول مرة إجابة مسلم يحرم هجره إليها]. يجب على المسلم أن يجيب دعوة أخيه المسلم إذا دعاه إلى وليمة النكاح، ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن حق المسلم على أخيه المسلم إذا دعاه أن يجيب. قال العلماء: شدد في وليمة النكاح؛ لأنه إذا لم يجب كسر خاطر أخيه المسلم، ولربما قابله بنفس الفعل فتتقطع أواصر الأخوة بين المسلمين، وفي ذلك من المفاسد والأضرار ما لا يخفى. ولذلك شُدِّد في وليمة النكاح أكثر من غيرها؛ لأن مقصود الشرع: الإشهار، والإشهار لا يقع إلا بالحضور، فإذا حضروا وعلموا اشتهر، فيجب عليه أن يجيب. قال: (أول مرة) الذي هو أول يوم، وكانوا في القديم ربما استمرت الولائم ثلاثة أيام، وكانت هذه عادة موجودة في بعض المناطق، ولا تزال في بعض البيئات، وكانت في القديم لمشقة السفر، فيجعلون أول يوم في بعض الأحيان للقرابة، حيث كانت أحوال الناس ضيقة، وكان من الصعوبة أن تجمع لك الألف والألفين على طعام واحد، فكانوا يجعلون الإكرام أولاً للقرابة، ثم اليوم الثاني يقوم القرابة بإكرام الجيران ونحوهم، وربما جعلوها ثلاثة أيام، فقالوا: إذا كانت ثلاثة أيام فاليوم الأول هو الذي تجب فيه الإجابة، فإذا دعيت للمرة الثانية في اليوم الثاني فإن هذا موسع عليك فيه، إن شئت أجبت وإن شئت تركت، وأما اليوم الثالث -كما جاء في حديث أبي داود - فإنه رياء وسمعه؛ لأنهم إذا فعلوا الطعام في اليوم الأول وفي اليوم الثاني فلا حاجة لليوم الثالث، فما هو إلا مبالغة. وأخذ بعض العلماء من هذا: أن التوسّع في الولائم يسقط الحق، فإذا فعل وليمة فيها نوع من الإفراط والمبالغة فمن حقك أن تتخلف عن هذه الوليمة. وأيَّاً ما كان فقالوا: إن اليوم الأول حقه؛ لأنه هو الأصل في إجابة الدعوة، فلو كرر اليوم الثاني ودعاك مرة ثانية أن تحضر فأنت بالخيار إن شئت حضرت وإن شئت لم تحضر، وأما اليوم الثالث فإنه يوم رياء وسمعة فلا يُحضر، ولذلك كره العلماء رحمهم الله الحضور في هذا اليوم الثالث، وهذا الذي جعل المصنف يقول: (أول مرة) ومراده: إذا وقعت أكثر من يوم، وفي حكم أكثر من يوم: ما يفعله بعض الناس في أعرافهم الآن بأن يصنع غداءً وعشاءً وغداءً في اليوم الثاني، فيجعلون الغداء قبل الدخول بالمرأة، والعشاء ليلة الدخول، والغداء في اليوم الثاني بعد الدخول. ولا شك أن في هذه الأمور كلها إضراراً بأهل الزوجة والزوج، وكلها مبنية على شيء من العادات التي كثير منها أشبه بإضاعة الأموال أكثر من تحقيق المصالح الشرعية، فإنه إذا جاء الناس مرة واحدة فما الداعي أن يدعوا مرة ثانية؟! إذا كان المقصود الإشهار فقد حصل في المرة الأولى، صحيحٌ -كما ذكرنا- في القرى والمناطق الضيقة قد يوجد الضرر بدعوة الناس جميعاً مرة واحدة، فهذا وسع فيه بعض العلماء، لكن لا تكرر الدعوة للشخص الواحد، فإن كررت جرى الحكم على التفصيل الذي ذكرناه، فيكون أهل الزوجة والزوج معذورين في دعوة الناس مرتين أو ثلاثاً لضيق المكان وضيق الحال وعدم القدرة على احتواء الناس؛ لكن بمخالفة أنواع الناس، كأن يدعوا القرابة يوماً ويدعوا الناس الآخرين يوماً ثانياً. فلو وقعت الوليمة بدعوة القرابة في النهار، ودعوة غير القرابة مع القرابة في الليل فلا بأس، فأحضر وأتجمل مع قرابتي وأقوم بحقوقهم، وأحرص في يوم القرابة أن أكون موجوداً لما فيه من صلة الرحم، يقول العلماء: وتكون إجابة الدعوة مغلظة بالقرابة، فإجابة القريب أعظم من إجابة الغريب، وإجابة الجار أعظم من إجابة غير الجار، فتتفاوت مراتبها، وتكون الإساءة بتركها أعظم على حسب حق الداعي.

حكم إجابة دعوة المبتدع

حكم إجابة دعوة المبتدع ومحل الإجابة ألَّا يكون الداعي من جنس من أمر الشرع بهجره كالمبتدع، فإن أهل البدع يُهْجَرون، والمراد بذلك: البدع التي تكون في أصل الدين مما يوجب الخروج من الملة، وهي البدعة الكفرية، وهذا لا إشكال فيه، والبدعة الاعتقادية أشد ما يكون من البدع. أما البدعة المختلف فيها في الأمور الفرعية مثل: شخص يقبض بعد الركوع في الصلاة، والشخص الآخر يقول: لا أقبض وأرى أن القبض بعد الركوع بدعة، فما يأتي ويقول: هذا مبتدع! إنما هو في حق نفسه إذا صنع هذا فهو سنة، وإذا تركه وهو لا يعتقد أنها سنة فلا يبدِّع من يقبض، ولا يأتي لشخص يقبض ويقول له: أنت تفعل بدعة! لا، وليس من حقه هذا بإجماع العلماء، فلو ترجح عندك دليل القبض بعد الركوع فتقبض وتعتقده سنةً وأنت مثاب على قبضك وعلى السنة؛ لأن عندك الدليل وعندك الحجة، وغيرك ممن لا يرى القبض بعد الركوع ليس من حقه أن يقول: أنت مبتدع، ويهجرك؛ لأن هذا لاعتقاده هو. وكذلك جلسة الاستراحة، فلو كان يرى أن جلسة الاستراحة بدعة للشاب والقادر والجلد، ويراها سنة للعاجز المحتاج كما في حديث مالك بن الحويرث، والآخر يراها سنة مطلقة فجلس وهو قادر على القيام مباشرة، فليس من حق من لا يراها أن يبدع من يراها، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له. وعلى هذا نقول: إن المبتدع الذي يرتكب البدعة المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة، يحكم بتبديعه ويهجر، وحكى غير واحد من العلماء الإجماع على هجر المبتدع، وأخذوا أصل ذلك من هدي النبي صلى الله عليه وسلم حينما أمر الثلاثة الذين خلفوا أن يعتزلوا الناس، ألا يكلمهم الناس. فمثل هذا إذا كنت مأموراً بهجره فإن إجابة دعوته تخالف الأمر بالهجر، فلذلك نص المصنف رحمه الله على أن المأمور بهجره من أهل البدع كالرافضي ونحوه لا تجاب دعوتهم؛ لأن فيه نوع إقرار لهم على ما هم عليه من البدع ومخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم. وهكذا إذا كان هناك منكر كما سيأتي إن شاء الله، على التفصيل الذي سنذكره من حيث قدرته على تغيير المنكر وعدم قدرته.

حكم إجابة الدعوة عند التعيين

حكم إجابة الدعوة عند التعيين قال رحمه الله: [إن عينه ولم يكن ثم منكر]. (إن عينه) هذا هو الشرط، قال لك: يا فلان! تحضر، وهناك صيغ: الصيغة الأولى: أن يأمرك بالحضور. الصيغة الثانية: أن يخيرك. الصيغة الثالثة: أن يجعله معلقاً على محبتك. الصيغة الأولى: أن يقول لك: احضر زواجي، أريد أن تحضر زواجي، أدعوك إلى زواجي، فهذا عينك وطلب منك أن تحضر، فيجب عليك أن تجيب. صيغة التخيير أن يقول لك: أريدك أن تحضر زواجي إن شئت، فهذا ترك لك الخيار، فقال بعض العلماء: تصبح مخيراً، وكان بعض الأئمة كالإمام الشافعي يقول: إن علقه على التخيير والمحبة لا يجيبه؛ لأنه لم يبت له؛ لأنه لو أراد أن يدعوه لقال له: تحضر، لكن لما قال له: إن شئت، فمعناه أنه لم يدعُ دعوة الجزم، وليس هو من الأشخاص الذين يريد حضورهم فعلاً مؤكداً لحضوره، فإذا قال: إن شئت، إن أحببت، فقد جعل الأمر إليه. وقال بعض العلماء: إن شئت وإن أحببت، تختلف باختلاف الأشخاص الذين قيل لهم ذلك، فإن كان عند الشخص ظروف وعلقه الداعي على المشيئة لعلمه بوضعه، مثلاً: حدث حادث له، أو زوجته مريضة، أو ابنته مريضة، فجاء من باب الملاطفة حتى لا يحرجه ولا يجحف به فقال له: إن استطعت، إن أحببت، إن شئت، فهذا لوجود الموجب الذي يوجب هذا التخيير. وأما إذا لم يكن ثم موجب وحدث عنده زواج ويأتي يقول لك: تحضر إلى الزواج إن شئت، أريد أن تحضر إن أحببت، فهذا لو كانت المودة قائمة فإنه يحرجك ويجحف بك؛ لبالغ محبته لك ورجائه لحضورك، وهذا أمر يعلمه الجميع.

حكم إجابة الدعوة المشتملة على منكر

حكم إجابة الدعوة المشتملة على منكر وقوله: (ولم يكن ثم منكر) لأنه إذا كان هناك منكر فالحق لله عز وجل، فإن كنت تستطيع إنكاره وتغييره بحيث إنك إذا قلت يسمع قولك، وإن نهيت ينتهى بقولك؛ فإنه يجب عليك الحضور؛ لأنك إذا حضرت أقمت حق الله عز وجل. وهكذا إذا استطعت أن تحرج أهل الزواج كأن يكونوا أقرباء، فتقول لهم: إن كان هذا المنكر موجوداً فلن أحضر، وتشدد عليهم، وتعلم أنك إذا قلت هذا القول فإنهم يتركون المنكر فيجب عليك؛ لأن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

حكم إجابة الدعوة العامة

حكم إجابة الدعوة العامة قال رحمه الله: [فإن دعا الجفلى أو في اليوم الثالث أو دعاه ذمي كرهت الإجابة]. الجفلى: الدعوة العامة، كأن يقول: أيها الناس! أنتم مدعوون إلى زواجي، أو يأتي -مثلاً- في مجمع فيقول: حيا الله الجميع على عشائي أو غدائي، لكن في بعض الأحيان قد يحدث هذا في القرى التي يكونون قرابة وأبناء عم ونحو ذلك، فيفعلون هذا لأنه متعارف بينهم، فهي أشبه بالتعيين. لكن حينما يأتي إلى أناس متعددين، فيهم من يعرفه وفيهم من لا يعرفه، ويدعو دعوة عامة، فكان بعض العلماء يكره الإجابة في مثل هذا؛ لأنك لم تعين، والشخص إذا لم يعين فكأنه يذهب من أجل الطعام، وكأنهم كرهوا الإجابة من هذا الوجه، كرهه بعض أئمة السلف، ونص عليه المصنف هنا. دعوة الجفلى لا يكون فيها الانتقار، وهناك دعوة الانتقار التي هي التخصيص، إلا أن دعوة الجفلى من الناس الكرام المعروفين محمودة؛ لأنهم أهل كرم، ولذلك يقول: نحن في المشتاة ندعوا الجفلى لا ترى الآدب فينا ينتقر يفتخرون بأن الرجل منهم إذا أراد أن يدعو الناس دعاهم كلهم، ولا يأتي ويقول: يا فلان تحضر، ويحدد الأشخاص الذين يحضرون؛ لأن الذي يخاف على طعامه ويخاف على حاله يحدد المدعوين؛ لأنه لا يريد أن يتحمل أكثر من هؤلاء الأشخاص، لكن إذا كان كريماً، ولا يبالي بما أنفق ولا يبالي بما ذبح ولا يبالي بما أطعم، ويحب إطعام الناس ويحب إكرام الناس يفتح بيته ويدعو الناس، ويرى كل الناس معارفاً له، فإذا جاءه من يعرفه ومن لا يعرفه هش في وجهه كأنه يعرفه، وهذا من الكرم والجود، وهو صنيع أهل الفضل، وكان هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهدي الصالحين كذلك. فالخلاصة هنا: إذا حددك فله حكم، وإذا عمم فلا يجب عليك؛ لأنه إذا عمم يصبح فرضاً كفائياً، إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وقاعدة المسألة أن إجابة الدعوة في المعين لازمة، وهذا هو الأصل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا دعاك فأجبه). وإجابة الوليمة نص النبي صلى الله عليه وسلم على لزومها وأنها من حق المسلم على المسلم، وكما في حديث البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بإجابة الداعي، فهذا كله يدل على ثبوت الحق بالتعيين، وأما إذا عمم فالأمر كما ذكرنا. وقوله: (أو في اليوم الثالث كره) أي: دعاه في اليوم الثالث (كره) لأنها دعوة رياء وسمعة.

حكم إجابة دعوة الذمي

حكم إجابة دعوة الذمي وقوله: (أو دعاه ذمي)، العلماء يكرهون إجابة دعوة الذمي، وقد بينا ضابط أهل الذمة من أهل الكتاب، وبينا معاملة المسلمين لهم وحقوقهم على المسلمين وحقوق المسلمين عليهم، بينا هذا كله في كتاب الجهاد، ولكن إذا دعا الذمي مسلماً فبعض العلماء يقول: فيه تفصيل: إن كانت إجابتك للدعوة من أجل أن تدعوه للإسلام، وبشرط ألا يكون طعامه طعاماً محرماً كالميتة والخنزير والشراب المحرم كالخمر ونحوها؛ فإنه يجوز لك ذلك ويشرع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استضافه يهودي على خبز وإهالة سنخة، وكذلك أيضاً استضافته اليهودية -عليها لعائن الله تترى- لما وضعت السم في الشاة، فما وضعته إلا بعد دعوة النبي صلى الله عليه وسلم واستضافتها للنبي عليه الصلاة والسلام. قالوا: هذا يدل على أنه إذا رجا أن يدعوهم أو يتألفهم للإسلام فلا بأس، كالعالم والقاضي والإمام ونحوهم، وأما إذا كان من عامة الناس المسلمين فتكره؛ لأنه يخشى أن يؤثر عليه. وهكذا إذا علمت أن له غرضاً كمصلحة دنيوية، خاصة إذا كان موظفاً تحتك أو نحو ذلك فلا تجب الدعوة؛ لأنها أشبه بالرشوة؛ لأنه يريد أن يتوصل بها إلى مصلحته، والحكم لا يختص بالذمي، بل حتى لو دعاك من هو دونك في المرتبة لمصلحة في العمل والوظيفة من أجل محاباته فإنه لا يجوز لك إجابته، وكالطالب يدعو شيخه إذا كان تلميذاً عنده، كما هو موجود في المدارس أو نحوها فإنه لا يجيبه إلا إذا كانت دعوته عامة كدعوة الزواج فإنه يحضر زواجه، لكن إذا قال له: أريد أن تتغدى عندي أو تتعشى، بدعوة خاصة فإنه لا يجيب، وكالقاضي لا يجيب الناس إلى الدعوات الخاصة إلا ممن كان يدعوه قبل القضاء، أما بعد القضاء إذا دعاه فمن المعلوم أنه ما دعاه إلا لأجل أنه قاضٍ. وعلى هذا يفرق في دعوة الذمي بين أن يكون فيها مصلحة شرعية يقصد منها مقصود شرعي وبين غيرها. قالوا: إذا دعاك الذمي ولم يكن هناك غلبة ظن أنك تؤثر عليه فإنك إذا أكلت طعامه ستكون منة له عليك، واحتقارهم مطلوب شرعاً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه)، فشعورهم بعزة الإسلام وعلو الإسلام مقصود شرعاً، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه. وقد قالوا في الحكمة والمثل: (من أكل طعام قوم ذل لهم) يعني: تنكسر عينه، ويصبح كأنه ملك بذلك المعروف، فإذا أكل المسلم طعام الذمي كأنه صارت منة للذمي على المسلم، وأصبح الفضل للذمي على المسلم، وهذا سبيل لا ينبغي أن يمكن الذمي منه.

حكم إجابة الصائم للدعوة

حكم إجابة الصائم للدعوة قال رحمه الله: [ومن صومه واجب دعا وانصرف]. ومن كان صائماً صوماً واجباً فإنه يدعو لأهل الوليمة كما ثبتت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينصرف ولا يجب عليه أن يطعم. فعندنا أمران: - إجابة الدعوة والحضور. - والأكل من الوليمة. فإجابة الدعوة تتحقق بالحضور، والأكل من الوليمة، فإذا امتنع من الأكل لمكان الصيام فإن الحضور واجب عليه، إلا إذا وجد عذر يتعلق به أو وجد عذر شرعي كالمنكر ونحوه فهذا مما يستثنى. قال رحمه الله: [والمتنفل يُفطر إن أجبر ولا يجب الأكل]. قيل له: كل، أو أحرج فإنه يفطر، وهو متطوع أمير نفسه، وأما إذا امتنع المتطوع ولم يجبر وبقي على صيامه فلا بأس فـ ابن عمر رضي الله عنهما أثر عنه أنه حضر ودعا وصلى ثم انصرف وقال: (إني صائم).

متى يباح طعام الوليمة

متى يباح طعام الوليمة قال رحمه الله: [وإباحته متوقفة على صريح إذن أو قرينة]. عندنا لفظان: إجابته وإباحته، فقد تكون في بعض المسائل إجابته وفي بعضها إباحته. فإجابة الدعوة متوقفة على صريح إذن بالحضور، فما يأتي الإنسان بدون إذن، ولا يحضر الدعوة بدون إذن. وعندنا (إباحته) وهي في غالب النسخ، وهي الأظهر هنا، أي: إباحة طعام الوليمة، فيكون المصنف شرع في مسألة إباحة طعام الوليمة. يباح طعام الوليمة بصريح إذن أو قرينة، صريح الإذن مثل أن يرسل لك البطاقة ويقول: أدعوك لتناول طعام العشاء أو لحضور العشاء، هذا كله صريح في الإذن، فقد أذن لك أن تحضر وتتعشى، فحينئذٍ لا إشكال. أما القرينة الدالة عليه فمثل: مد الموائد وبسطها، فإذا مد المائدة وبسطها وأشار بيده، ولم يتكلم؛ فإن هذه قرينة دالة لإباحته؛ لوجود الطعام بيننا وتقريبه إلينا، أو جاء والجماعة جالسون فوضع السفرة عندهم ثم وضع الطعام، فهذا معناه أنني أتيت بهذا الطعام لكم وقد أذنت لكم أن تأكلوا منه. واختلف العلماء، فقال بعض العلماء: وضع الطعام لا يدل على الإذن ما لم يأذن صاحبه، وقال بعضهم: الدعوة إذن وإباحة بالأكل. فائدة المسألة: ما يقع الآن في بعض الأحيان، حيث تمد السفر ثم يوضع الطعام عليها، ولا يتكامل الطعام ولا ينتهي، فيأتي بعض الناس ويأكل قبل تمام السفر، فإن قلنا: الدعوة إذن بالطعام، حل له ذلك، وإن قلنا: لابد من إذن أو قرينة فلا الإذن موجود ولا القرينة؛ لأن القرينة ما تكون ظاهرة إلا بعد اكتمال السفر وتمامها، فإذا تمت السفر واكتملت سنأكل، ولذلك يقبح أن يأكل قبل الآخرين، خاصة العلماء وطلاب العلم وأهل الفضل، فإن وجد هذا في طالب علم أو إنسان له مكانة أو إمام مسجد يأتي بمجرد ما توضع السفرة ويمد يده إليها ويأكل، فهذا من خوارم المروءة. ما أبيح وهو في العيان يقدح في مروءة الإنسان فينتظر حتى يؤذن لهم، ولذلك قالوا: يستحب لطالب العلم دائماً أن يأخذ بالكمالات، فعندنا قول يقول: مجرد الدعوة إذن، وعندنا قول يقول: الإذن يكون بعد وضع الطعام، وقوله تعالى: {إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53] قيل: إن هذا يعني أن مجرد الدعوة يكفي، وقال بعض العلماء: لا، بل لابد أن يأذن صاحبه، فتأخذ بالأكمل وهو أن يأذن لك صاحب الطعام، فيصبح هذا إكراماً لعلمك، وإكراماً لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم الذي في صدرك، فلا تنظر للشيء بنفسك، وإنما تنظر بحق العلم عليك، وما فعلت ذلك إلا كنت بخير المنازل، فإنه من المجرب أن طالب العلم إذا كان دائماً يأخذ بالكمالات يرفع الله قدره، ويقذف الله في قلوب الناس حبه وإكرامه وإجلاله كما صان العلم وصان كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فمن أحسن بحق العلم عليه؛ فإن الله عز وجل يقذف في نفوس الناس الشعور بحقه ومكانته، والعكس بالعكس. ولذلك تجد بعض الناس إذا جالس الناس له هيبة ومحبة وكرامة، وقد تجده من عامة الناس، لكن تجد عنده من الصفات الحميدة، ومن كمالات المروءة ما جعل الله له به هذا الحال الحسن عند الناس، والعكس: فقد تجد الرجل ولو كان في منزلة عالية، ما أن يصبح متهتكاً ويرتكب خوارم المروءة إلا وجدت الناس لا تشعر له بإجلال ولا تشعر له بهيبة، نسأل الله السلامة والعافية. يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء فلا يزال المسلم بخير ما استحيا وأخذ بكمالات الأمور، فالذي يظهر أنه ينتظر إلى الإذن أو القرينة الدالة على الإذن. ولذلك جرت العادة في بعض الأحيان أنه إذا وضع الطعام للضيوف أنهم ينتظرون إذن صاحب الطعام، وهذا لا شك أنه أفضل وأكمل؛ لأن صاحب الطعام في بعض الأحيان يحب أن يتكامل طعامه حتى يراه الضيف ويشعر بمكانته عنده، ويحب أن تُرى سفرته وهي على أتم وجوهها وأكملها، فلا شك أن هذا أفضل وأكمل.

حضور الوليمة التي فيها منكر لتغييره

حضور الوليمة التي فيها منكر لتغييره قال رحمه الله: [وإن علم أن ثم منكراً يقدر على تغييره حضر وغيره وإلا أبى] لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والله أوجب عليه التغيير، والتغيير متوقف على حضوره، فيجب عليه الحضور وينكر ما أمر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم برده وإنكاره. وإلا أبى عن الإجابة؛ لأن حضوره إقرار بذلك، وقال بعض العلماء: يحضر ويهنئ ذا الرحم -كأن يكون ابن عمه أو قريبه- يحضر ويهنئه ويأخذ بخاطره، ثم ينصحه في المنكر، فإن استجاب فالحمد لله وإن لم يستجب ينصرف، فعندنا حضور، وعندنا جلوس، فالحضور واجب عليه على الأصل، أما مسألة الجلوس والمكث فوجود هذا العارض يمنع من الجلوس، فيصبح المنع بخصوص الجلوس، ولا يسقطون عنه الحضور، بل يقولون: يحضر؛ لأن إجابة الدعوة تشمل الأمرين، وإذا سقط أحدهما وهو الجلوس في مكان المنكر فلا يسقط الآخر، ولا شك أن الثاني فيه احتياط، وقد يكون في زماننا أبلغ في التأثير على الناس، لكن إذا كان الشخص تأول القول الآخر بأنه لا يحضر بالكلية فله وجهه.

إذا علم بالمنكر بعد حضوره الدعوة

إذا علم بالمنكر بعد حضوره الدعوة قال رحمه الله: [وإن حضر ثم علم به أزاله]. (وإن حضر) على أنه ليس هناك منكر، ثم أخبر أن هناك منكراً، وأزاله أتم جلوسه، فإن لم يُستجب له انصرف، هذا بالنسبة إذا حضر وليس بذهنه أن هناك منكراً. والمنكر لابد أن يكون منكراً؛ لأن في بعض الأحيان قد ينكر الإنسان شيئاً أقرته الشريعة، فتجد بعض طلاب العلم إذا سمع ضرب الدفوف ينصرف، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالدفوف)، والشرع مقصوده أن يضرب بالدف ويسمع حتى يعلم الناس أن هناك زواجاً، فمن حضر يعلم أنه زواج، ومن لم يحضر يعلم أن فلاناً تزوج فلانة، فإذا أردت أن تخفي هذا الدف خالفت مقصود الشرع، فالبعض ربما يجعل ما هو سنة منكراً بسبب الجهل، فلابد من سؤال العلماء والتبيّن والاستبيان، فإن بان أن هذا منكراً لا يجوز، وأن الله ورسوله لم يأذن به، وأنه مما حرم؛ فحينئذٍ يعامله معاملة المنكر من وجوب تغييره، فيغير باليد، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان. فإذا لم يقبل منه ذلك انصرف، فيكون أدى للمتزوج حقه، وقام بحق الله عز وجل من الخروج من مكان المنكر، ويشمل هذا شرب المحرمات، فشرب المحرمات على نوعين: الأول: نوع يحضره أهل الزواج للشخص ليشربه، فيكون المجلس عاماً، مثل القاعات الواسعة، فتدخل الآلات المحرمة التي يشرب الحرام بواسطتها، على مرأى ومسمع من الناس، ومعنى ذلك أنه أخبر صاحب القاعة أن يحضر هذا الشيء لمعازمه وضيوفه، وأنه مقر لذلك. فإذا حضرت فمن حقك أن تقوم؛ لأنه لا يمكن أن تقول لمن يشربها: ما يجوز هذا، وتذهب إلى كل من يشربها فتنصحه، بل تذهب إلى أهل الزواج وتقول لهم: اتقوا الله عز وجل فهذا لا يجوز، والله يبارك لكم في زواجكم ويباركم لك في هذا الزواج إذا اتقيتموه، وإذا اتقيتم الله عز وجل وضع لكم الخير في هذا الزواج، أما أن تسايروا الناس فيما حرم الله فهذا لا خير لكم فيه، وقد يمحق الله بركة الزواج بحصول هذه المحرمات فيه، فتذكرهم بالله. ومن التذكير بالله أن ترغبهم فيما عند الله من حصول البركة بزواجهم وحصول الرضا عنهم إن أطاعوه، وترهبهم مما عند الله من العقوبة، بأسلوب مؤثر ومقنع ومقبول وحسن، مدعم بالدليل من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بينت لهم الحجة واستبان لهم السبيل واستبانت لهم المحجة بعد ذلك إن رضوا وأجابوا فالحمد لله، وإن أبوا وأصروا فإنك تنصرف إحياءً لحق الله عز وجل. الثاني: إذا كان المنكر يفعله الشخص المدعو في نفسه، فإن هذا تنكره على الشخص نفسه، فإذا كان يشرب المحرم من نفسه، وأهل الزواج لم يعطوه المحرم ليشرب، وإنما هو من نفسه أخرج المحرم وشربه، فإنا لا نحمل أهل الزواج، وإنما نقول لأهل الزواج: أنكروا على هذا؛ لأنه لا يجوز لهذا أن تأتوا بها في مجامع الناس من أجل أن يشرب قالوا: والله! هذا ضيف! فلك الحق أن تخرج؛ لأنهم أقروه على منكره. فإن جاءوه ونصحوه ومنعوه أن يشربه، ولم يمتنع من شربه في وجه الناس؛ فحينئذٍ جلست وإلا انصرفت، هذا بالنسبة للمنكر الخاص، وفي بعض الأحيان يكون المنكر الخاص في معزل، مثلاً: يكون من يشرب الحرام يأتي به في جيبه ويشربه في غرفة لست أنت فيها، فيسع الجلوس في هذه الحالة، كما لو اغتاب أو قال النميمة في مجلس غير مجلسه، فالأمر في هذا أوسع. قال رحمه الله: [فإن دام لعجزه عنه انصرف]. فإن دام وبقي المنكر وهو عاجز عن إنكاره انصرف. قال رحمه الله: [وإن علم به ولم يره ولم يسمعه خير]. مثلاً: قيل له: في الغرفة الفلانية كذا أو جيء بكذا، فقال بعض العلماء: إنه يخير: فإن شاء جلس، وإن شاء انصرف، لكن يجب عليه إنكاره -إن وسعه ذلك- بيده أو بلسانه إذا لم يستطع باليد على الترتيب المعروف في إنكار المنكر.

حكم النثار والتقاطه

حكم النثار والتقاطه قال رحمه الله: [وكره النثار والتقاطه]. كانوا في الأعراس ينثرون الحلوى وينثرون الدراهم، فيرمونها والناس تلتقطها، وكان هذا موجوداً إلى عهد قريب، والحمد لله أن هذه الأمور اندثرت وذهبت، ونسأل الله ألا يعيدها، فهي من الأمور التي لا خير فيها؛ لأنهم كانوا ينثرون الطعام وينثرون الحلوى فيتساقط الناس عليها، ويتسابقون في أخذها، فتحدث الشحناء والبغضاء والتنافس على أمور الدنيا، وتجعل بعضهم يحقد على بعض. وكانوا ينثرون الدراهم والأموال على المدعوين الذين حضروا من باب المكافأة لهم على الحضور، فيكره هذا النثار؛ ويجوز له أن يعطي، وقيل: إنه يكره؛ لما فيه من الآثار السيئة، ويكره للإنسان أن يأخذه؛ لأنه من خوارم المروءة، فالتقاط النثار من خوارم المروءة. وفي حكم هذا الصدقات عندما ترمى على الناس، فكره بعض أهل العلم هذا الأسلوب، ومثل أن يكون عنده ماء يريد أن يتصدق به على الناس فيرميه على الناس، أو تكون عنده أطعمة يرميها على الناس وتسقط على الأرض، ولربما تلفت إذا سقطت، ولربما ضربت الناس في رءوسهم وفي أجسادهم، وقد ترمى رمياً فيه أذية، ورميها يغري الناس بضرب بعضهم لبعض، وأذية بعضهم لبعض، فإذا جئت تنظر إلى الحسنات التي يأخذها فقد تكون السيئات وسب الناس بعضهم لبعض وشتم الناس بعضهم لبعض أعظم، كل هذا من المفاسد التي هي أعظم من المصلحة التي ترجى من وراء اليسير الذي يريد أن يسقيه الناس أو يعطيهم. ولذلك كره العلماء مثل هذا الأسلوب، وهو في حكم النثار، إنما المنبغي أن يرتب الناس، ويعطى الأسبق فالأسبق، بطريقة تحفظ ماء وجوه الناس، وتحفظ كرامتهم، وأيضاً تدفع الضرر عنهم، ولا تكون سبباً في حصول الضرر عليهم، ولا تكون سبباً في امتهان نعمة الله عز وجل والإضرار بها. قال رحمه الله: [ومن أخذه أو وقع في حجره فله]. ومن أخذ النثار فإنه له؛ لأنه يملك بالقبض، والهبة والعطية إذا قبضها أخذها وملكها، وهذا بإجماع العلماء كما حكاه الوزير بن هبيرة رحمه الله في كتابه الإفصاح، فالهبة تملك بالقبض. قال أبو بكر رضي الله عنه: (يا عائشة! أي بنتاه! إني كنت قد نحلتك من مالي بالغابة، ولو أنك قبضتيه لكان ملكاً لك، أما وإنكِ لم تقبضيه فأنت اليوم وإخوتك فيه سواء)، فهذا يدل على أنه إذا لم يقبض الموهوب لا يملك.

مشروعية إعلان النكاح

مشروعية إعلان النكاح قال رحمه الله: [ويسن إعلان النكاح والدف فيه للنساء]. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف)، فيضرب النساء بالدفوف؛ لأن في ذلك إحياءً للسنة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها، وفيه فرق بين السفاح والنكاح؛ لأن السفاح يسر، والنكاح يشهر. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

باب عشرة النساء [1]

شرح زاد المستقنع - باب عشرة النساء [1] الحياة الزوجية قائمة على أساس الشراكة بين الرجل والمرأة في تكوين الأسرة، وقد أعطى الإسلام كلا الزوجين حقوقاً في هذا المجتمع الصغير، كما أوجب على كلٍ منهما القيام بحق صاحبه، وسن بعض الآداب التي ينبغي مراعاتها في العشرة الزوجية حفاظاً على سعادة البيت والأسرة، وحرصاً على الوفاق بين الزوجين، إذ بدون أن تتميز الحقوق والواجبات لن يجد الفرد سعادته، وفيما يلي بيان لهذه المسائل في العشرة بين الزوجين.

الحقوق الزوجية

الحقوق الزوجية

أقسام الحقوق الزوجية

أقسام الحقوق الزوجية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب عشرة النساء] لما بيّن المسائل المتعلقة بالنكاح شرع فيما يترتب عليه من آثار، من وجوب عشرة كل من الزوجين للآخر، والأصل في هذا الباب قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] وقوله سبحانه وتعالى في الحقوق: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228]. وقد ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم السنن والأحاديث في بيان ما يجب على الزوج لزوجته، وفيما يجب على الزوجة لزوجها، فكل من الزوجين مطالب بحق للآخر، وهذا ما يسمى بالحقوق الزوجية، فمن العلماء من يقول: باب الحقوق الزوجية. ومنهم من يقول: باب عشرة النساء، وكلا البابين يذكر فيه الأحكام المتعلقة بالمعاشرة. وعشرة النساء الهدي فيها هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكمل ما تكون المعاشرة بالمعروف بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته القولية والفعلية والتقريرية في معاشرة أهله وزوجه صلوات الله وسلامه عليه. قال رحمه الله: [يلزم الزوجين العشرة بالمعروف] الحقوق الزوجية تنقسم إلى ثلاثة أنواع: - حق للزوج على زوجته. - وعكسه حق الزوجة على زوجها. - والحقوق المشتركة. وبعض العلماء يقسمها إلى اثنين مقسمة إلى ثلاثة فيقول: - الحقوق المشتركة - والحقوق الخاصة. ثم الحقوق الخاصة إما للزوج على زوجته أو العكس. فأما الحقوق المشتركة فابتدأ المصنف رحمه الله بها في قوله: [يجب على كل من الزوجين أن يعاشر الآخر بالمعروف] والمعروف ضد المنكر، أي: بما أقره الشرع لا بما أنكره، وبما أذن به الشرع لا بما حرمه، ويشمل هذا: المعاشرة بالمعروف بالكلام الطيب، والمعاشرة بالمعروف بالفعل الطيب. والمعاشرة بالمعروف تكون في الأمور المادية والمعنوية، وتكون المعاشرة بالمعروف في القلوب وفي الأمور الخفية المغيبة، فيغيب في قلبه حسن النية لزوجته، وتغيب الزوجة في قلبها الخير ونية الخير لزوجها، فيشمل هذا الظاهر والباطن والقول والفعل. كل ذلك ينبغي أن يقوم على المعروف الذي أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يقوم على المنكر، أي: على المحرم الذي حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. والمعروف أيضاً ما تعارف عليه أهل العقول السوية والفطر السليمة، فالأمور التي تعارف عليه العُقلاء والفُضلاء يعاشر كل من الزوجين الآخر بها، فهذا معنى قوله: [العشرة بالمعروف]. والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] وقال تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:231]. وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عاشر أهله بالمعروف، وأحسن إلى أزواجه صلوات الله وسلامه عليه وأكرمهن.

حرمة عدم القيام بالحقوق الزوجية من كلا الزوجين

حرمة عدم القيام بالحقوق الزوجية من كلا الزوجين قال رحمه الله: [ويحرم مطل كل واحد بما يلزمه للآخر والتكرّه لبذله] ويحرم المطل، المطل: التأخير، ومنه: مطل الغني في السداد، وهو القادر على السداد. (يحرم مطل) وهو تأخير الحق، فإذا طلب الزوج زوجته إلى الفراش وهي قادرة ويمكنها ذلك فلا يجوز أن تؤخره، بل تبادر مباشرة بطاعته، كذلك إذا طلبت الزوجة من زوجها نفقة البيت ونفقتها، وعنده مال، ويمكنه أن يعطيها مباشرة، فلا يجوز أن يقول: أعطيك غداً أو بعد غد، ويؤخر عنها حقها، فكل لحظة وكل ساعة يتأخر فيها يحمل وزرها وإثمها والعياذ بالله. ولذلك الملائكة تلعن المرأة إذا دعاها زوجها إلى فراشها وهي قادرة وامتنعت، فتبيت والملائكة تلعنها والعياذ بالله. وكما يحرم المطل يحرم أن يؤدي الحق الواجب عليه وهو كاره، بطريقة تشعر أنه مكره، فإن العشير إذا عاشر عشيره، ووجد أنه يعطيه حقه بكره، وكأنه مغصوب على ذلك، كره عشرته ونفر منه ومل العيش معه، وهذا هو الذي تنهدم به البيوت وتتشتت به الأسر، ويدخل به الشيطان بين الزوجين. فلذلك لا ينبغي أن يؤدي الحق بكره، والكره يشمل التصريح بالقول، كأن تتكلم المرأة كلاماً يدل على أنها غير راضية، أو يتكلم الرجل كلاماً يدل على أنه غير راض، كأن يعطيها نفقتها ويقول كلمة نابية قاسية جارحة، كأن يقول: خذي نفقتك لا بارك الله لك فيها -والعياذ بالله- أو: خذي نفقتك مغصوبة، أي أني أعطيكِ إياها وأنا كاره لذلك، وخذيها بلا طيبة نفس مني، أو: خذيها ولا أريد أن تأخذيها، ونحو ذلك الكلام. ويكون بالفعل كتذمره بالتأفف؛ وكذلك أيضاً لون الوجه وظهور أمارات الكراهية كل ذلك من الكره، سواء وقع من الزوج أو الزوجة، فكل ذلك مما لا يجوز؛ لأنه خلاف المعروف الذي أمر الله به في كتابه المبين ووصى به عباده المؤمنين.

موجبات عقد النكاح

موجبات عقد النكاح قال رحمه الله: [وإذا تم العقد لزم تسليم الحرة التي يوطأ مثلها في بيت الزوج إن طلبه ولم تشترط دارها أو بلدها]. (إذا تم العقد لزم تسليم الحرة) في بيت الزوجية، فيلزم أولياءها أن يسلموها لزوجها، ما لم يكن هناك أمور جرى العرف أو اتفق الطرفان على التأخير من أجلها كتجهيزها، أو حدد يوم معين للإتيان بها، فيجوز التأخير إلى الأجل، أما غير ذلك فالأصل يقتضي أن الرجل من حقه أن يدخل على زوجته وأن تسلم زوجته إليه في بيت الزوجية. (إن طلبه) طلب التسليم، فعندنا مسألة العقد ثم مسألة الدخول، فإذا ثبت أن هناك حقاً للزوج على زوجته، فإنه يبدأ من العقد، فابتدأ المصنف بالعشرة الزوجية والحقوق من العقد، وهذا من دقته رحمه الله، أنه يسلسل الأفكار ويتابع بعضها بعضاً، فابتدأ أول ما ابتدأ بما يترتب على العقد فقال: [إذا تم العقد وجب التسليم]. فعلى هذا حق الزوج على زوجته أن تسلمه وتمكنه من نفسها بمجرد العقد، هذا من حيث الأصل العام، وتبقى الأمور التي جرى عليها العرف والتراضي بين الطرفين، فهذه مختلفة بحسب اختلاف الأحوال. لكن لو قال: أريد أن أدخل على زوجتي، فقال أبوها: لا، حتى تنتهي من دراستها، وقد عقد عليها وتم العقد، فليس من حق أبيها أن يحول بينها وبين زوجها، ولو رفع أمره إلى القاضي لألزمه القاضي أن يُسلم الزوجة إلى زوجها في بيته بيت الزوجية. [ولم تشترط دارها أو بلدها] (ولم تشترط دارها) لو قالت: ما تدخل عليّ إلا في بيت أبي، فلا يجوز أن يخرجها، فلو طالب أهلها أن يأتوا بها إليه في بيت الزوجية لم يكن له ذلك؛ لأنهم اشترطوا عليه أن تكون عندهم، وقد تكلمنا على هذا الشرط: أن تشترط دارها أو بلدها. فلو كان بلده بلداً غير بلدها كأن يكون في جدة وهي في المدينة فقال: تأتوني بها إلى جدة، وقد اتفقوا معه في الشرط أن تكون ساكنةً في المدينة عند أهلها، فعلى ما اختاره المصنف رحمه الله أنه شرط يجب الوفاء به، فليس من حقه أن يطالبهم بنقلها إلى جدة، بل تبقى؛ لأن المصنف يميل -كما هو قول بعض الصحابة رضوان الله عليهم- إلى أن الزوجة تلزمه بهذا الشرط وتبقى عند أهلها وفي دارها. قال رحمه الله: [وإذا استمهل أحدُهما أمهل العادةَ وجوباً لا لعمل جهاز] وإن استمهلَ الرجلُ أولياءَ المرأةِ، أو أولياءُ المرأة استمهلوا الرجلَ وقالوا: أمهلنا، البنت مثلاً عندها ظرف، كما لو كانت مريضة وخافوا عليها أنها لو ذهبت إلى بيت الزوجية يشتد مرضها، قالوا: تمهلنا، فاستمهل عادةً؛ لأن العادة جارية أن مثل هذا النوع من النساء يُمْهَل، فيُمْهِلهم ويعطيهم المهلة بالمعروف، يعني: بما جرت به العادة والعرف. (لا لجهاز) لو فُتِح الإمهال للجهاز لاختلفت أنظار الناس في الجهاز، وبالغ النساء في هذا، والجهاز يُقْصَد منه حظوة المرأة عند زوجها، فإذا هو استعجل وقال: أريدها، فأسقط حقه في الجهاز، فحينئذٍ لا يكون الجهاز عذراً يمنع من إجابة حقه، هذا وجهه، أن الجهاز في الأصل يراد به حظوة المرأة عند زوجها، فلو الزوج استعجل وقال: يريدها بدون جهاز، وهذه امرأته، وربما خاف على نفسه الحرام أو عنده ظرف، مثلاً: أخذ إجازة ثلاثة أيام فقالوا: نريد أن نجهزها يومين أو يوم، فقال: ما أريدها مجهزة، أريد امرأتي الآن، فهذا من حقه، ويجب عليهم أن يعطوها إليه عند طلبه، فهذا معنى قوله: (لا لجهاز). قال رحمه الله: [ويجب تسليم الأمة ليلاً فقط]. (ويجب تسليم الأمة ليلاً) لأنها نهاراً ملك لسيدها، تخدم سيدها وتقوم بحقه، وإذا زوجها سيدها فقد أسقط حقه في المبيت، فلا يملك الزوج إلا المبيت، فإذا تزوج أمةً فلا يملك طلبها إلا في الليل للفراش. قال رحمه الله: [ويباشرها ما لم يضر بها أو يشغلها عن فرض] فيجوز له أن يباشرها ما لم يضرها أو يشغلها عن فرض، فإذا استحق المرأة بنكاح حُقَّ له أن يباشرها وأن يجامعها وأن يدخل بها ويبني بها، فإذا خلا بها يباشرها؛ لأنها امرأته قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187]. {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور:58] والله أحل المرأة لزوجها والزوج أحله لزوجته، فليس هناك مانع من المباشرة وغيرها من أمور الاستمتاع، وذلك يكون حلالاً بمجرد العقد. لكن إذا عقد الرجل على المرأة وجرت العادة أنه ما يدخل بها إلا بعلم من أهلها، فمن القبيح أن يأتي إلى بيت أهلها زائراً ويطؤها ويدخل بها دون علم من أهلها؛ لأن هذا تترتب عليه مفاسد عظيمة، فلو أنه جاء إلى بيت الزوجية والمرأة بكر ودخل بها ووطئها، ثم خرج وحدث له حادث بمجرد خروجه، وصارت المرأة حاملاً، لقالوا: إنها زانية والعياذ بالله، واتُّهِمَت، ولا يمكن أن ينسب هذا الولد إليه؛ لأنه ليس هناك دليل يدل على أنه دخل بها، والمعروف والمتعارف به أنه يختلي بها من أجل الحديث، فإذا ادعت المرأة تكون حينئذٍ محلاً للتهمة، فمثل هذا تترتب عليه مفاسد عظيمة. فالرجل يتوقف، ويكون من حق ولي المرأة -أبوها وأمها- أي: الأولياء بالعرف وليس بالحكم الشرعي؛ لأن الولاية للعصبة كما ذكرنا؛ لكن مَن يلي أمرها مِن حقه إذا استراب أن هذا الزوج متهتك، أو أنه يتساهل في بعض الأمور أن لا يُمَكِّنه، وحتى لو يجتمع بها يجتمع بها على طريقة يأمن منها أن يقع شيء؛ لأن بعض الناس قد يكون نسأل الله السلامة والعافية رجلاً شريراً وعنده نية سوء، فقد يصيب المرأة ويستمتع بها، ثم بعد ذلك ينكر، ويطالبها بالحقوق ويدعي عليها ما لم يكن، وقد يتأخر في الدخول عليها ويظهر بها حمل، فيضغط على أهلها ويدعي والعياذ بالله زوراً وبهتاناً أنه لم يطأها ولم يصبها، فيتلاعب بهم وهو لا يريد ابنتهم إنما يريد الإضرار بهم. ونفوس الناس مختلفة -نسأل الله السلامة والعافية- ووقعت حوادث بسبب هذا، والأسر والجماعات التي تتساهل في مثل هذا تبوء بعواقب وخيمة، وسببها التساهل في مثل هذه الأمور. فلا ينبغي في مثل هذا أن يُمَكَّن إذا عُرِف منه التهتك والتساهل في مثل هذا.

حقوق الزوج على زوجته

حقوق الزوج على زوجته شرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة ببيان بعض المسائل والأحكام المتعلقة بالعشرة الزوجية، ومنها: أن الزوج إذا أراد أن يسافر فله الحق أن يصحب زوجته معه، والسبب في ذلك: أنه يخاف على نفسه الفتنة، كما أن المرأة تقوم على شأن زوجها في سفره، ولربما كان تركه لامرأته فيه ضررٌ على المرأة وفتنة لها، فيكون الأمر آكد. قال رحمه الله: [وله]: أي: للزوج. [أن يسافر] بها: أي: بالمرأة، ويسافر بها شريطة أن لا يكون ذلك معرضاً لها إلى الخطر، أو الوقوع في الضرر، فإن كان في السفر تعريض لها إلى مثل ذلك، فحينئذٍ يجوز لها أن تمتنع. قال رحمه الله: [ويحرم وطؤها في الحيض والدبر]: أي: ويحرم وطء المرأة في الحيض، والمراد به أن يطأها وهي حائض، وقد دل دليل الكتاب، ودليل السنة على تحريم وطء المرأة الحائض، فقال الله سبحانه وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222]، فقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} أمر بالاجتناب والاتقاء والابتعاد، وهذا الأمر محدود بالمكان في قوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222]، والمحيض اسم مكان، كالمَقِيل، أي: مكان الحيض، وبناءً على ذلك لا يجوز له أن يطأها ويجامعها وهي حائض؛ ولكن يجوز له أن يستمتع بما دون الفرج، فله أن يباشرها، وأن يفاخذها، وأن يستمتع بجميع ما يكون منها، إلا الوطء في الفرج، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح). وقد قدمنا في كتاب الحيض تفصيلات العلماء، وكلام العلماء عما يحل وما يحرم من المرأة الحائض، وبينا أن أصح قولي العلماء أنه يجوز له أن يستمتع فيما بين السرة والركبة من المرأة الحائض، إذا غلب على ظنه الأمن من الوقوع في المحظور، أما إذا غلب على ظنه أنه سيجامعها فيحرُم؛ لأن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها، والنهي عن الشيء نهي عن وسائله المفضية إليه، كما أن الأمر بالشيء أمر بلازمه وبما يعين عليه ويُتَوَسَّل بطريقه إلى ذلك الشيء. فبيَّن رحمه الله أنه لا يجوز وطء المرأة الحائض، وهذا بإجماع، كما بين أنه لا يجوز الوطء في الدبر، وهذا أيضاً بإجماع العلماء -رحمهم الله- فلا يحل إلا في الأقوال الشاذة المحكية عن بعض المتقدمين، وهي تُحْكَى ولا يُعَوَّل عليها ولا يُعْمَل بها، فإن مكان الوطء هو موضع الحرث؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة:223]، فالحرث هو مكان الوطء، وهو القُبُل من المرأة، وأما الدبر فإنه ليس بحرث ولا بمكانٍ للوطء، ولا بمحل له. والطب يؤكد أن الوطء في الدبر ضرر على الرجل وضرر على المرأة، فلذلك لا يجوز وطء الدبر، ولا يُعْتَدُّ بمن خالف. قال رحمه الله: [وله إجبارها على غسل حيض ونجاسة]: [وله]: أي: للزوج إجبار زوجته على غسل حيض؛ لأنه في أصح قولي العلماء أن المرأة الحائض لا يجوز وطؤها إلا بشرطين: أولاً: أن تطهر من حيضها. والثاني: أن تغتسل من ذلك الحيض. وبناءً على ذلك فإنها لو طهرت ولم تغتسل، فالخلاف بين الجمهور والحنفية، وذكرنا هذه المسألة في الطهارة، والصحيح: أنه لا يجوز وطؤها إلا بعد أن تغتسل من الحيض؛ لقوله تعالى: (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222]، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله تعالى يقول: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222]، فنهى عن وطئهن إلى الطهر، ثم قال: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ}، فجاء الطهر على مرحلتين: المرحلة الأولى: وصف الله عز وجل به المرأة فقال: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} فوصفها بشيء ليس بيدها. المرحلة الثانية: وصفها بطهر في يدها، فقال: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ}، فدل على أن انقطاع الدم وحده لا يكفي، وأنه لا بد من انقطاع الدم واغتسالها بعد انقطاع الدم عنها، فحينئذٍ يحل له وطؤها. فإذا ثبت أن المرأة الحائض لا يجوز وطؤها، إلا إذا انقطع عنها الدم، ثم اغتسلت، فإنها قد ينقطع عنها الدم، وتتأخر في الغسل، فإن انقطع عنها الدم، فإن الزوج لن يطأها في طيلة مدة أيام الحيض، وحينئذٍ يتضرر بانحباسه عن المرأة، فإذا تضرر بالانحباس وطهرت المرأة فله أن يجبرها ويلزمها أن تغتسل؛ لأن مصلحته متعلقة بذلك، وحينئذٍ يجبرها أن تغتسل، وتبادر بالغسل مباشرة، ما لم يكن في ذلك ضررٌ عليها. قوله رحمه الله: (على غسل حيض ونجاسة) أي: وله أن يجبر زوجته على غسل النجاسة، وذلك لأن النفوس تتأفف وتتألم بالنجاسة والقذر، والمرأة مطلوب منها أن تهيئ جميع الأسباب؛ لتحبيب زوجها؛ لكي تكون حظية عند زوجها، وذلك بالاغتسال والنظافة والنقاء، ولا يجوز لها أن تتعاطى الأسباب المنفرة بحيث ينفر منها زوجها، ولذلك ينبغي عليها أن تتعاطى أسباب إزالة النجاسة، وله الحق أن يجبرها على غسل النجاسة من دم أو بول أو نحو ذلك، فيقول لها: اغسلي هذا الدم، واغسلي هذه النجاسة، ويجبرها على ذلك. قوله رحمه الله: [وأخذ ما تعافه النفس من شعر وغيره] إذا كان الواجب على المرأة أن تتعاطى الأسباب -كما ذكرنا- للقيام بحق الزوج؛ لتحبيبه بالمحبة والألفة، فإن هذا يستلزم منها أن تكون على أحسن الأحوال وأتمها، فتأخذ من الشعر ما تعافه النفوس، كشعر الإبطين، وكذلك شعر العانة، فإنه يلزمها إزالة هذا الشعر ونحوه، وله الحق أن يوبخها إذا قصرت في شيء من ذلك، ولا شك أن المرأة إذا قصرت في مثل هذه الأمور، فإنه نوع من الاستخفاف بحق الزوج، ونوع من التبذل الذي قد يصل إلى حد المكروه، إذا كان فيه نوع من النسيان لحق العشير، وإذا قصدت به الإضرار وصل إلى التحريم؛ لأنه لا يجوز للمرأة أن تضر زوجها، ولا أن تتعاطى الأسباب التي تنفره، فله الحق أن يأمرها بحلق شعر العانة، وهكذا بالنسبة لشعر الإبطين، وله الحق أن يأمرها بإزالة شعر اللحية، وهكذا الشارب، وكذلك لو ابتليت بشعر في وجها، على أصح قولي العلماء؛ لأن هذا تنفر منه النفوس وتعافه، فله الحق أن يطالبها بإزالته، والقاعدة الشرعية تقول: (الضرر يزال) وهي قاعدة مجمع عليها، فالزوج يتضرر بذلك، فحينئذٍ يجب على المرأة أن تزيل هذا الضرر، الذي يمنعه من كمال الاستمتاع بها. قوله رحمه الله: [ولا تجبر الذمية على غسل الجنابة] وذلك لأنها ليست مكلفة به، فالذمية ليست مكلفة بغسل الجنابة، على القول بأن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة.

حقوق الزوجة على زوجها

حقوق الزوجة على زوجها قال رحمه الله تعالى: [فصل: ويلزمه أن يبيت عند الحرة ليلة من أربع، وينفرد إن أراد في الباقي] حقوق الزوجية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: حق الزوج على زوجته. القسم الثاني: حق الزوجة على زوجها. القسم الثالث: الحقوق المشتركة التي لا تختص بواحد منهما. فأما حقوق الزوج على زوجته فمنها: حق القوامة، وطاعتها لزوجها وبعلها، وأن لا تخرج من بيتها إلا بإذنه، وأن تطيعه في ذلك، وأن لا تأذن لأحد أن يدخل إلى بيته إلا بإذنه، وإذا دعاها إلى فراشه أن تجيب وأن تلبي، ومن حقه عليها أن لا تصوم نفلاً وهو شاهد إلا بإذنه، وأمّا قضاء رمضان فيفصل فيه بين الموسع والمضيق، فإن ضاق جاز لها أن تصوم بغير إذنه، وإن كان موسعاً فإن له الحق أن يؤخرها، لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، هذا بالنسبة لحق الزوج على زوجته. وأما حق الزوجة على زوجها: فإن للمرأة على زوجها حقوقاً، وهذه الحقوق التي للمرأة على الزوج فرضها الله سبحانه وتعالى وبيَّنها، فمنها ما يكون مصاحباً للعقد كحق المهر والصداق، وقد سبق وتقدم الكلام عليه، ومنها: حق النفقة بالمعروف، وهذا سيأتي إن شاء الله بيانه في كتاب النفقات، وكذلك حق المبيت والقسم، وهذا ما سيبينه المصنف رحمه الله في هذه الجمل الآتية. وأمَّا الحقوق المشتركة، فهي التي تجب على الزوج، وتجب على الزوجة، فلا تختص بزوج ولا بزوجة، ومن هذه الحقوق المشتركة: حق العشرة بالمعروف، فإنه يعتبر من الحقوق المشتركة، فيجب على الرجل أن يعاشر امرأته بالمعروف، ويجب على المرأة أن تعاشر زوجها بالمعروف. قوله رحمه الله: (ويلزمه أن يبيت عند الحرة ليلة من أربع) أي: يلزم الرجل أن يبيت عند الحرة ليلة من أربع ليال؛ لأن الله أحل له نكاح الأربع، فدل على أن نصيب الواحدة ليلة من أربع ليال، هذا بالنسبة للحرة في مبيته معها، وسيأتي أن المبيت يكون بالليل، ويكون بالنهار، على اختلاف أحوال الناس، ويقصد من المبيت الجماع، إلا أنه في بعض الأحيان إذا كان به عذر، أو بها عذر، قصد من المبيت الأنس، والمباسطة، وكونه معها، كما سيأتي إن شاء الله التنبيه عليه. فيلزمه أن يبيت معها ليلة من كل أربع ليالٍ، ولذلك قال كعب بن سور للرجل الذي جاءت زوجته إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه تشكوه تعريضاً: إن لها عليك حقاً يا رجل تصيبها في أربع لمن عقل فألزمه بليلة من بين أربع ليال. قال رحمه الله تعالى: (وينفرد إن أراد في الباقي) هذا بالنسبة لإصابة الرجل المرأة، فقد قالوا: يصيبها في كل أربع ليالٍ مرة، وأما بالنسبة للرجل، فإن تضررت بوطئه، فقد أُثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن امرأة اشتكت من بعلها أنه أضر بها، فأجاز له أن يصيبها ثلاث مرات، فجعلهن كالحد إذا تضررت المرأة بالزيادة، وذلك من قبل صلاة الفجر، وحين توضع الثياب من الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء، فهذه ثلاثة أوقات، قيل: إنها تنبيه من الشرع على الحد الذي يتفق لغالب الناس، هذا بالنسبة للرجل. وبالنسبة للمرأة فعلى الرجل في كل ليلة من أربع أن يصيب المرأة إن أمكنه ذلك، ولم يكن ثَمَّ عذر، وعلى المرأة أن تكون له منها ثلاث عورات، إذا كان شديد الشهوة، وتضررت المرأة بكثرة وطئه. قال رحمه الله تعالى: [ويلزمه الوطء -إن قدر- كل ثلث سنة مرة] ويلزمه -أي: يجب عليه- الوطء إن قدر عليه، بخلاف الذي لا يقدر ككبير السن والزمن، فالشخص الذي لا يقدر لا يكلف؛ لأن الله تعالى يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فدلت هذه الآية الكريمة على أن تكاليف الشريعة كقولنا: (يجب عليه ويلزم به) لا تكون إلا حيث تكون الاستطاعة والقدرة، فإن كان رجل لا يقدر على الوطء، ولا يمكنه الوطء فهذا معذور ويعذر، لكن قال رحمه الله: (إن قدر عليه) أي: إن أمكنته القدرة فيلزمه أن يطأ في كل ثلث سنة مرة؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل حفصة بنت عمر رضي الله عنها: كم تصبر المرأة عن بعلها؟ فقالت رضي الله عنها: ثلاثة أشهر والرابع على مضض، تعني: يخشى عليها الحرام، فأرسل إلى الأجناد ألا يمكنوا الرجل أن يغيب عن امرأته أكثر من ثلث السنة، وهو أربعة أشهر، وهي المدَّة التي جعلها الله عز وجل مدة للإيلاء، وهذا من حكمة الله سبحانه وتعالى، فلا ينقطع عن امرأته هذه المدة؛ لأنه يخشى أن تقع المرأة في الحرام، وكذلك هو لا يؤمن عليه أن يقع في الحرام، فإن رضيت المرأة، وتنازلت عن حقوقها، وطاب خاطرها، وكانت واثقة من نفسها بمعونة الله عز وجل لها، فتساهلت مع زوجها، وأذنت له، وسمح خاطرها، وطاب خاطره أن يغيب عنها أكثر من هذه المدة، فهذا شيء بينهما لا بأس بذلك، ولا حرج، كأن يغيب عنها السنة والسنتين والثلاث لطلب علم، أو لتجارة، أو كسب رزق، أو نحو ذلك، مادامت أنها راضية وواثقة من نفسها. قال رحمه الله تعالى: [وإن سافر فوق نصفها وطلبت قدومه وقدر لزمه، فإن أبى أحدهما فرق بينهما بطلبها] أي: إن سافر فوق نصف السنة، وهو معنى قوله: [إن سافر فوق نصفها]، وطلبته وقدر، أي: قالت له: أريدك أن تأتي وقدر أن يأتي فيجب عليه أن يرجع من سفره؛ لأن الضرر يزال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار)، وهو حديث أجمع العلماء على صحة متنه؛ لأن النصوص في الكتاب والسنة كلها تدل دلالة واضحة على صحته، فهذا أصل في أنه لا يجوز للرجل أن يضر بالمرأة، ولا أن يتسبب في الإضرار بها، فسفره مضر بها، والنهي عن الشيء نهي عن أسبابه، فالله نهى عن الضرر، وسفره هذا فيه ضرر، فيجب عليه أن يعود إلى زوجته، وأن يقوم بحقوقها. وقوله رحمه الله تعالى: [فإن أبى احدهما فرق بينهما بطلبها] فإن سافرت وطلبها أن تعود، أو سافر وطلبت منه أن يعود، فحينئذٍ إن رجع فلا إشكال، وإن لم يرجع واشتكى صاحب الحق إلى القاضي أو إلى الحاكم، فإن الحاكم يفرق بينهما؛ لأن هذا حد جاوز الضرر مثل فرقة الإيلاء.

آداب الجماع

آداب الجماع يقول رحمه الله: [وتسن التسمية عند الوطء وقول الوارد] وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإن قدر بينهما ولد فلن يضره الشيطان)، فهذا من الذكر الوارد المحفوظ من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، فيقول: باسم الله؛ لأن اسم الله بركة، كما قال تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78]، فالله جعل في اسمه البركة، والبركة زيادة الخير، فإذا سُمى الله تعالى على شيء وضع الله فيه البركة، فإن سَمَّى على جماعه اعتزل الشيطان لمكان ذكر الله عز وجل فيقول هذا الدعاء الوارد. يقول رحمه الله: [ويكره كثرة الكلام، والنزع قبل فراغها] هذه كلها آداب يذكرها العلماء في آداب الجماع، والشريعة الإسلامية شريعة كاملة، كما قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فهذا الدين الذي رضيه الله عز وجل تنزيل من حكيم حميد، أتمه وأكمله فأحسن إتمامه وإكماله، فالمسلم في ليله وفي نهاره، حتى في فراشه مع زوجته، يذكر الله سبحانه وتعالى ويتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتدي به، ويتأسى به فيما يقال من الوارد وفيما يُحفظ من الهدي. فكره العلماء كثرة الكلام أثناء الجماع، ولا يحفظ في ذلك نص، وإنما هو قياس بعض العلماء إذ قالوا: إن الجماع مثل قضاء الحاجة، ومن آداب قضاء الحاجة قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يذهب الرجلان يقضيان الغائط أو يقضيان الحاجة يكلم احدهما الآخر فإن الله يمقت ذلك)، فجعل المقت على الكلام عند قضاء الحاجة، قالوا: والجماع حاجة، فلا يستحب الكلام أثناء الجماع فالكلام أثناء الجماع ليس في النهي عنه نص صريح، لكن فيه قياس واجتهاد، وهذا القياس له وجهه عند من يصححه ويعتبره. إلا أن بعض العلماء رحمهم الله ضعف هذا، وقال: فرق بين كلام وكلام. فإن الكلام أثناء الجماع قد يكون من المعاشرة بالمعروف، وقد يكون من التحبب والتلطف مما يعين على مقصود الشرع من حصول الألفة بين الزوج والزوجة، فقالوا: إن في هذا سعة، والأمر واسع في هذا، وليس هناك نص كما ذكرنا؛ فمن يصحح القياس ويعمله يقول بما ذكرناه، وإلا فالأصل الجواز خاصة إذا انبنى عليه ما ذكرناه من المصالح الشرعية. قوله رحمه الله تعالى: [والنزع قبل فراغها] أي: يكره النزع قبل فراغ المرأة؛ لأن الرجل ربما أنزل قبل أن تنزل المرأة، فيكون قد أصاب شهوته ولم تصب المرأة شهوتها، ونبه العلماء على ذلك لما فيه من المفاسد، والعواقب الوخيمة، فإن المرأة تكره زوجها حينئذٍ، وتحس أنه يريد قضاء حاجته فقط، وأنه لا يلتفت إليها، ولا يريد أن يحسن إليها، ويكرمها في عشرته لها، فلربما حقدت عليه، ودخل الشيطان بينهما فأفسدها عليه، فيشرع بناءً على مقاصد الشرع العامة من حصول السكن والألفة، فعليه أن يعطي المرأة حقها، وأن يمكنها من الإنزال فلا ينزع قبل أن تنزل المرأة؛ لأن ذلك أبلغ في الحظوة، وأبلغ في المحبة، وأبلغ في المودة، ومقصود الشرع تحصيل ذلك، وتحصيل الأسباب المعينة عليه. قال رحمه الله: [والوطء بمرأى أحد] أي: ليتجنب والوطء بمرأى أحد؛ لأن الله أمر بستر العورات، فقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف:31]، فأمر بستر العورة، وامتن على عباده باللباس والستر الذي يواري السوءات ويحفظها، وفي حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين في قصة المعذبين في قبورهما، قال صلى الله عليه وسلم: (أما احدهما فكان لا يستتر من بوله)، قال بعض العلماء: (لا يستتر) أي: أنه يبول فتنكشف عورته، فيبول أمام الناس ولا يستر عورته، فجُعل الوعيد في القبر على كشف العورة -والعياذ بالله- والتساهل فيها، وهذا قول عند بعض العلماء، وإن كان الصحيح القول المشهور أنه عدم الاستنزاه وقطع البول، فقد كان يستعجل في ذلك ولا يستبرئ كما جاء صريحاً في الروايات الآخر. إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز للرجل أن يجامع زوجته، أو يقع الجماع في موضع لا يؤمن فيه نظر الغير، وكذلك لا يجوز للزوجين أن يتساهلا في كشف العورة، أو وقوع الجماع على مرأى، أو مسمع من الأبناء أو البنات، فإن ذلك من أعظم ما يضر بالأولاد ولربما أفسدهم، خاصة إذا كانوا في سن صغيرة، فإن له عواقب وخيمة، وأضراراً نفسية تضر بالولد ذكراً كان أم أنثى، فلا ينبغي أن يجامع المرأة بجوار أولادها، أو جوار أبنائها، وعليه أن يتعاطى أسباب حفظها، وحفظ عورته وعورتها. فأصول الشريعة وأدلة الشريعة كلها تدل من حيث العمومات على أنه لا يجوز للمسلم أن يتساهل في عورته، بل عليه أن يحفظ عورته، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك) فأجاز له كشف العورة للزوجة أو الأمة، ومفهوم ذلك أنها لا تحل لغيرهما. فلا يجوز أن يجامع ويواقع في مكان لا يأمن فيه النظر، كأماكن الطرقات، والسابلة، أو يكون في موضع لا يأمن فيه من دخول الغير، وهجوم الغير عليه، خاصة إذا كان مكاناً مختلطاً، أو لا يأمن من دخول الأبناء والبنات، ونحو ذلك، كل ذلك ينبغي تعاطي الأسباب فيه. قال رحمه الله: [والتحدث به] أي: وليتجنب التحدث بالجماع، كأن يتحدث الرجل بما يكون بينه وبين المرأة، أو تتحدث المرأة بما يكون بينها وبين زوجها، وهذا لا شك يدل دلالة واضحة على ذهاب المروءة وقلة الحياء وصفاقة الوجه -نسأل الله العافية- فإن من لا يستحيي لا يستغرب منه ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، فالذي لا حياء عنده -بل ولا عقل عنده- هو الذي يقول هذا، فإن أمور الزوجية أسرار، ولا يجوز أن تباح، والأسرار أمانة، فينبغي للزوج أن يحفظ أسرار زوجته، وللزوجة أن تحفظ أسرار زوجها، وكم من امرأة صالحة دينة اطلعت على خلل من زوجها في الفراش، وصبرت وصابرت واحتسبت، ولم تُطلع على ذلك أحداً حتى في حال أذية الزوج لها، تكتم ذلك ولا تفشي له سره، ترجو رحمة الله عز وجل، وتحس أن هذه أمانات، فتخاف من الله عز وجل إذا أفشتها، أو لمحت بها، أو اطلع الغير عليها، وكذلك بالنسبة للرجل مع المرأة لا يجوز له أن يفشي هذه الأسرار، ولا يتحدث بكيفية إتيانه لأهله، أو بالأمور الخاصة التي بينه وبين زوجه، كل ذلك من الأمانات التي ينبغي على الزوج أن يحفظها، وعلى الزوجة أن تحفظها.

وجوب تخصيص مسكن مستقل لكل زوجة

وجوب تخصيص مسكن مستقل لكل زوجة قال رحمه الله: [ويحرم جمع زوجتيه في مسكن واحد بغير رضاهما] أي: ويحرم جمع زوجتين في مسكن واحد؛ والسبب في هذا أن الزوجة مع ضرتها تغار، وإذا كان المسكن قريباً أو مشتركاً بينهما، فإن الغيرة تكون أشد، ولربما وصلت إلى الحقد، وإلى الأذية، وإلى الإضرار. فمثل هذه الأشياء تحدث الأذية بين الزوجات والإضرار، والنهي عن الشيء نهي عن وسائله، والقاعدة: أن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها، فجمعهما في مسكن واحد وسيلة إلى شر، ووسيلة إلى فتنة، وإلى ضرر، فينهى عنه، ويمنع منه. وأجاز بعض العلماء أن يجمع بينهما في سكن واحد في حالات الضرورة، أو إذا رضيت الزوجتان وأمن الضرر بينهما، وإذا كان الرجل لا مال له، ولا يستطيع أن يجد سكناً، وقد يقع هذا في بعض الأحوال الخاصة، كالنزول في الأماكن التي لا بناء فيها، كأن لا يكون عنده إلا خباءين. فالشاهد: أنه إذا وجدت الحاجة والضرورة فإن العلماء يرخصون في هذا على قدر الحاجة والضرورة.

عدم خروج المرأة إلا بإذن زوجها

عدم خروج المرأة إلا بإذن زوجها قال رحمه الله تعالى: [وله منعها من الخروج من منزله] هذا حق من حقوق الرجل على امرأته أن لا تخرج من بيته إلا بإذنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، وقال كما في الصحيح: (إذا استأذنت أحدكم امرأتُه المسجد فليأذن لها) فقوله: (إذا استأذنت أحدكم امرأتُه المسجد) يدل على أنها لا تخرج إلا بإذن زوجها، فإذا كان الإذن للصلاة فمن بابٍ أولى غير الصلاة، فلا يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها إلا إذا استأذنت بعلها وزوجها، فإن إذن لها خرجت، وإن لم يأذن لها فإنه يجب عليها أن تلزم بيتها بيت الزوجية، وأن لا تخرج منه، ونص على هذا جماهير العلماء رحمهم الله أنه لا يجوز خروج المرأة من بيتها إلا بإذن زوجها، وأما إذا خرجت بدون إذنه فقد عصت، ويعتبر خروجها من بيتها بدون إذن زوجها استرجالاً وخروجاً عن حق الطاعة، فهي بهذا مسترجلة على زوجها، خاصة إذا قالت له: لا سمع ولا طاعة، أو قالت: أنا حرة أفعل في نفسي ما أشاء، فإن قالت هذا، فإنها مسترجلة عليها لعنة الله ورسوله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله المسترجلات). فمن الأخطاء التي يقع فيها بعض النسوة أصلحهن الله ما يقع منهن من مشابهة الكفار، ونساء الكفار، واسترجال النساء، ومحاولة المرأة أن تكون كالرجل سواءً بسواء، دون أن تشعر بحق قوامته عليها، فإن هذا كله مما يوجب سخط الله وغضبه، فينبغي على المرأة أن تخاف من الله عز وجل وأن تتقي الله عز وجل، وأن تعلم علم اليقين أنه لا يمكن أن تصلح الأمور إلا بفطرة الله التي فطر الناس عليها وجبلهم عليها، فالمرأة لا تستقيم حياتها إلا مع بعلها، إذا كانت تحته سامعة له ومطيعة، ولا يستقيم أمر المرأة مع الرجل إلا إذا اتقى أيضاً الرجل ربه، وأحس أنها أمانة في عنقه، ومسئولية يسأل عنها بين يدي الله ربه فليتقِ الله فيها، فإذا علم كل منهما حق الآخر وأداه استقامت الأمور. أما أن تخرج المرأة عن طورها، وتحاول أن تشابه الرجال، ولا تعترف لزوجها بحق، أو تقول: ليس لك عليَّ أمر، فأنا أفعل بنفسي ما أشاء، وأنا حرة في نفسي، وهكذا تفعل مع إخوانها وأوليائها إذا كان لها أخ أكبر منها، أو كان لها أب، فكل ذلك من العصيان والتمرد، ومن الاسترجال نسأل الله السلامة والعافية. فعلى المؤمنة أن تتقي الله عز وجل، وأن تحذر من مشابهة الكافرات والعاهرات والساقطات اللاتي لا حياء عندهن، وألا تجاريهن في الأخلاق الرديئة، فإن من أحب قوماً وصنع صنيعهم حشر معهم والعياذ بالله. فأمور النساء لا تستقيم إلا بالقوامة، فإذا أحست المرأة بحق بعلها حفظت هذا الحق، فلا تخرج من البيت إلا بإذنه، وإذا شعر الرجل أن امرأته تحته، وأحس بهذا الحق الذي له عليها، فإنه سرعان ما يستجيب لكثير من الأمور، ويحصل شيء من الود والمحبة والألفة بين الزوجين، والعكس بالعكس، فإن الرجل متى ما شعر من المرأة أنها مستعلية عليه، فإنه سيتخذ أموراً قد تكون سبباً في هدم بيت الزوجية، فالواجب على المرأة أن تطيع زوجها، ولا تخرج من بيته إلا بإذنه، ويجب عليه أن يتقي الله في هذا الحق، فكما أن النساء مطالبات بحفظ حق القوامة وعدم الخروج من البيت إلا بإذن الرجل، كذلك ينبغي على الرجل أن لا يستغل ذلك، وأن يتقي الله في امرأته وزوجه، فلا يأمرها بعقوق الوالدين، فيمنعها عن والديها إذا كان هناك مناسبة، أو أمر موجب لزيارة الوالد أو الوالدة لمرض، أو حاجة، أو تحتاج أمها أن تراها، أو يحتاج أبوها أن يراها، وهو مريض، أو نزل به شيء، أو كانت هناك مناسبة جرى العرف أن تكون شاهدة فيها، فعليه أن يساعدها على ذلك، وأن يعينها على ذلك، وأن يهيئ لها من الأسباب ما تصل به الرحم وتبلها ببلالها. فالمقصود: أنه لابد من التعاون من الطرفين، فالإسلام لم يعط الرجل حق القوامة بدون قيد، وإنما له حق القوامة مع تقوى الله عز وجل، ولذلك بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله: (إذا استأذنت أحدَكم امرأتُه إلى المسجدَ فليأذن لها)، فنهى عن استغلال حق القوامة. فلا ينبغي استغلال مثل هذه الحقوق، بل ينبغي العدل الذي أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وينبغي وضع الأمور في نصابها، وأن يعلم كلٌّ منهما أن الله سائله عن حق الآخر ضيَّع أو حفظ.

أحوال يستحب للرجل فيها الإذن لزوجته بالخروج

أحوال يستحب للرجل فيها الإذن لزوجته بالخروج قال رحمه الله تعالى: [ويستحب إذنه أن تمرض محرمها وتشهد جنازته] ويستحب له أن يأذن لزوجته أن تمرض قريبها المحرم، تكون معه في مرضه كمرض الموت، أو الأمراض الشديدة، كأن يمرض والدها وليس له مرافق في مرضه، فيأذن لها أن تكون مع والدها، ويذهب بها إليه، فالرجل الكامل الفاضل هو الذي زينه الله عز وجل بمكارم الأخلاق ليكون من خيار المؤمنين؛ كما شهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو أحسن المؤمنين وأكملهم خلقاً بذلك حين قال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً). فينبغي على الرجل إذا علم بمرض والد زوجته، أو علم أن والدتها تحتاج إليها، فإن من مكارم الأخلاق، ومَحاسن العادات، بل ومما يُحْمَد ويكون له أطيب الأثر أن يبادر المرأة بنفسه وألَّا ينتظر من المرأة أن تقول له: أريد أن أذهب؛ فهذا هو صنيع الأخيار والصفوة الأبرار، الذين هم موفقون ومسددون في أمورهم، لا ينتظر منها ذلك القول؛ بل هو الذي يقوم بأخذها والذهاب بها إلى والدها، فإن أخبرت أهلها أنه هو الذي جاء بها أو أنه هو الذي أمر، فكم سيكون له من صالح الدعوات! وكم سيكون له من المحبة والقبول عند أهلها! وهذه كلها أمور محمودة وعواقبها طيبة. فينبغي للمسلم أن يكون على أكمل الأحوال ولذلك قالوا: لا يكون المؤمن على أكمل الإيمان إلا إذا كان في صفاته وأحواله على أكمل الأحوال. فإذا كان صهراً لقوم كان خير صهر لصهره، وإذا كان زوجاً لامرأة كان خير زوج من خيار الأزواج لزوجاتهم، فهذه دائماً مراتب معالي الأمور. فإذا علم أن هناك قريباً لها يحتاج إليها، وتأمن الفتنة في وجودها معه، فحينئذٍ يذهب بها إليه، إلا أنه قد توجد بعض المعوقات كوجود بعض الفتن في بيت القريب، فإن أمكن الزوج أن يسيطر على ذلك، ووثق من زوجته، فليذهب بها، وليوصها بتقوى الله عز وجل، وإذا كانت لا تستطيع أن تأمن الفتنة، ولا يستطيع هو، وأمكن أن يذهب معها، فليساعدها على صلة الرحم، وليكن حافظاً لحق الله عز وجل في تلك الصلة. فهذه أمور يحتاج كلا الزوجين أن يتفاهما فيها، ولا يستطيع الإنسان أن يضع لها حداً معيناً، إنما المقصود وجماع الخير كله أن يتقي الله كلٌّ منهما في حق الآخر. قال رحمه الله تعالى: [وتشهد جنازته] أي: أن تراه بعد تكفينه، ففي بعض الأحوال إذا توفي الرجل، فإن البنت تحب أن ترى والدها بعد تكفينه وتغسيله فتشهد جنازته، بمعنى: تلقي عليه النظرة، كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين كشف وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقبَّله، وقال: (طبت حياً وميتاً)، فإذا أرادت أن تسلم على والدها بمعنى أن تقبله وهو ميت، أو قريبها المحرم، فأخذها من أجل أن تلقي عليه النظرة، أو نحو ذلك فلا بأس، أما أن تخرج معه في الجنازة، فالمرأة لا تشيع الجنازات، ولا تشهد الجنازة.

مدى سلطة الرجل على زوجته

مدى سلطة الرجل على زوجته قال رحمه الله تعالى: [وله منعها من إجارة نفسها ومن إرضاع ولدها من غيره إلا لضرورته] قوله: (وله منعها من إجارة نفسها) أي: أن للزوج أن يمنع الزوجة من إجارتها لنفسها؛ أي: من عملها، فيأمرها أن تجلس في البيت ويقوم بالنفقة عليها، فإذا أمر الزوج زوجته أن تجلس في البيت وجب عليها أن تجلس، ولا يجوز لها أن تمتنع وتعصيه، فإن عصته فقد عصت الله ورسوله. ثم إذا أمرها أن تجلس في بيته وقام بحقوق النفقة، فلا يجوز لها أن تؤذيه، فتجلس في البيت وتظهر له التسخط والتمرد والتبرم والتأثر من منعه لها، فلا ينبغي لها أن تفعل هذا؛ لأن المرأة سكن للرجل، وجعل الله عز وجل خيرها في بيتها، فإذا لزمت بيتها وقرت في قرارها، وقامت على بيت الزوجية، وأصلحت أبناءها وبناتها، فهذه هي رسالتها الأولى، وهذا هو حقها الأوجب الآكد. فإذا لم يكن للمسلم أن يبر خالته ويعق أمه، فكيف تذهب للغرباء وتترك الأقارب وتترك أبناءها وفلذات كبدها لمرأة أجنبية تربي أولادها؟! فإذا أمرها زوجها أن تجلس في البيت وتربي الأولاد، فعليها السمع والطاعة بنفسٍ مطمئنة، وترضى بما أمرها به زوجها، فلعل الله أن يجعل لها في ذلك خيراً كثيراً. فكم من امرأة خرجت فرأت من الفتن ما تمنت أنها لم تخرج، وكم من امرأة مكثت في بيتها فبارك الله لها في مجلسها وبقائها في بيتها، وهذه الأمة يوم أن كانت في أوج عزها وكرامتها كانت المرأة ماكثة في بيتها، وكلنا يعلم أن خروج المرأة ليس بشرط في سعادة الأمة ولا في كمالها، بل إن سعادة الأمة في بعد المرأة عن الفتن وسلامتها عن فتنتها وفتن غيرها، فقد قالت فاطمة رضي الله عنها: (خير للمرأة أن لا ترى الرجال، ولا يراها الرجال) فإذا أخذت الرجل الغيرة وقال لها: يا أمة الله! اجلسي في بيتكِ، فقالت: سمعاً وطاعة، أثابها الله على سمعها وطاعتها، وبارك لها في مجلسها؛ لأن هذا من تقوى الله، ومن اتقى الله جعل له فرجاً ومخرجاً، فحينئذٍ قد يضع الله البركة لها في القليل الذي يكون من زوجها، فيكون خيراً لها من كثير لا تحمد عاقبته. ولا يعني هذا أنه لا يجوز لها أن تخرج، وإنما الكلام هنا عن الأصل الشرعي، فالأصل الشرعي قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، والأصل الشرعي أن تحفظ أبناءها وبناتها وتقوم على تعليمهم وتربيتهم وتوجيههم، وهم أمانة في عنقها، ولا تستطيع المرأة أن تتصور عظيم الخسارة التي يُمنى بها أولادها وبناتها حينما تترك البيت وتذهب خارجة لغير رسالة البيت وتفرط في حق البيت. فلتتصور لو كانت أمها تتركها في البيت فكيف سيكون حالها؟ ولو أنها نشأت في بيت لا ترى أمها إلا حين رجوعها من العمل، وهي في حالة منهكة مجهدة لا تستطيع أن تتبسم لها، ولا أن تعطيها حناناً، ولا أن تقوم عليها بشأن، وقد تركتها إلى أجنبية فكيف يكون حالها؟ فإذا طلب الزوج المرأة أن تبقى في بيتها فعليها أن تتقي الله، وأن لا تعارض وأن لا تمانع، وأن لا تقول لزوجها: دمرت مستقبلي، فإن مستقبل المرأة في تقوى الله عز وجل، وفي خوفها من الله ومراقبتها لله سبحانه وتعالى، وقيامها بحقوق بيتها وحقوق زوجها، وليس مستقبلها موقوفاً على خروجها من البيت، وإلا ما قال الله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]. فالأصول كلها دالة على أن من حق الزوج أن يحفظ زوجته في بيته، فإذا خرجت المرأة وأصرت، فقد عصت زوجها، وإذا عصته على هذا الوجه، وقد أمرها أن تقر في بيتها، فإنها آثمة في ذلك الخروج، وآثمة في تلك الإجارة، ولا يجوز للغير أن يعينها على إجارتها المحرمة على هذا الوجه، وعليها أن تسمع وأن تطيع، وكذلك توصي المؤمنة أختها إذا علمت أن زوجها لم يأذن لها بالعمل، ولم يأذن لها بالوظيفة، فإن عليها أن توصيها وتذكرها بالله عز وجل أن تبقى في بيتها، وأن لا تصر على معارضته، وتنهاها عن النشوز عنه بمعصيته في هذا الأمر. فإن الزوج إذا دعا امرأته أن تمكث في البيت، فلربما دعاها خوفاً عليها من الفتنة، وهذه غيرة شرعية، ومن حقه أن يغار، والرجل الكامل هو الذي يغار، وقد يأمرها بالبقاء في بيتها لمصلحة أولادها، فأولادها بدونها يضيعون، ولا يمكن لأي امرأة أن تحسن بحنان الأمومة ما لم تكن مع أولادها، ولا يمكن لأي ولد أن يجد حنان الأمومة من غير الأم، فضياع هذا الحق يضر بالأولاد وينشئون وقد تقطعت الأواصر بينهم وبين الوالدين، ولهذا كله نتائج عكسية لا تحمد عقباها، فإن نظر إلى أن خروج زوجته فيه نفع لبنات المسلمين، وعلم أنها حافظة لدينها، حافظة لمروءتها، بعيدة عن الفتن، وقام على ذلك على أتم الوجوه وأكملها، وأرادها أن تبقى في ذلك فلا بأس، وهو مأجور على ذلك إذا كان قصده أن تعلم بنات المسلمين الخير، فإن الله يأجره على هذه النية الصالحة، ويعتبر من الأعمال الطيبة، ولا بأس بذلك إنما المقصود حين يرى الزوج أن المصلحة بقاؤها فينهى الزوجة أو يمنعها، فما على الزوجة إلا أن تسمع وتطيع. قال رحمه الله: [ومن إرضاع ولدها من غيره إلا لضرورته] أي: لو أمرها أن ترضع ولده، ونهاها أن ترضعه من غيرها، فإنه يجب عليها أن تسمع له وتطيع، إلا من ضرورة وحاجة، فإذا كان عندها ضرورة وحاجة توجب لها أن تصرف الولد إلى غيرها فحينئذٍ لا بأس.

باب عشرة النساء [2]

شرح زاد المستقنع - باب عشرة النساء [2] يجب على الزوج أن يعدل بين نسائه في المبيت دون الوطء، فيعطي كل واحدة، سواء كانت حائضاً أو مريضة أو مجنونة أو نحو ذلك، ولا يجوز له أن يفضل واحدة على غيرها أو ينقص واحدة من حقها أبداً، إلا إذا وجد سبب شرعي، كسفر ونحوه، أو وهبت قسمها لغيرها من نسائه. وإن نشزت عليه زوجته وعظها، فإن لم ينفع هجرها في المضجع، فإن لم ينفع ضربها ضرباً غير مبرح.

أحكام المبيت والقسم بين الزوجات

أحكام المبيت والقسم بين الزوجات

وجوب المساواة في القسم دون الوطء

وجوب المساواة في القسم دون الوطء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: وعليه أن يساوي بين زوجاته في القسم لا في الوطء] أي: على الرجل أن يساوي بين الزوجات في القسم -وهو المبيت- فيبيت عند كل واحدة مثل الثانية، فيقسم بينهن إن كنَّ أربعاً فلكل واحدة ليلة، ولا يفضل إحداهن على الأخرى فيبيت عند إحداهن ليلتين فيزيدها في المبيت، فلا يجوز له ذلك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من كانت له زوجتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه مائل)، واختلف العلماء في تأويل هذا الحديث، فقال بعض العلماء: شقه مائل، أي: يأتي مشلولاً -والعياذ بالله- فيبعث ونصفه مشلول، وقال بعض العلماء: (جاء يوم القيامة وشقه مائل) أي: أن كفة السيئات تزيد على الحسنات، بمعنى أنه سيصيب من ذلك الإثم شيئاً كثيراً؛ لأن المرأة ظلمها عظيم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (إني أحرج حق الضعيفين المرأة واليتيم)، والسبب في هذا أن المرأة فيها من المشاعر والضعف والرحمة والحنان ما ليس في الرجل، فالغلطة من الرجل والأذية والإضرار -خاصة بينها وبين ضرتها كأن يعطي ضرتها أكثر مما يعطيها- يحدث عندها نوعاً من الألم والأذية أكثر من غيرها؛ لأنها تحس بنقصها في أنوثتها وعدم حظوتها عند زوجها، وتحس أن زوجها يكرهها، فتتولد عندها أمور كثيرة، ولربما أضرت بالزوجة الثانية بسبب هذا الظلم، فأصبحت أذيتها للزوجة الثانية ناشئة بسبب تفضيل الزوج لهذه الزوجة الثانية، وحينئذٍ ينال إثم إضرارها، وإثمها إذا ضرت الغير بسبب إضراره لها. فبسبب هذا تكون الذنوب عظيمة عليه، فكأنه ينال إثماً عظيماً حتى ترجح كفة سيئاته على حسناته، والله أعلم بالمراد، وغاية ما فيه أنه أمر عظيم، فينبغي على المسلم أن يتقي الله، فالعدل الذي يجب على الرجل العدل في القسم، وفي الحقوق كالنفقات ونحوها، فيقسم بينهن بالسوية. ولقد كان السلف رحمهم الله يبالغون في هذا العدل أيما مبالغة، وأثر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه إذا كانت الليلة لإحداهن لا يدخل بيت الثانية في ليلة الأخرى، خشية أن يحدث عندها شيئاً لا يحدثه عند الأخرى فيكون تفضيلاً عليها، فالأمر عظيم في قضية العدل بين الزوجات، ولا يستطيع الإنسان أن يعدل إلا إذا وفقه الله عز وجل، فعليه أن يعدل بين نسائه في القسم في المبيت، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم وعدل ولنا فيه أسوة حسنة. قوله رحمه الله تعالى: [في القسم لا في الوطء] وذلك لأن الوطء يتبع المحبة والقلب، فربما كانت إحداهن أجمل، فكان وطؤه لها أكثر من غيرها، فالعماد هو القسم في المبيت، وهذا أمر قرره العلماء، والأصل في ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129] فقالوا في قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} [النساء:129] قالوا: إنما هو قسم القلوب، فإن المحبة التي في القلوب، والتي ينشأ عنها حظوة الجماع، وحظوة الإتيان، تختلف من امرأة إلى أخرى، وتختلف بحسب أساليب النساء، فالمرأة التي أخلاقها كريمة ومؤدبة مع زوجها، وحظية مع زوجها ليست كالمرأة الشديدة والقوية، فهذا يختلف من امرأة إلى أخرى، فإذا جامع إحداهن أبلغ من جماعه للأخرى فإنه لا ملامة عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) وهو القلب. قال رحمه الله تعالى: [وعماده الليل لمن معاشه النهار، والعكس بالعكس]. أي: وعماد القسم في الليل، فيبيت عندها ويصيبها لمن معاشه النهار، وهذا هو الأصل، فإن الله جعل الليل لباساً وجعل النهار معاشاً، فإن اختلف الحال فصار نهاره راحة وصار ليله عملاً فحينئذٍ يكون قسمه بالنهار؛ لأنه لا يستطيع أن يعطي حقوق النساء في المبيت، فيكون قسمه بالنهار، فيكون العماد على النهار، وهذا يختلف بحسب اختلاف الأشخاص وأحوالهم.

من تستحق القسم من الزوجات

من تستحق القسم من الزوجات قال رحمه الله تعالى: [ويقسم لحائض ونفساء ومريضة ومعيبة ومجنونة مأمونة وغيرها]. أي: إذا حاضت إحدى نسائه فعليه أن يقسم لها، فيبيت معها ويباشرها ولا يجامعها، فلها حق أن يبيت معها، فلا يقل قائل: إن الحائض لا يجوز جماعها فيسقط حقها في المبيت، إذ لو سقط حقها في المبيت، فمعنى ذلك أنه لا يبيت عندها، وله الحق أن يعطي ليلتها للأخريات، فلو كان عنده أربع نسوة فإنه سيقسم على ثلاث منهن ويسقط حق الحائض، والواقع أنه لا يسقط حق الحائض، ونص على ذلك جماهير العلماء رحمهم الله، فالمرأة الحائض يبيت معها ويكون هذا المبيت مبيت المباسطة والأنس، وهو حق من حقوقها. قوله: (ونفساء) أي: يقسم كذلك للنفساء. قوله: (ومريضة)؛ فالمريضة يبيت معها، وهي أحوج إلى وجوده الذي يحقق معاني كثيرة من وجود الأنس وتخفيف الألم بمواساتها ونحو ذلك. قال رحمه الله تعالى: [ومعيبة] والمعيبة لو كان بها عيب يمنع الوطء كذلك لها حق المبيت. قال رحمه الله تعالى: [ومجنونة مأمونة] وللمجنونة حق المبيت بشرط أن لا يكون جنونها مضراً، كأن تضره وتؤذيه، أما لو كانت تضره ولا يستطيع أن يبيت معها، فحينئذٍ يكون من حقه أن يعتزلها خوفاً من الضرر. قال رحمه الله: [ومجنونة مأمونة وغيرها] [وغيرها] يعني: ممن هي في حكم هؤلاء، فالقسم لازم في هذه الأحوال، وكذا مستحاضة من باب أولى وأحرى، خاصة على القول بأن المستحاضة توطأ، فهؤلاء النسوة وجود هذا العيب فيهن لا يمنع من القيام بحق القسم.

أسباب سقوط القسم والنفقة عن الزوج

أسباب سقوط القسم والنفقة عن الزوج قال رحمه الله: [وإن سافرت بلا إذنه، أو بإذنه في حاجتها، أو أبت السفر معه، أو المبيت عنده في فراشه، فلا قسم لها ولا نفقة] بعد أن بين الواجب على الرجل تجاه نسائه من القسم والعدل، شرع في المسائل المستثناة، وكنا ننبه غير مرة أن من عادة الفقهاء أن يذكروا الأصول، ثم يذكروا بعد ذلك ما يستثنى من الأصول، فهنا نوع من النسوة يسقط حقهن في القسم. فبعد ذكر النوع الذي لا يسقط حقه في القسم، شرع رحمه الله تعالى في النوع الذي يسقط حقه في القسم. فمن ذلك أنها إن سافرت بغير إذنه، فحينئذٍ يسقط حقها في القسم، فلو كان عنده زوجتان فسافرت إحداهما من دون إذنه وبدون رضاه، فإنه يبيت عند الثانية في الليالي كلها، ويسقط حق المسافرة في القسم، فلا يحق لها أن تطالب بالعوض، إذا رجعت من السفر، فلا تقل: اقسم لي ما فاتني! فقد سقط حقها بسفرها، لأنه سفر غير مأذون، فإذا لم يأذن لها سقط حقها. قوله رحمه الله تعالى: [أو بإذنه في حاجتها] إن كان السفر بإذنه فإنه لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يكون السفر بإذنه لحاجتها هي، كأن تسافر لأم مريضة، أو والد مريض، أو غيرهما من محارمها؛ لتصل رحمها وتقوم على حوائجهم، أو سافرت لتعالج نفسها، فهذا السفر لحاجتها، فحينئذٍ إذا سافرت مع مريض، أو لحاجتها، أو حاجة قريبها، فإنه يسقط حقها، ولا يحق لها أن تقول لزوجها بعد رجوعها: اقسم لي، ردّ لي حقي! فحقها في القسم ساقط إذا سافرت بغير إذنه، أو سافرت بإذنه لحاجتها. الحالة الثانية: أن يكون سفرها بإذنه لحاجته هو، فحينئذٍ لا يسقط حقها؛ لأنه يمكن أن يرسلها ويبقى مع الثانية. فإن كان حقها يسقط بسفرها في حاجته، فقد يحتال عليها، فكلما استقرت أرسلها ليسقط حقها. فما دام هو السبب في إبعادها، فإذن لابد أن يقسم لها، ففي هذه الحالة يلزمه أن يرد لها من قسمها ما فات بسببه؛ لأنه هو السبب في ذلك، فلو سافرت في حاجته يومين، أو ثلاثة أيام، فإن الثانية أخذت اليوم الزائد، فإن رجعت أخذت ما فاتها من الأيام، بمعنى أنه يقضي لها ما فاتها من الأيام، فإن سافرت في ليلتها ورجعت في ليلة الثانية، فحينئذٍ تنتظر، فيبيت مع الثانية ليلتين، ثم يبيت مع الثانية ليلتين، ليلة يقضي لها بها ما فاتها في السفر، وليلة يعطيها بها حق القسمة. قوله رحمه الله تعالى: [أو أبت السفر معه] من السنة إذا أراد الرجل أن يسافر وعنده امرأتان، فإن أمكنه أن يصحبهما معاً، وأن يخرجا معه فلا إشكال، والقسم حينئذٍ في السفر كالقسم في الحضر، فيقسم لهن في سفرهن كما يقسم لهن في حضرهن، فإن سافر بالاثنتين وقسم بينهما فقد عدل، وإن سافر سفراً لا يستطيع معه أن يصحب واحدة منهن، وترك الاثنتين، فإنه إذا رجع قسم بينهما بالعدل، ولا إشكال في ذلك أيضاً، لكن الإشكال إذا سافر بإحداهما دون الأخرى. فإن سافر بإحداهما دون الأخرى، فإن كانت الأخرى هي التي امتنعت، وقالت: لا أريد أن أسافر، سقط حقها، كرجل أراد أن يعتمر، فقال لزوجتيه: أريدكما أن تذهبا معي إلى العمرة، فقالت إحداهما: أذهبُ، وقالت الأخرى: لا أريد أن أذهب، فإن امتنعت سقط حقها، فإذا رجع فليس عليه أن يقضي لها الأيام التي سافر فيها؛ لأنها أسقطت حقها بالامتناع من الخروج. وإن كان لا يمكن أن يسافر إلا بواحدة، وكلتاهما تريد الخروج فلذلك حالتان: الحالة الأولى: يكون سفره مرتباً، بحيث يمكن العدل معه، فيأخذ هذه لسفرة والثانية لسفرة، وذلك إن كان سفره مرتباً أياماً معينة ويمكن معها القسم، وانتظام القسم، فحينئذٍ لا إشكال أن يسافر بهذه تارة، وبهذه تارة، ويحقق العدل. الحالة الثانية: أن لا يمكن الترتيب وذلك في السفر العارض، فإذا لم يمكنه الخروج بهما أقرع بينهما، فمن خرجت لها القرعة، فحينئذٍ تخرج ويسافر بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر بنسائه أقرع، فإذا عاد لم يقسم للتي لم تخرج، فهذا هو هديه عليه الصلاة والسلام. ومن هنا أخذ العلماء مشروعية القرعة عند تساوي الحقوق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما تساوت حقوق زوجاته فرق بينهن بالقرعة، فدل ذلك على مشروعية القرعة لتمييز الحقوق حين تستوي ولا يمكن التمييز بينها. قوله رحمه الله تعالى: [أو المبيت عنده في فراشه، فلا قسم لها ولا نفقة] أي: إذا أبت أن تبيت عنده في فراشه فلا قسم لها، ويسقط حقها في القسم. أما النفقة فإن المرأة إذا نشزت عن زوجها، وامتنعت من فراشه، فإنه يسقط حقها في النفقة؛ لقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24]، وإيجاب النفقة من شروطه وجود الاستمتاع، فالمرأة التي تمكن زوجها من الاستمتاع بها تستحق النفقة، والمرأة التي تنشز وتمتنع من حقوق زوجها، ولا تمكنه من نفسها وتأبى عليه، يسقط حقها في النفقة.

التبرع بحق القسم

التبرع بحق القسم قال رحمه الله: [ومن وهبت قسمها لضرتها بإذنه، أو له، فجعله لأخرى جاز] قوله: (ومن وهبت قسمها) يعني: ليلتها، وقد يقسم على ليلة، وقد يقسم على ليلتين، وقد يقسم على ثلاث، على حسب ما يتفق عليه النساء، بحسب ظروفهن، فالقسم على حسب ما يصطلحن ويتفقن عليه. بعد أن بين رحمه الله من التي لها حق القسم، ومن التي يسقط حقها في القسم، وبين حقوق القسم وضوابط القسم، شرع في مسألة التنازل عن هذا الحق. فللمرأة أن تتنازل عن حقها في المبيت إلى أخرى، بشرط أن يأذن الزوج، فإن تنازلت عن قسمها لضرتها، وقالت: ليلتي لفلانة، فإنه يجوز ذلك، وهذا من الصلح بين الزوجين، خاصة إذا خافت من زوجها لقوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128] وهذا من الصلح ومن الخير. فإذا اتفقت المرأة مع زوجها أن تكون ليلتها لضرتها، كما فعلت سودة رضي الله عنها، فقد كانت كبيرة، وخافت أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوهبت ليلتها لـ عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فدل هذا على مشروعية تنازل المرأة عن حقها، لكن قيد رحمه الله هذا التنازل بقوله: (بإذنه)، فلو أن امرأة شابة تنازلت عن قسمها لعجوز، فإن في هذا التنازل ضرراً عليه، ولا يمكن أن يرضى به، فليست مسألة التنازل عن القسم لحظوة المرأة وحق المرأة، وإنما هو مقرون بإذن الزوج؛ لأن له حقاً في إعفاف نفسه، وتحصينها عن الحرام. قوله رحمه الله تعالى: [أو له] أي: إذا قالت له: أتنازل عن هذه الليلة فضعها لمن شئت، وأمكن أن يضعها لأي واحدة من نسائه فله أن يختار من نسائه من يأتيها. قال رحمه الله: [فإن رجعت قسم لها مستقبلاً] أي: إن رجعت عن إذنها، وقالت: ما أذنت لك به قد رجعت عنه وأريد حقي، فهذا الإذن لا يسقط الحق إلى الأبد، ولها حق الرجوع عن هذا التنازل، فلو جاءت -مثلاً- بعد شهر، أو بعد سنة، وقالت: أريدك أن تقسم لي كما كنت، فليس له أن يقول لها: أنتِ تنازلت، ولا رجوع لكِ، بل يلزمه أن يقسم لها، ولكن يستأنف الحكم، ولا يلزمه أن يقضى ما سبق؛ لأنها تنازلت عنه، فسقط ما كان لها بالتنازل، وحينئذٍ ليس من حقها أن تطالبه بالقضاء.

لا قسم للإماء

لا قسم للإماء قال رحمه الله تعالى: [ولا قسم لإمائه وأمهات أولاده، بل يطأ من شاء متى شاء] الأمة ليست كالحرة، فإن ملك اليمين يوطأ بالتسري، فلو أن له عشرين أمة ويريد أن يتسرى بهن فلا يلزمه أن يقسم بينهن في الليالي؛ لأن الإماء ليس لهن حق القسم، فحكم الزوجات لا ينطبق على الإماء من كل وجه، فالقسم إنما يختص بالزوجة، والأمة ملك اليمين، إن شاء أخرها وإن شاء قدمها، وإن شاء وطئها، وإن شاء تركها، فالأمر إليه، فلا تأخذ الأمة حكم الزوجة، فالزوجة لها حكم والأمة لها حكم.

الإقامة عند العروس بعد الزفاف

الإقامة عند العروس بعد الزفاف قال رحمه الله تعالى: [وإن تزوج بكراً أقام عندها سبعاً ثم دار] هذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه، فمن السنة إذا تزوج البكر أن يقيم عندها سبعاً لمكان الوحشة، ولأنها حديثة العهد بالعرس، فيطيب خاطرها بالسبع. قال رحمه الله تعالى: [وثيباً ثلاثاً وإن أحبت سبعاً فعل وقضى مثلهن للبواقي] وأما إذا تزوج الثيب فإنه يقيم عندها ثلاثاً، وعند انتهاء الثلاث يخير الثيب فيقول لها: إن شئت سبعت لكِ، على أن يكمل لنسائه، فإذا سبع لها فزادها أربعاً على الثلاث التي لها، فإنه يكمل للباقيات الزيادة التي زادها للثيب وهي الأربعة أيام، فيجعل القسم دائراً بينهن، أي: بقية الزوجات في الأربعة الأيام الزائدة، فيعدل بين الجميع ثم يعود إلى القسم لكل واحدة ليلة. ولذلك لما جاء في حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها حين تزوجها: (ليس بكِ هوان على أهلكِ، إن شئت سبعت لكِ وسبعت لغيركِ)، أي: أنني أكمل العدد الذي سبعته لكِ لغيرك، وقوله: (سبعت لغيركِ) من باب التجوز، لا أنه يكون عند الغير سبعاً.

النشوز وأحكامه

النشوز وأحكامه

تعريف النشوز

تعريف النشوز قال رحمه الله تعالى: [فصل: النشوز معصيتها إياه فيما يجب عليها]. بعد أن بين رحمه الله حقوق الزوج على زوجته، وحقوق الزوجة على زوجها، شرع فيما يعترض أداء هذه الحقوق، وفيما يخالف القيام بالحقوق، وهو ما يسمى بالنشوز، والنشوز يكون من الزوج لزوجته، ويكون من الزوجة لزوجها، ويكون من الطرفين معاً، فإما أن تكون المرأة هي الناشز على زوجها، أو يكون الرجل هو الناشز على زوجته، أو يكون الطرفان ناشزين، فهذه كلها أحوال للنشوز. وأصل النشوز من نشز الشيء إذا كان مرتفعاً، والمراد به: أحوال تكون من الرجل، وتكون من المرأة مخالفة لشرع الله، يستعلي بها أحد الزوجين على الآخر، فالرجل يستعلي بها على المرأة لمنعها من حقوقها، والمرأة تستعلي بها على الرجل بإضراره في حقوقه، وهو من أسوأ ما يكون في العشرة الزوجية، وبه تفسد الحياة الزوجية. ولذلك بين الله عز وجل نشوز الرجل على المرأة، فقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء:128]، وبين نشوز المرأة على زوجها، فقال سبحانه: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء:34]، وبين الحكم في حال وجود الشقاق بسبب نشوز الطرفين، فقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35]، فما ترك كتاب الله شيئاً، ولقد كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: ما من شيء في هذه الحياة إلا وهو في كتاب الله، بين الله حكمه، وبين الله ما يجب على المسلم تجاهه، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، حتى الحقوق، فقد بين القرآن الأثر المترتب على أدائها والأثر المترتب على الإخلال بها. فقوله رحمه الله تعالى: [النشوز معصيتها إياه] يعني معصية الزوجة لزوجها. [فيما يجب عليها] هذا بيان لمحل المعصية، أي: ما يجب له عليها من الحقوق، وعلى هذا لا يمكن أن نصف المرأة بأنها ناشز في المستحبات والفضائل، كرجل احتاج إلى مال قرضاً، وعند زوجته مال، فقال لها: أقرضيني، فقالت: لا أقرضك! فلا يقال: إنها ناشز؛ لأنها إن أقرضته ففضل منها، وإن لم تقرضه فعدل، فهذا حقها، وهي ما ظلمته، ولا ظلمت نفسها، فلا يقال: إنها ناشز إن منعت فضلاً، إنما تكون ناشزاً إذا منعت فرضاً واجباً له عليها كما ذكر رحمه الله تعالى.

مراحل النشوز وطرق علاجه

مراحل النشوز وطرق علاجه جعل بعض العلماء للنشوز مرحلتين: الأولى: مرحلة المقدمات للنشوز، ودلائل النشوز التي لا يظهر بها، ولا تُظهر المرأة معها الإعراض عن الزوج علانية، وإنما فيها أمارات ودلائل تدل على أن هناك أمراً تخفيه المرأة، وعندها يتوجس الرجل من المرأة خيفة كما أشار الله تعالى إليه في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء:34]. الثانية: أن يقع النشوز فعلاً، فتعصي المرأة زوجها علانية كأن تقول له: لا تطأ لي فراشاً، أو لا يمكن أن تطأني، ولا تقربني ونحو هذا، فحينئذٍ تنشز تماماً، فأصبحت هناك مرحلتان: مرحلة مقدمة للنشوز، ومرحلة يقع بها النشوز حقيقة، ومرحلة المقدمة للنشوز تكون أيضاً على حالتين: الحالة الأولى: أن تبدو العلامات دون إصرار، والحالة الثانية: أن تبدو العلامات مع شيء من الإصرار، مع كونها مطيعة إذا دعاها إلى فراشه. فهاتان الحالتان في المقدمات، وبناءً على ذلك قسم بعض الفقهاء -كما درج عليه الشافعية ومن وافقهم- المسألة إلى ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: الأمارة والعلامة على النشوز. والمرتبة الثانية: العلامة والأمارة مع الإصرار، دون امتناع عن الفراش. والمرحلة الثالثة: النشوز الكلي. أما المرتبة الأولى: فظهور الأمارات، فتكون أول أمرها مطيعة له إذا أمرها، وسامعة له إذا دعاها، ومجيبة بكل ما يطلبه، ثم تنقلب على العكس، فإذا أمرها لم تأتمر، وإذا دعاها أتت متأخرة، وإذا طلب شيئاً منها فإذا بها تلوي وجهها، وتحدث نوعاً من الظواهر والأمارات على ظاهرها، مما يدل على أنها متبرمة ساخطة لهذا، فهذه هي مرحلة بداية النشوز التي قال الله تعالى عنها: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء:34]، فهذه مرحلة الخوف. أما المرحلة الثانية فهي إصرارها على المعصية، فيعظها ويذكرها بالله تعالى، ويقول لها: اتقي الله فإنه لا يجوز لكِ هذا، وإني أرى منكِ كذا وكذا، فإن كان الذي رآه من العلامة مرة أو مرتين فقد تكون مريضة، أو قد يكون لها عذر، كأن ترى منه شيئاً لا تستطيع أن تجابهه به، فإذا جاء يعظها ويذكرها بالله فانكسر الذي في قلبها فاطمأنت، ورجعت إلى حالها الأول فلا إشكال، وحينئذٍ يتلافى هذا؛ لأن الوعظ كان تأديباً لها، فإن أصرت فذلك يدل على أن هناك شيئاً تخفيه، فإذا طلب منها أن تناوله الشيء جاءت به إما متوانية متكاسلة وعادتها السرعة، أو جاءت به فوضعته بقوة وعادتها أن تضعه بين يديه، وكررت ذلك المرة تلو المرة وهو يذكرها وهي تصر فتصبح في مرحلة الإصرار. وأما المرحلة الثالثة فهي عصيانها الفعلي، كأن يقول لها: لا تفعلي هذا، أو: هذا لا يجوز، فتقول له: ليس لك من شأن، وتعترض عليه. ففي الحالة الثانية تكون مجيبة له إلى الفراش، فإذا جابهته وجابهها، وانكشف الأمر بينهما وامتنعت عن فراشه، فقد انتقلت للمرحلة الثالثة، وهي غاية النشوز. هذا تقسيم لطائفة من أهل العلم، وفائدة هذا التقسيم عندهم أن الأحكام تترتب على حسب هذه المراحل الثلاث. فالله تعالى يقول: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]، فإن بدت المرحلة الأولى، أو العلامة الأولى شرع الوعظ، وإن بدت العلامة الثانية وهي الإصرار بعد الوعظ هجرها في المضجع، وإن بدت العلامة الثالثة، فأصرت على إعراضها، وعلى أذيتها، فإن دعاها إلى فراشه فلم تأتِ ولم تجب، انتقلت إلى حكم الثالثة فضربت، فيجعلون العقوبات مرتبة على المراحل الثلاث، ويجعلون الآية مجزأة على أحوال النشوز، كما جزءوا آية الحرابة على أحوال المحاربين في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33]، فجعلوا هذه العقوبات مختلفة بحسب اختلاف قطع الطريق والحرابة، وهذا مذهب الشافعية ومن وافقهم. وكذلك هنا، فالمرأة يبتدئ نشوزها بعلامة يحتمل أنها نشوز، ويحتمل أنها عفوية، أو لسبب من خطأ منه تذكره به، فيصلح خطأه، فتصلح هي خطأها، فهذا بالنسبة لوعظهن. فالمرحلة الأولى: أن تظهر منها العلامة دون إصرار في المرة الأولى، والمرة الثانية، وفي المرة الثالثة ينبهها. وليس المراد أنه بمجرد ما يرى من المرأة شيئاً ينبهها مباشرة ويذكرها، فعلى الرجل أن يكون حكيماً وأن يجعل الموعظة عند الموجب، وأن لا يضخم بعض الأشياء؛ فإن الناس تنتابهم بعض العوارض، وأنت بشر، فكما ترى في غيرك الخطأ، فغيرك يرى فيك الخطأ. فليس كل فعل من المرأة، وكل قول يفسر بأنه نشوز، أو أنه مقدامات النشوز، وليس من اللائق أن يجلس الرجل يراقب كل صغيرة وكبيرة من المرأة، فإن الناس إذا كانوا على غفلتهم، فقد يكونون في مأمن من هذه الأمور. فالمقصود: أن الإنسان بعد هذا لا يراقب مراقبة دقيقة، حتى ينظر أمارات النشوز، وإنما يكون الأمر محتفاً بقرائن ودلائل من المكان، والزمان، والملابسات بالقول والفعل، الذي يصدر من المرأة، فيغلب على ظن الإنسان أنه بداية النشوز فيعظها. والوعظ هو التذكير بالله تعالى، ومثل العلماء له بقوله لها: اتقي الله، وخافي الله عز وجل، ويا فلانة إن الله سائلكِ عن حقي عليكِ، فلا يجوز لكِ أن تتبرمي، ولا أن تتسخطي، يا فلانة إنكِ تفعلين كذا وكذا، وإن هذا لا يعجبني فاتقي الله فيّ، أو نحو ذلك من الكلمات التي يُذكِّرها فيها بالله عز وجل. وهذا من حكمة الله عز وجل، وقد نبه عليه الذين لهم عناية ببحوث التربية، كما نبه عليه القدماء، وذكرته كتب الأدب، فقالوا: إن العقوبة أبلغ ما تكون، وأكمل ما تكون، وأوقع ما تكون في النفوس، وأثرها محمود إذا سبقت بإعذار، وهو أن تنبه المخطئ، وتعذُر إليه، وتقول له: إياك أن تفعل، أو هذا الفعل خطأ، وقالوا: إن الصبي إذا نبهه والده في المرة الأولى، فقال له: إياك أن تفعل، فلا يقل له إذا كان في الأمر سعة: إن فعلت فسأضربك، بل يقول له في المرة الأولى: إياك أن تفعل، فإن رآه المرة الثانية يفعل ما نهاه عنه قال له: إن فعلت فسأضربك؛ لأنه إذا قال له: إياك أن تفعل، فأخطأ فسامحه شعر بحنان الأبوة ورحمة الأبوة، فإذا كررها مرة ثانية، فقال له: إن فعلت فسأضربك، فقد وعده، قالوا: فإن فعل فلا يتركه بل يضربه؛ فإنه إذا ضربه في الثالثة كان من أنجع ما يكون؛ لأنه لو تركه في الثالثة استمرأ الصبي، واستخف بوعيده، فأصبح إذا هدده لا يبالي بتهديده؛ لأنه ألف منه المسامحة، لكن إذا توعده، ووفى بوعيده، زجره ذلك. ولذلك قال تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] فجعل العقوبة بعد الإعذار، وجعل الهجر للمضاجع -وهي العقوبة المتوسطة بين عقوبة الوعظ وعقوبة الضرب- جعلها كمجال للإصلاح، ومن هنا قال بعض العلماء: إن المرأة المحبة لزوجها إذا أعرض عنها زوجها تأثرت بذلك، وشعرت بخطئها، فأصلحته، وغيرت من حالها، واستقامت الأمور، فإن كانت غير محبة، فإنها تحتاج إلى من يشعرها بهذا الزوج، وتحتاج أن تنبه من غفلتها، وأن توقظ من سباتها بالقوة؛ لأن من لا تزجره الكلمة تزجره اللكمة، كما يقولون. فإذا جاءها بالتي هي أحسن، وأعذر إليها، وأصرت، فحينئذٍ يضربها؛ لأنها لو تركت بدون عقاب لضاعت البيوت، وأصبحت البيوت هملاً، والرجال قوامون على النساء. وهذا -كحق من الحقوق- إنما هو في شواذ النساء، وإلا فالأصل في المؤمنة أنها لا تُحيل زوجها إلى هذا، ولا تلجئه إلى هذا؛ لأن عندها من العقل، ومن خوف الله عز وجل ومراقبته ما يعقلها ويمنعها عن هذه الأمور، فإذا وعظها، وذكرها بالله، انتقل إلى الهجر. والهجر للعلماء فيه وجهان: فمن أهل العلم من قال: إنه الوثاق، وهذا مأثور عن ابن جرير الطبري، ورجحه، من أجل الضرب، فجمع بين الهجر والضرب، حتى يكون أبلغ في التأديب، واختاره الإمام ابن جرير لحديث أسماء مع الزبير، أن الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه ضرب أسماء مع ضرتها حين وقع منهما ما وقع من أذيته رضي الله عنه وأرضاه، فالشاهد: أنه أخذ من هذا الأثر تفسير الآية الكريمة؛ لأن الهجار هو وثاق البعير، فقال هو ومن معه من العلماء في قوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ} [النساء:34] أنه من الربط أثناء الضرب فقرن بين الهجر والضرب، فليس هناك إلا مرحلتان: الوعظ والعقوبة على هذا القول. وأما على القول الثاني وهو قول الجمهور الذين قسموا المراحل إلى ثلاث -كما ذكرناها- فالعقوبات ثلاث: يبتدئ بالوعظ ثم الهجر، والهجر عند من يقول: إنه هجر الفراش فيه وجهان: فقال بعض أئمة السلف وأئمة التفسير، والفقهاء: يوليها ظهره في الفراش فيهجر جماعها، فهذا هجر بالفعل، ويهجر كلامها بالقول، فيمكنه أن يستخدم الفعل إذا نفع، ويمكنه أن يجمع بين الفعل والقول، والقول يتأقت، والفعل لا يتأقت، ففي الفعل يجوز أن يهجرها في المضجع شهراً لا يجامعها، وشهرين وثلاثة، ما لم يصل إلى حد الإيلاء، وأما بالنسبة للهجر هجر القول، وهجر الكلام، فلا يجوز أن يهجر فوق ثلاث ليال لورود النص. وقال آخرون في الهجر: إن الهجر هجر الفراش بالكلية، ولا ينام معها في فراش واحد، وينام في غرفة غير غرفتها التي تنام معه فيها، ولربما هجر البيت فنام عند جاره، أو نام عند أخيه، أو عند أهله، فهذا من الهجر، وكله تحتمله الآية؛ لأن الهجر مطلق في القرآن، والنساء يختلفن، فمنهن من يهجرها بالقرب ويؤثر فيها، ومنهن من لا تهجر إلا بالبعد، فما وجده ناجعاً نافعاً لصلاحها وإصلاحها، ووفقه الله عز وجل في ذلك، فإنه لا بأس به.

ضرب الزوجة في النشوز

ضرب الزوجة في النشوز وأما الضرب في قوله تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} فإن ضرب النساء يشترط فيه ما يلي: أولاً: ألَّا يكون ضرب قتل. ثانياً: ألَّا يكون ضرب إدماء. ثالثاً: ألَّا يكون ضرباً مزمناً. رابعاً: ألَّا يكون ضرباً مشيناً. فهذه أربعة أنواع من الضرب ينبغي اتقاؤها. أولاً: أن لا يكون الضرب قاتلاً، وضرب القتل: هو أن يضربها في مقتل، أو يضربها بآلة قاتلة، فلا يأتي أحد ويأخذ آلة قاتلة، مستدلاً بقوله تعالى: (وَاضْرِبُوهُنَّ)، بل هذا قتل، ويضمن بهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، ولا يضرب في مقتل وهي الأماكن التي لو ضرب فيها أدت إلى القتل، كأن يضربها على كبدها، أو يضربها على أماكن قاتلة، فهذا يوجب الضمان، أي: يوجب العقوبة، فهذا ضرب القتل. ثانياً: ألًَّا يكون ضرباً مدمياً، وهو الضرب الذي يجرح، كأن يضربها بشيء كالسلك أو نحوه، مما يجرح الجسم ويدميه، والآلات الحادة، كأن يجرحها بسكين، أو يجرحها بشيء له نفوذ في البدن، فهذا لا يجوز بإجماع العلماء رحمة الله عليهم. ثالثاً: ألَّا يكون الضرب مزمناً، والضرب المزمن هو الذي يعيق بعض الأعضاء، كأن يضربها على يدها فتصاب يدها بالشلل، أو تجلس فترة لا تستطيع أن ترفع يدها، فهذا ضرب يزمن اليد، أي: يبقى أثره زمناً؛ لأنه ضرب مبرح، فهذا بالنسبة للمزمن. فإذاً: يشترط ألا يكون قاتلاً، وألَّا يكون جارحاً، وألَّا يكون مزمناً. رابعاً: ألَّا يكون مشيناً، والضرب المشين هو الذي يبقى أثره في البدن، ولا يقتل ولا يجرح؛ لكن يضربها -مثلاً- بقوة على بدنها حتى يحمر البدن، فإذا احمرَّ فهو الضرب المشين، وحينئذٍ لا يجوز له هذا النوع من الضرب، وإنما يضرب الضرب من لكز ونحوه، الذي لا يكون فيه قتل، ولا جرح، ولا زمانة، ولا يشين، وهكذا لَطْم الوجه، فإنه لا يجوز لطم الوجه، فقد نُهِي عن لطم الوجه، وهكذا لو كان الضرب شديداً، فإذا ضربها بقوة بحيث بقيت آثار ضربه على وجهها، فهو ضرب مزمن.

خير الناس من يحتمل زوجته ويصبر عليها

خير الناس من يحتمل زوجته ويصبر عليها فالضرب إذا وقع من الزوج لزوجته، وظهرت آثاره على جلدها، فإن هذا خارج عَمَّا أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى لا يأمر بالضرب على هذا الوجه، إنما المقصود ضرب الأدب، والمرأة تعي هذا الأمر، فليس المراد من هذا استعلاء الرجال على النساء، وإنما المراد حملها على الخير؛ خيرِ دينها ودنياها، بإصلاح أمرها بالقوة، ولا شك أن هذا الضرب إذا كان ضرباً شرعياً يكون له أثره، والصحابة رضوان الله عليهم ضربوا، ووقع الضرب منهم لنسائهم، ولكن إذا كَمُل الرجل وفَضُل، ورزقه الله عز وجل الألفة والمحبة والعقل والبصيرة، فإنه لن يصل إلى مثل هذه الأمور، ويعيش مع زوجته دون أن يرفع يده يوماً عليها، وهذا صنيع الكرام وهم خيار الأمة، فخيارنا من وُفِّق لحسن الخلق حتى أصبح يملك زوجته بالمشاعر، ولذلك لما أكد النبي صلى الله عليه وسلم على الأخلاق، وأتى في الأخلاق بباب عام تحتاجه الأمة، قدم الأخلاق مع الأهل أولاً، فقال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي). فالرجل الذي يوفق للإحسان إلى زوجته مع التعقل في ذلك الإحسان، بحيث لا يكون سبباً في إفراطها في الدلال والضياع، ويكون إحساناً متعقلاً، فإن الله سبحانه وتعالى يرزقه المحبة التي معها الهيبة، وشتان بين هيبة بالقوة وبين هيبة بالمحبة. كما قال القائل: أهابك إجلالاً وما بك قدرةٌ عليَّ ولكن ملء عينٍ حبيبها فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يضرب الناس، ولا ضرب إلا في الجهاد في سبيل الله عز وجل؛ ولكن كان إذا سخط الشيء عُرِف في وجه، فلم يكن صخاباً، ولا سباباً، ولا لعاناً، صلى الله عليه وسلم، وإنما كان يعامل الناس بالمشاعر. فالرجل الكريم الإلف المحبوب الذي يعاشر زوجته بالمعاشرة الطيبة الحميدة الكريمة إذا لوى وجهه عنها أحست بمرارة الحياة، حتى إن بعض النساء تقول لزوجها: اقتلني ولا تعرض عني، من كمال محبتها له؛ لأنه ملَكَ مشاعرها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن بأخلاقكم) فالخلق يملك القلوب. فإذا كان الرجل يريد أن يقيم بيته فليعلم أن البيوت ليست ميادين القوة والشدة والعنف، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه)، فالرفق خير للأمور، وصلاح لها، إذا كان موضوعاً في موضعه، وعلى الإنسان أن يجتهد. والعلماء يقولون: إن أكثر ما يحفظ الله به الإنسان عن أذية الأهل، وأذية الأهل له: كثرةُ الطاعة، فإن العبد الصالح المتقي لله عز وجل يُحْفَظ من أذية أهله، ولو آذاه أهلُه يعصمُه الله عز وجل من الزلة والأذية والإضرار، فيبقى صابراًَ حتى يأتيه الفرج، ولذلك ذكروا عن زكريا عليه السلام أنه كانت امرأته تسبه وتشتمه وتؤذيه وتضره، وهو نبي من أنبياء الله، كما قال تعالى عنه: {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء:90]، فأصلح الله له زوجه في آخر عمره، وحين تقرأ في تراجم العلماء والفضلاء تجد من أخلاقهم مع أهلهم وصبرهم عليهم شيئاً كثيراً، حتى قالوا: ليس من حكيم إلا ووراءه امرأة تؤذيه؛ من كثرة ما رأوا؛ لأنه إذا أوذي واضطهد من امرأته أصبح حكيماً، وهذا من المبالغة، وليس بحقيقة، ولكن مما جرب وشوهد وعلم أنك تجد العلماء والفضلاء والكرماء والعظماء تغلبهم النساء، فما للمسلم إلا الصبر واحتساب الأجر عند الله سبحانه وتعالى، فإذا استرجع وفوض الأمر إلى الله، فإن الله يتولى أمره. من نزلت به فاقة، وألمت به حاجة، وضاقت عليه الأمور، فتوكل على الله، وفوضها إلى الله، وتضرع إلى الله، فلن يمضي عليه فترة إلا وقد أراه الله بهجة سرور في أهله وزوجه، ومن يصبر يصبره الله، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وجدنا ألذ عيشنا بالصبر. فالمرأة من ينظر إلى حالها في بيتها وشؤونها، وتشتت فكرها في هذه الأمور، وفي أولادها، وفي شؤونها، يتنازل عن كثير، ويصبر على كثير، وهذا هو الذي عناه عمر رضي الله عنه حينما جاءه عقيل يشتكي من زوجه، فلما وقف على الباب سمع امرأة عمر تسب عمر، وهو إنما جاء ليشكو أهله إلى عمر، فوقف في الباب فوجد أن أمير المؤمنين يُسب من زوجه فرجع؛ لأنه رأى عظة له وسلوة عن الشكوى، فرآه عمر رضي الله عنه فدعاه، فلما جاء قال: ما حاجتك؟ قال: خيراً يا أمير المؤمنين، قال: عزمت عليك إلا أخبرتني، فقال له: يا أمير المؤمنين! إن أم فلان آذتني، فلما وقفت في الباب سمعت زوجتك تسبك! فقال عمر رضي الله عنه: يا عقيل! إنها أم أطفالي، تغسل ثوبي، وترضع صغيري، فأنا أمسكها لأجل ذلك، أي: كن حكيماً عاقلاً بعيد النظر، فإن الدنيا ليس فيها شيء كامل من سرورها إلا ما كان من ذكر الله عز وجل. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه) فليس هناك شيء كامل في هذه الدنيا، فما يرى الإنسان من بهجة الدنيا شيئاً أو سروراً إلا جعل الله فيه نغصاً. فانظر إلى أحوال الدنيا كلها، فإنك تكون -مثلاً- في البر، فتجد طيب الهواء، وأجمل ما تكون المناظر في طبيعتها، وتلتذ بأنسك وانبساطك، فتخرج لك حية من الأرض، أو تخرج لك العقرب، فتعاف البر بما فيه، وترى أن المدن أحسن، فإذا ذهبت إلى المدن، وتنعمت براحتها وسرورها جاءك نكدها ونغصها، وذلك حتى لا يركن المؤمن إلى الدنيا. مسرة الدنيا إلى تنغيص وربما أعيت يد الحريص لأنها لو كانت كلها سروراً فلربما -والعياذ بالله- اطمأن إليها العبد فهلك، لكن الله لطف بعباده فجعل مسراتها إلى تنغيص، ومهما وجد من زوجته وأولاده سروراً فلابد أن يرى يوماً يبكي فيه بمرارة؛ حتى يبقى سروره بالله وحده لا شريك له، فيجد أن المحبة الكاملة ينبغي أن تكون لله، وأن السرور الكامل كله لا يكون إلا لله. وهكذا الزوجة، فإن المرأة تسر بزوجها وتفرح، حتى إذا جاءها يوم من الأيام تغير ذلك السرور، وذهبت تلك البهجة، وقد يكون سرور الزوج لحاجة ومتعة، لكن المؤمنة إذا تسلت بالله، وقامت بذلك الزوج، وحملته ودبرت -بتوفيق الله ومعونته- شؤونه وأحواله وأموره وأولاده وأطفاله، وحملت الهموم والغموم، وهي لا تنتظر منه شكراً، ولا تنتظر منه ثناءً، إنما تنتظر من الله جل جلاله، فاليوم الذي ينقلب لها فيه ظهر المجن لا يتغير عندها شيء، فتجدها راضية مطمئنة فرحة حتى بالبلاء؛ لأن الإنسان إذا سر بسرور الدنيا أبكاه الله، فلا ينبغي للإنسان أن يكون سروره سرور المطمئن الغافل، وإنما إذا رأى بهجة الدنيا قال: الحمد لله، فذكرته بهجتها بما عند الله عز وجل. ولذلك يقولون: إن يعقوب عليه السلام أحب ابنه يوسف عليه السلام، فعذبه الله بحبه، وفارقه حتى فقد بصره من البكاء عليه، فالإنسان إذا أحب شيئاً من هذه الدنيا، وركن إليها، بمعنى أنها عظمت محبتها في قلبه، فإنه لابد أن يرى يوماً يبكي فيه من تلك المحبة، فنسأل الله العظيم أن يجعل قلوبنا مملوءة بمحبته، وأن يجعل لنا من حبه وبره وشكره والرضا به أعظم حظٍ ونصيب.

حالات المعالجة بالوعظ والهجر

حالات المعالجة بالوعظ والهجر قال رحمه الله تعالى: [فإذا ظهر منها من أماراته، بأن لا تجيبه إلى الاستمتاع، أو تجيبه متبرمة أو متكرهة، وعظها، فإن أصرت هجرها في المضجع ما شاء، وفي الكلام ثلاثة أيام، فإن أصرت ضربها غير مبرح] قوله رحمه الله تعالى: [فإن ظهر منها] أي: من الزوجة. [من أماراته] جمع أمارة، وهي العلامة، والضمير في (أماراته) عائد إلى النشوز. [بأن لا تجيبه] أي: إذا دعاها إلى فراشه، أو كانت تجيبه من أول نداء، فأصبحت تجيبه من الثاني، أو الثالث، وربما تأخرت إلى الرابع، وإن شاءت إلى الخامس، فهذه كلها أمارات على النشوز؛ لأنها كانت تجيبه من أول نداء فأصبحت لا تجيبه إلا بعد رأي يدل بوضوح على أنها تنوي نية النشوز، وأنها تسترسل من هذا إلى ما وراءه، فينطبق عليها قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [النساء:34] فيشرع الوعظ. وقوله: [أو تجيبه متبرمة] أي: تفعل ما يدل على عدم الطاعة ويظهر ذلك من وجهها وفعلها، كأن يقول لها: ائتيني بالكتاب أو ائتيني بالصحن، أو ائتيني بالطعام، فتأتي وتضع الطعام بقوة بين يديه، أو تضع الشيء بين يديه بقوة، فهذا واضح -جداً- على أنها لا تريد طاعة. وقوله: [أو متكرهة] بمعنى: أن تظهر عليها أمارت الكره، مثل ما ذكرنا من عبوس الوجه، وكذلك أيضاً التأفف، والتأوه، والتضجر. ويذكر العلماء هذه الأمثلة، لأنك تحتاج إلى ذلك في الفتوى، وتحتاجه في القضاء، فالشخص إذا جاءك وقال: إنه يحصل كذا وكذا، فإنك تبحث عن الأمارات، وتسأل عما يكون من المرأة، حتى تستطيع أن تعطي كل حالة حكمها، وهذا -كما ذكرنا- لأن المتون الفقهية يعتني فيها العلماء رحمهم الله بهذه المسائل إعانة على الفتوى وإعانة على القضاء. وقوله: [وعظها] من الموعظة، وهي الكلمات المؤثرة، والموعظة تكون بالقرآن، كأن يتلو عليها آيات من كتاب الله عز وجل، أو أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك فرق في مقاصد الوعظ، فإذا وعظت لله فإنها موعظة ومؤثرة، وإذا وعظت لحظ نفسك فإنها موعظة لكنها لا تؤثر؛ لأنها موعظة الظاهر، وأنت في الباطن لا تريد إلا حظ نفسك، ولذلك تجد الرجل يرى أخاه، أو قريبه على المنكر فيقول له: يا أخي! اتقِ الله، إني أخاف عليك النار، ويتذكر أنه أخوه، ويخشى أن يُفرَّق بينهما في الآخرة، وكأنه يراه في عرصات يوم القيامة وقد افترقا، فيخاف عليه خوفاً شديداً، فتجده يدعوه إلى الله تعالى بصدق فتقع الكلمات في قلبه فيهتدي. وتجد آخر يأتي ويقول له: يا أخي فضحتنا، وشهرت بنا، وفعلت وفعلت، فقد فضحت بيتنا وفضحت أسرتنا فانتقل من الوعظ إلى حظ نفسه وأهله وبيته، فلا يبارك الله في قوله، فنصحه لأخيه ليس من باب الهداية، وإنما من باب أنه فُضح وأنه اشتهر، فتكون عاطفة الدنيا أكثر من عاطفة الدين، فالذي يعظ المرأة لا ينبغي له أن يعظها لحظ نفسه، إنما يعظها خوفاً عليها من النار؛ لأن الله أمره أن يقي نفسه وأهله وزوجه من النار، فيقول لها: اتقي الله، فإني أخاف عليكِ من النار، وأخاف عليكِ من عقوبة الله، وأخاف أن ينزل الله بكِ بلاءً، وهذا لا يجوز، أما حقي فأنا أصبر عليه، فإذا شعرت أنه يذكرها بالله، أو علم الله من قرارة قلبه الإخلاص فإن وعظه يؤثر بإذن الله تبارك وتعالى. قوله: [فإن أصرت هجرها في المضجع ما شاء] أي: بما فيه المصلحة. وقوله: [وفي الكلام ثلاثة أيام] أي: إذا هجرها في الكلام فلا يزد على ثلاثة أيام، ففرق بين القول والفعل، فلا يجوز في هجر القول أكثر من ثلاثة أيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)، فلا يجوز الهجر فوق ثلاثة أيام. وقوله: [فإن أصرت ضربها غير مبرح] فإن أصرت على النشوز ضربها غير مبرح، أي: ضرباً غسير مبرح كما ذكرنا.

باب الخلع [1]

شرح زاد المستقنع - باب الخلع [1] من رحمة الشريعة ومراعاتها لحقوق المرأة أن جعلت للمرأة الحق أن تنفصل عن زوجها إذا لم تستطع الحياة معه، فترد له ما دفعه لها وتخالعه، فلم يقع الظلم لا على الرجل ولا على المرأة، لأن الطلب جاء من المرأة، وأما إذا كان هناك إضرار بالمرأة فهنا يلزم الزوج بالطلاق لأن التعدي جاء منه، وهذا كله من كمال التشريع.

القول في الخلع وما يتعلق به

القول في الخلع وما يتعلق به

تعريفه ومناسبته لباب الطلاق تقديما وتأخيرا

تعريفه ومناسبته لباب الطلاق تقديماً وتأخيراً قال رحمه الله تعالى: [باب الخلع] هذا الباب سمي بالخلع أخذاً من خلع الثوب، فالمرأة لباس الرجل، والرجل لباس المرأة، وإذا وقع الخلع والفراق خلع هذا اللباس، وفرق بينهما، فحُلَّت العصمة، ووقع الفراق. وباب الخلع يذكره بعض العلماء بعد الطلاق، فيؤخر الخلع إلى ما بعد الطلاق، فيذكر مسائل الطلاق والعدد، والإيلاء، والخلع، وبعضهم يذكر الطلاق والإيلاء، ثم الخلع، ثم العدد، وعلى العموم فمنهم من يقدمه على الطلاق، ومنهم من يؤخره، والمصنف -رحمه الله تعالى- قدمه على الطلاق. ومناسبة تقديمه: أن الخلع رابط بين هذا الباب وبين باب الطلاق، وذلك لأن الخلع إنما ينبني من جهة الحقوق، فالمرأة في الأصل مطالبة بالقيام بحق زوجها، والزوج مطالب بحق زوجته، فإذا وقع بينهما النشوز والنفرة -كما ذكرنا- فإن هذا النشوز قد يكون سبباً في الخلع، فإذا نشز الرجل فأضر بالمرأة أو كان منه أمر يضيق عليها فيه، فإنها تخالعه، وتفتك من أذيته وإضراره بالخلع؛ لأنه لن يطلقها، فأصبح الخلع وسيلة لدفع الضرر؛ لأن الخلع شرع من أجل دفع الضرر والضرر يكون بالنشوز، والنشوز قد يكون بحق وقد يكون بغير حق، وأياً ما كان فالخلع مناسبته للنشوز من جهة وجود الضرر، فإذا كان الخلع مشروعاً لدفع الضرر فالرابط بينهما واضح. وأما مناسبة تأخيره بعد الطلاق، فلكون الخلع مرتبطاً بالطلاق، والحنابلة لا يرون الخلع مرتبطاً بالطلاق، ولذلك لا يرونه طلاقاً إلا إذا نواه، والجمهور يرونه طلاقاً، فاختلف المنهجان، ولذلك نقول: علم مناسبة الأبواب في المتون الفقهية مهم؛ لأنه ينبني على النظر إلى الباب نفسه، فلما رأى الجمهور أن الخلع نوع من أنواع الطلاق جعلوه بعد الطلاق، والحنابلة لما رأوه باباً مستقلاً، ويوجب الفرقة، ويوجب الفسخ، أعطوه حكماً مستقلاً، وأدخلوه بين الطلاق وبين العشرة الزوجية؛ لأن الخلع يأتي من جهة سوء العشرة الزوجية، فالمرأة تمل زوجها من جهة العشرة، إما لدمامة خُلُقٍ، أو خِلْقِةٍ، ثم تطلب الخلع دفعاً لهذا الضرر الموجود من نشوز، أو من سوء خلقة، أو خلق، فهذا كله يعتبر بمثابة الرابط والوسط بين البابين.

أدلة مشروعية الخلع

أدلة مشروعية الخلع قال رحمه الله: [من صح تبرعه من زوجة وأجنبي صح بذله لعوضه] الخلع مشروع بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، أما الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229]، فأحل للمرأة أن تدفع الفدية، وهي فدية الخلع، فترد للرجل مهره وتخالعه، ونفى الحرج فقال: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة:229]، وقد تقرر في علم الأصول أن صيغة (لا جناح) و (لا بأس) و (لا حرج) من صيغ الإباحة، فلما قال تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229]، دل على أنه لا حرج في ذلك وأنه من المباحات. وأما دليل السنة: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اشتكت إليه امرأة ثابت بن قيس بن شماس، وقالت له عن ثابت: (والله ما أعيبه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر بعد الإسلام)، قال عليه الصلاة والسلام: (أتردين عليه حديقته؟ -أي: مهره الذي أمهركِ إياه- قالت: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم لـ ثابت: اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة)، فدل على مشروعية الخلع، وأنه لا بأس به إذا اشتكت المرأة وأرادت أن تخرج من عصمة الرجل، وأجمع المسلمون من حيث الجملة على مشروعيته.

بذل العوض في الخلع ومن الذي يصح منه بذله

بذل العوض في الخلع ومن الذي يصح منه بذله قال رحمه الله تعالى: (من صح تبرعه من زوجة) مما ينبغي أن يعلم أن ميزة الفقه وميزة المتون الفقهية أنها تربط المادة الفقهية بعضها ببعض، فإذا جئت إلى باب الخلع تجد أن الخلع صورته: أن المرأة تدفع المال في مقابل فراق الزوج لها، فإن قلت: الخلع فسخ، فمعناه أنها تطلب أن ينفسخ النكاح بينهما، فيذهب هذا لسبيله وهذه لسبيلها وتتزوج من تشاء، وإن قلت: الخلع طلاق، فمعناه أنها تعطيه المال ليطلقها مقابل هذا المال، والمال الذي تعطيه هو مهرها الذي أمهرها إياه على تفصيل سنذكره -إن شاء الله- من جهة ما تخالع به، فإذا كانت الصورة قائمة على أن المرأة تفتدي، والله تعالى يقول: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229]، فكأنها تدفع المال من أجل أن تنفك من عصمة الزوجية، وهنا تجد الترابط بين الكتاب والسنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول في النساء: (إنما هن عوان عندكم)، والعواني: الأسيرات، فكأنها بالزواج أسيرة، والله تعالى يقول: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229]، والفدية تدفع لفك الأسير. فانظر إلى تعبير النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من الأدب مع الكتاب فتتأدب مع الوحي حتى في الكلمات التي تقولها، وتحاول أن يكون هناك محبة لكتاب الله عز وجل حتى في عباراتك إذا كنت فقيهاً أو عالماً. وتجد هذا جلياً في كتاب الإمام البخاري رحمه الله، وأئمة الحديث رحمة الله عليهم في تراجم الأبواب، فكتبهم في غاية الأدب مع الوحي، فتجد أئمة الصحاح والسنن إذا ترجم الواحد منهم للباب يذكر لفظ الحديث، وهذا والله عين الأدب مع الكتاب والسنة، فالفقه والعلم إذا كان مربوطاً بالوحي فهو الفقه الصافي، الفقه الذي انبنى على أصل، وعلى حق، وعلى نور من الوحي، ومن الكتاب والسنة، وهذا ما ينبغي على العالم. فالخلع فيه فدية وفيه مال، فإذا وصفت الخلع بكونه افتداءً، فمعنى ذلك أن هناك مالاً يُدفع، فهو يقوم على كون المرأة تدفع المال، فإذا كانت تدفع المال فإنه ينبغي أن ننظر في هذه المرأة، فإن كانت من جنس من يصح تعامله وتبرعه بالمال صح خلعها، وإن كانت ممن لا يصح بذله للمال فإنه لا يصح خلعها. فانظر كيفية الارتباط في الأبواب الفقهية، ففي الخلع ارتباط مع باب التبرعات، وباب المعاوضات المالية، وباب الحجر. فلو كانت محجوراً عليها لسفه فلا يصح خلعها؛ لأنها ممنوعة من التصرف المالي، والخلع يقوم على التصرف المالي، فكما لا يصح بيعها معاوضة لا يصح خلعها معاوضة، فإذاً هذا وجه قول المصنف. ففقه المسألة: أن الخلع في الأصل قائم على دفع المال من أجل أن تفتدي المرأة من زوجها، ففقهه يقوم على أهلية دفع المال. وقوله رحمه الله تعالى: (من صح تبرعه من زوجة) (مِنْ) في قوله: (من زوجة) بيانية والأصل أن الخلع يكون من الزوجة لزوجها. وقوله: (وأجنبي) أي: إذا كان الأجنبي مخالعاً عنها، كولي المجنونة وولي السفيهة. وقوله: (صح بذله لعوضه) الضمير في (بذله) عائد للشخص المفتدي، والضمير في (لعوضه) عائد إلى الخلع، أي: صح بذله لعوض الخلع، وإذا صح بذله صح خلعه، وإذا لم يصح بذله لم يصح خلعه، فاللفظ له منطوق ومفهوم، فمنطوق العبارة دال على أنه إذا كان الشخص أهلاً للمعاوضة ومثله تصح معاوضته فإنه يصح خلعه، ومفهوم العبارة: أنه إن كان شخصاً لا يصح بذله، ولا يصح تعامله بالمال، كالسفيه والمحجور فإنه لا يصح خلعه.

أسباب الخلع

أسباب الخلع

الأسباب التي تباح للمرأة بها الخلع

الأسباب التي تباح للمرأة بها الخلع قال رحمه الله تعالى: [فإذا كرهت خُلق زوجها، أو خَلْقه، أو نقص دينه، أو خافت إثماً بترك حقه أبيح الخلع] قوله: (فإذا كرهت خلق زوجها) المرأة لها حق في زوجها كما ذكرنا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (البكر تستأذن وأذنها صماتها، والثيب تستأمر -وفي رواية: أحق بنفسها من وليها-)، فالمرأة لا تستطيع أن تعاشر زوجاً لا تريده، أو زوجاً لا ترغبه، أو زوجاً تنفر منه، فإذا تزوجت الزوج، ودخلت عليه، فالشريعة جعلت للزوج الطلاق، ولو كان بيد الزوجة الطلاق لاستعجلت، وأنت ترى هذا واضحاً، فإن الزوجة تأتي تشتكي من زوجها، فإذا نصحت بكلمة تصبر بها فإنها ترجع مرة ثانية محبة لزوجها، وتأتي في أول النهار ساخطة على زوجها، فإذا جاء ولاطفها، وقال لها الكلمة والكلمتين رجعت عن رأيها، فهذه طبيعتها، والضعف الذي في المرأة نعمة من الله عز وجل عليها وعلى غيرها، ولا يعتبر منقصة ولا مذمة لها؛ لأنَّ هذه خلقة الله سبحانه وتعالى، فالله يخلق وله الحكمة التامة في خلقه سبحانه وتعالى. فهذا الضعف الموجود في المرأة لا تستطيع أن تملك به الطلاق فأعطي الرجل الطلاق؛ لأن فيه من القوة والصبر ما ليس في المرأة. وأما المرأة فقد تتسرع في الطلاق، فأصبح إعطاء الطلاق للزوج رحمة بالمرأة، فمن إكرام المرأة أن وضع الطلاق بيد الرجل؛ لأن الإنسان حين يكون عنده شيء يخافه، أو شيء يخشى منه الضرر، فإنه يعطيه من هو أقدر على حفظه كسكين تخشى منها الضرر، وهناك من هو أقدر على حفظها، فبطبيعة الحال لا تتركها عندك، وإنما تذهب بها إلى من يحفظها؛ لأنك تخشى ضرراً منها على نفسك، أو على من معك، فالحكمة والعقل يقتضيان أن تصرفها إلى من هو أقدر. وبعض المجتمعات لما خرجت عن فطرة الله عز وجل وجعلت الطلاق بيد المرأة دمرت، فالمرأة بمجرد أن يأتي خب لئيم، فيفسدها على زوجها تنجر وراءه، ويخدعها بالكلمة والكلمتين، فتنهدم البيوت، وتتشتت الأسر، ثم المرأة في خلقتها العاطفة، فإذا استغلت بعاطفتها طلقت زوجها وتسرعت في الطلاق.

جواز الخلع بسبب ليس فيه إضرار بالمرأة

جواز الخلع بسبب ليس فيه إضرار بالمرأة لأجل ما سبق قلنا: جعل الطلاق عند الرجل رحمة بالمرأة هذا أول شيء، فلو اعترض معترض وقال: ألا تظلم المرأة؟ ألا ترى شيئاً في زوجها تكرهه؟ قلنا: بلى، فهذا الشيء الذي تكرهه كعيب خَلْقي في زوجها، أو خُلُقي، فإن كان عيباً خلقياً مؤثراً فلها حق الفسخ كما تقدم معنا في الماضي، فالشريعة عدلت وأعطت كل ذي حقٍ حقه، فإن كان عيباً في خلقته لا تستطيع معه جماعه لها كعيب جنونٍ، أو برصٍ، أو جذامٍ، أو غيرها من الأمراض المعدية، فمن حقها أن تطلب الفسخ كما ذكرنا في خيار العيب الذي يوجب الفسخ، فحين يقال لنا: هي لا تحب هذا الزوج، بعد أن عاشرته، ورأت عشرته، وطريقة عشرته، وقلبها أعرض عنه فلا تستطيع أن تتحمل هذا الرجل، فهل نكرهها ونبقيها بالقوة والغصب عند هذا الرجل؟ ف A لا؛ لأنه لا يكره عشير على عشيره، وإذا أكره عليه مله، وازداد كراهية له، وعندها تحصل أمور لا تحمد عقباها، حتى تقع أذية الرجل لها؛ لأنه يراها معرضة فيستغل هذا الإعراض لإضرارها، وإذا ثبت هذا فما هو المخرج؟ إن الشريعة جاءت بمخرجٍ عدل، فالرجل إذا كرهت المرأة نكاحه، ولم ترده، فمعنى ذلك أنه سيتضرر الرجل، وإن بقيت المرأة عند زوجها ستتضرر، فقيل لها: الذي أعطاكِ إياه تردينه عليه، فإن قالت: قد استمتع بي! يقال لها: وقد استمتعتِ به كما استمتع بكِ، والأمر من هنا منكِ، فأنت التي ترغبين في الفراق، وهو الذي دفع المهر، وهو الذي تحمل، فحينئذٍ تردين عليه الذي أمهرك إياه، كما قال صلى قال الله عليه وسلم لامرأة ثابت: (تردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، قال: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة)، لأنها خافت على نفسها الكفر بعد الإيمان؛ لأن المرأة تخشى على نفسها الفتنة، وإذا كان الزوج لا ترتاح له في عشرتها فإنها قد تقع في الحرام، نسأل الله السلامة والعافية. وعلى هذا جعل الله الخلع عدلاً بين الطرفين، فيجوز لها إذا كرهت خُلُقه، وكان هذا الخلق مثله يضر، كأن يضربها، ويظلمها فترفع أمرها إلى القاضي، فإذا استمر بهذه الطريقة فيمكن أن القاضي في بعض الأحيان يطلقها عليه، هذا إذا كان خلقاً فيه أذيه وإضرار، لكن إذا كان خلقاً تكرهه كرجل ليست فيه صفات الرجولة الكاملة، أو ترى فيه البخل وهي لا تحب البخيل، أو ترى فيه الفضول فيخوض في فضول الكلام وهي لا تحب أن تعاشر رجلاً بهذه الصفة، فهذه أمور كمالية، وفي هذه الأمور الكمالية تأثير على عاطفة المرأة، فمن حقها أن تخالعه. فإذاً: عيب الخلق إن كان من جنس ما يوجب تدخل القاضي وتطليقها عليه طلقها، مثل الرجل الذي يضربها ويؤذيها ويضر بها فهذا لا تخالعه؛ لأنه لو خالعته لكان لكل زوج يريد أذية امرأته أن يضربها ويضرها ثم يعود المال إليه، ولكن إذا اشتكت المرأة من خلقه فقلنا: ما الذي فيه؟ قالت: عيب الخلق، فما دام العيب خلق فإنه يوجب الخلع. وإذا كان عيب الخلق فيه أذية وإضرار، فيضربها ويؤذيها، وأمكن رفع هذا الظلم عنها فليرفع، ولها أن تشتكي أمرها إلى القاضي أو إلى أوليائها ليكفوه، ولا يجوز للأولياء أن يسكتوا عن زوج يضرب أختهم أو لبنتهم. ومن الأمور التي ينبغي التنبه لها وأيضاً تنبيه الناس عليها: أن الأخ عليه حقوق، والوالد عليه حقوق فلا يرضى لابنته، ولا يرضى الأخ لأخته أن تكون عند زوج ظالم، فإذا رآه ظالماً لها فليأت وليقف على بابه، ويقف في وجهه ويقول له: اتقِ الله في أختي واتقِ الله في ابنتي، وليس له أن يقول: لن أتدخل بين زوج وزوجته، فليس من حقك أن تقول هذا، وإذا سكت الوالد وهو قادر على زجره في هذه الحالة يكون شريكاً له في الإثم؛ لأنه أعانه، وهكذا الأخ وهكذا الابن، وكل قادر على كف الظالم عن ظلمه وهو مستطيع ذلك، ويمتنع من ذلك فإنه يأثم كإثمه؛ لأنه معين. ففي هذه الحالة إذا كان عيب الخُلُق مضراً بالمرأة، ويوجب تدخل القاضي تَدَخَلَ القاضي، أو طلبت حكماً من أهله وحكماً من أهلها -كما هو معروف في باب النشوز- وإن كان عيب الخُلُق ليس من جنس ما يوجب تدخل القاضي فحينئذٍ يجوز لها أن تطلب الفسخ، فتقدم المهر الذي دفعه وتفتدي وتخالع البعل.

المخالعة بسبب خلقة الزوجة

المخالعة بسبب خلقة الزوجة قوله: (أو خَلْقه) أي: خِلْقَتُه؛ لأن الإنسان مجبول على محبة الخِلقَه بصورة معينة، والنساء يختلفن في هذا، ولذلك جاءت امرأة ثابت بن قيس تشتكي من ثابت رضي الله عنه لعيب في خلقته، وذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وأجازها.

المخالفة بسبب ضعف تدين الزوج

المخالفة بسبب ضعف تدين الزوج قوله: (أو نقص دينه): وذلك كرجل مستخف بالمحرمات، فعنده محرمات يفعلها، وهي تكره هذه المحرمات، وتكره من يفعل هذه المحرمات، فسألته الطلاق فلم يطلقها فقالت له: أخالعك، فتخالعه.

المخالعة بسبب خوف المرأة من التقصير في حق الزوج

المخالعة بسبب خوف المرأة من التقصير في حق الزوج قوله: (أو خافت إثماً بترك حقه) كأن ترى أنه رجل شديد الشهوة، وهي لا تستطيع أن تصبر معه على هذه العشرة، وتخشى أنها إن قصرت معه أنه يقع في الحرام، وأنها هي أيضاً تأثم بالتقصير، فقالت: لا أريد أن أستمر في هذه الحياة أو أن أبقى مع هذا الزوج فأخالعه، فلها ذلك. قوله: (أبيح الخلع) (أبيح) يعني: استوى في الطرفين، إن شاءت تخالع وإن شاءت لا تخالع، وليس من حق أحد أن يحرم عليها ما أحل، الله، وعلى القاضي إذا رفعت أمرها بهذه الصورة أن يجيبها إلى ذلك ما دام عندها عذر، فإذا ذكرت عذراً فليجبها إلى ذلك وعليه أن يبادر، وأما تأخيرها ومضي الشهور، بل لربما في بعض القضايا تصل إلى سنة والمرأة تتذمر وتتأذى، والقاضي يردها المرة بعد المرة، فهذا من الظلم ولا يجوز هذا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم -والسنة واضحة لا إشكال فيها- جاءته المرأة، واشتكت من زوجها، وقالت: إنها تعيب عليه في خلقته، فقال صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، قال: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة)، فما أخرها، وما قال لها: شاوري نفسكِ، ارجعي إلى أهلكِ لا تستعجلي، فالقاضي بجب أن يكون موقفه حيادياً، وإذا مال إلى أحد الخصمين دون الآخر فقد ظلم الخصم الآخر. فالمرأة لم تأت من فراغ، ولم تأت من عبث، لكي تشهر بنفسها، فلم تتقدم إلى القاضي وتطلب الخلع إلا وقد بلغ الأمر مبلغه، فينصفها ويعطيها حقها الذي في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يؤخرها، وإنما ينظر، فإذا كان الذي ذكرته صحيحاً، وبينت أنها لا تستطيع الصبر على هذا الشيء، وكانت المرأة معروفة بالعقل والدين، فإنه يبادر ويخلعها، حتى لا تقع فيما حرم الله عليها. قال رحمه الله تعالى: [وإلا كُرِه وَوَقَع] أي: إذا لم يكن هناك سبب كُرِه للمرأة أن تخالع، لما فيه من هدم البيت وخاصة إذا كان لها عيال فإنهم يتضررون بهذا الفراق ووقعه، ومع أنه مكروه لكنه يقع، يعني: فيتم الخلع ويحكم به وينفذ.

حكم تضييق الزوج على زوجته لتخالعه

حكم تضييق الزوج على زوجته لتخالعه قال رحمه الله تعالى: [فإن عضلها ظلماً للافتداء، ولم يكن لزناها، أو نشوزها، أو تركها فرضاً ففعلت، أو خالعت الصغيرة والمجنونة، أو الأمة بغير إذن سيدها لم يصح الخلع] قوله: (فإن عضلها ظلماً للافتداء): عَضْلُها ظلماً استغلال للخلع، فالرجل يضيق على المرأة حتى تدفع له المهر ويتزوج بثانية، وهذا من أسوأ ما يكون من اللئام -أعاذنا الله وإياكم منهم- فإنهم أقوام يتذوقون النساء، فيصيبون شهوتهم -نسأل الله السلامة والعافية- كما ذكر بعض العلماء، وهذا موجود عند بعض الناس ممن لا يخاف الله ولا يتقيه، فيصيب المرأة، وبعد أن يعاشرها السنة والسنتين، أو يذهب ما يجد عندها من الحظوة والجمال، يضيق عليها لتفتدي، فإذا افتدت طالبها بالمال، وأخذ المال وتزوج ثانية، وصنع بها كصنيعه بالأولى، ومثل هذا إذا اطلع عليه القاضي يعزره، ويبطل خلعه إن كان ظالماً. وتضييقه عليها أن يقتر عليها في الرزق، ويضيق عليها في خروجها، وفي أمورها وفي شؤونها، ويقطعها عن أهلها وقرابتها، ويصل الأمر إلى درجة أنهم لو جاءوا يزورونها -نسأل الله السلامة والعافية- منعها من ذلك، حتى تكره عشرته، فإذا كرهت عشرته وضاق بها الحال طلبت الخلع. وهذا من أعظم ما يكون من الظلم والإضرار، قال تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة:231]، فالله حذر من هذا الفعل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إني أحرج في حق الضعيفين المرأة واليتيم)، فجعل المرأة في حقها كاليتيم، واليتيم ظلمه من أسوأ ما يكون، ولذلك يقولون: عقوبته معجلة غالباً، فظلم اليتيم عقوبته قريبة من ظالمه، والمرأة كذلك لا تبعد عنه، وهذا المشاهد والمجرب؛ لأنها ضعيفة وغالباً ما تسكت عن كثير من المظالم، فإذا أضرّ بها على هذا الوجه فإن الله سبحانه وتعالى ينتقم منه إن عاجلاً أو آجلاً. فمثل هذه الأفعال التي تفعل من الأزواج لاستغلال الخلع حكم بعض العلماء -كما اختاره المصنف- أن الخلع في هذه الحالة لا يصح، وفي هذه الحالة إذا اطلع القاضي على أنه ظالم، وضيق عليها وأضر بها، والأمور التي فعلها أمور مضرة يوجب مثلها أن من المصلحة أن يفرق بينهما حكم بالفرقة، ورد المهر للمرأة؛ لأن مثله أهل أن يفرق بينه وبين زوجته، فيتحمل هو مسؤولية الفراق، ويرد المال إلى المرأة؛ لأن أخذ مال الخلع على هذا الوجه ظلم، فأبطل العلماء رحمهم الله هذا، ويلزم منه إبطال أخذ المال، فعلى هذا لا يجوز الخلع على هذا الوجه وهو من الإضرار. والأمر مركب على مذهب الحنابلة؛ لأن الخلع عندهم فرقة، لكن من يحكم بكونه طلاقاً تطلق عليه امرأته، ويرد المال إلى المرأة، إذا ثبت عند القاضي. قوله: (ولم يكن لزناها): لأن الله تعالى قال: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء:19]، فإذا كانت المرأة -والعياذ بالله- زانية فإنه يجوز لزوجها أن يضيق عليها حتى ترد عليه مهره، فترد عليه جميع ما أخذت، وتطالب برد المهر فقط، ولا تطالب بكلفة الزواج، ولا بمئونة الزواج، فمطالبتها بكلفة الزواج ومئونته لا يشك أنه من الظلم، وهذا لا نعرفه لا في كتاب الله، ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن امرأة ثابت لما جاءت تخالع لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لـ ثابت كم هي كلفة زواجك؟ ومن المعلوم والمشاهد والمجرب أن الرجل يعقد على المرأة، وينشئ وليمة النكاح، فيأتيه الناس ويساعدونه بمال أضعاف ما دفع في الوليمة، فيأخذ من الناس المال، ثم يأتي ويأخذ من المرأة مئونة النكاح!! فهذا من أغرب ما يكون من الأقضية. إن بعض هؤلاء يقضي بأن المرأة تطالب برد قيمة النكاح ومئونة النكاح، ويصرخ الرجل ويقول: خسرت في نكاحي مائة ألف، أو مائتين! ومن الذي قال لك: اخسر؟ فإن الشرع أمرك أن تولم بشاة، وأن تولم على قدر ما يتحقق به الإعلان، وكونك توسعت لجاهك ولمكانتك، فلا تتحمل المرأة ما كان من وليمة أخذت سمعتها، وأخذت حظها من الدنيا؛ لأن هذا شيء الزيادة فيه لأمر الدنيا، وإن كان للآخرة ثبت لك أجره، فبأي حق يستحق المعاوضة على هذا؟ فالشاهد: أن مطالبة النساء بمئونة النكاح لا شك أنه مخالف لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يشك أنه من ظلم النساء، وهو يعيق عن الخلع، فإن المرأة إذا قيل لها: ادفعي مائة ألف، أو ادفعي أربعين ألفاً، أو خمسين ألفاً، فقد تكون امرأة لا دخل لها، وقد تكون بحالة في فقر، وزوجها ليس بذاك، فلا هي بلغت مقصود الشرع من دفع الضرر عنها، ولا تستطيع أن تدفع هذا المال، فهذا كله مما لا يحفظ له دليل في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى من اعتبر الخلع أن يتقي الله عز وجل، وألَّا يحكم بالخلع إلا على وفق ما ثبت في الكتاب والسنة، فالقاعدة عند العلماء: (ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يُنَزَّل منزلة العموم في المقال). فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال لـ ثابت بن قيس: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) ما استفصل منه: هل تكلفت في زواجك أو لم تتكلف؟ هل دعوت الناس؟ هل تحملت أو لم تتحمل؟ فهذا كله مما ليس في الكتاب، ولا في السنة أن تُلْزَم المرأة بمئونة النكاح. قوله: (أو نشوزها): أي: إذا نشزت يجوز له أن يطالبها بالخلع. قوله: (أو تركها فرضاً): أي: تركها فرضاً فرضه الله عليها، أن تترك الأمور الواجبة عليها في الشرع، وتتساهل في الواجبات، فيجوز له أن يضيِّق عليها فتخالعه. (ففعلت) أي: خالعته. فالتضييق إذا لم يكن لزناها، ولم يكن لنشوزها، ولم يكن لتركها فرضاً، فحينئذٍ يكون الزوج ظالماً، أما لو كان لزناها، أو لنشوزها، أو لتركها فرضاً، فإن التضييق من الزوج واقعٌ في موقعه، فيكون مشروعاً. فالشاهد: أن المصنف فرَّق في التضييق إن صَدَر من الزوج من أجل الخُلْع، فإن ضيَّق على زوجته لأنها زانية أو أنها ناشزة أو أنها تترك فرائض الله جاز له ذلك التضييق، والعكس بالعكس.

خلع الصغيرة والمجنونة والأمة

خلع الصغيرة والمجنونة والأمة قوله: (أو خالعت الصغيرة والمجنونة) إذا خالعت الصغيرة لم يصح خلعها؛ لأن الصغيرة لا تملك مالها، قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] فأمرنا الله أن ندفع المال لليتيم إذا بلغ رشيداً؛ لأن من أنواع مفاهيم المخالفة: الشرط، فمفهوم الشرط في قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} [النساء:6] يدل على أنه إذا لم تأنسوا منهم رشداً فلا تدفعوا إليهم أموالهم، ومفهومه في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء:6] يدل على أنهم قبل بلوغ النكاح لا يُدْفع إليهم المال. فلا يُدْفع المال إلى الصغير، وقد قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5] قالوا: والصغير من السفهاء، فإذا كان لا يملك المال، أو لا يملك التصرف، أو ليس له حق التصرف في المال فإنه لا يصح خلعه، وكذلك المرأة الصغيرة فإنه لا يصح خلعها. قوله: (والمجنونة): أي: والمجنونة كذلك لا يصح خلعها؛ لأنه لا حق لها في التصرف في مالها. قوله: (أو الأمة بغير إذن سيدها لم يصح الخلع (: أي: إذا خالعت الأمة بدون إذن سيدها لم يصح الخلع؛ لأن الأمة وما ملكت ملكٌ لسيدها؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين: (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) فأخلى يد العبد عن الملكية.

هل الخلع طلاق أم فسخ، ومتى يكون طلاقا عند القائل بأنه فسخ؟

هل الخلع طلاق أم فسخ، ومتى يكون طلاقاً عند القائل بأنه فسخ؟ قال رحمه الله تعالى: [ووقع الطلاق رجعياً إن كان بلفظ الطلاق أو نيته]: أي: إن أخذ الخلع، وقال لها: طلقتكِ، صار خلعاً بطلاق، ويكون طلاقاً رجعياً؛ لأنهم يرون أن الخلع ليس بطلاق، هذا مذهب الحنابلة، فأصبح الخلع عندهم على حالات: الحالة الأولى: أن يكون بدون طلاق: فلا ينوي الطلاق، ولا يتلفظ به، قالوا: فيفرق بينهما، ولا يحتسب من الطلاق، فلو أنه بعد سنوات رجع إليها يرجع بثلاث تطليقات على قول الحنابلة. وأما على قول غيرهم وهم الجمهور فإنهم يقولون: الخلع طلاق، فيخالعها ويطلق، لقوله عليه الصلاة والسلام: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة)، واستدل الحنابلة بأثر ابن عباس رضي الله عنهما في آية البقرة، فإن الله ذكر الخلع بين الطلقة الثانية والثالثة، فقال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ. } [البقرة:229] إلى أن قال تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229]، ثم قال تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة:230]. فلو كان الخلع طلاقاً لكان ذكر الخلع هي الطلقة الثالثة! وأجيب بضَعف الاستدلال بهذا؛ لأنه حكاية تصوير، وليس بحكاية ترتيب؛ لأنه لو كان حكاية ترتيب لدل على أن الطلقة الثالثة لا تكون إلا خلعاً، ولفُهِم من الآية أن طلاق الثلاث الذي أعطيه المسلم في كل زواج، الثالثةُ منه خلع، لكنه حكاية تصوير الحكم بذكر صورة من صور الفراق بين الرجل وامرأته، وجاءت السنة تقول: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة)، فلو لم يكن طلاقاً لما ألزمه النبي صلى الله عليه وسلم به، ولا يعقل أن النبي صلى الله عليه وسلم يلزم الصحابي بالتطليق الذي يُحْتَسَب عليه ويستضر به لو لم يكن ذلك في أصل الخلع، وهذا هو الصحيح وهو مذهب الجمهور. قوله: (أو نيته): أي: إن نوى الطلاق، وهذا -طبعاً- عند الحنابلة، فإذا كان الخلع ليس بطلاق فمعناه: إما أن يقع الخلع خلعاً مجرداً عن الطلاق، أو يخالعها وفي نيته أنه طلقها فيقع طلاقاً، أو يخالعها ويتلفظ بالطلاق، فيكون طلاقاً. فهذه ثلاثة أحوال: إما أن يخالعها فيكون فراقاً لا يُحْتَسب في الطلاق. وإما أن يخالعها ناوياً الطلاق فهو طلاق. أو يخالعها مصرِّحاً بالطلاق متلفظاً به، فهو طلاق على حسب ما تلفظ به. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعل ما تعلمناه وعلَّمناه خالصاً لوجهه الكريم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.

باب الخلع [2]

شرح زاد المستقنع - باب الخلع [2] الخلع صورة من صور الفراق بين الزوجين، وهو عند الأكثر طلاق، ولهذا فإنه تترتب عليه أحكام يجتمع ويفترق فيها عن الطلاق، وهذه الأحكام يبحثها العلماء عند الكلام عن الخلع.

حكم الخلع إذا كان بلفظ صريح الطلاق أو كنايته

حكم الخلع إذا كان بلفظ صريح الطلاق أو كنايته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد: فمن عادة العلماء رحمهم الله أنهم إذا بيَّنوا مسائل الخُلع يتعرضون لما يتعلق بلفظ الخُلع. وقد تقدم معنا أن الزوج إذا خالع زوجته لم يخل من حالتين: الحالة الأولى: أن يُخالعها بلفظ الخلع دون أن ينص على الطلاق. والحالة الثانية: أن يخالعها ويطلق؛ فأما في الحالة الأولى وهي أن يخالعها بلفظ الخلع دون أن يذكر طلاقاً، فقد اختلف السلف رحمهم الله في هذه المسألة وتبعهم في ذلك الخلاف الأئمة الأربعة، فقال طائفةٌ من أهل العلم، وهو مذهب الجمهور: إنه إذا خالعها وقع طلاقاً، فلو قال لها: خالعتك أو فارقتك، وكان على سبيل الخلع دون أن ينص على لفظ الطلاق، فإنه يُعتبر طلاقاً، وذكرنا دليل هذا القول، ووجهه وسبب رجحانه، وقلنا: إن الذين قالوا بأنه لا يقع طلاقاً استندوا على ما أُثِر عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكذلك عن طائفةٍ من التابعين ك عكرمة وطاووس رحمةُ الله عليهما أنهم قالوا: إن الخلع ليس بطلاق، واحتجوا بآية البقرة، وذكرنا وجه دلالتها والجواب عن هذا الدليل. أما بالنسبة لقوله: [والخلع بلفظ صريح الطلاق] فإن كان الخلع بلفظ الخلع، فقلنا: إنه يقع، ويكون طلاقاً على الصحيح، إلا أن لفظ الخلع عند من يقول بأن الطلاق لا يقع بالخلع، ينقسم إلى صريح وغير صريح، فالصريح: خالَعْتُكِ وفاديتكِ وفاسختكِ، قالوا: هذه الثلاث كلها تعتبر لفظاً صريحاً في الخلع. أما لفظ الْخُلع فقالوا: لأنه عُرْفٌ شرعي، وقد جرى العرف أن الرجل يُخالِع امرأته، فإذا قال لها: خالَعتُكِ بألفٍ، فهو خُلع، وبناءً عليه لا يقع الطلاق عندهم، كما هو المذهب، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمةُ الله عليه. وكذلك إذا قال: فاسَخْتُك، أو فَسَخْتُ نكاحك؛ فإنه مثل قوله: خالعتك، فلا طلاق، ويعتبر من صريح ألفاظ الخلع. أما لفظ الفدية فإنه يعتبر من ألفاظ الخلع؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229]، وهناك من العلماء من يقول: هناك فرقٌ بين الخلع والفدية. فالخُلع يكون ببذل المرأة للمهر وأكثر، يقال: خَالَعَت المرأة زوجها إذا بَذَلَت المهر أو أكثر من المهر، والفدية قالوا: إذا بَذَلَت بعض المهر، وبعض ما دفع الزوج لها، فيجعلون الفدية للبعض، ويجعلون الخلع للكل أو أكثر من المهر. وقوله رحمه الله: (والخلع بلفظ صريح الطلاق) هذا النوع الثاني من الخلع عند الحنابلة، وهو أن يتلفظ بلفظ الطلاق، فقال رحمه الله: (والخلع بلفظ صريح الطلاق) ولفظ الطلاق فيه الصريح وفيه الكناية. واللفظ الصريح: هو الذي لا يحتمل معنىً غيره؛ فالرجل إذا قال لامرأته: أنتِ طالقٌ؛ فإن هذه الكلمة صريحة في الطلاق، ولا تحتمل معنىً غيره إلا في أحوال نادرة، سنذكرها إن شاء الله عند بيان ألفاظ الطلاق؛ فإذا قال لامرأته: خالعيني، قالت: أدفع لك ألفاً وتخالعني وتطلقني، فأخذ الألف فقال: أنت طالقٍ؛ فحينئذٍ يكون خُلعاً؛ لأنه بِعوض، وإن كان طلاقاً، لكنه بعوض، فيكون من النوع الثاني من الخلع، وهو الخلع بعوض مع لفظ الطلاق. وصريح لفظ الطلاق اختلف العلماء رحمهم الله فيه، وسيأتي إن شاء الله بيانه في مسألة الطلاق؛ لكن من باب الاختصار والإجمال، هناك من يقول: صريح الطلاق هو لفظ الطلاق، وما تَصَرَّف منه، غير المضارع وغير الأمر كما سيأتي إن شاء الله، فيجعلون لفظ الطلاق الصريح خاصاً بمادة (طَلَقَ) أنتِ طالِقٌ، طَلَّقْتُكِ، أنتِ مُطَلَّقَةٌ ونحو ذلك، هذا صريح الطلاق. أما غير هذا اللفظ فقالوا: لا يقع طلاقاً إلا إذا نوى، فيعتبرونه من غير الصريح، وقال طائفة من العلماء: صريح الطلاق ثلاثة ألفاظ عندهم: الطلاق والسراح والفِراق. فإذا قال: طلَّقتكِ، فارقتكِ، سرَّحْتُكِ، فإنه صريحٌ في الطلاق، وفائدةُ معرفة الصريح من غير الصريح: أن الرجل إذا خاطب امرأته بالصريح طلُقَت عليه إلا إن يقيم دليلاً على أنه لا يريد الطلاق، فلو أن رجلاً كان جالساً مع امرأته، فقال لها: سرَّحْتُك؛ فعند من يقول: إنه من صريح الطلاق يُطَلِّقُها عليه، ولكن عند من يقول: إنها كناية وليست من الصريح؛ فإنه حينئذٍ يسأله عن قوله: (سرَّحْتُكِ) ماذا نوى به، وعلى هذا، فقوله: من صريح الطلاق، يعني: من الألفاظ الصريحة، وهي عند الحنابلة تختص بلفظ الطلاق، وما اشتُقَّ منه، وعند غيرهم الثلاثة الألفاظ التي وردت في القرآن: الطلاق والفِراق والسَّراح بلفظ صريح الطلاق. قوله: (أو كنايته وقصده طلاق بائن) الكناية: من كَنَّ الشيء إذا استتر، فاللفظ المحتمل للطلاق وغير الطلاق يعتبر من الكنايات، وسيأتي إن شاء الله الكلام على كنايات الطلاق، وقد كَنَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل الكناية طلاقاً، كما في قصة ابنة الجون من حديث أبي أسيد الساعدي رضي الله عنه، فإنه لما نكحها عليه الصلاة والسلام ودخل بها في حائط الشوط وأراد أن يُلِمّ بها، فقال: (هبي نفسك لي، فامتنعت، فمد يده إليها، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال: لقد عُذتِ بعظيم، الحقي بأهلكِ)، فقال: (الحقي بأهلك)، واعتد به طلاقاً. ومن هنا قال العلماء: الطلاق يقع بالصريح وبالكناية، فإذا قال الزوج لزوجته -بعد قولها له: خالعني وطلقني- فارقتك -إذا قلنا: إن الفراق من ألفاظ الكناية- فإنه يُعتبر طلاقاً بِنِيَّتِه، ومن كنايات الطلاق: أنت بتَّةٌ، أنت بتلةٌ، أنت برية، أنت الحرج، أنت حرّة، الحقي بأهلك، اعتدي، استبرئي، ونحوها من ألفاظ الكنايات.

حكم الخلع إذا كان بألفاظ الخلع الصريحة ولم ينو الطلاق

حكم الخلع إذا كان بألفاظ الخلع الصريحة ولم ينو الطلاق قال رحمه الله: [وإن وقع بلفظ الخلع أو الفسخ أو الفداء ولم ينوه طلاقاً] هذه الثلاث هي صريح ألفاظ الخلع عند الحنابلة رحمهم الله كما نص على ذلك الإمام ابن قدامة وغيره. وهذه الثلاثة الألفاظ إن وقع الخلع بها كان النوع الثاني من الخلع، وهو الذي يُوجِب الفِراق وفسخ النكاح؛ لكنه لا يُعتَد به طلاقاً ولا يُحتسب من الطلاق، فلو كان طلقها قبل الخلع طلقتين، ثم خَالَعَتْه بدون أن يَتَلفَّظ بالطلاق؛ فإنه لا يُعَد هذا الخلع طلاقاً، وتبقى له منها طلقة، فلو أنه أراد أن يَنْكِحها بعقدٍ جديدٍ قبل أن تنكح زوجاً غيره، حَلَّ له ذلك؛ لأنه بقيت له طلقة. أما على مذهب الجمهور، فإنه إذا خالعها وكان قد طلقها طلقتين؛ فإنها حينئذٍ تُعتبر حراماً عليه، لا تَحِل له حتى تَنْكِح زوجاً غيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الخلع طلاقاً، وقال لـ ثابت رضي الله عنه، لما خَالَعَتْه امرأته جميلة بنت أُبي بن سلول: (اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة)، فألزمه بالطلاق وأمره به، فلو كان الخلع لا يقع طلاقاً لم يُلزِم به النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجعله مطلقاً بحيث يفوت عليه ثلث طلاقه، ومن هنا أخذ الجمهور أن الخلع طلاق. لكن ذهب ابن عباس ويحكى عن عبد الله بن الزبير، وجملة من التابعين - طاووس وعكرمة - والحنابلة رحمهم الله أنه ليس بطلاق. ولذلك فإن الخلع والفسخ والفدية، هذه الثلاثة الألفاظ تُعتبر في المذهب من صريح ألفاظ الخُلْع كما اختاره الإمام ابن قدامة وغيره. قال المصنف رحمه الله: [كان فسخاً لا ينقص عدد الطلاق] فقوله: (كان فسخاً) هذا الحكم. قوله: (لا ينقص عدد الطلاق) هذا الأثر. فمن فوائد الخلاف في مسألة الفسخ ومسألة الطلاق: أن مَن قال: إن الخُلْع يُعتبر طلاقاً فإنه يَحتسبه طَلْقَة، فإن كانت الأخيرة حَرُمت عليه، وإن كانت الأُولَى اعتُد بها، فتُحسب في الطلاق في المستقبل إذا نكحها؛ وأما إذا قلنا: إنه مجرد فِراق، فحينئذٍ لا يُحتسب طلاقاً، ولكن يُفرَّق بينهما. وفي الترمذي ورد عنه عليه الصلاة والسلام في حديث الربيِّع أنه -عليه الصلاة والسلام- جعل عِدَّة المُخْتَلِعَة حيضة، وهذا حديث مضطربٌ ومُتكلَّم في إسناده، وسيأتي -إن شاء الله- الإشارة إليه، وهذا الحديث يُحتج به على أن الخُلع فِراق، والصحيح: أن الخلع طلاق كما ذكرنا؛ لأن آية البقرة والحديث لا يَقْوَيَان على معارضة الصحيح الصريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر بالطلاق في الخلع. وهنا مسألة: إذا قلنا: إن الخلع طلاق، فلو كانت المرأة حائضاً؛ هل يجوز له أن يُخالِعها وهي حائض؟ اختار بعض العلماء كالإمام ابن قدامة رحمةُ الله عليه وغيره من العلماء أن الخُلع يجوز حال الحيض، فيجوز حتى على القول بأنه طلاق؛ والسبب في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال ل ثابت: (اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة) لم يستفسر، أهي حائضٌ أو غير حائض. قالوا: (وتَرْك الاستفصال في مقام الاحتمال يُنَزَّل منزلة العموم في المقال). أي: طَلِّقْها تطليقة سواءً كانت حائضاً أو غير حائض. وعلى هذا -حتى عند الحنابلة رحمةُ الله عليهم الذين يقولون: إن الخلع يكون طلاقاً إذا تَلَفَّظ بالطلاق- قالوا: يجوز أن يُتَلَفَّظ بالطلاق وهي حائضٌ في حال الخُلع؛ لأن الطلاق وقع تَبَعاً ولم يقع قَصْداً، وفرقٌ بين التابع وبين القَصْد، وقد بيّنَّا دليل هذه القاعدة من السنة في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين. فقالوا: يجوز أن يُخالِعها بلفظ الطلاق، ولو كانت حائضاً، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل من المرأة المختَلِعَة، وقالوا: إن الخلع وقع الطلاق فيه تَبَعاً ولم يقع أصلاً.

الطلاق أثناء عدة المرأة من الخلع

الطلاق أثناء عدة المرأة من الخلع قال رحمه الله: [ولا يقع بمعتدةٍ من خلع طلاق ولو واجهها به] المرأة إذا خالَعها زوجها، واعتَدَّت من هذا الخلع -لأنه فراق على مذهب الحنابلة- فهل يلحقها بها الطلاق أو لا؟ ذكرنا أن الخلع فَسْخ، وإذا كان فَسْخَاً للنكاح؛ فإنه لا يَلتَحِق الطلاق به، فلو كان طلَّقَها طلقتين قبل الخلع، ثم خالعها، وأثناء عدتها في الخلع طلَّقها فإنه لا يعتد بهذه الطلقة، ولا تحرُم عليه، وتبقى الطلقة الثالثةُ كما هي؛ لأن هذا الطلاق وقع في غير موقعه؛ لأن المرأة مفسوخٌ نكاحها ومُفَرَّقٌ بينه وبينها، وحينئذٍ لا يتبعها طلاقه، وعلى هذا فلا يُحتسب الطلاق ولا يعتد به.

حكم اشتراط الرجعة في الخلع

حكم اشتراط الرجعة في الخلع قال المصنف رحمه الله: [ولا يصح شرط الرجعة فيه] فإذا قال: أُخَالِعُك بشرط أن لي الرجعة، فأُرْجِعُك متى شِئتُ أو إن شِئتُ، يعني: في مدة العدة، فهذا لا يصح، والسبب في هذا: أن الخُلع شُرِع لدفع الضرر عن المرأة، فإذا أجزنا للرجل أن يُراجِع المرأة، فمعنى ذلك أنه سيخالعها ثم يقول: راجُعْتُكِ؛ فيَفُوْت المقصود. ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله إلا من شذ على أن الرجل لا يمتلك ارتجاع امرأته في الخلع، وأن المقصود من الخلع خروج المرأة من الأذية والإضرار، وأنه إذا أضرّ بها وسأَلَتْه أن يُخَالِعَها؛ فإنه في هذه الحالة قصد الشرع أن يدفع ضرره عنها، فإذا كان من حقه أن يُراجِع فإنه يَفُوْت مقصود الشرع بهذه المراجعة، فلا يمتلك الرجل رَجْعَة امرأته إذا طلَّقها أو فارقها بخلع.

حكم المخالعة بغير عوض أو بمحرم

حكم المخالعة بغير عوض أو بمحرم قال رحمه الله: [وإن خالعها بغير عوض أو بمحرَّم لم يصح] قوله: (بغير عوض) كأن يقول: خالَعْتُكِ، ولا يأخذ منها شيئاً من مهرها أو فديةً لذلك الخُلع فإنه لا يصح؛ لأن الخلع مبنيٌ على المعاوضة، وقالوا: إنه خارجٌ عن الأصل، فيتقيد جوازه بصورة الأصل؛ لأن الأصل بقاء العقد واستدامته، ولا يرفع إلا بالطلاق، وإذا كان هذا الأصل فقد جاء بالخُلع على صورةٍ معينة وهي: وجود الفدية والعوض؛ فإن خالَعها بدون عوض فقد خرج عن المشروع، وأصبح الخُلع غير صحيح من هذا الوجه، فلا بد من وجود العوض. قوله: (أو بمحرم) قلنا: إن العلماء من عادتهم في المتون أنَّهم يذكرون الشبيه والنظير بعد نظيره وشبيهه؛ فإن خالعها بغير عوضٍ لا يقع الخلع، كذلك إن خالعها بشيءٍ محرم؛ فإن الشيء المحرَّم وجوده وعدمه في حكم الشرع سواء، فلو خالَعها بخمرٍ أو ميتةٍ أو خنزيرٍ أو أصنامٍ؛ فإنه لا يصح الخلع إلا بعوضٍ مباح. والحنابلة عندهم أن الخلع يكون بلفظ الخلع، ويكون بلفظ الطلاق، فلو قالت له: خالِعني بدون عوضٍ، وقبل ذلك وطلَّقها وقع طلاقاً ولم يقع خُلعاً؛ لأنه طلَّق ومضى عليه طلاقه، وقد رضي فراق امرأته بدون عِوض، فانتقل الحكم من الخلع إلى الطلاق وأخذ حكم الطلاق. قال رحمه الله: [ويقع الطلاق رجعياً إن كان بلفظ الطلاق أو نيته] أي: إن كان الخلع بلفظ الطلاق، أو خالعها وهو ينوي طلاقها؛ كما لو قال لها: خالَعْتُك، ناوياً الطلاق، فحينئذٍ ينتقل لفظ (خَالعْتُك) إلى كناية الطلاق؛ لأن الطلاق له صريحٌ وله كناية، ولفظ الخلع يُعتبر من كناية الطلاق؛ لأنه يدل على حل العصمة ورفع قيد النكاح؛ لأن أصل قيد النكاح وعُقدة النكاح وعِصمة النكاح تُوجِب أن يكون الرجل لباساً للمرأة والمرأة لباساً للرجل، فإذا قال: خالعْتُك، كأنه يقول: فسخت نكاحكِ، وكأنه يقول: خَلَعْتُ لباس الزوجية، فحينئذٍ يكون فيه وجهٌ لدخوله في كناية الطلاق، فهو إذا قال لها: خالعتُك، ناوياً الطلاق ولم يأخذ العوض؛ لم يَصح خلعاً، لأن الخلع لا يَصِح إلا بِعوض، لكن يقع طلاقاً؛ لأنه كنايةٌ يقع بها الطلاق بالنية.

ما يصح به الخلع

ما يصح به الخلع قال المصنف رحمه الله: [وما صح مهراً صح الخلع به] بعد أن بيَّن رحمه الله ألفاظ الخلع وأحكامها، شرع فيما يكون به الخلع وهو المُخَالَع به من مالٍ أو فدية، وفدية الخلع تُعتَبر متصلة بماهية الخلع، فلا بد من بيان أحكامها، فأنت إذا قلت: لا يصح الخلع إلا بعوض؛ يرد Q ما هو العوض الذي يجوز، والعوض الذي لا يجوز، والعوض الذي يُعتَد به في الخلع والعوض الذي لا يعتد به؟ وقد تقدم في المسائل الماضية أنه إذا خَالَعَها بدون عوض لم يصح، وإذا خالعها بعوضٍ فإن هذا العوض فيه تفصيل، فالقاعدة فيه عندهم أنّ كل ما صَحّ مهراً صَحّ أن يكون عوضاً في الخلع؛ لأن الخلع في الأصل يكون عوضاً عن المهر، وعما دفعه الرجل إليها. وللعلماء في هذا الخلع وجهان: الوجه الأول: أن المُخَالَع به لا بد وأن يكون مرتبطاً بما دفعه إليها، فلا يجوز أن يُخَالِعَهَا بشيءٍ غير الذي دفعه إليها، وهو الأكثر والأزيد على حقه الذي دفعه في النكاح، وسيأتي -إن شاء الله- ذكر هذه المسألة. الوجه الثاني: يجوز الخُلع بكل ما يصح أن يكون عوضاً ومهراً في النكاح، وعليه درج المصنف رحمه الله، فلو أنه قال: خالَعْتُكِ بذهبٍ وذكر ذلك الذهب، كمائة غرامٍ، أو خالعْتُكِ بهذا العقد من الذهب أو بهذا العقد من الفضة، فقالت: قبلت. صَحّ ولَزِمَه.

حكم مخالعة الرجل لزوجته بأكثر من المهر

حكم مخالعة الرجل لزوجته بأكثر من المهر قال رحمه الله: [ويكره بأكثر مما أعطاها] أي: ويكره أن يُخالِع الرجل امرأته بأكثر مما أعطاها. وقد اختلف علماء السلف رحمهم الله فيمن خالع امرأته بأكثر، وصورة المسألة: أن يدفع للمرأة صَدَاقاً عشرة آلاف، فيسألها عند الخلع أن تدفع له خمسة عشر ألفاً، أو يُخالعها بعشرين ألفاً، وكان قد دفع أقل منها، فهل يجوز ذلك أو لا يجوز؟ فذهب طائفةٌ من العلماء رحمهم الله إلى أنه لا يجوز أن يُخالع بأكثر مما دفع إليها، وهذا هو مذهب الجمهور رحمهم الله، واحتجوا بما ثبت في حديث جميلة رضي الله عنها أنها اشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها لا تحب ثابتاً، وأنها أبغضته حينما رأت فيه دمامة الخِلقَة، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُخرِجها من عصمته، فقال صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته التي أصدقك؟ قالت: نعم وزيادة، قال: أما الزيادة فلا)، ولهذا الحديث شواهد منها المرسل الصحيح، وكذلك أيضاً جاء ما يعضده عند ابن ماجة رحمه الله في السنن، وفيه عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه أن يزداد أي: نهاه أن يأخذ الزيادة على الفِدية. قالوا: فهذا يدل على أنه لا يجوز للزوج أن يأخذ أكثر مما أعطى في مهر المرأة؛ ولأن الخلع عوضٌ عن حق الزوج الذي دفعه، فتكون الفدية بقدر ذلك لا زيادة عليه. وقال طائفةٌ من العلماء رحمهم الله: تجوز الزيادة ويجوز أن يُخالع بأكثر، واحتجوا بأن الأصل جواز المعاوضة، وقد قال الله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229]، قالوا: فهذا يدل على أنها إذا افتدت بالقليل أو بالكثير فالأمر في ذلك سواء، ولا حرج عليها أن تفتدي بأكثر مما أعطاها. والذين قالوا بالجواز -كما ذكرنا- مع قولهم بالجواز نَصُّوا على الكراهة. ولذلك قال بعض أئمة السلف رحمهم الله: (هذا صنيع اللئام وليس بصنيع الكرام)، أي: اللئيم هو الذي يأخذ أكثر مما أعطى في مهر المرأة؛ لأنه نسِي المعروف ونسِي الفضل بينه وبين المرأة فيأخذ أكثر مما أعطاها، وليس بصنيع أهل الفضل ولا أهل الكرم، فليس هذا من شيمة الفضلاء. والذي يظهر -والله أعلم- النهي عن الزيادة؛ لأن قوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229]، هو من جهة جواز الخُلع وإن كان مطلقاً لكن قيَّدته السنة بقوله عليه الصلاة والسلام: (أما الزيادة فلا). وبناءً على ذلك فالذي تطمئن إليه النفس عدم جواز الزيادة على المدفوع، وأنه يتقيد الجواز بالقدر الذي دفعه ولا يزيد عليه، لأن في ذلك ظلماً للمرأة وتضييقاً عليها؛ فإنه لو فُتِح هذا الباب لتشارط الرجل ولربما سأل أكثر، مما يعجز المرأة وحينئذٍ يفوت مقصود الشرع من دفع الضرر عن المرأة، إذ لو أبحنا أن يأخذ الزيادة لقال لها: لا أُخالعك إلا على مائة ألف أو مائتين، ويكون قد دفع القليل، وتكون المرأة ضيقة الحال، ويعلم أنها لا تستطيع ذلك، وحينئذٍ يَفُوْت مقصود الشرع من جعل الخُلع على قدر المدفوع في مهر المرأة.

حكم خلع الحامل بنفقة حملها

حكم خلع الحامل بنفقة حملها قال رحمه الله: [وإن خالعت حامل بنفقة عدتها صح] أي: وإن خالعت الحامل بنفقة عدتها، يعني: حال حملها؛ صَحَّ ذلك، وهذا قول جماهير العلماء رحمهم الله؛ لأن الحامل لها نفقة على الزوج، فلو أنها قالت: أُخالِعك بنفقة حَمْلي قال: قبلت. وعند الحنابلة أنه يجوز الخلع بكل ما يجوز أن يكون مهراً، ونفقة الحامل مال، فلو فرضنا أن نفقتها ثلاثة آلاف ريال، فكأنها خالعته بثلاثة آلاف ريال؛ لأنها لو مكثت وهي حامل ستة أشهر أو سبعة أشهر استحقت ثلاثة آلاف ريال أو أربعة آلاف ريال، ففي الحقيقة كأنها خالعته على الثلاثة أو الأربعة آلاف.

حكم المخالعة على مجهول

حكم المخالعة على مجهول قال رحمه الله: [ويصح بالمجهول] ويصح الخُلع بالمجهول، ولكنه يتعين بما ذكرناه، فيكون مجهولاً في العقد ثم بعد ذلك تُعَيِّنُه، حتى ولو قالت له: أخالِعُكَ على دراهم، قال: قبلت؛ فإنه يَلزَمُها أن تدفع له ثلاثة دراهم؛ لأن أَقلَّ الجمع ثلاثة، ولو قالت: أخَالِعُك على دنانير؛ لَزِمَها أن تدفع له ثلاثة دنانير؛ لأنها أَقل الجمع، ولو قالت: أُخَالِعُك على ريالات، فهي مجهولة القدر؛ فإنه حينئذٍ يُنظَر إلى أقل الجمع، وهكذا لو قالت: أُخَالِعُك على مالٍ وسكتت، فإنه يَصِحُّ وتُلزَم بأقل ما يصدق عليه أنه مال؛ فهذا كله يُعتبر في حكم المجهول، سواءً مجهول القدر أو مجهول الوصف. قال المصنف رحمه الله: [فإن خالعته على حمل شجرتها أو أمتها أو ما في يدها أو بيتها من درهمٍ أو متاع أو على عبدٍ صح، وله مع عدم الحمل والمتاع والعبد أقل مسماه، ومع عدم الدراهم ثلاثة] قوله: (فإن خالعته على حمل شجرتها) امرأة عندها بستان وأرادت أن تُخالِع زوجها وقالت له: أُعطيك ثمرة بستاني هذا العام أو السنة القادمة، فقال: قبلت. فحينئذٍ يَصح؛ لأنهم يصحِّحُون الخلع على المجهول. قوله: (أو أَمَتها) قالت له: أخالعك على ما في بطن أَمَتِي، قال: قبلت. وهذا بطبيعة الحال يكون أقل من المهر غالباً، فولدت أَمَتُها جارية أو صبية، فحينئذٍ تكون ملكاً له؛ لأنها عاوضته بهذه الأمة، كأنها باعت عليه هذه الأمة الأنثى، أو يكون حملها ذكراً؛ فحينئذٍ كأنها عاوضته بعبدٍ ذكر. قال رحمه الله: [أو ما في يدها] قالت له: خالِعني على ما في يدي، فقال: قبلت. ففتحت يدها، فلم يجد شيئاً، في لو قالت: خالعني بما في يدي. فبطبيعة الحال الذي في اليد مجهول لا يُعرف، ولما كان الحنابلة رحمهم الله ذكروا جواز الخُلع بالمجهول، يرد Q إذا كان المجهول لا قيمة له، أو ظن أنه له قيمة وبان له كذلك، فلو قالت له: خالعني بما في يدي، فمعناه: أنه خالَعَها بعوض، وإذا قالت: بما في يدي، معناه: أن يدها فيها شيء، وعلى هذا يقع بأقل ما يصدق عليه أنه مال، ويلزمها أن تدفعه له؛ لأنه معلوم بدلالة الحال، فلمّا قالت له: بما في يدي، معناه: أن في يدها شيئاً له قيمة وثمن، وأما لو قالت له: على دراهم أو دنانير، فحينئذٍ أقل الجمع ثلاثة، فتعطيه ثلاثة دراهم أو ثلاثة دنانير، وهكذا لو قالت على ريالات. قال رحمه الله: (أو بيتها من دراهم أو متاع) (أو بيتها) أُخَالِعُك على ما في بيتي من متاع، فالذي في البيت من المتاع يأخذه؛ لأن له قيمة، فيكون عوضاً عن خلعها. قوله: (أو على عبد صح) فإن أعطته عبداً أو دراهم أو متاعاً على أنه يُخالِعها صَحَّ؛ لأنها أشياء لها قيمة، فإن عُدِمَت ولم يوجد شيء يُنظر إلى أقل ما يصدق عليه المسمى كما ذكر. قوله: (وله مع عدم الحمل والمتاع والعبد أقل مسماه) يأخذ أقل المسمى في الحمل والمتاع، فيُنْظَر إلى أقل شيء يمكن أن يصدق عليه أنه متاع، فمثلاً: لو قالت له: أُخالِعك على ما في بطن أمتي، فطبعاً سيظن أن في بطنها حملاً، ولكن تبين أن ما في بطنها هو ورم، وانتفاخ، ولم يكن شيئاً؛ حينئذٍ يكون على أقل ما يصدق عليه وصف الحمل، فيُعَاوَض ويُنْقَل إلى المثل، وكذلك أيضاً لو قالت له: أخالعك على ما في بيتي من متاع، وجاء إلى البيت ولم يجد متاعاً، فنقول: أقل ما يُسمَّى متاعاً ما هو؟ فقالوا -مثلاً-: فراش من نوع كذا، سواء كان من فرش الأرض أو فرش الأسرة، نقول له: هذا الذي لك، ويُرجَع في هذا إلى أهل الخبرة ويقدِّرونه. كل هذه الأمثلة -كما ذكرنا- العلماء يقصدون منها إذا وقعت الحِيلة من الزوجة على زوجها، أو خالعت على شيء تظنه مالاً وبان أنه غير مال، سواء كان متاعاً أو غيره كما ذكرنا، المهم هو القاعدة فإذا خالعته على شيءٍ ظن أنه موجود وتبيَّن أنه غير موجود نُلزِمُها بلفظها، فلفظها متاع، نقول: يلزمها أقل ما يصدق عليه أنه متاع، وإن قالت: الحمل؛ فأقل ما يصدق عليه الحمل، وإن قالت: ثمرة بستاني؛ نفس الحُكم. فإذاً نؤاخذها باللفظ الذي اتفق عليه الطرفان، وهما اتفقا على خُلعٍ بِعوض، فإن لم يكن العوض موجوداً نُظِر إلى أقل المسمى، أي أقل ما يصدق عليه أنه متاعٌ وأنه حَمْلٌ إلى آخر ما ذكروه. قوله: (ومع عدم الدراهم) لو قالت: أخالِعك على دراهم، أو على الدراهم التي في يدي ففتحت يدها ولم يوجد شيء؛ لأنه بطبيعة الحال، إذا قالت: على دراهم، فقد ذكرت في اللفظ الجَمْع، فمعناه أن الرجل لما قال: خَالَعْتُك، كأنه يقول: رضيت بالدراهم، وأقل شيء يصدق عليه أنه دراهم معناه أنه راضٍ به، فالعرب تسمي الثلاثة فأكثر جَمعاً، وتقول: دراهم، فإذا قال: رضيت، وخَالَع، فمعنى ذلك أنه رضي بثلاثة دراهم فأكثر، فإن لم يوجد الأكثر، قلنا: ليس لك إلا أقل ما يصدق عليه هذا الجَمْع الذي رضيت به بالخطاب، فيأخذ الثلاثة الدراهم ولا يزداد.

أحكام الخلع المعلق

أحكام الخلع المعلق قال رحمه الله تعالى: [فصلٌ: وإذا قال: متى أو إذا أو إن أعطيتِني ألفاً فأنت طالق؛ طلُقت بعطيته وإن تراخى] في الحقيقة قبل أن ندخل في التفصيلات -وستأتينا أكثر في الطلاق، وستأتي الجُمل المعلَّقة وألفاظ التعليق وألفاظ الشرط-. قد يَمَل طالب العلم أحياناً، لكن ثقوا يا إخوان أنه حينما تأتي مشاكل الناس وأسئلتهم ستبحث في هذه المسائل بدقة، وتحتاج إلى دراستها بدقة أكثر، وكنا نقرؤها على مشايخنا رحمةُ الله عليهم، قد يحدث شيء من الطول والتعب، لكن لن تجد قيمة هذه المسائل وحلاوتها إلا بأسئلة الناس. فسيأتيك الشخص الذي يتلفظ بهذه الألفاظ فلا تحس أنك في شيءٍ غريب، خاصة إذا كنت طالب علم تدرس مادة علمية ستُسْأل عنها، فالسائل لا مذهب له، ولا يأتيك بكتاب معين ولا بسؤال محدود، بل يأتيك بما وقع له وبما قال. فهنا بعد أن فرغ رحمه الله من الخُلع المنجَّز؛ شَرَع في الخلع المعلَّق، والخُلع المعلَّق: أن يأتي بشرط، فيقول: إن فعلت، أو إذا، أو متى، فيكون مُعلَّقاً على شيء، فنحتاج إلى دراسة المعلَّق كما درسنا المنجَّز. وهناك ألفاظ يقع بها الخلع بصيغة الشرط، فيحتاج طالب العلم أن يعرف ما هو الحكم لو قال لها هذا القول. وأول مشكلة في الخلع المعلَّق من حيث اللفظ، فما هي الألفاظ التي يكون بها التعليق؟ وثانياً: أنه قد يُعَلِّق ويفعل، أو يقع الشيء الذي اشتُرِط بعد فترة فهل يُشْتَرَط في المعلَّق أن يكون مُنَجَّزَاً أو يمكن أن يقع على التراخي؟ فلو قال لها: متى أعطيتيني ألفاً أو متى فعلت كذا وكذا -من الشرط المطلق الذي لا قيد فيه- وبعد سنة أو سنتين أو خمس سنوات أو سبع سنوات جاءت بهذا الشيء الذي علَّق الخلع عليه، فهل التعليق مقيد أو مطلق؟ كذلك أيضاً لو أنه قال: متى، أو إذا، أو إن، ثم طلَّق المرأة ولم تفعل شيئاً مما اشترط، وبعد أن طلقها وبانَت منه فعلت الشيء الذي قاله وعلَّق الخلع عليه؛ ثم تزوجها بعد ذلك، فهل يقع الخلع أو لا؟ ولو أنه قال لها ذلك، ثم طلَّقها، ولم تفعله أثناء البينونة، ولكن خرجت من عدتها، ونكَحَها بعقدٍ جديد، ثم فعلته في العقد الثاني! فكلها مسائل تحتاج إلى بحث. وحتى في الطلاق أيضاً ربما يقول لها -على القول بالتعليق في الطلاق-: إن دخلتِ الدار فأنت طالق. فما دخلت اليوم، وإنما دخَلَت بعد سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات إن زُرْتِ فلانة فأنت طالق، وزَارَتها بعد سنة أو سنتين. أو أنه قال لها: إن زرت فلانةً فأنتِ طالق، ثم طلقها غير الطلاق الذي عَلَّق عليه، ثم لما طلَّقها وبانَت منه زَارَت هذه المرأة، ثم رجعت له بعقدٍ بعد ذلك؛ فهل يَبْقَى التعليق كما هو أم أن فعلها للمُعَلَّق أثناء خروجها عن عِصمته يُؤَثِّر ويُسقِط ذلك المعلَّق بفعله ولو مرة؟ ثم بعد ذلك لما رجعت له بالعقد الجديد ذهَبَت وزارَتها؛ فهل يقع الطلاق ويبقى التعليق الأول كما هو أم ماذا؟ هذه أمور لا بد من بحثها، ولذلك نقول: قراءة الفقه منفصلاً عن ثمرته وحال الناس في سؤالهم، لا يستطيع طالب العلم أن يتَّصل بمسائله بالشكل المطلوب، فقد يَمَل طالب العلم: متى وإذا وإن، فيدخل في تفصيلات الشروط وألفاظ الشروط ويَمَل، لكن أقولها لما وقع لنا: في البداية قد تجد مللاً، لكن سيأتي اليوم الذي تجد من يقول هذا القول لامرأته، ويسألك عن حكمه. أو تجد مسألةً مُفَرَّعةً على هذا الأصل، وهل النكاح يهدم أو لا يهدم؟ وكلها مسائل ذكرها العلماء واعتنوا بها. وإنما أراد المصنف رحمه الله بذكرها هنا اكتمال مادة الخلع.

لزوم الوفاء بشرط الخلع عند حصول المخالفة

لزوم الوفاء بشرط الخلع عند حصول المخالفة قوله رحمه الله: [وإذا قال: متى أو إذا أو إن أعطيتِني ألفاً فأنت طالق] إذا قال: متى أعطيتني ألفاً، أو إذا أعطيتني ألفاً، أو إن أعطيتني ألفاً، فقد اشترط، وبينه وبين الله عز وجل أنها إن فعلت هذا الشرط أنها تطلُق، والله عز وجل أعطاه الطلاق منَجَّزَاً ومعلقاً، فقال: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة:231] {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [البقرة:237]، ولم يفرق بين المعلَّق وبين المنجَّز، فهو كما أنه يُطلِّق ويقع طلاقه منجَّزاً، فإنه إن علَّقه على شيء يقع عليه الطلاق إذا وقع ذلك الشيء؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن لكِ على ربك ما اشترطت). فكما أن الإنسان يستحق بالشرط، وله أخذ ما شرط، كذلك أيضاً يُلزَم بالشرط ويؤاخذ به. فقال رحمه الله: (إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق) فهنا عِوض، وهذه المعاوضة عن تطليق. وعلى هذا؛ فإنها لو أعطته الألف في نفس اليوم، أي: بعد حديثه مباشرةً أو فصل بينه وبين حديثه فاصل، تَركتْه ساعة أو ساعتين أو ذهبت وأحضرت الألف وجاءت فقال: لا، أنا قُلتُ: إن أعطيتني ألفاً وأَقصِد في المجلس، نقول: ما قلت في المجلس ولم تَشْتَرِط المجلس، فحينئذٍ إن أعطتك الألف في المجلس أو خارج المجلس أو بعد المجلس فهذا شرطٌ ليس فيه قيد، فلو أنها جاءت بالألف في اليوم الثاني، أو جاءت بالألف بعد سنةً، متى أعطته الألف فإنه حينئذٍ كأنها خالعته بهذه الألف، فأدخلوا هذه المسألة تبعاً للخلع؛ لوجود المعاوضة. قوله: (طلقت المرأة بعطيته) إن أعطته الألف، وقوله: (وإن تراخى) تراخت العطية وتأخرت؛ لأن العبرة أنه متى ما وَقَع الشَّرط وَقَعَ المشروط، فهو اشتَرَط فيما بينه وبين الله عز وجل أن عصمة امرأته تنحل وتُرفَع بهذا الشرط إن وقع، وقد وقع الشرط فيؤاخذ به. قال المصنف رحمه الله: [وإن قالت: اخلعني على ألف أو بألف أو لك ألف ففعل؛ بانت واستحقها]. قوله: (اخلعني على ألفٍ) ففعل، فحينئذٍ تُخْلَع منه، وتَطْلُق على قول الجمهور. فهي اشترطت عليه، قالت: اخلعني بألف، فقال: خالعتكِ، فلما قال: خالعتكِ، معناه: خالعتُكِ بألف، وهكذا لو قالت: اخلعني بألفين، قال: خالعتكِ، فحينئذٍ إذا فعل ذلك فإنه يستحق ذلك المبلغ عليها ويلزمها دفعُه. كما أنها تستحق عليه المخالعة والطلاق، كذلك هو يستحق العوض إن اشترطَتْ عِوضاً على الطلاق والخلع، فالحق بينهما متقابل، كما أنك تُلزِم الرجل كذلك تُلزِم أيضاً المرأة. قوله: [أو بألفٍ أو لك ألف] كل هذه حروف: على ألفٍ أو بألف. قوله: (ففعل بانت واستحقها) استحق الألف، فحينئذٍ لا تَبِيْن هكذا، لأنها رُتِّبَت على اشتراط والتزام، فهي إذا قالت له: خالعني بألفٍ، -لا بد أن تعرف مضمون اللفظ حتى تؤاخذ به- أي: لك عليّ ألفٌ وفي ذمتي لك ألفٌ إن وقع منك الخُلع، وهذا عقد واتفاق بين الطرفين، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، فهو إذا تَلفَّظ بالخُلع استحَقّ الألف، وإذا تلفظ بالخلع ألزمناها الألف، فهي التي التزمت واشترطت على نفسها أنه إذا خالعها وأنه إذا وقع هذا الشرط الذي ذَكَرَتْه من كونه مخالِعاً أعطته ألفاً، فإذا قال: خالعتُك؛ وكان منه لفظ الخلع، فقال: خالعتُكِ؛ فحينئذٍ عليها ما التزمَت به.

حكم الزيادة على ما اشترط في الخلع

حكم الزيادة على ما اشترط في الخلع قال رحمه الله: [وطلقني واحدة بألف فطلقها ثلاثا استحقها] القاعدة في مسألة الاشتراط: أن الإنسان إذا التزم شيئاً بالشرط يُوفِّي بذلك، والحقوق بين المسلمين تُضْمَن بالشروط، كما قال عمر رضي الله عنه: (مقاطع الحقوق عند الشروط)، وهي مأخوذة من النصوص الصحيحة في قوله عليه الصلاة والسلام: (المسلمون على شروطهم)، فقوله: (مقاطع الحقوق عند الشروط)، يعني: لما تأتي تقطع القطع التي يُعرف فيها حق كل ذي حق، ويُفصَل فيها في الحقوق، فإنك تفصل الخصومة والنزاع، وتُعطِي كلَّ ذي حقٍ حقه بالشرط. فهو إذا اشترط وهي إذا اشترطت ألزمناه بشرطها، وألزمناها بشرطه، فهو يقول: خالعتُكِ، وهي قد قالت: إن وقع منك هذا القول؛ أُعطِيك ألفاً. بعد أن قرَّرنا هذه القاعدة -وهي تأثير الشرط- يبقى Q ذكر المصنف متى أو إذا أو إن، وعلى ألفٍ أو بألفٍ. هذه كلها يستوي فيها المطلوب فِعله، ويُرتَّب المال أو المدفوع على وجود هذا المطلوب، فإذا قالت له: إن طلقتني فلك ألفٌ، خالِعني ولك ألفٌ، فليس في هذا إشكال، لكن الإشكال إن طلبت منه شيئاً ففعل أكثر منه، أو طلبت منه شيئاً ففعل أقل منه. فالقسمة العقلية تقتضي ثلاث حالات ينبغي أن يَنتبه لها طالب العلم، الحالة الأولى: أن يكون الفعل الصادر أو القول الصادر على حسب المطلوب، قالت: خالعني وأعطيك ألفاً، قال: خالعتُكِ، بطبيعة الحال إذا قَضَيت في هذا تقول: الشرط الذي التزمَت به المرأة أن تعطيه الألف إن تَلَفَّظ بالْخُلع، وقد تَلَفَّظ بنفس الشيء الذي طُلِب منه، وهنا المساواة واضحة، لم يقل شيئاً زائداً عما طُلِب منه ولا أقلّ مما طُلِب منه، فمن ناحية فقهية بعد أن تُبَيِّن المساواة تنتقل إلى الزيادة أو إلى النقص، لكي تعرف الأصول وتحفظ وتُلِم بطريقة الفقهاء رحمهم الله. فبعد أن بين حَال المساواة شرَع في الحالة التي يزيد فيها الرجل عن الشرط، والحالة التي يُنقص فيها عن الشرط. الحالة الثانية: إذا قالت له: إن طلقتني واحدةً أعطيك ألفاً، فقال: أنت طالقٌ بالثلاث، فليست واحدة بل ثلاثاً، والشرط طلقة واحدة، وأعطاها ثلاثاً، فإنه قد زاد على الذي وقع الشرط عليه، فهل نقول: إنه أساء إليها بالثلاث وهي طلبت الواحدة، والثلاث غير الواحدة، وحينئذٍ لا يستحق؟ وهذا مذهبٌ ضعيف، أو نقول: إن الشرط بينه وبينها إن وَقَع طلاقٌ بواحدةٍ أنها تُلزَم بدفع ما اشترطت على نفسها، والزيادة -وهي الطلقتان- كانت من نفسه، كما لو طلقها واحدةً ثم أردفها طلقتين بعد؟ وهذا هو الصحيح على ما اختاره المصنف، فحينئذٍ إن زاد فإنه يستحق الألف. امرأةٌ قالت لزوجها: إن طلقتني واحدةً أُعطيك ألفاً، فقال لها: أنت طالق بالثلاث، قالت: لا أُعطِيك شيئاً؛ لأنني أريد أن أَرجع إليك، فامتنعت من الإعطاء، فاختصما إلى القاضي، فالقاضي يعلم أنه شرطٌ زاد فيه الزوج، فنقول: إنه إذا وقع الشرط وزيادة فإنه يستحق؛ لأن الطلقة التي وقع الشرط عليها قد وقعت. قال رحمه الله: [وعكسه بعكسه إلا في واحدةٍ بقيت]، وهذه هي الحالة الثالثة، إذا قالت له: طلقني ثلاثاً، فطلقها واحدةً فإنه لا يستحق الألف؛ لأنها اشترطت الثلاث، والواحدة جزءٌ من الثلاث، والجزءُ ليس كالكل، ولا يأخذ حُكْم الكل، كما لو قلت لرجلٍ: إن جِئتني بخمسة رجال أعطيك كذا، فجاءك برجل فلا يستحق، إنما يستحق إذا جاءك بالخمسة، فهم يرون هذا من باب الجُعل، ومندرج تحت أحكام الجعل. وباب الجعل -كما سيأتينا إن شاء الله- أنك إذا رتَّبْت ثمناً أو مبلغاً أو مالاً أو شيئاً على شيءٍ معين، وجاء ببعضه فإنه لا يستحق الجعل حتى يأتي بذلك الشيء كاملاً، فلو قلت: من جاءني بسيارتَيَّ الضائعتين أُعطِيه عشرة آلاف ريال، فجاء بسيارةٍ منهما لم يستحقه، حتى يأتي بكلا السيارتين، فلا يتجزأ المقابل والعوض بتجزّؤ العمل. كذلك هنا لا يتجزأ الاستحقاق الذي هو الألف بتجزّؤ الطلقات، إنما يستحق الألف إذا وقعت الثلاث، فإن وقعت واحدةً لم يستحق، لكن لو أنه طلَّقها قبل ذلك طلقتين ولم يُخبِرها بالطلقتين، فقالت له: طلقني ثلاثاً أُعطِك ألفاً، فقال لها: أنت طالق، فهذه الطلقة مكملةٌ للثلاث، فحينئذٍ وقع الشرط، فإن هذه الواحدة وإن كانت واحدةً لكنها في الحقيقة متممة للثلاث ومحققةٌ لمقصود المرأة من البينونة فحينئذٍ يستحق؛ لأن المقصود حَصَل.

حكم مخالعة الأب لابنه الصغير أو ابنته بشيء من مالها

حكم مخالعة الأب لابنه الصغير أو ابنته بشيء من مالها قال المصنف رحمه الله: [وليس للأب خُلع زوجة ابنه الصغير ولا طلاقها ولا خُلع ابنته بشيء من مالها] قوله رحمه الله: (وليس للأب خُلع زوجة ابنه الصغير) فيقول: خالعتُكِ، يُخاطب زوجة ابنه؛ فإن زوجة ابنه إذا سأل وليها الخُلع وقال: أُعطِيك ألفاً وتُخالِعها، ليس له ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق)، فجعل الفراق وحل العصمة في النكاح لِمَن ملك، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا طلاق فيما لا يملك، فإذا ثبت أن حَلَّ العِصمة والفِراق يكون لمَن بيده تلك العِصمة وذلك الفِراق وهو الزوج؛ فإنه يَسْرِي ذلك على الخلع، ويلتحق الخلع بالطلاق، ومن هنا قالوا: لا يُطَلِّق، وعلى هذا لا يُخالِع، فليس له أن يُخَالِع، لا خلع طلاق ولا خلعاً مجرداً. قوله: (ولا طلاقها) كذلك. قوله: (ولا خلع ابنته بشيء من مالها) كذلك أيضاً، لو أنه خالع ابنته بشيءٍ من مالها، ففرقوا بين البنت وبين الابن، فقالوا في البنت: له أن يُخَالِع لأنه يرى الضرر، ومِن حقه أن يُخالع عن ابنته إذا كان من ماله، لا من مالها، وجعلوا المنع هنا من جهة أن الأب يكون قائماً على مال ابنته الصغيرة، وهذا معلوم في باب الحَجْر: أن الصغير والصغيرة لا يملكان التصرف في ماليهما، فإذا جاء الأب يُخالِع من مالها فإنها محجورٌ عليها فلا تستطيع، وقد بينا في أول الخلع أن الخلع لا يصح من صغيرة ولا من مجنونة ولا من محجورٍ عليها؛ لوجود المعاوضة فيه، ومثلها ممنوعٌ من التصرف، وفي هذه الحالة قالوا: ليس له الحق أن يُخالِع من مالها؛ لكن له الحق أن يُخالِع من ماله، وهذا مفهوم قوله: (من مالها).

إسقاط الخلع لغيره من الحقوق

إسقاط الخلع لغيره من الحقوق قال رحمه الله: (ولا يسقط الخلع غيره من الحقوق)، كالنفقات. هنا بيان أثر الخُلع، فلو أن رجلاً خالع امرأته وله منها أولاد، فإنه إذا خالعها وتم الخلع يُلزَم بنفقة الأولاد، ولا يقول: إن الخلع مسقط للنفقة، فالخلع لا يُسقط الحقوق، فيبقى حق النفقة ونحوه من الحقوق التي تترتب على عقد النكاح باقيةً ويُلزَم بها.

الطلاق المعلق على صفة إذا وجدت بعد إبانة المرأة ثم مراجعتها

الطلاق المعلق على صفة إذا وجدت بعد إبانة المرأة ثم مراجعتها قال المصنف رحمه الله: [وإن علَّق طلاقها بصفة ثم أبانها فوُجِدت ثم نكحها فوجدت بعده طلقت كعتق وإلا فلا] هذه المسألة تكلَّم عليها أئمة السلف رحمهم الله، وهي مسألة قديمة، وقول جماهير العلماء رحمهم الله حتى حُكي الإجماع: أن الرجل إذا علق الْخُلع أو الطلاق على صفة، وقال: إذا دخلتِ الدار أو إن فعلتِ كذا وكذا، وذكر شيئاً معيناً إن وُجِد فالطلاق حاصل، أو الخُلع واقع. فهذا التعليق على وجود الصفة إن كان النكاح باقياً ذكرناه في حكم الشرط، وسيأتي -إن شاء الله- بيانه وبيان كلام العلماء عليه -إن شاء الله- في تعليق الطلاق بالشرط. لكن هنا مسألتنا أنه يعلق ثم يطلقها وتخرج من عدتها فتَبِيْن منه، وتفعل هذا الشيء أو تُوجَد هذه الصفة حال بينونتها، أي: لمّا بَانَت وانحلَّت من العصمة وفُرِّقَ بينهما وفارقته وقع هذا الشيء الذي علَّق الطلاق عليه، وطبعاً هي أجنبية، فلا يقع حال كونها أجنبية، فبعد أن وَقَع أو وُجِدت الصفة نَكَحَها مرةً ثانيةً؛ فهل يَبْقَى المعلَّق في النكاح الأول كما هو أو يلغى؟ هذه مسألة واقعة في الطلاق، وفي العتاق (في عتق العبيد) يقول لعبده: إن جاء أبي من السفر فأنت حرٌ، فعلق العتق على مجيء أبيه، فقبل مجيء أبيه باع العبد، واشتراه زيد من الناس؛ ثم جلس عند زيد -مثلاً- نصف سنة، ثم اشتراه من زيد، فإن رجع الأب وهو عند زيد أو رجع بعد رجوعه إلى صاحبه الأول؛ فهل يسري الحكم في كلتا الصورتين؟ ففي الحالة الأولى يقول: إن جاء أبي فأنت حرٌ، ثم باعه قبل مجيء أبيه فاشتراه زيدٌ فجاء أبوه وهو ملكٌ لزيد، ثم اشتراه بعد ذلك من زيد فهل يعتق؟ قال جماهير العلماء: إنه يَعتِق؛ لأنه فيما بينه وبين الله عز وجل جَعَل عِتْق عبده إذا كان مملوكاً له بمجيء والده، فإذا جاء والده، سواءً كان مجيئه والعبد في ملكه أو قبل أن يملكه فإنه يقول: متى جاء والدي فسأعتقك، فلما امتنع لوجود الملكية المخالفة وهي ملكية زيد حينئذٍ يُمنَع ما دام ملكاً لزيد، فإن رجع إليه رجع بشرطه فيما بينه وبين الله، فيلزَمُه عتقه ويعتق عليه، هذا في العتاق. ويوجد تداخل بين كل من العتاق والطلاق والنذور، خاصة في مسائل الشروط والتعليق والحقائق. هذه نص عليها جماهير العلماء رحمهم الله، وحكى ابن المنذر أن الكافة يقولون: إنه يَعْتِق عليه. ففي الطلاق نفس الحُكْم، فإن علق طلاقها على صفة ووُجِدت الصفة حال كونها في عصمة غيره أو بعد مجيئها في عقدٍ ثانٍ أخذ نفس الحكم. مثلاً: قال لها: إن جاء والدي من السفر فأنت طالق، فطلقها قبل أن يجيء والده، وبَانَت منه قبل أن يجيء والده، أو خالعَتْه قبل أن يجيء والده، فأصبحت بائناً منه، ثم جاء والده وهي بائن، سواء كانت مزوجة بغيره أو في حال كونها أَيِّماً لا زوج لها، ثم نكحها مرةً ثانية بعد مجيء والده؛ فحينئذٍ تأخذ نفس الحكم، فهذا الذي قصده المصنف رحمه الله، وتدخل هذه المسألة في مسائل الشروط تبعاً. قوله: [فوجدت ثم نكحها فوجدت بعده طلقت كعتق وإلا فلا] قوله: (فوُجِدت بعده) بعضهم يقول: تَطْلُق ويَعتِق العبد برجوعه إلى الملكية؛ لوجود الصفة كما ذكرنا، وبعضهم يقول: لا تَطْلُق إلا إذا كانت الصفة موجودة أثناء الرجوع، فلو أن والده سافر مرةً ثانية وتُوفِّي في هذا السفر ولم يعد، فلا تطلق عليه، فيجعلونه باقياً بالسريان الذي ذكرناه، بحيث إنها عندما ترجع إلى عصمته يكون الوالد قد جاء من السفر، أما إذا بَقِي على سفره وعلى وصف السفر، فإنه لا يصدق عليه أنه رجع. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

مقدمة كتاب الطلاق [1]

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الطلاق [1] شرع الله سبحانه وتعالى الطلاق وجعل فيه حكماً عظيمة، وجعله وسيلة لدفع الضرر اللاحق بالزوج أو الزوجة أو عليهما معاً، ومشروعيته ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع. والتلفظ به هزلاً أو مزاحاً موجب لوقوعه، ولقد اعتنى أهل العلم بكتاب الطلاق لعموم البلوى به، فحرروا مسائله وأحكامه، وأنزلوا فيه الأحكام التكليفية الخمسة، وبينوا الأحكام المتعلقة بمن يصدر منهم لفظ الطلاق، فإنه قد يصدر من الصبي والمجنون والسكران والمكره.

تعريف الطلاق والأدلة على مشروعيته

تعريف الطلاق والأدلة على مشروعيته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الطلاق] كتاب الطلاق من الكتب المهمة في الفقه، وهو مما تعم به البلوى، وقد جعل الله الطلاق مُوجباً لحل قيد النكاح ورفع عِصمته، وبَيَّن أحكام الطلاق في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل من حِكمته وكمال عِلمه سبحانه وتعالى، جَعَل الطلاق حلاً للمشاكل، وقطعاً للنزاعات ودفعاً لمفاسد الخصومات. وفي هذا الطلاق مصالح عظيمة مع كونه يَشتمل على الضرر والفُرقة بين الزوجين؛ لكنه يشتمل على مصالح إذا وقع في موقعه، وراعى فيه الزوج ما ينبغي عليه مراعاته في مثله من مثله. وكتاب الطلاق يجعله العلماء -رحمهم الله- بعد مسائل النكاح؛ لأن الطلاق يوجب رفع العصمة، والمناسبة بين كتاب الطلاق وباب الخلع الذي انتهى منه المصنف واضحةٌ ظاهرة، وقد سبق وأن ذكرنا أن الحنابلة رحمهم الله يُقدِّمون باب الخلع على باب الطلاق، وبعض العلماء يُؤَخِّر الخلع عن الطلاق ويجعل الخلع بعد الطلاق. وقوله رحمه الله: (كتاب الطلاق) الطلاق: أصله التَّخْلِيَة، ومنه قولهم: طَلَقَت الناقة إذا خُلِّيَتْ وحُلَّ وِثَاقُها، فأصل الطلاق التّخْلِية والإرسال. وأما في الاصطلاح: فهو حل قيد النكاح بلفظٍ مخصوص، وقيل: رفع قيد النكاح بلفظٍ مخصوص، وهذا اللفظ المخصوص سيأتي أنه صريح لفظ الطلاق أو كنايته بالنية المعتبرة. وقد شرع الطلاق بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، أما دليل الكتاب: فآياتٌ منها قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]، وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب:49]، وقوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230]، إلى غير ذلك من الآيات التي دلَّت على مشروعية الطلاق. وكذلك ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطلاق كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما حينما طلَّق امرأته وهي حائض، فقال صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد ذلك وإن شاء طلق). وكذلك أجمعت الأمة على مشروعية الطلاق، وأنه مباحٌ وجائز على تفصيلٍ بين العلماء رحمهم الله.

الحكم والمقاصد الشرعية في الطلاق

الحكم والمقاصد الشرعية في الطلاق قال أهل العلم: إن في الطلاق حِكَماً عظيمة، فالله سبحانه وتعالى شرع للزوج إذا وصَلَت الحياة الزوجية إلى مقام لا يُحتَمَل، وحصل الضرر على الزوج أو الزوجة أو عليهما معاً من البقاء في النكاح أن يُطَلِّق، وجعل هذا الطلاق ثلاثاً، فجاءت الشريعة بالوسطية، فكان أهل الجاهلية في القديم يتخذون من الطلاق وسيلة لأذية النساء، فكان الرجل يطلق المرأة ويتركها حتى تُقَارِب الخروج من العدة فيراجعها، ثم يطلقها طلقة ثانية، ويتركُها حتى تكاد تخرج من عدَّتها فيراجعها ولا يقربها ولا يعاشرها، إنما يفعل بها ذلك إضراراً: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة:231]، {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129]، فكانوا يجعلونها كالمعلقة، لا زوجةً ولا مطلقة، فكانوا يُضَارُّون بالطلاق، فجعله الله ثلاثاً. وانظر إلى حكمته سبحانه وتعالى وكمال علمه جل جلاله، حينما جعل الطلاق على هذا الوجه، قالوا: لأن الحياة الزوجية إذا وَصَلَت إلى ضرر يَوجِب الطلاق فإما أن يكون من الرجل أو المرأة، فالرجل يُقْدِم على الطلاق فيُطَلِّق الطلقة الأولى، ففي الطلقة الأولى إما أن يكون الخطأ من الرجل أو يكون من المرأة، أما إذا كان منهما فلا إشكال، وفي الحالة الثانية: فإن الغالب أن الرجل إذا طلق الطلقة الأولى أن يتعقَّل ويذوق مرارة الطلاق، ويعرف هذه المرارة فيحِن إلى زوجته إذا كان ظالماً ومسيئاً، فيشعُر بقيمة الزوجة عند الفراق لها، فيحِن لها فيراجعها، فأَعْطَاه الله الرَّجْعَة، فإن رجع إليها رجع لها بعقلٍ غير عقله الذي كان معه، ويرجع إليها ببصيرة أكمل من بصيرته في حالِه الأولى، فإذا رجعت إليه ربما أخطأت هي، فإذا أخطأت عليه في هذه الحالة فإنه سيطلقها الطلقة الثانية، فأُعْطُوا أيضاً مهلة ثالثة، فإذا زادت عن الثالثة فلا وجه، فتصبح الحياة فيها نوع من الإضرار، وربما استغل الرجال الطلاق للإضرار بالمرأة، لذلك حدده الله عز وجل بثلاث تطليقات. فالطلقة الأولى لأن الخطأ إما أن يكون منه أو منها؛ فإن تكرر الخطأ منه في الثانية والثالثة، فلن تعود إليه حتى تكون عند زوجٍ غيره، فإذا عاشَرَت زوجاً غيره وطلقها الطلقة الثالثة أدَّبَه الشرع بأن تكون فراشاً لغيره، فيكتوي بنار الغيرة ويتألَّم ويتأوَّه، فإن كانت هذه المرأة عاقلةً حكيمة ووجدت زوجاً أصلح من الزوج الأول وبقيت معه وحمدت الله على السلامة من الأول، فعندها يكتوي الأول وينال عاقبة ظلمه وإضراره. فإن تزوج امرأةً ثانية؛ فإنه يتأَدَّب ولا يُقدِم على الطلاق ولا يهجم عليه؛ لأنه يخاف أن يحصل له مثل ما حصل مع الأولى، وإن نكحت هذه الزوجة زوجاً أضر منه وطلقها ثلاثاً فتحل للأول؛ فإن عادت للأول عادت وهي تحمد ضرره وقالت: هذا أرحم من سابقه، فصبرَت عليه، ثم هو يعود لها بنفس غير النفس التي كان عليها. فإذاً: تقييد الطلاق بالثلاث فيه حكم عظيمة؛ ثم إن الله سبحانه وتعالى من حكمته أن جعل الطلاق مخرجاً من المشاكل، فإن الحياة الزوجية لا تخلو من وجود المشاكل، إما بسبب اختلاف طبائع الناس، طبيعة الرجل وطبيعة المرأة، أو تكون باختلاف الطبائع ممن يحيط بالزوج والزوجة كأهله وقرابته وأهلها وقرابتها، وحينئذٍ تنشأ المشاكل بسبب هذا الاختلاف والتضاد، فيكون الطلاق حلاً لهذه المشاكل؛ لأن كلاً منهما يمضي لسبيله، ويلتَمِس عشيراً يُحسِن إليه ولا يسيء، ويكرمه ولا يهينه، ويكون منه ما يُقصد من النكاح. أما لو بقيت المرأة عند زوجها، ولم يكن للزوج مخرج بطلاقها فلا شك أنه أمرٌ عظيم، فلربما اطَّلع الرجل من امرأته -والعياذ بالله- على خيانة، أو على وقوعٍ في حرام، أو يكون يَطَّلع منها على أخلاق رديئة، تنتقل إلى أولاده وذرِّيته، فلو أن الشرع أَلزَمَه ببقائها، فإن هذا غاية الضرر على الرجال، ولتَرَك الكثير الزواج خوفاً من هذا؛ لأن المنهج التشريعي في شرع النكاح أن نقول: يبقى إلى الأبد، أو نقول: يبقى مؤقتاً، فأما بقاؤه مؤقتاً ففيه إضرار بالرجل والمرأة كما في نكاح المتعة، وقد ذكر العلماء الضرر فيه، وأما كونه يبقى إلى الأبد، فإنه في حال وجود المشاكل والأضرار يبقى النكاح مفسدةً بَدَلَ أنه مصلحة، فينقلب من المصالح إلى المفاسد والشرور. فالوسط أن يبقى النكاح إلى الأبد، ولكن يرتفع إذا وُجِد مُوجب ارتفاعه وذلك بالطلاق. ثم هذا اللفظ -لفظ الطلاق- عَظَّم الشرع أمره، وألزم المكلف أن يحذر منه، فحتى لو تلفظ به هازلاً أو مازحاً؛ فإنه يُؤاخَذ بهذا اللفظ، ويُعَاقب بمضي الطلاق عليه، فلو أن رجلاً قال لرجلٍ يمزح معه: امرأتي طالق، فإنها طالق ولو قصد الهَزَل، وكذلك لو جلس مع امرأته فأحب أن يمزح معها وقال هازلاً: أَنتِ طالق أو طلَّقتُكِ أو أنت مطلقةٌ فإنه يمضي عليه الطلاق، قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثٌ جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعتاق)، قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: (أربعٌ جائزاتٌ إذا تُكُلِّم بهن: النكاح والطلاق والعتاق والنذر)، فهذا يدل على عظم شأن الطلاق، ولذلك ينبغي للمسلم ألا يستعجل في الطلاق وأن يتريث فيه. وقد نص العلماء رحمهم الله على كراهية الطلاق إذا لم يكن من حاجة، وأنه كالمخرج عند إعياء الحِيل، وإذا تعب الزوج ولم يستطع علاج مشاكله، فإن الطلاق يكون مخرجاً من هذه المشاكل، وعلاجاً لهذه الأضرار، أما إذا كان من دون حاجة فقد نصوا على كراهيته وبُغضه في هذه الحالة. وقوله رحمه الله: (كتاب الطلاق) من عادة العلماء في كتاب الطلاق أن يبينوا أركانه، فيبينوا أولاً من الشخص الذي يملك الطلاق وله حق الطلاق؛ لأن الطلاق قد يصدُر من الأهل وقد يصدر من غير الأهل، كأن يصدر من صبي صغيرٍ، أو مجنون أو سكران أو مُكْرَه، فيبحثون مسائل الشخص الذي هو أهلٌ للطلاق. كذلك أيضاً يبحثون الركن الثاني، وهو لفظ الطلاق وصيغته، فيبينون ألفاظ الطلاق الصريحة، وألفاظ الطلاق الكناية، وألفاظ الطلاق التي تُعتَبَر من السنة، وألفاظه البدعية، ثم كذلك يبينون الألفاظ المعَلَّقة والمنجَّزَة إلى غير ذلك من مباحث الصيغ. وكذلك أيضاً يُبيِّن العلماء محَلَّ الطلاق وهي المرأة التي وقع عليها الطلاق؛ فإن الطلاق قد تُواجَه به المرأة التي هي زوجة المطَلِّق، وقد تواجه به أجنبية كأن يقول: إن تَزوجْتُك فأنت طالق، وأيما امرأةٍ تزوجتها فهي طالق، وأيما امرأةٍ أَعقِد عليها فهي طالق، وقد يُعمِّم وقد يُخصِّص هذا المحل. وقد اعتنى العلماء رحمهم الله ببيان المَحَل الذي يرد عليه الطلاق ويُحْكَم بصحة الطلاق إن ورد عليه، كذلك أيضاً اعتنى العلماء رحمهم الله في باب الطلاق ببيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته من حيث السنة والبدعة، فيقولون: هذا طلاقٌ سُنِّي لما وافق السنة، كأن يطلق المرأة المدخول بها في طُهرٍ لم يمسّها فيه طلقة واحدة فإنه يكون طلاقاً سُنِّياً، وكما قال ابن مسعود رضي الله عنه، وأُثِر عن علي أيضاً: (لا يطلق أحدٌ للسنة فيندم). فيبينون الطلاق المشروع الذي شرعه الله وبيَّنه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، والذي ينبغي للمسلم أن يلتزمه، وكذلك يبينون الطلاق البدعي والآثار المترتبة عليه كطلاق المرأة الحائض حال حيضها، وطلاق الثلاث بلفظٍ واحد، وهل يقع أو لا يقع، كل هذا يعتني به العلماء رحمهم الله في كتاب الطلاق، وبعد أن يبينوا الطلاق يشرعون في بيان آثار الطلاق، وهو باب العِدَّة وباب الرجعة، فيعتنون ببيان مسائل العِدَدْ ومسائل الرَّجْعَة، وكل ذلك اعتنى به المصنف -رحمه الله برحمته الواسعة- وكذلك إخوانه من العلماء، رحمهم الله أجمعين.

ثبوت الأحكام التكليفية الخمسة في الطلاق

ثبوت الأحكام التكليفية الخمسة في الطلاق قال رحمه الله: [يباح للحاجة ويكره لعدمها] في بداية الطلاق يرد Q ما حكم الطلاق؟ إذ هو مشروع، لكن هل هو مباح أو مشروع مع الكراهة أو هو مستحب أو واجب؟ هذه المسألة فيها تفصيل. ولذلك قال بعض العلماء: الطلاق تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة، فيكون مباحاً لوجود الحاجة، كرجل لم يرتح لامرأته ونَفِر منها ومن أخلاقها وطباعها فاحتاج إلى الطلاق؛ فإنه يكون مباحاً له أن يُطَلِّق، وإن صبر وتحمل فهو أفضل: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، وقد تكون المرأة بذيئة اللسان، أو عَصَبِيَّة المزاج، فيتضرر بهذه العصبية ويَحْدُث عنده نوعٌ من الضيق، ويكون محتاجاً للطلاق لكي يتخلَّص من هذا الضيق ومن هذا الضغط الذي يجده من عشرته لامرأته، فهو مُحتاج، فمثل هذا يباح له الطلاق، والمباح مستوي الطرفين، لا ثواب ولا عقاب، فلا أجر له إن طلق، ولا إثم عليه إن طلق. قوله: (ويُكره لعدمها) كأن تكون عنده امرأة مستقيمة وهو مرتاحٌ معها وأراد أن يطلق، فيقال له: الطلاق في حقك مكروه، وقال بعض العلماء: إنه يَحرُم إذا كان فيه ضررٌ على المرأة في هذه الحالة إذا لم يكن له حاجة، وكما أن المرأة لا يجوز لها أن تسأل الطلاق من زوجها من دون بأس؛ كذلك لا يجوز للرجل أن يطلق من دون بأس. وقد تكون الحاجة التي تبيح الطلاق ماسة، كأن يكون الرجل عنده أربع نسوة وهو شديد الشهوة، وأكثر نسائه كبيرات في السن، فأراد أن يُطَلِّق واحدةً لكي يتزوج فيحصِّن نفسه عن الحرام، فهذا مُحتاج وعنده حاجة فيُبَاح له، ونحو ذلك من المسائل. قال رحمه الله: [ويستحب للضرر] كالمرأة التي تُضِر بزوجها، فتؤذيه بلسانها وكلامها، فتضرَّر الرجل منها من ناحية أذيَّتها له، أو أذيتها لقرابته كأخواته أو بناته من المرأة السابقة أو نحو ذلك، فهذا كله مما يوجَد فيه الضرر عليه وتوجد بسببه الحاجة، فيُشْرع له أن يطلِّق، ويكون الطلاق مستحباً، أي: مندوباً إليه، والسبب في ذلك: أن الشّرع قَصَد رفع الضرر، فإذا كان بقاؤها فيه ضرر، وتطليقها يدفع هذا الضرر، فإن دفع الضرر مستحبٌ شرعاً، فالوسائل تأخذ حكم مقاصدها. كذلك يكون الطلاق مستحباً ومندوباً إليه، وذلك فيما إذا كان الرجل ضعيفاً والمرأة شابة، ولم يعطها حقها الذي يحفظها به من العفة، ويشعر أنه مضيقٌ عليها ومقتِّرٌ لها، وأنها إذا عاشرت غيره فإن ذلك أرحم بها وأَرْفَق، فيكون مستحباً له أن يدفع الضرر عنها، وهكذا إذا كانت عندها بعض المعاصي التي لا توجب الحكم بوجوب طلاقها؛ فإنه يكون مستحباً؛ لأنه ربما نقلت هذه المعاصي إلى ذرِّيتها وولده. قال رحمه الله: [ويجب للإيلاء] ويجب الطلاق إذا كان طلاقاً مبنياً على الإيلاء، فالرجل الذي حلف أنه لا يطأ أهله أو لا يطأ زوجته ومضى على حلفه أربعة أشهر وهو لم يقربها، وحَلَفَ على أربعة أشهر فأكثر، فإنه يُوقِفه القاضي عند تمام المدة، ويقول له: أنت بالخيار بين أمرين، إما أن تُكَفِّر عن يمينك وتطأ زوجتك؛ فحينئذٍ لا إشكال، وإما أن تطلق الزوجة، وتَبْقَى على يمينك من أنك لا تطؤها، أما أن تمتنع من فراشها أكثر من أربعة أشهر فلا: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:226 - 227]. فيخيِّره بين الأمرين. فهذا النوع من الطلاق يسميه العلماء: طلاق الإيلاء، وسيأتينا في باب الإيلاء، والإيلاء من آلى الرجل إذا حلف، فهو طلاقٌ منبنٍ على حلفه اليمين أنه لا يطأ زوجته، فحينئذٍ يكون الطلاق واجباً. كذلك يكون الطلاق واجباً إذا كانت المرأة فيها سوء وضرر، أو فيها فساد، وأمره أبوه أو أمرته أمُّه بتطليقها فوجب عليه البر؛ لأنه ليس في المرأة مانعٌ يمنع من طلاقها وهناك أمرٌ من الوالد، والأصل بر الوالدين، خاصة إذا كانت المرأة سيئة أو تقع في الحرام وتؤذي الوالدين، وبقاؤها فيه أذيةٌ للوالدين، فقال الوالد: يا بني طَلِّق امرأتك؛ فإنه يجب عليه طلاقُها بِراً لوالده ولوالدته، كما أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنه أن يُطَلِّق زوجته، وكما أمر إبراهيم عليه السلام إسماعيل أن يطلق زوجته، وكل ذلك ثابتٌ وصحيح. قال رحمه الله: [ويحرم للبدعة] يكون الطلاق حراماً إذا كان طلاقاً مخالفاً للشرع، كطلاق المرأة الحائض، فإن طلاق المرأة الحائض مُجمَعٌ على تحريمه، وأنه طلاق بدعة يأْثَم إن فعله، فلو قال رجلٌ لامرأته وهي حائض: أنت طالق؛ فقد ارتكب الحرام، وأثم لتلفظه بالطلاق في هذه الحال، فهو طلاقٌ مُحرَّم، أو كأن يُطلِّق في طُهْرٍ قد مَسَّ المرأة فيه، فإن طلق المرأة في طهرٍ جامعها ومسها فيه، فإنه يُعتبر طلاقاً للبدعة؛ لأن الله يقول: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الطلاق:1]، فقوله: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) أي: طلقوهن لقُبُل عِدَّتهن، وقُبُل العدة، أي: استقبال العِدَّة، وهذا إنما يكون في طهرٍ لم يجامعها فيه، فإن طلقها في طهرٍ جامعها فيه فإنه طلاقٌ محرَّم.

الأحكام المتعلقة بأنواع المطلقين

الأحكام المتعلقة بأنواع المطلقِين قال رحمه الله: [ويصح من زوجٍ] هنا مسألة: إذا كان الذي طلَّق قد عقد على المرأة فهي زوجته، ويتعلق بها الطلاق، ومفهوم ذلك أن غير الزوج لا يُطلِّق. أما كون الطلاق من الزوج؛ فإن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب:49]، فبينت هذه الآية أن الطلاق لمن نَكَح، فدل على أنه إذا كان زوجاً للمرأة فإنه يتعلق بها الطلاق، ويمضي عليها طلاقه. كذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق)، والمراد بذلك لمن نكح، إذ من أخذ بساق المرأة فله حق جماعها والاستمتاع بها، فقالوا: إن هذا يدل على أن الزوج هو الذي يملك الطلاق.

حكم طلاق الرجل للمرأة الأجنبية

حكم طلاق الرجل للمرأة الأجنبية طلاق الأجنبية يأتي على صورتين: الصورة الأولى: أن يطلق الأجنبية طلاقاً مُنَجَّزاً، كأن يقول لها: أنتِ طالق، أو كرجل أعزب يقول: زوجتي طالِق؛ فإنه لا ينفُذ طلاقه بإجماع العلماء. ولكن من خاطب امرأةً أجنبية وهو يعلم أنها أجنبية وليست بزوجةٍ له وقال لها: أنت طالق، واشتكت إلى القاضي فإن القاضي يُعزِّرُه ويؤدبه، ويعتبر هذا من أذية الناس والإضرار بهم، وتُعتَبر نوعاً من الإساءة، فيُعَزِّره بحسب حال المرأة التي خاطبها، وبحسبه هو. واختلف العلماء في صورةٍ يُلحقها بعض العلماء بهذه الصورة، وهي: أن يشير لامرأةٍ فيقول: هي طالق، ويُظنها زوجةً له، وتَبيَّن أنها ليست زوجته، أو خاطب أجنبيةً يظنها زوجته فقال: أنتِ طالق مني؛ فقال بعض العلماء: حُكْم هذا كحكم طلاق الأجنبية؛ وذلك لأنه علَّق الطلاق بالمعيَّن، وتبيَّن أن المعين خطأ ولا عبرة بالظن البيِّن خطؤه، وعلى هذا فلا يُعتد بهذا الطلاق؛ لأنه تعلق بأجنبية. الصورة الثانية: أن يُطلِّق طلاقاً معلَّقاً، ويُعلِّق الطلاق على نكاحه، فيقول: إن تزوجتُ فلانةً فهي طالق، فهي أثناء تَلَفُّظه بالطلاق أجنبية، وستصير زوجةً له، فعلَّق الطلاق بحالة إن صارت زوجةً له؛ فإن وقع معلقاً على مثل هذه الصورة وأشباهها، فلا يخلو تعليقه من حالتين: الحالة الأولى: أن يُعَلِّق الطلاق على النكاح بالتعميم، فيقول: كل امرأةٍ أتزوجها فهي طالق، وكل امرأةٍ أَعقد عليها فهي طالق، فالطلاق أثناء صدوره صدر من أجنبي، ولكنه معلقٌ على الزواج، فهل تطلق المرأة أو لا؟ سيأتي بيانه. الحالة الثانية: أن يَخُص، وإذا خصَّص فإما أن يَخُصَّ بالزمان أو بالمكان أو بالأشخاص أو بالأجناس. مثال التخصيص بالزمان: كل امرأةٍ أتزوجها هذه السنة، أو كل امرأةٍ أعقد عليها هذا الشهر أو هذا الأسبوع فهي طالق. مثال التخصيص بالمكان: كل امرأةٍ أعقد عليها في المدينة فهي طالق. مثال التخصيص بالأشخاص: كل امرأةٍ من فلانٍ إذا نكحتها فهي طالق، أو إذا تزوجتها فهي طالق. مثال التخصيص بالقبائل: أن يقول: إذا نكحت امرأة من قبيلة كذا فهي طالق؛ فإذاً إما أن يُعمم وإما أن يُخصِّص، وإما أن يُقيِّد وإما أن يُطلق، ففي جميع هذه الصور، اختلف علماء السلف رحمهم الله في هذه المسألة. فالقول الأول: أنّ من طلَّق الأجنبيةَ معلَّقاً لا يقع طلاقه ألبتة مطلقاً، سواءً كان طلاقاً معلقاً بزمان أو بمكان أو بأشخاص أو بقبائل، أو قُيِّدَ بهذا كله أو لم يُقَيَّد، وهذا القول احتج أصحابه بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب:49]، وإلى ذلك أشار الإمام البخاري في صحيحه أن الطلاق مرتَّبٌ على النكاح، فإن قال: كل امرأةٍ أتزوجها، فالعبرة به حال القول، فقد طلَّق وهو أجنبي فلا يقع طلاقه، كما لو قال لامرأةٍ أجنبية: أنتِ طالق، وكما قال الأعزب: امرأتي طالق، وزوجتي طالق. كذلك أيضاً استدلوا بالسنة من حديث عائشة رضي الله عنها: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق)، وقد حسن هذا الحديث غير واحدٍ من الأئمة والحفاظ رحمةُ الله عليهم، وهو حديث ثابت ويُحتَج به: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق)، فإن أسلوب الحصر والقصر، يدل على أن الطلاق يملكه من نكح، ومفهومه أنه لا يملكه من لا ينكح، ومفهوم الحصر مُعتبر، وكذلك أيضاً استدلوا بصريحٍ المنطوق في قوله عليه الصلاة والسلام -في الحديث الحسن في السنن- وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا طلاق فيما لا يملك، ولا عتق فيما لا يملك)، فنص عليه الصلاة والسلام على أن الطلاق لا يقع إذا كان المطلِّق طلَّق شيئاً لا يملكه وليس في عصمته. وعليه فإنه لا يقع طلاقه مطلقاً؛ ولأننا لو قلنا بوقوع طلاقه لحرَّمنا ما أحل الله، وتوضيح ذلك: أن الرجل إذا قال: أيما امرأةٍ أتزوجها فهي طالق، فمعنى ذلك أنه سيبقى بدون امرأةٍ ويحرُم عليه الزواج، فما من امرأةٍ يعقد عليها إلا حَرُمت عليه بمجرد العقد، فلا يستطيع أن يتزوج أبداً، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، فهذا يؤدي إلى محظور ومخالفة الشرع. ولذلك لما استأذن الصحابة -رضوان الله عليهم- رسول الله صلى الله عليه وسلم في التبتل نهاهم عن ذلك، وهذا يفضي إلى التبتل، بل هو أسوأ من التبتُّل، وعلى هذا قالوا: إنه لا يقع النكاح على هذا. فلو قال قائل: لماذا تفسدون قوله لو قيّد النكاح؟ نقول: إذا صححت الصيغة لصحَّت مقيَّدةً ومطلقة، والكتاب والسنة صريحان بأن الطلاق لا يتبع ولا يقع إلا بامرأة، أما الذين قالوا بوقوعه فقد استدلوا بصيغة الشرط وأنه اشترط فيما بينه وبين الله، وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنهما أنه قال: (إن عمَّم فلا، وإن خصَّص فنعم) يعني: إذا عَمَّم في قوله: أيما امرأةٍ أنكحها وأتزوجها أو نحو ذلك؛ فلا يؤاخذ بذلك، وإن خصص فيقع ويؤاخذ بذلك احتجاجاً بالأثر، ولا قول لأحدٍ مع نص الكتاب والسنة. ولذلك الذي يترجح هو القول بعدم وقوع الطلاق على الأجنبية مُعلَّقاً أو منَجَّزاً، عمَّم أو خصَّص، فلا بد في الطلاق من وجود المحل المعتبر، وهي المرأة التي ثبت أنها في عِصمة المطلق.

حكم طلاق الصبي والمجنون

حكم طلاق الصبي والمجنون قال المصنف رحمه الله: [ويصح من زوج مكلفٍ، ومميز يعقله] قوله: (مكلف) يكون بالبلوغ والعقل، فالصبي غير مكلف، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة) وذكر منهم: الصبي، والمجنون كذلك، فقد أجمع العلماء على أن المجنون لا يصح طلاقه إذا وقع طلاقه حال الجنون، يَستوي في ذلك أن يكون جنونه متقطعاً أو مستديماً؛ فإن كان جنونه مستديماً فلا إشكال، وإن كان متقطعاً، وثبت أنه طلق في حال وجود الجنون فالجماهير على عدم وقوعه، وخالف بعض أئمة الحنفية فقالوا: يقع لاشتباه أن يكون أفاق عند الطلاق، وقالوا: إنه إذا كان يجن تارة ويفيق تارة وخاطب المرأة، فإن معنى ذلك أنه عَقَل أنها امرأته وزوجته، قالوا: فينفُذُ الطلاق لهذا، والصحيح ما ذكرناه، والإجماع على أن الأصل في المجنون أنه لا ينفُذُ طلاقه. وأما بالنسبة للصبي، فالصبي ينقسم إلى قسمين: صبيٌ غير مميز وصبيٌ مميز، والصبي مأخوذٌ من الصِّبا، والصبا ضدّ البلوغ والحلم والرجولة، فكمال الرجولة بالحلم والبلوغ. والصبا له حالتان، الحالة الأولى: أن يكون مع التمييز، والحالة الثانية: يكون بدون تمييز، واختلف العلماء في ضابط المميِّز وغير المميِّز، فبعضهم يقول: الصبي المميِّز يُحَد بالسنوات، وحَدُّوه في مسألة الطلاق -كما هو قول عطاء، وطائفة من السلف ورواية عن الإمام أحمد - بعشر سنين، وهناك أيضاً قولٌ لبعض السلف أنه اثنتا عشرة سنة، وقولٌ بتسع سنين، هذه ضوابط المميز في الطلاق، وهناك تمييز في الصلاة الذي هو سبع سنوات، وهذا له حكم خاص، وبناءً على ذلك يُنتبه إلى أن كلامهم في الذي لم يبلغ، يعني لم يحتلم ولم يُنزِل المني، أما لو بلغ وأنزل واحتلم فهو رجل، لا يُقال: صَبي. فإذا كان في طور الصبا قبل أن يحتلم ويُمني، وقبل أن يصير رجلاً مكتمل الرجولة؛ فإنه إن كان دون سن التمييز فبالإجماع أنه لا يقع طلاقه. صورة المسألة: رجلٌ عنده ولد عمره ست سنوات وآخر عنده بنت عمرها خمس سنوات، فقال: يا فلان! زوِّج بنتك لابني، فاتفقا على تزويج البنت من الابن وتم العقد، فهذا زوجٌ لهذه الزوجة، فقال هذا الصبي: زوجتي طالق فلانة طالق أغضَبَته فطلقها، فما الحكم؟ إذا أغضبته فطلقها، فطلاقه وعدمه على حدٍ سواء؛ لأنه دون سن التمييز، لكن إذا بلغ اثنتي عشرة سنة وميَّز الأمور؛ فللعلماء فيه وجهان: جمهور السلف والأئمة والعلماء على أنه لا يقع طلاقه حتى يبلغ، وقال بعض السلف ك عطاء، وأيضاً رواية عن أحمد رحمةُ الله عليه وقول بعض أصحاب الحديث أنه ينفُذ طلاقه، والصحيح أنه لا ينفذ طلاقه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة)؛ فبيَّن أنه غير مُؤاخذ، وبناءً عليه فإن نقصان العقل فيه يجعله لا يدرك ما يقول؛ ولذلك قال الله في السكران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]، والصبي لا يعلم عواقب الطلاق كما ينبغي، ولا يعلم عواقب الكلمة كما ينبغي، ولو كان مُمَيِّزاً فإنه ليس عنده عقل يحجُره ويمنعه عن قول ما فيه ضررٌ عليه، وإذا كان الصبي منعه الله من التصرُّف في ماله خشية الضرر؛ فإنه إذا طلَّق فوَّت مالَه وهو المهر، وهذا يُقَوِّي أنه لا ينفذ طلاقه. فقول الجماهير بأن طلاق الصبي لا ينفذ هو الأصح والأشبه والأقوى إن شاء الله تعالى. إذاً: لا يصح الطلاق إلا من زوج، فلا يصح من أجنبي، فلو أنه -مثلاً- طلَّق المرأة وخرجت من عِدَّتها فطلقها، فإنها إذا خرجت من عِدَّتِها أجنبية ولا ينفذ طلاقه. ولا بد أن يكون هذا الزوج مكلفاً، وهو الشرط الثاني، والتكليف: البلوغ والعقل، فلو طلق الصبي لم ينفذ طلاقه، مميِّزاً كان أو غير مميز، ولو طلَّق المجنون لم ينفذ طلاقه، سواءً كان جنونه متقطعاً أو مُطبِقاً بشرط أن يكون الطلاق حال الجنون.

حكم طلاق السكران

حكم طلاق السكران قال المصنف رحمه الله: [ومن زال عقله معذوراً لم يقع طلاقه] قوله: (ومن زال عقله) هذا مُفَرَّع على قوله: (مكلَّف). فالتكليف يستلزم وصفين: البلوغ والعقل. فمفهوم الشرط في قوله: (مكلف)، أنه إذا كان غير مكلفٍ لا يقع كما ذكرنا، قلنا: يزول العقل بالجنون أو بالسكر، والمسْكِر والمخَدِّر حكمهما واحد من حيث تفصيل العلماء. أما إذا كان سكراناً زائل العقل فله صورتان: الصورة الأولى: أن يكون سُكْرُه وزوال عقله على وجهٍ مأذونٍ أو معذورٍ به شرعاً، مثل أن يشرب عصيراً فيَتبين أنه خمر، فمثل هذا يسمى بالسكران المعذور في سكره، فهذا يُعذر، ويُنَزَّل منزلة المجنون ولا يؤاخذ، وحُكِي الإجماع على هذا كما حكاه الإمام ابن قدامة رحمه الله على أن السكران المعذور تسقط عنه المؤاخذة في جملة المسائل. كذلك أيضاً في حكم المعذور ما يقع في التخدير، فلو أنه وُضِع المخدر في شرابٍ وهو لا يدري؛ فإنه إذا شربه وتكلم بالطلاق وتلفظ به لم ينفذ الطلاق. كذلك أيضاً المخدِّر الجراحي، مثل ما يقع في العمليات الجراحية، حيث يُوضع المخدِّر في العملية الجراحية فإذا جاء قبل الإفاقة يتكلم ويتلفظ فتلفظ بتطليق نسائه، أو بطلاق زوجته فإنه لا ينفُذ؛ لأن تخديره كان على وجهٍ معذورٍ فيه شرعاً. وهذا نص عليه جماهير العلماء، كالإمام ابن قدامة والإمام النووي وغيرهم رحمةُ الله عليهم: أن السكران زائل العقل إذا كان زوال عقله بسبب يُعذر فيه شرعاً أنه لا ينفذ طلاقه. الصورة الثانية: أن يكون سُكره وزوال عقله على وجهٍ لا يُعذر فيه شرعاً، وهذا مثل -والعياذ بالله- من يشرب الخمر عالماً بها معتدياً لحدود الله عز وجل. فللعلماء في السكران إذا طلق حال سكره قولان: القول الأول: لا ينفُذ طلاقه ولو كان متعمداً للسكر، وهو مذهب الظاهرية وطائفةٍ من أهل الحديث ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع. والقول الثاني: وهو مذهب الجمهور أن السكران المتعمِّد للسكر ينفذ عليه طلاقه. واحتج أصحاب القول الأول -أن السكران الذي لا يُعذَر في سُكره لا ينفذ طلاقه- بدليل الكتاب والسنة. أما دليل الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] فدلَّت هذه الآية الكريمة على أن السكران لا يعلم ما يقول، وإذا كان لا يعلم ما يقول كان كمن يهذي بما لا يعلم، فهو غير مطَلِّق حقيقة، وعليه قالوا: لا ينفُذ طلاقه. واستدلوا بالسنة: ومن ذلك ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه أسقط المؤاخذة في قول السكران، وذلك ما جاء في الصحيحين من حديث حمزة رضي الله عنه وأرضاه، أنه لما كانت الخمر حلالاً شربها في أول مقدمهم إلى المدينة، وكان علي رضي الله عنه قد أعد مهر فاطمة لكي يدخل بها، وكان له بعير شارِف، فأناخه بباب حمزة رضي الله عنه ثم ذهب، فشرب حمزة فثمِلَ في شربه، فغنته الجارية، فانتشى رضي الله عنه، فجَبّ سنام البعير، فجاء علي رضي الله عنه ورأى ما هاله، فذهب يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء عليه الصلاة والسلام ووقف على عمّه حمزة فوبخه وقرعه، فرفع حمزة رأسه إليه وقال مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنتم إلا عبيدٌ لآبائي) ولما قال هذه الكلمة تنبه عليه الصلاة والسلام أنه سكران، ولم يكن يعلم أنه سكران، فلما قال هذه الكلمة -كما في الرواية- رجع عليه الصلاة والسلام القهقرى، ولم يؤاخذ حمزة بهذه الكلمة؛ لأن هذه الكلمة لو قالها رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم لكفر؛ لأن المقصود بها السخرية والحط من القدر، فلما قالها وهو في حال سكره لم يؤاخذه النبي عليه الصلاة والسلام بها. ونص العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط المؤاخذة بالرِّدّة في حال السكر، والردة قول، ولم يؤاخذه مع أنه سكران، لكن ردوا على ذلك بأن حمزة كان معذوراً في سكره، حيث كان الخمر مُبَاحاً، ورُدّ على ذلك بأن المؤاخذة مرتبطة بالعقل والإدراك، وليست القضية قضية كونه مباحاً أو محرماً. كذلك قالوا: إن الأصل يقتضي أن التكاليف منوطة بالعقل، والتكاليف من حيث المؤاخذة وعدمها تكون مرتبطة بالعقل، والسكران لا عقل له. والظاهر أن السكران يمر في سكره بثلاث حالات، ينبغي فيها التفريق في الحكم على ما يبدر منه في كل حالة على حده، وهذه الحالات هي: الحالة الأولى: أن يكون في بداية الهزة والنشاط والنشوة. والحالة الثانية: أن يكون في غاية السكر، وهي التي يسقط فيها كالمجنون، لا يعرف السماء من الأرض، ولا يفرق الأشياء ولا يميزها تماماً كالمجنون. والحالة الثالثة: أن يكون بينَ بين، يصحو ويلغو، ويكون عنده تمييز وعنده تضييع. فأما الحالة الأولى: وهي بداية الهزة والنشاط، فمن شرب الخمر وكان في بداية الهزة والنشاط والفرح وطلَّق، فبالإجماع ينفُذ عليه الطلاق؛ لأنه في هذه الحالة لا يزول عنه الشعور، بل يكون مالكاً لنفسه، وهذا الحكم سارٍ على جميع الأحكام القولية والفعلية، فلو قتل أو زنى أو فعل أي شيء وهو في بداية الهزة والنشاط مالكاً لنفسه؛ فإنه يُؤاخذ. الحالة الثانية: إن كان في غاية السكر وهي نهايته المطبقة التي يسقط كالمجنون، لا يفرق تماماً بين الأمور، ولا يعرف السماء من الأرض، فقالوا: إن هذا لا يؤاخذ، وجهاً واحداً عند العلماء، وعند أصحاب القولين أنه يكون كالمجنون. الحالة الثالثة: هي الحالة الوسط وهي ما إذا كان السكران أحياناً يقول شيئاً صحيحاً وأحياناً وشيئاً خاطئاً، ويكون عنده تمييز وتضييع. وفي هذه الحالة اختلف العلماء في وقوع الطلاق، فمنهم من يقول: يقع طلاقه؛ لأن الأصل فيه أنه مُفِيق؛ فإذا كان في حالة لم يصل فيها إلى الجنون يقولون: نستصحب حكم الأصل -أنه مفيق- فينفذ عليه الطلاق. وأما الذين قالوا: إنه لا ينفذ عليه الطلاق، قالوا: إنه بدخوله الحالة الوسط هذه دخل في حالة الخلط، واختلط علينا أمره ولم نميز حاله، ولما كانت حالة غياب العقل والتأثير فيه والشبهة قائمة وموجودة؛ فإننا نعمل الأصل أنها زوجته، ولا نطلِّقها إلا بيقين، وإذا شككنا في هذا الطلاق، هل هو صادر عن قصد أو غير صادر عن قصد، وهو إذا عَقَل ورجع إلى صوابه إن أراد أن يطلِّق طلَّق، قالوا: ففي هذه الحالة وهو مختلِط فالأصل أنها زوجته، ونَشُك في تأثير هذا الطلاق فنسقِط هذا التاثير ونبقى على الأصل، هذا وجه التردد في الحالتين. أما الذين قالوا: إنه ينفذ، فإنهم استدلوا بدليلين: الدليل الأول: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب:49]، فاستدلوا بعموم الآيات في الطلاق، قالوا: إن الله عز وجل جعل الحكم مرتباً على وجود اللفظ، ولم يفرق بين من يعيه وهو الصاحي وبين من لا يعيه وهو السكران. الدليل الثاني: قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثٌ جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعتاق). فجعل الهازل الذي لم يقصد الطلاق مؤَاخذاً بقوله، فالسكران قَصَد أو لم يقصد نؤاخذه بقوله كالهازل. والذي يترجح -والعلم عند الله- هو القول بعدم وقوع طلاق السكران؛ وذلك إذا كان سكره مغيِّباً لعقله، لصحة ما ذكروه من أدلة الكتاب والسنة، والأصل كونها زوجةً له، وفي عصمته، فلا تبين من عصمته إلا بدليلٍ قوي. ومن أقوى ما يرجح قولهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الحسن: (لا طلاق في إغلاق) وهو يشمل السكران والغضبان الذي أطبق عليه الغضب فاستغلقت عليه الأمور، والسكران تستغلق عليه الأمور؛ لأنه بوجود الخلط فيه لا شك أنه يتلفظ بما لا يحب أن يتلفظ به، وشُبهة السكر فيه قوية، وقد أسقط النبي صلى الله عليه وسلم المؤاخذة بقول السكران، ودلّ دليل الكتاب على أن السكران لا يعي ما يقول. وبناءً عليه، فإنه يقوى قول من قال: إن السكران لا ينفذ طلاقه. قوله: (من زال عقله معذوراً لم يقع طلاقه)، مثل المخدر في العملية الجراحية، ومثل من وضع له مخدر وهو لا يعلم، مثل من سكر بشرابٍ يظنه عصيراً فبان خمراً فهذا معذور. قوله: (وعكسه الآثم) أي: أن من شرب الخمر آثماً متعمداً عالماً فإنه ينفذ طلاقه.

مقدمة كتاب الطلاق [2]

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الطلاق [2] الأصل أن الطلاق لا يكون إلا من الزوج في الحال العادية، وقد تطرأ طوارئ على الزوج فيطلق، فبحث العلماء رحمهم الله حكم الطلاق في هذه الأحوال الطارئة، لأهمية هذا الباب وخطورته.

أحكام طلاق المكره

أحكام طلاق المكره بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومن أُكرِه عليه ظلماً بإيلام له] قوله: (ومن أكره عليه) الإكراه يَفسُد به الاختيار، فالشخص المُكْرَه يُصْرَف إلى الشيء بدون اختياره ورضاه؛ ولذلك قالوا: الإكراه يفسد الاختيار. وقوله: (ومن أكره عليه) أي: من أكره على الطلاق ظلماً فلا يقع، لأن الشريعة أسقطت تأثير الإكراه في أعظم الأشياء -الردة- وحد الردة حق لله عز وجل، قال سبحانه وتعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فلما أكره عمار -رضي الله عنه وعن أبيه- وقال كلمة الكفر وتلفَّظ بها وقلبه مطمئنٌ بالإيمان؛ أَسقط الشرع تأثير هذا اللفظ بوجود الإكراه. فدل على أن الإكراه يُفْسِد ويمنع المؤاخذة، وهذا أصل عند العلماء. ولذلك قال الإمام ابن العربي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: إنها أصلٌ عند أهل العلم في إسقاط المؤاخذة عن المكره؛ لأنه إذا لم يؤاخذ بالردة وهي أعظم ما يكون فمن باب أولى ألا يؤاخذ على غيرها. لكن الإكراه له ضوابط وله شروطٌ لا بد من توفرها لكي نحكم بكون الإنسان مكرهاً، وقد جعل العلماء مسألة طلاق المكره مسألة مميزة في كتب العلم وكتب المطولات في الفقه، يذكرون فيها شروط الإكراه وأحواله ومتى يُحكم بكون الإنسان مكرهاً، ومتى يحكم بكونه غير مكره، فمسائل الإكراه في أبواب الفقه كلها مربوطة بشروط الإكراه؛ ولذلك لا نحكم في مسألة طلاق المكره حتى نعرف ما هي شروط الإكراه التي ينبغي توفرها للحكم بكون الإنسان مكرهاً.

حكم الإكراه بحق على الطلاق

حكم الإكراه بحق على الطلاق فقال رحمه الله: (ومن أكره عليه) أي: على الطلاق، (ظلماً) فالإكراه ينقسم إلى قسمين: إكراهٌ بحق، وإكراه بغير حق، فالإكراه بالحق: أن يُهَدَّد ويُضغط عليه حتى يطلق المرأة وقد وجب عليه طلاقها، هذا إكراه بحق، مثل القاضي في حال الإيلاء، حينما يقول للزوج: إما أن تكفر عن يمينك وترجع إلى زوجتك وإما أن تطلقها؛ فإنه إذا طلَّقها في مجلس القضاء بالضغط عليه؛ فإنه مُكرَه، لكنه مكرَه بأمر الله ورسوله، فهو إكراه بحق. وهكذا لو ثبت عند القاضي أن هذا الزوج أضر بالزوجة وظلمها ظلماً بيِّناً بحيث يستحق مثلها أن تطلَّق عليه، كما لو أقر أنه أتاها في دبرها أو فعل بها فعلاً تستحق به أن تُطَلَّق فسألت طلاقها، فجاءت إلى القاضي، فقال: لا أُطَلِّق، يُلزِمه القاضي بالطلاق، فأكرَهَه على الطلاق وألزَمَه به بحق. أما بالنسبة لمن أكره عليه ظلماً، كرجل لا تستحق امرأته أن تطلق عليه، وهُدِّد إضراراً به أو إضراراً بالزوجة لكي يطلقها، كرجلٍ يريد أن ينكح امرأةً وهي مزوجة، فجاء لزوجها وهدَّده أن يطلقها، وطلقها تحت تهديده وضغطه، فأكرهه على الطلاق فهذا مكرِه وظالم، فعندنا مُكْرَه ومُكْرِه، وشيءٌ يتحقق به الإكراه، فالمكرِه -وهو اسم الفاعل- ينبغي أن يكون ظالماً حتى نُسقِط الطلاق. أما إذا كان بحق، فلا نسقِط، فلو أن أخا المرأة جاء إلى زوج أخته التي أضر بها وظلمها ظلماً تستحق معه أن تُطَلَّق وهدده قال: الآن تطلقها، وطلقها نفذ عليه الطلاق؛ لأنه مكرَه بحق، هذا بالنسبة لقضية الإكراه بحق؛ لكن بعض العلماء يقولون: الإكراه بحق لا يقع إلا في حكم القضاء. قوله: (ظلماً بإيلامٍ له) الشرط الأول: أن يكون الإكراه بغير حق، والشرط الثاني: أن يكون ما هُدِّد به مؤلماً، بحيث لا بد أن يكون هذا الشخص الذي هو الزوج وصل إلى درجة الإكراه، وهذا يقتضي تعذيبه في نفسه أو ولده أو من يتعذب به، كمالِه يُتلف ويُحرق أو نحو ذلك، فيُهَدد بشيء فيه ضرر، لكن لو هُدِّد بشيء ليس فيه ألم ولا ضرر عليه، كأن يقال له: طلِّق امرأتك وإلا أخذت هذا الريال منك، فأين الريال من طلاق المرأة؟ فقال: أنا مكرَه، نقول: هذا ليس بإكراه؛ لأن الريال ليس بضرر بالنسبة له؛ لكن لو كان الريال له قيمة عظيمة في بعض الأزمان وله شأن فهذا شيءٌ آخر، لكن إذا كان أمراً لا يصل إلى حد الإيلام فلا يتحقق الإكراه، فلا بد وأن يكون مؤلماً.

أحوال الإكراه من جهة الوقوع وعدمه

أحوال الإكراه من جهة الوقوع وعدمه الإكراه في الحقيقة له حالتان: الحالة الأولى: أن يجعل الشخص تحت الألم ويحس بالألم، فهذه الحالة لا يُشك أنه صار فيها مكرهاً. الحالة الثانية: أن يُهَدد بشيء، فهناك صورتان: الصورة الأولى: يُهدد، ويكون تحت نار العذاب مثل أن يُخنق، وخُنق ووجد ألم الخنق، وغلب على ظنه أنه إذا استمر الخنق مات، وهلك، فهذا مكرَه، ولا نقول: انتظر حتى تصير في الغرغرة أو تقارب الموت؛ لأنه إذا صار في الغرغرة قد لا يستطيع أن يتكلم؛ ولذلك قالوا: لا يشترط في الضرورة والإلجاء أن يصير إلى حد الهلاك، بل يكفي غلبة الظن كما قرره ابن جزي في قوانين الأحكام وبعض أئمة التفسير في آيات الميتة. فأنت إذا غلب على ظنك حصول ما هددت به فهذه حالة، أما إذا كنت تحت الوضع الذي فيه الألم، مثل أن يسخن الحديد في النار ويوضع على جسده فيتألم فحينئذٍ أصابه الألم فإذا قيل له: طلق فطلَّق، فهذا هو الذي وقع لـ عمار فمُسّ بعذاب، فإن وصل المكرَه إلى حالة الإكراه بمس العذاب فهو مكرَه، وجهاً واحداً عند العلماء، على تفصيل في العذاب الذي يعذب به أو يكره بسببه. الصورة الثانية: أما لو هُدِّد ولم يُفعل به شيء ففيه خلاف، جاء عن أحمد ما يدل على أنه ليس بمكره؛ ولذلك لما وقعت فتنة خلق القرآن، امتنع -رحمه الله برحمته الواسعة- وأصرّ على قول الحق، وذاق ما ذاق من الصبر على السنة والحق، وكان الإمام أحمد قبل ذلك ليست له تلك الشهرة، وإن كان إماماً عظيماً معروفاً -رحمه الله برحمته الواسعة- بإمامته وجلالة قدره، لكن لما حدثت الفتنة، وسُئِل الناس والعلماء وفتنوا بها، أخذ بعض العلماء بالرخصة، فمنهم من كان يُوَرِّي، ومنهم من كان يظن أنه مكره فيتلفظ باللفظ وهو منكِرٌ بقلبه، ومنهم من يقول: الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن هذه مخلوقة ويشير إلى أصابعه الأربعة، ويقصد أنها مخلوقة ولا يقصد القرآن، وهذه تَورِيَة فيمضي لحاله ويسلم؛ لأنهم يأخذون منه بظاهره. ومنهم من كان يعتبر أنه مُكرَه فيقولون: القرآن مخلوق؟ يقول: القرآن مخلوق. فأخذ على أنه مُكرَه وأنه إذا لم يقل بذلك سيُضَر، وأصر الإمام أحمد رحمةُ الله عليه، وأُوذِي وذاق من العذاب ما ذاق، فجعل الله عز وجل الناس كلها تنتظر ماذا يقول الإمام أحمد، يعني نُسِي غيره وبقي الإمام أحمد، حتى أنه لما أتاه بعض أصحابه يراجعه في ضيقه رحمه الله ويقول له: خذ بالتوسعة والرخصة، فقال له: قُم، فقام فأراه الناس وهم في السكك قد يقاربون المائة ألف ينتظرون فتوى الإمام أحمد، وما أوذي أحدٌ في طاعة الله عز وجل إلا أقامه الله مقام أعز من ذلك المقام كما قال عروة: (والله ما أوذي أحدٌ في حق الله عز وجل إلا أقامه الله عز وجل مقاماً خيراً منه). فالشاهد أنه رحمه الله أصر على قوله، فلما دخلوا عليه في الفتنة، وجاء ابن معين فسلَّم عليه، فرد عليه السلام وأعرض عنه وأشاح بوجهه، فصار يقول: حديث عمار حديث عمار، أي: إننا مكرهون، فلما لم يجبه الإمام أحمد بشيء، قام ابن معين من عنده وصار عند الباب، فسمع الإمام أحمد يقول: يقولون: حديث عمار، إن عمار مُسَّ بعذاب ولم يُمسُّوا به، فقال ابن معين: ما تحت أديم السماء أفقه منه -يعني: من الإمام أحمد - رحمةُ الله على الجميع. وقد ضبط العلماء الإكراه بقولهم: أنه ما ينعدم به الرضا ويفسد به الاختيار، فالإكراه حالةٌ ينعدم معها رضا الإنسان بالشيء ويفسد اختياره له، فالذي يُكره على الطلاق ليس براضٍ به؛ وكذلك يفسد اختياره وهو لا يطلب ذلك الشيء ولا يحبه ولا يرغب فيه، وقد ذكر العلماء -رحمهم الله- جملةً من الشروط لا بد من توفرها لكي نحكم بكون الإنسان مكرهاً، وطلاقه آخذاً حكم طلاق المكره، وهذه الشروط منها ما يرجع إلى الشخص المُكْرَه، ومنها ما يرجع إلى الشخص الْمُكْرِه، وهو الذي يهدد ويطلب الطلاق، ومنها ما يرجع إلى اللفظ الذي يتلفظ به الْمُكْرَه.

أحوال الإكراه من جهة الإلجاء وعدمه

أحوال الإكراه من جهة الإلجاء وعدمه إذا وصفت الإنسان بكونه مكرهاً فهناك حالتان: الحالة الأولى: أن يكون مكرهاً على وجهٍ لا يمكن بحالٍ أن ينصرف عنه إلى غير المطلوب منه، وهذا يسميه العلماء: الإكراه التام، والإكراه الملجئ، بمعنى: أن يوقع الشيء الذي يُطلب منه ولا يستطيع أن ينفك عنه بحال، وذكروا لذلك مثالاً: لو أن شخصاً رُبطت يداه وكتف ولم يستطع الحركة، ثم رُمي على غيره فمات، فإنه قد قتل غيره بدون اختيار، والإكراه في هذه الحالة ملجئ وتام؛ لأنه ليس للشخص أي حيلة في دفع ما طُلِب منه وما أكره عليه. الحالة الثانية: الإكراه الناقص، فيكون عنده نوع اختيار ويطلب منه شيء ويهدد بشيء، ولا يكون فيه إكراه إلا إذا كان الشيء الذي يُهدد به ويقهر به مؤلماً ومضراً، أو متلفاً لجزء من أجزاء بدنه، متلفاً لماله، متلفاً لولده، متلفاً لمصلحة من مصالحه، بشرط أن تكون هذه المصلحة فواتها أعظم من الطلاق، فهي مؤلمة أو مضرة؛ لكنه يستطيع أن يصبر عليها، فهو بين الأمرين بين أن يطلق وبين أن يرضى بالضرر، فهو ليس بإكراه ملجئ، يعني: ليس كالشخص الذي ينصرف انصرافاً تاماً إلى ما هدد به، وإنما عنده نوع من الخيار، فهو خيارٌ في الظاهر لكن وجود الألم والقهر يفسد الاختيار الطبيعي؛ ولذلك قال رحمه الله: (بإيلامٍ). إذاً لا يكون الإكراه إلا إذا كان هناك شيءٌ مهددٌ به، وهذا الشيء يشترط فيه أن يكون له وقع ضرر؛ ثم فصل العلماء وقالوا: الضرر يختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة، فلربما هُدد شخصٌ بضرر في زمان يكون يسيراً وفي زمان يكون عظيماً. فلو أن شخصاً في مجاعة قيل له: إذا لم تفعل هذا الشيء؛ فإننا نأخذ طعامك، فإنه لا شك أنه ضررٌ عظيم، ولكن إذا كان هناك بديل وأمكنه أن يصبر وهو في شبعه وريه، فيكون الإكراه أخف. فإذاً: لا تستطيع أن تحدد شيئاً معيناً إلا بالضابط، فتقول: الضابط في ذلك وجود الضرر؛ وهذا الضرر يشترط فيه أن يكون أكبر وأكثر من الطلاق، يعني: أضراره ومفاسده وشروره أعظم من الطلاق. قوله رحمه الله: (بإيلامٍ) كأن يجرح بسلاح ونحوه؛ لأن السلاح له ألم، فالألم إما أن يكون حالاً أو يكون متوقع الوقوع، كأن يخير بين أن يطلق أو يضرب ضرباً، ويحصل له الضرب، فهذا هدد بإيلامٍ وطلب منه الطلاق، وتألم فعلاً ودخل في حكم الْمُكْرَه، وتارةً يهدد بالضرر يقال له: إذا لم تطلقها نضربك، ففي حالة إذا كان مهدداً بشيء يوقع عليه، فينبغي ويشترط أن يغلب على ظنه أنه يقع به ذلك الشيء، فلو علم أنه يمكنه الفكاك أو أن الشخص الذي هدده لا يفعل إنما يتكلم فقط؛ فإنه لا يكون في هذه الحالة مكرهاً، وقد سبق التنبيه على ذلك. قوله: (ولولده) هناك شيءٌ يستضر به الإنسان ليس في نفسه، وإنما قد يكون في أهله وولده كزوجته وأبنائه وبناته؛ بل إن من الناس من يتألم لولده أكثر من تألمه لنفسه، ومن الناس من إذا أوذي واستضر في بدنه صبر واصطبر وتحمل المشاق العظيمة؛ لكن ما إن يُمس بشعرة في ولده إلا وضعف أمام ذلك، فإذاً لا يقتصر الحكم على أن يكون الضرر في نفسه، بل يشمل أن يكون في أهله وولده. قوله: (أو أخذ مالٍ يضره) أن يُؤخذ منه المال، وحينئذٍ يقع عليه ضرر، وتصيبه مصيبة فادحة، يقال له: إن لم تطلق زوجتك؛ نحرق مالك أو نفسده، أو لا نعطيك مالك، وهم قادرون على ذلك فإنه يكون مهدداً بالمال، فإن كان المال يسيراً، وله عنه غناء، لكونه غنياً مليئاً لم يقع الإكراه، يقال له: إن لم تطلق زوجتك نأخذ منك عشرة آلاف وهذا لا يؤلمه؛ لأن العشرة الآلاف عنده كالشيء اليسير، فمثل هذا لا يكون مكرهاً بهذا الشيء، وفوات هذا الشيء ليس بذاك، فإذاً لا بد وأن يكون الضرر له وقعٌ في النفس، فكما أن الألم الحسي ينبغي أن يكون له وقعٌ في النفس، كذلك الألم المعنوي. قوله: (أو هدده بأحدها قادرٌ يظن إيقاعه به). يشترط هذا الشرط الذي يتعلق بالمهدد، فعندنا: مُكْرَه وهو المطلوب منه الطلاق، وعندنا مُكْرِه وهو الذي يطلب الطلاق ويهدد، وعندنا شيءٌ يتحقق به الإكراه وهو الضرر، هذه ثلاثة أمور ينبغي التنبه لها. وفي الأخير يأتي اللفظ الذي يتلفظ به ويقوله من الطلاق، فأما بالنسبة للشيء الذي يُهدَد به أو الشيء الذي يكون به الإنسان مكرهاً مما يهدد به فقلنا: ضابطه الضرر، وأما بالنسبة للشخص الذي يهدِد وهو اسم الفاعل الْمُكْرِه، فهذا يشترط فيه: إما أن يفعل بداية الإكراه، كأن يمس بعذاب، فإن فعل ذلك لا إشكال، وإن لم يفعل فبعض العلماء يقول: ليس بمكره حتى يبدأ بالفعل وهذا مذهبٌ ضعيف، وإذا لم يفعل فالصحيح: أنه إذا غلب على ظن الإنسان أنه سيفعل؛ فإنه يكون في حكم من فعل، فالشخص إذا كان -مثلاً- شريراً، أو شخصاً معروفاً بالضرر والأذية، وأنه إذا قال فعل، فمثل هذا بمجرد أن يهدد فإن تهديده كافٍ للحكم بكون الْمُكْرَه مكرَهاً، وعلى هذا فلا يشترط أن يُمس بعذاب. قوله: (قادرٌ) فلو أن امرأةً قالت لزوجها: طلقني، وأمسكت بسلاحٍ يعلم أنها لا تحسن القتل به، فقالت: إن لم تطلقني قتلتك، وهي لا تحسن الرمي به، ولا تعرف كيف تستعمله، ولربما فزعت لو أنها استعملته، فمثل هذا يعد تهديداً من غير قادرٍ، فالمهدِد والْمُكْرِه ينبغي أن يكون قادراً على فعل ما هدد به. فإذا كان غير قادرٍ في نفسه أو غير قادرٍ لقدرتك عليه، كأن يكون هذا الشخص الْمُكْرِه في وضع يمكنك أن تدفع ضرره، أو في وضعٍ يمكنك أن تنجو منه بإذن الله عز وجل، فلا تكون مكرَهاً، فلو أن شخصاً هدد شخصاً أن يطلق زوجته، وهدده بقتله وأمكنه أن يفرَّ عنه، أو يستغيث بالغير فيغيثه بإذن الله عز وجل فإنه ليس بمكرَه. إذاً لا بد أن يكون قادراً على الفعل، ولا يمكنك الفكاك ودفع الضرر الذي يهدد به.

حكم طلاق المكره والدليل عليه

حكم طلاق المكره والدليل عليه قال رحمه الله: [فطلق تبعاً لقوله]. أي: وقع الْمُكْرَهْ في الطلاق، (تبعاً). بمعنى: وقعت هذه الأمور واستوفيت هذه الشروط فطلق (تبعاً لقوله)، يعني: لا يزيد ولا ينقص، وبناءً على ذلك لو قال له: طلق زوجتك تطليقة، فطلقها طلقتين أو طلقها ثلاثاً؛ فإنه يقع عليه الطلاق الزائد، وقيل: يقع جميع الطلاق؛ لأنه لما زاد؛ دل على أنه راغبٌ في الطلاق، وصارت قرينة صارفةً للإكراه. أيضاً نستفيد من قوله: (تبعاً) أن يكون في طلاقه الظاهر تابعاً للطالب وهو الْمُكْرِه، ولكنه في قرارةِ قلبه غير راضٍ، فإذا طلق وقلبه مطمئنٌ بالطلاق راضٍ به وقع عليه الطلاق. إذاً يشترط أن يكون تبعاً، وألا يكون منه قصداً، فلو أن رجلاً يكره زوجته -والعياذ بالله- لا يحبها، ولا يرغب فيها، وينتظر الساعة التي ينجيه الله منها، فجاءه رجل وهدده وقال: طلق زوجتك، فقال: الحمد لله على الفرج، ثم طلقها، فهل هذا مكره؟ نقول: لا يكون طلاقه واقعاً بإجماع العلماء؛ لأن الله يقول: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، إذاً معنى ذلك أن ننظر إلى الإكراه في الظاهر لا في الباطن، فيكون طلاقه تبعاً للمكره، وليس مستقلاً بذاته. قوله: (لم يقع) هذا قول أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين من الأئمة المهديين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال به من الصحابة: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير رضي الله عن الجميع، وبه أفتى مجاهد وطاوس بن كيسان، وعطاء بن أبي رباح، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث رحمةُ الله عليهم: أن من أكره وتحققت فيه شروط الإكراه أنه لا يحكم بطلاقه، ولا يحتسب بتلك الطلقة، واستدلوا بدليل الكتاب والسنة والعقل؛ أما دليلهم من الكتاب: فإنه سبحانه وتعالى قال: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى أسقط عن المكره الردة بالقول، وهي لفظٌ من الألفاظ، وأعظم ما يتلفظ به الردة، قال الإمام ابن العربي وغيره من أئمة التفسير: إن هذه الآية الكريمة أصلٌ في إسقاط مؤاخذة المكره في كل ما يقول ويفعل، فإذا كانت الردة لا تقع وقلبه مطمئنٌ بالإيمان، فمن باب أولى غيرها من الألفاظ، وعلى هذا فالآية الكريمة واضحة الدلالة على أن المكره لا يؤاخذ بقوله، وجاءت السنة تؤكد ما دل عليه القرآن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند ابن ماجة والحاكم وصححه غير واحدٍ من العلماء: (إن الله وضع لأمتي)، وفي روايةٍ: (رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وفي هذا دليل على أن الله وضع ورفع عن المكره المؤاخذة، فدل على أنه إذا طلق لا ينفذ طلاقه، وأكدوا هذا بما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا طلاق في إغلاق)، رواه الإمام أحمد وأبو داود بسندٍ حسن. المغلق: هو الشخص الذي استغلق عليه الأمر، فأصبح ليس عنده أي مجال لأن ينصرف عن الشيء الذي هو فيه، فقال بعض أئمة اللغة كالإمام أبي عبيد القاسم بن سلام وغيره من أئمة اللغة رحمةُ الله عليهم: إن هذا يشمل المكره، والإغلاق يحتمل ويشمل من كان مكرهاً؛ لأنه استغلق عليه الأمر، فأصبح لا مجال له إلا أن يطلق فحينئذٍ: (لا طلاق في إغلاق)، وقد استغلق على المكره، وأصبح متلفظاً بلفظ الطلاق بدون اختيارٍ وبدون رضا، ووجود هذا الطلاق وعدمه على حدٍ سواء، ولا يوجب الحكم بالطلاق. أما دليل العقل: فقد قال العلماء رحمهم الله: لا يقع طلاق المكره، كما لا يقع طلاق المجنون، بجامع عدم وجود القصد والاختيار في كليهما، فالمجنون كما أنه إن طلق لا ينفذ طلاقه، كذلك المكره لا ينفذ طلاقه؛ فإن المكرَه في حكم المجنون، فالمجنون يتلفظ بدون اختيار وبدون شعور وبدون رضا، والمكره يتلفظ بما أكره عليه بدون رضا واختيار، وكلٌ منهما فاسد الاختيار ومنعدم الرضا، فكما لا ينفذ طلاق المجنون فكذلك لا ينفذ طلاق المكره. وأصول الشريعة تدل دلالة واضحة على رجحان هذا القول. وقد خالف في هذه المسألة طائفةٌ من السلف منهم سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري، والإمام أبو حنيفة النعمان -على الجميع شآبيب الرحمة والغفران- فقالوا: إن طلاق المكره يمضي عليه، واعتدوا به، واستدلوا بالأصول، وأن الأصل أن من طلق ينفذ عليه طلاقه، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والعتاق)، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أربع جائزات إذا تُكُلّم بهن: النكاح والطلاق والعتاق والنذر)، قالوا: فهذه الأدلة تدل على أن من تلفظ بالطلاق مضى عليه ولو لم يكن قاصداً. فهم يجعلون الهازل الذي هزل بالطلاق، مؤاخذاً به، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد - وذكر منها-: الطلاق)، فالهازل إذا طلق يمضي عليه الطلاق، مع أنه غير راض وغير مختار للطلاق، فيمضي عليه الطلاق. قالوا: فدل على أن الشريعة لا تلتفت إلى كونه قاصداً أو غير قاصد، مختاراً أو غير مختار، إنما تلتفت إلى وجود اللفظ، فلفظ الطلاق لفظٌ خطير إذا تلفظ به أُخِذ به. وهذا القول مرجوح وضعيف؛ لأن هناك فرقاً بين الهازل وبين المكره، فإن الهازل مختارٌ للفظ وطالبٌ له، وراضٍ به؛ لكنه غير راضٍ بالإيقاع، وفرقٌ بين من تلفظ بهذا الشيء راضياً به ولم يرد إيقاعه، وبين من لم يرض ولم يختر وألجئ إليه بدون اختياره، فالفرق بينهما واضح، وعلى هذا فإن طلاق المكره لا يقع، وهو الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله.

حكم الطلاق في النكاح المختلف فيه

حكم الطلاق في النكاح المختلف فيه قال رحمه الله: [ويقع الطلاق في نكاح مختلف فيه]. فلو أن رجلاً تزوج امرأةً بدون ولي، على قول الإمام أبي حنيفة رحمهُ الله وقول طائفة من السلف، ورفع هذا النكاح إلى شخصٍ وقد وقع فيه طلاق، وهو لا يرى صحة هذا النكاح؛ فإنه يمضي الطلاق وينفذه، وهكذا بالنسبة لنكاح الشغار، إذا قيل بأنه يصحح بالمهر، وقد بينا أن الصحيح: أن نكاح الشغار لا يصح ولو كان بمهر ما دام أنه وجد الشرط بين المتعاقدين.

حكم طلاق الغضبان

حكم طلاق الغضبان قال رحمه الله: [ومن الغضبان]. الغضب: حالةٌ يكون فيها الإنسان منزعجاً، وقد يفقد السيطرة على نفسه، فلا يستطيع أن يتحكم في لفظه، فلربما -والعياذ بالله- يسب ويشتم، ولربما وصل به الأمر إلى التلفظ بالردة -والعياذ بالله- ولا يستطيع أن يتحكم في فعله، فلربما قام وقعد وضرب من أمامه، حتى لربما كان والده أمامه فيضربه؛ لأنه يفقد السيطرة على نفسه.

مراتب الغضب

مراتب الغضب والغضب له ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: بداية الغضب التي يملك الإنسان فيها نفسه، ويسيطر فيها على مشاعره وأقواله وأفعاله. المرتبة الثانية: غاية الغضب، بأن يكون كالمجنون، لا يعي ما يقول، بحيث لو تلفظ بالشيء ثم قيل له بعد انتهاء غضبه وانكسار ثورته: إنك قلت: كذا وكذا، لا يتذكر أنه قال هذا الشيء، ولربما ينكر ويقول: ما وقع هذا مني، فهذه غاية الغضب، ففي الحالة الأولى يكون بداية الغضب، والحالة الثانية عكسها: نهاية الغضب. وهناك مرتبةٌ ثالثة مترددة بين المرتبتين وهي: أن يفقد السيطرة تارة، ويتمالك نفسه تارة، فهو متردد بين التمالك وعدمه؛ فإن كان في الحالة الأولى وهي أن يكون في بداية الغضب فإن طلاقه يقع بإجماع العلماء؛ لأن الإنسان في الأصل لا يطلق امرأته إلا وهو غاضبٌ عليها، فلا يوجد أحدٌ يكون جالساً مع امرأته يضحك معها ويقول لها: أنت طالق. فالأصل: أن الطلاق لا يكون إلا بسبب، إما لاستثارةٍ من الزوجة، أو أمر يكون بينه وبين زوجته، فالغضب غالباً يكون مصاحباً للطلاق، فإذاً: بإجماع العلماء أن بداية الغضب يقع فيها الطلاق. الحالة الثانية: وهي نهاية الغضب، والتي يصل فيها إلى درجة لا يفرق فيها بين السماء والأرض، بل حتى إن بعضهم -نسأل الله السلامة والعافية- ربما لا يعرف أن التي أمامه زوجته، ويقول: امرأتي طالق، امرأتي طالق، نسائي طوالق ونحو ذلك من شدة ما هو فيه، فهذا النوع الذي وصل إلى غاية الغضب الذي يفقد به عقله -والعياذ بالله- وإدراكه، ولا يستطيع أن يتحكم في تصرفاته، لا ينفذ طلاقهُ وجهاً واحداً عند العلماء رحمهم الله، وينازع في ذلك بعض أصحاب المذاهب ويقول: إنه ينفذ مطلقاً على الأصل الذي يقرر، فهل تدخل هذه الحالة عندهم أو لا؟ الظاهر من أصول الشريعة: أنها لا تدخل؛ لأن الغضبان في هذه الحالة ينبغي أن يقال: إنه مجنون، ويأخذ حكم الجنون المتقطع؛ لأنه إذا وصل به غضبه إلى درجةٍ لا يعي بها ما الذي أمامه، ولا يستشعر أن التي أمامه زوجه، فهو كالمجنون، ويعرف هذا بقرائن وأدلة، فبعض الناس الذين عُرِفوا بالعصبية، لا يتوقف أمره على الطلاق، بل يعرف أنه في أي قضية إذا استفزه أحد واستثاره فإنه يصل إلى غاية الغضب؛ ويتكلم ولا يعي ماذا يقول، ولربما يتكلم بالكفر -والعياذ بالله- والردة، فهذا في حكم المجنون؛ ولذلك قال بعض العلماء: إنه إجماع؛ لأنه في الحقيقة ينبغي أن يكون مندرجاً تحت مسألة المجنون، وعلى هذا: إذا وصل به الغضب إلى هذه الحالة، وهو يعلم أنه فيما بينه وبين الله لا يتذكر امرأته ولا يعرف ما الذي أمامه، ولا يعي ما الذي قاله؛ فإنه لا ينفذ عليه طلاقه. الحالة الثانية: وهي المترددة، وتقع مثل ما ذكرنا في السكران، فمنهم من يقول: الأصل فيه أنه مؤاخذ فنستصحب حكم الأصل ونمضي عليه الطلاق، ونقول هنا: هل غضبه أوصله للجنون أو لا؟ فلما خاطب امرأته أمامه وقال: امرأتي فلانة طالق، فمعنى ذلك أن عنده تمييزاً وإدراكاً، ويعلم أن التي أمامه هي امرأته، ولذلك قالوا: نؤاخذه بطلاقه، وقال بعض العلماء: إذا كان في هذه الحالة المترددة فلا ينفذ عليه طلاقه، واستدلوا بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (لا طلاق في إغلاق)، والصحيح: أنه إذا استشعر أنه طلق، واستشعر أنها امرأته، فإنه ينفذ عليه طلاقه في هذه الحالة وهذا هو الأصل، والإغلاق هنا ليس بتام، وإنما يكون الإغلاق مؤثراً إذا تم وفقد معه السيطرة على ألفاظه وكلامه. وهناك بعض القرائن التي تدل على أن طلاقه يقع، كرجلٍ يكون مع امرأته ويطلقها ويقول: أنا غضبان، فإذا جاء يدعي الغضب تسأله عن حالته فإن قال لك: كنت مع زوجتي فاستثارتني وقلت لها: إن أغضبتيني سأطلقك، أو سيكون طلاقك، فأغضبته ثم طلق، فتعلم أنه في هذه الحالة مدركٌ لوعيه؛ لأنه أنفذ ما وعد، ففي حالة الغضب: يقع كثيرٌ من التلاعب من الناس، وينبغي على العالم أن يكون حذراً فطناً من تلاعب الناس؛ لأن الطلاق أمره عظيم، ومن طلق وتلاعب بطلاقه وادعى أنه لا يعلم، وأنه فاقدٌ لشعوره وأنه وأنه فينبغي الحيطة في أمره؛ فإن الناس فتنة، والرجل إذا طُلّقت عليه امرأته -خاصةً إذا كانت الطلقة الأخيرة- فإنه يصبح كالمجنون -والعياذ بالله- فيحرف في الألفاظ ويغير فيها ويبدل، ويدعي أموراً قد لا تكون حقيقة، ولذلك ينبغي الاحتياط في مثل هذه المسائل. ولا ينبغي فتح الباب لكل من هبّ ودبّ إذا ادعى أنه غضبان أن يقبل قوله، إنما يقبل لو شهد ثقاتٌ وأُناس من أهله أنه رجل عصبي المزاج، وأنه إذا استثير يصل إلى درجة لا يعي فيها ما يقوله ويفعله، أو شهد زملاؤه في عمله على ذلك أو نحو ذلك من الأدلة التي تثبت أن غضبه مؤثر، فمثل هذا إذا وصل إلى حالةٍ يفقد فيها السيطرة على نفسه واستغلق عليه الأمر فالأشبه أن طلاقه لا يقع.

حكم الوكالة في الطلاق

حكم الوكالة في الطلاق قال رحمه الله: [ووكيله كهو]. المطلق لا يخلو إما أن يكون الشخص نفسه، أو وكيله الذي وكله بتطليق زوجته، أو القاضي، أو ولي الصبي، أو يكون الحكمان، فهذه خمسة أحوال للشخص المطلق. فعادة العلماء رحمهم الله في بيان الطلاق ومسائله: أن يعتنوا ببيان هذا الركن وهو الشخص المطلِّق، فقال رحمه الله: (ووكيله) فبعد أن بين حكم الأصيل (الزوج)، شرع في بيان حكم الوكيل.

أحوال الوكيل

أحوال الوكيل والوكيل له حالتان: الحالة الأولى: أن يوكل وكالةً مطلقة، والحالة الثانية: أن يوكل وكالةً مقيدة، وهو أي: الوكيل، ينزل منزلة الموكل، فبإجماع العلماء أن من وَكَّلَ شخصاً في تطليق زوجته فإنه ينفذ طلاقه كطلاق الزوج، ويكون نفوذ الطلاق في حدود الوكالة، وزمان الوكالة ومكانها إذا قيدت بالزمان أو المكان، وعددها إن قيدت بالعدد؛ فإذاً (وكيله كهو)، أي: وكيل الزوج كالزوج في الطلاق، ينفذ طلاقه إذا وكله وكالةً صحيحة. وهناك: المفوض، الشخص الذي يُفوض بالطلاق، فالوكيل يتقيد، والمفوض لا يتقيد، ولذلك ربما أنه لو مات الموكِل انفسخت الوكالة؛ لكن في التفويض لا تنفسخ؛ ولذلك المفوض أقوى من الموكل، فمن فُوّض إليه الأمر ليس كالوكيل، أما الوكيل كهو، أي: كالزوج. فالتوكيل إما أن يكون مطلقاً، وإما أن يكون مقيداً، يقول له: وكلتك في تطليق زوجتي فلانة، هذا توكيل بالطلاق لزوجةٍ معينة، وهذا إن كان عنده أكثر من زوجة، وربما يُطلِقُ له ويقول: وكلتك في تطليق نسائي بما شئت ومتى شئت، فهذا توكيل عام، ويكون الوكيل فيه له حق الطلاق عموماً. أما التوكيل المقيد: فإنه يتقيد بالزمان ويتقيد بالمكان ويتقيد بالعدد ونحو ذلك. يتقيد بالزمان كأن يقول له: وكلتك في تطليق زوجتي اليوم، فإذا انتهى اليوم وغابت شمسه، انفسخت الوكالة؛ فإن لم يطلق قبل غروب الشمس فلا طلاق، وإن طلق قبل الغروب؛ فإنه ينفذ طلاقه ما لم يفسخ الزوج تلك الوكالة. إذاً: إذا قيد بالزمان فلا يقع الطلاق إلا في حدود الزمان، فإن وقع الطلاق بعد الزمان الذي قُيد به لم ينفذ، وإن وقع في أثنائه نفذ إلا أن يكون الموكل قد فسخ الوكالة. ويتقيد بالمكان، يقول له: وكلتك أن تطلق زوجتي في هذا المجلس، فيتقيد بالمكان وما دام أنه في المجلس ينفذ عليه الطلاق، فإن فارق المجلس لم ينفذ عليه الطلاق، وهو موكل بالطلاق ما لم يفسخ الزوج توكيله؛ فإن فسخ الزوج توكيله فإنه ينفسخ، ويكون وجود طلاقه وعدمه على حدٍ سواء. ويتقيد بالعدد بالنسبة للفظ الطلاق؛ كقوله: وكلتك في تطليق زوجتي طلقةً واحدة، ويتقيد بالعدد بالنسبة للنساء، فيقول: وكلتك في تطليق زوجتين من نسائي، أو امرأتين من نسائي، فلانة وفلانة، فيحدد له، فيتقيد بطلاق هاتين، ولا يقع طلاقه إذا كان لغير هاتين المرأتين؛ فالتقييد والإطلاق معتبر، فالوكالة للطلاق تصح مطلقةً وتصح مقيدةً. وعلى الوكيل أن يتقي الله عز وجل، فالوكالة ليست بمحل للتلاعب والإضرار والإساءة والأذية، فإنه إذا وُكل إليه الطلاق فعليه أن ينصح وأن يتقي الله عز وجل، وهذا كثيراً ما يقع بين الولد مع والده، فيقول له: وكلتك أن تطلق امرأتي، فعلى الوالد أن يتقي الله في ولده، ولربما يقع بين الأخ وأخيه مشاكل بسبب الزوجات فيقول أحدهما لأبيه: وكلتك؛ فعلى الأب أن يتقي الله؛ لأن الله عز وجل جعل الطلاق من حدوده، وحذر عباده أن يستخفوا بهذه الحدود وأن يتعدوا محارم الله فيها. فعلى المسلم أن يتقي الله سواءً كان أصيلاً -زوجاً- أو وكيلاً، فالطلاق أمره عظيم، ومن النصيحة أن يحس أن هذه المرأة كأنها ابنته وكأنها أخته، فهل يرضى طلاقها؟ فعليه أن ينظر في الأصلح وأن يتقي الله عز وجل وأن ينصح لمن وكله. قوله: (ويطلق واحدة) ويطلق واحدةً إن قال له: واحدة، والأصل يقتضي أن له أن يطلق الطلاق كله ثلاث تطليقات، ويملك الثلاث كما يملكها الأصيل (الزوج)؛ لأن القاعدة: أن الوكيل منزلٌ منزلة الأصيل (الزوج). فإذا قال له: وكلتك في تطليق نسائي وأطلق، فلو طلق ثلاثاً مضت ثلاثاً، ولو طلق طلقتين مضت طلقتين، وأما لو قيد له ذلك وقال: وكلتك أن تطلق نسائي طلقةً واحدة فلا إشكال، ويتقيد بهذه الواحدة. وقوله: (ومتى شاء). أي: إن أطلق له، أما لو قيد وقال له: وكلتك مدة جلوسك في المجلس، وكلتك أن تطلق امرأتي في هذا المجلس فليس متى شاء؛ إنما يكون مقيداً بتقييد الأصيل -الزوج- له. قال رحمه الله: [إلا أن يعين له وقتاً وعدداً]. كما ذكرنا.

حكم توكيل المرأة في طلاق نفسها

حكم توكيل المرأة في طلاق نفسها قال رحمه الله: [وامرأته كوكيله في طلاق نفسها]. كذلك لو وكل امرأته، وقضى بذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأثر عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم: أنه إذا وكل المرأة أن تطلق نفسها وجعل الطلاق إليها وكالةً؛ فإنه يمضي طلاقها وينفذ ما لم يفسخ توكيله لها.

الأسئلة

الأسئلة

الوقت المعتبر في حصول الأثر المترتب على الطلاق

الوقت المعتبر في حصول الأثر المترتب على الطلاق Q هل المعتبر في وقوع الطلاق إصداره من الزوج أم وقت وصول الخبر للزوجة؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإذا طلق الرجل امرأته مضى الطلاق ونفذ من حينه، وأما مسألة بلوغ الخبر إليها فإنه لا يؤثر في الإيقاع، فهو واقعٌ من حين أن يتلفظ به، فلو تلفظ به الساعة ثم توفي وبلغها خبر الطلاق بعد شهرين فهي مطلقة من حين تلفظه به، أما لو كان مريضاً مرض الموت وطلق فهذا يسمى طلاق الفار، وهو الذي يريد أن يمنع ويحرم امرأته من الميراث، وهذه المسألة قضى الصحابة رضوان الله عليهم فيها بتوريث المرأة. لكن الكلام هنا لو طلق المرأة الساعة الثانية ظهراً ثم خرج، فوقع له حادث وتوفي، وبلغها الخبر بعد شهر أو شهرين فهي طالق، ويعتبر طلاقاً نافذاً من حينه لكن مسألة الحداد، يعني: المرأة يتوفى زوجها في شهر شوال ولا يبلغها الخبر إلا بعد أربعة أشهر وعشرا، فهل ما يتعتبر في الحداد غير ما يعتبر في الطلاق، أي: هل العبرة فيه ببلوغ الخبر أم العبرة بالوفاة؟ مثال ذلك: رجلٌُ توفي اليوم، وهو في الخارج أو في بلدٍ بعيد، والمرأة لم تعلم بوفاته إلا بعد سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات، فلما بلغها الخبر وقد مضت مدة الحداد، فهل نقول: الحداد العبرة فيه بالوفاة، فحينئذٍ انتهى حدادها؛ لأن المدة التي بين بلوغ الخبر وبين الوفاة استغرقت مدة الحداد فلا إشكال؟ هذا وجه في المسألة. وبناءً على ذلك: لو توفي في أول شوال وبلغها الخبر في آخر ذي القعدة؛ فإنه يبقى عليها شهران وعشرة أيام لأنه قد مضى عليها نصف المدة؛ لأن العبرة بالوفاة لا ببلوغ الخبر، والصحيح: أن العبرة في الحداد ببلوغ الخبر، فلو بلغها الخبر بعد سنة لزمها الحداد؛ لأن الحداد عبادة ولا يصح إلا بنية، وهي لم تحتد ولم يقع منها حداد ولم تقصد الحداد فلم يقع المأمور به شرعاً، والذي أمرت به المرأة هو عبادةً لله عز وجل وتقرب، فعلى هذا: العبرة ببلوغ الخبر وليس بالوفاة، فهناك فرقٌ بين الحداد وبين الطلاق من هذا الوجه، والله تعالى أعلم.

الفرق بين قول الزوج لزوجته: (أمرك بيدك) وتوكيلها في طلاق نفسها

الفرق بين قول الزوج لزوجته: (أمرك بيدك) وتوكيلها في طلاق نفسها Q ما الفرق بين قول الرجل لامرأته: أمرك بيدك، وبين توكيل الزوج امرأته في طلاق نفسها؟ A إذا جعل الأمر بيدها أو جعل الخيار لها وقال لها: اختاري نفسك، فهذا يسمى تفويضاً، وأما إذا وكلها فهو وكالة، والوكالة لها حكمها، والتفويض له حكمه، وعلى هذا: إن فُوّض إليها الأمر فالطلاق طلاق تفويض، وإن كان بالوكالة فطلاقُ وكالةٍ، والله أعلم. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجه الكريم وموجباً لرضوانه العظيم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

مقدمة كتاب الطلاق [3]

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الطلاق [3] جعل الله سبحانه الطلاق حقاً للزوج يستخدمه عند الحاجة، ولكن لم يجعل له الحرية في التطليق على أي صفة شاء، وإنما قيد هذا الحق بضوابط وقيود حتى لا يكون وسيلة للإضرار بالمرأة.

أنواع الطلاق

أنواع الطلاق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين؛ أما بعد ففي هذا الفصل سيتكلم المصنف -رحمه الله- على أنواع الطلاق، فالطلاق له أنواع ذكرها العلماء رحمهم الله، وهي تختلف بحسب اختلاف الاعتبارات المقصودة من التقسيم، فهناك أنواع للطلاق من حيث حكم الشرع، وهناك أنواع من حيث اللفظ، وهناك أنواع من حيث الصيغة، وهناك أنواع من حيث ثبوت الرجعة وعدم ثبوتها. - فأما أنواع الطلاق من حيث حكم الشرع فينقسم إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول: الطلاق السني. والثاني: الطلاق البدعي. والثالث: الذي هو ليس بسني وليس ببدعي. فأنواعه من حيث حكم الشرع إما سني وإما بدعي، وإما لا سني ولا بدعي، وسنبين هذا إن شاء الله تعالى أما أنواع الطلاق من حيث اللفظ فينقسم إلى نوعين: النوع الأول: الطلاق الصريح، والنوع الثاني: طلاق الكناية. كذلك له أنواع من حيث صيغة الطلاق إذا تلفظ بها الزوج، فإما أن تكون منجزة، وإما أن تكون معلقة، أو تكون مضافة، فهذه ثلاثة أنواع: الطلاق المنجز: كأن يقول: أنت طالق. فينجز عليه الطلاق ويمضي. الطلاق المضاف: إما للماضي وإما إلى المستقبل: كأن يقول: أنت طالق في آخر الشهر، أنت طالقٌ بالأمس. الطلاق المضاف إلى الشرط، أو المعلق على الشرط كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق، إن جاء زيدٌ فأنت طالق، إن ذهبت إلى أهلك فأنت طالق، فهذه ثلاثة أنواع: طلاقٌ منجز، وطلاقٌ مضاف، وطلاقٌ معلق. كذلك هناك أنواعٌ للطلاق من حيث الأثر، هل تثبت معه للزوج الرجعة، أو لا تثبت؟ فينقسم إلى نوعين: النوع الأول: طلاقٌ رجعي، وهو الذي يملك فيه الزوج ارتجاع زوجته في عدتها كأن يطلقها طلقةً واحدة بغير عوض ولا خُلع وتكون مدخولاً بها. النوع الثاني: وهو الطلاق البائن، وينقسم إلى نوعين: إما بائن بينونةً كبرى وإما بائن بينونةً صغرى، فالبائن بينونةً كبرى: هي التي لا تحل للزوج حتى تنكح زوجاً غيره، وهي التي أبانها بالطلقة الثالثة الأخيرة. وأما بالنسبة للبينونة الصغرى: فهي المطلقة التي لا يملك الزوج معها ارتجاع زوجته إلا بعقدٍ جديد، مثل أن يطلقها قبل الدخول أو يكون طلاق خُلعٍ؛ فهذا النوع من الطلاق يسمى بالطلاق البائن بينونةً صغرى. هذه كلها أنواع للطلاق؛ فتارةً تجد العلماء يقولون: وهي طلقةٌ بائنة، وتارةً يقولون: وهي طلقةٌ رجعية، فهذا تقسيم باعتبار، وتارةً يقولون: هذا طلاق السنة، وتارةً يقولون: هذا طلاق بدعة. هذه الأنواع كلها أثبتت نصوص الشريعة التقسيم في أغلبها كما هو الحال في الطلاق السني، والطلاق البدعي كما سيأتي، وكذلك الطلاق البائن والطلاق الرجعي. أما بالنسبة للتعليق والتنجيز فالأصول تصححه إذا كان منجزاً وهو الأصل في الطلاق وهو ماضٍ إعمالاً لهذه الأصول، وإن كان معلقاً فهذا بينه وبين الله، على ما يفصله العلماء رحمهم الله. وإذا كان الطلاق ينقسم إلى هذه الأنواع، ويختلف حكمه بحسب اختلافها فلابد للفقيه وطالب العلم من أن يكون على بينةٍ من أنواع الطلاق عند دراسته لأحكامه ومسائله.

أنواع الطلاق من جهة الحكم

أنواع الطلاق من جهة الحكم فشرع المصنف -رحمه الله- في تقسيم الطلاق من حيث السنة والبدعة، وهذا ما يسمى بالتقسيم من جهة الحكم، أي: من جهة حكم الشرع عليه، والطلاق السني مصيبٌ لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن طلق طلاق السنة فإنه لا يندم، قال علي رضي الله عنه: (لا يطلق أحدٌ للسنة فيندم). وتوضيح ذلك: أن الله سبحانه وتعالى بيّن لعباده الطلاق الذي ينبغي أن تطلق به المرأة على ضوابط سنذكرها -إن شاء الله تعالى- كما في صدر سورة الطلاق، وخاطب بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم، وبين كذلك أن هذا من حدود الله عز وجل التي ينبغي للمسلم أن يراعيها؛ فلما شدد سبحانه في نوعٍ خاص من المطلقات -وهي المرأة المدخول بها- بقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] أي: المرأة التي لها عدة، لما شدد في هذا النوع من الطلاق كان له حكمٌ خاص؛ ولذلك لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم طلاق ابن عمر لزوجته تماضر رضي الله عنها أنه طلقها في الحيض، وذكر عمر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم غضب عليه الصلاة والسلام، وأمره أن يراجعها ورده إلى ظاهر التنزيل، فدل هذا على أن المرأة المدخول بها من ذوات الحيض -أي: ليست بصغيرة ولا كبيرة آيسة- والحائض التي لم تحمل، لها حكمٌ خاصٌ في الطلاق، فينبغي للمسلم أن يطلق بهذه الصفة الشرعية الواردة، فإن أصاب طلاقه هذه الصفة الشرعية كان طلاقاً سُنياً، أي: مصيباً للسنة وعلى وفق الشرع، وإن خالف فطلق وهي حائض أو طلقها في طُهرٍ جامعها فيه فإنه طلاق بدعة، وإذا قيل: إنه طلاق بدعة فهو طلاق الإثم، أي: أن صاحبه آثم لمعصيته لله عز وجل ومعتدٍ لحدود الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء). إذا ثبت هذا فأولاً: ينبغي بيان الطلاق السني، وثانياً: الطلاق البدعي.

شروط الطلاق السني

شروط الطلاق السني فأما الطلاق السني: فلابد فيه من أمور لكي نحكم بكون المرأة محلاً لطلاق السنة، وهذه الأمور تعتبر بمثابة الشروط المستنبطة من دليل الكتاب والسنة: الشرط الأول: أن تكون المرأة مدخولاً بها. والشرط الثاني: أن تكون من ذوات الحيض، فليست بصغيرة لم تحض بعد، ولا كبيرة انقطع حيضها لليأس. وثالثاً: أن يقع الطلاق حال طهرها. ورابعاً: ألا يكون قد جامعها في ذلك الطهر. وخامساً: ألا تكون حاملاً. سادساً: أن تكون الطلقة واحدة. فهذه ستة شروط لا بد من وجودها لكي نحكم بكون الطلاق طلاق سنة: أن تكون المرأة مدخولاً بها، وأن تكون من ذوات الحيض: أي بلغت سن المحيض ولم ينقطع حيضها ليأس أو مرضٍ أو نحو ذلك، وثالثاً: أن تكون طاهرة، ورابعاً: ألا يجامعها في ذلك الطهر الذي يريد أن يطلقها فيه، وخامساً: ألا تكون حاملاً، بأن تكون حائلاً غير حامل، وسادساً: أن يطلق طلقةً واحدةً ولا يزيد. نبدأ بالشرط الأول: أن تكون المرأة مدخولاً بها، بمعنى أن يكون الزوج قد دخل على الزوجة؛ فإن كانت الزوجة لم يدخل بها زوجها وطلقها قبل أن يدخل فطلاقه ليس بمحل لقضية السنة والبدعة، ولذلك يجوز تطليق المرأة قبل الدخول ولو كانت حائضاً، والدليل على اشتراط كونها مدخولاً بها أن الله سبحانه وتعالى قال: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1]، والمرأة غير المدخول بها لا عدة لها، ومعنى الآية: أي: طلقوهن لقبل العدة كما فسره بذلك الصحابة -رضوان الله عليهم- وكما هو ظاهر السنة في حديث ابن عمر، فأصبح طلاق السنة الملزم به والمأمور به: ينبغي أن يكون في امرأةٍ مدخولٍ بها. من العلل المستفادة في أن الشريعة منعت من تطليق المرأة وهي حائض: أن هذا يطول عليها العدة، ففيه ضرر على المرأة، وكذلك إذا كانت مدخولاً بها في طُهر جامعها فيه، ربما طلقها فبانت حاملاً منه فيندم ويتألم أنه طلقها وهي أمٌ لولده؛ لكن إذا كانت غير مدخولٍ بها فليس هناك تطويل للعدة، وليس هناك خوف من كونها حاملاً، فهو يُقدم على الطلاق في بينةٍ من أمره كما لو طلقها وهي طاهر ولم يجامعها. فإذاً: المرأة غير المدخول بها يجوز تطليقها ولو كانت حائضاً، فلا يقال: إن المرأة التي لم يدخل بها يجب على من طلقها أن يلتزم السنة في تطليقها؛ فإن أمرها واسع. إذاً الشرط الأول: أن تكون المرأة مدخولاً بها، وهذا محل إجماعٍ بين العلماء، أن المرأة التي لم يدخل بها ليست بمحلٍ لطلاق السنة ولا يوصف تطليقها بالبدعة، وهي من النوع الثالث الذي لا سنة ولا بدعة. الشرط الثاني: أن تكون المرأة من ذوات الحيض، فخرج بهذا الشرط الصغيرة التي لم تحض، والكبيرة التي انقطع حيضها ليأسٍ، أو المريضة التي انقطع حيضها بسبب المرض، فالمرأة التي لا تحيض لصغر لا يوصف طلاقها بسنةٍ ولا بدعة مثل غير المدخول بها؛ ولذلك تكون عدتها بالأشهر؛ لأنها لم تحض بعد، والتي يئست كالتي لم تحض فتكون عدتها ثلاثة أشهر، إذا ثبت هذا فإنه لا يوصف الطلاق بكونه سُنياً إلا إذا كان في المرأة من ذوات الحيض، وكما ذكرنا أن المرأة الحائض تطول عدتها إن طُلّقت، وكذلك إذا طهُرت من حيضها وجامعها ربما حملت، فإن كانت قد انقطع حيضُها أو كانت صغيرةً لم تحض؛ فإنه يطلق وهو على بينةٍ من أمره ولا ضرر عليه ولا على الزوجة، فهذا هو الشرط الثاني: أن تكون من ذوات الحيض، فخرج بهذا الشرط: الصغيرة التي لا تحيض، والآيسة التي انقطع حيضها. الشرط الثالث: أن يطلقها وهي طاهرة، فلا يوصف الطلاق بكونه طلاق سنةٍ، إلا إذا وقع حال الطهر، فلو كانت المرأة حائضاً فبالإجماع يعتبر طلاقها طلاق بدعةٍ؛ وذلك لصريح حديث ابن عمر، وظاهر التنزيل في قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1]: أي مستقبلات أو في قبل العدة، والمرأة الحائض لا يستقيم فيها ذلك، فإذاً الشرط الثالث: أن تكون المرأة طاهرة غير حائض. الشرط الرابع: ألا يجامعها في ذلك الطهر، فلو أنها طهرت ثم جامعها في ذلك الطُهر فإنه يكون طلاقه طلاق بدعةٍ إن وقع بعد ذلك الجماع، فإذا أردنا أن نحكم بكونه طلاق سنةٍ فإنه ينتظر حتى تحيض بعد جماعها، ثم إذا حاضت بعد جماعها وطهُرت من حيضها إن شاء طلق وإن شاء أمسك، والدليل على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عمر عن سالم بن عبد الله بن عمر في قصة تطليقه لامرأته وهي حائض، قال صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها ثم يمهلها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمسها)، يعني: قبل أن يجامعها، فدل على أن الطهر الذي جامعها فيه لا يطلقها فيه حتى تطهر منه؛ لأنه ربما جامع فيه فبان حملها فيندم على تطليقها. فإذاً: هنا يخشى أن تحمل المرأة، وغالباً أن الرجل إذا علم أن المرأة حاملٌ منه فإنه يندم على طلاقها ويكون في ذلك ضررٌ عليه وضرر على ولده، هذا بالنسبة للشرط الرابع. الشرط الخامس: ألا تكون حاملاً: فإذا كانت حاملاً؛ فإنه لا يوصف طلاقها ببدعة ولا سنة، فإذا طلقها وهي حامل فإنه حينئذٍ قد استبان الأمر ويقدم على الطلاق وهو على بينة من أمره وهو مختار لفراقها، والدليل على أن طلاق السنة يكون لغير الحامل قوله عليه الصلاة والسلام: (وليطلقها حائلاً أو حاملاً). قال: (حائلاً) أي: في طهر لم يجامعها فيه على التفصيل الذي ذكرناه (أو حاملاً) وأجمع العلماء -رحمهم الله- على أن الحمل لا يمنع من الطلاق، وأن من حق الرجل أن يطلق زوجته بعد أن علم بحملها؛ فإن طلاقه معتبرٌ وصحيح. الشرط السادس والأخير: أن يطلق طلقةً واحدة ولا يزيد على هذه الطلقة، وهذه الطلقة هي السنة، ومذهب جمهور العلماء على أن من زاد على طلقةً واحدة فطلق طلقتين فقال لامرأته: أنت طالق طلقتين أو طالق ثلاثاً، أو أنت طالقٌ بالثلاث؛ فإنها بدعة، وقد ارتكب المعصية، فمن يطلق أكثر من طلقة فقد عصى الله ورسوله. ولذلك ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما وكذلك عن ابن عباس لما جاءه الرجل وقال: (إني طلقت امرأتي مائةً فقال له: ثلاث حرمت بهن عليك، وسبعٌ وتسعون اتخذت بها كتاب الله هزوا)، وفي روايةٍ: (لعبا)؛ لأن مثل هذا خلاف الشرع، فالزيادة على الطلقة بدعة ومعصية، وصاحبها آثمٌ شرعاً، ومذهب طائفةٌ من العلماء: أن من طلق امرأته أكثر من طلقة، أو طلق امرأته طلاق البدعة فطلقها وهي حائض عالماً بحيضها وعلم به القاضي؛ فإن الواجب على القاضي أن يعزره؛ لأنه عصى الله وكذلك اعتدى حدوده، فإذا علم بذلك بإقرارٍ منه وثبت عنده أنه طلق للبدعة فإنه يعزره؛ لمخالفته للسنة. إذا ثبت هذا فإنه يطلق طلقةً واحدة، ولذلك ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر أنه سأله رجل: أنه طلق امرأته ثلاث تطليقات وهي حائض، فقال له: (أما عبد الله بن عمر فقد طلق طلقةً واحدة وأما أنت فقد عصيت ربك وبانت منك امرأتك). أما أنت فقد عصيت ربك بالبدعة، وبانت منك امرأتك؛ لأن قضاء الصحابة رضوان الله عليهم وجماهيرهم، على أن الثلاث ثلاث. وبناءً على ذلك: فإن الزائد على الطلقة يوصف بالبدعة، ويعتبر طلاق إثمٍ وحرج، ولا يجوز للمسلم أن يتلفظ به، خلافاً للشافعية -رحمهم الله- حيث قالوا: إن طلاق الثلاث سنة. واستدلوا بحديث عويمر العجلاني وهو حديث صحيح: (فإنه لما لاعن امرأته فحلف أيمان اللعان وحلفت امرأته أيمان اللعان فقال: يا رسول الله! إن كذبت عليها فهي طالقٌ بالثلاث). فبين له النبي صلى الله عليه وسلم: أنها لا تحل له، قالوا: فطلق ثلاثاً بحضور النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، وهذا ضعيف، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، أن السنة طلقةٌ واحدة وأن الثلاث بدعة، وهل تقع أو لا تقع؟ سيأتي -إن شاء الله- بيان هذه المسألة وذكر أقوال العلماء فيها. الشاهد: أن طلاق السنة يستجمع هذه الشروط، ومن هنا تستطيع أن تحصر الشروط في ضابطين فتقول: يشترط لطلاق السنة الموضع ويشترط العدد، فلابد من أمرين، أمر يتعلق بالموضع وأمر يتعلق بالعدد، فلا يوصف طلاق بكونه طلاق سنةٍ إلا إذا استجمع هذه. فأما الموضع: فأن تكون المرأة مدخولاً بها طاهراً لم يجامعها في ذلك الطهر، وألا تكون المرأة حاملاً، والشرط الذي يتعلق بالعدد أن يطلقها طلقةً واحدة، هذا بالنسبة لما ينبغي تحققه للحكم بكون الطلاق طلاق سنةٍ. قال رحمه الله: [إذا طلقها مرةً في طُهر لم يجامع فيه]. إذا طلقها مرةً فهذه طلقة واحدة (في طُهرٍ لم يجامع فيه) معنى ذلك أنها من ذوات الأطهار، وليست بصغيرة لا تحيض ولا بكبيرة آيسةٍ، فتعد المرأة في هذه الحالة من ذوات الأشهر. إذاً: إذا طلق مرةً، أي: طلقةً واحدة، (في طُهرٍ) فخرج الطلاق في الحيض، وقوله: (لم يجامع فيه) خرج ما إذا جامع في نفس الطهر، وقوله: (في طهر) يستلزم أن تكون المرأة من ذوات الحيض، فاستجمع -رحمه الله- الشروط بهذا، وقال: (إذا طلق مرةً) هذا شرط العدد (في طُهرٍ) يجمع شرطين: الشرط الأول: أن تكون المرأة من ذوات الحيض فليست صغيرة ولا كبيرة آيسة؛ وكذلك أن تكون أثناء الطلاق طاهرة، فهنا شرطان: أن تكون من ذوات الحيض؛ لأنه قال: (في طُهر)، ولا تطهر من الحيض إلا الحائض، وأيضاً: استلزم شرطاً ثانياً مع كونها من ذوات الحيض: أن تكون حال طهرها من الحيض، ولم يجامع فيه؛ وهذا الشرط الرابع، فخرج ما لو جامع المرأة.

أقوال العلماء في حكم الطلاق المجزأ

أقوال العلماء في حكم الطلاق المجزأ قال رحمه الله: [وتركها حتى تنقضي عدتها]. هذه في الحقيقة مسألة تتعلق بتجزئة الطلاق ثلاثاً على الأطهار، وتوضيح ذلك: أن بين الجمهور وبين الحنفية -رحمهم الله- خلافاً في هذه المسألة، نحن قلنا: إن المرأة يكون طلاقها للسنة بالشروط التي ذكرها المصنف، فقال رحمه الله: (إذا طلق مرةً في طهر لم يجامع فيه)، فنبه على المدخول بها في قوله: (لم يجامع فيه) أي: أنها محل للجماع، ونبه على بقية الشروط على الصورة التي ذكرنا، إذا ثبت هذا فإن الرجل نصفه بكونه مطلقاً للسنة إذا وقعت منه طلقة واحدة في الطهر، فلو قال لك قائل: هب أن المرأة حاضت، فلما طهرت من حيضِها طلقها طلقةً واحدة، فبعد الطلقة ستعتد، وستحيض الحيضة الثانية ثم تطهر بعد حيضتها الثانية فإذا طهرت أردفها طلقةً ثانية؛ ثم انتظرت إلى طهرها من الحيضة التي تلي الطلقة الثانية، فلما طهرت منها أردفها الطلقة الثالثة، فجزأ الطلاق ثلاثاً، وكل طلقة أوقعها في طهر لم يجامع فيه، فهل يوصف طلاقه بكونه طلاق سنة أو لا يوصف؟ للعلماء قولان في هذه المسألة: فالجمهور: على أنه طلاق بدعة، وأنه ينبغي عليه إذا أراد طلاق السنة أن ينتظر حتى تستتم عدتها أو يراجعها ثم يطلقها في طهرٍ لم يجامعها فيه، أما أن يردف الطلاق مجزأً على الأقراء فإنه ليس بسنة وإنما هو من طلاق البدعة، وخالف في هذا الحنفية -رحمهم الله- فقالوا: إن طلق مجزئاً الطلاق على الأطهار فسنة، فقسموا طلاق السنة عندهم إلى طلاق حسن وأحسن، فعندهم طلاق السنة ينقسم إلى قسمين: طلاقٌ حسن وطلاقٌ أحسن، فالطلاق الأحسن عندهم: أن يطلق طلقةً واحدة ولا يردفها بغيرها في الأطهار على الصفة التي ذكرناها عن الجمهور. والطلاق الحسن: الذي هو دونه في المرتبة والذي اختلفوا فيه، فقالوا: هو أن يجزئ ثلاث تطليقات على ثلاثة أطهار، ما فائدة الخلاف؟ فائدة الخلاف: لو قال لها: أنت طالقٌ حسن الطلاق، فعند الحنفية: تطلق الطلقة الأولى في طهرها الأول، ثم تطلق الطلقة الثانية في طهرها الثاني؛ ثم تطلق الطلقة الثالثة في طهرها الثالث. وعند الجمهور: أن الحسن والأحسن شيءٌ واحد، وحينئذٍ يكون بحسب نيته فإن قصد بالأحسن أنه الثلاث، على أنه الأكمل في نظره حتى ينتهي شرها إن كانت تؤذيه؛ فحينئذٍ لا إشكال؛ وإلا فالأصل: أن أحسن الطلاق هو طلاق السنة، فينصب على طلقةٍ واحدة، فالحنفية قسموا الطلاق إلى هذين القسمين، وقالوا: من أردف الطلاق في الأطهار، مضى طلاقه وكان طلاق سنة، لكن عند الجمهور يعتبر من طلاق البدعة. قوله: (حتى تنقضي عدتُها فهو سنة). (فهو سنة) وذلك لثبوت الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث ابن عمر في الصحيحين وفيه: (أنه طلق امرأته تماضر رضي الله عنها طلقةً وهي حائض، فرفع ذلك عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره أن ابنه طلق امرأته وهي حائض، غضب صلى الله عليه وسلم وقال عليه الصلاة والسلام: (مُرْهُ فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر -أي من هذه الحيضة التي طلقها فيها- ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء)، ثم تلا عليه الصلاة والسلام: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] الآية. فأصبح عندنا في هذا دليل على أن السنة أن يقع الطلاق في الطهر على الصفات التي ذكرناها، وأن هذا هو الطلاق السني الذي أصاب صاحبه الوجه المعتبر في الطلاق، ومفهوم ذلك: أنه إذا لم تقع هذه الشروط فإنه لا يوصف بكونه طلاق سنةٍ، فلو طلقها وهي حائض فبالإجماع أنه يعتبر طلاق بدعة، ولو طلقها في طهرٍ جامعها فيه فإنه بالإجماع يعتبر طلاق بدعة، فطلاق البدعة بالإجماع أن يطلق في الحيض أو أن يطلق في طُهرٍ جامع فيه.

حكم الطلاق بعد انقضاء الحيضة وقبل الغسل

حكم الطلاق بعد انقضاء الحيضة وقبل الغسل لكن إذا قلنا إن طلاق الحيض يعتبر طلاق بدعة، فعندنا مسألة: لو أن امرأةً حاضت وأراد زوجها أن يطلقها، فهل إذا طهرت من الحيض وانقطع الدم يكون طلاقه طلاقاً سنياً بمجرد انقطاع الدم أو لا بد أن تغتسل ثم يطلقها. قال جمهور العلماء: إنه إذا انقطع الدم ورأت علامة الطهر حل طلاقها؛ ولذلك قالوا في موانع الحيض: منها ما يرجع إلى العبادة مثل كون الحيض يمنع الصلاة والصوم والطواف بالبيت ومس المصحف ودخول المسجد إلى آخر هذه العبادات، ومنها ما يرجع إلى المعاملات مثل: كونه يمنع الطلاق ويوجب الاعتداد به، وحينما ذكروا موانع الحيض قالوا: وما تحل هذه الموانع إلا بعد طهرها واغتسالها إلا ما كان من الصوم والطلاق. فالصوم لا يشترط له أن تغتسل، والطلاق لا يشترط له أن تغتسل، فلو طلقها قبل أن تغتسل وهي طاهر ورأت علامة الطهر؛ فإنه طلاق سنة، وكذلك الحال لو انقطع عنها الدم، ورأت علامة الطهر فصامت قبل أن تغتسل، كأن يكون انقطع عنها الدم قبل بزوغ الفجر مباشرةً؛ ثم بزغ الفجر ونوت الصيام فإنه يصح صومها ويجزئها، ولو اغتسلت بعد طلوع الفجر. فالطلاق والصوم لا يشترط لهما الاغتسال، لكن مس المصحف، والدخول إلى المسجد، والطواف بالبيت، والصلاة، كل هذا يشترط لجوازه ممن طهرت من الحيضة أن تغتسل، فلا يكفي انقطاع الدم عندها؛ إذا ثبت هذا فإنها تكون مطلقة للسنة إذا انقطع دمها، ولا يشترط أن تنتظر إلى اغتسالها من ذلك الحيض.

حكم الطلاق بالثلاث

حكم الطلاق بالثلاث قال رحمه الله: [فتحرم الثلاث إذاً]. فلو قال لها: أنت طالقٌ بالثلاث اختل الشرط، ونحن ذكرنا في الشرط السادس أن يطلق طلقةً واحدة، فلو طلق ثلاثاً مجموعة أو منفردةً مُجزّأة فالكل بدعة، فقوله: فتحرم الثلاث إذاً، قوله: (إذاً) التنوين هنا: تنوين عوض، أي: إذا كانت المرأة على هذه الصفة فيحرم أن تطلق ثلاثاً دفعةً واحدة أو مجزأةً على الأطهار على الصفة التي ذكرناها.

أقوال العلماء في طلاق الحائض

أقوال العلماء في طلاق الحائض قال رحمه الله: [وإن طلق من دخل بها في حيض أو طهر وطئ فيه فبدعة يقع وتسن رجعتها]. (وإن طلق من دخل بها في حيض) فلا يكفي أن تكون دخل بها، بل لا بد أن تكون حائضاً وفي الحيض، فإذاً: إذا طلق من دخل بها حال الحيض في حيض، أي: وقع طلاقه لها وهي في ظرف ووقت وزمان الحيض فإنه بدعة، فإذا وقع الطلاق حال الحيض فبإجماع العلماء أن الطلاق بدعة، ولكن هل يحكم بوقوعه أو لا يحكم بوقوعه؟ وجهان مشهوران لأهل العلم: جماهير العلماء وجماهير السلف والأئمة -رحمهم الله- من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة والظاهرية على أنه يقع الطلاق ويحتسب، واستدلوا بالأدلة الصريحة الصحيحة من الكتاب والسنة وبظواهر التنزيل التي دلت أولاً على أن الأصل فيمن طلق أن يمضي عليه طلاقه، فكل من تلفظ بالطلاق ظاهر القرآن أن زوجته تطلق منه، هذا من حيث الأصل، قالوا: والعمومات نصت على هذا، وقوله: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1]، هذا من حيث الإثم وعدمه، وليس له علاقة من حيث الوقوع وعدم الوقوع، لورود الأدلة الأخرى التي تثبت الأصل بالإيقاع، الدليل الثاني: قضية ابن عمر، ففي قضية ابن عمر عدة أدلة تثبت أن الطلاق وقع، أولها: ما يكون مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم إما صريحاً كما جاء في رواية سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (احتسبها له واحدة)، وهذا الحديث ذكره ابن وهب في مسنده وأشار إليه الحافظ ابن حجر رحمه الله وهو حديثٌ ثابت، ويرويه عن حنظلة بن أبي سفيان عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عبد الله بن عمر. ثانياً: أنه جاء من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (مره فليراجعها)، فكلمة (ليراجعها): جاءت من كلامه، ومنطوق لفظه عليه الصلاة والسلام، والرجعة عرفٌ شرعي مبني على الطلاق، خاصةً وأن المسألة في الطلاق إذ قد يستخدم لفظ الرجعة في غير الطلاق إذا كان في غير الطلاق؛ أما في داخل الطلاق وفي مسائل الطلاق لا يقال رجعة إلا من طلاق (مره فليراجعها). ثالثاً: أن ابن عمر رضي الله عنهما وهو صاحب القصة أدرى وأعلم بمضي الطلاق وعدمه؛ فإن ابن عمر نص على وقوع الطلاق وأفتى بذلك، فكان إذا جاءه السائل -كما في الصحيحين- يسأله عن امرأةٍ طلقها في الحيض أمضى عليه الطلاق واحتسبه، والراوي أدرى بما روى، خاصةً وأنه صاحب القصة، ناهيك عن ابن عمر الذي عرف بالتزام السنة وعدم خروجه عنها، وقد أُدِّب في طلاقه، فهو أعلم وأدرى بوقوع الطلاق وعدمه؛ ولذلك جاءت الألفاظ عنه عديدة تشير إلى الوقوع، منها ما هو صريح كما في قصة الرجل الذي طلق ثلاثاً في رواية الصحيحين، وجاء أيضاً عنه رضي الله عنه أنه لما سُئِل هل احتُسِبت الطلقة أو لم تحتسب كان يستغرب من السائل، ويقول: (فَمَهْ؟) أي: ماذا تظن، وفي روايةٍ: (ما لي إن عجزتُ واستحمقت؟) وهذا من فقه ابن عمر، يعني: هل تتصور شخصاً يقع في البدعة والمعصية ويطلق طلاقاً يخالف شرع الله أن لا يمضى عليه الطلاق؟ فمثله أليق بأن يزجر؛ ولذلك يقول له: فَمَهْ، يعني: ماذا تظن مع أني أقع في البدعة وأقع في المحظور ولا يمضي عليّ طلاقي؟! ففي الصحيحين أنه قال له: هل احتسبت؟ قال: فمه؟ وفي روايةٍ أخرى: (ما لي إن عجزت واستحمقت؟) أي: ما لي وما شأني وما المانع أن تنفذ عليّ طلقتي مع أني قد عجزت واستحمقت. كذلك أيضاً جاء في الرواية الأخرى عن نافع وعن سعيد بن جبير وأنس بن سيرين ومحمد بن سيرين كلها تعضد هذا، وللشيخ ناصر الدين رحمه الله مبحث نفيس، من أنفس ما كتب في هذه المسألة في جمع الأحاديث ورواياتها وألفاظها وبيان صحيحها من ضعيفها في الجزء السابع من (إرواء الغليل)، وهو بحث في الحقيقة من أنفس ما جُمع في المرويات، في مسألة طلاق الحائض، وهل طلق ابن عمر أو لم يطلق، وقد خلص -رحمه الله- إلى أن السنة وقوعه، من حيث المرجحات التي تقوي الوقوع واحتساب الطلقة. الأمر الأخير الذي يدل على وقوع الطلقة ما ذكرناه: أن الشخص إذا عصى الله ورسوله، وابتدع في شرع الله عز وجل وأحدث في دين الله عز وجل، وخالف ما أُمر به وتمرد على الله وعلى كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فخالفه، فإن الأليق به أن يزجر، وأن يعاقب، والأصل يقتضي أن مثله يؤاخذ بتطليقه. وقال بعض العلماء -وينسب هذا القول إلى بعض العلماء- وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتلميذه ابن القيم رحمةُ الله على الجميع: إن طلاق الحائض لا يقع ولا يمضي، واحتجوا برواية أبي الزبير محمد بن تدرس المكي عن ابن عمر أنه حضره وقد سأله السائل، فقال رضي الله عنه -أي: ابن عمر -: (فردها عليّ ولم يرها شيئاً)، أي لم ير الطلقة شيئاً، وهذه الرواية هي التي تُمسّك بها على أن طلاق الحائض لا يقع، وهذه الرواية قد أجاب عنها أئمة السلف كالإمام الشافعي رحمه الله وغيره من الأئمة، ولأننا أمام روايات عديدة فيها ما يثبت مضي الطلاق، وفيها ما ينفي، فلا بد من معرفة الضوابط في ترجيح هذا على هذا، هل يرجح القول الذي يقول بنفوذ الطلاق، أو يرجح القول الذي يقول بعدم وقوع الطلاق، فعند النظر إلى المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: نجد أن المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما في رواية سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها)، هذا المرفوع الذي استدل به من قال بالإيقاع يصنف في المرجحات؛ لأن قول ابن عمر: (فردها عليّ ولم يرها)؛ دليل الأصحاب القول الثاني الذي لا يوقع الطلاق، وهذا ليس بشيءٍ مرفوعٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبناءً على ذلك فإن المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قول من قال بالوقوع أقوى ممن يقول بعدم الوقوع. ثانياً: أن لفظة: (ردها عليّ، ولم يرها شيئاً) هذه تحتمل معنيين، كما يقول الإمام الشافعي،) لم يرها شيئاً)، أي: لم يرها شيئاً مصيباً للسنة، لا أنه لم يرها طلقة، والسبب في هذا: أن ابن عمر نفسه الذي قال كلمة: (ولم يرها شيئاً) يصف حال النبي صلى الله عليه وسلم في فتواه، ولا يتأتى منه أن يقصد أنه لم يطلقها، إذ لو كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يرها طلقة لما طلق ابن عمر رضي الله عنه وأفتى بالطلاق، فإذاً قوله: (لم يرها شيئاً)، تردد بين معنيين، وفي الأصول: أنه إذا تعارضت روايات صريحة لا تحتمل مع غيرها قدمت الصريحة، كما في قوله في بعض الروايات المرفوعة: (هي طلقة) وفي رواية الدارقطني: (احتسبت طلقةً واحدة). فالرواية الصريحة بالاحتساب جاءت عن ابن عمر نفسه أنه يحتسبها ولا تحتمل، فقوله: (هي طلقة) و (احتسبت طلقة) و (اعتد بها) كما في الرواية عن سالم وأنس بن سيرين ومحمد بن سيرين روايات صريحة في الوقوع والاعتداد. وقوله: (لم يرها شيئاً) متردد بين أن يقصد به عدم الوقوع وبين أن يقصد به عدم موافقة السنة، فلما ترددت بين المعنيين لم تقوَ على معارضة الصريح الذي لا يحتمل إلا معنىً واحداً، وبناءً على ذلك من حيث اللفظ رواية الوقوع أقوى من التي تنفي الوقوع. ثالثاً: من ناحية أصولية؛ فإن ابن عمر رضي الله عنه الروايات عنه بالوقوع أكثر من الروايات عنه بعدم الوقوع، ولم يخالف إلا أبو الزبير مع أن هناك شاهداً له في رواية سعيد بن جبير رحمه الله؛ لكن كما يقول الإمام ابن القيم رحمةُ الله عليه في حديث القلتين حيث كان يرجح ويقوي بأصحاب ابن عمر فكان يرجح برواية نافع وسالم بن عبد الله؛ لأنهما أدرى وأعلم فـ سالم بن عبد الله بن عمر ونافع تلميذ ابن عمر مثل هذين لا يخفى عليهما، وهما من أوثق أصحاب ابن عمر وأعلم بفقه ابن عمر، حتى كانوا يقولون: فقه ابن عمر عند نافع والسلسلة الذهبية مالك عن نافع عن ابن عمر، فـ نافع له الشأن البعيد واليد الطولى لعلمه بقول صاحبه وهو ابن عمر، فيقدم إذا تعارض مع أبي الزبير مع أن أبا الزبير في الرواية إذا عنعن لا تقبل روايته، إذ هو مدلس، ونافع في مرتبة الرواية عن ابن عمر مقدم حتى ولو عنعن، فإنه الثقة الثبت، فمن حيث الإسناد إذا جئت تنظر إلى الروايات تجد أن من أثبت أقوى سنداً من الذي لم يثبت. وكذلك أيضاً من حيث المتن؛ فإن الذي نص على احتساب الطلقة أثبت، والذي لم يرها شيئاً لم يثبت، والقاعدة: أن المثبت مقدمٌ على النافي، ومن حفظ حجةٌ على من لم يحفظ؛ ولذلك من حيث السنة ومن حيث الدليل يقوى القول الذي قال به جماهير السلف رحمةُ الله عليهم والأئمة الأربعة: أن طلاق الحائض واقع، وأن هذا المبتدع ينبغي أن يؤاخذ ببدعته، وأن يلزم بقوله وأن يشدد عليه ولا يخفف عليه، إضافةً إلى أن الأصل في الشرع إمضاء الطلاق واحتسابه عليه؛ لأن الدليل لم يقو على نفي ذلك الأصل. قوله: (أو طهر وطئ فيه). فإذا وطئها في الطهر وطلقها فطلاقه يكون للبدعة، ويستوي في ذلك أن يكون وطئاً مباحاً أو وطئاً محرماً

أقوال العلماء في حكم مراجعة من طلقت حائضا

أقوال العلماء في حكم مراجعة من طُلقت حائضاً قوله: [وتسن رجعتها]. وتسن رجعتها، بل تجب، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مره فليراجعها)، وهذه مسألة أصولية، فأمر الغير أن يأمر غيره هل هو أمرٌ للمأمور الأول أو للثاني أو لهما معاً؟ إن قلنا: إنه أمرٌ للمأمور الثاني فحينئذٍ يكون دالاً على الوجوب، وهذا مثل قوله عليه الصلاة والسلام حينما نفست أسماء بنت عميس بـ محمد بن أبي بكر الصديق في البيداء واستُفتي لها، فقال صلى الله عليه وسلم: (مرها فلتغتسل ثم لتهل). فإن قلت: إن الأمر للمأمور أن يأمر غيره أمرٌ للثاني كان حينئذٍ دالاً على الوجوب، ويكون الاغتسال للإحرام للحائض والنفساء واجباً، (مرها فلتغسل)، وأشكل على هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (مروا أولادكم للصلاة لسبع)، فإنه أمرٌ لمأمور أن يأمر غير المأمور، فإن الصبي لا يتعلق به الوجوب، فلو كان الأمر للشخص أن يأمر غيره أمراً لهذا الغير لما استقام هذا مع حديثنا؛ لأن الصبي غير مكلف، فدل على أن أمر المأمور أن يأمر غيره أمرٌ للمأمور لا لغير المأمور، هذا عند من يقول: إنه ليس أمراً له إلا إذا دلّ الدليل على الوجوب. والأولون يقولون: هو أمرٌ للمأمور وأمرٌ لغير المأمور، أمرٌ للمأمور أن يأمر وأمر للمأمور الثاني أن يمتثل، فإن ظهرت القرينة وجاء الدليل على استثنائه -كما في الصبي- حينئذٍ ينتزع الحكم بعدم الوجوب إلى الثاني، وهذه المسألة معروفة في الأصول عند علماء الأصول؛ ولذلك يقولون: إذا كان أمراً للأول فإنه يأثم بتركه، ومن هنا قالوا: يكلف المكلف بغير المكلف ويأثم به، كأن تمر على نائم فهو غير مكلف؛ فإن كنت مأموراً به؛ فإنك تأثم إن تركته نائماً، فلو فاتته الصلاة تأثم؛ لأنه غير مكلف، لكن كونك مأموراً بإيقاظه هذا أمر للمكلف أن يأمر غير المكلف، فهذا وجه وتخريج، والمسألة مشهورة عند علماء الأصول رحمهم الله، والصحيح في هذه المسألة: أنه تجب عليه رجعتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر). وهذا أمرٌ والأصل في الأمر أن يكون للوجوب حتى يدل الدليل على صرفه عن ذلك الظاهر، فهذا الذي تطمئن إليه النفس، وقد أخذ الإمام أحمد رحمه الله بظاهر هذه السنة كعادته، فإنه كان من أعلم الأئمة الأربعة بالسنة، وهذا أمرٌ معلوم عنه رحمه الله؛ فإنه اطلع من السنن والآثار على ما لم يطلع عليه بقية إخوانه من الأئمة، وكان له -رحمه الله- اليد الطولى في علم الحديث وروايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أورع الأئمة وألزمهم لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولما جاءته هذه السنة قال بالوجوب لظاهر الأمر في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمراجعة ولا صارف لهذا الأمر؛ إذا لو كان الأمر تخييرياً وابن عمر ليس بملزم وقد علم صلى الله عليه وسلم أن ابن عمر ما طلق امرأته إلا بسبب، فكيف يلزمه بإرجاع من طلقها؟ فلو كانت الرجعة ليست بواجبة ولا لازمة لما أمر صلى الله عليه وسلم ولا ألزم بها على هذا الوجه، فلا شك أن الحق معه رحمه الله، وقد وافقه على هذا القول طائفة من العلماء من الظاهرية وأهل الحديث رحمةُ الله على الجميع.

صور الطلاق الذي لا يوصف بكونه سنيا ولا بدعيا

صور الطلاق الذي لا يوصف بكونه سنياً ولا بدعيا ذكرنا أن الطلاق من حيث حكم الشرع إما أن يكون طلاقاً سُنياً أو طلاقاً بِدعياً أو طلاقاً لا سنياً ولا بدعياً، هذه ثلاثة أقسام، فمن طلق زوجته إما أن يطلقها وهو مصيبٌ لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، وإما أن يطلقها وقد وقعت البدعة، وإما أن يطلقها طلاقاً لا يوصف صاحبه بسنةٍ ولا ببدعة، وقد بينا الطلاق السني والطلاق البدعي وضابط البدعة والسنة. وبقي السؤال في القسم الثالث، وهو نوع من النساء -كما ذكر المصنف رحمه الله- لا يوصف طلاقهن بالسنة ولا يوصف بالبدعة.

طلاق الصغيرة

طلاق الصغيرة قال رحمه الله: (ولا سنة ولا بدعة لصغيرة) أي: إذا طلق الصغيرة التي لم تحض بعد؛ فإن طلاقه لها لا يوصف بكونه سنياً ولا يوصف بكونه بدعياً؛ لأن الصغيرة لا تحيض، وطلاق السنة متعلقٌ بالحيض، بحيث يطلقها في طُهرٍ لم يجامعها في ذلك الطهر، فالمفسدة والضرر المترتب على التطليق في الحيض أو المفسدة والضرر المترتب على التطليق في حال طُهرٍ جامعها فيه غير موجودة في حال التطليق للصغيرة، فالصغيرة لا تحيض، فلا تطول عليها العدة، ولا يخشى أن تكون حاملاً، فهو إذا طَلق طلق على بينةٍ من أمره؛ ولذلك تقول: الصغيرة ليس فيها المحابيل. مثال ذلك: رجلٌ تزوج بنت سبعٍ أو بنت ثمان أو بنت تسع سنين أو بنت عشر سنين ولم تحض بعد، فهذه التي لم تحض بعد إذا كانت في سن العاشرة -مثلاً- ولم تحض بعد، فإنه يطلقها ولن تطول عليها العدة؛ لأن عدتها بالأشهر، فبعد طلاقه لها ستحسب الأشهر وينتهي الإشكال وهي ليست بحامل، فلا يخشى أن تكون ليست بطاهر؛ لأن الطلاق في الطهر الذي جامعها فيه كان بدعة لخشية أن تصبح حاملاً فيندم على طلاقها؛ ولذلك قال الصحابة -رضوان الله عليهم- كما هو مأثورٌ عن علي وابن مسعود رضي الله عن الجميع: (لا يطلق أحدٌ للسنة فيندم)، أي: لا يطلق أحد طلاق السنة ويكون نادماً؛ لكن لو طلق طلاقاً بِدعِياً في طهرٍ جامعها فيه لاحتمل أن تكون المرأة حاملاً منه فيندم؛ لأنه كيف يطلقها وهي ستصير أماً لولده، لأنها ستنجب، فكيف يحصل الفراق بينه وبين أمٍ لولده؟ فقد يقدم الرجل على طلاق امرأةٍ لم تنجب بعد، ولكنه لا يقدم لو علم أنها حامل أو أن ولده سيكون منها. وعلى هذا فإن هناك ثلاثة أنواع من النساء: الصغيرة، والكبيرة الآيسة التي لم تحض بعد، وغير المدخول بها، وفقه المسألة يدور حول طول العدة وخشية أن تكون المرأة حاملاً كما ذكرناه في علة المنع من تطليق المرأة الحائض. قال رحمه الله: (ولا سنة ولا بدعة لصغيرة). هذا القسم الثالث: (لصغيرة) أي: في تطليق صغيرة لم تحض بعد. والدليل على أن طلاق الصغيرة لا سنة ولا بدعة فيه: قول الله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1]، والصغيرة ليس لها حيض حتى يقال: (لقبل عدتهن) على التقدير في الآية؛ لأن آية الطلاق فسرتها السنة، وقد ذكر أئمة وعلماء التفسير والتأويل رحمةُ الله عليهم من السلف وغيرهم أن هذا من تفسير السنة للكتاب؛ فإن الله تعالى لما قال: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1]، جاءت السنة مفسرةً مبينة لهذا الطلاق الشرعي وأن المراد بقوله سبحانه: (لِعِدَّتِهِنَّ) أي: لقبل عدتهن، أي: مستقبلات عدتهن وذلك بطهرٍ لم يجامعها فيه، ولا يطلقها في حال الحيض.

طلاق الآيسة

طلاق الآيسة قال رحمه الله: قوله: (وآيسة). أي: ولا سنة ولا بدعة في آيسة، والمرأة الآيسة من المحيض قد سبق وأن تكلمنا عليها في باب الحيض، فمن العلماء من جعل سناً محدداً إذا وصلت المرأة إليه حُكم بكونها في حكم الآيسة، ومن العلماء من قال: لا حد لذلك، ويختلف باختلاف النساء، وقد تبلغ المرأة خمسين أو أكثر والحيض معها، فهذا شيء يختلف باختلاف النساء، فلما لم يذكر الشرع حداً أو سناً معيناً لليأس؛ فإننا لا نحد سناً معيناً، وقد بينا أن هذا هو أرجح الأقوال كما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله وطائفة من أهل العلم أنه لا حد لليأس، وإذا كان لا حد لليأس؛ فالمرأة إذا طلقها زوجها وهي كبيرة فلا تخلو من حالتين: إما أن تكون في المحيض، فحكمها حكم الحائض، فيطلقها في طهرٍ لم يمسها فيه، وتسري عليها أحكام طلاق السنة أو طلاق البدعة؛ لأنها من ذوات الحيض، أما لو طلقها وقد انقطع عنها حيضها على وجهٍ يغلب على الظن أنها آيسة أو تحقق معه أنها آيسة؛ فتسري عليها أحكام الآيسة. فمثلاً: امرأة عمرها خمسون سنة، ومكثت ثلاث سنوات أو أربع سنوات أو خمس سنوات وانقطع عنها الحيض، فما رأت الحيض خلال السنة أو السنتين أو الثلاث أو الأربع الأخيرة، ففي الغالب أنه قد انقطع حيضها وتعتبر آيسة في هذه الحال، وحينئذٍ نقول لزوجها: إذا أردت طلاقها فطلقها في أي وقتٍ شئت؛ لأنه ليس هناك حيض يلزمك بأن تطلق في طهرٍ لم تجامع فيه. وفائدة المسألة حينما قال: (ولا سنة ولا بدعة لصغيرة) قالوا: لو قال لامرأته الصغيرة: أنت طالق للسنة، فهل تطلق عليه أو لا تطلق؟ وإن كانت تطلق عليه فمتى تطلق؟ قالوا: إذا قال لها: أنتِ طالق للسنة، فقال طائفة من العلماء: لغو؛ لأن طلاق مثلها لا سنة فيه ولا بدعة، قالوا: فيلغو هذا، كأنه جاء بلفظ لا حقيقة له؛ لأن مثلها لا سنة في طلاقها ولا بدعة، وقال طائفةٌ من العلماء: بل تنتظر فتبقى امرأته إلى أن يأتيها الحيض؛ فإذا حاضت ثم طهرت الطهر الأول بعد الحيض فبمجرد أن تطهر تطلق عليه؛ لأنه علق طلاقها طلاقاً سنياً، كأنه يقول: طلقتك طلقةً سنية، فبقيت معلقة إلى أن يأتيها الحيض. أما قوله: (والآيسة)، فالآيسة النوع الثاني، فإذا أردت أن تضبط المسألة تنظر إلى قاسم مشترك بين الصغيرة والكبيرة ما هو؟ عدم الحيض، فيكون إما بأصله غير موجود كالحال في الصغيرة، وإما كان موجوداً ثم زال كما هو الحال في الكبيرة والآيسة، فهذا الطلاق تقول: لا سنة فيه ولا بدعة. فهذا القسم الثالث، وضابطه: أن تكون المرأة من غير ذوات الحيض، ويشمل ذلك الصغيرة التي لم تحض، والكبيرة التي انقطع حيضها.

طلاق الزوجة غير المدخول بها

طلاق الزوجة غير المدخول بها قال المصنف رحمه الله: [وغير مدخول بها]. هناك نوعٌ ثالث يوصف بكون طلاقه لا سنة فيه ولا بدعة، وهي الزوجة التي لم يدخل بها، مثلاً: تزوج زيد خديجة وعقد عليها، وقبل الدخول طلقها، فإذا طلق الرجل امرأته قبل الدخول فإنه لا عدة له عليها لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49]، وآية الطلاق قالت في طلاق السنة: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1]، فإذا كانت السنة مرتبطة بالعدة، وهذه المنكوحة لم يدخل بها فلا عدة لها في حكم الشرع، أي: فلا سنة في طلاقها ولا بدعة؛ لأن السنة تثبت في حال وجود العدة بالحيض، حتى لا يندم إذا طلقها في حال طهرها الذي جامعها فيه، وأيضاً لا تطول عليها عدتها بالحيض، فإذا كانت بحكم الشرع لا عدة لها؛ فحينئذٍ نحكم بكونها لا سنة في طلاقها ولا بدعة، فقال الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49]. وعلى هذا: بعض طلاب العلم يخطئ في بعض فتاويه، فإذا كان يرى أن طلاق الحائض لا يقع، يأتيه السائل ويقول: طلقت امرأتي وهي حائض، فالمنبغي إذا كان يرى أن طلاق الحائض لا يقع أن يسأله: دخلت بها أو لم تدخل؟ فإن كانت المرأة لم يدخل بها؛ فإن الطلاق نافذٌ بالإجماع؛ لأنها ليست بمحل لقضية السنة والبدعة. وعلى هذا فالنوع الثالث من النسوة اللاتي يعتبر طلاقهن لا سنة فيه ولا بدعة: المطلقة قبل الدخول عليها، فالخلاصة: عندنا الصغيرة، وضدها الكبيرة الآيسة، والمرأة غير المدخول بها.

طلاق من بان حملها

طلاق من بان حملها قال رحمه الله: [ومن بان حملها]. من بان حملها للعلماء فيها وجهان: فإذا بان الحمل واستبان أنها حامل فمذهب طائفة من العلماء أنه لا سنة ولا بدعة في الحامل، سواء كانت في أول أو أوسط أو آخر الحمل، فلا يوصف الطلاق بسنة ولا ببدعة، وقال بعض العلماء: طلاق الحامل طلاق سنة؛ لما ثبت من حديث ابن عمر عند مسلم: (وليطلقها وهي طاهر حائلاً أو حاملاً) وهذا يعني أنه يطلقها حال طهرها الذي لم يجامعها فيه سواء كانت طاهراً أو كانت حاملاً استبان حملها، فقالوا: نظراً لقوله: (أو حاملاً)، وهي رواية صحيحة في رواية سالم بن عبد الله بن عمر في قصة تطليق أبيه رضي الله عنه الثابتة في الصحيحين، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (أو حاملاً)، دل على أن من طلق الحامل، فقد طلقها بإباحة وإذن الشرع، أما أصحاب القول الأول فقالوا: إن طلاق الحامل قُصِد به الإذن لأنه قال: (أو حاملاً)، وكلا القولين له وجهه، لكن النظر يقوي الوجه الأول كما ذكرنا.

الأسئلة

الأسئلة

الحكمة في إلزام النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر بتطليق امرأته في الطهر الثاني بعد الحيضة

الحكمة في إلزام النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر بتطليق امرأته في الطهر الثاني بعد الحيضة Q أشكل عليّ في قصة تطليق ابن عمر لزوجته قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر)، وموضع الإشكال هو: لماذا لم يكتف بالطهر الذي يلي الحيض الذي وقع فيه الطلاق حتى تحيض ثانيةً ثم تطهر؟ A باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فقد قال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يؤكد طهر المرأة، وذلك أن المراجعة وقعت منه عليه الصلاة والسلام على سبيل الإلزام، فقال له: (مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر)، أي: تطهر من هذه الحيضة التي طلق فيها، وأكد ذلك بقوله: (ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء)، فيكون الطلاق في طهر لم يقع في حيضه طلاق أيضاً، وهذا من باب التأكيد على أنه لا يقع الطلاق إلا في طهر، والله تعالى أعلم.

الرد على حديث عويمر العجلاني وحديث فاطمة في جواز الثلاث تطليقات

الرد على حديث عويمر العجلاني وحديث فاطمة في جواز الثلاث تطليقات Q بعد أن قررنا أن طلاق السنة هو الواحدة، فما هو الجواب عن حديث عويمر العجلاني وكذلك حديث فاطمة أن زوجها طلقها البتة؟ A أما بالنسبة لحديث عويمر العجلاني؛ فإن طلاقه لم يصادف المحل، وتوضيح ذلك: أن المرأة إذا لاعنت زوجها فإنه يفرق بينهما فراقاً أبدياً، قال الزهري رحمه الله في روايته عن سهل رضي الله عنه في قصة المتلاعنين: مضت السّنة أن يفرق بين المتلاعنين فلا يجتمعان أبداً، وعلى هذا فبمجرد ما تنتهي من الأيمان -والعياذ بالله- فإنه تقع الفرقة بينهما، وقال بعض العلماء: تفتقر إلى حكم القاضي؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم أن أحدكما كاذب، حسابكما على الله)؛ لأنه حلف الأيمان وهي حلفت الأيمان، فحينئذٍ أحدهما كاذب، إما الرجل وإما المرأة، فتنتقل الحكومة والحكم والخصومة إلى خصومة الآخرة نسأل الله السلامة والعافية، فخصومة الدنيا لا نملك فيها شيئاً لأن ما عندنا شيء ثبت، والأصل البراءة، فترك الأمر إلى الآخرة؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يوقفها ويوقفه عند الموجبة وهي الخامسة ومضت السنة على ذلك، فقال له: (اتق الله، فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة)، وقال للمرأة: (اتق الله فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة)، فكادت تعترف ثم قالت -والعياذ بالله-: لا أفضح قومي، فحلفت الموجبة، وكان يقول: إنها الموجبة، يعني: إذا حلف الرجل الخامسة: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7]؛ فإنه تصيبه اللعنة والعياذ بالله. والمرأة إذا حلفت وقالت في الخامسة: أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فإنه -والعياذ بالله- يحل عليها غضب الله عز وجل، ومن حل عليه غضب الله فقد هوى؛ فإذا ثبت هذا فإنه يفرق بينهما بمجرد انتهاء اللعان؛ فعندما فرق بينهما، قال عويمر من شدة الألم: (والله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد سمعت بأذني ورأيت بعيني) فلما رآها تحلف هذه الأيمان، قال: (يا رسول الله! كذبت عليها إن أمسكتها هي طالقٌ بالثلاث)، فلما وقع طلاقه وقع بعد الفرقة، فهي أجنبية منه محرمةٌ عليه؛ ولذلك المرأة الملاعنة لا تحل إلى الأبد، وقد أثبتنا هذا في المحرمات، أنها لا تحل إلى الأبد، فالتطليق ثلاثاً وقع بعد زوال المحل، فلا يستقيم الاستدلال به؛ ولذلك يكون إقرار النبي صلى الله عليه وسلم أو عدم إقراره ليس بواردٍ أصلاً؛ لأن الطلاق وقع في غير موقعه، ومن هنا لا يمكن أن يوصف التطليق ثلاثاً بكونه طلاق سنة من هذا الوجه، والله تعالى أعلم. أما بالنسبة لحديث سهيمة في قصة امرأة رفاعة بن رافع القرظي أنه طلقها ثلاثاً فبت طلاقها، فهذا أجاب عنه العلماء وأشار الحافظ ابن حجر والحافظ ابن الملقن وغيرهما -رحمةُ الله على الجميع- إلى أنه ليس بدليل على أن طلاق الثلاث وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بلفظةٍ واحدة؛ والسبب في ذلك: أن سهيمة أو سهلة -اختُلِف في اسمها رضي الله عنها وأرضاها- طلقها زوجها الطلقة الثالثة، يعني: كان قد طلقها قبل ذلك طلقتين، فوقعت الطلقة الثالثة التي بها البينونة، فلذلك قال الراوي: (إنه طلقها فبت طلاقها) ولذلك جاءت الرواية الأخرى: (طلقها آخر تطليقة) يعني: آخر طلقةٍ من طلاقه، وعلى هذا فلم تكن الثلاث مجموعة وإنما كانت مفرقة، فلا يستقيم الاستدلال به على إثبات الطلاق ثلاثاً وأنه سنة، والله تعالى أعلم. وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

مقدمة كتاب الطلاق [4]

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الطلاق [4] الطلاق حكم شرعي، ولهذا كانت له ألفاظ مخصوصة اعتنى العلماء ببيانها، وفصلوا فيما يترتب على التلفظ بها من جهة النية وعدمها، ومن الذي يلزمه الطلاق بتلفظه به ومن الذي لا يلزمه.

أحكام الطلاق من حيث لفظ المطلق

أحكام الطلاق من حيث لفظ المطلق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين؛ أما بعد فيقول المصنف رحمه الله: [وصريحه]. ذكرنا أن الطلاق له أقسام من حيث حكم الشرع: طلاق سنة وطلاق بدعة، ومن حيث لفظ المطلق: لفظ صريح ولفظ غير صريح، فالآن يشرع المصنف رحمه الله في الجملة الثانية وهي: بيان أحكام الطلاق من حيث لفظ المطلق، ولتوضيح المسائل المتعلقة بهذه الجملة ينبغي أن ننبه على مسألةٍ مهمة، وهي: أن ما يصدر من المكلف يقسمه العلماء إلى قسمين: ظاهر وباطن، فعندنا ظاهر الإنسان وعندنا باطنه، والظاهر يشمل شيئين: القول والفعل، فالفعل كاليد تأخذ أو تضرب، سلباً وإيجاباً، أو الرجل تمشي وتُرفع وتُوضع، هذه أفعال، فعندنا في الظاهر القول والفعل، وفي الباطن النية فقط، فالذي يطلِّق لا بد أن يبحث العلماء فيه اللفظ؛ لأن الطلاق راجع إلى الألفاظ، فكأن باب الطلاق من حيث الأصل مركب على ظاهر المكلف، ومن حيث الاعتداد وعدمه فإن هناك مسائل أجمع عليها العلماء يعتد فيها بالنية، ففي الطلاق ظاهر وباطن، ولذلك يقسم العلماء الطلاق إلى ثلاثة أنواع: طلاق الديانة وطلاق الحكم، وطلاق جامع بين الديانة والحكم. طلاق الديانة: كرجل تلفظ بكلمة تحتمل الطلاق وغير الطلاق، فسُئِل فقال للناس: ما قصدت الطلاق، وهو في باطنه قد قصد الطلاق، فبينه وبين الله المرأة عليه حرام، ولو كانت الطلقة الأخيرة فإنه يعيش معها بالزنا -والعياذ بالله- وهذا ديانة فيما بينه وبين الله، وكرجل قال لامرأته: هي طالق، وكانت الطلقة الأخيرة، ولم يخبر أحداً حتى امرأته، فالمرأة فيما بينه وبين الله طالق، فلو عاشرها وهي لا تعلم بتطليقه؛ فإنها طالقة ديانة فيما بينه وبين الله، وإن لم يصدر حكمٌ بطلاقها في الظاهر. أما بالنسبة للفظ المكلف: فتارةً يقول لها: أنت طالق أو طلقتك أو سرحتك أو فارقتك أو أنت خلية، برية، بتة، بتلة، الحرج، أو الحقي بأهلك، أو اغربي عن وجهي، أو اخرجي من بيتي، أو لست لي بامرأة، أو لستِ بامرأتي، كل هذه ألفاظ فيها احتمال أن يقصد الطلاق واحتمال أن لا يقصد الطلاق، وأيضاً هذه الألفاظ إذا تلفظ بها وثبت عند القاضي أنه تلفظ بها؛ فإن القاضي قد يحكم بظاهر بعضها، ويقول: حكمت بأن زوجتك طالق. أما إن كان في الحقيقة لم يقصد الطلاق كرجل أراد أن يقول لامرأته: طلبتك، فقال: طلقتك، والله يعلم أنه لم ينو الطلاق وأنه قصد طلبتك، وكرجل اشتدت الخصومة بينه وبين امرأته فغضبت المرأة وغضب الرجل، فجرت العادة أن الرجل يطلب من خصمه ومن أساء إليه أن يسامحه، فأراد أن يقول لها: طلبتك أن تعفي عنها، فقال: طلقتك. ففي هذه الصورة: بساط المجلس بساط غضب، وصعبٌ أن يقول عند القاضي: لم أقصد الطلاق؛ لأن الخصومة قرينة تدل على أنه يريد الطلاق، فجاء بصريح الطلاق، في موقفٍ لا يحتمل غير الخصومة، فصعب أن يقول: ما نويت، فبينه وبين الله لا تزال امرأته زوجة له، مع حكم القضاء أنها طلقة، لكن القضاء لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً؛ لكن في الظاهر يحكم، مثل الشاهد إذا شهد أنه رأى الزاني -والعياذ بالله- وليس هناك معه شاهدٌ آخر، فشهد شهادة الحق أنه رأى فلاناً يزني ولم يكتمل النصاب، فإنه يجلد حد القذف، والله يقول: {فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13]، أي: في حكمه سبحانه أنهم كاذبون، لكن من ناحية الديانة ومن ناحية الحكم فهو صادق، والرجل مقذوف، لكن يجب عليه الحد. الشاهد: أن هناك في الطلاق ما هو ديانة وهناك ما هو حكم، والعلماء في كتاب الطلاق تجدهم يقولون: تطلق ديانةً وتطلق حكماً، وتارةً يقولون: ينفعه ديانةً ولا ينفعه قضاءً، فإذا قالوا: قضاءً وحكماً، فالمراد الظاهر، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم تختصمون إليّ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فإنما أقضي بينكم على نحوٍ مما أسمع). فأخذ العلماء من هذا أصلاً: أن الحكم في القضاء على ما يسمع، أما الحقيقة فأمرها إلى الله، فإن خالف الحكم الحقيقة تنتقل الخصومة من خصومة الدنيا إلى خصومة الآخرة.

أحوال الطلاق من جهة اجتماع اللفظ والنية واختلافهما

أحوال الطلاق من جهة اجتماع اللفظ والنية واختلافهما من طلق فلا يخلو من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن تجتمع نيته ولفظه على الطلاق. الحالة الثانية: أن يطلق بالنية ولا يتلفظ. الحالة الثالثة: أن يطلق باللفظ دون النية. والقسمة العقلية في الأصل تكون أربعاً، لكن في العمل ثلاثاً، فإن يطلق في النية وحدها، أي: أن ينوي في قلبه ويعزم على أنه يريد أن يطلق زوجته؛ فهذا طلاقٌ بالنية، وإما أن يتلفظ بلفظ الطلاق وليس في النية أن يطلق، فهذا طلاق اللفظ، وإما أن يجمع بين ظاهره وباطنه، فيطلق بنيته وقوله، والرابع الذي ألغيناه: ألا يطلق لا باللفظ ولا بالنية، فهذا ليس بطلاق؛ فإنه وإن كان التقسيم العقلي يحتمله، لكنه ليس له تأثير في الحكم. فأما إن طلق بنيته فمثاله: رجلٌ آذته زوجته أو سمع منها أمراً أزعجه، فنوى في قرارة قلبه، وأقدم بكل ارتياث وبكل طمأنينة على أن يطلق، ولم يبق إلا أن يتلفظ، ولكن ما حدث منه اللفظ، فوصل إلى درجة عزم فيها تماماً على الطلاق، وقد تقع هذه الصورة في حال الخصومة بين الزوجين، فتقول الزوجة لزوجها: انتظر حتى يأتي والدي ويتفاهم معك، فعزم في قرارة قلبه على طلاقها عند مجيء والدها، فلما حضر والدها وواجهه؛ استحيا أو ذكره بالله، أو جاء مع والدها رجل فذكره بالله، فانصرفت نيته من الطلاق إلى عدم الطلاق، فهذا عزم في نيته ولم يتلفظ بلسانه، فوجد فيه طلاق الباطن دون طلاق الظاهر. ومن أمثلة ذلك: أن تعزم المرأة أن تشتكي بزوجها في القضاء، فعزم على طلاقها إذا حضرا عند القاضي، فلما حضرا عند القاضي صرف الله قلبه، والله يقلب القلوب ويحول بين المرء وقلبه، فرأى أن المصلحة تقتضي ألا يطلق، ورأى أنه قد أعطى الأمر أكثر مما يستحق، وأن جلوسه بين يدي القاضي من أجل الإنصاف، أو وجد كلاماً صرفه، أو وجد قاضياً موفقاً، ذكره بالله ووعظه، فجمع الشمل وألف بين القلوب، فانصرفت نيته عن الطلاق، ف Q إذا نوى الرجل أن يطلق زوجته ولم يتلفظ فهل نؤاخذه بهذه النية أو لا؟

حكم نية الطلاق دون التلفظ به

حكم نية الطلاق دون التلفظ به القول الأول: أن نية الطلاق ليست بطلاق، وأن الرجل لو عقد في نيته وعزم عزيمةً صادقة على الطلاق ولم يتلفظ؛ فلا طلاق، وهذا مذهب جمهور العلماء رحمهم الله ومنهم الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث، وطائفة من أصحاب الإمام مالك رحمةُ الله عليه. القول الثاني يقول: من عزم الطلاق وقويت عزيمته واطمأن قلبه على أن يطلق امرأته، فهي طالق بتلك العزيمة، وهذا القول قال به أئمة من السلف كالإمام محمد بن سيرين رحمه الله، ولما سُئِل عن فتواه في ذلك قال: قد علم الله أنه يريد طلاق زوجته، فجعل الإرادة والقصد كاللفظ، وقال: أليس الله قد علم واطلع، وما دام أنه عزم فيستوي أن يظهره أو أن يكنه، فالله عز وجل علم منه أنه يطلق فهو مطلق، وكونه يتلفظ أو لا يتلفظ هذا لا يؤثر، وهذا رواية عن الإمام مالك رحمه الله، وبعض العلماء يقول: مذهب مالك في المشهور عدم التطليق بالنية، وهذا أقوى الأقوال، وبعضهم يقول: مشهور مذهب مالك اعتبار النية، وإن كان الأقوى الأول، إذا ثبت هذا ف Q ما هو الدليل على عدم وقوع الطلاق بالنية أو على وقوعه؟ الجمهور الذين يقولون: من نوى لا نطلق زوجته، استدلوا بدليلين: أولهما: أن الله سبحانه وتعالى نص على التطليق فقال سبحانه: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230]، ونحن لا نطلع على النيات، وحكم الشرع في الأصل قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس، وأن أَكِلَ سرائرهم إلى الله)، فأصبح الأمر في مرده من حيث الأصل إلى الظاهر لا إلى الباطن في حكم الله عز وجل، وعليه قالوا: إن الله تعالى قال: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة:231]، وهذا لا يكون إلا بأمرٍ بيّن وهو لفظ المكلف، فمن حيث الأصل الطلاق يحتاج إلى إظهار، والنية ليس فيها ما يظهر بل ما تستكن، وهذا الدليل من أضعف الأدلة التي استدلوا بها. ثانيهما: أقوى دليل لهم حديث أبي هريرة الثابت الصحيح: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم أو تعمل)، ولذلك أئمة الحديث رحمةُ الله عليهم ذكروا هذا الحديث في باب الاستشهاد على أن من طلق بنيته لا يقع طلاقه، فقوله: (إن الله تجاوز لأمتي)، فالمجاوزة تدل على عدم المؤاخذة، وقوله: (ما لم تتكلم أو تعمل)، دل على أنه لا يؤاخذ على النية ما دام أنه لم يتلفظ، وهذا الحديث هو حجة الباب وفيصل المسألة، والعمل على هذا الحديث. دليل القول الثاني: حديث عمر بن الخطاب في الصحيحين: (إنما الأعمال بالنيات)، قالوا: دل الحديث على أن العبرة بالنية، وهذا قد نوى وعزم فتطلق عليه امرأته، وقاسوا هذا على أمور الاعتقاد، وقالوا: إنه لو كان معتقداً للكفر لكفر، فيحكم بالطلاق بالنية كما يحكم بالردة بتغير القلب، أي وجود عمل القلب، قالوا: لجامع كون كل منهما مؤاخذاً به، فالطلاق مؤاخذ به، والردة مؤاخذ بها. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور لقوة حجة السنة على مذهبهم: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم أو تعمل)، وأما استدلالهم بحديث: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، فالرد عليه من عدة وجوه، وأنسب هذه الوجوه وأقواها: أن حديث: (إنما الأعمال بالنيات) عام، وحديث: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها) خاص. ثم أيضاً هناك وجهٌ ثانٍ: أن تقول: (إنما الأعمال بالنيات)، من حيث الأصل يعني: هو في السلب والإيجاب، الإحسان والإساءة، فمن نوى الخير اعتبرت نيته للخير، ومن نوى الشر اعتبرت نيته للشر، وأما في الطلاق وفي المؤاخذة فيأتي حديث: (إن الله تجاوز لأمتي)، فاستثنيت المؤاخذات وحدها؛ لأنه لا يؤاخذ إلا إذا وجد اللفظ، فدل على أنه لا يدخل في عموم حديث أبي هريرة رضي الله عنه لوجود ما يخصصه. وبعبارة مختصرة تقول: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدّثت به نفسها)، دال دلالة واضحة على أن من حدّث نفسه بشيء لا يؤاخذ به كما لو حدّث نفسه أن يقتل أو يسرق أو يفعل أمراً حراماً؛ فإن الله لا يؤاخذه ما لم يتكلم أو يعمل، وعلى هذا فالصحيح: أن من عقد نيته في قلبه على أن يطلق زوجته أنها لا تطلق ما لم يتلفظ.

أقسام اللفظ المعتبر في الطلاق

أقسام اللفظ المعتبر في الطلاق عرفنا أن الطلاق يحتاج إلى لفظ وأن العمل في الطلاق على اللفظ، فحينئذٍ يرد الإشكال: هل كل لفظٍ نحكم بكونه طلاقاً أم أن هناك ألفاظاً إذا وجدت حكمنا فيها بالطلاق وهناك ألفاظاً بعكس ذلك؟ أصل اللفظ: الطرح، ولَفَظَ الطعام إذا طرحه، ولا تصف الشخص بكونه متلفظاً إلا إذا خرجت الحروف سواءً سراً أو جهراً، أي: تحرك بها اللسان ونطقت بها الشفة سراً أو جهراً، وفي مسألة طلاق الموسوس يأتي الموسوس ويقول: طلقت زوجتي ويقول: في قلبي أحس أني طلقتها وأحس أن اللسان تحرك بذلك، فينبغي أن يتنبه إذا كان الرجل مطمئناً لزوجته؛ لأن الوسواس فيه شيء قهري -نسأل الله السلامة والعافية- فالشيطان إذا أراد أن يستخف بإنسان في أمر؛ حدثه به؛ لأنه عدو ويريد أن يحزن المؤمن، ومن هذا أن الموسوس يريد زوجته ويأتيه الشيطان يحدثه بالطلاق، فمثل هذا إذا تحرك لسانه ونبتت شفته في الوسواس القهري فإنه لا يؤثر ما لم توجد دلائل قوية على أنه فعلاً يريد الطلاق، فالمقصود: أن اللفظ لا بد فيه من صوت مشتمل على بعض الحروف الهجائية. واللفظ تعريفه عند العلماء: هو الصوت المشتمل على بعض الحروف الهجائية كالقول، سواءً أفاد أو لم يفد، إذاً لا بد أن تكون هذه الحروف قد ظهرت من لسانه ونبتت بها شفتاه، فإذا حصل ذلك فقد وقع اللفظ إذا تلفظ، وبالطلاق فلفظ الطلاق ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: اللفظ الصريح. والقسم الثاني: اللفظ غير الصريح، وبعضهم يسميه: الكناية. فعندنا صريح الطلاق وعندنا كناية الطلاق؛ فأما صريح الطلاق فهو الذي لا يحتمل معنىً غير الطلاق، واللفظ الصريح حكمه: أننا نطلِّق به على الظاهر بينه وبين الله عز وجل، كرجل أراد أن يقول لزوجته: طلبتك فقال: طلقتك، ففي الظاهر لا يملك الفقيه إلا أن يفتي بالطلاق سواءً كان مفتياً أو قاضياً.

أقوال العلماء في ألفاظ الطلاق الصريح

أقوال العلماء في ألفاظ الطلاق الصريح بعد أن عرفنا حكم الصريح من حيث الأصل، يأتي Q ما هي ألفاظ الطلاق الصريحة؟ للعلماء قولان: القول الأول: قال بعض العلماء: صريح الطلاق هو مادة طلق وما اشتق منها على التفصيل الذي سنذكره إن شاء الله، فصريح الطلاق ثلاثة: الطلاق، الفراق، السراح، فإن قال لزوجته: طلقتك أو فارقتك أو سرحتك؛ فهذه كلها ألفاظ صريحة، نطلِّق بها المرأة على الظاهر، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة في المشهور، ومذهب طائفة من أهل الظاهر، ويقولون: ليس هناك طلاق إلا بهذه الثلاثة الألفاظ وغيرها ليس بطلاق، واستشكل على قولهم حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دلّ على اعتبار الكناية في قوله لابنة الجون: (إلحقي بأهلك)، فهل اعتده طلاقٌ أو لم يعتده طلاق؟! فالظاهرية عندهم ألفاظ الطلاق ثلاثة ألفاظ: الطلاق، السراح، الفراق؛ لكن الفرق بين الظاهرية وبين الحنابلة والشافعية: الظاهرية قالوا: لا طلاق بغير هذه الألفاظ، فلو قال لرجل لامرأته: أنت بتلة، أو أنت الحرج أو أنت خلية أو أنت برية أو الحقي بأهلك أو لست لي بامرأة، أو اعتدي، أو استبرئي رحمك إلى غير ذلك فليس بطلاق. وأما القول الثاني في المسألة فقالوا: صريح الطلاق لفظٌ واحد، وهو الطلاق وما اشتق من مادة طلَّق على تفصيلٍ سيأتي، وهذا مذهب الحنفية والمالكية من حيث الجملة -رحمةُ الله على الجميع- وقال به بعض أصحاب الإمام أحمد رحمةُ الله على الجميع. ودليل الذين قالوا: إن حيث لفظ الطلاق ثلاثٌ: (الطلاق والفراق والسراح) أن القرآن نص عليها، فقال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ. } [البقرة:229]، {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230]، {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة:231]، هذه كلها صريحة على أن لفظ الطلاق هو الذي يحصل به الفراق، فمادة طَلَّقَ محل إجماع، ومحل الخلاف في لفظي السراح والفراق: هل هما من صريح الطلاق أو من الكنايات المحتملة؟ فقالوا: إن الله تعالى عبر بالسراح عن الطلاق، فقال: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] وأيضاً في الفراق: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130]، وقال سبحانه وتعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2]، وقال: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28]، أي: أطلقكن، فلفظ السراح من ألفاظ الطلاق الصريحة بلفظ القرآن، ولفظ الفراق ولفظ الطلاق أيضاً بدلالة القرآن، قالوا: فجاء في القرآن ثلاثة ألفاظ: الطلاق والفراق والسراح، فكل من تلفظ بهذه الثلاث نؤاخذه، قصد أو ما قصد، ونعتبرها من الصريح، وهذا المذهب هو أولى المذاهب بالصواب إن شاء الله تعالى؛ فإن الأدلة دالة على أن هذه الثلاثة الألفاظ تستعمل، ويستدل بها على حل العصمة ورفع قيد النكاح. وأما بالنسبة لقول من قال: يحصر لفظ الطلاق في (طلق) وما اشتق منها، فدليله واضح: أنه يحتج بالآيات التي وردت في الطلاق، ولكن نقول: كما أن ألفاظ آيات الطلاق دلّت على الطلاق؛ ينبغي أن تكون ألفاظ السراح والفراق والطلاق دالةً على الطلاق أيضاً. قال رحمه الله: [وصريحه لفظ الطلاق]. كما ذكرنا: طلقتك، أنتِ مطلقتي، أنت طالق، وما اشتق منه، فهذا كله باسم الفاعل أو باسم المفعول، أنت طالقٌ، أنت مطلقةٌ مني، أو طلقتك، هذا كله يدل على الفراق صراحةً، ويؤاخذ به بإجماع العلماء رحمهم الله، لكن لو جاء بالصريح في مكانٍ محتمل أو سبق لسان كما سيأتي إن شاء الله، فإن هذا له حكم خاص، لكن من حيث الأصل فإن القاعدة أن باب الطلاق يقوم على لفظٍ صريح، وهذا اللفظ الصريح مادة (طلق) وما اشتق منها بإجماع العلماء. قال رحمه الله: [وما تصرف منه غير أمر ومضارع] قوله: (غير أمرٍ) كقوله: طلقي نفسك، فإن أمرها أن تطلق نفسها، فلا يقع الطلاق بتوكيله لها أو بتفويض الطلاق لها إلا إذا طلقت نفسها؛ لأنه وجه الطلاق بصيغة الأمر (طلقي نفسك) فهذا أشبه بأنه فوض إليها أن تطلق نفسها، أو جعل الطلاق إليها، كما لو قال: أمرك بيدك، فلا يقع الطلاق بمجرد قوله: طلقي، أما تعليق الطلاق بالمستقبل كما في الأفعال المضارعة سواء أدخل عليها الأدوات أو الحروف التي تدل على المستقبل أَوْلاً، فإنه لا يقع الطلاق في وقته، إلا إذا كان معلقاً على المستقبل، ويقع بوقوع ما علق عليه، لكن من حيث الأصل: لو قال لها: سوف أطلقك أو تطلقين، فهذا وعد بالطلاق، وهذا كله لا يقع به الطلاق، فالمضارع والمضاف إلى المستقبل لا يقع به الطلاق إلا إذا كان مقيداً بشرط، وستأتي مسألة تعليق الطلاق وإضافة الطلاق إلى المستقبل، لكنه من حيث الأصل لا يوجب وقوع الطلاق في حينه. قال رحمه الله: [ومطلقة اسم فاعل] هذا تابع للذي قبله من المستثنيات، كما لو قال بلفظ الأمر: طلقي، والمضارع: سوف أطلقك، فهذا وعد وله أن يخلفه، فلو جاء رجل وسألك: قلت لامرأتي: سأطلقك أو سوف أطلقك، فهذا وعد، إن أراد أن يمضي وعده أمضاه، وإذا رأى أن المصلحة ألا يطلقها فلم يطلقها فلا طلاق، هذا في المضارع، أما أنت مطلقة، فإنها مشتقة من مادة الطلاق، لكن لا توجب الطلاق، لكن لو قال لها: أنت مطلقةٌ مني، وقع الطلاق، وفرقٌ بين قوله: أنت مطلقة، اسم فاعل، وبين قوله: أنت مطلقةٌ مني، فحينئذٍ قد أوقع الطلاق. قوله: [فيقع به]. أي: بالصريح، ففائدة الصريح أنه يحكم قضاءً بوقوعه وإن لم ينوه، فالفرق بين الصريح والكناية: أن الصريح لا يحتاج إلى نية، يعني: يطلق القاضي على الظاهر، ما لم يكن هناك بساط المجلس وأمور مستثناة -سنشير إليها- تدل على أنه لم يرد الطلاق. وهناك فرق بين الكناية الظاهرة والكناية الخفية، لكن باب الكناية من حيث الأصل يقوم على النية، ولكن الكناية الظاهرة كقوله: أنت بتة، أنت بتلة، أنت خلية، أنت الحرج، فهذه استثنيت في مذهب طائفة من العلماء، لوجود قضاء من الصحابة رضوان الله عليهم فيها، فاعتبروها من الكنايات الظاهرة، وسنتكلم عليها في الكنايات الظاهرة والخفية، لكن الكناية من حيث الأصل يرجع فيها إلى النية، وأما الصريح فإننا نطلق به على ظاهر النص. وقوله: (ومطلقة اسم فاعل فيقع به). أي: يقع الطلاق بما تقدم من مادة (طلق) غير ما استثني من المضارع، ومن الأمر، ومن اسم الفاعل، ولفظ الطلاق الصريح سواءً نواه أو لم ينوه فإن الطلاق يقع به، أي: في حكم القضاء، لكن في حكم الديانة يكون ذلك بينه وبين الله، فإن قال: أنت طالق، وقصد: من حبله، أو من وثاقه، فإنه يقع قضاءً ولا يقع ديانةً.

أقوال العلماء في الفرق ما بين طلاق الهازل وطلاق من سبقه لسانه

أقوال العلماء في الفرق ما بين طلاق الهازل وطلاق من سبقه لسانه قال رحمه الله: [وإن لم ينوه جاد أو هازل]. قال المصنف رحمه الله: من تلفظ بلفظ الطلاق، فإنه ينقسم إلى أقسام: القسم الأول: من تلفظ بالطلاق مع النية، فهذا جاد، يعني: يريد أن يطلق المرأة فعلاً، وجمع بين الظاهر والباطن، فهذا طلق جاداً. القسم الثاني: من طلق باللفظ دون النية، وهذا له صور: الصورة الأولى: أن يقصد اللفظ دون نية الطلاق، فهذا يسمى بالهازل، يعني: تلفظ بلفظ الطلاق قاصداً له، مستشعراً أنه لفظ الطلاق، لكن نيته لا تريد الطلاق، فمن تلفظ بالطلاق قاصداً اللفظ غير ناوٍ له، يسمى بالهازل، فتجده يمزح مع امرأته ويظن أن هذا ينفعه، فيقول لها: أنت طالق، فيكون جاء بمادة (طلق) عالماً أنها تفيد الطلاق من حيث الأصل، لكنه لا يريد أثرها ولا يريد أنها طالق، فيقولون: قصد اللفظ ولم ينوه. ومن هنا: يفرق بين الهازل ومسبوق اللسان بالطلاق: أن الهازل قصد اللفظ، ومسبوق اللسان لم يقصد اللفظ، فمسبوق اللسان أرحم ممن يهزل؛ لأن مسبوق اللسان لم ينو بقلبه ولم يقصد أن يتلفظ بلسانه، فالفرق بين الهازل وبين مسبوق اللسان من جهة قصد اللفظ، فلو أراد رجلٌ أن يقول لامرأته: طلبتك، فقال: طلقتك، فهو لم ينو بقلبه ولم يقصد بلفظه، لكن إذا مزح معها وظن أن أمور الطلاق فيها مزاح، فقال لها: طلقتك، فكلمة الطلاق مقصودة، ومادة (طلق) مقصودة، فاللفظ مقصود، فالشريعة والعلماء يفرقون بين من يقصد اللفظ وبين من لم يقصد. وبعض العلماء يرى بالنسبة لمسبوق اللسان أنه إن وجدت قرائن قوية على أنه لا يريد الطلاق أن طلاقه لا يقع، كرجل جلس مع امرأته وهو في غاية الانبساط والسرور، وهناك اثنان يشهدان على أنه كان مع زوجته على أحسن ما يكون، ثم طلعت على السلم، فأراد أن يقول لها: أنت طالعة، فسبق لسانه وقال: أنت طالقة، فبساط المجلس يدل على أنه لا يريد الطلاق، ومثل هذا ينفعه، فلو قال للقاضي وثبت بشهادة البينة أو بحلف اليمين على أنه ما قصد؛ فلا تطلق عليه امرأته لا قضاءً ولا ديانةً. فلما قال بعض العلماء بهذا القول استشكل عليهم الهازل، فالهازل لم يقصد الطلاق، ومسبوق اللسان لم يقصد الطلاق، والشرع يقول: ما دام وجدت كلمة الطلاق فيؤاخذ بها، فردوا عليهم بأن الهازل قصد اللفظ، ومسبوق اللسان لم يقصد اللفظ، فالفرق بينهما واضح. وبناءً على ذلك: قال رحمه الله: (جاداً)، يعني: تطلق المرأة إن تلفظ بالطلاق وهو جادٌ، أو تلفظ به هازلاً، والهزل: المزح والمرح، فالطلاق جده جد وهزله جد، والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثٌ جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق والعتاق)، وفي رواية: (والنذر)، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يعظ الناس ويبين لهم الأحكام: (أربع جائزات إذا تكلم بهن: النكاح والطلاق، والعتاق والنذر). فإذا جاء رجل وقال لك: زوجتك ابنتي، وهو يمزح معك، فقلت: قبلت، فحينئذٍ يلزم، وأيضاً لو قال رجل لزوجته: طلقتك، وهو يمزح معها فإنه يلزم بذلك، ولو قال لعبده: أنت حر، على سبيل المزاح، فإنه يعتق عليه، ولو لم يقصد عتقه، وهكذا لو نذرت، والأصل في السنة الثلاث التي سبق التنبيه إليها. وعلى هذا قال العلماء: إن الهازل تطلق عليه امرأته، وهذا بإجماع العلماء؛ لثبوت السنة بذلك. وقال بعض العلماء: هنا إشكال، كيف نطلق عليه والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، فهو لم ينوِ الطلاق، فكيف نؤاخذه بالطلاق، قالوا: هذا من باب حكم الوضع وليس من باب حكم التكليف، وحكم الوضع: ما جعله ونصبه الشرع من أسباب وعلامات وموانع تدل على الصحة وتدل على الفساد، فكأن الشرع يقول: من تلفظ بلفظ الطلاق، فإننا نؤاخذه به قصد أو لم يقصد، نوى أو لم ينو، فكأنه إذا وجد لفظ الطلاق وجد الطلاق، بغض النظر عن القصد والنية وجدت أو لم توجد.

صور من صريح الطلاق لا يقع بها الطلاق

صور من صريح الطلاق لا يقع بها الطلاق ذكرنا مسألة صريح الطلاق، وهو اللفظ الذي لا يحتمل معنىً غيره، وذكرنا خلاف العلماء رحمهم الله في اللفظ الصريح، ورجحنا أن هناك ثلاثة ألفاظ: الطلاق، والفراق، والسراح، وأنه إذا تلفظ بها حكم بالطلاق، سواءً نوى أو لم ينوِ؛ ولكن هنا مسألة وهي: أن يأتي اللفظ الصريح ويتكلم به الزوج، ويُصرف عن الطلاق ولا نحكم به، وهذا أشبه ما يكون بالاستثناء، فالعلماء رحمهم الله وضعوا لنا قاعدة في ألفاظ الطلاق: أن أقواها الصريح، وأن من تلفظ باللفظ الصريح، فإنه تَطْلُقُ عليه زوجته. يبقى Q هل لهذه القاعدة مستثنيات؟

حكم من قال لزوجته: طالق، وقصد من وثاق أو نحو ذلك

حكم من قال لزوجته: طالق، وقصد من وثاق أو نحو ذلك قال رحمه الله: [فإن نوى بطالق من وثاق]. وهذا على صورتين: الصورة الأولى: أن يقول للمرأة ذلك، وتصدقه. فيقول: قلت لك: طالق، وقصدتُ مِن وثاق؛ كأن تكون كفيفة البصر، وكان قد قيدها، فقالت له: هل أطلقتني أو لا؟ فقال لها: أنت طالق، وقصد من وثاق، فإن صدقته أو قامت القرائن على صدقه، فحينئذ لا إشكال، بحيث إنه لا يرتفع الأمر لا إلى القاضي ولا إلى أي مسلم. فهذا بينه وبين امرأته إذا قال لها: أنت طالق، وقصد من وثاق، وصدقت، فلا تطلق عليه ولا يقع الطلاق؛ لأنه لم يقع لفظ الطلاق الذي هو طلاق. يعني: هو لم يقصد لفظ طلاق، وليس كالهازل الذي يقصد لفظ الطلاق وإن لم ينوِ الطلاق. فهذا الشخص جاء بمادة طلق لا لحل العصمة، وإنما جاء بها لأمر آخر، ومادة (طلق) تستعمل في حل العصمة، وتستعمل في غير حل العصمة. الحالة الثانية: أن تقوم القرائن على أنه أراد حل العصمة، مثل أن يقول لها في حال الخصومة: أنت طالق، أو يقول لها في حال الغضب: أنت طالق، وحينئذ إذا وقع شجار بينه وبين زوجته. فقال لها: أنت طالق، ثم ادعى أنه أراد: طالق من وثاق، فالتلاعب موجود، أو يكون الشخص معروفاً بالكذب والخداع واللعب، فإذا غضب من امرأته، أو حصل بينه وبين امرأته شيء، فقال لامرأته: أنت طالق، فقالت له: أنا طالق؟! قال: قصدت من وثاق، فحينئذ ينظر إلى هدي الشرع. وهدي الشرع أن هذا اللفظ -لفظ الطلاق- لفظ خطير لا يحتمل اللعب، ولا يمكن أن يفتح الباب لمن يتلاعب به، بدليل أن الهازل لما مزح مع زوجته أُلزم بطلاقها مع أنه لم يقصد الطلاق، فمقصود الشرع أن هذا اللفظ لفظ خطير موجب لحكمه، فإذا كان الشخص معروفاً بالكذب والخداع واللعب، وقال: قصدت من وثاق، ولم نلزمه الطلاق فمعنى ذلك أننا نفتح الباب للمتلاعبين، فتطلق عليه زوجته حكماً، أي: في الظاهر، وإذا رفع إلى القضاء في هذه الحال، وقال له القاضي: قلت: طالق؟ قال: قلت: طالق، وقصدت من وثاق، فالقاضي يأخذ بظاهر كلامه؛ لأنه إنما أمر أن يأخذ بظواهر الناس وأن يكل سرائرهم إلى الله، فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل الحكم في القضاء للظاهر، ولذلك قال: (إنما أقضي على نحو مما أسمع) فهدي الشرع يدل على أن الحكم للظاهر، وقد سبق وأن ذكرنا هذه المسألة في الألفاظ: أنه يلتفت إلى الظاهر، والباطن علمه عند الله، خاصة إذا كان صريحاً، والباطن له تأثير في مسائل الكنايات كما سيأتي في الألفاظ المحتملة.

حكم من طلق ونوى به نكاحا سابقا منه أو من غيره

حكم من طلق ونوى به نكاحاً سابقاً منه أو من غيره قال رحمه الله: [أو في نكاح سابق منه أو من غيره]. رجل طلق امرأته الطلقة الأولى، ثم ارتجعها، ثم قال لها يوماً من الأيام: أنت طالق، أي: أنك وقع عليك الطلاق مني سابقاً. فقصد بكلمة (أنت طالق) أنه قد وقع منه طلاق سابق، أو كأنه كان يريد أن يقول: أنت كنت يوماً من الأيام محلاً للطلاق، فطلقتك أو طلقك غيري. فهو يصفها بهذا، أو يكون معها أثناء الكلام، فيقول لها: أنت مطلقة، أي: سبق وأن طُلِقت، فحينئذ الشبهة قائمة، لكن حكم القضاء ينفذ الطلاق.

حكم من سبقه لسانه في الطلاق

حكم من سبقه لسانه في الطلاق قال رحمه الله: [أو أراد طاهراً فغلط]. هذا يسمى: مسبوق اللسان، وهو أن يتلفظ بلفظ الطلاق وقَصْده غير لفظ الطلاق. فالفرق بين مسبوق اللسان والهازل: أن الهازل يقصد لفظ الطلاق، ويعلم أثر لفظ الطلاق، فيقول لامرأته: أنت طالق، ولكنه لا يريد الطلاق، ولا يريد إيقاعه حقيقة. فحينئذ قصد اللفظ، ولم يقصد الإيقاع، هذا بالنسبة للهازل. ومسبوق اللسان لم يقصد اللفظ ولم يقصد الوقوع، فيختلف فيه الأمران، كرجل أراد أن يقول لامرأته: أنت طاهر، فقال لها: أنت طالق، كأن تسأله المرأة: هل أنا نجسة أو طاهرة؟ فقال لها: أنت طالق، يريد أن يقول: أنت طاهر. فسبق لسانه فتكلم بالطلاق وهو لا يقصده ولم ينوه به، فحينئذ يحكم بكونه مسبوق اللسان. ومثلاً سألته: أنا طالعة أو نازلة؟ فأراد أن يقول: أنت طالعة، فقال: أنت طالقة، أو أراد أن يقول: طلبتك، فقال: طلقتك. فهذه كلمات متقاربة من بعضها. فإذا المرأة صدقته أو صدقه أولياؤها، وقامت البينة على صدقه، وانتهى الموضوع فيما بينهم، واقتنع بعضهم بكلام بعض فلا بأس، وهذا بينه وبين الله ينفعه، ولكن في القضاء والفتوى إذا استفتى فإنه ينظر إلى الظاهر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس). قال رحمه الله: (لم يقبل حكماً) ومعنى هذا: أنه يقبل ديانة، وعندنا -كما ذكرنا- الطلاق الحكمي والطلاق ديانةً. فديانةً: بينه وبين الله، وحكماً: في القضاء وعلى ظاهر حاله.

صور من صريح الطلاق غير المباشر

صور من صريح الطلاق غير المباشر ذكرنا مسألة صريح الطلاق، وهو اللفظ الذي لا يحتمل معنىً غيره، وذكرنا خلاف العلماء رحمهم الله في اللفظ الصريح، ورجحنا أن هناك ثلاثة ألفاظ: الطلاق، والفراق، والسراح، وأنه إذا تلفظ بها حكم بالطلاق، سواءً نوى أو لم ينوِ؛ ولكن هنا مسألة وهي: أن يأتي اللفظ الصريح ويتكلم به الزوج، ويُصرف عن الطلاق ولا نحكم به، وهذا أشبه ما يكون بالاستثناء، فالعلماء رحمهم الله وضعوا لنا قاعدة في ألفاظ الطلاق: أن أقواها الصريح، وأن من تلفظ باللفظ الصريح، فإنه تَطْلُقُ عليه زوجته. يبقى Q هل لهذه القاعدة مستثنيات؟

إذا سئل الرجل: هل طلقت زوجتك؟

إذا سئل الرجل: هل طلقت زوجتك؟ قال رحمه الله: [ولو سئل: أطلقت امرأتك؟ فقال: (نعم) وقع]. هذا من ترتيب العلماء رحمهم الله، فاللفظ الصريح يأتي مباشرة: أنت طالق، أو طلقتك أو مطلقة. إلخ. ويأتي في بعض الأحيان سبق لسان، فصار عندنا الصريح الذي قصد به ونوى ووقع واعتد به، وعندنا الصريح الذي يكون فيه سبق اللسان، وعندنا حالة ثالثة، وهي: أن يأتي غيره بالصريح فيجيبه موافقاً له، وهذا من ترتيب الأفكار كما ذكرنا. وصورة المسألة، أن يكون سأله رجل، قال: أطلقت امرأتك؟ (أطلقت) الهمزة: للاستفهام، قال: نعم. أو سأله: هل طلقت امرأتك؟ قال: نعم، فإنه لو لم يكن طلقها من قبل، تطلق عليه. وهذا الجواب قوله: نعم، أي: هي طالق، أو طلقتها. والقاعدة عند العلماء تقول: (جواب الصريح صريح) ويقولون: هي فرع من القاعدة: (السؤال معاد في الجواب). فالقاعدة الأولى التي هي الأم، تقول: (السؤال معاد في الجواب) ثم تبني عليها قاعدة: (جواب الصريح صريح)، فعندنا قاعدتان، فقاعدة: (السؤال معاد في الجواب)، هي التي بني عليها التطليق، وينظر في هذا الجواب، إن كان عن سؤال صريح فهو طلاق صريح، وإن كان عن سؤال كناية فهو لفظ كناية، فلما سأله قال له: أطلقت امرأتك؟ قال: نعم، قلنا: السؤال معاد في الجواب، وأصل التقدير: نعم طلقت امرأتي، أو نعم امرأتي طالق. هذا أصل التقدير. فهذا معنى قولهم: (السؤال معاد في الجواب) ويدل على ذلك السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قالت له أم سليم: (يا رسول الله! هل على المرأة من غسل؟ قال: نعم، إذا رأت الماء) أي: نعم تغتسل إذا رأت الماء، هذا أصل التقدير، فمن سأله: أطلقت امرأتك؟ وقال: نعم، فقد أجاب (والسؤال معاد في الجواب)، فكأنه قال: نعم طلقت امرأتي. هذه القاعدة الأولى. والقاعدة الثانية: لما سأله: أطلقت؟ لفظ (أطلقت) صريح، والجواب وقع بنعم، فجواب الصريح صريح، إذاً نعده من الطلاق الصريح، ويكون من اللفظ الصريح، فاستوى في الصريح أن يكون ابتداء من المكلف نفسه، أو يكون جواباً على سؤال، وعلى هذه القاعدة (السؤال يكون معاداً في الجواب) فرعوا مسائل كثيرة، منها: لو أن القاضي سأل الخصم وقال له: هل لفلان عندك عشرة آلاف؟ قال: نعم، حكم عليه بإقراره، ويجب عليه أو تثبت في ذمته العشرة آلاف. فقولنا: (السؤال معاد في الجواب) يستلزم أن نحكم بكونه قد طلق امرأته إذا أجاب بنعم، ولو سأله: أطلقت امرأتك؟ فقال: لا، لم يقع الطلاق؛ لأنه لم يجبه. فحينئذ كأنه قال: لا، لم أطلقها. وهنا ينبغي أن يتنبه إلى أن هناك حالتين، والمصنف هنا أطلق، وقال: تطلق عليه، لكن في الحقيقة حتى يكون الأمر أوضح: إذا سأل سائل، وقال: أطلقت امرأتك؟ وقال: نعم، لم يخل من حالتين: إما أن يقول: نعم، جاداً في الطلاق، فلا إشكال. وإما أن يقول مازحاً هازلاً، فالطلاق الأول من باب الجد، والطلاق الثاني من باب الهزل، فإن الهازل يمضي عليه الطلاق في السؤال، وفي صريح اللفظ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل طلاق الهازل كطلاق الجاد، ولم يفرق بين كونه معاداً في جوابه، أو كونه ملفوظاً ابتداءً.

إذا سئل الرجل: ألك امرأة؟ فأجاب بالنفي

إذا سئل الرجل: ألك امرأة؟ فأجاب بالنفي قال رحمه الله: [أو: ألك امرأة؟ فقال: لا، وأراد الكذب، فلا]. يعني: إذا قال له شخص: ألك امرأة؟ فجوابه: إن قال: نعم، لا يوجد إشكال، وله امرأة، وانتهى الإشكال، لكن المشكلة، إذا قال: لا. وعنده امرأة. فإنه إذا قال: لا في جوابه كأنه يقول: لم تعد لي امرأة، وهذا أصل الإشكال. فكأنه حل عصمة المرأة، وكأنه أخرج المرأة من عصمته. فهذا الاحتمال الأول. وحينئذ على هذا الاحتمال يكون طلاقاً. لأن معنى ذلك: لا لم تعد لي امرأة، فكأنه حل عصمة امرأته. الاحتمال الثاني: أنه لما قال له: هل لك امرأة؟ أو ألك امرأة؟ أو ألك زوجة؟ أو هل لك زوجة؟ قال: لا. يقصد زوجة كاملة، وزوجة فاضلة، وزوجة لها الصفات التي تستحق هذا الوصف الذي يراه كاملاً أو الذي يراه عظيماً، فقال: لا، أي: ليس عندي امرأة بتلك الصفات، أو تستحق أن توصف أنها امرأة. يقول هذا الكلام لكون بينه وبينها شيء، أو يكون فيها صفات تقتضي نقصها عن درجة الكمال. فإذاً: تردد اللفظ بين احتمالين، أو ترددت الكلمة بين احتمالين: فجملة يكون المراد بها الطلاق، فيما لو قيل له: هل لك امرأة؟ قال: لا. وقصد حل العصمة، وجملة يكون فيها المراد أنها ليست كاملة. فالأولى تقتضي التطليق، والثانية لا تقتضي التطليق. فتردد الجواب، وهذا الجواب ليس بصريح. بخلاف الأول فهو صريح: أطلقت امرأتك؟ قال: نعم. لكن هنا السؤال صريح أو الجواب صريح؟!! ألك امرأة؟ يعني: ألك امرأة من حيث هي أو ألك امرأة كاملة. فلما تردد بين الطلاق وغيره صار كناية. فانتقل حكم قوله: (ألك امرأة) إلى الكنايات، وتردد بين الطلاق وغيره، فنرجع إلى النية كالحال في طلاق الكناية، فنقول: إن نوى الطلاق بقوله: لا، طلقت، وإن لم ينوِ الطلاق، لم تطلق عليه امرأته. ويكون قوله: لا، أي: ليس لي امرأة كاملة الأوصاف.

حكم التصحيف في لفظة (طالق) أو الطلاق بغير اللغة العربية

حكم التصحيف في لفظة (طالق) أو الطلاق بغير اللغة العربية هناك مسائل يمكن أن تلحق بهذا الفصل، المسألة الأولى: أن يتلفظ باللفظ الصريح لكن مع التصحيف أو العجمة فيحرف لفظ الصريح، أو يصحف منه حرفاً أو حرفين، مثال ذلك: أن يصحف الحرف الأول من طالق، فينطق الطاء تاء، ويقول: (تالق)، أو يصحف الحرف الأخير، ويبدله غيناً ويقول: (طالغ)، أو كاف ويقول: (طالك). وبعض الناس يكون لسانه قد درج على هذا، فإذا قال: أنت طالق، يصحف فيقول: تالق أو طالغ أو طالك. وكل ذلك يوجب الطلاق، فيستوي أن يقع الصريح مصحفاً أو يقع على الأصل، ما لم يكن المصحف له معنى آخر، وقصد ذلك المعنى الآخر فلا إشكال؛ لأنه يخرج عن الصريح بالتصحيف. المسألة الثانية: بالنسبة للفظ الطلاق بغير العربية، كأن يكون لفظاً أعجمياً، فالألفاظ بحسب كل لسان، وكل قوم على حسب اللفظ الذي تدل عليه لغتهم بحل العصمة، فقالوا في الفارسية: (بهشم)، أو في التركية: (ستامبوس)، كل ذلك ذكر العلماء أنه يستوي فيه اللفظ العربي وغير العربي، ما دام أنه يفيد حل العصمة. فإذاً لا يختص اللفظ الصريح بالنسبة للفظ الطلاق باللغة العربية فقط، بل ممكن أن ينتقل إلى لغة غير العربية ما دام أنهم قد تعارفوا على ذلك، وأصبح من لغتهم.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين الحائض والنفساء في العدة

الفرق بين الحائض والنفساء في العدة Q هل حكم الحائض كالنفساء؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: فالمرأة النفساء ليست كالحائض من كل وجه، أما من حيث العلة في إطالة العدة عليها، فإن النفساء تختلف عن المرأة الحائض من جهة أن أمرها قد استبان، فليس هناك حمل، وليست بمحل يشك أن تكون حاملاً، إلا أن بعض العلماء قال: إن النفساء تأخذ حكم الحائض فتطول عليها العدة، فتنتظر إلى طهرها من نفاسها، وبعد طهرها من نفاسها تستقبل عدةً جديدة، وعلى هذا يقولون: تكون في حكم المرأة الحائض من جهة إطالة العدة، وكلا القولين له وجهه، والله تعالى أعلم.

الجمع بين قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما.

الجمع بين قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً ... ) الآية وبين ما جاء تحريمه بالسنة Q ما معنى قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام:145]، وهل هي دليل على إخراج غير الأصناف المذكورة في الآية؟ A قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام:145]، هذه الآية الكريمة أصل عند العلماء رحمهم الله في إباحة ما لم يرد النص بتحريمه، ولكن قد تأتي نصوص أخر وتزيد على هذه الآية؛ لأن الله تعالى يقول: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} [الأنعام:145]، فإذا نظرت وجدت أن الميتة أو لحم الخنزير أو المذبوح لغير الله ثلاثة أصناف، مع أن السنة زادت محرمات أخر، فمثلاً: لحم الحمر الأهلية، فإنها ليست مذكورة في الآية الكريمة، وقد دلت السنة على أنها رجس، ولا يجوز أكل لحوم الحمر الأهلية، وكذلك أيضاً: كل ذي نابٍ من السباع، فإن السنة قد دلت على حرمة أكله، فهو ليس بميتة من حيث الأصل وليس بلحم خنزير، وليس داخلاً في الفسق الذي أهل به لغير الله، ولو أخذت بظاهر هذه الآية لأحللت أكل لحم الأسد والنمر، لكن لما جاءت السنة بتحريم كل ذي ناب من السباع، فإنك تقول بتحريمه، فالمقصود: أن الحصر في بعض الآيات، قد يراد به أصول المحرمات كأن تقول مثلاً: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} نبه على أصول المحرم من جهة التذكية، وهو الذي حل أكله في الأصل ولكن حرم لعارضٍ وهو عدم وجود الذكاة، مثلاً إذا جئت تنظر إلى بهيمة الأنعام وقد ماتت حتف نفسها بدون ذكاة تقول: إن هذه الآية أصل في تحريم هذا النوع، فكل ما لم يذكَ ذكاةً شرعية فهو مندرجٌ تحت: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً}، إلا ما استثناه الشرع من ميتة البحر لقوله عليه الصلاة والسلام: (الطهور ماؤه، الحل ميتته). كذلك أيضاً {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} تستطيع أن تقول: لحم الخنزير أصل في تحريم كل مستخبث، فهو جاء بلحم الخنزير نصاً ونبه على مثله معنىً، وهذا من دقة القرآن؛ أن نصوص الكتاب في بعض الآيات تأتي بأصول المحرمات، فعندما تلتفت إلى لفظ الآية تظن أن السنة زادت أشياء، لكن لو التفت إلى المعنى لاستبعدت ذلك الأمر، وهذا الذي جعل جماهير العلماء يعتبرون القياس فيقولون: لحم الحمر الأهلية كلحم الخنزير، بدليل قوله تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145]، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحمر الأهلية: (إنها رجس)، وكأن الأصل لم يختلف، فتجعل الآية أصلاً من جهة اللفظ ومن جهة المعنى، فتقول: أصول المحرمات لا تخرج عن كون الشيء مستخبثاً لذاته مثل الخنزير، أو يكون طيباً في أصله ولكن فقدت فيه الذكاة كالميتة، أو يكون مستخبثاً للمعنى؛ أي: فيه شرك؛ لأن الشرك مستخبث من جهة المعاني والاعتقاد، فيحرم الذي فيه شرك أو كان فسقاً أهل لغير الله به، فجاءت الآية بمجموع المحرمات، فقل أن تجد طعاماً محرماً يخرج عن هذه الثلاث، ولذلك حرمنا ذبائح المجوس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في المجوس: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم)، أين تضع ذبائح المجوس؟ تضعها تحت قوله: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام:145]؛ لأن الأصل فيهم أنهم يهلون لغير الله عز وجل، وتحرم ذبائح الوثنيين والمشركين لنفس الآية: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام:145]، وتحرم ما كان أصله حلالاً ولكنه لم يذك بالذكاة الشرعية؛ لأن حله موقوف على التذكية، فتقول: هو داخل تحت الميتة، فكل ما لزمت فيه الذكاة ولم تعمل فيه الذكاة فهو ميتة إلا ما خصه الدليل كصيد البحر. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في صيد الكلب: (إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه؛ فكل - وقال بعد- فإن أكل فلا تأكل -أي: إذا أكل الكلب من الفريسة فلا تأكل- فإني أخاف أن يكون إنما أمسك لنفسه). فالكلب يذكي، وذكاته أن يمسك الفريسة لك، فلو نهش الفريسة وقتلها بنهشه، حل أكلها؛ لأن هذا النهش مثل السلاح الذي يطلق ويقتل الفريسة، فكما أنك ترسل السلاح الجامد ترسل الحيوان، لكن لو فرضنا أنه أرسله على الفريسة وسمى، فاستوفى الشروط فالله يقول: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4]، أي لكم، فإذا أمسك وأكل؛ جاءت الشبهة: هل أمسك لنا، فيكون تحت آية الحل، أو أمسك لنفسه؛ فهو قد صاد لنفسه ولم يصد لنا، فحينئذٍ تقول: حرم أكله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن أكل -يعني الكلب- فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك لنفسه). هفل هذا محرم زائد عما في القرآن؟ تقول: أدرجه تحت الميتة؛ لأن الأصل أن هذا الممسوك ميتة، والذكاة تعمل في الحيوان إذا كانت على الوجه المعتبر، فلما كانت ذكاة الكلب على غير الوجه المعتبر؛ ألحقت بالميتات، وأصبحت مندرجة تحت هذا الأصل، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

مقدمة كتاب الطلاق [5]

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الطلاق [5] من المسائل التي بحثها العلماء رحمهم الله في الطلاق ما يكون من الألفاظ الغير صريحة في الطلاق، وما يترتب على هذه الألفاظ مع النية ومع عدم النية.

ألفاظ كناية الطلاق

ألفاظ كناية الطلاق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين؛ أما بعد فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: وكنايته]. قوله: (وكنايته) جمع كناية، والكناية: من كن الشيء، قال تعالى: {مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} [النحل:81]. فالكن: الشيء المستتر؛ لأن الجبال فيها كهوف يستكن بها من المطر والريح والشمس، وكذلك الجبال أكنان؛ لأنها تحفظ من الرياح العاتية، والمقصود أن (الكن) أصله الاستتار، وقالوا: إنه لفظ خفي، فهو يتردد بين الطلاق وبين غيره، فأصبحت الألفاظ التي يُطلَّق بها تنقسم إلى قسمين: ألفاظ صريحة لا تحتمل معنى آخر كالطلاق، وألفاظ ليست صريحة في الطلاق الذي تعارف الشرع بأنه يكون صريحاً، وحينئذ تتردد بين الطلاق وغيره.

حكم الطلاق بالكناية

حكم الطلاق بالكناية مسألة: هل الطلاق ينحصر فقط في ألفاظه الصريحة، أم أن الطلاق يقع بالكناية كما يقع بالصريح؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: فذهب جمهور العلماء وجمهور الأئمة من السلف من الصحابة والتابعين، ومنهم الأئمة الأربعة، وهو قضاء عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إلى أن الطلاق يقع بالكناية كما يقع بالصريح، واستدلوا له بالسنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم وذلك فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث أبي العباس سهل بن سعد الساعدي وأبي أسيد الساعدي -رضي الله عن الجميع-: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوج ابنة الجون) -وهي امرأة عقد عليها رسول صلى الله عليه وسلم، فلما أراد أن يدخل بها وكانت جميلة، (قال أبو أسيد: أنزلتها عند حائط بني ساعدة) والأشبه أن تكون سقيفة بني ساعدة، وكان هذا الحائط في الجهة الغربية إلى الشمالية من المدينة، ولا يزال إلى الآن معروفاً، وما زالت له بقية- قال: (فألم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لها لما دخل عليها: هبي لي نفسك) وهذا من باب كريم معاشرته عليه الصلاة والسلام لزوجاته، فالزوج ربما يتحدث بشيء يحدث عندها نوعاً من السكينة ونوعاً من الرغبة. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هبي لي نفسك) ومرادنا بشرح هذه الكلمات، الجواب على الظاهرية؛ لأن الظاهرية يرون أن هذه المرأة ليست بمنكوحة وإنما هي مخطوبة، وأن الذي وقع أنها وهبت نفسها بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (هبي لي نفسك) وهذا ضعيف؛ لأن هبة النفس تكون قبل الدخول، حتى يحصل الدخول بعد ذلك فتحل له، قال تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب:50]، وقال تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب:50]، فكأنه يقول: أحللتها إن وهبت. فالظاهرية ينفون أن هذا الحديث يدل على هذه المسألة، فهم يضعفونه من جهة أنهم يقولون: إنها وهبت نفسها، ولم يقع بعد النكاح، حتى يكون لفظ النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: (الحقي بأهلك) ليس من باب الطلاق، فهذا المراد. ونحن نقول: هبي لي نفسك، من باب الاستئناس والمباسطة من كريم عشرته عليه الصلاة والسلام لأهله. فقال لها: (هبي لي نفسك) فيقال: إن هذا شيء يقع بين النساء من باب العجب والغرور. فقالت مغترة بنفسها من باب الإغراء: (وهل تهب العالية) وفي الرواية الصريحة: (هل تهب الملكة نفسها للسوقة)، هل تهب المرأة العزيزة والشريفة العالية نفسها، وليس المراد هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سوقة، وإنما مرادها أنها شيء كبير جداً، وأنها أرادت أن تتعزز، والنساء بهن شيء من التعزز من باب الإغراء. فأرادت أن تغري رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمات. فقالت: (وهل تهب الملكة نفسها للسوقة) أي: العزيزة الكريمة هل تهب نفسها لمن دونها؟ A لا، فكأنها تقول: لا أهب. وما جاءت بلا، لأنها لو قالت: لا أهب، لحصلت النفرة، فتأتي المرأة دائماً بالإغراء بكلمة تتضمن المعنى، وتريد شيئاً آخر. فلما قالت ذلك: (مد يده إليها) إذا لو كان مرادها الإهانة لما مد يده إليها صلى الله عليه وسلم، فإنه أكرم من أن يقبل أن يهان، ولكن علم منها أنها تريد الإغراء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعض روايات السير وقد تكلم العلماء على هذه الرواية: (أن أمهات المؤمنين قلن لها: إن أردت أن تكوني حظية، فقولي: أعوذ بالله منك -وكانت جميلة وكأنهن غرن منها- فلما مد يده إليها، قالت: أعوذ بالله منك، قال: لقد استعذت بعظيم، الحقي بأهلك) وكانت الحقيقة أنها حرمت من هذا الفضل العظيم. فوجه الدلالة لما قال: (الحقي بأهلك) فجماهير العلماء والسلف، قالوا: جعل النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (الحقي بأهلك) الذي هو ليس بصريح الطلاق، فليس بلفظ (طلاق) ولا (سراح) ولا (فراق) جعله طلاقاً. فقال لها: (الحقي بأهلك) ونواه طلاقاً، فوقع طلاقاً. فنازع الظاهرية في هذا، وقالوا: (الحقي بأهلك)؛ صَرْفٌ من النبي صلى الله عليه وسلم ورد لها إلى أهلها، وهذا ضعيف؛ لأن الرواية في الصحيح تقول: (أمرني رسول الله أن أردها إلى أهلها) وفي الرواية الأخرى: (وألحقها بأهلها) والقائل هو أبو أسيد، فقد خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من عندها، فقال: (ألحقها بأهلها، واكسها زارقتين) والتي هي متعة الطلاق، وهذه متعة، والمتعة لا تقع على امرأة ليست بزوجة، وهذا يؤكد مذهب الجمهور، أنه وقع الطلاق ووقعت متعة الطلاق، فقول الجمهور له قوة من عدة وجوه: الوجه الأول: أنه لا يمكن أن يدخل بها لو كانت واهبة لنفسها قبل أن تقع الهبة صريحة منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم. الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم مد يده إليها، ولا تمتد يده إلى أجنبية، قال: (إني لا أصافح النساء) ولا يمكن أن تمتد يده لامرأة لم تحل له بعد، خاصة وأنه قال لها: (هبي لي نفسك) فلو سلمنا للظاهرية أنها هبة، ولم تقع بعد، فلا يمد يده إلا وقد حصل النكاح، ولا يقع هذا إلا وقد كانت المرأة زوجة. الوجه الثالث: مما يؤيد مذهب الجمهور، قوله صلى الله عليه وسلم لـ أبي أسيد: (اكسها زارقتين) والزارقتين: ملحفتين -نوع من الثياب- فجعلهما متعة لها، والمتعة لا تكون إلا بالطلاق. ولذلك قال تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:49]، وهذا يؤكد مذهب الجمهور، وإذا ثبت هذا فإننا نخلص إلى حكم، وهو أن غير الصريح كالصريح، لكن بشرط وجود النية.

مذاهب العلماء في ألفاظ الكناية

مذاهب العلماء في ألفاظ الكناية قال رحمه الله: [وكنايته الظاهرة]. إذا ثبت أن في الطلاق ألفاظ كنايات تدل على الطلاق ليس بصريحها، ولكن باحتمالها. فإنها تنقسم هذه الألفاظ إلى قسمين: القسم الأول: يدل على الطلاق دلالة قوية، تشبه الصريح. القسم الثاني: وهو دون ذلك. وفي مذهب الحنابلة رحمهم الله قسموا الكنايات إلى ثلاثة أقسام: كناية ظاهرة، وكناية خفية، وكناية مختلف فيها. فهناك ألفاظ اتفق على أنها ظاهرة، وألفاظ اتفق على أنها خفية، وألفاظ ترددت بين الخفي والظاهر. والحنفية رحمهم الله عندهم العبرة في باب الكنايات بالنية، فألفاظ الكنايات كلها يرجعون فيها إلى النية؛ لكنهم استثنوا (اعتدي) (واستبرئي رحمك) (وأنت حرة). فـ (اعتدي) لأن العدة لا تكون إلا من طلاق، (واستبرئي رحمك) لأن الاستبراء من الرحم مثله (وأنت حرة) فالمرأة لا تكون حرة إلا إذا خرجت من عصمة زوجها، فهذه الألفاظ الثلاثة عندهم أقوى ألفاظ الكنايات الدالة على الطلاق. وأما بالنسبة للمالكية رحمهم الله فهم أوسع المذاهب في وقوع الطلاق؛ لأنه سبق وأن ذكرنا الرواية عنهم أنهم يطلقون بالنية، حتى لو أن اللفظ لا يحتمل الطلاق ألبتة، أو ليس له أي علاقة بالطلاق، ونوى الطلاق به طلقت، ونصوا على أنه لو قال: (اسقيني ماءً) ناوياً به الطلاق؛ طلقت، فأوسع مذهب في الطلاق هو مذهب المالكية. فأصبح اللفظ عندهم ضعيفاً؛ لأنهم يرون تأثير النية أكثر من اللفظ، ولذلك تجد مسألة الكنايات عندهم ليست كغيرهم ممن يجعل حدوداً وضوابط معينة، ويقسم اللفظ إلى الصريح وغير الصريح، ويجعل للفظ تأثيراً كما هو مذهب الجمهور. أما الشافعية رحمهم الله ففي الحقيقة أن مذهبهم من أقرب المذاهب، والحق يقال في هذا؛ فإنهم قالوا: الأصل أن الكنايات لا يقع بها الطلاق إلا إذا نوى، وليس عندهم كناية ظاهرة ولا خفية، وإن كان بعض الألفاظ أقوى من بعضها، لكن باب الكنايات عندهم واحد، فيرون أن الأمر راجع إلى نية المكلف، إن نوى الطلاق وقع، وإذا لم ينو لم يقع، إلا أن الحنابلة في مذهبهم أقوى من الشافعية رحمهم الله لاعتمادهم الروايات عن الصحابة، وقضاء الخلفاء الراشدين، مثلاً: قضية (بتة)، وحكمهم فيها بالثلاث، وكذلك قولهم: (أنت حرام) (وأنت الحرام)، وقضاء علي رضي الله عنه فيها بالثلاث. فمذهب الصحابة يؤكد أن هناك ألفاظاً هي دالة على الطلاق وإن لم تكن من صريح الطلاق، فعندما يقول الرجل لامرأته: أنت بتة، والمبتوتة -والعياذ بالله- هي المقطوعة، فإذا قال لها: أنت بتة، يعني: قطع ما بينه وبينها، قالوا: هذا ما فيه إشكال أنه يريد الطلاق. فمثل هذا اللفظ نفسه يدل على الطلاق، ويدل على حل العصمة، ولذلك يقارب الصريح، ومثله (بتلة، برية، أنت الحرج، أنت خلية)، هذه الألفاظ التي ذكرها المصنف.

كنايات الطلاق الظاهرة

كنايات الطلاق الظاهرة قال رحمه الله: [وكنايته الظاهرة، نحو: أنت خلية وبرية وبائن وبتة وبتلة وأنت حرة وأنت الحرج]. كناية الطلاق الظاهرة إن نوى الطلاق تقع بالثلاث وتحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره، وعند الإمام أحمد إن لم ينو بها فواحدة، والألفاظ الظاهرة هي: (أنت بتة، بتلة، برية، بائن، خلية، أنت الحرج، أنت حرة)، فيزاد على ما ذكره المصنف: (أنت حرة) فتصبح سبعة ألفاظ. قوله: (أنت بائن) تكون زوجة الرجل في عصمته فيقول لها: أنت بائن. والبينونة إما بينونة صغرى وإما بينونة كبرى، فإذا قال لها: أنت بائن، إن كان قبل الدخول، فيستقيم أن تكون طلقة إن نواها، فتطلق طلقة واحدة، ولا تكون ثلاثاً، كما صرح المصنف. ولهذا إذا قال لها: (أنت بائن) ولم يكن دخل بها، فإنها تبين بطلقة واحدة، وتكون البينونة الصغرى، وفي هذه الحالة إذا نوى الطلاق فإنها تبين بالواحدة، لكن إن كانت مدخولاً بها وقال: قصدت الطلاق، فإنها تطلق ثلاثاً؛ لأن المدخول بها لا تكون بائناً إلا بالثلاث، فلا تحرم على زوجها وتكون بائناً إلا ببينونة كبرى، أما البينونة الصغرى فتكون طلقة رجعية ولا تنفذ حتى تخرج من عدتها، والبينونة الصغرى تحل للزوج بعقد جديد، والكبرى لا تحل إلا بعد نكاح زوج آخر، قال تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] والرجعية تحل له بدون عقد. فهذا الفرق بين الرجعية البائن بينونة صغرى وبين البائن بينونة كبرى. ولأجل توضيح هذه الصورة: إذا قال لها: أنت بائن، وقصد الطلقة الواحدة بغير المدخول بها استقام القول، ونيته معتبرة، ولا إشكال في كونه قاصداً لذلك. لكن لو قال لها: أنت بائن، وقد دخل بها، فبينه وبين الله أنه طلقها طلاقاً تبين منه، ولا تبين المرأة إن كانت في العصمة إلا بالثلاث، كما هو قضاء عمر بن الخطاب وقضاء الصحابة رضي الله عنهم، والعمل عليه عند الأئمة رحمهم الله. وإذا قال لها: أنت برية، فالمرأة يبرؤها زوجها إذا خرجت من عصمته، فإن كانت في عصمته وقد دخل بها؛ فإنها لا تكون بريئة بالمعنى التام الكامل إلا بالثلاث. قوله: (أنت بتة) المبتوتة لا تكون إلا بالثلاث، ولذلك تقول امرأة رفاعة: (فبت طلاقي)، وقالت فاطمة رضي الله عنها: (أرسل لها آخر التطليقات وبت طلاقها). فالمبتوتة هي صاحبة الثلاث. قوله: (بتلة) كذلك إذا قال لها: أنت بتلة، والبتل: هو قطع الوصال. فالمرأة البتلة هي التي قطع الوصال بينها وبين زوجها، ولا ينقطع الوصال إلا بالثلاث؛ لأنه لو قلنا في هذه الألفاظ: إنها تعد طلقة واحدة لم تكون مبتوتة من كل وجه، ومن حقه أن يردها، ولم تكن بائنة من كل وجه؛ لأنه من حقه أن يرتجعها. فقالوا: لا تحمل إلا على الثلاث، وأكدوا ذلك بقضاء علي رضي الله عنه وغيره من الصحابة في ألفاظ الكنايات. وأما قوله: (أنت الحرج) فالمرأة لا تكون حرجاً على زوجها إلا إذا بانت من عصمته، وانحلت العصمة بدون رجعة، حتى تكون حرجاً عليه، فتكون حرجاً عليه بالثلاث. فلو حملناه على الواحدة لم يتفق مع اللفظ الذي قاله، فهو يقول: أنت الحرج. قوله: (أنت حرة) والمرأة لا تكون حرة خالية من زوجها إلا بالثلاث، فتكون بائنة بينونة كبرى. قوله: (أنت خلية). تكون المرأة خلية من زوجها، إذا خرجت من عصمته بالطلاق البائن أو من عدتها، وتكون حرة حينئذ، لكنها وهي في عصمته وفي نكاحه، إذا قال لها: أنت حرة، كأنه يقول: قصدت أن تخرجي من عصمتي بالكلية، وهذا لا يكون إلا بالثلاث. فهذا وجه تخصيص هذه الألفاظ: (أنت بتة، بتلة، بائن، برية، أنت حرج، أنت خلية أنت حرة). فهذه السبع تعتبر من الكنايات الظاهرة.

كنايات الطلاق الخفية

كنايات الطلاق الخفية قال رحمه الله: [والخفية]. هذا النوع الثاني أدخل المصنف فيه ألفاظاً اختلف فيها. والخفية أضعف من الظاهرة، فالرجل إذا طلق امرأته بالكناية الخفية يرجع إلى نيته، إن نوى الطلاق فالطلاق، وإن لم ينو الطلاق فليس بطلاق. قال رحمه الله: [فالخفية نحو اخرجي]. اخرجي، اذهبي، تقنعي، لست لي بامرأة، لست لي بزوجة، هذا بالنسبة للخفية. واختلف في النوع الثالث وسيذكر المصنف بعض ألفاظه في الخفية؛ لأنه رجح أنه من الخفية، وبعض العلماء يراه من الظاهرة، كقوله: لا سلطان لي عليك، لا سبيل لي عليك، فهذه قيل: إنها ظاهرة؛ لأن المرأة حينما يقول لها زوجها: لا سلطان لي عليك، فمعنى ذلك أنها قد خرجت من عصمته بالكلية؛ لأنه لو قلنا: إنها طلقة واحدة؛ فإنه له سلطان أن يرتجعها بعد الطلقة، ولذلك قالوا: تكون كقوله: أنت بائن، أنت بتة، أنت بتلة إلخ. كما تقدم. قال رحمه الله: [نحو اخرجي واذهبي]. اخرجي من البيت، اذهبي لأهلك، اذهبي لأبيك، اذهبي لأخيك، هذا اللفظ: (اخرجي، اذهبي) يحتمل معنيين: يحتمل أن الرجل في غضب، وفي حال من الانزعاج، ولا يريد أن تكون زوجته عنده حتى لا يحتد الأمر ويصل إلى الطلاق، فقال لها: اخرجي أو اذهبي إلى أهلك، ولعل الله أن يخفف ما به من الغضب، أو يذهب ما به من السخط، فلا يقصد الطلاق، فإذا قال لها: اذهبي، الحقي بأهلك، اخرجي، قاصداً أن تذهب إلى أهلها، ولم يقصد الطلاق، فليس بطلاق، إذا لم ينوه طلاقاً، فكان من الخفي. قال رحمه الله: [وذوقي]. أي: إن المرأة تتذوق عسيلة الغير، حتى ولو كان المقصود طلقة رجعية؛ فإنها تطلق. قال رحمه الله: [وتجرعي]. الذوق يكون في الطعام والشراب، والتجرع يكون في الشراب غالباً، قال تعالى: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم:17]، وكأنه يقول: تجرعي، أي: اذهبي لغيري، من أجل أن يصيبك، فهذا في معنى الطلاق. وقد يكون من تجرعي بمعنى: الطرد، أو تجرعي بمعنى: أن تفارقه مدة، فتتجرع ألم الفراق عن الزوج، فليس من الصريح، وبعض العلماء يجعلونه من الصريح. قال رحمه الله: [واعتدي]. لأن المرأة تعتد بطلقة واحدة. فهذا ليس من الثلاث، وأيضاً قد يقصد به الطلاق، وقد لا يقصد به الطلاق. قال رحمه الله: [واستبرئي] واستبرئي كذلك. قال رحمه الله: [واعتزلي]. فإن المرأة تعتزل زوجها مطلقة، وتعتزل زوجها دون طلاق، فلا يقصد به حل عصمتها. قال رحمه الله: [ولست لي بامرأة]. أي: على الكمال أو كما ينبغي أن تكون المرأة لزوجها، وقد يكون المراد (لست لي بامرأة) أي: أنك طالق. فيتردد بين كونها طالقاً وغير طالق، فينظر إلى نيته، فإن قال: لست لي بامرأة ناوياً الطلاق فيقع طلاقاً، وإن لم ينو به طلاقاً فليس بطلاق. قال رحمه الله: [والحقي بأهلك]. كـ ابنة الجون، فإن قال لها: اذهبي لأبيك، اذهبي لأهلك، اذهبي لأخيك وقصد به الطلاق فطلاق، وإن قصد بها أن تذهب فترة حتى يسكن غضبه أو يسكن غضبها أو يسكن غضبهما معاً فلا طلاق. قال رحمه الله: [وما أشبهه]. أي: وما أشبهه من الألفاظ.

وقوع طلاق الكناية بالنية ودلالة الحال

وقوع طلاق الكناية بالنية ودلالة الحال قال رحمه الله: [ولا يقع بكناية ولو ظاهرة طلاق، إلا بنية مقارنة للفظ إلا حال خصومة أو غضب أو جواب سؤالها]. بالنسبة للطلاق بالكنايات، قلنا: مرده إلى النية، وبعض العلماء يرى أن الكنايات الظاهرة -كما هو موجود في مذهب المالكية- تقارب اللفظ الصريح، ولا يعتد بها صريحاً، فعندهم تضعف النية على هذا الوجه، فالمصنف رحمه الله مشى على المذهب من أنه ينظر فيه إلى النية، فإذا نوى به الطلاق فيشترط أن تكون النية مصاحبة للفظ، كأن يتلفظ بأنت بائن، أو أنت برية أو أنت خلية، أنت حرج وهو ناوٍ الطلاق والنية مصاحبة للفظ. فإن تأخرت نيته للطلاق عن اللفظ لم تؤثر. ولكن عندنا في الكناية جانبان ينبغي أن نتنبه لهما، الأول: النية. والثاني: دلالة الحال. فأما النية فمثلما ذكر المصنف، وتكون مصاحبة للفظ، إما مقاربة له أو تكون مع اللفظ الذي نيته الطلاق، فإن تأخرت فإنها لا تؤثر كما ذكرنا. أما دلالة الحال: كأن يقول لها ذلك في الغضب أو يقول لها ذلك في جواب السؤال، هذا يسمى دلالة الحال، ويطلَّق به في الكنايات، كامرأة قالت لزوجها: طلقني، فقال لها: أنت بائن، أو قالت له: طلقني، فقال لها: أنت خلية أو أنت برية أو أنت خلية أو أنت الحرج أو اعتدي أو استبرئي، فطلاق، هذا إذا كان الحال جواب سؤال، وأما عند الخصومة فكما لو اختصم مع زوجته واشتد الخصام، فقالت له كلمة أغضبته، فقال لها بعد ذلك: أنت برية، أنت بتة، أنت بتلة، أنت حرج، أنت حرة، فحينئذ يحكم بالطلاق.

وقوع الطلاق حكما بالكناية الظاهرة وإن عدمت النية

وقوع الطلاق حكماً بالكناية الظاهرة وإن عدمت النية قال رحمه الله: [فلو لم يرده أو أراد غيره في هذه الأحوال، لم يقبل حكماً]. هذا إذا كان تلفظه بالكناية جواباً للسؤال أو كان لفظه من الصريح؛ ولكن بينه وبين الله ينفعه. فاختلفت الكناية الظاهرة عن اللفظ الصريح من جهة النية، فاللفظ الصريح يطلق به ولو لم ينو ما دام أنه قد قصد اللفظ. وأما بالنسبة لغير الصريح -الكنايات- فإننا لا نطلق إلا مع النية، ديانة وحكماً. فإن تخلفت النية أخذنا بالظاهر، كما لو سألته زوجته أن يطلقها، فقال لها: أنت بائن. فإننا نطلق حكماً، وبينه وبين الله تنفعه نيته، لكننا نطلق حكماً وقضاءً. فمثلاً لو قال لها: أنت بتة، ولم ينو الطلاق، وقصد أنت مقطوعة، أي: ما عندك أخوال ولا أعمام ولا أناس يحمونك، أو عندك أبوك وأخوك وقرابتك ولكن لا ينفعونك، فقصد: أنت بتة، يعني: أنت ضعيفة، يريد أثناء الخصومة. فنحن نعمل بالظاهر على أنه طلاق، لكن بينه وبين الله قصد أنها مبتوتة، أي: ليس لها أحد يحميها أو يكون معها، فينفعه فيما بينه وبين الله، ولا ينفعه قضاءً.

وقوع الطلاق بالكناية الظاهرة ثلاثا ولو نوى واحدة

وقوع الطلاق بالكناية الظاهرة ثلاثاً ولو نوى واحدة قال رحمه الله: [ويقع مع النية بالظاهرة ثلاثاً وإن نوى واحدة]. قوله: (بالظاهرة ثلاثاً ولو نوى واحدة) إلا ما استثناه بعض العلماء وهو: إذا كان قبل الدخول وقال لها: أنت بائن، فالأشبه في طلاقه لها بالبينونة يتجه أن يكون بينونة صغرى بخلاف المدخول بها؛ فإنه لا بينونة لها على هذا الوجه إلا بثلاث، فلا تنفعه النية. إذاً: إذا طلق بالكناية الظاهرة لم يخلُ في نيته بالطلاق من حالتين: أن يطلق بالكناية الظاهرة ناوياً الثلاث فثلاث، كأن يقول لها: بتة، بتلة، بائن، برية، حرج، حرة، فهذه توجب الثلاث بنيته، فحينئذ لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وإن قصد بالظاهر الطلاق واحدة، كأن يقول لها: بتة، بتلة، برية، بائن، حرج، حرة، وقصد واحدة فثلاثاً؛ لأن هذه لا تحتمل الواحدة فلا توجد واحدة بائنة؛ إلا ما ذكرناه في غير المدخول بها، ولا توجد بريئة بتة مقطوعة من كل وجه بطلقة واحدة فقط، كما ذكرنا بالتفصيل. قال رحمه الله: [وبالخفية ما نواه] فافترقت الخفية عن الظاهرة من جهة قوة تأثير النية بالخفية دون الظاهرة. والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

مقدمة كتاب الطلاق [6]

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الطلاق [6] هناك ألفاظ يطلقها الزوج ويختلف الأثر المترتب عليها باختلاف نيته وقصده، وهذه الألفاظ يكثر السؤال عنها وتعم بها البلوى، ولهذا بحث العلماء رحمهم الله هذه الألفاظ وما يتعلق بها.

حكم تحريم الزوج زوجته على نفسه

حكم تحريم الزوج زوجته على نفسه قال رحمه الله تعالى: [فصل: وإن قال: أنت عليَّ حرام أو كظهر أمي؛ فهو ظهار ولو نوى به الطلاق]. هذه المسألة تعرف بمسألة تحريم الزوجة. أولاً: ما هو لفظ التحريم؟ وما هي صورته التي يقع بها؟ لفظ التحريم يقع عاماً ويقع خاصاً. يقع عاماً فيقول: ما أحل الله لي فهو حرام علي، أو الحلال حرام علي، هذا اللفظ يعتبر لفظاً عاماً، ويسمونه: لفظ تحريم عام، والزوجة داخلة تحت هذا العموم. الحالة الثانية: أن يخص ويخاطب الزوجة، فينقسم إلى التعريف والتنكير، فالتنكير كخطابه لزوجته وقوله لها: أنت حرام، زوجتي حرام، حرمت. هذه كلها بألفاظ النكرة، والتعريف كقوله: أنت الحرام، عليَّ الحرام منك، ما أحل الله لي منك فهو الحرام عليَّ، أو الحلال حرام بالعموم كأن يقول: الحلال منك حرام عليَّ، هي حرام. ونحو ذلك، هذه كلها ألفاظ تحريم، وهذا اللفظ حكمه في الشرع أنه زور وإثم على صاحبه -والعياذ بالله- لأن الله حرم على المسلم أن يحرم ما أحل الله له، وأجمع العلماء على أنه آثم، والدليل على ذلك: أولاً: قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116]، فهو يقول: (حرام) في موضع حلال، فيفتري على الله الكذب، فجعل ما أحل الله حراماً وما حرمه حلالاً. فكيف يجعل الحلال حراماً والحرام حلالاً؟! فكان هذا افتراء وكذباً على الله. ثانياً: ما ثبت عند أحمد في مسنده وهو حديث صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تحلوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها) فقال: (أحل أشياء فلا تحرموها) فأحل الله له زوجته، والزوجة حلال له بحكم الله عز وجل، قال تعالى: {إنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب:50]. فإذا ثبت أنها حلال له وقال: أنت حرام عليَّ، حرمتك، الحرام يلزمني. فإنه في هذه الحالة جعل ما أحل الله له حراماً، وقد عاتب الله نبيه في هذه المسألة، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1]، والاستفهام في قول الجماهير من المفسرين استفهام يتضمن المعاتبة والإنكار؛ كأنه أنكر على نبيه ذلك، فدل على أنه يحرم على المسلم أن يقول هذه الكلمات. هذه المسألة الأولى: عرفنا ما هو الحرام، وعرفنا الحكم الشرعي فيه، والواجب على كل طالب علم سمع رجلاً يقول: عليَّ الحرام، زوجتي حرام، أنتِ حرام. أن يقول له: اتق الله واستغفر الله من هذا الذي تقول، فإن الله لم يأذن لك أن تحرم ما أحل لك، كما لم يأذن لك أن تحل ما حرم عليك. فلا يجوز لك هذا، وتنصح وتقول له: هذا حرام عليك.

توجيه العلماء وأئمة المذاهب لقول الرجل لزوجته: أنت علي حرام

توجيه العلماء وأئمة المذاهب لقول الرجل لزوجته: أنت علي حرام مسألة إذا قال لامرأته: أنت عليَّ حرام، أنت حرام، حرمتك، فما الحكم؟! هذه المسألة فيها تفصيل وكلام طويل، فهناك ما يقرب من عشرين قولاً للعلماء رحمهم الله في هذه المسألة التي هي من أطول المسائل، والكلام فيها مستفيض، فقد حكى فيها الإمام القرطبي -من أئمة التفسير- وغيره في كتب أحكام القرآن، وتكلم الإمام ابن القيم رحمة الله عليه، عليها في أعلام الموقعين وفي الهدي أيضاً، وأجاد فيها وأفاد كعادته رحمه الله برحمته الواسعة، وتكلم عليها شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى كلاماً نفيساً، واختار ما رجحه بدليله. فهذه المسألة من مشهورات المسائل والتي طال فيها الكلام بين العلماء، لكن الذي يهمنا هو ما ذكرته المذاهب المشهورة، والتي هي المذاهب الأربعة ومذهب الظاهرية رحمة الله على الجميع؛ لأن هذه المذاهب في الغالب احتوت خلاف الصحابة، وجعل الله لهذه المذاهب من القبول ما لم يجعله لغيرها؛ لأنها شملت أكثر الأقوال، فقل أن تجد مسألة يخرج فيها الخلاف عن هذه الخمسة الأقوال، وقد يوجد لكن يندثر مع طول الزمان، لكن الله عز وجل أبقى هذه المذاهب واعتنى بها لحكمة يعلمها سبحانه، فلله عز وجل في ذلك الحكمة، وهو أعلم بما جعل لعباده. فالمقصود أننا نقتصر على المشهور، قال الحنفية: لو أن الرجل قال لامرأته: أنت حرام، علي الحرام، الحلال منك عليَّ حرام. قالوا: إما أن ينوي طلاقاً أو ينوي ظهاراً أو ينوي يميناً أو ينوي لغواً وكذباً، وفي حكمه ألا ينوي شيئاً. قالوا: إذا قال: زوجتي حرام، أنت عليَّ حرام، حرمتك، قاصداً الطلاق، سألناه: هل تقصد طلقة؟!! فإن أراد واحدة فواحدة رجعية، وإن أراد طلقتين فاثنتين، وإن أراد ثلاثاً فثلاثاً، وتحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره، هذا إذا نوى الطلاق. وأما إذا نوى الظهار، فعندهم قولان: قيل: يكون ظهاراً، وقيل: لا يكون ظهاراً. والخلاف كان بين الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف من جهة، ومع الإمام محمد بن الحسن من جهة أخرى، والمذهب مع قول الإمام أبي حنيفة أنه إذا نوى الظهار صار ظهاراً، فإذا قال: أنت عليَّ حرام، يعني: لا أطؤك. يعني: كظهر أمي، فيحرم وطؤها، ويجعلها كأمه لا يستمتع بها، فإذا نوى ذلك فظهار. الحالة الثالثة: أن تكون نيته اليمين، فيقول: نويت أن يكون يميناً، فحينئذ تلزمه كفارة اليمين. الحالة الرابعة والأخيرة: أن يقول لها: أنت عليَّ حرام، أنت حرام، وينوي اللغو أو الكذب، فعندهم فيه وجهان: قيل: إنه لغو مطلقاً، وقيل: لغو، وإن رفع إلى القضاء وقال: ما نويت شيئاً أو قصدت الكذب أو قصدت اللغو، فإننا في هذه الحالة نلزمه أن يحلف اليمين ليصدق قوله، وليس عليه شيء، وهذا حاصل ما ذكره فقهاء الحنفية. والشافعية وافقوا فقهاء الحنفية في هذا التفصيل، والفرق بين الحنفية والشافعية في الحالة الأخيرة إذا لم ينو شيئاً، فعند الشافعية يُكفر كفارتين، وتنعقد يميناً، وعند الحنفية لا تنعقد شيئاً. فالشافعية يوافقون الحنفية إلا في مسألة عدم النية. القول الثالث: قول المالكية، فرقوا بين النكرة والمعرفة. في التنكير إذا قال: أنت حرام، حرمتك. فإنه طلاق بالثلاث، وتحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره. وأما إذا قال: أنت حرام، وهناك عرف، فننظر إلى العرف الذي هو فيه؛ فإن جرى العرف الذي هو فيه أنه طلاق، فيحتسب بحسب ذلك العرف، إن كان رجعياً فطلاق رجعي، وإن كان بائناً فبائن. وأما بالنسبة للحنابلة رحمهم الله فأقفلوا الباب في المسألة نهائياً، فقالوا: من قال لامرأته: أنت عليَّ حرام، أنت الحرام، حرمتك؛ فإنه ظهار مطلقاً، حتى ولو نوى به الطلاق أو اليمين فظهار. والذي دعا العلماء إلى هذا الاختلاف كما قرره الإمام القرطبي وغيره من جهابذة العلماء في بيان أن السبب في اختلاف الأقوال وتعددها: أنه ليس هناك نص لا في الكتاب ولا في السنة يبت في هذه المسألة وفي وجوهها، وإن كانت آية التحريم في جانب من الجوانب تقوي بعض هذه الأقوال، لكن بالنسبة لقضاء الصحابة اختلف، فعن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه جعل (أنت عليَّ حرام) طلاقاً بالثلاث يوجب البينونة الكبرى، ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، والسبب في هذا أنه إذا قال لزوجته: أنت عليَّ حرام، فالمرأة لا تكون حراماً على زوجها إلا بالثلاث. فهذا قضاء علي رضي الله عنه والخليفة الراشد المأمور باتباع سنته. أما عثمان رضي الله عنه، فإنه كان يرى أن (أنت عليَّ حرام) ظهار، وسبب هذا الاختلاف راجع إلى الأدلة وفهم النصوص، فليس هذا الخلاف عبثاً، والصحابة من الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباعهم اختلفوا، فـ علي رضي الله عنه عندما جعله ثلاثاً نظر إلى كلمة (حرام) فالشرع لا يحرم الزوجة إلا بالثلاث؛ لأنه لو قال: واحدة؛ لم تكن حراماً، فهو بينه وبين الله جعل امرأته حراماً، فأخرجها من عصمته كما لو قال لها: أنت طالق بالثلاث، هذا قضاء علي. فإذا نظرت إلى قضاء علي رضي الله عنه، فإن علياً نظر إلى اللفظ والمتلفظ -الذي هو الزوج- وأما عثمان فنظر إلى المحل، فالمحل -المرأة- تعلقت به صفة التحريم، ولذلك وجد في الشريعة جانبان: تحريم خاص: وهو تحريم الاستمتاع، وتحريم عام وذلك بالتطليق ثلاثاً، فقال: اليقين عندي أن آخذ بأقل التحريم؛ لأن الأصل أنها زوجته، فأقول: أحرم عليك فقط وطأها ويكون ظهاراً، وهو قول عثمان رضي الله عنه وأرضاه، فكلٌ ينظر إلى جانب، إما أن تنظر إلى محل اللفظ، وإما أن تنظر لدلالة اللفظ، فإن نظرت إلى دلالة اللفظ أنه حرمها وأخرجها من عصمته، فلا تحرم ولا تخرج من عصمته إلا بالثلاث، وإن نظرت إلى أن المحل في حكم الشرع تعلق به تحريم، فالشرع يحرمه بالثلاث، ويحرمه بالظهار، وأيضاً يحرمه بالإيلاء، وذلك باليمين. وقد قضى ابن عباس أنها يمين، ونظر إلى ما يتعلق به التحريم من جهة اللفظ في حلف الرجل المولي فقال: حكمه حكم اليمين، وجعله يميناً. والحنفية يعملون قول ابن عباس رضي الله عنه في جعله يميناً في بعض الأحوال، ويجعلونه إلى حد الأربعة الأشهر، ويسري عليه حكم الإيلاء من هذا الوجه، هذا بالنسبة لمن قال: إنه ظهار، ومن قال: إنه ثلاث طلقات، ومن قال: إنه يمين. أما الظاهرية فقالوا: هذا لغوٌ ولا شيء فيه، وما دليل الظاهرية؟ ولماذا قال الظاهرية بهذا؟ قول الظاهرية هو رواية عن ابن عباس، فشركوا الأئمة الأربعة بأن قولهم له أصل أيضاً من الصحابة، وإن كان أصل من قال بالثلاث ومن قال بالظهار أقوى في الصحابة؛ لأن عثمان وعلياً ليسا كـ ابن عباس رضي الله عنه، ولأن منزلة عثمان وعلي في الأمر باتباع سنتهم تجعل رجحان المروي عنهما أكثر من ابن عباس رضي الله عنه. فالشاهد أن الظاهرية قالوا: إنه لغو، وهو رواية عن ابن عباس رضي الله عنه وقال به بعض أئمة السلف كـ مسروق رحمه الله، واحتجوا بأدلة منها إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) فوجدنا أن قوله: (أنت علي حرامٌ) لا يستقيم مع الشرع ألبتة، فالشرع جعلها حلالاً، وهو يقول: إنها حرام، فقالوا: في هذه الحالة صار من البدع، ومن المعارض للشرع فهو لغو، ووجوده وعدمه على حدٍ سواء، هذا مذهب الظاهرية ومسلكهم. والذي يترجح -والعلم عند الله- القول بالنية، فإن القول بالنية من القوة بمكان؛ لأن الرجل حينما قال لامرأته: أنت علي حرام، فهناك شيءٌ بينه وبين الله، فإن قصد به الثلاث فثلاثٌ كما قضى علي رضي الله عنه، وإن قصد به الظهار صار للمحل؛ والأصل في الشريعة الرجوع إلى اللفظ والمتأثر؛ وهي زوجته، والله جعل الطلاق له، واللفظ صادر منه، فلا يصار إلى المحل -كما اختار بعض العلماء وبعض السلف رحمهم الله- إلا بعد وجود الشبهة التي توجب الانصراف عن المتلفظ؛ لأن الأصل في الشريعة في باب ألفاظ الكنايات إذا وجدت مسألة خلافية أن ترجع إلى أصلها، (فأنتِ حرام) ليس من الصريح، وإنما هو من الكنايات، وباب الكنايات الأصل فيه النية؛ ولذلك مذهب الشافعية في اعتبار النية في الكنايات هو الذي تطمئن إليه النفس. وهنا نطبق الأصل الذي رجحناه أننا ننظر إلى نيته فنقول: إذا قال لها: أنت علي حرام، وقصد طلاق الثلاث فكيف نجعله ظهاراً؟ لا يمكن، لأن الرجل فيما بينه وبين الله قصد أن يطلق امرأته طلقة أو طلقتين أو ثلاثاً، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) فنص على أن من نوى الشيء كان له، فنقول: هذا متردد بين الظهار واليمين والتحريم والطلاق ثلاثاً واللغو، فنعتبر نيته. يبقى Q إذا كنا نرجح أنه ينظر إلى نيته، لو قال لنا: لا نية لي، فنقول: إن أصح الأقوال في هذا أيضاً مذهب الشافعية أنه يكفر كفارة اليمين؛ لأن الله قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم:1 - 2] فكفر عنه عليه الصلاة والسلام بكفارة اليمين، فدل على أن من حرم يكفر كفارة اليمين إن قصد التحريم الموجب لليمين كما ذكرنا إن نواه يميناً، وإن لم ينوه يميناً بقي موجب التحريم الذي أخذ به عليه الصلاة والسلام وألزم بكفارته. وهذا حاصل ما يقال في مسألة التحريم، والخلاصة: أن من قال لامرأته: حرمتك أو أنت علي حرام، ولم تكن له نية معينة عند قوله ذلك فالراجح أنه يكفر كفارة يمين، كما يحصل في عرف بعض الناس ويكون معتاداً عندهم أن يقول أحدهم: علي الحرام، زوجتي حرام، أو

حكم قول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي، ناويا الطلاق

حكم قول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي، ناوياً الطلاق قال رحمه الله: [وإن قال: أنت علي حرام أو كظهر أمي فهو ظهارٌ ولو نوى به الطلاق، وكذلك ما أحل الله علي حرام] جمعها كلها في مسألة واحدة، أنت علي حرام، أو أنت علي كظهر أمي، أما قوله: أنت علي كظهر أمي، فهذا ظهار، وبالإجماع أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي، أنه ظهار، وإن كان هناك خلاف في مسألة: أنت علي كيد أمي، كرأس أمي، كعين أمي، بذكر أعضاء غير الظهر، وفي حذف الظهر كلية كقوله: أنت كأمي، وهناك خلاف إذا ذكر غير الأم: أنت كأختي، أنت كعمتي، كخالتي ونحو ذلك، فهل يكون ظهاراً، كل هذا -إن شاء الله- سنفصله في مسائل الظهار.

حكم قول الرجل: ما أحل الله علي حرام

حكم قول الرجل: ما أحل الله علي حرام قال رحمه الله: [وإن قال: ما أحل علي حرام] ما أحل الله علي من امرأتي سواء عموماً أو خصوصاً، عموماً: ما أحل الله علي، وخصوصاً: ما أحل الله علي من امرأتي. قال رحمه الله: [أعني به الطلاق، طلقت ثلاثاً، وإن قال: أعني به طلاقاً، فواحدة] قوله: (أعني به الطلاق) (ال) للاستغراق، إذا قال: أعني به الطلاق، أي: إني أطلقها؛ فإنها لا تكون حراماً عليه إلا بالثلاث، فأعمل الحنابلة في هذا قضاء علي رضي الله عنه يجعل تحريم المرأة طلاقاً ثلاثاً، فقالوا: هذا قضاء من الصحابة رضوان الله عليهم فتطلق عليه ثلاثاً؛ لأنه قصد الطلاق بالاستغراق، لكن لو قصد مطلق الطلاق، قال: أعني به طلاقاً، فتكون طلقة واحدة فيفرق بين قوله: (أعني به الطلاق) الذي يدل على الاستغراق، (وأعني به طلاقاً) الذي يدل على طلقة واحدة.

حكم من شبه زوجته بالميتة أو الدم أو نحو ذلك

حكم من شبه زوجته بالميتة أو الدم أو نحو ذلك قال رحمه الله: [وإن قال: كالميتة والدم ولحم الخنزير؛ وقع ما نواه من طلاق وظهارٍ ويمين، وإن لم ينو شيئاً فظهار]. هذه المسألة الخلاف فيها بين المالكية والحنابلة، إذا قال لها: أنت علي كالميتة، أو كالخنزير، أولاً: هذا إثم ومنكر وزور من القول؛ لأن الله كرم بني آدم، ولا يجوز تشبيه الآدمي بالحيوان، ولا يجوز ذلك إلا للكافر {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44] فالأنعام أفضل من الكافر؛ لأن الأنعام تعرف الله، لذلك لو نظرت إلى البهيمة وهي في المخاض تريد أن تضع حملها، تجدها ترفع بصرها إلى السماء، كأنها تستجير بالله سبحانه وتعالى، وتدعو ربها وتستغيث بالله سبحانه وتعالى، وفيها من التوحيد والإيمان والالتجاء والرجوع إلى الله ما لا تجده عند الكافر الذي كفر نعمة الله، ففضلت لهذا، ولذلك الكافر إذا أخذ في الأسر ضرب الرق عليه في الإسلام، وكان حاله أسوأ من البهيمة -أكرمكم الله- فيباع ويُشترى؛ لأنه كفر نعمة الله، فخرج عن آدميته، وهذا المعنى ينبغي أن ينتبه له، أنه لا يجوز تشبيه المسلم والمسلمة بالبهيمة. ولذلك القاضي لو ارتفع إليه مسلمٌ شبه أخاه المسلم ببهيمة قال له مثلاً: أنت كالشاة، أو كالبقرة، أو كذا، فإنه يعزره ويؤدبه بما يليق بحاله وحال من خاطبه بهذا، فلا يجوز تشبيه المسلم أو المسلمة بالبهيمة، فالعلماء لما قالوا: إن قال: كالميتة؛ لا يعني أن هذا جائز، فإن هذا لا يجوز بالإجماع، والله تعالى يقول: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] ولم يبح للزوج إهانة المرأة، ولم يعطه أن يستبد، وأن يخرج عن طوره إلى ما حرم الله عز وجل عليه، ولذلك حينما يستبد ويخرج عن طوره؛ فإنه يقع في الإثم، والمسلم لا يتعدى حدود الله عز وجل، فلا يجوز قول مثل هذا الكلام؛ لأنه من أشنع ما يكون في إهانة المرأة، فالميتة نجسة، وهذه مسلمة، فلا يجوز تشبيه الطاهر بالنجس، ولا يجوز تشبيه الآدمي بالبهيمة كما ذكرنا، فاللفظ محرم بالإجماع، لكن لو قال لها ذلك؛ كأنه يقول: أنت عليَّ كالميتة، هذا أصل التقدير، والمالكية يجعلونها مطلقة ثلاث تطليقات؛ لأنه شبهها بأقصى درجات التحريم، فإنه إذا قال لها: كالميتة؛ معنى ذلك أنها لا تحل له ألبتة، فقالوا: في المشبه به وصف يقتضي أنها لا تحل له أبداً. وعلى هذا يقولون: إنها في الأصل ليست بحلال، فالمرأة حرام عليه إلى الأبد، فإذاً كأنه يقول: حرام عليَّ إلى الأبد، وليس هناك تحريم إلى الأبد، وإنما هناك تحريم في حكم العدد وهو تحريم الثلاث، فأعطوه غاية التحريم وهو الثلاث. قوله: (وقع ما نواه من طلاق وظهار ويمين) الحنابلة خففوا في هذه المسألة وقالوا: إن شبهها بهذا رجع إلى نيته، إن قصد اليمين فيمين، وإن قصد تحريم الظهار فظهار، وإن قصد تحريم الثلاث فثلاث، وإن قصد به عدداً من الطلاق فبحسب ما نوى. قوله: (وإن لم ينو شيئاً فظهار) لأنه أشبه قوله: أنت علي حرام، فأنت كالميتة كالخنزير كالدم اشتركت هذه الألفاظ مع التحريم من جهة كونها كلها محرمة على المكلف.

حكم من قال: حلفت بالطلاق، وكذب

حكم من قال: حلفت بالطلاق، وكذب قال رحمه الله: [وإن قال: حلفت بالطلاق، وكذب؛ لزمه حكمه] أي: إذا قال الزوج للقاضي أو قال لأهل امرأته: حلفت بالطلاق، وهو لم يحلف بالطلاق، فإنه يؤاخذ بظاهره، هذا ما ذكرناه عند كلامنا عن طلاق الديانة وطلاق الحكم، وطلاق الظاهر وطلاق الباطن، كل هذا من هذا الباب؛ لأنه قد تطلق المرأة ديانة فيما بين الإنسان وبين الله، كأن يطلقها وهو جالسٌ لوحده، فيطلقها الطلقة الثالثة والأخيرة ولم يخبرها، فهي حرام عليه ويصبح -والعياذ بالله- زانياً، ولو اعترف عند القاضي لرجمه؛ لأنه وطئها وهي محرمة عليه كالأجنبية، وقد أحصن فيرجم. فهنا ينفذ الطلاق ديانة، وفي الظاهر ما أحد يعلم؛ لأنه كتمه ولم يخبر به؛ فهي حرام عليه ديانة، فلو أخبر القاضي تحرم عليه ديانة وقضاءً. والعكس: فتحرم عليه قضاءً، ولا تحرم عليه ديانة؛ كأن يقول لها: أنت طالقة، وقصد طالعة، فسبق لسانه وقال: طالقة، فشهد الشهود أنه قال لامرأته: أنت طالقة، وقال: قصدت طالعة، فأخذ القاضي بالظاهر وطلقها عليه، فإنها تطلق حكماً ولا تطلق ديانة، فلو وطئها فإنه يطأ حلالاً عليه، لكن لو ارتفع للقاضي أنه وطئها، وكانت الطلقة الأخيرة وشهد الشهود، وقضى القاضي أنها طلقة، فطلقت عليه قضاءً، فجاء وعاشرها بعد تطليق القاضي له، فإن علم القاضي رجمه، ويصبح في هذه الحالة شهيداً كالذي شُهد عليه بالزنا ظلماً وقتل، فالقاضي يحكم عليه بحكم الزاني ويرجمه، ولكن أمره إلى الله عز وجل، فهذا معنى الحكم قضاءً والحكم ديانة. فهنا إذا قال: حلفت بالطلاق وهو كاذب، وهذا ليس بصحيح، وأخبره بشيء لم يقع؛ فحينئذٍ لا تطلق ديانة وتطلق قضاءً.

قول الزوج لزوجته: أمرك بيدك

قول الزوج لزوجته: أمرك بيدك قوله: [وإن قال: أمرك بيدك؛ ملكت ثلاثاً ولو نوى واحدة] أي: لا يكون أمر المرأة بيدها من كل الوجوه إلا بالثلاث، ولذلك لو طلقت نفسها ثلاثاً طلقت عليه ثلاثاً، وإن قال لها: أمرك بيدك، ونوى واحدة فلذلك صور: الصورة الأولى: أن يقول: أمرك بيدك وينوي الثلاث طلقات ثلاثاً، ولو نوى واحدة وطلقت ثلاثاً فثلاثاً، هذه بالنسبة لقضية (أمرك)، فصوب إليها الأمر، وفيه قضاء عن الصحابة رضوان الله عليهم، وأن الرجل إذا قال لامرأته: أمرك بيدك؛ فقد فوض الأمر إليها، وأنها إذا طلقت في هذه الحالة قضوا بأنها تطلق عليه. قوله: [ويتراخى ما لم يطأ أو يطلق أو يفسخ] بقي Q إذا قال لها: أمرك بيدك فهل يختص ذلك بالمجلس، فإذا قام عن المجلس ولم تطلق ولم يحدث شيء انتهى التفويض، أم أن (أمرك بيدك) يبقى متراخياً حتى لو بعد المجلس بيوم أو يومين أو ثلاثة A إذا جاءت وقالت: طلقت نفسي منك أو أردت الطلاق، وأريد الطلاق فطلقت؛ فإنها تطلق عليه ولو متراخياً.

الفرق بين قوله: (أمرك بيدك) وبين قوله: (اختاري نفسك)

الفرق بين قوله: (أمرك بيدك) وبين قوله: (اختاري نفسك) قوله: [ويختص: اختاري نفسك بواحدة وبالمجلس المتصل] الفرق بين التفويض -كقوله: أمرك بيدك- والتخيير: أن التخيير يختص بواحدة، وقد خير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28] هذا الخيار الأول، والخيار الثاني: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:29] وعظيماً من الله ليست بالهين، فخيرهن بين أن يبقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصبرن على ما هو عليه من اختيار الله له من الآخرة، وضيق الدنيا، وبين أن يخترن السراح والفراق، فلما ابتدأ بـ عائشة رضي الله عنها قال لها عليه الصلاة والسلام: (لا تقولي شيئاً حتى ترجعي إلى أبويك) يعني: إلى أبيك وأمك، فبدأ بها رضي الله عنها، فقالت: وما ذاك، فأعطاها الخيار امتثالاً لأمر الله عز وجل أن يخيرهن، فلما أعطاها الخيار رضي الله عنها وأرضاها قالت: (أفيك أستخير يا رسول الله؟!) أي: هل هذا الأمر يحتاج أن أقوله لوالدي؟! رضي الله عنها وأرضاها، وهذا من مناقبها، فإنها ما ترددت ولا شاورت، وفي الحديث ما يدل على كمال منزلتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم علم علم اليقين أنها لو سألت والديها ما ترددا في بقائها معه، وأنها تكون عنده وأنها تختاره عليه الصلاة والسلام، فخشي صغر سنها وخشي أن يكون ضيق الحال مؤثراً عليها فتعجل، فقال عليه الصلاة والسلام: (حتى ترجعي إلى أبويك) فردها إلى أبويها، فدل على أنه يحبها، وأن لها منزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لا يحب أن تذهب عنه أو تختار غيره عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على صدق الزوجية وصدق المحبة، وأنه مع كمال نبوته كان يعطي الزوجة حقها من الحب الصادق، ولنا فيه أسوة عليه الصلاة والسلام، في كمال حبه لأزواجه وإكرامه لهن، حتى في المواقف الحرجة حينما قذفت رضي الله عنها واتهمت بالإفك جاء وجلس معها وقال: (يا عائشة! إن كنت أذنبت ذنباً؛ فتوبي إلى الله واستخيريه) فكمال الحب للزوج كان للنبي صلى الله عليه وسلم منه أكمل الحظ وأكمل نصيب؛ لأن هذا من أصدق ما يكون في العشرة والإسلام، ولا يليق بالمسلم أن يكون مع زوجته يأخذ منها حظ الشهوة والوطر وهو يعلم أنها مجبولة على المحبة، وفطرة النساء في المحبة أقوى من الرجال، فيقتصر فقط على قضاء حاجته ونهمته وشهوته، دون أن يعطي من الكلمات والأفعال والتصرفات والمواقف ما يدل على الإلف والحب، وما يدل على صدق المودة التي شهد الله عز وجل أنها الفطرة بين الزوج والزوجة، وجعلها منة من فوق سبع سماوات فقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21] فأهل العقول وأهل البصائر السوية حينما ينظرون في سنة النبي صلى الله عليه وسلم لا يجدونه عليه الصلاة والسلام منحصراً فقط في العبادة، بل كان هديه أكمل الهدي حتى في المعاشرة والمشاعر، حتى إذا جاء المتبجحون من أهل الهوى والمجون والعشق وجاءوا بالغرام الساقط، وجاءوا بالعبارات البذيئة البشعة؛ جئت بالإسلام وقلت لهم: إن الإسلام هذب الفطرة، وهذب الشهوة، فهو يعترف بالشيء الموجود، فلا يدخل عليك الإباحي ويقول لك: أنت تكتم الغريزة، تقول له: كذبت وفجرت ولقمت الحجر، فالإسلام لم يكتم الغريزة ولكن هذبها، وجعلها في مكانها ونصابها، وقدرها فيما أحل الله، ثم جعل لها من البواعث، ومن السياج ما يحفظ ود الزوج مع زوجته، وهذا لا يكون ولن يكون إلا بالمشاعر الصادقة، فحتى في المواطن الحرجة، في حال التخيير، وهذه من أصعب المواقف التي امتحن فيها عليه الصلاة والسلام، ولو جئت تنظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لوجدت أنها ما خلت من محنة حتى في أمور البيت والزوجية، امتحن في كل شيء صلى الله عليه وسلم، في نفسه وماله، حتى في ولده في فقد العزيز عليه، جميع أنواع وصنوف البلاء كلها عليه الصلاة والسلام صبت عليه؛ لأنه في أعلى المقامات من الحب، والله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فجعل الله لنبيه من الابتلاء أعلاه، ومن ذلك مسألة التخيير التي نعرف، فكان فيها الأحكام والفوائد والأسرار والحكم، ويحتاج الإنسان أن يقرأ سورة الأحزاب، ويقرأ ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيره في مسألة التخيير، وكلام العلماء على ذلك، وأيضاً في سيرة ابن هشام في تخييره عليه الصلاة والسلام لزوجاته، وكيف كان حاله عليه الصلاة والسلام، تقول عائشة رضي الله عنها: ما أرى الله عز وجل إلا أنه يكتب لك ما ترضى، يعني الشيء الذي تحبه، ولذلك يقول له: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144] فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد هذا الشيء، فلما علم أن نبيه يحب ذلك حقق له ما يحبه. ولما كان يحب عائشة رضي الله عنها ابتدأ بتخييرها وكان يحبها، فجعلها الله عز وجل طوعاً له، وجعلها الله عز وجل فوق ما كان يظن، يقول لها: (اجعلي الأمر إلى والديك، قالت: يا رسول الله! أفيك أختار!) تعني: أفيك أستخير؟! من هذا الذي أستخيره فيك! رضي الله عنها وأرضاها، وسرها الله كما سرت نبيه رضي الله عنها، فحق على المسلم أن يترضى عنها، وأن يدعو الله أن يجزيها عن نبيه خير الجزاء، بل وعن الإسلام والمسلمين، بخٍ بخٍ هذه النعمة العظيمة التي امتن الله بها على الصديقة، والله عز وجل أعلم حيث جعل الخيرة، فاختار لنبيه الأمهات الطاهرات العفيفات، وصدق الله إذ يقول في كتابه: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور:26] فرضي الله عنهن وأرضاهن، وجعل أعلى الفردوس مدخلهن ومثواهن، والشاهد من هذا: مسألة التخيير أن الزوج إذا خير زوجته تكون لها طلقة واحدة؛ لأنه يكون بها الخيار، وأيضاً يختص التخيير بالمجلس، فلو قامت عن المجلس، انقطع الخيار لها، ويرجع الأمر إلى الزوج. قال رحمه الله: [ما لم يزدها فيهما] يقول لها: لك طلقتان، لك ثلاثاً، فعلى الأصل لها طلقة واحدة، (ما لم يزدها فيهما) أي: في المجلس، وعلى هذا فإنه إذا زادها زادها في المجلس وزادها في العدد، (يزدها فيهما) أي: يزيدها في المجلس في الزمان، وفي العدد، فيقول لها: لك الخيار إلى منتصف الليل، فيكون زادها عن المجلس بالزمان، أو لك الخيار ما دمت في البيت، وهما جالسان في غرفة فتقوم إلى غرفتها، فيكون زاد الخيار في المكان، وزاد الخيار في الزمان، وأما زيادة العدد فيقول: لك أكثر من واحدة، فلك أن تختاري أن تطلقي نفسك اثنتين إن اخترت، أو ثلاثاً، فيزيدها على الواحدة.

حالات انقطاع الخيار للزوجة في تطليق نفسها

حالات انقطاع الخيار للزوجة في تطليق نفسها قال رحمه الله: [فإن ردت] إن قالت: أريدك، فحينئذٍ يبطل خيارها؛ لأن التخيير خير الأمرين، فإذا حدد أحدهما إما الطلاق وإما البقاء انقطع التخيير وتحتاج إلى تخيير ثانٍ. قال رحمه الله: [أو وطئ] مكنته من نفسها أن يطأها، فمعنى ذلك أنها قد اختارت أن تبقى معه. قال رحمه الله: [أو طلق] قبل أن يقع منها التخيير. قال رحمه الله: [أو فسخ] أي: فسخ النكاح قبل أن يقع التخيير. قال رحمه الله: [بطل خيارها] لأنه فات محل الخيار. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب ما يختلف به عدد الطلاق

شرح زاد المستقنع - باب ما يختلف به عدد الطلاق جعل الله سبحانه الطلاق حقاً للزوج، ولكن يختلف ما يملكه المرء من عدد الطلقات بكونه حراً أو كونه عبداً، وكذلك يختلف العدد بحسب ما تلفظ به وما نواه، وهذا كله بحثه العلماء في هذا الباب.

تعدد الطلاق

تعدد الطلاق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب ما يختلف به عدد الطلاق]. تقدم معنا أن الطلاق له ألفاظٌ مخصوصة، وهذه الألفاظ تارةً تكون صريحةً في الدلالة على الطلاق بحيث لا تحتمل معنىً غير اللفظ، ولا تحتمل معنىً غير الطلاق، وقد تكون هذه الألفاظ محتملة، وبيَّنا حكم كلٍّ من الصريح والمحتمل. وبعد هذا شرع المصنف -رحمه الله- في بيان ما يختلف فيه عدد الطلاق، فالمطلق تارةً يأتي بلفظ الطلاق الذي هو صريح لفظ الطلاق، ويأتي بجزء اللفظ كأن يقول: أنتِ طالقٌ نصف طلقة أو ربع طلقة، أو بعض طلقة أو يجزِّئ المرأة نفسها فيقول: يدك طالق، ورجلك طالق، وروحك طالق، وشعرك طالق، ونحو ذلك؛ ثم هذا اللفظ تارةً يكون بصريح الطلاق الذي يدل على عدد معين كأن يصرح بالتحديد فيقول: أنتِ طالق طلقةً واحدة، وتارةً يأتي بلفظ يحتمل أكثر، فيقول: أنت الطلاق، أو يلزمني منك الطلاق، ونحو ذلك. فكل هذه ألفاظ يختلف فيها الحكم، ومن حيث الأصل: تارةً تكون النيةُ موافقةً للفظ وتارةً تكون النيةُ مخالفةً للفظ وكل هذا من مباحث بابنا: (باب ما يختلف به عدد الطلاق)، كأن المصنف -رحمه الله- يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل المتعلقة بلفظ الطلاق، يختلف الحكم فيها من حيث العدد، فيُحكم تارةً بأن الطلقة واحدة، وتارةً يحكم بأنها أكثر من واحدة.

الخلاف في تشطير الطلاق على العبد

الخلاف في تشطير الطلاق على العبد قال رحمه الله: [يملك من كله حرٌ أو بعضه ثلاثاً]. هذه المسألة تعرف بمسألة تشطير الطلاق، فهناك الأحرار وهناك العبيد، والشرع حينما حكم بضرب الرق على العبد أو على الأمة بسبب الكفر لا يتقيد هذا بلون ولا بجنس ولا بطائفة، فمن كفر بالله عز وجل وعادى الله وحارب دين الله عز وجل وضُرِب عليه الرق ضُرِب عليه عقوبةً من الله عز وجل، ونَقَصَ عن مستوى الآدمية حتى يباع كالمتاع؛ لأن الله يقول: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44]، فلا يمكن أن نسوي مَن حكم الله عز وجل بانتقاصه ونزوله إلى هذه المرتبة بمنزلة مَن كان على صراط سوي، وآمن بالله وشرعِ الله عز وجل! فوُجِدت أحكامٌ في الشريعة شُطِّر فيها الحكم بالنسبة للأرقاء، واختلف الحكم بالنسبة للحر والعبد، وأعداء الإسلام قد يقولون: إن الإسلام فيه عنصرية أو حزازية بأذية الأرقاء أو نحو ذلك؛ لأنهم لا يؤمنون بالله، ولا يقيمون للإيمان وزناً، والإسلام قائمٌ على الإيمان والعقيدة، فلما كفر الكافر بالله وضُرِب عليه الرق عوقب من الله عز وجل بهذه العقوبة، ولا يمكن أن يسوى بين من آمن ومن كفر، فالله عز وجل حكم ويحكم و {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41]. فنص الله في كتابه على أن عقوبة الأحرار ضعف عقوبة الإماء والعبيد: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25]. وبين أن الحكم في العقوبة والمؤاخذة في الزنا يختلف رقاً وحرية، واختلف العلماء رحمهم الله: هل يقاس على مسألة العقوبة غيرها من المسائل أو لا يقاس؟ فجاءت القضايا والسنن عن الصحابة -رضوان الله عليهم- ومنهم الأئمة المأمور باتباع سنتهم كـ عمر وعثمان بمسألة التشطير، فشطَّروا للعبد كما شطَّروا له بالنسبة للنساء، فجعلوا الحكم مطرداً قياساً، والقياس حجةٌ في الشرع، وقامت الأدلة على أنه حجة، وقد بسط الإمام ابن القيم رحمه الله مسألة حجية القياس في كتابه النفيس: (أعلام الموقعين) وبيَّن حجج السنة الكثيرة وقضايا الصحابة على حجية القياس، فكأن الشرع نبه بالمثل على مثله، فإذا نُصَّ في العقوبة والحدود على التشطير قالوا: يقاس عليها غيرها، فجاء قضاء بعض الصحابة -كما ذكرنا- بتشطير الطلاق للعبد وإذا قلنا بالتشطير يرد Q هل العبرة بالزوج، أو العبرة بالزوجة، أو العبرة بواحدٍ منهما؟ توضيح ذلك: أنه يباح للرجل أن ينكح أمةً إذا خشي العنت ولم يجد حرة، كما هو ظاهر آية إباحة الإماء إذا لم يجد حرةً: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} إلى أن قال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء:25]، فجاء بشرطين: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا}: أي: إذا لم يكن عنده قدرة على أن يتزوج حرة، وخاف على نفسه الزنا يباح له أن يتزوج أمة، فإذا أصبحت زوجةً له، فحينئذٍ نقول: إن الرق يؤثر في عدد الطلاق، لكن هل العبرة بالرجل ولا يتشطر الطلاق، لأن الزوجة أمة وما دام أن الرجل حر يمتلك العدد فالعبرة به؟ هذا قول عمر وعثمان وابن عباس وزيد بن ثابت وغيرهم من الصحابة والتابعين وهو أشبه بمذهب الجمهور، فجمهور العلماء على أن العبرة في التشطير بالرجل، فإن كان الزوج حراً فإنه حينئذٍ لا يتشطر الطلاق حتى ولو كانت زوجته أمة. وقال طائفة من أهل العلم -رحمهم الله- منهم علي بن أبى طالب وعبد الله بن مسعود وهو مذهب الحنفية: أن العبرة بالمرأة لأنها هي محل الطلاق ويتعلق الطلاق بها، فإن كانت حرةً طلقت ثلاثاً وملك زوجها التطليق ثلاثاً، وإن كانت أمةً فإنه يطلقها طلقتين، وتكون بائنة بها. وهناك مذهب ثالث لـ عثمان البتي قال: العبرة بواحدٍ منهما: فإذا كان الرجل عبداً والمرأة حرة تشطر الطلاق، وإن كانت المرأة رقيقة وزوجها حر تشطر الطلاق. والصحيح: مذهب الجمهور؛ لأن الله خاطب بالطلاق الرجال، وجعل الطلاق بيد الرجال وهو مسند إلى الرجل، فإذا كان يتشطر فالعبرة بالرجل لا بالمرأة. فإذا قلنا: إن الطلاق يتشطر، وإن العبرة بالرجل، فحينئذٍ يرد السؤال: كيف يتشطر الطلاق؟ هل يقال: طلقة ونصف؟! A الطلاق لا يتشطر، بمعنى: أن المطلق لا يقول: نصف طلقة، بل لو طلق طلقتين وهو رقيق: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] فيكون كالحر إذا طلق ثلاثاً، وأما على القول: أنها لا تتشطر وأن الطلاق لا يتشطر، فحينئذٍ يملك ثلاثاً، بغض النظر عن كونه حراً أو رقيقاً. يقول رحمه الله: [يملك من كله حرٌ]. (يملك) يعني: من حقه أن يطلق. (من كله حرٌ) يعني: إذا كان الزوج كله حر وليس فيه شبهة الرق. (أو بعضه). البعضية مثلاً: رجل بين رجلين، يعني: عبد يملك بين رجلين، وهذان الرجلان أحدهما أعتق نصفه وبقي نصف العبد مملوكاً، فيصبح في هذه الحالة نصفه حراً ونصفه مملوكاً، فيومٌ يكون فيه عبداً يخدم سيده، ويومٌ هو حر يفعل ما يشاء، فنصفه حرٌ ونصفه عبد، وربما كان بين ثلاثة أشخاص، فأعتق أحدهم الثلث، وبقي ثلثاه مملوكاً فيومٌ حر ويومان رقيق، يوم يخدم فيه الأول ويوم يخدم فيه الثاني، فلو كان الرقيق بهذه الصفة يقول المصنف -رحمه الله- بمعنى كلامه: أنه لو كان فيه شائبة الحرية -ولو كان المعتق منه أقل- فإنه يملك الثلاث، وقال بعض العلماء: العبرة بأكثره، فإن كان أكثره حراً فإنه حينئذٍ يملك الثلاث، وإن كان أكثره الرق فإنه لا يملكها ويتشطر. (ثلاثاً) أي: ثلاث تطليقات، فإن طلق ثلاثاً لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وقالوا: العبرة بالحرية. قال رحمه الله: (والعبد اثنتي). والعبد يملك اثنتين، يعني: إذا كان الرجل أو الزوج رقيقاً فيملك اثنتين؛ لأنه ليس هناك طلقة ونصف. قال رحمه الله: (حرةً كانت زوجتاهما أو أمة). خلافاً لـ عثمان البتي رحمه الله حيث خالف الجماهير وقال: إن العبرة بواحدٍ منهما سواء كان الرجل أو المرأة.

ألفاظ الطلاق الدالة على التعدد أو المحتملة للتعدد

ألفاظ الطلاق الدالة على التعدد أو المحتملة للتعدد قال رحمه الله: [فإذا قال: أنت الطلاق أو أنت طالق أو علي أو يلزمني وقع ثلاثا بنيتها، وإلا فواحدة].

قول الرجل لامرأته: (أنت الطلاق)

قول الرجل لامرأته: (أنتِ الطلاق) قبل أن ندخل في التفصيلات -نسأل الله لنا ولكم المعونة-. أولاً: حتى تكون الصورة واضحة، الطلاق إذا وقع فيه اللفظ، فإما أن يتفق مع النية، وإما أن يختلف مع النية فعندنا صورتان: إما أن يتفق لفظ الطلاق الذي يتلفظ به مع الذي نوى، وإما أن يختلف، فتكون نيته شيئاً ولفظه شيئاً آخر. الصورة الأولى: أن يتفق لفظ الطلاق ونيته سواءً كان بالأقل أو كان بالأكثر أو بينهما. مثال: أن يقول للمرأة: أنت طالق طلقةً واحدة وينوي واحدة، فاللفظ واحد والنية واحدة فاتفقت النية مع اللفظ، فإجماعاً تُعد طلقة واحدة أو يقول لها: أنت طالقٌ طلقتين، وينوي الطلقتين، فاتفق اللفظ مع النية، أو يقول لها: أنت طالق ثلاثاً، وينوي الثلاث، فاتفق اللفظ مع النية. في هذه الحالة إذا اتفق اللفظ مع النية فلا إشكال أنه ينفذ الطلاق على التفصيل، وجماهير السلف والأئمة من الصحابة والتابعين على الإمضاء؛ لأنه تلفظ بالطلاق ونيته موافقة، فاجتمع دليل الشرع على المؤاخذة؛ لقوله (إنما الأعمال بالنيات)، وهذه مؤاخذة الباطن، وكذلك قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230]، {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة:231]، {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [البقرة:237]، وهو تلفظ بالطلاق، هذا بالنسبة لاجتماع اللفظ مع النية. صورة أخرى: أن يختلف اللفظ مع النية فتكون نيته شيئاً، ولفظه شيئاً آخر، ونحن لا نتكلم في من لم يَنْوِ الطلاق، إنما نتكلم عن شخص نوى الطلاق واختلفت نيته في العدد، أما مسألة أن يأتي بلفظ يحتمل الطلاق أو غيره، أو ينوي بلفظ يحتمل الطلاق أو بغيره، فقد تقدمت معنا في الكنايات وبينا حكمها في الكنايات. لكنا هنا أمام رجلٍ يتلفظ بلفظ الطلاق، ولكن يتردد لفظه بين الأقل أو الأكثر فقال: ما يختلف به عدد الطلاق، ولسنا في مسألة: أيمضي الطلاق أو لا يمضي؟! فالأمر مفروغ منه، والطلاق ماضٍ -لا شك في ذلك- لكن هل يمضي ثلاثاً، أو يمضي اثنتين، أو يمضي واحدة؟! فهنا البحث كله منصب على: هل اللفظ يؤخذ بالأكثر أو الأقل؟ فإذا اختلفت نيته -وهي الصورة الثانية- عن لفظه، فإما أن تكون النية للأقل واللفظ للأكثر، أو يكون اللفظ للأقل والنية للأكثر. توضيح ذلك: أن تكون نيته لعدد أقل مما تلفظ به: فيقول لها: أنت طالقٌ ثلاثاً، وينوي واحدة، فاللفظ مختلف عن النية، النية تنوي الأقل، واللفظ واقع على الأكثر، هذه الحالة الأولى من الصورة الثانية. الحالة الثانية من الصورة الثانية: أن يكون العكس، يقول لها: أنت طالقٌ طلقةً واحدة، وينوي الثلاث، أو أنت طالقٌ طلقة، وينوي الثلاث، فاللفظ للأقل والنية للأكثر، ففي جميع هذه الأحوال يرد Q هل نأخذ بالأكثر أو نأخذ بالأقل؟ هل نأخذ بالأكثر؛ لأن لفظ الطلاق خطير والشرع اعتد باللفظ واعتد بالطلاق حتى أمضاه على الهازل، أو نأخذ بالأقل لأن الأصل أنها زوجته والأصل عدم الطلاق حتى يدل الدليل على أنها خرجت من عصمته بالطلاق؟ ففي بعض الأحيان نُغَلِّب النية وبعض الأحيان نُغَلِّب اللفظ، وهذا من مباحث اختلاف الظاهر مع الباطن، فالشرع تارةً يقوي الظاهر على الباطن، وتارةً يقوي الباطن على الظاهر. ففي الطلاق قوّى الظاهر على الباطن في الهازل، فإن الهازل يمزح مع زوجته ويقول لها: أنت طالق، ولا ينوي الطلاق؛ فاعتبر الشرع لفظه، ولم يلتفت إلى نيته، وهكذا إجماع العلماء في ألفاظ يعتدون فيها بالنية، ويجزئه ذلك ديانةً بينه وبين الله عز وجل كما تقدم معنا. فالسؤال الآن: إذا قال لها: أنت الطلاق؟ (أنت الطلاق) للعلماء فيها وجهان - من حيث النظر إلى اللفظ- أحدهما: أن المرأة تطلق وتوصف بكونها طالقاً بطلقة واحدة، لكن المشكلة أنه جاء بـ (ال)، فهل نقول: الطلاق، يعني: كل الطلاق، وكأنه جعل جميع الطلاق لها، وحينئذٍ يكون قوله: (ال) في (الطلاق) المراد بها: الاستغراق، فيحمل العدد على أتم الأعداد؟ هذا وجه. الوجه الثاني: أن قوله: (أنت الطلاق) يتردد بين الاستغراق وبين أقل ما يقع ويسقط عليه الطلاق؛ فنأخذ بالأقل ما لم ينوِ الأكثر، وهذا هو الصحيح، وعليه درج المصنف، أنه لو قال لامرأته: أنت الطلاق سألناه: هل نويت واحدةً فتكون واحدة، أو نويت ثلاثاً فتكون ثلاثاً؟، فإذا قال: لم أنوِ شيئاً، فواحدة، قالوا: ومما يدل على ذلك: أن الشعراء لم يعتبروا المصدر دالاً على الاستغراق في هذا، ولذلك قال أحد الشعراء وكان قد غضب من امرأته، وعاش معها رِدحاً من الزمن حتى ملها وسئم، وقال: إنك شهرت بي أي: يشتكي عشرته معها وأنها بلغت إلى أسوأ الحالات-: ونوهت باسمي في العالمين وأفنيت عمري عاماً فعاما فأنت الطلاق وأنت الطلاق وأنت الطلاق ثلاثا تماما فما أبقى لها شيئاً، وجه الدلالة: أنه لم يقل لها: أنت الطلاق واعتدها ثلاثاً، بل كرر اللفظ ثلاث مرات، فدل على أن اللسان العربي يُفهم منه أن (أنت الطلاق) وحدها لا تدل على الثلاث؛ لأنها لو كانت وحدها تدل على الطلاق، لم يقل لها: وأنت الطلاق وأنت الطلاق وأنت الطلاق ثلاثاً تماماً فلو كان نفس اللفظ يدل على الطلاق لما كرر، فتكراره للفظ يدل على أن هذا المصدر لا يدل على الاستغراق من كل وجه وحينئذٍ تطلق طلقةً واحدة، ويحكم بكونها طالقاً طلقة واحدة إلا إذا نوى أكثر من واحدة، فإذا قال لها: أنت الطلاق، فلا يخلو من حالتين: إما أن يقول لها: (أنت الطلاق، أنت الطلاق، أنت الطلاق) فيكرر، أو يقول لها: (أنت الطلاق) ويسكت، فإن قال لها: (أنت الطلاق وأنت الطلاق وأنت الطلاق) وكرر ونوى واحدة فواحدة، وإن قال: (أنت الطلاق، وأنت الطلاق، وأنت الطلاق) ناوياً الثلاث فثلاث، وإن قال: (أنت الطلاق وأنت الطلاق وأنت الطلاق) ولم ينوِ شيئاً، فللعلماء وجهان كقوله: (أنت طالقٌ طالق طالق) وسيأتي بيانها إن شاء الله. الخلاصة: أن قوله: أنت الطلاق، لفظ محتمل يتردد بين الاستغراق الموجب للثلاث وبين الدلالة على أقل الطلاق وهي واحدة، وهذا هو الصحيح؛ فإن كرره أو نوى به الثلاث فثلاث وإلا فواحدة.

قول الزوج لزوجته: (أنت طالق)

قول الزوج لزوجته: (أنتِ طالق) قوله: [أو طالقٌ] إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق، فأقل ما يصدق على المرأة أنها طالق: طلقة واحدة، فإذا نوى الثلاث بقوله: أنت طالق، قال العلماء وهو مذهب الجمهور: طالق ثلاثاً، والسبب في هذا أن قوله: أنت طالق، اسم فاعل يقبل الوصف بدليل -عند من يقول: بأن الثلاث تقع، ومذهب جماهير السلف والخلف- أنه لو قال لها: أنت طالق بالثلاث لطلقت ثلاثاً، فأصبح اسم الفاعل بقوله: أنت طالق، يحتمل أن يقصد به الأكثر ويحتمل أن يقصد به الأقل، فنقول: كلمة (أنت طالق) كقوله: أنتِ الطلاق، فأنت طالقٌ إن نوى بها واحدة فتكون واحدة وإن نوى ثلاثاً فتكون ثلاثاً.

قول الرجل: (علي الطلاق) أو (يلزمني الطلاق)

قول الرجل: (علي الطلاق) أو (يلزمني الطلاق) قوله: [أو عليّ]. أو (علي الطلاق) أو (يلزمني الطلاق) كله بمعنى. Q لماذا جعلنا (أنت الطلاق) و (أنت طالق) و (عليّ الطلاق) و (يلزمني الطلاق) الأصل فيها أنها واحدة؟ قالوا: لأنه إذا قال لها: (أنت الطلاق) أو قال لها: (أنت طالق)، فالمرأة التي توصف بكونها طالقاً أقل ما توصف به: الطلقة الواحدة، فإذاً نحن على يقين أنه طلقها طلقةً واحدة، وشككنا هل تقع الثانية أو الثالثة أو لا؟ والأصل بقاء العقد، فلذلك يقال بالبقاء على اليقين، وعليه قالوا: إنها طلقة واحدة ما لم ينو الأكثر.

وقوع الطلاق ثلاثا في مجلس واحد وحكمه

وقوع الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد وحكمه قوله: (وقع ثلاثاً بنيتها وإلا فواحدة فأكثر). (وقع الطلاق ثلاثاً) لكن بشرط نيتها؛ وكان الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدراً من خلافة عمر على السنة يطلقون طلقة واحدة، ثم يراجعون أو يسرحون بإحسان، ثم يطلقون الثانية بعد، ثم يطلقون الثالثة، فيفرقون الطلاق على السنة فلما جاء عهد عمر ودخل الناس في الإسلام، وكثرت الفتوحات، واختلط الحابل بالنابل، وكثرت المسائل ووجدت النوازل، كثر التطليق ثلاثاً، وأصبح الناس يجمعون طلاق الثلاث في لفظٍ واحد، فـ عمر بن الخطاب لما أصبح الأمر منتشراً بين الناس، وانتبه إلى أن الناس كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على السنة وكانوا لا يطلقون إلا طلقةً واحدة، فلما جاء عهد عمر رضي الله عنه كما روى ابن عباس في الصحيحين قال: قام عمر بن الخطاب خطيباً -كعادته رضي الله عنه ما كان يبرم أمراً حتى يستشير الصحابة والناس- فقال رضي الله عنه: (أرى الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناة)، يعني: أن الله عز وجل أعطى المطلق ثلاث تطليقات مرتبة، يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، حتى تكون الثالثة، فالذي يطلق ثلاثاً يستعجل فيما وسع الله عليه، فيبتدع في دين الله ويخالف شرع الله ويضيق على نفسه؛ ويرتكب البدعة -وهو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله خلافاً للشافعي، وقد تقدمت معنا هذه المسألة- فقال رضي الله عنه: (أرى الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناه فلو أنا أمضيناه عليهم) يعني: ما رأيكم هل نبقى على الأصل الشرعي أن من تلفظ بالطلاق نؤاخذه به أو لا؟ لأن الله قد بين له الطلاق، إن شاء طلق ثلاثاً، وإن شاء طلق واحدة، فالله أعطاه ثلاثاً لزوجته، فأمضاه عمر وأمضاه الصحابة معه، ولذلك قضى بالثلاث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده الصحابة؛ ولذلك لما جاء الرجل إلى ابن عمر وقال: إني طلقتُ امرأتي مائةً قال: (ثلاثاً حرمت بهن عليك وسبعٌ وتسعون اتخذت بهن كتاب الله هزواً). وكذلك ابن عباس رضي الله عنه ثبتت الرواية الصحيحة عنه أنه جاءه رجل وقال له: (إني طلقت امرأتي ألفاً، فقال: تكفيك منها ثلاث، تحرم زوجتك عليك) وعلى هذا مضى الصحابة والتابعون، ومذهب الأئمة الأربعة والظاهرية معهم في المشهور من مذهبهم وأصبح العمل عند أهل العلم -رحمهم الله- على إمضاء الثلاث، يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (وحسبك أنه قضاء المحدث الملهم)، أي: حتى لو كان اجتهاداً من عمر فحسبك أن عمر رضي الله عنه كان مُحدّثاً مُلهماً. وعلى هذا مضى العمل عند أهل العلم -رحمهم الله- أن الثلاث ثلاث وأن المسلم مخير بين أن يقول الثلاث بلفظٍ واحد فيمضي عليه الثلاث، وبين أن يقولها متفرقة ويصيب السنة بالتفرق دون الجمع، فإن جمعها فإنه مبتدع وآثم بجمعه، ولما ابتدع خالف شرع الله فالأنسب فيه عقوبته، وقد قدمنا هذا: أن من ابتدع وخالف السنة في الطلاق فالأشبه بمثله أن يعاقب ويؤاخذ. وعلى هذا مضى قضاء الأئمة -رحمهم الله- على ذلك، ودرج المصنف -رحمه الله- على هذا القول المشهور عن جماهير السلف والخلف رحمهم الله.

ألفاظ تفيد تعدد الطلاق

ألفاظ تفيد تعدد الطلاق قال رحمه الله: [ويقع بلفظ (كل الطلاق) أو (أكثره) أو (عدد الحصى) أو (الريح) أو نحو ذلك ثلاثاً ولو نوى واحدة]. قال رحمه الله: (ويقع بلفظ (كل الطلاق). هنا يكون اللفظ للأكثر، وينوي أن يكون اللفظ للأكثر فيقول: (أنت طالقٌ كل الطلاق) أو يقول: (أنت طالق بالثلاث)، وينوي واحدةً، فإنها ثلاث ولا تؤثر نيته؛ لأن اللفظ لا يحتمل الواحد، وقد جاء باللفظ الصريح الدال على استغراق التطليقات الثلاث؛ فإنه ينفذ عليه كل الطلاق؛ وكلمة: (كل) تفيد العموم، ولذلك لو أن شخصاً قال: والله! لا أكلم كل الناس، فإنه يحنث بتكليمه لأي فردٍ منهم، ونحن في شرع الله نحكم بكونه حانثاً ونلزمه بذلك إذا كلم واحداً منهم، فدل على أن كلمة: (كل) تفيد العموم، حتى أن الأصوليين -رحمهم الله- يقولون: إن من ألفاظ العموم لفظة (كل)، فإذا قال لها: (أنت طالق كل الطلاق) كان كقوله: (أنت طالقٌ بالثلاث). (أو أكثره). أو أكثره، الحقيقة أكثر الطلاق هذا مُحكم، أكثر الطلاق مشكل. ولذلك هذه الصورة الأشبه فيها: أن ينوي الأقل مع احتمالٍ في اللفظ -أي أن نيته الأقل مع تردد في اللفظ-؛ لأن الطلاق فيه أقل وفيه أكثر، وأقل الطلاق كطلقة وأكثر الطلاق ثلاث، وبناءً على ذلك قال بعض العلماء: إن عندنا كثير وأكثر، فهو إذا قال لها: أنت طالقٌ أكثر الطلاق. الواحدة أقل الطلاق، والاثنتان أكثر من الواحدة، لكن لما قال: أكثر صيغة أفعل، فالمراد أكثر من كثير -والكثير اثنتان، فأكثر من الاثنتين الثلاث- فتخرج على هذا الوجه أن تكون ثلاثاً. (أو عدد الحصى). أو (أنت طالقٌ عدد الحصى): -هذا ما شاء الله! ما أبقى من الطلاق شيئاً!! فهذا الظاهر أنه مغتاظ من زوجته -نسأل الله السلامة- إذا قال لها: أنت طالق عدد الحصى، معناه: أنه يريد الثلاث قطعاً؛ فتحرم بالثلاث. (أو الريح). عدد الريح؛ لأن الريح عددها فوق الثلاث قطعاً، فإذا قال لها: (أنت طالقٌ عدد الريح)، أو (عدد الحصى) أو (عدد الناس) أو (عدد النمل) أو (عدد الجبال) أو (عدد الرمال). ونحو ذلك، هذا كله واضح أنه يريد الأكثر وهو الثلاث. (أو نحو ذلك). أي: أن يأتي بما يدل على الثلاث فأكثر؛ لأن عدد الريح فوق الثلاث، وعدد الحصى فوق الثلاث، وعدد الرمل فوق الثلاث، وكذا عدد الجبال وعدد الناس، فهو إذا قال لها: أنت طالقٌ عدد الحصى أو عدد الريح، كما لو قال لها: أنت طالقٌ ثلاثاً فأكثر.

اعتماد اللفظ الصريح الدال على التعدد وإن خالفته النية

اعتماد اللفظ الصريح الدال على التعدد وإن خالفته النية قوله: [ثلاثاً ولو نوى واحدة]. (لو نوى) وهذه صورة أخرى: نوى الأقل واللفظ للأكثر، فيلتفت إلى اللفظ ولا يلتفت إلى النية؛ لأن الطلاق في العدد صريح، كما لو قال لامرأته: أنت طالق، ولم يقصد الطلاق وهزل معها، فحينئذٍ نقول: إنها تطلق عليه؛ لأن الشرع جعل صريح اللفظ مؤاخذاً به، قالوا: فإذا قال لها: أنت طالقٌ بالثلاث، ونوى واحدة فإنه يؤاخذ بصريح اللفظ، كالهازل حيث أُخذ بصريح لفظه، وبإيضاح أكثر: إذا قال: نويت واحدةً -وقد طلق صراحةً بالثلاث أو بما يدل على استغراق العدد للثلاث- فإنه لا تنفعه نيته لا قضاءً ولا ديانةً، حتى بينه وبين الله ليست بزوجته؛ لأن اللفظ صريح، ولو لم يَنْوِ ذلك الصريح.

إسناد الطلاق إلى الأجزاء

إسناد الطلاق إلى الأجزاء قال رحمه الله تعالى: [وإن طلق عضواً أو جزءاً مشاعاً أو معيناً أو مبهماً أو قال: نصف طلقة، أو جزءاً من طلقة، طلقت]. الحقيقة: أن العلماء -رحمهم الله- والفقهاء أتوا بأشياء ربما أن الشخص يستغرب منها؛ لكن لو وقفت أمام الناس مُفتياً أو قاضياً لجاءتك أمورٌ لا ينتهي فيها العجب، فقد يأتيك شخص يقول لك: قلت لامرأتي: يدك طالق، رجلك طالق، رأسك طالق، فالعلماء يأتون بمسائل -في الحقيقة- قد تظنها غريبة؛ ولكن إذا عشت بين الناس رأيت أن الأمر أكثر من هذا، وأن عند الناس أكثر من هذا، وقد تكون هذه المسائل أصولاً لغيرها، فعندنا مسألة تطليق جزء المرأة. المطلِّق له حالتان: الحالة الأولى: أن يسنِد الطلاق إلى المرأة -وهذا هو الأصل- كقوله: أنت طالق، زوجتي طالق، امرأتي فلانة، نسائي أو زوجاتي طوالق مني مثلاً، فحينئذٍ أسند الطلاق إلى المرأة ولا إشكال، هذه الحالة الأولى، والطلاق واقعٌ فيها بواحدةٍ أو أكثر على حسب اللفظ، وعلى حسب ما قررناه فيما مضى؛ لكن Q إذا ذكر جزءاً من المرأة؛ فأجزاء المرأة تنقسم إلى أقسام: فهناك أجزاء يعبر بها عن الكل، وأجزاء أخرى لا يعبر بها عن الكل. القسم الأول: يذكر جزءاً من المرأة يعبر به عن كلها. القسم الثاني: أن يذكر جزءاً من المرأة، ولا يعبر به في أصل الوضع عن الكل، إما أن يكون جزءاً مشاعاً كقوله: نصفك ربعك ثلثك، وإما أن يكون معيناً فيقول: يدكِ، رجلكِ، رأسكِ، ظهركِ، وجهكِ، وهذا المعين إما أن يكون مما تدخله الروح وحياته حياة روح، وإما أن يكون من حياة النمو. فإذاً: الأقسام كالتالي: أولاً: أن يسند الطلاق إلى المرأة، ويسرح المرأة فلا إشكال إذا كان الطلاق للمرأة كلها. ثانياً: أن يسنده للبعض، وهذا على أقسام. الأول: البعض الذي يعبر به عن الكل، وهذا يشمل أربعة ألفاظ هي: النفس والروح والذات والجسد، هذه هي المشهورة. الثاني: البعض الذي يعبر به عن جزءٍ من أجزائها كما ذكرنا، كاليد والرجل والرأس، فينقسم إلى قسمين: إما أن يكون مما يدخله الروح، أو يكون مما لا تدخله الروح. فنبدأ بالقسم الثاني: أن يذكر جزءاً من المرأة وهذا على قسمين: أحدهما: جزءٌ يعبر به عن الكل. الثاني: جزءٌ لا يعبر به عن الكل في الغالب. فإن كان الجزء يعبر به عن الكل، مثل: الجسد، الذات، الروح، النفس، فهذا في قول جماهير العلماء -ويكاد يقارب الإجماع- أنها تطلق، إذا قال: روحك مني طالق، جسدك مني طالق، ذاتك مني طالق، نفسك مني طالق، في هذه الأربعة الأحوال يطلق الكل ولا يتبعض الطلاق، فإذا أسند الطلاق إلى جزء يُعَبَّر به عن الكل غالباً فإنه يسري الطلاق على الكل، ويكون تعبيره بهذا الجزء كالتعبير بالكل. الحالة الثانية: أن يكون مما لا يعبر به عن الكل، وحينئذٍ إما أن يكون جزءاً مشاعاً معلوماً أو مبهماًً، فيكون جزءاً مشاعاً كما لو قلنا: النصف، أو يكون جزءًا مبهماً كبعضك وجزئك، أو مشاعاً معيناً كقوله: نصفك الأعلى أو نصفك الأسفل، ففي هذه الحالة: إذا أسند الطلاق لجزءٍ مشاع من البدن ولو كان أقل جزءٍ من البدن كقوله مثلاً: عُشر عشرك مني طالق، فإنه يسري الطلاق للكل؛ لأن الشرع لم يجعل في المرأة حلالاً وحراماً، فحكم الله في المرأة إما أنها في العصمة كلها وإما أنها ليست في العصمة، فلما تلفظ بالطلاق فإنه يؤاخذ به كله، كما لو قال لها في الطلاق نفسه: أنت طالق نصف طلقة أو ربع طلقة، صار مؤاخذاً بالطلقة بكاملها، لأن الشرع لم يجزئ زوجة ويجعل نصفها حلالاً للزوج ونصفها حراماً!! ويكاد يكون إجماعاً، على أنه إذا قال لها: نصفك أو ربعك أو ثلثك أو ثلثاكِ أو ثلاثة أرباعك أو تسعة أعشارك طالق فإنها طالقٌ كلها، سواء حدد الجزء المشاع الذي هو المعين أو أبهمه. الحالة الثانية: وهي التي تحتاج إلى نظر وهي مسألة الأعضاء، وهي تنقسم إلى قسمين: أعضاء حياتها حياة الروح، وأعضاءٌ حياتها حياة النمو. ولابد من ملاحظة هذه التفصيلات من الفقهاء، وهذا التقسيم مبني على اختلاف الشرع في الحكم على أجزاء الإنسان، فإذا أسند الزوج الطلاق إلى جزء فلابد أن نقف مع هذا الجزء الذي أسند إليه، فأجزاء الإنسان إما أن تكون مما يحلها الحياة وحياتها حياة روح، ويشمل هذا اليد والرجل والرأس والعين والأذن وغيرها من الأعضاء، وإما أن تكون حياتها حياة نمو، وهي التي لا إحساس فيها مثل: الشعر، فلو أحرق طرف الشعر لا يحس الإنسان بالألم ولو احترق طرف شعر المرأة ما تحس بالألم في رأسها، وقد يحترق طرف اللحية والشخص لا يعلم؛ لأنه لا إحساس فيها ولا ألم، فحياتها حياة نمو، وهذه الأجزاء تبين من الإنسان، فالشعر منه ما يقص ومنه ما يحلق ويجز وينتف ويسقط؛ إذ ليس بثابتٍ في البدن ولا باقٍ فيه، وإسناد التحريم إليه ليس كإسناد التحريم إلى غيره مما لا يقبل الانفصال عن الإنسان في الأصل. وهذا التقسيم يعتبر في كثير من المسائل -سيأتي ذكر بعضها- فالذي حياته حياة روح لا إشكال أنه متصل بالبدن وحكمه حكم المتصل في قول جماهير العلماء وهو كذلك في أغلب المسائل، إلا اليد ففيها كلام عند العلماء رحمهم الله، وذكر هذه القاعدة الإمام ابن رجب رحمه الله في كتابه النفيس: (القواعد): يد الإنسان هل هي في حكم المتصل أو المنفصل؟ لكن بالنسبة للذي حياته حياة نمو -كما قلنا- لا يأخذ حكم حياة الروح من كل وجه، فيزيد أن نبين حكم إسناد الطلاق إلى أجزاء حياتها حياة روح، وإسناد الطلاق للأجزاء التي حياتها حياة النمو. المسألة الأولى: لو أسند الطلاق إلى عضوٍ حياته حياة نمو، فقال لها: يدك طالق ورأسك طالق وعينك طالق ورجلك طالق وساقك طالق وظهرك طالق وفرجك طالق وبطنك طالق وصلبك طالق فما الحكم؟ جمهور العلماء على -وعلى هذا العمل- أنه إذا أسند الطلاق إلى يدها أو إلى رجلها أو إلى رأسها أنها تطلق كلها من حيث الإجمال، أما الحنفية فاختاروا أربعة أعضاء: الرأس، والبطن، والفرج، والظهر، هذا عند الحنفية، وجعلوها دالّة على الكل، لكن الجمهور لا يفرقون ما دام أن العضو متصل بالبدن، لكن يرد السؤال: كيف حكم بكونها طالقاً كلها؟ هناك مسالك في الاستدلال وهذه المسالك تؤثر في الحكم، فبعض العلماء يقول: نحكم بطلاق العضو أولاً: فلو قال لها: يدك طالق، فالطلاق يتعلق باليد ثم يسري لبقية البدن، وهذا المذهب يسمى عند العلماء: مذهب السريان ويقررون الدليل كالآتي: يقولون: إذا طلق اليد اجتمع الحاظر واجتمع المبيح، فأصبحت المرأة فيها ما حرم الله؛ لأنه أسند الطلاق وعلقه بيدها، وفيها ما أحل الله، والقاعدة: (إذا اجتمع الحاظر والمبيح فالحكم للحاظر، ويحكم بحظر الجميع)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لـ عدي بن حاتم: (إذا أكل الكلب من الفريسة فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه)، فدل على تقديم الحظر على الإباحة، وقال له: (وإن وجدت مع كلبك كلاب غيرك فلا تأكل، فإنك إنما ذكرت اسم الله على كلبك ولم تذكر اسم الله على كلاب غيرك)، فهذه قاعدة لها أدلة كثيرة. الخلاصة: المذهب الأول يقول: طلقها بالسريان، فيدها تطلق فيجتمع الحاظر والمبيح، ثم يسري الطلاق إلى الكل تغليباً للحظر على الإباحة. المذهب الثاني: يقول: أراد بالجزء الكل؛ لأن الشرع عبر بالجزء عن الكل، فقال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد:1]، والمراد: تب جميع أبي لهب، فذكر اليد في المؤاخذة والعقوبة وأنزلها على الكل. وقال: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، والواقع: بما كسبت جوارحكم وبما كسبتم أنتم كلكم فقال: (بما كسبت أيديكم) فعبر بجزء الإنسان عن كله فدل على أن أجزاء الإنسان إذا تعلق بها تحريم سرى التحريم للكل، وهذا المذهب مذهب الجمع، فيجمع بين العضو المطلق والأعضاء الأخرى في حكم واحد، السؤال: ما هي فائدة الخلاف؟ الواقع هناك فائدة، فلو قال لها: إن دخلت الدار فيدك طالقٌ وقُطعت يدها قبل دخول الدار، لم تطلق على مذهب السريان، وطلقت على مذهب الجمع؛ لأنه حينما قال لها: إن دخلت الدار فيدك اليمنى طالق، وسرقت قبل دخول الدار، أو جاء الطلاق فلم يصادف محلاً، كما لو أسند الطلاق لمنفصلٍ عن البدن؛ لأن اليد صارت منفصلة فالله عز وجل يؤاخذه بلفظ، فبينه وبين الله أنها إن دخلت الدار فيدها حرامٌ عليه، وتطلق عليه؛ فلو قلنا بمذهب السريان وقطعت يدها فليجعل الطلاق حتى مائة طلقة فهي في يدها، لكن البدن انفصل عن هذه اليد المطلقة فلا يسري الطلاق، لكن على مذهب الجمع يكون قوله: يدك طالق، كقوله: كلك طالق، فالفرق بين المذهبين أن الأولين يطلقون الجزء ثم يسري الحكم للكل تبعاً، فإذا وقع الطلاق ولم يوجد الجزء الذي تعلق به الطلاق لم تطلق المرأة، والقول الثاني: أنها تطلق لأن الجزء يراد به الكل. والحق أن التفصيل أقوى في الترجيح بين هذين القولين؛ فإن قصد باليد الكل وعبر باليد ناوياً الكل فلا إشكال أنه يسري على الكل، وإن كان لم ينو الكل فأشبه القولين مذهب السريان. المسألة الثانية: إذا علق الطلاق بعضوٍ مما لا تحله حياة الروح كالشعر والسن، فهناك خلافٌ بين العلماء في شعر الإنسان وعظمه كالسن ونحوه هل هو في حكم المتصل أو المنفصل؟ قال الإمام ابن رجب رحمه الله في القواعد: شعر الإنسان هل هو في حكم المتصل أو في حكم المنفصل؟ وجهان، وكذلك السن والظفر والعظم، يعني: هل نحكم بأن شعر الإنسان في حكم المتصل به أو في حكم المنفصل عنه؟ فلو قال: والله! لا ألمسك، ولمس شعرها؛ فإنه لو كان في حكم المنفصل لم يحنث، وإن كان في حكم المتصل حنث، وهكذا إذا قلنا: إن لمس المرأة يوجب انتقاض الوضوء، فإن قلنا: حكم الشعر كحكم المتصل انتقض وضوءه، وإن قلنا: إنه في حكم المنفصل لم ينتقض وضوءه، فهناك جملةٌ من مسائل العبادات والمعاملات متعلقة بهذه القاعدة، ومن أراد المزيد من التفصيل فليراجع كتاب القواعد لـ ابن رجب رحمه الله، فعلى هذا: إذا أسند الطلاق إلى الشعر لم تطلق؛ لأنه في حكم المنفصل فالشعر يحلق ويبين

حكم تكرار لفظ الطلاق

حكم تكرار لفظ الطلاق قال رحمه الله: [وإذا قال لمدخول بها: أنت طالق، وكرره، وقع العدد إلا أن ينوي تأكيداً يصح أو إفهاماً]. هذه المسألة: تكرار اللفظ، أن يقول: أنت طالق، فإن قاله لامرأة مدخولٍ بها، -ويستوي هنا المدخول بها وغير المدخول بها-؛ لأن غير المدخول بها وإن كرر اللفظ تبين باللفظ الأول، فيأتي اللفظ الثاني على أجنبية، يعني: لو أن رجلاً قال لامرأة عقد عليها ولم يدخل بها: أنت طالق وطالق وطالق، فقوله: أنت طالق، الأولى تطلق بها طلقة واحدة فأصبحت أجنبية فليست هناك عدة لغير المدخول بها، فتأتي الطلقة الثانية على أنها أجنبية، فهذا وجه كون المصنف يقول: (لمدخول بها) والدليل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} يعني: عقدتم عليهن {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49]، ولا مراجعة لغير المدخول بها. وعلى هذا يقولون: غير المدخول بها بمجرد ما تطلقها طلقة واحدة تبين وتصبح أجنبية، ومعنى: تبين، أي: بينونة صغرى، والبينونة الصغرى لا تحل إلا بعقدٍ جديد، فلو قال لها -أي: غير المدخول بها-: أنت طالق وطالق وطالق، أو طالقٌ ثم طالق ثم طالق أو طالق فطالق فطالق أو طالق طالق طالق، فلما قال: طالق، الأولى بانت منه، فجاءت الثانية والثالثة على أجنبية فلا تطلق إلا طلقةً واحدة، فعندنا غير المدخول بها ما فيها إشكال، ويبقى الإشكال في المدخول بها، وهذا داخل في نفس الباب -باب ما يختلف فيه عدد الطلاق- فلنأتِ إلى مسألة تكرار اللفظ العام.

تكرار اللفظ بدون فاصل

تكرار اللفظ بدون فاصل لو قال لامرأةٍ: أنت طالقٌ طالق طالق، فله أحوال: الحالة الأولى: أن يكون ناوياً الثلاث، وحينئذ تتفق النية مع لفظ محتمل لتلك النية فتطلق ثلاثاً، فلو قال لها: أنت طالق طالق طالق، فإذا نوى الثلاث مضى عليه، ويبقى Q إذا نوى أقل من الثلاث أو لم ينو شيئاً، إذا نوى أقل من الثلاث كأن يقول لها: أنت طالقٌ طالق طالق، كما لو كان الرجل عصبياً وجاء يطلق زوجته، ويريد أن يبالغ في كونها طالقاً وهو ينوي واحدة، فيقول لها: أنتِ طالق طالق طالق وقصده طلقة واحدة، لكنه يكرر تأكيداً لذلك الطلاق الذي أوقعه، فكرر اثنتين أو ثلاثاً أو أكثر فهي طلقةٌ واحدة؛ لأن اللفظ نفسه محتمل للتأكيد والتأسيس. فكلمة (طالق طالق طالق) تأتي على صورتين: الصورة الأولى: تأكيد؛ فتعد واحدة. والصورة الثانية: التأسيس، فتعد ثلاثاً، فحينئذ نيته إما أن تكون تأكيدية، وإما أن تكون تأسيسية، والتأسيس معناه: أنه يؤسس الطلاق فيبني الثانية على الأولى، ويبني الثالثة على الثانية، فكأنه يقول: أنت طالق بالثلاث، فلو سألك سائل عن قول الرجل: (أنت طالقٌ طالق طالق) تقول: فيه تفصيل، فإن نوى ثلاثاً فتكون ثلاثاً، وإن نوى واحدةً فتكون واحدة، وإذا لم ينوِ شيئاً فوجهان، قال بعضهم: إذا لم ينو شيئاً نغلب الثلاث لأنه كرر، والإنشاء والتأسيس أولى من التأكيد؛ لأن التأسيس يفيد معنىً جديداً. وقال بعضهم: يكون طلقة واحدة؛ لأن الأصل أنها زوجته، ولا نحكم بالطلاق إلا بيقين ونحن على يقين من واحدة فلا نطلق أكثر وهذا هو الصحيح، وهو مذهب الجمهور، فمن قال لامرأته: أنت طالق طالق طالق ولم ينو لا واحدةً ولا ثلاثاً، فواحدة بناءً على ذلك، وإن نوى الثلاث فتكون ثلاثاً، وإن نوى واحدةً فتكون واحدة، وإذا لم ينو شيئاً فإنها واحدةٌ على الصحيح.

تكرار اللفظ مع الفصل بحرف أو غيره

تكرار اللفظ مع الفصل بحرف أو غيره قوله: (طالق طالق طالق) اتضح لنا القول فيه، لكن يبقى: (طالق وطالق وطالق)، (طالق فطالق فطالق)، (طالق ثم طالق ثم طالق)، (طالق بل طالق بل طالق)، أو أي لفظ ناتج عن إدخال أي حرف في (طالق، طالق)، بين الأولى والثانية، فهل هذا يؤثر أو لا؟ فقال رحمه الله: [وإن كرره بـ (بل) أو (ثم) أو بـ (الفاء) أو قال: بعدها أو قبلها أو معها طلقةٌ وقع اثنتان]. كقوله: (أنتِ طالق فطالق فطالق)، (طالق ثم طالق ثم طالق)، (طالق وطالق وطالق)، ثلاث؛ لأنه إذا عطف فالعطف يقتضي المغايرة، فأصبحت الطلقة الثانية غير الأولى، فإن قال لها: أنتِ طالقٌ فطالق، أو طالق وطالق، فالطلقة الثانية غير الأولى، وعلى هذا قالوا: تطلق ثلاثاً. (أو قال بعدها أو قبلها أو معها طلقة وقع اثنتان). قال لها: أنت طالق و (بعدها أو قبلها) طلقة فيقول لها: أنت طالق طلقة، طالق طلقة، طالق طلقة، فحينئذٍ تطلق ثلاثاً؛ لأنه يكون في هذه الحالة كأنه أسس بذكر التأكيد، أو فصل بينهما بما يدل على انفصال الطلقة الأولى عن الثانية، فقال: أنت طالق، ثم قال: طالق طالق، فهذا الفصل يقتضي أنها طلقةٌ قبل الطلقة أو طلقةٌ بعد الطلقة، وهكذا لو قال لها: أنت طالق بعدها طلقةٌ، أو طالق بعدُ طالقٌ بعدُ طالقٌ، أو طالق قبلها طلقة، فإنها طلقتان، إذا قال: أنت طالق قبلها طلقة، أو أنت طالقٌ بعدها طلقة، تكون طلقتين، إن قال: طالقٌ قبلها طلقة، فأصبحت (طالق) الثانية ليس فيها معنى التأكيد، فتطلق طلقتين، وإن قال: أنت طالقٌ قبلها طلقة، فإن قوله: (طالق) تكون تأكيداً وطلقةً مستقلة.

تكرار الطلاق لامرأة غير مدخول بها

تكرار الطلاق لامرأة غير مدخول بها قال رحمه الله: [وإن لم يدخل بها بانت بالأولى ولم يلزمه ما بعدها، والمعلق كالمنجز في هذا]. الآن بالنسبة للإشكال في طالق (طالق طالق)، أو (طالقٌ قبلها طلقة)، أو (طالقٌ بعدها طلقة)، هل هو للتأكيد؟ أو للتأسيس؟ فالمسألة كلها تكون: هل لمعنى التأكيد أو لمعنى التأسيس؟ ففي الصورة الأخيرة: (أنت طالقٌ قبلها طلقة)، انظر! فهل وصفه باسم الفاعل: (أنتِ طالق) مراده الطلقة القبلية، أم أنها طلقة غير الطلقة القبلية؟ فهو ناوٍ في قلبه أن قوله: (طلقة) سبقت (طالق)، فهل (طالق) الثانية تأكيد أم تأسيس؟ فعلى هذا الوجه ذكر المصنف هذه المسألة. قال رحمه الله تعالى: [وإن كرره بـ (بل) أو (ثم) أو بـ (الفاء) أو قال: بعدها أو قبلها أو معها طلقةٌ وقع اثنتان]: وقعت اثنتان، يعني: إذا قال لها: (أنت طالق بل طالق) فتُعد طلقتان؛ وطالق فطالق، أنت طالقٌ ثم طالق، كذلك قالوا: إن هذا يعتبر تأسيساً، ولا يمكن أن يقبل التأكيد، فهو إذا قال: (أنت طالقٌ طلقة)، (أنت طالقٌ بعد طلقة)، (أنت طالقٌ قبلها طلقة) لكن لاحظ! حينما قال: (أنت طالق قبلها طلقة) أخَّر المقدَّم وقدَّم المؤخَّر، فهل المؤخَّر هو المقدَّم أو لا؟ هذا الإشكال فهل قوله: (طالق) -اسم الفاعل- وصفٌ للمتقدم الذي أخَّرَه، فيكون قوله: (طلقة) في الأصل سابقة لـ (طالق)، فيكون وصفها بكونها طالقاً واقعاً للمؤخر الذي هو (طلقة)، فيكون قوله: (أنت طالق قبلها طلقةٌ)، المراد به: أن تكون طلقةً واحدة. ويحتمل أن يكون قوله: (أنت طالقٌ قبلها طلقة) (أنتِ طالق)، طلقت ولا تقبل الإلغاء، ثم: (قبلها طلقة) يقصد به أنه قد طلقها طلقةً مع هذه الطلقة، فتكون طلقتان، وحينئذٍ اختار المصنف أنها طلقتان، وعلى هذا القول فقول الزوج: (أنتِ طالقٌ قبلها طلقة)، (أنتِ طالقٌ بعدها طلقة)، في الصورتين تكون طالقاً بالطلقتين، هذا وجه، وخلاصة الإشكال: هل هي للتأسيس أو للتأكيد؟ فإن قلت، للتأكيد، فلا يتكرر الطلاق، وإن قلت: للتأسيس، تكرر الطلاق على حسب ذلك. ولو قال لها: (أنتِ طالقٌ قبلها طلقة، وأنتِ طالقٌ بعدها طلقة)، أو قال لها: (أنت طالقٌ قبلها طلقتين)، فثلاث؛ لأن (أنتِ طالق) اسم الفاعل وصف، وتكون حينئذٍ طلقتان على مذهب من يقول: إنه للتأكيد على أنه للوصف، وإن كان للتأسيس فيكون قوله: (أنت طالقٌ قبلها طلقتان) ثلاثاً، ويصبح في هذه الحالة وصفها بكونها مطلقة طلقة ثالثة بعد الطلقتين السابقة. وإن قلت: ليس مراده ذلك، فـ (طالق) اسم فاعل، واسم الفاعل يقبل الوصف، وهو مشتق، فيكون قوله: (أنت طالقٌ قبلها طلقتين) يعني: أنت طالقٌ بالطلقتين، أصفك بكونك طالقاً بطلقتين، هذا معنى كونها للتأكيد، وهذا -في الحقيقة- تفنن من العلماء؛ لأن التفنن في اللغة كان -قديماً- موجوداً، وتجد الرجل يتمسك بالألفاظ، وإذا لَحَن يؤاخذ، فكانوا الناس ينقلون ويأخذون بألفاظهم كما هي، وكانت اللغة قائمة بدلائلها بالتأسيس والتأكيد، وحروف التأسيس التي لا يمكن حملها على التأكيد، وعلى هذا فصل المصنف -رحمه الله- واختار أن قوله: (أنت طالقٌ قبلها طلقة)، أو (طالقٌ بعدها طلقة) أنها تطلق طلقتين. وعلى هذا ممكن أن تطلق ثلاث تطليقات لو قال لها: قبلها طلقتان، أو بعدها طلقتان.

الأسئلة

الأسئلة

عدد الطلقات للعبد إذا طلق ثم أعتق

عدد الطلقات للعبد إذا طلق ثم أعتق Q إذا طلق العبد طلقةً ثم أُعْتِق فكم يبقى له من عدد الطلاق؟ A باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإذا طلق العبد طلقة ثم عتق العبد، فإنه بعد ذلك يستأنف الحكم وتكون له ثلاث تطليقات، فيبقى له من تطليقاته طلقتان. والله تعالى أعلم.

تفصيل حالات أخذ الجزء لحكم الكل والعكس

تفصيل حالات أخذ الجزء لحكم الكل والعكس Q في الطلاق نرى أن الجزء آخذ لحكم الكل والقاعدة: أن (الجزء لا يأخذ حكم الكل) فما التوجيه في ذلك؟ A ما شاء الله! -الحقيقة- كم يُسَر أهل العلم وطلبة العلم حينما تكون الأسئلة فعلاً تدل على ربط الفقه بعضِه ببعض! سبق وأن ذكرنا أن هناك قاعدة تقول: (الجزء لا يأخذ حكم الكل)، وذكرنا هذه القاعدة في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حينما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (ناوليني الْخُمرة، قالت: إني حائض، قال: إن حيضتك ليست في يدك)، فلم يعطِ اليد حكم الجسم كله، فقالوا: (الجزء لا يأخذ حكم الكل)، وهذا فيما يقصد فيه الكل. هنا قلنا: (الجزء يأخذ حكم الكل)، وهذا في المؤاخذات، وقصد الكل -يعني: فيما يقصد به الكل- مستقيم؛ لأن هذا ورد، وهذا ورد، فالشرع عبَّر بالجزء عن الكل، ولذلك قال: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة:191]، والمراد مكة كلها، وقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء:1]، وقد أسري به عليه الصلاة والسلام من بيت أم هانئ، وهذا يدل على أن الكل يكون في حكم الجزء، وقال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]، كما ذكرنا، فالشرع يعبر بالجزء عن الكل، ويعبر بالجزء عن الجزء، فحينما قلنا: إن الجزء لا يأخذ حكم الكل فهذا بالنسبة لما قَصَد الشرعُ فيه الكل كقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) فالدخول للكل لا للبعض، فلو أدخل رجله فإنه لا تلزمه التحية؛ لأنه لم يدخل الكل، والجزء لا يأخذ حكم الكل، ولو قال: والله! لا أدخل البيت، فأدخل يده، لم يحنث؛ لأن الحكم هنا في الشرع معلق بالكل، وهكذا لو اعتكف في مسجدٍ فأخرج يده منه لم يبطل اعتكافه؛ لأن الشرع علق الحكم بالكل؛ لكن هنا لا يمكن أن يعلق الحكم بالجزء وحده؛ لأننا ما وجدنا الشرع يقول: المرأة حلالٌ كلها إلا يدها، وما وجدنا الشرع يقول: المرأة نصفها حلال ونصفها حرام، ووجدنا الإجماع قائماً على أن تطليق البعض كتطليق الكل، وأن جزء الطلقة ككل الطلقة فتطلق المرأة جميعُها، وهذا مثل ما ذكرنا: أن الشرع اختلفت أحكامه فأعطى الكل حكم الجزء في حال، وأعطى الجزء حكم الجزء بالخصوص ولم يعطه حكم الكل في حال، وعليه جعلنا الحكم مرتباً لكل حال بما يناسبه، فنحن نقول: إن الطلاق لا يتعلق بالبعض، فنفهم هنا: أن الجزء كالكل، وأيضاً: حينما وجدنا الشرع يعلق الحكم على الدخول وعلى الخروج نقول: دخول البعض ليس كدخول الكل، وخروج البعض ليس كخروج الكل. والله تعالى أعلم.

تعليق الطلاق أو عدده بمستحيل

تعليق الطلاق أو عدده بمستحيل Q لو قال الرجل لزوجته: أنت طالق بعدد أبنائي، ولم يكن له أولاد، فما الحكم؟ A أنت طالق بعدد أبنائي، بعض العلماء يقول: إنه إذا عُلِّق الطلاق على المستحيل يكون لغواً، لو قال لها: أنت طالقٌ بعدد أبنائي، وليس له أبناء، قالوا: يكون هذا من التعليق بالمستحيل، يعني: ليس له أبناء فالطلاق لم يصادف محلاً. وقال بعض العلماء: تطلق عليه طلقة ولا يُزاد؛ لأنه قال: أنت طالق -فوصفها بكونها طالقاً- بعدد أبنائي، يصبح بعد ذلك الثانية والثالثة بعدد الأبناء، فالأصل أنه طلق، قالوا: فيؤاخذ، وعلى هذا لا يصح إدخاله لعدد الأبناء رافعاً للطلاق؛ لأن الطلاق قد وقع. والمسألة محتمِلة، ومن يرجح المؤاخذة يقول: إنها تطلق؛ لأنه قال: أنت طالق، فلا إشكال في وقوعه، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس، أنه إذا قال: أنت طالق بعدد أبنائي تطلق. لكن يرد الإشكال: لماذا يحكم بالطلاق، وقد قيده -بينه وبين الله- بعدد أبنائه. وهذه المسألة -في الحقيقة- لو تأملها طالب العلم لعرف أنها تطلق بالنص؛ لأنه حينما قال لها: أنت طالقٌ بعدد أبنائي، وهو يعلم أنه ليس له أبناء فقد هزل بالطلاق، فلما وصفها بقوله: أنت طالق، فقد أمضى على نفسه الطلاق بصيغة اسم الفاعل التي هي أصلٌ للطلاق. وعلى هذا تطلق لكونه يهزل ويريد الهزل، وحينئذٍ تكون طلقةً واحدة، ولا تطلق عليه أكثر من طلقةٍ. والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

فصل الاستثناء في الطلاق

شرح زاد المستقنع - فصل الاستثناء في الطلاق مسألة الاستثناء في الطلاق من المسائل المهمة التي تبحث في كتاب الطلاق، وتتفرع منها مسائل وأحكام أخرى من أهمها: حكم تأثير الاستثناء في الطلاق، والشروط المنبغي توفرها في اعتبار الاستثناء في الطلاق، وحكم استثناء النصف فأقل من عدد الطلاق والمطلقات، وكذلك حكم الاستثناء بالقلب في الطلاق.

الاستثناء في الطلاق

الاستثناء في الطلاق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين؛ أما بعد كنا قد ذكرنا جملةً من الأحكام المتعلقة بتنجيز الطلاق، وقوله رحمه الله: (والمعلق كالمنجز)، قد عقد المصنف رحمه الله لتعليق الطلاق مباحث وفصولاً سيأتي بيانها، وعند العلماء رحمهم الله أن الطلاق ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما كان منجزاً، والمقصود بالمنجز الذي يبت الزوج فيه الطلاق فيقول لامرأته: أنت طالق. فهذا منجزٌ وينفذ حالاً، وأما المعلق فإنه يعلق على شرط أو صفة أو زمان ويعلق فيقول: إن دخلت الدار، أو إن خرجت، أو إن ذهبت إلى أهلك، أو إن جاء الغد ونحو ذلك، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- بيان مسائل التعليق ومباحثها بعد فصلين من هذا الفصل.

أقسام المستثنى منه في الطلاق

أقسام المستثنى منه في الطلاق قال رحمه الله: [فصل: ويصح منه استثناء النصف فأقل من عدد الطلاق والمطلقات]. هذا الفصل عقده المصنف رحمه الله للاستثناء، والاستثناء في الطلاق مبحثٌ مهم من مباحثه، والمراد بالاستثناء: أن يستثني المطلق من عدد الطلاق شيئاً معيناً أو يستثني من المطلقات بعضهن، ولذلك ينقسم الاستثناء إلى قسمين: إما أن يكون في عدد الطلاق، وإما أن يكون في المطلقات، فمثال الأول: أن يقول لها: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا واحدة، ومثال الثاني أن يقول: نسائي طوالق إلا فلانة، والاستثناء في لغة العرب حقيقته: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، فهو يقول: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا واحدة، فلما قال: إلا واحدةً، أخرج الواحدة من الثلاث، فقالوا: الاستثناء إخراج بعض، فخرج استثناء الكل من الكل، وهو نوعٌ من أنواع الاستثناء سيأتي بيان حكمه. والاستثناء مبحثٌ مهم من المباحث الفقهية، ذكره العلماء في الطلاق، ويتكلمون عليه في الأيمان، كرجلٍ يحلف اليمين ويستثني فيقول: والله لا آكل اليوم إلا اللحم، أو والله لا أدخل دار أحدٍ إلا دار فلانٍ، أو والله لا أكلم الناس إلا زيداً ونحو ذلك، وكذلك يكون الاستثناء في مباحث العتق، فيعتق عبيده وإماءه ويستثني بعضاً منهم، فمباحث الاستثناء مباحث مهمة يترتب عليها مسائل شرعية في الطلاق والأيمان والنذر والعتق وغير ذلك، ومسألة الاستثناء تستلزم بيان الأصول والقواعد التي يقوم عليها الاستثناء، فهناك مستثنى، ومستثنىً منه، وأداةٌ للاستثناء، فأما المستثنى فيكون عدداً ويكون شخصاً، وهذا في باب الطلاق؛ لأننا قلنا: إما أن يستثني من عدد الطلاق أو من المطلقات. فلذلك المستثنى إما أن يكون من الأعداد كقوله: أنت طالقٌ طلقتين إلا واحدة، وأنت طالقٌ ثلاث تطليقات إلا واحدة، فقوله: إلا واحدة، المستثنى: واحدة، وهو عدد، أو يكون المستثنى من النساء، وهذا استثناء راجعٌ للمطلقات لا إلى عدد الطلاق، كقوله: نسائي طوالق إلا خديجة، فهذا استثناءٌ من المطلقات. وأما بالنسبة للمستثنى منه فإن كان الاستثناء عددياً فإنه يكون عدد الطلاق كقوله: ثلاثاً إلا واحدة، وإذا كان من المطلقات يكون ذكره لنسائه كلهن فيقول: جميع نسائي طوالق إلا فلانة. وأما بالنسبة للأداة فهناك الاستثناء بـ (إلا وسوى وعدا وغير وحاشا وخلا)، فهذه ستة حروف للاستثناء، يقول: نسائي طوالق إلا خديجة، ونسائي طوالقُ ما عدا خديجة، ونسائي طوالقُ غير خديجة، سوى خديجة ونحو ذلك؛ لكن هذه الحروف فيها غير، وغير تأتي على وجهين: فإن قال: نسائي طوالق غير خديجة، خرجت واستثنيت إذا جاءت بالنصب، وأما إذا قال: غيرُ خديجة -بالضم- فالجمهور على أنها تكون طالقةً مع المطلقات من باب التأكيد كقوله: أنت طالق ثلاثاً غير واحدةٍ، أي: أنت لست بطالق طلقة واحدة، وإنما أنت طالق ثلاث تطليقات، وعلى هذا لا تكون دالةً على الاستثناء.

حكم تأثير الاستثناء في الطلاق

حكم تأثير الاستثناء في الطلاق قال العلماء رحمهم الله: إن الإجماع منعقد من حيث الجملة على أن من استثنى استثناءً صحيحاً مستوفياً للشروط الشرعية أنه يحكم له بالاستثناء ويعتد به؛ لأن الله سبحانه وتعالى عبر في كتابه المبين بالاستثناء، وثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استثنى، وجعل استخدام هذا الأسلوب العربي موجباً لمخالفة الحكم للمستثنى من المستثنى منه. وعلى هذا قالوا: إن من استثنى استثناءً شرعياً، أي: مستوفياً للشروط المعتبرة شرعاً، حُكِم باستثنائه، ففي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرّم مكة، فلا يعضد شوكها ولا يختلى خلاها ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرفٍ، قال العباس رضي الله عنه وأرضاه: يا رسول الله! إلا الإذخر، فإنه لقينهم ولبيوتهم، قال صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر)، فدل على أن الاستثناء له تأثير، وقد جاءت بذلك نصوص الكتاب، فإن الله تعالى جعل الاستثناء مؤثراً في العدد فقال سبحانه: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت:14]، فكأنه قال: لبث فيهم تسعمائة وخمسين عاماً، فدل على أن الاستثناء يؤثر في الأعداد. وعلى هذا قالوا: كما أن الاستثناء يؤثر في الأعداد فقد ثبت النص بأن الاستثناء يؤثر في الأشخاص الموصوفين كما في قوله تعالى: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:40]، فاستثنى عباد الله المخلصين، وهذا يدل على أن الاستثناء يقع في الأعداد ويقع في الأشخاص، وبناءً عليه، فمن طلق بعددٍ واستثنى فإنه يصح استثناؤه، ومن طلق نساءً واستثنى صح استثناؤه، ولكن إذا استوفى الشروط.

الشروط المنبغي توفرها في اعتبار الاستثناء في الطلاق

الشروط المنبغي توفرها في اعتبار الاستثناء في الطلاق الشرط الأول: النية والقصد، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، فمن تلفظ بالطلاق وذكر مطلقات أو عدداً من الطلاق وأراد أن يستثني، فعليه أن تكون عنده نية لذلك الاستثناء حتى يحكم بالاعتداد بذلك الاستثناء شرعاً. فإذا أراد أن يستثني ونوى، فلا يخلو من حالات: الحالة الأولى: أن تكون نيته للاستثناء سابقةً لتلفظه بالطلاق. الحالة الثانية: أن تكون نيته للاستثناء مصاحبةً للتلفظ بالطلاق. الحالة الثالثة: أن تكون نية الاستثناء متراخيةً ومتأخرةً عن لفظه بالطلاق. الحالة الأولى: أن تكون نيته سابقةً للطلاق؛ وذلك كأن ينوي أن يطلق امرأته طلقةً واحدة، فقبل أن يتلفظ يستحضر في نيته أنه يريد أن يطلقها طلقة، فقبل أن يتلفظ نوى هذه النية ثم قال: أنت طالقٌ طلقتين إلا طلقة، أي: أنت طالقٌ طلقة واحدة؛ فعلى هذا أجمع العلماء رحمهم الله: أن من كانت نيته سابقةً للفظ الطلاق أنها نية معتدٌ بها ومعتبرة للتأثير في الاستثناء. الحالة الثانية: أن تكون النية مصاحبةً للفظ، وذلك بأن ينوي الاستثناء قبل الفراغ من عدد الطلاق الذي يريد أن يستثني منه، وقبل الفراغ من عدد المطلقات اللاتي يريد أن يستثني منهن، فمثلاً: إذا كان الاستثناء في العدد قال لها: أنت طالقٌ طلقتين، وقبل أن يتم قوله: طلقتين، نوى الواحدة فقال: طلقتين إلا واحدة، وقعت واحدة في قول جماهير العلماء رحمهم الله لقولهم: إن النية إذا كانت سابقة أو كانت موافقة أو مصاحبة أنها نيةٌ معتبرة ومؤثرةٌ شرعاً. الحالة الثالثة: أن تكون النية متراخية ومتأخرةً عن الطلاق، فقول جماهير العلماء رحمهم الله: أنه لا تأثير لذلك، فلو أن رجلاً قال لامرأته: أنت طالقٌ ثلاثاً، ثم طرأ له وبدا له أن يستثني منها شيئاً بعد أن تلفظ بالثلاث فقد وجبت الثلاث ولا تأثير لذلك، إلا أن فقهاء الحنابلة والمالكية رحمهم الله استثنوا المصاحب المتصل اتصالاً قوياً بآخر اللفظ، والأقوى ما ذكرناه، هذا بالنسبة للأول وهو شرط النية. الشرط الثاني: ألا يكون الاستثناء مستغرقاً، والمراد بذلك: أن يفضل شيء بعد الاستثناء الذي استثناه من عدد الطلاق والمطلقات، فمثلاً يقول لامرأته: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا ثلاثاً؛ فإنه إذا قال: إلا ثلاثاً، أبطل بها الثلاث الأولى وكأنه يبطل لفظ الطلاق، فبالإجماع على أنه إذا كان استثناؤه مستغرقاً أنه غير مؤثر ويقع ما تلفظ به. فلو قال: أنت طالق طلقة إلا طلقة أو طلقتين إلا طلقتين أو ثلاثاً إلا ثلاثاً؛ فإنه لا يعتد بالاستثناء، ويقع الذي تلفظ به أولاً. وعرفنا أنه إذا قال: كلكنّ طوالق إلا جميعكن، لم يصح ويطلق الجميع، ولو قال: أنت طالق طلقتين إلا طلقتين فإنه يلغى استثناؤه ويثبت طلاقه. لكن Q لو أنه استثنى بعض المستثنى منه ولم يكن مستغرقاً، فالسؤال: ما الحكم؟ يأتي ذلك على صور: الصورة الأولى: أن يستثني الأقل من الأكثر. الصورة الثانية: أن يستثني النصف. الصورة الثالثة: أن يستثني الأكثر. فعندنا ثلاث تطليقات يستثني الأقل فيقول: إلا طلقة، ويستثني المساوي فيقول: طلقتين إلا طلقة، فاستثنى النصف، ويستثني الأكثر فيقول: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا اثنتين. فعندنا ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يستثني الأقل من الأكثر، فبإجماع العلماء على أنه إذا استثنى الأقل من الأكثر صح استثناؤه، كقوله: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة، فيصح استثناؤه وتطلق المرأة طلقتين. الصورة الثانية: إذا استثنى النصف فقال: أنت طالقٌ طلقتين إلا طلقةً فهل هذا يؤثر أو لا يؤثر؟ جمهور العلماء على أنه إذا قال: أنت طالقٌ طلقتين إلا طلقة فإنه يصح استثناؤه وتطلق طلقةً واحدة؛ لأن النص والتنزيل دال على تأثير الاستثناء، والنصوص دالة على أن هذا الاستثناء معتدٌ به في اللسان واللغة، والإجماع منعقدٌ على أنه مؤثر، وإعماله هو الأصل، فيبقى على هذا الأصل حتى يدل الدليل على أن استثناء النصف لاغٍ، وليس هناك دليل يفرق بين النصف والأكثر. ويخالف في هذه المسألة بعض فقهاء الحنابلة ويقولون: إنه إذا استثنى النصف لم يصح استثناؤه، والمصنف رحمه الله اختار القول بأنه إذا استثنى النصف فإنه يؤثر وأنه استثناء صحيح، وهو القول الراجح -كما ذكرنا- بدلالة النصوص في الأصل على صحة الاستثناء والاعتداد به. الصورة الثالثة: إذا استثنى الأكثر فقال: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا طلقتين؛ فإن الطلقتين اللتين استثناهما أكثر من الطلقة التي أبقاها وعلى هذا كانت الاثنتان أغلب وأكثر، فهل يصح أن يقول: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا طلقتين ويعتبر ذلك موجباً لرفع الطلقتين وبقاء الطلقة الواحدة؟ قولان للعلماء، وأصحهما: قول الجمهور، أن من استثنى الأكثر صح استثناؤه؛ وذلك لقوة الدليل من الكتاب على صحة هذا النوع من الاستثناء، وقد اختار أئمة اللغة أنه يصح استثناء الأكثر وليس في ذلك مانع، وقد قال الله عز وجل حكايةً عن إبليس: {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:39 - 40]، قال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42]، فقوله: (إن عبادي) عباد الله عز وجل الذين هم بنو آدم ليس له عليهم سلطان إلا من اتبعوه من الغاوين، والغاوون أكثر من المهتدين. فدل هذا على أن استثناء الأكثر من المستثنى منه صحيح؛ لأن القرآن جاء بذلك ونص عليه، وقد خالف في هذه المسألة بعض أئمة اللغة رحمهم الله كـ ابن درستويه، وحُكي عن ابن جني والزجاج أنهما يقولان: لا يصح استثناءُ الأكثر، والصحيح أن استثناء الأكثرِ صحيح ومعتدٌ به على ما ذكرناه، ولذلك قال الإمام الماوردي رحمه الله: إن هذا المذهب ضعيفٌ، والأقوى والأشبه بالأصول صحة استثناء الأكثر كالأقل. إذا ثبت هذا فإن الخلاصة: أن من استثنى وكان الذي استثناه مستغرقاً للمستثنى منه لم يصح استثناؤه بالإجماع، كقوله: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا ثلاثاً. وهناك مذهب شاذ لا يعتد به أنه لو قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً لم تطلق، ولكنه شذوذ. أما إذا قال: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا واحدةً أو اثنتين ففيه خلاف: هل يصح استثناء الأكثر والنصف، وقلنا: إن الراجح مذهب الجمهور، وأما بالنسبة للأقل فإنه يكاد يكون الإجماع على أن استثناء الأقل صحيحٌ ومعتدٌ به. الشرط الثالث: أن يكون الاستثناء متصلاً، ولا يفصل بين المستثنى منه والمستثنى بفاصلٍ مؤثر، فإذا قال: أنت طالقٌ ثلاثاً، وأراد أن يستثني من الثلاث فينبغي عليه أن يصل ويقول: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا واحدة، فيجعل الاستثناء متصلاً بالمستثنى منه. وعلى هذا: فلو وقع الفاصل فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يكون فاصلاً يعذر فيه شرعاً، كأن يقول: أنت طالقٌ ثلاثاً، ثم يصيبه عطاس، فيفصل بعطاس، أو يفصل بانحباس نفس أو نحو ذلك مما هو خارج عن إرادته وقدرته، فبالإجماع لا يؤثر. الحالة الثانية: أن يكون الفاصل مؤثراً بقولٍ أو فعل أو طول زمان، فهذا فيه خلافٌ بين العلماء رحمهم الله، وجمهرة أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة رحمهم الله على أن الفاصل المؤثر يُسقط الاستثناء ويثبت الطلاق، ولا يؤثر فيه ذلك الاستثناء، فمثلاً: لو قال رجلٌ لامرأته: أنت طالق ثلاثاً، في مجلس، ثم خرج إلى مجلس ثانٍ وطال الفصل وقال: إلا واحدة، وقعت الثلاث، واستثناء الواحدة على هذا الوجه لا يؤثر، وهذا هو مذهب الجمهور الذين منهم الأئمة الأربعة، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رخص في الفاصل في الاستثناء، وأنه إذا فصل بفاصلٍ إلى شهر فإنه لا يؤثر، وحُكيَ عنه أنه قال: إلى الأبد، وكذلك قال طائفة من أصحابه كـ مجاهد بن جبر وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير وهو قول بعض أئمة التابعين كـ الحسن البصري، حتى قال مجاهد: له أن يستثني إلى سنتين. وهذه الأقوال كلها مرجوحة، وقد احتجوا بحديث العباس فإنه لما قال عليه الصلاة والسلام في تحريم مكة: (أن يختلى خلاها ويعضد شوكها وتلتقط لقطتها قال العباس رضي الله عنه: يا رسول الله! إلا الإذخر، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: إلا الإذخر). قالوا: فحصل الفصل بين المستثنى والمستثنى منه، ومع ذلك جُعِل الحكم للإذخر خاصاً وأثر الاستثناء، قالوا: والاستثناء هو وجود الفصل إما بوجود الجملة للمراجعة بقوله: (يا رسول الله إلا الإذخر) أو بوجود الزمان. وأجاب عن هذا جمهور العلماء بأن الكلام فيه تقدير، فقوله: (يا رسول الله! إلا الإذخر)، كأنه سؤال، والسؤال معادٌ في الجواب، أي: كأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يعضد شوكها ولا يختلى خلاها إلا الإذخر)، ففيه تقدير، وهذا هو الصحيح، وبناءً على ذلك لا يكون الحديث حجة على الفصل. ومن غرائب ما ذكروا عن بعض أئمة الفقه رحمةُ الله عليهم: أنه ذات مرةٍ دخلت امرأتان من البادية على البصرة، فوجدتا رجلاً يبيع، فاشترت إحداهما من ذلك البائع، فقالت إحداهما تخاطب الأخرى: ألم تعجبي من فلانٍ -تعني: من العلماء- يقول: إنه يجوز أن يستثني بعد اليوم واليومين؟ أي: يجوز للإنسان أن يستثني من يمينه وطلاقه وعتاقه بعد يوم أو يومين، قالت: وما العجب في ذلك؟ أي: لأنها امرأة وتحب الاستثناء حتى ولو بعد العمر كله؛ لأن هذا أفضل لها، فقالت لها: وما العجب في ذلك؟ قالت لها: لو كان الأمر كما قال لأمر الله نبيه أيوب أن يستثني، فإنه لما ألزم نفسه كان بالإمكان أن يأمره أن يستثني ويرفع عنه موجب اليمين، وهذا لا شك أنه يدل دلالة واضحة على أن وجود الفصل يؤثر في الاستثناء. وعلى هذا: فإنه لا يصح أن يستثني مع وجود الفاصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفصل بين المستثنى والمستثنى منه، وإنما وقع كلامه على تقدير سؤال العباس رضي الله عنهما.

حكم استثناء النصف فأقل من عدد الطلاق والمطلقات

حكم استثناء النصف فأقل من عدد الطلاق والمطلقات قال رحمه الله تعالى: [ويصح منه استثناء النصف فأقل من عدد الطلاق والمطلقات]. يقول رحمه الله: (ويصح منه) أي: من المطلق، (استثناء النصف فأقل) وهذا على أصح القولين في المذهب كما ذكرنا، وكما قلنا: يكاد يكون إجماع القائلين بأن الاستثناء يؤثر من عدد الطلاق، وهذا النوع الأول من الاستثناء يكون عددياً، والنوع الثاني: استثناء المطلقات فيقول: نسائي طوالق إلا فلانة وفلانة، فحينئذٍ يكون استثنى نصف نسائه المطلقات، حيث يكون عنده أربع من النسوة فيستثني منهن اثنتين. وكذلك يستثنى من عدد الطلاق كأن يقول: أنت طالقٌ طلقتين إلا طلقة، أو نسائي طوالق طلقتين إلا طلقة فهذا استثناء للنصف. قال رحمه الله: (فأقل) والأقل كما ذكرنا أن يقول: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا واحدة، هذا في عدد الطلاق، والأقل في المطلقات أن يكون عنده أربع نسوة فيقول: نسائي طوالق إلا فلانة، فواحدةٌ من أربع أقل، أو يقول: نسائي طوالق إلا فلانة وفلانة، فيكون استثنى النصف من عدد المطلقات. ومفهوم قوله: (استثناء النصف فأقل) الحنابلة رحمهم الله عندهم أنه لا يجوز استثناء الأكثر كما ذكرنا، فلو قال: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا اثنتين فإنه لا يصح هذا الاستثناء، والصحيح: صحة استثناء الأكثر وهو مذهب الجمهور، فإن ظاهر القرآن دالٌ عليه، فلما قال رحمه الله: (يصح منه استثناء النصف فأقل)، نفهم أنه إذا استثنى أكثر من النصف فلا يصح هذا على المذهب، ولكن الصحيح ما ذكرنا لقوة الدليل عليه. قوله: [فإذا قال: أنت طالق طلقتين إلا واحدة وقعت واحدة]. وهذا استثناء النصف. ولو قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً إلا اثنتين، أصبحت مطلقة طلقة واحدة على القول بأن استثناء الأكثر يؤثر. فإذا قال: إلا اثنتين إلا واحدة، يكون قوله: إلا واحدة، راجعاً إلى اثنتين، فيكون قد استثنى واحدةً من ثلاث، فاستثنى من الثلاث الأولى طلقتين، ثم استثنى من الطلقتين اللتين استثناهما طلقةً واحدة، فبقيت واحدة، فأصبحت طالقاً طلقتين، فإذا قال: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا طلقتين إلا واحدة؛ فإن قوله: إلا طلقتين، يوجب ثبوت الطلقة الواحدة، إذا رجع واستثنى من الاثنتين واحدة صار قد استثنى من الثلاث واحدة، والاستثناء الثاني استثناء من الأول؛ لكن لو أنه جعل الاستثناء على هذا الوجه يكون الاستثناء الثاني راجعاً إلى الاستثناء الأول، وعلى هذا يقول العلماء: إنها تطلق في هذا الوجه طلقتين، ويكون الاستثناء الثاني من الاستثناء الأول.

اختلاف الاستثناء في النفي والإثبات

اختلاف الاستثناء في النفي والإثبات قوله: [وإن قال: ثلاثاً إلا واحدة فطلقتان]. الاستثناء يكون تارةً بالإثبات وتارة بالنفي، فالاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي، فأنت لو قلت: ما قام أحدٌ إلا زيداً، فإن الاستثناء من المنفي إثبات، أي: أن زيداً قد قام، فصار الاستثناء من النفي إثبات، والعكس الاستثناء من الإثبات نفيٌ، فإذا قال: جاء الطلاب إلا زيداً، فمعنى ذلك أن زيداً لم يجيء، فأصبح الاستثناء من الإثبات نفي، وعلى هذا استشكلت بعض المسائل على هذا الأصل: أن الاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات، فإذا قال: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا واحدةً، فإنه قد أثبت الثلاث واستثنى منها واحدة، فيكون نفياً للواحدة. وعلى هذا لما قلنا: إنه إذا قال لها: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا طلقتين فقد نفى أن تكون مطلقة ثلاثاً، واستثنى هاتين الطلقتين، ثم لمّا رجع وقال: إلا واحدةً، أي: من الاثنتين، فحينئذٍ كأنه يقول: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا واحدة هذا وجهه. لكن مسألة الاستثناء من النفي إثبات هي في الطلاق جارية عند جمهور العلماء رحمهم الله، ويشكل عليها فقط في مسائل الأيمان، لو قال: والله لا آكل اللحم إلا لحم الدجاج. فإذا قلنا: والله لا آكل اللحم استثناء، والاستثناء من النفي إثبات، فحينئذٍ عند الجمهور أنه إثبات لأكل الدجاج، فإذا مضى ذلك اليوم ولم يأكل لحم الدجاج؛ لزمته اليمين وحنث؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات. وقال طائفةٌ من العلماء كما هو مذهب المالكية: الاستثناء من النفي إثبات إلا في اليمين؛ فإنه لو قال: والله لا آكل اليوم اللحم إلا لحم الدجاج؛ فإنه حينئذٍ يكون قوله: إلا لحم الدجاج، للإباحة لنفسه، وليس المراد به إثبات كونه يأكل لحم الدجاج، ويكون الخلاف بين القولين فيما لو مضى اليوم كله ولم يأكل لحم الدجاج، فعلى أن الاستثناء من النفي إثبات حنث على قول الجمهور، وعلى أن النفي في باب الأيمان ليس إثباتاً فإنه لا يحنث؛ لأن المراد: أنه لا يأكل اللحم إلا أنه رخص لنفسه بأكل لحم الدجاج، فإن أكل فبها ونعمت، وإن لم يأكل فلا شيء عليه، وسيأتي إن شاء الله في الأيمان؛ لأن مسائل الاستثناء تتعلق بالأيمان وبالنذر وكذلك أيضاً بالطلاق.

حكم الاستثناء بالقلب من عدد المطلقات والطلقات

حكم الاستثناء بالقلب من عدد المطلقات والطلقات قال المصنف رحمه الله: [وإن استثنى بقلبه من عدد المطلقات صحّ دون عدد الطلقات]. سبق وأن ذكرنا في أول الطلاق أن التقسيمات والتفريعات عند العلماء نسبية، فتارةً تقول: الطلاق ينقسم من حيث الحكم إلى سني وبدعي، ومن حيث الأثر وحكم الرجعة ينقسم إلى رجعي وبائن، والبائن إلى بائن بينونة صغرى وكبرى على التفصيل الذي قدمناه. وهنا بالنسبة للاستثناء من حيث الظاهر والباطن -وهي نسبته إلى اللفظ وعدمه- ينقسم إلى استثناء باللفظ واستثناء بالقلب، استثناء باللفظ يقول: نسائي طوالق إلا خديجة، فقد تلفظ بالمستثنى وحينئذٍ لا إشكال، والنوع الثاني: أن يكون الاستثناء قلبياً؛ فإن كان الاستثناء لفظياً فيؤثر في المطلقات وعدد الطلقات وجهاً واحداً عند العلماء، وإن كان الاستثناء قلبياً وباطنياً فإنه في هذه الحالة يفرّق بين عدد الطلاق وبين المطلقات، ففي عدد الطلاق لا يؤثر على تفصيلٍ عند العلماء سنشير إليه من حيث الجملة، ومن حيث عدد المطلقات يؤثر. فلو قال: نسائي طوالق، ونوى في قلبه إلا خديجة، أو نوى بنسائه الطوالق اللاتي هن موجودات في الغرفة دون اللاتي خارج الغرفة، أو اللاتي موجودات في المدينة دون اللاتي في مكة، أو في موضعٍ آخر، صح استثناؤه فيمن نوى استثناءها وتطلق الباقيات. ولكن في مسألة الاستثناء في عدد الطلاق، قالوا: إذا قال: أنت طالقٌ ثلاثاً، لو فتحنا الباب وقلنا: إن الاستثناء بالقلب مؤثر لتلاعب السفهاء، والمصلحة تقتضي أنه يؤاخذ بظاهره، إضافةً إلى أن أصول الشريعة تؤكد هذا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس)، فهو لو قال لامرأته أنت طالق طلقتين، أنت طالق ثلاثاً، ونوى بقلبه إلا طلقة، قالوا: تطلق طلقتين في الأولى وثلاثاً في الثانية، ولا يعتد باستثنائه القلبي، هذا في قول طائفة من العلماء. وقال بعض العلماء: ينفعه ديانةً ولا ينفعه حكماً وقضاءً، أي: بينه وبين الله عز وجل ينفعه هذا الاستثناء، وبينه وبين الناس وفي حكم القضاء لا ينفعه، والقول الأول لا شك أنه أورع وأشبه وله قوة، بخلاف مسألة شُبهة الإسناد لمحل الطلاق فإنه يضعف الإسناد ما لم يسند، فقوي أن يستثني ويعتد بنيته ما لم يكن ذلك في عدد الطلقات.

حكم الاستثناء في الطلاق من العدد الكلي في الزوجات

حكم الاستثناء في الطلاق من العدد الكلي في الزوجات قال رحمه الله: [وإن قال: أربعكن إلا فلانة طوالق، صح الاستثناء]. هذا لا إشكال فيه، أربعكن طوالق إلا فلانة، قالوا: إنها تستثنى فلانة. وقال بعض العلماء: لا، إذا قال: أربعكن طوالق؛ مضى عليها الطلاق، وهذا ضعيف؛ لأن الاستثناء مع ذكر العدد الكلي يؤثر فيه إذا كان للبعض، ألا ترى أنه لو قال: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا واحدة أنه يؤثر، فما الفرق بين قوله: أربعكن طوالق، ثلاثكن طوالق إلا فلانة، وبين قوله: فلانة طالق بالثلاث إلا واحدة؟ فعلى هذا يصح استثناؤه ولا إشكال فيه.

حكم الاستثناء غير المتصل في الطلاق

حكم الاستثناء غير المتصل في الطلاق قال رحمه الله: [ولا يصح استثناء لم يتصل عادةً، فلو انفصل وأمكن الكلام دونه بطل]. قوله رحمه الله: (ولا يصح استثناء لم يتصل عادةً)، وهذا هو الشرط الثاني من شروط صحة الاستثناء، فقد ذكرنا الشرط الأول: ألا يكون مستغرقاً، وأشار إليه بقوله: (والنصف فأقل). والثاني: أن يكون الاستثناء متصلاً، وقد بيّنا الاتصال والانفصال، وأن الانفصال يكون بالكلام، يقول: أنت طالقٌ ثلاثاً، قومي واخرجي إلى أهلك إلا واحدةً، فجملة: قومي واخرجي إلى أهلك، جملة خارجة عن الاستثناء، ثم قال: إلا واحدة، فقالوا: إنه إذا كان الانفصال بكلام أجنبي عن الاستثناء فإنه يعتبر مُسقطاً للاستثناء؛ لأنه لما أقحم هذه الجملة الغريبة عن الاستثناء والتي ليست متصلة بالاستثناء، فإنه قد خرج عن الاستثناء بالكلية، فإن قال لها: أنت طالقٌ ثلاثاً قومي فاخرجي أنت طالقٌ ثلاثاً، أو اذهبي إلى أهلك أنت طالقٌ ثلاثاً فليستمتع بك غيري، ونحو ذلك من الألفاظ التي تخرج عن جملة الاستثناء ثم تلفظ بعد ذلك بالاستثناء قالوا: إنه لا يعتد باستثنائه؛ ولذلك اشترط رحمه الله أن يكون الاستثناء متصلاً.

حكم استحضار النية عند الاستثناء في الطلاق

حكم استحضار النية عند الاستثناء في الطلاق قال رحمه الله: [وشرطه النية قبل كمال ما استثنى منه]. وشرط الاستثناء نيته، أي: أن يكون ناوياً الاستثناء، والنية في اللغة: القصد، قالوا: نوى الشيء ينويه نيّةً ونيَة بالتخفيف والتشديد، والمراد بذلك: أن يكون عنده عزمٌ قلبي وإرادةٌ قلبية على إخراج عددٍ من الطلقات أو إخراج عددٍ من المطلقات؛ على التفصيل الذي ذكرناه، وهي على صور ثلاث: إما أن تكون نيةً سابقةً للفظ الطلاق، أو تكون نيةً موافقةً مصاحبةً للفظه، أو تكون نيةً متراخية متأخرة عن لفظ الطلاق؛ فإن كانت النيةُ سابقةً فإنها مؤثرةٌ وجهاً واحداً، وإن كانت النية مصاحبةً للفظ فعلى الأصح أنها تؤثر، وإن كانت النية متراخيةً متأخرة، فإن طال الفصل فبالإجماع أنها لا تؤثر، وإن لم يطل الفصل وتقاربت النية مع اللفظ فوجهان، أقواهما: ما ذكرناه من أنها لا تؤثر.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تساهل بعض طلاب العلم بالألفاظ التي يذكرها الفقهاء في باب الطلاق

حكم تساهل بعض طلاب العلم بالألفاظ التي يذكرها الفقهاء في باب الطلاق Q يتساهل بعض طلاب العلم ببعض الألفاظ التي يذكرها الفقهاء رحمهم الله تعالى في أبواب الطلاق فما توجيهكم في هذا؟ A باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فأخذ العبارات الغريبة من المتون الفقهية ومحاولة تطبيقها مثل ما ذكرنا في مسألة: شعرك طالق، فيأتي بزوجته وهو يعتقد أن الشعر في حكم المنفصل فيقول لها: شعرك طالق، ظفرك طالق ونحو ذلك، لا ينبغي لطالب العلم أن يفعله، وعلى المسلم أن يحمد الله على نعمة العلم، وأن يجعل العلم معيناً له على الورع والتزام الأصلح والأسلم، وعدم اتخاذ آيات الله هزواً، فهو ما دام أنه لا يريد طلاق زوجته فلا يتلفظ بالطلاق، ولا يشعر امرأته أنه يريد أن يطلقها أو يجري الطلاق على لسانه، فهذا مما يزيد المحبة والمودة، وأما لو قال هذه الألفاظ ولو كانت لا توقع الطلاق، فإنها تحرك الشياطين في القلوب، وتجعل باباً ينفذ منه الشيطان إلى قلب المرأة، ويوسوس لها بكراهية زوجها لها، وأنه قد يأتي اليوم الذي يطلقها فيه، فعلى المسلم أن يحمد الله على العافية، ومن عوفي فليحمد الله، وليكن طالب العلم دائماً في سمته ودلّه وحاله مع أهله على أتم الوجوه وأكملها من خوف الله ومراقبته والحرص على المعاشرة بالمعروف، والبعد عن مثل هذه الأمور، وعلى طلاب العلم أن يوصي بعضهم بعضاً بذلك، وأن يذكر بعضهم بعضاً بالله. وقد جاءني ذات مرة طالب علم -وهذا من أغرب ما وجدت- من حملة كتاب الله عز وجل وكان يقرأ في تخصص القراءات، وكان معه زملاء، قال له أحدهم: أريد أن أسمع منك القلقلة في قولك: زوجتي طالق، فقال: زوجتي طالق، ثم وقع في أمره، هل وقع الطلاق أم لم يقع؟ فانظر إلى أي حد! إن القلقة مبحث متعلق بكتاب الله عز وجل وليس له علاقة بمثل هذه الأمور، وليس له مجال في مثل هذه المسائل، فأدخل علم كتاب الله عز وجل الذي فضله الله وشرفه على شيء لا تُحمد عقباه، وأدخل الضرر على أخيه المسلم، والله لو كانت أخته هي الزوجة ما قال له هذا القول؛ ولذلك ينبغي على المسلم أن يتقي الله، وواجب على طالب العلم أن يتقي الله في أخيه المسلم، وربما يلتزم الإنسان ولكن تبقى معه بعض أدران الجاهلية، فعلى المسلم أن يتقي الله، ودائماً الملتزم بحق وطالب العلم حينما يطلب العلم عليه ألا ينظر أن حمله الكتاب وحضوره إلى مجالس الطلب أن ذلك قد زكّاه، وأن ذلك قد أصلحه، ما لم يأخذ نفسه بزمام التقوى والورع ومراقبة الله عز وجل في قوله وفعله وكيف يعامل الناس. فعلى هذا: ينبغي لطلاب العلم أن يبتعدوا عن مثل هذه الأمور، وينبغي أن تكون لهم من الهيبة والوقار والكف والانكفاف عن ذكر الطلاق ونحوه، وكل ما فيه أذية وضرر لإخوانه وأخواته، وعلى المسلم ألا يروع أخاه المسلم، فإن ترويع المسلم لا يجوز، وهو إذا قال هذا روع زوجته، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل وأن يوفقنا في القول والعمل، والله تعالى أعلم.

حكم من قال: (نسائي طوالق إلا واحدة) ولم يعينها

حكم من قال: (نسائي طوالق إلا واحدة) ولم يعينها Q لو قال رجلٌ: نسائي طوالق إلا واحدة، ولم ينو في الاستثناء واحدةً بعينها، وإنما أحب إبقاء إحداهن، فما الحكم في ذلك؟ A الآن بدأ مفعول فرضيات الفقهاء، فقد ذكروا هذه المسألة، فإذا قال: نسائي طوالق إلا واحدة، ولم يعين، فإنه إذا أردنا أن نحكم في هذه المسألة نجري القرعة فيقرع، فالمرأة التي تخرج من نسائه هي التي تخرج من هذا الطلاق، فهو قال: إلا واحدةً، فبينه وبين الله عز وجل أنه قد أخرج واحدة، فيتعين المبهم بالقرعة لحكم الشرع بها، وجمهرة العلماء رحمهم الله على أنه إذا قال: نسائي طوالق إلا واحدة، فبينه وبين الله أنه ستبقى له واحدة، فالتي يختارها الله عز وجل بقرعته هي التي تخرج، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أنه كان إذا أراد السفر أقرع بين نسائه)، فقد ثبت الحق لواحدةٍ من نسائه، فجعل القرعة معينةً للإبهام، وهذا في الاستحقاق، وعند تعذر معرفة واستبيان من هي الواحدة، فإننا نرجع إلى القرعة؛ لأن الشرع اعتبرها عند الإبهام، والله تعالى أعلم.

نصيحة لطالب العلم

نصيحة لطالب العلم Q في هذه الأيام يعيش الطلاب أواخر الإجازة الصيفية، وبعض طلاب العلم استغلوا هذه الإجازة في طلب العلم ودراسته، فما هو توجيهكم في ختام هذه الإجازة لهذا النوع؟ A أولاً: الحمد لله على فضله وعظيم منته وجزيل كرمه، ولا يزال المسلم بخير ما حمد ربه وشكره وعرف نعمته عليه، فمن عرف نعمة الله عليه ذلّ لله وانكسر، ثم إن هذه المعرفة تقوده إلى محبة الله عز وجل، ومن أحب الله أحبه الله عز وجل، ويسر له سبيل المحبة، فانتقلت به الخطى من طاعةٍ إلى طاعة ومن برٍ إلى بر، وازداد من توفيق الله له وإحسانه وإنعامه وإفضاله عليه، فإن الله في كتابه المبين أخبر عباده أجمعين أنه يجزي الشاكرين وأنه يزيد من شكر، وتأذن لهم بذلك كما قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، وأفضل ما يُشكر عليه سبحانه نعمة الدين، فمن وفقه الله عز وجل لهذه النعمة العظيمة وأسبغ عليه نعمة الإسلام فجعلها على أتم الوجوه وأكملها فقد عظمت نعمة الله عليه، ولا يمكن أن تكمل نعمة الإسلام على عبدٍ من عباد الله إلا بالعلم، فليس هناك أحد في مقام بعد الأنبياء أشرف ولا أكرم من العلماء العاملين، فإذا وفقك الله وحضرت مجالس العلم فتذكر نعمة الله، واعرف مقدار هذه النعمة. ثانياً: من الذي أمدك بالصحة والعافية؟ من الذي أمد في عمرك حتى بلغت يوماً تكسبه في طاعة الله أو ساعةً تدخرها إلى لقاء الله في محبة الله ومرضاته؟ فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ). فمن الذي أمدك بالصحة والعافية؟ وكم من مريض كان يتمنى أن يصل إلى ما وصلت إليه وحيل بينه وبين مجالس العلم، وقلبه يتفطر بالحزن والألم بالسقم والمرض، فاحمد الله على العافية، وقل من قلبك وملء لسانك: اللهم لك الحمد لا أحصي ثناءً عليك. ثالثاً: عليك أن تعلم أن هذه النعمة التي ربما تكون في عينك قليلة أنها عظيمةٌ عند الله، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً خرج من قريةٍ له يزور أخاً له في الله، فأرسل الله إليه في مدرجته وطريقه ملكاً، فقال له: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: إني ذاهب إلى قرية كذا، قال: وما لك فيها؟ قال: لي فيها أخٌ في الله، قال: هل لك عليه من نعمةٍ تربها عليه؟ قال: لا. إلا أنه أخي في الله أحببت أن أزوره، فقال: إني رسول الله إليك أن الله قد غفر إليك بممشاك إليه). فإذا كانت محبة هذا الرجل لأخيه في الله كانت سبب مغفرة ذنوبه، فكيف بمن أحب العلم والعلماء؟ وكيف بمن خرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله، فتغرب عن أهله وولده وزوجه وحبه من أجل دروس علم، أو فوائد من العلم يجنيها فيسد ثغور الإسلام لنفع الأمة؟ فبخٍ بخٍ يا لها من تجارةٍ رابحة ويا لها من نعمةٍ سابغةٍ وافرة، ولكن من الذي يعرف قدرها؟ ومن الذي يشكر من أسداها وأولاها وهو الله رب العالمين الذي لا نحصي ثناءً عليه سبحانه وتعالى؟ فعلى طالب العلم أن يشكر هذه النعمة، وكما يشكرها بقلبه ولسانه يشكرها بالعمل، فيزيده شهود مجالس العلم من حبها، ويزيده من التعلق بها حتى تصبح سلوته، تتبدد بها أحزانه وتزول بها أشجانه، حتى يصبح حزنه إذا فارق مجالسها أو تأخر عن أنسها ولذتها وبهجتها، فيا لله! كم من طلاب علمٍ أتم الله عليهم نعمةَ العلم، فسلوا بالعلم عن هذه الدنيا الفانية، فأصبح العلم أكبر همهم وغاية رغبتهم وسؤلهم، فرفع الله درجاتهم، وقد قرن الله العلم بأشرف الأشياء وأحبها وأزكاها إليه سبحانه وهو الإيمان، وقرن جزاءه وفضله وعاقبته بالإيمان: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وهذا كله يدل على شرف هذه النعمة العظيمة، فاحمد الله حق حمده بالعمل، ويكون ذلك بمراجعة ما تعلمت، وضبط ما كتبت وقرأت وسمعت، حتى تكون بخير المنازل في هذا العلم، فإن الله يحب من طالب العلم أن يكون في أحسن المراتب والمنازل في ضبط العلم وتحصيله والأخذ به على الوجه الذي يرضي الله، قال الله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]، العلم يحتاج إلى قوة وهمة صادقة، يراجع فلا يسأم ولا يمل، ويحمد الله عز وجل أن الله شرفه حتى أصبح يراجع هذه المسائل، ويقرأ هذه الحكم والأحكام الشرعية بعد أن كان جاهلاً بها؛ فإن الله يقول لنبيه من فوق سبع سماوات: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]، قال بعض العلماء: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}، ذُكِرت بعد العلم، فالذي علمك الله إياه مما لم تكن تعلم فإنه الفضل العظيم، فعلى طالب العلم أن يراجع هذه المسائل. والنقطة الأخيرة: أن يُظهر طالب العلم هذا العلم في سلوكه وأخلاقه وعمله، فيجمع بين العلم والعمل، فإذا جمع الله لعبده بين العلم والعمل كان من الصديقين، ومرتبة الصديقين بعد مرتبة النبيين: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعل مراتبنا مع الصديقين، اللهم ارفع منازلنا مع النبيين والشهداء والصالحين، اللهم اجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجهك الكريم وموجباً لرضوانك العظيم، نسألك علماً نافعاً وقلباً خاشعاً ودعاءً مسموعاً مستجاباً يا أرحم الراحمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

باب الطلاق في الماضي والمستقبل [1]

شرح زاد المستقنع - باب الطلاق في الماضي والمستقبل [1] الطلاق له أنواع وأقسام، ومن أنواعه ما يكون معلقاً على شيء معين، إما في الماضي أو المستقبل، وهذا مذكور في كتب الفقهاء.

ألفاظ الطلاق في الماضي والمستقبل

ألفاظ الطلاق في الماضي والمستقبل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: قال رحمه الله تعالى: [باب الطلاق في الماضي والمستقبل]. ذكرنا أن الفقهاء رحمهم الله ذكروا هذه الأبواب والمسائل والفصول والمباحث لوجود الحاجة، فإن الناس تختلف ألفاظهم بالطلاق، فمنهم من يلتزم اللفظ الشرعي الوارد ويتبع المسنون في طلاقه، ومنهم من يتلفظ بالطلاق على وجهٍ بدعي، ومنهم من يتلفظ بالطلاق بألفاظٍ يتأثر فيها بعرفه وبيئته، وعلى هذا لا بد من بيان هذه الأحكام والمسائل لحاجة الفقيه إليها إما للفتوى وإما للقضاء وإما للعلم والتعليم؛ ولذلك فصلوا هذه المسائل ورتبوا أبواب الفقه حتى يكون الفقيه على إلمام بأحوال الطلاق وصوره وألفاظ الناس فيه، فالأصل الشرعي يقتضي أن المسلم إذا تلفظ بالطلاق أنه يؤاخذ به، ونصوص الكتاب والسنة من حيث الأصل تُلزم المطلق بطلاقه، بل وجدنا الشرع يشدد في لفظ الطلاق حتى أمضاه على الهازل، كما ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاثٌ جدهن جدّ، وهزلهن جدّ: النكاح والطلاق والعتاق). فأثبت عليه الصلاة والسلام أن جد الطلاق جد وأن هزله جد، وعلى هذا قال العلماء رحمهم الله: لفظ الطلاق خطيرٌ شرعاً، والمسلم يؤاخذ به من حيث الأصل العام، حتى أن الشرع التفت إلى ظاهره وأسقط الباطن كما في الهزل. وعلى ذلك فالأصل يقتضي مؤاخذة الناس في ألفاظ الطلاق، إلا إذا قامت الأدلة على استثناء ألفاظ معينة وعدم مؤاخذة أهلها. وفي بعض الأحيان يكون اللفظ دالاً على الطلاق دلالةً بينة بالأصل اللغوي والوضع اللغوي فلا إشكال فيه عند ذلك، وتارةً ينصرف عن ذلك بعرف، فيتلفظ الناس بألفاظٍ يعرف بالعرف أنها توجب التأثير في لفظ الطلاق. وعلى هذا يحتاج الفقيه إلى معرفة الألفاظ التي يعتد بها وتؤثر، واللغة دالة على تأثيرها، والألفاظ التي يظهر أنها لغو وأن من تكلم بالطلاق ونطق بها لا يعتد لفظه ولا يكون طلاقه على الوجه الشرعي ألبتة. وبناءً على ذلك نحتاج إلى مباحث الطلاق في المستقبل والماضي، فقد يكون الطلاق معلقاً على المستحيل كقوله: إن طرتِ في الهواء، وإن قلبتِ الماء سمناً، إن جعلتِ الحديد ذهباً ونحو ذلك من المستحيلات، كذلك تعليق الطلاق على الأفعال والصفات والأزمنة: إن جاء زيدٌ، إن جاء رمضان، إذا ذهبت إلى أبيك، إذا دخلت دار أبيك، إذا كلمت فلانة ونحو ذلك، كلها أمورٌ لا بد من بحثها فقد عمت بها البلوى، وكثرت منها الشكوى، ووقع فيها الناس على حسب اختلاف فئاتهم وأعرافهم. وقد استفتح المصنف هذه المسائل بمسألة الطلاق في الماضي والمستقبل، فالمطلق إذا طلق ونجز طلاقه وقال لامرأته: أنت طالق، وسكت فهذا الأصل، وهي طالق، وقد بينا أن التعبير بهذا اللفظ مؤثر وموجبٌ لانحلال العصمة؛ لكن الإشكال إذا أسند الطلاق على وجهٍ مستحيل، فإنه حينئذٍ يكون كمن لم يطلق وكأن الطلاق لم يصادف وجهاً صحيحاً يمضي وينفذ به، فتارةً نصحح الطلاق في زمان إذا أسنده إلى زمان، وتارةً لا نصححه، فهو إذا طلق في الحال فلا إشكال، ولكن إذا قال لامرأته: أنت طالقٌ بالأمس، أنت طالقٌ أمس، فقد أسند الطلاق إلى الأمس، مع أنه في الأمس لم يطلق زوجته، كذلك: أنت طالقٌ قبل يومٍ، أنت طالق قبل أسبوع، أنت طالقٌ قبل شهرٍ، فهذا قد أسند فيه الطلاق على وجه لم يقع فيه الطلاق، ويكون كذباً؛ لأنه لما قال: أنت طالقٌ قبل شهرٍ، أنت طالقٌ قبل سنةٍ، وهي لم تطلق لا قبل شهرٍ ولا قبل سنةٍ ولا قبل ساعةٍ، كان حكاية كذبٍ، وهو اللغو الذي لا يعتد به. لكن إن قال لها: أنت طالقٌ بعد يومين، أنت طالق إن جاء الغد، أنت طالق إن جاءت الجمعة، أنت طالقٌ إن مِتُّ، أنت طالقٌ إن مرضتُ ونحو ذلك، فقد أسنده إلى المستقبل. فأصبح عندنا ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يسند الطلاق إلى الماضي. والحالة الثانية: أن يسند الطلاق إلى الحاضر والحال. والحالة الثالثة أن يسند الطلاق إلى المستقبل العاجل. يقول رحمه الله: (باب الطلاق في الماضي والمستقبل) وسكت عن الحاضر؛ لأن الأصل أن الحاضر يمضي به الطلاق، فلا نبحث في شيءٍ حاضر، ولكن سنبحث في جانبين: إما طلاقٌ مسند لماضٍ وهو شيءٌ قد ذهب، وإما طلاق مسند إلى مستقبلٍ سيأتي.

الطلاق في الماضي

الطلاق في الماضي قال رحمه الله: [إذا قال: أنت طالق أمس أو قبل أن أنكحك ولم ينو وقوعه في الحال لم يقع]. قوله: (أنت طالقٌ أمس) أمسِ من الأسماء التي يلغزون فيها، يقولون: اسمٌ إذا عُرّف أصبح نكرة، وإذا نكّر صار معرفةً، فأمس هو الذي قبل اليوم، وإذا قلت: بالأمس، فإنه يستغرق الزمان الماضي، ويكون نكرةً عامةً لما مضى؛ ولذلك قال الله تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24]. فقوله: أنت طالقٌ أمس، أو أنت طالق بالأمس، أسند الطلاق إلى ما قبل اليوم؛ فإن لم يكن قد طلق امرأته قبل يومه ولم ينو به الطلاق حالاً لم تطلق زوجته. وعلى هذا يقولون: إذا قال لها: أنت طالقٌ أمس، فقد حكى كذباً، والكذب لغوٌ، والأصل أنها زوجته، والقاعدة الشرعية تقول: (الأصل بقاء ما كان على ما كان)، فالأصل كونها زوجةً له، ولا نرفع هذه العصمة إلا بدليلٍ، ولا دليل يدل على أنه قصد الطلاق أو أراد وقوعه. قوله: (أو قبل أن أنكحك). فلو قال رجل لزوجته: أنت طالقٌ قبل أن أنكحكِ، وكانت قد تزوجت رجلاً قبله، ثم طلقها ذلك الرجل، فإن كان يخبر أنها قد طلقت منه، فهذا صحيحٌ ولا يقع عليه طلاق؛ لأنه حكى شيئاً قد وقع، فتكون جملةً خبرية لا إنشائية. قوله: (ولم ينو وقوعه في الحال لم يقع). أي: لم يقع الطلاق، فإن نوى وقوعه وقع. قال رحمه الله: [وإن أراد بطلاق سبق منه أو من زيد وأمكن قُبِل]. مثل ما ذكرنا: أنت طالقٌ بالأمس، وقصد أنها طلقت من بعلها الأول صح ذلك؛ لأنه ممكن.

حكم طلاق من مات أو جن ولم يعرف مراده بلفظ الطلاق

حكم طلاق من مات أو جن ولم يعرف مراده بلفظ الطلاق قال المصنف رحمه الله: [فإن مات أو جن أو خرس قبل بيان مراده لم تطلق]. ذكرنا أن العلماء رحمهم الله -وهذا من دقة الفقهاء الأولين وهي سمة من السمات العظيمة التي امتاز بها الفقه الإسلامي- كانوا لا يعطون الفتوى والحكم مجرداً عن الأثر، أي: حينما يقولون لك: إذا نوى فالحكم كذا، وإذا لم ينو فالحكم كذا، يعني: إذا أعطاك شيئاً يختلف بحسب النية؛ فإنك تعرف أن الحكم إذا نوى وقع، وإذا لم ينو لم يقع، فيرد Q إذا توفي أو جُنّ أو خرف أو أصابته عاهة ولم نستطع أن نعرف نيته، فهذا سؤالٌ وارد ومحتمل عقلاً؛ ولذلك نجد أن فرضيات الفقه في الفقه الإسلامي لم تأت من عبث ولا جاءت من فراغ. فهذه الكتب كانت تؤلف وتكتب في أزمنة فيها جهابذة العلماء، أزمنة ما كان يخط رجلٌ في قرطاسه ولا يخط بقلمه إلا وقد عرض عقله على أئمة ودواوين العلم، فإما أن يكون بُهجةً للناظرين، وإما أن يكون في أسفل السافلين فلا يعتد به، فهذه الكتب حينما تجد فيها الفرضيات ما جاءت من فراغ، نعم قد يوجد التكلف في بعضها؛ لكن نحن نتكلم عن شيء له حاجة وشيء متصل بالأصل، فإذا تقرر أن الأصل الشرعي يفرق بين من نوى ومن لم ينو، ورسول الأمة عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث الصحيح: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، ففرق بين من نوى ومن لم ينو، فإذا جئت تقول: إن نوى وقع وإن لم ينو لم يقع؛ فإن الفرض العقلي يستلزم أن تبين؛ لأن الشريعة كاملة، ولا بد أن يأتيك شخص ويقول لك: والدي قال كذا، ونسينا ونسي أن يسأل ثم توفي، هل نحكم بأنه مات وزوجته في عصمته، أم أن والدتنا مطلقة؟ فهذا كله يحتاج إلى بيان، فالفرضيات ما جاءت من فراغ، وما كان أهل العلم ودواوين العلم ليضيعوا أوقاتهم وأعمارهم، وما كان أئمة الإسلام الذين عُرِفوا بالنصح لأتباعهم ومن أراد قراءة كتبهم ورضيهم حجةً بينهم وبين الله أن يضيعوا أعمارهم بالفرضيات عبثاً، فلم توضع هذه الفرضيات إلا بترتيب مبني على الأصول الشرعية، وهذا ينبغي أن يوضع في الحسبان. فلا يعرف قدر هؤلاء العلماء إلا من بُلي بالفتاوى، ومن وقف أمام المعضلات والمشكلات في القضاء يعرف عندها هذه النوازل والفرضيات، والله يعلم كم من مسائل نزلت على المفتي في ظلمة الليل وضياء النهار، فحار فيها عقله والتبس عليه أمره، حتى وجد فرضية من إمام متقدم، فأصبح يترحم عليه كلما ذكر أمره؛ لأنه وقع في كرب لا يعلمه إلا الله، فما زالت عنه كربته إلا بفضل الله وفي تلك الساعة الموفقة التي وجد فيها هذه المسألة العجيبة، حتى تجد بعضهم يقول: إنها مسألة تُعمل لها المطي، أي: إنها مسألة مشكلة، فلما يجدها الإنسان في وقتها وعند الحاجة إليها يحس بفضل العلماء، ويحس أنهم فعلاً قصدوا النصيحة لهذه الأمة. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزيهم عنّا وعن الإسلام والمسلمين خير ما جزى عالماً عن علم، وأن يسبغ عليهم شآبيب الرحمات، وأن يجعلهم في أعالي الدرجات، وأن يجمعنا بهم في نعيم الجنات. المقصود من هذا التنبيه: أن المصنف رحمه الله قال: إن قال: أنت طالق بالأمس، ونوى وقع حالاً، ومفهومه أنه إذا لم ينو لم يقع وصرح بذلك المفهوم، وعليه يرد السؤال: إذا مات أو جُنّ قبل بيان مراده -ولا يُلتفت إلى مسألة الموت أو الجنون؛ لأنها أمثلة تذكر لأصل التعذر، وهو تعذر الاستبيان، فليست العبرة بالأمثلة، بل المهم أن تفهم الأصل؛ ولذلك لما تفهم الأصل يسهل عليك الاستحضار، وتكون عندك الملكة الفقهية- وقال هذا الكلام المحتمل الذي يختلط فيه الحكم بين الظاهر والباطن، وجب حينئذٍ أن ننظر إلى نيته، ولا يمكننا أن نطلع عليها إلا إذا عبر الإنسان عن مكنون نيته وخفي قلبه، وربما تعذر أن نعرف منه ذلك، إما أن يتعذر بموتٍ أو يتعذر بفقد النطق وعدم القدرة على الكتابة وعدم وجود الإشارة المفهمة، أو يتعذر بجنون، فالمجنون لا يستطيع أن يعبر عن مكنون نفسه، والميت لا نستطيع أن نسأله ويجيب، وكذلك أيضاً بالنسبة لمن خرس لسانه وهو لا يعرف الكتابة، ولا يستطيع أن يتكلم أو يشير إشارة مفهمة، فهذه أمثلة على الاستعجام وعدم إمكان الاستبيان. قوله: (فإن مات) مثل: رجل جاء ورثته فقالوا: والدنا قال لأمنا: أنتِ طالقٌ بالأمس، ثم توفي ولم نجد من نسأله، ومضى على هذا الكلام سنة فهل من الممكن أن تخرج المرأة من عصمته، ونحكم بكونها قد طلقت ولا إرث لها، أو نحكم بكونها زوجة وهذا الكلام غير مؤثر؟ فبيّن رحمه الله قاعدة تقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان، ومعنى ذلك: أن الأصل أنها زوجته وشككنا في طلاقها، فنبقى على الأصل من أنه لم ينو الطلاق حالاً؛ لأنه أسنده إلى الأمس، وقوة اللفظ بالأمس توجب عدم وقوع الطلاق، فلا نحكم بكونها مطلقةً، والسيوطي في الأشباه والنظائر، ومثله ابن نجيم وعلماء القواعد الفقهية ذكروا في كتبهم أن من تفريعات قاعدة: (الأصل بقاء ما كان على ما كان): استصحاب الزوجية إذا ترددت نيّة الطلاق بين أن يكون نوى الطلاق أو لم ينو، فنقول الأصل: أنه لم ينو، وعلى هذا لا تطلق عليه زوجته.

أحكام الطلاق في الماضي

أحكام الطلاق في الماضي وخلاصة الكلام: أن الزوج إذا أسند الطلاق إلى الماضي على وجه لا يمكن تأويل وقوع الطلاق به؛ فإنه لا يقع الطلاق، فإذا قال لزوجته اليوم: أنتِ طالق أمس، فإنه إذا لم يقصد إيقاعه حالاً وقصد إسناد الطلاق إلى ظرف الأمس، فإن الأمس قد ذهب، وحينئذٍ كأن الطلاق حينما تلفظ به الزوج لم يصادف محلاً يتعلق به، وعليه: فلا ينفذ هذا الطلاق، وبينا وجه ذلك وشرحناه، وقلنا: إذا قال في هذه الحالة أنتِ طالق قبل أن أنكحكِ، وأنتِ طالق بالأمس، أو أنتِ طالق أمس، أنه إذا قصد حكاية طلاق كان قد وقع على المرأة بقوله: قبل أن أنكحكِ؛ صُرِف إليه، كأن يكون تزوجها رجل من قبل وطلقها، ثم نكحها هذا الرجل أو هذا الزوج فقال: قصدت بقولي: (أنتِ طالق) قبل أن أنكحكِ، أي: من زوجكِ الأول، فلا ينفذ عليه الطلاق؛ لأنه لم يطلق حقيقةً، وإنما حكى طلاق الغير، والحاكي لطلاق غيره لا يُلْزم بالطلاق. قوله رحمه الله: [ولم ينوِ وقوعه في الحال] لو قال رجل لامرأته: أنتِ طالق أمس، ونوى أنها تطلق عليه بهذا اللفظ حالاً؛ وقع الطلاق، وكذلك لو قال: أنتِ طالق، ثم قال: قبل أن أنكحكِ، من باب التهرب من الطلاق، وكان قد نوى بقوله أولاً: (أنتِ طالق) إيقاعَ الطلاق، وقع الطلاق. قوله: (وإن أراد بطلاق سبق منه أو من زيد وأمكن قُبِل) كأن يكون طلق امرأته طلقة ثم راجعها بعد الطلقة، ويوماً من الأيام بعد رجعته لها قال: أنتِ طالق بالأمس، وذكرنا أن (أمس) إذا عُرفت صارت نكرة، وإذا جاءت نكرة صارت معرفة، قال تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24] فهو إذا قال لها: أنتِ طالق بالأمس، وقصد أنها طلقت منه طلقةً، فإنه يكون حاكياً لهذه الطلقة ولا تطلق عليه. وذكرنا أن العلماء رحمهم الله يذكرون الحكم ولربما يفصلون فيه، وهذا التفصيل قد يختلف بحسب اختلاف نية المتلفظ بالطلاق، فنحتاج أن نسأل المطلق: ما الذي قصدت؟ هل قولك: أنتِ طالق بالأمس قصدت به إيقاع الطلاق حالاً؟ قال: لا، قصدت بالأمس أنها طلقت مني طلقة قبل هذا الكلام، فإن أمكن ذلك حملناه عليه، فإذا نوى حكاية طلاق منه أو من غيره لم يقع الطلاق؛ لأن حكاية الطلاق ليس بطلاق، ولذلك قالوا: حكاية الكفر ليست بكفر، فعلى هذا قالوا: إذا حكى الطلاق عن غيره أنه طلقها، أو حكى طلاقاً سابقاً منه؛ فقد تحققنا أنه لا يريد تطليقها، لكن المشكلة إذا قال لها: أنتِ طالق بالأمس ولم يفصح عن نيته، فقال رحمه الله: (فإن مات أو جن أو خرس ... ) بحيث لا نستطيع أن نعلم منه ما هي نيته، ولا نستطيع أن نسأله. وذكرنا من أمثلة هذه المسألة: رجل قال لامرأته: أنتِ طالق بالأمس، ثم توفي هذا الرجل وجاء ورثته يسألون، فهل في هذه الحالة نحكم بكونها زوجة؛ لأن الأصل بقاء الزوجية وشككنا في طلاقه؛ لأن هذا اللفظ الذي ذكره يحتمل أنه نوى إيقاع الطلاق، فتكون زوجته قد طلقت عليه، ولربما كانت أجنبية منه إن كانت الطلقة ثالثة، فتوفي وهي ليست في عصمته، ولربما حكى طلاقاً سابقاً منه أو من رجل كانت تحته قبل زواجها منه فلا يقع به الطلاق؟ فإذاً معنى ذلك: أن الميت الذي تلفظ بهذا اللفظ نحن مفتقرون إلى معرفة نيته، حتى نوقع عليه الطلاق أو لا نوقعه، فإن كان حاكياً للطلاق فلا نوقعه، وإن كان ناوياً للطلاق حالاً فنوقعه، ولربما خرجت من عصمته كأن تكون الطلقة الأخيرة، فإذاً: ليس عندنا ما يميز الحال. وذكر رحمه الله أن هذا اللفظ إن أمكن فيه التمييز تميز بحسب ما يميزه، وإن لم يمكن فيه التمييز -وهي القسمة العقلية- قال: الأصل بقاء النكاح، ولا نحكم بوقوع الطلاق؛ لأننا عندنا احتمال أن يكون حاكياً للطلاق، والقاعدة: (أن الأصل بقاء ما كان على ما كان)، وخذ هذه القاعدة: أنه متى شككنا في وقوع الطلاق وعدم وقوعه؛ فإننا نستصحب بقاء الزوجية، ولا نحكم بكون المرأة مطلقة، ومتى شككنا هل اللفظ يقتضي الطلاق أو لا يقتضيه، وهل نوى أو لم ينو؛ فالأصل أنها زوجته حتى نتحقق من نيته على وجه يوجب حل العصمة بالطلاق؛ لأن القاعدة: (أن الأصل بقاء ما كان على ما كان) وهذه القاعدة هي في الحقيقة مفرعة على القاعدة التي سبق وأن ذكرناها: (اليقين لا يزال بالشك) فنحن على يقين أنها زوجته، وعلى يقين أن هذه الزوجية باقية ما لم نتيقن أنه طلقها وخرجت عن عصمته، فحينئذٍ نقول: هذه زوجته، ونقول لورثته: لا نجزم بكون هذا اللفظ موجباً للطلاق حتى نتحقق أنه نواه، ولا يمكن التحقق، فنبقى على الأصل. قوله: (أو جن) وهكذا إذا جن، قلنا: مسألة: مات أو جن أو خرس ليست هي المهمة، المهم أن تأتي بشيء يمنع من معرفة الحقيقة، فهو إذا مات لا يمكن أن تسأله، وإذا جن لا يمكن أن تثق بكلامه، وإذا خرس لا يستطيع أن يتكلم إلا إذا كان ثم إشارة مفهمة أو كتابة مستبينة. قوله: (قبل بيان مراده لم تطلق) وذلك كما ذكرناه. وخلاصة ما ذكرنا في قوله: (أنتِ طالق بالأمس) أن هذا اللفظ يأتي على ثلاثة أوجه: الوجه الأول: إما أن يقصد إيقاع الطلاق في الحال، وكلمة (أمس) تعتبر لغواً، والعبرة بقوله: أنتِ طالق. الوجه الثاني: أن ينوي حكاية أمر سابق، فلا إشكال أنه بحسب ما يحكيه. الوجه الثالث: أن لا يستبين لنا الأمر، فنبقى على العصمة والأصل. وذكرنا أنه لو قال لها: (أنتِ طالق أمس) ولم يقصد إيقاع الطلاق حالاً، ولم يحك طلاقاً سابقاً، وقصد أن الطلاق وقع بالأمس فلا يقع؛ لأن الطلاق جاء بلفظ لا يمكن أن يقع عليه، لأن الأمس قد ذهب وهو يقول: أنتِ طالق أمس، وأمس ما وقع فيه طلاق، قالوا: فصار كلامه كذباً، والكذب لغو لا ينبني عليه حكم شرعي، فيكون هذا من اللغو. ما لم يقصد به الطلاق حالاً، لكن يرد هنا إشكال: أن الرجل لو قال: أنتِ طالق بالأمس، ونوى أنها طالق حالاً فكيف يقع هذا؟ تقول: يكون قوله: أنتِ طالق، نوى به الطلاق فطلقت، ويكون قوله: بالأمس، لغواً لا تأثير له، كرجل يقول لامرأته: أنتِ طالق، ثم يسكت على وجه لا يمكن فيه الاستثناء ثم يستثني، فإن قوله: أنتِ طالق، وسكوته بعد قوله: أنتِ طالق، فهمنا منه أنه قصد إيقاع الطلاق، فكان ما بعده من الاستثناء والقيد لا يؤثر.

أحكام الطلاق في المستقبل

أحكام الطلاق في المستقبل نخرج من قضية الطلاق في الماضي، وسندخل في مسألة المستقبل، والطلاق في المستقبل فيه تفصيل ويحتاج إلى شيء من التركيز. قال المصنف رحمه الله: [إن قال: طالق ثلاثاً]. ما قال: (أنتِ طالق) وسكت؛ لأن الحكم يختلف من الطلقة الرجعية والطلقة البائنة، فهذه المسألة إذا قال لها: أنتِ طالق قبل قدوم زيد، في شيء لا يعلم إلا بالمستقبل، قبل قدوم زيد بيوم، قبل قدوم زيد بأسبوع، قبل قدوم زيد بشهر، في بعض الأحيان تنتقل هذه المسألة إلى حكم الطلاق في الماضي مع أنه أضافها إلى الشهر، فهو إذا قال لها: أنتِ طالق ثلاثاً قبل قدوم زيد بشهر، ننظر الوقت الذي تلفظ فيه بهذه الكلمة، فإذا كان أول يوم من محرم قال لها: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بشهر، وزيد غائب ومسافر، وقدم زيد أثناء شهر محرم، فمعنى ذلك: أن الشهر لم يتم، فكأنه أسند الطلاق للأمس، مثل مسألتنا التي تقدمت، فحينئذٍ إذا بت الطلاق في الحال وقال لها: طلقتكِ قبل قدوم زيد بشهر، فالواقع أنه قبل قدوم زيد بشهر لم يقع طلاقاً فصار كذباً ولغواً. وبناءً على هذا: إذا قال لها: أنتِ طالق ثلاثاً قبل قدوم زيد بشهر، قبل قدوم والدي بشهر، ولم يمض الشهر صار لغواً وصار غير مؤثر ولا موجباً للطلاق، لكن لو أن زيداً قدم بعد شهر من كلامه الذي قاله، فإنه يلزمنا عدة أمور: أولاً: لابد في هذه المسألة أن تضبط الوقت الذي تلفظ فيه بالطلاق المعلق، وثانياً: تضبط الوقت الذي يقدم فيه زيد الذي علق الطلاق على قدومه، ثم تنظر في المدة بينهما، فإن وافقت ما علق الطلاق عليه من الأمد وقع الطلاق، وإن كان الوقت أقل لم يقع الطلاق، كما ذكرنا، فهو إذا قال لها: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بشهر، إما أن يقدم زيد قبل تمام الشهر من هذا الكلام، فيكون لغواً ولا يقع، كقوله: أنتِ طالق بالأمس، وإما أن يقدم زيد بعد شهر من هذه الكلمة، فحينئذٍ تكون قد طلقت بمجرد قوله: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بشهر، فيكون قد أسند الطلاق لوقته، فلو أنه قال هذه الكلمة في واحد محرم، وقدم زيد في الثاني من صفر؛ فإنها قد طلقت عليه في أول محرم؛ لأن قدوم زيد كان في الثاني من صفر، ولفظه بالطلاق استغرق وقتاً يمكن تعلق الطلاق به فتطلق، وليست هذه المسألة هي التي تعنينا، بل الذي سيأتي، والآن فقط اضبطوا المسألة، والذي سيأتي لا يمكن أن يفهم إلا بفهم هذه المسألة.

صور الطلاق في المستقبل

صور الطلاق في المستقبل قوله: (إذا قال: طالق ثلاثاً قبل قدوم زيد بشهر) والأمر لا يتوقف على الشهر، ممكن أن يقول لها: بشهر، بأسبوع، بسنة، بيوم، والمهم أن يحدد مدة من الزمان، فعبر بالشهر حتى تتضح الصورة، فإن قال لها: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بشهر، لا يخلو قدوم زيد بعد هذه الكلمة من الصور التالية: الصورة الأولى: أن يقدم قبل أن يتم شهر من هذا القول فلا يقع الطلاق؛ لأننا تبينا أنه لغو ولم يصادف الزمان. ثانياً: أن يقدم زيد بعد شهر تام، بحيث لا يكون هناك وقت لمضي الطلاق ووقوعه. ثالثاً: أن يقدم زيد بعد شهر ووقت يسير يمكن أن يقع فيه الطلاق، فأصبحت القسمة العقلية تقتضي ثلاث صور: إما أن يقدم زيد والمدة لم تتم، فتبينا أنه لغو ولا يؤثر، وإما أن يقدم زيد والمدة قد تمت، لكن ليس هناك زيادة في الوقت يمكن أن يقع فيها الطلاق، فهي في حكم ما لم تتم المدة، مثلاً: لو قال لها في الساعة الثانية ظهراً من أول محرم: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بشهر، وجاء زيد في الساعة الثانية في نفس اليوم الذي يتم به شهر كامل، بحيث دخل في نفس الوقت -والمراد فقط ضبط الضابط- ولذلك يقول المصنف: (ومضى وقت يمكن فيه الطلاق) فأنت إذا عرفت هذه المسألة ربما يأتيك مثلها في مواضع تحتاجها، كالبيع والرهن، فتقول: يمضي الشهر وتمضي مدة يمكن أن يقع فيها الطلاق، فإن مضى الشهر ولم تمض المدة التي يمكن في مثلها وقوع الطلاق فقد تبينا أن الطلاق لم يقع، فصارت في حكم ما لم تتم المدة، فعندنا صورتان من الثلاث لا يقع فيها الطلاق: الصورة الأولى: ألا تتم مدة الشهر. الصورة الثانية: أن تتم ولا يمضي قدر من الزمان يمكن فيه الطلاق، يعني: ممكن شخص يعلم بهذا ويقول: أنت قلت: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بشهر، وجاء زيد على نفس الوقت الذي يتم به الشهر من فيه تلفظ، ممكن أن يقع هذا، فلو سألك على هذا الوجه تقول: لم تأت مدة يمكن أن يقع فيها الطلاق، وهي التي يسمونها مدة الإمكان، فعندنا المدة التي علق عليها الطلاق، وعندنا مدة إمكان الطلاق، فلابد من وجود المدتين، المدة الأولى: مدة الشهر كاملاً، والمدة الثانية: مدة الإمكان وزمن الإمكان. أما الصورة الثالثة: أن يمضي الشهر وزيادة على وجه يمكن فيه وقوع الطلاق، فلو قال لها: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بشهر في أول محرم، وقدم زيد في أول -مثلاً- ربيع، فحينئذٍ يكون طلاقها في أول صفر؛ لأن الذي قبل ربيع الأول صفر، فتقول: تكون طالقاً من أول صفر؛ لأنه قال: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بشهر، ولو قال لها في أول محرم: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بشهر، وقدم زيد في أول رمضان، فإنها تطلق في أول شعبان، وتحتسب عدتها من أول شعبان، وتسري الأحكام عليها من أول شعبان. فعرفنا أن الصورتين الأوليين لا يقع فيها طلاق، فالصورة الأولى: إذا لم تمض المدة، وتكون في حكم قوله: أنتِ طالق بالأمس، والصورة الثانية: أن تمضي المدة وليس هناك زمن إمكان الوقوع، وأما الصورة التي يقع فيها الطلاق فهي إذا مضت مدة الشهر مع زمان الإمكان. قال رحمه الله: [وإن قال: طالق ثلاثاً قبل قدوم زيد بشهر، فقدم قبل مضيه، لم تطلق] فقوله: (قدم قبل مضيه لم تطلق) لماذا؟ لأنه مثل قوله: أنتِ طالق بالأمس؛ لأنه إذا قدم، قال لها: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بشهر في أول محرم، وقدم زيد في الخامس عشر من محرم، فقد أسند الطلاق إلى الخامس عشر من ذي الحجة، والخامس عشر من ذي الحجة لم يقع فيه طلاق، فحكى كذباً فصار لغواً، مثل قوله: أنتِ طالق بالأمس، إذا لم يقصد به الطلاق. قال رحمه الله: [وبعد شهر وجزء تطلق فيه يقع] فقوله: (وبعد شهر) هذا الشرط الأول (وجزء) هو الذي قلنا: قدر الإمكان، (وجزء) تستطيع أن تقول: أي: قدر من الزمان يمكن أن يقع فيه الطلاق ولو دقيقة أو نصف دقيقة الذي هو زمن الإمكان للتلفظ بالطلاق ووقوعه.

حكم دخول الخلع على الطلاق في المستقبل

حكم دخول الخلع على الطلاق في المستقبل قال المصنف رحمه الله: [فإن خالعها بعد اليمين] وهنا مسألة جديدة: إذا قال لزوجته: أنتِ طالق -بالصورة التي ذكرناها- وخالعها بعد يوم، أو خالعها بعد ساعة، أو خالعها بعد أسبوع، فخالعته المرأة فافتدت ولم تقصد من ذلك الهروب من الطلاق، وهذه المسألة التي سنبحثها مبنية على المسألة التي كنا فيها، لكن قبل أن ندخل فيها نحتاج إلى تنبيه مهم، المصنف رحمه الله قال: (وإن قال: طالق ثلاثاً) ما قال: أنتِ طالق، وعبر بالثلاث على قول جماهير السلف من أن الثلاث ثلاث، وأنها توجب البينونة الكبرى، واختار المصنف ما يوجب البينونة الكبرى؛ لأنه سيتكلم عن الخلع، فمهد بالتطليق ثلاثاً، وإلا لو قال لها: أنتِ طالق طلقة قبل قدوم زيد، فالحكم أنها تقع طلقة واحدة إذا مضى الشهر، ولا يختلف الحكم من واحدة إلى ثلاث، وهذا التنبيه ينبغي أن ينتبه له طالب العلم، فالسبب الذي دعاه -رحمه الله برحمته الواسعة- أن يختار الثلاث: أن الخلع مع الطلاق بالثلاث لا يجتمعان ولا يصح إلا أحدهما؛ لأنك لو أوقعت الطلاق رجعياً ووقع الخلع بعده صح؛ لأن الخلع يصح في حال الطلاق الرجعي ما دام أنها في العدة، فالرجعية تخالع؛ لأن الزوج يمتلك رجعتها. ففهمنا أولاً: متى يقع الطلاق إن علقه على زمنٍ في المستقبل، وبينا الصورتين اللتين لا يقع فيهما الطلاق، والصورة التي يقع فيها الطلاق، الآن وسيدخل المصنف في المسألة التي قلنا: إنها تحتاج إلى ضبط. قوله: (فإن خالعها بعد اليمين بيوم، وقدم بعد شهر ويومين؛ صح الخلع وبطل الطلاق) أولاً: لفظُه بالطلاق متى وقع؟ فتضع تاريخاً للفظ الطلاق، هذا أول شيء، ثانياً: تضع تاريخاً للخلع، مثلاً: عندنا لفظ الطلاق وقع في أول محرم، ولفظ الخلع أو المخالعة وقع في الثاني من محرم. ثالثاً: قدوم زيد. إذا عندنا ثلاثة أشياء: أولاً: لفظه بالطلاق وتعليقه للطلاق على قدوم زيد، وثانياً: الخلع وزمانه متى وقع؟ وثالثاً: قدوم زيد، هذه الثلاث يعني: لابد من تركيب المسألة عليها، فلنجعل لفظه بالطلاق على هذا الوجه في أول محرم، قال لها في أول محرم: أنتِ طالق ثلاثاً قبل قدوم زيد بشهر، قررنا في المسألة الماضية أنه لا يقع الطلاق إلا إذا مضى شهر وقدر يسمونه: قدر الإمكان لوقوع الطلاق، فعلى الأصل الذي قررناه إذا كان قال لها في واحد محرم فإنها تطلق إذا جاء واحد صفر، لكن هنا مشكلة، عندك طلاق بالثلاث وعندك خلع، إن صححت الطلاق من واحد محرم؛ فقد بانت؛ وجاء الخلع وهي أجنبية، ولماذا ذكر مسألة الخلع؟ لأن الخلع تدفع المرأة بسببه مالاً، ترد المهر، فأنت إذا صححت الطلاق وأبطلت الخلع؛ وجب رد المال إلى المرأة وإبطال الخلع، وإن أبطلت الطلاق والمرأة في عصمة الرجل منذ التلفظ، أو كان القدوم بعد الخلع بمدة تستغرق الشرط؛ فحينئذٍ تصحح الخلع ويأتي الطلاق لأجنبية. وحتى نفهم كل الكلام الذي سيأتي نقول: إما أن تقدم تصحيح الطلاق وتبطل الخلع، وإما أن تبطل الطلاق وتصحح الخلع، وعلى هذا نحتاج إلى صورة نقول فيها: إن الطلاق وقع، وصورة نقول: الخلع وقع، فإن قلنا: الطلاق وقع؛ بطل الخلع، وإن قلنا: الخلع وقع؛ بطل الطلاق. فلنبدأ الآن، قال لها: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بشهر، ووقع هذا الكلام في بداية محرم، فإن قدم زيد في أول صفر، وتم الشهر، وتمت مدة الإمكان من اللفظ الذي تلفظ به، فقدم في أول صفر مع مضي مدة من الزمان للوقوع، مثلاً تلفظ بهذا اللفظ في أول محرم في الساعة الثانية ظهراً، وقدم زيد في أول صفر في الساعة الثالثة ظهراً، فما يكون الحكم؟ تقدر زماناً قبل قدوم زيد وهو الشهر، وتقول: تبينا بقدوم زيد أن الطلاق قد وقع؛ لأنه قال: قبل قدوم زيد بشهر، فقد تحقق عندنا أنه في الساعة الثانية وزيادة من أول محرم طلقت المرأة بالثلاث، والخلع وقع في اليوم الثاني من محرم، فهو خلع لأجنبية، فيحكم القاضي برد المهر إلى المرأة، وتصحيح الطلاق، وأنها طلقت عليه من أول يوم من محرم، فيكون الخلع في هذه الحالة وقع بعد وقوع الطلاق بالثلاث، وهذا الذي جعل المصنف يقول: (أنتِ طالق ثلاثاً) لأنه لو قال لها: أنتِ طالق طلقة، فحينئذٍ هي في العصمة والخلع لا يتأثر، فهذا وجه اختيار الثلاث. لكن كيف يمكن لنا أن نصحح الخلع ونبطل الطلاق؟ تأتي بمدة بعد الخلع بشهر وزمن الإمكان؛ لأنك إذا جئت بشهر كامل بعد الخلع فمعناه أن الطلاق وقع بعد الخلع، فيكون قدوم زيد في الثالث من صفر، فإذا قدم زيد في الثالث من صفر فمعناه أن الطلاق وقع في الثالث من محرم، والخلع وقع في الثاني، إذاً: سبق الخلع الطلاق، فصار الخلع موجباً لطلقة بائنة، وصارت المرأة بالخلع أجنبية، فجاء الطلاق بالثلاث أو بواحدة لأجنبية فلا يقع، فلو عقد عليها في هذه الصورة رجع لها بطلقتين على أن الخلع طلقة، ولا تبين منه. فإذا أردنا أن نوقع الطلاق ونلغي الخلع، فينبغي أن نجعل المدة التي بين الطلاق وبين قدوم زيد هي المدة المشروطة، بحيث يكون الخلع قد صادف امرأة أجنبية قد بانت بالثلاث، ومثال ذلك: أن تقول: قال لها: أنتِ طالق ثلاثاً قبل قدوم زيد بشهر، وكان قوله هذا في نصف الظهيرة من اليوم الأول من محرم، وقدم زيد بعد نصف الظهيرة من أول صفر، فنقول: وقع الخلع في الثاني من محرم لأجنبية، فنصحح الطلاق ونلغي الخلع، ويحكم القاضي ويقول: ثبت عندي طلاق فلانة من زوجها، وأنها بانت منه في اليوم الأول من محرم في كذا، وأن الخلع الذي خالعت به المرأة خالعت من رجل أجنبي، فلا يستحق المهر، ويجب عليه رد ما أخذ منها، هذا بالنسبة للحالة الأولى، حيث صححنا الطلاق وأبطلنا الخلع. إن أردنا العكس؛ يقول لها: أنتِ طالق ثلاثاً قبل قدوم زيد بشهر، وتمضي مدة الشهر بعد الخلع لا بعد الطلاق، فإذا مضت مدة الشهر وزيادة بعد الخلع فقد تحققنا أن الخلع قد سبق الطلاق، فوقع الخلع من امرأة في العصمة فبانت بذلك الخلع، وأنتم تعلمون كما تقدم معنا في الخلع أن الخلع طلقة بائنة، وتصبح كالأجنبية وبينا دليل ذلك، فإذا كانت قد بانت منه وصارت أجنبية؛ فإنه قد وقع التطليق بالثلاث لأجنبية؛ فصار من اللغو ولا تأثير له. (فإن خالعها بعد اليمين بيوم وقدم بعد شهر ويومين صح الخلع وبطل الطلاق) قوله: (وقدم بعد شهر ويومين) والخلع وقع بعد الطلاق بيوم، فاحتاط المصنف باليومين حتى يكون وقوع الطلاق بعد وقوع الخلع، وإذا وقع الطلاق بعد الخلع صار لغواً، فالمسألة مثلما ذكرنا، والمهم أن تفهم الضابط، وممكن يقول لها: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بيوم، -نفس التفصيل- ثم خالعها بعد ساعة، فإن كان التلفظ بالطلاق في الساعة الثانية عشر ظهراً قال لها هذا الكلام، وقدم زيد في الثانية عشر ظهراً من اليوم الثاني وزيادة قدر الإمكان الذي هو دقيقة أو نصف دقيقة للفظ الطلاق فإنه يقع الطلاق، فإن كان كذلك وكان الخلع في الواحدة ظهراً، فالخلع لم يصادف محلاً فيبطل، وإن كان قد قدم زيد بعد الواحدة ظهراً فقد صادف الخلع امرأة في العصمة فصح ووقع طلاقها بعد الخلع؛ لأن الخلع وقع في الواحدة ظهراً، فبعد الواحدة ظهراً إذا وقع الطلاق فإنه قد وقع على أجنبية فلم يؤثر. وهكذا الأسبوع لو قال لها: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بجمعة، أو قبل قدوم زيد بأسبوع، وقصد السبعة الأيام، فننظر إن كان قد تلفظ بالكلمة في السبت فنحتسبه أسبوعاً ونعتد في السبت بأجزاء اليوم من الساعات واللحظات، ونقدر زماناً لإيقاع الطلاق، فإن لم يتسع الزمان للخلع؛ فحينئذٍ نحكم بصحة الطلاق وبطلان الخلع، أو نحكم بصحة الخلع وبطلان الطلاق إن كان العكس. قوله: (وعكسها بعد شهر وساعة) حينئذٍ تصحح الطلاق وتبطل الخلع، فإما أن تصحح الخلع وتبطل الطلاق، وإما أن تصحح الطلاق وتبطل الخلع، كما ذكرنا.

حكم تعليق الطلاق بالموت

حكم تعليق الطلاق بالموت قال رحمه الله: [وإن قال: (طالق قبل موتي) طلقت في الحال] متى تطلق؟ تطلق حالاً؛ لأنه أسند الطلاق بما يمكن في أي لحظة بعد تلفظه بالطلاق، فكل لحظة بعد تلفظه بالطلاق هي موته فصح لإيقاع الطلاق، فحينئذٍ تسند إلى أقرب لحظة؛ لأنه قد طلقها بهذا الوصف، فتطلق عليه مباشرة، فلو قال لها: أنتِ طالق قبل موتي، ومات من ساعته، فلم يوجد زمن لإمكان الطلاق، فحينئذٍ لا تطلق، لكن إذا مضى زمن الإمكان فبعده مباشرة تطلق حالاً، فمثلاً: قال لزوجته: أنتِ طالق قبل موتي، فأصابته سكتة من الفجعة أو من فراقها مثلاً، فحينئذٍ نقول: هذا اللفظ لم يصادف وقتاً للإمكان فلا تطلق. قال رحمه الله: [وعكسه معه أو بعده] أن يقول: أنتِ طالق مع موتي، أو أنتِ طالق بعد موتي، فلا يقع الطلاق حالاً وإنما ينتظر، فإن قيل: إن الموت يوجب انحلال العصمة؛ فبعد موته صارت أجنبية فلا طلاق، ويثبت إرثها بموته، فحينئذٍ لا إشكال، أو يقال: إنه لا يوجب انحلال العصمة، وتسري الأحكام، فيتفرع عليه ما ذكرناه.

تعليق الطلاق على مستحيل

تعليق الطلاق على مستحيل قال رحمه الله تعالى: [فصل: وإن قال: أنتِ طالق إن طرتِ أو صعدت السماء أو قلبتِ الحجر ذهباً ونحوه من المستحيل؛ لم تطلق] ذكرنا غير مرة أن الفقهاء -رحمهم الله- ذكروا أمثلة والمقصود منها تقرير القواعد، وأن المهم لطالب العلم أن يعرف الضوابط والقواعد والأصول التي يمكن من خلالها ضبط المسائل، وقد يعبر بمسألة في باب الطلاق فيستفاد منها في ظهار أو لعان أو أيمان أو نذر، أو يستفاد منها حتى في بيع إذا علق البيع على شيء، فهناك تعليق على الممكن وهناك تعليق على المستحيل، وهنا لما شرع المصنف بالتعليق وذكر الاستثناءات ثم ذكر التعليق: التعليق على الماضي والتعليق على المستقبل، شرع الآن في التعليق على المستحيل، فيعلق طلاق المرأة على شيء مستحيل. ذكرنا أن المطلق من حيث الأصل أعطاه الله الطلاق، ومكنه من تطليق زوجته، لكن هذا التمكين ممكن أن يطلق الإنسان ويبت الطلاق، وممكن أن يعلق طلاقه على شيء، فإذا وقع هذا الشيء الذي علق الطلاق عليه، فبينه وبين الله أنه قد طلق زوجته، فحينئذٍ يجب على الفقيه والمفتي والقاضي والمعلم أن يعلم متى يكون التعليق ممكناً ومتى يكون التعليق غير ممكن، ففي بعض الأحيان يعلق الطلاق على شيء لا يمكن أن يقع، وقد وجدنا نصوص الكتاب والسنة تعتد بالتعليق، وتعتد بصيغة الشرط التي فيها تعليق، كقوله عليه الصلاة والسلام: (أهلّي واشترطي: إن حبسني حابس، فمحلي حيث حبستني، فإن لكِ على ربكِ ما اشترطتِ)، هذا في العبادات، وكذلك الله سبحانه وتعالى علق الشيء المستحيل على شيء مستحيل؛ لإفادة استحالته فقال: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40] فعلق الله المستحيل على مستحيل، فلما كان دخول الكافر للجنة مستحيلاً جاء بصيغة الاستحالة. ففهمنا من هذا أن هذه الألفاظ لها حكم في الشرع، فإذا جاء يطلق ويعلق طلاقه على ممكن وقفنا عند هذا الممكن بصفاته، وطلقنا متى ما وقع الشرط بالصفة المعتبرة، فإذا وقع الشرط؛ وقع المشروط، وهذا معروف من منطوق القرآن والسنة، وليس عندنا فيه إشكال، لكن إذا علق الطلاق على أمر مستحيل؛ فإن الطلاق لا يمكن أن يقع، والمستحيل يختلف في كل زمان، وكل زمان له ألفاظه وعباراته، فقد يأتيك رجل من العامة ويسألك عن أشياء ما تخطر لك على بال، ولذلك يقولون: السائل أو المستفتي لا مذهب له، أي: لا تظن أن الناس تأتيك في حدود ما علمت، قد يأتيك بأشياء ضوابطها وأصولها عندك -وهذه ميزة الشريعة الإسلامية- لكن عين المسئول عنه من الصور والحوادث مستجدة. ولذلك يقرر العلماء القواعد بالأمثلة، فقد يكون المستحيل مستحيلاً شرعاً، وقد يكون مستحيلاً عادة وعرفاً، وقد يكون مستحيلاً عقلاً، فحينئذٍ نحتاج إلى معرفة مسألة التعليق على المستحيلات، والتعليق على المستحيل إما بالنفي وإما بالإثبات، كقوله: أنتِ طالق إن طرتِ في الهواء، فإنه حينئذٍ أثبت الطلاق معلقاً على مستحيل وقد يقول لها: إن لم تطيري في الهواء فأنتِ طالق، فيأتي بصيغة النفي للمستحيل، فنفي المستحيل إثبات، فيثبت معه الطلاق؛ لأنه أثبت الطلاق بالنفي، فقد يثبت الطلاق بالنفي وقد يثبت الطلاق بالإثبات، وقد ينفي الطلاق بالمستحيل ونحو ذلك، كلها صيغ ستأتي. قوله: (وإن قال: أنتِ طالق إن طرتِ) أي: في الهواء، فالعادة جارية على أن الرجل والمرأة والآدمي لا يمكنه أن يطير في الهواء، فحينما قال لها: أنتِ طالق إن طرتِ، فمعناه أنه لغو، وعلق الشيء على شيء مستحيل، فصار طلاقها مستحيلاً؛ لأنه علقه على مستحيل، كما أن الله تعالى علق دخول الكفار فقال: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40] سم الخياط: ثقب الإبرة، وللعلماء رحمهم الله وجهان في تفسير الجمل في هذه الآية الكريمة: فقيل: الجمل هو الحيوان والبعير المعروف؛ لأنه لا يمكنه أن يدخل في ثقب الإبرة، فثقب الإبرة لا يسع مثل هذا الحيوان، فالمراد من الآية بيان استحالة الشيء، فقالوا: إن الله علق دخول الجنة للكفار على مستحيل، فصار دخولهم مستحيلاً، وقال بعض العلماء: هو في قراءة جُمل، والجُمل: الحبال الثخينة التي تشد بها السفن، فبعض العلماء يرجح هذا التفسير الثاني؛ لأن ثقب الإبرة يدخل فيه الخيط، فاختار شيئاً من جنس الخيوط وهو الحبال، لكنها بحجم لا يوافق الحجم الذي يدخل في ثقب الإبرة، كالحبال التي تشد بها السفن وتوثق بها، قال: ((لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ)) [الأعراف:40]، يعني: دخول هذا النوع من الحبال في ثقب الإبرة مستحيل، فصار دخولهم مستحيلاً، هذا بالنسبة للآية الكريمة. فهو إذا قال لها: أنتِ طالق إن طرتِ في الهواء، فلا يمكن لها أن تطير في الهواء، لكن لو أن طيرانها في الهواء قصد به شيئاً معروفاً في العرف، مثلاً: قال لها: أنتِ طالق إن طرتِ، يعني: سافرتِ بالطيارة وقصد ذلك، حينئذٍ تترتب المسألة على مسألة الطلاق المعلق بالشرط وسيأتي، لكن إذا قصد أن تطير بيديها طيراناً فهذا مستحيل لا يمكن، فيكون قوله: أنتِ طالق إن طرتِ، تعليقاً للطلاق على مستحيل، فالطلاق محال. المستحيل: هو الذي لا يمكن، أي: ما أبى الثبوت عقلاً أو هو المحال عقلاً؛ لأن الأشياء إما جائزة عقلاً، وإما واجبة عقلاً، وإما ممتنعة عقلاً، ثلاثة أقسام: وحكمنا العقل قضية بلا وقف على عادة أو وضع جلا أقسام مقتضاه بالحصر تماز هي الوجوب الاستحالة الجواز فواجب لا يقبل النفي بحال وما أبى الثبوت عقلاً المحال وجائز ما قبل الأمرين سمِ للضروري والنظري كلاً قسم فالأشياء ثلاثة: الشيء الثابت عقلاً الذي لا يمكن نفيه بحال، ويسمى هذا: واجب عقلاً، والشيء الذي لا يمكن أن يثبت عقلاً فهذا يعتبر من المستحيل أو من الممنوع عقلاً، وما كان ممكناً تقول: هذا جائز عقلاً، لكن لا تقل: واجب، ولا تقل: مستحيل، فعندنا الواجب والمستحيل والجائز، هذه الثلاثة الأقسام في القسمة العقلية، فالشيء عقلاً إما أنه واجب عقلاً، مثلاً: حينما تقول: هذا الكون مخلوق، والمخلوق لابد له من خالق، فالعقل يدل على أن الخلق لابد لهم من خالق، قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36]، {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور:35] أبداً لا يمكن أن يكون الخلق بدون وجود خالق وشيء يوجد به ذلك المخلوق، {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] الذين خلقوا أنفسهم. فالقسمة العقلية إما أنهم هم خلقوا أنفسهم -وهذا طبعاً لا يمكن أن يقولوه- وإما أنهم خلقوا، وإذا خلقوا إما أنهم خلقوا من غير شيء وإما أن خلقوا بخالق، فجاء بالفرضيات التي على دينهم من باب رجوعهم إلى الأصل، {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] إما أنهم خلقوا أنفسهم، وإما أنهم خُلِقُوا من غير شيء وليس هناك، ولذلك يقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] فإذاً معنى ذلك: أن يثبت كون الله عز وجل خالقاً لهم. فالمقصود: أن العقل يدل على أن الشيء إما أن يكون واجباً وإما أن يكون مستحيلاً وإما أن يكون جائزاً، فالمستحيل هو الذي يأبى العقل ثبوته، وبعض العلماء يقول: إن طيرانها في الهواء مستحيل عادة، يعني: في العادة مستحيل بالتجربة والنظر، فما وجدنا أحداً يطير، وعلى هذا يقولون: هذا من المستحيل عادة وليس من المستحيل عقلاً، فالعقل لا يمنع أن يطير إنسان مثلما أن الطائر يطير، لكن بعض العلماء يقول: إنه مستحيل عقلاً وعادة. قوله: (أو صعدتِ السماء) يعني: لا يمكنها أن تصعد للسماء، وبناءً على ذلك علق على المستحيل، فإذا كان تعليقاً على المستحيل، فالتعليق على المستحيل مستحيل، والتعليق على المحال محال، فصار المحال لغواً، كأنه يقول لها: أنتِ طالق بلا طلاقٍ، يعني: طالق بشيء لا يمكن وقوعه وحدوثه، فعلى هذا كان قوله: (أنتِ طالق بكذا) من اللغو. قوله: (أو قلبتِ الحجر ذهباً) يعني: لو كانت تقلب الحجر ذهباً لطلقها؛ وعادة العلماء أنهم يذكرون هذا، مع أن هذا ربح عظيم أن تكون الزوجة تقلب الحجر ذهباً، وعلى العموم إن قلبتِ الحجر ذهباً فأنتِ طالق، طبعاً لا يمكنها، أو أنتِ طالق إن قلبتِ الحجر ذهباً، فهي لا يمكن أن تقلب الحجر ذهباً، وهذا مستحيل، فعلق الأمر على مستحيل فهو مستحيل. قوله: (ونحوه) مثلاً قال لها: إن أمسكتِ الريح -ما يمسكها إلا الله عز وجل- فأنتِ طالق، فهذا لا يمكن؛ لكن إن عكس كان العكس. قال رحمه الله: (ونحوه من المستحيل لم تطلق) مثلما ذكرنا، وهذه كلها أمثلة. قال رحمه الله: (وتطلق في عكسه فوراً) يقول: إن لم تقلبي الحجر ذهباً فأنتِ طالق، ومستحيل أنها تقلب، فلا نعطيها مدة يمكن فيها قلب الحجر، فإذا قال لها: إن لم تقلبي الحجر ذهباً فأنتِ طالق، إن لم تصعدي إلى السماء فأنتِ طالق، تطلق حالاً، إن لم تمسكي الريح فأنتِ طالق، طلقت حالاً، وعكسه بعكسه. قال رحمه الله: [وهو النفي في المستحيل] نعم. سواء بالنفي أو بالإثبات، إن لم تقلبي الحجر ذهباً، إن لم تطيري في الهواء فأنتِ طالق، إن لم تمسكي الريح فأنتِ طالق. قوله: [مثل: لأقتلن الميت] الميت له حياة واحدة، وإذا مات فلا يمكن أن يعود إلى هذه الحياة؛ لأن الله تعالى كما ثبت في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله أنه لما اشتد عليه استشهاد أبيه رضي الله عنه وأرضاه؛ جلس يبكي، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ابكه أو لا تبكه، لا زالت الملائكة تظله حتى رفعته إلى السماء -ثم قال له:- يا جابر! إن الله كلم أباك كفاحاً، وقال: تمنَّ يا عبدي، فقال: أتمنى أن أعود فأقتل في سبيلك ثانية) مما رأى من عظيم ما أعد الله للشهداء، فأحب أن يعاد مرة ثانية فيقتل، فقال تعالى: (أما إنه قد سبق العهد مني أنه من مات لا ير

باب الطلاق في الماضي والمستقبل [2]

شرح زاد المستقنع - باب الطلاق في الماضي والمستقبل [2] تعليق الطلاق قد يكون بصفة، سواء كانت ممكنة أو مستحيلة، وقد يكون بزمان سواء كان ماضياً أو حاضراً أو مستقبلاً، وللعلماء تفاصيل في أحكام هذه التعاليق كلها.

تعليق الطلاق على المستحيل بالنفي أو الإثبات

تعليق الطلاق على المستحيل بالنفي أو الإثبات باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه. أما بعد: فقد تقدم معنا أن من تلفظ بالطلاق له حالتان: الحالة الأولى: أن ينجز الطلاق، فيقول لامرأته: أنت طالق، فإنها تطلق عليه في الحال، وذكرنا أن هذا محل إجماع بين العلماء -رحمهم الله- وأن هذا النوع من التطليق يعتبر أصلاً في الطلاق. فالأصل في الطلاق أن يقول لامرأته: أنت طالق، طلاقاً منجزاً، ولكن إذا علق الطلاق، فإما أن يكون معلقاً على مستحيل، أو على شيء غير مستحيل، فإن كان على أمر مستحيل، فقد ذكرنا أن نصوص الشريعة دلت على أن تعليق الطلاق على الشيء المستحيل يمنع وقوعه، ويدل على أن ذلك الشيء المعلق لا يقع قوله تعالى: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40] فعلق الله تبارك وتعالى دخول الكفار للجنة على دخول وولوج الجمل في سم الخياط، ولا يمكن للجمل -سواء قلنا: هو الحبل الذي تشد به السفن، أو قلنا: إنه الحيوان المعروف- أن يدخل في سم الخياط، وسم الخياط هو: ثقب الإبرة، فعلَّق الله دخول الكفار للجنة على هذا المستحيل، ففهمنا أنه قصد أن دخولهم إلى الجنة مستحيل. وبناءً على هذه الصيغة الواردة في كتاب الله عز وجل، تبين أن من علق طلاقه على مستحيل، فإن الطلاق لا يقع، وبذلك يكون قوله لغواً وضرباً من العبث، ولا يعتد به، ولذلك قلنا: ضرب العلماء أمثلة على ذلك المستحيل، أو على الصيغة التي يُعلق فيها على المستحيل، ومما ذكره المصنف-رحمه الله- قوله: أنت طالق إن طرت، أو قلبت الحجر ذهباً، فإن المرأة من المستحيل أن تطير، وكذلك الرجل من المستحيل أن يطير، وأيضاً من المستحيل أن تقلب الحجر ذهباً، أو تقلب الخشب حديداً، أو نحو ذلك. فمن علق طلاقه بمثل هذه الألفاظ، على مثل هذا الوجه الدال على أنه قصد المستحيل؛ فإنه لا يعتد بطلاقه، ولا يقع، إلا إذا نوى أنها طالق، بمعنى: نوى أن يبت الطلاق، توضيح ذلك: أنه إذا قال لها: أنت طالق، ثم قال: إن طرت، فيكون قوله: أنت طالق، إذا قصد به الطلاق قدراً كافياً لإيقاع الطلاق، ويكون قوله بعد ذلك: إن طرت، واقعاً في غير موقعه، كما لو قال لها: أنت طالق، وسكت، فهذا الذي جعل العلماء يستثنون حالة إذا قصد إيقاع الطلاق، لأنه عند قصد إيقاع الطلاق نأخذ الجملة الأولى (أنت طالق) ويكون قوله بعد ذلك: إن طرت، أو إن قلبت الحجر ذهباً، أو إن قلبت الخشب حديداً، أو العكس، يعتبر ضرباً من اللغو، وكذلك إذا أراد إلحاق هذا اللفظ بعد إيقاع الطلاق، فبالإجماع لو أن رجلاً نوى تطليق زوجته وتلفظ بلفظ الطلاق للبت في الحال، فقال لها: أنت طالق، ثم مباشرة طرأ له-بعد قوله: أنت طالق- أن يأتي بصفة وقيد، فقال لها: إن طرت في السماء، فتكون جملة: إن طرت، قد وافقت وقوع الطلاق، وكأنه أدخلها وأقحمها بعد وقوع الطلاق. قالوا: كما لو قال: أنت طالق، وسكت سكوتاً، وفصل بفاصل مؤثر لا يدل على التعليق، ولا قصد التعليق، وكما لو أدخل كلاماً أجنبياً يدل على الفصل، فإنه لا تطلق عليه امرأته. إذاً: بالنسبة للأفكار التي معنا: أولاً: الطلاق؛ إما معلق، وإما منجز، ثم المعلق له حالتان: إما معلق على مستحيل: فلا يقع، وإما أن يكون معلقاً على غير مستحيل. فإذا كان معلقاً على المستحيل، فتارة يكون بالنفي، وتارة يكون بالإثبات، فهو تارة يقول لها: إن طرت فأنت طالق، وتارة يقول لها: إن لم تطيري فأنت طالق، فقوله: إن طرت فأنت طالق، يوقف الطلاق حتى تطير، والطيران مستحيل؛ فلا طلاق، وإن قال لها: إن لم تطيري فأنت طالق، فهذا مستحيل منها أصلاً أن تطير، فقال لها: إن لم تطيري فأنت طالق، فإنها في الحال لا تستطيع أن تطير فيقع الطلاق، فاختلف الحكم ما بين صيغة النفي وصيغة الإثبات، فإن جاء بمستحيل وعلق الطلاق على إثباته؛ لم تطلق، وإن جاء بمستحيل وعلق الطلاق على نفيه؛ طلقت، وكان طلاقها واقعاً حالاً.

تعليق الطلاق على المستحيل بالإثبات

تعليق الطلاق على المستحيل بالإثبات قال رحمه الله: [ونحوه من المستحيل لم تطلق] أي: نحوه من الألفاظ التي تشتمل على الأوصاف المستحيلة، وهذا يختلف باختلاف الأعراف والأزمنة، فلكل عرف كلمته، قالوا: لأنه إذا قال لها أنت طالق إن طرت في السماء، وأنت طالق إن قلبت الحجر ذهباً، فهمنا أنه لا يريد الطلاق، ولا يقصد الطلاق، إنما هو ضرب من العبث.

تعليق الطلاق على المستحيل بالنفي

تعليق الطلاق على المستحيل بالنفي قال رحمه الله: [وتطلق في عكسه فوراً] يعني: إن علق الطلاق على نفي المستحيل، وإثبات المستحيل مستحيل، لكن نفي المستحيل هو الثابت، وقد بينا أن المستحيل عقلاً: هو الذي لا يمكن إثباته، ومعلوم أن الأحكام العقلية ثلاثة: الواجب العقلي، الجائز العقلي، المستحيل العقلي، واختصاراً هي الوجوب والاستحالة والجواز، قال الناظم: فواجب لا يقبل النفي بحال وما أبى الثبوت عقلاً المحال وجائز ما قبل الأمرين تم للضروي والنظري كلاً قُسم فقوله: ما أبى الثبوت عقلاً المحال، كما ذكرنا: أن المحال هو الشيء الذي يحكم العقل بعدم ثبوته، وعدم وجوبه، وقد يأتي النفي والاستحالة بأسباب أخرى؛ شرطية، أو عرفية، كما هو معلوم. وقوله: (وتطلق في عكسه فوراً، وهو النفي بالمستحيل) عندنا عدة فوائد: الفائدة الأولى: أن نفي المستحيل يدل على الثبوت، وهو إذا قال لها: إن لم تطيري فأنت طالق، فإنها تطلق، ونحكم بوجوب الطلاق؛ لأنها لا تطير، وقد علق طلاقه فيما بينه وبين الله على أنها إذا لم تطر فهي طالق، فنقول: يقع طلاقه بثبوت عدم طيرانها. الفائدة الثانية: أن ذلك الحكم يحكم به مباشرة، وتطلق فوراً، وهناك أشياء نحكم فيها بأن الطلاق لا يقع، ويبقى، أي: نحكم بوجوب الطلاق، لكن لا يكون فوراً، وننتظر مدة، ثم نقول: بفوات المدة يقع الطلاق، كما في أزمنة الإمكان، كما لو قال لها: إن دخلتُ الدار فأنت طالق، فنعلق الطلاق، والطلاق ثابت، لأنه يريد أن يطلق زوجته، لكن عند وجود الدخول، فيبقى الطلاق معلقاً إلى وجود صفة الدخول، لكن هنا لو قال لها: إن لم تطيري في الهواء فأنت طالق، نحكم بطلاقها فوراً؛ لأن نفي طيرانها ثابت، ولا إشكال أنها لا تستطيع الطيران، فلا نحتاج إلى مدة نختبرها: هل تستطيع أن تطير أو لا، ولا نعلق الحكم بالطلاق على مضي زمن الإمكان، كما مر معنا في بعض المسائل من أنه يعطى زمن لإمكان وقوع الطلاق، أو زمن لحدوث الصفة، أو لإمكان الصفة، ثم بعد ذلك نطلق إذا كان الأمر معلقاً على نفيها. فإذا قال لها: إن لم تطيري فأنت طالق، إن لم تقلبي الحجر ذهباً فأنت طالق، فإنها تطلق حالاً. قال رحمه الله: [مثل: لأقتلن الميت] لماذا نقول: إن الميت لا يقتل؟ A لأن الله سبحانه وتعالى جعل للحي حياة واحدة بالنسبة لحياة الدنيا، فإن فاتته فلا رجعة إليها، وقد دل على ذلك صريح قوله عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه عز وجل، وذلك حينما قتل شهداء أحد، فسأل جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان والده عبد الله بن حرام من شهداء أحد-كما هو معلوم- وكان جابر يحب والده محبة شديدة، حتى إنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلهف أن يعرف ما هي عاقبته؟ فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: (إن كان في الجنة؛ سلوت، وتعزيت، وصبرت. فقال: يا جابر! إنها جنان، وإن أباك قد أصاب الفردوس الأعلى من الجنة). وفي هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كلمه كفاحاً) وقال تعالى: (تمنوا) -يعني شهداء أحد- وفي رواية: (أنه كلم عبد الله بن حرام كفاحاً وقال: تمنّ عبدي)، ورواية الترمذي: أنه سألهم، قال: (تمنوا)، فتمنوا أن يعودوا، فقال الله تعالى-وهذا موضع الشاهد-: (أما إنه قد كان العهد مني- أو مضى العهد مني-؛ أن من مات لا يرجع إليها)، وهذا نص صريح؛ على أنه لا عود بعد الموت، وهنا ننبه على مسألة عقدية عند بعض الطوائف الزائغة، كما هو واقع في طائفة التيجانية؛ الذين يعتقدون أن أحمد التيجاني قد تلقى الصلوات عن النبي صلى الله عليه وسلم من فمه مباشرة، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:5]، وبلغت الجرأة بهم أن يقول قائلهم: إن دلائل الخيرات ختمة منه تعدل عشر ختمات من القرآن -والعياذ بالله- إلى هذه الجرأة!! لأنه تلقاها مباشرة من النبي صلى الله عليه وسلم!، وعندهم عقيدة أن من بلغ في الصلوات إلى حد معين يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم يقظة! فهذا أشبه بالرجعة-والعياذ بالله- ومذهب أهل السنة والجماعة على أنه لا يعود الميت، وأنه إذا مات فهو في البرزخ، كما قال تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100] وقال تعالى: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11]، فهذا راجع إلى أنه لا ميتة ثالثة، وبناءً على ذلك قال العلماء: إنه لا يمكن أن يقتل الميت؛ لأن الميت إذا فاتت حياته، فليست هناك حياة ثانية يمكن أن يقتل فيها، ونحكم بكونه قد قتل الميت، فالميت لا يقتل، وإنما نصف الشيء بكونه قتلاً إذا كان فيه إزهاق الروح، والروح لا يمكن إعادتها إلى هذا الجسد الذي فارقته في حال الحياة الدنيا، أما في البرزخ فلا إشكال، لكن نحن نتكلم على أنه يقتله في الحياة الدنيا، فإذا قال: لأقتلن الميت، فإن قتل الميت مستحيل، فإن نفى المستحيل، أو علق على نفي المستحيل، فإنه يقع، كما بينا في مسألة: إذا قال لها: إن لم تقلبي الحجر ذهباً، ونحوه. قال رحمه الله: [ولأصعدن السماء ونحوها] في الحقيقة، السماء إن قصد بها السماء المعروفة، تكون (أل) هنا عهدية، ولا يمكن أن يصعد إلى السماء، وإذا قال: لأصعدن السماء، فإنه علق الطلاق على مستحيل، فإن نفى ذلك المستحيل، ثبت الطلاق، وينتفي الطلاق إن علقه على ثبوت المستحيل.

أحكام تعليق الطلاق على الزمان

أحكام تعليق الطلاق على الزمان

تعليق الطلاق على زمن مستحيل

تعليق الطلاق على زمن مستحيل قال رحمه الله تعالى: [وأنت طالق اليوم إذا جاء غد؛ لغو] الغد لا يمكن أن يأتي بنفسه، وهو يقول لها: أنت طالق، بشرط أن يأتي غد في هذا اليوم، (أنت طالق اليوم إذا جاء غد) ولا يمكن أن يأتي في هذا اليوم، فحينئذ يكون من اللغو، ولا يقع الطلاق. وهذا من دقة المصنف رحمه الله، ولماذا ذكر كلمة: أنت طالق اليوم إذا جاء غد؟ نبهنا غير مرة أن العبرة بفهم القاعدة والضابط؛ حتى نستطيع أن نفهم كيف استخرج العلماء مثل هذه الصور العجيبة الدقيقة. حينما قلنا: إن تعليق الطلاق على المستحيل مستحيل، ويوجب الحكم بعدم وقوع الطلاق، قد يكون المستحيل بالصفات، فهو إذا قال لها: أنت طالق إن طرت، فلا يمكن أن تطير، وأنت طالق إن قلبت الحجر ذهباً؛ لا يمكن، فكما أن المستحيل يكون في الأعيان والذوات، كذلك يكون في الأزمنة، فجاء بالمستحيل في الزمان، كأن يقول: أنت طالق اليوم إن جاء غد، وأنت طالق الشهر -مثلاً- ربيع إن جاء جمادى، وما يمكن أن يأتي جمادى في ربيع، وإدخال الزمان على الزمان مستحيل، فكما أن الاستحالة في الصفات، والذوات، والأحوال، والأشخاص، فكذلك ربما تقع في الأزمنة، ولذلك جاء بصيغة مركبة على وجه يُفهم منه الاستحالة, ولا يمكن أن يقع هذا الشيء على هذه الصورة: أنت طالق اليوم إن جاء غد، فإنه لا يمكن أن يكون الغد إلا بزوال اليوم، وعلى هذا فلو علق الطلاق بمجيء الغد قبل زوال اليوم، فقد علق على مستحيل، والتعليق على المستحيل مستحيل.

تعليق الطلاق على الزمن الحاضر

تعليق الطلاق على الزمن الحاضر قال رحمه الله تعالى: [وإذا قال: أنتِ طالق في هذا الشهر أو اليوم؛ طلقت في الحال] أي: إذا كان كلامه -مثلاً- في شهر ربيع، فإنه حينما قال لها: أنت طالق في هذا الشهر، فقد أسند الطلاق إلى شهر ربيع؛ فتطلق عليه في شهر ربيع، فإذا كان الشهر شهر ربيع، فمعنى ذلك أنها طالق، وكذلك إذا قال لها: أنت طالق اليوم، أنت طالق الساعة، وهذه المسألة ذكرها المصنف في الأجزاء المتعددة التي تشمل الساعة واليوم، وتشمل الأسبوع والجمعة، كما يقال للأسبوع: أو السبت، وتشمل أيضاً الشهر والسنة. فهو إذا قال لها: أنت طالق الساعة، الساعة -كما هو معلوم- ستون دقيقة، فهو إذا قال لها: أنت طالق الساعة، يرد Q هل نطلقها بمجرد كلامه؛ لأن وقت الكلام الذي تلفظ به هو من الساعة؛ فتطلق حالاً، أم ننتظر إلى آخر الساعة، ففي آخر دقيقة وآخر ثواني الساعة نحكم بالتطليق فيها؟ قالوا: العبرة بالوقت الذي تلفظ به، ما دام أن الوصف يصدق عليه، فإذا قال لها: أنت طالق الساعة، طلقنا مباشرة، فصح في الوصف أنه طلق الساعة، ولا نحتاج أن ننتظر إلى نهاية الساعة؛ لأنه بت الطلاق، وإذا بت الطلاق على وجه يقع به منجزاً، فلا يمكن لنا أن نجعله معلقاً، ولذلك إذا تعارض التنجيز والتعليق، وكان للتنجيز قوة، وللتعليق قوة، فإننا نقدم المنجز؛ لأن اللفظ إذا كان دالاً على الوقوع؛ فإنه يقع، فهو يقول لها: أنت طالق الساعة، نقول: تطلق عليه، فإذا حكمنا بالطلاق، فقد صدق قوله: إنها طلقت الساعة، فلا نحتاج إلى الانتظار إلى آخره ما لم ينو آخر الساعة. وكذلك أيضاً إذا قال لها: أنت طالق اليوم، فإنه إذا كان في الساعة الأولى من اليوم؛ طلقناها من حين تكلم، ولا نقول: يُنتظر إلى نهاية اليوم، فتطلق عليه في نهاية أجزائه؛ لأننا إذا حكمنا بالطلاق في أول ساعة من ذلك اليوم، فإنه يصدق أنه طلق امرأته في ذلك اليوم. كذلك أيضاً في الأسبوع؛ إذا قال لها: أنت طالق الأسبوع -يعني: في هذا الأسبوع- فإن اليوم الذي تلفظ به هو من الأسبوع، فتطلق عليه، فلما طلقنا، صدق عليه أنها طلقت في الأسبوع، وعلى هذا لا ينتظر آخر الأسبوع، ولا ينتظر آخر الشهر، ولا ينتظر آخر اليوم، ولا ينتظر آخر الساعة، إلا إذا نوى أو قيد، فقال: أنت طالق آخر الأسبوع، وأنت طالق آخر اليوم، أو في آخر هذا اليوم، أو في آخر هذا الأسبوع، أو في آخر هذا الشهر، ونحو ذلك، فيحمل على الأخير.

تعليق الطلاق على ما يستقبل من الزمان

تعليق الطلاق على ما يستقبل من الزمان قال رحمه الله: [وإن قال: في غد، أو السبت، أو رمضان؛ طلقت في أوله] المسألة السابقة: إذا قال لها: أنت طالق اليوم، أنت طالق الأسبوع، ضابطها في الظرفية، أي: يأتي بوصف يكون وقت التلفظ داخلاً في ذلك الزمان، فإن قال: الساعة؛ فإنه وقت تكلمه هو في الساعة، وإن قال: الأسبوع؛ فإن اليوم الذي تكلم فيه هو من الأسبوع؛ لأنه قال: هذا الأسبوع، فقد قيد بالزمان الذي تلفظ به، وجعله يوماً، أو أسبوعاً، أو شهراً. لكن إذا قال لها: أنت طالق غداً، أو في غد، تارة يأتي غداً-على الظرفية-، وفي غد-صيغة الجر-، فإن قال لها: أنت طالق في غد، يرد السؤال -وقد عرفنا أنه إذا أسند إلى يوم الكلام، أو ظرف الكلام؛ طلقت حالاً- فإذا أسند إلى غد، قال لها: أنت طالق غداً، هل تطلق بأول اليوم، أي: بمجرد ما تطلع الشمس على الغد نقول: طلقت، أو ننتظر إلى آخر اليوم، ونطلقها عند آخر ساعة من الغد؟ أو نطلقها في نصف الغد؟ وجهان للعلماء، قال بعض العلماء: إذا أسند الطلاق للمستقبل؛ طلقت، ووقع الطلاق في أوله، فإذا قال لها: أنت طالق غداً؛ فإنها زوجته، ويستمتع بها، ويحل له ما يحل منها، ما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس؛ فحينئذ تحرم عليه، ويكون الاعتبار بابتداء اليوم، مالم ينو آخره كما ذكرنا في الأوصاف المعتبرة، والقيود المؤثرة. قوله: (أو السبت) إما أن يسند إلى الغد المباشر، أو يسند إلى يوم بعده، كقوله: في السبت؛ يعني: في يوم السبت القادم، فالعبرة بمغيب الشمس من آخر اليوم الذي قبله، فينتهي يوم الجمعة بمغيب شمسه، ويبدأ السبت بذلك المغيب، فنحكم بكونها طالقاً بغروب شمس يوم الجمعة، ولا ننتظر إلى طلوع شمس يوم السبت، والإسناد في هذه المسائل يكون إلى العرف لكن إذا قيل: اليوم؛ فابتداؤه من ابتداء عشيّه من الليل، ولذلك قال: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات:46] فأسند الضحى إلى العشي، فدل على أن عشية كل يوم قبله، ولذلك قال تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185]، فقالوا: يشرع التكبير ليلة العيد؛ لأن العدة قد كملت بمغيب شمس آخر يوم من رمضان، فلما قال الله تعالى: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات:46] دل على أن عشية كل يوم قبله إلا يوم عرفة؛ فإن عشيته بعده، وهذا هو المستثنى، واختُلف في أيام التشريق؛ هل ينسحب الحكم عليها، ويتفرع عليها جواز الرمي بعد غروب الشمس؟ وتقدمت معنا هذه المسألة في المناسك، وذكرنا أن بعض العلماء قال: ينسحب العشي في حكم الجمار، ويرمي ما لم يطلع فجر اليوم الذي بعده، ويجوز رميه في يوم العيد، مالم يطلع فجر الحادي عشر، ويرمي الحادي عشر، ما لم يطلع فجر الثاني عشر، وقس على ذلك. قوله: (أو رمضان؛ طلقت في أوله) أي: إذا قال لها: أنت طالق في رمضان؛ فهي تقتضي الظرفية، أي: في شهر رمضان، فإذا دخل رمضان -في أول دخول رمضان، وثبوت رمضان بمغيب شمس آخر يوم من شعبان- حُكم بطلاقها، كما ذكرنا في الأيام، وكذلك في الأسابيع؛ يكون الحكم واحداً.

تعليق الطلاق بزمن مع نية آخره

تعليق الطلاق بزمن مع نية آخره قال رحمه الله تعالى: [وإن قال: أردت آخر الكل؛ دُيِّن، وقُبِل] هنا مسألة: إذا قال لها: أنت طالق اليوم، أنت طالق غداً، أنت طالق السبت، رمضان، إلى آخره، وفي هذه نوى آخر الكل، وقال: أنا قصدت أنها في آخر رمضان تطلق، وقصدت في آخر الغد تطلق، وقصدت آخر اليوم تطلق، فإن ظاهر اللفظ محتمِل، فالأصل أن رمضان يشمل جميع رمضان، والظرف شامل للكل؛ لكن لما كان الوصف يصدق على إيقاع الطلاق مباشرة؛ حكمنا بتنفيذه؛ لكن إذا نوى إلى آخر رمضان، أو إلى آخر الغد، فإنه ونيته، وتبقى زوجة له طيلة شهر رمضان، ما لم يصل إلى آخره الذي نواه؛ لكن هل نقبل منه قوله مجرداً؟ أم أنه يلزم بيمين التهمة؟ وهذه اليمين تعرف في القضاء بيمين التهم، ويمين التهم: أن يسند الحكم، أو الوصف، أو الشيء الذي يختلف فيه، أو يستفتى فيه -إذا كان في الفتوى- إلى أمر محتمِل، ويكون إما غير ظاهر، أو يكون متردداً مع غيره، فهو حينما قال لها: أنت طالق اليوم، فظاهر اللفظ على أن المقصود اليوم كله، سواء في أوله أو آخره، هذا ظاهر كلامه؛ لكن حينما قال: أردت آخره، فقد خصص عموم اليوم، فخرج عن الظاهر إلى أمر خلاف الظاهر، إذ لو كان في الحقيقة قاصداً الآخر، لكان قال لها: أنت طالق آخر اليوم، ولصرح وقال: أنت طالق آخر رمضان، لكن كونه يطلق، ويجعل الصيغة بهذا الوجه، قالوا: هذا من خلاف الظاهر أن يسند إلى الآخر، وحينئذ قالوا: نحكم بقبول يمينه، فإذا قال: أردت الآخر، نقبل منه ذلك بشرط أن يحلف اليمين -يمين التهمة- ولذلك قال: دُيِّن، أي: حلف اليمين، ويديَّن، والدين فيما بين العبد وربه؛ لأنه متعلق بالاعتقاد، فيقول له القاضي: احلف، وهذه اليمين بينه وبين الله، إن كان كاذباً فاجراً فيها -والعياذ بالله- فهي يمين غموس، تغمس صاحبها في النار؛ لأن الأيمان في مجالس القضاء تعتبر من الأيمان الغموس -والعياذ بالله-، وكذلك أيمان الحكومة التي تكون في المحاكمة بين الطرفين، حتى ولو كانت عند حَكَم غير القاضي، فإنه إذا حلف اليمين -والعياذ بالله- فإنها يمين غموس، فالشاهد: أنه يحلف اليمين؛ فإن كان صادقاً فيها، فإنها لا تطلق إلا في آخر اليوم، أو آخر الشهر -على ما ذكر-؛ لأنه لو طلق مسنداً الطلاق إلى زمن هو آخر اليوم، أو آخر الشهر؛ فيبقى الطلاق معلقاً إلى وقوع ذلك الآخر؛ لكن لو كان كاذباً في هذه اليمين؛ فإننا نقبل منه في الظاهر، وأما في الباطن فإنه لا يقبل منه ذلك. فائدة المسألة: أننا لو فرضنا أنه قال: أردت الآخر، وكانت زوجته ممن تعتد بالأشهر، ثم إن هذه الزوجة طلقها، وقلنا: إن الرجعية يرثها، وترثه، وبقيت ثلاثة أشهر، فتوفيت في أول يوم السبت، فحينئذ إن كان الطلاق مسنداً إلى آخر السبت؛ فقد توفيت وهي في حكم زوجته؛ لأن الرجعية تورث، وإن توفيت في آخر السبت؛ فإنه لا يرثها، فإن كان قد كذب في يمينه، وحكم القضاء أنها زوجته، وتوفيت في أول السبت، وكذب وقال: قصدت الآخر، فإن ميراثها لا يحل له فيما بينه وبين الله، وإن كان قضاءً في الظاهر أنه يرثها، وتأخذ حكم المطلقة الرجعية على القول الذي يقول بتوريثها. قوله: (وقُبل) أي: وقبل منه الإسناد إلى آخر اليوم؛ لأنه في بعض الأحيان يحلف اليمين، ولا يقبل منه قضاءً، لكن يقبل منه ديانة فيما بينه وبين الله عز وجل.

حكم قول الرجل: أنت طالق إلى شهر أو سنة

حكم قول الرجل: أنت طالق إلى شهر أو سنة قال رحمه الله تعالى: [وأنت طالق إلى شهر] يعني: معك شهر كامل أنت فيه زوجة لي، فإذا مضى الشهر؛ فأنت طالق، فحينئذ نقول له: قصدت التعليق أو التنجيز؟ فلو قال: قصدت التعليق. نقول: تطلق بعد تمام شهر من تلفظه بالطلاق. فلو تلفظ بالطلاق في السبت، حسبنا شهراً من ذلك السبت، فإذا مضى طلقت، وأما إذا قال: قصدت الحال طلقت، لكن كيف نرتب القضية؟ وكيف نحكم بكونها طالقاً مع أنه قال لها: أنت طالق إلى شهر؟ فكيف طلقناها منجزة؟ قالوا: تكون نيته أنها طالق حالاً، فيكون قوله: أنت طالق، موجباً للطلاق حالاً، وقوله: إلى شهر؛ تعليقاً لاغياً؛ لأنه ما نواه، فنعتد بقوة اللفظ، مع وجود النية المعتبرة، ونلغي التعليق إلى الشهر، وتطلق عليه حالاً، وهذا معنى قوله: (إلا أن ينوي في الحال فيقع). قال رحمه الله: [طلقت عند انقضائه] أي: طلقت عند انقضاء الشهر وتمامه، فإذا قال: أنت طالق إلى يوم، وأنت طالق إلى أسبوع، وأنت طالق إلى سنة؛ احتسبت المدة كاملة. قال رحمه الله: [إلا أن ينوي في الحال؛ فيقع] إلا أن ينوي أنها تطلق في الحال، فيقع عليه الطلاق حالاً -كما ذكرنا-. وفي قوله: (أنت طالق إلى شهر) اختلف العلماء: الجمهور على أنه إذا قال لها: أنت طالق إلى شهر؛ فإنها تطلق -سواء في مسألة اليوم التي ذكرناها أو في الشهر، أو اليوم، أو الأسبوع- بعد تمام المدة؛ لأنه أسند إلى الشهر، وعند الإمام أبي حنيفة: أنها تطلق حالاً، والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن فيه فتوى ابن عباس رضي الله عنهما، وكذلك أبي ذر رضي الله عن الجميع. إذا قال لها: أنت طالق إلى شهر، فالواقع هناك تفصيل، فنحن بين حالتين: إما أن يكون في أول الشهر، بحيث يمكننا أن نحتسب الشهر هلالاً، فحينئذ ننتظر إلى هلال الشهر الداخل. وإما أن يكون قد قال الكلام أثناء الشهر؛ فإن قال الكلام أثناء الشهر؛ بحيث لا يمكننا أن نسنده إلى الأهلة؛ فإنها تطلق بمضي ثلاثين يوماً، والفرق بين المسألتين: أنه إذا قال لها: أنت طالق إلى شهر، وكان زمن الإمكان -الذي هو الشهر- يتم بظهور هلال الشهر الذي سيدخل، فننظر: إن أهل الشهر ودخل، احتسبنا الشهر بالهلال؛ لأنه بعد زمن الطلاق مباشرة، فإذا ظهر الهلال بعد تسع وعشرين يوماً؛ طلقت بعد تسع وعشرين، لكن إذا كان الاحتساب بالعدد فلا تطلق إلا بعد مضي ثلاثين يوماً، فبعد أن يمضي على ذلك اللفظ ثلاثون يوماً تطلق. قال رحمه الله: [وطالق إلى سنة؛ تطلق باثني عشر شهراً] قوله: (طالق إلى سنة) كأنه أنهى طلاقها وعلق طلاقها بمضي السنة، فننتظر اثني عشر شهراً؛ لأن الله جل وعلا جعل السنة اثني عشر شهراً: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [التوبة:36]، وهذا نص بأن السنة اثنا عشر شهراً، فإذا أسند إلى السنة، فقال: (أنت طالق إلى سنة) يعني: إلى مضي سنة، اعتبرت اثني عشر شهراً.

حكم قول الرجل: أنت طالق إلى الشهر أو السنة

حكم قول الرجل: أنت طالق إلى الشهر أو السنة قال رحمه الله: [وإن عرفها باللام؛ طلقت بانتهاء ذي الحجة] أي: إذا جاء وقال: (أنت طالق إلى السنة) يعني بعد مضي السنة؛ فإنها تطلق بعد انسلاخ شهر ذي الحجة من السنة نفسها. إذاً عندنا ثلاثة ألفاظ: أنت طالق السنة؛ فتطلق حالاً، مثل قوله: أنت طالق اليوم، ما لم ينو آخر السنة، وأما إذا قال: أنت طالق إلى سنة، فجاء بإلى التي تفيد الغاية، وإذا قال لها: أنت طالق إلى السنة؛ ففُرق في الحكم بين التعريف والتنكير، فإن قال لها: أنت طالق السنة-وأسقط حرف الجر- فإنها تطلق حالاً، كما لو قال: أنت طالق اليوم، أنت طالق الشهر، فإننا نحتسبها طالقة منذ تكلم وتفوه، ما لم يسند إلى آخره-على التفصيل الذي ذكرناه-، لكن إذا قال: أنت طالق إلى سنة، فلا بد من مضي سنة كاملة، مثل قوله: أنت طالق إلى شهر، وأما إذا قال: أنت طالق إلى السنة، يعني: إلى انتهاء هذه السنة-بالتعريف- وعلى هذا: فإنه إذا انتهى شهر ذي الحجة، وانسلخ شهر ذي الحجة من السنة نفسها؛ طلقت عليه، ولو كان ذلك بعد يوم، فلو قال لها: أنت طالق إلى السنة، فإننا ننتظر إلى انتهاء السنة التي تكلم فيها، ولو كان كلامه قبل انتهائها بساعة، ولو بلحظة، فإنها تطلق عليه مباشرة بانتهائها، لكن إذا قال: أنت طالق إلى سنة-بالتنكير-، إلى شهر-بالتنكير-؛ فإن الحكم ما ذكرناه من كونه ينتظر مدة السنة ومدة الشهر.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين قول الزوج لزوجته بعد العقد: أنت طالق إلى شهر، وبين زواج المتعة

الفرق بين قول الزوج لزوجته بعد العقد: أنت طالق إلى شهر، وبين زواج المتعة Q إذا عقد على امرأة وقال: أنت طالق إلى شهر، ألا يشكل عليه أنه من نكاح المتعة، ولو لم يكتب في صلب العقد؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فينبغي التفريق بين صيغة العقد، وبين الصفة أو الحال التي يقع بها الطلاق بعد العقد. فإذا جئت تقول: إن هذا نكاح متعة، فينبغي أن يكون العقد عقد متعة، وهنا أحب أن أنبه على فائدة: ما الذي جعل العلماء يتكلمون على المصطلحات المتعلقة بأبواب الفقه؟ ما الذي جعلهم يعرفون صيغة العقد؟ يعرفون العقد؟ لأنك إذا قلت: هذا عقد شغار، فلا بد أن تكون الصيغة التي يتركب منها العقد-الإيجاب والقبول- مبنية على الشغار، إذا قلت: هذا نكاح متعة، عقد متعة، زواج متعة، ينبغي أن يكون الإيجاب والقبول مبنياً على هذه الصيغة المعتبرة للمتعة، لكن إذا كان الإيجاب والقبول خالياً من ذلك، والعقد تركب بأركانه وشروطه سالماً من ذلك؛ تقول: هذا عقد شرعي، وكونه بعد ذلك يعلق طلاقاً، أو يوقع طلاقاً بساعة أو بلحظة، أو يقول لها: أنت طالق الآن، لا نقول: إنه نكاح متعة، فهناك فرق، لأنك إذا قلت: إنه نكاح متعة؛ فمعنى ذلك: أن المرأة لا تستحق المهر، ومعنى ذلك: أن المرأة لا تستحق شطر المهر إذا كان لم يدخل بها، ولا تستحق المهر كاملاً إذا كان قد دخل بها، ولا يترتب عليه أحكام العدة كالطلاق، والحداد، فالرجل عقد على المرأة عقداً شرعياً، مستوفياً للأركان والشروط، ثم بعد أن أتم العقد قال لها: أنت طالق إلى شهر، فليس بنكاح متعة، بل هذا تطليق واقع بعد تمام الصيغة التامة الكاملة المعتبرة في الشرع، ولا يجوز أن نصفه بالمتعة فنسقط حقوق المرأة، ونسقط حقوق الطلاق، وينبغي على طالب العلم أن يكون عنده دقة، إذا كان العقد مبنياً على صيغة صحيحة؛ فالله أمرنا أن نحكم بصحته، ولماذا تجد العلماء يقولون: الأحكام الوضعية هي العلامات والأمارات التي نصبها الشرع ووضعها للحكم بصحة العبادة، وبطلانها، ووجوبها، ولزومها، وغير ذلك مما هو معروف في الأحكام الوضعية؟ فما وضعه الشرع علامة على صحة العقد؛ حكمنا بصحته، وما وضعه علامة على فساده؛ حكمنا بفساده، بشرط وجوده أثناء العقد، لكن كونه يحصل شيء بعد العقد فهذا لا يؤثر، مثلاً: الرجل -ولي المرأة- قال له: زوجتك ابنتي فلانة، قال: قبلت، بعشرة آلاف، وتم العقد، وتم الإيجاب والقبول، ثم بعد أن تم العقد مباشرة قال لها: أنت طالق إلى شهر، نقول: ننتظر إلى شهر، وهي زوجته، يجوز له أن يستمتع بها، وله حقوقه ولها حقوقها الزوجية لمدة شهر، ثم إذا مضى الشهر؛ حكمنا بالطلاق، فهذا ليس بنكاح متعة، ولا يأخذ حكم المتعة؛ لأن العقد ما قام على متعة، ولم يقم على التحديد أصلاً، وهذا الذي جعل بعض العلماء يقول: إنه إذا تزوج المرأة وفي نيته أن يطلقها، فإنه عقد، والشرع يحكم على الظاهر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس) فنأخذ بالظاهر أنه إيجاب وقبول، وشروطه مستوفية وعقده مستوفٍ، فلو نوى الطلاق بعد شهر، أو بعد شهرين، فلا تأثير لهذا في صلب العقد، ولا تأثير له في الأركان والواجبات، لأن المعتبر الحكم بصحة العقد، فنحكم بكون العقد صحيحاً، وقد يموت قبل أن يطلقها، فلا يمكن أن نحكم بأنه زواج متعة، ولذلك يقولون: ينبغي أن يفرق بين الظاهر وصيغة العقد، وترتب العقد على الوصف الموجب لصحته، وبين كونه ترتب على وصف أو رُتب على وصف يقتضي بطلانه وعدم صحته، وعلى هذا فالعقد صحيح، ولا يُحكم بكونه متعة. ويرد الإشكال: ما الفرق بين هذه الصيغة وبين المتعة؟ الفرق واضح: أن النكاح بالمتعة مقيد بهذا الذي ذكرناه، فبمجرد مضي الشهر لا هي زوجته ولا هو زوجها، هذا نكاح المتعة، إذا مضت المدة مباشرة ينفسخ النكاح، ولا يحتاج إلى طلاق ولا غيره، وأما بالنسبة للنكاح الذي معنا؛ فإن هذا النكاح لا ينفسخ مباشرة، حتى لو وقع الطلاق، إلا إذا كانت غير مدخول بها، فتكون طلقة بائنة، لكن إذا كانت مدخولاً بها، مثلاً: تزوجها ودخل عليها، ثم مباشرة قال لها: أنت طالق إلى شهر، فإن لها عدة، وتعتبر مدخولاً بها، وتبقى بعد مضي مدة الطلاق، فهناك فرق واضح، والفرق يظهر أكثر إذا دخل بها فيما بين العقد وبين تلفظه بالطلاق. والله تعالى أعلم.

حكم المراجعة للمرأة قبل وقوع الطلاق المعلق بصفة

حكم المراجعة للمرأة قبل وقوع الطلاق المعلق بصفة Q هل له أن يراجع قبل وقوع الطلاق؛ إذا قال: أنت طالق غداً؟ A هذا سيأتي: أن من علق الطلاق على صفة لم يملك الإسقاط إلا في بعض الأحوال التي استثناها بعض العلماء، وفيها خلاف، يعني: كما لو فُهم منه التحديد، وقصد التحديد، وجاء بحرف شرط لا يقتضي الدوام والاستمرار، ولذلك قالوا في هذه الحالة: يمكن أن يُحكم برفعه، كما لو كان في نيته أن يقيد منعها من دخول بيت أبيها مدة الخصومة، ومدة النزاع، ونحو ذلك، قالوا: يرتفع بارتفاع السبب الموجب. والله تعالى أعلم.

حكم قول الرجل لزوجته: أنت طالق قبل موتي بساعة، ناويا حرمانها من الميراث

حكم قول الرجل لزوجته: أنت طالق قبل موتي بساعة، ناوياً حرمانها من الميراث Q رجل قال لزوجته: أنت طالق قبل موتي بساعة، ينوي حرمانها الميراث، فما حكم ذلك؟ A إذا قال: أنت طالق قبل أن أموت بساعة، فإنه إذا مات فإنها مطلقة رجعية، والمطلقة الرجعية ترثه، وعلى هذا ما يؤثر هذا فيه، ولو قصد حرمانها من الميراث؛ فإنه يأثم بنيته، حتى قال بعض العلماء: إنه من خاتمة السوء -والعياذ بالله- أن يوصي الرجل بوصية جائرة، فيكون آخر ما يُكْتَب في عمله -والعياذ بالله- عمل السوء. وقد جاء عن عثمان رضي الله عنه، وعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم لم يمضوا طلاق مريض الموت لشبهته، وجماهير العلماء على العمل بهذه الفتوى، وقالوا: إنها من باب المعاملة بنقيض القصد، إلا إذا كانت الزوجة هي التي سألت طلاقها، فإن كانت هي التي سألت الطلاق، وطلقت عليه في مرض موته؛ فمذهب طائفة من العلماء: أنها لا ترثه، ولا يرثها، على تفصيل سيأتي -إن شاء الله- في كتاب الميراث. والله تعالى أعلم.

شرح قول المصنف: [وإن قال: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة فطلقتان]

شرح قول المصنف: [وإن قال: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة فطلقتان] Q مر معنا سابقاً قول المصنف -رحمه الله-: [وإن قال: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة فطلقتان] يقول السائل: لم أفهم قول المصنف في كيفية وقوع الطلاق طلقتين. نرجو إعادة توضيحها؟ A هو يقول لها: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة؛ فمعنى ذلك: أنت طالق طلقتين؛ لأن الاستثناء نص القرآن ونصت السنة على أنه مؤثر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إلا الإذخر)، وقال تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3]، فالاستثناء مؤثر، فهو يقول: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة، فلما قال الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ. } [المائدة:3]، ثم قال: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3]، فهمنا: أبيح لكم ما ذكيتم. نسأل الله العظيم أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب تعليق الطلاق بالشروط [1]

شرح زاد المستقنع - باب تعليق الطلاق بالشروط [1] الطلاق جائز في الشريعة الحكيمة سواء كان منجزاً أو معلقاً، ولتعليق الطلاق بالشروط أحكام كثيرة تدل على كمال الشريعة الإسلامية ورحمتها بالعباد.

تعليق الطلاق بالشروط

تعليق الطلاق بالشروط بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب تعليق الطلاق بالشروط]. التعليق: هو جعل الشيء على الشيء، وقد قال بعض العلماء: إن مادته في اللغة تدور حول ربط الشيء بالشيء ونوطه به؛ ولذلك يقال: علق الثوب على الشجرة، إذا كان الثوب على غصنٍ من أغصانها أو فرعٍ من فروعها فاتصل بذلك الشيء المعلق به. ومسألة تعليق الطلاق بالشروط مسألة مهمة تكثر بها البلوى بين الناس، فإن كثيراً من الناس إذا أراد أن يطلق زوجته علق الطلاق على وقوع شيء أو على عدم وقوعه، ومن هنا يرد السؤال عن حكم هذا النوع من الصيغ المتعلقة بالطلاق. والتعليق عند العلماء رحمهم الله له ضابط ذكره بعض أئمة الأصول والفقهاء رحمةُ الله على الجميع. فضابط التعليق هو: ربط حصول مضمون جملة بحصول مضمون جملة أخرى، فهناك جملتان، وهناك أداةٌ تربط بين الجملة الأولى والجملة الثانية، ولذا فإن التعليق بالشروط يستلزم وجود شرط يترتب عليه وجود المشروط، والأداة التي تربط بين الشرط والمشروط، فهو إذا قال: أنت طالقٌ إن قمت، أو قال: إن قمت فأنت طالق، فقد ربط حصول مضمون جملة -وهي جملة الطلاق- بوقوع مضمون جملة أخرى -وهي جملة: إن قمت. أي: القيام- فكأنه يقول: زوجتي طالق إن وقع القيام منها، ولو قال لها: إن قعدت فأنت طالق. فقد ربط مضمون جملة الطلاق بوقوع مضمون جملة القعود، فإذا حصل القعود حصل الطلاق. وهذا الربط بين الشرط والمشروط يجعلُ الشرط مرتباً على المشروط، فعندنا شرط وجواب في قوله: إن قمت فأنت طالق. فالشرط: إن قمت، و A فأنت طالق، فإذا اشترط لوقوع الطلاق قيامها فإننا نحكم بوقوع الطلاق إذا حصل القيام منها. فالتعليق هو: ربط حصول مضمون جملة -وهي جملة الطلاق- بحصول جملة أخرى -وهي الجملة التي اشترطها لوقوع الطلاق- إن قمتِ إن قعدت إن قرأت إن ذهبت إلى بيت أبيك إن كلمت أمك إن كلمت جارتك إن كلمت أختك ونحو ذلك من الشروط التي يربط وقوع الطلاق بها. ولذلك قال العلماء في القاعدة المشهورة: إذا وقع الشرط وقع المشروط. وتعليق الطلاق بالشروط بابٌ من أبواب الطلاق، اعتنى العلماء رحمهم الله به لعموم البلوى به، والناس تختلف الشروط التي تكون منهم فتارة يشترط أحدهم وجود شيء وتارةً يشترط نفي الوجود، فإذا قال: إن لم تخرجي فأنت طالق، فقد علّق الطلاق على عدم الخروج، فيكون تعليقاً بطريقة النفي، وإن قال: إن خرجت فأنت طالق فيكون قد علقه بطريقة الإثبات.

الدليل على وقوع الطلاق المعلق بالشروط

الدليل على وقوع الطلاق المعلق بالشروط قال العلماء: إن الطلاق يقع إذا وقع الشرط؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعطى المسلم الطلاق، فإن شاء نجزه وإن شاء علقه، والقياس الصحيح والنظر الصحيح يقتضي أنه إذا علق الطلاق على شيء فإنه يقع به من حيث الجملة، فإن الشرع أوقع العتق المعلق على شرط، فإذا أعتق عبيده بشرط وجود شيء ووجد ذلك الشيء فإنه يحكم بعتق العبيد، وهكذا إذا كان العبد مدبراً بحيث يعتق عليه بعد موته، فإنه يعتق عليه بوجود تلك الصفة، قالوا: والعتق والطلاق بابهما واحد؛ لأن الطلاق: التزامٌ من المكلف بما لم يلزمه في الأصل، فالطلاق ليس بواجب عليه وليس بلازمٍ عليه أن يطلق امرأته ولكنه التزم أن يطلقها، فالتزم ما لم يلزمه بالأصل، وكذلك العتق، فإنه إذا أعتق عبيده عن دبر وجعل عتقهم مدبراً فإنه قد علق العتق على وجود صفة وهي الموت، فإذا وجد الموت وجد العتق وحُكم به، ولهذا قالوا: ينفذ الطلاق بالشروط كما ينفذ العتق بالتدبير بجامع كون كلٍ منهما التزاماً من المكلف بما لا يلزمه بأصل الشرع، وجماهير العلماء والأئمة على أن الطلاق يقع إذا كان مرتباً على شرط ووقع ذلك الشرط، وصيغة الشرط معتبرة في كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن اشترط شيئا ووقع ذلك الشرط فإنه يلزمه ما التزمه في المشروط، فإن هذه الصيغة في أصل الوضع اللغوي صيغةٌ مؤثرة؛ ولذلك اعتبرت الشروط، قال صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم)، فإذا اشترط لامرأته أنها إن خرجت فهي طالق أو إن دخلت فهي طالق أو إن قامت فهي طالق، فهذا شرطٌ بينه وبين زوجه، فتطلق عليه إن وقع ذلك الشرط كما لو طلقها طلاقاً منجزاً.

من يصح منه التعليق

من يصح منه التعليق قال رحمه الله تعالى: [لا يصح إلا من زوج]. أي: لا يصح الطلاق المعلق إلا من زوج، وهذه الجملة المراد بها: أن صيغة التعليق لا تصح إلا بعد وجود عقد النكاح، فلو أن رجلاً قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق، أو قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، فمعنى ذلك: أنه علق تطليق المرأة بما إذا تزوج بها، فإذا نظرنا إلى هذا التعليق وجدناه وقع من غير الزوج، وهو الأعزب، فإذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق أو أيما امرأةٍ أتزوجها فهي طالق أو إذا نكحت فامرأتي طالق فإن هذه الصيغة لاغية ولا تأثير لها؛ لأن الطلاق لا يصح إلا بعد وجود العقد، فإذا علق الطلاق بالشرط ولم يعقد على المرأة، فإن الطلاق لم يصادف محلا، والدليل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب:49]، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى جعل الطلاق مرتباً على وجود العقد، فدل على أنه لا طلاق قبل عقد النكاح، فلو سألك سائل وقال: اشترطت على نفسي وقلت: كل امرأةٍ أتزوجها فهي طالق، هذا في حالة العموم، أو خصص وقال: إذا تزوجت خديجة أو تزوجت من قبيلة فلان، أو من بيت فلان أو من بني عمي أو من بني خالي فهي طالق، فحينئذٍ سواءً عمم أو خصص بذكر القبيلة أو ذكر المدينة أو غير ذلك فنقول: هذا لغوٌ، ولا يترتب عليه ثبوت الطلاق لدليلين: أولهما: دليل الكتاب، والثاني: دليل السنة، أما دليل الكتاب فإن الله تعالى جعل الطلاق مرتباً على وجود العقد، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب:49]، فجعل الطلاق مرتباً على وجود العقد، وبهذا استدل الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا طلاق فيما لا يملك)، وفي الحديث الآخر في السنن: (إنما الطلاق لمن أخذ الساق)، فدل هذان الحديثان -وقد صححهما غير واحد من أهل العلم- على أن الطلاق لا يقع إلا إذا وجدت العصمة، وأن من علق طلاقه على وجود العصمة أو طلق قبل العصمة فإنه قد طلق امرأةً أجنبية ولا يقع الطلاق، وقد بينا مذاهب العلماء وذكرنا أن هذه المسألة اختلف العلماء رحمهم الله فيها فقال بعض العلماء: إن الذي يشترط على هذا الوجه عموماً أو خصوصا فإن شرطه لازم وتطلق عليه المرأة بمجرد أن يعقد عليها، وعلى هذا سيبقى مدى عمره بدون نكاح، وهذا لا شك أنه خلاف شرع الله، لأنه سيؤدي إلى تحريم ما أحل الله عليه، ولربما وقع في الحرام، خاصة في الأزمنة التي لا يوجد فيها ملك اليمين، وقال بعض العلماء: إن هذا الشرط لاغ ولا طلاق إلا بعد نكاح، وهو الراجح كما ذكرنا، وقال بعض العلماء: إن عمم فإنه يلغى قوله: ولا يعتد به، وإن خصص اعتد بتخصيصه، وهذا مرويّ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقال به بعض أصحاب الإمام مالك، والصحيح: أن الطلاق لا يقع إلا إذا وجد النكاح، وأن من قال كل امرأةٍ أتزوجها فهي طالق، أو أيما امرأة أتزوجها فهي طالق، أو أيما امرأة من بني فلان أو من قرية كذا أو من بلدة كذا، كل ذلك لغوٌ ولا تأثير له في إثبات الطلاق.

عدم وقوع الطلاق المعلق بالشرط إلا عند حصول الشرط

عدم وقوع الطلاق المعلق بالشرط إلا عند حصول الشرط قال رحمه الله تعالى: [فإذا علقه بشرط لم تطلق قبله، ولو قال: عجلته، وإن قال: سبق لساني بالشرط ولم أرده وقع في الحال]. (فإذا علقه بشرط لم تطلق قبله) يعني: إذا علق الطلاق بشرط لم تطلق المرأة قبله، أي: قبل وجود الشرط؛ لأن الذي بينه وبين الله عز وجل: أن امرأته طالق إن وجدت هذه الصفة المشروطة، فهو يقول لها: إن قمت فأنت طالقٌ، فإننا لا نحكم بطلاقها إلا إذا وجد القيام؛ لأن الطلاق تعلق على صفة فإن وجدت الصفة حكمنا به وإلا فلا، فلو أنها ماتت قبل قيامها لم تطلق، ولو قال لها: إن خرجت من الدار فأنت طالقٌ فلم تخرج من دارها فإنها امرأته ويحل له أن يستمتع بها وهي امرأته حتى تخرج، فيسري عليها حكم المطلقة على حسب ما علق من طلاق. فهاتان مسألتان: الأولى: أنه لا يقع الطلاق إلا بعد وقوع الشرط. الثانية: أنها زوجته فيما بين التلفظ بالشرط وما بين وقوعه وحدوث الطلاق. فلو سألك سائل: لو أن رجلاً علق طلاق امرأته على صفة، فقال لها: إن خرجت أو إن دخلت أو إن انتهى الشهر أو نحو ذلك فأنت طالق، فهل هي زوجةٌ له قبل وجود الصفة أو لا؟ تقول: هي زوجةٌ له حتى يقع الشرط وحينئذ يحكم بوقوع الطلاق.

ادعاء الزوج تعجيل إيقاع الطلاق المعلق بالشرط

ادعاء الزوج تعجيل إيقاع الطلاق المعلق بالشرط (ولو قال: عجلته). ولو قال: عجلت الطلاق، قوله: (ولو) إشارة إلى خلاف المذهب، قال بعض العلماء: إذا قال لامرأته: أنت طالقٌ إن تكلمت اليوم وبقي من اليوم عشر ساعات فننتظر خلال العشر ساعات حتى يتم اليوم، فإذا مضت ولم تتكلم فلا طلاق، فنقول: الأصل أن يبقى الطلاق معلقاً على صيغة الخطر، وصيغة الخطر أن يبقى الأمر متردداً، ولذلك صيغة الشرط التعليق بها منبن على الخطورة كما يقول بعض الفقهاء رحمهم الله، بمعنى: أنه يحتمل أن يقع فيقع الطلاق ويحتمل أن لا يقع الشرط فلا طلاق، فتصبح صيغة مترددة على خطر، يحتمل أن تبقى المرأة في عصمته إذا لم يقع الشرط، ويحتمل أنها تطلق إذا وقع الشرط فالأمر متردد، والحال على خطر، فلا نحكم بالطلاق إلا إذا وجد الشرط، وعلى هذا لو قال لها: أنت طالقٌ إن جاء أبوك اليوم فلم يأت أبوها، وجلست تنتظر فما جاء أبوها، فيبقى الأمر معلقاً، فإن قال: عجلت الطلاق، لم يقبل منه؛ لأن الأصل أن الطلاق معلق، فإذا أراد تعجيله فليأت بصيغةٍ ثانية يراد بها التعجيل. وقال بعض العلماء: إن قال عجلته أوقعنا الطلاق بقوله: أنت طالقٌ، وأسقطنا قوله: إن جاء أبوك اليوم، وتصبح طالقة بقوله: أنت طالق، فأصبحت الصيغة في ذاتها بين التنجيز والتعليق، قالوا: نحكم بطلاقه بقوله: أنت طالق، لأنه ألغى التعليق فبقي الأصل وهو قوله: أنت طالق، والصحيح ما اختاره المصنف: أنه إذا قال لها: أنت طالق إن جاء أبوك، أو: أنت طالق إن غربت الشمس، فإنها لا تطلق إلا بوقوع الصفة، وإن قال: عجلت لا يعتد بقوله؛ لأن الصيغة ليست دالة على ما قال، فهي صيغة تعليق في أصل الوضع اللُّغوي، ودالة على التعليق، فلا نحكم بكونها مطلقة بقوله: عجلت، وهذا هو أصح أقوال العلماء رحمهم الله. قال رحمه الله: (ولو قال: عجلته)، يعني: لو قال: عجلت وقوع الطلاق، فإنه لا يعتد بقوله، لكن لو أنه قال: أنت طالق ونوى في قلبه أنها طالق، ثم قال: إن جاء أبوك اليوم، فنيته أنه معجل فيكون قوله: إن جاء أبوك، صيغة تعليق جاءت بعد وقوع الطلاق وتنجيزه، وهذا شيءٌ بينه وبين الله، فلو أقر عند القاضي أن الصيغة قالها على هذا الوجه، وأنه أدخل التعليق كحيلة ثم تاب واستغفر؛ فإنه يحكم بكونها طالقاً لقوله: أنت طالق، ويكون طلاقاً منجزا، ولا يحكم بكونه طلاقاً معلقاً. ومن عجيب ما ذكره بعض العلماء -رحمهم الله- أنه لو قال: أنت طالق بعدد شعر إبليس -وهذا ذكره الإمام النووي رحمه الله- قال بعض العلماء: إنها لا تطلق؛ لأننا لا نعلم هل لإبليس شعر أو لا! والأصل: أنها زوجه، لكن قال بعض العلماء وهو أصح: قوله: أنت طالق، إثبات للطلاق، وقوله بعد ذلك: بعدد شعر إبليس زيادة على الواحدة، يعني: أنه يريد أكثر من واحدة، فنبقى على الأصل من أنه طلق، والزائد ملغي وهذا هو الصحيح. فبعض العلماء يرى أنه إذا قال: أنت طالقٌ، وذكر صيغة الشرط بعد ذلك، ونوى في قلبه أنها طالق مباشرة، فصيغة الشرط جاءت على سبيل اللغو، فيحكم بكونها طلقاً بالقول الأول وبالجملة الأولى وتلغو صيغة الشرط. قوله: (وإن قال: سبق لساني بالشرط ولم أرده وقع في الحال). فهو يريد أن يقول: أنت طالق البتة، فسبق لسانه وقال: أنت طالقٌ إن جاء أبوك، نقول له: هذا الشرط الذي قلته: إن جاء أبوك قصدته أو لم تقصده؟ قال: سبق لساني به وأقر أنه لم يقصده، فيكون التعليق غير مقصود وتكون مطلقة بقوله: أنت طالق.

ادعاء الزوج التعليق في لفظ الطلاق

ادعاء الزوج التعليق في لفظ الطلاق قال المصنف رحمه الله: [وإن قال: أنت طالق وقال: أردت: إن قمت، لم يقبل حكما]. العلماء -رحمهم الله- من دقتهم أنهم يذكرون الأمور المحتملة، فقد يذكر التعليق ويقصده، وقد يذكر التعليق ولا يقصده، وقد لا يذكر التعليق ويقصده، فالقسمة العقلية تقتضي ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يذكر التعليق ويقصده، ففي هذه الحالة اجتمع عندنا اللفظ والنية، فاجتمع الظاهر والباطن على إرادة التعليق، مثال ذلك: أنت طالق إن قمت، فاللفظ لفظ تعليق والنية والقصد أنه تعليق، فالحكم في هذه الحالة أننا نبقى إلى وقوع الشرط. الحالة الثانية: أن يعلق باللفظ ولكن لم يرد ذلك التعليق ولم ينوه، وسبق لسانه بالتعليق، فنقول: العبرة بنيته، والمرأة طالق بقوله: أنت طالق، فيكون قوله: إن قمت، حشواً ولغواً لا تأثير له؛ لأنه لم يقصد تعليق الطلاق، ويثبت طلاقه. الحالة الثالثة: أن يقصد ولا يتلفظ، فيقول لامرأته: أنت طالق، ويسكت، وهنا معناه: أنها تطلق منجزاً، فقلنا له: قد طلقت عليك زوجك! قال: لا، أنا قصدت في نيتي: أنت طالق إن قمت، فنوى التعليق بقلبه، فالصورتان الأخيرتان متضادتان، إما أن يكون الظاهر للتعليق والباطن خلاف التعليق أو العكس: أن يكون الباطن للتعليق وقصد التعليق والظاهر لا يريد التعليق، وليس فيه ذكرٌ لصيغة الشرط، فإن تلفظ بالطلاق ونوى في قلبه أنها مطلقةٌ بالتعليق فالعبرة بالظاهر، والباطن لا عبرة به، قال عليه الصلاة والسلام: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس)، فالقاضي يحكم بطلاق المرأة مباشرة ولا يلتفت إلى تعليقه، فنحكم بالظاهر؛ لأن هذا هو الأصل، ولو فتحنا الباب لأمكن كل زوج أن يدعي أنه نوى التعليق في قلبه فيقول: لا، أنا قصدت: إن قمت، قصدت: إن طرت، قصدت: إن فعلت، ولربما جاء بالمعجز حتى يخرج من تبعة طلاقه، فهذا بالنسبة للحالة الثالثة وهي: أن ينوي في قلبه التعليق ولا يتلفظ به، والحالة الثانية عكسها: أن يتلفظ بالتعليق ولا ينوي ذلك التعليق قال: لم أرده، ولم أقصده، بل سبق به لساني، فقال بعض العلماء: إذا تلفظ وقال لها: أنت طالقٌ إن قمت، وبينه وبين الله أنه قصد تطليق امرأته في الحال قبل قيامها، وجملة: إن قمت، زلة من لسانه، واعترف بذلك فإنها مطلقة عليه بمجرد قوله: أنت طالق، وهذا لا إشكال فيه، فأصبحت ثلاث صور: إما أن يكون التعليق بالظاهر والباطن، ومثالها أن يقول: أنت طالق إن قمت، أنت طالق إن غربت الشمس، أو إذا غربت الشمس فأنت طالق، إذا جاء الغد فأنت طالق، فحينئذٍ نحكم بكون الطلاق معلقاً على الصفة أو على الشرط الذي ذكره على حسب الأحوال، وأما إذا كان قد تلفظ ولم ينو التعليق، أو نوى التعليق ولم يتلفظ به فالحكم في الحال الأولى: إذا تلفظ بالتعليق ولم ينوه وقال: سبق به لساني، فالعبرة بنيته ولا يلتفت إلى وجود التعليق؛ لأنه لم يرده وسبق به اللسان، فوجوده وعدمه على حد سواء، وأما إن قال: أنت طالقٌ، وقصد التعليق في الباطن فتطلق عليه امرأته على الظاهر ولا يلتفت إلى النية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بالظاهر وقال: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس). وقوله: (لم يقبل حكماً) أي: في القضاء، لكن يقبل فيما بينه وبين الله عز وجل، مثلاً: قالت المرأة: سأخرج، قال: لا تخرجي، قالت: سأخرج، قال: لا تخرجي أنت طالق، ونوى بقلبه: إن خرجت، ففي هذه الحالة يقول جمهور العلماء رحمهم الله: إنها لا تطلق إلا إذا خرجت ديانة بينه وبين الله، لكن إذا رُفع إلى القاضي حكم بالظاهر وقال: زوجتك مطلقة عليك؛ لأنك قلت: أنت طالق، ولم تقل: إن خرجت، فيحكم بكونها طالقاً سواءً خرجت أو لم تخرج، وإذا كان بينك وبين الله أنك لا تطلقها إلا إذا خرجت فننظر: لو أن هذا الرجل قالت امرأته: سأخرج، قال: لا تخرجي، قالت: سأخرج، قال: لا تخرجي، أنت طالق، وقصد أنها طالق إن خرجت ونوى بذلك أنها طالق في ذلك اليوم إن خرجت، ومضى اليوم كله ولم تخرج، فإنها امرأته ولا يحكم بكونها طالقة، فإن غابت شمس ذلك اليوم ولم تخرج فهي امرأته، فلو أن القاضي حكم بكونها مطلقة فتطلق بالظاهر، لكن فيما بينه وبين الله عز وجل أنه لم يرد إلا التعليق ولم تخرج المرأة فإنها امرأته يرثها وترثه وتسري عليها أحكام الزوجية، ولو أنه جامعها؛ فإنه يحكم بكونها امرأةً له فيما بينه وبين الله عز وجل، وحكم القاضي بكونها ليست امرأته حكم في الظاهر، ولكنها زوجه في الباطن، كما لو حكم القاضي بأن بيتك لشخص آخر جاء بشهود كاذبين، فإن البيت بيتك، وملكٌ لك فيما بينك وبين الله، ولا يحل له، وليس من حقه، وإذا علم بذلك من اشترى منه فيكون قد اشترى المغصوب والمأخوذ بالحرام. فالمقصود أننا نحكم على الظاهر والسرائر نكلها إلى الله، فنفرق بين كونه نوى التعليق أو لم ينو التعليق على التفصيل الذي ذكرناه في الثلاث الصور.

أدوات الشرط التي يقع بها التعليق

أدوات الشرط التي يقع بها التعليق قال رحمه الله تعالى: [وأدوات الشرط: إن وإذا ومتى وأي ومن وكلما وهي وحدها للتكرار، وكلها ومهما بلا لم أو نية فور أو قرينة للتراخي، ومع لم للفور إلا إن مع عدم نية فور أو قرينة]. هذه الشريعة شريعة كاملة، وفصّل الله عز وجل فيها كل شيء تفصيلا، فهي شريعة تقوم على إعطاء كل شيء حقه وقدره، حتى الألفاظ التي يتلفظ بها المسلم: إن كانت بالطلاق منجزاً حكمنا بكون الطلاق منجزاً، وهذا هو لفظه، وهذا هو الذي بينه وبين الله: أنه يطلق امرأته طلاقا منجزا، وإن تلفظ بلفظ وكان اللفظ دالاً على التعليق فبينه وبين الله أن امرأته تطلق إذا وُجِدت هذه الصفة، أو وجد هذا الزمان أو وُجد هذا الحال الخ. فإذا قلنا: إن كل لفظٍ وكل حرف وكل جملة لها معنى ولها دلالة، فلا بد أن نعطي كل زوجٍ حقه فيما تلفظ به من صيغ الطلاق، وصيغ التعليق تكون بحروف الشرط: إن وإذا ومتى ومن ومهما وكلما وأي ونحوها من أدوات الشرط، فينبغي أن تعطى كل أداة دلالتها، فتوجد أدوات تدل على الشرط، وهناك أدوات تدل على الشرط المقترن بالزمان، وأدوات تتمحض في الزمان؛ ولذلك يختلف الحكم بحسب اختلاف هذه الأدوات، ودلالتها، وما وضعت له في أصل اللغة، وقد قرر جمهور العلماء من الأصوليين أن اللغة من وضع الشارع سبحانه وتعالى، فلا يستطيع أحد أن يأتي بصيغة أو بلفظ أو بجملة لها دلالتها في اللغة ويصرفها عن هذه الدلالة. مثلاً: لو قال: إن قمت فأنت طالق، قلنا له: إذا قامت طلقت قال: لا، أنا أقصد بهذه الصيغة التمجيد، نقول: هذا قصدك لك أنت، لكن من ناحية وضع اللغة ووضع الألفاظ فإن هذه الألفاظ وضعها الشارع دالة على هذه المعاني، فيؤاخذ بلفظه، واستدل جمهور الأصوليين على هذا بقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلّهَا} [البقرة:31]، فأصل اللغة أنها من وضع الشارع، فلو أن شخصاً قال: والله لا أكتب، فقلنا له: إذا كتبت لزمتك كفارة اليمين قال: لا، أنا أقصد: لا أسوق السيارة أو لا أخرج من البيت، نقول: إن الكتابة وضعت للدلالة على هذا المعنى الذي يجري به البنان بحروف معينة، فإذا وقعت منك الكتابة على هذه الصفة فحينئذٍ تلزمك اليمين وعليك الكفارة، وكونك تقصد شيئاً آخر هذا لك أنت، لكنه لا يؤثر في الأحكام الشرعية. ولهذا ينبغي على الفقيه وعلى العالم أن يقف مع كل حرف وكل صيغة فيما تدل عليه، فهذا كتاب الله عز وجل، قد جاء بصيغة الشرط وجاء بدلالاتها ومعانيها، فلا بد من التقيد بهذه الدلالات والمعاني.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من علق الطلاق بشرط فوقع الشرط في وقت نهي عن الطلاق فيه

حكم من علق الطلاق بشرط فوقع الشرط في وقت نهي عن الطلاق فيه Q هل يأثم من علق طلاق امرأته على شرط، وحصل الشرط في وقت بدعي كأن يحصل الشرط وهي حائض أو في طُهر جامعها فيه؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فستأتي هذه المسألة في مسألة تعليق الطلاق بالحيض، ويتبعها الكلام على مسألة الطهر، وإذا علق تطليق امرأته على صفة ووجبت حال حيضها، فيأتي الخلاف في مسألة وقوع الطلاق في الحيض وقد قدمنا هذه المسألة، وبينا فيها كلام العلماء والحكم فيها على التفصيل الذي سبق بيانه، والله تعالى أعلم.

حكم من أراد بتعليق الطلاق المنع لا الطلاق

حكم من أراد بتعليق الطلاق المنع لا الطلاق Q ما الحكم إذا أراد الزوج بتعليق الطلاق المنع دون نية الطلاق وإنما قصد أن يمنعها من الخروج؟ A هذه المسألة خلافية، جمهور العلماء -رحمهم الله- على أن صيغة الشرط يترتب فيها الطلاق على وجود الشرط، سواءً قصد المنع أو قصد غير ذلك، وبناءً على ذلك: لا فرق عندهم بين كون المطلق يقصد المنع أو لا يقصده، وذهب طائفة من العلماء -رحمهم الله- إلى القول بالتفصيل: فإن كان التعليق لا يقصد منه المنع كأن يرتبه على زمان كقوله: إذا غابت الشمس فأنت طالق، طلقت لمغرب الشمس، وإن قصد به المنع فإنه لا يقع الطلاق، ويكون حكمه حكم اليمين، ويكفر عنه، ويخرج من تبعته، والصحيح من حيث الأصل مذهب جمهور العلماء رحمهم الله؛ لكن لو أن شخصاً وقع عليه ذلك وقصد منع زوجته وارتفع إلى قاضي أو عالم يرى أنه لا يقع ويعتبر نية المطلق في ذلك فإنه توسعة من الله عز وجل، ولا تطلق عليه امرأته؛ لأن العبرة بمن أفتاه، وبمن قضى عليه، والله تعالى أعلم.

العبرة في العدة بزمن الطلاق لا بزمن بلوغ الخبر بالطلاق

العبرة في العدة بزمن الطلاق لا بزمن بلوغ الخبر بالطلاق Q امرأةٌ فارقها زوجها ما يزيد على عام وعندما سئل عنها قال: إنه مطلقٌ لها، فهل تعتبر خارجة من العدة أم لا بد من الاعتداد بعد قوله؟ A مذهب جمهور العلماء على أن من طلق امرأةً فإنه يحتسب في العدة من الطلاق لا من بلوغ الخبر، وقالوا: أن المقصود من الطلاق استبراء الرحم، فلو أنه طلقها ومضى لها ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار -على الخلاف: هل العبرة في العدة بالحيض أو الطهر؟ - فإنه يحكم بكونها أجنبية إذا لم يراجعها، وكانت الطلقة بعد الدخول، وبناءً على ذلك قالوا: إذا طلقها طلقة واحدة، ومضت مدة العدة ولم تعلم، وجاءها الخبر بعد تمام مدة العدة، فإنها تصبح حلالاً، والعبرة بوقت الطلاق، لكن في الحداد الحكم يختلف، فإن الحداد عبادة، فلو أن امرأةً مات زوجها ولم يبلغها خبر وفاته إلا بعد سنة أو بعد سنوات فإنها تبتدئ حدادها أربعة أشهر وعشراً من بلوغ الخبر، والفرق بينهما: أن عدة الطلاق لا تحتاج إلى نية، وعدة الحداد فيها وجه التعبد فاحتاجت إلى النية، فلا بد من نيتها للحداد حتى يقع ذلك على الوجه المعتبر، والله تعالى أعلم.

حكم زواج الرجل من امرأته التي خالعها

حكم زواج الرجل من امرأته التي خالعها Q إذا طلقت المرأة نفسها هل للزوج أن يعيدها بعقد جديد إذا اصطلحا؟ A يجوز للزوج إذا خالع امرأته وأراد أن يراجعها أن ينكحها بعقد جديد؛ لأن الخلع طلقة بائنة، وقد بينا هذا فيما تقدم، قال صلى الله عليه وسلم: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة)، فإذا طلقها طلقة وأراد أن يراجعها بعد ذلك فإنه يعقد عليها عقداً جديداً، ولا بد من وجود الولي وشاهدي عدل والمهر والصداق على الشروط المعتبرة في صحة عقد النكاح، والله تعالى أعلم.

معنى القوامة في قوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء)

معنى القوامة في قوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء) Q ما المقصود بالقوامة التي في قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34]؟ A فضل الله الرجل على المرأة، والله سبحانه وتعالى إذا حكم لا يعقب حكمه، وهو -جل جلاله وتقدست أسماؤه- عليمٌ بخلقه، حكيم في تدبيره وأمره وشأنه، فالله تعالى جعل في الرجال ما لم يجعله في النساء، كما جعل في القوة ما لم يجعله في الضعف، وقد بين الله تعالى أن الرجل لا يستوي مع المرأة، ومن قال: إن الرجل كالمرأة سواءً بسواء فقد ناقض شرع الله، وخالف نصوص الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36]، وقال سبحانه وتعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، والمراد بذلك: المرأة، والسبب في هذا التفضيل: أن الله سبحانه خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، ثم خلق منه زوجه، وخُلقِت من ضلع آدم كما أخبر صلى الله عليه وسلم (أنها خلقت من ضلع أعوج) وهذا حكم الله عز وجل كما تجد في الخلق من هو عالم وجاهل، فالعلماء أفضل من الجهال، وتجد الغني والفقير، هذا كله تفضيل من الله، لا يستطيع أحد أن يقول: لماذا؟ أو يريد أن يعطل حكم الله عز وجل، فالأصل أن الله فضل الرجال على النساء، ولكن جعل الفضل المشترك بينهم التقوى، فإن كانت المرأة صالحة قانتة حافظة للغيب بما حفظ الله؛ فلها فضلها ولها قدرها ولها حقها ولها مكانتها، والرجل إذا كان فاسقاً فاجراً متنكباً عن صراط الله عز وجل؛ كان كالبهيمة {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44]، فهذا التفضيل في الأصل يبقى موقوفاً على اتباع الشرع كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فذكر خلق الناس من ذكر وأنثى ثم بين التمايز والتفاضل، وكون المرأة دون الرجل لا يمنع أن تكون في الفضل أفضل من الرجل إن كان الرجل عاصياً لله عز وجل، فالمرأة ينبغي أن تعلم أن الله فضل الرجل عليها، وهذا التفضيل حكم من الله سبحانه وتعالى، وقد دلّت دلائل الكتاب والسنة على هذا؛ ولذلك جعل الله شهادة الرجل كشهادة اثنتين من النساء؛ لأن الله جعل في المرأة من الحنان والرحمة والعطف والعاطفة ما لم يجعل في الرجل، وهذه العاطفة تؤثر في المشاعر، وجعل في الرجل من القوة ما لم يجعل في المرأة، وانظر إذا أردت أن تعرف الفرق بين المرأة والرجل في مواقف الشدة والضعف؛ فإن المرأة إذا وقفت أمام قتل أو دماء تسيل لا تستطيع أن تتم النظر وسرعان ما تصرخ، وسرعان ما يغشى عليها، وسرعان ما تضع يديها أمام بصرها؛ لأن الله لم يعطها من القوة ما أعطى الرجل، ولا نستطيع أن نقول للضعيف: كن قوياً، ولا نستطيع أن نقول للقوي: اخرج عن فطرتك التي فطرك الله عليها حتى تصير كالمرأة ضعيفاً جباناً، ينبغي أن نعلم أن هذا التفاضل وراءه حكم عظيمة، لو أن الكون كله خلق على صفة واحدة لتضادت الأشياء، فالمرأة بضعفها وحنانها ورحمتها وعاطفتها قد تفوق الرجل بكثير، وهذا يكون إذا وضعت رحمتها وعاطفتها في مكانها، فالمرأة حين ترعى الصغير، وتحسن التبعل لزوجها، وتشعر أنها تحت الرجل وتحسن التبعل له، وتحسن القيام على بيته وولده، وترعى المسئولية التي ألقاها الله على عاتقها؛ تكون كأكمل ما أنت راءٍ من امرأة، ولكن ينقلب الحال إذا صارت كالرجل تحاكي الرجال وتحاول أن تكون مثل الرجل سواءً بسواء؛ حتى إن بعض الأدعياء -قاتلهم الله- يقولون: إن الإسلام لم يفرق بين الرجل والمرأة: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:5]، فعلى الرجال الجهاد، وليس على النساء جمعة ولا جماعة ولا جهاد، ومن قال: إن المرأة مثل الرجل، فقد شق على المرأة، ولن يستطيع أحد أن يعطي المرأة حقوقها -على أتم الوجوه وأكملها- إلا الله جل جلاله وحده لا شريك له، الذي أعطاها الضعف، وهذا الضعف كمالٌ لها، وزينة لها وجمال، فإذا نظرت إلى حنانها وهي تمسح صبيها وربما تذكر الإنسان ولادته وحنان أمه وعطفها وشفقتها فلم يتمالك دمعة عينه ويترحم عليها إن كانت ميتة أو يدعو لها إن كانت حية، فالذي يريد أن يجعل المرأة كالرجل فإنه يخرج المرأة عن فطرتها، بل إنه يعذبها، يريد أن تخرج كالرجل سواء بسواء فيحملها ما لا تطيق ويعميها، ويجعلها في وضع لا تستطيع أن تقوم به مهما كانت الأمور؛ لأن فيها من الخصائص وفيها من الطبائع ما لا تقوى أن تكون فيه مثل الرجل؛ لأن هذا حكم الله، وحكم الله إذا خرج الإنسان فيه عن الفطرة السوية، والخلقة المرضية؛ فإنه سيشقى ويتعب، ولذلك الله تعالى يقول: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، وأطرد الخطاب للرجال تفضيلا وتكريما؛ لأنهم فضلوا بأصل الخلقة، وخلق الله آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، فلا بد للمرأة المؤمنة الصالحة أن تدرك هذه الحقيقة، وأن تترك أوهام من يدعي أن المرأة كالرجل، ويحاول أن يجعل المرأة كالرجل سواءً بسواء، بل ينبغي للمرأة أن تعلم علم اليقين أنه لا سعادة في بيت الزوجية إلا إذا علمت أن الرجل قائم عليها، وأن الله لم يجعلها قائمة على الرجل إلا في حالة واحدة، وهي: إذا تنكب الرجل عن صراط الله؛ زجرته بزواجر الله وذكرته بأوامر الله وأوقفته عند حدود الله، وعندها تكون قد أقامته على صراط الله ومرضاة الله، والخاص لا يقتضي التفضيل من كل وجه على سبيل العموم، وأياً ما كان فإن القوامة ينبغي للرجال أن يضعوها في موضعها، فيكون الرجل في بيته كاملاً يراعي حق الرجولة، ويوقف المرأة عند حدودها، فعلى المرأة أن تذل لزوجها، وتكون تحته مطيعة له، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وتوفيت وزوجها عنها راض قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبوابها شئت)، ولم يجعل ذلك للرجال، ما قال: إذا صلى الرجل خمسه وصام شهره وأرضى زوجه ورضيت عنه زوجه؛ لأن الأصل أن الرجال هم القائمون، وعلى هذا: فينبغي للمرأة أن تعلم أن سعادتها أن تعطي الرجل حقوقه. وهنا أذكر أن على الرجل أن يتقي الله وأن لا يتخذ من هذه القوامة إساءة وإضراراً خاصة إذا كانت تحته امرأة صالحة، تخاف الله عز وجل، فالمرأة الصالحة لها حق على كل رجل صالح بأن يحفظ صلاحها، خاصة عند كثرة الفتن والمحن، وأن يقبل منها حبها لله وطاعتها لله، وأن يحمد الله جل جلاله أن وفقه لمثل هذه المرأة، فيثبتها حتى يعينه الله عز وجل على القيام بحقوقها. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يأخذ بنواصينا إلى سبيل البر والرضا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب تعليق الطلاق بالشروط [2]

شرح زاد المستقنع - باب تعليق الطلاق بالشروط [2] قد يعلق الزوج طلاق زوجته بأداة شرط على إثبات شيء أو نفيه، وأدوات الشرط كثيرة، وقد يختلف الحكم الشرعي بتلفظه بأداة دون أداة، وقد بين العلماء رحمهم الله أحكام ذلك بالتفصيل.

أدوات الشرط التي يعلق بها الطلاق

أدوات الشرط التي يعلق بها الطلاق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وأدوات الشرط: إن وإذا ومتى وأين ومن وكلما، وهي وحدها للتكرار، وكلها ومهما بلا لم أو نية فور أو قرينة للتراخي، ومع لم للفور إلا (إن) مع عدم نية فور أو قرينة]. الله سبحانه وتعالى نص في كتابه في مواضع على اعتبار صيغة الشرط والحكم بها، ولذلك تعد من لسان العرب ولغتهم، فإذا علق المسلم طلاقه بصيغة الشرط فإن هذا يستلزم وجود أداة يسميها العلماء: أداة الشرط، وهذه الأدوات منها ما يتعلق بالشرط المحض، ومنها يتعلق بالزمان، ومنها ما يقصد منه التكرار، ومعانيها ودلالاتها تختلف، فنظراً لذلك لابد عند بيان أحكام الطلاق المعلق بالشروط أن ينتبه طالب العلم لهذه الأدوات، وأن يعطى كل لفظ حقه من الدلالة.

التعليق بأداة الشرط (إن)

التعليق بأداة الشرط (إن) يقول رحمه الله: [وأدوات الشرط إن]. قوله: (إن): هذه تعتبر أُم الأدوات، وهي تدل على محض الشرطية، وقال بعض العلماء: لا علاقة لها بالزمن، ومن المعلوم -كما تقدم معنا- أن هناك شرطاً وجزاء للشرط معلق على وجود هذا الشرط، ومعنى ذلك إذا قال لزوجته: إن قمتِ فأنتِ طالق، فمعناه: أنه رتب طلاق زوجته على وجود القيام. وبناءً على ذلك فلابد من وجود فعل الشرط وجواب الشرط وأداة تربط بين الجملتين، وإذا عبر بأداة (إن)، فإنه تارة يعبر بالإثبات وتارة يعبر بالنفي، فيقول لزوجته: إن تكلمت فأنتِ طالق، إن قمتِ فأنتِ طالق، إن ذهبتِ إلى أبيكِ فأنتِ طالق. ونحو ذلك، هذا كله متعلق بالإثبات، فإن وجد القيام أو وجد الكلام أو وجد الخروج من حيث الأصل فإنه يُحكم بالطلاق، هذا بالنسبة للإثبات. وأما في النفي فنحو: إن لم تقومي فأنتِ طالق، إن لم تتكلمي فأنتِ طالق، إن لم تذهبي إلى أبيك فأنتِ طالق، فهذا نفي، فهذه الأداة فيها ما يتعلق بالإثبات وفيها ما يتعلق بالنفي، وكل منهما له حكم، ففي الإثبات لنا حكم، وفي النفي لنا حكم آخر. قلنا: إن عندنا فعل الشرط: إن قمتِ، وجواب الشرط: فأنتِ طالق، هذا الجواب يترتب بالفاء لقوله: فأنتِ طالق، فمن حيث الأصل إن قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق. فلا إشكال في اعتبار الصيغة، ويربط بين جملة فعل الشرط وجواب الشرط بالفاء، لكن لو قال لها: إن قمتِ أنتِ طالق. فهذا محل خلاف بين العلماء رحمهم الله، قال بعض العلماء: إن قال لها: إن قمتِ أنتِ طالق. فإننا لا نعتبر الجملة الثانية وهي قوله: أنتِ طالق؛ مرتبة على قوله: إن قمتِ. لعدم وجود الفاء، وبناءً على ذلك تطلق عليه مباشرة؛ لأنهم لا يرون الربط بين الجملة الأولى والجملة الثانية، فيقولون: كأنه قال لغواً: إن قمتِ، وقوله: أنتِ طالق، بعد ذلك كلام يستأنف ويوجب وقوع الطلاق على البت والتنجيز. واختار طائفة من العلماء كالإمام ابن قدامة، وبعض أصحاب الإمام الشافعي أنه إذا قصد الشرط فإنها لا تطلق عليه إلا إذا قامت، ويغتفر حذفه للفاء؛ لأن الأمر مستقر في نفسه ونيته، فكأنه قال: إن قمتِ فأنتِ طالق، كما لو جاء بالفاء، وهذا هو الصحيح لأنه قصد الشرطية. يبقى عندنا سؤال حين قلنا هنا: إن وجود الحرف الفاء وانتفاءه مؤثر في الصيغة، وقلنا: إن النية أقوى، يرد Q لو أن رجلاً قال لامرأته: إن قمتِ فأنتِ طالق. هل نجعل طلاق المرأة موقوفاً على القيام مطلقاً؟ أو فيه تفصيل؟ A إذا قال لامرأته: إن قمتِ فأنتِ طالق فله ثلاثة أحوال: الحالة الأول: أن يقصد ترتيب الجملة الثانية على الجملة الأولى، أو ترتيب الشرط على المشروط، فإذا وجد الشرط وجد المشروط، فإذا قصد الشرطية وقال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق، ونوى في قلبه أنها لا تطلق إلا إذا قامت فإنها لا تطلق إذا لم تقم، وذلك لأن اللفظ يدل على الشرطية، وجاءت نصوص القرآن باعتبار الشروط كما سنبين، كقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} [التوبة:6] اشترط الله عز وجل وجود طلب الجوار، وأمر وحكم بأنه مجار بذمة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فهذا يدل على اعتبار صيغة الشرط، وترتب الحكم عليها، فهو إذا قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق. وفي نيته أنها لا تطلق إلا إذا قامت؛ يتوقف الطلاق على وجود القيام، هذه الحالة الأولى. الحالة الثانية: أن يكون مقصوده إيقاع الطلاق مباشرة، فلو قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق. وفي نيته أنها طالق فوراً ألغينا قوله: إن قمتِ. وأوقعنا الطلاق بقوله: أنتِ طالق، وعلى هذا لا تؤثر صيغة الشرطية لأنه تلفظ بالطلاق، ونوى الطلاق على التنجيز فلا يحكم بالتعليق، إذاً عندنا حالتان متقابلتان: الأولى: أن ينوي الشرط ويقول: إن قمتِ فأنتِ طالق. ومراده أنها لا تطلق إلا إذا وجد القيام، فبإجماع العلماء من حيث الأصل أنها لا تطلق إلا إذا قامت. ثانياً: إذا قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق. قاصداً بت الطلاق ووقوعه مباشرة، طلقت عليه مباشرة، ولم يلتفت إلى قوله: إن قمت أو قعدت أو غير ذلك من الشروط. الحالة الثالثة: إذا لم ينو الشرطية، ولم ينو البت في الطلاق وتنجيزه، قال لامرأته: إن قمتِ فأنتِ طالق. قلنا: يا فلان ما الذي قصدت؟ قال: ما دار بخلدي شيء، أتيت بهذا اللفظ وقلت لزوجتي: إن قمتِ فأنتِ طالق. قلنا: هل قصدت أن الطلاق يقع فوراً؟ قال: لا. قلنا: هل قصدت الشرطية؟ قال: لا. إذاً يحكم بالظاهر، ويعتد باللفظ على ظاهره ويؤاخذ به، ولا نلتفت إلى كونه قصد الطلاق أو لم يقصده؛ لأن الشرع في الهازل الذي لم ينو الطلاق اعتد بظاهره وأسقط الباطن، وفي هذه الحالة أيضاً إذا لم يقصد الشرطية ولم يقصد تنجيز الطلاق نحكم بظاهر قوله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس وأن أكل سرائرهم إلى الله) فظاهر لفظه أنه لفظ يقع فيه الطلاق بشرط معين، فنقول: بينك وبين الله إن وقع هذا الشرط أمضينا عليك الطلاق، وإلا فلا. فهي ثلاثة أحوال: أولاً: أن يقصد الشرط، اعتد به وأخذ بظاهر قوله، فاجتمع الظاهر والباطن على الشرطية ولا إشكال. ثانياً: أن يقصد التنجيز والإيقاع فوراً، والصيغة لا يلتفت إليها ولا يعتد بها فيمضي عليه طلاقه. ثالثاً: أن لا يقصد شيئاً من الأمرين فنقول: إنه تلفظ بالطلاق، وحينئذٍ ننظر إلى ظاهر لفظه، فنؤاخذه على ظاهر اللفظ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس). مسألة أخيرة في (إن قمتِ) -وبعضهم يجعلها مطردة في أدوات الشروط كلها- من حيث الأصل يعبرون بقوله: إن قمتِ، وإذا قمتِ، إذا قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق. هل نطلقها بمجرد الارتفاع للقيام؟ أو بعد تمام القيام؟ عندنا شيء هو الابتداء بحيث يوصف الإنسان بأنه ابتدأ في المحذور، وعندنا شيء هو تمام المحذور بحيث نصفها بأنها قد قامت فعلاً ودخلت فعلاً، وقد كتبت، مثلاً: قال لها: إذا ولدتِ فأنتِ طالق، فهل نطلق في ابتداء الولادة؟ أو نطلق بتمامها؟ وهل نطلق بابتداء الدخول؟ أو بانتهائه وتمامه وكماله؟ لو قال لها: إذا حملت هذه الصخرة فأنت طالق، وهي حامل وجاءت تحمل الصخرة، فلما انتصبت لحملها أسقطت جنينها، وهو مكتمل الخلقة فهل يعتد بسقوطه، وتخرج من العدة؟ إن قلت: إنها تطلق بابتداء الشروع، فقد خرجت من عدتها بالولادة؛ لأنها قد وقعت بعد استيفاء الشروط، وإن قلت: إنها لا تطلق إلا بعد تمام حمل الصخرة واستتمامه والوقوف به، فحينئذٍ يكون سقوط الحمل الموجب للخروج من عدة الطلاق سابقاً للطلاق فلا يعتد به، ويحكم بكونها مطلقة بعد تمام الحمل. هذه مسألة: هل يطلق بابتداء الصفة أو بتمامها وكمالها.

التعليق بأداة الشرط (إذا)

التعليق بأداة الشرط (إذا) (وإذا (لو قال: إذا دخلتِ الدار، أو تكلمتِ، أو إذا سكتِ، أو إذا قمتِ، أو إذا قعدتِ. فهذه صفات تعلق الحكم بالطلاق على وجودها، فنحن في هذه الحالة لا ننظر إلى الزمان، فنقول: هذه المرأة إذا قال لها زوجها: إذا تكلمتِ فأنتِ طالق. فإنها زوجة له ما لم تتكلم، فإن تكلمت يحكم بطلاقها، فلا ندري هل تتكلم الآن؟ أو تتكلم اليوم؟ أو تتكلم الغد؟ لا ندري متى زمان الإخلال ولذلك يقولون: (إذا) أداة على الخطر، يحتمل أن تقع ويحتمل أن لا تقع، لو قال لها: إذا كتبتِ فأنتِ طالق، ربما جلست حياتها كلها لا تكتب فلا طلاق، ولربما كتبت بعد تلفظه مباشرة فطلقت، ولربما جلست اليوم والأسبوع أو مدة ما شاء الله، فإذاً: هذه الصيغة ليس لها تعلق إلا بالشرطية وهي (إن). ثم (إذا) بعض العلماء يلحقها بإن ويقول: إنها تقتضي الشرطية وتدل على الشرطية، لكن الذي رجحه طائفة من العلماء أنها أقرب إلى الزمان، وبناءً على ذلك: إذا قال لها: إذا تكلمتِ فأنتِ طالق، فإنه في هذه الحالة لا نحكم بطلاقها إلا بوجود الكلام أو بوجود الدخول ونحو ذلك من الصفات التي علق وقوع الطلاق عليها.

التعليق بأداة الشرط (متى)

التعليق بأداة الشرط (متى) (ومتى) هذا بالنسبة للزمان، متى قمتِ فأنتِ طالق، فإنه متى وجد القيام وفي زمان القيام يحكم بطلاقها، وهناك فرق بين قوله: متى قمتِ فأنتِ طالق، وبين قوله: إذا قمتِ فأنتِ طالق، وقوله: إن قمتِ فأنتِ طالق، فإن متى متصلة بالزمان وهي ألصق بالزمان، ولذلك يقولون: إنها متعلقة بالحين، قال الشاعر: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا قال بعض العلماء: إن لها وجهاً من الشرطية وإن كانت متعلقة بالحين، فكأن الشاعر يقول: في أي حين تأتيه تعشو إلى ناره تجد، وعلى هذا فإن (متى) لها اتصال بالزمان أقرب من الأداتين الماضيتين، وعليه: فإننا لا نحكم بالطلاق إلا بوجود زمان القيام، متى قامت، فتطلق في زمان القيام. واعتد بعض العلماء بابتداء الزمان فقال: تطلق عند ابتداء قيامها، وبعضهم يقول: لا تطلق إلا في أثناء الوقت الذي هو يستغرق القيام، فيأتي فيها ما لا يأتي في صيغة إن قمت، أو إذا قمت، هل المراد الابتداء أو الانتهاء؟ لأن الظرفية في الشيء تكون داخل الظرف إما زماناً أو مكاناً، فحينئذٍ يكون طلاقها في ظرف الوقت الذي فيه القيام، وعلى هذا: يشمل ما بين الابتداء والانتهاء، فهي في الوسطية أقرب منها من قوله: إذا قمت، أو إن قمت، فهو إذا قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق. يحتمل أن يكون مراده: إن قمتِ وتم قيامكِ فأنتِ طالق، ويحتمل أن يكون مراده: إن قمتِ، أي: بمجرد القيام. والسبب في هذا: أن العرب تعبر بإذا وتريد ابتداء الشيء، وتريد انتهاء الشيء، وتريد أثناء الشيء، فهي ثلاثة أحوال: ابتداء الشيء، إما عند ابتدائه أو عند إرادته كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] فإن غسل الوجه يكون عند إرادة القيام، والقيام لم يقع حقيقة، فهي لا تكون من هذا الوجه لا أثناء الفعل، ولا بعد تمام الفعل، وكذلك قول أنس رضي الله عنه كما في الصحيحين (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) (كان إذا دخل الخلاء) فليس المراد أنه دخل؛ لأن هذا الذكر يشرع قبل الدخول إلى المكان المهيأ لقضاء الحاجة، فهذا من إطلاق الصيغة قبل الفعل كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل:98] هذا كله قبل ابتداء الفعل. وقال بعض العلماء: إنه ليس بها قبل الشيء وإنما المراد عند وهي عند إرادة الشيء، وهذا أشبه بالمصاحب لأول الشيء. وقد يعبر بهذه الصيغة المقتضية للشرط بما يكون أثناء الفعل، كقولك: إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر، وكقولك: إذا قرأت القرآن فرتل، فإن الترتيل لا يكون قبل القراءة، وإنما يكون أثناء القراءة، وكقولك: إذا صليت فاطمئن، فإن الطمأنينة مصاحبة لأفعال الصلاة، وتكون من المكلف أثناء صلاته، فهذه شرطية والمراد بها ما يكون أثناء فعل الشيء، وتعبر بهذه الصيغة، وتريد ما يكون بعد تمام الشيء وكماله، فتقول: إذا صليت فائتني، أي: إذا أتممت الصلاة وفعلتها كاملة فائتني. وعلى هذا يكون قوله: إذا قمتِ فأنتِ طالق. هل المراد به الابتداء، أي: إذا أردت القيام؟ أم المراد: ابتداء الفعل، بمعنى: أنها شرعت في القيام وتهيأت له؟ أم المراد: تمام القيام واكتمال الانتصاب؟ كل هذا يجعل الأمر محتملاً، وقد حكى الإمام النووي رحمه الله وغيره من العلماء الوجهين: بعض العلماء يقول: إنها تطلق عند ابتداء الفعل؛ لأن الإخلال واقع بالابتداء، وابتداء الشيء والدخول في الشيء في حكم الشيء، وقد جعل الشرع ابتداء الشيء كالشيء. وبعضهم يقول: الأصل أنها زوجته، فتبقى زوجة له حتى يتم الفعل، وحينئذٍ نحكم بطلاقها، وكلا القولين له وجهه.

استخدام أدوات الشرط في النفي وفي الإثبات

استخدام أدوات الشرط في النفي وفي الإثبات قوله: [إن وإذا ومتى وأي ومن وكلما، وهي وحدها للتكرار]. هذه الأدوات يذكرها المصنف إجمالاً ثم سيفصل استعمالها في الإثبات واستعمالها في النفي، وحكم الإثبات والنفي في كلا الصيغتين. (إن وإذا ومتى وأي ومن وكلما) هذه ست أدوات، وهذه الأدوات تختلف، فتارة تكون بالإثبات، وتارة تكون بالنفي، فتارة يقول مثلاً: إن قمتِ فأنتِ طالق، وإذا قمتِ فأنتِ طالق، ومتى قمتِ فأنتِ طالق، ومن قامت منكن فهي طالق، وأيكن قامت فهي طالق، ومهما قمتِ فأنتِ طالق، وكلما قمتِ فأنتِ طالق، هذه كلها في الإثبات، فإن قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالقِ. فالأمر يتوقف على وجود القيام، وكذلك: إذا قمتِ، وكذلك: من قامت، فإنه يتعلق بالتي تقوم من نسائه، وهكذا بقية الأدوات التي ذكر، وفي هذه الحالة نجعل الأدوات للتراخي من حيث الأصل، نقول: إن الرجل إذا قال لامرأته: إن قمتِ فأنتِ طالق، فإنها لا تطلق إلا إذا قامت، فيجوز له أن يستمتع بها، وهي زوجته ما لم يقع موجب الطلاق فنحكم بطلاقها. فهذه الصيغ يتوقف إعمال الطلاق فيها على وجود الشرط وهو القيام، ويتعلق بالمرأة المعينة، فلو قال: من قامت منكن، وأيتكن قامت، فهذا كله يتوقف على وجود الصفة وهي القيام، والأصل في هذه التراخي. أما إذا أدخل النفي فقال: إن لم تقومي فأنتِ طالق. وإذا لم تقومي فأنتِ طالق، ومن لم تقم منكن فهي طالق، فلو جلست وما قامت، فحينئذٍ نقول: إنها تطلق إذا لم يوجد القيام، وإن قامت لم تطلق، وإن قعدت وبقيت قاعدة طلقت، لكن متى تطلق؟ تطلق من حيث الأصل بعد مضي مدة يمكن فيها وقوع القيام، على الظرفية، فحينئذٍ نقول: إنه إذا علق طلاقها على نفي القيام أعطيت مدة بحيث إذا مضت هذه المدة ولم تقم حكم بطلاقها، لكن لو قال لها: إن لم أطلقكِ، ولاحظ: إن لم تقومي، شيء، إن لم تقعدي شيء، إذا لم تقومي، شيء، وإذا لم تقعدي، شيء، وعرفنا مسألة: إذا لم تقومي، لم تقعدي، أننا نقدر زمان القيام وزمان القعود، وعلى هذا نحكم بالطلاق، لكن إذا قال لها: إن لم أطلقكِ فأنتِ طالق. فحينئذٍ يرد Q هل نعتد بالزمان الذي يمكن أن يقع فيه الطلاق؟ أم تكون (إن) على التراخي؟ فتبقى المرأة في عصمته حتى يبقى قبل موته قدر يمكن أن يقع فيه الطلاق؛ فإن لم يطلقها فيه فإنها طالق؟ هو يقول: لا يقع طلاقكِ إلا إن لم أطلقك. و (إن) ليس لها تعلق بالزمان، فلا تقتضي الفورية، فيبقى الأمر إلى آخر حياته، بحيث لا يبقى إلا القدر الذي يسع للطلاق وإذا لم يطلقها فيه فإنها تطلق عليه بآخر حياته، هذا إذا كان هو أسبق موتاً، وأما إذا سبقت هي وماتت قبله فإنه يقدر الزمان قبل موتها بنفس التقدير الذي قدرناه في الزوج. ومن هنا: يقال: إن (إن) إذا دخلت على لم في نفي الطلاق؛ تأجل الطلاق إلى أن يصل إلى مدة قبل الوفاة؛ سواء كانت متعلقة بالزوج أو الزوجة كما يقولون: بأسبقهما موتاً، فإن بقي من حياته أو حياتها القدر الذي يمكن أن يقع فيه الطلاق ولم يطلقها فقد طلقت عليه.

النية والقرينة في الطلاق المعلق

النية والقرينة في الطلاق المعلق قال المصنف رحمه الله: [وكلها ومهما بلا (لم) أو نية فور أو قرينته للتراخي]: (نية فور (يعني: إذا قال لها: إن لم أطلقك فأنت طالق، قلنا: يبقى إلى آخر حياته، أو آخر حياتها، فيبقى إلى مدة يمكن أن يقع فيها الطلاق، أي: قبل أن يموت أسبقهما موتاً، سواء الزوج أو الزوجة، لكن في بعض الأحيان يقصد الفورية كما إذا قال لها: إن لم تدخلي الدار فأنتِ طالق، وقصده البت ونوى الفورية، هذا ما فيه إشكال، وقد بينّا في أول المسائل أن صيغة الشرط إذا تلفظ بها المكلف ناوياً إيقاع الطلاق على التنجيز؛ فإنه يقع على التنجيز ولا يعلق، هذا بالنسبة لنية الفور. قرينة فور مثل ماذا؟ رجل يقول لامرأته: إن جاء يوم غد فسوف أطلقك فإن لم أطلقكِ فأنتِ طالق، فجاءت جملة: إن لم أطلقكِ بأسلوب النفي والتعليق، فصيغة: إن لم أطلقكِ فأنتِ طالق، تتأخر حتى يبقى قبل موته أو موتها هذا القدر؛ فيقع الطلاق حين يتحقق الشرط، لكن هنا في سياق الكلام ما يقتضي تخصيص الحكم بالغد، فننتظر إلى الغد، إذ هو وعدها أن يطلقها في الغد فإن لم يطلقها في الغد فهي طالق، حتى ولو قال لها: سأطلقكِ اليوم فإن لم أطلقكِ فأنتِ طالق، سوف أطلقكِ الساعة فإن لم أطلقكِ فأنتِ طالق، فلو أنه قال: سأطلقكِ الساعة فإن لم أطلقكِ فأنتِ طالق، فإننا نبقى في الساعة بحيث يبقى القدر الذي يقع فيه الطلاق، فإن لم يطلقها فإنها تطلق. فإن قيل: ما الفائدة ما دام أنها ستطلق سواء طلقها أو لم يطلقها؟ الفائدة عند من يقول بوقوع الطلاق بالثلاث دفعة واحدة، فلو قال لها: سوف أطلقكِ اليوم فإن لم أطلقكِ فأنتِ طالق بالثلاث، فإنه جعل الثلاث مرتبة على عدم تطليقها في اليوم، فالأفضل له أن يطلقها اليوم؛ لأنه إذا لم يطلقها طلقت بالثلاث، والواحدة أفضل من الثلاث، ولذلك قالوا: علق وقوع الطلاق بالثلاث على انتفاء الطلقة الواحدة، فالأفضل أن يطلقها واحدة، لا أن يطلقها ثلاثاً. قرينة الفور: أن تأتي بجملة شرطية تدل على التراخي، وتصحب هذه الجملة جملة في سياق الكلام تدل على أنه أراد الفور، أو أراد تعجيل الطلاق قبل الموت، كقوله: سوف أطلقكِ الآن، فإن لم أطلقكِ فأنتِ طالق، فقوله: سوف أطلقكِ الآن يدل على أنه وعدها بالطلاق في حينه، أو وعدها الطلاق في هذه الساعة، ثم جاء بالجملة التي تدل على التراخي: فإن لم أطلقكِ فأنتِ طالق، فأدخلناها ورتبناها على الجملة السابقة، فبهذا الترتيب صارت الجملة الثانية مرتبطة بالجملة الأولى، والجملة الأولى تقتضي نوعاً من الفور، ولا تقتضي تأخير الحكم، فخرجت دلالة صيغة الشرط من البقاء إلى آخر حياة أولهما موتاً إلى التعجيل، وقلنا: تتقيد بنفس الزمان ويقيد به الطلاق، فلو قال لها: سوف أطلقكِ اليوم، فإن لم أطلقك فأنتِ طالق بالثلاث، فهل الأفضل له أنه ينتظر حتى يذهب اليوم، أو يطلق واحدة؟ يطلق واحدة حتى يخرج من تبعة الطلاق بالثلاث عند من يقول بوقوعها ثلاثاً. (أو قرينة بالتراخي) (أو قرينة (أي: بعدم قرينة تدل على الفور فإنها على التراخي، هذا أصل تقدير الكلام. (ومع لم للفور) إن قال: إذا لم تقومي فأنتِ طالق؛ نعطيها قدراً من الزمان يمكن فيه القيام، فإن لم تقم حكمنا بالطلاق، الآن نترك (إن) التي هي أم أدوات الشرط، والسبب في تركنا لإن أنها متعلقة بمحض الشرط، فليس لها علاقة بالزمن، وعندنا: إذا ومتى ومهما وأين، فهذه الصيغ إذا دخلت ورتبت نحو: إذا لم تقومي فأنتِ طالق، فإننا نعطيها وقتاً للقيام بحيث لو لم تقم حكمنا بالطلاق، فهي للفور، وكذلك -مثلاً- لو كان عنده ثلاث نسوة وأرادهن أن يخرجن معه لسفر، فقال: من لم تخرج منكن فهي طالق، فحينئذٍ نعطيهن زماناً للخروج، فإن تأخر خروجهن بمضي مدة ما بين كلامه أو تلفظه بصيغة الشرط وما بين الخروج؛ وقع الطلاق، فلو كان خروجها بعد الصيغة يستغرق نصف دقيقة، فمضت نصف دقيقة ولم تقم ولم تخرج حكمنا بكونها طالقاً. هذا معنى قوله: مع لم للفور. إن قال: من لم تتكلم منكن فهي طالق، فإنها تعطى زماناً يمكن فيه الكلام، فإن لم تتكلم حكم بطلاقها فوراً، فعندنا الفورية وعندنا التراخي، فمع عدم (لم) يتراخى بالصفة، تقول: من تكلمت منكن فهي طالق، أيتكن تكلمت فهي طالق، فهذا يتراخى إلى وجود الصفة، لكن إذا دخلت لم، فقال: من لم تقم منكن فهي طالق صار على الفور، إذا لم تقومي فأنتِ طالق صار على الفور، ونحوها من الصيغ، إلا (إن) فلها حكم مستقل. (إلا (إن) مع عدم نية فور أو قرينة). فإنه إذا قال لامرأته بصيغة النفي: إن لم أطلقكِ فأنتِ طالق. ظاهر الأصل الذي مشينا عليه في الصيغ المترتبة على الزمان أننا نعطيه وقتاً للطلاق، كقوله: إذا لم أطلقك فأنت طالق، فإنه بعد تلفظه بالطلاق وبعد الصيغة ينتظر، فإذا لم يتلفظ بالطلاق طلقت عليه، هذا بالنسبة لبقية الأدوات، لكن (إن) وحدها لا علاقة لها بالزمان، فهي تتعلق بمجرد اشتراط الفعل، وهي متمحضة في الشرطية. وبناءً على ذلك قالوا: لا تتقيد بالزمان بل تبقى معه إلى آخر حياته، أو آخر حياتها إن كانت أسبق موتاً، فلو قال لها: إن لم أطلقكِ فأنتِ طالق، ننتظر إلى آخر حياة أولهما موتاً، فإذا بقي قدر الزمان الذي يمكن أن يتلفظ بالطلاق ولم يتلفظ به؛ فإنها تطلق عليه.

الأسئلة

الأسئلة

الطلاق في مرض الموت

الطلاق في مرض الموت Q إذا قال: إن لم أطلقكِ فأنتِ طالق. ولم يطلقها حتى مات نظر إلى أسبقهما موتاً إن ماتت قبله، ولكن ربما أراد حرمانها من الإرث، فهل نعامله بنقيض قصده؟ وإذا أوقعنا الطلاق بهذه العبارة، فلماذا لا نوقعه في مرض الموت؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في مسألة الطلاق في مرض الموت، وجماهير الصحابة والعلماء -رحمهم الله- وهي فتوى الصحابة كـ عثمان وغيره: معاملة المطلق في مرض الموت بنقيض قصده، والمراد بذلك: أن الرجل -والعياذ بالله- ينتظر حتى إذا ظهرت به علامات الموت طلق زوجته، وقصد أن يحرمها من الميراث. وفي هذه الحالة يكون تطليقه لها ظلماً وعدواناً وإبطالاً للحق الذي أثبته الله لها، فإن الميت إذا مرِض مرَض الموت صار المال منتقلاً إلى ورثته، ولذلك لا يجوز له أن يتصرف إلا في حدود الثلث، فإذا أسقط وارثاً أو حرم وارثاً أعطاه الله إرثه فقد ظلم وجار. ولذلك قال بعض العلماء: إن الزوج إذا طلق امرأته في آخر حياته قاصداً حرمانها من الميراث، فهذا من خاتمة السوء -والعياذ بالله- يختم له في ديوان عمله بهذه المظلمة ويلقى الله عز وجل بها، وهذا من أسوأ ما يكون من نسيان الفضل، والله تعالى يقول: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237]، فلا يجوز أن يطلق المرأة في مرض الموت قاصداً حرمانها، واستثنى بعض العلماء أن تسأله المرأة الطلاق، فإذا سألته المرأة الطلاق انتفت التهمة، فلو قالت له: طلقني، وكان في آخر حياته فطلقها، فهي التي سألته، وهي التي أدخلت الضرر على نفسها. واختلف العلماء هل ترث أو لا ترث؟ وهذه المسألة ستأتينا -إن شاء الله- في المواريث، والذي قضى به عثمان رضي الله عنه وغيره أنها ترث منه، وهذا يسميه العلماء: المعاملة بنقيض القصد؛ لأن قصده الحرمان، وهذا القصد -وهو حرمانها من الإرث- مخالف لقصد الشارع من توريثها وإعطائها حقها، قال الإمام الشاطبي: (قصد الشارع أن يكون قصد المكلف موافقاً لقصده). يعني: أعمال المكلفين ينبغي أن ترتبط بالمقاصد، وأن تكون هذه المقاصد والنيات موافقة للشرع، فمن قصد مخالفة الشرع ومعارضته فقد ظلم وجار. فالظاهر أنه طلقها، والطلاق ينفذ من حيث الأصل، لكن إذا لم يقصد مجرد الطلاق، وإنما قصد حرمانها من الإرث، فإنه يسقط تأثير هذا الطلاق، خاصة إذا كان طلاقاً بالثلاث أو نحوه مما فيه البت بالطلاق حتى يحرمها من الإرث، فحينئذٍ لا يلتفت إليه ولا يعول عليه، وهو قول طائفة من العلماء، وسيأتي -إن شاء الله- بيان هذه المسألة والكلام عليها. والله تعالى أعلم.

علاج الوسوسة في الطلاق

علاج الوسوسة في الطلاق Q ما هو الحل لرجل متزوج ابتلي بالوسواس مع زوجته هل طلقها أم لم يطلقها، علماً بأنه يأتيه الوسواس عن طريق طلاق الكناية خاصة، وبغيره من أنواع الطلاق؟ A الوسوسة ابتلاء من الله، والعبد المؤمن يسلط الله عليه الشيطان، فإن كمل إيمانه وعظم يقينه وإحسانه فإن الله يبتليه بالوساوس والخطرات ليكفر بها السيئات ويرفع بها الدرجات، ولكن مع عظم هذه الوساوس وشدتها فإن الله يثبت قلوب المؤمنين والمؤمنات. ومن ابتلي بشيء من الوسوسة فالواجب عليه: أولاً: أن يفر من الله إلى الله، وأن يسأل الله في دعائه، وأن يبتهل إليه في مناجاته أن يرفع عنه البلاء، فإنها بلوى {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم:58]. ثانياً: أن يعلم أن من أنجع الأدوية للوسوسة أن لا يفتي نفسه، وأن يجعل بينه وبين الله من يرضى أمانته ودينه فيسأله، ما لم تزد الوسوسة عن حدودها، بحيث يكون الأمر خارجاً عن حد معقول، فهذا له حكم خاص. فإذا كانت وسوسة يدخل بها عدو الله بالتلبيس في الصلاة وفي العبادات وفي الطاعات، فمن أفضل ما يكون أن يرتبط الموسوس بعالم، ولا يفتي نفسه البتة ويعود نفسه على هذا، فإنه إذا جاءه الشيطان وقال له: خرج منك ريح، وكان قد سأل العالم، وقال له العالم: لا تنصرف حتى تسمع صوتاً أو تشم ريحاً، فحينئذٍ سيبقى، فيقول له الشيطان: ويحك صليت بدون طهارة، فيقول: قد أفتيت ولا أعمل إلا بهذه الفتوى، فحينئذٍ يطمئن قلبه، ويرتاح، وينشرح صدره، وتذهب عنه الوساوس والخطرات. فإن عظمت الوساوس وقال له: إن هذا الذي أفتاك لا يفتيك أن تصلي بدون طهارة، وأنت قد خرج منك شيء! فحينئذٍ يقول: إن الذي أمرني أن أتوضأ للصلاة أمرني أن أصلي بهذه الحالة. فإن المرأة المستحاضة يخرج منها دمها وهو ناقض لوضوئها في الأصل، ومع ذلك تصح صلاتها ويعتد بعبادتها، فالعبرة بالتعبد، فإذا نظر إلى أن الأمر معتد به بالتعبد خرج عن نطاق الوسوسة. ثالثاً: إن عظمت الوسوسة والشكوك في مسائل الإيمان ودخلت في العقيدة فليعلم أنه من كمال إيمانه أن يصرف هذه الوساوس، وأن يكرهها وأن يمقتها، وأن يعتقد فيما بينه وبين الله أنه لو كان بيده أن يدفعها لدفعها، فإذا وصل إلى هذه الدرجة فإنه من كمال الإيمان. ففي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنه أتاه الصحابة وقالوا: يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به) أي: من أمور الوسوسة (فقال صلى الله عليه وسلم: أوقد وجدتم ذلك؟ ذاك صريح الإيمان). واختلف العلماء في هذا الحديث على وجهين: الوجه الأول: قال بعض العلماء: (ذاك صريح الإيمان) أي: إنكاركم الوسوسة، فمن جاءه الشيطان وقال له: أنت لست بمؤمن، الله غير موجود -والعياذ بالله- ونحو ذلك من الشكوك، وما هذا القرآن؟ وما هذه الرسالة؟ وأدخل عليه هذه الأمور، أو قال: قد شككت في ربك فأنت كافر، فيقول: أعوذ بالله، ويكره هذا الشيء ويمقته، فإن الكراهية والمقت والتذمر من صريح الإيمان (أوقد وجدتم ذاك؟) قيل: لأن الضمير ذاك عائد إلى قولهم (ما يتعاظم أن يتكلم العبد به)، أي: أننا نكره هذه الأشياء، وإنما هجمت على نفوسنا، وقذفت في قلوبنا، وإن كنا لا نرضاها، ولا نعتقدها، فأصبح الجحود والإنكار لها محض الإيمان ومن صريح الإيمان. الوجه الثاني: قيل: ذاك، أي: أن تسلط الشيطان عليكم يكون بقدر قوة الإيمان، ومن كمل إيمانه وعظم إيمانه جاءه الشيطان من جهة العقيدة، ومن كان مطيعاً مستقيماً محباً للصلاة يوسوس له الشيطان، فبقدر حبه للطاعات يأتيه الشيطان يوسوس، وهذا لا يعني أنه لا إيمان إلا بالوسوسة، وإنما المراد أن العبد إذا قوي إيمانه بالله عز وجل، ودخلت عليه الوسوسة وهجمت عليه في التوحيد، فليعلم أن هجومها في التوحيد والإيمان مع الإنكار ابتلاء من الله لقوة إيمانه، وأنه إذا كان محافظاً على الصلوات دخل عليه الشيطان من جهة الصلاة فأفسد عليه صلاته ولبس عليه طهارته. وعماد الخير كله وجماعه كله تقوى الله عز وجل، ومن اتقى الله جعل له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، فإذا وفق الله من ابتلي بهذا البلاء للدعاء والاطراح بين يدي الله والتضرع إليه سبحانه فإن الله يرفع درجته، ومن نزل به البلاء وحل به العناء فأنزل حاجته بالله أوشك أن يجعل الله له من ذلك البلاء فرجاً عاجلا. وأما من نزل به البلاء فالتفت يميناً وشمالاً وانصرف عن ربه؛ فذلك من أول علامات الخذلان، ولن يجد له من دون الله نصيراً ولا ظهيرا. بالنسبة للسؤال: الوسوسة في الطلاق تكون على صور: منها: هل تلفظ أم لا؟ فإذا دخل عليه هذا الوسواس فالأصل أنه لم يتلفظ، وإن عرف من قرائن حاله أن الشيطان دخل عليه في ذلك، فإن مثله لا يُفتى بوقوع الطلاق عليه؛ لأنه مغلوب على أمره، وإذا غلبت الوسوسة فلا يحمل الإنسان ما لا يطيق، فلو طلقنا عليه زوجته؛ لم يتزوج زوجة إلا طلقت عليه، ومثل هذا أمره ليس في يده. وهكذا إذا عظمت الوسوسة في الصلوات والطاعات والعبادات، حتى أن بعض العلماء في بعض الأحيان يكاد يحكم بكون المكلف غير مكلف، سئل بعض العلماء وقيل له: رجل يصلي أكثر من خمسين مرة، ويعتقد أنه لم يصل، وكلما صلى اعتقد أنه لم يصل، فقال له: أرى أنه ليس عليك صلاة، لأنك إذا وصلت إلى درجة أن تصلي وتعتقد أنك ما صليت فقد أصبحت كالمجنون، والمجنون ليس مكلفاً بالصلاة، هذا وجه بلوغه إلى حال لا يكلف فيها، لأنه تكليف بما لا يطاق وخروج عن سنن الرحمة التي بعث بها عليه الصلاة والسلام. والله تعالى أعلم.

باب تعليق الطلاق بالشروط [3]

شرح زاد المستقنع - باب تعليق الطلاق بالشروط [3] الطلاق المعلّق بالشرط تختلف أحكامه باختلاف أدوات الشرط وباختلاف نية المطلق. وقد يكون الشرط بأداة تفيد التكرار فيتكرر الطلاق بحسب التفصيلات التي ذكرها الفقهاء رحمهم الله.

وقت تحقق الطلاق عند تعليقه بشرط ووقوع المشروط

وقت تحقق الطلاق عند تعليقه بشرط ووقوع المشروط بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. يقول المصنف -رحمه الله تعالى-: [فإذا قال: إن قمتِ، أو إذا، أو متى، أو أي وقت، أو مَن قامت، أو كلما قمت؛ فأنت طالق، فمتى وجد؛ طلقت]: تقدم معنا أن من علق الطلاق بشرط، فإنه لا يقع الطلاق إلا بعد وقوع الشرط، وبينا أن هذا هو الأصل، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن اللسان العربي يقتضي هذا الحكم، وأنه لا يقع المشروط إلا بعد وقوع الشرط، وبناءً على ذلك شرع المصنف -رحمه الله- في تفصيل ما تقدم من أدوات الشروط فقال: (فإذا قال: إن قمت أو إذا، أو متى). فإن قال لامرأته: إن قمت فأنت طالق، فبينه وبين الله عز وجل أنه إن قامت امرأته فإنها طالق عليه، وهذا يقتضي أنه متى وجدت صفة القيام فإنه يُحكم بوقوع الطلاق، كما لو طلقها منجزاً، فالله تعالى أعطاه أن يطلق زوجته، فاستوى في ذلك أن يطلقها بالتعليق، أو يطلقها بالتنجيز، فإن قال لها: إن قمت، فإذا وجدت صفة القيام؛ حكمنا بطلاقها، وهكذا إن قال: إن خرجت، أو قعدت، أو نحو ذلك من الصفات؛ فلا يقع الطلاق إلا بوجودها، وكذا إن قال: إذا قمت، وإذا خرجت، وإذا سكت، وإذا تكلمت؛ فأنت طالق، فإنه حينئذ متى وجد هذا الشرط، فإنه يقع المشروط وهو الطلاق. قوله: (أو أي وقت) هذا راجع إلى الزمان، فإذا قال: أي وقت تكلمت فيه فأنت طالق، فإننا ننتظر إلى حين كلامها، فمتى ما تكلمت حكمنا بكونها طالقاً. قوله: (أو من قامت) كأن تكون عنده نساء أكثر من واحدة، فيقول: من قامت منكن فهي طالقة، ومن تكلمت منكن فهي طالقة، فيختص الطلاق بالتي تكلمت، وحينئذ نتوقف حتى توجد هذه الصفة، فمن وجدت فيها هذه الصفة؛ حكمنا بطلاقها دون غيرها. قوله: (أو كلما قمت فأنت طالق) كلما: تقتضي التكرار، وتختلف عن سابقتها من الأدوات بأنها توجب تكرار الطلاق بتكرار الصفة، ولكن هذا يختلف بحسب اختلاف النساء، فهناك فرق بين المرأة التي عقد عليها الرجل ولم يدخل عليها، وبين المرأة التي عقد عليها ودخل، فإن كانت المرأة قد عقد عليها ولم يدخل بها وقال لها: كلما قمت فأنت طالق، فإنها إذا قامت القيام الأول طلقت، وتصبح بائناً عن عصمته وتكون أجنبية، فلا يسري عليها الطلاق بعد ذلك ما دام أنها ليست في عصمته، فقوله: كلما قمت فأنت طالق يقتضي أن يتكرر الطلاق بتكرار الصفة، لكن إذا قال لها: إن قمت، إن قعدت، إذا قمت، أيتكن قامت، متى قمت، فإن هذه الأدوات لا تقتضي التكرار، فاختصت (كلما) بهذا الحكم، كلما قمت، وكلما تكلمت، وكلما دخلت، وكلما خرجت، فهذه كلها ألفاظ وشروط إذا وقعت مكررة وقع الطلاق مكرراً. فإذا كانت المرأة غير مدخول بها فتبين بالطلقة الأولى، لكن إذا كانت مدخولاً بها، وقال لها: كلما تكلمت فأنت طالق، فتكلمت تطلق الطلقة الأولى، ثم تكلمت بعد ذلك تطلق الطلقة الثانية، ثم تتبعها الطلقة الثالثة؛ لأن الرجعية يتبعها الطلاق، وحكمها حكم الزوجة، فَفَرقٌ بين المرأة التي تكون في العصمة بعد الطلاق الأول وهي المدخول بها، والتي لا تكون في العصمة وهي غير المدخول بها. قوله: (فمتى وُجِد طلقت) أي: متى وجد هذا الشرط طلقت المرأة، وحُكم بطلاقها؛ وهذا مبني على الأصل الشرعي في كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم: أن المشروط يقع بعد الشرط، وهذا معروف من لسان العرب، فإذا اشترط وقع المشروط بوقوع الشرط، وعلى هذا يقول المصنف: متى وُجد، يعني: متى وجدت هذه الصفات التي اشترطها الزوج؛ فإننا نحكم بطلاق امرأته.

تكرار الطلاق بتكرار المعلق عليه إذا كان بأداة (كلما)

تكرار الطلاق بتكرار المعلق عليه إذا كان بأداة (كلما) قال-رحمه الله تعالى-: [وإن تكرر الشرط لم يتكرر الحنث إلا في كلما] وإن تكرر الشرط لم يتكرر الحنث فيما تقدم من أدوات الشرط، فلو قال لها: إن تكلمت فأنت طالق؛ فإننا نطلق بأول كلام لها، ولو تكلمت بعد ذلك مرات فلا تطلق عليه؛ لأن (إن) لا تقتضي تكراراً، وكذلك إذا، ومتى، وأيتكن، فكلها تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط، دون نظر إلى تكرار، فالتكرار لا يستفاد إلا من (كلما) وهي وحدها تقتضي التكرار، فإذا اشترط بها، وقال: كلما خرجت من البيت فأنت طالق؛ فإنها تطلق كلما خرجت، لكن على التفصيل السابق إن كانت مدخولاً بها أو غير مدخول بها.

وقت وقوع الطلاق المعلق بالشرط المحض

وقت وقوع الطلاق المعلق بالشرط المحض قال المصنف رحمه الله: [وإن لم أطلقك فأنت طالق] الشرط له حالتان: الأولى: أن يكون بالإثبات: إن دخلت، إن خرجت، إن تكلمت، إن قمت، إن كتبت، إن قعدت، إن زرت أباك، إن ذهبت إلى أمك، ونحو ذلك، يعني: إذا وجدت هذه الصفات، وجد المشروط وهو الطلاق. الثانية: أن يكون بالنفي: إن لم أطلقك، إن لم تقومي، إن لم تقعدي، إن لم تتكلمي، فهذا على النفي، والأول على الإثبات، فإذا قال لها: إن لم أطلقك فأنت طالق، فهذا متعلق بالشرط المحض، ولا علاقة له بالزمان، فقد اشترط فيما بينه وبين الله أن زوجته إن لم يطلقها فإنها تطلق عليه، فنقول: إما أن يقع منه طلاق، فحينئذ ينحل التعليق، وهذا في حالة ما إذا قال لها: إن لم أطلقك فأنت طالق بالثلاث، عند من يرى أن الثلاث تقع بكلمة واحدة، فالأفضل أن يطلقها طلقة واحدة؛ لأنه قال: إن لم أطلقك فأنت طالق بالثلاث، فالواحدة؛ وهي التي اشترط انتفاءها لوقوع الثلاث أهون من وقوع الثلاث، أو يقول لها: إن لم أطلقك فأنت طالق طلقتين، فالطلقة أهون من الطلقتين، ولذلك إذا قال لها: إن لم أطلقك فأنت طالق، فإن الشرط لم يتقيد بالزمان المعين، ولم يسند الشرط إلى الزمان ولا يقتضيه، ولا تقتضيه الأداة كإذا ونحوها من الأدوات، وبناءً على ذلك يقول العلماء في (إن) التي تتمحض بالشرطية: ننتظر إلى آخر حياة أولهما موتاً؛ لأنه يقول: إن لم أطلقك فأنت طالق، فبيني وبين الله أن طلاقك يقع إن لم يحصل مني طلاق، وهو إذا بقي مدة حياته ولم يطلقها، فإنها لا تطلق عليه، حتى يبقى قبل موته قدر زمان الطلاق فتطلق عليه؛ لأنه يتحقق حينئذ أنه لم يطلقها في حياته، وعلى هذا قالوا: ننظر إلى أسبقهما موتاً، إما أن تكون هي تموت قبله، أو هو يموت قبلها، فأسبقهما موتاً ننظر قبل موته بلحظات يمكن وقوع الطلقة فيها فإن لم يطلق فإنها تطلق عليه. فقوله: إن لم أطلقك فأنت طالق، اشترط فيما بينه وبين الله تطليق امرأته بشرط أن لا يقع طلاق، وحينئذ ينبغي أن ننتظر إلى آخر حياة أولهما موتاً، سواء الرجل أو المرأة؛ لأن الزوجية في الحياة موقوفة على الموت، وأما سريان الأحكام بعد الموت فهذا يكون في بعض الأحيان لورود النصوص فيها، لكن من حيث قضية الطلاق للميت، فإن الميت لا يطلق، ولا يُطلق، وبناءً على ذلك قالوا في هذه المسألة: ننتظر إلى ما قبل الوفاة، سواء تعلقت الوفاة بمصدر الطلاق-وهو الرجل- أو تعلقت بمحل الطلاق-وهي المرأة- فننظر للاثنين؛ أيهما بقي من عمره قدر يصح أن يُطَلق فيه -إذا كان امرأة- أو يطلق فيه -إذا كان رجلاً- فإن مضى قدر ذلك الزمان وقع الطلاق. مثال ذلك: قال لامرأته: إن لم أطلقك فأنت طالق، وسبقته بالوفاة، فننظر إلى ما قبل وفاتها بيسير، فحينئذ إن لم يطلقها، فإنها تطلق عليه بالشرط، وعلى هذا نقول: إن المرأة تطلق إذا سبقت بالوفاة بشرط أن يمضي أو يبقى من عمرها قدر الزمان الذي يمكن أن تُطَلق فيه، ولم يطلقها؛ لأنه يفوت الطلاق بفواته، إذا فات هذا الزمان-الذي هو قبل الوفاة بقدر التلفظ بالطلاق- فإن هذا القدر من الزمان يفوت الطلاق بفواته، فإذا فات الطلاق تحقق الشرط، إن لم أطلقك فأنت طالق، وبناء على ذلك قالوا: إنَّ (إنْ) ليست متعلقة بالزمان، وإنما تعلقت بمحض الشرطية، وكذلك بالنسبة للرجل لو أنه امتنع من طلاقها حياته كلها، حتى بقي قبل وفاته بزمان يسير، نظرنا: إن كان الزمن يسع لقدر الطلاق، ولم يتلفظ بالطلاق، وقع الطلاق بالتعليق، وعليه ننظر إلى أسبقهما موتاً؛ لأن الطلاق يفوت بفواته-أي بموته-، ونقدر الزمان قبل الوفاة، سواء كانت المرأة، أو كان الرجل.

تأثير النية في الطلاق المعلق بالشرط المحض

تأثير النية في الطلاق المعلق بالشرط المحض قال رحمه الله: [ولم ينو وقتاً] هذا الشرط، فقول الرجل: إن لم أطلقك فأنت طالق، له أحوال: الحالة الأولى: أن يكون مطلقاً؛ يعني: قصد مطلق الشرطية- كما فصلنا فيما تقدم- يكون بمطلق الشرطية، فلا ينوي وقتاً، ولا تكون في الكلام قرينة تقتضي التخصيص، فحينئذ نقول: نبقى إلى آخر حياة أسبقهما موتاً بقدر زمان يمكن أن يقع فيه الطلاق-كما تقدم-. الحالة الثانية: إذا نوى وقتاً في نفسه؛ بينه وبين الله قال: إن لم أطلقك -ويعني هذا اليوم، أو هذا الشهر، أو هذا العام-فأنت طالق، فبينه وبين الله يكون ما نواه، فإن نوى وقتاً أو زماناً؛ فهو ونيته؛ لأن الطلاق تعتبر فيه النيات، فإذا نوى فيما بينه وبين الله تعجيل الطلاق بزمان؛ في خلال هذا اليوم، أو خلال هذه الساعة، أو خلال هذا الأسبوع، أو الشهر، أو السنة، فإنه ونيته؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات).

وقوع الطلاق المعلق بالشرط المحض عند وجود القرينة

وقوع الطلاق المعلق بالشرط المحض عند وجود القرينة قال رحمه الله: [ولم تقم قرينة بفور] إذا تلفظ بهذا الكلام، قد تكون هناك قرينة تدل على أنه أراد التعجيل، ولم يرد التأخير، مثلاً: رجل يقول لزوجته: سأطلقك اليوم، فإن لم أطلقك فأنت طالق، فإن قوله: سأطلقك اليوم، هذه جملة وعد فيها بالطلاق، ثم ركب جملة الشرط عليها فقال: فإن لم أطلقك فأنت طالق، ننتظر اليوم، حتى إذا بقي قبل غروب الشمس بقدر ما تطلق فيه المرأة، ولم يطلقها، وقع عليها الطلاق، فحينئذ نقول: الأصل في (إن): أنها تمحضت للشرط، ولا تتعلق بالزمان، كإذا، ومتى، وأي وقت، ونحوها. وبناءً عليه: إذا كانت متعلقة بمحضية الشرطية ننتظر إلى آخر حياة أسبقهما موتاً على التفصيل الذي ذكرناه، ما لم ينو التعجيل-فهذه حالة تستثنى- أو تقوم قرينة على إرادة التعجيل، كقوله: سأطلقك الساعة، فإن لم أطلقك فأنت طالق، سأطلقك اليوم، فإن لم أطلقك فأنت طالق، سأطلقك هذا الأسبوع، فإن لم أطلقك فأنت طالق، فإن جملة الشرط ركبت على ما قبلها فأصبحت مقيدة، وقامت القرينة على أنه أراد التعجيل، ولم يرد محض الشرطية. قال رحمه الله: [ولم يطلقها] يعني: حصل الشرط، ننتظر إلى آخر حياة أسبقهما موتاً. قال رحمه الله: [طلقت في آخر حياة أولهما موتاً] لماذا يقول: آخر حياة أولهما موتاً؟ لأن عندنا في الطلاق: المصدر والمحل، المصدر: هو الزوج، الذي يملك التطليق، والذي خول له الشرع أن يطلق زوجته منجزاً ومعلقاً، يقول: إن لم أطلقك، فالطلاق يقع منه هو. ويتعلق بالمرأة فحينئذ إما أن يفوت المصدر، أو يفوت المحل وهي الزوجة. فقوله: إن لم أطلقك، الطلاق لا يتعلق بنيته، والطلاق لا يدخله النية، فحينئذ بينه وبين الله أنه إذا لم يطلق فهي طالق، فنعطيه المهلة إلى آخر حياته، بحيث يبقى من عمره على قدر الطلاق، ولم يطلق، فتطلق عليه؛ لأن الشرط بينه وبين الله أنه إذا لم يطلق طلقت عليه امرأته، وأما إذا ماتت هي قبله فإنه يفوت الطلاق بفواتها، فكما أن الطلاق يفوت بفوات المصدر، كذلك يفوت بفوات المحل، فإذا كان يفوت بفوات المصدر، أو فوات المحل، ننظر إلى أسبقهما موتاً؛ لأن الطلاق يفوت بموت أحدهما بغض النظر عن كونه رجلاً أو امرأة، وعلى هذا قالوا: ننظر إلى أسبقهما موتاً، فإذا بقي من عمره على قدر الطلاق، فإننا نطلق المرأة بفوات هذا الزمان؛ لأن الشرط يقع بذلك.

وقت وقوع الطلاق المعلق بأدوات الشرط الزمانية

وقت وقوع الطلاق المعلق بأدوات الشرط الزمانية قال-رحمه الله-: [ومتى لم، أو إذ لم، أو أي وقت لم أطلقك فأنت طالق، ومضى زمن يمكن إيقاعه فيه ولم يفعل طلقت] قوله: (ومتى لم (متى: هذا للزمان، متى لم أطلقك فأنت طالق، معنى ذلك: أنه بمجرد ما يتكلم نعطيه فرصة هي قدر الطلاق، بحيث لو فاتت فقد مضى زمان لم يطلق فيه فهي طالق، بخلاف الأداة الأولى (إن) فإنها تمحضت بالشرطية، ولا تتعلق بالزمان، وعلى هذا جمهرة النحاة أنها لا تتعلق بالزمان من حيث الأصل، لكن (متى) متعلقة بالزمان، فبينه وبين الله: متى لم أطلقك، يعني: إذا مضى زمن يسع للطلاق ولم أطلقك فأنت طالق، وعلى هذا فإننا ننظر بمجرد تلفظه بالطلاق، فإذا مضى بعد هذا اللفظ قدر يمكن فيه الطلاق ولم يطلق طلقت عليه. قوله: (أو إذا لم (اختلف في (إذا) فبعض العلماء يقرن (إذا) بإن، ويرى أنها تبقى إلى آخر الحياة، بحيث لو قال لها: إذا لم أطلقك فأنت طالق، ننتظر إلى آخر حياة أسبقهما موتاً، وكأن (إذا) فيها شبهة الشرطية، وإن كانت تتعلق بالزمان أيضاً؛ إذا جاءك زيد، أو إذا جاءك عمرو، أو إذا جاءت القيامة، كل هذه تتعلق بالزمان، فالمراد بها الوقت والزمان، إذا جاء عمرو، أي: وقت مجيء عمرو، وإذا قام زيد، أي: وقت قيام زيد، فإذا لم أطلقك فأنت طالق، فقد أسند النفي إلى الزمان، فإن مضى زمان بعد تلفظه بهذه الكلمة ولم يطلقها طلقت عليه، سواء استغرق دقيقة أو أقل، وهذا على ما اختاره المصنف؛ أنّ: إذا، ومتى، وأي وقت، كلها تتعلق بالزمان. قوله: (أو أي وقت لم أطلقك فأنت طالق) (أي) من صيغ العموم؛ عممت الزمان، أي: فأي وقت لم أطلقك فيه فأنت طالق فيما بيني وبين الله، فننظر: إن مضى بعد كلامه وقت يمكن أن يقع فيه الطلاق؛ فإنه داخل في عموم قوله: أي وقت، فيقع الطلاق في خلال هذه الظرفية، وهذا الوقت، إذا لم يكن قد طلقها فيه. قوله: (ومضى زمن يمكن إيقاعه فيه، ولم يفعل طلقت) أي: في هذه الصيغ التي تقدمت، والأدوات التي ذكرت: إذا، متى، أي وقت، إذا مضى زمن ولم يقع الطلاق، طلقت المرأة.

وقت وقوع الطلاق المعلق بأداة الشرط (كلما)

وقت وقوع الطلاق المعلق بأداة الشرط (كلما) قال-رحمه الله تعالى-: [وكلما لم أطلقك فأنت طالق، ومضى ما يمكن إيقاع ثلاث مرتبة فيه طلقت المدخول بها ثلاثاً، وتبين غيرها بالأولى] على العموم: على طالب العلم دائماً أن يصبر، قد يقول: هذه الكلمات وهذه الألفاظ لم تعد موجودة، والواقع إن العلماء-رحمهم الله- يذكرون هذه الأدوات، ويذكرون دلالتها، والمراد التنبيه على الأصل؛ من أنه لا بد من الرجوع إلى اللغة العربية، ودلالاتها، والاحتكام إليها؛ لأنها هي لغة القرآن، وإذا اشترط الإنسان بهذه الصيغ العربية، فإنه يجري عليه ما يجري على المتكلم بها، فهذه الصيغ مختلفة ومتعددة، فعلى طالب العلم أن لا يسأم، ولا يمل، فقد تقع مثل هذه الألفاظ؛ كرجل عامي يأتيك ويقول: قلت لامرأتي: كلما لم أطلقك فأنت طالق، فكلما: تقتضي التكرار، والأدوات أنواع، ذكر أولاً: (إن) وهي أم الأدوات ويتأخر الطلاق بها، ثم أتبعها بإذا، ومتى، وأي وقت، وهذه قلنا: يقع الطلاق بعدها مباشرة، فننظر إلى قدر الزمان المباشر، فتباشر الطلاق، وتقع بعد الصيغة مباشرة، إذا مضى زمان يمكن أن يقع فيه الطلاق ولم يطلق، و (كلما) يقع الطلاق بعدها مباشرة أيضاً، فهي مثل الأدوات الثلاث التي تقدمت، لكن (كلما) تقتضي التكرار، فالأمر فيها أشد من قوله: إذا لم أطلقك، ومتى لم أطلقك، وأي وقت لم أطلقك، فهذه تختلف عن (كلما)؛ لأن هذه الثلاث وأيضاً: (إن) تطلق فيها المرأة طلقة واحدة على الأصل، لكن لو قال: كلما لم أطلقك فأنت طالق؛ اختلف الحكم باختلاف النساء: فإذا كانت المرأة مدخولاًً بها، فإنه إذا مضى بعد هذه الصيغة زمان يمكن فيه الطلاق، ولم يطلق، طلقت الطلقة الأولى، ثم ننتظر بعد الطلقة الأولى زماناً يمكن وقوع الطلاق فيه، ثم تطلق الطلقة الثانية، ثم تطلق الطلقة الثالثة، فالأفضل أن يقول مباشرة: أنت طالق؛ حتى يخرج من مشكلة التكرار في (كلما) أما إذا كان قد عقد عليها، وهي في عصمته، ولم يدخل بها، فإنها إذا مضى زمن يمكن إيقاع الطلاق فيه بعد التلفظ بالشرط، ولم يطلق وقعت الطلقة الأولى، ومعلوم أن غير المدخول بها إذا طلقت طلقة واحدة أصبحت أجنبية، فجاءت الطلقة الثانية فلم تصادف محلاً؛ لأن المرأة فاتت بالطلقة الأولى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49]، فالمرأة غير المدخول بها بمجرد طلاقها الطلقة الأولى تصبح أجنبية، فإذا قال لها: كلما لم أطلقك فأنت طالق، فبينه وبين الله أن الطلقة الأولى تقع إذا لم يطلق بعد الصيغة مباشرة، والطلقة الثانية تقع كذلك، والطلقة الثالثة تقع كذلك، فإذا طلقت الطلقة الأولى؛ فإن الطلقة الثانية تأتي على محل غير قابل للطلاق، وهكذا الطلقة الثالثة فلا تقع الثانية، ولا الثالثة. فالخلاصة: (كلما) إذا أضيفت لصيغة النفي؛ يقع الطلاق بعدها مباشرة، كبقية الأدوات غير (إن) هذا الحكم الأول، والحكم الثاني: أنها تقتضي تكرار الطلاق بتكرار الصفة المشروطة، فالطلاق يتكرر، وتبين المرأة من عصمته إن كانت مدخولاً بها، فإن كانت غير مدخول بها؛ فإنها تطلق طلقة واحدة، وتبين بها، وتصبح أجنبية، فترد الطلقة الثانية والثالثة على غير محل، فيكون وجودهما وعدمهما على حد سواء. فـ (كلما) توافق الأدوات المتقدمة في أن الطلاق يقع بعدها إذا مضى وقت يمكن أن يقع فيه الطلاق، ولم يوقع الطلاق، فتطلق عليه المرأة في صيغة النفي، وتخالف (كلما) بقية الأدوات في أنه يتكرر بها الطلاق إذا تكرر الشرط، إلا إذا كانت المرأة غير مدخول بها كما سبق بيانه. قوله: (وتبين غيرها بالأولى) أي: غير المدخول بها تبين بواحدة، ومعنى تبين: أي تصبح أجنبية، وهذا ما يسمى بالبينونة الصغرى.

وقت وقوع الطلاق المعلق بحصول أكثر من صفة

وقت وقوع الطلاق المعلق بحصول أكثر من صفة قال -رحمه الله تعالى-: [وإن قمت فقعدت، أو ثم قعدت، أو إن قعدت إذا قمت، أو إن قعدت إن قمت، فأنت طالق، لم تطلق حتى تقوم ثم تقعد] هذه من سمات كتب الفقه، قد تجد فيها أمثلة غريبة، لكنها مركبة تركيباً بديعاً، ومرتبة ترتيباً جميلاً، فرحم الله الفقهاء، الآن يتكلم عن شيء اسمه الشرط، فقد تأتي بالشرط على صفة واحدة، وقد تجمع الشرط مركباً على صفتين، وقد تجمعه على ثلاث صفات، وهذه كلها موجودة في لسان العرب، ووردت في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سنبينه، فما معنى قول المصنف: إن قمت وقعدت، إن قمت فقعدت، إن قمت ثم قعدت إلخ؟ إن جئت تتكلم عن صيغة الشرط فإنك تتكلم بطريقتين: الطريقة الأولى: طريقة الإفراد: أن يأتي بشرط واحد مفرد، وهذه الطريقة، إما بصيغة الإثبات نحو: إن دخلت الدار؛ فأنت طالق، هذا شرط مفرد، فننظر فقط للدخول، وإما بصيغة النفي نحو: إن لم تدخلي فأنت طالق، إن لم تسمعي كلامي فأنت طالق، هذا بصيغة النفي وفيه شرط مفرد، وننظر فقط لانتفاء الشيء الذي علق الطلاق عليه. الطريقة الثانية: طريقة الجمع: أن يجمع فيه بين شيئين، على سبيل التلميح، فيأتي بصفتين، ومراده أي واحدة منهما وجدت؛ فإن الطلاق يقع نحو: إن قمت أو قعدت، فأو للتنويع، وقد يأتي بشيئين فيجمعهما معاً نحو: إن قمت وقعدت، وقد يجعل الشيئين مرتباً أحدهما على الآخر بالفاء أو بثم. فالخلاصة: أن صيغة الشرط المفردة إما أن تكون إثباتاً، أو تكون نفياً، والأدوات تختلف، وأحوالها تختلف، فـ (إن) لا تختص بالزمان، و (إذا، ومتى، وأي وقت، وكلما) يقع فيها الطلاق بعدها مباشرة في صيغة النفي إذا لم يطلق، وقد يجمع أكثر من صفتين، فقد يجمع على سبيل وجود الكل، كأن يقول: إن قمت وقعدت، ومراده: أن يقع القيام والقعود، أو يقول: إن زرت الوالد والوالدة، فمراده أن تقع الزيارة للوالد والوالدة، فيقصد: مجموع الأمرين معاً، وقد يقصد وجود أحدهما: إن قمت أو قعدت، فإذا قصد وجود أحدهما؛ فإنها تطلق بمجرد وجوده، وإذا قصد مجموع الشيئين مع بعضهما فقد يرتب أحدهما على الآخر وقد لا يرتب، فإن قال: إن أكلت وشربت، فلو أنها شربت أولاً، ثم أكلت، فالطلاق يقع، ولو أكلت أولاً، ثم شربت، فالطلاق يقع؛ لأن المراد: مجموع الأمرين، ولم يقصد ترتيباً؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب من حيث الأصل، وإن أراد الترتيب فقال: إن قمت، ثم قعدت، فلا ننظر إلى القعود إلا إذا وجد قبله قيام، فالقعود شرطه أن يكون قبله قيام، فلو كانت قاعدة فإنها لا تطلق حتى تقوم ثم تقعد، والحاصل: إن كان مراده مجموع الشيئين فلا إشكال، وإن كان مراده وقوع أحدهما مرتباً على الآخر؛ فالحكم أننا لا نوقع الطلاق إلا إذا وقع الثاني مرتباً على الأول، فهذه مقيدة بالصيغ، ولا تهتم الألفاظ، فالعلماء وضعوا هذه المتون بدقة، ومرادهم التفصيل في الحكم، فقد تأتي ألفاظ جديدة تتناسب مع العرف، فتقول تارة: لا يقع الطلاق إلا إذا وقع مجموع الأمرين، وتارة تقول: لا يقع الطلاق إلا إذا وقع الثاني مرتباً على الأول، وتارة تقول: يقع الطلاق إن وقع أحد الشيئين، أو إحدى الصفتين، ولا أشترط سبق أحدهما على الآخر. قوله: (وإن قمت فقعدت) القعود مرتب على القيام؛ لأن الفاء تقتضي العطف مع الترتيب، لكنها تدل على الولاء والمباشرة، ولذلك يقول بعض العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا) قالوا: يحرم أن يتأخر عن الإمام بالتكبير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كبر فكبروا) ولم يقل: إذا كبر كبروا، إنما قال: (إذا كبر فكبروا)، وهذا على صيغة الشرط والعطف بالفاء، فالفاء هنا: تقتضي وجود الشيء مباشرة، تقول: جاء محمد فعلي، أي: أن علياً دخل وراء محمد مباشرة، فالفاء تقتضي الترتيب مع الولاء، ولذلك يقول بعض العلماء: لما قال أصحاب موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] رأوا فرعون قد أتاهم، والبحر أمامهم، وإذا بفرعون قد جاءهم بخيله ورجله وعدده وعدته، فقال موسى: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا} [الشعراء:62 - 63]، انظر إلى بلاغة القرآن! (فَأَوْحَيْنَا)، حتى كان بعض مشايخنا -رحمة الله عليهم- يقول: والله ما انتهى موسى من نون (سيهدين) حتى جاء الوحي: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء:63]، وهذا من كرمه سبحانه، أنه ما أيقن أحد به عند الكرب إلا فرج عنه فقال سبحانه: (فأوحينا) ولم يقل: وأوحينا، إشارة إلى أن الوحي نزل عليه مباشرة بعد يقينه بالله سبحانه وتعالى. فالمقصود: أن الفاء تقتضي العطف مع الترتيب المباشر، فإذا قال لها: إن قمت فقعدت، فهذا يقتضي أن يكون القيام أولاً، ثم القعود بعده، فيشترط سبقُ القيام للقعود. قوله: (ثم قعدتِ) المراد هنا فقط الترتيب، والفرق بين (الفاء) و (ثم) أن الفاء للولاء والمباشرة، و (ثم) تقتضي التراخي والتأخير، تقول: جاء محمد فعلي، أي: جاء علي بعد محمد مباشرة، حتى كأنهما ملتصقين ببعضهما في المجيء، ولكن إذا قلت: جاء محمد ثم علي، فهذا يقتضي أن هناك فاصلاً ووقتاً وزماناً فصل بين مجيء محمد ومجيء علي. فإن قال لها: إن قمتِ فقعدتِ، إن قمتِ ثم قعدتِ، تشترك الصيغتان في كون الثاني مرتباً على الأول، وهذا هو الذي يريده المصنف؛ لكن مسألة الترتيب بسرعة أو على الولاء، هذه مسألة أخرى تستفاد من اللفظ. قوله: (أو إن قعدتِ إذا قمتِ) هذا فيه دخول الشرط على الشرط، ودخول الشرط على الشرط يصير المقدم مؤخراً، والمؤخر مقدماً، قلت لها: إن قمت إن قعدت، فحينئذ يكون القعود سابقاً للقيام، فالشرط الثاني يصير أولاً، والأول يصير بعده، كأنك اشترطت في الشرط، ولذلك قالوا: اعتراض جملة الشرط على الشرط يصير المتقدم متأخراً، والمتأخر مقدماً، فالصيغ: إن قمت فقعدت، إن قمت ثم قعدت، إن قمت إن قعدت، لابد أن يسبق فيها القيام القعود، وأما صيغة: إن قعدت إن قمت فمعناها: إن قمت أولاً، ثم قعدت بعد ذلك، والدليل على ذلك: قوله تعالى: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود:34] فجعل المتأخر مقدماً، فعندنا جملة: (لا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي)، رُتبت على قوله: (إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ)، ورتبت على قوله: (إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) وأصل التقدير: إن كان الله يريد أن يغويكم، وأردت أن أنصح لكم، فلا ينفعكم نصحي، فجعل المتقدم مؤخراً، وجعل المؤخر مقدماً، وهذا معروف في لغة العرب، فإذا قال لها: إن قمت إن قعدت، فمعناه: أن يسبق القعود القيام، كما فهمنا من لغة القرآن، فيقدم المؤخر ويؤخر المقدم في دخول واعتراض جملة الشرط على الشرط، سواء كانت واحدة، أو أكثر من واحدة، فحينئذ نقول بالترتيب، كما ورد في هذه الآية الكريمة: (لا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي) أي: أنا أريد أن أنصحكم، فجاء بغاية النصح، وبين براءته من حوله وقوته، فقال: (وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) فإذا كان الله عز وجل لا يريد هدايتهم، فلا ينفعهم النصح، حتى ولو نصح لهم، فكونه يقدم المؤخر، ويؤخر المقدم؛ يدل على أن اعتراض جملة الشرط على الشرط يخل بالترتيب. قوله: (حتى تقوم ثم تقعد) فالجمل المتقدمة كلها يراد بها الترتيب. أولاً: إن قمت فقعدت، لابد أن يقع القيام أولاً، ثم القعود، فلو أنه قال لها: إن قمت فقعدت فأنت طالق، وكانت حاملاً، فقامت، ثم قعدت، ثم ولدت، فحينئذ خرجت من عصمته؛ لأنه وقع الطلاق بعد قعودها، ثم وقع بعد الطلاق وضع الحمل، فخرجت من عدتها، وأصبحت أجنبية، فإن قال لها: إن قمت فقعدت فأنت طالق، فقامت، ثم ولدت، ثم قعدت، فإنه في هذه الحالة لا يقع الطلاق إلا بعد قعودها، وعلى هذا يتأقت الطلاق بوجود الترتيب، وهذا مراد الفقهاء؛ لأن الشريعة شريعة كاملة، لا يقول أحد: إن هذه تعقيدات، فإن هذه أمور تتوقف على ألفاظ شرعية، ولن تجد شريعة على وجه الأرض أعمق من هذه الشريعة فقد أعطت كل مكلف حدود ألفاظه، ومدلولات ألفاظه، والصيغ التي يتكلم بها في لسانه، وفي عرفه، وهذا غاية العدل والتمام والكمال، فهذا كله مبني على إعطاء كل شيء حقه وقدره، فهو إذا قال: إن قمت فقعدت، فهي صيغة تقتضي الترتيب، فلا يقع الطلاق بدون وجود الترتيب المشترط فيها، وإن قال: إن قمت ثم قعدت، فلا يقع الطلاق إلا بوقوع الصفتين مرتباً الثاني منهما على الأول على مقتضى لسان العرب ولغتهم، وقس على هذا بقية الصفات. قال المصنف رحمه الله: [وبالواو تطلق بوجودهما ولو غير مرتبين] ولو قال لها: إن قمت وقعدت فأنت طالق، فقامت ثم قعدت، أو قعدت ثم قامت، وقع الطلاق، فالفرق بين هذه الحالة والحالات الماضية: أنه قال لها في الحالات الماضية: إن قمت ثم قعدت، فلا نعتد بالقعود إلا إذا سبقه قيام، وعلى هذا لا يقع الطلاق إلا إذا وقع قعود بعد قيام، وأما في هذه الحالة فالعطف بالواو: إن قمت وقعدت فلو قعدت، ثم قامت أو قامت ثم قعدت، فإنه يقع الطلاق بمجموع الأمرين بغض النظر عن كونهما مرتبين أو لا. قال المصنف رحمه الله: [وبأو بوجود أحدهما] (أو) تقتضي التنويع؛ تقول: خذ هذا أو هذا، بمعنى: أنك مباح لك أن تأخذ هذا أو هذا، ولا يباح لك أن تجمع بينهما؛ لأن (أو) تقتضي التنويع، قال الله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89] فهذا القرآن يدل دلالة واضحة على أن المراد وقوع أحد هذه الأشياء التي عطفت بأو، ومثل ذلك قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] فأي واحد من هذه الأشياء يجزئ؛ للعطف بأو، فإن قال الرجل لزوجته: إن قمت أو قعدت فأنت طالق، فإن وقع قيام، أو وق

الأسئلة

الأسئلة

حالة المعلق طلاقها إن توفي زوجها

حالة المعلق طلاقها إن توفي زوجها Q إذا قال: إن لم أطلقك فأنت طالق، فهي تطلق قبل الوفاة، فهل تعتد عدة طلاق أو عدة وفاة؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإنه إذا وقع الطلاق قبل الوفاة؛ فعدتها عدة طلاق، وهي الأصل المتمحض، وإنما تكون عدة الوفاة لذات الزوج، والله تعالى أعلم.

حكم التزوج بمن عقد عليها الأب

حكم التزوج بمن عقد عليها الأب Q هل يحرم على الابن التزوج بحليلة أبيه بمجرد عقده عليها ولو لم يدخل بها؟ A كل امرأة تزوجها الوالد، وإن علا، سواء دخل بها، أو لم يدخل بها فإنها محرمة عليك، فلو أن الجد عقد على امرأة ثم طلقها، أو توفي عنها، أو خالعته، أو نحو ذلك مما يحصل به زوال العصمة؛ فإنها محرمة عليك؛ يجوز أن تصافحها، وأن تختلي بها، وأن تسافر معها، وأن تزورها، حكمها حكم المحرم سواءً بسواء، لقوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:22] فبينت الآية الكريمة: أن منكوحة الأب محرمة، وجعل الحكم بالتحريم مبنياً على وجود النكاح، وقد فهمنا من ظاهر القرآن أن النكاح يطلق على العقد فقط، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] فدل على أن النكاح يقع بدون دخول، وعلى هذا فالمرأة تكون منكوحة للأب بمجرد العقد، فمثلاً: عقد رجل على امرأة ولم يدخل بها، وبعد العقد مباشرة، أراد ابنه أن يدخل، وقال: يا شيخ؛ والدي عقد على فلانة، وأريد أن أدخل لأهنئها، وأكرمها، أو نحو ذلك، هل يجوز لي أن أصافحها؟ هل يجوز لي أن أختلي معها؟ نقول: نعم، بمجرد عقد الوالد عليها أصبحت محرماً له؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:22]، ويستوي في ذلك الأب من جهة الذكور، وأبوه وإن علا، والجد أب؛ لأن الله تعالى يقول: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78] فجعل الجد أباً، وكذلك الأب من جهة الأم، فالجد من جهة الأم، لو عقد على امرأة فإنها محرم لك؛ لأنك ابنه، ولذلك يعتبر أباً لك من وجه؛ والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحسن وهو ابن بنته: (إن ابني هذا سيد) والله تعالى أعلم.

الفرق بين جماعة المسجد وغيرها من الجماعات من جهة مضاعفة الأجر

الفرق بين جماعة المسجد وغيرها من الجماعات من جهة مضاعفة الأجر Q هل مضاعفة الأجر في الجماعة خاصة بجماعة المسجد؟ A حديث: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) عام، لكن هناك نصوص أخر خص بها بعض العلماء جماعة المسجد كما في حديث أبي هريرة: (صلاة الرجل في مسجده تضعف على صلاته في بيته خمساً وعشرين ضعفاً)، وبعض العلماء يقول: إن السبع والعشرين مختصة بجماعة المسجد، والخمس والعشرين لغير جماعة المسجد، فيجعل الدرجتين بالنسبة للخروج إلى المسجد، فتفترق جماعة عن جماعة، ويفضل بينهما بالخروج، وقال بعض العلماء -وهو الأقوى-: إن السبع والعشرين تشمل جماعة المسجد، وغير المسجد، لكن الخمسة والعشرين ضعفاً غير السبع والعشرين درجة، فلا تعارض بين حديث سبع وعشرين درجة وحديث خمسة وعشرين ضعفاً؛ لأن رواية مسلم في صحيحه: (صلاة الرجل في مسجده وسوقه تضعف على صلاته في بيته خمساً وعشرين ضعفاً وذلك أنه) وجملة (ذلك) بمثابة التعليل، كأنه علل الحكم؛ أي: كانت بخمس وعشرين- لأنه: (إذا خرج من بيته لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا كتبت له بها حسنة، ورفع له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة) الحديث، فالدرجات السبع والعشرون تكون للجماعة مطلقاً، لكن جماعة المسجد أفضل من جماعة البيت بالتضعيف خمساً وعشرين ضعفاً، وصلاة الجماعة في البر ليست كالصلاة في المسجد كما جاء في حديث البرية، ونحوها من التفضيلات، والجماعة الأكثر عدداً أفضل من الجماعة الأقل عدداً، والجماعة في المسجد القديم أفضل لشرف المكان، والجماعة في المسجد المضاعف أفضل من المسجد غير المضاعف، وهذا التفضيل نسبي، والجماعة تضعف بصلاة الرجل مع الرجل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده)، فالمقصود: أن فضل الجماعة من حيث الأصل يقع في كل جماعة تحققت برجلين، أو رجل وامرأة، أو رجل وصبي، فهؤلاء كلهم جماعة، ولكن تختلف جماعة عن جماعة من حيث الأجر والثواب، ومن حيث الفضل على حسب تفضيل الشرع، وتفريقه بين الجماعات.

نصيحة للزوجين عند الغضب

نصيحة للزوجين عند الغضب Q عند ثوران الغضب وشدته بين الزوج وزوجته بماذا يوصى كل منهما دفعاً لوقوع ما لا تحمد عقباه؟ A الغضب بلاء من الله يبتلي به العبد، وللغضب أسباب، فإذا وجدت أسباب الغضب فإن النفس الإنسانية قد تخرج عن طورها، وتجاوز حدودها إلى ما لا تحمد عقباه؛ ولذلك يزل الغضبان في بعض المواطن، فيتلفظ بما لا يجوز أن يتلفظ به، ولربما يعتدي حدود الله، فتبطش يداه، أو يفعل أمراً لا يجوز له فعله، وعلى هذا فالواجب على المسلم أن يسأل ربه أن يصرف عنه الغضب، وأن يصرف عنه عواقبه الرديئة، ووساوسه المردية، وأسبابه المفضية إليه. وعلى المسلم أن يأخذ بالعلاج النبوي الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الرجل الذي قال: (يا رسول الله أوصني. فقال: لا تغضب، قال زدني. قال: لا تغضب، قال: زدني. قال: لا تغضب) فكرر له الوصية ثلاث مرات، فالغضب فيه نفخ من الشيطان؛ ولذلك استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من نفخ الشيطان، فهو ينفخ في الإنسان، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه، واحمرار وجهه) فهذا من نفخ الشيطان. وعليه أن يذكر الله عز وجل، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر على رجل وهو في ثورة الغضب، قد احمرت عيناه، وانتفخت أوداجه، فقال عليه الصلاة والسلام: (أعرف كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقيلت للرجل؛ فذهب عنه مايجده). الله أكبر! إذا رزق الإنسان ذكر الله جل جلاله، فإنه خير للعبد في الدين والدنيا والآخرة، وهو من أفضل الأعمال، وأزكاها عند رب العزة والجلال، وأعظمها في بلوغ العبد لسعادة الدنيا والآخرة؛ والذكر ينقسم إلى قسمين: الذكر المطلق، والذكر النسبي، والذكر النسبي: هو الذي يكون للمناسبة، وللحال، فمثلاً: إذا رأيت شراً؛ تقول: أعوذ بالله، فالاستعاذة مناسبة للشخص، وإذا رأيت خيراً؛ تقول: اللهم إني أسألك من فضلك، فهذا ذكر مناسب للحال، فلما كان العبد في هذه الحالة؛ ما بين نفس أمارة، وشيطان يريد به الشر، وبواعث تهيج هذه الأمور، وتقويها، وتدعو النفس إلى مجاوزة حدودها؛ التجأ إلى الله سبحانه وتعالى، وقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، كما قال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200]، والله تعالى وعد من استعاذ به أن يعيذه، وما أمرنا الله أن نستعيذ به إلا لما هو خير لنا في ديننا ودنيانا وآخرتنا؛ ومن لم تنفعه الاستعاذة لأنه استعاذ بقلب منصرف، لا يستحضر عظمة الله جل جلاله؛ وقد ورد أن الشيطان يضع خياشيمه، وخرطومه على قلب العبد، وينفخ فيه، فإذا امتلأ القلب بالإيمان انصرف الشيطان؛ لأنه ليس هناك أقوى من الإيمان بالله جل جلاله؛ وفي الحديث الصحيح أن العبد إذا انكفأ؛ فقال: تعس الشيطان؛ انتفخ الشيطان، وتعاظم، لكن إذا ذكر الله انخنس الشيطان، فذهب كالخردلة حقيراً مدحوراً بذكر الله جل جلاله، فنوصي الغضبان: أن يذكر الله جل جلاله؛ ويقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه، ونحو ذلك من الاستعاذات الواردة في الشرع. ومما يذهب الغضب: الوضوء، فإن الوضوء يطفئ ثورة الغضب. ومما يذهب الغضب: تغيير الحال؛ فإن كان قائماً قعد، وإن كان قاعداً قام، وإن كان في البيت خرج منه، وإن كان في مكان لجج وخصومة؛ فارق مجلس اللجج والخصومة: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]، فإذا رأى قوماً يستزلونه إلى الشر وأسباب الغضب، فينبغي أن يتركهم، ويهجرهم، ويفارق مجالسهم؛ حتى لا يستزله الشيطان فيقع ما لا تحمد عقباه. نسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، بأسمائه الحسنى أن يعيذنا من نزغات الشياطين؛ إنه هو السميع العليم.

حكم الصلاة في المسجد الأبعد طلبا لكثرة الأجر

حكم الصلاة في المسجد الأبعد طلباً لكثرة الأجر Q إذا كان بجوار البيت مسجد قريب، فهل يجوز له أن يمشي إلى الأبعد طلباً للفضل مع أنه يسمع إقامة الصلاة في مسجده القريب؟ A إذا كان المسجد الأبعد أكثر جماعة، أو أفضل؛ كمسجد الكعبة، أو أقدم، فهذه كلها فضلها الشرع، فالمسجد القديم فضله الله عز وجل على المسجد الجديد، كما قال تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108]، فجعل القديم أفضل؛ لأنه عمر بذكر الله أكثر من غيره، وكذلك أيضاً المسجد الأكثر عدداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أزكى)، وهذا يدل على أن الجماعة الأكثر عدداً أفضل، وعلى هذا فيجوز له أن ينطلق إلى المسجد الأبعد إذا كان لفضيلة نص الشرع عليها. والله تعالى أعلم.

الخلاف في ساعة الإجابة يوم الجمعة

الخلاف في ساعة الإجابة يوم الجمعة Q ما هو الراجح في ساعة الإجابة يوم الجمعة؟ وما هو عمل السلف في تلك الساعة؟ A لا إله إلا الله! والله لو جلسنا إلى طلوع الفجر ما استطعنا أن نحصر عمل السلف في تلك الساعة، يا إخوان: أشفقوا على من يجيبكم، لا تسألوا المسائل العظيمة، البعض يسأل السؤال ما يدري ما وراءه، هذه مسئولية، والله ما سئل العبد سؤالاً إلا وقف بين يدي الله يُسأل عن كل كلمة قالها، ليست المسائل والفتاوى هكذا! كان بعض السلف -رحمه الله- يجثو على ركبتيه، ويحذر من يسأله، ويقول له: إنما هي الجنة والنار، فأشفق علي، يعني: إما أن أجيبك؛ فأدخل الجنة، وإما أن أجيبك؛ فأدخل النار. فليشفق عليَّ السائل، أريد أن السائل إذا سأل عليه أن ينتبه، وأن يعلم أننا بشر لنا حدود، ولنا قدر من العلم: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]. أما ساعة الإجابة: فهذا أمر فيه أكثر من أربعين قولاً، ولو كانت ساعات الجمعة مائة ساعة ربما كان تجد فيها مائة قول؛ لأن كل وقت محتمل، والذي يظهر: أن الله عز وجل أخفاها لحكم عظيمة، منها: أنه لو كشفها الله لتسلط الناس بعضهم على بعض، فآذى القوي الضعيف، وآذى السفهاء الصلحاء، وحصل من ذلك من الشر والبلاء ما الله به عليم، لكن الحمد لله الذي لطف بعباده. ولو علمها كل الناس، لربما تسلطوا بها على الشهوات، والهلكات؛ فأهلكتهم، وأفسدت عليهم دينهم، ودنياهم، وآخرتهم، فيصير أهل الشهوات يطلبون هذه الساعة؛ لشهوة من شهوات النفوس التي لا تحمد عقباها، فتكون متاعاً عاجلاً، وتبعة ومسئولية في الآخرة. وأقرب الأقوال وأقواها: أنها ما بين طلوع الشمس، وجلوس الخطيب، ثم في هذا الوقت أقوال، فبعضهم يختار أنها ساعة الغفلة؛ وهي حمية الضحى؛ لأن الناس في إقبال على الدنيا، والعبد إذا ترك البيع والشراء في الضحى، ومضى إلى المسجد صار مبكراً للجمعة، ويحصل له فضيلة اليوم على أتم وجوهها، وبعض العلماء يختار أنها أول النهار، وبعضهم يجعلها قبل الزوال بشيء يسير، وقيل: إنها بعد الزوال مباشرة؛ وهي الساعة التي تفتح فيها أبواب السماء؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: (إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح). وقيل: إنها من طلوع الخطيب إلى انقضاء الصلاة، وهذا ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أنها ساعة قليلة، وطلوع الخطيب إلى انقضاء الصلاة هذا يأخذ وقتاً طويلاً. وليس المراد بالساعة ستين دقيقة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أشار بيده يتقالها، يعني: أنها لحظات يسيرة، لذلك من الصعوبة بمكان أن نقول: إنها من طلوع الخطيب إلى انقضاء الصلاة. وقيل: إنها الساعة التي يجلس فيه الخطيب بين الخطبتين. وقيل: إنها من ابتداء الصلاة إلى انتهاء الصلاة، وقيل: وقت التشهد. وقيل: إنها في الساعة الأخيرة من يوم الجمعة، لكن هذا مشكل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي) فذلك يقتضي أن الوقت وقت صلاة، وما بعد العصر ليس وقت صلاة، خاصة عند الغروب، وأجيب عن ذلك بأنه إذا جلس ينتظر الصلاة فهو في صلاة، وهذا محل نظر؛ لأنه قال: (قائم يصلي) إلا أن يكون اسم الفاعل المراد به اسم المفعول، أي: أنه مقيم على حالة يكون فيها في حكم المصلي، وحينئذ يتجه أن يكون من بعد صلاة العصر يوم الجمعة يجلس في مصلاه إلى أن تغرب الشمس، فيسأل الله حاجته. وعليك أخي المسلم أن تصلح ما بينك وبين الله، ومن أصلح ما بينه وبين الله، وملأ قلبه بالخوف والرجاء؛ وصدق اللجوء إلى الله، وفقه الله وسدده. ومن أراد أن يكون مجاب الدعوة؛ فليطب مطعمه، وليستفتح بتوحيد الله، والثناء على الله، وليكثر من النوافل، فإنه ما أكثر عبد من النوافل إلا أحبه الله، وإذا أحبه أعطاه سؤله، كما قال تعالى في الحديث القدسي: (ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)، فهنيئاً ثم هنيئاً لمن وفقه الله للخيرات، وفعل الطاعات، حتى أصبح مجاب الدعوات. نسأل الله العظيم، رب العرش الكريم من واسع فضله وهو أرحم الراحمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

نصيحة للأزواج والزوجات

نصيحة للأزواج والزوجات Q إني امرأة متزوجة، ولكني أعاني من مشاكل كثيرة -تعني: المشاكل الزوجية، فلا يمضي أسبوع إلا وتقع مشكلة، ويهددها زوجها بالطلاق- فتقول السائلة: هل من نصيحة للأزواج في هذه الحالة؟ A أوصي الأزواج والزوجات بتقوى الله عز وجل، ولا شك أن المؤمن، خاصةً في هذا الزمان الذي عظمت محنه، وكثرت فتنه، مبتلىً في نفسه وأهله وماله وولده، وذكر العلماء -رحمهم الله- أن العبد إذا أصاب الذنوب خارج بيته؛ ربما وجد شؤمها مع أهله وزوجه. فأوصي الزوج أن يتقي الله عز وجل، ومن أصلح ما بينه وبين الله؛ أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح ما بينه وبين والديه، أقر الله عينه في زوجه وولده. فعلى الزوج أولاً: أن يتقي الله عز وجل في نفسه، وأن يأخذ بالأسباب التي يصلح الله بها زوجه وأهله وذريته، وخاصة في هذا الزمان، فالصبر مطلوب من الزوج، ومطلوب من الزوجة، فعلى الأزواج أن يتحملوا، فما وجدوا من خير شكروه، وما وجدوا من شر ستروه أو صبروا عليه إن أمكن الصبر. وأما بالنسبة للزوجات: فأوصيهن بتقوى الله عز وجل، فإن الرجل ربما استفزته زوجته، ولربما آذته وأضرته، وكان سبباً في حصول المشاكل، فأوصي أختي السائلة وغيرها من معاشر المؤمنات أن يتقين الله في الأزواج، وأن تهيئ كل امرأة صالحة لزوجها في بيت الزوجية ما يكون سكناً له ومودة ورحمة، خاصة في هذا الزمان، فكما نقول للأزواج: إن الزمان زمان فتن ومحن، نقول للزوجات، فالزوجة إذا جاءها زوجها من عمله، أو جاء من عند أصحابه أو رفقته، ربما جاء مشتت الفكر، وبه هم وغم، محتاج إلى حنانها ورعايتها وإحسانها وكلمة ودٍّ ونحو ذلك، فعليها أن تبذل ذلك، ولتكن المرأة على بصيرة؛ لأنه ربما تغير زوجها عليها بسبب غفلتها عن تعاملها معه، فتكون في أول أيام الزوجية ودودة قريبة رحيمة بزوجها، ثم فجأة بسبب مشاغل البيت أو مشاكلها، يتغير أسلوبها أو طريقتها بدون قصد، فيفهم الزوج أنها لا تحبه، وأنها نافرة منه، فلتحرص الزوجة على تغيير أسلوبها وطريقتها، ولتعلم أن حسن التبعل للزوج سبيل إلى الجنة، فإن وجدت الزوج يشكرها ويذكرها ويحسن إليها، فلتحمد الله على نعمته، وتشكره على فضله، وإن وجدته يكفرها ويؤذيها ويضرها، فخير لها في العاجل والآجل، فالله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. على المؤمنة، بل على كل مسلم ألَّا ينتظر من أحد في هذه الدنيا أن يكافئه على معروف أو خير، وعود نفسك دائماً ألَّا تنتظر من أحد كلمة شكر، وألَّا تنتظر من أحد اعترافاً بالجميل، ووجه وجهك للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً موقناً، وإن الله عز وجل لن يخيبك، لا في الدنيا، ولا في الآخرة. ووالله ما من امرأة تصبر وتصابر وتحتسب، إلا أقر الله عينها بصبرها واحتسابها عاجلاً أو آجلاً، وجمع الله لها بين خير الدين والدنيا والآخرة، وكذلك الزوج؛ فليضحِّ بما يستطيع، فإن وجد المرأة الصالحة المؤمنة التي تعترف بجميله؛ قال: الحمد لله، وهذا من عاجل ما يكون من البشرى له في الدنيا، وإن وجد كفران الجميل والتمرد والأذية، فلينصب وجهه لله، وليقل: اللهم صبرني، اللهم أجرني في مصيبتي، وليحتسب ثوابه؛ فإن الله عز وجل سيكتب له الأجر والمثوبة؛ لأنه بلاء، ولقد عجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر المؤمن؛ (كله خير، وليس ذلك إلا للمؤمن؛ إن أصابته ضراء صبر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر؛ فكان خيراً له). نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يلهمنا شكره على السراء، وأن يثبت قلوبنا في كل ضراء. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

باب تعليق الطلاق بالشروط [4]

شرح زاد المستقنع - باب تعليق الطلاق بالشروط [4] الفقهاء يرتبون أحكاماً كثيرة على الألفاظ التي يتكلم بها المكلف، ومن ذلك ألفاظ الطلاق المعلق. فقد يعلق الزوج الطلاق بمجرد حيض زوجته أو باكتمال حيضها أو بمضي جزء من حيضها. وقد يعلقه بالحمل أو بنفي الحمل أو بنوع الحمل أو غير ذلك. وقد بين الفقهاء رحمة الله عليهم أحكام تعليق الطلاق وما يترتب عليها وتفاصيلها.

تعليق الطلاق بالحيض

تعليق الطلاق بالحيض بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم. أما بعد: فقال الإمام المصنف رحمه الله تعالى: [فصلٌ: إذا قال: إن حضتِ فأنت طالق طلقت بأول حيضٍ متيقن]: ذكر المصنف -رحمه الله- في هذا الموضع جملةً من المسائل المتعلقة بتعليق الطلاق بالحيض، وقد قدمنا أن النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تدل دلالة واضحة على أنه ينبغي للمسلم إذا أراد أن يطلق زوجه أن يطلقها في طهرٍ لم يمسها فيه، وبينا أن الإجماع منعقد على تحريم تطليق المرأة إذا كانت في الحيض، وهذا الإجماع مستندٌ إلى النصوص التي ذكرناها، ولذلك غضب صلى الله عليه وسلم على ابن عمر حينما أخبره عمر أنه طلق زوجته وهي حائض.

تعليق الطلاق بوقوع الحيض

تعليق الطلاق بوقوع الحيض الطلاق في الحيض ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون الطلاق في الحيض، فلو أن رجلاً طلق امرأته بعد أن دخل بها في حال حيضها فالإجماع منعقد على أنه طلاق حيضٍ محرم. القسم الثاني: أن يطلقها تعليقاً بالحيض، فتكون طاهرة، ويقول: إن حضتِ، فهذه المسألة حكمها حكم الطلاق في الحيض، فالرجل إذا قال لامرأته: إن حضت فأنت طالق، فإنه طلاقٌ محرم، وهو طلاق بدعي، وعلى هذا يكون آثماً بهذا النوع من التعليق، فهذا التعليق محرم، واستفدنا من هذه الجملة أن الطلاق في حال الحيض يستوي فيه أن تكون المرأة أثناء الطلاق حائضاً أو تكون المرأة غير حائضٍ فيطلقها معلقاً طلاقها على الحيض، فإذا علق طلاقها على الحيض، فإن الطلاق غالباً يكون مستقبلاً، فيشمل التطليق في الحيض ما يكون حالاً وما يكون مسنداً إلى الاستقبال بصيغة التعليق. قال رحمه الله: (إن قال لها: إن حضت فأنت طالق) أي: بينه وبين الله، فإن امرأته طالق إن حاضت حيضة كاملة، يعني: إن دخلت في حيضها، فإننا نحكم بتطليقها إذا تبين حيضها. وهذه الجملة تفيد أنه بمجرد دخولها في الحيض وثبوت الحيض بالنسبة لها تكون طالقا، فإن تكلم بهذه الصيغة والمرأة صغيرة لم تحض بعد، كأن يكون عمرها خمس سنوات، أو ست سنوات، أو سبع سنوات، أو ثماني سنوات، فقال لها: أنت طالقٌ مني إن حضت، يعني: إن جاءك دم الحيض فأنت طالق، فننتظر إلى أقل سنٍ تحيض فيه المرأة، ولا نتيقن بكونها حائضاً إلا إذا بلغت تسع سنين على التفصيل الذي قدمناه في كتاب الحيض، وقد ذكرنا رواية البيهقي رحمه الله عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة)، أي: تأهلت للحيض لتسع سنين، ومن هنا أخذ طائفة من أهل العلم أن أقل سنٍ تحيض فيه المرأة تسع سنوات، وأبو بكر رضي الله عنه زوج النبي صلى الله عليه وسلم بـ عائشة وعمرها ست سنين، ودخل عليه الصلاة والسلام بها وعمرها تسع سنين، وهذا يؤكد أن تسع سنين تتأهل فيها المرأة للزواج وتتأهل للحيض، فإذا قال رجل: زوجتك ابنتي وعمرها ست سنوات، فعقد عليها، فتم العقد فقال له: إن حاضت ابنتك فهي طالق فحينئذٍ ما قبل سن المحيض تكون في عصمة الرجل ولا يقع الطلاق، فننتظر إلى أقل سنٍ تحيض فيه المرأة، ثم ننظر إلى دم الحيض بصفاته على التفصيل والضوابط التي تقدمت معنا في كتاب الحيض، فلا بد من أمرين: أولاً: السن. والثاني: أن يكون الدم الذي يجري من المرأة دم حيضٍ لا دم استحاضة؛ لأنه ربما كان عمرها تسع سنين ولا يتبين أن ما يخرج منها دم حيض ولهذا قال المصنف رحمه الله: (بأول حيض متيقن) فعندنا في الحيض شك ويقين، ومسألة أقل سن تحيض فيه المرأة قد بيناها، وكذلك مسألة أقل الحيض قد تقدمت في كتاب الحيض وذكرنا خلاف العلماء -رحمهم الله- في أقل الحيض وأنه تتفرع عليه مسائل عديدة ومنها هذه المسألة، فأنت إذا قلت: إن أقل الحيض يوم وليلة أي: أربع وعشرون ساعة، فلو أن بنتاً عمرها تسع سنوات خرج منها دم لكن هذا الدم استمر سبع ساعات وانقطع فليس بحيض على هذا القول، ولا تطلق المرأة عند من يقول: إنه لا بد أن يستمر أربعاً وعشرين ساعة. فلو أن امرأة بلغت تسع سنين وجرى معها دم ولم يستتم أربعاً وعشرين ساعة فإنها لا تطلق بذلك الدم، ولا يعتبر ذلك الدم دم حيض، وهذا على مذهب الشافعية والحنابلة الذين يقولون: أقل الحيض يوم وليلة، والحنفية -رحمهم الله- يقولون: ثلاثة أيام، والظاهرية والمالكية واختيار شيخ الإسلام رحمه الله أن الحيض لا حد لأقله، وأن المرأة ممكن أن تدفع الدفعة من الحيض، وذكرنا أن هذا هو أصح أقوال العلماء؛ لأنه لم يرد في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحديد يدل على أن اليوم أو الليلة أو أن الثلاثة الأيام هي أقل ما تحيض به المرأة، وإنما استندوا في ذلك إلى أدلة نظرية، والصحيح أن الحيض يكون قليلاً وكثيراً ولا ضابط له من حيث الساعات أو الزمان. إذا ثبت هذا فنحسب أقل سن تحيض فيه المرأة، فإن كانت السن سن حيض وخرج معها دم الحيض على صفاته فإننا نحكم بكونها طالقاً.

تعليق الطلاق باكتمال الحيض

تعليق الطلاق باكتمال الحيض قال رحمه الله: [وإذا حضت حيضةً تطلق بأول الطهر من حيضة كاملة] قوله: (وإذا حضت) لاحظ، (إن حضت) بمجرد تيقن الحيض، (وإذا حضت حيضة) هذا له حكم، فهنا لفظ وهنا لفظ {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3] وينبغي أن نتنبه إلى أن العلماء -رحمهم الله- حينما يذكرون هذه الألفاظ ويدققون في كل كلمة وكل جملة ليست القضية قضية الحيض فقط، بل القضية قضية تمرين الفقيه وطالب العلم على أن يعطي كل كلمة حقها وقدرها، فقد تأتي مسألة من المسائل التي تتعلق بالحقوق والأموال وتتفرع على هذا الأصل الذي ذكره العلماء في الألفاظ، فأنت إذا عرفت من باب الحيض أن التعليق بالشروط له ضوابط معينة من جهة الألفاظ فتستطيع أن تطرد ذلك في كل شيء يقع، حتى لو أن رجلاً قال لعامل عنده: إن جاءك محمد فأعطه مائة ألف، فاتصل محمد على العامل وقال له: سيأتيك سعد وأعطه المائة ألف، فجاء سعد وأخذها وسرق المال، من يضمن؟ يضمن العامل؛ لأنه قال له: إن جاء وكلمة (إن جاء) ليست كما لو اتصل، ففي الشريعة تقييد وإلزام ولا يقول الإنسان لماذا الفقهاء يقولون: إن حضت وإذا حضت؟ فالشريعة تامة كاملة، ومن تمامها وكمالها أنها تعطي كل لفظٍ حقه، ودلالته ومعناه. فلو قال الرجل لزوجته: إن حضت، وقصد حيضة كاملة فحينئذٍ لا تطلق قبل أن تحيض حيضة كاملة، والفرق: أن قوله: إن حضت، مراده الدخول في الحيض، وأما قوله: إن حضت حيضة كاملة أو إن حضت حيضة، مراده إكمال مدة الحيض، فلو قال هذا الكلام أثناء حيضها فإنها تطلق على الأول ولا تطلق على الثاني، حتى تأتي الحيضة التي تلي الحيضة التي قال ذلك فيها؛ لأنه إذا قال لها: إن حضت حيضة كاملة، أو إن حضت حيضة فإنه أثناء الحيض لم تحض بعد حيضة كاملة من قوله إلى نهاية الحيض، فلو قال لها: (إن حضت حيضة فأنت طالق) وقصد الحيضة الكاملة الثانية، فإن وقع هذا الكلام قبل الحيض ننتظر حتى تبدأ الحيض، فإن حاضت وتمت عادتها من الحيض طلقت، وحكمنا بطلاقها، وإن كانت أيست وانقطع حيضها لم يقع الطلاق؛ لأن الطلاق موقوفٌ على وجود الحيض، وفائدة التعليق وجود الحيض، فلو قال لها وعمرها ستون سنة: إن حضت حيضة فأنت طالق، فبعد الستين انقطع عنها الحيض فحينئذٍ لا تطلق؛ لأن الشرط مركب على وجود حيضة تامة كاملة، حتى ولو قال لها هذا الكلام في آخر حيضة حاضتها من عمرها لم تطلق؛ لأنه لو مضى من الحيضة ثلاثة أيام أو أربع أيام، أو مضى منها ساعة أو مضى منها يوم فإنها لم تحض بعد الشرط حيضة كاملة، مثال ذلك: امرأة عادتها أن تحيض سبعة أيام، فلما صارت في آخر حيضة من عمرها حاضت اليوم الأول فقال لها زوجها في اليوم الثاني: إن حضت حيضة كاملة فأنت طالق، فإنها بعد هذا الشرط حاضت حيضة ناقصة؛ لأنها بقي لها من عادتها ستة أيام، فما دام أنه قد مضى جزءٌ من الحيضة قبل الشرط فالحيضة غير كاملة، فتوفي هذه الحيضة وتنتظر هل تحيض بعد هذا الشرط أو لا؟ فإن لم تحض؛ فحينئذٍ لا يقع الطلاق، وإن طهرت ثم حاضت فإننا ننتظر إلى تمام عادتها ونحكم بطلاقها، فهذا الفرق بين قوله: إن حضت حيضة، وقوله: إن حضت.

تعليق الطلاق بمضي جزء من الحيض

تعليق الطلاق بمضي جزء من الحيض قال المصنف رحمه الله: [وفي (إذا حضت نصف حيضة) تطلق في نصف عادتها] لاحظ الفرق، والعلماء يرتبون المسألة على المسألة، فأنت تقول: إن حضت حيضة كاملة، فمعناه: أنه لو خاطبها بهذا الشرط أثناء حيضها، فإننا نلغي الحيضة التي وقع عليها الشرط، وننتظر إلى طهرها وحيضها من بعد، فلو انقطع حيضها فلا تطلق، وإن حاضت حيضة تامة بعد هذا الشرط حكمنا بطلاقها بمجرد تمام الحيض، ولو قال لها: إن حضت نصف حيضة فأنت طالق، ننظر حينئذٍ إلى عادتها فإن كانت عادتها ثمانية أيام، فمعناه: أن نصفها أن تحيض أربعة أيام، فتتفرع مسائل عديدة، منها: أنه لو قال لها: إن حضت نصف حيضة وكانت قد مضت ثلاثة أيام فإننا نعتد بالأربعة أيام، ونحكم بطلاقها بمضي أربعة أيام بعد الثلاث، فتكون طالقاً في اليوم السابع عند من يوقع الطلاق في الحيض، وإن مضى أربعة أيام وبقيت أربعة أيام فتطلق بعد تمام اليوم الثامن الذي هو الطهر، لكن لو قال لها: إن حضت نصف حيضة وكان قد بقي من عادتها ثلاثة أيام وحيضتها ثمانية أيام فإنها تلغى هذه الحيضة كلها، وتنتظر إلى الحيضة الثانية، فلو أنها توفيت قبل الحيضة الثانية، أو انقطع حيضها قبل الحيضة الثانية لم يتبعها طلاقها. فالمسائل كلها تترتب عليها أحكام، إذا علقت الطلاق على شرطٍ معين كلاً أو جزءاً تراعي الكلية في ما يشترط فيه الكلية، والجزء فيما يشترط فيه الجزء، فإن بقي من زمان الحيض ما يتحقق به وصف النصف أو الربع -على حسب ما يذكر من شرطه- حكمنا بوقوع الطلاق بعد ذهاب ذلك العدد الذي اشترط فيما بينه وبين ربه أن زوجه تطلق به. هذا بالنسبة لمسألة: إن حضت حيضة، وإن حضت نصف حيضة، فانظر إلى ترتيب المصنف، فهي ثلاث مسائل: المسألة الأولى: إن حضت، ومتى حضت، وأي وقتٍ تحيضين، فحينئذٍ نحكم بالطلاق بمجرد دخولها في الحيض على القول الراجح بأن أقل الحيض لا حد له، وأما عند من يشترط اليوم والليلة، أو يشترط ثلاثة أيام فلا نحكم بطلاقها إلا إذا بقي الدم يوماً وليلة، أو بقي ثلاثة أيام على الخلاف المذكور، وأما على القول بأن قليل الحيض وكثيره سواء فتطلق بمجرد دخولها في الحيض، هذه هي المسألة الأولى، ووجه هذه المسألة أن الرجل طلق امرأته فيما بينه وبين الله إذا دخلت في حيضٍ، فبمجرد دخولها في الحيض تطلق. المسألة الثانية: يعطي شرطاً أوسع من شرط الدخول، فيقول لها: إن حضت حيضة كاملة، فلا يكفي دخولها في الحيض، ولا يكفي ابتداؤها الحيض أو شروعها في الحيض بل ننتظر إلى تمام عادتها فلو قال لها وهي طاهر: إن حضت حيضة كاملة فأنت طالق فحاضت يوم السبت وماتت الأحد فهي في عصمته، ولا يتبعها طلاقه؛ لأنها لم تحض حيضة تامة كاملة. المسألة الثالثة: إن قال لها: إن حضت نصف حيضة أو ربع حيضة فننظر إلى عدد أيام عادتها ونحكم بالطلاق مجزأ فإن قال لها: إن حضت نصف حيضة، لم يخل من حالتين: إما أن يتكلم به قبل الحيض فنقول: بمجرد ما تبتدئ الحيضة المستقبلة الآتية نحسب عدد النصف، ونطلقها في نصف عادتها التي ستأتي، هذا إذا كان وقع كلامه قبل الحيض، فتطلق في نصف العادة الآتية، وإما إن قال هذا الكلام أثناء الحيض نظرنا: فإن بقي من أيام عادتها ما يعادل النصف فأكثر طلقناها بمجرد مضي عدد الأيام التي تستوعب نصف العادة، وحينئذٍ نحكم بأنها طالق، فإن مضى من عادتها يومان وعادتها ثمانية، فنحكم بكونها طالقاً بعد مضي أربعة أيام بعد اليومين أي: بعد السادس، ولا ننتظر إلى النصف الثاني وإنما نقول: تتجزأ بالأيام، وأما لو كان اعتد به كاملاً وجعل الطلاق على الحيض كاملاً فالعبرة بكماله، أو جعل الطلاق على بعضه، فالعبرة بذلك البعض، أو جعل الطلاق بمجرد تيقن دخول الحيض وحكمنا بالطلاق. وتبين بهذا أن قوله: إن حضت حيضة تامة، أهون من قوله: إن حضت، أو إن حضت نصف حيضة، فإن قوله: إن حضت، مراده: بمجرد دخول الحيضة فيكون طلاقاً بدعياً، وإن قال: إن حضت نصف حيضة فيكون قبل الحيض بدعياً، وإذا بقي من عادتها النصف يكون سنياً؛ لأنه إذا قال لها: إن حضت نصف حيضة، في أثناء الحيض، وبقي من حيضها النصف فمعناه أنها ستطلق بعد طهرها، فيكون سنياً، فافترق الحكم، والحاصل: أن الطلاق يكون بدعياً إن قصد مجرد وجود الحيض إن حاضت، ويكون سنياً إن قال: إن حضت حيضة تامة، لأنه يقع بعد الطهر، فبمجرد دخولها في طهرٍ لم يجامعها فيه يقع الطلاق سنياً، ويكون محتملاً إن قال: نصف حيضة، فإن قال ذلك قبل الحيض فبدعيٌ؛ لأنه سيقع في نصف العادة، وإن قاله وقد بقي من عادتها ما يستوعب النصف فأكثر فبدعي أيضاً؛ لأنه سيبقى من حيضها يوم أو يومان فيقع الطلاق وهي حائض، وإن قال ذلك ولم يبق إلا القدر الذي اشترط فسنيٌ لأنها تطهر ويكون حينئذٍ طلاقها في طهرٍ لم يجامعها فيه.

تعليق الطلاق بالحمل

تعليق الطلاق بالحمل

تعليق الطلاق بإثبات الحمل

تعليق الطلاق بإثبات الحمل قال رحمه الله تعالى: [فصلٌ: إذا علقه بالحمل فولدت لأقل من ستة أشهر طلقت منذ حلف] قبل أن ندخل في تفصيلات العلماء في مسألة الحمل نحب أن نمهد بتمهيد نستوعب فيه هذه المسائل. أولاً: أقل الحمل: مدة زمانية لا يمكن أن يوجد الحمل في أقل منها، وأكثر الحمل: مدة زمانية الغالب بالعادة والتجربة أنه لا يجاوزها الحمل، وكلتا المسألتين تتفرع عليهما مسائل مهمة، وقد تتفرع عليها مسائل تتعلق بإنقاذ الأرواح كما سيأتي، فأقل الحمل ستة أشهر في قول جماهير العلماء رحمهم الله، فالمرأة لا تضع الحمل التام قبل الستة من حيث الأصل الغالب والذي دل عليه دليل الكتاب، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15] فأثبت سبحانه أن حمل الجنين وفطامه بعد الولادة من الرضاع يستغرق الجميع ثلاثين شهرا، يعني: سنتين ونصفاً إذ هي ثلاثون شهراً، 24 شهراً للسنتين، و6 أشهر لنصف سنة، فنصت الآية على أن الحمل مع الرضاع والفطام من الرضاع يستغرق ثلاثين شهراً، وفي الآية الأخرى يقول الله عز وجل: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233]. وانظر إلى جمال هذا القرآن وجلاله وكماله وعظمته وما أودع الله فيه من الحكم والأحكام، فالآية تأتي في مسائل النفقات على المرضعات، وإذا هي تتعلق بمسائل الحمل، فانظر كيف يرتبط القرآن كله بعضه ببعض، ولذلك استنبط علي رضي الله عنه من هذه الآية أن أقل الحمل ستة أشهر؛ لأنه إذا كان الرضاع له سنتان من ثلاثين شهراً فما يبقى إلا ستة أشهر، فإذا ثبت أن أقل الحمل ستة أشهر تفرع عن ذلك مسائل كثيرة، منها: لو أن رجلاً تزوج امرأة، ودخل عليها ثم توفي عنها، فاعتدت المرأة عدة الوفاة التي هي الحداد، وبعد أن تمت لها العدة جاء رجل ونكحها، فولدت لأربعة أشهر، فإنه يكون ولداً للزوج الأول وليس ولداً للزوج الثاني، على تفصيل في المسائل؛ لأنه لا يمكن نسبته إلى الماء الثاني، ولا بد بعد جماع الثاني أن نحسب الستة الأشهر، فما وقع من حملٍ قبل الستة الأشهر فهو منسوب للماء الأول من حيث الأصل، وهكذا مسألة أكثر الحمل، تتفرع عليها مسائل حتى في مسألة الإمكان ودفع الشبهة بزنا المرأة، ولذلك قالوا عن مالك رحمه الله: إنه حملت به أمه أربع سنين، وقالوا: هذا أكثر ما وجد في أقصى الحمل ولذلك يقولون: قد يعلق الجنين ويتأخر وتضعه أمه بعد طول زمان، ومن أعجب ما ذكروه من القصص المشهورة عن عمر رضي الله عنه أن امرأة تزوجها رجل ودخل بها ثم توفي عنها ثم اعتدت عدة الوفاة، وبعد مضي المدة تزوجها رجلٌ ثانٍ، فوضعت الولد لأربعة أشهر أو لثلاثة أشهر، والمرأة معروفة بالصلاح، ومن بيت صالح، ولا يعرف عنها أي ريبة فهي مستقيمة صالحة، فاحتار عمر رضي الله عنه في أمرها، فجمع المهاجرين، فأفتوا أن هذا زنا وأنها ترجم، وجمع الأنصار وأفتوا أنها ترجم؛ لأنها اعتدت عدة الوفاة ومضى زمن إمكان الحمل وبعد ذلك ولدت، ولا يمكن نسبته لزوجها الأول فيما نظره الصحابة، وكان عمر رضي الله عنه محدثاً ملهماً فإذا أعياه الأمر عند الرجال جمع النساء، فلما وجدهم مجمعين على أنها ترجم -وكان مذهب عمر رضي الله عنه أن الحمل دليل على الزنا، كما في صحيح البخاري عنه في القصة المشهورة في آية الرجم- جمع النساء فقامت امرأة عجوز وقالت: إن هذه المرأة علقت من زوجها الأول، ولما أصيبت بالحزن والفاجعة ركن الجنين في رحمها، فلما تزوجت الثاني انتشت وانتشى الفرج بماء الثاني وجماع الثاني، فولدته، فحمد الله عمر أنه لم يرجم المرأة، وعمل بقولها، ولذا قال العلماء: قد يعلق الجنين ويتأخر، ومن الأطباء المتأخرين من يؤكد هذا ويعلل ذلك بضعف الرحم وغير ذلك من الأمور التي تؤثر في وقت وضع الحمل، فمسألة أقل الحمل وأكثر الحمل مهمة جداً تتفرع عليها مسائل في الطلاق كما يذكره المصنف رحمه الله، وتتفرع عليها مسائل في الحقوق، مثل مسألة شق بطن المرأة إذا كان في بطنها جنين، فلو توفيت وهي حامل وفي بطنها جنين فهل نشق بطنها أو لا نشقه، إن كان الجنين تمت له ستة أشهر فجمهور العلماء على أنه يشق بطنها ويستخرج الجنين، وأنه إذا لم تتم له ستة أشهر فلا يشق بطنها، فهذه كلها من المسائل المترتبة على مسألة أقل الحمل وأكثره. فقبل أن ندخل في تعليق الطلاق على الحمل لا بد أن يُعلم ما هو أقل الحمل وأكثر الحمل، بحيث يمكن أن ننسب هذا الحمل لكونه وقع بعد الشرط أو قبل الشرط، فالرجل إذا علّق الطلاق على وجود الحمل فله طريقتان: الطريقة الأولى: يعلق الطلاق إن ثبت الحمل، فيقول لزوجه: أنت طالقٌ إن كنت حاملاً، فعلق الطلاق على وجه الإثبات، وأثبت الطلاق بثبوت الحمل، فإذا ثبت أنها حامل حكمنا بالطلاق، وإذا ثبت أنها غير حامل حكمنا بعدم وقوع الطلاق، ومن قبل لم يكن عندهم من الآلات والوسائل ما يبين حمل المرأة من عدمه، ولربما انتفخ بطن المرأة بمرض وعلة، فيظن أنها حامل، فلا بد من معرفة بعض الضوابط: ضابط الزمان كما ذكرنا أقل الحمل وأكثر الحمل، وضابط استبراء الرحم، فالمرأة إذا حاضت بعد ذلك القول دل ذلك على أنها ليست بحامل فلا يقع الطلاق عند من يقول: إن الحامل لا تحيض؛ لأن الفرج ينسد بالحمل ويخرج الدم بعد النفاس والولادة. فيقول لها: أنت طالق إن لم تكوني حاملاً، وهذا هو النوع الثاني من الصيغ، الأول: صيغة الإثبات والثاني: صيغة النفي، فمعنى ذلك: أنه إذا وجد الحمل فلا طلاق، وإن لم يوجد الحمل وكانت بريئة وخُلُواً من الحمل فإنها طالق، فإذاً: نحتاج إلى معرفة هل هي حامل أم ليست بحامل؟ الطريقة الثانية: يعلق الطلاق على نوع الحمل، هل هو من الذكور أو من الإناث فيقول مثلاً: أنت طالقٌ طلقة واحدة إن كان حملك ذكراً وأنت طالقٌ طلقتين إن كان حملك أنثى، فعند ذلك لا بد أن نعرف ما الذي في بطنها، هل هو ذكر أم هي أنثى؟ ولربما خرج اثنان ذكر وأنثى، ولربما خرجت بنتان، ولربما خرج ذكران. ثم تأتينا مسألة الولادة وفيها مشكلة؛ لأنها إذا ولدت الأول صارت مطلقة، ثم إذا جاء الثاني فبمجرد وضع الثاني تصبح أجنبية، لأنها إذا طلقت صارت رجعية، إذا كان طلقة واحدة، فإذا جاء الحمل الثاني ووضعت فإن الطلاق الذي علق على الحمل الثاني لا يقع؛ لأنها قد خرجت من عدتها وأصبحت أجنبية بوضعه، فيختلف الحمل وتختلف المسائل بين الحمل في نوعه، وبين الحمل في خروجه، فنوع العلماء بين مسائل الحمل كحمل، وبين مسائل الولادة كولادة، فعندنا تعليق بالحمل، وتعليق بالولادة. قال رحمه الله: (إذا علقه بالحمل فولدت في أقل من ستة أشهر طلقت منذ حلف): إذا قال: إن كنت حاملاً فأنت طالق، إن قال هذا الكلام في أول محرم من هذه السنة فإذا وضعت ما في بطنها قبل تمام ستة أشهر فإننا تأكد أنها كانت أثناء التلفظ حاملاً، فمثلاً: وضعت الجنين في ربيع الثاني، فنتأكد بأن الجنين هذا لا يمكن أن يخرج بهذه الصفة، ولا يكون حملاً كاملاً إلا ببلوغ ستة أشهر، وإذا ثبت أن عمره ستة أشهر فإنك على يقين أنه أثناء الكلام كانت المرأة حاملاً، وهو يقول: إن كنت حاملاً فأنت طالق، فأثبت الطلاق بثبوت الحمل، ويثبت الحمل إذا ثبت الزمان الذي يدل على وجوده. إذاً: إذا قال لها: إن كنت حاملاً فأنت طالق فولدت لدون ستة أشهر فقد تحققنا أنه أثناء تلفظه كانت المرأة حاملاً وبينه وبين الله أنه طلق امرأته إن كانت حاملاً في تلك الساعة، ولو أنها ولدت بعد الستة أشهر، مثلاً: قال لها هذا الكلام في أول محرم، وولدت في رمضان وهذا بعد الستة الأشهر قطعاً، فحينئذٍ يرد الإشكال هل كانت أثناء كلامه حاملاً أو لا، هذا يحتاج إلى تثبت، فنسأل: هل وقع جماعٌ بعد قوله: إن كنت حاملاً، فإن كان جامعها بعد محرم كأن يكون جامعها في ربيع أو جامعها في ربيع الثاني، نقول مثلاً: جامعها في صفر، قال لها: إن كنت حاملاً فأنت طالق في أول محرم، ثم في صفر جامعها، وولدت في رمضان فإننا نقع بين احتمالين، إما أن نقول: إنها حملت بالجماع الثاني، وحينئذٍ لا طلاق؛ لأنه وقع الحمل بعد الشرط والشرط متعلقٌ بأن تكون حاملاً في محرم، فلما جامعها بعد محرم وولدت في رمضان والمدة مدة حمل، فالقاعدة: أننا ننسب الحكم إلى أقرب حادث. ومعنى ذلك: أنه إذا كان عندك حادثان: قريب وبعيد، واليقين للقريب تنسب للقريب؛ لأنه ما دام مضت ستة أشهر بعد محرم، ولم تلد، ووضعت بعد ستة أشهر من الجماع الثاني فالغالب على الظن أنه من الجماع الثاني، وهذا لقاعدة: (أن الحكم ينسب لأقرب حادث) ومن فروع هذه القاعدة: إذا نام نومتين، أو ثلاث نومات، نام قبل الفجر، وصلى الفجر ونام بعد الفجر، وصلى الضحى ونام بعد الضحى، وصلى الظهر ونام بعد الظهر، ولم يستيقظ إلا على صلاة العصر ووجد أثر المني في ثيابه، فهل نقول: إنه أمنى في النومة الأخيرة، فلا يلزمه إلا إعادة العصر إن كان صلى، أو هو النوم الذي في الضحى فيلزمه إعادة صلاة الظهر والعصر إن كان قد رآه بعد العصر، أو للنوم الذي بعد الفجر للحكم كذلك، أو للنوم قبل الفجر فيعيد الفجر والظهر والعصر جميعاً؟ فننسب ذلك لأقرب حادث؛ لأنه ما دام عندنا عدة احتمالات فإننا نأخذ باليقين، فنحن لا نشك أنه في آخر نومة كان جنباً، ونشك فيما قبل ذلك، والأصل أنه طاهر، وكذلك هنا هل ننسب الحكم لأقرب جماع يمكن أن يتخلق منه الولد، أو ننسبه لأبعد جماع؟ أصبح عندنا أصلان، واليقين أنها زوجته، وتبقى العصمة كما هي؛ للقاعدة التي تقول: (الأصل بقاء ما كان على ما كان) فإن قلت: إن هذا الولد تخلق بجماعٍ قبل الجماع الثاني، وكان موجوداً أثناء الشرط فتطلق المرأة، فنلغي اليقين من كونها زوجة، فهذا خلاف الأصل، فتقول: أقرب حادث هو الجماع الأخير الذي هو قبل وضع الجنين بستة أشهر، ولا ننسب الولد للجماع قبل الشرط، وبناءً على ذلك: لا يحكم بكونها طالقاً، وهذا على أصح أقوال العلماء -رحمهم الله- وهو شبه مذهب الجمهور: أنه إذا وقع جماع بعد قوله إن كنت حاملاً فأنت طالق ومضت أكث

تعليق الطلاق بنفي الحمل

تعليق الطلاق بنفي الحمل قال المصنف رحمه الله: [وإذا قال: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق]: (إن لم تكوني حاملاً) هذا عكس: إن كنت حاملاً، وخلاصة الإثبات كالآتي: قال: إن كنت حاملاً فأنت طالق، قالها في أول محرم مثلاً، فإن مضى بعد قوله أقل من ستة أشهر فوضعت فقد تحققنا أن الولد كان موجوداً أثناء الشرط، وأنها حاملٌ أثناء الشرط فتطلق، وإن ولدت بعد ستة أشهر ففيه تفصيل: إن وقع جماع بعد الشرط وأمكن أن ينسب إليه الولد فلا إشكال فهي غير طالق؛ لأنه الظاهر والقاعدة: (أنه ينسب الحكم لأقرب حادث) فنحكم بكونها امرأة له ولا يحكم بطلاقها، وأما إذا لم يقع جماعٌ فنقول: ما جاوز الستة الأشهر -بشرط أن لا يجاوز أقصى مدة الحمل- فإنه يوجب الحكم بكون الولد كان موجوداً؛ لأن الولد تخلق من الجماع، والجماع إنما وقع قبل الشرط، وقلنا: إنه بالعادة والتجربة أنه يمكن أن يبقى الجنين مركوناً في البطن حملاً أربع سنين، فمعنى ذلك: أنها لو وضعت قبل تمام الأربع سنين فهو ولده، وإذا كان ولده ولم يجامع بعد الشرط فمعنى ذلك أنه ولده من الجماع قبل الشرط، وإذا ثبت أنه ولده من الجماع الذي قبل الشرط، فتحققنا أنها حين الشرط كانت حاملاً. أما النفي بأن قال: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق، العكس بالعكس، عكس الأحكام السابقة، أول شيء: قلنا في الإثبات: إذا قال لها: إن كنت حاملاً فأنت طالقٌ ووضعت لأقل من ستة أشهر تطلق، وهنا إذا قال: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق ووضعت لأقل من ستة أشهر فلا تطلق، لأنه ثبت بوضعها في أقل من ستة أشهر أنها كانت حاملاً وقت قوله ذلك، فحينئذٍ لم يتحقق الشرط، لأن الطلاق عند تعلقه بالإثبات يفتقر للإثبات، وعند تعلقه بالنفي يفتقر إلى النفي، والنفي إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق غير موجود؛ لأنها كانت حاملاً حينئذٍ، ففي حالة الإثبات إن ولدت بدون ستة أشهر طلقت وفي حال النفي إن ولدت بدون ستة أشهر لم تطلق؛ لأن المسألة الأولى ثبت فيها موجب الطلاق فحكمنا بطلاقها، وفي المسألة الثانية انتفى موجب الطلاق فلم يحكم بطلاقها، فلو جامعها خلال الستة الأشهر وأمكن أن ينسب الولد للجماع الثاني فوضعت الولد في رمضان، وكان قد قال لها: إن لم تكوني حاملاً، في المحرم، وجامعها في صفرٍ فإننا نحكم بأن الولد من صفر، وأنها كانت في محرم خلواً من الحمل، فتطلق من حين قوله: إن لم تكوني حاملاً، عكس الإثبات، فهو إذا قال لها: إن لم تكوني حاملاً فولدت من دون ستة أشهر تحققنا أنها كانت حاملاً، وإن مضى أكثر من ستة أشهر وجامعها بعد ذلك جماعاً يمكن أن ينسب إليه الولد فحينئذٍِ ثبت أنها لم تكن حاملاً فتطلق عليه منذ أن تلفظ بالشرط، لكن لو جامعها جماعاً ثانياً بعد الشرط، ووضعت لأربعة أشهر بعد الجماع الثاني فإنها لا تطلق لأن الجماع الثاني لا ينسب له ولدٌ ويكون حينئذٍ الولد موجوداً أثناء الشرط ومنسوباً للجماع الذي قبل الشرط، فإذا نسبت الولد للجماع الذي قبل الشرط فحينئذٍ كانت حاملاً، وهو يقول: أنت طالق إن لم تكوني حاملاً فلا تطلق، فالنفي عكس الإثبات، فإذا عرفت الإثبات عرفت النفي.

الاستبراء بحيضة عند احتمال وقوع الطلاق المعلق بنفي الحمل في البائن

الاستبراء بحيضة عند احتمال وقوع الطلاق المعلق بنفي الحمل في البائن قال المصنف رحمه الله: [وإن قال إن لم تكوني حاملاً فأنت طالقٌ حرم وطؤها قبل استبرائها بحيضة في البائن]: (حرم وطؤها قبل استبرائها بحيضة في البائن) إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق، فإن حاضت بعد ذلك فقد ثبت عندنا أنها لم تكن حاملاً؛ لأن الحامل -كما اختاره المصنف وطائفة من العلماء- لا تحيض، واستدلوا بقوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] فمن العلماء من قال من أسماء الحيض: الضحك، واختاره بعض أئمة اللغة، وإن كان بعض المفسرين ضعف هذا القول واختار غيره، قالوا: ضحكت: بمعنى حاضت {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} [هود:71 - 72] ما قالت: أألد وأنا آيسة، لأنه نزل معها الحيض، قالوا: صار قولها: يا ويلتا أألد وأنا عجوز قرينة على أن معنى ضحكت إنما هو الحيض، وليس ضحك التعجب؛ لأنها وجدت ما يدل على إمكان الحمل منذ خروج الدم، وهذا من قدرة الله عز وجل وهو على كل شيء قدير. فدلت الآية على أنه إذا وجد الحيض أمكن الحمل، وعلى ذلك: ينقطع الحمل بانقطاع الحيض، وقالوا على هذا أيضاً: ينقطع الحيض بوجود الحمل، ويتعلق كلٌ منهما بالآخر، فالشاهد: أن المرأة إذا قال لها: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالقٌ احتمل أنها خلو، وإذا كانت خلواً أي: ليست بحامل فإنها حينئذٍ تكون طالقاً عليه منذ أن تلفظ، فإذا كان الطلاق طلاقاً بائناً بأن تكون هي الطلقة الأخيرة وقد طلقها طلقتين من قبل وبقيت طلقة واحدة فحينئذٍ ينبغي أن يُحتاط للاحتمال؛ لأنه لو جامعها لاحتمل أن تكون حاملاً، فيكون جامع الأجنبية المحرمة. أما لو كانت الطلقة رجعية وجامعها فالرجعية فيها وجه أنها في حكم الزوجة، فالأمر أخف، وهذا الذي جعل المصنف يفرق بين الطلقة الرجعية والطلقة البائنة. المسألة تقول: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق، فأثبت الطلاق بنفي الحمل فإذا أثبت الطلاق بنفي الحمل وكانت المرأة لم يبق من طلاقها إلا تطليقة واحدة فإنه يحتمل أنها طالق فلا يجوز له أن يغرر بنفسه بجماع امرأة أجنبية منه، فلا بد أن نتحقق ونتأكد أنها حلال؛ لأنه بمجرد ذكره لصيغة الشرط على هذا الوجه جعل امرأته مترددة بين كونها حلالاً له إذا كانت حاملاً، وبين كونها حراماً عليه إذا كانت حائلاً أي: غير حامل، فنحتاج إلى الاحتياط، وهذا الاحتياط صيانة للفروج فيجب عليه أن يستبرئها بحيضة فإن ظهر أنها غير حامل طلقت، وإن ظهر أنها حامل لا تطلق. قال المصنف رحمه الله: [وهي عكس الأولى في الأحكام]: كما ذكرنا.

تعليق الطلاق بنوع الحمل

تعليق الطلاق بنوع الحمل ثم قال رحمه الله: [وإن علق طلقة إن كانت حاملاً بذكر وطلقتين بأنثى فولدتهما طلقت ثلاثاً]: إن قال: أنت طالقٌ طلقة إن كان الذي في بطنك ذكراً، وأنت طالقٌ طلقتين إن كان الذي في بطنك أنثى، فجعل الطلاق مرتباً على وجود الحمل، لكن فصل في عدد الطلاق، فبينه وبين الله أنه إن كان رحم المرأة قد ضم ذكراً فهي طالق طلقة، وإن ضم أنثى فهي طالق طلقتين، فإن احتواهما البطن معاً طلقت ثلاثاً؛ لأنه علق الطلاق على وجود الجنس، ذكر كان أو أنثى، فلا نلتفت إلا لوجود الشيء. وقال رحمه الله: [وإن كان مكانه (إن كان حملك أو ما في بطنك) لم تطلق بهما]: وإن كان حملك ذكراً فطلقة، وإن كان حملك أنثى فطلقتين بمعنى: إن كان الرحم اختص إما بذكر وإما بأنثى، وهذه الصورة يسمونها: صورة المحض، يعني: إن كنت تحملين ذكراً فطلقة، وإن كنت تحملين أنثى فطلقتين، فكأنه رتب الطلاق على الوجود المتمحض، يعني: أطلقك طلقة إن حملت ذكراً محضاً، وأطلقك طلقتين إن حملت أنثى محضاً، فإن حملت الاثنين لم يتحقق الشرط، لأن مراده: إذا خلص الرحم بواحدٍ منهما، فلا يقع الطلاق بمجوعهما؛ فيُفرق بين الأمرين، للفرق بين الصيغتين. فقوله: إن كنت حاملاً بذكرٍ فطلقة، وإن كنت حاملاً بأنثى فطلقتين فإنه جعل الطلاق مرتباً على وجود الذكر والأنثى، سواءً كانا موجودين معاً، أو كانا موجودين بانفراد، ولا يقصد التمحض، وليست الصيغة مما تحتمل التمحض. لكن إن قال: (إن كان حملك أو ما في بطنك لم تطلق بهما). لقصد المحضية، أي: بيني وبين الله إن كان هذا الحمل أنثى فطلقتين، وإن كان ذكراً فطلقة فحينئذٍ ننظر إلى الحمل متمحضاً بالذكورة ومتمحضاً بالإناث. فهذا الفرق بين المسألتين، في المسألة الأولى جعل الأمر مرتباً على وجود الذكر ووجود الأنثى بغض النظر عن المحضية وعدمها، وفي المسألة الثانية العكس.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية وقوع الطلاق المعلق بالحيض إذا كانت المرأة ليس لها عادة منضبطة

كيفية وقوع الطلاق المعلق بالحيض إذا كانت المرأة ليس لها عادة منضبطة Q لو كانت المرأة ليست لها عادة بأن كانت يأتيها الدم مرة يومين ومرة ثلاثاً أو أربعة أيام فعلق الطلاق بالحيضة الكاملة، أو نصف الحيضة فكيف يقع الطلاق في هذه الحالة؟ A باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالمرأة إذا لم تكن لها عادة فإنها تنتقل إلى التمييز، والتمييز المراد به أن تميز الدم: تميزه بلونه، وتميزه برائحته، وتميزه بغلظته ورقته، وبوجود الألم؛ لأن دم الحيض يخرج من قعر الرحم، فيكون حارقاً مؤلماً ودم الاستحاضة يخرج من عرق العاذل أو العاند على حسب الروايات فيميز كما قال بعض العلماء: باللون والريح وبالتألم وكثرة وقلة ميز الدمِ أي: ميز دم الحائض بلونه، كأن يأتيها في اليوم الأول أحمر غامقاً شديداً، ثم ينقطع بعد ثلاثة أيام أو أربعة أيام أو خمسة أيام ويصير أحمر فاتحاً، فأيام الأحمر الغامق يثبت الحيض به، وأما أيام انفتاح الدم وضعفه فيكون استحاضة، واستدلوا لذلك بالحديث الذي في السنن -ومن العلماء من حسن إسناده- وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (إن دم الحيض دم أسود يعرف) وقوله: (يعرف) أي: له عرف ورائحة، وعلى هذا قالوا: إنه يدل على أن التمييز معتبر، فتميزه وتبني على التمييز، ويكون حكمه حكم المميزات، والله تعالى أعلم.

باب تعليق الطلاق بالشروط [5]

شرح زاد المستقنع - باب تعليق الطلاق بالشروط [5] تعليق الطلاق على ولادة الذكر أو الأنثى، وتعليق عدد الطلاق بولادة أحدهما؛ كل ذلك بين أحكامه العلماء، ويختلف الحكم بولادة التوأم في هذه المسائل سواء كانا ذكرين أو أنثيين أو ذكراً وأنثى. وكذلك تعليق الطلاق على الطلاق فيه مسائل كثيرة؛ بين العلماء رحمهم الله أحكامها بالتفصيل.

تعليق الطلاق على الولادة

تعليق الطلاق على الولادة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: إذا علق طلقة على الولادة بذكر وطلقتين بأنثى فولدت ذكراً ثم أنثى حياً أو ميتاً طلقت بالأول وبانت بالثاني ولم تطلق به] هذا الفصل وصفه بعض العلماء بتعليق الطلاق بالولادة، والناس تختلف عباراتهم والجمل التي يستخدمونها في تعليق الطلاق، ولما كانت الجمل تشتمل على بعض الأمور المهمة التي يختلف فيها الحكم مع اختلاف الأحوال فإن العلماء -رحمهم الله- يعتنون بذكر المسائل فيها، لكي يكون في ذلك رياضة للذهن، ومعونة لطالب العلم على استيعاب هذه الصور وأمثالها، وقد بينا ذلك فيما تقدم في مسائل التعليق. وتعليق الطلاق بالولادة: أن يرتب الطلاق على وجود الولادة، وقد يكون الطلاق متوقفاً على معرفة نوعية الولد الذي تلده المرأة، فتارة يقول: أنت طالق إذا ولدتِ ذكراً، فيجعل الطلاق مرتباً على كون المولود ذكراً، وتارة يقول: إذا ولدتِ أنثى، فيكون الطلاق مقيداً بولادة الأنثى، وتارة يخالف في عدد الطلاق باختلاف نوعية المولود، فيقول: إن ولدتِ ذكراً فأنتِ طالق طلقة وإن ولدتِ أنثى فطلقتين، وتارة يقول: إن كان الذي في بطنكِ ذكراً فأنتِ طالق طلقة وإن كان الذي في بطنكِ أنثى فأنتِ طالق طلقتين، وفي القديم يتوقفون في مثل هذه الحالة إلى الولادة، فيتوقف العالم والمفتي عن الفتوى في الطلاق إلى خروج الولد، أو يعطي الحكم مرتباً على حسب نوعية الولد، لاختلاف عدد الطلاق باختلافه. والولادة مأخوذة من الولد، والولد في لغة العرب يطلق على الذكر والأنثى، فإذا قيل: ولد، شمل الذكر والأنثى، وإن كان بعض الناس يخصونه بالذكور، ولكن هذا خلاف الأصل اللغوي، وخلاف إطلاق القرآن كما قال سبحانه وتعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] فجعل الولد شاملاً للذكر وللأنثى، وسميت الولادة ولادة؛ لأنها تشتمل على الذكور أو على الإناث وهذا في الغالب، وقد تشتمل على الخنثى الذي لا يعرف أذكر هو أو أنثى؟ لكنه نادر الوقوع، والحكم للغالب، وقولهم: يعلق الطلاق على الولادة أي: على الإنجاب وإخراج الولد، ويختلف الحكم بحسب اختلاف هذا الإخراج وما علق عليه الطلاق من صفات. ومناسبة هذا الفصل للذي قبله: أننا كنا نتحدث عن تعليق الطلاق بالحمل، وبينا المسائل المتعلقة بتعليق الطلاق على الحمل، وبعد أن فرغ -رحمه الله- من بيان مسائل تعليق الطلاق بالحمل شرع في بيان المسائل المتعلقة بالولادة، وهذا من باب الترتيب؛ لأن الولادة تأتي بعد الحمل، والناس يعلقون الطلاق على الحمل، ويعلقون الطلاق على الولادة، وقد تتصل أحكام تعليق الطلاق بالولادة بأحكام تعليق الطلاق بالحمل، كما لو قال لها: إذا كان حملكِ ذكراً فأنتِ طالق، وإذا كان حملكِ أنثى فأنتِ لستِ بطالق، أو قال لها: إن كان الذي في بطنكِ ذكراً فأنتِ طالق. فحينئذٍ ننتظر إلى الولادة، فنحكم بوقوع الطلاق إن كان ذكراً من حين تكلم به، وتكون قد خرجت من عصمته وذلك بانتهاء عدتها بالولادة؛ لأننا نحكم بطلاقها منذ أن تلفظ بقوله: إن كان الذي في بطنكِ ذكراً فأنتِ طالق طلقة. فحينئذٍ إذا ولدت ذكراً علمنا أن الطلاق قد وقع من قوله: إن كان الذي في بطنكِ ذكراً، وقد كان الذي في بطنها ذكراً، فحينئذٍِ تطلق من حين تلفظه، ثم تبقى في عدتها إلى أن تخرج من العدة بولادة الولد؛ لأن المرأة الحامل تنتهي عدتها بوضع حملها، فنحكم بخروجها من العدة بمجرد خروج الذكر.

تعليق عدد الطلقات بنوع المولود

تعليق عدد الطلقات بنوع المولود قوله: (إذا علق طلقة على الولادة بذكر وطلقتين بأنثى). قال: أنتِ طالق طلقة إن ولدتِ ذكراً، وأنتِ طالق طلقتين إن ولدتِ أنثى، فحينئذٍ اختلف عدد الطلاق باختلاف نوعية المولود، فالطلقة لازمة له إن كان الذي ولدته ذكراً، والطلقتان لازمة له إن كان الذي ولدته أنثى، وقد يعكس فيجعل الأكثر للذكر والأقل للأنثى، والحكم سواء، لكن من حيث التفصيل في الوقوع يختلف، فهو إذا قال لها: إن ولدتِ ذكراً فأنتِ طالق طلقة، وإن ولدتِ أنثى فأنتِ طالق طلقتين؛ فينبغي أن يعلم أن الطلاق موقوف على الولادة، فلا نطلق حتى تقع الولادة، فإذا حصلت الولادة حكمنا بوقوع الطلاق، إن كان ذكراً حكمنا بطلقة، وإن كان أنثى حكمنا بطلقتين. ولا يخلو الذي في بطن المرأة من حالتين: إما أن يكون مولوداً واحداً وإما أن يكون أكثر من مولود، فإن كان الذي في بطنها مولوداً واحداً؛ فإن أخرجته ذكراً فلا إشكال؛ وإن أخرجته أنثى فلا إشكال؛ لأنك ستحكم بوقوع الطلاق بمجرد الولادة، ثم تفصل في عدد الطلاق على حسب نوعية المولود، هذا إذا قال لها: إن كان ذكراً، إن كان أنثى، لكن لو قال لها: أنتِ طالق طلقة إن ولدتِ ذكراً وسكت، فنتوقف على شيئين: على الولادة، وأن يكون المولود ذكراً، فإن ولدت أنثى فلا طلاق؛ لأنه قيد الطلاق فيما بينه وبين الله عز وجل بكون المولود ذكراً فلا يقع إلا إذا وقع الذي اشترطه. إذاً إذا قال لها: إن ولدتِ ذكراً، إن ولدتِ أنثى. وحدد الذكر أو الأنثى وجعل الطلاق لواحد منهما كأن يقول: إن ولدت ذكراً فأنتِ طالق طلقة، أو قال: إن ولدتِ أنثى فأنتِ طالق طلقة فلا تطلق عليه إلا بوجود الذكر إن اشترطه أو الأنثى إن اشترطها، لكن إذا جمع بين الذكر والأنثى في وقوع الطلاق فقال: إن ولدتِ ذكراً فأنتِ طالق طلقة وإن ولدتِ أنثى فأنتِ طالق طلقتين حينئذٍ تنظر في ولادتها، وتخالف في حكم الطلاق من حيث العدد بحسب المولود.

تعليق ذات الطلاق بنوع المولود

تعليق ذات الطلاق بنوع المولود إذاً من حيث الأصل إذا ولدت مولوداً واحداً وعلق الطلاق على ولادتها فله صورتان: إما أن يعلق الطلاق على جنس واحد ذكراً أو أنثى فلا نطلق إلا بوجود الجنس الذي علق الطلاق عليه، مثل أن يقول: إن ولدت ذكراً فأنتِ طالق مفهوم اللفظ: أنكِ إن ولدتِ أنثى فلست بطالق، فننظر إن كان الذي ولدته ذكراً طلقنا، وإن كان الذي ولدته أنثى فلا طلاق، هذا في حال تردد الطلاق بين الوقوع وعدم الوقوع في حال وجود الحمل الواحد، يعني: ذكراً أو أنثى، وأما إذا قال: أنتِ طالق إن ولدتِ ذكراً طلقة وأنتِ طالق طلقتين إن ولدتِ أنثى، فحينئذٍ الطلاق سيقع سيقع لكنه يختلف من حيث العدد. فالفرق بين الصورة الأولى والصورة الثانية، أن الصورة الأولى: لا يقع الطلاق إلا إذا تحقق ما ذكره من كونه ذكراً أو كونه أنثى، وفي الصورة الثانية سيقع الطلاق سيقع، إن ولدت ذكراً طلقة، وإن ولدتِ أنثى طلقتين، فحينئذٍ إما أن تلد ذكراً وإما أن تلد أنثى، فإذا ولدت وليس هنا أكثر من واحد، فإن ولدت ذكراً وقع الطلاق، وإن ولدت أنثى وقع الطلاق، لكن يختلف العدد بحسب ما جعل في شرطه للأنثى من عدد وبحسب ما جعل في شرطه للذكر من عدد. ففي الصورة الثانية يتنوع الحكم ويختلف بحسب اختلاف نوعية المولود، فإن جعل الأكثر من الطلاق للأنثى حكمنا بالطلقتين إن كان المولود أنثى، وحكمنا بطلقة إن كان المولود ذكراً، والعكس بالعكس، هذا في قوله: إن ولدتِ ذكراً أو أنثى وخالف في العدد، وكان المولود واحداً.

الحكم إذا علق الطلاق بنوع وولدت توأمين

الحكم إذا علق الطلاق بنوع وولدت توأمين لكن لو قال لها: إن ولدتِ ذكراً فأنتِ طالق طلقة وإن ولدتِ أنثى فأنتِ طالق طلقتين وولدت توأمين، ففي الصورة الأولى إذا قال لها: أنتِ طالق طلقة إن ولدت ذكراً، ننظر في التوأم، فلا نوقع الطلاق إلا إذا كان ذكراً، فلو كان التوأم صبيتين فلا طلاق؛ لأنه جعل الطلاق مرتباً على الذكر، وبينه وبين الله أن امرأته طالق إن ولدت الذكر ولم تلد ذكراً، وأما إذا علقه على الجنسين فقال: أنتِ طالق طلقة إن ولدتِ ذكراً وطلقتين إن ولدتِ أنثى فأخرجت توأمين، إما أن تخرجهما ذكوراً أو تخرجهما أناثاً أو تخرجهما ذكراً وأنثى، فإذا كانت أخرجته ذكراً وقال لها: أنتِ طالق طلقة إن ولدتِ ذكراً وطلقتين إن ولدتِ أنثى نحكم بالطلقة الأولى بخروج الذكر الأول، وبمجرد خروجه يقع الطلاق، فتبقى المرأة معتدة بعد خروجه، فإن خرج المولود الثاني وهو الذكر الثاني أخرجها من عدتها ووقع الطلاق الثاني على امرأة خلو من نكاح؛ لأنها أجنبية عنه، فإنها بمجرد إخراج المولود الثاني أصبحت خارجة من عدتها، والطلاق الثاني لا يقع إلا بعد خروج الذكر الثاني، فخرج الذكر الثاني فأخرجها من عصمته وحينئذٍ جاء طلاقه ولم يصادف محلاً موجباً للوقوع. على هذا نقول: إن قال لها: أنتِ طالق طلقة إن ولدتِ ذكراً، وطلقتين إن ولدتِ أنثى، وحملت بذكرين فولدتهما وكانت الولادة متعاقبة كما هو المعروف حكمنا بالطلقة الأولى بالذكر الأول، وحكمنا بكونها معتدة قبل خروج الذكر الثاني؛ لأن كل طلاق له عدته إلا ما استثناه الشرع، فنحكم بكونها معتدة قبل خروج التوأم الثاني، فلما خرج التوأم الثاني خرجت من عدة طلاق الأول؛ لأن الله يقول: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] فلما خرجت من العدة؛ والطلاق الثاني لا يقع إلا بعد تمام الولادة؛ لأنه قال: أنتِ طالق إن ولدتِ ذكراً، فيأتي الطلاق الثاني وهي أجنبية فلا يقع الطلاق الثاني فتطلق طلقة واحدة في هذه المسألة، والعكس في الأنثى، إن قال لها: أنتِ طالق إن ولدتِ أنثى طلقتين فولدت صبيتين فإن الطلقتين تقع بالأنثى الأولى ثم تخرج من العدة بالأنثى الثانية فلا تصادف الطلقة الثالثة محلاً، فلا تبين وإنما تكون أجنبية مطلقة طلقتين فقط. إذاً: في حال حملها بالتوأم إن تمحض ذكوراً طلقت بالذكر الأول وبانت بالذكر الثاني ولم يقع طلاقها بالثاني، وهكذا في الأنثى، واختلف الحكم في عدد الطلاق بحسب ما علقه على الذكر والأنثى، هذا إذا اتحد التوأم، وكان ذكراً أو أنثى، لكن لو قال لها: أنتِ طالق طلقة إن ولدتِ ذكراً، وأنتِ طالق طلقتين إن ولدتِ أنثى، وحملت بتوأمين ذكر وأنثى، فإن حملت بتوأمين أحدهما ذكر والثاني أنثى فلا يخلو إما أن يخرج أحدهما قبل الآخر، وإما أن يخرجا مع بعضهما دفعة واحدة، فإن خرج الذكر طلقت طلقة واحدة، وأصبحت أجنبية بخروج الأنثى بعده؛ لأنها قد وضعت حملها فجاء طلاق الأنثى -وهما الطلقتان- على أجنبية، مثل ما ذكرنا في تمحض الذكور وتمحض الإناث، فنحكم بكونها طالقاً طلقة إن سبق الذكر وطلقتين إن سبقت الأنثى ولا نتبع الطلقة الأولى في الذكر ولا نتبع الطلقتين في الأنثى؛ لأنها تكون أجنبية بولادة التوأم الثاني، فنوقع الطلاق بالأول، ونخرجها من عصمته بولادة التوأم الثاني ثم نفصل في الأول على حسب ما رتب من العدد، إن طلقة فطلقة وإن طلقتين فطلقتين، لكن لو أنهما خرجا مع بعضهما، وقد قال: إن ولدتِ ذكراً فأنتِ طالق طلقة، وإن ولدتِ أنثى فأنت طالق طلقتين، فإن كان قد قصد أن يكون الولد واحداً منهما، إن ولدتِ ذكراً متمحضاً أو ولدتِ أنثى متمحضة فحينئذٍ لا تطلق؛ لأنها لم تلد ذكراً محضاً ولم تلد أنثى محضة؛ لأنه ما قصد الجمع وإنما قصد أن يكون متمحضاً بالذكورة أو متمحضاً بالأنوثة، فحينئذٍ لا تطلق إلا إذا تمحض الذي في بطنها مولوداً ذكراً أو مولوداً أنثى، هذا إذا كان قوله بصيغة التمحض، وقصد أن يكون مولودها ذكراً أو يكون مولودها أنثى دون أن يكون معه شريك، فلا تطلق؛ لأنه لم يتحقق الشرط الذي بنى عليه تعليقه، لكن لو قصد مطلق الولادة وقصد أنها إذا ولدت ذكراً أو أنثى مجموعين أو متفرقين فإنها تطلق ثلاثاً، طلقتان بالأنثى وطلقة بالذكر، ففي حال كونه يرتب الطلاق على الأنثى طلقتين وعلى الذكر طلقة ويخرجان مع بعضهما، إن قصد تمحض الولادة ذكراً أو تمحض الولادة أنثى وصرح بذلك فحينئذٍ لا تطلق؛ لأنها لم تضع ولداً ذكراً ولم تضع ولداً أنثى وإنما وضعت الاثنين، وهذه المسألة مشهورة حتى في الأيمان، لو حلف وقال: والله لا ألبس ثوباً من غزل فلانة، ثم لبس ثوباً فيه شيء من غزل فلانة، فالثوب ليس كله من غزلها، فهل ننظر إلى تمحض الثوب من غزلها؟ أو ننظر إلى مطلق الوجود؟ فإذا كنا ننظر إلى مطلق الوجود فحينئذٍ يحنث في يمينه، وإن نظرنا إلى التمحض فإنه لا يحنث في يمينه، وكلاهما وجهان في مذهب الإمام أحمد رحمه الله كما حكاه القاضي أبو يعلى وأشار إلى ذلك الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني. هذا حاصل الكلام في مسألة اختلاف عدد الطلاق بالذكورة والأنوثة. (إذا علق طلقة على الولادة بذكر وطلقتين بأنثى، فولدت ذكراً ثم أنثى حياً أو ميتاً، طلقت بالأول وبانت بالثاني ولم تطلق به). قال: (ولدت ذكراً ثم أنثى) لاحظ كلمة (ثم) وهي تقتضي الترتيب، إذا ولدت الذكر ثم ولدت بعده الأنثى؛ نطلقها بحسب السابق ذكراً كان أو أنثى، ثم نحكم بكونها معتدة، ثم نخرجها من العدة بمجرد وضعها للثاني، ونحكم بأن الطلاق الثاني لم يصادف محلاً، وهذا بيناه وفصلناه، لكن لو أنه قال لها: أنتِ طالق طلقة إن ولدتِ ذكراً، وطلقتين إن ولدتِ أنثى، ثم ولدت ذكراً فلما جاءها في وضعها وعنائها فقالت له: هكذا طلقتني يا فلان، قال: راجعتكِ، فراجعها، فجاء المولود المبارك الثاني فحينئذٍ تكون في عصمته ويأتي طلاق الثاني موجباً للبينونة، إذا راجعها قبل خروج الثاني فإننا نحكم بوقوع طلاق الثاني؛ لأن سقوط طلاق الثاني محله أن تكون أجنبية ولم تقع مراجعة، أما لو راجعها وعادت إلى عصمته فإذا خرج المولود الثاني فإنه يوجب الطلاق. (حياً -كان المولود- أو ميتاً) لأنه قال: إن ولدتِ، والولادة تصدق بمجرد الخروج، فإذا أخرجته حياً فهو مولود وإن أخرجته ميتاً فهو مولود؛ لأن الولادة تقع على مطلق الإخراج، لكن إذا أخرجته ميتاً ففيه تفصيل: إذا كان كامل الخلقة فلا إشكال ويحكم بوقوع الطلاق، وأما إذا كان ناقص الخلقة، فهذه مسألة خلافية، بعض العلماء يقول: كل ما تخرجه المرأة وتسقطه من رحمها قبل تمام خلقته وفيه صورة الخلقة فإنه يتبعه أثر المولود في مسائل، منها: الدم، يعني: لو أنها أسقطت بعض الخلقة، وخرج معها الدم بعد إسقاطه أربعين يوماً، فهل نقول: يأخذ حكم المولود التام فيكون الدم دم نفاس؟ أو نقول: إن الإسقاط قبل تمام الخلقة لا يعتبر نفاساً فلا تأخذ حكم النفاس؟ والذي قواه غير واحد وانتصر له غير واحد من العلماء: أنها إن وضعت شيئاً فيه صورة الخلقة أنها تأخذ حكم النفساء، وعلى هذا فيكون دمها آخذاً حكم دم النفاس، ومن هنا تتفرع مسألة وقوع الطلاق؛ لأنها قد ولدت، والولادة تصدق على إخراج الحمل، وحينئذٍ قالوا: إنه يستوي في ذلك أن يكون تام الخلقة أو ناقص الخلقة، وبعض العلماء يشترط تمام الخلقة، ثم يبقى الإطلاق في كونه حياً أو ميتاً على التفصيل الذي ذكره المصنف رحمه الله. (طلقت بالأول وبانت بالثاني ولم تطلق به) (طلقت بالأول) لأن بينه وبين الله أنها إذا وضعت فهي طالق، وقد وضعت مولودها فهي طالق، (وبانت بالثاني) أي: أنها إذا طلقت الطلقة الأولى أو الطلقتين إن كان السابق أنثى فإن المولود الثاني يخرجها من عصمة الرجل؛ لأنها قبل ولادة المولود الثاني في عدتها، وكل امرأة حامل إذا وضعت حملها خرجت من عدتها على ظاهر نص التنزيل: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] فتصبح أجنبية بوضع الثاني، فإن أصبحت أجنبية بوضع الثاني فلا يقع عليها الطلاق الثاني على التفصيل الذي تقدم في حال التمحض أو حال الاختلاف.

الحكم إذا علق الطلاق بنوع وولدت توأمين ولم ندر من السابق منهما

الحكم إذا علق الطلاق بنوع وولدت توأمين ولم ندر من السابق منهما قال المصنف رحمه الله: [وإن أشكل كيفية وضعهما فواحدة] أنت تلاحظ أن المصنف جاء بمسألة إذا قال: إن كان ذكراً، إن كان أنثى، وما إذا سبق أحدهما وتأخر الثاني، ولم يتكلم على بقية المسائل التي أشرنا إليها؛ لأن العلماء عندهم أشياء بدهية معروفة لا ينبهون عليها، خاصة في المختصرات، سواءً كانت من النظم أو النثر، وهم يذكرون المسائل المشكلة والمسائل التي تكون أصولاً لغيرها؛ لأنه حينما نبهك هنا على مسألة الاختلاف فقد وضع لك الأصل في حال التمحض الذي هو أخف حالاً من حال الاختلاف. في هذه المسألة: إذا قال لها: إن ولدتِ ذكراً فأنت طالق طلقة، وإن ولدتِ أنثى فأنتِ طالق طلقتين، وكان في بطنها توأماً ذكر وأنثى، فحينئذٍ يرد Q إن سبق أحدهما الآخر ولم نعلم هل السابق الذكر أو الأنثى؟ فهل نحكم بطلقة أو نحكم بطلقتين؟ هو قال لامرأته: إذا ولدتِ ذكراً فأنتِ طالق طلقة وإذا ولدتِ أنثى فأنتِ طالق طلقتين فوضعت توأمين، سبق أحدهما الآخر، وأحدهما ذكر والآخر أنثى، فهل نقول: إنها تطلق طلقة واحدة أو نقول: تطلق طلقتين؟ وقد ذكرنا أنه إذا سبق أحدهما فالطلاق للسابق، فإن سبق الذكر فطلقة وإن سبقت الأنثى فطلقتان، فبالتأكيد أنه سبق أحدهما، ولكن المرأة أثناء نفاسها لم يكن عندها أحد، أو وضعت في ظلام وأخرجت الأول ثم الثاني، أو وضعت وعلمت أن الأول أنثى والثاني ذكر أو العكس ثم نسيت، أو التي وضعت كانت لا تعي ولا تتنبه وجاءت التي تقوم على ولادتها فأخرجت ذكراً وأخرجت أنثى ولم نعلم هل الذي سبق الذكر أم الأنثى؟ العلماء -رحمهم الله- عندهم قاعدة تقول: (اليقين لا يزال بالشك)، فإذا ولدت المرأة توأمين متعاقبين مختلفين، بهذين الشرطين: أن يكونا توأمين، وأن يكونا متعاقبين، أي: تلد الأول ثم الثاني بخلاف ما إذا ولدتهما مع بعضهما، إذا ولدت توأمين متعاقبين، وكان طلاقها مختلفاً بحسب اختلاف التوأمين جنساً، بأن يكون طلقة للذكر وطلقتين للأنثى أو العكس، طلقتان للذكر وطلقة للأنثى، وقد تأكدنا أن أحدهما سبق، فعند العلماء قاعدة، يقولون: نحن لا نشك في وقوع طلقة واحدة، أي: متحققون وعلى يقين أنها قد طلقت طلقة واحدة، وهذا ما فيه إشكال؛ لأنه إما أن يكون سبق الذكر وإما أن تكون سبقت الأنثى، والذكر يوجب طلقة والأنثى توجب طلقتين، فهناك طلقة لا إشكال في وقوعها، وهناك طلقة محتملة، حيث يحتمل أن الذي سبق هو الأنثى فتكون قد طلقت طلقتين وتأخر الذكر الذي يوجب الطلقة أو يكون الأمر بالعكس، بأن يكون سبق الذكر وتأخرت الأنثى فوقعت طلقة ولم تقع الطلقة الثانية؛ لأن الأنثى لا طلاق لها؛ لأن المرأة قد بانت بخروجها، فقالوا: اليقين عندنا طلقة والشك في الطلقة الثانية، فنقول: اليقين لا يزال بالشك، والأصل عدم وقوع الطلاق حتى يدل الدليل على وقوعه، فنحن ليس عندنا أمارة ولا غلبة ظن بسبق أحدهما، فتطلق طلقة واحدة، وهذا في حال ما إذا تحققنا أنه سبق أحدهما -بمعنى: التعاقب- ويكون قد خالف في عدد الطلاق، لكن لا تقع هذه المسألة إلا إذا حصل الشك، إذا شك في الذي سبق هل الأنثى أو الذكر؟ أما لو استطعنا أن نميز، ووجدت قرينة تدل على السبق، فحينئذٍ نحكم بالقرينة، مثال ذلك: لو أن المرأة دهمها الطلق فقذفت بالأول ثم قذفت بالثاني، فلما قذفت بالثاني حملته من بجوارها، فحينئذٍ الأول المتلطخ يمكن أن يعلم أو يعرف أنه الذي سبق فننظر فيه: إن كان ذكراً فذكر وإن كان أنثى فأنثى، فهنا علامة، إما أن يكون موضوعاً على الأرض والثاني حملته من تقوم على ولادتها، أو يكون المكان مختلفاً فوضعت الأول ثم نقلت إلى مكان آخر فوضعت الثاني، فنعلم أن الذي ولد في الغرفة الأولى هو السابق والذي في الغرفة الثانية هو اللاحق، فحينئذٍ إذا وجدت أمارة أو علامة تدل على سبق أحدهما على الآخر حكم بذلك، أو بالصوت الذي هو الصراخ، كأن تكون ولدت وكان الأول لا صوت له فوجد ميتاً، والثاني صرخ، فنعلم أن الحي هو الثاني، فإن كان ذكراً احتسبت الطلقتان بالسابق وهو الأنثى، والعكس بالعكس. فإذا وجدت قرائن أو أمارات أو علامات تدل على سبق أحد المولودين للآخر فإنه يحكم بهذه العلامات، فمحل التفصيل أن يستويا ولا يمكن التمييز، أما إذا أمكن التمييز فإنه يحكم به، والقاعدة الشرعية تقول: (الغالب كالمحقق)، فغلبة الظن والشيء الغالب الوقوع نحكم به، وما دام أنه غلب على ظننا -بهذه الأمارات والعلامات- أنه السابق حكم بذلك واعتد به.

تعليق الطلاق على الطلاق

تعليق الطلاق على الطلاق قال رحمه الله تعالى: [فصل: إذا علقه على الطلاق ثم علقه على القيام أو علقه على القيام ثم علقه على وقوع الطلاق فقامت طلقت طلقتين فيهما] يقول: إن طلقتكِ فأنتِ طالق وإن قمتِ فأنتِ طالق، أي: علق على الطلاق وعلق على القيام، فإذا علق على الطلاق وقال: إن طلقتكِ فأنتِ طالق؛ فقدم الطلاق على القيام فإنها إذا قامت تطلق طلقة بالقيام ثم طلقة ثانية بقوله: إن طلقتكِ فأنتِ طالق، لأنه قال لها: إن طلقتكِ فأنتِ طالق ثم قال: إن قمتِ فأنتِ طالق، إن قعدتِ فأنتِ طالق، إن خرجتِ فأنتِ طالق؛ فخرجت أو قعدت أو قامت حكم بطلقتها الأولى لوجود صفة الخروج أو القيام أو القعود، وحكم بالطلقة الثانية لأنه جعل بينه وبين الله أن يطلقها إن كان وقع طلاقه عليها، وقد وقع طلاقه عليها بوجود الشرط، وحينئذٍ نحكم بأن التعليق الأول وهو قوله: إن طلقتكِ فأنتِ طالق، موجب لوقوع الطلاق الثاني. على هذا: إذا قال لها: إن طلقتكِ فأنتِ طالق، يستوي أن يطلقها طلاقاً منجزاً أو طلاقاً معلقاً، فأي رجل يقول لامرأته: إن طلقتكِ فأنتِ طالق، فأي طلاق يقع بعد هذه الجملة يتبع بطلاق ثانٍ لمكان التعليق، فأصبح الطلاق يحمل على الطلاق؛ لأنه فيما بينه وبين الله عز وجل قد طلق امرأته وهو مطلق لامرأته إن طلقها، فنقول: إذا وقع القيام بعد اشتراطها وتعليقه للطلاق على تطليقها؛ فإننا نحكم بكونها طالقاً بالقيام أولاً، ثم نحكم بطلاق التعليق على الطلاق بعد وقوع الطلاق المعلق على القيام. قال رحمه الله: (إذا علقه -أي: الطلاق- على الطلاق) ومثال ذلك: أن يقول: أنتِ طالق إن طلقتكِ، (ثم علقه على القيام) يعني: علق الطلاق على القيام، فإنها تطلق طلقتين إذا قامت، فالقيام أوجب طلقة بالتعليق الثاني، وأوجب تطليق القيام طلقة بالتعليق الأول، إذا قال لها: إن طلقتكِ فأنتِ طالق وإن قمتِ فأنتِ طالق فتطلق بالقيام طلقة وتطلق طلقة ثانية بوجود الشرط من كونه مطلقاًَ لها، إذاً: قوله: إن طلقتكِ فأنتِ طالق يستوي فيه أن يطلقها منجزاً أو يطلقها معلقة. (أو علقه على القيام ثم علقه على وقوع الطلاق). (علقه على القيام) فقال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق، وإن وقع مني طلاق فأنتِ طالق، فحينئذٍ علق على الوقوع ليس على التطليق، وفرق بين التعليق على التطليق وبين وقوع الطلاق، هناك فرق بين الأمرين، فإنه إذا قال: إن طلقتكِ فأنتِ طالق فمراده إن وقع منه طلاق، فهذا يضاف للمستقبل ولا يضاف للماضي حتى لا تشكل علينا المسائل الآتية، إن طلقتكِ فأنتِ طالق، يعتبر تعليقاً مسنداً للمستقبل، بدليل أنه لو كان قد طلقها من قبل فإنها لا تطلق؛ لأنه يقول: إن طلقتكِ، والكلام مضاف إلى المستقبل، فلا يقع الطلاق فيما مضى ويقع فيما يأتي، فلو أنه قبل هذا التعليق علق الطلاق على قيام أو قعود أو جلوس فهذا مسند إلى الماضي وسيأتي، وإنما يؤثر في هذه الصيغة: (إن طلقتكِ) أن يكون مضافاً إلى المستقبل، وأن يكون تعليقه للطلاق بعد وجود التعليق على الشرط، يعني: على كونه مطلقاً لها. بناءً على هذا: إذا قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق، ثم قال: إن طلقتكِ فأنتِ طالق؛ فحينئذٍ لا نطلق إلا إذا وقع طلاق في المستقبل، فلو قامت طلقت بالتعليق الأول ولم تطلق بالتعليق الثاني؛ لأن التعليق الأول سابق للتعليق الثاني، والتعليق الثاني متعلق بما يقع من الشروط بعد تطليقه، وإنما طلقها قبل التعليق الثاني. الآن عندنا لفظان: اللفظ الأول: إن طلقتكِ فأنتِ طالق، بينه وبين الله أنه إن وقع منه طلاق في المستقبل فهي طالق عليه، أي رجل يقول لامرأته: إن طلقتكِ فأنتِ طالق، ويوقع صيغة تعليق أو لفظ طلاق بعد هذه الكلمة نطلق عليه. اللفظ الثاني: أن يكون طلق في الماضي أو علق في الماضي ووقع ما علقه في المستقبل فلا يؤثر؛ لأنه لم يطلق في الحال وإنما طلق فيما مضى بصيغة سابقة. فهناك أمر لازم في صيغة (إن طلقتكِ فأنتِ طالق) وهو وقوع الطلاق منه في المستقبل وهو يقول: إن طلقتكِ يعني: إن وقع مني تطليق بعد هذا، فكل شخص قال: إن طلقتكِ فأنتِ طالق، نقول له: انتبه، فكل طلاق منك سواءً كان معلقاً أو منجزاً بعد هذه الصيغة تنشئه -أي: تحدثه- فحينئذٍ يقع ويلزمك الطلاق الذي علقته على هذه الصيغة، وتطلق عليك مرتين، لكن لو علق طلاقاً قبل ذلك، نحو: إن ذهبتِ إلى أبيكِ، إن خرجتِ من البيت، إن قمتِ، إن قعدتِ، إن تكلمتِ، إن أكلتِ، إن شربتِ، ثم قال: إن طلقتكِ، فإن التعليق الأول مسند إلى الماضي، وسابق لشرطه فيما بينه وبين الله عز وجل، حيث إنه لم ينشئ طلاقاً؛ لأن التعليق قد وقع؛ ولذلك يقع التعليق منذ أن يعلقه فيما بينه وبين الله، بدليل أنه لو وقع منها الأكل أو الشرب قبل الصيغة الثانية التي فيها التعليق طلقت عليه، فإذاً التعليق الأول لا يتوقف على التعليق الثاني، والتعليق الثاني يتوقف على وقوع طلاق معلق أو منجز منشأ ومحدث بعد الصيغة. إذاً فرق بين قوله: إن طلقتكِ وقوله: إن وقع مني طلاق، فقوله: إن طلقتكِ أضاف الأمر إلى المستقبل، فإذا سكت بعد هذه الجملة ولم يتلفظ بالطلاق، ولم يعلق الطلاق فالمرأة امرأته، وإن كان هناك تعليق سابق نحكم بالتعليق السابق مستقلاً عن هذه الجملة الثانية، هذا إذا قال لها: إن طلقتكِ فأنتِ طالق، فنضيفه إلى ما بعده، والشرط عندنا أن يقع التعليق أو التنجيز بعد هذه الكلمة، وأنه لو قال قبل هذه الجملة: إن تكلمتِ فأنتِ طالق أو قمتِ فأنتِ طالق أو شربتِ فأنتِ طالق ثم قال لها: إن طلقتكِ فأنتِ طالق نقول: إن هذا التعليق مضاف إلى الماضي، وصحيح أن الطلاق الذي كان في التعليق السابق يقع بعد وقوع التعليق الثاني لكنه غير مرتبط به، ولا ينشئ طلاقاً ثانياً بالصيغة الثانية، وعلى هذا نقول: لو قال لها: إن قمتِ أو إن قعدتِ أو أكلتِ أو شربتِ ثم أتبع ذلك بقوله: إن طلقتكِ فأنتِ طالق لم يقع طلاق بالجملة الثانية حتى ينشئ تطليقاً بعدها. لكن إن علق التطليق على وقوع الطلاق، قال: إن وقع مني طلاق فأنتِ طالق، لاحظ: (إن طلقتكِ) غير (إن وقع مني) فإن وقوع الطلاق شيء وإنشاء الطلاق شيء آخر، ففي الصورة الثانية تعلق تطليقه بالشرط الثاني على صفة، وبناءً على ذلك متى ما وجدت الصفة وجد التطليق، هو يقول لها: إن وقع مني طلاق، يعني: بسببي، فحينئذٍ يشمل ما إذا كان قبل التعليق الثاني أو بعد التعليق الثاني، وعليه: فإنه إذا قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق، ثم قال: إن وقع مني طلاق فأنتِ طالق؛ فإنها إن قامت بعد الصيغة الثانية تطلق؛ لأن وقوع الطلاق قد وقع، فالصفة وجدت بخلاف الإنشاء الذي لم يوجد. نختصر المسألتين ونقول: إن علق التطليق على الطلاق إنشاءً لم يقع حتى يطلق بعد الإنشاء تنجيزاً أو تعليقاً، وإن علق الطلاق على الطلاق وقوعاً لا إنشاءً فإنها تطلق بالطلاق المعلق قبل إنشاء الطلاق الثاني، فإن وجدت صفته حكم بالطلاق الثاني وطلقت به. قال المصنف رحمه الله: [وإن علقه على قيامها ثم على طلاقه لها فقامت فواحدة] إن قال لها: إن طلقتكِ فأنتِ طالق، فمعنى ذلك: طالق طلقة واحدة، ثم قال: إن قمتِ فأنتِ طالق، فقامت نطلقها طلقتين، طلقة بقيامها وطلقة بتعليق الطلاق على تطليقها؛ لأنه اشترط فيما بينه وبين الله: إن أنشأت أو وقع مني طلاق لك في المستقبل فأنتِ طالق، فأنشأ طلاقاً معلقاً بعد هذه الجملة فتطلق بوجوده إن حصل، فنطلق طلقة بوجود شرط القيام، ونطلق طلقة ثانية بوجود شرط الطلاق، هذا بالنسبة للصورة الأولى. الصورة الثانية: العكس، قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق، ثم قال لها: إن طلقتكِ فأنتِ طالق، فقد أسند الطلاق إلى وجود القيام فنطلقها بمجرد وجود القيام، ثم وجدنا شرطه بالتطليق بالطلاق مضافاً إلى مستقبل لم يُنشِئْ فيه طلاقاً، فلا نحكم بكونها طالقاً الطلقة الثانية. فاختلفت الصيغتان: الصيغة الأولى التي توجب وقوع الطلاق طلقتين مبنية على كونه علق الطلاق على وجود طلاق في المستقبل، وقد طلق بعد هذه الجملة بالقيام، فتطلق بالقيام طلقة وتطلق بصيغة الشرط طلقة ثانية، وأما الصيغة الثانية فقد تمحض شرطه مضافاً إلى المستقبل أي: أنه إن أنشأ تطليقاً منجزاً أو معلقاً في مستقبله فتطلق، وإن لم ينشئ وإنما وقع طلاقه بناءً على تعليق سابق، ولم يكن هناك شرط منه بوقوع الطلاق على مثله، فلا نطلق عليه. الخلاصة: من قال لامرأته: أنتِ طالق إن طلقتكِ طلقة، ثم قال لها: أنتِ طالق إن قمتِ فقامت؛ طلقت طلقتين، وإن قال لها: إن قمتِ فأنتِ طالق ثم قال: إن طلقتكِ فأنتِ طالق، فقامت؛ طلقت واحدة فقط بالقيام للتعليق الأول، ولم تطلق الثانية بالتعليق الثاني؛ لأنه لم ينشئ بعده طلاقاً لا منجزاً ولا معلقاً.

الأسئلة

الأسئلة

إذا قال: إن ولدت ذكرا فأنت طالق، فهل يقيد هذا الطلاق بالحمل الموجود أم بأي حمل

إذا قال: إن ولدت ذكراً فأنت طالق، فهل يقيد هذا الطلاق بالحمل الموجود أم بأي حمل Q إذا قال: إن ولدتِ ذكراً فأنتِ طالق، فهل يقيد هذا الطلاق بالحمل الذي في بطنها أم يبقى التعليق على أي وضع تلد فيه بذكر؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فيتقيد الحكم بهذا الذكر، وبناءً على ذلك: يقع الطلاق بخروجه، ولا يتبع بعد ذلك إلا إذا قال لها: كلما ولدتِ ذكراً فأنتِ طالق، فهذه مسألة ثانية، إذا قال لها: كلما ولدتِ، وجاء في صيغته بما يدل على التكرار أو يدل على البقاء فإنه يحكم به، والله تعالى أعلم.

الجمع بين قاعدة: اليقين لا يزال بالشك، والعمل بالشبهة بين الشبهتين

الجمع بين قاعدة: اليقين لا يزال بالشك، والعمل بالشبهة بين الشبهتين Q ما الفرق بين قاعدة: (اليقين لا يزال بالشك) ومسألة الشبهة بين شبهتين، أعني: التي في مسألة اختصام سعد وعبد بن زمعة في الغلام؟ A قاعدة: (اليقين لا يزال بالشك) قاعدة مجمع على العمل بها واعتبارها؛ لدلالة نصوص الكتاب والسنة عليها، وهي إحدى القواعد الخمس المجمع عليها، والتي قامت عليها أكثر مسائل الفقه الإسلامي، وهي: (اليقين لا يزال بالشك) و (الأمور بمقاصدها)، و (المشقة تجلب التيسير)، و (الضرر يزال)، و (العادة محكمة)، هذه خمس قواعد انبنى عليها فقه الإسلام في أكثر مسائله، وقاعدة: (اليقين لا يزال بالشك) تدل على أن الأصل أن يعمل المسلم بما استيقنه ويلغي الشكوك والوساوس. أما مسألة الشبهة بين الشبهتين فهي عند استواء الاحتمالين، وإذا استوى الاحتمالان أشبه الحلال من وجه وأشبه الحرام من وجه، فحينئذٍ ليس هناك أصل، يعني: إذا جئت -مثلاً- إلى شيء متردد بين أصلين فإنك لا تستطيع أن تغلب أحد الأصلين من كل وجه، بل تقول: إنني أتورع، فأتقي هذا وأستبرئ لديني، وأحتاط في أمري ونحو ذلك. ومسألة الرضاع، ومسألة الولد للفراش، ومسألة إلحاق الولد بالشبه هذه كلها مسائل بُني فيها على غلبه الظن، وقصة عبد بن زمعة مع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه عند دخوله عليه الصلاة والسلام إلى مكة، وأمره عليه الصلاة والسلام لأم المؤمنين أن تحتجب منه لوجود الشبهة، هذه المسألة يقول بعض العلماء فيها: إذا كان هناك رضاع، وهذا الرضاع فيه شبهة، وتكلمت به امرأة، والشبهة فيه قوية، يقول: أعملِ الرضاع موجِباً لمنع النكاح، وأَسقطْه موجباً للمحرمية، فيعمل بالشبهتين، فيقول: أعملُ بالرضاع فأقول له: لا تتزوج هذه المرأة، وأُسقطُ الرضاع فأقول له: ليست بمحرم لك، وهذا مبني على الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام حينما قال: (كيف وقد قيل؟) في قصة المرأة التي ادعت أنها أرضعت صحابياً وزوجته، فقال له عليه الصلاة والسلام: (كيف وقد قيل؟)، فبعض العلماء يقول: الأمور المحرمة كالفروج والإرضاع ونحوها أمور ينبغي أن يحتاط فيها، فالنبي صلى الله عليه وسلم في مسألة الرضاع عمل بالشبهتين، فجعل للرضاع تأثيراً من جهة عدم جواز النكاح، ومنع الرجل أن يستبقي المرأة، وأيضاً أسقط حكم الرضاع واستند إلى الأصل من أنها أجنبية فمنعه من الدخول عليها ومصافحتها على أنها محرم له، فهذا يلجأ إليه الفقيه في بعض المسائل من باب الاحتياط والاستبراء للدين، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (فمن اتقى الشبهات فقد استبراء لدينه وعرضه)، وبعض العلماء -رحمهم الله- عندهم إشكال في هذه المسألة، ويقول: إذا تردد الأمر بين شبهين محرم ومبيح فإنني أغلب المحرم؛ لأن القاعدة: (إذا تعارض حاظر ومبيح يقدم الحاظر) لأن التحريم فيه زيادة حكم وزيادة علم، فالمبيح باقٍ على الأصل ومستند إلى الأصل، والأصل يرجحه، لكن كونه يأتي شبه من الحرام فقد جاءت زيادة علم، وزيادة العلم توجب التقديم، فأقدم الحرام من هذا الوجه، وبعض العلماء يقول: لا، أقدم الحلال؛ لأن الأصل إباحة الأشياء؛ والشريعة شريعة تيسير؛ والنبي صلى الله عليه وسلم ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما. وهذا كله مما يكون فيه اختلاف أنظار العلماء، وتحتك وتصطدم فيه الاجتهادات بين الأئمة، وعندها يظهر فتح الله على من فتح عليه من واسع علمه. نسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يلهمنا الحق ويرزقنا اتباعه، وأن لا يجعله ملتبساً علينا فنضِل، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

حكم من علق الطلاق بوضع ذكر أو أنثى فوضعت خنثى

حكم من علق الطلاق بوضع ذكر أو أنثى فوضعت خنثى Q ما الحكم لو ولدت خنثى وقد قال لها: إن ولدتِ ذكراً أو إن ولدتِ أنثى؟ A الخنثى في الأصل أن العلماء -رحمهم الله- يعطونه حكم الأنثى، ولذلك يعتبرونه مندرجاً تحت القاعدة المشهورة: (اليقين لا يزال بالشك)، فهو متردد بين الأنثى وبين الذكر، فاليقين أنه أنثى حتى نتيقن أنه ذكر، وإن كان في الواقع أنه بين الذكر والأنثى، فإذا ولدته على أنه خنثى وكان فيما بينه وبين الله قد اشترط تمحض الذكورية أو تمحض الأنوثة فلا طلاق؛ لأنه ليس بذكر محض ولا بأنثى محض، فإذا قصد أن يكون ذكراً محضاً أو أنثى محضاً، وكان أثناء الولادة لم يتمحض ذكراً ولم يتمحض أنثى، فاختار بعض مشايخنا -رحمة الله عليهم- أنه في هذه الحالة يحكم بعدم الطلاق؛ لأنه شرط فيما بينه وبين الله عز وجل أن يطلق الطلقة إن تمحض ذكراً وأخرجته ذكراً، ويطلق طلقتين إن تمحض أنثى وأخرجته أنثى، والخنثى ليس بذكر محض ولا بأنثى محض، ولذلك إذا تلفظ بهذا اللفظ وبينه وبين الله عز وجل أنه يقصد كونه ذكراً محضاً أو أنثى محضاً، فإنه لا يحكم بالطلاق، وزاد من ذكرنا من مشايخنا فقال: أما لو تبين بعد وضعه مباشرة أنه ذكر أو أنثى فحينئذٍ لا إشكال ويحكم بما تميز وآل إليه حاله، وقال بعض مشايخنا رحمة الله عليهم: عندي شبهة إذا كان التميز طارئاً بعد زمان، لاحتمال أن يكون مراده متمحضاً الذكورة والأنوثة أثناء الخروج وليس مراده أن يتميز بعد ذلك؛ لأنه ربما خرج مشكلاً أثناء الوضع والولادة، ثم تميز بعد الوضع والولادة بسنوات، وقد يتميز عند قرب البلوغ، ولذلك فالأصل يقتضي أنه إذا كان مراده أثناء الوضع، أن يكون ذكراً محضاً أو أنثى محضاً فلا طلاق، وهذا مثل قوله: إن كان أول ما تلدينه ذكراً فطلقة، وإن كان أول ما تلدينه أنثى فطلقتان، فولدتهما معاً فإنها لا تطلق، وهذا قول جمهور العلماء؛ لأنه قال: إن كان أول ما تلدينه، مع أن الذكر موجود والأنثى موجودة؛ لأنه علق على صفة، فهو إذا استصحب الولادة صفة مؤثرة كأن يكون بينه وبين الله أن تتمحض الولادة بالذكورة أو بالأنوثة فحينئذٍ تؤثر الصفة ويحكم بالطلاق على التفصيل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم. بالنسبة للمسألة الماضية كنا نركز في الجواب على مسألة الشبهة وتردد الشبهة، لكن السائل لعله يقصد تعارض قاعدة (اليقين لا يزال بالشك)، مع قاعدة العمل بالشبهين أو إعمال الشبهتين، إذا كان له شبه من حرام وشبه من حلال، أنا فيما يظهر لي من السؤال: أنه كيف يُجمع بين كوننا نعمل بالشبهتين، ولماذا لم نرجع إلى قاعدة (اليقين لا يزال بالشك)؟ إن كان هذا مراده فالجواب هو: أن قاعدة (اليقين لا يزال بالشك) في حال وجود الغلبة، مثلاً: شخص توضأ للظهر، ثم حضرت صلاة العصر وشك هل خرج منه شيء أو لا؟ فاليقين والغالب أنه لم يخرج شيء؛ لأن الأصل كونه متوضئاً متطهراً، وحينئذٍ لا تعارض، فعندنا أصل ثابت، لذا قالوا في القاعدة: (الأصل بقاء ما كان على ما كان)، لكن في الشبهين تعارض أصلان بدون ترجيح، ففي قصة ابن زمعة إذا جعلت الولد المختصم فيه ابناً، فحينئذٍ يكون ابن زمعة ويجوز أن يدخل على أم المؤمنين سودة بنت زمعة وتثبت المحرمية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولد للفراش) فالمرأة كانت تحت زمعة وزنى بها الرجل، فإذا جئنا ننظر إلى الأصل الموجود من كونها فراشاً لـ زمعة فهذه الأمة تبعٌ لـ زمعة فولدها تبعٌ لـ زمعة، ولا إشكال ويحكم بكونه ولداً للفراش. لكن إذا جئنا ننظر إلى القرائن الموجودة من كونه فيه شبه ممن يُدعى أنه ولده بالزنى، فحينئذٍ يقال: إنه ولده، ويؤثر فيه، وهذا على حكم الجاهلية؛ فبعض الأمور أبقيت على حكم الجاهلية، مثل الأنساب، فما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أنكحة الجاهلية لم تتوفر فيها شروط الإسلام فتكون باطلة، فالأنساب نبه العلماء على أنها تبقى على حكم الجاهلية، فإذا جئنا ننظر إلى الولد من حيث الشبه والصفات وجدنا فيه الشبه بمن زنى، فهذا يقتضي أن يلحق به، لكن في الشرع لا يلحق به وإنما يكون ولد زنى فلا يكون محرماً لـ سودة بنت زمعة رضي الله عنها وأرضاها، فأمرها عليه الصلاة والسلام أن تحتجب منه، لأن فيه شبهاً يدل على أنه ليس للفراش، وأبقى حكم الفراش بناءً على الأصل، فأعمل الأصلين، وهذا من باب تردد الشبهين، ولم يوجد أصل نرجح به أحدهما على الآخر، بخلاف الوضوء، فعندنا أصل أنه متطهر، وهو يشك هل خرج منه شيء أو لا؟ فنقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان، ونعمل بقاعدة: (اليقين لا يزال بالشك)، ثم القاعدة تدلك على هذا، فاليقين لا يزال بالشك، معناه: أن هناك أصلاً يمكن الرجوع إليه، وشبهة عارضة، وشكاً عارضاً، لكن في الشبهتين المستويتين يكون من باب تعارض الأصلين، مثل مسألتنا التي معنا، الأصل أنه أجنبي، والأصل أنه ولد، فهذان أصلان متضادان، فهو ولد لـ زمعة لأنه صاحب الفراش، وولد لذاك على أنه ألحق بالشبه، والشبه مؤثر، فتعارض الأصلان وكلٌ منهما معتبر في بابه. ومن أمثلة تعارض الأصلين وأحدهما طارئ والثاني قديم: إذا رفع المصلي رأسه من الركوع هل يقبض يديه أو يسبلهما؟ إذا جئت تنظر إلى الأصل تقول: الأصل أن المصلي لا يتحرك حركة زائدة، ولا يقف بصفة زائدة إلا بدليل صريح؛ لأنه إذا قبض يديه سيعمل حركة، والأصل يقتضي أن يسبل يديه، فالأصل العام أن يسبل حتى يدل الدليل على القبض، فتغلب جانب الإسبال، أو تقول: الأصل أنه قابض قبل الركوع، والأصل بقاء ما كان على ما كان، فإذا رفع رأسه من الركوع رجع إلى الأصل الذي كان عليه. فالقول الأول معتمد على أصل في الصلاة معتبر ولذلك قالوا: الأصل السكوت حتى يدل الدليل على الكلام، والأصل عدم الحركة حتى يدل الدليل على الحركة، فالأصل القديم مستند إلى نص في الصلاة (مالي أراكم رافعي أيديكم كأذناب خيل شمس، أسكنوا في الصلاة) أي: لا تتحركوا ولا تفعلوا شيئاً إلا إذا أُمرتم بالحركة والفعل. فشككنا في هذه المسألة هل قبضه عليه الصلاة والسلام قبل الركوع يستصحب لما بعد الركوع؟ أم نقول: إن ما بعد الركوع حالة مستقلة تحتاج إلى نص في القبض؟ من قبض يرجح هذا الأصل فهو على سنة، ومن أسبل يرجح هذا الأصل فهو على سنة، فهذا يعتبر من باب تعارض الأصلين، فهذه أصول متضادة ما تستطيع أن ترجح أحدها، لو قلت مثلاً: الأصل أن يسبل يديه؛ لأنه ما عندي دليل على القبض، يرد عليك ويقول: الأصل في الصلاة أن يقبض، فترد عليه وتقول: أصل القبض يكون قبل الركوع، وما بعد الركوع ليس له حكم ما قبل الركوع؛ لأن ما قبل الركوع فيه قراءة، وبعد الركوع يقول: سمع الله لمن حمده، ولا يقرأ، وقد جاء النص: (حتى عاد كل فقار إلى موضعه ... ) المهم أن هذا من باب تعارض الأصلين وله نظائر كثيرة، والمقصود من هذا: أنه لا يتعارض تقديم الأصل مع مسألة الشبهات لما ذكرنا من الأدلة.

وصية في تربية الأولاد

وصية في تربية الأولاد Q بعض الآباء يقتصر في تربيته لأبنائه على توفير المأكل والمشرب ويغفل عن التربية من حيث التأديب والتهذيب، فهل من وصية حول هذا الأمر؟ A أما بالنسبة لتربية الأولاد فالكلام حولها لا شك أنه يحتاج إلى وقت طويل، لكن جماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، وإذا أراد الله أن يقر عين الوالد في ولده رزقه أموراً تهيئ له البركة فتوضع له في ولده، وهذه الأسباب: أولها وأعظمها: دعاء الله أن يصلح له الذرية والولد، كما حكى الله عن أنبيائه وصالح عباده، فقال نبيه: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران:38] أي: لا تهب لي ذرية فقط، ولكن أسألك أن تكون طيبة، {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38] وقال الله عن عباده الصالحين: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، فيسأل الله في أوقات الإجابة أن يصلح له ذريته؛ لعلمه أنه إذا صلحت ذريته فإن الله عز وجل يقر عينه بهم في الدنيا والآخرة، فكم من بهجة للنظر، وكم من سرور للقلب، وكم من طمأنينة للنفس وراحة وبهجة بالولد الصالح، فهو خير معين بعد الله عز وجل على شدائد الدنيا، بل حتى إن الرجل في بيته مع زوجه لربما نزلت به مصيبة حتى كادت امرأته أن تطلق عليه، فيدخل الولد الصالح فيصلح ما بينه وبين زوجه، وهذه من بركات الذرية الصالحة، وإذا كان الولد صالحاً كان قائماً عليه إذا مرض، يقوم على شأنه ويحتسب أجره عند الله عز وجل، فيجد خيره وبركته ما شاء الله أن يجد. وكذلك من الأسباب التي تهيئ الذرية الصالحة والولد الصالح: التربية الصالحة، والتربية تفتقر بالاختصار إلى أمرين مجملين: أولهما: أن ينظر الولد إلى الصلاح في قولك وعملك، وتكون قدوة له، فإذا رآك بمجرد أن تسمع داعي الله إلى الصلاة تبكر وتبتكر، وتشحذ همتك بالتبكير إلى بيوت الله، وعمارتها بذكر الله، خرج كما خرجت وبادر كما بادرت، ولربما غيبك لحدك وغيبك قبرك فتذكرك عند كل صلاة فترحم عليك، فالأب الصالح الذي يترجم بالقدوة الصالحة وبالعمل الصالح معاني للصلاح، يخط لولده صراطاً مستقيماً، وسبيلاً قويماً، يهتدي به ولده وولد ولده من بعده، حتى ينال أجره وأجر من اقتدى بذلك الهدي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. أما الأمر الثاني في القدوة: إذا كانت القدوة هي الأساس، فينبغي على الوالد أن يهيئ لنفسه جميع أسباب القدوة، فإذا دخل البيت فليدخل بالحنان والبر والإحسان فيكون خير والد لولده، وما جُبلت قلوب الأبناء على حب الآباء بشيء مثل الإحسان، ومثل الرفق الذي ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، وهذا رسول الأمة صلى الله عليه وسلم وهو ساجد بين يدي الله يأتي ولده ويمتطي ظهره، فلما امتطى ظهر النبي صلى الله عليه وسلم سكن عليه الصلاة والسلام ولم يزعجه ولم يقلقه، فشهد ابنه بحنانه ورحمته وبره عليه الصلاة والسلام، قال بعض العلماء: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن الحسن والحسين -على اختلاف الرواية- في الخلوة من ركوب الظهر لما ركبه أمام الناس، معناه: أنه كان إذا خلا مع الحسن والحسين يدللهم، ويدخل السرور عليهم إلى درجة أنهم يمتطون ظهره، ففعلا ذلك أمام الناس، فالقدوة بالإحسان وبالكلمة الطيبة وبالبر. الكلمة الأخيرة: أن يكون هناك تعليم وتوجيه وإرشاد بكلمة طيبة، ونصيحة صادقة، وينبغي على كل والد وكل والدة أن تفرق بين النصيحة التي تكون ناشئة من أسباب دنيوية وغيرة على العرض وعلى النفس، وبين النصيحة الخارجة من قلب يخاف الله، يريد أن يقي نفسه وأهله من نار الله. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهب لنا ولكم ذرية صالحة تقر بها العين. اللهم بارك لنا في أزواجنا وذرياتنا، وارزقنا خير الولد وخير الذرية إنك ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

باب تعليق الطلاق بالشروط [6]

شرح زاد المستقنع - باب تعليق الطلاق بالشروط [6] قد يحلف الزوج بالطلاق على أمر يريد أن يمنع زوجته منه أو يحثها عليه، فيترتب على هذا الحلف مسائل في الطلاق بحثها العلماء رحمهم الله بتفاصيلها.

تعليق الطلاق على الطلاق بـ (كلما)

تعليق الطلاق على الطلاق بـ (كلما) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإن قال: كلما طلقتك أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق. فوجدا، طلقت بالأولى طلقتين وفي الثانية ثلاثاً]. تقدم معنا أن الطلاق له حالتان: الحالة الأولى: أن يوقعه الزوج منجزاً، كقوله لامرأته: أنت طالقٌ، فهذا طلاق منجز، حيث أمضى طلاقها دون أن يعلقه على شيء. الحالة الثانية: أن يكون معلقاً، والتعليق له مسائل وأحكام اعتنى العلماء -رحمهم الله- ببيانها وتفصيلها، وبين المصنف -رحمه الله- مسائل التعليق، وذكرنا أن التعليق لا يكون إلا من زوج، وبينا أنه إذا وقع من الأجنبي فلا يقع على أصح أقوال العلماء رحمهم الله. ثم هذا التعليق يشتمل على ربط حصول مضمون جملة على حصول مضمون جملة أخرى، وبينا أن لهذا التعليق أدواتٍ يتم من خلالها ربط الجمل بعضها ببعض، ومنها ما يقتضي التكرار، ومنها ما لا يقتضي التكرار، وبينا مسائل الطلاق بالشروط، وفصلنا جملة من تلك المسائل، وما زال المصنف -رحمه الله- في نوع خاص من التعليق، في معرض بيانه لتعليق الطلاق على الطلاق، فالطلاق قد يعلق على وقوع شيء إذا وقع وقع الطلاق، فيعلق إما على أقوال وإما على أفعال، ثم هذا الشيء إذا كان من جنس الطلاق فإنه يعتبر فرداً من أفراد تعليق الطلاق على وقوع الشيء، لأن التعليق قد يكون على الأقوال وقد يكون على الأفعال، والطلاق من الأقوال، فالمصنف -رحمه الله- لا زال في معرض بيانه للمسائل التي تتعلق بتعليق الطلاق على الطلاق، وتعليق الطلاق على الطلاق تارةً يكون تعليقاً لطلقة على وقوع طلاق منه، وتارةً ينسحب الطلاق ويتكرر. قال رحمه الله: [وإن قال: كلما طلقتك أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق].

الفرق بين: (كلما طلقتك) و (كلما وقع عليك طلاقي)

الفرق بين: (كلما طلقتك) و (كلما وقع عليك طلاقي) هناك فرق بين الجملتين، فقوله: (كلما طلقتك) لا تقع الطلقة إلا بعد وقوع الطلاق منه، فأصبح الطلاق معلقاً عليه هو، وليس على وقوع الطلقة، وهناك فرق بين أن يعلق الطلاق على وقوعه من المطلق وبين أن يعلق الطلاق على مجرد وقوع الطلاق، فإذا علقه على تطليقه فلا تطلق إلا بتطليقه، ويكون الطلاق منحصراً في ذلك التطليق الذي يقع منه، وأما (كلما وقع عليك طلاقي) فقد علق الطلاق على وقوع الطلاق، فينسحب الطلاق وراء بعضه، فتطلق لوقوع الشرط الطلقة الأولى، فإن وقعت الطلقة الأولى جاء الشرط وتحقق للطلقة الثانية؛ لأنه كلما وقع عليها طلاق تقع طلقة ثانية لشرط ثان مستأنف، ويكون هذا مقتضياً للتكرار. اللفظة الأولى: كلما طلقتك فأنت طالق، فلو قال لها: أنت طالقٌ فإنها تطلق عليه طلقتين: الطلقة الأولى: بقوله: أنت طالق، والطلقة الثانية: مرتبة على شرط بينه وبين الله، أنه إن طلقها فهي طالق، فيكون الطلاق معلقاً على وقوعه من المطلق، ولا تستطيع أن تحدث طلقة ثالثة بعد هاتين الطلقتين لأنه يتقيد الطلاق في هذا الشرط بأن يحصل منه الطلاق، ولم يحصل منه إلا مرةً واحدة فلا يتكرر. اللفظة الثانية: كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق، فقد علق الطلاق على وقوع الطلاق، فإذا قال لها: أنت طالق، وقع عليها الطلاق فتطلق الطلقة الثانية، فإذا طلقت الطلقة الثانية، وقع عليها طلاق فوقع الشرط فتطلق الثالثة، هذا الفرق بين الصورة الأولى والصورة الثانية، يقول رحمه الله: (وإن قال كلما طلقتك أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق). (كلما طلقتك) أسند إلى نفسه، (كلما وقع عليك طلاقي) أسند الطلاق ورتبه على وقوع الطلاق، وفي كلتا الصورتين لا يمكن أن يقع الطلاق في الابتداء إلا إذا حصل منه طلاق، فإذا حصل منه طلاق في قوله: (كلما طلقتك) فأسند الطلاق إلى نفسه؛ فتطلق طلقة واحدة مع الطلقة التي طلقها، لكن في قوله: كلما وقع عليك الطلاق مني فأنت طالق، فإنه إذا طلقها الطلقة الأولى؛ جاءت الطلقة الثانية بالشرط مثل الصورة الأولى، لكن هناك أمر آخر مرتب على الطلقة الثانية، وهو أنه كلما وقع طلاق تقع طلقة، فوقعت الثانية بالشرط ووقعت الثالثة بعدها بالوقوع؛ لأنه وقع طلاق فتحقق الشرط مرتين، ففي المرة الأولى تحقق بتطليقه، وفي المرة الثانية تحقق بوقوعه لتحقق الشرط فتطلق عليه ثلاثا. ففي اللفظ الأول تطلق عليه مرتين، الطلقة الأولى بناءً على لفظه وتطليقه، والطلقة الثانية بناءً على شرطه، وأما في اللفظ الثاني: فإنها تطلق عليه ثلاثا، تطلق عليه الطلقة الأولى؛ لأنه طلق، وتطلق عليه الطلقة الثانية؛ لأنه وقع عليها طلاقه، وتطلق عليه الطلقة الثالثة لأنه وقع طلاقه بالطلقة الثانية، ولو كان الطلاق عشرين لانسحب الطلاق وراء بعضه حتى يستتم العشرين، هذا الفرق بين الصورة الأولى والثانية. في الصورة الأولى: التكرار بوقوع الطلاق منه، وفي الصورة الثانية: التكرار بوقوع الطلاق؛ و (كلما) تقتضي التكرار، فيتكرر عليه الطلاق في الصورة الأولى بتكرره منه، كلما وقع منه طلاقه، ولا يتكرر إذا لم يقع منه طلاق، وفي الصورة الثانية: تقتضي (كلما) التكرار لحدوث الطلاق ويسحب بعضه بعضاً، فالطلقة الأولى موجبةٌ للثانية، والثانية موجبةٌ للثالثة، وهكذا حتى يستتم عدد الطلاق.

تعليق الطلاق على الحلف

تعليق الطلاق على الحلف

حكم إيقاع الطلاق بالحلف بالطلاق

حكم إيقاع الطلاق بالحلف بالطلاق قال رحمه الله تعالى: [فصل: إذا قال: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال: أنت طالق إن قمت، طلقت في الحال]. شرع المصنف -رحمه الله- في تعليق الطلاق على الحلف، والحقيقة أن الحلف له بابٌ مخصوص وهو باب الأيمان، والحلف شيء والطلاق شيءٌ آخر، لكن تجوّز العلماء وتسامحوا في إطلاق الحلف على الطلاق، وهذا لا يستلزم أن الطلاق يأخذ أحكام اليمين كلها، إنما هذا تجوز لوجه الشبه بين اليمين الذي هو الحلف وبين الطلاق، ووجه الشبه ينحصر في صور خاصة، منها: الطلاق في هذه الصورة في تعليق الطلاق بالشرط لقصد الكف أو الحمل على الفعل، فإذا علق الطلاق على شيء زاجراً امرأته عن ذلك الشيء أو حاثاً لها على ذلك الشيء، فإنه حينئذٍ يكون في معنى اليمين من جهة الحث على الترك أو على الفعل، لا أنه يمين؛ لأن الحلف لا يصلح بغير الله عز وجل، ولا ينعقد بغير الله عز وجل: (ومن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، فليس بيمين شرعي من كل وجه، وإن كان بعض العلماء يرى أنه يكفر كفارة يمين، لكن هذا قول مرجوح، وجمهور السلف والأئمة -رحمهم الله- على وقوع الطلاق المعلق بالشرط الذي ألزم فيه المكلف نفسه فيما بينه وبين الله أن امرأته إن خرجت طلقت عليه، فلا فرق بين قوله: إن جاء الغد أو إن طلعت الشمس فأنت طالق، وبين قوله: إن قمت فأنت طالق، أو إن قعدت، أو إن سلمت على أبيك، أو إن زرت أهلك، فكلٌ منهما بمعنىً واحد، وهذا قول جمهور العلماء -رحمهم الله- ومنهم الأئمة الأربعة، فإذا علق فيما بينه وبين الله عز وجل من أجل أن يحث امرأته على فعل أو يمنعها ويزجرها من فعل فإنه في معنى اليمين من جهة الحث والمنع، لكنه لا يأخذ حكم اليمين من كل وجه، هذا من حيث الأصل، قال بعض العلماء: إنه يكون في حكم اليمين، وهذا قول مرجوح لأنه مبني على القياس والنظر، وأنتم تعلمون أن الطلاق مبناه تعبدي، وألفاظه في الأصل تعبدية في الكيفية، فالشرع جعل الطلاق جده جدٌ وهزله جدٌ، يقول العلماء: لفظ الطلاق على الخطر والمخاطرة، فالأصل أنه لا يتكلم متكلم بهذا الطلاق إلا ألزمه الشرع به، هذا هو الأصل، فلن يستطيع أحد أن يسقط هذا الإلزام الذي ألزم به المكلف نفسه إلا بدليل شرعي يبين أنه لا يأخذ حكم الطلاق، حتى الهازل الذي لا يقصد ولا يريد إيقاع الطلاق أمضى الشرع عليه الطلاق، مع أنه لا نية له، والشرع يعظم أمر النية، وقد تقدم بيان حكمة الشرع في اعتماد الطلاق، وأخذ الناس فيه بالحزم وبالجد، حتى أن الرجل لو قال لامرأته: أنت طالق، وفيما بينه وبين الله قصد أنها طالق من حبل؛ فإنها تطلق عليه قضاءً، كل هذا حتى لا يتلاعب الناس بهذا اللفظ المبني على الخطر، وأنه ينبغي أن يحتاط في أمر دينه، فهو حينما يقول لامرأته: إن خرجت من الدار فأنت طالق، لا يختلف اثنان أنه فيما بينه وبين الله عز وجل يريد إيقاع الطلاق إن خرجت من داره، وكونه يريد أن يمنعها أو يريد أن يحثها على الفعل؛ هذا أمر خارج عن صلب الموضوع، صلب الموضوع أن الله أعطاه إذا تلفظ بهذا الطلاق أن يمضي عليه الطلاق، هذا الذي مضت عليه الشريعة في جد الطلاق وهزله، وإذا ثبت كونه يقصد المنع فهذا أمر جاء تبعاً، وشرع الله ألزم كل مطلق بطلاقه، وجمهور العلماء على وقوع الطلاق المعلق بشرط سواءً تضمن الشرط حثاً أو منعاً وزجراً بحيث يقصد منه أن يحث امرأته على شيء أو تمتنع منه، فإن وقع الشرط وقع المشروط، فلو قال لها: إن خرجت فأنت طالق، فكل شخص يعرف معنى الطلاق، ويعرف أنه يقول لزوجته: إن خرجت -يعني: بينه وبين الله- فأنت طالق، فلا فرق بين قوله: إن خرجت فأنت طالق، وبين قوله: إن جاء الغد فأنت طالق، هذا قصده في الزمان، وهذا قصده في وقوع الفعل أو عدم وقوعه إن لم تقومي، إن لم تذهبي، إن لم تأتي، إن لم تعملي، كل هذا بينه وبين الله، وجاء بصيغة معروفةٍ في لسان العرب، وربط مضمون جملة بمضمون جملة أخرى، فنلزمه فيما بينه وبين الله بطلاقه، هذا من حيث الأصل. إذا ثبت هذا، فإن تسمية الطلاق حلفاً ليس المراد أنه من كل وجه يأخذ حكم اليمين، ولا تشرع فيه كفارة اليمين، وما حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أحداً في الطلاق أن يكفر كفارة يمين، ولا عن واحدٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه أفتى أحداً في مسألة من مسائل الطلاق أن يكفر كفارة يمين، بل جماهير السلف من العلماء والأئمة -رحمهم الله- على أن من علق طلاقاً بينه وبين الله عز وجل على وقوع الشيء الذي اشترطه؛ أنه يلزم بالطلاق، ولا فرق في ذلك بين أن يعلق على زمان أو مكان أو بين أن يعلق على وقوع شيء أمراً وحثاً أو زجراً وتركاً.

تعليق الطلاق على الحلف بالطلاق

تعليق الطلاق على الحلف بالطلاق شرع المصنف -رحمه الله- في تعليق الطلاق على الحلف، وكما ذكرنا أنه إذا قال لها: إن ذهبت إلى أمك، إن ذهبت إلى أهلك، إن قمت، إن قعدت، إن لم تتكلمي، إن لم تعملي، إن تكلمت فأنت طالق، إن خرجت فأنت طالق، وكان يقصد منعها من الخروج، أو منعها من الكلام. إلخ. هذه يسميها العلماء الحلف بالطلاق، ويتجوزون في تسمية الطلاق بالحلف. فهنا كي يبين المصنف حكم التعليق على وجود أمرٍ آخر مرتبط بالحث على فعل شيء أو ترك شيء قال رحمه الله: (إذا قال: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال: أنت طالق إن قمت، طلقت في الحال). (إذا حلفت بطلاقك) أي: إذا وقعت مني صيغة الحلف بالطلاق فإنك طالقة، بناءً على هذا: ننتظر منه أن يقول هذه الصيغة، فلو قال لها بعد هذا: إن قمت فأنت طالق، فإنها تطلق؛ لأنها وجدت صيغة الحلف؛ لأنه لا يريد منها القيام إن قال لها: إن قمت، أو قال لها: إن خرجت، فهو لا يريد منها الخروج، فهذا في معنى الحلف لما ذكرنا، فعلق الطلاق على الحلف وكأنه قال: إن علقت طلاقك على فعلك شيئاً أو تركك شيئاً فأنت طالق، فإن وقع منه تعليق على هذا الوجه فإنه يحكم بالطلاق، سواءً قال لها: إن قمت، إن قعدت، إن أكلت، إن تكلمت ونحو ذلك من صيغ التعليق فإنها تطلق في الحال، ولو قال لها: إن حلفت بطلاقك فأنت طالقٌ، قال ذلك -مثلاً- الساعة الواحدة ظهراً، ثم الساعة الثانية قال لها: إن ذهبت إلى بيت أبيك فأنت طالق، طلقت في الساعة الثانية ظهراً بالتعليق الأول؛ لأنه وقع منه تعليق على الخروج، وهو بمعنى الحلف، ثم ننتظر إن خرجت إلى أبيها وقعت الطلقة الثانية، وهذا مبني على ما ذكرناه من مسألة التعليق على الحلف. قال المصنف رحمه الله: [لا إن علقه بطلوع الشمس ونحوه لأنه شرط لا حلف]. تقدمت معنا مسائل التعليق على الزمان، وإضافته إلى الزمان المستقبل، وبينا الصور والمسائل التي ذكرها العلماء في هذا الموضع. صورة المسألة التي ذكرها المصنف: أن يقول لها: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال لها: إن طلعت الشمس فأنت طالق، (إن طلعت الشمس) ليست بحلف؛ لأنها لا تتضمن حثاً على فعل، ولا منعاً من شيء، فهذه الجملة ليست عندهم في معنى اليمين ولا في معنى الحلف، وقالوا: في هذه الحالة علق طلاقه على طلوع الشمس فإن طلعت الشمس حكم بطلاقها، وفي هذه المسألة بعض العلماء يقول: إنها تطلق حالاً، والجمهور على أنها تطلق بطلوع الشمس، فعلى هذا إذا اشترط الحلف فلا بد وأن تتضمن صيغة التعليق أمراً بشيء أو نهياً عنه كما ذكرنا.

تكرار صيغة (إن حلفت بطلاقك فأنت طالق)

تكرار صيغة (إن حلفت بطلاقك فأنت طالق) قال المصنف رحمه الله: [وإن حلفت بطلاقك فأنت طالق أو إن كلمتك فأنت طالق وأعاده مرة أخرى طلقت واحدة ومرتين فاثنتان وثلاثا فثلاث]. (إن حلفت بطلاقك فأنت طالق) يقع الطلاق فيها بصورتين: الصورة الأولى: أن يحلف وتقع منه صيغة ثانية غير الصيغة التي قالها أولاً، مثال ذلك: أن يقول: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق؛ ثم يقول لها: إن قمت فأنت طالق، فإنها تطلق في الحال؛ لأنه حلف بطلاقها بقوله: إن قمت، وهي صيغة للحلف غير الصيغة التي ذكرها أولاً. الصورة الثانية: أن يكون التطليق بهذا التعليق بنفس الصيغة، مثال ذلك: أن يقول لها: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم بعد وقت قال لها: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق، فهذا حلفٌ بالطلاق فتطلق عليه، ولو جاء مرة ثانية وقال لها: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق فالطلقة ثانية، وإن جاء مرة ثالثة وقال: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق، تطلق الطلقة الثالثة؛ لأنه في كل إعادة يعيدها وقعت منه صيغة الحلف، ووقع منه التعليق الذي يوصف بكونه حلفا عند من يسميه بهذا الاسم من العلماء رحمهم الله. إذاً: (إن حلفت بطلاقك) لها صورتان: إما أن يحلف بطلاقها حقيقة وحينئذٍ لا إشكال، إذا وقع الشرط وقع المشروط. وإما أن يكرر نفس الصيغة، وهي من صيغ الحلف. فالتطليق يكون إما بوقوع حلف خارجٍ عن الصيغة الأساسية أو يكون بتكرار الصيغة نفسها؛ لأنه فيما بينه وبين الله أنه مطلقٌ لها إن وقعت منه صيغة الحلف، فإن طلقنا عليه في المرة الأولى فقد طلقنا عليه بصيغة الحلف وتحقق الشرط، وهكذا في المرة الثانية، وهكذا في المرة الثالثة. (أو إن كلمتك فأنت طالق وأعاده مرة أخرى طلقت واحدة ومرتين فاثنتان، وثلاثاً فثلاث). (أو إن كلمتك فأنت طالق) في هذه الحالة لو جاء وقال لها مرة ثانية: إن كلمتك فأنت طالق، فقد كلمها، مثلاً: قال لها الآن: إن كلمتك فأنت طالق، ثم بعد دقيقة قال لها: إن كلمتك فأنت طالق، فإنها تطلق عليه، فإن رجع مرة ثانية وقال: إن كلمتك فأنت طالق، فطلقة ثانية، وإن رجع فثالثةً؛ لأنه تكلم، وإذا وقع الشرط فقد وقع المشروط، بناءً على ذلك: يحكم بطلاقها ثلاثاً إن تكرر منه ذلك ثلاثاً.

تعليق الطلاق على الكلام

تعليق الطلاق على الكلام قال رحمه الله تعالى: [فصل: إذا قال: إن كلمتك فأنت طالق، فتحققي، أو قال: تنحي، أو اسكتي، طلقت]. هذه أمثلة لا يستغرب الإنسان منها، فهي نوع من الرياضة لذهن الفقيه وطالب العلم الذي سيجلس غداً للفتوى أو للقضاء أو للتعليم، ومن علم بهذه المسائل الغريبة العجيبة فإنه سيأتيه مثلها، ولكل أهل زمان أسلوبهم وطريقتهم، فلا يظن الطالب أن هذا شيء غريب معقد، بل هذا نوع من الترويض، وهو مدروس من العلماء رحمهم الله، وهم أبعد من أن يضيعوا أوقاتهم وأوقات من يدرس كتبهم، بل هذه المسائل تدرس بعناية، ويراد بها الترويض للذهن على المسائل الغريبة في الطلاق، وسيأتيك من أسئلة الناس ما لم يخطر لك على بال، فالعلماء يضربون أمثلة متعددة، وكلمات غريبة، ويقصدون منها وضع ضوابط للفقيه بحيث إذا سئل عن أي مسألة يعرف أصلها، فقد يأتي رجل لم يقرأ الفقه البتة؛ ويأتيك بشيء أشبه ما يكون بما ذكره العلماء، وقد رأينا في مجالس علمائنا ومشائخنا من يأتي بكلمات مبنية على كلام العلماء رحمهم الله، لكنها اختلفت باختلاف عادات الناس وأساليبهم، فالكلمات التي يذكرها العلماء مثل قولهم: إذا علق الطلاق على شيء، إذا علق على شيء آخر؛ كل هذا ترويض لطالب العلم الذي سيكون فقيها أو مدرساً أو مفتياً أو قاضياً، حتى لا يستغرب شيئاً مما يقع بين يديه، ويستطيع أن يقيس، والقاضي تأتيه المسائل من كل حدب وصوب، وليست معينة، وكذلك المفتي، وكذلك من يدرس ويعلم. فنحن دائماً في المسائل الغريبة ننبه على هذه التنبيهات لأنها تربط طالب العلم بهذه الأشياء، وتجعله ينتبه للأساسيات، ونحن لا يهمنا تحقق الكلمة، والذي يهمنا الأصل والقاعدة والضابط الذي يبنى عليه، وترتبط به مسائل الباب، والذي يدرس الفقه بلا معرفة لقواعده وضوابطه لا يستطيع أن يتصدر للفتوى في المسائل الغريبة التي لم يدرسها، لكن الذي يعرف الضوابط والأصول يستطيع أن يستذكر، ويستطيع أن يحفظ، ويستطيع أن يستحضر عند الحاجة إلى ذلك. قوله: (إذا قال: إن كلمتك فأنت طالق فتحققي، أو قال: تنحي، أو اسكتي، طلقت). هذا الفصل فيه تعليق الطلاق على الكلام، إذا قال: إن كلمتك فأنت طالق، فتحققي، جملة (تحققي) كلام يتحقق به ما اشترطه على نفسه: إن كلمتك فأنت طالق، فأي شيء يصير بعد هذه الصيغة من الكلام ويصدق عليه أنه كلام، فإنه يحكم بوقوع الطلاق به، فإذا قال لها: قومي، اقعدي، اسكتي، ارفعي هذا، ضعي هذا، فقد وقع الشرط ويحكم بطلاق المرأة. هل الإشارة كالكلام؟ A هو قال: إن كلمتك، والإشارة شيء، والكلام شيءٌ آخر، فالكلام يكون صوتاً مشتملاً على الحروف الهجائية، فإذا حصل منه كلامٌ حُكِم بالطلاق، وإن حصلت منه إشارة فلا طلاق، فلا بد وأن يتحقق الشرط على الصفة المعتبرة: إن كلمتك فأنت طالق فتحققي، تثبتي، تريثي، انتبهي، وقعت جملة من الكلام بعد صيغة الشرط فيحكم بطلاقها. لاحظ حينما قال لها: إن كلمتك فأنت طالق فانتبهي، البعض قد يظن أنها مرتبطة، والواقع أنه كلامٌ بعد الصيغة، فتطلق به، كما لو قال لها بعد عشر دقائق: احذري، فلو قال لها: انتبهي احذري، موصولاً بصيغته أو مفصولاً فالحكم واحد، ومراد المصنف: أن اتصال الكلام بالصيغة وانفصاله سواء في الحكم، وانظر إلى دقته: مثَّل بكلام متصل بالصيغة حتى تفهم أنه إذا انفصل فتطلق من باب أولى وأحرى؛ لأنه لو قال لها: (إن كلمتك فأنت طالق، ثم كلمها، طلقت)، قد يظن الظان أنه ما يقع إلا إذا كلمها بعد الصيغة فقط، لكن قال المصنف: إن قال لها: إن كلمتك فأنت طالق فتحققي، والكلام متصل بالصيغة، فإذا حُكِم بطلاقها بشيء متصل فمن باب أولى أن يحكم بطلاقها إذا انفصل الكلام.

تعليق الطلاق على الابتداء بالكلام

تعليق الطلاق على الابتداء بالكلام قال المصنف رحمه الله: [وإن بدأتك بكلام فأنت طالق، فقالت: إن بدأتك به فعبدي حر، انحلت يمينه ما لم ينو عدم البداءة في مجلس آخر]. (إن بدأتك بكلام فأنت طالق، قالت هي: إن بدأتك بالكلام فعبدي حرٌ) إذاً كلٌ منهما قد اشترط شيئا، الرجل يشترط الطلاق إذا ابتدأها بالكلام، وهي تشترط العتق إذا ابتدأته بالكلام، فهو حينما قال لها: إذا ابتدأتك بكلام فأنت طالق، هذه الصيغة فيما بينه وبين الله أن زوجته طالق إن كان هو المبتدئ أولاً بالكلام، فلما تكلمت بعد الصيغة أسقطت هذا الحلف، وأسقطت هذا التعليق؛ لأنها ردت عليه وقالت: إن بدأتك، ولما ردت عليه سقطت البداءة منه، وفي هذه الحالة لا يتحقق شرطه، ويحكم برفع الصيغة، ولا يقع الطلاق، ولا يحكم بوقوعه إلا إذا قصد البداءة في مجلس آخر، مثلاً قال لها: لا تكلميني في الغرفة، قالت: وأنت لا تكلمني في الغرفة، قال: إن بدأتك بالكلام في الغرفة فأنت طالق، قالت: وإن بدأتك بالكلام في الغرفة فعبدي حر، في هذه الحالة الكلام وقع قبل المحل المعتبر بالشرط، فننتظر حتى يدخلا الغرفة، ثم من بدأ منهما وقع عليه ما اشترطه. وبهذا يفرق بين أن يقول: إن بدأتك بالكلام فأنت طالق، يعني: بعد كلامي هذا، فإذا قالت له: إن بدأتك، أسقطت البداءة كما في الصورة الأولى، وبين أن يقصد مجلساً آخر مثل ما ذكرنا في الصورة الثانية، أو يقصد موضعاً آخر أو زماناً آخر، مثلاً: قال لها: لا تكلميني عند أبي، قالت: وأنت لا تتكلم عند أبي، قال: إن بدأتك بالكلام فأنت طالق، قالت: وإن بدأتك بالكلام فعبدي حر، معناه: عند حضور الوالد، وحينئذ يبقى الاثنان أخرسين وإلا وقع الطلاق ووقع العتق، فتسكت ويسكت، فأيهما خاطب الثاني فإنه يُحكم عليه بما التزم به، إن كان الرجل فطلاق وإن كانت المرأة فعتق، هذا بالنسبة لمسألة تعليق الطلاق على الكلام.

تعليق الطلاق بالخروج بغير إذن

تعليق الطلاق بالخروج بغير إذن قال رحمه الله تعالى: [فصل: إذا قال: إن خرجت بغير إذني أو إلا بإذني أو حتى آذن لك أو إن خرجت إلى غير الحمام بغير إذني فأنت طالق، فخرجت مرة بإذنه ثم خرجت بغير إذنه أو أذن لها ولم تعلم أو خرجت تريد الحمام وغيره أو عدلت منه إلى غيره طلقت في الكل].

عدم جواز خروج المرأة من بيتها بغير إذن زوجها

عدم جواز خروج المرأة من بيتها بغير إذن زوجها أولاً: لا يجوز للمرأة أن تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه، وهذا أمر لا إشكال فيه وأجمع عليه العلماء رحمهم الله، لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فليأذن لها)، فإذا كانت عند خروجها إلى بيت الله، وخروجها إلى طاعة الله، وخروجها إلى فريضة من فرائض الله عز وجل تستأذن، فمن باب أولى ما عدا ذلك، فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تخرج من بيت الزوجية إلا بإذن زوجها، هذا الأصل، وإذا خرجت من دون إذن الزوج، وصارت تخرج بدون إذنه، فإن هذا نشوز، ويحكم بنشوزها وتسري عليها أحكام المرأة الناشزة؛ لأن من حق الزوج على زوجته: أن لا تخرج إلا بإذنه، وهذا حق القوامة الذي تقدم بيانه في الحقوق الزوجية؛ وخروجها بغير إذنه طعن في رجولة الرجل، وحرمان له من حقه في القيام على المرأة، والله يقول: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34]، فجعل المرأة تحت قوامته؛ لأن أمور الزوجية لا تستقيم إلا بهذا، وإذا صارت المرأة تخرج بدون إذن فهذا نوع من الاسترجال، وقد (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المسترجلات) واسترجال المرأة يكون بالكلام ويكون بالفعل، فإذا استرجلت المرأة وصارت تخرج من بيت زوجها بدون إذن زوجها فإنها -والعياذ بالله- يُخشى عليها هذا الوعيد الشديد، وهو لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعنة الله عز وجل، ومن لعنه الله لم يبق شيء في الأرض ولا في السماء إلا لعنه: {أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159]، نسأل الله السلامة والعافية، فالأصل: أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج من بيت الزوجية إلا بإذن الزوج، وله أن يمنع زوجه بقوله: إن خرجت من البيت فأنت طالق، أو يقول لها: إن خرجت من هذه الغرفة فأنت طالق، إما أن يُطْلِق اللفظ ويقول: إن خرجت، دون أن يقيد اللفظ بزمان ولا بوقت معين ولا بظرف معين، وإما أن يقيد ويقول: إن خرجت اليوم فأنت طالق، إن خرجت هذا الأسبوع، إن خرجت هذه الساعة، وهذا كله تقييد يتقيد به تعليق الطلاق.

الفرق بين الكل والجزء في تعليق الطلاق بالخروج

الفرق بين الكل والجزء في تعليق الطلاق بالخروج إذا قال لها: إن خرجت فأنت طالق؛ فوقع خروج من المرأة حكمنا بطلاقها، ويشترط أن يتحقق وصف الخروج، فلو أخرجت يدها، أو أخرجت رجلها؛ فلا طلاق، فإن خروج الجزءِ ليس كخروج الكل، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدني إلى عائشة رضي الله عنها رأسه وهو معتكفٌ بالمسجد وهي في حجرتها، والمعتكف لا يجوز له الخروج من المسجد، فأخرج جزأه وهو الرأس ولم يحكم بانتقاض اعتكافه، قالت: (إن كان يدني إليّ رأسه فأرجله)، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لـ عائشة وهو في المسجد: (ناوليني الخمرة، قالت: يا رسول الله: إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك)، لأنها ظنت أنها لو ناولته وأدخلت يدها أنه كدخولها كلها، وليس كما ظن بعضهم أن المعنى: حيضتك ليست في يدك، أي: لا تستطيعين رفع هذا العذر عنك، لأن هذا مجاز، والحديث على الحقيقة، واليد هي المعروفة، ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذر الحمل على الحقيقة، (إن حيضتك ليست في يدك) أي: أنك إذا ناولتيني باليد، فإنها جزءٌ، والجزء لا يأخذ حكم الكل. إذا ثبت هذا: فالخروج الذي يعلق عليه الطلاق لا بد وأن يقع كاملاً، فلو خرج بعضها لم يحكم بطلاقها على التفصيل السابق.

حالات وقوع الطلاق عند تعليقه بالخروج بغير إذن

حالات وقوع الطلاق عند تعليقه بالخروج بغير إذن إذا خرجت حُكم بطلاقها، إلا إذا قيد فقال: إن خرجت بدون إذني فأنت طالق، فخرجت بدون إذنه نقول: تطلق؛ لأنه إما أن يطلق فيقول: إن خرجت فأنت طالق، وإما أن يقيد فيقول: إن خرجت اليوم، فهذا مقيد بزمان، أو إن خرجت بإذني، فهذا مقيد بصفة، فقوله: إن خرجت بدون إذني فأنت طالق، معناه: إن خرجت بالإذن فلا طلاق. (إذا قال: إن خرجت بغير إذني). رتب الطلاق على الصفة، وهي: أن لا يوجد الإذن. (أو إلا بإذني). إن خرجت إلا بإذني فأنت طالق؛ فما بعد (إلا) يخالف ما قبلها في الحكم، فهو يقول لها: أنت طالق إن خرجت إلا أن تخرجي بإذني، هذا أصل التقدير، فمعنى ذلك: أنها إذا استأذنت لا تطلق، فقوله: إن خرجت بغير إذني أو: إن خرجت إلا بإذني، المعنى واحد، وهو انتفاء الإذن. (أو حتى آذن لك) إذا قال لها: حتى آذن لك فمعناه: أنك ممنوعة من الخروج إلا أن آذن لك وإلا تكوني طالقاً إن خرجت بدون إذني، أي: إن خرجت فأنت طالق حتى آذن لك؛ هذا التقدير، واللفظة الأخيرة: إن خرجت فأنت طالق حتى آذن لك، يعني: حتى آذن لك بالخروج. (أو إن خرجت إلى غير الحمام بغير إذني فأنت طالق). (إن خرجت إلى غير الحمام) في هذه الحالة تصبح إما أن يقصد أن خروجها إلى الحمام موجب للطلاق، أو يقصد أنها إن خرجت إلى أي شيء طالق إلا أن تخرج إلى الحمام فلا طلاق، فيقول: إن خرجت إلى الحمام فأنت طالق، فالمعنى: أنها لو خرجت لشراء حوائجها أو لصلة رحمها أو لبر والديها لا تطلق؛ لأنه قيد طلاقها بالخروج إلى الحمام. وإن قال لها: إن خرجت لغير الحمام فأنت طالق، معناه: أنها إذا خرجت إلى الحمام لا تطلق، وإن خرجت إلى صلة رحمها أو بر والديها أو غير ذلك حُكم بطلاقها، وهذا كله ترويض للأفهام لفهم الألفاظ التي يذكرها الناس، والمعنى: أنه يرتب طلاقها ويعلقه على شيء لم يأذن لها به. (فخرجت مرة بإذنه). إن قال لها: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق، فقالت له: يا أبا فلان أريد أن أذهب إلى أبي، قال لها: اذهبي، هذه المرة الأولى، ثم خرجت المرة الثانية بدون إذن، فإن الطلاق يقع بالمرة الثانية لا بالأولى. (ثم خرجت بغير إذنه) خرجت في الأولى بإذنه وخرجت في الثانية بدون إذنه. (أو أذن لها ولم تعلم) يقول لها: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق، ثم جلس مع أصحابه أو جلس مع والديها، فندم، وقال: أذنت لها، ولكنها لم تعلم، فخرجت بدون إذنه، فهنا نعلم أنه في الأصل ترتب الطلاق على الخروج بدون إذن، ومعنى نشوز المرأة وخروجها من بيت الزوجية بدون إذن موجود، حتى ولو أذن لها، مثلاً: وقع الإذن الساعة الثانية ظهراً، ووقع خروجها الساعة الثالثة عصراً، ولم تعلم بإذن الزوج، فحينئذٍ المعنى الذي يقصده من نشوزها عليه وعصيانها لأمره قد تحقق، وكونه أذن بدون علمها لا يؤثر، ولذلك يحكم بطلاقها. (أو خرجت تريد الحمام وغيره) قال لها: إن خرجت إلى الحمام فأنت طالق، فخرجت إلى الحمام والبقالة، فإنها تطلق. وقد كانت هناك حمامات خاصة بالنساء كانت في القديم؛ لأن البيوت كان يصعب فيها وجود الماء، فكان من الصعوبة أن المرأة تتنظف في بيتها، فكان هناك نوع من الحمامات للرجال وللنساء، وهو مكان للتنظيف بالبخار، وهو موجود إلى الآن في بعض المناطق الإسلامية، وكان موجوداً في المدينة إلى عهد قريب. فإن قال لها: إن خرجت إلى الحمام فأنت طالق، فقالت: أريد أن أخرج إلى الحمام وإلى البقالة، فأشتري ما أريد، فوقع خروجها لأمرين، الحمام الذي منعت منه، والبقالة التي لم تمنع منها، ففي هذه الحالة يرد Q - والعلماء يقصدون الصور والمعاني والضوابط أكثر مما يقصدون اللفظ نفسه والاسم نفسه- هل إذا جمعت بين المحظور وغيره، وبين المأذون به وغير المأذون به، هل يكون الحكم كما لو انفردت بمحظور غير مأذون به؟ A نعم، سواءً خرجت إلى الحمام قصداً أو خرجت إلى الحمام مع غيره، وعلى هذا: يحكم بطلاقها؛ لأن الصفة -وهي خروجها إلى الحمام- قد تحققت بذهابها إليه، سواء ذهبت إلى غيره أو لم تذهب، وسواء ذهبت إلى غيره قبل، أو ذهبت إلى غيره بعد، فالصفة المعتبرة للحكم بالطلاق موجودة ... ) أو عدلت منه إلى غيره طلقت في الكل) خرجت إلى الحمام ثم عدلت أثناء الطريق إلى غيره، فالأمر الذي من أجله تركبت الصيغة -وهو نشوزها وخروجها من البيت- تحقق، فهي إذا خرجت إلى الحمام فبمجرد ما تخطو خطوةً واحدة من البيت خارجة إلى الحمام فقد تحقق خروجها، بخلاف ما إذا قال لها: إذا دخلت الحمام -لا حظ الفرق، وهذا هو الذي يقصده الفقهاء بهذه العبارات، الدقة في الحكم على الشيء- لو قال لها: إذا دخلت الحمام بغير إذني فأنت طالق، وخرجت تريد دخول الحمام، لكنها في الطريق عدلت، لم تطلق؛ لأنه ركب الشيء على وجود شيء معين وهو صفة الدخول، لكن إذا قال لها: إن خرجت إلى الحمام من غير إذني، فننظر أول خروجها من البيت لما خطت الخطوة الأولى خارج البيت فإنها قصدت أن تخرج إلى الحمام بدون إذنه فيحكم بطلاقها.

حالات عدم وقوع الطلاق عند تعليقه بالخروج بغير إذن

حالات عدم وقوع الطلاق عند تعليقه بالخروج بغير إذن قال المصنف رحمه الله: [لا إن أذن فيه كلما شاءت]. أذن لها بعد ذلك، وقال لها: كلما شئت اذهبي إلى الحمام، فهذا ناقض لما قبله، ولاحظ: هناك فرق بين أن يأذن لها مرة وبين أن يقول لها: متى ما شئت فاذهبي، متى ما شئت فزوري والدك، ولا شك أن قوله: إذا ذهبت إلى والدك، إذا زرت والدك فأنت طالق، لا يجوز؛ لأن هذا من العقوق، ولا يجوز للزوج أن يمنع زوجته من برها لوالديها، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنما السمع والطاعة بالمعروف، فالمرأة لا تطيع زوجها إذا قال لها: لا تكلمي أباك ولا تكلمي أمك، فلا سمع له -ولا كرامة- ولا طاعة له في هذا، لكن المشكلة إذا علق الطلاق على هذا، ففي هذه الحالة إذا قال لها: إذا ذهبت إلى أبيك، إذا زرت أباك، وقصد ظرفاً معينا في حال الخصومة أو علم أن والدتها تفسدها في هذا الوقت وهذا الظرف، فقال لها: إن خرجت إلى والدتك فأنت طالق، ووقعت بهذا الظرف المعين، فقال: إن شئت، قال لها في الأول: إن ذهبت إلى أمك بغير إذني فأنت طالق، وهو يقصد أنها إذا ذهبت لابد أن يكون معها حتى لا تفسدها أمها وحتى لا تدخل بينه وبينها، فاستأذنت، فقال لها: اذهبي متى شئت، هذا إذن عام، فلو ذهبت المرة الأولى ثم ذهبت بعدها مرة ثانية لم تطلق، بخلاف الذي ذكرناه أولاً، فيما لو أذن لها مرةً واحدة، فبين المصنف -رحمه الله- الفرق بين الإذن العام والإذن الخاص، فإن أذن لها إذنا خاصا، تقيد الحكم به ولا طلاق في ذلك المأذون به، ويقع الطلاق في غيره، فلو استأذنته يوم السبت أن تذهب إلى أمها فأذن لها، ثم خرجت الأحد بدون استئذان، وقع الطلاق في خروجها يوم الأحد، وإن استأذنته يوم الاثنين لخروجها إلى أمها، فقال لها: اذهبي متى شئت، وزوري أمك متى أردت، فإنه حينئذ لا تطلق بزيارتها بعد ذلك؛ لأنه قد أذن لها وارتفع الحلف. قال المصنف رحمه الله: [أو قال: إلا بإذن زيد، فمات زيد ثم خرجت]. قال: أنت طالق إن خرجت من البيت إلا بإذن زيد، وزيد أخوها مثلاً، زوجها أراد أن يسافر، فقال لها: أنت طالق إن خرجت من البيت إلا بإذن زيد، ففي هذه الحالة، علق الأمر على إذن زيد، فلو مات زيد فما الحكم؟ مثل ما ذكرنا هناك أنه إذا أذن لها إذناً عاماً ارتفع تعليقه، كذلك هنا: إن مات من علق الطلاق على عدم إذنه؛ ارتفع تعليقه في هذه الحالة، وانتهى الأمر، ويرتفع التعليق؛ لأن التعليق مقيد بوجوده فإذا توفي ارتفع بوفاته.

الأسئلة

الأسئلة

معنى قولهم: تطلق قضاء

معنى قولهم: تطلق قضاء Q أشكلت عليّ عبارة: تطلق قضاء، ولا تطلق بينه وبين الله عز وجل؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فعند العلماء: القضاء والديانة، والحكم والديانة، الديانة: فيما بينك وبين الله عز وجل، مثلاً: قال رجلٌ لامرأته: أنت طالق، وقصد من حبل، والله يشهد عليه بقرارة قلبه أنه ما قصد الطلاق، إنما قصد أنها طالق من وثاق، أو طالق من حبل، فسألته وقالت له: أنا طالق؟ قال: قصدت أنك طالق من حبل، إذا صدقته وتعرف فيه الصدق وسكتت؛ فحينئذ هي زوجة له وتعمل على ظاهر هذا، ولا إشكال لأنه ديانة فيما بينه وبين الله ينفعه ذلك، وهي إذا صدقته بقيا على ما هما عليه، ولو كان جالسا مع أصحابه فقال: امرأتي طالق، وكانت امرأته مربوطة، أو كانت مسحورة، وقصد أنها طالق من سحرها، أو أطلقها الله من سحرها، أو انحل عنها بلاؤها، وقصد هذا، ولم تعلم زوجه، ولم يرفع ذلك إلى القاضي، حُكِم بالظاهر وأنها زوجته ونفعه فيما بينه وبين الله، لكن لو رفع إلى القاضي، فإن القاضي يحكم بأنه مطلق لزوجته على الأصل، فيقول له القاضي: هل قلت: امرأتي طالق؟ قال: قلت امرأتي طالق، يقول القاضي: هذا اللفظ لفظ طلاق، وعندي أن هذا اللفظ إذا صدر من زوج مكلف وتوفرت فيه شروط الطلاق فإنني أحكم بطلاقه قضاءً؛ لأنه لو فتح الباب للناس لتجرأ الفساق والفجار؛ فيطلق أحدهم امرأته ويقول: قصدت أنها طالق من حبل، فيتلاعب الناس بالشرع، وهذا الذي جعل الشريعة تحكم بأن الطلاق جده جدٌ وهزله جدٌ، فهذا يدل على أن الطلاق فيه ديانة فيما بين العبد وبين الله، وفيه قضاء في حكم الحكام والقضاة. وبهذا يحكم على الظالم، وهذا المعنى له نظائر -ليس في القضاء فقط- فلو أن شخصاً ادعى أن له على فلان عشرة آلاف ريال وجاء بشاهدي زور -والعياذ بالله- وزُكي الشاهدان، فالقاضي يحكم على الظاهر، بأن له عشرة آلاف ريال، القضاء ينفذ، ويلزم المظلوم بدفع العشرة آلاف، لكن هذا قضاء، وأما ديانةً بينه وبين الله فالظالم هذا يعتبر آثما، وآكلاً للمال بالباطل مع أنه حكم له بالقضاء، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله: (إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فمن قضيتُ له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار)، يعني: ما ينفعه حكم القضاء، ولذلك لو قال لامرأته: أنت طالق، وقصد الحبل، ونفذ عليه حكم القاضي بأنها طلقة، وكانت آخر طلقة، فهي زوجته فيما بينه وبين الله، ولكنها ليست زوجةً له فيما بينه وبين الناس، فهذا الحكم الظاهر والحكم الباطن، فلو أنها تعلم أنه صادق فيما يقول، فيجوز لها أن تمكنه من نفسها إذا صدقته ووثقت بقوله، وإن حكم القاضي على الظاهر بالطلاق، لكن لو اطلع القاضي على الجماع، وثبت عنده بإقرار أنه جامعها بعد حكم القضاء فإنه في حكم الزاني، هذا حكم القضاء وحكم الديانة، ولذلك لا يحكم في القضاء إلا بالظاهر، بناءً على الأصول المعتبرة لإثبات الأحكام والدعاوى. وعلى هذا: فالحكم بالطلاق قد يحكم به ديانة وقضاءً، وقد يحكم به ديانة لا قضاءً، وقد يحكم به قضاءً لا ديانة. يحكم به ديانة وقضاءً: لو أن شخصاً قال لامرأته: أنت طالق، وفيما بينه وبين الله: أنه مطلق لها، فثبت عند القاضي لفظه فحكم بالطلاق قضاءً، والحكم ديانة أنه مطلق لزوجته. ويحكم به ديانة لا قضاء: لو أنه -مثلاً- قال لامرأته: الحقي بأهلك، وقصد الطلاق، وهذه كناية طلاق، فقيل له: ماذا قصدت؟ قال: قصدت أن تلحق بأهلها وما قصدت الطلاق، ففي هذه الحالة لا ينفذ الطلاق قضاءً، ويحكم بأنها كناية طلاق يشترط فيها النية -كما تقدم معنا- لكنه فيما بينه وبين الله نوى الطلاق فتطلق عليه ديانةً ولا تطلق عليه قضاءً. وتطلق عليه قضاءً لا ديانة: مثل: أن يأتي بلفظ ظاهره الطلاق ويتقيد بالنية، ولم يقصد به الطلاق، فيحكم بالطلاق على ظاهره، مع أنه في الحقيقة والباطن غير مطلق لزوجته. والله تعالى أعلم.

دلائل طلب العبد لرضوان الله

دلائل طلب العبد لرضوان الله Q ما دلائل طلب العبد لرضوان الله تعالى؟ A ما أعطى الله عبداً بعد الإيمان به وتوحيده شيئاً أحب ولا أكرم عليه من طلبه لرضوان الله سبحانه عنه؛ ولذلك عظم الله رضوانه، وأخبر أنه أكبر من كل شيء، فذكر نعيم الجنة وما أعد لأوليائه فيها ثم قال: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72]، وفي الحديث الصحيح: (أن الله تعالى إذا أدخل أهل الجنة ورأوا ما فيها من النعيم وما فيها من الفضل والتكريم، قال الله تعالى: هل أزيدكم؟ أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم أبدا)، فأعظم النعم وأجل المنن -بعد نعمة الإيمان- أن يكون العبد مرضياً عنه، وإذا رضي الله عن العبد أرضاه، وإذا أرضى ربك عبده أسعده في الدنيا والآخرة، فما ظنك بولي الله الصالح الذي قرت عينه بمرضاة ربه عليه، فلن يسلك سبيلاً إلا سهله الله له، ولن يقرع باباً من الخير والبر إلا فتحه الله في وجهه، وبارك له فيه، وتأذن له بحبه، رضوان الله جل جلاله هو الغاية العظيمة والأمنية الجليلة الكريمة التي من أجلها بكت عيون الخاشعين، وتقرحت قلوب الصالحين، ومن أجله انتفضت الأقدام في جوف الليل بين يدي الله من المتهجدين الراكعين الساجدين، ومن أجلها سالت دماء الشهداء، طلباً لمرضاة الله جل جلاله، فبيعت الأنفس من أجل أن يشتري العبد مرضاة ربه، باع نفسه وربح البيع وربحت التجارة مع ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، رضوان الله هو الأمنية العظيمة التي يتمناها العبد السعيد من ربه. وهناك دلائل تبشر العبد بأنه يطلب مرضاة الله، أول هذه الدلائل: سرٌ بينك وبين الله جل جلاله، فأول ما يدل على أن العبد يريد وجه الله أن يمتلأ قلبه بتوحيد الله والإيمان به سبحانه، فتصبح جميع أموره وجميع شئونه لله لا لأحدٍ سواه، أول دلائل وبشائر الطلب الصادق لمحبة الله ورضوانه أن يكون الإنسان مخلصاً لله وحده لا شريك له: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، هذا الإخلاص وهذا التوجه الذي يجعل العبد في جميع أموره يريد وجه الله ولا يريد شيئاً سواه، والذي يريد مرضاة الله لا يتكلم إلا لربه، ولا يعمل إلا لربه، ليله ونهاره وصبحه ومساؤه كله لله وحده لا شريك له، فليس في قوله رياء ولا سمعة، وأكره ما يكره أن يطلع عبدٌ على طاعة بينه وبين الله سبحانه؛ لأنه يعلم أن ربه يحب منه أن يخفي عبادته، ويحب منه أن يقصد وجهه ولا يقصد أحداً سواه، فأول الدلائل وأول الأمارات: الإخلاص لوجه الله جل جلاله في جميع شئونه وأحواله، منذُ أن يلتزم ويسير على منهج الله ليس له وجه يتوجه إليه ويقصده إلا وجه الله سبحانه وتعالى، عند ذلك يطيب قوله، ويطيب عمله، فلم تطب الأقوال والأعمال إلا بالإخلاص لذي العزة والجلال. ومن دلائل طلب مرضاة الله عز وجل: أن يسعى العبد في أحب الأشياء إلى الله فيما بينه وبين الله، وفيما بينه وبين الناس، فلا يسمع بكلمة تقربه من ربه أو ترضي ربه عنه إلا تكلم بها، ولو رأى الموت بين عينيه، ولا يعلم بعملٍ يقربه من ربه ويرضي ربه عنه إلا سعى في تحقيقه، وسعى في طلبه غاية جهده، كذلك أيضاً يسعى فيما بينه وبين الناس في كل شيء يقربه إلى الله جل جلاله، ويبدأ أول ما يبدأ بوالديه، ثم بأولاده، ثم بزوجته، وأدناه أدناه من الأقربين، يطلب رضى ربه عنه فيما بينه وبين والديه، وفيما بينه وبين رحمه، ولن تجد أحداً رضي الله عنه إلا وجدته باراً بوالديه، فرضي الله عمن أرضى والديه، يشتري مرضاة الله بابتسامة والده، يشتري مرضاة الله في أبٍ وقف على آخر أعتاب هذه الدنيا، يلتمس مرضاة الله في ابتسامة يجدها من هذا الأب أو في سرور يدخله عليه، أو في كربةٍ ينفسها عنه، أو في حاجةٍ يقضيها له، أو في ضيق يوسعه عنه بإذن الله جل جلاله، يشتري مرضاة الله ويضحي ويبذل كل ما يستطيع بذله من نفسه وماله طلباً لهذه المرضاة، لأنه سمع رسول الأمة صلى الله عليه وسلم يقول: (رضا الله من رضا الوالدين)، فينتظر هذا الرضا بفارغ الصبر، فلا تشرق عليه شمس يوم إلا جعل والديه بين عينيه، في كلامه، فلا يقول إلا الكلمة التي ترضي الله، وفي فعله، فلا يفعل إلا ما يرضيه، ثم ينطلق رضيا راضيا مرضيا عنه في ذوي رحمه وقرابته، ويبدأ بأولاده، يدخل السرور عليهم، ويعلم أن الله يرضى عنه عندما يكون رحيماً بأولاده، قائماً بحقوقهم، مؤدياً الواجبات إليهم، يرعاهم في دينهم، ويتفقدهم في شئونهم، ويأمرهم بما أمرهم الله به، وينهاهم عما نهاهم الله عنه، ويعلمهم ويرشدهم، ولا يدخر عنهم شيئاً من الخير من أمر دينهم أو دنياهم أو آخرتهم، فإذا أرضى الله في أهله وولده رضي الله عنه، ولذلك تجد الرجل الموفق السعيد محافظاً على أولاده، محافظاً على فلذة كبده وذريته، يتفقدهم في أوامر الله، نشّأهم منذ نعومة أظفارهم على الطاعة والصلاة، فيعرفون بيوت الله، ويعرفون فريضة الله، ويؤدون الصلاة على أتم وجه وأكمله، ويرى ذلك عزيمة وفريضة عليه، فرضوان الله لا يكون بالتشهي ولا بالتمني ولا بالدعوى ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل. كذلك من أسباب رضوان الله عز وجل عن العبد: أن يبدأ بقلبه، فينقي هذا القلب من الغِل والحسد وكراهية المسلمين وسوء الظن بهم، يبدأ بقلبه هذا فيغسله بماء الإيمان، ويعرضه على قوارع التنزيل، وأوامر العظيم الجليل، التي تأمره أن يكون أخاً صادقاً مع إخوانه، ويتذكر دائماً كلما رأى مسلما قول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، يحس أنه أخوه، وفي بعض الأحيان ربما تكون أخوة الإيمان في القلب أعظم من أخوة الحسب والنسب، فكما أنه يحب لأخيه من حسبه ونسبه ما يحب لنفسه؛ فإنه يحب لإخوانه في الدين ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، لا يفرق بين غنيهم وفقيرهم، ولا رفيعهم ووضيعهم، ولا جليلهم وحقيرهم، فكلهم إخوانٌ له في الله، والله يشهد أنه في قرارة قلبه كذلك، يظهر على لسانه الكلام الطيب وفي قرارة قلبه ما هو أزكى منه وأجمل، ما عنده نفاق، وما يلقى الناس بوجه يضحك لهم وقلبه -والعياذ بالله- مكفهر، مليءٌ بسوء الظنون، وبالحسد، والكراهية، خاصة إذا كان من طلاب العلم، وخاصة إذا كان من الصالحين، فالأمر -والله- أشد ويعلم أن الله مطلع على سريرته، وسيحاسبه يوم القيامة من هو شهيد على العبد بما في الضمير، قال الله جل جلاله: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:9 - 10]، الله يوم القيامة لا ينظر للابتسامات المكذوبة، والكلمات المعسولة، إنما ينظر إلى ما وقر في القلب وصدقه العمل، فالله جل جلاله لا ينطلي عليه الكذب ولا يخادع سبحانه وتعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، فالذي يلتمس مرضاة الله بصدق بهذا الصفاء والنقاء والمودة والإخاء والأخوة الإسلامية المبنية على نصوص الكتاب والسنة لا يتلاعب بها، وليست عنده موازين مختلفة أبداً، فهو مسلم حقاً، وجه وجهه لله فعلاً، يلتمس مرضاة الله، وإذا جلس مع أفقر الناس فهو كما لو جلس مع أغنى الناس، يبتسم لهذا ويبتسم لهذا، وكان بعض علماء السلف -رحمهم الله- يعظمون الفقراء في بعض الأحيان أكثر من الأغنياء، ولذلك قيلت الكلمة المشهورة: (ما أعز من الفقراء في مجلس سفيان الثوري رحمه الله) لأنه كان يطلب مرضاة الله بصدق، لا بالنفاق ولا بالكذب ولا بالدعاوى العريضة ولا بالخداع للمسلمين، الذي يلتمس مرضاة الله عبدٌ صادق يحب الصدق ويوالي بصدق. ومن دلائل رضوان الله على العبد: أن تظهر عليه أمارات في تصرفاته مع إخوانه المسلمين عموماً، وخاصةً مع العلماء والأئمة، وبالأخص سلف هذه الأمة، فلا يذكرهم إلا بكل خير، يترحم على أمواتهم، ويحسن المخرج لهم إن كان عندهم خطأ وزلل، ويعذرهم إن كان لهم عذر، وينشر ما كان منهم من الجميل، ويستر ما كان منهم من القبيح، تأسياً بقوله عليه الصلاة والسلام: (اذكروا محاسن موتاكم)، فيكون مع أصلح خلق الله -وهم العلماء- كأحسن ما يكون، فالمؤمن يوالي المؤمن على أتم الوجوه، وأولى الناس بالموالاة والمحبة والصفاء والنقاء هم أهل العلم. واعلم أن الله أعلم بخلقه: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، فهؤلاء الصفوة اختارهم الله -جل جلاله- من فوق سبع سماوات حملةً لدينه، وأمناء على شرعه، إن كنت تلتمس مرضاة الله فكن كأحسن ما يكون مع علماء الأمة وسلفها، فاعتقد فضلهم وادع لهم وانشر محاسنهم، فإن العبد الذي يشتري مرضاة الله عز وجل يشتريها بمحبة الصالحين: (فمن أحب قوماً حُشِر معهم) كما قال صلى الله عليه وسلم. كذلك من دلائل مرضاة الله عز جل على العبد: أن يبارك له في وقته وفي عمره، فإذا التزم بهذا الدين وجدته لا تمضي عليه ساعة ولا لحظة إلا في خير وبر، وكذلك كان نبي الأمة صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضوان الله عليهم، والعلماء العاملون؛ لا تضيع أوقاتهم هدرا، وإذا أردت أن ترى العلامة الصادقة على محبة الله للعبد فانظر كيف يبارك له في عمره، فإما أن يكون في مصلحة الدين فيما بينه وبين الله أو فيما بينه وبين الناس، يحرص من يشتري مرضاة الله على أن لا تمضي عليه ساعة إلا في ذكر الله وشكره، ويتقطع حرقة على كل ساعة مضت في غير ذكر الله أو شكره وطاعته، فإن (الدنيا ملعونة، ملعونٌ ما فيها، إلا ذكر الله أو عالماً أو متعلماً)، فإذا بورك للإنسان في وقته وأصبحت كل أوقاته في طاعة الله؛ تجده يجلس في بيته إما أن يقرأ كتاباً ينتفع به، أو يسمع من والديه موعظة أو ذكرى أو عظة يتعظ بها أو قصة مؤثرة، أو يجلس مع أولاده يأمرهم بطاعة الله عز وجل ومرضاة الله، ويدلهم على كل خير، وهذه عمارة الأوقات، ومن أفضل ما تمضى به: ذكر الله جل جلاله، فالعبد الذ

باب تعليق الطلاق بالشروط [7]

شرح زاد المستقنع - باب تعليق الطلاق بالشروط [7] تعليق الطلاق بالمشيئة له صور: أن يعلقه بمشيئة الله أو بمشيئة غيره، وقد يعلقه بمشيئة منفردة أو بمشيئة مشتركة، وقد يعلقه بمشيئة منفردة فيشرك صاحب المشيئة معه غيره؛ وكل هذه الصور لها أحكام شرعية بينها العلماء رحمهم الله.

تعليق الطلاق بالمشيئة

تعليق الطلاق بالمشيئة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصلٌ: إذا علقه بمشيئتها بإن أو غيرها من الحروف لم تطلق حتى تشاء ولو تراخى]. بيّن المصنف -رحمه الله- في هذا الفصل جملة من مسائل التعليق، وهذا التعليق مُختص بالتعليق بالمشيئة، يُعلق الطلاق على مشيئة امرأته أو أجنبي أو مشيئة الله عز وجل، فإذا تعلق الطلاق بالمشيئة فإنه ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يعلقه بمشيئة الله عز وجل. القسم الثاني: أن يعلقه بمشيئة غير الله عز وجل. فإذا علقه بمشيئة الله عز وجل مثل أن يقول: أنت طالق إن شاء الله، فسيأتي الكلام عنها، وسيذكر المصنف -رحمه الله- هذه المسألة. وأما التعليق بمشيئة غير الله عز وجل فينقسم إلى قسمين: إما أن يعلق بمشيئة منفردة. أو يعلق بمشيئة مشتركة. مشيئة منفردة مثل أن يقول: بمشيئتكِ -يخاطب زوجته- إذا شئتِ، متى شئتِ. وإما أن يعلق بمشيئة مشتركة كأن يقول: إذا شئتِ وشاءت أمك، إذا شئتِ وأمك، إذا شئتِ وأبوك، وأخوك، أو غير ذلك.

تعليق الطلاق على مشيئة الزوجة

تعليق الطلاق على مشيئة الزوجة وقد شرع المصنف بالكلام عن تعليق الطلاق بمشيئة غير الله عز وجل. فذكر تعليق الطلاق على مشيئة الزوجة، مثل أن يقول لها: إن شئتِ، أو إذا شئتِ، أو متى شئتِ، وهذا يسمى بالمشيئة المنفردة؛ لأنه أسند وعلق الطلاق على مشيئة شخص واحد، هو الزوجة: إذا شئتِ ومتى شئتِ وإن شئتِ، وإذا أسند الطلاق إلى مشيئة واحد فإما أن يسنده مقيداً وإما أن يسنده مطلقاً، مقيداً كأن يقول لها: إن شئت الآن، فيقصد في الحال، فيتقيد بالحال، أو إن شئت هذه الساعة، أو خلال ساعة، أو خلال هذا اليوم، أو خلال هذا الأسبوع، أو ما لم تغب الشمس، أو ما لم يطلع الفجر، فيقيد الطلاق بمشيئتها في هذه المدة، فلو أنها مضت عليها وانتهت، ولم تشأ الطلاق، فحينئذٍ لا يقع الطلاق إذا لم تشأ في هذه المدة المقيدة، أو قال: إن شئتِ ما دمت قائمةً، فيقيده بحال قيامها، فإن جلست انقطع الإسناد، والتمديد للطلاق كان معلقاً بالمشيئة حال قيامها. والمشيئة: أمر متعلق بالقلب، وهو أمر غيبي خفي، لا يمكن أن نعلمه إلا إذا أخبرت به، وهكذا لو كان الذي علق الطلاق بمشيئته أجنبياً، فقال: إن شاء زيدٌ، أو متى شاء زيدٌ، أو إن شاء أبوك، أو شاءت أمك، في هذه الأحوال ننظر إلى مشيئة من ينفذ الطلاق، فلا يخلو إما أن يشاء الطلاق أو يشاء عدم الطلاق، فإذا شاء الطلاق فإنه يحكم بالطلاق، فلو قال لها: إن شئتِ، فقالت: قد شئتُ طلاقي، فإنها تطلق، أو قال لها: إن شاءت أمك، فذهبت إلى أمها فقالت الأم: أشاء الطلاق، وقع الطلاق؛ لأنه معلق على شيء يقع بوقوعه، وهو شرط بينه وبين الله عز وجل أنه إن وقعت هذه المشيئة فامرأته طالق، سواءً شاءت الزوجة أو أبوها أو أخوها أو أياً كان فمن علق الطلاق بمشيئته، ما دام أن هذا الشرط قد تحقق، وهو وجود المشيئة التي علق الطلاق على وجودها، فنحكم بالطلاق. وتقدم معنا أن الصحابة كانوا يعتبرون التعليق، وأجمع أئمة السلف على اعتبار التعليق من حيث الجملة، فلو قال لها: إن طلعت الشمس أو إن غابت الشمس فأنت طالق، فإنها تطلق وجهاً واحداً، وهكذا حينما قال لها: إن شاء أبوك، إن شئتِ، إن شاء عمك، إن شاء خالك، وقد شاء ذلك الغير مضى الطلاق ونفذ، لأن الذي اشترطه بينه وبين الله: أن امرأته طالقة إن وجدت هذه المشيئة. الحالة الثانية: أن لا تشاء الطلاق، تقول: لا ما أريد الطلاق، ولا أشاء الطلاق، أو لا أحب الطلاق، لا أرضى الطلاق، وتعذرت بأنها لا مشيئة لها بالطلاق، فحينئذٍ انتفى الشرط فلا يقع ما التزم به من طلاقها، وتبقى المرأة في عصمته، وهكذا لو قال لها: إذا شاءت أمك أو شاء أبوك، فذهبت وسألت أباها، وسألت أمها، فقالت أمها: لا أريد الطلاق، وقال أبوها: لا أريد الطلاق، فإنها لا تطلق. إذاً: إذا أسندت المشيئة إلى شخص سواءً كانت الزوجة أو غيرها، فإنه إن شاء الطلاق وقع، وإن لم يشأ الطلاق لم يقع، هذا حكم إسناد الطلاق إلى مشيئة منفردة. لكن في بعض الأحيان قد تدمج المشيئة إلى مشيئة آخر، فتركب المشيئة على المشيئة، مثلاً: يقول لها: أنت طالق إن شئتِ، فقالت: قد شئتُ إن شئتَ، قد تخشى من زوجها ولا تريد أن يكون الأمر إليها، فردت عليه وقالت: قد شئتُ إن شئتَ، أو تقول: قد شئتُ إن شاءت أمي، قد شئت إن شاء أبي، أو إن شاء أخي، أو إن شاء فلان، فإن قالت: قد شئتُ إن شاء أبي أو شاءت أمي، فأسندت مشيئتها إلى الغير فلا طلاق، ولو طلق ذلك الغير؛ لأنه فيما بينه وبين الله اشترط أن تكون لها مشيئة، فلما أسندت إلى الغير دل على أنها لا تشاء الطلاق لأنها لو شاءت الطلاق لقالت: شئتُ، وهو يقول: إن شئتِ، يعني: إن كان منك مشيئة وأردت الطلاق فأنت طالق. قوله: [إذا طلقها بمشيئتها بإن أو بغيرها من الحروف لم تطلق حتى تشاء]: لأنه اشترط فيما بينه وبين الله أنها طالق إن شاءت، ولم يقع ذلك الشرط فلا يقع المشروط.

الخلاف في زمن المشيئة للمرأة إذا علق الطلاق على مشيئتها

الخلاف في زمن المشيئة للمرأة إذا علق الطلاق على مشيئتها قوله: [ولو تراخى]. (لو) إشارة إلى خلاف مذهبي، بعض العلماء يقول: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شئتِ، أو إن شئتِ فأنت طالق، فلها أن تشاء الطلاق مباشرة، بلا تراخٍ، فلو تراخت فإنه لا مشيئة لها، مثلاً: لو قالت بعد ساعة أو بعد ساعتين أو بعد ثلاث ساعات: قد شئت الطلاق، فلا طلاق، يعني: لا بد أن يكون جوابها مباشرة، وهذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة من أئمة السلف رحمهم الله، والجمهور أنه لا يشترط أن يكون جوابها على الفور، وأنه لو وقعت منها المشيئة ولو متراخية فإنه يقع الطلاق، ما لم يقيدها أو يرفعها. هناك قول ثالث للحسن البصري وعطاء بن أبي رباح -رحمهما الله- يقولان: نعطيها مهلة مدة المجلس، فإذا قال لها: أنت طالق إن شئتِ، في مجلس، فإنه من حقها أن تطلق ويقع الطلاق إن أخبرت بمشيئتها في ذلك المجلس، فإن قامت عنه انقطع الإسناد ولا طلاق، والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور المصنف -رحمه الله- أنه لا يشترط الفور.

الحكم إذا أحالت المرأة مشيئتها على مشيئة الغير

الحكم إذا أحالت المرأة مشيئتها على مشيئة الغير قال رحمه الله: [فإن قالت: قد شئتُ إن شئت فشاء لم تطلق]: إذا أسند الطلاق إلى فرد فإما أن يبت الطلاق، وإما أن لا يبت الطلاق، وإما أن يُسند للغير، هذه ثلاثة أحوال: أن يبت الطلاق فيقع، وأن لا يبت الطلاق فلا يقع، وأن يسند إلى الغير فلا يقع، على أصح قولي العلماء وهو مذهب الجمهور، وفي وجه ضعيف عند الشافعية -رحمهم الله- أشار الإمام النووي وغيره إلى ضعفه قالوا: إذا أسندت إلى الغير تنتقل مشيئتها إلى مشيئة الغير، ولكن هذا ضعيف؛ لأنه فيما بينه وبين الله شرط أن امرأته تطلق إذا وقعت منها المشيئة، فهي لما نفت أن عندها مشيئة للطلاق وأسندت للغير دل على أن قلبها خالٍ من المشيئة، وحينئذٍ لا طلاق.

تعلق الطلاق بمشيئة مشتركة

تعلق الطلاق بمشيئة مشتركة قال المصنف رحمه الله: [وإن قال: إن شئت وشاء أبوك أو زيدٌ، لم يقع حتى يشاءا معا، وإن شاء أحدهما فلا]: هذا من التسلسل والترتيب المنطقي في الأحكام، يبين أول شيء: مشيئتها، وثانياً: إذا أسندت مشيئتها إلى الغير، وثالثاً: إذا وقعت المشيئة مشتركة، يعني: أن يقول لها: إن شئت وشاء فلان؛ لأننا قلنا: إما أن يسند لمشيئة الله أو مشيئة غيره، ومشيئة غيره إما أن تكون مفردة كأن يقول: إن شئتِ، ثم تأتي الصورة الأخرى أن تقول: قد شئتُ إن شاء فلان، قد شئتُ إن شئتَ، فهي مركبة لكنها مبنية على الصورة الأولى، والصورة الثانية: أن تكون مشتركة، فيسند المشيئة لأكثر من واحد فيقول لها: إن شئتِ وشاء أبوك، إن شئتِ وأبوك، إن شئتِ وأخوك، وهكذا، فإذا أسند المشيئة إلى اثنين أو ثلاثة، فللعلماء وجهان: أصحهما وهو مذهب الجمهور: أنه لا يقع الطلاق إلا إذا شاءا معاً، فتقول: قد شئتُ، ويقول الآخر: شئت، فإذا شاءا معاً فإنه حينئذٍ يقع الطلاق، وإن شاء أحدهما ولم يشأ الآخر فإنه لا يقع الطلاق، وهذا هو الصحيح؛ لأن الواو تقتضي الجمع والتشريك، فلما أسند المشيئة إلى شخصين فإنه لا يقع الحكم ولا يقع الذي اشترطه من الطلاق إلا بوقوع المشيئة من الاثنين معاً، فإذا وقعت من أحدهما فلا يعتد بمشيئة ذلك الواحد حتى تقع المشيئة منهما جميعاً على الوجه الذي اشترطه.

تعلق الطلاق بمشيئة الله

تعلق الطلاق بمشيئة الله قال المصنف رحمه الله: [وأنت طالق وعبدي حرٌ إن شاء الله وقعا]: أصل التقدير: أنتِ طالق إن شاء الله وعبدي حر إن شاء الله، وهذا النوع الثاني من الإسناد بالمشيئة وهي مشيئة الله عز وجل. مشيئة الله عز وجل يختلف حكمها في الطلاق والعتاق والأيمان، يقول: أنتِ طالق إن شاء الله، أو: عبدي حر إن شاء الله، أو: والله لا آكل إن شاء الله، وهكذا. هذه المسألة تعرف بمسألة الاستثناء بمشيئة الله عز وجل، ووجه ذلك: أنه يستثني الطلاق ويجعله معلقاً على وجود المشيئة، يقول: امرأتي طالق إن شاء الله، ففي هذه الحالة اختلف العلماء -رحمهم الله- هل يقع الطلاق أو لا يقع؟ فيها قولان مشهوران، لكن قبل أن نذكر القولين نُنبِّه على مسألة وهي أن من قال: إن شاء الله، لابد أن يكون قاصداً للتعليق، فينوي في قرارة قلبه أنه معلق لطلاقه على مشيئة الله عز وجل، فلا يأتي يقول: إن شاء الله، بلسانه هكذا بالعادة أو نحوها، إنما يقصد ذلك بقلبه، فمن العلماء من يقول: لابد أن تكون عنده نية بالمشيئة، من قبل أن يقول أنت طالق، وهذا عند من يرى أن المشيئة مؤثرة، فيقول: لو قال لها: أنت طالق، ثم طرأ عليه، أن يقيد بالمشيئة لم ينفعه؛ لأنه لما قال: أنت طالق، وقع الطلاق، فلا يصح بعد ذلك أن يقول: إلا أن يشاء الله، أو: إن شاء الله؛ لأن هذا نوع من التلاعب ونوع من إسقاط ما وجب، وما وجب لا يمكن إسقاطه؛ لأن الشرع جعل كل من يتلفظ بالطلاق يُلزم به حتى في حالة الهزل، فلو فُتح الباب للناس لتلاعبوا بالطلاق، فيطلق الرجل ثم يقول: إن شاء الله، ولهذا يشترط لمن قال: إن شاء الله، أن يكون قاصداً بنيته تعليق الطلاق على مشيئة الله عز وجل، ومحل هذا التعليق قبل أن يتلفظ بالطلاق، وقال بعض العلماء: يمكنه أن ينوي الاستثناء أثناء الجملة ما لم يتم جملة الطلاق، فلو قال لها: أنت، ثم تذكر أن يستثني، فقال: أنت طالق، إن شاء الله، أجزأه عند هؤلاء، حتى لو قال لها: أنت طا، وقبل أن يتم جملة طالق نوى في قرارة قلبه أن يقيد بمشيئة الله؛ أجزأه، أما إذا استتم الجملة ففيه خلاف عند من يقول بأن المشيئة تؤثر، فمنهم من يقول: إنه لا ينفعه ذلك؛ لأن الطلاق قد مضى، ومنهم من يقول: إنه ينفعه ذلك، وأعجب من هذا أن بعضهم يقول: له أن يستثني ولو بعد مدة طويلة شهر أو أشهر، وهذا قول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وبعض السلف، والذي عليه العمل عند من يقول بالاستثناء بالمشيئة: أن يكون في نيته أن يستثني قبل أن يستتم الجملة أو قبل أن يتكلم بها. إذا ثبت هذا فللعلماء في هذه المسألة قولان: القول الأول: يقع الطلاق إذا علقه بمشيئة الله عز وجل مطلقاً، فإذا قال: أنت طالق إن شاء الله، وقع عليه الطلاق ويؤاخذ به، وهذا القول قال به: قتادة وسعيد بن المسيب من أئمة التابعين، ويُروى عن عطاء بن أبي رباح وقال به الثوري والأوزاعي وهو مذهب المالكية، ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليهم. القول الثاني: أنه لا يقع طلاقه، وهو قول بعض أئمة السلف من التابعين وهو مذهب الشافعي ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع. وهذا الخلاف إذا كان قوله: إن شاء الله، بقصد التعليق بخلاف ما لو قال: إن شاء الله، تبركاً بذكر الله عز وجل؛ لأن اسم الله مبارك فيقول: إن شاء الله أفعل، إن شاء الله أقول، ولا يقصد التعليق، ولا ينوي في قلبه التعليق، وكذلك مسبوق اللسان، مثل من عادته أن يقول: إن شاء الله، فلما قال: أنت طالق، قال: إن شاء الله، فجرى بها لسانه دون أن يكون قاصداً للتعليق بقلبه، وكذلك إذا قصد التحقيق، فيقول لها: أنت طالق إن شاء الله، تحقيقاً وإثباتاً للأمر، في هذه الصور كلها يقع الطلاق وجهاً واحداً عند العلماء، فمن قال: أنت طالق إن شاء الله، ولم ينو في نفسه التعليق وإنما قال: إن شاء الله، تبركاً بذكر اسم الله عز وجل، أو قاله تحقيقاً للوقوع كما يقول لك: آتيك إن شاء الله، بقصد التحقيق، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) أي: تحقيقاً للحوقه وموته عليه الصلاة والسلام؛ فهذا كله يقع فيه الطلاق؛ لأنه ليس بتعليق ولا في معنى التعليق. استدل الذين قالوا بوقوع الطلاق بقولهم: إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فعندنا لفظان: اللفظ الأول: قوله: أنت طالق، أو زوجتي طالق، أو امرأتي طالق. واللفظ الثاني: قوله: إن شاء الله، الذي هو التعليق. فوقع لفظ الطلاق المعتبر من الشخص المعتبر على الصفة التي لا يشك في وقوعه فيها، وعلق في الجملة الثانية على أمر لا يمكننا علمه، فلا نعلم هل شاء الله أو لم يشأ؟ قالوا: واليقين أنه مطلق، والتعليق نشك في تأثيره وبناءً على ذلك يُلزم بقوله، لأن الشريعة لم تفتح باب التلاعب في الطلاق أبداً، حتى أن الهازل إذا تلفظ به تؤاخذه، مع أنها قد عفت وسامحت في كثير من الأمور إلا هذا اللفظ، فما دام أنه قال: أنت طالق، والله في كتابه والرسول صلى الله عليه وسلم في سنته كلاهما حكم بأن من طلق فإنه يلزم بطلاقه، فنلزمه بالطلاق، وهذا اللفظ معتبر من الشخص ولا يؤثر فيه التعليق؛ لأنه أُسند إلى ما لا يمكن علمه، فلما أسند إلى ما لا يمكن علمه فمعناه: أن التعليق غير مؤثر؛ لأنه ما ثبت أن الله لا يشاء طلاقه، فنبقى على الأصل ونؤاخذه بلفظه، فيقع عليه الطلاق. وبعض أئمة السلف له وجه ثانٍ من الاستدلال على وقوع الطلاق: وهو ما يلي: إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فنقول له: قد شاء الله طلاق امرأتك؛ لأنه أذن بالطلاق، فنعتبرها طالقاً، وهذا قول عطاء بن أبي رباح كان إذا سُئل عن هذه المسألة يقول له: (قد شاء الله طلاق امرأتك) لأنه أذن بالطلاق، فلما تلفظت به فإنه شاء تطليقها، وهو محكوم به شرعاً، فتلزم بطلاقها، ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان إذا سئل عن قول الرجل: أنت طالق إن شاء الله، قال: (من قال: أنت طالق إن شاء الله، فهي طالق)، ويروى عن أبي سعيد وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا: (كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى التعليق -يعني: بالاستثناء بالمشيئة- في الطلاق والعتاق) أي: أنه لا يؤثر في الطلاق ولا يؤثر في العتق، ولذلك ذكره المصنف -رحمه الله- في قوله: أنت حر إن شاء الله، فلم ير تأثيره في الطلاق، ولم ير تأثيره في العتق، وقولهما رضي الله عنهما: (كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) أشبه بالإجماع، ولذلك قالوا: لم يحفظ لهم مخالف، وهو حكاية عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أنه إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، يمضي عليه الطلاق. واستدل أصحاب القول الثاني الذين ذهبوا إلى أنها لا تطلق، بقولهم: اليقين أنها امرأته، وهو علق الطلاق على مشيئة الله، ولم يثبت ما يدل على أن الله قد شاء طلاقها، قالوا: فلو علق الطلاق على مشيئة عبد لتوقفتم في الحكم عليه حتى ننظر هل يشاء أو لا يشاء؟ وهنا قد علق المشيئة على الله سبحانه وتعالى، وليس عندنا دليل يثبت أن الله قد شاء طلاقها، ومن هنا قالوا: لا تطلق عليه. والقول بالوقوع من القوة بمكان؛ لأن أصحاب القول الثاني بنوا على القياس على من استثنى في اليمين، قال عليه الصلاة والسلام: (من حلف فقال: إن شاء الله؛ لم يحنث) أخرجه الترمذي وحسنه، ومن العلماء من يقول: إنه صحيح لغيره، هذا الحديث يدل على أنه لو قال في اليمين: والله لا أفعل إن شاء الله، والله أفعل إن شاء الله، أنه لو لم يفعل أو فعل ما حلف على عدم فعله لم يحنث؛ لأنه علق على المشيئة، قالوا: والطلاق واليمين بابهما واحد، ولكن هذا ضعيف، فالطلاق يخالف اليمين، فإنه إذا قال: والله لا أفعل إن شاء الله، ولم يفعل، علمنا أن الله قد شاء أنه لا يفعل، وكذلك إذا قال: والله أفعل كذا إن شاء الله، فإنه إذا فعله فقد شاء الله عز وجل أن يفعله، ويمكننا العلم بمشيئة الله عز وجل، وبهذا فرق العلماء بينهما، وباب الطلاق من باب الإنشاء، وباب الإنشاء أضيق من أن يعلق، ولذلك إذا قال لامرأته: أنت طالق، فقد طلق، ثم قوله بعد ذلك: إن شاء الله لا يمكن علمه، والأصل مضي الطلاق على كل من تلفظ به، فنلزمه بالطلاق، فالقول بوقوعه من القوة بمكان. وأحب أن أنبه على أنني في المسائل الخلافية إذا قلت: الراجح كذا، والذي يترجح في نظري كذا وكذا، فلا شك عندي على غالب ظني أنه الراجح، لكن إذا قلت: أقواهما وأولاهما بالصواب، فهذا لا يستلزم الترجيح من كل وجه، بل القول الثاني يكون له وجه، وله قوة؛ تمنع من البت بالراجح في هذه المسألة. فمن قال من العلماء: إن الاستثناء بالمشيئة مؤثر فإنه لا يوقع الطلاق، ومن قال: إنه غير مؤثر فإنه يوقع الطلاق، وإذا قلنا: الاستثناء بالمشيئة مؤثر، فبعضهم يقول: لا يؤثر إلا إذا تلفظ به وأسمعه للغير، فيقول: زوجتي طالق إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله، بصوت يسمعه الغير، ومن أهل العلم من يقول: لو حرّك بها لسانه دون أن يُسمع الغير بل لم يسمع غير نفسه فإنه يجزئه، وهذا القول الثاني هو الأقوى، يعني: لو قلنا بتأثير الاستثناء بالمشيئة فإنه لابد وأن يتلفظ بذلك في الحكم والقضاء، ويجزئه أن يكون اللفظ بقدر يسمعه هو. لكن لو قال أمام الناس: زوجتي طالق، وسمعه الناس يقول: زوجتي طالق؛ ثم قال: إن شاء الله، بصوت لم يسمعه إلا هو، ثم رفع عند القاضي، فإن القاضي يطلقها عليه قضاء، ولا تطلق عليه ديانة وفتوى، وهذا عند من يرى أن الاستثناء بالمشيئة مؤثر، لأن الذي سمعه الناس وقامت عليه البينة هو قوله: أنت طالق، فلو فتح الباب لتلاعب الناس، وأصبح كل رجل يقول لامرأته: أنت طالق، ثم يقول: استثنيت، وقلت: إن شاء الله، فمن قال: إن شاء الله، بصوت لم يسمعه إلا هو، فإنها تطلق عليه قضاءً، ولكنه بينه وبين الله يجزئه، ويؤثر ديانة، ولا يؤثر قضاءً وحكماً.

تعليق الطلاق على مشيئة الله مع شيء آخر

تعليق الطلاق على مشيئة الله مع شيء آخر قال المصنف رحمه الله: [وإن دخلتِ الدار فأنت طالق إن شاء الله، طلقت إن دخلت]: هنا تعليقان: تعليق الطلاق على الدخول، ثم تعليق وقوع الطلاق بالدخول على المشيئة. لو علق الطلاق على مشيئة مخلوق؛ كأن يقول: أنت طالق إن دخلت الدار إن شاء فلان؛ ففي هذه الحالة ننتظر أمرين: دخولها الدار، ثم نسأل فلاناً الذي علق الطلاق على مشيئته: هل يشاء أو لا يشاء، إن دخلت دار أبي بدون إذني فأنت طالق إن شاء أبي، من باب أن يعاقبها، إن دخلت على أمي مرة ثانية أو آذيتِ أمي مرة ثانية فأنت طالق إن شاءت أمي، فحينئذٍ لا إشكال فننتظر الأذية وننتظر مشيئة الأم، ولا يمكن أن نحكم بوقوع الطلاق بمجرد وقوع الأذية، فنتقيد بالمشيئة، ولم يذكر المصنف هذه المسألة لظهورها، لكن ذكر التعليق بمشيئة الله عز وجل، فلو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله، عند من يرى أن (إن شاء الله) مؤثرة، فحينئذٍ لا يقع الطلاق؛ لأنه علقه على مشيئة الله عز وجل، والتعليق بمشيئة الله يسقط الطلاق، وأما على المذهب الذي اختاره المصنف -رحمه الله- وهو مذهب الإمام أحمد في الرواية التي اختارها أكثر من واحد من أصحابه رحمة الله عليهم: أنه إذا علق بالمشيئة فالمشيئة لا تؤثر، وبناءً على ذلك: إن دخلت الدار فإنه يُحكم بطلاقها، وما قال: نكفر كفارة يمين؛ لأن اليمين شيء، والطلاق شيء آخر، حتى ولو قصد منعها، وقد بينا هذه المسألة وذكرنا كلام العلماء -رحمهم الله- فيها وأن جماهير السلف والخلف -رحمهم الله- على أنه إذا علق على الدخول أو الخروج ونحوها من الصفات كما حكاه ابن المنذر وغيره بالإجماع أنه إذا وقع هذا الذي علق الطلاق عليه وقع الطلاق. فحينئذٍ نحكم بوقوع الطلاق إن دخلت في الدار، ولا ننتظر العلم بمشيئة الله؛ لأن هذا يتعذر، ويحكم بمضي الطلاق ونفوذه.

حكم قوله: (أنت طالق لرضا زيد)

حكم قوله: (أنت طالق لرضا زيد) قال المصنف رحمه الله: [وأنت طالق لرضا زيد أو لمشيئته طلقت في الحال]: أنت طالق لرضا زيد أو لمشيئة زيد، أنت طالق لرضا أمي، أنت طالق لرضا أبي، أنت طالق لمشيئة أمي، أنت طالق لمشيئة أبي، اللام هنا إذا قصد بها التعليل فيقع الطلاق فوراً، يعني: طلقتك من أجل رضا أمي، أنت طالق لرضا أمي، يعني: من أجل أن أمي راضية بالطلاق، لكن إذا قصد باللام التعليق؛ فننتظر حتى يرضى من علق الطلاق عليه، ففرق بين المسألتين: اللام إذا قصد بها التعليل بأن قال: أنت طالق لرضا أمي، أي: طلقتك لأن أمي راضية بطلاقك، فحينئذٍ يمضي الطلاق، وإن قال: أنت طالق لرضا أمي، أي: إن رضيت أمي، فطلاقك معلق وموقوف حتى ترضى أمي، فإنه حينئذٍ نتوقف حتى ترضى أمه، وهكذا لو علقه على رضا غيرها أو مشيئته. قال المصنف رحمه الله: [فإن قال: أردت الشرط قبل حكماً]: (قبل حكماً) يعني: يُقبل حكماً، وإذا قبل حكماً قُبل ديانةً، والحكم هو القضاء، ومراده هنا: أنه لو رفع عند القاضي وأراد القاضي أن يحكم عليه فقال: أنت قلت: أنت طالق لرضا أمي، فقال: قصدت بقولي: لرضا أمي، أي: إن رضيت أمي، وأمي لم ترض، فالقاضي يقبل منه قوله، ويحكم بعدم وقوع الطلاق؛ لأنه في هذه الحالة جاء بلفظ محتمل، والقاعدة: (أن الألفاظ المحتملة لا يلزم المتكلم فيها بشيء حتى يبين مراده) ولا يمكن أن يلزمه بأحدهما ما دام أن اللفظ يحتمل الأمرين.

تعليق الطلاق برؤية الهلال

تعليق الطلاق برؤية الهلال قال المصنف رحمه الله: [وأنت طالق إن رأيت الهلال، فإن نوى رؤيتها لم تطلق حتى تراه وإلا طلقت بعد الغروب برؤية غيرها]: (أنت طالق إن رأيت الهلال) إذا قصد أن تراه حقيقة فهذه مسألة، وإن قصد دخول الشهر، أي: أنت طالق بدخولك في الشهر، فقوله: إن رأيت الهلال، يعني: إن دخل عليك الشهر الثاني؛ فهذه مسألة ثانية، فإن قصد الرؤية البصرية بأن تراه بنفسها فحينئذٍ لا تطلق إلا إذا رأت الهلال، ولعل الله أن يجعل لها فرجاً فيأتي الغيم ولا ترى الهلال فلا تطلق!! وذكر عن بعضهم أنه قال لامرأته هذا القول، وكانت تكرهه، فأمسكها وعصب عينها ومنعها من الظهور على سطح الدار خوفاً من وقوع الطلاق؛ لأنه علقه على رؤية الهلال، ولو رأت الهلال لمضى عليها الطلاق، لكنه ندم ورجع عن هذا، وهي كانت تريد أن يجعل الله لها فرجاً ومخرجاً. فقوله: (أنت طالق إن رأيت الهلال) إن قصد أن تراه، فلا يقع الطلاق إلا برؤيتها، وإن قصد دخول الشهر الثاني فإنها تطلق برؤيتها وبرؤية غيرها، وكأنه يقول: بنهاية هذا الشهر فإن طلاقي عليك واقع، فحينئذٍ لا يُشترط أن ترى الهلال، وتطلق عليه بمجرد أن يدخل الشهر الذي يلي الشهر الذي هي فيه، حتى ولو رآه غيرها؛ لأن قصده ما ذكرناه، أما لو قصد أن ترى بنفسها فلا يقع إلا برؤيتها البصرية.

الأسئلة

الأسئلة

مدة نفوذ مشيئة المرأة عند تعليق الطلاق بمشيئتها

مدة نفوذ مشيئة المرأة عند تعليق الطلاق بمشيئتها Q هل يشترط إذا أسند الطلاق إلى مشيئة المرأة أن تكون مشيئتها مقيدة بذلك الوقت، أي: لو شاءت بعد زمن، هل تطلق؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فذكرنا هذه المسألة، وأنه يقع تراخياً، وأن بعض العلماء يرى أنه لا بد وأن يكون في المجلس، وبعضهم يرى أنه لابد وأن يكون بعد الكلام مباشرة كما هو مذهب الشافعية، لكن الصحيح: أنه إذا أطلق يبقى مطلقاً وإذا قيد يبقى مقيداً، إذا قال لها: إن شئت، يبقى على إطلاقه، وحينئذٍ يستوي أن يكون بعد كلامه مباشرة أو بعده بفاصل.

استئذان المرأة من زوجها عند خروجها في كل مرة

استئذان المرأة من زوجها عند خروجها في كل مرة Q إذا طلبت الزوجة من زوجها أن يأذن لها إذناً عاماً، فهل الأفضل لها أن تستأذنه في كل خروج تعظيماً لحقه وإشعاراً لمكانه؟ A لا شك أن المرأة الصالحة إذا أحسنت التبعُّل لزوجها، وكانت على أتم أحوال الأدب؛ فهذا أكمل لدينها، (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) المرأة الصالحة الدينة دائماً تخشى الله عز وجل في حق بعلها، فحينما تجده يكرمها أو يأذن لها في أمر واحتاجت إلى هذا الأمر مرة ثانية مع وجود الإذن المسبق، وعلمت أنه لا يضجر، وإنما أرادت أن تجله وتوقره؛ فإن هذا قربة، ولها المثوبة من الله عز وجل على ما فعلت، وهكذا كل من له حق وفعلت فعلاً معه إجلالاً له؛ لأنك ما فعلت هذا إلا تعظيماً وإكراماً، فالمرأة أُمرت بإكرام زوجها، والله عز وجل يقول: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189] المرأة سكن للرجل، والزوج إذا نظر إلى امرأته وفيّة، كريمة، صالحة، كلما مكنها من أمر تأدبت معه، وكانت على الكمال في الانتفاع بإذنه؛ فإن هذا يزيد من محبتها، ولا شك أن كل زوجة ستعاشر زوجها سيشهد أمام الله بخيرها وشرها. وهذا كمال وفضل، ولا تفعل هذا إلا المرأة الصالحة الدينة الكاملة الفاضلة، تستأذن زوجها مع وجود الإذن، لكن بشرط أن لا يضجر الزوج من ذلك، ولا يحدث عنده نوع من الكراهية، والمرأة فطنة تدرك هذه الأمور، ويذكر بعض مشائخنا -رحمة الله- عليهم مثلاً في تأدب طلاب العلم مع مشائخهم، وتأدب الصغار مع الكبار، وتأدب الولد مع والده أنه إذا وثق الوالد في ولده فأسند إليه أمراً، فرجع الولد إلى والده وسأله كيف يفعل؟ وماذا يأتي؟ وماذا يصنع؟ أعظم والده ذلك منه، ودله على كمال عقله وفضله ونبله، مع أنه يمكن أن يقوم بالأمر، لكنه قصد من هذا إشعار والده أنه ما زالت له ولاية عليه، وأنه وإن كان يثق أنه سيقوم بالأمر فإنه لا يزال محتاجاً إليه، هذا هو الشعور النفسي، وهو مرتبة الكمال والفضل، ولا يحرص على معالي الأمور ومكارم الأخلاق على أتم وجوهها إلا مؤمن صالح ومؤمنة صالحة. المرأة تحرص غاية حرصها على طلب مرضاة الله عز وجل بمثل هذا، وهذه أمور قد يراها الإنسان يسيرة، ولكنها عند الله كبيرة، الأدب لا يضر صاحبه، بل ينفعه ويكرمه ويجله، وخاصة مسائل تعظيم شعائر الله عز وجل. المرأة المؤمنة حينما يأذن لها زوجها، وترجع مرة ثانية وتأخذ منه الإذن مع وجود الإذن العام، أو تعلم أنه يرضى بالشيء، ومع ذلك تأتي وتقول له: هل أفعل أو لا أفعل؟ حينما تفعل هذا أمام أولادها ماذا سيكون له من الأثر؟ ولذلك كم من امرأة صالحة كانت تحت يد أم تخاف الله عز وجل وتتقيه وتحسن الأدب مع زوجها؛ وصلت إلى مراتب الكمال بما رأت من تصرفات أمها مع أبيها، وهذا هو البيت المسلم الكامل الفاضل. والمسائل النفسية مهمة جداً، المرأة لما تستأذن من زوجها له آثار طيبة، حتى كان بعض العقلاء الحكماء من كبار السن يوصي أولاده بقوله: لا تأذن إذناً عاماً، وقل لامرأتك: إذا أرادت أن تستأذن أن تستأذن أمام أولادها وبناتها، حتى يتعلم أهل البيت الاستئذان، والإجلال لذي الحق، وما عرفنا بيوت المسلمين إلا على هذا الأثر، ولا قامت بيوت المسلمين إلا على هذا الإكرام من النساء الصالحات، وهذا والله لا ينقص المرأة أبداً، وأعداء الإسلام يحرصون كل الحرص على قطع مثل هذه المعاني، ويقولون: المرأة حرة في نفسها فلا تستأذن الرجل، وهذا كله اعتداء لحدود الله، وتمرد على الشريعة، وتمرد على مكارم الأخلاق الفاضلة؛ لأنهم يريدون المرأة كالرجل سواء بسواء والله يقول: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36] وما أخبر الله عنه -وهو أصدق القائلين- فلن يستطيع أحد أن يرده كائناً من كان، فإن الرجل ليس كالأنثى، ولو شاب الغراب؛ لأن الله سبحانه وتعالى إذا حكم في أمر لا يمكن لأحد أن يعقب حكمه، {يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41]. فالمرأة حينما تأتي أمام أولادها وتقول: هل أخرج؟ يتعلم كل من في البيت أنه لا يخرج إلا بإذن الوالد، ولذلك كم من أطفال صغار نظروا إلى أمهاتهم وهن لا يخرجن إلا بالإذن، فأصبح الابن يتربى على الإذن، فنشأ البيت كله تحت قيادة الأب، ورعاية الأب، مع أم صالحة دينةٍ وفية كريمة ذات خلق وذات فضل، فصلحت الأسرة، وقد كانت بيوت المسلمين على هذا، وقوة الأمة الإسلامية تكون بقوة البيت المسلم وتماسكه واعترافه بقيام الرجل على المرأة. وهذا الأدب فيه سمو وعلو للمرأة؛ لأن المرأة بفطرتها وخلقتها لا يمكن أن تصلح إلا بهذا، ولتنظر إلى أي بيت تكون فيه المرأة راعية لنفسها متمردة على بعلها تجده -والعياذ بالله- أشقى البيوت، تجده بيتاً مدمراً، والله لو جلسوا على المتاع الوفير، وأحسنوا فيما هم فيه من نعيم الدنيا؛ لكن صدورهم في ألم وشقاء وعناء لا يعلمه إلا الله عز وجل؛ لأن المرأة إذا رأتها ابنتها لا تستأذن، وتخرج متى شاءت، خراجة ولاجة متى أرادت، متمردة على بعلها؛ تمردت هي على أبيها غداً، وتمرد الابن على أبيه غداً، وأصبح البيت بدون قائد وبدون راعي، والله عز وجل جعل الرجل راعياً في بيته، وجعله قائماً على أهله وولده {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6] ولذلك تجد المرأة المسلمة تربي أبناءها وبناتها من الصغر ومنذ نعومة أظفارهم على الأدب، فلا يخرج الولد من عند الباب حتى يستأذن والده، وحق لها أن لا تموت حتى ترى حُسن الأثر لمثل هذه الآداب والأخلاق في أولادها؛ لأن المرأة لو ربت أولادها على هذا الشعور النبيل الفاضل استقام أمر البيت، وتجد الآن -ما شاء الله ولا قوة إلا بالله- رجلاً كاملاً في رجولته، لكن ما إن يدخل بيت أبيه إلا عاد على حاله أيام الصغر، وفاءً وحفظاً للعهد الذي يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (حفظ العهد من الإيمان)، فيدخل البيت وإذا به تحت والده، حتى أن بعضهم يقول: والله إنه كبر والدي، وهو في آخر عمره، وما زالت فيَّ هيبة والدي التي أعرفها في الصغر؛ لأن الأم كانت ممسكة بزمام البيت، وكانت محافظة على فرض هذا الشعور، ولله درها من أم، ولا يمكن أبداً أن تستقيم أمور البيوت ولا الحياة الزوجية إلا بمثل هذا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد - يعني: وهي تذهب إلى الصلاة لا بد أن تستأذن- فلا يمنعها) ويقول: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) فإذا كانت في الطاعات تستأذن، فكيف في أمور الدنيا؟ فلا شك أن خروج المرأة لا بد فيه من الإذن، ولا بد أن تراعي الأكمل والأفضل في هذا. والإنسان إذا حرص دائماً على مراتب الكمال، كمّل الله عز وجل أموره في كل شيء، حتى وأنت في إدارتك ووظيفتك مع من هو أكبر منك وأعلى منك، تتأدب، فإذا بالقلوب تجمع على محبتك، والظنون السيئة تبتعد عنك؛ وهذا من حسن ما جعله الله لأهل الإيمان من الود، فإنه لما كملت أخلاقهم وكمل إيمانهم بحسن الخُلق جعل الله لهم المحبة في الخلق، وذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96] أي: سيجعل الله لهم الود، وهو: خالص الحب، لكن بماذا؟ بفضله سبحانه ثم بالإيمان، وأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وأكملهم خلقاً، والمرأة المؤمنة إذا كمل خلقها كملت محبتها، وعندها تصبح المرأة ناجحة، وتصبح المرأة ممسكة بزمام الأمور، بعد كبر الأبناء والبنات؛ ترى حسن العاقبة والأحوال. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكرمنا بهذه الأخلاق، وأن يهدي شباب المسلمين وشاباتهم إلى التمسك بها والعمل بها، والله تعالى أعلم.

كيفية الإيجاب والقبول لمن تولى طرفي عقد الزواج بالوكالة

كيفية الإيجاب والقبول لمن تولى طرفي عقد الزواج بالوكالة Q إذا تولى رجل طرفي عقد الزواج -كأن يكون ولياً للمرأة ووكيلاً للزوج- فكيف يكون الإيجاب والقبول؟ A هذه المسألة خلافية بين العلماء رحمهم الله، بعض أهل العلم يرى أنه يمكن أن يكون شخص واحد كافياً في طرفي العقد، وحينئذٍ لا يشترط الإيجاب والقبول؛ لأن العقد يقوم على الصيغة قولاً وفعلاً، فإذا انتفى وتعذر أن تكون الصيغة بالقول بأن يخاطب نفسه ويقول: بعت واشتريت، انتقلت إلى الفعل؛ لأنه بمجرد أن يأخذ الشيء المبيع ويقبضه، فقد انتقل إلى ملكه، مثلاً: يأخذ العشرة آلاف ريال ليشتري بها سيارة من الأيتام، فيضعها في رصيد الأيتام ثم يقبض السيارة فحينئذٍ قد تم العقد، فيكون الفعل منزلاً منزلة القول، فإذا تعذر القول انتقل إلى الفعل، كما هو الحال في المعاطاة ونحوها، والله تعالى أعلم.

حكم جمع المسافر للصلاة بدون قصر

حكم جمع المسافر للصلاة بدون قصر Q هل يجوز للمسافر أن يجمع بدون قصر؟ A المسافر لا شك أن الله عز وجل رخص له قصر الصلاة، فإذا أتم الصلاة أمكنه أن يجمع، مثلاً: جاء إلى مكة مسافراً، وطاف بالبيت، وأقيمت صلاة الظهر وهو يريد أن يسافر إلى الطائف، فلما صلى الظهر مع الإمام أربع ركعات؛ أقام صلاة العصر وصلاها ركعتين، فإنه أتم الصلاة الأولى، أو العكس، يتم الصلاة الثانية، مثل أن يقيم لصلاة الظهر ويصليها قصراً، وبعد سلامه يصلي العصر مع الإمام، فقد أتم الثانية، أو يدخل مع جماعة فاتتهم صلاة الظهر فأتموا، ثم تأتي مجموعة ثانية تصلي الظهر تامة فيصلي معهم بنية العصر، فصليت مع الجماعة الأولى الظهر ثم أردت أن تصلي العصر فجاءت جماعة ثانية فصليت معهم لتكسب أجر الجماعة، هذا كله لا بأس به، فتكون جمعت بين الصلاتين ولم تقصر لا الأولى ولا الثانية، أو جمعت بين الصلاتين فقصرت الأولى ولم تقصر الثانية أو العكس كله جائز، لكن لو يقصد ذلك وهو مسافر، فيتم الظهر ويتم العصر فهذا خلاف السنة، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: (فُرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأُقرت في السفر وزيدت في الحضر). فلا ينبغي للمسلم أن يخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، وعليه التزام السنة، والحرص على صلاة العصر والظهر والعشاء مقصورة، تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يوجد العذر، مثل أن يصلي وراء مقيم متم، والله تعالى أعلم.

تقديم الحضور مبكرا للصف الأول على صلاة السنة في البيت

تقديم الحضور مبكراً للصف الأول على صلاة السنة في البيت Q من كان يؤدي ركعتي الفجر في بيته ولا يأتي المسجد إلا على الإقامة حرصاً منه على السنة، ولكن يفوته الصف الأول في الغالب، فهل في ذلك حرج؟ A لا، الأفضل أن يبكر إلى المسجد، ويصلي تحية المسجد، وينال فضيلة الصف الأول؛ لأن القاعدة عند العلماء أن فضائل الفرائض مقدمة على فضائل النوافل، فصلاة النافلة في البيت هذا بالنسبة لفضيلة النافلة (صلوا في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) هذا الوجه الأول للتفضيل. الوجه الثاني: أن الفضيلة المنفصلة عن ذات الصلاة والفضيلة المتصلة بذات الصلاة إذا تعارضتا قُدمت الفضيلة المتصلة بذات الصلاة، والصف الأول فيه فضيلة المكان للصلاة، فتقدم على الفضيلة المنفصلة عن الصلاة، ولذلك قالوا: لو كنت عند ركوبك للسيارة تدرك الصف الأول، وتدرك تكبيرة الإحرام أو تدرك التأمين، ولو مشيت على قدميك لا تدرك ذلك، فاركب السيارة وهذا أفضل؛ لأنك تدرك فضيلة الصف الأول وفضيلة التأمين وهما فضيلتان متصلتان بالصلاة، بخلاف فضيلة المشي للصلاة فإنها فضيلة منفصلة عن الصلاة، وإذا تعارض المتصل والمنفصل قدم المتصل على المنفصل، فهذه كلها قواعد للتفضيل أشار إليها العلماء في كتب القواعد، فأنت تُقدم في هذه الحالة ما تَقَدَّم، لكن تنوي في قرارة قلبك أنه لولا أنك تريد الصف الأول وفضيلة الصف الأول لصليتها في بيتك حتى يكتب الله لك أجر السنة، والله تعالى أعلم.

حكم تحجيج الزوج لزوجته

حكم تحجيج الزوج لزوجته Q إذا كان الزوج مستطيعاً فهل يلزمه أن يحجج زوجته؟ A ليس على الزوج أن يحجج زوجته، ولكن الأفضل والأكمل أن يفعل ذلك، فإن حج الزوجة ليس من الأمور المتعلقة بالزوجية، ولكن لا شك أنه إذا احتسب الأجر عند الله عز وجل وحججها فإن الله يأجره، وينبغي للأزواج أن يحرصوا على ذلك، وأن يعينوا أزواجهم على الحج وعلى ذكر الله وطاعة الله عز وجل لما في ذلك من زيادة الخير والبر لهم، وإذا صلحت المرأة أصلح الله بصلاحها أمور البيت وصلحت لبعلها، وكان أول من يرى أثر صلاحها زوجها وأولادها، فعلى الزوج أن لا يُقصر في مثل هذا، وعليه أن يحتسب الثواب عند الله وليحمد الله جل جلاله أن رزقه امرأة تريد منه أن يعينها على طاعة ربها، فإذا فعل ذلك شكر الله عمله وبارك ماله وأحسن له العاقبة، والله تعالى أعلم.

الفرق بين: (عام مخصوص) و (عام مضاف إلى الخصوص)

الفرق بين: (عام مخصوص) و (عام مضاف إلى الخصوص) Q هل هناك فرق بين عام مخصوص وعام مضاف إلى الخصوص؟ A عام مخصوص أي: دخله مخصص، ودخله التخصيص، أي: جاء نص خاص يخص هذا العموم، تقول: هذا عام وهذا خاص، سواءً اختص بصحابي في زمان النبي صلى الله عليه وسلم أو اختص بشخص آخر توفرت فيه الصفات، مثلاً يقول الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] لما قال الله تعالى: ((فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ)) وقال: ((وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ)) دل ذلك على أن الأصل في الشهادة العدد؛ فلا يقبل الشاهد الواحد، ومع ذلك قبل عليه الصلاة والسلام شهادة خزيمة وحده، فعندنا عام وعندنا خاص، فهذا العام الذي ورد من الشرع خصه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الصحابي، فجعل شهادته كشهادة رجلين، فهذا لا نعتبره لكل الأمة، فلا تكفي شهادة واحد في الأحكام، ولا يقبل القاضي شهادة الواحد وحده، وإنما يقضي بشهادة رجل مع امرأتين، أو شهادة رجل مع رجل، أو شهادة رجل مع اليمين في أمور الأموال، وما يتعلق بها كما سيأتي -إن شاء الله- في باب القضاء، فنقول: قضية خزيمة خاصة، والأصل في العام أن يبقى على عمومه، ولكنه عام دخله التخصيص على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الصحابي، فهذا تخصيص يختص بعينه. وهناك تخصيص عمومي في الأزمنة والأمكنة والأشخاص، مثلاً: ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بتحية المسجد، وورد عنه أنه نهى عن الصلاة بعد صلاة العصر، والجمهور يرون أن الأمر بتحية المسجد عام، والنهي عن الصلاة بعد صلاة العصر خاص تعلق بالوقت والزمان، فيقولون: يصلي تحية المسجد في سائر الأوقات إلا في الأوقات التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا عام دخله التخصيص، فيقولون: هذا العموم يُفعل في كل وقت إلا في هذه الحالة الخاصة التي استثناها الشرع. أما بالنسبة لعام أُريد به الخصوص، فيأتي اللفظ عاماً في كتاب الله عز وجل لكن المراد به الخصوص، فيختلف عن الأول، الأول عام شامل لجميع الأمة، فلما أمر بتحية المسجد فهو أمر لجميع الأمة بصلاة تحية المسجد، لكن قد يأتي أمر لا يريد به الله عز وجل العموم، وإنما يريد به طائفة معينة مثل: قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} [النور:32] ((أَنكِحُوا)) كلنا مأمور أن ينكح، لكن هل أنا مأمور بهذا الأمر؟ إنما يؤمر به من عنده هذا الشيء، فحينئذٍ نقول له: أنكح الأيامى الذين عندك والصالحين من عبادك وإمائك، فعنده رقيق وانطبق عليه هذا الأمر، فهذا عام أُريد به خاص، وأُريد به طائفة مخصوصة، ولا يراد به العموم لكل الأمة؛ لأنه لا يمكن أن يكون لكل أحد عبدٌ أو أمة حتى ينكحها أو ينكحه. فيكون النص عاماً ويراد به الخاص، ويكون خاصاً ويراد به العموم، ويأتي عام فيدخله التخصيص، ويأتي عام مراد به طائفة معينة خاصة، والنصوص يعمل بها على حسب ما دلت عليه الأدلة، ما لم تقم القرينة أو الدليل على التخصيص أو إرادة العموم، والله تعالى أعلم.

حكم طلب الزوجة الطلاق لأدنى مشكلة

حكم طلب الزوجة الطلاق لأدنى مشكلة Q بمجرد حصول أدنى مشكلة بين الزوجين تطلب المرأة فوراً الطلاق، فهل يجوز لها ذلك؟ A لا يجوز للمرأة أن تسأل زوجها الطلاق من غير ما بأس، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حرمة ذلك كما في الصحيح، وورد فيه الوعيد الشديد وهو أن (الجنة على المرأة حرام إذا سألت الطلاق من غير ما بأس) -نسأل الله السلامة والعافية- فعلى المرأة أن تتقي الله عز وجل. وأما بالنسبة للمشاكل الزوجية فالواجب على المرأة أن تصبر، وأن تحتسب عند الله عز وجل الثواب، وكل إنسان إذا ضاع حقه وأهينت كرامته، وأذل في عزه، واعتدي على ماله؛ فليحتسب أمره عند الله عز وجل، فإن الله نعم المولى ونعم النصير، والمرأة لا يرد حقها الطلاق، ولا يرد حقها هدمها لبيتها وأذيتها لأطفالها، فلتعلم المرأة أنها إذا سألت زوجها الطلاق أنها تهدم بيتاً من بيوت المسلمين، ولتعلم أنها إذا سألت الطلاق أنها تدمر أسرة من أسر المسلمين، والله سائلها عن ضياع أبنائها وفلذات كبدها، وعليها أن تكون قوية تستعصم بربها، وكم من صعاب ذللت وهموم تبددت ومشاكل وغموم أزيلت بالثقة بالله جل جلاله، فإن الله نعم المولى ونعم النصير، خاصة للمرأة لأنها ضعيفة، وضعفها موجب لرحمة الله عز وجل لها، ولعظيم شأن المرأة، ولكثرة المظالم التي تقع عليها؛ أخبر الله عز وجل أنه يسمع شكواها من فوق سبع سماوات، وهذا ليس خاصاً بالمرأة، بل هو سبحانه يسمع كل شكوى، ويجيب ويكشف كل بلوى، فهو سبحانه وتعالى منتهى الشكوى، وكاشف الضر والبلوى، جل جلاله وتقدست أسماؤه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إني أحرج حق الضعيفين: المرأة واليتيم). وعلى المرأة أن تعلم أنها مهما فعلت مع زوجها فأجرها على الله، وكل إنسان يضع هذا الاعتقاد وهذا الشعور في قلبه يزول عنه عناء الدنيا ونكدها، إياك أن تفعل أي حسنة وتنتظر من أحد ثواباً أو جزاءً عليها غير الله جل جلاله، وطِّن نفسك على ذلك، ليس لك إلا ربك، ولا أرحم بك من الله جل جلاله، عوّد نفسك على ذلك فتستريح من هموم الدنيا كلها، كل هذا ثقة بالله وحده، ولذلك ما من أحد يُعلق قلبه بغير الله إلا عذبه الله بذلك التعلق. ومن هنا قد تجد المرأة تكافح وتكابد وهمها أن ترضي زوجها دون أن يكون ف يبالها رضا الله عز وجل، فيأتي اليوم الذي يوليها ظهره فيكفر معروفها وينسى فضلها فتصدم بذلك، ولكنها إذا وطّنت قلبها بالاستعانة بالله وأصبحت في جميع حركاتها وسكناتها تلتمس أول ما تلتمس مرضاة الله، وإذا أحسنت لبعلها تفكر أول شيء هل هذا الإحسان الذي تريد أن تقوم به والسرور الذي تدخله عليه هل هو يرضي الله أو لا يرضيه؟ فإن كان يرضي الله فعلته، وإن كان لا يرضي الله تركته، ولا تبالي بأحد كائناً من كان، ووالله ما وطّنت نفسها على ذلك إلا جعل الله ضيق الدنيا عليها سعة، وأسعدها في نفسها وولدها وبعلها، ولو طلقها زوجها أو فارقها أبدلها الله خيراً منه. ولا يمكن أن تستقيم حياة المرأة بل حياة كل عبد إلا بهذا الأساس، ولذلك أي إنسان يقوم بشيء يجامل به أهل الدنيا أو ينتظر به من أهل الدنيا شيئاً إلا عذبه الله به، وبكى طويلاً وبكى مريراً وتقرح قلبه وشقيت نفسه؛ فمن يريد غير الله عز وجل فقد خاب وخسر، فإن كان يطلب الغنى أذله الله بالفقر، وإن كان يطلب الكرامة ألبسه الله المهانة، فلا كرامة إلا بالذلة بين يدي الله، ولا عزة إلا بالذلة بين يدي الله عز وجل، ولا استغناء إلا بالله الذي لا تنفد خزائنه، فعلى المرأة دائماً أن توطن نفسها على ذلك، وليس عند كل مشكلة تصيح في وجه زوجها: طلقني طلقني، هذا ليس من العِشرة بالمعروف، وليس من شيمة المرأة المؤمنة. الطلاق لا يذكر في بيت مؤمنة، أبداً، بل تصبر وإن رأت خيراً حمدته، وقالت: الفضل كله لله، قيل لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما ابتليت ورأت الشدة والكرب وضاقت عليها الأرض بما رحبت في أعز شيء تملكه المرأة بعد دينها وهو عرضها، قذفت وأوذيت رضي الله عنها وأرضاها، فلما أوحي إليه عليه الصلاة والسلام ببراءتها، وبشرها عليه الصلاة والسلام بذلك، وبدت أسارير وجهه تبرق عليه الصلاة والسلام من الفرح بنصر الله لوليته المؤمنة؛ وبعد أن انتهت الآيات قيل لها: اشكري رسول الله، قالت: لا والله، بل أشكر الله، أول شيء وجهت وجهها لله سبحانه الذي كان معها نعم المولى ونعم النصير، فرسول الأمة جلس بين يديها وقال: (يا عائشة -كما في الصحيح- إن كنت أذنبت ذنباً فتوبي إلى الله واستغفريه) فتنة عظيمة، وشهر عظيم مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه الأسى والبلاء مما يجده عليه الصلاة والسلام في عرضه؛ لأنه أمر ليس بالهين، ومع ذلك ثبتت أم المؤمنين ذلك الثبات العظيم، الذي دل على أنها موقنة بربها، والشيء من معدنه لا يستغرب، فأبوها صديق الأمة رضي الله عنه وأرضاه، الذي باع نفسه وماله وأهله كله لمرضاة الله جل جلاله، وهذا كله لا يكون إلا بكمال التوحيد وكمال الإخلاص {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ} [آل عمران:101] من يعتصم من الرجال أو من الإناث أو من الأقوياء أو من الضعفاء {ومَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101] سلوة الدنيا وسرورها وبهجتها وحبورها كله مطلوب بالثقة بالله جل جلاله، فالمرأة دائماً تعود نفسها على هذا، فإذا جاءت المشاكل وواجهت زوجها بما يكره هنا تزداد المشكلة، فالمرأة تحسن التبعل لزوجها وتقوم على خدمته، وبعض الأزواج -أصلحهم الله- قد يكون فظاً، وقد يكون غافلاً عن بيته، وعلى كل مؤمن أن يتقي الله ويفكر في زوجته وهي بين أربعة جدران تغسل ثوبه، وتكنس بيته، وترعى صغيره، وتقوم على شئونهم؛ حتى يستطيع أن يعاملها بما تستحقه، وأن يكافئ معروفها، فيكون براً وفياً لها، فإذا كان الرجل جاهلاً بهذه الأمور فصاح في وجهها واستفزها وآذاها، فخرجت منها هذه الكلمات، فلا ينبغي لها هذا؛ لأنها تعلم علم اليقين أنها تعامل الله سبحانه وتعالى ولا تعامل زوجاً فقط، فإذا فعلت ذلك أنعم الله عيشها وأقر عينها وأسعدها في نفسها وبيتها، وجعل لها حسن العاقبة. وعلى الرجل المؤمن دائماً أن يقوي صلته بالله جل جلاله، فإذا فعل ذلك فقد نعم عيشه وطابت حياته ولما ينتظره عند الله عز وجل أعظم وأجل؛ لأن القلوب إذا عاملت ربها أعظم جزاءها كما قال تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال:70]. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا كمال الإيمان به، وصدق الالتجاء إليه، وصدق المحبة والرغبة فيما عنده، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى وسلم وبارك على نبينا محمد.

باب تعليق الطلاق بالشروط [8]

شرح زاد المستقنع - باب تعليق الطلاق بالشروط [8] تعليق الطلاق بحصول شيء كلي لا يقع إلا بحصوله كله ولا يقع ببعضه إلا إذا نوى ذلك البعض، وقد بين العلماء أدلة هذه الأحكام. وكذلك إذا علق الطلاق على فعل شيء ففعله ناسياً أو جاهلاً اختلف فيه الفقهاء رحمهم الله، وبينوا الفرق بين الحكم الوضعي والحكم التكليفي في هذه المسألة ونظائرها.

تعليق الطلاق بحصول شيء كلي فلا يحصل إلا بعضه

تعليق الطلاق بحصول شيء كلي فلا يحصل إلا بعضه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصلٌ: وإن حلف لا يدخل داراً أو لا يخرج منها، فأدخل أو أخرج بعض جسده أو دخل طاق الباب، أو لا يلبس ثوباً من غزلها، فلبس ثوباً فيه منه، أو لا يشرب ماء هذا الإناء، فشرب بعضه لم يحنث] عقد المصنف رحمه الله هذا الفصل لبيان جملة من المسائل التي تتعلق بتعليق الطلاق نفياً وإثباتاً على فعل شيء أو تركه، فمتى يصدق عليه أنه أخل يُحكم بوقوع الطلاق، ومتى لا يصدق عليه ذلك فلا يحكم بوقوع الطلاق، وهذا يتوقف على جملة من الصفات يعلق الطلاق على وجودها، وهذه الصفات قد يريد بها الكل أو يريد بها البعض فينظر في هذا الاسم الذي ذكره، هل يصدق على كل الشيء أو بعض الشيء؟ وهل الذي فعله الكل أو البعض؟ ثم بعد ذلك يُحكم بالوقوع وعدمه. قال المصنف رحمه الله: (إن حلف لا يدخل داراً) فإذا قال: إن دخل بيت فلان فامرأته طالق، أو قال بالعكس: امرأته طالق إن خرج من بيته اليوم، أو نحو ذلك. فإذا علق الطلاق على الدخول فلا بد من وجود الدخول على الصفة الكاملة؛ لأن الإنسان قد يدخل بكامل جسده وقد يدخل بعض جسده فقط، فهل امرأته تطلق بمجرد وقوع الدخول لبعض الجسد، أم أنها لا تطلق إلا إذا حصل الدخول الكامل للجسد؟ وهل الجزء يُنَزَّل منزلة الكل أو لا؟ نقول: إذا وقع الدخول للجسم كله فلا إشكال أن امرأته طالق؛ لكن لو أنه أدخل يده لاستخراج شيء من البيت فهل تطلق المرأة؟ وهكذا لو أنه أدخل رجله ثم تذكر ورجع ولم يُدخِل كلَّ جسده، فهل نحكم بالطلاق؟ A لا بد من دخول جسمه كاملاً، والجزء لا يأخذ حكم الكل، والشريعة أحياناً تعطي الجزء حكم الكل، وهذا بالسريان، أو بالتجوز في اللفظ، وأحياناً لا تعطي الجزء حكم الكل، فتعطي الجزء حكم الكل كما إذا قال: يدك طالق، فالحكم كأنه قال: أنت طالق؛ لأن الطلاق لا يتعلق بالجزء وحده، ولا يمكن إسقاط الطلاق الذي أثبته، فهنا يأخذ الجزءُ حكمَ الكل، ومن ذلك إطلاق الشرع للمسجد الحرام على مكة كلها، وكذا تسمية الصلاة بالسجدة، وتسميتها بالركعة، وهو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، لكن هناك مسائل لا تعطي فيها الشريعة الجزء حكم الكل وهي كمسألتنا، ومثل: مسألة الاعتكاف لو كان معتكفاً في المسجد فأخرج يده فإنه لا يبطل اعتكافه؛ لأن الاعتكاف يبطل بخروج الإنسان من دون حاجة من المسجد، فلو أخرج يده أو رجله أو جزءاً من جسده ولم يخرج بكل بدنه فإنه لا يبطل اعتكافه، فلابد من وجود الكل تاماً على الوجه المعتبر حتى يُحكم بوقوع ما رتب المكلف وقوع الشيء عليه، وفي السنة ما يدل على أن الجزء لا يأخذ حكم الكل، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتكفاً في مسجده، فكان يناولها رأسه وهو معتكف فترجله) فهذا يدل على أن الجزء لا يأخذ حكم الكل؛ لأنه لا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد، كذلك ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ عائشة وهو معتكف: (ناوليني الخمرة، قالت: يا رسول الله! إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك) لأنه قال: ناوليني، ومعنى ذلك: أنها ستدخل يدها، ففهمت عائشة أنها ممنوعة جزءاً وكلاً، فقالت: يا رسول الله! -وهي فقيهة رضي الله عنها- إني حائض، فقال: (إن حيضتك ليست في يدك)، يعني: أنك إن أدخلت اليد لم يكن ذلك دخولاً للجسم كله، وهكذا هذه المسألة التي ذكرها المصنف فلا يحنث بإدخال بعض جسده. ثم عندنا استصحاب الأصل أنها امرأته، ولم يقع الدخول على الوجه التام الكامل، والأصل عدم الطلاق، فإذا قال: امرأته طالق إن دخل بيت محمد فأدخل جزءاً من جسده لم يحكم بطلاقٍ امرأته حتى يدخل جسمه كاملاً ولو للحظة يسيرة، فإذا دخل جسمه كاملاً ولو لطرفة عين فإنه تطلق عليه امرأته، وأما دخول بعض الجسم فلا يوجب ذلك ثبوت الطلاق. العكس لو قال: امرأته طالق لو خرج اليوم من بيته، فأخرج يداً أو أخرج رجلاً، أو أخرج رأساً، لم تطلق امرأته حتى يخرج بتمامه وكماله. مسألة: لو قال: امرأته طالق إن خرج من البيت وكانت امرأته حاملاً، وشاء الله أن تضع في الساعة السادسة، وفي الساعة السادسة إلا عشرة أخرج الزوج جزءاً من بدنه من البيت، ثم خرج من البيت بعد الولادة، فحينئذٍ تعتد بعد الولادة لأن الطلاق وقع بعد الولادة، ولكن إن وقع خروج الجسم كاملاً قبل ولادتها ولو بلحظة فإنها تطلق قبل الولادة وقت خروجه من البيت، وتخرج من عدتها بالولادة؛ لأن المطلقة الحامل تخرج من عدتها بالوضع، فحينئذٍ إن خرج الزوج بكل جسده قبل الولادة ولو بوقت يسير فإنه يحكم بكونها أجنبية؛ لأنها خرجت من عدتها بالوضع، أما لو أخرج بعض جسده ثم وضعت ولدها ثم خرج بجسمه كله بعد وضعها لولدها فتستأنف عدتها بالحيض؛ لأن الطلاق وقع بعد الولادة. والحاصل: أن الجزء لا يأخذ حكم الكل في مسألتنا؛ لأنه علق الطلاق على صفة الدخول فلا بد من وقوعها من الجسم كاملاً ولا يجزئ وقوع البعض، وكذلك الحال في الخروج. (أو دخل طاق الباب) هو القوس الذي تكون فيه عضادتي الباب، فلو جاء رجل ودخل على فم الباب ووقف على نفس الطاق بحيث إن جسمه مسامت للطاق، هذا هو الحد، فإن جاوزه حصل الدخول الفعلي بحيث يخلف هذا الطاق وراء ظهره ويدخل، وإن خرج وخلَّف الطاق وراء ظهره خروجاً فقد خرج، فالعبرة بهذا الحد الفاصل الذي يعتمد عليه الباب ويسمى: طاق الباب، فإن جاوزه حكم بالطلاق دخولاً وخروجاً، وإن لم يجاوزه لم يحكم بوقوع الطلاق. (أولا يلبس ثوبا من غزلها فلبس فيه منه) علق الطلاق على لبس ثوبٍ من غزل امرأته، أو غزل أخته، أو غزل أمه. الخ. واللبس هو: الدخول في الشيء، فلو حلف بالله أنه لا يلبس الثوب، فنام ووضع الثوب فوقه، لم يحنث؛ لأنه لم يدخل فيه؛ لأن اللبس حقيقته الدخول، ولو كان محرماً فأخذ الثوب ووضعه على كتفيه لم تلزمه الفدية؛ لأنه لم يلبس، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تلبسوا القمص، ولا العمائم) بحيث يقع الدخول الفعلي. وفي هذه المسألة: إذا كان الثوب فيه شيء من غزل المرأة ولبسه فقد حصل الدخول، ولذا قال بعض العلماء: يحنث ولو كان فيه أقل ما يكون من غزل المرأة، واختار المصنف أنه لا بد وأن يكون منسوجاً من غزلها نسجاً كاملاً، فلو كان النسج في بعض الثوب أو كان في هذا الثوب شيء من غزلها فإنه لا يحكم بالطلاق على ما اختاره رحمه الله، فيعلق هذا على التمام والكمال، فلا بد وأن يكون الثوب منسوجاً كله من غزلها حتى يقع الطلاق وإلا لم يقع. (أو لا يشرب ماء هذا الإناء فشرب بعضه لم يحنث) الإناء ينقسم إلى قسمين: إناء كبير وإناء صغير، فالكبير الذي لا يمكن لمثله أن يشربه، فإذا كان الإناء صغيراً فعلى ما ذكر المصنف من أنه إذا قال الرجل: لا يشرب ماء هذا الإناء، فمعناه: إن شربه تاماً كاملاً وقع الطلاق، فلو شرب منه وبقي منه بقية ولو قليلة لا يقع الطلاق؛ لأنه علقه على شربه تاماً كاملاً، فالمسألة مبنية على ما تقدم من أنه لا يأخذ البعض حكم الكل. أما لو كان الإناء كبيراً فإنه لا يقدر على شرب كل ما في الإناء لأنه أمر مستحيل، مثل أن يقول: لا يشرب ماء هذا النهر، فإنه لا يمكن شرب كل النهر وإنما المراد أن لا يشرب من النهر، فهذه قرينة تدل على أنه يريد الشرب من الإناء أو من النهر. والطلاق تارة يعلق على الشرب، وتارة يعلق على المشروب، وتارة يعلق على الإناء نفسه، فقد يقصد بقوله: لا يشرب من هذا الإناء، المشروب الذي فيه، فلو شرب منه ولو بعضه فإنه يقع الطلاق عند بعض العلماء لأن (من) للتبعيض، إذا قصد المشروب الذي داخل الإناء؛ لأن الإناء لا يُشرب وإنما يشرب الذي بداخله، فإذا قال: لا أشرب من هذا الإناء وقصد البعض فإنه لا يحنث إلا بالبعض، وإذا كان مراده: كل الإناء، فحينئذٍِ يرد فيه التفصيل ما بين الكبر والصغر، وأما إن قصد الإناء نفسه أنه لا يشرب منه، مثل أن يختصم مع رجل وقال له: امرأتي طالق إن شربت من إنائك، فيبقى الطلاق معلقاً على وقوع الشرب من الإناء سواءً كان فيه ماء أو غير ماء؛ لأن العبرة بالإناء نفسه، بغض النظر عن الذي يكون فيه، فإذا شرب من الإناء حكم بالطلاق. إذاً: تارة يقصد بالامتناع عن الشرب من إناء مخصوص، وتارة يقصد نفس الشراب الذي في الإناء، فإن قال: والله ما أشرب من ماء هذا الإناء، ووضع في الإناء شراب برتقال أو لبناً لم يحنث، ولم يقع الطلاق؛ لأنه خصص فقال: من ماء هذا الإناء، وقصد الماء فلا ينصرف إلى غيره. الخلاصة: أنه تارة يقصد الإناء نفسه، فحينئذٍ يقع الطلاق بأي مشروب في هذا الإناء سواء كان ماءً أو غيره، وتارة يقصد الماء الموجود في الإناء فيفصل بين أن يقصد تمام الإناء أو بعض الإناء، كما لو وجدت قرينة تدل على أنه يريد البعض، وتارة يقصد الأمرين سواءً كان في الإناء مشروب من الماء المسمى، أو كان غيره، فحينئذٍ يقع بأي واحد من الأمرين، سواء كان فيه شراب أو غيره وسواء استتمه أو لم يستتمه، فيحكم بوقوع الطلاق.

من علق الطلاق على فعل شيء ففعله ناسيا

من علق الطلاق على فعل شيء ففعله ناسياً قال المصنف رحمه الله: [وإن فعل المحلوف عليه ناسياً أو جاهلاً حنث في طلاق وعتاق فقط] النسيان: ذهاب الشيء عن بال الإنسان فلا يتذكره، والناسي إذا ذُكِّر يتذكر غالباً، وهذا من النقص الذي جعله الله عز وجل في بني آدم، ويعتبر النسيان من الأعذار الموجبة للتخفيف، فرحم الله العباد بإسقاط المؤاخذة عنهم حال النسيان، والنصوص في هذا واضحة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عن الله عز وجل أنه لما دعا المؤمنون بهذا الدعاء قال الله: (قد فعلت) أي: لا أؤاخذكم إن نسيتم أو أخطأتم، وقال عليه الصلاة والسلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) والإجماع منعقد على أن النسيان عذر، لكن في الشريعة تفصيل في هذا العذر: ففي بعض الأحيان يوجب سقوط المؤاخذة عن الإنسان من حيث الإثم ومن حيث التبعية، فلا يؤاخذ بضمان، وذلك في حق الله عز وجل خاصة، مثال ذلك: لو تطيب الحاج ناسياً، ثم تذكر فغسل الطيب فلا شيء عليه في أصح قولي العلماء رحمهم الله ولا يأثم؛ لأنه لم يقصد وضع الطيب، وإنما الآثم هو الذي يمنعه ربه فيعتدي حدود الله وهو مستشعر هذا الاعتداء، أما هذا فهو ناسٍ وليس عنده إرادة العصيان لله عز وجل في هذا الشيء، فلا يحكم بإثمه من هذا الوجه، فأسقط الله عنه المؤاخذة، وهذا يسمى: سقوط المؤاخذة، وأما الضمان فإنه يسقط عنه، ولا تجب عليه الفدية عند الشافعية والحنابلة، أما عند الحنفية والمالكية فتجب عليه الفدية، يقولون: يسقط عنه الإثم ولا يسقط عنه ضمان حق الله عز وجل، والصحيح: قول الشافعية والحنابلة، فمن تطيب ناسياً أو غطى رأسه ناسياً أو لبس مخيطاً ناسياً ثم أزال ذلك لما تذكر فإنه يسقط عنه الإثم وتسقط عنه المؤاخذة. وبعض مسائل العبادات والمعاملات يجب فيها ضمان الحق على الناسي إذا وقع في خلل، فيسقط عنه الإثم لمكان النسيان، ولكن يجب عليه ضمان الحق، خاصة في حقوق الناس، مثال ذلك: رجل استدان من آخر ألف ريال ثم نسي هذه الألف نسياناً كلياً، وتخاصما عند القاضي فقال: هل لفلان عليك شيء؟ قال: لا، ليس عندي شيء، قال: ألك بينة؟ قال: ما عندي بينة، قال: أتحلف اليمين؟ فحلف اليمين، فهو حلف بالله أنه ليس عنده شيء؛ لأنه لم يتذكر، ويجوز للإنسان أن يحلف على غالب ظنه ويقينه، فهو لم يتذكر أن لفلان عنده شيء، أو ظن أنه قد قاضاه، ثم بعد سنة أو سنوات تذكر أن لفلان عنده ألف ريال، فهذا النسيان يسقط عنه الإثم في حلفه، ويسقط عنه الإثم في القضاء، ولكن يجب عليه ضمان الألف الريال، مع أن القاضي قد حكم أن ذمته بريئة، فلا يسقط هذا الحق، ويجب عليه أن يضمن الحق لصاحبه، فيرد الألف ريال للشخص الذي استدانها منه، فهذا في حق المخلوق، وكذلك يجب عليه ضمان الحق في حق الخالق كما لو صلى ركعة من صلاة الصبح وظن أنه قد صلى الصبح تامة، ثم تذكر بعد طلوع الشمس أنه لم يصل الصبح، فهو معذور، ولكن لما تذكر يجب عليه ضمان حق الله عز وجل فيتوضأ ويصلي ولو خرج الوقت كما في الحديث: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك). فهذه قاعدة: (إذا ألزمت الشريعة الناس بالضمان فهذا من باب الحكم الوضعي، وإذا أسقطت عنهم المؤاخذة فهذا من باب الحكم التكليفي)، والحكم الشرعي: إما حكم تكليفي وإما حكم وضعي، فمن حيث إسقاط المؤاخذة من جهة التكليف لا يحكم بإثم، ولذلك قال بعض العلماء: الناسي ليس بمكلف أثناء النسيان، فيسقط عنه الحكم من جهة الجانب التكليفي، لكن من جهة الجانب الوضعي لا يسقط عنه؛ لأن الشريعة أوجبت على الإنسان ضمان الحق بكل وجهٍ، فيضمن الحقوق لأهلها، وكونه ناسياً ثم يتذكر فإنه يعذر أثناء النسيان لكن بعد النسيان يجب عليه الضمان، فالنسيان والخطأ إذا ألزمت الشريعة فيهما بضمان فهذا من باب الحكم الوضعي. مثال: لو أن رجلاً رأى طيراً وأطلق سلاحه ليصيده فأصاب شخصاً فقتله، فهذا خطأ مثل النسيان وكلاهما عذر، لكن يجب عليه أن يضمن دية هذا الشخص وأن يكفر كفارة قتل الخطأ، مع أنه خطأ، لأن الشريعة آخذته من باب الحكم الوضعي وليس من باب الحكم التكليفي، فالشريعة أوجبت الضمان لوجود القتل، بغض النظر عن كونه قاصداً أو غير قاصد. مسألة: إن قال: إن دخلتُ الدار فامرأتي طالق، أو نسائي طوالق، ثم نسي هذا التعليق بالطلاق ودخل وهو ناسٍ، فهل يؤاخذ أو لا يؤاخذ؟ قال طائفة من العلماء: لا شيء عليه ولا يقع عليه الطلاق، وقال طائفة من العلماء: يؤاخذ في الطلاق وفي العتاق، قالوا: إن الطلاق أمره على الخطر حتى أن جده جد وهزله جد، والشريعة جعلت هذا اللفظ موجباً للمؤاخذة، فنحن نؤاخذه ولو كان ناسياً، وهذا الذي اختاره المصنف رحمه الله في الطلاق وفي العتاق كذلك، كما لو علق عتق عبده على دخول داره ثم نسي ودخل الدار ناسياً فإنه يحكم بعتق عبده؛ لأن النسيان لا يوجب سقوط العتق والطلاق؛ لأنه من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي.

تعليق الطلاق على فعل شيء لم يفعل إلا بعضه مع النية

تعليق الطلاق على فعل شيء لم يفعل إلا بعضه مع النية قال المصنف رحمه الله: [وإن فعل بعضه لم يحنث إلا أن ينويه] وإن فعل البعض لم يحنث إلا أن ينوي ذلك البعض، إذا قال مثلاً: لا أشرب من هذا الإناء، وقصد أي شيء يصدق عليه أنه شرب، فلو احتسى حسوات أو حسوة من الإناء بما يصدق عليه أنه شارب حكم بوقوع الطلاق، لأنه نوى ذلك البعض. مثال آخر: قال: امرأتي طالق إن دخلت دار محمد، ونوى أن لا يدخل يده، وأن لا يدخل رجله، وأن لا يدخل أي جزءٍ منه، فيلزمه الطلاق بدخول البعض.

من حلف على فعل شيء يتجزأ فلا يبرأ إلا بفعله كاملا

من حلف على فعل شيء يتجزأ فلا يبرأ إلا بفعله كاملاً قال المصنف رحمه الله: [وإن حلف ليفعلنه لم يبرأ إلا بفعله كله] يعني: إن حلف أن يقوم بشيء فإنه لا يحكم بوقوع الطلاق إلا إذا كان الشيء تاماً كاملاً، ولا يقع على البعض، فإذا قال: امرأته طالق إن بنى الجدار، أو بنى بيتاً، فعلق الطلاق على وجود البناء، فلو بنى بعض الجدار أو بعض البيت ولم يتمه لم يحكم بطلاق امرأته إلا بعد تمام البناء. فلو ابتدأ بناء البيت في شهر وانتهى بعد ثلاثة أشهر وتوفي، فإنه أثناء البناء في الأشهر الأولى هي لا تزال في عصمته، ثم بعد تمام البناء حصل الطلاق وتوفي، فإذا وقع موته قبل تمام البناء فقد مات وهي في عصمته؛ لأنه علق ذلك على وجود البناء، والبناء لم يتم عند موته فهي في عصمته، لكن إن قلنا: يقع الطلاق على أقل شيء يتحقق به البناء، فبمجرد ما يقع ذلك البعض تخرج من عصمته وتكون امرأته مطلقة، ثم يفصل في ميراثها سواء كانت رجعية أو بائنة.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من علق الطلاق على فعله لشيء ثم وكل غيره أن يفعله

حكم من علق الطلاق على فعله لشيء ثم وكل غيره أن يفعله Q لو قال: إن فعلت كذا فزوجتي طالق فوكل غيره أن يفعل ذلك الفعل، فهل تطلق؟ وهل الأصيل والوكيل بمنزلة واحدة أم لا؟ A باسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذا الأمر فيه تفصيل، هناك كلمات ينزل فيها الوكيل منزلة الأصيل، مثل أن يقول: والله لا أبني داراً، أو يقول: إن بنيت الدار فامرأتي طالق، ومعلوم أنه لا يبني بنفسه، وإنما يأمر غيره بالبناء، فإذا أمر غيره بالبناء وفعل البناء غيره، فإنه حينئذٍ يحكم بوقوع الطلاق؛ لأن هذا معلوم بداهة. وأما إذا كان مراده بالفعل أن يفعله بنفسه فلا يقع الطلاق إلا إذا فعله بنفسه، والمعول في ذلك على الصيغة التي يذكرها، ولكن الأصل أن الوكيل ينزل منزلة الأصيل والله تعالى أعلم.

حكم قياس طلاق الناسي على المكره

حكم قياس طلاق الناسي على المكره Q هل يمكن القول بأن الأصح عدم وقوع طلاق الناسي قياساً على عدم وقوع طلاق المكره، بجامع أن كلاً منهما غير مختارٍ لذلك بقلبه، وغير متعمدٍ له؟ A الأصل يقتضي أن المكره يقع طلاقه، لكن جاء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا طلاق في إغلاق) وجاء القياس القوي: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] فاختلف الوضع، وثبتت الرخصة للمكره، وإلا فالأصل يقتضي وقوعه، والهازل لا يقصد الطلاق، ولم يدر بخلده أنه يطلق زوجته، ومع ذلك طلق عليه الشرع زوجته، ولم يعتبر ذلك رخصة له، وجعل هزله جداً، وهذا يدل على خطر الطلاق، فكل باب نعمل فيه الأصول التي وردت وهدي الكتاب والسنة فيه، فلما كان أمر الطلاق - كما يقول العلماء- على الخطر استنباطاً من نصوص الكتاب والسنة فإنه حينئذٍ إذا طلق ناسياً كما اختار المصنف رحمه الله وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، أنه يمضي عليه طلاقه، والله تعالى أعلم.

من علق الطلاق على الخروج من البيت فهل تستثنى الضرورة

من علق الطلاق على الخروج من البيت فهل تستثنى الضرورة Q إن علق الطلاق بخروجها من البيت فهل يستثنى من ذلك لو طلبت الضرورة كمرضٍ أو نحوه؟ A الحكم عام، سواءً خرجت لضرورة أو بدون ضرورة؛ لأن العبرة بالخروج، إلا إذا كان مراده أن تخرجي -مثلاً- لحفلة معينة، أو تخرجي إلى مناسبة معينة، فما كان مقيداً يقيد بتقييده، والله تعالى أعلم.

حكم من قصد بتعليق الطلاق الزجر

حكم من قصد بتعليق الطلاق الزجر Q إذا قال الزوج لزوجته: إن فعلت ذلك فأنت طالق قاصداً زجرها فلم تفعل ذلك، وانتهت المصلحة التي قصدها من وراء الزجر فهل يذهب حكم الطلاق أم لا؟ A بينا هذه المسألة: قصد الزجر، وهذا كله لا تأثير له، المؤثر عندنا أنه علق الطلاق بينه وبين الله على وقوع شيء، وهذا مذهب جماهير السلف ومنهم الأئمة الأربعة رحمة الله عليهم، فمن علق الطلاق على فعل أو ترك فنغض النظر عن كونه قاصداً أن يفعل أو يترك، فهذا الذي بينه وبين الله، والشريعة أعطته الطلاق معلقاً وأعطته الطلاق منجزاً، فإن شاء طلق امرأته، وإن شاء أبقاها، فإذا أقدم على الأحموقة -كما قال ابن عمر رضي الله عنه- فارتكب الأحموقة وجعل طلاقه معلقاً على شيء ألزمناه ما تلفظ به؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2] وهو قد تقحم هذا الحد من حدود الله، فإن الطلاق من حدود الله، فإذا تعدى هذا الحد وألزم نفسه ما لم يلزمه الشرع؛ فإنه يلزم بما التزم، وهذا لا إشكال فيه فإن الأصل الشرعي دالٌ عليه. فنقول: إذا علق طلاقه على فعل شيء أو ترك شيء فإنه ملزمٌ بهذا التعليق ويبقى التعليق على إطلاقه إلى الأبد، إلا إذا وجد ما يدل على التقييد والتخصيص، كأن يكون ذلك في حال خصومة معينة، وانقضت في الحال وبينه وبين الله تقييدها بهذا، أو كان الظرف الذي علق عليه من الظروف التي تنشأ وترتب على أحوال معينة، وقصد حالة دون أخرى، فحينئذٍ يتقيد بذلك القيد، والله تعالى أعلم.

حكم العدة بعد الطلقة الأولى في الطلاق المتتابع

حكم العدة بعد الطلقة الأولى في الطلاق المتتابع Q في انسحاب الطلاق وتواليه ألا يُحتاج إلى عدة بعد الطلقة الأولى، وذلك في قوله: كلما طلقت فأنت طالق؟ A إذا كانت في عدتها فهي رجعية والرجعية ينسحب عليها الطلاق، والرجعية يصح طلاقها وظهارها، فبناءً على ذلك: ينسحب ولا يشترط أن تنتهي من عدة الطلقة الأولى حتى تقع الطلقة الثانية، فلو قال لها: أنت طالق، بعد دخوله بها، فهي الطلقة الأولى، فإذا طلقها الثانية أثناء عدتها وقع عليها الطلاق، فالرجعية تأخذ حكم الزوجية من حيث تعلق الطلاق بها، وسيأتينا -إن شاء الله- بيان هذه المسألة في الأحكام المترتبة على الرجعة.

حكم حج المرأة عن الرجل

حكم حج المرأة عن الرجل Q هل للمرأة أن تحج عن الرجل؟ A لا بأس أن تحج المرأة عن الرجل والرجل عن المرأة؛ لأن الوكالة في الحج لا يشترط فيها اتحاد الجنسين، والدليل على ذلك: أن المرأة الخثعمية رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذنته في الحج عن أبيها فأذن لها، فدل على أنه لا بأس أن يحج الذكر عن الأنثى والعكس، ولا يشترط اتحاد الجنسين وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله، والله تعالى أعلم.

كيفية حج الحائض

كيفية حج الحائض Q كيف تحج الحائض؟ A كما قال صلى الله عليه وسلم: (اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) فلا تطوف بالبيت، ولا تسعى بين الصفا والمروة على اشتراط أن يكون السعي بعد الطواف على ظاهر السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أوقع سعياً إلا بعد طواف في حجه وعمرته، فتحتاط لهذا وتؤخر السعي، فتؤخر طوافها وسعيها، ثم يفصل فيها: إذا كانت مفردة؛ فالأمر يسير لأنها تمضي إلى عرفات وتبيت في مزدلفة، ثم ترمي جمرة العقبة، ثم تتحلل، ولا تنزل تطوف طواف الإفاضة لأنها لم تطهر، وتنتظر إلى طهرها ثم تطوف بالبيت وتسعى، وحينئذٍ تم حجها. وإذا كانت قارنة فالقارنة مثل المفردة تذهب مباشرة إلى عرفات وتؤدي مناسك الحج، والعمرة تدخل تحت الحج في القران، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ عائشة (اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) وكانت قارنة، والدليل على أن عائشة حجت قارنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة كافيك لحجك وعمرتك) وبالإجماع أنها ما تحللت بعد عمرتها، وأنها ما فعلت عمرة قبل حجة الوداع، فدل على أنها انقلبت قارنة. وإذا كانت متمتعة، فلا بد أن توقع عمرتها قبل الحج، فحينئذٍ ننظر: إن كان طهرها قبل الوقوف بعرفة، فإنها تبقى على إحرام العمرة ولا ترفضها، ثم إذا طهرت نزلت وطافت بالبيت وسعت وتحللت، ثم مضت إلى عرفات وأتمت النسك وهي متمتعة وعليها دم التمتع. وأما إن كان الوقت الذي قبل الوقوف بعرفة لا يسع لطهرها، ولم تطهر قبل الوقوف بعرفة فتنقلب من التمتع إلى القران، وتصبح قارنة، فتذهب إلى عرفات، ثم تؤدي مناسك الحج، حتى إذا طهرت نزلت وطافت طواف الإفاضة وسعت سعي حجها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) وقد كانت أهلت عائشة بعمرة، ففي الصحيحين أنها لما جاءت سرف -وهي ما يسمى اليوم النوارية- حاضت، فدخل عليها صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: (ذاك شيء كتبه الله على بنات آدم، اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) لأن قدومه عليه الصلاة والسلام كان في رابع ذي الحجة، وحينئذٍ لا تتمكن من طوافها قبل الوقوف بعرفة، وما طهرت إلا بعد يوم النحر، ولذا قال العلماء: إنها انقلبت إلى القران، فدل على أن المرأة إذا أهلت بعمرة ولم تطهر قبل وقوفها بعرفة فإنها تنقلب إلى القران ويلزمها دم القران، والله تعالى أعلم.

ميقات المقيم في مكة إذا ذهب إلى أهله ثم رجع للحج

ميقات المقيم في مكة إذا ذهب إلى أهله ثم رجع للحج Q من كان يدرس في مكة طيلة العام وليس من أهلها، وأراد أن يذهب لمدينته ثم يرجع لأداء الحج، فهل يلزمه إذا مر على ميقاته أن يحرم منه، أم أنه من أهل مكة ويكفيه الإحرام منها؟ A هذا السؤال فيه تفصيل: إن كان خروجه إلى بلده أو أهله قبل دخول أشهر الحج، ثم دخل إلى مكة قبل دخول أشهر الحج فحينئذٍ يهل بالحج من مكة وحكمه حكم أهل مكة؛ لأنه لم يدخل عليه ميقات الحج الزماني وقد تعلق بالميقات الأبعد المكاني. وأما إن كان خروجه من مكة بعد دخول شهر شوال ثم دخل مكة من أي جهة من الجهات الآفاقية فإن حكمه حكم أهل تلك الجهة التي دخل منها، لا يدخل إلا بعمرة، أو يدخل حلالاً وإذا جاء الحج خرج إلى الميقات الذي مر به، والسبب: أنه مر بالميقات يريد الحج بعد دخول زمانه فلزمه ذلك الميقات، لقوله عليه الصلاة والسلام: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج أو العمرة) فحينئذٍ يقال له: إما أن تدخل بعمرة تتمتع بها إلى أن يأتي الحج وتهل للحج بمكة وأنت متمتع وعليك دم، أو تدخل حلالاً ثم إذا جاء وقت الحج خرجت إلى هذا الميقات وأحرمت منه، والله تعالى أعلم.

كيفية تحديد الميقات عند الحج عن الغير

كيفية تحديد الميقات عند الحج عن الغير Q سائلة تقول: والدي من سكان بدر، وتوفي وأنا من سكان مكة، وأردت أن آتي بحجة عنه فهل يلزمني أن أذهب إلى ميقات سكن والدي؟ A الحج عن الميت ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون الميت مفرطاً وعليه الحج وتساهل وقصر، فاختار جمعٌ من العلماء أن يُحج عنه من الموضع الذي قصر منه؛ لأنه كان واجباً عليه أن يحج منه، قالوا: إذا كان مستطيعاً في ميقات فإنه أبعد يبدأ من الميقات الأبعد؛ لأن البديل يأخذ حكم الأصيل، والقاعدة: (أن البدل يأخذ حكم مبدله) فلو كان حياً ألزم أن يحرم من ذلك الميقات، فإذا فرط فيه لزمه الحج من الميقات الأبعد. لكن إذا كان حجك عن والدك تطوعاً منك، حيث إنه لم يقصر رحمه الله وأردت أن تحجي عنه؛ لأنه لم يحج، فتهلين من مكة، ويجزئك أن تحرمي عن الوالد من بيتك، وهذا من بره، والله تعالى أعلم.

حكم أخذ الأجرة في الحج عن الغير

حكم أخذ الأجرة في الحج عن الغير Q رجلٌ محتاجٌ إلى مال وعليه دين فهل يجوز أن يتوكل عن أحدٍ ويحج عنه مقابل مبلغٍ من المال، وما بقي من هذا المال يسد به حاجته وديونه؟ A أوصيكم ونفسي دائماً أن لا يدخل الإنسان أمور الدنيا في الدين، فالله عز وجل أحل لعباده الطيبات، وأحل لهم المكاسب التي يتوصل الإنسان عن طريقها إلى الحلال، فيستغني الإنسان بربه، إذا كان يريد الدنيا فسوقها معروف، وإذا أراد الآخرة فليسعى لها سعيها وهو مؤمن، أي: مخلص موحد {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19] انظر كيف قال الله: (أولئك) وهو اسم إشارة يدل على علو الدرجة وكما قال: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:69] ثم قال: (كان) وهي تدل على الدوام والاستمرار، ثم ذكر السعي، ولم يقل: كان منهم ذلك مشكورا، بل قال: {كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} أي السعي: الذي سعوه بتوحيدٍ وإخلاص مشكور من الله عز وجل، فنعم السعي ونعم الساعي. فإذا أردت أن تتاجر في الدنيا فسوقها معروف، وأحل لك ربك التجارات، وأباح لك الطيبات، فأما الحج فصنه عن الأخذ والعطاء والبيع والشراء، ولا تجعل الحج سلعة تزايد عليها وتساوم عليها، والصحيح عند العلماء: أنه لا يصح أن يحج عن الغير مقاطعة، أي: يقول له: أعطني خمسة آلاف ما زاد لي وما نقص أكمله لا يجوز هذا؛ لأنه بيع وشراء بالعبادة. والواجب عليه أن يأخذ أجرة تبلغه الحج، فيكون خرج إلى الحج من أجل الحج، ولم يجعل حجه وعبادته ومشاعره مساوماً عليها بالدنيا، فهذه يراد بها وجه الله، وما جعل الحج ولا جعلت المناسك ولا جعل البيت ولا جعلت الصفا والمروة إلا لوجه الله جل جلاله، وأنت تقول: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، فالإنسان يخرج لوجه الله عز وجل، وابتغاء مرضاة الله عز وجل، يخرج بحجٍ خالص لوجه الله سبحانه وتعالى، لا للدنيا التي يريدها. وصحيح أن الله أحل لنا أن نبتاع ونشتري في الحج لكن هذا وقع تبعاً وما وقع أساساً وأصلاً، أما شخص يقول: أنا ما أحج إلا لما تعطيني خمسة آلاف ريال، فمعناه: أن الخمسة الآلاف هي التي أخرجته، وجعلت همته للحج قوية. والواجب على المسلم أن يتقي الله عز وجل، وأن يعلم أن المال إذا أُخذ بالدين فإنه منزوع البركة، وأن يعلم أن هذا المال الذي يأخذه قد يؤثر على عبادته وقد يؤثر على صلاته، وقد يؤثر على خشوعه، فعليه أن يتقي الله عز وجل. فلا تجعل الحج محلاً للبيع والشراء، وارفع نفسك عن المساومة في شيء أراده الله لوجهه خالصاًَ لا شريك له. فإذا أردت الحج عن الغير من أجل طاعة الله، تقول: أنا إنسان ما عندي نفقة ومحتاج وأريد شيئاً يبلغني الحج، فهذا يدل على أنك مشتاق إلى ذكر الله، مشتاق أن تكون مع الذاكرين ومع الملبين ونفسك تتقطع حرقة أن تحرم هذا الخير، فتقول: أعطني ما يبلغني بيت الله عز وجل، ما يبلغني الوقوف في هذه المشاعر، من أجل أن تذكر الله وحده لا شريك له، ثم تأتي وترد له ما زاد ولا تريد منه ديناراً ولا درهماً وإنما تريد وجه ربك وحده لا شريك له، إن فعلت ذلك طبت وطاب ممشاك وكان أجرك على الله عز وجل، ومن كان أجره على الله فقد تولى الله أمره والله نعم المولى ونعم النصير. فعلى الإنسان أن يكون مخلصاً في كل شيء وفي العلم أيضاً، ولذلك قالوا: العالم يكون عالماً إذا لم يتكبر على من دونه، أي: لم يتعاظم على من دونه، ولم يحتقره، ولم يتعال على من فوقه، أي: لم يشوه من فوقه من العلماء فلا ينتقصهم أو يختبرهم، أو يحتقرهم، ولا يأخذ على علمه أجرا، فإذا فعل هذا طاب علمه وزكى، فأمور الآخرة لا تطيب ولن تطيب ولن يتقبلها الله إلا إذا أريد بها وجهه سبحانه وتعالى، وإذا فعل العبد ذلك تولى الله جزاءه، وتولى الله أجره في الدنيا والآخرة، فعلى الإنسان أن يتقي الله عز وجل. ولذلك ما رأينا أحداً أدخل الدنيا في الدين إلا وجد شؤم ذلك في دنياه قبل أن يلقى ربه في آخرته، ووالله ما وجدنا شيئاً ينزع البركة مثل إدخال الدنيا في أمور الدين، والعبث بهذا الدين، سواءً في دعوة الإنسان، سواءً في علمه، سواءً في قراءته، في توجيهه، في نصحه، في وعظه، في خطبه. فالواجب على المسلم في كل شيء أن لا يدخل الدنيا في أمور الدين، ولا يجعلها أكبر همه، وأن يراقب قلبه ويخاف الله عز وجل فلو قيل له: لا نعطيك شيئاً، مضى لوجه الله أشد حرصاً مما لو أعطي من الدنيا. على المسلم دائماً أن يجعل الآخرة أكبر همه، ومبلغ علمه، وغاية رغبته وسؤله، وإذا فعل ذلك زكى الله عز وجل أمور دينه، ولذلك تجد البركة والخير في بعض مبتدئي طلبة العلم، عندما يطلب العلم وليس في قلبه إلا الله سبحانه وتعالى، قد يكون فقيراً، وقد يكون محتاجاً، وقد يكون مديوناً، وقد يكون مكروباً منكوباً مهموماً مغموماً ويصبر السنوات ثم بإخلاصه يفضل ربه عليه فيبدد همه، وينفس كربه، ويزيل غمه، ويقضي دينه، ويعلي درجته، ويحسن عاقبته، ويزكي ما يقوله وما يعمله. والله لن تجد من ربك إلا كل خير، متى ما أصلحت قلبك لله عز وجل، ودائماً في كل كلمة تقولها، وفي كل عمل تعمله من أمور الآخرة اطعن في نفسك بأنك ما أردت وجه الله، حتى تبلغ درجة المخلصين الصادقين فعندها يستقيم قولك، ويطيب عملك وترى ما الذي سيعطيك الله من خير الدنيا قبل الآخرة، ومن أراد أن يرى ذلك جلياً فلينظره في صفوة الله عز وجل من خلقه من الأنبياء والرسل الذين أحسن الله عواقبهم في الأمور كلها، وجعل لهم عز الدين والدنيا والآخرة بإخلاصهم وتوحيدهم لله عز وجل، فما كانت الدنيا أكبر همهم، ولا مبلغ علمهم، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه: (ما أحب لو أن عندي مثل أحدٍ ذهباً)، جبل أحد الذي يقارب ثلاثة كيلومترات، وهو من أضخم الجبال وأكبرها يقول لـ أبي ذر: (يا أبا ذر! هل ترى أحداً؟ فنظرت إلى الشمس) وأحد يُرى من المدينة من ضخامته، يقول له هذه الكلمات تعليماً لكل مسلم، ونزعاً لهذه الدنيا من القلوب حتى لا تدخل على الدين فتفسده وتفسد صفاء القلب وإخلاصه؛ لأنها فتنة عظيمة، فيقول له: (يا أبا ذر! هل ترى أحداً؟ قال: فنظرت إلى الشمس، وأظن أنه سيبعثني إلى أحد، فقال: هل ترى أُحداً؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: ما أحب لو أن عندي مثل أحدٍ ذهباً - ليس فضةً بل ذهباً - تمسي عليَّ ثالثة أو رابعة) تصوَّر! ثلاثة كيلومترات كلها ذهب، ما قال: يمسي علي يوم واحد؛ لأنه ما يستطيع أن يوزعه في يوم واحد، فهو الصادق عليه الصلاة والسلام ولا يبالغ قال: (ما أحب لو أن عندي مثل أحدٍ ذهباً تمسي عليَّ ثالثةٌ أو رابعةٌ وعندي منه دينارٌ أو درهم)، نُزِعت الدنيا بالكلية من قلبه عليه الصلاة والسلام، فلم يبالِ بها، كان بيته عليه الصلاة والسلام حجرة لا يستطيع أن يسجد وأم المؤمنين رضي الله عنها مضطجعة حتى تقبض رجلها من ضيق هذه الحجرة؛ ولكن وسعه الله بالإخلاص والتوحيد، ووسعه الله بإرادة وجهه سبحانه وتعالى، وبما فيه من النور والحكمة، ولما يتلى فيه من آيات الله والحكمة، فالدنيا هينة، ومن أخلص عمله جاءته الدنيا صاغرة. ووالله ثم والله ما عاملتَ الله بصدق إلا صدقك ربك، وثق ثقة تامة بذلك، واقرأ في سير العلماء، ونحن نشهد الله ونشهد ملائكته، ونشهد خلقه أجمعين أننا ما رأينا من الله في هذا العلم وفي هذا الدين إلا كل خير، وأن الله سبحانه وتعالى أعطانا وأولانا وأكرمنا وأحسن إلينا فوق ما كنا نرجو، وفوق ما كنا نأمل، وفوق ما كان يدور بخيالنا. فما عليك إلا أن تخلص لله عز وجل، وإياك أن تدخل الدنيا في أمر من أمور دينك فيفسد عليك دينك. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الإخلاص لوجهه، وابتغاء ما عنده، وأن يجعل الآخرة أكبر همنا ومبلغ علمنا وغاية رغبتنا وسؤْلِنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

تعليق طلاق الرجل لزوجته على سرقتها لماله

تعليق طلاق الرجل لزوجته على سرقتها لماله Q إذا قال الرجل لزوجته: إن سرقت مالي فأنت طالق، فسرقت غير النقود، فهل تأخذ حكم المال فتطلق؟ A المال يطلق على كل شيء له قيمة، فكل شيء له قيمة فهو مال، ولا يختص المال بالذهب والفضة، والناس تظن أن الأموال خاصة بالذهب والفضة، ولكن نصوص الشريعة دلت على أن المال عام شاملٌ لكل شيء له قيمة، لما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من صاحب مالٍ لا يؤدي زكاته) ثم ذكر الذهب والفضة، والإبل، والبقر، والغنم، فسمى الإبل والبقر والغنم مالاً، فدل على أن المال لا يختص بالذهب والفضة. وكذلك ثبت في الصحيح من حديث الأعمى والأقرع والأبرص أن الأعمى قال للملك لما جاءه في صورة الفقير: (كنت فقيراً فأغناني الله، وكنت أعمى فرد الله علي بصري، فدونك الوادي فخذ من مالي ما شئت، فقال الملك: أمسك عليك مالك، فقد أنجاك الله وأهلك صاحبيك) فقال: (أمسك عليك مالك)، مع أن ماله غنم، فدل على أن المال لا يختص بالذهب والفضة، ولذلك يقولون: المال كل شيء له قيمة. وقالوا: سمي المال مالاً؛ لأن النفوس تميل إليه وتهواه رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مالُ ومن ليس عنده مالُ فعنه الناس قد مالوا الناس لا تميل إلا لمن عنده مال، فسمي المال مالاً؛ لأن النفوس تميل إليه وتهواه وتحبه، فلا يختص بالذهب والفضة، فإذا قال لها: إن سرقت من مالي، وقصد الذهب والفضة نفعته نيته؛ لأن هذا تخصيص، ونيته نافعة فيما بينه وبين الله عز وجل، وأما في القضاء فإنه إذا قصد التخصيص وبين نفعه ذلك وحكم به. والله تعالى أعلم.

باب التأويل في الحلف

شرح زاد المستقنع - باب التأويل في الحلف التأويل منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم، ومن التأويل المذموم الغلو في تحميل النصوص القرآنية ما لا تحتمل، اعتماداً على نظريات قد تكون صحيحة، وقد تكون خاطئة، وهذا المسلك الجديد له آثاره السيئة. أما التأويل في الحلف بالطلاق فقد يكون جائزاً دفعاً لظلم الظالم وهو من رحمة الله بعباده، ومن تيسيره عليهم، وقد اعتنى علماء الإسلام بهذا الباب وبينوا أحكامه ومسائله، وفي هذا الدرس بيان لذلك.

التأويل

التأويل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب التأويل في الحلف]. التأويل عند العلماء: صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر، فاللفظ له معنى في ظاهره ومعنى في باطنه، ويحتج بالمعنيين، لكن المعنى القوي هو الظاهر، والمعنى الخفي هو المستتر، فالمتأول يصرف الكلام عن ظاهره إلى معنى مغاير مغيب في باطنه، وهذا التأويل يقع في النصوص وينقسم إلى قسمين: تأويلٌ محمود، وتأويل مذموم.

التأويل المحمود

التأويل المحمود أما التأويل المحمود: فهو تأويل النص بنص يصرفه عن ظاهره إلى معنى آخر، فحينئذٍ نقول: إن هذا التأويل تأويل محمود، مثال ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) (لا وضوء) يحتمل: لا وضوء صحيح، ويحتمل: لا وضوء كامل، فلما وجدنا كتاب الله عز وجل لا يأمر بالتسمية مع أنه أمر بالتسمية عند الذبح والذكاة فقال: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام:118] {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4] فلما وجدناه في الوضوء وهو من أجل العبادات وأعظمها -لأنه مفتاح الصلاة- لم يأمر بالتسمية فيه فهمنا أن معنى: لا وضوء أي لا وضوء كامل، فصرفنا (لا وضوء) من نفي الصحة إلى نفي الكمال، ووجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في حديث عثمان في الصحيح- يتوضأ وضوءاً تاماً كاملاً، ولم يذكر عثمان أنه تلفظ بالتسمية جهرة، أو اطلع على تسمية منه، فقال: إنه توضأ نحو وضوئي هذا، وهذا يدل على أن الأفعال كانت دون ذكر ودون أي قولٍ، فهذا يدل أيضاً على أن المراد بالحديث الأول: لا وضوء كامل، فيصرف النص من ظاهره الراجح إلى معناه المرجوح؛ لأن الأصل أن نحمله على أنه: لا وضوء صحيح. مثال آخر: (لا إيمان لمن لا أمانة له) لا نقول لا إيمان يعني أنه -والعياذ بالله- كافر بالكلية، كما يقوله الخوارج، وإنما نقول: إنه إذا كان خائناً للأمانة فقد انتقص من دينه وإيمانه على قدر خيانته -نسأل الله السلامة والعافية- فيؤول ويصرف الحديث عن ظاهره لوجود نصوص أخرى تدل على أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر، فهذا تأويل، لكنه تأويل محمود؛ لوجود نصوص يعرفها العلماء الراسخون والأئمة المهتدون المهديون، فهؤلاء إذا أولوا نصاً وصرفوه عن ظاهره فإننا نقبل هذا التأويل، ولا نلجأ للتأويل إلا عند وجود نصوص أخرى تصرف النص الأول عن ظاهره. مثال آخر: (لا يدخل الجنة عاق) لو أخذ على ظاهره لكان معناه أن العاق في النار: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] فإذا أخبر أن العاق لا يدخل الجنة فمعنى ذلك أنه في النار؛ لأنه لا يوجد منزلة بين المنزلتين. فهذا الحديث يؤول على وجوه: الوجه الأول: لا يدخلها في الدخول الأول الذي يكون لأهل الجنة السابقين؛ لأنهم يخرجون من عرصات يوم القيامة فيدخلون الجنة، وأما أهل الكبائر فإنهم إذا شاء الله يدخلون النار تطهيراً ثم ينقلون إلى الجنة، فحينئذٍ يكون الدخول هو دخول التشريف والتكريم؛ ولا يمنع من دخولهم الجنة بعد أن يطهروا من كبائر الذنوب، فكأن العاق -والعياذ بالله- موعودٌ بالعذاب لا محالة. الوجه الثاني: قال بعض العلماء: المعنى: أنه لا يوفق لحسن الخاتمة -نسأل الله السلامة والعافية- ولا يختم له بخاتمة أهل الإيمان، فيكون المراد: أنه لا يوفق، فلا يدخلها حقيقة؛ لأنه يختم له -والعياذ بالله- بخاتمة الكفار، وهذا قد يقع استدراجاً، فحينئذٍ لا تتعارض النصوص؛ لأنه إذا ختم له بخاتمة السوء فلا إشكال. الوجه الثالث: أنه محمول على الوعيد، كما اختاره سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وكان يقول: هذا محمول على الوعيد الشديد، وحينئذٍ لا يكون على ظاهره. هذا كله تأويل؛ لوجود نصوص أخرى تدل على أن الكبائر لا تستوجب الخلود في النار أبداً، وإنما تستوجب دخولها تطهيراً إن لم يعف الله عن العبد؛ لأن مرتكب الكبائر عند أهل السنة والجماعة تحت مشيئة الله، إن عذبه الله فبعدله، وإن عفا عنه فبمحض إحسانه وكرمه وفضله {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41]. الشاهد أن هذا تأويل، لكنه تأويل بنصوص وأدلة، فهو تأويل محمود.

التأويل المذموم

التأويل المذموم أما التأويل المذموم فهو: العبث بنصوص الكتاب والسنة بالأهواء والآراء والاجتهادات التي لا تنبني على أصول صحيحة يقوى معها صرف اللفظ عن ظاهره، فهذا التأويل تلاعب بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وصاحبه مطموس البصيرة؛ لأنه يعطل نصوص الكتاب والسنة ويلعب بها، كما يفعل بعض المتعصبة الذين يتعصبون لأئمتهم ولمشايخهم، فيعتقد أحدهم أن شيخه لا يمكن أن يخطئ، وكأنه نبي معصوم، فكلما جاء نص مخالف لشيخه لم يقبله وقال: هذا النص فيه وفيه وفيه، فيأتي بتأويلات وتكلفات وتعسفات، تترك بها نصوص الكتاب والسنة، وترمى والعياذ بالله وراء الظهور، فهذا إن لم يتداركه الله عز وجل برحمته فهو على خطر عظيم، ولذلك تجد أمثال هؤلاء محرومين من هدي الكتاب والسنة؛ لأنهم أعملوا فيها المعاول ففسدت أفهامهم وأعمالهم. والواجب على المسلم أن يكون وقافاً عند الحق، وأن يكون الحق أحب إليه من كل أحد؛ لأن الله فرض علينا اتباع الحق ومحبته ولزومه، وبين أنه لا نجاة للعبد إلا بهذا الحق، وأن السماوات والأرض ما قامتا إلا من أجل الحق وللحق، فينبغي لكل مسلم أن يكون عنده تجرد. إذاً: التأويل المذموم هو: صرف للنصوص والتلاعب بها بالأهواء والآراء، وهو مصادمة لحجج الله البينة الميسرة المنيرة، وإذهاب لنورها وبهائها، وإن كان نورها لا يذهب ولا ينطفئ أبداً، فالحق يعلو ولا يعلى عليه.

الإعجاز العلمي والتعسف في فهم القرآن

الإعجاز العلمي والتعسف في فهم القرآن ومن التأويل المذموم: إسقاط آيات من كتاب الله عز وجل على النظريات التي لا أصل لها، والتلاعب بنصوص كتاب الله عز وجل، وتكلف الإعجاز فيها بشيء لا يمت إلى هدي الكتاب والسنة ولا إلى هدي السلف -في تفسير كتاب الله عز وجل- بصلة. فمثل هذا لا يجوز، سواء كان في العلوم الطبيعية من طبٍ وهندسة أو في غيرها. وقد سمعت بعض من ينتسب إلى الإعجاز يقول في قوله الله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:19] يقول: إن هذا في صعود القمر، ولا يشك مسلم أن هذا تلاعب بكتاب الله؛ لأن الله أقسم فقال: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:19 - 19] أي: (والله لتمرن) يقسم الله جل جلاله أنكم لتمرن يا معشر الكفار، ويا معشر المؤمنين، بأحوال الآخرة طبقاً عن طبق، وطبقاً بعد طبق، ستمرون بالقبور وعرصات القيامة، فهذا الأمر هو الذي وقعت فيه الخصومة، وهو الذي كذب به المشركون وردوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت به آيات القرآن، فمن قال: (المراد بها صعود القمر لأننا ما نصعد القمر إلا إذا اتسق) فقد تلاعب بكتاب الله عز وجل وقال على الله بغير علم. فالحذر الحذر من مزالق الشيطان فقد يوقعك في القول على الله بدون علمٍ وبدون حجة. وينبغي لكل مسلم أن لا يقبل مثل هذه التفاسير، بل يعتمد على تفسير الأئمة والعلماء، وخاصة أئمة السلف؛ لأن كتاب الله فسر، ومرت هذه القرون كلها وكتاب الله يفسر بهذا التفسير البين الواضح النير، الذي لا إشكال فيه، فاتبع سلفك الصالح، ودع الأمور المحدثات. ثم لو أننا رأينا نظرية من النظريات فجربنا كتاب الله عليها، ولوينا نصوص الكتاب لتوافق هذه النظرية، ثم تبين بعد عشرات السنين أنها خطأ!! ماذا يقول الناس؟ وماذا يقال عن كتاب الله عز وجل؟ نحن نعلم علم اليقين أن الله سيري عباده آياته، فلا نتأول كتاب الله بمثل هذه التأويلات، أما إن وجدت أدلة واضحة مثل علوم الأجنة وعلوم الطب التي وجد أنها تدل عليها نصوص الكتاب والسنة فنفرح بهذا؛ لأنه عزٌّ وحجة ودلالة على صحة هذا الدين وصدقه، ولكن لا نبالغ، فإن الغلو في الأشياء يوجب الشر؛ والله يقول: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171] فلا نبالغ في هذه الأمور، ولا نتكلف التأويل. بعض هؤلاء يتبجح فيرد كلام العلماء الأوائل، ويقول: كانوا يفهمون كذا وكذا، كأنه يسخر بهم ويتهكم بهم، حتى أني سمعت من يشار إليه بالبنان في الإعجاز يتهكم على تفسير حبر الأمة وترجمانها عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه، فلا بارك الله في من تهجم عليه، فينبغي الحذر من مثل هذه الأمور. وما كان محتملاً فعلينا أن نقول: إن هذا يحتمل كذا، فنورده بكل أدب؛ لأنه لا يوجد نص يدل عليه، والسلف لهم فهمهم وهذا الشيء الذي نورده إذا كان نص كتاب الله يحتمله فينبغي أن نتأدب مع السلف ونبين ما يحتمله التأويل والنظر، ولكن دون أن نغلو أو نبالغ، فإن الغلو لا خير فيه، وكل شيء جاوز حده انقلب إلى ضده، وأعداء الإسلام يريدون منا مثل هذا، يريدون أن نشكك في السلف الأوائل، ومعلوم أنه إذا تكلم أحد بمسألة في الإعجاز من أجل أن يقنع كافراً، فقد لا يقتنع الكافر حتى يلج الجمل في سم الخياط. فلماذا يطعن في أئمة السلف؟! وما هي الفائدة؟! بل إن الكافر الذي تجاوره قد يعجب بهذا الطعن فيحاول أن يخرج شيئاً جديداً ويدعي به خطأ الأوائل، فمن كان يظن أنه قد أحسن في هذا، فالواقع أنه قد أساء. فالحذر كل الحذر من هذه التأويلات! والحذر الحذر من التهكم على سلف الأمة، فالسلف والعلماء رحمهم الله هم أعلم الناس بتفسير كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهم أعلم بمواطن التنزيل، وخاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم بلسان العرب ومدلولات هذا اللسان. فعلينا أن نأخذ الحيطة من هذه التأويلات والتفسيرات الجديدة، ونحن لا نقول بردها كلها ولا نقول بقبولها كلها، وإنما نعرضها على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكل شيء أسفر كتابُ الله عليه دليلاً قبلناه. ثم الله يقول: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ} [فصلت:53] ما قال: في القرآن بل قال: (فِي الآفَاقِ)، وأراهم الله آياته، وانظر كيف ينظرون إلى الآيات من فوقهم ومن تحتهم، وعن يمينهم وعن شمالهم، ومن أمامهم ومن خلفهم، وفي أنفسهم، ومع ذلك لم تزدهم إلا إعراضاً وصدوداً، وهذه هي الحقيقة التي أثبتها كتاب الله عز وجل، فلماذا نلهث وراء هؤلاء، بل ونتكلف في ذلك حتى نرد على سلف الأمة وأئمة الإسلام على حساب أمثال هؤلاء الذين لا يدخلون الإسلام إلا بإعجاز، وقد يخرجون منه بأدنى شبهة؟! يقول الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] بعض من يتأثر بهذه التأويلات ويبالغ فيها إذا أصابته أقل فتنة انقلب على وجهه: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]. فالواجب الحذر من التأويلات في كتاب الله أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلينا أن نلتزم بمنهج السلف والصحابة، فإذا سألك الله يوم القيامة: لم فهمت هذه الآية على هذا الوجه؟ قلت: فهمت هذه الآية بآية أخرى -لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً- أو بقول رسولك عليه الصلاة والسلام، أو بقول حبر الأمة وترجمان القرآن الذي دعا له صلى الله عليه وسلم بفهم كتاب الله عز وجل، وفُتِح عليه بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثله ثقة يرضى ويؤتمن على دين الله عز وجل. فالمقصود: أن التأويلات المذمومة ترد سواء كانت في العلوم الشرعية أو كانت في المعارف الطبيعية، والتأويل صرف النص عن ظاهره إلى معنى آخر، والمعنى الآخر معروف بالمعنى الباطن، وعند الكلام يقصدون الظاهر ولا يقصدون الباطن إلا بقرينة، يقول مثلاً: رأيت أسداً فوق جمل، هل الأسد يركب على الجمل؟ لا، فنفهم من هذا أنه رأى رجلاً شجاعاً وصفه بأنه أسد، أو يقول: أتيت المسجد فاغترفت من بحر، ويقصد عالماً على منهج الكتاب والسنة رآه بحراً، علمه غزير فاغترف منه، أو يقول: أتيت فلاناً وسألته حاجتي فوجدته بئراً لا تكدره الدلاء، والعرب عندهم أن البئر إذا كان ماؤها قليلاً ونُزِح منها تغيرت، لكن إذا كان ماؤها كثيراً لم تتغير، ولو اغترف منها ما اغترف يبقى الماء صافياً من كثرته، فالكريم الجواد الذي ماله لا يقطعه عن أحد، إذا جئته وسألته المرة الأولى، ثم المرة الثانية، ثم المرة الثالثة، ثم المرة الرابعة، يفرح بمجيئك؛ لأنه يحب الإحسان، ولا يعرف قبض يديه، لكن البخيل إذا جئته لا تنال المرة الأولى منه إلا بشق الأنفس، وأما المرة الثانية فيقفل بابه، فلذلك تعبر العرب عن هذا المعنى بالبئر الذي لا تكدره الدلاء، يعني: أنه رجلٌ يعطي ويعطي ولا تؤذيه كثرة المسألة، ولا كثرة الإلحاح، وذلك من كرمه، فلما تقول: أتيت فلاناً فوجدته بئراً! هل الرجل يصير بئراً؟! لا، فهذا صرف للفظ عن ظاهره، لأنك لا تريد بئراً حقيقياً ولا تريد دلواً حقيقياً وإنما تريد معنى باطناً.

المعاريض في الكلام للحاجة

المعاريض في الكلام للحاجة وكما أن التأويل في النصوص محمود ومذموم، فكذلك التأويل في الكلام، فقد تكون محقاً في تأويلك، تستخدمه عند الحاجة، مثل أن تدفع عن نفسك ظلم ظالم، فتأتي بكلامٍ تقصد شيئاً ومن يسمعك يفهمه على المعنى الذي يريد، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: (نحن من ماء) فكل إنسان مخلوق من الماء: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:6] فصار من سمعه يقول: أي ماء؟ ماء بني فلان؟ ماء بني فلان؟ وصدق النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قال له: (نخبرك ممن نحن إن أخبرتنا) لأنه كان يخاف العيون فلما أخبرهم الرجل بما يريدون سألهم: ممن أنتم؟ -لأنهم كانوا ثلاثة- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن من ماء) فأخبره أنه مخلوق من ماء، وهذا نوع من التورية، وفي الأثر: (إن في التورية لمندوحة عن الكذب). فقد تبتلى ببلاء فجعل الله لك فسحة في الخروج من هذا البلاء بالتورية، مثلاً: قرع على بابك رجل يعطلك عن عبادة، أو أنه يغتاب الناس، نمام، فيه شر، فتريد أن تبتعد عن شره، فيقول ابنك أو البواب الذي على الباب: خرج إلى الصلاة، لكن ما قال: لم يعد، وفعلاً أنت قد خرجت إلى الصلاة ورجعت. كان إبراهيم النخعي سيداً من سادات التابعين، وإماماً من أئمة السلف رحمه الله برحمته الواسعة، وكان عنده جارية فإذا جاءه الثقيل الذي يشغله عن العلم، ويشغله بغيبة الناس يستئذن عليه خط دائرة على الأرض، وتضع أمته أصبعها في الدائرة وتقول: والله ما هو فيها -يعني: ليس في الدائرة- فيسمع الذي في الخارج: ما هو فيها؛ فيظن أنها تعني أنه ليس في البيت، وإنما مرادها ليس في الدائرة. وكان مهنا من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله عنده توريات، فكان إذا استأذن أحد يريد الإمام أحمد أو يريد المروزي من خيار أصحاب الإمام أحمد وكان مهنا يحبه ولا يحب أن يشوش أحد عليه أو يشغل الإمام عنه فكان يقول: إن المروزي ليس هنا، ويضع إصبعه على كفه، يعني: ليس في كفه وهذه تورية. كذلك أيضاً قالوا: من أمثلة ذلك: أن يكون مظلوماً يحلَّف بالطلاق، فيقول -مثلاً: نسائي طوالق، ويعني بنسائه: محارمه، أخته وأمه وبنته وعمته وخالته، وهن طوالق، ولا يقصد نساءه اللاتي في عصمته، ومن أمثلتها قول: جواريَّ معتقات، أو: أعتقت جواريّ، والمراد بالجواري: السفن التي يملكها؛ لأنها جوارٍ في البحر، أو يقول -مثلاً-: والله ما رأيت فلاناً كأن يكون هناك شخص يريد أن يقتل آخر ظلماً، فإذا قلت: إنك رأيته، تكون قد دللت عليه ويحصل الضرر، فتريد أن تنقذ نفساً محرمة -كما ذكر الإمام ابن قدامة وغيره من الأئمة- فتقول: والله ما رأيت فلاناً وتقصد برأيت: الضرب على الرئة، أي: ما ضربته على رئته وكذلك تقول: والله ما ذكرت فلاناً، أي: ما تكلمت بذكره، وما ذكرته في مجلس، فهذا كله يقول النبي صلى الله عليه وسلم عنه: (إن في التورية لمندوحة عن الكذب). لكن على طالب العلم أن يحذر من هذا، وعلى العالم أن يحذر من التوريات خاصة مع العوام فمن يسيء الفهم سيقول: الشيخ يكذب، والإمام يكذب؛ لأنه قد يفهم خطأ، فلذلك ينبغي استعمالها بحذر، فهي سلاح ذو حدين؛ فالإنسان إذا لم يحتج إليها ولم يكن مظلوماً ولم تكن هناك ضرورة فعليه أن يبتعد عنها ما أمكن. ولا شك أن الصدق كله خير وبركة، لكن الله وسع على العباد، فهذا من التوسعة والرحمة على العباد، وفيه حديثٌ صحيحٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في التورية لمندوحة عن الكذب) وهي التي تسمى بالمعاريض، وكان عليه الصلاة والسلام يفعل هذا حتى في المزاح، وقد أمسك صحابياً من وراء ظهره فقال: (من يشتري مني هذا العبد؟ فقال: إذاً تجدني كاسداً، قال: إنك عند الله لست بكاسد) وهذا من ملاطفته عليه الصلاة والسلام، وقال لامرأة لما شكت زوجها: (زوجك الذي في عينه بياض، فقالت: لا يا رسول الله! إنه مبصر)، ظنت أنه يقصد أنه أعمى، فقال: (يا أمة الله! كل عينٌ فيها بياض). وقال ملاطفاً لعجوز: (لا تدخل الجنة عجوز، فبكت فقال لها: ألم تسمعي قول الله عز وجل: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:35]) فهذا كله من الكلام الذي لا يراد ظاهره، وإنما يراد به معانٍ أخرى، اقتضت جلب المصلحة أو درأ المفسدة، فتجوز هذه التورية، وهذا في الحقيقة من عظمة هذا الدين؛ لأنه: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] فاللسان العربي اختار الله له أشرف كتبه وأفضلها وهو القرآن، ومن عظمة هذه اللغة أنها تحتمل المعاني العديدة، ومن هنا أجمع العلماء على عدم جواز ترجمة القرآن حرفياً؛ لأنه ليس هناك لسان بهذه السعة، وبهذا الإعجاز العجيب البديع الغريب الذي يتضمن ما تتضمنه هذه اللغة، فلا يستطيع المترجم مثلاً أن يترجم: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] لا يستطيع أن يترجمها بلسان آخر مع إبقاء المعاني الجميلة البديعة الموجودة فيها، وهكذا قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] لو ترجمت حرفياً إلى لسان آخر لكانت غير واضحة، فيحتاج في ترجمتها إلى جمل عديدة، حتى يبين هذا المدلول، ولا يمكن أن يوجد في لسان مثلما يوجد في اللسان العربي من المعاني العجيبة، والكلمة الواحدة ربما جاء فيها أكثر من عشرة معانٍ، وهذا من سعة اللغة، ومن هنا كانت المعاريض والمندوحات بشيء يحتمله اللفظ جائزة.

التأويل في الحلف

التأويل في الحلف يقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب التأويل في الحلف. ومعناه: أن يريد بلفظه ما يخالف ظاهره]: أي: في هذا الموضع أبين لك جملة من المسائل في الحلف بالطلاق، أو ذكر الطلاق المعلق على شيء يقصد منه الحالف شيئاً غير اللفظ المذكور، وهذا الباب بابٌ مهم من أبواب الطلاق، اعتنى به الأئمة رحمهم الله على اختلاف المذاهب: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة رحمهم الله، حتى إن الظاهرية أشاروا إلى جملة من مسائله لأهميته وورود السنة بالإذن به. وهو سعة ورحمة من الله عز وجل بعباده، فإن الإنسان قد يُظلم ويُطلب منه أن يطلق زوجته ويعلق طلاقها على أمرٍ ما، وهو مظلومٌ فيه، وربما أكره على أن يتكلم بالطلاق، أو يعلق طلاق زوجته على فعل شيء أو ترك شيء، فمن رحمة الله عز وجل أن جعل للعباد فرجاً ومخرجاً فيقول كلاماً وينوي شيئاً آخر، وحينئذٍ يكون للمطلِّق ظاهرٌ وباطن، فظاهره يدل على وقوع الطلاق إن اختل أمره، وباطنه أنه لا يقصد ذلك الظاهر الذي تلفظ به. وقد تقدم بيان التأويل، وما هو مراد العلماء رحمهم الله به، وأن المقصود به: أن ينوي الإنسان شيئاً في قرارة قلبه ويتلفظ بكلامٍ يحتمل الذي نواه، وحينئذٍ يكون السامع قد فهم شيئاً والمتكلم يريد شيئاً آخر، وإذا كان التأويل في الطلاق، فمعنى ذلك أن السامع يظن أنه مطلق، والواقع أنه لا يقصد إيقاع الطلاق، بما قصده من ذلك التأويل. وبينا أمثلة التأويل وصوره التي ذكرها العلماء رحمهم الله، وهذا من سعة اللغة العربية، فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذا اللسان واسعاً، ومن هنا ساغ للمكلف أن يتلفظ بألفاظٍ يسمعها السامع ويظنها شيئاً ويريد المتكلم بها شيئاً آخر. وبينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل هذه الرخصة ونبه الأمة عليها فقال في الحديث الصحيح: (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب) فبين عليه الصلاة والسلام أن المؤمن يستطيع أن يتخلص من الكذب -الذي هو من أقبح الأمور وأشنعها- بالتورية. والتورية: أن يورِّي فيأتي بكلامٍ محتمِل فيقصد باطنه والسامع يظن ظاهره. يقول رحمه الله: (باب التأويل في الحلف) أي باب التأويل في مسائل الطلاق خاصة في التعليق، أي سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالتأويل في الحلف في الطلاق. وبين أن معناه أن يأتي بلفظٍ ولا يريد ظاهره، ومعنى ذلك أنه يشترط في اللفظ أن يكون محتملاً، يقول: جواري، ومراده السفن، لأنها تجري، وقد أخبر الله عز وجل عن ذلك {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الشورى:32] فيقول: جواري عتيقات، أو يقول: نسائي طوالق مني، ومراده بالنساء محارمه الذين هن لسن بزوجاته، ففي هذا مندوحة للإنسان إذا أكره وألجئ إلى الطلاق، وهذا من رحمة الله ولطفه بعباده. قال المصنف رحمه الله: [فإذا حلف وتأول يمينه نفعه إلا أن يكون ظالماً] أي حلف على شيءٍ وكان حلفه بلفظٍ محتمل فقال: امرأتي طالق مالك عندي شيءٌ، أي إن كان عندي شيء فامرأتي طالق، فهذا ظاهر اللفظ، ومراده بالمال مالٌ معين، وكان الذي استحلفه بهذا المال ظالماً جائراً عليه يدعي أن له عنده حقوقاً والواقع أنه ليس له عنده حقوقاً، فألجأه أن يحلف بالطلاق، مثلاً: شخص قوي وعنده قوة قال له: أعطني العشرة الآلاف التي عندك قال له: أظن أنني سددتها لك، أعطيتها لك، قال: إذاً احلف بأن نساءك طوالق أو امرأتك طالق إن كنت لم تدفع لي هذه العشرة الآلاف أو إن كانت هذه العشرة الآلاف عندك، فحلف بطلاق زوجته أنه ما له عنده شيء، وقصد مالاً غير النقد التي هي العشرة الآلاف، أو قصد أنه ماله عنده شيء من ناحية الحق الثابت وهذا من حقه، أو قصد شيئاً آخر غير الذي فهمه سواء كان في عين المال، أو كان في صفة المال وحاله، فكل ذلك ينفعه إلا أن يكون ظالماً.

شروط التأويل في الحلف

شروط التأويل في الحلف إذاً: شرط التأويل أن لا يكون الحالف ظالماً، فإن كان ظالماً أو مغتصباً لحقوق الناس وحلف أنه ما اغتصب أو أنه ما سرق، أو أن شخصاً أعطاه أمانة فخانها -والعياذ بالله- فحلف أنه ما خان، وقصد التورية، فإن ذلك لا ينفعه. إذاً: للتأويل شرطان: الشرط الأول: أن يكون اللفظ محتملاً للتأويل الذي ذكره مثلاً يقول: ما لك عندي شيءٌ، ويقصد بما النفي فإن هذا ينفعه في الظاهر، أو يقصد بما الموصولة أي: الذي لك عندي شيءٌ فينفعه هذا التأويل لأن اللفظ محتمل. الشرط الثاني: أن يكون غير ظالم في ذلك الحلف أو ذلك الطلاق الذي تلفظ به.

مسألة: إن حلفه ظالم على شيء فنوى غيره

مسألة: إن حلفه ظالم على شيء فنوى غيره يقول المصنف: [فإن حلفه ظالمٌ (ما لزيد عندك شيءٌ) وله عنده وديعة بمكة فنوى غيره، أو بما الذي، أو حلف ما زيد هاهنا ونوى غير مكانه، أو حلف على امرأته لا سرقت منه شيئاً فخانته في وديعة ولم ينوها لم يحنث في الكل]. حلفه ظالمٌ ما لزيدٍ عنده شيءٌ، وكان الحلف على المال، فحلف أن زوجته طالق إن كان له عنده شيء، ويقصد في المدينة، أو في جدة فإنه ينفعه؛ لأن الذي نواه في قرارة قلبه وقصده أنه ليس له عنده شيءٌ في موضعٍ والحال كذلك، فإذاً بر في حلفه، ولا يقع عليه الطلاق، وهذا إذا كان مظلوماً، أو يقول: ما لزيدٍ عندي شيء، وقصد بما الذي، أي: الذي لزيد عندي شيءٌ، وحينئذٍ يستقيم اللفظ، ويكون باراً بحلفه؛ لأن الواقع أن لزيدٍ عنده شيئاً لكنه مظلوم، فحلف بهذه الصورة ليتخلص ويدفع المظلمة عنه. لماذا فرق بين كونه ظالماً أو مظلوماً؟ قالوا: إذا كان مظلوماً فمقصود الشرع أن يدفع الظلم عنه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) فمقصود الشرع دفع الظلم ورفعه عن الناس، ولا يجيز الشرع الظلم، كما قال تعالى في الحديث القدسي: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) فإذا حلف لدفع الظلم عن نفسه فقد وافق مقصوده مقصود الشرع. وقد قرر العلماء هذا الأصل كما أشار إليه الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه النفيس (الموافقات) وهو من أوائل العلماء وجهابذة أئمة الأصول الذين تكلموا على المقاصد والنيات، قال رحمه الله: (قصد الشرع من المكلف أن يكون قصده موافقاً لقصد الشارع)، قصد الشرع من المكلف في جميع أموره الباطنة أن تكون موافقةً للشرع، فهو لما نوى أن يدفع الظلم عن نفسه بنية غير التي تلفظ به؛ وافق مقصود الشرع من إحقاق الحق وإبطال الباطل، فهذه التورية جائزة غير جائرة، ومشروعة غير ممنوعة، مأذونٌ بها شرعاً، لأنها محققة لمقاصد الشريعة، فوسع الله بها على عباده، وقد أفتى بها بعض العلماء رحمهم الله، وصاحب التورية قد تنفعه ولا تؤثر في عصمة زوجته، ولا يقع الطلاق؛ لأنه نوى غير ما تلفظ به في الظاهر، وقال عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)، وأشكل في هذه المسألة حديث مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك) فدل على أن من حلف يميناً فإنه يقبل منه الظاهر ولا يقبل منه الباطن؛ لأنه على ما يصدقك عليه صاحبك، فدل على أن المسموع هو الذي عليه العمل وأن الذي وقعت عليه يمينه هو المعتبر، ولكن بين العلماء عدم التعارض وأن المقصود من هذه اليمين: اليمين في مقاطع الحقوق، وهي اليمين التي تكون في المظالم ويحلفها الإنسان في القضاء أو يحلفها في الخصومة والنزاع، ويعتقد أنه مصيبٌ فيما قال، وصائبٌ فيما ذكر، فحينئذٍ لا بد وأن تكون اليمين موافقة لما حلفه عليه القاضي؛ لأنه لو فتح هذا الباب لتلاعب الناس بالأيمان، وأصبحت يمين القضاء لا يتوصل بها إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل. ومن هنا فرق العلماء في التورية بين أن يكون ظالماً وبين أن يكون مظلوماً، وفرقوا بين أن يكون محقاً وبين أن يكون مبطلاً، فقالوا: إذا نوى في قرارة قلبه غير الذي تلفظ به فيما إذا كان محقاً أو مظلوماً فإن ذلك ينفعه؛ لأنه بهذا الفعل احتال حيلة شرعية، وقد دلت النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على صحة الحيلة الشرعية، وأنه مأذونٌ بها شرعاً، قالوا: فلو بقي الحديث: (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك) على ظاهره لما استطاع المحق أن يصل إلى حقه، ولأمكن المبطل أن يصل إلى باطله؛ لأنه ألجأه إلى اليمين واضطره إليها من أجل أن يصل إلى الحرام، فمن هنا ضيق عليه وقيل: يكون مأذوناً له شرعاً أن يوسع على نفسه بأن ينوي غير ما تلفظ به ليدفع عن نفسه الظلم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (نحن من ماء) فجعل الرجل يقول: من ماء بني فلان، أو بني فلان، ومراد النبي صلى عليه وسلم بقوله: (نحن من ماء) ما ذكر الله عز وجل: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:6] وهذا يدل على أن الأمر به سعة، وأنه لا بأس بالتورية، وأنها جائزة. [أو بما الذي] قال: امرأتي طالق ما لك عندي شيءٌ؛ لأنه إذا قال: ما لك عندي شيء أي الذي لك عندي شيء و (ما) بمعنى (الذي)، ومن فقه القاضي أنه لا يقبل من الخصم أن يقول لخصمه: ما لك عندي شيء؛ لأنه يحتمل أن يقول: ما لك عندي شيء، أي الذي لك عندي شيءٌ، وحينئذٍ تضيع حقوق الناس بهذه التورية فلابد أن يقول: ليس لك عندي شيءٌ، لأنه لا يستطيع أن يدخل في هذه الجملة تورية، وبناءً على ذلك لو قال له: بقيت لي عندك عشرة آلاف، قال: ما بقيت لك عندي عشرة آلاف، وهو ظالمٌ له بالعشرة آلاف، فقال له: احلف على طلاق زوجتك أنه ما بقي لي عندك شيء، فقال: زوجتي طالق ما لك عندي شيء، أي: العشرة الآلاف التي لك عندي هي لك عندي، فعلى هذا يكون المعنى صحيحاً، وما نواه في قرارة قلبه قد أصاب به، وتنفعه هذه التورية ولا تضره بشيء أبداً. [أو حلف ما زيدٌ هاهنا ونوى غير مكانه] قال: امرأتي طالق ما زيد هاهنا، كان زيد مظلوماً؛ وهناك ظلم يريد أن يأخذه ليؤذيه أو يعرضه للحرام، أو مثلاً: هناك امرأة يعتدى عليها، فقال له: احلف أنها ليست في الدار، فحلف بطلاق زوجته أنها ليست في الدار وقصد امرأة غيرها، ينفعه ذلك لأنه يتوصل إلى إحقاق حقٍ وإبطال باطل، ودفع مظلمة عن مظلوم، وهذا موافق لنصوص الشرع، وبعض الأئمة -رحمهم الله- استعملوا شيئاً من التوريات في التخلص من الأذية والضرر. ويسوغ ذلك إذا جاء شخص يستأذن للدخول عليك وأنت تعرف أن هذا الشخص جاء بمشكلة أو جاء في بلية أو فيه ضرر، فاستأذن؛ فلك أن تستعمل معه التورية، فإذا قال: فلان موجود؟ فيرد عليه الأهل: بقولهم: فلان خرج، ومرادهم أنك خرجت قبل ساعة، وكنت قد خرجت ذلك اليوم، لكن ما قالوا: لم يعد، بل قالوا: خرج إلى الصلاة، وأنت خرجت إلى الصلاة، فهذه تورية، أو يقول المجيب: غير موجود ويشير إلى الغرفة، يعني غير موجود في الغرفة، وكان إبراهيم النخعي إذا جاءه ضيفٌ ثقيل خط على الأرض دائرة، وكانت جاريته تجيب، وتضع أصبعها في الدائرة فتقول: ما هو فيها، يعني ليس في داخل الدائرة، وهو ليس داخل الدائرة بل خارج عنها، وهذه من توريات السلف رحمهم الله؛ لأنه في بعض الأحيان قد يكون في دخول الشخص ضرر عليه، إما أن يتسبب في قطيعة رحم، أو يكون مغتاباً نماماً، أو يكون عنده بلاء أو فتنة، فالمقصود أنك تريد أن تدفع الضرر عنك، أو أنت مرهق متعب، ومثله لا يرد، فيسوغ لك أن توري وإلا فمن حقك أن تمنعه من الدخول، وهذا حق من حقوقك، لكن ليس كل الناس يفهم هذا الحق. وهنا ننبه أنه ينبغي أن لا يحرج المسلم أخاه المسلم خاصة في مثل هذه القضايا، هل فلان موجود أو غير موجود؟ ومن الأمور التي ضيعها كثير من الناس إلا من رحم الله السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستئذان، وفيها رحمة من الله عز وجل على عباده، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من استأذن ثلاثاً فلم يؤذن له فلينصرف) يعني: إذا قرعت الباب ثلاث مرات ولم يُجب أحد فيجب عليك أن تنصرف، فهذه هي السنة، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. لو أن الناس طبقوا هذه السنة لارتاحوا من كثير من الإحراجات، يستأذن ثلاث مرات فإذا لم يؤذن له انصرف؛ لأن الله أعطى صاحب الدار حقاً أن لا يخرج لمن جاءه، وإن كان من حق الزائر أن تكرمه، وأن تستقبله، لكن ربما جاء في وقت ليس من حقه أن يأتي فيه، وربما جاء وعندك ما هو أهم وأولى وأحق خاصة العلماء، والأئمة، والخطباء، ومن انشغل بمصالح المسلمين العامة، فهؤلاء ينبغي على من يزورهم أن يتقي الله فيهم، خاصة في الأوقات الحرجة قبل الدرس، أو قبل المحاضرة، حيث تكون وراءه أمة تريد أن تنتفع بعلمه، فيأتي أناس يجلسون معه ويضيعون عليه وقته، فهذا لا يجوز لما فيه من الإضاعة للوقت، ولما فيه من الإضرار والأذية، وقد حرم الله على الصحابة أن يبقوا بعد طعامهم مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ارتبطت به الأمة، وكان بعض العلماء يقول: هذا الأصل مطرد في غير النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن المعنى الموجود في النبي صلى الله عليه وسلم موجودٌ في غيره، فإن غيره من العلماء مبتلى بما ابتلي به عليه الصلاة والسلام، وإن كان هناك فرقٌ بين الاثنين، فربما كان العالم عنده محاضرة، أو كان عنده درس يفيد به الأمة فلا ينبغي أن يؤذى ويحرج بمثل هذه التوريات؛ لأنه إذا أحرج بهذه التوريات ثم خرج ورآه من وري له -خاصة إذا كان من الجهال- ظن أن أهله يكذبون، وظن أنه كذب، وحينئذٍ يقع في سوء الظن، ويقع في التهمة، وهو الذي أحرج نفسه، فلذلك ينبغي أن لا يحرج المسلم أخاه، هذا بالنسبة للخاصة وكذا للعامة، فإذا علمت أن أخاك له أوقات يُزار فيها تخيرت هذه الأوقات، وأخذت بالسنة، والله تعالى يقول: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28] ليس هناك أبلغ ولا أكمل من كلام الله جل وعلا، وشهد الله من فوق سبع سماوات؛ أنك إذا اتقيت الله وانصرفت فإنه أزكى لك، وكان بعض العلماء يقول: جربت ذلك فوجدت الزكاة، حتى أني استحب في بعض الأحيان أن آتي للشخص وأستأذن عليه ويقول لي: لا أستطيع، لأني أبحث عن هذه الزكاة، وأبحث عن هذا الخير الذي شهد الله عز وجل به من فوق سبع سماوات: {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28]، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا التمسك بالسنة. وعلى المسلم أن يحرص على مثل هذا لأنها تترتب عليها حقوق وأمور، فعليه أن لا يكون مؤذياً لإخوانه المسلمين وأن لا يحيجهم لمثل هذه التوريات في الزيارات، وكذلك في الخصومات، فربما يسأل الشخص أخاه عن أمرٍ ما، فيخبره أخوه بالأمر، فيشك في خبره، ويقول له: احلف بطلاق زوجتك، فلا يجوز أن يحرج الناس في

مسألة: إذا حلف على زوجته بالطلاق إن سرقت منه شيئا فخانت الوديعة

مسألة: إذا حلف على زوجته بالطلاق إن سرقت منه شيئاً فخانت الوديعة [أو حلف على امرأته (لا سرقت مني شيئاً) فخانته في وديعة ولم ينوها لم يحنث في الكل] لو خاف منها السرقة فقال لها: تحلفين أنك لا تسرقين مني فحلفت أنها لا تسرق، أو قال لها: إن سرقت مني فأنت طالق، فهددها بالطلاق إن سرقت، ثم شاء الله عز وجل أنه احتاج إليها في يوم من الأيام وقال لها: خذي هذه العشرة آلاف وضعيها عندك وديعة أو أمانة، فأخذت العشرة آلاف فخانته فيها وتصرفت فيها، فحينئذٍ الذي حلف عليه أو علق الطلاق عليه هو السرقة وما قصد سرقة الودائع، وسرقة الودائع خيانات ولا تعتبر من السرقة؛ لأن السرقة شيء، والخيانة شيء آخر، فالوديعة خيانتها ليست سرقة شرعاً، ولذلك من خان الوديعة، فعلى الصحيح لا تقطع يده؛ لأنه ليس بسارق شرعاً، واختلف في جاحد العارية كما سيأتينا -إن شاء الله- في باب السرقة. فإذا قال لها: إن سرقت مني شيئاً فأنت طالقٌ، فخانته في الوديعة، فإنها لم تسرق حقيقة إلا إذا قصد مطلق الخيانة، فإن قال لها: إن سرقتِ مني فأنت طالق، يعني: إن خنتني في أي مال أو شيء ائتمنتك عليه فأنت طالق؛ فحينئذٍ تطلق. هذا بالنسبة لمسألة إذا حلفها على السرقة وحصلت منها خيانة الوديعة.

الأسئلة

الأسئلة

حكم إحراج المسلم ليحلف بالطلاق

حكم إحراج المسلم ليحلف بالطلاق Q لو قال المستحلف للحالف: احلف أن نساءك طوالق لو كان لي شيء عندك، فهل في ذلك خدشٌ في الإيمان إذا لم يرض المستحلف من الحالف أن يحلف بالله لو ألجأه إلى الطلاق أثابكم الله؟ A ذكرنا أنه ينبغي أن لا يحرج المسلم أخاه المسلم، إلا إذا كان الرجل كذاباً جريئاً على حدود الله وأنت محتاج إلى المال، ومتضرر بظلمه لك فأحببت أن تحرجه، أو كذب عليك في أمر عظيم، أو إنسان والعياذ بالله منتهك لحدود الله عز وجل، وجاء في قضية انتهك فيها حدود الله، وجاء يعبث مع رجلٍ صالح أو عالم أو صابر فأحب أن يردعه، فقال له: علق الأمر على طلاق زوجاتك، فربما يحلف الأيمان المغلظة والعياذ بالله ولا يبالي، لكن لو قال له: طلق نساءك يكون الأمر عنده أشد، فإن أحب أن يردعه ويزجره فهذه مقاصد معتبرة وهو مأجور إذا قصد إصلاحه، وقصد إحقاق الحق وإبطال الباطل، ولا بأس بذلك، لكن لا ينبغي أن يكون ذلك ديدن الإنسان، ولا ينبغي للزوج أن يدمر بيته ويشتت أهله، ويفرق جمعه بمثل هذه الأمور التافهة، ويقول له: أهلي عندي أكرم من أن أطلقهم على هذا الشيء، فينبغي أن يستشعر نعمة الله عليه بالزوجة، وإكرام الضيف لا يتم بطلاق الزوجات، وإحقاق الحقوق وإبطال الباطل لا يكون بمثل هذه الأمور، بل لها وسائل شرعية معروفة علينا أن نلتزم بها، وهذا الوارد في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا حلف اليمين نحن نصدقه، من حلف لنا بالله نصدقه على الظاهر، وفي الحديث قال: (يا رسول الله! الرجل فاجر ولا يبالي -يعني يحلف اليمين ولا يبالي- فقال صلى الله عليه وسلم: ليس لك إلا يمينه) فنحن نقبل ما قبل الله لنا، ومن حلف اليمين قبلنا منه، فإن فر من خصومه في الدنيا، وفر من جبار الأرض، فلن يفر من جبار السماوات والأرض، ولن يستطيع أن يفر من خصومه يوم القيامة إذا أُخِذ من حسناته أو أُخِذ من سيئات صاحبه والعياذ بالله فوضعت على ظهره، وحمل أثقالها بين يدي الله عز وجل، وعذب بها في عذاب الله عز وجل، نسأل الله السلامة والعافية. فعلى كل حال لا ينبغي التساهل في مثل هذه الأمور وينبغي على الأئمة والخطباء توجيه الناس؛ لأن الناس يحتاجون إلى توجيه، وينبغي لكل إمام مسجد أن لا يمر عليه أسبوع إلا وله جلسة إمامية يذكر الناس بمثل هذه الأمور التي تقع في معاملاتهم، لما فيها من عظيم الأجر والثواب، فكم من بيوتٍ هدمت، وأسر شتتت، بسبب جهل الأزواج والزوجات بالحقوق الواجبة عليهم؛ لأن الناس لا يعلم بعضهم بعضاً، ولا يرشد بعضهم بعضاً، فهذه الأمور التي تقع من الطلاقات المعلقة سببها الجهل، فتأتي في أمور تافهة يعلق عليها الطلاق، فلو وجه الناس أن البيوت أمانة، وأن الزوجة أمانة، وأن الأولاد أمانة، وأنه حرامٌ على الإنسان أن يدمر أهله وبيته ويفرق جمعه، فمن الذي يرضى أن يدخل الضرر على أولاده وأقرب الناس إليه وأهله وحبه وزوجه، فينسى فضلهم عليه حتى يقول هذه الكلمة التي تكون سبباً في طلاق زوجته وذهاب أسرته؟ فهذه أمور كلها تحتاج إلى توجيه، فإذا لم يحصل التوجيه، والتعليم للناس عظمت الغفلة، ولا تذهب الغفلة إلا بالتذكير، وبتعاهد الأئمة والناصحون بارك الله في علومهم وبارك الله في نصائحهم وتوجيهاتهم، ولذلك العالم والشيخ والإمام إذا وجدت له جلسة في الأسبوع أو جلسة كل يوم بعد صلاة العصر يوجه فيها كلمة قصيرة للناس فيما يحتاجونه بعلم وبصيرة، تجد هذا الحي مباركاً فيه، قليل المشاكل، كثير العلم، كثير الفائدة، كثير النفع، والموفق من وفقه الله. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، والله تعالى أعلم.

الشك في الطلاق [1]

شرح زاد المستقنع - الشك في الطلاق [1] مراتب العلم أربع وهي: الظن الفاسد، وغلبة الظن، واليقين، والشك، والشك هو: الظن المتردد المحتمل الذي لا مزية لأحد طرفية على الآخر، وهو إما أن يكون قهرياً كالوسوسة، أو عارضاً، وقد اعتنى العلماء بمثل هذه المسائل وأسهبوا في بيان علاجها. والشك قد يقع في الطلاق، إما في عدد الطلقات، أو في وقوع الطلاق أصلاً، ولكنه على كل حال قد عالجته الشريعة وبينه أحكامه.

تعريف الشك وبيان مراتب العلم

تعريف الشك وبيان مراتب العلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الشك في الطلاق]. الشك: استواء احتمالين. فكل شيء تردد عندك وأصبحت ظنونه في نفسك بمنزلة واحدة، فإنه شكٌ. مثلاً: إذا رأى الإنسان شخصاً فظنه فلاناً، فإما أن يراه على صفاته الحقيقة بحيث يقطع أنه لا يمكن أن يكون غيره، يقطع بأنه فلان، رآه بشخصه، وسمعه بأذنه، فيقول: هو فلان، فهذا يقين، واليقين كما يقول العلماء: هو درجة من العلم القطعي الذي هو 100%. وإما أن يشك هل هو فلان أم فلان، بحيث يرى فيه الصفات المتعلقة بشخصٍ يعرفه، لكن هناك احتمال أن يكون شخصاً آخر يشبهه، وغالب ظنه أنه فلان، فيقول: أغلب ظني أنه فلان، فهذا غلبة ظن. فإن كان الذي رأيته قد استوى فيه الاحتمالان حيث احتمل أنه فلان واحتمل أنه فلان ولا مرجح لأحد الاحتمالين فهذا يسمى بالشك، وهو كما قال العلماء: بدرجة 50% لا تزيد ولا تنقص، ليس لأحد الظنين مزية على الآخر فهذا يسمى بالشك، فإن نقص الظن إلى الدرجة الضعيفة وهي التي تقابل الظن الراجح سمي وهماً. فهناك وهمٌ، وهناك شكٌ، ثم ظنٌ، ثم يقين، فهذه أربع مراتب للعلم، وقد تقدمت معنا في كتاب الطهارة، وفصلنا في أحكامها، وفصلنا قواعد الشريعة التي تدل على اعتبار اليقين والظنون الراجحة، والتي تدل على الرجوع إلى الأصل عند استواء الاحتمالين، والتي تدل على إسقاط الظن الفاسد. ومراتب العلم هي: الظن الفاسد: وهو الضعيف، وليس له مكان في الشريعة؛ بمعنى أنه لا يعمل به ولا يعول عليه، وللإمام العز بن عبد السلام في كتابه النفيس قواعد الأحكام في مصالح الأنام، كلام نفس في الظنون الضعيفة، ويسميها العلماء الظنون الفاسدة، والظنون الفاسدة لا تحتاج الشريعة لها إذ لو اعتبرت الشريعة بالظنون الفاسدة لما استقامت أمور الناس ولما استقامت أحكامها؛ لأن كثيراً من الأشياء بنيت على غلبة الظن، فالدماء والأموال والفروج تستباح كلها بالظنون الراجحة، فلو شهد شاهدان عدلان أن فلاناً قتل فلاناً قتل بشهادتهما، مع أنه يحتمل أنهما أخطآ، لكن الاحتمال ضعيف ما دامت شهادتهما مقبولة، وما داما عدلين فإن شهادتهما مرضية، فيحكم بها. كذلك تستباح الأموال فإن الإنسان إذا خاصم شخصاً في القضاء وقال: إن لي عنده مائة ألف، وشهد شاهدان عدلان أنه أعطاه مائة ألف ولم يثبت ردها؛ فإنه يحكم بثبوت المائة الألف في ذمته قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] فحكمت الشريعة بالظن الراجح، وأسقطت الظن المرجوح، وهو احتمال أن الشاهدين أخطآ، واحتمال أنهما يخطئان في قدر المال، واحتمال أنهما نسيا أداءه، إلى غير ذلك من الظنون المحتملة، لكنها ضعيفة، فعملت الشريعة بالظنون الراجحة وأسقطت الظنون المرجوحة. والمرأة يعقد عليها الإنسان ويستحل فرجها بكلمة الله عز وجل ويأخذها بأمانة الله، وأحكام النكاح مبنية في كثير من المسائل على غلبة الظن، كذلك أيضاً بالنسبة لأحكام الطلاق، فإنها لا تُبنى على الظنون الفاسدة، ولا يعول فيها على الظن الفاسد، فلو أنه دخل عنده وسواس وشكٌ بسيط أنه طلق زوجته فإنه لا يُلتفت إلى هذا الظن ولا يلتفت إلى هذا الوسواس ولا يعول عليه، ولو دخل له هذا الوسواس والظن المرجوح أنه حصل منه ظهار فإنه لا يلتفت إليه ما لم يتحقق ويستيقن أو يغلب على ظنه. إذاً: الظن الفاسد لا يعمل به. النوع الثاني: الظن الراجح: وهو عكس الفاسد، وذكرنا أن الشريعة تعمل به وتحكم به، وذكرنا أمثلته. النوع الثالث: العلم القطعي، فإذا كان الظن الراجح يعمل به فمن باب أولى المقطوع به. النوع الرابع الذي سنتحدث عنه اليوم: وهو الظن المتردد المحتمل، الذي لا مزية لأحد طرفيه على الآخر، بحيث يشك شكاً مستوي الطرفين. فمثلاً: يشك هل طلق زوجته أو لم يطلقها، شكاً مستوي الطرفين، ولا يستطيع أن يرجح أنه ما تلفظ بالطلاق ولا يستطيع أن يرجح أنه تلفظ بالطلاق؛ فهل تطلق عليه زوجته؟ كذلك أيضاً لو حصل هذا الشك في عدد الطلقات، أو حصل الشك في إثبات ما ينبغي عليه وقوع الطلاق، أو نفي ما نفيه وقوع للطلاق، فكل ذلك يكون فيه الظن متردداً حتى نقول: إنه شك، فلا نقول بوجود الشك إلا عند استواء الاحتمالين استواء تاماً كاملاً لا مزية لأحدهما على الآخر.

الوسواس القهري

الوسواس القهري وقد بين المصنف رحمه الله أنه سيذكر جملة من المسائل المتعلقة بالشكوك في الطلاق، وباب الشكوك في الطلاق يأتي على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون بسبب مرضٍ يعتري الإنسان وهو الذي يعرف بالوسواس، سواء كان وسواساً قهرياً أو وسواساً معتاداً معه، فهذا النوع الأمر فيه أوسع، والله عز وجل ألغى أحكام الوسوسة وأمر المكلف ألَّا يشتغل بها.

علاج الوسوسة

علاج الوسوسة والمنبغي على من ابتلي بالوسوسة أن يلزم أمرين هامين، فيجعل الله بهما فرجاً ومخرجاً:

ذكر الله عز وجل

ذكر الله عز وجل أولهما وأعظمهما: ذكر الله عز وجل وكثرة الدعاء، والاستعاذة بالله العظيم السميع العليم من الشيطان الرجيم. فذكر الله سواء بالاستعاذة أو بالدعاء، أو بأذكار الصباح والمساء، لا شك أنه أعظم وأنجح وأفضل ما يكون للموسوس، حتى إنه لو وجد الوسوسة مع هذه الأذكار فليعلم أنه لا يقول الأذكار بحضور قلبٍ وقوة يقين، فيؤتَى من نفسه، فيرجع إلى نفسه ويقوي يقينه بالله؛ لأن الإنسان إذا ابتلي بالوسوسة يحرص كل الحرص على أن يجعل الوسوسة أكبر من الله عز وجل والعياذ بالله، ويعتقد أنها ليس لها حل ولا علاج؛ ولذلك تجد من تسلطت عليه الوسوسة في مثل هذه الحالة قد بلغ إلى درجة اليأس، وقد تسلط الشيطان على قلبه والعياذ بالله؛ لكن إذا ظن في قرارة قلبه أن الله أكبر من هذا، وأن الله أعظم من هذا، وأن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، فإن الله سيجعل له فرجاً ومخرجاً. ولقد ابتلي بعض الصالحين بهذا البلاء حتى كان بلاءً شديداً عليه في نفسه وفي عبادته، وحتى مع زوجه وأهله، واشتكى إلى بعض أهل العلم فأمروه أن يكون قوي اليقين بالله عز وجل، وأن يشكو أمره إلى الله عز وجل، فصلى ودعا الله عز وجل، قال: فما شعرت إلا وأنا في التشهد، فسألت الله بصدق، وإذا بشيء شديد الحرارة في أسفل بدني يؤذيني قال: فلما سلمت كان آخر عهدي بالوسوسة، فما بقي منها شيء ألبتة. وقد كان بحالة لا يحسد عليها، فقد بلغ به أنه يدخل للغسل من الجنابة قبل صلاة الفجر بساعتين ولا يخرج من دورة المياه إلا بعد طلوع الشمس بثلاث ساعات أو بساعتين على الأقل، وهذا من شدة ما كان يجد، نسأل الله السلامة والعافية؛ فاشتكى إلى بعض أهل العلم، فقال له: اشتكِ إلى ربك، واسأل الله بصدق فإن الله لا يخيبك، وإذا سألت الله بيقين فإن الله لا يضيعك، وصلِّ وأنت تستشعر أنك أمام الله واعبده كأنك تراه، فأنت لما جئت تشتكي وجلست أمامي تسرد لي حوادثك وأنا مخلوق ضعيف لا أغني لك من الله شيئاً، فكيف وأنت تقف أمام ربك تشتكي عدوك الشيطان بقوة يقين وصدق التجاء إلى الله عز وجل، وأبشر بكل خير. قال: فتوضأت وصليت، وهذه وقعت منذ سافر إلى العمرة، ولما طاف الطواف اشتكى إلى ربه ثم صلى ركعتي الطواف، ففي ركعتي الطواف سأل الله عز وجل وهو أمام بيته مستشعراً وقوفه أمام الله، معتقداً أن الله أكبر من هذه الوسوسة، فعافاه الله. وكان يقول: كان الشيطان يقول لي: مستحيل، حتى أني أظن أنني سأصبح مجنوناً من شدة ما أجد من الوسوسة، وهو من أفاضل أهل العلم، قال: فلما سألت الله سبحانه وتعالى بصدق وأنا في التشهد شعرت بهذا الأمر الغريب في قدمي، فلما سلمت كان آخر عهدي بما كنت أجد: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة:4]. فمن ابتلاه الله عز وجل بهذا فعليه أن يحسن الظن، فربما أن هذه الوسوسة تبلغه درجة في الجنة لا ينالها بكثير صلاة ولا صيام، فيحتفي، ولذلك يأتي الشيطان للإنسان ويقول له: أنت لا تؤجر على هذه الوسوسة. وهنا أنبه إلى أن بعض طلاب العلم وبعض من يفتي أصلحهم الله يسيء التعامل في مثل هذه الأمور، فيقول للإنسان: لماذا تفعل هذا، ويخاصمه، ولربما يغلظ له القول، فإذا كان مريضاً فلا يغلظ عليه، بل يؤخذ بالتي هي أحسن؛ لأن مثل هذا كالغريق يحاول معه بالرفق وباللين علَّ الله سبحانه وتعالى أن يجعل له فرجاً ومخرجاً، فإذا داوم على الأذكار، والدعاء ووجد أن الوسوسة موجودة، فمن الأمور الطيبة المستحبة التي ينبغي أن ينبه عليها من ابتلي بهذا أن يقال له: لولا الله ثم الدعاء لكنت في حال أسوأ من الحال الذي أنت فيه. فهذا يزيد يقينه في الذكر لله عز وجل، ويقال له: لو لم تدع لكان الأمر أسوأ، فيتشبث ويحس أن الذكر له سلطانٌ على قلبه، وهو كذلك؛ لأن الله تعالى لا يخلف الميعاد، وهو أصدق حديثاً، وقد قال تقدست أسماؤه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] فإنه يوصى بالذكر، فإن لم يجد في نفسه أثراً فليتهم نفسه بضعف اليقين، فإن وجد أنه صدق وسأل فلربما أراد الله له خيراً لا يعلمه، وفضلاً ينتظره بهذا البلاء فيحتسب الأجر والثواب من الله.

الأخذ بالأسباب

الأخذ بالأسباب أما الأمر الثاني الذي يوصى به من ابتلي بالوسوسة: فأن يأخذ بالأسباب، وهذا الأمر فيه جانبان هامان: الجانب الأول: الارتباط بالعلماء: أن يرتبط الموسوس بطالب علم أو بشيخ، ولا يفتي نفسه، فإذا أفتاه ذلك العالم، أو من عنده علم وبصيرة فليعمل بفتواه ولا يلتفت إلى أي شيء سواه. مثلاً: يشك أنه طلق زوجته أو لم يطلقها، فجاء يسأل الشيخ عن مسألته في الوسوسة التي وجدها، فإن قال له: ما وقع الطلاق، فعليه أن يتقبل الفتوى بصدرٍ منشرح؛ لأنه بين الشيطان وبين العالم، فإما أن يصدق الشيطان وإما أن يصدق العالم، فإن صدق الشيطان استهوته الشياطين والعياذ بالله، فأصبح حيران في الأرض؛ ولذلك تجد من يبتلى بالوسوسة ويرتبط بالعلماء يكون أمره أرحم وأخف من الذي لا يرتبط بأهل العلم. ويستحسن للعلماء والأئمة والمشايخ وأهل الفتوى إذا جاءهم إنسان وعرفوا أن فيه وسوسة، وكانت أوقاتهم وظروفهم لا تسمح لهم بالإجابة على أسئلته أن يحيلوه على من عنده صبر وتحمل وجلد أكثر؛ لأنه سيصل العالم إلى درجة صعبة جداً؛ لأن الموسوس لا يملك نفسه، حتى إن بعضهم من الحوادث التي كانت تمر بنا يمكن أن يجلس مع العالم ويسأله عشرين مسألة مما يمر به -نسأل الله السلامة والعافية- ويخرج من الباب ثم يرجع بعد دقائق يسيرة ويقول: زوجتي حلال لي؟! وذلك من شدة ما يجد من الوسوسة. فيحتاج إلى إنسان عنده صبر وتحمل، ومع ذلك نقول لأهل العلم وطلابه: ما أعظم جزاءهم عند الله عز وجل! وما أعظم ثوابهم إذا استشعروا أنهم يفرجون كربة المكروب بإذن الله عز وجل، وأنهم يوسعون على إخوانهم! وأنهم مع المبتلى في بلائه: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه). فانظر رحمك الله: إذا كان العون في أحب الأشياء إلى الله وهو العلم النافع، فلا شك أن أمره أعظم، وما ارتفعت درجات العلماء، ولا نالوا الدرجات العلا في الجنة إلا بفضل الله وبمثل هذه الابتلاءات، فالعلم كما أنه يرفع الإنسان لا بد أن يدفع ثمنه، وأن يضحي. وينبغي على من ابتلي بشيء من الوسواس أن يشفق على العلماء الذين عندهم مسئوليات أعظم، وأن يعلم أنهم ارتبطوا بأكثر من أمر فيرتبط بمن دونهم وممن هو أكثر فراغاً، خاصة في هذه الأزمنة التي قل أن تجد فيها من يضبط العلم ومن يحسن الفتوى، فإذا سأل العلماء المفتين الجهابذة كان الأمر أصعب، وربما إذا ارتبط بعالم من هؤلاء العلماء أحرجه، وقال له كلمة، أو تصرف معه تصرفاً نابياً، وعليه أن يسكت، فوالله لو يعلم الناس ما يجده أهل العلم من تحمل المشاق والمتاعب لأشفقوا عليهم، فينبغي للمبتلى بالوسوسة أن يتسع صدره، ويختار عالماً عنده من الفراغ والوقت ما يعينه على إجابته. الجانب الثاني: من الأسباب المهمة أنه إذا سأل عالماً وارتبط به فهناك أمر مهم جداً، وهو أنه بمجرد ما يسأل العالم يشككه الشيطان في الفتوى، فتارة يقول له: لم تبين للشيخ حقيقة الأمر. يعني: يوسوس له في جانبٍ غير الجانب الذي كان فيه، فيقول له: أنت ما وضحت للشيخ، فيرجع المسكين مرة ثانية ليعيد السؤال مرة ثانية عليه؛ لأنه يحس أنه لم يفهم الشيخ السؤال كما ينبغي؛ ولذلك كان بعض العلماء من مشايخنا رحمة الله عليهم إذا سأله موسوس يعيد السؤال عليه مرة ومرتين مع أن الموسوس ما سأله أن يعيد، ويقول له: أنت تقصد كذا؟ يقول له: نعم، فيعيده مرة ثانية ويقول له: أنت تقصد كذا؟ فيقول له: نعم، قال: حتى تعلم أني فهمتك؛ فيخرج بصدر منشرح وبنفس واثقة أنه قد بلغت رسالته للعالم، وهذا من فطنة العالم وحكمته وذكائه، وهذا فتح من الله عز وجل له. وإنما يقولون: طلب العلم على علماء لهم قدر راسخ في العلم أبرك وأكثر فائدة؛ لمثل هذه الفوائد مع الخبرة ومع أخذهم للعلم عمن هو أعلم، فيركز العالم في نوعية السائل، ولذلك كانوا يقولون: الفتوى لها فقه، وهذا الفقه هو معرفة السائل والمستفتي. الموسوس يدخل عليه الشيطان بأمور كثيرة فالذي يريد أن يقف مع الموسوس في الفتاوى عليه دائماً أن ينزل نفسه منزلة الموسوس، فبذلك يتسع صدره لضيقه، ويتحمل كثيراً مما يكون من هذا الموسوس، ولا شك أن من أفضل وأصلح ما تكون من الدعوات دعوات أمثال هؤلاء؛ لأنه يدخل عليه بكرب لا يعلمه إلا الله، ويخرج من عنده بنفس غير النفس التي دخل بها، فربما دعا له من أعماق قلبه دعوة تكون سبباً في سعادته في الدنيا والآخرة، فيحتسب في مثل هؤلاء، فيحرص على أن يشعره أنه فهم قوله. وينبغي للعالم إذا سأله الموسوس أن يسأله: هل بقي في السؤال شيء؟ هل هناك جوانب أخرى؟ وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم، كان يقول للموسوس إذا سأل المسألة: اسمع! أنت سألت عن كذا وكذا، فيعيد له السؤال مرتين، ثم يقول له: اعلم أن الذي يهم في الفتوى هو الذي ذكرته، يعني: ليس هناك شيء آخر أحتاج أن أسألك عنه، ولو كان هناك شيء احتجت أن أسألك عنه لسألتك، وذلك حتى إذا خرج الموسوس من عند العالم وجاءه الشيطان وقال له: هناك جانب آخر لم تذكره، فتحتاج أن ترجع مرة ثانية، ثم يصدق الشيطان، لأنه عندما يقول له العالم: إن المهم في السؤال هو كذا كذا، وحالك على كذا وكذا، وأي شيء آخر زائد عن هذا فاعلم أنه لا يؤثر في الفتوى، فيعلم أنه ملزم بهذه الفتوى، وأن الذي أجابه به العالم هو الذي عليه العمل.

العمل بالفتوى

العمل بالفتوى النقطة الثالثة: أن يكون عند الموسوس شعور أن ما أفتاه به العالم هو الذي عليه العمل ولو كان الأمر على خلافه. أي: لو أنه سأل وما تذكر عند السؤال إلا هذا الأمر وسأل العالم عن هذا الأمر وأفتاه وقال له: زوجتك حلال؛ فهي حلال؛ لأنه ما تذكر الموسوس شيئاً آخر فليس بملزم، ويكون العمل على هذه الفتوى حتى يتبين ما يناقضها ويخالفها. ولذلك يقولون: هذا من ناحية الحكم القضائي، وفيما بينه وبين الله عز وجل إذا جاءه الشيطان وقال له: كيف تستحل هذه المرأة وقد طلقتها؟ يقول: سألت عالماً وقال لي: زوجتي حلال، فأنا استحلها بما أفتى به أهل العلم، فإذا أصبح يرتبط بأهل العلم ارتاح. ولذلك إذا صلى وجاءه الشيطان وقال له: كيف تصلي ووضوؤك مشكوكٌ فيه؟ يقول: سألت من يوثق بعلمه فأفتاني أن صلاتي صحيحة، ألا ترى أن المستحاضة تصلي ودمها يجري معها، وهي صلاة صحيحة شرعاً، فدل على أن الابتلاءات مقرونة بتقوى الله، ولذلك قال الله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]. وما دام أن الموسوس اتقى ربه وسأل العالم، وأنزل المسألة بأهل العلم فأجيب بالجواب المعتبر شرعاً؛ فإنه يتعبد لله عز وجل بما أُجيب به، في مسائل العبادات والمعاملات، ويجري الموسوس كل أموره على هذا الأصل.

البعد عن المظالم

البعد عن المظالم أما الجوانب الأخرى التي ينبه عليها من الأسباب التي تدفع الوسوسة فأعظمها البعد عن المظالم، فربما أصيب الإنسان بالوسوسة بسبب عقوقٍ للوالدين، أو قطيعة للرحم، أو أكل مالٍ لمظلوم، أو يتيم، أو محروم، فعليه أن يتفقد نفسه في المظالم: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] فيراقب نفسه هل آذى أحداً؟ هل شتم أحداً؟ هل تكلم في عالم من العلماء فسلط الله عليه نفسه فأشغله عن أهل العلم؟ فربما جلس يتفكه بلحوم العلماء فابتلاه الله بلية نفسه حتى أصبح لا يعرف كيف يصلي والعياذ بالله، وكذلك ربما آذى مسلماً، أو قذف محصناً، أو تكلم في عرض مؤمن، أو نقل شائعة، أو ذم ولياً من أولياء الله، أو انتقصه حقا، أو ظلمه، أو غمطه؛ فغضب الله عز وجل عليه، وسلط عليه هذا البلاء فأشغله في نفسه. وغالباً ما يكون البلاء من جنس العمل، فالذي يبتلى بالوسوسة في دينه عليه أن يراقب ما يكون في أمور الدين، ومن أعظمها ما يتصل بحقوق من له حق في الدين، كالأنبياء والعلماء وصالحي عباد الله الأخيار، فهؤلاء يتقي مظالمهم؛ فإنه من المجرب والمعروف أنه ما آذى أحدٌ أهل العلم أو أولياء الله إلا سلط الله عليه في نفسه، فأشغلهم عنهم بما يشاء، كما قال الله لنبيه: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137]. فالوساوس كثيراً ما تأتي بسبب المظالم، وقد وجدنا بعض الناس يبتلى بالوسوسة، فلما تفقد حاله وجد أنه عاقٌ لأمه، ومنهم من ابتلي بالوسوسة بعد أن قطع الإحسان إلى أبيه، ومنهم من ابتلي بالوسوسة بسبب موقف بينه وبين أبيه في خصومة والعياذ بالله فأساء إلى أبيه أمام إخوانه، أو أمام أولاده، فنزلت عليه هذه العقوبة والعياذ بالله. ويعلم الله أني أعرف حوادث في الوسوسة لأناس عقوا والديهم فغيروا ما بينهم وبين والديهم فرجعت أمورهم على أحسن ما يكون، فعقوق الوالدين من أعظم أسباب الوساوس؛ لأن الوسوسة شغلٌ للإنسان في نفسه والعياذ بالله، والعقوق من الذنوب العظيمة، وقطيعة الرحم كذلك، وربما جاء الرحم بحاجة إلى مال أو مساعدة أو معونة؛ جاء مكروباً منكوباً مفجوعاً، فوقف على ذي الرحم منه وسأله وناشده بالله والرحم، فصرفه عن بابه مكسور الخاطر فدعا عليه، وعلى هذا ينبغي للإنسان أن يحذر من المظالم؛ لأنها من أسباب الابتلاء بمثل هذه الأمور.

إحسان الظن بالله عز وجل والتقرب إليه بالصالحات

إحسان الظن بالله عز وجل والتقرب إليه بالصالحات كذلك: عليه أن يحسن الظن بالله عز وجل، والله سيجعل له فرجاً ومخرجاً بالصدقات، والتقرب إليه بالطاعات، ويتخذ له وسيلة بينه وبين الله عز وجل من الحسنات الطيبة؛ لأن الله تعالى يتقبل الأعمال والدعاء، ويتقبل الدعاء بالوسيلة الصالحة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] فأمرنا أن نبتغي إليه سبحانه الوسيلة. وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل من أسباب رفع البلاء الوسيلة الصالحة، فقال في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيتم خسوف القمر وانكساف الشمس فصلوا وادعوا -وفي رواية- تصدقوا -استغفروا- حتى ينجلي ما بكم) فجعل الأعمال الصالحة وسيلة لدفع البلاء، فهذا إذا كان البلاء عاماً فكيف إذا كان البلاء خاصاً؟! فإن الله لا يعجزه شيء. وانظر رحمك الله إلى قول رسول الأمة صلوات الله وسلامه عليه: (إن الصدقة تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار) وانظر إلى عبدٍ مخلوقٍ إذا غضب كيف يكون حاله، فما بالك إذا غضب الرب سبحانه وتعالى، فالمخلوق الضعيف كالوالد إذا غضب ومن له قوة وصولة وسلطة، إذا رأيته غضب ارتعدت الفرائص من هيبته، فما بالك بجبار السماوات والأرض الذي لا يعجزه شيء إذا غضب سبحانه؟ ومع ذلك يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن الصدقة تطفئ غضب الرب، وإطفاء الشيء ذهابه بالكلية. فهذا يدل على فضل الصدقات، وأنها من أعظم الوسائل والقربات التي يتقرب بها الإنسان إلى ربه، فمن ابتلي بالوسوسة فليتقرب إلى الله عز وجل بالصدقة.

الوسوسة العارضة

الوسوسة العارضة أما النوع الثاني من الوسوسة فهي: الوسوسة العارضة، والشك العارض الذي يكون بسبب التلفظ بكلمة، ويدخل على الإنسان النسيان ولا يدري هل تلفظ بها كاملة فطلق ثلاثاً، أو تلفظ بها ناقصة فطلق طلقة واحدة، وهذا شكٌ في العدد. أو هل تلفظ أو لم يتلفظ، وهذا شكٌ في الوقوع. وهاتان الحالتان بالنسبة للشك في الطلاق وغيره سنرجئ الكلام عليها إلى المجلس القادم بإذن الله تعالى. نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، إنه سميع مجيب.

الأسئلة

الأسئلة

التعليق في الطلاق

التعليق في الطلاق Q إذا قال الرجل لزوجته: إن سرقت مالي فأنت طالق، فسرقت غير النقود، فهل يأخذ حكم المال فتطلق؛ أثابكم الله؟ A باسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن المال يطلق على كل شيء له قيمة، كل شيء له قيمة فهو مال، ولا يختص المال بالذهب والفضة، فالناس تظن أن الأموال خاصة بالذهب والفضة، ولكن نصوص الشريعة دلت على أن المال عام شاملٌ لكل شيء له قيمة، لما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من صاحب مالٍ لا يؤدي زكاته) ثم ذكر الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم، فسمى الإبل والبقر والغنم مالاً، فدل على أن المال لا يختص بالذهب والفضة. وكذلك ثبت في الصحيح من حديث الأعمى والأقرع والأبرص أن الأعمى قال للملك لما جاءه في صورة الفقير: (كنت فقيراً فأغناني الله، وكنت أعمى فرد الله علي بصري، فدونك الوادي فخذ من مالي ما شئت، فقال الملك: أمسك عليك مالك، فقد أنجاك الله وأهلك صاحبيك) فقال: (أمسك عليك مالك)، مع أن ماله غنم، فدل على أن المال لا يختص بالذهب والفضة، ولذلك يقولون: المال كل شيء له قيمة. وقالوا: سمي المال مالاً؛ لأن النفوس تميل إليه وتهواه: رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مالُ ومن ليس عنده مالُ فعنه الناس قد مالوا الناس لا تميل إلا لمن عنده مال، فمسي المال مالاً؛ لأن النفوس تميل إليه وتهواه وتحبه، فلا يختص بالذهب والفضة، فإذا قال لها: إن سرقت من مالي، وقصد الذهب والفضة؛ نفعته نيته؛ لأن هذا تخصيص ونيته نافعة فيما بينه وبين الله عز وجل، وأما في القضاء فإنه إذا قصد التخصيص وبيَّن، نفعه ذلك وحُكِم به. والله تعالى أعلم.

حكم تكرار العمرة للمكي

حكم تكرار العمرة للمكي Q يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) فهل يشرعُ للمكي الإكثار من العمرة أم أن الطواف بالبيت يكفيه ويدرك هذا الأجر أثابكم الله؟ A قد اختلف العلماء رحمهم الله في العمرة للمكي، فجمهور العلماء على صحة العمرة من المكي، وجوازها ومشروعيتها له؛ لأن عائشة رضي الله عنها كانت من مكة وأخذت حكم مكة ونزلت وأحرمت من أدنى الحل وهو التنعيم، ورخص لها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، قالوا: فهذا أصل على أنه يشرع لمن كان من مكة؛ ولأن المكي يتمتع في أصح قولي العلماء، ويدل على ذلك عموم قوله تعالى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:196] أي: أن الهدي لازم على غير المكي، أما المكي إن تمتع فلا هدي عليه، والشاهد أنه إذا كان المكي يتمتع فإنه قطعاً ستقع منه العمرة. والقول الثاني: أن المكي لا يعتمر وشددوا في العمرة له وهو قولٌ عند الحنابلة رحمهم الله، واختاره بعض المتأخرين، وكان عطاء رحمه الله يقول: (لا أدري هؤلاء الذين يذهبون إلى التنعيم) كأنه يشدد ويرى أن طوافهم بالبيت أفضل من اشتغالهم بالذهاب إلى التنعيم والرجوع؛ لأن العمرة يقصد منها الطواف بالبيت فإذا كانت هذه الخطوات التي سيذهب بها إلى التنعيم يسددها في طواف البيت فهذا أفضل له. فلو قيل من جهة الأفضلية ساغ أن يقال له: إن الأفضل له أن يطوف بالبيت، وأن يستكثر من الطواف؛ لأن المقصود من العمرة هو الطواف بالبيت لا أن معنى ذلك حرمة العمرة عليه، ومنعه منها. والله تعالى أعلم. أما تكرار العمرة ففيه خلاف بين العلماء، وجمهور العلماء على أنه يجوز للمسلم أن يكرر العمرة في العام أكثر من مرة، وهذا مذهب جمهور العلماء، وشدد في هذه المسألة الإمام مالك بن أنس رحمه الله بناءً على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر إلا مرة واحدة في العام، ولكن قوله مرجوح؛ لأن هذا الذي فعله عليه الصلاة والسلام ليس على سبيل الإلزام، إذ إن المعلوم أن عمره عليه الصلاة والسلام معدودة، ولو قيل بظاهر هذا للزم أن الإنسان لا يعتمر في عمره إلا بعدد ما اعتمر عليه الصلاة والسلام، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يترك العمل وهو يحب أن يفعله خشية أن يفرض على الأمة. ومما يدل على مشروعية تكرار العمرة دليلان قويان: أولهما: هذا الحديث: (العمرة إلى العمرة، ورمضان إلى رمضان، والصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة؛ مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)، فهذا يدل على فضل الإكثار من العمرة. الدليل الثاني وهو من أقوى الأدلة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي إلى قباء كل سبت، ومن المعلوم أن المجيء إلى قباء كان لقصد فضيلة العمرة وأجرها. فدل هذا على أنه لا بأس ولا حرج على المسلم أن يكثر من العمرة؛ ولأن الأصل جوازها حتى يدل الدليل على منعها وتحريمها. وجمهور السلف رحمهم الله على مشروعية تكرار العمرة، وليس في ذلك حد معين بحيث يقال: كل أربعين يوم، أو كل أسبوع، أو كل عشرة أيام؛ فالأمر في ذلك مطلق من الشرع، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه، ومن أراد أن يقيد فإنه ملزمٌ بالدليل الذي يدل على ذلك التقييد. والله تعالى أعلم.

حكم أكل المتمتع من الهدي

حكم أكل المتمتع من الهدي Q هل يجوز للمتمتع أن يأكل من الهدي، أم هو خاصٌ بفقراء الحرم أثابكم الله؟ A هذا فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله: واختار جمعٌ من العلماء أن الهدي شكرٌ لنعمة الله عز وجل على المتمتع، ولذلك يأكل منه، ويقوي هذا ما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من هديه، وقد نحر عليه الصلاة والسلام من هدي حجه وهديه للبيت ثلاثاً وستين بدنة، وأتم علي رضي الله عنه على أصح أقوال العلماء الباقي إلى مائة، ثم أمر بها فطبخت، فشرب عليه الصلاة والسلام من مرقها، فلو كان لا يأكل من هديه لما أكل عليه الصلاة والسلام من هديه، ولنا فيه -بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه- أسوة حسنة! وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.

الشك في الطلاق [2]

شرح زاد المستقنع - الشك في الطلاق [2] من مسائل الطلاق ما يقع الشك فيها، وذلك لأن المطلق معرض للنسيان والخطأ، والشك إما أن يكون في وقوع الطلاق أو شرطه أو عدد الطلقات، وقد بين الفقهاء أحكام ذلك، ومآخذ الأحكام التي حملتهم على ذلك. كما أنه قد يطلق الرجل لفظ الطلاق على زوجتيه أو أزواجه مبهماً للمطلقة غير معين لها، أو معلقاً له على شرط ثم يشك في وقوعه أو يجهله، وهذه مسائل قد تقع لأي مسلم، فكان من المهم أن يتعلم المسلم أحكامها وتفصيلاتها وأدلتها.

مسائل الشك في الطلاق

مسائل الشك في الطلاق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين؛ أما بعد: فقد ترجم الإمام المصنف رحمه الله بهذه الترجمة التي تتعلق بمسائل الشكوك في الطلاق، فقال: [باب الشك في الطلاق]. وقد تقدم بيان مقدمات الشكوك وما يعتري الإنسان من الوسوسة في الطلاق، وبينا هدي الشريعة الإسلامية في ذلك، وقد اعتنى أئمة الإسلام وفقهاؤه ببيان الأحكام المتعلقة بالشكوك سواء كانت في العبادات أو المعاملات. ومن أشهر المواضع التي تُبْحَث فيها مسائل الشكوك: كتاب الطهارة، وكتاب الصلاة عند بيان مسائل الشك في باب السهو، وكذلك أيضاً تذكر في باب الآنية جملةٌ من مسائل الشكوك، فتذكر في كتاب الطهارة والصلاة وجملةٌ من مسائل الصوم والحج، ثم في كتاب المعاملات تقع كثير مسائل الشكوك، ويعتني العلماء رحمهم الله ببيانها في باب الطلاق، وتعم بها البلوى، ويكثر عنها السؤال، وتكثر منها الشكوى. وقد ذكرنا ما يتعلق بالشك في الطلاق إلا أننا ننبه أن الشك قد يقوى على الإنسان ويتسلط عليه إلى درجةٍ يفقد فيها التحكم بنفسه، وفي هذه الحالة ربما بلغ به الأمر أنه يتلفظ بالطلاق حقيقةً مع أن الله مطلعٌ على سريرته وقلبه أنه لا يريد الطلاق، وأنه لا يقصده؛ ولكن تهجم عليه الوساوس شيئاً فشيئاً حتى يتكلم ويهذي، وحينئذٍ فالأشبه أنه قد وصل إلى حالةٍ يسقط عنه فيها التكليف. ولذلك كان بعض مشايخنا رحمةُ الله عليهم يراعون درجات الوسوسة والشكوك في الطلاق، فهناك درجات في ابتداء الطلاق، وفي ابتداء الوسوسة، وابتداء الشكوك، ودرجات مستفحلة أشبه بالمرض، فمثلها ينبغي للفقيه ألَّا يتعجل في الفتوى فيها، وعليه أن يسبر حال السائل وألَّا يتعجل في الجواب، وهذا من فقه الفتوى؛ ولذلك كان بعض العلماء رحمهم الله يحذر من الفتوى في مسائل الطلاق في الشكوك، ويتريث في جواب السائل، خوفاً من أن يفتيه بتحريم ما أحل الله له دون استبيان من حاله.

صور الشك في الطلاق

صور الشك في الطلاق قال رحمه الله: [من شك في طلاقٍ أو شرطه لم يلزمه] الشك في الطلاق له صور: الصورة الأولى: أن يكون شكاً في وقوع الطلاق. والصورة الثانية: أن يكون شكاً في حصول الشرط الذي رتب الطلاق على وقوعه. والصورة الثالثة: الشك في عدد الطلاق.

الصورة الأولى: أن يكون الشك في وقوع الطلاق

الصورة الأولى: أن يكون الشك في وقوع الطلاق ففي الحالة الأولى: يشك في وجود الطلاق وعدم وجوده. أي: هل تلفظ بالطلاق أو لم يتلفظ؟! وحينئذٍ يُلْزَم شرعاً بالرجوع إلى الأصل، ويقال له: الأصل العدم حتى يدل الدليل على الوجود. ثم هناك أصلٌ ثانٍ: وهو أن الأصل بقاء ما كان على ما كان، فالأصل: أن الزوجة زوجتك، وأنها امرأتك، وأنها حلالٌ لك بحكم الله عز وجل، فأنت باقٍ على هذا الأصل، وتستصحبه لعدم قوة المزيل. وعلى كل حال فلا تطلق عليه زوجته. مثال ذلك: لو أن شخصاً جاءه الشيطان فقال له: تلفظت بالطلاق. فقال: ما تلفظت، فحصل له شك وتردد، وأصبح في شك هل طلق زوجته أو لم يطلقها، هل وقع منه الطلاق أو لم يقع، أو نبست شفتاه به وتحركت؟ ففي جميع ذلك يقال له: الأصل أنك لم تتلفظ حتى يثبت أنك تلفظت وقلت الطلاق، هذا بالنسبة لوجود الطلاق، هل وجد منه طلاق أو لم يوجد؟ فنقول: الأصل العدم حتى يدل الدليل على الوجود، ثم نقول: هذه زوجته؛ لأن القاعدة الشرعية تقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان. فالذي كان: أنها زوجته، والأصل بقاء ما كان وهي كونها زوجةً له، على ما كان، أي: على حال العصمة والزوجية وهو ما يسمى بـ (استصحاب حكم الأصل).

الصورة الثانية: أن يكون الشك في الشرط

الصورة الثانية: أن يكون الشك في الشرط أما النوع الثاني: وهو الشك في الشرط فمثاله: قال: إن فعلت كذا وكذا فامرأتي طالق، ثم شك هل فعل أو لم يفعل؟ أو قال في شرطٍ عدمي: إن لم أفعل فزوجتي طالق، وشك هل فعل فزوجته لم تطلق أو لم يفعل فزوجته طالق. للعلماء في هذا الشرط أقوال: فمنهم من قال: يفرق بين الشرط العدمي (إن لم أفعل، إن لم أقل) فلا يقع لأن الأصل العدم، وبين غيره وهو الوجودي. والصحيح: أنه لا فرق بين العدمي الوجودي، وأنه إذا شك في الشرط هل تحقق حتى يقع الطلاق أو لم يتحقق، فإننا نقول: تبقى على الأصل: أن لا طلاق حتى تتحقق من وقوع الشرط وثبوته، مثل ما تقدم معنا في مسألة وجود الطلاق وعدمه. وفي كلتا الصورتين الأولى والثانية، الشك في الوجود وعدمه، والشك في تحقق الشرط وعدمه، يكون التردد بين وقوع الطلاق وعدم وقوع الطلاق، فحينئذٍ يتردد بين الأمرين، أي: بين ما يوجب ثبوت وقوع الطلاق وبين ما يمنع من وقوع الطلاق ويدل على بقاء الزوجية.

الصورة الثالثة: أن يكون الشك في عدد الطلاق

الصورة الثالثة: أن يكون الشك في عدد الطلاق في الصورة الثالثة: أن يتحقق من وقوع الطلاق ولكن لا يدري كم طلق زوجته، فقال: قلت لامرأتي أنت طالق وأشك، هل طلقتها ثلاثاً أو اثنتين أو واحدة؟ فنقول: يبنى على الأقل، فإن قال لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فهذه ثلاث تطليقات، وفي الأصل: أن من تلفظ بالطلاق ناوياً الطلاق ثلاثاً -كما تقدم معنا- أنه تنفذ عليه الثلاث في مجلسٍ واحد أو كلمةٍ واحدة، كما قضى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وانعقد عليه سواد الأمة الأعظم، ولا مخالف له من الصحابة في مواجهته حينما أفتى به على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا تلفظ بهذا فالأصل أنه ملزمٌ بالثلاث، لكن لو أنه شك هل الذي قاله: طلقتين أو قال: ثلاث تطليقات فإنه يبني على اثنتين؛ لأنه إذا شك هل طلق واحدةً أو اثنتين فهو لا يشك أنه طلق واحدة، والشك في الطلقة الثانية هل وقعت أو لم تقع، وإذا شك هل طلق طلقتين أو ثلاثاً فإنه يجزم بأن الاثنتين وقعتا، ولكن الشك في الثالثة هل وقعت أو لم تقع! فالأصل أن يبني على الأقل، وقد بينا هذه المسألة وذكرنا كلام العلماء رحمهم الله فيها وأشرنا إلى قاعدتها الأصلية: (اليقين لا يزال بالشك) وذكرنا الفروع التي بناها العلماء في المسائل المتقدمة معنا في كتاب العبادات، فيقال: من شك هل طلق طلقتين أو ثلاثاً بنى على اثنتين، ومن شك هل طلق واحدةً أو اثنتين بنى على واحدة؟ إذاً الثلاث الصور: وقوع الطلاق وعدم وقوعه، والشك في الشرط هل وقع فيقع الطلاق أو لم يقع فلا طلاق، أو الشك في العدد؛ فإن الكل يجري فيه الزوج على اليقين، أما الزوجة فزوجته حتى يتحقق من ثبوت موجب الطلاق. وهذا من رحمة الله لعباده، وتيسير الله عز وجل على هذه الأمة التي وضع عنها الآصار، ولو تصور المسلم أن الله آخذ كل من شك بشكه لما استقامت الحياة للإنسان، وقل أن تجد إنساناً إلا وقد ابتلاه الله بشيءٍ من حديث النفس في أمرٍ من أموره، ولذلك لو فتح باب الوسوسة لأصبح الناس في عناءٍ وضيق وحرج لا يعلمه إلا الله، فالحمد لله الذي لطف بعباده، ويسر علينا، وهدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وقول المصنف: [وإن شك في عدده فطلقة وتباح له]. هذه الجملة تحتاج إلى تفصيل؛ لأن قوله: (إن شك في عدده) هذا إذا شك: هل هو واحدة أو اثنتين يقال: واحدة، أما لو شك اثنتين أو ثلاثاً فإنه يبني على اثنتين قولاً واحداً عند العلماء أن من شك: هل طلق زوجته طلقتين أو ثلاثاً بنى على طلقتين؛ لأنه متيقن أنها طلقتان وشاك في الثالثة هل وقعت أو لم تقع؛ مثلما ذكرنا في الصلاة. والأصل في هذا كله حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدةً صلى أو اثنتين فليبن على واحدة، فإن لم يدر اثنتين صلى أو ثلاثاً فليبن على اثنتين، فإن لم يدر أثلاثاً صلى أو أربعاً فليبن على ثلاث، ثم إذا تشهد فليسجد سجدتين قبل أن يسلم) الحديث. هذا الحديث الثابت في الصحيح كما في رواية ابن عباس أصل عند العلماء رحمهم الله في البناء في الأعداد على الأقل، فمن شك هل صلى واحدة أو اثنتين بنى على واحدة، ومن شك في زكاته هل أخرج كل الزكاة أو نصف الزكاة بنى على أنه أخرج نصفها حتى يتحقق أنه قد أدى حق الله بأداء الكل. والمرأة إذا كان عليها الحداد وشكت هل مر عليها أربعة أشهر وعشر، أو أربعة أشهر وتسعة أيام؛ بنت على أنها تسع حتى تتحقق من اليوم العاشر، ومن شك هل صام الشهرين متتابعين أو بقي له يوم أو يومان بنى على أنه لم يصم اليومين حتى يتحقق من ذلك. وفي الزكاة لو أنه وجبت عليه مائة ألف، فشك هل أخرج تسعين ألفاً أو مائة ألف نقول: أنت على يقينٍ أنك أخرجت تسعين ألفاً وشككت من المائة، فالذي دفعته هو تسعون ألفاً حتى تتحقق أنك أكملتها مائة، فيجب عليه التمام والبناء على الأقل، والعكس: فلو شك هل بلغ ماله النصاب أو لم يبلغ فالأصل أنه لم يبلغ حتى يتحقق أنه وصل إلى العدد الذي هو نصاب ماله. وكذلك أيضاً في الحج: فمن طاف وشك هل طاف سبعة أشواط أو ستة أشواط بنى على الستة، ومن سعى على الصفا والمروة وشك هل هذا الشوط هو الخامس أو السابع ولم يكن هناك قرينة، كما لو وقف على المروة وشك هل هو في الخامس أو السابع أو شك وهو على الصفا هل هو في الشوط الثاني أو في الشوط الرابع؛ فإنه يبني على الأقل وهو الثاني؛ لأنه على يقين من الأقل وعلى شكٍ مما زاد، فيبني على الأقل. وكذلك في رمي الجمار، لو أنه شك هل رمى سبع حصيات أو ستاً، بنى على ستٍ حتى يتيقن أنه رمى السابعة. وكذلك في المعاملات مثلما ذكرنا هنا في الطلاق: فلو أنه شك هل طلق طلقتين أو واحدة بنى على واحدة كما ذكر المصنف، وذكر الواحدة لأنها الأصل، وما زاد على ذلك يبنى على هذه المسألة، فإن شك هل طلق اثنتين أو ثلاثاً قلنا: يبني على اثنتين ولا يبني على واحدة؛ لأن الواحدة مفروغٌ منها، وإنما الشك هل هما طلقتان أو ثلاث تطليقات، فيقال: إنهما طلقتان حتى يتحقق أنه قد طلق الثالثة. إذا جئت إلى أي مسألة من هذه المسائل فهناك أصلٌ وخارج عن الأصل، ففي الصلاة الأصل أنه مطالب بأربع ركعات والله فرضها عليه، وذمته مشغولةٌ بها، فإذا جاء يقول: أصليت أربعاً أو ثلاثاً، فنحن متأكدون أن ذمته قد فرغت من الثلاث وشككنا في الرابعة، فنرجع إلى الأصل أنه لم يؤدها حتى يتحقق أنه أداها، وكذا لو طاف بالبيت وشك هل هو في الشوط السابع أو في السادس نقول: إن الله فرض عليه أن يطوف سبعاً، فإذا تحقق من ستة وجب عليه أن يتم السابع كما أمره الله. كذلك هنا في مسألة الطلاق: الأصل أنها زوجته وامرأته، فإذا شك هل طلقها ثلاثاً فهي بائنٌ منه أو طلقها طلقتين فليست ببائنة، فالأصل أنها زوجته، فكل شيء له أصل، فإذا عارضه ما لا يقوى على رفعه وهو من الشكوك والاحتمالات سقط الشك وبنى على اليقين، وهذا معنى قول العلماء: (اليقين لا يزول بالشك)، فاليقين في الطلاق أنها زوجته، ولا يزول بالشك وهو أنه حرمها بالثلاث. وهكذا: اليقين لا يزول بالشك، فاليقين أنه طلق طلقتين، فلا يزال بالشك في الثالثة، واليقين أنه إذا شك واحدة أو اثنتين، فاليقين أنه طلق طلقة واحدة فلا نزيل يقين الواحدة بشك الثانية، وقس على ذلك بقية المسائل؛ فإنها مبينة على هذا الأصل الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة.

مسألة: إذا قال لامرأتيه: إحداكما طالق

مسألة: إذا قال لامرأتيه: إحداكما طالق قال رحمه الله: [فإذا قال لامرأتيه: إحداكما طالق طلقت المنوية، وإلا من قرعت]. وهنا حالتان: الحالة الأولى: أن يميز من هي التي طلقها ويعينها في قرارة نفسه. والحالة الثانية: ألا يميز، بأن يقول: إحداكما، ويرسلها هكذا فإذا قال: إحداكما طالق ونوى واحدة منهما، فمثلاً: كان بين امرأتيه وأراد أن يخوف الثانية حتى تتأدب بطلاق الأولى فقال لهما حينما تمالأتا عليه وعلم أن إحداهما هي شر وهي البلاء فقال: إحداكما طالق، فأراد أن تخاف الثانية وأن توقع على نفسها احتمال أنها مطلقة فترتدع وتدخلها الرهبة، وهو قاصدٌ في قرارة قلبه أن المطلقة خديجة، وأن الثانية وهي عائشة ليست بمطلقة، فحينئذٍ إذا عين وقال: قصدت عائشة أو قصدت خديجة عُمِل بالتعيين إجماعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات)، وفي التردد يرجع إلى النية، وهذا أصل في الشريعة. ولذلك إذا قال أحدٌ كلاماً محتملاً فلا يجوز أن يجزم بأحد الاحتمالين حتى يعين ويقول: قصدت كذا أو أردت كذا، أما إذا لم يعين ولم يبين فإننا لا نجزم؛ لأن كلامه محتمل، والله عز وجل لم يجعل المحتمل كالصريح، ولم يجعل الواضح البين كالمبهم، فكل شيءٍ قد جعل له ربك قدراً، فلا يجوز أن يرفع عن قدره ولا أن يوضع عن حقه. فعلى كل حال إذا قال: إحداكما طالق، وعين إحدى المرأتين؛ وجب الحكم بطلاق المعينة التي عينها. فيقال له: من قصدت بالطلاق؟ فإن قال: خديجة أو عائشة حُكِم بطلاقها، فاللفظ متردد ورُجِع في تعيينه وزوال إبهامه، وتردده إلى المتلفظ وهو الزوج. الحالة الثانية: ألا يكون هناك تعيين، ولها صور: منها أن يقول: إحداكما طالق ويموت. ومنها أن يقول: إحداكما طالق ولم يتمكن من مراجعة ومعرفة ماذا قصد حتى نسي، ولم يدر أهي فلانة أو فلانة، فجهل التعيين. فإذا جهل التعيين فمذهب طائفة من العلماء رحمهم الله، أننا تحققنا من وقوع الطلاق ولكن لا ندري أيتهما التي تطلق، فحينئذٍ يصار إلى القرعة، والقرعة أصلٌ شرعي في إثبات التعيين، فإذا قصد واحدةً ونسيها فإنه يعين بالقرعة، وقال بعض العلماء: لا تطلق لا هذه ولا تلك حتى يستيقن من التي عينها بالطلاق. فقوله: [وإلا من قرعت]. أي: التي خرجت عليها القرعة كما ذكرنا، قالوا: لأن القرعة دليلٌ شرعي تثبت به الأحكام، دل على ثبوته الكتاب والسنة، وعمل السلف الصالح من هذه الأمة، فقد بين الله تعالى أن الأنبياء عملوا بالقرعة، ولذلك قال عن نبيه يونس: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141]، وخرجت عليه القرعة فرمي في البحر. وكذلك: سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عمل بالقرعة. وكذلك: كان نبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه يعمل بالقرعة كما في الصحيح: (أنه كان إذا خرج إلى سفر أقرع بين نسائه صلوات الله وسلامه عليه، فمن خرجت عليها القرعة منهن سافر بها)، فهذا يدل على العمل بالقرعة، ولذلك عمل بها الصحابة رضوان الله عليهم وعمل بها أئمة السلف رحمهم الله أجمعين، وكذلك الخلف من بعدهم. فدل هذا على ثبوتها حجة، ولذلك يقولون: تثبت حجةً شرعاً وقدراً، فالحكم بها شرعي، وأما القدري فإن الله يقدر لعباده فإن خرجت القرعة على واحد، فإنه يكون هو المعين لما قصد من هذه القرعة في طلاقٍ وغيره. إذاً: إذا قال: إحداكما طالق. تحققنا أن إحدى الزوجتين طالق، فإن قلنا له: عيَّن، فقال: لا أتذكر ونسيت، حكم بالقرعة، أما لو قلنا له: هل تعلمها، فقال: نعم أعلمها؛ فإنه حينئذٍ يجبر على التعيين، فإذا امتنع من التعيين امتنعت كلتا الزوجتين من تمكينه من نفسها، فإذا بلغ أمره إلى القاضي أجبره على التعيين، وقال بعض العلماء: يعزر ويسجن حتى يحدد من هي الزوجة التي قصدها بهذا اللفظ، ولا يتساهل معه في هذا؛ لأن الطلاق تترتب عليه حقوق، ولأنه لو مات حصل الإشكال، حتى لو وجدت القرعة ربما خرجت على غير المطلقة، ولذلك يلزمه شرعاً التعيين، ومن مهمات القاضي إرجاع الحقوق إلى أهلها، فالطلاق له حقوق وتبعات، خاصةً مع وجود المرأة الثانية التي لم يقع عليها الطلاق، فهو بهذه الطريقة يعلم المرأة التي لم تطلق وحينئذٍ يجب عليه أن يعين. فإذا قال: نسيت؛ فحينئذٍ يحكم القاضي بالقرعة، فمن خرجت القرعة عليها فقد اختارها الله قدراً فينفذ الطلاق ويتعلق بها. قال رحمه الله: [كمن طلق إحداهما بائناً ونسيها]. أي: إذا قال: إحداكما طالقٌ ثلاثاً وكانت الزوجتان معقوداً عليهما لم يدخل بهما، فالطلقة الأولى طلقة بائنة.

حكم طلاق الشك إذا تغينت المطلقة بعد القرعة بزمن

حكم طلاق الشك إذا تغينت المطلقة بعد القرعة بزمن قال رحمه الله: [وإن تبين أن المطلقة غير التي قرعت ردت إليه ما لم تتزوج أو تكن القرعة بحاكم]. هذه من آثار الحكم، وهذا من كمال الشريعة الإسلامية ودقة أهل العلم رحمهم الله فإنهم لا يبحثون فقط في حكم المسألة وإنما يعتنون ببيان ما يترتب عليها من آثار، وفصلوا في المسائل التي تنبني على الأصول، وفرعوا الفروع في القواعد، كل هذا حتى يكون النظر والفهم من الفقيه شاملاً؛ لأن الشريعة شريعة كمال، ومن كمال الشريعة العناية بمثل هذه المسائل. ولو أن القرعة خرجت على واحدة وطلقت عليه، وتبين بعد خمس سنوات أو ست سنوات من هي التي قصدها، فتذكر وقال: كنت أقصد فلانة، وتبين أن التي قصدها غير التي خرجت عليها القرعة، فقد عاش مع هذه المطلقة البائنة منه وهي امرأة أجنبية؛ عاش معها على أنها زوجته وفي عصمته، وربما أنجب منها أولاده، وكذلك أيضاً الثانية هي زوجته وفي عصمته وربما تزوجت أجنبياً، وهي امرأة في عصمة غيره، فما الحكم في هذه الآثار؟ أولاً: بالنسبة للزوجة التي بقيت في عصمته وهي أجنبية، فوطؤه لها وطء شبهة لا يوجب الحد لا عليه ولا عليها، وهذا ما يسميه العلماء بنكاح الشبهة، بأن يكون عنده شبهة تبيح له وطء امرأة يظن أنها زوجته، فحينئذٍ يدرأ عنه الحد ولا يفتى أنه زان، ولا يحكم بزناه، ولذلك لما عُرّف الزنا قيل: (الوطء في غير نكاحٍ صحيح ولا شبهة)، فشبهة النكاح تدرأ الحد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات)، وتسري عليه الأحكام، فيكون ما أنفق عليها لقاء استمتاعه بها، والنفقة ليست واجبة على الأجنبية، فنقول: ليس من حقك أن تسترد نفقة السنوات الماضية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فلها المهر بما استحل من فرجها، وقال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24]، فدل على المعاوضة في جانب الوطء والنفقة. ثانياً: بالنسبة للمرأة الثانية التي هي في عصمته، والتي تبين أنها زوجته، فحينئذٍ ينظر فيها: قال بعض العلماء: ترد له بكل حال، وهذا في الحقيقة أقوى المذاهب وأعدلها وأولاها بالصواب؛ لأن نكاح الثاني فاسدٌ تبين خطؤه، وقد ظنوا أنها أجنبية منه، والظن مخطئ، وإذا تبين خطؤه رجع إلى الأصل. قاعدة: (لا عبرة بالظن البين خطؤه) أي: الذي بان خطؤه، فنحن صححنا النكاح بظننا أنها أجنبية، وقد تبين أنها محصنة، وقد نص الله في كتابه على أن المحصنات من النساء لا يحل نكاحهن، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز نكاح المرأة وهي في عصمة الزوج، وإذا ثبت هذا فهي امرأة في عصمة زوج، فيكون دخول نكاح الثاني لاغياً وترد إلى الأول. هذا عند بعض العلماء؛ لكن أشكل على هذا القول أن بعض أهل العلم -كما اختاره المصنف رحمه الله- قال: إنها إذا تزوجت رجلاً ثانياً وقال الأول: أنا قصدت بالطلاق فلانة فيتهم في قوله؛ لأننا نكون حينئذٍ قد ألغينا نكاحاً ثابتاً؛ لأن النكاح الثاني وقع بصفته الشرعية، وأردنا أن نلغيه بقول من يتهم في قوله، لأنه ربما قصد رجوع تلك المرأة إليه؛ فقال: أتذكر من التي طلقتها! أنا طلقت فلانة. فقالوا: لا يصح أن نرفع اليقين من كونها زوجةً للثاني باحتمال من هذا الرجل الذي قد يتهم في قوله. ولذلك قالوا: لا نرفع اليقين بالشك، وهذا القول هو الذي اختاره المصنف، قالوا: لكن صححنا الأول وقويناه في حالةٍ واحدة، وهي أن يثبت بالدليل أنه عين التي قصدها؛ كأن يكون مع رجلين وقال: خديجة طالقٌ مني، فتكون هي التي عينها، ثم رجع إلى بيته فنسي من التي طلقها أهي خديجة أو عائشة، فلما قيل له: من الذي طلقت؟ قال: أنا أجزم بأن إحداهما طلقت ولكن لا أدري أخديجة أو عائشة، فنقول حينئذٍ: عيَّن، فإن قال: لا أدري ولا أستطيع، قلنا: هل سمعك أحد؟ فإن قال: سمعني رجلان، قلنا: هل تستطيع أن تعثر عليهما؟ فإن قال: لا. ثم بعد سنتين التقى بالرجلين فقال: هل طلقت خديجة أو عائشة؟ فإن قالوا: طلقت خديجة، فحينئذٍ لا إشكال أن ثبوت البينة والدليل يقوى على رفع نكاح الثاني وإلغائه؛ لأنه دل الدليل على ثبوت العصمة للمرأة وأنها باقية على نكاح زوجها الأول وقد نكحت الثاني امرأة محصنة، فلا يصح نكاح الثاني، وقد تبين خطؤه، وهذه هي الحالة التي نصحح فيها هذا القول ونقويه، ونقويه أيضاً ديانةً فيما بينه وبين الله، فإنه إذا جزم فيما بينه وبين الله أنه عين خديجة فلا إشكال، وهذا فيما بينه وبين الله، ويحل له أن يرجع إليها ما لم تكن قد تزوجت؛ على التفصيل الذي ذكرنا. وقوله: [أو تكن القرعة بحاكم]. أي: بحكم الحاكم كما سيأتي إن شاء الله في كتاب القضاء، ولا يجوز نقضه ولا فسخه إلا إذا عارض نصاً صريحاً قاطعاً في كتاب الله، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو شذ عن الإجماع، فهذه هي الحالات التي تنقض فيها أحكام القضاة، أما لو كانت المسألة خلافية وقضى القاضي بأحد القولين فلا يجوز لأحد أن ينقض قوله كائناً من كان؛ لأن الله تعبده أن يقضي في هذه المسألة بما يراه الحق. ولو فتح الباب لكل قاضٍ أن ينقض أحكام من قبله من القضاة الذين خالفوه لما استقام الأمر، ولذلك لا يعقب على حكم القاضي الذي تأهل للقضاء إلا إذا عارض نصاً من كتاب الله، أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو إجماعاً كما سيأتي إن شاء الله بيانه. ويشترط في النص أن يكون صريحاً، فإن النص المحتمل كما أنه يحتمل قول الآخر فهو يحتمل قول القاضي، وليس أحد الاحتمالين بأولى من الآخر، وما دام أن الشريعة جاءت بنصوص محتملة فقد عذر كل من أخذ بهذه الاحتمالات ما لم يكن بعضها أرجح من بعض، وحينئذٍ يعمل المسلم فيما بينه وبين الله بما ترجح، لكن الراجح عندي لا ألزم به غيري إذا رآه مرجوحاً، فكلٌ يعمل بما ترجح عنده، وهذا الذي جعل العلماء يقرون القاعدة المعروفة: (لا إنكار في الخلاف) أي: لا ينكر في المسألة الخلافية. فإذا رفعت القضية إلى القاضي فأقرع بينهما وحكم أن المطلقة خديجة ففي هذه الحالة نحكم بأن خديجة قد أصبحت أجنبيةً وحل نكاح الثاني لها، ولا يمكن أن يزال هذا اليقين بشكٍ خاصة وأن الزوج الأول متهم في قوله.

مسألة: إذا علق طلاق زوجتيه على كون الطائر غرابا أو حمامة وجهل

مسألة: إذا علق طلاق زوجتيه على كون الطائر غراباً أو حمامة وجهل قال رحمه الله: [وإن قال إن كان هذا الطائر غراباً ففلانة طالق وإن كان حماماً ففلانة. وجهل؛ لم تطلقا]. إذا كان عنده أكثر من زوجة فقال: إن كان هذا الطائر غراباً ففلانة طالق وإن كان حمامةً ففلانة، فإن جهل الحال لم تطلق فلانة ولا فلانة. وقال بعض العلماء: إنه في هذه الحالة يجب أن يعين عن طريق القرعة. ودليل القول الأول: أنهما زوجتاه وفي عصمته ولم يحدث تعيين هل هو غرابٌ أو حمام، وقد لا يكون غراباً ولا حمامة، وحينئذٍ فلا ينبغي أن يجزم؛ لأن حال الطائر مجهول، فإذا جهل حال الطائر فإننا نجهل وقوع الطلاق فلا تستقيم القرعة؛ لأن الطلاق لم يثبت؛ بسبب جهل حال الطائر؛ لأن الطائر ليس منحصراً في الغراب والحمام فقط فقد لا يكون غراباً ولا حمامة، وقد يكون قمرياً أو حبارياً أو صقراً أو بازاً أو نسراً، فهذا كله محتمل؛ لأنه جُهِل حاله. وإذاً: لم يثبت الطلاق، ولا يحكم بوقوع الطلاق؛ لأن الأصل أنهما زوجتاه، وقد علق على شرطٍ لم يتحقق وجود موجبه الذي يبنى عليه الحكم بالطلاق فتبقى المرأة في عصمته.

مسألة: إن قال لزوجته وأجنبية إحداكما طالق أو العكس

مسألة: إن قال لزوجته وأجنبية إحداكما طالق أو العكس [وإن قال لزوجته وأجنبية اسمها هند: إحداكما أو هند طالق، طلقت امرأته]. في هذه الحالة: إذا كان هناك امرأة في عصمته وامرأة ليست في عصمته، فقال: إحداكما طالق، فننظر من هي التي يتعلق الطلاق بها، ولا شك أن الأجنبية لا يتعلق بها الطلاق فيصرف إلى زوجته، للقاعدة: (الإعمال أولى من الإهمال). فقد تلفظ بلفظٍ معتبر شرعاً، وهذا اللفظ لا يمكن إهماله؛ لأن الشريعة آخذت المطلق حتى في حال الهزل، فلا يمكن إهمال هذا اللفظ، وهذا لتعظيم حرمات الله وعدم اتخاذ آيات الله هزوا ولعباً، ولذلك قال الله في أمر الطلاق: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229]، وقد ذكر هذا في أكثر من موضع من كتابه سبحانه وتعالى، وقال: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1]. والعلماء يقولون: (لفظ الطلاق مبنيٌ على الخطر) فهو يقول: إحداكما طالق، فإذا قال ذلك لزوجته وأجنبية، فالأصل شرعاً في اللفظ أن يُعمل به، ولذلك قالوا: ينصرف اللفظ إلى زوجته؛ لأنه يقول: إحداكما طالق، فقد جزم لنا بأنه مطلق لكن هل هو مطلقٌ للأجنبية أو لزوجته قالوا: ينصرف الطلاق إلى زوجته؛ لأن الطلاق صادف محلاً، والآخر ليس بمحل، فينصرف إلى ظاهر الشرع وهو أنه متعلقٌ بزوجته لا بالأجنبية، وحينئذٍ تطلق عليه زوجته وينصرف الطلاق إليها. وذهب بعض العلماء رحمهم الله إلى أنه لا تطلق عليه زوجته، ولا يحكم بطلاقها؛ لأنه يحتمل أن تكون الأجنبية مطلقة، لكن إذا كان في قرارة قلبه طلاق زوجته وقع الطلاق. وكل هذا إذا لم يعين، أو مات بعد تلفظه بالطلاق على هذا الوجه؛ فإنه يحكم بالطلاق على ما اختاره المصنف، ودليله ما ذكرنا. قال رحمه الله: [وإن قال: أردت الأجنبية لم يقبل حكماً إلا بقرينة]. هذا من المصنف رحمه الله احتياط للشرع، والعلماء الذين اختاروا وقوع الطلاق نصوا على أنه لو قال: أردت الأجنبية لم يقبل منه؛ لأنه يلغي ما ثبت، والإعمال أولى من الإهمال فنحن علمنا اللفظ، ولو صرفناه للأجنبية لأهملناه، والإعمال أولى من الإهمال. فالإعمال معتبر شرعاً ومقدمٌ على الإهمال، فإذا قال: أردت الأجنبية، فهو متهمٌ في قوله، والمتهم في قوله فيما بينه وبين الله ينفعه إذا كان صادقاً في قوله: إحداكما طالق فقصد الأجنبية؛ وله أن يعاشر زوجته ولو كانت الطلقة الثالثة. مثال ذلك: رجل اسمه محمد قال لزوجته عائشة وهي جالسة مع امرأةٍ أجنبية: إحداكما طالق، وقصد الأجنبية، وكان فيما بينه وبين الله أنها الأجنبية ولم يقصد زوجته، وقال: إحداكما طالق، بقصد أنها ليست في عصمته وليست بحلالٍ له؛ ففي هذه الحالة لو كانت زوجته قد طلقها قبلُ طلقتين: وقال لها: أنا قصدت الأجنبية، فصدقته، وهو معروف بالصدق والأمانة، فلها أن تعاشره ولا حرج عليه ولا عليها. لكن لو رُفِع الأمر إلى القضاء، فالأمر يختلف في هذه الحالة، فإنه لا يقبل منه إلا بقرينة، وقد فصَّلنا في هذه المسألة -مسألة الطلاق قضاءً وديانةً- وذكرنا أنه إذا كان صادقاً فيما بينه وبين الله، فإنه ينفعه القول في الطلاق، ويسقط عنه الطلاق ديانةً فيما بينه وبين الله؛ لأنه متحقق وجازم في قرارة قلبه والله مطلعٌ على سريرته، فهو لم يرتكب حراماً، وأما قضاء فلا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس، وأن أَكِل سرائرهم إلى الله)، فهذا يدل على أن القضاء يجري على الظاهر، ولا حكم للباطن إلا في المسائل التي نص الشرع على اعتباره فيها، فالظاهر هو المحتكم إليه. وقال صلى الله عليه وسلم: (إنكم لتختصمون إليَّ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمع) فالقاضي ظهر له أن الرجل تلفظ بلفظ شرعي مؤاخذ عليه، وهذا اللفظ الشرعي ما بين إعمالٍ وإهمال، وأصول الشريعة تقتضي أن الإعمال مقدمٌ على الإهمال، وأن الطلاق لا يتعلق بالأجنبية فصُرِف إلى من يتعلق بها الطلاق، ولا يقبل غير ذلك منه إلا بقرينة، فإذا وجدت قرينة إكراه، ودفع مظلمة، ودلت دلائل بساط المجلس على أنه لا يريد زوجته وإنما يريد الأجنبية، فحينئذٍ لا تطلق عليه زوجته وتعاد إليه، ويحكم القاضي باعتبار نيته.

مسألة: إن قال لمن ظنها زوجته أنت طالق أو العكس

مسألة: إن قال لمن ظنها زوجته أنت طالق أو العكس قال رحمه الله: [وإن قال لمن ظنها زوجته: أنت طالق، طلقت الزوجة، وكذا عكسها]. أي: كامرأة في عبائتها ظنها زوجته فقال لها: أنت طالقٌ. فالحقيقة أن مسائل الطلاق فيها باطن وظاهر، والظاهر هو اللفظ: أنت طالق، والباطن: النية والقصد؛ فإذا قال لامرأةٍ يظنها زوجته: أنت طالق، فللعلماء فيه وجهان: منهم من قال: لا تقع الطلقة على زوجته؛ لأنها لو وقعت الطلقة على زوجته كان مطلقاً بنيته لا بلفظه؛ فهو لما تلفظ خاطب معيناً؛ فلو كانت زوجته لطلقت، ولكن لما تبين أنها ليست بزوجته فإنه طلق وهي ليست بزوجة له فلا طلاق؛ لأن الطلاق لا يقع بالنية وحدها، وجماهير السلف والخلف وأئمة العلم على أن من نوى في قرارة قلبه أن يطلق زوجته ولم يتلفظ؛ أنها لا تطلق عليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل). فقالوا: لو خاطب امرأة أجنبية بالطلاق، فظاهره ليس بظاهر المطلق لكن باطنه باطن المطلق، فقالوا: لا نطلق عليه لأن هذا من الطلاق بالنية دون اللفظ. ومن أهل العلم من قال: تطلق عليه زوجته؛ لأنه لما قال: (أنتِ) قصد الزوجة، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها)، فإنه قد قيد وقال: (ما لم تتكلم أو تعمل)، وهذا تكلم وقصد زوجته والذي اختلف إنما هو الشكل، والشكل ليس بمؤثر؛ لأن العبرة بالمعنى والمعنى موجود، فتطلق عليه زوجته كما اختاره المصنف ونص عليه رحمه الله. وقوله: (والعكس) أي: إذا قال لزوجته يظنها أجنبية: أنت طالقٌ طلقت عليه زوجته. وهنا تعارض، فالمصنف يقول: لو قال لزوجته: أنت طالق، وهو يظنها أجنبية؛ كأن جاءت امرأة وقرعت عليه الباب وظنها أجنبية ضيفة أو نحوها فقال لها: أنت طالق، وتبين أنها زوجته؛ فقالوا: إنه واجهها فقال أنتِ طالق. أي: بيني وبين الله أن هذه المرأة وهذه الذات مطلقةٌ مني، فلما صادف الطلاق محلاً طلقت، ولو كانت أجنبية لما طلقت إلا في مسألة إذا نوى. وقالوا: لأن الطلاق لم يصادف محلاً في الأجنبية، لكن هذه زوجته وقد صادف الطلاق المحل، فتطلق عليه. - المسألة الأولى: إذا ظنها زوجته وظهرت أجنبية: إذا قال لامرأةٍ من زوجاته يظنها أجنبية: أنت طالق، قالوا: فإنه في هذه الحالة قصد الطلاق ونواه في قرارة قلبه فتطلق عليه، وكونه يقول: (أنت) يخاطب محلاً أو يوجه لمحل كالذي يطلق وهي غائبة، فهو كمن يقول: زوجتي طالق، والطلاق لا يتوقف على أن تكون الزوجة أمامه، قالوا: فإذا قال لها: أنت طالق، وقصد في قرارة قلبه إخراج امرأته من عصمته فيؤاخذ بهذا القصد وتمضي عليه الطلقة. المسألة الثانية: إذا ظنها أجنبية وظهرت زوجته فقال لها: أنت طالق، فصحيح أنه يعتقد أنها أجنبية، لكن اللفظ الذي خرج منه في الظاهر لفظٌ شرعي للطلاق، والمرأة التي وقع عليها الطلاق زوجته، فهو يقول: (أنت) فحينئذٍ يؤخذ بالظاهر، ففي الأول نظر إلى الباطن مع وجود المؤاخذة باللفظ، وفي الثاني اعتبر بالظاهر. ومن هنا قد يحصل إشكال ونوع من التعارض، فينبغي أن نقول إذا غلبنا الظاهر وظهرت أنها امرأته، ينبغي أن لا تطلق إذا خاطب الأجنبية، وإذا جئنا ننظر إلى الباطن، فينغبي أن لا تطلق في حال استئذان الزوج وهو يظنها أجنبية، فحينئذٍ قالوا: نعمل الأمرين، نُعمل الظاهر في حال قوته ونعمل الباطن في حال قوته، وكلاهما له وجه، والإشكال كله في مواجهتها بالخطاب (أنت)، فإنه لما قال لها: (أنت) في المسألة الثانية فقد واجه محلاً قابلاً للطلاق فوقع الطلاق عليه، وفي الأجنبية قال لها: (أنت) فكلمة (أنت) معلقة بالزوجة، وفي قرارة قلبه أنها زوجته؛ ولذلك قالوا: إنه ينفذ عليه الطلاق؛ لقوة قصده، ووجود المعنى من إرادة الطلاق ونيته.

الأسئلة

الأسئلة

حكم العدول عن القرعة عند الشك في الطلاق إلى الاختيار بحسن

حكم العدول عن القرعة عند الشك في الطلاق إلى الاختيار بحسن Q هل للقاضي أن يعدل عن القرعة ويسأل عن أحسنهما عشرة مع زوجها فيبقيها ويحكم بطلاق الأخرى أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد الأحكام الشرعية لا تدخلها العواطف والاحتمالات والآراء والأهواء، والقاضي إذا رُفعت إليه القضية لا يجتهد من عند نفسه، إنما هو ملزمٌ شرعاً أن يحكم بالدليل الشرعي، والدليل الشرعي الموجود: أن من طلق زوجته طلاقاً واضحاً بيناً ينفذ عليه الطلاق، ومن طلق زوجته طلاقاً محتملاً متردداً رجعنا إلى الأصول الشرعية في تعيين المبهمات والمجهولات، وليست أمور الشريعة محل تخرصات وتحكيم للهوى، وليس لكل شخص أو طالب علم أن يقترح من عنده؛ لأن أمور الشرع عظيمة مبنية على أسس، والفتوى إذا لم تبنَ على الشريعة فإنها تهوي بصاحبها كأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق، لأنه تقول على الله بدون علم. والشريعة ليس فيها عواطف ولا مجاملات: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} [الأعراف:52]، هذا الكتاب الذي فُصّل على علم هدىً ورحمة مبني على أصول لا يستطيع القاضي أن يجاوزها شعرة، فهذه امرأة وهذا زوج، فلا تحل العصمة ولا تزيلها من زوجها إلا بدليل، ولا تقول: والله أخلاقها طيبة، فكونها طيبة أو تؤذي أو لا تؤذي لا دخل لها. وهناك أمرٌ يسمى بالتعليم، والأوصاف المناسبة للتعليم، فهذه المسألة ليس لها علاقة، فقد يطلق الرجل زوجته وهي من أحسن الناس أخلاقاً، لكنها لا تريحه بالفراش ويريد أن يعف نفسه عن الحرام، وليست قضية جمال الأخلاق أو حسن العشرة مؤثرة في مسألة الطلاق من كل وجه؛ لأنه قد يقع الطلاق لأسباب خارجة عن إرادة الإنسان، فقد يفارق بلدها ويرى أنها لو جاءت معه لتعذبت، وربما رأى أنها تتحمل مشاق من أجله وأراد أن يريحها من كل هذه الأمور؛ فهذا ليس له علاقة بمسألة كونها حسنة العشرة أو لا. وأحب في هذه المناسبة أن ننبه ونذكر أنفسنا وإخواننا أن مسائل الشرع مسائل عظيمة، خاصة في هذا الزمان؛ فقد يتكلم الرجل في الفتوى ويبنيها على النص من كتاب الله ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا بنا نفاجأ بشخص يقول: عندي مداخلة، لي وجهة رأي، اسمح لي لو تفضلت لو تكرمت! ويأتي بأمور ما أنزل الله بها من سلطان: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23]. إذا وقفت بين يدي الله قاضياً أفتيت بالقرعة فقلت: يا رب جاءنا في كتابك وسنة رسولك صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فإنه أهون من أن تقف بين يدي الله عز وجل فتستند إلى رأيك واجتهادك. واعلم أن الدين ليس فيه وجهة نظر ومداخلات، فهذه أمور دخيلة دخلت على الأمة، فشتتت شملها، وفرقت آراءها فأصابها الخور والضعف حتى في العلم والعلماء، فذهبت كرامة العلماء وكرامة العلم بسبب إدخال العواطف والآراء الشخصية، وقل أن تجد عالماً يتكلم في مجمع أو مناسبة إلا وجدت من يعقب عليه، ونرجو من الله تعالى أن يجعل هذا رفعة لدرجة العلماء ومقامهم في الدنيا؛ لأن هذا من غربة الإسلام؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ). أين مكانة العلماء فينا، كانوا إذا تكلموا أنصت الناس إلى كلامهم، وإذا أمروا ائتمر الناس بأمرهم، وإذا نهوا انتهى الناس عما نهوا عنه، أين مكانة العلماء من القبول والتكريم، يقول الله جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء:65]، هذه شهادة من الله من فوق سبع سماوات: {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]، وليس وحدها الرجوع إلى العلماء. {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا} [النساء:65] (نكرة) أي: أياً كان هذا الحرج، (ليس هناك: عندي وجهة نظر، ولا عندي مداخلة، ولا اسمح لي). بل تسمع وتطيع، تقول: سمعنا وأطعنا، وتقبل من العالم ما دام أنه عالم رباني يقول بكتاب الله وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في هذه الأيام نزعت الثقة من العلماء وذهبت مكانتهم، وبعض هذه المداخلات تُذهب هيبة العلم ومكانته وتسلط السفهاء على العلماء. وإذا كان المداخلة أو وجهة الرأي من طالب علم عنده عقلية أو ذكاء؛ فقد يأتي بعده من ليس عنده عقلية ولا ذكاء وإذا كان الذي يحاور العلماء عنده وجهة نظر ورزقه الله شيئاً من الأدب، فقد يأتي من لا أدب عنده، فهذا يجرئ الناس والرعاع على العلماء رحمهم الله، ولم نكن نعرف أن أحداً ينتقد على عالم رأياً أو هوى، فقد كان طالب العلم إذا جلس في مجلس العلم يسمع ويطيع ويحمل العلم ويقول: هذا الذي سمعت وهذا الذي بلغني، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (نضّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها)، الأمانة والضبط، وليس في العلم رأي، ومن أنت حتى تعطي رأيك أو اجتهادك؟ فهذا الزمان زمان غربة العلماء، وإبداء الآراء حتى من طلاب العلم، وأنا لا أقصد السائل، فقد يكون السائل تأثر بغيره، فلا بد أن نتربى على احترام العلم واحترام العلماء، ولا يحسن لطالب العلم أن يفتح مثل هذا، وإذا وجدت شيئاً مبنياً على الكتاب والسنة فلا تقل: على القاضي أن يفعل أو لا، فلو كنت تعرف مكانة القاضي وتعرف أن القاضي قد نصّب نفسه حكماً بين الناس، ووقف على شفير نار جهنم فإما إلى جنةٍ وإما إلى نار، ما تكلمت؛ فهذا أمر ليس بالسهل. ولذلك ننبه على مثل هذه الأمور، لأنها مما عمت بها البلوى، فذهبت مكانة العلماء والعلم، والآن أبسط ما تراه -وقد يكون بسيطاً في نظر الناس لكنه عند الله عظيم- أنه عندما يطرح موضوع الصبر، أو الحلم أو موضوع من الموضوعات، كلٌّ يدلي برأي وكل يدلي بوجهة نظر، وقد يكون مسموعاً أمام الناس، وهذا ينزع الثقة من العلماء؛ لأنه إذا كان كل من هب ودبّ عنده مداخلة، وكل من هب ودب يكتب كلمتين ويأتي يصيح بها أمام الناس، وكل من هب ودب يستطيع أن يدلي بوجهة نظره؛ ضاعت مكانة العلماء؛ لأنه الناس يسمعون كلاماً كثيراً، وإذا سمعوا كلاماً كثيراً فلا يجدون العلماء والنور الرباني. وقد يخدعهم بليغ اللسان عذب البيان ويصرفهم عمن هو أتقى لله وأورع، وكم من عالم ورعٍ تقي نقي لا يقول الكلام إلا وقد عده لا تنصرف إليه الأعين ولا تصغي له الآذان؛ ولكنه عند الله ذو شأن. فهذه أمور تقوم على التسليم للشريعة، تقوم على الأدب والتسليم والخوف من الله، ويجب على طالب العلم أن يتعود أن لا يقول على الله بدون علم، وأن يتعود الحرص على الوقوف عند الكتاب والسنة، هذا هو هدي العلماء، ولا يمكن لطالب العلم أن يبارك له في علمه إلا إذا أقام نفسه على التسليم طالباً، ونفع الأمة معلماً، إذا وفقه الله عز وجل للتسليم خرج للناس وعاء من أوعية العلم. وكان بعض العلماء يقول: إن الوحي كالماء الصافي من الكدر. أي: إذا كان طالب العلم يملأ قلبه بالوحي صار هو الوعاء الذي يُملأ بالماء الصافي، يأتي بعد فترة وقد وعى وفتح الله عز وجل عليه فلا يتكلم ولا ينضح إلا بماء صافٍ من الكدر، والعكس، فالطالب الذي يبتدئ طلب العلم بالمداخلات والآراء، ولماذا لا يقول القاضي كذا! ولماذا لا تقولوا كذا، وهل وضعتم كيت كذا، ولماذا لم يشترط كذا، فهذا يدخل على نفسه الوساوس، وربما لم يحسن العالم الجواب ويكون ما قاله باطلاً فتقع في قلبه الشبهة؛ لأنه ما تأدب مع العلم، وقد تبقى في قلبه هذه الشبهة حتى يصير عالماً ويبثها بين الناس، فيحمل وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم الدين. العلم أن يتعلم الإنسان الانضباط والخوف والورع، فمن كان على ورعٍ فقد علم وعرف من هو ربه، وإذا كان طالب العلم لا يعرف من هو الرب الذي يتكلم عنه، وما هو الشرع الذي يدين الله عز وجل به، ويريد أن يلقى الله عز وجل به، فهذا على هلاك وحسرة إذا كان لا يعرف هذا كله، فطوبى ثم طوبى لمن رزقه الله البصيرة والأدب مع العلم والعلماء، وأنصت وعدل، ورد الأمر إلى أهله، وسلم بالقول إذا صدر عمن هو أهل. هذا الذي يسعنا، والله عز وجل يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (العلماء ورثة الأنبياء)، فكما أن الأنبياء لا نرد عليهم، فلا نرد على العلماء، ونحن لا نقول: إن العلماء معصومون، ولا نقول إن العلماء والجهال على مرتبة واحدة: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، فالعلماء ليسوا بمعصومين، ولكن قد يرد عالم على عالم، أما طالب العلم فإنه يسلم للعالم ويتبع؛ لأن هذا هو الاهتداء الذي سارت عليه الأمة وبه استقام أمرها. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم والعمل، وأن يعصمنا من الشرور والزلل، والله تعالى أعلم.

الولد للفراش وللعاهر الحجر

الولد للفراش وللعاهر الحجر Q في اختصام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وعبد بن زمعة في الغلام: هل الحكم بالغلام لـ عبد بن زمعة لم يبعد الشك، وذلك في قوله: (واحتجبي منه يا سودة) أثابكم الله؟ A هذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله ولهم فيها اختيارات، واختيار الوالد رحمه الله: أن مسائل النكاح أضيق من غيرها، فمسائل الفروج والمحرمية ونحوها مما يتبع حكم النسب واللحوق يحتاط فيها، فقد يُبنى على الظن، وقد يعمل بالشكوك ويحتاط فيها صيانةً للأبضاع. ومن هنا لما جاءت المرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته أنها أرضعت الزوج وزوجته وبينت له، فانتشر بين الناس، فجاء الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي له من هذا، فقال عليه الصلاة والسلام: (كيف وقد قيل)، مع أن (قد قيل) صيغة تمريض، لكنه بنى عليها عليه الصلاة والسلام كما في الحديث في صحيح مسلم وغيره: (كيف وقد قيل)، فأعمل القيل وأعمل التهمة. وكذلك في مسألة سعد وعبد بن زمعة رضي الله عنهما، خاصةً وأن الوطء كان في الجاهلية، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعمل الأمرين، أعمل الفراش لقوله: (الولد للفراش)، فهذا يقتضي اللحوق ويكون لـ عبد بن زمعة؛ لأن الفراش فراش أبيه، والزنا وقع من أخي سعد وقد عهد إليه أن هذا الولد ولده، وأنه قد زنا بها، فنظر إلى وجود الشبه من أخي سعد ونظر إلى وجود الفراش، فأعطى كلاً منهما حظه، وبني الحكم على مراعاة الأمرين وعلى وجود المرجح وإن كان الأصل في الشريعة أن المسائل في الزنا مثل النسب وأحكام الولد تابعة للفراش، لقوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش وللعاهر الحجر). فهذا كله من الجمع بين الظنون، خاصةً إذا لم يوجد المرجح، لكن قد يستثنى منها مسائل؛ مثلاً: لو وجد المرجح ودلّ الدليل على ترجيح أحد الاحتمالين وجب العمل به، وإذا لم يوجد المرجح من المرجحات وجود القاصد. ولذلك نص العلماء رحمهم الله: لو أن رجلاً تزوج امرأة وكانت قد حملت من الزوج الأول وتأخر حملها، وظن أنها ليست بحامل وهي حامل، فلما وطئها الثاني ظهر حمل وتبين أن هناك حملاً من الأول، فاختلط الماءان، فهل يلحق بالأول أو بالثاني؟ الأول الأصل أن الفراش فراشه، والثاني أن الأصل طارئ، وهذا يسمونه تعارض الأصل القديم والجديد. فالأصل القديم يدل عليه أن الولد جاء قبل المدة التي في مثلها يكون الحمل، والثاني يقويه أن الفراش فراشه؛ لأنه تزوجها وأصبحت زوجةً له، ومن كانت المرأة فراشاً له، فكل ما تلده تابع له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولد للفراش)، ففي هذه الحالة لما كانت مدة الحمل قصيرة، لا يمكن لمثلها أن يحسب التخلق، فالغلام للأول من حيث الحكم، لكن لو حصل اشتباه فيستعان بأهل الخبرة وهم القافة، فيلحقونه بأقواهم شبهاً به. ومثل ذلك: لو أن رجلاً سافر مع رجلٍ آخر وكل منهما معه زوجته، فجاء أحدهما ووطئ زوجة الآخر ظناً منه أنها زوجته، فما الحكم في هذا الولد، هل يكون الولد له أم لزوج المرأة؟ يرجح بالقيافة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عمل بالقيافة وسيأتي بيان هذه المسائل إن شاء الله، أو بيان جمل منها إن شاء الله في أحكام النسب والله تعالى أعلم.

حكم الخروج من المسجد بعد الأذان الأول للجمعة

حكم الخروج من المسجد بعد الأذان الأول للجمعة Q هل الخروج بعد الأذان الأول من يوم الجمعة يشمله النهي أثابكم الله؟ A الأذان الأول يوم الجمعة أذان شرعي، ولا يجوز لأحدٍ أن يتكلم فيه بأي وجهٍ كان، فهذا الأذان الذي أحدثه عثمان رضي الله عنه وأرضاه أذان شرعي قضى به خليفة راشد أمرنا باتباع سنته، وانعقد إجماع الصحابة كلهم والأمة كلها على العمل به. ومن قال بأن هذا الأذان بدعة فقد أخطأ كائناً من كان؛ لأننا لا نستطيع أن نرد هذا الإجماع، فكلٌ يؤخذ من قوله ويرد، ولا يمكن أن نرد الإجماع، فلا يتكلم في هذا الأذان. ولو قال قائل: وجدت الآن الأجهزة والآلات -مكبرات الصوت- فهذا يُرد عليه بأنه في الزمان القديم كانت هناك قرى صغيرة لا يحتاج إليها الأذان الأول، ومع ذلك فالسلف لم يفرطوا فيه، وأتحدى أن يوجد واحد من علماء السلف ومن بعدهم ذكر أن هذا الأذان بدعة؛ لأنه ليس من السهولة بمكان أن نبدع سنة راشدة، وأن نقول إن هذه الأمة كلها على ضلالة، وأنا لا أقصد شخصاً بعينه، وإنما أقصد أن هذا القول لا يجوز لمسلم أن يقول إن الأذان الأول يوم الجمعة بدعة، لأنه يرد سنة راشدة أجمعت الأمة كلها على قبولها والعمل بها، وإذا قال: إن الزمان اختلف نقول: إن هذا باطل؛ لأن العلماء رحمهم الله وأئمة الإسلام كلهم قبلوا هذا الأذان وما فرقوا بين القرى الصغيرة والكبيرة. والقرى الصغيرة التي كانت أيام السلف ليست بحاجة إلى هذا الأذان، وإنما احتاجه عثمان لما كبرت المدينة، وهم يقولون: احتاجه لما كبرت المدينة، فلما زال السبب أصبح بدعة. وأوصي طلاب العلم أن يتقوا الله عز وجل وأن لا يتعصبوا إلا للحق؛ لأن هذا أمر ليس بالسهولة، ومشايخنا كانوا يشددون في هذا الأمر، ويضيقون على أحد أن يتكلم في هذه المسألة؛ لأنها مسألة إجماعية، ولا يعرف عن أحد من أئمة السلف ولا من الخلف التابعين لهم أنهم قالوا: إنه بدعة، والبدعة أمرها عظيم، ومعناها أن من يؤذن آثم، والمسجد الذي أذن فيه مسجد بدعة، والمصلون الساكتون ساكتون عن بدعة، إلخ. فقول بدعة ليست بالهينة، وينبغي لطالب العلم أن يحذر. وعلى كل حال: فالأذان الأول يعتبر سنة كما ذكرنا، فللعلماء فيه وجهان: بعض العلماء يقول: يطرد فيه حكم الأذان مطلقاً، وإذا قلت باطراده فإنها تتفرع عليه مسائل: منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن الخروج بعد الأذان)، فلا يجوز أن يخرج، على ظاهر هذا الحديث؛ لأنك احتسبته أذاناً شرعياً، وإن قلنا: إنه آخذ حكم الأذان، فيجوز أن يصلي بعده الركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين كل أذانين صلاة)، وقصد أنه بعد الأذان تفتح أبواب السماء، وهذا مطلق، ولذلك قال بعض العلماء: يشمل هذا الأذانَ الأولَ والثاني من الفجر، فإن الأذان الأول والثاني تستحب بينهما الصلاة، وهو داخل في هذا العموم. ومن أهل العلم من قال: يقال إنه أذان شرعي؛ لكن لا يأخذ وصف الأذان من كل وجه، فلا يتنفل على قصد بين كل أذانين، وإن كان التنفل بين الأذان الأول والثاني جائزاً عند الشافعية، كما ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري أن من الشافعية رحمهم الله من قال: يشرع أن يتنفل قصداً لما بين الأذانين، وهناك فرق ما بين القصد وبين كونه يتنفل نافلةً مطلقة، فالنبي صلى الله عليه وسلم ثبت في الحديث الصحيح عنه أنه (صلى ثم جلس وأنصت)، فأخبر أن الذي خرج للجمعة جلس يصلي ثم جلس ينصت للخطبة. والوقت الذي قبل الزوال يوم الجمعة محلٌ للصلاة بإجماع العلماء، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فإذا طلعت الشمس فصلِّ، فإن الصلاة حاضرة مشهودة حتى ينتصف النهار، ثم أمسك عن الصلاة ... )، هذا حديث صحيح، يدل على أن ما بين طلوع الشمس وبعد ارتفاعها قدر رمح إلى الزوال محلٌ للصلاة حتى يدل الدليل على المنع والتحريم، فلو صلى بين الأذان الأول والثاني من الجمعة؛ فإن الأذان الثاني لا يكون إلا بعد الزوال، فقد وافقت صلاته المحل المأذون به شرعاً. ولا يقال: إنه بدعة، فليس هناك أحد من العلماء قال إنه بدعة، وأنا أقول هذا عن علم، والذي يأتيني بأحد من أئمة السلف ودواوين العلم المتقدمين أنه يقول: الصلاة بين الأذان الأول والثاني بدعة، فإني أعتبره قد أهدى إليَّ هديةً عظيمة، ومستعد أن أرجح عن هذا القول، وهذا أمر لا أعرفه، ولقد تعبت كثيراً كي أجد عالماً واحداً يقول: الصلاة ما بين الأذان الأول والثاني بدعة، فما وجدت أحداً يقول بهذا القول، وأقولها أمانةً وإنصافاً؛ لأن هذه مسئولية وأمانة، الأذان الأول والثاني بينهما صلاة بعموم الأحاديث الواردة في الصلاة فيما بين طلوع الشمس وزوالها، وهي أحاديث صحيحة لا غبار عليها، فإذا جئت تمنع من الصلاة حَرَّمْت، وإذا قلت: إنها بدعة أَثَّمْت، ومن يصلي في هذا الموضع أثم، إنما الذي ضُيِّق فيه أن يعتقد لهذا الوقت مزية الفضل، فإذا اعتقد ذلك فإنه يُمنع منه. أما لو أنه أخذ بقول من يقول: (بين كل أذانين صلاة)، فقد تمسك بحديث نبوي، وبعموم ثابتٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعلى كل حال: المسألة محتملة، ولا ينكر على من فعل هذا؛ لأن له وجهاً من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أذن المؤذن الأذان الأول فلا يخرج إلا إذا وجدت الحاجة والضرورة، والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

باب الرجعة [1]

شرح زاد المستقنع - باب الرجعة [1] من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده وعلمه بما يحصل بين الزوجين من خلاف بديهة أن سن لهم سنناً، ووضع لهم قوانين بها يتلافى الزوج أخطاءه ويحاسب نفسه إن كان ظالماً لزوجته، والعكس إن أساءت الزوجة زوجها فإنها تحاسب نفسها، وتحاول أن تغير من أخلاقها مع زوجها. ومن هذه السنن التي سنها الله سنة الطلاق والعدة المحتومة بعده، والرجعة أثناء العدة إن أراد الزوج أن يردها أو أرادت أن ترجع إليه تائبة نادمة.

الرجعة تعريفها مشروعيتها الحكمة منها

الرجعة تعريفها مشروعيتها الحكمة منها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فالرجعة في لغة العرب: مأخوذة من قولهم: رجع الشيء يرجع رجوعاً، والرجعة المرة الواحدة من الرجوع، وأصل الرجوع في لغة العرب: العود إلى الشيء، يقال: رجع إلى بلده، أو رجع المسافر من سفره إذا عاد، ومنه قوله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} [التوبة:83]. فالمقصود: أن الرجوع هو العود. وأما في اصطلاح العلماء رحمهم الله؛ فقد عرفها بعض أهل العلم بقولهم: عود المرأة المطلقة إلى العصمة من دون عقد، فالرجعة لا تكون إلا بعد الطلاق، وهذا الطلاق الذي تقع الرجعة بعده يشترط فيه أمور ينبغي توفرها للحكم بكونه طلاقاً رجعياً. وقد تقدم الإشارة إلى جملة من تلك الأمور، وسيبين المصنف رحمه الله في هذا الباب جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بارتجاع المرأة. والأصل في مشروعية إرجاع المرأة بعد الطلاق دليل الكتاب والسنة والإجماع: أما دليل الكتاب: فإن الله تعالى قال في كتابه: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] فهذه الآية الكريمة جاءت بعد قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] فبين سبحانه وتعالى حكم رجوع المرأة بقوله: (فإمساك بمعروف) أي: بعد الطلاق، (أو تسريح بإحسان) إذا كان لا يرغب في المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً. كما دلت هذه الآية الكريمة على المرأة التي يصح ارتجاعها، وهي التي طلقت الطلقة الأولى أو الثانية، بشرط أن يكون قد دخل بها؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] فبيّن سبحانه وتعالى أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول أنه لا عدة عليها. وعلى كل حال فدليل القرآن واضح في الدلالة على مشروعية ارتجاع المرأة المطلقة، ولذلك قال سبحانه في سورة الطلاق: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2]. فدلت هذه الآيات الكريمات -آية البقرة وآية الطلاق- على مشروعية ارتجاع المرأة. وأما دليل السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيح حينما طلق امرأته وهي حائض؛ قال لوالده عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر) الحديث. وقوله عليه الصلاة والسلام: (مره فليراجعها) يدل دلالة واضحة على أن الرجعة مشروعة، ومن هنا أخذ بعض العلماء وجوب ارتجاع المرأة المطلقة طلاقاً بدعياً في الحيض كما ستأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى. وكذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حفصة رضي الله عنها واختلف في إسناده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها، ثم أتاه جبريل وقال له: إنها صوّامة قوّامة فارتجعها) فأمره بارتجاعها، فعلى القول بثبوت هذا الحديث -وقد حسن بعض العلماء إسناده، ومنهم من صححه لغيره- تصبح السنة دالة بالقول والفعل، بالقول في حديث ابن عمر في الصحيح، وبالفعل بهذا الحديث. وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية ارتجاع المرأة. والرجعة بعد الطلاق فيها حكم عظيمة، فهي من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده وتيسيره لخلقه، وذلك أن الطلاق قصد منه إصلاح بيت الزوجية؛ لأن الرجل إذا طلق امرأته لا بد في الغالب أن يطلقها لسبب، وهذا السبب إما أن يكون ناشئاً منه أو ناشئاً من المرأة أو ناشئاً من الطرفين. فإذا طلق المرأة لعيب فيها، أو عيب فيه، أو فيهما، فإنه يدركه الندم ويدركها الندم، وربما يحتاج إلى تلافي وتدارك ما فات، فشرع الله الرجعة لكي يعود الزوجان إلى حياة أفضل من حياتهما فيما قبل، ففيها حكم عظيمة، إذ بها يستطيع الزوج أن يرد زوجته فيجبر الكسر الذي وقع بسبب الطلاق. وانظر إلى حكمة الله جل جلاله، وعلمه بخلقه سبحانه وتعالى، وكمال تشريعه؛ أن جعل الطلاق ثلاثاً، فالطلقة الأولى ربما كانت بسبب أخطاء من الزوجة، بحيث لو أخطأت المرأة وطلقت، ثم أخطأ الرجل وطلق مرة ثانية، فإنه حينئذٍ يتلافى كل منهما الخطأ؛ لكن بعد هذا كونه يتلافى خطأه وتتلافى هي خطؤها فيحتاجان إلى معين أجنبي، فإذا طلق الطلقة الثالثة وكان الخطأ منه، فإن الله لا يحلها له ولا يبيح له رجعتها حتى تنكح زوجاً أجنبياً، فيتقطع قلبه حسرة ويتألم ويحس بخطئه، ويشعر بقيمة الطلاق، بحيث لو تزوج امرأة ثانية لم يمكن أن يعود إلى الخطأ، ولو أنها طلقت وانتظرها حتى طلقت من زوجها الثاني وحنّت إليه، فإنه يعود إلى حال أفضل وأكمل. فكانت الطلقة الأولى والثانية رجعيتين، لكن الطلقة الثالثة ليست برجعية؛ لأن الطلاق إما أن يكون باستثارة من الزوجة أو يكون باستعجال من الزوج، وحينئذٍ أعطي الطلقتين: الطلقة الأولى أن يكون الخطأ منه، والطلقة الثانية أن يكون الخطأ منها، فإذا تكرر خطؤه مرتين أدب بالزوج الأجنبي، وإذا كانت المرأة هي التي آذت الزوج وأضرت به حتى طلقها الطلقة الأولى، ثم لم تتأدب وطلبت الطلقة الثانية أدبها الله عز وجل بالطلقة الثالثة، فإنها ستذهب وتعاشر غيره، فإما أن تلتزم الأدب وتحسن القيام على بيت الزوجية وتجده أفضل من الأول فتعيش معه حياة سعيدة، ويعوضها الله عز وجل، وتترك الخطأ وتتجنب استثارة الأزواج، وإما أن ينكد عليها الزوج الثاني ويريها فضل الزوج الأول، فيحصل الطلاق، وتعود إلى الأول بأحسن حال مما كانت عليه. وهذا كله مبني على حكم عظيمة، وأسرار جليلة كريمة، فشرع الله الطلاق بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع العلماء رحمهم الله على مشروعيته. والحكمة فيه كما ذكرنا: أن الله شرع الرجعة بكتابه وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبإجماع المسلمين، وجعل من الحكم في هذه الرجعة إصلاح ما كان من الخطأ، وعود كل من الزوجين إلى حياة زوجية أفضل.

يشترط لمراجعة الزوجة أن تكون مدخولا بها وطلقت بلا عوض

يشترط لمراجعة الزوجة أن تكون مدخولاً بها وطلقت بلا عوض يقول رحمه الله: [باب الرجعة]. أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بارتجاع الزوج لزوجته. وهذه الجمل من المسائل والأحكام ذكرها العلماء رحمهم الله بعد باب الطلاق، والمناسبة في هذا ظاهرة؛ لأن الرجعة لا تكون إلا بعد الطلاق، فذكر المصنف رحمه الله لباب الرجعة بعد الطلاق ترتيب صحيح راعى فيه الوقوع، ولذلك يكاد يكون منهج العلماء قاطبة أنهم يذكرون أحكام الرجعة بعد باب الطلاق. قال رحمه الله تعالى: [من طلق بلا عوض زوجة مدخولاً بها]. أي: لم يطلقها في خلع؛ لأن الخلع فيه العوض، فقصد بهذه الجملة أن يخرج طلاق الخلع؛ لأن الله شرع الخلع لكي يخلّص المرأة من زوجها إذا كرهته ولم تستطع نفسها أن ترتاح إليه، فلو كان طلاق الخلع يوجب الرجوع لذهبت الحكمة من مشروعية الخلع، ولأن المرأة قد افتكت من الزوج بالفدية، ولذلك سمى الله عز وجل الخلع فدية، والمال المدفوع وهو المهر فدية، قال تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229] فهي تخلّص نفسها خلاصاً كلياً، وبناءً على ذلك لا يحق له أن يرتجعها، ومن هنا انعقد قول جماهير السلف والخلف على أن طلاق الخلع لا رجعة فيه. فقوله رحمه الله: [بلا عوض] أي: يكون الطلاق بلا عوض. وقوله: [زوجة مدخولاً بها]. أي: يشترط أن تكون زوجة له، وقد تقدم أن الطلاق لا يقع إلا على الزوجة، وقوله (مدخولاً) صفة لـ (زوجة)، والزوجة إذا طلقت يشترط في كون طلاقها رجعياً أن يقع طلاقها بعد الدخول، فإذا كان طلاقها قبل الدخول لم يوجب الرجعة، والدليل على ذلك آية الأحزاب، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] فنصت الآية الكريمة على أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول فإنه لا يحق للزوج أن يطالبها بالعدة، ولا تجب عليها؛ لأنه إذا كانت المرأة قد طلقت قبل الدخول فإنها تصير أجنبية بالطلاق، وتخرج من عصمته، ولا يحل له أن يعيدها إليه إلا بعقد جديد، فكل من طلق امرأة بعد أن يعقد عليها وقبل أن يدخل بها فإن طلاقه حينئذٍ يكون طلاقاً بائناً بينونة صغرى، لا يحل له أن يرد هذه الزوجة إلا بعقد جديد، وتكون أجنبية عنه. قال رحمه الله: [أو مخلواً بها]. الخلوة: إرخاء الستر، فإذا دخل الرجل على امرأة بعد أن عقد عليها وخلا بها، أي: أرخى الستر عليهما، أو أغلق الباب عليهما، ففي هذه الحالة اختلف العلماء: فجماهير العلماء من السلف والخلف على أن المرأة التي خلا بها زوجها وثبت أنه لم يجامعها؛ أن حكمها حكم المرأة الأجنبية إذا طلقت، وحينئذٍ يكون طلاقها طلاقاً بائناً في قول جمهور العلماء. إلا أن الحنابلة رحمهم الله قالوا: إذا خلا بها فإن الخلوة تأخذ أحكام الدخول، وحينئذٍ يكون الطلاق رجعياً. وهذا القول ضعيف؛ لأنه مصادم لنص كتاب الله عز وجل، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] فقوله: (من قبل أن تمسوهن) الأصل أن المراد به الجماع بالإجماع، كقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] فعبر بالمس، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله يكني. فالله عز وجل يعلم عباده الأدب، وحسن التحدث عن الأمور التي يستحيا من ذكرها، فقال تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] أي: من قبل أن تجامعوهن، فدل على أن مجرد الخلوة لا يوجب ثبوت الرجعية، وعلى هذا جمهور العلماء، وهو القول الصحيح، والمصنف مشى على المذهب: أن الخلوة توجب الرجعة، وهو قول مرجوح ضعيف.

يشترط ألا تكون الرجعة بعد الطلقة الثالثة

يشترط ألا تكون الرجعة بعد الطلقة الثالثة قال رحمه الله: [دون ما له من العدد]. أي: فالشرط الأول: أن يطلق. الشرط الثاني: أن يكون الطلاق بدون عوض. الشرط الثالث: أن يكون العدد الذي طلقه لم يصل إلى الحد الأعلى، فلو طلق بالثلاث وهو الحد الأعلى من العدد فإنه لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، ولا يحل له ارتجاعها؛ لأن الله سبحانه وتعالى نص في آية البقرة على أن المطلقة ثلاثاً لا تحل لزوجها الأول الذي طلقها إلا بعد أن ينكحها زوج آخر، وذلك بقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230]. إذاً يشترط: أن تكون مطلقة، وأن تكون مدخولاً بها، وأن يكون الطلاق دون العدد الذي أعطاه الله عز وجل، وتقدم معنا أنه ثلاث للحر وطلقتان بالنسبة للعبد، على تفصيل وخلاف عند العلماء رحمهم الله.

الرجعة حق للزوج في العدة وإن كرهت الزوجة

الرجعة حق للزوج في العدة وإن كرهت الزوجة قال رحمه الله: [فله رجعتها في عدتها ولو كرهت]. فله أن يملك ارتجاع هذه الزوجة في عدتها. إذاً الحكم الأول: أن من حقه الرجعة. الحكم الثاني: أن هذه الرجعة تختص بالعدة، فلا ينتظر حتى تخرج عليه عدتها، وسيأتي بيان العدد وأحكامها إن شاء الله تعالى. فإذاً يحق له ارتجاعها بشرط أن تقع هذه الرجعة أثناء العدة، وقبل خروج المرأة من عدتها بوضع حملها إن كانت ذات حمل، أو بعدة الأشهر إن كانت آيسة أو صغيرة، أو بثلاثة قروء وهي الأطهار إن كانت من ذوات الحيض. فإذا وقعت الرجعة أثناء العدة فإنه يمتلكها الزوج ولو كرهت الزوجة، والدليل على ذلك قوله تعالى في شأن المطلقات طلاقاً رجعياً: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] فدلت هذه الآية الكريمة على أن من حق الزوج أن يرتجع زوجته. ولكن اشترط سبحانه وتعالى أن يكون ارتجاع الزوجة للإصلاح وليس للإضرار؛ والسبب في ذلك: أنه كان بعض الناس قبل شرعية هذا الحكم يطلق المرأة ثم يراجعها، ثم يطلق المرأة ويتركها تعتد وقبل أن تخرج من عدتها يردها ثم يطلقها من جديد، ثم يتركها تعتد حتى إذا قربت من الخروج من عدتها ردها، وهكذا حتى تبقى كالمعلقة لا زوجة ولا مطلقة، كما قال تعالى: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129]. وقد هدد بعض الصحابة زوجته بذلك، وقال: إني لا أدعك تحلّين لزوج من بعدي وأفارقك، فقالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك حتى إذا قاربت الخروج من عدتك راجعتك، ثم أطلقك حتى إذا قاربت الخروج من عدتك راجعتك إلى آخره؛ فأنزل الله تعالى آية البقرة بتشريع الطلاق ثلاثاً، وأن المرأة إذا خرجت من عدتها لم يملك الزوج إرجاعها كما في آية البقرة التي ذكرناها في شرعية الطلاق بالثلاث، فتضمنت أنه إذا خرجت المرأة من العدة فإن الزوج لا يملك إرجاعها لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] فالظرفية في قوله: (في ذلك) أي: في مدة العدة التي عبر عنها قبل في قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228]. الأمر الثاني: أنه يستحق الزوج إرجاع زوجته، بشرط أن يردها للإحسان لا للإساءة، كما ذكرنا في خبر الصحابي رضي الله عنه أنه أراد الإضرار، ولذلك قال تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة:231]. ومن هنا قسم العلماء الرجعة إلى: رجعة واجبة، ورجعة مستحبة، ورجعة محرمة. فالذي يريد إرجاع زوجته: إما أن يجب عليه إرجاعها في قول بعض العلماء رحمهم الله، وإما أن يكون مستحباً له إرجاعها، وإما أن يكون محرماً عليه إرجاعها. فأما بالنسبة لوجوب إرجاع الزوجة فمذهب طائفة من العلماء: أنه يجب على الزوج أن يراجع زوجته إذا طلقها في الحيض، وهو مذهب الحنفية والمالكية، فيرون أنه طلاق بدعي، وأنه خطأ، ولا يمكن إصلاح هذا الخطأ إلا بردها، قالوا: ودليلنا قوله عليه الصلاة والسلام: (مره فليراجعها) فإنه أمر، والأمر يدل على الوجوب، قالوا: فيجب عليه أن يراجعها. الحالة الثانية: أن تكون الرجعة مستحبة وهي: إذا انتفت الموانع والدوافع، فإنه يستحب للإنسان أن يراجع زوجته المطلقة إذا غلب على ظنه أنها ستصلح الأحوال، وغلب على ظنه أن في ذلك خيراً للمرأة، فقالوا: الأفضل والأكمل أن يراجعها؛ لأن إرجاع الزوجة ربما يكون فيه الرفق بالأولاد، خاصة إذا كانت ذات أولاد وذرية، فإنه ربما لا تجد زوجاً من بعده، خاصة إذا كانت كبيرة أو ذهب جمالها، فإنه ربما بقيت عانساً، وقد لا يأمن عليها الوقوع في الحرام، فإذا علم الله بقرارة قلبه أنه يريد إرجاعها من أجل أن لا تتعرض للحرام، ويريد ارتجاعها رفقاً بأولاده ولطفاً بهم، فإنه قد فعل أمراً مستحباً، وعلى الله أجره وثوابه، وقد أحسن في ذلك. وأما بالنسبة لتحريم رجوع المرأة فتحرم الرجعة إذا قصد الزوج منها أذية المرأة والإضرار بها وقال: أردها حتى أنتقم منها أو أوذيها، فإنه إذا ثبت عند القاضي بشاهدة الشهود أنه قال هذا الكلام، فمن حق القاضي أن يمنعه من ارتجاع زوجته؛ لأن الله يقول: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] ومفهوم الشرط في قوله: {إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] أنه لا حق لهم إذا كانوا لا يريدون الإصلاح. كذلك أيضاً: إذا كان رجوع المرأة فيه شر وفساد، مثل أن تتعاطى المحرمات، أو تقع في الزنا فتخلط عليه نسبه، وتفسد عليه فراشه، ولم يعلم منها توبة، بل علمها فاسدة، وطلقها من أجل ذلك، فمثل هذه لا يجوز له أن يراجعها؛ لأنه إذا راجعها آذى أولاده وذريته، وأفسد فراشه ونسبه، فلا يحل له أن يتعاطى مثل هذه الأمور؛ لأن لأولاده وذريته عليه حقاً في مثل هذا، فلا يجوز له أن يعرّض نسبه لهذه المخاطر العظيمة، والشر والبلاء الكبير. على كل حال فقد بيّن المنصف رحمه الله أنه يستحق الرجعة بهذه الشروط التي أشار إليها رحمه الله، فيزاد إليها شرط: قصد الإحسان والإصلاح؛ لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228].

الألفاظ التي تقع بها الرجعة

الألفاظ التي تقع بها الرجعة قال رحمه الله: [بلفظ: راجعت امرأتي، ونحوه]. الرجعة تقع بأمرين: الأول: القول، والثاني: الفعل. يحق للزوج أن يراجع زوجته بالقول، وهو أقوى ما يكون في الرجعة، ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أنه إذا تلفظ بلفظ الرجعة الصريح أنه مراجع لزوجته، ولا خلاف بين العلماء أن القول يوجب الرجعة. ثانياً: تقع الرجعة بالفعل، ومن ذلك أن يجامع المطلقة أو يلمسها أو يقبلها أو ينظر إلى فرجها بشهوة، على تفصيل عند العلماء: هل يقصد الرجوع أو لا؟ سيأتي إن شاء الله. وقوله رحمه الله: [بلفظ راجعت] أي: تقع الرجعة بلفظ: راجعت، وألفاظ الرجعة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: اصطلح العلماء رحمهم الله على تسميته باللفظ الصريح، وهذا النوع من الألفاظ إذا شهد الشهود أو سمعه القاضي من الزوج، حكم بكونه مراجعاً لزوجته ولو لم يلتفت إلى نيته، وهو أنه يقول: راجعتك أو أرجعتك، فإذا قال لها: راجعتك أو أرجعتك، وما اشتق منه مما يدل على الرجعة صراحة، حكم بكون المرأة قد رجعت إلى عشرة الزوج، فلو توفي بعد هذه الكلمة حكمنا بأنها رجعية وترثه، ويحكم لها بالأحكام الزوجية، ويجب عليها أن تعتد، شأنها شأن الزوجة. القسم الثاني من الألفاظ التي تقع بها الرجعة: الألفاظ غير الصريحة، وهي ألفاظ الكناية، وهو أن يأتي بلفظ يحتمل أنه يريد الرجعة ويحتمل أنه لا يريد الرجعة، فيقول لها: الأمر بيني وبينك على ما كان، فهذا يحتمل أنني رجعت عن طلاقك وأريد أن أرتجعك، فعادت الأمور إلى ما كانت عليه قبل الطلاق، ويحتمل قوله: الأمر بيني وبينك على ما كان، أي: لا زلت مطلقاً لك وباقياً على طلاقك، ولا أريد رجوعك إليّ، أو يقول: أنت مني على ما كنت من قبل، فيحتمل (من قبل) أي: من قبل الطلاق، ويحتمل (من قبل) أي: من قبل أن أكلمك، فلا زلت أكرهك ولا أريد رجوعك. فهذه الألفاظ المحتملة إذا قال لها: الأمر بيني وبينك على ما كان، أو يقول لها: عدت إلى حالي الذي كنت عليه، فنسأله: هل قصدت الرجعة؟ فإن قال: قصدت رجوعها ثبت رجوعه، وإن قال: لم أقصد بهذا اللفظ رجوعها، فإنه لا يحكم بكونه مرتجعاً لها. واختلف العلماء في قوله: (رددتك وأمسكتك) هل يعتبر مراجعاً لزوجته؟ فلو أن رجلاً طلق امرأته طلقة ثم قال لها: رددتك، أو قال لها: أمسكتك، ثم توفي، وشهد الشهود عند القاضي أنه قال: رددتك وأمسكتك، فهل يحكم بكونه مراجعاً لزوجته أو لا يحكم؟ قال بعض العلماء: رددتك وأمسكتك صريح؛ لأن الله تعالى يقول: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:229]، وقال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:231] وهذا يدل على أنه إذا قال لها: أمسكتك، فإنه يحكم بكونه مرتجعاً لزوجته. وهذا القول فيه قوة، خاصة وأن دليل القرآن يشير إلى اعتباره، وأنه يحتمل بقوة رجوع المرأة. وعلى هذا فإن الألفاظ تنقسم إلى ثلاثة أقسام، وفي الأصل قسمان: قسم الصريح والكناية، وقسم مختلف فيه هل هو صريح أو كناية، وإن كان يرجع إلى أحد الأمرين، فيصبح المجموع قسمين على ما ذكرناه. وقوله رحمه الله: [بلفظ: راجعتك] هو اللفظ الصريح. قال رحمه الله: [لا نكحتها ونحوه]. لو قال: راجعتك، أو قال أمام عدلين أو أمام أصحابه كلمة: راجعتك، ارتجعت زوجتي، رددتها، أمسكتها، فيستوي أن يقول لفظ الرجعة وهو لوحده، أو يقول بحضور الزوجة، أو يقوله في حال غيبتها، فالحكم واحد، إذا قال: أرجعتك، يخاطب الزوجة فإنها تثبت الرجعة، ولو قال: راجعت زوجتي، وهو جالس مع شخص، وبقي من عدة زوجته يوم واحد، أو اتصل على أبيها قبل انتهاء عدتها بيوم وقال: رجعت، أو رددت بنتك، فحينئذٍ تثبت الرجعة. إذا تلفظ بلفظ الرجعة فسواء خاطب به الزوجة أو لم يخاطبها به فإنه يثبت له حكم الرجعة، أي: فلا يشترط في الرجعة أن يواجه الزوجة بها، ويستوي أن تسمع منه، أو يقول ذلك في حال غيبتها.

الإشهاد وحكمه في الرجعة

الإشهاد وحكمه في الرجعة قال رحمه الله: [ويسن الإشهاد على الرجعة]. لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] فأمر الله تبارك وتعالى بالإشهاد على الرجعة. وهذا الإشهاد من حيث الأصل فيه حكم عظيمة؛ لأن المرأة إذا طلقت فإن هذا نوع من الانفصال، بحيث لو خرجت من العدة صارت أجنبية. فإذاً: رجوعها إلى زوجها يترتب عليه أحكام من حلها وغير ذلك، وخاصة على القول الذي يقول: إن الرجعية أجنبية، يعني: لا تعتبر في حكم الزوجة، كما هو مذهب الشافعية وغيرهم. وأيضاً يثبت بذلك أحكام: فلو أنه توفي فجأة، أو جاءته سكتة، أو جاءه حادث -والعياذ بالله- فالإشهاد فيه صيانة، وحفظ للحقوق، فلو أن رجلاً طلق امرأته ثم قال لرجل: راجعت زوجتي، ثم ركب سيارته وتوفي، أو جاءته سكتة في تلك الليلة ولم يصبح منها؛ فإنها زوجة، ويجب عليها الحداد، وحكمها حكم الزوجات، فكيف نثبت هذه الزوجية والكل يعلم أنها قد طلقت؟! فإذاً الإشهاد على الرجعة فيه خير للزوج والزوجة، وحفظ لحق الزوج، وحفظ لحق الزوجة. ولذلك لو كان الزوج في مكة والزوجة بالمدينة، وقبل خروجها من عدتها بيوم أو أثناء عدتها قال لشخصين: اشهدا أني راجعت زوجتي، ثم سافر يريد أن يخبر زوجته ويردها إليه، فلما وصل إليها وجدها قد خرجت من عدتها، فإذا وجدها قد خرجت من عدتها فإنها ستنكر أن تكون زوجة له، وتقول له: يا فلان! طلقتني وخرجت من عصمتك بخروجي من عدتي، فأنت أجنبي مني وأنا أجنبية منك، فإنه لا يستطيع أن يثبت هذا إلا بالشهود، فإذاً يضيع حقه لو لم يكن مشهداً، ويضيع حقها أيضاً إذا توفي عنها إلا إذا كان مشهداً، فالشهادة لا شك أنها تحفظ الحقوق. واختلف العلماء في الإشهاد على الرجعة: فمنهم من يقول: الشهادة على الرجعة واجبة؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]، والأمر للوجوب حتى يدل الدليل على صرفه ولا صارف له، وهو قول الشافعية وطائفة. وقال بعض العلماء: الإشهاد مسنون كما اختاره المصنف رحمه الله، وهو قول الجمهور.

الأسئلة

الأسئلة

حرمة كتم الزوج مراجعته لزوجته

حرمة كتم الزوج مراجعته لزوجته Q الإشهاد ليس شرطاً في الرجعة، ولكن هل له أن يكتم رجعة زوجته؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالإشهاد ليس شرطاً لصحة الرجعة على أصح قولي العلماء، وهو مذهب الجمهور، حتى الشافعية الذين أوجبوا الإشهاد لم يقولوا: بأنه شرط في صحة الرجعة، فتصح الرجعة بدون إشهاد؛ ولكن يجب عليه ويأثم بتركه، ولذلك جاء عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أنه لما طلق رجل امرأته وردها ولم يشهد بيّن أنه خالف السنة، وقال له: (طلقت لغير السنة، وراجعت لغير السنة فلا تعد). على كل حال: إذا كتم الرجعة فإنها تضيع حقوق الزوجة، ولا يجوز للزوج أن يكتم هذه الرجعة، بل عليه أن يخبر ويبيّن؛ لأنها امرأة تحس وتتألم، وإذا كتم ربما وقعت في المحظور من أن تُنكَح من رجل وهي ذات زوج، ولذلك لا بد أن يبين، ومن هنا جاء عن السلف وأئمة السلف رحمهم الله التشديد في كتمان شهادة الرجعة، فلو قال للشهود: لا تخبروا أحداً أني راجعت زوجتي، فإنه إذا علم القاضي بذلك يعزره ويعزر الشهود، فلا يجوز كتمان هذه الشهادة؛ لأن الله يقول: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] فأمر الله عز وجل أن تكون شهادة تامة كاملة قائمة لله عز وجل، وقد أمرهم الله سبحانه وتعالى، وأمر الشهود أن يكونوا قوّامين بالقسط شهداء لله. فإذا كُتمت الشهادة أو كتم الزوج رجعته لزوجته ضاعت الحقوق، ولا ينبغي مثل هذا لأنه منكر، وتضييع لحق الله عز وجل وحقوق عباده. والله تعالى أعلم.

خروج المرأة المطلقة رجعيا من بيت الزوجية

خروج المرأة المطلقة رجعياً من بيت الزوجية Q بعض النساء عندما يطلقها زوجها طلقة واحدة فإنها لا تجلس في بيت زوجها، بل تذهب إلى بيت أهلها، فهل يصح هذا الفعل، وخاصة إذا قصدت الزوجة من خروجها أن يهدأ الزوج ويذهب غضبه؟ A في الحقيقة ينبغي على العلماء وعلى طلاب العلم وعلى أئمة المساجد والخطباء أن ينبهوا الناس على هذه القضية، وأن يتواصى طلاب العلم بها، وهي قضية خروج المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً من بيت الزوجية. فلا يجوز للمرأة أن تخرج من بيت الزوجية، ولا يجوز للزوج أن يطردها من بيتها، ولا يجوز لأبيها أو أخيها أن يأتي ويأخذها. فلينبّه الناسُ على ذلك، فهذه مسئولية الخطباء، ويجب عليهم أن يبينوا للناس حكم الله في الطلاق، وأن يبينوا لهم السنة والبدعة، والأحكام المترتبة على هذا الأمر، خاصة في هذا الزمان. تفشى بين الناس كثيراً إلا من رحم الله؛ أن المرأة بمجرد ما يطلقها زوجها يأتي أبوها أو يأتي أخوها أو يأتي قريبها، فيأخذها، وقلّ أن تجد امرأة اعتدت عدة الطلاق الرجعي في بيت الزوجية، وهذا من المنكر العظيم؛ فإن الله يقول: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1] فهذه المرأة المطلقة طلقة أولى أو طلقة ثانية بعد دخوله بها لا يحل خروجها من البيت، ولا يجوز للزوج أن يطردها إلا في أحوال مستثناة. والأحوال المستثناة: هي أن يكون الزوج شريراً عظيم البلاء ويغلب على ظنها أنها لو جلست لحصل ما لا يحمد، ففي هذه الحالة من حقها أن تفر من ضرره، خاصة إذا كان عنده أمور خطيرة، أو رجل شديد العصبية، وأنه ربما أضر بها إضراراً عظيماً، وربما ضربها، وربما يتعدى بها إلى القتل أو الإضرار بها، فحينئذٍ يجوز للوالد إذا خاف من هذه الأضرار، ولأقرباء الزوجة إذا خافوا من هذه المفاسد؛ أن يخرجوا المرأة من بيت الزوجية. أما إذا كانت الزوجة لا تخشى الضرر العظيم الفادح والغالب على الظن وقوعه؛ فإنه لا يجوز إخراجها، ويجب عليها أن تبقى في بيت الزوجية، وأخوها ظالم وأبوها ظالم ووليها ظالم إن أخرجها، ومن أخرجها من بيت الزوجية فقد ظلم، وطيلة ما تعيش في بيت أخيها أو بيت أبيها أو بيت قريبها بعيدة عن بيت الزوجية؛ فإن هذه الأيام والليالي كلها إثم وحرج على من أعانها على هذا الخروج؛ لأن الله يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وهذا تعاون على الإثم وعلى العدوان، وتضييع لحق الله العظيم. لأن الله لما جعل المطلقة طلاقاً رجعياً تبقى في بيت الزوجية فذلك لحكم عظيمة؛ فإنها إذا بقيت في بيت الزوجية حنّ كل من الزوجين للآخر، ولذلك قلّ أن تسمع اليوم رجلاً راجع زوجته وصلحت الأمور، لأنها بمجرد خروجها من بيت الزوجية تذهب إلى أهلها، فتفسد على زوجها، حتى ولو عادت مرة ثانية وهي صالحة؛ فوالله لو بقيت في بيت الزوجية لكان أصلح لها وأفضل. فهذه أمور عظيمة، ولذلك لا يصلح الأزواج إلا بتفاهم الزوجين مع بعضهم، ولا يضر الزوجين شيء مثل دخول الطرف الأجنبي، حتى ولو كان الطرف الأجنبي أباً لها أو أخاً أو قريباً، فإن المرأة إذا بقيت مع زوجها استطاع كل منها أن يعرف كيف يحل مشاكل الآخر. فهي إذا بقيت في بيت الزوجية أولاً: يستطيع الزوج أن يستخدم قوته في الصبر عنها حتى تتأدب إذا كانت هي التي أخطأت، فتراه يمر عليها، وتمر عليها الليلة تلو الليلة وهي في نفس البيت تعيش الذكريات القارسة المؤلمة، فتكتوي بنار الفرقة، والمرأة خلقها الله ضعيفة المشاعر، وجعل هذا الضعف كمالاً لها وجمالاً وجلالاً، وهذه المشاعر لا تكتوي بها عادة إلا إذا جلست قريباً من زوجها وهي تراه، لكن إذا ذهبت إلى بيت أبيها أو إلى بيت قريبها انشغلت مع بيت أبيها عن تحسس هذه الأحاسيس، ولذلك انظر حكمة الله عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1] ونسب البيوت إليهن، مع أنها بيوت الزوجية {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1]. كما أن الزوجة تفر من بيت الزوجية إذا خشي الضرر، كذلك من حق الزوج أن يطردها وأن يخرجها من بيت الزوجية إذا كانت قد ارتكبت فاحشة مبينة كالزنا والعياذ بالله، أو كانت سيئة عظيمة الضرر؛ بأن تكون شريرة تستفزه، أو ربما تؤذيه، خاصة إذا كانت مسترجلة! ففي هذه الحالة من حق الزوج أن يطردها ويخرجها من بيت الزوجية، ويقول لوليها في هذه الحالة: تعال وخذ وليتك؛ لأن هناك فاحشة، سواءً كانت فاحشة باللسان أو كانت فاحشة بالجوارح والأركان. فإذا كانت ذات فحش وأذية وإضرار بالزوج أو بقرابته، بحيث إذا طلقها قامت تسب أمه أو تسب والده، فإذا بقيت في بيت الزوجية والرجل ساكن مع والديه، فتطيل لسانها على أبيه وأمه، فمن حقه أن يطردها من بيت الزوجية ولو كانت في عدتها؛ لأنها أتت بفاحشة مبينة، وآذت وأضرت، مثل أن تقول لأمه: قولي له يردني، وتؤذيها وتضرها، وتزعجها وتقلقها؛ لكن لو جاءت بالمعروف وبكت عند أمه، وقالت: يا أم فلان قولي لفلان يراجعني، إني مخطئة إني كذا، فهذا شيء طيب، لكنها تأتي وتسبها وتشتمها وتؤذيها وتضرها وتضيق عليها، أو تضيق على والده وعلى قرابته، فإنه في هذه الحالة من حقه أن يطردها من بيت الزوجية، وليس لها حق في سكناها. على كل حال: هذا الأمر ينبغي علينا جميعاً أن نتقي الله، وأن نتبع كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الحكم العظيمة أن الزوج يحنّ لزوجته إذا كانت في بيت الزوجية، والزوجة تحنّ إلى زوجها إذا كانت في بيت الزوجية، وتصلح الأمور وتهدأ، ولا شك أن الله حكيم عليم، ولذلك قال: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1] ونشهد لله أننا لا نعلم وأنه هو وحده سبحانه العليم الحكيم علام الغيوب، ونشهد أننا أجهل ما نكون إلا أن يعلمنا سبحانه وتعالى، وهو العليم الحكيم، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم! فلا شك أن لله الحكمة التامة البالغة في هذا الشرع الذي أوجب علينا في المطلقة طلاقاً رجعياً أن تبقى في بيت الزوجية ولا تخرج منه. فالواجب أن يؤمر الناس بهذا الأمر، وأن يبين لهم شرع الله، وأن يحثوا ويحضوا على ذلك. والله تعالى أعلم.

عدم ثبوت الرجعة بلفظ (نكحتها)

عدم ثبوت الرجعة بلفظ (نكحتها) Q هل تثبت الرجعة بلفظ: نكحتها، أثابكم الله؟ A إذا قال: نكحتها، لم تثبت الرجعة؛ لأنه لا يدل على الرجعة لا صراحة ولا ضمناً، ومن هنا يفتقر هذا اللفظ إلى الدلالة، فلا تثبت الرجعة به في قول جمهور العلماء رحمهم الله. والله تعالى أعلم.

عدد الطلقات التي يملكها العبد

عدد الطلقات التي يملكها العبد Q مر معنا أن العبد له رجعة واحدة، فما هو التفصيل في المسألة، أثابكم الله؟ A تقدمت هذه المسألة وذكرنا خلاف العلماء رحمهم الله في: هل للعبد أن يطلق ثلاث تطليقات أو طلقتين؟ وهذا مما يسمى بتعارض العموم مع القياس، وهي مسألة أصولية تكلم عليها العلماء وأشرنا إليها. العموم في قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] إلى أن قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] وهذا عام شامل للحر والعبد. وأما القياس: فإن الله عز وجل جعل الحد في الإماء والرقيق على النصف من حد الحر: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25] فجعل الحد على التشطير. فجمهور العلماء رحمهم الله يرون القياس في هذا، وفيه أقضية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تقوي هذا القياس على قول من يقول: إن قول الصاحب حجة، وهذا قول جمهور الصحابة رضوان الله عليهم، حتى قيل: إنه لا مخالف في أن العبد يملك طلقتين ولا يملك ثلاثاً. ومن تمسك بالقول بالثلاث فقوله له وجه، ومن تمسك باثنتين فقوله له وجه؛ لأنه ليس هناك طلقة ونصف، فالطلاق لا يشطر، فتمت له طلقتان؛ لأنه لا يصح أن يقال: له نصف الطلاق طلقة ونصف، ولا يصح أن يقال: له طلقة؛ لأن الطلقة ليست بنصف إنما هي ثلث، ولو قيل: طلقة ونصف، فالطلاق لا يتشطر بالإجماع من حيث الأصل العام، ولذلك لو قال لامرأته: طلقتك نصف طلقة، طلقتك ربع طلقة، أنت طالق ثمن طلقة؛ فإنها تطلق طلقة كاملة، وهذا قول جماهير العلماء رحمهم الله وأئمة السلف والخلف رحمهم الله برحمته الواسعة. والله تعالى أعلم.

حكم إخراج كفارة اليمين نقودا

حكم إخراج كفارة اليمين نقوداً Q هل يجوز إخراج كفارة اليمين نقوداً أم لا؟ A كفارة اليمين بيّنها الله تبارك وتعالى فهي تخييرية وترتيبية: تخييرية في عتق الرقبة، وإطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، فهو مخيّر بين هذه الثلاث، إن شاء أعتق رقبة، وإن شاء أطعم عشرة مساكين، وإن شاء كساهم. وترتيبية: أنه إذا لم يجد واحدة من هذه الثلاث ولم يستطع فعليه صيام ثلاثة أيام متتابعات. فهي تخييرية من وجه، ومرتبة من وجه، وليس فيها ذكر للنقود، ومن أخرج النقود في كفارة الأيمان فإنها لا تجزي؛ لأن الله أمر بالإطعام، والنقود غير الطعام، وقد كانت النقود موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. فالكفارات التي سمى الله لا يجوز إخراج البدل عنها نقوداً في مذهب جمهور العلماء، خلافاً للإمام أبي حنيفة النعمان عليه من الله تعالى شآبيب الرحمات والرضوان، حيث قال: إنه يجوز إخراج النقود عن الإطعام في مسائل الكفارة ككفارة اليمين، وكفارة الصيام ونحو ذلك، وهذا مرجوح؛ لأنه استدل رحمه الله بحديث معاذ رضي الله عنه حينما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مصدقاً قال: (ائتوني بخميص أو لبيس فإنه أرفق بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: فانتقل إلى البدل، وهو الخميص والبيس وقال: (إنه أرفق)؛ قال فهذا يدل على جواز إخراج البدل في الصدقات الواجبة. وهذا ضعيف؛ لأن حديث معاذ في الحقيقة ليس في الصدقات وإنما هو في الجزية، والجزية يجوز فيها إخراج البدل، فيجوز أن نخرج في الفدية الثياب وكل شيء له قيمة، وأن يخرج عدلها من النقود، فينبغي إعمال النصوص، فنعمل بما ورد مسمى في الصدقات والكفارات، فنتقيد فيه بالواجب. فلا يجوز إخراج صدقة الفطر في رمضان إلا طعاماً، ولو جاء شخص وقال: إن الطعام يضيّع أو يباع، نقول: على الله الأمر وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الرضا والتسليم، ولنترك هذه الاجتهادات والآراء، ولنتمسك بما ثبت في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع احترام أهل العلم وتقديرهم وحفظ مكانتهم وجلالتهم رحمهم الله برحمته الواسعة، وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأوفاه. وبالنسبة لقضية: لماذا لا تخرج النقود؟ أولاً: أن الأمر تعبدي. ثانياً: أن النقود كانت موجودة والله لم يذكرها، ولو كانت جائزة لذكرها. ثالثاً: كأن هذا يستدرك على الله ويقول: النقود أفضل، سبحان الله! النقود أفضل الآن دون زمان النبي صلى الله عليه وسلم؟!! بالعكس: النقود أفضل الآن وفي زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فكون الله لا ينبه عليها ولا يأمر بها مما لا يدع لعاقل أن يشك في أن الإطعام مقصود. رابعاً: أن الله لما قال: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة:89] فهذا الإطعام فيه حكمة عظيمة؛ لأن الطعام لا يأخذه إلا المستحق، ولكن النقود يأخذها المستحق وغير المستحق، ولذلك لو أخذت طعاماً في فدية أو كفارة فإنك تتعب حتى تجد المستحق الذي يأخذ منك، لكن النقود يأخذ منك الغني والفقير، ويأخذها كل شخص، ويدعي كل إنسان أنه مستحق لها، ففي هذا لا شك حكم عظيمة، ومن هنا لا بد من التقيد بالوارد. والله تعالى أعلم.

جواز اعتبار الصغار والكبار من المساكين في الكفارة

جواز اعتبار الصغار والكبار من المساكين في الكفارة Q هل يعتبر في عدد كفارة اليمين الصغار من المساكين؟ بمعنى: لو أن إنساناً أعطى كفارته لأسرة عددها أكثر من عشرة كباراً وصغاراً فهل يجزئ، أثابكم الله؟ A نعم يجزيه إذا أعطاها للصغير والكبير، وبناءً على ذلك: لو كانت هناك أسرة تتكون من عشرة أنفس فيهم زوجان والبقية أطفال وأولاد، فإنها تجزيه عن كفارته، سواء أطعمهم أو كساهم للإطلاق في الآية. والله تبارك وتعالى أعلم.

ضابط سفر القصر

ضابط سفر القصر Q متى يكون القصر في الصلاة الرباعية؟ هل هو بمجرد النية في السفر أم بالخروج من المدينة؟ A نص الكتاب يدل على أن أحكام السفر لا تشرع ولا تكون إلا إذا تلبست بالسفر: أولاً: لدلالة لفظ السفر. ثانياً: قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184] والتعبير بـ (على سفر) يدل على أنه في حال السفر. ثم قال تعالى: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101]. فإذاً: لا نستبيح ولا نستحل الرخص إلا إذا كنا على حالة سفر، فإذا كان الإنسان في بيته ونوى السفر فإنه لم يسافر حقيقة، والشريعة ترتب الأحكام على الباطن والظاهر، وترتبها على مجموع الأمرين، ففي السفر نشترط الأمرين: أن يكون حاله حال السفر، وهذا الظاهر. وأن تكون عنده نية السفر. ولذلك لو خرج من المدينة غير ناو للسفر فحاله حال المسافر؛ لأنه أسفر وخرج، ولكن يقصر؛ لأنه تحقق أحد الأمرين ولم يتحققا معاً، وكذلك النية، فمن وجدت فيه النية ولم يسافر لم نصحح له قصره. فالذي عنده نية للسفر ولم يسافر جزماً فليس بمسافر، وإلا لصح أن يقال: إنني لو نويت الحج هذه السنة أستبيح القصر منذ أن أبقى ناوياً لهذه النية، ثم يرد السؤال: متى تتخيل هذه النية؟ فيدخل الإنسان في إشكال لا ينتهي. هذه مذاهب شاذة وضعيفة، وإذا قلنا: مذاهب شاذة، فالتعبير بالشذوذ عند أئمة الفقه يدل على أنها لا يؤتى بها ولا يعمل، والله عز وجل قد نص على أن الرخص لا تستباح إلا على السفر، فإذا أراد أن يفطر وهو صائم فلا يفطر وهو في بيته، وإنما يفطر بعد أن يخرج. وما ورد من أفعال الصحابة فقد أجيب عن ذلك من أن قوله: (من السنة) في حديث أنس وأبي بردة؛ أجيب عنه: أن الصحابي ربما فهم ما ليس بسنة سنة، حتى إن الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله مع أنه يأخذ بظواهر النصوص قال: إنه ربما فهم الصحابي ما ليس بسنة سنة. ولذلك نبقى على نص القرآن الواضح الدلالة، وهو أنه لا يجوز لك أن تقصر الصلاة، ولا يجوز لك أن تفطر في سفرك إلا إذا كنت على سفر. وبناءً على ذلك: إذا خرجت من آخر عمران المدينة فلك أن تستحل رخص السفر، فيجوز لك الفطر، ويجوز لك قصر الصلاة، فلو أذن المؤذن وأنت في طرقات المدينة ولم تخرج من آخر عمرانها فلست على سفر، ولم تضرب في الأرض بعد، فلم يتحقق الشرط الذي ذكره الله عز وجل، ولا يجوز لك القصر في هذه الحالة، وتجب عليك الصلاة رباعية فتصلي الظهر أربعاً، فلو أذن عليك الظهر وأنت قد حزمت أمتعتك وخرجت من بيتك ومشيت، ولكن بقي عمران المدينة لم تخرج منه بعد، فإنك تصلي أربعاً في الظهر والعصر والعشاء. لكن لو أنك وضعت متاعك وركبت سيارتك وخرجت من آخر المدينة وبمجرد خروجك ولو بدقيقة واحدة أذن الظهر، فلك أن تصلي الظهر ركعتين، ويجوز لك أن تؤخرها إلى وقت العصر، أما لو أذن عليك قبل خروجك فيجب عليك أن تصليها في وقتها، ولا يجوز أن تؤخرها وتقول: أنوي جمعها؛ لأن الحضرية لا تجمع مع السفرية على الأصل الذي بيناه في مسائل الجمع بين الصلاتين للسفر. والله تعالى أعلم.

حكم طواف الوداع للمعتمر والحاج

حكم طواف الوداع للمعتمر والحاج Q من أقام بمكة بعد حجه ثم اعتمر، فهل يطوف الوداع لحجه أم لعمرته، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد الله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن طواف الوداع يشرع في الحج، وليس بمشروع في العمرة ولا بواجب، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في الحج ولم يأمر به في العمرة؛ والسبب في ذلك: أنهم كانوا إذا طاف طوافوا الإفاضة في الحج مكثوا أيام التشريق بمنى، ثم يسافرون إلى ديارهم من منى، فصار هذا جفاءً للبيت، والدليل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها: (كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات، فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت طوافاً) فهذا يدل على أن طواف الوداع شرع من أجل الحاج، وأما المعتمر فأصح أقوال العلماء: أنه لا يجب عليه طواف الوداع. والذين قالوا بوجوب طواف الوداع على المعتمر قالوه بالقياس، قالوا: إن العمرة كالحج، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك)، وهذا القول ضعيف؛ لأن قوله: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) المراد به مقام التروكات وليس في مقام الأفعال؛ لأن أصل الحديث حديث صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه يعلى بن أمية رضي الله عنه في قصة الرجل المعتمر من الجعرانة: (أنه لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه جبة عليها طيب، قال: يا رسول الله! ما ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه ما ترى؟ فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يغط كغطيط البكر صلوات الله وسلامه عليه، فلما سري عنه، قال: أين السائل؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: انزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الطيب، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) والسياق سباق محكم، فلا يؤتى ويقتطع في الحديث. فإن قال قائل: العبرة بعموم اللفظ، قلنا: (اصنع بعمرتك ما أنت صانع في حجك) لو أخذت به على عمومه للزم الوقوف بعرفة على المعتمر، ولزمه أن يبيت في مزدلفة، وأن يرمي الجمار؛ لأنه قال: (اصنع) أي: افعل. فإذا كنت تقول: إنه لا يجب عليه الوقوف بعرفة، ولا يجب عليه المبيت بمزدلفة ولا بمنى، ولا الرمي، فقل: ولا يجب عليه طواف الوداع؛ لأنه واجب من واجبات الحج، فإذا سقط هذا الواجب سقطت تلك الواجبات، وإذا سقطت تلك الواجبات سقط هذا الواجب. أما أن نقول: هذا الواجب يلزم، وهذا الواجب لا يلزم، فهذا تفريق بدون دليل فلا يصح. وعلى كل حال: مما يدل على ضعف القول بوجوب طواف الوداع على المعتمر؛ أنه لما قالوا بوجوبه تعارضت أقوالهم: فقال بعضهم: إذا جلس المعتمر وصلى فرضاً واحداً ثم سافر فعليه طواف الوداع. وقال بعضهم: إذا صلى ثلاثة فروض. وقال بعضهم: خمسة فروض. وقال بعضهم: إذا مكث يوماً. وقال بعضهم: إذا بات بمكة. وهذا التعارض والتناقض في الأقوال يدل على أنه ليس هناك أصل، ويدل على ضعف الأصل؛ لأنه لو كان المعتمر عليه طواف وداع لبينت الشريعة ونصت النصوص متى يجب على المعتمر أن يطوف طواف الوداع ومتى يسقط عنه، فإذا ثبت أن المعتمر لا وداع عليه زال هذا الإشكال. فإذاً: إذا خرج الحاج للعمرة وجاء بالعمرة فإنه متى ما أراد السفر فإنه طاف طواف الوداع. ومن أهل العلم من قال: إذا اعتمر الحاج ونوى في عمرته أن يفارق بعد عمرته البيت دخل طواف الوداع تحت طواف العمرة، وأجزأه طواف العمرة عن طواف الوداع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجعلوا آخر عهدكم بالبيت طوافاً) والسعي بعد الطواف لا يقطع الطواف، ومن هنا قالوا: لو أن معتمراً جاء مباشرة وطاف وسعى ثم صدر، فلا وداع عليه. فالسعي لا يقطع وداع البيت، وعلى هذا فإنه إذا صدر بعد عمرته مباشرة سقط عنه طواف الوداع، وأما إذا بقي بعد عمرته فإنه يجب عليه أن يطوف طواف الوداع عند خروجه، على الأصل الذي دل عليه حديث الصحيح: (أمر الناس أن لا ينفروا حتى يكون آخر عهدهم بالبيت طوافاً). والله تعالى أعلم.

تعارض طاعة الوالدين مع حب الصدقة والإنفاق

تعارض طاعة الوالدين مع حب الصدقة والإنفاق Q أحب أن أتصدق من مالي كثيراً، ولكن والدي وإخوتي يطلبون مني أن أتاجر بأموالي مما يقلل من نصيبي في الصدقة، فأيهما أفضل؟ A دين ودنيا، دنيا وآخرة، أيها أفضل؟ لا شك أنك إذا قصدت من إمساك المال بر الوالد والسمع والطاعة للوالد، ونويت أنه لو لم يأمرك الوالد لتصدقت فإن الله يأجرك بثلاثة أجور: الأجر الأول: أجر البر، وهو أعظم عند الله من الصدقة التي تفعلها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل عن: أحب الأعمال إلى الله؟ قال: (الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين) والوالد إذا أمر بأمر لا يتهم فيه بمعصية وجبت طاعته، وهو قد أمرك؛ لأنه قد يشفق عليك في مصلحة لولدك أو لك، أو يراك تحمل نفسك ما لا تطيق، فحينئذٍ تكون هذه توسعة من الله ساقها لك، وأرجو من الله أن يأجرك بحسن نيتك. ثانياً: يأجرك الله عز جل على الصدقة بنيتك؛ لأنه لو لم ينهك والدك لتصدقت. وثالثاً: أن هذا الأمر الذي وقع من منع والدك لك يحدث عندك نوعاً من الضيق؛ لأن الكريم يتألم إذا امتنع عن الصدقة، الكريم الذي قذف الله في قلبه الرحمة حتى ولو كان يبر والديه تجده يتألم، والله يعطيك أجر الألم، هذا أمر ثالث. فمن نعم الله عز وجل على من أعطاه الله الكرم وأرسل يده بالإحسان، أنه لا يرجع في عطية، وأكره ما عنده أن يرد في عطيته، أو يمنع من الإحسان إلى الناس. ومن القصص العجيبة عن الملك عبد العزيز رحمه الله برحمته الواسعة، وكان من أكرم الناس، وحدث ذات يوم أنه أعطى عطية وروجع فيها، وكانت عطية كبيرة جداً، وربما أجحفت ببعض المصالح، لكنه روجع فيها رحمه الله، فيحدث بعض الثقات الذين عايشوا هذه القضية أنه بعد أن روجع فيها ورأى المصلحة أن يرجع لم ينم ليلته تلك إلى الفجر، وهو يقول: عبد العزيز يعطي ويرجع في عطيته! عبد العزيز يعطي ويرجع في عطيته! فلما طلع الفجر دعا المسئول وهو ابن سليمان رحمه الله، وقال له: الذي أمرت به من العطية ينفذ، وعندها جاءه النوم رحمه الله. فالكريم لا يرجع في عطيته، ولا يرضى لنفسه البخل، ولو منع من عطيته فإنه يتألم، حتى إن بعضهم يمرض ولا يطيب له العيش ولا تهنأ له النفس. يقال عن بعض الكرماء العرب وكرماء السلف رحمهم الله القدماء: إنه كان إذا سافر ومعه خدمه وحشمه لا يمكن أن يأكل لوحده، وكان يضع طعامه على الطريق ويقول: التمسوا لي الضيف. فلا يرتاح الكريم إلا بالإعطاء. فيأجرك الله الأجر الثالث بما ذكرناه، وهو كونك تتألم أنك لم تعط الناس، وهذا هو شأن من حبب الله إليه الآخرة. أخي في الله! بر والدك، وتاجر إذا كانت تجارة مباحة، وانو في قرارة قلبك محبتك لربك وحبك للإحسان لإخوانك المسلمين، وانو في قرارة قلبك أنك تستعين بهذه التجارة لجمع مال لصدقة أعظم، فإن الله عز وجل يبلغك بحسن النية. ولا شك أن الصدقة من أحب الأعمال إلى الله، وينبغي على كل من يريد أن يكون التزامه صادقاً وطاعته صادقة لله عز وجل أن تكون بينه وبين الله صدقات خفيات يجبر بها قلوب المؤمنين والمؤمنات، ومن كانت له صدقة بينه وبين الله كانت بينه وبين الله وسيلة نافعة شافعة في الدنيا والآخرة، فكم من كربات فرجت بفضل الله ثم بفضل الصدقة، وإن المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته يوم لا ظل إلا ظله جل جلاله، وإن العبد يكف عن وجهه النار بفضل الله ثم بالصدقة. لو لم يكن في الصدقة إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الصدقة تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار) لكفى، قالوا: إن الإنسان ربما كان من أعصى الناس لله عز وجل، وربما ينزل الله به بلاءً فيتصدق فيذهب عنه غضب الله، ولربما غفر الله ذنبه بتلك الصدقة، لكن يستدل على ذلك بالتوفيق في الصدقة، ومن أعظم البشائر لولي الله المؤمن بالدرجات العلى في الصدقات: أولاً: أنه إذا جاءه المال، ومكنه الله منه، نظر إلى أن هذا المال لا يغني عنه من الله شيئاً، وأنه لا قيمة لهذا المال إلا إذا اشترى به رحمة الله سبحانه وتعالى، وهذا كان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهدي أصحابه من بعده، حتى إن عائشة رضي الله عنها وأرضاها وهي الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت تكون صائمة فيأتيها عطاؤها من أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه وأرضاه ثلاثين ألفاً فتتصدق بها، حتى إنها لا تبقي شيئاً تفطر به في ذلك اليوم، وكانت كأبيها والشيء من معدنه لا يستغرب: إن الأصول الطيبات لها فروع زاكية أبوها الذي أنفق ماله كله لله جل وعلا ورسوله، وأنزل الله من فوق سبع سماوات تزكيته أنه مجنب من النار مبرؤ منها: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:17 - 18] وأعطى ماله لله، حتى إنه لما هاجر أخذ ماله معه نصرة للإسلام ونصرة لله ولدينه عز وجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فجعت أهلك بنفسك، ثم فجعتهم بمالك، ماذا أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم حب الله ورسوله) رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعالي الفردوس مسكنه ومثواه. بخٍ بخٍ! هذا والله العيش! الصدقة ما سميت صدقة إلا لأنها تدل على صدق إيمان صاحبها؛ لأنه لا يتصدق بهذه الدنيا لوجه الله ويشتري بها رحمة الله عز وجل إلا من كان مؤمناً صادقاً في إيمانه؛ لأن المال يأسر صاحبه، والمال له سلطان على القلوب، به سفكت الدماء، وانتهكت الأعراض، وقطعت الأرحام، والله يقول: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37] فالمال فتنة، ومع هذا يأتي الإنسان يريد أن يتصدق فتأتيه النفس الأمارة بالسوء وتقول له: تضيع مستقبلك ومستقبل أولادك وأهلك وذريتك! وكذا وكذا، فيعده الشطيان الفقر، وتأتيه رحمة الله جل وعلا، فيثبت الله عز وجل قلبه فيقول: لا، إن خزائن الله لا تنفذ (ويد الله ملأى سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة) إني أعامل الله الذي لا غنى إلا به سبحانه وتعالى، فيخرج هذا المال ولو كان من أعز أمواله صدقة، وهو موقن أن الله سيخلف عليه، وأنه هو الرابح وليس بخاسر. ولذلك لما جاء عام الرمادة واشتد الأمر على المسلمين في المدينة جاءت عير لـ عثمان رضي الله عنه وأرضاه، فخرج التجار يتلقونه، فقالوا: يا عثمان! بعنا التجارة، نربحك الدرهم بالدرهمين؟ قال: أعطيت أكثر، قالوا: نعطيك ثلاثة؟ قال: أعطيت أكثر، قالوا: أربعاً خمساً قال: أعطيت أكثر، قالوا: من ذا الذي أعطاك وما بالمدينة تاجر سوانا؟ قال: إن الله أعطاني بالدرهم عشرة، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، أشهدكم أنها صدقة على فقراء المسلمين! هذا هو الإيمان والثقة الصادقة بالله جل وعلا، أن تكون بما في يد الله أغنى منك بما في يدك، وإن العبد تأتيه زينة الدنيا وزهرتها حتى إذا أراد الله أن يسعده في هذه الدنيا جعل أول ما يفكر فيه أن يقدمه لآخرته. عمر رضي الله عنه وأرضاه في الصحيحين لما جاءته أرض بخيبر ما دنا منها ولا أجرى ماءً ولا نهراً ولا غرس شجراً، ولكن بمجرد ما فاز بالأرض وأصبحت في ملكيته انطلق إلى رسول الأمة صلى الله عليه وسلم لكي يشتري الآخرة، فكانت الدنيا تحت أقدامهم، وكانت الآخرة ملء قلوبهم، فجاء وقال: (يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بخيبر هي أنفس مالي، ما أصبت مالاً أحب إليّ من هذا المال، فماذا تأمرني فيها؟) وقد كانوا يحكمونه في أموالهم وأنفسهم رضوان الله عليهم. فما أخذها مع أنه لو أخذها فهي حلال له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت تصدقت بها وحبّست أصلها وتصدقت بثمرتها) الحديث، فتصدق بها رضي الله عنه وأوقفها على فقراء المسلمين وضعفتهم. فأول دلائل التوفيق للصدقة الصالحة قوة اليقين بالله عز وجل. ثانياً: أن يخرج بهذه الصدقة وأحب ما يكون إليه ألا يعلم به أحد، حتى كان السلف الصالح رحمهم الله لا يعرفهم الفقير الذي يعطونه، فيأتي الرجل منهم متنكراً في ظلام الليل وسواده البهيم. وكان علي زين العابدين رحمه الله برحمته الواسعة يحمل على ظهره الصدقات إلى بيوت الأرامل والأيتام، فكان إذا جنّ عليه الليل حمل على ظهره الطعام، وهو إمام من أئمة المسلمين، وديوان من دواوين العلم والعمل، فكان ينطلق إلى بيوت الضعفاء والفقراء والأيتام والأرامل وهم في جوف الليل، فيقرع عليهم أبوابهم، ثم يعطيهم هذا الطعام، ثم لم يعلم أحد أنه زين العابدين الطيب بن الطيب رضي الله عنه ورحمه برحمته الواسعة وأباه وجده، وهذه سلالة طيبة من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم الطيبون الطاهرون. فما علم أنه زين العابدين إلا لما توفي، ففقد ستون بيتاً من ضعفاء المسلمين ذلك الرجل الذي يطرق عليهم في جوف الليل أبوابهم، وكان رضي الله عنه يحمل الطعام على ظهره وعنده من العبيد والخدم ما لا يحصى، ولو شاء أن يأمرهم لحملوا، ولما أرادوا أن يغسلوه كشفوا عن ظهره فوجدوه متأثراً من الأكياس التي كان يحملها رحمه الله برحمته الواسعة. فالذي يشتري رحمة الله عز وجل هو الرابح، الصدقة هي الربح والتجارة مع الله جل وعلا، والله جل وعلا يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] من هو السعيد الموفق الذي يضع في دواوين الآخرة صدقاته صادقات من قلبه المؤمن الموقن بربه جل وعلا؟! وأعظم ما تكون الصدقة أن تصدق وأنت شحيح صحيح تخاف الفقر وتأمل الغنى، أتخاف أن تأتيك هموم المستقبل؟ لا تبالغ، الإسلام وسط، لكن في بعض الأحيان يبالغ الإنسان في تقدير الأمور، حتى إنه يحجم عن الصدقات، فإذا كان الإنسان صحيحاً شحيحاً يخاف الفقر ويأمل الغنى، وتزينت له الدنيا بزينتها، ثم جاءه نداء الله جل وعلا، وتذكر ما عند الله فرفض الدنيا ووضعها تحت قدميه؛ فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. ووالله ثم والله

باب الرجعة [2]

شرح زاد المستقنع - باب الرجعة [2] للرجعة أحكام كثيرة تتعلق بها، ينبغي على كل مسلم أن يتفقه فيها، لأنه يعيش في مجتمع لا يخلو من الحاجة إلى هذه الأحكام. فمن ذلك معرفة حكم الإشهاد على الرجعة، وحكم المعتدة في حال عدتها وحقوقها على زوجها. ومن الأحكام المهمة أن يعرف المسلم متى تنتهي عدة المرأة، وما يترتب على ذلك، وهل يصح أن يكون الوطء للمعتدة رجعة، وإذا خرجت الرجعية من العدة وتزوجت بآخر ثم عادت، فهل النكاح الثاني يهدم الأول. وهذه مسائل وغيرها كثير فصلت أحكامها بدلائلها في هذه المادة.

حكم الإشهاد على الرجعة

حكم الإشهاد على الرجعة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد تقدم أن رجعة الزوجة تكون بالقول والفعل، وبيّنا أن اللفظ الذي يتلفظ به الزوج لكي يرتجع زوجته إما أن يكون صريحاً كقوله: راجعت زوجتي، أو يكون مختلفاً في كونه صريحاً ملحقاً بالصريح عند بعض العلماء كقوله: رددت زوجتي، أو أمسكت زوجتي. فاللفظ الصريح المتفق عليه: راجعت، وارتجعت، وأما بالنسبة لـ (رددت وأمسكت) ففيهما الوجهان عن العلماء رحمهم الله. وبيّن المصنف رحمه الله أن الرجعة تكون بما دل عليها في القول سواء كان صريحاً أو كناية، إلا أن الكناية كقول الرجل: أنت مني كحالك من قبل، يحتمل الأمرين: يحتمل: كحالك من قبل الطلاق فأنت زوجة لي الآن، وأرجعتك من طلاقي. ويحتمل أن يكون مراده أن الحال باق كما هو، أي: لا زلت أكرهك ولا زلت مطلقة مني، فأصبح متردداً بين الأمرين فلا بد من نية تميز. وقد تقدم معنا قول العلماء: إن الأمور بمقاصدها، والنيات تميز الأشياء المحتملة، فلما كان اللفظ محتملاً ميزته النية في الكنايات. وقوله رحمه الله: [لا نكحتها] فالنكاح لا علاقة له بالرجعة، ومن هنا لا يدل على الارتجاع لا صراحة ولا كناية، فلو قال: نكحتك. فإن هذا لا يدل على الرجعة؛ لأن إنشاء العقود ليس كاستدامتها، فالرجعة استدامة للنكاح، والنكاح ابتداء للعقد من جديد، وحينئذٍ فرق بين الاستدامة وبين الابتداء، فلا يعتبر قوله: (نكحتك) ارتجاعاً لزوجته. فقوله: [بلفظ: راجعت امرأتي ونحوه، لا نكحتها ونحوه]. قد تقدم أن لفظ النكاح لا يدل على الرجعة صراحة ولا ضمناً. ثم قال رحمه الله: [ويسن الإشهاد]. تقدم أن الإشهاد على الرجعة فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله: فمنهم من قال: الإشهاد على الرجعة سنة، وهو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله. ومنهم من قال: الإشهاد على الرجعة واجب، وانقسم أصحاب هذا القول إلى طائفتين: منهم من قال: الإشهاد على الرجعة واجب لا تصح الرجعة إلا به، فجعله شرطاً في صحة الرجعة، فلو أنه ارتجع زوجته ولم يشهد لم تصح رجعته. مثال ذلك: لو أن رجلاً قال: راجعت زوجتي، ثم توفي، ولم يكن هناك من شهد أو لم يكن هناك شهود ولم يستشهد على رجعته، فعلى القول باشتراط الإشهاد فإن الرجعة لا تثبت، وتصبح لو خرجت من عدتها أجنبية إذا لم يقع الإشهاد قبل خروجها من العدة، فلو كان خروجها من العدة بمغيب شمس يوم الأحد وقال: راجعت زوجتي قبل أن تغيب الشمس بلحظة، ثم توفي بعد مغيب الشمس قبل أن يشهد، فإنها تكون قد خرجت من عدتها قبل وفاته، فتصبح أجنبية لا ترثه في هذه الحالة، ولا يرثها أيضاً لو توفيت هي؛ لأنه لم يقع إشهاد على الرجعة قبل الخروج من العدة. إذاً لا بد من الإشهاد على الرجعة عند الظاهرية، ويرون أنه شرط في صحة الرجعة. ومن أهل العلم من قال: الإشهاد على الرجعة واجب ولكنه ليس شرطاً في صحتها، فإنه لو أشهد صحت رجعته، وإذا لم يشهد فإننا نحكم بأنه آثم ورجعته صحيحة، ولكن يعتبر آثماً إذا تيسر له الإشهاد ولم يشهد. واستدلوا بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] ووجه الدلالة: أن الله أمر بالإشهاد على الرجعة، والأمر للوجوب، ولا دليل يدل على صرف هذا الأمر عن ظاهره. ودليل جمهور العلماء على أن الإشهاد على الرجعة ليس بواجب: أن الله سبحانه وتعالى قال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] فجاء بالأوامر في سياق واحد، ومن المعلوم أن الإمساك في قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2] لي واجباً بالإجماع، ليس واجباً، فليس بواجب أن تمسك الزوجة إذا طلقتها، وليس بواجب على من طلق زوجه رجعية أن يمسك؛ لأن له أن يتركها حتى تخرج من عدتها وتصبح أجنبية. وقوله: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2] ليس بواجب أن يتركها حتى تخرج من عدتها، وإنما الأمر للتخيير، أي: إن شئت فأمسك، فإن أمسكت فبمعروف، وإن شئت ففارق فإن فارقت فبمعروف، ثم أشهد على ذلك، فكما أن الأوامر الأولى للاستحباب، فكذلك أمره بالإشهاد يكون للندب والاستحباب، وليس للحتم والإيجاب. ثم الدليل الثاني على عدم وجوب الرجعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمر حينما أخبره أن ابنه عبد الله رضي الله عنه طلق امرأته في الحيض: (مره فليراجعها) ولم يأمره بإشهاد على الرجعة، فدل على أن الإشهاد على الرجعة ليس بواجب. ثم إن الأصل عدم الوجوب حتى يدل الدليل على الوجوب صراحة، والدليل هنا محتمل. ولأن المقصود عودة المرأة إلى عصمة الزوج، وهذا لا يفتقر إلى الإشهاد لأنه ليس بمؤثر في هذه العودة، فأصبح ليس بواجب وإنما هو مستحب. وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الإشهاد مستحب، لكن الخلاف في أنه لازم أو ليس بلازم، والصحيح أنه ليس بواجب؛ لأن الأحاديث التي ذكرت تصرف الأمر من الوجوب إلى الندب، خاصة وأن الصحابة نصوا على أن الإشهاد ليس بواجب، ولذلك لما سئل عمران بن حصين رضي الله عنهما: عن رجل طلق امرأته ثم راجعها ولم يشهد؟ فقال رضي الله عنه: (راجعتها بغير السنة). يعني: أنه كان ينبغي عليك أن تتحرى السنة، ولم يقل له: عليك إثم أو عليك حرج، فدل على أن الأمر ليس للوجوب، ثم حكم بصحة النكاح والرجعة، فلو كان الإشهاد شرطاً في صحة الرجعة لقال له: إنها ليست بزوجة، ويجب عليك أن تعيد الرجعة مرة ثانية وتشهد، ولكنه صحح رجعته، فدل على أن الإشهاد ليس بشرط في صحة الرجعة، وليس بلازم.

المعتدة في طلاق رجعي لها حكم الزوجة إلا في القسم

المعتدة في طلاق رجعي لها حكم الزوجة إلا في القسم [وهي زوجة لها وعليها حكم الزوجات، لكن لا قسم لها]. من طلق زوجته طلقة واحدة أو طلقها الطلقة الثانية، وكان طلاقه بالطلقة الأولى والثانية بعد دخوله بها كما تقدم فإن هذه المرأة تعتد، وخلال العدة تصبح امرأة رجعية من حقه أن يراجعها في أي وقت ما دام أنها لم تخرج من عدتها كما قدمنا، لكن Q هل هذه المرأة الرجعية أجنبية، أو ما زالت في حكم الزوجة؟ وجهان للعلماء رحمهم الله: منهم من قال: إنها أجنبية، كما اختاره بعض العلماء، ومنهم الشافعية. ومنهم من قال: إنها في حكم الزوجة، كما اختاره المصنف رحمه الله وهو مذهب الحنابلة، أي: أنها زوجة لها ما للزوجات وعليها ما على الزوجات إلا ما استثني، وبناءً على ذلك: يجوز له أن يختلي بها، وأن يلمسها، ويجوز أن يسافر بها وهو محرم لها؛ لأنها في حكم زوجاته. كذلك يتفرع على هذه المسألة أنه لو قال لها وهي في أثناء عدتها من الطلقة الأولى: طلقتك، أو أنت طالق، فأردف الطلقة الثانية على الأولى وقع الطلاق؛ لأنها زوجته، وليست بأجنبية. وعلى كل حال يعتبر الحكم أنها زوجة من هذا الوجه. ويترتب على هذا أيضاً حقوق، فلو أنه توفي عنها وهي في أثناء العدة ووقعت الوفاة قبل خروجها من العدة ولو بلحظة، ولو بثانية واحدة، أو هي توفيت؛ فإنها ترثه ويرثها إجماعاً. فلو طلقها طلقة واحدة أو طلقها الطلقة الثانية بعد الدخول، ثم اعتدت، وقبل خروجها من عدتها بلحظة توفيت ورثها، وإن توفي هو ورثته، فإذاً معنى ذلك: أنه لا زالت هناك علاقة الزوجية، فقال رحمه الله: [وهي زوجة] والدليل على ذلك، عدة أدلة: أولاً: من أقوى الأدلة أن الله عز وجل قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:228] هذا الحكم، {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] يعني: أزواجهن الذين طلقوهن ووقع الطلاق منهم، أحق بارتجاع هؤلاء الزوجات المطلقات، وقوله: {فِي ذَلِكَ} [البقرة:228] يعني: أثناء الثلاثة قروء، لأن صدر الآية يقول: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] فقال الله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة:228] يعني في مدة العدة. ثم قال: (بُعُولَتُهُنَّ) يعني: أزواجهن، فوصف المطلق بكونه زوجاً للمطلقة، فدل على أنها ليست بأجنبية، ولو كانت أجنبية لما صح أن يقال إنه بعل لها؛ لأن البعل هو الزوج. كذلك قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] وجه الدلالة من هذه الآية الكريمة على أن المطلقة طلاقاً رجعياً تعتبر في حكم الزوجة: أن الله قال: (فَإمْسَاكٌ)، فلو كانت المطلقة طلاقاً رجعياً أجنبية لم يقل: (فإمساك)؛ لأن الإمساك استدامة لما قبل، فمعناه: أن النكاح لا زال باقياً، فدل على أنه يريد رد الأمر على ما كان عليه بإثبات الرجعة، فلو كانت أجنبية لما عبر بالإمساك ولعبر بلفظ ثان يقتضي الابتداء. ولأن الإمساك يدل على الاستدامة لا على الإنشاء؛ فتقول: أمسك؛ لأن الشيء في يدك، ولا تقول: أمسك لشيء ليس بيدك، فدل على أن قوله: (فإمساك بمعروف) أي: أنه لا زال بيده شيء، والله عز وجل يكني، فكنى عن كون النكاح لعصمة النساء وفي يد الرجل فقال: {فَإمْسَاكٌ} [البقرة:229] فدل على أن المطلقة لا زالت تحت سلطان زوجها، وأنها في عصمته. وبمعنى آية البقرة: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:229] آية سورة الطلاق في قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2] فدل على أن النكاح لا زال مستمراً، وأن المطلقة طلاقاً رجعياً لا تزال في حكم الزوجة، وبناءً على ذلك ترثه ويرثها. ومما يدل على أنها في حكم الزوجة أمر الله بالنفقة على المطلقات: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6] فألزم المطلق فقال: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1] فأمر أن تبقى المطلقة طلاقاً رجعياً في بيت الزوجية، وهذا يدل على أنها لا زالت زوجته؛ ولأن هذا حق من حقوق النفقة، والنفقة لا تكون إلا استتباعاً لعقد النكاح، فدلت هذه الأمور كلها على أن المطلقة طلاقاً رجعياً في حكم الزوجة وليست بأجنبية. وقوله: [لها وعليها حكم الزوجات]. أي: فيجوز له أن ينظر إليها وأن تنظر إليه ولو بشهوة، ويجوز له أن يلمسها وأن تلمسه، ويجوز أن يختلي بها وتختلي به، ويسافر معها وهو محرمها، كما ذكرنا.

المعتدة لا قسم لها في المبيت

المعتدة لا قسم لها في المبيت وقوله: [لكن لا قسم لها]. أي: لو كان عنده أربع نسوة فطلق واحدة منهن طلاقاً رجعياً فبقيت في عدتها، فإنه يجعل قسمه بين زوجاته على ثلاث ليال، فتسقط ليلة الرابعة مع أنها في العدة، فهي زوجة من وجه وليست بزوجة من وجه آخر، لكنها ليست بأجنبية.

حصول الرجعة بالوطء

حصول الرجعة بالوطء قال رحمه الله: [وتحصل الرجعة أيضاً بوطئها]. أي: لو أنه وطئ الزوجة الرجعية فإن هذا الوطء يعتبر مراجعة، وقلنا: قد تكون الرجعة بالقول وتكون بالفعل، فالرجعة بالفعل كالجماع، فلو أن رجلاً طلق امرأته الطلقة الأولى أو الطلقة الثانية بعد الدخول، ثم بعد ذلك مكثت الحيضة الأولى وطهرت، والحيضة الثانية وطهرت، ثم أراد أن يجامعها فجامعها، فالجماع من أقوى الأدلة على الرغبة في الإنسان، والله يقول: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:231]، {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] والفعل يدل على الإمساك كما يدل عليه القول؛ لأنه ليس معقولاً أن يطأ امرأة أجنبية، فلما حصل الوطء دل على رغبته فيها، وحبه لها ولعودها زوجة له كما كانت؛ لأن الرجل لا يحل له أن يطأ الأجنبية، وبناءً على ذلك يكون وطؤه لها رجعة، فتقع الرجعة بالفعل وهو الوطء كما تقع بالقول. واختلف العلماء في ذلك: فمن أهل العلم من قال: الوطء دليل على الارتجاع، سواء نوى أو لم ينو، فلو أنه جامع زوجته وهي في عدتها حكمنا برجوعها له على ما اختاره المصنف وهو مذهب الحنابلة؛ سواء نوى أو لم ينو. ومن أهل العلم من قال: إذا جامعها وهو لا ينوي ارتجاعها فإنه في هذه الحالة لا يعتبر مراجعاً لزوجته؛ لأنه يشترط أن ينوي. وبالمناسبة: أن المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً تبقى في بيت الزوجية كما ذكرنا، وهذا البقاء يحرك الزوج إلى إعادتها، ولذلك قال الله عز وجل يشير إلى هذه الحكمة العظيمة: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1] ولا يريد الله بعباده إلا كل خير، ولا يريد إلا ما يعود عليهم بالخير في دينهم ودنياهم وآخرتهم، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]. فإذا كان أهل الزوجة وأم الزوجة وأبو الزوجة كل منهم يتمنى، وأبناء الزوجين يتمنون أن تعود هذه الزوجة ويحبون عودتها، فإن الله أرحم بخلقه من هؤلاء بأنفسهم؛ لأنه يحب سبحانه لهم الخير، لأنه يعلم أن الشيطان دخل بين هذه الزوجة وزوجها حتى طلقها كما في الحديث الصحيح: أن الشيطان من الشياطين لا يدنو ولا تعلو منزلته عند الشيطان الأكبر إلا إذا فرق بين الزوج وزوجته؛ لأنه من أعظم ما يكون، فمن حكمة الله عز وجل أن جعل المرأة تعتد في بيت الزوجية، فإذا اعتدت هناك فإنها تتحرك النفوس بالذكريات، ويحس بقيمتها وتحس هي بقيمته فيتحرك كل منهما للآخر، فإذا كان الخطأ شنيعاً وقف صاحب الحق لكي يؤدب الطرف الثاني، وذل المخطئ لمن أخطأ عليه، حتى التحاكم فيما بينهما يكون في مكان واحد ولا يدخل بينهما أجنبي؛ لكن إذا رجعت إلى بيت أبيها أفسدت على زوجها، وأفسد الزوج على زوجته، ودخل الأجنبي فساءت الأمور أكثر كما ذكرنا. لكن عندما تكون المرأة في بيته فإنه إذا كان يراها معتدة في بيته ولا يمكن أن يخرجها، وليس من حقه أن يخرجها، وفي المساء والصباح يصبح ويمسي ويراها أمامه، فهذا يحركه: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1] فيحرّكه إلى أن يرتجعها، فلا يملك بحكم المحبة إلا أن يشتاق إليها ويجامعها. فإذا كان شوقه إليها بقصد الرجعة فلا إشكال، وأما إذا جامعها دون أن يقصد ارتجاعها فحينئذٍ عند من يرى أن المطلقة طلاقاً رجعياً أجنبية يرد Q هل يعتبر زانياً؟ وهل يقام عليه الحد؟ لأنه ما قصد بها الوطء الشرعي. قال جماهير العلماء: إنه لا يوجب الحد، لكن من أهل العلم من قال: إذا لم يقصد رجعتها -على القول بأنه وطئ بدون نية- فإنه لا يوجب الرجوع، وعلى هذا القول يقولون: يجب تعزيره، وحينئذٍ يعزره القاضي ويؤدبه إذا أقر على نفسه أنه جامعها ولكنه لم ينو بجماعها الرجعة. فبيّن رحمه الله أن الرجعة تكون بالقول والفعل، فإذا جامعها ناوياً ارتجاعها وقعت الرجعة. وأكمل ما تكون الرجعة أن يقول: ارتجعت زوجتي، ويشهد شاهدين على ارتجاعه، ثم يجامعها بنية الارتجاع، فحينئذٍ اجتمعت النية واجتمع القول والفعل، وأما القول مع النية فلا إشكال، كأن يقول: راجعت زوجتي ناوياً عودتها إلى عصمتي. وأما نية وفعل فأن يجامع زوجته قاصداً ارتجاعها؛ فهذه كلها من صور ارتجاع الزوج لزوجته.

تعليق الرجعة بشرط

تعليق الرجعة بشرط قال رحمه الله: [ولا تصح معلقة بشرط]. أي: ولا تصح الرجعة معلقة بشرط، كأن يقول: راجعتك إذا طلعت الشمس، أو إذا جاء غداً، أو إذا انتهى الشهر فقد راجعتك، أو إذا طهرت من الحيضة الأولى فقد راجعتك، فهذا تعليق لا يصح. ومن التعليق أن يقول لها: راجعتك إن شئت، يعني: إن كنت تريدين الرجوع إليّ فقد راجعتك، فقالت: قد شئت، فليست رجعة؛ لأن الرجعة لا تصح بالتعليق، بل لا بد وأن يبتها وينجزها ويقول: راجعتك. فإذا قال لها: راجعتك أن شئت، صحت الرجعة، لأنها هنا بمثابة التعليل، أي: لأنك شئت فقد راجعتك، لكن لو قال لها: راجعتك إن شئت، لم يصح، فهناك فرق بين الكسر والفتح، فإن قال: راجعتك إن شِئت، فهذا تعليق لرجعتها على وجود المشيئة، أو قال لها: راجعتك إن شاء أبوك، أو راجعتك إن رضي أبوك، أو رضيت أمك، فهذا لا يصح، فينبغي أن يجدد الرجعة ويقول: راجعتك، أو يفعل فعلاً دالاً على ارتجاعه لها على التفصيل الذي تقدم.

مسألة إذا طهرت المعتدة الطهر الثالث ولم تغتسل

مسألة إذا طهرت المعتدة الطهر الثالث ولم تغتسل قال رحمه الله: [فإذا طهرت من الحيضة الثالثة ولم تغتسل فله رجعتها]. أي: لأن العدة ثلاثة أطهار، فإذا طهرت في الحيضة الثالثة فبعض العلماء يقول: لا بد أن تغتسل، حتى يحكم بانتهاء عدتها. وبعض أهل العلم يقول: إن مجرد طهرها يوجب انتهاء عدتها وإن لم تغتسل. فمنهم: من اشترط الاغتسال، ومنهم: من قال بعدم اشتراطه، وفائدة الخلاف: أولاً: عندنا امرأة طلقها زوجها الطلقة الأولى فاعتدت، فلما كانت في الحيضة الأخيرة قبل غروب الشمس بنصف ساعة رأت علامة الطهر، لكنها أخرت الغسل من الحيض إلى ما بعد غروب الشمس، فإذا قلت: المرأة تخرج من عدتها بمجرد انقطاع الدم ورؤية علامة الطهر، فإنها تكون قد حلّت للأزواج قبل غروب الشمس بنصف ساعة، فلو نكحت وعقد عليها بعد ذلك مباشرة صح العقد، وصارت أجنبية من الأول وزوجة للثاني؛ لأنه قد حصل تمام العدة وخرجت منها وأصبحت أجنبية على هذا القول، ولو أنه حصلت الوفاة من زوجها بعد طهرها مباشرة ورؤيتها للدم وقبل أن تغتسل، فحينئذٍ تكون قد خرجت من عدتها فلا ترثه ولا يرثها، وهي أجنبية وهو أجنبي. فحكم بخروجها من العدة وانتهاء الرجعة بمجرد رؤية الطهر. وعلى هذا: لا يشترط الغسل عند أصحاب هذا القول، كما اختاره جمع من العلماء رحمهم الله. ومن أهل العلم من قال: إنها إذا طهرت من حيضتها ورأت علامة الطهر من حيضتها الأخيرة ولم تغتسل، فلا تزال في العدة حتى تغتسل، ولو أخرّت الغسل سنوات فإنها لا تزال في عدتها من زوجها الأول. وبناءً على هذا القول: لا تزال رجعية، فلو وقع مراجعة من زوجها الأول قبل أن تغتسل حلّت له، ولو توفي ورثته، ولو توفيت ورثها، وهذا القول مأثور عن أبي بكر وعمر وعلي، وطائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ معاذ وأبي هريرة رضي الله عن الجميع، فهم يقولون: إنها لا تخرج من العدة إلا بالاغتسال، ورأوا أن طهارتها تابعة لدمها. والأول أقوى من حيث الأصول، والثاني أشبه بالقوة على مذهب من يرى أن قول الصحابي حجة؛ ولكن الأول أقوى من حيث الأصول، فإن مجرد طهرها يدل على خروجها من عدتها؛ لأن الله يقول: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] وقد طهرت حقيقة فيحكم بطهرها؛ لأن الشرع علق على الطهر وقد حصلت هذه الصفة، فلا داعي لاشتراط الغسل إلا للعبادات التي تشترط لها الطهارة، أما هذا فهو خارج عن العبادة، فالرجعة ليس لها علاقة بالعبادة، فهي ليست مصلية، ولا طائفة بالبيت، ولا داخلة للمسجد، ولا تالية للقرآن حتى نشترط طهارتها. الطهارة والغسل يشترط فيها شيء نص الشرع على اشتراطه، وأما ما رتب الشرع وقوع الرجعة عليه، فحده ما لم تطهر، وقد طهرت، فتكون قد خرجت من عدتها بذلك الطهر.

حكم المرأة إذا انتهت عدتها ولم تراجع

حكم المرأة إذا انتهت عدتها ولم تراجع قال رحمه الله: [وإن فرغت عدتها قبل رجعته بانت وحرمت قبل عقد جديد]. البينونة تنقسم إلى قسمين، وهي مأخوذة من: بان الشيء، إذا وضح وظهر. ويقال: بان فلان من فلان، إذا فارقه، والبين هو الفراق. آذنتنا ببينها أسماء رب ثاوٍ ملَّه الثواء أي: آذنتنا بفراقها، فالبين هو الفراق، ولذلك يقال: غراب البين، أي الفراق، فالبين في لغة العرب يطلق بمعنى الفراق. بيني من الحائط بالوداد فقد مضى قرضاً إلى التنادي فهذا قول أبي الدحداح الصحابي رضي الله عنه يخاطب زوجته لما تصدق بحائطه فقال لها: (بيني)، أي: اخرجي من الحائط وفارقيه، والحائط: البستان، يعني: اخرجي وفارقي البستان، ويقال: بان إذا فارق. فالبينونة هي: أن يبين الرجل من امرأته وتبين امرأته منه: فإما أن تبين بينونة كبرى كأن يطلقها ثلاث تطليقات، وحينئذٍ لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، على نص آية البقرة. وإما أن تبين منه بينونة صغرى، والبينونة الصغرى هي التي لا تحل بها المرأة إلا بعقد جديد، إذا عقد عليها عقداً جديداً حلت له، وأما قبل العقد فلا تحل له، وهذا النوع من البينونة يقع إذا طلقها طلقة واحدة قبل أن يدخل بها، فإذا طلقها طلقة واحدة قبل الدخول فإنها بائنة منه، ولو طلقها طلقتين قبل الدخول بانت منه، بمعنى: أنها بمجرد طلاقه لها تحل لغيره، ويجوز لغيره أن ينكحها. وأما البينونة الصغرى بعد الدخول فتقع بالخروج من العدة، وتقع أيضاً بطلاق الصلح، وطلاق القاضي، والتفريق للعيوب إلى غير ذلك مما فيه تفصيل سبق بيان بعض مسائله. فلو طلق زوجته طلقة واحدة أو طلقها الطلقة الثانية وتركها حتى خرجت من عدتها، فإنها بمجرد خروجها من العدة لا تحل له إلا بعقد جديد، فلما كانت لا تحل له إلا بشرط أن يوجد عقد جديد علمنا أنها بائنة، ففيها شبه من المطلقة ثلاثاً، وفيها شبه من الرجعية؛ لأنه يحق له أن يتزوجها، ولكن يشترط في زواجه بها عقد جديد لأنها أصبحت كالمرأة الأجنبية. فأشبهت المطلقة ثلاثاً في أنها لا تحل إلا بعقد جديد، فحينئذٍ قالوا: بينونة صغرى. وأصل البين الفراق، فكل امرأة لا يحل لزوجها أن يرتجعها تعتبر بائناً، ثم تنقسم إلى بائن بينونة صغرى، وهي المرأة التي لا تحل لزوجها إلا بعقد ومهر جديد، وبائن بينونة كبرى، وهي التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجاً غيره ويدخل بها ويحصل الوطء. هذا بالنسبة لقوله: (بانت منه)، والبائن بينونة صغرى إذا كانت أثناء العدة فإن من حقه أن يردها ولو لم ترض ولو لم يأذن وليها، فلو قالت: لا أريد أن أرجع، فإنها تجبر ولو كرهت كما ذكر المصنف؛ لأن الله يقول: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة:228] فأعطى الحق للزوج أن يرتجع الزوجة ما دامت في عصمته وفي مدة العدة، فإذا خرجت من العدة صارت أجنبية فلا تحل له إلا بعقد ومهر جديدين كأنها أجنبية.

مسألة: هل النكاح الثاني يهدم النكاح الأول؟

مسألة: هل النكاح الثاني يهدم النكاح الأول؟ قال رحمه الله: [ومن طلق دون ما يملك]. أي: الذي يملك ثلاث تطليقات إذا طلق الطلقة الأولى أو الطلقة الأولى والثانية فبقيت الثالثة، وإن شئت قلت: من طلق فبقي له طلاق، فهذا (دون ما يملك) أو بقي له طلاق واحد. فمن طلق دون ما يملك وخرجت المرأة من عدتها، ثم تزوجها زوج غيره وطلقها وأرادت أن ترجع للأول، فهل ترجع بثلاث تطليقات جديدة، أو يبني على ما سبق؟ وهذه مسألة: هل النكاح الثاني يهدم النكاح الأول أو لا يهدم؟ فمن أهل العلم من قال: لو تزوجت المرأة مائة زوج وعادت لزوجها الأول رجعت بالعدد الأول، فلو طلقها قبله طلقة واحدة ورجعت إليه بقيت له طلقتان، سواء دخلوا بها أو لم يدخلوا بها، وسواء حملت أو لم تحمل وأنجبت أو لم تنجب، المهم أنه لا زالت هناك علاقة في الطلاق الأول؛ لأن الله يقول: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] إلى أن قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230] وهذا لم يطلقها الطلقة الثانية، فبقي على الترتيب الأول بنص الآية الكريمة، وهذا مذهب جمهور العلماء وأئمة السلف رحمهم الله. وهو قول أئمة الصحابة كـ أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم، فكلهم يقولون: إن النكاح لا يهدم، بل يبقى على الطلاق الأول. وقال بعض السلف كـ ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما: إنه إذا نكحها زوج ثان رجعت بثلاث تطليقات من زوجها الأول إن طلقها الثانية، ويرون أن النكاح الثاني يهدم النكاح الأول. والصحيح: مذهب الجمهور، لظاهر القرآن. والمخالفون لهم قاسوه وألحقوه بمن طلق ثلاثاً فنكحت زوجاً غيره، فإنه بالإجماع لو طلقها ثلاثاً وتزوجها زوج غيره ودخل بها فإنه يعود لها بثلاث تطليقات، فهم يقيسون من طلق الطلقة الأولى وتزوجت من بعده ثم طلقها الثاني وتزوجها الأول؛ يقيسون على من طلق ثلاثاً ونكحها زوج غيره. والصحيح: أنه يعود بالعدد الأول قلّ الأزواج أو كثروا، دخلوا أو لم يدخلوا، فالنكاح الثاني لا يهدم النكاح الأول.

الأسئلة

الأسئلة

المطلقة الرجعية لها حق السكنى والنفقة

المطلقة الرجعية لها حق السكنى والنفقة Q فضيلة الشيخ! قول المصنف: [لكن لا قسم لها] هل في المبيت فقط، أم يدخل فيه النفقة، وجزاكم الله خيراً؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فمراده القسم، وأما مسألة النفقة فالمطلقة الرجعية لها حقها في السكنى والقيام عليها، وإن كانت من أولات الحمل فإنه ينفق عليها حتى تضع حملها على التفصيل الذي تقدمت الإشارة إليه في الدروس الماضية في النفقات وحقوق الزوجات. والله أعلم.

دور العلماء والخطباء في مواجهة أعداء الإسلام

دور العلماء والخطباء في مواجهة أعداء الإسلام Q تعلمون حفظكم الله أن هذه البلاد تتعرض في هذه الآونة الأخيرة إلى أذية وتشويش من أعداء الإسلام باسم حقوق الإنسان، فما هو دور الدعاة والخطباء وطلاب العلم، ودورنا في مواجهة هذا الحقد والدفاع عن هذا البلد المبارك وولاة أمره حفظهم الله، الذين نذروا أنفسهم لتطبيق الشريعة والالتزام بحدود الله، حتى أصبحوا محل تقدير العلم، وفقكم الله لكل خير؟ A هذا السؤال سؤال مهم، وشكر الله للسائل عنايته بهذا الأمر. وقد بلغنا وسمعنا جميعاً ما يثير أعداء الإسلام ضد هذه البلاد بناءً على تطبيقها للشريعة الإسلامية، وهذا أمر لا ينبغي السكوت عنه، ولا ينبغي أن يمر على الدعاة والعلماء والأئمة والخطباء وطلاب العلم دون أن تكون هناك وقفة ترضي الله عز وجل. فهذه البلاد أنعم الله عز وجل عليها بتحكيم الشريعة الإسلامية، وأنعم الله سبحانه وتعالى على ولاة أمرها، فنسأل الله أن يثبتهم على الحق وأن يعينهم عليه وأن يكبت أعداءهم وأن يصرف عنهم سوءهم، ولا شك أنهم محسودون على هذه النعمة. حسد أعداء الإسلام هذا الخير الذي تعيشه هذه الأمة، وهذا الأمن وهذه الرحمة التي عاشت فيها الأمة بخير عظيم من الله سبحانه وتعالى، فأصبحوا يشوشون ويرجفون ويكيدون باسم حقوق الإنسان، ووالله إنه لحقد دفين على هذه الأمة، وهذا التدخل السافر لا يمكن أن يقبله أي إنسان منصف في شئون المسلمين؛ إلى درجة أن يدخلوا بيننا وبين شرع الله عز وجل الذي رضينا به سبحانه رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً؛ فيريدون أن يدخلوا بيننا وبين الله جل وعلا. أصبح أعداء الإسلام في منتهى الوقاحة والسفور، إلى درجة أن يدخلوا بين المسلمين وبين شريعة ربهم، ولا شك أن هذا الحقد وهذه الأذية والكيد السافر للإسلام والمسلمين ينبغي للأئمة والدعاة والخطباء أن لا يسكتوا عنه. ينبغي التعامل مع هذه الأذية؛ لأنه بلغنا أن الأعداء يقولون: لن نسكت، ويقولون: إننا سنثير هذه المسألة المرة بعد المرة، والقضية ليست قضية حقوق إنسان، القضية كيد لهذا الدين، وكيد لهذه الأمة المسلمة، ونوع من الإرجاف والإضعاف لهذه القوة التي خاف منها أعداء الإسلام. من هذه النعمة العظيمة أن مئات الألوف والملايين يعيشون على هذه الأرض، ولا يمكن لأحد أن يحيد عن صراط الله عز وجل فيسرق إلا قطعت يده، ولا يزني إلا أقيم عليه حده، ولا يفعل أي حد من حدود الله إلا أقيم عليه شرع الله عز وجل، فكبت أعداء الله عز وجل، وحيل بين الناس وبين حدود الله عز وجل، هال الأعداء هذا الخير وهذه الطمأنينة وهذا الأمن، وهم لا يريدون هذا. فليس هناك حقوق للإنسان يبحثون عنها، هؤلاء يريدون أن يفرقوا بين الناس وبين دينهم، وبين المسلمين وإسلامهم. فإذاً: لا بد من وقفة خاصة من أهل العلم، ومن المنتسبين لهذه الدعوة ولهذا الدين، وأن يكون عندهم وقفة صادقة تدعو الناس إلى الترابط وإلى القناعة التامة بهذا الدين؛ لأن أعداء الإسلام أخوف ما يخافون من هذه الأمة أن تماسك جبهتها الداخلية، ولا يفكرون في شيء مثل زعزعة الناس والدخول بينهم واختراق صفوفهم، فينبغي على الأئمة والخطباء من وجهة نظري إذا شوش أعداء الإسلام في حقوق الإنسان وتطبيق الشريعة والحدود؛ أن يعتنوا بالخطب الهادفة المركزة التي تبين الحدود خطبة بعد خطبة، خطبة عن حد القصاص وآثاره الحميدة على النفوس، وما يثمر من الأمن للناس في أرواحهم وأنفسهم، وخطبة عن حد السرقة، وما ذكر العلماء والأئمة فيها، وخطبة عن حد الزنا، وخطبة عن حد الحرابة، وعن الثمرات التي تجنيها الأمة الإسلامية من تطبيق شرع الله عز وجل، من رضا الله سبحانه وتعالى، وحلول الخيرات، ودفع النقم والبلاء عن المؤمنين والمؤمنات. هذه الخطب يعتني فيها الخطيب الموفق بالرجوع إلى كتاب الله وكلام أئمة التفسير حول الحكم والأسرار المبنية على الحدود، فيبين للناس الحدود حداً حداً، حتى يصبح الناس في وعي كامل وقناعة تامة بهذه الشريعة، لا نريد قناعة مبنية على العواطف، المسألة اليوم أصبحت مسألة مواجهة، لا بد للأئمة والعلماء وطلاب العلم والحاضرين أن يقوموا بدورهم، وعلى مراكز الدعوة أن تنشئ المحاضرات التي تثقف الناس وتبين لهم أمر دينهم، فلا بد أن يكون عند الناس قناعة مبنية على أساس صحيح. أولاً: الناس على فطرتهم، مؤمنون بشرع الله، فلو أتيت إلى رجل في برية أو بادية تسأله عن شرع الله لم يقبل النقاش؛ لأن القضية عنده مسلمة وسيقول لك: الله أمر انتهى، ولا يبحث عن الحكمة ولا يسأل عنها، يقول: الخير كله في أمر الله. لكن اليوم غزت الفضائيات العقول، وأتت بالسموم، ولبّس الحق في الباطل، فلا بد من وعي، وهناك شباب بريء وأطفال صغار يسمعون، وتحاك لهم المؤامرات من التشويش عليهم لنزع ثقتهم من أمتهم ودينهم وشريعتهم، هناك تشكيك في هذه الأمور، وطعن للأمة من داخلها حتى تنشأ أفراد تتأثر بهذه الأفكار لأن أعداء الإسلام دائماً يرمون ويخططون إلى الغد لا إلى اليوم. ولذلك لا بد أن نواجه هذا السيل الجارف، والحقد الدفين، والإفك المبين بقوة تردعه، ولا يردعه مثل سلطان الحق، ولا تردعه مثل الكلمة الصادقة المبنية على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم يقولها الموفق المسدد. فلا بد للأئمة أن يعتنوا بهذا، وأن يتواصى طلاب العلم فيما بينهم ببيان حكم الشريعة، والتحدث عن مثل هذه الحدود وآثارها الإيجابية وعواقبها الحميدة، وأن نتواصى بالحق؛ لأنه لا يسعنا السكوت؛ ولأن إغاظة الكافر مطلوبة، وأعداء الإسلام إذا وصلوا إلى درجة أن يأتونا في عقر دارنا لكي ينظروا إلى حقوق الإنسان؛ فماذا بقي بعد ذلك، قبحهم الله؟! ألا شاهت وجوههم! فلينظروا إلى دولهم وما فيها من سفك الدماء البريئة، وانتهاك الأعراض، وبيع النساء كالسلع في الحانات والخمارات، ما بحثوا عن هذا ولا فكروا فيه، إنما فكروا في البلاد الآمنة المطمئنة، وفكروا في البلاد المسلمة المسددة الموفقة التي أصبحت مضرب المثل، فالشمس لا يمكن لأحد أن ينكر ضوءها، هذه حقيقة وشيء يشكر؛ لأن من الإنصاف والحق أن يقال للمصيب: أصبت، وأن يقال للمبطل: أبطلت، فهؤلاء يكيدون. هؤلاء لا يريدون الخير الذي نعيشه وتعيشه الأمة، وقد هالهم ما يرون، حتى إن مواسم الحج التي يأتي فيها الملايين هالهم هذا الأمن من أمم مختلفة الأجناس والأعراف والدول، كلها تأتي لتطبيق دين الله وشريعته. فيأتون يشككون باسم حقوق الإنسان، أي حقوق للإنسان التي يهتفون بها؟! دماء تسفك! وأعراض تنتهك في مشارق الأرض ومغاربها وما حركوا لها ساكناً، نساء ترمل! أطفال تيتم وما حركوا لها ساكناً، كل هذا لا يبحثون عنه، فالدعوة ليست دعوى حقوق إنسان، وهذا هو الذي يغيظ، وهذا الذي ينبغي أن تنطلق منه حمية الدين لا حمية الجاهلية، أن تكون عندنا غيرة على هذه الأمة وعلى هذه البلاد وعلى هذا الأمن، وعلى هذا الخير الذي نرفل فيه؛ لأن هذه حقيقة لا يمكن أن ننكرها، ومن كفر نعمة الله بدل الله عز وجل عليه نعمه، نسأل الله أن لا يبدل علينا نعمه. فالواجب علينا عدم السكوت على هذا، والواجب علينا أن نتواصى، وأن نقول الكلمة المهمة ولا نجيب بعاطفة ولا بخواء، نريد كلاماً سليماً مصيباً مبنياً على حجج مقنعة، والحمد لله فالحجة عندنا؛ لأن الله يقول: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:149] وإذا نطق كتاب الله بأمر فهو الأمر الذي لا يمكن أن يرد: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41] فالله حكم ولا يستطيع ابن النصرانية أو ابن اليهودية أن يعقب على حكم الله جل وعلا، ولا نرضى بهذا؛ لكن لا نرضى بهذا حينما نتعقل في معالجة هذا الداء، وبتر واستئصال شأن هذا الشر، وذلك حينما يسمع أعداء الإسلام أن هذه الأمة لا تقبل أن يتدخل أحد في شئونها، ولا تقبل من داخلها أن يخترق أحد صفوفها، ولذلك ينبغي توعية الشباب، وتوعية الأحداث الصغار. ولذلك هناك واجب على الأئمة والخطباء، والأقلام التي تخاطب الناس في وسائل الإعلام والتوجيه المسموع والمرئي؛ أن يقوموا بكلمتهم، وأن يوجه الناس؛ لأننا نخشى أن تبث هذه السموم فتجد من يتلقاها، وإن كنا على قناعة أن الأمة على ثقة بدينها، وأن أعداء الإسلام أحقر من أن يدخلوا بين المسلمين وبين ربهم، ولكن لا بد أن ننبه على هذا. وإنني والله أقولها من قلبي، والله يشهد أنني ما أقولها إرضاءً لأحد ولكن إرضاءً لله: شكر الله لولاة الأمر في هذا البلد ثباتهم على الحق، ولقد سمعت بأذني ما صرح به وزير الداخلية من كلام يثلج الصدر، ويبهج النفس، من كشف عور الأعداء وبيان كيدهم، وأنهم لا يريدون إلا الحقد على هذه الأمة وعلى دينها، وقال: إنهم أعداء للإسلام، حتى يستطيع الإنسان أن يقف منهم الموقف الصحيح، فهذا أمر يثلج الصدر؛ لأن كل من نصر هذا الدين ننصره ونحبه، وهذا دأبنا، ولا نزكيهم على الله من نصرتهم للحق نسأل الله أن يثبتهم عليه، وأن يعينهم عليه، وأن يكبت أعداءهم فيه، وأن يجعلهم حماة لهذا الدين ورعاة للحق. ولا شك أنهم موفقون ما داموا يقولون بذلك ويحمونه، ولا شك أنهم منصورون، لسنا نحن الذين ننصرهم، وليسوا بحاجة إلى نصرنا، لكنهم أحوج ما يكونون إلى نصر الله عز وجل، إنما نقول هذا لأن هناك واجباً ومسئولية، وهناك فرضاً محتماً على أبناء الدين الإسلامي. وكلنا والحمد لله في هذا البلد نؤمن بهذا الإسلام، ليس عندنا تيارات دينية وكافرة، ولكن نقول: إن كل شيء ينصر هذا الدين ينبغي أن نقف معه الوقفة التي ترضي الله عز وجل. والله عز وجل أخبر في كتابه أن المجاهدين في سبيل الله ما وطئوا موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم، والجهاد كما يكون بالسنان وباللسان، ويكون بالحجة والبيان، فالذي يتكلم بحجة وبكلام قوي ومبني على حجة فقد نصر الدين، ومن تكلم كلاماً في وجه أعداء الله عز وجل لرد شبهاتهم وضلالاتهم فقد جاهد في سبيل الله؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم لما نزل قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُ

حكم من نوى ارتجاع زوجته بقلبه أثناء العدة

حكم من نوى ارتجاع زوجته بقلبه أثناء العدة Q هل النية معتبرة في الرجعة، فمن طلق زوجته ثم سافر ونوى ارتجاعها وهو في سفره، ولكن لم يرجع من سفره إلا بعد انتهاء العدة، فما الحكم في ذلك؟ A من نوى ارتجاع زوجته ولم يتكلم ولم يعمل، فإنه لا تصح رجعته على أصح قولي العلماء، وهو مذهب الجمهور. عند المالكية: أن النية تثبت بها الرجعة، على تفصيل عندهم وتفريق في ضوابط المقاصد. لكن مذهب جمهور العلماء رحمهم الله على أن النية وحدها لا تكفي، وأنه لا بد من قول أو فعل، فلو أنه نوى الرجعة في قرارة قلبه قبل خروجها من عدتها، ثم خرجت من عدتها؛ فهي أجنبية وليست بزوجة له؛ لأن حديث النفس لا عبرة به ما لم يصحبه قول وفعل دال عليه. والله تعالى أعلم.

التفصيل في قتل الحمام داخل الحرم وخارجه

التفصيل في قتل الحمام داخل الحرم وخارجه Q فضيلة الشيخ! كنت ماشياً في الطريق، وفجأة طارت حمامة واصطدمت بسيارتي وماتت من حينها، فما الحكم في ذلك؟ A الأصل أن قتل الصيد الذي هو الحمام؛ إن كان الإنسان محرماً ويقود السيارة، فقد تقدم معنا في قتل الصيد أنه يستوي فيه الخطأ والعمد، والحمامة فيها شاة بقضاء الصحابة رضوان الله عليهم، فتجب فيها شاة كما هو قضاء الصحابة، فإذا كنت مسافراً وأنت محرم بالحج أو العمرة ثم صدمت حمامة أو دهستها وقتلتها فإن عليك الضمان، ويكون هذا الضمان بشاة في قضاء الصحابة رضوان الله عليهم في جزاء المثل، فتخرج شاة أو عدلها من الطعام أو عدل الطعام من الصيام، هذا هو الأصل المقرر في كفارة قتل الصيد أو جزاء الصيد. وأما إذا كان الدهس في حرم لا إحرام فيه، أي: إذا كنت داخل مكة ودهست حمامة، فقتل الحمام أيضاً داخل الحرم فيه شاة، وهو قضاء الصحابة رضوان الله عليهم أيضاً، فقد قضوا في الحمامة بشاة، وأن من قتل حمام الحرم فكل حمامة فيها شاة. وأما إذا كان الدهس خارج الحرم والإحرام، مثل أن تكون في غير مكة والمدينة، كأن تكون في جدة وحصل الدهس في الطريق إلى مكة أو إلى المدينة قبل الدخول في حرمهما، فحينئذٍ لا شيء عليك، ولا ضمان في هذا، خاصة وأنك مخطئ. والله تعالى أعلم.

قول (سبحانك فبلى) عند قراءة آخر سورة القيامة

قول (سبحانك فبلى) عند قراءة آخر سورة القيامة Q هل ورد عند قراءة آخر سورة القيامة: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40] ذِكرٌ، كأن يقول: بلى في صلاة الفريضة، وجزاكم الله خيراً؟ A في صلاة الفريضة لم يرد، إنما جاء في حديث الترمذي أنه سمع رجلاً في قيام الليل يقول: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40] فقال: (سبحانك بلى). وعلى ذلك فالسنة أنك إذا قرأتها خارج الصلاة أو سمعت رجلاً يقرؤها، فاشهد أن الله قادر على أن يحيي الموتى سبحانه وتعالى، وهو على كل شيء قدير {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79] جل جلاله، وتقدست أسماؤه. وكذلك إذا صليت بالليل أو صليت نافلة فقرأت هذه السورة تقول: سبحانك بلى؛ لكن في الفريضة لا؛ لأنه ما حفظ في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بأصحابه صلاة الليل والنهار المفروضة أنه وقف عند آية رحمة ولا آية عذاب ولا رد على آية، ولذلك يجب أن نفرق بتفريق السنة. فلو كانت سنة ما سكت عنها عليه الصلاة والسلام، وما كان ثابتاً عنه في الفرض ثبت في الفرض، وما كان في النفل فهو في النفل، فيفرق حيث فرق الشرع؛ لأننا وجدنا الشريعة تخفف في النافلة ما لا تخففه في الفرض. فوجدنا النافلة تصح من القاعد وهو قادر على القيام ولا يصح ذلك في الفرض، ووجدنا الإنسان يصلي على دابته في السفر النافلة ولا يصلي عليها الفريضة، ويصلي على دابته حيثما توجهت به في السفر إلى غير القبلة، ولا يصح ذلك في الفريضة، ففرقت الشريعة بين الفرض والنفل، وفي الفرض مزية ليست في النفل، ففرقنا لتفريق الشرع. قال زيد رضي الله عنه: (كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام) وهذا أصل في أننا لا نتكلم في الفريضة، فلما جاء الكلام في نافلة ولم يوجد في فرض بقي الفرض على الأصل، وهذا ما يسمونه تخصيص العموم، خصت النافلة فبقي الفرض على أصله، فلا نقول: الأصل أن النافلة والفرض على حد سواء؛ لأن الشريعة ما قالت إنهما على حد سواء، بل جعلت في النافلة تخفيفاً ليس في الفرض، وبناءً على ذلك نقول: ما ورد بعمومه يبقى على عمومه، وما ورد بخصوصه يخص الحكم به. والله تعالى أعلم.

جواز خروج الموكل من منى قبل رمي وكيله

جواز خروج الموكل من منى قبل رمي وكيله Q في مسألة رمي الجمار، هل يجوز للموكل أن يخرج من منى قبل رمي وكيله؟ A أول شيء يشترط في صحة التوكيل في رمي الجمار؛ أن يكون الأصيل عاجزاً عن الرمي، حقيقة أو حكماً، عاجز حقيقة مثل المشلول لا يستطيع أن يرمي، وعاجز حكماً مثل الشخص الذي يخشى منه ضرر أو يخشى أن يموت مثل المريض بالقلب، وكبير السن من الحطمة الذي يغلب على الظن أنه لو دخل في زحام الجمرة لمات، فهذا عاجز حكماً، وإن كان قادراً على الرمي حقيقة، لكنه لا يستطيع لأجل الزحام، فهو في حكم العاجز الذي لا يستطيع أن يرمي. كذلك العاجز حكماً مثل المرأة الحامل التي يغلب على الظن أنها لو دخلت في الزحام أو ضربت على بطنها ربما قتلت، فهؤلاء يرخص لهم، ومثل الصبيان الذين لا يعرفون الرمي ولا يستطيعون، فهؤلاء يوكلون، وجاء في حديث أنس عند ابن ماجة وغيره: أنهم رموا عن الصبيان في حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم. الشرط الثاني: أن يكون الوكيل الذي توكله بالرمي حاجاً في ذلك العام، فلا توكل الذي لم يحج، ومن الخطأ أن بعض الباعة في منى يتوكل عن بعض الحجاج، وهذا خطأ، فلا يصح الرمي إلا من حاج؛ لأنه عبادة لا تصح إلا من الحاج، والوكيل تابع للأصيل فحكمه حكم الأصيل، كما أن هذا الرامي -الأصيل- لا يصح رميه إلا أن يكون محرماً، كذلك الوكيل لا يصح رميه إلا إذا كان محرماً بالحج في ذلك العام. ثالثاً: يشترط أن يبدأ الوكيل بالرمي عن نفسه حتى يتم الجمرات الثلاث ثم يرجع ويرمي عمن وكله، وقلنا: الجمرات الثلاث؛ لأنها نسك واحد، فيتم الرمي الذي أوجب الله عليه حتى يتم الثلاث ثم يرجع ويرمي عن غيره بالسنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ألزم بهذا فقال: (حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) فإذا كان هذا في الكل فإن الجزء آخذ حكم الكل، فيرمي عن نفسه ثم يرمي عن غيره، ولا يصح أن يبرئ ذمة الغير مع شغل ذمته في حق نفسه. وقال بعض السلف: الأفضل أن يحضر الأصيل ثم يرمي الوكيل بمحضره؛ ولكن هذا إن تيسر وفعل فهو من باب الأفضل، ولكن لا بأس بتركه وليس بلازم، ولو أنه جلس في الخيمة أو جلست المرأة في الخيمة وانطلق وكيلها ورمى فإنه يصح. والذين استحبوا حضور الموكل قالوا: فائدة حضوره أن هناك سنناً مرتبطة به شخصياً، فإذا عجز عن الرمي فهو قادر على الدعاء، فبعد ما يرمي وكيله يقوم هو بالدعاء عن نفسه ويحقق هذه السنن تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه شهد ورمى، فإن عجز عن شيء في سنة الرمي بقيت سنة الشهود والحضور، فقالوا: إن مقصود الشرع أن يكون في هذا الموضع، إلى غير ذلك مما ذكر من التعليل، وعلى كل حال: ليس الحضور بلازم ولا واجب، وإذا رمى وكيله وهو في خيمته فالرمي صحيح ويجزيه. والله تعالى أعلم. فإن قيل: هل الخروج من منى له تأثير؟ أي: هل يشترط أن يكون الموكل في منى، أو يكون عند الجمرات؟ فالجواب: لا يشترط؛ بحيث إنه لو رمى عني جمرة العقبة وأنا أطوف طواف الإفاضة -أي: لست في داخل منى- فلا بأس، والمرأة العاجزة عن الرمي لو وكلت عن رميها ثم بعد ذلك نزلت وطافت طواف الإفاضة وتحللت فلا بأس، فلا يشترط أثناء الرمي أن تكون بمنى، وهكذا لو تعجل ورمى عنه وكيله ثم خرج من منى فإنه يجزيه ولا حرج عليه في ذلك. والله تعالى أعلم.

أهمية العمل بالعلم

أهمية العمل بالعلم Q نجد العلماء ينبهون على ضرورة العمل بالعلم، فما معنى هذا؟ وما هو الطريق للحصول على العمل بالعلم وفقكم الله لكل خير؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالعمل بالعلم درجة عظيمة، ومنزلة شريفة كريمة أحبها الله وأحب أهلها، واصطفى لها خيرة خلقه بعد أنبيائه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فأحب الخلق إلى الله بعد الأنبياء والرسل العلماء العاملون، وهم الصديقون الذين جعل الله مراتبهم في الجنة بعد مراتب الأنبياء، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه وهو أرحم الراحمين. فالعمل بالعلم هو البركة العظيمة، وهو من أصدق الشواهد وأظهر الدلائل على أن هذا العلم مبارك، فالعبد الذي بورك له في علمه تظهر دلائل بركة علمه في جانبين عظيمين: أولهما: عمله بالعلم، وحرصه على ألا يدنس علمه بالمخالفة لله ورسوله حتى لا يمقته الله عز وجل، وإذا مقت الله عبداً فلا تسأل عن حاله والعياذ بالله. ثانياً: أن يرزقه الله عز وجل نشر العلم، ونفع الأمة، والحرص على دلالتها للخير، ومحبة هذا النصح وهذا التوجيه بنشر العلم قائماً وقاعداً، مسافراً وحاضراً، ينشره بين الصغير والكبير، والجليل والحقير، يحب أن الناس كلهم مثله، وأن الناس أفضل منه في العلم. فإذا رزق الله العالم هاتين الخصلتين: علماً وعملاً، ودعوة وتعليماً للمسلمين، فقد أتم الله عليه النعمة، وبارك له في العلم، وهذا هو الذي يسأله ولي الله المؤمن حينما يقول: اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ومن هنا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم بربه جل جلاله من علم لا ينفع. فمن أظهر الدلائل على عدم نفع العلم أن ينزع الله من صاحبه العمل، وإذا نزع العمل من العلم أصبح صاحبه من الجاهلين، فتجده يخبط خبط عشواء، وتجد علوم العلماء الراسخين من أئمة السلف والتابعين لهم بإحسان منيرة، وأقوالهم واضحة، وحججهم بينة، وألسنتهم ألسنة صدق لا تتلجلج؛ من وضوح الحق وظهوره في صدورهم؛ لأنهم أحبوا العلم من كل قلوبهم، وعملوا به بأبدانهم، أحبته قلوبهم وأجنتهم، ونطقت به ألسنتهم، وعملت به جوارحهم وأركانهم، فأسعدهم الله به في الدنيا والآخرة، فهذه هي سعادة العلم، وهي لذته وسلوته وبركته وخيره، أعني أن يرزق الإنسان العمل به؛ لأنه إذا عمل رأت الناس عمله، ورأت دلائل العلم في سمته وهديه وقوله وعمله وظاهره وباطنه، فصار إماماً هادياً مهدياً، مهتدياً في نفسه هادياً لغيره، وقد جمع الله هذه المنزلة لخيرة عباده فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:1 - 3] هذا الأساس والقاعدة التي عليها سعادة الدنيا والنجاة من الخسارة، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] فاهتدوا في أنفسهم أولاً، ثم هدوا غيرهم، ولن يهتدي الإنسان في نفسه حتى يعمل بالعلم. وإذا أراد الله عز وجل أن يبارك لطالب العلم في علمه، فإنه يحتمل همه العمل بعد العلم، أول ما يحمل في العلم الإخلاص، ثم بعد ذلك يحمل هم الجد والاجتهاد في تحصيله وطلبه، ثم إذا رزقه الله الإخلاص والجد والاجتهاد في تحصيله وطلبه، حمل هم العمل بما علم، فإذا وفق للعمل بما علم حمل هم القبول من الله جل وعلا، فإذا وفق في دلائل القبول وظهرت أمارات القبول من حب الله سبحانه وتعالى له، ووضع المحبة في الخلق، وانتشر علمه، وانتفع به الناس؛ ازداد ذلة وانكساراً لربه، فلم يشعر في نفسه حتى يجعله ربه هادياً مهدياً، فينشر العلم بين الناس، ويوطئ كنفه للناس، ويخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين حتى ينتفع الناس بعلمه. العمل بالعلم المراد به فعل ما أوجب الله عز وجل، وترك ما حرم الله عز وجل مما علم من نصوص الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [السجدة:24] فجعل الهداية بالعلم، فلا هداية إلا بعلم، ولا يمكن أن يكون العلم صحيحاً إلا إذا كان معه العمل، قالوا في الحكمة: (هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل). فأي سنة تتعلمها تحرص على تطبيقها، فإذا سمعت رحمك الله: أن الله يحب الصلاة والمصلين، فمن عملك بعلمك حينما علمت أن أفضل ما تكون الصلاة أن تبكر إليها، فتبكر أول الناس إلى المسجد، إن استطعت أن لا يؤذن للفريضة إلا وأنت في المسجد فقد عملت بما علمت، وإن استطعت إذا دخلت المسجد فصليت أن لا تجلس صامتاً؛ لأنك تعلم فضل الذكر، فتجلس ما بين تلاوة القرآن وتسبيح وذكر لله واستغفار وانكسار لله عز وجل حتى تصلي والملائكة تصلي عليك؛ فقد عملت بما علمت لأنك علمت فضل هذه الأمور فعملت بها. فإذا صليت رحمك الله ووسعك أن تنتظر الصلاة بعد الصلاة، وسمعت ما ورد من السنة في فضل ذلك فجلست ورابطت واحتسبت الأجر عند الله عز وجل، خاصة إذا كنت من طلاب العلم ومن أهل القدوة فتحرص على أن تكون إماماً لغيرك؛ فإذا حرصت على ذلك فقد عملت بما علمت. فإذا صليت وأديت الصلاة على أتم وجوهها وجاءتك الفرائض ونوافلها ورواتبها حرصت على الأكمل والأسمى، فانتقلت من السنن الراتبة ومن الوتر إلى إحياء الليل وقيامه، فحرصت على قيام الليل، فلا تمر عليك ليلة إلا قمتها ما لم تكن مسافراً أو عندك عذر، ثم إذا وفقك الله إلى قيام الليل حرصت على الإكثار من النوافل في النهار، وعلمت فضل الوضوء وفضل الصلاة بعد الوضوء، فصرت لا تحدث حتى تتوضأ، ولا تتوضأ حتى تصلي ركعتين، فبورك لك في علمك بالصلاة وفضائلها. تنتقل بعد ذلك إلى فضائل الصدقات علمت أن الله يحب المتصدقين، وأن الصدقة صدق في الإيمان، وتصديق لما ورد من الرحمن مما يكون من فضائل الصدقة في الدين والدنيا والآخرة، والمراتب العلى في الجنان، فسخى قلبك، وأنفقت يمينك، فأصبحت الدنيا في يدك لا في قلبك، وأصبحت لا تبالي بما تنفق، وأصبح أحب ما يكون عندك أن تلتمس مرضاة الله. فإذا علمت أن الله يحب منك الصدقة الخفية، فبعد أن كنت تتصدق أمام الناس علمت أن الأفضل أن تخفيها: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] فتنتقل إلى مرتبة الإخفاء، فكنت تتصدق بالنهار ثم صرت تتصدق بالليل، كنت تتصدق مع أناس فإذا بك تحمل الصدقة لوحدك. ثم بعد الصدقات انتقلت إلى درجة الإيثار، فكنت تتصدق بالفضل، فجاءك أخوك في كربة أو دين أو نكبة وعندك مال، فعلمت أن الله يبتليك، وخرجت من المسجد ورأيت مكروباً منكوباً يقول لك: لله! وليس في جيبك إلا ريال أو ريالان أو عشرة أو عشرون، وهو أشد ما يكون حاجة لها، فعلمت معنى: (لله) أي: أعطني وثوابك على الله، فأعطيته فقد عملت بما علمت. ولذلك كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم ينزعج إذا قيل له: في سبيل الله، ولا يمكن أبداً أن يبرح حتى يعطي، يقول: لأنه قال لي: لله وفي سبيل الله، ولا يمكن أن أبرح حتى أعطيه؛ لأنه يعلم ما معنى هذه الكلمة. ففائدة العلم أن يعمل الإنسان بما علم، وأن يعلم كيف يعامل الله سبحانه وتعالى. ثم تنتقل إلى مراتب أخرى حتى يجعلك الله عز وجل من العلماء العاملين، والله يبتلي طالب العلم من أول خطوة يخطوها، من اليوم تفكر أنك لا تتعلم شيئاً إلا عملت به، ولا تسمع بسنة إلا عملت بها، قالوا: اعمل بالحديث ولو مرة تكن من أهله، حتى إن بعض أئمة الحديث كالإمام البخاري وغيره كانوا إذا قرءوا أحاديث الصدقات جمعوا ما عندهم فتصدقوا بها، لا يحبون أن يمر عليهم أمر من أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في ندب أو طلب أو رغبة أو رهبة أو رجاء إلا حرصوا على تطبيقه والعمل به؛ وعندها ينشرح صدره، ويثبت على الخير قدمه، ولذلك تجد بعض طلاب العلم لا يطلب العلم شهراً أو شهرين إلا وجد نفحات العلم وبركاته في صدره وقلبه وقالبه، تجد فعلاً أن العلم أثر عليه. وتجد بعض طلاب العلم -نسأل الله السلامة والعافية- إذا دخل في طلب العلم إذا به يحفظ الصغير والكبير، وإذا به أقسى الناس قلباً، وأبعدهم عن الله عز وجل، وتجده يمر على المواقف التي تهز عامة المسلمين ولا يحرك فيه ساكناً؛ لأنه إذا طبع على القلب أو مقت الله صاحبه فلا تسأل عن حاله، فنسأل الله بعزته وجلاله أن يعيذنا من هذا. على كل موفق سعيد أن يحرص على أن يكون بينه وبين الله سر، وأفضل ما يكون العمل بالعلم إذا كان بينك وبين الله عز وجل، وأفضل ما يكون وأكمل ما يكون عملك بعلمك حينما يكون بينك وبين الله في أسرارٍ خفية لا يعلمها إلا الله عز وجل. تجلس مع الناس وتعاشر طلابك وإخوانك وأهل مسجدك كواحد منهم، تسافر معهم وتجلس معهم ولا يشعرون بقيامك في ليلك، ولا بطاعاتك ولا بنفقاتك ولا بأمورك الخفية؛ لأنك تخاف الرياء على نفسك، فإذا خلوت بربك علم الله أن بينك وبينه سراً وهو الخوف الصادق والخشية الخفية، فعندها يبوئك الله مبوأ الصادقين، ويفتح عليك حتى تبلغ درجات العلماء العاملين. هذه مرتبة. ثم إذا أراد أن يتم عليك النعمة أوصلك إلى درجة لا تبالي بما أظهرت وأخفيت من عملك، فتصبح عندك السر والعلانية سواء، بحيث إنك لو أظهرت العمل لم تبال بالناس، ولو جلست في محاضرة وفي مسجد تخطب خطبة وأمامك عشرة آلاف، فكأنك جالس وحدك. هذه كلها مراتب للمخلصين والأئمة المهتدين، ولذلك كان أئمة السلف يضربون أروع الأمثلة في المعاملة مع الله عز وجل. نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى ووجهه الكريم، أن يجعلنا علماء عاملين أئمة مهديين، غير ضالين ولا مضلين، إنه ولي ذلك وهو أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب الرجعة [3]

شرح زاد المستقنع - باب الرجعة [3] لقد اهتم الإسلام بشأن المرأة فجعل لها قدرها عند زوجها، ورفع من شأنها كأم مربية للأجيال، ورد لها اعتبارها فيما إذا اختلفت مع زوجها أو حصل لها طلاق أو فراق، أو انتهت العدة ولم يشعر بذلك الزوج، فلها قولها ورأيها تتكلم وتتخاطب مع زوجها وفق معايير الشرع وآدابه وأخلاقه أمام القضاء العادل. وهنا أحكام تتعلق باختلاف الزوج مع زوجته في وقت الطلاق وانتهاء العدة، ففي أحوال يقبل قولها وفي أحوال يقبل قوله، وقد بين الشيخ هذا الاختلاف، مع بيان مأخذ كل قول للعلماء في ذلك

اختلاف الزوجين في انقضاء العدة

اختلاف الزوجين في انقضاء العدة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد شرع المصنف رحمه الله في بيان مسائل الاختلاف في الرجعة، وهذه المسائل في الحقيقة ترجع إلى كتاب القضاء، يختصم فيها الزوج مع زوجته، هل وقعت الرجعة أو لم تقع الرجعة؟ وكان ينبغي أن تُذكر هذه المسائل في كتاب القضاء؛ لأنها راجعة إلى المسألة المشهورة: من هو المدعي ومن هو المدعى عليه؟ وقد ذكرنا غير مرة أن من عادة أهل العلم رحمهم الله أنهم يذكرون مسائل الاختلاف في كل باب من أبواب المعاملات بحسبه، فمسائل الاختلاف في البيع تُذكر في كتاب البيع، ومسائل الاختلاف في الإجارة تذكر في باب الإجارة، وهكذا بالنسبة لمسائل الاختلاف في باب الأنكحة، فذكر المصنف رحمه الله اختلاف الزوج مع زوجته وسيذكر جملة من الصور التي اختلف فيها العلماء رحمهم الله. هل نصدق الزوجة ونحكم بكونها خرجت من العدة، أو يبقى الزوج على الأصل من أنها رجعية وأنها في عدتها، ويحكم بقوله قضاءً؟ هذه المسألة فيها تفصيل: من حيث الأصل: إذا طلق الرجل امرأته طلاقاً رجعياً، وادعت المرأة أن العدة قد انتهت، فإنها إما أن تكون من ذوات الحيض، أو تكون من ذوات الحمل، أو من ذوات الأشهر. فالعدة إما أن تكون بالحيض (بالأقراء)، وإما أن تكون بالأشهر كالصغيرة والآيسة من الحيض، وإما أن تكون بوضع الحمل، فإن كانت المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً من ذوات الأقراء، فإنه حينئذٍ ينظر في الشيء الذي تدعيه، إن كان الوقت الذي ادعت فيه أنها قد خرجت من عدتها يمكن في مثله أن تخرج، حُكِمَ بقولها إلا إذا دل الدليل على خلافه. فإذا ادعت أنها خرجت من عدتها وكان قد طلقها قبل شهر نظرنا إلى أقل الحيض، يكون فقه المسألة أنها دعت أنها قد حاضت ثلاث حيضات، أو طهرت ثلاثة أطهار، على الخلاف هل العدة ثلاثة أطهار أو ثلاثة حيضات؟ إذا ادعت أنها خرجت من العدة وكان وقت الطلاق قد مضى عليه ثلاثة أشهر، فحينئذٍ لا إشكال؛ لأن الغالب صدقها، وهذا لأن الأصل أنها في كل شهر تحيض حيضة. لكن الإشكال أن تدعيه في غير المعتاد، كأن يمضي شهر على الطلاق، أو يمضي شهر ونصف على الطلاق، فهل يمكن لمثلها أن تحيض ثلاث حيضات أو تطهر ثلاثة أطهار في هذه المدة؟ A نرجع إلى المسألة التي تقدمت معنا في باب الحيض، فننظر إلى أقل الحيض وأقل الطهر، فنضيف أقل الحيض إلى أقل الطهر ونكرره ثلاث مرات في الأطهار، وثلاث مرات في الحيضات مع الطُهر. فإذا قلنا على قول الحنابلة والشافعية رحمهم الله: إن أقل الحيض يوم وليلة، وقالت: إنها حاضت الحيضة الأولى في اليوم الأول وطهرت مباشرة ثم قالت: إنها طهرت ننظر في الطهر، فإذا وافق أقل الطهر الذي هو ثلاثة عشر يوماً أضفناها لليوم الذي هو يوم الحيض. ففي يوم الرابع عشر تم طهرها الأول، وتدخل في الحيضة الثانية، فإذا قالت: رأيت الدم في اليوم الخامس عشر، واليوم الخامس عشر هو الحيضة الثانية، فإذا قالت: انقطع الدم بتمام مدته أضفنا ثلاثة عشر يوماً فصار الكل ثمانية وعشرين يوماً فتكون قد دخلت في الحيضة الثالثة في التاسع والعشرين؛ فإذا قلنا: إنها قد دخلت بدخول التاسع والعشرين فأضف يوماً واحداً لحيضتها الثالثة، فبتمام اليوم التاسع والعشرين تكون قد أتمت الحيض، ثم قالت: إنها طهرت. فبداية طهرها أن تضيف على اليوم التاسع والعشرين لحظة لكي تدخل في الطهر الثالث. فإذا دخلت في الطهر الثالث فقد حلت على القول بتمام الحيض. وكذلك بالنسبة للمذهب قلنا: إن هذا القول وهو أن أقل الحيض يوم وليلة وأقل الطهر ثلاثة عشر يوماً استند إلى قضية شريح رحمه الله مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه. فإن امرأة ادعت أنها قد خرجت من عدتها في شهر، فرفعت القضية إلى علي رضي الله عنه فقال: شريح لهذا، وقال: (إن جاءت ببينة من أهلها يشهدون بصدقها حكمت) يعني: بخروجها من عدتها، فقال له علي رضي الله عنه: (قالون) أي: أحسنت، أو كلمة ثناء بالفارسية. فدل هذا على أنه إذا مضت تسعة وعشرون يوماً ولحظة أنه يمكن أن يحكم بخروج المرأة من عدتها. أما إذا قلنا: إن الحيض لا حد لأقله فالأمر أخف وأقل؛ لأنه يتحقق ولو بلحظة واحدة كما هو مذهب المالكية، وتضيف إليها ثلاثة عشر يوماً طهراً، ويكون حينئذٍ الشهر زمن الإمكان من حيث الأصل. على كل حال المصنف رحمه الله اختار أنه تسعة وعشرون يوماً ولحظة، فإذا ادعت المرأة وكانت من ذوات الأقراء أنها قد طهرت خلال شهر أو خلال هذه المدة فأكثر، حكم بتصديقها من حيث الأصل؛ لأنه زمن الإمكان. هكذا لو كان الزوج يقر أن زوجته عادتها مثلاً ستة أيام، وتطهر في العادة أربعة عشر يوماً، فحينئذٍ يحسب لها عشرون يوماً ثم عشرون يوماً ثم عشرون يوماً، فلو ادعت بعد شهرين حكم بخروجها من العدة. وتقاس على هذا المسائل الأخر؛ لأن هذه المسألة أصل من جهة أقل الحيض وأقل الطهر؛ وإلا إذا ادعت المرأة أنها خرجت من عدتها في زمن يمكن أن تخرج فيه من عدتها وكانت من ذوات الحيض حكمنا بصدق قولها ما لم يقم الدليل على خلافه، هذا بالنسبة لذوات الأقراء. وإذا كانت المرأة من ذوات الأشهر كالصغيرة والآيسة من الحيض فعدتها ثلاثة أشهر، فحينئذٍ لا يكون الاختلاف في نهاية العدة مشكلاً إذا كان هناك اتفاق على بداية الطلاق. فإذا اتفقا على اليوم الذي وقع فيه الطلاق لم يقع إشكال في خروجها؛ لأنها تضاف ثلاثة أشهر كاملة، ولو ادعت دون الثلاثة الأشهر لم يلتفت إلى قولها؛ لكن الإشكال في هذا النوع من النساء أنه يختلف الزوج مع زوجته في زمن وقوع الطلاق. فيقول مثلاً: إن الطلاق كان يوم الخميس، وتقول هي: كان الطلاق يوم الأربعاء، فالزوج يدعي الطلاق في الخميس، والزوجة تدعي الطلاق في الأربعاء. فالفرق بينهما يوم واحد فإذا كان قد راجعها في هذا اليوم، فهل تكون قد خرجت من عدتها أو لم تخرج؟ فحينئذٍ يحكم بالأصل. وسيأتي إن شاء الله بيان أن الأصل بقاء الزوجية إلى يوم الخميس؛ لأنها قالت: طلقت يوم الأربعاء، فأنا الآن حل للأزواج وقد خرجت من عدتي، فقال: بل طلقتك يوم الخميس ولا زلت في عصمتي، وقد راجعتك في هذا اليوم الأخير. فاليوم المختلف فيه الذي هو تمام الستين يوماً على قوله، وزيادة اليوم على قولها، ترجع إلى مسألة أخرى، وهي أن الزوج حينما قال: طلقتك يوم الخميس. وقالت هي: طلقتني يوم الأربعاء، فالأصل واليقين أن الزواج باق إلى الخميس؛ لأن الأصل أنها زوجته وهو الذي أوقع الطلاق. الأمر الثاني أنه من حيث الأصل: أننا يوم الأربعاء متفقون على أنها كانت زوجته من حيث الأصل حتى وقع طلاقها، فيقولون: نستصحب الأصل. ولذلك فطائفة من العلماء يفرعون هذه المسألة على مسألة (اليقين لا يزال بالشك)، وهي إحدى القواعد الخمس التي ذكرناها، والتي قام عليها الفقه الإسلامي، ومن فروعها: (الأصل بقاء ما كان على ما كان). فالأصل أنها زوجته إلى يوم الخميس حتى يدل الدليل على سبق الطلاق، فإذا جاءت بشهود أنه طلقها يوم الأربعاء خرجت من عدتها وأصبحت حلالاً للأزواج، ولا يملك ارتجاعها إلا بعقد جديد، فهما إذا اختلفا وقالت: طلقتني يوم الأربعاء وأنا الآن حل وليس لك عليّ سلطان؛ لأني قد خرجت من عدتي. وقال: بل طلقتك يوم الخميس. حكمنا بقوله، فإن شهد الشهود أنه وقع طلاقه لها يوم الأربعاء حكم بكونها أجنبية ولا تحل له إلا بعقد جديد على الأصل الذي ذكرناه في الرجعية إذا خرجت من عدتها. أما ذات الحمل إذا طلقها وكانت حاملاً فالعلماء اختلفوا فيها على وجهين: من أهل العلم من قال: لا يمكن أن يحكم بخروجها من عدتها إلا إذا وضعت جنينها، ويكون الوضع المعتبر، وحينئذٍ لابد من مضي ستة أشهر؛ لأن الستة الأشهر هي تمام الحمل. وتقدير الحمل بستة أشهر تتفرع عليه مسائل مهمة جداً منها: مسألة شق بطن المرأة إذا ماتت وفي بطنها جنين، فلا يجوز إلا إذا تمت له ستة أشهر، وحكم الأطباء بوجوده حياً، فحينئذٍ يشق بطنها ويستخرج، أما إذا كان دون ستة أشهر فلا يشق. كذلك مسألة: إذا ادعت أنها وضعت حملها قبل ستة أشهر لا يحكم، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15] فبيّن سبحانه أن حمل الجنين وفصاله عن الرضاع يتم في خلال ثلاثين شهراً. وقد بيّن نص القرآن أن الرضاع في الأصل يكون حولين كاملين، والحولان أربع وعشرون شهراً، فإذا كان الحمل مع الرضاعة التامة بنص القرآن يكون ثلاثين شهراً، فمعنى ذلك أن أربعة وعشرين شهراً منها للرضاعة، ويبقى ستة أشهر هي للحمل، وهذا يدل على أن أقل الحمل هو ستة أشهر. إذا ثبت هذا وادعت أنها وضعت حملها، فقد اختلف العلماء فبعض العلماء يقول: ينظر إلى تمام الحمل وذلك بستة أشهر ولا يلتفت إلى ما دونه، ومن أهل العلم من قال: السقط إذا كان بعد مدة التخلق وتصويره حكم بخروجها من العدة إذا ألقته ولو كان سقطاً. وفرعوا على ذلك مسائل منها: أنه يستتبع الدم ويحكم بكونه آخر حكم دم النفاس، كما اختاره بعض أصحاب الإمام الشافعي رحمة الله عليهم. وبناءً على ذلك يقولون: إذا تمت ودخلت في الأربعين الثانية هي التي ينتقل فيها من النطفة إلى العلقة، ثم ألقته، حكم بخروجها من العدة، والصحيح ما ذكرناه أنه لابد من تمام مدة الحمل حتى يحكم بخروجها من العدة، كما سيأتي تفصيله في باب العدد. بالنسبة لقوله: [إن أمكن] أي: زمان الإمكان لا نقبل من كل امرأة أن تدعي خروجها من عدتها؛ لأن هذا يفوت على الزوج إرجاعها، فالأصل أنها إذا طلقت طلقة واحدة أو طلقتين وكانت مدخولاً بها، فإن زوجها أحق بارتجاعها. فإذا ادعت أنها خرجت من العدة فقد فوتت على زوجها حقه، وحينئذٍ يترتب عليه أنه ربما عقد عليها رجل آخر، فعقد على امرأة في عصمة غيره. فهذا يدعو العلماء رحمهم الله إلى بيان الحد المعتبر للحكم بخروج المرأة، والقول المعتبر من المرأة إذا ادعت تمام عدتها وخروجها من حك

أحوال المرأة إذا ادعت انقضاء عدتها من زوجها

أحوال المرأة إذا ادعت انقضاء عدتها من زوجها

أن تدعي المرأة انقضاء العدة في زمن ممكن انقضاؤها فيه

أن تدعي المرأة انقضاء العدة في زمن ممكن انقضاؤها فيه قال المصنف رحمه الله: [وإن ادعت انقضاء عدتها في زمن يمكن انقضاؤها فيه]. فقوله: (وإن ادعت انقضاء عدتها) أي: من طلاقها الرجعي (في زمن يمكن انقضاؤها فيه) بأن قالت ذات حمل: مضت ستة أشهر، وأيضاً إذا قالت أنها ألقت جنينها أو ولدت. وكذلك ادعت انقضاء عدتها في شهر على القول الذي ذكرناه في أقل الحيض، أو ادعت أنها خرجت من عدتها وكان الطلاق قد وقع قبل ثلاثة أشهر، إن كانت من ذوات الأشهر، فحينئذٍ يحكم بقولها. قوله: [في زمن يمكن] فلو انعكس الأمر وكان في زمن لا يمكن، فادعت ذات الأشهر أنها خرجت من عدتها بعد شهرين لم يقبل قولها؛ لأنها قالت: طلقني في أول رجب ثم جاءت في نهاية شعبان تقول: إنها خرجت من عدتها. هذا زمن لا يمكن فيه خروجها من العدة؛ لأن الله عز وجل بين أن الآيسة من الحيض والصغيرة التي لم تحض عدتها ثلاثة أشهر، فإذا ادعت الشهرين أو ادعت الشهرين والنصف وعدتها ثلاثة أشهر لم يقبل قولها قطعاً. وكذلك أيضاً لو ادعت أنها حاضت وطهرت، وحاضت وطهرت، وحاضرت وطهرت في أقل من شهر كأن تقول في عشرين يوماً، فهذا ليس بزمن إمكان، وحينئذٍ لا يعتد بقولها. هناك قول آخر: إنه ينظر إلى أكثر الحيض ويعتد بأكثره، ويلزمها هذا الأكثر، وحينئذٍ تكون الصورة على خلاف مسألتنا كما هو مذهب الحنفية رحمهم الله؛ لأنهم يحتاطون خاصة في مسألة حلها لزوج، وخروجها من عصمة الزوج الأول. قال رحمه الله: [أو بوضع الحمل الممكن] أي: أنها مضى لها ستة أشهر فأكثر، فهذا ممكن أنها تضع فيه حملاً، ويحكم بخروجها من عدتها بالوضع، وقال تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] فإذا ادعت أنها خرجت من عدتها وكانت حاملاً، ومضى على طلاقها ستة أشهر، فإننا نحكم بكونها أجنبية عنه وقد خرجت من عدتها. قال رحمه الله: [وأنكره فقولها]. مفهوم (أنكره) أنها إن صدقها في زمن الإمكان فلا إشكال، لكن إذا أنكر فالقول قولها، ومعنى كون القول قولها أن الزوج لا يقبل قوله إلا ببينة تدل على كذبها وعدم صحة ما ذكرته. وهذا يختلف بحسب اختلاف الدعاوى، فالمسألة فيها خصومة بين الزوج وزوجته، فيأتي الزوج الأول ويجد أن زوجته قد عقد عليها زوج غيره فحينئذٍ يقول: هذه المرأة لا زالت في عصمتي. فقالت: قد خرجت من عدتي ولم تراجعني. أو قال مثلاً: راجعت وأنت ما زلت في العدة الآن فكيف تنكحي، كل هذه المسائل تحتاج إلى فصل، وكل هذا الخصومات والنزاعات تحتاج إلى قطع. فبيّن المصنف رحمه الله أننا ننظر إلى دعوى المرأة، فإن كانت دعواها أنها خرجت من العدة وافقت أصلاً صحيحاً، بحيث مضى زمن يمكن أن يصدق فيه قولها حكمنا بأنها أجنبية، وأنه لا حق للزوج إلا إذا أقام بينة. فالأصل أن العلماء رحمهم الله ذكروا هذه المسائل لبيان هل خرجت المرأة من العدة أو لم تخرج؟ مما يترتب عليها من الحقوق والحكم ببطلان نكاح الثاني إذا وقع نكاحه، فإن المرأة في بعض الأحيان بمجرد ما تخرج من عدتها من الزوج الأول يعقد عليها في اليوم الثاني. وحينئذٍ يقع شيء من الخصومة، وربما حصل بين الناس شرور، ففصل بينهم بأن القول قول المرأة إذا مضى زمن يمكن أن يصدق فيه دعواها فيقبل قولها ويقال له: أحضر البينة على صدق ما تقول. فلو أقام البينة على أنها لا زالت في عصمته على صور مختلفة في ذوات الأقراء والحمل والأشهر حكم بقوله؛ لأن البينة حجة قاطعة للدعاوى.

أن تدعي المرأة انقضاء العدة في زمن غير ممكن

أن تدعي المرأة انقضاء العدة في زمن غير ممكن قال رحمه الله: [وإن ادعته الحرة بالحيض في أقل من تسعة وعشرين يوماً ولحظة لم تسمع دعواها]: إذا ادعته الحرة من ذوات الحيض في أقل من تسعة وعشرين يوماً ولحظة، فإذا ادعت هذا كان خلاف زمن الإمكان كما ذكرنا، ويُحكم ببطلان دعواها؛ لأن الدعوى إذا كذبها الحس لم تقبل. فالدعوى لها شروط وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى في كتاب القضاء، فالقضاء لا يقبل كل دعوى، فشرط قبول الدعوى أن تكون صادقة أي: يصدقها الواقع ولا يكذبها الحس. لو أن شخصاً جاء عند القاضي وقال: أدعي أنني أملك مكة كلها، أو أني أملك المدينة كلها، أو أملك جدة، هذه لا يصدقها الحس وتكون دعوى باطلة من أصلها. الدعاوى الباطلة من أصلها لا تقبل، المرأة إذا ادعت أنها خرجت من عدتها في زمن لا يمكن أن تخرج فيه من عدتها كذبها الواقع والحس، فترد هذه الدعوى ولا تسمع.

خلاف الرجل والزوجة في إثبات الرجعة ونفيها

خلاف الرجل والزوجة في إثبات الرجعة ونفيها قال رحمه الله: [وإن بدأته فقالت: انقضت عدتي فقال كنت راجعتك]. هذه المسألة ترجع إلى مسألة من المدعي والمدعى عليه؟ من أهل العلم من قال: إن المدعي كل من خالف الأصل والظاهر والعرف، فإذا خالف قوله الأصل أو خالف الظاهر أو خالف العرف فإنه يُحكم بكونه مدعياً ويطالب بالبينة. ويكون خصمه مدعىً عليه، فيكون القول قول خصمه حتى يقيم هو الدليل، ولا شك أنك حينما تكون مدعىً عليه أفضل من أن تكون مدعياً؛ لأن المدعى عليه الأصل أنه بريء، وأن القول قوله حتى يثبت ما يخالف هذا الأصل. فإذا كانت المرأة في مسائل الاختلاف هنا ابتدأته فقالت: خرجت من عدتي فقال: كنت قد راجعتك، فإذا قالت: خرجت من عدتي فلا شك أن الزوج يسلم، واليقين أنها الآن قد خرجت من العدة، لكن عنده دعوى أنه راجع. فاختلف العلماء رحمهم الله، هل الذي يطالب البينة الزوجة؟ لأن الأصل أنها زوجته ما دام أنه قد ادعى رجعتها فنقبل قوله ويكون إنكارها للرجعة دعوى تحتاج إلى بينة. نحن قلنا: المدعي من كان قوله يخالف الأصل أو يخالف العرف أو يخالف الظاهر، وهناك ضابط آخر عند بعض العلماء: أن المدعي هو الذي يقول: حصل، والمدعى عليه الذي يقول: لم يحصل، أي أن المدعى عليه هو الذي ينفي، والمدعي الذي يثبت. تمييز حال المدعي والمدعى عليه جملة القضاء وقعا المدعي من قوله مجرد من أصل او عرف بصدق يشهد وقيل من يقول قد كان ادعى ولم يكن لمن عليه ادعى فهو هنا يقول: كنت راجعتك، قالت: ما راجعتني، فبعض العلماء يقول: القول قوله لأنه يثبت أصلاً مستصحباً من كونها زوجة. وبعض العلماء كما درج عليه المصنف يقول: القول قول الزوجة؛ لأننا على يقين أنها أجنبية؛ لأن الزوج لابد أن يسلم أنها انتهت عدتها، وأنها قد خرجت من وقت الرجعة؛ فحينئذٍ لا نشك أنها أجنبية؛ فإذا جاء يدعي أنه راجع كانت دعواه خلاف الأصل والظاهر. ومن هنا نقبل الظاهر من أنها أجنبية ونلغي دعوى الرجعية حتى يقيم الدليل. ويلاحظ كل طالب علم أن الإشكال هنا ما لم تقم البينة، فلو قامت البينة زال الإشكال، فلو أن الزوجة ادعت ولو بعد سنتين أنها خرجت من عدتها، وجاء وأثبت بالشهود أنه راجعها قبل خروجها من عدتها فإننا نحكم بكونها زوجته. إذا قامت البينة أو صدقته فلا إشكال، والأصل أن الزوج إذا أقام البينة وأثبت أنه راجعها رجعت إلى زوجها وأصبحت في حكم زوجاته. لكن الإشكال إذا وقع الخلاف بين الزوج والزوجة، أو تزوجها رجل آخر، فهل نهدم النكاح الثاني ونحكم بكونه دخل على امرأة محصنة، والله عز وجل حرم المحصنات لأنها زوجة للغير، ولا يحل نكاح زوجة الغير؟ وقد أفتى بهذا الأئمة، وعلي رضي الله عنه كان يقضي بهذا، ويقضي أنها للزوج الأول مطلقاً سواء دخل بها الثاني أو لم يدخل؛ فإذاً الإشكال عندنا في هذه المسألة، هل نصدق قول الزوج بناءً على أنه يستصحب أصلاً سابقاً للخروج من العدة، أو نصدق قول الزوجة؟ المصنف رحمه الله وطائفة من أهل العلم وأئمة السلف يقولون: القول قول الزوجة مطلقاً، سواء بدأت أو بدأها هو بالكلام فالقول قولها، ومن أهل العلم من قال: القول قول الزوج. ومنهم من قال: القول قول من سبق منهما بالدعوى، ويكون من خالفه خالف الأصل، فالزوج إذا قال: راجعتك كان مدعىً عليه بنفي الرجعة عندما تقول: ما راجعتني وإنني أجنبية، أو خرجت من عدتي ولم تراجعني، والعكس لو أن المرأة قالت: أنا أجنبية وقد خرجت ولم تراجعني، فقال: راجعتك. يكون هو المدعي. فإذاً هذه ثلاثة أوجه عند العلماء، والأقوى والأصح إن شاء الله: أن القول هو قول الزوجة؛ لأن الظاهر والثابت عندنا هو أن يسلم أنها قد خرجت من العدة. والصورة هذه وقع فيها الخلاف والمرأة قد خرجت من العدة، فليس الخلاف في أنها لا زالت في العدة أو لم تزل، لو كان الخلاف في أنها خرجت من العدة أو لم تخرج لرجعنا إلى أن الأصل أنها في عدتها، ويكون موقف الزوج قوياً من هذا الوجه. لكن عندما يكون الطرفان متفقين على خروجها من العدة، وهو يدعي أنه قد راجعها قبل خروجها، فهناك شيء يسمى الظاهر، وهو أنه لم يراجعها؛ لأنه لو راجع لما نكحت، ولو راجع لقام الدليل على مراجعته فهذا يسمى عند العلماء بالظاهر. فهناك شيء يسمى الأصل، وهناك شيء يسمى الظاهر؛ وهناك شيء يسمى العرف، فمثل الظاهر لو أن شخصين راكبان على بعير فقال أحدهما: البعير بعيري، وقال الثاني: بل هو بعيري، فإنا نقول: الذي في المقدمة الظاهر أنه يملك هذا البعير؛ لأن ظاهر الحال أنه ما يقود البعير إلا صاحبه، فنقول: البعير له. ولو أن اثنين اختصما في بيت أحدهما داخل البيت، والثاني خارجه فأحدهما يقول: البيت بيتي فاخرج من بيتي، وقال الآخر: البيت بيتي ولست بخارج منه، فحينئذٍ نحكم للذي بداخل البيت أنه بيته؛ لأن دليل الظاهر يشهد بأن البيت بيته. فإذا ثبت هذا فإن الظاهر أنها أجنبية، وإذا ثبت عندنا كونها أجنبية فنقدم هذا الظاهر ونحكم به، ونعتبرها مدعىً عليها حتى يقيم الزوج الدليل والبينة على أنه راجعها. فإذا قالت: قد خرجت من عدتي ولم تراجعني، وقال: بل راجعتك، فقال القاضي: ألك بينة؟ قال: ما عندي بينة، فهنا يقول القاضي: إذاً ليس لك إلا يمينها، فإذا قلنا: القول قولها فمعناه أنها تحلف اليمين عند عجز المدعي عن إقامة البينة. والمدعي مطالب بالبينه وحالة العموم فيه بينه والمدعى عليه باليمين في عجز مدعٍ عن التبيين فيطالب المدعى عليه بأن يحلف اليمين وتقول: والله لم تراجعني، بناءً على أن هذا هو الظاهر، وتشهد بالله أنه ما راجعها؛ لأنها ما سمعته يراجعها، ولا ثبت عندها بينة أنه راجعها، ويجوز للمسلم أن يحلف على غلبة الظن. فلو أن شخصاً استلفت منه عشرة آلاف ريال، وغلب على ظنك أنك رددت له العشرة آلاف ريال فمن حقك أن تحلف اليمين، ولو قال لك: احلف لي بالله أنك رددتها -وعندك غلبة ظن- فإنه يجوز لك أن تحلف على غالب الظن. ومن هنا فرع العلماء جواز حلف اليمين على الأمر الظاهر، فلو أن شخصاً ادعى على ورثة أن له على ميتهم مائة ألف ريال فقالوا: ما نعرف لك هذا، أحضر لنا بينة تثبت أن لك على مورثنا مائة ألف ريال، قال: ما عندي بينة ولكن احلفوا أنتم أنه ليس لي في ذمة أبيكم مائة ألف ريال. فهل من حقهم أن يحلفوا؟ نعم؛ لأن عندهم دليل الظاهر، وهو أن مورثهم لو كان في ذمته شيء لأخبر ورثته وكتب ذلك، ولو فتح هذا الباب لكان كل شخص يدعي على الورثة أن له على مورثهم حقوقاً، فتؤكل أموال الناس بالباطل. فإذاً من حقها أن تحلف على الظاهر وتقول: والله ما راجعتني، بناءً على أنها لم تسمع برجعته، فهو يقول لها إنه راجعها وهي لم تر منه فعلاً يوجب الرجعة، ولم تقم البينة والدليل على ثبوت رجعته، فهي على يقين من أنها أجنبية، فيجوز لها الحلف على ذلك. قال رحمه الله: [أو بدأها به] هكذا الحكم لو بدأها، فالمصنف اختار هذا القول سواء بدأها هو بالقول أو هي بدأته، وبعض العلماء يقول: القول قول الزوجة، وبعضهم يقول: العبرة بمن بدأ، كما ذكرنا. وهناك وجه رابع أشار إليه الإمام النووي وغيره رحمهم الله برحمته الواسعة وقالوا: إنه يقرع بينهما، ومن خرجت له القرعة فالقول قوله؛ لأن كلاً منهما له أصل. فكل منهما له دليل قد يوجب أن يكون مدعياً من وجه ومدعىً عليه من وجه آخر، فنقول: يقرع بينهما لاستواء حقيهما، فمن خرجت له القرعة حكم بأن القول قوله. لكن المصنف اختار هذا القول الذي مشى عليه طائفة من العلماء رحمهم الله، أن القول قول الزوجة ما لم يقم زوجها الدليل والبينة على صدق ما ادعى. [فأنكرته فقولها]. أي قالت: ما راجعتني. فالقول قولها لما ذكرناه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من طلقت وهي حامل ثم أسقطت قبل مضي ستة أشهر

حكم من طلقت وهي حامل ثم أسقطت قبل مضي ستة أشهر Q ذكرتم حفظكم الله أن ذوات الحمل يجب أن تنقضي لها ستة أشهر، فأشكل عليّ لو أسقطت قبل ذلك؛ فهل نلزمها بعدة ذوات الأشهر أو نلزمها بثلاث حيض؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: هذه المسألة مندرجة تحت مسألة ذكرها العلماء رحمهم الله: إذا كانت المرأة على حال حكم بعدتها باعتبار حالها الذي هي فيه، ثم تغير هذا الحال. مثال ذلك: أن تكون صغيرة آيسة من الحيض ثم تحيض فهل تستمر بعدة الأشهر أو بعدة الأقراء أو يجمع بينهما؟ فبعض العلماء رحمهم الله يرى أن دخول الوصف الثاني خاصة إذا كان أصلاً يلغي الوصف الأول، فلو مضى لها شهران ثم حاضت الشهر الثالث يقول: تستأنف المدة بعدة الحيض. ودليل هذا القول: أن الله اشترط في الاعتداد بالأشهر أن تكون غير حائض، فدل ذلك على أن الأصل أنها تعتد بالحيض. فإذا كان الأصل أنها تعتد بالحيض فحينئذٍ إذا حكم بعدتها بالأشهر ورجعت إلى الأصل ألغي الفرع، وحكم بالرجوع إلى الأصل ووجب عليها بالأصل بمعنى: أنها تعتد ثلاث حيضات على القول بالحيض أو ثلاثة أطهار على القول بالطهر. القول الثاني: يجمع بينهما ويحكم بإتمام العدة إن مضى لها شهران، فتكون في حكم من مضى لها حيضتان على القول بالحيض أو طهران على القول بالطهر. ويقول أصحاب هذا القول: تحيض حيضة ثالثة ويحكم بخروجها بها، فبأول حيضة من حيضاتها تخرج فيها من عدتها، أو بأول طهر على التفصيل والاختلاف هل العدة بالحيضات أو بالطهر، سيأتي إن شاء الله بيان هذه المسألة واختلاف أهل العلم رحمهم الله فيها. وهذا المسلك أشبه بمسلك التلفيق، ومسلك التلفيق في بعض الصور قوي وراجح، وفي بعضها ضعيف مرجوح، ومسلك الرجوع إلى الأصل من ناحية أصولية أقوى إلا أنه في هذه المسألة أضيق، والقول بالتلفيق في الصورة الأخيرة التي ذكرناها أصح وأوجب. وبناءً على ذلك يقع التفصيل في هذه المسألة على الخلاف المعروف عند أهل العلم رحمهم الله. ففي بعض الأحيان بعض النساء تكون من ذوات الحيض، وفجأة يطلقها زوجها وينقطع عنها الحيض، وتبقى فترة طويلة لا يأتيها الحيض لمرض أو صدمة أو شيء يحدث لها، فهل تنتقل إلى ذوات الأشهر وتكون في حكم الآيسة؟ هذه المسألة أصعب من المسائل التي قبلها، وهذه الأمور كلها خارجة عن الأصل ويتجاذبها أكثر من أصل، ففي بعض الأحيان يتجاذبها أصلان، وبعض الأحيان يتجاذبها ثلاثة أصول. وعلى كل حال فبالنسبة لمسألتنا التي وردت، وهي أنها لو حملت ثم أسقطت جنينها فلا أشك أنها ترجع إلى حيضها وتعتد بأطهارها؛ لأن الصحيح أن العبرة بالطهر لا بالحيض، فيلزمها أن تعتد ثلاثة أطهار؛ لأن الحمل لم يستتم، فوجوده وعدمه على حد سواء. والله تعالى أعلم.

دلائل الشريعة جاءت بالحكم بالظاهر دون الالتفات إلى الباطن

دلائل الشريعة جاءت بالحكم بالظاهر دون الالتفات إلى الباطن Q إذا راجع الزوج زوجته دون أن يكون هناك إشهاد وعدم العلم من الغير، ثم بعد خروج المرأة من العدة أخبرها فأنكرته، فعلى القول بأن القول قولها هل تكون زوجته ديانة؟ A هذه المسألة من حيث الأصل أنها زوجته إذا ثبتت الرجعة، خاصة على مذهب جماهير العلماء الذين لا يرون الإشهاد شرطاً لصحة الرجعة. وأما على مذهب الظاهرية الذين يرون أن الإشهاد شرط لصحة الرجعة فلا تكون زوجة له؛ لأنهم يرون أن الإشهاد شرط، ولم يقع الشرط الذي يحكم عند وجوده بصحة الرجعة. والصحيح ما ذهب إليه الجماهير أنه لا يشترط لصحة الرجعة الإشهاد، بل ليس الإشهاد بواجب كما ذكرنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر أن يراجع زوجته ولم يأمره بالإشهاد، وصُرف الأمر عن ظاهره المقتضي للوجوب إلى الندب والاستحباب. وإذا ثبت هذا فهي زوجته ديانة بينه وبين الله، وأجنبية عنه قضاءً، فلو أنه وطئها ورفع إلى القاضي وليس عنده دليل على رجعتها فإنه يرجم ويقتل؛ لأنه زانٍ في هذه الحالة؛ وهي أجنبية منه، فلو وطئها دون أن يعقد عليها فيحكم بكونه زانياً والعياذ بالله. أما لو أنها بقيت ودخل بها الزوج الثاني وعقد عليها فالحكم قضاءً أنها زوجة الثاني؛ لأننا مأمورون بالأخذ بالظاهر، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس) فما دام أنه قد فرط في حقه حتى خرجت من عدتها فالله حكم حكماً أنها زوجة الآخر قضاءً. والحكم القضائي لا يؤثر في الحقيقة شيئاً، الزوج الثاني الذي تزوجها هو زوج شرعي، وهي زوجة شرعية؛ لأن هذا حكم الظاهر، وليس هناك دليل يدل على أنه راجعها. فهذا في حقوق المخلوقين، والله جعل أحكام الظاهر حتى في الحق بينه وبين عباده، فلو أن رجلاً جاء ودخل المسجد وهو يظن أنه متوضئ والواقع أنه غير متوضئ، وبقي على هذا بقية عمره وما تبين له أنه أخطأ، فصلاته تجزيه؛ لأن هذا الذي كلفه الله على الظاهر. وكذلك لو أنه شك هل خرج منه ريح أو لم يخرج، فأوجب الله عليه أن لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً، لحديث عبد الله بن زيد في الصحيحين. فإذا صلى والواقع أنه كان قد خرج منه شيء لكنه لم يسمع صوتاً ولم يجد ريحاً برئت ذمته، وصحت صلاته؛ لأن الذي تعبده بالوضوء تعبده أن يصلي على الأصل الظاهر. والذي تعبدنا بخروجها من عدتها وحلها للزوج الأول هو الذي حكم بهذا الظاهر، ولذلك لو أن رجلاً قذف امرأة بالزنا والعياذ بالله، وقد رآها بعينه تزني، فإنه يحكم بجلده حد القذف، ويحكم بكونه كاذباً {فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13]. مع أن الآية نصت على أن من رمى امرأة محصنة بدون دليل أنه عند الله من الكاذبين، والمراد بقوله: (عِنْدَ اللَّهِ) أي: في حكم الله وشرعه. وفي الحقيقة لو أنه كان صادقاً أو أقام ثلاثة شهود عدول كلهم رأوها على الزنا والعياذ بالله، وثبت عندهم الزنا وشهدوا به، فكلهم يجلدون حد القذف إذا لم يشهد الرابع، وهؤلاء ثلاثة عدول من المسلمين كلهم شهدوا عليها بالزنا، فإننا نحكم على أنها برئية ومحصنة؛ لأن هذا هو حكم الله عز وجل. وهذا شيء من العدل الإلهي الذي تنزل من الخبير سبحانه وتعالى، ولا أصدق منه قيلاً، ولا أحسن منه حكماً: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115] فهذا الحكم الرباني على الظاهر. ولذلك ترتاح القلوب، وتبتهج النفوس بزوال الوساوس، ولو فتح باب هذه الظنون اليسيرة لما استطاع رجل طلق امرأته أن تعود له زوجته من كثرة الشكوك والحكم بالأدلة الضعيفة. فالحكم بناءً على الظاهر، والظاهر مرتبط بأصول شرعية إذا وجدت حكم بالحكم الشرعي كما هو، وإذا تخلفت حكمنا بالأصل الذي حكم الله عز وجل به، ولا شك أن هذا هو عين العدل والحكمة، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله {لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:43]. والله تعالى أعلم.

حكم الجنين إذا دفن مع أمه المتوفية وقد تجاوز الشهر السادس

حكم الجنين إذا دفن مع أمه المتوفية وقد تجاوز الشهر السادس Q والدتي توفيت أثناء الوضع ولم يخرج الجنين من بطنها، ولكن لجهلنا دفناها كما هي ولا ندري هل كان الجنين حياً أو ميتاً، فهل علينا شيء؟ A أولاً: كان ينبغي سؤال العلماء والرجوع إلى أهل العلم، وبالمناسبة أقول: أي مسألة شرعية تنزل للإنسان في نفسه أو مع الناس أو مع أهله أو ولده، ولا يسأل عنها ولا يستفتي العلماء؛ فإنه يتحمل إثمها وإثم كل ما يترتب عليها من الأخطاء. هذا أمر ينبغي أن يكون الإنسان فيه على بينة، بل حتى لو اجتهد ووافق اجتهاده الشرع وعنده علماء يمكن أن يسألهم ورجع وسألهم بعد ما فعل الذي فعل ووجد أن الذي فعله صحيح، فإنه لا يزال آثماً شرعاً، الذي فعله صحيح لكنه آثم لكونه لم يسأل العلماء. سؤال العلماء ليس بالأمر السهل وليس بالأمر الهين، ولذلك فرض الله على أهل العلم أن يجيبوا السائل إذا سأل، وأمر الله نبينا من فوق سبع سماوات صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى يوم الدين في أوامره فقال: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10]. فالسؤال أمر مطلوب وواجب شرعاً. الأمر الثاني: لا يسأل كل أحد، فوالله لا تقف على أحد تسأله إلا وقفت بين يدي الله يسألك: هل هذا أهل أن تسأله أو لا؟ فجامل من شئت أن تجامل، وأنصف في دين الله وشرعه ما شئت أن تنصف، فستقف بين يدي الله عز وجل. لا يجوز أن تسأل الجهّال وأنصاف العلماء وطويلبي العلم وكل من هب ودب، لا تتقي الله في نفسك ولا تتقي الله في دينك، ولا تتقي الله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تغرر به فتسأل إنساناً وتجلس بين يدي إنسان لا يستحق أن يجلس بين يديه أو يسأل. وعلى كل شخص يُسأل أو إمام أو خطيب إذا جاءه أحد يسأل وهو يعلم من نفسه أن أهل العلم لم يزكوه بالفتوى، فعليه أن يتقي الله، وأن يخاف الله جل وعلا، وأن لا يكثر سواد الناس حوله ليغرر بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، هذا من الخديعة والغش. وعلينا أن ننصح لله ولكتابه ولرسوله عليه الصلاة والسلام، ولأئمة المسلمين وعامتهم، فالنصيحة لعامة المسلمين أن نتقي الله في الفتاوى، فليس كل أحد يسأل، بل تسأل من تستطيع أن تقف بين يدي الله عز وجل. قال الإمام الشافعي: (رضيت بـ مالك حجة بيني وبين الله) لأنه علم أن كل صغير وكبير في هذا الدين سيسأل عنه أمام الله عز وجل، فلا تحضر لأحد يعلم إلا إذا كان قد أخذ العلم عن أهله، ولا تحضر لأحد يفتي إلا إذا كان قد أخذ الفتوى عن أهلها. نقول هذا الكلام لأن هذا الزمان كثرت الفتوى فيه، وكثر الغش لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأصبح يلمع ويبرق ويزين للأمة من ليس بأهل للفتوى، ومن ليس عنده دين ولا ورع ولا علم ولا عقل يمنعه ويردعه، فتسمع الفتاوى العجيبة هنا وهناك ويشتت بالأمة شذر مذر. فهذا أمر ليس بالهين: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] وما ضلت الأمة ولا شقيت في هذا الزمان بشيء في ثلمة الدين مثل الفتوى، خاصة في أمور العقيدة والأحكام التي يتعبد بها الناس ربهم. فعلى المسلم أن يتقي الله عز وجل، وأن لا يفعل أي شيء لنازلة نزلت به حتى يرجع إلى العلماء ويسألهم، ويسأل من يرضى بدينه قال الإمام مالك: (ما أفتيت حتى شهد لي سبعون)، الله أكبر ما أعظم الورع والخوف من الله جل وعلا! إنه ما رضي أن ينصب نفسه مفتياً في دين الله عز جل حتى شهد له الأمناء العلماء الأتقياء الأصفياء أنه أهل لذلك. ولذلك بورك له في علمه وفتواه، وبورك له في قوله، وبورك فيما كان عليه رحمه الله برحمته الواسعة، فلا يجوز لأحد أن يتساهل في هذه الأمور. وعلى طلاب العلم أن ينصحوا الناس وينصحوا لهم، فأي شخص يأتي ليسألك قل له: يا أخي! لست بأهل للسؤال، وإذا كان في مدينتك أو قريتك أو بلدتك رجل تلقى العلم عن أهله تقول له: اذهب إلى فلان واسأله. هكذا كان الصحابة والتابعون وأئمة السلف وأهل الخير والصلاح في كل زمان ومكان يحيلون إلى من هو أهل للفتوى. الأمر الثالث: مسألة دفن المرأة وفي بطنها جنين فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، من أهل العلم من قال: إن المرأة إذا لم تخرج جنينها وتمت للجنين ستة أشهر ووجد الدليل على حياته فإنه يشق بطن المرأة ويستخرج الجنين منها. القول الثاني: إذا ماتت المرأة وفي بطنها جنين أو ماتت أثناء الوضع، ولا يمكن إخراج الجنين إلا بشق البطن فإنه لا تشق بطن المرأة. القول الأول هو الصحيح إن شاء الله تعالى، من أنه يشق بطن المرأة لعدة أدلة: أولاً: أن الله أوجب علينا إنقاذ الأنفس من التهلكة، فإذا ثبت بدليل أو بشهادة أهل الخبرة، كما في زماننا من وجود الصور الإشعاعية التي تبين حال الجنين في بطن أمه؛ فإنه لا يجوز لنا أن نتسبب في هلاك هذه النفس؛ لأن الله أوجب علينا إنقاذ النفس المحرمة، ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فلما توقف إنقاذه على شق البطن صار شق البطن واجباً. ثانياً: فقه المسألة من حيث القواعد أنه تعارضت عندنا مفسدة موت الجنين ومفسدة شق البطن، فوجدنا أن مفسدة موت الجنين أعظم من مفسدة شق البطن؛ لأن مفسدة شق البطن أهون من عدة وجوه: أولاً: أن الروح أعظم من إتلاف الجسم، ولذلك لو أن شخصاً وقعت الأكلة في يده مثل ما هو موجود الآن في مرض السكري أو نحوه، إذا سرت (الغرغرينة) في قدمه وقال الأطباء: إذا لم تقطع رجله يموت، وجب قطعها؛ لأن مفسدة العضو أهون من مفسدة النفس كلها، فهذا الوجه الأول. الوجه الثاني: أن مفسدة شق البطن يمكن تداركها بالخياطة، وأما مفسدة موت الجنين فلا يمكن تداركها أبداً. وحينئذٍ القاعدة (أنه إذا تعارضت المفسدة التي يمكن تداركها مع المفسدة التي لا يمكن تداركها قدمت المفسدة التي لا يمكن تداركها على المفسدة التي يمكن تداركها)، فوجب شق البطن. ولذلك كان الذي تطمئن إليه النفس أنه يشق البطن ويستخرج الجنين، وفي هذه الحالة ينزع الجنين إذا أمكن نزعه، وإذا لم يمكن فإنه يجوز الشق ولو توسع في شق الموضع الذي يخرج منه الجنين ثم يخاط بعد إخراج الجنين؛ إبقاءً لهذه النفس المحرمة. وأما بالنسبة لكم في هذه الحال فينظر في المسألة على التفصيل الذي ذكرناه، إذا كانت هناك أدلة تدل على حياة الجنين، مثل أنها قبل الطلق بيوم أو يومين أو مدة صورت وثبت أن الجنين حي أو بالحركة التي كان يعرفها القدماء يعرفون بها حياة الجنين من حركته وانقلابه، ونحو ذلك مما يدل على وجود الروح فيه، مما أشار إليه العلماء رحمهم الله في هذه المسألة. فالأصل أنه حي ويكون قبر المرأة على هذا الوجه فيه شبهة بقتل الجنين، والقاعدة أن قتل الجنين بإلقائه حتى يموت أو تعاطي أسباب موته على هذا الوجه الذي ذكر، خاصة وأنه لم تكن هناك شبهة الفتوى، بحيث أنكم ما سألتم أحداً يرى عدم جواز الشق. فالأشبه في هذا أنه صورة قتل بالسببية، والقتل بالسببية موجب للضمان، لأنكم لم تقتلوه مباشرة وإنما قتلتموه تسبباً، وذلك أنه كان يجب إنقاذه. قال العلماء: لو أن شخصاً رأى غريقاً وناداه وبيده حبل كان يمكنه أن يلقيه له وينقذه، أو مر على جائع في مخمصة شديدة ويحتاج إلى ماء وطعام وبيده الطعام والماء وامتنع؛ كان قاتلاً له بالسببية، فإن قصد موته كان قاتلاً بالعمد والعياذ بالله. أما إذا قال: لا والله أنا هذا الطعام أخذته لنفسي، وعنده نوع من البخل، فهذا نوع من الشبهة، ولا يكون قتل عمد لكن إن قال: أنا قصدت قتله وأريد أن يموت، فهذا قتل عمد؛ لأن السببية المفضية للهلاك تكون بحكم المباشرة. أو نهشته حية فإن الحية هي التي قتلته، لكن السببية في تقريب الحية الذي أتى بها، أو حبسه في زريبة أسد فقتله الأسد، فالذي باشر قتله الأسد، والقتل سبب مفض للهلاك، فالسبب المفضي للهلاك مؤثر، ولذلك قالوا: لو أنه ضربه على مكان يغلب على الظن القتل به وأراد به الإضرار، كان سببية مفضية إلى القتل آخذة حكم قتل العمد. وقد فصل العلماء رحمهم الله في مسائل قتل الصيد، وسيأتينا إن شاء الله بيان أحكام السببية المباشرة في باب الجنايات، ولذلك فالأشبه والأحوط في هذا أنه قتل السببية. والله تعالى أعلم.

التفصيل فيما إذا نسي الإمام التشهد الأول ثم رجع بعدما استتم قائما

التفصيل فيما إذا نسي الإمام التشهد الأول ثم رجع بعدما استتم قائماً Q إمام قام عن التشهد الأول واستتم قائماً، فلما سبح المأموم عاد للجلوس، فانقسم أهل المسجد إلى طائفتين: طائفة رجعت، وطائفة استمرت في قيامها، فأي الطائفتين أقرب للصواب؟ المشكلة أنه يوجد خلاف في هذه المسألة، الجمهور على أنه إذا استتم قائماً وشرع في الفاتحة لا يرجع، فلو استتم قائماً وشرع في الفاتحة ثم رجع وعلمت أنه جاهل فعليك أن تنوي مفارقته وتبقى على القيام؛ لأنك إذا رجعت رجعت إلى فعل زائد في الصلاة؛ لأنه ليس من حقه أن يرجع وليس من حقك أن ترجع؛ فإذا رجع فإنه قد زاد، خاصة إذا كان جاهلاً. في هذه الحالة تنوي مفارقته وتطيل في القيام حتى يقوم لأنك في مسجد لا تستطيع أن تنفرد، فإذا قام تابعته شكلياً، إذا جاء يكبر للركوع كبرت أنت لركوعك ولا تنوي متابعته، وإنما تتابعه صورة لا حقيقة، ظاهراً لا باطناً. أما إذا كان الشخص الذي فعل هذا الفعل يرى قول من يقول من السلف: إن من وقف ولم يجلس للتشهد الأول فعليه يرجع ما لم يركع، فهذا القول شاذ وضعيف لأنه مصادم لحديث عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي، فقام من الركعتين فسبحوا له، فأشار إليهم أن قوموا). فدل على أنه إذا استتم قائماً لا يرجع، في هذه الحالة نقول: تنوي مفارقته؛ لأنه أبطل صلاته؛ لأنه عندما رجع زاد في الصلاة ما ليس منها؛ لأنه قد سقط عنه التشهد والجلوس له، فكأنه رجع إلى جلسة ليست بلازمة له فأحدث في الصلاة فعلاً زائداً. ومن هنا قالوا: إنك لا تتابعه وتنوي مفارقته، ومن أهل العلم من قال: تتابعه لما كان فيها من شبهة الخلاف، وخاصة إذا كان طالب علم وتظن أنه يقول بهذا القول، أو يقول بقول من يرى أن مجرد القيام لا يكفي، بل لابد أن يشرع في الفاتحة حتى يكون قد شرع في الركن فعلاً. والصحيح أن العبرة بالوقوف؛ لأن بنفسه ركن القيام فلا يشترط له قراءة الفاتحة؛ لكن على القول الثاني لو كان الإمام يرى أنه لابد أن يقرأ الفاتحة، ففي هذه الحالة من أهل العلم من قال: يجب عليك الرجوع؛ لأنه يفعل فعلاً مشروعاً في حقه، فتجب عليك متابعته؛ لأن المتابعة في الأفعال الظاهرة واجبة في الواجبات. ومن هنا وجب عليك القنوت إذا قنت الشافعي وأنت لا ترى القنوت؛ لأنه يراه واجباً، فينقلب واجباً عليك بحكم المتابعة، والمتابعة للإمام خلاف مذهبه واجبة في الواجبات، ولازمة في الأركان، فحينئذٍ يجب عليك الرجوع، وهذا مذهب صحيح وقوي، أنه إذا كان يرى أنه لابد من قراءة الفاتحة ورجع وكان طالب علم فإنك ترجع معه؛ لأن المتابعة في الأفعال واجبة ولو خالفت مذهبك. وهذا أمر قرره أئمة المذاهب على اختلافهم، قرره الفقهاء الحنفية، كالإمام ابن عابدين في حاشيته، وكذلك صاحب فتح القدير الكمال بن الهمام رحمه الله. وكذلك قرره من أئمة المالكية رحمهم الله شراح خليل كـ الحطاب وعليش، وأيضاً قرره فقهاء الشافعية كالإمام النووي خاصة في الروضة، وأشار إلى أن الاقتداء بالمخالف في الفروع يلزم المتابعة. وقرره من أئمة الحنابلة الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني، فذكر أنه يجب عليك أن تتابعه في الواجبات ولو كنت لا ترى وجوبها، لكنها لما كانت واجبة عليك صارت واجبة لك في حكم الاتباع في الائتمام، وقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال سمع الله لم حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد) فرق فيه بين الأركان والواجبات. فأمر بالمتابعة في الأركان في قوله: (إذا كبر) أي: تكبيرة الإحرام (إذا ركع) (إذا رفع)، ثم قال في الواجبات: (وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد). فدل على أن الإلزام بالمتابعة للإمام واجب في الواجبات والأركان؛ لأن الحديث فصلها، وقوله: (فإذا كبر) تفصيل لقوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) وتفسير لهذا الأصل، وإذا ثبت هذا فإنه إذا كان الإمام يرى أن مجرد القيام لا يكفي فعليك أن ترجع معه وتبقى معه. أما إذا كان عندك شبهة وبقيت واقفاً حتى انتهى لأنك تخاف أنه فعل هذا عن جهل، ثم قام ورجع إلى القيام، فالأفضل والأكمل أنك تنوي مفارقته لوجود العذر، وتتابعه في الصورة ولا تتابعه في الباطن؛ احتياطاً وابتعاداً عن السبب الموجب للفساد. والله تعالى أعلم.

حكم هدم المساجد القديمة أو توسعتها

حكم هدم المساجد القديمة أو توسعتها Q هناك مسجدٌ يراد توسعته فأضيفت إلى أصل أرضه أراض مجاورة له، ثم هدم هذا المسجد، ولما أعيد تخطيطه جعل الموضع القديم للمسجد دورات للمياه، فما حكم ذلك؟ علماً بأنه يمكن الآن قبل إتمام البناء إعادة النظر في الخرائط. أثابكم الله. A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: أولاً: ينبغي أن يعلم أنه لا يجوز هدم أي مسجد إلا إذا وجد مبرر شرعي يقتضي جواز الهدم، من المبررات خشية سقوط المسجد كلية، أعني تهدمه وتهتكه بحيث يخشى أن يسقط على المصلين، أما لو كان السقف هو الذي يخشى أن يسقط فإننا نجدد السقف فقط. هذه أوقاف وأموال محبسة وأهلها بنوها يروجون ثوابها، وبمجرد ما بني المسجد أصبح المسجد وبناؤه وما فيه لله عز وجل، لا يجوز لأحد أن يقدم على التصرف فيه بإحداث شيء أو تغيير شيء إلا بحكم وإذن شرعي، هذا أمر تساهل فيه الناس. ومسألة توسعة المسجد تحتاج إلى نظر، وليس كل شيء يوسع، وليس كل شيء يهدم، ويبذر في بناء المساجد وتوسع حتى تكون لإنسان على حساب حسنة لغيره ممن هو أسبق وأحق، هناك حق للسابق الذي بنى المسجد أولاً فهو أحق، ولا يجوز لأحد أن يهدم بناءه ولا أن يفسد الأجر عليه؛ لأني إذا بنيت المسجد وأصلحته وبقي صالحاً لأن يصلى فيه فإنه يبقى على حالته إلى أن يشاء الله عز وجل أن ينهدم أو يخشى هدمه. أما أن كل شخص يأتي إلى مسجد مبني ليهدمه فلا. وبعض المساجد مسلحة مبينة ما فيها أي شيء، ولكن نريد أن نبنيها على بناءٍ حديثٍ، أو نريد أن نجملها، أو نريد أن نكملها، وهذا لا يجوز، ولا يرضى الله عز وجل به، ولا يرضى به رسوله، ولا يرضى به أئمة الإسلام، ولا يفتي به أحد من أهل العلم لا الأموات ولا الأحياء ممن يعرف أصول أهل العلم في الأوقاف. فالأوقاف لا يجوز التلاعب فيها، الشخص إذا أوقف مسجداً خرج من ملكه، حتى صاحب الأرض لا يستطيع أن يتصرف فيه لأنه خرج من ملكيته لله {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18]. فالمسجد إذا أوقف خرج عن ملكية صاحبه، فهذا أمر ينبغي أن يعلم، فلا يجوز هدم المساجد إلا بإذن شرعي، وبفتوى شرعية تبيح هدم هذا المسجد. ثانياً: توسعة المسجد عند العلماء فيها تفصيل: أن ما جاز لحاجة يقدر بقدرها، إذا كان المسجد يمكن توسعته مع بقاء القديم فإنه يترك القديم كما هو، ويوسع بأن تفتح جوانبه الشرقية والغربية، ويفتح جانبه المؤخر ويبقى القديم كما هو. لا يتلاعب في أموال الناس؛ لأن هذا إسراف، هذا بذخ، ومن علامات الساعة التباهي بالمساجد، فإذا كان التباهي بالمساجد مذموم شرعاً، والمبالغة في تزويقها مذموم شرعاً، فكيف تهدم المساجد من أجل هذا المذموم شرعاً. هذا أمر ينبغي أن يوضع في البال. والسبب في هذا الجهل والجرأة على حدود الله عز وجل دون الرجوع إلى أهل العلم، وقل الرجوع إلى أهل العلم وتقديرهم في مثل هذه الأمور. ولذلك ينبغي على كل مهندس يخطط المساجد أن يسأل أهل العلم، وأن يرجع إلى أهل العلم قبل أن يرهن بين يدي الله عز وجل عن مساجد المسلمين، كل من يتصل بأمر شرعي يتحتم عليه الفتوى والسؤال وينبغي عليه أن يرجع إلى أهل العلم. الطبيب أي شيء يطرأ عليه يرجع إلى أهل العلم قبل أن يقوم بأي عملية جراحية، فيسأل هل تجيز الشريعة هذا العمل أم لا؟ والمهندس قبل أن يقوم بتخطيط شيء يسأل ما هي الأصول الشرعية. فالأصل الشرعي في هذا أنه إذا احتيج إلى الزيادة للتوسعة فينبغي إبقاء القديم، ودورات المياه لا تفعل في القديم ولا يحل فعلها في القديم ولا يجوز شرعاً، ولو فعلت هدمت ويرجع المسجد إلى ما كان؛ لأن صاحبه أوقف هذه الأرض للعبادة وما أوقفها لقضاء الحاجات. ولو أن القديم بني بيتاً للإمام فإنه يهدم، وليس من حقه أن يبنى؛ لأن صاحبه أوقفه أرضاً للصلاة وما أوقفه بيتاً للإمام، ولا مسكناً للإمام ولا للمؤذن. هذه أمور ينبغي وضعها في نصابها، وينبغي الانتباه إلى أن هذه الأشياء ينبغي ترتيبها مع من يفتي ويعرف الأصول الشرعية. الشيء الثاني: أن هذا المسجد القديم أحق من الجديد، والله يقول: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108] فصاحب المسجد القديم والأرض القديمة أولى بالعبادة من الأرض الجديدة. وجمهرة السلف وأئمة العلم على أنه لو تعارض مسجدان أحدهما قديم والآخر جديد فالأفضل أن تصلي في القديم؛ لأن القديم نص الله عز وجل على أحقيته {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108]. فلذلك لا ينبغي التلاعب في هذه الأمور، ولا التساهل في إحداث المساجد وبنائها، الآن تجد مسجداً صغيراً يصلي فيه أهل القرية الجمعة، ثم تفاجأ بشخص يأتي ويبني مسجداً آخر بجواره، هذا جهل! من الذي أذن له أن يبني؟! ومن الذي أفتاه بهذا؟! ينبغي الرجوع إلى أهل العلم ووضع الأمور في نصابها، هذه أمور فيها حقوق شخصية، أهل العلم لهم كلمة في هذا وهم أحق أن يرجع إليهم، كما أن المهندس يبني عمارته. كذلك الأرض لا يمكن أن يفرط فيها، والحقوق التي تساهل فيها أهلها وبذلوها لوجه الله عز وجل لا يمكن أن تذهب هدراً، بذلوها لوجه الله وأوقفوها لوجه الله، أموات ينتظرون ثوابها في قبورهم، ويأتي من يجرؤ على هدم المسجد ثم يجعله دورات مياه!! هذا الأمر كله باطل، ويعاد الأمر إلى ما كان عليه، ويقال لمن يريد أن يوسعه: وسع مع إبقاء القديم، الأرض القديمة تبقى أرضاً للعبادة. إذا كان يريد أن يبني سكناً للإمام فجزاه الله خيراً، يريد أن يبني سكناً للمؤذن جزاه الله خيراً، لكن ليس على حساب حقوق الآخرين. كذلك ننبه على أن حد الأرض المسجد الآن بكامله يصلى فيه، لو جاء إمام المسجد وقال: نريد أن نضع حاجزاً ونبني مكتبة، فلا يصح أبداً، صاحب المسجد ما وضعه مكتبة، ولا أوقفه مكتبة، أوقفه مسجداً للصلاة، فينظر إذا كان هذا يضيق للصلاة ويمنع من الصلاة فيه فيمنع منه، ويبقى على الأصل أرضاً. ونقول لمن يريد أن يفعل مكتبة: جزاك الله خيراً أضف إلى المسجد قطعة أرض تكون مكتبة أو تجعل المكتبة في منطقة تابعة للمسجد. أما إن كانت الأرض قد أوقفها وسبلها صاحبها للصلاة فتبقى للصلاة، ولا يغير في الأوقاف ولا يبدل إلا وقف أصول شرعية محددة مرتبة، وقد تقدم بيانها في كتاب الوقف. فعلى المهندسين أن يتقوا الله عز وجل، وعلى كل من له علاقة بهذه الأمور أن يتقي الله عز وجل، وأن لا يغير ولا يبدل؛ لأن تبديل الأوقاف تبديل وتغيير لشرع الله عز وجل، فالوقف ما سمي وقفاً إلا للتحبيس. ولذلك جاء في الصحيحين عن ابن عمر لما روى عن أبيه عمر قال: (إني أصبت أرضاً بخيبر هي أحب مالي إلي لم أصب مالاً هو أنفس عندي منه، فماذا تأمرني فيه؟ قال: إن شئت حبست أصلها). فبيّن أن الوقف محبوس لا يجوز صرفه عن هذا الحبس، ولذلك سميت أوقاف المسلمين أحباساً لأنها أوقفت فتبقى محبوسة على ما أوقفت عليه، وهذا أمر ينبغي التنبه له والتناصح فيه، وتذكير الناس بالله عز وجل، حتى لا يسيئوا إلى غيرهم. فكم من إنسان يريد الحسنة فيقع في السيئة، والسبب في هذا الجهل، وقد قال الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4] فهي عاملة ناصبة. عمر بن الخطاب لما نظر إلى النصراني في صومعته بكى قيل: يا ابن الخطاب أترق للنصرانية؟ قال: لا والله ومعاذ الله إني نظرت إليه فذكرت قول الله عز وجل: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:3 - 4]. فهذا الشخص قد يأتي ويهدم مسجداً ويسيء إلى أخيه ويجعله دورات المياه؛ أعوذ بالله هذا لا يجوز! وعليكم النصيحة لهذا المهندس الذي قام بهذا الشيء، وينصح كل من يقوم بهذا الأشياء أن يرجع إلى أهل العلم فيما يتصل بالمساجد ونحوها. نسأل الله العظيم أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه. والله تعالى أعلم.

جواز تقبيل الحجر واستلامه في غير الطواف

جواز تقبيل الحجر واستلامه في غير الطواف Q هل استلام الحجر الأسود وتقبيله مشروع في غير الطواف؟ A نعم! هذه المسألة نص طائفة من أهل العلم على أنه يجوز أن يقبل الحجر وأن يستلم في غير الطواف لما ثبت في الحديث الصحيح في رواية أحمد في مسنده (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما طاف في حجة الوداع صلى ركعتي الطواف، ثم شرب من زمزم، ثم مضى إلى الحجر وقبله، ثم مضى إلى الصفا والمروة). فقبله بعد شرب زمزم، أي: بعد انفصال الطواف؛ لأنه طاف وصلى ركعتي الطواف ثم شرب من زمزم، الشرب أجنبي؛ لأنه فصل بفاصل أجنبي. ومن هنا كان بعض العلماء يقول: عجبت من هذا الحديث لما فيه من هذا المعنى الدقيق؛ لأنه لو قبل بعد ركعتي الطواف لتوهم أحد أنها متصلة؛ لأن ركعتي الطواف متصلة بالطواف، لكن ذهب وشرب من زمزم، فقطع العبادات المتصلة بشيء أجنبي؛ لأن الأكل والشرب يقطع. ولذلك قالوا: من جمع بين الصلاتين كالظهر والعصر والمغرب والعشاء فلا يجوز له أن يتغدى بين الظهر والعصر ولا أن يتعشى بين المغرب والعشاء؛ لأن الأكل والشرب أجنبي عن الصلاة. فلابد وأن يكون الجمع موافقاً للأصل، وعلى كل حال فإنه يصح ويجوز أن يُقبّل الإنسان الحجر ولو لم يكن طائفاً؛ لأن المراد تعظيم الحجر في الحدود الشرعية، وهذا التعظيم من تعظيم شعائر الله عز وجل، ولذلك قبله عليه الصلاة والسلام واستلمه وكان إذا وضع يده عليه قبلها، كما في الحديث الصحيح عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره فهذا كله من فضل الحجر، ولما خصه الله عز وجل به. وقد جاء في الحديث أنه من يواقيت الجنة على اختلاف ألفاظه في رواية الترمذي وغيره، وقد حسن غير واحد من العلماء رحمهم الله هذا الحديث، وأشار الإمام الترمذي إلى أنه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحيح. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب الرجعة [4]

شرح زاد المستقنع - باب الرجعة [4] لقد بين الشارع كل كبير وصغير من مسائل هذا الدين ومن ذلك تعامل الزوج مع زوجته وما يحل له منها وما يحرم عليه منها. وقد يقع خلاف بين الزوجين يؤدي بالزوج إلى بت طلاقها، وإذا بت طلاقها حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره. وإذا نكحت المطلقة ثلاثاً زوجاً آخر ثم فارقها حلت للأول، ولكن هذا النكاح المحلل ينبغي أن يتصف بصفات معتبرة خالية من الحيلة، ثم إذا تم ذلك فلابد من الوطء، وهذا الوطء المحلل لابد فيه من صفات اعتبرها الشرع، بحيث يكون قد أذن بها وكانت دالة على رغبة وزواج لا احتيال فيه. وقيد بين الشيخ ما يتعلق بذلك بياناً واضحاً.

تحريم المرأة على زوجها إذا استوفى الطلاق

تحريم المرأة على زوجها إذا استوفى الطلاق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بمن طلق زوجته الطلقة الأخيرة، فاستتم العدد الذي جعله الله في الطلاق.

الحكمة في اشتراط نكاح الزوجة بزوج آخر حتى تحل لزوجها الأول

الحكمة في اشتراط نكاح الزوجة بزوج آخر حتى تحل لزوجها الأول ومن حكم الله سبحانه وتعالى في المطلق ثلاثاً أنه لا تحل له زوجته حتى تنكح زوجاً غيره، وبيّن هذا الحكم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء كتاب الله عز وجل باشتراط النكاح الثاني، وجاءت السنة باشتراط الوطء وحصول ما يشترط من الإيلاج المعتبر للحكم بحل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول. ونظراً إلى أن هذه المسألة مترتبة على الطلاق ذكرها المصنف رحمه الله في ختام كتاب الطلاق، فذكر أن المطلق إذا استتم العدد وذلك في قوله: [إذا استوفى ما يملك] أي: إذا استتم العدد الذي جعله الله له. فكأن الزوج يملك الطلاق؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل له الطلاق، فإذا استتم العدد المعتبر فإنه لا تحل له الزوجة إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230] أي: الطلقة الثالثة {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230]. وذلك بعد قوله سبحانه: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] فبيّنت هذه الآية الكريمة من سورة البقرة أن من طلق الطلقة الثالثة أنه لا تحل له هذه الزوجة حتى تنكح زوجاً غيره، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه جعل المطلقة ثلاثاً لا تحل لزوجها الذي طلقها ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره؛ لأن كلا الزوجين أعطي المهلة. فالطلقة الأولى والثانية كان بإمكان كل منهما أن يصحح خطأه، فلو حصل أن الزوج تسرع في الطلقة الأولى فإن تسرعه يستطيع أن يتلافاه بما بقي له من الطلقتين. فإن كان الخطأ صادراً منه لأنه ربما يكون أول سبب للطلاق هو الزوج، ولربما كان السبب الزوجة، فإذا وقع من الزوج الطلقة الأولى بسبب خطأ أو تقصير منه؛ فإنه بوقوع الطلقة سيندم ويتأثر ويرجع إلى زوجته. فلو أنه استقام ربما أخطأت الزوجة، فجعل الشرع له أن يعطيها مهلة كما أعطى لنفسه المهلة، فجاءت الطلقة الثانية على فرضية أن يكون الخطأ من الزوجة، فبقيت الطلقة الثالثة فيصلاً بينهما، حتى ولو حصل أنه تكرر خطأ من الزوج مرتين فطلق الطلقة الأولى بقيت الثالثة، فيحترز كل منهما؛ لأنه إذا أخطأ الزوج المرة الأولى، وأخطأ المرة الثانية حرصت المرأة على أسلوب أشد من حالها في الطلقة الثانية على أن تعامل زوجها وتحافظ عليه إذا كانت تريد هذا البيت. فإذا طلقها فلا يخلو إما أن يكون الطلاق -في الثلاث تطليقات- بسبب الزوج أو يكون بسبب الزوجة، أو يكون مشتركاً بينهما. فإن كان بسبب الزوج فإنه يكتوي بنار الغيرة حينما يحس أن زوجاً آخر قد استمتع بهذه الزوجة، وعندها يتألم ألماً شديداً، بحيث لو فكر أن يتزوج امرأة ثانية فإنه يخاف من الطلاق ويهاب. كذلك أيضاً جعل الشرط تحقيقاً لهذا المقصود، أنها لا تحل له حتى يطأها الزوج الثاني، وهذا أبلغ ما يكون تأثيراً وزجراً ومبالغة في دفع الأذية من الأزواج. فإذا ما نكحت الزوج الثاني -والشرع اشترط أن يدخل بها الزوج الثاني- تأثر الزوج الأول واكتوى بنار الغيرة، هذا إذا حرص وعرف قيمة زوجته الأولى. ثم الفرض الثاني: أن يكون الخطأ من الزوجة فإذا كانت الزوجة هي التي تستفز زوجها، وهي التي ألجأته إلى الطلقة الأولى أو الثانية، أو ألجأته إلى أغلب الطلاق، أو إلى الطلقة الأخيرة التي بسببها حصل الفراق، فإن الزوج لا يحل لها أن يراجعها حتى تنكح زوجاً غيره. وحينئذٍ فالغالب أنه لا يصبر وسيتزوج امرأة ثانية، أو يفكر في زواج الثانية، فتكتوي هي أيضاً بنار الغيرة، ولكنها لابد لحلها للزوج الأول من أن تتزوج الزوج الثاني، فإذا نكحت الثاني إما أن يكون الثاني أفضل من الأول فتحرص على عشرته على أحسن ما تكون الزوجة لزوجها. وإما أن يكون أسوأ من الأول، فتحرص على أن ترجع للأول، والشرع من كماله ووفائه راعى المعاني النفسية ولم يهدرها، ولذلك جاءت امرأة رفاعة حينما طلقها فبت طلاقها ونكحها عبد الرحمن بن الزبير؛ جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: إن ما معه مثل هدبة الثوب، قال عليه الصلاة والسلام: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا. حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته). فاكتوت بنار الحرص على أن ترجع إلى زوجها الأول قبل أن ينكح غيرها؛ لأنها عرفت قيمة زوجها الأول. وهذا لا شك أنه من أكمل ما يكون، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] وقوم يعقلون وقوم يتقون وقوم يؤمنون؟ فالله يحكم ولا معقب لحكمه. فمن حكمته سبحانه وتعالى أن شرع هذا الأمر، وهو أن تحل الزوجة المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول بشرط أن ينكحها زوج آخر. ولهذا النكاح شروط شرعية وأحكام ومسائل وتفصيلات يعتني العلماء رحمهم الله بذكرها، وهذا ما سيبينه رحمه الله في هذا الفصل. جاء القرآن باشتراط الزوج الثاني، وهذا الشرط محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، وبناءً على ذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن المطلقة ثلاثاً لا تحل لمن طلقها ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره، على التفصيل الذي سنذكره إن شاء الله. [إذا استوفى ما يملك من الطلاق] حراً كان أو عبداً على التفصيل المذكور عند العلماء، وقد تقدم بيان هذه المسألة وكلام العلماء رحمهم الله. [إذا استوفى ما يملك من الطلاق حرمت] حكم بحرمة المرأة المطلقة، وهذا النوع من التحريم يوصف عند العلماء بالتحريم المؤقت؛ لأن تحريم المرأة ينقسم إلى قسمين: إما أن تحرم حرمة مؤبدة. وإما أن تحرم حرمة مؤقتة. فالحرمة المؤقتة من أمثلتها المطلقة ثلاثاً فإنها تحرم على الزوج الاول حتى تنكح زوجاً غيره، فأقتت باشتراط أن ينكحها زوج آخر، ومن التحريم المؤقت أن يكون عنده أربع نسوة، فلا تحل له الخامسة حتى يطلق واحدة من الأربع وتخرج من عدتها، ويسمى مانع العدد. ومن أمثلة الموانع المؤقتة مانع الرق ومانع الكفر مثل المجوسية قال صلى الله عليه وسلم: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم). فالمرأة إذا كانت مجوسية والعياذ بالله فلا يحل للمسلم أن ينكحها، وهكذا إذا كانت وثنية أو مشركة أو ملحدة أو لا دين لها والعياذ بالله، هذه لا يحل نكاحها. فيعتبر وجود هذا الكفر مانعاً؛ لكنه مانع مؤقت بحيث لو أسلمت أو صارت كتابية حل نكاحها على التفصيل الذي تقدم معنا. الحرمة المؤبدة: مثل النكاح المحرم من جهة النسب أو الرضاع أو المصاهرة، وقد تقدم بيان هذه الموانع وتفصيلها. قوله: [حرمت] أي: لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] فقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ} [البقرة:230] عند علماء الأصول أن من صيغ التحريم الصريح القوية نفي الحل عن الشيء، مثل قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب:52]، {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ} [البقرة:229]. هذه كلها تدل على تحريم الشيء، فقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] نص في تحريم المطلقة على من طلقها ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره.

صفات النكاح المعتبر في تحليل الزوج الثاني للمطلقة ثلاثا

صفات النكاح المعتبر في تحليل الزوج الثاني للمطلقة ثلاثاً [حتى يطأها زوج في قبل] إذاً يشترط أن يكون هناك نكاح، فلو وطأها والعياذ بالله بالزنا فإنه لا يحللها لزوجها الأول، بل يجب رجمها. وأما إذا كان وطؤها بين الحل والحرمة وهو الذي يسمى بوطء الشبهة، بأن ظنها زوجته فوطأها ثم تبين أنها أجنبية مطلقة من زوج ثلاثاً فلا تحل أيضاً، فوطء الشبهة والحرام لا يحلل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول، بل يحللها الواطئ في نكاح صحيح. إذاً يشترط وجود النكاح وأن يحصل مع النكاح وطء، وأن يكون هذا الوطء على الصفة التي نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك). قال رحمه الله: [ولو مراهقا] (ولو) إشارة إلى خلاف مذهبي، بعض العلماء يقول: لو وطأها مراهق وحصل به ما يحصل بالبالغ من الاستمتاع واللذة فإنه يحللها، ولا شك أن المراهق الصغير لا يحصل بمثله الاستمتاع وذوق العسيلة الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك قالوا: (ولو مراهقاً) لأن ما قارب الشيء يأخذ حكمه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك). فلو أن مراهقاً عقد على امرأة مطلقة ثلاثاً ودخل بها، وحصل منه الوطء فقالوا: إن هذا الوطء معتبر، فلو طلقها هذا المراهق حلت لزوجها الأول، ولو طلقت بعد بلوغه حلت لزوجها الأول ورجعت؛ لأن الوطء من المراهق يحصل به ذوق العسيلة. وأما إذا كان صغيراً فمثله لا يحصل به ذوق العسيلة على الوجه المعتبر. التحليل للمرأة المطلقة ثلاثاً له ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يكون مقصوداً يراد به تحليل المرأة لزوجها الأول باتفاق من أهل الزوج والزوجة، فهذا حرام بالإجماع، وملعون من فعله، والإعانة عليه من الكبائر؛ لأن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها عند طائفة من العلماء رحمهم الله لورود الوعيد الشديد فيه، ولما فيه من التحايل على شرع الله عز وجل، ومخالفة مقصوده. لأن مقصود الشرع والمقصود من الآيات الكريمة في اشتراط نكاح الزوج الثاني أن يتألم الزوج الأول، فإذا حصل ترتيب من أنه يدخل بها وبمجرد دخوله بها يطلقها، فحينئذٍ الزوج الأول لا يتألم ذلك الألم، ولا يتحقق المقصود شرعاً من اشتراط هذا الزوج. ولذلك كان وجود نكاح المحلل وعدمه على حد سواء، ونص طائفة من العلماء على أنه من كبائر الذنوب لورود اللعن فيه كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لعن المحلل والمحلل له. فالزوج الذي يحلل له يقول: يا فلان اذهب إلى فلانة وانكحها وحللها لي، وحتى إن بعضهم والعياذ بالله ربما يقول له: وأنا أدفع المهر، فليس لك إلا أن تحللها. ولربما والعياذ بالله اتفق معه على أن يأخذ عقداً صورياً وأنه لا يدخل بها، ثم يدعي أنه دخل بها وتدعي هي أنه أصابها، ثم ترجع إلى زوجها الأول. وهذا كله والعياذ بالله اعتداء لحدود الله عز وجل وتحليل لما حرم الله، وجرأة على محارم الله، نسأل الله السلامة والعافية. الصورة الثانية: أن يكون مقصود الشخص أن يحللها ولا يطلع الزوجين على ذلك، ولا أهل الزوجة على ذلك ويفعله، ففيه الخلاف، وشدد فيه طائفة من السلف، حتى أن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (إن الله لا يخادع) جاءه رجل وقال له: إن عمي طلق زوجته ثلاثاً وأنا أريد أن أنكحها حتى أحلها له، فقال له رضي الله عنه: (ويحكم! إن الله لا يخادع). يعني: أتخادع الله عز وجل؟ فإن الله لا يخادع سبحانه وتعالى {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} [البقرة:9] نسأل الله السلامة والعافية، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]. فمن اجترأ على هذا الفعل أفتى ابن عباس رضي الله عنهما بأنه في حكم المحلل، وأنه اعتداء لحرمات الله عز وجل. وقال بعض العلماء: إذا لم يطلع أحد على ذلك وغيب ذلك في نيته فلا بأس ولا حرج، وفي الحقيقة الأصل في الظاهر قد يقتضي الحل بناءً على الظاهر، ولكن بالنظر إلى المعنى يقتضي التحريم، ولذلك كان بعض مشايخنا رحمهم الله يقول: هذا النوع لا يفتى بحله ولا بحرمته زجراً للناس ومنعاً لهم عنه. لأنه ليس على السنن الوارد شرعاً، وليس بمخالف لكل وجه، ولذلك منعوا منه وقالوا: إنه يكون في هذه المرتبة فلا يفتى للناس بحله، ولا يفتى لهم بحرمته؛ لأن النية مغيبة، كما لو تزوج امرأة وفي نيته طلاقها. وأياً ما كان فإنا إذا نظرنا إلى معاني الشرع وجدنا أن الأصل يقتضي تحريم هذه الصورة، والسبب في هذا أن المعنى الذي أراده الشرع وهو زجر الزوج الأول، وحصول الرفق للمرأة بتغيير حياتها، فلربما وجدت الزوج الثاني أكرم من الأول، فانتظمت بيوت المسلمين، ووجدت كل زوجة ما يناسبها من الأزواج، واستقام النكاح على الوجه المعتبر. الصورة الثالثة من النكاح الذي يحصل به التحليل: أن يتزوج الرجل المرأة المطلقة ثلاثاً وفي نيته أنها إن كانت صالحة أمسكها، وإن كانت غير صالحة طلقها، ونكحها نكاحاً على السنن المعتبر شرعاً لا يقصد تحليلها للأول، ولم يدر بخلده ذلك، فهذا لا إشكال أنه معتبر شرعاً وأنه نكاح صحيح تنبني عليه الآثار الشرعية من حلها لزوجها الأول بشرط حصول الوطء. قال رحمه الله في بيانه للشروط التي ينبغي توفرها في هذا النكاح الثاني: [ويكفي تغييب الحشفة أو قدرها] فهذا شرط وطء الزوج الثاني للزوجة، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) فهذا نص في المطلقة ثلاثاً أنها لا تحل لزوجها الأول إلا إذا دخل بها الزوج الثاني. قوله: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) أدب من رسول الأمة صلوات الله وسلامه عليه، حيث عبر بالألفاظ التي تتضمن المعاني مع مراعاة الأدب والحشمة والكمال في الخطاب فلم يصرح لها تصريحاً، ولا شك أن النساء كن على فطنة ومعرفة، واللسان العربي فيه أسرار عجيبة، ودلائل بليغة؛ ولذلك جعله الله لأفضل كتبه، وأفضل ما أنزل على عباده، تشريفاً لهذا اللسان وإكراماً له.

ضابط الوطء المحلل للمطلقة ثلاثا لزوجها الأول

ضابط الوطء المحلل للمطلقة ثلاثاً لزوجها الأول فقال لها: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) هذه الكلمة تنتظم شروطاً مهمة: أولاً: اشتراط الدخول؛ لأن المرأة قد عقد عليها زوجها الثاني، فامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تحليلها لزوجها الأول حتى يدخل بها، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم على تفصيل. ثم لما قال: (حتى تذوقي عسيلته) دل على أنه لابد من الإصابة التي يتحقق بها الإيلاج والجماع المعتبر الذي يترتب على مثله ما يترتب من أحكام الشريعة. فبيّن رحمه الله أنه يشترط تغييب الحشفة في الفرج. فقال رحمه الله: [ويكفي تغييب الحشفة] الحشفة: هي رأس الذكر، ومعناه: هو الذي عبر عنه بمجاوزة الختان للختان. وتغييب رأس الذكر يترتب عليه من الأحكام الشرعية ما يقارب ثمانية أحكام ما بين العبادات والمعاملات، ومنها هذه المسألة، أنه إذا اشترط الوطء فلابد من تغييب الحشفة وهي رأس الذكر أو قدرها من مقطوعة كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وسيأتي تفصيل ذلك أكثر في أحكام الجنايات والحدود في باب الزنا، فبيّن رحمه الله أنه لا بد من حصول الإيلاج. فلو أنه دخل بالمرأة وحصلت المباشرة دون إيلاج لم تحل، بل لابد من الجماع وأن يحصل إيلاج في الفرج فقال: [يكفي تغييب الحشفة]، إذاً لا يشترط أن يكون الوطء بكامل الذكر وإنما يكفي أن يكون ببعضه. وصرح العلماء رحمهم الله بهذا تصريحاً واضحاً؛ لأن المسائل الشرعية في بعض الأحيان يكتفى فيها بألفاظ الكنايات، ويتأدب ويؤتى بها مخفية، لكن في تعليم العلم وشرحه وبيانه لا بد من التوضيح والتفصيل؛ لأنه ربما فهم أحد غير المراد. وحينئذٍ كان العلماء رحمهم الله والأئمة في مجالسهم يصرحون ويبينون حتى يفهم الناس، حتى يعذروا إلى الله عز وجل ببيان العلم وتوضيحه، ولا يقع الإنسان في لبس. فمن هنا قالوا: لابد كما صرح رحمه الله [ويكفي تغييب الحشفة] أي: لابد من حصول إيلاج رأس الذكر في فرج المرأة المطلقة ثلاثاً. فإذا حصل المسيس دون إيلاج من رأس العضو فإنها لا تحل، والدليل على اشتراط هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى تذوقي عسيلته) ولا يمكن أن يوصف بهذا الوصف إلا إذا حصل الجماع، ويكفي قدر الإجزاء وهو رأس الذكر، فلو حصل الإيلاج الكامل فهذا من باب أولى وأحرى. قوله: [أو قدرها] جمهور العلماء أن المسائل المترتبة على الحشفة وهي رأس الذكر، إذا كان الشخص مقطوع الحشفة فإنه ينظر إلى قدرها من المقطوع، فإذا أولج في فرج المرأة هذا القدر حلت لزوجها الأول. وأما إذا حصل الاستمتاع بما دونه ولو وضع الفرج على الفرج فإنه لا يوجب الغسل، ولا يحكم بالإحصان، ولا بثبوت المهر كاملاً؛ ولا تحل لمطلقها ثلاثاً، إلى غير ذلك من الأحكام المعتبرة، وهكذا الزنا لا يحكم بثبوت حده ما لم يحصل إيلاج رأس العضو أو قدره من مقطوع الحشفة. قال رحمه الله: [مع جب في فرجها مع انتشار]. (مع جب) أي: إذا كان مقطوع العضو وبقي منه شيء ينظر إلى القدر، فإذا كان هذا القدر المعتبر شرعاً والذي نص العلماء والأئمة على اعتباره موجوداً مثله مما بقي من العضو فإنه يكفي للحكم بالأحكام الشرعية التي ذكرناها، ومنها تحليل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول. قوله: [مع انتشار]: أي: فإذا كان العضو غير منتشر أي: غير منتصب فإنه لا يحكم بحلها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) ولذلك يقول بعض العلماء: من بلاغة السنة أن الكلمة الواحدة والجملة الواحدة تتضمن من المسائل كثرة. فهو عليه الصلاة والسلام بهذه الكلمة الجامعة أفتى، وفرع العلماء الأبواب والمسائل فيقولون: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) فيها إجمال يحتاج إلى تفصيل، وله مرابط وأوصاف لا بد من تحققها حتى يحكم بكون المرأة قد حلت لزوجها الأول. ومن هنا قالوا باشتراط الانتشار، وهذا معنىً ظاهر من الحديث وواضح؛ فإنه إذا كان العضو غير منتشر فإن المرأة لا يتحقق فيها هذا الوصف من إصابة العسيلة. قال رحمه الله: [وإن لم ينزل]. أي: لا يشترط الإنزال، ومن هنا صح وطء المراهق، وأن المراهق إذا جامع المرأة المطلقة ثلاثاً حللها للأول. وقالوا: إنه لا يشترط الإنزال لأن الشرع رتب الحكم على ذوق العسيلة، وذوق العسيلة لا يشترط فيه ألا تزال، فالقدر المعتبر للإجزاء هو حصول الإيلاج، وأما الإنزال فإنه ليس بشرط.

الأحوال التي لا يصح بها تحليل المرأة لزوجها الأول

الأحوال التي لا يصح بها تحليل المرأة لزوجها الأول قال رحمه الله: [ولا تحل بوطء دبر] لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط ذوق العسيلة، والمراد به الوطء المعتبر شرعاً، فالوطء المحرم شرعاً وهو وطء الدبر الذي لا يحل للزوج ولا لغيره؛ فإنه لا يحصل به التحليل ولا يحكم به بحل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول. فلا تحل بوطء في غير المكان المعتبر، وهو مكان الحرث. [وشبهة] فلو أنها طلقت ثلاثاً ونكحها شخص نكاح الشبهة أو وطئها وطء شبهة، فإنها لا تحل بهذا الوطء لزوجها الأول. فلو أنها كانت نائمة مع امرأة ومعها زوجها، فجاء زوجها يظنها زوجته، أو أخطأ وجاء ووطئها يظنها زوجة له، فهذا الوطء وطء شبهة لا يوجب الحد كما سيأتي إن شاء الله، ولا يعتبر موجباً لحلها لزوجها الأول. والدليل على اشتراط أن يكون الوطء في نكاح صحيح قوله تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ} [البقرة:230] فبيّن هذا الشرط وجوب النكاح، والنكاح حقيقة شرعية لابد من وجود نكاح معتبر شرعاً، ونكاح الشبهة ليس بنكاح معتبر شرعاً للتحليل. قال رحمه الله: [وملك يمين] وهكذا لو وطئت يملك يمين، فلو أنها كانت أمة وطلقها زوجها الرقيق واستوفى عدد التطليقات ورجعت لسيدها، ثم بعد أن استبرأها سيدها وطئها وطء ملك اليمين، فإنه في هذه الحالة لو أرادت أن ترجع إلى زوجها الأول لم تحل له، بل لابد أن تنكح، فإذا حصل نكاحها فإنه حينئذٍ تحل لزوجها الأول بشروطها المعتبرة. قال رحمه الله: [ونكاح فاسد] وهكذا إذا كان النكاح فاسداً، بأن طلقها ثلاثاً فنكحها رجل نكاح شغار أو نكاح متعة، فنكاح الشغار والمتعة نكاح فاسد شرعاً، فلا تحل بهذا النوع من النكاح لزوجها الأول. قال رحمه الله: [ولا في حيض]. أي: ولو أنه تزوجها الزوج الثاني فوطئها أثناء الحيض، ثم طلقها في الطهر، فإنه حينئذٍ لا يحكم بحلها لزوجها الأول. وهكذا لو وطئها في الحيض ثم مات عنها، وخرجت من حدادها وأراد زوجها الأول أن ينكحها نقول له: لا؛ لأن الوطء الذي حصل من الزوج الثاني حصل على غير الصورة المعتبرة شرعاً، ووطء الحيض والنفاس محرم شرعاً، والمحرم لا تترتب عليه الآثار الشرعية، فوجوده وعدمه على حد سواء. لأن الله عز وجل حرم الوطء في الحيض، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) فالمراد به الذوق المأذون به والمعتبر شرعاً. فلما كان ذوقه لها في حال النقص وحال غير معتبرة شرعاً، كان وجوده وعدمه على حد سواء. قال رحمه الله: [ونفاس] أي: سواء كانت في حيض أو في نفاس، وقد تقدم أن الوطء لا يحل فيهما حتى تطهر وتغتسل. قال رحمه الله: [وإحرام وصيام فرض] أي: وهكذا لو كانت محرمة فقال بعض العلماء: إن الوطء في الإحرام محرم شرعاً، وكل وطء محرم شرعاً لا يوجب التحليل. لأن المراد بالوطء المشترط الوطء الذي أذن به الشرع، ووطء المحرمة لا يحل، فلو أنه عقد عليها قبل الإحرام، ثم أحرمت، ثم وطئها وهي محرمة، ثم مات عنها أو طلقها، فإنها لا تحل لزوجها الأول في قول طائفة من العلماء بهذا النوع من الوطء؛ لأنه محرم شرعاً، فوجوده وعدمه على حد سواء لا يوجب الحكم بتحقق الشرط المعتبر شرعاً.

ادعاء المرأة أنها قد حلت لزوجها الأول بنكاح حال غيابها

ادعاء المرأة أنها قد حلت لزوجها الأول بنكاح حال غيابها [ومن ادعت مطلقته المحرمة وقد غابت نكاح من أحلها، وانقضاء عدتها منه، فله نكاحها إن صدقها وأمكن]. امرأة طلقها زوجها ثلاثاً وغابت عنه، وقوله: [غابت] يقتضي أنها لو كانت حاضرة عنده في المدينة ويعرف أحوالها وأخبارها فلا إشكال. من المعلوم أن النكاح يشهر ولا يستر، ويعرف ولا يخبأ عادة؛ فإذا كانت موجودة ويطلع على أحوالها، ثم ادعت يوماً من الأيام بعد مرور أشهر قالت: أنا تزوجت ثم طلقني، فحينئذٍ يعرف أنها لم تتزوج ولم تطلق، ولم يحصل الأمر المعتبر شرعاً، وأنها تريد أن تحتال لرجوعها إليه، فحينئذٍ لا يجوز له أن يعمل بهذا لأنها تدعي شيئاً لمصلحتها. لأنه من مصلحتها أن تعود لزوجها الأول، ولربما طلقت المرأة فلم ينكحها أحد؛ لأن الغالب أن النساء المطلقات يحصل شيء من امتناع الأزواج منهن فتدعي شيئاً لمصلحتها. فإذا قالت: تزوجت ووطئت بالزواج، وحصل تحليل، وخرجت من عدتي، وكانت حاضرة ويعلم أخبارها فالظاهر أنها غير صادقة، والأصل بقاء ما كان على ما كان، أنها امرأة محرمة عليه، فلا ينبني على مثل هذا القول حكم ولا يعول عليه. لكن لو أنه طلقها ثلاثاً، ثم سافرت إلى بلدها وغابت عنه، أو سافر هو وانقطعت أخبارها وغابت عنه، أو كانت في موضع لا يتيسر له العلم بحالها أو معرفة صدقها من كذبها. فإنه في هذه الحالة إذا جاءت وادعت أنها نكحت، وأنه دخل بها الناكح ثم طلقها، فإن كان الزمان الذي ادعت ممكناً في مثله حصول النكاح وحصول الطلاق مع العدة، فإن له أن يعمل بقولها، ولا حرج عليه في ذلك. إذاً: يشترط أن يكون ذلك ممكناً. لكن لو أنه طلقها وخرجت من عدتها، وبعد أسبوع جاءت وقالت: والله تزوجت! فلا، لأنها لم تخرج من عدتها فلا يمكن؛ لأنها مازالت تابعة لزوجها الأول، لكن لو أنها خرجت من عدتها وادعت الإصابة بعد خروجها من عدتها، وجاءت بعد أسبوع فنقول: لا يمكن؛ لأنه لابد من حصول طلاق حتى تحل للزوج الأول وحصول العدة من الطلاق الصادر من الزوج الثاني. ففي هذه الحالة لا يصح دعواها لأنه غير ممكن، لأنه لابد من وجود العدة والاستبراء، وهذا لا يتحقق في هذه المدة الوجيزة، فحينئذٍ لا يقبل قولها ولا يعول عليه. فاشترط رحمه الله غيابها، بأن لا تكون شاهدة يمكنه أن يعرف حالها وأن يطلع على صدقها من كذبها. ثانياً: أن يكون ما ادعته ممكناً، أما إذا كان غير ممكن فإنها لا تعطى بدعواها ما ادعت، وعليه أن يبقى على الأصل من كونها محرمة عليه. والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين الطلاق والوطء حال الحيض

الفرق بين الطلاق والوطء حال الحيض Q أشكل عليّ أن الطلاق في الحيض يقع، وهنا لم يعتبر الوطء في الحيض، وذلك بالنسبة للتحليل؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: مسألة الطلاق في الحيض قدرنا أن هناك ما يقرب من اثنتي عشرة رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عمر وعن بعض أصحاب ابن عمر رضي الله عنهم الثقات، مثل سالم بن عبد الله بن عمر ونافع مولاه، ومحمد بن سيرين وأنس بن سيرين ومن طريق خالد الحذاء. وهي روايات صحيحة ليس فيها إشكال، وأن ابن عمر نفسه كان يفتي أنها مطلقة وأن الطلاق قد وقع. وبينا أن هذا مذهب جماهير السلف والخلف والأئمة الأربعة، فإنهم يقولون بوقوع الطلاق والاعتداد به، فأوقعوا الطلاق بنص كتاب الله، فإن الله عز وجل نص على أن من طلق مضي عليه طلاقه، وهذا هو الأصل، فمن طلق في الحيض فقد طلق بكتاب الله عز وجل. فإن قال قائل: إن المرأة أثناء الحيض محرم عليه أن يطلقها، نقول: هذا مبتدع، والمبتدع يزجر بالعقوبة؛ لأنه حتى من جهة المعنى متفق على أنه يقع طلاقه، ومن جهة الأثر عن ابن عمر رضي الله عنهما وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم كانوا يفتون بوقوع الطلاق. والحقيقة للمحدث العلامة الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله برحمته الواسعة بحث من أنفس البحوث في هذه المسألة، في الجزء السابع من إرواء الغليل، تكلم كلاماً نفيساً جمع فيه الروايات، وهناك رواية عن حنظل بن أبي سفيان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنها احتسبت طلقة. فنحن نطلق بالكتاب والسنة، فالطلاق في الحيض يقع بالكتاب والسنة. أما مسألة الجماع في الحيض، فالجماع في الحيض جماع ناقص، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222]. فاشترط الشرع أن يوجد ذوق العسيلة، وذوق العسيلة لا يكون على وجه فيه ضرر: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة:222]. ومن إعجاز القرآن أنهم وجدوا أن الجماع في الحيض يورث التهاباً وأمراضاً في غدد البروستات وغيرها، وهذا من إعجاز القرآن ومن الحكم العظيمة، والأسرار التي أطلع الله عز وجل عليها العباد، ولم يعرفوها إلا الآن، وقد عرفها أئمة السلف من قرون عديدة. حتى إن بعض الباحثين من الكفار لما تبجح أنهم اكتشفوا ذلك قال له بعض الموفقين: هذا الذي عرفتموه اليوم كان يعرفه المسلمون منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً. كل هذا بفضل الله ثم بفضل هذا القرآن الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]. فالوطء أثناء الحيض أذىً، حتى إن الأطباء يثبتون أنه ضرر، فكيف تثبت الوصف الشرعي (حتى تذوقي عسيلته)؟ فالوطء في الحيض لا يحصل به ذوق العسيلة على الوجه المعتبر، لأن المرأة إذا كانت حائضاً أو نفساء وأصابها فإنه يؤذيها. حتى إن بعض الأطباء يستغرب من اشتراط كون المرأة لا تجامع في النفاس إلى الأربعين، وجدوا من ناحية طبية أنه يضر بالمرأة، ويؤذي جماعها، فكل هذه الأمور فيها أضرار. والوصف الذي اشترطه الشرع من كونه يذوق العسيلة وتذوق هي عسيلته غير موجود في حال الحيض وفي حال النفاس، حتى المرأة نفسها لا تذوق العسيلة على الوجه المعتبر، ومن هنا اختلف القياس. هذا الجواب الأول، فنقول: لا اعتراض؛ لأن تلك الصورتين كل صورة تخالف الصورة الثانية، فهنا يتحقق وصف الشرع بأنه مبتدع ووصف الشرع أنه يزجر، مع نص القرآن على أن طلاقه نافذ. أما رواية أبي الزبير (ولم يرها شيئاً) فهذه رواية محتملة؛ لأن رواية أبي الزبير ليست كالروايات الصريحة عن ابن عمر نفسه رضي الله عنه صاحب القصة، والذي هو أدرى بما رواه، وليس أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي رحمه الله بمنزلة نافع مولى ابن عمر ولا بمنزلة سالم بن عبد الله بن عمر في الضبط عن ابن عمر وهؤلاء الأئمة الأثبات في الرواية والضبط أدرى بروايتهم عن ابن عمر. ولو سلم أن أبا الزبير له مكانته في الحفظ والرواية، لكنه خالف من هو أوثق منه وأقوى منه رواية، ثم إن اللفظ الذي قاله: (ولم يرها شيئاً) معناه: لم يرها على السنة ولم يرها موافقة على السنة. فحينئذٍ يكون لفظه: (لم يرها شيئاً) محتملاً لأمرين: لم يرها طلاقاً، ولم يرها على السنة، والقاعدة أنه إذا روى الراوي وجاءت روايته معارضة لرواية الأكثر والأشهر، وعارضت الأصل، ولها معنىً يوافق الأشهر ويوافق الأصل، وجب صرفها لما هو موافق للأشهر والأصل. فنقول: (لم يرها شيئاً) أي: لم يرها شيئاً موافقاً للسنة، وهذا جواب الإمام الشافعي رحمه الله برحمته الواسعة، فإنه أجاب على رواية أبي الزبير من أنها ليست صريحة، إنما تكون صريحة ومعارضة حينما يقول ابن عمر: (احتسبت) ويفتي ابن عمر بالطلاق المحتسب فتأتي رواية: ولم يحتسبها طلاقاً. إذا قال: (لم يحتسبها طلاقاً) تعارض صريح مع صريح كما هو معروف في الأصول، لكن (لم يرها شيئاً) يحتمل أنه لم يرها شيئاً موافقاً للسنة، ويحتمل أنه لم يرها طلاقاً، هذا كله محتمل. فاللفظ ليس بصريح، والقاعدة (أنك لا تحكم بالتعارض في الروايات إلا بشيء صريح) حتى لا تضرب بعض النصوص ببعض، إذ الكل خارج من مشكاة واحدة، وشرع الله عز وجل إذا جاءنا بنقل الثقات لا شك أنه في الأصل مقبول غير مردود، وينبغي التسليم له والعمل به. ولذلك نقول: إن الحيض ألزمنا الطلاق به إعمالاً للأصل من أن المطلق ينفذ عليه طلاقه، وعملاً بالروايات التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعة كما في مسند عبد الله بن وهب رحمه الله وهي رواية صحيحة، واحتسبت الطلقة. وكذلك الروايات الموقوفة عن ابن عمر أفتى فيها بالطلاق، وإعمالاً لأصل الشرع، فإن المبتدع الأصل فيه أنه يزجر ويعاقب لا أنه يخفف عليه بأنها لا تقع طلقة. هذا ليس مقام عبادات يثاب عليه، الفقه أن تنظر إليه من أنه إنسان متعد لحدود الله؛ لأن الله لما ذكر الطلاق الشرعي في الطهر قال: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة:230]. فبيّن أن الطلاق في الحيض اعتداء على حدود الله عز وجل، والمعتدي على حدود الله نعرف من أصول الشريعة أنه يزجر ويعاقب، هذا مبتدع الأشبه به أنه يزجر. ولذلك تجد من يطلق في الحيض ويجد من يخفف عنه ويقول له: لا ليس عليك شيء؛ يستخف بهذا الأمر، ولا يراه شيئاً. لكن لو قيل له: إن الطلاق ماضٍ عليك وإنك ابتدعت واعتديت على حدود الله عز وجل؛ فإنه يكون أبلغ في تحقيق مقصود الشرع. وأما بالنسبة لجماع المطلقة ثلاثاً في الحيض فإنه ليس بالجماع المأذون به شرعاً حتى نرتب عليه الأحكام الشرعية. وقد اشترط الله عز وجل جماعاً مأذوناً على السنن الشرعي، فنقول: لا يتحقق به الحل على القول الذي اختاره المنصف رحمه الله. والله تعالى أعلم.

حرمة نكاح الرجل المرأة لقصد التحليل تصريحا أو ضمنا

حرمة نكاح الرجل المرأة لقصد التحليل تصريحاً أو ضمناً Q لو طرأت نية الطلاق بالتحليل للزوج الأول بعد أن كان الزوج الثاني على غير علم بأن الزوجة تريد زوجها الأول أو هو يريدها، فهل لو طرأت عليه هذه النية يجوز أن يطلقها؟ A الزوجة إذا أرادت أن ترجع أو تزوجت ووطئها الثاني، أو عقد عليها وأحبت الرجوع إلى الأول، هذا لا حرج عليها فيه، يعني: من حيث الأصل لا تلام. لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على امرأة رفاعة لما جاءت تشتكي عبد الرحمن وقالت: يا رسول الله! إن معه كهدبة الثوب، وكان معه طفل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ قال: ابني. فعلم أنها تدعي شيئاً ليس بالصحيح؛ لأنه لو كان الأمر مثلما ذكرت ما حصل له ولد من الزوجة الأولى التي قبل هذه الزوجة المطلقة ثلاثاً. ففطن عليه الصلاة والسلام إلى أنها اختارت زوجها الأول إما لعشرة وإما لأمور، فقال عليه الصلاة والسلام: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته) فهذا حكم بيّن أنها فعلاً تريد الرجوع إلى رفاعة، ثم هي أقرت وسكتت. والنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أورع الخلق وأكملهم أدباً وأبعدهم عن اتهام الناس ليس بمعقول أن يقول لها: (تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟) بالباطل والزور، حاشاه! بل ذكر لها أنها تريد أن ترجع إلى رفاعة بدليل وحجة، وهي سكتت وأقرت، ومن هنا أخذ بعض العلماء أن من طلقها ثلاثاً حتى لو طلقها زوجها اليوم، وحنت إليه ورغبت أن تعود إليه فلا بأس، هذا مقصود الشرع؛ لكن الذي يحلل وينكح لا يجوز له أن ينكح بقصد أن يحللها للأول. هناك فرق بين الاثنين، وهي بالعكس فحينما تحن لزوجها الأول فمن المصلحة أن تعود إليه، ولربما كان الزوج الثاني أسوأ، ولربما كان ظالماً مؤذياً، ومقصود الشرع أن تعرف النعمة التي كانت فيها، ولذلك كان الحكماء يحدثون عن الرجل العاقل الذي يريد زوجة أنه يقول: اطلبوا لي امرأة أدبها الدهر. اطلبوا لي امرأة أصابت النعمة ثم أدبها الدهر، فعندما تكون في نعمة وتزول عنها، وتعظها الأيام والسنون، وتجد الشدة والحاجة، تعرف قيمة النعمة. فإذا تزوجها أحد بعد ذلك عادت من أعقل النساء، وأعرفهن بالأمور، ومن هنا عندما تطلق ثلاثاً وتحن إلى زوجها الأول، فإنه قد عضها وآلمها ما وجدت من فراق النعمة، فهذا لا تلام عليه، فانظر حكمة الشريعة التي لم تلم المرأة ولكن لامت الرجل. فهناك فرق بين الرجل وبين المرأة، فالرجل لا ينكح بقصد التحليل لا صراحة ولا ضمناً على التفصيل الذي ذكرناه. والله تعالى أعلم.

حكم وطء العنين في تحليل المرأة للزوج الأول

حكم وطء العنين في تحليل المرأة للزوج الأول Q إذا كان الزوج الثاني عنيناً فكيف تذوق المرأة عسيلته ويذوق عسيلتها؟ A العنين له حكم، وتقدم معنا قضاء الصحابة رضوان الله عليهم فيه، وقضاء الفاروق رضي الله عنه أنه يمهل سنة حتى يطأ، فإذا حصل الوطء خلال السنة ولو مرة واحدة فإنه يحصل به التحليل للأول. وأما قبل الوطء فإنها لا تحل لزوجها الأول بهذا النكاح، فإن شاءت صبرت معه، وإن شاءت عوضها الله غيره. والله تعالى أعلم.

حكم من أوتر بركعة ثم سها فقام للثانية

حكم من أوتر بركعة ثم سها فقام للثانية Q إذا أوتر شخص بواحدة فسها وقام إلى الثانية، فهل يسجد للسهو أم يجعلها شفعاً ويوتر بواحدة، لأن الوتر مرتبط بعدد الفرد؟ A هذه المسألة للعلماء فيها تفصيل، ولها نظائر، فمن أمثلتها أيضاً أن تصلي بالليل ركعتين ركعتين وفجأة قمت إلى الثالثة فهل ترجع وتجلس وتسجد للسهو وتلغي الزيادة، أو تستمر فيها وتضيف ركعة فتشفعها؟ هذه فيها وجهان للعلماء: بعض العلماء يقولون: الإعمال أولى من الإهمال، فما دام أنك تكسب الأجر والخير أكثر فتضيف هذه الركعة وتزيدها وتصبح الثنائية رباعية. وهكذا لو صليت أربعاً ثم قمت إلى الخامسة قالوا: تضيف سادسة، وإذا صليت سبعاً تضيف ثامنة، فهذا بعض العلماء يستحبه. لكن في مسألة الوتر كان بعض مشايخنا رحمه الله يقول: إنه إذا قام إلى الوتر وأوتر فإنه لا يعرف في الشرع ركعتان يدعى بعد الأولى منهما، فإذا كان قد قنت ودعا بعد الركعة الأولى في وتره، فإنه الأشبه به أن يجلس مباشرة وأن يسجد سجود السهو؛ لأن الشريعة لم تجعل صلاة ركعتين يكون الدعاء في الأولى منهما، وإنما الدعاء في الشفعية بعد الركوع الثاني كما في قنوت الفجر ونحو ذلك مما ورد به الشرع. إلا أن الأولين ردوا وقالوا: إن هذا الدعاء فعله لإذن شرعي، كما لو أنه جلس للتشهد الأول ثم قام وتذكر أنه يصلي شفعاً فإنه يكون معذوراً بجلوسه، وهنا كان معذوراً لنيته الوتر. لكن الأشبه والأولى أنه يصليها وتراً وينقض هذه الزيادة، وإن أتمها ركعتين فلا حرج على ما ذكرناه في اختيار بعض العلماء رحمهم الله؛ لأن الأجر أكمل له وأعظم، ولذلك يقولون: إن الثانية تنقض وتره الأول. والله تعالى أعلم.

حكم دخول المأموم مع إمام يصلي العشاء بنية المغرب والعكس

حكم دخول المأموم مع إمام يصلي العشاء بنية المغرب والعكس Q دخلت المسجد ولم أصل المغرب فانتظرت الإمام حتى قام للثانية من صلاة العشاء، ثم دخلت معه، وذلك من أجل عدم الاختلاف عليه، فما الحكم؟ A فعلت هذا من أجل أن تجتنب المخالفة ووقعت في مخالفة ثانية، فأنت إذا دخلت المسجد فأنت مأمور بأن تدخل مع الإمام (إنما جعل الإمام ليؤتم به). فلا يجوز للمسلم إذا دخل المسجد أن ينفرد عن الجماعة، ولو أدركت الإمام قبل السلام بلحظة، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (فما أدركتم فصلوا) فبيّن صلى الله عليه وسلم أن كل من أدرك جماعة تصلي في المسجد أنه لا يجوز له أن يشذ عنها وينتظر. وأما مذهب بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة وبعض أهل الرأي فإنهم يقولون: إنه ينتظر إذا كان قبل السلام بلحظة حتى يحدث جماعة ثانية، وهذا اجتهاد مع النص. النص يقول: (فما أدركتم فصلوا) ومعروف أن (أدركتم) لم يفرق فيه بين إدراك قليل أو كثير؛ لأن الإنسان يعتبر مدركاً للجماعة الأولى ولو قبل السلام بلحظة، فما دام أنه كبر قبل تسليم الإمام، فعندنا نص صحيح يدل على أنك إذا دخلت المسجد والإمام في جماعة فواجب عليك أن تتبع جماعة المسلمين. والإسلام يحارب الشذوذ خاصة في العبادات، ولذلك شرع الله صلاة الجماعة وأمر بها، ووضع عليها الفضائل والعواقب الحميدة تحقيقاً لجماعة المسلمين، وأمر من حضر هذه الجماعة أن يركع لركوع الإمام، ويسجد لسجوده، وألا يختلف على الإمام. فكما أن الاختلاف يكون داخل الصلاة -كما ذكر العلماء- كذلك يكون الاختلاف والشذوذ قبل الصلاة، فتجد الإمام ساجداً وتجده الرجل واقفاً ينتظر أن يرفع الإمام رأسه، وهذا خلاف السنة وشذوذ عن الجماعة؛ لأنه لو سجد لرفع الله درجته، وكفر خطيئته وأعظم أجره، وأجزل مثوبته. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فأي حالة أدركتمونا عليها فصلوا) أي: على أي حال وجدتمونا فصلوا معنا. فلا يجوز الشذوذ عن الجماعة والخروج عنها، هذا مبدأ إسلامي، ولذلك لما صلى عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين ورأى رجلاً لم يصل قال: (ما منعك أن تصلي في القوم؟) وفي حديث أنه قال: (ما منعكما أن تصليا في القوم، ألستما بمسلمين؟). فدل على تشديد الشرع في متابعة الجماعة، فكما أن المتابعة تكون أثناء الصلاة تكون كذلك قبل الصلاة، فإذا كنت في داخل المسجد وجب عليك أن تتبع الإمام وأن تدخل معه، حتى ولو أنك صليت في مسجدك وفي حيك وفي بيتك لزمك أن تدخل مع الجماعة (فإذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا). فنهى الشذوذ عن الجماعة وأمر بإعادة الصلاة مرة ثانية، تحقيقاً للأصل الذي ذكرناه. وإذا ثبت هذا فإذا دخلت والإمام في صلاة العشاء فعليك تدخل وراءه، وإن كنت لم تصل المغرب، فإن جمهور العلماء رحمهم الله على أنك تصلي وراءه نافلة، ولا يجوز إيقاع صلاة المغرب وراء العشاء؛ لأنها مخالفة لشرع الله عز وجل، فالرباعية لا تؤدى وراء الثلاثية والثلاثية لا تؤدى وراء الرباعية. والاختلاف واضح، ولو أنك أدركت الركعتين الأخريين فإن الأصل في صلاة المغرب أن تدرك إماماً في ركعتين أوليين أن يجهر لك بقراءتهما. ولذلك تدخل وراءه بنية النافلة؛ لأنه لا يصح أن تصليها عشاءً لأنك لم تبرئ ذمتك من المغرب، ولا يصح أن تصليها مغرباً؛ لأنك لا تصليها على الصورة المعتبرة شرعاً، ولا تؤديها على السنة. وأما اجتهاد بعض العلماء في هذه المسألة ونظائرها قالوا: إذا صلى المغرب وراء العشاء يجلس بعد الركعة الثالثة، وهذا قول شاذ لأنهم قاسوه على صلاة الخوف، وهذا قياس ضعيف؛ لأن القاعدة في الأصول (أن ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس). وصلاة الخوف صلاة ضرورة جاءت بصورة خاصة، والقياس في التعبديات ضعيف، فجاءت على هذه السنن وهذه الصورة، فلا ينقاس غيرها عليها، وقد نبه الأئمة على ضعف هذا، حتى إن الشافعية عندهم هذا الوجه، نبه الإمام النووي في روضة الطالبين وغيره على ضعفه، وعدم الاعتداد به. ومن هنا نقول: إن من أدرك الإمام يصلي العشاء ولم يكن صلى المغرب فإنه يدخل وراءه بنية النافلة، ودخوله وراءه بنية النافلة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدخول مع الجماعة. فلا يصح أن نصليها مغرباً لاختلاف صورة الصلاة، ولا يصح أن نصليها عشاءً لأن الذمة لم تبرأ من المغرب، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] فلا يصح أن يصلي العشاء قبل أن تبرأ ذمته من المغرب. وإذا ثبت هذا فإنه يصح ما ذكرناه من مذهب جمهور العلماء أنك تصلي نافلة، ثم تقيم وتصلي المغرب، ثم تصلي العشاء، وفائدة هذا أن الله يأجرك عن الثلاث الصلوات اتباعاً للسنة، واتباعاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة مع الجماعة، وتؤجر عن صلاة فرضك في المغرب والعشاء. أما لو كانت صورة الصلاتين متحدة كأن تدخل والإمام يصلي العصر وأنت لم تصل الظهر، فيجوز أن تصلي الظهر وراء العصر، فحينئذٍ تكبر وتنوي وراء الإمام الظهر، فإذا سلم الإمام أقمت وصليت العصر أو تدخل مع جماعة ثانية تصلي العصر، ولا بأس؛ لأن صورة الصلاتين متحدة على أصح قولي العلماء. والله تعالى أعلم.

التورك يكون في التشهد الثاني من كل صلاة فيها تشهدان

التورك يكون في التشهد الثاني من كل صلاة فيها تشهدان Q إذا قصر المسافر الصلاة فهل يشرع له التورك، أم أن التورك خاص بالصلاة الرباعية؟ A هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، من أهل العلم من قال: يشرع التورك في جميع الركعات، ومنهم من قال: يشرع التورك في كل تشهد بعده سلام، ومنهم من قال: لا يشرع التورك في الثنائية، وإنما يتورك في الرباعية والثلاثية. ومن هنا يقولون: لا يتورك إلا في التشهد الثاني والأخير، لحديث أبي حُميد وأظن هذا هو أقوى الأقوال وأقربها إن شاء الله للسنة. ولكن لو تورك أحد فله وجه من السنة ولا ينكر عليه، وهو قول طائفة من العلماء وبعض أئمة السلف رحمهم الله أن التورك مشروع في الثنائية، ومنهم من يقول: يسن التورك مطلقاً كما هو مذهب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين. فهذه مسائل لا ينكر على أحد فيها، وأنبه على أن المسائل الخلافية كالصلوات ونحوها إذا كان هناك نصوص محتملة وترجح عند إنسان أو عند شيخه الذي يعمل بقوله قولاً، فلا ينبغي له أن ينكر على غيره. إنما يقول: هذا الأقوى وهذا الأقرب إلى السنة، فإذا عمل بالقول الآخر الذي قال به أئمة السلف ودواوين العلم؛ فإنه لا ينكر عليه، ولا يثرب عليه؛ تأسياً بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح كما ذكر العلماء والأئمة، أنه لا إنكار في الفروع المختلف فيها ما دام أن الأدلة تحتملها، وهذا من شرع الله عز وجل؛ لأنه يحتمل أن يكون الصواب والحق معه. وذلك لأن النصوص إذا وردت محتملة فإنه إذن من الله عز وجل بالخلاف؛ فإن أصاب المصيب كتب الله له أجران وهو صاحب السنة والحق، وإن أخطأ من أخطأ بعد اجتهاد وتعاطٍ للسبب كتب الله له الأجر الواحد. والله تعالى أعلم.

نصيحة لطلاب العلم في استغلال أوقاتهم وجدولتها

نصيحة لطلاب العلم في استغلال أوقاتهم وجدولتها Q كيف يجدول طالب العلم وقته، وذلك بالنسبة للمراجعة والضبط والتحضير للدرس، والاستفادة من أهل العلم خصوصاً إذا أراد أن يجمع إلى ذلك تلاوة للقرآن وقياماً لليل؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فلا شك أن من أعظم نعم الله عز وجل على العبد بعد الهداية نعمة العلم إذا صحب بالعمل والدعوة إلى الله عز وجل، وكمل الله نعمته على العبد بالقبول. فمن جمع الله له بين الهداية والعلم النافع والعمل والتطبيق والدلالة على الخير، والحرص على نفع الأمة وتعليم المسلمين وإرشادهم، حتى يجعله الله إماماً من أئمة الدين، ثم يكمل الله له بالقبول ويزيده فضلاً بالثبات حتى يختم له بخاتمة السعداء فليس هناك عبد بعد الأنبياء أسعد من هذا العبد. هذه هي النعمة العظيمة، والمنة الجليلة الكريمة، نعمة العلم والعمل مع القبول والإخلاص والثبات وحسن الخاتمة، نسأل الله بعزته وجلاله وكماله أن يرزقنا ذلك، وأن يبارك لنا في علمنا وعملنا. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعد صلاة الفجر كما صح عنه عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً طيباً، وعملاً متقبلاً). فكان يستفتح يومه بسؤال الله عز وجل أن يجعله من أهل العلم، وأن يزيده علماً، فإذا كان الإنسان في إجازة أو فراغ، فنسأل الله عز وجل أن يبارك له في هذا الفراغ. والعاقل الحكيم يعلم أن أعظم ما تنفق فيه الأعمار، ويمضى فيه الليل والنهار، الاشتغال بكتاب الله عز وجل، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما بني عليهما من الأحكام الشرعية المتعلقة بأصول الدين من العقيدة، أو متعلقة بفروع الدين من أحكام العبادات والمعاملات التي تحتاجها الأمة، فسد ثغور الإسلام في هذا لاشك أنه من أعظم النعم التي يوفق الله لها وليه الصالح. والعبد لا يكون صالحاً إلا إذا أصلح الله له قوله وعمله، ولا يصلح القول والعمل إلا بعلم وبصيرة، على كل حال طالب العلم لا يمكن أن يبارك له في طلبه للعلم إلا إذا عرف قيمة العلم الذي يطلبه، وقيمة العلم الذي يريده، وأنت طالب علم كلما سمعت كلمة أو حرفاً من العلم فأنت طالب علم. فإن شئت فاستزد، وإن شئت فاستقل، والسعيد من استزاد من رحمة الله عز وجل، فأنت طالب علم ما طلبت كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما بني عليهما، فتحرص كل الحرص على معرفة قيمة هذا العلم، ومن عرف قيمة العلم عظّمه، وأحبه وأحب أهله، ووقرهم وأجلهم وعرف قيمة كل كلمة وكل حرف. ولذلك تجد طلاب العلم على مراتب، منهم من يطلب العلم وهو يعرف قيمة العلماء ولكن على نقص، فلا يعرف قيمة العلماء من السلف الصالح والأئمة المتقدمين ولا المتأخرين. وتجده يأخذ العلم بعضاً، وهم أنصاف طلاب العلم الذين يأخذون بعض العلم، فإذا تعلم الكلمة والكلمتين تطاول بها على الناس، ولربما خطأ ولربما فاجترأ على العلم قبل أن يتمكن وقبل أن يحصل، فهذا تجده يعظم العلم بقدر ما أخذ من العلم فتجد تعظيمه ناقصاً، حتى إنه لربما يجلس المجلس يتتبع الزلة والخطأ، فتجده يبحث عن الخطأ أكثر من بحثه عن النفع، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا ولو كان فيه نوع من الخير لكنه لا يأمن من مكر الله عز وجل به، ومن أراد أن يجرب ذلك فليجربه. فسنن الله لا تتبدل ولا تتحول، فإن الله عليم حكيم، و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] كما أنه أعلم حيث يجعل رسالته في الأنبياء والرسل، فهو أعلم كيف يجعل العلم ونوره آيات بينات: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلم} [العنكبوت:49]. من الذي آتى أهل العلم العلم؟ الله عز وجل، لا يستطيع أحد أن يطلب العلم إلا إذا عرف قدر العلماء خاصة من أئمة السلف ودواوين العلم، وتأدب الأدب الكامل معهم. سواء كانوا علماء في التفسير أو الحديث أو الفقه، نتأدب معهم ونعرف قدرهم، ومن عرف قدرهم ومكانتهم أحب العلم منهم، ولذلك كان علماء الأئمة والسلف يتأدبون مع مشايخهم، حتى قال بعض المحدثين رحمهم الله لشيخ: أعطني لسانك الذي رويت به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبله. لما عرف قيمة السنة أجل كل شيء، حتى إنه يريد أن يقبل لسانه إكراماً لهذا العلم وإجلالاً له، فالمقصود أن الإنسان الذي يعرف قيمة العلم، ويعرف قيمة من يأخذ عنه العلم، وعرف ما وضع الله عز وجل في صدور أهل العلم من أئمة السلف، ودواوين العلم الذين زكاهم الله لهذه الأمة، وجعلهم أئمة صالحين هداة مهتدين، يقولون بالحق وبه يعدلون، ووضع لهم القبول بين الناس يحبونهم كمال المحبة لله وفي الله، وتعظيماً لشعائر الله. فإذا أحب السنة انحرف على كل كلمة ما وافقت شرع الله، فعند معرفته بقيمة السنة والعلم بها، يعطيه الله عز وجل النور الذي يهتدي به بهدي الكتاب والسنة؛ لأن هؤلاء العلماء ما وضعتهم الأمة في هذه المكانة وهذه المنزلة إلا بعد أن عرفت منهم العلم والعمل. إذا عرف قيمة العلماء حرص على أخذ هذا العلم عن أهله، وعرف قيمة كل كلمة في العلم؛ فسهر ليله، وأضنى جسده، وتلذذ بهذا السهر، وتلذذ بهذا التعب، فيا لله من طالب علم يحس أن ذلة العلم عزة، وأن مهانته كرامة، وأن تعبه راحة. ولذلك تجد أئمة السلف رحمهم الله كانوا يسافرون ويتغربون، ويجتهدون ويتعبون، فانظر إلى آثار رحمة الله عز وجل عليهم حينما وضع الله لهم الدعوات الصالحة لمن جاء بعدهم من الذكر الحسن، وأحسن لهم المآل، الله أعلم كيف ختم لهم بخاتمة السعداء؟ وكيف يتقلبون الآن في منازل العلى من جنات عدن؟! وهذا من رحمة الله عز وجل وبركته سبحانه عليهم بفضله أولاً وآخراً، ثم بما وضع لهم من هذا العلم الذي هو سبب كل رحمة وكل خير وبركة. فطالب العلم الذي يعرف قيمة العلم يحرص عليه، ولذلك إذا كانت عندنا هذه المعرفة، وكان عندنا هذا المبدأ، حرصنا على كل دقيقة من العطلة وكل ثانية قد تستنفذ في هذا العلم، ولكن يعلم كل طالب علم أنه يعتري كل ذلك عقبات ومخذلات ومنغصات ومكدرات وهجنة ونكد، ولكن إن صبر رفع الله منزلته، وأعظم أجره، وأجزل مثوبته، فيصبر ويصابر. فإذا جئت تطلب العلم تجد عقبات بينك وبين السلف وبين العلماء وبين الأئمة، حتى لربما وجدت أشياء يصعب عليك فهمها من كلامهم، فتصبر وتصابر، وترابط حتى يفتح الله عليك. مما وجدنا من سنن الله عز وجل ورحمته وعظيم فضله أننا كنا نقرأ بعض الكتب ونجلس عند بعض العلماء ما نفقه منه إلا القليل، وبفضل الله أولاً وآخراً -لا بحولنا ولا بذكائنا ولا بقوتنا ونبرأ إلى الله من الحول والقوة- ما مضت إلا أسابيع، بل بعض الأحيان أيام وإذا بذلك الأمر المعقد الصعب أصبح ألذ في قلوبنا وفي نفوسنا وفي أرواحنا من الطعام والشراب. وأقسم بالله أن بعض طلبة العلم ما كان يجلس على طعامه لغداء وعشاء إلا وكتابه مفتوح، ومنهم من كان لا يدخل حتى دورة المياه إلا ويفتح مسجلاً يذكره بالعلم من حرصه. حتى كان بعض أئمة السلف كما جاء عن أبي حاتم البستي كان إذا دخل الخلاء أمر ابنه يقرأ الروايات كلها حتى لا تذهب عليه ساعة أو لحظة أو دقيقة دون أن يكون هناك اتصال بهذا العلم. فالذي يريد أن يبارك في وقته وجده وتحصيله فليعرف قيمة هذا العلم، فإذا عرفت قيمة هذا العلم فتح الله لك أبواب الرحمة؛ لأن تعظيم شعائر الله مظنة التوفيق والبركة، ولذلك لما ذهبت كرامة العلماء ومكانتهم ومنزلتهم، وسب الخلف السلف وانتقصوهم، وأصبحت مكانة العلماء لا شيء؛ حتى إنك لتسمع الآن العالم يريد أن يفتي في مسألة فمن معقب وناقد ومن مداخلة! متى كنا نسمع أن العالم عنده مداخلة أو إضافة أو زيادة؟ ما تربت الأمة على هذا، ولا عرفت الأمة هذه الأساليب التي تنقص من مكانة العلماء، حتى أصبح يتكلم في العلم من لا يحصى كثرة ويقول: عندي مشاركة، وكل يشارك وكل يتكلم، حتى ذهبت كرامة العلماء، وأصبح العالم كغيره، حتى إنك تسمع الكلام المعسول من الرجل اللبق البليغ ولكن لا تجد نور العلم، ولا بهاءه عليه، ولن تجده حتى تطلبه من أهله، وتأخذه من مكانه، ممن ورث العلم وأخذه بحقه، فهذا هو الذي بورك له في علمه، المقصود أن طالب العلم إذا عرف قدر العلم فتح الله عليه وبارك له في وقته وعمره، وكل ما يعانيه، وأكثر ما يعاني طلاب العلم اليوم بل الناس جميعاً، من الجهل بقدر العلم والعلماء. ومما يدلك على جهل كثير من الناس بقدر العلم والعلماء أن العلماء في انتقاص والجهال في ازدياد، وكل زمان يذهب من الأمة عالم لن تجد من يسد ثغرته إلا من رحم الله؛ لأنه لو كانت الأمة تعرف قيمة هذا العلم ما مات عالم إلا وخلف وراءه أمة ممن هم مثله ممن يأخذ عنهم العلم. والسبب في هذا أن الكثير ممن يجلس مع العلماء لا يلبث أن يتعلم بعض العلم حتى يخرج، ويذهب لكي يدعو ويعلم وينسى ضبط العلم كاملاً، فيموت العالم وقلَّ أن تجد من ضبط العلم ضبطاً كاملاً، لأننا ما عرفنا قدر العلم على التمام والكمال، ولو عرفنا قدر العلم على التمام والكمال للزمنا حلق العلماء والعلماء حتى تشيب رءوسنا، ونعلم بقدر ما عندنا، حتى إذا توفاهم الله عز وجل وجدت أمثالهم ممن سار على نهجهم وتأدب بآدابهم. فالحث على طلب العلم، وعلى معرفة قدر العلم، وطول الزمان في هذا العلم، وعدم التصدر للناس في الفتوى، وعدم أخذ العلم ممن ليس بأهله؛ هذا كله مما يعين على ضبط العلم وإتقانه وأخذه من أهله. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، وأن يجبر كسر هذه الأمة في ذهاب علمائها، ونسأله بعزته وجلاله أن يبارك في العلماء الباقين، وأن يبارك في أعمارهم وأوقاتهم، وأن يفتح على طلاب العلم لمحبتهم ومعونتهم على طاعة الله عز وجل ومحبته ومرضاته، وأن يجمعنا بهم في جنات عدن في مقعد صدق عند مليك مقتدر. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب الإيلاء [1]

شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [1] كانت المرأة في الجاهلية إذا آلى الرجل منها تظل بقية حياتها معلقة؛ لا هي متزوجة ولا هي مطلقة، فلما جاء الإسلام وضع لذلك حداً، فجعل للرجل مدة أربعة أشهر، وبعد ذلك يؤمر الزوج بأن يفيء أو يطلق. وللإيلاء أحكام ومسائل ينبغي معرفتها، منها: صفة الإيلاء، وبماذا يكون، ومن الذين يصح منهم الإيلاء، وغيرها من المسائل المذكورة في باب الإيلاء.

تعريف الإيلاء وأحكامه

تعريف الإيلاء وأحكامه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الإيلاء] الإيلاء في لغة العرب: مأخوذ من قولك: آلى الرجل يولي إيلاءً، والأليَّة: الحلفة يحلفها الرجل، ويسمى الحلف واليمين إيلاءً كما قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور:22]، فإن هذه الآية من سورة النور سببُ نزولها: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان يحسن إلى مسطح، فلما تكلم في حادثة الإفك حلف بالله أن لا يعطيه وأن لا يحسن إليه، فبيّن الله تبارك وتعالى له السبيل الأكمل والأفضل من أن يديم إحسانه ومعروفه عليه. الشاهد: أن هذه الآية تدل على أن الإيلاء يستخدم بمعنى الحلف. والمراد بالحلف هنا: الحلف المخصوص؛ وهو الحلف بالله عز وجل أو صفة من صفاته على شيء مخصوص، وهو: ترك جماع المرأة ووطئها مدةً مخصوصة، وهي أكثر من أربعة أشهر، على أن يكون هذا الحلف متعلقاً بالزوجة، وأن يكون متعلقاً بالوطء في المحل المعتبر وهو الفرج.

صفة الإيلاء

صفة الإيلاء يقول المصنف رحمه الله: [كتاب الإيلاء] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من المسائل والأحكام التي تتعلق بإيلاء الأزواج وحلفهم على عدم وطء زوجاتهم المدة المعتبرة شرعاً. ونظراً إلى أن هذا النوع من المسائل بيَّن الله حكمه في كتابه، وكذلك فصّل العلماء رحمهم الله جملة المسائل المتعلقة به، ناسب أن يعتني المصنف رحمه الله بذكره في كتاب النكاح. وإنما أخر الكلام عليه وجعله بعد الطلاق؛ لأن الإيلاء في بعض الأحيان يكون وسيلة إلى الطلاق، والسبب في هذا: أن العرب كانوا في الجاهلية إذا غضب الرجل من امرأته حلف أن لا يطأها أبداً، فتبقى المرأة معلقة؛ لا هي مطلقة ولا هي زوجة، فرفع الله الظلم عن الزوجات ببيان حكم هذه المسألة، فجعل الأمر على العدل والوسط، فجعل للزوج مدة يمكنه أن يؤدب فيها زوجته ويمكنه أن يحلف فيها، ولكن إذا جاوز الحد المعتبر شرعاً فإنه حينئذٍ يوقفه القاضي الشرعي ويقول له: أنت بالخيار بين أحد أمرين: إما أن تكفر عن اليمين التي حلفتها وترجع إلى زوجتك. وإما أن تطلقها. فإذا حلف وكان حلفه فوق الأربعة الأشهر؛ كأن يقول يخاطب زوجته: والله لا أجامعك ستة أشهر، فحينئذٍ وصل إلى الحد المعتبر شرعاً وهو أكثر من أربعة أشهر، فإذا حلف هذه اليمين فإنه يوقفه القاضي عند استتمام الأربعة الأشهر، ويقول له: إما أن تكفر عن يمينك وتؤدي حق زوجك وتتقي الله ربك في أهلك، وإما أن تطلق الزوجة وتسرحها بإحسان. فإذا امتنع طلق عليه القاضي، وهذا عين العدل الذي قامت عليه السموات والأرض {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، ولقوم يعقلون، ولقوم يتفكرون، ولقوم يتذكرون. فالله سبحانه وتعالى حكم بهذا الحكم فأعطى الزوج حقه، وأعطى الزوجة حقها، فإنه ربما أساءت المرأة إلى زوجها، وأراد الزوج أن يؤدبها فحلف اليمين لأسباب معتبرة وهي صحيحة، وتعتبر مبررات لإيقاف الزوجة عند حدودها، فإذا حلف وكان الحلف دون المدة التي تضر الزوجة، فإنه حينئذٍ يحقق ما يريده من مصلحة، فإذا جاوز الحد فإن هذا من الظلم. وفي شرعية هذا النوع دل الكتاب بقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:226 - 227]، فهذه الآية من سورة البقرة أصل لبيان حكم الإيلاء. وهذا الحكم دليل على سمو منهج الشريعة الإسلامية، وأنها حفظت حقوق المرأة كما حفظت حقوق الرجل، فليست بشريعة جائرة، كما يجور أهل زماننا فينظرون لجنس على حساب حقوق الجنس الآخر، ويتبجحون بالحقوق إذا كانت من مصالحهم أو أغراضهم، ولكن الله سبحانه وتعالى حفظ الحقوق، فمتى اعتدى أحد الطرفين على الآخر أوقفه عند حده، وزجره وبيّن له ما ينبغي بيانه والتزامه لحدوده وشرعه.

بيان أن الإيلاء لا يكون إلا بحلف الزوج بالله تعالى أو صفته

بيان أن الإيلاء لا يكون إلا بحلف الزوج بالله تعالى أو صفته قال رحمه الله: [وهو حلف زوج بالله تعالى]. قوله: (وهو) أي: الإيلاء (حلف زوج) أي: حقيقته عندنا معشر الفقهاء: أنه حلف زوج، فالإيلاء لابد فيه من اليمين والقسم. ولذلك جاء في قراءة أُبي وفي قراءة لـ ابن عباس رضي الله عنهما: (للذين يقسمون) بدل {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} [البقرة:226]، فدل على أن المراد بالإيلاء القسم. وقوله: (حلف زوج)، يدل على أن الإيلاء لا يكون إلا من زوج، فلا يكون الإيلاء من زوجة؛ لأن الزوجة لا تملك الطلاق، والإيلاء يتركب منه الطلاق. ويدل أيضاً على أن الحلف على الأجنبية لا يتحقق به الإيلاء، فلو قال لامرأة أجنبية: والله لا أطؤك سنة، لم يكن مولياً، وفي مخاطبة الأجنبية بمثل هذا -ما لم تكن هناك دوافع أو مبررات شرعية- إذا رفع إلى القاضي عزره وعاقبه؛ لأن هذا فيه مساس بحرمة الناس. وقد اختلف العلماء في تعليق هذا الحلف على الزواج، فقال بعض العلماء: إذا علقه على زواجها فإن الإيلاء يتعلق كما يتعلق الطلاق في قوله: إن نكحتك فأنت طالق، وإن تزوجتك فأنت طالق، وإن زُوِّجت منك فأنت طالق، وإن تزوجتني فأنت طالق. وقد تقدم معنا شرح هذه المسألة، وبينا أن الصحيح أن الطلاق لا يقع؛ لأن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب:49]، فجعل الطلاق من الناكح، ومن لم ينكح فليس له أن يطلق فيكون كلامه لغواً. وأكدت هذا السنة فيما صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق)، وجاء في الحديث الآخر وهو حديث صحيح قال عليه الصلاة والسلام: (لا طلاق فيما لا يملك)، فإذا كان الطلاق لا يقع إذا كان معلقاً على الزواج من الأجنبية، ففرعه أن الإيلاء لا يقع. وقال بعض العلماء: الأصل أن التعليق يوجب المؤاخذة، فلما سقط في الطلاق بالدليل بقي الإيلاء على الأصل، فلو قال لها: إن تزوجتك فإني والله لا أطؤك سنة أو لا أطؤك ستة أشهر، فحينئذٍ قالوا: يكون إيلاءً. وهذا الوجه الثاني له قوة من حيث الأصل. قوله: (بالله تعالى أو صفته). الحلف لا يكون إلا بالله، أو بأسمائه وصفاته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، فدل هذا الحديث الصحيح على أنه لا يجوز للمسلم أن يحلف بغير الله عز وجل، وقد عظم هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال في الحديث الصحيح: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك). فالحلف نوع من العبادة، والعبادة لا يجوز صرفها إلا لله وحده لا شريك له، ولذلك يتضمن الحلف تعظيم المحلوف به. ولو قال قائل: كيف يكون هذا والله قد حلف وأقسم بالمخلوقات؟ ف A أن لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه لحكمة يعلمها سبحانه {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41]. وهل كل شيء جاز لله عز وجل يجوز للمخلوق؟! فالله له الحق، وله أن يقسم بما شاء وكيف شاء ومتى شاء {يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41]، وليس على المخلوق إلا أن يطيع ربه ويلتزم بشرعه، وحلف الله عز وجل بما حلف من مخلوقاته لتنبيه عباده وتعظيم نعمته ومنته. وقال بعض العلماء: إن قسم الله عز وجل وحلفه بمخلوقاته يزيد من الإيمان به سبحانه وتعالى؛ لأن المعرفة بحقيقة هذه المخلوقات وعظمة خلقها يدل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى، وهو تعظيم للخالق جل جلاله، فمن تأمل قول الله عز وجل: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:1 - 2] دخل الإيمان في قلبه، ووقر اليقين في فؤاده، وازداد تعظيماً لله جل جلاله. وعلى كل حال: ذكرنا أنه لا تنعقد يمين الإيلاء إلا بالله؛ لأن الإيلاء تصرف قولي تترتب عليه الأحكام الشرعية، والأحكام الشرعية لا تترتب على الأيمان المحرمة شرعاً؛ لأن هذا النوع من الأيمان ساقط وغير معتد به شرعاً. فعلى كل حال: لابد أن يكون القسم بالله عز وجل أو بصفة من صفاته.

الإيلاء لا يكون إلا على عدم الوطء

الإيلاء لا يكون إلا على عدم الوطء قال رحمه الله: [على ترك وطء زوجته في قبلها]. الحلف قد يكون على فعل الشيء أو تركه، وقد يكون الحلف في إثبات شيء أو نفيه، فقوله: (على عدم وطء زوجته) خرج ما لو حلف على وطء الزوجة، فإنه لا يكون إيلاءً ولا يسمى إيلاءً؛ لأن ضرر الزوجة إنما يكون بالامتناع عن وطئها؛ لأن هذا يعرضها للفتنة، وإذا صبرت فإنها قد لا تستطيع الصبر إلى مدة الإيلاء. فقوله: (على عدم وطء زوجته) خرج الحلف على غير الوطء، كأن يقول: والله لا أُقبلك سنة، فهذا ليس بإيلاء؛ لأن الضرر بالامتناع عن القبلة ليس كالضرر من الامتناع عن الوطء، فحق المرأة وعفة المرأة تتحقق بغير التقبيل، وهكذا إذا حلف على بقية الأشياء من مقدمات الجماع. وقوله: (على ترك وطء)، يدل على أنه لابد أن يكون الحلف على عدم وطء الزوجة، ويكون على عدم الوطء باللفظ الصريح أو بلفظ الكناية، فإذا قال: والله لا أجامعك، فهذا من صريح الإيلاء. وبعض العلماء يرى أنه يبين فيه، فلو قال: والله لا أقربك سنة، قالوا: يبين فيما بينه وبين الله تعالى فيما إذا كان مراده غير الوطء، كأن يكون مطلق القربان، قالوا: ومطلق القربان لا يستلزم عدم الوطء من كل وجه. قالوا: ومنها القربان، ومنها المس؛ كأن يقول: والله لا أمسك سنة، قال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة:237] يعبر به عن الجماع ويكون في حكم الجماع. أما بالنسبة للكنايات وما يتضمن معنى الوطء احتمالاً، فهذا يسأل فيه عن قصده، فلو قال: والله لا يجتمع رأسي ورأسك سنة، فهذا لفظ محتمل، ويمكنه أيضاً أن يحقق إذا كان مراده بالجماع فلا إشكال، وحينئذٍ ينعقد إيلاءً، فلو قال: قصدت الجماع فهو إيلاء. وإن قال: قصدت أن رأسي لا يقترب من رأسها، فأكره أن أرى وجهها أو نحو ذلك، فإن هذا لا يمنع من الجماع، ويمكنه أن يجامعها دون أن يكون هناك اجتماع لرأسه مع رأسها، وعلى حال لا يقع به المحلوف عليه، فهذا لا يكون صريحاً في الحلف على ترك الوطء. وإن قال: والله لا أغتسل منك سنة، قال بعض العلماء: قوله: لا أغتسل منك، كناية عن الجماع، وحينئذٍ يكون إيلاءً. فالمقصود: أنه لابد من وجود اللفظ الدال على الامتناع من الوطء، فإن جاء بلفظ لا يدل على الوطء لا صراحة ولا ضمناً، كمقدمات الوطء، فحينئذٍ لا يكون إيلاءً، ويمكنه أن يمتنع عن هذا الشيء المحدود، ويبقى على الأصل من الاستمتاع بالزوجة وإعطائها حقها في الفراش دون أن يقع منه إخلال يمينه من يمينه، ولا يكون إيلاءً. ثم إذا حلف على شيء محتمل للوطء وغيره فإنه يبين. إذاً هنا صور: الصورة الأولى: أن يحلف على غير الوطء، فهذا ليس بإيلاء. الصورة الثانية: أن يحلف على الوطء صراحة، فهذا إيلاء، كأن يقول: والله لا أجامعك، أو إذا عبر بإدخال الفرج كما صرح العلماء، قالوا: هذا كله من الصريح، ولا يسأل عن نيته بحيث يؤاخذ إذا مرت المدة ويلزمه حكم الإيلاء فيها. وأما إذا جاء بلفظ محتمل فإنه يسأل عن قصده: ماذا أردت؟ فإن قال: أردت به الجماع، فهو إيلاء، وإن قال: لا أريد به الجماع، فإنه ليس بإيلاء. وقوله: (في قبلها)؛ لأنه هو الموضع المعتبر شرعاً للجماع، ولا يجوز الوطء في الدبر، وما يحكى من الأقوال الشاذة فقد تقدم الكلام عليها وبينّاها، وبينّا أن ما حكي عن بعض السلف في هذه المسألة وإن صح ثبوته فإنه قول شاذ. كما صح عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم أفتوا بالمسائل الغريبة، إما إبقاءً على أصول، وإما أخذاً بعمومات لا يراد منها العموم فسرتها نصوص أخر لم يطلعوا عليها، أو حكموا بشيء منسوخ، كما أفتى ابن عباس بحل ربا الفضل، وأفتى بجواز نكاح المتعة ونحو ذلك مما يحكى عن ابن عمر رضي الله عنهما في هذه المسألة. فهذه كلها أمور تحفظ ولا يعول عليها، ويعتذر لأصحابها؛ لاحتمال الاجتهاد فيها، لكن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم دال كل منهما على أن الوطء لا يكون إلا في موضع الحرث، كما قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222]، فالله أمرنا أن نأتي النساء في موضع مخصوص وعلى صفة مخصوصة، فلا يجوز تبديل فطرة الله التي فطر الناس عليها {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]. فالإيلاء لا يكون إلا على عدم الوطء في الموضع، فلو حلف أن لا يفاخذ المرأة، وأن لا يطأها في الدبر فليس بإيلاء.

مدة الإيلاء

مدة الإيلاء قال رحمه الله: [أكثر من أربعة أشهر]. هذه كلها شروط: أولاً: الحلف بالله عز وجل أو صفة من صفاته. ثانياً: أن يكون من زوج، فلا يكون من أجنبي. ثالثاً: أن يكون على عدم وطء الزوجة، فخرج مفهوم هذا من الصفات على وطئها الذي هو عكس العدم، أو الاستمتاع بغير الوطء. رابعاً: قوله: (قبلها) هذا شرط مفهومه أن الدبر أو المفاخذة لا يدخل في الإيلاء. والشرط الأخير: أن يكون أكثر من أربعة أشهر. لقد شرع الله عز وجل النكاح من أجل أن يعف الرجل امرأته وتعف المرأة زوجها، فإذا أصبح النكاح وسيلة للإضرار؛ كأن يحبس الرجل امرأته فيمتنع من وطئها فيعرضها للحرام والفتنة، أو تمتنع المرأة من زوجها ولا تعطيه حقه في الفراش، فحينئذٍ يحكم الشرع بحرمة الأمرين، حتى ورد الوعيد بالنسبة للمرأة أنها لو دعاها زوجها فامتنعت من إجابته باتت الملائكة تلعنها والعياذ بالله! فهذا أمر عظيم ووعيد شديد. وكذلك أيضاً بالنسبة للزوج، وقد افترق الأمر بالنسبة للرجال والنساء، فالله عز وجل له الحق أن يفرق بين المجتمع وأن يجمع بين المفترق وهو أعلم وأحكم، وهي من الأمور التي يختلف فيها الحكم بين الرجل والمرأة. ولا شك أن الحياة الزوجية المستقيمة التي تحرص فيها المرأة على حسن التبعّل لزوجها لا يقع فيها مثل هذا، قالوا: لأن الغالب أن الزوج لا يحلف هذه الأيمان إلا إذا قصرت المرأة. ومن هنا يقول بعض العلماء: أن المرأة إذا حرصت كل الحرص على المحافظة على العشرة لزوجها بإطفاء غريزته واحتواء شهوته، ولو بالتجمل والتزين، وهذا أمر تقره الشريعة؛ فإنها تثاب على حسن تجملها وتزينها لزوجها، كما أنها تثاب على صلاتها وزكاتها، إذا قصدت أن تعفه عن الحرام وخاصة في هذا الزمان. وقد ذكر بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أن الإيلاء لا يقع إلا من امرأة في الغالب ضيعت إكرامها لبعلها في فراشه؛ لأنها لو كانت تحسن التبعّل له فلا يمكن أن يفرط الزوج في هذا، ولا يمكن في يوم من الأيام أن يحلف بالله ويغلظ الامتناع منها إلا إذا فشلت في كسب وده واحتواء أمره، ولذلك ينبغي على المرأة المسلمة الصالحة الدينة أن تحسن النظر في هذه الأمور. وليس هذا بعيب، فإن بعض الصالحين يشتكي من بعض الصالحات اللاتي فيهن خير أنه ربما عاتبها على أنها لا تحسن التزين له، فيأمرها أن تتزين، فتمتنع من ذلك وتقول: هذه شهوة عاجلة، وتحقر من هذه الأمور إن هذه فطرة وغريزة جعل الله لها مسلكها، وجعل لها وضعها وطريقها، ولا يمكن لأحد أن يستدرك على الله عز وجل. فالمرأة مطالبة شرعاً أن تتجمل لزوجها، وأن تحسن التبعل له، حتى لا يأتي يوم من الأيام فيزهد فيها الرجل وفي فراشها، ولا يحسن الإكرام لها حتى إنه يحلف على عدم وطئها. والإيلاء لابد أن يكون له مدة وهي أربعة أشهر، والمرأة قد تصبر على زوجها الشهر والشهرين والثلاثة على مضض، والرابع على شدة، ومن هنا جعل الله عز وجل مدة الإيلاء أربعة أشهر، وليست هي الحلف، فلابد أن يكون الحلف فوق الأربعة الأشهر. ومن هنا لو أنه حلف حلفاً زائداً على أربعة أشهر بزمان ولو قليل فهو مول، ولكن لو حلف أربعة أشهر فليس بمولٍ على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله. ومن هنا ندرك أن تحديد الحدود الشرعية لا يقتضي أمراً معهوداً شرعاً، ولربما تجد الحد الزماني والمكاني يختلف الحكم فيه بهذا التحديد الشرعي، حتى إنك لو نظرت إلى حد الحرم، فإنك لو خطوت خطوة واحدة فأنت داخل الحرم، وإذا خطوت خطوة فأنت خارج الحرم، فإذا عملت أعمالاً داخل الحرم فلها حكم، وإذا عملت بعض الطاعات والمعاصي في الحرم فلها حكم آخر. وهذا يدل على أن التقييد صحيح حتى ولو كان في القصر في الصلاة، وبعض المتأخرين يعيب على جمهور العلماء فيقول: كيف يحدون بثمانين كيلو أو خمسة وسبعين كيلو متراً؟ فنقول: هذا حكم الله عز وجل، ولسنا الذين حددنا، ولكن الله هو الذي حدد، فكما أنك تقول في الحرم: لو خطا خطوة واحدة كان داخل الحرم، ولو تأخر خطوة واحدة كان خارج الحرم، فكذلك الأربعة أشهر، فلو زاد عليها ولو بقليل حكم بالإيلاء، ولو اعتد بالأربعة الأشهر ولم يزد عليها فإنه ليس بإيلاء على أصح قولي العلماء؛ لأن الله تعالى يقول: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:226]. ثم جعل الحكم مركباً على تمام الأربعة الأشهر، ولذلك قال: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:226]، فدل على أن الأربعة الأشهر وحدها لا تكفي {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:227]، وهذا إنما يكون بعد تمام المدة. فدل على أن المدة بعينها -وهي الأربعة الأشهر- ليست بإيلاء، وفائدة ذلك: أنه بمضي الأربعة الأشهر واستتمامها سقطت يمينه وحلت له زوجته، لكن إذا حلف أكثر من الأربعة الأشهر فلا تسقط اليمين، ومن هنا اشترط أن تكون أكثر من أربعة أشهر، وأن الأربعة الأشهر وحدها لا تكفي لثبوت حكم الإيلاء.

بيان من يصح منهم الإيلاء

بيان من يصح منهم الإيلاء قال رحمه الله: [ويصح من كافر وقن ومميز وغضبان وسكران ومريض مرجو برؤه وممن لم يدخل بها].

الكافر

الكافر قوله: [ويصح من كافر]. يستوي في الإيلاء الكافر والمسلم، فلو حلف كافر على أنه لا يطأ زوجته سنة أو ستة أشهر، فإنه يصح منه. وفائدة هذه المسألة: إذا كان المولي من أهل الذمة وحلف على زوجته أنه لا يقربها أكثر من أربعة أشهر، ورفعته زوجته إلى قضاء الإسلام وتحاكموا إلينا، فحينئذٍ يوقفه القاضي ويقول له بعد تمام الأربعة الأشهر: إما أن تفيء، وإما أن تطلق عليك الزوجة. وهذا خلافاً لمن قال: إنه لا يقع بالنسبة للكفار، على المسألة المتقدمة معنا في مخاطبتهم بفروع الإسلام. والأصل في صحته من الكافر عموم قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة:226].

القن

القِن قال: (وقن). القن هو العبد، فلا يشترط الإسلام ولا الحرية، فلو تزوج عبد من أمة نكحها ثم حلف بالله أن لا يطأها أكثر من أربعة أشهر، انعقد إيلاؤه، فإذا تمت الأربعة الأشهر اشتكته زوجته إلى القاضي، فيوقفه القاضي عند تمام المدة ويقول له: إما أن تفيء، وإما أن تطلق عليك زوجتك.

المميز

المميز قال: (ومميز). أي: الصبي المميز، وقد اختلف فيه العلماء: فالجمهور على أنه لا يصح من الصبي المميز، وهذا هو الصحيح، خلافاً للحنابلة، فعندهم رواية على أن المميز يعاملونه معاملة المكلف بمسائل منها هذه المسألة، والصحيح: أن المميز ليس بمكلف، وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو رواية عن الإمام أحمد. والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم) والمميز دون الاحتلام؛ لأن الصبي إما أن يكون مميزاً وإما أن يكون غير مميز. وقد تقدم معنا في أكثر من موضع أن العلماء اختلفوا في ضابط التمييز؛ فمنهم من يضبطه بالسن، ومنهم من يضبطه بالصفة، ومن ضبطه بالسن قال: سبع سنوات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة لسبع سنوات، ومنهم من قال: عشر سنوات، ومنهم من يقول: إحدى عشرة سنة، وقيل: اثنا عشرة سنة، كما في مسائل الطلاق التي تقدمت معنا. ومنهم من ضبط المميز بضابط الصفة فقال: الصبي المميز هو الذي يفهم الخطاب ويحسن الجواب. والصحيح: أن المميز وغيره لا يصح منهم الإيلاء؛ لأن الإيلاء يتوقف على اليمين، واليمين تنعقد من البالغ ولا تنعقد من غير البالغ، وإنما يباح له وهو صبي، فلو قال: والله لا أطؤك خمسة أشهر، فإن يمينه لا تنعقد؛ لأنه مرفوع عنه القلم؛ فحينئذٍ لا يقع بين الخيار؛ لأنه ليس ممتنعاً عن وطء زوجته بيمين. وعلى هذا فمذهب الجمهور على أنه يشترط البلوغ، فلا يصح الإيلاء من غير البالغ، سواء كان مميزاً أو غير مميز.

الغضبان

الغضبان وقوله: (وغضبان). الغضب حالة تعتري الإنسان، وهو نوع من الهياج واختلال المزاج، وتسوء فهي أفعال الإنسان ويعكر صفوه. وقد بينّا في مسائل طلاق الغضبان أن الغضب على ثلاث مراتب: غضب يوصل إلى الجنون؛ فلا يعي الإنسان معه ما يقول، وهذا يثبت لأحوال متعددة، فهناك من الناس من عنده هذا البلاء، فعندما يشتد غضبه يفقد عقله تماماً، ويتكلم بكلام لا يعرفه، فمثل هذا لا يؤاخذ بقوله ولا يؤاخذ بفعله، فلو ثبت لدى القاضي أن غضبه يوصل إلى درجة الجنون، وشهد الشهود العدول، وشهد الأطباء المختصون أن هذا النوع من المرض أو المزاج العصبي يوصله إلى حد عدم التمييز وعدم الإدراك في حال هيجانه؛ فإن هذا تسقط مؤاخذته بالأقوال والأفعال كالمجنون سواءً بسواء. وحكى الإجماع على ذلك غير واحد من المحققين؛ كالإمام ابن قدامة، والإمام النووي وغيرهما رحمة الله على الجميع. المرتبة الثانية من الغضب: بداية الشدة وبداية التعكر في المزاج، والذي لا يختل معه الشعور ولا يذهب معه الإدراك، فهو يعلم أن التي أمامه زوجته، ويعلم أن الذي أمامه مسلم محرم الدم والعرض والمال، فهذا يؤاخذ على أقواله وأفعاله، ولو طلق لزمه الطلاق، والطلاق عادةً لا يقع إلا من غضب، فليس هناك رجل يطلق زوجته وهو يضحك معها، فالأصل أن الطلاق لا يقع إلا عند اختلال المزاج، وعند وجود ما يعكر صفو الإنسان ويخرجه عن طوره. المرتبة الثالثة من الغضب: هي المرتبة التي تكون بين الجنون وبين بداية الغضب، وهي محل الإشكال عند العلماء رحمهم الله: فبعض العلماء يقول: هذا النوع من الغضب لا يسقط التكليف، فلو طلق يؤاخذ بطلاقه، ولو تكلم كلاماً يوجب الردة كسب الدين أو نحو ذلك والعياذ بالله فإنه يحكم بكفره، ويؤاخذ على أقواله وأفعاله؛ لأن الأصل فيه أنه مكلف، وما دمنا شككنا في وصوله إلى درجة سقوط التكليف، فالأصل بقاء ما كان على ما كان. وقال بعض العلماء: إن الغضب في الأصل يعزب عن الإنسان رشده وصوابه، فإذا دخل في هذه الحالة فإن الأصل أنه لا يؤاخذ حتى يثبت أنها حالة غير مؤثرة، وهو يرى أنها حالة جنون؛ لأن الغضب نوع من أذية الشيطان للإنسان، ولذلك تنتفخ أوداجه، ويجري منه الشيطان مجرى الدم ويؤثر عليه، فقالوا: إن هذا النوع من الجنون الأصل أنه لا يؤاخذ فيه، والقول الأول أشبه بالأصول وأقوى. ويقول الذين يسقطون عنه التكليف: الأصل أنها زوجته، فلماذا نطلقها في حالة مشتبهة وغير واضحة؟ وكذلك هنا في الإيلاء يقولون: إذا غضب وحلف وهو في حالة غضب وهيجان فالأصل أنها زوجته، ولا يؤاخذ باليمين حتى يكون عنده إدراك وكل هذه التعليلات لمن قال: إنه لا يؤاخذ، ولكن القول الذي يقول بالمؤاخذة أشبه وأقوى. ومن هنا قال المصنف رحمه الله: (وغضبان) أي: يصح الإيلاء من الغضبان، لكن إذا وصل الغضب إلى حد الجنون -كما ذكرنا- فهذه حالة مستثناة ولا يؤاخذ فيها.

السكران

السكران قوله: (وسكران). السكر تقدم معنا بيانه وبيان بعض مسائله في طلاق السكران، وبينّا كلام العلماء رحمهم الله في مؤاخذة السكران. وقد دلت نصوص الشريعة من حيث الأصل على أن السكران في حكم المجنون، وهذا له أدلة، لكن من حيث الأصل فالسكر ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون السكر على وجه يعذر فيه الإنسان، كأن يشرب خمراً يظنه عصيراً، أو مثلاً دس له الخمر بشيء لا يعرفه، أو غلب على أمره وخدر، كما هو الحال الموجود الآن في المخدرات أعاذنا الله منها، ومثله المخدر في العمليات الجراحية إذا أعطي مادة التخدير، فإذا كان سكره على وجه يعذر به شرعاً فاختل عقله، وحصل عنده تغييب، فحلف ووقع منه إيلاء أو طلاق أو عتق، فهذا على وجه يعذر به شرعاً. والإجماع منعقد على أنه لا يؤاخذ، وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد من العلماء؛ منهم الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني، نقل الإجماع على أن من سكر وكان سكره على وجه يعذر به شرعاً، فإنه في هذه الحالة لو طلق لا ينجز طلاقه، ولو أعتق لا يعتق عليه عبده، ولو حصل منه إيلاء لا ينعقد إيلاؤه؛ لأن سكره على وجه يعذر به شرعاً. القسم الثاني: أن يكون سكره على وجه لا يعذر به شرعاً؛ كمن شرب الخمر عامداً متعمداً، فقال أثناء سكره يخاطب زوجته: والله لا أجامعك خمسة أشهر، أو والله لا أجامعك هذا العام أو هذه السنة. فقال بعض العلماء: السكران غير مكلف، فلا يؤاخذ بإيلائه، وهذا مذهب الظاهرية وطائفة من أهل العلم رحمهم الله، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال جمهور العلماء: ينعقد إيلاؤه. والصحيح: ما ذهب إليه أصحاب القول الأول؛ أن السكران لا يصح إيلاؤه؛ بدليل الأثر والنظر: أما دليل الأثر وهو كتاب الله عز وجل فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]. ووجه الدلالة: بيّن الله في هذه الآية الكريمة أن السكران لا يعلم ما يقول، ومن كان لا يعلم ما يقول فإنه كالمجنون لا يؤاخذ على قوله، فهذه الآية تدل على أن السكران لا يعلم ما يقول، وأنه في الأصل غير مؤاخذ بقوله. أما دليل السنة فما ثبت في الصحيح: أن حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه شرب الخمر حينما كانت مباحة في أول الإسلام، واعتدى على شارف لـ علي رضي الله عنه كان قد هيأه مهراً لبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى علي هذه المصيبة التي وقعت في مهره انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكى إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمزة، ولم يكن يعلم أن حمزة بحال السكر والشراب، فدخل على حمزة وعاتبه، فرفع حمزة رضي الله عنه وأرضاه رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما أنتم إلا عبيد لآبائي. فعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه في حال السكر، فرجع القهقرى ولم يؤاخذه. فهذه الكلمة لو قالها أحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكفره بالإجماع، ومع ذلك لم يؤاخذ الله عز وجل ولا رسوله عليه الصلاة والسلام حمزة حينما تكلم بها في حال السكر؛ فدل على أن السكران لا يؤاخذ على قوله. وكذلك أيضاً دل دليل النظر على أن السكران لا يؤاخذ، فلا يصح إيلاء السكران كما لا يصح إيلاء المجنون بجامع كون كل منهما فاقد لإدراكه وعقله. فكما أن المجنون بالإجماع لو قال لامرأته: والله لا أجامعك سنة، فإنه لا ينعقد إيلاؤه؛ لأنه مجنون، ولم يدرك ما يقول، فكذلك السكران لا ينعقد إيلاؤه، ونقول: لا يقع إيلاء السكران كما لا يقع إيلاء المجنون، بجامع كون كل واحد منهما فاقداً لشعوره وإدراكه وتمييزه. وعلى كل حال: القول بعدم صحة إيلاء السكران هو الأشبه والأقوى إن شاء الله تعالى، فلا يصح الإيلاء من السكران كما لا يصح من المجنون.

المريض المرجو برؤه

المريض المرجو برؤه قال: (ومريض مرجو برؤه). أي: ويصح الإيلاء من مريض يرجى برؤه، والمريض ينقسم إلى قسمين، وقد تقدم معنا هذا في أحكام تصرفات المريض مرض الموت. وأصل المرض عند الأطباء -كما عرفه صاحب التذكرة وغيره-: أنه خروج البدن عن حد الاعتدال، فالبدن إذا اعتدلت فيه الأمزجة الأربعة المعروفة استقامت الصحة، وإذا اختل واحد منها فإنه يوصف البدن بكونه مريضاً وسقيماً، ومن هنا عُرف المرض بأنه: خروج البدن عن حال الاعتدال. إذا ثبت هذا فالمرض إما أن يكون مرضاً يرجى برؤه؛ كالزكام والصداع، فهذا النوع من المرض لو حلف صاحبه أن لا يجامع زوجته سنة فإنه يصح إيلاؤه؛ لأن المرض يرجى برؤه. أما إذا كان مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه؛ كمرض الموت الذي لا يملك معه أن يتمكن من الوطء؛ لأن المرض يمنعه ويعيقه، فهذا لو حلف وقال: والله لا أجامعك سنة، فإنه أصلاً ليس بمجامع، ومن هنا قالوا: إنه لا إيلاء في حقه؛ لأن عنده عجزاً حسياً يمنعه من الجماع، فلا يعاقب، إنما يعاقب القادر، وهذا غير قادر، فإنه لو انحلت يمينه ليس بمجامع زوجته. ومن هنا قالوا: إن السبب في الإيلاء أن الزوج يضر الزوجة ويمنعها عن حقها، فإذا كان الزوج لا يستطيع الجماع لمرض لا يرجى برؤه، فهذا لم يضر، وحينئذٍ لا يقع الإيلاء. وقد نص على هذا جماهير العلماء رحمهم الله.

الزوج إذا لم يدخل على الزوجة

الزوج إذا لم يدخل على الزوجة قال: (وممن لم يدخل بها). أي: ويصح الإيلاء من الزوج إذا كان لم يدخل بامرأته فقال لها: والله لا أجامعك سنة، وهو لم يدخل بها، ففي هذه الحالة يقع الإيلاء ويصح، فلا يشترط فيه الدخول على الزوجة. لكن لو كان بحال يمنعه فقد فصل فيه بعض العلماء، وأشار إلى هذه المسألة الإمام النووي رحمه الله، لكن من حيث الأصل أن من لم يدخل يصح الإيلاء منه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الإيلاء إذا انتهى عند بداية حيض أو نفاس

حكم الإيلاء إذا انتهى عند بداية حيض أو نفاس Q لو انتهت الأربعة الأشهر عند بداية حيض أو نفاس، فما الحكم في ذلك؟ A بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فقد اختار طائفة من العلماء في هذه الحالة: أنه يؤخر إلى أن ينتهي الحيض وإلى أن ينتهي النفاس؛ لأن الإيلاء لا يقع، ثم يطالب بأحد أمرين: إما أن يفيء، وإما أن يطلق. لأنهم يقولون: إذا دخل العذر فلا يقع الإيلاء، ولا يكون من حق الزوجة المطالبة حتى ينتهي العذر. فلو آلى منها أكثر من أربعة أشهر، وقبل مدة الإيلاء التي هي الأربعة الأشهر أو عند انتهائها في اليوم الأخير جاءها حيض أو نفاس، فقالوا: ينتظر؛ لأن الزوج لا يستطيع أن يفيء، فلو قال له القاضي: يلزمك أن تفيء إلى زوجتك، فإنه لا يستطيع؛ لأن هناك مانعاً شرعياً يمنع من وطئها، فلا يوقفه القاضي إلا بعد انتهاء وزوال هذا المانع الشرعي. هذا اختيار طائفة من أهل العلم رحمهم الله، كما أشار إليه الإمام ابن قدامة وغيره رحمة الله على الجميع. والله تعالى أعلم.

حكم انصراف المأموم قبل الإمام

حكم انصراف المأموم قبل الإمام Q ما حكم انصراف المأموم قبل انصراف الإمام بعد السلام؟ A السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المأموم لا يقوم من مكانه إلا بعد أن ينفتل الإمام وينحرف، وهذا هو الأصل، وهو الذي كان عليه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت عليه سنته. ومن هنا منع العلماء رحمهم الله قيام المأموم مباشرة، والعلة في ذلك عند العلماء مختلفة: فمِن أهل العلم مَن قال: إن السبب في هذا: أن النساء كن يصلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يمكث وقتاً وهو مستقبل القبلة حتى ينصرف النساء، ثم بعد ذلك ينصرف بوجهه إلى أصحابه رضوان الله عليهم. وهذا أمر محتمل؛ لكن التعليل به ضعيف، والسبب في هذا: أنه لم يقصر ذلك على الصلوات الليلية التي كان يشهدها النساء دون النهارية. وأيضاً: لو كان الأمر كما ذكروا، ففي صلاة الفجر أيسر أن تقوم المرأة دون أن ترى؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات، ثم ينقلبن إلى بيوتهن متلفعات بمُرُطهن لا يعرفن من شدة الغلس). فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفتل من صلاته حين يعرف الرجل جليسه؛ لكن البعيد لا يعرفه. وأيضاً: النبي صلى الله عليه وسلم فعله حضراً وسفراً، فقد كان في بعض أسفاره وغزواته عليه الصلاة والسلام لا يكون معه النساء، ومع ذلك كان يمكث، ولم يحفظ عنه التفريق في الأحوال الخاصة. فمسألة (خوفَ أن تُرَى النساء) التعليلُ بها وارد؛ لكنها ليست بعلة قوية. وهذا يدل على أن العلة الثانية وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث في مصلاه لخوف طريان السهو، ولذلك مكث عليه الصلاة والسلام تشجيعاً للأمة وتشجيعاً للأئمة أنه إذا انفتل الإمام من الصلاة ربما كان هناك نقص أو كانت هناك زيادة، فينبه قبل أن ينصرف من مكانه، احتياطاً لحق الله عز وجل في هذه العبادة. وهذا أمر معهود، أن العبادات يصحبها شيء بعدها يستدرك به ما فات منها، ومن هنا فإن العلة بكونه يخْشى أن يطرأ شيء في الصلاة أو نقص سيكون في موضعه هو الأقوى. ومن هنا يُشَدد في هذا الأمر، فلا يقم المأموم من مكانه ولا يتحول ولا ينصرف إلا بعد أن ينصرف الإمام بوجهه إلى المأمومين. وأنبه على بعض طلاب العلم الذين يستعجلون في القيام بعد السلام مباشرة، ونحن لا ننكر القيام مباشرة إلى مجالس العلماء؛ بل نرى أن هذا شرف لطالب العلم؛ لكن بشرط أن لا يؤذي إخوانه المسلمين، ولو أن البعض ينكر؛ لكن لجهله، والسنة الصحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه في الصحيح أنه بعد سلامه قام مباشرة إلى غرفته وحجراته عليه الصلاة والسلام، وجاء بالتِبر لمصلحة شرعية. ومن هنا قالوا: إذا كان هذا لدفع الضرر عن نفسه عليه الصلاة والسلام حينما قال: (ما ظن محمدٍ أن لو لقي الله وهذا عنده)، فكيف بمن يتحمل مصالح الأمة في طلب العلم؟! ثانياً: لو قال قائل: هناك بعد المغرب سنة راتبة، فنقول: قال بعض العلماء: يجوز تأخيرها إذا كان هناك حلقة علم أو محاضرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح أنه جاءه وفد عبد قيس، فلم يصلِّ سنة الظهر إلا بعد العصر وقال (هما سنة الظهر، أتاني وفد عبد قيس فشغلت عنها آنفاً). قالوا: وهذا من أجل تعليم العلم؛ لأنه كان يعلم عليه الصلاة والسلام ويوجه ويرشد. فأنبه وأحذر من مسألة النقد؛ لأنه مما يؤلم ويؤسف له أن الناس في هذا الزمان عندهم جرأة على نقد الغير، وهذا أمر سببه قلة العلماء، وتساهل كثير من الناس في أمر اللسان، ولو كان طالب العلم عنده خطأ فينبغي أن لا تغتابه، فالبعض يتكلم على طلاب العلم، حتى إنه يبلغ الجرأة، حتى إن بعض العوام يقوم في المسجد ويتكلم عليهم قبل المحاضرة أو قبل الدرس ويسفههم. وهذا لا شك أنه من جهله، وإلا فمن المفروض أن يسأل من يوثق بدينه وعلمه، حتى ولو أفتى عالم أن هذا منكر وأفتى غيره بأنه جائز، وعنده سنة صحيحة، فلا إنكار ما دام أن هناك مجالاً للسنة. ووالله إننا لنبتهج ونُسر حينما نرى من يخاف الله ويتقيه ويسعى حثيثاً إلى مجالس العلماء، ويظهر من قوله وسمته ما يدل على تعظيم شعائر الله عز وجل، وكل إنسان عنده عقل وإدراك عندما يرى حرص طلاب العلم، أو يرى شباب الأمة يحرصون على مجالس العلماء ويزدحمون عليها، تدمع عينه من خشية الله، ويقول: الحمد لله الذي أبقى في هذه الأمة من يحرص على هذا الدين، فالحمد لله أنه لا يراهم على محرم أو على فجور، أو يتكالبون على دنيا. وهذا شرف لطالب العلم، ولو وقف على رجليه ينتظر العلم والعلماء فإن هذا شرف والله، ولا ينقص من قدره ولا يحط من مكانته. فعلى كل حال: على طالب العلم وعلى الناس أن ينتظروا حتى ينفتل الإمام، فإذا انفتل الإمام فلهم أن يقتربوا، ومن حضر محاضرة أو مجلس ذكر وأراد القرب من العالم، فلا شك أنه يقرب في الحلقة ولا يؤذي إخوانه، والله يعلم أنه ما دنا وأنصت إلا طلباً للعلم. قال بعض العلماء: أرجو لمن اقترب من مجالس العلماء ودنا منها الرحمة من الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (من بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ثم دنا وأنصت) وكل هذا من أجل خطبة الجمعة، وحتى المشي لأجل العلم ولأجل ثواب العلم عُد قربة عند الله عز وجل وثواباً ورفعة درجة، وموجباً لهذه المغفرات التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولذلك كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يكره لبعض من يجلس بعيداً عن الحلقة ولو كان في المسجد، إلا إذا كان عنده عذر أو مرض أو نحوه، أما إذا لم يكن عنده عذر فإنه يدنو ويزاحم ويحرص، لكن لا يؤذي إخوانه المسلمين. وقد ذكر العلماء رحمهم الله عند بيانهم لآداب طلب العلم: فضل القرب من العلماء، وأن الله عز وجل وضع من البركة والخير والنفع للعالم القريب من علمائه ما لم يضع لمن هو أبعد، وهذا واضح جلي، ولذلك تجد الصحابة الذين كانوا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم خيراً. وقد أشار إلى هذا الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات، وبيّن أن الصحابة فتح الله عليهم لأنهم تلقوا مباشرة، وأنهم كانوا يحضرون مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم تفاوتوا في فضل الله عليهم بحسب قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن يقترب من مجالس العلماء يعلم الله أنه لا يريد دنيا، ولا يرجو تجارة ولا مالاً، وإنما يرجو رحمة ربه إذا أخلص لربه جل وعلا بخ بخ، هذه والله التجارة الرابحة {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29]، ونحمد الله عز وجل ونشكره أن وجد من شباب الأمة ومن طلاب العلم من يعظم شعائر الله، لكن ينبغي على كل طالب علم أن يحرص على أمرين هامين في هذه المسألة: أولهما: الإخلاص لوجه الله عز وجل، وأن لا يقصد من قربه من العالم أن يعرف أو يشتهر، أو يكون له حظ أو حبوة عند العلماء، والله لا ينفعك أحد دون الله عز وجل، وحتى لو اقتربت من العالم وكنت كثوبه الذي على جسده قرباً ومواظبة، فلن يغني عنك من الله شيئاً، فكن عاقلاً وكن حكيماً، وابتغِ مرضاة الله عز وجل في كل ما تفعله وما تذره، فلا ينفعك إلا الله وحده لا شريك له، فعليك أن تخلص لله سبحانه وتعالى. ثانياً: أن لا تؤذي إخوانك المسلمين، فإن الله لا يطاع لكي يعصى، ولربما جاء طالب العلم تغشاه السكينة والوقار وتأدب وجلس وأنصت، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة عن تخطي الرقاب؛ لأن فضائل الجمعة ما وضعت إلا من أجل الخطبة، ولذلك قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، ومن هنا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التفريق بين اثنين، ونهى عن أن يتخطى الرقاب، وجعل الفضائل لمن احترز من هذه الأمور. والنبي صلى الله عليه وسلم في نهيه عن هذا إنما قصد الأصل الشرعي، وهو أن لا تؤذي إخوانك المسلمين، فليس من المعقول أن يأتي طالب علم متأخراً ثم يزاحم إخوانه، وإذا كان هناك مجال فيحتسب الإخوان ويتراحمون ويتواصون، وكل من جاء من إخوانك متأخراً وعندك مجال فتخيل أنك في مكانه، ونفس الحجة التي تريد أن تقيمها عليه انظر إلى حجته عليك لو كنت مكانه. فهذا يوسع الصدر، ويجعل الأمر على محبة وتواد وتواصل وتعاطف وتكاتف وتآلف، وتحمد الله عز وجل أن جعل لك أخاً في الإسلام يطلب العلم كما تطلبه، وكل من عظم شعائر الله عز وجل فإنه يُحب في الله ويوالي في الله، وهذا من دلائل كمال الإيمان، فإنك تجلس في مجلس العالم وتتمنى أن إخوانك كلهم على كف واحدة، وهذا لا أقوله مبالغة؛ لأن هذا شيء عايشته، فقد كنا في مجلس الوالد رحمة الله عليه، وكانت من أصعب الأيام عندنا أيام رمضان، فكان رحمه الله يلقي بعد صلاة العصر درساً، وبعد الفجر وبعد الظهر، وكان أصعب الدروس درس العصر، فلم يكن في المسجد النبوي مكيفات ولا مراوح، وكان يستمر الدرس إلى قرب المغرب. فكنا نجلس وسط الزحام، والرائحة التي تخرج من الأفواه بسبب الصوم، والعرق الذين يكون من الناس، وتزاحم طلاب العلم على ذلك، وقد مرت على بعض طلاب العلم حالات يجلس فيها فيجلس على يمينه رجل وعلى يساره رجل، ويزحم حتى يكاد يرى الموت، وكانت له ثلاثة دروس رحمه الله بعد العصر: درس في صحيح مسلم، ثم في الترغيب والترهيب، ثم في السيرة، وكان يجلس أكثر من ساعة ونصف إلى ساعتين في أيام الصيف؛ لأنه لا يترك الدرس إلا قبل الإفطار بنصف ساعة رحمه الله. فالمقصود: أنه والله كانت تمر أشياء لا تزيدنا إلا محبة لإخواننا، فإذا شعرنا بحاجة المسلمين إلى هذا العلم وحاجة الناس إلى الدعوة، فإن هذا يعيننا على كثير من الصبر. وأحب أن أنبه على مسألة أخيرة وهي: مسألة حجز الأماكن: فإني أناشد كل مسلم بالله عز وجل أن لا يحجز المكان إلا في حالة واحدة، وهي أن يأتي مبكراً ويجلس في مكان ولا يقوم منه إلا ل

حكم فرقعة الأصابع في المسجد وتشبيكها بعد الفرض

حكم فرقعة الأصابع في المسجد وتشبيكها بعد الفرض Q ما حكم الفرقعة بالأصابع في المسجد؟ وما حكم تشبيك الأصابع بعد الانتهاء من صلاة الفرض؟ A بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن فرقعة الأصابع لم يثبت دليل على تحريمها والمنع منها، ولذلك فإن فتوى البعض بأنها حرام أمر محل نظر؛ لأن تحريم الأشياء يحتاج إلى نص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. والناس يختلفون، وقد يعتاد البعض فرقعة أصابعه دون شعور، وليس هناك دليل لا من الكتاب ولا من السنة على تحريمها، وما يُحكى عن قوم لوط أنهم كانوا يفعلون هذا، فهذه أمور تحتاج إلى توثيق، وتحتاج إلى ثبوت النص بتحريمها وإنكارها وعدم جوازها. لكن بعض العلماء عد ذلك من خوارم المروءة، ولكن ليس على كل حال يعتبر من خوارم المروءة، فقد يكون الشخص اعتاد ذلك، أو يفعله لا شعورياً بسبب الإلف، فهذا أمر موسع فيه، أما إذا كان على سبيل التكسر والتخنث فهذا أمر معروف حكمه، حتى إن لباس الثوب لو كان على صفة فيها تكسر، أو المشية لو كانت على صفة فيها تكسر، فهي محرمة لعارض لا لأصل. ففرقعة الأصابع شدد فيها بعض العلماء وعدها من خوارم المروءة، لكن الحكم بالتحريم يحتاج إلى نص؛ لأن خوارم المروءة ليست بمحرمة؛ لأنها في أشياء مباحة، قال الناظم: وما أبيح وهو في العيان يقدح في مروءة الإنسان فهو مباح في الأصل؛ كالأكل أمام الناس، والأكل في الأسواق، والضحك بصوت عال في مجامع الناس، وفي أمكان لا يصلح فيها الضحك ونحو ذلك من الأمور التي تدل على نقصان عقل صاحبها، فهذه من خوارم المروءة؛ لأن المروءة هي الكمال. والأصل في الدليل الشرعي في ضابط خوارم المروءة ما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، فإذا فعل الإنسان هذه الأمور أمام من ينبغي الحياء منه؛ كالعالم والوالد والشيخ أو الكبير أو الذي له مكانة، فمثل هذه الأمور تخرم المروءة، ولكنها لا تقتضي الحكم بالحرمة. وأما تشبيك الأصابع فله حالتان: الحالة الأولى: تشبيك الأصابع قبل الصلاة، فهذا منهي عنه شرعاً، فمن خرج من بيته فلا يجوز له أن يشبك بين أصابعه؛ لأنه جاء في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الرجل إذا خرج من بيته فهو في صلاة فلا يشبكن بين أصابعه؛ لأن التشبيك شعار اليهود في عباداتهم. ومن الأخطاء الشائعة التي يقع فيها بعض الناس مما يسبق الصلاة: أنهم وهم جالسون بعد أداء السنن أو أداء تحية المسجد تجد الشخص يشبك أصابعه بعضها ببعض، مع أنه قبل الصلاة ممنوع منه، وينصح الناس وينبهون على ذلك. الحالة الثانية: بعد الصلاة؛ وفيها أحاديث صحيحة منها حديث في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة ذي اليدين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي -شك من الراوي- فسلم من اثنتين، ثم قام إلى الجذع كالغضبان وشبك بين أصابعه)؛ فهذا يدل على أن تشبيك الأصابع بعد الصلاة لا بأس به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شبك بين الأصابع ظاناً أن الصلاة قد انتهت. ومن هنا قالوا: لا بأس به، ومما يدل على أن التشبيك في غير الموضع المنهي عنه جائز: أن النبي صلى الله عليه وسلم شبك بين أصابعه، كما في الحديث الصحيح لما قال: (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد وشبك بين أصابعه عليه الصلاة والسلام). فهذا يدل على أنه لا بأس في الأصل، لكن في العبادات وأثناء الصلاة، أو في انتظار الصلاة، أو في الطريق إلى الصلاة، هذا ممنوع منه ومحظور. والله تعالى أعلم.

حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم

حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم Q اعتنى بعض الناس في ليلة الثاني عشر من ربيع الأول بالاحتفال بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فما الحكم في ذلك؟ A لم يثبت في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على مشروعية المولد، بل هذه أمور أحدثت، فما فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلها أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، ولا فعلها أهل القرون المفضلة، وقد مرت أربعمائة سنة ما فعل أحد منهم المولد، وهذا أمر لا نقوله نحن، فمن أراد أن يبحث ويطلع فله ذلك. فإن قال قائل: إنه عبادة، فنقول: إن الله عز وجل يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وهذا رسول الأمة عليه الصلاة والسلام تمر عليه أيام مولده في سنواته كلها، فما عظم ليلة منها يوماً من الأيام، ولا ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه عظم ليلة واحدة، فإما أن نكون كرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن نعتقد أننا خير من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نستدرك على رسول الله صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله. وإذا كان الاحتفال قربة وطاعة فلماذا لم يفعله عليه الصلاة والسلام؟ ومن فعله فاسألوه؛ لأنه لا نستطيع أن نفتي الناس أن يفعلوا أشياء ثم نقف بين يدي الله نسأل عنها. نحن نقول: إنه غير مشروع؛ لأننا لم نجد في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في هدي السلف الصالح شيئاً من هذا، فإذا لم نجد شيئاً من هذا فإننا نعتقد اعتقاداً جازماً أن هذا الأمر بدعة وحدث أُحدث في دين الله عز وجل. والعجب أنك تجد البعض يحافظ على ليلة المولد ويحافظ على حضورها وخشوعها ربما أكثر من خشوعه في صلاته وعبادته! وربما يعتقد في فضائل هذه الليالي ما لا يفعله في العشر الأواخر من رمضان، وربما يُنفق الرجل على إطعام الطعام وعلى الذبائح وغيرها، مع أنه لو جاءه رجل من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسغبة -كما ذكر بعض المشايخ رحمة الله عليهم- يعرض عليه أنه محتاج لما أقرضه. فهذا أمر ينبغي أن ينتبه له، نحن لا نحتكم للدين بالعواطف، ولا نحدث بآرائنا ولا بأهوائنا، ولكن دين وشرع {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153]، فنحن مأمورون باتباع ومأمورون باقتداء، وهذا شيء تعبدي لا يجوز أن يزيد فيه الإنسان ولا أن ينقص. والنبي صلى الله عليه وسلم نحبه محبة ترضي ربنا، ونحبه محبة تدعونا إلى متابعته وتجريد هذه المتابعة، فنؤثره عليه الصلاة والسلام على أنفسنا وأهلينا، وعلى أهوائنا وآرائنا. فانظر رحمك الله إلى كتاب ربك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، فما وجدت فيهما فالتزمه، وما خالفهما فاتركه، ولو جرى عليه أهواء الناس، ولو جرت عليه عادة الناس، والذي ندين الله عز وجل به أن النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل هذا الشيء. وعلى هذا: فإنه لا يشرع فعله، ولا يجوز للمسلم أن يحدث في دين الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم -أي: الزموا- بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور)، ولذلك قال قبلها: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)، فأمرهم عليه الصلاة والسلام في هذا الاختلاف أن يرجعوا إلى سنته صلى الله عليه وسلم، فالواجب الاحتكام إلى هذه السنة وإلى هديه عليه الصلاة والسلام. وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه صام يوم الإثنين وقال: (ذاك يوم ولدت فيه وأحب أن أصومه)، فمن أراد أن يشكر نعمة الله عز وجل عليه أن جعله تابعاً لهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام؛ فليشكرها بما ورد، وليتبع ولا يبتدع، فيصوم يوم الإثنين. لكن هل كان مولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين الموافق للثاني عشر من ربيع الأول؟ لم يخص الرسول اثنيناً معيناً، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له؛ لأنه قد يقول قائل: النبي صلى الله عليه وسلم فعل المولد؛ لأنه صام يوم الإثنين، فنقول: لا، النبي صلى الله عليه وسلم -أولاً- ما خص اثنيناً معيناً، فهذا أصل عندنا ودليل على عدم جواز تخصيص ليلة مولده عليه الصلاة والسلام. ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صام بين طريق الشكر، فقطع الطريق على من يقول: نحن نفعل المولد شكراً لله عز وجل على النعمة؛ لأنك أمام أحد أمرين: إما أن النبي صلى الله عليه وسلم صام وشكر ربه على أتم الوجوه وأكملها وهو يقول: (إني أرجو أن أكون أخشاكم لله وأتقاكم)، وإما -وحاشاه- أن يكون دون ذلك وجئنا نكمله، فهو عليه الصلاة والسلام صام الإثنين، وصيام الإثنين دل على أن الشكر لهذه النعمة يكون بهذه الطريقة وبهذه الكيفية، فتصوم هذا اليوم، لكن لا تخصه بيوم معين من الآن. ولماذا لا نخصه؟ لأنه ليس في الإسلام إلا عيدان: عيد الأضحى وعيد الفطر، ولو أن الأمة جعل لها يوم مخصص ليوم نبيها لضلت؛ ولذلك أغلق هذا الباب، وجُعل يوم الإثنين من سائر أيام السنة، ونحن نحمد الله عز وجل ونشكره أن شرفنا وكرمنا، فليست هناك نعمة أعظم من نعمة الإسلام، ومن أزكى وأعظم ما يكون أن يختار الله لك أشرف الرسالات وأفضل الرسالات وأفضل الأنبياء، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلالك. فهذه النعمة لا يستطيع الإنسان أن يقدرها حق قدرها إلا بتوفيق من الله سبحانه وتعالى. ومما زادني شرفاً وتيهاً كدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي في ندائك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا صلوات الله وسلامه عليه، والله إننا نحبه محبة تجري في دمائنا وعروقنا، ولا نعتقد أن هذا ينقص من مكانته أبداً؛ بل ينبغي علينا أن نعتقد اعتقاداً جازماً أنه لا سبيل للجنة إلا بمحبته ومتابعته عليه الصلاة والسلام أبداً؛ لأن الله أحبه، وهذا الفضل الذي خصه الله عز وجل به. ووالله لو أن الإنسان رزق من العلم والبصيرة ما يتأمل فيه آيات الكتاب في إجلال الله لهذا النبي صلى الله عليه وسلم وحبه له وإكرامه له عليه الصلاة والسلام، لوجد شيئاً يكاد يصل به إلى درجة عظيمة من المحبة لهذا النبي صلى الله عليه وسلم تكفينا عن كثير من الأشياء والمحدثات. فتأمل كتاب الله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]، {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144] تقول عائشة رضي الله عنها في الحديث الصحيح وهي الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها: (ما أرى ربك إلا يسعى فيما يرضيك)، أي مقام وصل إليه أحد مثل هذا المقام الذي شرف الله به نبيه عليه الصلاة والسلام؟ ثم مع هذا كله إذا عاتبه سبحانه يعاتبه ويجعل العفو قبل المعاتبة: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]، فقال: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة:43] قبل أن يقول له: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43] إكراماً لنبيه، وإشعاراً لنا بأن نقدره ونوقره عليه الصلاة والسلام ونملأ قلوبنا بحبه وإكرامه. ولو لم يكن فيها إلا قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، حتى إنه عليه الصلاة والسلام يبيّن هذا الفضل الذي خصه به ربه ويقول: (أنا رحمةٌ مُهداة)، فيا له من مقام! ويا لها من منزلة! نحن نحب النبي صلى الله عليه وسلم، ونعتقد بأن عندنا بينات من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تعرفنا بقدره، وتعرفنا بحقه ومنزلته، فإن الله لم يخاطبه باسمه المجرد: يا محمد! بل قال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64]. وعندما يعاتبه -كما ذكرنا- يقول: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:1 - 3] حتى إنك عندما تقرأ الآية لا تدري من الذي عبس، فلم يقل له: عبست؛ بل قال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1 - 4]، ثم تأتي آيات القرآن كلها تشريفاً لهذا النبي في دلالاتها وسياقاتها تدل على مقامه وعلو شأنه عليه الصلاة والسلام. فكل مؤمن يعتقد هذا اعتقاداً جازماً، ولا يظن أحد أن من يقول بأن المولد بدعة أن معناه: أنه انتقص مقام النبي صلى الله عليه وسلم، أو مس حرمة النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنه يكره النبي صلى الله عليه وسلم لا. فإن هذا هو الغلو. ومن محبتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أننا نريد أن نتبع وأن نسير على نهج علمنا العلم الجازم أنه لا يرضى عليه الصلاة والسلام ولا يرضى ربه الذي أرسله إلا بهذه المثابة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153]، وأدب الله نبيه على الاتباع فقال له: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف:43]، فلا زيادة ولا نقص، فلا يجوز للمسلم أن يزيد، ولا يجوز له أن ينقص، ولا يجوز له أن يبدل. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا محبته، وأن يحشرنا في زمرته. وأوصي طلاب العلم -إذا نبهوا الناس- بأمر مهم جداً وهو: أننا ننصح الناس بالتي هي أحسن، ولا ننفر، فينبغي أن نبين الحق وأن نبين السنة والبدعة، ولكن ينبغي أن لا يغلو الإنسان في نصح الغير وتوجيههم؛ لأنك إذا كنت صاحب سنة فينبغي أن يظهر حبك للسنة ولرسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال أساليبك وطريقة توجيهك وإرشادك، فكم من أناس رأيناهم وهم يتمسكون بأمور يظنون أنها سنة، والله يعلم من قرارة قلوبهم أنهم يريدون الخير، فلما نصحناهم ووجهناهم عدلوا عن ذلك. ووالل

كتاب الإيلاء [2]

شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [2] ذكر الله عز وجل أحكام الإيلاء في كتابه لأهميتها وما يترتب عليها من الحقوق الشرعية، كما ذكر الفقهاء تلك الأحكام وبينوها وفصلوا فيها، ومنها أن الإيلاء لا يصلح من المجنون ولا من المغمى عليه، ولا من العاجز عن الوطء، ومنها أن للإيلاء صيغاً، فتارة يكون بالتأبيد، وتارة بأكثر من أربعة أشهر، وتارة بأمر يبعد حصوله، وتارة بطلب شيء أو حدوثه.

بيان من لا يصح منهم الإيلاء

بيان من لا يصح منهم الإيلاء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد شرع المصنف رحمه الله في بيان الأمور التي يُحكم فيها بعدم الاعتداد بالإيلاء؛ ومنها: الجنون؛ لأن الإيلاء ينعقد باليمين، ويمين المجنون لا تنعقد، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (رفع القلم عن ثلاثة وذكر منهم: المجنون حتى يفيق). فدل هذا على أن المجنون لا يصح إيلاؤه، وهذا محل إجماع بين العلماء، فلو قال من جُن لزوجته: والله لا أطؤك سنة، فإنه لا ينعقد اليمين، ولا تترتب عليه أحكام الإيلاء.

المجنون

المجنون قال رحمه الله: [لا من مجنون]. أي: لا يصح الإيلاء من مجنون، والجنون: مأخوذ من جن الشيء إذا استتر، ومنه سمي البستان جَنة؛ لأنه يستر من فيه؛ وذلك لأن ظلال الأشجار والزروع تمنع من رؤية الغير لمن هو تحتها، فسمي الجنون جنوناً؛ لأنه يغطي العقل ويغيبه. والمجنون ينقسم عند العلماء إلى قسمين: إما أن يكون جنونه مطبِقاً؛ فلا إشكال. وإما أن يكون الجنون متقطعاً؛ فإن كان متقطعاً حُكِم بما ذكرنا حال الجنون، وحُكِم بالتكليف حال الإفاقة.

المغمى عليه

المغمى عليه قال رحمه الله: [ومغمى عليه]. أي: ولا يصح إيلاء المغمى عليه، وقد تقدم أن العلماء رحمهم الله اختلفوا فيه: فبعض العلماء رحمهم الله يقولون: المغمى عليه مكلف. ومنهم من يقول: المغمى عليه ليس بمكلف، وهو في حكم المجنون، وقد تقدمت معنا مسائل عديدة في كتاب العبادات والمعاملات تتفرع عن هذا الخلاف، وأن الصحيح والأقوى: أن المغمى عليه في حكم المجنون، ولذلك لا يصح إيلاؤه، ولا تنعقد الأحكام المترتبة على وجود العقل مع مسلم.

العاجز عن الوطء

العاجز عن الوطء قال رحمه الله: [وعاجز عن وطءٍ لِجَبٍّ كامل أو شلل]: الإيلاء -كما ذكرنا- أن يحلف الزوج اليمين على أنه لا يطأ زوجته المدة المعتبرة للإيلاء، التي هي أكثر من أربعة أشهر، وهذا الحلف يتضمن الإضرار بالزوجة كما ذكرنا وبينّا، وإذا ثبت أنه يضر بالزوجة فالشريعة قصدت دفع الضرر، فإذا كان الشخص عاجزاً عن الوطء أصلاً، فهذا لا يتحقق فيه السبب الذي من أجله حُكِم بالإيلاء؛ لأنه عاجز عن الوطء أصلاً، فمثله ليس بممتنع على وجه فيه ضرر. والشريعة تحمِّل القادر، وهذا غير قادر، ولذلك قال رحمه الله: (وعاجز عن وطء)، فلا يصح الإيلاء من عاجز عن وطء؛ وهو الذي لا يستطيع وطء زوجته. وقوله: (لِجَبٍّ) أي: لسبب قطع العضو؛ فليس عنده عضو. وقوله: (لِجَبٍّ كامل) أي: إذا كان العضو مقطوعاً قطعاً كاملاً، فلو قال: والله لا أطؤك سنة. فإن هذا أمر غير موجود فيه أصلاً، فحلفُه وجودُه وعدمُه على حد سواء. لكن أن يكون قادراً مستطيعاً للوطء ويقول: والله لا أطؤك، فهنا كان هذا من ظلم الزوج للمرأة؛ لكن إذا كان مقطوع العضو وقال: والله لا أطؤك، فهذا وجودُ اليمين وعدمُه فيه سواء. ومفهوم قوله: (كامل) أنه إذا كان المقطوع بعض العضو، فالشريعة تفرق بين إزالة العضو كاملاً وبقائه كاملاً، وقد نص العلماء رحمهم الله على أنه إذا بقي من العضو ما يمكن معه الوطء، فهذا ظالم، وحلفه اليمين يتحقق به الظلم، ولذلك يؤمر بالفيء والتكفير عن يمينه، وإلا طلق عليه الحاكم. وقوله: (أو شلل) أي: شلل في عضوه؛ لأنه لا يستطيع أن يجامع أصلاً، أعاذنا الله وإياكم.

صيغ التعليق في الإيلاء

صيغ التعليق في الإيلاء قال رحمه الله: [فإذا قال: والله لا وطأتك أبداً، أو عين مدة تزيد على أربعة أشهر، أو حتى ينزل عيسى، أو يخرج الدجال، أو حتى تشربي الخمر، أو تسقطي دينك، أو تهبي مالك ونحوه فمولٍ]. قوله: (فإذا قال: والله لا وطأتك أبداً): ذكر الله عز وجل أحكام الإيلاء في كتابه لأهميتها، وما يترتب عليها من حقوق شرعية، وهذا الإيلاء يفتقر إلى وجود صيغة ولفظ، وهذا اللفظ تارة يكون بذكر الأشهر أو المدة التي يتحقق بها الإيلاء، وتارة يعلق على صفة يتحقق بها ويوجد بها ما يوجد في التعليق على مدة الإيلاء، وتارة يكون بألفاظ محتملة. ولذلك درس العلماء والأئمة رحمهم الله ألفاظ الإيلاء، وعلينا أن ندرك أن هذه الأمثلة الغريبة حينما يسمعها الإنسان ويستغرب منها، ليست القضية هي المثال نفسه، إنما القضية أصل المثال، وهذا هو الذي ينبغي على من يدرس الفقه.

صيغة التأبيد

صيغة التأبيد وعلى طالب العلم أن ينتبه إلى أن الزوج إذا علق امتناعه عن وطء زوجته فإما أن يعلق على التأبيد ويقول: والله لا أطؤكِ أبداً، أو والله لا أطؤكِ الدهر كله، أو والله لا أطؤكِ عمري وحياتي ومدة بقائي فهذا كله يتحقق به الإيلاء؛ لأنه متضمن لمدة الإيلاء وزيادة، فتتحقق به مدة الإيلاء، وهي أكثر من أربعة أشهر. وهذه يسمونها: صيغة التأبيد، أي: لم يجعل حداً من الزمان أو مدة من الزمان. والفرق بين المؤقت والمؤبد: أنه لو أقت بمدة معينة كأن يقول: والله لا أطؤك خمسة أشهر، أو لا أطؤك سنة، فيمكن أن تقول الزوجة: أنا سأصبر عليك سنة، وسأصبر عليك خمسة أشهر، لكن لو قال: والله لا وطأتك الدهر كله، أو لا وطأتك عمري، أو لا وطأتك أبداً، أو لا أطؤكِ ولن أطأكِ أبداً، فكل هذه تدل على أنه لا يريد التأقيت وإنما يريد تأبيد الامتناع.

تعليق الإيلاء على مدة تزيد على أربعة أشهر

تعليق الإيلاء على مدة تزيد على أربعة أشهر قال رحمه الله: (أو عين مدة تزيد). وهذه فائدة قراءة المتون الفقهية: أنها تربي في طالب العلم ملكة التركيز والتسلسل، فتعرف من الأشياء في بعض الأحيان مقابلة بعضها لبعض، فحينما يقول: والله لا وطأتك أبداً، فهذا تأبيد، وإذا عين مدة، فنفهم أنه ضد الصورة الأولى. لكن لو قرأت الأمثلة مجردة، فإنك لا تستطيع أن تدرك الخبايا والمقاصد التي وضع العلماء من أجلها هذه الأمثلة، فهو عندما قال: (أو عين مدة)، فحينئذٍ تفهم أن (أو) هنا للمقابلة، وأن قصده أن يأتي بصورة وهو يريد أن يقابل؛ لأنه لو اقتصر على قوله: والله لا وطأتك أبداً، أو لا وطأتك الدهر، لظن ظان أن الإيلاء لا يقع إلا إذا كان مؤبداً؛ ولذلك قال رحمه الله: [أو عين مدة تزيد على الأربعة الأشهر]، فمدة الإيلاء إما أن تزيد على أربعة أشهر، أو تكون أقل من أربعة أشهر، أو تكون أربعة أشهر، فهذه ثلاثة أحوال: والله لا أطؤكِ شهراً، والله لا أطؤكِ أربعة أشهر، والله لا أطؤكِ خمسة أشهر أو سنة. الحالة الأولى: إذا قال: والله لا أطؤك شهراً أو شهرين أو ثلاثة، فهذه أقل من مدة الإيلاء باتفاق العلماء رحمهم الله، وجماهير السلف والخلف على أنه لا يكون إيلاءً، إلا أن بعض السلف يقول: يكون إيلاءً، وهو قول شاذ، والذي نص عليه القرآن أن الإيلاء لا يقع إلا بالمدة المعتبرة وهي أكثر من أربعة أشهر. الحالة الثانية: أن يقول: والله لا أطؤكِ خمسة أشهر، أو أربعة أشهر ويوماً، أو أربعة أشهر وأسبوعاً، فحينئذٍ ذكر مدة الإيلاء، وشبه متفق عليه عند العلماء رحمهم الله أنه إذا زاد على أربعة أشهر فإنه مولٍ. الحالة الثالثة: أن يذكر الأربعة الأشهر بنفسها فيقول: والله لا أطؤكِ أربعة أشهرٍ، فهذه اختلف فيها العلماء رحمهم الله على قولين، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور أن الأربعة الأشهر وحدها ليست بمدة الإيلاء، وأنه لابد أن يزيد في إيلائه على الأربعة الأشهر؛ لأن الله يقول: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:226 - 227]. ووجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى جعل الأحكام المترتبة بما بعد الأربعة الأشهر، ولم يجعلها دون الأربعة الأشهر على تمامها وكمالها، فدل هذا على أن الأربعة الأشهر وحدها لا تكفي ما لم يزد عليها، فلو حلف وقال: والله لا أطؤكِ أربعة أشهر؛ فإنه مباشرة بعد انتهاء الأربعة الأشهر ستنحل اليمين، فلا وجه لإيقاف القاضي له. وهذا وجه مذهب الجمهور رحمهم الله: أنه في تمام الأربعة الأشهر لا يكون مولياً، وأنه لابد في الإيلاء من ذكر مدة أكثر من أربعة أشهر. وعلى هذا ذكر المصنف رحمه الله أنه يُشترط في المدة المعتبرة في الإيلاء أن تكون أكثر من أربعة أشهر، فقال: (أو عين مدة تزيد على أربعة أشهر)، سواءً كان بالأشهر كأن يقول: لا أطؤكِ خمسة أشهر، أو ستة أشهر، أو عاماً أو سنة، أو سنتين أو ثلاث سنوات أو نحو ذلك.

تعليق الإيلاء على أمر يبعد حصوله

تعليق الإيلاء على أمر يبعد حصوله قال رحمه الله: [أو حتى ينزل عيسى، أو يخرج الدجال]. الآن فهمنا أن الصورة الأولى للتأبيد، والصورة الثانية للتأقيت. وقوله: (حتى ينزل عيسى أو يخرج الدجال) هذه أمثلة أخرى غير الأمثلة التي كنا فيها، وهي أن يعلق الإيلاء على أمر يبعد حصوله، بحيث يغلب على الظن أنه سيجاوز الأربعة الأشهر. قال بعض العلماء: هذه الثلاث الصيغ إذا تلفظ بها انعقد الإيلاء؛ لأن الغالب أن هذه الأشياء لها أمارات وعلامات يغلب على الظن أنها لا تقع إلا بعد أربعة أشهر، بمعنى أنها تزيد على الأربعة الأشهر، هذا ما اختاره بعض العلماء والأئمة وبعض المحققين مثل الإمام ابن قدامة رحمه الله وغيره. وبعض العلماء يقول -وهو الأوجه الأقوى-: إنه لا يكون إيلاءً بمجرد التلفظ، وإنما ينتظر مضي المدة التي هي الأربعة الأشهر، فإذا تمت المدة وزادت على الأربعة الأشهر فحينئذٍ يقع الإيلاء، بمعنى: أننا لا نعلم؛ لأن هذه أمور غيبية، فقد يكون خروج عيسى عليه السلام بعد أسبوع أو بعد شهر، فهذا شيء لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فهو وحده العليم، ولربما جاءت أمارات الساعة تلو بعضها والله على كل شيء قدير، وهو يحكم ولا معقب لحكمه، ولذلك لا نستطيع أن نقول: إنه إذا ذكر هذه الأشياء يكون مولياً مباشرة. والذي يظهر -كما اختاره بعض أئمة السلف رحمهم الله-: أنه ينتظر إلى أن تمضي مدة الأربعة الأشهر، ثم بعد ذلك يحكم بكونه مولياً. والفرق بين القولين: أن القول الأول يعتبره مولياً بمجرد صدور هذا الأمر منه، والقول الثاني لا يعتبره مولياً حتى يستتم الأربعة الأشهر ويتحقق أنه قد ذكر مدة يعتد بها للإيلاء. وقوله: (أو يخرج الدجال)، هذه الأشياء ذكرها العلماء كأمثلة على ذكر ما يستبعد وقوعه ويغلب على الظن وقوعه بعد مدة الإيلاء.

تعليق الإيلاء على طلب شيء أو حدوثه

تعليق الإيلاء على طلب شيء أو حدوثه قال رحمه الله: [أو حتى تشربي الخمر]. ذكرنا التأقيت والتأبيد في الزمان، لكن الذي معنا هنا هو التعليق على حدوث شيء أو طلب شيء، وهذا فيه تفصيل: فتارة يعلق على أمر بيد المرأة أن تفعله. وتارة يعلق على أمر خارج عن إرادة المرأة، كأن يقول: لا أطؤكِ حتى يأتي أبي، أو لا أطؤكِ حتى أسترد مالي ونحو ذلك. أو يعلق على أمور مستحيلة، سواء طلب من الزوجة أو غيرها. ولذلك شرع المصنف رحمه الله في هذا النوع من التعليق فقال: (أو حتى تشربي الخمر) والعياذ بالله! قالوا: فإذا علق على فعل من المرأة فينقسم إلى قسمين: إما أن يعلق على فعل مباح، أو يعلق على فعل محرم. وإذا علق على فعل مباح بيد المرأة أن تفعله فلا يخلو أيضاً من ضربين: إما أن يعلق على فعل مباح تتضرر المرأة بفعله، وإما أن يعلق على فعل مباح لا تتضرر منه المرأة ولا مشقة عليها في الفعل. كأن يقول لها: والله لا أطؤكِ حتى تفتحي الباب، أو والله لا أطؤك حتى تقفلي الباب، فهذا أمر مباح، ويمكنها أن تقوم به دون وجود مشقة أو ضرر عليها. فهذا النوع قالوا: ليس بإيلاء أصلاً؛ لأن هذا أمر بيد المرأة، وقد أصبح الشيء بيد المرأة؛ فإذا أرادت الوطء قامت به، وإن لم ترد فهذا أمر يرجع إليها، قالوا: فلا يقع به الإيلاء؛ لأنه ليس فيه ضرر، وليس بالأمر الممتنع الذي يتحقق به الإضرار بالزوجة. أما إذا علق على فعل مباح تتضرر المرأة به وتجد فيه المشقة والعناء، فكأن يقول لها: والله لا أطؤكِ حتى تسقطي دينكِ عليّ، أو حتى تسقطي مؤخر الصداق، أو حتى تتنازلي عن حقكِ في كذا وكذا. والحقوق المالية لاشك أن المرأة بإمكانها أن تفعل، وهو مباح لها شرعاً أن تسامح زوجها، ومن حقها أن تعطيه المال، ولكن إذا كان بدون رضى منها فهذا فيه إضرار وفيه أذية ومشقة، وهو من الأنواع التي يقع بها الإيلاء. وأما الحالة الثانية: وهي أن يعلق على فعل محرم على المرأة، مثل قوله -والعياذ بالله-: حتى تشربي الخمر أو تزني، فهذا أيضاً يتحقق به الإيلاء؛ لأنه علق على أمر محرم، فيجعل الضرر على المرأة، والضرر على المرأة في هذا وارد. وأما إذا طلب منها أمراً ليس بيدها أن تفعله، كأن يقول لها: حتى تصعدي إلى السماء -كما ذكر العلماء- أو حتى تقلبي الحجر ذهباً أو نحو ذلك، فقال رحمه الله يبين هذه الصور: (أو حتى تشربي الخمر) أي: أن يعلق الزوج امتناعه عن وطء زوجته على فعلها لمحرم من شرب خمر أو زنىً أو غير ذلك -والعياذ بالله- فهذا إيلاء. وقوله: (أو تسقطي دينكِ) أي: يعني تتنازلي عن الديون التي لك علي، أو تسقطي دينك عن أبي أو أمي، أو عن الناس، أو عن قرابتي. وقوله: (أو تهبي مالكِ ونحوه)، نحو الشيء ما كان مثله أو قريباً منه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من توضأ نحو وضوئي هذا) أي: مثله أو قريباً منه. والحاصل: أن المصنف رحمه الله يقول: إذا طلب منها فعلاً مباحاً فيه ضرر عليها، أو طلب منها فعلاً محرماً شرعاً، فهذا كله يتحقق به الإيلاء، لكن فيه ضرر على المرأة. وقوله: (فمولٍ)، أي: يحكم بكونه مولياً.

الواجب على المولي إذا انتهت مدة الإيلاء

الواجب على المولي إذا انتهت مدة الإيلاء قال رحمه الله: [فإذا مضى أربعة أشهر من يمينه ولو قناً، فإن وطأ ولو بتغييب حشفة فقد فاء، وإلا أُمر بالطلاق، فإن أبى طلق حاكم عليه واحدة أو ثلاثاً أو فسخ]. قوله: [فإذا مضى أربعة أشهر من يمينه]. بعدما بين المصنف رحمه الله الصيغ التي يتحقق بها الإيلاء، والأشخاص الذين يصح منهم الإيلاء؛ شرع في الأحكام المترتبة على الإيلاء. فإذا قال رجل لزوجته: والله لا أطؤكِ سنة، فعند جمهور العلماء أنه يوقف بعد مضي المدة المعتبرة للإيلاء، وحينئذٍ يطلب منه القاضي ويقول له: أنت بالخيار بين أمرين: إما أن تكفر عن اليمين؛ لأنه قال: والله لا أطؤكِ سنة، أو تطلقها. والسبب في هذا: أن المرأة -كما ذكرنا- لا تصبر أكثر من هذه المدة، ولذلك لما استشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والناس أشاروا عليه، وقيل: إن ميمونة أشارت عليه رضي الله عنها وقالت: إن المرأة تصبر عن زوجها الشهر والشهرين، وتصبر الثالث على مضض، ولكنها في الرابع في الغالب لا تستطيع أن تصبر. فهذا يدل على الحكمة العظيمة التي من أجلها جعل الله هذه المدة. فإذا مضت الأربعة الأشهر، وقد أقسم بالله، فاليمين تمنع، والزوجة تطالب، ولا يمكن أن نلغي اليمين؛ لأن اليمين يمين شرعي منعقد، فحينئذٍ بينت الشريعة الحكم وهو أننا نقول له: كفر عن يمينك وراجع زوجتك. وهذا عين العدل والإنصاف؛ فإما أن يكفر عن يمينه ويراجع زوجته، ويعود إلى زوجته ويفيء، وإما أن تطلق عليه؛ لأن هذا ليس من المعروف، والله قد أمر بعشرة النساء بالمعروف. ومن هنا إذا مضت المدة فقد بيّن المصنف رحمه الله أنه يُوقف ويطالب منه الرجوع والفيء، قال تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:226 - 227]، فرتب الله في الآية على الإيلاء حكمين شرعيين: أحدهما: أن يفيء الرجل ويرجع إلى زوجته، فيقال له: كفر عن يمينك، على أصح أقوال العلماء رحمهم الله؛ لأنه يمين شرعي منعقد. الثاني: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة:227]، فإذا قال: لا أريدها، ولا أريد أن أرجع إليها، وما حلفت هذا اليمين من فراغ؛ بل أنا أكرهها ولا أريدها، فيقول له القاضي: طلقها وإلا طلقتها عليك. فشرع المصنف رحمه الله في تأكيد هذا فقال: (فإذا مضى أربعة أشهر من يمينه)، فإذا حلف اليمين مثلاً في أول محرم، فننتظر محرم وصفر وربيع الأول إلى انتهاء ربيع الثاني، ثم من حق المرأة أن ترافعه إلى القضاء؛ لكن لو جاءت ترافعه في محرم أو في صفر أو في ربيع الأول، أو قبل تمام ربيع الثاني، فليس هذا من حقها، إنما يكون الإيقاف وطلب الفيء أو التطليق بعد تمام المدة. ولو أن المرأة رضيت وقالت: لقد حلف عليّ خمسة أشهر، وأنا أريد أن أصبر، فإنها تصبر ولا حرج عليها، وهذا حقها. وبناءً على ذلك يوقف بعد تمام الأربعة الأشهر -هذا الحكم الأول- ثم يخير بين الفيء وهو الرجوع إلى زوجته وبين تطليقها. وقوله: (ولو قناً) القن: هو العبد (ولو) هنا إشارة إلى خلاف في المذهب، والمصنف رحمه الله يختار أن الحر والعبد في الإيلاء على حد سواء، وهذا هو الصحيح؛ لعموم قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة:226].

الإيلاء من المطلقة رجعيا

الإيلاء من المطلقة رجعياً وفي الحقيقة كان المنبغي التنبيه على مسألة -ونحن لا نستدرك على المصنف رحمه الله؛ لأن المصنف يذكر الأمهات وهذا من حقه، لكن نريد أن ننبه على مسألة مهمة- وهي: أننا نحتسب المدة من صدور لفظ الإيلاء؛ بشرط أن لا تكون المرأة مطلقة طلاقاً رجعياً، فمثلاً: زيد من الناس آلى من امرأته وهي مطلقة الطلقة الأولى، فنقول: إنها في حكم الزوجة، كما تقدم معنا، وبناءً على ذلك يُلحق بها الإيلاء، فإذا قال: والله لا أطؤكِ خمسة أشهر، فإننا ننتظر، فإذا صدر منه في منتصف محرم، فمعنى ذلك أنه في منتصف جمادى يحق للمرأة أن ترافع وتطالب على الأصل، لكن الواقع بخلاف هذا؛ فالمطلقة رجعياً لا يبحث في مسائل الإيلاء منها إلا إذا راجعها الزوج قبل نهاية العدة، فلو راجعها وكان قد آلى منها أثناء العدة فحينئذٍ يرد الإشكال. فلو أنه وقع منه لفظ الإيلاء في منتصف محرم -كما ذكرنا- وراجعها في أول شهر صفر؛ فحينئذٍ تحتسب مدة الإيلاء من بداية مراجعته لها إذا كان قد راجعها في آخر محرم الذي هو بداية صفر، فإننا نضيف شهراً ونحتسب الإيلاء من بعده؛ وذلك لأنه في هذه الحالة من بعد إرجاع الزوجة يكون من حقه أن يطأ ويتأتى مطالبته بالوطء. وبناءً على ذلك تتضرر الزوجة بعد الرجعة، ولا تضرر في حال كونها رجعية، فإن هذا لا يترتب عليه حكم إلا اعتبار أن الإيلاء منعقد من حيث الأصل، فقال العلماء رحمهم الله: إنه إذا آلى منها وكانت رجعية، فأن مدة الإيلاء تحتسب من بداية الرجعة.

حصول الفيء بالوطء

حصول الفيء بالوطء قال رحمه الله: [فإن وطأ ولو بتغييب حشفة فقد فاء]. يشترط في اعتبار المدة التي هي الأربعة الأشهر أن لا يقع فيها جماع، أو أن لا يقع فيها وطء، فلو وطأ أثناء الأربعة الأشهر ولو مرة واحدة فقد حنث في يمينه ويلزمه التكفير، ويسقط حق المرأة في مطالبتها برجوعه عن اليمين؛ لأنه إذا وطأ ولو مرة واحدة فإنه يحكم بارتفاع اليمين ووجوب الكفارة عليه؛ لأنه حلف في يمينه وقال: والله لا أطؤكِ خمسة أشهر، فجلس الشهر الأول والشهر الثاني، وفي الشهر الثالث وطأها مرة واحدة، ولذلك قال رحمه الله: (فإن وطأ). وإذا قلنا بأن الوطء يلغي الإيلاء ويوجب التكفير فيرد Q ما هو الحد المعتبر للوطء؟ الأصل عند العلماء والأئمة رحمهم الله: أن الوطء يحكم به بتغييب الحشفة؛ وهي رأس الذكر كما ذكرنا، ويترتب على هذا ما لا يقل عن ثمانين حكماً شرعياً ومنها هذه المسألة. وبناءً على ذلك: فإن حصل منه وطء لامرأته بتغييب الحشفة أو قدرها من المقطوع -كما تقدم معنا- سقط الإيلاء ووجب عليه التكفير، وتعتبر فيئة منه ورجوعاً عن اليمين.

إذا امتنع من الفيئة أمر بالطلاق وإلا طلق عليه الحاكم

إذا امتنع من الفيئة أمر بالطلاق وإلا طلق عليه الحاكم قال رحمه الله: [وإلا أمر بالطلاق]. قوله: (وإلا أمر) أي: يقال له: طلق، فإذا قال: لا أطلق ولا أرجع لزوجتي، فحينئذٍ يرفع إلى القاضي ويشتكى به، فإذا اشتكته امرأته إلى القاضي طالبه بالقضاء وقال له: ارجع إلى زوجتك، وكفر عن يمينك وأتِ الذي هو خير، فإذا قال: لا. فيقول له: طلقها، فإذا قال: لا أطلقها، فأصبح لا يريد أن يطلق، ولا يريد أن يكفر عن يمينه، فحينئذٍ يطلق القاضي عنه، ويكون من حق القاضي أن يتولى الطلاق، على خلاف عند العلماء، والصحيح أنه ينزل منزلته؛ لأن هذا من الظلم والإضرار، وقد بين الله عز وجل أن من حق الزوج هذه المدة، وإذا جاوزها التقط حقه، فإذا لم يفئ فإنه غير معاشر بالمعروف، فمن حق الحاكم والقاضي أن يطلق عليه. قال رحمه الله: [فإن أبى طلق حاكم عليه واحدة أو ثلاثاً أو فسخ]. الحاكم: هو القاضي ومن في حكمه ممن ينصب لفض المنازعات وقطع الخصومات على الوجه الشرعي، وتكون أهليته على الوجه المعتبر، وتتحقق فيه الأهلية المعتبرة شرعاً. فالقاضي إذا نظر حال الزوج مع الزوجة ووجده ظالماً مؤذياً مضراً، وأنه قد تعدى حدود الله، ولا مصلحة في رجوع المرأة إليه، فإن من حقه أن يطلقها عليه بالثلاث، وقد ذكرنا أن جماهير السلف والخلف على أن الثلاث بلفظ واحد ماضية، وبينّا هذا وبينّا وجهه ودليله. فمن حق القاضي أن يطلق ثلاثاً لكي يمنعه أو يحول بينه وبين هذه المرأة التي آذاها وأضر بها، وكذلك من حقه أن يطلق الطلقة الأولى والثانية، فلو نظر أن من المصلحة أن يطلقها طلقة واحدة طلق طلقة واحدة، وهكذا لو كان الزوج قد طلق طلقتين وبقيت له طلقة واحدة، وجاء القاضي وأمر الزوج بالتطليق فلم يطلق، وأمره بالفيء فلم يفئ؛ طلق عليه الطلقة فكانت ثالثة، وسواء طلق واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً. وقوله: (أو فسخ) أي: يقول: فرقت بينكما، وفائدة الفسخ أنه لا يمتلك الزوج إرجاع الزوجة إلا بعقد جديد، ولذلك بعض العلماء يرى أن الطلاق هنا طلاق غير رجعي ولو كان طلقة واحدة؛ لأنه لو كان طلاقاً رجعياً لأمكن أن يقول: راجعتك، وتبقى المرأة في الضرر. والصحيح أنه طلاق رجعي، وذلك لأن الحكم أن من حق القاضي أن يطلق أو يفسخ، فإن نظر المصلحة في الطلاق طلق، وإن نظر المصلحة في الفسخ فسخ، وإذا رأى أن يطلق فإن شاء طلق الطلقة الأولى، وإن شاء طلق الطلقة الثانية، وإن شاء طلق الطلقة الثالثة، ولو طلق عليه الطلقة الأولى والمرأة صارت رجعية فقال الزوج: راجعتك، فحينئذٍ أيضاً يحتسب له بحكم الإيلاء، ويوقف مرة أخرى ويقال له: إما أن تفيء وإما أن تطلق، وهذا هو اختيار جمع من العلماء رحمهم الله. والسبب في هذا: أن المرأة مظلومة ومتضررة، ولا شك أنه إذا راجعها ولم يطأها فمعنى ذلك أنه يريد رجعتها من أجل الإضرار بها، والله يقول: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة:231]. فبيّن أنه ظالم وأنه معتدٍ لحدود الله، فمن حق القاضي أن يمنعه، فلو طلق عليه الطلقة الأولى فراجعها مباشرة فاشتكته إلى القاضي وقالت: ما رجع إليّ ولا فاء، فأمره القاضي بالرجوع فأبى، فيقول له: طلقها، فإذا قال: لا أطلقها، ففي هذه الحالة له أن يطلق عليه الطلقة الثانية، وكذلك لو راجعه بعد الثانية فله أن يطلق عليه الطلقة الثالثة، فله أن يصدرها مفرقة وله أن يصدرها مجتمعة؛ لأن الأمر عائد إلى النظر في مصالح الخصوم، والقاضي له حق النظر في مصالح الخصوم وله أن يفسخ. ولماذا يلجأ إلى الفسخ؟ يلجأ إلى الفسخ إذا رأى أن الرجل يريد الإضرار، وأنه ليس من مصلحته أن يستخدم هذا الإضرار، فيفسخ نكاحها حتى يبعدها عن هذه المشاكل باحتمال أن يعود إليها، فيمكن أن يوجد زوج عنيد، ويعلم أن المصلحة أن تعود له زوجته، لكنه لا يريد أن يعيدها، ففي هذه الحالة لو أنه أعادها له بطلقة واحدة رجعية ربما فاتت الثلاث تطليقات بالإيلاء؛ فحينئذٍ يلجأ إلى الفسخ، فتحتسب له طلقة واحدة أفضل من أن تحسب له ثلاث طلقات، وهذا يرجع إلى فقه القاضي ودرايته بحال الخصومة. فالعلماء رحمهم الله نصوا على هذا؛ لأن مقصود الشريعة دفع الضرر عن الزوجة بوجه لا يتضمن أيضاً الضرر على الزوج، ما لم يكن الزوج متسبباً في إدخال الضرر على نفسه؛ لأنه هو الذي حلف، وهو الذي صدر منه اليمين. قال رحمه الله: [وإن وطأ في الدبر أو دون الفرج فما فاء]. بعد أن بيّن رحمه الله أن الوطء يرفع اليمين، بيّن أنه لا يعتد بوطء غير شرعي وهو الوطء في الدبر، وهذا من كبائر الذنوب، ومن الأمور المحرمة، وللإمام ابن القيم رحمه الله كلامٌ نفيس في بدائع الفوائد وغيره من كتبه كعادته رحمه الله، فقد بيّن أموراً عجيبة -والعياذ بالله- في وقوع الزوج في هذا الأمر المحرم وهو إتيان الزوجة من الدبر؛ أنه يفسد الزوجة، ويفسد القلب ويظلمه -نسأل الله السلامة والعافية- وله العواقب الوخيمة على المرأة وعلى الزوج. ولذلك فإن هذا النوع من الوطء محرمٌ شرعاً، ولا يُعْتَدُّ به، فلو حصل وطء به فإنه لا يعتبر فيئاً، ولا يُسْقِط حكم الإيلاء.

مسائل القضاء المترتبة على باب الإيلاء

مسائل القضاء المترتبة على باب الإيلاء قال رحمه الله: [وإن ادعى بقاء المدة أو أنه وطأها وهي ثيب صُدِّق مع يمينه]: شرع رحمه الله في بيان مسائل القضاء المترتبة على باب الإيلاء، وقد تقدم معنا في مسائل المعاملات أن العلماء رحمهم الله من عادتهم أن يذكروا مسائل القضاء في آخر كل باب على حدة فيما يختص به من المسائل. فهنا عندنا مسألة وهي: إذا وقع الإيلاء وجاءت المرأة بعد أربعة أشهر واشتكت، قلنا: إن الوطء يقطع حق المرأة ويزيل حكم الإيلاء، فإن قال الرجل: وطأتها، وقالت المرأة: نعم. وطأني، فحينئذٍ لا إشكال، وقد ثبت عندنا أنه حصل وطء، ويعتبر الوطء فيء ورجوع. لكن الإشكال لو قال: وطأتك -يخاطب زوجته أمام القاضي- وطأتك خلال مدة، فليس من حقكِ أن تخاصميني، فقالت: ما وطأني وما حصل وطء، وأنكرت الوطء، فهل نصدق الزوج أو نصدق الزوجة؟ للعلماء وجهان في هذه المسألة: فمن أهل العلم من قال: نصدق الزوج؛ لأنه يبقي حكم النكاح -وهذا هو الأصل- ولا نصدق الزوجة؛ لأنها تدعي أمراً يئول بالنكاح إلى ارتفاعه؛ لأنه ربما رجعت المسألة إلى الطلاق. وبناءً على ذلك: قالوا: إنه يُصَدَّق الزوج؛ لكن هذا التصديق مبني على مسألة التهم، وفي مسائل التهم إذا صُدِّق القول مع التهمة فإنه يطالب باليمين التي تسمى عند العلماء في القضاء -كما سيأتينا إن شاء الله في باب القضاء- بيمين التهم، ويمين التهمة تقوي جانب الخصم على خصمه، قال الناظم: فإن تمادى فلطالب قضي بلا يمين أو بها وذا ارتُضِي أي: باليمين يعتبر القول الذي يعارضه غيره مع وجود التهمة؛ لأنه يحتمل أن تكون المرأة صادقة وأنه ما وطأها. والسبب في الخلاف: أن بعض العلماء يقول: تصدق الزوجة؛ لأن الأصل عدم وجود الوطء؛ لأنه قال: والله لا أطؤك، فالأصل أنه ما وطأ لأن عنده يميناً تمنعه من الوطء، فقالوا: نصدق الزوجة ونقبل قولها ونطالب الزوج بالفيء أو التطليق. ومن أهل العلم من قال: نصدق الزوج؛ لأن المرأة في ادعائها أنه لم يطأ تدعي أمراً خلاف الأصل، مما يوجب رفع النكاح كما تقدم معنا. فهذا وجه الخلاف بين القولين، ولكل قول وجهه. قال رحمه الله: [وإن كانت بكراً وادعت البكارة وشهد بذلك امرأةٌ عدلٌ صُدِّقت]. الخلاف الأول: إذا كانت ثيباً، وهي التي لا علامة فيها ولا أمارة تميز وجود الوطء وعدمه، لكن إذا كانت بكراً فهناك علامة تؤكد أو ترجح، ولذلك قالوا: قد يقع جماع البكر دون افتضاضٍ لبكارتها، وهذا أمر نادر، والشرع لا يبني الحكم على النادر؛ لكن بعض العلماء لا يعتد بهذا الوطء. وعلى كل حال قالوا: إذا ادعت بأنه لم يطأها وكانت بكراً والبكارة موجودة؛ لأنه ربما تكون المرأة قد أزيلت بكارتها قبل النكاح، وليس زوال البكارة يدل على أن المرأة فاسدة في كل الأحوال؛ لأنه ربما زالت بكارتُها بسبب قفز أو بسبب غير الوطء، وهذا أمر ثابت طبياً. ولذلك فمسألة وجود البكارة وعدمها قرينة أو مرجحة، لكنها لا توجب القطع ولا توجب الثبوت من كل وجه، وهي ترجح جانب المرأة، فلو أنها قالت: ما وطأني، وأنا بكر، كامرأة عقد عليها زوج وهي بكر ثم حلف أنه لا يطؤها ومكن من الدخول ثم حلف أن لا يطأها، فاشتكته إلى القاضي بعد أربعة أشهر فقالت: ما وطأني، وقال الرجل: بل وطأتها، فقالت المرأة: تزوجني وأنا بكر ولا زالت بكارتي موجودة، فقيل للرجل: ماذا تقول؟ قال: لا أزال مصراً على قولي، وفي هذه الحالة ينتدب القاضي امرأة أو طبيبة شرعية يوثق بقولها شرعاً للنظر والتأكد مما ذكرت، فإن وجدت البكارة كما هي فلا إشكال، لكن الإشكال أن هذا كان موجوداً في زمان الأولين حين يتعذر إعادة البكارة، لكن في زماننا يمكن إعادة البكارة؛ ولذلك فهذه المسائل بعضها يحتاج إلى نظر وتحرير، وهو مختلف في الحكم باختلاف الأزمنة. وهذا النوع هو الذي يسميه العلماء: تغير الفتوى بتغير الزمان، وليس المقصود بتغير الفتوى -كما يظنه البعض- التلاعب بالنصوص الشرعية، والدعوة إلى الأمور المحرمة كمسائل السفور ونحوها تحت غطاء تغير الفتوى بتغير الزمان هذا لا يصدر من إنسان عالم قرأ نصوص الكتاب والسنة، وفكر في دين الله وشرع الله. لكن قد توجد أمور تقتضي تغير الأحكام بتغير الأزمنة؛ ومنها هذه المسائل، فإن العلماء حكموا بأنها أمارة ودليل ربما يستأنس به، لكن في زماننا يمكن رتق غشاء البكارة. وهذا النوع من الجراحة لا أشك في حرمته شرعاً، فلم أجد نصاً في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم يبيح هذا النوع من الجراحة، مهما ادعي من الادعاءات، حتى ولو أن المرأة اغتصبت وأوذيت بالباطل، فليس من حق الطبيب أن ينظر إلى فرج المرأة، ولا أن يستبيح الإيلاج، ولا أن يستبيح اللمس، وليس من حق حتى المرأة مع المرأة؛ لأن الفرج هو العورة المغلظة المشدد في حرمتها. فإذا قالت: إنها ستعيدها، بناءً على أن هذه المرأة اغتصبت، بقي حق الزوج، فكيف يدخل على امرأة يظنها بكراً، وتعامله معاملة البكر، ويعطيها مهر البكر، فأين حق الزوج؟ وهذا اختلال في النظر، ولذلك فإن بعضهم -أصلحهم الله- يفتي بمسألة رتق غشاء البكارة تحت العواطف وتحت المبررات، مع أن هذا أمر من ناحية شرعية ليس له مبرر فيما ظهر لي بعد دراسة هذه المسألة والنظر في أدلة من يجيزون هذا النوع من الجراحة. ولا أشك أن هذا النوع من الجراحة المحرم لا يجوز للطبيب ولا للطبيبة أن يقوما به؛ لأنه ليس هناك مبرر شرعي للقيام به، وكل ما في الأمر أنه إذا اعتدي عليها واغتصبت، فإنه إذا جاء من يخطبها فإن الله أمرنا بأن ننصح ونبين فنقول له: إن أردت أن تسترها فأنت مأجور، ولا شك أن من فعل ذلك له عند الله عظيم الأجر وعظيم الثواب، إذا احتسب وقصد من ذلك مرضاة الله سبحانه وتعالى، فإن الله يأجره. فيطلع على الحقيقة، ويبيّن له أن المرأة صالحة وأنها مستقيمة، وأنها اعتدي عليها، أو يثبت ذلك بالوسائل الموجودة في زماننا ثم يعرض الأمر عليه، فإذا ارتاحت نفسه واطمأنت أن يحتسب الأجر عند الله، وأن يطلب من الله عز وجل أن يخلف عليه في مصيبته، فهذا فضل وخير منه، والله يأجره على ذلك، وإذا لم يرد فلا بأس، أما أن يرتق غشاء البكارة، ويدل الرجل على المرأة على أنها بكر، فلا يجوز. ثم إن هذا النوع من الجراحة فتح -والعياذ بالله- باب الفساد، فتجد المرأة لا تبالي أن تقدم على الحرام تحت طمأنينتها أن غشاء البكارة يمكن رتقه، فإبطال هذا النوع وقفل بابه لا شك أنه يقفل باب مفاسد كثيرة وشرور عظيمة. فمنع هذا النوع كلية والحيلولة بين الطبيب من الناحية الشرعية ومن الناحية العرفية يمنع المفاسد المترتبة؛ لأنه لو وجد عذر لبعض فئات من المجتمع، فإنه لا يوجد العذر في الفئة الثانية التي ربما تقع في الحرام حقيقة، ثم تدعي أنها اغتصبت أو أنه فعل بها هذا بدون حق. فالشاهد: أن مسألة ادعاء البكارة من المسائل التي تحتاج إلى أن يفصل فيها، خاصة في هذا الزمان الذي أمكن فيه عود الغشاء كما لا يخفى.

امتناع الزوج عن وطء زوجته إضرارا بها بدون يمين

امتناع الزوج عن وطء زوجته إضراراً بها بدون يمين قال رحمه الله: [وإن ترك وطأها إضراراً بها بلا يمين ولا عذر فكمولٍ] هذه المسألة الأخيرة التي ذكرها المصنف رحمه الله في هذا الباب، وهي مسألة امتناع الزوج من وطئه لزوجته على سبيل الإضرار بها. فإذا امتنع الرجل من وطء زوجته أربعة أشهر واشتكت إلى القاضي، فإن القاضي يوقفه ويقول له: إما أن تعود إلى المرأة وتفيء وتجامعها وتعطيها حقها وتعفها عن الحرام، وإما أن تطلقها أو نطلقها عليك. وقد قصد المصنف رحمه الله من هذا بعدما بين أحكام الإيلاء التي هي الأصل، أن يشرع في بيان ما يقاس على الإيلاء، فالشريعة حينما أعطت المرأة هذا الحق، وهو مخاصمة زوجها بعد تمام المدة وهي الأربعة الأشهر وهي إيقافه شرعاً، فكذلك المعنى الذي من أجله شُرع للمرأة أن تطلب بفيء زوجها وتطليقه موجود في حال امتناعه عن وطئها بدون يمين. فمن حقها أن توقفه وتسأله الرجوع أو التطليق، ومما ينبغي أن يتنبه له كل مسلم أن الزواج له حقوق ومسئوليات وواجبات؛ ومنها: أنه يجب على الرجل أن يعف امرأته عن الحرام، كما أنه يجب على المرأة أن تعف زوجها عن الحرام، خاصة في هذا الزمان الذي كثرت فيه الفتن وكثرت فيه المحن، فالواجب على المرأة أن تحفظ زوجها وتحافظ عليه، وكذلك الزوج الواجب عليه أن يحافظ على زوجته، ويحول بينها وبين الحرام، خاصة إذا كانت صالحة وكان الزوج صالحاً. وبعض الأزواج يتساهل في هذا الأمر، وينظر إلى أن الاستمتاع بالمرأة مجرد شهوة ولا يبالي، فيكثر من السفر، وربما يغيب الأشهر العديدة، دون أن ينظر إلى حق زوجته في فراشها وحاجتها إلى من يعفها. وكذلك المرأة ربما عاشت مع زوجها فلا تتجمل له، ولا تحسن التجمل له حتى تحفظه من الحرام، حتى لربما -والعياذ بالله- زلت قدمه ووقع في الحرام، وتعاطى الأسباب لا يخلو الإنسان من الإثم -والعياذ بالله- والحرج. ولذلك المرأة التي تقصر في حق زوجها في فراشه ربما كانت سبباً في وقوعه في الزنا والعياذ بالله! وهذا ستسأل عنه أمام الله عز وجل. والرجل الذي يقصر في حقوق امرأته ويغيب عنها، ولا يشترط أن يمتنع من وطئها أربعة أشهر، فإن بعض النساء قد لا تصبر شهراً أو شهرين؛ كالمرأة حديثة العهد بالعرس، أو المرأة التي تعيش في اختلاط، أو في بيئة يصعب فيها الصبر، أو حال يدعو إلى الحرام، مثل أن تكون بين أبناء عمومته أو أبناء خئولته، ويكون مجتمعه فيه نوع من الاحتكاك والأخذ والعطاء، أو يكون وضعها الاجتماعي يوقعها في مثل هذه المحرمات، أو مخالطة الرجال، فهذا كله يشدد في أمره. والواجب على الرجال أن يتقوا الله في النساء، والواجب على النساء أن يتقين الله في أزواجهن، وأن يحسن التبعل للأزواج، وأن يحسن الرجل إلى زوجته، وأن يعلم أن من كمال الله عز وجل وكمال شرعه أن المؤمن يحتسب الثواب عند الله حتى في شهوته، قالوا: (يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر؟ قال عليه الصلاة والسلام: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟)، فهذا يدل على كمال هذه الشريعة وسموها. نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل. والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تكفير الزوجة عن زوجها يمين الإيلاء

حكم تكفير الزوجة عن زوجها يمين الإيلاء Q إذا طلب الزوج المولي من زوجته أن تكفر هي من مالها يمين الإيلاء، فهل تصح الكفارة؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فإذا لم يكن عنده مال، ولم تكن عنده قدرة على أن يطعم عشرة مساكين أو يكسوهم، أو يعتق رقبة، فإنه يصوم ثلاثة أيام، فإذا وكلها في إخراج الكفارة ورضيت بذلك وقالت: أنا أخرج من عندي، فلا بأس، وهذا أمر يرجع إليها، فإذا فعلت فالإيلاء ساقط والكفارة معتبرة. والله تعالى أعلم.

بيان أن النشوز ليس كالإيلاء

بيان أن النشوز ليس كالإيلاء Q هل النشوز الذي يكون من المرأة يعتبر مقابلاً للإيلاء، كما لو أقسمت أن لا تمكنه من نفسها؟ أثابكم الله. A لا يجوز للمرأة أن تحلف وتقول لزوجها: والله لا أمكنك من نفسي؛ لأن الملائكة ستلعنها حتى تصبح. وهذا يدل على أن المرأة ينبغي لها أن تأخذ الحذر في معاملتها لزوجها؛ لأن الزنا والحرام من الرجل أسهل من المرأة، وإذا امتنعت المرأة ربما نفر منها الزوج كلية؛ لأن الزوج بمجرد أن يشعر أن امرأته لا تحبه فإنه يترتب على ذلك الكثير من المفاسد والشرور. والمرأة تستطيع أن تعلم أن زوجها لانشغاله أو لأي أمر إذا صرف عن محبتها في وقت فإنه سيعود لها، فهناك فرق بين الرجل والمرأة، ولذلك عظم الشرع امتناع المرأة، وعظم أيضاً امتناع الرجل، لكن جعل للرجل حداً لم يجعله للمرأة، والله يحكم وله أن يفضل وله أن يميز. وهذا يدل على أن الشريعة تراعي أموراً دقيقة جداً في هذه المسائل، فعلى المرأة أن تتقي الله، ولا يجوز لها أن تمتنع ليلة واحدة، بل حتى إذا دعاها إلى الفراش وامتنعت من ليلتها -والعياذ بالله- فقد جاء في الحديث الصحيح في رواية: (كان الذي في السماء عليها غضبان حتى تصبح)، وفي الحديث الآخر: (أيما امرأة دعاها زوجها فأبت باتت الملائكة تلعنها حتى تصبح) نسأل الله السلامة والعافية. والله تعالى أعلم.

امتناع الزوج عن امرأته بقصد تأديبها

امتناع الزوج عن امرأته بقصد تأديبها Q لو أراد الزوج من عدم معاشرته لأهله ووطئه أن يردعها حتى تتوب إلى الله وتقيم الصلاة، فهل هو مول إن طالت المدة، خصوصاً وأنه يريد الإصلاح لا الإضرار؟ A النبي صلى الله عليه وسلم أدب نساءه وحلف أنه لا يطأ شهراً، وآلى من نسائه، وهذه أمور يرجع فيها إلى الزوجين، وهما أعرف، لكن لو كانت المدة دون مدة الإيلاء وقصد بها الإصلاح فما على المحسنين من سبيل، فالزوج أدرى بأهله وأدرى بزوجه، سواء في أمور الدين أو أمور الدنيا، ولذلك أمر الله عز وجل بتأديب الزوجة إذا نشزت. والأفضل والأكمل -كما ذكر بعض العلماء والحكماء- أن لا يلجأ الزوج إلى المعاقبة بالعواطف إلا عند الضرورة، فلا يصل إلى طريقة تشعر بها المرأة بأسلوب مباشر أو غير مباشر أنه لا يريدها، فإن هذا من أسوأ ما يكون، وتترتب عليه العواقب الوخيمة، والعكس من المرأة أيضاً؛ فلا تشعر الزوج لا بأسلوب مباشر أو غير مباشر أنها لا تريده؛ لأن هذا هو دمار البيوت، وبه تتهدم الأسر وتتشتت؛ لأن الله جعل الرباط بين الزوج والزوجة قائم على المودة والرحمة. فمن هنا التلاعب بالعواطف والتأثير بها أمر لا تحمد عقباه، فالمرأة لا تستطيع أن تتحكم بنفسها؛ لأنه بمجرد أن تشعر أن زوجها لا يريدها أو أن زوجها ليس راغباً فيها، ربما -والعياذ بالله- أفسدت نفسها ودخلت عليها وساوس الشيطان وأصابتها الأمراض النفسية. وانظر إلى حكمة الشريعة الإسلامية في كثير من المسائل التي بين الزوجين كيف أن الشرع جعل لها الحل، وانظر إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان يقبل زوجته إذا خرج من البيت إلى الصلاة التي جعل الله قرة عينه فيها صلوات الله وسلامه عليه، فكان يقبلها حتى يكون آخر العهد ما يدل على الرباط وعلى المودة والمحبة، وعلى الرحمة والإلف والتواصل، وهذا ليس منقصة للرجل، وإنما هو كمال؛ لأنه فعله أكمل الرجال وأكمل الأمة صلوات الله وسلامه عليه، فليس ديننا بالدين الذي حجز الناس بالرهبانية وفي المساجد، وعزلهم عن الأسر وإقامتها بالمعاملة اللطيفة، فكل شيء جعل الإسلام له حقه وقدره. فكما أن الجهاد يقوم ببذل الأنفس، وتسيل فيه الدماء لوجه الله عز وجل ولإعلاء كلمة الله وكسر شوكة أعداء الله عز وجل، كذلك في الأسر تجد المودة والرحمة، وتجد التعاطف واللين، وتجد الكمال الذي قامت عليه هذه الشريعة الإسلامية خاصة في منهج النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا تلاعب الزوج بالعواطف وتلاعبت الزوجة بالعواطف فعندها لا تحمد العواقب؛ لأن المرأة إذا عاشت في مواقف محرجة ووجدت الزوج يعطف عليها، وعاشت في غلطات تصدر منها مع الزوج ومع ذلك تجد منه الدلائل التي تشير إلى حبه لها، ضحت من أجله وصبرت. وهذا معروف في قصص الأولين وأخبارهم، كما ذكر الحكماء في القصص الهادفة الحقيقية المبنية على وقائع صادقة، فإن المرأة ربما أحبت زوجها وامتحنته واختبرته بمواقف عاطفية معينة صدق معها فيها، حتى وقفت معه في آخر عمره في أحلك الظروف وأشدها. ولربما ذهب جماله في عز شبابه، ولربما ذهبت قوته وذهبت صحته، حتى إن المرأة تحب زوجها بصدق بسبب المواقف التي رأتها منه؛ من صدق المشاعر وصدق المودة، فإذا انصرف عنه كل شيء جاءت عند قدميه محبة، ولم يختلف حبها وودها بل لربما زاد أكثر. وهذا كله يحتاج إلى أن يضحي الإنسان من أجله، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأسس التي ينبغي على الإنسان أن يراعيها فقال: (خيركم خيركم لأهله)، وهذه الخيرية تحتاج منا أن لا يمس الإنسان المشاعر، فالمرأة والرجل ينبغي عليهما الحذر في الأمور التي يعاقب فيها خاصة في أمور الفراش. يقول تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء:34] {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}، فجعل الأمر مرتباً؛ لأن المرأة المؤمنة الصالحة التي تخاف الله عز وجل إذا ذكرها زوجها بالله تذكرت، وإذا رأت زوجها يسهر الليل ويتأخر عنها ويضيع حقها قالت له: يا هذا اتق الله. والمطلوب من الزوج إذا قالت له امرأته: اتق الله، أن يجعل الجنة والنار أمام عينيه، وأن لا ينظر إلى نفسه نظرة الكمال، وقد كان السلف إذا قيل لأحدهم: اتق الله؛ جلس يبكي من خشية الله عز وجل وخوفه، ولذلك سمت نفوسهم إلى العلياء وإلى الخيرات، ففازوا بخيري الدنيا والآخرة. فعلى المسلم دائماً إذا قالت له زوجته: اتق الله، أن يتقي الله، ويعتقد أنه مقصر ويقول لها: أنا مقصر؛ حتى يسمو بنفسه عن أذية الزوجة. قال الله تعالى عن النساء: {فَعِظُوهُنَّ} [النساء:34]، ثم قال: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34]، فجعل العقوبة بالأفعال لا بالأقوال، وهذا يدل على كمال الشريعة؛ لأن الكلمة النابية من الزوج وقعها أليم وجرحها عظيم، ويبقى أثرها في المرأة ربما سنوات، ولا يمكن أن تنسى هذه الكلمة، خاصة إذا مست مشاعرها. وهذا يدل على أن المشاعر والعواطف التي بين الزوج والزوجة ينبغي لكل منهما أن يحذر المساس بها، والسعيد من وفقه الله ووعظ بغيره وانزجر عن هذه الأمور، ولم يصل إليها إلا إذا بلغ الأمر مبلغه. إذا لم تكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها فهذه أحوال خاصة وأمور خاصة يحكم فيها ويفتى بحسب وجود الحاجة وبقدرها. والله تعالى أعلم.

جلوس الإمام المنهي عنه بعد الصلاة

جلوس الإمام المنهي عنه بعد الصلاة Q بالنسبة لمكث الإمام في مصلاه، هل النهي أن يجلس بعد السلام ووجهه إلى القبلة أم أن النهي عن جلوسه بعد الانصراف؟ أثابكم الله. A بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فيجلس الإمام ووجهه للقبلة قدر ما يستغفر ويقول: (اللهم أنت السلام ومنك السلام) كما ثبت في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وغيرها، ثم ينصرف. والسبب في هذا: أنه يعطي الناس ظهره، ولا ينبغي للإنسان إذا جلس أمام الناس أن يعطيهم ظهره إلا من حاجة، فلما انتهت الحاجة وهي إمامته بالناس وصلاته رجع إلى الأصل من الإقبال على الناس بوجهه، ولذلك جاءت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينصرف إلى المصلين. والانصراف ينبغي أن يكون كاملاً، فيقبل على الناس ويجلس حتى تكون ميمنة الصف ميسرة له، وميسرة الصف ميمنة له، وأما الانصراف الجزئي كأن يجلس ويعطي الناس شقه الأيمن؛ فهذا في حالة ما إذا صليت ببعض الناس المتأخرين، فإذا سلمت فلا تستطيع أن تكون في وجههم، فاستحب العلماء أن تجلس وتعطيهم كتفك الأيمن إذا كانوا يتمون لأنفسهم، حتى لا يظن من يرى من بعيد أنه يسجد لمن أمامه. فمن هنا كرهوا الجلوس أمامه مباشرة؛ لأنه سيكون كالساجد له، وإنما يعطيه كتفه الأيمن، وإذا صليت بشخص معك ثم جاء أناس في الركعة الثانية أو الثالثة أو الرابعة، أو في آخر الصلاة، فإذا سلمت ستجد أمامك صفاً أو بعض الصف وأنت أمامه، فاستحب العلماء رحمهم الله أنه لا يقبل عليهم إقبالاً كاملاً ولا يجلس بين القبلة. أما مسألة الانصراف من المصلى، فيكون بعد الانتهاء من التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثاً وثلاثين، وقول تمام المائة (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، وفي رواية: (بيده الخير وهو على كل شيء قدير)، قالوا: لأنه إذا انصرف قبل هذا فستكون له مزية على الناس، ولا يجوز لأحد أن يتميز عن الناس؛ لأن منهم من هو أكبر منه، وقد يكون فيهم من هو أعلم منه وأفضل منه، وقد يكون فيهم والده. ولذلك لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يطيل الجلوس في مصلاه إلا في موضعين: منها صلاة الفجر؛ فقد كان يجلس إلى طلوع الشمس، وبعض الأحيان يقوم قبل طلوع الشمس؛ لما ثبت في الصحيح أنهم كانوا يأتونه ويجالسونه بعد صلاة الفجر، ويتحلقون عليه حلقة حتى يخوضون في أمور الجاهلية وما كانوا فيه، فيضحكون ويتبسم، كما في صحيح مسلم وغيره. فهذا يدل على أنه بعد صلاة الفجر يجلس في مصلاه، كأن يأتي سائل أو يأتي مستشكل ويحبسه في مصلاه، فيكون عند الضرورة والحاجة، أما في غير الضرورة والحاجة؛ كأن يريد أن يمكث في المسجد، فيقوم إلى سارية في مكان آخر، ولذلك كان العلماء والأئمة يجعلون مجلساً للفتوى ومجلساً للصلاة، فكان أحدهم إذا انتهى من الصلاة يقوم لمجلسه الذي برز فيه للناس حتى يأتون للفتوى والسؤال. وهذا من أنسب ما يكون، وهو من فقه الإمامة وآداب الإمامة كما ذكر بعض أئمة العلم رحمهم الله. والله تعالى أعلم.

حكم جهر المأموم بالتكبير وأذكار الركوع والسجود

حكم جهر المأموم بالتكبير وأذكار الركوع والسجود Q هل يشرع للمأموم الجهر بالتكبير وأذكار الركوع والسجود في صلاة الجماعة؟ A إذا كان يريد الإثم وأذية الناس والإضرار بهم يفعل ذلك، فإن الجهر من المأموم يشوش على من بجواره، ويشوش على المصلين، وهذا مجرب ومشاهد. وأذكر عشرات المرات أنني كنت في بعض الأحيان لا أستطيع أن أقرأ التشهد، ولا أستطيع أن أسبح أو أخشع في تسبيحي لأن من بجواري يرفع صوته. فهذا لا ينبغي ولا يجوز، وهذا من الإضرار، وخاصة أذية المصلين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الثوم والبصل حتى لا يؤذي الناس ببَخَره، فإذا كان هذا بالبَخَر والرائحة فكيف بمن يؤذيهم في خشوعهم وذكرهم لله عز وجل؟! ولربما التبس على الناس، حتى إن بعض الأئمة قد يلتبس عليه، فالمأموم لا يشرع له أن يرفع صوته، ولا يشرع إلا في مسائل نادرة؛ منها: أن يكون الصف طويلاً، وأن تكون هناك صفوف بعيدة جداً ولا يمكن التبليغ إلا يرفع الصوت، فيجوز عند الضرورة والحاجة. وهذا القول له دليل: وهو حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مرض النبي صلى الله عليه وسلم مرض الوفاة، فإنه كان يرفع صوته يسمِّع الناس من ورائه. هذا هو الذي يشرع في رفع صوت المأموم، أو يريد أن ينبه الإمام، أو الأذكار التي ورد رفع صوت المأموم بها من التأمين، فإن هذا مستثنى، أما ما عدا ذلك فلا يجوز؛ لأن فيه أذية وإضراراً وتشويشاً على المصلين. ولا شك أنه في بعض الأحيان يشوش علينا؛ لكن إذا كَمُل خشوع الإنسان فقد لا يضره مثل هذا؛ لكن الغالب أنه يضر ويشوش. فالواجب على المأموم أن يخفض صوته بقدر ما يحرك به شفتيه، وهذا هو حد الإجزاء. والله تعالى أعلم.

المقصود بالعدل بين النساء

المقصود بالعدل بين النساء Q من كان يتحرى العدل بين نسائه هل يلزمه أن يعدل أيضاً في الوطء والفراش؟ أثابكم الله. A العدل هو في الفراش، كما هو في غيره من النفقات ونحوها، والعدل في الفراش فيه جانبان: الجانب الأول: مسألة أن ينام معها ويبيت، وهذا حق مُجْمَع عليه؛ لأن النصوص الشرعية دالة على ذلك، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ أنه قال: (من كانت له زوجتان فلم يعدِل بينهما جاء يوم القيامة وشِقُّه مائل) نسأل الله السلامة والعافية. قيل: (شِقُّه مائل) أي: نصفه مشلول، وهذا -نسأل الله السلامة والعافية- في عرصات يوم القيامة. وقيل: (شِقُّه مائل) أي: أن كفته -والعياذ بالله- تميل بالسيئات والأوزار والآثام. وهذا يدل على عظم ظلم النساء، ويدل عليه حديث البخاري في الصحيح: (إني أَحَرِّج حق الضعيفين: المرأة، واليتيم)، فجعل حق المرأة مع اليتيم، وهذا يدل على أن الإخلال به فيه وزر عظيم، ولذلك قال: (جاء يوم القيامة وشِقُّه مائل)، فلابد أن يعدل في البيتوتة فيبيت عندها. لكن لو أنه جامل، فقد تكون امرأة أجمل من أخرى، وقد تكون أكثر أدباً، وقد تكون أكثر إكراماً له، فتكون محبتها له أكثر من جهة القلب، فهذا لا ملامة فيه. والقوة في الجماع والإتيان ليست مطلوبة، يقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)، فهذا شيء لا يملكه الإنسان، فقد تكون المرأة من أجمل النساء ولكنها من أسوأ النساء لساناً، فتمقتها النفوس وتنفر منها الطباع، وقد تكون المرأة أقل جمالاً، ولكنها أكثر صلاحاً وأكثر أدباً وحشمةً، وأدرى بطريقة حفظها لزوجها ومحافظتها على وده ومحبته، فتكون أكثر حظوة. ومن هنا يرجع الأمر إلى اجتهاد المرأة، فالمرأة الموفقة هي التي تعرف كيف تحرص على ود زوجها وإرضائه. وعلى كل حال: المطلوب أن يبيت؛ لكن مسألة قوة الجماع وضعفه هذه مسألة لا يطالَب فيها بالعدل، فالمرأة التي هي أكثر حظوة ليست كغيرها، والأمر مرده إلى الإنسان في ذلك، حتى إنه لا يستطيع أن يملك نفسه. ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يحب عائشة، وقد استأذن زوجاته أن يُمَرَّض عند عائشة، ولما سُئل كما في الصحيح من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه: (أي نسائك أحب إليك؟ قال: عائشة. قيل: من الرجال؟ قال: أبوها). فهذا يدل على أنه قد تقع المرأة في مكان الحظوة لكمال دينها واستقامتها وجمالها، وهذا أمر يختلف فيه النساء، وليس الزوج مسئولاً عن تحقيق العدل في مثل ذلك لتعذره وصعوبته. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

كتاب الظهار [1]

شرح زاد المستقنع - كتاب الظهار [1] مما قد يعرض على المسلم في حياته مسألة الظهار، وهي مسألة يجهلها الكثير، فما حد الظهار في الكتاب والسنة وفي لغة العرب، وما هي شروطه وأركانه، وسبب مشروعيته، وحكمه في الكتاب والسنة، وما هي كفارته، وكل ذلك قد بينته هذه المادة.

أحكام الظهار

أحكام الظهار

تعريف الظهار لغة واصطلاحا وذكر أركانه

تعريف الظهار لغة واصطلاحاً وذكر أركانه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الظهار] الظِهار في لغة العرب وجمهور أئمة العلم رحمهم الله عليهم: مشتق من الظَهر، كما صرح به صاحب اللسان والإمام الأزهري وغيرهما من أئمة اللغة رحمة الله على الجميع. والسبب في ذلك أن المظاهر يقول لزوجته: أنتِ عليّ كظهر أمي. فنظراً لوجود هذا التشبيه بهذا الموضع قيل له: ظِهار، فهو فعِال من الظهر. والظهر من الكاهل إلى العجز، والكاهل في لغة العرب يشمل الست الفقرات الأول من الأعلى من ظهر الإنسان، والعجز آخر الفقرات من جهة مؤخرة الإنسان. وبعض العلماء قال: إن الظهار فعِال من الظهور، بمعنى الارتفاع والعلو، يقال: ظهر على الشيء إذا علاه، ومنه قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف:97] أي أن الله عز وجل لم يمكنهم من العلو على ذلك السد الذي جعله ذو القرنين. وأما في اصطلاح الشرع فإن المراد بالظهار: تشبيه المنكوحة بمن تحرم عليه على التأبيد. فهو تشبيه الزوج زوجته ومنكوحته بامرأة تحرم عليه حرمة مؤبدة كأمه وأخته وعمته وخالته وبنت أخته وبنت أخيه، ونحوهن من النساء اللاتي يحرمن عليه حرمة مؤبدة في قول بعض العلماء. وقال بعض العلماء: تشبيه المنكوحة بمن تحرم عليه. ولم يفرق بين الحرمة المؤبدة والحرمة المؤقتة. والفرق بين القولين أن أصحاب القول الأول يخصون الظهار بمن تحرم على التأبيد، فلو قال لزوجته: أنتِ عليّ كظهر أختك فلا يكون ظهاراً؛ لأنها ليست محرمة على التأبيد. وعلى القول الثاني لو قال لها: أنتِ عليّ كأختك، أو: أنتِ عليّ كظهر أختك فإنه يقع الظهار. فقولهم رحمهم الله: (تشبيه). التشبيه: تفعيل من الشبه، يقال: هذا: يشبه هذا إذا كان مثلاً له، والتشبيه: هو الدلالة على أن أمرين أو شخصين أو شيئين اجتمعا واشتركا في أمر أو أمور، أو في شيء أو في أشياء. فحينما يقول الإنسان: محمد كالأسد. يكون هذا تشبيهاً، حيث شبه محمداً بالأسد، لكنه ليس من كل وجه، إنما مراده أن محمداً في الشجاعة والقوة كالأسد، أو يقول: محمدٌ كالبحر. أي أنه كثير العلم ككثرة البحر، أو كثير الكرم والجود والعطاء كالبحر. والمقصود أن التشبيه تمثيل، ولا بد في الظِهار من وجود التشبيه، وهذا التشبيه يستلزم أربعة أركان: مشبِّهٍ ومشبَّهٍ ومشبَّهٍ به وصيغة يقع بها التشبيه. فالمشبِّه هو الزوج. والمشبَّه هي الزوجة المنكوحة التي عقد عليها. والمشبَّه به هي المرأة المحرمة حرمة مؤبدة أو حرمة مؤقتة، على التفصيل المعروف عند أهل العلم رحمهم الله. والصيغة هي اللفظ الدال على الظهار والتحريم به، ويستوي أن يخاطبها أو يقول في غيبتها، فالمهم أن يقع التشبيه باللفظ، فلا بد من وجود الصيغة الدالة على الظهار والتحريم به. فهذه أربعة أركان لا بد من وجودها. أما المشبه -وهو الزوج- فيشترط فيه أن يكون بالغاً عاقلاً مختاراً، فلا يصح الظهار من الصبي، فلو أن صبياً عقد له أبوه على زوجة فقال الصبي: هذه الزوجة عليّ كظهر أمي. فإنه لا يقع الظهار، والسبب في هذا أن لفظ الصبي غير معتد به شرعاً في المؤاخذات، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (رفع القلم عن ثلاثة ... )، وذكر منهم الصبي حتى يحتلم. كذلك المجنون فإنه لا يصح ظهاره بالإجماع، وفي حكم المجنون السكران ومن تعاطى المخدرات -والعياذ بالله- سواء أكان معذوراً أم غير معذور. وقد تقدمت معنا هذه المسألة في طلاق السكران، وبينا مراتب السكر وأوجه السكر، وأقوال العلماء رحمهم الله في مؤاخذة السكران به في الطلاق، وفصلنا في ذلك، وأن الصحيح أن السكران كالمجنون لا يؤاخذ لا على طلاقه ولا على ظهاره إذا بلغ به السكر إلى درجة لا يتحكم فيها في قوله؛ لدلالة قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]، فدل على أن السكران لا يعلم ما يقول، ومن كان لا يعلم ما يقول فإنه لا يؤاخذ به. وكذلك ذكرنا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث، وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم في هذه المسألة. ويشترط أن يكون مختاراً بحيث لا يهدد ولا يكره، فلو كان مكرهاً فإن الإكراه يسقط المؤاخذة بالألفاظ، ولذلك المرتد إذا أكره على لفظ الردة فإنه لا يؤاخذ إذا كان مطمئن القلب بالإيمان كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فدل على أن المكره ساقط القول؛ لأن الله أسقط عنه الردة وهي أعظم شيء، فمن باب أولى أن يسقط ما دونها. فمعنى ذلك أنه لا بد وأن يكون الزوج المظاهر بالغاً عاقلاً مختاراً. ولا تشترط فيه حرية، فالرقيق والحر في هذا على حد سواء، فيؤاخذ ويلزمه ما يلزم الحر. وأما المشبَه -وهي الزوجة- فيقول لها: أنتِ. أو: زوجتي فلانة، أو: نسائي، أو: امرأتي، ونحو ذلك مما يدل على المنكوحة، سواء أكانت مدخولاً بها أم غير مدخولٍ بها. فكل زوجة عقد عليها الإنسان فإنه يصح ظهاره منها إذا كان العقد صحيحاً، ولا يشترط دخوله بها، فلو عقد عليها الساعة ثم قال مباشرة: هي عليّ كظهر أمي. أو: زوجتي عليّ كظهر أمي وقع الظهار، ولا يشترط الدخول، فهذا بالنسبة للمنكوحة حقيقة. وأما من في حكم المنكوحة والزوجة فهي المطلقة طلاقاً رجعياً، فلو أن امرأة طلقها طلاقاً رجعياً فقال: هي عليّ كظهر أمي، أو: أنتِ عليّ كظهر أمي، أو: فلانة مني كظهر أمي ونحو ذلك وقع الظهار. ويستوي أن يشبه المرأة كلها أو بعضها، فيقول: أنتِ، أو: بدنك، أو: ذاتك، أو: جسمك، أو: كلك، أو يذكر عضواً من الأعضاء المتصلة، على تفصيل سنذكره إن شاء الله. وأما المشبه به -وهي كما ذكرنا المرأة المحرمة عليه، ومن أهل العلم من يقول: حرمة مؤبدة- فيختص بثلاثة أنواع: الأول: المحرمات من جهة النسب. الثاني: المحرمات من جهة المصاهرة. الثالث: المحرمات من جهة الرضاع. وقد فصلنا هذه الثلاث المحرمات، وبينّا أدلة الكتاب والسنة وإجماع العلماء رحمهم الله على التحريم بهن على التفصيل في مسائل النكاح. فأي واحدة يختارها من المحرمات على التأبيد من جهة النسب السبع يقع بها الظهار، كما لو قال: أنتِ عليّ كظهر أمي، أو: بنتي، أو: أختي، أو: بنت أخي، أو: بنت أختي، أو: عمتي، أو: خالتي، فهؤلاء كلهن من المحرمات حرمة مؤبدة. وكذلك المحرمات من جهة المصاهرة، كما لو قال لها: أنتِ عليّ، أو أنتِ مني كأمك، أو: أنتِ عليّ كظهر أمك. فإن أم الزوجة محرمة حرمة مؤبدة بالشرط المذكور في القرآن، فلو خاطبها بذكر أمها أو ذكر بنتها فقال لها: أنتِ عليّ كبنتك فإن هذا أيضاً يدخل في المحرمات؛ لأنها محرمة من جهة سبب المصاهرة. كذلك أيضاً أن يقول لها: أنتِ عليّ كزوجة أبي، أو: كفلانة التي هي زوجة أبي؛ لأنها محرمة إلى الأبد لقوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:22]، أو يذكر زوجة ابنه فيقول: أنتِ عليّ كزوجة ابني، أو: أنتِ عليّ كفلانة ويقصد زوجة ابن من أبنائه وإن نزل، فهذا كله يشمله الظهار، وفي الرضاع مثل النسب. والتشبيه هنا قد يقع صريحاً أو كناية، فيسأل عن قصده، فالصريح أن يقول لها: أنتِ عليّ كظهر أمي. والكناية أن يأتي بلفظ محتمل لقصد الظهار وعدمه. وعند بعض العلماء إذا قال لها: (أنتِ كأمي) ولم يذكر الظهر أنهذا اللفظ محتمل؛ لأنه يحتمل: أنتِ كأمي محرمة. أو: أنتِ كأمي مكرمة. فيريد أن يكرمها ويجلها فيقول لها: أنتِ كأمي، أو ما أنتِ مني إلا كأمي؛ تكريماً لها وإجلالاً. أو يذكر جزء المحرمة، فيقول: أنتِ كعين أمي، أو: كرأس أمي، أو: كصدر أمي، فهذه المواضع -العين والصدر والرأس- مما يحتمل التكريم ويحتمل الظهار، فإذا تلفظ بلفظ الظهار وقع الظهار، فإما أن تكون صيغته صريحة، وإما أن تكون صيغته كناية متضمنة الدلالة على الظهار، فإن كان شيئاً صريحاً أخذنا به وحكمنا به ظهاراً، وإن كان شيئاً محتملاً سألناه عن قصده؛ لأن الله عز وجل جعل لكل شيء قدراً، والصريح لا ينزل غيره منزلته إلا إذا كان محتملاً.

سبب نزول آيات الظهار

سبب نزول آيات الظهار الظهار كان في الجاهلية، وجاء الإسلام فبيّن حكمه وما يترتب على التلفظ به، وكان أهل الجاهلية إذا تلفظوا بالظهار يعتبرونه طلاقاً، وصح هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهناك رواية مرفوعة -ذكرها الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله- أن خولة رضي الله عنها لما ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه واشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله طلاقاً. فمذهب بعض العلماء أنه كان في الجاهلية طلاقاً، وحكى الإمام الشافعي رحمه الله عن بعض أئمة السلف وأهل العلم أنهم كانوا يقولون: كان الطلاق في الجاهلية بثلاثة أشياء: بالطلاق المعروف، وبالظهار، وبالإيلاء، فكانت العرب إذا تلفظت بالطلاق أو بالظهار أو بالإيلاء عدت ذلك كله طلاقاً، فجاء الإسلام وهذب الأحكام، فجعل الطلاق طلاقاً، وجعل الظهار موجباً للكفارة، وجعل الإيلاء على التفصيل الذي تقدم معنا. واختلف العلماء في ظهار أهل الجاهلية، فقال بعضهم: كانوا في الجاهلية إذا تلفظ أحدهم بالظهار يعتبرونه طلاقاً محرماً للمرأة إلى الأبد، فكان من عظيم الظلم للنساء، فتبقى المرأة لا هي زوجة ولا هي مطلقة تبين منه حتى ينكحها غيره من الناس، فتصبح معلقة محرومة من الأزواج ومحرومة من زوجها، محرومة من زوجها بالظهار، ومحرومة من الأزواج بالطلاق المؤبد فتحرم على غيره حرمة مؤبدة. وقال بعض العلماء: إنها حرمة مثل حرمة الطلاق. وعلى كل حال كان هذا اللفظ موجوداً في الجاهلية، وشاء الله عز وجل أن وقع الظهار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ووقع في حادثة مشهورة هي حادثة أوس بن الصامت بن قيس بن أصرم الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، وهذا الرجل كان من أجلاء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فقد شهد جميع المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من أهل بدر الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح-: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). وكان من أهل بيعة الشجرة الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم: (لن يلج النار أحد بايع تحت الشجرة) وهو صحابي له مكانته وفضله رضي الله عنه وأرضاه. وقد عمِّر حتى توفي رضي الله عنه في خلافة عثمان في أواخر خلافته رضي الله عنه وأرضاه، وتوفي بالشام ببيت المقدس بالرملة رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعالي الفردوس مسكنه ومثواه. فهذا الصحابي الجليل كان به ضعف وكانت فيه شدة، وفي يوم من الأيام راجعته زوجته في أمر من الأمور فحصل الغضب منه فقال: أنتِ عليّ كظهر أمي. فظاهر منها، فخرج إلى أصحابه وجلس في النادي مع قومه، ثم رجع، فلما رجع إليها أراد منها ما يريد الرجل من امرأته -أي: أن يستمتع بها- فمنعته، وامتنعت من أن تمكنه من نفسها. وكانت حاله وحالها على فقر رضي الله عنهما وأرضاهما، فانطلقت إلى بعض جيرانها وأخذت ثوباً منهم، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منكسرة القلب حزينة مما أصابها من قول زوجها -وكان ابن عم لها- فذكرت شكواها، وبينت أنها أمضت حياتها وعاشرته على أحسن ما تكون العشرة، فنثرت له ما في بطنها، ومكنته من نفسها حتى رق عظمها وشاب رأسها، فظاهر منها رضي الله عنه، فاشتكت إلى الله عز وجل. قال بعض العلماء: حصلت المجادلة بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم حرمها، ثم نزل الوحي. وقيل: إن المجادلة أن النبي صلى الله عليه وسلم حصل بينه وبينها بعض المراجعة. وثبت في الحديث الصحيح من رواية أحمد في المسند أنها ما انتهت من كلامها إلا ونزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في هذه الحادثة العظيمة تقول: سبحان من وسع سمعه الأصوات، إني والله لفي طرف البيت ما بيني وبينها إلا ستر رقيق يخفى عليّ بعض كلامها وسمعها الله من فوق سبع سموات. سبحانه وتعالى. ولذلك قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} [المجادلة:1] و (قد) تفيد التحقيق وثبوت الشيء دون شك فيه ولا مرية، ولا يؤتى بها إلا في الأمر الثابت الذي لا إشكال فيه. وأتى بلفظ الجلالة الظاهر، وما قال: قد سمعت بل قال: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1]. يقول بعض العلماء: من بديع دلالات القرآن أن ينفي الأشياء المحتملة التي ليست بحقيقة؛ لأنه لما قال: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة:1] قد يظن ظان أنه سمع قولها ولم يسمع قول غيرها، فقال الله: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1]، فأثبت لنفسه هذه الصفة التي تليق بجلاله وكماله، فوالله ما وقعت حبة في ظلمة إلا علمها الله، وما من نملة ولا أصغر من ذلك على صفحة حجر أملس في ليلة ظلماء إلا سمع الله صوتها وعلم مكانها وأجرى رزقها، لا يعجزه شيء جل جلاله وتقدست أسماؤه، ولا إله غيره. وقوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1] فيه دليل على أن الشكوى إلى الله أمرها عظيم؛ لأن هذه المرأة قالت: إلى الله أشكو أوساً، وإلى الله أشكو أمري، فذكرت أنها تشتكي إلى الله جل وعلا، والله إليه منتهى كل شكوى. وفي هذا دليل على أن من اشتكى إلى الله فقد جعل أمره عند من تنتهي إليه الشكوى سبحانه وتعالى، وهو سامع كل شكوى، لذلك كان يقول الأئمة: إلى الله المشتكى، أي أنه هو نهاية كل شكوى سبحانه.

تأملات في آيات الظهار

تأملات في آيات الظهار يقول تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة:1 - 2]. آيات عظيمة ابتدأ الله سبحانه وتعالى بها قبل بيان الحكم في حقيقة الشيء الذي يتكلم عنه، وانظر إلى جمال أسلوب القرآن وجلاله وكماله، وصدق الله إذ يقول: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]، فأول ما جاءت الآيات جاءت بحكاية الحال، وحكاية الحال تورث الشغف، وتورث المحبة والتلهف لمعرفة الحكم. ولذلك يستحب العلماء عند إعطاء الأحكام التمهيد لها؛ لأن ذلك يورث الإنسان المحبة، ويورث السامع الشوق لمعرفة الأحكام، فذلك أتم وأكمل في شرع الله عز وجل. ولذلك ما جاء الحكم مباشرة، وإنما جاء بحكاية القصة، وأنت تجد في القرآن كل شيء حتى مبادئ كتابة الرسائل كقوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:30 - 31]. وقد ذكر بعض العلماء أن الأئمة وأهل العلم في فنون الرسائل استنبطوا كثيراً من علوم الرسائل من القرآن، ومن ذلك القصة، فإن أهم شيء في القصة هو ما يكون فيها من المعاناة، فكون القرآن يأتي بمعاناة الظهار قبل بيان حكمها وبيان ما حدث ووقع، حتى إنك حينما تسمع صدر الآية تحس بمعاناة قريبة من معاناة تلك المرأة وتحس أنه أمر عظيم، ثم تكون التهيئة لقبول الحكم. وفيه دليل على عظم أمر الظهار وخطورته وشدة حرمته؛ لأن الله مهد له بهذه الأشياء التي تنفر وتقبح، وتجعل النفوس لا تستسيغه ولا تقبله، فلما جاء الحكم قال: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة:2]، فأول ما كان أن بين الله منزلة هذا القول أنه ظلم وزور وكذب وجور فقال: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة:2]. وقال بعض العلماء: قوله تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة:2] فيه دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يقول لغيره من الرجال والنساء وصفاً في الأبوة والأمومة إلا إذا كان حقيقياً. ومن هنا كره بعض العلماء أن يقول الرجل لغيره: (يا أبتي). واختلفوا في قول الرجل لغيره: (يا والد)؛ لأنها تحتمل أن تكون وصفاً له، فكل شخص له أولاد فهو والد، فهو يقول له: (يا والد) من باب التكريم، قالوا: لا بأس بها ولا حرج، ولكن يشدد فيه بعض العلماء؛ لقوله تعالى: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة:2] وآباؤهم ما هم إلا الذين ولدوهم. فقالوا: من هنا يمتنع أن يقول الإنسان هذه المقالة تشريفاً وتكريماً للوالدين؛ لأنه لا يمكن لأحد أن ينزل منزلة الوالدين. ومن هنا حرم بعض العلماء كلمة: (فداك أبي وأمي) أن تقال إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم رخص فيها لأئمة العلم، وكل هذا من باب تعظيم الشرع لوصف الأبوة والأمومة، وإن كان الحكم عاماً. فقوله تعالى: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة:2] أي: ما أمهاتهم إلا اللآئي ولدنهم. فهو أسلوب حصر وقصر، وهذا يدل على أن الظهار قول خرج عن الأصل، فقال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنْ الْقَوْلِ وَزُوراً} [المجادلة:2]، وفيه تأكيد، وصيغة التأكيد (إِنَّهُمْ) واللام في (لَيَقُولُونَ) والقول معناه أنه صدر من إنسان تلفظ به، فجمع الله بين كونه منكراً وزوراً، وفيه فوائد: الفائدة الأولى: كونه منكراً من جهة الإنشاء، وكونه زوراً من جهة الخبر؛ لأن قوله: أنتِ عليّ كظهر أمي يشتمل على أمرين: تحريم ما أحل الله، والإخبار بأنها كالأم. فالأول من جهة الإنشاء؛ حيث إن الله عز وجل ما جعل الزوجة أماً، وإنما جعل الزوجة حلالاً محللة مباحة، فهو نقلها من الحل إلى الحرمة، ووقع في المنكر؛ لأنه لا يتفق مع شرع الله عز وجل، وزور لأنه من جهة الخبر قال لها: أنتِ كأمي، أو: كأختي، أو: كبنتي، فهي ليست أماً له وليست بنتاً له حقيقة، فكان كذباً في الخبر ومنكراً في الإنشاء، فجمع الله بين الوصفين {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2]. الفائدة الثانية: أخذ العلماء من هذه الآية تحريم هذا القول وهو محل إجماع. الفائدة الثالثة: قال بعض العلماء: مظاهرة الرجل لامرأته كبيرة من كبائر الذنوب، والسبب في ذلك وصف الله أنه منكر وزور، وترتيب العقوبة الشديدة التي جعلها الله في قتل الأنفس، وجعلها في جماع نهار رمضان، ولم يجعلها إلا في الكبائر، فقالوا: هذا يدل على أن الظهار كبيرة من كبائر الذنوب، نسأل الله السلامة والعافية. ثم انظر إلى سعة رحمة الله عز وجل في قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة:2] ولطفه بعباده وحلمه على خلقه، كيف وهو الودود الرحيم سبحانه وتعالى، والجواد الكريم الذي لن تنفعه طاعة الطائعين ولن تضره معصية العاصين. وانظر إلى التأكيد، فما قال: إن الله عفو، بل قال: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة:2]، وهذا يدل على سعة رحمته سبحانه وتعالى. ثم بيّن الحكم فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3]. فأوجب الله سبحانه وتعالى الكفارة، وبيّن ما يترتب على الظهار -وهذا ما سنفصله إن شاء الله- من وجوب عتق الرقبة، فإن لم يجد الرقبة صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع الصوم فإنه يطعم ستين مسكيناً. ولما نزلت الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تأمره بعتق الرقبة، فقالت: لا يجد يا رسول الله، ولا يملك إلا نفسه. فأمرها أن تأمره أن يصوم شهرين فأخبرته أنه شيخ ضعيف لا يستطيع الصوم ولا يطيقه، فأمرها أن تأمره بإطعام ستين مسكيناً فقالت: من أين له أن يجد ذلك؟ ثم قالت: يا رسول الله إن عندي عرقاً من تمر -والعرق فيه خمسة عشر صاعاً، أي: فيه ما يقارب سبعة آصع ونصف- فقال عليه الصلاة والسلام: (وأنا أعينه بعرق آخر، واستوصي بابن عمك خيراً). فقد كان من خيار الصحابة، فكانت الكلمة الأخيرة أن جزاها خيراً بمعونتها له على الكفارة ثم قال لها: (واستوصي بابن عمك خيراً)، فدل على كرم خلقه صلى الله عليه وسلم ووصيته بالأزواج. وكذلك وصيته للزوجات بالصبر، وأن المرأة تحتسب عند الله سبحانه وتعالى الثواب، وأن الله جل وعلا لا يضيع عمل عامل، ولا يضيع لمن أحسن أجره، فقال عليه الصلاة والسلام هذه الوصية، وهي وصية لكل امرأة صالحة ترجو لقاء الله عز وجل ابتليت بزوج أساء إليها أن تحتمل هذه الإساءة، وأن تستوصي به خيراً؛ لأن الزوج حينما يكون من القرابة حقه عظيم، والزوجة حينما تكون من القرابة حقها عظيم، فلذلك قال: (واستوصي بابن عمك خيراً)، فهي وصية لكل زوج وكل زوجة قريبة أن يتقيا الله عز وجل في القرابة وفي الرحم. وقد أجمع العلماء على حرمة الظهار كما ذكرنا، وأنه من كبائر الذنوب في قول طائفة من أهل العلم، وذكرنا دليل ذلك. فقول المصنف رحمه الله: [كتاب الظهار]. أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالظهار، ومناسبة هذا الكتاب لما قبله أن كتاب الطلاق وكتاب الإيلاء وكتاب الظهار بينهما اشتراك من جهة التحريم، فالطلاق فيه تحريم للزوجة على مراتبه المعروفة، والإيلاء نوع تحريم؛ لأنه مؤقت بزمان، والظهار نوع من التحريم؛ لأنه يصف المرأة بأنها كالمحرمة، فناسب بعد انتهائه من بيان حكم الإيلاء أن يذكر حكم الظهار. ومن دقة المصنف -وهذا منهج العلماء- أن قدم كتاب الإيلاء على كتاب الظهار؛ لأن كتاب الإيلاء ألصق بالطلاق من الظهار؛ فإن الظهار ليس بالطلاق، لكنهم قالوا: لما كان في الجاهلية طلاقاً وفيه شبه بالإيلاء من جهة التحريم ناسب أن يذكر بعده. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الدخول بالمرأة المعقود عليها قبل إعلان النكاح

حكم الدخول بالمرأة المعقود عليها قبل إعلان النكاح Q ما حكم الدخول بالمرأة التي عقد عليها قبل إعلان النكاح؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: من حيث الحكم الشرعي المرأة حلال للزوج إذا عقد عليها عقداً شرعياً صحيحاً، لكن هناك أمور مرتبطة بالعرف لا نحرم بها ما أحل الله ولا نحلل بها ما حرم الله، ولكن نقول: أمور تترتب عليها أضرار ومخاطر ينبغي المحافظة عليها والتحفظ فيها. فالزوجة إذا اتفقت مع زوجها على أن يدخل بها دون علم أهلها ربما دخل عليها بصفة سرية، أو كان يختلي بها في بيتها، فإذا توفي هذا الزوج، وكان قد جامعها أو أصابها وهي بكر فمن الذي يصدق أن الزوج أتاها؟ ومن الذي يثبت أنه قد دخل بها؟ فهذه أمور خطيرة جداً ينبغي أن يتريث فيها. ولو أن امرأة عقد عليها الزوج، وحصل بينها وبين زوجها جماع قبل الدخول العلني، وشاء الله أن تحدث مشاكل بين الأسرتين فقالوا: لا يدخل عليها ولا يأتيها. وخاف الزوج أن يخبر أباه بهذا الأمر، أو حدثت أمور خطيرة بين أهل الزوجين. فما استطاع أن يبين الحقيقة، ثم ظهرت المرأة حاملاً، فمن الذي ينفي عنها التهمة؟ ومن الذي يثبت أن هذا نسب صحيح؟ فهذه أمور فيها مخاطرة، وأمور مضرة ينبغي التريث فيها من ناحية شرعية وعرفية وأدبية، فقد يكون الشيء مباحاً للإنسان لكنه أدباً وأخلاقاً غير مباح. فهناك أمور ينبغي الحياء فيها ومراعاة الذمة، فأبو المرأة له حق عندي أني لا أدخل على بنته حتى يأذن لي، والله يقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1]، فهذا طعن في حق الوالد وحق الوالدة؛ لأنه جرى العرف أنه لا بد من استئذان أهل الزوجة بالدخول. فتواطؤ الزوجين وخروج الزوجة مع زوجها، وغير ذلك من الأمور التي فيها نوع من التوسع بين أهل الزوجين ينبغي قفل بابها، خاصة عند فساد الزمان، وخاصة إذا وجد من الشباب والأحداث من لا يبالي بحدود الله عز وجل، ولا يبالي بإنكار ما كان منه من إتيان زوجته وحملها منه. إن حصل بينهما شيء واتهمت بسببه. بل قد حدثت حوادث كان الرجل فيها يستخدم هذه الطريقة للإضرار بالزوجة، فتكون بكراً فيعبث بها ويستغلها، فيفتض بكارتها ثم يهددها بما شاء، فليس هناك دليل يثبت دخوله بها، فهذه أمور خطيرة ليست من الحكمة ولا من العقل. وهنا أنبه على أنه ينبغي على الزوج أن يكون متفهماً لوضع أهل الزوجة، فالوالد والوالدة حينما يحرصان على المحافظة على البنت ومراقبة الزوج عند دخوله بطريقة معقولة فهذا أمر ليس فيه غضاضة وليس فيه منع؛ لأنه يخشى من أمور لا تحمد عقباها. فعلى كل حال لا بد وأن توضع الأمور في نصابها، وأن يتقي الله كلا الزوجين وأهل الزوجين، فإذا كان الدخول على وجه تضمن فيه الحقوق وتصان، ولا يحدث منه ضرر فهذا مما أذن الله عز وجل به، فالزوجة حلال لزوجها، لكن إذا كان التساهل في مثل هذه الأمور يترتب عليه أضرار على أهل الزوجة والزوجة فالأصل منع ذلك. ومن الحوادث التي وقعت أن امرأة كانت أكبر أخواتها، وشاء الله عز وجل أن ترتبط بزوج، وكان -نسأل الله السلامة والعافية- فيه استهتار. فدخل بها وحصل الجماع وافتضها وهي بكر، ثم بعد ذلك حصلت مشاكل بين أهله وأهلها، واستحيا أن يخبر أباه، وحنق في نفسه على أمها، وجعل الانتقام من الأم عن طريق البنت، وتوسلت البنت إليه ورجته وسألته، وما استطاعت أن تكشف الأمر لأهلها إلا بعد أن ظهر الحمل بها. ولما ظهر الحمل بها اتهمها أهلها بالفاحشة، فقالت: إنه ولده! فقال: أنتِ ما تكلمت من قبل! قالت: ما كنت أعلم أن هناك حملاً. واتهمت البنت، واتهمت في أهلها حتى إن أخواتها أُسيء إليهن ولم يزوجن من بعدها، وحصل للبيت وللأسرة ما حصل، وبعد مرور سبع سنوات جاء ذلك الزوج المستهتر يسأل نادماً عن حكم ما فعله. فالشاهد أن هذه أمور لا يتساهل فيها، خاصة في هذا الزمان. ولا بأس أن يأتي الرجل بأدب فيجلس مع زوجته ويسلم عليها، وأنبه على أنه لا تنبغي المبالغة في مثل هذه الأمور، خاصة أن بعض الأزواج والزوجات يبالغون في إطالة الجلوس والكلام والحديث، وهذه أمور ينبغي أن ترتبط بالآداب وبالأخلاق وبالحياء وبالخجل. فالإنسان إذا أتى يسلم على زوجه، ويجلس معها، ويباسطها في وقت يستطيع أن يتحكم فيه، كقبل الصلاة بوقت، حيث يستطيع أن يجد له عذراً، أما أن يأتي ويجلس من بعد العشاء إلى ساعات فلا، حتى إن بعضهم شكى لي أن الزوج العاقد يجلس معها إلى بزوغ الفجر، فهذه أمور لا تنبغي، وقد يحصل منها تضايق أهل الزوجة وإخوانها وقرابتها. فهذه أمور ينبغي أن يتحفظ فيها، خاصة الأزواج، فإنهم ينبهون على أن الزوجة ولو كانت حلالاً، إلا أن هناك أموراً مرتبطة بالعرف، وهناك أموراً أدبية جاءت بها مكارم الأخلاق التي تدعو إليها الشريعة وتحبذ فيها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، وإن بعض الأزواج ليستحي أن يجلس مع والد زوجته في بعض المجالس؛ حتى لا يُحرج في بعض الكلام أو بعض الحديث. وكذلك تجد بعضهم يذوب خجلاً ولا يستطيع أن يأتي يقابل أخاها أو قريبها، ولا شك أن الأمر بين الإفراط والتفريط، فلا يمتنع الإنسان كلية ولا يبالغ، فالوسط والعدل هو المأمور به شرعاً، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزلل. والله تعالى أعلم.

حكم مظاهرة الرجل لامرأته ومملوكته

حكم مظاهرة الرجل لامرأته ومملوكته Q ظهار الرجل من أمته ومملوكته هل يأخذ حكم ظهار الحرة؟ A الأمة لا ظهار منها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:3]، ويقول: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:2]، فجعل محل الظهار النساء، والأمة ليست من النساء، فيقال: (نساء الرجل) لزوجاته، ولا يقال: (نساء الرجل) لإمائه، فالأمة لا توصف بكونها من النساء، إنما النساء في هذا الوصف للزوجات. وعلى كل حال فالإجماع منعقد على أن الأمة لا يظاهر منها، وهناك خلاف بين العلماء في أم الولد؛ لأنها شبيهة بالحرة وفيها شبه بالأمة، ولكن الأصل يقتضي أنها كالأمة ولا يقع الظهار عليها. والله تعالى أعلم.

حكم تقييد السلام على القبور بالدخول عليها فقط دون المرور بها

حكم تقييد السلام على القبور بالدخول عليها فقط دون المرور بها Q هل السلام على أهل القبور مقيد بزيارة، أم يكون ولو بالمرور بجوارها بالسيارة ونحوها؟ A السلام على الأموات جائز حتى ولو لم تمر بالقبر، فأنت تسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وما مررت بقبره. والسلام دعاء بالسلامة، لكن كونك تذهب إلى القبر وتقف على القبر فهذا أكمل وأعظم أجراً؛ لما فيه من الزيادة في القربة، ولما فيه من الاتعاظ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها). أما لو مر بالمقبرة فالذي أعرفه من كلام العلماء والأئمة -وهذه دواوين العلماء كلها موجودة- أن من مر بالمقابر يسلم عليها، ولا يوجد أحد من العلماء يفرق بين أن تدخل المقبرة وبين أن تمر بها، بل المقابر القديمة ما كانت مبينة، وما كان عليها حيطان، بل كان الإنسان يمر عليها مروراً. فهذا أمر واضح جداً في كتب العلماء، وتجد في كثير منها: ويستحب لمن زار القبر أو مر به أن يقول: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين). لأن المراد به الترحم والدعاء للأموات، وهذا مما رحم الله عز وجل به عباده، فجعل للأموات نصيباً عند الأحياء أن يذكروهم من بعد موتهم، وهذا من فضل الأخوة في الإسلام ومن بركاتها، وما أكثر بركات الدين وأعظمها، فإن أخوة الدنيا تنتهي بانتهاء الدنيا، ولكن أخوة الدين لا تنتهي أبداً حتى في الجنة، كما قال تعالى: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]، فهي الأخوة التامة الدائمة؛ لأنها مستمدة من كمال الدين، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، والمبني على الكمال كمال. فهي الأخوة الكاملة الباقية، فإذا مات قريب الإنسان، أو من يعرفه، أو من لا يعرفه من عموم المسلمين، فمر على مقابرهم وسلم عليهم وترحم عليهم وسأل الله لهم العافية فهذا من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا الدين دين رحمة. ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، والرحمة كما تكون للأحياء تكون للأموات؛ فإنك إن وقفت على القبر وترحمت على صاحبه قد لا تستطيع أن تدرك مقدار الخير الذي أسديته لهذا الميت من إخوانك المسلمين، فلا يعلم ذلك إلا الله وحده لا شريك له علام الغيوب. وقد تقف على معذب وتسترحم له فيرحمه ربه، وقد تقف على من ضيق عليه قبره فيوسع عليه بدعائك له بالرحمة، وقد تقف على مذنب يعذب بذنب فتسأل الله له المغفرة فيقبل الله شفاعتك فيشفعك فيه، والمسلم لا يذكر الأموات إلا ويسأل الله لهم الرحمة. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في جوف الليل المظلم ليزور أهل القبور، كما في الصحيح عن أم المؤمنين عائشة قالت: (افتقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فراشه، فقام في آخر الليل فتبعته، حتى أتى بقيع الغرقد ووقف ملياً ... ) الحديث، أي: وقف وقوفاً طويلاً ورفع كفيه يدعو كما في الرواية الصحيحة. ولذلك فرق العلماء بين الدعاء للميت بعد دفنه وزيارة القبور، فعند زيارتها يشرع أن يرفع كفيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رفع كفيه، ولكن بعد دفنه مباشرة ما ثبت عنه، بل قال: (استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت) ولم يرفع. فالشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في جوف الليل المظلم، ووقف على القبور وترحم على أهلها ودعا لهم، وفي الحديث الصحيح في قصة المرأة التي كانت تقم المسجد -أي: تنظفه- أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم بشأنها قال: (هلا آذنتموني!) ثم انطلق عليه الصلاة والسلام حتى وقف على قبرها فصلى ودعا لها، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم). فأهل القبور يحتاجون من إخوانهم المسلمين أن يذكروهم بخير وأن يدعوا لهم، خاصة الأقرباء والوالدين والإخوان والأخوات والأعمام والعمات، والمسلم إذا دخل المقبرة وفيها قريب له فلا بأس أن يقف على قبره ويستغفر له ويترحم عليه ويسأل الله له العافية. وقد جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -الذي حسنه غير واحد من العلماء رحمهم الله، وكان شيخنا الشيخ عبد العزيز رحمه الله يميل إلى تحسينه وثبوته والعمل به- أنه إذا زار الميت يأتيه من قبل وجهه. وهذا يدل على أنه إذا كان له فيها قريب فالأفضل والأكمل أن ينزل وأن يسلم عليه، وأن يقف على نفس قبره، وأن يدعو له وأن يترحم عليه؛ لأن هذا فيه خير كثير للميت، وفيه خير كثير للحي؛ لأن الحي يكتب له الأجر، وحسنة المؤمن على أخيه المؤمن مكتوبة وثوابها مرفوع عند الله سبحانه وتعالى، ومن رحم أخاه المسلم رحمه الله عز وجل. وقد كانت الأمة في سالف زمانها مرحومة، فتجد الأحياء لا ينسون الأموات من صالح دعواتهم، ولا يذكرونهم إلا بخير ويترحمون عليهم، ولا يمر على الولد يوم إلا وقد ذكر والديه بدعوة وسؤال ورحمة، فالذي ينبغي أن المؤمن لا ينسى إخوانه المسلمين. ومن العبر التي يحكيها العلماء كما ذكر أبو نعيم في الحلية بسنده أن مطرف بن عبد الله بن الشخير التابعي الجليل رحمه الله برحمته الواسعة كان ينزل البصرة ويصلي فيها الجمعة، وكانت له ضيعة -بستان خارج البصرة-، فإذا جاء يوم الجمعة ينزل ليلة الجمعة ويصلي ثم يرجع إلى ضيعته، وكان إذا دخل البصرة يمر بالمقبرة على طريقة، فكان يقف ويترحم على أهلها، ثم يمضي إلى منزله، ثم يصلي ويخرج. فشاء الله أنه في جمعة من الجمع كانت ليلة مطيرة ولم يقف المطر فنام رحمه الله، فرأى كأن أمماً كثيرة تأتيه وتقول: إن الله يفرج عنا من الجمعة إلى الجمعة بدعائك. وهذا أمر له أصل في الكتاب والسنة، فالمسلم إذا شفع لأخيه المسلم وترحم عليه فالله ينفعه بذلك؛ لأن الله يقول: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]. فهذا يدل على أن من السنة ومن الهدي أن يذكر المسلم إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، وأن يترحم عليهم، فينبغي على المسلم ألا ينسى إخوانه المسلمين، فلا نزهد في الدعاء للأموات. أما أن نمنعه أن يدعو ويترحم على إخوانه المسلمين وهو مار على القبور إلا أن ينزل فلا دليل على ذلك، والنصوص كلها مطبقة على الترحم على المسلمين والدعاء لهم وسؤال الله عز وجل لهم الرحمة، ولا فرق بين كونه راكباً وماشياً. فإذا كان لا بد أن ينزل فلا يقال: يدخل المقبرة، أو: يقف على بابها. ثم إذا وقف في المقبرة يقف في أولها، أو وسطها، أو آخرها، ولا يشدد في هذه المسائل. فلو كان الأمر متعيناً لفصله الشرع ولبينه، والفقه أن تعلم مقصود الشرع، ونحن عندنا في فتاوى السلف والأئمة رحمهم الله أنه لا فرق بين من مر ومن وقف، وأنه يشرع الدعاء للأموات وأن تقول: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين) ولهذا تدرك أن حرمة المسلم حياً كحرمته ميتاً. فالقول بأنه لو مررت على أخيك المسلم فلا يجوز لك أن تسلم عليه إلا إذا نزلت، لا يصح، وما أحد قال هذا، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة في سنن ابن ماجة -وصححه غير واحد-: (كسر عظم المؤمن ميتاً ككسره حياً)، أي: في الإثم، فجعل الحرمة للحي والميت -كما يقول العلماء- واحدة. فإذا ثبت أن هذا الحي إذا مررت عليه تسلم عليه سواء أصافحته ونزلت، أم مررت مروراً كما جاء في حديث أنس: (أن النبي لما مر على النسوة أشار إليهن بكفه وسلم). فهذا يدل على أنه لا بأس، ولا فرق بين المار والنازل، ولا شك أن النزول والاتعاظ والرؤية أعظم أثراً وأكثر فائدة؛ لأن كونه ينزل ويقف على القبر ويترحم على أموات المسلمين أعظم؛ لأنه زيارة، والزيارة أعظم أجراً لأنها مأمور بها في قوله صلى الله عليه وسلم: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها). فالأفضل والأعظم أجراً والأكثر عظة أن الإنسان إذا وقف على قبر الميت وكان عنده قلب حي أن تزداد حياة قلبه بهذه العظة، فوالله إنه لمن غرائب ما يقع أنني أدخل في بعض الأحيان بقيع الغرقد، وأعرف قبور بعض الناس الذين لهم عمائر وبنايات بجوار البقيع فأنظر إلى قصره وأنظر إلى قبره وأتعظ عظة عظيمة. وروي أن هارون الرشيد رحمه الله مر على رجل كان حكيماً فقال له: عظني. قال: يا أمير المؤمنين! بماذا أعظك؟! هذه قصورهم وهذه قبورهم. أي: بماذا أعظك! إن جئت وجدت الشخص يشيد دنياه ويعمرها ثم فجأة يخرج منها. فالقبر فيه عظة عظيمة ويكسر القلب، ويورث الخشوع، ويذهب الكبر والقسوة والغفلة، والمتأمل في القبور وهذه الدور المتقاربة يجد بينها كما بين السماء والأرض، فكم من قبر بجوار قبر بينه وبين أخيه ومن بجواره كما بين السماء والأرض. فقبور تجدها في ظلمة مظلمة وكهوف معتمة، لكنها ملئت على أهلها أنواراً من الله جل وعلا، وقبور تمر عليها حولها الناس يسرحون ويمرحون وحولها الضياء والفرح والسرور قد ملئت على أهلها جحيماً وسعيراً. فلا يعلم ما في القبور إلا الله، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث البراء بن عازب أن العبد الصالح إذا سئل وفتن في قبره، فسلمه الله من فتنته، وثبت الله قوله، وسدد كلامه فسح له في قبره مد البصر. سبحان الله فالقبور قد تكون كلها قبور صالحين، وكل يمد له مد البصر بأمر الله جل وعلا، وبقدرة الله جل وعلا، والأمر أمر الله، والخلق خلق الله، لا يعجزه سبحانه وتعالى شيء، نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرحمنا في قبورنا، وأن يلطف بنا إنه ولينا. والله تعالى أعلم.

الفرق بين قول الشيخ: (في رواية) وقوله: (في لفظ)

الفرق بين قول الشيخ: (في رواية) وقوله: (في لفظ) Q يقال عن الحديث أحياناً: (في رواية)، وتارة (في لفظ)، فهل هناك فرق بين الاصطلاحين؟ A اللفظ يكون مع اتحاد الرواية، كما يخرج البخاري -مثلاً- حديثاً بلفظين مع اتحاد الرواية، ويختلف في اللفظ الرواة، وأما الرواية فتكون عن صحابي آخر كرواية عن أبي هريرة وجابر، فهذه رواية أبي هريرة، وهذه رواية جابر. وقد تقول -مثلاً-: متفق عليه، ولـ مسلم. أي: قد ينفرد مسلم بلفظ ولم يتفقا عليه، فهذه كلها مصطلحات يقصد منها بيان أنواع الرواية، وأنواع التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.

إذا رضعت البنت من جدتها أم أبيها

إذا رضعت البنت من جدتها أم أبيها Q رجل له ابنة، فأرضعت أمه هذه البنت، فما الحكم في ذلك؟ A هذه البنت صارت أختاً له من الرضاعة وبنتاً له من النسب، فتصير أختاً له من الرضاعة إذا أرضعتها أمه، وإذا أرضعتها جدته أم أبيه تصبح عمة له من الرضاعة وبنتاً له من النسب، وهذا من الأمور الغريبة التي كثيراً ما تقع في مسألة صغار السن وكبار السن، ففي بعض الأسر تعمر الجدة حتى ترضع بنات أبنائها، أو أبناء أبنائها ونحو ذلك، وفي هذه الحالة يرتفع الرضيع إلى درجة فوق الدرجة التي هو فيها. وبعض الأحيان العكس، فقد يرضع من بنت بنت ويكون -مثلاً- عماً، فينزل إلى درجة من جهة الرضاعة إلى أسفل، أي: في النسبة، فيقول لأخيه: يا عمي. ويعتبر أخاه عماً له من جهة الرضاعة، ويكون أخاً له من جهة النسب. وكذلك لو أن أخاه أرضعته بنت بنت أخت، فحينئذٍ ينزل من مستواه الأصلي، ويصير خالاً لهم، ويصير خالاً لأمه في بعض الأحيان. فالرضاعة لها أحوال عجيبة جداً من جهة رفع الإنسان ومن جهة وضعه، حتى كانوا يذكرون هذا في طرائف العرب القديمة، فالرجل يكون معه ابنه فيقول لأبيه من باب المداعبة: اسكت فإني عمك. وهذا قد يكون في بعض الأحيان من العقوق؛ لأنهم يمنعون من هذه الألفاظ خاصة مع الوالدين، فمن الطرائف التي تحدث أنه انتقل بالرضاعة إلى درجة يصل فيها فوق الوالد وفوق والدته. وعلى كل حال هذا أمر شرعه الله عز وجل، كما في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب). والله تعالى أعلم.

حكم دفع المبلغ المتفق عليه لمن اشترى أرضا نسيئة ثم ارتفع ثمنها

حكم دفع المبلغ المتفق عليه لمن اشترى أرضاً نسيئة ثم ارتفع ثمنها Q مجموعة من الإخوة مشتركون في أرض، فأرادوا بيعها، فرغب أحد الإخوة بشرائها، فوافق الجميع دون تحديد للأجل الذي يدفع فيه المال، ثم بعد سنوات ارتفع سعر الأرض، فما صحة هذا البيع، وبأي سعر يتم البيع؟ A إذا اتفق البائع والمشتري على السلعة وحددا قيمة السلعة فالبيع صحيح، ومسألة الدين هل يشترط فيه التأجيل أو لا يشترط تتعلق بمسألة قبض الثمن، فإذا قال: آخذ منك هذه العمارة بمائة ألف إلى ميسرة، يعني: إلى أن ييسر الله عز وجل عليّ فهذا رخص فيه غير واحد من العلماء رحمهم الله، ولذلك قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، وأطلق الأجل. وأما قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة:282]، فهذا من جهة الديون المؤجلة؛ لأنها هي التي يحدث فيها النزاع والخصومة. وأما الديون غير المؤجلة -وهي المرسلة والمقيدة بأوصاف- فهذه على حسب ما يتفق عليه الطرفان، وعلى كل حال فإنه يصح هذا البيع. أما هل يدفع الثمن المتفق عليه قبل عشر سنوات أو الثمن الحالي، فإجماع العلماء على أنه ليس له إلا الثمن المتفق عليه، وأنه إذا جاء يطالب بزيادة وأفتى أحد بذلك فقد أفتاه بالربا الذي لعن الله آخذه ومعطيه، وهكذا في الديون، فمن استدان ريالاً واحداً قبل مائة سنة وجاء ورثته يريدون أن يقضوا دينه لا يقضون إلا ريالاً واحداً، فهذا شرع الله عز وجل. وفقه المسألة أنه لو استدنت منه مائة ريال قبل خمسين سنة، فالمائة ريال إذا أعطاك إياها تعتبر في الشريعة من باب الرفق، ومعنى كونه من الرفق أي: من باب الإحسان، فليس أحد فرض على صاحب المال أن يدين، فلست أنت الذي فرضت عليه أن يعطيك المال حتى تتضح الصورة. فإذا رضي أن يعطيك مائة ريال وقال لك: خذها إلى أن ييسر الله لك، ولم ييسر الله إلا بعد عشر سنوات، أو بعد عشرين سنة، أو بعد ثلاثين سنة فمعنى ذلك أنه متحمل لارتفاع قيمتها ورخصها، ولذلك لو أن هذه المائة أصبحت تساوي عشرات أضعافها لطالبك بالمائة ولم يطالبك بقيمتها. وليس في هذه المسألة إلا شذوذ عن بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة وقول بعض أهل الرأي، فيقولون: إنه إذا أعطاه ديناً في القديم يقدر في وقت القضاء، وهذا يميل إليه بعض المعاصرين، حتى إن بعضهم ناقشناهم فوجدناهم يتعصبون للرأي أكثر من الأصل؛ لأن الله عز وجل قال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] وهذا في الديون. فبيّن أن العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض في الديون وقرضاتها أنه يعطى نفس الدين دون زيادة ودون نقص. والسبب في هذا أنه رضي بغنمه وغرمه، أي: هو راضٍ لو ارتفع السعر أو نقص، فهذا أمر مسلم به؛ لأنه أعطاه المال على أنه يأخذه منه كالوديعة، فلا يتحمل أحد الغلاء ولا الرخص، ولا يعطى إلا عين ماله. والفتوى بأنه يقدر ويُنظر كم قيمته، لو فتح بابها لكان كل دين يحتاج إلى دراسة؛ لأنه ما من يوم إلا ويختلف سعر المال عن أمسه وعن غده، وهذا باب لو جيء لتمريره فالشريعة أغلقته، وقالت: الأصل في هذا المال أنه أعطي معاوضة بدون مكافأة وبدون بخس. بمعنى أنك لما أعطيته المائة أعطيتها على سبيل الرفق بأخيك، فأنت أعطيت مائة وتأخذ المائة، فلم تعطها مرابحة حتى تطلب عوضها إذا خسر، ولم تقايض فيها بالعوض حيث تستطيع أن تأخذ قيمتها ومثل قيمتها، فليس لك إلا رأس مالك، وهذا الذي ندين الله به، وهذا الذي عليه فتاوى أهل العلم سلفاً وخلفاً، فأصحاب الديون لا يستحقون إلا ديونهم. لكن بقيت مسألة وهي: لو أني استلفت من شخص عشرة ريالات قبل خمس سنوات أو عشر سنوات، وأصبحت لا تساوي شيئاً فالسنة المكافأة على الدين. فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي رافع (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً، ثم جاء الرجل يريد حقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أده. فقال: يا رسول الله! لا أجد إلا خيار الرباعين -يعني: لا أجد إلا سناً أفضل من السن الذي أعطاه- فقال عليه الصلاة والسلام: أعطه؛ فإن خير الناس أحسنهم قضاءاً). فأخذ العلماء من هذا دليلاً على أن الشريعة فتحت باب المكافأة، كمن استدان خمسة آلاف ريال، ثم وسع الله عليه وبسط له في الرزق فأرجعها وزاد مكافأة عليها ساعة أو قلماً أو ألف ريال ليس على سبيل الاشتراط. وأصح قولي العلماء أنه تجوز الزيادة حتى ولو كانت من نفس الذهب والفضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس أحسنهم قضاءً). فلا فرق بين القضاء بالذهب والفضة وغيرها، وهذا الذي تطمئن إليه نفسي، وهو أنه تشرع المكافأة عند الدين ولو كانت من الذهب والفضة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (رحم الله امرأ سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) قوله: (سمحاً إذا قضى) أي: عنده سماحة، فيطيل لك في الأجل سماحة منه، وبعضهم إذا استدان قضى قبل حلول الأجل سماحة منه أيضاً، كما أنه أحسن إليك تحسن إليه، قال تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77]، فكما أحسن الله إليك بتوسعة حالك تحسن إليه فتبادر. ومن هذا الإحسان أنه إذا أعطاك خمسة آلاف تعطيه ألفاً أو ألفين أو ثلاثة آلاف زيادة عليها، لكن بشرط ألا يكون ذلك على سبيل الاشتراط؛ فإنه تجوز الزيادة بدون شرط؛ لأن الشريعة عممت في حسن القضاء. والله تعالى أعلم.

حكم استحضار النية في صلاة الاستخارة

حكم استحضار النية في صلاة الاستخارة Q الذي يريد أن يصلي صلاة الاستخارة هل ينوي لها ركعتين خاصة بها، أم أنه يمكن ينويها في النوافل كسنن الرواتب؟ A صلاة الاستخارة لا تشترط لها النية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فليركع ركعتين من غير الفريضة)، وقوله: (ركعتين من غير الفريضة) عام، ولذلك قال بعض العلماء: لو صلى راتبة، أو سنة الوضوء، وبعدها بدا له أن يستخير في أمر فدعا فإنه يشرع له أن يدعو في التشهد، ويشرع له أن يدعو بعد السلام. والأفضل والأكمل أن يكون دعاؤه بعد التشهد وقبل تسليمه. الشاهد أنه لا تشترط لصلاة الاستخارة ركعتين مستقلتين. والله تعالى أعلم.

حكم من كان يصوم يوما ويفطر يوما إذا وافق صومه يوم جمعة أو وافق فطره يوم إثنين أو خميس

حكم من كان يصوم يوماً ويفطر يوماً إذا وافق صومه يوم جمعة أو وافق فطره يوم إثنين أو خميس Q من كان يصوم يوماً ويفطر يوماً فهل يفطر إذا وافق فطره إثنين أو خميس؟ وهل يصوم إذا وافق صومه يوم جمعة؟ A الفضل العام عند بعض العلماء مقدم على الفضل الخاص؛ لأنه تفضيل من الوجوه كلها، وورود الفضل الخاص لا يستلزم أنه أفضل من العام. من أمثلة ذلك: تفضيل الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر وعمر مع أنه قال لـ سعد بن أبي وقاص: (فداك أبي وأمي) فجعل له الفداء بالأب والأم، وجعل المناصب الخاصة لبعض الصحابة، لكنها فضائل خاصة لا تقتضي التفضيل على الفضل العام الوارد في الشرع. فالفضل العام في الصوم الذي هو المرتبة العليا صوم يوم وإفطار يوم، قال بعض العلماء: إذا التزمه يستمر عليه، ويبقى العارض الذي لا يتكرر إلا في السنة مرة، مثل يوم عاشوراء ومثل صيام ست من شوال، قالوا: إنه إذا قصدت بعينها يصومها بعينها. لكن بعض العلماء يقول: لا يستثنى إلا يوم عرفة وعاشوراء اللذين ورد الفضل فيهما، أما الست من شوال فإنها تدخل تحت صوم يوم وإفطار يوم، لكن لابد وأن ينويها. فالشاهد أن بعض العلماء يقول: إذا صام يوماً وأفطر يوماً لا يحتاج إلى أن يصوم الإثنين والخميس؛ لأن الفضل العام مقدم على الفضل الخاص، والفضل العام جاء بترتيب معين وهو صوم يوم وإفطار يوم، وبعض العلماء يقول: لا تعارض بين العام والخاص، كما أنه يشرع له أن يصوم يوم عاشوراء للسبب المعين، أي: السبب الخاص الوارد. فيرى أن هذا لا يقدح في صوم يوم وإفطار يوم، فيرون أنه يصوم الإثنين والخميس ويبقى على ترتيبه في صوم يوم وإفطار يوم؛ لأنه لسبب وموجب. وعلى كل حال كلا القولين له وجه، ونحن إذا قلنا: كلا القولين له وجه ففي بعض الأحيان نقول هذا لعدم وجود مرجح ما، وبعض الأحيان نقول: لكلا القولين وجهه من باب التنبيه على أنه لا ينكر على من فعل هذا، ولا ينكر على من فعل هذا، ولا نقصد أن الحق متعد؛ لأن الحق لا يتعدد، فالحق واحد، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف، ولم يخالف في هذه المسألة إلا العنبري من أئمة الأصول وقوله شاذ؛ لأنه قال: إن الحق متعدد. ويحكى عن بعض أئمة الأصول لكن الصحيح أن الحق لا يتعدد. والأدلة كثيرة من الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68]، فبيّن سبحانه وتعالى أن الحق واحد، وأما الاجتهاد الأول فقال عنه: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]، فبيّن أن الأمر فيه صواب وفيه خطأ، وهذا من حيث الأصل. وقد دلت السنة على ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد وأخطأ كان له أجر واحد)، فبيّن أن الاجتهاد إما صواب وإما خطأ، فلا يتعدد الحق. وحينما نقول: لا ينكر على هذا ولا على هذا. فمرادنا أن بعض طلاب العلم إذا ترجح عنده قول استهجن قول غيره وتعصب لشيخه -نسأل الله السلامة والعافية- وقد يبلغ به الغرور أنه لا يعتقد عالماً يصيب السنة إلا شيخه، وهذا لا يجوز في المسائل الفرعية التي اختلف فيها الأئمة الأربعة، فتجده أبداً لا يلتفت إلى مذهب غير مذهب الحنابلة، أو مذهب المالكية، أو مذهب الشافعية، أو مذهب الحنفية، وهذا هو التعصب المذموم الممقوت. وقد ينهى عن التعصب ويقع في تعصب أسوأ منه، فتجد الحنفي أو الشافعي إذا خالفه غيره يقول: له دليله. لكن هذا إذا خالفه غيره قال عنه: عدو للسنة. فهذا أمر ينبغي أن ينتبه له، فالمسائل الفرعية التي وردت فيها نصوص محتملة لا ينكر فيها ما دام أن هناك أئمة من السلف قالوا فيها، فإن جاء شخص وقبض بعد الركوع، والآخر يرى أن القبض بعد الركوع بدعة فلا يأت يقول للذي قبض بعد الركوع: أنت مبتدع. ولا يأت يقول للذي يترك القبض: أنت تارك للسنة. فهذه مسائل فرعية اختلف فيها الصحابة والأئمة، وأجمع السلف ودواوين العلماء وأهل العلم -كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، والحافظ ابن حجر، والإمام الحافظ ابن عبد البر من قبلهم، وكذلك العلماء رحمهم الله في مسألة الخلاف الفرعي على أنه لا إنكار في المسائل المختلف فيها فرعياً، فكل له دليله وكل له قوله، فلا يعتدى على الإنسان، ولا يعاتب الشخص إذا أخذ بقول يخالف قولي ما دام أن عنده سنة ودليلاً، أورأى أن هذا الحديث حسن، وأنا أرى أنه ضعيف، أو شيخي يرى أنه ضعيف، فلا آتي وأقول له: يا أخي! أنت تتمسك بالأحاديث الضعيفة. إن كان له شيخ يرجع إليه في الأسانيد، فكما أن شيخي يمكن أن يصيب ويخطأ كذلك شيخه يمكن أن يصيب ويخطأ، وكما أن شيخي يمكن أن يصيب الصواب ويمكن أن يخطأ الصواب. كذلك أيضاً شيخه يمكن أن يصيب الصواب، وهذا أمر محتمل، والشريعة ما جاءت به محتملاً إلا لحكمة يعلمها الله عز وجل. ومن هنا شملت الشريعة الإسلامية بهذا الخلاف كثيراً من المسائل والنوازل والمشكلات المعاصرة، ولولا الله ثم هذا الخلاف وهذه التفريعات والتفصيلات ما تفطنت الأذهان، ولا حصلت المناقشات، ولا ضبطت الأصول، ولا فرعت الفروع، ولا عرفت القواعد، ولا عرفت الأمهات إلا بفضل الله ثم بهذا الخلاف. وتجد كل عالم يقول بقول وله دليل من كتاب الله من آية تحتمل أو حديث يحتمل، فلا ينكر على من أخذ بدليل وحجة ما دام أن قوله ليس بشاذ، وليس بقول بدعة وحدث، فنحن نرى أن ما اختلف فيه أئمة السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان واحتملته النصوص لا إنكار فيه، وهذا الذي نعرفه من كلام العلماء والأئمة. ومما ذكر أن من الواجب على العالم النصيحة للأمة في مسألة الخلاف، ومن النصيحة للأمة أنه في بعض الأحيان تتضح السنة ويخالفها دليل ضعيف، فيبين وجه ضعفه، وينبغي أن يتربى طلاب العلم على المناقشة للأدلة نفسها، ويتعودون على التأصيل للمسائل بأدلتها. فاقرأ في دواوين العلماء، لتجد في كتب العلماء كل الخلاف الموجود فيها، وتجد عفة الألسن، فلا يخطئون إلا الأدلة، واقرأ في بدائع الصنائع وغيره، فستجدهم يقولون: ولا يجوز عندنا كذا وكذا، وعند الشافعية رحمهم الله يجوز، ودليله كذا وجوابه كذا، فما قامت الدنيا وما قعدت، ولا قال للشافعي: مخالف للسنة. والعجيب أن تجد شخصاً يستدل بقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] وكأنه يقول: السنة عندي فقط. وهذا ليس من النصيحة للأمة؛ لأني إذا عودت طلابي ذلك علمتهم التعصب لي، وعودتهم أن يعتقدوا ألا حق إلا فيما أقوله، وهذا لم يكن عليه العلماء رحمهم الله. واقرأ كتب العلماء في المسائل الفرعية، فإذا كان هناك أدلة محتملة من الكتاب والسنة يوسع فيها ما وسع الله؛ لأنه الله وسعنا، كالذي ورد بدلالة محتملة، وما ورد بدلالة نصية صريحة، فالشيء الذي ورد بدلالة نصية صريحة. إذا أتى شخص يشذ، أو يخالف، أو يأتي بآراء أو بأهواء يصادم بها النصوص يرد عليه قوله كائناً من كان. لكن أن تأتي في المسائل المختلف فيها قديماً بين العلماء والسلف والأئمة، وتبدع المخالف فلا، والصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا، كما قال شيخ الإسلام: كانوا يختلفون فيترحم بعضهم على بعض، ويصلي بعضهم وراء بعض، ويترضى بعضهم على بعض. فالأصل أن تجعل مناقشاتك للأدلة، ومن هنا تربي طلاب علم يحفظون للسلف مكانتهم، ويحفظون للخلف مكانتهم، وتجدهم يحفظون للعلماء رحمهم الله مكانتهم، أما إذا جاء العالم أو الشيخ في قراءته للفقه وقراءته للأحاديث والأدلة يوهم طلاب العلم أنه هو وحده الذي يفهم، وهو وحده الذي يعرف السنة، فلا ينبغي هذا. فهذا ليس من النصيحة، إنما النصيحة أن تبين لهم أنك تقول قولاً محتملاً للصواب والخطأ، وإن كان الصواب في قولك أقوى، فتعذر غيرك الذي خالفك لدليل وحجة. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وألا يجعل الحق ملتبساً علينا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والله تعالى أعلم.

رفع اليدين بعد الانصراف من الصلاة للدعاء

رفع اليدين بعد الانصراف من الصلاة للدعاء Q ما حكم رفع اليدين بعد انقضاء الصلاة مباشرة للدعاء؟ A رفع اليدين في الدعاء إذا كان في المواضع المخصوصة والعبادات المخصوصة يُمنع منه إلا في حدود ما ورد في الشرع، فما يفعله بعض الناس عند انتهائه من الأذكار، أو عند انتهائه من السلام يرفع يديه ويدعو، أو الإمام يفعله والمأمومون يؤمِّنون -كما يُفعل في كثير من المواضع وبعض البلدان- هذا كله من الحدث. وقد نبه بعض العلماء رحمهم الله من المتأخرين الذين اطلعوا على هذا العمل على أنه بدعة وحدث؛ لأنه شعار خاص في عبادة مخصوصة. ولذلك تجد من يعتاد هذه الأمور إذا صلى في مسجد، وصلى به إمام ولم يرفع يديه أنكر عليه؛ لأنه صار يعتقد ذلك عبادة، حتى إن العوام يعتقدون أنه من الشرع والدين، وهذا من الحدث. ولكن لو أن إنساناً فرغ من الأذكار الشرعية الواردة، وكانت عنده كربة أو نكبة أو فاجعة أو ضيق ففعل أحياناً دون أن يجعلها عادة وسنة له، فهذا رخص فيه غير واحد من العلماء رحمهم الله. أما الشخص الذي يجعله إلفاً وعادة وداوم على ذلك فإنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، إنما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ الأذكار التي تلي الصلاة، ثم قال: (اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت ... ) إلى آخر الحديث، ولم يرفع يديه عليه الصلاة والسلام، فدل على أنه ليس من السنة، خاصة أنه إذا كان يدعو بصوت والمأمومون يؤمِّنون على دعائه فهذا من الحدث والبدعة، نسأل الله السلامة والعافية. نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا التمسك بالسنة. والله تعالى أعلم.

حكم المغالاة في المهور لزيادة مكانة المرأة ورفع قدرها

حكم المغالاة في المهور لزيادة مكانة المرأة ورفع قدرها Q يظن بعض الآباء أن المغالاة في مهر ابنته يزيد من مكانتها، ويشعر بقدرها ولو كان على حساب إرهاق الزوج، فما القول في ذلك؟ A المغالاة في المهور تمحق بركة الزواج، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (خير النساء أيسرهن مئونة)، فدل على أن البركة والخير في الزواج ألا تكون فيه كلفة، وألا يحمل الزوج ما لا يطيقه، ولذلك نهى عمر رضي الله عنه عن المغالاة في المهور وقال: لو كان مكرمة لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنته. فالسنة ألا يغالي الرجل في مهر ابنته، وأن يطلب العدل والمعروف، وكلما يسر كان ذلك أعظم لأجره، لكن إذا احتاجت البنت المهر، واحتاج والد البنت المهر لكلفة زواجها وأمور محتمة عليه لا بد من وجودها فلا بأس أن يكون أمراً نسبياً متفقاً مع العرف، فيطلب مهر ابنته بالعرف، فإذا كان العرف درج على أن البكر ثلاثين ألفاً وأن الثيب خمسة عشر أو عشرين ألفاً فلا مانع أن يزوجها حتى ولو بخمسة وعشرين ألفاً، أو بعشرين ألفاً. ثم هناك أمور نسبية، وهي أنه ينظر في حال الزوج، فإذا كان الزوج غنياً ثرياً مليئاً أخذ منه المعروف الذي هو الثلاثين، وإذا كان الزوج ليس عنده مئونة ولا مال فزوجه بخمسة آلاف أو عشرة آلاف، وفاعل هذا لا شك أن الله سيبارك له في الزواج الذي يقع لابنته، وهذا معلوم ومعهود وسنة من الله عز وجل، ولا تتبدل سنة الله ولا تتغير. والذي ينبغي على الآباء أن يرحموا بناتهم وأن يرحموا الأزواج؛ فإن الزوج إذا تحمل أمور الزواج بالدين أول ما يقع الضرر على البنت؛ لأنه ربما طلقها، وربما ضيق عليها حتى تفتدي منه ويحصل الخلع، ولربما ساءت أخلاقه؛ لأنه يحس كأنه اشتراها. لكن الوالد الذي يخفف في المهر إذا جاءت البنت تخطئ أو تسيء أو تتجاوز بعض الأمور التي لا ينبغي مجاوزتها تجد الزوج يستحيي أن يشكوها إلى والدها؛ لأن المعروف كثر عنده وأخرس لسانه، فجعل عينه غاضه عن كل خطأ وعيب في البنت، وجعل لسانه أخرس لا يستطيع أن يتكلم؛ لأن الكريم يُكسر بالمعروف. لكن إذا بالغ في المهر فالخطأ اليسير كبير، والزلة اليسيرة كبيرة، فهذه كلها أمور يجعلها الله عز وجل مسددات، فاليسر سبب في اليسر، والتعسير سبب في التعسير، فمن ضار ضار الله به، ومن عسّر عسّر الله عليه. والذي ينبغي أن يلتفت إليه هو كثرة العوانس في بيوت المسلمين، فكم من نساء ينتظرن من يتزوجهن، وكم من شباب لا يستطيعون الإقبال على الزواج للتكاليف الموجودة في الزواج. فعلى الآباء أن يتقوا الله عز وجل، وأن يعلموا أن الله سبحانه وتعالى يرحم من يرحم، وقلّ أن تجد إنساناً يرحم في الحقوق وفي الأمور التي يليها مثل بناته وأخواته إذا زوجهن، ويساعد الزوج في زواجه، ويقف في المواقف الحميدة الكريمة إلا بارك الله له في ماله ورزقه، وبارك في هذا الزواج الذي جرى على يده، وجعل عواقبه كلها خيراً وبركة. فعلى المسلم أن يأخذ بهذه السنة التي كان عليها سلفنا الصالح تبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في التيسير في أمور الزواج. كذلك أيضاً ينبغي إلغاء الأمور التي فيها ضرر على الزوج من اشتراط الكلفات والأمور التي لا تحمد عقباها وقل أن يعظم نفعها، فالشخص إذا أراد أن يتزوج عليه أن يقتصر على دعوة القرابة وبعض من يعرفه، وليس هناك داعٍ للتوسع في أمور الزواج وللبذخ فيها. فليت الآباء والأمهات والأزواج والزوجات يتقون الله عز وجل في أنفسهم ويتعقلون كثيراً في هذه الأمور التي لا تعود على الناس بالخير، وما هي إلا مظاهر فانية، ووالله مهما فعل فإنه لا يسلم، ومن العجيب الذي ذكره بعض الإخوان أنه قال: حضرت زواجاً قد تكلف صاحبه وكان ثرياً غنياً، وكان مظهر جعل زواجه من أجمل وأحسن وأكمل ما يكون عليه الزواج، قال: فحضرت مع بعض أقربائه. فإذا بهم يسبون هذا الغني الثري ويقولون: قبحه الله! فعل وفعل وفعل وفعل. فأصبحت المباهاة سبباً في الذلة، لقد طلب الكرامة في معصية الله فأهانه الله، وطلب العزة بمعصية الله فأذله الله عز وجل. قال: ثم حضرت زواجاً بعد ذلك مقتصداً ميسراً مخففاً لا كلفة فيه، فكان أن قالوا: فعل الله بأهل الزوج والزوجة. أي: ما أطعم الضيوف وما فعل الذي أرادوه. فما أحد يسلم من الناس، لا الذي أعطاهم وأشبع بطونهم، ولا الذي أخذ بالقصد. فإذا كان الشخص في الزواج دعا العشرات ولم يزد على عدد معين، وجاءته أمة من الناس فهل العتب عليه، أو على هذا الطفيلي الذي جاء بدون دعوى?! وعلى كل حال فهناك تجاوز من الناس خاصة في هذا الزمان، والذي أحب أن أقوله هو أني أتمنى من الخطباء والأئمة وطلاب العلم أن يقرعوا قلوب الناس في هذا الأمر وأوصيهم بذلك، والأجر في هذا عظيم إذا ذكروهم، وأن يذكروا كل ظالم كم في بيته من بناته اللاتي لم يتزوجن، وليذكروا كل والد أن يسأل نفسه كم من بنت جاوزت العشرين، بل الخمسة والعشرين، بل الثلاثين ولم تنكح بعد. فليسأل نفسه وليبحث عن الأسباب، والعيب أن نرى أخطاءنا موجودة ونسكت عنها، فهناك أسباب موجودة، وعلينا أن ننبه الناس، وأن نكثر من هذه الخطب التي تُبيّن للناس هذا الخطأ الفادح؛ فإن كثرة الفواحش والمنكرات هي بسبب كثرة المطلقات والمرملات والعوانس من الأبكار اللاتي لا يحصى عددهن، وقد ذكر لي أن في بعض المدن مالا يقل عن أربعين ألف بنت عانس، والسبب في هذا تكاليف المهر التي ذكرناها، وهي عامل كبير جداً أثرت على كثير من الناس. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح الأحوال، وأن يلطف بنا في العاقبة والمآل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب الظهار [2]

شرح زاد المستقنع - كتاب الظهار [2] مما قد يقع فيه العبد المسلم الظهار، وهو أمر خطير، ولابد أن يدرك المسلم مدى عظم هذا الأمر عند الله، وأدلة حرمته من الكتاب والسنة، ومقاصد الشرع من تحريم هذا الأمر، وما يلتحق به من الأحكام التي ينبغي معرفتها.

أدلة تحريم الظهار من الكتاب والسنة

أدلة تحريم الظهار من الكتاب والسنة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الظهار] تقدم معنا بيان بعض المقدمات المتعلقة بكتاب الظِهار، وبينّا حقيقة الظِهار وأركان الظِهار، ونبهنا على بعض المسائل المتعلقة بتلك المقدمات. ثم شرع المصنف رحمه الله في بيان حكم الظِهار، فقال: [وهو محرم]. أجمع العلماء رحمهم الله على أنه محرم، والأصل في تحريمه كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة وإجماع أهل العلم رحمهم الله، كما أن دليل العقل يدل على تحريمه. فأما دليل الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى بيّن أن الظِهار منكر من القول وزور، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2]، والمنكر والزور محرمان، فلما وصف الله عز وجل هذا القول بهذا الوصف أشعَر بالتحريم، وبيّن أنه غير جائز شرعاً، فعند علماء الأصول أنه إذا ورد الذم للشيء في الكتاب أو السنة فإن هذا يدل على حرمته، خاصة إذا كان الذم قوياً مرتقياً إلى درجات الكراهة التحريمية. والذم ينقسم إلى قسمين: الذم الشرعي، والذم الطبعي. فهنا ذم شرعي؛ لأن الوصف بكونه منكراً وزوراً مذموم شرعاً، فدل على أنه محرم، وهذا أولاً. ثانياً: أن الله سبحانه وتعالى بيّن وجوب الكفارة على من قال الظِهار وأراد أن يعود، فإيجاب الكفارة على الظِهار دال على حرمته، كما أن إيجاب الكفارة على الجماع في نهار رمضان دال على حرمته، وإيجاب الكفارة على القتل الخطأ دال على حرمته في الأصل، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:92]، فدل على أنه شيء في الأصل محرم، فالمقصود أن الآيات الكريمة دلت على حرمة الظِهار من هذه الوجوه، ومنها قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة:2]، فبيّن أنه يعفو ويغفر، فدل على أن هناك موجباً للإساءة والذنب الذي يترتب عليه العفو والمغفرة. فلما ختم آية الظِهار في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:2] بهذين الوصفين -العفو والمغفرة- دل على أن الظِهار موجب للذنب والإساءة من قائله. أما السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أوس رضي الله عنه وأرضاه ظِهاره لامرأته، وأوجب عليه التكفير، وهذا يدل أيضاً على ما دل عليه دليل الكتاب من حرمة الظهار. كذلك أيضاً أجمع العلماء على أن الظِهار محرم. وأما دليل العقل فلأن الشريعة قامت على جلب المصالح ودرء المفاسد، ولا شك أن الزوجة إذا امتنع زوجها منها وقال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي. فإن هذه مفسدة عظيمة؛ لأنها تحرم الرجل على امرأته، وتحرم المرأة على زوجها. وحينئذٍ يتعرض الرجل للحرام وتتعرض المرأة للحرام، ولا شك أن أصول الشريعة دالة على دفع الضرر، وهذا من أعظم الضرر، ثم إن الشريعة أقامت النكاح على الإمساك بالمعروف، فأصول الشريعة دالة على أن الزواج والنكاح ينبني على العشرة بالمعروف، فيمسك المسلم زوجته بالمعروف، وليس من المعروف أن يجعلها بمثابة الأم وهي ليست بأم له، فيمتنع من عشرتها، ويمتنع من الإحسان إليها والقيام بحقوقها، بناءً على هذا اللفظ. فدليل العقل أن الظهار يتضمن الضرر والإساءة، وذلك موجب للوصف بالتحريم؛ لأن كل ما فيه ضرر على المسلم والإساءة إلى المسلم فإنه محرم شرعاً، والسبب في كون ما يوجب الإساءة والأذية والضرر محرماً أن فيه اعتداءً، والله عز وجل يقول: {وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190]، وقال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] فهذا اعتداء؛ لأن الزوج اعتدى على زوجته. ومن هنا جاءت امرأة أوس وشكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: نثرت له ما في بطني، ولما رق عظمي وضعف بدني ظاهر مني، إلى الله أشكوه. فهذا يدل على أنه فيه ضرراً وإساءة، والشريعة جاءت لدفع الضرر والإساءة والاعتداء على الغير. فمن هذا كله نخلص إلى القول بإن الظِهار محرم. وهذه الحرمة من أعظم أنواع الحرمات، أي أنه محرم لأنه كبيرة من كبائر الذنوب؛ لأن المحرمات فيها ما هو صغير وفيها ما هو كبير، فالظِهار من كبائر الذنوب، وكبائر الذنوب تنقسم إلى: كبائر متعلقة بالاعتقاد. وكبائر متعلقة بالقول. وكبائر متعلقة بالعمل. فالظِهار من الكبائر المتعلقة بالأقوال، ويشارك غيره من الكبائر القولية، أي أنه ليس بذنب معتاد، أما الدليل على كونه كبيرة فعند طائفة من العلماء رحمهم الله أنه إذا ترتبت الكفارة المغلظة على فعل دل ذلك على حرمته في الأصل، وأنه من الكبائر. ومن هنا أوجب الله عز وجل على من جامع في نهار رمضان كفارة، واعتبر ذلك من كبائر الذنوب من حيث الأصل؛ لما فيه من الاعتداء إذا تعمد جماع امرأته في نهار رمضان، ومن هنا يقول بعض العلماء: إن ورود العقوبة على فعل الشيء -سواء أكانت بدنية أم مالية- تدل على أنه كبيرة من كبائر الذنوب. ومن هنا قالوا: إن شرب الخمر كبيرة، وإن الزنا كبيرة؛ لأن فيها عقوبة شرعية مقدرة، والكفارات نوع من العقوبة؛ لأنها عقوبة في البدن وعقوبة بالمال، وعقوبتها بالمال أن فيها تكفيراً للرقبة، وفيها إطعام ستين مسكيناً، وهذه عقوبة مالية؛ لأن الرقبة مال، فيحتاج أن يشتري رقبة ليعتقها، ويشتري طعاماً ليطعم ستين مسكيناً، وفيها عقوبة بدنية؛ لأنه يصوم شهرين متتابعين. وعلى هذا لا يشك أحد أن مثل هذا القول الذي عوقب عليه بهذه العقوبة في أنه يصل إلى حد الكبائر، ولو كان من صغائر الذنوب لما ترتب عليه الكفارة؛ لأن الصلوات الخمس تكفر ما بينها من صغائر الذنوب، وأمرها أيسر من الكبائر ولو أن الكل ذنب وخطيئة. قوله رحمه الله: [وهو محرم] الضمير عائد إلى الظِهار، وابتدأ المصنف رحمه الله كتاب الظِهار ببيان حكمه لأن أول ما يحتاجه طالب العلم في الشيء معرفة مقدمات تخص ذلك الشيء، وبعد ذلك معرفة موقف الشرع منه، فهل هو جائز أم لا؟ وإذا كان جائزاً فهل يلزم به الشرع أو لا يلزم؟ وإذا ألزم به فهل هو في مقام الواجبات أو المستحبات؟ وإذا كان غير جائز شرعاً فهل هو محرم أو مكروه؟ وهل حرمته مغلظة أو غير مغلظة؟ فقال رحمه الله: [وهو محرم].

كيفية وقوع الظهار وتحققه

كيفية وقوع الظهار وتحققه قال رحمه الله تعالى: [فمن شبه زوجته أو بعضها ببعض أو بكل من تحرم عليه أبداً بقوله لها: أنت علي، أو معي، أو: مني كطهر أمي، أو كيد أختي، أو وجه حماتي ونحوه، أو: أنت علي حرام، أو: كالميتة والدم فهو مظاهر]. قوله: (فمن شبه زوجته أو بعضها) يقال: هذا يشبه هذا: إذا كان مثيلاً له واشترك معه في شيء أو أشياء، تقول: محمد يشبه البحر: إذا كان كريماً غزيراً كثير الخير، كما أن البحر يكثر خيره، أو غزيراً في علمه كما أن البحر يكثر نفعه. وكذلك تقول: علي كالأسد، أي: في الشجاعة والقوة ونحو ذلك، فالتشبيه عند العلماء: هو الدلالة على أن شيئين اشتركا في أمر أو أمور، وبناءً على ذلك لا بد من وجود التشبيه في الظهار. وقد بينا من قبل أن التشبيه يحتاج إلى أربعة أركان: مشبِّه ومشبَّه، ومشبه به، ووجه الشبه أو الصيغة المتضمنة للمشابهه. فهنا المشبِّه هو الزوج، فالزوج إذا قال لامرأته: أنتِ عليّ كظهر أمي فهو المشبه، فلو قال أجنبي قلنا ليس بظهار، كذلك لو قال من يستمتع بالمرأة على غير وجه الزوجية، كالسيد مع أمته فإنه ليس بظهار. والمشبَّه هو الزوجة التي في عصمة الزوج، والزوجة زوجتان: زوجة حقيقية وزوجة حكمية. ومشبه به وهي الأم أو من في حكمها من المحرمات بالنسب أو السبب أو الرضاع كما سيأتي. ووجه الشبه أو الصيغة المتضمنة للمشابهة هي اللفظ الدال على الظهار، فهذه هي أركان التشبيه الأربعة. قال رحمه الله: [فمن شبه زوجته] سواء أكانت زوجة حقيقية أم زوجة حكمية، والزوجة الحقيقية: هي كل امرأة عقد عليها الرجل عقداً شرعياً صحيحاً. فالمرأة إذا عقد عليها صح الظِهار منها، فلو عقد عليها وبعد العقد مباشرة قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي فظهار. فلا يشترط أن يكون قد دخل بها، بل مجرد العقد كافٍ، والدليل على ذلك أن الله تعالى يقول: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:2]، فبيّن أن المشبَّه هي المرأة التي من نساء المشبِِّه، وكل امرأة عقد عليها الإنسان فهي من نسائه، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء:23]، فوصف المرأة بكونها من نساء الرجل مدخولاً بها أو غير مدخول بها. والحكمية هي الزوجة المطلقة إذا كان طلاقها طلاقاً رجعياً وكانت في العدة، فإنها أثناء العدة إذا ظاهر منها فإنه يحكم بوقوع الظِهار وبصحته. وقوله: [فمن شبه زوجته] أي: من شبه كل زوجته، كأن يقول لها: أنتِ، أو يقول: فلانة -سواء أكانت حاضرة في المجلس أم كانت غائبة- مني كظهر أمي. أو: زوجتي مني كظهر أمي. وهي غير حاضرة في المجلس، أو يخاطبها كفاحاً فيقول لها في وجهها: أنتِ عليّ كظهر أمي. فهذا بالنسبة لمن شبه زوجته كلها، وفي حكم ذلك من يقول: كلك. أو: جسمك، أو: جسدك، واختلف في قوله روحك، واختار جمع من العلماء أنه ظهار؛ لأن التعذيب بالروح يراد وليس المراد به استقرار الروح، والروح ليست منفصلة عن الجسد. فهذه كلها ألفاظ بمعنى واحدٍ، فمن شبه زوجته، أي: شبه كل الزوجة، بقوله لها: أنتِ، أو: فلانة، أو: زوجتي فلانة، أو: أنتِ كلكِ، أو: جسدكِ، أو: جسمكِ، أو: ذاتكِ، أو: روحكِ، أو: نفسكِ فكل هذا آخذ حكم قوله: أنتِ. قوله: [أو بعضها] أي: بعض الزوجة، كقوله لها: رأسكِ. صدركِ. يدكِ. ظهركِ، وهذا فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله. والصحيح أن اختيار الجزء للتعبير بالظِهار كاختيار الكل على تفصيل: فإما أن يكون دالاً على ذلك بدون وجود احتمال، وأما أن يكون دالاً على ذلك بالنية، فلو قال لها: رأسكِ. وقصد الإكرام فليس بظهار، ولو قال لها: رأسكِ. وقصد الظِهار فظهار. لكن حينما يعبر -مثلاً- بالفرج أو بأعضاء يحرم النظر إليها في أعضاء من جسدها يكون في حكم الكل، مثل قوله: يدكِ. فلو قال لها: يدكِ عليّ كظهر أمي. أو: ظهركِ عليّ كظهر أمي فظهار. والدليل على ذلك أن الله عبر باليد عن الكل، فقال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]، والتباب متعلق بكل أبي لهب وليس بيده وحدها، وقال تعالى: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30]، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:10]، فذكر الجزء وأراد الكل، فلا يوجد زوج يقول لامرأته: يدك علي كظهر أمي، ويقصد اليد استقلالاً، لكن بعض العلماء يقول: يسري في الظِهار ما يسري في الطلاق، وقد تقدم معنا تفصيل هذه المسألة، وذكر أقوال العلماء فيها والأدلة. وأما هل يسند التحريم للجزء أو لا يسند فمذهب بعض العلماء -وهو الذي اخترناه- أنه يسند التحريم للجزء ويسري على الكل ثم يفصل، فإذا قال لها: يدكِ طالق، أو يديكِ عليّ كيد أمي، أو كظهر أمي، أو كأمي، فبعض العلماء يرى أنه إن قال ذلك تصبح المرأة كلها محرمة من بداية اللفظ، يعني أن الجزء معبر به عن الكل. وبعض العلماء يقول: لا يتعلق التحريم مباشرة، وإنما تحرم اليد ثم يسري إلى جميع البدن؛ لأن اليد متصلة بالبدن. وقد بينا فائدة هذا الخلاف في الطلاق، وهي أنه لو قال لها: يدكِ طالق فإن المذهب الأول يقول: تطلق مباشرة، والمذهب الثاني يقول: لو قال لها: يدكِ طالق إن دخلت الدار. وقبل دخولها للدار قطعت يدها فلا طلاق، لأنهم يرون أنه أول شيء يقع باليد ثم يسري، فلو قطعت اليد التي علق الطلاق بها فإنه لا يسري؛ لأن الطلاق لم يصادف محلاً يتعلق به حتى يحكم بالسريان. ومسألة الظِهار تتفرع على مسألة الطلاق، وقد بينا هذه المسألة وفصلنا فيها، والخلاصة أن نقول: إن شبه الكل فقال: (أنتِ)، أو شبه بعضاً من أعضائها المتصلة كقوله: يدكِ رجلكِ بطنكِ فرجكِ رأسكِ، ونحو ذلك فالكل سواء، فاختيار الجزء للتعبير بالظهار كاختيار الكل، أما لو كانت منفصلة فسيأتي الكلام عنها.

النساء المعتبر التشبيه بهن في الظهار

النساء المعتبر التشبيه بهن في الظهار قال المصنف رحمه الله: [ببعض أو بكل من تحرم عليه أبداً] النساء اللاتي يحرمن على الإنسان ينقسمن إلى محرمات على التأبيد ومحرمات على التأقيت، والمحرمات على التأبيد هن المحرمات من النسب والسبب والرضاع، وقد تحرم المرأة على التأبيد لعارض مختص مثل مسألة الملاعنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقع اللعان فرق بينهما فراقاً إلى الأبد، فلا يجتمعان أبداً، ولذلك قال الزهري رحمه الله: مضت السنة أن يفرق بين المتلاعنين فلا يجتمعان أبداً. والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها، قال: يا رسول الله: مالي! قال: إن كنت صدقت فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك منها). فالمفارقة بين الملاعن والملاعنة فرقة أبدية، لكن هذا التحريم الأبدي لا يوجب المحرمية. وأما بالنسبة للمحرمات فهن من جهة النسب والسبب، فأما من جهة النسب فسبع، وهن الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، وأما من جهة السبب فأربع، وهن أم الزوجة وبنت الزوجة وزوجة الأب وزوجة الابن، والمحرمات من جهة الرضاع هن جهة اللاتي يحرمن من جهة النسب. فهؤلاء المحرمات تحريمهن مؤبد، وفي الرضاع والنسب جمهور العلماء -ما عدا الظاهرية والشافعية في قول عندهم على تفصيل- متفقون على أن هذا التحريم تحريم مؤبد. وهؤلاء السبع النسوة المحرمات بالنسب إذا شبه زوجته بواحدة منهن فإنه يقع الظهار، لكن الظاهرية يخصون الظِهار بالأم، والجمهور على أن غير الأم والأم سواء بالنسبة للمحرمات. فلو ظاهر من زوجته فشبهها بمحرمة من المحرمات من النسب فعند جمهور العلماء لو قال: أنتِ عليّ كبنتي، أو: كأختي، أو: كخالتي، أو: كعمتي، أو: كبنت أخي كبنت أختي فإنها محرمة ظهاراً، هذا من حيث الأصل عندهم. لكن بالنسبة للمحرمات من جهة السبب فبعض العلماء لا يرى أن تشبيه الزوجة بالمحرمات من جهة السبب يوجب الظهار، فلو قال لها: أنتِ عليّ كزوجة أبي، أو: كزوجة ابني، أو: كحليلة ولدي، أو: كفلانة وهي زوجة أبيه أو زوجة ولده فإنه لا يقع عندهم الظهار. والصحيح مذهب الجمهور أنه يقع الظِهار بالسبب كما يقع بالنسب. أما الرضاع فمن العلماء من أطلق وهو مذهب الجمهور، ومنهم من فصل وقسم الرضاع إلى رضاع طارئ ورضاع أصلي، فقالوا: إذا كانت المرأة المحرمة من جهة الرضاع تحريمها منذ ولادته فهذا رضاع موجب للتحريم أصلاً، مثالهُ: لو أن أمه أرضعت امرأة فصارت بنتها من الرضاع، وبعد سنتين أو ثلاث من الرضاع ولدته أمه، فإن هذه الأخت من الرضاع محرم له منذ ولادته، وهذا رضاع أصلي. أما لو طرأ الرضاع وولد وهي أجنبية، أو ولدت بعد ولادته ثم رضعت من أمه فهذا التحريم من الرضاع ليس في الأصل، فلو شبه بها لا يقتضي التحريم. والسبب في هذا أن الشافعية رحمهم الله الذين عندهم هذا التفصيل يرون أن النص جاء بالأم، والأم فيها وصف تحريم مؤبد. ولذلك فرق عندهم بين الشيء الطارئ وبين الشيء المؤبد، والصحيح ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن المحرمات من جهة النسب أو السبب أو الرضاع، إذا شبه بهن الزوجة يوجب الظهار. والدليل على ذلك واضح؛ لأن المرأة حكم بكونها محرمة على الرجل، وشبهها بامرأة محرمة بغض النظر عن كونها من قبل كانت حلالاً له أو في المستقبل على الوجه الثاني الذي سيأتينا إن شاء الله في التحريم المؤقت، فالأصل عندنا أن الله تعالى يقول: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2]، فجعل المسألة قائمة على التحريم، وقائمة على الامتناع من الزوجة، وتنزيلها منزلة من تحرم عليه ولا يحل له نكاحها كل هذا من المنكر ومن قول الزور، وهو موجود في تشبيه الزوجة بالأخت من الرضاعة، أو بالبنت من الرضاعة، أو بالعمة من الرضاعة، وغيرهنَّ من المحرمات اللاتي ذكرن. وبناءً على ذلك فالصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله أن كل امرأة تحرم بنسب أو سبب أو رضاع تدخل في الظِهار، وأن الأمر ليس فيه التفصيل الذي ذكروه؛ لأن الموجب للتحريم موجود في الكل، فيكون الحكم ووجه الاشتراك بين الأم وغيرها موجود في النسب والسبب والرضاع. أما المحرمات من جهة التأقيت فكأخت الزوجة، وكعمة الزوجة وخالة الزوجة؛ لأن الله حرم أن نجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، وبناءً على ذلك قال بعض العلماء: المحرمة مؤقتاً إذا شبه زوجته بها فلا ظهار، أي: لو أنه قال لها: أنتِ عليّ كأختك قالوا: لا ظهار. والصحيح والأقوى الذي تطمئن إليه النفس من حيث الأصول أنه ظهار؛ لأن المعنى موجود فيه، فهو يشبهها بها في حال حرمتها عليه، فيقول: أنتِ عليّ كأختك. وأختها محرمة عليه، أو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أختك. فهذا كله يعتبر في حكم الظهار.

حقيقة الخلاف في الأعضاء التي يصح المظاهرة منها

حقيقة الخلاف في الأعضاء التي يصح المظاهرة منها للعلماء وجهان في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ} [المجادلة:2] وذلك في لفظ الظِهار، وهو قوله: أنتِ عليّ كظهر أمي، فهل المراد بالظهر هنا الحقيقة وهو العضو المعروف من الكاهل إلى العجز، أم أن المراد به الظهر المركوب؛ لأن العرب تعبر بالظهر عن المركوب. ولذلك لما سأل رسول الله المرأة فقال لها: (ما منعك أن تحجي معنا؟ قالت: يا رسول الله! ما معنا ظهر -أي: ما عندي ظهر- ليس لنا إلا ناضح قد حج عليه أبو فلان) الحديث، وفيه: فقال لها: (فإذا كان رمضان فاعتمري؛ فإن عمرة في رمضان كحجة معي). ومما يدل على أن الظهر المراد به المركوب، قوله عليه الصلاة والسلام: (الظهر مركوب بنفقته)، فالظهر المراد به المركوب والناقة التي تركب، فيعبر به ليكنى به عن الشيء المركوب. فإذا قيل: إن الظهر المراد به المركوب فالمراد به الجماع وإتيان المرأة؛ لأن الرجل يجامع زوجته، فكأنه حرم جماعها، فهو يقول لها: جماعك عليّ حرام كجماع أمي، أو: جماعك عليّ حرام، كجماع من سمى ممن تحرم عليه. الوجه الثاني يقول: إنما المراد به الظهر نفسه حقيقة، والعرب عبرت بالظهر وهو مجمع الإنسان؛ لأن حركة الإنسان كلها موقوفة على هذا الظهر، وقيام الإنسان كله بهذا الظهر، فهو يشبه شيئاً بشيء، يعني الذات بالذات. وعلى كلا الوجهين لو قلنا: إن المراد به الظهر فمعنى ذلك أن الظِهار حكم الله بكونه ظهاراً مع أنه تشبيه بالجزء. ولذلك من العجيب أن بعض الظاهرية رحمهم الله رحمة واسعة -وهذا ليس من النقص لهم، فلا يظن أحد أننا ننتقص هؤلاء الأئمة والعلماء- قالوا: لو قال لها: أنتِ عليّ كأمي لا يقع الظهار، وإذا قال: أنتِ عليّ كظهر أمي يقع الظهار. وقولهم مرجوح، لكن لا ينقص من مكانتهم رحمهم الله برحمته الواسعة، وهذه الأمور التي تقع من بعض الفقهاء ينبغي أن يعلم أنها من الغيرة على النص والالتزام بظاهر النص والتقيد بالشرع، ولو أنه في بعض الأحيان يزاد في ذلك ويتجاوز به عن حده. لكن انظر إلى مدى الاهتمام بالفقه الإسلامي، وكيف بلغ من التقيد بالنصوص؛ حيث إن الظاهرية يتقيدون بالنص كما ورد، حتى إن بعضهم قال في مسألة البول: لو بال في إناء وصبه لما شمله التحريم كالبول مباشرة. وصحيح أن هذا كله من الجمود على الظاهر، لكن المقصود هنا أن نقول: إنه إذا حذف الظهر أو أبقاه فالحكم واحد. والدليل على هذا أن الشريعة تعبر بشيء وتنبه على أن ما هو أعلى منه من باب أولى أن يدخل تحت النص؛ لأنه إذا قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي فمن باب أولى إذا قال لها: أنتِ عليّ كأمي. فإذا كان الظهر وحده أوجب التحريم فمن باب أولى إذا ذكر الكل. وعلى كل حال فكل المحرمة أو بعضها يوجب الظِهار، لكن ليس كل أجزاء المرأة المحرمة عند العلماء رحمهم الله يقع التحريم بالتشبيه به، فالحنفية خصوا الأعضاء التي يحرم النظر إليها، فلو قال: أنتِ عليّ كظهر أمي فظهر الأم يحرم النظر إليه، ويحرم أن ينظر إلى فرجها أو فخذيها أو بطنها، فهذه هي الأشياء التي عندهم فيها الظهار. لكن لو قال لها: أنتِ عليّ كيد أمي قالوا: لا يقع الظهار؛ لأن اليد يجوز النظر إليها وليست بمحرمة، ويجوز أن يصافحها وأن يمس يدها، فقالوا: هذا لا يقتضي التحريم. وهذا اجتهادٌ منهم رحمهم الله، فهم نظروا إلى أن الظِهار فيه لفظ الظهر، وأعملوا المعنى ونقحوا مناط النص، فنظروا إلى أن الظهر يحرم النظر إليه ويحرم الاستمتاع به، وجمعوا أوصافاً موجودة في هذه الأربع دون غيرها وقالوا: الحكم مختص بهذه الأربع دون غيرها، فلو قال لها: أنتِ عليّ كرأس أمي لا ظهار ولو نوى به الظِهار، فلا يقع عندهم ظهاراً. ومذهب المالكية رحمهم الله من أوسع المذاهب في مسألة الظِهار، فعندهم لو أنه قال لها: أنتِ عليّ كريق أمي. أو قال لها: كلي، أو: اشربي ناوياً به الظِهار وقع الظِهار؛ لأنهم يوسعون في ذلك، كما هو أيضاً عندهم في مسائل الطلاق، وفائدة معرفة الأقوال الفقهية والخلافات معرفة مسالك العلماء رحمهم الله في الأبواب. فالمالكية رحمهم الله يشددون في التحريم في الطلاق وفي الظِهار، وقد تقدم معنا بيان مسائل عديدة، وبينا أدلتهم في ذلك، ولكن الشافعية والحنابلة رحمهم الله فصلوا، فقال الشافعية في تفصيلهم: إما أن يذكر عضواً يعبر به عن التكريم والإجلال، أو يذكر عضواً لا يعبر به عن ذلك، فإن ذكر عضواً يعبر به عن التكريم والإجلال سألناه عن نيته، فإن قال لها: أنتِ عليّ كعين أمي، أنتِ عندي كرأس أمي، قالوا: نسأله هل قصدت الظِهار؟ فإن قال: قصدت الظِهار ليكون ظهاراً، وإن قال: لم أقصد ظهاراً، وإنما قصدت إعزازها وإكرامها وأنها عندي بمنزلة أعز شيء من الناس وأغلاهم عندي وهو أمي، وأعز شيء في الإنسان رأسه، فقلت لها: أنتِ كرأس أمي فحينئذٍ لا ظهار. وهذا القول صحيح وأميل إليه، فإذا ذكر أعضاء يقصد بها التشريف والتكريم كالرأس والصدر، وقصد من هذا إكرامها فليس بظهار، وإن قصد الظهار فهو ظهار. ثم أيضاً فصلوا مع الحنابلة في مسألة الأعضاء المتصلة والمنفصلة، وقد تقدمت معنا هذه المسألة في الطلاق إذا أسند الطلاق إلى عضو متصل أو إلى عضو منفصل، فإذا كان في الأجزاء المنفصلة فإنه ليس بظهار، وإن كان في الأجزاء المتصلة فإنه ظهار على التفصيل الذي ذكرناه. وأجزاء الإنسان منها ما هو متصل ومنها ما هو منفصل أو في حكم المنفصل، وما في حكم المنفصل متردد بين المنفصل والمتصل، ورجح أنه في حكم المنفصل، فالدمع والريق واللعاب كله في حكم المنفصل، فلو قال لها: أنتِ كريق أمي ليس بظهار؛ لأنه ليس بعضو متصل، ولم يقع التشبيه بالوارد فيه النص من كل وجه، ولذلك لا يقتضي التحريم من كل وجه. فالأعضاء التي اختلف فيها هل هي متصلة أم منفصلة هي كالشعر والظفر، وقد ذكر هذه المسألة الإمام ابن رجب رحمه الله في كتابه النفيس (القواعد الفقهية)، وذكر شعر الإنسان هل هو في حكم المتصل أو في حكم المنفصل. وهذه المسألة تتفرع عليها ما لا يقل عن خمسين مسألة من مسائل الفقه، ومنها هذه المسألة، فإن قلنا: إن الشعر في حكم المتصل فإن قال لها: أنتِ عليّ كشعر أمي، أو شعركِ مني كشعر أمي، أو شعركِ عندي كشعر أمي فظهار. وإن قلنا: إنه في حكم المنفصل فليس بظهار، وإن قال لها: شعرك طالق فليس بطلاق إن كان منفصلاً، وهو طلاق إن كان في حكم المتصل. ففصل العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، والصحيح أن الشعر والعظم والظفر في حكم المنفصل لا في حكم المتصل. قوله: [بنسب أو رضاع]. بالنسب كالأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، وهن السبع اللاتي سمى الله عز وجل، والرضاع مثلهن، فيحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وفي حكمه التحريم بالرضاع من جهة المصاهرة. قوله: [من ظهر أو بطن أو عضو آخر لا ينفصل] (من) بيانية، فسواء أذكر الظهر وهو الأصل، أم البطن أم عضواً آخر كاليد، لكن بشرط أن يكون غير منفصل، فالشعر ينفصل لأنه يقص فينفصل، فلو قال لها: أنتِ عندي كشعر أمي فشعر أمه منه ما يتساقط، فليس ذلك موجباً للتحريم من كل وجه.

الألفاظ الدالة على الظهار

الألفاظ الدالة على الظهار قوله: [بقوله لها: أنتِ عليّ أو معي أو مني كظهر أمي]. قول المظاهر: أنتِ عليّ، أو: معي، أو: مني، أو: عندي، أو: لي كل هذا يعتبر دالاً على الظِهار. وكذلك قوله: أنتِ كأمي دون قوله: عندي، ولا: معي، ولا لي، فسواء أذكر هذه الصفة أم لم يذكرها فالحكم واحد ويقع الظهار. قوله: [أو كيد أختي] الأصل أن يذكر الظهر، وما لا ينفصل يكون حكمه كحكم الظهر. قوله: [أو وجه حماتي]. الأم هي الأصل، وتمثيله بالأخت والحماة فيه نوع من التسلسل في الأفكار عند الفقهاء رحمهم الله في المتون الفقهية، وهذا يزيد طالب العلم فائدة، ويزيده علماً وبصيرة إذا أراد أن يخطب، أو يفتي، أو يوجه، أو يعلم، والعلماء بعض الأحيان يذكرون أشياء عجيبة، لكن يقصدون مغزىً ومعنى، وهذا نبهنا عليه أكثر من مرة. فقوله: [ظهر أمي] المراد بذلك القاعدة المتفق عليها والمجمع عليها، وهي أنه إذا قال: كظهر أمي فهو ظهار. ثم قال: [كيد أختي] فخالف في العضو الذي هو الظهر فاختار اليد، وخالف في الذات التي هي الأخت، فهذا مثال للمحرمة من جهة النسب من غير الأمهات. فجمع لك بين الأمرين، فتفهم منه أنه لا يشترط أن يذكر الظهر، وأنه يمكن أن يذكر بدلاً عنه أي عضو بشرط أن يكون متصلاً، وكذلك أيضاً لا يشترط أن يكون الظِهار منحصراً في الأم، ولذلك قال: [كيد أختي]. وقوله: [أو وجه حماتي] لو قال: كيد حماتي ربما شك شاك أن العضو ينفصل في اليد، لكن قال: [كوجه] فانتقل إلى الوجه، والحماة: هي أم الزوجة، والأحماء: هم أقارب الزوجة. فقوله: (كوجه حماتي) استفدنا منه أنه لا يشترط العضو في المشبه به، ثانياً: التشبيه بالمحرمة من جهة السبب، وهنا استدرك بعض المتأخرين رحمة الله عليهم على المصنف فقالوا: كان الذي ينبغي أن يقول: بنسب أو سبب، أو رضاعة، فيذكر السبب. والحقيقة أنه لو ذكر السبب كان أفضل في الإشارة إلى المحرمات من جهة المصاهرة، لكن لما قال: [وجه حماتي] كان هذا بديعاً منه في الدلالة على أنه يرى أن المحرمات من جهة المصاهرة كالمحرمات من جهة النسب والرضاع. وبعض العلماء ربما يذكر في المتن قسيمين يدخل بينهما ثالث ولا ينبه على الثالث من باب الذوق في الألفاظ، فالعلماء رحمهم الله كانت عقولهم فذة في صياغة الكلام، لكن فرق بين أن تصاغ هذه المتون لقوم يعقلون يعرفون هذه النكت والأفكار، وبين من يتهجم أو يأتي يستدرك ويلاحظ، فيقول: هذا خطأ، وهذا كذا. إلخ، وهذا ليس إلا نوعاً من اللطائف البديعة. فيذكر النسب ويذكر الرضاع والقسيم الثالث داخل بينهما من جهة السببية، وبعض الأحيان إذا ذكروا الرضاع مع النسب ينبهون على أن السببية تابعة له، خاصة في مسائل النكاح، لكن كما قال تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:10]. فهؤلاء العلماء رحمهم الله يُحذَّر من الاستدراك عليهم والتعقيب عليهم، خاصة إذا اشتمل الاستدراك على التهجين لرأيهم، نسأل الله السلامة والعافية، بل كانوا رحمهم الله على دقة، وأحياناً يتركون الأمور الظاهرة والأمور الخفية لأجل مخاطبة العلماء؛ لأن هذه الكتب غالباً ما كان يقرؤها إلا العلماء. ولذلك تجد العالم لما يأتي إلى تلك المتون يجد أمراً معتاداً، وطالب العلم المتمكن يجد أمراً يعمل فيه فكره أكثر، فيتعود على الدقة. ومن الفوائد التي أوصي بها طالب العلم، وأوصي بها كل شخص يتحرى الحق والصواب أنه من المجرب أنك إذا قرأت تآليف العلماء -وأقصد العلماء الأئمة الجهابذة خاصة أئمة السلف- وكان عندك اعتقاد في قرارة قلبك بعلمه وفضله ودقته وتركيبه للمسائل، ووجدت شيئاً في ظاهره الخطأ ستتعب في تحصيل السبب وكشف الأمر الذي من أجله أغفل هذا الأمر الذي لا ينبغي إغفاله، أو ترك ذكر هذا الشيء الذي ينبغي ذكره، فما إن تعمل فكرك وأنت عندك هذا الشعور إلا تفتح لك من العلم والفهم ما الله به عليم. وهذا شيء نحن جربناه ووجدناه، والعكس، فلن تجد شخصاً -والعياذ بالله- لا يقدر أهل العلم، ولا ينظر إليهم بما هم أهله، خاصة أئمة السلف، إلا وجدته سريع التخطئة، عجلاً في الفهم، قاصراً في الإدراك، بعيداً عن مستوى الأذكياء؛ لأنه لا يفهم العالم إلا عالم، ولا يعرف الفضل إلا أهله، وهذا من أراد أن يجربه في نفسه، أو في من يتعقب غيره أو ينتقد غيره سيجده جلياً. ومن أغرب ما ذكر لي أن شخصاً كنت أعرفه -نسأل الله السلامة والعافية- من بعض طلاب العلم، كان بعض مشايخنا يحذره كثيراً، وكان كثير الجرأة على تخطئة العلماء رحمهم الله وتتبع عثراتهم. فذات يوم كان يقرأ في كتاب (الإمامة) فقرأ قوله: (فإن استووا في القراءة فأطولهم ذكْراً -أي: لله عز وجل- فصحفها وقال: فأطولهم ذكَراً، وأخذ يشنع على من قال هذا فنحن نقول هنا: لما ذكر المصنف النسب وذكر الرضاع فالقسيم الثالث لهما وهو السببية داخل في التحريم، فلو أنه شبهها بهن فالمعنى موجود في المحرمات من جهة السبب كالمحرمات من جهة النسب. وقوله: (ونحوه). نحو الشيء مثله، أو شبيهه، المراد: نحوه في الجانبين في الأعضاء، وفي التحريم، فنحوه في الأعضاء كاليد والرأس والرجل والظهر وغيرها من الأعضاء المتصلة، ونحوه في المحرمات كالأخت والعمة والخالة وغيرها.

حكم قول: أنت علي حرام أو كالميتة والدم

حكم قول: أنتِ عليّ حرام أو كالميتة والدم قوله: [أو أنتِ عليّ حرام]. هذه الكلمة اختلف العلماء رحمهم الله فيها، وهذه المسألة فيها ما لا يقل عن عشرة أقوال لأهل العلم رحمهم الله، وكان يحكي بعض العلماء أن هذه المسألة بلغت عشرين قولاً من كلام السلف والخلف رحمهم الله، وهي قول الرجل لامرأته: أنتِ عليّ حرام، أو أنتِ مني حرام. أو: أنتِ لي حرام. وبعضهم يلحق بها: أنتِ الحرام، وحرمتكِ، وأنتِ محرمة، وعليّ الحرام منكِ، ونحو ذلك. فهذه الألفاظ اخُتلف فيها، فبعض العلماء يقول: توجب الطلاق. ثم اختلفوا على أقوال: فمنهم من يقول: تقع ثلاث تطليقات. ويروى هذا عن بعض السلف منهم عمر رضي الله عنه وأرضاه، ومنهم من يقول: طلقة بائنة. ومنهم من يقول: طلقتان، ومنهم من يقول: طلقة إن نوى فيها. ثم قال آخرون: إنه ليس بطلاق، وإنما هو لغو لا شيء على قائله وبه قالت الظاهرية وغيرهم. ومنهم من يقول: إنه يمين يوجب الكفارة. وهذا مأثور عن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وغيره. ومنهم من يقول: إنه إذا قال لها: أنتِ عليّ حرام فظهار، ويروى عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، واختار هذا القول الإمام أحمد بن حنبل. والحقيقة أن هذه المسألة ذكرنا الأقوال فيها والأدلة والمناقشة والردود في باب الطلاق، والصحيح في هذه المسألة أن هذا الكلام ليس بظهار مطلقاً، وإنما العبرة بالنية، فإن قال: أنتِ عليّ حرام قاصداً الطلاق فطلاق، ثم ينظر في قصده إن قصد الطلقة فطلقة، وإن قصد الطلقتين فطلقتين والثلاث فثلاث، إلا أن فيه وجهاً أن الطلقة تكون بائنة كطلقة الفسخ. وأما إذا قال: قصدت الظِهار فإنه ظهار، وإذا قال: لم أقصد شيئاً فالأشبه والأفضل أنه يكفر كفارة يمين خروجاً من الخلاف، وهناك وجه بأنه لا شيء عليه؛ لأن الله لم يحرمها؛ لأنه إذا قال: أنتِ عليّ حرام لم يوافق الأصل الشرعي، فليست بحرام حقيقة ولا شرعاً. فهذا ما يقال في قوله: أنتِ عليّ حرام، ويستوي في هذا: أنتِ حرام، وأنتِ الحرام، وحرمتكِ، وأنتِ عليّ أو مني أو معي. قال: [أو كالميتة والدم]. قوله: [أو كالميتة] إذا قال لها: أنتِ عليّ كالميتة، فهذه ألحقوها بقوله: أنتِ عليّ حرام، والحنابلة قياساً يرون قوله: أنتِ الحرام ظهاراً، وعندهم قول الصحابي حجة، فلما أفتى عثمان بأنه ظهار قالوا: إن هذا يدل على أن لفظ التحريم في الأصل يقتضي الظِهار، فإذا ذكر محرماً كالميتة والخنزير والخمر فشبهها به يكون في حكم الظِهار. ومنهم من يقصر على الميتة. لكن الصحيح ما ذكرناه، فإذا قال لها: أنتِ كالميتة يسأل عن نيته. وعند المالكية رحمهم الله إذا قال لها: أنتِ كالميتة فإنه طلاق بالثلاث فتحرم عليه. وهذا قول قوي جداً، وهو أنها تكون محرمة عليه بالثلاث، بخلاف قوله: أنتِ عليّ حرام، أما أنتِ عليّ حرام فتدخل في الاحتمالات؛ لأن الله قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1] ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2]، لكن إذا قال لها: أنتِ كالميتة، فهذا الوجه في تشبيهه إذا قصد به الظِهار فظهار، وإذا قصد به الطلاق فطلاق، لكنه أشبه ما يكون أن يقع ثلاثاً. لكن لو قال لامرأته: أنتِ عليّ كالميتة فهنا أمر ينبغي التنبيه عليه، وهو أن القاضي يعزره ويؤدبه، فإذا رأى تأديبه بالسجن سجنه، أو بالضرب ضربه، أو بالتوبيخ وبخه، فلابد أن يزجره؛ لأن هذا مما يوجب التعزير عند العلماء رحمهم الله. قوله: [والدم] كذلك لو قال لها: أنتِ عليّ كالدم. قوله: [فهو مظاهر] أي: كل ما تقدم يحكم بكونه مظاهراً.

حكم قول الزوجة لزوجها: أنت علي كظهر أبي

حكم قول الزوجة لزوجها: أنتَ عليَّ كظهر أبي قال رحمه الله تعالى: [وإن قالته لزوجها فليس بظهار وعليها كفارته] في هذه الجملة سيبين المصنف رحمه الله أن الظِهار لا يصح إلا من الزوج، فلا يصح من الزوجة أن تظاهر من زوجها بأن تجعله في مقام أبيها أو أخيها أو ابنها، أو نحو ذلك ممن هم من القرابة، وعلى هذا جماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله، واستدلوا بقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:2]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:3]. فدلت هذه الآية الكريمة على أن الظِهار إنما يقع من الزوج لزوجته، ولهذا لو قالت المرأة لزوجها: أنتَ عليّ كأبي، أو أنتَ عليّ كأخي، أو نحو ذلك فليس بظهار. قوله: (وعليها كفارته). اختلف العلماء رحمهم الله في الواجب عليها، فجمهور الأئمة على أن المرأة لو خاطبت زوجها وقالت له: أنتَ عليّ كأبي قاصدة الظِهار، فإنه لغو ولا شيء عليها، فلا كفارة يمين ولا كفارة ظهار، وإنما قالت منكراً من القول وزوراً مما لا يعتد به ولا يشتغل به، ولكن لا شك أنها قالت أمراً يحرم عليها قوله، فتستغفر الله وتتوب إليه. وذهب طائفة من العلماء إلى أنها لو قالت لزوجها: أنت عليّ كأبي، فإنها تكفر كفارة اليمين، كما قاله الإمام الأوزاعي الفقيه الشامي المشهور. وقال بعض العلماء: بل تكفر كفارة الظهار. والصحيح القول الأول: أنه لا كفارة عليها؛ لأن الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على ثبوت كفارة الظِهار في الظِهار المعتبر، وهذا ليس بظهار، وثبوت كفارة اليمين في اليمين المعتبرة، وهذا ليس بيمين، وبناءً على ذلك فإنه لا يصح إلحاقها بالزوج في إيجاب الكفارة عليها. ولذلك لو قال رجلٌ لامرأته: أنتِ عليّ كظهر أمي لزمته الكفارة بالعود -أي: بالجماع- ولم تلزمه لمجرد القول، فما دام أنهم يقولون: إن الظِهار لا يقع فمعنى ذلك أنها تعود إلى زوجها، ولذلك يقوى القول بأنه لا تجب عليها الكفارة أصلاً، وأن هذا لغو، ولا شيء عليها إلا الندم والاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل. وهذا إذا لم تقصد بقولها: أنت عليّ كأبي التكريم؛ لأنها ربما قالت لزوجها وبعلها -من باب الإكرام-: أنتَ عليّ كأبي. أو أرادت أن تعزه وتجله فتقول له: أنت في مقام أخي، أو: أنت عليّ كأخي، ولا تقصد بذلك تحريماً.

الأسئلة

الأسئلة

حكم قول الزوج: أنت علي حرام كحرمة مكة

حكم قول الزوج: أنت علي حرام كحرمة مكة Q قول الرجل لامرأته: أنتِ حرام عليّ كحرمة مكة، هذا يكون طلاقاً أو ظهاراً؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالتحريم ذكرنا فيه الخلاف بين العلماء رحمهم الله، وهنا شبه تحريمها بمحرم؛ لأن مكة لها حرمة، وأصل الحرام مأخوذ من: حرم الشيء يحرم حرمة فهو حرام، والحرام هو الممنوع؛ لأن مكة لها حرمة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس) وقال -كما في الصحيحين-: (إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض). فهذا يدل على أن لها حرمة، وتشبيه الزوجة بأنها محرمة عليه وممنوعة منه كالممنوع من مكة مما حرم الله عز وجل لا يختلى خلاها ولا يقطع شوكها ولا يسفك بها الدم، هذا وجه شبه واضح من جهة التحريم، فالمعنى فيه كما لو شبهها ببقية المحرمات. وأما هل هو ظهار؟ أم طلاق فهذا يفصل فيه على ما تقدم من خلاف العلماء رحمهم الله في مسألة التحريم، وهو أنه يسأل عن نيته إن قصد به الطلاق فهو طلاق؛ لأنها تحرم عليه وتمنع منه كما حرم أي شيء من المحرمات، فإذا قصد به الطلاق فهو طلاق، وإن قصد به الظهار فهو ظهار؛ لأن المعنى موجود، وإن قصد به اللغو فقال: خرج مني هذا اللفظ ولا أقصد معناه فلغو، لكنه يعزر. والله تعالى أعلم.

حكم ثقب إذن المرأة لتعليق الذهب

حكم ثقب إذن المرأة لتعليق الذهب Q ما حكم ثقب الأذن للنساء لتعليق الذهب وغيره؟ A هذه المسألة فيها خلاف، لكن جمهور العلماء وجماهير أئمة السلف والخلف على جواز ثقب أذن المرأة من أجل وضع الحلي، والذين قالوا: إنه لا يجوز؛ قالوا لأنه مثله وتعذيب للصبية، وتعذيب للإنسان نفسه إذا كان كبيراً ولأن الزينة مرتبة كمالات، وتعذيب البدن لا يجوز إلا في الضروريات والحاجيات. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من جواز ثقب أذن الصبية، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها في حديث أم زرع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عن أم زرع أنها قالت: (وأناس من حُلِيِّ أذني) وهذا لا يكون إلا بالقرط المعلق في الأذن، وفي الصحيحين من حديث بلال رضي الله عنه: (فجعلن يلقين من حليهن وأقراطهن)، والقرط لا يثبت في الإذن إلا بالوخز والحفر، فهذا الدليل يدل على مشروعية وجواز ثقب أذن الصبية، ولا بأس في ذلك ولا حرج فيه. والله تعالى أعلم.

حكم إنزال الجنين في الشهر الأول لعذر

حكم إنزال الجنين في الشهر الأول لعذر Q إذا حملت المرأة في الشهر الأول وأرادت أن تسقط حملها لأنها مريضة، هل يجوز لها القيام بذلك؟ A في إسقاط الجنين قبل الأربعة الأشهر الجمهور على أنه لا يجوز؛ إعمالاً للأصل، ومن العلماء رحمهم الله من رخص بجواز إسقاط الأجنة قبل الأشهر الأربعة، ومن حيث الأصول الشرعية لا شك أنه لا يجوز التعرض للأجنة إلا بدليل شرعي واضح. وحديث ابن مسعود: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه) يدل على أنه خلق، والجمع هذا جزء من الخلق، ولا يجوز التعرض للخلق، والشريعة لا تجيز للأطباء أن يتدخلوا في أبدان الناس إلا في جانبين: الجانب الأول: الطب الوقائي. والجانب الثاني: الطب العلاجي والدوائي. وغير هذين الجانبين لا يجوز للطبيب أن يتدخل في بدن الإنسان، ولذلك نقول: قالوا في تعريف الطب المشروع: حفظ الصحة حاصلةً واستبدادها زائلة بإذن الله عز وجل، فقولهم: (حفظها حاصلة): هذا الطب الوقائي، فالطبيب يعطي المريض إرشادات ونصائح تحافظ على صحته ولا يبتلى بمرض، فهذا من حفظ الصحة حاصلة. وقولهم: (واستبدادها بإذن الله زائلة) كمريض أصابه المرض يعالج، وغير هذين الجانبين عبث، وتدخل في خلق الله عز وجل، واعتداء على حدود الله ومحارمه. فلا يجوز للأطباء أن يقدموا على شيء يخرج عن هذين الهدفين، وما خرج عن هذين الهدفين يعتبر تدخلاً في خلق الله عز وجل مثل العبث في الجينات الوراثية، ومثل تغيير صفات الجنين قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فقوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ} [الأعراف:54] هذا أسلوب حصر وقصر، أي: ليس لأحد أن يتدخل في الخلق، فالخِلقة للخالق، فهو الذي يصور، وهو الذي يدبر سبحانه وتعالى {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]. فإذا جاء الطبيب يريد أن يتدخل في الخلقة جاءته اللعنة، ولذلك لعن النبي صلى الله عليه وسلم الواشرة والمستوشرة والمتفلجة، وهي المرأة لا تستطيع تفلج أسنانها إلا بطبيب يحسن ذلك، فلعن الله المرأة التي تفعل، ولعن الله من يقوم بذلك الفعل، الواشرة والمستوشرة والواصلة والمستوصلة، كلهن مغيرات للخلقة، ثم قال في: (المغيرات خلق الله). والطبيب يحافظ على الصحة في الأبدان، ويدفع عنها بإذن الله؛ عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله)، وأمر إنزال الجنين خرج عن هذا فليس بطب بل هو عبث ومجاوزة للحدود الشرعية، فالخلق إذا تخلق في بطن الأم نقول: فيه تفصيل، ولو كان يعرف الجنين بليلة واحدة، فلا نستطيع أن نقول: افعل أو لا تفعل إلا بنص شرعي، فهذه أبدان لها حرمات، وهذه أمور لا يجوز التسرع فيها؛ لأنها خلقة الله عز وجل، ولذلك قال الله تعالى كما في الحديث: (فليخلقوا حبة وليخلقوا شعيرة) تعظيماً منه سبحانه وتعالى لما يفعله المصورون، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)؛ لأنه تدخل في الخلقة، ولو بالمشاكلة، فحينما يرسم تمثالاً، أو يرسم صورة تأتيه اللعنة ويعذب (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي). فإذا كان هذا في مشاكلة الخلقة فكيف بالذي يتصرف بالخلقة نفسها، فهذه أمور لا تجوز، وهناك أمور ينبغي أن يسلم بها تسليماً، فنقول لهم: افعلوا كل شيء فيه مصلحة أو دفع مضرة، فإذا جئتم في أمر خارج عن هذا فليس من اختصاصكم. فإن قال: نريد أن نتصرف في هذا الجنين، أو: نريد أن نسقطه نقول: أعطونا المبررات، كما لو كان خوفاً على الأم فعلاً وقرر ذلك الأطباء، ويسمى هذا النوع من الحل الحل المنتدب والمهاجر والقانوني. فإن حملت فتخلق الجنين في القناة، وغلب على الظن أنه سينفجر ويقتل الأم ويموت، فلا الجنين باقٍ ولا الأم باقية، فلهذا المعنى يمكن أن يتدخل الطبيب ويسقط الجنين، فلا يتدخل إلا لحفظ النفس المحرمة، ومحافظة على الروح، وهذا له مبرور. فهذا إجراء وقائي وداخل تحت الطب الوقائي، لكن أن يقال: ثبت ومن خلال الجينات والمعادلات أن هذا الجنين مشوه، فإن هذا ليس من اختصاصك، فالكون له رب، والخلق له رب يدبره ويصرفه، فلست أنت الذي تستدرك على الله عز وجل، وكم من مشوه في الخلقة فاق الكامل بصيرة وعلماً وخبرة، فـ عطاء بن أبي رباح إمام من أئمة السلف، وديوان من دواوين العلم كان أشل أفطس مولى رحمه الله برحمته الواسعة، فالذي يأخذ ويعطي هو الله، وهذه أمور لها حكم ولها أسرار، فترى شخصاً مشلولاً فإذا رأيته تذكرت نعمة الله عليك، فهذه أمور لها حكم ترفع درجات المبتلى، وينبه غير المبتلى. وهي أسرار وحكم إلهية ليست من اختصاص الأطباء، والأطباء لهم علم معين محدود لكن هناك أمور إلهية وأمور عقدية، وأمور لها تبعات، ولها أسرار وحكم، ولا يستطيع أحد أن يقف عليها. ولذلك ينبغي أن يتقيد بهذا الأصل، وأقول من ناحية شرعية: إنه ينبغي على الإنسان أن يعلم أنه لا يحل لأحد أن يتصرف في خلقة الله عز وجل إلا بدليل شرعي، فإذا وجد الدليل الشرعي سار وفقاً له، فإن قالوا: لا ينفخ الروح فيه إلا بعد مائة وعشرين يوماً فهل نفخ الروح شرط في جواز إسقاط الأجنة، بحيث يجوز إسقاطها قبل؟! فأين المسوغ الشرعي للتصرف؟ وفي بعض الأحيان تجرى بعض العمليات بالكشف عن العورة، أو بالإيلاج في العورة، أو بالنظر إلى العورة، فأين الأدلة التي تعطي هذه المبررات؟! حتى إن بعض الأطباء يفتي بالجواز، دون النظر في حقيقة الإسقاط وطريقته والمحاذير الموجودة فيه، فهل كل امرأة جاءت تشتكي من أنها تتألم أو تجد بعض المتاعب في حملها نعطيها حبوباً لمنع الحمل أو نسقط أجنتها؟ فهذا كله مخالف للأصول الشرعية. الأصول الشرعية والضوابط الشرعية ينبغي للأطباء والعلماء أن يتقيدوا بها، وإسقاط الأجنة ليس أمره من السهولة بمكان، وعلى كل عالم أن يذكر الناس بنعمة الله في الولد، أو يذكره بالعقيم الذي لا ينجب، وأن يذكر المرأة بالعقيم التي لا تنجب، وأن المسألة فيها أجور وحسنات، فالحمل كره والوضع كره، فلا يوجد حمل مبني على الراحة والطمأنينة. ولماذا جعل الله فضل الأم على الأب مضاعفاً؟ ولماذا جعل الله طاعتها من البر والحق؟ وجعل لها رفعة الدرجة حتى جعل النفساء التي تموت في نفاسها شهيدة، فأعلى درجتها ومكانتها لهذه الأمور، وهذه أمور قدرها الله عز وجل لا يتدخل الإنسان فيها طبيباً ولا غيره، حتى الأصول الشرعية العامة تمنع، فعندما يتأمل أي إنسان عنده ذرة من الفقه أن مقصود الشرع تكثير نسل وسواد الأمة يعلم أن هذا مصان. حتى النكاح ما وجد إلا من أجل كثرة الأمة، فكيف يقال: يجوز أن تسقط؟ وبكل سهولة تأخذ المرأة حبوب منع الحمل، وتأخذ ما يسقط الأجنة، وتعمل العمليات التي تسقط الأجنة، وكل هذا بناء على أن الجنين لم يكتمل خلقه إلا بعد مائة وعشرين يوماً. مع أن حديث ابن مسعود فيه اختلاف في اللفظ، ويحتمل أن النفخ يكون في الأربعين يوماً. وهذا أمر ينبغي أن يدرك، حتى إن بعض الأطباء يستشكل هذا، وعلى كل حال فالذي أريد أن أنبه عليه ألا يتوسع في الفتاوى، وأن تدرس بعمق، وأوصي طلاب العلم -خاصة في هذا الزمن- بعدم قبول أي فتوى طبية تصدر دون أن يكون الذي أفتى بها قد جلس مع الأطباء، ودرس وعرف المصلحة أو المفسدة من تلك الفتوى. وأنا أحببت أن أنبه على هذا لأهمية الأمر، ووالله ثم والله إنه لأمر يحزن أن تجد المسلمين يتناقصون وأعداء الإسلام يكثرون، ففي بلاد الكفر لا يمكن أن تصرف حبوب منع الحمل إلا بوصفات طبية، وتحت إشراف الأطباء، ونحن على عكس ذلك، وهم لا يريدون من المسلمين أن يكثروا. والمرأة تجدها تشتكي تقول: إنها قد كان منها حمل قبل ذلك. ولا تنظر إلى أمها التي حملت أربعة عشر ولداً، ومن النساء من أنجبت عشرين ولداً، وأنجبت وهي ترعى الغنم في الصحراء والقفار، وما ازدادت الأمة إلا عزة ومنعة وكرامة، لكن هذه أمور ينبغي أن تدرس بعناية، وعلى من يفتي فيها أن يكون عنده إلمام ونضج تام بالأمور الشرعية. فالخلقة خلقة الله، والمسألة عقدية يرد فيها اللعن. فالشاهد من هذا كله مدى خطورة الأمر؛ لأنه متعلق بالاعتقاد. والقضية الأخيرة التي أنبه عليها أنه قل أن تجد أحداً يسأل في مسائل إسقاط الأجنة من النساء أو الرجال إلا وجدت عنده خللاً في الاعتقاد، إلا من كان له مبرر شرعي. فامرأة لا تريد الولد، وفي الظاهر تقول: الأولاد أتعبوني هي امرأة تنظر إلى المادة وتنظر إلى المال، فينبغي للفقيه أن يدرك وأن يكون بعيد النظر، فهذه ليست مبررات، وكل امرأة تعلم أن هناك تعباً وعناءً، لكن المسألة راجعة إلى فساد الاعتقاد. ولذلك كان بعض مشايخنا يقول: يرد الشرع باللعن على الواشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجة بالحسن المغيرة لخلق الله عز وجل؟ قال: لما تأملت وجدت الأمر يرجع إلى الاعتقاد؛ لأن التي نمصت شعر حاجبها، أو شعر وجهها، أو التي تفلجت بحسن كأنها لم ترض بخلقة الله عز وجل لها بهذا الشكل، ولذلك جاء في آخر الحديث: (المغيرات خلق الله)، فجعل الأمر راجعاً إلى محبة تغيير الخلقة. فعلى كل حال علينا أن نتقي الله عز وجل، وأن نعلم علم اليقين أن ما نقول عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم كل ذلك سنحاسب عنه، وأن المسائل الاجتهادية والأمور التي تنبني على الرأي ينبغي أن تفهم، وأن يكون هناك تصور كامل للوقائع والنوازل، وألا تستغل الفتاوى، وأن يكون هناك علم وبصيرة عند تناول المسائل، خاصة المستجد منها. ومن الأمور التي ينبغي للفقيه والعالم أن يدركها أنه كلما أكثر من الجلوس مع الأطباء تكشفت له أمور لم تكن له بالحسبان، وقد تجد أقوالاً متناقضة، فتجد الأول يقول لك: هذه عملية بسيطة، وما فيها شيء، ونسبة النجاح فيها (90%)، وتجد الثاني يقول لك: هذه عملية خطرة، ونسبة النجاح فيها (30%). فتجد التضارب الذي تستطيع أن تصل به إلى الحق في الأمر، وتكون أنصح للأمة وأتقى في فتاويك وفي أقوالك، وأنا أوصي بذلك طلاب العلم؛ لأن بعض الناس أصبح يتس

حكم قضاء الوتر وقت الضحى واندراج الضحى في القضاء

حكم قضاء الوتر وقت الضحى واندراج الضحى في القضاء Q رجل فاته الوتر من الليل ثم قضاه بعد طلوع الشمس -أي: في وقت الضحى- فهل يقوم قضاؤه هذا مقام صلاة الضحى أم لا؟ A النوافل تنقسم إلى قسمين: نوافل مقصودة، ونوافل غير مقصودة. فالنوافل المقصودة التي يتحقق مقصود الشرع في الاندراج فيها يحكم فيها بالاندراج، والنوافل التي لا يتحقق بها مقصود الشرع في الاندراج لا يحكم فيها بالاندراج. فمثلاً قال صلى الله عليه وسلم: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك ... ) الحديث، فلو صلى الضحى، أو صلى راتبة الظهر القبلية أو البعدية، وبعدها استخار يصح؛ لأنه قال: (فليركع ركعتين من غير الفريضة). وقال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين)، فلو دخل وصلى راتبة الظهر القبلية أجزأت عنه؛ لأن مقصود الشرع ألا يجلس حتى يصلي، لكن إذا كان مقصود الشرع الراتبة بعينها -أي: للنافلة بعينها- فبالاندراج لا يحصل مقصود الشرع، فلا يحكم بالاندراج. ومن ذلك: مسألة الوتر، فإن الوتر إذا قضي في النهار يشفع، فيضيف ركعة واحدة ويصلي ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في حديث عائشة رضي الله عنها- صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة، وكان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة. فدل على أن قضاء الوتر في النهار يكون شفعاً، فإذا صلى الوتر فالصلاة ليلية في الأصل وليست بنهارية، ومقصود الشرع في كلا الصلاتين معتبر، فلليل صلاته وللنهار صلاته، وحينئذٍ لا يحكم بالاندراج، فيصلي الضحى بركعتين خاصتين على الأقل، وإن شاء أن يزيد بأربع، أو ست، أو ثمان إلى اثنا عشر فإنه أفضل وأكمل، وأما للاندراج فإنه لا يتحقق في مسألة قضاء الوتر. والله تعالى أعلم.

حكم إعطاء الزكاة في شراء بضاعة لمن لديه بقالة بها بضاعة قليلة حتى يتحسن دخله

حكم إعطاء الزكاة في شراء بضاعة لمن لديه بقالة بها بضاعة قليلة حتى يتحسن دخله Q أخي معاشه لا يكفيه هو وعائلته، وعنده بقالة بها بضاعة قليلة، فهل يجوز أن أعطيه من زكاة المال لكي يشتري بضاعة للمحل فيتحسن دخله ومعاشه؟ A لا يجوز صرف الزكاة لأخيك إلا إذا أصابه النقص في نفقته على ولده، فتعطيه المال من باب استخدامه في الإعانة ثم هو وشأنه إن أراد أن يصرفه في الدكان، أو أراد أن يصرفه في تجارة، لكن لا تشتر أنت له البضاعة، ولا تقل له: خذ هذا المال واشتر به بضاعة. فإذا كان الأخ عنده -مثلاً- مال، أو سيارة يستخدمها أجرة، ودخله في اليوم -مثلاً- ثلاثون ريالاً، وهو مع أسرته يحتاج إلى خمسين ريال، فالعجز عنده يصل إلى العشرين، ففي هذه الحالة تعطيه زكاة تغطي هذا العجز، وكونه يملك هذا الشيء لا يمنع أن يكون من أهل الزكاة؛ لأن الله تعالى يقول: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [الكهف:79]، فأثبت أنهم مساكين مع أنهم يملكون سفينة. وهذا يدل على أن الأمر يتأثر بالعرف، فإذا جرى العرف أنه يكون في حدود المسكنة فهو مسكين، فإذا كان لا يكفيه دخل الدكان تعطيه من الزكاة على أنه سد لعوزه وعجزه، والفرق بين كونك تعطيه على أنه سد لمسكنة أو فقر وكونك تعطيه من أجل الدكان أنه ربما كان الدكان يحتاج لإصلاحه إلى خمسة آلاف ريال، وهو في عجزه يحتاج إلى ألفين، فحينئذٍ واجب أن تعطيه الألفين ولا تعطيه الثلاثة الآلاف الزائدة، وإذا أعطيته الثلاثة الآلاف وجب عليك قضاؤها؛ لأنها ليست بزكاة. فهذا إذا كان عنده عجز، لكن إذا كان يريد أن يشتري بضاعة هناك حل آخر، وهو أنه يمكن أن يتحمل ليشتري هذه البضاعة ويستدين بالدين، فإذا وقع في الدين وكان هذا في حدود ما يصرح به دون زيادة فإنه في هذه الحالة يجوز أن تسدد من دينه على قدر حاجته وسد عوزه، وهذا من باب سهم الغارمين، فتعطيه سداداً لدينه من جهة الغرم؛ لأن الغرم إذا كان لسبب شرعي ليس فيه سفه أو حرمة فإنه يجوز صرف الزكاة سداداً للدين فيه. والله تعالى أعلم.

كيفية الجمع بين إنكار المنكر وستر المسلم

كيفية الجمع بين إنكار المنكر وستر المسلم Q كيف نميز بين إنكار المنكر وستر المسلم؟ A يمكن أن تنكر المنكر وتستر، فإذا رأيت عاصياً ارتكب معصية وأطلعك الله على معصيته. جئته وقلت له: يا فلان اتق الله! فهذا الذي تفعله لا يجوز، ولا يرضي الله عز وجل، فخف من الله سبحانه وتعالى. فتأمره وتنهاه، ثم تستره، فلا تذهب تقول للناس: فعل فلان. وهنا أنبه -كما يذكر بعض العلماء رحمهم الله- أنه كم من مذنب شقي الصالح بذنبه، فتجده مذنباً لكنه في قرارة قلبه نادم، ويتألم على هذا الذنب، ويتمنى أن الله يعافيه، ويبكي كلما أصاب الذنب، ويسأل الله أن يغفر له وأن يرحمه، وآخر يشمت به، ويكشف ستر الله عز وجل عليه، ويجلس في المجالس يتحدث عنه إما تصريحاً وإما تلميحاً، حتى -والعياذ بالله- يأخذ من حسناته على قدر ظلمه له حتى يشقى والعياذ بالله. فهذا من الشقاء؛ لأنه -والعياذ بالله- يتحمل السيئات بشماتته بالمذنب، فهذه مصيبة عظيمة، نسأل الله السلامة والعافية، فيخسر من حسناته، ولربما فنيت حسناته بالكلام في الناس، كما قالوا: رب قائم صائم حسناته إلى غيره، نسأل الله السلامة والعافية، وكل هذا بآفات اللسان التي يطلقها الإنسان في عورات المسلمين دون رادع وخوف. وأعظم ما يكون كشف الستر إذا كان في الأمانات، فلو جاء شخص وبث له سراً من أسراره فإن تكلم بذلك وأخبر به فقد خان وضيع الأمانة، ووزره عظيم، وبعض أئمة المساجد والخطباء يأتيه المذنب ويتكلم معه، فيذهب يقول: فلان يفعل. وهذا من أعظم الذنوب، ومن أعظم الخيانة للأمة. وحدث للوالد رحمة الله عليه حادثة ذات مرة أنه كان معه شخص يستفتيه في مسألة، وكنت صغير السن، فسألته عن بعض ما استفتاه، فقال لي: يا بني! والله لو ضربت مني هذه ما أخبرتك، فهذه أسرار وعيوب الناس. فوالله ما نشأت من الصغر إلا وأنا أستشعر هذه الكلمة، وقلّ أن يأتي أحد عنده مشكلة زوجية، أو أمر خاص إلا تذكرت قوله: لو تضرب مني هذه ما أفشيت منها سراً. فهذا أمر عظيم جداً، فالذي يكتب للقاضي عليه أن يتقي الله، وأي شخص يبتلى بمسئولية أمام الناس فتأتيه أسرارهم فلا يهتكها، ولو كانوا عصاة، ولو كان مجرمين فلا تتكلم فيهم وتهتك ستر الله عز وجل عليهم. ولذلك لما تنتشر الأخبار بالسيئات يدمر المجتمع، ولذلك قال سفيان الثوري رحمه الله: إنكم تسمعون عن الرجل زلة فلا تنشروها؛ فإنها ثلمة في الإسلام. فالله ستيّر، ويحب الستر من عباده، وهو الذي ستر المذنب وأمده بعفوه وعافيته، وهو قادر أن يخسف به الأرض التي هو عليها. فالمقصود أن الإنسان دائماً يحرص أن ينكر المنكر وأن يستر أخاه المسلم، ولذلك لما جاء ماعز واعترف بأنه زنا -وقد حرضه قومه على ذلك حتى جاء- قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ هزال: (هلا سترته بثوبك). فالله يحب الستر على عباده وأمر بالستر، فالإنسان يمكنه أن ينكر المنكر ويستر أخاه المسلم، حتى لو أنك جلست مع أخيك لحظة ورأيت فيه عيباً في كلامه، أو ملاحظة عليه في شيء فلا يجوز لك أن تخون هذه الأمانة، وإذا استأثر بك ودخلت عليه في غرفته وسكنه، ورأيت أموراً خاصة، فهذه كلها أسرار، وما قام الدين إلا على التعظيم لحرمات الله عز وجل، وقد وصف الله أهل الجنة بأنهم حافظون لحدود الله عز وجل فيما بينهم وبين الله عز وجل، وفيما بينهم وبين الناس. ومما يعينك على أنك تستر الناس أن تنزل نفسك منزلة هذا الرجل، أو أن تنزل المرأة نفسها منزلة هذه المرأة، فما الذي تحب منها، وما الذي تنتظر منها؟ ولذلك أحب الله الستر، ومن حبه سبحانه للستر أنه يستر من ستر عباده، وأعان من سترهم. حتى إن الشخص يستر فيأتيه الشيطان يقول له: تكلم، وقل كذا، فيأتيه الشيطان يأزه لأجل هذا، فالله يمده بعونه، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، فالله يعينك في مدة عونك لأخيك، فمن عونك لأخيك أنه كلما رأيت أمراً فيه خير لأخيك المسلم وجب عليك أن تفعله، والشيطان يمنعك من فعله ويأتيك بمبررات، حتى إن الشيطان في بعض الأحيان يسول للإنسان المعصية باسم الطاعة، وهذا أمر -نسأل الله السلامة والعافية- يزين فيه سوء العمل ويجعله حسناً. فعلى كل إنسان أن يتقي الله عز وجل، وأن يعلم أن الستر يحبه الله عز وجل، وكم من قضايا نعرفها والله ما صلحت أحوال أهلها إلا بفضل الله ثم بالستر، وكم من بيوت استقامت، وكم من أسر حفظت، حتى إن رجلاً كان مبتلى -والعياذ بالله- بشرب الخمر، وشاء الله عز وجل أن يقع في يد رجل صالح وكان من أسرة طيبة، فكاد أن يفضح، فقام هذا الرجل الصالح وستره قبل أن تبلغ الحدود إلى السلطان، فقام وستره ونصحه وذكره بالله عز وجل، ثم رده إلى بيته وهو في حال السكر، ولما أصبح الرجل وعلم بالحقيقة جاء إليه وبكى عنده، وعاهد الله عز وجل ألا يعود إلى الخمر، واهتدى وصلح حاله، وهذا بفضل الستر عليه. وكل العلماء متفقون مجمعون على أن الرجل لو رأى رجلاً يزني بامرأة في ستر الله عز وجل فالأفضل والأكمل ستره ما لم يكن فاجراً ينشر الفاحشة، أو امرأة -والعياذ بالله- تقود إلى بيتها وتفتح بيتها للدعارة، أو نحو ذلك من المعاصي التي ينتشر خطرها كالمخدرات ونحوها، فهذه لا تستر، ولا يجوز الستر عليها، ولا التستر على أهلها. فنحن نتكلم عن شخص وقع في معصية وذنب فيما بينه وبين الله، من شرب خمر، أو زنا، أو نحو ذلك فابتلي بهذا الشيء، فهو يحتاج إلى ستر، ويحتاج إلى أن تهيئ له الأسباب، فالله يحب الستر، ولا تغتر بالطاعة وأنت تنعم في نعم الله عز وجل فرحاً بما أعطاك الله عز وجل، وتقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاه به، وتحس أن أخاك يقوده الشيطان ويأزه إلى الباطل أزاً، فتمد له يداً أمينة صالحة تنقذه فيها لعل الله عز وجل أن يحجبك بهذا العمل عن النار. إن العبد ليعمل العمل من طاعة الله عز وجل يكون سبباً في دخوله للجنة، وربما يحبه الله بسبب هذا العمل ويكون سبباً في دخوله الجنة، ومن أفضل الأعمال وأحبها عند الله -كما قرره أئمة الإسلام رحمهم الله- الأعمال التي يتعدى نفعها إلى الآخرين. ولذلك جعل الله فضل العلم على العبادة عظيماً؛ لأنه متعد إلى الآخرين ونفعه ديني، ولذلك صرف الله النار عن عبد قاضى الناس وأعطى الناس ديناً، فكان يرحمهم إذا أراد السداد، فتعدى نفعه إلى غيره، فكفاه الله عز وجل ما أهمه، وغفر له ذنبه، وقال: (يا ملائكتي نحن أحق بالعفو من عبدي، تجاوزوا عن عبدي). فالإنسان إذا أحسن إلى الناس فالله سبحانه وتعالى لا ينسى المعروف، وقد قيل: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان فتأسر قلوب الناس بالمحبة لك، فإن كنت إماماً أحبوك، وإن كنت واعظاً رضوا بك، وإن كنت موجهاً قبلوك، وكل هذا بفضل الله عز وجل؛ لأنه ما يستر إلا من سكنت الرحمة في قلبه، وهل الإسلام إلا دين الرحمة قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. فـ ماعز جاء يقول: (يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني -كما في صحيح مسلم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه) وأربع مرات يصرفه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه دين الرحمة ودين الستر، فعلى المسلم أن يحرص على هذه الأعمال الصالحة الطيبة المباركة، ولا يزال العبد بخير ما نوى الخير وفعله لإخوانه المسلمين. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر، ونسأله بعزته وجلاله أن يستر عوراتنا، وأن يؤمن روعاتنا، وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب الظهار [3]

شرح زاد المستقنع - كتاب الظهار [3] جماهير السلف والخلف من الأئمة رحمهم الله على أن الظهار لا يصح إلا من الزوج، فإذا وقع ظهار من الزوجة تجاه زوجها فإنه لا يقع ولا تترتب عليه كفارة، وإنما عليها الندم والاستغفار. وقد نص العلماء رحمهم الله على حرمة أن يطأ المظاهر زوجته قبل أن يخرج الكفارة، واختلفوا في دواعيه ومقدماته، كما أن الراجح في الظهار أنه يصح من كل زوجة ولا يدخل في ذلك الإماء.

تابع أحكام الظهار

تابع أحكام الظهار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

وقوع الظهار من كل زوجة

وقوع الظهار من كل زوجة فيقول المصنف رحمه الله: [ويصح من كل زوجة] أي: يصح الظِهار إذا كان متعلقاً بالزوجة. وقوله: [من كل زوجة] (كل) من ألفاظ العموم، فيشمل الزوجة الصغيرة والكبيرة، ويشمل الزوجة التي قد دُخل بها، أو عقد عليها ولم يدخل بها. كذلك أيضاً يشمل الزوجة الطاهرة والحائض، فيشمل كل من يصدق عليها وصف الزوجة؛ لدليل العموم في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:2]، فأثبت أن الظِهار متعلق بالنساء. والذي يفهم من هذه العبارة أنه لا يصح الظِهار من أجنبية، فلو قال لامرأة أجنبية ليست بزوجة: أنتِ عليّ كأمي، أو: أنتِ عليّ كظهر أمي فإنه ليس بظهار، لكن كونه يخاطب امرأة أجنبية بهذا الخطاب فإنها لو اشتكت إلى القاضي فإنه من حق القاضي أن يُعزِره ويؤدبه لهذا الخطاب. كذلك أيضاً في قوله: [من كل زوجة] نفهم منه أنه لا يصح الظِهار إذا كانت أمة مملوكة، فلو قال لأمة من إمائه: أنتِ عليّ كظهر أمي لا يقع الظهار، ولا تحرم بهذا القول؛ لأن الله عز وجل خص الظِهار بالنساء بقوله: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:2]، والمرأة المملوكة ليست من النساء، وإنما هي من ملك اليمين، ولذلك فرق الله عز وجل بين النساء وبين ملك اليمين كما في آية النور في قوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ. } [النور:31]، وآية الأحزاب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ. } [الأحزاب:50]، ففرق بين النساء وملك اليمين، فلما قال تعالى: (أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) دل على أن ملك اليمين غير النساء. والأصل يقتضي أن مملوكة اليمين -وهي الأمة- لا تأخذ حكم الزوجة من كل وجه، ولذلك لا يتعلق بها الظهار، فإذا لم يتعلق بها الظِهار لا يتعلق بها الطلاق. فصح دليل النظر والأثر على أن الظِهار لا يتعلق بالإماء، ويستوي في الإماء أن تكون أم ولد أو غيرها؛ فإن المرأة إذا كانت موطوءة بملك اليمين فلا توصف بالزوجية، ولا تأخذ حكم الزوجية. وبناءً على ذلك يختص الظِهار بالمرأة التي عقد عليها عقداً شرعياً، سواءٌ أو قع الدخول أم لم يقع. وما سبق تقريره قد ظهر من أقوال بعض العلماء خلافه، فهناك من العلماء من أثبت الظِهار من الأجنبية، وهذا مروي عن بعض السلف وبعض الأئمة، وحفظ ذلك عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه. وكلك أيضاً للأمة، فبعض العلماء يفرق فيقول: إذا كان عنده إماء وقال: أنتن عليّ كظهر أمي لننظر في من كانت منهن يطؤها فإنه يلحق بها الظِهار، والتي لا يطؤها لا يلحق بها الظهار. ومنهم من فرق في الإماء بين أم الولد وغيرها، وهذا كله مرجوح؛ لأن الآية نصت على أن الظِهار متعلق بالزوجات، وبناءً على ذلك لا يتعلق بغير الزوجات. ويبقى السؤال لو قال لها: أمركِ بيدك. ففي الطلاق قلنا لو قال لها: أمركِ بيدكِ فقالت: طلقت نفسي فحينئذٍ يقع الطلاق، لكن لو قال لها: أمركِ بيدك فقالت: أنتَ عليّ كظهر أبي فهل يقع الظهار؟ نقول: لا؛ لأن الآية نصت على أن هذا الحكم خاص بالرجال، ولا يدخله الاستنابة والتفويض كالحال في الطلاق.

ما يصح من أنواع الظهار

ما يصح من أنواع الظهار قال رحمه الله تعالى: [فصل: ويصح الظِهار معجلاً ومعلقاً بشرط]. شرع رحمه الله في صيغة الظهار، فإذا قال الرجل لامرأته: أنتِ عليّ كظهر أمي فإما أن يعجل وينجز، وإما أن يعلق. فالحالة الأولى: أن يكون الظهار منجزاً، فإذا أنجز يقول لها: أنتِ عليّ كظهر أمي، فقد أنجز ولم يعلق ظِهاره على شيء، فيقع الظهار. والدليل ظاهر الكتاب وظاهر السنة، فالأصل في الظِهار أنه يقع منجزاً، والإجماع منعقد على أن صيغة الظِهار المنجزة والمعجلة واقعة إذا صدرت مستوفية للشروط المعتبرة. والحالة الثانية: أن يكون الظِهار معلقاً، والتعليق بشرط كأن يقول لها: أنتِ عليّ كظهر أمي إن خرجت من البيت. أو: أنتِ عليّ كظهر أمي إن كلمت فلانة أو ذهبت إلى كذا، فهذا كله معلق بشرط، فإذا وقع الشرط وقع الظهار، فلو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي إن خرجت من البيت فخرجتْ وقع الظهار، فكما أن الطلاق يقع معلقاً كذلك يقع الظِهار معلقاً، فإذا وقع الشرط حكم بثبوت الظِهار، وجرت الأحكام المعتبرة عليه. قال رحمه الله: [فإذا وجد صار مظاهراً]. قوله: [فإذا وجد] يعني الشرط، وقوله: [صار] أي: الزوج، وقوله: [مظاهراً] لأنه فيما بينه وبين الله علق ظهاره على وجود شيء، ووجد ذلك الشيء، فلزمه ما التزمه فيما بينه وبين الله، وقد تقدم معنا بيان الأدلة على ثبوت الطلاق معلقاً، فكما أن الطلاق يقع معلقاً كذلك الظِهار يقع معلقاً. قال رحمه الله: [ومطلقاً ومؤقتاً]. أي: ويصح الظِهار مطلقاً ومؤقتاً، يعني التقسيم في قوله: [معجلاً ومعلقاً بشرط] فالمطلق أن يقول لها: أنتِ عليّ كظهر أمي، فهذا مطلق، فلم يقل: في الليل، ولا: في النهار، ولا: في اليوم، ولا: غداً، فما علق ولا قيد. وقوله: [ويصح مقيداً ومعلقاً] كأن يقول: أنتِ عليّ كظهر أمي هذا الشهر. أو: أنتِ عليّ كظهر أمي هذا الأسبوع، أو: أنتِ عليّ كظهر أمي هذا اليوم. فإذا جاء مقيداً -وهو المعلق بوقت معين- نقول له: إن امتنعت من قربانها وإتيانها طيلة هذا الوقت فلا شيء عليك، فكما أنه لم يقع وطء، ولا عزم على الوطء، فحينئذٍ إذا مضى الشهر حلت له وارتفع الظهار؛ لأنه جعل كونها محرمة عليه كحرمة الأم مؤقتاً بوقت معين، وهذا الوقت المعين المحدد يتقيد به الحكم الشرعي بالظِهار، فبيّن رحمه الله أن الظِهار المقيد بوقت أو بزمان يتقيد بذلك الزمان، فإن مضى هذا الزمان كاملاً وانتهى فإنه ينتهي الظِهار بانتهائه. لكن لو أنه قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي شهر جمادى الأولى، أو: أنتِ عليّ كظهر أمي شهر رمضان، وأراد في رمضان أن يجامعها، وأن يعود إليها أو يمسها فإنه حينئذٍ تلزمه الكفارة، ما دام أنه قيّد الظِهار بشهر رمضان وأراد أن يعود وحصل منه العود في رمضان، لكن لو أنه سكن وصبر حتى انتهى رمضان يرتفع الحكم وتعود حلالاً له؛ لأنه جعل ظهاره مقيداً بزمان فيفوت بفواته. قال رحمه الله: [فإن وطأ فيه كفّر]. قوله: [فإن وطأ فيه] يعني في الزمان الذي علق به أو قيد. وقوله: [كفّر] أي: لزمته كفارة الظهار؛ لأنه سيأتي أن كفارة الظِهار لا تلزم إلا بالعود؛ لأن الله تعالى جعل العود شرطاً في وجوب الكفارة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3]، فجعل لزوم الرقبة ووجوبها على الزوج مقيداً بالعود، وهذا هو شرط الكفارة، وسيأتي إن شاء الله بيانه. وإذا ثبت هذا أنه شرط الكفارة فحينئذٍ لو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي هذا الشهر، أو أنتِ عليّ كظهر أمي هذه الساعة، أو هذا اليوم، ومضى اليوم كاملاً دون عود فلا كفارة. قال رحمه الله: [وإن فرغ الوقت زال الظهار]. قوله: [وإن فرغ الوقت] أي: الذي علق وقيد به، وقوله: [زال الظِهار] أي: رجعت حلالاً له، ولا تلزمه كفارة.

ما يحرم على المظاهر من زوجته قبل التكفير

ما يحرم على المظاهر من زوجته قبل التكفير قال رحمه الله: [ويحرم قبل أن يكفّر وطء ودواعيه ممن ظاهر منها]. يحرم على الزوج إذا ظاهر من زوجته أن يطأها قبل أن يكفر بنص القرآن: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3]، فألزم الله الكفارة قبل حصول المسيس، وهو كناية عن الجماع. وقال بعض العلماء: يدخل في حكم الوطء مقدمات الوطء، ومن أهل العلم من خص الحكم بالوطء نفسه، والخلاف في قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3] هل المراد بقوله تعالى: {أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3] الجماع أم لا؟ لأن الله عبر بالمس عن الجماع فقال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة:237]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] فيعبر بالمسيس عن الجماع. ولذلك قال حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسيره للقرآن: (إن الله يكني). وإذا ثبت هذا فمذهب طائفة من العلماء أن قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3] المراد به: من قبل أن يقع الجماع. وحينئذٍ لم يحرموا مقدمات الجماع، فيحلون للرجل المظاهر من زوجته أن يستمتع بالتقبيل والمباشرة فيما دون الفرج، وقالوا: لا حرج عليه ولا بأس. والذين منعوا قالوا: إن قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3] يراد به الوطء وفي حكم الوطء مقدماته؛ لأن ما منع من الوطء، يمنع من مقدماته كالإحرام؛ فإن الإحرام كما يمنع الوطء يمنع من مقدماته من المباشرة ونحوها، وكذلك الاعتكاف يمنع من الوطء ويمنع من مقدمات الوطء بالنسبة للصائم. فإذا ثبت هذا قالوا: إن الحكم يبقى على الجماع ومقدمات الجماع، فلا يجوز له أن يستمتع بالمرأة بما يدعوه إلى وطئها، والآية محتملة. إلا أن بعض العلماء رجح القول الذي اختاره المصنف من جهة قوله: أنتِ عليّ كظهر أمي، فقال: إنه قصد التحريم، بدليل أنه لو قال لها: أنتِ عليّ كأمي كان ظهاراً، والأم لا يجوز تقبيلها، ولا يجوز الاستمتاع بها مما دون الفرج، وقد وصفها بهذا الوصف، فحرمها تحريماً يشمل الجماع ويشمل مقدماته، فرد الأولون وقالوا: هذا حجة لنا لا حجة علينا؛ لأنه ما سمي ظهاراً إلا لقوله: أنتِ عليّ كظهر، والظهر كني به عن الركوب والجماع، فبناءً على ذلك يختص بالجماع. وكلا القولين له وجهه، ومن قال بالدواعي يستدل بأن الشرع يحرم الوطء -كما ذكرنا- ويقصد من تحريمه تحريم كل ما يدعو إليه، ولأن ما يدعو إلى الشيء يغري بالشيء، وما يدعو سيوقع في الشيء. وبناءً على ذلك قالوا: نحرم عليه الوطء ودواعيه، كما اختاره المصنف رحمه الله.

وقت ثبوت الكفارة في ذمة المظاهر

وقت ثبوت الكفارة في ذمة المظاهر قال رحمه الله: [ولا تثبت الكفارة في الذمة إلا بالوطء وهو العود]. هذه الجملة من فوائدها أن الرجل لو ظاهر من امرأته ثم توفي قبل أن يجامعها فلا كفارة عليه، ولا يلزم إخراج الكفارة من تركته والتكفير عنه، لكن لو أنه ظاهر منها ثم جامعها ثم توفي بعد جماعها لزمته الكفارة ووجبت عليه، وهذا معنى قوله: [في الذمة]، فتلزمه في ذمته أثناء حياته وبعد مماته، وهذا مخرج على القاعدة المعروفة: (تنزيل المعدوم منزلة الموجود وتنزيل الموجود منزلة المعدوم)، وقد ذكرها الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في قواعد الأحكام، ومنها هذه المسألة، فالشخص لو فعل وارتكب ما يوجب التكفير ثم توفي مباشرة ثبتت في ذمته، ونُزِّلت ذمة الميت منزلة ذمة الحي، ووجب إخراج الكفارة من ماله وتركته. فلا تلزم بالذمة إلا بالجماع، فلو أنه لم يجامع لم يتحقق العود. قال رحمه الله: [ويلزمه إخراجها قبله عند العزم عليه]. إذا أراد الرجل أن يعود في ظهاره، وأراد أن يطأ المرأة فلا يجوز له أن يطأها حتى يقع منه التكفير، وبناءً على ذلك قالوا: إذا وجد العزم -أي: عزم على جماعها وإتيانها- يكفر وهذا مبني على حديث الترمذي في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للمظاهر: (ولا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به)، فأمره عليه الصلاة والسلام أن يكفر قبل أن يجامع، فأخذ العلماء من هذا دليلاً على أنه يجب عليه أن يخرج الكفارة قبل أن يقع الجماع.

حكم تكرار لفظ الظهار لأكثر من امرأة أو أكثر من مرة

حكم تكرار لفظ الظهار لأكثر من امرأة أو أكثر من مرة قال رحمه الله: [وتلزمه كفارة واحدة بتكريره]. بعد أن بين رحمه الله حقيقة الظِهار وجملة من المسائل المتعلقة بأركانه بين أن الأصل أن يكون الظِهار مرة واحدة، فالله عز وجل أوجب الكفارة على من ظاهر إذا تلفظ بالظِهار مرة واحدة، ولا يشترط أن يكرر لفظ الظِهار، خلافاً لبعض أئمة السلف وبعض الظاهرية، ويحكى عن داود، ويحكى مذهباً للظاهرية، وهو أنهم يشترطون في وجود الكفارة العود في التلفظ بالظهار مرة ثانية. والصحيح ما ذهب إليه الجماهير أنه لو تلفظ به مرة واحدة فإنه مظاهر وحكمه حكم المظاهر، وهذا هو الأصل. فبعد أن فرغ رحمه الله من بيان الأصل شرع في مسألة تكرار الظهار، وهذا من التسلسل المنطقي وترتيب الأفكار، وهو أنك إذا بينت المسائل والأحكام تبدأ بالأشياء التي هي الأصل، فالأصل ألا يكرر، ثم بعد أن تبين حكم الأصل تشرع في حكم الخارج عن الأصل، مثل تكرار اللفظ على امرأة واحدة، أو تكراره لأكثر من امرأة. فلو أنه قال لزوجته: أنتِ عليّ كظهر أمي ثم رجع مرة ثانية وقال: أنتِ عليّ كظهر أمي. أنتِ عليّ كظهر أمي. فكرر ثلاثاً في مجلس واحد، أو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي. ثم خرج من المنزل فلقي أخاها فقال: أختك عليّ كظهر أمي. ثم خرج إلى أصحابه أو إلى قرابته فقال: زوجتي عليّ كظهر أمي. فهذا ظهار مكرر في محل واحد وهو الزوجة، فلا تلزم فيه إلا كفارة واحدة، ويستوي في ذلك أن يكون مؤكداً أو مخبراً أو مؤسساً، كأن يقول: أنتِ عليّ كظهر أمي. أنتِ عليّ كظهر أمي، فأراد أن يؤكد أنه قد قال الظِهار فكرره ثلاثاً أو كرره مرتين في مجلس واحد، أو كرره أكثر من مرة تأكيداً في مجلس مختلف، كأن قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي. فلما نقلها عند أهلها قالت له: هل أنت ظاهرت مني؟ فقال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي تأكيداً لما قاله لها في الخلوة. وهذا كله حكمه واحد، وليس في ذلك إلا كفارة واحدة، سواءٌ أكان مؤكداً أم كان مؤسساً أم كان مخبراً، وهذه صورة. والصورة الثانية: أن يقع التكرار لأكثر من زوجة، أو يكون العكس، فيتعدد المحل (الزوجات)، ويتحد لفظ الظهار، وهذا ما أشار إليه بقوله رحمه الله: [وتلزمه كفارة واحدة بتكريره قبل التكفير] إذا كرر اللفظ لامرأة. وهذا كله شرطه قبل أن يكفر، أما لو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي ثم كفر، ثم رجع مرة ثانية فقال: أنتِ عليّ كظهر أمي فإنه تلزمه كفارة ثانية. وكذلك في اليمين لو قال: والله لا أشرب هذا الماء. فحنث وكفر، ثم رجع مرة ثانية وحلف فكفارة ثانية، فالشرط المعتبر لكفارة واحدة أن يقع منه التكرار قبل التكفير. قوله: [من واحدة] أي: تلزمه كفارة واحدة إذا كرره أكثر من مرة لامرأة واحدة. وقوله: [لظهاره من نسائه بكلمة واحدة]. لو أنه ظاهر من نسائه فقال لهن: أنتن عليّ كظهر أمي. فقاله لمجموعة من النساء وهن زوجات له فإن العلماء والأئمة والسلف اختلفوا في هذه المسألة، فقال بعض السلف: إذا خاطب نساءه فإنه لا تلزمه إلا كفارة واحدة، فإذا كن أربع نسوة فقال لهن: أنتن عليّ كظهر أمي فلا تلزمه إلا كفارة واحدة بظهاره منهن. وهذا القول مروي عن عمر بن الخطاب، رواه عنه حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فقد روى أن عمر رضي الله عنه سئل، عن رجل قال لنسائه: أنتن عليّ كظهر أمي. وأراد أن يعود؟ قال: عليه كفارة واحدة. فجعله ظهاراً واحداً. وممن قال بهذا القول من الصحابة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحكي عن الحسن البصري وسعيد بن المسيب، واختاره بعض الأئمة الأربعة كما ذكر المصنف رحمه الله، وهو رواية عن الإمام أحمد، وقول الإمام الشافعي في القديم، وكذلك المالكية رحمة الله على الجميع. وقال بعض أئمة السلف: إذا قال لأكثر من واحدة: أنتن عليّ كظهر أمي فإنه يتعدد الظِهار بتعدد المحل. وهذا القول هو مذهب الحنفية ورواية عن الإمام أحمد، ومروي عن بعض أئمة السلف كـ الأوزاعي وسفيان الثوري وغيرهم رحمة الله على الجميع. والقول الثاني في الحقيقة أقوى من حيث الأصل، وأقوى من حيث الدليل؛ لأنه حينما خاطب نساءه تعلق الظِهار بكل امرأة على حده، كما لو قال: نسائي طوالق، وكانت واحدة منهن مطلقة مرتين، فمعناه أنها الطلقة الثالثة المحرمة أو كانت إحداهن غير مدخولٍ بها كانت طلقة بائنة، أو كانت إحداهن مدخولاً بها وقد طلقها من قبل طلقة واحدة فصارت طلقة رجعية. فيختلف الطلاق ويتعدد، ويصبح لكل زوجة طلاقها الخاص بها. وبناءً على ذلك فإن القول بوجوب الكفارة بعدد النساء اللاتي ظاهر منهن قول أقوى، وهو أشبه بالأصول. وإنما عدل من عدل من السلف والأئمة رحمهم الله إلى ذلك القول لمسألة الاحتجاج بقول الصاحب، وقد سبق الكلام عنها. قال رحمه الله: [وإن ظاهر منهن بكلمات فكفارات] هذا مفهوم من قوله قبل [بظهاره من نسائه بكلمة واحدة] فلو ظاهر منهن بكلمات قالوا: إن هذا يتعدد بتعددهن، ولكل واحدة منهن ظهارها. فالشرط عند أصحاب هذا القول أن تكون كلمة واحدة، فيقول لهن جميعاً: أنتن عليّ كظهر أمي، ويخاطبهن جميعاً بكلمة واحدة ولا يكرر، فإن كرر فإنه يتكرر بتكرار الظهار، ولكل امرأة ظهارها.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من طلق زوجته بعد ظهار منها ثم مراجعة لها

حكم من طلق زوجته بعد ظهار منها ثم مراجعة لها Q إذا ظاهر الزوج من زوجته، ثم طلقها طلقة واحدة، ثم راجعها بعد انتهاء عدتها بمهر جديد هل يعتد بالظِهار في هذه الحالة؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالذي اختاره طائفة من العلماء أن طلاقها وخروجها من العصمة لا يهدم الظهار، وكذلك أيضاً دخول الطلاق ولو كان موجباً للبينونة، ولو أنها نكحت بعده فإنه يبقى ظِهاره لها، فلو عادت إليه يعود الظِهار، ولا تحل له إلا بعد أن يكفر؛ لأنه قد تعلقت ذمته بذلك الظِهار وثبت له حكمه شرعاً، فلزمه التكفير قبل الجماع. والله تعالى أعلم.

حكم الفصل بين لفظ الظهار والتعليق

حكم الفصل بين لفظ الظهار والتعليق Q لو قال لزوجته: أنتِ عليّ كظهر أمي، وأضاف بعد فترة يسيرة قوله: هذا الشهر أو هذا اليوم، فهل الظِهار يتقيد الظهار حينئذٍ؟ A هذه المسألة فصلّنا في أحكامها، وهي مسألة التعليق في الطلاق، وبينّا أن التعليق عند العلماء إذا حكموا بصحته يشترطون أن تكون عنده نية قبل أن يذكر التعليق، فلو كان عند ابتدائه بالظِهار لم يكن في نيته التقييد، وإنما قصد ظهاراً تاماً، فقال: أنتِ عليّ كظهر أمي. ثم بدا له أن يعلق فقال: اليوم. أو: الشهر لم يصح؛ لأنهم اشترطوا أن تكون نيته للتعليق قبل وقوع الظِهار منه، أما إذا وقع الظِهار فقد وقع منه مطلقاً بدون تعليق. وبناءً على ذلك لا بد وأن يكون ناوياً للتعليق، وأن يكون التعليق متصلاً باللفظ، فيقول لها: أنتِ عليّ كظهر أمي هذا الشهرَ، أنتِ عليّ كظهر أمي هذا اليوم فإن حصل إخلال بهذين الشرطين لم يقع تعليقه معتبراً. والله تعالى أعلم.

حكم ظهار الزوجة من زوجها إذا أسند الأمر إليها

حكم ظهار الزوجة من زوجها إذا أسند الأمر إليها Q لو قال الزوج لزوجته: الأمر إليكِ فقالت: أنا عليك كظهر أمكِ، فهل يقع الظهار؟ A إذا أسند إليها الأمر فظاهرت فإنه لا يقع الظِهار منها؛ لظاهر الآية الكريمة. والله تعالى أعلم.

حكم زكاة الحلي

حكم زكاة الحلي Q هل ذهب الهدية عليه زكاة، وبعضه قد لا يلبس إلا مرة؟ A الذهب فيه الزكاة إذا كان حلياً أو غير حلي، والدليل على ذلك عموم النصوص، ولم يرد في كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم نص يدل على استثناء الذهب الملبوس للحلي من الأصول الدالة على وجوب الزكاة، وأما حديث: (ليس في الحلي زكاة) فهذا حديث ضعيف؛ لأنه من رواية أيوب بن عافية وهو ضعيف الرواية، والعمل على عدم ثبوت هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والصحيح أن الحلي -سواءٌ وكان ملبوساً أم غير ملبوس، لبس أكثر الحول أم بعض الحول -الزكاة واجبة فيه؛ لأن عموم النصوص دالٌ على ذلك، وسواءٌ أكان هدية أم اشترته المرأة بنفسها، فلو أنها أُهدي إليها ذهب، وكان هذا الذهب الذي أهدي إليها قد بلغ النصاب فإنها تعتبر حول هذا الذهب من يوم القبض؛ لأن الهدية لا تملك إلا بالقبض، فإذا حكم بدخوله إلى ملكها حكم بوجوب الزكاة عليها، فتستقبل حولاً كاملاً، فإذا مر الحول وهو عندها فإنه يجب عليها أن تزكيه إذا كان بالغاً النصاب. والله تعالى أعلم.

حكم صلاة المرأة الفريضة والمؤذن يؤذن

حكم صلاة المرأة الفريضة والمؤذن يؤذن Q هل يجوز للمرأة أن تصلي الفريضة والمؤذن يؤذن، أم تنتظر حتى ينتهي الأذان؟ A يجوز لها ذلك؛ لأنه إذا دخل الوقت جازت الصلاة، لكن الأفضل والأكمل والسنة أنها تُردد مع المؤذن حتى تحل لها الشفاعة حينما تسأل لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوسيلة، وهذه هي السنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فمن سأل الله لي الوسيلة فقد حلت له شفاعتي)، فأي مؤمنة تفرط في هذا الفضل العظيم؟ وأي مؤمن يفرط في هذا الفضل العظيم. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يؤتيه الوسيلة والفضيلة، وأن يبعثه المقام الذي وعده، وأن يجزيه عنا خير ما جزى نبياً عن أمته وصاحب رسالة عن رسالته، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه تامة كاملة إلى يوم الدين. والله تعالى أعلم.

كيفية التوفيق بين سد الفرجة في الصف والوقوف مع رجل منفرد خلف الصف

كيفية التوفيق بين سد الفرجة في الصف والوقوف مع رجل منفرد خلف الصف Q إذا وجدت فرجة في الصف الأخير، ووجدت رجلاً واقفاً في صف لوحده، فهل أسد الفرجة التي في الصف، أو أقف مع الرجل المنفرد؟ A لاشك أنك إذا وقفت مع أخيك صححت صلاته؛ لأن صلاة المنفرد لا تصح خلف الصف، فتنوي في قرارة قلبك أنه لولا وجود هذا الرجل لما تركت آخر الصف. وبعض العلماء يقول: يجب عليك أن تدخل في الصف؛ لأنك مأمور بإتمام الصفوف، وحينئذٍ تنافس أخاك فتستبق إلى الفرجة وتمنعه من أن يسبقك إليها؛ لأنه إذا سبقك إليها كنت أنت الذي تتعرض صلاتك للبطلان؛ لأنه لا تصح صلاة المنفرد خلف الصف. وبعض العلماء يقول: من حقك أن تتخلف من أجل أن تصحح صلاة أخيك، وتنوي في قرارة قلبك أنه لولا وجود أخيك -كما ذكرنا- لسددت هذه الفرجة، ثم تنتظر حتى إذا جاء أحد معه تتقدم وتسد هذه الفرجة. وبعض العلماء يقول في الشخص الذي يأتي ولا يجد أحداً: يجذب من الصف واحداً ليصلي معه وهي رواية عند الحاكم في المستدرك حسنها بعض العلماء، والحقيقة أن في تحسينها نظراً؛ لأن الضعف فيها قوي. فكثير من العلماء رحمهم الله يرى أن الصلاة صحيحة للمنفرد خلف الصف فيمنعون من الجذب؛ لأنهم لا يرون أنها باطلة، لكن الذي ينبغي أن ينظر في المسألة على قول من يقول بالبطلان. فإذا كان الشخص الداخل يعتقد بطلان صلاة المنفرد في الصف فإنه مضطر ومحتاج لتصحيح صلاته. فحينئذٍ كونه يجذب فلا شك -من ناحية الأصول- أن له وجهاً، ولأن المحذور في سد الفرج أن يكون الشخص ممتنعاً منها مع القدرة دون وجود عذر، وهنا قد يوجد عذر وهو وتصحيح صلاة المصلي، فقالوا: إن هذا لا يعتبر انتهاكاً للحدود وانتهاكاً للمحارم كما لو امتنع من سد هذه الفرجة مع الاختيار، وإنما كان مضطراً إلى ذلك تصحيحاً لصلاة غيره. وعلى كل حال فمن جذب لا ينكر عليه، وأرى أن هذا له وجه، ولا بأس به ولا حرج عليه، وكون الشخص يبقى دون الصف منفرداً ولا يجذب أحداً ويصلي لا شك أن هذا من حيث الأصول أقوى، لكن صلاته ستبطل. وينبغي أن ننتبه لأمر، وهو أن بعض العلماء يقول: إن الناس ينظرون إلى بعض الأحكام أن فيها شدة، والأمر على عكس من ذلك، وفيها الرفق والأجر؛ لأنه إذا صلى صلاة تامة دون الصف فإنها لا يعتد بها صلاة حكماً، لكن الله يأجره الصلاة مرتين. وليس هناك مصل تصح منه الصلاة مرتين إلا إذا كان هناك عذر شرعي في التكرار، وهذا له نظائر، ولذلك من يحكم عليه ببطلان الصلاة يكتب له الأجر مرتين؛ لأنه في هذه الحالة دخل المسجد وألزم شرعاً بالدخول مع الجماعة، وحكم ببطلانها عبادة، ولذلك لا تعقل علة بطلان صلاة المنفرد خلف الصف. وفي هذا حديث وابصة بن معبد رضي الله عنه في السنن وعند أحمد في المسند: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وهو دون الصف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (استقبل الصلاة؛ فإنه لا صلاة لمنفرد خلف الصف)، ومذهب الإمام أحمد وطائفة من أهل الحديث كـ إسحاق وغيره رحمة الله عليهم أن المنفرد لا تصح صلاته خلف الصف إذا كان رجلاً. وبناءً على ذلك قالوا: لظاهر هذا الحديث يحكم ببطلان الصلاة من ناحية الإلزام الشرعي. أي أن صلاته يجب عليه أن يعيدها، لكن كونه قد قام بالصلاة وصلاها وركع وسجد وقرأ كتاب الله عز وجل فهذا العمل الذي أقامه مأمور به شرعاً؛ لأنه إذا دخل المسجد فالواجب عليه أن يدخل مع الجماعة، فهو صلى بأمر شرعي، وصلى صلاة شرعية وأداها على وجهها المعتبر، وهذا عمل يثاب عليه ثواب من عمل، لكن لا تعتبر صلاة حكمية، أي: لا تبرأ وتسقط الذمة بها، فيلزم بإعادتها. ولذلك يقولون: الأمر بإعادة الصلاة تعبديَّ. أي: لا يعقل معناه، فلو أنه كان أحدث قلنا: بسبب الحدث. ولو أنه ترك واجباً قادراً عليه عامداً متعمداً. قلنا: لترك الواجبات، فتبطل صلاته فلا أجر ولا ثواب؛ لأنه تسبب في إخلالها وإفسادها، لكن الفساد هنا ليس بيده وليس منه، وإنما هو بحكم شرعي. ولذلك يقولون: يكتب له أجر العمل لقوله تعالى: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ} [آل عمران:195]، فهو قد قام بعمل شرعي فيثاب ثواب العامل، لكنها لا تصح صلاة شرعية، بمعنى أن ذمته لا تبرأ، فيلزم بإعادتها مرة ثانية، ويكون له أجر العمل مرتين. وهذا على القول الذي يقول: إن الصلاة لا تصح خلف الصف للمنفرد. وبناءً على ذلك يحق له أن يجذب تصحيحاً لصلاته؛ لأنه مأمور أن يتعاطى الأسباب لتصحيح الصلاة. ثم إذا جذب يستحب بعض العلماء أن يكون الجذب من أطراف الصف؛ لأنه إذا جذب من طرف الصف يكون أخف من الجذب من وسط الصف. وبناءً على ذلك يقولون: إنه يجذب من الطرف. واختار بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أن يكون جذبه من وراء الإمام، فيأتي من منتصف الصف ويجذب؛ لأنه إذا جذب من وراء الإمام وجاء شخص آخر سيتقدم هذا، وسيكون إكمال الصفوف من وراء الإمام توسيطاً للإمام، وهي مسألة من جهة المتسحبات، وليس فيها إلزام أن يكون من وراء الإمام أو من طرف الصف، لكنهم يستحبون دائماً أن يكون ابتداء الصفوف من وراء الإمام، ويتحرى أول من دخل في الصف بعد تمامه أن يكون وراء الإمام حتى يكون توسيطاً له. والله تعالى أعلم.

حكم قراءة القرآن بغير العربية

حكم قراءة القرآن بغير العربية Q هل تجوز قراءة القرآن بغير اللغة العربية؟ A لا يجوز قراءة القرآن بغير اللغة العربية؛ لأن الله وصف القرآن بأنه بلسان العرب، قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:194 - 195]. فلا بد أن تكون القراءة بلسان عربي، ولا يجوز لأحد أن يقرأ القرآن بغير اللسان العربي، وأما ترجمة معاني القرآن فلا تجوز القراءة بها؛ لأن بعضهم يأخذ هذه الترجمة ويقرأها على أنها قرآن يتعبد الله به، وهذا خطأ وينبغي التنبيه عليه. ولذلك في قرون الإسلام الأولى ما كانت توجد هذه الترجمات، ولا كانوا يترجمون معاني القرآن، وإنما كانوا يحرصون على كل من دخل الإسلام أن يعلموه اللغة العربية، حتى سادت اللغة العربية وانتشرت لغة القرآن، وأصبحت هي اللغة الأم لأهل الإسلام، وهي اللغة التي يرجع إليها بين المسلمين، وهي اللغة التي يعتزون بها. فكانت لها مقاصد شرعية عظيمة في جمع المسلمين وتآلفهم وقوتهم؛ لأن اللغة لها تأثير على الشعوب والأمم كما لا يخفى، وهذا معروف في التاريخ، وحتى في طبائع البشر والأمم والشعوب، لكن من ناحية قراءة القرآن لا تجوز قراءته إلا باللسان العربي. وأما نقل المعاني فلا بأس به؛ لأنه لا يمكن أبداً لأي لسان أن يأتي بالإعجاز الموجود في اللغة العربية، مثلاً قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة:223] كيف تترجمه؟ وإذا ترجمته فكيف تدخل المعاني والأسرار العربية في الترجمة؟ لأن في كلمات وألفاظ القرآن معانٍ ونكت ولطائف لغوية لا يمكن أبداً أن تظهر مع الترجمة، وقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] كيف يمكن ترجمته إلى لغة غير اللغة العربية؟ وهذا من فضل الله عز وجل، وليس هذا من باب الافتخار باللسان أو نحوه، وإنما هذا من بيان فضل الله عز وجل الذي يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، فهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى وضعها في هذه اللغة وهذا اللسان، فلا يستطيع أي لسان أن يأتي بالمعاني التي يتضمنها هذا اللسان والدلائل التي فيه. ولذلك لما ترجمت معاني القرآن وقع إحراج في نفس الترجمة، فإلى الآن لا تستطيع أن تجد ترجمة تستطيع أن تؤدي المعنى المقصود؛ لأن اللسان العربي يرمي بالكلمة الواحدة في بعض الأحيان إلى عدة معان. كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، القرء: هو الحيض، وهو الطهر، فيحتمل الحيض ويحتمل الطهر، ولو قلت بالطهر فله وجه، ولو قلت بالحيض فله وجه، فكيف تترجمها؟ فإن جئت تترجمها بالحيض خالفك أنها تحتمل الطهر، وإذا جئت تترجمها بالطهر خالفك أنها تحتمل الحيض. وكذلك قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير:17]، فالعرب تقول: عسعس الليل وتقصد من ذلك بداية دخوله، وتقول: عسعس الليل وتقصد من ذلك بداية خروجه ودخول النهار، فتقصد به دخول ظلمة الليل وعند انتهاء الليل، وهذا ما يسمى بالمشترك. فإذا كان قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير:17] مشتركاً -وإن كان في الآية قرينة تدل على ترجيح أحد الوجهين- فما هي اللغة التي تحتوي هذه الأسرار والمعاني؟! وصدق الله حيث قال: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} [الأعراف:52]، فأتى بـ (قد) التي تفيد التحقيق وثبوت الشيء دون مرية، واللام المؤكدة (وَلَقَدْ)، ثم التعبير بالعظمة وفي قوله تعالى: (جِئْنَاهُمْ)، ففصله سبحانه وتعالى الذي أحسن كل شيء وأتمه وأكمله جملة وتفصيلاً سبحانه، فهو يقص الحق وهو خير الفاصلين. فهناك أسرار في هذا اللسان العربي لا يمكن أبداً لأي لغة أو لسان أن يحتملها، وخذ قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237]، فالذي بيده عقدة النكاح يحتمل أن يكون ولي المرأة، ويحتمل أن يكون الزوج، وإن جئت تريد ترجمتها فعلى أي معنى ستترجمها؟ وعلى أي وجه من هذه الأوجه؟ فعلى كل حال أسرار اللغة موجودة في القرآن، والآية الواحدة يجتمع عليها العلماء فيجدون فيها من النكت واللطائف ما لا يمكن أن يحصى كثرة. وانظر إلى آية الوضوء، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ. } [المائدة:6]، فهذه الآية اجتمع عليها علماء الفنون، في اللغة واللسان، والقراءات، والفقه، وعلوم الحديث فاستنبطوا منها ألف مسألة. وقال الإمام ابن العربي رحمه الله في أحكام القرآن: اجتمع علماؤنا لكي يحصلوا الألف مسألة فما وصلوا إلا إلى ثمانمائة مسألة. وثمانمائة مسألة خير كثير في هذا اللسان البديع الغريب، وهذه قدرة من الله سبحانه وتعالى. بل إن الألسنة سوف تحار عندما تقرأ قوله تعالى: (الر) كيف تترجمها؟ وكيف تستطيع أن تدخل المعاني التي تراد من هذه الحروف فيها؟ ثم كيف تجعله يقرأ وهناك حروف في اللسان العربي ما هي موجودة في غيرها من اللغات والألسنة؟! مع العلم أن النقل بالمعنى اختاره بعض العلماء، كما قيل: والنقل بالمعنى على المنصورِ ورأي الأربعة والجمهور فيجيزون نقل القرآن بالمعنى، أي: ترجمة معنى القرآن، ولذلك لا يقال: ترجمة القرآن وينبغي إذا كتبت هذه التراجم أن يكتب عليها أنه لا يجوز للمسلم أن يقرأ هذه الترجمة معتقداً أنها قرآن، ولا يجوز الاستشهاد بها أيضاً على أنها من القرآن، وإنما يقال: إن هناك آية تدل على كذا. لأنه لا يجوز نقل القرآن بالمعنى، فلا يجوز أن يقال: قال الله تعالى فيما معناه. مثلما يقال في الحديث القدسي، إنما تأتي -إذا قلت: قال الله تعالى- بمنطوق الآية ونصها دون تغيير ولا تبديل. فالواجب على هذا أن يقتصر على اللسان العربي عند قراءة القرآن؛ لأن العلماء أجمعوا واتفقوا على تحريم الترجمة الحرفية لكتاب الله عز وجل. والله تعالى أعلم.

حكم تغيير مكان الصلاة بعد الفجر لمن أراد أن يجلس حتى شروق الشمس فينال الأجر المعلوم

حكم تغيير مكان الصلاة بعد الفجر لمن أراد أن يجلس حتى شروق الشمس فينال الأجر المعلوم Q من وفق للجلوس حتى شروق الشمس، هل له عند صلاة الركعتين أن يتقدم إلى سترة أم يشترط في الركعتين أن تكونا في نفس المكان؟ A لا شك أن الأفضل والأكمل أن تكونا في نفس المكان، وأما السترة فالقول الصحيح وجوبها، ومعنى ذلك أنه إذا تقدم تحصيلاً لهذا الواجب وامتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسترة فإنه يصدق عليه أنه صلى ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم قعد في مصلاه يذكر الله حتى تطلع عليه الشمس ثم صلى ركعتين). ومن العلماء من يقول بالاستصحاب؛ لأنه يقول: (قعد في مصلاه) أي: صلى ركعتين في مصلاه، فيستصحب حكم الأصل، والأصل أنه في مصلاه، وكأن مقصود الشرع أن يصلي في نفس المكان. ومن أهل العلم من قال: إنَّ العبرة بالركعتين أن تقع بعد طلوع الشمس، وأن يكون هذا الزمان الذي هو ما بين صلاته للفجر وطلوع الشمس مستغرقاً بذكر الله عز وجل، سواءٌ أصلى في نفس المكان أم غيره، بل قالوا: حتى لو أحدث وصلاها في البيت شمله الفضل؛ لأن المراد أن يصلي ركعتين بعد الزمان، ولا شك أن الأكمل والأفضل أن الإنسان يبقى في مصلاه، وأن يصلي في نفس المكان الذي هو فيه. والله تعالى أعلم.

مضاعفة صلاة النافلة في الحرم النبوي

مضاعفة صلاة النافلة في الحرم النبوي Q هل صلاة النافلة في الحرم النبوي تساوي ألف صلاة مثل صلاة الفرض؟ A أصح قولي العلماء أن المضاعفة في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى تشمل الفرائض والنوافل، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة) و (صلاة) نكرة، والقاعدة في الأصول: (أن النكرة تفيد العموم). أما الذين قالوا بالتفريق بين الفريضة والنافلة فدليلهم ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان أنه لما صلى الليلة الأولى ثم كثروا عليه في الليلة الثانية وامتنع من الخروج في الثالثة قال: (إنه لم يخفَ عليّ مكانكم بالأمس، ولكني خشيت أن تفرض عليكم)، ثم قال: (صلوا في بيوتكم؛ فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) قالوا: إن هذا يدل على أن النافلة الأفضل أن تكون في البيت. وهذا مرجوح، والصحيح أن قوله: (فإن خير صلاة المرء ... ) لا يعارض قوله: (صلاة في مسجدي بألف صلاة)؛ لأن الخيرية من جهة الإخلاص، ومن جهة إرادة وجه الله عز وجل، ومن جهة مباركة المنزل، وليس لها علاقة بالمضاعفة؛ لأن القاعدة (لا يحكم بتعارض النصين إلا إذا اتحدا دلالة وثبوتاً)، والدلالة هنا مختلفة؛ لأن مورد النصين مختلف. فحديث يقول: (صلاة في مسجدي بألف صلاة)، وحديث يقول: (فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، وما قال: إنها بألفين، أو: بثلاثة، فما تعلقت بمضاعفة الأجر، وإنما تعلقت بالخيرية، والخيرية ترجع إلى الإخلاص، وترجع إلى أنه إذا صلى في بيته كان أخشع وأرضى لله عز وجل؛ لأنه لا يراه أحد، ولا يصلي لأحد، ولا يغتر به أحد، ثم إن الصلاة تبارك له في بيته. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم فليجعل من صلاته في بيته، فإن الله جاعل له من صلاته في بيته خيراً) ومنع عليه الصلاة والسلام من أن تكون البيوت قبوراً، فهذه خيرية منفصلة، خيرية أخرى غير الخيرية المتعلقة بمضاعفة الصلاة. ولا يمكن أن نعارض بين النصوص مع اختلاف وجهاتها ومواردها، وإنما يحكم بالتعارض عند اتحاد المورد، والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بأن المضاعفة تشمل الفرائض والنوافل لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة)، وهذا هو الصحيح من قولي العلماء. والله تعالى أعلم.

الاستعجال في الوضوء

الاستعجال في الوضوء Q إذا أقيمت الصلاة فتوضأت بسرعة شديدة، فهل وضوئي صحيح؟ A إذا توضأت وضوءاً شرعياً تاماً كاملاً فهو وضوء صحيح، لكن مسألة الإسراع في الوضوء لا شك أنها جائزة، فيجوز للشخص في الحالات الضرورية أن يستعجل. ولذلك ثبت عن أسامة رضي الله عنه أنه ذكر عن النبي عليه الصلاة والسلام لما دفع من عرفات إلى مزدلفة أنه توضأ وضوءاً خفيفاً، وخفة الوضوء تشمل الوقت وتشمل الحال؛ لأنه كان عليه الصلاة والسلام يسبغ الوضوء ويتأنى في وضوئه. لكنه لما كان وراءه مائة ألف نفس وكلهم ينتظرون خروجه عليه الصلاة والسلام تعجل، ومن حكمة الشريعة أن العبد الصالح يكون في صلاحه، لكن إذا رأى ما هو آكد وأهم قدمه وتعجل، فمثلاً: والدك يحتاجك في شيء، وأنت تريد أن تتوضأ وضوءاً لنافلة، أو تحب أن تكون على طهارة فلا شك أن بر الوالد آكد من الوضوء، فتخفف في وضوئك حتى تدرك فضيلة الوضوء وفضيلة بر الوالدين، أو فضيلة الصلاة. ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (إذا دخل الرجل يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما) قالوا: لأن العلم أفضل من العبادة. وهذا يدل على فضل العلم؛ لأنه عندما يجلس ينصت للخطبة يصيب علماً، والعلم أفضل من العبادة، وعندما يصلي يصلي لنفسه، لكن ربما يصيب علماً ينتفع به وينفع به غيره، ويصلح ويصلح به غيره، ويهتدي ويهدي به غيره بإذن الله عز وجل. ومن هنا إذا دخل -مثلاً- المحاضر، أو دخل الشيخ لدرسه وأراد أن يصلي تحية المسجد أو نافلة فالأولى أن يتجوز فيها؛ لأن هناك ما هو أفضل وأكمل وأعظم أجراً وهو نفع الناس؛ لأن العلم أفضل وأعظم، فإذا أردت أن تتوضأ وضوءاً خفيفاً، أو تستعجل في الوضوء فتنبه لإتمام أعضاء الوضوء. فالمهم أن تكون الأعضاء التي أمرك الله بغسلها أو أمرك بالمسح عليها قد نالت حقها وحظها من ذلك الوضوء الذي أمرت به، فإن فعلت ذلك بسرعة أو بأناة فالأمر في ذلك سيان، إلا أن الأناة أمكن وأكثر ضبطاً. والله تعالى أعلم.

حكم إعجاب المرء بنفسه عند اطلاع الناس على صالح عمله

حكم إعجاب المرء بنفسه عند اطلاع الناس على صالح عمله Q ذكر الحافظ ابن كثير في قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون:6] أن من عمل عملاً لله فاطلع عليه الناس فأعجبه ذلك، أن هذا لا يعد رياءً، فما توضيح ذلك؟ A هذا كلام صحيح ومعتبر؛ لأن الرياء يكون في ابتداء العمل، فيعمل من أجل أن يراه الناس، قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} [النساء:142]، فهو ابتداءً قبل التلبس بالفعل، وأثناء الفعل؛ لكن بعد الفراغ من الفعل تبقى مسألة التشوف والطلب والتحدث، فالأكمل ألا يتحدث بطاعته، وألا يطلع أحداً على طاعته. وتبقى مسألة خفاء العمل، وخفاء العمل لا علاقة له بالعمل نفسه؛ لأنه إذا صلى وقام بطاعته على أتم الوجوه وأكملها فقد أصاب الموعود عليه شرعاً لكن تبقى مسألة حبوط العمل بعد ثبوته، والحبوط قد يكون بغير الرياء، فقد يحبط عمل الإنسان -والعياذ بالله- بسبب ذنب. فرفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون -والعياذ بالله- سبباً في حبوط العمل، ونسأل الله السلامة والعافية، وقد يحبط عمل الإنسان بعقوق والديه؛ لأن الله يحكم ولا معقب لحكمه، فيغضب على عبده فيحبط عمله، إلا أن هناك أموراً بيَّن أنها من أسباب حبوط العمل والعياذ بالله. وقد يكون العمل صالحاً صحيحاً، لكن إن اطلع الناس على عمله فأعجب باطلاعهم فإننا ننظر في ذلك، فإذا كان يحب ذلك ويقصده ولم يتيسر له أثناء العمل، وكان يحب حصول ذلك له فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- يعمل للناس، فيكون قادحاً في إخلاصه وإرادته وجه الله عز وجل، ومؤثراً في عمله. ولذلك كان السلف الصالح رحمهم الله يتحرون في الأعمال الصالحة الصواب والسنة، فلا يعملون أي عمل إلا إذا كان عندهم حجة ودليل، ويخافون من الأعمال أن تكون على غير نهج الكتاب والسنة؛ لأن أهم شيء الصواب في العمل حيث يكون موافقاً للكتاب وهدي السنة. وبعد الصواب تأتي الآثار الطيبة والعواقب الحميدة؛ لأن الله لا ينظر إلى قول قائل ولا إلى عمل عامل إلا إذا كان صواباً، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف:110]، ولا يحكم للعمل بالصلاح إلا إذا كان على وفق الكتاب وثبت بهدي رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد كان السلف الصالح يحملون هم الصواب أولاً، ثم يحملون هم الإعانة على الصواب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أسألك العزيمة على الرشد)، فكم من صواب تعلمته، وكم من حق دُللت عليه وأُرشدت إليه، ولكن ما أعنت عليه، فقيام الليل من منا يجهل فضله وعظيم أجره لكن من منا يقوم وصيام يوم وإفطار يوم، أو صيام الإثنين والخميس وغيرها من الأعمال الصالحة من منا يعمل بها؟ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يسأل الله المعونة على الرشد، ولذلك قال الله عن أهل الكهف: {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10]. وبعد أن يوفق للصواب ويعان على القيام بالعمل، يحمل هم الإخلاص فيه، فلا يفعل ولا يقول شيئاً إلا لأجل الله عز وجل، وأبغض شيء إليه أن أحداً يطلع على ما بينه وبين الله عز وجل؛ لأنه يعرف لذة مناجاة الله سبحانه وتعالى، وفضل المعاملة مع الله سبحانه وتعالى، ويعلم علم اليقين أن أكمل العمل وأطيبه ما كان خالصاً لله عز وجل، ولا شيء أعظم في جلب الإخلاص من إخفاء الأعمال وسترها. ولذلك كان السلف الصالح يضربون الأمثلة الرائعة في هذا، حتى ذكر الإمام الحسن البصري رحمه الله أن الرجل ربما جمع القرآن في قلبه عشرين سنة لا يشعر به أحد. ولربما تجد الرجل من أصلح الناس وأكثرهم عبادة وقياماً، ولا يمكن لأحد أن يطلع على ذلك، حتى لربما يسافر معه غيره وإذا به يترك قيام الليل أمامه حتى لا يشعر أحد بما بينه وبين الله عز وجل. وهذه مرتبة لا يعطيها الله إلا لخاصة أحبابه وأصفيائه الذين يريد لهم إرادة وجه، وذاقوا لذة المعاملة مع الله سبحانه وتعالى. فإذا وفق للإخلاص حمل هم القبول، ويعمل للقبول أسبابه التي منها ألا يعلم أحد عمله، فأبغض شيء إليه أن يطلع غيره على عمله، حتى إنه يضيق صدره ويحزن ويتألم إذا اطلع أحد على حسنة أخفاها فيما بينه وبين الله عز وجل. ومما ذكر عن بعض الصالحين -وهؤلاء هم الأولياء الذين يُضرب بهم المثل، ولم يكن الأولياء بجر السبح، ولا بإطالة الأكمام والعمائم، وإنما كانوا أولياء لله بحق- أنه قال: صليت في المسجد الحرام صلاة الاستسقاء، فلم يفت الناس، حتى إذا انتصف النهار -وإني لجالس بالمسجد مضطجع- فإذا برجل مولى أسود دخل المسجد، فركع وسجد، وكان يظنني نائماً، فسمعته يقول في سجوده: اللهم إن بعبادك وبلادك وبهائمك من الجهد والبلاء ما لا يشكى إلا إليك، اللهم أغث العباد والبلاد. اللهم أغث العباد والبلاد. اللهم أغث العباد والبلاد. فلما تشهد إذا بالسحابة تنتصف السماء ويمطر الناس، قال: فعظم عندي الرجل، فتبعته، فدخل إلى أشبه ما يكون بالرباط فتبعته، فلما جلس واستقر سلمت عليه وقلت له: من أنت يرحمك الله؟ قال: وما شأنك بي؟ قلت: إنه لم يخف عليّ مكانك بالمسجد. قال: أو قد اطلعت على ذلك؟ قال: نعم. قال: أمهلني وأنظرني، فصلى وسجد، وقال: اللهم انكشف ما بيني وبينك، فاقبضني إليك غير مفتون. قال: والله ما رفعته إلا ميتاً. فكانوا يخافون من ظهور أعمالهم حتى كان من أمرهم ما ذكر، وأويس القرني رحمه الله لما اكتشف أمره غاب عن الناس، وبسبب أنك تخفي ما بينك وبين الله من الأسرار والأعمال الصالحة يورثك الله بذلك حب العباد، ويضع لك بذلك القبول في السماء وفي الأرض. ولذلك كانوا يقولون: إن العبد يستوجب من الله محبة خلقه على قدر ما بينه وبين الله من الخوف، وكان الإمام مالك رحمه الله مهاباً، فإذا جلس لا يستطيع أحد أن يتكلم في المجلس، وإذا سأله السائل لا يستطيع أن يعيد سؤاله مما ألقى الله عليه من الهيبة، كما قيل: يأتي الجواب فلا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقان يقول محمد بن الحسن: جلست بين يدي الهادي والمهدي والرشيد -ثلاثة خلفاء من المحيط إلى المحيط سادوا الدنيا- فوالله ما هبتهم كهيبتي لما جلست بين يدي مالك. يقول سحنون رحمه الله: ولا نظن ذلك إلا بشيء بين مالك وبين الله، فإنك تعامل؟ تعامل ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، فماذا تريد منه اطلاع الناس على صلاتك وزكاتك؟ وماذا تريد عند الناس؟ لو أن الناس مدحوك اليوم ذموك غداً، وكم من عبد تقي نقي أخوف ما عنده وأكره أن يشعر الناس به؛ لأنه يعلم أنه لا أمن له إلا عند الله، ولا عز له إلا من الله، ولا كرامة له إلا من الله، فماذا نريد عند الناس؟ قال تعالى: {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9]. فأبغض شيء إليه أن يأتي أحد من الناس يثني عليه أو يظن به خيراً؛ لأنه يريد الشيء بينه وبين الله، فالذي للآخرة للآخرة، والذي للدنيا للدنيا، وأمور العبادة والطاعة ينبغي للإنسان دائماً أن يخفيها فيما بينه وبين الله عز وجل، ولا يطلع عليها أحداً، والمحروم من حرم، فإذا أراد الله أن يخذل عبده -نسأل الله السلامة والعافية- صرف قلبه إلى الدنيا، وتنصرف شعب القلب إلى الدنيا، حتى إن طالب العلم تنصرف شعب قلبه بمدح الناس له والثناء عليه والإشادة به، وبموقفه في الملأ ومحبته للاستشراف ومحبته للظهور، وهي والله قاصمة الظهر والعياذ بالله. فتؤخذ شعب القلب شعبة شعبة للدنيا لا للآخرة، وتؤخذ لغير الله لا لله، فتؤخذ شعبة شعبة، وتنقض كالبيت يهدم لبنة لبنة، حتى يمسي ويصبح وليس في قلبه مثقال ذرة -والعياذ بالله- من الإيمان، وعندها لا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك. وعندها -نسأل الله السلامة والعافية- يمقته الله مقتاً فتجمع القلوب على كراهيته، والنفوس على النفور منه، ولو كان أعبد الناس لساناً، ولو كان أصبحهم وجهاً وأحياهم منطقاً فإن الله يمقته. فالعبد يعامل الله لا يعامل أحداً سواه، وكم من إنسان أحب الناس فمدحوه، واستدرجه الله عز وجل، واجتمعت له القلوب، واجتمع له الناس، فجاء يوم ذم فيه بمذمة واحدة فانتشرت في الناس، فسبوه كما مدحوه، ووضعوه كما رفعوه، وأذلوه كما أعزوه، وأهانوه كما أكرموه، فتمنى أنه لم يعرفه أحد. فلا يلتفت الإنسان إلى الناس، وسلامة العبد فيما بينه وبين الله أن يفر من الله إلى الله لا إلى الناس، وأن يفر إلى الخالق لا إلى المخلوق، فلا يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه كما قال تعالى: {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:13]. فالله يناديك ويدعوك أن تكون معه، أن تكون له، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فتعبده بالإخلاص وتعمل الطاعة لله، فتتعلم وتتصدق وتركع وتسجد وتصلي لله وحده. فالواجب على المسلم دائماً أن يوطن نفسه لإرادة وجه الله، وما أطيب العيش ولن يطيب إلا بالله، وما أطيب الحياة وما أسعدها ولا يمكن أن تكون سعيدة طيبة إلا بالله، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل:97] فمضى: (وهو مؤمن) موحد مخلص يريد وجه الله سبحانه وتعالى، أي: والله لنحيينه حياة طيبة، وإذا وعد الله بالحياة الطيبة فإن الله لا يخلف الميعاد، ولا شك أن العبد إذا بلغ هذه المرتبة التي يقول فيها لله، ويعمل فيها لله، ويتمنى فيها أن عمله فيما بينه وبين الله لا يراه أحد، ولا يشعر به أحد، ولا يحس به أحد أدرك هذا الأجر، وإني لأعرف علماء كانوا قوامين بالليل صوامين النهار، حتى إن الواحد منهم إذا أصبح تجده مع الناس لبساطته وتواضعه، ولا تشعر أنه ذاك العابد الصالح، وكله من الخفاء. وتجد الواحد منهم يجلس في خلوته فيبكي ويتفطر قلبه من خ

حكم الدعاء في صلاة الوتر بغير العربية

حكم الدعاء في صلاة الوتر بغير العربية Q هل يجوز الدعاء في صلاة الوتر بغير اللغة العربية؟ A الدعاء في الصلاة فيه وجهان للعلماء رحمهم الله، فبعض العلماء يقول: إنه لا يجوز إلا بالعربية، ومنهم من يقول: يجوز أن يدعو بغير العربية. والصحيح أن الدعاء ما كان منه توقيفي كالأذكار من التحيات ونحوها، والتمجيد الذي ورد به النص بعينه، كالتكبيرات والتسميع ونحوه فهذا يتقيد فيه باللغة العربية، وأما الأدعية فإنه يجوز أن تكون باللسان العربي، وبغير اللسان العربي إلا أنه ينبغي للشخص ألا يدعو بغير اللسان العربي، إلا إذا كان لا يعرف اللغة العربية. والله تعالى أعلم.

كيفية الجمع بين العلم وبين التوسعة على النفس والأهل

كيفية الجمع بين العلم وبين التوسعة على النفس والأهل Q من توفيق الله للعبد أن يشغله بطاعته عند فراغه وإجازته، خاصة بالانكباب على العلم وتحصيله، ولكن تواجه طالب العلم مشكلة، وهي أن الأهل والأبناء يريدون منه ما يريدون من التوسعة أو كثرة الأسفار، فكيف يوفق في هذا الأمر؟ A لاشك أن من أعظم نعم الله عز وجل على طالب العلم أن يسيطر على بيته، وأن يهيئ له أسرة تعينه على طلب العلم، فيجمع بين مرضاة الله سبحانه وتعالى في طلبه للعلم ومرضاته سبحانه وتعالى في إدخال السرور على الأهل والتوسعة عليهم، شريطة ألا يتوسع في هذا الأمر على حساب ما هو آكد وأهم. فطالب العلم يرتب وضعه، فإذا كانت هناك إجازة صرفها لما هو أهم، خاصة أن الأمة الآن محتاجة إلى طلاب العلم، وفرضية طلب العلم في هذا الزمان آكد من غيره؛ لأنه كلما تأخر الزمان كلما اشتدت الحاجة، وانقراض العلماء وضعفهم وحصول المشاغل لبعضهم يحتم المسئولية أكثر على طلاب العلم، فيجعل الواجب عليهم آكد. فلا شك أن طلاب العلم معنيون بهذا، ويجب عليهم أن يشتغلوا بطلب العلم، وألا يفرطوا في أي وقت يستطيعون أن يستنفذوه في طلب العلم، والاقتراب من العلماء، والحرص على الدروس المؤقتة أو غير المؤقتة، وعدم التفريط فيها. وكان الوالد رحمه الله إذا قلت له: أستأذنك من أجل أن أذهب لغرض يقول لي: يا بني! لا أستطيع أن آذن لك وألقى الله سبحانه وتعالى بإذني لك أن تترك كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في نفسي لا أغضب عليك؛ لأني أعرفك أنك تحفظ، وأنت عندك عذر، ولكن بيني وبين الله لا أتحمل المسئولية. وطالب العلم إذا طلب العلم عند شيخ عنده مكنه من درس خاص أو عام فهو مسئول أمام الله عز وجل عن كل ثانية، فضلاً عن دقيقة أو عن ساعة، وستسأل عنها أمام الله عز وجل، وكل درس يهيأ لك تتخلف عنه ستحاسب عنه بين يدي الله عز وجل. وقد يوجد طالب علم ربما يكون هو الوحيد في قريته أو حيه أو حارته يتفرغ لقراءة العقيدة أو الحديث أو الفقه، وفي الساعة التي ينام أو يغيب أو يتأخر فيها عن مجلس العلم ربما تطرح مسألة، وتنزل هذه المسألة بقومه وجماعته فلا يفتيهم، فيقف بين يدي الله مسئولاً عنها. فهذه مسئولية وليس بالأمر السهل، وهذا شيء جعل الله عز وجل فيه الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، فهذا الأمر يجعل طالب العلم في رحمة الله عز وجل. فأوصي أهل طالب العلم من زوجة وابن وبنت وأخ وأخت وأب وأم أن يعينوا طالب العلم على مسئوليته، وأن يعينوه على القيام بأمانته، وألا يفرط في أي مجلس من مجالس العلم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. وكنا نجلس المجلس مع بعض مشايخنا رحمة الله عليهم ممن نعرفهم فنأخذ من سمته ما يعيننا على طاعة الله عز وجل قبل أن يتكلم. وهذه أشياء فيها البركة والخير وفيها النفع، فمن جاء من أهل العلم أو من طلاب العلم يريد أن يطلب العلم ويلتصق بصفوة خلق الله عز وجل حملة الكتاب والسنة فقد أعطي شيئاً لا نظير له. ودعك من الدنيا، وما تسمع وما ترى من لهوها فزائل حائل، وانظر إلى أعز الناس في الدنيا من التجار والأغنياء يذهبون إذا ذهبت تجارتهم، ويذهبون بانتهاء أعمالهم، ولكن أهل العلم أبداً لا يذهبون، فهم وباقون في نفوس الناس وقلوبهم، باقون في أعمالهم وعباداتهم؛ لأنه لا يصلي ولا يعمل إلا إذا تعلم على يدي هؤلاء العلماء. فهم أمناء الله على الوحي، وهذه المنزلة الكريمة عليك أن تهيئ نفسك لها؛ لتنال من فضل الله العظيم الذي ليس هناك فضل بعد النبوة أفضل منه، وهو مقام العلم والعمل. فعلى طالب العلم أن يستشعر أنه لا يمكن أن يفرط في هذه المسئولية وهذه الأمانة على حساب أي شيء كائناً ما كان. ومن العجيب والغريب إن ملاذ الدنيا وشهواتها وملهياتها -ولا نقول هذا تزكية لأنفسنا، ولا نزكي أنفسنا على الله، لكن نقولها تمجيداً للرب سبحانه وتعالى، وبياناً لعظيم وفائه وكرمه- عرضت علينا لتحول بيننا وبين شيء من العلم، فتركناها لله فوجدنا من الله في حسن الخلف والعوض ما لم يخطر لنا على بال. وهذا شيء نشهد به لله عز وجل، في أمورنا الخاصة، وفي أمورنا مع عامة الناس، وفي أمورنا المالية، وفي الأمور الاجتماعية، فما كان طالب العلم يظن أنه إذا ضحى لهذا العلم أن الله سيخلفه أبداً. ولكن قال الله: إني معكم. فأنت معك أشرف شيء وأعظم شيء، وهو كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيا لها من نعمة عظيمة، لكن طالب العلم بحق الذي يقرأ العلم قبل مجلس العلم، ويقرأه في مجلس العلم، ويرجع إلى بيته فينكب على العلم يقرأه قائماً وقاعداً، ويتفكر فيه جالساً وراقداً، يجد كيف يفي الله عز وجل له، فإذا وفى لله كاملاً وفى الله له كاملاً. فنقول: إذا اعترضت طالب العلم الأمور التي تتعلق بالأهل والأصحاب والأحباب وغيرها من الملهيات فعليه أن يحاول قدر المستطاع أن يصرفها بالتي هي أحسن، وبطريقة لا تشوش عليه؛ لأن الأهل لهم حق، والصديق له حق، والرفيق له حق. لكن إذا أمكنك جعل الأهل يذهبون إلى نزهة مع أكبر الأولاد فأعطهم مجالاً ليذهبوا وتتفرغ أنت لطلب العلم، أو تذهب معهم ساعة أو ساعتين ثم ترجع، أو تذهب معهم وترتب أوقاتاً لا تتعارض مع أوقات تحصيلك ولا أوقات مراجعتك، فتنظم نفسك تنظيماً صحيحاً وترتب نفسك ترتيباً كاملاً، ولكن إياك وأي شهوة أو لذة أو سكرة من سكرات هذه الدنيا تأتيك فتنصرف عن العلم من أجلها، فهي ليست أعز من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإياك أن يكون عندك هذا الشعور. وإذا استغنى العبد عن ربه فإنه حينئذٍ يكون كما قال تعالى: {وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} [التغابن:6]، وكما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] نسأل الله العافية، فيزيغ الإنسان عن الكمالات وعن المراتب العلى حينما يعتقد أن شيئاً أفضل مما عند الله عز وجل. ولا أعتقد في قرارة قلبي أن أحداً أعز من طلاب العلم في بيت من بيوت الله إلا أحداً يعمل عملاً صالحاً أفضل مما هم فيه، فلا أشرف من العلم ولا أفضل منه، قال صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة ... )، فالملائكة تتنزل، وانظر إلى شرف العلم وفضله، فإنه إذا كان يوم الجمعة جلست الملائكة على الأبواب وكتبوا المصلين والسابقين، قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا جلس الخطيب) -أي: جلس على المنبر- طووا الصحف وأنصتوا للخطبة)، وما قال: انصرفوا. فانظر إلى شرف العلم وفضله عندهم، فالعلم مقامه كبير ومنزلته عظيمة، ويبارك الله به في وقتك ويبارك به في عمرك، وتكفى ما أهمك، وهذا الفضل لا يدانيه السرور مع الأصحاب. ومما أعرفه أ، بعض طلاب العلم كان في أثناء طلبه للعلم يأتيه الأصحاب بأنواع الشهوات والملهيات، وكان أبي رحمه الله يثبته على طلب العلم، ويقول له: يا بني اصبر، وسيأتي اليوم الذي تحب أن تراه. وذهبت الأيام وتتابعت، فذاق أولئك من ملذات الدنيا وشهواتها وملهياتها، ثم لم يمت حتى رآهم يأتونه يسألونه عن العلم. فأولئك الذين كانوا في عزهم وكرامتهم، وكانوا في نعمة ورغد من العيش يرجعون إليه، فما تركت شيئاً لهذا العلم إلا أبدلك الله خيراً منه وأفضل منه وأكثر بركة، ولو كنت مرقع الثياب حافي القدم فأنت أغنى الناس بالعلم. فلا تفرط في هذا العلم لأي شيء، لكن لا يمنع أنك تجعل لأهلك وقتاً. فالتوسعة على الأهل أمر مطلوب؛ لأن الأهل إذا ارتاحوا مكنه ذلك من العلم وفرغ قلبه أكثر؛ لإنه أعطاهم حظهم من الدنيا وسرورها ولذاتها. فالواجب على طالب العلم أن يرتب وقته، ويدخل السرور على أهله وولده ويلاطفهم، وأي شيء فيه إحسان إلى الولد فإنه مكتوب أجره، وهذا من رحمة الوالد بولده، حتى إن القبلة من الوالد لولده يؤجر عليها إذا قصد بها وجه الله وقصد بها رحمة. فعلى كل حال نوصي طلاب العلم أن يحسنوا إلى أهليهم وزوجاتهم، لكن بشرط ألا يكون على حساب العلم، وألا يتوسع أكثر من اللازم، خاصة في هذا الزمان الذي كثرت فيه الفتن والمحن، وعلى كل امرأة وزوجة أن تصبر وتحتسب إذا رزقها الله طالب علم يفرغ لحمل هذه الأمانة والقيام بهذه الرسالة. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك في أوقاتنا وأعمارنا، وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجهه الكريم موجباً لرضوانه العظيم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب الظهار [4]

شرح زاد المستقنع - كتاب الظهار [4] الكفارات هي العقوبات التي أمر الشارع بها، وتختلف بحسب اختلاف موجباتها، وتعتبر كفارة الظهار من الكفارات المغلظة التي نص عليها الكتاب والسنة، وزادها العلماء توضيحاً وتفصيلاً وجعلوا لها شروطاً وضوابط حتى لا يتساهل الناس في أدائها ومراعاة حق الله المتعلق بها.

كفارة الظهار

كفارة الظهار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وكفارته عتق رقبة، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً]. شرع المصنف رحمه الله في بيان الأثر المترتب على وجود الظهار من وجوب الكفارة على الزوج إذا أراد أن يعود، وقد بينا أنه لا يحل للزوج أن يطأ زوجته حتى يُكفِّر، وذلك بنص كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع أهل العلم. ونظراً لذلك يرِد Q ما هي الكفارة المترتبة على الظهار؟ فبيَّن الله تبارك وتعالى هذه الكفارة في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وشرع المصنف رحمه الله في بيان هذه الكفارة وبعض مسائلها. قال رحمه الله: [وكفارته عتق رقبة]. الضمير في: [وكفارته] عائد إلى الظهار، والكفارة: مأخوذة من الكفْر، وأصل الكَفْر في لغة العرب: الستر والتغطية، يقال: كَفَر الشيء: إذا ستره وغطاه عن الأنظار، ومنه سُمِّي المزارع كافراً؛ لأنه يكفُر البذر، بمعنى أنه إذا أراد الزراعة فإنه ينثر البذر ثم يغطيه عن الطير، فسمي كافراً من هذا الوجه. قال الشاعر: في ليلةٍ كَفَرَ النجومَ غمامُها .. .. . أي: سَتَرَ النجومَ الغمامُ. وسُمِّي الكافر كافراً؛ لأنه كفر نعمة الله عليه فجحدها، فكأنه غطى ما أنعم الله به عليه، وادعى أنه ليس لله عليه نعمة، نسأل الله السلامة والعافية.

كفارة الظهار من الكفارات المغلظة

كفارة الظهار من الكفارات المغلظة والكفارات: هي العقوبات التي أمر الشارع بها، وتأتي على أنواع وأحوال مختلفة، فتختلف بحسب اختلاف موجباتها، ولذلك تنقسم الكفارات إلى كفارات مغلظة وكفارات مخففة. وكفارة الظهار تعتبر عند العلماء رحمهم الله من الكفارات المغلظة، وهي الكفارات العظيمة التي أوجب الشرع فيها ما لا يوجبه في غيرها تعظيماً للذنب أو للخطيئة أو التقصير الذي ارتكبه المكلف، وهذا النوع -وهو الكفارة المغلظة- منه ما يتعلق بالقتل، وهو -كما سيأتينا إن شاء الله- قتل الخطأ إجماعاً، واختُلف في قتل العمد، وكذلك أيضاً كفارة الجماع في نهار رمضان، وكذلك كفارة الظهار. والكفارة المخففة من أمثلتها: كفارة اليمين، والنذر، وكفارة الفدية في الحج ونحوها، والكفارة تارة ينص عليها الكتاب وتبينها السنة وتُفصلها، وتارة تأتي في السنة ولا ينص عليها الكتاب. فالكفارة التي نص عليها الكتاب وفصلتها السنة وبينتها منها: كفارة الظهار، وكفارة الفدية في الحج؛ فإن الشارع سبحانه نص عليها في كتابه، وجاءت السنة ببيانها، قال تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]، فهذا أصل للكفارة، فمن اكتسب محظوراً بحلق الشعر أو نتفه، أو غطى رأسه، أو لبس المخيط فعليه الكفارة، ثم فصلتها السنة، فالله عز وجل قال: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)، لكن لم يفصل كم يوماً يصومه المفتدي، وكذلك أيضاً النُسك الذي يذبحه لم يبين أنه من الإبل أو البقر أو الغنم، وكذلك الإطعام لم يبين قدره، فجاءت السنة بالبيان، فهذا نوع من الكفارات. النوع الثاني: ما بينته السنة ولم يرد في القرآن نص عليه، وإنما ورد في القرآن بيان حرمة الفعل الذي يوجب الكفارة، كالجماع في نهار رمضان، فقد نهى عنه القرآن ثم جاءت السنة وبينت ما هو الواجب، وبينت الكفارة اللازمة على المجامع في نهار رمضان، فليس في القرآن نص على إيجاب الكفارة على المجامع في نهار رمضان. فهذا نوع من الكفارات المغلظة وبينته السنة ولم يبينه القرآن، وهذا مما يدل على أن السنة تأتي بأمر زائد عما في القرآن، خلافاً لمن يقول: إن السنة -فقط- بيان لمجمل القرآن وتخصيص لعمومه، وتقييد لمطلقه، ونحو ذلك مما ذكروه، وعلى كل حال فكفارة الظهار بينها الله تبارك وتعالى في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في قصة المظاهر من امرأة.

عتق الرقبة عن الظهار

عتق الرقبة عن الظهار قال المصنف رحمه الله: [كفارته عتق رقبة]. سيأتي -إن شاء الله- أن هذه الرقبة التي تجب على المظاهر ينبغي أن تتوفر فيها الشروط المعتبرة للحكم بصحتها أو بإجزائها في العتق، والأصل في إيجاب العتق على المظاهر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة:3]،فقوله تعالى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي: عتق رقبة فالتحرير للرقبة المراد به أنه يفكها من قيد العبودية فيعتقها لله عز وجل. وكفارة الظهار ترتيبية، والكفارات منها ما هو مرتب ومنها ما هو مخير فيه، فتارة يأمرك الشرع بكفارة ويجعلك مُخيراً تختار فيها إحدى ثلاث خصال، أو إحدى خصلتين أو أكثر، وتارة يُلزمك ويقول لك: كفر بكذا، فإن عجزت فبكذا، وإن عجزت فبكذا. وتارة يجمع بين الأمرين. فالكفارة التخييرية مثل كفارة الفدية، كقوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]. والكفارة المرتبة مثل كفارة الظهار، فهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فهي مرتبة لا يُجزئ فيها الثاني مع القدرة على الأول، ولا يجزئ الثالث مع القدرة على الثاني. وأما الذي جمع التخيير والترتيب فكفارة اليمين، فإن الله تعالى أوجب فيها عتق الرقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فهذا تخيير، فإن شاء أعتق رقبة، وإن شاء أن أطعم عشرة مساكين، وإن شاء كساهم، ثم بعد ذلك قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة:89]، فجاء بالترتيب عقب التخيير، فالتخيير في الثلاث الخصال الأُوَل، ثم جاء الترتيب عقب ذلك. فهنا الكفارة -كفارة الظهار- مرتبة، فهي من النوع الذي أوجبه الشرع على وجه الترتيب، وبناء على ذلك لابد من تحصيل هذا الشرط، أعني أنه لا ينتقل إلى خصلة ما دام أن الشرع قد اشترط غيرها، حتى يتحقق شرط جواز الانتقال إلى غيرها. والرقبة في الكفارة يشترط ملكيتها، ثم السلامة من العيوب، وسيأتي تفصيل هذين الشرطين المعتبرين للحكم بصحة العتق. ولما قال [عتق رقبة] فهم منه أنه لا يصح عتق ما لا يوصف بكونه رقبة، والذي لا يوصف لا يُستحق عتقه، كما لو أعتق جنين أمة، لأن الجنين في بطن الأمة صحيح أنه ملك للسيد، ولكن لا يوصف بكونه رقبة إلا إذا خرج حياً، فحينئذ يصح، وأما قبل ذلك فلو أعتقه لم يصح. وللعلماء قول آخر، فقالوا: إنه لو كان جنيناً في بطن أمه فإنه قد يكون معيباً عيباً يوجب بطلان عتقه. كما سيأتي إن شاء الله في العيوب المؤثرة.

صيام شهرين متتابعين عن الظهار

صيام شهرين متتابعين عن الظهار قال رحمه الله: [فإن لم يجد صام شهرين متتابعين]. أي: فإن لم يجد الرقبة صام شهرين متتابعين وهذا الترتيب هو الذي ذكرناه، فإذا كان قادراً على عتق الرقبة، فإنه لا يصح أن يصوم أو ينتقل إلى البدل وهو صيام شهرين متتابعين، وعتق الرقبة يستقر بالملكية والمالك إما أن يكون مالكاً للرقبة، أو يكون في حكم المالك، وفي حكم المالك من عنده قدرة أن يشتري الرقبة ويعتقها، فإن كان عاجزاً أو كانت الرقبة غير موجودة -كما سيأتي إن شاء الله- فإنه ينتقل إلى الخصلة الثانية وهي صيام شهرين متتابعين؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:4]، فجعل الله عز وجل شرط الانتقال إلى الخصلة الثانية في كفارة الظهار -وهي الصيام- إذا كان المظاهر غير قادر على الرقبة -أي: غير واجد لها-، وهذا يدل على أن صيام الشهرين المتتابعين يجب في حق المظاهر إذا كان عاجزاً عن الرقبة -كما ذكرنا-، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، وظاهر السنة يدل عليه، كما في قصة المظاهر في حديث خولة رضي الله عنها وأرضاها، وقد سبق بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يُعتق الرقبة، فلما أخبره أنه لا يجدها أمره بصيام شهرين متتابعين. وصيامه الشهرين المتتابعين إما أن يبدأ فيه من أول الشهر، فحينئذ يعتد بالشهر القمري ناقصاً أو كاملاً، فلو أنه ابتدأ في أول شهر محرم وكان شهر محرم ناقصاً أجزأه، فممكن -بناءً على هذا- أن يصوم تسعة وخمسين يوماً ويجزئه، ويمكن أن يصوم ثمانية وخمسين يوماً إذا صام من أول الشهر، وهذا إنما يكون إذا ثبت بالرؤية أن الشهر ناقص، وهي السنة، وهذا يدل على أن ترائي الهلال أمر مطلوب من المسلمين، وأنه ينبغي عليهم أن يحيوا هذه السنة؛ لأنها تترتب عليها أحكام شرعية كثيرة، وأما العمل بالحساب الفلكي فإنه لا يجزئ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا)، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف والأئمة الأربعة رحمهم الله جميعاً، فمذهبهم أنه لا يعتد بالحساب الفلكي في إثبات الشهر وخروجه، وأن العبرة بالرؤية إن رؤي الهلال، وإلا حكم بتمام الشهر، كما سبق بيان هذه المسألة وتفصيل القول فيها في مسائل رؤية هلال رمضان. فإذا ابتدأ من أول الشهر اعتد به ناقصاً أو كاملاً، وإذا ابتدأ أثناء الشهر فإنه يصوم ستين يوماً متتابعة، فينتقل إلى حساب الشهرين المتتابعين بالعدد على أصح أقوال العلماء رحمهم الله، وهو مذهب جمهور أهل العلم، أي: يجوز أن يبدأ بمنتصف الشهر، ويجوز أن يبدأ من أثناء الشهر، وأنه لا يشترط أن يبدأ من أول الشهر.

إطعام ستين مسكينا عن الظهار

إطعام ستين مسكيناً عن الظهار قوله رحمه الله: [فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً]. أي: فإن لم يستطع صيام الشهرين المتتابعين فإنه يجب عليه أن يُطعم ستين مسكيناً؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} [المجادلة:4]، فبين سبحانه وتعالى أنه يجب على المظاهر إن عجز، أو لم يستطع صيام الشهرين المتتابعين أن يُطعم ستين مسكيناً، وتقدم معنا بيان إطعام ستين مسكيناً، ووصف المسكين وضابطه في كتاب الزكاة، وصفة الإطعام، وستأتي الإشارة إلى بعض المسائل المتعلقة بالإطعام، فهنا المصنف يذكر الكفارة إجمالاً، وسيأتي إن شاء الله بتفصيل أحكامها، كما هي عادة العلماء رحمهم الله، حيث يجملون ثم بعد ذلك يفصلون.

الشروط المتعلقة بمن أراد عتق الرقبة

الشروط المتعلقة بمن أراد عتق الرقبة

اشتراط التملك في الرقبة

اشتراط التملك في الرقبة قال رحمه الله: [ولا تلزم الرقبة إلا لمن ملكها]. قوله: [ولا تلزم] أي: لا يجب على المظاهر أن يُعتق الرقبة إلا إذا كان مالكاً لها، كأن يكون اشترى رقبة صغيرة كانت أو كبيرة، ذكراً كانت أو أنثى، فإنه حينئذٍ انتقلت ملكيتها إليه، فيلزمه أن يعتق هذه الرقبة، ولا نلزمه بالعتق إلا إذا كانت الرقبة ملكاً له، أو كان قادرا ًعلى شرائها. فهما أمران إذا تحقق أحدهما عُمل به، فإما أن تكون الرقبة عنده وفي ملكيته، كأن يملكها بإرث، أو يملكها بشراء، أو يملكها بهبة صحيحة، كأن يقول له أخوه: وهبتُك جاريتي فلانة، فقال: قبلت. أو قال: وهبتك عبدي فلاناً. فقال: قبلته. فدخل في ملكه، ثم قال: هو حر لله عز وجل. وقصد بذلك عتقه كفارة عن الظهار. قوله: [أو أمكنه ذلك بثمن مثلها] أي: يمكنه أن يشتري الرقبة، أو أن يدخلها بشرائها بثمن مثلها والرقاب إذا بيعت فإما أن تُباع بثمن المثل، وإما أن تباع فيبالغ في قيمتها ويزاد عن قيمتها، ومراد المصنف هنا أننا نُلزم المظاهر أن يشتري الرقبة بمثل ثمنها، لكن إذا وجد رقبة واحدة وطلب صاحب الرقبة فيها مائة ألف، والرقبة تُباع بعشرة آلاف ريال، فحينئذٍ ليس هذا بثمن المثل، فلو أنه لم يجد إلا هذه الرقبة فإننا لا نظلمه بها؛ لأنها فوق ثمن المثل، وفيها إجحاف به، وينتقل إلى عوضها إذا لم يجد بديلاً عن هذه الرقبة بثمن المثل.

اشتراط الكفاية وشراء الرقبة بما فضل عن الحاجة

اشتراط الكفاية وشراء الرقبة بما فضل عن الحاجة قوله رحمه الله: [فاضلاً عن كفايته دائماً وكفاية من يمونه]. قوله: [فاضلاً] أي: هذا المال أو الثمن الذي يشتري به المظاهر الرقبة لابد أن يكون زائداً عن حاجته الضرورية التي يحتاجها من طعام وشراب، وكذلك أيضاً مئونة من تلزمه نفقتهم كالزوجة والأولاد. مثاله: لو كان عنده عشرة آلاف ريال، وظاهر من امرأته، وقيمة الرقبة ستة آلاف ريال، والأربعة آلاف ريال تكفيه لمئونته ومئونة أولاده وذريته ومن تلزمه نفقتهم، فحينئذٍ يجب عليه شراء الرقبة. لكن لو كانت قيمة الرقبة خمسة آلاف ريال، والنفقة التي تجب عليه لأولاده وذريته وأهله ولنفسه تصل إلى ستة آلاف ريال، فحينئذٍ أصبح عنده عجز فلا يُلزم، فلابد أن تكون قيمة الرقبة زائدة عن مئونته ومئونة من تلزمه مئونتهم من أولاده وأهله، وتقدمت معنا هذه المسألة في الزكاة، وكذلك في زكاة الفطر، وذكرنا مسألة الزائد عن النفقة المحتاج إليها، وكلام العلماء رحمهم الله في ذلك. قال رحمه الله: [وعما يحتاجه من مسكن]. قوله: [وعما يحتاجه] خرج به الذي لا يحتاجه، فلو كان الشخص عنده مسكن وظاهر من امرأته، وقلنا له: اشتر الرقبة فوجدنا أن الرقبة قيمتها خمسة آلاف ريال، ومسكنه يحتاج إليه له ولأولاده فإنا نقول له: لا يلزم أن تبيع المسكن؛ لأن المسكن محتاج إليه، ولذلك لا يلزم ببيع مسكنه، إلا إذا كان مسكنه فيه زيادة، كأن يستطيع أن يبيع هذه العمارة التي قيمتها -مثلاً- عشرة آلاف ريال، والرقبة قيمتها خمسة آلاف ريال، ويستطيع أن يشتري سكناً يختص به بخمسة آلاف ريال، فنقول له: بع السكن الذي بعشرة آلاف ريال، واشتر الرقبة بخمسة آلاف ريال، واشتر السكن الذي يناسبك بخمسة آلاف ريال، وهذا إذا كان عنده زيادة وفضل في السكن، لكن إذا كان السكن على قدره وقدر أولاده، ولا يستطيع -إذا باع السكن- أن يجد قيمة الرقبة فاضلةً عن سكن يجده له ولأولاده يليق بمثله فإنه لا يلزم بالبيع. قوله: [وخادم]. إذا كان يحتاج للخادم مثل الشيخ الكبير، والزمن، والمقعد، والمريض، والمشلول، ففي هذه الحالة لو كانت أجرة الخادم يستطيع أن يسقطها ثم يشتري بها رقبة نقول له: لا يلزمك ذلك، إلا إذا كنت مستغنياً عن هذا الخادم، فلو كان الخادم على سبيل الكمال فإنه حينئذ يلزمه أن يصرفه ويشتري بأجرته الرقبة. كذلك أيضاً -على القول بأن الخادم تقدر نفقته على ما ذكره المصنف رحمه الله- لو كان الشخص الذي ظاهر عنده سكن وعنده خادم، والخادم له أجرة شهرية، والمال الذي عنده هو عشرة آلاف ريال، منها خمسة آلاف ريال على طعامه وشرابه وأجرة خادمه، ويمكن -لو صرف الخادم- أن يبقى شيء، فنقول: لو كان الخادم ضرورياً فلا يصرفه ولا تقدر له نفقة، وأما إذا كان غير ضروري فإنه يحتسب الفضل، أي: يُلغي قيمة الخادم من نفقته ومئونته، ويضمها إلى قيمة الرقبة. قوله: [ومركوب]. أي: إذا احتاج إلى المركوب، مثل الشخص الذي معه عمل ويذهب ويأتي على مركوب، لكن إذا كان لا يحتاج إلى المركوب، ويستطيع أن يعيش بدون المركوب ويقضي حوائجه -مثل أصحاب القرى وأصحاب البادية، حيث يسهل عليهم التنقل في أماكن قريبة- وكان عنده مركوب فاضل عن حاجته، فحينئذٍ يقال: إن هذا المركوب لا يحتسب بالنفقة الضرورية، لكن لو كان يحتاج إلى هذا المركوب كبير سن، أو من عنده عمل لابد له فيه من المركوب، فالمركوب في هذه الحالة يتعين. وكل هذا الكلام الذي ذكره المصنف رحمه الله استثناء من أصل قرره العلماء رحمهم الله، وحكى الإجماع عليه الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني، وغيره، وهو أن الواجب إنفاقه في شراء الرقبة ما فضل عن الحاجة والمئونة اللازمة، فلما قالوا: بالإجماع لا نلزمه إلا بما فضل عن حاجته الضرورية يرد Q ما هي الأمور الضرورية؟ وما هي الأمور التكميلية الزائدة عن الحاجية والضرورية؟ و A ان من ذلك مئونة لازمة في طعامه وشرابه، ومئونة لازمة في لباسه، ومئونة لازمة في مركوبه، ومئونة لازمة في خدمه، هذه كلها ذكر المصنف بعضها، وسيذكر بقيتها كلها مندرجة تحت قوله: المئونة اللازمة، والمئونة اللازمة: هي التي يحتاجها الإنسان. وهذه المسألة أيضاً لا يستفاد منها في الظهار فحسب، بل يستفاد منها حتى في مسائل أخرى، فقد تجب الزكاة على شخص، وقد يجب الحق على شخص، فحينئذٍ ينظر في المئونة اللازمة، وينظر فيما هو غير لازم -أي: زائد عن المئونة اللازمة- حتى نلزمه ببيعه ورد الحقوق إلى أصحابها، وقد تقدم معنا هذا في باب التفليس، وذكرنا كيف يبيع القاضي على المفلس الأشياء التي ليست بضرورية، ولا يحتاجها الشخص لنفسه ولمن تلزمه مئونته. قوله: [وعرض بذلة]. كالفراش والأواني، فلو أن شخصاً ظاهر من امرأته، وقال: الرقبة قيمتها خمسة آلاف ريال، وأنا ليس عندي نقود، وليس عندي رقبة، وأريد أن أنتقل إلى صيام شهرين متتابعين فقل له: هل عندك مسكن؟ فإن قال: عندي مسكن على قدري. وقدر حاجة أولادي ومن يلزمني إيواؤهم فهذا ليس فيه إشكال. فإذا فتش عن متاعه في المسكن فوجد أنه قد فرش سكنه بالكماليات، مع أن هذه الكماليات يمكن بيع جزء منها تتوفر منه قيمة الرقبة، كما لو كان بيته يمكن أن يؤثث بألفين فأثثه بعشرة آلاف ريال نقول له: بع الأثاث واستفضل منه قيمة الرقبة، ثم اشتر أثاثاً على قدر حالك؛ لأنه لا يمكن في شريعة الله عز وجل أن يلزمه حق لله عز وجل -الرقبة-، ويجلس غنياً قادراً تحت ستار التكميليات التي ليست بحاجيات ولا ضروريات، ويضيع حق الله عز وجل. ومن هنا قرر العلماء مثل هذه المسائل في كتاب الظهار، وفي الخصومات، فلو خاصم شخص شخصاً في حقه وقال: ما عندي شيء فإننا ننظر إلى الشيء الضروري حتى نقول: ما عنده شيء، أما أن تجده ثرياً في ملبسه ومركبه، ثم يماطل في حقوق الناس، أو في حق الله عز وجل ككفارة الظهار، ويقول: هذا لازم لي في مئونتي فإننا نقول: لا. إنما يأخذ ما فضل عن حاجتك الضرورية، والزائد عن ذلك يجب صرفه للوفاء بحقوق الله، وبحقوق الآخرين. قوله: [وثياب تجمل] أي: الشيء الذي يتجمل به بالمعروف، لكن هذا يحتاج إلى نظر، وليس على كل حال، وهذه المسائل كلها يرجع فيها إلى المفتي، والذي يستطيع أن يقدر حاجته من الثياب بالمعروف؛ لأنها محتكم فيها إلى أعراف الناس. فالمرأة -مثلاً- تتجمل بثياب، فلو فرضنا أنها تلبس ثياباً قيمتها عشرة آلاف ريال، ويمكنها أن تشتري ثياباً بألفين، فقالت: ما عندي شيء، فإنه تجب عليها الرقبة، ولو قالت: ما عندي إلا هذا الثوب -الذي هو الفستان الذي تلبسه-، والفستان بعشرة آلاف ريال، فلا يقول لها المفتي مباشرة: انتقلي إلى صيام شهرين متتابعين ولا يجزيها ذلك، ما دام أن قيمة الثوب فيها زيادة عن الحاجة الضرورية، وإنما يقال لها: بيعيه ثم اشتري قدر الكفاية، والزائد من ذلك قيمة للرقبة التي هي حق الله عز وجل، فحينئذٍ لا يرخص لها. وانظر إلى دقة العلماء والأئمة والمفتين، فإنهم لا يقبلون من الناس دعواهم هكذا، وهذا في الحقيقة هو الفرق بين فقه المتأخرين والمتقدمين الذين يحتاطون في حقوق الله عز وجل، مع أن حقوق الله فيها الكثير من الأمور المبنية على المسامحة، لكنهم يدققون ويشددون في المسائل، وكل ذلك تضييقاً للتلاعب بحقوق الله عز وجل؛ لأن عتق الرقبة حق لله في كفارة الظهار. قوله: [ومال يقوم كسبه بمئونته] مثال هذا: لو كان عنده مزرعة، وهذه المزرعة فيها قوته وقوت أولاده، وعليه رقبة كفارة ظهار، فقلنا له: أعتق الرقبة، قال: ما أجد. قلنا: عندك مزرعة. قال: المزرعة هذه قوتي وقوت أولادي. فما عنده سيولة، وما عنده إلا هذه المزرعة، ولا يستطيع أن يستغني عن المزرعة ببيعها وشراء غيرها مما يدر عليه قوته وقوت أولاده، فنقول: المزرعة تبقى، لكن هناك في المزرعة أشياء يتوقف القوت والمئونة عليها، مثل مكينة الزراعة التي قد تكون قيمتها كبيرة، فلا نلزمه ببيعها؛ لأنها لو بيعت لما استطاع أن يأمن بقاء المزرعة حتى يجد مئونة من تلزمه نفقته من أهله وولده. وهذا راجع إلى أن لازم الشيء كالشيء، فإذا كان الشيء أذنت الشريعة أنه يخرج من حد الإلزام بعتق الرقبة -كما مر معنا- فهذا الشيء الذي يحتاجه للمئونة لا يحكم فيه ولا يلزم ببيعه، ولا يلزم بالتصرف فيه، فإذا كانت هذه الأشياء يحتاج إليها للمئونة فكل ما يحتاجه لبقاء ما يقوم بنفقته ونفقة أولاده لا يلزم ببيعه والتصرف فيه. قوله: [وكتب علم]. هذا محل نظر؛ لأن كتب العلم تباع، وإذا كانت تكفي لشراء الرقبة فلا رخصة في بقائها، بل يبيعها ويلزم ببيعها؛ لأن كتب العلم لها بديل عن طريق سؤال العلماء واستفتائهم، فلو فرضنا أن عنده مكتبة علم قيمتها عشرة آلاف ريال ولزمته الرقبة، والرقبة قيمتها خمسة آلاف، أو ستة آلاف، فنقول له: بع المكتبة، واشتر الرقبة وأعتقها. قوله: [ووفاء دين]. كذلك أيضاً إذا كان عليه دين، فإذا وجبت عليه كفارة الظهار وقلنا له: أعتق رقبة فقال: عندي عشرة آلاف ريال، وفلان من الناس له دين عليّ عشرة آلاف ريال، أو فلان من الناس له دين عليّ ثمانية آلاف ريال، والرقبة قيمتها أربعة آلاف ريال، فتبقى ألفان، فإذا كان عليه دين لا يمكن معه شراء الرقبة، فإنه في هذه الحالة تسقط عنه الرقبة وهذا مبني على القاعدة: (إذا ازدحم حق الله وحق المخلوقين قُدم حق المخلوقين على حق الله عز وجل)؛ لأن الله يسامح بحقه، والمخلوق لا يسامح، وهذا له شواهد كثيرة في الكتاب والسنة كما تقدم معنا غير مرة، ويعمل على هذا الأصل في أبواب العبادات من الصلاة والزكاة والصوم والحج، وبيّنا كلام العلماء رحمهم الله في هذه القاعدة.

الشروط المتعلقة بالرقبة المعتقة في الكفارة

الشروط المتعلقة بالرقبة المعتقة في الكفارة

اشتراط الإيمان في الرقبة

اشتراط الإيمان في الرقبة قال رحمه الله: [ولا يُجزي في الكفارات كلها إلا رقبة مؤمنة]. من أعتق الرقبة فإنه يُشترط لصحة العتق في إجزاء الكفارات الواجبة أن تكون مؤمنة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92]، فاشترط الله عز وجل في تحرير الرقبة الإيمان، والقاعدة: (المطلق محمول على المقيد)، وكتاب الله يفسر بعضه بعضاً، ومن هنا قال جمهور العلماء رحمهم الله من المالكية والشافعية والحنفية والحنابلة: يجب في الرقبة التي تعتق في الظهار أن تكون مؤمنة، والإطلاق في آية المجادلة مقيد بما ورد في آية النساء من اشتراط الإيمان في الرقبة. فهذا دليلهم من الكتاب. أما دليلهم من السنة على اشتراط كونها مؤمنة فحديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه وأرضاه، عند أبي داود والترمذي -وهو حديث صحيح-: أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إني صككت جارية صكةً ندمت عليها، وأحب أن أعتقها -يعني أنه ضربها ولطمها على وجهها، فندم على ذلك، فأحب أن يعتقها-. فقال عليه الصلاة والسلام: ائتني بها، فلما جيء بالجارية قال لها: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة)، ووجه الدلالة من هذا الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعتقها؛ فإنها مؤمنة)، فجملة: (فإنها مؤمنة) جملة تعليلية، ويستخدمها عليه الصلاة والسلام كثيراً، كقوله صلى الله عليه وسلم: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه، ولا تمسوه بطيب؛ فإنه يبعث يوم القيامة من الملبين) أي: أمرتكم بهذا الأمر؛ لأنه يبعث يوم القيامة ملبياً، أي: السبب في منعكم من هذا أنه في حكم المحرم؛ لأنه يبعث يوم القيامة ملبياً، وكقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلهما في الإناء؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)، أي: ما أمرتكم بغسلها ثلاثاً إلا لمكان احتمال النجاسة؛ لقوله: (فإن أحدكم لا يدري أن باتت يده). فهذه جملة تُنبه على العلة في أمره بالعتق (أعتقها؛ فإنها مؤمنة) أي: ما أمرتك بعتقها إلا لأنها مؤمنة، فكان مفهوم ذلك أنها لو لم تكن مؤمنة لما أمرتك بعتقها. ويستنبط من هذا أن الكافر لا يعتق، وهذا صحيح؛ لأن الكافر ضرب الرق عليه؛ لأنه لما كفر بالله وحارب دين الله عز وجل، جعله الله في مقام البهيمة بل أضل كما قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44]، ففضل الله الآدمي على الحيوان بالعقل، فإذا كفر نعمة الله عز وجل عليه بالعقل، وكفر بالله عز وجل نزل عن الآدمية إلى البهيمة، فيباع ويشترى؛ لأنه كافر. ولذلك لا يختص الرق بطائفة، ولا يختص بلون، ولا يختص بجنس، وإنما هو في كل من كفر بالله عز وجل وألحد كائناً من كان؛ لأن الحكم فيه عام، والعلة فيه مبنية على الكفر، وإلا فكيف تقاتل الشريعة من كفر بالله عز وجل وتضرب عليه الرق، ثم بعد ذلك بكل سهولة يعتق، ويصير حراً كافراً دون أن يُسلم، فهذا لا يتفق مع الشرع أبداً، ولذلك لما أراد معاوية أن يعتقها قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ائتني بها)، فلما جيء بها اختبرها النبي صلى الله عليه وسلم، وامتحنها هل هي مؤمنة أو غير مؤمنة، وهذا يدل على أنه لا يمكن أن الشرع يقول: اضربوا الرق عليه بالكفر، ثم يقول: أعتقوهم وهم كفار، فهذا أشبه بفوات المقاصد التي من أجلها ضرب الرق. ولذلك قالوا: من الناس من يسلم بالسنان، ومنهم من يسلم بالحجة والبرهان، ومنهم من يسلم بالنعمة والإحسان، فالكافر حينما يجابه المسلمين ويرى قوة الإسلام قد لا يكفيه ذلك لسلم، فإذا عاش بين المسلمين ورأى أخلاقهم، ورأى فضل الإحسان، ورأى الأدب دعاه ذلك إلى الإسلام، ولذلك ضُرب عليه الرق حتى يكون وسيلة لإسلامه وإيمانه، وهذا كله تنزيل من حكيم حميد، فما من أمر شرعه الله إلا وتجد وراءه من الحكم الشيء الكثير. فإذا كان الكافر يُعتق على كفره فات المقصود من ضرب الرق عليه، لذلك فإن مذهب جمهور العلماء -وهو أصح القولين في هذه المسألة- أن الكافر لا يُعتق، وأنه لا تجزئ الرقبة الكافرة في الكفارات عموماً، فلا يجزئ في كفارة اليمين إلا مؤمنة، فلو أعتق عبده الكافر فإنه لا يُجزيه عن كفارة يمينه، ولا يجزئ في كفارة الظهار، ولا كفارة الجماع في نهار رمضان، ولا كفارة القتل إلا أن تكون مؤمنة، وهذا هو أصح قولي العلماء رحمهم الله. فإذا كان الرقيق مؤمناً، فلا إشكال، سواءٌ أكان ذكراً أم أنثى، لكن الإشكال لو أنه أراد أن يُعتق في كفارة قتل صبياً صغيراً، وهذا يقع، فيأتي شخص يريد أن يُعتق في كفارة قتل فلا يجد إلا طفلاً، فهل يجزيه ذلك؟ و A ينظر في والد الطفل، فقيل: إنه يتبع خير الوالدين ديناً، فإن كان أحدهما مسلماً أبوه أو أمه لحقه، وحُكم بأنه مسلم. وهذا مبني على القاعدة التي ذكرها العلماء، وأشار إليها الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه قواعد الأحكام، تقول القاعدة: (التقدير تنزيل المعدوم بمنزلة الموجود، والموجود بمنزلة المعدوم)، فالتقدير في الشريعة أما أن تنزل المعدوم بمنزلة الموجود أو تنزل الموجود بمنزلة المعدوم. فالصبي لم يشهد ألا إله إلا الله، ولم يشهد أن محمداً رسول الله، ولكن يعامل معاملة أحسن والديه ديناً من باب التقدير، فيقدر فيه الإسلام، كأطفال المسلمين قدر فيهم الإسلام مع أنهم لم يسلموا، والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه)، فمن دقة العلماء جعلوا الأولاد تبعاً للوالدين؛ لأنه قال: (فأبواه يهودانه أو يمجسانه)، وهذا مسلك دقيق مبني على أن الغالب أن الوالدين سيجران الولد إلى دينهما، وإذا كان الوالدان مختلفين في الدين نُظر إلى خيرهما؛ لأن الولد إذا اختلف والداه نظر إلى أيهما أقرب ديناً، فهذا حاصل ما ذكر في هذه المسألة، فإذا كان صبياً دون البلوغ فإنه يحكم بكونه تبعاً لخير والديه ديناً.

اشتراط السلامة من العيوب في الرقبة

اشتراط السلامة من العيوب في الرقبة قال رحمه الله: [سليمة من عيب يضر بالعمل ضرراً بيناً]. أي: يشترط في الرقبة أن تكون سليمة من العيب الذي يضر بالعمل ضرراً بيناً، والعيب في لغة العرب: النقص، يقال: عابه: إذا انتقصه. وقد تقدم معنا في البيوع في خيار العيب أن العيب: نقصان المالية في الشيء نقصاناً مؤثراً، والعيب في الرقاب ينقسم إلى قسمين: عيب النفس، وعيب الذات. فعيب النفس: أن يكون به مرض يؤثر في أخلاقه ويؤثر في نفسه، وجسده كامل وذاتُه كاملة، مثل الجنون -أعاذنا الله وإياكم-، فهذا عيب ونقص، وكذلك أيضاً يكون العيب متعلقاً بالذات، كالعرج ونقص الخلقة بعمل أو غير ذلك كالشلل ونحوه مما يؤثر في الذاكرة، وسنفصل -إن شاء الله تعالى- في مسائل شرط السلامة من العيوب في رقبة الكفارة الواجبة في الظهار.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من تلفظ بالظهار هازلا

حكم من تلفظ بالظهار هازلاً Q ما الحكم لو تلفظ بالظهار هازلاً؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه. أما بعد: فمذهب طائفة من العلماء رحمهم الله أن الظهار يأخذ حكم الأصل؛ لأن الأصل في الهازل ألا يؤاخذ بقوله، فلا يوجب ثبوت حكم. ومن أهل العلم من قاسه على الطلاق، وقال: من هزل بالظهار كمن هزل بالطلاق. وهذا المذهب أحوط، وأبرأ للذمة، وأسلم للإنسان أن يحتاط لدينه ويستبرئ. أما الأصل فيقتضي أن الهازل لا يؤاخذ على هزله، وأن المزح لا يأخذ حكم الجد. ولذلك نقول: إن الأصل رجحان مذهب من يقول: إنه لا يعامل معاملة المطلق، فمن ظاهَرَ هازلاً وما قصد الظهار لا يقع ظهارُه، وإذا أحب أن يحتاط ويخرج من الخلاف فهذا أفضل. أما من حيث الدليل ونحن قلنا: الأصل، فالأصل أن الهزل لا يأخذ حكم الجد، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد)، فلو كان الهزل يأخذ حكم الجد لما قال: (ثلاث)، ولما خص الحكم بالطلاق والنكاح، ولذلك لما قال: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد) دل أنه ما عدا الثلاث، لا يأخذ حكم الثلاث وإلا كان قال: أربع، أو: خمس، ولذلك اختص الحكم بما ورد، فإذا جاءت المسألة ترد إلى الأصل، فهل الهازل يقصد إيقاع الشيء أو لا يقصده؟ والجواب: يقصده، وليس في نيته ذلك، وليس بمتعمد إيقاع ذلك، ولذلك قال تعالى: {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5]، فهو لم يقصد الظهار ولم يرده، وإنما أراد أن يهزل مع امرأته ويعبث معها، فقال لها: أنت عليّ كظهر أمي، لكن مع ذلك نقول: الاحتياط أفضل. ومذهب الاحتياط يسمى فقه الفتوى والجواب، وهو أنه إذا كان الشيء لا عقوبة فيه وترجح القول بعدم عقوبته، وسمعه عوام الناس أو سمعه الناس فربما تساهلوا فيه وتلاعبوا به، فإنهم ينذرون منه تخويفاً من انتهاك حدود الله عز وجل والاستخفاف بها، فما ينبغي لأحد أن يهزل بالظهار، ولا أن يهزل بالأشياء الشرعية التي عظمها الله عز وجل، ولذلك وصف الله الظهار بأنه منكر من القول وزور، ولا ينبغي للهازل أن يتلفظ بالظهار، كما ينبغي للمسلم دائماً أن يحفظ حدود الله، وأن يتقي الله فيما يقوله. والله تعالى أعلم.

حكم إعتاق الرقبة إذا كانت من ذوي الأرحام

حكم إعتاق الرقبة إذا كانت من ذوي الأرحام Q لو كانت الرقبة التي يريد أن يعتقها قريبة له كالوالد والأخ والعم، فهل تقع كفارته؟ A هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، فمن أهل العلم من قال: لا يُجزئ أن يعتق ذا الرحم المحرم، كما في حديث السنن، ومن أهل العلم من قال: إنه لا يُجزئ أن يعتق الوالدين، وكذلك أيضاً الفروع والإخوة. فخص الحكم بالأصول وفروع الأصول القريبة التي هي الإخوة وغيرها من الفروع القريبة. ويتأتى هذا فيما لو كان ولده كافراً ثم أُسر في الحرب ثم بيع، أي: ضرب عليه الرق، ثم بيع، ثم اشترى ولده، فتأتي هذه المسألة على هذه الصورة، أو يكون والده كافراً فيؤسر، ثم يضرب عليه الرق فيشتريه. ويدل على ذلك ما ورد في الحديث: (من ملك ذا رحم محرم عتق عليه)، وورد في الصحيحين أيضاً: (لا يُجزي ولد عن والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه ثم يعتقه). فهم يقولون: إن من ملك ذا رحم محرم عتق عليه، فيقتضي ذلك أن الأصل أن من ملك ذا رحم فلا يسمى رقبة؛ لأنه يعتق عليه بمجرد ملكه له، فهو إذا أعتق في كفارة الظهار حاز فضلاً لنفسه بالتخلص من عتقها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك يذهب الجمهور إلى هذا، والمالكية يذهبون إلى القول الثاني. والحقيقة أن قوله: (من ملك ذا رحم محرم عتق عليه) هو من حديث سمرة، وفيه كلام عند العلماء رحمهم الله، ولكن على القول بتحسينه يقوي قول من قال: إن ملكية ذا الرحم تمنع من إجزاء الرقبة في عتق الظهار وغيره مما تجب فيه الرقبة. والله تعالى أعلم.

أجر من عفا عن القاتل

أجر من عفا عن القاتل Q هل من عفا عن القاتل يكون له أجر عاتق الرقبة؟ A من عفا عن القاتل له أجر، وهذا الأجر مغيب، ولم يرد نصٌ بتفسيره ولا ببيانه ولا قياسه على غيره، فالواجب على المسلم أن يقف عند هذا الموقف الذي حده الشرع، وهو أن نؤمن بأن الله يثيبه، قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] ومن ابتغى الأجر من الله، فقد تولى كريماً لا تنفد خزائنه سبحانه وتعالى، فنِعم العطية ونِعم المتحمل سبحانه وتعالى لهذا الفضل العظيم الذي سيبذله على عبده؛ لأن الناس يختلفون، من قُتل أبوه وعفا ليس كمن قُتل ولده، ومن قُتل أبوه وهو يتيم يحتاج إلى حنانه وبره وإحسانه، ليس كمن قُتل أبوه وهو كبير عاقل رشيد، هذه الأمور كلها يعلمها الله سبحانه وتعالى ويقدرها بأقدارها ويجزل ثوابها، {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14] سبحانه وتعالى، فهذه الأمور لا يدخل في تفصيلها. فإن يُقال: إن من أعتق الرقبة كمن عفا عن القتل. أو: من عفا عن القتل كمن أعتق الرقبة فهذا لا يدخل فيه القياس؛ لأن هذه الأمور ليست مجالاً للقياس، وهذه أمور غيبية يقف المسلم فيها عند الحد الذي حده الشرع، فيؤمن إيماناً جازماً كاملاً بأنه لا أكرم من الله سبحانه وتعالى، وأنه إذا عفا المسلم عن أخيه المسلم لله ولوجه الله تولى الله ثوابه. أما ما هو الجزاء، وما هو الثواب فهذا أمر يتوقف فيه؛ للأصل الذي ذكرناه. والله تعالى أعلم.

الاستدلال بحديث الجارية على إثبات علو الله عز وجل

الاستدلال بحديث الجارية على إثبات علو الله عز وجل Q هل يستدل بحديث الجارية على ثبوت علو الله تعالى، وذلك في قول الجارية: في السماء؟ A هذا دليل للمذهب الحق في إثبات الفوقية لله عز وجل، قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]، فأثبت سبحانه وتعالى لنفسه الفوقية والعلو سبحانه وتعالى، وتجد بعض المذاهب تقول: الله ليس فوق ولا تحت ولا هنا ولا هناك، -نسأل الله السلامة والعافية، فيردون هذه النصوص، ويتكلفون في إبطالها، حتى قال بعض أئمة العلم ودواوين العلم في ردهم لهذا القول الضعيف المصادم للنصوص: إن البهيمة إذا أصابها الكرب رمت ببصرها إلى السماء. حتى البهيمة أثبتت لله عز وجل هذه الصفة. والله سبحانه وتعالى أثبت أن إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، فهي نصوص واضحة كالشمس، لا تحتاج إلى تأويل، ولا تحتاج إلى تعطيل، ولا تحتاج إلى تمثيل، فيؤمن بها المسلم كما جاءت وكما نزلت. ولذلك استدل العلماء والأئمة بقولها: (في السماء) على إثبات صفة العلو؛ لأن العرب تنص على أن السماء تطلق على العلو، وهو إثبات صفة العلو لله عز وجل، وهو العلي العظيم. فالمذهب الحق إثبات صفة الفوقية لله عز وجل؛ لثبوت نصوص الكتاب والسنة بذلك، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم عرفة: (اللهم هل بلغت. اللهم فاشهد، اللهم فاشهد)، فكان يرفع أصبعه إلى السماء، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه كان إذا خطب خطبة الجمعة وأراد أن يدعو أشار بأصبعه إلى السماء) فهذه هي السنة، وهذا يدل على أن هذه الصفة ثابتة لله عز وجل، ولا يقبل تأويلها أو تعطيلها أو صرفها عن ظاهرها، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا)، فهذه نصوص واضحة لا تحتاج إلى تأويل، بل تثبت أنه في العلو سبحانه وتعالى، والتنبيه بالضد يدل على ضده، فعلى كل حال أسفرت أدلة الكتاب والسنة على إثبات الصفة لله عز وجل، وأن المذهب الحق أن الله له هذه الصفة بدون تأويل ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه. والله تعالى أعلم.

حكم الوضوء واستقبال القبلة عند سجود التلاوة

حكم الوضوء واستقبال القبلة عند سجود التلاوة Q هل يشترط لسجود التلاوة استقبال القبلة والوضوء؟ A السجود لا يكون إلا للقبلة؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن أنه قال: (قبلتكم أحياء وأمواتاً) يعني الكعبة، فأثبت أنه لا تستقبل إلا القبلة، ولا نجيز لأحد أن يسجد لغير القبلة، سواءٌ أكان في صلاة أم غيرها، إلا إذا دل الدليل على جواز ذلك، كما في صلاة النافلة في السفر على الدابة حيث ما توجهت به، وأما ما عدا ذلك من القياسات والآراء فمذهبه ضعيف؛ لأنه مصادم للأصل، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً)، فينبغي استقبال القبلة عند السجود، سواءٌ أكان سجود تلاوة أم سجود شكر أم سجود سهو، أم سجود صلاة، فكل ذلك سجود، وآخذ حكم الأصل من الإلزام باستقبال للقبلة، وهذا أصل شرعي عمل به جمهور العلماء رحمهم الله، أما أن يكون الشخص يتلو القرآن فلا تدري إلا وهو ساجد إلى جهة الشرق أو جهة الغرب والقبلة منحرفة عنه فربما ظُن أنه يسجد للسارية أو يسجد لغير الله عز وجل، خاصة إذا كان في مسجد يمكن فيه أن يسجد للقبلة، لكنه ينحرف عن القبلة ويسجد إلى غيرها، فهذا أمر لا شك في خطئه وعدم صوابه، والمذهب الحق أنه يجب استقبال القبلة. أما الطهارة واشتراطها للسجود فالصحيح أن سجود التلاوة وسجود الشكر لا يشترط لهما الطهارة، والدليل على ذلك أن اشتراط الطهارة شرط زائد عن استقبال القبلة، وإنما تشترط الطهارة للصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أمرت بالوضوء عند القيام إلى الصلاة)، فهذا الأصل، وسجود التلاوة ليس بصلاة من كل وجه، وسجود الشكر كذلك ليس بصلاة من كل وجه، فلا يلزم أن يكون متوضئاً. والله تعالى أعلم.

حكم إعادة المأمومين للصلاة إذا صلى بهم إمام وهو غير طاهر

حكم إعادة المأمومين للصلاة إذا صلى بهم إمام وهو غير طاهر Q إمام صلى بالناس وهو على غير طهارة، فهل يلزم المأموم أن يعيد الصلاة، أم تقتصر الإعادة على الإمام فقط؟ A أصح الأقوال في هذه المسألة مذهب الجمهور، فقول الجمهور رحمهم الله أنه تصح صلاة من وراء الإمام، ويجب على الإمام أن يعيد الصلاة، والدليل على ذلك ما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم)، أي: إن أخطأو ولم يعلموا، وكان الخطأ مؤثراً في الصلاة كشرط الطهارة ولم يعلم من وراء الإمام به فعليه خطؤه ولكم صلاتكم تامة صحيحة، فهذا يدل على أن الإمام إذا صلى ولم يخبر المأمومين، أو إذا صلى ونسيَ أنه محدث ثم بعد الصلاة تذكر فإن صلاة المأمومين صحيحة، ولا تجب عليهم الإعادة. وذهب بعض العلماء إلى أنه يجب على المأمومين أن يعيدوا، والحقيقة أن القول الذي يقول بعدم الإعادة أقوى من حيث السنة، خاصة أنه ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صلى بالناس الفجر، ثم انطلق إلى مزرعته بالجرف -والجرف في غربي المدينة يبعد عن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ما يقارب أربعة أميال، وهو الموضع الذي ينزل فيه الدجال كما في الحديث الصحيح: (أن منزله بسبخة من أرض جرف)، وهي خارج حدود الحرم-، فنزل في مزرعته، فلما جلس على الساقية نظر إلى فخذه فرأى آثار المني، فقال رضي الله عنه وأرضاه: ما أراني إلا أجنبت فصليت وما اغتسلت. فاحتلم فاستيقظ وهو لا يدري أنه جنب، فصلى ولم يأمر أحداً بإعادة الصلاة، ومعلوم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس مأمورون باتباع سنته وهديه رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك القول الصحيح في هذه المسألة أن الإعادة لا تجب على المأمومين. لكن إذا علم المأموم أن إمامه محدث، أو رأى على إمامه نجاسة فإنه يجب عليه أن يفارقه عند العلم، فإن علم قبل الصلاة فلا يجوز له أن يأتم به، فإن ائتم به بطلت صلاته، وهكذا لو أحدث الإمام أثناء الصلاة وسمع المأموم حدثه، كأن يخرج منه الريح -مثلاً-، فإنه يستخلف مكانه، فإذا لم يستخلف، ينوي المؤتم مفارقته ويتم لنفسه، فلو اقتدى به بعد علمه بحدثه ركناً واحداً بطلت صلاته بالإجماع، كما حكاه غير واحد من أهل العلم رحمة الله عليهم. والله تعالى أعلم.

ضابط المشتبه في قوله عليه الصلاة والسلام: (وبينهما أمور مشتبهات)

ضابط المشتبه في قوله عليه الصلاة والسلام: (وبينهما أمور مشتبهات) Q ما هو ضابط المشتبه في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وبينهما أمور مشتبهات)؟ A هذه المسألة حار فيها العلماء رحمهم الله، واختلفوا في حد المشتبه، ولا يوجد له قاعدة معينة أو ضابط معين. والفتوى ليست كلمات تقال لا يسأل ولا يحاسب عنها الإنسان، فكم من مسائل جثا بسببها السلف ودواوين العلم على ركبهم، فتمنوا أن أمهاتهم لم تلدهم قبل أن يقولوا فيها بشيء، فالإنسان يتقي الله عز وجل، فالشيخ الأمين رحمة الله عليه سئل عن مسألة في البيوع فقال: لا أعلم. لا أدري. الله أعلم. فكرر عليه السائل أكثر من مرة، وقيل له: إذا لم تفتِ أنت فمن يفتي؟! وكان رحمه الله من أعلم الناس في زمانه، وفي بعض الأحيان يحرج السائل المفتي، وقد يكون عوناً للشيطان عليه، فيقول له: ما أحدٌ يفتي غيرك، وأنت شيخنا، وأنت وأنت. وربما جره من حيث لا يشعر، وينبغي للإنسان أن يشفق على من يسأل، فجثا الشيخ الأمين على ركبتيه ورفع يده إلى السماء وقال: يا فلان لا تحملني ما لا أطيق، يا فلان! لا تحملني ما لا أطيق. يا فلان! لا تحملني ما لا أطيق. فالمسائل ووضع الضوابط والقيود أمور يتساهل فيها المتأخرون، ويخاف منها المتقدمون الورعون الصالحون. فالضوابط تحتاج منك أن تدرس جميع المسائل المشتبهة في مسائل العبادات والمعاملات في الفقه فقط، أما العقيدة ففيها أمور مشتبهة لا يعلمها كثير من الناس، منها ما أحل الله عز وجل أن يقوله الإنسان مما يعتقده، ومنها مما حرم الله عز وجل عليه أن يعتقده، وهناك أمور مختلطة ينبغي للإنسان التورع فيها، وأن يبتعد عنها، حتى في المسائل التي تتعلق بالعبادات والمعاملات، فعند أخذ المشتبهات في الطهارة وحدها يمكن أن يحار العقل في وضع ضوابط لها، أما فهمها ومعرفتها فالحمد لله عز وجل، فالله عز وجل ما قبض رسوله عليه الصلاة والسلام إليه إلا وقد تركنا على المحجة البيضاء. فعلم المتشابهات ليس له ضابط أو قاعدة محددة، لكن هناك أمر يعين على فهم المتشابه، وهو أن المتشابه أمر فيه شَبَه من الحل يقتضي جوازه، وشَبَه من الحرمة يقتضي منعه، وحينئذٍ يتردد نظر الفقيه في إلحاقه بأقواهما شبهاً ليجزم بحله أو يجزم بحرمته، أو يقف موقف السلامة عند استواء الأمرين، فيقول فيه: الله أعلم. هذا فيه شبه من الحل وشبه من الحرمة. فمثلاً: أحل الله لنا نكاح المرأة غير المسماة في المحرمات، فقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ} [النساء:23]، ثم قال بعد ذلك: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، أي: من غير ما سميت لكم. فهذا يقتضي حل النساء من غير ما سمى الله عز وجل، فالنص يقتضي أنه لو أن رجلاً -والعياذ بالله- زنا بامرأة، فأنجبت هذه المرأة بنتاً فهي بنت من الزنا، وإذا جئنا ننظر فإن البنت الحلال التي يجوز له أن يصافحها ويجلس معها ويختلي بها ويسافر ولا يحل له نكاحها هي بنت النسب، وهي من مائه ومن لحمه ودمه ومن فراشه، فهذه هي الحلال البينة التي لا إشكال فيها ولا شبهة. ولو جئنا إلى المحرمة، وهي التي لا تحل للرجل إلا بعد أن ينكحها، ويكون له وجه من حلها بملك يمين أو نحوه، وكونه زنا بها فالزنا حرام، ولا يقتضي أنها تأخذ حكم الحلال، فالبنت من الزنا هل نحكم بكونها بنتاً من صلبه فلا يجوز له أن يتزوجها، أو نحكم بأنها أجنبية عنه ونجيز له ذلك؟ كذلك لو أن والده زنا بامرأة، فجاء يريد أن ينكح بنت هذه الزانية -والعياذ بالله-، وهي أخته من الزنا، فهل نقول بحلها؛ لأنها ليست من ذوات النسب، وليست مما سمى الله عز وجل من المحرمات؟ لأنه تعالى قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، والبنت من الزنا ليست بالبنت من النسب، وليست من المحرمات بالمصاهرة، وليست محرمة من الرضاعة، وليس فيها نص يقتضي تحريمها، فإذاً هي مما وراء ذلك. وإذا جئنا ننظر في المعنى الذي من أجله حرمت الشريعة نكاح البنت ولم تجز للرجل أن ينكح بنته أو أخته وجدناه موجوداً في هذه البنت، فهي من صلبه ومائه ومن فراش وطئه، والذي فيها فقط هو الوصف الشرعي وعدمه، فاقتضى الأول حلها، واقتضى الثاني حرمتها، فصارت مشتبهاً، تشبه الحلال من وجه تشبه الحرام من وجه. فمثل هذا يأتي فيه الإنسان ويقول: لا أفتي بحله ولا أفتي بحرمته. وحينئذٍ يلقى الله سبحانه وتعالى لم يعتقد حرمة يحرم بها شيئاً لم يحرمه الله، ولم يعتقد حلاً؛ لأنه شيء لم يرد النص بتحليله جزماً، فصار المشتبه يقتضي مثل هذا الحكم، وهذا قد عمل به النبي صلى الله عليه وسلم، كما في قضية عبد بن زمعة حينما وطئ أخو سعد رضي الله عنه جارية زمعة وولدت، فكان فيه شبه من أخي سعد رضي الله عنه وأرضاه، وقال أخوه قبل أن يموت: إن الذي أنجبته ولدي وابني، فإذا أنا مت فتعهد به. فعهد به إليه قبل موته، فلما اختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال سعد: إنه ابن أخي عهد إليّ به قبل موته. وقال عبد بن زمعة رضي الله عنه: يا رسول الله! إنه على فراش أبي، والأصل أنها وليدة لوالدي، وتأخذ حكم الولد للفراش، وللعاهر الحجر. فاستدل بالأصل، فقال عليه الصلاة والسلام: (هو لك يا عبد بن زمعة، واحتجبي منه يا سودة)، فانظر كيف عمل بالشبهين. وكذلك أيضاً في قضية المرأة التي ادعت أنها أرضعت، فقال الزوج: (يا رسول الله! إنها لم ترضعني، فقال: كيف وقد قيل؟)، فأمره بفراقها مغلقاً الشبهة ودافعاً لها. لكن الذي ينبغي على المسلم دائماً أن يرد الأمر إلى العلماء، وأن يسأل من عنده علم، فربما كان الأمر مشتبهاً، عند عالم بيناً عند عالم آخر، وربما كان ملتبساً على أحد، والله تعالى يقول: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، وقد أخبر تعالى عن خيرة خلقه وصفوته من عباده وهم رسله، فقال تعالى في قضية داود وسليمان: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79]. فقد يكون الشيء مشتبهاً عند عالم بيناً عند غيره، وهذه نعم من الله تعالى يفتح بها على العلماء، ويفرق بين العلماء، حتى إن الخلاف في شريعتنا أظهر الله وكشف به العلماء الراسخين في العلم، فظهرت قوتهم في استنباط الأحكام من النصوص، وقوتهم في إحقاق الحق وبيان الأرجح والأقوى والأقرب إلى أصول الشريعة، وهذا كله راجع إلى فضل الله عز وجل وحده لا شريك له الذي يؤتي الحكمة من يشاء. نسأل الله العظيم بمنه وكرمه أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل. والله تعالى أعلم.

عدة المطلقة بعد مرور سنة على فراق زوجها لها

عدة المطلقة بعد مرور سنة على فراق زوجها لها Q امرأة طلقها زوجها بعد سنة من فراقها، فهل لها عدة، أم تكتفي بمدة الفراق؟ A الواجب عليها أن تعتد بعد الطلاق، ولا تعتبر بمدة الفراق؛ فإن الله تعالى جعل العدة مرتبة على وجود الطلاق، وبناءً على ذلك لا يمكن أن يحكم بالعدة قبل وقوع الطلاق، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله. والله تعالى أعلم.

نصيحة لطالب علم كثير النسيان

نصيحة لطالب علم كثير النسيان Q لا أعرف كيف أقرأ كتب أهل العلم؛ إذ أنسى أول الكتاب إذا وصلت إلى آخره، ولا أعرف كيفية الضبط، فما المنهجية في ذلك؟ A القواعد والمنهجية مسائل كبيرة، فطلب النصائح والتوجيهات ممكن، لكن المنهجية أمر صعب جداً. وعلى كل حال من أخلص لله فتح الله عز وجل عليه من فضله. أولاً: لا يقرأ الإنسان في كتاب يختص بعلم حتى يحصل قواعده بالتلقي المباشر، وأنبه أن العلم لا يؤخذ عن طريق الكتب، ولا تؤخذ السنة إلا من أفواه الرجال، وأما كون كل شخص يأخذ كتاباً ويأخذ علماً، ويستقل بنفسه في دراسته وفهمه فمن السهل أن ينسى، وأن يفهم فهماً خاطئاً فيضل. ومعلوم أنه كلما تأخر جيل عن الذي بعده نقص اتباعهم لهديه عليه الصلاة والسلام؛ لأن الجيل الأول تلقى الوحي مباشرة فشاهد مشاهد التنزيل، وجلس مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ منه مباشرة، وهذا أكثر بركة، وأكثر فهماً وأكثر ضبطاً, وأكثر تحقيقاً، وكلما تأخرت الأمم كلما ضعف العلم، ومن هنا فُرق بين القرن الذي يليه عليه الصلاة والسلام والقرن الذي بعده حتى تقوم الساعة، فالتلقي لابد أن يكون من أفواه العلماء ومن أفواه الرجال، كما كان حال السلف رحمهم الله والأئمة. ثانياً: الكتاب الذي تريد أن تقرأه لابد أن تراعي فيه أموراً. أولاً: ينبغي على طالب العلم ألا يقرأ كتاباً حتى يقرأ مقدمته، وتعرف ما الذي في المقدمة. ثانياً: لا تقرأ إلا بين يدي عالم، فتضن وتشح بنفسك وبوقتك عن أن تهدره عند من لا يقدره قدره من أنصاف المتعلمين والمجهولين، فلا تأخذ العلم إلا ممن يعرف، وإياك والجلوس عند من لا يعرف العلماء، ومن لا يعرفه العلماء، ولذلك تجد هذا الزخم الموجود في المكتبة الإسلامية إلى درجة أنه أصبح يضايق كتب السلف وأئمة العلم حتى في المسائل الواضحة، وكأن كتب العلماء والأئمة المتقدمين لا تُشفي عليلاً ولا تروى عليلاً، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له، فلا تقرأ إلا كتب من يوثق بعلمه، وكثير من الآفات تأتي بسبب هذا، ولربما تجد الشخص يؤلف في مسألة كبيرة وهو يجهل مقدمات العلوم، وهذا هو الذي -نسأل الله السلامة والعافية- ابتليت به الأمة. خاصة في هذه الأزمنة المتأخرة، فتصدر للتدريس والكتابة من ليس بأهل لذلك إلا من رحم الله عز وجل. فلا يُقرأ لكل أحد، ولا تؤخذ كتباً لأناس مجهولين لا يعرف من هم، خاصة في أمور العقيدة، وفي المسائل المهمة التي تتصل بعقيدة الإنسان، أو بعبادته فيما بينه وبين الله، وهذا لا يتساهل فيه، ونحن نشدد في هذا، والله يشهد أننا لا نريد إلا النصيحة لله ولكتابه ولدينه وشرعه، ولا نقصد بذلك شخصاً، ولا نقصد طائفة ولا جماعة، لا نقصد إلا من تصدّر لشيء ليس له بأهل. وهناك أمر آخر، وهو أن أي مسألة تُريد أن تقرأ فيها فلا يخلو الأمر إما أن تكون قديمة بحث عنها فيها السلف ودواوين العلم وكتبوا فيها، وإما أن تكون مسألة نازلة جديدة. فإذا كانت المسألة قديمة بحثها أئمة السلف ودواوين العلم فالله الله في سلف الأمة، فأنت في غناء عمن بعدهم؛ لأن الذين من بعدهم إما أن يكرروا لما قالوه، وإما أن يأتوا بشيء من عندهم، فما علمت فإنه يكفيك، واقتد بالأولين، وهذه نصيحتي لكل طالب علم. فخذ أي كتاب من كتب العلماء المتقدمين، وخذ التفسير -على سبيل المثال- واقرأ في تفسير آيات الصبر، واقرأها بقلب خاشع وبنفس حاضرة، وتدبر الكلام الذي يقال لك فستجده كلاماً ليس فيه أكثر من دلالة الآيات والنصوص، وصحيح أنه ليس فيه جرأة على القول على الله عز وجل، وليس فيه كلام معسول ولا كلامٌ منمق، لكنه كلامٌ عليه نور العلم لا يعرفه إلا من عرف العلم، وتجد العالم والله أصدق لساناً وأوضح بياناً، وأقوى حجةً وبرهاناً, وما كان يعجزهم أن يأتوا بالكلمات المعسولة والخطب الطنانة والعبارات المنمقة، لكنه الورع الذي سببه التقوى. فما الذي جعل بعض المتأخرين يأخذ الرسائل وهو بإمكانه أن يرجع إلى دواوين العلم وإلى العلماء الأولين، بل الأولى أن يُعَودَ شبابنا وصغارنا على الالتصاق بسلف الأمة، وأن يقرؤوا ويداوموا النظر في كتب المتقدمين حتى ينتهلوا مما انتهل منه العلماء الأولون ليجدوا بركة ذلك العلم الذي أثرت عليه دلائل الإخلاص وإرادة وجه الله عز وجل. لكن حينما يقرأ للمتأخر ويلتصق بالمتأخر تجده بعد ذلك -إذا كان خطيباً، أو كان واعظاً- لا يستطيع أن يخطب خطبة في موضوع، أو يتكلم أو يحاضر في محاضرة، إلا إذا كان فيها رسالة معاصرة، قالوا: لأن كلام الأولين معقد، وكلام المتأخرين سهل والحقيقة أن قول الأولين ولكنه ألفاظ موزونة رصينة، وكتبت هذه الكتب والعلماء متواجدون متظافرون، فكان كل واحد منهم يخاف النقد، وكانت كل كلمة وجملة محسوبة، وكنا نقرأ في بعض الكتب فنحاول في بعض الأحيان أن نأتي ببديل عنها من الكلام المعسول، ليستقيم الكلام فلا نستطيع. وقال لي الوالد رحمة الله عليه مرة أنصحك. أو: أناشدك الله ألا تجد علماً عند السلف وعند الأئمة المتقدمين وعند المتأخرين شيء منه إلا رجعت إلى علم المتقدمين. وأدركت -والله- فضل نصيحته، وأسأل الله بعزته وجلاله أن يجزيه عني وعن الإسلام والمسلمين كل خير، والله وجدت بركتها وخيرها حتى في الفتاوى، ما أجمل أن ترجع فيها إلى كتب السلف والمتقدمين، ولا تخف من الناس، وإنما عليك أن تلقي العبارات، فقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء سبحانه وتعالى، ولا تنتظر من الناس مدحاً أو جزاءً أو شكوراً، ولا تبحث عن رسالة لعلمك أن عباراتها منمقة، أو كتاب عباراته سهلة وأنت تجد علماً معروفاً عن عالم معروف يخاف الله ويتقيه ويزكيه من أئمة العلم ودواوين العلم وتترك هذا من أجل ما تجده عند الناس من العجب بعبارتك أو بكلماتك، ولكنك تجد -إذا رجعت إلى كتب الأولين- من القبول من الله والمحبة والتوفيق ما لم يخطر لك على بال، وهذا الشيء نشهد لله به، فعلم المتقدمين أبرك وأكثر خيراً، وليس معنى ذلك أن المتأخرين ليس عندهم شيء، ولكنها الحقوق. ليس هناك عاقل حكيم يُسأل عن عين زاكية نظيفة نقية لا تشوبها الشوائب، تجري على الأرض يعرف منبعها ويعرف فرعها فيقول: خذ من الفرع واترك الأصل. فقد اجتمعت العقول على أنها تدل على الأصول، ومن ذهب إلى الأصل وأخذ منه كان أصفى علماً وأنقى وأبعد عن الشوائب، فنحن نوصي بهذا، ونوصي بكتب السلف ما أمكن. أما طريقة القراءة فباختصار: أولاً: لا تقرأ إلا بعد أن تعرف منهج العالم -كما ذكرنا- الذي هو منهج الباحث، وكان العلماء رحمهم الله يعتنون ببيان منهجهم في كتبهم، فإذا قرأت المقدمة وعرفت منهج العالم فاسأل عما أشكل عليك، ولا تبدأ قراءة الكتاب إلا بعد أن تعرف ما مقصوده، خاصة إذا كان له مصطلحات خاصة، أو يَعتبر مفاهيمَ معينةً. وبعد أن تقرأ المقدمة وتفهم منهج العالم وطريقته في تناول المسائل والعبارات تقسِّم الكتاب بتقسيمه، فهناك ما يسمى الأصل، وهناك ما يُبنى على الأصل من الفروع، فإذا جئت إلى مسألة تتعلق بحكم شرعي فهناك ما يُسمى بالأركان والشروط تتحقق بها ماهية الشيء، وبعد الأركان والشروط تأتي الأحكام المترتبة على وجودها، وهي ما يسميها العلماء بالأثر، ثم تأتي مباحث يسميها العلماء بالطوارئ والنوازل. فإذا جئت تقرأ في مباحث الأحكام والأركان والشروط تعرف المقدمات. فلا تقرأ إلا وقد عرفت المقدمة، وعرفت مصطلحات من تقرأ كتابه، وكونك تقرأ الكتاب فينسيك آخرُه أولَه فما أدري، هل العيب في القارئ، أو -والعياذ بالله- مُحِقَت بركة الكتاب المقروء، فليس فيه بركة، وإما أن يجتمع الأمران، فإما أن يكون القارئ -والعياذ بالله- عنده ذنوب أطفأت نور العلم، وأظلمت القلب فلم يفقه ولم يفهم، وإما أن يكون العيب في الكتاب -نسأل الله السلامة والعافية-، ولذلك تجد بعض الكتب لما تقرأها تبقى، وبعض الكتب تقرأها، ثم إذا انتهى الإنسان من حاجته في اختبار أو غيره ذهب علمها -نسأل الله السلامة والعافية-، فهذا راجع إلى نفس تأليف الكتب ووضعها، وكان السلف رحمهم الله يخافون من التأليف، ولا يؤلفون إلا إذا سئلوا. وإما أن يكون مجموع الأمرين: عيب في القارئ، وعيب في واضع الكتاب. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرحمنا برحمته، وأن يتولانا بما تولى به عباده الصالحين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب الظهار [5]

شرح زاد المستقنع - كتاب الظهار [5] من أعظم الشروط اللازم توافرها في الرقبة لإخراجها في كفارة الظهار سلامة الرقبة من العيوب، وهذه العيوب تناولها الفقهاء بكثير من الأحكام والمسائل، من أهمها: ضابط العيب المؤثر وغير المؤثر في الرقبة، وحكم ذهاب العضو أو بعضه من الرقبة، وحكم المريض الميئوس منه، وأم الولد في الإعتاق، وهل يصح إعتاق العبد الأحمق، أو المدبر، أو المرهون، أو الجاني، أو ولد الزنا، أو الأم الحامل مع حملها؟

العيوب المؤثرة في الرقاب في كفارة الظهار

العيوب المؤثرة في الرقاب في كفارة الظهار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فقد تقدم معنا أن الرقبة التي أوجب الله عتقها في الكفارات لابد أن تكون مشتملةً على بعض الصفات التي يُحكم بإجزائها وبراءة الذمة في عتقها، وبين رحمه الله في هذه الجملة أنه يشترط في الرقبة أن تكون مؤمنة، وبينا دليل هذا الشرط، وأن أصح قولي العلماء رحمهم الله هو حمل المطلق على المقيد، فنحمل المطلق في كفارة الظهار على المقيد في كفارة القتل، ولذلك أوجبوا الإيمان في الرقبة التي يعتقها المظاهر. يقول والمصنف رحمه الله: [ولا يجزئ في الكفارات]، وهذه عادة العلماء رحمهم الله، فهم يذكرون المسائل المتماثلة التي يشبه بعضها بعضاً في المظان، فبيَّن أنه يشترط في الرقاب التي يجب عتقها أن تكون مؤمنة، فلو أعتق رقبة كافرة فإنه لا يجزئه، لا في كفارة القتل، ولا في كفارة الظهار، ولا في كفارة الجماع في نهار رمضان، ولا في كفارة اليمين، أي: في الكفارات التي تجزئ فيها الرقبة. ثم الشرط الثاني الذي يجب توفره لإجزاء الرقبة وبراءة الذمة من الكفارة بعتقها: أن تكون سالمةً من العيوب، وبينا حقيقة العيب، وأن أصله في اللغة النقص، يقال: عاب فلان فلاناً إذا انتقصه بشيء مما يعد منقصة. والعيب ينقسم إلى قسمين في الرقاب، عيب في الجسد، وعيب في النفس والروح. فعيب الجسد: النقص في الخلقة الذي يضر ضرراً بيناً. وعيب الروح: متعلق بالأخلاق، كأن يكون فاقداً للعقل، أو يكون عصبياً إلى درجة لا يتحكم في نفسه في حالات الغضب، أو يكون يصاب بالصرع والإغماء، فهذا فيه نقص في الروح.

ضابط العيب المؤثر وغير المؤثر في الرقاب

ضابط العيب المؤثر وغير المؤثر في الرقاب تقدم معنا في كتاب البيوع ذكر العيوب المؤثرة في الرقاب، وضابط العيب المؤثر وغير المؤثر في الرقبة، إلا أنه هنا إذا كان النقص في الرقبة يكون النقص في الأعضاء، كقطع عضو كيد أو رجل، أو ذهاب حاسة كذهاب البصر ونحوه، فهذا إذا وجد في الرقبة فإنها لا تجزئ في العتق، فلو كان عنده عبد أو مملوك أعمى وأعتقه كفارة الظهار، أو كفارة لقتل، أو كفارة لجماع في نهار رمضان لا يجزئه، وهكذا لو كان أقطع اليد، أو أقطع الرجل، أو مشلولاً شللاً تاماً، أو شللاً جزئياً لبعض الأعضاء. ثم استأنف رحمه الله فقال: [يضر بالعمل ضرراً بيناً]، وهذا يسمى عند العلماء بالضابط، وهو هنا أن يكون العيب مضراً بالعمل ضرراً بيناً، فالعيب يضر ويمنع الإنسان من العمل. والسبب في وضع هذا الضابط أن الرقبة إذا كانت لا تستطيع العمل فمعنى ذلك أن الشخص إذا أعتقها يتخلص من تبعة الإنفاق عليها؛ لأنها إذا كانت عاطلة لا تعمل، مثل رقيق مشلول -مثلاً- فهو كما قال تعالى: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ} [النحل:76] أي: كل على سيده فسيده إذا وجبت عليه الرقبة بانتهاكه حرمةً من حرمات الله كقتل نفس محرمة، أو ظهار، أو جماع في نهار رمضان، فأصبح هنا من الخير له أن يعتق هذه الرقبة، وأصبح العتق في هذه الحالة تخلصاً من التبعة، فبدلاً من أن تكون زجراً له أصبحت نعمة عليه، وهذا خلاف مقصود الشرع في أن يتحمل الغرم الذي يؤثر فيه حتى يردعه عن انتهاك حرمات الله، ولذلك أوجب الله الكفارة من عتق الرقاب، والإطعام، ونحوهما من الكفارات التي تكف الإنسان في بعض الأحيان عن انتهاك حرمات الله، حتى يكون ذلك أبلغ في زجره.

أقوال أهل العلم في الرقبة المعيبة

أقوال أهل العلم في الرقبة المعيبة إذا ثبت ما سبق فالعلماء على قولين: فمن أهل العلم من قال: إذا وجد العيب المؤثر لا يجزئ عتق الرقبة. فلو أعتق الأعمى -كما ذكرنا- فالجمهور من العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وطائفة من أهل الحديث رحمة الله عليهم كلهم يقولون: إن من أعتق الرقبة التي فيها عيب مؤثر فذلك العتق لا يجزئه. وقال بعض العلماء: إنه إذا أعتق الرقبة التي فيها عيب -ولو كان مؤثراً كالعمى والشلل- فإنه يجزئه. وقال: حتى ولو أعتق عبداً مشلولاً شللاً كاملاً يجزئه. وهذا مذهب الظاهرية رحمة الله عليهم وطائفة. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور أن الرقبة يشترط في صحة إجزائها وبراءة الذمة من الكفارة بعتقها أن تكون سالمة من العيوب؛ لأن مقصود الشرع في إعتاق الرقبة الرفق والإحسان إليها، وزجر ذلك المرتكب لحرمات الله عز وجل بوجوب الكفارة عليه، وحينئذٍ لو قلنا بعتق هؤلاء خالفنا مقصود الشرع، فأصبح رفقاً به من تبعة الإنفاق على تلك الرقبة، لذلك نقول: الله عز وجل أمر بعتق الرقبة، والأصل أن تكون الرقبة على الصفة المعتبرة، ودليل ذلك أننا وجدنا الشرع يسقط بالعيب عن الإنسان الواجبات، بل حتى في المستحبات كما في الأضحية -على القول باستحباتها-، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع لا تجزئ في الضحايا: العوراء البين عورها، والعرجاء البين عرجها، والمريضة البين مرضها، والكبيرة التي لا تنقي)، وهي التي لا مخ فيها. فإذا كان في المستحبات لا تجزئ فكيف في الواجبات التي ألزم بها، وهذا حي وهذا حي، فالرقبة من الحيوان وكذلك الأضحية من الحيوان، فكوننا نقول في الرقبة: إن الإنسان حيوان فهذا من الوصف بالحياة، وهذا الوصف يطعن فيه بعض المتأخرين، وليس طعنهم بصحيح، فالإنسان حيوان، ووصفه بهذه الصفة من جهة الحياة؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64]، يعني: الحياة الحقيقة؛ فإن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. فالمراد بهذا أن نقول: إنه امتنع أن يجزئ المعيب في الأضحية على القول بوجوبها، فكما لا يجزئ المعيب في الأضحية لا يجزئ المعيب في الرقاب، من جانب أن هذا ثبت فيه حق الله عز وجل، وإما إذا قلنا: إن الأضحية ليست بواجبة فنقول: إذا كان العيب مؤثراً في الأضحية وليست بواجبة ففي باب الرقاب الواجبة من باب الأولى، فهذا من جهة الأدلة التي تدل على أنه لا يجزئ ما كان معيباً من الرقاب في الكفارات كلها، وهنا ذكر المصنف شرطين لجميع الرقاب: الإيمان، والسلامة من العيب. قوله: [كالعمى]. هو ذهاب البصر، والعمى يكون حسياً ويكون معنوياً، وأشد العمى عمى البصيرة -نسأل الله السلامة والعافية، وأن يجنبنا الله من عمى البصائر-، ولذلك قال الله: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، والمقصود هنا العمى الحسي وهو ذهاب البصر. قوله: [والشلل]. هو المرض المعروف، ويعجز الإنسان بسببه عن تحريك العضو، سواء أكان يداً أم رجلاً، فلو كان الرقيق أشل اليد أو الرجل فإنه لا يجزئ، فلو سألك سائل وقال: قتلت نفساً خطأ، وكفرت بعتق عبد مشلول اليد تقول: لا يجزئ. فلا بد أن يكون سالماً من الشلل. قوله: [أو أقطع اليد أو أقطع الرجل]. أقطع الرجل معناه أنه لا يمشي؛ لأن القطع مثل الشلل، بل هو أشد من الشلل، والمشلول قد يأذن الله له بالشفاء ويبرأ. قوله: [أو أقطع الأصبع الوسطى أو السبابة أو الإبهام]. يلاحظ هنا أنه تدرج، وهذا أمر نجده عند علماء السلف، فبعد أن ذكر فقدان العضو كاملاً ذكر فقدان بعضه، فذكر العمى مثالاً على ذهاب العضو كاملاً، فإذا ذهب البصر كاملاً من العينين فإنه لا يبصر بهما، ثم قال: (والشلل)، والشلل يكون لبعض الأعضاء دون بعضها، فالأول ذهاب للعضو كاملاً، والثاني يقع في العضو فيذهبه كله، مثلاً في اليد يسمى مشلول اليدين أو القدمين، وقد يقع لأحدهما، أي: يد واحدة أو رجل واحدة، فهناك ذهاب كلي لبعض الأعضاء. وبعد أن انتهى من العمى والشلل شرع في ذكر ذهاب جزء من العضو فذكر أقطع الأصابع، فإن أقطع الأصابع لم تذهب يده نفسها كاملة، ولكن ذهب بعض اليد، ثم اليد في الأصل تطلق ويراد بها اليد الكاملة من أطراف الأصابع إلى مفصل الكف الذي هو مفصل العضو مع الساعد، وتطلق اليد ويراد بها من أطراف الأصابع إلى المنكب. لأنه قد يقول قائل: سلمت بأن الإضرار بالحاسة كاملة لا يجزئ بسببه عتق الرقبة، فما الحكم إذا ذهب بعض العضو، كقطع الأصابع أو بعض الأصابع؟ فهذه المسألة فيها وجهان للعلماء: فبعض العلماء يقول: إن العضو موجود في الظاهر مفقود في الحقيقة، يعني: إذا قطع بعض أصابعه، -القطع الذي يرونه مؤثراً- يقولون: اليد موجودة، ولكن ذهاب بعض الأصابع التي هي منها تذهب فائدة اليد. فأصبح الذي نريد أن نقرره هنا أن السبب الذي من أجله حكم العلماء بأن ذهاب بعض العضو مؤثراً أنهم قالوا: إذا ذهبت المنفعة فحينئذٍ: من قطعت بعض أصابعه قطعاً مؤثراً فإن منفعة يديه تزول، وكأن يده قد قطعت؛ لأنه في هذه الحالة لا يستطيع أن يمسك الأشياء باليد على الوجه الذي يكون في من كانت له أصابع. فعندنا ثلاث حالات: الأولى: إذا ذهبت الحاسة كاملة، وهذا لا إشكال فيه، أو ذهب العضو كاملاً كقطع اليد أو الرجل أو شلل أصابها، وأما الحالة الثالثة -وهي محل الإشكال- فهي إذا قطع بعض العضو، فهل هذا القطع ينزل العضو منزلة المعدوم أم لا؟ وهذه المسألة فيها خلاف، فبعض العلماء يقول: إن قطع بعض الأصابع يؤثر، كما اختاره المصنف رحمه الله، والحنابلة، ووجه عند الشافعية، أما القول الثاني فهو أنه لا يؤثر. قوله: [أو أقطع الأصبع الوسطى]. إذا كان أقطع الوسطى لا يرتفق باليد، فلو حمل ماءً أو شيئاً لا يرتفق بها. وقوله: [أو السبابة] هي التي تلي الإبهام؛ لأنه يشار بها عند السب. قوله: [أو الإبهام] هذه الثلاثة المتتالية يقول المصنف: إن ذهابها مؤثر ومضر. قوله: [أو الأنملة من الإبهام]. لأن الإبهام فيه أنملتان، والأنملة العليا لو قطعت ذهبت منفعة الإبهام، فتدرج أيضاً من العضو إلى جزء العضو، وهذا خاص بالإبهام فقط، وهذا مذهب الحنابلة رحمهم الله، لكن الذي تميل إليه النفس هو ما اختاره بعض العلماء أن ذهاب بعض الأصابع ليس كذهاب الكل، إلا إذا ذهب أكثرها، كثلاث أصابع من الكف، فإنها تذهب المنفعة، سواء أذهب الأصبعان اللذان يليان الإبهام أم ذهب ما بعدهما. قوله: [أو أقطع الخنصر والبنصر من يد واحدة] أي: لابد أن يذهبا معاً، فلو قطع الخنصر دون البنصر لم يؤثر، وهكذا العكس، لكن يشترط أن يكونا من يد واحدة، فلو قطع الخنصر من يد والبنصر من الأخرى فإنه لا يؤثر في الرقبة.

الرقاب التي لا يجزئ إعتاقها في الكفارات

الرقاب التي لا يجزئ إعتاقها في الكفارات قال رحمه الله: [ولا يجزيء مريض ميئوس منه ونحوه]. أي: ولا يجزئ في عتق الرقبة مريض ميئوس من مرضه، وقد تقدم معنا في أحكام مرض الموت المرض الميئوس منه، وذكرنا جملة من مسائله وبعض الأمور المتعلقة به، وبعض التطبيقات في زماننا، يقولون: لأنه إذا كان الرقيق ميئوساً منه فعتقه تخلص منه، ففي هذه الحالة كلها مخالفة لمقصود الشرع من العتق. وهذا صحيح. ومثل المريض الهرِم أو الزَمِن الذي سقط وأعيا، مع أنه لو أعتقه والحالة كما ذكر فمعنى ذلك أنه يهلكه؛ لأنه حينما يكون مملوكاً له يقوم على نفقته والإحسان إليه وتعهده، لكنه إذا أعتقه فإنه يضره بذلك العتق. قوله: [ولا أم ولد]. أي: ولا يجزئ عتق أم الولد، وأم الولد: هي التي وطئها سيدها فأنجبت منه، فهي أم ولد تعتق بعد وفاته؛ لأن الولد لا يملك أمه، والولد سيرث من أبيه، فشبه إجماع أنها تعتق بوفاة السيد، فقالوا: إنه لا يجزئ عتقها؛ لأنه إذا أعتقها تخلص منها وهي معتقة عليه، فحينئذٍ لا يتحقق مقصود الشرع من عتق الرقبة في الكفارة، فقالوا: لا يجزئ عتق أم الولد من هذا الوجه. وهذا تقدم معنا في كتاب البيع في حكم بيع أمهات الأولاد، وتكلمنا على هذه المسألة بالتفصيل في شرح بلوغ المرام، وبينا خلاف السلف والأئمة رحمهم الله في مسألة بيع أمهات الأولاد، ومن العلماء من يفصل في هذا على أنها ليست مملوكة من كل وجه في التصرفات، فبناء على ذلك لا يصح عتقها في الكفارات الواجبة ولا يصح بيعها، والمسألة مشهورة، وتقدم بيانها في كتاب البيوع.

ما يجزئ من الرقاب في كفارة الظهار

ما يجزئ من الرقاب في كفارة الظهار قال رحمه الله تعالى: [ويجزئ المدبر]. أي: ويجزئ عتق المدبر، والمدبر هو العبد الذي أعتقه سيده عن دبر، بمعنى: علق عتقه على موته، فقال: إذا أنا مت فعبدي فلان حر. فهذا التدبير ثابت بالنص، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل عند أهل العلم رحمهم الله من السلف والخلف على صحة التدبير وجوازه، وإذا ثبت هذا فإنه لو قال: عبدي فلان حر بعد موتي -أي: أعتقه عن دبر- فهل يجزئ في الكفارة الواجبة أم لا؟ فيه وجهان: الوجه الأول: قال بعض العلماء: لو أعتقه عن دبر فله الحق في الرجوع ما لم يمت، وبعضهم يقول: من أعتق عبده عن دبر فليس له حق في الرجوع. فعلى القول بأن المدبر يستحق سيده الرجوع يصح عتقه في الكفارات الواجبة؛ لأنه حينما أعتقه في الكفارات الواجبة كان نوعاً من الرجوع؛ لأن الرجوع نوعان: الرجوع الحقيقي، والرجوع الحكمي، فهو حينما قال: عبدي فلان حر بعد موتي ثم جاء في كفارة الظهار وأعتقه دل على أنه لا يريد أن يعتقه بعد موته، بدليل أنه بادر بعتقه، وهذا القول هو أصح القولين، فمن حق السيد أن يرجع عن عتق عبده قبل موته، ويقوي هذا ما ثبت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي أعتق مملوكه عن دبر، وكانت به حاجة، فرده النبي صلى الله عليه وسلم وباعه وسد حاجته، فهذا يدل على أنه لو كان التدبير لا يملك فيه الرجوع لما صح بيعهم؛ لأنهم أصبحوا معلقين كأم الولد، وهذا القول -أي: القول بصحة رجوع السيد عن عتقه للمدبر- هو أقوى القولين وأولاهما -إن شاء الله- بالصواب. قوله: [وولد الزنا]. ولد الزنا يعتق، وصورة المسألة أن تكون عنده أمة، وتغتصب ويزنى بها فتلد، فهذا الولد للفراش، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش)، ويكون ملكاً لمالك أمه؛ لأن الولد يتبع أمه رقاً وحرية، ففي هذه الحالة إذا ملكه وصارت عليه كفارة ظهار أو قتل وقال: فلان حر فإنه يصح عتقه ويجزيه وإن كان ولد زنا. والدليل على أنه يصح عتقه ويجزيه أمره سبحانه وتعالى بعتق رقبة، وهذا عام يشمل ولد الزنا وغيره؛ لأن الله لم يشترط أن يكون من نكاح صحيح، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أوس رضي الله عنه وأرضاه حينما ظاهر من امرأته: (أتجد رقبة؟)، وقال لـ سلمة بن صخر البياضي رضي الله عنه حينما جامع في نهار رمضان وهو صائم: (أعتق رقبة)، ولم يشترط ألا تكون على فراش الزنا أو غيره. قوله: [والأحمق]. أي: إذا كان به حمق لأن الحمق لا يمنع العمل ولا يضر به من كل وجه، وهناك منافع في الأعمال التي يقوم بها، وهذا العيب راجع إلى النفس، لكن في البيع ذكرنا أن الحمق وسوء الأخلاق وسوء الطبع يعتبر عيباً موجباً للخيار، وبينا أن الخيار يثبت إذا كان المبيع رقيقاً مملوكاً شديد الحمق ولم يُبَيِّن ذلك لمشتريه، والحمق نوع من الغفلة وذهاب التمييز في الأشياء، والأحمق ناقص الكمال، فيقولون: إن هذا لا يؤثر تأثيراً مضراً بالرقبة، أي: لو كان عنده رقيق أحمق فلا بأس أن يكون كفارة في الظهار. ويقولون في الأحمق: لا تصاحب أحمقاً؛ فإنه يضرك حيث تظن أنه ينفعك. فالأحمق عنده قصور في فهم الأشياء واستيعابها والتصرف تصرفاً سليماً يضع فيه الأشياء في مواضعها، فتجده كثيراً ما يأتي بالمشاكل والأضرار على من يملكه، فالرقبة إذا كان فيها حمق صح عتقها؛ لأن هذا لا يضر بالعمل ضرراً بيناً، وهو نقص في الكمال. لكن الأحمق لو زجرته وأخذته بالقوة يستقيم، فهو عيب لكنه يمكن تداركه، وذكرنا في البيوع أن بعض العيوب تؤثر وبعضها لا تؤثر؛ لأنه يمكن تلافي الضرر الموجود، فالأحمق ليس كالأعمى أو المشلول، فالحمق عيب -كما قلنا- راجع إلى النفوس، وأيضاً لو أعتقه فإن هذا لا يمنعه من عتقه؛ لأن الرقبة ليس بها عيب يضر من ناحية بدنية ولا من ناحية نفسية؛ لأن الحمق نوع من الغفلة تذهب إذا ابتلي بشيء واستضر به مرة أو مرتين ففي الثالثة يتوب، وهذا معروف، فالحمق صفة عارضة، وبعض الأحيان مع شدة الخوف وشدة الأذى والضرر يستقيم أمره، فالناس يختلفون، ومن هنا قالوا: إنه ربما يكون العيب في حق قوم ولا يكون عيباً في حق آخرين، فإذا كان الرقيق أحمقاً فإنه يجزئ عتقه في كفارة الظهار. قوله: [والمرهون]. أي: يصح عتق المرهون والسبب في ذلك أنه تعارض عندنا حق العتق وحق صاحب الدين، فإذا قال: أعتقت عبدي فلاناً كفارة من ظهار أو قتل فإن العتق قد نفذ ومضى، والعتق أشد من حق الآدمي في الرهن؛ لأن استحقاق صاحب الدين الرهن لعارض قد يزول كما لو سدد المدين، ومن هنا يصحح العلماء العتق، وقد بينا ما الذي يجب في حالة إعتاقه للعبد المرهون، وبينا أنه يطالب بمثله، وقد قلنا هذه المسألة في كتاب الرهن، وبينا أن عتقه لا يخرج المدائن عن المطالبة ببديل عنه يقوم مقامه. فإذا تعارض ما يمكن تداركه وما لا يمكن تداركه قدم الذي لا يمكن تداركه على الذي يمكن تداركه، وتوضيح المسألة أنه إذا ارتكب أمراً يوجب عليه الرقبة، وقال: إن عبدي فلاناً حر، وقصد أن يكون كفارة لظهاره، أو لجماعه في نهار رمضان، وكان مرهوناً، فإن فوات يد الرهن على الرقيق يمكن تعويضها بمال آخر يقوم مقامه، لكن العتق لا يمكن تعويضه، ولذلك في كثير من المسائل إذا أعتق مضى عليه؛ لدلالة قوله عليه الصلاة والسلام: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: العتاق والطلاق والنكاح)، فالعتق أمره عظيم في الشرع، ولذلك لو قال لعبده -وهو يمزح-: أنت حر، م قال: ما قصدت أنه حر نقول: لزمك العتق؛ لأن جده جد وهزله جد. فهذا يدل على أن العتق أقوى من الرهن، فحينئذٍ إذا أعتق رقبة مرهونة فإنه يصحح العتق، ويلزم بضمان الرهن. قوله: [والجاني]. الجاني: مأخوذ من الجناية. والعبد إذا جنى فالجناية تكون في رقبته، فلو أنه أعتقه لا يخلصه من الجناية، سواء أكانت قصاصاً أم مالاً، فيتحمل مسئولية ذلك ويصح العتق، وهذا لا يؤثر، فدخول الضمان بالجناية لا يمنع صحة العتق وإجزائه. قوله: [والأمة الحامل ولو استثني حملها]. أي: ويصح عتق الأمة الحامل ولو استثنى حملها، وصورة المسألة: إذا ظاهر ووجبت عليه كفارة وعنده أمة حامل، فأعتقها كفارة لظهاره واستثنى فقال: هي حرة إلا جنينها، فقال بعض العلماء: يبطل عتقها. ويراه من الأمور التي لا تصح في عتق الكفارات، وأنه يجب عليه أن يستبدل، فإما أن يعتق الكل أو يترك الكل، وليس عندهم استثناء في هذه الحالة. ومن أهل العلم من قال: يصح عتقها، ويصح الاستثناء، ومنهم من قال: يصح عتقها ويبطل الاستثناء، فهذه أوجه عند العلماء رحمهم الله فيها، والأقوى أنه لو استثنى الجنين وقال: هي حرة إلا جنينها فإنه يقوى القول بصحة العتق وإجزائه، والاستثناء معتبر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن لك على ربك ما اشترطتي)، فهذا اشترط واستثنى، وقياسه على البيع فيه علة ليست موجودة في الظهار، فنصححه في عتق الظهار، ولا نصححه في البيع.

الأسئلة

الأسئلة

إعتاق العبد المدبر

إعتاق العبد المدبر Q هل المدبر يعتق فوراً عند وفاة سيده، أم ينظر هل يجاوز الثلث أم لا؟ A الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهذه المسألة مفرعة على الحديث الذي تقدم معنا وبيناه، وذكرنا أن مسألة الثلث مؤثرة في الأموال، لكن المدبر خارج عن هذا، فمن أعتق عن دبر؛ فإنه يلزم الورثة بعتق مورثهم عند وفاة المورث، فعند وفاته يحكم بحريته، وتسري عليه أحكام الحر سواء بسواء. والله تعالى أعلم.

حكم إقامة الحد على الحر لكونه ارتكب جناية في فترة رقه

حكم إقامة الحد على الحر لكونه ارتكب جناية في فترة رقه Q العبد المملوك لو ارتكب جناية ثم أعتق هل يقام عليه الحد بصفته الماضية أم الحالية؟ A هذه مسألة لها نظائر، ففي بعض الأحيان الشريعة تنظر إلى حاله وقت الجناية لا إلى حاله وقت الاستيفاء والقصاص، وفي بعض الأحيان يكون الحكم بحال الشخص عند القصاص أو عند إقامة الحد عليه، ولها نظائر كثيرة، منها: لو أنه زنا -والعياذ بالله- ثم جن ففي هذه الحالة سقط عنه؛ لأنه أصبح غير مكلف، وإن كان في الأصل أنه زنى، وهذا يوجب عليه أن يقام عليه الحد، لكنه بجنونه منع من استيفائه. ومنها ما لو كان -مثلاً- في أول الحال -أعني حال الجناية- ثم انتقل إلى صفة لا يؤاخذ بها عند إرادة القصاص منه. وكذلك لها نظائر في الحقوق الأخرى، كالحقوق المالية، والحقوق الشخصية الاعتبارية، فيختلف حال الإنسان من حالة إلى حالة، وهل ينظر إلى الابتداء أو إلى المآل؟ وفي مسألتنا عند الاستيفاء لا شك أنه يقوى -وسيأتينا إن شاء الله في كتاب الجنايات- النظر إلى حاله عند تنفيذ الحكم عليه فيؤاخذ ويلزم به. والله تعالى أعلم.

حكم إعتاق العبد إذا كان معيبا في غير موضع الضرر كمشلول الرجلين لمن حرفته بيده

حكم إعتاق العبد إذا كان معيباً في غير موضع الضرر كمشلول الرجلين لمن حرفته بيده Q العبد إذا كانت منفعته توجد في غير موضع الضرر، كأقطع الرجل لمن حرفته بيده هل يجزئ في الكفارة؟ A لا يصح ذلك العبد أن يكون كفارة للمظاهر وغيره، وأحياناً قد يكون المشلول من أشد خلق الله عز وجل ذكاءً، ومن حكمة الله تعالى أنه لا يأخذ شيئاً -خاصة من المؤمن- إلا عوضه خيراً منه، فليست القضية أنه يمكن التعويض، وإنما النظر إلى الحال، فاليد إذا ذهبت أثرت، بغض النظر عن كونه يستطيع أن يفعل باليد الثانية ما لا يفعله صاحب اليدين، وهذا موجود، وبعض الناس يكون أقطع اليسرى ولكن يده اليمنى السليمة يفعل بها ما لا يفعله صاحب اليدين، وبعض الناس يكون به عيب في عضو وهو معوض في عضو آخر بأشياء أفضل، وهذا لا ينظر إليه، وإنما ينظر إلى الشخص من حيث هو، فأي ضرر يتعلق بعضو -بغض النظر عن كونه له بديل أو لا بديل له- فإن هذا في الأصل العام والقاعدة العامة أنه يمنع، فأقطع اليد منع من منفعة يده المقطوعة، وأقطع الرجل منع من منفعة رجله المقطوعة، فحينئذٍ يحكم بكونه ضرراً بيناً، بغض النظر عن كونه له بديل أو لا بديل له، وهذا كله لا يلتفت إليه، وإنما قد يلتفت إليه في التعويضات، وفي الأروش، وفي مسائل الجنايات. وهنا مسألة أخرى، فلو أنه -والعياذ بالله- أتلف عين الأعور -وهي عين واحدة- يثبت عليه أداء دية كاملة؛ لأن منفعتها في الأصل منفعة العينين، فهذه أمور مستثناة لا علاقة لها بمسألتنا، وإنما مسألتنا في النظر الغالب أن ذهاب العضو كاملاً، أو الجزء -على التفصيل الذي ذكرناه- مؤثر ومضر بالعمل ضرراً بيناً، بغض النظر عن كونه له بديل أو لا بديل له. وقد تجد الرجل فيه آفة في عضو واحد تعطله عن الأعمال، فلا يستطيع أن يقدم أو يؤخر من أموره شيئاً، والعكس، فقد تجد شخصاً عنده أربع آفات في أربعة مواضع، ومع ذلك يفعل أشياء قد لا يستطيعها من كملت أعضاؤه، فهذه أمور لا يلتفت إليها، وإنما يلتفت إلى النظر الغالب، والشريعة تنظر إلى الغالب، ولذلك حينما حكمت الشريعة بجواز الفطر في السفر؛ فلأن الغالب في السفر المشقة، لكن لا يمنع أن تسافر في طائرة وأنت مستريح، ولا يمنع أن يسافر الغني الثري وهو في راحة واستجمام، أو يسافر الشخص المتعود على الأسفار ولا يجد تعباً، أو يسافر الشخص الذي هو في قوة وجلد وعنده صحة وعافية لا يتضرر بمشقة السفر، فهذه كلها أمور مستثناة وأمور نادرة، والشريعة لا تلتفت إليها. وكذلك -أيضاً-: تحرم الشريعة لمس المرأة الأجنبية ومصافحتها، وقد تجد في الرجل من الإيمان بالله وخوف الله عز وجل ما لا يلتفت معه إلى امرأة حتى ولو صافحها، فلا يجد شهوة ولا يلتفت إليها، لكن هذا لا يلتفت إليه؛ لأن الشريعة لا تنظر إلى الأفراد، وللإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في قواعد الأحكام كلام في هذه المسألة قرره عند كلامه على مسألة الظنون المرجوحة، وبعض العلماء يسمونها المرجوحة أو الفاسدة أو الموهومة، وهي التي تأتي على الأحوال النادرة والقليلة، وإنما جعلت الشريعة الحكم للغالب، ففي هذه الحالة إذا كان مقطوع اليد فإنه في الأصل تعطلت مصالح ذلك العضو، بغض النظر عن كونه في بعض الأحيان يعوض، أو يفعل ما لا يستطيع أن يفعله من عنده العضو كاملاً.

حكم انقطاع الصفوف في الصلاة وعدم اتصال خارج المسجد بداخله

حكم انقطاع الصفوف في الصلاة وعدم اتصال خارج المسجد بداخله Q ما حكم انقطاع الصفوف في الصلاة، حيث إن يوم الجمعة يصلي بعض الناس خارج المسجد، والصفوف غير متصلة؟ A السنة إتمام الصفوف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قلنا: يا رسول الله! وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصف الأول فالأول)، فالواجب على المصلين أن يتموا الصفوف الأول فالأول، سواء أكان داخل المسجد أم خارجه، ومن قصر في إتمام الصف الذي أمامه فإنه يأثم ويتحمل وزره في عدم إتمام الصف الذي يجب عليه إتمامه، سواء أكان ذلك داخل المساجد أم خارجها، وعلى طلاب العلم أن ينصحوا الناس، وأن يعلموهم، وأن يوجهوهم، وأن يعذروا إلى الله ببيان هذه السنة لهم. والله تعالى أعلم.

حكم زيادة ركعة في الصلاة سهوا

حكم زيادة ركعة في الصلاة سهواً Q صليت صلاة العشاء. فأشكل علي كم بقي علي من الركعات، فزدت ركعة، وبعد الصلاة تأكدت من أني صليت خمس ركعات، فماذا علي؟ A تسجد سجدتين بعد السلام؛ لأن القاعدة: (لا عبرة بالظن البين خطؤه)، وقد بان لك أنك أخطأت فزدت في صلاتك، فأنت معذور بهذه الزيادة؛ لأنك بنيتها على ظن صحيح؛ لأن الأصل شرعاً أنك تبني على الأقل؛ لحديث أبي سعيد الخدري: (إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين فليبن على واحدة)، وكذلك حديث ابن عباس في صحيح مسلم: (إذا صلى أحدكم فلم يدر أواحدة صلى أو اثنتين فليبن على واحدة، فإن لم يتيقن أثنتين صلى أو ثلاثاً فليبن على اثنتين، فإن لم يدر أثلاثاً صلى أو أربعاً فليبن على ثلاث، ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم). فأنت في هذه الصورة لك حالتان: الحالة الأولى: ألا تستيقن، أو لم ينكشف لك الحال قبل السلام، فإذا لم ينكشف لك الحال قبل السلام فتسجد سجدتين قبل السلام، وذلك لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وهاتان السجدتان تسميان سجدتي الشك، فأنت لا تدري هل أنت زائد في صلاتك، أو صلاتك تامة، ففي هذه الحالة تسجد سجدتين في حالة الشك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فليسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان الذي صلاه أربعاً فالسجدتان ترغيم للشيطان، وإن كان الذي صلاه خمساً فالسجدتان تشفعانها)، ففي هذه الحالة إذا لم تعرف قبل السلام وسجدت السجدتين فإنك لا تسجد بعد السلام، ولو تبين لك أنت زدت، أما إذا تبين قبل السلام أنك زدت فتسلم ثم تسجد بعد سلامك؛ لأنك تحققت من الزيادة في صلاتك، والله تعالى أعلم.

إذا كانت المرأة حائضا ومرت من الميقات ولم تحرم

إذا كانت المرأة حائضاً ومرت من الميقات ولم تحرم Q أنا من بلاد الشام سافرت إلى الرياض فمكثت فيها بضعة أيام، ثم أتيت مكة محرماً، أنا وزوجتي، وكانت حائضاً، ثم عندما تطهرت ذهبنا إلى التنعيم وأحرمنا من هناك، وهل هذا جائز، أم علينا الرجوع إلى ميقات أهل الرياض؟ A يلزمكم الرجوع إلى ميقات الرياض، وكان من السنة أنك إذا مررت ومعك الأهل في حال العذر أن يغتسل الأهل في الميقات، ثم يحرمون بعد الاغتسال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس رضي الله عنها -وهي زوجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما نفست بـ محمد بن أبي بكر الصديق في البيداء- أن تغتسل وتهل، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (مرها فلتغتسل ثم لتهل)، فمن جاء ومعه نسوة إلى الميقات وهن معذورات يحرم ويلبي، ويحرم النسوة ويلبين، ثم يمضين ولا يفعلن العمرة حتى يطهرن، فإذا تطهرن فإنهن يقمن بأداء العمرة. وأما إذا جئتِ ودخلتِ مكة وجلست فيها، وبعد ذلك أردتِ بعد أن طهرت أن تأتي بالعمرة، فإنه يجب عليكِ الخروج إلى الميقات؛ لأنكِ مررت بالميقات أولاً ناوية العمرة، وقد أمر الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كل من مر بهذه المواقيت وعنده نية العمرة أو الحج أن يحرم منها، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرن المنازل، وقال: هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة)، فأنت كان يجب عليك أن تذهبي إلى ميقاتك، أما وقد أحرمت من التنعيم فإن التنعيم ميقاتك إذا أنشأت النية من مكة، أما وقد أنشأت النية خارج مكة فيلزمك الإحرام من موضعك الذي أنشأت فيه، وعليك دم، وعلى الزوج أيضاً دم، وإن كان معكم رفقة آخرون فإنه يجب عليهم الدم إذا فعلوا كفعلكم. والله تعالى أعلم.

حكم ترك بعض الصلوات عمدا بسبب المرض

حكم ترك بعض الصلوات عمداً بسبب المرض Q مرض شخص في رمضان، فأجرى عملية استلزمت إفطاره خمسة أيام، وترك الصلاة في هذه الأيام الخمسة بأمر الأطباء، فهل عليه قضاؤها مثل قضاء الصيام؟ A الأطباء ليس لهم علاقة بالشرع، فكيف أصبحت الصلوات تترك بأقوال الأطباء؟! فالأطباء يتكلمون في الأمور الشرعية، ولهم الحق أن ينصحوا المريض في الركوع والسجود، فيقولون: لا تحنِ. لا تفعل. في أمور تضر به، أما أن يقولوا له: اترك الصلاة فهذا ليس من حقهم أبداً، وليس من شأنهم، فعلى المسلم أن ينزل المسائل الشرعية على أهل العلم، وأن يأخذ من الأطباء الثقات ما اتفقوا عليه، أو غلب على ظنونهم أنه يجب على المريض أن يفعله أو يتركه. وبناءً على ذلك فإنه إذا تعذر عليك في حال العملية الجراحية، أو كنت بحالة لا تستطيع معها القيام ولا القعود ولا الركوع ولا السجود فينبغي أن تصلي على فراشك، وعلى أي حالة كنت، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]. وقد جاء عمران بن حصين رضي الله عنه وأرضاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي إليه ما يجده من البواسير، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، فتصلي على حالتك، ولست بمعذور في ترك الصلاة. وبناء على ذلك يجب عليك قضاء هذه الصلوات كاملة، ويأثم مَن أخذ العلم الشرعي من غير أهله، حتى ولو من أنصاف المتعلمين، أو ممن هم ليسوا بأهل للفتوى، ولا يجوز لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسأل ويستفتي، ولا أن يأخذ حكماً شرعياً إلا ممن يوثق بعلمه ودينه وأمانته، وهذا شيء نعذر إلى الله منه، وهذا الذي نجده في زماننا من تكالب الناس على الفتوى وسهولة القول على الله بدون علم -نسأل الله السلامة والعافية- أمر منكر عظيم، وتنقض به عرى الإسلام عروة عروة، فالعلم له أهله، والوحي له من المؤتمنين عليه من الأنبياء وورثة الأنبياء من العلماء العاملين والأئمة المهتدين المهديين الذين هداهم الله وهدى بهم، فلا يجوز لمسلم أن يقدم على أي أمر من أمور عبادته أو معاملته بناء على كلام الناس، ولو كان أرفع الناس كلاماً، إنما يتخذ من يثق بدينه وعلمه وأمانته حجة بينه وبين الله عز وجل، فإذا وقف بين يدي الله وقال له: لم أحللت هذا ولم حرمته؟ قال: أفتاني فلان أنه حلال، وأفتاني فلان أنه حرام، وعندها يكون فلان أهلاً للحجة بين يدي الله. يقول الإمام الشافعي رحمه الله: رضيت بـ مالك حجة بيني وبين الله. فمن أحب أن يقف بين يدي الله وحجته العلماء الذين أمر أن يرجع إليهم فليفعل، ومن أراد أن يكون حجته من لا عذر له بين يدي الله عز وجل فليفعل، فإنما هي النار فمن شاء فليتقدم ومن شاء فليتأخر، فعلى المسلم أن يتقي الله عز وجل، وأن يخشى الله سبحانه وتعالى، وأن يراقب الله عز وجل في هذه الأمور، وألا يتساهل فيها، خاصة في المجالس. ومن الغش أن يكون معك أولادك، أو معك إخوانك -خاصة إذا كنت من طلاب العلم-، وتأتي إلى شخص تعلم أنه ليس أهلاً للفتوى فتسأله، ومن سأل شخصاً لا يوثق بعلمه وجاء أحد واغتر بسؤاله فإنه يحمل وزر نفسه ووزر من سأله، حتى قال العلماء رحمهم الله: من سأل جاهلاً وهو يعلم بجهله، أو يعلم أنه ليس بأهل للسؤال فأفتى بدون علم فعليه مثل وزره؛ لأنه هو الذي أعانه على ذلك، فلا يجوز تكثير سواد الجهال، ولا يجوز إنزال المسائل إلا بالعلماء الذين يوثق بدينهم وعلمهم وأمانتهم. ولو أن الناس أنزلوا الفتاوى بأهلها وبمن يوثق بدينه وعلمه لارتاح الناس في كثير من الأمور، ولاستقام أمر الأمة، ولكن إلى الله المشتكى، قال صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء). فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل ولايتنا واهتداءنا بالأئمة الهداة المهتدين الذين جعلهم الله هداة مهتدين يقومون بالحق وبه يعملون. والله تعالى أعلم.

تفسير قول الصحابي: (أجعل لك صلاتي كلها)

تفسير قول الصحابي: (أجعل لك صلاتي كلها) Q قول الصحابي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: (أجعل لك صلاتي كلها)، هل معناه ترك الدعاء مطلقاً، وجعل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بدل الدعاء؟ A الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أجل القربات وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، وقد أحب الله هذا النبي الكريم محبة جليلة كريمة، أحبه الله فجعله رحمة للعالمين، وأحبه فجعله سيد الأولين والآخرين، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، وأحبه فصلى عليه من فوق سبع سماوات، وأمر بالصلاة والسلام عليه المؤمنين والمؤمنات، وصلى على من صلى عليه عشر مرات، وأحبه الله وشرفه وكرمه، وقد أقسم أنه بالليل والنهار، وبالعشى والإبكار فقال تعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:1 - 5]، فهو مقام ما بلغه أحد، وهذا المقام ما بلغه نبي مرسل قبله عليه الصلاة والسلام، وهذا من أجل النعم، ولذلك فتح له فتحاً مبيناً، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأتم نعمته عليه وهداه صراطاً مستقيماً، فهو مقام أعطاه الله عز وجل هذا النبي الكريم ليس في الدنيا فحسب، بل في الدنيا والآخرة، وانظر كيف أن الخلائق تحشر فيجعل الله عز وجل له ذلك المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون، فيسجد فيقال له: (يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع) صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. ولعظيم حقه على الأمة أمر الله الأمة بالصلاة والسلام عليه تشريفاً له وتكريماً، فصلى الله عليه وسلم تسليماً، وزاده تشريفاً وتكريماً وتعظيماً، فمحبته كثرة الصلاة والسلام عليه عليه الصلاة والسلام، وكان بعض السلف إذا ذكر الحديث تغرورق عيناه من الدمع وهو يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: فضل الله أهل الحديث بكثرة الصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم. فهذه من أجل القربات وأحب الطاعات، وللأسف أنها تركت عند كثير من أهل السنة إلا من رحم الله، بل أحياناً تجد الشخص إذا سمع شخصاً يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وضع عليه علامة استفهام، مع أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أجل القربات وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى. ومن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم مرة صلى الله عليه بها عشراً، فتأمل ماذا يكون في العشر مرات التي يصلي بها، ثم انظر كيف فضله الله وشرفه، فما جعل الشخص يصلي عليه مباشرة، ولكن جعلك تدعو الله وتسأل الله أن يصلي عليه، وتقول: اللهم صل عليه، وهذا فضل من الله شرف به هذا النبي الكريم، حتى إن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: (ما أرى ربك إلا يسعى فيما يرضيك). وهذه كلمة عظيمة جداً، فقد عاشت معه عليه السلام ورأت أحواله، ورأت كيف يكرمه ربه ويشرفه، ففي عام الحزن ينكسر قلبه صلوات الله وسلامه عليه فيجبر الله كسره، ويعظم أمره، فيسري به ليلة من الليالي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ويفضله على الأنبياء، ويقدمه على الأصفياء الأتقياء، ثم يرفعه إلى أطباق السماوات السبع الأولى إلى سدرة المنتهى، قال تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:16 - 18] وأي مقام أرفع من مقام أعطاه له الله سبحانه وتعالى!! وأي مقام أعلى من مقام بلغه عليه الصلاة والسلام من حب ربه له، والمحبة التي وضعها بين عباده سبحانه وتعالى لهذا النبي الكريم. فحقه كبير، فعلينا أن نكثر من الصلاة والسلام عليه، وخاصة يوم الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك فقال: (فأكثروا علي من الصلاة فيه)، وكان بعض العلماء يقول: إن على الإنسان أن يستحيي؛ لأن الحديث يقول: (فإن صلاتكم معروضة علي)، فالإنسان ينظر إلى صلاته على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الإنسان يوم الجمعة قد لا يصلي عليه إلا نزراً قليلاً، فالإنسان يتفكر ويتدبر ويتشرف بالإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي من أجل القربات وأحبها إلى الله. وحديث كعب رضي الله عنه هذا من أقوى الدلائل -وحسنه غير واحد من العلماء- على فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك تجد المكثرين من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم تنالهم بركة ذلك، وهذا أمر لمسناه ووجدناه، فما وجدنا محباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم صادق المحبة مكثراً للصلاة والسلام عليه إلا وجدنا أشرح صدراً، وأثبت جناناً وقلباً، وأشرق وجهاً ونوراً، فتجد عليه نور الطاعة والخير؛ لأنها من أجل الطاعات بعد القرآن، وبعد قول: (لا إله إلا الله)، وليس هناك أشرف ولا أفضل بعد القرآن والباقيات الصالحات من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهي قربة للعبد ووسيلة له بين يدي الله، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35]، فهي عمل صالح وقربة إلى الله عز وجل، وطلاب العلم ينبغي عليهم أن يكثروا من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقد وفق، ويحبه الله عز وجل؛ لأن الله يعطي الدنيا من أحب ومن كره، ولكن لا يعطي الدين إلا من أحب، فهذه الخصلة العظيمة الكريمة الشريفة -وهي الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم- فيها وفاء لحقه عليه الصلاة والسلام، فهو صلى الله عليه وسلم الذي حمل هم وغم الأمة كلها، ويشهد الله من فوق سبع سماوات أنه كان حريصاً عليها، حيث قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، فهو عزيز عليه عنتكم، ويشهد الله له بفضله. وانظر إلى رحمته عليه الصلاة والسلام حينما اغتم يوماً من الأيام واهتم؛ لأن الله كشف له ما يكون لأمته من الفتن التي تكون في آخر الزمان فأهمه وأغمه، فاشتكى ذلك إلى الله، فأرسل الله إليه جبريل -والله أعلم بما قال وما يقول- فقال: (أقرئ محمداً مني السلام، وقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك أبداً)، فهذا وعد من الله سبحانه وتعالى، وهو يقول سبحانه: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:1 - 5]، فهو مقام عظيم لمن ملأ الله قلبه شفقة على هذه الأمة، فرحم هذه الأمة كباراً وصغاراً، وشباباً وشيباً وأطفالاً، ورحم الصغير حتى كان إذا صلى فسمع بكاءه خفف الصلاة صلوات الله وسلامه عليه، ورحم الصغير إذا امتطى ظهره فكان لا يزعجه وهو على ظهره، ورحم الصغير وهو يمر عليه ويسلم تواضعاً منه وكرماً صلوات الله وسلامه عليه، ورحم الكبير، ورحم النساء، ورحم الرجال، وذلك كله بفضل الله وحده لا شريك له. فالذي يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتأمل آيات القرآن والأحاديث الصحيحة التي فُضل بها عليه الصلاة والسلام على غيره من الأنبياء، وفُضل بها على غيره من ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه يعرف حينما يقول: (اللهم صل على محمد) من هو هذا النبي الكريم الذي يصلي عليه، فتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وأنت تستشعر منزلته ومكانته، ولا تترك هذه السنن لمن لا يحسن التعامل مع هذه النصوص، ولذلك هجر بعض طلاب العلم ذلك -أصلحهم الله- حتى استغله من يغلو ومن يجهل، بل ينبغي على أهل السنة أن يكونوا أحرص على ذلك، فقد كان الإمام مالك رحمه الله لا يحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا طيب مجلسه، وكان إذا جاءه الناس يقرعون بابه تسأل الخادمة والأمة: أتريدون الفتوى والفقه؟ فإن قالوا: نريد الفتوى والفقه خرج إليهم، أو جلس لهم وأفتاهم، فإذا قالوا: نريد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطيب وتوضأ وجلس على أريكة لا يجلس عليها إلا إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إجلالاً وإكراماً لهذا الحديث. وخرج ذات يوم فسأله أحد طلابه عن حديث فقال: ما كنت أظنك بهذه المنزلة أتسألني عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تمشي! إجلالاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيريد أن يحدث على أجمل وأطيب الحالات توقيراً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالواجب علينا محبته عليه الصلاة والسلام محبة صادقة في قلوبنا، ومحبة صادقة في أقوالنا وأفعالنا تدعونا إلى الاتباع، فالمحبة شيء والاتباع شيء آخر، فإن المحبة تعين على الاتباع، فهناك فرق بين المحبة والاتباع، لكن المحبة الصادقة أن تتبع، أما نقول: المحبة هي الاتباع من كل وجه فلا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يعمل بعملهم -أي: لم يحصل منه الاتباع الكامل- فقال له: أنت مع من أحببت)، فأثبت المحبة، والمحبة شعور في القلب، وكان الصحابة رضي الله عنهم يحبونه حباً أعز من أنفسهم التي بين جنوبهم، وهذا أمر فطري جبلي، وهو أن يكون عند الإنسان شعور هذا النبي الكريم، وأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وإجلال، ومن ذلك أن نكثر الصلاة والسلام عليه. ومعنى الحديث أن يكثر من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم في أحواله، أي: يصبح يكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويختار هذا الذكر الذي يحبه الله عز وجل ويرضاه، فيجعل له صلاته كلها، فمن المعروف أن الشرع خير المسلم بين الأذكار والطاعات، فمن اختار الصلاة على النبي صلى

حكم من حلف على شيء أن لا يفعله ثم فعله ناسيا

حكم من حلف على شيء أن لا يفعله ثم فعله ناسياً Q إذا حلف شخص على عدم فعل أمر معين ثم فعله ناسياً فهل عليه كفارة؟ A اختلف العلماء في هذه المسألة، فمن أهل العلم من يقول: إن الناسي غير مكلف، فإذا حلف على شيء لا يفعله، أو على شيء أن يفعله، ثم نسي فلم يفعل أو فعل فإنه لا كفارة عليه. لأنهم يرون أنه غير مكلف، فحينئذٍ لا يعتبر منه ذلك التقصير إخلالاً. ومن أهل العلم من قال: إن النسيان يسقط الإثم ويسقط الحرج، ولكنه لا يسقط الضمان، فيجب عليه أن يكفر. وهذا القول أحوط، والقول الأول أقوى من حيث الأصل. والله تعالى أعلم.

حكم الإنفاق على الزوجة حال نشوزها

حكم الإنفاق على الزوجة حال نشوزها Q إذا خرجت المرأة من بيتها مع أولادها إلى بيت أهلها بدون إذن زوجها وعلمه طالبة الطلاق، والزوج لا يرغب في تطليقها فهل يلزمه الإنفاق عليها وعلى الأولاد فترة مكوثها ببيت أهلها؟ A هذا السؤال فيه تفصيل، وفيه أمور: الأمر الأول: على كل امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تعلم أن حق الزوج عظيم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الزوج للمرأة جنة وناراً، فهو جنة إذا اتقت الله، ونارٌ إذا اعتدت حدود الله عز وجل. الأمر الثاني: أنه ينبغي أن تعلم أنه لا يجوز لها أن تخرج من بيت الزوجية إلا بإذنه، فإذا أذن لها بالخروج خرجت، وإذا لم يأذن تبقى في بيت الزوجية. وإذا حدثت مشاكل فلا يخلو الأمر من حالتين: الحالة الأولى: أن يمكنها أن تبقى في البيت مع وجود هذه المشاكل حتى يأتي وليها ويتفاهم مع الزوج، فلا يحل لها أن تخرج. والحالة الثانية: أن يكون بقاؤها فيه خطر، كأن يكون زوجها مبتلى بالسكر، أو مبتلى بأشياء يخشى معها أن يقتلها أو يفعل بها أمراً يضرها أو يضر أولادها، وهذه حالات استثنائية، ويجوز لها أن تخرج من بيت الزوجية ولو لم يأذن لها الزوج. أما أن تخرج كلما حدثت مشكلة وتذهب إلى أبيها أو أمها فلا، وهذا ليس من حقها، ولا يجوز للمرأة أن تخرج من بيت الزوجية، ولا يجوز للأب ولا للأم ولا للقريب أن يعينها على هذا المنكر، والمرأة لا يجوز لها الخروج من بيت زوجها إلا بإذن، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فليأذن لها)، فالأصل أن النساء عليهن السمع والطاعة للزوج في الخروج، فإذا حدثت المشاكل فالله جعل لكل شيء قدراً، وجعل للمشاكل طرقاً تحل بها، أما أن تذهب وتركب رأسها وتجلس عند أبيها وأمها بسبب مشكلة ما، فلا. وليس من العدل ولا من الإنصاف أن الزوج يدفع المهر، ويتكفل ببيت وبأسرة، ثم تأتي المرأة عند أمور معينة لتخرج من البيت، ولذلك أجاز الله عز وجل له أخذ ما أنفقه على زوجته -المهر- إذا شاءت أن تخالعه إذا لم يكن هناك موجب للطلاق. أما إذا ظلمها الزوج وآذاها وأضر بها فهذا على أحوال: الحالة الأولى: أن يكون الضرر مما يمكن الصبر عليه، فتحتسب الثواب، وترجو عند الله حسن العاقبة والمآب، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فإن استعانت بربها جبر كسرها وعوضها خيراً مما ذهب عنها، فإذا كانت المشاكل يمكن الصبر عليها من سوء في خلقه وسب وشتم فإن الله عز وجل لا يضيع أجر الصابرين، والله مع الصابرين، فالله معها ويؤيدها ويثبتها ويكفر خطيئاتها بهذا البلاء، ويرفع درجتها، فهذه نعمة عظيمة للمرأة المؤمنة، فتمضي عليها الأيام تلو الأيام، وتغيب عليها شمس اليوم وهي تؤذى في الله عز وجل، وتهان وتذل وهي صابرة لوجه الله عز وجل، فعندها يعظم أجرها وتحسن العاقبة لها، فكم من امرأة أذلها زوجها فأعزها الله في نفسها وأولادها، وجعل الله لها الخلف، فالأمور بالعواقب، فكم من امرأة بكت في أول حياتها وشقيت وتأذت وتضررت من زوجها فأقر الله عينها في آخر عمرها بذريتها، فتوفي عنها زوجها وبقي لها أولادها كخير ولد لوالدته، فعوض الله صبرها وجبر كسرها وأحسن العاقبة لها. ومن قرأ في أخبار الناس وأحوالهم يجد ذلك جلياً، فهذا شيء نشهد به لله عز وجل، فلا أحد أحسن وفاءً ولا أكرم من الله سبحانه وتعالى، وكم من امرأة تقدم لزوجها وتضحي لبعلها فلا تجد لساناً شاكراً، ولا تجد قلباً معترفاً بالجميل، ولكن الله سبحانه وتعالى يحسن لها الخلف في دينها ودنياها وآخرتها. فإذا كانت المشاكل يمكن الصبر عليها فلا بأس أن تتحمل والله معها، وكل أمة تؤمن بالله واليوم الآخر تعلم علم اليقين أن الدار الدنيا دار هم وغم وكرب، لا سرور فيها للمؤمن إلا بطاعة الله عز وجل، وتأمل في الحياة كلها، وانظر عن يمينك وشمالك، ومن أمامك وخلفك، ومن فوقك وتحتك، وابحث عن شيء يسرك، فلن تجد إلا ذكر الله وما والاه. والدنيا ما سميت دنيا إلا لدناءتها، وما سميت دنيا إلا لكفران الحق فيها، فالحق باطل والباطل حق، والخير شر والشر خير، وكل هذا من دناءة الدنيا، وهي سجن المؤمن، ولتعلم المرأة علم اليقين أنها حيثما ذهبت وولت ستبتلى من الله عز وجل، فإذا سلمت من بيت زوجها وخرجت من بيت الزوجية يسلط عليها إخوانها وأخواتها يؤذونها في بيت أبيها، وإن سلمت من إخوانها وأخواتها لم تسلم من كلام الناس، ولم تسلم من قرابة زوجها، ولم تسلم من صويحباتها، فعليها أن تتأمل، وأن تنظر أين الثواب العظيم وأين الجزاء الكبير، فتصبر وتحتسب، وهذا إذا أمكنها الصبر، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وأما كيف نصير فالمرأة تعطى قوة من الله بالتصبر، ففرق بين الصبر والتصبر، فالتصبر فوق الصبر؛ لأن الصابر قد ألف سجية الصبر واعتادها ودأبها، لكن التصبر والتحمل والضغط على النفس هذا هو الذي يعلو به الإنسان إلى الكمالات، وهذا التصبر يحتاج إلى معاملة مع الله عز وجل، وأن يكون قلبك مع الله، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وجدنا ألذ عيشنا بالصبر. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه من يتصبر يصبره الله)، فالمرأة إذا أرادت أن تصبر على زوجها جاء الشيطان وقال لها: كيف تصبرين وقد قال؟ وكيف تصبرين وقد فعل؟ وكيف تصبرين وقد حصل؟ فتتصبر وتقول: الله يهديه. وهذا من أجمل وأكمل ما يكون من المرأة المسلمة، فتقابل الإساءة بالإحسان، وتقابل الذنب بالصفح والغفران، وتدعو لزوجها وتدعو لبعلها، فإذا بالشيطان ينخنس، وإذا بذاك البيت المملوء بالمشاكل يعود أنواراً وخيراً وبركة على أمة الله المؤمنة لصبرها وفضل الله عز وجل عليها. فهي أمة تجدها لله قانتة صابرة، تضايق وتؤذى وتضطهد وهي جالسة في بيتها، ومع ذلك قل أن تجدها تشتكي لأبيها أو أمها أو أخيها؛ لأن قلبها مع الله، وكل يوم تؤذى بصنوف البلاء، وإذا بها تعطى درجة في كل يوم خيراً مما كانت فيه بالأمس، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، فهذا وعد من الله عز وجل. فإن كانت المشاكل مما يسع الصبر عليها فلا تخرج. الحالة الثانية: إذا كانت المشاكل مما لا يمكن الصبر عليها، وكانت قد بلغت حدوداً لا تستطيع المرأة أن تتحملها، أو بلغت حدوداً فيها إضرار بأولادها وذريتها فالله عز وجل يقول: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130]، فالله عز وجل يعد بحسن الخلف إذا فارقت زوجها إذا كان الأمر وصل إلى درجة يشرع فيها طلب الطلاق. فبعد أن تستنفد جميع الوسائل الشرعية لإصلاح الزوج وإصلاح بيت الزوجية تستخير الله عز وجل، فلا تطلب الطلاق حتى تستخير ربها: هل الخيرة أن تطلب الطلاق أو لا تطلبه فإن كان انشرح صدرها واطمأن قلبها فتُقْدِم عليه، وقبلما تستخير، وقبلما تسأل الله عز وجل الخيرة عليها أن ترجع إلى العقلاء من العلماء والفضلاء، فتستشير من تثق بدينه وأمانته من أهل العلم، وكذلك من أهل العقل والحجا فتسألهم، حتى النساء من صويحباتها، فإذا استبان أنه لا بد من الفراق، وأن المصلحة في الفراق، واستخارت وانشرح صدرها تواجه زوجها به إن كانت المواجهة تحقق المصلحة وتدر المفسدة، وإن كانت المواجهة تحدث مشاكل، أو تحدث ضرراً، ولربما تتفاقم الأمور أكثر فحينئذٍ تنظر إلى الأعقل والأرشد والأقوى، فتنظر إلى قوي أمين من قرابتها، فإن لم تجد قوياً أميناً من والديها، ولم تجد قوياً أميناً من إخوانها وقرابتها تنظر إلى القوي الأمين في عشيرتها وجماعتها، وتنزل الأمر به، وإخوانها وقرابتها عليهم أن يعينوها، وأن يتقوا الله عز وجل في ذلك إذا رأوا أن الحق معها، ثم تطلب الطلاق. وهذا هو الأمثل، فتخرج من بيت الزوجية بالطريقة الشرعية. أما أن تخرج قبل الطلاق وتجلس في بيت أبيها فكيف ستعتد عدة الطلاق؟ وكيف ستقوم بالأمور التي أوجب الله عز وجل على المطلقة أن تقوم بها من بقائها في بيت الزوجية؟! فعلى النساء أن يتقين الله عز وجل، وأن يأخذن بهذا الأصل الشرعي، فلا يطلب الطلاق إلا من ضرورة، والأصل أن تصبر المؤمنة وأن تتحمل، وإذا طلبت الطلاق بمسوغ شرعي فإنه لا بأس عليها ولا حرج. أما لو أن المرأة ظلمت وجارت وخرجت من بيت الزوجية فتعدت حدود الله عز وجل وتعالت على زوجها وطلبت الطلاق فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غيرما بأس فالجنة عليها حرام)، نسأل الله السلامة والعافية، فهذا أمر عظيم، وعلى المرأة أن تتقي الله. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل لنا من جميع أمورنا فرجاً ومخرجاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

كتاب الظهار [6]

شرح زاد المستقنع - كتاب الظهار [6] أوجب الله سبحانه وتعالى عقوبات وكفارات لمن اجترأ على حدوده، ومن تلك الكفارات كفارة الظهار المغلظة، وقد بين ربنا تبارك وتعالى في محكم التنزيل ترتيب تلك الكفارات، فشرع بدايةً في عتق الرقبة، ثم صيام شهرين متتابعين، ثم إطعام ستين مسكيناً. وقد تدارس العلماء أحكام تلك الكفارات وأنواعها، ووضحوا كثيراً من الأمور التي يحتاجها الناس في أداء الكفارات، ومن ذلك: اشتراط التتابع في الصيام، وذكر الأمور والأعذار التي لا توجب استئناف الصيام بل رخص فيها الشارع، وحكم تبييت النية للصيام، وحكم مجامعة الزوجة المظاهر منها ليلاً، وذكر الأمور المنبغي مراعاتها في كفارة الإطعام والمجزئ في ذلك.

اشتراط التتابع في كفارة الصيام لشهرين متتابعين

اشتراط التتابع في كفارة الصيام لشهرين متتابعين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: يجب التتابع في الصوم] يبدأ المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان الخصلة الثانية من خصال كفارة الظهار، وهي التي أوجبها الله عز وجل على من عجز عن إعتاق الرقبة، وهذه الخصلة هي صيام شهرين متتابعين، ولهذا الصوم أحكام، لذا قال رحمه الله: [فصلٌ: يجب التتابع]. فمن أحكام هذا الصوم: أنه يجب على المكفِّر أن يصوم شهرين متتابعين، والتتابع المراد به الموالاة، فلا يفصل بين صوم يوم وآخر بالفطر، فلو أفطر يوماً ولو قبل تمام الشهرين بيسير؛ فإنه ينقض التتابع إلا إذا كان معذوراً شرعاً بذلك القطع، والدليل على ذلك قوله تعالى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة:4]، فنص الله تبارك وتعالى على التتابع، والتتابع هو الولاء دون وجود فاصل، فلما قال: {شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} أي: أنه تتتابع أيام الشهرين دون وجود فطر بينها، فإذا وجد الفطر فله حالات: الحالة الأولى: أن يكون معذوراً فلا يقطع. الحالة الثانية: ألَّا يكون معذوراً فيوجب القطع واستئناف صيام الشهرين متتابعين. وقد بين الله تعالى أنه يجب على المكفر أن يصوم شهرين دون أن يسمي شهوراً معينة، ولذلك يجوز له أن يصوم الشهرين ولو كان في زمان اليسر، وزمان اليسر مثل أيام البرد، فإنه يطول ليلها ويقصر نهارها، فيسهل صيامها، ومن هنا نص طائفة من العلماء على أنه لو تحرى أيام البرد وصامها؛ فإن صيامه صحيح؛ لأن الله أطلق الشهرين، فكل من صام شهرين متتابعين؛ فقد أدى ما أوجب الله عليه. كذلك لو قطع هذين الشهرين المتتابعين صومُ رمضان، فلو ابتدأ الصوم بشهر شعبان ثم صام رمضان ثم أفطر يوم العيد بأمر الله عز وجل، ثم صام بعده فإنه لا يقطع التتابع، ويصدق عليه أنه قد صام شهرين متتابعين، وسيبين رحمه الله الأمور التي يعذر فيها الصائم، فلو تخلل صيامه فطر لأسباب شرعية؛ فإن صومه صحيح ويجزئه، ولا يُلزم باستئنافه من جديد.

الأعذار التي لا تؤثر في قطع صيام الشهرين المتتابعين

الأعذار التي لا تؤثر في قطع صيام الشهرين المتتابعين قال رحمه الله: [فإن تخلله رمضان أو فطر يجب كعيد وأيام تشريق وحيض وجنون ومرض مخوف ونحوه، أو أفطر ناسياً أو مكرهاً أو لعذر يبيح الفطر؛ لم ينقطع]. يلاحظ أن الله تعالى أطلق الشهرين، ومن هنا لا يخلو الصائم للشهرين من حالتين: الحالة الأولى: أن يصوم من ابتداء الشهر، فإذا صام من ابتداء الشهر؛ فإنه إذا تبين أن الشهر ناقص فصومه تام، فلو مثلاً صام المحرم وصفراً، وكان المحرم تسعة وعشرين يوماً، فإنه يحكم بصحة صومه وإجزائه؛ لأنه صام شهرين متتابعين. الحالة الثانية: أن يصوم ستين يوماً إذا كان صومه أثناء الشهر، فإذا ابتدأ في العاشر من محرم فإنه يتم ستين يوماً تامةً كاملة، وقال بعض العلماء: إنه لو ابتدأ في العاشر من محرم اعتد بالعاشر في الشهر الذي يتم فيه الشهرين، فحينئذٍ من العاشر محرم إلى العاشر من صفر شهر، ومن العاشر من صفر إلى العاشر من ربيع الأول شهر، فلو كان شهر محرم ناقصاً وصفر ناقصاً؛ فإنه سيصوم ثمانية وخمسين يوماً، فيعتد الابتداء. ولكن هذا المذهب محل نظر، والصحيح: أنه إذا ابتدأ من بداية الشهر أجزأه الشهر ناقصاً وكاملاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شهرا عيد لا ينقصان: رمضان وذو الحجة)، والمراد بهذا أن الشهر إذا كان تسعاً وعشرين، فإن الله يكتب للصائم أجر الثلاثين، وقال: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا)، فعقد ثلاثين في المرة الأولى، وخنس الإبهام في المرة الثانية، أي: يكون تسعة وعشرين وثلاثين، لكن نعتبر الشهر تسعة وعشرين إذا ثبت في الهلال أنه ناقص؛ لكن إذا ابتدأ أثناء الشهر؛ فإننا نلزمه بستين يوماً، فالأصل في الشهر أنه ثلاثون يوماً. وبناءً على ذلك تقول: من صام شهرين متتابعين في كفارة الظهار أو القتل أو غيرها من الكفارات كالجماع في نهار رمضان، فإن ابتدأ من ابتداء الشهر، اعتد به ناقصاً أو كاملاً، وإن ابتدأ أثناء الشهر أتم ستين يوماً ولو كان الشهران أو الثلاثة فيها نقص.

صوم رمضان لا يقطع تتابع الكفارة

صوم رمضان لا يقطع تتابع الكفارة قوله: (فإن تخلله رمضان) يعني ابتدأ الصوم في شعبان وأتم شهراً أو أتم بعض الشهر فدخل عليه رمضان، فرمضان لا يقطع التتابع، فيصوم رمضان، ولكن إذا جاء يوم العيد ففيه ثلاثة أوجه للعلماء: الوجه الأول: من أهل العلم من قال: يصوم يوم العيد ولا يفطر. الوجه الثاني: ومنهم من قال: يفطر يوم العيد ولا يقطع تتابعه. الوجه الثالث: ومنهم من قال: يفطر يوم العيد ويقطع التتابع. والصحيح: أنه إذا ابتدأ بما قبل رمضان ثم صام؛ فإنه يفطر يوم العيد، ولا يقطع فطر يوم العيد التتابع؛ لأنه مأمور بفطره، وهذا الوجه هو المعتبر: أعني أن فطر يوم العيد مأمور به شرعاً، فقد ثبت في الصحيح من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (أنه خطب الناس على المنبر، وبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يومين: يوم عيد الفطر ويوم عيد الأضحى)؛ لأنهما يوم ضيافة من الله عز وجل. فالرخصة لمن ابتدأ الصوم وجاءه هذان اليومان أن يفطر، ولا يقطع ذلك التتابع حتى في صيام الكفارات الأخر، ككفارة اليمين على الصحيح أنه يصوم الثلاثة الأيام متتابعة، فلو أنه صام قبل يوم العيد في التاسع الذي هو يوم عرفة ناوياً به الكفارة؛ فإنه يفطر يوم العيد -يوم النحر- ثم يصوم الحادي عشر والثاني عشر؛ لأنه يجوز صيام أيام التشريق لغير الحاج.

الفطر الواجب لا يقطع تتابع الكفارة

الفطر الواجب لا يقطع تتابع الكفارة قوله: [أو فطر يجب كعيد]. أي: أو تخلله فطر يجب، صورة المسألة: أن يصوم شهرين متتابعين، ثم يجب عليه أن يفطر مثل ما ذكرنا لدخول يوم عيد؛ لأن يوم العيد يجب الفطر فيه، إذاً تلاحظ أن صوم رمضان صوم يجب لشهر، ويوم العيد فطر يجب ليوم عيد الأضحى ويوم عيد الفطر. قوله: [وأيام تشريق]. أيام التشريق اختلف في صومها، وقد تقدمت معنا هذه المسألة في كتاب الصيام، وأن من العلماء من منع من صوم أيام التشريق، والحقيقة أنه لا إشكال أن الحجاج لا يصومون أيام التشريق؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح عنه: (أيام منى أيام أكلٍ وشرب وبعال)، فبين عليه الصلاة والسلام أنها أيام فطر، وهذا الأصل فيه أن يكون للحاج، لكن بعض العلماء ألحق غير الحاج بالحاج، فجعلها أيام ضيافة لعموم الأمة توسعة من الله عز وجل على العباد. فمن قال بالخصوص منع من صومها للحاج، ومن قال بالعموم منع من صومها مطلقاً، سواء كان حاجاً أو غير حاج، والأشبه والأصل الذي يقتضي أنها خاصة بالحاج. ومما يدل على أنها خاصة بالحاج، قوله عليه الصلاة والسلام: (أيام أكل وشرب وبعال)، لأن الحاج كان ممنوعاً من جماع أهله، أما الحلال فلا يقال له: (أيام أكل وشرب وبعال)، لأنه لما نص على البعال دلّ على التحلل الأكبر الذي يحصل بطواف الإفاضة، فنبه أنهم لما طافوا طواف الإفاضة يوم النحر حل لهم النساء، وحل لهم كل شيء، فهم فيها في ضيافة الله عز وجل. قوله: [وحيض]. فلو أن امرأةً وجب عليها أن تصوم شهرين متتابعين، كفارة قتل أو جماع في نهار رمضان حيث كانت مطاوعة -كما تقدم معنا- فصامت ثم جاءها الحيض، فإن جاءها الحيض لم يقطع تتابعها، بحيث لو كانت عادتها ثمانية أيام فصامت شهر محرم، وجاءت الثمانية الأيام أثناء محرم؛ فإنها تفطر أيام الحيض فقط، ثم بعد ذلك تصوم من بعدها؛ لأنه لا يتيسر من المرأة أن تصوم الشهرين المتتابعين، إلا بتخلل للعادة؛ لأن الله جعل للمرأة أن تحيض في كل شهر مرة كما تقدم معنا في كتاب الحيض. قوله: [وجنون]. لو أنه وجبت عليه كفارة فعجز عن الرقبة، فصام شهرين متتابعين، فابتدأ في محرم فصامه، ثم جُنّ ثم أفاق في ربيع، فحينئذٍ يبني على صومه السابق، وهو حال جنونه ساقط عنه التكليف، ثم إذا رجع له التكليف؛ يرجع مخاطباً بالأصل من إتمام العدة التي أوجب الله عليه، فيصوم ما بقي.

ذكر المرض الذي لا يقطع التتابع في صوم الكفارة

ذكر المرض الذي لا يقطع التتابع في صوم الكفارة قوله: [ومرض مخوف]. إذا كان الصائم للشهرين المتتابعين مريضاً مرضاً مخوفاً، يخشى لو أنه لو صام لهلك، وقال الأطباء: لا بد أن يفطر؛ فأفطر أياماً، وبعدها رجعت له صحته، فهذه الأيام التي أفطرها لعذر المرض المخوف لا تقطع التتابع، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله، وتقدم معنا ما هو المرض المخوف، وبينا هذا في أحكام عطية المريض مرض الموت، فإذا قرر الأطباء ذلك وهم الأطباء الذين عندهم خبرة ومعرفة وهم الذين يرجع إليهم في هذا الأمر، وقد بينا أن علماء وفقهاء الإسلام رحمهم الله، يقولون: يسأل كل أهل علمٍ عن علمهم، فإذا كان الأمر يتعلق بالمرض؛ رجعنا إلى الأطباء؛ لأنهم أعلم بأمور الصحة لتعليم الله لهم، فنسألهم: هل هذا المرض مخوف أم لا؟ كأن يكون صام شهراً ثم أصابه مرض، فإذا قال الطبيب: لا بد وأن يفطر، لأنه حدث عنده عجزٌ في كليتيه مثلاً، أو على الأقل يفطر عشرة أيام حتى تعود له صحته، فعادت له صحته بعد العشرة فاستأنف، فهذه العشرة الأيام التي قال الأطباء إنه ينبغي عليه فطرها، لا يضر قطعه الإتيان بها؛ لأنه معذور، وبناءً على ذلك: أصبح العذر الشرعي: هو وجود أمرٍ من الشرع بالفطر مثل أيام العيد، أو أمر من الشرع بالصوم مثل رمضان، أو يكون معذوراً شرعاً بجنون أو مأموراً شرعاً بالفطر لسبب يتعلق به كالمريض. قوله: [ونحوه]. يعني لمن يعذر؛ فلو كان المرض غير مخوف، بمعنى أن المريض يشق عليه الصوم ولكنه ليس بمرض مخوف، فهل يفطر؟ A لا؛ لأن المرض ينقسم إلى ثلاثة أقسام في الصيام: القسم الأول: إذا كان المرض يغلب على الظن أن صاحبه لو صام لمات؛ فهذا يجب عليه أن يفطر، فحينئذٍ تنتقل الرخصة إلى عزيمة؛ لأن الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، والله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، فهذه النصوص تدل على حرمة تعاطي الأسباب الموجبة لهلاك الأنفس، والله تعالى جعل الشريعة شريعة رحمة، فلو قلنا له: صم، صارت شريعة عذاب، والله يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، ومعنى (من حرج) إزهاق الأنفس، فإذاً يجب عليه الفطر. القسم الثاني: أن يكون المرض لا يسري بالإنسان إلى الهلاك إذا صام ذلك اليوم، ولكن يحدث عنده نوع من الحرج، ويمكنه أن يصبر، فحينئذٍ له أن يفطر فيأخذ برخصة الله، وله أن يصوم فيأخذ بالعزيمة، فإن صام فلا بأس، وإن أفطر فلا حرج، فهنا وجهان مشهوران مفرعان على مسألة الفطر في السفر، أقواهما أنه إذا أصابه حرج، فالأفضل أن يفطر، هذا في السفر وإذا كان صومه في رمضان. أما في الكفارة كما هنا: فإذا كان يستطيع أن يصوم ولو بنوع من العناء؛ فيجب عليه أن يتم ما أوجب الله عز وجل؛ لأن مقصود الشرع أن يؤدبه؛ ولذلك جعل الشهرين متتابعين حتى أن الصحيح القوي في صيامه للشهرين المتتابعين يجد المشقة والعناء، زجراً من الله له عن ارتكاب ما يوجب الكفارة مرةً ثانية، وزجراً من الله عز وجل لعبده عن الوقوع فيما نهاه عنه، وزجره عنه لما حرمه، وإلا كانت الكفارات لا تؤدي ولا تحقق مقصود الشرع. القسم الثالث: أن يكون مرضاً يسيراً خفيفاً، فهذا مثله لا يعتد به ولا يوجب الرخصة، خلافاً لمن قال من بعض فقهاء الظاهر: إن مطلق المرض يوجب الرخصة. والحاصل أنه إذا كان يصوم الكفارات التي يجب فيها التتابع وهو مريض؛ فإننا نسأل الأطباء، فإن قالوا: هذا المرض مرضٌ مخوف ولا يمكن معه الصوم، نقول له: أفطر ولا يقطع فطرك التتابع، وإن كان مرضاً يمكن الصبر معه؛ فإنه يبقى على الأصل من إلزامه بإتمام الصيام.

حكم الفطر بالنسيان والإكراه في صوم الكفارة

حكم الفطر بالنسيان والإكراه في صوم الكفارة قوله: [أو أفطر ناسياً]. كان عليه صيام شهرين متتابعين، وفي يومٍ من الأيام أكل أو شرب يظن أنه غير صائم، فإذا أفطر ناسياً ففيه وجهان: الوجه الأول: من العلماء من قال: إن الفطر نسياناً يقطع التتابع. الوجه الثاني: ومنهم من قال: لا يقطع التتابع لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نسي فأكل أو شرب وهو صائم؛ فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه) فهذا نص واضح الدلالة على أن الناسي إذا أكل أو شرب ناسياً لصومه أن ذلك لا يؤثر في الصوم وهذا هو الصحيح، لدلالة السنة عليه. قوله: [أو مكرهاً]. الإكراه تقدم بيان حقيقته لغة وشرعاً، وبيان شروط الإكراه ومتى يحكم بكون الإنسان مكرهاً، وصورة المسألة: لو كان يصوم شهرين متتابعين ثم في أثنائها هدده شخص، فوضع عليه -مثلاً- السلاح وقال له: إذا لم تفطر فسأقتلك، فمذهب طائفة من العلماء: أنه إذا كان مكرهاً إكراهاً ملجئاً؛ فإنه لا يؤثر في صومه، ومن الإكراه الملجئ أن تربط يداه ثم يوضع الطعام في فمه، أو تربط يداه ويسقى الماء بدون اختيار منه، فإذا فسد اختياره وانعدم رضاه؛ فإنه لا يقطع ذلك تتابع صيام الكفارة.

حكم الترخص في صوم الكفارة بالإفطار برخص الفطر

حكم الترخص في صوم الكفارة بالإفطار برخص الفطر قوله: [أو لعذر يبيح الفطر]. هذا فيه نظر، والصحيح الاقتصار على الأعذار التي تقدمت، وهي التي فيها الإلزام أو فيها ما يدل على الرخصة، سواء كان بعذر من الشرع، كأن يرخص الشرع للإنسان فيفطر، أو يوجب عليه الصيام كرمضان، أو يكون عذراً متلبساً به يمنع من صحة صومه كالحائض، فهذه هي الأعذار المؤثرة. أما أن يكون العذر سفراً، والسفر عذر من أعذار الفطر، فلو سافر وهو صائم شهرين متتابعين وأراد أن يترخص؛ نقول له: لا رخصة، لأن هناك فرقاً بين عذر الحيض الذي يغلب ولا يقطع التتابع ويهجم على الإنسان بالطبيعة، وبين عذر رمضان الذي هجم على الإنسان بحكم الشرع، وعينه الشرع وألزم به ولا محيد للصائم عنه، فصائم رمضان في السفر يمكنه أن يفطر ويمكنه أن يصوم فهو مخير، فجاء واختار أن يفطر. أما في الكفارة هنا فإذا اختار أن يفطر فقد اختار أن يقطع تتابع صومه، فهناك فرق بين رخصة السفر التخييرية وبين الرخصة التي معنا، فإن سافر ومرض في سفره مرضاً؛ أوجب أن يُرخص له؛ لأنه وصل إلى حد الخوف، فهذا ينتقل من رخصة السفر إلى رخصة الفطر بالمرض، وقد بينا أنها لا تقطع التتابع. قوله: [لم ينقطع] أي: لم ينقطع التتابع وصومه معتبر ومجزئٌ في الكفارة.

الأمور التي ينبغي مراعاتها في كفارة الإطعام لستين مسكينا

الأمور التي ينبغي مراعاتها في كفارة الإطعام لستين مسكيناً قال رحمه الله: [ويجزئ التكفير بما يجزئ في فطرة فقط]. الخصلة الثالثة من خصال الكفارة هي الإطعام، ومسائلها مفرعة على ما تقدم معنا في أحكام الزكاة؛ لأنها صدقة واجبة، فألحقت بالأصل الواجب من الزكوات كالزكاة الواجبة في الأصل وزكاة الفطر. قوله: (ويجزئ التكفير) بمعنى أنه يوجب براءة ذمة المكفر، فحد الإجزاء هو الذي يلزم به الشرع، فإذا قام به المكلف فقد برئت ذمته، وخلي من التبعية، وبناءً على ذلك بين رحمه الله أنه يجزئ في كفارة الظهار ما يجزئ في صدقة الفطر، من برٍ وتمر وشعير وزبيب وأقط، ونحو ذلك من الطعام. قوله: [لا يجزئ من البر أقل من مد]. تقدمت معنا هذه المسألة: هل يعتد بنصف الصاع الذي هو مدان أو يعتد بربع الصاع الذي هو مُدّ؟ وتقدم معنا أن هناك ما يسمى بالمد الصغير، الذي هو مد النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك ما يسمى بالصاع النبوي، وهناك ما يسمى بالمد الكبير. فأما بالنسبة للمد الصغير: وهو ملء الكفين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، فلو أن شخصاً وسط في الخِلقة أخذ بكفيه تمراً أو بُراً، فإن هذا القدر غالباً يملأ المد، وهذا المد هو الذي كان يتوضأ به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا زال موجوداً توارثه الناس جيلاً عن جيل ورعيلاً عن رعيل إلى زماننا هذا؛ ولذلك نص العلماء: أن العبرة في المد والصاع والكيل بمد المدينة وصاعها وكيلها؛ لأنها توارثها الناس أمة بعد أمة، وتوافرت الدواعي على حفظه، والمحافظة عليه، وكان الوالد رحمه الله يحرر الصاع بكبار السن الذين هم من الثقات، وكان هناك رجل من حفظة القرآن كنت أحرر الصاع والمد على يديه -رحمه الله ورحمنا الله جميعاً- فهذا الشيء توارث مثلما توارث الناس أن هذا المكان هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا المكان هو الروضة، وأن هذا المكان هو مسجد قباء، وهذا ما يسمى بنقل الكافة عن الكافة، فما خالف هذا فإنه لا يعتد به؛ لأنه مما توافرت الدواعي لحفظه والمحافظة عليه. وقد بارك النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين- للمدينة بمدها وصاعها، وقال: (اللهم بارك لنا في مدنا وصاعنا)، وهذا أمر ثبت به النص ولا مجال لرده أو لإنكاره، بل إنه مجرب أنه إذا كيل الشيء بصاع المدينة ومده وضع الله فيه البركة، وقد لمست ذلك ووجدته، والحديث في الصحيحين ولا إشكال فيه. فهذا المد يخالف غيره مثل المد الشرقي الذي كان الحنفية رحمهم الله يخالفون فيه الجمهور، فالإمام مالك رحمه الله أخذ بمد المدينة، ولما نازعه محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة قال الإمام مالك: يا فلان، قم فائتني بصاع، ويا فلان! قم فائتني بصاعك، فأمر رجالاً من أهل المدينة أن يأتوا بآصبعهم فأحضروها، فقال كل واحدٍ منهم: حدثني أبي عن جدي أنهم كانوا يخرجون الفطر على زمان النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، فحزروه وقدروه، فوجدوه موافقاً لتقدير الإمام مالك، أن الصاع يسع أربعة أمداد بمد النبي صلى الله عليه وسلم، فيقال لهذا: مد، ويقال له: ربع صاع، وبعضهم يعتبره أصغر وأقل المكيلات الموجودة، فهناك من يقول: إن الصاع خمسة أمداد أو يقرب منها، وهذا القول غير محرر؛ لأن المعروف والثابت والذي نص عليه الأئمة والعلماء: أن مد النبي صلى الله عليه وسلم ربع الصاع، وهذا هو الذي عليه العمل عند العلماء والأئمة. واختلف العلماء رحمهم الله في مسألة: هل البر كغيره في الكفارة أم لا، على وجهين: الوجه الأول: يقول: إنه يختلف البر عن غيره. الوجه الثاني: التسوية بين البر وغيره. ثم الذين سوَّوا أو خالفوا منهم من يبتدئ بالربع على الأصل ويقول: ستون مسكيناً الذين يجب إطعامهم في كفارة الظهار، يكون لكل مسكين ربع صاع الذي هو مد النبي صلى الله عليه وسلم الصغير، فإذا كان لكل مسكين ربع صاع والكفارة لستين مسكيناً، فمعنى ذلك: أن خمسة عشر صاعاً هي كفارة الظهار، وكفارة القتل، وكفارة الجماع في نهار رمضان؛ لأن ربع الصاع لمسكين فـ (4 × 15 =60)، هذا وجه لبعض العلماء رحمهم الله، ويؤيد هذا الوجه ما جاء في قصة خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بعرق من تمر، فأمر أوساً أن يطعمه أهله، والعرق فسره بعض أئمة السلف كـ سعيد بن المسيب رحمه الله وهو إمام المدينة وفقيهها قال: فيه خمسة عشر صاعاً، العرق مثل الزنبيل أو القفة الموجودة في زماننا، والزنابيل الكبيرة هذه لها أسماء: مِكتل، عَرق، فهذا العرق فيه خمسة عشر صاعاً، فإذا كان فيه خمسة عشر صاعاً، فمعنى ذلك: أن لكل مسكين ربع صاع. وفي رواية أخرى لقصة خولة رضي الله عنها تقتضي أن يكون نصف صاع أي: مدين؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (أعينه بعرق، فقالت هي: وأنا أعينه بعرق ثانٍ) فأصبح المجموع ثلاثين صاعاً؛ لأن عرقاً مع عرق يكون خمسة عشر صاعاً مع خمسة عشر صاعاً فيكون المجموع ثلاثين صاعاً، فهذان وجهان، أقواهما في الحقيقة الربع، وأحوطهما النصف. قوله: [ولا من غيره أقل من مُدَّين] كما ذكرنا أن العلماء يفرقون بين البر وغيره كالتمر والزبيب والأقط، وبينا هذا في صدقة الفطر، وبينا وجهه. قوله: [لكل واحد ممن يجوز دفع الزكاة إليهم] كأن يكون مسكيناً، أو فقيراً، فيعطى ربع صاع أو نصف صاع على التقدير الذي بيناه. قوله: [وإن غدَّى المساكين أو عشَّاهم لم يجزئه] أي: المعتبر ستون مسكيناً، وإن غدَّى هؤلاء المساكين أو عشَّاهم اختلف العلماء رحمهم الله في الكفارة: هل يجب عليك أن تملِّك المسكين أو يجب عليك الإطعام؟ والفرق بين القولين: أننا لو قلنا: يجب عليك تمليك المسكين، فمعنى ذلك: أنك تدفع الزكاة إليه، وهو إن شاء طبخها اليوم أو طبخها بعد غد، أو باعها، فهو حرٌ في نفسه؛ لأن الله أمرك أن تدفع هذا القدر له، وهو قدر ما يطعمه، فإن شاء طعمه اليوم، وإن شاء طعمه غداً، وإن شاء أطعمه غيره، فلا تلزمه بشيء، فهذا حق من حقوقه جعله الله عز وجل له. ومن أهل العلم من قال: إنه إذا صنع الطعام وأطعمه المسكين فقد أطعمه الطعامٍ معتبر، فيصدق عليه إذا أكل المسكين طعامه أنه قد طعم، والله عز وجل أمره أن يطعم المسكين وقد أطعمه، ولا شك أن الأحوط أنه يعطى المسكين؛ لأن الله يقول: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19] فبين أن ما لزم واجباً للمسكين أنه يمكن منه، وقد جاء عن بعض السلف رحمهم الله كـ أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان يجمع ثلاثين مسكيناً في آخر يوم من رمضان ويطعمهم صدقة عن فطره في شهر رمضان، هذا فعل لبعض السلف، والأحوط أنه يعطى المسكين الطعام كما ذكرنا.

حكم تبييت النية في صيام الكفارة

حكم تبييت النية في صيام الكفارة قوله: [وتجب النية في التكفير من صوم وغيره]. وتجب النية في التكفير من صومٍ وغيره، وقد بينا في كتاب الصيام: أن الصيام الواجب يجب تبييت النية فيه، وذكرنا ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث عن أم المؤمنين بقوله: (من لم يبيت النية بالليل فلا صوم له)، فدل على أن الصيام الواجب يجب تبييت النية فيه، ولأن هذا الصوم وجب كفارة، ولا يمكن أن يكون مبرئاً للذمة إلا بنية وقصد، فوجبت النية.

حكم مجامعة الزوجة ليلا أثناء فترة صيام الكفارة

حكم مجامعة الزوجة ليلاً أثناء فترة صيام الكفارة قوله: [وإن أصاب المظاهر منها ليلاً أو نهاراً انقطع التتابع]. وإن أصاب المظاهر زوجته نهاراً فلا إشكال لأنه أصبح مفطراً، أو ليلاً فإنه يقطع التتابع، وهكذا لو أفطر في يوم العيد، فجامع زوجته بناءً على أنه مرخص له في الفطر، قطع التتابع، لا من أجل كونه مجامعاً، بل من أجل كون الشرع اشترط أن تكون الكفارة قبل أن يتماسا، وإذا جامعها قبل تمام الكفارة قطع التتابع ووجب عليه أن يستأنف، ولذلك قال تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3]، فهذا يدل على أنه يجب أن يكون التكفير قبل المسيس، فإن حصل المسيس أثناء الكفارة من صيامه وجب عليه أن يستأنف، لأن ذلك يقطع تتابعه. قوله: [وإن أصاب غيرها ليلاً لم ينقطع]. بلا خلاف بين العلماء، فإنه لو عنده زوجتان ظاهر من إحداهما، ثم صام كفارة، فجامع الثانية ليلاً لم يقطع ذلك تتابعه؛ لأنه ممنوع ممن ظاهر منها دون التي لم يظاهر منها.

الأسئلة

الأسئلة

الوقت المناسب لابتداء صيام الكفارة للنفساء

الوقت المناسب لابتداء صيام الكفارة للنفساء Q بالنسبة للنفساء إذا كانت عليها كفارة فهل تبني وتستكمل صيامها منذُ انقطاع الدم أم بعد تمام الأربعين يوماً؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد فهذا السؤال مفرع على مسألة الحكم على المرأة بكونها نفساء، فإن طهرت المرأة النفساء -كما تقدم معنا في كتاب النفاس- قبل الأربعين وحُكم بطهرها؛ وجب عليها أن تتم الصوم ولا يجوز لها أن تفطر، فلو أنها نُفِست ثلاثين يوماً ثم رأت علامة الطهر بعد الثلاثين؛ وجب عليها أن تتم ما عليها من صوم، ولا يجوز لها الفطر حينئذ. وأما إذا تخلل بحيث تقطع فنفست ثلاثين يوماً فصامت يوماً إتباعاً لما قبله، فبان الدم في اليوم الذي يليه فتفطر، وقد بينا كما في حديث أم عطية رضي الله عنها قالت: (كانت النفساء تمكث على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً) وبناءً على ذلك: لا يحكم بكونها منتهية من نفاسها طاهرةً منه إذا تقطع دمها إلا بعد تمام الأربعين كما فصلناه وبيناه في كتاب النفاس، وبناءً على ذلك تقطع وتفطر إذا عاودها الدم قبل تمام أربعين يوماً. والله تعالى أعلم.

حكم إسرار الإمام بالقراءة في الصلاة الجهرية

حكم إسرار الإمام بالقراءة في الصلاة الجهرية Q إمامٌ أسر بالقراءة في صلاة جهرية ساهياً هل يفتح عليه من المأمومين، وإذا كان قد شرع في قراءة الفاتحة سراً هل يبني جهراً أم يستأنف من بدايتها، وهل يسجد للسهو؟ A الجهر بالقراءة فيه وجهان للعلماء رحمهم الله: منهم من يرى وجوبه، ومنهم من يرى سنيته، والذين يقولون بالسنية يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم جهر في السرية، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في صلاته الظهر، بأنه كان يسمعهم الآية أحياناً، فقالوا: هذا يدل على أن الجهر سنة، لكن لو حصل من الإمام هذا، فإنه يسبح له وينبه على ذلك بأنه حاصل منه على سبيل السهو لا على سبيل القصد، وما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم كان قصداً، فينبه على ذلك ويسبح له، وإذا لم ينتبه فلا بأس بأن يفتح عليه. وإذا نبه فإنه يبدأ من الموضع الذي انتهى إليه، كأن يكون قرأ مثلاً آيتين من الفاتحة ثم نبه، فعليه أن يستأنف من الموضع الذي نبه فيه، ولا يرجع إلى الأول؛ لأنه لا يجوز أن يعيد الركن، ولا أن يعيد أجزاء الركن، وقد فعل ما أمر الله به من قراءة الفاتحة ولا تجب عليه قراءة الفاتحة إلا مرة واحدة، ولو قلنا: يرجع من أول الفاتحة فإنه بذلك يكررها، وهكذا لو أنه كان أثناء الفاتحة، فقالوا له: سبحان الله، يقول: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] * {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فيتمها من المكان الذي وصل إليه. ولو أتم قراءة الفاتحة فإنه يقرأ السورة التي تلي الفاتحة ولا يكرر قراءة الفاتحة، واختلف العلماء: هل إذا كرر المصلي الفاتحة تبطل صلاته أم لا؟ قال بعض العلماء: إذا كرر الفاتحة بطلت صلاته؛ لأن الفاتحة ركن، ومن كرر الفاتحة مرتين كان كمن ركع مرتين، فكما أن تكرير الأركان الفعلية يوجب البطلان، كذلك تكرير الأركان القولية موجبٌ للبطلان. وعلى الإمام أن يحتاط ويستبرئ لدينه خاصةً إذا كان إماماً، فإنه يحتاط، وأميل إلى أنه يعيد الصلاة وأن تكرار الأركان القولية كتكرار الأركان الفعلية؛ لأن حكمهما في الشرع سواء من حيث الإلزام، فيكون تكرارهما موجباً عند القصد والتعمد لبطلان الصلاة، والله تعالى أعلم.

حكم توكيل الدلال للشراء في بيع المزاد

حكم توكيل الدلال للشراء في بيع المزاد Q نحن مجموعة نرغب في التجارة في الرطب، ولكن وجدنا في حراج الرطب أمراً لم نعلم حلاله من حرامه، تنزل مجموعة من الرطب فيحرج عليها دلال، فيتزاود الناس من أجل شرائها، وإذا بلغ الزنبيل -مثلاً- تسعين ريالاً؛ يقول الدلّال: سجّله بخمس وتسعين ريالاً لفلان من الناس، فنسأله: أين هو؟ فيقول: هو غائب، ولكنه وكلني، فهل يصح البيع، وهل يجوز أن يوكل المشتري الغائب الدلال على نفس البضاعة لكي يشتريها؟ A ليس هناك حرج، والتوكيل جائزٌ شرعاً، إن شاء وكل الدلال أو غير الدلال، ولكن المحرم ألا يكون على وجه النصيحة بحيث يُضر صاحب البضاعة، فإذا كان الدلال حابى بحيث علم أن وكيله قال له: لا تصل خمسة وتسعين وأريد هذه البضاعة وأرغبها، فحرج عليها حتى تصل تسعين أو ثمانين، وإذا وصلت التسعين خذ خمسة وتسعين واقفل المزاد، فإذا قفل المزاد فقد ظلم صاحب السلعة؛ لأنه ربما وجد من يرغبها بمائة، وربما وجد من يرغبها بست وتسعين، فإذا كان الدلال يتقي الله عز وجل وينصح لصاحب السلعة فلا بأس ولا حرج؛ لأن هذا توكيل شرعي، ويجوز أن يوكل الدلال وغيره، إنما المحظور أن يكون هناك ظلم لصاحب السلعة الأصلية، كأن يوقف السعر عند حد معين محاباة لمن وكله فإنه لا يجوز له ذلك شرعاً، وليس هناك أي مانع شرعي؛ لأنه بيعٌ صحيح لسلعة قيمتها خمسة وتسعون ريالاً، فكما أن غير الدلال يجوز له أن يشتريها بخمسة وتسعين، فكذا الدلال، وكون الدلال وكيلاً لا يوجب فساد البيع، ولا يؤخر في البيع ألبتة، والله تعالى أعلم. ومسألة المزاد في السلع ليس فيها شيء، وهناك من العلماء من منعه ونهى عن بيع المزايدة وفيه حديثٌ ضعيف، والصحيح: أنه يجوز التحريج على السلع بشرط ألا يكون هناك نجش، فلا يدخل أشخاص يرفعون القيمة حتى يغروا الناس في شرائهم، وهذا بيناه وفصلناه في كتاب البيوع وأنه محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تناجشوا)، وأما بيع المزاد فإنه بيع لا بأس به ولا حرج فيه، والله تعالى أعلم. لكن تبقى مسألة المحاذير الموجودة من بيان العيوب وكشفها، فهذه أمانة، وعلى كل بائع يتقي الله عز وجل، وليس هذا خاص ببيع المزاد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)، والله تعالى أعلم.

متى يأخذ المغمى عليه حكم المجنون

متى يأخذ المغمى عليه حكم المجنون Q إذا كان المغمى عليه أشبه بالمجنون، فهل هذا الحكم يكون مطرداً في جميع أبواب الفقه؟ A المغمى عليه من حيث الأصل يأخذ حكم المجنون. وقد اختلف العلماء رحمهم الله فيه على وجهين، منهم من يقول: إنه كالنائم، فهو مكلف وتجري عليه أحكام المكلفين، ومنهم من يقول: إنه كالمجنون، وتجري عليه أحكام سقوط التكليف ونحوها؛ لأنه أشبه بالمجنون منه بالنائم، والقول الذي يقول: إنه أشبه بالمجنون من النائم أقوى وأرجح؛ لأن النائم إذا أيقظته يستيقظ، والمغمى عليه إذا أيقظته لا يستيقظ، فهو في غلبة العقل كالمجنون، ثم القياس يضعف في الإلحاق بالنائم أكثر من ضعفه بالمجنون، لذلك فأنا أميل إلى القول بأنه في حكم المجنون من حيث الأصل إلا إذا دل الدليل على الاستثناء. والله تعالى أعلم.

مدى تأثير الوسوسة في الصلاة

مدى تأثير الوسوسة في الصلاة Q الوسوسة في الصلاة هل تؤثر في أجر الصلاة؟ A يوجد تفصيل: فإذا كانت الوسوسة -حديث النفس- تهجم على الإنسان بحيث لا يمكن أن ترفع، كالذي يكون واقفاً في الصلاة ثم تذكر مالاً من أمواله كأن تذكر مزرعته أو سيارته أو ابنه أو بنته، فهذا شيء يهجم دون أن يكون للمكلف فيه اختيار، فهذا لا يحاسب الله عليه العبد ولا يؤاخذه ولا ينقص درجة الكمال في الصلاة؛ لأنه لا يمكن أن يسلم منه أحد، وهذا شيطان للصلاة يوسوس للعبد، فإذا هجم عليه هجوماً فأوّل الوسوسة لا يؤاخذ عليها، أما إذا استرسل معه ولم يقطع، فهذا يؤثر في كمال الصلاة ويؤثر في أجرها، ويؤثر في حصول المغفرة بها كما في الحديث الصحيح عن عثمان رضي الله عنه: (أنه توضأ أمام الناس فأسبغ الوضوء ثم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا، فصلى ركعتين، لا يحدث فيهما نفسه إلا غفر له ما تقدم من ذنبه). فقوله: (لا يحدث) جعله كأنه هو الذي يحدث، فمعناه أن هناك شيئاً يهجم على الإنسان ليس بيده، فالذي يسترسل مع هذه الوسوسة فذلك يؤثر ويقطع الكمال وينقص الأجر لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد ليصلي الصلاة وما يكتب له إلا نصفها إلا ربعها إلا ثلثها، ولما فاته منها خيرٌ له من الدنيا وما فيها)، فهذه اللحظات التي يقضيها الشيطان بالوسوسة على الإنسان لو يعلم ما له من الأجر عند الله والمثوبة؛ فإن ذلك الذي له عند الله خيرٌ من الدنيا وما فيها، هذه اللحظات اليسيرة فقط! ولا شك أن هذا يدل على عظيم ما يكون في الصلوات من الأجر والمثوبة، وقد حكى الإمام الشوكاني رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] * {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2]، أنه ليس للعبد إلا ما عقل من صلاته، أي: ليس له من الأجر في الصلاة إلا قدر الذي عقله من الصلاة وأدرك، وقد يصلي الرجلان الصلاة الواحدة، كتف أحدهما بجوار كتف الآخر، وبينهما من الإخلاص وحضور القلب وعظم الأجر من الله كما بين السماء والأرض، فهذا كله لا يعلمه إلا الله عز وجل المطلع على سرائر الناس وضمائرهم وقلوبهم. نسأل الله عز وجل أن يرحمنا برحمته وأن يجبر كسرنا وأن يكمل نقصنا، والله تعالى أعلم.

حكم المشكك في السنة وغير المصدق بها

حكم المشكك في السنة وغير المصدق بها Q ما نصيحتكم لشخص يقول: لا تصدقوا كل ما نُقِل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا قيل له: هذا الحديث رواه البخاري أو مسلم، لا يصدق ولا يكذب؟ A اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، نعوذ بالله من طمس البصائر، ولا يزال الإنسان في خير ورحمة وبر وهدى في دينه ما تمسك بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فوالله لا يحجب عن نار الله إلا بفضل الله ثم بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولن تنعم عينه ولن تطأ قدمه الجنة إلا بفضل الله ثم بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا صراط إلى الجنة إلا بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الزمان زمن فتن، تكلم فيه كل من هبّ ودبّ، وكل زاعق وناعق، فلا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، فالذي يُوصى به الرجوع إلى كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك عن طريق العلماء العاملين الذين عُرِفوا بضبطهم وإتقانهم وأخذهم للعلم، فهؤلاء الذين يُحتكم إليهم في دين الله وشرع الله. وأما بالنسبة لهذه الكلمات الجارحة التي تمس مشاعر المسلمين، والتي يطلقها إما من لا دين عنده -والعياذ بالله- وإما أصحاب الأهواء الذين يريدون تشكيك المسلمين في عقائدهم ونزعهم عن دين ربهم، وإما الحسد كأن يحسد الإنسان على دينه كما ذكر الله عن أهل الكتاب، فهذا ليس إلا تشكيكاً في بدهيات عند المسلمين هي أوضح من الشمس في رابعة النهار. وليعلم الإنسان أن خير ما يُقال في هؤلاء ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر الفتن، وبيّن عليه الصلاة والسلام أن هناك همجاً رعاعاً أتباع كل زاعق وناعق، فالذي يتبع كل زاعق وناعق فإنه على هلاك بلا إشكال ولا مرية. والشخص الذي يجعل زمام دينه لكل من هبّ ودب عليه أن يعلم أنه على ضلال مبين، فلا يعرف الحق إلا بأهله الذين عُرِفوا بالتمسك بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، الحجة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والله جعل السنة مبينة لكتاب الله عز وجل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]. وصدق بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه حيث أخبر قبل هذا الزمان بقرون عديدة وكشف الله له ما هو كائن، فكان معجزة من معجزاته فقال عليه الصلاة والسلام: (لا ألفين أحدكم جالساً على أريكته شبعان ريان، يبلغه الحديث مما قلته أو عملته فيقول: ما وجدنا هذا في كتاب الله، ولقد أوتيت القرآن ومثله معه، ولقد أوتيت القرآن ومثله معه، ولقد أوتيت القرآن ومثله معه)، فهذه هي السنة التي هي أحب إلينا من أنفسنا، ولا يصدنا عنها غرور المغرورين ولا فتن المفتونين ولا إرجاف المكتوفين ولا إبطال الملحدين، إنما علينا أن نتمسك بدين الله وشرعه. وليضع كل مسلم في كل دعوة مصادمة لدين الله عز وجل نصب عينيه كلمةً قالها الله جل وعلا من فوق سبع سماوات ثبتت قلوب المؤمنين والمؤمنات، وهي قوله عز من قائل: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف:43]، وزيادة المبنى في لغة العرب تدل على زيادة المعنى، ما قال له: أمسك الذي أوحي إليك، ولكن ((فاستمسك))، فورد التأديب بهذه الحروف التي لها الوقع القوي في النفوس، ومع أنه لو قال: (اثبت) لكان لها معنى، لكن (استمسك) حتى صوت الكلمات والحروف لها معنى وخطاب مباشر، وخطاب لخير خلق الله صلوات الله وسلامه عليه، فمن باب أولى غيره، فنبه أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن الذي يزعزعها وأن الذي يحول بينها وبين وحيها شيء عظيم وكبير، يحتاج إلى قوة وثبات يحتاج إلى اللائق بالإنسان مع كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الاستمساك يدل على عظم الشيء الذي يحول بينك وبينه. فعلى هذا: ينبغي على كل مسلم أن يثبت على الحق وأن يوصي إخوانه بذلك، فالسنة حجة على من بلغته إذا صحت وثبتت فقل: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]. من الأمور التي ينبغي لكل مسلم أن يعلمها، أنه إذا عوَّد نفسه إذا صحت السنة أن يسلِّم ويستسلم ويعمل، فليعلم أن حظه من الهداية والرحمة على قدر تمسكه وعمله وتسليمه، وقلَّ أن تجد عبداً من عباد الله إذا بلغته السنة طأطأ رأسه وأسلم لله نفسه إلا وجدته أثبت الناس جناناً، وأصلحهم حالاً وأشرحهم صدراً وأكثرهم توفيقاً من الله عز وجل، ولن تجد شخصاً كثير الشكوك كثير الأوهام كثير الرد للسنة إلا وجدته أعمى البصيرة كثير الفتن والقلاقل، إلا أن يرحمه الله برحمته. وتأمل قول الله عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، فهذا وعيد شديد لكل من يعترض على السنة، ويردها ويخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فالحذر كل الحذر! لا تقبل عن طريق الله وسبيلها تحويلاً، ولا تقبل عن قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم بديلاً أبداً، وعليك أن تستمسك بما أوحى الله، وهذه سنة ماضية للعلماء وورثة الأنبياء، فإنهم يدعوا الناس إلى التمسك بالحق، وعلى الخطباء وأئمة المساجد وطلاب العلم أن يعودوا الناس محبة السنة، وأن يذكروهم -خاصةً في هذا الزمان- بقول الله وقول رسوله عليه الصلاة والسلام وهدي السلف الصالح في محبتهم لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وعملهم بها وتطبيقهم لها، وأن الله عز وجل أسعد أمماً وسيسعد من بقي كما أسعد من مضى بهذه السنة. فهنيئاً ثم هنيئاً لمن نور الله بصيرته وثبَّت قلبه، وجعل محبة السنة في فؤاده، فلم يلتفت إلى هذه الفتن ولا إلى هذه المحن، وثبَت على الحق بتثبيت الله. نسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، نسألك بعزتك وقدرتك أن تعيذنا من فتن المفتونين، ومن ضلال المضلين، ومن إلحاد المبطلين، ونسألك بعزتك وقدرتك على خلقك أن تكبت أعداء الدين. اللهم أخرس ألسنتهم، اللهم أخرس ألسنتهم، اللهم أخرس ألسنتهم. اللهم اكفِ الإسلامَ وأهلَه أهلَ الضلال بما شئت، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب اللعان [1]

شرح زاد المستقنع - كتاب اللعان [1] حرصت الشريعة الإسلامية على حماية الأعراض من أن تنتهك حرمتها، وتوعد الله باللعنات والعذاب الشديد في الحياة وبعد الممات لمن تكلم في أعراض المسلمين والمسلمات، وشرع الله اللعان بين الزوجين حتى لا يلحق الزوج ما طرأ على فراشه من ولد الحرام، وأيضاً حتى تدفع المرأة الضرر عن نفسها إذا اتهمت بالباطل، واللعان يدور على ثلاثة أحوال هي: الوجوب والحرمة والإباحة، كما أن للعان بين الزوج والزوجة كيفية مخصوصة بينها الله سبحانه وتعالى في كتابه، وقد شرح ذلك الفقهاء رحمهم الله.

تعريف اللعان وكيفيته

تعريف اللعان وكيفيته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [كتاب اللعان]. اللعان: مأخوذٌ من اللعن، وأصل اللعن الطرد والإبعاد، ويطلق اللعن بمعنى الشتم في لغة العرب، ولكن يراد به في شرع الله: الطرد والإبعاد من رحمة الله -والعياذ بالله- فمن لعنه الله فإنه مطرود من رحمته، ولن يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعيذنا من لعنته وغضبه وشر عقابه! أما في الاصطلاح فالمراد باللعان: شهادات مؤكدات بأيمان مقرونة باللعنة والغضب، وهذه الشهادات مخصوصة تصدر من شخص مخصوص، وهو إما الزوج وإما الزوجة، فليس هناك لعانٌ في الإسلام يقع بين غير الزوجين، فهو مختص بحالة معينة حددها الشرع، لأمور وأسباب سننبه عليها إن شاء الله تعالى. وهذه الشهادات يشهد فيها الرجل الذي هو الزوج أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فيما يدعيه من زنا زوجته أو من نفي ولدها منه، فهو إما أن يقذفها بأنها زنت، وإما أن ينفي الولد، فيقول: هذا الولد ليس بولدي، فاللعان من الزوج على أحد هذين الأمرين، وقد يجتمع الأمران بأنها زنت، وأن الولد ليس بولده؛ لأنه إذا كان اللعان بأحدهما، فمن باب أولى إذا اجتمعا، وهذا بالنسبة لشهادات الزوج. وأما شهادات الزوجة فإنها تشهد بالله أربع شهادات مقرونة باليمين أن زوجها كاذبٌ فيما ادعاه من زناها، أي: فيما قذفها به من الزنا، وتشهد إذا كان الزوج قد نفى ولدها منه أن الولد ولده. إذاً: إما أن يشهد الزوج على أنها زنت، وإما أن يشهد على أن هذا الولد ليس بولده، والمرأة حينما تشهد الأربع الشهادات تضاد بها وتقابل بها شهادات الزوج، فتشهد أربع شهادات مؤكدة بالأيمان أنه كذب عليها فيما ادعاه من زناها، وكذلك أيضاً أنه كاذب في نفي الولد، وأن الولد ولده. وهذه الشهادات الأربع المؤكدات بالأيمان مقرونة باللعن والغضب، أما كونها مقرونة باللعن فمن جهة الزوج، وأما كونها مقرونة بالغضب فمن جهة الزوجة، والمراد باللعن والغضب: لعن الله عز وجل وغضب الله، فالزوج يحلف اليمين الخامسة وهي -والعياذ بالله- الموجبة، ووصفت بكونها موجبة؛ لأنه إذ حلفها أوجبت عليه لعنة الله -والعياذ بالله-، وأوجبت عليه عقوبة الآخرة إذا كان كاذباً فاجراً في يمينه، وفيما ادعاه من زنا زوجته أو نفي ولده منها، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه الزوج لما حلف الزوج الأربعة الأيمان والشهادات الأربع الأولى أوقفه بعدها، وجاء في بعض الروايات: أنه أُخذ على فمه، وكل هذا خوفاً عليه من لعنة الله، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اتق الله! فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، ويحك إنها الموجبة)، أي: اتق الله في نفسك، ولا تحمل ما لا تطيق، فإن كنت كاذباً فارجع عما قلته، فحلف الرجل. وأما بالنسبة للمرأة فالغضب في حقها، فتحلف اليمين الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين -أي زوجها-، وهذه الخامسة -والعياذ بالله- موجبة لغضب الله عز وجل، وإذا حل غضب الله على العبد فقد هوى، يعني: هلك هلاكاً عظيماً؛ ولذلك جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام أوقف المرأة عند الخامسة وقال لها: (اتقي الله! عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، إنها الموجبة)، فلما قال لها: إنها الموجبة، أي: أنك لو حلفت هذه الخامسة بأن غضب الله عليكِ، فإنه سيحل عليك غضب الله، والله تعالى يقول في كتابه: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81]، وهذا إشارة إلى عظيم ما يصيبه من البلاء، حتى هوى وسقط سقوطاً قد لا يسلم معه أبداً، وهذا أمر عظيم جداً، ولذلك إذا حدث اللعان على هذه الصورة تنتقل الخصومة من خصومة الدنيا إلى خصومة الآخرة، ويكون أمر الزوجين إلى الله عز وجل، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (حسابكما على الله، الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل من تائب؟)، أي: منكما، وقد جاء في رواية أنس رضي الله عنه: أن المرأة لما أوقفت، وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها الموجبة)؛ تلكأت وكادت أن تعترف ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فحلفتها!

سبب نزول آيات اللعان

سبب نزول آيات اللعان هذا اللعان وقع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف العلماء رحمهم الله في قصتين صحيحتين ثابتتين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: القصة الأولى: وقعت لصحابي يدعى: عويمر العجلاني من بني عجلان، والثانية: لـ هلال بن أمية، وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا وتاب الله عز وجل عليهم كما في قصة غزوة تبوك، فاختلف العلماء رحمهم الله: هل نزلت آيات اللعان بسبب قصة عويمر أو بسبب قصة هلال؟ والذي عليه أكثر الأئمة رحمهم الله واختاره بعض أئمة التفسير أنها نزلت في هلال بن أمية لما قذف امرأته بـ شريك بن سحماء رضي الله عن الجميع، واختار الإمام النووي رحمه الله أنها نزلت في عويمر العجلاني، وقصته أنه أتى إلى عاصم العجلاني، وهو ابن عمه فقال: يا عاصم! الرجل يجد مع امرأته رجلاً، أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ سل لي -يا عاصم - عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله، فكره النبي صلى الله عليه وسلم سؤاله؛ لأنه كان عليه الصلاة والسلام لا يحب المسائل التي لم تقع خشية أن تحدث تشريعات وأحكام تضيق على الأمة؛ ولذلك كان يقول كما في مسند أحمد: (أعظم المسلمين جرماً رجلٌ سأل عن شيء لم يحرم، فحرّم من أجل مسألته)، وقال: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها)، فكان يكره المسائل، فلما جاء عاصم وسأل هذا السؤال ولم يبين أنه وقع لم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع عاصم إلى قومه فجاءه عويمر، وقال: يا عاصم! هل سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال له عاصم: قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة، فقال عويمر: والله! لا أنتهي حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله، وكانت زوجته ابنة عمه، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ يعني: لو أنه قتله، ليس عنده شهود يثبتون أنه زانٍ؛ ولذلك سيقتل به؛ لأنه لو فتح هذا الباب لأمكن كل شخص يكره شخصاً أن يدعوه إلى بيته ثم يقتله، وقد يكون كارهاً لزوجته، فيدعي زناها بالرجل، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنه قد نزل فيك وفي صاحبتك قرآن فاذهب فأت بها، فذهب وجاء بامرأته، وتلاعنا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم). وأما قصة هلال بن أمية رضي الله عنه -وكان أخاً للبراء بن مالك لأمه- فإنه أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ بين أصحابه فقذف امرأته بـ شريك بن سحماء، أما عويمر ففي قصته أنه قال: يا رسول الله! الرجل يجد مع امرأته رجلاً، أيقتله فتقتلونه؟ أما هلال بن أمية فإنه تلفظ باللفظ الصريح أن امرأته زنت بـ شريك بن سحماء، قال عبد الله بن عباس كما في صحيح البخاري وغيره: إن هلال بن أمية أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقذف امرأته بـ شريك بن سحماء، يعني: سمى الرجل الذي وجده، وقال: يا رسول الله! لقد رأيت بعيني وسمعت بأذني، والله! يعلم إني صادقٌ فيما أقول، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حدٌ في ظهرك)، فقال هلال: (والله! ما كذبت يا رسول الله! والله! يعلم إني صادق وسينزل الله فيّ قرآناً يصدقني)، فقال عليه الصلاة والسلام: البينة أو حدٌ في ظهرك؛ لأن الله عز وجل أثبت الحد في أول الإسلام على كل من قذف زوجته أو غيرها، فإما أن يثبت زناها بالبينة أو يقام عليه الحد، وهو ثمانون جلدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -على الأصل-: (البينة أو حدٌ في ظهرك)، يعني إما أن تحضر البينة أو أقمت عليك الحد، وسياق الحديث في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما يؤكد أن القصة أول ما حدثت مع هلال بن أمية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خاطبه بالأصل الذي سبق نزول آيات اللعان، فقال له: (البينة أو حدٌ في ظهرك)، وهذا يرجع ويقوي أنها نزلت أول ما نزلت في هلال، وهو مذهب الأكثرين، فلما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حدٌ في ظهرك)، اعتذر الرجل بما اعتذر، وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي، فلما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي أمره أن يحضر المرأة ثم أمرهما أن يتلاعنا، فبدأ بـ هلال فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، وإنها زنت، وإن الحمل الذي في بطنها ليس منه، ثم خمّس بشهادة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم بعد ذلك شهدت المرأة أيمانها، فقال صلى الله عليه وسلم: (انظروا إليه فإن جاءت به أُصيهباً أحمش الساقين فهو لـ هلال -يعني: قد كذب والولد ولده-، وإن جاءت به أورق خدلج الساقين فهو للذي ذكر)، فجاءت به على صفة الرجل الزاني والعياذ بالله!

الحكمة من تشريع اللعان بين الزوجين

الحكمة من تشريع اللعان بين الزوجين اللعان تشريع حكيم شرعه الله من فوق سبع سماوات، وبيّن شأن هذا الأمر العظيم، وجعل له أحكاماً خاصة، والسبب أن القضايا التي تقع فيها الخيانة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يتيسر فيه الدليل وتقوم فيه الحجة من إقرار أو شهودٍ عدول يشهدون بأن المرأة أو الرجل قد وقعا في زنا، وحينئذٍ لا إشكال. القسم الثاني: لا يتيسر فيه وجود الدليل؛ ولذلك قال سعد رضي الله عنه كما في الحديث الصحيح: يا رسول لله! أرأيت لكعاً لو أنه تفخذها رجل أيقتله فيقتل أو يذهب فيحضر الشهود فيفرغ الرجل من حاجته؟ لأنه يصعب إحضار أربعة شهود، وهذا الباب شددت فيه الشريعة كما سيأتي -إن شاء الله في باب حد الزنا- بيان حكمة التشريع في وجوب أن يبلغ النصاب أربعة شهود، وقد خصّ أمر الزنا بذلك، لعظيم البلاء فيه، فالضرر لا يقتصر على المرأة ولا على الزوج، بل ينتشر إلى أهل المرأة وإلى أهل الزوج، ومثل هذا الأمر تسفك به الدماء، ويحصل فيه من الشر ما الله به عليم، إضافةً إلى أن الناس عندهم نوع من التساهل في القذف بسبب شدة الغيرة، فقد يكون الرجل شديد الغيرة فيتهم امرأته ويبادر باتهامها، والعكس أيضاً. وعلى كل حال، لما كان أمراً زوجياً له أحكام خاصة وضعت الشريعة له هذا التشريع، إذ غالب الظن أن الرجل لا يقدم على اتهام امرأته ولا يقدم على نفي ولده منها والأمر بخلاف ما يقول؛ فالغالب أن الرجل لا يقدم على اللعان إلا إذا كان صادقاً، أما الشذوذ وكون الرجل -والعياذ بالله- جريئاً على محارم الله وجريئاً على الكذب على الله عز وجل بشهادة الأيمان؛ فهذه أحوال نادرة، لكن الغالب أن الزوج لا يمكن أن يأتي إلى فراش الزوجية فيتهم زوجته وينفي ولده منها إلا وهو صادقٌ فيما يقول أو عنده ما يدل على ما يثبت صدق دعواه، فنظراً إلى أن الرجل يحتك بزوجته ويطلع على أمور زوجته ويدخل على زوجته في أحوال مختلفة؛ ففي ذلك مظنة أن يقع على شيء، ثم هذا الشيء قد يقع فجأة فلا يتيسر له وجود الدليل، وهذا الذي جعل بعض الصحابة يشتكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت الشريعة حلاً خاصاً بهذه الأيمان التي يُدفع بها الضرر عن الزوج فلا يلحق به ما دنس فراشه من ولد الحرام، وأيضاً يدفع به الضرر عن المرأة إذا اتهمت بالباطل، فعدل الله عز وجل بين الاثنين، وجعل هذه الحالة الخاصة والأمر الخاص مرده إلى الآخرة إذا أصر الزوج على أمره وكذبه أو أصرت الزوجة على كذبها؛ لأنه لابد أن يكون أحدهما كاذباً، فجعل لها هذا التشريع الخاص الذي يخوف به الزوج وتخوّف به الزوجة، فإما أن يقدما وإما أن يحجما، وأمر اللعان فيه تفصيل، فتارةً يجب على الرجل أن يلاعن زوجته، وتارةً يحرم على الرجل أن يلاعن زوجته، وتارةً يباح له فإن شاء لاعن وإن شاء ترك ويكون الأفضل له الستر. أما في الحالة الأولى وهي التي يجب على الرجل أن يلاعن زوجته فهي أن يتحقق من زناها أو يتحقق أن الولد ليس بولده، مثل أن يدخل فيراها على الزنا، فيرى بعينيه ويسمع بأذنيه ويتحقق أنه قد وقعت الفاحشة بالصفة المعتبرة في إثبات جريمة الزنا، فيرى فرجه في فرجها على الصفة التي لا لبس فيها ولا غموض، فلو أنه رآه مختلياً بالمرأة فلا يكفي هذا لإثبات الزنا، فإنه ربما كان الرجل لم يجامعها بعد، وقد يكون ما بينهما علاقة غرام ومحبة، وتمنعه المرأة من نفسها كما يحدث من بعض النساء فتتمنع، فليس وجود الرجل مع المرأة كافياً لإثبات الزنا، وهذا أمر عام لا يختص بالزوجين، فعلى كل مسلم أن يعلم أن الله سائله ومحاسبه عن اتهامه إخوانه المسلمين، فلا يجوز له أن يثبت الزنا على رجل أو على امرأة حتى يرى بعينه أو تقر المرأة للزوج أو يقر الرجل على نفسه. فالزوج يحكم بأنه متأكد وعلى يقين من زناها بدليلين أحدهما: أن يرى بعينيه الفاحشة، نسأل الله السلامة والعافية! ثانيهما: أن تقر له زوجته وتخبره أنها فعلت هذا الشيء، وأنه وقع منها. وفي حكم اليقين غلبة الظن أن يأتي شهود يثق فيهم وفي أمانتهم وصدقهم وعدالتهم فيشهدون عنده أنهم رءوا زوجته على الزنا ويشهدون بالصفة المعتبرة في إثبات حد الزنا. إذاً: هناك حالتان يتحقق فيها الزوج من زنا الزوجة: الأولى: أن يرى بعينيه ويشهد ذلك بنفسه. الثانية: أن يشهد عنده العدول، فالأولى تندرج تحت اليقين والثانية هي غالب الظن، ويندرج في حكم اليقين أن تخبره الزوجة كما ذكرنا.

حكم اللعان

حكم اللعان

الحالة التي يجب فيها اللعان

الحالة التي يجب فيها اللعان الحالة الأولى: إذا تحقق الرجل من زنا زوجته فيجب عليه أن يلاعن إذا ترتب على هذا الزنا حمل وولد، وقطع بأن هذا الولد ليس بولده، مثلاً لأنه لم يجامعها، أو مثلاً حدث الحمل من هذا الزنا فتركها بعد زناها وتحقق أن هذا الحمل من حمل الزنا وأنه ليس بولده، فحينئذٍ إذا لم يستطع أن يتخلى عن هذا الحمل إلا باللعان بحيث يتأكد أنه لو سكت عن هذه الجريمة سيبقى الولد ينسب له، وسيكون هذا الولد شريكاً لأولاده في الميراث ويستحل النظر إلى من لا يجوز النظر إليهن، وكذلك أولاد أولاده، وما يتبع ذلك من تبعات، قال العلماء: يجب عليه أن يلاعن، لكن لو أمكنه أن يتخلص من هذا الولد مثل أن تعترف له بالزنا بعد وضعها الولد، فأمكنه أن يأخذ الولد ويجعله لقيطاً فيخرجه إلى سابلة أو إلى طريق ويضع معه مالاً ليأخذه أحد الناس، ولم يحصل ضرر على فراشه، ولم ينسب الولد إليه، فإذا انعدم عنه الضرر فحينئذٍ إن شاء سترها وهذا أفضل وأعظم أجراً عند الله عز وجل؛ لأن الستر في الزنا مندوبٌ إليه شرعاً، وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الشهود -ولو كانوا أربعة- إذا رءوا الرجل يزني فالأفضل لهم أن يستروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في صحيح مسلم من حديث بريدة بن حصيب رضي الله عنه أنه جاءه ماعز بن مالك رضي الله عنه وهو جالسٌ في المسجد، وقال: (يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ويحك ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد، ثم أتاه وقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال: ويحك ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه)، فكرر عليه أربع مرات. وجه الدلالة: أن ماعزاً اعترف وأقر ومع ذلك صرفه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يستر نفسه، وأن يراجع نفسه في هذا، وأمره أن يتوب لعل الله أن يتوب عليه، ولذلك لما أقيم عليه الحد وفرّ، قال عليه الصلاة والسلام: (هلا تركتموه ليتوب فيتوب الله عليه)، فهذا يدل على رحمة الله عز وجل بعباده، وهذا أمر أجمع عليه العلماء أن الأفضل أن يستر على الزاني زناه، حتى الشخص لو وقع -والعياذ بالله- في الجريمة، وأراد أن يعترف؛ فبالإجماع أنه يرغب في ستر نفسه، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد قضية ماعز والمرأة التي اعترفت بالزنا قام على المنبر وقال: (أيها الناس! من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله). فهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله أن الأفضل والأكمل أن يستر نفسه، لكن إذا كان هناك ضرر مثلما ذكرنا: أنه لو سكت وستر عليه فمعنى ذلك أن فراشه يلوث، وأنه يحصل عليه الضرر، فلا إشكال حينئذٍ في كونه يجب عليه أن يدفع عن نفسه الضرر حتى لا ينسب الولد إليه. ولوجوب الملاعنة جانبان: الأول: أن يتحقق من زناها. الثاني: ألا يمكنه دفع الضرر المترتب على زناها، وهو الولد، فحينئذٍ يجب عليه أن يلاعن، وإذا أمكنه دفع ضرر الولد بإخراجه عنه وعن فراشه ودفع بلائه عنه. فالأفضل أن يستر المرأة، لكن هل يبقي المرأة عنده أم يسرحها؟ هذا فيه تفصيل: فالمرأة التي وقعت في الحرام ثم تابت توبةً نصوحاً، وظهرت الدلائل والقرائن على أنها تائبة إلى الله عز وجل، وأنها كارهة لهذا الأمر، فمذهب طائفة من العلماء أنه يشرع له أن يسترها وأن يضمها إليه، خاصةً إذا غلب على ظنه أنه لو طلقها قد تقع في الزنا، ويفسد حالها أكثر، فيضمها إليه وخاصةً إذا كانت قريبة أو نحو ذلك. وأما إذا خشي أنها تكذب في توبتها أو لم يظهر له الدليل على صدق توبتها فلا يجوز له أن يبقيها؛ لأن هذا يعرض فراشه ونسبه للحرام، ويؤثر عليه وعلى ذريته ونسبه، فلا يجوز أن يبقي مثل هذه، ويجوز له شرعاً إذا ثبت أنها زانية أن يضيق عليها حتى تدفع له المهر ويخالعها خلعاً شرعياً؛ لأنه إذا أتت بفاحشة مبينة فمن حق الزوج أن يضيق عليها حتى ترد له مهره؛ لأنها خانت عشرته، وأفسدت عليه فراشه، ويكفيه ما بلي به من العذاب، وحينئذٍ يأخذ حقه من المهر لعل الله أن يعوضه خيراً منها، ولا يجوز له إذا علم أنها زانية أنه يبقيها. ويشكل على هذا حديث: (إن امرأتي لا ترد يد لامس فقال عليه الصلاة والسلام: طلقها، قال: يا رسول الله! إني أخشى أن تتبعها نفسي، فأمره أن يمسكها)، هذا الحديث -أولاً- ضعيف الإسناد، ضعفه العلماء رحمهم الله، وممن أشار إلى ضعفه الإمام الجوزي رحمه الله في كتاب: العلل المتناهية في بيان الأحاديث الواهية، وبيّن أنه حديث موضوع، ومن أهل العلم من حسن هذا الحديث، وعلى فرض تحسينه يجاب عنه بأجوبة، منها: إن قوله: (إن امرأتي لا ترد يد لامس)، ليس المراد به الزنا، وإنما المراد ما كان في أعراف الجاهلية بما يسمى: بالأخدان، فكانت المرأة لها عشيق وعشير يقبلها ويلمسها ولكن دون أن يزني بها، كما يقع الآن في أعراف الجاهلية المعاصرة عند الكفار أن المرأة المتزوجة يكون لها صديق أو لها خدن، وهذا الذي عناه الله بقوله: {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء:25]، فهذا الخدن قد يستمتع من المرأة بما دون الفرج، فقوله: ترد يد لامس، أي: أنها يستمع بها بما دون الفرج، وهذا الجواب اختاره غير واحدٍ ومنهم الإمام ابن القيم رحمه الله، وعلى كل حال، فقد دلت النصوص على أنه لا يجوز أن يمسك بعصمة المرأة الزانية خاصةً إذا لم تتب من زناها؛ لأن الله يقول: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3]، فلا يجوز للرجل أن يتساهل في هذا الأمر؛ لأنه ينشر الفساد، ويعين على الفساد، والشريعة ما جاءت بالمعونة على الفساد، ولا شك أن الرجل إذا ضعف في مثل هذه الأمور كان ديّوثاً -والعياذ بالله- يقر الحرام في أهله، فعليه لعنة الله عز وجل، فلا يجوز التساهل في مثل هذه الأمور، إنما يشرع الستر إذا كانت المرأة معروفة بالمحافظة وحصل الزلل منها، فكل حالة تدرس على حدة، ويرجع فيها إلى أهل العلم، ففي بعض الأحوال يكون الرجل متساهلاً في فراش المرأة ويغيب عنها الشهور فتقع في الحرام بسبب الزوج، وقد تكون هناك أمور مهيأة مثل تساهله في اختلاط أقاربه بها واحتكاكهم بها ونحو ذلك، وعلى كل حال فالأصل الشرعي يقتضي أنه يجب أن نحافظ على الفراش، وهذه هي الحالة الأولى التي يجب فيها اللعان.

الحالة التي يحرم فيها اللعان

الحالة التي يحرم فيها اللعان الحالة الثانية: يحرم اللعان إذا كان الرجل كاذباً على زوجته فيتهمها بالباطل ويتهمها بالزور، وهذا الأمر من السبع الموبقات التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة في الصحيح، وحذّر النبي صلى الله عليه وسلم أمته منها، ومنها قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وتوعد الله عز وجل من فعل ذلك باللعنة في الدنيا واللعنة في الآخرة، والعذاب العظيم في الدنيا والآخرة، ويفضحه الله على رءوس الأشهاد؛ فتشهد عليه يده وتشهد عليه رجله ويشهد عليه لسانه بما افتراه على المرأة البريئة من الزور والبهتان، والتساهل في التهم والقذف أمر عظيم، ومن تأمل نصوص الشريعة في الكتاب والسنة وجدها تعظم حرمة المسلم، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن العرض بالدم، ولربما كان قتل الإنسان أهون عنده من أن يُطعن في عرضه، ولكن لا شك أن الله سبحانه وتعالى يعين البريء ويحفظه ويثبته؛ لأن من يصبر يصبره الله، وهذا البلاء يرفع الله به درجته؛ ولذلك قدر الله عز وجل هذا البلاء لخير الأمة صلوات الله وسلامه عليه؛ حتى يُعلّم أمته الصبر على التهم، ويعلم كل مؤمن وكل مؤمنة أن يتجلدا في مثل هذا البلاء الذي يصدر من هذه النوعية من الناس التي لا تبالي بما تقول، وتلصق التهم بأتفه الأشياء، فتجد الرجل بمجرد أن يرى غريباً دخل بيتاً اتهمه بالزنا! وبمجرد أن يرى امرأةً في مكان اتهمها بالزنا! فهذا أمر ينبغي للمسلم أن يتقي الله عز وجل فيه، وأن يخاف الله سبحانه وتعالى، وأن يلتمس لإخوانه وأخواته المؤمنات الأعذار، وأن ينزل نفسه منزلتهم، وإذا فعل ذلك حفظ الله له دينه، وحفظ له عرضه، ومن صان أعراض الناس صان الله عرضه، ومن عف عن الناس عفت الناس عنه، قال الإمام مالك رحمه الله: (أعرف أناساً لهم عيوب سكتوا عن عيوب الناس فسكت الناس عن عيوبهم، وأعرف أناساً لا عيوب لهم تكلموا في عيوب الناس فأحدث الناس لهم عيوباً). فتهمة الزوج لزوجته بالحرام أمر عظيم، وأجمع العلماء على أن اللعان في هذه الحالة محرمٌ على الزوج، ولا يجوز له أن يلاعن، فإذا بلغت به الجرأة أن ادعى ذلك في مجلس القضاء، وطلب أن يلاعن زوجته فالأمر أشد والمصيبة عليه أعظم؛ لأنه سيحلف الأيمان الفاجرة الكاذبة -والعياذ بالله- ثم يقول في الموجبة الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وإذا قالها حلّت عليه لعنة الله عز وجل والعياذ بالله!

الحالة التي يجوز فيها اللعان وعدمه

الحالة التي يجوز فيها اللعان وعدمه ذكرنا الحالة الأولى وهي: الوجوب، والحالة الثانية وهي: التحريم، وهما شبه مجمع عليها بين العلماء رحمهم الله. والحالة الثالثة هي: الجواز، إذا اطلع الرجل على زنا زوجته ولم يحدث من هذا الزنا حمل، ففي هذه الحالة من حقه أن يضيق عليها فيما بينه وبينها حتى تفتدي، ومن حقه أن يلاعنها، فإذا شاء أن يلاعنها لاعنها، وإذا شاء أن يضيق عليها حتى تفتدي ويسرحها فعل ذلك، والأفضل والأكمل -كما ذكرنا- أن يسترها ألا يلاعنها، وإذا أراد أن يأخذ حقه بأن تفتدي أخذه، وإذا أراد أن يطلقها ولا يأخذ شيئاً فإن الله عز وجل سيعوضه.

وصية لمن ابتلي في عرضه

وصية لمن ابتلي في عرضه والذي ينبغي أن ينبه عليه في مثل هذا: أن خيانة الفراش والوقوع في الحرام بلاءٌ عظيم، ومن ابتلي بشيء من ذلك فعليه أن يصبر، وأن يعلق قلبه بالله سبحانه وتعالى؛ لأن البلاء إذا حلّ بالعبد ليس هناك أحب إلى الله من أن يصبر ويرضى بقضاء الله وقدره، وقد جاءت النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تبشر من صبر عند البلاء، فكما أن البلاء يكون في الجسد يكون أيضاً في العرض؛ ولذلك ابتلى الله عز وجل بالبلاء بالعرض أنبياء الله، فموسى عليه السلام تكلموا فيه وقالوا: إنه آدر، أي: له خصية واحدة كما ثبت في الصحيحين: (أن الله عز وجل ابتلاه بكلام بني إسرائيل فيه فقالوا: إنه آدر؛ لأنه كان لا يغتسل معهم، فقالوا: لا يغتسل معنا وإلا وفيه عيب)، فاختلقوا له هذا العيب، وهذا ابتلاء من الله عز وجل للذين في قلوبهم مرض، فالقلب يمرض فيما بينه وبين الله، ويمرض فيما بينه وبين الناس، فللقلوب أمراض بسبب تعديها على حقوق الله عز وجل ومحارمه، وللقلوب أمراض بسبب تعديها على حقوق المسلمين وواجباتهم، فإذا وجد المرء نفسه لا يرعوي عن إلصاق التهم بإخوانه فهذا مرض في القلب نسأل الله السلامة والعافية! وقد ذكر الله عز وجل أن القوم البهت كاليهود يحل الله عليهم سخطه وغضبه بسبب أذيتهم للناس، فأوذي موسى عليه الصلاة والسلام فقيل عنه: إنه آدر، فشاء الله عز وجل أن ينزل ويغتسل، وأمر الله الحجر أن ينطلق بثيابه، فأصبح موسى يركض وراء الحجر عارياً أمام الناس، وهذا ابتلاء، فلا يظن أحد أنه سيخرج من الدنيا -ما دام عنده إيمان- دون أن يمحص ودون أن يؤذى ودون أن يبتلى، فتجد من عنده ضعف إيمان إذا ابتلي بمثل هذه المصائب طاش عقله وذهب عنه رشده، فأخذ يسب ويشتم ويضيق على نفسه ويكدر عيشه؛ فيزداد ضيقاً إلى ضيق كما قال صلى الله عليه وسلم: (فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط)، فيضيق على نفسه، وهذا من علامة الخسران، حتى إنه -والعياذ بالله- قد تزني امرأته ويطلع على زناها فيتكلم فيها ويفضحها ويشهر بها ويغتابها، فيحمل ذنوباً وسيئات قد تذهب صلاته وصيامه -والعياذ بالله- فيجمع الله له بين مصيبتين: مصيبته في أهله، وأذيته لها بعد وقوعها في هذا الحرام، فيجب عليه أن يصبر ويتجلد، ولذلك قرن الله الصبر بالتقوى، والتقوى: حفظ اللسان، وحفظ الجوارح والأركان، وحفظ الجنان. فإذا ابتلي شخص بمثل هذه الأمور فإنه يوصى بالصبر، والأئمة والخطباء وطلاب العلم والعلماء والموجهون والأصدقاء والقرناء عليهم إذا اطلعوا على مثل هذه الأمور أن يثبتوا من ابتلي بها؛ لأنه ليس هناك فرج أقرب من فرج الله لمن صبر وصابر ورابط، ويوصى المبتلى بذلك بالرجوع إلى الله سبحانه وتعالى والالتجاء إليه كما ثبت عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قصتها التي هي من أعظم القصص عبرةً وعظة، في قوة إيمانها وثبات جنانها وصدق التجائها إلى ربها، حتى جاءها الله بالفرج من حيث لم تحتسب وقالت: (ما كنت أظن أن ينزل الله فيّ قرآناً)، فأنزل الله براءتها من فوق سبع سماوات، حتى أنها من كمال إيمانها وتوحيدها وتعظيمها لله سبحانه وتعالى لما قيل لها: (اشكري رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: لا، والله! بل أشكر الله)، فابتدأت بشكر الله قبل شكر أي أحد؛ لأنها مرت عليها ساعات وأيام قاست فيها وعانت وليس معها إلا الله وحده، حتى أنها رضي الله عنها وأرضاها لما عظم البلاء وجلست عند والديها جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- وقال: (يا عائشة! إن كنت أذنبت ذنباً فتوبي إلى الله واستغفريه)، وانظروا كيف الرحمة واليسر! إن كنت أذنبت ذنباً فتوبي إلى الله واستغفريه، ليس هناك أعظم من الشرك، وليس بعد الكفر ذنب، ومع ذلك أمر الله المشركين أن يتوبوا إليه فقال: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]، فرحمة الله واسعة، إن كنت أذنبت ذنباً فتوبي إلى الله واستغفريه، قصة فيها عبرة للزوج وعبرة للزوجة، وعبرة لأهل الزوج وأهل الزوجة، وسلوى للمؤمن، فقال لها هذه الكلمات، فقالت لأبيها وأمها رضي الله عنهم وأرضاهم: أجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما استطاعوا أن يجيبوه، فقالت: لا أقول إلا كما قال أبو يوسف -ما استطاعت من شدة ما تعانيه أن تتذكر اسم يعقوب عليه السلام-: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86]، فصبرت صبراً جميلاً واستعانت بالله جل وعلا، فما لبث أن نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءتها، والعلماء رحمهم الله لما تكلموا عن بعض أهل الزيغ والضلال الذين يطعنون في أمهات المؤمنين ويتكلمون في الصحابة كان بعض العلماء يقول: لا أشك في كفر من اتهم عائشة رضي الله عنها؛ لأنه يكذب نص القرآن، وهذا بلا مرية، ويكاد يكون بالإجماع أن من قذف عائشة كافر؛ لأن الله عز وجل نص على براءتها، ونص على طيبها، ونص على أنها مبرأة مما اتهمت به، فجعل الله لها هذا الشرف وهذا الفضل، حتى أن القرآن يتلى ويتقرب إلى الله عز وجل ببراءتها رضي الله عنها وأرضاها، فهذه عاجل بشرى الله عز وجل لأوليائه، وحينما تنزل مثل هذه البلايا على الإنسان تضيق عليه الدنيا بما رحبت، ولكن حبل الباطل قصير، وكما بين الله عز وجل أن كيد الشيطان ضعيف، فتضيق الأمور وتعظم وتشتد ويصبح الإنسان في همٍ وغم لا يعلمه إلا الله عز وجل، لكن لا يلبث أن يأتيه الفرج ويكون أقرب إليه من حبل الوريد، فإذا بالأمر كأن لم يكن شيئاً: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18]، ولكن العجيب أن بعض الناس لقوة إيمانه وثباته -ولعل الله عز وجل يحبه- يجعل الله براءته في الآخرة ولا يجعل براءته في الدنيا، فقد يتكلم فيه الناس فإذا وقف بين يدي الله عز وجل وأظهر الله صدق الصادقين وكذب الكاذبين، فعندها كما قال الله تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119] فالمرأة والرجل إذا ابتليا بمن لا يتقي الله عز وجل في أعراض المسلمين، فيتكلم فيهم ويتهمهم بالزور والباطل، فما عليهما إلا أن يصبرا، والأمر في حق النساء آكد وأوجب، فإن النساء يُظلمن كثيراً في هذه الأمور، وبالأخص إذا كان الظلم من القريب، فأخوها بمجرد أن يرى أقل الأشياء يضخم الأمور ويتهمها عند والديها أو يضيق عليها، فهذا أمر ينبغي أن ينصح فيه الناس وأن يذكروا بالله عز وجل، وعلى المرأة أيضاً ألا تفتح على نفسها أبواب التهم، وعليها -دائماً- أن تحافظ على دينها وعلى كرامتها وعلى عفتها، وعليها إذا رأت من أخيها أو زوجها أو قريبها تضييقاً في أمر ألا تعتقد أنه يسيء الظن بها، بل إنه قد يخاف الإنسان على عرضه، والله يعلم أنه قد يضحي بدمه وبأغلى ما يملك من محبته لأهله وقرابته، فعليها أن تتحمل ذلك وأن تتقبله.

الذب عن أعراض المسلمين وحرمة الطعن فيهم

الذب عن أعراض المسلمين وحرمة الطعن فيهم والوصية الأخيرة التي ينبغي أن يوصى بها وهي عبرة تنبني على هذه المسألة: أن الوعيد الشديد ثابتٌ في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم باللعنات والدركات والعذاب الشديد في الحياة وبعد الممات لمن تكلم في أعراض المسلمين، وإذا كان هذا في العرض فقط، فما بالك بمن يتكلم في عقيدة الإنسان أو يتكلم في فكر الإنسان؟ الأمر أشد، والعرض أهون من الاعتقاد، وهذا لا يعني أن يتساهل الإنسان مع أهل الزيغ والضلال إنما المراد أن يتأكد وأن يتحفظ فيما يقوله. ولنعلم أن الله عز وجل لم يحل للمسلم أن يستطيل على عرض أخيه المسلم، وأن الله لا يرضى الباطل ولا يرضى الزور ولا يرضى البهتان، وأن ينزل نفسه منزلة من يتكلم فيه، وألا يقبل لنفسه ولا لمتكلم ولا سامع أن ينقل إليه عن أحد -خاصة إذا كان من الدعاة أو الأخيار أو الصالحين- تهمة أو لمزة أو شيء من هذا، بل عليه أن ينصحه بأن يتقي الله عز وجل، ولذلك ضرب الصحابة رضوان الله عليهم أروع الأمثلة في الذب عن أعراض المسلمين، حتى أن الله سبحانه وتعالى أشاد بهذا، فـ أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه له موقف مع أم أيوب حينما وقعت حادثة الإفك، قال الله: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12]، وهذه الآية نزلت في أبي أيوب وأم أيوب لما بلغهم خبر اتهام عائشة رضي الله عنها، فبرءاها واستبعدا ذلك منها ورفعاها رضي الله عنهما، وهي أهل لذلك، وبعيدة عن تلك التهمة، فيقول الله عز وجل: (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ)، فقال: ظن المؤمنون، فوصفهم بأنهم أهل إيمان؛ فلا تجد شخصاً يبرئ سمعه ويبرئ لسانه عن أعراض المسلمين وعن الطعن في الناس إلا وفيه إيمان يردعه ويزجره، وفيه خوف من الله سبحانه وتعالى، ولا يصلح سلوك الإنسان وتصرفاته شيء مثل: الخوف من الله عز وجل ومراقبة الله سبحانه وتعالى والإنصاف والعدل؛ لأن الشخص الذي كما لا يحب أن يُظلم فلا يظلم الناس، فتجد الشخص الذي يخاف أن يرتكب حداً من حدود الله عز وجل لا يقع في إخوانه المسلمين، فلا يأذن لسمعه ولا يأذن للسانه أن يستبيح أعراض المسلمين، قال الله تعالى: (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ)، وما قال: بإخوانهم، وإنما قال: بأنفسهم، فنزل أخاك المسلم منزلة نفسك التي بين جنبيك، ومعنى: بأنفسهم في قول جماهير المفسرين: بإخوانهم، كما قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، أي: لا تقتلوا إخوانكم، وانظر إلى جمال القرآن وعلوّ هذا الأسلوب الرباني المنزل من لدن حكيم خبير: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]، قال الله: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12]، فنزهوها رضي الله عنها وقالوا: سبحانك؛ وهذا شيء من الخوف من الله سبحانه وتعالى والمراقبة لله عز وجل. فالواجب على كل مؤمن فضلاً عن طالب علم، فضلاً عن قدوة، أن ينزه نفسه عن الوقيعة في إخوانه المسلمين، ولا يشعر المرء أن الناس مراتب فيحتقر بعضهم؛ فقد يكون الشخص الذي تراه أشعث أغبر ذي طمرين ليس معروفاً في نسبه وليس عنده وظيفة ويكون ضعيفاً فقيراً لكنه عند الله أمة: (رُبَّ أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)، وقد يتكلم الشخص بعدل في عقيدة مبتدع أو فكره أو منهجه، ولا نقول: لا تتكلم فيمن يستحق، لكن الشريعة وضعت لذلك موازين صحيحة ثابتة قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152]، العدل أمر الله عز وجل به، وكان أئمة السلف يضربون فيه أروع الأمثلة، وكان بعض أئمة الجرح والتعديل يتكلم في الرجال فمر أحد العلماء رحمهم الله عليه، وهو يتكلم في تراجم الرجال، فقال له: اتق الله فلربما تكلمت في أقوام قد حطوا رحالهم في الجنة، فأجهش هذا الإمام الحافظ الذي يتكلم في الرجال بالبكاء من هول هذه الكلمة! وما قال له: أنت عدوّ للسنة، بل كانت قلوبهم ترجف من الخوف؛ ولذلك يقولون: لا يقبل الجرح والتعديل إلا من العدل الذي يعرف بالعدالة والاستقامة، الأمين الذي عنده أمانة فلا يخون الأمة، ومع ذلك يكون خائفاً من الله عز وجل ويتمنى أنه لو كُفي هذا الأمر، ولولا أنه مضطر لما تكلم فيه، فلا يتكلم تشهياً ولا شهرة، ولا يتكلم عن غرض، ولا يتكلم عن حقد، ولا عن حسد، فهذه موازين عامة ينبغي مراعاتها في كل عصر وزمان ومكان؛ لأن واجبنا كطلاب علم وأهل علم أن نبين للناس هذا خاصة في هذا الزمان الذي تساهل فيه عامتهم وخاصتهم، وهذا إذا كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فمن باب أولى في غيره. فعلى كل حال: على الناس أن يتقوا الله عز وجل، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال له معاذ: (أو إنا مؤاخذون يا رسول الله! بما نقول؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم)؟! حتى العيب إذا رأيته من أخيك المسلم مندوبٌ لك أن تستره، فأول ما ترى العورة من أخيك المسلم فاعلم أنك ممتحن وأنك مبتلى من الله عز وجل، فالله عز وجل يبتليك بهذا الشيء، جيء بـ حاطب بن أبي بلتعة عندما ارتكب خيانة عظمى، حيث كتب إلى قريش بأن محمداً يريد غزوكم، حتى تستعد قريش قبل أن يأتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يسمى: الخيانة العظمى، حيث يفشو سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكتب لأعداء الله عز وجل من المشركين، أي ذنب بالنسبة للمسلم حينما يوالي أعداء الله إلى هذه الدرجة؟ فلما كتب ما كتب وبعث بالكتاب، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه، فلحق بالمرأة ووجد معها الكتاب، قال: ما هذا يا حاطب؟ فقال: يا رسول الله! إن لي ولداً وأهلاً فأحببت أن تكون لي يداً عليهم أحميهم بها، يعني: ما فعلت هذا حقداً على الإسلام والمسلمين، انظروا كيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عن عذره، مع أن الذنب واضح، والخطيئة واضحة، والجريمة عظيمة، والله ينزل فيها قرآناً من فوق سبع سماوات، مع أن القوم مشركون كافرون بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وسلم، فكاتب قريشاً، وهي ستتخذ الحيطة وستقتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر ليس سهلاً حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: دعه يا عمر! ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)! وأنت ما يدريك أن هذا العالم والإمام الذي تتكلم فيه كانت بينه وبين الله مواقف صدق، وقد يكون الله غفر له ذنوبه. ونزله منازل ما تخطر له على بال! على الإنسان أن يتقي الله وأن يتورع، وأن يحرص كل الحرص على أن يزم نفسه بزمام التقوى، وليعلم كل إنسان أن أي ناصح وعالم وخطيب ومذكر إذا ذكر الناس وقال لهم: اتقوا الله فيما تقولون في إخوانكم المسلمين، فإنه ما قال شيئاً من عنده، بل كلها من نصوص الكتاب والسنة، وكل أمر بالتقوى يتضمن أن يتقي المسلم أول ما يتقي ما بينه وبين الله ثم يتقي ما بينه وبين الناس؛ ولذلك قيل: (يا رسول الله! من المسلم؟ قال: من سلم المسلمون من يده ولسانه)، فهذه نصوص الكتاب والسنة تحذر من هذا البلاء العظيم، وحينما نذكر قضية القذف والخيانة الزوجية؛ نذكر بما هو أعظم منها وأولى بالتأكيد عليه، وجماع الخير كله تقوى الله عز وجل، وأن يعلم كل مسلم أن الله رضي له العبودية والإيمان والنصيحة والبر والإحسان، وكره إلى قلبه الكفر وعبادة الأوثان، وكره إلى قلبه الفواحش ما ظهر منها وما بطن، سواءً كان في اللسان أو الجنان أو الجوارح والأركان حتى يكون من أولياء الله السعداء، وليعلم كل إنسان أن هذه الدنيا بساعاتها ولحظاتها سيقضي منها ما كتب الله له أن يقضي، فإما أن يعيش عفيفاً عن أعراض المسلمين فيعيش حميداً، ويموت سعيداً، ويبعث يوم القيامة وهو لا يحمل تبعة مسلم، ولا يحاسب بين يدي الله عن مسلم تكلم فيه، وإما أن يطلق لنفسه العنان فتكون منه زلات الجوارح واللسان والأركان، وعندها سيقف بين يدي العظيم الديان، حين لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وتنشر له كلماته، ويرى أمام عينيه عباراته، ويقال له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14]، ويندم حين لا ينفع الندم، فيؤخذ من حسناته، فإذا فنيت منه الحسنات أُخِذ من سيئات صاحبه ثم طُرحَت عليه فيكون مصيره إلى النار، قال صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ المفلس من يأتي يوم القيامة وقد شتم هذا، وأكل مال هذا، فيؤخذ من حسناته على قدر مظلمته، حتى إذا فنيت حسناته أمر بسيئات صاحبه فطرحت عليه ثم أمر به فطرح في النار)، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل! وأختم هذه الوصية: بأن الأمر لا يختص بنا، وأرى أنه من الواجب أن نربي أبناءنا منذ الصغر على العفة، فينبغي أن نحافظ على أولادنا وذرياتنا، فإن الخير في المجتمع والمحافظة على الحقوق لا يمكن أن ينتشر إلا بإصلاح الذريات، والعناية بالنشأة الصالحة، وعلى كل والد في بيته أن يعود أولاده ألا يتكلموا في أعراض الناس، وأن يرسموا المنهج السديد في حفظ عورات المسلمين، وألا يرضى لابنه يوماً من الأيام أن يأتيه بكلمة فيها لمزة لجاره أو لأخيه أو لقريبه حتى الأولاد بعضهم مع بعض يعودهم ألا يتكلم بعضهم في بعض، ولا يعودهم الوشاية ونقل الحديث، حتى ينشأ الطفل على سلامة وبراءة وطُهر وعِفة، وكذلك يرسم له المنهج في النصيحة والتذكير، بأن يكون لهم خير قدوة،

الأسئلة

الأسئلة

اللعان يوجب الفراق المؤبد بين الزوجين

اللعان يوجب الفراق المؤبد بين الزوجين Q هل يفتقر اللعان إلى طلاق أم أنه طلاق بائن؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإذا لاعن الرجل امرأته وحلفت المرأة الأيمان فيفرق بين المتلاعنين فراقاً أبدياً لا يجتمعان بعده أبداً، قال سهل رضي الله عنه كما في الصحيحين: (مضت السنة عن رسول صلى الله عليه وسلم أن يفرق بين المتلاعنين فلا يجتمعان أبداً)، ولما لاعن عويمر، ولذلك عويمر امرأته، وحلفت المرأة قال: (يا رسول الله! كذبت عليها إن أمسكتها، هي طالق ثلاثاً)، فطلقها بالثلاث في كلمة واحدة في مجلس واحد، وهذا الذي جعل الشافعي رحمه الله يقول: إن طلاق الثلاث بلفظ واحد سنة؛ لأنه ثبت كما في الصحيح أنه طلقها ثلاثاً بلفظ واحد، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح أنه بدعة كما تقدم معنا في مسائل الطلاق؛ فالطلاق وقع من عويمر، لكن بدون إذن من النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقها، فوقع الطلاق منه رضي الله عنه حمية وتأكيداً على أنه صادق، ولا يريد أن تبقى معه هذه المرأة، لكن السنة أن يفرق بينهما، فليس هناك طلاق، بل يفرق بينهما فراقاً أبدياً، والله تعالى أعلم.

الطريقة المثلى لمن رأى في بيت جاره ما يريبه

الطريقة المثلى لمن رأى في بيت جاره ما يريبه Q أحياناً يرى الجار ما يريبه في بيت جاره، فهل له أن يخبر جاره أم الأفضل أن يسكت؟ A لابد أن يؤخذ في الاعتبار فقه الفتوى فليس كل سؤال يجاب عنه، فما هي هذه الأمور المريبة؟ وما هي الضوابط المحددة التي يمكن أن يعرف فيها أن التهمة قوية أو ضعيفة؟ فصعب جداً أن تضع ضابطاً من الشريعة، فالشريعة لم تضع ضابطاً معيناً للمتردد على البيت أو أحوال البيوت بحيث يحكم أن هناك تهماً قوية أو ضعيفة؛ لكن المنبغي على أهل العلم وأهل الفتوى أن يجيبوا في مثل هذا على كل سؤال بعينه، فالشخص الذي يرى شيئاً من ذلك عليه أن يتصل بعالم، فينبغي عليه أول شيء أن يرجع إلى العلماء، وإذا سئل العالم ودرس الموضوع فيستطيع أن يحكم على هذا الأمر، فقد تقع أمور مريبة منها ما يمكن التحقق فيه، ومنها ما لا يمكن التحقق فيه، فما يمكن التحقق فيه مثل أن تكون المرأة من الأقرباء بحيث يستطيع أن يتصل عليها ويسألها: من هذا الذي يدخل البيت؟ فقالت: هذا عامل يأتي ويفعل كذا وكذا، ويعلم سبب الدخول على المرأة، ويجد أن الأمر ليس فيه أي ريبة، ولا يمكنه قطع الشك باليقين، وفي بعض الأحيان يستطيع أن يتأكد هو بنفسه، مثل أن يرى الشيء ويسهل الاطلاع عليه دون أن يسألها ودون أن يتحرى من الغير، فهذه الأمور ينبغي على العالم حينما يأتيه السائل أن يسأله: ما الذي رآه؟ وما حدود التهمة فيما رآه؟ ثم النساء يختلفن؛ فمن النساء من يعرف لهن قدم سابقة في الخير والصلاح والبر والبراءة والغفلة والبعد عن الحرام، وبعض الأحيان لا يخشى من المرأة لكن يخشى من الرجل نفسه، فالفساد في الرجل أكثر من المرأة، وفي بعض الأحيان العكس، فتكون المرأة فاسدة والرجل دين صالح، يدعى لعمل أو أمر ما والزوجة متساهلة، فهناك أمور تحتاج إلى دراسة، فمن فقه الفتوى أن الأمور التي تحتاج إلى نظر لا يفتى فيها بالقواعد العامة؛ لأن الناس حتى طلاب العلم تختلف أفهامهم، فلو أعطيت فيها قواعد عامة لفسرها كل شخص على حدود فهمه، وهذا يسمى بفقه الفتوى، فعلى العلماء وطلاب العلم والخطباء أن يوجهوا الناس، ولا يضعوا في مثل هذه الأمور قواعد عامة، فالذي نعرفه عن أئمتنا ومشايخنا رحمةُ الله عليهم أنها تُبحث كل مسألة على حدة، فإذا نظر فيها العالم أو الشيخ واستطاع أن يستبين وأن يتأكد من الأمر، فإن كان الأفضل الستر أمر به، وإذا رأى أن مثله لا يسكت عليه بل ينبغي عليه أن يطلع الزوج أمره فليخبر زوجها، وبعض الأحيان يكون الأسلم أن يخبر قرابتها ولا يخبر الزوج، حيث يكون في قرابتها من هو أعقل ومن هو أتقى لله عز وجل وأكثر محافظة من الزوج، وبعض الأحيان يكون ولدها أكثر صيانةً لها وأكثر محافظة فيطلعه على الأمر، فكل هذه مسائل ينبغي أن ينظر فيها على حدة، ويعطى فيها الجواب بحسب أحوالها، والله تعالى أعلم.

حكم قضاء الصلاة لمن تركها متعمدا

حكم قضاء الصلاة لمن تركها متعمداً Q من ترك الصلاة متعمداً هل عليه القضاء؟ A هذه المسألة فيها خلاف مشهور، جمهور العلماء على أن ترك الصلاة متعمداً لا يوجب الكفر، وإذا كان لا يوجب الكفر فيجب عليه القضاء، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية رحمة الله عليهم، وذهب الحنابلة رحمةُ الله عليهم إلى أنه كافر، فعلى القول بكفره لا يقضي، وهذا الخلاف مشهور بين العلماء رحمهم الله، والصحيح الجمع بين النصوص فإذا ترك تركاً كلياً لا يقضي، وإذا صلى أحياناً وترك أحياناً فحديث عبادة يقوي أنه ليس بكافر، خاصةً وأن قوله: (فمن تركها)، يحمل على الترك الكلي، وحينئذٍ يجمع بين النصوص، والله تعالى أعلم.

كيفية زكاة من نسي إخراج زكاة ماله

كيفية زكاة من نسي إخراج زكاة ماله Q من نسي أن يخرج زكاة ماله في وقت الحول ومضى على ذلك فترة، فكيف يخرج زكاة ماله؟ A يجب عليه أن يخرج عن السنوات التي لم يخرج الزكاة فيها، واختلف العلماء في كيفية ذلك على قولين: منهم من يقول: يحسب السنة الأولى ويخرج منها الزكاة ثم يحسب زكاة السنة الثانية ويسقط قدر الزكاة التي أخرجها، ثم يحسب زكاة السنة الثالثة ويسقط قدر الزكاة من السنة الأولى والثانية، وهكذا، بمعنى: أنه يعفى عن المال الواجب في الزكاة فلا يزكه، ومن أهل العلم من قال: إنه يجب عليه أن يحسب المال تاماً كاملاً، ولا يسقط منه قدر الزكاة في السنوات السابقة، وهذا هو الصحيح فيما يظهر، والله تعالى أعلم.

المراد بفتنة المحيا والممات

المراد بفتنة المحيا والممات Q ما معنى فتنة المحيا والممات؟ A الفتنة تطلق بمعانٍ عديدة، تطلق الفتنة بمعنى: العذاب، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10]، يعني: عذبوهم واضطهدوهم؛ لأن الآية في سياق أصحاب الأخدود الذين عذبوا أهل الأخدود من المؤمنين، وتطلق الفتنة بمعنى: الشرك، لقوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191]، يعني: الكفر والشرك بالله عز وجل، وتطلق الفتنة بمعنى: الصد عن سبيل الله عز وجل، وفتنة الناس عن دينهم وصدهم عن دينهم وإغوائهم بالضلالات أو الشهوات. وفتنة المحيا هي: الأمور التي يبتلى بها الإنسان في دينه حال حياته، فما من مسلمٍ ولا مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر إلا وابتلاه الله على قدر إيمانه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)، فدل على أنه لابد وأن يفتن المؤمن، ولذلك قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، أي: لا يختبرون ولا يمتحنون ولا يبتلون من الله عز وجل، قال تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:141]، وقال: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42]، وفتن الحياة التي تتعلق بالدين تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: فتنة الشهوات، والقسم الثاني: فتنة الشبهات. ففتنة الشهوات هي: الفتن التي يُبتلى بها العبد في شهوته، فبعض العلماء يجعل الشهوة قاصرة على شهوة الفرج والبطن، وبعضهم يجعل الشهوة عامة حتى جعل من الشهوة: شهوة الحديث والكلام، ففتنة الشهوة دركات وبعضها أشد من بعض، فهناك مقاصد، وهناك وسائل، فعلى سبيل المثال: الزنا فتنة شهوة لكن هناك ما هو دون الزنا مما يفضي إلى الزنا، كالنظرة المحرمة، واللمس المحرم، والخلوة بالأجنبية، ومحادثة النساء، وإغرائهن، فقد تصير هذه الوسائل -في بعض الأحيان- بتكرارها وتعاطيها أعظم من الزنا نفسه، فمثلاً شخص -والعياذ بالله- اعتاد أن يحادث النساء ويغريهن ويفسدهن، فلربما أغرى المرأة الواحدة فتصبح عاهرة حياتها كلها بسبب كلامه وإغرائه، فيحمل بين يدي الله وزرها ووزر إغرائها بالحرام، مع أنه ربما لو زنى -والعياذ بالله- لا يصل في الإثم إلى هذا الذي وصله بسبب تكرار هذه الوسائل، فالفتن إذا كانت في الشهوات فهي دركات تختلف بحسب اختلاف آثارها، وما تفضي إليه من غضب الله عز وجل وسخطه، وفتنة الشهوات تشمل فتنة محبة العلو على الناس والمناصب، فتجد الشخص -مثلاً- في وظيفته مبتلىً بحب الظهور والبروز، فيظلم من تحت يديه، ويظلم عماله، ويظلم المستخدمين، وبعض الأحيان تكون عنده فتنة شهوة المدح والثناء والإطراء، فيحب أن يجله الناس ويمجدوه وإن كذبوا في وصفه وتمجيده، فهذه كلها من فتنة الشهوات، وهذه من فتنة الحياة التي قد تفضي بالإنسان -والعياذ بالله- إلى سخط الله وغضبه، والذنب قد يكون بريداً إلى الكفر، وقد يكون صغيراً ويكون بريداً إلى الكفر، فلا يستهين الإنسان بالمعاصي، فإن الجبال تكون من دقائق الحصى، نسأل الله السلامة والعافية! ولذلك قال عبد الله بن عباس: (لا تنظر إلى المعصية، ولكن انظر إلى من عصيت). أما فتنة الشبهة فتكون في مسائل الدين نسأل الله السلامة والعافية! وأعظمها ما يكون في الاعتقاد من الشكوك في الله عز وجل، فيفتن الإنسان في توحيده وإخلاص العبادة لله عز وجل، ومن ذلك الرياء في الطاعات فتجد الإنسان -والعياذ بالله- يصلي ولا حظ له في صلاته ولا أجر ولا مثوبة؛ لأنه صلى للناس، ويطلب العلم وهو يريد أمراً من الدنيا فيذهب أجره، وهذا من فتنته في دينه، فالفتنة أنواع ودركات مهلكات، نسأل الله السلامة والعافية! ولذلك كان من سنته عليه الصلاة والسلام الاستعاذة بالله عز وجل من فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المحيا -كما يقولون-: طول العمر حتى يرى الإنسان ما لا يسره ويسمع ما يسوءه، قال الشاعر: يا رب يومٍ بكيت فيه فلما صرت في غيره بكيت عليه فكم من إنسان رأى شهوات ورأى معاصي ورأى منكرات فمدّ له في عمره إلى زمان بكى على الذي قبله، وقد قال صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم-: (ما من زمانٍ إلا والذي بعده شرٌ منه حتى تقوم الساعة)، فمن فتنة المحيا أن يزاد في عمر الإنسان ولا يزال يتهاوى في المعاصي والمحرمات، فيزيده طول العمر معصيةً لله، وبعداً عن الله عز وجل، وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (شركم من طال عمره وساء عمله). وأما فتنة الممات فإن الإنسان يُفتن عند موته حتى أن الشيطان ربما استزله عند موته فختم له بخاتمة سيئة، ولذلك خاف العلماء والصالحون والأتقياء من سوء الخواتم، نسأل الله حسن الخاتمة! نسأل الله الثبات عند الممات! استعيذوا بالله من الفتن خاصةً في سكرات الموت عندما يوقن الفاجر، ويؤمن الكافر، ويزلزل العبد فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، ويرزقهم الله عز وجل القوة واليقين، وليس هناك فيصل في هذه الدنيا أصدق من فصل الخاتمة، فهي التي تفصل بين الناس، فالسعيد يرى خاتمة السعداء: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [التوبة:21 - 22]، فولي الله المؤمن أسعد لحظة له وأعز ساعة عنده؛ إذا دنت سكرته وحانت قيامته وأوذن بالرحيل من هذه الدنيا، فليس هناك ساعة أسعد عنده من تلك الساعة، حتى أنه لو خُيّر بين الرجوع إلى أهله وبين الإقبال على ربه لاختار ما عند الله عز وجل على أهله وولده؛ من عظيم ما يجد عند الله سبحانه وتعالى من البشائر الطيبة؛ لأن الله يثبت بها المؤمنين؛ ولذلك تجد القصص العجيبة للأخيار عند الموت، فتجد الشخص منهم يتهلل وجهه ويشرق جبينه ويصبح كأنه صفحة من قمر أو كالشمس! ولقد رأينا ذلك في الرجال والنساء، وتجد منهم الأمر العجيب جداً من الثبات والسلوى والبشائر الطيبة حتى أنك ربما جلست جواره وهو ميت وأنت لا تحس أنك بجوار ميت! ليس فيه وحشة الأموات، والسبب حسن الخاتمة التي من الله عز وجل عليه بها. وقد يزلزل الإنسان عند الموت -والعياذ بالله- ولذلك تجد عبدة المال يزلزلون عند الموت، وتجد الشخص منهم قدمه في الآخرة وروحه في الدنيا حاملاً هم المال وهم التجارة وكيف يخرج من هذه الدنيا! وكيف يخرج من شهواتها! لأنه عمّر الدنيا وخرّب الآخرة، فلا يحب أن ينتقل من عمارٍ إلى خراب، فتجده مزلزلاً مشتتاً فإذا حانت قيامته ودنت سكرته فإذا به لا يعرف ما الذي يقول وما الذي يفعل! وإذا بكلامه يتغير، وإذا بصفحات وجهه تبدي ما في مكنون قلبه نسأل الله السلامة والعافية! وأشد الناس فتنة عند الموت الذين في قلوبهم مرض وهم أهل الزيغ في العقائد، وهؤلاء الذين يستهزئون بالدين، ويستهزئون بالصالحين ويغضبون الله سبحانه وتعالى بالكلام في حرماته العظيمة، ولذلك فإن الذي يسب الدين ويسب الله عز وجل لا يؤمن عليه من سوء الخاتمة، ومن يتهكم ويسخر من القرآن أو يسخر من النبي صلى الله عليه وسلم فينتظر لهم الخاتمة السيئة وحينها سيعلم هؤلاء جزاؤهم؛ لأن الله يقول: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]، وسيعلمون عاقبة الكلام في الصالحين، وقد ذكرنا قصة الكاتب المشهور أبي رية الذي كان ينتقص أبا هريرة رضي الله عنه، ويتكلم فيه، قال بعض العلماء: لما سافرت نزلت إلى بلده، فشاء الله أني عزمت على زيارته في عصر ذلك اليوم لأجل أن أناقشه، فدخلت عليه وهو، في سكرات الموت، قال: وكان الرجل أبيض الوجه فإذا به قد اسود وجهه! وإذا هو في أشد الأحوال، وروحه ضيقة، ويلتقط أنفاسه بصعوبة شديدة، وهو يصيح ويقول: آه أبو هريرة، آه أبو هريرة، آه أبو هريرة، حتى فاضت روحه! فالكلام في الصالحين والعلماء والأخيار والاستهزاء بأهل الطاعة، وكذلك سب الدين والسخرية من الدين؛ عواقبه وخيمة ذكر والدي رحمه الله أنه جاء مسافرون وأقبلوا على المدينة، وكانوا بحذاء وادي العقيق، فقال رجل: وصلنا المدينة، فقال رجل من الصالحين للمتكلم: قل: إن شاء الله، فقال ذلك الشقي: وإن لم يشأ! جرأة على الله عز وجل، قال: فما جاوزوا العقيق حتى انعطفت بهم السيارة فكان أول من دقت رقبته هذا الكافر، الذي رد على ربه المشيئة وقال: وإن لم يشأ سنصلها، فمثل ذلك عواقبه وخيمة، ولذلك لا يبتلى الإنسان بفتنة في الموت أشد من سوء المعتقد والمرض في القلب، قال بعض العلماء رحمهم الله: لا تعرف سوء الخاتمة لمن صلحت عقيدته، فمن كان صالح المعتقد يعيش في هذه الحياة قوي الإيمان بالله مخلصاً لله عز وجل. ودائماً على الإنسان أن يعود نفسه أن يكون مع الله عز وجل، فيخلص له العمل كله، فيتكلم لله ويعمل لله ويعطي لله ويفعل كل شيء لله، فإذا صارت أموره كلها لله عز وجل ثبت الله قلبه عند الموت. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل أسعد اللحظات وأعزها عند المصير إليه، وأن يرحمنا برحمته، وأن يعمنا بواسع مغفرته، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب اللعان [2]

شرح زاد المستقنع - كتاب اللعان [2] باب اللعان هو أحد الأبواب التي أولاها الفقهاء اهتمامهم، يتبين ذلك من خلال ذكرهم لمسائل وأحكام اللعان، وهو يختص بالزوجين، وله شروط لابد من توافرها حتى يصح، كما أن له كيفية مخصوصة ذكرتها الشريعة لابد من التقيد بها.

اختصاص حكم اللعان بالزوجين

اختصاص حكم اللعان بالزوجين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [يشترط في صحته أن يكون بين زوجين]. شرع المصنف رحمه الله في بيان الشروط التي ينبغي توافرها للحكم بصحة اللعان، وأصل اللعان أن الزوج يتهم الزوجة بالزنا -والعياذ بالله- أو ينفي الولد أو الحمل عنه، ففي كلتا الحالتين يكون هناك لعان، سواءً اتهمها بالزنا أو نفى الحمل أو نفى الولد، على تفصيل سنبينه إن شاء الله تعالى. والأصل الشرعي يقتضي أنه إذا قذف امرأته بالزنا. فإنه يخيّر بين أمرين: إما أن يقيم البينة على أنه صادق، وأن زوجته زانية، وحينئذ لا إشكال، فلا يقام عليه حد ولا لعان. وإما أن يتعذر عليه إقامة البينة، فالأصل الشرعي حينئذٍ يقتضي أن يُقام عليه حد القذف؛ لأنه لما قذف هلال بن أمية رضي الله عنه امرأته بـ شريك بن سحماء رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ هلال: (البينة أو حد في ظهرك)، فخيّره بين الأمرين: البينة التي تثبت أنه صادق في اتهام زوجته بالزنا، أو الحد الذي أوجبه الله على كل مفترٍ وقاذف، فجاء اللعان ليخرج الزوج من هذا الحد إذا تعذر عليه إيجاد البينة. فيختص اللعان بالزوج لأمور وأسباب خاصة، والأصل أن كل من قذف نطالبه بالبينة على صحة قذفه أو يقام عليه الحد، لكن مسألة اللعان تختص بالزوج والزوجة، ولذلك لو قذف الوالد ولده، أو قذف الأخ أخاه، أو قذف الصديق صديقه، فهذه الأمور لها أحكام خارجة عن اللعان. واللعان -كما ذكر العلماء- مستثنى من الأصول، والمستثنى من الأصول هو: الذي خرج بنص عن أصل عام، فالأصل العام هنا وجوب الحد إلا أن يُثبت الزوج بالبينة صحة القذف بالزنا، فلما استثني اللعان وجاء على هذه الصورة الخاصة فينبغي علينا أن ننظر إلى الشروط الشرعية التي يثبت بها اللعان فنقول: إنه لا يثبت اللعان إلا إذا توافرت فيه الشروط تامة كاملة، وهذه الشروط هي التي يعبر عنها بالعلامات والأمارات التي ينبغي توافرها واجتماعها للحكم باللعان الشرعي، وهي الشروط التي يذكرها العلماء. فاللعان لا يمكن أن يكون لعاناً شرعياً إلا بين الزوجين، فلو أن صديقاً قذف صديقه أو أخاً قذف أخاه، فجاء شخص وقال: يثبت اللعان بين الأخ وأخيه إذا حصل القذف قياساً على الزوج مع زوجته، فنقول: هذا قياس باطل؛ لأن القاعدة الأصولية تقول: ما خرج عن القياس فغيره لا يقاس عليه، وقول القياس، إذا قال العلماء القياس يريدون به الأصل العام، وهذا ينبغي أن ينتبه له طالب العلم فالقياس هو: الشيء الأقيس الذي جرى على النصوص المحفوظة في الباب، فالأصل هنا أن من قذف فعليه أن يقيم البينة أو يقام عليه حد القذف، فخرج اللعان عن الأصل العام وهو القياس، فغيره لا يقاس عليه مع أن صلة الأخ مع أخيه صلة قرابة ولحمة، وربما تكون أعظم من صلة الزوج مع زوجه، لكن الشريعة نظرت إلى أن الزوج يُقدم على إفساد فراشه، واتهامه لزوجه بالزنا إضاعة لمهره، وإضاعة لولده وليس هناك عاقل يتهم زوجته بالزنا كذباً، وينفي ولده منها، فالشريعة أعطت هذه الحالة المستثناة أحكاماً خاصة، ولابد من توافر الشروط الشرعية، وهي: الشرط الأول: أن يكون اللعان بين الزوجين، فليس هناك لعان شرعي بين سيد وأمة وبين أخ وأخيه، ونحو ذلك، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ} [النور:6] فخص هذا الحكم بين الزوج وزوجته، وهذا هو الشرط الأول. وقوله: (ويشترط في صحته) أي: من أجل الحكم بصحته وتنفيذه، والضمير في قوله: (صحته) عائد إلى اللعان، فلا ينفذ لعان إلا إذا كان بين زوجين، سواءً كان قد عقد على المرأة ودخل بها أو لم يدخل بها، سواءً كانت في عصمته أو طلقها طلاقاً رجعياً؛ لأن المطلقة رجعياً في حكم الزوجة، وهذا اختيار طائفة من العلماء أن المطلقة رجعياً يحق لمطلقها أن يلاعنها؛ لأنه سيتضرر بنسبة الولد إليه، وسيتضرر بنسبة ما يكون من حملها إليه.

اللعان باللسان العربي

اللعان باللسان العربي قال المصنف رحمه الله: [ومن عرف العربية لم يصح لعانه بغيرها]. الشرط الثاني: أن يجري اللعان باللسان العربي، وذلك أن اللعان ثبت بنص شرعي أشبه التعبد، ولذلك اشترط: عدداً معيناً، ولفظاً معيناً، وترتيباً معيناً، فلابد أن يقع على هذه الصفة الشرعية الواردة، وهذا أصل عند العلماء، ومن باب الفائدة: دائماً في الفقه ما استثني من الأصل، وجاء على صورة خاصة فينبغي عليك أن تتقيد بهذه الصورة الخاصة، فلا تزد عليها ولا تنقص؛ لأنه استثناء شرعي على صفة مخصوصة، لذلك لابد أن يكون بالصفة الواردة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه بالنص أنه لاعن بهذا اللسان، فالأصل أن يقع اللعان بلغة العرب لمن استطاع أن ينطق بها وعرف معناها.

اللعان بغير العربية لمن جهلها

اللعان بغير العربية لمن جهلها قال المصنف رحمه الله: [وإن جهلها فبلُغته]. إن جهل الزوج الملاعن أو جهلت الزوجة الملاعنة اللغة العربية؛ فبلغة الزوج وبلغة الزوجة، لكن هنا تفصيل: إذا كان كلا الزوجين لا يعرفان العربية أو أحدهما لا يعرفُ العربية فللقاضي حالتان: الحالة الأولى: أن يكون عالماً بلسانهما، بحيث يستطيع أن يفهم كلامهما دون وجود مترجم، فحينئذ لا إشكال، ويجري اللعان باللسان غير العربي، ويجري عليه القاضي الأحكام كما لو سمعه بالعربي. الحالة الثانية: إذا كان القاضي لا يعرف هذا اللسان المغاير للسان العرب، فحينئذ يحتاج إلى المترجم، وهل المترجم مخبر أو شاهد؟ إن قلنا: إنه ناقل للخبر فلا يشترط فيه التعدد، ويكون المترجم الواحد كافياً، وإن قُلنا: إنه شاهد فحينئذ لابد من مترجمَينِ، وهذه المسألة ستأتينا إن شاء الله في باب أدب القاضي.

اللعان يسقط حد القذف عن الزوج

اللعان يسقط حد القذف عن الزوج قال المصنف رحمه الله: [فإذا قذف امرأته بالزنا فله إسقاط الحد باللعان]. الشرط الثالث: أن يقذف الرجل زوجته بالزنا، فلا يجري اللعان إذا لم يقذفها بالزنا، والقاعدة عندهم: أن كل ما يثبت به القذف يثبت به اللعان، وما لا يثبت به القذف لا يثبت به اللعان؛ لأن اللعان في الأصل شُرع لدفع الحد عن الزوج، وهذا يقتضي أن يكون هناك موجب للحد وهو القذف، والدليل على صحة اشتراط وجود القذف قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6]، فاشترط سبحانه وتعالى وجود الرمي بالزنا؛ لأن الرمي في لغة العرب يطلق بمعنى التهمة. رماني بأمر كنت منه ووالدي برياً ومن أجل الطوي رماني فالرمي هو: القذف والتهمة بالسوء، فالرمي في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6] يشمل جريمة الزنا، ورميه لها بالزنا إما أن يكون صريحاً أو تعريضاً، فالصريح لا إشكال فيه عند العلماء، وسيأتينا إن شاء الله صريح لفظ الزنا كأن يقول لها: يا زانية، أو يقول: أنت زنيتِ بفلان، سواءً ذكر من زنت معه أو وصفها بالزنا، والرمي المحتمل للزنا كأن يقول: يا خبيثة، أو الرمي بالوصف المتضمن للزنا كأن يقول: يا فاسدة، فهذا يحتمل أنه قصد بالخبث جريمة الزنا، ولذلك فسر قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور:26] أي: الزانيات للزناة، وقيل: الخبث يطلق بمعنى الفساد الذي يشمل الزنا وغيره، ولذلك قال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157]، فإذا قذفها صريحاً فلا إشكال، وإذا قذفها تعريضاً فهذا فيه تفصيل، وسيأتي عند ذكر الألفاظ التي يثبت بها القذف تعريضاً أنه يسأل، القاذف عن نيته وقصده، فإذا فسر اللفظ المحتمل بالزنا فهو قذف، كأ، يقول: إنه قصد بقوله: يا خبيثة، إنها زانية، فحينئذ لا إشكال، فهو كما لو قال لها مباشرة: أنت زانية، والعياذ بالله! فيشترط -كما ذكر المصنف- أن يكون هناك لفظ دال على التهمة بالزنا، واختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، منهم من يقول: يثبت القذف بالزنا وحده ولا يشمل ما يلحق بالزنا، فلو رماها بغير الزنا مما يأخذ حكم الزنا فلا يثبت اللعان، مثل أن يرميها بالوطء في الدبر، وبعض العلماء يرى أنه يلحق بحكم الزنا، الوطء بالدبر، فيأخذ حكم الزنا في مذهب طائفة من العلماء، وبناءً على ذلك قالوا: إذا رماها بتهمة في القبل أو الدبر مما يوجب الحد فإنه يحكم باللعان، وقال بعض العلماء: يختص الحكم بالزنا فقط، لكن ظاهر الآية: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} [النور:6] أن الرمي يقع بالقبل ويقع بالدبر، وستأتينا هذه المسألة إن شاء الله في باب الزنا بتفصيل، وتبين الحكم الشرعي في الوطء بالدبر. ومفهوم قوله: بالزنا، أنه لو رماها بما لا يوجب الحد كأن يرميها بالسحاق -وهو إتيان المرأة للمرأة-؛ فلا يوجب اللعان. وقوله رحمه الله: (فإذا قذف امرأته بالزنا) خرج بذلك قذف الأجنبية، فلو كانت امرأة أجنبية عنه وقال لها: يا زانية، فنقول له: إما البينة وإما حد في ظهرك، فإذا قذف زوجته -سواء زوجته التي دخل بها أو التي لم يدخل بها، والتي طلقها أو التي لم يطلقها- فله إسقاط الحد باللعان، ولا يكون هذا إلا بالشكوى والمطالبة بذلك، أو يكون القذف في مجلس القاضي، وسيأتينا إن شاء الله أن اللعان لا يكون إلا في مجلس القاضي، والدليل على ذلك أن القذف حق خاص، ومن الحدود ما هو حق خاص، ومنها ما هو حق عام، ومنها ما الحق فيه مشترك لله وللمخلوق، فالحق الخاص لا يمكن للقاضي أن يقضي فيه حتى يطالب صاحبه، فمثلاً لو أن شخصاً أخذ مال شخص فعلى القاضي أن يجعل القضاء الشرعي حيادياً، وألا ينحاز إلى إحدى الطائفتين إذا اختصموا، فليس له أن يتدخل ويقول: يا فلان! رد المال إلى فلان، حتى يشتكي صاحب الحق ويقول: إن فلاناً ظلمني في كذا، فلابد أن يثبت أنه ظلمه، وينتظر منه أيضاً المطالبة من صاحب الحق، فهذه الحالة الأولى. الحالة الثانية: أن يقذف في مجلس القضاء، مثلاً امرأة آذاها زوجها وقذفها بالزنا في بيتها بينه وبينها، أو قذفها بالزنا أمام أمها أو أمام أبيها فرفعته إلى القاضي، فإذا رفعته إلى القاضي وأقر أنه قذفها بالزنا جرى اللعان؛ إذاً: لابد أن يكون في مجلس القضاء أو بمطالبة الزوجة التي هي صاحبة الحق، فإذا قذفها بالزنا ورفعته إلى القاضي، فحينئذٍ يقال له: إما أن تثبته بالبينة، وإما أن يجري اللعان بينك وبينها. وقوله: (فإذا قذف امرأته بالزنا فله إسقاط الحد باللعان) (فله) أي: للزوج، (إسقاط الحد) أي: حد القذف الذي هو ثمانون جلدة، (باللعان) لأن حكم القاذف ثمانون جلدة وترد شهادته، وانظر إلى عظمة الله سبحانه وتعالى في حكمه وتشريعه، فالذي يتسلط على أعراض المسلمين ويقذفهم ويتهمهم بالباطل جعل جزاءه قطع لسانه، كما قال تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4]، فمنع من قبول شهادته، ووصفه بالفسق، وهو: الخروج عن طاعة الله عز وجل، وهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم أن يكون على حذر من الوقوع في أعراض المسلمين، وأن يزين لسانه بتقوى الله عز وجل، وأن يحذر كل الحذر من أن يُطلق لهذا اللسان عنانه في الوقيعة في مسلم أو مسلمة. فلذلك إذا قذف الرجل امرأته بالزنا فعليه البينة أو حد في ظهره. وقوله: (فله) أي: للزوج أن يدفع هذا الحد عنه باللعان؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل للأزواج فرجاً ومخرجاً، ثم انظر إلى حكمة التشريع حيث يبدأ باللعان الزوج أولاً ثم بعد ذلك الزوجة، فجعل الرهبة والتخويف أولاً للمتهم للغير، الواقع في عرض الغير زجراً وتخويفاً له، ولذلك يوقف عند الرابعة ويُذكر بالله عز وجل.

سبب تقديم الزوج قبل الزوجة في اللعان

سبب تقديم الزوج قبل الزوجة في اللعان قال المصنف رحمه الله: [فيقول قبلها أربع مرات: أشهد بالله لقد زنت زوجتي هذه، ويشير إليها]. يبدأ الزوج باللعان قبل امرأته، فلو أن المرأة بدأت قبل زوجها لم يصح؛ لأن الله سبحانه وتعالى بدأ بالزوج وثنى بالزوجة؛ لأن الزوج يثبت والزوجة تنفي، والزوج يبني والزوجة تنقض، والنقض يكون بعد البناء، والهدم بعد الوجود، فأولاً يثبت الزوج ويشهد، وكأن كل يمين منه بمثابة شاهد، ولذلك إذا امتنعت الزوجة عن أيمان اللعان أقيم عليها حد الزنا. إذاً: لابد أن يبدأ الزوج قبل الزوجة؛ لأن هذا اللعان ثبت بصفة شرعية، اقتضت تقديم الزوج على الزوجة، فيبدأ الزوج باللعان ويقول: أشهد بالله لقد زنت زوجتي، وهي لا تخلو من حالتين: إما أن تكون جالسة في مجلس القضاء، فيقول: زوجتي هذه ويشير إليها. وإما أن تكون غائبة عن مجلس القضاء لعذر فيقول: زوجتي فلانة بنت فلان، فيصفها وصفاً يميزها عن غيرها، ويوجب ثبوت التهمة عليها.

التقيد بلفظ أشهد عند اللعان

التقيد بلفظ أشهد عند اللعان ويقول: (أشهد بالله لقد زنت زوجتي هذه)، فلابد أن يأتي بلفظ: أشهد؛ لقوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور:6]، فلا يُغير في هذا اللفظ، ولا يزيد ولا ينقص، فلا يغير لفظ أشهد إلى أحلف؛ لأن الحلف يمين يمكن أن يكفر عنها، ولكن قوله: أشهد بالله، أمر عظيم جداً؛ لأنه يشهد الله جل جلاله، وكفى بالله شهيداً، ولذلك نسبة العلم إلى الله في شيء ليس بالأمر الهين، حتى أن بعض العلماء يقول: من قال: يعلم الله أنه حدث كذا وكذا، كاذباً فقد كفر؛ لأنه نسب إلى الله العلم بشيء لم يقع، حيث ينسب إلى الله صفات ليست موجودة، وهذا الذي جعل بعض العلماء يشددون ويمنعون من هذه الكلمة، فإشهاد الله ونسبة العلم إلى الله في أمر ليس من السهولة بمكان. فذكر المصنف أنه لابد أن يتقيد بهذا اللفظ فلا يبدله ولا يغيره؛ لأنه أشبه بالتعبد، مثل ألفاظ التشهد، فيقول: أشهد بالله لقد زنت، فيثبت التهمة بالصريح من القول، ولا يقول: لقد أخطأت زوجتي، أو لقد زلّت زوجتي، بل لابد أن يقول: لقد زنت، ويُصرح ويقول: زوجتي؛ لأنه لو قال: قد زنت فلانة، فيحتمل أنه يقصد امرأة ثانية يشبه اسمها اسم زوجته، ويقول: زوجتي هذه؛ لأنه قد تكون عنده أكثر من زوجة، ويريد الإضرار بزوجة على حساب زوجة أخرى فاسدة، فيشهد بزنا زوجته قاصداً التي في ذهنه، فيقول: زوجتي هذه.

تتابع الشهادات عند اللعان

تتابع الشهادات عند اللعان ويشترط تتابع الشهادات، فإذا أتم الزوج الشهادة الأولى يُتبعها بالشهادة الثانية في مجلس واحد، فلو أنه شهد اليوم في الساعة الواحدة شهادة واحدة، ثم فارق مجلس القضاء ولو خمس دقائق، ثم رجع؛ أعاد الشهادة الأولى، وشهد أربعاً متتالية في مجلس القضاء، وليس خارج مجلس القضاء، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم -يثبت هذا الأصل-: (لقد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآن فاذهب فائت بهاا)، فجعل اللعان في مجلس القضاء، ووقعت الشهادات في مجلسه عليه الصلاة والسلام، وهذا المجلس يسمونه مجلس القضاء، والنبي صلى الله عليه وسلم له أحوال متعددة، وهذا يسميه علماء الأصول رحمهم الله شخصيات النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله، والمراد أنه تارة يكون في حكم القاضي، وتارة يكون في حكم المفتي، وتارة يكون في حكم الإخبار والبلاغ بالرسالة، وتارة يكون في حكم الشارع، وفي حكم البشرية العامة، فهي أحوال مختلفة. فلما جاء هلال بن أمية وكذلك عويمر وقذفا أمام النبي صلى الله عليه وسلم فهو كان بصفة القضاء لا بصفة الاستفتاء؛ لأنه لو كان بصفة الاستفتاء لكان حكماً آخر، لكن جاءا متظلمين يريدان الحكم الشرعي في قضيتهما، فلو حصلت الشهادات هذه في غير مجلس القضاء لم يبن عليها الأحكام الشرعية، فلابد أن تكون الشهادات في مجلس القاضي، وأن تكون أربع شهادات من الرجل متتابعة لا فاصل بينها مؤثر.

تذكير القاضي للملاعن بالله قبل الشهادة الخامسة

تذكير القاضي للملاعن بالله قبل الشهادة الخامسة وقبل الشهادة الخامسة يوقفه القاضي، ويذكره بالله عز وجل ويخوفه، فيقول له: إنها موجبة، اتق الله عز وجل؛ لأنه يشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وانظر سبب اختيار الشرع للعنة؛ لأنه الذي جرى منه القول بتهمة المرأة بالزنا فناسب أن يعاقب باللعن من الله عز وجل. والمراد باللعنة في مثل هذا -سواءً كان بالقذف في مجلس القضاء أو خارج مجلس القضاء -لعنة الدنيا والآخرة، فالذي يرمي المحصنة الغافلة المؤمنة، أو الرجل المؤمن المسلم الغافل يلعنه الله في الدنيا والآخرة، وإذا اجتمعت لعنة الدنيا والآخرة فهي عظيمة البلاء على الإنسان؛ لأن لعنة الدنيا قد تغفر، لكن أن يجمع له بين لعنة الدنيا والآخرة فالأمر عظيم، فقبل اللعنة يوقفه القاضي ويخوفه بالله، لكن المرأة لما فعلت لاعنت كأنها هدمت أيمان الزوج، وكأنها فعلت فعلاً مغايراً لفعل الزوج، وذلك بالقول، فجُعل لها الغضب، نسأل الله السلامة والعافية! فاللعنة على الرجل، والغضب على المرأة، فيوقفه القاضي قبلها ويقول له: اتق الله، عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فضيحة الدنيا أهون من فضيحة الآخرة، يعني: لو تعترف أنك كاذب وأن الزوجة لم تزن، ويقام عليك حد القذف ثمانون جلدة أهون من أن تقف بين يدي الله عز وجل فيفضحك، ويلعنك في الدنيا والآخرة، فعذاب الدنيا -وهو عذاب القضاء الشرعي في الدنيا- أهون وأخف من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، واختار بعض العلماء أنه يمسك على فيه خشية أن يتسرع، وكل هذا من باب النصيحة له والشفقة عليه حتى لا يتهور. فإذا شهد الشهادة الأولى فمن الناس من ينزجر عند ابتداء اللعان إذا كان كاذباً، ومنهم من يرجف قلبه عند الثانية، ومنهم من يرجف عند الثالثة، ومنهم من يرجف قلبه عند الرابعة، فجاءت الشريعة فالإيقاف قبل الخامسة؛ لأنه ربما تردد أثناء الأربع، فإذا جاءت الخامسة فإنه يُعطى المهلة ويذكر وينصح، فلا يجرؤ على الخامسة التي هي الموجبة وهو كاذب إلا من طُبع على قلبه وزاغ قلبه، وانطمست بصيرته، واستخف بعظيم ما عند الله سبحانه وتعالى، فلا تسأل عن حاله إذا شهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وإذا شهد الخامسة وأتمها ففي هذه الحالة كأن كل يمين قامت مقام شاهد، وتوجهت التهمة على المرأة، فلابد أن تأتي بمثل ما أتى به دفعاً للضرر عن نفسها، فربما كانت صادقة وكان ظالماً لها، فتشهد بالله أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فتقول: أشهد بالله لقد كذب عليّ فيما رماني به من الزنا، فنقول: أشهد بالله، فلو قالت: أحلف أو يميني بالله، فلا يقبل منها -كما تقدم-، فلا تغير ولا تبدل ولا تنقص ولا تزيد. فإذا شهدت أربع شهادات بالله عز وجل توقف عند الخامسة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوقف المرأة عند الخامسة، وقال: (اتقي الله! عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة)، فرجفت وتلكأت وكادت أن تعترف، حتى قال أنس وابن عباس رضي الله عنهما: (فتلكأت حتى ظننا أنها سترجع ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، وحلفت الخامسة فكانت الموجبة. فيوقف الرجل وتوقف المرأة ويقال لهما: عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، إنها الموجبة، ترهيباً وزجراً، فهذه ثلاث كلمات: عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، إنها الموجبة، والموجبة من وجب الشيء إذا ثبت، فقوله: الموجبة، يعني: إذا حلفت باللعنة وكنت كاذباً فإنها ستصيبك لا محالة، ولو كنت أتقى العباد، وإذا حلفت أن غضب الله عليها وهي كاذبة، فلن يرد غضب الله عليها شيء، وسيصيبها غضب الله، ومن أصابه غضب الله فقد هوى {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81]، فإذا أقدمت على الخامسة فإنها تدفع عن نفسها الحد، وهذا ثبت بقوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور:8] يعني: ويدفع عَنْهَا الْعَذَابَ الذي هو حد الرجم إذا كانت قد وطئت ودخل بها، وإن كان عقد عليها وهي بكر لم يدخل بها، فحدها جلد مائة وتغريب عام. وقوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور:8] يدل على أن الزوج إذا حلف الأيمان ثبت الحد، وأنها مُنزلة منزلة البينة، وهذا اختيار طائفة من الأئمة من جماهير السلف والخلف رحمهم الله، فأيمان المرأة تنقض أيمان الرجل. قال رحمه الله: [ومع غيبتها يسميها وينسبها]: (ومع غيبتها يسميها وينسبها) على وجه تتميز به عن غيرها.

أمور تبطل اللعان

أمور تبطل اللعان قال المصنف رحمه الله: [وفي الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم تقول هي أربع مرات: أشهد بالله لقد كذب فيما رماني به من الزنا، ثم تقول في الخامسة: وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين؛ فإن بدأت باللعان قبله أو نقص أحدهما شيئاً من الألفاظ الخمسة، أو لم يحضرهما حاكم أو نائبه، أو أبدل لفظة (أشهد) بأقسم أو أحلف، أو لفظة (اللعنة) بالإبعاد، أو (الغضب) بالسخط؛ لم يصح].

بدء الزوجة بالملاعنة قبل الزوج

بدء الزوجة بالملاعنة قبل الزوج قال رحمه الله تعالى: [فإن بدأت باللعان قبله]. أي: لو بدأت الزوجة قبل الزوج بالملاعنة، وشهدت أربع شهادات بالله أنه كاذب فيما رماها به من الزنا وشهدت الخامسة، لم يصح ذلك لما ذكرناه، ونص القرآن في هذا واضح، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذا واضح، وهذا هو الأصل عند العلماء رحمهم الله، قال الله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور:8]، فجعل أيمانها بعد أيمانه، وبناءً على ذلك لا يصح أن تكون أيمانها سابقة لأيمانه.

إنقاص أحد المتلاعنين لشيء من ألفاظ اللعان الخمسة

إنقاص أحد المتلاعنين لشيء من ألفاظ اللعان الخمسة قال المصنف رحمه الله: [أو أنقص أحدهما شيئاً من الألفاظ الخمسة] (أو أنقص أحدهما) سواءً الزوج أو الزوجة شيئاً من الألفاظ الخمسة فلا يصح اللعان، وكذلك الإبدال، فإذا قالت: بالله إنه لمن الكاذبين، ولم تقل: أشهد، فأنقصت الشهادة، أو قالت بدل أشهد: يميني أو أحلف، أو قال هو: أحلف بالله أو يميني بالله، فكل ذلك لا يقبل ولا يعتد به.

غياب الحاكم أو نائبه عن مجلس اللعان

غياب الحاكم أو نائبه عن مجلس اللعان قال المصنف رحمه الله: [أو لم يحضرهما حاكم أو نائبه] (أو لم يحضرهما) يعني: في اللعان (حاكم) وهو: القاضي أو الوالي العام، فالنبي صلى الله عليه وسلم كانت له الولاية العامة وكان له القضاء، وكانت له الفتوى، وقد بينا أنه لابد في اللعان أن يجري في مجلس القضاء. وقوله: (أو نائبه) أي: نائب القاضي وهو: الشخص الذي ينيبه القاضي مقامه، أو نائب الحاكم وهو القاضي نفسه، فالقاضي ينوب مناب الحاكم، والحاكم يطلق بمعنى القاضي، ويطلق بمعنى ولي الأمر، فيشترط لصحة اللعان وجود ولي أمر أو نائبه أو القاضي أو نائبه.

إبدال ألفاظ اللعان بغيرها

إبدال ألفاظ اللعان بغيرها قال المصنف رحمه الله: [أو أبدل لفظة (أشهد) بأقسم أو أحلف] (أو أبدل لفظة أشهد بأقسم أو أحلف) لأن القسم يُكفر، على القول بأن اليمين الغموس الفاجرة يُكفر عنها، واللعان فيه أيمان، وهذا لا إشكال فيه، ولذلك ترجم أئمة الحديث رحمهم الله في كتبهم باب: اللعان أيمان، وبعضهم يقول: باب: شهادات اللعان أيمان، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في حديث ابن عباس في الصحيح- (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن)؛ لأن المرأة تبين كذبها، وقد قال عليه الصلاة والسلام لما حلفت الأيمان: (حسابكما على الله، الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب؟)، فلم يتب أحد منهما، فقال: (حسابكما على الله)، ونقل خصومة الخصمين من حكومة الدنيا إلى حكومة الآخرة، فكأنه قال: هذا الشيء لا أملك منه شيئاً، فما على النبي صلى الله عليه وسلم إلا إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة والنصيحة، فحينئذ ينتقل الأمر من حكومة الدنيا إلى حكومة الآخرة، فرغبهما عليه الصلاة والسلام في التوبة، ولذلك يقول العلماء: يسن أن يرغبهما القاضي في التوبة.

إثبات الحدود يكون بالبينات لا القرائن

إثبات الحدود يكون بالبينات لا القرائن لما قال النبي عليه الصلاة والسلام هذه المقالة، وامتنع أحدهما أن يتوب؛ قال عليه الصلاة والسلام: (انظروا إليه -يعني الولد الذي ستأتي به- فإن جاءت به أكحل العينين، خدلج الساقين، أسبغ الإليتين؛ فهو للذي رميت به) -يعني: أنها زانية- فجاءت به على الصفة التي ذكرها عليه الصلاة والسلام -والعياذ بالله- فقال عليه الصلاة والسلام: (لو كنت راجماً أحداً من غير بينة لرجمتها به)، وفي الرواية الأخرى قال عليه الصلاة والسلام -لأن القصة وقعت لامرأة هلال وامرأة عويمر: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن)، وفي هذا فوائد: فقوله عليه الصلاة والسلام: (لو كنت راجماً أحداً من غير بينة لرجمتها به) يدل على دقة وسمو منهج القضاء الإسلامي الذي جعل الأحكام الدقيقة راجعة إلى أصول ثابتة لا تتغير، فالذي يدعي شيئاً لابد له من البينة، والقاضي ينبغي أن يكون حيادياً، فدل الحديث على أن القاضي لا يقضي بعلمه؛ لأنه تبين بالدليل الواضح أنها زانية، والوحي نزل على النبي عليه الصلاة والسلام بأنها إن جاءت به على صفة كذا وكذا فهو للذي اتهمت به، فثبت بالقرينة القوية أنها زانية، خاصة وأنها تلكأت، فيوجد قرائن قوية تدل على أنها زانية، فقال عليه الصلاة والسلام: (لو كنت راجماً أحداً من غير بينة) فدل على أن القرينة لا تعد بينة، وأن القرائن لا يُحكم بها في الأصول التي ثبتت فيها البينات الشرعية، وهذا يدل على أن فتح باب القرائن ووسائل الإثبات بالقرائن خلاف السنة، وسيأتينا إن شاء الله في باب القضاء تفصيل هذه المسألة، ولذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال: (لو كنت راجماً أحداً من غير بينة) قفل هذا الباب، فلابد من البينات والحجج التي تبين صدق المدعي في دعواه. وفي هذا دليل على أن القاضي لا يقضي بعلمه، إلا في مسألة أجمع العلماء على أن القاضي يقضي فيها بعلمه، وهي: تزكية الشهود أو عدم تزكيتهم. وفي الشهود يحكم القاضي بما يعلم منهم باتفاق العلما فلو جيء بشاهد يشهد عندك وأنت قاضٍ، وتعلم أن هذا الشاهد فاسق، تقول: أنا لا أرضاه شاهداً، وهذا إذا علمت منه فسقاً، مثلاً ثبت عليه أنه زنى أو قذف وأقيم عليه الحد، فهنا يثبت فسقه فتقول: لا أرضاه شاهداً، أو تعلم منه جرحاً يوجب رد شهادته، فيحكم القاضي برد شهادته بعلمه وليس ببينة، وهذا بالإجماع، ولأن الله يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، فجعل الرضا راجعاً للقاضي، فله أن يرضى وله أن يرد، لكن لو أن القاضي يعلم أن فلاناً أعطى فلاناً ألف ريال، وتخاصما إلى القاضي، وقال الدائن: إن لي عند فلان ألف ريال، فقيل له: أحضر الشهود، فلا يقول القاضي: لا، دعواك صحيحة، وأعلم أنك صادق فيما تقول؛ لأن القاضي حيادي، وموقفه موقف الحياد، فلا يتحيز لأحد الخصمين، ولو جاءته بينة يعلم أنها كاذبة، مثل بينة مزكاة بشهود لكنهم أخطئوا أو كذبوا، فيقبل منهم الشهادة على الظاهر، ولا يرد شهادتهم، لكن المخرج أنه يثبت الحكم، بهذه البينة، ثم يقول لصاحب الحق: أنا أشهد لك، فارفع مسألتك عند قاضٍ آخر حتى أشهد لك بذلك. وعلمه بصدق غير العدل لا يوجب أن يقبل ما تحملا وعدل إن أدى على ما عنده خلافه منع أن يرده وحقه إنهاء ما في علمه لمن سواه قاضياً بحكمه فعلى القاضي أن يقضي في القضاء بكل حياد، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة اللعان قضى بكل حياد، ولم يتحيز لا إلى الزوج ولا إلى الزوجة، وأظهر الحقيقة ورد أمرهما إلى الله عز وجل.

حكم القاضي بعد اكتمال اللعان

حكم القاضي بعد اكتمال اللعان إذاً: السنة أنه يجري اللعان على هذه الصفة التي ذكرها المصنف رحمه الله، ويكون مهمة القاضي أن يسمع من الخصمين، وبعد الشهادة الرابعة تكون مهمته أن يوقف الزوج والزوجة قبل الخامسة لتذكيرهما، ثم بعد اكتمال اللعان يحكم بما يلي: أولاً: يرغبهما في التوبة، ويقول: الله يعلم أن أحدكما كاذب؛ لأنه إما أن يكون الزوج صادقاً أو تكون الزوجة صادقة، ولذلك يقول: الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل من تائب؟ والتوبة هي: الرجوع، ورجوع الملاعن أن يقول: كذبت عليها فيما ادعيت من زناها، وتقول المرأة: هو صادق فيما قال أو فيما رماني به، ثم يقام الحد على من رجع سواءً كان الرجل أو المرأة. فإذا انتهى اللعان، ورغبهما في التوبة ولم يتوبا، حكم بالفرقة بين الزوج وزوجته، فيفرق بينهما فراقاً أبدياً، فلا يجتمعان، وهذا من موانع النكاح المؤبدة، وقد تقدمت معنا، فمن الموانع المؤبدة: الفرقة باللعان، فهذه المرأة محرمة على الرجل إلى الأبد، ولذلك قال الزهري: مضت السنة في المتلاعنين أن يُفرق بينهما فلا يجتمعان أبداً، ولما قال عويمر رضي الله عنه بعد اللعان: (مهري، قال عليه الصلاة والسلام: إن كنت صادقاً فلها ما استحللت من فرجها -يعني: ما استمتع بها قبل الزنا-، وإن كنت كاذباً فهو أبعد لك منها)، وهذا من باب أولى، فكيف يتهمها بالزنا ثم يريد المهر؟! فيفسد فراشه، ويعتدي على أهله، ثم يريد بعد ذلك أن يأخذ المهر! فلا يستحق المهر ويفرق بينهما فراقاً أبدياً. قال المصنف رحمه الله: [أو لفظة اللعنة بالإبعاد]. أي: لو أنه أبدل لفظة (اللعنة) بالإبعاد، فقال: أبعده الله إن كان كاذباً، لم يُقبل منه، حتى لو كانت اللفظة قريبة من المعنى الذي يفيده اللعن أو الغضب، فلا بد من اللفظين: اللعن والغضب. قال المصنف رحمه الله: [أو الغضب بالسخط؛ لم يصح]: أي: لم يصح ذلك، ويجب أن تتقيد المرأة بلفظ الغضب.

الأسئلة

الأسئلة

عدم ثبوت الإقرار في جريمة الزنا باللفظ المحتمل

عدم ثبوت الإقرار في جريمة الزنا باللفظ المحتمل Q قول المرأة: لا أفضح قومي سائر اليوم، أليس هذا يعتبر إقراراً بزناها؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالإقرار شهادة من الإنسان على نفسه، والشهادة لا تثبت بشيء يحتمل، فقولها: لا أفضح قومي سائر اليوم، من حقها أن تقول هذا ولو كانت صادقة؛ فقد تقول المرأة الصادقة: لا أفضح قومي سائر اليوم، تعني: أنني صادقة، وسأحلف الخامسة، فهي كلمة لا تدل على الزنا مباشرة ولا ضمناً؛ لكن تلكؤ المرأة وخوفها وارتباكها، هذه العلامات والأمارات تعتبر قرينة، خاصة وأنها تلكأت وترددت حتى قال أنس رضي الله عنه: (حتى ظننا أنها سترجع)، وقال ابن عباس رضي الله عنه: (تلكأت حتى كادت أن ترجع)، وهذا يدل على إدانة الحال؛ لكن لو قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فقد تكون صادقة، بمعنى: إنني صادقة وإنني امرأة بريئة وعفيفة ولا أرضى أن ينسب إلي الزنا فيجرح ويؤذى قومي، وليس هذا من الإقرار في شيء، وليس بدليل على الإقرار، وإنما هو أمر قالته ويحتمل أن يكون متضمناً للزنا بمعنى أنها لا تريد أن تفضحهم فامتنعت من الإقرار خشية الفضيحة والعصبية، ويحتمل أنها تريد الجزم، ولذلك لو قالها غيرها لكان الحال متردداً، فلا يقتضي ثبوت التهمة، والله تعالى أعلم.

تكرار الإقرار بالزنا ينزل منزلة الشهود

تكرار الإقرار بالزنا ينزل منزلة الشهود Q هل مقصود النبي صلى الله عليه وسلم في إعراضه عن ماعز وهو يعترف بجريرته أن يكرر الذنب الذي أصابه أربع مرات فينزل منزلة الشهود الأربعة؟ A تكرار الإقرار بالزنا لمن اعترف به مسألة خلافية بين العلماء رحمهم الله، والأشبه والأحوط لظاهر النص أنه يكرر إقراره -وسيأتينا إن شاء الله بسط هذه المسألة وبيان خلاف العلماء فيها فمن حيث الأصل فإن التكرار موجود، والنص واضح في هذا، والنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ويحك! ارجع واستغفر الله ثم تب إليه) أربع مرات، فهذا أصل يدل على أن كل إقرار ينزل منزلة شاهد. لكن الذين لا يشترطون التكرار استدلوا بأدلة، منها: حديث المرأة التي اعترفت، وهي قصة العسيف، وفيها قوله صلى الله عليه وسلم: (واغد -يا أُنيس - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها)، قالوا: فلم يذكر تكراراً للإقرار، لكن أُجيب بأن المجمل لا يعارض المفصل، ولذلك قالوا: ما وكل النبي صلى الله عليه وسلم أُنيساً إلا وعند أُنيس علم، ومن هنا أعطاه الوكالة العامة، كأنه يقول يفعل معها في الإقرار ما هو مشترط شرعاً. أما إقرار ماعز رضي الله عنه فإنه جاء المرة الأولى -كما في الصحيح من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فقال: (يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد ثم أتى فقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد، فقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فلما كانت الرابعة وأتمها، سأله النبي صلى الله عليه وسلم: أبك جنون؟) -فقوله: (أبك جنون؟) تدل على أنه لا يُقبل إقرار المجنون- فأُخبر عليه الصلاة والسلام أنه ليس بمجنون، ثم قال له: (أشربت خمراً؟ -وهذا في صحيح مسلم- فقام رجلٌ فاستنكهه) يعني: شم رائحة فمه، وانظروا إلى دقة القضاء في الشريعة الإسلامية، من الذي يتبجح بالحقوق، فأين الذين يتبجحون بحقوق الإنسان المتهم، وحقوق الإنسان، هذا السمو هذا العلو في التشريع يدل على أنه لا أحسن من الله حكماً لكن لقوم يوقنون، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أشربت خمراً فقام رجل فاستنكهه) يعني شم رائحة فمه، لذلك بعض العلماء أخذ مما سبق أن الرائحة قرينة على شرب الخمر، وسيأتينا ذلك إن شاء الله في باب شرب المسكر، فلم يجد رائحة، ثم فصل معه في الزنا، وسأله عن الزنا، حتى أثبت أنه زنى بها زناً تاماً، وهذه كلها شروط للإقرار بالزنا. أما حديث: (واغد -يا أُنيس - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها)، ففيه نوع إجمال، فأجمل للعلم بتفصيله، فما علم من هديه وسنته عليه الصلاة والسلام مجملاً فهو مفصل بهديه عليه الصلاة والسلام. لكن الذين يقولون: لا يشترط التكرار، عندهم دليل آخر، فيقولون: إنه أقر، ثم رجع، ثم أقر، وأنتم تقولون: لابد أن يكون في مجلس واحد، والشهود لابد أن يكونوا أربعة في مجلس واحد، وهذا استدلال قوي، لكن رد بقول الراوي: (فرجع غير بعيد)، بمعنى: أنه ما زال في المسجد، وتتفرع عليه المسألة التالية: المسجد في حكم المجلس الواحد في القضاء، ولا يعتبر مفارقاً لمجلس القضاء ما دام أنه داخل المسجد. فالشاهد أن المسألة خلافية بين العلماء رحمهم الله ولكلا القولين ما يدل عليه، وإن كان تكرار الإقرار فيه دقة أكثر، وفيه رعاية لظاهر السنة والعمل بها. واستدلوا أيضاً بأن المرأة التي اعترفت بالزنا قالت: (يا رسول الله! أتريد أن تردني كما رددت ماعزاً؟!) فهذا يدل على أنه لا يُشترط التكرار، لكن أُجيب بأن التكرار على صورتين، منها: هذه الصورة، أي: أنني مستعدة أن أرجع وأكرر إقراري لك ولو رددتني مائة مرة، فقالت: (أتريد أن تردني كما رددت ماعزاً؟!) فبينت أنها مستعدة أن تكرر الشهادات، وهذه بمنزلة تكرار الإقرار، فالاستنباطات الشرعية من النصوص فضل من الله عز وجل لأهل العلم، والخلاف بين العلماء ما هو إلا رحمة من الله عز وجل إذا ثبتت به النصوص وجاءت به النصوص الشرعية؛ لأنه يجعل الشريعة شريعة مرنة واسعة بالاجتهادات والأقوال والردود والمناقشات التي تتفجر بها ينابيع الحكمة التي لا يمكن أن تصل إليها بقول واحد، ولذلك تجد هذه الشريعة صلحت في كل زمان ومكان، واستطاعت في أوج عظمة الإسلام أن تحكم من المحيط إلى المحيط، وهذا يدل على مرونة الشريعة الإسلامية؛ فمجيء الشريعة بالنصوص التي تحتمل أكثر من وجه معناه: أنها تقر الخلاف السائغ، لا الخلاف المذموم وهو الذي يقوم على رد النصوص الصحيحة الصريحة، والعبث بالأدلة والأهواء والآراء الفاسدة، أما الاستنباطات الشرعية من النصوص الشرعية والخلاف الشرعي الذي وقع بين الأئمة فهو رحمة؛ لأنه مبني على نصوص شرعية، وما كان من الشريعة فهو رحمة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وعلى كل حال هذه المسألة كما ذكرنا فيها خلاف بين العلماء، وسيأتي إن شاء الله تفصيلها في مسائل الإقرار، والله تعالى أعلم.

حكم الإشارة في الصلاة

حكم الإشارة في الصلاة Q هل الإشارة في الصلاة تبطلها مثل الكلام؟ A الإشارة تنزل منزلة العبارة، لكن في الصلاة فيها تفصيل: لا تبطل الإشارة في الصلاة على كل حال ما لم تكثر وتتفاحش، والدليل على أن الإشارة في الصلاة لا تبطلها عدة أدلة، وينبغي أن تقيد بالحاجة، فثبت في الحديث الصحيح من حديث عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه وعن أبيه وأمه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشية الظهر أو العصر ثم قام بعد الثانية ولم يجلس -أي: للتشهد- فسبحوا له فأشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن قوموا. وثبت عن المغيرة أنه وقع له ذلك في صلاة المغرب، وأنه أشار إليهم أن قوموا، وقال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صنع مثل ما صنعت). كذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أشار بيده حينما دخل وراء أبي بكر رضي الله عنه في الصلاة، فسبح الناس لـ أبي بكر رضي الله عنه فالتفت، فأشار إليه أن مكانك، قال بعض العلماء: هذا وقع قبل تكبيرة الإحرام، لكن بعض أهل العلم يقول: هذا وقع بعد تكبيرة الإحرام. وفي النافلة فثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أشار فيها لرد السلام، فكان إذا دخل عليه الداخل وسلم أشار بكفه عليه الصلاة والسلام، ويشير بكفه إلى الأرض ما يرفع كفه هكذا؛ لأنه قال: (ما لي أراكم رافعي أيديكم كأذناب خيل شمس! اسكنوا في الصلاة)، فهذا منهي عنه، وأما الذي يشير بكفه إلى الأرض فقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام ذلك. وفيما اختلف فيه هل هو فرض أو نافلة كصلاة الكسوف ثبت في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها لما كسفت الشمس، وأن أسماء رضي الله عنها جاءت ونظرت فقالت: ما شأن القوم؟ فأشارت إليها عائشة رضي الله عنها إلى السماء -أي: انظري إلى السماء وهذه إشارة- ففهمت أسماء، فنظرت إلى السماء فإذا بالشمس كاسفة. فهذا كله يدل على أن الإشارة لا تؤثر، خاصة إذا كان المصلي محتاجاً إليها، فتشير إلى الرجل أن يقترب منك، وتشير إلى الرجل أن يتقدم، أو أن يتأخر عن الصف، فهذا كله لا بأس به إن شاء الله في الصلاة، لكن ينبغي ألا يتفاحش، والله تعالى أعلم.

حكم صبغ الشعر بالسواد

حكم صبغ الشعر بالسواد Q ما حكم صبغ الشعر؟ وإذا كان الشعر غير أسود، فهل يجوز صبغه باللون الأسود؟ A صبغ الشعر إذا كان لسبب أذن به الشرع كتغيير الشيب فهو مشروع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وأتاه والد أبي بكر رضي الله عنهما، فقال عليه الصلاة والسلام: (أثقلتم على الشيخ، هلا تركتموه حتى نأتيه! فإذا برأسه ولحيته كالثغامة بياضاً، فقال عليه الصلاة والسلام: غيروا هذا الشيب، وجنبوه السواد). ففي هذا الحديث فوائد منها: إكرام النبي صلى الله عليه وسلم لكبير السن، وهي سنته وهديه، وحفظه لحق الصاحب والخليل والمحب؛ لأن أبا بكر كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحبه النبي صلى الله عليه وسلم محبة دون الخلة، وأحبه محبة عظيمة، فلم يكن في الخلق أحب إليه منه عليه الصلاة والسلام، وهو صدق في محبته وخلته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكرم عليه الصلاة والسلام والده وقال: (أثقلتم على الشيخ)، وهذا يدل على أن الأخيار والصالحين إذا رأى أحد منهم والد صديقه يكرمه ويجله ويحترمه ويقدره ويوقره، وهل الإسلام إلا الأدب ومكارم الأخلاق ومحامدها؟ فهذا نبي الأمة صلى الله عليه وسلم يدخل إلى مكة -في اليوم الذي أعز الله فيه جنده، ونصر عبده -متواضعاً لله عز وجل، ويقول: (أثقلتم على الشيخ)! يعني: لماذا جئتم به إلينا؟ نحن الذين نأتيه، وقال ذلك كما قال بعض أصحاب السير: تطييباً لخاطر أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وحفظاً لحق كل من يعين على هذه الدعوة، فكل من يكون معك في هذه الدعوة معيناً تحفظ له الحق في نفسه وأهله وإخوانه وقرابته، وقال: (هلا تركتموه حتى نأتيه)؛ لأنه كبير السن، فما كان النبي صلى الله عليه وسلم إلا كريماً، وكان كرمه على الوفاء والتمام. ولذلك نحن اليوم في غربة، فلا احترام للكبير، ولا توقير للشيبة والمسن، تجد كبير السن يدخل المسجد ويخرج وقد لا يجد من يسلم عليه! وإذا وجد من يسلم عليه قد لا يجد من يوقره! فيسلم عليه كما يسلم على عامة الناس! والأدهى والأمر إذا استخف به، والإنسان لا يسمو إلى الكمالات إلا إذا عاش كما يعيش الغير، لو أن الواحد منا فكر في كبير السن وهو في آخر عمره، فإنه قلّ أن يجد أخاً من إخوانه، وقلّ أن ترى عينه صديقاً من أصدقائه، فكلهم قد أسلموا أرواحهم وصاروا إلى الله جل وعلا، وقد لا يخرج من بيته إلا إلى مسجده أو إلى تشييع حبيب أو عيادة صديق؛ لأنه قد فارقه إخوانه. اثنان لو بكت الدماء عليهما عيناك حتى يأذنا بذهاب لم يبلغ المعشار من حقيهما فقدُ الشباب وفرقة الأحباب أصعب الأشياء وأمرها فراق الأحبة وفراق الأصدقاء والخلان، فقلّ أن يجد من يأنسه، وقل أن يجد من يُدخل السرور عليه، حتى إنه لربما عاد إلى بيته فوجد كل شيء غريباً عليه، حتى زوجته ربما تتغير عليه، ولربما تغير أولاده ضده، ويصبح كأنه بعيد يعيش في عالم غير عالمه، فما هو إلا في الذكريات، كأن لسان حاله يقول: ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب يقول بعض العلماء: الناس يفهمون هذا البيت: (فأخبره بما فعل المشيب) أي: من الونى والضعف، ولكن أعظم ما فعل المشيب فراق الأحبة والأصحاب، ففقدهم له وقع في القلوب لا يعلمه إلا الله عز وجل. ولقد رأينا هذا حتى في العلماء والأجلاء، وأذكر أن الوالد رحمة الله عليه مع صبره وجلده ما رأيته تأثر وساءت حاله وصحته إلا بعد فراقه لأحبابه الذين يعرفهم بالصدق والمحبة. ففراق الأحبة صعب فمن الذي بحنانه وعطفه وإحسانه يسد هذا الفراغ؟ ولذلك رفع الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المكرمة والمأثرة الحميدة فقال: (إن من إكرام الله إجلال ذي الشيبة المسلم)؛ لأنه لا يفعل ذلك إلا من يؤمن بالله واليوم الآخر، وقال: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا)، فكل ذي شيبة مسلم موقر، فهذا هديه عليه الصلاة والسلام وسنته، فكان يكرم الكبير، ويعطف على الصغير، فيسلم عليه ويرحمه. قال عليه الصلاة والسلام: (أثقلتم على الشيخ) ثم قال: (غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد)، ففيه دليل على مشروعية صبغ الشيب، وأن السنة أن يغير بغير السواد، مثل: الحناء والكتم، والكتم ضرب من الصبغ بين الأسود والأحمر، وهو معروف وموجود إلى الآن، فهذا السنة في تغيير الشيب. أما لو كان شعر المرأة أو شعر الرجل أشقر فأراد أن يجعله أسود فلا يجوز؛ وما الدليل؟ من ناحية فقهية عندنا شيء يسمى الأصل، وعندنا مستثنى من الأصل، فالأصل عندنا أنه لا يجوز تغيير الخلقة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الواشرة والمستوشرة -ثم قال-: المتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)، فإذا خلق الله الشعر أحمر أو أشقر فليس من حق المخلوق أن يغيره؛ لأن الله خلقه على هذه الصفة، ولماذا ورد اللعن على تغيير الخلقة؟ قالوا: لأنها -أي المرأة- إذا قالت: لا أريده أحمر، كأنها لم ترض بقسمة الله لها، كما لو لم ترض بطول السن مثلاً، فكأنها لم ترض قسمة الله لها، ومن هنا تعرف سبب فورود اللعن، ورد اللعن ليس فقط لتغيير الشيء، وإنما ورد لمسألة عقدية وهي: عدم الرضا بخلقة الله عز وجل، والعبث بهذه الخلقة، ثم قال: (المغيرات لخلق الله)، فإذا كان الشعر على لون فلا يجوز تغييره إلى لون آخر إلا إذا كان شيباً فيغيره بغير السواد، خلافاً لمن قال: بجواز صبغه بالسواد، إلا أنه يستثنى من ذلك وقت الجهاد في سبيل الله، فقد رخص بعض أهل العلم رحمهم الله أن يصبغ الشيب بالسواد إرهاباً للعدو وتخويفاً له، وكثير من المحرمات استثنيت في الجهاد، ولذلك لما أخذ أبو دجانة السيف وتبختر في مشيته قال عليه الصلاة والسلام: (إنها لمشية يبغضها الله -هذا الفعل يبغضه الله- إلا في هذا الموضع)؛ لأن فيها كسراً لأعداء الله عز وجل، وإظهاراً لعزة الإسلام، فوافقت مقصود الشرع، بخلاف إذا تكبر وتجبر وعلا وطغى في غير هذا الموطن، فإنه يخالف مقصود الشرع، ويقع فيما حرمه الله سبحانه وتعالى. وبناءً على ذلك فإذا كان الشعر يغير لشيب فلا إشكال، شريطة أن يكون التغيير بغير السواد، وأما إذا كان التغيير لغير الشيب فإنه محرم ولا يجوز فعله، والله تعالى أعلم.

حكم نتف الشعر الذي بين الحاجبين

حكم نتف الشعر الذي بين الحاجبين الشيخ: هل يجوز للمرأة أن تنتف ما بين الحاجبين؟ A لا يجوز نتف الشعر الذي بين الحاجبين، والنص في هذا واضح، حيث أن النمص هو نتف شعر الوجه، وما بين الحاجبين هو من شعر الوجه فلا يجوز نتفه، ولا يجوز العبث به، ويترك على الخلقة التي خلقها الله عز وجل. وجمهور العلماء على أن هذا لا ينمص ولا يُزال، سواءً كان النمص بالنتف أو بالحرق أو بالحلق أو بالقص أو بوضع مواد من الأصباغ تخفيه فكل ذلك لا يجوز، وهو تغيير لما خلقه الله، وعلى المخلوق أن يرضى بخلق الله عز وجل لما فيه من حكمة عظيمة، وتذكير الناس بهذا الاختلاف الذي يدل على وحدانية الله عز وجل؛ لأن اختلاف الخلقة دليل على وجود الخالق الذي يصور كيف يشاء، ويخلق كيف يشاء، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]، والله تعالى أعلم.

الربط الدائم للعبادات بالحكم والأسرار

الربط الدائم للعبادات بالحكم والأسرار Q قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يُنسأ له في أثره ... ) الحديث، ما العلاقة بين زيارة الأقارب والمد في العمر والبركة في الرزق؟ A الحديث صحيح وهو: (من أحب منكم أن يُنسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه، ويزاد له في عمره، فليصل رحمه)، ولا إشكال في ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بيان منه عليه الصلاة والسلام للثواب والجزاء الذي أعده الله لمن وصل الرحم، واشتمل على إنساء الأثر، وأصل نسأ في لغة العرب: التأخير، كقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37]؛ لأنهم كانوا يؤخرون الأشهر الحرم عن مواقيتها ومواعيدها، وسمي ربا النسيئة نسيئاً؛ لأنه تأخير لأحد الربويين مما يجب فيه التقابض في مجلس العقد، فالنسأ أصله التأخير، فالمعنى: يزاد له في العمر. والأصل أن العمر لا يزيد ولا ينقص، لكن هناك أوجه عند أهل العلم رحمهم الله في كيفية زيادة عمره، فمنهم من قال: إن الله تعالى يبارك في عمر الواصل لرحمه حتى أن السنة تعادل عشرات السنين، ولذلك من الناس من يعيش اليوم كسنة، ومن الناس من يعيش السنة كسنوات؛ لما وضع الله له من البركة والخير، بركة في نفسه، وبركة في أهله، وبركة على الناس، إما أن يكون داعية إلى الله عز وجل يحمل هموم الأمة فينفعهم وينصحهم ويوجههم، فلربما عمل الساعة منه تعادل سنوات؛ لما وضع الله له من البركة والأجر والمثوبة، وربما خطيب في مسجد ينصح الناس ويوجههم ويرشدهم إلى الخير، فيبارك الله في خطبته سنوات من عمره؛ لما يضع لها من القبول والانتشار بين الناس، وينتفع بما فيها من الخير، وكذلك ربما يكون الرجل عنده مال يسخره على هلكته بالحق، فيكسي به العاري، ويطعم به الجائع، ويغيث به الملهوف، وينصر به المظلوم، ويعين به على نوائب الحق؛ فيجعل الله اليوم من أيامه كالسنوات من غيره، لما فيه من الخير والبركة، فيدعو له الناس، ويعظم ترحم الناس عليه، وتكثر صلواتهم ودعواتهم له بالخير والبركة، فيبارك له في عمره وكأنه عاش سنيناً عديدة، وهذا كله راجع للبركة التي يضعها الله عز وجل. ولذلك تجد أنك في بعض الأيام توفق لكثير من الأعمال التي تعملها في خاصتك لنفسك وأهلك وولدك بما لم يخطر لك على بال؛ لما يوضع من البركة، وهذا كله مقرون بطاعة الله عز وجل، فهذا وجه عند بعض العلماء، فمثلاً: عمره ستون سنة لا يزيد ولا ينقص، ولكنه إذا كان واصلاً للرحم جعل الله عز وجل أيام عمره بعد صلته للرحم طويلة مديدة بسبب البركة، فاليوم -بما يكون فيه من الخير والبركة عليه وعلى غيره- كأيام. ولذلك تجد بعضهم إذا عاش بين الناس نعم الناس بعيشه بينهم لما فيه من الخير، فتجده -مثلاً- شجاعاً ينصر المظلوم، فيجعل الله عز وجل أيامه أيام خير وبركة، وما كان بين قوم إلا نفعهم الله به، ومنهم من يكون كريماً جواداً حتى أنه يموت وهو حي في الناس بسبب ما يذكرونه له من مآثر ومواقف حميدة، فكم يموت أقوام وهم في الناس أحياء بمآثرهم، فلم تمت مكارمهم ومآثرهم، وهذا زيادة في العمر؛ لأن أحدهم كأنه حي موجود يذكر في المجالس، وكأنه حي بسبب ما كان منه من الخير والبركة. وهناك قول ثانٍ أنه يزاد في العمر حقيقة، فصحيفة الملك فيها: أن عمره ستون -مثلاً- إن لم يصل رحمه، فإن وصل الرحم فعمره ثمانون، والملك لا يدري، ولذلك يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، فالذي في اللوح المحفوظ لا يغير ولا يبدل، فقد قدر وكتب وجرى القلم بما هو كائن وما يكون إلى يوم القيامة، ولكن صحيفة الملك هي التي يكون فيها التغيير والتبديل بنص القرآن: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، وأم الكتاب هو الذي فيه حقيقة العمر وأصله، وهل هو واصل أو غير واصل؟ وهذا من أعدل الأوجه، وهو أنسب الأقوال. ولا مانع من القول الأول بأنه توضع له البركة، فحينئذ يكون وضع البركة بالنسبة لأصل اللوح المحفوظ أن يكون في عمره، وتكون النقص والزيادة على صحيفة الملك، لكن القول الأول واضح في الدلالة؛ لأنه يتفق مع ظاهر النص في قوله: (ويزاد له في عمره) فهي زيادة البركة فيما يكون له من الخير والنعمة. أما السؤال: ما هي العلاقة بين أن يُزاد في العمر وينسأ في الأثر وبين صلة الرحم؟ أخي الكريم: لا يستطيع العقل القاصر أن يربط بين هذا الثواب الذي يضعه الله عز وجل وبين العمل، وهذا تقدير العزيز العليم، ولا يستطيع الإنسان أن يدركه، ولو أنه ظهر له بعض الحكم فلن يستطيع أن يدرك الحقيقة التي من أجلها جاء الثواب على هذا الشكل وعلى هذا الوجه. ولذلك يوصى طالب العلم ويوصى كل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُسلِّم، فالنص إذا جاء بشيء لا تبحث عن العلل، ولا تتعود أن تبحث عن المناسبات والقرائن، وما يسمونه: بعلم اللطائف، فهذه أشياء ليست من أصل العلم، أصل العلم: الرضا والتسليم والقناعة التامة الكاملة؛ لأن الإنسان إذا صار عقلانياً وقف في التعبديات موقف الشك والريبة، وهذا الذي كان علماؤنا ومشايخنا رحمهم الله يشددون فيه، فكانوا إذا جاءتهم هذه المسائل من علوم الغيبيات التي لا يبحث فيها سلموا، والله يحكم ولا معقب لحكمه، فما تستطيع أن تبحث في شيء قد بينه الله عز وجل وبينته نصوص السنة، فلا يسعك أولاً وآخراً ظاهراً وباطناً إلا قوله سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْت} [النساء:65]، وقوله: (حرجاً) نكرة، تدل على نفي أي حرج كان؛ لأنه قضاء الله، وهو كلام من لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، قال: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، فسلم رحمك الله! وينبغي على العلماء والأئمة والدعاة والخطباء دائماً ألا يحاولوا ربط الناس دائماً بالحكم والأسرار، خاصة في هذه الأزمنة المتأخرة، التي أصبح المتكلم والعالم في نظر الناس هو الذي يأتي باللطائف، ويحسن تعليل الأشياء، والكلام فيها، وهذا ليس هو العلم كله، حتى إن العلماء لما جاءوا في مسألة ليلة القدر مع أن عدد كلمات سورة ليلة القدر ثلاثون الكلمة، وجاءت الكلمة السابعة والعشرون في قوله: {سَلامٌ هِيَ} [القدر:5]، ومع ذلك تجد أئمة العلم القدماء يقولون: هذا ليس من أصل العلم والفقه؛ لأنه استنباط، وربما جعل الله السورة ثلاثين كلمة امتحاناً أو ابتلاءً للعباد، لكن ما عندنا نص يجزم بأن كون (هي) الكلمة رقم سبعة وعشرون فإذاً ليلة القدر هي ليلة السابع والعشرين، وقد يضع الله هذه ابتلاءً واختباراً للعباد، فقد يقول الإنسان على الله بلا علم، فالذي يدخل في العقلانيات قد يقول على الله ما لا يعلم. ولذلك كان العلماء يشددون في علم المناسبات من السور والآيات، فالله سبحانه وتعالى يحكم، وتأتي أحكامه على ما يمكن تعليله، وما لا يمكن تعليله، فالقاصر والمخلوق لا يستطيع أن يدرك ما لله عز وجل من الحكم، والله عز وجل أصدق قيلاً، وأكمل حكماً. فاللهم! إنا نسألك التسليم والرضا بما قدرت وحكمت، إنك ولي ذلك والقادر عليه.

كتاب اللعان [3]

شرح زاد المستقنع - كتاب اللعان [3] إذا حصل اللعان بين الزوجين فإنه يترتب عليه فرقة أبدية بين الزوجين، وهناك قاعدة تتعلق باللعان ذكرها العلماء رحمهم الله وهي: أن كل من يصح قذفها يصح لعانها، وكل من لا يصح قذفها لا يصح لعانها؛ ولذا لو كانت الزوجة صغيرة لا توطأ أو كانت مجنونة، فإنه لا يثبت القذف في حقها ولا يثبت اللعان، كما أن هناك ألفاظاً ذكرها المصنف لا تأخذ حكم القذف ولا توجب اللعان.

عقوبة من قذف زوجته الصغيرة أو المجنونة بالزنا

عقوبة من قذف زوجته الصغيرة أو المجنونة بالزنا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وإن قذف زوجته الصغيرة أو المجنونة بالزنا عزر ولا لعان، ومن شرطه: قذفها بالزنا لفظاً كزنيت، أو يا زانية، أو رأيتك تزنين في قبل أو دبر]. يشترط في صحة اللعان أن يكون المحل الذي ورد عليه القذف يتعلق به القذف، ويثبت به حكم القذف. وتوضيح ذلك: أن اللعان شرع لدفع الحد عن الزوج القاذف، فلابد في الزوجة المقذوفة أن يثبت القذف في حقها، ولذلك كل من يصح قذفها يصح لعانها، وكل من لا يصح قذفها لا يصح لعانها، فهذه قاعدة عند العلماء رحمهم الله. فلو كانت الزوجة صغيرة لا توطأ أو كانت مجنونة كذلك فإنه لا يثبت القذف في حقها ولا اللعان؛ لأن اللعان فيه معنى التعبد، والأيمان لا تصح من الصبية ولا من المجنونة، ولذلك لو لاعنها فإنها إذا حلفت لم تؤاخذ على أيمانها. ومن هنا: لا يصح لعان الصغيرة ولا يصح لعان المجنونة، فقال رحمه الله: (وإن قذف زوجته الصغيرة أو المجنونة عزر) أي: أنه يثبت التعزير فيعزر، والتعزير يرجع في عقوبته إلى نظر واجتهاد الحاكم والقاضي، فإذا نظر القاضي إلى أي جريمة لا حد فيها؛ ولا عقوبة مقدرة من الشرع فيها، فإنه يجتهد في معاقبة صاحبها، وسيأتينا إن شاء الله بيان ذلك في باب التعزير. وبناءً على ذلك: لو أن رجلاً تزوج بنتاً عمرها -مثلاً- خمس سنوات، قال وليُّها: زوجتك بنتي، قال: قبلت، وتم العقد بينهما وعقد عليها، ثم قال لها: يا زانية، فحينئذ لا يثبت اللعان ولا يثبت القذف؛ لأن الزنا لا يتأتى من الصغيرة، فليست محلاً للتهمة -وسيأتي في باب القذف من الذي يثبت في حده القذف، ويعتبر قذفه موجباً للحد، ومن هو بخلاف ذلك- فإذا قال لهذه الزوجة الصغيرة: يا زانية ورماها بالزنا، فإن الزنا لا يتأتى منها أصلاً؛ لأن مثلها لا يوطأ وليست محلاً للوطء، وحينئذ لا معنى لقوله: يا زانية، إلا الأذية والإضرار، فليست التهمة بالزنا حقيقية؛ لأنه لا يتأتى منها الزنا الذي له حكمه الشرعي. لكن هناك عقوبة وهي التعزير، فينظر القاضي في المرأة المقذوفة التي رماها بالزنا، وينظر إلى حاله، ثم يقدر العقوبة بحسب ذلك، وفي هذه الحالة لا يستطيع الزوج أن يقول: أريد أن ألاعنها وهي زوجتي؛ لأن هذا يدرأ ويدفع عنه الحد، فحينئذٍ لا يثبت أصلاً حد القذف في حقه للأسباب التي ذكرناها، فإذا انتفى أمر القذف ولم يثبت حده فلا وجه للعان، وحينئذٍ ينصرف الأمر إلى جناية لا تقدير لها في الشرع، وهي جناية السب الذي ذكره لها بالزنا، وهذه لا عقوبة لها في الشرع محددة؛ لأنه ليس بالقذف الشرعي الذي يثبت، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلات} [النور:23]، والإحصان له شروطه كما سيأتينا إن شاء الله تقريره في باب القذف بإذن الله تعالى، وبناءً على ذلك فلو قذف الصغيرة أو المجنونة التي هي زوجة له، وقيل له: قد قذفتها ونريد أن نعزرك، قال: أريد اللعان، نقول: لا لعان؛ لأن الصغيرة والمجنونة لا يثبت فيمن رماهما حد القذف، ولا يثبت اللعان بسبب ذلك.

القذف بالتعريض والكتابة

القذف بالتعريض والكتابة قال رحمه الله: [ومن شرطه قذفها بالزنا لفظاً] أي: من شروط ثبوت اللعان، (قذفها) الضمير عائد إلى الزوجة، (بالزنا) إما أن يكون صريحاً، كقوله لها: يا زانية -والعياذ بالله- أو رأيتك تزنين أو أنت زانية، وقد يكون تعريضاً، كأن يقول لها في معرض الغضب وحال الخصومة: إني لست بزانٍ، كأنه يقول لها: أنت زانية، فهذا تعريض، فعند بعض العلماء -كما سيأتينا إن شاء الله في باب القذف- أنه يوجب ثبوت التهمة؛ لأن الله اعتبره موجباً لثبوت التهمة، في قوله: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28]، فجعل الله عز وجل هذا من الفرية مع أنهم لم يصرحوا لها بالزنا، وكأنهم يقولون: قد خالفت أباك وأمك فأنت على حال ليس كحالهم. فعلى كل حال يشترط في ثبوت اللعان أن يكون هناك قذف؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6]، فأثبت الله سبحانه وتعالى وجود الرمي، وقد بينا أن الرمي تطلقه العرب حساً ومعنىً، والمراد به في الآية الكريمة الرمي المعنوي وهو القذف، فيشترط أن يرميها بالزنا لفظاً؛ لأن عويمر العجلاني قال: يا رسول الله! الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم ماذا يفعل؟ فقد يجد الرجل مع امرأته رجلاً يزني بها، وفي الصحيح من حديث عبد الله بن عباس: (إن هلال بن أمية قذف امرأته بـ شريك بن سحماء)، فأثبت أن هناك قذفاً، وجاءت الرواية عن هلال بن أمية أنه قال: (والله! يا رسول الله! لقد سمعت بأذني ورأيت بعيني) فأثبت أنها زانية، وبين أنه يستند إلى المشاهدة والسماع اللذين هما أقوى دليل على ثبوت الأمر، وعدم الشك فيه. إذاً: لابد من وجود الرمي بالزنا، وأن يكون لفظاً، فلو رمى بغير الزنا سواءً كان مما فيه فحش أو مما ليس فيه فحش؛ لا يجب اللعان، فمن قال لامرأته: يا غافلة أو يا بلهاء، فهذا ليس بقذف ولا يوجب إثبات الحد، وهكذا لو قال لها: يا مجنونة، فلابد من وجود التهمة بالزنا، وأن تكون لفظاً لا فعلاً، وقال بعض العلماء: الكتابة تنزل منزلة اللفظ، وهذه مسألة تقدمت معنا في حكم طلاق من كتب طلاقه، فقال بعض العلماء: إن كتابة الشيء كالتلفظ به، فمن كتب لامرأته بالطلاق ولم يتلفظ به وقع طلاقه، ومن قذف بالكتابة ولم يتلفظ به فإنه قاذف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عفا لأمتي عما حدثت بها نفسها ما لم تتكلم أو تعمل)، ولأن الله يقول لرسوله عليه الصلاة والسلام: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67]، وقد كتب إلى الملوك ملوك الأرض، فنزّل الكتابة منزلة البلاغ المباشر، فدل على أن الكتابة تنزل منزلة العبارة. ومن أهل العلم من قال: إنه لابد من وجود الرمي بالقول إعمالاً للأصل؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، وإذا قذف بالكتابة لم يكن رمياً من كل وجه، ومن هنا: لا يأخذ حكم القذف، وقد تقدمت معنا هذه المسألة في كتاب الطلاق. وقوله: (كزنيت): هذا لفظ صريح، فإذا قال لها وهي حاضرة شاهدة: زنيت، فهذه تهمة بالزنا وقذف، والقذف يوجب ثبوت حكمه، وإذا قال: يا زانية أو رأيتك تزنين فهذا أيضاً لفظ صريح، إذا قاله لزوجته وهي حاضرة شاهدة، فهي تهمة بالزنا وقذف، والقذف يوجب ثبوت حكمه.

قول العلماء فيمن قذف امرأته بأنها وطئت في الدبر

قول العلماء فيمن قذف امرأته بأنها وطئت في الدبر وقوله رحمه الله: (في قبل أو دبر) تقدم معنا مسألة هل اللواط ووطء المرأة في الدبر ينزل منزلة القبل؟ فيها وجهان للعلماء رحمهم الله: فمن أهل العلم من اختار أن وطء المرأة في الدبر كالزنا بها إذا كان من غير الزوج، وهكذا إذا كان زوجاً فإنه قد أتى الحرام، وقالوا: إنه يعزر أشد التعزير. ومنهم من قال: يقام عليه الحد. ونسب لبعض العلماء الترخيص فيه، ولكنه مذهب شاذ لا يعول عليه ولا يعمل به؛ لأن الله تعالى يقول: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة:223]، والحرث إنما هو في القبل دون الدبر، فوطؤها في الدبر كوطء الأجنبية، فهو وطء في غير المحل المعتبر شرعاً، وروى الترمذي حديثاً حسن بعض العلماء إسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم بريء ممن أتى امرأته في دبرها، وهذا وعيد شديد، وجماهير السلف والخلف رحمهم الله أن من كبائر الذنوب إتيان المرأة في الدبر، وللإمام ابن القيم كلام نفيس في هذا، وذكر أن المرأة حينئذ تسوء أمورها، وتفسد أخلاقها، فالرجل إذا أتى امرأته في دبرها أفسدها الله عليه، فذهب ماء وجهها، وأظلم قلبها، وكان سبباً في كثير من المفاسد والشرور، إضافة إلى ما فيه من الاعتداء لحدود الله عز وجل والانتهاك للمحارم، فإن الله يقول: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223]، والمراد بإتيان الحرث مكان الوطء، فلو أنه قذف المرأة بأنها وطئت في الدبر، أو وطئت في القبل، فالحكم عند الحنابلة رحمهم الله واحد، فهو كالقذف بالزنا الصريح، فإذا خاطبها بذلك ثبت به القذف، وحينئذ إذا كان زوجاً فإنه يلاعنها.

ألفاظ لا تأخذ حكم القذف ولا توجب اللعان

ألفاظ لا تأخذ حكم القذف ولا توجب اللعان قال المصنف رحمه الله: [فإن قال: وطئت بشبهة أو مكرهة أو نائمة، أو قال: لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني، فشهدت امرأة ثقة أنه ولد على فراشه، لحقه نسبه، ولا لعان].

قول الرجل لامرأته: وطئت بشبهة

قول الرجل لامرأته: وطئت بشبهة (فإن قال: وطئت بشبهة) أي: وطأك الغير بشبهة، والشبهة: الشيء المشبه للشيء الذي فيه ما يقارب أوصافه فيختلط به، فالوطأ بالشبهة هو: الذي فيه شبه من الحلال وشبه من الحرام، مثلاً: امرأة يدخل عليها رجل يظنها زوجة له وهي تظنه زوجاً لها، فيطؤها بشبهة، فهو ظن أنها زوجته ولا يقصد الزنا، ولا يريد الحرام، ولو علم أنها أجنبية لما وطئها، وكذلك هي، فهذه شبهة تدرأ الحد، فيه شبه من الحرام؛ لأنها ليست زوجته، وفيه شبه من الحلال حيث أنه لا يؤاخذ ولا يعاقب؛ لأنه يعتقد أنها زوجته، وكذلك هي مكنته من نفسها ظناً منها أنه زوجها، فهذا وطء الشبهة، ومن وطء الشبهة أن يكون في نكاح فاسد يظن أنه صحيح، فيعقد على المرأة عقداً فاسداً، ويظن أنها قد حلت له بهذا العقد الفاسد، ثم تمكنه من نفسها، وينكحها وهو يظنها زوجة حلالاً، وحينئذ يكون الوطء فيه شبهة تمنع الحد، ويثبت بها نسب الولد. فلو قال لامرأته: وطئت بشبهة، لم يكن قذفاً؛ لأن هذا ليس برمي بالزنا، فليس بقذف ولا يوجب ثبوت اللعان؛ لأنه إذا لم يكن اللفظ قذفاً لا يثبت اللعان.

قول الرجل لامرأته: وطئت مكرهة

قول الرجل لامرأته: وطئت مكرهة وقوله: (أو مكرهة): أي: وطئت مكرهة، إذا أكرهت المرأة على الزنا فجماهير العلماء رحمهم الله أنه لا يقام عليها حد الزنا، وأنها لا تأخذ حكم الزانية؛ وذلك لأنها إذا أكرهت سقط التكليف عنها، والله تعالى يقول: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فلو أن امرأة توافرت شروط الإكراه فيها، وقد ذكرنا هذه الشروط في طلاق المكره، وقلنا: إن من شرط الإكراه أن يكون الشيء الذي تهدد به أعظم من الشيء الذي يطلب منها، فالقتل أعظم من الزنا، فلو قيل لها: إذا لم تزني قتلناك أو قتلنا ولدك، وعلمت أنه سيقع هذا الشيء الذي هددت به، ولا يمكنها أن تستصرخ ولا أن تستنجد، فمكنت من الزنا بها، ولكنها كارهة بقلبها غير مطمئنة، فهذه توافرت فيها شروط الإكراه، فجاء زوجها وقال لزوجته: وطئت مكرهة، فاشتكته عند القاضي وقالت: قذفني، فنقول: قوله: وطئت مكرهة، ليس بقذف؛ لأن الوصف بالإكراه يوجب ارتفاع حكم اللعان، وهذا وصف حقيقي، وهكذا لو قال: وطئت بشبهة، أو وطئت مكرهة، على أمر يعلمه بينه وبينها، فإنه لا يوجب ثبوت القذف.

قول الرجل لامرأته: وطئت نائمة

قول الرجل لامرأته: وطئت نائمة وقوله: (أو نائمة): أي: وطئت نائمة، المرأة إذا وطئت وهي نائمة، اندرأ عنها الحد، ولا يوجب ذلك ثبوت زناها، كما إذا كانت ثقيلة النوم، وقد أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن امرأة كانت صالحة، ففوجئ أهلها بأنها حامل، فرفع أمرها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسأل عنها فوجد أنها ممدوحة بالخير ويثنى عليها، فسأل عن أمرها فقالت: يا أمير المؤمنين! إني كنت نائمة ولم أشعر إلا وقد فرغ الرجل من حاجته، فدرأ رضي الله عنه عنها الحد. فالمرأة إذا كانت نائمة فإنها غير مكلفة، فلو وطئت وهي نائمة، ثم قال لها زوجها: وطئت وأنت نائمة، فإن هذا لا يوجب ثبوت اللعان.

من لم يرم زوجته بالزنا ونفى الولد

من لم يرم زوجته بالزنا ونفى الولد قال المصنف رحمه الله: (أو قال: لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني) القذف في اللعان يشتمل على صورتين: الصورة الأولى: أن يرميها بالزنا. الصورة الثانية: أن ينفي الولد ولا يرميها بالزنا، يقول: هذا الولد ليس بولدي، فيقال له: تتهمها بالزنا؟ يقول: هذا الولد ليس بولدي، وقد تحمل المرأة وتكون معذورة شرعاً، مثل أن توطأ بشبهة، أو شاهدها وقد أكرهت فقال: هذا الولد ليس بولدي، فيقع اللعان على نفي الولد. فتارة يقع اللعان على درأ حد القذف، وتارة يقع على نفي الولد. دليل الصورة الأولى: حديث ابن عباس رضي الله عنهما -في الصحيحين- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ هلال بن أمية: (البينة أو حد في ظهرك)، فهو اتهم زوجته بالزنا، ودرأ عن نفسه الحد بهذا اللعان. ودليل الصورة الثانية -وهي أن ينفي الولد-: ما جاء في قصة هلال، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انظروا إليه فإن جاءت به خدلج الساقين، أكحل العينين، سابغ الأليتين، فهو للذي رميت به)، وجاءت به على هذه الصفة، وخدلج الساقين: أي: كثير لحم الساقين، وأكحل العينين: أي: أنه شديد سواد منابت الشعر في عينيه كأنها قد أكحلت، وسابغ الأليتين: أي كثير الشحم في الأليتين، فجاءت به على هذه الصفة، فهذا لعان على نفي الولد، فوقع لعان هذا الصحابي على الصورة التي يسميها العلماء: الصورة المركبة، وهي: أن يجمع بين نفي الولد وزناها، فيشهد في اللعان قائلاً: إن زوجتي فلانة زانية، وإن هذا الولد ليس بولدي، وإذا كانت حاملاً يقول: وهذا الحمل ليس مني. وقد يكون اللعان بنفي الولد دون التهمة بالزنا، والمرأة قد تحمل بدون زنا، فربما لو دخلت مستحماً للرجال، فاستدخلت ماء الرجل في فرجها، فيقع الحمل دون وجود الزنا، وهذا قد يقع، وهذا الذي جعل التحليلات الطبية ليست بدليل شرعي كشهادة الأربعة العدول، ومن هنا تدرك عظمة هذه الشريعة، وبعض الناس قاصر فهمه يقول: الآن عندنا تحليلات طبية، التحليلات الطبية ليست بدليل شرعي، فربما أن المرأة تحمل باستدخال المني في الفرج بدون الوطء، وهذا معلوم وموجود. فقد يقع الحمل في صور بدون وطء، لكن ليس هناك مثل أربعة عدول من المسلمين يشهدون أنهم رءوا الزنا، وأنهم رءوا الرجل يزني بالمرأة، وأن ذلك منها كالميل في المكحلة، فهذا من أثبت وأوضح ما يكون، أو تقر المرأة أو يقر الرجل على هذا الشيء، فهذه هي البينات الشرعية. فالشاهد أنه حينما يقول: هذا الولد ليس بولدي، ولا يتهمها بالزنا، فهذا نوع من اللعان فينفي الولد، وهي تلاعن على أن الولد ولده. قال رحمه الله: (أو قال: لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني): ليس ولدي أو ليس مني، وهذه المسألة لها صور: إذا كان الزوج يشك في الولد وفي الحمل، ونفى الولد وقال: هذا الولد ليس بولدي، فحينئذ إما أن ينفيه حال حملها قبل الوضع، أو ينفيه بعد الوضع. فإن نفاه حال حملها فللعلماء وجهان: من أهل العلم من قال: لا تصح الملاعنة حتى تضع، فلا يرون اللعان في حال حمل المرأة؛ لاحتمال أن يكون الانتفاخ الذي في بطن المرأة مرض وليس بحمل، فحينئذ لا لعان؛ لأن هناك شبهة، وهناك أمر غير بين، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة رحمهم الله. وقالت الشافعية والمالكية: يصح اللعان على نفي الحمل، وهذا ثابت في حديث هلال بن أمية، فإنه لما لاعن نفى النبي صلى الله عليه وسلم الولد منه، ولم يجعله له، فدل على أن اللعان وقع على الزنا وعلى نفي الولد. والصحيح أنه يصح اللعان على نفي الحمل خلافاً لمن قال: لا لعان حتى تضع المرأة. إذاً: إذا نفى الحمل قبل أن تضعه المرأة، فالصحيح أنه يقع اللعان، وأن المرأة تلاعن، والرجل يلاعن. الصورة الثانية: أن يقع نفيه للولد وتهمته لزوجته وأن الولد ليس بولده بعد وضعها، فمن أهل العلم من قال: يشترط أن يكون بعد الوضع مباشرة فلا يتأخر؛ لأن سكوته بعد وضع الولد، وقبوله للتهنئة بالولد يعتبر رضاً منه بنسبته إليه، وإقرار منه أن الولد ولده، فيشترطون أن يكون نفيه مباشرة، وألا يكون هناك تأخر ولا تراخٍ. فهناك ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يقول: الولد ليس بولدي، وهي زانية، فجمع بين الأمرين بين نفي الولد وزناها. الصورة الثانية: أن يقول: لم تزن، والولد ليس بولدي، فنفى الزنا لكن أثبت أن الولد ليس بولده. الصورة الثالثة: أن يقول: الله أعلم زنت أو ما زنت، لا أدري، ولكن الولد ليس بولدي. هذه ثلاث حالات: فإذا نفى الزنا وأثبت الولد -وهذا الذي يعنينا- قال فيه المصنف رحمه الله: (وشهدت امرأة ثقة أنه ولد على فراشه لحقه نسبه ولا لعان)؛ لأن الولد للفراش، والفراش هي الزوجة، وخذ هذه القاعدة: من عقد على امرأة عقداً شرعياً، ومضت مدة يمكن أن تحمل فيها أو تضع، فجميع ما تضعه المرأة -والعقد قائم- ينسب لهذا الرجل، سواء وضعته في حال حياته أو بعد موته بمدة الإمكان على تفصيل سيأتينا إن شاء الله في لحوق النسب، والدليل على هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر)، فقوله عليه الصلاة والسلام (الولد للفراش) قاعدة في أننا ننسب الولد للفراش، فإن كانت منكوحة نسب إلى الناكح، وإن كانت غير منكوحة نسب إلى أمه؛ لأنه ولد زنا والعياذ بالله! وبناءً على ذلك: إذا قال: هذا الولد ليس بولدي، ففيه تفصيل: بعض العلماء يقول: إذا نفاه مباشرة بعد الوضع فإنه من حقه، وخاصة على مذهب من لا يرى اللعان حال الحمل، فإذا وضعت الولد وقال: هذا الولد ليس بولدي، أو شهد عدول على أنه نفاه مباشرة وأنه لم يقبل التهنئة به، ولم يثبت الدليل على رضاه؛ صح نفيه ولاعن. لكن المصنف رحمه الله يقول: (إذا شهدت امرأة ثقة) وهذه المسألة تعرف عند العلماء بشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال، وستأتينا إن شاء الله في باب البينات، ونبين أن الشريعة تقبل شهادة الرجال فقط كما في الحدود والدماء ولا تقبل شهادة النساء، ولذلك ما ذكر الله شهادة النساء في الدماء وفي الحدود، فمثلاً في الزنا، ما يشهد ثمان نسوة، ولذلك قال: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4]، ولم يذكر البدل من النساء، وفي هذا حكمة عظيمة؛ لأن النساء تغلب عليهن الغيرة، ويغلب عليهن الاستعجال للضعف البشري الذي هو من طبيعة خلقهن، لو خلق الله بنيتي ضعيفة، ما آتي وأقول: لماذا خلقني الله ضعيفاً؟ هذه خلقة الله سبحانه وتعالى، وهذا الضعف الحاصل في المرأة كمال لها في مواطن، لكن خلقها سكناً للرجل وفيها هذا الضعف، ولذلك جبرت شهادتها بشهادة أختها، فقال: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282]، فجعل شهادتها في الأموال {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة:282]، فبين الله علة جعل شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ} [البقرة:282]، وفي قراءة ((فَتُذْكِرَ)) يعني: تجعلها كالذكر، (فَتُذْكِرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282]، فتنقل شهادتها من النقص إلى الكمال، فالأمور التي تقبل فيها شهادة النساء هي الأموال وما يئول إلى الأموال إعمالاً للنص، وهذا هو الأصل الذي ورد في كتاب الله عز وجل، والمرأة لا تساوي الرجل في هذا، يرضى من يرضى، ويغضب من يغضب، هذا شرع الله عز وجل، وهذا كتاب الله، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد بينا غير مرة أن الله سبحانه وتعالى فضّل الرجل على المرأة بنصوص الكتاب والسنة التي لا تقبل جدالاً ولا مراءً، كقوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر:6]، فأول ما خلق الله بيده آدم، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، ولم تكن حواء مخلوقة مستقلة، وإنما خلقها من آدم، تشريفاً للذكر وتكريماً له، والله يفضل من شاء كيف شاء ومتى شاء وبما شاء، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23]، فذلك فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء، فهذا التفضيل حتى في الخلقة والإدراك والتركيز والشعور، فالمرأة من حيث هي لا تقبل شهادتها في الدماء، ولذلك انظر إلى المرأة إذا وقع أمامها أي جرح تغمض عينيها فهي لا تتحمل، والشهادات تحتاج إلى تحمل، وتحتاج إلى قوة، خاصة الأمور التي فيها قتل، وفيها جرائم، وفيها اعتداء، فمن هنا: نقول إن شهادة النساء تقبل في الأموال، وفيما لا يطّلع عليه إلا النساء -وهذا محل الشاهد معنا هنا- كمسألة كون المرأة بكراً أو ثيباً، كما تقدم معنا في مسائل النكاح، وكمسألة الوضع في الفراش؛ لأن المرأة تلد غالباً عند النساء، فالنسوة هن اللاتي يقمن بتوليد النساء في الأصل، وهذا الذي أثبتته قواعد الشريعة؛ لأن الجنس مع الجنس أبعد عن الفتنة، وأبعد عن الحرام والوقوع في المحظور، فإذا ثبت هذا، فمن حيث الأصل أن المرأة تقبل شهادتها في الأموال، وما يئول إلى الأموال، وفيما لا يطلع عليه إلا النساء، مثل مسألة الولادة، ومسألة الرضاعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قبل فيه شهادة الواحدة، حينما قال عليه الصلاة والسلام: (كيف وقد قيل؟) وسيأتينا إن شاء الله في باب الرضاع، فلما قبل امرأة واحدة في إثبات الرضاع وهو مما لا يطلع عليه إلا النساء دل على قبول شهادتهن في نوع خاص، وهذا فيه تفصيل عند العلماء وضوابط وقيود؛ لأن الأصل يقتضي ألا تقبل الشهادة إلا بالعدد، فإذا شهدت المرأة الثقة أن امرأة ولدت هذا الولد على فراشه، وما زال النكاح قائماً، وما زالت الزوجية قائمة على صفة يلتحق به الولد، فحينئذ الولد ولده ولا لعان على ما اختاره المصنف رحمه الله، ونحن قد بينا أن العمل على التفصيل، فإن كان هناك مبادرة بالإنكار حال حمله أو بمجرد وضعه، فله الحق أن يلاعن وأن ينفي هذا الولد عنه.

تكذيب الزوجة لزوجها شرط في وقوع اللعان

تكذيب الزوجة لزوجها شرط في وقوع اللعان قال المصنف رحمه الله: [ومن شرطه أن تكذبه الزوجة]: ومن شرط وقوع اللعان أن تكذبه الزوجة، فلو أن الزوجة صدقته فإنه يقام عليها الحد، لو قالت: هو صادق، وأقرت بذلك في مجلس القاضي ثبتت عليها جريمة الزنا ويقام عليها الحد. لكن لو أنه قال لها: يا زانية، في البيت وسكتت، وسألتها إحدى النساء: هل أنت زانية؟ قالت: نعم، ووقع إقرارها في البيت، فحينئذ لا لعان؛ لأن اللعان يكون مع امرأة تكذب وتنفي، ولذلك ستشهد بالله أيماناً مغلظة على أنه ليس بصادق أو أن هذا الولد ولده، إذاً: لابد أن تكذبه المرأة.

الأمور المترتبة على اللعان

الأمور المترتبة على اللعان

سقوط الحد والتعزير

سقوط الحد والتعزير قال المصنف رحمه الله: [وإذا تم سقط عنه الحد والتعزير]. وإذا تم اللعان على الصفة المعتبرة شرعاً فلاعن الزوج سقط عنه الحد، وسقط عنه التعزير، والأصل أن الزوج إذا لاعن فإنه يدرأ بأيمان اللعان الحد عن نفسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ هلال بن أمية: (البينة أو حد في ظهرك) فقال: يا رسول الله! الله يعلم أني صادق فيما أقول، وسينزل الله فيّ قرآناً، فأنزل الله فيه قرآناً، فأثبت اللعان لأجل درأ الحد عن الزوج، فدل على أن الزوج إذا لاعن، وحلف أيمان اللعان كاملة أنه يندرأ عنه الحد.

الفرقة الأبدية بين الزوجين

الفرقة الأبدية بين الزوجين قال المصنف رحمه الله: [وتثبت الفرقة بينهما بتحريم مؤبد] إذا لاعن رجل زوجته، وحلفت المرأة أيضاً ولاعنت، فيفرق بين الزوج والزوجة فراقاً أبدياًَ، قال الزهري رحمه الله: مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما فلا يجتمعان أبداً، ولذلك لما لاعن عويمر زوجته، وسأل عن المهر قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كنت صادقاً -أي بأنها زانية- فالمهر لها بما استحللت من فرجها، وإن كنت كاذباً فهو أبعد لك منك)، فشبه إجماع بين العلماء رحمهم الله أنه يفرق بين المتلاعنين فراقاً أبدياً فلا يجتمعان. ولكن إذا كذب نفسه وقال: كذبت فيما رميتها به، وهي ليست بزانية، فهل يحق له أن يعقد عليها وترجع إليه؟ قال بعض العلماء: يصح ذلك، ويقام عليه الحد، وترجع إليه زوجته؛ لأنه شرع لسبب وهو بقاء اللعان، ومن العلماء من يقول: إذا وقع اللعان وقعت الفرقة إلى الأبد؛ لأنه تنتقل حكومة الزوج والزوجة من الدنيا إلى الآخرة، فيبقى الفراق بينهما حتى يقضي الله بينهما بالحق، وهو خير الفاصلين، فيقضي الله بينهما في حكومة يوم الدين؛ لأن كلاً منهما قد أتى ببيناته وشهاداته، فتعذر ترجيح إحدى الشهادتين على الأخرى، فبقي الأمر معلقاً إلى يوم القيامة.

الأسئلة

الأسئلة

إذا شهد أربعة على المرأة بالزنا فهل لزوجها أن يلاعنها؟

إذا شهد أربعة على المرأة بالزنا فهل لزوجها أن يلاعنها؟ Q إذا وجد الشهود فهل للزوج أن يلاعنها أو يكتفى بشهادة الشهود وتستحق الرجم؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: هذه مسألة خلافية، فمن أهل العلم من يقول: من عنده بينة فإنه لا يلاعن، وإنما يقيم البينة ولا لعان، وحينئذ لا يثبت اللعان بالشهود. ومن أهل العلم من قال: هو مخير لاحتمال أن تكون البينة كاذبة؛ لأنه قد يشهد شهود ويكون عندهم خطأ أو يكون عندهم كذب وتزوير والعياذ بالله! ويريدون إلحاق الضرر بالمرأة، قالوا: فالأفضل: أنه يلاعن حتى يمكنها من أن تدفع عن نفسها الضرر، وعلى كل حال، فكلا القولين له وجه، لكن الأحوال تختلف، فإذا كان يعلم أنها زانية وعنده شهود فالأفضل والأكمل سترها بشرط ألا يكون هناك حمل يلتحق به، فإذا كان هناك حمل ولا يمكنه أن يدفع هذا الحمل إلا باللعان فقد فصلنا فيه القول في أول باب اللعان، وبينا متى يجب عليه أن يلاعن، ومتى يجوز، ومتى يحرم. فعلى كل حال إذا كان عنده بينة، وعلم أنها زانية، وحصل منه قذف لها، واشتكت؛ فحينئذ الأولى والأحرى أن يقيم عليها البينة، حتى لا يكون هناك تلاعب بحدود الله فتشهد بالباطل، وإذا لم تكن عنده بينة ولم يكن هناك شكوى منها وأراد الستر عليها ولا ضرر عليه فالأفضل والأكمل أن يستر عليها؛ لأن الشريعة نصوصها مطبقة على مشروعية الستر وأفضلية الستر، حتى إن ماعزاً رضي الله عنه لما اعترف بالزنا ندبه النبي صلى الله عليه وسلم أن يستر على نفسه، وهذه من الرحمة التي بعث بها سيد الأولين والآخرين، صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين، والله تعالى أعلم.

اندراج الحد الأدنى تحت الحد الأعلى في العقوبات

اندراج الحد الأدنى تحت الحد الأعلى في العقوبات Q أشكل عليّ قول المصنف: [سقط عنه الحد والتعزير]، فما هو التعزير المقصود هنا؟ A هو في مسألة إذا جمع بين نفي الولد وبين التهمة بالزنا، فحينئذ يسقط عنه حد القذف بالزنا، ونفي الولد في غير اللعان يوجب التعزير، فيسقط تعزيره باللعان. الصورة التي ذكرها المصنف رحمه الله أنه ينفي الولد والمرأة تشهد أن الولد ولده، فإذا كان هناك اشتراك بين ما يوجب الحد والتعزير، سقط عنه الحد فيما يوجب الحد، وسقط عنه التعزير فيما يوجب التعزير. ومن العلماء من يقول: إذا لاعن سقط عنه الحد، لكن يبقى التعزير فيعزر، فمسألة اندراج التعزير تحت سقوط الحد قد تقدمت معنا في مسألة الاندراج، فإن الاندراج يقع في العبادات مثل من يصلي راتبة الظهر فتندرج تحتها تحية المسجد، ومن يطوف طواف الإفاضة وينوي تحتها الوداع، ويقع أيضاً في العقوبات، فيندرج الحد الأدنى تحت الأعلى، وقد أثر عن ابن مسعود رضي الله عنه ذلك -كما حكاه غير واحد من العلماء رحمهم الله- أنه لو زنى وهو محصن، وسرق، وقتل؛ فإنه يقام عليه حد القتل قصاصاً، ويندرج تحته حد الزنا؛ لأنه اجتمع حق الله عز وجل وحق المخلوق، فلابد أن يقتل مرة واحدة، فإننا لو رجمناه بقي حق القصاص، ولو قتلناه قصاصاً بقي حق الزنا، فقال: يقام عليه حد القصاص ويندرج تحته باقي العقوبات، وحتى إن بعضهم يقول: لا يقام عليه حد السرقة الذي هو الأخف، ومذهب بعض العلماء أنه تقام عليه الحدود الممكنة، تندرج الحدود التي لا يتعذر جمعها، والله تعالى أعلم.

السن الذي تتأهل فيه المرأة للوطء

السن الذي تتأهل فيه المرأة للوطء Q ما هو ضابط العمر بالنسبة للتي توصف بأنها صغيرة؟ A السن الذي تتأهل فيه المرأة للوطء هو التسع سنوات، وهذا يختلف باختلاف النساء واختلاف المناطق، لكن في الغالب تسع سنوات، وقد تقدم معنا هذا في كتاب الحيض، وبينا أن المرأة تتأهل لهذا بوجود الحيض فيها، وقد تكون ضعيفة البنية، لكن هذا بالنسبة إلى الغالب، خاصة في المناطق الحارة، ولذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله: أعجب من رأيت في الحيض نساء تهامة، فإني وجدت جدة وعمرها إحدى وعشرون سنة، أي: أنها تزوجت وعمرها تسع سنوات، وحملت ووضعت حملها في العاشرة، ثم هذا الحمل بلغ تسع سنين، فأصبح عمر الأم تسع عشرة سنة، ثم حملت البنت ثم وضعت، فأصبح عمر الأم إحدى وعشرين سنة، لكن هذا لما كان النساء في زمان البركة، ويأكلن أكلاً طيباً، أما اليوم -والله المستعان- ضعفت البنية، الآن لو تزوج بنتاً عمرها ثمان سنوات، تقوم الدنيا ولا تقعد، وعائشة رضي الله عنها تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم نكحها -يعني عقد عليها- وهي بنت ست سنوات، ودخل بها وهي بنت تسع سنين! فالمرأة تتأهل للحيض، وتتأهل للوطء، وعمرها تسع سنوات، والله تعالى أعلم.

حكم بول وروث الجلالة

حكم بول وروث الجلالة Q إذا كان يحرم أكل لحم الجلالة، فهل معنى ذلك أن بولها وروثها نجس؟ A مسألة الاغتذاء بالنجاسة؛ فيها خلاف وتفصيل عند العلماء رحمهم الله، والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه نهى عن أكل الجلالة حتى تحبس، وهذا يقتضي أنها تضررت بما أكلته، وإذا كانت تأكل النجس فقد أثر فيها، وينبغي فهم العلل من النصوص بما فيها من دلائل، فإذا كانت جلالة تأكل النجاسات فهي نجسة، وإن كانت تأكل القاذورات فهي مستخبثة، فيكون التحريم إما للنجاسة وإما للاستخباث، ولذلك طائر الرخم، وهو الطائر المعروف الذي يأكل الجيف ويغتذي بها لا يؤكل، مع أنه ليس من ذوات المخالب كالنسر والباز والباشق والشاهين وغيرها من الطيور الجارحة، قالوا: إنما حرم طائر الرخم لخبث مأكله، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157]. والجلالة لها صورتان: بهيمة الأنعام أو الدواجن كالدجاج التي تتغذى على النجاسة أو التي تتغذى على القاذورات. فتتغذى بالنجاسة مثل أن تطعم الدماء، فبعض الدجاج تطعم الدم الذي يكون مسفوحاً، فيجفف ثم تطعم، فهي متغذية بالنجاسة، وحكمها حكم الجلالة، أو تتغذى بالقاذورات مثل أن تطلق البهيمة كالبقر فتأتي إلى الزبائل وتأكل منها -أكرمكم الله-، فلا يشرب من حليبها، ولا يطعم من لحمها، حتى تحبس؛ فإذا حبست وأطعمت طعاماً طيباً حل أكلها وذبحها، وحل أيضاً الاغتذاء بلبنها، وبعضهم يرى حبسها أسبوعاً حتى تطيب. فالمنع من أكل الجلالة لأمرين: إن كانت تأكل النجاسة فللنجس، وإن كانت تأكل القاذورات فللقذر، والله تعالى أعلم.

حكم صلاة الوتر والضحى والإشراق للمسافر

حكم صلاة الوتر والضحى والإشراق للمسافر Q هل للمسافر أن يصلي صلاة الوتر والضحى والإشراق؟ A السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ما ترك الوتر حضراً ولا سفراً، ولذلك ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه كان عليه الصلاة والسلام يوتر على بعيره، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه أوتر على بعيره فسئل عن ذلك -كما في الصحيحين- فقال: (لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ما فعلته)، فأوتر على بعيره إلى غير القبلة في السفر، فالسنة ألا يترك المسافر الوتر لا حضراً ولا سفراً. وأما بالنسبة للضحى ففيه خلاف، وظاهر السنة أن صلاة الضحى تترك، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام (إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمله صحيحاً مقيماً)، ومن أهل العلم من قال: تصلى الضحى في السفر لحديث أم هانئ رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الفتح ضحى فصلى في بيتها ثماني ركعات، فمن أهل العلم من قال: إنها ركعات الضحى، ولذلك يرى بعض أهل العلم أن أوسط الكمال في الضحى ثمان ركعات، وأعلاها اثنتا عشرة ركعة، والصحيح أن هذه الثمان الركعات هي ركعات الفتح، صلاها عليه الصلاة والسلام شكراً لله عز وجل في اليوم الذي أعز الله فيه جنده، ونصر عبده، وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده لا شريك له، فصلى لله شكراً، ولذلك ما صلى كذلك إلا يوم الفتح، وصلاها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه يوم فتح إيوان كسرى، فهذا هو الصحيح أن الثمان الركعات التي صلاها عليه الصلاة والسلام في بيت أم هانئ إنما هي صلاة الفتح شكراً لله عز وجل على نعمة الفتح. وصلاة الضحى الأشبه أنه لا يصليها المسافر، ولكن إذا أراد أن يصليها من باب الخروج من الخلاف فلا بأس وفيه وجه من السنة، والصحيح والأقوى أنها لا تصلى إلا حضراً. وأما بالنسبة لركعتي الإشراق، فالإشراق عام، فلو أنه سافر إلى جدة أو سافر إلى مكة أو سافر إلى المدينة فصلى الفجر في جماعة، ثم قال: أريد الخير، فانتظر حتى طلعت عليه الشمس في مصلاه وهو يذكر الله، ويقعد في نفس المصلى يذكر الله عز وجل، ولا ينام ولا يتحدث في أمور محرمة، ولا يتحول عن مكانه، ثم يصلي ركعتين بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، فله أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة، ولا يشكل على هذا ما ورد عن الصحابة -كما في الصحيح من حديث جابر - أنهم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الفجر ويتحلقون عليه؛ لأن هذا ليس له علاقة بمسألة ركعتي الإشراق؛ لأن الإنسان مخير بين أن يجلس في مكانه فيصيب ركعتي الإشراق، وبين أن يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم من طلب العلم، وطلب العلم أفضل من العبادة، ولذلك لو تعارض الجلوس إلى الإشراق مع حلقة علم، فإن نفع العلم متعدٍِ فهو مقدم على العبادة القاصرة، بل لو مضى إلى ذلك المجلس وفي نيته أنه لولا المجلس ولجلس إلى الإشراق وصلى، فإن الله يكتب له الأجرين، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، والله تعالى أعلم.

الأفضل في حق ولد تجاه والد كبير السن متقاعد

الأفضل في حق ولد تجاه والد كبير السن متقاعد Q والدي كبير في السن، وقد تقاعد من عمله، وهو ممن يحب العمل، فهل من البر البحث له عن عمل أم أحثه على الانشغال بالعبادة؟ A ابحث له عن عمل إذا كان عنده قدرة وطاقة ويحب أن يعمل، فالتمس رضاه بعد رضا الله عز وجل، وإذا كان يمكنك أن تقوم على معيشته أو راتبه يكفيه فيتفرغ للعبادة فهو أفضل، فمن تفرغ لربه كفاه الله ما أهمه من أمر دينه ودنياه وآخرته، وهكذا كان كبار السن من أهل الإسلام يلزمون بيوت الله عز وجل، ويعكفون على العبادة لعل الله أن يختم لهم بخاتمة الخير، والمؤمن إذا شاب شعره، ورق عظمه انتظر مجيء النذير من ربه، وانتظر الأجل الذي قدره له مولاه، فيستكثر من الأعمال الصالحة، ولربما ينكسر قلبه، ويخشى الله سبحانه وتعالى، فيتوب توبة نصوحاً يغفر الله له بها ذنوب العمر كلها، وكم من رجل مسيء خطّاء كثير الذنوب أسرف على نفسه، فوقف في آخر عمره على باب الله عز وجل يرجو رحمته فانكسر لله قلبه، واطمأن بذكر الله فؤاده، وسأل الله وتعالى أن يعفو عما سلف من الذنوب والعصيان، ولربما كان ابن سبعين أو ابن تسعين أو ابن مائة أو أكثر من ذلك وصدق مع الله فصدق الله معه، فمحا الله عنه ذنوب عمره كلها، والله يفرح بتوبة التائبين، ويحب من عبده أن يقبل عليه وهو أرحم الراحمين، هو أغنى ما يكون عن عباده، والعباد أفقر ما يكونون إليه، فالمؤمن إذا شقي في هذه الدنيا وتعب في جني مالها لكي يعف نفسه ويعف أهله، فعلى أولاده إذا كبر سنه، ورق عظمه أن يتقوا الله فيه، وأن يرحموا كبر سنه، وأن يحاول الابن البار أن يقوم على أبيه في آخر عمره، وأن يتفانى وأن يضحي وأن يجلب له ما يسد رمقه، ويعينه على ذكر الله عز وجل، وكم من ابن بار فتحت له أبواب الخير بدعوات صالحات طيبات مباركات من أم برها أو أبٍ أكرمه في آخر عمره، فكفاه مئونة الدنيا، وكتب الله له بذلك سعادة الدنيا والآخرة، فيوصى الابن أن يبحث أول شيء عن سداد حاجة والده، إذا كان الوالد بحاجة وعندك القدرة على أن تسد حاجته وتضحي له فحينئذ تقطعه عن الدنيا وتقول له: يا أبت! تفرغ لآخرتك واستجمع قلبك لربك، وكفى ما مضى، وجزاك الله عني وعن إخوتي وأهلك كل خير، لم تقصر في شيء فجزاك الله كل خير، والآن سأقوم على أمرك، وأسعى في جلب الرزق إليك، فادع الله أن يعينني، فتسعى والله سبحانه وتعالى لا يخيبك، وكم من عبد يرزق بفضل الله ثم بفضل والديه، ولذلك لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم الرجل يسعى على أخيه وهو عبد صالح قال عليه الصلاة والسلام: (لعله يرزق بسببه)، يعني: الأخ الغني فتح الله له أبواب الغنى والرزق بسبب قيامه على أخيه، وهذا رحمة من الله سبحانه وتعالى يرحم بها عباده. على كل حال، إذا كان الوالد بحاجة إلى الراحة فالأفضل أن تقوم عليه، وإذا كنت تستطيع أن تكفيه هذا الهم وتقول له: اجلس في البيت وأنا أقوم عليك ولا يتأذى بذلك ولا يتضرر فافعل رحمك الله، واحتسب الأجر عند الله، وإن من أعظم الطاعات وأجلها زلفى عند الله -بعد توحيده والإيمان به وعبادته- بر الوالدين، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم لنا ولك ولكل مسلم التوفيق لذلك، والله تعالى أعلم.

إذا نوى المسافر الإتمام ثم تبين أن الإمام مسافر

إذا نوى المسافر الإتمام ثم تبين أن الإمام مسافر Q مسافر ظن إمامه مقيماً فنوى الإتمام، ثم تبين أن الإمام مسافر، فهل يلزم بالإتمام؟ A من دخل وفي نيته أن يتم لزمه الإتمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما لكل امرئ ما نوى)، فإذا نويت الإتمام وجبت عليك الأربع. ودائماً على الشخص أن يحتاط إذا شك في الإمام: هل هو مقيم أو مسافر أن ينوي القصر، فإذا نويت القصر وكان الإمام مسافراً فلا إشكال، تسلم معه، وإذا نويت القصر وكان مقيماً أحدثت الإتمام؛ لأنه يجوز الزيادة على النقص، فلا بأس أن تدخل بنية القصر ثم يتبين أن إمامك مقيم فتنوي الإتمام، فلا حرج عليك في ذلك ولا بأس، والله تعالى أعلم.

إذا سافر بعد الأذان فهل يصليها قصرا أم يتمها؟

إذا سافر بعد الأذان فهل يصليها قصراً أم يتمها؟ Q أذن الفرض وأنا مقيم ثم شرعت في السفر بعد الأذان مباشرة، فإذا أردت الصلاة وأنا في الطريق فهل أتم أم أقصر؟ A إذا خرجت من آخر عمران المدينة وبيوتها وأذن عليك الأذان بعد خروجك فأنت مسافر، وتقصر صلاتك إذا كانت رباعية، وأما إذا أذن الأذان قبل خروجك -ولو بخطوة واحدة- من المدينة فإنه يجب عليك أن تتم الصلاة؛ لأنه توجه عليك النداء بأربع ركعات، ووجبت عليك وأنت مقيم، فلا يجوز إسقاط الأربع؛ لأنها ثبتت في ذمتك، وبناءً على ذلك يجب عليك الإتمام ما دام قد أذن عليك أذان الظهر أو العصر أو العشاء قبل أن تخرج من آخر العمران، أما إذا خرجت وأذن عليك بعد خروجك فلا إشكال، والله تعالى أعلم.

التخفيف في الركعتين الأخيرتين يشمل التخفيف في جميع الأركان

التخفيف في الركعتين الأخيرتين يشمل التخفيف في جميع الأركان Q هل من السنة في الرباعية تطويل الركعتين الأوليين وتخفيف الأخيرتين؟ وهل التخفيف في جميع الأركان؟ A الظاهر من السنة أن التخفيف في جميع الأركان، ولكن التخفيف نسبي، فثبت عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه -وكان أميراً لـ عمر على الكوفة- وكان رضي الله عنه وأرضاه من أحرص الناس على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الصحابي الجليل الذي يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارم فداك أبي وأمي)، هذا الصحابي الجليل الذي غبّر قدمه في سبيل الله عز وجل، وأبلى في الإسلام بلاءً عظيماً لا يعلم قدره إلا الله عز وجل، ومع هذا كله آذاه أهل الكوفة، وانظر كيف يبتلى الصالحون! فكل داعية وكل طالب علم وكل عبد صالح يتكلم فيه فلينظر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل ذلك أنبياء الله عز وجل، فهذا الصحابي الجليل آذاه أهل الكوفة، وما زالوا يؤذونه حتى أرسلوا وفداً إلى عمر، وذكروا له عدة شكاوى: أول شيء أنه وضع باباً بينه وبين الناس، فجعل على قصره باباً لكي يحتجب عن الناس. ثانياً: قال قائلهم: أما وقد سألتنا عن سعد فإنه لا يقسم بالسوية، ولا يمشي في السرية، والشكوى الثالثة إنه لا يحسن أن يصلي بنا! قبحهم الله وقبح ما جاءوا به، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5]، فزعموا أنه لا يحسن الصلاة، انظروا ماذا يقولون عن أحد الأجلاء الذي كان سابع سبعة في الإسلام؟ كان يقال له: سبع الإسلام، وقيل: سدس الإسلام، ومع هذا قالوا عنه: ما يحسن الصلاة! شرعت الصلاة فرآها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كفار، أو أن أمهاتهم لم تلدهم، ما كانوا يفقهون من دين الله شيئاً، وهو يجاهد ويجالد رضي الله عنه وأرضاه مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتون ويقولون: ما يحسن أن يصلي! -وهذا في الصحيح-، فأرسل عمر محمد بن مسلمة، فوجد الباب كما ذكروا فأحرق الباب، وكان قد قال له عمر: إن وجدت له باباً كما زعموا فأحرقه ثم لا تلبث حتى تأتيني به، فلما جاء وقف على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقام الوفد وقال أحدهم: أما وقد سألتنا عن سعد فإنه لا يقسم بالسوية، ولا يمشي في السرية، ولا يحسن أن يصلي بنا الصلاة، فقال رضي الله عنه: أما الباب فإن الناس الذين في السوق قد شوشوا عليّ أثناء الخصومات؛ لأنه كان يقضي بين الناس، فكان إذا جلس يريد أن يسمع الخصوم، علت أصوات الناس في السوق، فلا يستطيع أن يسمع الخصوم، فاتخذ هذا الباب حتى يحجب عنه أصوات الناس في السوق، ويستطيع أن يقيم شرع الله عز وجل، انظروا كيف تفهم الأمور على العكس تماماً؟! فعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا ولهذا فكل من أظلم قلبه -والعياذ بالله- ساءت ظنونه في خلق الله عز وجل، ولكن المؤمن التقي الورع دائماً يلتمس المخارج، فهذا رده على الشكوى الأولى. وأما رده على الشكوى الأخرى فقال: إنهم يتهموني أني لا أحسن أن أصلي بهم مثال صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله! ما كنت آلو أن أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطول في الأوليين، وأحذف في الأخريين، فجاء بالسنة رضي الله عنه، وصدق وبر، ومن عاداه لقمه الحجر، حتى إنه رضي الله عنه قال: اللهم! إن كنت تعلم أنه كاذب فيما يقول، فأطل عمره، وأذهب بصره، وعرضه للفتن، فعمر فوق المائة سنة، وسقط حاجباه، وهو يتغزل بالنساء وعمره فوق المائة، تقول له المرأة: يا هذا! اتق الله، فيقول: أصابتني دعوة الرجل الصالح، نسأل الله السلامة والعافية! فالشاهد في قوله: ما كنت آلو -يعني أقصر- أن أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أطول في الأوليين، في الأخريين، وهذا يدل على أنه كان يستعجل ويخفف فيهما، والذي عليه العمل أن يكون قيامه في الأخيرتين أخف من قيامه في الأوليين، وأن يكون ركوعه وسجوده أخف، لكن مع مراعاة التعادل في الأركان. واختلف العلماء رحمهم الله: هل الأولى والثانية من الأوليين بقدر واحد أو تخفف الثانية دون الأولى؟ والذي اختاره بعض العلماء أن ما ورد من الأحاديث بالمساواة في الأولى والثانية فسببه أن الأولى ينسب لها التطويل بالقراءة، لكن ما قرأه النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية يعادل الذي قرأه في الأولى، وطالت الأولى بدعاء الاستفتاح، وحينئذ تكون روايات الإطالة في الأولى على الثانية محمولة على وجود دعاء الاستفتاح، والتطويل ليس في القراءة، وإنما هو لوجود دعاء الاستفتاح. وقال بعض العلماء: أنه يطول في قرأءة الأولى، ويقصر في قراءة الثانية. ثم في الثالثة والرابعة وجهان أيضا ً لأصحاب الشافعي رحمهم الله، منهم من قال: يقرأ في الثالثة والرابعة كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، فيقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] في الثالثة، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] في الرابعة، وهذا يعني أن هناك فرقاً نسبياً، وعلى كل حال فالسنة تخفيف الأخيرة عن الأولى، والله تعالى أعلم.

حكم رفض المستأجر إتمام عقد الإجارة

حكم رفض المستأجر إتمام عقد الإجارة Q لو أن المستأجر رفض وأبى أن يتم الإجارة بعد التزام جزء من العين المؤجرة، وبقي جزء آخر صالح الانتفاع فما الحكم في ذلك؟ A الحكم أنه يلزم بإتمام عقد الإجارة، فجمهور السلف والخلف على أن عقد الإجارة من العقود اللازمة، يعني إذا ثبت بين طرفين إجارة شرعية فإنه إذا صح العقد وثبت يجب على الطرفين أن يتما العقد، فإذا انهدمت بعض العمارة، وبقي بعضها على وجه يمكن الانتفاع به، فقال المستأجر: أنا أريد أن أبقى في هذا الجزء ولا ضرر على المالك، فإنه يلزم شرعاً بإتمام العقد لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، والإجارة عقد، وأمر الله بالوفاء بالعقد، فلزم المؤجر أن يتم العقد لصاحبه، ولا يجوز له في هذه الحالة أن يمتنع؛ لأن امتناعه ليس من حقه وإن كانت العين ملكاً له، فالمنفعة ملك للمستأجر حتى يتم مدة الإجارة، وينتهي عقدها، ومن هنا يرتفع الأمر إلى القاضي، فيلزمه القاضي بإتمام العقد لما ذكرناه، والله تعالى أعلم.

وسائل معينة للتخلص من داء الشح

وسائل معينة للتخلص من داء الشح Q أجد في نفسي داءً يكاد أن يهلكني، فلقد كنت فقيراً ثم أغناني الله من فضله بالمال، والآن أجد في نفسي شحاً وبخلاً في الإنفاق في سبيل الله، ويحزنني ما يفوتني من المال، فكيف أتخلص من هذا الداء؟ A من أعظم النقم التي يبتلي الله عز وجل بها عبده أن يقفل في وجهه أبواب الخير، ومن أعظم أبواب الخير على الإطلاق باب النفع في الدين مثل العلم، وباب النفع في الدنيا مثل الإنفاق لستر العورات وتفريج الكربات وبذل الجاه والشفاعة لمن يحتاج، فإذا أراد الله عز وجل بعبده خيراً فتح به أبواب الخير، وفتح له أبواب الخير، فيسر له تعليم الناس، ودلالتهم على الخير، ولم يشح بعلمه إذا كان طالب علم، وتمنى أن الناس كلهم علماء، وإذا كان خطيباً أو إماماً أو معلماً تمنى أن لو ينزع بيده العلم من قلبه لكي يضعه في غيره مع مساواته فيما هو فيه، من حبه للخير للناس، فهذا ولي الله المؤمن، الذي طهر الله قلبه وسلمه، وهو بخير المنازل عند الله؛ لأن الله أعطاه حكمة فعمل بها وعلمها للناس. وكذلك إذا أعطاه الله المال، سلطه على هلكته بالحق، وإذا أراد الله بعبده شراً، قسا قلبه، وعزب عنه رشده، فأخذ ينظر لنفسه، وكأنه يستوجب على ربه أنه مالك للمال، وكأن المال قد أتاه بحوله وقوته، فنسي نعمة الله، وبطر بما آتاه الله، وكفر بفضل الله، فعندها لا يأمن من استدراج الله وعقوبته، ولذلك الرجل الأعمى حينما أعطاه الله أمنيته فأذهب الله عنه العمى، وأوتي المال، فأعطي وادياً من الغنم وكثر غنمه، جاءه الملك في صورته التي كان عليها، وقال له: أنا ابن سبيل منقطع، فقال له: كنت أعمى فرد الله علي بصري، وكنت فقيراً فأغناني الله، والله! لا أمنعك اليوم من مالي شيئاً؛ لأنه يحس أن المال ليس بيده، وأن المال مال الله، ويحس أن النعمة جاءته من الله، فأخذ يلتمس رضا الله بأي وجه من الوجوه، فقال: دونك الوادي فخذ منه ما شئت، والله! لا أمنعك من مالي شيئا، ً إيمان كامل وتسليم كامل، وهذا كله لا يكون إلا بفضل الله ثم بحياة القلوب، فعلى العبد دائماً أن يفكر: كيف يعامل الله؟ الدنيا فانية زائلة لا محالة، يا هذا! إذا أصلحت ما بينك وبين الله أصلح الله أمرك وأصلح حالك، فأما ما سألت عنه من داء الشح فأقول: أولاً: أوصيك ونفسي بتقوى الله عز وجل وأن تكثر من الدعاء، فإنه والله! لا يمكن أن ينجيك مما ابتليت به إلا الله وحده لا شريك له، فتدعو الله في الأسحار، وتقوم في جوف الليل، وتبكي وتتضرع إلى ربك قائلاً: اللهم! أصلح لي قلبي، اللهم! إني أعوذ بك من فتنة هذا المال، اللهم! اجعله لي عوناً على طاعتك، اللهم! بارك لي في مالي، اللهم! اجعل ما رزقتنيه عوناً لي على طاعتك ومحبتك ومرضاتك، يالله! سهل لي الخير، ونحو ذلك من الدعوات التي تسأل فيها ربك ما يرضيه عنك. ثانياً: أن تكثر من الأسباب التي تعينك على الجود والسخاء، ومن أعظمها قصر الأمل في الدنيا، وعظم الرجاء في الآخرة، يا هذا! ليس لك من مالك إلا ما لبست فأبليت، وأكلت فأفنيت، وتصدقت فأبقيت، ليس لك من هذا المال إلا ما قدمته لآخرتك وابتغيت به ما عند ربك، فاعلم علم اليقين أن هذا المال لا يمكن أن يكون نعمة حقيقية إلا إذا كان في يدك لا في قلبك، ومن الأسباب التي تعينك على إنفاق المال أن تتذكر كيف كنت، وأن تعلم علماً يقينياً لا شك فيه ولا مرية أن الله قادر في طرفة عين أن يجعلك فقيراً، فكم من إنسان أصبح غنياً فأمسى فقيراً! ولربما يكون الإنسان ثرياً وفي طرفة عين يكون فقيراً، جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله برحمته الواسعة، ويقال: إنها حدثت مع الوليد بن عبد الملك، والمشهور أنها عن الوليد، فجاء رجل إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك رحمه الله، فدخل عليه وهو كفيف البصر، فقال: يا أمير المؤمنين! إني كنت أغنى قومي، وكان عندي من المال ما لا يعد ولا يحصى من إبل وغنم، وكان عندي من العبيد والموالي ما لا يحصى كثرة، وكانت لي ضيع -يعني بساتين- ففوجئت في ليلة من الليالي بمطر غزير فجاء السيل فلم يبق من ذلك شيئاً، ما أبقى له مالاً ولا ولداً ولا أهلاً، اجترفهم السيل عن بكرة أبيهم، قال: فرقيت على شجرة فسلمت ونجوت بفضل الله عز وجل، وما زال يبكي عليهم حتى فقد بصره، ففقد أهله وفقد ماله وفقد بصره، وكان في أعز الغنى، فلا يأمن أحد مكر الله عز وجل، ومكر الله يحل على القوم الفاسقين، ويحل على الظالمين، ويحل على المعتدين. وقد يكون الإنسان في نعمة ورغد من العيش ويبسط الله له النعمة، فيأتيه الرجل في ظلمة ليل أو ضياء نهار، ويقول له: إني في كربة وفي حاجة وفي ضائقة وهو صادق، والله! لو كان عنده شعوره لعلم أن هذا الرجل ابتلاء من الله قبل أن يكون رجلاً محتاجاً، أي شخص يقف عليك وعندك قدرة على أن تعطيه من الدين أو الدنيا فاعلم أنه ابتلاء من الله، قبل أن يكون رجلاً محتاجاً، إلا أن يكون كذاباً فهذا أمر آخر. فعلى كل حال؛ على الإنسان أن يستجمع الأسباب التي ذكرناها، ومن أعظم الأسباب أنه لا يأمن مكر الله، فقد يؤخذ منه المال في طرفة عين، والله على كل شيء قدير، وهذا أمر لا يعجز الله في الأمم فضلاًً عن الأفراد، فكم من قرية أمست ظالمة فما أصبح لها أثر، وكم من قرية أصبحت ظالمة فأمست وهي بحالٍ بئيس {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} [هود:102] ما قال: الأفراد ولا الأشخاص ولا القرية {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود:102] ما قال: الأفراد ولا قال: القرية، وإن كان ذكر لنا مثل القرية إذا جاءها بأسه بياتاًً، فإذا جاء بأس الله بياتاً أو جاء صباحاً فهذه سنة الله، أما إذا جاء للأخذ والقدرة الإلهية المتعلقة بصفاته سبحانه وتعالى فقال: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} [هود:102]، وهذا تعظيم لصفات الله متعلق بالتوحيد، فلما جاء عند الصفة وهي الأخذ جاء بصيغة الجمع {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود:102]، جملة وهي ظالمة حالية، أي: والحال أنها ظالمة {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]، فالإنسان الذي يشح بماله عليه أن يعلم علم اليقين أن لله سطوات، وأن لله أخذات، وأن الله سبحانه وتعالى يبتلي كل من أعطاه النعمة، ولذلك قيل لقارون: {أَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} [القصص:77]، فلما عتا وطغى وتمرد على الله جل وعلا، أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، فهو في الأرض يتزلزل فيها إلى يوم القيامة {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81]، فلا أحد يستطيع أن ينصر العبد إذا أخذه الله عز وجل، فعلى الإنسان أن ينتبه، فهذا المال امتحان من الله. ومما يعين على ترك الشح، وعدم الاغترار بالمال؛ كثرة ذكر الآخرة، فالذي يعلم أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يأخذه بين عشية وضحاها، فإنه يزهد في الدنيا وتهون عليه الدنيا، ولذلك انظر إذا حضر الأجل إلى الشخص فإنه يتمنى لو تصدق بماله كله؛ لأنه تهون عليه الدنيا كلها، ويزول عنه غروره. ومن الأمور التي أوصيك بها والتي تعينك على ترك الشح أن تنظر إلى الأسباب التي ولدت الشح في قلبك؛ من وجود القرناء، ومنافسة القرناء، والجلوس مع الأثرياء، وكثرة الحديث في الدنيا، فإن هذا مما يورث الشح، ومن جالس قوماً تأثر بأخلاقهم، فجالس الأخيار والصلحاء والأتقياء والفضلاء وابتغ ما عند الله سبحانه وتعالى، واسأل عن عورات المسلمين فاسترها لعل الله أن يسترك، واسأل عن كرباتهم فنفسها لعل الله أن ينفس كربتك، والتمس مرضات الله سبحانه وتعالى. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل ما وهبنا من الدنيا وزينتها عوناً على طاعته ومحبته ومرضاته. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

كتاب اللعان [4]

شرح زاد المستقنع - كتاب اللعان [4] مسائل إلحاق الولد بوالده في نسبته إليه من المسائل المهمة التي اعتنت بها الشريعة الإسلامية، وجاءت نصوص الكتاب والسنة تبين أحكام هذه المسألة التي تعم بها البولى، ويحتاج إلى الفصل في كثير من مشاكلها.

مناسبة ذكر مسائل إلحاق الولد بوالده في كتاب اللعان

مناسبة ذكر مسائل إلحاق الولد بوالده في كتاب اللعان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا الفصل في الحقيقة ليس من فصول اللعان، وليس هو من المسائل التي تتعلق بباب اللعان من كل وجه، ولكنه مختص بمسألة الأنساب، وإلحاق الولد بوالده في نسبته إليه، ومن عادة العلماء رحمهم الله أنهم يذكرون المسائل المتشابهة في أقرب المظان، فمسألة الأنساب مسألة مهمة، وتترتب عليها حقوقٌ شرعية، ولذلك اعتنت الشريعة الإسلامية بها، وجاءت نصوص الكتاب والسنة تبين أحكام هذه المسألة التي تعم بها البلوى ويحتاج إلى الفصل في كثير من مشاكلها؛ لأن مسألة النسب تقوم على الإثبات والنفي، فإما أن يثبت نسبة شخص إلى والديه، وإما أن تنفى هذه النسبة، فنظراً إلى أن مسائل النسب فيها إثبات ونفي، وبعض مسائل اللعان تتضمن نفي الولد، فنظراً لوجود هذا الاشتراك ناسب أن يعتني المصنف رحمه الله بذكر أحكام النسب ولحوق الولد بعد باب اللعان؛ لأن اللعان في بعض صوره فيه نفي الزوج للحمل، أو ينفي الولد الذي وضعته زوجته، فينفي نسبته إليه، وحينئذٍ يرد Q ما هو الأصل في هذه المسائل؟ هل الأصل أن كل من ادعى نسبة ولدٍ إلى شخص أنه يصدق ويقبل منه أم أن الأمر فيه تفصيل؟ هذا ما سيوضحه المصنف رحمه الله في هذا الموضع.

البرهان الذي يقيمه من ادعى نسبا إلى رسول الله

البرهان الذي يقيمه من ادعى نسباً إلى رسول الله مسألة النسب تارة تكون من رجل يدعي نسبة ولدٍ إليه، وتارة تكون من ولدٍ يدعي النسبة إلى رجلٍ آخر ويقول: إنه والده، وقد يدعي ذلك في حال حياة الشخص، ويطالب بإثبات نسبه إلى ذلك الشخص، وتارة يدعي ذلك بعد موته، وقد تحصل الدعوى لشيءٍ عظيمٍ كريم كأن يدعي نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى الأنصار وغيرهم ممن لهم فضل ومكان، والأصل أن الناس مؤتمنون على أنسابهم إلا من ادعى الشرف، فإن من ادعى الشرف والانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى من لهم الفضل كالأنصار ونحوهم ممن لهم حق في الإسلام فإنه لا تقبل منه الدعوى مجردة، لكن لو كان يعلم بشهادة العدول من قرابته الذين يأتمنهم في دينه، حيث قالوا له: نحن من آل البيت، أو عندنا ما يثبت أننا من آل البيت، فإن من حقه أن يبني على شهادة من يثق بهم. فلا يقبل من أحد أن يدعي النسب والشرف إلا أذا أثبت، والإثبات يكون بالشجرة -كما هو معلوم- التي يعرفها أهل الخبرة، ويكون بشهادة العدول أن فلاناً من آل فلان، ويكون آل فلان قد ثبت نسبتهم إلى آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون الإثبات بما يسميه العلماء: شهادة السماع، وشهادة السماع هي: أن يعرف بين الناس أن البيت الفلاني أو الفخذ الفلاني أو القبيلة الفلانية تنسب إلى كذا وكذا، فإذا اشتهر بين الناس أن هذا البيت من آل البيت فإنه يلحق ويحكم بثبوت نسبه بهذه الشهادة، وهذه التي يسميها العلماء: شهادة السماع، يعني يتسامع الناس في بيئة أو حي أو قبيلة أو جماعة بأن بني فلان من آل النبي صلى الله عليه وسلم، أو بني فلان من آل البيت، فيحكم بهذه الشهادة. وقد ذكر غير واحد من العلماء رحمهم الله أن شهادة السماع حجة في النسب، وشهادة السماع هي أن يستفيض في البيئة أو المجتمع أو بين الناس الذي يعيش بينهم نسبة هذه الجماعة أو هذا الفرد إلى تلك الجماعة وحينئذٍ يحكم بهذا ويعمل به، كما هو معلوم في باب الشهادات.

الأمر المترتب على من انتسب إلى غير أبيه

الأمر المترتب على من انتسب إلى غير أبيه الحاصل: أن الشريعة الإسلامية حرمت على المسلم أن ينفي نسبة ولدٍ من ولده، وحرمت على المسلم أن ينتسب لغير والده، فإذا انتسب الإنسان إلى غير والده فقد اعتدى على حدود الله، وانتهك محارم الله، وحلت عليه لعنة الله والعياذ بالله! لأنه عق والده، وقطع رحمه، وكذب في النسب، والكذب في النسب تترتب عليه حقوق، وتترتب عليه أمور عظيمة، وقد تكون هناك أمور مرتبة على وجود هذا النسب، فبنفيه وإبطاله له تسقط هذه الحقوق؛ كحق العاقلة، وحق الإرث، ونحو ذلك، فيسقطه عن آله وقرابته، ممن يلد أو ممن ينسب إليه.

جزاء من نفى نسبة ولده إليه

جزاء من نفى نسبة ولده إليه كذلك أيضاً لا يجوز للوالد أن يعتدي على حدود الله عز وجل فينفي نسبة ولدٍ من ولده، إلا إذا كان عنده ما يدل على عدم نسبته إليه فهذا أمرٌ آخر، أما من حيث الأصل فإنه كفرٌ بنعمة الله، وهذا من أعظم الظلم؛ لأن الظلم مراتب، وأعظم ما يقع الظلم إذا كان على القرابة، وإذا كان الظلم على أقرب الناس إلى الإنسان وهم أولاده فهو أعظم ذنباً عند الله عز وجل، ولذلك قرر العلماء أن الذنب مع الغريب ليس كالذنب مع القريب، فالذنب مع القريب ذنبٌ وقطيعة رحم، فكيف إذا كان من أقرب قريب الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه بضعة من الإنسان فقال عليه الصلاة والسلام: (إنما فاطمة بضعةٌ مني). وقد تهور كثيرٌ من الناس -إلا من رحم الله- وتفننوا في مسألة أذية الولد إلى درجة أن الوالد يقول لولده عند الغضب: لست بولدي ولا أعرفك ولا تعرفني! فيتبرأ منه، وهذه كلمة عظيمة جداً، ينبغي أن يحذر منها الناس، وينبغي على الخطباء وطلاب العلم أن ينبهوا الناس إلى هذا الأمر؛ لأنه اعتداءٌ لحدود الله عز وجل، وإذا أخطأ المخطئ فإنه يقوم في خطئه، ولا تزال الحقوق الثابتة ويدعى غير الحقيقة، فالتبري من الأولاد عند حدوث خطأ أو شيء من ذلك لا يجوز شرعاً؛ إلا في مسائل محددة دلت عليها الشريعة، ومنها البراءة في مسألة الولاء والبراء في العقيدة، وهذه مسألة خاصة والتبري فيها له حدود وله ضوابط، ولا يتعرض للنسب، بل لا يجوز للوالد إذا أغضبه ابنه أو أخطأ عليه وهو مسلم وابنه مسلم أن يتبرأ منه إلى درجة أن يحرمه من الإرث وكأنه أجنبي نسأل الله السلامة والعافية! فهذا من أعظم الذنب، ولذلك ذكروا أن من علامات سوء الخاتمة والعياذ بالله! الجور في الوصية، وذلك بحرمان المستحق من الورثة، فهذا ممن يختم له بخاتمة سيئة، حتى أن بعض العلماء ذكر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، قالوا: هذا يكون من أصناف أهل الكبائر فيدخلها دخول أهل الكبائر المعذبين، فيظلم ولده فيتبرأ منه فيقول لأولاده: فلان لا تعطوه الإرث، فلان ليس مني ولست منه، فيختم له -والعياذ بالله- بهذه الخاتمة التي توجب دخول النار والعياذ بالله! بناءً على أنها من كبائر الذنوب لما فيها من الظلم وحرمان المستحق من حقه. الشاهد أن باب نسبة الولد لوالده بينت الأصول الشرعية في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، وهو أن ينسب المولود لوالده، ولذلك قال تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5]، وبين النبي صلى الله عليه وسلم الأصل في قوله: (الولد للفراش) كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيحين، فدل على أن المرأة إذا ولدت ولداً على فراش زوجها فالولد منسوب إلى ذلك الزوج.

الأحوال التي يحكم فيها بلحوق الولد إلى والده

الأحوال التي يحكم فيها بلحوق الولد إلى والده سيبين رحمه الله في هذا الفصل متى يحكم بلحوق الولد ونسبته إلى صاحب الفراش؟ ومتى يحكم بعدم اللحوق؟ وهذه مسائل -كما ذكرنا- مهمة جداً، ولها أهمية، خاصة النفي إذا كان في غير موضعه أو الإثبات إذا كان على غير وجهه.

أن يكون الزوج ممن يمكن أن يولد لمثله

أن يكون الزوج ممن يمكن أن يولد لمثله قال المصنف رحمه الله: [من ولدت زوجته من أمكن كونه منه لحقه]. (من ولدت زوجته) هذا شرط أن تكون زوجة له، والأصل أن يكون الزواج زواجاً شرعياً صحيحاً، فلا إشكال حينئذ في نسبة الولد للوالد، وأيضاً لو كان الزواج فيه خطأ ويعتقد أنه زواجٌ شرعي، مثل أن ينكح نكاح الشغار ويظن أنه نكاح صحيح، يزوج هذا بنته على أن يزوجه الآخر بنته ويقع النكاح بينهما ثم يولد لأحدهما، فينسب الولد إلى والده مع أن النكاح محرمٌ شرعاً ولا يجوز، فإذا كان في نكاح صحيح، أو نكاح فاسد وعنده تأويلٌ ويظن أنه صحيح؛ فإن الولد يلتحق به، أو نكح المرأة بدون إذن وليها ويظن أن هذا جائز، ولا يعتقد اشتراط الولي وهذا مذهب الحنفية رحمهم الله فالعقد فاسد، لكن الولد يلتحق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي)، كما تقدم معنا في باب النكاح. فالشاهد أنه إذا كان الولد ناتجاً عن وطء في نكاح صحيح أو نكاح فاسد أو ناتجاً عن وطء شبهة -هذه ثلاث صور- فإن الولد يلتحق، ووطء الشبهة مثل أن يأتي شخص إلى امرأة يظنها زوجته وتظنه زوجاً لها، ويطؤها على خلوٍ وبراءة ثم بعد ذلك يتبين أنها ليست بزوجته وتحمل من هذا الوطء، فالولد ينسب لهذا الواطئ، ويكون وجود الشبهة موجباً لدرء الحد. كذلك لو تزوج أختاً له -نسأل الله العافية- من الرضاع وهو لا يدري، ثم بعد عشر سنوات أو عشرين سنة تبين أنها أخته من الرضاع، فيفرق بينهما، ويعذر لعدم علمه وجهله بالحكم، ثم ينسب جميع الأولاد الذين ولدوا إليه، وحكم من ولدت زوجته في نكاح صحيح أو نكاح فاسد حكم الموطوءة بشبهة. وقوله: (ولدت من أمكن): عندنا ضابط يتعلق بالزوج، وضابط يتعلق بالموطوءة التي هي الزوجة، فمعنى الإمكان الذي ذكره المصنف رحمه الله أنه لابد وأن يكون الزوج ممن يمكن أن يولد لمثله، فقد يكون زوجاً لا يمكن أن يولد لمثله، مثلاً قال: أريد بنتك -يخاطب شخصاً آخر- فلانة لابني محمد، ومحمد عمره سبع سنوات، قال: قبلت، وعقد النكاح بينهما، ثم إن هذه البنت حملت! ابن سبع سنوات وثمان سنوات لا يمكن أن تحمل المرأة منه ولو وطئها، فمثله غير داخل في الإمكان، فهناك إمكان جرت العادة والحس بإمكانه.

عدم نقصان مدة الحمل عن ستة أشهر

عدم نقصان مدة الحمل عن ستة أشهر قوله: (ومن أمكن) أي: أن يولد لمثله، وكذلك تكون المرأة أيضاً في حملها ووضعها على صفة لا يستحيل أن ينسب الولد إليه، وهذا ما فسره رحمه الله بقوله: [بأن تلده بعد نصف سنة]. بأن تلد الولد بعد نصف سنة من دخوله عليها، فإذا كان دخوله في أول السنة وولدت بعد ستة أشهر من دخوله، فإن الستة الأشهر زمن يمكن أن يكون به الحمل، فينسب الولد للداخل، لكن لو كان قبل ستة أشهر فلا يمكن؛ لأن الله يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]، فجعل الحمل مع الفصال -يعني: انتهاء مدة الرضاع حين يفصل الولد وينتهي من الرضاع- ثلاثين شهراً، الرضاع له سنتان، أي: أربعة وعشرون شهراً لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233]، فالحولان أربعة وعشرون شهراً، وإذا كان الله عز وجل يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15] فبقي من الثلاثين ستة أشهر، وهي أيام الحمل. ومن فقه العلماء أنهم فرعوا من هذه الآية الكريمة ما لا يقل عن خمسين مسألة من مسائل الأحكام الشرعية، بل كان بعض مشايخنا يقول: لو شئت أن أوصلها إلى مائة مسألة لأوصلتها! وكلها من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]، ومنها مسائل الحمل والإثبات خاصة عند اختلاط الأنساب، وحصول وطء الخطأ، ووطء الشبهة، ومسألة إسقاط الجنين إذا كانت المرأة توفيت وفي بطنها جنين فمتى يشق بطنها؟ كل هذه المسائل تتعلق بالستة الأشهر التي جعلوها زمن الإمكان لدلالة نص القرآن عليه، حتى الأطباء يستفيدون من هذه الآية الكريمة، فالستة الأشهر هي مدة الحمل، فإذا ولد الجنين في أقل منها فإنه ينسب إلى الداخل السابق، لا إلى الداخل الأخير، فإنه إذا ولدت قبل ستة أشهر من دخوله عليها فمعنى ذلك أن الحمل من غيره لا منه هو؛ لأنه لا يمكن أن يقع حمل ووضع قبل ستة أشهر، وبناءً على ذلك قال المصنف رحمه الله: (بأن تلده بعد نصف سنة) أي: ستة أشهر، السنة القمرية اثنا عشر شهراً، فإذا ولدت بأقل من ستة أشهر فإنه لا يمكن أن ينسب الولد إليه. قال المصنف رحمه الله: [منذ أمكن وطؤه]. القضية ترجع إلى دخوله عليها، فما هو الضابط في السن؟ هل العبرة بتسع سنين أو بعشر سنين أو باثنتي عشرة سنة أو بخمس عشرة سنة؟ ومتى يبلغ الذكر حتى يتأتى منه المني وتحمل امرأته؟ الضابط عند بعض العلماء عشر سنوات، وهي سن التمييز، فإذا دخل في العاشرة فإنه يمكن أن يحتلم، فمن الناس من يبكر ويحتلم وهو في العاشرة، فقالوا: العشر هي أقل حد، فإذا حملت منه وعمره تسع سنين لا ينسب إليه، ولو حملت منه وعمره ثمان سنين لا ينسب إليه؛ لأنه في الغالب -والحكم للغالب- لا يحتلم في مثل هذه السن، وقالوا: سن التمييز ذكره النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنوات، وهي أقل ما يمكن أن يكون فيها الاحتلام، وبعض الأطباء المتأخرين يقولون: فعلاً في الطب ما يشهد بصدق من قال من الفقهاء بهذا القول، وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام حينما أمر بضرب الصبي لعشر. على كل حال، الأصل أنه لابد أن يكون حمل هذه المرأة يمكن أن ينسب لزوجها، بأن تلده بستة أشهر منذ أمكن وطؤه، فالعبرة بالوطء الذي يتأتى منه الحمل، فإذا كان إمكان الوطء له أربعة أشهر أو خمسة أشهر؛ نسب إلى ما قبله لا إليه.

عدم زيادة مدة الحمل على أربع سنوات

عدم زيادة مدة الحمل على أربع سنوات قال المصنف رحمه الله: [أو دون أربع سنين منذ أبانها]. هنا تحتاج إلى معرفة أقل مدة الحمل وأكثر مدة الحمل، فقد يطلق الزوج المرأة ثم بعد شهر أو شهرين يتبين أنها حامل، وقد يتبين أنها حامل بعد سنة، وقد يتبين بعد سنتين، وقد يتبين بعد ثلاث سنوات، وقد تضع بعد ثلاث سنوات، فهنا مشكلة، إذا طلق الرجل المرأة وبانت منه وانفصلت عنه، ثم تبين حملها في المدد المعروف فلا إشكال؛ لأنه إذا طلقها وبان أنها حامل بقيت على حالها حتى تضع، والولد ولده، لكن الإشكال إذا لم يقع هذا الحمل، ولم تلده على المعتاد، بل تأخرت في وضعها إلى أربع سنوات! فهل هناك مدة تبين آخر الحمل؟ اختلف العلماء رحمهم الله: بعضهم يقول: لا أقبل فوق تسعة أشهر، وهذا قول ابن عبد الحكم من فقهاء المالكية، وما بعد التسعة الأشهر لو طلقها وأبانها ثم ظهر فيها حمل؛ فهو لغيره وليس له. وهذا إذا لم تكن قد تزوجت؛ لأنه إذا تزوجت ينسب للثاني ولا إشكال، نحن نتكلم في امرأة طلقت، وبقيت خالية من الأزواج حتى وضعت ما في بطنها، فهل ينسب إلى الزوج الذي طلقها أو ينسب إليها، ويكون هناك شبهة أنها زنت أو استكرهت على الزنا؟ هنا الإشكال، فما هي أقصى مدة يمكن أن ننسب فيها الولد للفراش؟ من أهل العلم من قال: تسعة أشهر -كما ذكرنا- وهو من أضعف الأقوال، ومن أهل العلم من قال: أربع سنوات، وهو مذهب الشافعية والحنابلة في المشهور، وبعض أصحاب الإمام مالك يقولون بهذا القول، قالوا: إن أقصى ما وجدناه من الحمل أربع سنوات، فإذا وضعت الولد لأربع سنين، يعني: لم يتجاوز أربع سنوات منذ طلاقه وفراقه لها؛ نسب الولد إليه، وقال الحنفية: خمس سنين، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع، والحقيقة أن الأربع سنوات هي التي حكيت كأقصى حد وجد، وذكر عن بعض العلماء أن أمه بقيت في حملها أربع سنين، والله عز وجل على كل شيء قدير، وهذا أمر لله فيه حكمة، وقد تضعف المرأة ويكمل الجنين، وحدث في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن امرأة صالحة معروفة بالخير والصلاح غاب عنها زوجها، ثم قتل واستشهد، فحزنت عليه حزناً عظيماً، ثم تزوجت برجلٍ من بعده، وبعد زواجها بأقل من ستة أشهر بان الحمل فيها، وهمّ عمر رضي الله عنه أن يرجمها؛ لأنها محصنة، والحمل عند عمر رضي الله عنه دليل على إثبات الزنا، كما في خطبته المشهورة في الصحيح، فكان يرى أن الحمل يدل على الزنا، وأن المرأة إذا كانت لا زوج لها وحملت يقام عليها الحد، فالشاهد أنه هم أن يرجمها، ولكن كان رضي الله عنه يشاور الصحابة، وكانت له طريقته أنه يستشير المهاجرين ثم الأنصار، ثم بعد ذلك يجمع الناس، فلما هم أن يرجمها سأل عنها فوجد أنها امرأة صالحة، وأنها يبعد أن يكون منها الزنا لما عرف من استقامتها وصلاحها، فتورع رضي الله عنه، وكان محدثاً ملهماً كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن يكن في أمتي محدثون فـ عمر)، فامتنع عن رجمها وأحب أن يشاور الناس، فاستشار المهاجرين فلم يجد شيئاً، ثم استشار الأنصار فلم يجد شيئاً، ثم جمع الناس كلهم فلم يجد شيئاً، فجمع النساء واستشارهن، فقامت امرأة كبيرة السن معروفة بالعقل وقالت: يا أمير المؤمنين! أنا أقص عليك خبرها، إن هذه المرأة حملت من زوجها الأول، ولما جاءها الحزن ركن الجنين، يعني: ضعف أن يخرج لأمده، ثم لما تزوجها الثاني انكشف بماء الثاني فولدت الجنين قبل زمانه، فحمد الله أنه لم يكن رجمها، وأسقط عنها الحد، وألحق الولد بالزوج الأول. فقد يقع في بعض الأحيان تأخر في الحمل سواءً لأمور طبية، أو لمشيئة الله عز وجل، وهو على كل شيء قدير، ومن حكمة الله أنه يخلف العادات، ودائماً ينتبه طالب العلم بل كل مسلم إلى أن إخلاف العادات من أكبر الأدلة على وحدانية الله عز وجل؛ لأن أهل الطبيعة يستدلون بأن الطبيعة هي التي أوجدت نفسها، فلما تختلف العادات يدل ذلك على أن هناك رباً يدبر هذا الكون ويصرفه سبحانه وتعالى، وهذا من أقوى الحجج في دمغ قولهم؛ لأن الطبيعة لا تضطرب، وهي التي ينسبون إليها الأشياء، فالشاهد أن الحمل قد يخرج عن الشيء المعتاد وقد يطول أمده، فبين ذلك رحمه الله حين قال: (أو دون أربع سنين منذ أبانها)، فاعتبر الحد أربع سنوات، وهذا قول من ذكرنا من السلف رحمهم الله أنه أربع سنين كحد أقصى، فما بين تطليقه لها وإبانتها من عصمته وبين وضعها لا يجاوز هذه المدة: الأربع السنين.

إلحاق الولد إلى من عمره عشر سنوات

إلحاق الولد إلى من عمره عشر سنوات قال المصنف رحمه الله: [وهو ممن يولد لمثله كابن عشرٍ]. (وهو): يعني الزوج الذي ولدت زوجته، يشترط فيه أن يكون ممن يولد لمثله، فإن كان ممن لا يولد لمثله -كأن يكون صغيراً- لم ينسب إليه، وعند العلماء الدليل الشرعي والدليل الحسي، فهناك أشياء دل الحس على صدقها، ودل الحس على كذبها، فيستند فيها إلى الحس، فهنا الدليل دليل حسي، إذ يستحيل أن الطفل أو الصبي الذي عمره ست سنوات أو سبع سنوات أن تحمل زوجته، ومن هنا يستند إلى دليل الحس، فإذا كان دون العشر لا ينسب الولد إليه اتفاقاً، فأقل سن ذكروه العشر، فأقل من عشر لا ينسب الولد إليه. وهكذا بالنسبة للأسباب الأخرى مثل المجبوب، وهو: المقطوع العضو، لا يتأتى منه وطء، فلا ينسب الولد إليه، إلا في مسألة استدخال المني في الفرج، فبعض العلماء يقول: إذا أقر به، وثبت أن زوجته استدخلت منيه إلى فرجها، وإن لم يقع وطء منه لها؛ فإن الولد ولده. وهذه المسألة ذكرها العلماء في القديم والآن في زماننا جاءت مسألة طفل الأنابيب! وجاءت مسألة تجميد المني من الرجل! بغض النظر عن كون ذلك يجوز أو لا يجوز، لكن انظروا كانت فرضية في القديم ومع ذلك فصلوا في حكمها من جهة ثبوت الولد أو عدم ثبوته، ومسألة يجوز أو لا يجوز هذه مسألة أخرى، إذ لا يجوز الإيلاج في الفرج من الأجنبي، ولا استدخال فيه في الفرج، ولا النظر إليه ولا لمسه، كما هو مقرر، لكن نحن نتكلم على إلهام الله عز وجل لتلك العقول وأولئك الأئمة الذين تكلموا على هذه المسألة، ففتحت وبينت الكثير من الإشكالات الموجودة في زماننا. على كل حال، إذا كان مجبوباً لا يتأتى منه الحمل فإنه لا ينسب الولد إليه، وكذلك لو كان صغيراً لا يتأتى منه المني الذي يكون به الحمل.

عدم ثبوت البلوغ بالشك

عدم ثبوت البلوغ بالشك قال المصنف رحمه الله: [ولا يحكم ببلوغه إن شك فيه] يعني: إن شُك في البلوغ، فلا يُحكم ببلوغه، (إن شك فيه) يعني: في الزوج؛ لأن العبرة بالبلوغ، لأن البلوغ يكون منه المني، وبينا أن من علامات البلوغ الاحتلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم- الصبي حتى يحتلم)، فالمني يكون منه الولد؛ لأن الله خلق الولد من ماء الرجل وماء الأنثى، فإذا كان في سنٍ يتأتى منه أن يحتلم -وهو سن الاحتلام- حكم بأنه بلغ والاحتمال قائم، لكن إذا شك هل بلغ أو لم يبلغ؟ فالأصل أنه لم يبلغ حتى يدل الدليل على أنه بلغ، فلا نثبت أنه بلغ إلا إذا ثبت بالدليل أنه قد بلغ بالاحتلام وبخروج المني، ولا يثبت البلوغ بالشكوك. وهذا مبني على قاعدة: الأصل بقاء ما كان على ما كان، فهو دون البلوغ، فلا نحكم بكونه بالغاً إلا إذا قام الدليل على بلوغه، لأنه ببلوغه تتعلق به التكاليف والإلزامات، والأصل براءة ذمته حتى يدل الدليل على بلوغه، وهذا مفرع على قاعدة: اليقين لا يزال بالشك، فنحن على يقين من أنه صبي وأنه دون البلوغ حتى نتأكد ونتحقق أنه قد بلغ.

وطء الجارية في الفرج أو دونه موجب لثبوت النسب

وطء الجارية في الفرج أو دونه موجب لثبوت النسب قال المصنف رحمه الله: [ومن اعترف بوطء أمته في الفرج أو دونه فولدت لنصف سنة أو أزيد لحقه ولدها]. بعد ما فرغ من بيان الأصول العامة شرع في مسألة التسري، وهو وطء الجارية، فالولد يلتحق بالوطء سواءً كان في نكاح وزواج، أو كان في تسري، الذي هو وطء ملك اليمين، فالرجل إذا وطئ مملوكته وأنجبت فالولد ولده، أي: ينسب الولد إليه، وتكون هي أمه، وتعتق عليه بعد موته، كما هو معلوم في الأصول الشرعية. فالوطء الذي يكون للجارية موجب لثبوت النسب، وهذا قرره النبي صلى الله عليه وسلم في قضية عبد بن زمعة واختصام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كما في الصحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل تابع الولد للسيد، وهذا مبني على قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش)، فقوله: (الولد للفراش) شمل الأمة والحرة، وبعبارة أخرى: الحديث يشمل الوطء في الزواج والوطء بملك اليمين؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش) يثبت نسبة الولد للفراش، والفراش في الشريعة نوعان: فراش بنكاح، وهو في الزواج، وفراشٌ بملك اليمين، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:5 - 6]، فجعل الفراش الشرعي المأذون به شرعاً على ضربين: فراش الزوجية {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} [المؤمنون:6]، وفراش ملك اليمين {أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6]، فلما قال: (الولد للفراش) أثبت الولد لكل فراش بناءً على الأصل، فإن كان فراشاً لنكاح نسب إليه، وإن كان فراشاً لوطء يمين نسب إليه. فهنا لو أقر السيد أنه كان يطأ هذه الجارية وولدت على فراشه -وهي ما زالت في ملكه، وولدت في المدة المعتبرة بعد ستة أشهر من وطئه لها- نسب الولد إليه، هذا من حيث الأصل الشرعي لقوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش). وقوله: (ومن اعترف): أي: أقر، (بوطء أمته في الفرج): الذي هو موضع الحرث، فإذا قال: إنه قد وطئها في فرجها الذي يكون منه الحرث، فالولد حينئذٍ ينسب له؛ لأن هذا مما يكون به ولد، وهو الأصل في الولد. وقوله: (أو دونه) أي: دون الفرج؛ لأنه إذا وطئ دون الفرج احتمل أن يسري الماء إلى الفرج فتحمل، فقد ينزل خارج الفرج فينزل الماء إلى الفرج وتحمل، فالشبهه قائمة، ولذلك إذا كانت هناك دلائل يحتمل أن الحمل منه فإنه حينئذٍ لا إشكال. وقوله: (فولدت لنصف سنة): من الوطء، لكن لو ولدت قبل نصف السنة -الذي هو الستة أشهر-، فقد ذكرنا أنه لا ينسب إليه سواء كان في وطء ملك اليمين أو غيرها، فمقصود المصنف: فولدت في ستة أشهر. وقوله: (أو أزيد): ولدت بعد سبعة أشهر أو ثمانية أشهر، أو تسعة أشهر، أو عشرة أشهر؛ لأنه مستصحب حكم الأصل، فالحال كما تعلمون يطول ويقصر. وقوله: (لحقه ولدها) أي: لحقه ذلك الحمل والذي ولدته، فإذا ولدت فإنه ينسب إليه ذلك الولد سواءً ولدت ولداً أو توأمين، كلهم ينسبون إلى ذلك الفراش؛ لأن الفراش منصوص حكمه بقوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش).

حال الولد إذا ادعى السيد أنه استبرأ جاريته

حال الولد إذا ادعى السيد أنه استبرأ جاريته قال المصنف رحمه الله: [إلا أن يدعي الاستبراء ويحلف عليه]. إذا وطئها ثم استبرأها بحيضة أو حيضتين، ثم ظهر فيها الحمل، تبين أنه ليس منه؛ لأنه بالاستبراء يتبين عدم الحمل، كما سيأتينا إن شاء الله في باب العدد والاستبراء، فإذا ظهر الحمل بعد الاستبراء ثبت عندنا أنه حمل غيره وليس بحمله، فلو استبرأها ثم بعد استبرائه لها بستة أشهر -بشرط ألا يطأها بعد الاستبراء- تبين أنها حامل، ووضعت بعد هذا الاستبراء بستة أشهر؛ فمن حقه أن ينفيه. وقوله: (ويحلف عليه): هذا اليمين تسمى يمين التهمة، وستأتي إن شاء الله أيمان القضاء والأيمان التي تنزل منزلة الشهود، والأيمان التي تسمى أيمان التهم يدفع بها الضرر، وتكون في مسائل خاصة، وهل تكون مغلظة أو غير مغلظة؟ كل هذا سنذكره في باب الأيمان والدعاوي والبينات في كتاب القضاء إن شاء الله تعالى، فيحلف بالله عز وجل أنه استبرأها، وأنه لم يحصل وطء منه بعد الاستبراء؛ لأنه قد يحلف أنه استبرأها ويحصل الوطء بعد الاستبراء فلا ينفيه؛ لأنه لا تبرأ ذمته إلا إذا استبرأها بعد وطئه لها، ولم يحصل وطء ثانٍ بعد الاستبراء؛ لأنه قد يستبرئها ويطؤها مرة ثانية فيكون الحمل من الوطء الثاني، والمراد أن يحلف أنه استبرأها ولم يطأها بعد استبرائها. قال المصنف رحمه الله: [وإن قال: وطئتها دون الفرج أو فيه ولم أنزل أو عزلت؛ لحقه]. هذه المسألة ملتحقة بالمسألة التي قبل في النفي، فيقول: إنه حصل الوطء دون الفرج وأنزل دون الفرج أو في الفرج ولم ينزل، ففي هذه الحالة إذا قال: وقع مني هذا الشيء فإنه لا ينفعه؛ والولد ولده؛ لأنه إذا وطئها دون الفرج احتمل أن يسري الماء إلى الفرج وتحمل، وأيضاً هو أقر أن هناك وطئاً، فحينئذٍ أثبت على نفسه أنه تعاطى السبب الذي يمكن أن يكون منه الولد، والغالب أن من يطأ أنه ينزل، فإذا جاء بشيء خلاف الغالب وخلاف المعتاد فقال: لم أنزل، كانت فيه شبهة وتهمة؛ لأنه قد يقصد الإضرار بأمته. والسبب في هذا أن بعض الناس كان فيهم شيء من الجاهلية، فيستنكفون من وطء الجواري حتى لا يأتي أولادهم منهن، فيعيرون ويعابون بهذا، وهذا من بقايا الجاهلية، وقد يضع الله من البركة والخير في ابن الجارية ما لا يضعه في ابن الحرة، فهذا من الجاهلية ونعرات الجاهلية، ومما ذكر عن زيد بن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه حينما لمزه هشام بن عبد الملك بذلك، قال له زيد: أتعيرني بذلك؟ هذا إسحاق أمه سارة، وقد جعل الله من نسله إخوان القردة والخنازير، وهذه هاجر كانت أمة لكن جعل الله منها خير الأولين والآخرين. فمسألة أنها أمة أو أنها حرة تعد من مخلفات الجاهلية {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فهذه من النعرات ومن الأمراض والآفات التي بقيت من الجاهلية في نفوس بعض الناس، فوصل به الظلم أنه ينفي ولده منها استنكافاً، ومن حكمة الله -وهو من غريب ما يحدث كما في التاريخ- أنه ربما كان أولاد الجواري والإماء أكثر نجابة وأرجح عقلاً وأكثر فضلاً من غيرهم، فالله سبحانه وتعالى لا يبتلي بشيء إلا عوض بخيرٍ منه. على كل حال، نتكلم على الظلم ومجاوزة الحد، فالظلم أنهم كانوا يطئون الجواري ويتخلون عن أولادهم، فهذا ضيقت فيه الشريعة، ووقفت الشريعة أمام من يريد الإضرار بالمرأة والإضرار بالولد؛ لأن الولد يتضرر بنفي نسبته إلى والده، فبين رحمه الله أنه في هذه الحال لو قال: وطئتها وأولجت فيها وجامعتها ولكني لم أنزل، فإن هذا خلاف المعهود، والغالب أن الإنسان عند الشهوة لا يستحكم نفسه؛ فحينئذٍ لا يقبل قوله، ويبقى على الأصل. وقوله: (أو عزلت) يعني: ما أنزلت في الفرج وإنما أنزلت خارج الفرج. وقوله: (لحقه): أي: لحقه الولد ولم ينفعه هذا الكلام، فهذه كلها دعاوى فيها تهمة، ولا يقبل قوله فيها.

الأمر المترتب على من أعتق جارية أو باعها بعد اعترافه بوطئها

الأمر المترتب على من أعتق جارية أو باعها بعد اعترافه بوطئها قال المصنف رحمه الله: [وإن أعتقها أو باعها بعد اعترافه بوطئها فأتت بولدٍ لدون نصف سنة لحقه والبيع باطل]. شخص كانت عنده أمة فوطئها ثم أعتقها، فتزوجها رجل بعد أن صارت حرة، أو باعها فوطئها المشتري على أنها ملك يمين له، فولدت لدون ستة أشهر؛ علمنا أن الولد للأول وليس للثاني، وحينئذٍ يكون قد باع أم ولده؛ لأنه تبين أنها كانت حاملة أثناء البيع، وتأتي مسألة بيع أمهات الأولاد التي تقدمت معنا، وقد اختار جمع من أئمة السلف -وهو قضاء بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- أنه لا يصح بيع أمهات الأولاد، وأن أم الولد تبقى جارية عند سيدها حتى يموت فتعتق عليه؛ لأنها أم ولده، ولذلك أحسن الله عز وجل إليها، ولا شك أن هناك ضرراً على ولدها؛ لأنه سيكون حراً ولا يملك أمه بعد موت أبيه، فتعتق بموت سيدها، ولذا مضى قضاء الصحابة رضوان الله عليهم بعدم بيع أمهات الأولاد، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من فرق بين أمٍ وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة)، وهذا الحديث فيه وجوه: بعض العلماء يقول: إنه في بيع أمهات الأولاد، فيبيع الأم ويبقي الولد؛ لأنه يتضرر ببقاء أمه جارية، وهذا لا شك أن فيه ضرراً عظيماً عليه. وقيل: (من فرق بين أمٍ وولدها) يدخل فيه ما يفعله بعض الناس خاصة في هذه الأزمنة التي قلّ فيها الورع، ونسيت فيها الحقوق، فيأتي وينتزع أولاد المرأة منها بعد تطليقه لها، ويأخذهم بالقوة ويفرق بين الأولاد وأمهم، وقد يمضي الشهر وقد تمضي السنة بل تمضي السنوات ولا يمكنهم من رؤية أمهم، فإن فعل ذلك فرّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة، وكان بعض مشايخنا يقول: إن الله يفرق قلبه ويفرق همه في الدنيا قبل الآخرة، فقلّ أن تجد رجلاً يفعل ذلك إلا وعجّل الله له عقوبة الدنيا قبل الآخرة. الشاهد: أنه لا يجوز بيع أم الولد على هذا القول، فإذا حصل البيع فالبيع فاسد، وإذا تبين فساده فيحكم برد الثمن لصاحبه، فتسترد الأمة وتبقى أم ولدٍ حتى تعتق على سيدها. وقوله: (أو باعها بعد اعترافه بوطئها): ثم تبين حملها وولدت قبل ستة أشهر فإنه ينسب الولد إليه. وقوله: (فأتت بولد لدون نصف سنة لحقه والبيع باطل): لحقه الولد؛ لأنه تبين أنه ولد للأول وليس للثاني؛ لأن الثاني لا يمكن أن يولد له بدون ستة أشهر، مثلاً: وطئها في محرم، ثم باعها في صفر، ولما مضت الستة أشهر من الوطء تبين أنها وضعت في شهر جماد الذي هو الشهر السادس، فحينئذٍ نعلم أن هذا الولد منسوب للأول وليس للثاني، لأنه لا يمكن أن تلد لأربعة أشهر، إذا اشتراها في صفر ووطئها في صفر وربيع، فمعنى ذلك أنه وطئها وهي حامل، وحينئذٍ ينسب للأول ولا ينسب للثاني، ويلغى البيع ويحكم ببطلانه.

الأسئلة

الأسئلة

لا يعترض بالمسائل المستثناة من حكم الأصل عليه

لا يعترض بالمسائل المستثناة من حكم الأصل عليه Q كيف يمكن الجمع بين براءة رحم المرأة بعدة الطلاق وبين احتمال وقوع الحمل بعد أربع سنين؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهذا لا شك أنه أمر مستثنى من حيث الأصل، ما جعلت العدد إلا لإثبات الحقوق في لحوق الولد وغيرها من الحقوق الواجبة في العدد، لكن هذه المسألة مستثناة، وقد بينا أنه قد يتأخر الحمل لأمور خاصة، والقاعدة عند العلماء رحمهم الله: أن مسائل الاستثناء والأعيان لا يعترض بها على الأصول، فيبقى الأصل كما هو، وتبقى أحكام العدد كما هي، فيقال: هذه أحوال مستثناة تخص بأحكامها، ولا يلغى حكم الأصل، ولا يعترض به على هذه المسائل التي ثبت بالعادة أنه يقع شيء منها. وإذا نظر المسلم وجد أن هناك أموراً تستدعي العمل بهذه المسائل المستثناة، فإننا لو لم نحكم بذلك لحكمنا برجم المرأة، وأنها زانية؛ لأنه -مثلاً- لو طلقها، وبعد أربع سنوات تبين حملها فإنه في هذه الحالة تتهم بالزنا، وخاصة عند مذهب من يرى أن الحمل دليل على ثبوت الزنا، كما قال عمر رضي الله عنه: (إذا كانت البينة أو الحبل)، ففي هذه الحالة الأصل أنها بريئة والشبهة قائمة، ودرء الشبهات معتبر شرعاً، فعلى كل حال ينبغي أن تنظروا أن المسألة متجاذبة ليست خاصة بقضية نسبة الولد، فيها جانب يتعلق بإقامة الحد، وإذا نفيت الولد يترتب عليه أنه ابن زنا، فلا ينظر الإنسان نظرة من جهة واحدة ويغفل بقية الجهات، ومن حكمة الشريعة أنها تعتني بالحقوق إذا تعدد أطرافها، فتعطي كل ذي حقٍ حقه. وبناءً على ذلك نقول: ما دام أنه ثبت في العادة أن الحمل قد يطول ويتأخر فإنه يحكم بلحوقه، وقد ينزل من المرأة دم استحاضة وتظنه حيضاً ابتلاءً من الله، ويتكرر معها وتحكم بأنها حاضت ثلاث حيضات، وأنها طهرت، والواقع أنه نزيف، وهذه المسألة لا تقع إلا عند اضطراب الحمل، فقد تضطرب ويجري معها الدم ويحكم ببراءة رحمها بعد ثلاث حيضات، ثم بعد ذلك يتبين أن هذا الدم كله دم فساد وعلة، وأنه دم نزيف، وأن الأمر في رحمها غير مستقر، ولذلك لا شك أنه عين الحكمة والصواب، وفيه إعمال للأصول الشرعية من براءة المرأة وعدم اتهامها بالزنا، والله تعالى أعلم.

الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب

الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب Q إن من الأمور الجاهلية التي لا يزال بعض الناس عليها الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب، فهل من قابلها بهذا الأسلوب يلام على فعله؟ A التفاخر بالأحساب والأنساب من بقايا الجاهلية؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، الناس كلهم لآدم وحواء، وهذا يدل على أن الأصل واحد، فإذا كان الأصل واحداً فما الذي جعل بني فلان أفضل من بني فلان؟ وما الذي جعل بني فلان أزكى وأشرف وأكرم من بني فلان؟ حتى كانوا في الجاهلية يقتلون المائة بالواحد! وهذا كله من عمل الشيطان الذي أدخله على عصاة بني آدم، ولذلك قال بعض أئمة العلم رحمهم الله: من افتخر بأصله ففيه شبه من إبليس؛ لأن الله يقول حكاية عن إبليس: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، فهذا التفاضل والتعالي على الناس من شأن الجاهلية، والإنسان عليه أن يتقي الله عز وجل، وأن يعلم أنه لو صعد بنسبه إلى السماء وهو عند الله وضيع فإنه لا ينفعه عند الله شيئاً، وأنه إذا اتقى ربه وخاف ربه رفع الله قدره، وزكى شأنه وأمره ولو كان عند الناس وضيعاً، فالعبرة كل العبرة بما بينك وبين الله عز وجل. وفي تاريخ الإسلام من الأئمة الأعلام أصحاب دواوين العلم والعمل، والأئمة الذين قادوا الأمة، وسطروا في دواوين المجد الصفحات المشرقة المنيرة، لم يفتخر منهم أحد يوماً بنسبه وحسبه، فالعاقل الحكيم يعلم أنه لا وزن له عند الله إلا بتقوى الله عز وجل والخوف من الله سبحانه وتعالى. ومن حكمة الله عز وجل أنه ما غيب عبدٌ خوفاً من الله في قلبه إلا أورثه الله محبة وعزة عند الناس، وكانوا يستدلون على خوف الإنسان من الله وخشيته لله فيما يوضع له من القبول، فإن كمل خوفه كمل القبول له من الله في الخلق، وإن عظم خوفه عظمت مكانته، وجلَّت منزلته. هذا عطاء بن أبي رباح مولى من موالي العرب، أشل أفطس، ومع ذلك يدخل عليه سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين وخليفة المسلمين في زمانه وهو في المسجد الحرام، ويسأله ويقول له: يا عطاء! سلني حاجتك، فقال له: إني لأستحي أن أسأل أحداً في بيت الله عز وجل، فلما خرج من المسجد قال: يا عطاء! ها قد خرجنا فسلني حاجتك، فقال له عطاء: إني لأرجو الله أن يغفر لي ذنبي، قال: يا عطاء! ذلك ليس إلي، إنما أسألك أن تسألني حاجتك من الدنيا، فقال له: إني لم أسأل الدنيا من يملكها أفاسألها من لا يملكها؟! فقال سليمان بعد أن تولى لبنيه: يا بني! اطلبوا العلم فقد أذلنا العبد آنفاً بعلمه، قال: أذلنا، وهو في نظر الناس أعز! فلا ينفع الإنسان حسبه ونسبه إذا لم يقم أمره على تقوى الله عز وجل والخوف من الله سبحانه وتعالى. ومن نظر إلى الناس بقلبٍ مليء بالاحتقار، ولو عاملهم معاملة حسنة في الظاهر؛ فإن الله لا يزكيه، ولا يعطيه السؤدد، ولا يبارك له فيما أعطاه في الناس، ومن صحب الناس سليم القلب نقي السريرة ولو كان من أوضع الناس منزلة فإن الله يورثه من المحبة والتقدير ما لم يخطر له على بال؛ ولذلك تجد بعض الناس لا يعرف بيته، ولا تعرف قبيلته، ولا جماعته، ولا يعرف نسبه، ولكن ما إن يدخل على إخوانه وأصحابه وزملائه وعلى الناس؛ إلا وجدت المحبة والتقدير والأنس به والرضا به، شيءٌ لا يملكه وإنما هو من الله عز وجل. وتجد الآخر الذي يتعالى على الناس ويفتخر على الناس مع أنه معروف البيت ومعروف المكانة؛ ومع ذلك نسأل الله السلامة والعافية! تمله النفوس وتكرهه القلوب، ولا يرتاح أحدٌ لمجالسته، وإن جامله في الظاهر، فإنه لا يرتاح له في الباطن. فالإنسان العاقل ينبغي أن يعلم أنه لن يخفي سريرة إلا ويظهرها الله، فمن أخفى احتقار الناس رماه الله بالاحتقار في قلوب الناس، فكما أنه يحتقر أناساً في الغيبة، وإن جامله الناس في الظاهر، ولكنهم يحتقرونه في كل الظروف، وليجرب ذلك الإنسان وسيجد؛ لأن الله عدل ولا تخفى عليه خافية، ويجزي الإنسان بما في قلبه، فمن أسر سريرة الخير زكى الله له العلانية، ومن أسر سريرة الشر ابتلاه الله في علانيته. الحسب لا يغني الإنسان عند الله شيئاً، إلا أن الإنسان الذي رزقه الله عز وجل حسباً مثل أن يكون من بيت معروف بالصلاح ومعروف بالعلم، أو من بيت معروف بالإمارة والوجاهة، وحافظ على هذه السمعة الطيبة آباء كرام من بيت عز وشرف وسؤدد، فحافظ على هذا المجد وسار على سيرة آبائه الطيبين، فأكرم الناس واحترمهم وقدرهم، واتخذ من هذا الحسب الطيب الكريم وسيلة لتربية أبنائه؛ لأن لهم عند الناس من المحبة والتقدير الشيء الكبير؛ ولأن آباءهم قد بنوا مجداً فلا يهدمونه، وأخذ من هذه المعاني ما يعين على التواضع، والحرص على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، فهذه نعمة من الله عز وجل على العبد، وهذا عصامي عظامي، عصامي حينما يبني مجده بنفسه بتوفيق الله عز وجل، وعظامي طاب معدنه، وإذا طابت الأصول طابت الفروع، إن الأصول الطيبات لها فروعٌ زاكية. والله عز وجل إذا وضع البركة في بيت أو قبيلة أو جماعة أو أسرة في إمارة أو في علم في دين أو دنيا؛ وضع البركة فيها، وعرفت بالخير وعرفت باستقامة أمور الدين أو استقامة أمور الدنيا، فإذا حافظت هذه الأسر على هذه الأمجاد أبقى الله الخير فيها، وأبقى لها المحبة والتقدير وبارك فيها، وأورثها من حسن العاقبة ما لم يخطر لها على بال. فلابد من المحافظة على الأصول الطيبة، وليس معنى كلامنا أن يضيع الإنسان نسبه أو يضيع حسبه، فهذه نعمة من الله أنعم بها عليه، لكن لا يتعالى على الناس، الذي يتعالى على الناس بنسبه فقد استذل الناس. ولذلك في قصة عمر رضي الله عنه مع ابنٍ لـ عمرو بن العاص كان في مصر، وكان والده والياً على مصر، فذكروا في السير أنه أجرى سباقاً بين الناس، فكان فيهم ابن عمرو بن العاص، فسبق قبطيٌ ابن عمرو بن العاص، فأخذ ابن عمرو السوط وصار يضربه ويقول له: خذها وأنا ابن الأكرمين، حتى آذاه فأضره فسبقه، فجاء القبطي إلى عمر في الموسم واشتكى إليه، فسأل عمر الناس ووجده صادقاً فيما قال، فأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن العاص وقال له: إذا كان الموسم فاقدم عليّ أنت وابنك فلان، فجاء عمرو ومعه ابنه ثم لما دخل عليه، قال عمر رضي الله للقبطي: أهذا هو الرجل؟ -يعني ابن عمرو - قال: نعم، قال: دونك الدرة، فقام وضربه وأمره أن يضربه مثلما ضربه، فلما ضربه وأتم ضربه، قال: وجهها إلى صلعة عمرو، فقال القبطي: أما إني قد ضربت من ضربني، ومراد عمر بقوله وجهها إلى صلعته تعزير ولاته إذا أساءوا للناس وأضروا بهم، فامتنع القبطي وكأنه يقول: هذا الأمر ليس إلي، هذا لك أنت، وأدب من وليت، فقال عمر رضي الله عنه لـ عمرو: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟! الناس لهم حق، ولا يظن أحد أنه إذا لقي شخصاً فكأنه مملوكٌ له، فيحتقره للونه، أو يحتقره لفقره، أو يحتقره لمنصبه، لا أبداً، أو أنه إذا أصبح من بني فلان فإن الناس أصبحت دونه، لا، هذا ينبغي أن يضعه المسلم نصب عينيه، ولذلك تضيع حقوق الناس وتعظم مظالمهم حينما ينظرون بهذه النظرات، فتجد المظلوم يؤخذ حقه ولا يستطيع أن يصل إلى حقه؛ لأن فلاناً الذي ظلمه هو فلان، وحينئذٍ يكون باطن الأرض خيراً من ظاهرها. فعلى كل حال الشر العظيم، والحالقة -حالقة الدين وحالقة الشعر- أن يتفاخر بالأنساب على وجه تضيع فيه حقوق الناس، وتعظم به مظالمهم، وقد قال الله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:1 - 8] {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1]؛ لأنهم كانوا يتكاثرون بأحسابهم وأنسابهم، وقال: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2] أحد الأوجه في تفسيرها أنه تفاخر بعضهم على بعض حتى عددوا الأموات، فذهبوا إلى المقابر، {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2] يعني: وصل بكم التكاثر والتفاخر حتى بالأجداث والرمم وأموات الجاهلية، {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:4] وهذا تهديد ووعيد من الله لكل من يتفاخر في بنسبه. فعلى كل حال؛ على المسلم أن يتقي الله عز وجل وأن يحمد الله إذا رزقه الله بيتاً صالحاً وأسرة طيبة، فإن هذا لا يعني أننا ننسى البيوت التي لها فضل وشرف، خاصة إذا كانت عظيمة الخير على الإسلام، وعظيمة الخير على المسلمين، كالأسر التي عرفت بالآباء الكرام الذين كانوا بعد الله عز وجل آباءً للأيتام وللأرامل، سد الله بهم الحاجات، وفرج بهم الكربات، وأحسنوا إلى المؤمنين والمؤمنات، الآباء الذين أغلقت بهم أبواب الشرور، وفتحت بهم أبواب الرحمات، كانوا يسعون في الصلح بين الناس، وسد العوز والفقر وبذل الشفاعات الطيبات المباركات، ولا ينسى من كان من آبائه له مجد في الإسلام من إمارة وولاية، أو كان له مجد في الإسلام من نشر علم انتفع به المسلمون، فكل هؤلاء لا يذكرون إلا بالجميل، ويدعى لخلفهم أن يبارك الله فيه؛ لأن بقاء هذا الخير في هذه البيوت الطيبة فيه نفعٌ عظيم،

الجهر بالأذكار عقب الصلوات المكتوبات

الجهر بالأذكار عقب الصلوات المكتوبات Q الأذكار التي تكون عقب الصلاة هل يجهر بها المرء أم أنه يخفي بها صوته؟ A قولان للعلماء رحمهم الله في هذه المسألة: جمهور العلماء على أن السنة في الأذكار أن تكون سرية، وألا يجهر الذاكر بها صوته؛ لأن نص القرآن يأمر بإخفاء الذكر، وقالوا: لأنه أقرب للإخلاص، وأبعد عن الرياء، وأبعد عن التشويش والإضرار بالغير، وقال بعض أهل العلم رحمهم الله: يشرع الجهر بالأذكار، واحتجوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أنهم ما كانوا يعرفون انتهاء الصلاة إلا بالتكبير بعدها، وأجيب بأن المراد بالتكبير: الرنة التي تكون من مجموع الذكر ولو مع مخافتة الصوت، وهذا معروف، ومن يعرف مساجد البوادي التي لا يكون فيها إزعاج ولا تشويش فإنه يجد أن الناس أثناء الصلاة في سكونٍ تام، وإذا انتهت الصلاة -ولو كانوا يسرون بالذكر- يحس برنة وصوت محسوس واضح يدل على أن الصلاة قد قضيت، وعلى كل حال: من جهر يتأول السنة لا بأس ولا حرج عليه، ومن أسر يتأول السنة لا بأس ولا حرج عليه، والنفس أميل إلى الإخفات وعدم الجهر، إلا إذا كان عالماً يعلم الجهال أو كان في موضع فيه عوام فيرفع الصوت تعليماً لهم، فلا بأس في ذلك ولا حرج، والله تعالى أعلم.

مناداة الابن لأبيه بكنيته

مناداة الابن لأبيه بكنيته Q إذا نادى الابن أباه بكنيته، فهل هذا من العقوق؟ A هذا يختلف باختلاف العرف والأحوال، في بعض الأحيان قد يحب الوالد أن يدعى بكنيته من ولده، لكن الأصل أنه لابد من تذلل الابن لأبيه؛ لأن الله يقول: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} [الإسراء:24]، فلابد أن يخاطبه مخاطبة تشعره بمنزلته، كقوله: يا أبتِ، وهذا هو الذي ذكره الله عز وجل في كتابه، وينبغي تحريه فيناديه بالأبوة؛ حتى يشعره بالفضل عليه وأنه دونه، والله تعالى أعلم. إذا لم يجر بهذا عرف -أي مناداة الأب بكنيته- فهذا فيه قبح، وأشنع من هذا أن يناديه باسمه المجرد، لكن إذا جرى عرف أن الوالد ينادى في بيته وولده بالكنية ولا يتأثر بذلك ولا يتضرر فهذا شيء آخر، لكن المحفوظ أنه يناديه يا أبتِ، ويشعره بحقه عليه، والله تعالى أعلم.

نصيحة لمن مل وضعفت همته في الدعوة إلى الله

نصيحة لمن مل وضعفت همته في الدعوة إلى الله Q كثيراً ما يجد طالب العلم المشاق في تعامله مع العوام وتبليغ العلم وبيان الأحكام إلى درجة أن يملّ فيها وتضعف همته، فما توجيهكم؟ A هذا طريق الأنبياء والصالحين، وطريق خيرة خلق الله وصفوة الله من العباد أجمعين، ولابد من الابتلاء والامتحان في الدعوة إلى الله وتبليغ رسالة الله عز وجل، أي طريقٍ هذا الطريق الذي ينتهي بصاحبه إلى الجنة؟ أي طريق هذا الطريق الذي وضعت الملائكة أجنحتها لصاحبه رضاً بما يصنع؟ أي طريقٍ هذا الطريق الذي ينعم فيه العبد برحمات الله عز وجل؟ فكم من عبدٍ أصبح وهو داعية إلى الله فما أمسى إلا وقد غفرت ذنوبه! وكم من عبدٍ داعية إلى الله أصبح وأمسى يأمر بأمر الله وينهى عما نهى الله عنه فكتب الله له رضاه إلى يوم يلقاه! (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يلقي لها بالاً يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه) لا يستحقر الإنسان الخير، فكم من كلمة يسيرة قربت صاحبها إلى الله جل وعلا، خاصة إذا كانت من ذكره، وكم من متكلم بين أناسٍ يجهلون السنن، فأحيا الله به السنة وأمات به البدعة، ودل به وهدى حتى ثقلت موازينه وارتفعت له الدرجات العلى لما كان من أمره بطاعة الله! ولذلك عظُم على عدو الله الشيطان ما يراه من أولياء الرحمن، فأخذ يخذلهم ويثبطهم ويسلط اليأس على قلوبهم، لكن ليصبروا؛ فإن الله مع الصابرين، وليرابطوا على صبرهم؛ فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، خاصة في زمانٍ عظمت غربته، وجلت كربته، ولا معين ولا ظهير ولا ولي ولا نصير إلا الله وحده، وهو على كل شيء قدير. فالواجب على المسلم ألا يمل لذلك، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا) أخي في الله: توكل على الله، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، وانظر إلى عظيم نعمة الله عليك حينما تمسي وتصبح وأنت تبلغ رسالة الله، وانظر نعمة الله عليك إذ اختارك واصطفاك لتأمر بأمره وتنهى عن نهيه، فتحبب إلى العوام، وتقرب منهم، ووطئ كنفك لهم، وكن ممن يؤلف ويألف، وكن من الذين سهلت أخلاقهم، وحسنت آدابهم، وجملت خلالهم، حتى تفوز بأحسن المنازل في دعوتك إلى الله. وعلى كل حال اليأس والضعف لا يصلح لطالب العلم، طالب العلم الحق مجرد ما يضع قدمه في الدعوة إلى الله لا يفكر في السآمة والملل، بل يضع روحه في كفه، طالب العلم في جهاد أعظم من الجهاد في سبيل الله، ولذلك قال كثير من العلماء وهم أغلب طائفة السلف: إن العلم أفضل من الجهاد في سبيل الله عز وجل إذا أخلص فيه العبد لربه. سئل الإمام أحمد رحمه الله: أي منزلة أعظم، منزلة العالم أو المجاهد؟ قال: العلم إن أخلص فيه لوجه الله. ولذلك قال الله في كتابه: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]، فابتدأ الله بالنبيين ثم ثنى بالصديقين وهم: العلماء العاملون الهداة المهتدون، فهذا السبيل الذي أنت فيه هو سبيل الأنبياء وطريق الأصفياء والأتقياء، ولكن الذين صبروا وصابروا ورابطوا وأفلحوا وأدلجوا حتى بلغوا المنزل، عرفوا أن سلعة الله غالية فقدموا لها أرواحهم رخيصة، يصبر الواحد وهو يعلم الناس فيتغرب عن أهله ووطنه ويسافر ويشعر مع هذا كله أنه مقصر. طالب العلم الحق يتفانى في التضحية وهو يحس أنه لم يقدم شيئاً، وأن الذي قدمه شيئاً يسيراً، والعكس، فمتى أحس أنه قدم كثيراً، وأن الناس لا تتقبل منه، فيقول: ما لك وما للناس! لا، أنت تعامل رب الجن والناس، تعامل رباً لا يضيع مثقال خردلة من عمل صالح، تعامل رباً لا يصيبك هم ولا غم ولا كربٌ ولا نكبة إلا كتب الله أجرك، وأثبتها في ميزان حسناتك، حتى تلقاها في يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليم. ما الذي رفعت به الدرجات وكفرت به الخطايا والسيئات غير الصبر، وأنت تصبر من أجل أحب الأشياء، وهو الدعوة إلى الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت:33]، هذه الآية كان الحسن البصري يقول فيها: هذا ولي الله، هذا حبيب الله، وهو الداعية إلى الله سبحانه وتعالى، فلا تقل: ما لي وما للناس، وإنما إذا دعوت وبلغت وبينت فاحمد الله جل وعلا أن الله جعل لسانك يأمر بما أمر الله به، وينهى عما نهى الله عنه، ولم يجعلك داعية إلى الهوى والردى، وإذا علمت الجاهل قلت: يا رب! لك الحمد والشكر أن رفعتني وكنت وضيعاً، وأعززتني وكنت ذليلاً، ورحمتني وكنت معذباً، وهديتني وكنت ضالاً، ولذلك خاطب نبيه وهو في أعلى مراتب الدعوة والتعليم {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8]، ذكره بنعمة الله؛ لأن بهذا التذكير تقوى النفس لتعليم الناس، والصبر على أذاهم، ولذلك قال له بعدها سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:9 - 11] فالذي يستشعر أن الله أعطاه نعمة عظيمة، وأن الله شرفه وكرمه بهذا العلم؛ فإنه يضحي ويجاهد ويجالد، والله عز وجل لن يضيع لك في هذا العلم ولا في غيره من الأعمال الصالحة مثقال خردل، وقد تسهر على حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تتبوأ به الدرجات العلى من الجنة، وقد تسهر على آية تحل حلالها وتحرم حرامها وتعرف شريعتها ونظامها؛ يكتب الله لك بها من الحسنات ما لم يخطر لك على بال، وتكون لك شفيعة بين يدي الله عز وجل، فهذه نعم ومنن تنالها برحمة الله. ما الذي يدعوك للسآمة والملل؟ هل تعلمت العلم من أجل أن يمجدك الناس وأن يعظمك الناس؟ هل تنتظر من الناس أن يثنوا عليك وأن يزكوك وأن يمجدوك؟ هيهات هيهات: (فمن تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لينال به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة). هل تعلمت العلم من أجل أن تنتظر من الناس مكافأة، وأن تأمر فيطاع أمرك، وأن تقول فيسمع قولك؟ هيهات هيهات، الإنسان وهو يطلب العلم يفكر في شيء واحد وهو رضوان الله جل وعلا، يفكر في مرضاة الله سبحانه وتعالى قائماً وقاعداً ساكتاً ومتكلماً، يفكر كيف يرضي الله سبحانه وتعالى، وإذا فكر كيف يرضي الله فتح الله له أبواب الرحمات، فأصبح إعراض الناس أفضل عنده وأكمل، لا يتألم بإعراضهم بل بالعكس يقول: الحمد لله أن الله عز وجل ما شغلني بهم، ولا علق قلبي بهم، فعلى كل حال عليك أن تنظر إلى ما بينك وبين الله، وإن أصلحت ما بينك وبين الله أصلح الله ما بينك وبين الناس. ومما يوصى به طالب العلم حسن الظن بالله عز وجل، فإذا وجد الناس أعرضوا عنه أحسن الظن بالله، وقال: لعل الله لحكمة يريدني أن آوي إليه، يريدني أن أخلص له أكثر والعيب فيّ وأنا المقصر، ما يقول: العوام فيهم وفيهم، وإنما يتهم نفسه ويرجع إلى نفسه، ودائماً لا تسئ الظن بالله عز وجل خاصة في هذا العلم، فإن ربك فوق ما ترجو وتأمر كرماً وفضلاً وجوداً وإحساناً وبراً، لا تظن بربك إلا كل خير، سواء كنت طالب العلم أو غير ذلك، لا تظن بهذا الرب إلا كل خير، فالشيطان إذا أراد أن يضر بالداعية أو طالب العلم أدخل إلى قلبه سوء الظن بالله عز وجل، فإذا ساءت ظنونه زاغ قلبه، فمل وسئم وترك الدعوة إلى الله عز وجل، حتى إن أحدهم -والعياذ بالله- ربما يقول: أنا مالي وما للناس؟ وما الذي أدخلني في هذا الأمر؟ حتى يندم عما كان منه من الخير؛ فيحبط عمله فيكون من الخاسرين نسأل الله السلامة والعافية! يقول: يا ليتني ما أمرت، يا ليتني ما فعلت! فتذهب حسناته -والعياذ بالله- كلها؛ لأنه ندم على ما كان منه من الخير، وتبرأ من هذا الخير. فعلى طالب العلم أن يجند نفسه بشيء واحد -هو سلوته وعماده وروحه ومنه تستمد القوة والعون من الله عز وجل- هو الإخلاص والتوحيد لله سبحانه وتعالى، ومن أراد وجه الله هانت عليه الدنيا وما فيها، ومن أراد وجه الله ثبت الله قلبه وسدد لسانه وشرح صدره، ولم يبال بالناس أقبلت أو أدبرت، والله إنه ليكمل إخلاص العبد مع الله عز وجل فيجلس مع العشرة آلاف وكأنه جالس لوحده. ويكمل إخلاص العبد ويكمل يقينه بالله عز وجل ويقف بين الأمة من الناس فلا يبالي بها أقبلت أو أدبرت، كل الذي يفكر فيه فقط مرضاة الله سبحانه وتعالى، وكل الذي يفكر فيه أن هذا القول الذي يقوله وأن هذا النصح وهذا التوجيه يصعد إلى الله عز وجل ويقبله، لا يبالي أقبلت الدنيا أو أدبرت، المهم أن يرضى الله سبحانه وتعالى، وعندما تجد عنده لسان صدق فلا يزل صاحبه، ولا يزيغ قلبه، مما أورثه الله عز وجل من كمال التوحيد والإخلاص، وهذا هو حال الرسل والأنبياء ما كانوا يبالون بالناس أعرضوا أو أقبلوا، فلما أعرض الناس عنهم سلموا أمرهم لله، وتوكلوا على الله، وفوضوا الأمور إلى الله سبحانه وتعالى، ومن فوض أمره إلى الله تولى الله أمره، ولذلك قال مؤمن آل فرعون: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر:44 - 45]. فجعل الله الفرج بالتوحيد والإخلاص له عز وجل. فطالب العلم والداعية والخطيب لا يسأم ولا يمل، وليعلم أن الكلمات التي ذكر بها من الأحاديث والآيات البينات أنها إن ضاعت عند الناس فلن تضيع عند رب الجنة والناس، وأنه قد خطها من فمه ومن لسانه، وعليه ملائك حافظون لا يغيرون ولا يبدلون، خطت في صحائف أعماله وأقواله حتى يراها أمام عينيه في يومٍ ينفع الصادقين صدقهم، فيجزى على الحسنات إحساناً، وعلى السيئات إما عقوبة أو صفحاً وغفراناً. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتولانا برحمته، وأن يربط على قلوبنا في طاعته ومرضاته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله

كتاب العدد [1]

شرح زاد المستقنع - كتاب العدد [1] لقد شرع الله سبحانه وتعالى للمرأة أن تعتد بعد طلاقها أو وفاة زوجها لحكم عظيمة وجليلة منها الحفاظ على الأنساب، وكذلك إعطاء الفرصة للزوجين إذا كان يريدان الرجعة في حال الطلاق الرجعي، وكذلك حفظ العهد والود الذي بين الزوجين.

مشروعية العدة

مشروعية العدة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب العِدد]. (العَد) في لغة العرب: الحساب والإحصاء، فإذا أحصى الشيء، قالوا: عدّه. ولما كان هذا النوع مما أوجب الله عز وجل فيه الحساب والاعتداد سمي بهذا الاسم؛ لأن المرأة تعد أيام عدتها، وكذلك تحسب وتحصي أيام أقرائها، وهذا الباب المراد به في اصطلاح العلماء: تربص المرأة في أجل مخصوص لانقضاء آثار النكاح. فالعدة تقوم على تربص المرأة الأجل المسمى الذي بينه الله عز وجل في كتابه، وثبتت به سنة النبي صلى الله عليه وسلم لانقضاء آثار النكاح. وهذا الباب في الحقيقة مترتب على كتاب الطلاق؛ لأن الأصل في العدة أنها تترتب على الطلاق، إلا أنها قد تكون في الفُرقة من خلع أو فسخ، وكذلك تقع في الوطء إذا كان وطء شبهة، وتقع في الوطء الحرام على تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى، ونظراً لتعلقها بالأبواب المتقدمة من الطلاق والخلع واللعان، ناسب أن يذكرها المصنف -رحمه الله- بعد بيانه لتلك الأبواب. والأصل في لزوم العدة ووجوبها: كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإجماع العلماء، فإن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، فبيّن سبحانه وتعالى شرعية العدة، وأنها تكون للمطلقة ثلاثة قروء، وكذلك بيّن سبحانه العدة وشرعيتها بطريق المفهوم في الخطاب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49]، فبيّن سبحانه وتعالى أنه إذا وقع الطلاق قبل الدخول فليس هناك عدة تحتسب، ومفهوم ذلك: أنه إذا وقع الطلاق بعد الدخول فإنه تجب العدة وتثبت. وقال تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]، فبيّن سبحانه وتعالى عدة الآيسة من المحيض، وهي: المرأة الكبيرة، وبيّن عدة الصغيرة التي لم تحض، وبين عدة الحامل، وهذا يدل على مشروعية العدة. كذلك أيضاً ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعدة، حيث أمر بها فاطمة بنت قيس رضي الله عنها وأرضاها حينما طلقها زوجها، فقال لها: (اعتدي في بيت ابن أم مكتوم)، فهذا يدل على شرعية العدة. وكذلك أيضاً ثبتت النصوص في الكتاب والسنة بعدة الوفاة، فأمر الله عز وجل المرأة التي توفي عنها زوجها بالعدة والحداد؛ فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234]، فأمر الله بعدة الوفاة وهي الحداد، وكذلك أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح عن أم حبيبة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميتٍ فوق ثلاث ليال، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً) كذلك -أيضاً- قال لـ فريعة بنت مالك بن سنان رضي الله عنها: (امكثي في بيت زوجك الذي جاءك فيه نعيه حتى يبلغ الكتاب أجله)، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة المتوفى عنها زوجها أن تبقى مدة الحداد وهي عدة الوفاة. فمن مجموع هذه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أجمع العلماء سلفاً وخلفاً على مشروعية العدة، وهذه العدة تتنوع وتختلف لكن الأصل العام أنها مشروعة.

الحكمة من مشروعية العدة

الحكمة من مشروعية العدة وفي شرعية الله سبحانه وتعالى لهذه العدة حكم عظيمة، والله لا يأمر إلا بكل خير ولا ينهى إلا عما فيه شر، والله يعلم ونحن لا نعلم، وله الحكم البالغة سبحانه وتعالى، وتمت كلمته صدقاً وعدلاً، لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم.

حفظ الأنساب

حفظ الأنساب فمن الحكم: أن العدة تحفظ الأنساب، وعن طريقها لا يختلط ماء الأزواج في الأرحام، وقد فضل الله عز وجل بني آدم وأهل التكليف بالتشريع بأن لا يساووا البهائم، فالمرأة إذا طلقت بقيت مدة العدة تستبرئ لرحمها، وتتبين من الحمل، فإن وجد الحمل بقيت حتى تضعه، وإن كانت غير حامل فحينئذ لا إشكال. فالمقصود: أنه عن طريق العدة تحفظ أنساب الناس فلا يختلط الماء. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره) فلو لم تكن هناك العدة لوطئ الرجل المرأة، وربما علقت منه فحملت وكان في بداية الحمل لا يتبين حملها، ثم طلقها فوطئها الثاني فاختلط ماء الأول بالثاني، وفي هذا من الشر العظيم والبلاء الكبير ما الله به عليم.

وفاء الزوجة لزوجها

وفاء الزوجة لزوجها وكذلك أيضاً فالعدة: وفاءٌ من الزوجة لزوجها، فإن المرأة إذا توفي عنها زوجها واعتدت في بيت الزوجية تذكرت فضل زوجها، ولذلك تعتد في نفس البيت الذي جاءها فيه الخبر، فتتذكر ما بينها وبينه، فتترحم عليه، وإن عرفت منه خطيئة أو زلة سامحته واستغفرت له، واسترحمت له، وفي هذا من الخير ما الله به عليم.

العدة تعين على مراجعة الزوج لزوجته

العدة تعين على مراجعة الزوج لزوجته كذلك في هذه العدة حكمة عظيمة من جهة الطلاق: فإنها تعين على مراجعة كل من الزوجين نفسه، فإن المرأة إذا طلقت واعتدت فإنها تعتد في بيت الزوجية في الطلقة الأولى، وفي هذه الحالة في الطلاق الرجعي تبقى في بيت الزوجية، فيراها الزوج وتراه في البيت الذي بينهما فيه من الذكريات ما يحرك قلبه ويحرك قلبها، فربما كان هناك أمل بين الزوجين أن يرجعا لبعضهما، وأن يصلحا ذات بينهما، لم يدخل الغريب فيفسد ما بين الزوجين، ولذلك كثير من المشكلات الزوجية تتفاقم وتتعاظم حينما يدخل الغريب بين الزوجين، فأمرت المرأة المعتدة بالعدة والبقاء أثناء العدة في بيت الزوجية، قال تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق:1]، فقال: (بيوتهن) ونسب البيوت إلى الزوجة، وكأنه بمثابة تأكيد على أنه لا يحل إخراجها، وكأنها مالكة لهذا البيت، ومن كان مالكاً لبيته لا يخرج منه، ولذلك كثيراً ما كان أيام السلف ومن مضى ممن كان يطبق هذه السنة، قل أن تجد رجلاً يطلق زوجته الطلقة الأولى إلا ويرجع إليها ويصلح ما بينه وبينها؛ لأن أباها وأخاها لا يخرجانها ولا يتدخل أحدٌ بينهما تنفيذاً لشرع الله، والتزاماً بدين الله، ولما غير الناس هذه السنة فاتت هذه الحكمة العظيمة، وأصبح الأمر أشد خطراً وأعظم ضرراً، حتى إن المسألة تكون من أيسر ما تكون، فإذا طلقها زوجها وخرجت من بيت الزوجية اشتعلت نار الفتنة، حتى إن المرأة تحن وتئن وتتألم وتتوسل وتتضرع بالكلمات المؤلمة الجارحة للقلوب، لكي ترجع إلى زوجها، فلا تجد أذناً صاغية، وبعض الزوجات يرغبن في الرجوع إلى أزواجهن، ولكن يقف أبوها أو أخوها أو أمها ويتبرأ منها إن خرجت أو رجعت، فيقع الوالد في المنكر العظيم في إفساد الزوجة على زوجها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله من خبب امرأةً على زوجها) والسبب في ذلك قائم على الإعراض عن شرع الله عز وجل، والهُجران لهذه السنة التي فيها هذه الحكمة العظيمة وهي: بقاء المرأة مدة العدة في بيت الزوجية، فمن الحكم المستفادة من العدة: أن الله سبحانه وتعالى يجعل كلاً من الزوجين في فسحة محدودة لكي يراجع نفسه، فإذا أرادت المرأة أن ترجع وهي المخطئة، فإن الزوج يتأخر ويصر قليلاً حتى تتأدب، وإذا أراد الرجل أن يرجع وهو المخطئ فإن المرأة تتأخر بعض الشيء، فيؤدب كل منهما الآخر، ومن هنا قال الله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1] لكن متى؟ إذا طبقت السنة، والتزم بشرع الله عز وجل. وبالمناسبة: ينبغي على الخطباء وطلاب العلم والأئمة أن ينبهوا الناس على هذه السنة التي أضاعها كثيرٌ إلا من رحم الله، وهي: العدة أو الاعتداد في بيت الزوجية بعد الطلاق؛ لأن الله عز وجل نهى عن إخراج النساء من بيوتهن، وقال: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1].

التعبد لله عز وجل

التعبد لله عز وجل كذلك أيضاً: في العدة تعبد وتقرب لله عز وجل.

زيادة ثواب المرأة

زيادة ثواب المرأة ومن حكمها: أنها تزيد ثواب المرأة وأجرها، وهذا مما جعله الله للنساء خاصة، فالمرأة تعتد في بيت الزوجية أربعة أشهر وعشراً، وتعتد عدة الطلاق ثلاثة قروء في بيت الزوجية وهي تتقرب إلى الله عز وجل، وترجو ثوابه وتمتثل أمره سبحانه، فيزاد أجرها، وتُرفع درجتها، وفي هذا تحصيل لمصلحة الآخرة وصلاح أمر الدين بامتثال أمر الله عز وجل ودينه شرعه.

أنواع العدد

أنواع العدد يقول المصنف رحمه الله: [كتاب العِدد]. جمعها -رحمه الله- لاختلاف أنواعها، فهناك عدة الطلاق، وقد تكون عدة الطلاق من طلاق رجعي أو طلاقٍ بائن، وكذلك أيضاً هناك عدة الوفاة، وعدة القروء، وعدة الأشهر، وعدة وضع الحمل، فنظراً لهذا التعدد جمعها رحمه الله. كأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل التي تتعلق بعِدد الزوجات.

شروط لزوم العدة

شروط لزوم العدة قال رحمه الله تعالى: [تلزم العدةُ كل امرأة فارقت زوجاً خلا بها]. (تلزم العدة). أي: تجب. والشيء اللازم هو الواجب على الإنسان، وكأنه التصق به فلم ينفك عنه، فلا يبرأ إلا بفعله والقيام به. (تلزم العدة كل امرأة) الأصل في لزومها قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ} [البقرة:228] وهذا خبر بمعنى الإنشاء: أي: عليهن أن يتربصن هذه المدة التي هي مدة العدة. كذلك مما يدل على لزوم العدة: قوله عليه الصلاة والسلام: (امكثي) هذا أمر، وقوله عليه الصلاة والسلام لـ فاطمة بنت قيس: (اعتدي) وهذا أمر، والقاعدة: (أن الأمر يقتضي الوجوب حتى يصرفه صارف) وأجمع العلماء -رحمهم الله- على أن العدة واجبة ولازمة في حق الزوجة من حيث الأصل.

اشتراط المفارقة الزوجية للزوم العدة

اشتراط المفارقة الزوجية للزوم العدة قوله: (فارقت زوجاً) العدة لا تكون إلا من فراق، وأصل الفراق: البين والانقطاع عن الشيء، يقال: فارق المكان إذا ابتعد عنه وبان منه، والفراق يكون إما بطلاق وإما بخلع أو بالفسخ سواء كان بعيب أو بلعان كما تقدم معنا في أحوال فسخ عقد النكاح. (تلزم العدة): أي: تجب. (على كل امرأة فارقها زوجها). أي: بان منها زوجها، ويوصف الطلاق بكونه فراقاً -وقد تقدم معنا- لأنه رفع لقيد النكاح، قال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130]، وقال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2]، فالطلاق فراق، وكل امرأة فارقها زوجها تلزمها العدة؛ لأنها مرتبة على الزوجية وأثر من آثار إنحلال هذا العقد. (تلزم العدة) (ال) في العدة: للمعهود شرعاً (كل) من ألفاظ العموم. (فارقت زوجاً) أو فارقها زوجها، والفرقة مثل ما ذكرنا: بطلاق أو فسخ أو بوفاةٍ. (فارقت زوجاً) من حيث الأصل لابد أن يكون الزواج صحيحاً، وعقداً شرعياً صحيحاً، وقد تلزم العدة إذا كان النكاح فيه شبهة، كشخص نكح نكاحاً يظنه صحيحاً فبان فاسداً، وكذلك إذا كان النكاح فاسداً فيه تأويل، كأن يكون فيه خلاف بين العلماء وعمل بأحد القولين وكان قولاً مرجوحاً، وكذلك تلزم العدة في الوطء المحرم الذي هو وطء الزنا كما سيأتي إن شاء الله تعالى. والمصنف -رحمه الله- ينبه على العدة من حيث الأصل، وبناء على ذلك فهناك ارتباط بين العدة والزوجية؛ لأن الأصل في العدة ألا تكون إلا على الزوجية، ومن هنا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] إذاً: العدة تثبت وتنفى -في الأصل- بعد قيام عقد الزوجية لأنها مترتبة عليه، ولذلك يعتبرها العلماء من الأمور المبنية على النكاح.

اشتراط الخلوة بين الزوجين لثبوت العدة

اشتراط الخلوة بين الزوجين لثبوت العدة قال المصنف رحمه الله: [خلا بها مطاوعة]. (خلا بها) لما قال: (خلا) معناه: أن الذي عقد على زوجته ولم يخل بها فلا عدة له عليها؛ لأن الله قال في آية الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:49]، يعني: عقدتم على المؤمنات: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49]، ومن هنا أخذ العلماء أن من الحكم المستفادة من شرعية العدة: براءة الرحم، فهنا أسقط الله عز وجل العدة لأنه لم يحصل بين الزوجين مسيس أو خلوة على خلاف بين العلماء، وبعض العلماء يقول: من خلا بامرأة ومُكن من وطئها -بحيث كان بإمكانه أن يطأها بالشروط التي سيذكرها المصنف- ثم طلقها ولم يطأها، فالخلوة على هذا الوجه تمكين، والتمكين ينزل منزلة الفعل؛ لأن من مكن من فعل الشيء كأنه فعله، ولذلك يلزم بعاقبته، وتترتب على هذه الخلوة: العدة، كما لو أن أجيراً استأجرته ليعمل عندك يوماً، فجاء وجلس عندك مستجيباً بحيث لو أمرته بأي أمر ينفذه، فلم تأمره بشيء حتى مضى اليوم، وهو مكنك من نفسه فثبت له الحق، فهذا التمكين ينزل منزلة الفعل للشيء، ومن هنا لما مكنت المرأة نفسها لزوجها أن يطأها وكل الأمور ميسرة له وبإمكانه أن يطأ ولا تحول بينه وبين ذلك لا هي ولا أهلها فإنه ينزل منزلة من أصاب ومن فعل، فتثبت العدة، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة، وقال الشافعية والمالكية والظاهرية رحمة الله على الجميع: لا يمكن أن يحكم بالعدة إلا إذا وقع جماع، أي: لا يكفي التمكين، بل لا بد من وقوع الجماع، واستدلوا عليه بظاهر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب:49]، وجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله عز وجل أسقط العدة إذا لم يحصل بينهما مسيس، والمسيس: المراد به الجماع، فدل على أن الخلوة لا تأخذ حكم الجماع؛ لأنه لم يقع مسيس، فصار كل من اختلى بامرأة وأمكنه وطؤها ولم يطأها داخلاً في هذه الآية الكريمة، فلا عدة على زوجته، وفي الحقيقة من حيث الدليل أن مذهبهم أرجح؛ لأن ظاهر الآية قوي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب:49]، وقع الطلاق: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] ما قال: من قبل أن تدخلوا عليهن. ولذلك الدخول شيء والمقصود من الدخول شيء آخر، فالمذهب الذي يقول باشتراط الإصابة قويٌ جداً من حيث الدليل، ولذلك رجحه غير واحد من الأئمة رحمة الله عليهم، فلا يكفي مجرد أن يخلو بها، بل لا بد من أن يحصل المسيس بينهما، والمسيس يكنى به عن الجماع. قال ابن عباس رضي الله عنه: (إن الله يكني).

اشتراط المطاوعة في الخلوة بين الزوجين للزوم العدة

اشتراط المطاوعة في الخلوة بين الزوجين للزوم العدة [مطاوعة]. إذا قالوا: إن الخلوة تنزل منزلة المسيس فلا بد أن ينبهوا على أمور تكون بسببها الخلوة مؤثرة، فلو خلا بها إكراهاً دون مطاوعة منها، فعندهم لا يثبت لهذه الخلوة الحكم الشرعي، ولا يترتب عليها لزوم العدة.

اشتراط علم الزوج بالمرأة أثناء الخلوة بين الزوجين للزوم العدة

اشتراط علم الزوج بالمرأة أثناء الخلوة بين الزوجين للزوم العدة قال رحمه الله: [مع علمه بها]. هذا شرط ثانٍ. إذاً: تكون مطاوعة غير مكرهة، فإذا أكرهها وأدخلها بالقوة وخلا بها على وجهٍ يمكنه أن يطأها ثم لم يطأها وكان بالقوة -قالوا:- لا يأخذ حكماً؛ لأن الإكراه يسقط به الحكم، وتسقط هذه الخلوة ولا تأثير لها. والشرط الثاني: علمه بها، فقد يختلي الزوج بالزوجة وهو لا يعلم أنها معه فلا يكفي ذلك في إيجاب العدة، مثل: أن يكون كفيف البصر وتدخل عليه زوجته في مكان يمكنه أن يجامعها ويصيبها، قالوا: فإذا لم يخبر بأنها زوجته ولم يعلم بها فإن الخلوة حينئذ لا تنفع ولا تثبت بها العدة.

اشتراط قدرة الزوج على الوطء للزوم العدة

اشتراط قدرة الزوج على الوطء للزوم العدة قال رحمه الله: [وقدرته على وطئها]. وقدرة الزوج على وطء زوجته، فلو كان غير قادر على وطئها، كأن يكون -مثلاً- بحالة لا يمكنه أن يطأها كالنائم أو مثل ما ذكر بعضهم: السكران. وكان بعض مشايخنا يقول: هذا لا يمكنه؛ لأنه يحتاج إلى شيء من التهيؤ والقصد، وإن كان بعضهم يجعل مسألة السكران في حكم الشرط السابق، وهو: علمه بها؛ لأن السكران لا يعلم، والله يقول: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]. قال رحمه الله: [ولو مع ما يمنعه منهما أو من أحدهما حساً أو شرعاً]. (ولو) إشارة إلى خلاف مذهبي، أي: ولو كانت هذه الخلوة مع وجود ما يمنع في أحدهما أو فيهما، والمانع إما أن يكون حسياً أو أن يكون شرعياً، فالمانع الحسي: مثل أن يكون مجبوباً، وقد تقدمت معنا العيوب ومنها: الجب، وهو: قطع الذكر، وهو إما أن يكون جباً كاملاً كقطع الذكر بكامله مع الخصيتين، فهذا لا يرتبون عليه العدة؛ لأنه إذا كان جباً كاملاً بأن قطع الذكر مع الخصيتين فلا يتأتى منه حمل؛ لأنه لا يتأتى منه جماع، ولو كان الجب ببعض الذكر بحيث يمكنه أن يطأ بما بقي أو ببعضه على وجه يمكنه أن ينزل -لأن الخصيتين باقية- فيمكن أن يحصل الحمل، فلو جامعها مع كونه مجبوباً فربما أنزل المني فحملت من هذا المني فتحتاج إلى العدة للاستبراء، ومن هنا فرقوا بين الجب الكامل والجب غير الكامل. أي: أن يكون مقطوع الذكر ومقطوع الخصيتين أو لا يكون مقطوع الخصيتين، فهذا المانع الحسي في الرجل، والمانع الحسي في المرأة: كأن تكون رتقاء، وقد بينا عيوب النكاح التي تكون في النساء وفصلنا فيها، كأن يوجد فيها عيب يمنع من وطئها، كأن تكون ضيقة الفرج وهذا عيب يمنع من وطئها؛ فإنه حينئذ لا يحكم بثبوت العدة. فهذا هو المانع الحسي الذي لا تثبت به العدة سواء كان العيب في الرجل أو في المرأة أو فيهما معاً، كأن يكون مجبوباً أو كانت رتقاء. كذلك لو كان المانع الذي يمنع من الوطء شرعياً كالحيض، والنفاس، والاعتكاف، والإحرام. كرجل اختلى بامرأة حائض ثم طلقها، فلا يمنع من ثبوت العدة في حقها، فهذا مانعٌ شرعي لكن تثبت العدة مع وجود هذا المانع الشرعي، ومن الموانع الشرعية: أن يكون محرماً وتكون هي محرمه أو أحدهما محرماً فخلا بها فلا يمنع من ثبوت العدة، فإنه لو خلا بها وثمة مانعٌ شرعي في أحدهما أو فيهما معاً فلا يمنع من ثبوت العدة؛ لأنه ربما -والعياذ بالله- انتهك حدود الله ووطئها، وهذا فيه حفظ للحقوق؛ لأن المرأة لو لم تثبت لها العدة على هذا الوجه، فربما حملت وكتمت حملها، وربما تُوفي عنها وتتهم بالحرام مع أنه قد أصابها، فعلى كل حال: هذا المانع لا يمنع من العدة. مقصود المصنف -رحمه الله- أن يقول: إذا وجدت الخلوة ولو مع وجود ما يمنعه حساً أو يمنعها حساً أو مع وجود ما يمنعه شرعاً أو ما يمنعها شرعاً من الوطء لزمت العدة، فما دام حصل الاختلاء على وجه يمكن فيه أن يطأها فالعدة ثابتة، هذا مراد المصنف، وبناء على ذلك فلو سألك سائل، فقال: لو تزوج رجل امرأة ثم بعد زواجه منها اختلى بها خلوة يمكنه أن يطأها في هذه الخلوة، لكن فيه أو فيها أو فيهما مانع حسي أو شرعي: فهل تثبت العدة؟ تقول: نعم، فوجود هذا المانع لا يمنع من كونه يحصل مسيس -مثلما ذكرنا- كأن يكون مجبوباً يتأتى الحمل من مَائِه، أو يكون محرماً أو معتكفاً، أو تكون هي حائضة أو نفساء، فهذا كله لا يمنع من ثبوت العدة. (حساً أو شرعاً) يعني: سواء كان المانع حسياً أو شرعياً.

لزوم العدة بالوطء والوفاة

لزوم العدة بالوطء والوفاة قال رحمه الله: [أو وطئها أو مات عنها]. الوطء يحصل به المسيس الذي هو منصوص الآية، والخلوة على الوجه الذي ذكره بالشروط التي ذكرها تثبت بها العدة، وبناء على ذلك ذكر لنا ضربين: الضرب الأول: ما يتعلق بالخلوة المنزلة منزلة الإصابة. والضرب الثاني: الإصابة الحقيقية التي هي الوطء. وقد أجمع العلماء على -الضرب الثاني- أنه لو خلا بها واعترفت واعترف أنه وطئها تثبت بذلك العدة؛ لأنه مفهوم قوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49]، فهذا طلقها من بعد ما مسها، ولأنه هو الأصل في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ} [البقرة:228]. (أو مات عنها) فتلزمها عدة الوفاة؛ لأنه سيأتي -إن شاء الله- عدة الوفاة وهي أربعة أشهر وعشراً، وهذه العدة كانت في الجاهلية، والحداد كان موجوداً في الجاهلية ولذلك ما كان موجوداً في الجاهلية من العادات والشرائع انقسم في شرع الله عز وجل إلى ثلاثة أقسام: الأول: قسم ألغاه الشرع وأبطله: كنكاح الشغار. الثاني: قسم أثبته وأبقاه وحث عليه كأن يكون من مكارم الأخلاق ومن حسن العادات، كحلف الفضول، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (في دار عبد الله بن جدعان حلف ما أحب لو أن لي به حمر النعم، ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت)، فهذا يدل على إقرار شيء جاهلي لكنه يتفق مع الإسلام؛ لأن هذا الحلف كان لنصرة المظلوم ومنع الظالم من الظلم، وهذا يتفق مع الشرع. الثالث: قسم هذبه الإسلام، يعني: أبقى منه شيئاً وألغى منه شيئاً، فقد يبقي الشيء في الأصل ويمنع من صفات معينة فيه، وقد يبقي الشيء بأصله، ويحدد له أجلاً معيناً. مثل: الحداد، فقد كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها تدخل في أضيق وأظلم وأسوأ مكان من البيت -والعياذ بالله- ثم تمكث سنة كاملة، لا تمتشط ولا تدهن، ولا تغتسل وتصبح في حالة مزرية -والعياذ بالله- من العنت الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، فإذا أتمت السنة افتضت ببعرة -والعياذ بالله- في فرجها وهذا أشنع وأقذع، فجاء الإسلام فأمر في أول الأمر بالسنة حولاً كاملاً: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240]، ثم نسخ وخفف الله ذلك بأربعة أشهر وعشراً فجعلها عدة الوفاة، فأبقى الأصل الذي هو حداد المرأة على زوجها، ولكنه هذبه وخففه فجعله أربعة أشهر وعشراً.

لزوم العدة في النكاح الفاسد

لزوم العدة في النكاح الفاسد قال المصنف رحمه الله: [حتى في نكاحٍ فاسدٍ فيه خلاف، وإن كان باطلاً وفاقاً لم تعتد للوفاة]. تقدم معنا النكاح الفاسد وهو الذي اختلف العلماء فيه فقال بعض العلماء: إنه فاسد، وقال بعض العلماء: إنه صحيح، ومن أمثلة ذلك: النكاح بدون ولي فإن الحنفية -رحمهم الله- يصححونه والجمهور يبطلونه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عباس رضي الله عنه: (لا نكاح إلا بولي) - فهذا نكاح فاسد فيه خلاف، فلو نكح نكاحاً فاسداً فيه خلافٌ لزمتِ العدة، فمن حيث الأصل الأنكحة التي فيها خلاف بين العلماء، إذا عقد شخصٌ معتمداً على القول الثاني الذي لا تراه فنكاحه صحيح، لأنه لا إنكار في المختلف فيه. لكن لو أنك سئلت عن هذا النكاح. يعني: طلب منك القضاء في مثل هذا العقد ورفع إليك ورضيا بك، فحينئذ تحكم ابتداءً لا استئنافاً؛ لأن الاستئناف تصحيح عقود المسلمين التي مضت على أحد قولي العلماء رحمهم الله، وهذا سيأتينا -إن شاء الله- في كتاب القضاء، هذا في مسائل الفروع المختلف فيها، هل من حق القاضي أن ينقض القضاء أو لا؟ والذي عليه العمل عند العلماء: أنه لا ينقض حكم غيره بناء على اجتهاد الغير إلا إذا خالف نصاً قطعياً في كتاب الله عز وجل، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو الإجماع، أما إذا كان من المختلف فيه فلا ينقض، لكن لو ترافعا إليه قضى بما ترجح في نظره، فالقاضي يقضي بما ترجح عنده لا بما ترجح عند الخصوم، وبناء على ذلك: يحكم بفساد هذا العقد أو بصحته ولا يوجب الحد على الزوجين؛ لأن لهما شبهة شرعية، وبناء على ذلك: لو رُفع إليه هذا النوع من النكاح الذي يراه فاسداً فإنه تثبت العدة إذا حكم بفسخه. والفائدة التي نستفيدها من هذا: أن العدة تكون في نكاح صحيح وفي نكاح فاسد، بخلاف بعض العقود الشرعية التي إذا فسدت فسدت آثارها، وبعض الأحيان يفسد العقد ويبقى الأثر، ويحكم ببعض الآثار المترتبة عليه كالعقد الصحيح، مثل مسألة: العدة، حيث تبقى كالعقد الصحيح ويثبت المهر بما استحل من فرجها، وفي بعض الأحيان يحكم بفساد العقد وما يترتب عليه من آثار، كما إذا كان حكم بأن البيع فاسدٌ للربا؛ فإنه يبطل من أصله ويرد الثمن والمثمن، ويرد الطرفان النقدين إذا تصارفا على وجه الربا، ويبطل ما ترتب على ذلك، فلو أن الذهب الذي اشتراه بصفقة ربوية أصبح يساوي أضعافه فلا يأخذ المشتري الربح؛ فهذا يفسد وتفسد آثاره، كذلك في العبادات في بعض الأحيان يفسدها الشرع ويحكم بفسادها وفساد آثارها، ولا تلزم الآثار، ولا يلزم ضمان الإخلالات، وبعض الأحيان تفسد العبادة ويلزم ضمان الأخطاء التي تقع فيها كالصحيح، ومن أمثلة ذلك مثلاً: الصلاة، فإذا حكمنا بفسادها كما لو صلى ثم تكلم كلاماً أفسد صلاته، فإن الصلاة تبطل كليةً ولا يلزمه سجود سهو إن كان قد سها قبل الإفساد، ولا يلزمه ضمان ما فيها من أخطاء. ولو أنه حج حجاً فأفسده بجماعٍ قبل الوقوف بعرفة، فإننا نقول له: أتم هذا الحج الفاسد، ولو وقع منه أي محظور آخر لزمه ضمانه، فنحكم بفساده ولزوم الضمان كالصحيح، فيشبه الفاسد من وجه ويشبه الصحيح من وجه آخر، وهكذا -مثلاً- في العمرة، لو أنه أحرم بالعمرة وجامع زوجته قبل الطواف بالبيت أو قبل السعي بين الصفا والمروة -بين الطواف والسعي- حُكم بفساد عمرته، ثم لو أنه بعد أن جامعها تطيب أو قص أظفاره أو قلم أظفاره أو قص شعره لزمه ضمان مثل هذا بالفدية. إذاً: هناك أشياء يحكم الشرع بفسادها وتترتب آثارٌ عليها كالصحيحة، وهناك أشياء إذا حكم بفسادها حكم بفساد ما يترتب عليها، فهنا حكمنا بفساد العقد ولكن تترتب العدة؛ لأنها لبراءة الرحم فيستوي فيه العقد الصحيح والعقد الفاسد، وحتى في الزنا -والعياذ بالله- إذا وطئت المرأة بالزنا وأرادت أن تتزوج بعد هذا الزنا فلا يجوز لها أن تتزوج حتى تستبرئ رحمها، كما سيأتينا إن شاء الله تعالى.

عدم لزوم عدة الوفاة في النكاح الباطل

عدم لزوم عدة الوفاة في النكاح الباطل (وإن كان -النكاح- باطلاً وفاقاً) يعني: ما اتفق العلماء على إبطاله، هل تعتد فيه للوفاة؟! العدة هي في الأصل متفرعة عن حرمة الزوجية وشرعيتها، أما إذا كان النكاح باطلاً كنكاح المتعة فهو باطل بالاتفاق، فلو نكحها نكاح متعة وظنه نكاحاً شرعياً، فنقول: تلزم العدة إذا طلقها، أو فارقها، أو فسخ القاضي عقد النكاح من أجل فساد العقد، ثم بعد ذلك نقول،: لا تعتد لو توفي عنها؛ لأنه ليس هناك حرمة زوجية؛ لأن عدة الوفاة في حق الزوج وحرمة الزوجية وهي ليست قائمة في مثل هذه الحال، لكن بالنسبة للعدة من جهة الفسخ قالوا: إنها مترتبة لبراءة الرحم أو لشبهة، ولذلك في العدة -كما سيأتي معنا- أن الحكمة عقلاً: براءة الرحم ونحوها، وفيها جانب التعبد، فأنت ترى الرجل كبير السن ربما يبقى عشرات السنين في آخر عمره مع زوجته لا يطؤها ولا يأتيها، ومع ذلك إذا توفي تعتد، وإذا طلقها تعتد مع أنه لا وطء، لكن الشرع يحكم بالعدة في هذا، فهذا جانب تعبدي، مع أن التعليل المعقول هو براءة الرحم، ودل عليه قوله سبحانه: {طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49]، فنبه على أن العلة فيها براءة الرحم، وقال في آية العدة: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة:228]، فجعل الحكمة من العدة: براءة الرحم.

عدم لزوم العدة عند صغر الزوج أو عدم حصول الخلوة

عدم لزوم العدة عند صغر الزوج أو عدم حصول الخلوة قال رحمه الله: [ومن فارقها حياً قبل وطء وخلوة أو بعدهما أو أحدهما وهو ممن لا يولد لمثله، أو تحملت بماء الزوج، أو قبلها أو لمسها بلا خلوة فلا عدة]. قال رحمه الله: (ومن فارقها حياً قبل وطء وخلوة). أي: إذا فارق الزوج زوجته وطلقها قبل أن يختلي بها فإنه لا عدة له عليها؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49]، فنص الله تبارك وتعالى على إلغاء العدة إن وقع الطلاق قبل الدخول، فبيّن المصنف رحمه الله أن هذه الحالة لا عدة فيها، وهذا محل إجماع بين أهل العلم رحمهم الله. والخلوة فيها تفصيل بين أهل العلم رحمهم الله، لكن الجماهير على أن المراد بالخلوة: الدخول، فإذا دخل بها ووطئها؛ فإنه حينئذ تثبت له العدة وإلا فلا مانع. (ومن فارقها حياً قبل وطء وخلوة أو بعدهما أو أحدهما). من فارقها حياً قبل الدخول فلا عدة له عليها، أي: قبل أن يحصل الوطء وقبل أن تحصل الخلوة، وبناء على ذلك فإذا حصل الوطء أو حصلت الخلوة فإن له عليها العدة. (وهو ممن لا يولد لمثله). إن حصل الفراق بعدهما -بعد الخلوة والوطء- وهو ممن لا يولد لمثله فلا عدة له عليها. (أو تحملت بماء الزوج). قالوا: في الحالة الأولى مثل: الصغير لو أنه خلا بامرأة، أو وطء المرأة فإن هذا لا يولد لمثله، ففي هذه الحالة لا يثبت له الاعتداد في حال مفارقته لها، وكذلك أيضاً إذا تحملت بماء الزوج. وقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في المرأة إذا أدخلت مني زوجها هل في هذه الحالة تثبت العدة، أو لا تثبت؟ وجهان لأهل العلم رحمهم الله: فالشافعية يرون أنها إذا تحملت بماء الزوج تثبت العدة، والجمهور: على أنه لا تثبت العدة. وقول الجمهور فيه إعمال للأصل، وقول الشافعية -رحمهم الله- فيه الاحتياط، وهو أشبه من جهة النظر، إلا أن الأصول ترجح مذهب الجمهور؛ لأن العبرة بالدخول والوطء الذي هو طريق العادة والغالب، والنادر لا يعلق الشرع الحكم عليه. (أو قبلها أو لمسها بلا خلوة). يعني: إذا حصلت منه المقدمات من تقبيل أو لمس. فلو أن رجلاً عقد على امرأة فلمسها، أو قبلها ثم طلقها بعد ذلك؛ فإنه لا عدة له عليها، لأن اللمس لا يعتبر دخولاً، ولا يعتبر جماعاً، والله تبارك وتعالى اشترط للعدة وجود الجماع، وبناءً على ذلك: إن حصل منه طلاق بعد تقبيل أو لمس، فإن العدة لا تثبت بمثل هذا.

الأسئلة

الأسئلة

العدة من النكاح الباطل

العدة من النكاح الباطل Q من نكح أخته من الرضاع ثم فرق بينهما فهل يجب عليها العدة؟ A بسم الله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم أما بعد: فهذا السؤال فيه حكم وفيه تنبيه، أما من جهة التنبيه: فينبغي لأهل الرضيع والمرضعة أن يعلموا وأن يحتاطوا في هذا الرضاع على وجه لا يحصل فيه الخلل بهذه الصورة الشنيعة، لدرجة أن الرجل يتزوج أخته من الرضاع ولا يجد المرضعة تنبهه ولا أختها ولا أقرباءها، وهذا سببه الإهمال وعدم التنبيه على الرضاعة، فأمر الرضاعة أمر عظيم تترتب عليه أحكام شرعية، فيجب على المرأة المرضعة أن تحتاط، وعلى أهل الرضيع أن يحتاطوا وأن يتقوا الله عز وجل؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فواجب علينا أن نمتثل شرع الله عز وجل، وأن نحفظ هذه الأنفس من الوقوع في الخطأ، فإذا كان هذا لازماً فإنه يلزم أن يحتاط بالإعلام والإخبار، حتى لا يطأ الرجل أخته من الرضاع أو عمته من الرضاع أو خالته من الرضاع. ثانياً: إذا تحقق أن الرضاع مؤثر وأنه بلغ العدد المعتبر شرعاً وهو خمس رضعات معلومات، لقول عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح: (كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن: بخمس معلومات وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن)، فأثبتت الخمس رضعات. فإذا ثبت الرضاع على وجهٍ معتد به شرعاً فإنه يفرق بينهما، أما لو لم يثبت الرضاع وفيه شبهة كأن يأتي الإخبار من عدو أو ممن يكذب، أو تكون المرأة التي ادعت الإرضاع معروفة بالكذب وبإفساد البيوت، واحتفت قرائن تدل على بعد هذا الشيء فلا إشكال؛ لأن الأصل صحة العقد حتى يدل الدليل على بطلانه. إذاً: لابد من أمور: أولاً: صيانة الرضيع ومن ارتضع معها. ثانياً: لا بد من التحقق من أن الرضاع مؤثر. ثالثاً: أن يفرق بينهما إذا ثبت الرضاع على الوجه المعتبر شرعاً. رابعاً: أنه تعتد استبراء لرحمها كما سيأتي -إن شاء الله- بيان حد ما يجب أن تستبرئ به من الحيض، والله تعالى أعلم.

كيفية مسح النساء على الرأس للوضوء

كيفية مسح النساء على الرأس للوضوء Q بعض نساء تجمع شعر رأسها إلى الخلف وتلفه، فهل يجب عليها عند الوضوء حل الشعر الملفوف أم يجزئها المسح عليه؟ A هذه المسألة فيها جانب يتعلق بالعبادة، وجانب يتعلق بغير العبادة، أما جانب المسح على الرأس: فالأصل أنها تمسح الشعر الذي يحاذي محل الفرض؛ لأن الله فرض على المرأة أن تمسح رأسها كاملاً والرأس من الناصية في مقدمه إلى منابت الشعر في القفا عند حدوده قبل القذال قبل الرقبة، فهذا القدر من جهة الطول، أما من جهة العرض، فمن عظم الصدغ إلى عظم الصدغ، فهذا القدر هو الذي يجب مسحه، والأذنان من الرأس، لقول عليه الصلاة والسلام: (الأُذنان من الرأس) فلو مسحت من رأسها هذا القدر فلا يجب عليها مسح ما استرسل من الشعر؛ لأن العبرة بمحل الفرض وما حاذاه، والصحيح: أنه يجب مسح جميع الرأس ولا يجب مسح بعضه كما يقول الشافعية والحنفية -رحمهم الله- والمالكية في رواية الثلث، فيجب عليها أن تمسح جميع رأسها بكفيها، وتأخذ بالسنة بالإقبال والإدبار على أحد الوجهين عند أحد العلماء، لحديث عبد الله بن زيد ومعوذ بن عفراء رضي الله عنهما. فإذا مسحت الفرض وما يحاذيه أجزأ، ولذلك قالت أم سلمة رضي الله عنها كما في الصحيحين: (يا رسول الله! إني امرأة أشد ظفر شعر رأسي، أفأنقضه إذا اغتسلت من الجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين الماء على جسدك فإذا أنت قد طهرت) فهي تقول: (إني امرأةٌ أشد ظفر شعر رأسي) تظفر شعر رأسها وسألت عن الظفائر هل تنقضها أو لا؟ قال: (لا، إنما يكفيك) يعني: يجزئك (أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات) فدل على أن العبرة بأصل الرأس؛ لأنه من الترؤس والارتفاع، ومحل الفرض هو العبرة، فإذا حثت الماء ثلاث حثيات وروت أصول الشعر فقد غسلت الموضع المأمور بغسله وهو أعلى الرأس، والشعر الزائد على ذلك ليس بمحل للفرض ولا بمحاذ لمحل الفرض ولذلك سقط عنها حل الظفائر، ويستوي في ذلك غسل الجنابة وغسل الحيض على أصح قولي العلماء كما تقدم معنا في أحكام غسل الجنابة. المسألة الثانية: جمع الشعر إذا كانت داخل البيت مع زوجها وبين أولادها جائز، لكن إذا خرجت في الخارج وجمعت شعر رأسها في أعلى الرأس حتى يكون كالسنام، فهذا فيه وعيد شديد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها) -نسأل الله السلامة والعافية- فأحد الأوجه عند العلماء: هو جمع الشعر في أعلى الرأس، فتجعل الشعر مجموعاً في أعلى رأسها، والأصل أنها تحل ضفائر شعرها وترسلها، وهذا هو الأكمل والأبعد عن لفت النظر والإغراء بنظر الغير إليها، والله تعالى أعلم.

حكم صلاة المرأة على الميت في بيته

حكم صلاة المرأة على الميت في بيته Q هل يجوز للمرأة أن تصلي على الميت في بيته قبل أن يصلى عليه ويدفن؟ A هذا الأمر لا أعرف له أصلاً، لكن من ناحية العموم فإنه يصلى على كل ميت، ولكن كونه لم يفعله السلف الصالح رحمهم الله، ولا ثبت أن الزوجات والنساء يجتمعن يصلين صلاة خاصة، وإنما كان يشهد ذلك في مشاهد المسلمين عامة وتصلي المرأة عموماً مع الرجال، ولذلك صلت أمهات المؤمنين مع عموم الصحابة رضوان الله عليهم، وعائشة رضي الله عنها سئلت: هل تدخل المسجد للصلاة على الميت كي تصلي مع الناس؟ ولم تأمر أن تخصص، ولو كان هذا مشروعاً لكان أمهات المؤمنين صلين على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجه، فهذا الشيء لا أعرف له أصلاً من حيث فعل السلف رحمهم الله، والأشبه: أن المرأة لا تصلي عليه صلاةً مستقلة، خاصة وأن المرأة لا تخرج من بيتها وأنها ملزمة بعدة الوفاة، ومعلوم أن المرأة لا تخرج من بيتها في عدة الوفاة بأصل شرعي، لتظافر النقل أن كل زوجة تصلي على زوجها قبل خروجه، فهذا يدل على أنه مقتصر في الصلاة على الصلاة الشرعية، ولا شك أنها تقتصر على الدعاء له والاستغفار والترحم عليه، وجوز بعض مشايخنا -رحمة الله عليهم- خروجها للصلاة على زوجها؛ لأنه يراه من الحاجة، ولا يرى في ذلك بأساً، والله تعالى أعلم.

حكم الصلاة عن شمال الإمام إذا ضاق المكان في المصلى

حكم الصلاة عن شمال الإمام إذا ضاق المكان في المصلى Q ما حكم الصلاة في الجانب الأيسر من الإمام إذا ضاق المكان في المصلى؟ A هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: قال بعض العلماء: من صلى عن يسار الإمام بطلت صلاته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف ابن عباس عن يساره كما في الصحيحين، (قال: فأخذني وأدارني عن يمينه) قالوا: فكونه عليه الصلاة والسلام يأخذ ابن عباس ويديره عن يمينه وهي حركه داخل الصلاة لا تستباح إلا من أجل صحة الصلاة، فلو كانت الصلاة صحيحة لما تكلف هذه الحركة، ورد الآخرون وقالوا: هذا الحديث حجة على صحة الصلاة؛ لأن ابن عباس كبر تكبيرة الإحرام وهي ركن الصلاة ووقعت عن يسار الإمام، فلو كانت الصلاة باطلة لنبهه النبي صلى الله عليه وسلم على قطع صلاته واستئنافها، ولكن كونه عليه الصلاة والسلام لم يأمره بذلك دل على أن صلاته صحيحة، فرد الأولون وقالوا: هذا العذر للتكليف؛ لأنه زمان التشريع، وفعل ابن عباس على البراءة الأصلية فصحت صلاته بالبراءة الأصلية، فقالوا لهم: إذا صححتموها لعذر فإنها تصح عند وجود الحاجة والعذر؛ لأنه لا يصلي أحد عن يسار الإمام إلا عند وجود الحاجة والعذر، فالسؤال الذي ورد أنه إذا ضاق المكان ولم يجد مكاناً فصف عن يسار الإمام، فالذي يظهر -والله أعلم- صحة الصلاة، لكنني أنبه على أنه ينبغي على المسلم التقي الورع أن لا يدخل في الإشكالات، فالصلاة أمرها عظيم، فهذه المواقف المشتبه فيها والتي فيها خلاف يخرج الإنسان من الشبهة ويصلي في آخر المسجد، ولذلك لا داعي أن يحرج نفسه، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نترك ما فيه ريبة، وأن نفعل ما لا ريبة فيه، فيرجع المسلم ويتقي ربه ويصلي وراء الإمام، لكن إذا ضاق المكان فلا بأس أن يصلى عن يساره، والله تعالى أعلم.

حكم زيادة (وبحمده) في تسبيح السجود

حكم زيادة (وبحمده) في تسبيح السجود Q قول المصلي في سجوده: سبحان ربي الأعلى وبحمده، زيادة (وبحمده) هل هي صحيحة؟ A لا أحفظ -الحقيقة- بالنسبة للسجود، إلا عموم قول عائشة في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3]،كان يقول سبحانك اللهم وبحمدك ربي اغفر لي) وهذا أصل عام يدل على مشروعية الدعاء به، ولا أعرف أحداً من العلماء منع من هذه الزيادة في السجود، ولا أعرف أحداً من العلماء بدع هذه الزيادة؛ لأن التعظيم والتمجيد لله عز وجل في السجود مشروع، والأفضل والأكمل فيه أن يكون بالوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، فلما نزلت قال صلى الله عليه وسلم: (اجعلوها في سجودكم) فالتسبيح يكون باسم الله عز وجل الأعلى، بعض العلماء يقول: هو قوله: (سبحان ربي الأعلى) والبعض قالوا: إنه مطلق التسبيح، ولذلك إذا سبح بمطلق التسبيح سقط عنه الواجب، والله تعالى أعلم.

حكم الزيادة على الشاتين في العقيقة للمولود الذكر

حكم الزيادة على الشاتين في العقيقة للمولود الذكر Q هل الزيادة على شاتين في العقيقة للولد وشاة للبنت مخالف للسنة؟ A هذا فيه تفصيل: من زادها يعتقد شرعيتها فقد ابتدع، ومن زادها صلة للرحم وإكراماً للضيف، وإحساناً للإخوان فهو مأجور غير موزور. مثلاً: جاء في العقيقة عدد كبير جداً فذبح الشاتين ثم ذبح شاتين أخريين فلا بأس وهو مأجور، وهذا من إكرام الضيف ومن محاسن الأعمال التي يحبها الله عز وجل ويرضاها، وهكذا لو أنه دعى الناس إلى عقيقة فذبح الشاتين ثم ذبح جزوراً؛ لأن ضيفه كثير فلا بأس بذلك ولا يعتقد أن الجزور تابع للعقيقة، إنما يقصد به الوفاء والإكرام لضيفه وإخوانه وصلة رحمه، فهو مأجور على ذلك، والله تعالى أعلم.

حكم تزويج الولي موليته رجلا وهي في عصمة آخر

حكم تزويج الولي موليته رجلاً وهي في عصمة آخر Q رجل خطب امرأة وعقد عليها دون أن يدخل بها، ثم قام والدها بتزويجها لآخر دون أن يطلقها الأول، فهل نكاح الثاني يعتبر باطلاً أم يفتقر أيضاً إلى طلاق؟ A العقد الأول إذا توفرت فيه الشروط المعتبرة في صحته بأن عقد عليها عقداً صحيحاً فالزوجة زوجته، والزوج الثاني لاغٍ نكاحه ولا صحة لعقده؛ لأن المحصنة المعقود عليها لا يصح أن يتزوجها شخصٌ ما دامت في عصمة الأول، فالنكاح الثاني باطل ولا يمكن أن يصحح حتى يفارق الأول، وهذه امرأة منكوحة ولا تحل للزوج الثاني، والنكاح الثاني فاسد، وعلى ولي المرأة هذا أن يتقي الله، فإن كان الأب هو الذي زوج فإن القاضي يعزره تعزيراً بليغاً، وإذا كان الزوج الثاني عقد على المرأة ودخل بها وهو يعلم أنها في عصمة الأول وأن الأول لم يطلقها فإنه زانٍ، وإذا كان محصناً فإنه يرجم من ناحية الحكم الشرعي؛ لأنها لا تحل له إلا إذا طلقها الأول وخرجت من عصمته، وبناء على ذلك فلا يجوز التلاعب في حدود الله عز وجل، وهذا الأب ظالم معتدٍ على حدود الله، وهذا لا شك من الاعتداء والانتهاك لحرمات الله عز وجل ويفضي إلى الزنا الذي حرمه الله عز وجل، فإذا علم أنها لا تحل للثاني وتلاعب بهذا، فإنه يعزر تعزيراً بليغاً ويزجر، وبعض العلماء يسقط ولاية هذا الأب في النكاح، أي: لا يجعل له ولاية على هذه المرأة؛ لأنه بهذا الفعل فسق في النكاح نفسه، وعند طائفة من العلماء أن الأب أو الولي -ولي النكاح- إذا كان فسقه في نفس النكاح -يتلاعب بشروطه- فإنه لا تثبت له ولاية، وتنتقل إلى أقرب قريب من بعده من العصبة، وإذا كان أخوها موجوداً تنتقل الولاية إليه وتسقط ولاية الأب إذا أقر واعترف أنه يزوجها من أزواجٍ عديدين، أو من أكثر من زوج، وبناء على ذلك ينبغي رفع هذا الأمر إلى القضاء للفصل فيه، والله تعالى أعلم.

حكم قول: (رب اغفر لي ولوالدي) في الجلوس بين السجدتين

حكم قول: (رب اغفر لي ولوالدي) في الجلوس بين السجدتين Q ما حكم قول: (ربي اغفر لي ولوالدي) في الجلسة بين السجدتين؟ A ما أحسنه وأجمله وأعظمه براً للوالدين وإحساناً لهما، والأئمة والعلماء نصوا وذكروا أنه مما يستحب للابن: أن يدعو لوالديه في صلاته، وإن تعذر في حق النبي صلى الله عليه وسلم لمعنىً؛ لأنه منع من الاستغفار لوالديه فلا تمتنع سائر الأمة من ذلك، والإنسان مأمور أن يشرك والديه في الاستغفار، وأما تبديع من قال بين السجدتين: ربي اغفر لي ولوالدي، فإني لم أجد أحداً من أهل العلم مع التتبع والتقصي نص على هذا التبديع أبداً، والله عز وجل أمر بالدعاء للوالدين، لكن إذا ألزم وقال: يجب أن يدعو لوالديه، نقول: هذا ليس له أصل، أما التبديع لمُطْلَق الدعاء للوالدين فإنني لا أعرف أحداً من أهل العلم يقول هذا، وقد كان الأئمة -رحمهم الله- من السلف يقولون في قوله تعالى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [النمل:19] يؤخذ من هذه الآية: الاستحباب للولد أن يشرك والديه بالدعاءفي صلاته، وأن هذا من أعظم البر؛ لأن الله تعالى أمر بالاستغفار والترحم على الوالدين، وجعل هذا من البر حتى بعد وفاتهما كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هل بقي من بري لوالدي شيءٌ أبرهما به بعد موتهما؟ قال: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما) ولا شك أن الصلاة التي هي الدعاء عليهما والاستغفار للوالدين أرجى ما تكون إذا كانت في الصلاة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما سئل: (أي الدعاء أسمع، قال: أدبار الصلوات المكتوبات) فجعل الصلاة محلاً لاستجابة الدعاء، فإذا دعا لوالديه بين السجدتين، أو في السجود، أو في التشهد، امتثالاً لأمر الله عز وجل ببرهما والإحسان إليهما فقد أحسن، وأسأل الله العظيم أن يعظم أجره ومثوبته إذ لم ينس والديه في هذه المواطن الشريفة التي ترجى فيها الإجابة، وأما إذا اعتقد وجوب هذه اللفظة ولزومها بين السجدتين فهذا ليس له أصل، والإلزام بدعاء مخصوص في موضع مخصوص خاصة في العبادات يفتقر إلى دليل ونص، أما إذا كان مندرجاً تحت أصلٍ عام فلا غبار عليه، وأما أنه امتنع في حقه عليه الصلاة والسلام فلا يمتنع في حق غيره، وقد دلت النصوص على الحث عليه والأمر به، فلا مانع أن يكون بين السجدتين، أو يكون في السجود، أو يكون في الدعاء بعد التشهد، والله تعالى أعلم.

حكم إلقاء الكلمات بعد خطبة الجمعة

حكم إلقاء الكلمات بعد خطبة الجمعة Q يقوم بعض الناس يوم الجمعة بعد إلقاء الخطبة وأداء الصلاة بالتعليق على موضوع الخطبة أو ينبه على مسألة ما، فما حكم هذا الفعل؟ A الحقيقة أن هذا الأمر يحتاج إلى تفصيل في بعض الأحيان، فقد يحتاج إلى تعليق على الخطبة إذا كان أمراً لازماً كخطأ في حكم شرعي أو في مسألة اعتقادية فلابد من التنبيه عليها، أو أن خطيباً أخطأ الجادة فأحل حراماً وحرم حلالاً -وإن شاء الله الخطباء أبعد عن هذا، لكن على فرض أنه قد يوجد شيء من هذا- فلابد أن يقوم الإنسان، لأنه إذا لم يتدارك بعد الخطبة، فأين يتداركهم؟!! وهؤلاء ينبغي إعلامهم أن هذا الأمر ليس من شرع الله عز وجل، لكن ينبغي أن يكون الأمر أمراً متفقاً بين العلماء على خطئه، أما لو كان أمراً خلافياً والخطيب يرى فيه قولاً لعلماء وأئمة، فلا يأتي واحد بعد أن ينتهي يعقب عليه أو يكتب ويقول: لي عليك ملاحظة، فهذا أمر مخالف لمنهج السلف الصالح رحمهم الله، خاصة الأئمة والعلماء، فإذا خطبوا أو بينوا أمراً، أو دليلاً أو صححوا ما ضعف الغير، أو ضعفوا ما صححه الغير، وقالوا بما ترجح عندهم، فهم ومن تبعهم يتقربون إلى الله بهذا، فلا يأتي أحد يشوش عليهم؛ لأنك إذا فعلت ذلك ساغ للغير أن يأتي لشيخك ويخطئه كما خطأت أنت شيخه، ويفتح على الناس بلاء عظيم، وقد نبه العلماء على هذه المسألة في مسألة: العذر بالخلاف ومراعاة آداب الخلاف، فتكلموا عليها في كتب الأصول، وكان أئمة العلم ودواوينه يسيرون على هذا. إذاً: التعقيب على الخطيب لا يكون إلا عند الضرورة؛ لأنه سيؤثر في نفسية الخطيب، ويؤثر في نفسية الناس، وينزع ثقة الناس به، خاصة إذا كانت المسائل مختلف فيها، وخاصةً إذا كان الذي يعقب صفيق الوجه سليط اللسان لا يتقي الله عز وجل، ولا يراعي الحرمة، ونقول هذا؛ لأنه في هذا الزمان كثرت الجرأة على أهل العلم، وهذا ليس بغريب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ) ولكن لا شك أن الله سبحانه وتعالى يعلي قدر الإنسان ويعظم أجره، ودواوين العلم كلهم ابتلوا بهذا، وما سلم أحد من أئمة العلم من هذا البلاء، لكن إذا وجدت الضرورة ووجدت الحاجة كالرد على شخص يدعو الناس إلى بدعة متفق على التبديع فيها، أو يدعوهم إلى تحليل حرام وتحريم حلال أحله الله عز وجل، أو إذا قام الناس من المسجد ولا يمكن أن تجمعهم فقمت وحمدت الله وتكلمت وبينت، أو إذا كان الخطيب عنده استعداد أن تنبه وتنصح حيث تأتي وتنبه الناس وتنصحهم، أو تنصحه بينك وبينه، والإنسان الذي عنده استعداد أن يصحح خطأه، يستر ما أمكن، وإذا جئته بالملاحظة وكانت صحيحة ومتفقاً على الخطأ الذي وقع فيها قبلها منك فهذا تنصحه فيما بينك وبينه، وهو يتولى نصح الناس؛ لأن نزع ثقة الناس فيه والكلام في العلماء والأئمة -خاصة ممن لهم قدم صدق في نصح الناس وتوجيههم- مفسدة أعظم، وخاصة عند العوام فإن ثقتهم تنزع منه وتحدث بلبلة وتشويش، فهذه أمور ينبغي أن تضبط بضوابط شرعية وعلى كل من يريد أن يقوم بهذا الأمر أن يرجع إلى أهل العلم، والأشبه والأولى في مثل هذه المسائل أن يفتي في كل مسألة بحدودها حتى يكون أضبط وأرعى للحقوق الشرعية؛ لأن هذا أمر فيه حقوق منها: أولاً: حق المتكلم؛ لأن الواجب على الناس عموماً عالمهم وجاهلهم أن يكرموا كل من يدعو إلى الله عز وجل؛ لأن الله أكرمه وشهد من فوق سبع سموات أنه لا أحسن قولاً ممن يدعو إليه سبحانه وتعالى، والخطيب داعية إلى الله، وليعلم كل مسلم أن لهؤلاء الذين تصدروا لتوجيه الناس في المساجد من الخطباء والأئمة -جزاهم الله خيراً- والدعاة المخلصين، أن لهم حقاً عظيماً على المسلمين، وأنهم على ثغر من ثغور الإسلام، وأن هؤلاء عن طريقهم يرغب في الدين، وعن طريقهم يحبب في الطاعات، وعن طريقهم بإذن الله عز وجل ينفر الناس من معصية الله وانتهاك حدوده عز وجل، فإذا أصيبت الأمة في أمثال هؤلاء فإنه مقتلٌ عظيم، فالواجب علينا أن نعلم أن كل مسلم مطالب بتهيئة الأسباب للمطالبة بهذا الحق، وتجد السلف الصالح -رحمهم الله- حفظوا لأئمتهم ولعلمائهم ودواوين العلم حقوقهم ولم يرضوا لأحد أن يثلبهم أو ينتقصهم أو يجرحهم لما في ذلك من التوهين في الدين، ومن هنا قال بعض العلماء: إن الإساءة للقاضي في مجلس القضاء أو الكلام فيه أو في علمه لا يسقط فيه الحق ولو سامح القاضي. ومن جفا القاضيَ فالتأديبُ أولى وذا لشاهدٍ مطلوبُ قالوا: لأن القاضي إذا سامح عن نفسه بقي حق الشرع، والداعية إذا تُكلم فيه وقال: سامحتك، بقي حق الدعوة؛ لأنه كم من أناس نفروا من هذا الداعية ونفروا من هذا الخطيب وقام وراءه في الخطبة وتكلم فيه أو جرحه أو تطاول في عرضه -نسأل الله السلامة والعافية- إذاً: هناك ضوابط لمن أراد أن يقوم يتكلم، ما الكلام الذي يقوله؟ وما الذي ينبغي عليه مراعاته؟ ولذلك نقول: كل مسألة ينبغي أن تحد بنازلتها وأن يفتى فيها بأمرها؛ لأن الأمر يحتاج إلى انضباط، فإذا أراد أن يتكلم، وتكلم في حق هذا العالم أو الخطيب أو الداعية أو الناصح وأساء إليه أو انتهك حرمته، فإنه في هذه الحالة لو سامح الخطيب والداعية عن نفسه بقيَ حق الشرع، فإن هذا الشخص تسمى باسم الدعوة، ولذلك لو أن حارساً يحرس عمارتك أو بيتك فجاء شخص فضربه وهو يحرس عمارتك لاعتبرت ذلك إساءة إليك كما هو إساءة إليه، ولله المثل الأعلى، فكيف بمن قام على حدود الله أن تنتهك؟ ومحارم الله أن تعتدى؟ وذكر بالله ووعظ بالله، أترى ربك لا يفي بعهده ووعده؟ ولذلك قل أن تجد أحداً تصدر لأهل العلم وأهل الفضل إلا وجدت دلائل عقوبة الله عز وجل -خاصةً إذا استطال في أعراضهم- العاجلة والآجلة، ومن شاء صدق ومن شاء كذّب، فالله عز وجل بالمرصاد وهو عزيز ذو انتقام، فهذا الأمر نضيق فيه ونشدد؛ لأننا نعلم أن هذه الأمة قامت على التربية والأدب، وما استقام أمرها إلا بالأدب، وهذا عمر بن الخطاب مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه عند أبي بكر دليل وعنده دليل ويقول رضي الله عنه: كيف تقاتل قوماً يشهدون أن لا إله إلا الله وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) ومع ذلك يصر أبو بكر ويقول: إنها لقرينتها بكتاب الله، ولأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة -هذا له دليل وهذا له دليل- ويقول عمر: (فما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر. وهذا كله على الأدب، قال: فعلمت أنه الحق) وما ذكر حجة ودليل، قال: رأيت الله شرح صدر أبي بكر. يعني: هو أعلم منه، والله عز وجل وفقه فرضي بعلمه وفضله، ولذلك كنا مع العلماء وكنا مع المشايخ نجلس في مجالسهم ونسمع من كلامهم، وفي بعض الأحيان ربما تعرضوا للمسألة بدليل واحد وفيها عشرات الأدلة، فيأتي الشيطان ويحاول أن ينتقص العالم وهذا طبيعي جداً؛ كذلك الإمام لو صلى ونسي أو أخطأ في القراءة وله قدم راسخة -فهذا لحكمة من الله عز وجل- هل إذا صلى الإمام ونسي آيةً في قصار السور وهو من حفاظ القراءات يُطعن فيه أو يُنقص من قدره؟ كلا والله، فهذه حكم من الله عز وجل أنه ربما تحصل الزلة ويحصل الشيء اليسير فيدخل الشيطان، فعلى الإنسان أن يحفظ قلبه من انتقاص أمثال هؤلاء سراً وجهراً، ونشدد في هذا؛ لأننا وجدنا الأمة قامت واستقامت أمورها على الأدب، ووالله ثم والله إننا سنلقى الله يوم نلقاه وقد ربينا الناس على حمل حرمات العلماء ولا نربيهم على جرحهم وانتهاك حرماتهم وثلبهم والتشهير بهم، فهذا أمر ينبغي أن يوضع في نصابه، يرضى من يرضى، ويسخط من يسخط؛ لأن علينا أن نرضي الله عز وجل، فالواجب على العلماء والخطباء وطلاب العلم حتى بعضهم مع بعض أن يربي بعضهم بعضاً على تعظيم حرمة المسلم فضلاً عن الداعية إلى الله، فما قامت أمور هذه الأمة إلا بحفظ هذه الحقوق ورعايتها وصيانتها، والخوف من الله سبحانه وتعالى في ذلك، نسأل من الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل.

كتاب العدد [2]

شرح زاد المستقنع - كتاب العدد [2] المعتدات على أنواع، فإما أن يكون التقسيم بحسب سبب العدة، أو بحسب حال المعتدة نفسها، ومن الأنواع المترتبة تقسيمها على حال المعتدة: الحامل، وعدتها تكون مدة حملها، فإذا وضعت حملها انتهت عدتها على تفاصيل في أحكامها.

عدة الحامل

عدة الحامل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: والمعتدات ست]. قوله رحمه الله تعالى: (والمعتدات ست) إجمال قبل البيان، جمع رحمه الله أصناف المعتدات، فالنساء اللاتي تثبت العدة في حقهن ستة أنواع، وقد بينا غير مرة أن من عادة العلماء رحمهم الله أنهم يجملون الأحكام ثم يفصلونها، وبينا محاسن هذا وأنه مقتبس من هدي الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله: [الحامل: وعدتها من موت وغيره إلى وضع كل الحمل]. النوع الأول من المعتدات: الحامل، فإذا كانت المرأة حاملاً؛ فإن عدتها أن تضع حملها كاملاً، وينفصل عنها؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]، فبين سبحانه وتعالى أن عدة المرأة الحامل أن تضع الحمل. والحمل ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أ، تلقيه المرأة وتخرجه، ولا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تلقيه وقد اكتمل وتم، والحالة الثانية: أن تلقيه قبل التمام والاكتمال، فإذا أخرجت المرأة حملها ونفست، وانفصل الولد عنها؛ فإنه يحكم بخروجها من عدتها، ولا يشترط انقطاع الدم عنها، فالعبرة بوضع الحمل؛ لقوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]. وأما الحالة الثانية: وهي أن تلقي الحمل قبل تمام المدة فلا يخلو إلقاؤها إما أن يكون بعد تخلق الجنين، وإما أن يكون قبل تخلق الجنين، فإن ألقته قبل تخلق الجنين فإنها لا تخرج من عدتها، وأما إذا ألقته بعد التخلق وفيه صورة الآدمي أو الخلقة أو بعد نفخ الروح فيه فإنه يحكم بخروجها من عدتها. قال رحمه الله: [بما تصير به الأمة أم ولد]. تصير أم ولد إذا ألقت ما فيه صورة الآدمي، وهذه المسألة: إذا ألقت المرأة وأسقطت، تتفرع عليها أحكام في العبادات والمعاملات، فإذا ألقت المرأة ما في بطنها قبل تمامه واكتماله نظرنا فيه، فإن كانت فيه صورة الآدمي وصورة الخلقة فهذا يؤثر في العبادات والمعاملات، ففي العبادات: الدم يعتبر دم نفاس إن جرى منها قبل إلقائه، وفي المعاملات: يحكم بأنها قد خرجت من عدتها، وأما إذا كان الذي ألقته ليس فيه صورة خلقة الآدمي فإنه في هذه الحالة لا يكون الدم دم نفاس، وإنما هو دم استحاضة، فيكون نزيفاً تغسله ثم تتوضأ وتصلي، ولا يمنع صوماً ولا صلاة، وتعتبر في حكم الطاهرات. إذاً: الإسلاب والإسقاط ينظر به إلى الشيء الذي أسلبته وأسقطته؛ فإن حصلت فيه صورة التخلق وصورة الآدمي ولو كانت ناقصة فإنه تثبت فيه الأحكام في العبادات والمعاملات، وإن كانت ليست موجودة فيه صورة الآدمي فلا تثبت فيه لا العبادات ولا المعاملات، وهذا هو ما عبر به: أن تصير الأمة أم ولد، وحينئذٍ تعتق على سيدها بعد موته.

عدم اعتبار وضع الحمل في العدة إذا كان الزوج لا يولد لمثله

عدم اعتبار وضع الحمل في العدة إذا كان الزوج لا يولد لمثله قال رحمه الله: [فإن لم يلحقه لصغره أو لكونه ممسوحاً، أو ولدته لدون ستة أشهر منذ نكحها ونحوه وعاش لم تنقض به]. إذا طلق الزوج امرأته وكانت حاملاً فإما أن يكون ممن يولد لمثله، وإما أن يكون ممن لا يولد لمثله، فإن كان ممن يولد لمثله فالولد للفراش؛ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل من طلق امرأته بعد الدخول وهي حامل نقول لها: عدتك وضع الحمل، وأما إذا كان قد طلقها وتبين فيها الحمل وهو ممن لا يولد لمثله ويتعذر منه الحمل مثل: الصغير ومثل: ممسوح الآلة الذي ليس لديه عضو، فحينئذٍ يحكم بعدم الاعتداد بهذا الحمل. (لم تنقض به) يعني: لو حملت ووضعت فالحمل ليس منه، وحينئذٍ لا تعتد بهذا الحمل، وبعد انتهاء حملها تعتد كعادتها من الأقراء، لأن هذا الحمل فيه شبهة الزنا بأن يكون من غيره كما لو اعتدي عليها فأكرهت على الزنا والعياذ بالله، أو وطئها أحد وهي نائمة، ففي هذه الحالة لا يحكم بكون الحمل مؤثراً في العدة. ومراد المصنف أن يقول: الأصل أن الحامل تخرج من عدتها بوضع الحمل، لكن يشترط أن يكون الحمل للرجل الذي تعتد من طلاقه، فإذا كان الحمل من غيره فلا. كيف يكون الحمل من غيره؟ إذا تبينا أن مثله لا يحمّل كالصبي، ومثل من كان ممسوح الآلة، فإنه في مثل هذا الحالة تبقى حتى تضع حملها ثم تستأنف عدتها من طلاقها. (أو ولدت لدون ستة أشهر منذ نكحها). بينا أن العلماء رحمهم الله اختلفوا في أقل مدة الحمل، فإذا كان الذي دلت عليه النصوص أنه لا يمكن أن يكون الحمل قبل ستة أشهر؛ وذلك لأن الله تعالى يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]، فبين أن مدة الحمل ومدة الرضاع هي ثلاثون شهر، والثلاثون شهراً إذا فصلت منها مدة الرضاع بقيت مدة الحمل، ومدة الرضاع أربع وعشرون شهراً أي: سنتان؛ لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233] فبقيت من الثلاثين ستة أشهر، فأصبحت الستة أشهر هي أقل مدة الحمل، فإذا وضعت الولد في أقل منها حينئذٍ لا ينسب له، ولا يعتد بهذا الحمل في خروج المرأة من عدتها إذا أخرجته.

أكثر مدة الحمل

أكثر مدة الحمل قال رحمه الله: [وأكثر مدة الحمل أربع سنين]. قيل: أكثر ما وجد في حمل المرأة أنها تستمر إلى أربع سنوات، وذكر عن بعض أئمة السلف أنه مكث في بطن أمه أربع سنين، وهذا هو الغالب الموجود، وهو أكثر ما وجده العلماء وتكرر حتى قال بعض أهل العلم رحمهم الله: لا يعرف بأكثر من أربع سنين، وبناءً على ذلك: فلو كانت المرأة في عصمة الرجل وتأخر حملها إلى أربع سنين، فإنه يحكم ببقائها في عدتها حتى تضع هذا الحمل.

أقل مدة الحمل

أقل مدة الحمل قال رحمه الله: [وأقلها ستة أشهر]. وأقل مدة الحمل ستة أشهر لما ذكرنا من دلالة الآيتين الكريمتين، حيث بين الله تعالى أن مدة الحمل والرضاع ثلاثون شهراً، وأن مدة الرضاع سنتان: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233] فبقيت ستة أشهر، وهذا قضاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم اعتبروا أن أقل المدة ستة أشهر.

غالب مدة الحمل

غالب مدة الحمل قال رحمه الله: [وغالبها تسعة أشهر]. الغالب أن المرأة تضع حملها في مدة تسعة أشهر، تزيد قليلاً أو تنقص قليلاً، وعلى كل حال: ففائدة معرفة أقل الحمل وأقصى مدة الحمل تكون من جهة النسبة وترتب الأحكام، فإذا وضعته قبل أقل مدة الحمل فالحمل ليس له، فإذا كان العقد في بداية محرم اعتبرنا منها أقل مدة الحمل، فلو لم تتم مدة الحمل فيما بعد محرم، كأن تضعه في خمسة أشهر بعد محرم فإننا لا نحكم بكونه ولده، وتكون قد حملت به قبل العقد، وحصل وطء من غيره فلا ينسب إليه، وهكذا لو أنها وضعت فوق أربع سنين، فإنه لا ينسب إليه، ولا تترتب عليه الأحكام من حيث العدة، فتخرج من عدتها إذا ثبت نسبة الحمل إليه، ولا يحكم بخروجها من العدة إذا ثبتت نسبة الحمل إلى غيره أو تعذرت نسبته إليه.

حكم إسقاط النطفة والعلقة والمضغة والأجنة

حكم إسقاط النطفة والعلقة والمضغة والأجنة قال رحمه الله: [ويباح إلقاء النطفة قبل أربعين يوماً بدواء مباح]. (ويباح إلقاء النطفة) هذه المسألة وهي مسألة: إسقاط ما في البطن من النطفة والعلقة والمضغة والأجنة. وهذا الإسقاط والإجهاض للأجنة فيه تفصيل: وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز أن تجهض وتسقط الأجنة بعد نفخ الروح، وأنه إذا نفخت الروح في الجنين وأسقطت المرأة ذلك الجنين فإنها تعتبر قاتلة، وهكذا إذا أعانها الطبيب فأعطاها دواءً أو علاجاً للإسقاط، وهكذا لو أعانت المرأة أو الرجل من النساء على الإسقاط بترويع أو تخويف أو حمل ثقيل ونحو ذلك. فإذ نفخ الروح فلا يجوز إسقاط الأجنة؛ لأنها أنفس محترمة، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله. أما قبل نفخ الروح ففيه خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، والذي دل عليه حديث ابن مسعود رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فيؤمر فينفخ الروح فيه) فدل هذا الحديث على أن نفخ الروح يكون بعد مائة وعشرين يوماً. ومن هنا اختلف فيما قبل نفخ الروح، هل يجوز أو لا يجوز؟ فمن أهل العلم رحمهم الله من حرم ذلك ومنعه وقال: إنه لا يجوز، ومن أهل العلم من رخص فيه وجوز، وكلا القولين موجود في المذاهب الأربعة، إلا أن الذين شددوا من الحنفية والمالكية رحمهم الله وبعض أصحاب الإمام أحمد، والشافعية استدلوا بأدلة صحيحة قوية، فإن الأصل في الأجساد والأرواح أنه لا يجوز الإقدام على العبث بها أو تعريضها للتلف أو تغيير الخلقة، وهذا أصل دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، فإن الله لما ذكر قبائح الشيطان ذكر منها: تغيير الخلقة: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119] فأخبر الله تبارك وتعالى أن مما يسوله الشيطان لعصاة بني آدم العبث في خلقته، وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي تقدمت الإشارة إليه أن ما قبل نفخ الروح من الخلقة، ولذا قال: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفه، ثم يكون علقة مثل ذلك) ولذا قال: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} [المؤمنون:14] فدل على أنها من الخلقة، ونص السنة يدل أيضاً على أنه لا يجوز العبث في الخلقة، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لعن الواشرة والمستوشرة، والواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة قال: (المغيرات خلق الله) فجعل العلة في اللعن -والعياذ بالله- إقدامهن على تغيير خلق الله عز وجل، وثبت في الحديث الصحيح من كلامه عليه الصلاة والسلام بنص الكتاب والسنة على أن مراحل التخلق هي كما في قوله الله: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} [المؤمنون:14] فهذا يدل على أنها مخلوقة، وأنها من خلق الله سبحانه وتعالى؛ لأنه نسب الخلقة إليه، فالإقدام على إتلاف هذه الخلقة وإزهاقها حرام؛ لأن الأصل الشرعي يقتضي تحريمها، ولم نجد في كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم تفريقاً بين ما قبل نفخ الروح وما بعد نفخ الروح. ثم استدلوا بالعقل وهو النظر الصحيح، وهو قياس قوي جداً: وهو أن جمهور العلماء منهم من يقول -كبعض أصحاب المذاهب- قالوا: إن هذه لم تخلق، فقالوا لهم: أرأيتم بيض الصيد، فإن الله حرم علينا قتل الصيد، فسئلوا عن بيض الصيد هل يجوز إتلافه؟ فقالوا: لا يجوز، وفيه الضمان، مع أن بيض الصيد سيئول إلى الخلقة المكتملة، وهذا يدل على حرمة الإقدام على إتلاف هذه الأشياء، ثم لا يشك عاقل على أن هذا خلق الله عز وجل الذي سيئول إلى الخلقة المعتبرة شرعاً، فبأي دليل يقدم على إسقاطه ومنعه من البقاء؟ وهذا الفعل يخالف الأصول الشرعية، فإن من المقاصد الأصلية في النكاح تكثير سواد الأمة، ونسل الأمة، وهذا الفعل يضاد تماماً قوله: (تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مفاخر بكم الأمم) وهذا يمنع مقصود الشرع من النكاح، فالذي تطمئن إليه النفس من حيث الأصول الشرعية والأدلة أنه ليس هناك دليل قوي يدل على جواز الإقدام على إسقاط الأجنة قبل التخلق أو بعد التخلق، أو قبل نفخ الروح أو بعد نفخ الروح، وهذا الأصل تدل عليه أدلة الكتاب والسنة، وكون النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن الروح لا تنفخ إلا بعد المائة والعشرين يوماً ليس فيه دليل على جواز إتلاف هذه الخلقة، فإن العبث بهذه الخلقة والإسقاط للأجنة له آثار سلبية، وحتى الأطباء أنفسهم يقررون هذا، فإن المرأة إذا أقدمت على تعاطي الدواء أو تعاطي الأسباب التي تسقط الجنين فإنه لابد من وجود أثر لهذا التعاطي ولهذا الفعل، ولابد من وجود تبعات ومضاعفات تضر بالمرأة وتضر بجسدها، ولا يمكن أن الإنسان يشك في هذا، فالجسد إذا أخرج عن عادته وطبيعته لابد أن يتضرر، فلو استعمل الدواء لابد له من أثر، ولو تعاطت الأسباب الشنيعة الفظيعة من الترويع أو حمل الأشياء الثقيلة فإنها قد تسلب ويحدث معها نزيف وتضطرب عادتها، ويحدث لها من الأضرار في جسدها ما لا يخفى في كثير من الأحوال التي يفعل أو يقدم فيها على الإسقاط، وبناء على ذلك: فالذي نعرفه من نصوص الشرع وأصول الشريعة أن الواجب على الطبيب أن يقدم على علاج الأبدان ووقايتها من الضرر، أما أن يقدم على إسقاط الأجنة والعبث في خلقة الله عز وجل فهذا ليس له دليل لا من كتاب الله ولا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وليس للذين قالوا بجواز الإسقاط إلا دليل واحد وهو حديث ابن مسعود الذي تقدم وقد أجبنا عنه، بل حديث ابن مسعود رضي الله عنه يقوي عدم جواز الإسقاط؛ لأنه يدل أنه من خلق الله، والنصوص تدل على عدم العبث في خلق الله فيقتضي المنع. ثم أيضاً تجد نفس المذاهب والأقوال التي أجازت الإسقاط تجدها مضطربة في الفتوى والقول بجواز الإسقاط، والذي تطمئن إليه النفس ترك هذه الأجنة وترك هذه الخلقة وعدم إقدام الأطباء على إسقاط الأجنة سواء كان قبل نفخ الروح أو بعده.

حكم إسقاط الجنين إذا غلب على الظن هلاك المرأة

حكم إسقاط الجنين إذا غلب على الظن هلاك المرأة لكن تستثنى من هذا مسائل: منها: إذا كان بقاء الجنين يغلب على ظن الطبيب أنه سيفضي إلى هلاك المرأة وموتها، وهذا يسمى عند الأطباء بالحمل المنتبذ أو الحمل القنوي أو الحمل المهاجر، وحقيقته: أن الجنين يتخلق في غير موضعه الطبيعي، ثم ينتفخ ويفجر القناة ثم ينفجر في بطن المرأة فيقتل المرأة ويموت هو بنفسه، فحينئذٍ يجوز الإسقاط، ويجوز التدخل الجراحي لإخراج هذا الجنين إن تعذر إسقاطه؛ وذلك لإنقاذ نفس محرمة، وليس من باب إسقاط الأجنة، وإنما هو تلافٍ لضرر، فالحياة المتيقنة مقدمة على الحياة المظنونة، فنحن لا يمكننا أن نعرض حياة الأم اليقينية للخطر والضرر بسبب حياة قد تبقى وقد لا تبقى؛ لأن بعض الأطباء يقول: حياة الجنين نفسها مستبعدة؛ لأنه إذا تم الاكتمال في هذا الموضع سيفجر القناة، فيموت الجنين في بطن الأم، وتموت الأم تبعاً لذلك. إذاً: حتى حياة الجنين غير مستقرة، وبناء على ذلك: يجوز إسقاط الجنين في مثل هذه الحالة وأشباهها مما تتعرض فيه الأم للهلاك والضرر، وهذا من باب درء المفسدة العظمى بالمفسدة الصغرى؛ لأن نصوص الكتاب والسنة دالة على هذه القاعدة التي هي: (إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما) ومن الأدلة على ذلك: أن الخضر عليه السلام كسر لوحاً من السفينة لأجل إنقاذ السفينة كاملة، وهذا يدل على أنه يجوز إتلاف الأقل لما هو أعظم منه، والجنين هنا ليس في مقام الأم، وكذلك حياته ليست غالبة ولا متيقنة، فتقدم الحياة المتيقنة وهي حياة الأم على الحياة الموهومة، وهذا هو الذي يفتى فيه بجواز الإسقاط. أما بالنسبة لتساهل المرأة في هذا الأمر، وتقول: أتعبتني تربية الأولاد، وأريد ما بين الأولاد تفاوتاً؛ فهذه كلها شهوات ونزوات، ورغبات النساء ليست موجبة للعدوان على هذه الحدود الشرعية من العبث بخلقة الله عز وجل، وتعريض الأنفس للضرر، وإزهاق الأرواح، خاصة إذا كان بعد نفخ الروح، فإن الله عز وجل شرع في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ضمان الأجنة كما جاء في قصة المرأتين لما اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى فألقت جنينها، فقتلتها وألقت ما في بطنها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بضمان الجنين، وهذا يدل على أنه له حرمة. فعلى كل حال: على النساء أن يتقين الله عز وجل، ويشرع للزوج أن يمنع زوجته؛ لأن الولد ولده، إلا إذا قرر الأطباء أن المرأة تتعرض للخطر والضرر كما ذكرنا فهذا يستثنى، ولا يجوز للطبيب أن يعين على مثل هذه الأعمال لما فيها من الاعتداء على حرمات الله عز وجل، والإقدام على إتلاف الأجساد والعبث فيها دون مسوغ شرعي. قوله رحمه الله: (بدواء مباح). يعني: عند من يقول بجواز الإسقاط قبل الأربعين وقبل بداية التخلق، يقولون: في هذه الحالة يشترط أن يكون الدواء مباحاً، وسيأتينا -إن شاء الله- أن الحنابلة وطائفة من أهل العلم لا يجيزون التداوي بالمحرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها) فهذا الحديث يدل على أنه لا يجوز التداوي بالمحرمات، وبناء على ذلك: يشترطون أن يكون الدواء مباحاً، وأن تكون الوسيلة وسيلة مشروعة، وليست بوسيلة ممنوعة.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تناول الأدوية التي تزيد في الإخصاب

حكم تناول الأدوية التي تزيد في الإخصاب Q هناك بعض الأدوية تزيد من الإخصاب وإمكانية الحمل، فهل يجوز تناولها رغبة في الحمل؟ A الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالمسائل الطبية النازلة الجديدة تحتاج إلى أن لا يفتى فيها إلا بعد الجلوس مع الأطباء ومن لهم خبرة في هذه المسائل؛ لمعرفة حقيقتها. مثلاً: الأدوية التي تستعمل للإخصاب هل هناك بديل، وهل هناك ضرر يترتب على هذا الدواء؟ لأنه قد تكون هناك مضاعفات، وهل إذا استخدم هذا الدواء لا تتضرر المرأة، وهل إذا حصل حمل لا يتضرر الحمل ولا تنتج آثار سيئة على الحمل؟ هذه الأمور والتساؤلات كلها لا يجيب عنها إلا الأطباء المختصون، وليس كل طبيب يصلح لأن يأتمنه العالم أو يسأله عن هذه المسائل، ففي بعض الأحيان يكون الطبيب عنده تحمس لحل الشيء أو تحليل الشيء، فإذا كان عنده تحمس فشهادته شهادة متهم، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين) الظنين في لغة العرب المتهم كما قال تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24]، وفي قراءة ((بظنين) والعلماء عندما ذكروا الشهادة قالوا: إذا كان عنده حرص على الشهادة ويشهد قبل أن يستشهد -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- لا تقبل شهادته، ولذلك في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، قال: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، ثم قال: ثم يأتي أقوام يشهدون ولم يستشهدوا) فهذا يدل على أنه حرص على الشهادة، وهذا موجب للتهمة في شهادته، فالذي يحرص على تحليل الأشياء متهم؛ لأن له مصلحة في تحليله، أو يريد أن يقنع الناس حتى يتعالجوا عنده، فمثل هذا لا تقبل شهادته؛ لأنها محل حرص على التحليل وسيؤثر هذا الحرص على بيان السلبيات، وسيؤثر هذا الحرص على بيان المضاعفات، وكشف حقيقة الشيء المسئول عنه، ولذلك إذا بين الطبيب حقيقة الدواء، أو حقيقة الطريقة، أو حقيقة الأمر الذي يسأل عنه حينئذٍ تنكشف الأمور ويمكن للعالم أن يفتي بالحل والتحريم. فهذه الأدوية من حيث الأصل مشروعة لتكثير سواد الأمة، والوسائل تأخذ حكم مقاصدها، فإذا كان لا يستطيع أن ينجب أو عنده ضعف في الإنجاب، أو المرأة عندها ضعف في الإخصاب والإنجاب فتعاطت الأدوية من أجل أن تنشط فهذا في الأصل العام وسيلة لمشروع، والقاعدة: (أن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها)، هذا من حيث الأصل العام. لكن، ما طبيعة هذه الأدوية، وما هي الطريقة التي يتم بها استخدام هذا العلاج. مثلاً: الرجال لهم وضع، والنساء لهن وضع، فالنساء قد يكشف في علاجها عن العورة، وقد تلمس العورة، وقد يولج في الفرج شيء، وهذا كلها محاذير شرعية لابد من النظر فيها، لكن الأصل العام من حيث تكثير سواد الأمة، وحصول الذرية فهو أمر سائغ شرعاً ولا إشكال فيه، لكن هذه الأدوية تحتاج إلى نظرة ومعرفة عن طريق الأطباء الذين لهم إلمام بهذا. فالأصل يقتضي الجواز، ولكن قد يكون هذا النوع من الدواء لا يجوز استعماله، وهذا معروف، حتى مرض الرأس قد يكون علاجه بمسكن له مضاعفات، ومسكن ليس له مضاعافات، فنقول: هذا المسكن الذي له مضاعفات لا يجوز استخدامه مع وجود المسكن الذي لا مضاعفات فيه. فهل معنى ذلك أن علاج الرأس محرم؟ الجواب: لا. إنما حرم تعاطي هذا النوع من الدواء لعلة، والإشكال أن بعض الفتاوى تنظر إلى الأصل العام، والإطار العام دون النظر إلى الحقيقة، والسبب في هذا عدم الرجوع إلى الأطباء وسؤال من عنده إلمام وخبرة. والرجوع إلى الأطباء لا يكفي فيه أن ترجع إلى واحد أو اثنين، ولا يكفي أن ترجع إلى طبيب عنده علم نظري وليس عنده علم تطبيقي، فكلما كان الطبيب عنده علم نظري وتطبيقي وممارسة وتخصص فيما يسأل عنه، ومرور على الحالات المختلفة، كلما ذلك كان أجلى وأوضح. وعلى كل حال فمن حيث الأصل العام: تعاطي الأسباب التي لا محذور فيها للإخصاب والإنجاب لا بأس به ولا حرج، والله تعالى أعلم.

حكم تسمية المولود والعقيقة عنه إذا مات

حكم تسمية المولود والعقيقة عنه إذا مات Q إذا مات المولود بعد ولادته بأيام فهل تجب تسميته والعقيقة عنه؟ A إذا مات المولود بعد سبعة أيام فالسنة أنه يعق عنه ويسمى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام مرهون بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه) وقد نص العلماء رحمهم الله على أن السنة في العقيقة أن تكون في السابع، فإذا تأخر الوالد عن ذبحها ثم توفي المولود قبل أن يتمكن والده من ذبحها، فإنه يذبحها ويتداركها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام مرهون) والمرهون أصله من الرهن، والرهن في لسان العرب: الحبس، كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] فعيلة بمعنى: مفعولة. أي: مرهونة، فهذا يدل على مشروعية العقيقة عنه، وكونه يبقى أو يموت هذا لا تأثير فيه ما دام أنه بلغ هذا الوجه، والله تعالى أعلم.

حكم صلاة النافلة أربع ركعات متصلة

حكم صلاة النافلة أربع ركعات متصلة Q هل يجوز أن تصلى النافلة أربع ركعات متصلة؟ A في صلاة الليل لا إشكال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها أربعاً ولم يجلس إلا في آخرها صلوات الله وسلامه عليه، وفي صلاة النهار فيه خلاف، والذي يظهر -والله أعلم- أنه لا بأس أن يصل الأربع بتسليمة واحدة، كأن يدخل قبل صلاة الظهر فيما بين الأذان والإقامة ويخشى أن تقام الصلاة لو فصل بتسليمتين، فيجمع الأربع بتسليمة واحدة، فلا بأس بذلك ولا حرج عليه، ولا يجلس في التشهد الأول إذا صلى أربعاً، خلافاً لبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمهم الله، بل يصل الأربع ويجلس في آخرها تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

حكم الدم الخارج بعد انتهاء العادة بأيام

حكم الدم الخارج بعد انتهاء العادة بأيام Q إذا أتت المرأة الدورة الشهرية ثم انقطع الدم بعد المدة المعتادة، ثم بعد ذلك بأيام رجع الدم فماذا تفعل؟ A من حيث الأصل: كل امرأة جلست أيام عادتها حتى أتمتها ثم جاءها الدم بعد ذلك قبل تمام أقل الطهر فإنه دم استحاضة وليس بدم حيض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المرأة المستحاضة: (لتنظر الأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها، فإذا هي خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتصلي) وقال كما في حديث فاطمة رضي الله عنها في الصحيحين: (دعي الصلاة أيام أقرائك) فقوله عليه الصلاة والسلام: (دعي الصلاة أيام أقرائك) يعني: أيام العادة التي كنت تحيضينها، فدل على أن العبرة بأيام الحيض المعتادة. لكن إذا عاودها يوماً ويومين ثم انقطع بعد ذلك؟ إذا كانت عادتها -مثلاً- ثلاثة أيام ثم انقطع الدم بعد ثمانية أيام، ثم عاودها في اليوم العاشر والحادي عشر، ثم انقطع، فتنتظر ثلاثة أشهر، فإن عاودها في الثلاثة أشهر بهذه الصفة فقد انتقلت إلى عشرة أيام، لكن انتقلت إلى عشرة أيام منفصلة فتصبح عادتها ثلاثة أيام متتابعة ويومان منفصلان، وهذا يحدث عند بعض النساء وتكون عادتها قد انتقلت في الشهر الثالث، فإذا جاءها على هذه الصفة فالعادة تنتقل إلى العدد الجديد انفصل الدم أو انقطع، فلو اتصلت يومان بالعادة فأصبحت العادة عشرة أيام تنتقل العادة إلى عشرة أيام، ولو انفصل ولم يتصل فتكون عادتها ثمانية أيام ثم ينقطع يوماً أو يومين ثم يأتي بعد ذلك دم ليومين وتكرر معها ثلاثة أشهر بهذا المعنى فقد أصبحت عادتها من الثمانية منتقلة إلى العشرة، فاليومان تابعان للحيض إذا ثبت ذلك في ثلاثة أشهر متتابعة، والله تعالى أعلم.

حكم صيام المرأة الحائض إذا استخدمت علاجا يمنع نزول دم الحيض

حكم صيام المرأة الحائض إذا استخدمت علاجاً يمنع نزول دم الحيض Q لو شربت المرأة دواءً يمنع حيضها حتى تتمكن من صيام رمضان فما الحكم؟ A أولاً: الأدوية التي تستعمل لمنع الحيض ذكر الأطباء أن لها ضرراً، وذكر بعض أهل الخبرة أنها قد تتسبب في سرطان الرحم، وهذه المشكلة أقول فيها: لابد من الرجوع إلى أهل الخبرة والمعرفة، فأي شيء يخرج البدن عن طبيعته سيكون له مضاعفات؛ لأن الله وزن هذا البدن وقدره وخلقه وصوره، وتبارك الله أحسن الخالقين. فليس هناك شيء في البدن يخرج عن اعتداله وطبيعته إلا خلّف الضرر والعواقب السلبية، فهذه الحبوب فيها ضرر كما يثبت أهل الخبرة ذلك، حتى إن من علاماتها وأماراتها أن تربك العادة، والله سبحانه ما خلق هذا الدم عبثاً، ولا جعل هذه العادة سدىً، حتى الأجهزة العصبية الموجودة في البدن تتفاعل مع هذا الحدث الذي خلقه الله، وهذا النزيف من الدم الذي يطهر الرحم في مدة معلومة قد يختل ويتأثر نتيجة منع هذا الدم من الخروج وكل هذا يبين فساد هذه الأدوية التي تستعمل، وهذا أمر يعرفه من يرجع إلى الأطباء المختصين الذين عندهم دراية ويتكلمون عن هذا الموضوع بكل وضوح وبكل إنصاف وتجرد. ثانياً: هذه الأشياء لا يجوز تعاطيها من حيث الأصل كما ذكرناه لوجود الضرر، ويبقى السؤال: هل إذا شربت الدواء وانقطع حيضها تصبح طاهراً؟ خلاف بين العلماء، والصحيح: أنها تصبح طاهرة؛ لأن الله علق الحكم على وجود الدم، فإذا لم يوجد الدم فإنه يحكم بطهرها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة) وهذه لم تقبل حيضتها لأنه لم يخرج الدم، وبناء على ذلك يحكم بطهرها، وهذا اختيار طائفة من المتأخرين من أهل العلم، وأشار بعض الفضلاء إلى هذه المسألة بقوله: إذا شربت هند لأن تمنع الدم عن الزمن المعتاد بالطهر فاحكما وذلكم فرع السماع وإن يكن بتعجيل حيض قبل إبانه فما تنال الذي قد حاولت من براءة لشيخ خليل دون ريب وأحجما عن الصوم فيها والصلاة ورجحوا قضاءهما والصوم تقضي متمما فهذه المسألة الصحيح: أنه يحكم بطهرها، فلو شربت العلاج ثم طافت طواف الإفاضة صح طوافها، ولو شربت العلاج وصامت أيامها من رمضان صح صومها؛ لأن الله علق الحكم على وجود الدم، وهو غير موجود، فيحكم بطهرها على أصح القولين عند العلماء رحمهم الله، والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب العدد [3]

شرح زاد المستقنع - كتاب العدد [3] شرع الله سبحانه وتعالى لمن توفي زوجها أن تعتد أربعة أشهر وعشراً، وهذه العدة فيها من الحكم والأسرار الشيء الكثير، وتختلف أحكام المعتدة هذه العدة بحسب حالها من حيث الحيض وعدمه، والحمل وعدمه، وكذلك من حيث تعلق عدة أخرى بها من عدمه.

عدة المتوفى عنها زوجها

عدة المتوفى عنها زوجها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: الثانية: المتوفى عنها زوجها بلا حمل منه]. شرع المصنف رحمه الله في النوع الثاني من النساء المعتدات وهي المرأة التي توفي عنها زوجها، وقد شرع الله عز وجل لها العدة أربعة أشهرٍ وعشراً، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234]، فبيّن سبحانه وتعالى لزوم العدة -التي هي الحداد- على المرأة التي توفي عنها زوجها، ودلت السنة على ذلك، كما في حديث أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها، وفيه: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوجٍ أربعة أشهر وعشراً)، وقد كانت في الجاهلية تمكث المرأة سنة كاملة بعد وفاة زوجها، وتجلس في مكان ضيق، وتمتنع من الطيبات والمباحات، وتكون بأبشع حالٍ وأسوأ صورة حتى تتم سنة كاملة، فخفف الله تبارك وتعالى ويسر، ودفع عن عباده ما كان من أمور الجاهلية التي ما أنزل الله بها من سلطان، فشرع هذا الحداد أربعة أشهر وعشراً، وهذا النوع من العدة سواء كان الزوج دخل بها أو لم يدخل بها، فكل امرأة عقد عليها زوجها وتوفي عنها وهي في عصمته سواء وقع الدخول أو لم يقع الدخول فإنها زوجته ترثه ويرثها إذا ماتت، فيلزمها الحداد وعدة الوفاة. (المتوفى عنها زوجها بلا حمل منه قبل الدخول أو بعده). (قبل الدخول أو بعده)، سواء دخل بها أو بعده، ثم تنقسم هذه التي توفي عنها زوجها إلى قسمين: إما أن تكون حاملاً، وإما أن تكون حائلاً، فالمرأة الحائل التي هي غير حامل هي التي تكون عدتها بما ذكرنا، ولكن إذا كانت حاملاً فإنها تعتد بوضع حملها، لقوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]، فجعل الله عز وجل عدة المرأة الحامل أن تضع ما في بطنها، وقد دلّ على ذلك الحديث الصحيح في قصة أبي السنابل بن بعكك رضي الله عنه وأرضاه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أفتى في هذا الحديث الصحيح أن المرأة الحامل تعتد بوضعها لحملها ولو كان الوضع بعد الوفاة أو بعد الطلاق بساعة. فلو أنه توفي عنها الساعة الثانية ظهراً، وبعد وفاته ولو بدقيقة خرج حملها وجنينها فقد خرجت من عدتها، وهذا حكم الله، والله يحكم ولا معقب لحكمه سبحانه وتعالى، وهذا شرعه وهذا حكمه، فهو أمرٌ تعبدي، فإذا وضعت الحامل حملها خرجت من عدتها. فهنا بيّن المصنف رحمه الله أنها تعتد أربعة أشهر وعشراً بشرط: أن لا تكون حاملاً، فإن كانت حاملاً فإنها تعتد بوضع الحمل، وجماهير السلف والخلف -رحمهم الله ورضي الله عن أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم أجمعين-على هذا. وهناك من الصحابة من أثر عنه القول، بأنها تعتد أبعد الأجلين، فإن كانت حاملاً ووضعت بعد الوفاة بأسبوع أو بشهر أو بشهرين أو بثلاثة فإنها تعتد عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً؛ لأن عدة الوفاة أطول، وإن كان حملها يستمر فوق الأربعة الأشهر وعشراً فتعتد لوضع الحمل، فيرون أنها تعتد أبعد الأجلين، وهذا قول ضعيف. والصحيح: ما دل عليه ظاهر الكتاب، وظاهر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانعقدت عليه كلمة جماهير السلف رحمهم الله أجمعين.

عدة الأمة المتوفى عنها زوجها

عدة الأمة المتوفى عنها زوجها قال رحمه الله: [للحرة أربعة أشهر وعشراً وللأمة نصفها]. هذه العدة للحرة. أي: للمرأة الحرة أربعة أشهر وعشرا كما في نص الآية التي سبقت، وكذلك حديث أم حبيبة رضي الله عنها في الصحيحين، فقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن عدة المرأة أربعة أشهر وعشرا، وفرق المصنف رحمه الله بين الحرة والأمة، فالأمة في مذهب الجمهور تكون على التشطير في عدة الوفاة، وهذه المسألة خالف فيها بعض أئمة السلف رحمهم الله وقالوا: عدة الوفاة تستوي فيها الحرة والأمة كما هو مذهب الظاهرية، والذي يظهر من ناحية الدليل أن أصح القولين مذهب الظاهرية؛ فإنهم لا يقولون بالتشطير، وفي مذهب مالك أيضاً ما يدل على ذلك، وهذا القول ألزم للأصل، وأقعد للسنة بالدليل، فالكتاب والسنة على أن المرأة حرةٌ كانت أو أمة تعتد بهذه العدة وهي أربعة أشهر وعشرا؛ لأن ظاهر القرآن لم يفرق، وكذلك ظاهر السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيبقى على هذا الظاهر، والحنابلة ومن وافقهم رحمةُ الله عليهم ألحقوا هذه المسألة بعدة الطلاق فقالوا: لما كانت الأمة تعتد في طلاقها على النصف فكذلك في عدة الوفاة، وفي الحقيقة أن عدة الوفاة جانب التعبد والقياس فيها أضيق، ثم إن مسألة تشطير عدة الطلاق سيأتي -إن شاء الله- الكلام عليها وفيها ما فيها، وبناءً على ذلك يكون هذا من باب رد المختلف فيه إلى غير المختلف فيه، وظواهر النصوص على أن عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا بالنسبة للمرأة حرةً كانت أو أمة.

إذا اعتدت لطلاق رجعي فمات الزوج أثناء عدتها رجعت لعدة الوفاة

إذا اعتدت لطلاق رجعي فمات الزوج أثناء عدتها رجعت لعدة الوفاة قال رحمه الله: [فإن مات زوج رجعية في عدة طلاق سقطت]. هذه مسألة تتعلق بالمرأة المطلقة، فالمرأة إذا كانت في عصمة الرجل. أي: عقد عليها وتوفي عنها فلا إشكال، وحينئذٍ تعتد، وقلنا: سواء توفي وقد دخل بها أو لم يدخل، حتى لو توفي بعد العقد بثانية واحدة فإنها زوجته ترثه ويسري عليها ما يسري على الزوجة من وجوب عدة الوفاة. أما بالنسبة للمسألة التي معنا فهي مسألة الطلاق: إذا طلق الرجل امرأته واعتدت في طلاقه لها عدة الطلاق وتوفي أثناء العدة، فإن كانت المرأة في عدة طلاق رجعي كأن يكون طلقها الطلقة الأولى أو طلقها الطلقة الثانية ثم توفي أثناء عدة الطلاق؛ فإنها في حكم الزوجة وتعتد بعدة الوفاة، وبناءً على ذلك: فإنه يحكم بوجوب الحداد عليها أربعة أشهر وعشراً، وتنتقل إلى عدة الوفاة، ومن العلماء من اختار أنها تعتد أبعد العدتين، والذي اختاره المصنف رحمه الله: أنها تنتقل إلى عدة الوفاة وأنها زوجته، وبناءً على ذلك: تأخذ حكم الزوجية، وقد تقدم معنا أن الطلاق الرجعي تبقى فيه المرأة في حكم الزوجة. قال رحمه الله: [سقطت وابتدأت عدة وفاة منذ مات]. سقطت عدة الطلاق ورجعت إلى عدة الوفاة، حتى ولو كان ما بقي لها من عدة الطلاق إلا اليسير، فما دام أنه قد توفي قبل انتهاء عدة الطلاق، فلا عبرة بعدة الطلاق وتستأنف عدة الوفاة؛ لأنه توفي عنها وهي في عصمته وفي حكم الزوجة، وقد بينا أنها في حكم الزوجة، ولذلك يحق للرجل أن يراجع زوجته الرجعية التي هي في الطلقة الأولى والطلقة الثانية بعد الدخول حتى ولو لم ترض، ويردها بدون مهر وبدون عقد جديد، وهذا يدل على أنها في حكم الزوجة، ومن هنا لو مات عنها فقد شاء الله عز وجل أن يموت وهي في عصمته، فتعتد عدة الوفاة وتبقى في حكم الزوجية، ومن هنا يرد Q لو بقي قليل من عدة طلاقها وتوفي الرجل، هل تتم عدة الطلاق أم تستأنف عدة الوفاة؟ بين رحمه الله أنها تسقط عدة الطلاق وتستأنف عدة الوفاة منذُ وفاة زوجها، فلو توفي في شهر شوال وكان قد بقي لخروجها من عدة الطلاق إلى نهاية ذي القعدة وبلغ الخبر في خمسة عشر من ذي القعدة فإنها تحتسب من شهر شوال الذي وقعت فيه الوفاة، فبين رحمه الله حكمين: الحكم الأول: سقوط عدة الطلاق؛ لأنها في حكم الزوجة وقد توفي عنها زوجها. ثانياً: استئناف عدة الوفاة، وهذا الاستئناف لعدة الوفاة يكون من حين وفاته، وهذا ما أشار إليه المصنف رحمه الله حينما جعل بداية العدة منذُ وفاته.

طلاق الرجل لامرأته في مرض الموت

طلاق الرجل لامرأته في مرض الموت قال رحمه الله: [وإن مات في عدة من أبانها في الصحة لم تنتقل]. سيدخل المصنف في مسألة الطلاق والموت بعده، فالمرأة إذا طلقها زوجها وتوفي بعد تطليقه لها لا يخلو طلاقه من صورتين:

تطليق الرجل لامرأته قبل الموت مع عدم التهمة

تطليق الرجل لامرأته قبل الموت مع عدم التهمة مثال ذلك: أن يطلقها وهو صحيح ثم يخرج -نسأل الله السلامة والعافية- فيحصل له حادث فيموت، وتكون الطلقة الأخيرة، أو يطلقها ثلاثاً -على مذهب الجمهور- وتبين منه، ففي تطليقه لها الطلقة الثالثة أو ثلاث مجموعات في حال صحته وليس هناك مرض مخوف -كما قدمنا في ضبط مرض الخوف- فإنه لا يتهم في إخراجها وحرمانها من الميراث، ولا ترثه ولا إشكال في ذلك، فإذا طلقها وهو صحيحٌ قوي ثم توفي فجأة فإننا لا نشك أن الطلاق قُصِد منه إخراجها عن العصمة وحرمانها من الميراث دون وجود تُهمة أنه يريد ذلك، ولا ترثه لأنها صارت في حكم الأجنبية.

تطليق الرجل لامرأته مع التهمة

تطليق الرجل لامرأته مع التهمة وقد يطلقها وتجتمع القرائن على إثبات أنه يريد حرمانها من الميراث، كأن يطلقها في مرض الموت المخوف ويبت طلاقها فدل على أنه يقصد أن يحرمها من الميراث، فهذه المسألة اختلف فيها أئمة السلف رحمهم الله، وكان الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه يقضي أنها تورث حتى ولو خرجت من عدتها، وذلك معاملةً له بنقيض قصده حيث خالف شرع الله عز وجل وظلمها وحرمها حقها، فالظاهر شيء ونيته شيءٌ آخر، فمن قضى من الصحابة بهذا القضاء غلب الباطن على الظاهر؛ لأن الشريعة قد يجمع فيها الأمران الظاهر مع الباطن، وقد ينظر إلى الظاهر ولا يلتفت إلى الباطن كما في المنافقين، وقد ينظر إلى الباطن ولا يلتفت إلى الظاهر كما في هذه المسألة، والباطن إما بإقراره كأن يقول: قصدت حرمانها، ويأتي شهودٌ عند القاضي ويقولون: فلانٌ طلق فلانة في مرضه وقال: قصدت حرمانها من الميراث، فحينئذٍ يثبت عند القاضي أنه قصد هذا القصد السيئ الذي يخالف شرع الله، أو تدور القرائن على هذا، كأن يطلقها بالثلاث وبعد أن أخبره الأطباء أن مرضه مرض موت، فليس هناك من داعٍ لهذا الطلاق ومرضه مخوف يؤدي إلى الموت -نسأل الله السلامة والعافية- إلا الإضرار بالمرأة، ولذلك يذكر العلماء من أمثلة ختم العمل -والعياذ بالله- بالعمل السيئ: أن يظلم الإنسان في آخر عمره بتطليق الزوجة وحرمانها من الميراث؛ أو بالجوار في الوصية، كما جاء في الأثر أن من جار في وصيته ختم له بخاتمة سوء والعياذ بالله، فآخر ما يكتب في ديوانه عمل السوء -نسأل الله السلامة والعافية- حتى إن بعض العلماء قالوا: قوله: (فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، قالوا: المراد دخول الموحدين، وهو أن يعمل بعمل أهل النار فيفعل كبيرة قبل موته فيختم له بخاتمة السوء، ويشاء الله تعذيبه كي يدخل النار تطهيراً من هذا الذنب. إذاً: من أمارات سوء الخاتمة أن الشخص -والعياذ بالله- يجور ويظلم في آخر عمره، وفي هذه المسألة قضى الصحابة رضوان الله عليهم -وهو وقضاء عثمان رضي الله عنه- أنها ترث حتى بعد خروجها من العدة، وقد اختار هذا طائفة من أئمة السلف ودواوين العلم رحمهم الله واختاروا أنه يعامل بنقيض قصده.

إذا توفي من أبانها في مرض موته

إذا توفي من أبانها في مرض موته قال رحمه الله: [وتعتد من أبانها في مرض موته: الأطول من عدة وفاة وطلاق]. أي: تعتد عدة الوفاة، وإذا أثبت لها عدة الوفاة فمعنى ذلك: أنه أثبت لها الميراث؛ وعامله بنقيض قصده، فترث في هذه الحالة كل من طلقها زوجها في حال مرضه المخوف -وهو مرض الموت وقد تقدم ضابطه- وكان طلاقه طلاقاً بائناً، ولو كان طلاقه جارياً على العادة لطلقها طلاقاً رجعياً، لكنه حين طلقها ثلاثاً دل على أنه يقصد حرمانها وظلمها، فمن هنا تقوى الشبهة والقرينة في الدلالة على أنه يريد السوء بها فيعامل بنقيض قصده. إذاً: يثبت لها: أولاً: الإرث؛ معاملةً له بنقيض القصد. ثانياً: إذا ثبت الإرث ترتب عليه العدة، فلو كانت عدة الوفاة أطول من عدة الطلاق قدمت عدة الوفاة على عدة الطلاق وتعتد عدة الوفاة، وإن كانت عدة الطلاق أطول من عدة الوفاة اعتدت عدة الطلاق. يعني: تعتد أطول العدتين، وهذا قد تقدم معنا غير مرة، وهي من مسائل الاشتباه، ولذلك يحتاط لحق الله عز وجل؛ لأن العدة فيها معنى التعبد، ومن هنا يقال: إذا كان الأطول عدة الوفاة اعتدتها، وإن كان الأطول عدة الطلاق اعتدتها، فلو أنه توفي في آخر عدة الطلاق فالأطول عدة الوفاة، ولو كان العكس كأن يطول حيضها وطهرها فعدة الطلاق أطول، وحينئذ تقدم عدة الطلاق على عدة الوفاة.

حالات تقديم عدة الطلاق على عدة الوفاة

حالات تقديم عدة الطلاق على عدة الوفاة قال رحمه الله: [ما لم تكن أمة أو ذمية أو جاءت البينونة منها فلطلاق لا لغيره]. (ما لم تكن أمةٌ أو ذمية)؛ لأن الأمة والذمية لا إرث لهما، فلو تزوج أمةً وتوفرت فيه الشروط التي تقدمت معنا في نكاح الإماء، وطلقها قبل وفاته طلاقاً بائناً فلا ترثه سواء طلقها أو لم يطلقها. وموانع الإرث واحدة من علل ثلاث -كما ذكرها صاحب الرحبية-: رق وقتل واختلاف دين فاعلم فليس الشك كاليقين من موانع الإرث: الرق؛ لأن الأمة لا تملك وليس لها يد بالملكية، وحينئذ مالها لسيدها، فلو قلنا بإرثها لكان الإرث للسيد، وبناءً على ذلك تقول: لا ترثه إذا توفي، فإذا كانت لا ترثه إذا توفي فحينئذٍ إذا طلقها فلا تهمة عليه؛ لأنها لا ترث أصلاً، ومن هنا فليس هناك موجب لإدخال عدة الوفاة عليها إذا طلقها طلاقاً بائناً. (أو ذمية) الذمية: هي المرأة من أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ويجوز للمسلم نكاح نسائهم في سائر الأعصار والدهور؛ لأن النص واضح وصريح ولا إشكال فيه، ولكن قد تستثنى بعض الحالات ويمنع من ذلك، كأن يؤدي به إلى أن يذهب إلى بلاد الكفر، أو أن ذريته ستؤخذ منه، فهذه مسائل مستثناة؛ لكن الأصل الشرعي الذي دلّ عليه نص الكتاب وأصول الشريعة: جواز نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم، والسبب في هذا: الطمع في إسلامهن، وقد أحل الله الزواج من الكتابية ولم يحل نكاح الكتابي للمسلمة؛ لأن الرجل غالب للمرأة، فالغالب أن المرأة تتأثر به، وقد تسلم، وإذا لم تسلم على يد زوجها فقد تسلم على يد أولادها، ولكن إذا كان الزوج كافراً والمرأة مسلمة، فقد يكون الأمر بالعكس، فأحل الله النكاح للرجال ولم يحله للنساء، فإذا قيل: إن عندهم شركاً، فالنصارى يعبدون المسيح، واليهود يقولون: عزير ابن الله. نقول: لقد نص الله عز وجل على هذا من أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الشرك موجود من أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يختلف فيه اثنان، ووصفهم الله بأنهم أشركوا وكفروا، ونص على ذلك في غير ما موضع من الكتاب، ومع ذلك أجاز نكاحهن. إذاً: من حيث النصوص فلا إشكال في جواز نكاح الكتابية، لكن لا يفتى لكل شخص بجواز ذلك، فالفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، فلو أن شخصاً سألك عن ذلك، وأنت تعرف حالته أنه ضعيف دين وإيمان، ويخشى عليه من زواج الكتابية، فهذا لا شك أن شرع الله عز وجل يمنعهُ؛ لأن الوسائل آخذة حكم مقاصدها، فالوسيلة إلى الكفر من أعظم المسائل في الشريعة الإسلامية تحريماً، حتى إن الإمام العز بن عبد السلام وكذلك السيوطي وغيرهما من أئمة العلم لما قرروا في قواعد الفقه مسألة الوسائل ذكروا أن أعظمها إثماً: ما أفضى إلى الشرك والكفر، فإذا كان نكاحه للكتابية يفضي إلى الكفر منع من ذلك، وتتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان وفي حق بعض الظروف والأشخاص، لكن أصول الشريعة دالة على جوازه. إذاً: الشاهد: أنه لو تزوج امرأة من أهل الكتاب وطلقها وأبانها في مرض الوفاة فإنه لا يتهم؛ لأنها لا ترثه؛ لأن الكافر لا يرث المسلم، والمسلم لا يرث الكافر كما تقدم في موانع الإرث في بيت الرحبية: رقٌ وقتلٌ واختلاف دين فاعلم فليس الشك كاليقين فاختلاف الدين يمنع من الإرث، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- لما سئل عن منزله في حجة الوداع، قال عليه الصلاة والسلام: (وهل ترك لنا عقيل من رباع)؛ لأن قرابته ماتوا وهم على الشرك فلم يرثهم عليه الصلاة والسلام، وعقيل تأخر إسلامه فورث الكفار الذين ماتوا من قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، فباع الدور ثم أسلم رضي الله عنه، فجمع الله له بين الدين والدنيا؛ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل ترك لنا عقيل من رباع)؛ لأن الكفر حال بينه عليه الصلاة والسلام وبين الإرث، فالمرأة إذا كانت كافرة فلا يرثها زوجها المسلم ولا ترثه؛ لأن المقصود من نكاحه لها هدايتها إلى الإسلام، فإذا مات عنها وهي على الكفر فقد فات المقصود، ومن هنا لا علاقة بينه وبينها، وتطليقه لها في مرض الموت ولو كان باتاً موجب لخروجها من العصمة ولا تهمة فيه، وحينئذٍ لا تثبت عدة الوفاة بالنسبة لها. قال رحمه الله: [أو جاءت البينونة منها فلطلاق لا لغير]. أي: طلبت الطلاق وهذه كلها أمثلة لما تستبعد فيه الشبهة وتستبعد فيه القرينة على أنه يريد حرمانها، وصورة المسألة: امرأة اختصمت مع زوجها في مرض موته، فقالت له: طلقني ثلاثاً، فلو كانت الطلقة الأخيرة فقالت: طلقني، فيفهم حينئذٍ أنها هي التي طلبت الطلاق وليس هو الذي ابتدأ الطلاق، فالتهمة حينئذٍ ضعيفة، والظن ضعيف، فإذا طلقها فلا إرث لها ولا تأثير في عدتها؛ لأنها صارت أجنبية بالطلقة الثالثة وليس هناك تهمة له بقصد حرمانها من الميراث؛ لأنها هي التي طلبت الطلاق، ولم تتوفر العلة التي أعمل الصحابة رضوان الله عليهم بسببها الإرث وحكموا بثبوته، فإذا طلبت وسألت الطلاق؛ فحينئذٍ يسقط حقها في الميراث. بالمناسبة: يجب التنبيه على هذه المسائل خاصة في هذا الزمان -نسأل الله السلامة والعافية- الذي كثر فيه تطليق الكبار في آخر أعمارهم لزوجاتهم، وهذا أمر يحتم على طلاب العلم نصيحة الناس وتذكيرهم بالله عز وجل، خاصة الأئمة والخطباء، فإن الرجل في آخر عمره قد تسيء إليه زوجته وتضايقه، وقد تكون الإساءة منها بسبب ضعفها وكبرها، فالإنسان إذا كبر ضعف وربما ساء خلقه؛ كما في قصة ثعلبة في قصة الظهار لما جاءت زوجته خولة تشتكيه وقد كان شديداً عليها، وظاهر منها وآذاها وأضر بها، ومع ذلك قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (استوصي بابن عمك خيراً)، فالرجل إذا كان كبيراً في آخر عمره تسوء أخلاقه، والمرأة إذا كبرت تسوء أخلاقها أكثر؛ لأنها أضعف من الرجل، فمسألة الطلاق في آخر العمر يوصى الأئمة والخطباء والعلماء ومن له دور في توجيه الناس بتذكير الناس بالله عز وجل بحفظ العهد، فالمرأة تمكث مع زوجها خمسون سنة وهي أم لأطفاله وتقوم على حاله، وقد يكون في حال فقر وشدة فتكافح وتجاهد من أجله حتى إذا كان في آخر عمره يسرحها ويطلقها، وقد لا يوجد من يعولها، فهذا أمر في شدة الغرابة، وهو يجوز له أن يطلق لكن ليس هذا من الوفاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أولئك بخياركم)، فيذكر الناس بالأخْيَر، ويذكر الرجل بأنه قد صبر هذه المدة كلها أفلا يصبر القليل من عمره؟! وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن حفظ العهد من الإيمان، ومن حفظ العهد: أنه إذا أساء إليك من له حق ومن له سابقة أن لا تقابله بالإساءة، فهذا حاطب بن أبي بلتعة الصحابي الجليل رضي الله عنه، شهد بدراً ثم كتب كتابه إلى قريش يحذرها من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الكتاب من أخطر الكتب؛ لأنهم إذا أخذوا الحذر فسيقتلون المسلمين وسيحتاطون، ولربما كمنوا للمسلمين، وأخذوا المسلمين على غرة فتسيل الدماء وتزهق الأرواح، ومع ذلك لما أطلع الله رسوله على كتابه قال عمر رضي الله عنه: (يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق)، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك! لعل الله اطلع على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)؛ لأنه جاهد ووقف الموقف العظيم في يوم بدر وكان منه ما كان، ولكن الله جل وعلا من عظيم وفائه، حفظ له جهاده وسابقته في الإسلام: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) وهذا من كرمه سبحانه وتعالى، وصدق الله إذ يقول: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111]، فلا أوفى من الله، حتى إن الرجل الصالح إذا مات وفى الله له في حياته وبعد موته. الشاهد: أن الله يحب الوفاء، وعدم الوفاء أمرٌ عمت به البلوى، وكثرت فيه الشكوى، خاصة: تطليق النساء في آخر الأعمار، وأعظم ما يكون ذلك إذا كانت المرأة لا عائل لها وتتعرض إلى سؤال الناس، وأعرف بعض الحوادث التي تئن لها القلوب وتنجرح لها النفوس -نسأل الله العافية والسلامة- استولى عليه الشيطان وطلقها في آخر عمره فعاشت في شر عيشة، مع أنها كانت معه في فقرٍ وشدة وكانت بعد الله سبباً في صبره على كثير من الشدائد التي مر بها، فهذه أمور في الحقيقة يفضل أنه ينبه الناس عليها، خاصةً في هذا الزمان الذي لا يجد فيه الزوج من يصبره، وإلى الله المشتكى والله المستعان.

مسألة: إذا طلق بعض نسائه مبهمة أم معينة ثم أنسيها ومات قبل القرعة

مسألة: إذا طلق بعض نسائه مبهمة أم معينة ثم أنسيها ومات قبل القرعة قال رحمه الله: [وإن طلق بعض نسائه مبهمة أو معينة ثم أنسيها ثم مات قبل قرعة اعتد كل منهن سوى حامل الأطول منهما]. (وإن طلق بعض نسائه مبهمة أو معينة) مبهمةً: أي: لم يحدد. كأن يكون عنده ثلاث نساء فقال: واحدةٌ منكن طالق، فالطلاق وقع، ولكن لا ندري أيتهن التي طلقها. كذلك أيضاً (معينة) لو قال: فلانة من نسائي طالق، وقال هذا في خلوته أو بحضور شخص، فنسي هو والشخص الذي معه من التي طلقها. إذا أبهم الطلاق فقال: (إحداكن طالق) فقد تقدم معنا أنه يقرع بين النساء، فمن خرجت القرعة عليها فهي الطالق، وفي هذه الحالة إذا أجريت القرعة عرفنا من التي يقع عليها الطلاق، لكن الإشكال: إذا حصلت له الوفاة قبل أن يُقرع، فحينئذٍ تكون القرعة محتملة لكل واحدة، فكل واحدة منهن يحتمل أن تكون هي التي تخرج عليها القرعة لو أجراها في حياته، ومن هنا تلزم جميع نسائه بالأطول من العدة، سواء كانت عدة الوفاة أو عدة الطلاق؛ لما تقدم معنا في مسألة التداخل. (أو معينة ثم أنسيها) القضية أن يكون هناك إبهام، إما إبهام في الأصل، أو إبهام طارئ، والإبهام الطارئ: أن يعين ثم ينسى. (ثم مات قبل قرعة) نفهم أنه لو مات بعد القرعة فلا إشكال، فالتي خرجت عليها القرعة هي التي يتعلق بها الطلاق، والباقيات نساءٌ يرثن ويعتددن. (اعتد كل منهن -سوى حامل- الأطول منهما). سوى الحامل: فإنها تعتد عدة الوفاة أو عدة الحمل، والحامل بينا أنها تعتد بوضع جنينها؛ لأن ظاهر الكتاب والسنة دال على أن المرأة إذا كانت حاملاً ووضعت حملها انتهت عدتها، لكن بالنسبة للمطلقة فإنه ينظر إلى الأطول في عدتها، سواء عدة الطلاق أو الوفاة، كأن تكون واحدة من زوجاته صغيرة، والصغيرة التي لم تحض عدتها ثلاثة أشهر، وعدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا، فتعتد عدة الوفاة؛ لأنها تكون في حكم الزوجة، وفي هذه الحالة نحكم بأنها تعتد الأطول وهي عدة الوفاة، وأسقطنا الأقل وهي عدة الطلاق الثلاثة الأشهر، ولو كان حيضها يطول فيه الطهر بين الحيضتين بحيث تستنفذ مدة الوفاة وتربو عليها فحينئذٍ تعتد بعدة الطلاق، سوى الحامل بنص الكتاب والسنة على أنها تعتد لوضع حملها، فقال رحمه الله: (سوى حاملٍ) وسوى من أدوات الاستثناء.

الأسئلة

الأسئلة

اعتبار السقط في انقضاء العدة بعد التخلق

اعتبار السقط في انقضاء العدة بعد التخلق Q هل السقط معتبر في انقضاء العدة؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فقد تقدمت معنا هذه المسألة وبينا أن الحمل إذا كانت فيه صورة الخلقة فإنه يحكم به ويعتد، وإذا كان لا تخلق فيه فإن وجوده وعدمه على حدٍ سواء، وتستأنف المعتدة عدة الوفاة إذا كان قد توفي عنها زوجها، وعدة الطلاق إذا كانت مطلقة. فإذاً: لا بد من وجود صورة الخلقة، فإذا وجد فيه التخلق وكان ذلك بعد نفخ الروح فيه، فيأخذ حكم الحمل، وقد بينا هذه المسألة وذكرنا وجه اعتبار هذا النوع من الحمل موجباً للخروج من العدة، وأنه تسري عليه أحكام العبادات من كون الدم دم نفاس، والله تعالى أعلم.

حكم العزاء بعد ثلاثة أيام

حكم العزاء بعد ثلاثة أيام Q جاء في الشرع أنه لا يجوز الإحداد فوق الثلاثة أيام إلا للمرأة المنكوحة المتوفى عنها زوجها فيجب عليها إتمام عدتها، فهل يدل هذا على جواز العزاء بعد الثلاثة أيام؟ A ذكر بعض العلماء أنه لا يعزى إلا في الثلاث؛ لأنها أقرب شيء إلى المصيبة، ولذلك كانوا يشددون فيما زاد على الثلاث؛ لأنه تذكير بالمصيبة، والشريعة فرقت ما بين الثلاث وما بعد الثلاث، ومن هنا: كانوا لا يستحبون إذا تطاول الزمان أن يعزى الرجل؛ لأنه إذا تطاول الزمان وجاء يعزيه ذكره بالمصيبة، والمراد بالتعزية التثبيت عند المصيبة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) فالثلاثة الأيام هي القريبة من الصدمة الأولى، فهذا وجهها، فكانوا يعتدون بالثلاث، وظاهر السنة واضح في هذا: أنه جعل الحداد في ثلاثة أيام؛ لأنها قريبة من الصدمة الأولى، وما بعد الثلاث -يقولون- يختلف: فإذا كان هناك تقارب في الزمن فيمكن أن يعزى فيه، كشخص كان غائباً مسافراً وقدم من سفره، أو تعذر عليه الوصول خلال الثلاثة أيام، أو لم يعلم الخبر إلا بعد أسبوع، ثم جاء يطيب خاطر أهل الميت، فهذا لا بأس به، لكن إن تفاحش الزمان وطال فإنه تجديد للحزن، وهذا خلاف المقصود من العزاء وهو إسكان النفس من ثورة الصدمة وضررها، والله تعالى أعلم.

العدل بين الزوجات

العدل بين الزوجات Q من فارق زوجته بأن تزوج عليها ثم مات، فهل تعتبر الزوجة الأولى في عصمته وتعتد؟ A إذا (فارق) هذا فيه تفصيل، فإذا قصد بالفرقة الطلاق فلا إشكال أنها إذا خرجت من عدة الطلاق فهي أجنبية عنه، وأما ما يجري من بعض الناس -نسأل الله السلامة والعافية- إذا تزوج امرأة ثانية انقطع عن الأولى ولم يأتها، وربما لا ينفق عليها وهي في عصمته، فهذا ينطبق عليه الحديث الصحيح: (أن من تزوج امرأتين ولم يعدل بينهما أتى يوم القيامة وشقه مائل)، إما مشلول -والعياذ بالله- عقوبة من الله له لجوره وظلمه، أو كما يقول بعض العلماء: شقه مائل. أي: كفة السيئات تميل بكفة الحسنات، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أحرج) -يعني: عظيم الحرج والإثم- في حق الضعيفين المرأة واليتيم) كما في صحيح البخاري، وهذا يدل على أن ظلم المرأة إثم عظيم، والوزر المترتب على أذية النساء لمكان الضعف فيهن أعظم من أذية غيرهن، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي يوم القيامة وشقه مائل نسال الله السلامة والعافية. وذكر بعض أئمة الحديث في شرحه أن المراد به: أن سيئاته تربو على حسناته لسبب ظلمه لفراشه وأهله، ولذلك كما أن خيركم خيركم لأهله، فمهوم ذلك أن من أشر الناس من كان شريراً على أهله وزوجه، فإذا فارقها بهذا الشكل، وتوفي عنها فهي زوجته وترث منه ويرثها ولو ماتت، وعليها عدة الوفاة بإجماع العلماء، والله تعالى أعلم.

حكم الوصية بالثلث للمطلقة

حكم الوصية بالثلث للمطلقة Q إن طلق الرجل زوجته وأراد الإصلاح والإحسان إليها كأن يوصي لها بالثلث، فما حكم ذلك؟ A إذا كانت المرأة لا ترث ووصى لها فجزاه الله خيراً، وهذا من حفظ المعروف، ومن البر، فإذا وصى لها بشيء من الميراث، فجبر كسرها وجبر خاطرها فهذا خير، والله تعالى يقول: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237]، ولذلك ليس هناك أكمل من شرع الله عز وجل، ولو تبجح الناس بحقوق المرأة فليس هناك على وجه الأرض أكمل ولا أتم من هذا الدين الذي وصى بالنساء وصيةً لا يمكن أن يُعلى عليه، ولا يمكن لأحد أن يبلغ ما بلغه هذا الشرع الكريم، فإن الله تبارك وتعالى وصى بالنساء خيراً، وثبتت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك: ومن هنا إذا طلقت المرأة مع تفرقهما عن بعضهما، يقول الله تعالى: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237]، ثم يوصي بمتعة الطلاق فقال: {وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236]، وجعل الإحسان أعلى مراتب العبادة لله عز وجل، ثم قال: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241]، والتقوى كلها خير، فلا يحفظ هذا العهد إلا المحسن المتقي؛ ولذلك جاء رجل إلى القاضي الفاضل الإمام أبي أمية شريح الكندي رحمه الله برحمته الواسعة وقد كان قاضياً لثلاثة من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، جاءه رجل طلق امرأته فقال له: يا هذا! متع زوجتك متاعاً حسنا، فقال الرجل: لا. فتلا عليه قول الله جل وعلا: {وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236]، فأبى الرجل، فتلا عليه قول الله جل وعلا: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241]، فأبى الرجل، ومضت الأيام، ثم بعد مدة جاء هذا الرجل ليشهد في قضية فأهانه شريح ورد شهادته، وقال له: لا والله لا أقبل شهادتك، إنك أبيت أن تكون من المحسنين، وأبيت أن تكون من المتقين فلا أرضى شهادتك؛ لأن الله يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، فلما أبى أن يكون من أهل التقوى، وأبى أن يكون من أهل الإحسان اعتبرها شريح طعناً في شهادته، فأذله وأهانه؛ وإسقاط الشهادة أمر عظيم، ولذلك أسقط الله شهادة القاذف، وأئمة السلف كانوا لا يتساهلون في مثل هذه الأمور التي وصى بها كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالرجل الذي وصى للمرأة من ميراثه صاحب كرمٌ وفضل، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا، والله تعالى أعلم.

حكم بيع الجلود قبل دبغها

حكم بيع الجلود قبل دبغها Q هل يجوز بيع الجلد قبل الدباغ لشركات الدباغة؟ A الجلد قبل الدباغ على وجهين: الوجه الأول: أن يكون جلد مذكاة، فجمهور العلماء على أن جلدها وأجزاءها كلها طاهرة بالذكاة. وأما بالنسبة للميتة التي ماتت حتف نفسها، فهل يطهر جلدها إذا دبغ أو لا يطهر؟ للعلماء رحمهم الله وجهان: أصحهما مذهب الجمهور: أن الأديم والجلد إذا دبغ طهر، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر)، وقوله في الصحيح: (أيما إهاب دبغ فقد طهر)، وقال في الحديث الحسن: (دباغ الأديم ذكاته) فإذا كان جلد ميتة ودبغ ثم بيع فلا بأس ولا حرج، وإذا كان جلد مذكاة فبيع قبل الدباغ فلا بأس ولا حرج، وإن كان جلد ميتةٍ وبيع قبل الدباغ فذلك لا يجوز؛ لأنه في حكم الميتة، وقد ثبت في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: (خطب في الغد من يوم الفتح فقال: إن الله ورسوله حرم بيع الميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام)، فهذا يدل على أن الميتة بجميع أجزائها التي تقبل الحياة لا يجوز بيعها، وبناءً على ذلك: فكما أنه لا يجوز بيع الميتة كلها فلا يجوز بيع أجزائها التي تقبل الحياة، فإذا دبغ جلدها صار طاهراً؛ لأن العلة في هذه الأربع النجاسات كما في حديث جابر بن عبد الله: إما معنوية أو حسية أو جامعة للحس والمعنى، ولذلك يقول العلماء -وممن ذكر هذا ابن رشد في بداية المجتهد -والأصل تحريم بيع الأعيان النجسة لحديث جابر بن عبد الله، فالنجاسة الأصل في تحريم بيعها حديث جابر بن عبد الله هذا، فإن من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر نجاسة في حيوان حي، ونجاسة في حيوان ميت، وذكر نجاسة الجامد والماء، وهذا لأجل أن يكون الحديث أصلاً لغيره فيقاس عليه غيره؛ لأن الشيء إما من الحيوانات وإما من غير الحيوانات، وغير الحيوانات إما جامد أو مائع، والحيوان إما حي أو ميت، فدل هذا على صحة القياس، وأن المقصود أن يلحق بهذه الأشياء غيرها، وبناءً على ذلك: فلو باع جلد الميتة قبل الدباغ، فإنه قد باع نجساً، والنجاسات لا يجوز بيعها في قول جماهير السلف والخلف، فلا يحل مالها ولا يحل أكل ثمنها، ولذلك حرم بيع الكلب وهو نجس، وقال صلى الله عليه وسلم: (ثمن الكلب سحت)، وقد قال في حديث عبد الله بن المغفل في الصحيح: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات وعفروه ... )، الحديث، فنبه على نجاسته فإذا ثبت هذا فالبيع هذا فيه هذا التفصيل، وأما إذا كانت ميتة ودبغ جلدها فالحنابلة يقولون بنجاسته ولو دبغ ويستدلون بحديث عبد الله بن عكيم عن أشياخ بني جهينة أنهم أتاهم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بشهر أو شهرين: (أن لا تنتفعوا من الميتة بيهاب ولا عصب)، وهذا حديث ضعيف وهو مضطرب إسناداً ومتناً؛ ولذلك لا يُعارض، ولو قيل بتحسينه، فإنه لا يقوى على معارضة ما في الصحيح، وبناءً على ذلك فإننا نقول: إن جلد الميتة إذا دبغ حل بيعه؛ لأنه صار طاهراً، وإذا لم يدبغ بقي على الأصل، فهو نجس والنجاسة لا يجوز بيعها ولا شراؤها. والله تعالى أعلم.

حكم بيع المنابذة

حكم بيع المنابذة Q إذا كان المشتري يجهل أوصاف السلعة فنبذ البائع على المشتري هذه السلعة دون أن يطلبها أو ينظر إليها. فهل هذه الصورة جائزة؟ A إذا نبذ الشيء المبيع ومن يشتريه يعرف صفاته؛ فإنه يصح شراؤه؛ لأن المحرم بيع المجهول، والجهالة نوعٌ من الغرر، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن بيع الغرر)، فكل بيعٍ لمجهولٍ في صفته، أو قدره، أو وجوده، أو سلامته، أو بقائه لا يصح. المجهول في قدره: كبيع الحصاة، يقول له: أبيعك ما انتهت إليه الحصاة، فهذا مجهول القدر، أو تقول: أبيعك هذه الدار بدنانير، فالدنانير مجهول قدرها، وكذا لا يصح مجهول الصفة كأن تقول: أبيعك سيارةً بعشرة آلاف، فلا يصح حتى تبين نوع السيارة وصفاتها، أو تقول: أبيعك بيتاً بمائة ألف، فلا يصح حتى تبين صفة البيت ومكانه بما يندفع به الغرر. أما المجهول في الوجود -هل هو موجود أو غير موجود- كأن يبيع ما في بطن الشاة أو ما في بطن الناقة كما في الصحيحين من حديث ابن عمر: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حبل الحبلة)، فإننا لا ندري هل هذا الذي في بطنها نفخ أو جنين، ثم هو مجهول السلامة فلا ندري هل هو حي أو ميت، وهو مجهول الصفة -أيضاً- لأنه بعد خروجه من بطن أمه لا ندري أهو كامل الخلقة أو ناقص الخلقة، فكل هذه البيوعات حرمها الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، لمكان الغرر وجهالة؛ ولذلك حرم النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث ابن عمر وأنس بن مالك رضي الله عن الجميع-: (بيع الثمر قبل بدو صلاحه)، لأنه مجهول السلامة. وقال -كما في الصحيح من حديث أنس - (أرأيت: لو منع الله الثمرة على أخيك فبم تستحل أكل ماله)، فالثمرة قبل بدو صلاحها معرضة للتلف، ولكن إذا بدا صلاحها فالغالب السلامة كما تقدم معنا في كتاب البيوع، فهذا النوع من البيوعات حرمه الله ورسوله لمكان الغرر، فإذا قال له: أبيعك سيارةً، وهو يعلم سيارته ويعرفها، وليس عنده سيارة غير هذه السيارة التي يعرفها بصفاتها جاز، أو يقول: أبيعك مزرعتي وهو يعرف مزرعته، أو أبيعك عمارتي وليس عنده إلا هذه العمارة، ولم يصفها له وكان المشتري على علم بها، جاز، وبناءً على ذلك فيصح البيع بشرط: أن لا تكون السلعة قد اختلف حالها بعد العلم، فإن اختلف شيءٌ من حالها بعد العلم كان له الخيار، وعلى كل حال: فمعوّل القضية ومدارها يدور حول زوال الجهالة والغرر، فإن كان يعلم فقد زال الغرر من جهة الجهالة ويصح البيع، والله تعالى أعلم.

حكم الضفائر من الخيوط التي توصل بالشعر

حكم الضفائر من الخيوط التي توصل بالشعر Q ما حكم ضفائر النساء التي تُعمل من الخيط وتضفر مع الشعر ومن يراها يعرف أنها خيط وليست شعراً، علماً أن الخيط الذي يضفر له عدة ألوان؟ A هذا من الوصل الذي لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعله، ومن فُعِل به ذلك، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لعن الله الواصلة والمستوصلة)، والسبب في ذلك: أنه لا يجوز تغيير خلقة الله، ومن خلقة الله أن المرأة إذا كان شعرها قليلاً يترك كما هو ولا يوصل، ولذلك لما جاءت المرأة تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن شعر ابنتها قليل؛ فقالت له: أفأصله؟ فلعن النبي صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة، مع أن عندها عذراً، وهذا النوع من الفعل سواء كان الخيط على لون الشعر أو على غير لون الشعر، لا يجوز. وينبغي على المسلمة أن تجتنب هذا الأمر وأن تنصح من ترى من النساء يفعلن هذا، ففيه اللعنة، ومن لعنه رسول صلى الله عليه وسلم فقد لعنه الله، ومن لعنه الله لم يبق شيء في الأرض ولا في السماء إلا لعنه، واللعن أمره عظيم، فعلى المرأة أن تتجنب ذلك، والسبب في هذا -كما ذكر العلماء- أنه راجع إلى الاعتقاد؛ لأن الواجب على المسلم إذا أعطي خِلقة أن يرضى بها، سواء في شعره أو في جسده، أو في طوله، أو في قصره، يجب عليه أن يرضى بذلك، فإذا لم يرض بقسمة الله عز وجل جاء اللعن من هذا الوجه؛ ولذلك كان الوعيد شديداً والعقوبة أليمة؛ لأنه متعلق بالعقيدة؛ وليست القضية في فعلها؛ إنما الأمر في الاعتقاد، وقد يقول قائل: لماذا ضُيق في هذا الأمر؟ فنقول: لما فيه من عظيم الحكمة، فإن المرأة إذا دخلت على النساء وشعرها قصير، رأتها المرأة ذات الشعر الطويل فحمدت نعمة الله عليها وعرفت فضل الله عليها، فصار أجراً للمبتلاة وذكراً لغير المبتلاة، وكذلك في الخلقة -مثلاً- لو كان أعمى، وكانت عينه عوراءً -مثلاً- فتترك على خلقتها، ولا يستخدم العدسات أو الأشياء التي تركب حتى تظهر العين بصورة جميلة وكأنها عين مُبصر، فهذا كله من تغيير الخِلقة بل تترك كما هي؛ لأن هذا هو الأصل، ولذلك لعن النبي صلى الله عليه وسلم -نسأل الله السلامة العافية- المغيرات لخلق الله. وجعل اللعن في النساء؛ لأنهن أحوج وأشد حاجة من الرجال، فتترك الخلقة كما هي في صورة الجلود وصورة الأعضاء والشعر، ويُرضى بقسمة الله عز وجل، فذلك أتقى لله وأعظم أجراً للعبد عند سيده ومولاه، والله تعالى أعلم.

حكم أخذ أنقاض البيوت التي تهدم مقابل التعويض

حكم أخذ أنقاض البيوت التي تهدم مقابل التعويض Q إذا أُعطيت بدل بيتي بيتاً آخر فهل يجوز أن آخذ الأخشاب التي في البيت مع العلم أن الجهة التي تقوم بهدم البيت لا تهتم بمثل تلك الأنقاض؟ A بالنسبة لأنقاض البيوت التي تُهدم، إذا كانت ملكاً لبيت مال المسلمين فلا يجوز استحلالها إلا بوجهٍ شرعي، ولا يملكها أحد؛ لأنها لبيت مال المسلمين، والأصل يوجب أن تُباع ثم توضع في بيت مال المسلمين، وأما إذا كان الذي اشترى منك البيت وهدمه غني وثري ولا يريد هذه الأشياء، وأذن للناس أن يأخذوها، فلا بأس أن تأخذها أنت وغيرك فيها على حدٍ سواء، والحق لمن سبق أو من خصص له المشتري أن يأخذ ذلك الشيء، وبناءً على ذلك يفصل في هذه المسألة فنقول: لا بد من وجود الإذن الشرعي أو الإذن من المالك، وإذا وجد الإذن جاز للغير أن يأخذها، وأنت من الغير فلا بأس أن تأخذها ولا حرج عليك، والله تعالى أعلم.

حكم الدم الخارج من المرأة قبل الولادة بيوم أو يومين

حكم الدم الخارج من المرأة قبل الولادة بيوم أو يومين Q ما هي أحكام الدم الذي يخرج من المرأة الحامل قبل الولادة بيوم أو يومين، وهل تصلي إذا تأخرت الولادة؟ A الدم إذا سبق الولادة بيوم فإنه من دم النفاس، لأن النفاس قد يسبق الولادة، وقد تأتي المرأة عند نفاسها فيخرج الدم أولاً ثم يخرج الولد، وقد يخرج الولد ثم يخرج الدم من بعده على الصورة الغالبة، فإذا سبق الدم بزمن يسير فإنه دم نفاس، ولذلك يأخذ حكم دم النفاس، وإذا صامت ذلك اليوم لزمها قضاؤه ولا تلزمها الصلاة فيه، فيسري عليها ما يسري على المرأة النفساء، أما إذا تفاحش وسبق الولادة بأسبوع أو بعشرة أيام -مثلاً- فهذا دم استحاضةٍ؛ لأن الحامل لا تحيض على أصح قولي العلماء، رحمهم الله، وبناءً على ذلك: فإنه إذا سبق على هذا الوجه تأكدنا أنه استحاضة ويكون حكمها حكم الطاهرة فتصلي وتصوم، والله تعالى أعلم.

الجمع بين النهي عن ذكر مساوئ الميت وحديث ثناء الناس على الجنازة شرا

الجمع بين النهي عن ذكر مساوئ الميت وحديث ثناء الناس على الجنازة شراً Q كيف نوفق بين أمر النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم بالكف عن ذكر مساوئ الميت وبين ثناء الناس على الميت شراً وقول النبي صلى الله عليه وسلم لهم: (وجبت). A كلا الأمرين والحديثين ثابت عن رسول الله صلى الله عليه سلم، فقد أمر بالكف عن مساوئ الموتى وذكر محاسنهم، وكذلك سمع صلى الله عليه وسلم من أثنى على الميت شراً، والجواب -فيما يظهر والله أعلم- أن الثناء على الميت بالشر راجع إلى جهة المظلمة مثلاً: شخص مظلوم تكلم -مثل ما جاء في الحديث أنهم أثنوا عليه شراً -فيجوز للشخص إذا كان مظلوماً أن يقول: هذا الظالم، هذا الذي أكل مالي، هذا الذي فعل كذا وكذا، مما فعل معه من الإساءة، فإذا قال ذلك على سبيل التظلم فهو مما استثني شرعاً: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148]، فالمظلوم من حقه أن يتظلم، ومن حقه أن يبين مظلمته فهو متضرر ولا حرج ولا عذل عليه إذا حكى ما وقع له من الظلم، فإن قالوا له: مات فلان، وقال: الذي فعل بي وفعل، فهذه أشياء تحدث في الجنائز، وتحدث عند سماع خبر الوفاة، وهذا هو الذي وقع في حديث عمر: أنه مُرّ بجنازة فأثني عليها شراً أي: لما مروا قالوا: هذه جنازة فلان، فقال فلان: هذا الذي فعل، وهذا الذي فعل، وهذا الذي فعل -هذا بالنسبة لحقوق الآدميين- فإن كان الثناء الذي في حديث عمر رضي الله عنه بالشر على الجنازة في حقوق الآدميين فلا إشكال؛ لأنها مظالم وتحكى، فصاحبها متظلم ويحكيها كما يحكيها في حياته وفي وجهه، وأما بالنسبة لو كانت تلك المظالم مظالم فيما بينه وبين الله، فيفرق بين الاتفاق والقصد، فإنه لما مُر بالجنازة اتفق الحال فقالوا: هذا فلان فأثنوا بالشر اتفاقاً لا قصداً، وأما بالنسبة لذكر مساوئ الموتى وتتبع عثراتهم، والاشتغال بها والتكلف في ذكرها فلا. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كفوا عن مساوئ موتاكم واذكروا محاسنهم)، وما وقع من الصحابة يحتمل أنه قبل أمره عليه الصلاة والسلام بالكف عن مساوئ الموتى، ويحتمل أن يكون بعد الأمر، ويكون الصحابي لم يبلغه، وقوله عليه الصلاة والسلام (وجبت) حكم مترتب على الثناء بغض النظر عن كونه يجوز أو لا يجوز. والله تعالى أعلم.

حكم الإشهاد على الدين

حكم الإشهاد على الدين Q هل يجب الإشهاد على الدين، وهل يجب تحديد مدة الدين كسنة أو سنتين؟ A الإشهاد على الدين ليس واجباً على إطلاقه، فإذا استدان الشخص من أخيه المسلم فالأصل يقتضي أن تكتب هذه الديون وتُحفظ، فإذا حفظت بالشهادة أو بالكتابة فلا إشكال، أو يكتب في وصيته: أن لفلان عليّ كذا وكذا، فإذا حدثت هذه الأشياء أغنت، والشهادة ليست بشرط، فلو كتب في وصيته أجزأ، لكن إذا كان الدين ليس له توثيق لا بكتابة ولا بوصية، وليس هناك ما يدل على ثبوته، كأن يعطي أحدهما الآخر -مثلاً- مائة ألف ريال أو عشرة آلاف ريال في معاملة بينهما، فحينئذٍ يجب الإشهاد على الدين؛ لأن قضاء الحقوق واجب، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر برد الحقوق، ولا وسيلة لقضاء الحق إلا بالشهادة، وما لا يكون الواجب إلا به فهو واجب، ومن هنا: إذا كان الذي استدان لا يحفظ الدين الذي عليه إلا بالشهادة فالشهادة واجبة. إذاً: التفصيل في الشهادة كالتفصيل في الوصية، فمن كانت عليه حقوق وأعطى أصحابها ما يوثق هذه الحقوق فالوصية في حقه مستحبة، وأما إذا كانت الحقوق التي أخذها من الناس لم يشهد عليها وليس هناك ما يثبتها فيجب عليه أن يكتبها في وصيته؛ لحديث ابن عمر في الصحيح: (ما حق امرئ مسلم يبيت وله شيء يريد أن يوصي فيه فيبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبةٌ عند رأسه)، فدل على وجوب توثيق الحقوق والاحتياط فيها، والخلاصة: أن الدين إذا كان محفوظاً كأن يكتب ويسجل في سجلات أو يضبط بكتابة بينهما، أو يوثق بأي وجه فالشهادة فيه غير لازمة، وأما إذا كان غير موثق، وإذا مات أحد الطرفين لم يستطع توثيقه فإنه حينئذٍ يجب توثيقه ويلزم، والواجب على المسلم أن يحتاط في ذلك: وأن يحتاط في حقوق الناس، وأن يعلم أنه إذا توفي مديوناً فإن نفسه مرهونة بهذا الدين، فعليه أن يسعى في حفظ حقوق الناس، وعدم إضاعتها حتى لا يرهن بتلك الحقوق، والله تعالى أعلم.

حكم من جاوز الميقات في الحج دون أن يحرم لعدم علمه

حكم من جاوز الميقات في الحج دون أن يحرم لعدم علمه Q شخصٌ ركب الطائرة يريد الحج أو العمرة فلما حاذت الطائرة الميقات وأعلن عن ذلك لم يفهم لغة من أعلن حتى جاوز الميقات، فماذا يجب عليه، علماً أنه جاء إلى المدينة، وهل يحرم من ذي الحليفة؟ A إذا جاوز الميقات فإنه يجب عليه أن يرجع إلى ذلك الميقات، ويجوز أن يرجع إلى أبعد منه أو إلى مثله، فلو كان من أهل الرياض -مثلاً- وجاوز ميقات السيل ونزل بجدة جاز له أن يحرم من رابغ؛ لأنها أبعد من السيل، ويجوز له أن يحرم من يلملم؛ لأنها مثل ميقات السيل، فكلاهما على مرحلتين من مكة، وإذا رجع إلى المدينة -يعني: نزل إلى جدة ثم سافر إلى المدينة- فحينئذٍ لا إشكال؛ لأنه انتقل من الميقات الأدنى إلى الميقات الأبعد، ويلزمه الإحرام من المدينة وجهاً واحد؛ لأنه قد مر على ميقات المدينة، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الميقات لأهله ولمن مر عليه من غير أهله، فلو أنه أحرم في الأول لانعقد إحرامه من ميقات بلده، ولكنه لما ترك الإحرام ونزل إلى المدينة لزمه الميقات الأبعد فيحرم من ميقات المدينة، والله تعالى أعلم.

ضوابط في نقل الفتوى وأقوال العلماء

ضوابط في نقل الفتوى وأقوال العلماء Q إذا سأل شخصٌ طالب علم فأفتاه بفتوى عالم فهل هذا يعتبر مجرد نقلٍ للفتوى لا تلحق الناقل أي تبعات أم أنه يعتبر من الفتوى؟ A هذه المسألة (مسألة التقليد في الفتوى) والعلماء رحمهم الله قد اختلفوا في هذه المسألة، لكن عند من يقول بجواز نقل فتوى العالم يشترط شروطاً، منها: أولاً: أن يكون طالب العلم على مستوى من الفهم والضبط للفتوى التي سمعها وللسؤال الذي ورد عليه. ثانياً: لابد وأن تكون الفتوى مطابقة ومماثلة للفتوى المسئول عنها، فإذا كان لا بد من المماثلة والمطابقة من حيث المضمون فإنه يستلزم الأهلية عند طالب العلم، ومن هنا لا ينبغي للإنسان أن يأتي ويقرأ الفتاوى على الناس في المسجد دون أن يكون عنده علم وإدراك، فالناس تسمع هذا الفتاوى وتطبقها كيف شاءت، ومقام الفتوى شدد فيه العلماء؛ لأن الفتوى علمٌ له أهله، وليس كل من نصبته الناس وجاءت تسأله في مسجده وفي سوقه وفي عمله أهل للفتوى أبداً. الفتوى مسئولية عظيمة، ولذلك يوصف العالم بأنه موقعٌ عن رب العالمين، وليس هناك مقام بعد مقام النبوة أعظم من مقام العلم الذي منه الفتوى، فهذا المقام العظيم يشترط في صاحبه أن تتوفر فيه الأهلية، فإذا أراد أن ينقل الفتاوى وأن يكون من طلاب العلم المنشغلين بنقل الفتاوى فلا بد وأن يدرس الأمور المهمة التي ينبغي توفرها في الشخص الذي يتولى نقل فتاوى العلماء، فيحتاج إلى قوة في الذكاء، وقوة في فهم أسئلة الناس والمراد من السؤال، وما وراء السؤال من المقصود، ويستطيع أن يفهم العبارات التي تستخدم في السؤال والكلمات، ومدلول الكلمات، فهذا أمر لا بد من العناية به، مما يحتم على طلاب العلم أن يكونوا على قرب من أهل العلم ليجمعوا بين العلوم النظرية والتطبيق، ولا يكفي أن يكون الطالب مع العالم يسمع فتواه؛ فإنه قد يسمع الفتاوى مختلفة فيحدث عنده التباس وقد يظن أن الشخص تناقض، ولكن الواقع أن الشيخ راعى حال السائل، وقد كنا نجد بعض مشائخنا رحمةُ الله عليهم في بعض الأحيان أضيق ما يكونون حالاً، وفي بعض الأحيان أشرح ما يكونون صدراً، ويسألهم السائل فتجدهم يعطونه الجواب ويفصل، ويبينون له القضية، ثم تجدهم مع شخصٍ آخر يضيقون عليه، وقد كنت مع الوالد رحمةُ الله عليه أسأله بعض الأحيان عن ذلك، لماذا هل فلان يضيق عليك؟ فيقول: يا بني! لأجل تعلم -ولا يجوز لي أن أغتاب الناس- لكني ألاحظ عليه وأعرف أنه صاحب فتنة، ومنهم من يقول لي: هذا ينقل بين المشايخ ويوقع ويغرب على هذا ويضرب العلماء بعضهم ببعض، وأشد ما تكون النميمة وأسوأ ما تكون بين العلماء، فكان العلماء رحمة الله عليهم لهم فراسة ومعرفة، وكان الوالد بعض الأحيان يقول لي: هذا رجل عجل لا يصلح للعلم فأنا أخشى أن مثل هذا يقلد هذا الشيء فيضر بالمسلمين، وللعلماء نظرات في بعض الأشياء والتصرفات، وبعض الأحيان كنت أجد الوالد ضيقاً فأنظر في حاله فيكون مريضاً، وفي حال المرض بعض الأحيان أجد عنده نوعاً من توطئة الكنف واللين، وبعض الأحيان أجده شديداً ضيقاً فيكون مرضه سبب شدته وضيقه خاصة في آخر عمره رحمة الله عليه عندما كان يتعاطى بعض الأدوية فتتغير طباعه ويضيق فأتعجب من بعض الفتاوى التي كنت أسمعها بالأمس وأسمعها اليوم، فأعرف أن حاله لا يسمح، ولو كنت طالب علم مبتدئاً وجئت وسمعت فتواه في آخر عمره التبس عليك الأمر، لكني أعرف ما الذي يقصده وما الذي يريده، لذلك يحتاج بعض العلماء أن يكون طالب العلم على دراية بأحوالهم، هذا إذا كان يريد أن يصل إلى درجات الكمال، والله يحب من عبده أن يتقن، وأولى ما يكون فيه الإتقان وأفضل ما يكون في العلم وفي الدين والشرع؛ ولذلك تجد طلاب العلم الذين يصحبون العلماء بدقة وأمانة وتحفظ ورعاية لا يلبث إلا أن يفتح الله عليهم حتى يوفقون ويسددون ويعانون وينصرون من الله عز وجل، وكنت والله -حتى بعض المشايخ ومنهم الوالد رحمة الله عليهم- أسمع بعض الفتاوى وأستغرب منها، ولكن لما أجلس معه وأسأله وأراجعه أجد عنده من الأعذار ما لو لم اطلع عليه لم أعذره، لكن حينما بلينا بما بلوا به وتحملنا اليسير مما تحملوه -والله المستعان- أصبحنا نلوم أنفسنا على ما وجدنا في أنفسنا؛ ولذلك الفتاوى علمٌ خاص، لا يصلح له كل أحد، وليس كل واحد يصلح لنقل فتاوى العلماء، والواجب أن ننصح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن نتقي الله في هذه الأمة، فلا يقلد الفتوى كل من هب ودب، ولا ينقل الفتوى كل من هبّ ودب. وهنا نقطة أحب أن أنبه إليها: ليس من الحكمة والمصلحة أن تنقل الفتوى، مثلاً: بعض الناس يكون غنياً ثرياً متكبراً، عنده أنفة، لا يرجع إلى العلماء، ولا يريد أن يسأل أهل العلم، فمثل هذا تزجره، ولا تكن عوناً له على الكبرياء، بل تقول له: اذهب واسأل، وتهينه؛ لأنه يتعالى على العلم، فإذا نقلت الفتوى فأنت تعينه على الكبر، فلو أنه أراد أن يبني عمارة وأن يشتغل في تجارة لذهب إلى المستشارين والمهندسين وأهل الشأن في محلاتهم، ولكن للدين لا: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج:74]، والله غني عنه، فالله ليس بحاجة إلى أحد: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، وأهل العلم في غناء عن الخلق، وليس هناك أحد أغنى بالله عز وجل بعد الأنبياء من أهل العلم، ومن ظن أنهم بحاجة إلى أحد، فوالله إنه مخطئ، ولا يعرف قدرهم ومنزلتهم، ولا يعرف العلم الذي قذفه الله في قلوبهم. إذاً: لا تنقل الفتوى لأمثال هؤلاء المتكبرين -وبعض الأخيار يعين أمثال هؤلاء- وأنت لما تقول له: اذهب للعالم واسأله، فقد يأتي مجلساً من مجالس العلم وتتغير حياته كلها. ومن ذلك ما حدث لرجل كان ثرياً غنياً لا يعرف العلماء ولم يعاشرهم فابتلي بقضية احتاج فيها إلى أهل العلم، فطلب أحد الأخيار وجاءه وجلس معه وحضرت الصلاة فقال له: قم نصلي، فقال: كيف؟ هذه حسابات، فقال له: قم نصلي، الآن وقت الصلاة ويجب أن نصلي، قال: -نسأل الله العافية- لما ذهبنا لنتوضأ إذا بالرجل لا يحسن الوضوء، فلما توضأ جاء وصلى صلاة المغرب في المسجد وبعد الصلاة قال له: نقوم! وإذا بالرجل جالس يذكر الله، قال: فلما أطال تركته فأطال -ولا أدري هل قال له: نقوم أو لا- فإذا بالرجل جالس مستأنس، قد وجد راحةً نفسية ما حلم بها في حياته كلها، وانتظر إلى أن صلى العشاء ثم ما زال جالساً وقال: شعرت بسعادة ما شعرت بها من قبل. هذا متى؟ لما احتك بأهل العلم، ولما احتك بمن يتقي الله عز وجل، فقد يأتي إنسان من الأثرياء يتأدب في المجلس هذا، وقد يؤثر احتكاكه بأهل العلم في دينه وخلقه، وقد تكون فاتحة لاتصاله بالعلماء. إذاً: نقل الفتاوى له سلبيات ووراءه تبعات. وأذكر أن بعض مشايخنا كان يقول للسائل: اذهب وقل لصاحب السؤال أن يأتي، وما يفتيه، وبعض الأحيان الفتاوى لا بد فيها من حضور الشخص بنفسه، فنقل الفتاوى لا يكفي، وينبغي على الإنسان دائماً أن يضبط العلم وأن يتحرى فيه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب العدد [4]

شرح زاد المستقنع - كتاب العدد [4] من أنواع المعتدات من يجري معها الحيض، ومنهن من لا يجري معها الحيض إما لصغر أو لكبر، وكل واحدة منهن لها حكمها الخاص وتفصيلاتها عند العلماء رحمهم الله في كتبهم.

عدة الحائل

عدة الحائل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [الثالثة: الحائل ذات الأقراء]. شرع المصنف رحمه الله في بيان عدة المرأة التي تحيض؛ لأن الله تبارك وتعالى قسّم المعتدات إلى أقسام، كما بيّن المصنف رحمه الله، ومن هذه الأقسام التي ذكرها الله سبحانه وتعالى: ذوات الأقراء، فقال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، واختلف العلماء رحمهم الله في هذه الآية الكريمة: هل المراد بالقرء: الحيض، أو المراد بالقرء: الطهر؟ وقد تقدم معنا في كتاب الطهارة أن المرأة تحيض، ويجري معها الدم أياماً معدودة ثم ينقطع، ثم يعاودها بعد ذلك في الحيضة الثانية، فما بين الحيضة الأولى والحيضة الثانية طهر، فهل مراد الله عز وجل في هذه الآية الكريمة أن تكون العدة ثلاثة أطهار، بمعنى: أن تمر عليها ثلاثة أطهار متتابعة يحتسب فيها طهر الطلاق؟ فالسنة في الطلاق إذا طلق الرجل زوجته أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن ابن عمر: (مره فليراجعها وليطلقها حائلاً أو حاملاً). فالحائل: هي المرأة التي لا حمل فيها، وتكون حائضاً وتكون طاهراً، فهل المراد: أن يمر عليها ثلاثة أطهار: الطهر الأول الذي طلقت فيه، ثم تحيض، ثم تطهر الطهر الثاني، ثم تحيض، ثم تطهر الطهر الثالث؟ ففي هذه الحالة ثلاثة أطهار، وإذا طهرت ثلاثة أطهار خرجت من عدتها، أو المراد أن تحيض ثلاث حيضات، فإذا طلقها في الطهر انتظر حتى تأتيها الحيضة الأولى بعد الطهر، فتحتسب الحيضة الأولى ثم تطهر، ثم تحيض الحيضة الثانية ثم تطهر، ثم تحيض الحيضة الثالثة؟ فهذه ثلاث حيضات.

المراد بالقرء واختلاف العلماء فيه

المراد بالقرء واختلاف العلماء فيه اختلف العلماء رحمهم الله في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] هل المراد بالقرء الطهر أو الحيض على قولين مشهورين عن الصحابة والتابعين، وأئمة العلم رحمة الله عليهم أجمعين:

القول الأول: أن المراد بالقرء الطهر

القول الأول: أن المراد بالقرء الطهر وحينئذٍ تعتد ثلاثة أطهار، وهذا القول قالت به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وكذلك قال به إمام التفسير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه شيخ ابن عباس، وكذلك قال به عبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع. وممن قال بهذا القول بعض أئمة التابعين كـ سالم بن عبد الله بن عمر، والإمام الزهري وعمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد، وهو مذهب المالكية والشافعية رحمة الله على الجميع، فهؤلاء الأئمة من أئمة الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المذاهب الأربعة يقولون: تعتد ثلاثة أطهار.

القول الثاني: أن المراد بالقرء الحيض

القول الثاني: أن المراد بالقرء الحيض وهذا القول أثر عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وقال به بعض تلامذة ابن عباس رضي الله عنهما، ويحكى أيضاً عن ابن عباس، وهو مذهب الحنابلة والحنفية، وأهل الرأي من فقهاء الكوفة وغيرهم رحمة الله عليهم أجمعين، وهو الذي اختاره المصنف؛ لأن المذهب عليه.

أدلة من قال إن المراد بالقرء الطهر

أدلة من قال إن المراد بالقرء الطهر واستدل الذين قالوا: إن المراد بالقرء: الطهر في الآية الكريمة بدليل من الآية نفسها؛ وذلك أن الله تعالى قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، والعرب تقول: (ثلاثة أطهار) ولا تقول: (ثلاثة حيضات) لأن العدد (ثلاثة) تذكره إذا كان المعدود مؤنثاً، وتؤنثه إذا كان المعدود مذكراً، فدل على أن المراد بقوله: (ثلاثة قروء) أي: ثلاثة أطهار. ثانياً: أن لسان العرب في مادة: (قرء) يطلق بمعنى: الاجتماع، ومن هنا فالدم يجتمع في الطهر وينفجر في الحيض، فيكون إطلاق القرء على الحيض؛ لأنه يجتمع فيه الدم، ولذلك يقال: مقراة، لمكان اجتماع الماء عند البئر، قال امرؤ القيس: فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمأل فقالوا: (القرء) للاجتماع، ومنه سميت القرية؛ لاجتماع أهلها فيها، فإذا كان مادة: القرء أصلها للاجتماع فإن الدم يجتمع في الطهر ولا يجتمع في الحيض؛ لأنه في الحيض ينفجر ويخرج، فيكون في الآية قرينة على أن المراد بالقرء: الطهر. كذلك أيضاً استدلوا بقوله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] وبين النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الآية أن المراد بها (في عدتهن) فاللام في قوله: (لعدتهن) أي: (في عدتهن)، وبناء على ذلك: فقد دلت الآية على أن الطلاق يكون عند ابتداء العدة، والعدة تكون من الطلاق كما جاء في آية البقرة، ولا يمكن أن يقع الطلاق على الوجه المشروع إلا إذا كان في الطهر لا في الحيض، فيكون قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] أي: في عدتهن عند الاستقبال؛ لقوله في الصحيح: (وليطلقها لِقُبل عدتها) يعني: عند استقبالها للعدة، فإذا وصف الله عز وجل الطهر بأنه بداية العدة دل على أنه هو الذي يحتسب به في العدة، وهذا من أقوى الأدلة، ولذلك (اللام) بمعنى (في)، كما قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47]، أي: في يوم القيامة، (فاللام) تطلق بمعنى (في) في لسان العرب. وقالوا: إن هذا يدل على أن المراد بالقرء في الآية الكريمة: الطهر. وأما الذين قالوا: إن المراد به: الحيض قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق القرء على الحيض، وقالوا: عندنا دليلان: دليل من اللسان الشرعي وهي الإطلاقات الشرعية، وعندنا أيضاً دليل من حيث الاستعمال اللغوي، فمثلما أن الأولين عندهم الدليلان كذلك نحن عندنا الدليلان من هذين الوجهين. قالوا: إن الله تعالى يقول: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، والمرأة إذا اعتدت بالحيض تمت لها ثلاث حيضات كاملة، ولكنها إذا اعتدت بالطهر سيكون عندها الطهر الثالث ناقصاً؛ لأنها إذا طلقت في الطهر الأول فإنه يحتسب من العدة، وحينئذٍ يكون الطهر ناقصاً، فمعناه أنهما طهران كاملان وشيء، والله عز وجل يقول: (ثلاثة)، والثلاثة لا تكون تامة كاملة إلا بالحيض لا بالطهر، هذا من جهة قوله: (ثلاثة قروء). ثانياً: من جهة السنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أطلق القرء على الحيض، فقال عليه الصلاة والسلام: (دعي الصلاة أيام أقرائك) كما في الصحيح، وقوله: (أيام أقرائك) يعني: أيام حيضك، فدل على أن المراد بالقرء في القرآن: الحيض. هذا في الحقيقة مجمل ما ذكر، وهناك استدلالات أخر لكن هذه أقوى الوجوه، والحقيقة أن القول الأول القائل بأن المراد بالقرء: الطهر، أقوى وأرجح، وذلك لأن ثلاثة أطهار، واضح الدلالة من جهة المعدود. وأما استدلال من قال: المراد به: الحيض، بأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق القرء على الحيض فهذا محل إجماع بين العلماء، والقرء يستعمل في الحيض ويستعمل في الطهر، فإذا كان يستعمل في الحيض والطهر فلا مانع أن تكون الآية وردت باستعماله في الطهر ووردت السنة لاستعماله في الحيض؛ لأن حديث: (دعي الصلاة أيام أقرائك) متعلق بالقرء في باب الطهارة، ونحن في باب المعاملة وهي الزوجية، وهناك فرق بين أحكام الحيض في العبادة وأحكام الحيض في المعاملة، فلا مانع أن يطلق على الحيض: قرءاً؛ لأن العبادة تمتنع في حال الحيض، ولكن العدة لا تمتنع في حال الحيض، ومن هنا كان إطلاقه عليه الصلاة والسلام لهذا اللفظ منتزعاً من الأصل اللغوي بأن القرء يطلق على الحيض والطهر، وهذا لا نجادل فيه، وإنما نريد قرائن تدل على قوة إرادة هذا أو هذا، فلما جاء المعدود مذكراً دل على أن المراد بقوله: (ثلاثة قروء) أي: ثلاثة أطهار. كذلك أيضاً الاعتراض على تفسير قوله: (ثلاثة قروء) بالطهر، بأنه يلزم أنها تعتبر بعض الطهر، وأنها في الحيض تعتبر الحيض كاملاً يجاب عنه بوجهين: الوجه الأول: أنهم يعترضون على اعتبار الطهر ناقصاً فيكون لها طهران وشيء، وهم يقعون في الزيادة؛ لأنهم يلغون الحيضة إذا طلقها في الحيضة، فلا تحتسب عندهم وجهاً واحداً، فإذا طلقها في الحيضة لم تحتسب، وظاهر السنة يدل على هذا، فمعنى ذلك أنها ستزيد إلى أكثر من ثلاث حيضات، وحينئذٍ تطول عدتها، فكما اعترضوا بالنقص يعترض عليهم بالزيادة، فقد قال: (ثلاثة) فكما أنكم زدتم عليها فنحن ننقص منها، فإن أوردتم على النقص أوردنا على الزيادة. الوجه الثاني: أننا لا نسلم أنه يمتنع إطلاق الثلاثة على بعض الشيء؛ لأن العرب تطلق على الاثنين وشيء: ثلاثة، مثلما تطلق على من دخل في بداية السنة الثالثة أن له ثلاث سنوات، وهنا إذا تمت وأخذت طهرين ودخلت في الثالث أو كان طلاقها في الثالث فرفقاً من الله عز وجل يحتسب الثالث؛ لأنه طهر؛ والمراد منه النقاء. أما الدليل على أنه يطلق على الشيئين وبعض الشيء فهم أنفسهم يقولون في قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] قالوا: جمع، والجمع لا يطلق على أقل من ثلاثة كما هو مذهب الحنابلة والحنفية أنفسهم، ومع ذلك يقولون: شهران وبعض الشهر؛ لأن المقصود: شهر شوال، وشهر ذي القعدة، وينتهي الإحرام للحج ببزوغ فجر العاشر من ذي الحجة، وحينئذٍ يكون المقصود شهرين وبعض الشهر، وقال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]، وأنتم تقولون: إن الجمع لا يطلق على أقل من ثلاثة، وهنا أطلقتم الجمع على الاثنين وبعض الثالث، وبناء على ذلك يرد على الاعتراض بالنقص ويقوي قول من قال: إن المراد بالقرء: الطهر، خاصة وأن هذا التفسير للقرآن جاء من زيد رضي الله عنه وأرضاه، وكان إماماً في كتاب الله عز وجل، حتى إن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لما كتبوا كتاب الله عز وجل وأرادوا جمعه لم يجدوا أحداً يقدم عليه رضي الله عنه وأرضاه، وابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن انتفع من علم زيد، وأخذ التفسير عن زيد وهو أعلم بدلالة القرآن، ومكانته معروفة رضي الله عنه وأرضاه، حتى إن أبا هريرة رضي الله عنه لما بلغته وفاة زيد بكى رضي الله عنه وقال: (لقد دفن الناس اليوم علماً كثيراً، ولكن لعل الله أن يجعل لنا في ابن عباس منه خلفاً)؛ لأنه كان مبرزاً في التفسير، وابن عباس رضي الله عنهما أخذ منه. وتفسير (القرء) بمعنى: الطهر مأثور عن أم المؤمنين عائشة وهي رضي الله عنها أعلم بشئون النساء، وأعلم بما يكون من حيضهن، وأعلم بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، حتى إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يرجعان إليها في أمور النساء وما يختص بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، وهذا الذي تطمئن إليه النفس: أن المراد بقوله: (ثلاثة قروء) يعني: ثلاثة أطهار. هذا حاصل ما يقال في المطلقة إذا كانت من ذوات الحيض فتعتد بثلاثة أطهار، وبناء على ذلك: إذا كنت حائلاً، أي: غير حامل ويجري معها دم الحيض ولم تكن آيسة ولا صغيرة ولا انقطع دمها فإنها تعتد بالطهر على أصح الوجهين والقولين عند العلماء رحمهم الله.

عدة المختلعة الحائل

عدة المختلعة الحائل اتفق أصحاب القولين على أن الأصل في العدة: ثلاثة قروء، إما بالحيض -ثلاث حيضات- أو بالطهر -ثلاثة أطهار- على التفصيل الذي ذكرناه. ولكن استثنيت عدة المختلعة، فاختلف العلماء رحمهم الله فيها، فبعض العلماء يقول: إن الحائل من ذوات القروء إذا كانت مخالعة لزوجها فإن عدتها حيضة واحدة على المذهب، وهذا ما اختاره أئمة المذهب من أنها تعتد بحيضة واحدة، وقيل: بثلاث حيضات أو بثلاثة أطهار على القول بأن القرء هو الطهر، أما الذين يقولون: إن المختلعة عدتها عدة المطلقة المعتادة فقد استدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ ثابت: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) فأمره أن يطلق المختلعة، فدل على أن الخلع طلاق، فإذا كان الخلع طلاقاً؛ فإن الله عز وجل يقول: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] فدخلت في هذا العموم بدليل الكتاب والسنة من جهة لفظ الآية وورود السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنها تطلق. والذين قالوا: إنها تعتد بحيضة واحدة تستبرئ بها استدلوا بحديث الربيع رضي الله عنها وأرضاها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تستبرئ بحيضة من خلعها وترجع إلى بيت أهلها، وكذلك قالوا في حديث ابن عباس الأول الذي رواه أصحاب السنن، والثاني عند أبي داود في سننه وفيه عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أمرت المختلعة أن تستبرئ بحيضة)، قالوا: وهذا يدل على أن عدتها حيضة واحدة. بناء على ذلك: لو خالع الرجل زوجته فدفعت له المهر فإنها تستبرئ بحيضة واحدة على القول الثاني وتخرج من عدتها، وتصبح مستثناة من هذا العموم، فالأصل فيها ثلاث حيضات، ولكن تحيض حيضة واحدة يستبرئ بها رحمها، قالوا: والعقل يدل على هذا؛ لأن المختلعة إذا طلقها طلقة واحدة فليست طلقتها رجعية، يعني: ليس من حقه أن يراجعها؛ لأن المقصود أن يفسخ النكاح الذي بينهما، فلو كان من حقه أن يرتجعها لفات المعنى الذي من أجله شرع الخلع؛ لأن الخلع يقصد منه دفع الضرر عن المرأة، فالمرأة إذا كرهت زوجها ولم يكن بزوجها عيب يوجب الخيار لها، كأن تكون لا تريده ولا تحبه، نقول لها: ادفعي له المهر كما تقدم معنا من قوله صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم) فخالعت جميلة بنت أبي بن سلول، وامرأة ثابت رضي الله عنه وأرضاه وقالت: (إني أخشى الكفر بعد الإسلام) فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تفسخ العقد برد المهر لزوجها، فإذا ردت المهر دل على أنها لا تريد أن ترجع إليه ولا تريد استمرار الحياة الزوجية معه، فأمرت شرعاً برد المهر إلى زوجها حتى يفسخ هذا العقد، فإذا ردت له المهر ردت له حقه، فلو كان له عليها سلطان لاستضرت المرأة؛ لأنه بمجرد ما يطلقها يراجعها بعد الطلاق، وحينئذٍ يكسب المهر ويكسب رجوعها مرة ثانية، فيفوت المقصود. ومن هنا قلنا: إن مراد الشرع من الخلع: دفع الضرر عن المرأة، فترد المهر ويفسخ النكاح بينهما، ويؤمر بتطليقها على ظاهر الحديث الصحيح: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقه) وتخالعه ولو لم يرض، فإذا خالعته على هذا الوجه يقولون: إن مقصود الشرع فسخ النكاح، وإذا كان مقصوده فسخ النكاح خالف الأصل المعروف في الطلاق؛ لأن المرأة إذا طلقها زوجها الطلقة الأولى فإنه يعطى مهلة العدة حتى يراجع نفسه وتراجع نفسها، فإن كان العيب منه ندم وراجعها، وإن كان العيب منها ندمت وأصلحت ورجعت إليه إذا كانا يريدا إصلاحاً وعودة للنكاح، وبناء على ذلك قالوا: هذا المعنى غير موجود في المختلعة، وليس هناك وجه لردها إلى زوجها، فلا تطول العدة عليها، ولما كانت العدة يخشى منها أن تكون المرأة حاملاً فتستبرئ، فعلى هذا الوجه تستبرئ بحيضة واحدة، فإن حاضت تلك الحيضة وخرجت منها دل على أنها حائل، وحينئذٍ علمنا خلو الرحم وحققنا مقصود الشرع من دفع الضرر عن الزوجة. فالخلاصة: أن المرأة إذا كانت حائلاً -غير حامل- وكانت من ذوات الحيض، فإنها في هذه الحالة تعتد بثلاثة أطهار على أصح قولي العلماء رحمهم الله، واستثنى فقهاء الحنابلة المرأة المختلعة فإن عدتها عندهم حيضة واحدة على ظاهر حديث الربيع وحديث ابن عباس، وكلا الحديثين فيه كلام، فإن صحا قويا على الاستثناء وإلا بقيت العدة على الأصل. قال المصنف رحمه الله: (الحائل ذات الأقراء). يعني: جنس المرأة الحائل من ذوات الأقراء. ذوات: صاحبات الأقراء: يعني: ممن يحضن، لأن المرأة إما أن تكون حاملاً وإما أن تكون حائلاً، فالحامل التي عدتها وضع الولد، وإذا كانت حائلاً غير حامل فإما أن تكون من ذوات الحيض وإما أن تكون قد انقطع عنها الحيض لليأس، أو لم تحض بعد كالصغيرة، فبين رحمه الله أنها من ذوات الأقراء، يعني: ممن يحضن. قال المصنف رحمه الله: [-وهي الحيض-]. وهي الحَيض أو الحِيضْ على الجمع لأقراء، قلنا: القرء: هو الحيض، الأقراء: هي الحيض. يعني: يريد أن يفسر القرء بالحيض كما ذكرنا أنه مذهب الحنابلة. قال المصنف رحمه الله: [المفارقة في الحياة]. يعني: التي فارقها زوجها في الحياة فعدتها عدة الطلاق، لكن إذا فارقها ثم مات عنها فهذه قد قدمناها وهي عدة الوفاة، وسبق الكلام عليها.

عدة المبعضة الحائل

عدة المبعضة الحائل قول المصنف رحمه الله: [فعدتها إن كانت حرة أو مبعضة ثلاثة قروء كاملة]. إن كانت حرة فعدتها ثلاث حيضات كاملة؛ لأن الله يقول: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، إن كانت مبعضة، يعني: بعضها حر وبعضها رقيق، فمثلاً: أمة اشتراها رجلان أحدهما أعتق نصيبه، والثاني بقيت في ملكيته، فحينئذٍ نصفها حر ونصفها رقيق، فالمبعضة هذه إذا وقع عليها الطلاق تكون عدتها ثلاث حيضات؛ لأن الأصل عند الحنابلة أن الأمة تشطر العدة في حقها كما ورد عن عمر رضي الله عنه، فإذا شطرت العدة -يعني: تكون على النصف- فإنه ليس هناك نصف حيضة، فعندهم إما أن تكون الحيضة ثلاثة قروء كاملة أو قرئين، لأنه ليس هناك قرء ونصف؛ لأن الحيض لا يتشطر، فحينئذٍ جبروا الكسر وقالوا: عدتها حيضتان، وإذا كان الأمة عدتها حيضتان فحينئذٍ إذا وجد في الأمة حرية -مثلما ذكرنا- وكان نصفها حراً فعندها كسر من الحرية، فتزيد على القرئين بزيادة فتصبح حيضتان وشيء، فإذا كانت الحيضة لا تشطر فتدخل في الحيضة الثالثة. والأصل في الأمة أو المملوك أنك تعطيه نصف ما تعطي الحر، وهذا طبعاً على القياس، وهي مسألة مشهورة عند علماء الأصول: (تعارض العموم مع القياس) فالعموم في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] هذا عام، والحقيقة أن القول بعدم التشطير من القوة بمكان على ظاهر الكتاب وظاهر السنة، وهو الأصل. لكن على كل حال في مسألتنا: إذا كانت العدة ثلاثة قروء وأردنا تشطير الثلاثة قروء فإنها لا تشطر، وإذا كان لا يمكن تنصيفها ففي في هذه الحالة ستحسب النصف الموجود كاملاً وتقول: الأمة عدتها قرءان، فإذا قلت: إن لها قرئين في عدتها فإن دخلتها حرية زادت عن القرئين؛ لأنها أمة من وجه وحرة من وجه ثانٍ، فدخلت بالوجه الثاني -وهو وجه الحرية- في جزء الحيضة الثالثة؛ لأنه إذا كان -مثلاً- ربعها أو نصفها حراً فالمنبغي أن يحسب حساب هذه الحرية، ولكن هنا لا يمكن تشطير الحيضة الثالثة، فأصبحت عدة المبعضة ثلاثة قروء، والحرة ثلاثة قروء. هذا وجه قوله رحمه الله: إنها ثلاث حيضات.

عدة الأمة الحائل

عدة الأمة الحائل قال المصنف رحمه الله: [وإلا قرءان]. وهذا إذا كانت أمة وليس فيها شائبة الحرية وليست مبعضة بل كلها أمة، وهناك حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة ولكنه ضعيف، والصحيح عدم ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كانت أمة فالمذهب على أن عدتها قرءان. أي: حيضتان.

عدة من فارقها زوجها حيا ولم تحض

عدة من فارقها زوجها حياً ولم تحض قال رحمه الله: [الرابعة: من فارقها حياً ولم تحض لصغر أو إياس فتعتد حرة ثلاثة أشهر]. الرابعة من المعتدات: من فارقها حياً، يعني: ليس هناك عدة للوفاة، (ولم تحض لصغر) أي: من أجل كونها صغيرة، أو لعلة الصغر (أو إياس) والله جل وعلا ذكر هذا النوع في آية الطلاق فقال: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4] فقوله: (واللائي لم يحضن) عطف على قوله: (واللائي يسن) يعني: عدة الآيسات وعدة الصغيرات اللاتي لم يحضن ثلاثة أشهر. توضيح المسألة: أن هذا النوع من النساء لا يحيض؛ إما لأنها طلقت وهي صغيرة، كرجل قال لرجل: زوجتك ابنتي، -حتى ولو كانت صغيرة مثلما ذكرنا أنها يجوز العقد عليها- فزوجه ابنته وهي صغيرة، ثم كبرت البنت ودخل عليها ولم تحض بعد ثم طلقها، ففي هذه الحالة إذا طلقها بعد الدخول عليها، أو زوج صغير من صغيرة ودخل عليها وجامعها، فإذا حصل الدخول ولزمت العدة من طلاقها فإنها حينئذٍ تعتد بثلاثة أشهر؛ لأنه لا حيض معها، ولا يمكن احتساب الطهر ولا الحيض، فسقط القرء ورجع إلى الاعتداد بالأشهر، هذا إذا كانت صغيرة، وكذلك إذا كانت كبيرة أيست من المحيض، وانقطع دم الحيض عنها كامرأة عمرها ستون سنة فانقطع عنها دم الحيض، فهذه تعتد بالأشهر. وقد جعل الله عز وجل الثلاثة الأشهر مكان الثلاثة القروء، فهذه المرأة تعتد ثلاثة أشهر تامة كاملة من ابتداء الشهر أو من أثناء الشهر على تفصيل من حيث الجملة، وتعتد بثلاثة أشهر تامة كاملة، وتعتد بالأشهر القمرية ولا تعتد بالأشهر الشمسية وجهاً واحداً عند العلماء؛ لأن الأشهر التي تناط بها الأحكام الشرعية هي الأشهر القمرية، ويحتسب الشهر بهلاله، فإن كان ناقصاً فإنه كامل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شهرا عيد لا ينقصان، رمضان وذو الحجة) فجعل التسعة والعشرين كالثلاثين، وقال كما في الصحيحين: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) وهذا يدل على أن وصف (أمية) وصف شرف للأمة، وليس بوصف عار أو منقصة؛ لأن الأمية لا تقترن بالجهل، الأمية هي عدم القراءة والكتابة، وقد يكون الشخص لا يقرأ ولا يكتب وهو أعلم الناس، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب ولكنه أعلم الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وقد تجد الرجل كفيف البصر لا يقرأ ولا يكتب ومع ذلك عنده علم، فالعلم شيء والأمية شيء آخر، وقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (إنا أمة أمية) هذا يدل على أنه وصف شرف -كما يقول العلماء- للأمة: (لا نكتب ولا نحسب) دل على أن الشهور لا تدخل في الحساب الفلكي، ولا يحكم بدخولها أو خروجها بالحساب الفلكي؛ وهذا تيسير من الله عز وجل ورحمة، فأبقاهم على الفطرة يخرج الناس ويتراءون الهلال، إن رأوه كان الشهر ناقصاً، وإن لم يروه فالشهر كامل، يمشون على هذا كما مشى عليه أسلافهم من قبل، فالمرأة تحتسب الثلاثة الأشهر بهذه الطريقة، إن كانت كاملة فكاملة وإن كانت ناقصة فناقصة، وإن جمعت بين الكمال والنقص فلا إشكال. وإن كانوا يقولون: لا تأتي ثلاثة أشهر متتابعة ناقصة، أي: من السنن المعروفة أنها لا تأتي ثلاثة أشهر متتابعة ناقصة، فقد يكون النقص في شهرين لكن لا يكون الثالث ناقصاً غالباً.

عدة الأمة التي لا تحيض لصغر أو إياس

عدة الأمة التي لا تحيض لصغر أو إياس قال المصنف رحمه الله: [وأمة شهرين]. اختلف المذهب في الأمة، وفيها ثلاث روايات عن الإمام أحمد رحمة الله عليه. الرواية الأولى: توافق مذهب الإمام مالك وطائفة من أئمة السلف رحمهم الله: أن الأمة تعتد كالحرة ثلاثة أشهر، ولا تشطر عدتها؛ لأن الله عز وجل نص على أن عدة اللائي يئسن من المحيض واللائي لم يحضن ثلاثة أشهر، ولم يرد ما يدل على استثناء أو تخصيص في هذه الآية الكريمة فتبقى على الأصل. الرواية الثانية تقول: تنصف عدة الأمة إذا كانت بالأشهر كما تنصف عدتها بالحيضات، وبناء على ذلك: اختلفوا على روايتين التي هي القول الثاني والثالث، فهناك رواية تقول: عدة الأمة شهر ونصف؛ لأن الله جعل في الأصل عدة الحرة ثلاثة أشهر، فنصفها شهر ونصف، وهذا قول للشافعي أيضاً. الرواية الثالثة: أن الشهر لا يتشطر، وعلى القول بأنه لا يتشطر يصير مثل الحيض، فقالوا: إن الشهر لا يتشطر؛ لأنه بدل عن القرء، والقرء لا يتشطر، والبدل يأخذ حكم مبدله، فلا بد أن تعتد بشهرين، وهذا ما عليه المذهب من أنها تعتد بشهرين، وهو ضعيف من جهة الأصل ومن جهة النظر.

عدة المبعضة التي لا تحيض لصغر أو إياس

عدة المبعضة التي لا تحيض لصغر أو إياس قال المصنف رحمه الله: [ومبعضة بالحساب ويجبر الكسر]. إذا قلنا: إن الأمة تعتد شهراً ونصفاً، وإذا فرضنا أن النصف منها حرة فحينئذ نحسب الشهرين على أنها أمة، وإذا حسب الشهران على أنها أمة فالنصف الذي فيها يكون بخمسة عشر يوماً وتضاف إلى الشهرين، وحينئذٍ تعتد شهرين ونصفاً، فإذا كان الثلث قالوا: يضاف ويجبر الكسر في اليوم وتعتد بالعشرة، يصبح لها عشرة أيام؛ لأن الشهر تسعة وعشرين يوماً فالأصل تمام الشهر ثلاثين يوماً، فثلث الثلاثين عشرة، فتعتد شهرين وعشرة أيام، وقس على ذلك، وهذا معنى قوله رحمه الله: (ومبعضة بالحساب). ويجبر الكسر في اليوم، إذا كان مثلاً نصف يوم وثلث يوم فإن الكسر يجبر.

عدة من ارتفع حيضها ولم تدر سببه

عدة من ارتفع حيضها ولم تدر سببه يقول المصنف رحمه الله: [الخامسة: من ارتفع حيضها ولم تدر سببه]. المرأة إذا ارتفع حيضها تنقسم إلى قسمين: الأول: إما أن تعلم السبب: كالرضاع، أو مرض معين إذا أصاب النساء ارتفع حيضها. الثاني: أن يكون ارتفاع حيضها بسبب لا تعرفه والأطباء لا يعرفونه. فإن كان بسبب تعرفه فلها حكم، وإن كانت بسبب لا تعرفه فلها حكم، والمصنف رحمه الله فصل في الأمرين فقال: (ومن ارتفع حيضها ولم تدر سببه فعدتها سنة). صورة المسألة: امرأة -في الأصل- تحيض، ثم انقطع عنها الحيض، فإذا انقطع عنها الحيض فتحتاج أول شيء أن تتأكد أن انقطاع الحيض ليس للحمل؛ لأنها إذا حملت -غالباً- انقطع حيضها، فإن تأكدت من أنها ليست بحامل، وأن انقطاع دمها ليس للحمل فتمكث مدة الحمل الغالبة، ومدة الحمل الغالبة تسعة أشهر، فإذا تحققنا بمضي التسعة أشهر أنها غير حامل فإنها تبدأ بالعدة، لأنها ليست من ذوات الحيض فتنتقل إلى عدة الأشهر، فتضيف ثلاثة أشهر إلى التسعة، فتصبح عدتها سنة كاملة، تسعة أشهر للاستبراء والتأكد من أنها غير حامل، وثلاثة أشهر عدة المطلقة إذا لم تكن من ذوات الحيض. وهذا الحكم قضى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمحضر من المهاجرين وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف أن أحداً خالفه، ولم يعارض فيه أصلاً، بل إن الأصول تدل عليه؛ لأنه يحتمل أن تكون حاملاً، فتعتد عدة الحامل ثم بعد ذلك تعتد عدة الأشهر؛ لأنها ليست بحائل، فالمنتزع الذي انتزعه رضي الله عنه فقه صحيح من الأصول الشرعية؛ لأن الله يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15] فالستة الأشهر أقل ما يكون من الحمل، فإذا ثبت هذا يقولون: نأخذ الحد الغالب وهو التسعة الأشهر؛ لأن الستة هي الحد الأقل، والغالب هو التسعة، والأكثر إلى أربع سنوات مثلما ذكرنا، فيؤخذ بالغالب وهو التسعة الأشهر، فنقول لها: تمكث غالب مدة الحمل وهو تسعة أشهر حتى نتحقق أنها غير حامل، ثم بعد ذلك تعتد بعدة الأشهر، هذا بالنسبة لقضاء عمر رضي الله عنه وقد عمل به الجمهور.

عدة الأمة إذا ارتفع حيضها ولم تدر سببه

عدة الأمة إذا ارتفع حيضها ولم تدر سببه يقول المصنف رحمه الله: [فعدتها سنة تسعة أشهر للحمل، وثلاثة للعدة، وتنقص الأمة شهراً]. الإشكال على المذهب الذي يقول: إن الأمة تشطر وتنصف عدتها، فهل ننصف التسعة الأشهر، وننصف الثلاثة الأشهر أم لا؟ A من جهة الحمل لا تنصيف؛ لأنه لا تختلف الأمة عن الحرة فيه، فالمرأة من حيث هي إذا حملت حرة كانت أو أمة تمكث تسعة أشهر على الغالب، فتبقى التسعة الأشهر كما هي. إذاً: ما الذي يشطر؟ تشطر العدة التي هي الثلاثة الأشهر، فهنا: هل تكون شهراً ونصفاً أو شهرين أو شهراً؟ خلاف في المذهب، والذي اختاره المصنف رحمه الله أنه شهر. نحن قلنا: إن التشطير ليس بوارد أصلاً، والذي نرى أنها تعتد ثلاثة أشهر كاملة، وهذا ظاهر القرآن، وبناء على ذلك نرى أنها سنة كاملة في الأمة وفي غير الأمة. هذا من حيث الأصل.

عدة من بلغت ولم تحض

عدة من بلغت ولم تحض يقول المصنف رحمه الله: [وعدة من بلغت ولم تحض والمستحاضة الناسية والمستحاضة المبتدأة ثلاثة أشهر]. عدة من بلغت ولم تحض: امرأة عمرها خمسة عشر سنة، فإذا بلغت خمس عشرة سنة فقد بلغت؛ لأن البلوغ يكون بالحيض، ويكون بالاحتلام، ويكون بالحمل، ويكون بالسنوات التي هي خمس عشرة سنة كما ذكرنا في علامات البلوغ وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثمان عشرة حولاً ظهر وهذا على خلاف حديث بني قريضة، والصحيح أن إنبات الشعر علامة إذا كان حول العانة. أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثماني عشرة حولاً ظهر فالمالكية عندهم أن يسن البلوغ ثماني عشرة سنة، والحنفية قدموا الأنثى فجعلوها سبع عشرة سنة، والذكر ثماني عشرة سنة، وأما الحنابلة والشافعية فقالوا: خمس عشرة سنة لحديث ابن عمر، -وهو حديث صحيح- أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه، وعرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه، وفي رواية البيهقي: (ورآني قد بلغت) ولذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق لما بلغته هذه السنة، وأبلغه بها الزهري رحمه الله، كتب إلى الولاة في الآفاق: انظروا من بلغ خمس عشرة سنة فاضربوا عليه الجزية، ومن كان دونها فاجعلوه في الذرية -يعني: لا تضربوا عليه جزية- فهذا يدل على أن خمس عشرة سنة هي السن المعتبر للبلوغ. فإذا بلغت المرأة خمس عشرة سنة ولم تحض فحينئذٍ ليست من ذوات الحيض، وهي بالغة، فتبقى على الحكم؛ لأن الله يقول: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4]، فجعل (اللائي لم يحضن) شاملاً للصغيرة وللكبيرة التي بلغت.

عدة المستحاضة الناسية

عدة المستحاضة الناسية (والمستحاضة الناسية). تقدم معنا في كتاب الطهارة ضوابط المستحاضة والفرق بينها وبين الحائض، وبينا أن دم الاستحاضة دم فساد وعلة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة) فقوله عليه السلام: (إنما ذلك عرق) اختلف فيه هل هو العاند أو العاذر أو العاذل، وقد بينا هذا وبينا سبب تسميته بهذه الأسماء، وهو دم فساد وعلة، فإذا استحاضت المرأة وجرى معها الدم على هذا الوجه فإنه لا يمكن ربط العدة بها -بالنسبة للمستحاضة-؛ فإذا نسيت عادتها -يعني: كانت لها عادة قبل أن ترتبك ثم نسيتها- مثل: امرأة كانت عادتها خمسة أيام أو ستة أيام ثم ذهبت في غيبوبة أو حصل لها حادث، ثم أفاقت من غيبوبتها ورجع لها عقلها ولم تتذكر كم كانت عادتها، واستحيضت، فحينئذٍ هي معتادة في الأصل لكنها أنسيت عادتها. وعلى كل حال: إذا أنسيت عادتها بأي وجه من الوجوه وأصبحت مستحاضة فلابد من أمرين: لابد أن تكون مستحاضة لا تستطيع أن تميز الحيضة عن استحاضتها، ونسيت أيام عادتها، فحينئذٍ تعتد بالأشهر، وتنقل إلى حكم المعتدات بالأشهر، وبعض العلماء يفصل فيها وعندهم كلام كثير في هذا النوع من النساء، ومنهم من يجعلها ترجع إلى التمييز، وترجع إلى غالب الحيض وتحتسب غالب الحيض كما يقع في العبادة، وقد تقدم معنا حديث الترمذي -والذي حسنه غير واحد من العلماء رحمهم الله ومنهم الإمام البخاري رحمة الله عليه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المرأة التي استحيضت وقالت: (إني أثج ثجاً، فقال عليه الصلاة والسلام: تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً) فجعل عادتها ستة أيام أو سبعة. لكن الإشكال عندهم أنه لابد أن تنسى عادتها من كل الوجوه، وقالوا: في الحديث لم تنس من كل وجه، ويمكن أن تحتسب عادتها في أول الشهر أو منتصف الشهر أو آخر الشهر، وقال الحنابلة: نرجع إلى الأشهر، قالوا: لأنها إذا أنسيت العادة وقلنا: تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في بداية الشهر يحتمل أن تكون عادتها في آخر الشهر، وحينئذٍ ربما حكمت بخروجها وهي لا زالت في عصمة زوجها الأول، ومن هنا قالوا: نقطع الشك باليقين ونقول: ثلاثة أشهر لكل حيضة منها شهر؛ لأنه يحتمل أن تكون حيضتها في أول الشهر ويحتمل أن تكون في منتصف الشهر، ويحتمل أن تكون في آخر الشهر، والأصل أنها زوجة ولا تخرج من الزوجية إلا بيقين، فنقول: إذا اعتدت ثلاثة أشهر فقد جزمنا أنها قد خرجت من عدتها.

عدة المستحاضة المبتدأة

عدة المستحاضة المبتدأة يقول المصنف رحمه الله: [والمستحاضة المبتدأة ثلاثة أشهر]. والمستحاضة المبتدأة التي لأول مرة يأتي معها الدم، وقد فصلنا في أحكامها. أي: ابتدأها دم الحيض، لأول مرة تحيض. فالمرأة المبتدأة من هي؟ قلنا: هي المرأة التي لأول مرة يبتدئها الحيض، فإذا كانت لأول مرة تحيض فحينئذٍ ليست لها عادة، وتحتاج إلى ثلاثة أشهر لكي تثبت عادتها، فلا نستطيع أن نحدد كم عادتها، فأصبحت في حكم الأصل؛ لأنها هي في الأصل من اللائي لم يحضن، فلما جاءت تحيض وحاضت الحيضة الأولى، والحيضة الثانية، والحيضة الثالثة وهي مستحاضة والدم يجري معها ولم ينقطع رجعت إلى حكم الأصل، فاستصحبنا حكم الأصل، فجعلناها من ذوات الأشهر، ولا يمكن أبداً أن نجعل لها غالب الحيض، كالتي أنسيت عادتها.

عدة الأمة المستحاضة

عدة الأمة المستحاضة يقول المصنف رحمه الله: [والأمة شهران]. لما ذكرناه من التنصيف، والصحيح: أنه لا تنصيف. يعني: إذا كانت المستحاضة التي نسيت عادتها أمة، فعدتها شهران لما ذكرناه سابقاً، وهكذا إذا ابتدئت وكانت أمة مبتدأة فإنها تعتد بشهرين.

عدة من ارتفع حيضها وعلمت السبب

عدة من ارتفع حيضها وعلمت السبب يقول المصنف رحمه الله: [وإن علمت ما رفعه من مرض أو رضاع أو غيرهما فلا تزال في عدة حتى يعود الحيض فتعتد به أو تبلغ سن الإياس فتعتد عدته]. هذه الجملة بين فيها رحمه الله النوع الثاني من اللاتي انقطع عنهن دم الحيض، وهن اللائي عرفن سبب انقطاع الدم، فإذا عرفت المرأة سبب الانقطاع انتظرت حتى يعود الدم، فإذا انقطع لحمل انتظرت حتى تضع حملها، وإذا انقطع لمرض انتظرت حتى يذهب المرض ثم تعتد، ما الدليل؟ لأن الله ألزمها بالقرء، وليست بآيسة، وليست ممن لا يحيض، فبقيت على الأصل، فتنتظر حتى يعود لها حيضها، وقال بعض العلماء: إنها تعتد سنة، وهذا القول استصحب حكم عمر رضي الله عنه وأرضاه وقال: إذا طال عليها الأمر وطالت بها المدة فلها أن تعتد سنة، فإذا مضت عليها سنة ولم يعد لها حيضها فقد خرجت من عدتها، والقول هذا وجيه وقوي جداً؛ لأن الأمر إذا ضاق اتسع، والأول أصح من جهة الأصل، ووجه القول بأنها تستثنى إذا طالت: أنه واضح الآن استبراء رحمها وتبين استبراء رحمها، وكونها إذا مضت عليها سنة خرجت من عدتها هذا اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وبعض المتأخرين، وأيضاً سماحة الشيخ ابن إبراهيم المفتي رحمة الله عليه يرون هذا، وبناء على ذلك يقولون: إنها تستثنى.

الأسئلة

الأسئلة

عدة المطلقة المنقطع حيضها

عدة المطلقة المنقطع حيضها Q ألا تندرج الثلاثة الأشهر تحت التسعة وذلك في التي ارتفع حيضها؛ لأن ما يتحقق في الثلاثة الأشهر قد تحقق في التسعة؟ A الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فلا يحصل الاندراج في هذا؛ لأن المعنى لا يتحقق، فالتسعة الأشهر استبراء من الحمل، والثلاثة الأشهر عدة تعبدية، فكيف يدخل هذا في هذا؛ لأن الأول يقصد منه التأكد من أنها غير حامل، والثاني يقصد منها عدة شرعية، وبناء على ذلك: هي في الأول تمكث التسعة الأشهر من أجل أن تتأكد من الحمل، ولا تمكثها على أساس أنها عدة طلاق، ولا تصح منها عدة طلاق؛ لأنها لو نوت في التسعة الأشهر عدة الطلاق لما صح ذلك لاحتمال أنها حامل، وعلى كل حال فهذا التداخل لا يصح، ولذلك لا يحكم به، وتبقى على الأصل من أنها تحتسب السنة تامة كاملة، والله تعالى أعلم.

حكم تحية المسجد لمن دخل المسجد وقت غروب الشمس

حكم تحية المسجد لمن دخل المسجد وقت غروب الشمس Q إذا دخل الإنسان المسجد قبل صلاة المغرب بوقت يسير، فهل يظل واقفاً إلى الأذان أم يجلس؟ A إذا كان الوقت يسيراً فهو مخير بين أن يقف خروجاً من الخلاف، وبين أن يجلس وهو الأصح والأقوى، أما الصلاة أثناء الطلوع وأثناء الغروب وأثناء انتصاف الشمس في كبد السماء فالنصوص قوية وصريحة بالإمساك عن الصلاة في هذا الوقت، حتى إن بعض العلماء يقول: هذا الموضع خارج من الخلاف بين العلماء؛ لأن النصوص فيه قوية جداً: (فإذا طلعت -يعني: عند طلوعها- فأمسك عن صلاتك فإنها تطلع بين قرني شيطان) لأنها عبادة المشركين، فالمشركون يسجدون للشمس عند طلوعها وعند غروبها، وتكون بين قرني شيطان؛ لأن الشيطان يأتي بينهم وبين الشمس، فيكون سجودهم للشيطان لا للشمس، لأنهم يعبدون الشيطان في الحقيقة ولا يعبدون الشمس، لأن الشمس تبرأ إلى الله عز وجل من عبادتهم، فهذا الوقت نهي عنه لأنه ذريعة إلى الشرك، ومشابهة للمشركين، فالعلة فيه قوية، ولذلك نقول: وقت الطلوع والغروب لا خلاف فيه -وهذا أمر يخلط فيه البعض- وقد جزم غير واحد من الأئمة رحمة الله عليهم بأنه خارج عن موضع الخلاف، وأنه لا يصلى فيه تحية المسجد ولا النوافل، لكن الفرائض فيها أدلة ونصوص واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) وهذا لمكان الفرضية المحتمة، والشرع يخالف بين الفرض وغير الفرض، ومن هنا لا وجه لأن يصلي أثناء الطلوع وأثناء الغروب، فإما أن يقف وإما أن يجلس وهذا هو الأقوى، وهي رخصة من الله وفسحة، وكما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان جالساً في مسجده كما في الصحيح في قصة كعب بن مالك لما نزلت توبته ودخل عليه كعب بن مالك بعد صلاة الفجر، والحديث في سياقه يدل على أنه لم يصل تحية المسجد؛ لأن النص نص على أنه لما دخل قال: (فاستقبلني طلحة فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلست بين يديه)، ولم يذكر تحية المسجد ولا الصلاة، ولذلك هذا الحديث من أقوى الأدلة على أن ذوات الأسباب بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس لا تصلى؛ لأن الصلاة أثناء الطلوع والغروب تشبه بالمشركين، وما بين الصلاة وما بين الغروب والطلوع ذريعة، ولذلك نهي عنها من باب سد الذرائع، لأنها ذريعة ينتهي بها إلى الوقت المحذور، فنهي عن الصلاة في هذين الوقتين، قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا صليت الصبح فأمسك عن الصلاة حتى تطلع الشمس، فإنها تطلع بين قرني شيطان، فإذا صليت العصر فأمسك عن الصلاة) ما قال: إلا تحية المسجد أو استثنى بل قال: (فأمسك عن الصلاة)، ونهاه عن أن يصلي كما في الصحيح، فهذا يدل دلالة قوية على أنه لا يصلى على أصح القولين، والله تعالى أعلم.

حكم شراء الذهب بالعملة التي رصيدها ذهب

حكم شراء الذهب بالعملة التي رصيدها ذهب Q هل يجوز شراء الذهب بالعملة التي رصيدها ذهب، علماً أن بائع الذهب لا يبيعه بنفس قيمة الرصيد للعملة؟ A إذا كانت العملة رصيدها ذهباً كالجنيهات والدولارات والدنانير والليرات -فهذه كلها رصيدها ذهب- فلا يشترى بها الذهب إلا إذا تحققت المثلية؛ لأن الورق له رصيد، وإلغاء الرصيد لا يؤثر في الحقيقة؛ لأنه أخذ ودفع الورق مستنداً على الرصيد، ومستند الدين لا يلغى بحال، ولو ألغي عرفاً لا يلغى شرعاً، ولذلك لو قيل: إنه يلغي، فالله ما أمرنا بزكاة الأوراق، وإن قيل: الورق له قيمة فورق الكتب له قيمة وورق الصحف له قيمة. إذاً: القيمية في الورق لا تستلزم أنه تجب فيه الزكاة، وإذا ثبت هذا: فإن هذه الأوراق ينظر إلى رصيدها، فما كان فضة لا تشترى به الفضة إلا مثلاً بمثل، وما كان ذهباً فلا يبادل بذهب إلا بإدخال الوسيط، فالدولار يحول إلى ريال ثم يحول إلى جنيهات ونحو ذلك، ولا ينقل من ذهب إلى ذهب ولا يشترى به الذهب، وإنما يشترى الذهب بالفضة وتشترى الفضة بالذهب خروجاً من شبهة الربا؛ لأن قاعدة الربا: (الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل) يعني: إذا لم نتحقق من المثلية بمبادلة الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة فإنه لا يجوز البيع؛ وأصل هذه القاعدة مستنبط من حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه وأرضاه في قصة القلادة التي غنمها من خيبر، فإنه اشتراها بعشرين ديناراً وقيل: بأكثر من خمس وعشرين ديناراً ثم وجد فيها بعد فصلها من الذهب ما يعادل خمسة وعشرين ديناراً، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع القلادة حتى يفصل الذهب عنها؛ لأنه إذا كان معها الفصوص جهل الوزن، فجعل عليه الصلاة والسلام الجهل بالوزن حتى تتحقق المثلية كالعلم بالتفاضل، فيحرم بيعها حتى تفصل، ومنه استنبط العلماء والأئمة هذه القاعدة في الربا: (أن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل) فكل شيء يباع بمثله من نفس صنفه لابد أن نتحقق من المثلية فيه، صاع بصاع، كليو بكيلو، فإذا شككنا وليس عندنا شيء يجزم بأنه متساوٍ امتنعنا من البيع؛ لأن جهلنا بهذا التماثل كأننا تحققنا من التفاضل، أي: يقع الربا شئنا أم أبينا، فقالوا: من هذا الحديث تستنبط القاعدة: (الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل). والله تعالى أعلم.

الفرق بين الخطبة وعقد النكاح

الفرق بين الخطبة وعقد النكاح Q يزعم بعض الناس أنه بمجرد خطبة النكاح يجوز الدخول بالمرأة؛ لأن الإيجاب والقبول قد تم. فما صحة هذا الأمر؟! A الإيجاب والقبول يتم عقداً بحضور الشاهدين العدلين، فإذا زوج الولي موليته بحضور شاهدين عدلين تم العقد، لكن الخطبة أن يأتي ويقول للولي: يا فلان! مثلك أهل أن يتزوج منه، أو بيتك بيت شرف وفضل، وإني راغب في بيتك، أو أريد ابنتك، فليس بعقد وإنما هي حكاية الرغبة، ولا تأخذ حكم العقد، ولذلك لا يكون العقد إلا بإيجاب وقبول أنه نكاح، وصادر من الولي والزوج أو من يقوم مقامهما كالوصي ووكيل الزوج، فإذا حصل الإيجاب والقبول بحصول شاهدين عدلين؛ فإنه حينئذٍ يصح النكاح ويحكم بانعقاده، أما ما قبل هذا من خطبة فإنها لا تستلزم ثبوت العقد، وحينئذٍ المرأة لا تزال أجنبية حتى يثبت عقده عليها، والله تعالى أعلم.

حكم وضع الغترة سترة في الصلاة

حكم وضع الغترة سترة في الصلاة Q يضع بعض الناس الغترة أو الشماغ عند الصلاة على الأرض فما حكم ذلك الفعل؟ A بعضهم يضعها أشبه بالسترة مثل أن ينفخها أو يعليها إذا لم يجد سترة، فهذا بعض العلماء يراه سترة وبعض العلماء لا يراه سترة؛ لأنها غير ثابتة، فإذا تحركت الريح انخسفت، فلا تكون ثابتة إلا إذا لفت ودورت حتى تكون أشبه بمؤخرة الرحل، أما إذا وضعها حتى لا تشغله أثناء الصلاة بالرفع والوضع فهذا خلاف الأولى؛ لأن الأفضل والأكمل في المصلي أن يكون بغترته، والله يقول: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، أي: عند كل صلاة، من باب إطلاق المحل وإرادة ما يحل فيه، فالأكمل والأفضل أن يكون بغترته ولا يعبث بالغترة. وعلى كل حال فالأكمل والأفضل ألا ينزعها عن رأسه؛ لأنها حالة كمال وإجلال وتعظيم للشعيرة، فهذا أكمل وأفضل، لكن هذا الفعل لا يستطيع أحد أن يقول: إنه حرام، بل نقول: خلاف الأولى. وهل خلاف الأولى مكروه؟ وجهان للعلماء: وصحح غير واحد -ومنهم الحافظ ابن دقيق رحمه الله- أن خلاف الأولى لا يستلزم أن يكون مكروهاً، والله تعالى أعلم.

النهي عن البيع في المساجد

النهي عن البيع في المساجد Q وزعت قصاصات من الأوراق في المسجد فيها طلب شراء أشرطة الدروس من التسجيلات الإسلامية، فهل هذا يعد من قبيل البيع في المسجد؟ A نعم. هذا داخل في النهي ولا يجوز، وللأسف بلغني في درس جدة ودرس مكة أنه وزعت هذه القصاصات للمذكرات وللأشرطة، وهذا من البيع، والمساجد ما بنيت لهذا، فإذا أراد صاحب التسجيلات أن يعرض شيئاً فليعرضه خارج المسجد، أما المسجد فلذكر الله عز وجل، ولذلك لا أرى شرعية هذا الشيء ولو كانت دروسي، فلا يجوز هذا الشيء ولا يشرع، فمحل البيع والتجارة معروف، والمساجد ما بنيت إلا لذكر الله، فعلى الإخوة أصحاب التسجيلات أن يتقوا الله عز وجل، وأن لا يفعلوا هذا لا في الدروس ولا في المحاضرات، وأن يعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البيع داخل المسجد، والإجماع منعقد على تحريم البيع داخل المسجد كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لا البيع ولا العرض والترغيب، حتى بعض التقاويم التي فيها دعاية للمؤسسات لا ينبغي أن تكون داخل المسجد؛ لأنه ليس المقصود التقويم، وإنما المقصود الدعاية للمؤسسة، والتجارة، ولذلك نقول لصاحب هذا التقويم: إذا كنت تريد وجه الله عز وجل فاطمس الدعاية حتى يتبين أنك تريد التقويم، ولا تريد أن تدعو إلى مؤسستك أو تجارتك، ولذلك من ناحية شرعية: التقاويم التي فيها دعاية تطمس الدعاية أو تخرج من المسجد؛ لأن المساجد ما بنيت إلا لذكر الله عز وجل، وبعض الأحيان يفقد غريب محتاج ضالته فينشدها في المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من وجدتموه ينشد ضالته) رجل محتاج منكوب مكروب (فقولوا: لا ردها الله عليك) مع أنها شريعة رحمة ويسر، إلا إن المساجد لم تبن لهذا، وتكفي الدنيا خارج المسجد، وأما المساجد فليس فيها إلا ذكر الله، وليس فيها إلا تعظيم الله، وتمجيده وتوحيده، وتقديسه بالأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، يتخلى الناس في المساجد من نكد الدنيا وقذرها، فيتطهرون بالإقبال على الله، وبالتوبة والإنابة إليه عز وجل. ولذلك قال أبو الدرداء لرجل يبتاع في المسجد: (يا هذا! إن أردت البيع فاخرج خارج المسجد، فإنك في سوق الآخرة) يعني: هذا ليس مكان البيع والشراء، فالمساجد لله وحده لا شريك له {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]، ولذلك لا يجوز أن يقدس فيها أحد ولا أن يمجد فيها أحد، ولا أن تفعل فيها أشياء لتمجيد أشخاص أو ذوات أبداً إلا الله وحده لا شريك له، فهي أماكن عبادة وذكر لا يجوز لأحد أن يستغلها لأغراض دنيوية، وعلى الجميع أن يتقوا الله عز وجل سواء في مسائل البيع أو غيرها، وأن يعظموا شعائر الله عز وجل نسأل الله العظيم أن يوفقنا لذلك وأن يعيننا عليه، والله تعالى أعلم.

الشكوى إلى الله علاج كل هم وكرب

الشكوى إلى الله علاج كل هم وكرب Q أعاني من ضيق شديد، وأحلام مزعجة، فادع الله لي، وما المخرج منها؟ A نسأل الله العظيم أن يعجل لنا ولك ولكل مسلم مكروب منكوب بالفرج. أخي في الله! الشكوى إلى الله، ومن أنزل بالله حاجته وفاقته أوشك أن يتأذن الله له بالفرج العاجل، فاجعل شكواك إلى الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، واجعل توكلك على الحي القيوم وسبح بحمده، فإنه يعلم حالك، وأرأف بك من نفسك التي بين جنبيك، فهو أرحم الراحمين، وهو رب العالمين، منتهى كل شكوى، وسامع كل نجوى، وكاشف كل ضر وبلوى، فهو الله الذي لا إله سواه، ولا رب عداه، فاجعل حاجتك عند الله جل وعلا، واعلم أنك بين منزلتين: إن صبرت وسكت وجعلت بثك وحزنك إلى الله وحده رفعت درجتك، وكفرت خطيئتك، وأفرغ عليك الرحمن صبراً، فعاد البلاء نعمة عليك في الدين والدنيا والآخرة، فقويت نفسك، واستجمت روحك، وتعلقت بالله سبحانه وتعالى، حتى إن بعض المؤمنين المخلصين المحسنين إذا زال عنهم البلاء تألموا، فهم يجدون في البلاء من لذة مناجاة الله ما لا يجدونه إذا فارقهم، وهذا من كمال إيمانهم وتوحيدهم وتعلقهم بربهم، فكن ذلك الرجل رحمك الله. وأما إذا اشتكيت وأخذت ذات اليمين والشمال فأنت بين أمرين: إن اشتكيت شكوى للعلاج والأخذ بالأسباب كشكوى المريض إلى طبيبه فهذا من تعاطي الأسباب، وقد اشتكى عليه الصلاة والسلام فقال: (وا رأساه)، وأما إذا كان إخباراً بالحال فلا بأس كما اشتكى عليه الصلاة والسلام فيما ذكرنا، وأما إذا كانت الشكوى تسخطاً من القضاء والقدر فقد ضاقت النفس، وعزب الرشد، وحينها يقول صلى الله عليه وسلم: (فمن سخط فعليه السخط)، نسأل الله السلامة والعافية، فلا تتسخط على قضاء الله وقدره، وارض بما قسمه الرحمن، وانظر إلى من هو أشد بلاء وضرراً، واحمد الله جل وعلا على عافيتك. الوصية الأخيرة: ما من بلاء إلا بسبب ذنب، وإذا أراد الله بعبده خيراً نبهه لحقوق الناس ومظالمهم، فلعل مظلوماً ظلمه، أو محروماً حرمه، فتفقد نفسك، فلربما آذى العبد قريباً فقطع رحمه فابتلاه الله بهذه المصائب، ولربما ظلم ضعيفاً، أو حرم ذا حق حقه، أو آذى ولياً من أولياء الله، كأن يغتاب العلماء أو يقع فيهم أو ينتقصهم؛ لأن هذه الأمور غالباً عقوبة الله فيها أليمة وشديدة، خاصة أذية الوالدين والقرابة، وأذية أهل الفضل وأهل العلم، والصالحين والأتقياء، والظلم والبهت، والاستهزاء بالناس، فهذه دائماً تسلط على الإنسان النكد والهم والغم، وتجعل نفسه في ضيق وكرب: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:33]، ما ظلم الله عز وجل عباده، ولكن ما وقعت بهم هذه البلايا إلا بسبب ظلمهم وأذيتهم وإصرارهم على اعتدائهم على حدود ربهم، فالواجب على المسلم أن يتفقد نفسه، وسعادة المؤمن وحسن حاله في الدنيا أنك تجده يعرف من أين يؤتى، فقل أن ينزل به بلاء إلا وألهمه الله سبب ذلك البلاء، وهذا إذا قلت سيئاته وكثرت حسناته، عندها يعلم من أين يؤتى، أما -والعياذ بالله- من عظمت سيئاته وأحاطت به خطيئته، فعندها لا يزال يبتلى ويبتلى حتى ينزل الله به نقمته فيأخذه أخذ عزيز مقتدر، نسأل الله السلامة والعافية. فعلى كل حال أوصيك بهذه الأمور: أولها: الالتجاء إلى الله وحده لا شريك له، واعلم أن الله سبحانه وتعالى قد وعدك بالفرج، فما من منكوب ولا مكروب يصدق مع الله في دعائه وسؤاله ورجائه إلا صدق الله معه، وما من عبد ينادي ربه في ظلمة ليل أو ضياء نهار وقد فرغ قلبه من كل شيء إلا الله جل جلاله، معتقداً من خالص قلبه أن الله قادر على إزالة كربه، يناديه نداء صدق وهو يعتقد ربوبيته وألوهيته وقدرته على خلقه إلا جعل الله له فرجاً ومخرجاً، فإما أن يزيل البلاء بالكلية، وإما أن يفرغ على هذا الحبيب المؤمن الولي الصالح صبراً، فلو أنه نزل عليه البلاء كأمثال الجبال لم يشعر من ذلك بشيء، ولذلك عليك أن تركز على هذا الأساس وهو الالتجاء إلى الله عز وجل. ثانياً: تأخذ بالأسباب والتي منها أن تعرف من أين أتيت، فتفقد ما بينك وبين قرابتك من الوالدين والقرابة، وكذلك أيضاً ما بينك وبين صالحي العباد من العلماء والأئمة الأموات والأحياء، فتستغفر الله من ذنوب وقعت بها في حقوقهم، وتسأل الله العفو عنك. والوصية الأخيرة: الاستكثار من الأمور التي توجب الرحمة والتي من أعظمها وأجلها: أولاً: سماع القرآن وكثرة تلاوته، قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]، فالذي يكثر من سماع القرآن يبدد عنه الهم والغم، وكذلك أيضاً الذي يكثر من تلاوته فإن الله يشرح به صدره. ثانياً: مما يزيل الله به الهم والغم ويعجل به الفرج من الأعمال الصالحة: كثرة الاستغفار، فإن الله عز وجل أخبر أنه لا يعذب من استغفر، ولذلك من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، فتستغفره قائماً وقاعداً، وممسياً ومصبحاً، تستغفره على كل حال، وتسأله الرحمة في سائر الأحوال. نسأل الله بعزه وجلاله أن يرحمنا برحمته، وأن يعمنا بواسع مغفرته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

كتاب العدد [5]

شرح زاد المستقنع - كتاب العدد [5] من أنواع المعتدات من ينقطع حيضها لسبب قد يكون معروفاً وقد يكون غير معروف، ولكل حكمه، ومن أنواع المعتدات كذلك من يغيب عنها زوجها، فلا تدري أهو حي أم ميت، وهذه كلها أحكامها مبينة في كتب العلماء رحمهم الله.

عدة من ارتفع حيضها ولم تدر سببه

عدة من ارتفع حيضها ولم تدر سببه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه وسبيله إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [الخامسة من ارتفع حيضها ولم تدر سببه]. هذا النوع الخامس من النساء المعتدات، وحاصله: أن المرأة يرتفع حيضها وينقطع عنها، ولا تدري ما هو سبب الانقطاع، وقد ذكر أهل العلم رحمهم الله -كما سيبينه المصنف- أن هذا النوع ينقسم في الأصل إلى قسمين: القسم الأول: أن يرتفع الحيض وينقطع ولم تعرف سببه. والقسم الثاني: أن يرتفع وتعلم سبب الارتفاع. فهذا النوع من النساء في الأصل ينقطع عنهن دم الحيض، ثم إذا انقطع هذا الحيض إما أن تعلم سبب الانقطاع وإما أن لا تعلم، فإن علمت سبب الانقطاع فلها حكم، وإن لم تعلم سبب الانقطاع فلها حكمٌ آخر، والمصنف رحمه الله شرع في بيان هذا النوع فقال: (من ارتفع حيضها ولم تدر سببه فعدتها سنة). من ارتفع حيضها ولم تدر سبب انقطاع دم الحيض عنها فعدتها سنة، وهذا قضاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وهذه السنة توجيهها: أنها تعتد تسعة أشهر لاحتمال أن تكون حاملاً، فإذا مضت عليها تسعة أشهر ولم يتبين أنها حامل فإنه حينئذٍ تبدأ عدتها بالأشهر وتكون عدتها ثلاثة أشهر بنص القرآن على أن المرأة التي لم تحض والمرأة اليائسة من الحيض عدتها ثلاثة أشهر، فإذا أضيفت التسعة الأشهر إلى الثلاثة الأشهر أصبح المجموع اثني عشر شهراً -سنة كاملة- كما قضى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك قالوا: لم يخالف في هذا الحكم، فإذا انقطع دم الحيض عن المرأة ولم تدر ما سبب انقطاعه فإنه يلزمها أن تعتد سنة كاملة، تسعة أشهر لاحتمال أن تكون حاملة استبراءً لرحمها من الحمل، وثلاثة أشهر التي هي العدة الأصلية للتي ليست ممن يحضن. يقول المصنف رحمه الله: [تسعة أشهر للحمل، وثلاثة للعدة، وتنقص الأمة شهراً]. وتنقص الأمة شهراً؛ لأنه بالنسبة للتسعة الأشهر تستوي فيها الأمة والحرة؛ لأن الحمل لا يختلف من حرة إلى أمة، فالتسعة الأشهر في الحرائر والإماء، فتعتد تسعة أشهر، والثلاثة الأشهر التي هي عدة اللائي لا يحضن من النساء تتشطر على مذهب الحنابلة، وقد ذكرنا أن الصحيح عدم التشطير وهو مذهب المالميكة والظاهرية رحمة الله عليهم، وقول بعض فقهاء المدينة كـ القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق -أحد فقهاء المدينة السبعة- وسالم بن عبد الله بن عمر، وهو قول مجاهد بن جبر والدليل على ذلك: أولاً: عموم الأدلة الواردة في كتاب الله عز وجل حيث لم يفرق سبحانه وتعالى بين الحرة والأمة. ثانياً: أن الذين قالوا بالتشطير خصصوا هذا العموم بقول الصاحب، والعموم أقوى. ثالثا: أنهم خصصوه من جهة العقل، وهذا مبني على المسألة الأصولية: تعارض العموم مع القياس، ودلالة العموم أقوى من القياس في هذه المسألة، فإن الله تعالى نص على التشطير في الحد ولم ينص على تشطيره في غيره من حيث الأصل العام، فبقي الغير على الأصول إذ ورد فيه دليلٌ عام فيبقى على عمومه؛ ولذلك يترجح مذهب من قال: إنه لا تشطير في عدة المرأة إذا كانت من الإماء.

عدة من بلغت ولم تحض

عدة من بلغت ولم تحض قال المصنف رحمه الله: [وعدة من بلغت ولم تحض، والمستحاضة الناسية، والمستحاضة المبتدأة: ثلاثة أشهر والأمة شهران] (وعدة من بلغت ولم تحض) المرأة إذا كانت صغيرة -الصبية- إذا بلغت لها حالتان: الحالة الأولى: أن تبلغ بالحيض وحينئذٍ لا إشكال؛ فعدتها بالأقراء -على التفصيل هل هو الطهر أو الحيض- وهذا بإجماع العلماء؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] وهذه ذات قرءٍ فيجب عليها أن تتربص ثلاثة قروء بنص كتاب الله عز وجل. الحالة الثانية: أن تبلغ ولا يظهر بها حيض، كما لو بلغت الخامسة عشرة على الصحيح وقد بينا خلاف العلماء رحمهم الله في سن البلوغ، فإذا بلغت -مثلاً- خمسة عشرة سنة على القول بخمسة عشرة سنة، أو سبعة عشرة سنة في مذهب الحنفية في التفريق بين الذكر والأنثى، وثمانية عشرة سنة كما هو مذهب المالكية، فإذا بلغت ولم تحض فحينئذ قال طائفة من أهل العلم: إننا نستصحب حكم الأصل: أن التي لم تحض لصغرٍ تعتد بالأشهر لآية الطلاق، فإن الله تعالى بين في آية الطلاق أن اليائسة من الحيض والتي لم تحض عدتها ثلاثة أشهر، فإذا ثبت أن المرأة في صغرها لم تحض فبالإجماع أنها تعتد بالأشهر، فإذا وصلت إلى سن الحيض ولم يجر معها دم حيض استصحب الأصل، فبلوغها لم يؤثر في الحكم شيئاً؛ لأنها لا زالت غير حائض، والله يقول: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4] فبين أن اللائي لم يحضن عدتهن ثلاثة أشهر، وهذه لم تحض، فتبقى على حكم الأصل فتعتد ثلاثة أشهر، وهذا كما نص عليه المصنف رحمه الله وهو قول طائفة من أئمة العلم من السلف والخلف.

عدة المستحاضة الناسية

عدة المستحاضة الناسية (والمستحاضة الناسية) تقدم معنا من هي المستحاضة، وبينا أنها المرأة التي يجري معها دم الحيض، وإذا جرى دم الحيض فله صور، وبينا أنه تارة يكون لها عادة، وتارة يكون لها تمييز، وفصلنا في أحكام هذا في كتاب الحيض. والمسألة عندنا: امرأة مستحاضة كانت لها عادة ثم نسيتها، فلما نسيت عادتها أصبح حيضها مجهولاً، فقالوا: تعتد ثلاثة أشهر، حتى في مذهب الحنابلة فإنهم يردونه إلى الأصل في كتاب العبادات. كيف تعتد ثلاثة الأشهر؟ قالوا: تحمل على حديث حمنة بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها، وهو حديث حسنه غير واحد من أهل العلم رحمهم الله، ومنهم الإمام البخاري وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال لها: (. أنعت لك الكرسف -قالت: يا رسول الله! هو أشد من ذلك، قال لها: استذفري، ثم قال لها: تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً، ثم صلي ثلاثاً وعشرين أو أربعاً وعشرين) فقوله: (تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً) ردها إلى الغالب من حيض النساء، فتتحيض ستة أيام أو سبعة أيام على حسب قوة الدم وضعفه، والتي تتحيض ستة أيام أو سبعة أيام وقد نسيت عادتها تنقسم إلى قسمين: أن تعلم مكان العادة -لأنها قد تنسى عدد العادة ولا تنسى مكانها- في أول كل شهر أو في آخر كل شهر، أو في منتصف كل شهر، فإن كانت عادتها تأتيها في أول كل شهرٍ فحينئذٍ نقول لها: تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً من بداية كل شهر، وإن كانت عادتها تأتيها في آخر الشهر يقال لها: تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً من آخر الشهر، لأنها تعلم مكان الحيض. كيف نحكم بانتهاء العدة؟ الثلاثة الأشهر هنا فيها وجهان: الأول: من أهل العلم من يقول: ثلاثة أشهر كاملة كأن الحيض سقط اعتباره ورجع إلى التي لم تحض، وقال: لأنها لما كانت ذات حيض ولا تعرف عادتها، ولا يمكن تمييز عادتها أصبح وجود الحيض وعدمه على حدٍ سواء، فيرد إلى ثلاثة أشهر كاملة، وبناءً على هذا القول: لو طلقت في آخر ذي الحجة فإنها تعتد محرم وصفر وربيع الأول، وتخرج في آخر ربيع الأول من عدتها، وتحل للأزواج بنهاية شهر ربيع الأول. الثاني: من أهل العلم من يقول: تعتد ثلاثة أشهر، على تفصيل حديث حمنة رضي الله عنها وأرضاها، وفي هذا الحديث قلنا: إذا كانت تعلم وقت عادتها في بداية الشهر أو آخره أو وسطه، فيفصل في هذا القول على التفصيل الذي تقدم معنا في الحيض والطهر. هل عدة المرأة بالحيضات أو بالأطهار؟ أولاً: إن قلت: إن عدة المرأة بالحيضات -كما اختاره المصنف- وهو مذهب الحنابلة والحنفية رحمهم الله: يقولون: تعتد ستاً أو سبعاً من بداية محرم، ثم ستاً أو سبعاً من بداية صفر، ثم ستاً أو سبعاً من بداية ربيع، فإذا انتهت من اليوم السابع أو السادس -على التفصيل- خرجت من عدتها؛ لأنها حاضت ثلاث حيضات، وهذا حيض تقديريٌ بنص الشرع يعني: الشرع اعتبرها في هذا النوع من النساء، وكما أن العبادة ترتبت على هذا الحيض التقديري فالمعاملة مرتبة عليه. ثانياً: إن قلت إن العدة بالأطهار، فتقول: تتحيض ستاً أو سبعاً من بداية محرم ثم صفر ثم ربيع وتنتهي بالطهر الثالث، وبناء على هذا تختلف: العدة على الوجهين في القول الثاني. فالقول الأول: يتم العدد. يعني: لا بد من مضي الثلاثة الأشهر. والقول الثاني: لا يرى مضي الثلاثة الأشهر، والإشكال حينما يقع الطلاق، فلو وقع الطلاق أثناء الشهر، فلو كانت في بداية الشهر كما لو طلقت في آخر ذي الحجة فلا إشكال أنها تبتدئ من محرم، وتعتد ثلاثة أشهر -كاملة أو ناقصة- قمرية؛ لأن أحكام الشريعة الإسلامية مرتبة على الأشهر القمرية لا الأشهر الشمسية، والأشهر الشمسية ليس لها في أحكام العبادات والمعاملات تأثير، إنما التأثير في الأشهر القمرية التي نص الله عز وجل على اعتبارها: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة:189] وبين تعالى بهذه الآية أن الأصل: الاعتبار بالأشهر القمرية، وهذا محل إجماع عند العلماء رحمهم الله. فلو أنها طلقت في آخر الشهر وابتدأت الثلاثة الأشهر من أول الشهر فتعتد الثلاثة الأشهر كاملة أو ناقصة، وحينئذٍ تارة يكمل الشهر الأول والثاني وينقص الثالث، وتارة ينقص الأول والثاني ويكمل الثالث، وتارة ينقص الأول والأخير ويكمل الوسط، وتارة العكس، فالعبرة في هذا كله بنقص الشهر وكماله فتارة تكون عدتها (89) يوماً وتارة (88) يوماً على حسب كمال الشهر ونقصه. لكن لو أنها طلقت في منتصف شهر محرم، أو طلقت في (10) من شهر رمضان، أي: طلقت أثناء الشهر، فللعلماء في هذه المسألة خلاف، والذي عليها جمهور العلماء رحمهم الله أنهم يقولون الآتي: عدة الوفاة والطلاق تحتسب بالأشهر، فما زاد عن الشهر يعتبر مضموماً إلى آخر شهر، فإذا طلقت في اليوم العاشر من رمضان فحينئذٍ تتبع عدتها من اليوم الحادي عشر إلى نهاية رمضان، ثم نحتسب شوال ناقصاً أو كاملاً، ونحتسب ذا القعدة ناقصاً أو كاملاً، فإن نقص في الأهلة فهي شهر، وإن كمل فهو شهر، ثم يبقى السؤال في شهر ذي الحجة: ما الذي يضاف إلى الأيام التي مضت؟ فبعض العلماء يقول: يضاف من ذي الحجة عشرة أيام؛ لأن الأيام التي خلت من أول رمضان عشرة أيام، فبناءً على ذلك قالوا: لا بد وأن تحتسب المدة كاملة بناء على الشهر ويقدر الثاني والثالث -أي الشهرين الذين في الوسط- كاملين ويبقى الشهر الأول والرابع على حسب النقص الموجود في الأول ويكمل من الشهر الرابع. وبناء على هذا القول: لو كان شهر رمضان ناقصاً فعندهم تعتد إلى عشر من ذي الحجة سواءً كان ناقصاً أو كاملاً، قال بعض العلماء: العبرة بالعدد، فما خرج عن الشهرين يرجع فيه إلى الأصل، وبناءً على ذلك: لو نقص فإنه لا بد وأن يحتسب ثلاثين يوماً، فتخرج في اليوم الحادي عشر من ذي الحجة، ومن حيث الأصل فالشهران اللذان هما في الوسط يكون الاحتساب بهما بالنقص والكمال، فلو كانا ناقصين فالعدة تامة كاملة، ولا يلتفت إلى الحساب بالتقدير من جهة أن يكون الشهران ستين يوماً، بل لو نقص الأول والثاني الذي هو شهر شوال وذو القعدة، وكان رمضان كاملاً فإنه يحتسب ويعمل به ولا يؤثر، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (شهرا عيدٍ لا ينقصان: رمضان وذو الحجة)، وقال كما في الصحيحين: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا قال الراوي: هكذا: فعد ثلاثين، ثم خنس الإبهام في العدد الثاني) يعني: يكون ثلاثين ويكون تسعاً وعشرين، وهذا من سماحة الشريعة أنها اعتبرت الرؤية، فإن رؤي الهلال فبها ونعمت، وإن لم ير أكملت العدة ولا عبرة بالحساب الفلكي وبينا هذا غير مرة، وبينا أن وصف الأمية لهذه الأمة وصف شرف وليس بوصف منقصة؛ لأن الله وصفهم بهذا، وقلنا بأن الأمية لا تستلزم الجهل، فالذي يقول: إن الأمي جاهل يخلط بين الأمرين، لأن الأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب؛ أي: أنه باقٍ على حالته كيوم ولدته أمه، وقد يكون الشخص لا يقرأ ولا يكتب وهو أعلم الناس؛ فالأعمى لا يقرأ ولا يكتب، وقد يكون عنده علم، فالقراءة والكتابة ليست هي العلم، إنما العلم بالتحصيل والوعي، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (رب مبلغٍ أوعى من سامع).

عدة المستحاضة المبتدأة

عدة المستحاضة المبتدأة (والمستحاضة المبتدأة) كذلك الحكم بالنسبة للمستحاضة المبتدأة: تعتد ثلاثة أشهر. (والأمة شهران) على مذهب التشطير وبينا أنه مرجوح وليس براجح.

عدة من ارتفع حيضها وعلمت سببه

عدة من ارتفع حيضها وعلمت سببه قال رحمه الله: [وإن علمت ما رفعه من مرضٍ أو رضاع أو غيرهما فلا تزال في عدة حتى يعود الحيض] هذا النوع الثاني من النساء: من ارتفع حيضها وعلمت سبب الارتفاع كمرض، وقال لها الأطباء: إن الحيض انقطع عنك بسبب المرض، أو كان بسبب الرضاع، ففي هذه الحالة يحمل هذا النوع من النساء على العدة التي سبقت وتقدمت، فتعتد سنة كاملة، وبهذا قضى الصحابة -رضوان الله عليهم- أن المرأة إذا ارتفع حيضها وعلمت سبب ارتفاعه فإنها تبقى على حالها حتى يعود إليها الحيض، وبهذا قضى الصحابة. فـ علقمة بن قيس رحمه الله -صاحب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه- كانت له زوجة فطلقها طلقة أو طلقتين، فحاضت حيضة أو حيضتين والشك من الراوي -والأثر عند مالك في الموطأ من طريقه، ورواه البيهقي بسندٍ صحيح- فحاضت حيضة أو حيضتين ثم ارتفع عنها الحيض، ثم بقيت سنة ونصف سنة، قيل: إنها توفيت بعد سبعة عشر شهراً، وقيل: بعد ثمانية عشر شهراً، ولم يعد إليها الحيض؛ لأنها كان عندها مرض، وعلمت السبب فحاضت الأولى ثم الحيضة الثانية وجاءها المرض فلم تحض الثالثة، وهذا لطفٌ من الله عز وجل، فلما لم تحض الثالثة توفيت قبل أن يعود إليها الحيض، فرفع أمره إلى عبد الله بن مسعود فورثه منها، وقال له: (حبس الله لك ميراثها). يعني: الله عز وجل حبس عنها الحيض؛ لأنها لو حاضت الثالثة ما ورث منها شيئاً؛ لأنها تخرج بها من العدة، والرواية صحيحة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وبناءً على ذلك: إذا ارتفع الحيض بمرض وعلمت السبب -كما ذكر المصنف رحمه الله- تبقى حتى يزول هذا السبب وترجع إلى الأصل؛ لأن هذه ليست يائسة من الحيض، بل هي ذات حيضٍ جاءها عذر أو طارئ، فتبقى على الأصل من إلزامها بالحيض حتى يعود إليها حيضها ولو مكثت سنتين أو ثلاثاً فإنها تبقى على عدتها، وهي في حكم المعتدة حتى يعود إليها الحيض وتتم العدة على الوجه المعتبر. (فلا تزال في عدة حتى يعود الحيض وتعتد به أو تبلغ سن الإياس فتعتد عدته). فيستمر الأمر معها حتى تدخل سن اليأس، وقد بينا قضية سن اليأس وهل له سن معين أو لا وبينا أن الصحيح أنه لا حد لليأس، وما دام أن دم الحيض يجري على المرأة فهي حائض، لكن لو انقطع فيما يشبه سن اليأس في غالب النساء أو في أترابها وقرائنها وكذلك أهل بيتها، ومعروف في بيتها أن النسوة اللاتي يبلغن سن خمس وخمسين عاماً ينقطع عنهن الحيض، فجلست تنتظر بعد المرض الذي أصابها ولم يزل المرض ودخلت في سن اليأس، فالغالب كالمحقق، والغالب: أن وضعها ووضع أهل بيتها وعادة أترابها أنها تكون آيسة؛ فحينئذٍ يحكم لها بعدة الإياس فتنتقل من عدة ذات الحيض إلى عدة ذات الإياس، وتلزم بالعدة ثلاثة أشهر.

عدة امرأة المفقود

عدة امرأة المفقود قال رحمه الله تعالى: [السادسة: امرأة المفقود] والمفقود هو: الذي غاب ولا يعرف خبره. وبعضهم يقول: غاب وانقطع خبره، وبعضهم يقول: لا يعرف خبره، فيخرج الحاضر، والذي يعرف خبره، مثل الذي يراسل زوجته أو أقاربه فحينئذٍ لا يكون في حكم المفقود، فالمفقود يغيب وينقطع خبره، فلا يعرف حاله، وينقسم إلى قسمين:

أقسام المفقود

أقسام المفقود

القسم الأول: أن يكون غائبا في حال يغلب عليها الهلاك

القسم الأول: أن يكون غائباً في حال يغلب عليها الهلاك ومن أمثلته: الذي يفقد في القتال في سبيل الله عز وجل، فيكون بين الصفين، أو تحدث فتنة وقتال وهرج ومرج ويدخل فيها ثم يفقد، فهذا فقد في شيء غالبه الهلاك، أو يحدث زلزال في المدينة أو القرية أو المكان الذي هو فيه وينقطع خبره ولا يدرى أهو حي أو ميت. أو مثلاً: يحدث فيضان، أو سيل على المكان الذي هو فيه -والعياذ بالله- أو تحصل حرائق أو كوارث أعاصير ثم ينقطع خبره ولا يعرف أحيٌ فيرجى أو ميت فيحكم بهلاكه. فإذا كان في غيبة غالبها الهلاك فقضاء الصحابة -رضوان الله عليهم- أنه ينتظر أربع سنوات، فإذا لم يأتِ شيء ولم يتبين شيء حكم بموته تقديراً، وهذا على قاعدة: (تنزيل المعدوم منزلة الموجود)؛ لأن الموت ليس محققاً، لكن ننزله منزلة الموجود، أو (تنزيل الموجود منزلة المعدوم). وهذا الأصل في التقدير كما ضبطه العلماء. وفي هذه الحالة نقدر الموجود منزلة المعدوم وهو حياته فنقدرها كأنها ليست موجودة، أو نقدر المعدوم منزلة الموجود وهو موته فنقول: إنه ميت؛ لأن الأصل أنه حي، وعلى كل حال يحكم بموته تقديراً ثم تعتد عدة الوفاة، فإذا اعتدت عدة الوفاة حكم بعد ذلك بحلها للأزواج، إن شاءت أن تنكح وإن شاءت أن لا تنكح، فهي حرة في أمرها. وقد أثر هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وقضى بذلك واشتهر هذا القضاء عنه رضي الله عنه وأرضاه، وعمل به الأئمة، وقال بعض السلف: ينتظر سنة كاملة، كما أثر عن سعيد بن المسيب؛ والرواية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هي عن طريق سعيد بن المسيب ورواية سعيد رحمه الله عن عمر بن الخطاب فيها خلاف: هل سمع أو لم يسمع؟ وهل هي متصلة أو منقطعة؟ لكن العمل عند أهل العلم على هذا القضاء. واختلف العلماء -رحمهم الله- في هذه الأربع سنوات. هل هي معللة أو غير معللة؟ يعني: هل عمر لما قضى بالأربع السنوات قصد شيئاً من تحديد الأربع دون زيادة أو نقص أو لم يقصد؟ فقال بعض العلماء: قصد شيئاً، فهي معللة، وقالوا: قصد أنها أقصى مدة للحمل، فهي تتربص على هذا الوصف وعلى هذه المدة استبراءً لهذا الميت في حقه بالنسبة لها، ثم تعتد عدة الوفاة. وقال البعض: الأشبه أنه غير معلل وهذا قول فيه قوة، وقضاء الأربع السنوات يشبه أن يكون الغالب أن الأربع السنوات إذا لم يعرف فيها خبر الإنسان يكون أشبه بالهالك، خاصة إذا كان حاله حال هلاك، مثل أن يفقد في مواضع غالباً لا يعيش صاحبها، مثل أن يسافر إلى أرض مسبعة فيها سباع، أو يكون البحر في حال هيجان، فالأربع السنوات مدة كافية أنه لو كان حياً لحصل أقل شيء الخبر والعلم بحاله.

القسم الثاني: أن يكون غائبا في حال يغلب عليها السلامة

القسم الثاني: أن يكون غائباً في حال يغلب عليها السلامة مثل أن يسافر للتجارة في بلدٍ آمن، أو أن يسافر ومن عادته أن يسافر، وفجأة انقطعت أخباره ولم يعرف هل هو حي أم ميت، أو سافر لصلة رحم وبعد ما تركهم لم يعرف ماذا صار له وماذا جرى؛ فإذا سافر على وجه غالبه السلامة كالتجارة والنزهة والصيد ونحو ذلك وفقد فمذهب جمهور العلماء: أنه ينتظر. يعني: الأصل أنه حي وتبقى امرأته على هذا الأصل حتى تستيقن موته، إما أن يأتيها خبر أنه ميت أو تمكث مدة يغلب على مثله أن يموت، هذا وجه. أو تمكث إلى أن يقدر عمره تسعين سنة، وقيل: إلى مائة، وقيل: إلى مائة وعشرين. صورة المسألة: الرجل عمره ستون سنة مثلاً، والمرأة شابة عمرها ثماني عشرة سنة، أو خمس عشرة سنة، فتنتظره إلى التسعين، قالوا: والغالب أنه لا يجاوز التسعين. وقال بعض العلماء: تنتظر إلى مائة وعشرين. ومن أهل العلم من قال: ينظر إلى أقرانه ومن في سِنّه، فإذا انقرضوا وماتوا حكم بوفاته، وهذا كله لأجل قضية الإرث والحقوق التي سترتب على الحكم بوفاته، فهم يقولون: نبقى على الأصل أنه حي حتى يغلب على الظن هلاكه، والقول بأنه ينظر إلى من هم في مثل سنه ومن هم أقرانه حتى ينقرضوا أشبه، وكل الأقوال هذه عند الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ذكروا أنه ينتظر على التفصيل الذي ذكرناه، فمنهم من قدر التسعين، ومنهم من قدر المائة، ومنهم من قدر المائة والعشرين كما نص عليه بعض فقهاء الحنفية والشافعية رحمة الله عليهم. فينتظر هذه المدة، فإذا مضت هذه المدة حكم بوفاته. وفي هذه الحالة لو قلنا: إن المرأة تنتظر. فالمرأة قد تخاف على نفسها الحرام والفتنة، ولا تستطيع أن تنتظر هذه المدة، وتريد حقوقها، وتريد من يعولها ويقوم عليها، كأن ترغب في الزواج، فترفع أمرها إلى القاضي وتشتكي، وفي بعض الأحيان من حق القاضي أن يطلق عن الزوج إذا رأى ظلم المرأة، وخشي عليها. إذاً: فالمرأة لها أن تنتظر، لكن متى نحكم بإرثها منه؟ ومتى نحكم باعتدادها من عدة الوفاة؟ وهذا الكلام في حال إذا رضيت أن تبقى وتعتد عدة الوفاة، فإذا قالت: أنا سأبقى، ولا أريد تركه، وأريد حقي في إرثه مثلاً، ففي هذه الحالة نقول: لا حق لك ولا إرث لك حتى تمضي المدة التي غالباً أنه يهلك فيها، ثم بعد ذلك يحكم بموته تقديراً، على تفصيل في مسألة الإرث والميراث، ولكن الذي يهمنا هنا أنها تمكث منتظرة إلى أن يغلب على الظن هلاكه بهلاك أقرانه، أو بمضي مدة على التفصيل الذي ذكرناه. قال رحمه الله: [تتربص ما تقدم في ميراثه ثم تعتد للوفاة]. تتربص ما تقدم في ميراثه من كتاب الفرائض وقد تقدم، والعلماء دائماً يحيلون المسائل على مواضعها ومظانها، فمظان هذه المسألة في ميراث المفقود وقد تقدم، وهذا التفصيل في كتاب الفرائض وفي غيره أنهم يقولون: إنها تنتظر إلى أن يغلب على الظن هلاكه.

عدة الوفاة لامرأة المفقود

عدة الوفاة لامرأة المفقود قال رحمه الله: [ثم تعتد للوفاة]. إن حكم بوفاته تقديراً ومضت المدة أو هلك أترابه -الأتراب الذين في سنه- {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:37] يعني: أنهم في سن واحدة- فلو هلك أترابه وانقرضوا، فحينئذٍ يحكم القاضي بوفاته، ثم بعد ذلك تعتد عدة الوفاة فيحكم بإرثها.

تربص أمة المفقود

تربص أمة المفقود قال رحمه الله: [وأمة كحرة في التربص]. تتربص مثلما تتربص الحرة، يعني: تمكث أربع سنين مثلما ذكرنا، ولا يشطرون المدة هنا. قال رحمه الله: [وفي العدة نصف عدة الحرة] التشطير في العدة فقط، والغريب أن بعض المالكية قال بالتشطير -فتمكث سنتين- مع أنهم خالفوا في العدة، وقال: تتم العدة. وعلى كل حال طالب العلم ربما وجد عند بعض العلماء أقوالاً مختلفة، فليعلم أن وراءها أسباباً، يعني: في بعض الأحيان التفريق بين المجتمع والجمع بين المفترق دليلٌ على فقه العالم؛ لأنه أعطى كل مسألة حقها، والشريعة تفرق بين المجتمع وتجمع بين المفترق، وهذا طبعاً لأنه الأحكام تختلف وتتأثر بعللها وموجبات التغيير فيها. وعلى كل حال: فالذي عليه العلماء هنا أنهم لم يروا تشطيراً في مدة التربص، فعندنا مدتان: المدة الأولى: أربع سنين، وهي مدة من لا تغلب عليه السلامة، وهذه المدة لا تشطير فيها. والمدة الثانية: مدة عدة الوفاة وهذه فيها التشطير -وقد تقدم معنا - لأنهم يشطرون عدة الوفاة بالنسبة للأمة، وبينا أن الصحيح أنه لا تشطير في عدة الوفاة ولا في عدة الطلاق.

وقت ابتداء التربص بالنسبة لامرأة المفقود

وقت ابتداء التربص بالنسبة لامرأة المفقود قال رحمه الله: [ولا تفتقر إلى حكم حاكم بضرب المدة وعدة الوفاة] اختلف العلماء رحمهم الله: لو أن المرأة أرادت أن تتربص الأربع السنين فهل تحتسب الأربع السنين منذ سفره، أو منذ انقطاع خبره، أو منذ شكواها ورفعها إلى القاضي؟ A هناك قولان للعلماء رحمهم الله: القول الأول: تبتدئ الحساب من الوقت الذي انقطع خبره، كأن يكون يراسلها كل شهر وانقطع عنها في شهر محرم، فتبدأ التربص من محرم وتحتسب الأربع السنوات من محرم، وهذه رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، وقد كان حُكي عن أصحابه أنها تحتسب منذ فقده؛ لأن الضرر جاءها من حين فقده وفقد خبره. القول الثاني: تحتسب المدة من قضاء القاضي لها أن تتربص أربع سنين، فتبتدئ الأربع السنوات من قضاء القاضي كما هو في مذهب الإمام مالك رحمه الله، وعن الإمام مالك أنه نص على ذلك، أن تبدأ بالحساب منذ أن رفعت أمرها إلى القاضي. والفرق بين القولين: أنه ربما انقطع خبره من محرم فسكتت وانتظرت إلى أن جاء شهر -مثلاً- شعبان فرفعت إلى القاضي أمره في شعبان، فعلى القول الأول تحتسب من محرم وتمضي أربع سنين حتى يأتي محرم من السنة التي تكمل فيها أربع سنين فتخرج من الإلزام بالأربع، وتدخل في عدة الوفاة. وعلى القول الثاني: يبتدئ حسابها من شعبان منذ أن حكم القاضي، وليس العبرة بابتداء الفقد أو انقطاع الخبر، والفرق بين القولين: إذا نظر إلى أن الأربع السنوات تبعدية وأنها تقدير من الشرع اعتماداً للغالب ففي هذه الحالة يقوى أنها تتوقف على حكم القاضي، وإذا نظر إلى أنها اجتهادية وفيها معنى التعليل ففي هذه الحالة العلة موجودة منذ الفقد، ومنذ انقطاع الخبر، فيقوى القول الأول على القول الثاني من أنها معللة؛ لأنه إذا انقطع خبره في هذه الحالة حصل الضرر لها فتبدأ الحساب من ذلك الوقت، وكلا القولين له وجهه، وظاهر الذي اختاره المصنف هنا: أنها لا تفتقر إلى حكم القاضي، يعني: تحتسب المدة من حين انقطاع الخبر.

مسألة: إن تزوجت امرأة المفقود وجاء قبل أن يطأها الزوج الثاني

مسألة: إن تزوجت امرأة المفقود وجاء قبل أن يطأها الزوج الثاني قال رحمه الله: [وإن تزوجت فقدم الأول قبل وطء الثاني فهي للأول وبعدها له أخذها زوجة بالعقد الأول ولو لم يطلق الثاني] (إن تزوجت) هذا تسلسل في الأفكار، وميزة هذه الشريعة العظيمة الكريمة التي هي: {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] {يََقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57] أنها شريعة تامة كاملة. ولذلك تجد أن الفقه الإسلامي ضرب أجمل الصور وأروعها في معالجة المسائل والمشاكل والنوازل بدقة وعناية وشمولية، بينما القوانين الوضعية قاصرة، يجلس أصحابها مدة يعاينون الناس وينظرون أعرافهم حتى يسنون القانون بعد ما تحدث القضايا، ويدرسون الأقضية التي تسمى: دراسة القضاء، فيقولون: هكذا في القضاء الفلاني والعلاني، فيجمعون هذه الأقضية ويجمعون تصورات ثم بعد ذلك يحدثون، فلو شاء الله أن الأعراف تغيرت، وأحوال الناس تبدلت واختلفت المعايير في المجتمع واختلفت أوضاع الناس ذهبت قوانينهم أدراج الرياح، وما عادت تنفع؛ لأن البيئة التي فيها التزام ومحافظة ليست كالبيئة التي لا يوجد فيها التزام، والبيئة الغنية ليست كالفقيرة، والبيئة الجامعة بين الغنى والفقر ليست كالمتمحضة فقراً أو غنى، لكن الشريعة الإسلامية هؤلاء علماؤها وأئمتها -رحمة الله عليهم- قد خرجوا المسائل من أصول صحيحة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بأجمل وأكمل ما يكون، فهنا لم يقولوا: إن امرأة المفقود يحكم بأنها تنتظر، فإذا انتهت مدة الانتظار حكم بأنها أجنبية وأنها تحل للأزواج ويقفون عند هذا فحسب؛ ما الذي يترتب على هذا الشيء؟ تحكم الشريعة في الشيء ولا تقف عاجزة، وقد كانت دولة الإسلام من المحيط إلى المحيط ولم تقف الشريعة ولا الفقه الإسلامي يوماً من الأيام عند نازلة أو مسألة أبداً، بل إنها وفت وكفت وجاءت على أتم الوجوه وأكملها، لكن القوانين الوضعية تعجز في كثير من الأشياء والأمور التي تطرأ أو تجد، وهذا ما يسمونه بمسائل (الطوارئ) في لغة العصر، وتسمى: مسائل النوازل عند العلماء، فإذا نزلت النوازل اختلفت المعايير واختلفت الأقيسة، لكن الشريعة الإسلامية لا يحدث تغير فيها ولا عجز، والعلماء -رحمهم الله- منذ فجر الفقه الإسلامي عندهم ما يسمى بمسائل التخريج، وهذه المسائل اعتني بها تقريباً من القرون الأولى في الفقه الإسلامي، يخرجون ما حدث ووجد على ما مضى، حتى أنك تجد أن الفقيه ليس عنده دليل ينص على حكم المسألة لكن يستطيع أن يقول الحكم في المسألة ويصيب الحق؛ ولذلك يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه -وكان من فقهاء الصحابة ومفتيهم وكان عمر رضي الله عنه يقول فيه: (أتسألونني وفيكم صاحب السوادين والنعلين) - قال: (أقول فيها برأيي -في مسألة سئل فيها- فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان ثم قضى بأن عليها العدة ولها الميراث. فقال له الأشجعي: أقسم بالله لقد قضيت فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا). الله أكبر! يقول: أقول فيها برأيي، ويقول: إنه: ليس هناك نص، ولكنها بصائر تنورت، وقلوب صقلت بروحانية الكتاب والسنة، وأمة تلقت هذا الفقه بضوابط وأصول صحيحة، ومن هنا كان التأدب مع العلماء الراسخين، فهذا يقول: (أقول فيها برأيي) وما كذب رضي الله عنه وأرضاه، وإذا هي برأيه المحض، وهناك من يتهكم بالفقهاء ويقول: أهل الرأي!! والصحابي هنا يقول: (أقول فيها برأيي) فالرأي إذا كان مستنبطاً من الشرع فلا يلام عليه أحد، وأئمة الإسلام ودواوينه ما جاءوا بالرأي من جيوبهم بل من الكتاب والسنة، وإنما الرأي المذموم هو الذي يكون غير مستند إلى العلم، كأن يأتي شخص ويفتي دون أن يكون قد درس الفقه على أصوله. هذه المسألة من مسائل النوازل وتترتب على الأصل المقرر، وهي مسائل المستتبعات التي يذكرها العلماء، وتختلف مناهج المتون الفقهية، وتقسم تقريباً إلى ثلاث درجات: الأولى: متون تعتني بالأصول فقط ولا يدخلون في التفريعات، وكأنها مختصر المختصر، وأصحاب الفقه والأصول ينهجون هذه الطريقة. الثانية: ومتون هي وسطٌ بين المختصر والمطول، وتعتني بالأصول والتنبيه على نكت وطرائف وتتمات وفوائد لطيفة، ولا يدخلون في التفريعات. الثالثة: متون موسعة، وهي متون ومختصرات في الفقه، لكنها تعتني بالأصول وما بني على الأصول، وما يطرأ من مسائل الآثار، وربما في بعض الأحيان يأتي بغرائب المسائل، وهذا يختلف من مذهب إلى مذهب ومن فقه إلى فقه. وعلى كل حال فقد ذكر المصنف -رحمه الله- المسألة الأخيرة وهي: إذا تزوجت امرأة المفقود وجاء المفقود، وفي هذا قضاءٌ عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قضى به عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان رضي الله عن الجميع. أما عمر رضي الله عنه وأرضاه فإنه قضى أنها لزوجها الأول، ويخير بين أن تعود إليه وبين أن يعطى الصداق وتبقى مع زوجها الثاني، وهذا الحكم من عمر رضي الله عنه مبني على الأصل؛ لأن القاعدة في الشريعة تقول: (لا عبرة بالظن البين خطؤه). يعني: إذا ظننت ظناً وعندك له دلائل وبنيت عليه أحكاماً ثم تبين أنه خطأ، فهذا الظن لاغٍ، وما بني عليه من حيث الأصل لاغ أيضاً، مثلاً: لو أن شخصاً استدان من شخص عشرة آلاف ريال ثم ظن أنه سدده، ورفع إلى القاضي فحلف بالله فقيل له: هل لك بينة؟ قال: ليس عندي بينة. فقيل: يا فلان! أتحلف؟ قال: نعم أحلف، فحلف بالله على غلبة الظن، فهو يظن أنه دفع له، ويجوز للمسلم أن يحلف على غلبة الظن، مثلما يحصل بين التجار حين يتعاملون مع بعضهم، فجاء في ظنه أنه دفع له عشرة آلاف من معاملة قديمة، فظن أن هذه المعاملة هي التي عليها الخصومة، ثم بعد سنة أو سنتين أو ثلاث تبين له أنه مخطئ. فهل يسقط حق الرجل بسبب ذلك الظن؟ نقول: لا عبرة بالظن البين خطؤه ونرجع إلى الأصل، فنحن هنا حكمنا بأنه ميت وأنها خرجت من عدتها وحلت للأزواج، ثم تبين أنه حي، ولم يطلق ولم يحدث بينه وبينها مخالعة وفسخ، والأصل: أن العصمة بيد الزوج، وفي هذه الحالة يلغى الظن ويرجع إلى الأصل من أنها زوجته، فقضى -رضي الله عنه- بهذا، وهذا مبني على القاعدة: (الأصل بقاء ما كان على ما كان). وقضى رضي الله عنه بهذا القضاء في امرأة من بني شيبان اختصمت إليه رضي الله عنه وأرضاه، فقضى بخروجها واعتدت أربع سنين واعتدت عدة الوفاة ثم جاء زوجها الأول فخيره بين رجوعها وصداقها. وكذلك أيضاً: ارتفعت قضية إلى عثمان رضي الله عنه وأرضاه ومضى إليه أهل المرأة وكانوا قد زوجوها فقال عثمان - -وكان رضي الله عنه في الحصار-: (كيف أقضي بينكم وأنا في هذه الحال؟) وهذا من فقهه رضي الله عنه وأرضاه، فقد رجع إلى مسألة القضاء، فقالوا: قد رضيناك، فقضى فيها رضي الله عنه بالقضاء الذي ذكرناه، فلما توفي رفعت القضية إلى علي فأثبت الذي قضى به عثمان رضي الله عنه وأرضاه، فأصبح قضاء عمر وعثمان وعلي، وحينئذٍ يخير بين أن يرجع إلى زوجته وبين أن يأخذ الصداق. ثم بقي النظر: هل يرجع في الصداق على المرأة؟ أو يرجع على الزوج ثم الزوج يرجع على المرأة؟ وجهان للعلماء؛ ولذلك جاء في قصة الشيبانية أنها دفعت الألفين -وكان صداقها ألفين- قالت: (ثم أخذ من زوجي ألفين فأغناه الله)، ألفين من عندها، وألفين من زوجها، وقالوا: إن هذا بطيبة نفسٍ منه، لكن من حيث الأصل فإن الصداق يرجع فيه على الزوجة؛ لأنها هي التي نيط بها الحكم، وقال بعض العلماء: يرجع فيه إلى الزوج ثم الزوج يرجع على من غره وهي الزوجة، والغالب على هذا. ولكن إذا رغب الزوج الأول في زوجته فهنا يرد السؤال عن صداق الثاني؛ لأن الثاني دفع الصداق، فقال: يرجع إلى من غر. وهذا كله إذا حصل الدخول، أما إذا لم يحصل الدخول فقد ذكر المصنف -رحمه الله- أنها للأول، وقد قضى به غير واحد من أئمة السلف رحمة الله عليهم، وفرقوا بين بين أن يقع رجوع قبل الدخول أو يقع بعد الدخول.

الوطء قبل الخروج من عدة الثاني

الوطء قبل الخروج من عدة الثاني قال رحمه الله: [ولا يطأ قبل فراغ عدة الثاني] (ولا يطأ قبل فراغ) استبراء للرحم حتى لا يخلط ماءه بماء غيره، ولا بد أن يحصل استبراء، يعني: لو قال: أريد زوجتي. والزوج الثاني قد وطئها، فينبغي أن يتحرى، فلا يطأ إلا بعد أن تستبرئ لرحمها، فإذا استبرئ الرحم فيحل له حينئذٍ أن يطأها.

تجديد العقد الثاني إن ترك الأول

تجديد العقد الثاني إن ترك الأول قال رحمه الله: [وله تركها معه من غير تجديد عقدٍ] قال بعض العلماء: يستحب أن يجدد الثاني العقد إذا ترك الأول، وقال: لا أريدها، عافتها نفسي، أو أنه لا يحب أن يسيئ إلى أخيه أو قريبه. فقال: لا أفسخ النكاح، فهل يجدد عقد الثاني أو لا يجدد؟ هذا فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، وقد نص المصنف على اختياره -رحمه الله- لعدم التجديد. قال رحمه الله: [ويأخذ قدر الصداق الذي أعطاها من الثاني، ويرجع عليها بما أخذه منه] إذا اختار أن تبقى المرأة عند زوجها فيرد له صداقه، ومثلما ذكرنا: هل يرجع على الزوجة أو يرجع على زوجها؟ إن قيل: يرجع على زوجها، فيرجع الزوج بعد ذلك على الزوجة، وإن قيل: إنه يرجع إلى الزوجة مباشرة فلا إشكال، لأن المرأة هي التي أخذت صداق الرجلين الأول والثاني، فحينئذٍ: إما أن ترد الصداق إلى الأول أو للثاني، على التفصيل الذي ذكرناه.

الأسئلة

الأسئلة

عدة من ارتفع حيضها بسبب الرضاع

عدة من ارتفع حيضها بسبب الرضاع Q من ارتفع حيضها بسبب الرضاع فهل لها أن تقطع الرضاعة وتعتد بالحيض أم تبقى على الإرضاع وتعتد ثلاثة أشهر؟ A بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإذا انقطع الحيض عن المرأة فإنها لا تستطيع أن ترده وليس الأمر بيدها، فتنتظر حتى يذهب هذا المانع والرافع للحيض على التفصيل الذي ذكرناه سابقاً، إذاً: الأصل أنها تنتظر حتى يعود إليها الحيض، ثم إذا عاد إليها الحيض حكم بعدتها كعدة ذوات الأقراء. والله تعالى أعلم.

حكم صلاة الميت على المفقود

حكم صلاة الميت على المفقود Q إذا لم يرجع الرجل المفقود هل يصلى عليه صلاة الميت؟ A لا. لم يحصل أن أحداً من أهل العلم قال بذلك، ولا أعرف أن أحداً من أهل العلم قال: يصلى على المفقود أبداً. وحصل الفقد في عصر عمر وعثمان وعلي وهم ثلاثة أئمة من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم وما صليت صلاة الغائب على واحد مفقود، فهذا لا أصل له، فربما ظهر أنه حي، والأشبه أن الصلاة عبادة توقيفية لا يمكن أن يحكم بها وبشرعيتها إلا إذا دل الدليل، والدليل دل على مشروعية الصلاة إذا وجدت الجنازة أو الصلاة على الغائب على اختلاف في ذلك كما تقدم معنا في كتاب: الجنائز، والله تعالى أعلم.

حكم إعانة المرأة على مخالعة زوجها

حكم إعانة المرأة على مخالعة زوجها Q امرأة أرادت أن تخالع زوجها وليس لديها ما تخالع به، فاقترضت من رجلٍ قدر مهرها ولكن المقرض اشترط أنه إذا شاء تزوجها بهذا القرض، فما حكم هذه المسألة؟ A لا يجوز هذا؛ لأن هذا يدخل في تخريب المرأة على زوجها، وإذا فتح هذا الباب أمكن لكل شخص له غرض في امرأة أن يقول لها: أنا أعطيك صداقه واختلعي منه وما أعطيته لك فهو لك صداق، وبهذا تفسد بيوت المسلمين، وتدمر الأسر، وتشتت العوائل، وفي هذا من البلاء ما لا يخفى. والمرأة إذا أرادت أن تقترض تقترض على الوجه المعتبر للقرض، وهي امرأة في عصمة رجل، فلا يجوز لأحدٍ أن يغريها، ولا يجوز لأحد أن يدفعها إلى ذلك بالإغراء المادي وأنه متكفل بكل شيء، إلا إذا كان أخاً من إخوانها أو قريباً من قرابتها رأى الظلم عليها والأذية، ورأى أنها يخشى عليها الفتنة، وزوجها مقصر في حقها أو كذا، وليس هناك طريق غير الخلع. فقال لها: أنا أعينك وأساعدك وأقف معك حسبة وقياماً بالحق. وبالمناسبة: الخلع حقٌ من حقوق النساء، ولكنه للأسف -خاصة في هذه الأزمنة- ضيع عند كثير إلا من رحم الله، حتى إن بعض من يرفع إليهم أمر الخلع من القضاة وغيرهم لا يجريه على السنة، وهذا أمر يحتاج إلى أن يتقى الله عز وجل فيه، المرأة إذا جاءت تشتكي ولا تريد أن تعاشر زوجاً تمكن من الخلع، ولا يجوز تأخيرها ومماطلتها والضغط عليها. إذا ما أرادت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. قال: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) فكما أن الرجل يطلق متى شاء وكيف شاء، فالمرأة من حقها أن تترك الزوج إذا لم ترغب فيه، وليس لها محبة له، وقل أن تخالع امرأة زوجها، والخلع له وجهين: إما أن الرجل فيه شيء من العيوب موجب للخيار، أو أمور ليست بعيوب موجبة للخيار -أي: دون الكمال- والمرأة خافت على نفسها الحرام، فتخالع زوجها، ولا يجوز أن تماطل المرأة في ذلك، وأعرف بعض القضايا جلست المرأة سنة كاملة وهي تطالب بالخلع ولا مجيب، وهذا مخالف لشرع الله عز وجل، فالمرأة إذا جاءت تطالب وهي مستعدة أن تؤدي للرجل حقه فهذا حق من حقوقها، وتمكن من حقها. ولا شك أن بعض القضاة يجتهد -جزاه الله خيراً- ويقول: ربما تكون سفيهة، أو طائشة، لكن لا يجوز هذا، وهذا خلاف السنة، وهذا اجتهاد مع النص، والنص جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) وقد أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! إني لا أعيب في ثابت خلقاً ولا ديناً، ولكني أخاف الكفر بعد الإسلام) امرأة من الصحابة وفي عهد النبوة وفي خير القرون تقول: (يا رسول الله! ولكني أخاف الكفر بعد الإيمان) ولذلك بادر النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاها حقها. إذاً: المرأة لها أن تخالع ولكنها لا تعان على سبيل التخريب والإفساد، فيقال لها: زوجك لا يصلح، ما رأيك لو أعطيتك، هذا ماذا تريدين من عنده؟! ما عنده وظيفة، ما عنده كذا، فهذا من باب الإفساد والتحريش؛ النبي صلى الله عليه وسلم يقول في هذا وأمثاله: (لعن الله من خبب امرأة على زوجها) ومن لعنه الله لم يبق شيء في الأرض ولا في السماء إلا لعنه، وهذا أمر عظيم جداً. فلا يجوز إفساد نساء المؤمنين على أزواجهن، وعلينا أن نتقي الله عز وجل، وإذا أراد أن يساعدها بالمعروف فجزاه الله خيراً، أما إذا كان على سبيل الإفساد؛ فإنه محرم ومنكر، وكبيرة من الكبائر، والله تعالى أعلم.

الجمع بين اختيار النبي صلى الله عليه وسلم الأيسر وبين كون عظم الأجر مع المشقة

الجمع بين اختيار النبي صلى الله عليه وسلم الأيسر وبين كون عظم الأجر مع المشقة Q إن النبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فكيف يجمع بين هذا وبين كون عظم الأجر مع المشقة؟ A تخيير النبي صلى الله عليه وسلم يكون فيما لم يبت فيه، والفضائل في المشقات فيما بتَّ في حكمه، وتوضيح ذلك: أنه إذا خير عليه الصلاة والسلام بين أمرين أحدهما أيسر للجماعة وللأفراد كان عليه الصلاة والسلام يختار الأيسر؛ لأن الله بعثه رحمة للعالمين، ويختار ما هو أخف على الناس حتى في بعض الأشياء التي تكون منه عليه الصلاة والسلام في شأنه وسمته يختار أيسرها، ومع أهله وزوجه يختار أيسرها؛ لأن التخفيف يكون فيه إحسان إلى الغير إذا كان الغير له تبع كما هو حاله مع أهله وأزواجه، فالمسلم إذا اختار الأيسر في معاشرته لأهله ومعاشرته لمن ولّاه الله أمره من العمال والخدم والأجراء ييسر عليهم، ولا يعنفهم، ولا يشق عليهم ويأخذهم باليسر فهذا أفضل. مثلاً: لو أن رجلاً أراد أن يبني عمارة وهذه العمارة يمكن أن تبنى خلال خمسة أشهر ويمكن أن تبنى في خلال عشرة أشهر، ولكنه خلال الخمسة الأشهر يضيق على العمال ويضغط عليهم، فيختار النبي صلى الله عليه وسلم -كمثال- في هذا الأيسر، ويخفف على الناس ولو طال الأمد. وكان صلوات الله وسلامه عليه يختار اليسر في سمته وشأنه كله، ولذلك جاء في الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما بعثت للميسرين) أما في مجال العبادات والرقائق - مثلاً - إذا رأيت شخصاً على منكر فإنك مخير بين يسر وعسر، فالعسر أن تأتي بقوة وتقول: يا أخي! اتق الله! فهذا منكر، وما كان ينبغي لمثلك أن يفعل هذا. فهذا لا تُلام فيه؛ لأنك قلت حقاً وصدقاً، وقلت شيئاً يستند إلى أصل شرعي، فالذي فعله منكر، بشرط أن لا تتجاوز الحد في النهي، مثل أن تقول له: أنت كذا وأنت كذا، وتتهجم عليه، وإنما تأتيه بقوة في اللفظ تقول له: يا أخي، اتق الله. ولذلك تجد البعض إذا أنكر ينكر بقوة وبشدة، ولا يمس حق أخيه المسلم، ولا يستطيل في عرضه، ولا يسبه ولا يشتمه، فهذا الذي أخذ بالقوة يعطي هيبة للدين، وللشرع، ولا يأتي شخص يسفهه ويقول: انظر إلى هذا لا يعرف كيف يأمر وينهي. لا. فهو أخذ بشيء حسن، وقال صدقاً، فلا يستطيع صاحب المنكر أن يرد ما قاله، وأمر به؛ لأنه من شرع الله عز وجل وهذا طبعه وهذه طريقته، أخذ بالحسنى، وقال بالحسنى، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر. لكن لو جاءه وقال له: يا أخي! اتق الله عز وجل، فمثلك ينتسب لدين الله وشرع الله ولا يليق بمثلك هذا، وأنت عندي أفضل من أن تفعل هذا الشيء، أو رأه على منكر قال: أسأل الله أن يعافيك من هذا البلاء، أسأل الله أن ينزع من قلبك حبه، أسأل الله عز وجل أن ييسر لك التوبة منه، فشرح صدر الرجل إلى القبول، وشرح صدر الرجل إلى الأخذ بهذا الذي قاله، فهذا قد أخذ باليسر والسهالة. الأول: أخذه بالقوة وبعزيمة الشرع: (ولتأطرنه على الحق أطراً) وجاءه على الأصل وهذا حسن. الثاني: أخذ باليسر، وهو أحسن؛ لأنه رغبه ودعاه إلى الخير، وكلاهما من شرع الله عز وجل وكلٌ منهما في حسن؛ فالأول نظر إلى الثمرة والنتيجة فلو أن الناس أخذوا بالعزيمة بقيت هيبة الدين وقوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثاني رغب الناس إلى الخير، لكن ربما يعامل الفاسق والفاجر والمتهتك بذلك فيستطيل على أهل الحق ويستطيل على من يأمر وينهي، فيؤخذ باليسر في موضعه والحزم في موضعه؛ وحينئذٍ الكمال والتمام يأتي بالتي هي أحسن فإن رفع صوته عليه رفعه عليه، وإن أغلظ له أغلظ عليه ورد عليه منكره، فتعطي كل ذي حقٍ حقه. مثلاً: في بعض الأحيان تقع في وضع لو أنك أخذت باليسر والسهالة لتهتك الناس به ولربما تأتي في موضع لا يستحق الشدة وترى فيه خطأ فتعنف بقوة، وأنت عالم أو شيخ أو داعية، وكان بالإمكان أن تأخذ بالتي هي أحسن لكن قد ترى أن ممن يحضر أناس وتعلم أنك لو أخذته باليسر سيرتكب غيره نفس الخطأ وتعلم أنك لو أخذت بالقوة في هذا أنك تعالج أمراً فيه مصلحة للغير، فحينئذٍ تكون الشدة والقوة في مكانها، واليسر في مكانه، فتأخذ باليسر في موضعه، وتأخذ بالقوة والشدة في موضعها، فإذا أخذت بالذي فيه مشقة، فربما تضجر الناس من ذلك وقالوا: ما ينبغي لهذا الداعية أن يفعل هذا، وربما يسفه رأيك، وربما يستهجن فيعظم أجر الإنسان أكثر، ولربما يحصل بالبلاء ما لا يحصله بغيره. وفي اليسر يحصل جانباً آخر مثل: أنه يمنع الناس من الكلام في أهل العلم، ولذلك لما مشى بعض أئمة السلف، وكانت به عاهة وبجواره عالم آخر فيه عاهة ثانية، فقال: إذا رآنا الناس قالوا: كذا وكذا. يعني: يقولون: فلان فيه كذا، وفلان فيه كذا، فقال له العالم الآخر: مالك وللناس فليقولوا ما قالوا، قال: وما عليك أن يسلم الناس ونسلم. الأول يقول: أريد الأجر والثاني يقول: وما عليك أن يسلموا ونسلم، انظر كيف النظر الأبعد؛ فمثل هذا يأجره الله. وهناك جوانب في اليسر تدرك فيها فضائل العسر، وهناك جوانب في العسر تدرك فيها فضائل اليسر، وهذا يرجع إلى الفقه، ولذلك قالوا: الفقه عن الله عز وجل يحصل الإنسان به ما لم يحصله غيره؛ لأن غيره لا يستطيع أن يزن الأمور بموازينها. وكنا نجد بعض علمائنا ومشايخنا رحمة الله عليهم -نحن عندما نقول: قال بعض مشايخنا كذا، فإنا والله لا نشك أن كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم غنيان عن كل أحد، لكن ضرب الأمثلة من الواقع والحياة التي يعيشها الناس يؤثر كثيراً- كنا نجد بعض علماءنا يتعاملون بعنف وبعض الأحيان يتعاملون بيسر، حتى أنك تتألم وتقول: كان ينبغي أن يأخذ بالقوة والحزم، ولكن تمضي الأيام تتتابع، وإذا بالذي اختاره الله له عين الصواب وعين الحق، ويجعل الله من حسن الأثر وحسن العاقبة ما لم يكن في الحسبان، وهذه كلها ترجع إلى أمر واحد وهو: توفيق الله جل وعلا. فالإنسان عندما يمارس العسر واليسر في دعوته إلى الله لا يريد إلا وجهه، فلن يندم عليها أبداً، وسيوفقه الله عز وجل للصواب ويعينه؛ لأن أهل العلم والدعوة وطلبة العلم والخطباء وكل من تولى ولاية شرعية لحمل الناس على طاعة الله لا يوفقهم الله إلا إذا علم فيهم الخير والصدق، وانظر إلى أهل الدنيا من التجار وأهل الأموال كيف يقفون مع من يعينهم على دنياهم، وكيف أنهم يغارون -وحق لهم ذلك- لأنهم نصحوا لهم وقاموا معهم، فكيف بمن نصح لله جل وعلا ولدينه؟ أبداً لا يخيب، فعسره سيجعل الله به الخير إن اتقى الله فيه، ويسره سيجعل الله فيه خير، وسبحان الله العظيم! بعض الأحيان يختار الإنسان المشقات التي فيها الأجر أعظم، لأنه كما جاء في الحديث: (ثوابك على قدر نصبك) وقلنا: إن هذا فيما بت في أمره. مثلاً: في التشريعات -مثلاً- المشي في الحج. لو ركب أو مشى، فإنه إذا ركب تأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولو مشى تعب وحصل له الأجر بالعناء والتعب، لكن لا يعتقد أن المشي أفضل من الركوب من جهة كونه سنة، وإن اتفق له أن يمشي فليمش، وله الأجر الأعظم في المشقة، لكن إذا جاء وخير بين الركوب والمشي فيختار سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ركب، فإذا أخذ باليسر تأسياً أو كان الأمر فيما بت فيه فلا إشكال، والخير في اتباعه وتتبع سنته عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك قالوا: الوارد أفضل من غير الوارد، فالوارد إذا اتبع فيه الشرع كان الأجر أعظم عند الله عز وجل، بل فيه الرحمة والهدى؛ لأن الله جل وعلا جعل الرحمة والهدى لمن اتبع سنة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم تسليماً، وزاده تشريفاً وتكريماً. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب العدد [6]

شرح زاد المستقنع - كتاب العدد [6] هناك مسائل كثيرة تلحق بباب العدة: وهي مسائل تتعلق بدخول عدة في عدة، ودخول النكاح في العدة، والوطء في العدة بنكاح فاسد أو شبهة أو زنا، وغيرها من المسائل والأحكام.

عدة المرأة المطلقة من زوجها الغائب أو وفاته عنها وهي لا تعلم

عدة المرأة المطلقة من زوجها الغائب أو وفاته عنها وهي لا تعلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل]. هذا الفصل يشتمل على جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بدخول عدة في عدة، ودخول النكاح في العدة، وما الحكم إذا وطئ رجل امرأة وهي في عدتها؟ وهذا الفصل مهم جداً؛ لأنه قد يحصل الخطأ فيقع الوطء بالشبهة، وقد يقع الوطء في نكاح فاسد، وللمرأة في كل حال عدتها، ومن هنا يرد Q هل العدة الأولى تلغى ثم تستأنف وتعتد من جديد، أم أنها تنقطع عن هذا النكاح الفاسد ثم بعد ذلك تبني على العدة؟! أي: تنقطع العدة بدخول النكاح الفاسد ثم يفرق بينهما -يعني: بين الزوج والزوجة المعتدة- ثم تبني على عدتها القديمة؟ قال رحمه الله: [ومن مات زوجها الغائب أو طلقها: اعتدت منذ الفرقة وإن لم تحد] من هنا أتانا العلماء والأئمة -رحمهم الله- ببيان حكم هذه المسألة، وصدر المصنف رحمه الله هذا الفصل بمسألة أخرى مهّد بها للكلام على ما ذكرناه من المسائل، وهي مسألة: طلاق المرأة من زوجها الغائب، أو وفاة زوجها عنها، ولا تعلم بالوفاة ولا بالطلاق إلا بعد مضي المدة، فالسؤال: هل تحتسب عدة الوفاة من حصول الوفاة الحقيقية، أم أنها تحتسب عدة الوفاة منذ بلوغها الخبر، حيث تبدأ وتشرع في العدة؟ قد بيّن -رحمه الله- أن من مات عنها زوجها الغائب ولم تعلم بوفاته فإنها تعتد من حين الوفاة، فلو وقعت الوفاة في أول شهر محرم ثم مضت مدة العدة أربعة أشهر وعشراً، وعلمت بعد مضي هذه المدة، فقد خرجت من عدة الوفاة. إذاً: كونه بلغها الخبر متأخراً، أو بلغها أثناء عدة الوفاة، كأن يمضي شهر أو شهران أو ثلاثة أشهر، سواء مضى أكثر العدة، أو نصف عدة الوفاة، أو أقل عدة الوفاة، فالحكم واحد، وتحتسب عدتها من اليوم الذي مات فيه، وفي هذه المسألة مذهبان، ومذهب جمهور العلماء رحمهم الله: أنها تبتدئ بيوم الوفاة وتعتد بيوم الوفاة، حتى ولو بلغها الخبر بعد تمام عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً، فإنه يحكم بكونها قد خرجت من العدة. المسألة الثانية المفرعة على هذا الحكم، وهي: أن يطلقها زوجها، ثم يكتمها الطلاق ولا يراجعها حتى تخرج من عدتها، أو يطلقها زوجها ثم يكتب لها الكتاب وهو في قرية أو مدينة بعيدة ولا يصل إليها الكتاب إلا بعد مضي ثلاث حيضات -على القول بأن عدة المطلقة بالحيضات، أو ثلاثة أطهار على القول بأن عدة المطلقة بالأطهار- فيحكم بخروجها من عدة الطلاق، وعلى كل حال: سواء مضت عدة الطلاق أو الوفاة كاملة، أو مضى بعضها وهو الأكثر أو الأقل أو في منتصف الوقت علمت فالحكم في جميع هذه الصور واحد، وقالوا: إن العبرة في العدة أن يحصل الاستبراء وقد حصل؛ لأنه مضت مدة بعد الطلاق ولم يجامعها فيها زوجها، وحصل الاستبراء وخلو الرحم، فمقصود الشرع من العدة موجود، وقالوا: هي معتدة محكوم بكونها في حداد وإن لم تحد حقيقة، فهناك شيء يسمونه: الحكمي والحقيقي، وقد تقدم معنا غير مرة، فهي في عدة الوفاة حكماً لا حقيقة، لأنها لم تنوِ ولم تقصد، ولكن يحكم وكأنها اعتدت عدة الوفاة، قالوا: وعذرت لعدم علمها وجهلها بوفاة زوجها، وقال بعض العلماء: إن العدة لها معنى تعبدي، وأن مقصود الشرع أن تتعبد وتتقرب إلى الله، وكنت أرجح هذا القول سابقاً وأفتي به في بعض المسائل، ولكن تبين لي رجحان مذهب الجمهور، وأن العبرة في عدة الطلاق بحين صدور الطلاق سواء بلغها الخبر بعد انتهاء العدة أو قبل انتهائها. فائدة الخلاف: مثلاً: طلقها محمد ووقع طلاقه في أول محرم، ومضت حيضتان، وعلمت في الحيضة الثالثة، فمن حقه أن يراجعها -بلا إشكال- لأنها إذا علمت قبل الحيضة الثالثة، في هذه الحالة لو راجعها عند الجميع زوجها، وهذا في الطلقة الأولى والطلقة الرجعية، لكن الإشكال ومحل الخلاف: أنه لو طلقها، فمضت الثلاث الحيضات، ثم علمت بعد مضي الثلاث الحيضات فعلى القول الثاني المرجوح استأنفت وحل له أن يراجعها، لأنها لم تتم العدة على قول الجمهور يحكم بأنها خلو، وخرجت من عصمة زوجها، وهو القول الأول الراجح، وحينئذ لا بد وأن يعقد عليها من جديد إن بقيت له طلقات.

عدة الموطوءة بشبهة زنا أو بعقد فاسد

عدة الموطوءة بشبهة زنا أو بعقد فاسد قال رحمه الله: [وعدة موطوءة بشبهة أو زنا أو بعقد فاسد كمطلقة]، (وعدة موطوءة بشبهة) امرأة أخطأ رجل فظنها زوجة له، فوطئها وكانت تظنه زوجاً لها، أو حصلت الشبهة، وقد تقع الشبهة من الطرفين وقد تقع من طرف دون الآخر، فيكون الوطء لشبهة بالنسبة للطرفين، وكل منهما يظن أنه زوجه -الزوجة تظن أنه زوج، والزوج يظن أنها زوجة- فوطئها وتبين أنها ليست زوجته وأنه ليس بزوجها، ففي هذه الحالة يسمى: وطء الشبهة، أي: أن الأمر اشتبه وظنها زوجة له أو ظنها حلالاً؛ لأن الشبهة تشمل الاشتباه بكونها زوجة له، والاشتباه بأنها حلال، والتي هي شبهة الحكم وشبهة المحل، ففي هذه الحالة إذا وطئ تكون الشبهة من الطرفين، وقد تكون من أحدهما دون الآخر، مثلاً -والعياذ بالله- يأتي الرجل الفاجر يخدع المرأة وتظنه زوجاً لها، ويأتيها موهماً أنه زوجها، وليس بزوجها، فالشبهة الآن للمرأة، وهو في هذه الحالة لبس عليها والتبس عليها الأمر، فإذا وقع عليها هذا الوطء، فالمرأة في عصمة الزوج الأول، وهذا الوطء يختلط فيه ماء الرجل الثاني بماء الرجل الأول، فإن كانت المرأة بعد طهرها ولم يجامعها زوجها الأول، فلا بد وأن تعتد عدة الطلاق، حتى نتحقق من أن الرحم لم يحصل فيه ذلك الماء بالحمل، يعني: لم ينتج عنه حمل، وحينئذ تتحقق براءة الرحم وسلامته. و (أو زنا) أما بالنسبة للزنا -والعياذ بالله- لو أن المرأة أكرهت على الزنا، فزنت ثم أرادت أن تتزوج، فنقول: لا يحق لك أن تتزوجي حتى يحصل الاستبراء للرحم، وحتى تحصل العدة بعد الوطء المحرم، فتعتد عدة الطلاق، وهذا تقدم معنا، وسيأتينا إن شاء الله، وتقدم معنا في موانع النكاح الإشارة إلى هذا، وهو أن الزانية لا يجوز نكاحها ولا يحق للمسلم أن يتزوجها إلا بشرطين: الشرط الأول: توبتها من الزنا، والشرط الثاني: أن تعتد. يعني: يتبين لنا براءة رحمها عن طريق العدة، وهنا يرد Q هل يحصل الاستبراء بحيضة أو حيضتين أو بعدة الطلاق؟ قالوا: إنها تعتد بعدة الطلاق سواء بسواء، على التفصيل الذي مضى معنا في عدة الطلاق. بناء على ذلك: -مثلاً- لو أن امرأة خانت زوجها -والعياذ بالله- وزنت، فلا يجوز لزوجها أن يأتيها بعد هذا الزنا، حتى تقع العدة وتكون كعدة الطلاق، أو تستبرئ عند من يقول: إنه يكفي فيه الاستبراء. إذاً: لا بد من العدة صيانة للفروج، وصيانة للحلال عن الحرام حتى لا يختلط، لأن الله عز وجل جعل للحلال حكماً وللحرام حكماً، ولا يجوز الخلط بينهما، ويجب على المسلم أن يسلم لأوامر الله سبحانه وشرعه، فما كان حلالاً من الأولاد من وطء النكاح له حكمه، وما كان من الأولاد من زنا وسفاح -من حرام وبغي- فإنه يفصل، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهذا الواجب هو تمييز الحلال من الحرام.

بناء العدة على العدة

بناء العدة على العدة قال رحمه الله: [وإن وطئت معتدة بشبهة أو نكاح فاسد، فرق بينهما وأتمت عدة الأول، ولا يحتسب منها مقامها عند الثاني، ثم اعتدت للثاني، وتحل له بعقد بعد انقضاء العدتين]: (وإن وطئت معتدة بشبهة) امرأة في عدتها من الطلاق، طلقها زيد فجلست تعتد، فجاء رجل وجامعها يظنها زوجة له على وطء شبهة، ففي هذه الحالة يرد السؤال -ونحن قد أثبتنا أن للطلاق الشرعي عدة، وللوطء بشبهة عدة، وللوطء المحرم عدة، فإذا دخلت العدد على بعضها كما ذكرنا في صدر الفصل- ما الحكم؟!! في هذه الحالة حينما اعتدت من زوجها الأول، ومضى الثلث منها كحيضة، ثم حصل وطء الشبهة بعد مضي الحيضة الأولى، وقبل الحيضة الثانية، فالحيضة الثانية في هذه الحالة ستأتي بعد وطء الشبهة فلا تحتسب من حيضة الأول، ويفرق بينهما، هذا بالنسبة لوطء الشبهة. ويلحق ذلك ما ذكره -رحمة الله- بقوله: (أو نكاح فاسد)، وطئها في نكاح فاسد مثل نكاح الشغار، نكح امرأة شغاراً وهي في عدتها فما الحكم؟! (فرق بينهما)، يعني: فرق بين الواطئ والموطوء -المعتدة- وهذا الحكم الأول أن يفرق بينهما. (وأتمت عدة الأول)، إذا حصل فراق حكمنا بأنها تبني على ما مضى من عدة الأول، إذاً: يفرق بين الواطئ للشبهة وبين موطوءته، ويفرق بين الواطئ والموطوءة بالنكاح الفاسد -هذا الحكم الأول- فلا يجمع بينهما، وهذا لأجل استبراء الرحم من عدتين، وبعد الفراق تبتدئ بالعدة الأولى، فقلنا: إنه مضت حيضة، فتستقبل الحيضة الثالثة في هذه الحالة، وتتبعها للعدة الأولى، لأن الوطء فصل بين جزئي العدة. قوله: (وما يحتسب منها مقامها عند الثاني)، يعني: مثلاً: إذا فرضنا أن عدتها بالأشهر، فلا تحسب المدة التي مكثتها عند الثاني، مثلاً: لو كانت تعتد فمضى شهر، ثم عقد عليها الثاني بنكاح فاسد -ينتبه لهذه المسألة- فلا تزال في عدة الأول حتى يطأها الثاني، أي: أن النكاح وحده لا يكفي بل لا بد من وجود الوطء، فيحدث الخلل بدخول الثاني على الأول إذا حدث جماع ودخول، لكن لو أنه عقد ثم تبين له أن العقد فاسد، ألغي العقد واستمرت على عدتها، مثلاً: كانت تعتد بالأشهر فاعتدت شهر محرم ثم عقد عليها عقداً فاسداً في أول صفر، ثم منع من هذا العقد الفاسد وتبين له، ولم يمكن من الدخول، فحينئذ تبني على أنها لا تزال في عدتها، وتحتسب أيام صفر من عدتها، حتى ولو كانت تجلس معه ولم يحدث جماع، يعني: تختلي معه وتظن أن هذا جائز لها، ثم تبين أنه لا يجوز، فهذه المدة تحتسب من العدة، فتبني على الأشهر التي مضت من عدتها. (ثم اعتدت للثاني) إذاً: تبني على عدة زوجها الأول ودخول وطء الثاني يمنع، فإذا فرق بينهما بُني على عدة الأول؛ لأن الأصل مستصحب وتحل له بعقد بعد انقضاء العدتين. قلنا: إن الحكم أنه يفرق بينهما، وهذا الإشكال فيه، متى؟! إذا حدث الوطء، وأما إذا فرق بينهما قبل الوطء، فحينئذ لا إشكال أن العدة سارية ويحتسب فيها المدة التي مكثتها عند الثاني، ما دام أنه لم يقع جماع، فلا يؤثر عقد الثاني إلا بالجماع كما ذكرنا. الحكم الثاني: تتم عدتها من الأول، وهذا الذي يسمى: البناء، يعني: تبني على عدة الأول، ولو مضى من عدة الأول شهر ووقعت هذه الحادثة في الشهر الثاني، ثم حصل فراق بعد منتصف الشهر الثاني، فإذا حصل جماع، فبمجرد فراقه تبتدئ من النصف الثاني، لكن إذا لم يحدث جماع، فكأنه لم يحدث شيء. إذاً: إذا دخل الثاني بنكاح شبهة أو بنكاح فاسد، فنقول: لا يخلو الأمر من حالتين: إما أن يعقد ويدخل، وإما أن يعقد ولا يدخل، فإن عقد ولم يدخل فغير مؤثر، وهي مستمرة في عدتها، وإن عقد ودخل، فإنها في هذه الحالة تقطع المدة التي قضتها معه ولا تحتسبها، ثم تستأنف بعد فراقه لها، فإذا فارقها -مثلاً- بعد الحيضة الثانية، ففي هذه الحالة تحتسب الحيضة الثالثة، ولو فارقها قبل الحيضة الثانية، فإن الحيضة الثانية تحتسب للأول، وهذا ما يسمى بالبناء، بناء العدة، أي: تبني على عدة الأول ولا تهدمها، لأن منهم من يقول: تقطع، وهذا ما يسمى بالاستئناف، ومنهم من يقول: تبني على عدة الأول، وهذا ما يسمى بالبناء، وهو مذهب الجمهور. قال رحمه الله: [وإن تزوجت في عدتها لم تنقطع حتى يدخل بها]: (وإن تزوجت في عدتها) تزوجت رجلاً في عدتها، والمرأة أثناء العدة لا يجوز أن يعقد عليها أحد، ولا أن يدخل بها، وهذا حكم مجمع عليه بين أهل العلم رحمة الله عليهم؛ فإن الله تعالى شرع العدة لحق الزوج الأول، وحقه مستصحب حتى تتم هذا الحق، وتتم العدة الثانية. (وإن تزوجت في عدتها) منهم من يخص ذلك بالنكاح الصحيح، ومنهم من يلغيه، لكن في الصور التي ذكرنا يستقيم الحكم، فإذا تزوجت بنكاح صحيح، أي: ظاهره الصحة، في أثناء عدة الأول، فما الحكم؟! قالوا: فيه تفصيل على الصورة التي ذكرناها: إن عقد ولم يدخل لم يؤثر، وإن عقد ودخل فإن هذا الدخول يقطع المدة التي مكثتها بعد دخوله بها، وما بين دخوله وفراقه هذا لا يحتسب، وفراقه: يعني: التفريق بينهما، ولا يحكم بكونه تابعاً للعدة الأولى، فلو جلست معه شهرين سقطت الشهران من العدة، وبنت من قبل الشهرين، وهكذا لو كانت من ذوات الحيض، كما تقدم معنا. قال رحمه الله: [فإذا فارقها بنت العدة من الأول، ثم استأنفت العدة من الثاني]، عندنا عدتان: عدة قطعت، وعدة تأتي مستقيمة تامة، فالعدة التي قطعت هي عدة الزوج الأول، لأن الناكح الثاني والعاقد الثاني قد جار وظلم في حق الزوج الأول، أما إذا كان مستحيلاً فهذا ما فيه إشكال أنه زنا، إذ لا يجوز نكاح المرأة في عدتها والعقد عليها، فهذا تلاعب بشرع الله عز وجل، واستهزاء بحكمه، لكن قد يقع في بعض الأحيان وتقع بعض الشبهات، وقد تخدع المرأة الرجل، وقد تجهل المرأة، ويقع هذا في بيئة ليس فيها علماء، ويجهلون الأحكام الشرعية، فيعقد للمرأة وهي في عدتها، يعقد لها أبوها أو أخوها، وهو يظن أن هذا حلال، ثم يزوجها وهي لا زالت في عدة الأول، يعني: لا زالت في عصمة زوجها الأول، وقد بينا أن المطلقة طلاقاً رجعياً في حكم الزوجة. قال رحمه الله: [وإن أتت بولد من أحدهما، انقضت منه عدتها به، ثم اعتدت للآخر]: (وإن أتت بولد من أحدهما، أنقضت منه عدتها به): إذا كان الثاني عقد عليها ودخل بها، وهي حامل من الأول، فمعنى ذلك: أنه قد دخل أثناء عدة الأول التي ينبغي أن تقيد بالحمل، وتعرفون أن الحامل عدتها -كما تقدم معنا تفصيله- وضع الحمل، ففي هذه الحالة، هل يكون الولد للأول أو للثاني؟!! الولد للأول، ونحكم بكونها لا زالت في عدة الأول، ولا يحكم بخروجها، ويفرق بين الثاني وبينها، ثم تنتظر حتى تضع ولد الأول، لتخرج من عدته، لأن الولد ولده، فالحمل إذا وقع في تداخل العدتين، ينظر لمن هذا الحمل، فإن كان الحمل للأول، فحينئذ لا إشكال، وننتظر حتى تضع الحمل، وبمجرد وضعها للحمل تخرج من عدة الأول لا الثاني، لأن الولد ليس بولده، وإن كان الولد للثاني، مثل: أن تعتد من الأول وتكون -مثلاً- صغيرة، ثم بعد ذلك يظهر بلوغها، ويطؤها الثاني بعد البلوغ، ويتبين حملها -أحياناً بفارق المدة على الضابط الذي ذكرناه في نسبة الولد- فإذا مضت المدة أو كان الوطء من الثاني بعد الحيض، علمنا أن الحمل للثاني لا الأول، وإذا كان الحمل للثاني فهنا مشكلة ما الحل؟! قالوا: نحتسب العدة للثاني، وتنتظر حتى تضع هذا الولد، فإذا وضعت هذا الولد خرجت من عدة الثاني، ثم بنت على عدة الأول، فلو كان عدة الأول -مثلاً- مضى عليها شهر، تصبح المسألة المشهورة: (تداخل عدة الحيض مع عدة الأشهر) فعند بعض العلماء أنها إن كانت صغيرة أثناء عدتها من الأول وحصل أنه دخل بها ثم طلقها، واعتدت فالشهر الأول بمثابة الحيضة، فإن جاءها الحيض بعد ذلك، بنت ولم تستأنف، فعلى هذا المذهب يرون أنها تبني يحيضتين؛ لأن كل شهر يقوم مقام حيضة واحدة، فنقول لها: انتظري حتى تضعي ولد الرجل الثاني فتخرجين من عدته، ثم تبني على عدة الأول، كالحال فيما إذا عقد ودخل، فقطع عقده المصحوب بالدخول عدة الأول فتستأنف بعد ذلك، فيكون هذا الولد مع وضعه بمثابة العقد مع هذا الدخول، فإنه لا تحتسب مدة هذا الحمل والوضع من عدة الأول، وإنما هي من عدة الثاني؛ لأن الولد ولده. قال رحمه الله: [ومن وطئ معتدته البائن للشبهة، استأنفت العدة بوطئه ودخلت فيها بقية الأولى]. (ومن وطء معتدته البائن للشبهة) المرأة إذا طلقها الرجل ثلاثاً لا يحل لها وطؤها. وصورة المسألة: إذا طلق امرأة فبانت منه، ففي هذه الحالة لا يجوز له أن يجامعها أو أن يعاملها كالزوجة الرجعية، ولو أنه وطئها وهي بائن، فالأصل يقتضي أنه لا يجوز له الوطء، فأصبحت عندنا عدتان على الأصل: يصبح وطؤه لمرأته البائن كوطء الأجنبي أثناء عدته هو، لأنه هو كالأجنبي، فإذا طلقها طلاقاً بائناً -ثلاثاً- فقد بانت منه، وفي هذه الحالة لو حصل وطء فقد حصل منه خلل ويكون هو والأجنبي على حد سواء، ولا يفصل فيه، وإذا كان الولد ولده فالأمر أخف. (استأنفت العدة بوطئه)، قال بعض العلماء: تتداخل العدتان، وفي هذه الحالة حكمنا أنه في حكم الأجنبي، ويقولون: إنه في حكم الأجنبي من وجه، وفي حكم الرجل الواحد من وجه آخر، فيكون في حكم الأجنبي من وجه لأننا استأنفنا العدة. فالآن عندنا صورتان: إذا كان محمد طلق زوجته ثلاثاً، ثم أثناء عدتها من هذا الطلاق البائن وقع بها علي، هذا بالنسبة للصورة التي فيها الشرح، والتي ذكرها المصنف رحمه الله في هذا الموضع، وفي هذه الحالة دخل وطء علي وهو أجنبي، فوطء علي غير وطء محمد، فيقولون: يكون وطء الإنسان لمطلقته البائن كوطء الأجنبي حينما حكمنا بالاستئناف. إذ لو قلنا: إنه وطء واحد لم يستأنف وبنى على ما تقدم، وأتمت المرأة عدتها، وقالوا: إذا استأنف، فيستأنف العدة للأمرين، ووجه ذلك، أنه بوطئه الأخير تكون حينئذ قد خرجت من عدتها، فحينئذ صار كالأجنبي من وجه، وكالشخص الواحد من الوجه الآخر. (ودخلت فيها بقية الأولى). يعني: لو كانت اعتدت من العدة الأولى شهراً وحصل الوطء أثناء العدة، فإن هذا الوطء لو وقع في صفر، فقد مضى شهر محرم وهو ثلث العدة، فبقي من العدة الثلثان، وإذا مضت حيضة بقيت حي

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين الطلاق والفسخ

الفرق بين الطلاق والفسخ Q ما الفرق بين الطلاق والفسخ عند الفقهاء رحمهم الله؟ A فسخ النكاح يأتي على صور عديدة، والأصل أن العصمة إذا ثبتت فلا يحكم بزوالها إلا على وجه معتبر شرعاً، وهو الطلاق أو الفسخ، ويفسخ النكاح أحياناً بطلب من المرأة، كما إذا ضاع حق من حقوقها، ومن أمثلة ذلك: إذا ظهر عيب في الرجل، كما لو كان الرجل يقوم بحقوقها الزوجية ثم أصبح عنيناً أو أصبح مجنوناً أو أي إعاقة، وتضررت المرأة فحينئذ تطلب فسخ النكاح، وترفعه إلى القاضي، وتطلب منه أن يفسخ نكاحها من هذا الرجل. ولو أنه كان عاقلاً ثم فجأة جن فتضررت من جنونه، فرفعت أمرها إلى القاضي، وقالت: أريد فسخ النكاح؛ لأن المجنون لا يمكن أن يطلق، فينظر القاضي ويحكم بفسخ نكاحها من هذا الزوج. والفسخ لا يمكن أن يكون إلا عن طريق القاضي، فهو الذي يقدر وينظر هل من حق المرأة أن تفسخ النكاح بينها وبين زوجها أم لا؟ وفي بعض الأحوال إذا حصل الضرر، قد يتولى القاضي الفسخ في بعض الصور الخاصة، ويحكم بزوال العصمة، وارتفاع قيد النكاح، واختلف العلماء في مسألة الخلع في النكاح، وقالوا: هل هو طلاق أو فسخ؟ والصحيح: أن الخلع طلاق وليس بفسخ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقه) والأصل في الطلاق أن يكون للرجل، وقد يقوم القاضي مقامه، أو ولي المجنون أو ولي الصبي، وكذلك الوكيل ينزل منزلة موكله، لكن الفسخ في أعظم صورة يكون عن طريق القضاء، والفسخ والطلاق قد يجتمعان وقد يختلفان، مثلاً: يكون الطلاق رجعياً، ويكون بائناً، فلو طلقها قبل الدخول فهو طلاق بائن، ولا يمكن الرجعة فيه، لكن في الفسخ في جميع صوره إذا حكم بالفسخ فإنه لا يملك الارتجاع إلا بعقد جديد، وأما في الطلاق فيمتلك الارتجاع إذا دخل بها فطلقها طلقة واحدة أو طلقتين، ولم تخرج من عدته، ويملك ارتجاعها بدون عقد، سواء شاءت أو أبت، ولذلك هذا الذي جعل بعض العلماء يقول: إن الخلع فسخ، وليس بطلاق، لأنه لو قلنا: إنه طلاق، كان من حق الرجل أن يراجعها، والمقصود من الخلع: أن تدفع المرأة ضرر الزوج عنها، فتعطيه ماله وتخالعه، فلو قلنا: إنه طلاق. كان من حقه بعد ما تخالعه أن يعود ويراجعها، فخرجوا من هذا الإشكال، وقالوا: الخلع طلقة بائنة، كما أنه لو طلقها طلقه قبل الدخول فإنه في هذه الحالة يحكم بكونه لا يحل له إرجاعها إلا بعقد جديد، وهي البينونة الصغرى، ومن الفوارق أيضاً: أن الفسخ لا يحتسب في الطلاق. أي: إذا فسخ النكاح لا يحتسب، لكن إذا طلق احتسبت، وأيضاً من الفوارق: أن الفسخ يهدم النكاح، والطلاق قد لا يهدم، مثلما ذكرنا في الرجعيه، وعلى كل حال: فإن الفسخ أقوى من الطلاق -في بعض الصور- ولذلك لا يمكن أنه يحكم بانفساخ النكاح، إلا في صورة خاصة فيما يتعلق بالقضاء.

حكم الائتمام بالمؤتم المسبوق بعد سلام إمامه

حكم الائتمام بالمؤتم المسبوق بعد سلام إمامه Q جماعة ائتمت بمأموم -ظنته إماماً- وهو في الحقيقة يقضي ركعات فاتته مع إمامٍ آخر، فما حكم صلاة الجميع؟ A أولاً: لا يجوز للإنسان أن يصير مأموماً لمن هو مؤتم بالغير، فإذا جئت ووجدت إنساناً يصلي وراء إمام معه أو بعده قابلاً لصلاته، فلا يجوز لك أن تأتم به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جُعل الإمام ليؤتم به)، فجعل المأموم مؤتماً بالغير، وجعل الإمام غير مؤتم، فإذا ائتم بالمأموم صير المأموم إماماً، والنبي صلى الله عليه وسلم جعله مؤتماً، وصير المؤتم إماماً، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم جعله تابعاً، وبناء على ذلك: لا يجوز الائتمام بالمأموم، وقد اتفق العلماء وأجمعوا على أنه لو كان الإمام يصلي والمأموم وراءه يصلي أثناء الاقتداء بجماعة فإنه لا يجوز الائتمام ولا تحتسب الجماعة، ونبهت طائفة من العلماء إلى أنه إذا بطلت الجماعة وقد نواها بطلت الصلاة ولم تصح ولو توفرت فيها شروط صحتها، ويحكم ببطلان الصلاة ووجوب الإعادة عليه. ومن العلماء -وهو مذهب ضعيف ولكن في بعض الصور يقوى- يرى أنه ينقلب منفرداً، وتصح الصلاة له منفرداً، يعني: لا ينال أجر الجماعة على القول بصحتها منفرداً، ولا يمكن أبداً إيقاع هذا الحكم في صلاة الجمعة، فإنه لو ائتم في الجمعة بشخص يظنه الإمام وتبين أنه مأموم، ففي هذه الحالة يجب أن يعيدها ظهراً، لأنه لا يصح أن تنقلب له الجمعة منفردة، فيرجع إلى الأصل من صلاته -وهو أربع ركعات- وكونه يصلي بآخرين أثناء ائتمامه بإمام هذا لا يجوز له بالإجماع، لكن اختلفوا لو أن الإمام سلم وبقيت لك ركعة أو ركعتان، وقمت تقضي، وجاء أناس وائتموا بك، ففي هذه الحالة هناك وجه ضعيف عند بعض العلماء يقول به بعض أصحاب الإمام الشافعي رحمهم الله: أنه يجوز لهم أن يأتموا به، وهذا ضعيف لظاهر السنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل من ارتبطت صلاته بالإمام مؤتماً على كل حال، ولذلك قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، ولذلك نجد المأموم مؤتماً بإمامه بعد سلامه، ويبني على صلاته مع إمامه، ولا ينقطع عنها، وبناء على ذلك لا يصح أن يقتدي بالمأموم بعد أن قام للقضاء، لكن لو أنه لا يدرك مع الإمام شيئاً، وجاء في التشهد الأخير ودخلتما معاً المسجد، وقلت له: إذا سلم الإمام فائتم بي أو سأأتم بك فلا بأس في ذلك في قول طائفة من أهل العلم، لأنه ليس بمأموم من جهة الإدراك، لأن قوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) من جهة الإدراك، ولذلك لا يحكم بكونه مؤتماً على الحقيقة إلا بإدراك ركعة فأكثر، ومن هنا لو أن هذا المأموم دخل في يوم الجمعة والإمام قد رفع رأسه من الركعة الأخيرة، فإنه يتمها أربع ركعات؛ لأنه لم يدرك الجمعة، فدل على أن الإدراك الحقيقي شيء، والإدراك الحكمي شيء آخر، فمن أدرك حكم الجماعة فضلاً ليس كمن أدرك حكمها حقيقة، فلا يؤتم بالمدرك حقيقة، لأنه مرتبط بإمامه، ويؤتم بالمدرك الحكمي التقديري على أصح قولي العلماء رحمهم الله، لأن الأصل في قوله: (إنما جعل الإمام) أن يراد به المدرك، ويحمل على المدرك الحقيقي لا غيره، والله تعالى أعلم.

حكم دخول المرأة الحائض المسجد

حكم دخول المرأة الحائض المسجد Q كثير من الأخوات حريصات على حضور الدروس والمحاضرات التي تقام في المساجد فهل يجوز للمرأة إذا جاءتها الحيضة أن تحضر الدرس والمحاضرات وتجلس عند الدرج أو عند موضع الأحذية -أكرمكم الله- وهي عند مصلى النساء. أي: داخل الباب من جهة المصلى أو من جهة المسجد؟ A لا شك أن المرأة المؤمنة التي تطلب العلم وتريد وجه الله سبحانه وتعالى، وتخاف الله عز وجل في خروجها لطلب العلم بعيداً عن الفتنة، لا شك أن الله أراد بها خيراً، وخير ما يوصى به النسوة اللاتي وفقهن الله لحضور مجالس العلم: الإخلاص لله عز وجل، والبعد عن الفتنة ما أمكن، فإذا أراد الله عز وجل أن يعظم الأجر والمثوبة لطالبة العلم، وفقها إلى هذين الأصلين العظيمين: إخلاص لوجه الله، وبعد عن الفتنة في القول والعمل. وأما ما ورد السؤال عنه من دخول المرأة الحائض المسجد، فإن المرأة الحائض لا تدخل إلى المسجد إذا كانت حال حيضها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة: (ناوليني الخمرة، فقالت: إني حائض، قال: إن حيضتك ليست في يدك)، فدل على أن الأصل عدم دخول الحائض، بدليل أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما قال لها: (ناوليني الخمرة؛ قالت: إني حائض)، فامتنعت من الدخول واعتذرت بكونها حائضاً، فدل على أن هذا كان معمولاً به في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لأنها لا تنشئ الأحكام من عندها، وقد قال لها عليه الصلاة والسلام ذلك صريحاً في قوله: (اصنعي ما يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت) حينما حاضت في حجة الوداع، فالذي على المرأة أن تلتزم به: أن لا تدخل مسجداً إذا كانت حائضة والله يأجرها ويكتب ثوابها، فوالله ما من مؤمنة حرصت على مجلس علم، وما من مؤمن حرص على مجلس علم، وواظب عليه ثم جاءه العذر إلا كتب الله أجره، ولو مضى في العذر سنوات، وهذه فائدة المداومة على الطاعة، فكم من رجل مشلول مقعد، تكتب له ملايين الحسنات في اليوم، لأنه نشأ نشأة صالحة، وجاءته تلك المصيبة والنقمة والبلية، وهو على طاعة الله ومرضاته، فلو أنه حصل لك أي ظرف أو أي عذر كتب أجرك كاملاً، فالشخص يصلي ويقوم ويتهجد بالليل فيأتيه العذر، فإذا جاءه مرض أو سافر واتبع السنة وترك فيها القيام، كتب أجر ما يقوم به، ولو كان يختم القرآن كل ثلاث ليال، كتب الله له أجر ختم القرآن إذا سافر ثلاثة أيام وكأنه مقيم حاضر، فإنه يعامل الكريم سبحانه وتعالى، ومن أكرم من الله سبحانه وتعالى؟ الذي لا تنفد خزائنه، ويده سحاء الليل والنهار، لا تغيضها نفقة جل جلاله وتقدست أسماؤه، ومع هذا كله حتى إن كرمه جعله لكبير السن الذي كان في شبابه محافظاً على الطاعة، ثم جاءه الشيب فإنه يكتب الله له الأجر كاملاً غير منقوص، فإن كان في شبابه يجلس مجالس الذكر ثم لما كبر ضعف عنها، كتب له الله أجر مجالس الذكر، ولو كان في أيام شبابه حريصاً على أن يذهب للرحم بنفسه، حريصاً على أن يفرج كرباتهم، حريصاً على أن يقف مع المكروبين والمنكوبين، ويذهب بنفسه للإصلاح بين الناس، كتب الله له الأجور، فما وقف أحد على بابه، وسأله المسألة، فقال له: والهل لو قدرت لفعلت، إلا كتب الله له الأجر كاملاً، الأول للعمل، والثاني للعذر، قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:6]، يعني: غير منقطع. قال بعض أهل العلم في تفسيرها -وهو قول طائفة من المفسرين- (لهم أجر غير ممنون) أي: أن الله يكتب لهم أجر الشباب تاماً كاملاً غير منقطع، فلو عمر مائة سنة وكان خلال الخمسين سنة الأخيرة، عاجزاً ولو كان مشلولاً مقعداً فيكتب له الأجر تاماً غير منقوص، وهذا فضل عظيم، بفضل الله والمواظبة على الطاعة، وليس هناك أكرم منه جل جلاله، ولا أتم رحمة بخلقه، ولذلك وصف نفسه سبحانه فقال تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:14]،الود: خالص الحب، تقول: يا فلان! إني أودك، ليس كقولك: إني أحبك، فالود خالص الحب، فالله يتودد لعباده سبحانه وتعالى، وهو أغنى ما يكون وهم أفقر ما يكونون إليه، فمن وده ولطفه ومحبته لخلقه، وإحسانه لهم: أن العبد ما حافظ على خصلة من خصال الخير إلا أدركها، وهذه فائدة المحافظة على السنة والأذكار. قال بعض العلماء: حتى إن الرجل يكون على طاعة وخير ثم يسري به الجنون فجأة، فيزول عقله -يأتيه حادث فيصبح مجنوناً- فيكتب له الأجر كاملاً، وقالوا -والعياذ بالله-: يخشى على من كان على المعاصي ثم التزم بالدين، وما حال بينه وبين المعصية إلا العذر، لكن الصحيح: أنه لا يأثم، وهناك أشياء يسمونها التقديرات ذكر منها العز بن عبد السلام في قواعد: (التقدير تنزيل المعدوم منزلة الموجود والموجود منزلة المعدوم)، قالوا: المجنون الآن ليس بمسلم لأنه لا يقدر أن يتلفظ بالشهادتين ولا يعرف، ولا يعقل، فقالوا: نحكم بإسلامه لأنه كان قبل جنونه مسلماً، فنزلنا المعدوم منزلة الموجود استصحاباً للأصل الذي كان عليه، ونقول: فلان صالح ولو أنه بعد جنونه وبعد سحره اقترف المعاصي، لأنه لا يشعر بنفسه، استصحاباً للأصل الذي عرف عنه، وكل هذا فضل وكرم من الله سبحانه وتعالى، فالمرأة الصالحة التي تحافظ -هذا محل الشاهد- على دروس العلم، لا تحضر المسجد في أيام الحيض، ولا يقولن أحدكم هذا تشديد عليها، فهذا حكم الشرع، والشارع لا يحكم إلا بحكم ترى في ظاهره الرحمة، فانظر إليها تجلس في قعر دارها ويكتب لها الأجر كاملاً، وفي هذه الحالة تجلس خارج المسجد عند باب المسجد وتسمع، لكن لا تدخل، ولها أن تدني رأسها وتصغي -لكن: أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن لا تذل ولا يذل طالب علم ولا طالبة علم إلا أعزه، وأن لا يهين نفسه في العلم إلا أكرمه. وكان أحد العلماء لما وقف موقفاً ظاهره ذل لأجل طلب علم، قال: (ذل في مقام عز). فطالبة العلم التي تأتي -كما ذكر في السؤال- عند الحذاء -وهذا شيء كبير جداً- وتجدها امرأة وابنة ناس لو سفك دمها ما أهانت نفسها، لكنها للعلم تهين نفسها، وتجد الرجل ابن أناس لكنه على أبواب العلماء يزاحم ويجلس ويذل، وليس للعالم ولكن لله فبخ بخ للمرأة الصالحة في التجارة الرائحة، الغنيمة الرابحة، وعند الله رائجة، ولا شك في عظم ثوابها وأجرها عند ربها سبحانه وتعالى، حينما تتحمل هذه المشاق، والمرأة أكثر شؤماً من الرجل، وعلى كل حال قد أغنى الله بوجود الأشرطة إذا حصل عذر، فالأمر قد يكون أيسر، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم التوفيق للجميع، ويستثنى من هذه المسألة أن تكون هناك غرفة خارج المسجد، فإذا كانت هناك غرفة خارج المسجد إذا اقتطع جزء من المسجد، فهو جزء من المسجد -لكن لو أنها بنيت غرفة خارج المسجد، على أنها مكتبة، أو على أنها غرفة استراحة، أو على أنها غرفة ضيوف يستقبل فيها، والحفلات الخاصة تفعل فيها، ففي هذه الحالة يجوز للمرأة أن تدخل في هذا الملحق، وهو أرفق بالنساء، والله تعالى أعلم.

حكم صلاة من توضأ بماء قد تغير طعمه مع عدم علمه بسبب التغير

حكم صلاة من توضأ بماء قد تغير طعمه مع عدم علمه بسبب التغير Q من توضأ لمدة أسبوع بماء قد تغير طعمه بسبب مياه المجاري، علماً بأنه لم يعلم سبب تغير طعم الماء إلا بعد أسبوع وصلى، فهل يعيد هذه الصلوات؟ A الماء إذا تغير طعمه ولونه، هذان الوصفان هما أقوى أوصاف التأثير، والرائحة قد تكون أضعف لكنها مؤثرة، فإنه يحكم بما غيره، فإن كان تغير لون الماء بمادة طاهرة فهو طاهر لا طهور، كالسدر -مثلاً- فإنه يصير طاهراً لا طهوراً، ولو تغير بنجس حكمنا بكونه نجساً، ولذلك يقولون: المتغير يأخذ حكم ما غيره، يعني: إن كان نجساً فنجس، وإن كان طاهراً فطاهر، أما الدليل على ثبوت القسم الثاني فظاهر السنة، وإن كان القرآن قد دل على ذلك من جهة اللفظ، فإن الله تعالى يقول: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]، ولم يقل "طاهراً"، وطهور (فعول) في لغة العرب، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم، يؤكد هذا حينما قال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فلما بين عليه الصلاة والسلام أن البحر طهور، ولم يقل: (هو الطاهر ماؤه)، وإنما قال: (هو الطهور ماؤه)، فأثبت كون الماء طهوراً، إذا كان على أصل خلقه، وكيف نقول: إن هناك فرق بين الطاهر والطهور ولمسنا هذا من حديث أبي هريرة، وهو مذهب جمهور العلماء، وذلك أن الصحابي رضي الله عنه، قال لرسول الله: (يا رسول الله: إنا نركب البحر، ومعنا القليل من الماء، إن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر) لأن ماء البحر رائحته متغيرة، ولونه متغير لطول المكث، فمن هنا دل على أن أي شيء يتغير ولو كان متغيراً بطاهر، فإنه حينئذ ينتقل عن الأصل؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]، فجعل الماء الباقي على أصل خلقته طهوراً، وهذا الماء الطهور يكون على أوجه: كأن يستقر في الأرض، قال تعالى: {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:18]، وحينئذ تقول: كل ماء سكن في الأرض، واستخرج كماء العين، أو كماء البئر، أو خرج بنفسه كماء العين، فهو طهور، لأن الله وصف أصله بأنه طهور -وهو الذي نزل من السماء- ووصفه بأنه طهور يأتي على وجهين في الأرض: إما أن يسكن في باطن الأرض، وإما أن يجري على وجهها، فإن سكن في باطنها فماء بئر وعين، وإن جرى على وجهها، فماء سيل ونهر، فإذا كان ماء بئر أو ماء عين أو ماء سيل أو ماء نهر، فهو طهور، لأنه باقٍ على أصل خلقته، فالبحر لما كان في أصله طهوراً لكنه تغير دل على أن الطهور إذا تغير ينظر في حال ما غيره، إن كان نجساً فنجس وإن كان طاهراً فطاهر، ومن هنا قال جمهور العلماء: يقسم الماء إلى ثلاثة أقسام، وهناك من قال بأنه قسمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من قصعة فيها أثر العجين، وهذا متغير، والحقيقة أن هناك فرقاً بين قول الصحابي: (فيها -يعني: في القصعة- أثر العجين)، ومن يقول: (فيه أثر العجين)، وأنتم تعلمون من أكل عصيدة، وأكل عجين، يعرف أن العصيدة تيبس في الإناء، ولا تتحلل، فلا ينقلب الماء أبيض إلا بعد فترة، فمعنى: (فيها أثر العجين) أي: فيها شيء يابس باق، ثم بعد ذلك صب عليه الماء، وليس معنى ذلك أنه كان في القصعة عجين فصب الماء عليه، فلا يمكن هذا، وبناء على ذلك لا يقوى هذا الدليل على معارضة الأصل الذي ذهب إليه جمهور العلماء، والله تعالى أعلم. ففي هذه الحالة إذا كان الماء الذي ذكر ماءً نجساً وهو ماء المجاري، فيلزمه أن يعيد الصلوات، لأنه كان المنبغي عليه لما وجد أن الماء قد تغير طعمه أن يبحث، أما أن الشخص يتوضأ بماء تتغير طعمه وتتغير رائحته، ثم يأتي بعد أسبوع ويسأل عن حكمه -لا- هو الذي قصر، ولذلك لا يقال إن مثل هذا يعذر، الواجب عليه أن يبحث عن الأصل، ولو كان يشرب هذا الماء، كان بمجرد أن يجد طعمه متغيراً يذهب ويفتش ويبحث، وعلى كل حال: لا بد أن يعيد هذه الصلوات؛ لأنه تبين أنه يصلي بغير وضوء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) ولأن الوضوء الشرعي يكون بالماء الطهور وليس بالماء المتنجس.

حكم المأموم إذا أدرك سجدة السهو مع الإمام

حكم المأموم إذا أدرك سجدة السهو مع الإمام Q من أدرك مع الإمام سجدة من سجدتي السهو، فهل إذا سلم الإمام يسجد المأموم الثانية؟ A اختلف العلماء -رحمهم الله- في المأموم إذا لم يدرك السهو مع الإمام -إذا لم يدرك نفس السهو- هل هو ملزم بسجود السهو أو ليس بملزم؟!، فعلى القول: بأنه ليس بملزم، فهذه السجدة الثانية ليست بواجبة عليه، وحينئذ إذا سلم الإمام قام وصلى، أما على القول بأنه ملزم بسجود السهو، سواء أدرك السهو أو لم يدركه، فحينئذ هناك إشكال؛ لأنه لم يدرك نفس الصلاة، وإنما أدرك سجود السهو، وهناك فرق بين إدراك الصلاة أو جزء الصلاة حتى يحكم بوجوب السجدتين عليه، وبين إدراك جزء سجود السهو، فإذا أدرك جزء سجود السهو -وهي السجدة الثانية- فالأشبه فيه أنه لا تلزمه السجدة الثانية، لأنه مأمور بالقيام بالركن، وهو إتمام صلاته والقيام بفعل الركعة الأولى، فلا يشتغل بشيء مشتبه على هذا الوجه، وإنما يقوم ويتم صلاته على الوجه المعتبر، والله تعالى أعلم.

نصائح في شكر النعم

نصائح في شكر النعم Q قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، وقوله: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8]، كيف نشكر نعم الله علينا ونحن لا نستطيع حصرها، وكيف نعد جواب سؤال هذه النعم؟ A ظاهر أن هناك تعارض بين الآيتين، فالله أمر بشكر النعم ولا يمكن للإنسان أن يحصي النعم، فكيف يكون شاكراً؟ والجواب: إن تكاليف الشرع مبنية على القدرة، والله عز وجل كلف الإنسان بما في وسعه وقدرته، وما ليس في وسعه وقدرته فليس بمكلف به، ولذلك يحمد الله ويشكره على ما ظهر وما بطن من النعم، وما سبق وما لحق من النعم، وله سبحانه الحمد أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، وسراً وجهاراً، وهو المحمود على كل حال، المشكور على النعم سبحانه وتعالى، وله أن يشكر شكراً عاماً، الذي هو: (اللهم أني أحمدك وأشكرك على نعمتك) فهذا كرم من الله عز وجل، قبل القليل وأعطى الكثير، إذا قال: "اللهم أني أحمدك على نعمك"، ولو قال: "أحمدك على جميع نعمك"، ما بقيت نعمة إلا ودخلت في هذا الحمد، خفيفة على اللسان لكنها ثقيلة في الميزان، وقد تنوء بها الملائكة من كثرتها، وقال صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قال: (حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه) قال: (والذي نفسي بيده، لقد رأيت بضعاً وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يصعد إلى السماء) وهذا يدل على فضل الحمد والشكر، وهناك شكر خاص على النعم الخاصة، فإذا تجددت النعم تجدد الشكر، فإذا خرج من بيته، فسلمه الله من آفة في جسده، أو آفة في أهله وماله وولده، لهج لسانه بذكر الله عز وجل، ووالله إن الإنسان ليحار، كم تجد من النعم المرسلة والمقيدة، والظاهرة والباطنة، ومع ذلك الإنسان في غفلة عظيمة عن هذا، ولو أنه نظر فقط إلى طرفة هذه العين التي يحركها، طرفة العين تبعد عنه من البلاء، وقال تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى:19]، وما قال: "إني لطيف بعبادي"، قال: (الله) بلفظ الجلالة، وجاء بالاسم الظاهر (الله) لأنه وحده الذي له هذه النعمة، وهذا من كرمه سبحانه وتعالى، وقلما تجد شخصاً إذا دخل البيت تذكر نعمة الله عز وجل، حينما يجد سربه أمناً وأهله وجدهم ولم يفقدهم، فكم من خارج من البيت كان آخر عهده بأهله وولده، فما رآهم بعد ذلك، ماتوا وهلكوا، وكم من إنسان يأتي ويدخل إلى بيته، ويرى من النعم التي حفظ الله بها أهله، كالكهرباء لو حصل أي اختلال لأهلكته ودمرته وحصل منها من البلاء ما الله بها عليم، وينام تحتها وينال خيرها ويحفظ من شرها، فسبحان الله العظيم، والإنسان يركب الطائرة، وهم ممكن في أقل من طرفة عين يدمرون ولا يبقى منهم أحد، فحملهم في البر والبحر، وحملهم في السماء والأرض، برحمة منه، ولطف منه، وإحسان منه، ويمرون في المخاطر الشديدة والأهوال الأكيدة، فمن الذي كان يحلم أنه يطوف في السماء؟ وليس الواحد ولا الاثنين، ولكن أمة من الناس، ولا تحمل فقط، ولكن تأكل وتشرب وتنام، ومع هذا كله، إذا أصابها الحر بردت، فهي في البَّراد، وإن كان في شدة البرد فهي في الدفء والراحة، ولذلك لو حوسب الخلق على هذه النعمة لهلكوا، فمن منا الآن إذا نزل في المطار وقد انتهى من الرحلة شكر الله حق شكره؟ ومن منا قبل أن يخرج رجله من هذه الطائرة تذكر أين كان، ومن الذي كلأه بعنايته ورحمته سبحانه وتعالى? تصور لو أن إنساناً تعرض للخطر في طريقه في البر وليس في السماء، وجاء شخص وقف عليه فقط دقيقة أو دقيقتين، لعد أن حياته كأنها دين لهذا الشخص، ولله المثل الأعلى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11]، أي: بسبب أمر الله، أو يحفظونه من الأمر الذي قدره الله، فتبارك الله وجل الله. ومن عرف الله يعرف نعمته؛ لأن طريق المعرفة بالله أن تعرف نعمته سبحانه وتعالى، ولذلك كان أكمل الخلق معرفة بنعم الله هم أنبياء الله ورسله، وكانوا أشد الناس وأعظمهم شكراً لله، حتى أن الواحد منهم إذا رأى النعمة بين يديه كان أول ما يلهج به الثناء على الله عز وجل، فلا يزهو ولا يختال، ولا يتجبر ولا يتكبر، وإنما ينكسر لربه غاية الانكسار، ويسند الفضل كل الفضل لله وحده لا شريك له، سليمان عليه السلام في وسط البحار -وأين العلم وأين التقدم الحديث؟ - انظر إلى الذي قال له: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي} [النمل:40]، انظر إلى قوله: (مِنْ فَضْلِ رَبِّي)، فما استوجب على الله فضل، فالفضل هو الزيادة كما في لغة العرب (من فضل ربي). يعني: أعطاني الله عز وجل فضلاً منه وتكرماً، فأنا مربوب لله عز وجل، فمن أنا لولاه؟! ثم قال: (ليبلوني) من أجل أن يبلوني ويختبرني، فعرف الهدف من النعم، وهو ابتلاء العباد بشكرها، فإذا امتلأت القلوب بذكر ربها ولهجت الألسن بالثناء على خالقها سعد العبد، فأصبح يمسي ويصبح وهو ينظر في نعم الله التي يتقلب فيها، فهو من شكر إلى شكر، ومن حمد إلى حمد، ويعتقد في قرارة قلبه أن الفضل كل الفضل لله، حتى إذا لهج لسانه بالشكر والثناء على الله اعتقد من قرارة قلبه، أن الله تفضل عليه بشكره سبحانه وتعالى، وهناك ينال العبد المراتب العلى، فلا يزال لسانه شاكراً حتى يكتبه الله من الشاكرين، ويجعله في ديوان الذاكرين، ثم يتأذن له بالرحمات والباقيات الصالحات، ويجعل له أول بشارة على شكر الله جل جلاله فيضع له البركة في رزقه، فالشيء الذي تشكر الله عليه ترى بركته وترى خيره، ولذلك تجد كبار السن في القديم الشخص منهم يضع الكسرة من الخبز، فيقول: يا رب! لك الحمد والشكر، تجد الواحد منهم يشرب الشربة القليلة بكف ماء من نهر مليء بالطين، ويقول: يا رب! لك الحمد والشكر، ومع ذلك تجد البركة فيها، وهذا الطين الذي يحمل البكتريا اليوم، وتجد فيه من الوسوسة، حتى أن الواحد يخاف أن تكون بجوار البيت، فكيف بهؤلاء وهم يضعونه بداخل أجوافهم؟ ومع هذا كانوا أصح الناس أبداناً وأصلحهم حالاً بالشكر لله جل جلاله، وترى العبد اليوم شبعان تغدق عليه النعم، حتى إنه يجلس على المائدة، ونظر إلى أصناف الطعام التي فيها، جاءته من مشارق الأرض ومغاربها بما لا يحصيه إلا الله وحده، ولا ندري هل ذكر الله أم لا؟ ثم يقوم فيتسخط من هذا الطعام ويعد مثالب هذا الطعام أو يلمز هذا الطعام، وكل ذلك كفر بنعم الله، ونسيان لفضله. اللهم لا تجعلنا من الغافلين، ولا تسلك فينا سبيل المجرمين، اللهم اجعلنا من الشاكرين، إنك ولي ذلك وأنت أرحم الراحمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

كتاب العدد [7]

شرح زاد المستقنع - كتاب العدد [7] من كمال الشريعة أنها تراعي أحوال المكلفين، ولهذا شرعت لمن توفي عنها زوجها أن تحد عليه أربعة أشهر وعشراً، وهذا التقييد فيه أسرار وحكم عظيمة، يبينها العلماء عند الكلام عليه.

مشروعية الحداد

مشروعية الحداد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: يلزم الإحداد مدة العدة كل متوفى زوجها عنها في نكاح صحيح ولو ذمية أو أمة أو غير مكلفة]. شرع المصنف -رحمه الله- في بيان أحكام الإحداد، والإحداد هو: عدة المرأة التي توفي عنها زوجها، فهي عدة تختص بالوفاة، وتختص بنوع من النساء، وأصل الحد: المنع، ومنه سمي البواب حداداً؛ لأنه يمنع الغير من الدخول، والإحداد يمنع المرأة من الزينة، ومما ينبغي على المحتدة أن تجتنبه: الطيب، والحلي، ومحاسن الثياب، والخروج من البيت على تفصيل سيأتي -إن شاء الله- بيانه.

الأدلة على مشروعية الحداد

الأدلة على مشروعية الحداد الإحداد ثبتت مشروعيته بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة:

الأدلة من الكتاب

الأدلة من الكتاب وذلك أن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234]، فهذه الآية الكريمة أصل عند العلماء -رحمهم الله- في ثبوت الإحداد وعدة الوفاة على المرأة التي توفي عنها زوجها، وهي خبر بمعنى الإنشاء -كما سيأتي- أي: أنها تضمنت الدلالة على وجوب الإحداد ولزومه.

الأدلة من السنة

الأدلة من السنة وأما من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فأحاديث كثيرة: منها: حديث أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها وعن أبيها: أنه لما توفي أبوها أبو سفيان رضي الله عنه وأرضاه أخذت طيباً فطيبت جارية عندها، ثم مست من ذلك الطيب، وقالت: {والله مالي بالطيب من حاجة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاثة، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً))، فهذا الحديث المتفق عليه أصل عند العلماء -رحمهم الله- في مشروعية الحداد. وهناك أحاديث أخر تتضمن الدلالة على مشروعيته كحديث أم سلمة في الصحيحين، وحديث سبيعة بنت الحارث الأسلمية رضي الله عنها في الصحيحين أيضاً في قصتها مع سعد بن خولة رضي الله عنه وأرضاه حينما توفي فدخل عليها خالها أبو السنابل بن بعكك رضي الله عنها وعنه. والأحاديث في مشروعية الحداد كثيرة. ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن الحداد مشروع بهذه السنة على التفصيل الذي سنبينه. ومرادهم: الحداد الأعلى، وهو أن تحد أربعة أشهر وعشراً، وأما الإحداد ثلاثة أيام فيجوز للمرأة إذا توفي أبوها أو أخوها أو قريبها أن تحد؛ لأن أم حبيبة حدت على أبيها أبي سفيان وامتنعت من مس الطيب إلا بعد تمام الثلاثة الأيام.

الإجماع

الإجماع أما بالنسبة للإجماع: فقد أجمع العلماء -رحمهم الله- على أنه يشرع للمرأة أن تحدّ على الميت أربعة أشهر وعشرة أيام، وهي المدة التي سمى الله عز وجل في كتابه، وبيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح من سنته. ومناسبة الإحداد لعدة الطلاق واضحة؛ لأنه بعد أن فرغ المصنف -رحمه الله- من بيان عدة الطلاق شرع في بيان عدة الوفاة، فيجتمع الحداد مع عدة الطلاق في كون كل منهما عدة، فالأولى بسبب الطلاق والفراق في حال الحياة، والثانية متعلقة بالفراق الذي لا اختيار فيه، وهو فراق الموت.

الحكمة من مشروعية الحداد

الحكمة من مشروعية الحداد وشرع الله جل وعلا هذا النوع من العدة لحكم عظيمة وأسرار كريمة تنتظم بها مصالح الدين والدنيا والآخرة، فالمرأة إذا فقدت بعلها وفارقت زوجها وبقيت في بيت الزوجية هذه المدة التي سمى الله جل وعلا تذكّرت حق بعلها عليها، فإن كان قد أحسن إليها كان ذلك أدعى أن تترحم عليه، وأن تحفظ وده، وأن تحفظ ما بينها وبينه من العهد، فتذكره بصالح الدعوات، وتسأل الله جل وعلا أن يسبغ عليه شآبيب الرحمات، وفي ذلك من الأجر العظيم والثواب الكريم لها ولبعلها ما لا يخفى. كذلك أيضاً: فيه حفظ لحق المسلم الميت، فليست أمة الإسلام أمة ضعيفة تنتهي أواصرها ومحبتها وأخوتها ووشائجها بالموت والفراق كما يحدث لأهل الدنيا، فشرع الله جل وعلا هذا الحداد، فأمر المسلمين أن يذكروا حق الميت المسلم، ومن هنا عَظَّم حق الزوجية، حتى إن الزوج إذا فارق زوجته لا يُنسى الحق الذي له مباشرة، فلو تصورنا أن المرأة بعد وفاة زوجها تنكح في اليوم الثاني أو تنكح بعده بيسير لتناسى الناس حقوق أمواتهم. ثم انظر إلى الوسطية، فلم يجعل الإسلام هذا الحداد حزناً دائماً، ولم يجعله منقطعاً مخالفاً للفطرة، ولكن جاء بالوسط العدل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، وكان أهل الجاهلية يمكثون عاماً كاملاً، فإذا توفي الرجل عن امرأته دخلت المرأة في مكان وهو حش صغير أشبه بـ (الصندقة)، أو أضيق مكان في البيت، تدخل فيه ثم تمتنع من جميع ما أحل الله عز وجل إلا أكلها، فتبقى في تفثها وشعرها وسوء حالها بالحالة المزرية، لا تغتسل ولا تمس الطيب، وبأبشع الأحوال وأشدها حتى تتم سنة كاملة، ثم بعد ذلك تفتض ببعرة كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (وقد كانت إحداكن تجلس حولاً كاملاً في حشها حتى يبلغ الكتاب أجله، ثم تفتض ببعرة) فخفف الله سبحانه وتعالى ويسر، فأحل لها الطيبات، ولكن منعها من الزينة، ومنعها من الحلي، ومنعها من التجمل في جسدها وثيابها، فأبقى حق الزوج، وكذلك أيضاً لم يضيق على الزوجة مع أنها تثاب وتؤجر على هذا الامتناع والطاعة لله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام؛ لامتثال الأمر بالإحداد واجتناب ما نهيت عنه المرأة المحتدة، فالمقصود: أن الحداد فيه حكم عظيمة وأسرار كريمة. كذلك أيضاً: لا يسع المؤمن إلا أن يسلم أمره إلى الله عز وجل ورسوله، فالمدة التي سماها الله عز وجل أربعة أشهر وعشراً قال بعض العلماء: لو كانت حاملاً يتبين حالة الجنين خلال هذه المدة التي هي الأربعة أشهر وعشراً، وقالوا: (لأنه يجمع خلق الإنسان أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك، فيؤمر بنفخ الروح وكتابة أجله ورزقه، وشقي هو أو سعيد) كما في حديث ابن مسعود في الصحيح، فقالوا: إن هذا النفخ يقع في العشرة الأيام التي تلي الأربعة الأشهر، فإن الأربعة الأشهر -كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم- مائة وعشرون يوماً، وهي تمام ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأربعين، ثم الأربعون، ثم الأربعون، ثم تأتي العشر، ذكر هذا بعض أهل العلم رحمة الله عليهم، ولكن مع هذا الله يأمر ويحكم، ورسوله صلى الله عليه وسلم يبلغ، وما علينا إلا الرضا والتسليم.

بيان من يلزمه الحداد

بيان من يلزمه الحداد يقول رحمه الله: (يلزم الإحداد). وهذه العبارة تدل على مشروعية الحداد أولاً، والحداد المشروع: هو حداد المرأة المتوفى عنها زوجها، وأما محدثات الجاهلية في الإحداد مما يحدثه الناس سواء كان ذلك على مستوى الأمم والشعوب أو الجماعات فهذا مما لا أصل له في دين الله، ولا في شرع الله عز وجل، فليس هناك حداد إلا الحداد الذي سمى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يشرع حداد غير هذا الحداد الذي ورد النص به في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم إن الحداد يكون للنساء ولا يكون للرجال، ولا يكون بين أفراد الرجال، حتى لا تعطل المصالح اليومية، هذا كله مما يحدثه الناس بخلاف شرع الله عز وجل، ولا يمكن أن يعد ذلك من دين الله في شيء؛ لأنه لم يثبت به شرع ولم يثبت به نص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة إذا أصبح أمراً ظاهراً، فإن الواجب تبيين حكمه إعذاراً إلى الله سبحانه وتعالى، وأن هذا مما أحدثه الناس، ومما لا أصل له في دين الله وشرعه. والحداد يشرع للمرأة إذا كان قد توفي عنها زوجها، أو توفي قريبها إذا كانت مدة الحداد عليه المدة التي ذكرناها وهي الثلاثة الأيام. قوله: (يلزم) أولاً يدل على مشروعية الحداد كما ذكرنا. وثانياً: أن هذه المشروعية على سبيل الوجوب، فالمرأة يجب عليها الحداد، وهذا بإجماع السلف والخلف رحمهم الله، خلافاً للحسن البصري والأوزاعي رحمة الله عليهما، فهذان العالمان الجليلان قالا بعدم وجوب الإحداد، والصحيح ما ذهب إليه أئمة السلف ودواوين العلم، ولكن لعل الإمام البصري والأوزاعي لم يبلغهما ما ورد صريحاً في السنة من الأمر بالحداد، فقد يكونا قد قالا بمشروعيته لظاهر القرآن: (يتربصن) دون أن يفهما منه اللزوم، ولكن السنة أمرت وألزمت بالحداد وأوجبته، فالواجب العمل بهذه السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. كذلك أيضاً في قوله: (يلزم الحداد) الحداد هو: اجتناب المرأة التي توفي عنها زوجها الطيب وزينة اللباس وما في حكمهما مدة معلومة، وبناء على ذلك فحقيقته الشرعية: اجتناب مخصوص -وهو اجتناب الطيب، ومحاسن الثياب والحلي، والزينة في البدن وفي الملبس- من شخص مخصوص -والمراد به: المرأة التي توفي عنها زوجها، فلا يشمل غيرها كما سيأتي إن شاء الله- مدة مخصوصة. وهي أربعة أشهر وعشرة أيام على ما بينته السنة إلا إذا كانت حاملاً، فالمدة هي إلى وضع الحمل، فلو أنها بعد وفاة زوجها بدقيقة واحدة وضعت حملها خرجت من عدتها؛ وذلك لصريح حديث سبيعة بنت الحارث رضي الله عنها: (أنها توفي عنها سعد بن خولة وهو بمكة رضي الله عنه وأرضاه، فمكثت بعده -قيل: عشرة أيام، وقيل: ثمانية أيام، وقيل غير ذلك- فوضعت ما في بطنها، فتجملت وتزينت، فدخل عليها خالها، وقال لها: لا والله ما أنت بحل للأزواج حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت: فجمعت علي ثيابي، وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأخبرني أني قد حللت منذ أن وضعت ما في بطني)، فهذا نص واضح يدل على أن مدة الحداد تكون أربعة أشهر وعشراً على الأصل بنص كتاب الله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234]، وكذلك حديث أم سلمة في الصحيحين: (تحد المرأة على ميتٍ أربعة أشهر وعشراً) فهذا يدل على أن المدة إما أربعة أشهر وعشراً على الأصل، أو إلى وضع الحمل ولو طالت مدته على حديث سبيعة بنت الحارث رضي الله عنها وأرضاها.

مدة الحداد

مدة الحداد قال رحمه الله: [يلزم الإحداد مدة العدة كل متوفى زوجها عنها]. (مدة العدة) العدة هنا: عدة الوفاة، وهي -كما ذكرنا- أربعة أشهر وعشراً، أو مدة وضع الحمل، لكن هناك من العلماء من يرى الحداد للمطلقة طلاقاً بائناً، ويرى عليها الحداد مدة العدة من طلاقها، والصحيح: أن الحداد يختص بعدة الوفاة فقط، ودليلنا على هذا ما ثبت في السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث -وفي لفظ آخر: فوق ثلاثة أيام- إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً) فقال: (لا يحل) فدل على أن الحداد لا يجوز إلا في عدة الوفاة فقط، فاجتهاد بعض العلماء بأن المطلقة طلاقاً بائناً تقاس على المعتدة عدة الوفاة ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة أن تفعل هذا الفعل إلا في عدة الوفاة، فدل على اختصاص الفعل بعدة الوفاة، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.

اختصاص الحداد بالزوجات

اختصاص الحداد بالزوجات (كل متوفى زوجها عنها). أي: كل امرأة توفي عنها زوجها، وبناء على ذلك: فإن الرجل بالإجماع لا يحتد، ويختص الحداد بالنساء كما ذكرنا، وكذلك أيضاً (كل متوفى) يشمل الصغيرة والكبيرة، وبناء على ذلك: لو كانت التي توفى عنها زوجها صغيرة وعمرها تسع سنوات -مثلاً- ولم تحض بعد، فإنها تلزمها عدة الوفاة، لحديث معقل بن سنان الأشجعي رضي الله عنه وأرضاه في قصته مع عبد الله بن مسعود رضي الله عن الجميع، فقد ذكر قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في عدة الوفاة للمرأة المعقود عليها. إذا ثبت هذا فالمرأة الصغيرة تعتد عدة الوفاة، ودليلنا على ذلك: عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً) والمرأة الصغيرة داخلة في هذا الأصل. كذلك أيضاً من الأدلة: ما ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو حديث عن أم سلمة رضي الله عنها، والحديث في الصحيحين-: (أن امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إن ابنتي توفي عنها زوجها وهي تشتكي عينيها، أفنكحلهما؟ قال: لا، لا، مرتين أو ثلاثاً) وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسألها هل ابنتها بلغت أم لم تبلغ، (وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال) خاصة أن المرأة إذا سألت وقالت: إن ابنتي. الغالب أنها تكون دون البلوغ؛ لأنها لو كانت كبيرة لأتت البنت بنفسها وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الحديث أصل في أن الحداد للصغيرة والكبيرة، وهذا مذهب جمهور العلماء، ولذلك هو حق -فيه معنى الحق- للزوج، والصغيرة لزوجها عليها حق. ثانياً: أنها ترث من الزوج، والأصل حديث معقل، وعدة الوفاة في الأصل مرتبطة بالإرث، فقوله: (كل امرأة) يدل على أن المرأة إذا كانت صغيرة تلزم بعدة الوفاة. من الذي يأمرها بعدة الوفاة ويراقبها؟ وليها، يقوم وليها عليها، ويجنبها ما تجتنبه المعتدة، مثل الصغير إذا حج أو اعتمر فإنه يقوم وليه بمنعه من محذورات الإحرام. كذلك أيضاً في قوله: (كل) عموم؛ لأن (كل) من ألفاظ العموم، فشمل هذا اللفظ المرأة المسلمة والكتابية؛ لأن المسلم يحل له نكاح الكتابية اليهودية والنصرانية بشرط أن تكون حرة، ولا يجوز له أن ينكح بالعقد إماء أهل الكتاب، وهو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:25]، فاشترط في الرقيقة التي تنكح: عدم الطول، واشترط فيها خوف الزنا، واشترط أن تكون من الفتيات المؤمنات، فدل على أن الكتابية لا يجوز نكاحها إذا كانت أمة. إذاً: المسلم لا يموت إلا عن زوجة مسلمة أو كتابية التي هي اليهودية أو النصرانية، فإذا توفي عن امرأة يهودية أو نصرانية عقد عليها فإنها يلزمها الحداد، واختلف العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة، فمنهم من قال: اليهودية والنصرانية لا يلزمها الحداد إذا توفي زوجها المسلم، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر). وأجيب بأن هذا الحديث خرج مخرج الغالب، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة:234] فعمم الله عز وجل في كل مسلم ترك وراءه زوجة أن تحد عليه، وبناء على ذلك فهذا النص القرآني العام أصل، ويجاب عن الحديث بأنه خرج مخرج الغالب. وهناك جواب من وجه ثانٍ: وهو أن الكتابية تؤمن بالله وتؤمن باليوم الآخر، فهي تؤمن أن الله موجود، وإن كانت تشرك بالله حينما تقول: إن عزيزاً ابن الله، فاليهود يقولون: عزير ابن الله، والنصارى يقولون: المسيح ابن الله، لكنهم يؤمنون أن الله موجود، بخلاف اللاديني الذي لا دين له، وبخلاف الملحد والوثني، ففي الأصل عندها إيمان بالله، وأيضاً عند أهل الكتاب إيمان باليوم الآخر، وهذا جواب طائفة من جمهور العلماء عن هذا الحديث: أن الكتابية من حيث الأصل عندها دين، وإن كان دينها فيه تحريف، ولذلك فرق الله بين الكتابي وغير الكتابي، وقد كانوا يفعلون الشرك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر الله أنهم قالوا: إن عزيراً ابن الله، وقالوا: إن المسيح ابن الله، وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة، ومع ذلك وصفهم أنهم أهل كتاب، وهذا لوجود الأصول العامة من كونهم يؤمنون بأن هناك إلهاً، ويؤمنون بأن هناك رجعة بعد الموت، بخلاف الدهريين والمشركين والوثنيين الذين لا يؤمنون بهذا، فلهذا أعطوا حكماً خاصاً، ولذلك الكتابية إذا نكحها المسلم حل نكاحها؛ لأنها أقرب ويمكن جذبها إلى الإسلام، ولذلك حل نكاح الرجل لنساء أهل الكتاب، ولم يحل نكاح رجالهم لنساء المؤمنين؛ حتى لا يكون سبباً في إغواء نساء المؤمنين، فالمقصود: أن هناك قواسم يمكن أن تكون سبباً في هدايتهن كما بينا هذا في كتاب النكاح. فالمرأة الكتابية إذا توفي عنها زوجها المسلم يلزمها الحداد على الصحيح من أقوال العلماء؛ لظاهر آية الإحداد، والحديث يجاب عنه بخروجه مخرج الغالب والمخاطبة، وعلى كل حال فالمصنف -رحمه الله- عبر بهذه الأمور لكي يبين لزوم الحداد للجميع.

حكم الحداد للذمية

حكم الحداد للذمية قال رحمه الله: [في نكاح صحيح ولو ذمية]. (في نكاح صحيح) فلا يلزم الحداد إلا إذا وجد النكاح الصحيح، والدليل: قوله عليه الصلاة والسلام: (إلا على زوجها) والوصف بالزوجية مقترن بالوصف الشرعي، فكل من وصف شرعاً بأنه زوج وتوفي شرع الحداد عليه، والزوج الذي يوصف بكونه زوجاً شرعياً لا يمكن أن يوصف بذلك إلا بعقد صحيح، وهو العقد الذي توفرت فيه شروط صحته مما تقدم معنا في كتاب النكاح: أن لا يكون هناك مانع يمنع من نكاح المرأة، وأن يكون هذا العقد بولي، وشاهدين، ومهر، وإيجاب وقبول صادرين من المعتبر، إذا ثبت هذا؛ فإنه حينئذٍ إذا وقع العقد صحيحاً وبعد العقد ولو بلحظة توفي عنها زوجها لزمها الحداد؛ لأن الله يقول: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة:234]، وهي زوجة بمجرد صحة العقد. وأما إذا كان النكاح فاسداً أو كان وطء زناً -والعياذ بالله- فهذا لا حداد فيه؛ لأن النكاح الفاسد لا تترتب عليه الآثار الشرعية، فوجوده وعدمه على حد سواء، وكذلك إذا كان وطء شبهة فإنه لا يلزم فيه الحداد. ولو أنه نكح نكاح متعة فإن نكاح المتعة نكاح فاسد، وإذا توفي عنها بعد هذه المتعة لا نقول بوجوب الحداد عليها؛ لأنه نكاح فاسد.

حكم الحداد لمن سقط عنها التكليف

حكم الحداد لمن سقط عنها التكليف قال رحمه الله: [أو أمة أو غير مكلفة]. (أو أمة أو غير مكلفة) يشمل المجنونة، فإن المجنونة لا يلزمها الحداد، وأجمع العلماء -رحمهم الله- على أنها لا تخاطب ولا تلزم بالحداد؛ لأن التكليف لا يناط بها، قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (رفع القلم عن ثلاثة وذكر منهم: المجنون حتى يفيق) ويشمل هذا الرجال والنساء، فإذا كانت مجنونة فإنها لا تلزم بالحداد.

حكم الحداد للمرأة البائن

حكم الحداد للمرأة البائن قال رحمه الله: [ويباح لبائن من حي]. أي: ويجوز أن يكون الحداد من امرأة طلقها زوجها طلاقاً بائناً، وهي الطلقة الثالثة والأخيرة له، في هذه الحالة إذا طلقها تمتنع من الطيب، وتمتنع من الخروج من البيت، ويلزمونها بالحداد كما تحتد من الوفاة، هذا عند من يقول بوجوبه، وأما المصنف فقال: (يباح) أي: أنه لا يجب عليها، وهذا هو الصحيح، وهو مذهب الجمهور، ولكن لو أنها امتنعت من هذه الأشياء قال المصنف: (يباح) وقال بعض العلماء: لا يباح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل)، وهذا نص واضح، (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر) وهذا هو الصحيح، فإن السنة حجة في هذا الأمر على أن الحداد خاص بمن سمى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يزاد على ذلك ولا ينقص منه، فالقياس هنا يقدح فيه بقادح، وهو قادح فساد الاعتبار، وفساد الاعتبار: أن يكون القياس في مقابل النص من القرآن أو السنة، أو في مقابل الإجماع، فالنص قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر) فإذا طلقت المرأة وكان طلاقها بائناً فإنها تدخل تحت هذا العموم؛ لأنها لا يحل لها أن تحد على غير زوجها.

حكم الحداد للمطلقة طلاقا رجعيا

حكم الحداد للمطلقة طلاقاً رجعياً قال رحمه الله: [ولا يجب على رجعية] يعني: لو أنه طلقها طلاقاً رجعياً فإنها لا تمتنع من الزينة ومن اللباس والطيب، والواقع أن الرجعية في الأصل الأفضل والأكمل لها أن تتجمل وتتزين لزوجها؛ لأن هذا يدعو إلى الرجوع والعدول عن فراقه لها، والله تعالى أمرها أن تعتد في بيت الزوجية؛ لأن هذا يعين على رجوع زوجها لها، فالمطلقة الرجعية الشرع يقصد رجوع زوجها إليها، ويحبب في ذلك ويرغب فيه؛ كما قال تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1]، فجعله من اليسر والسماحة. فلو قلنا للمطلقة الرجعية: لا تلبس الثياب الجميلة، ولا تتطيب، وتفعل ما تفعله المحتدة ازداد زوجها نفرة منها، وحينئذٍ يقع خلاف مقصود الشرع، ولذلك حكي الإجماع على أن المطلقة طلاقاً رجعياً لا يلزمها حداد؛ لأن ذلك مخالف لمقصود الشرع، ومخالف للسنة من قصد رجوع الزوج إلى زوجته وتحبيبها إليه.

حكم الحداد للمرأة الموطوءة بشبهة أو نكاح فاسد أو زنا

حكم الحداد للمرأة الموطوءة بشبهة أو نكاح فاسد أو زنا قال رحمه الله: [وموطوءة بشبهة]. (وموطوءة بشبهة) كرجل وطئ امرأة بشبهة، ثم توفي عنها، فإنه لا يلزمها أن تحد عليه؛ لما قدمنا من أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم خصا الحداد بالمرأة التي توفي عنها زوجها، والموطوءة بشبهة أو بنكاح فاسد كلتاهما لا ينطبق عليهما هذا الوصف الشرعي من كونهما زوجة على الوجه المعتبر شرعاً. قال رحمه الله: [أو زناً]. وهكذا لو كان زناً -والعياذ بالله- فالمرأة المزني بها لو توفي عنها الزاني فإنها لا تحد عليه. قال رحمه الله: [أو في نكاح فاسد أو باطل]. كنكاح المتعة، وهكذا لو حكم ببطلانه، وكان بطلانه محل خلاف، كمن يبطل النكاح بدون ولي، وبدون شاهدين، فإن كان فيه تأويل فقد قدمنا هذه المسألة وبينا ما يترتب عليه من آثار، وأما إذا لم يكن فيه تأويل فالذي عليه العمل أنه يفتي بما ظهر له، فيحكم ببطلانه على الظاهر؛ لأنه يعتقد هذا ويلزم به.

حكم الحداد لملك اليمين

حكم الحداد لملك اليمين قال رحمه الله: [أو ملك يمين]. وهكذا لو أنه تسرى بجارية من جواريه فوطئها ثم توفي عنها، فلا نقول لإمائه: يلزمكن الحداد؛ لأن الحداد مختص بالزوجات، والإماء لسن بأزواج، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:5 - 6]، فجعل ملك اليمين غير الزوجة، فدل على أن ملك اليمين لا ينطبق عليها الحداد، وإنما ينطبق على الزوجة، وقد قال: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة:234] فخص الحداد بالزوجات، وملك اليمين ليس بزوجة، ولذلك لا يتعلق الحداد بالإماء.

تعريف الحداد

تعريف الحداد قال رحمه الله: [والإحداد: اجتناب ما يدعو إلى جماعها، ويرغب في النظر إليها]. (اجتناب) يعني: ترك، (يدعو) يعني: يغري، وفي هذه الجملة قصد المصنف -رحمه الله- أن يبين حقيقة الحداد، وذلك بعد أن بين من هي المرأة التي يلزمها الحداد، وشرع في بيان كيفية الحداد، وهذا من التسلسل والترتيب المنطقي، أنك تبدأ أول شيء بالشخص الذي يتعلق به الحكم، وبعض العلماء في بعض المسائل يبدأ بحقيقة الأمر، ثم يبين بمن يتعلق الأمر، وكلاهما مسلك صحيح، لكن هذا يختلف بحسب اختلاف الأبواب والمسائل. وأما بالنسبة لقوله رحمه الله: (والإحداد) فحقيقة الحداد: أن تجتنب كل ما يدعو ويغري الرجل بالمرأة، ويشمل هذا: زينتها في جسدها، كالطيب ووضع الحناء، ودهن الشعر بالأدهان المطيبة، والاكتحال، وهكذا لو وضعت الحناء في بعض الأعضاء دون بعضها، وهذا حكم عام سواء كان لبعض الأعضاء أو لكل الأعضاء من التجمل العام كالشامبو الموجود في زماننا ونحوه مما يمكن أن تغتسل به ويكون طيباً للبدن، أو كان لبعض البدن، فالحكم في هذا كله أنه يجب اجتنابه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المرأة المحتدة أن تتقي الطيب والحلي، والثياب الجميلة من المعصفر والمزعفر، وكذلك أيضاً: تتقي الخروج من المنزل، فهذان الأمران أحدهما: يتعلق بالمرأة وشارتها وهيئتها، والثاني: يتعلق بالمسكن ولزومه، فبين -رحمه الله- أن الأصل يقتضي أن المرأة تلزم بترك كل ما يرغب في نكاحها. وهذا الذي يدعو ويرغب في نكاحها يعبر عنه بالزينة، والزينة: هي الجمال والحسن، وما يتزين به هو الشيء الذي يزيد من جمال الإنسان وحسنه وبهائه، وهذا الشيء ربطه بعض العلماء بقاعدة وهي: (الرجوع إلى العرف) فكل ما عده العرف زينة يغري بالمرأة ويحبب فيها فإنه يدخل في هذا الأصل ويمنع، يعني: ننظر في كل بيئة وفي كل مكان وعرف ماذا يعدون الزينة، فإذا كان هذا الذي تضعه وهذا الذي تلبسه، وهذا الذي تريد أن تتجمل به يعد في العرف زينة فإنه يحكم بعدم جواز تعاطيها له، سواء تعلق باللباس أو تعلق بالجسد، فالكل في حكم واحد، وينبغي اجتنابه. قال رحمه الله: (والإحداد: اجتناب ما يدعو إلى جماعها). (ما يدعو إلى جماعها) يعني: يرغب في المرأة؛ لأن المحاسن والتجمل والتحسن والزينة تدعو إلى جماع المرأة وترغب في المرأة، وهذا يشمل -مثلاً- زينتها في عينيها كالكحل، وزينتها في وجهها كتحمير الخدين كما ذكره العلماء رحمهم الله، وتصفير الوجه في بعض الأحيان، وكذلك زينتها في شعرها مثل وضع الطيب في الشعر، أو ما وجد الآن من الصابون المطيب في الشعر وفي الجسد، وكذلك أيضاً ما يدعو إلى جماعها ويرغب فيها مثل الحناء، أن تحني يديها ورجليها، فهذا يغري بالمرأة، وهو جمال متعلق بعضو خاص، وكذلك ما كان زينة لبعض الأعضاء كالخاتم للأصابع، والقلادة للصدر والأقراط والفتخات، ونحو ذلك مما يكون من الخلخال في القدمين، كل هذا تتقيه المرأة؛ لأنه يرغب فيها ويتشوف الرجال إليها إذا كانت متجملة. قال تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، فجعل الحلية تزيد من زينة المرأة وجمالها. قوله رحمه الله: (ويرغب في النظر إليها). كما ذكرنا، سواء كان ذلك في وجهها أو بدنها أو ثيابها، فالثياب الجميلة مثل الثياب الصفراء واللامعة البراقة، والبيضاء البراقة الجميلة، أو ذات الخطوط المزركشة والمنقوشة بالنقش الذي يغري ويحبب ويجذب الأنظار، هذا النوع كله تتقيه المرأة وتجتنبه. كذلك الثياب المطيبة، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة عن المعصفر، وكذلك أيضاً ما هو موجود في زماننا من وضع بعض الأصباغ التي فيها طيب على الثياب فتتقيها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المعصفر والمزعفر، والمعصفر من الثياب هي التي توضع في العصفر، وهو نبت في اليمن طيب الرائحة إذا وضع في الثوب كان جمالاً وزينة وطيباً له، فإذا غسل به بدت رائحته زكية، وهو نوع من أنواع الأطياب، ونوع من أنواع الزينة في الثوب، فهو يجمع بين طيب اللون وطيب الرائحة.

ما يجتنب في الحداد

ما يجتنب في الحداد

الزينة

الزينة قال رحمه الله: [من الزينة]. على شرط أن يكون زينة، أما إذا كان لا يتزين به ولا يزيد في الزينة فلا يؤثر.

الطيب

الطيب قال رحمه الله: [والطيب]. والطيب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تتطيب المحتدة، قال: (ولا تمس طيباً إلا نبذة من قسط أو أظفار عند طهرها) كما في الصحيحين من حديث أم سلمة رضي الله عنها، فقوله: (ولا تتطيب) نهي، والنهي يدل على التحريم، وهذه العبارة استخدمت في الحج، قال: (ولا تمسوه بطيب) فدل على أنه محذور على المرأة المحتدة أن تمس الطيب، والطيب سمي طيباً لطيب رائحته، وقيل: لأن النفوس تطيب لشمه، وتجد الإنسان يستزيد من شمه، والطيب يشمل جميع أنواع الطيب، سواء كانت من الأدهان أو كانت من المشمومات كالبخور ونحوها، وقد أخذت أم حبيبة الطيب بعد ثالث يوم من حدادها على أبيها، وبينت وقالت: (والله ما لي بالطيب من حاجة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يحل) فدل على أن الأصل أنها تمس الطيب، ولا يجوز للمرأة المحتدة أن تمس الطيب، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله. إذا قيل: إن الأصل أنها لا تمس الطيب فهذا يشمل أن تتعاطى الأسباب لشم الطيب كأن تشم الطيب في غيرها فتتشوف لشمه، ولذلك قال بعض العلماء: يمنع عليها أن تشم من الغير لأنها ممنوعة من شم الطيب، والصحيح أن المحظور عليها الوضع، وأما الشم فقال بعض العلماء: لا بأس به إذا شمته من الغير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تمس طيباً) فجعل الحكم متعلقاً بالتطيب لا بشم الطيب، وبناء على ذلك قالوا: إنه يجوز، وبعض العلماء يقول -وهو الصحيح- إنه يجوز لها أن تشم الطيب. لكن أجيب عن هذا بأن قوله عليه الصلاة والسلام: (ولا تمسوه بطيب) أجمع العلماء على أن المحرم لا يجوز له أن يشم ولا أن يضع، ولذلك قالوا: إن الأصل أن تتقي المرأة اشتمامه، فلا تتطيب بشمه اتفاقاً، ولا تضعه في بدنها. كذلك أيضاً: الأدهان مثل الزيوت أو ما يعرف في زماننا بالشامبو الذي يوضع في الرأس في الشعر، فإذا كان فيه طيب فإنها لا تضعه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمس طيباً) فإذا وضعت هذا النوع من الطيب في شعرها فقد مست الطيب. وكذلك أيضاً بالنسبة للضرورة، قال بعض العلماء: حتى ولو اضطرت لكسب معيشتها، كأن تكون تبيع الطيب، قالوا: إنها تتقي بيعه والتعامل به حال حدادها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاها، وبيعه من الأسباب التي تؤدي إلى المس؛ لأنها إذا باعت لابد وأن تكون في محلها تتعاطى هذا الطيب.

التحسين

التحسين قال رحمه الله: [والتحسين]. والتحسين: التجميل، والشيء الحسن هو الجميل. أي: لا تحسن شارتها وهيئتها ولا تتجمل في بدنها وثيابها، فلا تلبس الثياب الجميلة، ولا تلبس الثياب المزركشة التي عليها النقوش، والتي تعد زينة للابسها، ولا تتزين في نفسها بوضع الحناء كما ذكرنا، أو بوضع ما يصفر الوجه أو يحمره ونحو ذلك من الأصباغ، ولذلك لما سئل عليه الصلاة والسلام عن وضع الكحل في عين المحتدة منع عليه الصلاة والسلام من ذلك، ومنع أم سلمة رضي الله عنها من ذلك، وهذا يدل على أنه لا يجوز أن تحسن نفسها، ولا أن تحسن أعضاءها، ولا تتجمل.

الحناء

الحناء قال رحمه الله: [والحناء]. كذلك الحناء وهي معروفة، فلا يجوز للمرأة المحتدة أن تضع الحناء؛ لأنه نوع من الزينة ونوع من الجمال سواء وضعته في بعض الأعضاء أو في أكثر الأعضاء.

ما صبغ للزينة

ما صبغ للزينة قال رحمه الله: [وما صبغ للزينة]. الأصباغ التي توضع في البدن للزينة لا يجوز للمرأة المحتدة أن تضعها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاها عن جميل الثياب، ونهاها عن الطيب، ونهاها عن الحلي لمعنى يفهم من مجموع هذا وهو ألا تتجمل، وألا تفعل ما يدعو إلى نكاحها ويرغب فيها.

الحلي

الحلي قال رحمه الله: [وحلي]. وهذا نص حديثه عليه الصلاة والسلام: (ولا الحلي) فنهى عليه الصلاة والسلام عن لبس الحلي، وجمهور العلماء على أنها لا تلبس الحلي لا في رأسها -كأن تضع على رأسها ما يمسك الشعر من الذهب أو الفضة أو نحوهما- ولا تضع في أذنيها الأقراط، ولا تضع في رقبتها القلائد، ولا تضع في أيديها الأسورة والخواتيم، ولا الدمالج، والدملج يوضع في أسافل القدمين، فهذه كلها يحظر على المرأة المحتدة أن تتجمل بها، إلا أن بعض العلماء اجتهد وقال: يجوز لها أن تلبس الخواتم إذا كانت من الفضة، واختاره بعض العلماء، واختلفوا في هذا الاستثناء، قالوا: لأن الفضة في الغالب زينة الرجال، وليست من زينة النساء، فهي إذا وضعت الفضة ليست بالمتجملة، ولكن هذا ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص فقال: (ولا الحلي) فهذا نص يدل على أنه لا يجوز لها أن تلبس الحلي، والفضة من الحلي، ولذلك لا يجوز لها أن تلبس كل ما يصدق عليه أنه حلي سواء كان ذهباً أو فضة أو ألماساً أو جواهر أخر، كل ذلك تتقيه المرأة وتجتنبه.

الكحل الأسود

الكحل الأسود قال رحمه الله: [وكحل أسود]. لأن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها- ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه منع أن تكتحل المرأة المحتدة، وقد اشتكت إليه أنها تشتكي عينها. قال العلماء: إن وضع الكحل يزيد من جمال العين، وهو زينة من الزينات، لكن رخص في وضعه في الليل ومسحه في النهار عند وجود الضرر، وقيل: هذا خاص بالصبغ فإنها تضمد به في الليل دون النهار. قال رحمه الله: [لا توتيا] هذا نوع من أنواع الزينة، على كل حال: لكل زمان ما يعرف في بيئته وزمانه أنه زينة. قال رحمه الله: [ولا نقاب]. فلا تضع النقاب؛ لأنه يزيد من جمال المرأة وزينتها. قال رحمه الله: [وأبيض ولو كان حسناً]. ما كان من الثياب البيضاء والصفراء، والألوان الباهتة البراقة الجميلة منعت منها المرأة؛ لما فيها من زيادة البهاء والجمال، (لا توتيا ولا نقاب ... )، استثناء، وهو إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، ولا نقاب أي: لا يحظر عليها لبس النقاب، ولا يحظر عليها لبس الأبيض. وقال بعض العلماء: تتقي الأبيض والثياب الباهتة الصفراء الجميلة، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة المحتدة أن تلبس المعصفر، وقالوا: إن هذا أصل في المنع من الثياب البراقة والجميلة، والأصل عند العلماء أن الثياب الجميلة والبراقة تمنع منها، وكذلك المنقوشة نقشاً يلفت النظر ويزيد من زينتها وحسنها تمنع منها ولا يجوز لها أن تلبسها في الحداد، لكن الأبيض خفف فيه بعض العلماء كما أشار المصنف رحمه الله، وبعض العلماء قال: تتقي الأبيض؛ لأنه يزيد من الجمال وهو من خير الثياب. لكن من حيث الأصل العام فالثياب البراقة والبيضاء الجميلة لا شك أنها تلفت النظر، مثل الحرير، أي أنها تكون بيضاء لكن فيها نوع من الزينة، أما أن تكون بيضاء خالصة فاختار المصنف -رحمه الله- الجواز. وبعض العلماء منع من الثياب البراقة كالصفراء والبيضاء الجميلة التي تكون خامتها ملساء جميلة تلفت النظر فلا تلبسه المرأة المحتدة لما فيه من الزينة والجمال.

العدة في بيت الزوجية

العدة في بيت الزوجية قال رحمه الله: [فصل: وتجب عدة الوفاة في المنزل حيث وجبت]. وتجب عدة الوفاة على المرأة المحتدة في المنزل، ولذلك قال تعالى: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240] فأمر المعتدة في عدة الوفاة ألا تخرج من بيت الزوجية، وقد نسخت هذه الآية بالنسبة للمدة ولم تنسخ بالنسبة لحكم عدم الخروج، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ فريعة بنت مالك بن سنان رضي الله عنها لما توفي عنها زوجها: (امكثي في بيت زوجك الذي جاءك فيه نعيه حتى يبلغ الكتاب أجله) فأمرها بلزوم البيت، وأنها لا تخرج، ولذلك أجاز النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة أن تخرج من حاجة، وإلا فإنه لا يجوز لها الخروج في حال الحداد.

حكم التحول من بيت الزوجية في الحداد

حكم التحول من بيت الزوجية في الحداد قال رحمه الله: [فإن تحولت خوفاً أو قهراً أو بحق انتقلت حيث شاءت]. (فإن تحولت) يعني: انتقلت من بيت الزوجية (خوفاً) مثل أن تكون مع زوجها في صحراء، ويخشى أن يأتيها من يؤذيها في عرضها، أو يأتيها السبع، فحينئذٍ يجوز لها أن تتحول، واختلف العلماء: هل إذا تحولت تنظر إلى أقرب مكان بالنسبة لبيت الزوجية، أم أنها إذا تحولت حل لها أي مكان؟ وجهان للعلماء: وفائدة هذا الخلاف: أننا إذا قلنا: تنظر أقرب مكان لو أن امرأة في ضاحية من ضواحي مكة، وخافت من البيت -مثلاً- فهي ضعيفة وفي مكان منفرد ليس فيه أحد، وكان معها زوجها يقوم عليها، ثم لما توفي عنها زوجها خافت، وخشي عليها ففي هذه الحالة إذا قلنا: تنتقل إلى أقرب مكان فإنها تنتقل إلى مكة، ويلزمها أن تحد في مكة على القول بأنها تنتقل إلى أقرب مكان؛ لأنه إذا تركت هذا المكان فينظر إلى أقرب مكان يمكن أن تحتد فيه. ومنهم من قال: تخير، فيجوز لها أن تنتقل إلى أي مكان، وهذه المسألة لها نظائر: منها: إذا قلنا: إن الزكاة تختص بالموضع الذي فيه المال، فهل إذا لم يجد فقيراً في المكان الذي فيه المال هل ينتقل إلى أقرب مكان إليه أم أنه يخير في جميع الأمكنة؟ هذه المسألة لها قاعدة عند العلماء رحمهم الله، والذي اختاره بعض العلماء أنه إذا قويت الشبهة من أن مقصود الشرع القرب نظر إلى الأقرب، وأما إذا كان الأمر على الإطلاق فإنه إذا تخلف المقيد حل للمكلف أن ينتقل إلى الكل على حد سواء، وبناء على هذا فإنه يقوى هنا أن يقال: إنها تنتقل إلى أي مكان سواء كان قريباً من بيت الزوجية أو بعيداً، مثلاً: لو كان عندها قريب قريب من الموضع الذي توفي فيه زوجها، وقريب في موضع آخر بعيد، فإنه يجوز أن تنتقل إلى البعيد، ويجوز لها أن تنتقل إلى القريب على حد سواء، ولا تلزم بواحد منهم. (أو قهراً). أن تقهر بالقوة والكره، يقال لها: لا تجلسي في هذا البيت، ويقع بعض الأحيان -نسأل السلامة والعافية- كأن يكون هناك شحناء، وتكون امرأة تزوجها رجل وهي ليست بقريبة، وجاءت إلى أقرباء الزوج فغاروا منها -وهذا الكلام يقع مع اختلاف البيئات والأعراف والتقاليد- فإذا توفي الزوج الذي كان يحفظها تسلط عليها أهل زوجها فقهروها وأجبروها بالقوة أن تخرج من بيت الزوجية، وقالوا: نريد أن نبيع البيت، ونريد أن نتصرف في البيت ويخرجونها. فإذا غلبت بقوة وقهر وأكرهت على الخروج، فإن الإكراه يسقط التكليف؛ لأن الله تعالى يقول: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] فأسقط الله بالإكراه الردة وهي أعظم شيء، فمن باب أولى أن يسقط ما دونه مثل الحداد. (أو بحق). مثل أن تحتد في بيت ليس لزوجها، وإنما قال له شخص: هذا البيت اسكنه ما دمت حياً، فجاء وسكن في البيت، وسكنت معه زوجته ثم توفي، فالزوجة في البيت، والرجل يريد بيته، والبيت ليس ببيت الزوج، فحينئذٍ تخرج من البيت بحق؛ لأن البيت بيته له الحق أن يخرجها، وله الحق أن يبقيها، فإن أبقاها ففضل وكرم، وإن أخرجها فماله وحقه، وما على المحسنين من سبيل. وهكذا لو انتهت الأجرة، كما لو كان مستأجراً فمكثت شهراً، ثم انتهت الإجارة، فقال صاحب البيت: اخرجي؛ فإنها تخرج. (انتقلت حيث شاءت). أي: أنها لا تنظر إلى أقرب مكان للبيت الذي جاءها فيها النعي.

حكم الخروج أثناء الحداد للحاجة

حكم الخروج أثناء الحداد للحاجة قال رحمه الله: [ولها الخروج لحاجتها نهاراً لا ليلاً]. ولها أن تخرج لرزقها وحاجتها نهاراً، مثل أن تكون عندها عمل أو وظيفة، أو تحتاج إلى كسب المعيشة لها ولأولادها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للمرأة أن تخرج تترزق وتنفع أولادها، فإذا احتاجت لذلك فإنها تخرج، ولا بأس بذلك في النهار، ثم في الليل تأوي إلى بيت الزوجية وتحتد فيه.

حكم ترك الحداد

حكم ترك الحداد قال رحمه الله: [وإن تركت الإحداد أثمت]. وإن تركت الإحداد أثمت؛ لأن الله أمرها أن تحتد، فإذا لم تمتثل ما أمرت به أثمت إذا كانت عالمة، وإذا كانت جاهلة لم تأثم، وكذلك لو كانت غير عالمة بوفاة زوجها، كأن يتوفى عنها زوجها وتمكث أربعة أشهر بعد الوفاة ولم يأتها خبر، ثم يأتيها الخبر بعد سنة فلا شيء عليها، لكن إذا قصدت وعلمت فإنها آثمة، ولا يلزمها أن تقضي فلو أنها -مثلاً- تطيبت أثناء الحداد ولبست جميل الثياب فهي آثمة، ومن عصى الله ورسوله فإنه يخشى عليه، فإن المعاصي بريد إلى ما هو أعظم، ولربما استدرج صاحبها إلى الكفر والعياذ بالله.

انتهاء عدة الحداد

انتهاء عدة الحداد قال رحمه الله: [وتمت عدتها بمضي زمانها]. سواء علمت أو لم تعلم، فإذا مضى الزمان عليها فإنها لا تلزم بقضاء ما فرطت فيه وامتنعت فيه من الأيام التي خلت.

باب الاستبراء

شرح زاد المستقنع - باب الاستبراء حرصت الشريعة على حفظ الأنساب وعدم اختلاطها، ومن هذا أنها ألزمت من اشترى أمة أو سباها أن يستبرئ رحمها حتى يتأكد من خلوها من الحمل فلا تختلط الأنساب.

وجوب استبراء الإماء

وجوب استبراء الإماء بسم الله الرحمن الرحيم قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الاستبراء: من ملك أمة يوطأ مثلها من صغير وذكر وضدهما حرم عليه وطؤها ومقدماته قبل استبرائها]. (من ملك أمة يوطأ مثلها) من ملك أمة، فخرج حكم الزواج؛ لأنه هنا سيتكلم على استبراء الإماء، والإماء هن الرقيقات، وهن من السبي الذي يكون بالجهاد في سبيل الله عز وجل، فإذا حصل الجهاد الشرعي، وأخذ الأسرى من الكفار فإن الإمام من حقه أن يضرب الرق على هؤلاء الأسرى وينظر المصلحة، إن شاء ضرب رقابهم، وإن شاء فادى، وإن شاء ضرب الرق عليهم. والرق لا يختص بلون، ولا بجنس، ولا بطائفة في الإسلام، فالرق لكل من كفر بالله عز وجل، والسبب في ذلك والحكمة منه واضحة: أن المشرك ومن ضاد العقيدة وخرج عن الدين والإسلام والتوحيد نزل إلى مستوى هو أردأ من مستوى البهيمية؛ لأن الله يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، لكن إذا كفر بالله عز وجل فإنه خالف تكريم الله عز وجل فأصبح مهاناً بإهانة الله كما قال تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18]، وهذه الإهانة راجعة إلى قول الله سبحانه وتعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44] أي: إنهم لما كفروا وأشركوا ولم يوحدوا الله عز وجل، وصرفوا حق الله لخلقه أياً كان، ولو كان لصالح أو طالح أو عظيم أو صغير فإنهم قد أشركو مع الله غيره -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- ونزلوا إلى مستوى أهون وأحقر عند الله عز وجل وعند عباده المؤمنين من البهيمة، {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44]، فكان من حق الإمام في الإسلام أن يضرب عليه الرق؛ لأنه خرج عن تكريم الله عز وجل له حينما أعطاه العقل الذي يدله على وحدانية الله ويهديه، فكفر بذلك وأنكره، فنزل هذه المنزلة السيئة التي تليق بمثله، فالإسلام لا يميز بالألوان، ولا بالأحساب، ولا بالأنساب، ولا بالمدن ولا بالقرى، ولا بالأقطار، ولا بالأمصار، فكل من كفر الله وضاد الله عز وجل، وحاد الله ودينه وشرعه فإنه إذا حكم بكفره وقاتل المسلمين ضرب عليه الرق. وإذا أخذ الأسارى وضرب عليهم الرق قسم هذا السبي بين المجاهدين، فلو أخذ رجل امرأة سبياً في الجهاد في سبيل الله عز وجل فهذا جائز بإجماع العلماء، ونصوص الكتاب والسنة فيه واضحة ظاهرة، فإذا أخذت هذه المرأة ملكاً لليمين، وأراد أن يطأها فلا يجوز له أن يطأها حتى يستبرئها، ولذلك لما أخذت المسبيات في غزوة أوطاس وقام الرجل يريد أن يدخل على مسبيته وقد ظهر بها الحمل، قال عليه الصلاة والسلام: (أيريد أن يلم بها؟ والذي نفسي بيده لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره) فهذا يدل على أنه لا يجوز أن يطأ الأمة حتى يستبرئها؛ لأنه في هذه الحالة يخلط بين مائه وماء زوجها الذي كان معها قبل أن تؤخذ رقيقة؛ لأن نساء الكفار يؤخذن وهن حوامل ويؤخذن وهن مستبرئات وغير ذلك، فعلى كل حال: إن كان مثلها يوطأ فلابد من استبرائهن، ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم حرمته فقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه حرث غيره) لأنها إذا كانت حاملاً من غيره ووطئها فإنه كمن سقى ماءه ومنيه لحرث غيره، فهذا أصل عند العلماء رحمهم الله في استبراء الإماء. (من ملك أمة يوطأ مثلها). لأن القضية هي: استبراء الرحم؛ فإذا بلغت عنده سن الوطء، فحينئذٍ يجوز له أن يطأها؛ لأن البراءة معلومة بالأصل. (من صغير وذكر وضدهما). يعني: إذا اشتراها وملكها صغيراً كان أو كبيراً فإنه لا يجوز له أن يطأها؛ وقد يقول قائل: مادامت العلة هي خوف اختلاط الماء، فلو اشتراها صغير؟ نقول: يمنع الصغير كما يمنع الكبير من وطئها فقوله: (من ملك) هذا عام شامل للصغير والكبير والذكر أياً كان. (حرم عليه وطؤها ومقدماته قبل استبرائها). حرم عليه أن يطأ هذه الأمة، وحرم عليه أن يستمتع بالمقدمات حتى يستبرئها، والبراءة المراد بها: خلو الرحم من الحمل من زوجها الذي كان معها قبل، وهكذا لو اشتراها من غيره؛ لأنه ربما وطئها الأول الذي كانت عنده، فلربما حملت منه، فلابد أن يستبرئ الأمة سواء كان ذلك في السبي أو كان بملك اليمين -الشراء أو الهبة- قال له: وهبتك جاريتي، قال: قبلت، فأصبحت ملكاً له، فلا يجوز له أن يطأها حتى يستبرئها.

استبراء الحامل بوضعها

استبراء الحامل بوضعها قال رحمه الله: [واستبراء الحامل بوضعها]. شرع رحمه الله في بيان بم تكون البراءة، وتثبت براءة الرحم، فقال: (الحامل بوضعها)؛ لأن الله تعالى يقول: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]، فبين أن براءة رحم المرأة في عدتها بوضع الحمل، فهذا أصل عند العلماء رحمهم الله أن الحامل عدتها وضع الحمل.

استبراء من تحيض بحيضة

استبراء من تحيض بحيضة قال رحمه الله: [ومن تحيض بحيضة]. وإذا كانت تحيض فإنها تستبرئ بحيضة، وهذا فيه قضاء الصحابة رضوان الله عليهم، وفيه بعض الأحاديث المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى كل حال: إذا استبرأت بحيضة حل له بعد ذلك أن يطأها على الاستبراء بحيضة عند الحنابلة رحمهم الله؛ لأنهم يرون أن القرء الأصل فيه أنه متعلق بالحيضات، فتكون عندهم البراءة بالحيض كما هي في الطلاق، أي: كما أنه في الطلاق تكون البراءة بالحيضات، فكذلك في الاستبراء.

استبراء الآيسة والصغيرة بشهر

استبراء الآيسة والصغيرة بشهر قال رحمه الله: [والآيسة والصغيرة بمضي شهر]. وإذا كانت الأمة التي اشتراها آيسة كبيرة سن، وبلغت سن الإياس وانقطع معها الحيض فإن عدتها واستبراءها يكون بالأشهر، فإذا كانت العدة ثلاثة أشهر لكل حيضة شهر، فكذلك إذا كانت البراءة بحيضة فإنها تكون بشهر واحد، فإذا اشترى صغيرة فإنه يستبرئها شهراً ثم بعد ذلك يطؤها، وإذا اشترى آيسة من الحيض يستبرئها شهراً كذلك.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الحداد للقواعد من النساء

حكم الحداد للقواعد من النساء Q لو كانت المرأة من القواعد هل تنطبق عليها أحكام الحداد كاملة؟ A الحكم في وجوب الحداد شامل للنساء سواء كن كبيرات أو صغيرات، فهذا أصل عام كما ذكرنا في النصوص الواردة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث لم تفرق بين كبير ولا صغير، والحكم والأصل في هذا أنه يشمل الجميع، ولا يختص بالبعض دون البعض، وليس هناك دليل يدل على تخصيص البعض دون البعض في هذه المسألة، والله أعلم.

حكم التقيد بلباس السواد في الحداد

حكم التقيد بلباس السواد في الحداد Q ما حكم لبس النساء في مدة الإحداد لباساً واحداً مثل الأسود خاصة، هل هذا يجوز؟ A التقيد بالأسود هذا محدث وبدعة، بل إن بعض العلماء يقول: إن الأسود قد يكون جميلاً، يعني: هناك أنواع من الأسود تكون جميلة، ولا يكون بها الحداد لأنها زينة، فلبس السواد في الحزن من المحدثات والبدع، فالمرأة تلبس ما تيسر لها من الثياب التي لا زينة فيها، وليس هناك نص وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم بتكلف السواد وشراء السواد، ويا ليت أن هذه العادة الممقوتة المذمومة تقطع بالصالحات والخيرات وتوجيه الناس ودلالتهم؛ لأن هذا ليس له أصل، والسواد -كما قلنا- بعض الأحيان يكون فيه نوع من الزينة والجمال، فهذا كله محدث وبدعة؛ والمشكلة أن المرأة لو دُخِل عليها في حداد وهي غير لابسة للسواد لأنكرت النساء ذلك؛ لأنهن يعتقدن أنه لا حداد إلا إذا دخلت في ثوبها هذا، وهذا لا شك أنه بدعة، وعلى كل حال فلا يجوز اعتقاد أمر لم يدل عليه دليل من الشرع، فهذا من البدع والمحدثات، وفي الحداد كثير من البدع المحدثات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وكل ما خالف نص الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح في الأمة وخالف إجماعهم فإنه يرد على صاحبه كائناً من كان، سواء كان ذلك في الملبوسات، أو في طريقة العزاء، وطريقة الحداد، كل هذا إذا خالف شرع الله عز وجل، وجاء بالضيق والحرج خلاف اليسر الذي يسر الله به على عباده فإنه يرد، وبينه الناس على أنه لا أصل له في شرع الله. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

كتاب الرضاع [1]

شرح زاد المستقنع - كتاب الرضاع [1] بين الله سبحانه وتعالى ما يصلح الناس في معادهم ومعاشهم والمعاملات في الإسلام حظيت بتفصيل دقيق ينظم للعباد شئونهم، والرضاع من الأمور التي تؤثر في العلاقات الاجتماعية، إذ به تثبت المحرمية وغيرها من الأمور التي يثبتها النسب، غير أنه لا يثبت التوارث، وهو من المسائل التي ينبغي عدم تجهاهها أو التساهل فيها.

تعريف الرضاع وحكمه

تعريف الرضاع وحكمه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الرضاع]. شرع -رحمه الله- في كتاب الرضاع، وهذا الكتاب هو أحد الكتب المتعلقة بكتاب النكاح؛ لأن كثيراً من المسائل والأحكام التي تتعلق بالرضاع مرتبطة بأحكام النكاح؛ ولذلك يعتني العلماء -رحمهم الله- بذكر هذا الكتاب في هذا الموضع. والرضاع في لغة العرب: هو مص الثدي سواءً خرج منه القليل أو الكثير من اللبن. والمراد به في الشريعة: مص مخصوص من شخص مخصوص، من موضع مخصوص، على صفة مخصوصة. وهذا التعريف المراد به: أن الرضاع لا يمكن أن يحكم بكونه رضاعاً شرعياً إلا إذا كان من شخص مخصوص، وهو مَن دون الحولين. سواءً كان من الذكور أو كان من الإناث، إذاً: لابد أن يكون الرضاع في الحولين، واختلف فيما زاد عن الحولين إلى الستة أشهر إذا لم يفطم الصبي، فمن أهل العلم -رحمهم الله- من قال: الستة الأشهر -أي: بعد- الحولين ليس الرضاع فيها بمؤثر. ومنهم من تسامح في الشهر والشهرين، أي: ما قارب تمام الحولين، ولكن الذي دل عليه القرآن أن الأصل في الرضاعة أن تكون في الحولين؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233]، وقال تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف:15]. فقد يكون للحمل ستة أشهر، وأربعة وعشرون شهراً للرضاع. لكن لا يمنع هذا أن يقع الرضاع من الكبير، وذلك في مسألةٍ مخصوصة، وهي أن يكون الشخص قد تربى ونشأ في بيت من البيوت ولا يكون بينه وبينهم قرابة أرحام، مثل: بيت الجيران، أو بيت عمه، أو بيت خاله، فزوجة العم وزوجة الخال ليست بمحرم. فينشأ بينهم كواحد من أولادهم، ثم يكبر، فإذا كبر فإنهم في الغالب لا يتحرجون منه، بل يعتبرونه كواحد من أولادهم. وحينئذ يُشْرَع لمثل هذا -دفعاً للحرج- أن ترضعه زوجة العم، أو زوجة الخال، لحديث سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكت له زوجة أبي حذيفة -وهي سهلة بنت الحارث رضي الله عنها- أن سالماً كان عندها كواحد من أولادها، وأنه لما كبر وجدت في نفس زوجها شيئاً. وكأنه يتحرج ويتضايق من دخوله. فقال عليه الصلاة والسلام: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه). فأثبت عليه الصلاة والسلام الرضاعة للكبير في مسألة مخصوصة. إذاً: فنعقب على التعريف ونقول: إن الأصل في الرضاع أن يكون في الحولين فما دون، وأما بالنسبة لما زاد عن الحولين فيفتى فيه في المسائل الخاصة كما تقدم، وكذا فيما زاد عن الحولين قريباً كالشهر والشهرين إلى نصف السنة -كما ذكرنا أنه قول لبعض العلماء- فإذا حصل فطام في الحولين فلا إشكال، بمعنى: أنه صار يغتذي بغير اللبن، لكن الإشكال إذا بلغ الحولين وأتمهما، ولكنه لا يزال رضيعاً لم يفطم، فهذا هو الذي وقع فيه الخلاف بين الحنفية والمالكية -رحمة الله عليهم- وغيرهم. وقولنا: (على صفة مخصوصة) من أهل العلم من يخص الرضاع بمص الثدي كالظاهرية، ولا يرون رضاعاً بغير مص الثدي، حتى أنهم يقولون: لو أن اللبن وضع في إناء أو وضع في زجاجة -كالرضاعة الموجودة في زماننا- وشرب منه الصبي فلا يوجب ثبوت الأحكام المتعلقة بالرضاع، وهذا ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت أن الرضاعة من المجاعة. وإذا شرب من الإناء فإنه يسد به الجوع، وأثبت أن الرضاع يفتق الأمعاء، وأنه ينشز العظم وينبت اللحم، والرضاع إذا كان من الإناء ينشز العظم وينبت اللحم، كالرضاع المباشر. وبناء على ذلك: لا فرق بين أن يكون الرضاع بالمص، وبين أن يكون بالشرب من الإناء، ثم العبرة في الرضاع بالوصول إلى الجوف، فلو أنه قطر في أنف الصبي وهو كـ (السعوط)، أو أوجر أي: صب في حلقه وهو (الوجور)، فإنه يثبت الرضاع. ويستوي في هذا أن يكون مصاً، أو يكون من الأنف كالسعود، أو يكون وجوراً، أو لدوداً. ثم كذلك أيضاً يتبع هذا ما لو صار لبن المرأة جبناً، أو خلط لبن المرأة بغيره وشربه الصبي، فإنه يؤثر وتحدث المحرمية؛ لأنه يسد الجوع وينبت اللحم وينشز العظم، هذا بالنسبة لقولنا: على صفة مخصوصة. والعبرة في هذا الرضاع أن يكون بالعدد المؤثر، وهو خمس رضعات، كما سيأتي إن شاء الله. لقوله عليه الصلاة والسلام: (خمس رضعات معلومات يحرمن) ولقوله عليه الصلاة والسلام: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه). وقول عائشة رضي الله عنها: (كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى). والرضاع الأصل في ثبوته وثبوت أحكامه دليل الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:23]، وهذا في سياق ذكر المحرمات، فأثبت التحريم للأصول والفروع والحواشي فدل على أن الرضاع مؤثر، وكذلك دل على مشروعية وجواز الرضاع قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة:233]، وقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6]، إلى غير ذلك من الآيات، وكذلك دلت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها: -كما في الصحيحين من حديث ابن عباس - أنه قال: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وكذلك حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الرضعات الخمس المتقدم. وحديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه وأرضاه -في قصته مع زوجته- وفيه: (أن امرأة جاءته وقالت: إنها أرضعته هو وزوجته، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بفراق زوجته فقال: يا رسول الله! كيف؟! فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: كيف، وقد قيل؟!) فأثبت أن للرضاع تأثيراً، وأثبت أنه يحرم، وجاء ذلك صريحاً في الحديث الذي ذكرناه -وهو متفق عليه-: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب). فهذا يدل على أن الرضاع مؤثر، وأنه تترتب عليه الأحكام الشرعية من ثبوت أمرين، أولهما: ثبوت الحرمة، والمراد (بالحرمة) حرمة نكاح المرأة. والثاني: ثبوت المحرمية، وهذا إذا كان على الصفة المعتبرة، فتصبح من ارتضع منها له أماً، وفروعها إخواناً وأخواتٍ للمرتضع، وهكذا بقية الأحكام المتعلقة بالرضاعة. يقول رحمه الله: (كتاب الرضاع). أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالرضاع.

يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب

يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب قال رحمه الله تعالى: [يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب]. هذه الجملة هي قطعة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتفق على صحته، وهي قاعدة عند العلماء وأصل عند أهل العلم، قاعدة فرعت عليها فروع كثيرة، وأصل رد العلماء إليه كثيراً من المسائل والأحكام المتعلقة بالرضاع، وهذا من بليغ كلامه -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه، فقد أوتي جوامع الكلم حتى أن الجملة الواحدة يتفرع عنها ما لا يحصى من المسائل. وقوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) بيَّن: أولاً: أن الرضاع يحرم، أي: أنه يوجب التحريم في النكاح، وقد تقدم أن القرآن قد نص على هذا. ثانياً: أنه أثبت المحرمية، فكما أن النسب يثبت المحرمية، فكذلك الرضاع يوجب ثبوت المحرمية. ثالثاً: في قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) يدل على المساواة والتشريك في الحكم من جهة التحريم، لا من جهة بقية الأحكام؛ فلا يحصل التوارث في الرضاع، فالأم التي أرضعت لا ترث كما ترث الأم من النسب، وإنما قال: يحرم، وهذا يدل على اختصاص الحكم بالحرمة والمحرمية دون بقية مسائل الأحكام. ومن هنا قال بعض العلماء: إن الأم من الرضاع، والقرابة من الرضاع، ليس لهم في الحق من الزيارات وصلة الرحم ما للنسب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خص الرضاع بثبوت الحرمة والمحرمية، فدل على أنه لا يشابه النسب من كل وجه، ولكن هذا لا يمنع الإحسان، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخذت هوازن في الأسر، وكان فيهم بنو سعد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من قسمة الغنيمة -غنيمة حنين- وكان ينبغي قسمتها بعد انتهاء الغزوة، ولكن أخر ذلك إلى أن فتح الطائف، ثم رجع بعد فتح الطائف وكل هذا -كما ذكر بعض أهل العلم رحمة الله عليهم واختاروه-؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد أن لا يبادر بأذيتهم لمكان الرضاعة التي في بني سعد، من أجل أن يأتوا إليه عليه الصلاة والسلام قبل أن تقسم الغنائم، فلما تأخر هذا التأخير ولم يكلموه عمد عليه الصلاة والسلام إلى القسم، فلما رجع إلى الجعرانة وقسمه فزعوا إليه عليه الصلاة والسلام بعد الله عز وجل فقال شاعرهم: امنن علينا رسول الله في كرم فإنك المرء نرجوه وننتظر امنن على نسوة قد كنت ترضعها إذ فوك يملؤه من محضها الدرر فخشع عليه الصلاة والسلام، ولما قام خطيبهم، وقال: (يا رسول الله! والله! إن اللائي في الحظائر، ما هن إلا أمهاتك وأخواتك من الرضاعة وخالاتك من الرضاعة)، فكاد أن يبكي عليه الصلاة والسلام وقال: (ما كان لي ولبني هاشم فهو لكم)، فأحسن عليه الصلاة والسلام ورد الإحسان بأفضل منه، وما كان عليه الصلاة والسلام إلا كذلك، فإنه يقابل الحسنة بأحسن منها. فلا يمنع هذا أن الأم من الرضاعة يكون لها حق الإحسان والتفقد، وإذا احتاجت أن يسد حاجتها وأن لا يقطعها من خير وبر؛ فذلك لا شك أنه من رد المعروف فقد قال عليه الصلاة والسلام: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه). يقول المصنف رحمه الله: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وهذا أدب مع السنة، وهكذا ينبغي للعالم والفقيه ومن يعلم الناس أن يحرص على الالتزام بالكتاب والسنة، وأنه متى أمكن التعبير بنص القرآن والسنة فذلك أتم وأعظم أجراً، وهو دليل صادق على فقه العالم؛ لأنه إذا قدم كتاب الله وسنة رسوله قدم ما حقه التقديم، دون أن يكون له فضل في ذلك، فقال المصنف: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب). ولذلك هذه المتون الفقهية تساير النصوص، وتمشي مع النصوص الشرعية، وإن كانت لا تأتي بالحديث نصاً، لأنها لم تتخصص في رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما دلت على ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: (يحرم من الرضاع) يعني: بسبب الرضاع، فمن: سببية. كقوله: (إنما الماء من الماء)، وقوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} [نوح:25]. أي: بسبب خطيئاتهم. وقيل: المراد بها: الجهة أي: (يحرم من جهة الرضاعة ما يحرم من جهة النسب)، والنسب: الإضافة، يقال: نسب الشيء إلى فلان، إذا أضافه إليه. وسمي النسب نسباً؛ لأن الإنسان يضاف إلى ذويه، فيقال: محمد بن علي بن صالح مثلاً، فهذه إضافة، فالنسب لا بد فيه من الإضافة، ويقال: خال فلان. وعم فلان. وكله مبني على الإضافة. والمراد بالنسب: القرابة. وتفرعت عن هذا الحديث عدة مسائل: أولاً: التحريم من جهة النسب؛ فتحرم الأم من الرضاعة، والبنت من الرضاعة، والأخت من الرضاعة، وبنت الأخت من الرضاعة، وبنت الأخ من الرضاع، وكذلك العمة من الرضاع، والخالة من الرضاع، هؤلاء كلهن محرمات من جهة الرضاع، كما أنهن محرمات من جهة النسب. كذلك أيضاً: فيه دليل على أن الرضاع يشابه النسب، فقد يكون الأخ من الرضاع شقيقاً، وقد يكون الأخ من الرضاع لأب، وقد يكون الأخ من الرضاع لأم، وصورة ذلك: أن محمداً لو ارتضع من عائشة وهي زوجة لعلي، فجميع من تنجبه عائشة يكون أخاً لمحمد، كما أنه في النسب أخ له، ولكن إذا كان الذي أنجبته عائشة من علي فهو أخ له شقيق، وإن أنجبت من زوج سابق -قبل الزواج بعلي- أولاداً؛ فهم إخوة -من الرضاع- لأم. ثم إن علياً -الزوج- لو أنجب أولاداً من زوجة أخرى -قبل عائشة أو بعدها-؛ فهم أخوة من الرضاع لأب؛ لأنهم شاركوه من جهة الأب، ولم يشاركوه من جهة الأم، وهذه تفريعات كالنسب سواء بسواء. وعلى هذا: أثبت العلماء التحريم بالرضاع من جهة مشابهة النسب. كذلك أيضاً: أخذ منه بعض أهل العلم -وقد وقع عليه الإجماع، لكنهم يستدلون بهذا الحديث- كالحافظ ابن رجب وغيره رحمة الله عليهم، يقولون: إن الجمع بين الأختين من الرضاع محرم كالجمع بين الأختين من النسب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت في الرضاع ما يثبت في النسب، فكما أنه لا يجوز الجمع بين الأختين من النسب كذلك يحرم الجمع بين المرأة وأختها إذا كانت أختاً لها من الرضاع. سواء كانت أختاً شقيقة أو أختاً لأب أو أختاً لأم، لعموم قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23]، وكذلك أيضاً: يحرم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها من الرضاعة، كما أنه يحرم في النسب الجمع بين المرأة وعمتها من النسب، والمرأة وخالتها من النسب، لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها)، كذلك في الرضاع يحرم أن يجمع بين المرأة وعمتها من الرضاعة أو خالتها من الرضاعة، وذلك لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب). كذلك: أخذوا منه دليلاً على أنه تثبت فيه المحرمية من جهة المصاهرة، فإذا تزوج امرأة فانبتها من الرضاع ربيبة، كما أن ابنتها من النسب ربيبة، وكذلك العكس، فلو تزوج امرأة حرم عليه أن ينكح أمها من الرضاع، كما أنه إذا نكحها حرم عليه أن ينكح أمها من النسب، وهذا كله متفرع من قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).

عدد الرضعات التي ينبني عليها التحريم

عدد الرضعات التي ينبني عليها التحريم قال رحمه الله: [والمحرم خمس رضعات في الحولين]. إذاً: يشترط العدد ويشترط فيه الزمان، والتفصيل كما يلي: أولاً: أن تكون الرضعات خمساً، ومفهوم العدد أنه لو كان الرضاع دون الخمس لم يحرم. فلو ارتضع منها أربع رضعات، فإنه لا يثبت له حكم الرضاع، ويشترط في هذه الخمس رضعات أن تكون مشبعة، فلا يكفي أن يمص الثدي ثم يؤخذ عنوة منه، إنما الشرط أن تكون الرضعة مشبعة، وحقيقة الإشباع: أن يرضع الصبي الثدي باختياره، ثم يتركه باختياره، فعند الترك بالاختيار تحتسب له رضعه، فإن تركه قهراً أو بغير اختياره ثم رجع، فإنها رضعة واحدة، فلو تركها قهراً كأن تكون أمه نزعت ثديها من فمه ثم أرجعته إليه مرة ثانية، أو هو هجم على الثدي ثانية بعد أن أجبر على تركه؛ فهي رضعة واحدة. وهكذا لو دهمه عطاس فعطس ثم رجع، فهذا بغير اختيار، فحينئذ تحتسب رضعة واحدة. إذا: لا بد أن تكون خمس رضعات مشبعات وضابط الإشباع: أن يدع الثدي باختياره، فإذا ترك الثدي وتركه باختياره ثم عاد مرة ثانية فهي رجعة مستأنفة، وبناء على ذلك: قد تقع الخمس رضعات في مجالس متعددة وقد تقع في مجلس واحد، وعلى هذا لا يشترط الاختلاف في المجالس وتعددها. قوله: (خمس رضعات) هذه الخمس رضعات تأتي على ثلاث صور: الصورة الأولى: أن تثبت التحريم للأب والأم معاً -أي: لصاحب اللبن (الزوج) والمرضعة (زوجته) - فيكون صاحب اللبن أباً، وتكون المرضعة واحدة وهي الأم، وتارة يثبت حكم الرضاع لصاحب اللبن دون اللائي أرضعن، وتارة العكس، أي: يثبت للتي أرضعت دون صاحب اللبن. أما تفسير ذلك: فإن كان هذا الرضيع قد رضع خمس رضعات من امرأة واحدة من لبن زوج واحد؛ فإنه حينئذ ابن لهذه المرأة وابن لذلك الرجل، مثلاً: محمد زوج لعائشة، ارتضع خالد منهما، من لبن عائشة حال قيام الزوجية بينهما خمس رضعات، أو بعد تطليقه إياها وقبل دخول الزوج الثاني عند بعضهم، أو بعد دخوله وقبل الحمل منه، في هذه الصور كلها يكون ابناً للاثنين -للأب وللأم- لأنه استنفد الخمس رضعات من ماء الزوج ومن لبن المرأة؛ لأن اللبن يفور بوطء الزوج. وبناء على ذلك: يثبت الحكم كما قلنا، فيكون هذا أباه وهذه أمه. الصورة الثانية: أن يكون الرضاع متعلقاً بالأم دون الأب. مثلاً: عائشة أرضعته -وهي عند محمد قبل أن يطلقها- ثلاث رضعات، ثم أرضعته بعد زواجها من أبي بكر رضعتين، فإنه في هذه الحالة ينتفي تأثير اللبن من جهة الفحل؛ لأنه لم يتمحض عدد خمس رضعات لفحل واحد، وإنما جاء من أكثر من فحل فلا يثبت؛ لأنه لم يتمحض لواحد منهما خمس رضعات، فيثبت الرضاع للأم، وتكون أماً له، ولا يكون له أب من الرضاع. ولذلك يقولون: هل يوجد رضيع له أم، ولا أب له من الرضاع؟ تقول: إذا ارتضع خمس رضعات من امرأة واحدة كانت عند رجل ثم طلقها فتزوجها آخر، والعكس قد يحدث؛ فلو أن محمداً تزوج عائشة، فارتضع هذا الرضيع من عائشة ثلاث رضعات، ثم انتقل إلى ضرتها -زوجة محمد الثانية- وارتضع رضعتين، أكمل خمساً من ماء الفحل الذي اللبن لبنه، ولم يكملها ويتمها من إحدى نسائه، فحينئذ له أب من الرضاعة ولا أم له من الرضاعة، يقولون: هل يوجد رضيع لا أم له من الرضاعة وله أب من الرضاعة؟ تقول: إذا لم يستنفد خمس رضعات من امرأة واحدة، وإنما من نسوة متعددات متزوجات برجل واحد، هذا بالنسبة لمسألة الخمس الرضعات. واشتراط الرضعات الخمس محل خلاف بين العلماء رحمهم الله. فأصح أقوال العلماء -رحمهم الله- أن العبرة في الرضاع أن يكون خمس رضعات، والدليل على ذلك حديثان قويان صريحان في الدلالة على اعتبار أن هذا العدد مؤثر في الرضاعة: الأول: حديث سهلة بنت الحارث رضي الله عنها وأرضاها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: أرضعيه خمساً تحرمي عليه)، وهذا الحديث رواه مسلم في الصحيح وغيره. ولفظ: (خمساً) جاء في معرض البيان، ولو كان الحكم يبنى على الأقل من الخمس لذكره لها، وإنما ذكر العدد الذي لا يمكن أن يؤثر ما دونه، فقال: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه) ففهمنا أنه لو أرضعته أربعاً لم تحرم، ولو أرضعته ثلاثاً لم تحرم، ولو أرضعته ما دون ذلك لا تحرم. ثانياً: حديث أم المؤمنين عائشة في الصحيحين أنها قالت: (كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم (عشر رضعات معلومات يحرمن) فنسخن بخمس، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن) هذا الحديث بين أنه كان في شرع الله عز وجل -بنص القرآن- أن العبرة في التحريم بالرضاع عشر رضعات، ثم خفف الحكم إلى خمس رضعات. (عشر رضعات معلومات يحرمن) فهذا يدل على أنه لابد أن تكون معلومة، وأن لا تكون مبنية على الشك، وأن تكون مشبعة، لأن الرضعة المعلومة هي المشبعة، قالت: (فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن) فأثبتت أن العشر قد نسخت، وأن الخمس محكمة حكماً لا تلاوة، والقرآن منه ما نسخ تلاوة وحكماً، ومنه ما هو محكم تلاوة وحكماً، ومنه ما هو محكم تلاوة منسوخ حكماً، ومنه ما هو منسوخ تلاوة ومحكم حكماً. قالت: (توفي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهن مما يتلى من القرآن) أي أن هناك أناساً يتلون هذه الآيات، وقد نسخت في العرضة الأخيرة التي عرضها جبريل؛ لأن جبريل عليه السلام كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم. كما في الصحيحين من حديث ابن عباس في الصحيحين: (كان يعرض عليه القرآن كل رمضان). وفي آخر سنة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم عرض عليه القرآن مرتين، وهذه تسمى بالعرضة الأخيرة التي استقر عليها المصحف في زمان أبي بكر رضي الله عنه، ومن بعده من الخلفاء الراشدين. فهذه العرضة الأخيرة نسخ ما عداها من العرضات السابقة، فهناك من الصحابة من حفظوا شيئاً من العرضات السابقة، ولا زالوا يتلونه، ولم يبلغهم أنه منسوخ؛ لأن كل واحد يعمل بما علم. والشاهد من الحديث: أنه أثبت أن الخمس توفي صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن، وأن الخمس محكمة، ولم يأت نص ينسخ هذه الخمس، وقد اعترض على هذا الحديث باعتراض مشهور وهو قولهم: إن هذا الحديث إن قلتم: إنه من القرآن فالقرآن لا يثبت بالآحاد، وإن قلتم: إنه سنة فعائشة تقول: (إنه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن) فأثبتته قرآناً، وإن قلتم: إنه قرآن، فالقرآن لا يثبت بالآحاد؛ لأنه -بالإجماع- لا يثبت القرآن إلا بالتواتر. وبناء على ذلك: يقع الاعتراض على هذا الحديث فيسقط الاستدلال به؛ لأنك لا تستطيع أن تعتبره سنة؛ لأن أم المؤمنين رضي الله عنها روته قرآناً، وإن أردت أن تثبته قرآناً فلا تستطيع أن تثبته قرآناً؛ لأنه جاء برواية الآحاد، ولم يأت برواية التواتر. ومن حفظ الله للقرآن لهذه الأمة أنه منقول بالكافة عن الكافة نقلاً متواتراً، وهذا من الحفظ الإلهي الذي حفظ به الكتاب، حتى كيفية النطق ومخارج الحروف، فسبحان من حفظ كتابه وكلامه، فهذا الأصل عند العلماء. فإذاً: الحديث ليس بقرآن -لأنه آحاد- ولا هو بسنة؛ لأنها حكته قرآناً، وأجيب عن هذا الاعتراض بأقوى الأجوبة وهو الذي اختاره شيخ الإسلام الإمام عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي) رحمه الله، وكذلك اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أئمة الأصول، قالوا: إن هذا الحديث فيه جانبان: جانب التلاوة -أي: إثبات كونه قرآناً، وكونه يتلى كالقرآن- وجانب العمل بما في المروي؛ للحكم وليس للتلاوة. فأما كونه قرآناً فقد ثبت عندنا بالتواتر أنه منسوخ؛ لأنه ليس في العرضة الأخيرة إجماعاً، فهذا لا نثبته قرآناً وليس لنا فيه كلام، ولكن الذي يعنينا ما بقي، وهو الشرط الثاني: إثبات الحكم، وإثبات الحكم لا يشترط فيه التواتر، ولا يشترط فيه أن يكون قرآناً فالآية قد تنسخ تلاوتها، ولكن تبقى حكماً وهم يسلمون بهذا؛ وبناء على ذلك: يدفع ما ذكروه، وخاصة وأن عندنا حديثاً آخر يغني عنه وهو: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه) وهذا يدل دلالة قوية على أن العبرة بالخمس. أما الذين خالفوا فمنهم من يقول: قليل الرضاع وكثيره يحرم، كالحنفية ومن وافقهم، ومنهم من يقول: الثلاث رضعات محرمة، والرضعتان لا تحرم، ومنهم من يقول: العشر رضعات محرمة. فهذه الثلاثة الأقوال تخالف القول الذي اخترناه. أما من قال: قليله وكثيره يحرم، فاحتج بقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة:233]، وقال تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:23]، ولم يشترط عدداً معيناً، وقالوا: لو أن شخصاً ارتضع من امرأة رضعة واحدة فهي أمه التي أرضعته، إذ لا يوجد في القرآن (أرضعنكم خمس رضعات) قالوا: إن القرآن أطلق ولم يقيد -هذا وجه الدلالة- فنقول: هذا الإطلاق قيدته السنة، وبناء على ذلك لا تعارض بين مطلق ومقيد، فالإطلاق الذي ورد من كتاب الله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:23]. لم يبين الله عز وجل فيه عدد الرضعات، ثم جاءت السنة تحدد وتبين عدد الرضعات. ثانياً: كما أنكم تقولون: إن الإطلاق في قوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:23]. مقيد بالحولين، لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233]. فأنتم تقيدون الرضاع بالحولين مع أن الله يقول: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:23] عموماً، فما خص الحولين ولا غيره، وبناء على ذلك: كما أنكم قيدتم بالكتاب فقيدوا -أيضاً- بالسنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الذين قالوا: إن الثلاث رضعات تحرم، فاستدلوا بحديث: (لا تحرم المصة ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان) وهذا الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو حديث عقبة بن ا

صور للرضاع المحرم

صور للرضاع المحرَّم قال رحمه الله: [والسعوط والوجور ولبن الميتة، الموطوءة بشبهة أو بعقد فاسد أو باطل أو زنا؛ مُحَرِّم].

الرضاع بالسعوط

الرضاع بالسعوط (والسعوط) تقدم معنا في أكثر من مسألة، كما في الصوم، ولا يكون إلا عن طريق الأنف بالتقطير، أسعط الشيء إذا تناوله عن طريق الأنف، واللبن يكون سعوطاً، إذا قطر منه قطرات في الأنف؛ لأنه في بعض الأحيان يمرض الصبي أو يأبى أخذ اللبن بفمه، أو يمرض مدخل حلقه، أو فمه، ولا يمكن إعطاؤه عن طريق الفم، فيضطر إلى تقطير اللبن عن طريق الأنف، فهذا يسمى سعوطاًً.

الرضاع بالوجور

الرضاع بالوجور (والوجور) يصب في حلقه صباً، يفتح فمه ثم يصب اللبن داخل حلقه، وغالباً يقهر عليه الصبي قهراً. فبيَّن رحمهُ الله أنه إذا وصل اللبن عن طريق المص -الذي هو الطريق الطبيعي-، أو عن طريق الصب بالاختيار، أو بدون اختيار أنه مؤثر، كأنه يقول: العبرة بوصول اللبن إلى الجوف، وهذا صحيح؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ما فتق الأمعاء)، وإذا نزل عن طريق الأنف إلى الأمعاء أثر فينشز عظماً وينبت لحماً، ولا إشكال في كونه عن طريق الأنف أو عن طريق الفم. أما الدليل على أن الأنف ينفذ إلى الجوف فحديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً). فالصائم يحرم عليه أن يوصل شيئاً إلى جوفه، وإذا أراد الصائم الاستنشاق فقد نهاه الشرع أن يبالغ خشية أن يدخل الماء من الخياشيم إلى الحلق. فدل على أن الأنف متصل بالجوف، وهذا ثابت طبعاً وشرعاً. وبناء على ذلك: فلو أن اللبن وضع في أنفه فقطر ووصل إلى جوفه فإنه مؤثر وموجب للحكم بالتحريم. (والوجور) وكذلك (الوجور) إذا صُبَّ في حلقه صباً؛ والظاهرية يقولون: إنه لابد أن يمص الصبي، ويرتضع، ومراد المصنف: أن الرضاعة لا تختص بالمص فقط، فلو أنه صنع منه جبناً فأكله المرتضع، أو وضع لبن المرأة في زجاجة أو إناء ثم خلط به ماء وخفف أو خلط به غيره -مثل العقاقير التي توضع مع لبن المرأة للدواء أو نحو ذلك- فهذا مؤثر؛ لأن مادة اللبن موجودة، ويتغذى بها الجسم ويرتزق، ويفتق أمعاءه وينشز عظمه وينبت لحمه، وبناء على ذلك: سواء كان خالصاً أو مشوباً، وسواء كان عن طريق الفم أو غيره مما يصل إلى الجوف، فإنه مؤثر.

الرضاع من لبن المرأة الميتة

الرضاع من لبن المرأة الميتة قال رحمه الله: [ولبن الميتة]. (ولبن الميتة) أي: المرأة إذا ماتت وشرب صبي لبنها هل يثبت التحريم؟ نحن قلنا: خمس رضعات تحرم، فلو ارتضع أربع رضعات، ثم جاءت سكتة قلبية للمرأة وماتت، وشرب الرضعة الخامسة بعد موتها -وقد تقع هذه في بعض الحوادث والأحوال- والارتضاع من الميتة وارد، وحتى في زماننا -في مثل حوادث الزلازل التي وقعت- وجد صبي رضيع قد عاش مع أمه ما لا يقل عن أسبوعين، وسخر الله له ثديها مع أنها ميتة. فكان يعيش على لبن هذا الثدي، فالشاهد: إذا ماتت هذه المرضعة وبقي عدد من الرضعات ارتضع منها وهي ميتة فإن حكمها ثابت، خمس رضعات. ولنفرض -مثلاً- أن صبياً احتاج إلى لبن -وما عندنا إلا امرأة ميتة ماتت الآن- فأراد أن يرتضع منها، وأرضعناه منها خمس رضعات، يأخذ الثدي اختياراً ويتركه اختياراً خمس مرات. فهل لبن الميتة يحرم؟! هناك وجهان للعلماء رحمهم الله، قال بعض أهل العلم -وهم الجمهور-: لبن الميتة مُحَرِّم. وهو الصحيح، وذلك لقول الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:23]، أي: وقع الإرضاع منهن، وهذا لا شك أنه قد ارتضع لبنها، كذلك اعترض بعض العلماء -رحمهم الله- على الذين قالوا: إن الميتة لا يحرم لبنها باعتراض -وهو من أوجه الاعتراضات وأجملها- فقالوا: أرأيتم لو أن هذه الميتة حلبت لبنها في إناء، ثم ماتت فشربه الصبي، هل يثبت التحريم؟!! قالوا: نعم. قال: إذاً: لا فرق بين كونه يشربه وهو داخل الثدي، أو يشربه وهو خارج الثدي. وفي الحقيقة: أن الخوف عندهم أن يكون اللبن قد استنفد واستهلك، وهذا طبعاً وبلا إشكال أنه إذا تبين أن اللبن مستنفد وفاسد فقد يضر -بل قد يقتل- الصبي. لكن نحن نتكلم عن لبن صحيح، أي: شرب لبناً صحيحاً، أما كيف يعرف أنه صحيح فمعروف بالفطرة أن الصبي إذا عاف اللبن تركه؛ لأنه في بعض الأحيان يكره على رضاع اللبن الطبيعي بقوة، فضلاً عن أن يكون فيه زنخ أو يكون مستنفداً مستهلكاً، إذ ليس من السهولة بمكان أن يقدم الطفل على الرضاع من ثدي خالٍ من اللبن أو متغير اللبن؛ لأن الله يقول: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]، هدى: دلَّ، فالنحلة -وبقية الحيوانات- هداها الله عز وجل كيف تحصل أقواتها، وحتى الكلب المسعور -أعاذنا الله وإياكم- يسعر، ثم فجأة ينطلق إلى الحديقة التي فيها مئات الأنواع من الأزهار ومن الأعشاب، ويأتي إلى عشب مخصوص أو إلى وردة معينة فيشمها وينتهي ما به!! من دله وهداه؟! دله اللطيف الخبير وهداه {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]. فالطفل من حيث هو فيه هداية فطرية، ولا يمكن أن يمتص لبناً فاسداً، والغالب أنه لا يرتضع إلا لبناً صالحاً، فإذا رأيناه يرتضع ثم يترك الثدي، ثم يرتضع، ثم يرجع إليه خمس مرات أمامنا، علمنا ظاهراً أن اللبن صالح، وحكمنا بهذا الظاهر، وهذه من المسائل التي يحكم فيها على الظاهر؛ لأن دلالة الحال تدل على أن اللبن في ظاهره صالح، وبناء على ذلك: يثبت التحريم.

الرضاع من لبن الموطوءة بشبهة

الرضاع من لبن الموطوءة بشبهة قال رحمه الله: [والموطوءة بشبهة]. (والموطوءة بشبهة) لو أن امرأة بكراً كانت نائمة، فجاء رجل فظن أنها زوجته فوطئها وحصل حمل، وثاب لبن بسبب هذا الحمل، فهذا اللبن لبن مبني على وطء شبهة، كذلك لو تزوج زواجاً فاسداً، وظنه صحيحاً كنكاح الشغار، فحملت المرأة ودرت اللبن، ثم أرضعت هذا اللبن طفلاً، فالوطء شبهةً كالوطء الصحيح، واللبن للمرء الشبهة كاللبن للمرء الصحيح.

التحريم بلبن الموطوءة بعقد فاسد أو باطل

التحريم بلبن الموطوءة بعقد فاسد أو باطل قال رحمه الله: [أو بعقد فاسد أو باطل] وهكذا إذا كان بعقد فاسد، مثل: أن تتزوج امرأة بدون ولي، فهذا النكاح -عند الجمهور- محكوم بفساده. قال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل). والفاسد والباطل لا فرق بينهما عند الجمهور في المعاملات، فحكمنا ببطلان النكاح وفساده، فإن حصل من هذا النكاح لبن، فرضعه رضيع، فإن هذا الرضاع يثبت له ما يثبت من الوطء الصحيح في عقد نكاح صحيح. قال رحمه الله: [أو زنا] وهكذا -والعياذ بالله- لو زنا رجل بامرأة، فحملت ثم ثاب اللبن من هذا الوطء المحرم، وشربه صبي، فإنه تثبت له أحكام الرضاعة، ولكن في الأم دون الأب، قال صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر) فلم يجعل للزاني شيئاً في الزنا، ومن هنا قال طائفة من أهل العلم -واختاره الجمهور-: إنه لا ينسب الرضيع للأب من الزنا. كالحال في النسب، ولذلك ينسب الولد إلى أمه في الزنا، ولا ينسب إلى أبيه، كذلك في الرضاع ينسب إلى أمه ولا ينسب إلى أبيه الزاني. قال رحمه الله: (محرم). أي: لا فرق أن يكون هذا اللبن ثاب بوطء في نكاح صحيح أو بنكاح فاسد، أو وطء شبهة، فكل ذلك الحكم فيه سواء؛ لأنه لبن فتق الأمعاء وأنشز العظم وأنبت اللحم، وأعطاه الشرع هذا الحكم لوجود هذه الخاصية.

صور لرضاع غير محرم أو مختلف فيه

صور لرضاع غير محرم أو مختلف فيه قال رحمه الله: [وعكسه البهيمة]. فلو أن اثنين شربا لبن شاة ما نقول: هذه أمه من الرضاعة، ولو أنهم أخذوا علبة حليب وشربوا منها فلا يثبت بهذا ما يثبت للرضاع -شرعاً- من آدمية، لكن لو جفف لبن امرأة وصار مثل المسحوق، وشربه صبي ثبت حكم الرضاعة، لكن بالنسبة للبهائم لا يثبت، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله. أحد المعاصرين من طلبة العلم لما سئل عن اثنين ارتضعا من شاة قال: هما أخوان من الرضاعة -أعوذ بالله من القول على الله بدون علم- ومن هذه الفتاوى. حتى أن أحدهم أراد أن يدرس الفقه فجاء إلى كتاب القصر، فقيل له: المغرب تقصر أو لا تقصر؟ قال: هناك قولان، فقيل له: كيف نصليها ركعة ونصف؟ أيسجد أو لا يسجد، أو يقدم السجود؟! - نسأل الله السلامة ونعوذ بالله من الزلل والزيغ. قال رحمه الله: [وغير حبلى]. (وغير حبلى) بعض العلماء يشترط أن يكون اللبن قد ثاب من وطء، فإذا حصل اللبن من وطء حكم به، أما إذا كان لم يثب من وطء -وهذا يقع في بعض الأحيان أن المرأة تدر اللبن قبل الزواج أي: درت هذا اللبن من غير وطء-؛ فبعض العلماء يرى أن لبن البكر لا يحرم، والصحيح: أنه يحرم؛ لأن الطفل يغتذي به، وبعضهم يبني المنع منه على أنه نادر، والحكم للغالب لا للنادر، يقول: كلبن الرجل، والرجل لا يوجد له لبن، لكن قد يقع في بعض الأحيان أن يرتضع من رجل كما يقولون، وهي مسألة أندر من النادر، يقولون: لا يثبت، وقد يقع في الخنثى المشكل إذا تبين أنه ذكر، ثم ثاب منه لبن بسبب الهرمونات والاختلال في جسمه، ففي هذه الحالة يقولون: إنه إذا كانت المرأة صغيرة وثاب لبن فيها من غير وطء، أو من غير حمل، فيحكم بأنه رضاع مؤثر وهو ابن لهذه المرأة، وهذا هو أصح القولين: أنه لا يشترط وجود الحمل، لكن المصنف بين أنه عكس الأصل. قال رحمه الله: [ولا موطوءة]. ومثال غير الموطوءة: البكر، فإذا ثاب من ثدييها اللبن من غير وطء، ومن غير حمل، وكذلك تكون ثيباً خلواً، ومن بعد ذلك ثاب منها اللبن؛ قالوا: إن هذا ليس باللبن المعتاد على الصفة المعتادة، فيحكمون بأنه لا تأثير له؛ لأنه خرج عن الأصل المعتاد.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية حساب الرضعات الخمس إن كان اللبن في إناء أو كان اللبن قد تحول جبنا

كيفية حساب الرضعات الخمس إن كان اللبن في إناء أو كان اللبن قد تحول جبناً Q كيف تثبت الخمس رضعات ويحصل تمامها، إذا كان شرباً من الإناء أو أكلاً إذا تحول جبناً؟ A فأما بالنسبة للإناء فذكر بعض العلماء أن الإبانة عن الفم كالإبانة عن الثدي، أي: أنه إذا أخذ الإناء ثم أبانه عن فمه فهذه رضعة كاملة، وبناء على ذلك تحتسب خمس مرات أن يأخذ الإناء ويبينه؛ ثم يأخذ الإناء ويبينه؛ لأنه لا يبينه إلا بعد حصول الارتواء من أجل النفس، وبعض أهل العلم يرى أن الحكم يختلف في الشرب من الإناء عن الرضاع، ويرى أن العبرة بالمجالس، فلا بد أن يتكرر ذلك في خمسة مجالس، وأن كل مجلس يعتبر رضعة؛ لأن فيه اشتباهاً، والحقيقة أن المذهب الذي يقول: إن المعتبر هو الإبانة من الفم فيه قوة، فالشرب من الإناء ثم إبعاده هذا يعد رضعة، فإذا استتم كان في حكم الخمس رضعات المعلومة.

عدم اشتراط الرضا في ثبوت الرضاع المحرم

عدم اشتراط الرضا في ثبوت الرضاع المحرِّم Q هل من شروط الرضاعة أن يكون الأب موافقاً؟ A لا يشترط في الرضاعة أن يكون الأب موافقاً، ولذلك الحكم مترتب على وجود الرضاع؛ لأنه إذا شرب هذا اللبن، نبت لحمه ونشز عظمه، رضي أو لم يرضَ، وهذا يسمونه الحكم بالأسباب، فقد جعل الشرع الحكم هنا مرتباً على وجود سبب وهو الرضاع، سواء أذن صاحبه أو لم يأذن. ولذلك في بعض الأحيان لا الأم ترضى ولا الأب، كأن تكون نائمة وهجم عليها صبي والتقم ثديها وهي نائمة أو ظنته ولدها، في هذه الحالة لا يكون هناك رضا -لا من الأب ولا من الأم-؛ وفي بعض الأحيان قد تحمله ولا تشعر إلا وقد أخذ ثديها ورضع بدون خيارها، فلا يشترط الرضا في الرضاع والعبرة في هذا الحكم بالسبب وهو وجود الرضاع، سواء كان هناك رضا أم لم يكن، والله أعلم.

معنى قوله تعالى: (إلا ما قد سلف) من قوله: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف)

معنى قوله تعالى: (إلا ما قد سلف) من قوله: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) Q أشكل علينا قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22] ما معنى قوله: (إلا ما قد سلف)؟ A ( إلا) استثناء موجب للعطف المشرك للحكم، وهذا معروف في لسان العرب، ولذلك يكون قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22] أي: ولا ما قد سلف، لا تستديموهن ولا تبقوهن. أي: ما كان من الوطء بنكاح منكوحة أبيه، ومن بقيت معه بعد نزول الآية فعليه أن يفارقها، ويكون معنى قوله: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} أي: لا تستبقوهن، وقالوا في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:92]، أي: ولا خطأ، وذلك بتعاطي الأسباب الموجبة للتساهل حتى يحصل القتل. وهذه اللغة استشهد بها الإمام ابن قدامة رحمة الله في هذه المسألة وفي مسألة بيع الكلب المعلم للصيد، في الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب صيد) أي: ولا كلب صيد؛ لأن العرب كانت مشهورة بالصيد، فخاطب البيئة التي نزل فيها القرآن بما ألفت، فقوله: (إلا كلب صيد) أي: ولا كلب صيد، فإذا كان كلب الصيد -للحاجة- لا يجوز فمن باب أولى تحريمه لغير الحاجة؛ لأنه قد يظن شخص أن الإذن به للصيد يبيح ويحل بيعه، فقال عليه الصلاة والسلام: (إلا كلب صيد) أي: ولا كلب صيد، فدل على أنه لا يجوز بيع الكلاب وشراؤها، ولو كان مأذوناً باتخاذها، فالعطف هنا للمأذون، واستشهد الإمام ابن قدامة بقول الشاعر: وكل أخٍ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان أي: والفرقدان، فهذا عطف موجب للتشريك في الحكم، وما ذكرناه ذكره بعض أئمة التفسير في الآية الكريمة. وقيل في معناها -على وجه-: أي: عفوت فيما وقع منكم فيما قد سلف، فاستأنفوا الحكم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (أسلمت على ما أسلفت من خير) وكما قال الله تعالى: {عَفَا الله عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنه} [المائدة:95]، فيكون من باب التنبيه على أن النفوس تتحرج، حتى إن العرب في الجاهلية كانوا إذا توفي الرجل وخاف الابن على زوجة أبيه يرمي ثوباً عليها حتى لا يتزوجها غيره، ومعنى ذلك: أنه يريد أن ينكحها، فهذا من عادات الجاهلية، فيرمي ثوبه عليها، فتعلم أنه يريد نكاحها، فإذا نكحها مقتته العرب، وكانوا يمقتون هذا مع أنهم كانوا يفعلونه، إلا أنهم كانوا ينظرون إليه نظرة مستبشعة، وكما قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:22]، أي: أن نكاح زوجة الأب ممقوت، حتى في أعرافهم الجاهلية. وعلى كل حال: الآية تدل على أحد أمرين: إما عطف موجب للتشريك في الحكم، كما ذكرنا، فلا إشكال، فيكون ما يستفاد منها: أنه لا تبقوا النكاح الذي كان في الجاهلية، ويجب أن تفارقوهن، فالآية الكريمة جمعت بين تحريم نكاح زوجة الأب ابتداء واستدامة؛ فابتداءً لقوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء:22]، واستدامة لقوله تعالى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22] أي: لا تبقوهن ولا تستديموا نكاحهن. وأما الاحتمال الثاني: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} المراد به: استأنفوا الحكم، فما كان مما قد سلف فإن الله قد عفا عنه؛ لأن الله لم ينزل فيه شرعاً؛ ولذلك أعذر فيه سبحانه وتعالى، وأسقط المؤاخذة. والله تعالى أعلم.

الفرق بين العبد المدبر وأم الولد في الإجزاء في كفارة الظهار

الفرق بين العبد المدبَّر وأم الولد في الإجزاء في كفارة الظهار Q في كفارة الظهار في الرقبة، يجزئ إخراج المدبَّر ولا تجزئ أم الولد، فما الفرق بينهما مع أن كل منهما يعتق بموت السيد؟ A أم الولد عتقها لا إشكال فيه، لكن المدبر فيه خلاف وذكرنا هذا في مسائل التدبير أنه من حق السيد المدبِّر أن يرجع عن عتق المدبَّر، وبناء على ذلك: صار المدبَّر أضعف حالاً من أم الولد، ومن هنا يجوز التفريق، فإذا كان أحدهما أقوى من الآخر، فلا يمكن أن يسوى بينهما؛ فالمدبَّر يمكن أن يُرجع عن تدبيره؛ لأن المدبَّر هو أن يعلق عتق عبده على موته، فيقولون: عتق عن دبر، ودبر الشيء: آخره، فكأنه إذا أدبر ومات عتق عليه عبده، فقيل له: المدبَّر؛ أي: الذي يعتق بعد وفاة سيده، وفي بعض الأحيان يقول: إذا مت فاعتقوا عبدي فلان، ثم يرجع عن هذا التدبير، قالوا: لأنه مثل الهبة، والهبة لا تملك إلا بالقبض، ولا تثبت إلا بعد ثبوت حكمها من حيث القبض، وهنا ما حصل الموت، فمن حقه أن يرجع، وعلى هذا قالوا: إنه يجوز، وحملوا عليه عتق الرجل الذي أوصى أن يعتق عبيده، وكان عليه دين فرد النبي صلى الله عليه وسلم وصيته، وهذه وصية عن دبر، أي: أوصى بعتق عبيده بعد موته، فهو كالتدبير، وهذا أصل لمن يقول بجواز الرجوع عن التدبير. وعلى كل حال: الفرق بين المدبَّر وأم الولد واضح، وبناء على ذلك لا يرد الاعتراض؛ لأن الحكم يكون مساوياً إذا كانا في منزلة واحدة ودرجة واحدة من القوة. والله تعالى أعلم.

الجمع بين حديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين)، وحديث: (إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)

الجمع بين حديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين)، وحديث: (إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) Q كيف يمكن الجمع بين حديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين)، وحديث: (إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها). A لا تعارض بين الحديثين، والحمد لله؛ كلاهما خرج من مشكاة واحدة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون)، على رواية الرفع، المراد به: أن الإنسان إذا ألم بمعصية ثم ستره الله بستره، وذهب وتكلم جهاراً بما ألمَّ به، فقد هتك ستر الله، وهذا يقع من بعض أهل الضلال، والفسوق والفجور، يفعلون المعاصي، ثم يأتي إلى صديقه ويقول: فعلت وفعلت وحدث وحصل، فيتفاخر ويتباهى. فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- سلب الله منه العافية؛ لأن من العافية أن يصرف الله عن عبده الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فإذا أذنب وألَمَّ بخطيئة وستر الله عليه؛ عوفي في علانيته. أما إذا أصبح يهتك ستر الله، ويأتي يفاخر ويباهي بذنبه ويقول: فعلت وفعلت، فهذا عافاه الله علانية فلم يرضَ عافية الله؛ فجمع بين بلاء السر وبلاء الظاهر والعلانية. أما بالنسبة لحديث: (إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها). فدل الحديث الأول على أن من ستر فهو معافى، فكيف يجمع بينه وبين هذا الحديث فيمن فعل المعصية في الخلوة؟ الجواب: أنه في حديث ثوبان رضي الله عنه: (أعرف أقواماً من أمتي يأتون بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء، فيجعلها الله هباءً منثوراً، قالوا: يا رسول الله! صفهم لنا، جلهم لنا، لئلا نكون منهم ونحن لا ندري، قال: أما إنهم منكم يصلون كما تصلون، ويأخذون من الليل كما تأخذون، إلا أنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) أي: أن عندهم استهتاراً واستخفافاً بالله عز وجل، فهناك فرق بين المعصية التي تأتي مع الانكسار، والمعصية التي تأتي بغير انكسار، بين شخص يعصي الله في ستر، وبين شخص عنده جرأة على الله عز وجل، فصارت حسناته في العلانية أشبه بالرياء وإن كانت أمثال الجبال، فإذا كان بين الصالحين أَحْسَنَ أيما إحسانٍ؛ لأنه يرجو الناس ولا يرجو الله، فيأتي بحسنات كأمثال الجبال، فظاهرها حسنات، (لكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) فهم في السر لا يرجون لله وقاراً، ولا يخافون من الله سبحانه وتعالى، بخلاف من يفعل المعصية في السر وقلبه منكسر، ويكره هذه المعصية، ويمقتها ويرزقه الله الندم، فالشخص الذي يفعل المعصية في السر، وعنده الندم والحرقة ويتألم، فهذا ليس ممن ينتهك محارم الله عز وجل؛ لأنه -في الأصل- معظم لشعائر الله، لكن غلبته شهوته فينكسر لها، أما الآخر فيتسم بالوقاحة والجرأة على الله؛ لأن الشرع لا يتحدث عن شخص أو شخصين، ولا يتحدث عن نص محدد، إنما يعطي الأوصاف كاملة. من الناس من إذا خلا بالمعصية خلا بها جريئاً على الله، ومنهم من يخلو بالمعصية وهو تحت قهر الشهوة وسلطان الشهوة، ولو أنه أمعن النظر وتريث، ربما غلب إيمانُه شهوته وحال بينه وبين المعصية، لكن الشهوة أعمته، والشهوة قد تعمي وتصم، فلا يسمع نصيحة ولا يرعوي، فيهجم على المعصية فيستزله الشيطان، قال تعالى: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران:155]، فإذا حصل الاستزلال من الشيطان، فزلت قدم العبد، لكن في قرارة قلبه الاعتراف بالمعصية، والله يعلم أنه لما وقع في المعصية أنه نادم، وأنه كاره لها، حتى إن بعضهم يفعل المعصية وهو في قرارة قلبه يتمنى أنه مات قبل أن يفعلها، فهذا معظم لله عز وجل، ولكنه لم يرزق من الإيمان ما يحول بينه وبين المعصية، وقد يكون سبب ابتلاء الله له أنه عير أحداً أو أنه عق والداً أو قطع رحمه، فحجب الله عنه رحمته، أو آذى عالماً أو وقع في أذية ولي من أولياء الله؛ فآذنه الله بحرب، فأصبح حاله حال المخذول، مع أنه في قرارة قلبه لا يرضى بهذا الشيء، فيخذل عند التعرض للمعاصي. ومحاربة الله للعبد على صفات، منها -والعياذ بالله- أن يأكل الربا فيأذن بحرب من الله عز وجل، فيأتي إلى المعاصي فيسلب التوفيق، ويأتي إلى المظالم فتجده في بعض الأحيان يقع في ظلم أخيه فيستغرب كيف وقع هذا؟! لأن الله خذله، ويكون الخذلان لأسباب: إما أنه عير مبتلى فعاقبه الله، أو أصابه غرور بطاعته فعاقبه الله ووكل إلى حوله، وأشياء أخرى كثيرة، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]، فهذه الأمور لا ينظر الإنسان فيها إلى شخص معين، وإنما ينظر إلى أحوال الناس، فمن الناس من يكون عنده حسنات في الظاهر كأمثال الجبال، ولذلك تجد بعضهم إذا وقف مع الناس فهو ذلك الرجل اللين اللسان، الطيب الجنان، فإذا غاب عنهم حقد عليهم وسبهم وشتمهم، وربما يجلس في مجالس الخير والذكر، وكأنه واحد من أصحابهم، فإذا غاب عنهم أخذ يغتابهم ويذمهم ويلومهم، ولا يعظم الله ولا يرعوي عن حرمات المسلمين، فعنده جرأة -والعياذ بالله- على معصية الله، ولكن إذا وقع العبد في معصية وهو في قرارة قلبه يكره أن يقع في هذا الشيء ولو أنه أُعطي التوفيق من الله تعالى بتعاطي الأسباب لما ابتلي بهذا، وإذا وقع في الذنب صحبه الندم والألم، فهذا ممن رجا رحمة الله عز وجل، ومن هذا الذي رجا رحمة الله وخيبه الله؟ وكيف يكون العبد تائباً إلا من ذنب? فهناك مراتب وأحوال ينبغي مراعاتها، ومنها: أنه لا ينبغي أن نأتي ونضع منزلة المحسن للمسيء، ومنزلة المسيء -الذي هو بالغ الإساءة- للمحسن، والمسيء ظاهراً وباطناً ليس كمن يسيء ظاهراً لا باطناً، فإذا جئت تنظر إلى معصية السر، فالذي يعصي في السر على مراتب: منهم من يعصي مع وجود الاستخفاف، فبعض العُصاة تجده لما يأتي إلى معصية لا يراه فيها أحد يذهب الزاجر عنه، ويمارسها بكل تهكم وبكل وقاحة، وبكل سخرية ويقول كلمات، ويفعل أفعالاً، ولربما نصحه الناصح، فيرد عليه بكلمات كلها وقاحة، وإذا به يستخف بعظمة الله عز وجل ودينه وشرعه، لكنه إذا خرج إلى الظاهر صلى وصام، وإذا خلا بالمعصية لا يرجو لله وقاراً -والعياذ بالله- فليس هذا مثل من يضعف أمام شهوة أو يفتن بفتنةٍ يراها ويحس أن فيها بلاء وشقاء، ويقدم عليها، وقلبه يتمعر من داخله ويتألم من قرارة قلبه، ثم إذا أصاب المعصية ندم، ولذلك الشيطان تجده يلبس على بعض الأخيار، فتجد بعض الأخيار -وهو نادر- مبتلى بالعادة السرية، فيأتيه الشيطان ويقول له: أنت ممن يصدق عليهم: (إذا خلو بمحارم الله انتهكوها)، فأنت منافق. أبداً، هذا ليس بصحيح، وإن كان لا ينبغي للإنسان أن يفعل هذه المعاصي في السر، وعليه أن يتقي الله عز وجل في السر، حتى يتبوأ الدرجات العلى في الأولى والآخرة، لكن {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]. فالله لا يظلم العباد، ولا ينزل عبداً جريئاً على حدود الله ومحارمه منزلة عبد يخاف الله ويرجو رحمته، ولذلك جاء في الأثر أن الله يوقف العالم بين يديه، أو يوقف الرجل الصالح بين يديه، فيقول: (عبدي! فعلت وفعلت حتى إذا رأى أنه هالك لا محالة قال: عبدي! قد كنت ترجو رحمتي؛ قد غفرت لك)، أي: مع كل هذه الذنوب ومع هذه الإساءة ترجو رحمتي، وقد علمت منك أنك كنت مشفقاً على نفسك وتخاف الله عز وجل، فإني لا أخيبك، وهذا شأنه وهو الكريم سبحانه وتعالى، وهو الذي يبتدئ بالإحسان ويتفضل بالنعم، ولا يستحق أحد ذلك؛ لأنه كله فضل الله وكرمه، لا منتهى لكرمه ولا منتهى لجوده، والحمد لله على حلمه، والحمد لله على كرمه وجوده وإحسانه ورحمته، وسع العباد جوداً ورحمة وإحساناً وبراً، فهذا الحديث ليس على إطلاقه، وإنما المراد به من كانت عنده الجرأة -والعياذ بالله- والاستخفاف بحدود الله، ونسأل الله بعزته وجلاله كما أنعم علينا بنعمة الإسلام وتوحيده والإخلاص لوجهه، والخوف منه سبحانه، أن لا يسلبنا هذه النعمة، وأن لا ينقصنا منها، اللهم زدنا ولا تنقصنا، اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا بطاعتك، ولا تهنا بمعصيتك، وأنت أرحم الراحمين، والله تعالى أعلم.

حكم أمر الرجل لزوجته بالإفطار في صيام القضاء

حكم أمر الرجل لزوجته بالإفطار في صيام القضاء Q هل يجوز للرجل أن يأمر زوجته أن تفطر وهي صائمة قضاء ما أفطرته في رمضان؟ A يجوز للرجل أن يأمر زوجته أن تؤخر قضاء رمضان؛ لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بينت في حديثها في الصحيح، أنها كانت تؤخر قضاء رمضان إلى شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فدل على أن القضاء موسع، فإذا أرادت أن تصوم في محرم، فمن حقه أن يقول: أخري الصيام إلى شعبان، لكن إذا صامت ودخلت في الصوم، فليس من حقه أن يأمرها بالفطر؛ لأنها إذا صامت فإنها مأمورة بالإتمام وتلزم بإتمام الصوم، ولا يجوز له أن يأمرها بالفطر؛ فالقضاء يحكي الأداء ويأخذ حكمه، فلا سبيل له لمنعها، والدليل على أنها لا تفطر في الفريضة قوله عليه الصلاة والسلام: (المتطوع أمير نفسه) فدل على أن المفترض ليس أميراً لنفسه، وبناء على ذلك: لا تفطر لأمر الزوج إذا كانت في صيام الفريضة، أو صوم قضاء إذا دخلت فيه، أما أن يؤخرها ويقال لها: أخري القضاء، فذلك له، لأن القضاء موسع، والله تعالى أعلم.

حكم من أفطر قبل المغرب يظن أن الشمس قد غربت

حكم من أفطر قبل المغرب يظن أن الشمس قد غربت Q ما حكم من أفطر في رمضان قبل المغرب يظن أن الشمس غربت؟ A من أفطر قبل الغروب ظناً منه أن الشمس قد غربت سقط عنه الإثم ولزمه القضاء، لأن الشرع ألزمه بصوم يومه كاملاً، فإذا أفطر شيئاً من اليوم، فإنه يعذر لمكان الخطأ، ويلزم بالإتمام والقضاء، وقياس الخطأ على الأكل والشرب نسياناً قياس على الخاص، لأن ما جاء على خلاف الأصل فغيره عليه لا يقاس، والشرع استثنى الناسي، والنسيان سهو وغفلة من الشخص، وأما المخطئ فلديه نوع من التقصير؛ لأنه لو بذل الأسباب وتحرى لانكشف له الأمر جلياً، وعليه: يفرق بين المخطئ والناسي من هذا الوجه؛ لأن العذر في الناسي أقوى منه في المخطئ، فالمخطئ لو تحرى وبذل أسباب التحري لأمكن عدم الوقوع في الخطأ، ومثال آخر للخطأ: رجل استيقظ من الليل وظن أنه لم يؤذن للفجر بعد، ثم أكل وشرب، وتبين أنه أكل وشرب بعد الفجر، فهذا لو تحرى وبذل الأسباب لانكشف له الأمر جلياً، ولكن الناسي قد ذهل وزال عن عقله ذلك الشعور وليس عنده أي سبب يمكن أن يتعاطاه تلافياً للقصور والإخلال بحق الله عز وجل، ومن هنا فرق جمهور العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة وقالوا: إنه يلزمه القضاء، وقال عروة رحمه الله كما في صحيح البخاري حينما قيل لهم: هل صليتم ذلك اليوم؟ قالوا: وهل في القضاء شك، فالأصل يقتضي أنهم يصومون اليوم كاملاً، وإذا حصل الخطأ، فإنه يسقط عنهم الإثم لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب:5]. فأسقط الله الإثم، ولكن يلزمه ضمان، وكذلك في حقوق العباد، كما لو قتل خطأً أسقطنا عنه الإثم، لكن أوجبنا عليه الضمان، وهنا نسقط عنه في حق الله الإثم ونوجب عليه ضمان الصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فدين الله أحق أن يقضى) فحق الله أحق وأولى، والله تعالى أعلم.

حكم صلاة ركعتي العشاء وراء صلاة التراويح

حكم صلاة ركعتي العشاء وراء صلاة التراويح Q هل يجوز أن أنوي في الركعتين الأوليين من صلاة التراويح أنها سنة العشاء؟ A نعم؛ يجوز ذلك، إذا نوى بها سنة العشاء فإنه يتحقق مقصود الشرع، وحينئذ تجزئه عن راتبة العشاء، وإذا أخر راتبة العشاء إلى ما بعد وتره مع الإمام فلا بأس ولا حرج، ولكن الأفضل أن يصلي الراتبة بعد صلاة العشاء، ثم يقوم ويصلي القيام كاملاً تاماً مع الإمام، ويوتر معه، والله تعالى أعلم.

معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك)

معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك) Q ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك) وكيف يكون ذلك؟ A هذا الحديث حديث عظيم، وتفسير هذه الجملة يحتاج إلى مجالس، ولكن جماعها كله في تقوى الله عز وجل، فليس هناك حافظ حفظ حدود الله عز وجل ومحارمه مثل المتقين، أما إذا أراد الله عز وجل أن يتم النعمة على الحافظين وأن يعلي لهم الدرجة، وأن يعظم لهم الأجر والمثوبة، فإنه ينقلهم إلى درجات الإحسان، فأعظم ما يكون الحفظ أن لا يرى الله عبده حيث نهاه، وأن لا يفقده حيث يحب أن يراه؛ لأن الحفظ استخدم في الشريعة في الأوامر وفي النواهي، {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة:112]، هذا بالنسبة للنواهي، {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:34]، فحفظ أوامر الله عز وجل أن تأتي بها على أتم الوجوه وأكملها، ولا ترضى لنفسك أبداً أن تكون في الدون، مثلاً: الصلاة؛ فبدل أن يأتي الإنسان أثناء الصلاة، يأتي على أتم الوجوه وأكملها قبل الأذان، وبدل أن يصلي في الصف الثاني فحفظه على أتم الوجوه وأكملها إذا كان في الصف الأول، وإذا صلى الصلاة بدل أن يخشع في ثلثها أو ربعها أو نصفها، خشع فيها كاملة. وبدل أن تبكي عينه عند سماع الآيات، بكى عند تسبيح الله أيضاً. فإذا أراد الله أن يزيده من فضله، بكى حتى في سجوده وهو يدعو، فإذا أراد الله أن يزيده رزقه خشوع القلب والصلاة على أتم الوجوه وأكملها، حتى إنه منذ أن يكبر إلى أن يسلم وهو في ذكر لله عز وجل، وحضور القلب على أتم ما يكون ذكره، وهذه من مراتب الإحسان العلى، فتجده يكبر التكبيرة وهو يستشعر معنى قول: (الله أكبر)، إما لكونه مظلوماً مضطهداً، أو يكون غنياً قوياً، يظن أن (الله أكبر) من كل شيء، فإذا قال: (الله أكبر) وهو مظلوم تبددت جميع هموم الأرض وزالت، لأنه يعلم أن الله أكبر من كل شيء، لأن الذي يشوش في الصلاة هموم الإنسان وغمومه، إما سراء أو ضراء، فإذا قال: (الله أكبر) وهو في سراء علم كيف أن الله أغناه وهو فقير، وأعزه وهو ذليل، وأكرمه وهو مهين، ورفعه وهو وضيع، فيقول: (الله أكبر) من قرارة قلبه ومن صميم فؤاده، يعرف ما معنى هذه الكلمة، ولذا يقولها بصدق ويقين وإخلاص وحضور قلب، فإذا قال دعاء الاستفتاح، كل كلمة يستشعر معناها، فإن أراد أن يسبح ويثني على الله عز وجل، عرف كيف يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك) وكذلك أيضاً: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب)، تذكر أنه مذنب وأنه فار إلى الله عز وجل، كذلك أيضاً: إذا قرأ القرآن تدبر كل كلمة وكل حرف من كتاب الله عز وجل، ولا يزال في هذه النعمة حتى إن العبد يستفتح بكتاب الله عز وجل، ويتمنى أنه ما انتهى من التلاوة، وهذه المراتب يتفضل الله بها على عباده، فمستقل ومستكثر، ولذلك تجد بعض الأخيار والصالحين في قيام الليل، عندما يقوم الليل يبتدئ القيام وهو يريد أن يقرأ الجزء فإذا به يمضي إلى الجزئين والثلاثة إلى الأربعة، ووالله! ربما ختم العشرة -ثلث القرآن- ولربما وصل إلى نصف القرآن وهو لا يزال في الركعة الواحدة، ما وسعه الوقت لكتاب الله عز وجل، من لذة ما هو فيه، لكن سبحان من يتفضل على عباده، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. فهذا الشعور مرتبة عالية في الحفظ، حفظ حدود الله عز وجل، وإذا أراد أن يصلي وأراد أن يكون من الحافظين تخيل أنها آخر صلاة من عمره، وأحياناً ينتقل -متفكراً- إلى الآخرة فيتخيل أن الله سيحاسبه على كل كلمة وعلى كل حرف، وهو يعرف أين يقف؟ ومن يناجي؟ ومن يسأل؟ فإذا تليت عليه آيات الله وكان مأموماً تدبر كل كلمة وكل حرف، لا يؤثر عليه الإمام ولا يؤثر عليه القارئ، وتراه غير محصور في القراءة والقراء، ولا بمسجد دون مسجد، أبداً؛ لأنه مع الله، حافظ لحدود الله، أينما كان، وحيثما كان، هذا بالنسبة للحقوق والواجبات في حق الله، وفي الحقوق والواجبات التي أمر الله فيما بيننا، فتجده في حق إخوانه المسلمين صالحين أو غيرهم، يحفظ حق المسلم على أتم الوجوه وأكملها، فهو يعلم أن الله عز وجل أمره أن يعطي لأخيه حقاً فيعطيه على أتم الوجوه وأكملها دون مِنَّة، ويعلم أن هذا أخ له في الإسلام، فإذا لقيه لقيه بقلب صافٍ من الغل والحقد والشحناء والاحتقار، ولا يمكن أن يدخل في قرارة قلبه احتقاراً لمسلم للونه، ولا لمنصبه ولا لجاهه أبداً؛ لأن الله أمره أن يحفظ هذا القلب، لئلا يدخل فيه شيء من عمل الشيطان أو كيده، فالجاهلية لا تجد منفذاً إلى قلبه، هذا بالنسبة لما يكنه لأخيه المسلم في باطنه، وأما في ظاهره فالكلام الطيب والألفة، فتجده حينما ينعم الله عليه ويكون من الحافظين فلا تجده يعامل صغيراً أو كبيراً إلا وخرج من عنده وهو يشكره على ما يكون منه من حسن عمل، ولن تستطيع أن ترى أحداً يحفظ حدود الله في حقوق إخوانه المسلمين إلا مع الضعفاء. -أما الأقوياء فلسنا بصددهم- إذا أرادت أن تزن الرجل حقيقة فانظر إليه مع الغلمان وانظر إليه مع الخدم، وانظر إليه مع من هم تحته، ممن جعل الله عز وجل فضله عليهم، فمثلاً: إذا كان عنده خادم، أو كانت المرأة عندها خادمة، فتجدها تتقي الله في هذه الخادمة، وتعطيها راتبها في وقته، ولا تؤخر راتبها ولا يمكن أبداً أن يحصل لهذه الخادمة مشكلة أو تضطر إلى معونة أو مساعدة إلا ساعدتها، حتى إن بعض الأخيار والصالحين -كما كان يذكر لنا بعض مشايخنا- يقول: والله! إنه ليأتيني الرجل الضعيف من ضعفاء المسلمين فيجعل الشيطان بيني وبينه من الحواجز والحوائل العديدة التي لا يعلمها إلا الله، كيف تعطي هذا وليس من جماعتك؟ ولا من قرابتك، ومع ذلك يكذب ويغش؟! فيأتيه الشيطان من كل حدب وصوب، قال: أتجاهل كل هذا وأتصور ما لو جاءني أعز وأقوى وأحب شخص، ماذا أفعل معه؟! فأرفع هذا الوضيع الضعيف، وأضعه منزلة ذلك الشخص المحبوب لدي، فأجلس أنصت إليه كأني أنصت لمن له عليَّ حق، أو أخاف منه أو أرجو منه نِعمِة، فإذا بالأمور تختلف تماماً، وعندها يشتري رحمة الله بتجاوزه وإرغام نفسه فيما يحبه الله، وصدق الله عز وجل في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207]، يشري نفسه أي: يبيع نفسه، فهذا الذي حفظ حق الله عز وجل في عباده المؤمنين لا يمكن أن يكون إلا في مثل هذه المواقف، ولا شك أنه يتبع ذلك حقوق؛ فلا يرضى بغيبة ولا يرضى بنميمة، ولا يرضى بسب مسلم ولا بشتمه، ولا بأخذ حقه، وأما بالنسبة لمراعاة وحفظ حقوق الله في المحارم، فإنه يكون أعف الناس لساناً وأتقاهم جناناً، وأصونهم جوارح وأركاناً، لا يمكن أبداً أن يقع في حرمة من حرمات الله، كلما أراد أن يتكلم تذكر أن الله سائله عن هذا الكلام، وكلما أراد أن يعمل شيئاً تذكر أن الله سيسأله عن هذا العمل، ومن الأمور التي تساعد على ذلك: أن يتصور الإنسان دائماً أنه في هذه اللحظة في لحده وقبره، ما الذي يتمناه؟ فإذا أردت أن تقدم على أي عمل، وأردت مرتبة الإحسان، فلتتصور رحمك الله أنك الآن ممدد في قبرك، فكيف تحتاج في قبرك إلى الحسد؟! حتى إن هذا الشعور إذا صحبك تتواضع للناس وتألف الناس، وتوطئ لهم الكنف، وتبذل لهم كل ما تستطيع، فإذا أراد الله أن يتم النعمة على العبد رزقه الإحسان في العمل وأتمها عليه بالإخلاص، فأصبح لا يتحدث ولا يتكلم بهذه النعمة ولا يباهي بها، بل يتمنى أنها سر بينه وبين الله، فإذا أراد الله عز وجل أن يزيده من فضله أخذه الشعور الذي يشعر معه أنه إذا أحسن إلى الناس أن الناس هم أصحاب الفضل عليه وليس هو صاحب الفضل عليهم، ولذلك تجد من الناس من يعطي ويحسن ولكن تذهب حسناته بالمن، ومنهم من يعطي ويحسن ومع ذلك يحس أن الذي جاءه بمسألته هو صاحب الفضل عليه، قال ابن عباس رضي الله عنه: (ثلاثة أرى أن لهم حقاً عليّ: رجل نزلت به نازلة فجاءني من بين الناس). انظروا كيف هذا الكرم. وكان ابن عباس من أكرم الناس، وليس بغريب على هذا العبد الصالح الذي تربى على يدي النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول: (إذا جاءني الرجل في حاجة عددته صاحب الفضل). وهكذا الخطيب إذا خطب وأنصت له الناس، عد أن الناس هم أصحاب الفضل، وكذلك العالم إذا درس وأفتى وعلم ووجه. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من الحافظين لحدوده وأن يحفظنا بخيره، وأن يتم علينا نعمته، وأن يختم لنا ولكم بخاتمة السعداء، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

كتاب الرضاع [2]

شرح زاد المستقنع - كتاب الرضاع [2] الرضاع نوع من أنواع العلاقات التي أثبتها الشرع، ورتب عليه أحكاماً متعلقة بحرمة النكاح والمحرمية والنظر والخلوة إلخ. وهذه الأحكام والآثار منصوص عليها في الكتاب والسنة.

ما يترتب على الرضاع

ما يترتب على الرضاع بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيلهم ونهجهم إلى يوم الدين؛ أما بعد: فيقول المصنف-رحمه الله تعالى-: [فمتى أرضعت امرأة طفلاً صار ولدها في النكاح، والنظر، والخلوة، والمحرمية] شرع المصنف-رحمه الله- بهذه الجملة في بيان الأحكام المترتبة على الرضاع، وهذا ما يسميه العلماء بآثار الرضاع، فبعد أن بين-رحمه الله- حقيقة الرضاع، ومتى يكون رضاعاً مؤثراً، وماذا ينبغي حتى يحكم بتأثيره، شرع في بيان الآثار المترتبة على الرضاع، وهذا من ترتيب الأفكار، وتسلسلها، لأن الآثار يتكلم عليها بعد إثبات الشيء. فبين-رحمه الله- أنه متى أرضعت امرأة طفلاً، أي: وقعت الرضاعة الشرعية على الصفة المعتبرة، فكانت في الحولين، وكانت خمس رضعات معلومات مشبعات، فإنه يصير ولداً لها في النكاح.

تحريم النكاح

تحريم النكاح وهناك أحكام تتعلق بالرضاع؛ منها ما يتعلق بالنكاح، ومنها ما يتعلق بالمحرمية، ففي النكاح لا يجوز له أن ينكحها؛ لأنها أمه من الرضاع، والله تعالى ذكر في المحرمات الأم من الرضاع فقال سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23]. فإذا أرضعت امرأة طفلاً صار ولداً لها، وحينئذ لا يجوز للولد أن ينكح والدته، والله تعالى جعل الرضيع فرعا عمن أرضعه فقال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] فمعنى ذلك أن الرضيع ولد للمرضعة.

جواز النظر

جواز النظر قال رحمه الله: (صار ولدها في النكاح والنظر) أي: فيجوز له أن ينظر إليها كما ينظر المحرم لمحرمه، فليست بأجنبية عنه، وهذا الفرع الثاني، فالأول يتعلق بالنكاح، والثاني يتعلق بالنظر، فيجوز له أن ينظر إليها.

جواز الخلوة

جواز الخلوة قوله: (والخلوة) فيجوز له أن يختلي بها لأنها من محارمه، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما). فبين عليه الصلاة والسلام أنه لا يجوز لأي رجل أن يخلو بامرأة أجنبية لا تحل له، وأنه إذا فعل ذلك كان الشيطان ثالثهما، وهذا يدل على أنها الفتنة والبلاء العظيم والشر المستطير، فإنه إذا كان الشيطان ثالثاً لهما؛ سول لكل منهما، وأدخل عليهما البلاء ولكن إذا حكم بالرضاع حل له أن يختلي بها، فهي أمه من الرضاع، أو أخته من الرضاع، أو عمته من الرضاع، أو خالته من الرضاع، كما يختلي بأمه من النسب، وأخته من النسب، وعمته من النسب، وخالته من النسب.

ثبوت المحرمية

ثبوت المحرمية قوله: (والمحرمية) فيجوز له أن يلمسها، ويجوز له أن يصافحها، فإذا مد يده إليها ردت عليه وصافحته، لأنه لا يجوز له أن يصافح امرأة ليست من محارمه، قال صلى الله عليه وسلم: (إني لا أصافح النساء)، لما قالت له هند: امدد يدك نبايعك يا رسول الله! قال عليه الصلاة والسلام: (إني لا أصافح النساء -يعني: الأجنبيات- إنما قولي لواحدة منكن كقولي لسائركن). وقالت عائشة رضي الله عنها -كما في الحديث الصحيح-: (إن النبي صلى الله عليه وسلم ما مست يده يد امرأة قط) أي: أجنبية، فما مس امرأة أجنبية صلوات الله وسلامه عليه. وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (لأن يطعن أحدكم في رأسه بمخيط خير له من أن يمس امرأة لا تحل له). كأن يصافحها، أو يلمسها ولو بدون شهوة، إلا إذا كان لضرورة؛ كالطبيب، أو إنسان يريد أن ينقذ امرأة من مهلكة، أو غريقة أو نحو ذلك، فاضطر إلى لمسها لأمور مستثناة بقدر الضرورة والحاجة، كما تقدم معنا في بعض المسائل المتعلقة بالرخص.

ثبوت التحريم في الرضاع كما هو في النسب

ثبوت التحريم في الرضاع كما هو في النسب قال رحمه الله: [وولد من نسب لبنها إليه بحمل أو وطء] من نسب لبنها إليه هو زوجها، وعليه: فإنه يصبح والداً من الرضاعة، للراضع لبن امرأته الناتج عن الوطء والحمل منه، وبنوه يكونون إخوة للمرتضع. فلو فرضنا أنه ارتضع من خديجة، وخديجة زوج لعبد الله، وحملت منه، فأنجبت محمداً، ثم بعد إنجابه ثاب اللبن، فجاء طفل رضيع وشرب من هذا اللبن، فهو ابن لهذا الرجل، ولو أن الرضيع كان أنثى-بنتاً- فإنها تصبح محرماً لهذا الرجل، لأنه أبٌ لها من الرضاع، وفي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، أن أفلح أخي أبي القعيس رضي الله عنه وأرضاه، استأذن عليها، وكانت عائشة رضي الله عنها قد رضعت من امرأة أبي القعيس، فاستأذن أخوه أفلح، فلم تأذن له عائشة، وقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يارسول الله! إنما أرضعتني امرأته -ما أرضعني أبو القعيس - فقال عليه الصلاة والسلام: (ائذني له تربت يداك! إنه عمك من الرضاعة). وهذا ما يسميه العلماء بلبن الفحل، أي: أن الرجل له تأثير في الرضاع، كما أن للمرأة تأثيراً، وهذا راجع إلى أن أصل المسألة هو: أن اللبن يثوب من ماء الرجل، ومن ماء المرأة. فكما أنه في النسب يكون هناك اشتراك بين الرجل وبين المرأة، فكذلك أيضاً في الرضاع، يكون هناك اشتراك بين الرجل وبين المرأة. فالرجل أب، والمرأة أم من الرضاعة. ويسري ذلك إلى الأقرباء، ولذلك قال خطيب بني هوازن للنبي صلى الله عليه وسلم: يارسول الله! إن اللاتي في الحضار ما هن إلا عماتك وخالاتك من الرضاعة، فأثبت لبن الفحل، وأسراه كسريان النسب، وهذا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، ولأنه لو أخذ بالنسب لكان الرجل الذي وطئ أباً، والابن ابنه، والفروع التي شاركت هذا الأب في أصليه -كالأعمام والعمات- محارم، كذلك أيضاً في الرضاع محارم، فجميع من ينجبه هذا الرجل الذي ارتضع الرضيع لبنه يعتبر أخاً لهذا الرضيع. ثم ننظر؛ إن كان هذا الذي أنجبه أنجبه من نفس المرأة التي ارتضع منها الرضيع؛ فهو أخ شقيق، وإن كان هذا الرجل له زوجة ثانية، فأنجبت أولاداً فهم أخوة من الرضاع لأب، ولو أن هذه المرأة تزوجت رجلاً قبل أو بعد الرضاعة، وأنجبت قبل أو بعد الرضاعة، فهم إخوة من الرضاع لأم. فجرى في الرضاع ما يجري في النسب؛ فهناك أخ من الرضاع شقيق، وهناك أخ من الرضاع لأب، وهناك أخ من الرضاع لأم، والحكم كما هو سارٍ في حق المرأة، فهو سارٍ في حق الرجل، لأن تأثير اللبن مشترك بين الرجل وبين المرأة.

من يستثنى من ثبوت أحكام الرضاع من الأقارب

من يستثنى من ثبوت أحكام الرضاع من الأقارب قال رحمه الله: [ومحارمه محارمها، ومحارمها محارمه، دون أبويه وأصولهما، وفروعهما]: (ومحارمه محارمها) يعني: محارم المرأة، فهذا الرضيع إذا ارتضع من المرأة، صار جميع ما تنجبه المرأة، وجميع المحارم المتعلقين بالمرأة في الأصل، يعتبرون قرابة له كالنسب. مثلاً: إذا كان لها بنات فهن أخوات للمرتضع، وإذا كان لها ذكور فهم إخوة له. والعكس؛ لو كان الرضيع أنثى، فإنه في هذه الحالة يعتبر الذكور إخوة ويكونون محارم لها، وكذلك أيضاً بالنسبة للإناث في حق الذكور، فالحكم جارٍ في الرضاع كما هو جارٍ في النسب، وبنى العلماء ذلك على قوله عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب). (ومحارمها محارمه): أي: أن المرأة أصولها أصول لهذا الرضيع، لأن أصول الأمهات أصول للفروع، وقد تقدمت معنا هذه المسألة، وبيناها في موانع النكاح، وبينا أن الأصول إذا تعلق بها محارم، مثلما ذكرنا وقلنا: إن الرجل تحرم عليه أصول والديه مباشرة، وعمة أبيه وعمة أمه، فعمة الأب عمة لأولاده، وعمة الأم عمة لأولادها، وخالة الأب خالة لأولاده، وخالة الأم خالة لأولادها. فلا يختص الحكم بنفس الأم، ولا يختص بنفس الأب، فالأصول يجري عليها التحريم كما يجري على الفروع، والفروع يجري عليها التحريم كما يجري على أصولها، ومثل ما ذكرنا في النسب نذكر أيضاً هنا في الرضاع. لماذا؟ لأنه لما ارتضع صار فرعاً لهذه المرأة، وسرت عليه أحكامها، وكذلك الأب -لو كان الذي ارتضع ذكراً- جميع محارمه يعتبرون محارم لابنه من الرضاع كما أنهم محارم لابنه من النسب، فالأب بناته محارم، وأخواته محارم، لهذا الرضيع من حيث الأصل. لكن هذه القاعدة -كما مر في الأصول- قد يستثنى منها، مثلاً: الربيبة محرم للأب، لكنها ليست محرماً للابن، وكذلك هي في الرضاع. وبنت أخت الشخص أو بنت أخيه محرم له، وليست محرماً لابنه، وبناءً على ذلك -من حيث الأصل- فإنه يحكم بأن الرضاع يأخذ حكم النسب، وقصد المصنف من هذا أن يبين أن التحريم في الرضاع يجري فيه ما يجري من التحريم في النسب. قوله: (دون أبويه): يعني بالنسبة لهذا الرضيع، فأبواه أجنبيان عن مرضعة ولدهما، وكذا أصول المرضع وزوجها وفروعهما، ولذلك الرضاع يختص بالرضيع نفسه، فإخوانه، وأخواته، وأبوه، وأمه -أصوله-؛ هؤلاء كلهم لا يجري عليهم الحكم، أما فروعه فإنهم يأخذون حكم أصلهم نسباً ورضاعاً، لأنه اغتذى بهذا اللبن، ويسري الحكم إلى فرعه كما سرى إليه هو، لكن بالنسبة لأصليه: الأب، والأم، فإنه لا يجري عليهما الحكم، فهم أجانب كما قدمنا. فلو فرضنا أن محمداً ارتضع من خديجة فهو ولد لها، لكن أباه ليس بمحرم لها، وأبوه من الرضاعة ليس بمحرم لأمه من النسب، فهذا يختص به الرضيع دون أصليه. قوله: (وأصولهما، وفروعهما) أي: أصول وفروع أبويه كالجدة، والجد، فهم أجانب بالنسبة للمرضعة وذويها. فلو أن شخصاً جاء يريد أن يرتضع، فهو في الأصل أجنبي، وحينما جاء إلى الرضاع فهو أجنبي، ثم جاء وارتضع، فتعلق التحريم به، وبما يتفرع من هذا الجسم الذي اغتذى باللبن، وأصوله وحواشيه أجانب، فالأصل فيهم أنهم أجانب لا تتعلق بهم محرمية، فلذلك اختص التحريم به وفروعه هو فلا يُنظر إلى أصله، ولا إلى فروع أصله وحواشي الأصل، مثل: أخواته، وإخوانه، وأعمامه، وعماته، فيجوز لأخيه من الرضاع أن ينكح أخته من النسب، لأنه ليست هناك محرمية بينه وبينها، وليس هناك أمر يوجب تحريم نكاحها عليه. قال رحمه الله: [فتباح المرضعة لأبي المرتضع]: لو أن أباه من الرضاعة توفي عن هذه الزوجة، وأراد أبوه من النسب أن يتزوجها فإنه يحل له أن يتزوجها، ولا بأس بذلك لانها أجنبية عنه، فالتحريم اختص بالذي ارتضع، أما أبوه فلم يرتضع، والمرأة المرضعة ليس بينها وبين أبي المرتضع أية علاقة محرمية، ويحل أيضاً حتى لأخي المرتضع أن يتزوج أمه من الرضاعة، لأنه أجنبي عنها، وهي أجنبية عنه، ومراد المصنف: أن يبين بهذا أن التحريم يختص بالمرتضع دون أصوله وحواشيه. وتستطيع أن تفهم مسائل التحريم إذا نظرت إلى أن الأصل أن هؤلاء أجانب، وأن الرضيع أدخل على نفسه سبباً موجباً للتحريم، فإذا أدخل على نفسه سبباً موجباً للتحريم بقي ما عداه على الأصل، ثم تنظر إلى ما تفرع من هذا الرجل، لأن الذي تفرع منه آخذ حكم الأصل -حكمه هو- ولذلك اختص التحريم بالمرتضع -ذكراً كان أو أنثى- ولا يسري لأصله، لا للوالد، ولا للوالدة، ولا لأصول الأصول، ولا لفروع الأصول، لأنهم كلهم أجانب لا يتعلق بهم تحريم. قال رحمه الله: [وأخيه من النسب] كذلك أخوه من النسب، لوأراد أن يتزوج أخت المرتضع من الرضاعة حل له ذلك؛ لأنه ليس بينهما علاقة محرمية. مثلاً: محمد ارتضع، وأخوه خالد يريد أن يتزوج أخت المرتضع من الرضاعة، قلنا: يحل له ذلك، لأنه أجنبي، وليس بينه وبينها أي موجب للتحريم. قال رحمه الله: [وأمه، وأخته من النسب لأبيه وأخيه]: أي: من الرضاع، فهذا جائز، والعكس كذلك، فأبوه من النسب يحل له أن ينكح أمه من الرضاع، والعكس جائز؛ فلأبيه من الرضاعة أن ينكح أمه من النسب؛ لأنها من حيث الأصل أجنبية، كذلك لو أراد أبوه من الرضاعة أن ينكح أخت المرتضع من النسب، فلا بأس، لأنها أجنبية، وليس هناك موجب للتحريم.

حكم نكاح من أرضعتها من تحرم ابنتها

حكم نكاح من أرضعتها من تحرم ابنتها قال رحمه الله: [ومن حرمت عليه بنتها، فأرضعت طفلة، حرمتها عليه، وفسخت نكاحها منه إن كانت زوجة] (ومن حرمت عليه بنتها) كالزوجة، إذا تزوج الإنسان امرأة حرمت عليه ابنتها، فلو أن هذه الزوجة أرضعت طفلة، عقد عليها هذا الرجل. مثلاً: محمد عقد على طفلة، وأراد أن ينكحها، وعنده زوجة، فغارت الزوجة من هذه الطفلة، فأرضعتها فصارت ابنته من الرضاع، لأنها بنت لهذه الزوجة، فإذا أرضعتها؛ نقلتها من الحل إلى الحرمة، وأصبحت حراماً بالرضاع، وهي ابنته، ولا يحل له أن ينكح ابنته من الرضاع. إذن: معنى ذلك أن الزوجة أفسدت النكاح، وإذا أفسدت النكاح تتحمل الآثار والمسئولية عن هذا الإفساد، وعلى ذلك ينفسخ عقد النكاح بهذه الطفلة. وإذا انفسخ النكاح، يبقى السؤال عن المهر؛ -إذا كان قد عقد عليها وتم العقد صحيحاً- فإذا حصل الفسخ استحقت الطفلة نصف المهر، وإذا حصل الفسخ -على اعتبار أن رضاع الكبير يحرم- بعد الدخول، فهذه مسألة ثانية، لكن نحن نتكلم الآن عن مسألة الإرضاع قبل الدخول، فإذا أرضعت الطفلة، في هذه الحالة استحقت الطفلة نصف المهر؛ لأنه فسخ قبل الدخول، فمن الذي يكون مسئولاً عن هذا؟ المرضعة التي تسببت. متى؟ حينما تأتي وترضع الطفلة، أو تغري الطفلة، أو ترغم الطفلة بالقوة، هذه كلها أحوال. فالمؤلف ذكر الزوجة لأنها تحرم، فيكون قد ذكر موجب التحريم! لكن لو أن امرأة أخذت هذا الحليب محلوباً في كأس، وأخذته وأرضعته الصبية بالقوة، أو أن شخصاً هدد هذه الزوجة، وأكرهها بالقوة حتى أرضعت الطفلة، فهذه مسألة ثانية، لكن نحن نتكلم عما إذا جاء الإخلال من الزوجة -المرضعة- نفسها، فحينئذ تتحمل نصف المهر، لأنه مستحق إذا حصل الفسخ قبل الدخول. (ومن حرمت عليه بنتها، فأرضعت طفلة، حرمتها عليه) (حرمتها عليه) إذا لم يكن عقد عليها، ولا يحل له الزواج بها، وهذا بالإجماع، لأنها ابنته من الرضاع، وبالإجماع لا يجوز أن ينكح ابنته من الرضاع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).

يفسخ عقد النكاح إذا ثبت الرضاع المحرم

يفسخ عقد النكاح إذا ثبت الرضاع المحرِّم (وفسخت نكاحها منه إن كانت زوجة) أي: إن كان قد عقد على طفلة -وهذا يجوز- مثال ذلك: لو قال شخص لآخر: زوجتك ابنتي، وهي طفلة، فقال الآخر: قبلت، وتم ذلك العقد بحضور شاهدين عدلين، كما ذكرنا في شروط صحة النكاح، صح النكاح وثبت، فتصبح زوجة له.

حكم المهر في حال فسخ النكاح بإرضاع الزوجة لضرتها

حكم المهر في حال فسخ النكاح بإرضاع الزوجة لضرتها قال رحمه الله: [وكل امرأة أفسدت نكاح نفسها برضاع قبل الدخول فلا مهر لها وكذا إن كانت طفلة فدبت فرضعت من نائمة] وهذا طبعاً يقع في صور منها: عقد رجل على طفلة، ثم إن الطفلة مشت بنفسها، فجاءت إلى ضرتها وهي نائمة، ورضعت منها خمس رضعات مشبعات، ما الحكم؟ صارت بنتاً لها، وهذا التحريم وقع بفعل الرضيع، والرضيعة قاصرة دون البلوغ، أما من حيث الإثم وعدمه فنشترط البلوغ، لكن في الأحكام الوضعية التي هي: الأسباب، الشروط، الموانع، هذه لا يلتفت فيها إلى التكليف، بل يلتفت فيها إلى وجود الشيء بغض النظر عن كون الإنسان بالغاً أو غير بالغ. فهذه الطفلة إذا دبت، ورضعت هذا الحليب، فقد فعلت ذلك بنفسها، وأدخلت الفساد على نفسها، لذلك لو أن هذه الطفلة حصل منها أنها جاءت- كما سيأتينا في الجنايات- وبركت على أمها وقتلتها، فهذا القتل خطأ، لكنه يعتبر قتلاً، ولا نقول: إنها قاصرة، بل تأخذ حكم قتل الخطأ، لها وعليها. والشاهد: أن هذه الطفلة إذا دبت، وشربت اللبن، ولا يوجد إغراء من الضرة ولا أعانت على ذلك، وإنما كانت نائمة، أو تظنها بنتاً لأختها -مثلاً- فما شعرت إلا وقد التقمت ثديها، فسكتت عنها، ثم تبين أنها ضرتها الصغيرة، فما الحكم؟ يفسخ النكاح، لكن الفساد لم يأت بفعل الزوجة الكبيرة، وإنما جاء بفعل الصبية، وحينئذ لا تلزم الزوجة بدفع نصف المهر الذي يكون للصبية في حال فسخ عقدها؛ لأن الصبية هي التي تسببت في فسخ النكاح وزواله، وحينئذ لا شيء لها، لأنها أفسدت على نفسها. وهكذا لو أن امرأة قامت بإرضاع زوجته، فإنها في هذه الحالة تصبح أماً للزوجة، وأم الزوجة محرمة بالعقد على بنتها. فالمرضعة أفسدت نكاح نفسها وفي هذه الحالة تتحمل مسئولية نفسها، ولا يكون لها استحقاق. قال رحمه الله: [وبعد الدخول مهرها بحاله] بالنسبة للأصل، هذه المسألة فيها خلاف، هل يسقط المهر إذا تسببت المرأة في المحرمية بالرضاع أو لا يسقط؟ بعض العلماء يقولون: إذا تسببت يسقط مهرها، إذا كان قد دخل بها، وهذا يقع في حال اعتبار رضاع الكبير، ويقع أيضاً في إرضاع الصغير، لأنها إذا أرضعت الزوجة؛ صارت أماً للزوجة من الرضاعة، وأم الزوجة من الرضاعة حرام كما بينا أن المصاهرة يسري فيها ما يسري في النسب، وأن الرضاع يسري التحريم به في النسب، وفي المصاهرة، أي: في المحرمات من النسب، والمحرمات من المصاهرة، فأم الزوجة من الرضاع محرمة، وبنت الزوجة من الرضاع محرمة، وزوجة الابن من الرضاع محرمة، وزوجة الأب من الرضاع محرمة، مثل ما يقع في النسب، وبينا هذا، وبينا أنه محل إجماع بين العلماء رحمهم الله. وفي هذه الحالة إذا وقع التحريم على هذا الوجه، فإنه في هذه الحالة؛ اختلف العلماء؛ إذا كان قد دخل بهذه الزوجة التي تسببت في إفساد عقدها، هل المهر يسقط بناءً على أنها أفسدت العقد، وليس لها مهر؟ أم أننا نقول: إن المهر مستحق بالدخول، وقد دخل بها، واستمتع، ثم يفسخ النكاح بينهما، فهذا الإفساد وقع على النكاح، لكنه لا يوجب سقوط المهر؟ وجهان عند العلماء رحمهم الله، عند الإمام أحمد روايتان، والجماهير على أنه لا يسقط، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (ولها المهر بما استحل من فرجها). وعنه: أنه يسقط؛ لأنها تسببت في ضياع حقها، وحينئذ لا يكون لها استحقاق المطالبة، وهو في الحقيقة من القوة بمكان، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- والإمام ابن القيم هذه الرواية عن الإمام أحمد، ويقويها سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم العلامة الإمام -رحمه الله برحمته الواسعة- ويميل إلى هذا القول ويقويه أن سقوطه أوجه من حيث القوة، ومن حيث المذهب. قال رحمه الله: [وإن أفسده غيرها، فلها على الزوج نصف المسمى قبله] مثل ما ذكرنا، لو أن الغير تسبب في إفساد نكاح هذه الطفلة، كما لو أنه هددها فأرضعتها بالقوة، فقد أفسد عليها النكاح، في هذه الحالة نقول: هذا الذي تسبب، وكانت السببية قوية التأثير، ومفضية إلى الرضاع، مثلما هو مقرر في السببية والمباشرة -ومسألة السببية والمباشرة ستأتينا إن شاء الله في الجنايات، لكن يهمنا هنا في مسألة الرضاع- كما لو أنه هدد الزوجة، وقال لها: أرضعي -بالقوة- هذه الصبية، فأرضعتها، فالمباشر للرضاع هي المرأة -الزوجة- والذي تسبب المهدِّد -المُكْرِه- فهل الضمان في هذه الأحوال يكون على المهدد المُكْرِه أو على المُكْرَه؟ فيقولون: هل يكون الحكم للسببية، أو يكون للمباشرة، أو يجمع الاثنان؟ في بعض الأحيان يكون الحكم مؤاخذة الطرفين؛ مثل: القتل، فلو أن شخصاً وضع السلاح على شخص، وقال: إذا لم تقتل فلاناً أقتلك. فقتل؛ يقتل الاثنان، يقتل الذي هدد؛ لأنها سببية قوية مفضية للقتل، ويقتل الذي باشر القتل، لأنه ليس بالمكره، فالمكره شرطه أن يهدد بشيء أعظم، ونفس أخيه كنفسه، فهل ينقذ نفسه من القتل بقتل أخيه؟! لا يكون ذلك إكراهاً في حقه، لكن لو هدد بالقتل على أنه يطلق، فيجوز له أن يطلق، ويسقط الطلاق؛ لأن الطلاق أخف من القتل، لكن لو خُيّر بين أمرين: بين أن يُقتل، وبين أن يقتل أخاه، ولو صبر ربما ما قُتل، ولا نُفذ التهديد، لكنه أفضى إلى القتل بمباشرة قوية. ولذلك في بعض الأحيان تكون سببية، لكن تكون سببية قوية في التأثير، بحيث يكون الحكم للسببية وتسقط المباشرة. مثلاً: لو أنه أخذ حية وأنهشها بشخص؛ فقتلته -أي: الحية فلدغت شخصاً فقتلته- من الذي قتل؟ الحية. لكن من الذي جاء برأس الحية؟ ومن الذي قربها؟ فالمباشر: الحية، والسبب: المكلف، فحينئذ تسقط المباشرة، ويكون الحكم بالسببية. وفي بعض الأحيان تقوم المباشرة، وتسقط السببية؛ كما لو حفر رجل بئراً، أو بنى جداراً، فلما بنى الجدار جاء شخص ورماه على شخص فقتله، فهذا الذي دفع الجدار باشر، والذي بنى الجدار تسبب، أي: أن الجدار لو لم يكن موجوداً لما حصل القتل. ومسألة تقديم السببية على المباشرة والعكس لها أحوال ثلاثة: تارة نغلب السببية، وتارة نغلب المباشرة، وتارة نعطي الحكم لمجموع الأمرين. فهنا عندنا سببية، ومباشرة؛ وذلك إن هدد أحد امرأة وأجبرها أن ترضع ضرتها الصغيرة فأفسدت عقد زوجها بهذا الرضاع، فهل ننظر للذي باشر الرضاع -الزوجة التي هي المرضعة- أو ننظر للذي تسبب بالإفساد والذي هو المُكرِه؟ في مسألتنا هذه ننظر للذي هدد، والذي ضغط على المرأة، لأن الإكراه يرفع التكليف، وقد بينا هذا في مسائل؛ كطلاق المكره، وغيرها من المسائل التي بينا فيها حكم الإكراه. فهنا تقوى السببية، ومن هنا بين-رحمه الله- أن من تسبب في إفساد النكاح فإنه يضمن، فيكون عليه ضمان نصف المهر قبل الدخول، وذلك بأن يطالب الزوج بدفع نصف المهر، ثم يرجع هذا الزوج على من تسبب في إفساده، وقد بينا هذا في مسائل متقدمة معنا في الضمان. قال رحمه الله: [وجميعه بعده] يعني: بعد الدخول، وهذا على القول بأن المهر لا يسقط، وقد بينا هذا. قال رحمه الله: [ويرجع الزوج به على المكره] يطالب الزوج بجميع الصداق إن كان قد دخل على هذه التي فسد نكاحها، أو يطالب بنصفه إذا لم يدخل، فيدفع هذا، ثم بعد أن يدفع، نقول له: أقم دعوى، وطالب من تسبب بهذا الإفساد، إن كان الإفساد ناشئاً منه، وطالبه بالمهر كله إن كان بعد الدخول، وطالبه بنصفه إن كان قبل الدخول.

حكم من قال لزوجته: (أنت أختي من الرضاع)

حكم من قال لزوجته: (أنت أختي من الرضاع) قال رحمه الله: [ومن قال لزوجته: أنت أختي من الرضاع بطل النكاح] ومن قال لزوجته: أنت أختي من الرضاع، فقد أقر واعترف أنها لا تحل له، فيؤاخذ بإقراره؛ ولذلك بينا أن أقوى الحجج وأقوى الأدلة: الإقرار. وهذا ما يسميه بعض العلماء: بسيد الأدلة. والسيد في لسان العرب: هو المقدم في كل شيء. فقالوا: إذا أقر بأنها أخته؛ فإنه في هذه الحالة يؤاخذ بإقراره، ويلزم به، ويحكم بالمحرمية ظاهراً، أي: أنها حرمت عليه، بناء على القول الذي قاله شهادة من نفسه على نفسه ببطلان النكاح، وليس هناك أصدق من شهادة الإنسان على نفسه، لكن لو كان يريد من قوله هذا أن يسقط حق المرأة، فحينئذ يتهم؛ لأن الشهادة حجة، والإقرار حجة، مالم تدخله التهمة، فإذا دخلته التهمة ضعف الاحتجاج به، كإقرار المجنون فهو متهم، وليس بمقبول، ولا بحجة؛ لأنه قد يكذب على نفسه، إذ ليس عنده عقل، وكذا إقرار السكران لا يعتد به، ولذلك لما جاء ماعز وأقر واعترف، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أشربت خمراً؟!)؛ لأن السكران إقراره محل تهمة، فهنا التهمة عندنا في العقل والإدراك، وقد تكون التهمة في جلب النفع أو دفع الضرر. فإذا قال لها: أنت أختي من الرضاع، وكان قد استحق عليه مهرها، حينئذ يتخلص من المهر، لأنها لم تعد له بزوجة له، وحينئذ يفسخ نكاحها. قال رحمه الله: [فإن كان قبل الدخول وصدقت فلا مهر] إذا صدقت الزوجة فما عندنا إشكال في فسخ النكاح، ومسألة إسقاط المهر قبل الدخول بلا إشكال؛ لأن العقد إذا كان على أخته من الرضاعة، أو ابنته من الرضاعة، أو عمته من الرضاعة فهو عقد فاسد وباطل، لا يُستحق فيه المهر لا نصفاً، ولا كلاً، فحينئذ في هذه الحالة يسقط، فإذا صدقته قبل الدخول؛ فلا شيء لها. قال رحمه الله: [وإن أكذبته فلها نصفه] وإن أكذبته قبل الدخول، قالت: لست بأخ لي من الرضاع، والدتي ما أرضعتك، أو أنا لم أرتضع من والدتك، وهذا الكلام الذي تقوله ليس بصحيح -فكذبته- ويقع هذا إذا كان الرجل لا يخاف الله- نسأل الله السلامة والعافية- أو رجل كثير التهم والشكوك، يصدق أقل شيء، فجاء شخص يريد الزوجة، فأوعز إلى شخص ضعيف النفس، فما تصدقه المرأة، لكن إذا كان شخصاً ثقة، وقال: أنا وهمت. فكأن بعض العلماء كالإمام أبي حنيفة -رحمه الله- وغيره يقبل منه العذر، قال: أنا كنت أظنها فلانة بنت فلان، لكن تبين لي أنها غيرها، وأنا رضعت من فلانة، فحينئذ الغالب صدقه، إذا كان الرجل أسند إلى عذر مقبول، فيرى بعض العلماء كالإمام أبي حنيفة -رحمه الله- وبعض السلف أن عذره مقبول، وأنه يحكم بقوله، فهنا إذا كذبته، تستحق نصف المهر. ما هي القضية؟ القضية أن الزوج لما عقد على هذه الزوجة؛ استحقت نصف المهر لو فارقها قبل الدخول، إذا كان العقد صحيحاً وشرعياً، فحينما يدعي الفسخ، كما لو أقر أنها أخته من الرضاع، فيفسخ النكاح بناءً على إقراره، ويؤاخذ بهذا الإقرار، لكن بالنسبة للحقوق لا يسقط المهر إذا كذبته، ولا يسقط لها نصف المسمى، لأنها تستحق نصف المسمى، ويحكم بالظاهر بانفساخ العقد، لأنه أقر على نفسه أنها لا تحل له. قال رحمه الله: [ويجب كله بعده] ويجب عليه دفع الكل بعده، لأن إقراره موضع تهمة؛ لأنه يتهم بأنه يريد أن يسقط مهرها، إذ لو فتح هذا الباب؛ فكل رجل استمتع بالمرأة، وانتهى وطره منها، قال: هذه أختي من الرضاعة، أو بنت أختي من الرضاعة- نسأل الله السلامة والعافية- قد يفعل هذا، ويفتح هذا الباب لك شخص حتى يتخلص من حق زوجته في مهرها. قال رحمه الله: [وإن قالت هي ذلك، وأكذبها فهي زوجته حكماً] وإن قالت له: أنت أخي من الرضاعة، فإنه في الظاهر يعمل بقولها، وفي باطن الأمر يجوز له أن يستمتع بها، لأنه لم يكن ثم شيء يدل على صدق هذه الدعوى، أي: من حيث الباطن هي زوجته، وتحل له، لكن وجود هذه التهمة في الظاهر حكماً، تمنع الحكم ظاهراً باستحلاله لها، لأنها من حقها أن تمتنع منه، إذا أقرت، أو تبين لها أنها أخته من الرضاع، ويقع هذا-نسأل الله السلامة والعافية- في بعض الحوادث -مرت علينا- أن امرأة اكتشفت -ولم تكن تعلم بهذا- أنها مكثت مع أخيها من الرضاع عشرين سنة، وأنجبا أطفالاً، وهذا يدل على أن الرضاع ينبغي أن يحتاط فيه، وأن على الأم وعلى أهل الولدين أن يتقوا الله عز وجل، وأن يحفظوا الرضاع، وأن لا يضيعوه، فالأم إذا كان ولدها ارتضع وهو صغير، فتخبره، تقول له: يا بني، أنت ارتضعت من بني فلان، وتحدد له المرأة التي ارتضع منها، وهكذا الأخت إذا علمت أن هناك رضاعة لأخيها؛ بينت له، حتى لا يقع في الحرام، لأن هذه الأمور يعظم ضررها إذا تساهل الناس فيها، وذكر بعض أهل العلم أن شخصاً تبين له أن زوجته أخت له من الرضاع ففقد عقله، ما استطاع أن يتحمل الصدمة، ويقع هذا في النساء أيضاً، وهذا يدل على أن ضررها عظيم جداً، ولذلك ينبغي أن يحتاط لهذا الأمر.

حكم الشك في الرضاع أو كماله

حكم الشك في الرضاع أو كماله قال رحمه الله: [وإذا شُك في الرضاع أو كماله، أو شكت المرضعة ولا بينة فلا تحريم] يقول المصنف رحمه الله: (وإذا شُك في الرضاع) الشك: استواء الاحتمالين، دون وجود مرجح، فإذا استوى الاحتمالان وجوداً وعدماً، فإننا نبقى على الأصل، فنحن لا نحكم بالرضاع إلا إذا ثبت وجوده، أما إذا لم يثبت أن هناك رضاعاً فإننا لا نحكم بالشكوك، لأن الأصل واليقين أنها أجنبية، وأنها حلال، ولا نعدل عن هذا اليقين إلا بيقين مثله. (أو كماله) مثلاً: قالت المرضعة: أرضعته أربع رضعات وأنا متأكدة منها، لكن الخامسة أشك فيها. هل تم العدد أو لا؟ فحينئذ يقال: اليقين أنها أربع رضعات حتى يستيقن أنها خمس. (أو شكت المرضعة ولا بينة) يعني: شكت هل هذا محمد الذي ارتضع منها أو غيره، ولا بينة تبين حقيقة الحال، وسميت البينة بينة؛ لأنها يتبين بها جلي الأمر، ويكشف فيها وجه الحق، ويظهر بها الصواب، فإذا لم تكن هناك بينة، يعني: ما كان هناك شهود يبينون من الذي رضع، فحينئذ لا نحكم بهذه الظنون، ولا نحكم بهذه الاحتمالات، ويبقى الحكم على الأصل. (فلاتحريم) أي: أن عقده عليها صحيح وهي زوجته، حتى يثبت له موجب التحريم بيقين، ولذلك تقدم معنا في القاعدة الشرعية: (اليقين لا يزال بالشك) فإذا شك في الأعداد بنى على الأقل الذي هو اليقين، ودائماً إذا شك هل هناك رضاع؟ أو ليس هناك رضاع؟ فمعناه: هل هي حرام، أو حلال؟ فالأصل أنها حلال حتى نستيقن أنها حرام، وإذا شك هل هي أربع رضعات أو خمس؟ فاليقين أنها أربع، والخامسة محل شك، فنبني على الأربع، وقس على هذا مثلها من المسائل.

الأسئلة

الأسئلة

جريان الأحكام الشرعية الخمسة في الرضاع حسب الأحوال

جريان الأحكام الشرعية الخمسة في الرضاع حسب الأحوال Q هل الرضاع مندوب إليه في الشرع، ووردت نصوص في الترغيب فيه، أم هو على الإباحة فقط؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: الرضاع الأصل فيه أنه حلال، مباح، ولا بأس به، ولا حرج، لكنه يكون واجباً إذا كان إنقاذاً لنفس، كما لو رأت امرأة رضيعاً يكاد أن يموت ويهلك، ويحتاج إلى من يرضعه، فقامت بإرضاعه، فهو واجب؛ لأن إحياء النفس واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإذا توقف على الرضاع فالرضاع واجب. يكون مندوباً إليه إذا كان هذا الرضيع يجد مرضعة غير صالحة، مثلما ذكر أئمة السلف ودواوين العلم كأن تكون المرضعة -نسأل الله العافية- بغياً من بغايا الزنا -أعاذنا الله وإياكم- أو امرأة كافرة، أو مشركة من أهل الكتاب، يهودية، أو نصرانية، أو كانت وثنية، فلا يوجد إلا المسلمة، مثلما يقع الآن لبعض الجاليات في الخارج، وفي هذه الحال تكون هناك مرأة مسلمة فيها لبن، وجميع من حول هذا الرضيع كافرات، أو من المومسات البغايا، فلا شك أن ارتضاع الرضيع من غير المسلمة يضره، لذلك كان عمر رضي الله عنه يشدد في الرضاع، وينهى عن الارتضاع من الفاجرات، والكافرات، كما روى عنه ابن أبي شيبة وغيره ويشدد فيه -رضي الله عنه وأرضاه- ويقول: (إن الرضاع يعدي)، يعني: يؤثر في الأخلاق، ولأنه إذا ارتضع من الكافرة ربما أثرت عليه في الدين، وربما أثرت عليه في العقيدة، والولد يحن إلى أمه من الرضاع في بعض الأحيان كما يحن إلى أمه من النسب، وقد يحن إلى أمه من الرضاع أكثر من أمه من النسب إذا ماتت، فإنه حنين الرضاع، لذلك تجد الولد الذي ارتضع عنده من الحنان، والعاطفة، أكثر من الولد الذي يرضع من الحليب المجفف المعلب، فإنه غالباً ليس كالذي رضاعته طبيعية فهذا تجد عنده من الحنان، والشفقة، والعاطفة ما ليس عند غيره، الآن بعض من رضع حليباً مجففاً ولم يرضع من أمه تقول له: أمك مريضة، يقول: خذوها المستشفى، ما يبالي أبداً، وهذا مشاهد وهو دليل حسي واضح. على كل حال: الرضاع يؤثر. ويكون واجباً إذا كان فيه إنقاذ نفس، ويكون مندوباً شديد الندب إذا خشي على الولد أن يرتضع رضاعاً يضره، خاصة إذا كان قريباً أو ذا رحم، مثلاً: امرأة ترضع ابن أختها، أو ابن أخيها، جبراً لخاطر أختها، فيكون مندوباً، وفيه فضل وصلة رحم، وفيه إدخال سرور على قريب، وإدخال السرور على القريب منه من الأجر والمثوبة أكثر من غيره. ويكون الرضاع محرماً: إذا قصد به تحريم الحلال، مثلما يفعل البعض -نسأل الله السلامة والعافية- ترضع المرأة بنات العم، حتى لا يتزوج أولادها من بنات أخي زوجها، فتريد أن تجذب -مثلاً- بناتها أو أبناءها إلى قرابتها هي، ويفعل هذا بعض النساء، وهذا غرض سيء، وقصد سيء لتحريم ما أحل الله، ولأنه يقصد به قطع الصلة، من المحبة التي تكون بالزواج والنكاح، فإذا قُصد به محرم فهو محرم للقصد، وإذا قُصد به القيام بواجب كإحياء نفس فهو واجب، وإذا قصد به مندوب فهو مندوب. فعلى كل حال: يختلف الحكم باختلاف الحال، لكن الأصل العام أنه مباح، والأصل العام أن الوالدة المرضعة لها أجر ومثوبة، ولذلك يكون في مقام المندوبات؛ لأن فيه مشقة وعناء، ولذلك أحل الله للمرأة المرضعة أن تفطر؛ لأنها من الذين يطيقون الصيام ويجدون فيه المشقة والكلفة والعناء، ووجود العناء قدره الشرع في هذه المرضعة، وما كان فيه عناء، ففيه أجر، وفيه مثوبة، خاصة إذا كان فيه إصلاح للنفس، وإنقاذ لها. وذكر بعض العلماء أن المرأة إذا كانت حمقاء، أو عصبية، أو هوجاء معروفة الهوج، فلا ينصح باسترضاعها؛ لأن الرضاع يؤثر في الطباع، وهناك حكمة يقولونها: (الرضاع يؤثر في الطباع) حتى قال بعضهم: الرضاع أشد من الطباع، يعني: أن توارث الأخلاق يأتي من الرضاع أكثر مما يأتي من النسب؛ لذلك إذا خافت المرأة المرضعة أن يرتضع الطفل من امرأة عصبية، أو فيها مرض، أو فيها بلاء، وأرادت جذبه إليها، فقد أحسنت، وأجرها أعظم، فيختلف الحكم بحسب اختلاف الأحوال، والله تعالى أعلم.

الفوارق بين الرضاع والنسب

الفوارق بين الرضاع والنسب Q ما هي الفوارق أو المسائل المستثناة، التي بين الرضاع والنسب كانعدام الإرث في الرضاع مثلاً؟ A الفروق تحتاج إلى ضوابط، فالنسب شيء والرضاع شيء آخر، فالذي يثبته الرضاع هو من جهة المحرمية، والحرمة، وما ذكرناه من آثاره، ولا يثبت إرثاً، وإنما النسب هو الذي يثبت إرثاً. والرضاع لا يُثبت عقلاً، يعني: لو قُتل الشخص خطأً فتعقل عنه عاقلته -عصبته- وهم أقاربه الذكور من النسب؛ فأخوه يعقل عنه، وعمه، وابن عمه، وأبوه، وجده، ولكن الابن من الرضاع، والأخ من الرضاع، والعم من الرضاع، لا يشارك في العقل -وهو الدية-. كذلك أيضاً بالنسبة للنفقات: النسب يوجب ثبوت النفقة: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233]. فإذا افتقر الابن بعد بلوغه، ورشده، ولم يستطع، ولم يجد كسباً، لزم الأب أن ينفق عليه، وأن يعوله، وأن يقوم عليه، لكن لو أن ابناً من الرضاعة افتقر، فلا يلزم أن الرضاع بما يلزم به الأب من الإنفاق عليه. ومن الفروق: أنه لا يجوز إعطاء الصدقة للابن من النسب، وهل الابن من الرضاعة يحرم أن يعطيه أو لا يحرم؟ قال بعض العلماء: لا يحرم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما فاطمة بضعة مني). وقالوا -بناءً على ذلك-: يجوز له أن يعطيه؛ لأنه ليس بضعة منه. وقال بعض العلماء: إنه بارتضاعه اللبن يكون في حكم البضعة من الشخص، وقد بين صلى الله عليه وسلم في الحديث: (أن الرضاعة تنشز العظم، وتنبت اللحم). فلا يعطى، وهذا نص عليه غير واحد من العلماء، فحينئذ يستوي الرضاع مع النسب أو لا يستوي على الخلاف المعروف في مسألة النسب. كذلك أيضاً في مسألة الإرث: النسب يوجب ثبوت الميراث، بينما الرضاع لا يوجب الإرث. مسألة الصلة: الأم من النسب، والأخ من النسب، والعم من النسب، والخال من النسب، له حق من الصلة، ولكن الرضاع لا يكون له من الصلة ما يكون للنسب، فليس من ذوي الأرحام الذين أمر بصلتهم أمراً لازماً، ولذلك فرق بين ما يكون من الرضاعة وما يكون من النسب. والفوارق بين الرضاع والنسب ذكرنا أكثرها، والرضاع -في الأصل- أكثر ما يجري عليه من أحكام؛ يجري في مسألة المحرمية، وثبوت الآثار المتعلقة بالنكاح، والخلوة، والنظر، والسفر، وغير ذلك.

حكم الصلاة بعد الوتر إذا كانت تطوعا أو ذات سبب

حكم الصلاة بعد الوتر إذا كانت تطوعاً أو ذات سبب Q أشكلت علي مسألة أنني صليت الوتر، ثم أتيت المسجد، فصليت تحية المسجد، ففقدت فضيلة الوتر؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً). فكيف أدرك هذه الفضيلة؟ A هناك فرق بين أن تقول: فقدت فضيلة الوتر، وبين أن تقول: فقدت فضيلة تأخير الوتر، ففضيلة الوتر ما تفوت، والوتر لك أجره، فالله تعالى يقول: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195]. فأجرك ثابت، ووترك ثابت، وأبشر بخير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بعدما أوتر، كما في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: أنه صلى ركعتين بعدما أوتر. وبعض أهل العلم قالوا: فعل ذلك لبيان الجواز، وأنه يجوز أن تصلي الشفع بعد الوتر، وقوله: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) هذا لمن يقوم آخر الليل، فإذا قمت في آخر الليل وأردت أن تصلي؛ فصلِّ ما شاء الله بعد أن تنقض أول الوتر الذي أوترته، ثم تصلي ما شاء الله، ثم توتر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا وتران في ليلة). فلما قال: (لا وتران) دل على أن الوتر ينقض الوتر، وأنت إذا أوترت في أول الليل، وتريد فضيلة آخر الليل، فقد بنيت على ظن بان خطؤه، كأن كنت تظن أنك ما تستطيع آخر الليل أن تقوم، فإذا قمت نقضت الوتر الأول بركعة، ثم بعد ذلك صلِ شفعاً ثم أوتر، وهو فعل مأثور عن علي رضي الله عنه، وعبد الله بن عمر، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وظاهر السنة يدل عليه إذا كان في آخر الليل، أما إذا أوترت من أول الليل، ثم صليت ركعتي الوضوء، أو تحية المسجد، أو أردت أن تتنفل، أو أردت أن تسأل الله من فضله، أو تستغفر من ذنب، فصليت ركعتين، أو أربعاً، أو ستاً، أو ثمانيَ، فلا بأس؛ لأن الشفع بعد الوتر جائز، ولكن الأفضل والأكمل إذا قمت في آخر الليل أن تجعل آخر صلاتك بالليل وتراً. فلو قمت آخر الليل، وليس عندك نية أن تصلي، ولكن تريد أن تصلي الفجر، فتترك الوتر الأول كما هو، ولك أن تصلي ركعة، ثم تصلي ما شاء الله، ولو ركعتين، ثم توتر، فكله جائز، والأمر على السعة -والحمد لله- وقد دلت السنة على جميع ذلك، دلت على أنه يجوز أن توتر من أول الليل، قالت عائشة رضي الله عنها: (من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أوله، وأوسطه، وآخره). وفي رواية: (من أوله، وأوسطه، وانتهى وتره إلى السحر). وهذا يدل على السعة والحمد لله، فليس هناك إلزام بشيء، لكن الأفضل والأكمل أنك إذا قمت آخر الليل أن تنقض وترك، ثم تشفع، ثم بعد ذلك تصلي وتراً لكي تصيب دعوة في السحر، وتصيب الدعوة في الوقت الذي تستجاب فيه الدعوة؛ ولأن الصلاة في هذا الوقت أعظم أجراً، وأعظم مثوبة، ولما سئل عليه الصلاة والسلام عن أفضل الصلاة قال عليه الصلاة والسلام: (وركعتان يركعهما المؤمن في جوف الليل الآخر). وقال: (إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن). هذا يدل على فضل أن تكون صلاتك في هذا الوقت. والسبب الثالث: أنك تمتثل السنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا آخر صلاتك بالليل وتراً). والله تعالى أعلم.

حكم من أكل ولم يعلم بدخول الفجر

حكم من أكل ولم يعلم بدخول الفجر Q شخص استيقظ من الليل، فشرب وأكل، يظن الفجر لم يؤذن، وعندما انتهى سمع إقامة الصلاة، فظهر له أنه أكل بعد الأذان. فماذا عليه؟ A ينبغي أولاً على الإنسان أن يحتاط، فإذا أمكنه أن يسأل، أو أمكنه أن يرجع إلى الساعة، أو أن يتحرى؛ لزمه، لأن حق الله عز وجل في هذا الوقت أن تمسك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فينبغي الاحتياط في حق الله، أما أن يقوم ويدعي أنه لا يعلم شيئاً، ثم يذهب إلى طعامه وشرابه ويأكل، وبعد أن يأكل يبحث هل دخل الفجر أو لا، لا يجوز، فلا يرضى أحد لحقه أن يضيع بهذا، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إن الله لا يخادع) يعني: لا يخدع أحد ربه بهذا، ويذهب بعض الذين يترخصون ويقول: لا يلزمه أن يسأل بل يأكل ويشرب، ثم يسأل! وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فدين الله أحق أن يقضى). هذا في الحج، فبين أن حق الله عز وجل لا يتساهل فيه، فهذه حرمات ينبغي حفظها، وحدود، ولذلك ذكر الله عز وجل بعد الصوم أنه من حدود الله، وأن علينا أن نتقي الله عز وجل، فذكر حدوده، وأمر بتقواه سبحانه وتعالى، وأن لا نقربها، فالواجب على المسلم أن يتحرى، وأن يصبر، ولعل الله عز وجل أن يبتليه في تلك الليلة فيقوم بعد ما أذن الفجر فلا يعلم مقدار أجره وصبره إلا الله وحده لا شريك له. الصوم وحده من الأعمال التي لا يعلم ثوابها إلا الله وحده لا شريك له: (كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به). قالوا: جعله مفتوحاً؛ لأنه يقوم على الصبر، والله يقول عن الصبر والصابرين: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]. وكان بعض العلماء يقول: إن من أجره: أن لو صام عبد وصدق في صومه، وأتم لله الصوم، فقامت عليه الحقوق كَثَّر الله أجر الصيام، حتى تقضى عنه الحقوق والمظالم؛ لأنه قال: (فإنه لي وأنا أجزي به). وإذا كان الصوم بعناء، ومشقة، وكدح، وابتلاء، فأجره أعظم، وثوابه عند الله أجل، وأكبر، والصوم بتقوى، وخوف، وورع، بأن يتحرى، ويلزم نفسه الموارد، ولا يضع نفسه في الأمور المشتبهة، فهذا أعظم أجراً عند الله سبحانه وتعالى، وأثقل في ميزان العبد، وأتقى لله عز وجل؛ ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضله سلباً وإيجاباً، ففي الإيجاب عظيم أجره حينما قال: (إلا الصوم فإنه لي). هذا في الثواب، وأما في دفع الأشياء، ودفع الضرر، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (الصوم جنة). والجُنة: الوقاية، قالوا: إنه جُنة للعبد من النار، فإذا مضى على الصراط؛ فإنه لا يحفظه شيء بعد الإيمان بالله عز وجل مثل إقامته للصوم على أتم وجهه وأكمله، فإذا كانت الجُنَّةُ مخروقة، أو فيها تضييع، فحينئذ يأتيه من كلاليب النار، وخطفها، وخدشها، على قدر ما ضيع من جنته والعياذ بالله. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتولانا برحمته، وأن يجبر كسرنا، وأن يرحم ضعفنا، وأن يتولانا بما تولى به عباده الصالحين، ونسأله بعزته، وجلاله، وعظمته، وكماله، أن يجعلنا وإياكم ممن صام الشهر فاستكمل الأجر، وأدرك ليلة القدر، وأفضل له ربه من الخير، والفضل، والأجر، والإحسان، والبر، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

كتاب النفقات [1]

شرح زاد المستقنع - كتاب النفقات [1] من الحقوق المترتبة على عقد الزوجية: إنفاق الزوج على زوجته، وهذه النفقة من النفقات الواجبة التي يراعى فيها ما تحتاجه المرأة من طعام وشراب ولباس وسكن، بحسب العرف السائد دون إفراط ولا تفريط، وكل هذا يكون راجعاً إلى قدرة الزوج واستطاعته.

وجوب النفقة وقدرها

وجوب النفقة وقدرها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

الأدلة على وجوب نفقة الزوج على زوجته

الأدلة على وجوب نفقة الزوج على زوجته فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن للزوجة على زوجها أن ينفق عليها، وأن يرزقها ويكسوها بالمعروف. وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح أن هند جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجلٌ شحيح مسيك، أفآخذ من ماله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فقوله: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) فيه فوائد: منها: وجوب النفقة على الزوج، ولذلك استحقت المرأة أن تأخذ من ماله قدر ما يجب عليه أن ينفق. ومنها: أنه استدل به بعض العلماء على أن العبرة في النفقة بالزوجة لا بالزوج؛ لأنه قال: (ما يكفيك وولدك)، فجعل الأمر راجعاً إلى الزوجة. وصورة المسألة: لو كانت الزوجة غنية والزوج فقيراً، فهل ينفق عليها نفقة الفقير، أو نفقة الغني؟ إذا قلنا: العبرة بالزوجة فإنه ينفق نفقة الغني، وإن قلنا: العبرة بالزوج فإنه ينفق نفقة الفقير، وستأتي هذه المسألة إن شاء الله تعالى، وأن الصحيح أن الزوج ينفق نفقته هو، إن كان غنياً أنفق نفقة الغنى، وإن كان فقيراً أنفق نفقة الفقر؛ لكن هذا الحديث استدل به من يقول: إذا أمرنا الزوج أن ينفق فالواجب عليه أن ينفق على حسب حال زوجته، لا على حسب حاله هو؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فجعل الأمر راجعاً إلى كفايتها هي، وأن العبرة بها لا بالزوج.

مسألة الظفر

مسألة الظفر كذلك استدل به بعض العلماء على مسألةٍ لطيفة وهي: مسألة الظفر، ومسألة الظفر: أن يظلم شخصٌ شخصاً في حق، كأن يعمل عنده ولا يعطيه راتبه، أو ظلمه فاغتصب منه مائة ألف أو عشرة آلاف ريال، وشاء الله عز وجل أن هذا المظلوم ظفر بمالٍ للرجل الذي ظلمه، فهل له الحق أن يأخذه خفية دون علم الرجل؟ وهل له الحق أن يتسلط على ماله بحكم المظلمة؛ لأن هند رضي الله عنها تسلطت على مال أبي سفيان رضي الله عنه باستحقاق؟ فأخذ منه بعض العلماء أنه إذا ثبت له استحقاق، جاز له أن يأخذ من المال بقدر ما ظُلِم به. والصحيح أنه لا يجوز له ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)، فلو أن عاملاً ظفر براتبه من مال من يعمل عنده فقد خان الأمانة؛ لأنه مؤتمن على رعاية هذا المال. وأما حديث هند هذا فلا يدل على مسألة الظفر بالعموم، بل نقول: الأصل أن تحفظ الأمانة، وجاء حديث هند في مسألة الأزواج والزوجات؛ لأن الزوجة إذا افتقرت ربما تعرضت للحرام، ولأن الزوجة إذا أخذت لا يتهمها زوجها، وتستطيع أن تقول له: نعم، قد ظلمتني في كذا وكذا، ولكن الرجل إذا كان أجنبياً عن مال الرجل فإنه يُتّهم، ويترتب على ذلك من الضرر ما لا يخفى. فالذي يظهر -والله أعلم- أن حديث هند لا علاقة له بالمسألة من كل وجه، وهم جعلوه من باب القياس، فقالوا: يقاس على الزوجة، وفي الحقيقة أن تخصيص الزوجة أقوى وأولى؛ ولذلك لا يقوى القول بالعموم. الشاهد: أن هذا الحديث يدل على أنه يجب على الزوج أن ينفق على زوجته، وقال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)، والذي يعول إنما هم الأقربون من زوجته وأولاده، وهم أقرب الناس إليه ممن يتولى رعايتهم، فقوله: (كفى بالمرء إثماً) يدل على أن الأصل أن يقوم عليهم، وأن الأصل والواجب عليه أن يقوم برعايتهم وسد حاجتهم وخلتهم في أمورهم وشئونهم. بناءً على هذا نقول: دلّ دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أن النفقة واجبة، وفي هذا عدلٌ من الله سبحانه وتعالى بين الأزواج والزوجات، فالرجل أعطاه الله حقوقاً والمرأة أعطاها حقوقاً، فكما أن المرأة مطالبة بأن تؤدي حق الرجل في فراشه وعفته والقيام على بيته وولده وإحسان التبعل له؛ كذلك الزوج مطالب بحقوق واجبةٍ عليه، فعدل ربنا سبحانه وتعالى بين الاثنين، يقص الحق وهو خير الفاصلين، ويحكم بالعدل وهو خير الحاكمين، سبحانه وهو رب العالمين.

يلزم الزوج نفقة زوجته قوتا

يلزم الزوج نفقة زوجته قوتاً قال رحمه الله: [يلزم الزوج نفقة زوجته قوتاً]. وإذا كان يلزمه أن ينفق على زوجته وأنه واجبٌ عليه، فيترتب على هذا أنه إذا لم ينفق طولب بالنفقة؛ لأنها واجبة، ومن قصر في الواجب فعليه أن يؤدي ما فرض الله عليه، ومن هنا يأمره القاضي ويوجب عليه ذلك، ومن حق المرأة أن تشتكي إذا لم تطق صبراً، أو خافت على نفسها وولدها، كما اشتكت هند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرها عليه الصلاة والسلام، فدّل على أنه حقٌ من حقوقها. قوله: (قوتاً)، النفقة تشمل الطعام والشراب، والكسوة، والسكن، فهذه ثلاثة جوانب في النفقات: الطعام والشراب وما يقتات به، والكسوة، والسكن الذي يؤوى إليه. ويتبع السكن فراش السكن وما يجلس عليه من مفارش بالمعروف، وكذلك اللحاف، فهذه هي أصول النفقات، وأجمع العلماء من حيث الجملة على أنها هي الأصول الواجبة في النفقات، وأن على الزوج أن يطعم زوجته، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأن تطعمها إذا طعمت)، وفي لفظٍ: (أن تطعمها مما تطعم، وأن تكسوها مما تكتسي).

كيفية الإطعام وقدره الواجب

كيفية الإطعام وقدره الواجب نص المصنف رحمه الله على تقديم الطعام؛ لأنه قوام الأبدان، وهو صلاحها بإذن الله عز وجل، فإذا لم تأكل المرأة وجاعت فإنها تضطر إلى أمورٍ لا تحمد عقباها، وقد تهلك وتموت، ولعظم أمر الطعام وحاجة البدن إليه أحل الله للمضطر أن يأكل من الميتة، فهو حق عظيم، وواجب على الزوج أن يتفقد زوجته وأولاده في طعامهم، وهذا الطعام لا يكفي فيه أن ينظر إليه نظرة عابرة، وأن يجد من سكوت أولاده وزوجه ما يظن أن هذا يعذره أمام الله عز وجل، فليس كل طعام معتبراً، وليس كل طعام تبرأ به الذمة، وليس كل إِطعام يُعذر به العبد بين يدي الله عز وجل. فتراعى نوعية الطعام، وكون الطعام مما يرتفق به، وسلامته مما فيه ضرر أو مما يضيّع الزوج أو الولد بضعفه وعدم سده للحاجة من حيث الصفة ومن حيث القدر، فهذه أمور معتبرة، أعني صفة الطعام وقدره ونوعيته وجودته ورداءته، كل هذه يسأل عنها أمام الله عز وجل، فحق واجب على الزوج أن يطعم زوجته وأولاده وأن يحسن النظر في ذلك؛ لأنها أمانة ومسئولية، كما أنه يحب لنفسه أن يطعم من الطعام الذي فيه رفق بدنه وقوام ذلك الجسد وسلامته من الآفات، فواجب أن يتفقد ولده في الإطعام وزوجه من هذا الوجه. فقد يأتي الزوج بطعام رخيص ويكون في هذا الطعام عدم الكفاية من ناحية القدر، أو عدم سد الحاجة من ناحية الجودة والرداءة، وقد يأتي بطعام جيد فيه ضرر على الزوجة والولد، جيد في الظاهر فيما يتسامعه الناس ولكنه لا يصلح للزوجة ولا للولد، لكن يصلح له هو. إذاً لا بد أن ينظر إلى ما فيه صلاح هذا البدن المسئول أمام الله عز وجل عن إطعامه كما أنه مسئولٌ عن نفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم أنزل الولد منزلة الجسد نفسه فقال: (إنما فاطمة بضعةٌ مني). فالواجب الشرعي في الرعاية للولد أن يتفقدهم بإطعامهم على الوجه الذي يرى فيه قوام أبدانهم وصلاحها وسلامتها من الضرر، وقد توجد بعض الأطعمة يطعمها الأولاد وهي مضرة لهم، وتطعمها الزوجة وهي مضرة للزوجة. وقد يختلف الطعام من شخصٍ إلى آخر، فلو قالت له الزوجة: إن هذا الطعام يضربها، قال لها: هذا الذي لك عليّ، إن شئت أن تأكلي أو لا تأكلي، فهذا الطعام إن ثبت أنه يضرها فوجوده وعدمه على حدٍ سواء، وقد ظلمها في طعامها، فليست القضية فقط أن يأتي بالطعام ثم يرميه في البيت ثم يقول: قد أتيتها بالطعام، بل عليه أن يتفقد وأن ينظر أحسن الطعام؛ ليعذر أمام الله عز وجل، ويكون قد أدى الواجب الذي فرض الله عز وجل عليه بما تبرأ به ذمته أمام الله سبحانه وتعالى. وقد يُطعم أولاده الطعام الضعيف الذي لا يقيم البدن، مثلاً: هناك بعض الأرزاق والأقوات فيها غذاء نافع للبدن، ويكون الأبناء في بعض الظروف بحاجة إلى طعام يغذيهم ويعطيهم القوة والجلد على ظروف معينة، فأطعمة الشتاء ليست كأطعمة الصيف، والأطعمة في حال الإجهاد والتعب والنصب -خاصة إذا كان يطلب ذلك منهم- ليست كالأطعمة في حال الرفق والراحة. هذه كلها أمور ينبغي على الزوج أن يتفقدها؛ لأنها أمانة ومسئولية، وليس من المعروف أن يأتي ويطعمهم طعاماً لا يرتفق به البدن؛ ولذلك قيد الله عز وجل هذه النفقة بالمعروف، وهذا يدل على أنه ينبغي أن ينظر إلى العرف والحالة، واختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال والظروف، فقد يكون الطعام قاتلاً مميتاً ويقتل بالتدريج، مثلاً: بعض الأطعمة يوجد فيها بعض الأمراض لكنها أرخص ثمناً وأقل كلفة، فيذهب ويقول: أنا عليّ أن أطعمك، وهذا الطعام إذا أردت أن تأكلي منه فكلي وإلا فلا، فهذا لا يعذرهُ أمام الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا الطعام إذا ترتب عليه الضرر فإنه يتحمل المسئولية أمام الله عز وجل عليه، وهذا موجود. إذاً: لا يكفي أن يقوم بالإطعام حتى يتفقد وينظر ما الذي يحتاجه الولد، وينظر إلى البيئة وإلى راحة الابن دون غلو، فالمرأة قد تسرف، حتى أن بعض العلماء يقول عن هند لما أتت تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها نشأت في بيت عز، وبيت جاه؛ لأنها كانت من أرفع أسر قريش رضي الله عنها وأرضاها، وكان لها مكانة، وكأنها تريد النفقة التي ألفت حال كونها عند أبيها، فيقولون: فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك وقال: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فرد الأمر إلى العرف ولم يجعله مطلقاً. فنحن لا نقول: إن الزوج يتكلف ما يكون فيه مبالغة وإسراف، وأيضاً لا يضيع هذا الحق الواجب بأن يكتفى بمجرد إطعامهم أي طعامٍ دون أن يسد حاجتهم ودون أن يكون به قوام الأبدان، والولد في صغره يحتاج إلى نوعية من الطعام تقوي بدنه وتساعده، وتكون هناك نوعية أردأ منها، لا تقوّم البدن ولا تساعده وإن كانت تسد الخلة، وهناك الوسط بينهما، فعلى الوالد أن ينظر إلى هذا كله، وأن يرفق بولده، وأن ينظر إلى الحاجة التي يحتاجها، والزوجة نفس الشيء إن كانت حاملاً فقد تحتاج إلى نوع من الطعام، لأنها في ظروف وأكثر عناء أكثر تعباً ونصبا، فهذه كلها ظروف ينبغي للزوج أن يقدرها بقدرها وأن يحسن القيام فيها بحقوقها.

قدر الكسوة الواجبة للمرأة على زوجها

قدر الكسوة الواجبة للمرأة على زوجها قال رحمه الله: [وكسوة]. الكساء هو الغطاء الذي على البدن مما يُلبس، سواء كان مفصلاً على الجسد كالقميص ونحوه من المفصلات كالبردة، وفي زماننا الثياب والسراويل والفنايل، وإما أن يكون غير مفصل مثل الإزار والرداء، الإزار لأسفل البدن، وهو مثل الإحرام أسفل البدن؛ وأعلاه يقال له: رداء. فالكسوة تكون بما هو مفصل وغير مفصل، وهذا يُرجع فيه إلى العرف، إن جرى العرف أن الأولاد يكسون بسكوة مفصلة فعليه أن يفصل لهم ثياباً، وينظر إلى ما يتناسب مع حاله هو، وكذلك أيضاً إذا جرى العرف بأنهم يكسون بثياب غير مفصلة فيكفي أن تكون كسوتهم من غير المفصل. [وسكناها]. أي: سكن الزوجة. وكذلك الزوجة إذا كانت الزوجة تلبس اللباس المفصل مثل الفساتين في زماننا ونحوها فيعطيها ذلك، ويكسوها كسوة في الصيف وكسوة الشتاء هذا هو الأصل في الكسوة، أن لها كسوة الصيف وكسوة الشتاء كما سيأتينا.

خطر الإسراف والتبذير في اللباس

خطر الإسراف والتبذير في اللباس الأمور بين الإفراط والتفريط، وما أضر الضرر الذي نزل على المسلمين بهذا التهور الذي أغرق فيه النساء في الملبوسات، حتى أن الأموال لا ينتفع بها إلا أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم، فأصبحت لهم قوة على دين الله وأولياء الله عز وجل، وكل هذا بسبب اللهث وراء الأشياء الزائفة التي ابتلي بها النساء، وأصبحت فتنة عظيمة على النساء وعلى الأمة جمعاء لوجود هذا البلاء، وهو الإغراق في الملبوسات، حتى إنه يبلغ من البطر وكفر النعمة أن المرأة تفصل ثوبها بعشرات الآلاف من الريالات ولا تلبسه إلا مرةً واحدة، فإذا ذهبت به إلى مناسبة لا يمكن أن تلبسه مرة ثانية حتى ولو في بيتها، ويقول بعضهن -كما نسمع من شكاوى الرجال الكثيرة: كيف ألبسه؟ وكيف يرى عليّ الثوب مرتين؟! أي: كيف تحضر مناسبتين بثوب واحد؟! وهذا والله كله من كُفر النعمة والإسراف والبذخ الذي بين الله تعالى في كتابه أنه يسلب صاحبه المحبة منه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]، وغضب الله عز وجل على من ابتلي بهذا البلاء حتى أنه قرنه بأعدائه: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27]، وانظر تعبير القرآن بـ (إِنَّ)، وجاء بالاسم (الْمُبَذِّرِينَ)، (كَانُوا) التي تدل على صفة الدوام (إِخْوَانَ) فقرنهم بالشياطين نسأل الله السلامة والعافية. ولذلك تجد المرأة التي تبتلى بهذا التبذير في كسوتها كأن الشيطان مستحكمٌ على قلبها، وتجد ولية الله المؤمنة التي تخاف الله وتراقبه وتخشاه تحاسب نفسها على اللباس ولا تبالي بمن ينظر إليها، ومع ذلك تجد من الطمأنينة في القلب وانشراح الصدر، والبركة في النفس والحال ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولكن الأخرى تجدها مفتونة من مناسبة إلى مناسبة ومن بلاء إلى بلاء، وتنفق مالها حسرةً عليها يوم القيامة -نسأل الله السلامة والعافية- فهو وبال عليها في الدنيا ووبال عليها في الآخرة. وعلى كل امرأة أن تعلم أنها مهما لبست من جميل الثياب، أو بالغت في مطالبة الزوج وإرهاقه وظلمه بمطالبته بالأشياء التي هي زائدة عن حاجتها وزائدة عن حقها؛ فإن الله سبحانه وتعالى لا يبارك لها فيما لبست ولو كان من مالها؛ لأنه ليست القضية أن تضر بزوجها، فقد تقول قائلة: عندي راتبي أنفق منه، إذا كان عند المرأة راتبها فلتعلم أنها تفسد بنات المسلمين، ولتعلم أنها تفسد زوجات المسلمين؛ لأنها إذا لبست لباساً معيناً أغرت غيرها بهذا اللباس، ودعتهن إلى أن يشاكلنها، فتشاكلها أختها والتي قد تكون عند زوج ضعيف المال قليل المادة، وتشاكلها قريبتها أو بنت عمها أو بنت عمتها؛ لأنها في بيئة تتأثر برؤيتها، ثم قد تشاكلها المرأة الغريبة، فكل هذا مما جر على المسلمين من الضرر والبلاء ما لا يخفى. فأولاً كثر إنفاق الأموال في غير طائل، ونزعت البركة من الأموال، ولو أن المرأة المؤمنة العاقلة نظرت إلى الخمسمائة ريال، فضلاً عن الألف، فضلاً عن العشرة آلاف، وفكرت أنها لو سدت بها ثغرة من ثغرات المسلمين سيكون لها من الرحمة والخير والبركة الشيء الكثير، فكم من صدقةٍ حجبت صاحبتها عن النار! فلا شك أن من توفيق الله عز وجل أن يوفق العبد لاغتنام هذه الأموال في مرضاة الله عز وجل، فعلى المرأة أن تعلم علم اليقين أن حقها على الزوج كسوة الصيف وكسوة الشتاء وما زاد على ذلك فليس بواجب. وتبع هذا البلاء إنفاق الأموال، ثم تبعه الإغراق في مشاكلة أعداء المسلمين في لباسهم وهيئتهم حتى حصل بسبب ذلك البلاء من التبرج وخروج النساء ومخاطبتهن للرجال، حتى تخاطب المرأة الرجل بالساعات، وتأخذ معه وتعطي، وهي لو كانت من أتقى التقيات فلتعلم أن الرجل قد يكون به مرض وقد تكون به فتنة، وهذا كله فيه تعد لحدود الله عز وجل شعرت به المرأة أو لم تشعر، ولكن هي الدنيا بما فيها من فتنها وهواها، لا يستطيع الإنسان أن يعرف حقيقة ما فعل من معصية الله وانتهك من حدود الله إلا إذا ولج قبره: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]. فإذا علمت المرأة أنها ستسأل عن كل ريال تنفقه، وعن كل ريال ترهق به زوجها وترهق به والديها، وأن الله سائلها عن ذلك كله؛ حاسبت نفسها قبل أن يحاسبها الله عز وجل، فهذا بلاء عظيم، ولا يمكن علاج هذا البلاء إلا بالصالحات القانتات، أن يكن قدوة قبل غيرهن، وأن يكن قدوة يتأثر بهن الغير؛ لأنهن إما قدوة في الخير أو الشر، فإذا وجد في المجتمع من لا يبالي بالقيل والقال ولا يبالي بالمظاهر، فعندها سيتغير كثير من الأخطاء ويصلح كثير من الفساد، وعلى كل حال، نسأل الله بعزته وجلاله أن يهدينا وأن يعصمنا وأن يزيل هذا البلاء عنا وعن المسلمين أجمعين. فالذي للمرأة على زوجها كسوة الصيف وكسوة الشتاء، وما وراء ذلك ففضلٌ وليس بفرض، فيكسوها كسوة صيف وكسوة شتاء، ولكن لو أن المرأة ابتليت بهذا وهي صالحة ودينة، ونظر الزوج إلى أنه لو كان في كل مناسبة يلبسها فسيقع في الإسراف، وأنه لو ألبسها كسوة واحدة في الصيف أو كسوة في الشتاء أن هذا يحدث لها شيئاً من الضرر والحرج، وأحب أن يتسامح فالله يأجره، لكن يتسامح في حدود معقولة، ويكون هناك نوع من الالتزام حتى لا يكون فتنة للمرأة، فإن المرأة قد تفتن عن دينها، وقد تتضرر، وقد يتسلط عليها من لا خير فيهن. وكان بعض الأخيار يقول: إنه تزوج امرأة رزقها الله عز وجل التعقل في نفقتها فكانت لا تلبس إلا ما يسترها في حدود معقولة ولا تبالغ في الزينة فسلمت من المجالس، وسلمت من الحفلات وسلمت من المناسبات؛ لأنها التزمت بالأصل، فما أنفقت ولا أسرفت، ولكن تجد الأخرى التي ابتليت بالإنفاق تحب الغير أن يرى ما عليها، وإذا أحبت المرأة أن يُرى ما عليها فتنها الشيطان، ففي المرة الأولى تحب أن تراها امرأة غيرها، ثم مرة ثانية تحب أن يراها الرجل والعياذ بالله، فتفتن في دينها نسأل الله السلامة والعافية، وربما فتنت فتنةً يكون لها بها شقاء لا سعادة بعده أبداً. فعلى المرأة أن تتقي الله عز جل، وهذه ويلات يجر بعضها بعضاً، والله جل وعلا يقول: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:168]، فمسألة الإنفاق والكسوة والإغراق فيها على المرأة أن تفكر: أين يذهب هذا المال؟ ولمن يذهب؟ وكيف يفصل هذا الثوب؟ وتفصيل الثوب على أي نمط من أنماط الكفار تمجيدٌ للكافر شعرنا أو لم نشعر، وفيه إغراءٌ للغير أن يفعل هذا الفعل، وكل هذا له أضرار وتبعات، وعلى المسلمة أن تفكر في هذه العواقب، وأن تعلم أن الشر لا يقتصر على هذه التي لبست وإنما يتعدى إلى غيرها، فنسأل الله العظيم أن يصلح الأحوال، وأن يعيذنا ويعيذ المسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

الخلاف في اعتبار النفقة بحال الرجل أو المرأة

الخلاف في اعتبار النفقة بحال الرجل أو المرأة قال رحمه الله: [بما يصلح لمثلها]. أي: تكون النفقة من القوت والكسوة بما يصلح لمثلها، فيكون الطعام صالحاً لمثلها، فلو كانت مريضة فلها طعام المريضة، ولو كانت صحيحة فلها طعام الصحيحة، لكن إذا كانت مريضة سيأتي أن الدواء لا يجب على الزوج؛ وسنبين -إن شاء الله- هذه المسألة. على كل حال: النفقة بالطعام والكسوة ينظر فيها إلى ما يصلح لمثل المرأة، واختلف العلماء رحمهم الله: هل العبرة -كما ذكرنا- بحال الرجل أو بحال المرأة أو بحالهما معاً؟ ثلاثة أقوال لأهل العلم رحمةُ الله عليهم: من أهل العلم من قال: العبرة بحال المرأة، سواءٌ كانت غنية أو فقيرة، فالزوج يجب عليه أن ينفق على زوجته بحسبها، إن كانت زوجته فقيرة، فحينئذٍ ينفق عليها نفقة الفقيرة ولو كان غنياً، ولو كانت زوجته غنية فإنه ينفق عليها نفقة الغنى ولو كان فقيراً، وهذا القول هو مذهب أبي حنيفة ومالك رحمةُ الله على الجميع، واستدلوا بحديث هند الذي تقدم معنا: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، وكذلك بقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233]. والقول الثاني يقول: العبرة بحال الرجل غنىً وفقراً؛ فإن كان فقيراً أنفق نفقة الفقراء وإن كان غنياً أنفق نفقة الأغنياء ولو كانت زوجته فقيرة، فالعبرة بحاله هوَ، ينفق على حسب حاله، وهذا القول هو مذهب الشافعية رحمة الله عليهم، واستدلوا بقوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]. ووجه الدلالة: أن الله تعالى أمر الزوج أن ينفق على قدر حاله، فقال: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}، بمعنى: أنه ينفق على قدر ما وسع الله عليه إذا كان غنياً، ثم قال في ضده: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ} وهو الفقير؛ لأن التقدير في لغة العرب: التضييق، ومنه قوله تعالى: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11] يعني: ضيق حِلق الدروع حتى لا يؤثر السلاح، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام (فاقدرا له) فالقدر أصل التضييق، وهنا لما قال: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي: كان فقيراً، {فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7]، فدلّ على أنه إذا كان ذا سعة وثراء فإنه ينفق من السعة، وإذا كان فقيراً فإنه ينفق على حسب فقره. فهذا نصٌ واضح في الدلالة على أن العبرة بالرجل وليس العبرة بالمرأة. أما القول الثالث فقالوا: ينفق بحالٍ مشترك بينه وبينها، فإن كانا غنيين فلا إشكال، وإن كانا فقيرين فلا إشكال، وإن كان غنياً وهي فقيرة أو العكس، نظر إلى الوسط بينهما، فإن كان غنياً نفقة مثله ثلاثة آلاف وهي فقيرة نفقة مثلها ألف، أعطى ألفين وهي وسطٌ بين الثلاثة وبين الألف، فيعطي النفقة الوسطى بين الغنى وبين الفقر إذا كان أحدهما غنياً والثاني فقيراً، وهو مذهب الحنابلة ودرج عليه أئمة المذهب رحمةُ الله عليهم؛ قالوا: نجمع بين الدليلين، نجمع بين حديث هند وبين الأدلة التي دلّت على أن العبرة بحال الرجل، كقوله عليه الصلاة والسلام: (أن تطعمها مما تطعم، وأن تكسوها إذا اكتسيت)، فهذا يدل على أن العبرة بالرجل. فقالوا: نجمع بين ما دلّ على أن العبرة بحال الرجل وبين الدليل الذي دلّ على أن العبرة بحال المرأة ونقول ينفق الوسط بينهما. والذي يترجح -والعلم عند الله- القول القائل: إن العبرة بحال الرجل، فالآية نصٌ واضح في أن العبرة بحال الرجل في الغنى والفقر، ولذا قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، فالمكلف بالنفقة هو الرجل، وبينت الآية الكريمة أنه ينفق في حال الغنى وفي حال الفقر بحسبه دون التفات إلى المرأة. أما ما استدل به من حديث هند: فأولاً: حديث هند تقدم أن قوله عليه الصلاة والسلام: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فقدر هذا بالمعروف أي: بما تُعورف عليه من نفقة زوجك عليك. ثانياً: أن الحديث قالت فيه هند: (إن أبا سفيان رجل شحيحٌ مسيك ولا يعطيني نفقتي)، أي: لا يعطيني ما ينبغي أن يعطيه مثله، ولذا قالت: (شحيحٌ مسّيك) فرجعت إلى الرجل، فدل على أن المظلمة قائمة على أنه لم ينفق عليها النفقة التي ينبغي أن ينفقها مثله. ودليل القول بأن العبرة بحال المرأة محتمل والاحتمال فيه قوي، والقاعدة: أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، ويشترط في ردّ الدليل بالاحتمال أن يكون الاحتمال قوياً، وهنا سياق الحديث يدل على أنه قصر في نفقتها؛ ولذلك ما قال: خذي على حسب حالك، بل قال: بالمعروف، فردها إلى ما تعورف إليه من حال الرجل، وهي قالت في أصل Q ( إن أبا سفيان رجل شحيح مسيك) أي: إن أبا سفيان رجلٌ شحيح مسيك ولا يعطيني نفقتي أو لا يعطيني مما ماله: أي لا يعطيني عطية مثله، ولذلك قدمت قولها: شحيحٌ مسّيك، أي كان ينبغي أن ينظر إلى غناه فيعطيني نفقة مثله، من الأغنياء. على كل حال: الآية قوية الدلالة في كون الرجل ينفق على حسب حاله، ونص الله فيها بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وهذا نصٌ قوي على أنه لا يمكن أن يكلف الرجل على حسب المرأة؛ لأننا لو قلنا: إن العبرة بحال المرأة، وكان الرجل فقيراً فقد كلفناه غير ما آتاه الله، وهذا واضح جداً في أن التعارض سيكون قوياً جداً ومصادماً للآية تماماً؛ ومصادمة الآية ليست كمصادمة الحديث؛ لأن دلالة الحديث محتملة. وكان بعض مشايخنا يقول: إن حديث هند لا يصلح للاستدلال من كل وجه؛ لأنه متردد محتمل من حيث الأصل، فهي اشتكت أن أبا سفيان شحيح مسيك، فرد النبي صلى الله عليه وسلم إلى العرف، ولم يحدث للحديث تمييز واضح، فليس كالآية التي ميزت ووضحت أن الغني ينفق بغناه، وأن الفقير ينفق بفقره، فليس هناك تعارض؛ لأن القاعدة: أنه لا يحكم بتعارض النصين إلا إذا استويا في قوة الدلالة. وأما مذهب الحنابلة الذي يقول: نجمع بين الدليلين، فالقاعدة: أنه لا يحكم بالجمع ولا يصار إلى مذهب الجمع إلا إذا ثبت التعارض، ونحن عندنا دليلان، أحدهما: قوي الدلالة كالشمس في أن العبرة بحال الرجل غنىً وفقراً، والآخر محتمل، فيقدم الصريح والقوي؛ لأن القاعدة: أنه إذا أمكن الترجيح يقدم على الجمع، ولا يصار إلى الجمع إلا إذا تعذر الترجيح، فإذا تعذر ترجيح أحدهما لقوة الآخر عليه دلالةً فلا يحكم بالتعارض الذي يبنى عليه الجمع، وبناءً على ذلك: القول الذي يقول: العبرة بحال الرجل، أقوى القولين دليلاً، ثم إننا لو نظرنا إلى الأصول الشرعية لوجدنا أن تكاليف الشريعة إذا كُلّف بها العبد نُظر إلى حاله، فهذا القول أقرب إلى الأصول، وهو أرجح إن شاء الله تعالى.

اعتبار النفقة الواجبة في حال التنازع

اعتبار النفقة الواجبة في حال التنازع قال رحمه الله: [ويعتبر الحاكم ذلك بحالهما عند التنازع]. (يعتبر الحاكم ذلك) أي: تقدير النفقات، وتقدير الكسوة (بحالهما عند التنازع) كما ذكرنا أن الحنابلة قد يجمعون، ويقولون: ينظر إلى حالهما فيخرج الوسط، فإذا تخاصم الزوجان فقالت المرأة: ما أنفق عليّ إلا نفقة قليلة، وقال الرجل: أنفقت عليها نفقة مثلي، فينظر القاضي الوسط بينهما ويحكم، فلو أنفق عليها ألفاً، والوسط ألف وخمسمائة، قال له: أكمل الخمسمائة، ويلزمه بإتمام الخمسمائة التي هي وسط بين النفقتين. (عند التنازع) إذا قلنا: العبرة بحالهما معاً -كما هو مذهب الحنابلة- يرد Q قد تكون المرأة تطالب بنفقة مثلها، فيقصر الزوج شهوراً، ثم تشتكي بعد ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر وقد تغير الحال وتغيرت الأوضاع، فقد تكون الأرزاق في حال الشكوى غالية، وتكون في حال المظلمة كاسدة، فهل ننظر حال شكواها أو حال ظلمها، وهل تقدر النفقة بحال الشكوى أو بحال المظلمة؟ فاختار جمعٌ من العلماء: أن التقدير يكون بحال الشكوى، ويكون هذا نوعاً من الإسقاط، فتتحمل المرأة هذا الحال ربحاً وخسارة، فإذا كان هناك ربح فلها، أو كانت خسارة فعليها، فالعبرة بالحال عند الشكوى. ومن أهل العلم من نظر إلى أنه ينظر إلى استحقاق النفقة من حيث هي، فلو كانت النفقة مثل أن يعطيها فيما يكلف ثلاثة آلاف ريال، فإن غلت الأشياء حال الشكوى حتى أصبحت سبعة آلاف وهو الضعف، فإننا نطالبه بالضعف؛ لأن العبرة بحال الشكوى لا بحال المال. فاعتبر المصنف رحمه الله بحال الشكوى؛ لدلالة حديث هند: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فلم يردها إلى ما مضى، بل جعل الحكم مستأنفاً، قالوا: وهذا يدل على أن العبرة بالحال عند الشكوى.

ما يفرض للموسرة تحت الموسر

ما يفرض للموسرة تحت الموسر قال رحمه الله: [فيفرض للموسرة تحت الموسر قدر كفايتها]. هناك ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يكونا غنيين موسرين، هي من أسرة غنية وهو من أسرة غنية. الصورة الثانية: أن يكونا من أسرتين فقيرتين أو متوسطتي الحال، فحينئذٍ يتفق حالهما بما دون اليسر ودون الغنى. الصورة الثالثة: أن يختلفا فتكون هي غنية وهو من أسرة فقيرة أو العكس، فإذا اتفقا في الغنى ألزمناه بنفقة الغني، وإذا اتفقا في العسر والضيق والفقر ألزمناه بنفقة الفقير، وإذا اختلفا نظرنا إلى الوسط بين غناها وفقره، وفقرها وغناه، فإذا كان الغنى ثلاثة آلاف والفقر ألفاً فالوسط يكون ألفين، فيفرض لها حدود نفقة الألفين. قال رحمه الله: [من أرفع خبز البلد]. إذا نُظر إلى الغنى واليسر فإنه يختلف، فالغنى طبقات، فإن كانت من أغنى الغنى نُظِر إلى أرفعه، وأوسطه وأدناه، كل شيء له قدر: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3]، فهم يقولون: إذا قُدّر بغناهما أو بفقرهما نظر إلى الحال؛ لكن المصنف قال: ينظر إلى أرفع الحال في الغنى. وفائدة المسألة: أنه إذا كان خبزها وطعامها بثلاثة آلاف في أرفع الغنى، وأوسط الغنى فلو كان الغنى يبدأ من الألف، وينتهي بثلاثة آلاف يكون أوسطه الألفان، فينظر إلى حالها في الوسط أو في دون الغنى أو أعلاه.

الطعام اللازم للزوجة على زوجها

الطعام اللازم للزوجة على زوجها قال رحمه الله: [وأُدمه]. يعني: ما يؤتدم به مع الخبز، واختلف العلماء رحمهم الله في طعام المرأة: هل الزوج يجب عليه أن يعطي طعاماً مقدراً محدداً فنقول: عليه نصف صاع أو عليه صاع، أم أن النفقة لا تحدد، ونقول له: أنفق بما يسد جوعها بالمعروف؟ الصحيح الثاني. استدل الذين قالوا: إنه يجب أن تقدّر، بأن الله تعالى وصف الإنسان بكونه مُطعماً بأقل ما في الكفارات وهو ربع صاع أو نصف صاع على خلاف عندهم، فإذا نظر إلى كفارة الظهار فهي ربع صاع، وإذا نظر إلى كفارة الفدية في الحج فهي نصف صاع؛ ولذلك يختلف الضابط باختلاف هذين القدرين؛ فوصفت الشريعة من يعطي هذا القدر بكونه مطعماً، قالوا: فيطعمها في كل يوم هذا القدر، فإذا أطعمها كل يومٍ هذا القدر فقد أطعم. وجمهور العلماء على أنها لا تقدر وأن الأمر يرجع فيه للمعروف، فلا نقول: عليه ربع صاع ولا نصف صاع ولا صاع، وإنما يطعمها بما يتوافق مع عُرفها وبيئتها، وهذا الثاني أقوى القولين: أنه لا يقدر بحدٍ معين. قال رحمه الله: [ولحما]. كذلك الإدام واللحم، فمثلاً: إذا نظر إلى أجود اللحم -مثلاً- يكون لحم الغنم، وأجود الغنم الضأن ثم الماعز، ثم بعد ذلك نفس الضأن على مراتب، فقد يأخذ الغني من جدي الضأن، والغني الأوسط يأخذ من أوسطه وطبقة الغنى المطلقة يأخذون بأعلاه، فيلزم بحاله. أيضاً لحم الدجاج، فلحم الدجاج هو من رزق الله عز وجل، لكنه معروف بكثرة الأمراض الموجودة فيه وكثرة الأضرار، وعدم ملائمته لصحة الإنسان في كثير من الأحوال، خاصةً إذا كان يعلف بالفضلات أو كان مما لا يعتنى بطعامه، فلا شك أن فيه إضراراً بالولد، خاصة إذا كان في بيئة لا يحسنون إطعامه، وهكذا بقية الدواجن، إذا كان علفها يضر، فهذا لا يصرف نفقة ولا يلتفت إليه؛ لأننا قررنا أنه ينبغي على الزوج في نفقته على زوجته، والوالد في نفقته على ولده أن يتقي الله فيما يُطعم. فإذا ثبت أن طعامهم من أجود اللحم أطعمهم من الضأن، وإذا كان من أوسطه كلحم الإبل أطعمهم من لحم الإبل، وإذا كان من أقله وهو لحم الدجاج والداجن كالحمام ونحوها أطعمهم من الأقل، وقد يكون بعض هذه اللحوم أفضل من بعض، فقد تكون بيئة تفضل لحم الإبل ويكون أفضل ما يكون، وقد تكون هناك بيئة تفضل لحم الطيور وتكون أعز، وقد تفضل -مثلاً- نوعاً من أنواع الطيور، وقد تكون بيئة تفضل الأسماك، فيطعمهم من أجود الأسماك وأوسطها على حسب حالهم، فينظر إلى طعام مثلها من هذا الشيء إن كان في الإدام أو اللحم وما يؤتدم به. فلو أنه أراد أن يطعمها فأطعمها الخبز دون أن يطعمها ما يؤتدم به فإنه قد قصر، مثلاً: زوج عنده زوجة وأولاد، يطعمهم أرزاً بدون ما يؤتدم به، أو وضع الرز مع إدام بدون لحم، فهذا لا شك أنه يضر بالبدن؛ لأنه يحتاج إلى لحم يكون به قوام البدن وقوة البدن، فجرى العرف عندنا أن يكون الإدام بلحم، لكن لو قال: ما أضع فيه لحماً ولست مطالباً بشيء من هذا، نقول في هذه الحالة: إنه أجحف وأنقصهم عما جرى العرف أن مثله يطعم به. على كل حال: إن كان اللحم من بهيمة الأنعام أطعم من بهيمة الأنعام، فإن كان من أجوده في عرفه فالواجب الأجود، وإن كان من أوسطه فالواجب الأوسط، وإن كان من أقله فالواجب الأقل، ولا يحرم الرجل أولاده، ويقول: أنا والله أريد أن آكل من الأشياء العادية وما أريد أن أعوّد ولدي على الترف، هذا ليس بصحيح ولا بسليم، فمعنى أنك لا تعودهم على الترف أي: لا تبالغ في حقهم الذي لهم، أما أن تعطيهم قدر الكفاية فهذا ليس من الترف، بل هذا قيام بالواجب، وليس للإنسان فيه منّة على ولده؛ لأنه واجبٌ عليه في الأصل. فيفرق في هذه القضية، فبعضهم يقول: أنا أريد أن أربيهم على شظف العيش وعلى الخشونة، والمنبغي أن يثق كل إنسان أن التربية ليست تربية الأكل ولا الملبس، التربية تربية الروح، فيغرس في قلبه تقوى الله عز وجل، والزوج والوالد الذي يكون قدوة في قوله وفعله ويغرس في أولاده المعاني الطيبة الكريمة، يكون قد قام بحق ولده على أتم الوجوه وأكملها، أما أن يجعل ذلك عن طريق الطعام والشراب، فهذا قد يكون في بعض الظروف، وبقدر، وفي أحوال خاصة، لكن أن يكون هو الشيء المطرد فلا؛ لأن هذا يجحف كثيراً بالأولاد ويجحف بالزوجة. فالزوجة تتضرر بين أخواتها وقريناتها وأهلها وذويها ومجتمعها، فإنها تتضرر إذا منعت حقها، ويدخل الشيطان في إفساد الزوجة على زوجها، فيجب أن يطعمها الخبز والإدام واللحم بالمعروف، وفي هذه الثلاث مع خبزٍ يؤكل وإدام يؤتدم به ذلك الخبز؛ لأنهم في القديم كانوا يأكلون الخبز والإدام، وكان البرُّ في القديم يُعصد أو يصنع على أرغفة، فإذا صُنِع -عُصِد- كالعصيدة ونحوها لا بد له من إدام، وهذا الإدام يكون قوياً نافعاً باللحم، فذكر المصنف هذا، ولا زالت بيئات المسلمين إلى يومنا موجوداً فيها هذا الشيء، حتى في زماننا نجد الأرز أشبه بالخبز، ونجد له ما يؤتدم به، ونجد قوة في هذا الذي يؤتدم به إما أن يكون مع الرز أو يكون مع الإدام مثل اللحم، فهذه أشياء ذكرها المصنف رحمه الله وهي موجودة في أعراف المسلمين، وتكون قواماً لهم في أقواتهم. قال رحمه الله: [عادة الموسرين بمحلهما]. عادة الموسرين؛ لقوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:236]، والقاعدة: أن العادة محكمة، والمرجع في هذا إلى بيئتها وفي حق أمثالها من النساء. فلو كان الأغنياء في المدينة التي هو فيها يأكلون اللحم، وفي مدينة أخرى أهلها وذووها يأكلون نوعاً هو أجود وأرفع من هذا النوع الموجود في بيئته، فإننا لا نطالبه بما في المدينة الأخرى، إنما نطالبه بما هو موجود في قريته أو مسكنه أو مكان عمله الذي انتقل إليه، فينظر أجود الطعام فيه، إلا إذا كان فيه ضرر أو كان مضراً بصحتها، فهذا شيءٌ آخر.

الكسوة اللازمة للزوجة على زوجها

الكسوة اللازمة للزوجة على زوجها قال رحمه الله: [وما يلبس مثلها من حرير وغيره]. بعد ما بين الطعام انتقل إلى الكسوة، فينظر إلى كسوة مثلها في بيئتها والمحل الذي هي فيه، فإذا كانت المرأة الغنية تلبس -مثلاً- في حدود (3000)، والوسط في حدود (2000)، والفقيرة في حدود (1000)، فالأعلى (3000) والأدنى (1000) والوسط (2000)، ففي هذه الحالة إن كان من الأغنياء أنفق كسوة الأغنياء بثلاثة آلاف، وإن كان من الفقراء أنفق كسوة الفقراء بالألف، وإذا كان فقيراً فأنفق بالألف والخمسمائة أو أنفق بالألفين دون أن يكون هناك ضرر، وقصد فيما بينه وبين الله عز وجل إدخال السرور على أهله، وجبر خاطرها، واحتساب الأجر عند الله، فهو داخلٌ في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركُم لأهله وأنا خيركم لأهلي)، فهذا من الخيرية، شريطة أن لا يكون هناك شيء يفسدها أو يضرها في دينها، أو يتسبب في الفتنة لها، مثل الألبسة والأكسية التي فيها محاكاة للكفار أو تعين الكفار على المسلمين أو نحو ذلك، فهذه تُتقى، وينبغي أن لا يعينها على ذلك، وأن لا يفتح على نفسه باب الفتنة بكسوتها بهذا النوع من الألبسة.

الأثاث اللازم للزوجة على زوجها

الأثاث اللازم للزوجة على زوجها قال رحمه الله: [وللنوم فراش ولحاف وإزار ومخدة]. هذا بالنسبة لأثاث الزوجة، فهناك طعامها ولباسها وأثاثها، فلها أثاث بالمعروف، وإذا تزوج امرأة فالواجب أن يؤثث بيته بما يتفق مع حاله هو، ويكون هذا الأثاث بما ترتفق به في منامها فقال رحمه الله: [وللنوم فراش]. أي: فراش يكون فراش النوم بحاله هو، غِنىً وفقراً وما بينهما، فإذا كان غنياً يأتي بفراش الغني، وإذا كان فقيراً يأت بفراش الفقير، ولا بد من وجود الفراش. [ولحافٌ] أي: لحاف الفراش لا بد منه. [وإزار] أي: وإزار تأتزر به، [ومخدة]: والعرف في ذلك محتكم إليه، وفي القديم كانت هذه الأشياء بالبركة، وكان الناس في عافية من الفتن التي صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما كشف الله له عما يكون من الفتن، فأخبر عن عظيم ما يكون في الأمة، فالرجل في القديم لا يجد إلا القليل معه، ومع ذلك تجد المرأة سامعة مطيعة في بيتها تكتفي بالقليل، وهذا القليل خرجت منه من الذرية ومن الأمة من نفع وقاد الأمة علماً وعملاً، وصلاحاً وتقوى، مما يدل على أن المظاهر ليست هي كل شيء، فهذه الأمة قادت العالم من المحيط إلى المحيط، وكانت على أقل ما يكون الحال من اليسر والرضا والقناعة، وما كانت أمورها تسير إلا بالرضا عن الله جل وعلا، وهؤلاء أئمة الإسلام يذكرون ما كان عليه بيوت المسلمين. وأما اليوم فكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: تجده شبعان ريّان جالساً على أريكته قلّ أن يذكر الله جل جلاله، نسأل الله السلامة والعافية، ولربما تجده شبعان ريان جالساً على أريكته يستهزئ بالإسلام وبأهل الإسلام وبأهل الاستقامة، فشاه وجهه وخرس لسانه، لا يحمد النعمة ولا يعرف ما هو فيه من الخير الذي أعطاه الله عز وجل؛ لأن الله نزع البركة منه، وكل هذا بسبب عدم الشكر. وعلى كل حال: فهذه أمور ذكرها العلماء على أساس أقل ما يجزئ، وفي زماننا أثاث البيت يكون بما هو مناسب للعرف، فهناك غرف للنوم تكون للغني وتكون للفقير وتكون للمتوسط، فإن كان حاله حال غنى جعل أثاث بيته أثاث الغني، ويتقي الله عز وجل في زوجته؛ لأنها تزوجت كما زوجت أخواتها وقريباتها، وهذا يضرها إذا كان أثاث بيتها على النقص مع قدرة زوجها على أن ينفق عليها نفقة الأغنياء، وهكذا بالنسبة لما يكون به هذا الأثاث من الفراش. وأما الشيء الزائد عن الأصول مما فيه بذخ وفيه إسراف، مثل السيارات التي تشترى، والألوف التي توضع في المظاهر الشكلية التي لا قيمة لها ولا نفع لها، فهذه ساقطة أي: ليست محسوبة، وليس بملزم بعرف يعارض الشرع، وهذه الأشياء ليس فيها فائدة، فعندما يشتري عربية وفيها ثلاثة أو أربعة صحون توضع فقط عند الباب، ماذا تفيد غير المظهر والشكل؟! فتنفق أربعة آلاف أو خمسة آلاف تغني ما لا يقل عن خمسين أو مائة بيت من ضعفاء المسلمين وفقرائهم، كلها تذهب في هذا الشيء الذي لا معنى فيه، نحن ما نقول بالعرف إلا بأمور: أولاً: أن يكون هذا العرف غير معارض للشرع، فلو قال قائل: هذا جرى به العرف، نقول: نعم، لكن شرط الاحتكام إلى العرف في مثل قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، في الأمر بالنفقة بالمعروف، وأمره عليه الصلاة والسلام بالمعروف شرطه أن لا يتضمن مخالفة شرعية، فلما يشتري شيئاً بالمائة والمائتين والثلاثمائة والأربعمائة والخمسمائة على أنه صورة وزينة في البيت لا ينفع ولا يفيد فإنه إسراف، والإسراف مخالف للشرع، فحينئذٍ لا يعتبر عرفاً مؤثراً، ولذلك يقولون: إن العادة لا تكون محتكماً إليها إلا إذا وافقت الشرع أو كانت على المباحات، أي: الأشياء المباحة التي لا تضاد الشرع، قالوا: وليس بالمفيد جري العيد لخلف أمر المبدئ المعيد (فليس بالمفيد جري العيد) يعني: جريان العادة (لخلف أمر المبدئ المعيد) يعني: بخلاف الشرع، ومن هنا قالوا: لو جرى العرف بالمخالفة للشرع من إسبال ثوبٍ، أو جرى العرف بزينة للنساء تكون للرجال أو نحو ذلك من المحرمات، لا يكون عرفاً مؤثراً، فإذاً: الشرط ألا يعارض الشرع. ثانياً: أن يكون هذا العرف مطرداً، فلا يكون لبعض الناس دون بعض، فإذاً نلزمه بفراش وأثاث البيت على حاله من الغنى والفقر فيما يكون في حدود الشرع، دون أن يكون مرتكباً لمحظورٍ ومنتهكاً لحدٍ أو حرمةٍ من حرمات الله عز وجل. قال رحمه الله: [وللجلوس حصير جيد وزلي]. فراش البيت في القديم كان الحصير، والحصير كان من سعف النخل، وأيضاً يكون من الجريد، وفي بعض الأحيان تكون الخيوط مع السعف، هذا ما كان في الأعراف في القديم، وكانت هذه الأشياء يصنعها المسلمون وينتفع بها المسلمون ويبيعها المسلمون ويشتريها المسلمون، فأموالهم تؤخذ منهم وتدفع إليهم، وكان أعداء الإسلام يشترون من المسلمين، وما كان المسلمون بحاجة إليهم، ولذلك لما كان المسلمون هم الذين يسدون حاجاتهم كانوا في خير ونعمة، وأموالهم كانت لهم، وقل أن تجد أحداً عاطلاً عن العمل، وقل أن تجد أحداً لا يجد كفايته؛ لأن الله وضع لهم البركة، فتجد الخير والبركة، حتى أن الرجل يصنع من سعف النخل فراش بيته، ويصنع سقف بيته من جريد النخل ومن جذوع النخل، ويصنع منه سفرة طعامه، ويصنع منه الكرسي الذي يجلس عليه، ويصنع منه المروحة التي يروح بها، وهذا من البركة التي وضعها الله عز وجل للمسلمين. ولا يظن أحد أننا نتكلم عن خيالات، ونحن نتكلم بهذا لما أصبح البعض يظن أنه منقصة وهو كمال، ويظن أن هذا مذمة وهو شرف وليس بعيب أبداً، هذه الأمة التي كانت في أوج عزها وعظمتها هكذا كانت، كانت بمبادئها، لكن منذُ أن لهث المسلمون وراء الأعداء أصابتهم الذلة التي لا يمكن أن ينزعها الله عنهم إلا إذا رجعوا إلى دينهم ورجعوا إلى ما كانوا عليه، فيضع الله لهم البركة في عمرهم كله. فالنفقة والكسوة والحصير والفراش يرجع فيه إلى العرف، فإذا كان العرف سائداً وجارياً بالغنى، أن يفرشها من الفراش الجيد فنقول له: يجب عليه جيد الفراش، وإذا كان هناك ما يسمى بالموكيت أو الفراش المفصل فنقول: أفرشها منه، ولكن إذا كان غنياً فمن الأجود، وإن كان فقيراً فمن الأقل، ويقاس على هذا بقية ما يكون من لوازم البيت وأثاثه. قال رحمه الله: [وللفقيرة تحت الفقير من أدنى خبز البلد]. كذلك مثلما تقدم، ذاك في أعلاه وهذا في أدناه، قال تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3]، فلا يطالب بأن ينفق نفقة الغني وهو فقير، والمصنف رحمةُ الله عليه نظر إلى أن المرأة لها حق أن تقدر النفقة بحالها، ونحن بينا أن المرأة لا يلتفت إليها وإنما يلتفت إلى الرجل والعبرة بحال الرجل، وبناءً على ذلك: إن كان غنياً أنفق نفقة الأغنياء من مثله وإن كان فقيراً فعكس ذلك. قال رحمه الله: [وأدم يلائمها]. كما تقدم. قال رحمه الله: [وما يلبس مثلها ويجلس عليه]. (ما يجلس عليه) الذي هو الأثاث الذي تقدم في الحصير. قال رحمه الله: [وللمتوسطة مع المتوسط]. ينظر إلى الاثنين، إذا كان متوسطاً أو كان غنياً أو فقيراً، ولذلك ذكر الموسرة تحت الموسر، وللفقيرة مع الفقير، وللمتوسطة مع المتوسط، أما إذا كان كما ذكرنا أن العبرة بحال الرجل، فحينئذٍ ينظر إلى حاله غنى وفقراً ثم إذا كان وسطاً فتقدر نفقته بنفقة الوسط. قال رحمه الله: [وللمتوسطة والغنية مع الفقير، وعكسها، ما بين ذلك عرفا]. هنا خالف الحنابلة رحمهم الله ما ذكرناه راجحاً من مذهب الشافعية، فقالوا: إنه ينظر للغني مع الفقير، والفقيرة مع الغني إلى الوسط بين الغنى والفقر، وقلنا: الصحيح أن العبرة بحال الرجل لا بحال المرأة، فلا تأثير للمرأة في النفقة.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية إنفاق من له زوجتان إحداهما لها أولاد دون الأخرى

كيفية إنفاق من له زوجتان إحداهما لها أولاد دون الأخرى Q إذا كان للزوج أكثر من زوجة، وبعضهن لديها أولاد والأخرى ليس لديها ولد، هل يجب على الزوج أن يساوي في عطيته أو ينظر إلى ذات الولد من زوجاته؟ A هذا السؤال متعلق بحق القسمة بين الزوجات والعدل بين الزوجات، فإذا كانت الزوجة عندها أولاد زاد في نفقتها بنفقة أولادها، مثلاً: عنده زوجتان: واحدة من الاثنتين ليس عندها أولاد والثانية عندها ولدان، فرضنا أن رأس كل واحدة في نفقتها -مثلاً- في حدود خمسمائة ريال، والأولاد كل واحد منهم يكلف مائتين، فهذه عندها ولدان، معنى ذلك أنها تستحق أربعمائة ريال، لكل واحد مائتان، والأربعمائة مع الخمسمائة التي هي رأس لها تصير تسعمائة ريال، فيعطيها تسعمائة ريال، خمسمائة مستحقة لها وأربعمائة لولديها، والتي لا ولد لها يعطيها فقط خمسمائة نفقة الرأس ولا يلزمه أن يزيد؛ لأنه ليس عندها موجب للزيادة، فالأصل أن ذات الولد تعطى نفقة ولدها؛ لأن هذا ليس لها هي وإنما لولدها، وهذا لا يضر بالعدل والقسم بين الزوجات، والله تعالى أعلم.

إنفاق الرجل على أهل زوجته

إنفاق الرجل على أهل زوجته Q هل للزوجة أن تطالب بنفقة أهلها وإطعامهم إذا لم يكن هناك من يعول أهلها؟ A هي تطالبه تكرماً وتفضلاً وإحساناً منه إليهم وصلة للرحم، عل الله أن يخلف عليه ويبارك في ماله، وكم من زوج موفق كان دخوله على أهل زوجته خيراً وبركة، فتجده لا يقصر في الإحسان إلى رحمه، ولا يقصر في النفقة، ولا يقصر في الجاه، وإذا وجد منهم حاجة سدها أو خلة قام بها، ينظر هل يحتاجون إلى جاهه وشرفه، فيقوم بذلك ما يستطيع، فيكون نعم الرحم لرحمه. وهذا من توفيق الله للعبد أن يعيش مرضياً عنه بين والديه، مرضياً عنه بين قرابته، مرضياً عنه بين عشيرته، مرضياً عنه بين رحمه، تسأل أقرب الناس عنه فلا يذكرونه إلا بخير، ويقولون: نعم الرجل، حافظٌ للرحم وصول لهم. وما استقامت أمور الأمة إلا بهذه المكرمات والفضائل، فتجد الرجل ينظر إلى مقام المحسنين ولا ينظر إلى مقام الإجزاء فقط. نقول: إنه ليس بواجب عليك الإنفاق عليهم، وليس من حقها أن تلزمك بهذا، ولكنها فتحت عليك باب رحمة، إن أردت أن يرحمك الله وإن أردت الخير والبركة فاحتسب، وإنه والله مما يقرح القلوب أن تجد الرجل قوي الهمة ينظر إلى الفقراء يميناً وشمالاً، ويلهث في سد حوائجهم ولا ينتبه لأقرب الناس منه، تجده يفيض الله عليه المال فإذا جاء ينظر إلى الغريب ولو كان عنده كفاية يقول: هذا مسكين، وإذا نظر إلى قريبه دقق في كل شيء، فلو وجد عند قريبه أقل المال ظن أن قريبه غني فيصرف عنه كل خير منه، وهذا من الحرمان، نسأل الله العافية. ومن توفيق الله للعبد وتسديده وإلهامه الرشد أن يبدأ بأقرب الناس منه؛ ولذلك يقعد الشيطان للإنسان بالمرصاد، وانظر إلى أي مسألة فيها إحسان إلى أقربائك تجد الشيطان يدخل عليك من المداخل التي لا يعلمها إلا الله، فتارةً يقول لك: لا تعطهم، إنك إذا أعطيتهم أفسدتهم، وتارة يقول لك: إذا أعطيتهم تسلطوا عليك ثم غداً يأتونك وهكذا، وتارةً يقول لك: إذا أعطيتهم يذهبون ويخبرون الوالد والوالدة، والوالد والوالدة يغضبون عليك، ويصير الشيطان فقيهاً لا يريد لك غضب الوالدين!! وهو لا يريد الخير للعبد بل يريد أن يسلبه الخير، ولكن الموفق السعيد يقول: أنا أعطي وأما العواقب فعلى الله، أنا أعطي وأرجو من الله رحمته فيجد أن تلك الوساوس تزول، وبمجرد ما يعطي يجد في قرارة قلبه عاجل البركة والخير، وهذا مجرب. فليس هناك أشياء وجدناها أكثر نفعاً وأسرع وأحسن عاقبة من صلة الرحم، وهي من أسرع الأشياء بركة على الإنسان، سواء من الإخوان أو الأخوات أو أولاد الأسرة من أولاد الأخوات والأعمام والعمات، كأولاد العم وأولاد العمة وأولاد الخال وأولاد الخالة، فالمسارعة إليهم وقضاء حوائجهم، تجد دونه من الفتن والمحن ما الله به عليم، ولكن ما أن تضع قدمك على أول الطريق إلا نفحتك من رحمات الله ما لم يخطر لك على بال؛ لأنه قال: (فمن وصلها وصلته)، فتحصل بركة العمر، وبركة الرزق، فينسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه، ويزاد له في عمره، ومن أراد أن يجرب ذلك فليجرب. فمن نعم الله عز وجل على العبد، أن يحرص على أهل الزوجة، فإذا جاءت الزوجة واشتكت أن أقربائها أصابهم شيء، وتأثرت، فيقول لها: أبشري وأرجو من الله أن يجملني معك، حقك وحق أهلك عليّ عظيم، والشيطان يقول: لا تقل هذا الكلام؛ لأنك إذا قلت هذا الكلام تحدث مشكلة، ربما تذهب وتقول للوالدين، وإذا قلت هذا الكلام سوف تخربهم عليك، وغداً سيأتونك ويفتحون لك باب عطاء وكذا. وقد كان مسطح يتكلم في عائشة يتهمها بالزنا، وهو قائم بعد الله على أبي بكر في صدقاته ونفقاته. ومنذُ أن تكلم أقسم أبو بكر أن لا يعطيه، فينزل القرآن من فوق سبع سماوات في رجلٍ افترى الفرية وقذف عائشة، وليس هناك أعظم بعد الدين من العرض، وهذا الأمر ليس بالسهل في ثاني رجلٍ في هذه الأمة وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى} [النور:22]، نهاهم أن يحلفوا امتناعاً عن الفضل والإحسان للقريب من فوق سبع سماوات، مع أنهم آذوه أذية عظيمة، وقطع الرحم الذي بينه وبين أبي بكر بقذفه لابنته وفراش النبي صلى الله عليه وسلم. فمن ناحية دينية: كونها فراشاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن ناحية الرحم والقرابة: كونها بنت ابن خالته وقريبه، ومع هذه الإساءة كلها أمر القرآن بالإحسان إليه: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22]، كأنه باب مغفرة، فلا تفوت على نفسك يا أبا بكر. فرجع أبو بكر عن يمينه وكفر عنها ورجع إلى الخير الذي كان، إن لم يكن قد زاده عما كان فيه من خيره، فالواجب على الإنسان أن لا يفوت مثل هذا، ومن المكرمات لأناس أن الله عز وجل فتح عليهم فجعلهم مفاتيح للخير مغاليق للشر، ومن الناس من جعله الله عز وجل يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، والله يقول: (ومن الناس)، أي: وليس كل الناس: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207]. فيجرب الإنسان حينما تأتيه زوجته في ضائقة لأبيها أو أمها، فإذا بلغته الضائقة قامت له الدنيا وقعدت كأنه أبوه وكأنها أمه، وقال لها: أبشري بكل خير، وأرجو من الله أن يجملني معك، ثم قام وسد الخلة حتى ولو يتحمل، وكم في قصص السلف من المواقف الجليلة والحوادث الغريبة في الإحسان للرحم، وما عادت لصاحبها إلا بكل خير في دينه ودنياه وآخرته، بل منهم من تأتيه الإساءة من الرحم فيقابلها بالإحسان ويقف موقف الذليل، وهذا كله إحسان لأخته أو رحمه. أحد الأخيار كان له زوج لأخته، فضرب أخته ذات يوم وطردها من البيت، وكان هو المخطئ -وهذا يحدثني به الرجل- وكان الرجل الذي هو أخٌ لهذه الزوجة حافظاً للقرآن من أهل الفضل في المدينة رحمةُ الله عليه، وكان من أصدقاء الوالد ومن الناس الذين قل وجودهم في هذا الزمان، وكان من أكرم الناس وأسمحهم نفساً فيما علمت منه، أحسبه ولا أزكيه على الله في بره للناس، حتى أنه كان يفطر في رمضان ولا يخرج من المسجد حتى يملأ سيارته من الفقراء والضعفاء، ولا يمكن أن يفطر في رمضان أو يتغدى أو يتعشى في أيام عادية إلا بضيف، وهذا مما عرف عنه واشتهر. هذا الرجل يحدثني صهره بعد موته -الذي هو الزوج- يقول: أهنتها وضربتها وأخرجتها من البيت -وكان رجلاً عصبياً- يقول: ففوجئت وأنا جالس في محلي بعد صلاة الظهر في عز الظهيرة، إذا به قد هجم عليّ، وأنا أحترمه كثيراً، لكن طاش عقلي من شدة الغضب، قال: فدخل عليّ وقبل خشمي على عادته وعادة الجماعة -يقولون: هذه كبيرة عندنا- يقول: أنا المخطئ وأنا المسيء، فإذا به يقبل خشمي، ويقول لي: أسألك أن تعفو عن فلانة، يقول: والله ما تمالكت نفسي بالبكاء، شيء لا يمكن أن يتخيل! الرجل ينزل نفسه هذه المنزلة، وهذا الرجل له مكانة، ومن أعيان المدينة الذين لهم قوة ولهم مكانة كبيرة، ومع ذلك يأتي صهره هذا الذي هو بائع في دكان ضعيف الحال، لكنه كان بعيداً عنه: فإذا به يأتي في عز الظهيرة وليس بمجرد ما جاءت أخته تشتكي جاء يقول له: ماذا فعلت بها؟ أو أرسل له رجلاً من أجل أن يتفاهم معه، أو اتصل به، بل جاء يغبر قدميه إكراماً لأخته، وإكراماً لوالديه؛ لأن الوالد إذا مات، فمن بر الوالدين أن تحفظ وترعى الأخت، وترعى فلذة كبده، ترعاها في شئونها وحالها، وتعلم أن هذا يصلح حالها ويصلح به، يقول: والله منذُ تلك الحادثة لا أستطيع أن أرفع وجهي في وجهه، ويقول: إذا حضرت معه في مناسبة خجلت خجلاً عظيماً، قتلني بسر الحياء. قال: ما أظن أن يبدر هذا ذكاء منه أبداً، لكني أعرف أن هذا جاء من طيبته ومن سلامة صدره ومن حرصه على الرحم، فليس هو بمتكلف، فقتلني بهذا الموقف. فأصبحت تستأسد علي في بعض الأحيان حتى لو كانت مخطئة يقول: في القديم ربما كنت أضربها، وضربتها أكثر من مرة وآذيتها، يقول: لكن تلك المرة لما كانت الأمور شديدة ضربتها بقوة فاشتكت، يقول: فمن بعدها ما رفعت يدي عليها، وأصبحت في هذا الموقف، ولا شك أن الإنسان الموفق موفق، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من أهل الخير وأن ييسره لنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب النفقات [2]

شرح زاد المستقنع - كتاب النفقات [2] ينبغي للزوج أن يرعى حق زوجته في النفقة فيما تحتاجه، ومن هذا أن يأتيها بما تحتاجه في نظافتها، لأنها من الأمور المهمة للنساء، وأما ما عدا ذلك من دواء لها أو أجرة لطبيب فهذا غير لازم عليه.

ما يلزم الزوج وما لا يلزمه من مؤن النظافة والخدمة والدواء

ما يلزم الزوج وما لا يلزمه من مؤن النظافة والخدمة والدواء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد:

إلزام الزوج بمئونة نظافة زوجته

إلزام الزوج بمئونة نظافة زوجته يقول المصنف رحمه الله تعالى: [وعليه مئونة نظافة زوجته دون خادمها] أشار المصنف رحمه الله في هذه المسألة إلى أن الزوج ملزم بدفع التكاليف التي تتعلق بمئونة تنظيف الزوجة، وقد نص طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم أن الأمور التي تحتاجها المرأة للتنظيف من السدر والأشنان يلزم الزوج أن يهيئ ذلك لها؛ لأن هذا مما يتحقق به المقصود من النكاح.

حكم إخدام الزوج لزوجته

حكم إخدام الزوج لزوجته أما بالنسبة لمن يخدمها، وهي المرأة التي تقوم على خدمتها، فليس بملزم بنفقتها، وإنما يختص الحكم بالمرأة نفسها، وهذا متعلق بالمسألة التي ذكرناها من أن بعض النساء يلزم الزوج بإخدامهن، وذكرنا أن ذلك مبني على العرف، وأنها إذا كانت من بيئة يخدم مثلها فإنه يجب على الزوج أن يخدمها وأن يحضر لها خادمة، فإذا أحضر لها الخادمة فإنه لا تلزمه مئونة تنظيف الخادمة؛ لأن الاستمتاع بالزوجة وليس بالخادمة، ومن هنا تلزمه مئونة الزوجة دون مئونة الخادمة. وعندما قال: (وعليه) دل على أنه أمر لازم وواجب عليه، وفي زماننا ما يكون من الصابون وأدوات التنظيف التي تحتاج إليها المرأة للنظافة إذا اغتسلت، فتحتاج مثلاً إلى الليف الذي تتنظف به في جسدها، وتحتاج إلى الصابون، وتحتاج إلى بعض المطهرات في الحدود التي يستطيعها الزوج. وأما إذا أراد الأكمل والأفضل فزادها وطلب لها الأفضل والأكمل في هذه الأشياء، فهذا أجره أعظم عند الله عز وجل؛ لأنه من كمال العشرة، ومن كمال الإحسان، بشرط ألا يصل إلى الإسراف. فإذاً: من حيث الأصل: على الزوج تهيئة الأدوات التي تحتاجها المرأة للنظافة، ومن هنا إذا احتاجت ماءً لتغتسل به فإن عليه أن يحضر هذا الماء، وكذلك أيضاً إذا احتاجت إلى الصابون والمطهرات، وفي زماننا الأشياء المنظفة المعروفة في كل زمان بحسبه، يحضر هذه الأشياء إليها. ولذلك تتضرر المرأة ويضيق عليها الأمر إذا كانت لا تجد هذه الأشياء، فلو عاشت مع زوج لا تجد ما تتنظف به فإن هذا يؤذيها ويضر بها، ولا يحسن منها التبعل لزوجها. ومن هنا قالوا: إن هذا يحقق مقصود الشرع من حصول الألفة والمحبة، والمرأة إذا تزينت لزوجها وتجملت لبعلها في الحدود الشرعية دون إسراف ولا بذخ ولا مشاكلة لأعداء الإسلام، فإن هذا يبعده عن الفتنة، ويعينها على العفة، ويمكنها من أن تحسن لبعلها أكثر. وكان هذا محفوظاً حتى في السير وأخبار الصحابيات أنهن يتزيَّنَّ ويتجملن، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (فتمتشط الغائبة وتدّهن) وهذا يدل على أن المرأة تتجمل لبعلها وتتزين لبعلها، فيشمل هذا أدوات التنظيف -كما ذكرنا- وأدوات التسريح للشعر، وأدوات الحلاقة التي تحلق بها أو تنتف بها شعرها، مما جرى العرف به في كل عرف بحسبه. في القديم كان الصابون وكانت أمشاط العاج على اختلاف طبقات النساء، وفي زماننا توجد مساحيق طبيعية ليست مشتملة على مواد محرمة، ويمكن للمرأة أن ترتفق بها، فهذا يحبب الزوج لزوجته.

حكم معالجة الزوج لزوجته

حكم معالجة الزوج لزوجته قال رحمه الله: [لا دواء وأجرة طبيب] أي: ليس على الزوج أن يداوي زوجته، وليس على الزوج أن يعالجها إذا مرضت، وهذا محل إجماع واتفاق بين المذاهب الأربعة رحمة الله عليهم وغيرهم، فكلهم نصوا على أن الزوج ليس ملزماً بعلاج زوجته، وذلك لأن المرض متعلق ببدنها، وهذا أمر يتعلق بذاتها وليس له صلة بالحياة الزوجية، صحيح أنه لا يمكنه أن يستمتع بها إلا إذا شفيت، هذا شيء لا يعنيه، مثل ما لو استأجر أجيراً لعمل فمرض الأجير، فليس من حق الأجير أن يطالب بعلاجه. وإن كانت في بعض القوانين والأعراف تُلزم رب العمل بمداواة الأجير، ولكن هذا ليس له أصل في الشرع، فالأجير بيني وبينه عقد أن يقوم ببناء أو أن يقوم بعمل ويأخذ أجره، أما أن أكلف بعلاجه ودوائه فهذا ليس له أصل شرعي يدل عليه، وهذا هو المعروف عند العلماء. ولذلك لما ذكروا مسألة الزوجة أنه لا يجب تطبيبها قاسوها على مسألة الإجارة، كما نبه على ذلك الإمام ابن قدامة وغيره رحمة الله عليه؛ لأن طب البدن نفسه من مصلحة الزوجة لذاتها، وإن كان لا يستطيع أن يحقق مقصوده من الاستمتاع بها. إذاً: إذا أحب أن يتفضل فهذا فضل منه وليس بفرض عليه، فليس بواجب عليه أن يعالج زوجته، ولكن من المعروف والإحسان أن الزوج يقوم على معالجة زوجته، ويسعى في تطبيبها ودوائها، وهذا من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل؛ لأن فيه إحساناً إلى أقرب الناس إليك بعد والديك وهي زوجك وحِبك وأهلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي). والعلاج ينقسم إلى: طب دوائي وطب وقائي، فإن خرج عن الطب العلاجي والوقائي إلى أمور بعضها قد يكون معارضاً للشريعة، فحينئذٍ لا، فإذا كانت المرأة محتاجة لعلاج ضروري لإنقاذ نفسها من أمراض كأمراض القلب وأمراض الشرايين -أعاذنا الله وإياكم منها- ونحو ذلك من الأمراض المميتة، فهذه ضرورية، أو كانت حاجية كآلام الضرس ونحوها، فهذه حاجية؛ لأن فيها حرجاً، أو كانت وقائية مثل أن تستخدم بعض العقاقير لأمر يغلب على الظن أنها وقوعه، وبعض العقاقير التي يقصد منها التحصين من الأمراض ونحوها. أما إذا خرج عن الدواء والوقاء وأصبح من الفضول، أو أصبح مخالفاً لمقصود الشرع مثل: وضع اللولب، فهذا ليس بعلاج ولا دواء، وليس بوقاية من حيث الأصل، وفيه استباحة الفرج مع اشتماله على المحاذير، من استباحة النظر إلى الفرج، والإيلاج في الفرج، ومس العورة وكشفها، وكذلك إرباك العادة، فإنه يربك العادة، مع أنه يخالف مقصود الشرع؛ لأنه يقطع النسل في مدة وجوده، ومقصود الشرع من الزواج التكاثر والتناسل. ولذلك لما ضعف إيمان الناس في هذا الزمان إلا من رحم الله عز وجل، وأصبحت المرأة تشتكي من الحمل؛ أصبح كل شيء ضرورياً، وأصبحت تقول: ضرورة. مع أن الله عز وجل أثبت أن الحمل كره وأنه وهن على وهن، وأنه عذاب، ولماذا أعطى الله الأم من الحق ما لم يعطه للأب، وأعطاها من الفضل والخير والأجر، حتى إنها لو ماتت في نفاسها فهي شهيدة؟ هذا كله يدل على أن الشرع له مقصود في هذا. فالمقصود أنه إذا كان علاجها مشتملاً على تغيير الخلقة، أو مشتملاً على محذور، فهذا لا يعالجه؛ لأنه إذا عالجها على هذا الوجه أعانها على معصية الله عز وجل. فيداويها ويعالجها إذا احتاجت، أما إذا كان العلاج للحمل، فالحمل واجب عليه أن ينفق عليه وأن يقوم عليه؛ لأن الولد ولده، ولذلك قال تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6] فبيّن سبحانه وتعالى أن الحمل مستحق لوالده، ولذلك يُلزم بالنفقة عليه، فإذا احتاجت لدواء لهذا الحمل وجب عليه أن ينفق على هذا الجنين؛ لأن حياته ونجاته بإذن الله عز وجل موقوفة على هذا الدواء أو هذا العلاج، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولذلك يجب عليه أن ينفق، ونفقة حياة الجنين والمحافظة على حياة الجنين أعظم من نفقة ما يتبع ذلك. ولذلك يجب عليه أن يعالج المرأة إذا كان ذلك متعلقاً بحملها، بناءً على ما قرره العلماء رحمهم الله من أن المولود له، وأنه يطالب بنفقة الحمل.

الأسئلة

الأسئلة

حكم نفقة الزوج على زوجته إذا أنفق عليها أولادها

حكم نفقة الزوج على زوجته إذا أنفق عليها أولادها Q هل تبرأ ذمة الزوج من النفقة إذا قام بها الأولاد لأمهم؟ A الأولاد ليسوا مطالبين بالنفقة مادام الزوج موجوداً، فالواجب عليه أن ينفق على زوجته وأن يتقي الله عز وجل في امرأته ويعطيها حقها، لكن لو تبرع الأولاد ورضي هو فلا بأس، ولكن الأصل يقتضي أنه هو الذي ينفق، ولا شك أن الأم تتضرر بنفقة ولدها عليها؛ لأن ولدها إذا أنفق عليها اكتسب المنة عليها. فالأصل أن ينفق عليها زوجها، وأن يطالب الزوج بالقيام بحقها، وأن يتقي الله عز وجل، ولو كانت نفقته واجبة على أحد وأسند ذلك الشخص النفقة إلى من هو أصغر منه سناً لتمعر بذلك وتضرر وتألم، فلا شك أن في هذا غضاضة على المرأة وأذية لها أن تأخذ نفقتها من ولدها، ولو أن الولد يتشرف بذلك؛ لكن ليس كل الأولاد يحسن الملاطفة والإحسان لمشاعر والدته. ومن هنا الأصل يقتضي أن الوالد هو الذي ينفق ويقوم بالنفقة، فإذا رضيت الأم وتسامحوا وتشاوروا عن تراض منهم فهذا شيء لا يتكلم فيه، لكن أن يشتمل على الإهانة والضرر لمكانة الأم والإذلال لها بنفقة ولدها عليها فلا؛ لأنه حق واجب على الزوج، ولا يجوز أن تمتهن في حقها، بل واجب عليه أن يؤدي هذا الحق كما أمره الله عز وجل. قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (حقها عليك أن تطعمها مما تطعم وأن تكسوها إذا اكتسيت) وهذا يدل على أنه متعلق بالزوج، وأن على الزوج أن يتقي الله عز وجل في نفقة زوجته. والله تعالى أعلم.

عبر وعظات من غزوة بدر

عبر وعظات من غزوة بدر Q في غزوة بدر كثير من المواقف والعبر، هلا حدثتمونا فضيلة الشيخ بشيء من ذلك؟ A غزوة بدر ملحمة من ملاحم الإسلام، ويوم من أيامه الجميلة العظام، أعز الله فيه جنده ونصر عبده وأعلى كلمته، وصدق وعده، سبحانه لا يخلف الميعاد، هذه الغزوة تعتبر من أعظم غزوات الإسلام، ولذلك فتح الله عز وجل بها على المؤمنين فتحاً مبينا، وكلما نظر المؤمن في حوادثها وتدبير الله جل وعلا لأحداثها ازداد إيماناً بالله جل جلاله، ويقيناً بالله سبحانه وتعالى، وثباتاً على الحق واستمساكاً بدين الله عز وجل. فهو يوم سماه الله عز وجل يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، مستضعفون مضطهدون محتقرون، في قلة من العدد والعدة، فأخرجهم الله جل وعلا أعزة أقوياء {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]. ففصل الله عز وجل فيها بين الحق والباطل. غزوة بدر تلك الغزوة العظيمة التي تُذكر المؤمن الصادق بأنه لابد من الصدق مع الله، وأن هذا الدين لا يمكن أن يستقيم الأمر فيه إلا بالإخلاص التام لله جل وعلا، وأن من كان لله كان الله له، ومن كان مع الله فإن الله لا يخذله، وأنه إذا صدق مع الله، فإن الله يصدقه. هذه الغزوة التي خرج فيها أولئك النفر الذين كُتبت لهم السعادة في بطون أمهاتهم، أولئك النفر الذين نادى عليهم منادي الله: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، أولئك النفر الذين صدقوا وثبتوا، قالوا فبروا في قولهم، وصدقوا في مقالهم: (والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا عنك رجل واحد، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون). {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] اشتروا الموت لمرضاة الله عز وجل، وباعوا الحياة رخيصة من أجل هذا الدين، لا يريدون بها دنيا ولا رياءً ولا نفاقاً ولا سمعة، ولكن لله وفي الله وابتغاء ما عند الله جل جلاله. ولذلك فاز البدريون بالمناقب العظيمة، والمنازل الجليلة الكريمة. هناك في ذلك المكان الذي كان اللقاء فيه على غير ميعاد، {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال:42] فربك إذا قدر، وربك إذا أمر، وربك إذا دبر الأمر من فوق سبع سماوات كان ما أراد، فأخرج جحافل الكفر وأئمة الكفر ورءوس الشر، الذين كم قالوا وكم فعلوا، وكم عذبوا وكم آذوا وكم طغوا وبغوا، حتى جاء أمر الله جل جلاله. أخرجهم من عزتهم إلى ذلة، ومن كرامتهم إلى مهانة، ومن حياتهم إلى موت وجحيم ودركات لا يعلم عذابها إلا الله جل جلاله؛ لأن الأمر أمره والقدر قدره، والأمر كله له جل جلاله {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:123] الله أكبر! أناس كانوا في عزتهم وقوتهم وبطشهم، يُستدرجون هذا الاستدراج! {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:16] ويعلم كل مؤمن أن كل طاغية وكل باغية وكل معتد حبله قصير، وأنه في متاع الغرور {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]. فما خلق الله السماوات والأرض عبثا. بدر ملحمة تحرك القلوب إلى الله جل جلاله، يقف الإنسان متأملاً متدبراً، حفاة حملهم ربهم، عراة كساهم ربهم، جياع أطعمهم ربهم، كان غذاؤهم وقوتهم وشوكتهم كلمة التوحيد والإخلاص: لا إله إلا الله، خرجوا من أجلها وقاتلوا من أجلها، فأعزهم الله بها العزة التي لا ذلة بعدها أبداً، وأكرمهم بها الكرامة التي لا مهانة بعدها أبداً. الله أكبر! أبو جهل رأس الكفر والعداء للإسلام، الذي كان يقول ويفعل، وإذا به يقف عليه ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، ويقف هو ذلك الموقف الذليل المهان؛ لأن كل من اعتدى إذا جاءته نقمة الله تأتيه على أسوأ الأحوال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) ثم قرأ قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] قالوا: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ} [هود:102] بالتشبيه أي: مثل ذلك، وهذه تدل على أنها مثلات لله عز وجل، لا تتخلف ولا تتبدل، ليست في شخص ولا في شخصين ولا ثلاثة {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ} [هود:102] ما قال: أخذي بل: {أَخْذُ رَبِّكَ} [هود:102] الذي يربي خلقه بالنعم، ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر بالنقم، {إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} [هود:102] ما قال: الأشخاص ولا الأفراد، {إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود:102] جملة حالية، أي: في حال الظلم والبغي والعدوان. في يوم بدر مواقف عظيمة، فالعبد الصالح المؤمن الموقن يعتبر من عزة الإيمان واندحار الشيطان، فالباطل حبله قصير، يملي للعبد ثم يخذله في موقفه، ولذلك قال الشيطان لما رأى ما رأى: {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} [الأنفال:48] قال بعض أئمة التفسير ويروى عن بعض أئمة السلف من الصحابة: رأى جبريل يتنزل والملائكة نصرة من الله عز وجل لنبيه وأوليائه، فرجع خاسئاً ذليلاً، جاء بهم وهم في عدد وعدة وقوة وشوكة من أجل أن يكون فيها مصارعهم وسوء خواتمهم والعياذ بالله، فلما رأى جبريل جاءت ساعة الحق. في غزوة بدر مواقف عظيمة: في ليلة بدر أنزل الله سبحانه وتعالى المطر: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11] الله أكبر! إذا وقف العبد لله يزلزل بالفتن كان الله معه، وما أن تثبت قدمه حتى تأتيه الرحمات وتتنزل عليه من الله السكينة والثبات، في كل كرب وفي كل شدة، في فرد أو جماعة أو أمة، فإنها إذا ضاقت عليها الأمور وثبتت مع ربها تنزلت عليها السكينة، وجاءها الثبات من الله سبحانه وتعالى وجاءت المعونة وجاءها النصر، فرأيت بشائر الخير وبشائر الرحمة عند الله سبحانه وتعالى الذي لا يخذل أولياءه {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:196]. لكن لابد من الثمن، والثمن هو الإيمان والعقيدة والتوحيد والإخلاص، ليس النفاق ولا الرياء ولا الكلام المنمق أبداً، بل العمل والتطبيق بقلوب صادقة، ولذلك في مواطن الشدة والبلاء لا ينظر الله سبحانه وتعالى لشيء أحب إليه من القلب. ولذلك {رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:18] أول شيء النظر {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18] * {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} [الفتح:19] وذلك لأنه لما نظر إلى قلوبهم وجد فيها التوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى، فيتزلزل الناس ويرعبون ويخافون ولكن هؤلاء يقولون: حسبنا الله ونعم الوكيل، لا حول ولا قوة إلا بالله، وتجد هذه المواقف كلها تتجدد بهذا الدين، وبهذا الإخلاص. الإيمان الذي كان مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واليقين الذي ثبت به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت به المؤمن في كل زمان ومكان، ولكن لابد أن يكون مع الله حتى يكون الله معه. هناك على ذلك المكان الطيب الطاهر، إذا تذكر المؤمن كيف خرجوا رضوان الله عليهم، والله عز وجل يعدهم إحدى الطائفتين، ثم إذا بهم يقفون أمام الموت، ومن هنا يقول العلماء: دائماً تأتي المنازل العلا والتشريفات والكرامات والمكرمات من الله عز وجل حينما تقف أمام شيء لا تريده، أنت تريد شيئاً معيناً من الهوى ومحبة الناس، ولكن هناك ابتلاء وتمحيص من الله، فيأتيك ما تكره، فتقدم لله عز وجل الرضا، وتقدم له التسليم، وتقدم له الإيمان والمحبة التامة الكاملة والرضا بقضائه وقدره، فيمدك الله عز وجل بأمن وثبات وتأييد وقوة لم تخطر لك على بال، وعندها تجد من بشائر النصر والظفر من الله سبحانه وتعالى ما لم يخطر لك على بال. {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [آل عمران:151] وعد الله سبحانه وتعالى أن كل من كفر وعاداه، أنه سيلقي في قلبه الرعب، وهذا كله لما تخلف الأساس وهو: التوحيد والإخلاص، فالعبد الصالح حينما يتأمل مواقف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، هذه الأمة التي اصطفاها الله واجتباها لنبيه صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله عنهم أجمعين، هذه الأمة التي ما كانت تتجمل بقولها ولا بفعلها، ولا كانت تنمق العبارات، ولا كانت تتفاخر بأحسابها ولا بألوانها ولا بأمجادها، كانوا يقفون بلا إله إلا الله، من أجلها ولأجلها يتقدمون ويتأخرون، ويأخذون ويعطون، رضي الله عنهم وأرضاهم. ولذلك أعطاهم الله عز وجل؛ لأنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه، كما شهد من فوق سبع سماوات أنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه. الله أكبر! ذلك اليوم الطيب المبارك الذي يتفكر المؤمن في عظيم ما أعد الله سبحانه وتعالى لأهله، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) انظر إلى التشريف والتكريم من الله سبحانه وتعالى، ما اطلع على الأغنياء، ولا على الأثرياء بل اطلع على

الطواف ليلة رمضان هل يعتبر عمرة في رمضان

الطواف ليلة رمضان هل يعتبر عمرة في رمضان Q يقول السائل: أحرمت بالعمرة نهار يوم الثلاثين من شعبان، ولكن لم أبدأ الطواف إلا ليلة رمضان، فهل تكون العمرة واقعة في رمضان، أم في شعبان؟ A هذه المسألة لها نظير وهي مسألة عمرة التمتع، حيث يشترط في العمرة لكي تكون عمرة تمتع أن تقع في أشهر الحج، وأشهر الحج تبدأ بليلة العيد؛ لأن ليلة العيد هي بداية شوال، فقال العلماء: لو أن شخصاً أحرم في يوم الثلاثين من رمضان، وطاف وسعى، أو سعى في ليلة العيد، هل هو متمتع أو لا؟ هذه مسألة خلافية، والصحيح ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم. من أهل العلم من قال: العبرة بالإحرام، كالظاهرية ومن وافقهم، ومنهم من قال: العبرة بدخول مكة، كـ عطاء وغيره من أئمة السلف، ومنهم من قال: العبرة بابتداء الطواف، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، ومنهم من قال: العبرة بأكثر الطواف، أربعة أشواط فأكثر، كالحنفية، ومنهم من قال: العبرة بالتحلل، كالمالكية، وهذه خمسة أقوال مشهورة عن السلف. فإذا كان هناك تخريج للفتوى في هذه المسألة على أصول العلماء، فالأشبه أنها تقاس على هذه المسألة، وبناءً على ذلك إذا ابتدأ الطواف بعد غروب الشمس من آخر يوم من شعبان، أي: ابتدأ الطواف في الليلة الأولى من رمضان فإنه معتمر في رمضان؛ لأن الركن الأعظم الطواف بالبيت والسعي، ومن أجله كانت العمرة؛ لأن العمرة من أجل أن يزور البيت. ومن هنا إذا وقعت زيارته للبيت وابتدأ طوافه بعد مغيب الشمس، فإنها عمرة رمضانية، وإن وقع ابتداؤه بالطواف قبل غروب الشمس فهي شعبانية، ولا تكون آخذة حكم العمرة في رمضان، وهذا على التخريج الذي ذكرناه. والله تعالى أعلم.

وصايا لاستغلال العشر الأواخر من رمضان

وصايا لاستغلال العشر الأواخر من رمضان Q أقبلت العشر الأواخر، فبماذا يوصى العبد في وقته، وبماذا توصى المرأة في بيتها؟ A جماع الخير كله الوصية بتقوى الله عز وجل {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا * وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق:4 - 5] وعلى المؤمن إذا دخلت عليه العشر أن يتحرى سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، فإن الله جعل الخير كل الخير في اتباعه صلوات الله وسلامه عليه، وأسعد الناس في العشر الأواخر، وأسعد الناس في كل زمان ومكان من رزقه الله حب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بها. فيسأل المؤمن كيف كان هديه -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- في هذه العشر؟ وكيف كان حاله عليه الصلاة والسلام حينما عرف حقها وقدرها؟ فقد كان أتقى الأمة وأعرفها بما لهذه العشر من فضيلة ومزية، فأحيا ليلة وشد مئزره وأيقظ أهله، صلوات الله وسلامه عليه، واعتكف في هذه العشر في مسجده صلوات الله وسلامه عليه، فإن تيسر للمؤمن أن يصيب هذه السنة فيعتكف فعليه أن يتحرى الأمور العظيمة في اعتكافه، والتي أساسها إخلاص العمل لله جل وعلا. وأن يعلم أنه ليس له من اعتكافه إلا ما أريد به وجه الله، فإذا خرج من بيته من أجل أن يعتكف هذه العشر فليتأسَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وليخرج وليس في قلبه إلا الله، يتمنى أنه يعتكف ولا أحد يراه، ويتمنى أنه معتكف ولا أحد يسمعه أو يحس به من إخلاصه لله سبحانه وتعالى. ثانياً: إذا دخل في اعتكافه فعليه أن يتحرى ما يعينه على طاعة الله عز وجل ومرضاته، فيعلم أنها أيام قليلة، وأن هذه الأيام إن وفق فيها لطاعة الله فإن الله قد أحبه بتهيئة الخير له؛ لأن الله لا يهيئ الخير إلا لأحبابه، وصفوة عباده، جعلنا الله وإياكم منهم بمنه وكرمه. فإذا أحس أن كل ساعة يتنافس فيها مع الصالحين، ويتسابق فيها مع الأخيار والمتقين، شمر عن ساعد الجد في مرضاة الله رب العالمين، فإذا جاء من يضيع عليه وقته في حديث ولهو نظر يميناً فرأى عباد الله الأخيار، ونظر شمالاً فرأى الصفوة الأبرار، ما بين قائم وراكع وساجد وتال، هذا يسأل ربه، وهذا يذكر ربه، وهذا يبكي ذنبه، فعندها يحتقر كل شيء يلهيه عن هذا المقصود الأعظم. يتفرغ تفرغاً تاماً كاملاً لذكر الله عز وجل والإخلاص، وأفضل الذكر وأحبه إلى الله سبحانه وتعالى كثرة تلاوة القرآن، فهنيئاً ثم هنيئاً لمن رزقه الله عز وجل لساناً تالياً لكتاب الله في اعتكافه وفي كل حين، فأسعد الناس من جعل الله القرآن ربيع قلبه ونور صدره وجلاء حزنه وذهاب همه وغمه. كذلك أيضاً عليه أن يحرص على الاستفادة من هذه العشر أثناء تلاوة القرآن في صلاح قلبه، ومن أعظم ما يصلح به القلب ويتأثر به القلب كثرة الخشوع، فإن من يكثر من قيام الليل ويتخشع في قيامه، حتى ولو كان في قلبه قسوة فإنه يضغط على هذا القلب، ويلوي بعنقه إلى طاعة الله ومرضاة الله، ويكون شديداً على نفسه، فيفرحه وعد الله عز وجل، ويبكيه وعيده، ويخشع لكلام الله عز وجل، ويرتعد من تخويفه وتهديده، عندها لا شك أنه سيجد بركة القرآن وخيره، فيحاول قدر الاستطاعة أن يكون أكثر الناس انتفاعاً بالقرآن، وخشوعاً عند سماع القرآن، وأن لا يلتفت إلى النغمات ولا إلى الأصوات، ولا إلى العبارات إلا لمقصود أعظم وهو التفكر والتدبر والتذكر من كتاب الله جل جلاله، {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29]. كذلك أيضاً عليه أن يحرص في هذه العشر على الأعمال الصالحة التي فيها تفريج كربات للمسلمين، كإفطار الصائمين، وكسوة العارين، وتفريج الكربات عن المكروبين، يتنافس في كل خير وبر يرضي الله عز وجل عنه. ولا مانع أن يستفيد من الخير في صحبة عالم أو أحد من أهل الفضل، فيذكره قوله وعمله وسمته ودله بالله، فهذا خير عظيم. كذلك ينبغي عليه أن يبتعد عن الأمور التي تبعد عن الله عز وجل، من كثرة الكلام في فضول الدنيا، وكثرة القيل والقال والغيبة والنميمة، والضحك واللهو. الذي يدخل إلى المعتكف وهو يضحك مع هذا أو هذا، وينظر إلى المعتكف على أنه ساعات، ويرتب وقته على أنه في ساعة معينة يأتي فيجلس مع هذا ويباسط هذا، وكأن الأمر ساعات يريد أن يقضيها دون تفكر وتدبر أنه معتكف لله، وأن هذا الوقت مستحق لطاعة الله عز وجل؛ يفوته من الخير شيء كثير، فالله الله ولن يكون الإنسان معتكفاً ومتحرياً للسنة في بلوغ الخير في هذه العشر إلا إذا ضن وبخل بكل دقيقة وثانية، وصار أكره ما عنده أن يأتيه شخص يلهيه عن طاعة الله عز وجل وذكر الله عز وجل. فمن عرف الطاعات ولذة الذكر لله عز وجل ولذة العبادة، لا شك أنه يهون في قلبه كل شيء سوى هذا، ويتذمر إذا جاء أحد يشغله عن هذا، ولكن هذه منح من الله سبحانه وتعالى وهبات من الله عز وجل، ومن بشائر القبول ودلائل القبول للعبد الصالح، أن الله يصرف عنه كل من يشغله عن طاعة الله عز وجل ويهيئه لما هو أسمى وأسمى. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم بمنه وكرمه ذلك الرجل، وجماع الخير كما قلنا: في تقوى الله عز وجل. ومن الأمور التي يسعى إليها العبد في العشر الأواخر: أن يحرص على بر الوالدين وصلة الرحم، والإحسان إلى القرابات، وزيارة الإخوان والأخوات وقضاء حوائجهم، خاصة إذا احتاجوا أموراً في عيدهم وفرحتهم، فيدخل السرور عليهم، ويجبر خواطرهم، خاصة إذا كانوا أيتاماً أو أصغر منه سناً، أو أختاً تحتاج إلى مواساة، أو قريباً يحتاج إلى قضاء دين وتفريج كربة. على كل حال: أبواب الجنة عظيمة، وطوبى ثم طوبى لمن وفقه الله عز وجل أن يشمر عن ساعد الجد، فينتهل من مناهل الخير في طاعة الله ومرضاته، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا أوفر عباده حظاً ونصيباً في كل خير وبر ورحمة. والله تعالى أعلم.

حكم الإكثار من الصلاة في نهار رمضان

حكم الإكثار من الصلاة في نهار رمضان Q هل الفضل في رمضان يقتصر على الليالي دون الأيام؟ وهل يجوز لي أن أكثر من العبادة بالصلاة في النهار؟ A أما الجواز فبالإجماع أنه يجوز أن تصلي ليلاً ونهاراً، ولكن الفضل في رمضان أعظم في الليل بالنسبة للقيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً) فجعل القيام لليل. أما النهار ففيه تفصيل: إذا كان عندك قوة وجلد وكان الليل قصيراً والنهار طويلاً، ويمكنك أن تقوم الليل، وتستفضل وقتاً للنهار، فلا بأس أن تصلي بالليل والنهار؛ لأن هذا داخل تحت أصل عام وهو الاستكثار من النوافل، لكن إذا كان الليل طويلاً والنهار قصيراً، وإذا نمت في النهار استعنت بنوم النهار بعد الله عز وجل على قيام الليل، فلا يشك أن اشتغالك بالنوم أفضل؛ لأنك إذا اشتغلت بصلاة النهار شغلتك عن صلاة الليل وهي أفضل. والنصوص في سنة النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أن صلاة الليل أفضل من صلاة النهار عموماً، لذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الصلاة قال (وركعتان يركعهما المؤمن في جوف الليل الآخر) وقال: (إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن). فهذا يدل دلالة واضحة على أن قيام الليل وصلاة الليل أفضل وأحب إلى الله سبحانه وتعالى. والله تعالى أعلم.

حكم الدم الخارج من الحامل

حكم الدم الخارج من الحامل Q امرأة تقول: أنا امرأة حامل والدم يجري معي بكثرة غير أني أصلي وأصوم، فهل صيامي صحيح؟ أم يجب عليّ القضاء؟ A هذه المسألة خلافية، وقد بينّاها، وبينا أن الصحيح أن المرأة الحامل لا تحيض، وبناءً على ذلك يكون الدم دم استحاضة لا يمنع صوماً ولا صلاة على أصح أقوال العلماء رحمهم الله، ولذلك قال تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] وهذا أصل عند أهل العلم في أن الحامل لا تحيض، ولذلك جعل الله عز وجل الحيض مقروناً بالحمل، ولذلك فالأقوى والأرجح من قولي العلماء أن الحامل لا تحيض. وبناءً على ذلك فما رأته من الدم فهو دم استحاضة، إلا إذا رأت الدم قبل النفاس بيوم أو يومين أو ثلاثة بالكثير كما هو مذهب الحنابلة فإنه يُلحق بدم النفاس؛ لأن النفاس ربما استعجل وانفجر قبل وقته، وما قارب الشيء أخذ حكمه، فقالوا: إذا كان قبل الولادة بيوم أو يومين أو ثلاثة، على اختيار طائفة منهم الإمام ابن قدامة، وطائفة من محرري أئمة الحنابلة رحمة الله عليهم، أنه يلحق بدم النفاس ويأخذ حكمه. والله تعالى أعلم.

حكم التمر الزائد عن الحاجة في تفطير الصائم

حكم التمر الزائد عن الحاجة في تفطير الصائم Q تعطى لبعض المساجد تمور لتفطير الصائمين، وينتهي شهر رمضان، ويبقى منها شيء، هل يجوز التصدق به على مجاوري المسجد من الحي نظراً لكونها تزيد عن حاجة المسجد، أو تكون وقفاً لذلك المسجد؟ A أولاً: ينبغي أن يحتاط من يتقبل الصدقات، فلا يأخذ أكثر من حاجته، خاصة في الأوقاف أو الأمور المسبلة على أماكن مخصوصة أو أغراض معينة، فإن هذه الأشياء المسبلة والتي هي أشبه بالحبس على مسجد معين أو مكان معين أو زمان معين ينبغي أن ينصح فيه، وأن ينفذ شرط صاحبها الذي تصدق بها، فإن كانت صدقة لتفطير صائم فهي صدقة لتفطير صائم، وإذا كان المسجد فيه كفاية فإنهم يقولون لمن يحضر: عندنا كفاية، فينصرف إلى مسجد آخر، ولا يجوز أن يأخذوا أكثر من كفايتهم؛ لأن هذا يُعطل هذه الصدقة عما هو أولى وأحرى، وقد تكون هناك مساجد هي أحوج. ولذلك ينبغي أن يعلم أنه إذا كانت الصدقات لتفطير الصائم، فينبغي أن لا يأخذ المسجد إلا قدر كفايته، وأن ينقص ويصل الحق إلى كل مستحق خير من أن يزيد؛ لأنه إذا نقص من هذا المسجد فإن الصدقات ستمضي إلى المساجد الأخرى وتسد حاجة الناس فيها، لكن إذا أعطيت الزيادة وأصبحت فضلاً فاتت، فلا صاحبها أدرك تفطير الصائم ولا عرف حتى الذي أخذها ماذا يفعل بها فالصائم لم يعد موجوداً، وصرفها إلى غير تفطير الصائم هذا خلاف أصل الصدقة وأصل التحبيس من صاحبها، وقد تكون أموال أعطيت في الأصل، أشبه بالوقف على هذا الباب من الخير. فعلى كل حال: إذا كان الشخص الذي أعطى المبلغ وكّل أشخاصاً ليشتروا التمر والصدقة على أنها لتفطير صائم، فالمال محبس على تفطير الصائم، وبناءً على ذلك: لا يصرف في غير تفطير الصائم، وإذا انتهى تفطير الصائم في رمضان يمكن أن يؤخر إلى رمضان آخر، وكان بعض مشايخنا يقول: الأشبه أنه يمكن أن يصرف إلى تفطير الصائم في الإثنين والخميس وقضاء رمضان، ويمكن أن ينزل منزلته. لكن هذا المال إذا قصد به أن يحبس وقال له: خذ عشرة آلاف ريال وأنفقها في تفطير الصائم، فقد حبست لتفطير الصائم فلا تصرف في غيره، أو جاءه مثلاً بعشرين أو بثلاثين صندوقاً من التمر وقال: هذه تعطى تفطيراً للصائم، إذا قال: هذه تعطى تفطيراً للصائم فقد حبست وأصبحت أشبه بالوقفية على تفطير الصائم، وتصرف في هذا الوجه من الخير، وفي بعض الأحيان تكون من أموال أموات وأوصوا بها، وفي بعض الأحيان تكون من نفس المتبرعين، فهذه أمور كلها توقف وتحبس على الوجه الذي قصده صاحبه أو نص عليه من تصدق بها. أما إذا كان الشخص نفسه اشترى هذا الشيء ونوى في قرارة قلبه أنه لتفطير الصائم، ثم لم يجد صائماً يفطره به، فله أن يصرفه في أي وجه من وجوه الخير، لأنه ما تعين وقفاً ولا تسبيلاً ولا تحبيساً، ففي هذه الحالة هو حر بماله، فإن يسر الله له ووجد صائماً يفطره فالحمد لله، وإن لم ييسر له فأنفقه في سبل الخير ووجوه الخير الأخرى فلا بأس ولا حرج. والله تعالى أعلم.

حكم المسبوق بركعة في صلاة شفع إذا أوتر إمامه

حكم المسبوق بركعة في صلاة شفع إذا أوتر إمامه Q يقول السائل: أشكلت عليّ مسألة: كنت أصلي الشفع مع الإمام، وقد فاتتني ركعة من ركعتي الشفع، ولكن الإمام قام ووصل به الوتر، فهل أسلم معه وأكون قد صليت ركعتين؟ A إذا سلمت معه حينئذٍ تكون الصلاة شفعية، والأشبه أنك تأتي بركعة حتى توتر بها، وكان بعض العلماء رحمهم الله يقول: إنه إذا دخل وراء الإمام على صورة تعينت عليه تلك الصورة؛ لأن الشرط عند المخالفة أن لا تختلف صورة الصلاتين، لأنه إذا صلى وراء الإمام وسلم شفعاً والإمام قد صلى ثلاثاً اختلت صورة الصلاتين، وحينئذٍ ألزموه بركعة حتى يستقيم الاقتداء ويصح منه ائتمامه بالإمام. إلا أن القول الذي ذكرناه من أنه يجوز له أن يسلم مع الإمام وتكون له شفعاً يقولون: هو مخير بين أن يصليها وتراً وبين أن يصليها شفعاً، كما أن الإمام لو أراد أن يصلي ركعتين فقام إلى الثالثة، فهو مخير أن يضيف لها ركعة فتصبح شفعية، وبين أن يجلس ثم يسجد سجود السهو للزيادة، لأن صلاة الليل على السعة، والوقت فيها متسع أن يصلي العبد فيها شفعاً ووتراً، فالمحل قابل للشفع وقابل للوتر. فعلى كل حال: إن سلمت مع الإمام أشكل على تسليمك وجود الدعاء بين الركعتين، ولا يعرف في صلاة شفعية دعاء بين الركعتين؛ لأنك ستدعو دعاء الوتر وتكون صليت ركعتين استبحت الدعاء في وسطها. ومن هنا قال بعض العلماء: إنه لا يقوم بعد تسليم الإمام وينقض الوتر مباشرة؛ لأنه لو قام في هذه الحالة أحدث دعاءً بين الركعتين؛ لأن الركعة التي صلاها مع الإمام هي الأولى ودعا بعد ركوعها، ثم قام لثانية، فهو يدخل وراء الإمام بنية الشفع في شفعية لا يأذن الشرع بها، إذ ليس في الشرع أصل يدل على أنه يجوز للعبد أن يدعو بين الأولى والثانية، إنما يكون الدعاء في الثانية والأخيرة. وبناءً على ذلك قالوا: يشدد في هذا؛ لأنه مخالف للأصل الشرعي، ولا تعرف ركعتان يدعى في وسطها. من هذا الوجه لو قام وجاء بركعة، خاصة على مذهب من يقول: إن المسبوق يقضي، فحينئذٍ يزول الإشكال نهائياً؛ لأنه سيأتي بركعة ينويها الركعة الأولى، وحينئذٍ تستقيم في الصلاة الثلاثية، كالمغرب إذا جاء في الاثنتين الأخيرتين أضاف لها واحدة، قالوا: وهذا أشبه بالاقتداء وله أصل؛ لأنه في المغرب إذا جاء أضاف ركعة فاستقامت صلاته وترية؛ لأن المغرب وتر الفرائض. وبناءً على ذلك يقوون أن يأتي بركعة حتى لا تختل صورة الصلاتين، ولا يستبيح في الركعتين دعاءً وسطاً بين الأولى والثانية، حيث لا أصل في الشرع يدل على أن الركعتين يدعى في وسطها، وإنما الدعاء المسنون في شرع الله عز وجل في الصلوات إنما يكون في الركعة الواحدة، أو في آخر الركعات إن كان العدد وترياً. والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب النفقات [3]

شرح زاد المستقنع - كتاب النفقات [3] النفقة على الزوجة من حقوقها على زوجها، وللنفقة أحكام وتفصيلات تتعلق بها، من حيث القدر والصفة والوقت، والنشوز والمرض، وغير ذلك مما يجب على كل متزوج أن يعرفه، وذلك حتى يعرف ما يجب عليه فيلتزم به ولا يقصر، وما لا يجب فلا يقع في الحرج بإلزام نفسه به فيكلف نفسه فوق طاقتها.

نفقة المطلقة ونحوها

نفقة المطلقة ونحوها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ونفقة المطلقة الرجعية وكسوتها وسكناها كالزوجة] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فبعد أن بيّن المصنف رحمه الله أن الزوجة يجب على زوجها أن ينفق عليها بالمعروف، وبيّنا الأدلة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على هذه المسألة، وبيّنا ما هو الحد المعتبر في النفقة، شرع بعد ذلك في بيان حكم المرأة المطلقة، وهي إما أن تكون مطلقة طلاقاً رجعياً، وإما أن تكون مطلقة طلاقاً بائناً، وقد تقدم معنا بيان الفرق بين الطلاق الرجعي -وهو الذي يملك الزوج فيه ارتجاع زوجته ما دامت في العدة- والطلاق غير الرجعي سواء كان بائناً بينونة كبرى كما لو طلقها ثلاثاً، أو كانت البينونة صغرى كأن يكون طلقها قبل الدخول، أو يكون قد طلقها الطلقة التي يحكم بكونها آخذة حكم الفسخ وهو طلاق الخلع.

المطلقة الرجعية تأخذ حكم الزوجة دون القسم

المطلقة الرجعية تأخذ حكم الزوجة دون القسم فبعد أن بيّن حكم النفقة على الزوجة أراد أن يبين حكم النفقة على المطلقة، فالمرأة إذا طلقت طلاقاً رجعياً فهي في حكم الزوجة حتى تخرج من عدتها، وقد بيّنا مذاهب العلماء رحمهم الله في ذلك، وأن الصحيح أن الرجعية تأخذ حكم الزوجة من وجوه، وذكرنا الأدلة على ذلك، ومن ذلك أنها تستحق النفقة، فبيّن المصنف رحمه الله أن المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً يجب على زوجها أن ينفق عليها حتى تخرج من عدتها، ومثال ذلك: لو طلقها الطلقة الأولى، فإنها كالزوجة يجب عليه أن ينفق عليها في طعامها وكسوتها حتى تخرج من عدتها، فقال رحمه الله: [ونفقة المطلقة الرجعية وكسوتها وسكناها كالزوجة]. وقد تقدم بيان نفقة الزوجة وسكناها والأدلة الدالة على ذلك من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ونجد العلماء رحمهم الله يقولون: الرجعية كالزوجة، قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة:228] يعني: في عدتهن {إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] فجعلها في حكم الزوجة، ولو لم تكن في حكم الزوجة لوجب أن يعقد عليها عقداً جديداً إذا أراد ارتجاعها. قال رحمه الله: [ولا قسم لها]. لو كان عنده زوجتان طلق إحداهما طلقة واحدة، بعد الدخول بها، وهي طلقة رجعية، فقلنا: إن المطلقة الرجعية لها حق النفقة، ولها حق السكنى بالمعروف والكسوة، فيرد Q هل يقسم لها؟ بمعنى: هل يبقى حقها في القسم وهو المبيت، فيبيت عندها ليلة وعند الأخرى ليلة كما كان؟ فقال رحمه الله: (ولا قسم لها) أي: يبيت عند زوجته الأخرى فقط، وإذا كان عنده ثلاث زوجات فطلق إحداهن قسم على ليلتين، ولم يحتسب للمطلقة الرجعية ليلة؛ لأنها لا حق لها في الفراش.

حكم النفقة على المطلقة البائنة

حكم النفقة على المطلقة البائنة قال رحمه الله: [والبائن بفسخ أو طلاق لها ذلك إن كانت حاملاً] (والبائن) أي: والمطلقة طلاقاً بائناً (لها ذلك) أي: لها نفقتها وكسوتها؛ لكن بشرط أن تكون حاملاً. فإذا طلق امرأته طلاقاً بائناً كالطلقة الثالثة فحينئذ ننظر في هذه المطلقة، فنجدها على ضربين: إما أن تكون حاملاً فلها النفقة حتى تضع حملها، وإما أن تكون حائلاً، أي: ليست بذات حمل، فلا نفقة لها، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله. قال تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6] فأمر الله جل وعلا بالإنفاق على المطلقات الحوامل (حتى يضعن حملهن)، وهذه النفقة يعطيها إياها يوماً يوماً، بخلاف من قال من الفقهاء: ينتظر حتى تضع الحمل حتى نتأكد أنه حمل حقيقي. والصحيح أنه ينفق عليها ما دام قد استبان فيها الحمل، أو قال الأطباء: إنها حامل، فإنه ينفق عليها حتى تضع الحمل، والنفقة للجنين لا لها، وسنبين وجه ذلك ومعناه. ودليلنا على أن النفقة كل يوم بيومه قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6] فجعل الإنفاق إلى حين الوضع، وهذا يدل على أنه مستصحب منذ تبين حمل المرأة حتى تضع ذلك الحمل، وبناء عليه فإنه لا ينتظر إلى وضعها وإنما ينفق عليها قبل الوضع، فإذا كانت حاملاً فإنه ينفق عليها، وهذا بالإجماع وبنص القرآن على ذلك، ولها حقها بالمعروف.

نفقة الحامل لحملها والخلاف في ذلك

نفقة الحامل لحملها والخلاف في ذلك قال رحمه الله: [والنفقة للحمل لا لها من أجله] فائدة هذا: أن النفقة إذا كانت للزوجة ووجد فيها مانع من موانع النفقة، قطعت النفقة عنها ولو كانت حاملاً، وإن كانت النفقة من أجل الجنين ترتبت على وجوده، وزالت بوضعه حياً أو ميتاً. فبعض العلماء يقول: النفقة لها لا للجنين، وبعضهم يقول: النفقة للجنين لا لها، وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله، وهو أحد القولين في مذهب الحنابلة رحمهم الله. والصحيح أنها للجنين لا لها؛ لأن الله قيد الإنفاق بوجود الحمل، وحكم بزواله بزوال الحمل، فقال: {حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6] فجعل الغاية وضع الحمل. الفائدة: أننا لو قلنا: النفقة من أجل الحمل، فإنها إذا كانت زوجة في عصمته، ونشزت وهي حامل، بقي حقها في النفقة ولو كانت ناشزة؛ لأن النفقة للجنين. أما إذا كانت النفقة لها، وكانت في عصمته فإن نشزت فالناشز يسقط حقها في النفقة كما تقدم، كذلك لو سافرت وهي حامل بدون إذن الزوج، أو بإذنه على التفصيل الذي سيأتي في سقوط النفقة، فإذا سافرت سقط حقها من النفقة، لأنها سافرت سفراً يوجب سقوط حق الزوجة من حين خرجت بدون إذنه، أو خرجت لحاجتها بإذنه؛ لأنه وجد فيها مانع يمنع من وجوب النفقة عليها. وهكذا بالنسبة للأمة وغيرها مثلاً: شخص عقد على امرأة يظنها امرأة ليس فيها مانع، وتبين أنها أخته من الرضاعة، أو عمته من الرضاعة أو خالته من الرضاعة، وحملت من وطئه، وهو لا يدري أنها أخته، لكن بعد أن تزوجها ودخل بها وحملت تبين أن هناك مانعاً يوجب فساد النكاح، حينئذ يفسد النكاح، فإن قلنا: النفقة من أجلها هي، بطل حقها ببطلان النكاح، وإن قلنا: النفقة للحامل من أجل جنينها وجب عليه أن ينفق عليها حتى تضع الحمل، هذه من فوائد الخلاف بين العلماء في مسألة: هل النفقة من أجل الجنين أو من أجل المرأة؟ والصحيح أن النفقة من أجل الجنين، ومن أجل الحمل. وينبني على هذا: العكس، فلو ظن أنها حامل كما في القديم حيث لم تكن هناك وسائل تبين الحمل بدقة، فقد يكون بها انتفاخ، فيظن أنها حامل، ثم بعد مضي المدة وقد أنفق عليها يتبين أنها ليست بحامل، فيجب عليها رد النفقة؛ لأنها شرعت بسبب وتبطل بزوال السبب، إذ ما شرع لسبب يبطل بزواله.

حالات سقوط حق الزوجة في النفقة

حالات سقوط حق الزوجة في النفقة قال رحمه الله: [ومن حبست ولو ظلماً، أو نشزت، أو تطوعت بدون إذنه بصوم أو حج، أو أحرمت بنذر حج أو صوم، أو صامت عن كفارة أو قضاء رمضان مع سعة وقته، أو سافرت لحاجتها ولو بإذنه؛ سقطت] بعد أن بين المصنف نفقة الزوجة سواء كانت في العصمة أو كانت مطلقة، وسواء كانت حاملاً أو غير حامل، شرع في مسألة: متى يسقط حق المرأة في النفقة عليها؟

حكم إسقاط النفقة على المحبوسة

حكم إسقاط النفقة على المحبوسة قال رحمه الله: [ومن حبست ولو ظلماً]: أي: إذا كانت الزوجة محبوسة عن زوجها، فلم يستطع أن يطأها لأنها في السجن أو محبوسة في دار، فبعض العلماء يقول: المحبوسة إذا منعت عن زوجها سقط حقها في النفقة مطلقاً، سواء كانت محبوسة بظلم أو كانت محبوسة بحق. فتحبس بحق مثل ما لو وقع منها أمر وعزرت من القاضي فأمر بسجنها، فهذا سجن بحق تعزيراً من القاضي، وهذا حكم شرعي، فسجنت -مثلاً- شهراً، في هذه الحالة لا يستطيع الزوج الوصول إليها، ولا تستطيع أن تقوم بحقه؛ لأنها محبوسة عنه، وهو ممنوع منها، فهل يسقط حقها؟ للعلماء وجهان: من العلماء من يقول: كل امرأة منعت عن زوجها وحبست ولو ظلماً، سقط حقها في النفقة. ومنهم من يقول: إن كان الحبس ظلماً لم يسقط حقها؛ لأنه سبب خارج عن إرادتهاز مثلا: والدها أخذها ومنعها من زوجها وحبسها أن ترجع إلى بيت الزوجية، فحبست ومنعت ظلماً وهي ترغب في زوجها وتريد زوجها، أو أصلح ذات بينهما فمنعها وليها أبوها أو أخوها أو قريبها، فحال بينها وبين بيت الزوجية، لكنها هي تريد بيت الزوجية، وترغب في بيت الزوجية، ففي هذه الحالة هي محبوسة ظلماً، وفي الحالة الأولى محبوسة بحق، فسواء حبست بظلم أو بحق يقولون: سقط حقها في النفقة، وهذا هو الذي درج عليه المصنف، ولذلك أشار رحمه الله بقوله: (ومن حبست ولو ظلماً). وقد قلنا: إذا قال المصنف: (ولو) فهو إشارة إلى خلاف مذهبي، أي: أن هناك قولاً يقول: إذا حبست الزوجة عن زوجها ظلماً لم يسقط حقها في النفقة، قالوا: لأنها مستعدة للقيام بالحقوق ولكن حيل بينها وبين هذا لعذر، كما لو كانت حائضاً فلم يستطع زوجها أن يجامعها فهذا عذر، وكما لو مرضت ولم تستطع أن تقوم بحقوق بيت الزوجية فهذا عذر، قالوا: كذلك لو منعت ظلماً فالعذر بالظلم كالعذر القاهر، فلا يسقط حقها في هذه الحالة. وفي الحقيقية هذا القول له قوة، أي الذي يقول: إنها لو حبست ظلماً وعندها الرغبة الحرص على أن تأتي زوجها فلها النفقة، لكن المصنف رحمه الله اختار القول الذي يقول: إنها إذا منعت الزوجة سقطت نفقتها، وهو أيضاً قوي من وجه آخر، وهو أن الزوج له الحق بغض النظر عن كون الذي لم يقم بحقه معذوراً أو غير معذور، فالنفقة لقاء القيام بحقوق الزوجية، قال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24] فجعل الحق مقابل الحق،: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] فإذا لم تقم بحقه لم ننظر إلى كونها معذورة أو غير معذورة، هذا ليس لنا به علاقة لأنه من باب الأسباب، أعني أن الشريعة تنظر إلى وجوب القيام بالحق، فإذا لم تقم بحق زوجها سواء كانت معذورة أو غير معذورة؛ سقط حقها في النفقة، فيبن رحمه الله أنها إذا حبست سواء كانت مظلومة أو محبوسة بحق، فإنه يسقط حقها في النفقة.

معنى النشوز وبطلان تسوية المرأة بالرجل

معنى النشوز وبطلان تسوية المرأة بالرجل قال رحمه الله: [أو نشزت] الناشز في لغة العرب: المرتفع من الأرض، والنشوز تقدم أن معناه أن المرأة تتعالى على زوجها، ومن حكمة الله عز وجل أنه فضل الرجل على المرأة وهو الحكيم العليم، وجعل المرأة تبعاً للرجل، وهذا بنص كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح، يرضى من يرضى ويسخط من يسخط، فهذا دين الله وشرعه، لا يسع إلا الرضا والتسليم، كرم الله آدم وخلق الزوجة منه، ولم يجعلها خلقاً مستقلاً، فقد خلقها من ضلع، وبين أن خلق المرأة من أجل الرجل فقال: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189] فالأصل في التكريم للرجل، وأنه هو الذي يقوم على المرأة، والمرأة تبع له. ولذلك فقضية أن المرأة مثل الرجل سواء بسواء من كل وجه، باطلة، لأن الله يقول: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36] وبين سبحانه وتعالى أن هناك فرقاً في الخلقة والفطرة: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] وجعل شهادة الرجل ضعف شهادة المرأة، وجعل من الحقوق للرجال ما لم يجعله للنساء، وهذا حكم الله عز وجل، كما لو خلق الإنسان على خلقة تامة وخلق غيره على خلقة ناقصة، ما يستطيع أحد أن يعترض على حكم الله عز وجل وفطرته التي فطر الناس عليها، وما من أحد يخرج عن هذه الفطرة إلا تنكد عيشه، وتنغصت حياته، ولذلك جعل الله المرأة تحت الرجل، ما جعلها ناشزاً وما جعلها مساوية للرجل تساويه من كل وجه. فالنصوص من الكتاب والسنة واضحة في هذا جلية، ولا يخلط الحق بالباطل، ولا يلبّس الحق بالباطل، ومن رجع إلى نصوص الكتاب والسنة، يجد هذا واضحاً منها، ومن هدي السلف الصالح رحمهم الله من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ولذلك جعل الله الأمور العامة والولايات العامة للرجال؛ لأنهم في خلقتهم وفطرة الله عز وجل التي فطرهم عليها أقدر على ذلك، وتحميل المرأة ما لا تطيق خروج عن الفطرة. ولذلك الذي ينادي بحقوق المرأة ينبغي أن يرجع للإسلام الذي أعطى كل ذي حق حقه، وأن يرجع إلى حكم الخالق الذي هو أعلم بخلقه، وأحكم في صنعه سبحانه وتعالى، وليس للأهواء ولا النظر، بل إن المرأة المنصفة العاقلة إذا قرأت شرع الله عز وجل في كتابه وسنة رسوله وجدت أنها لن تستطيع أن تزيد خردلة على ما أعطاها ربها، ولن يزيدها أحد مثقال خردلة عما أعطاها ربها سبحانه وتعالى. فالله جل وعلا جعل المرأة تحت الرجل، تسمع له وتطيع، وجعل القوامة للرجل فقال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] هذه فطرة الله عز وجل، فإذا أصبحت المرأة تساوي الرجل، خرجت عن الفطرة، وإذا أصبحت تسترجل على الرجل، وتريد أن تنشز وتتعالى على الرجل، خرجت عن الفطرة، وعصت الله عز وجل واعتدت حدوده، وأي مجتمع تكون فيه المرأة وراء الرجل تعينه وتشد من أزره وتسمع لأمره وتطيع، تجدها فيه في أمن وأمان وسعادة ورخاء. وهذه الأمة قادت العالم من المحيط إلى المحيط، وكان النساء تبعاً للرجال، ومع ذلك ما جاء النساء يطالبن بشيء أكثر مما أعطاهن الله جل جلاله، واستقامت أمور الأمة واستقام حالها واستقام أمرها، هذه فطرة الله عز وجل، ولا يستطيع أحد أن يغير شرع الله عز وجل، ولذلك فأمور الإسلام واضحة، ولا يحتاج أحد إلى أن يلبس الحق بالباطل، ولذلك تجد من يغير هذا الحكم يتلقف أموراً ضائعة من هنا وهناك لكي يلفق له مذهبه أو قوله، ويترك النصوص الواضحة الجلية المسفرة البينة. عائشة رضي الله عنها لما جاءت إلى علي في وقعة الجمل، قال لها: (ما الذي أخرج هذه من بيتها، أفلم تسمع لربها: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]؟) مع أنها جاءت للصلح بينه وبين إخوانه رضي الله عنهم جميعاً، واحتج عليها بكتاب الله عز وجل وهي أم المؤمنين الفقيهة العالمة، ويقول لها النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (أيتكن تنبحها كلاب الحوأب) خرجت رضي الله عنها، فلما كانت في الطريق نبحت الكلاب -وهذا في صحيح مسلم- في وادٍ، فسألت عنه فقالوا: (هذا وادي الحوأب) عتبى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كله يدل على أن المرأة لا يمكن أن تساوي الرجل من كل وجه، والنصوص في هذا واضحة. فالنشوز أن تخرج المرأة عن هذه الفطرة، وتريد أن تكون مثل الرجل سواء بسواء، يأمر وهي تأمر، وينهى وهي تنهى، يكون الولد -مثلاً- قد أمره والده بشيء فتأتيه وتأمره بخلافه، هذا نشوز في حق الأولاد، ونشوز في التربية، إلا إذا كان الذي تأمره به طاعة الله عز وجل والزوج يأمر بمعصية الله، فهذا أمر آخر، وإنما نحن نتكلم عن الأصول، حتى ولو أمر الرجل والزوج بشيء يغلب على ظنه أن فيه المصلحة فعلى المرأة أن تسلم، وأن تنظر أن اعتراضها عليه ربما يحدث مفسدة أكثر من المصلحة التي تريدها من ذلك الاعتراض. ولذلك تجد بعض النساء العاقلات الحكيمات الفاضلات؛ تسلم لزوجها في كثير من الأمور مع أن بعضها قد يكون مرجوحاً، لكن يجعل الله من البركة والخير في هذا الذي اختاره زوجها، كل ذلك بتقوى الله سبحانه وتعالى، لأنها اتقت الله عز وجل، وكم من أمور تراها ربما تكون مفضولة، كلنا شاهد هذا وكلنا عاش مع كبار السن ورأى أموراً قد يكون في ظاهرها القسوة، لكنها كانت في عواقبها كأحسن ما يكون. واليوم أخرجت بنت الإسلام عن هذه الفطرة وعلمت كيف تتمرد على الوالد، وكيف تتمرد على الزوج، وكيف تتمرد على مجتمعها، كان الوالد يأمرها بالزواج من الرجل الكبير الذي ربما هي لا ترضاه، ولكن تسلم لأبيها وتذعن له، فيخرج الله من صلبه من الذرية الصالحة، ويجعل الله سعادتها مع ذلك الرجل الكريم من إكرامها والإحسان إليها وتجد ما لم يخطر لها على بال، بيد أنها ربما ترد قول أبيها وتتزوج الشاب الذي يدمر حياتها وينغص عيشها، وهذا كله أمر مضت عليه الفطرة ومضت عليه الأمة. ونحن أمة واضحة نصوصها ومعانيها لا تحتاج إلى أحد أن يدخل عليها شيئاً من الدخن في دينها، فإذا استرجلت المرأة ونشزت لم تستحق النفقة، وهي إما أن تنشز في القول، أو تنشز في الفعل، تنشز في القول وذلك إذا عارضت الرجل، ورفعت صوتها عليه، وصرخت في وجهه، وتنشز بالفعل مثل أن يأمرها بشيء، فتعطيه ظهرها، أو تلوي بوجهها، أو تحدث حركات غريبة تدل على عدم محبتها، وإعراضها عن الزوج، وكل هذا من النشوز. وذكرنا أمثلة حينما تكلمنا على النشوز وأحكامه، منها مثلاً: إذا دعاها إلى الفراش فامتنعت، أو خرجت من البيت بدون إذنه؛ لأنه لا يجوز للمرأة أن تخرج من البيت إلا بإذن زوجها، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (إذا استأذنت امرأة أحدكم المسجد) الله أكبر! حتى إلى الصلاة لا تخرج إلا بإذن زوجها،: (إذا استأذنت امرأة أحدكم المسجد فليأذن لها) فجعل خروجها مرتبطاً بإذن الزوج فيما هو من أمور الدين، فما بالك بأمور الدنيا.

سقوط النفقة على الناشز

سقوط النفقة على الناشز فإذا نشزت وأصبحت تخرج بدون إذنه، فحينئذ يسقط حقها في النفقة، لأن له عليها حتى السمع والطاعة بالمعروف، كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن المرأة إذا نشزت سقط حقها في النفقة، إلا خلافاً شاذاً لبعض العلماء فقال: لها النفقة، وهو قول الحكم، لكن الصحيح هو ما ذهب إليه جماهير السلف والخلف رحمهم الله من أن النشوز يوجب سقوط حق المرأة.

سقوط النفقة على الزوجة إذا تنفلت بصوم أو حج بغير رضا الزوج

سقوط النفقة على الزوجة إذا تنفلت بصوم أو حج بغير رضا الزوج قال رحمه الله: [أو تطوعت بلا إذنه بصوم أو حج] يلاحظ في النفقة أنها كل يوم بيومه، فيطعمها وينفق عليها، فلو أنها خرجت في ذلك اليوم بدون إذنه كان من حقه ألا يعطيها نفقة طعامها، كذلك أيضاً لو أنها تطوعت بالصوم في ذلك اليوم. والصوم إما فرض وإما نافلة: فإن كان نافلة فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز للمرأة المؤمنة بالله واليوم الآخر أن تصوم تطوعاً وزوجها شاهد إلا بإذنه، وهذا يؤكد حق الزوج، فلا تصوم تطوعاً؛ لأن حق الزوج أعظم أجرا ً لها من صيامها نافلة، وما تقرب عبد ولا تقربت أمة إلى الله عز وجل بشيء أحب إليه مما افترض، فالفرائض مقدمة على النوافل، فلا يجوز لها أن تصوم النافلة وزوجها حاضر شاهد إلا إذا إذن لها كما في الصحيحين، فإذا صامت بدون إذنه نافلة أو خرجت بعمرة أو حج نافلة تطوعاً بدون إذنه، سقط حقها في النفقة. لكن لو أذن لها، قال جمع من العلماء رحمهم الله: لم يسقط حقها في النفقة لو أذن لها بالصوم. والسبب في هذا: أنها إذا صامت نافلة لم يستطيع أن يجامعها ولا أن يصل إلى حقه في الفراش، وهذا تضييق على الزوج، ومن هنا يسقط حقها في النفقة، وهكذا لو سافرت في الحج أو سافرت إلى العمرة مع أخيها أو قريبها، لكن لو كان الحج واجباً أو كانت العمرة واجبة وأرادت أن تؤدي فرض الله عليها، لم يسقط حقها في قول طائفة من العلماء، وقال بعض العلماء: خروجها للواجب حق لها، لكنه يسقط النفقة عن الزوج من باب الأسباب كما قدمنا، لكن من أهل العلم من قال: إنه عذر شرعي كحيضها ونفاسها.

سقوط النفقة على الزوجة إذا أدت نذر حج أو صامت كفارة ونحوها مع سعة الوقت

سقوط النفقة على الزوجة إذا أدت نذر حج أو صامت كفارة ونحوها مع سعة الوقت قال رحمه الله: [أو أحرمت بنذر حج أو صوم، أو صامت عن كفارة أو قضاء رمضان مع سعة وقته] أي: يشترط في هذه الأشياء أن يكون الوقت واسعاً، فقضاء رمضان ممكن أن تؤخره إلى شعبان، فلو صامت القضاء قبل وقته المضيق كانت في حكم المتنفلة؛ لأنها تنفلت بالتعجيل، وقالت عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح: (كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم) ومن هنا أخذ العلماء رحمهم الله دليلاً على أن قضاء رمضان موسّع، خاصة وأن الله عز وجل يقول: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185]، فأوجب على من أفطر لعذر عدة من أيام أخر، ولم يلزم بأيام معينة، فنقول: إذا كان عليك صوم رمضان -كما تقدم معنا في كتاب الصوم- فلك أن تصوم ولك أن تؤخر، ما لم يدخل شعبان فيبقى من شعبان على قدر أيام صومك الواجبة ما عدا يوم الشك. فإن كان الذي عليك عشرة أيام تعين عليك الصوم من يوم التاسع عشر، وأصبح متعيناً عليك أن تقضي من التاسع عشر؛ لاحتمال أن يكون الشهر ناقصاً. قوله: [أو أحرمت بنذر حج أو صوم] نذر الحج إذا كان مضيقاً لم يسقط حقها على التفصيل الذي ذكرناه في الحج والعمرة إذا كانا واجبين، فبعض العلماء يقول: العبادة الواجبة إذا أحرمت بها لا تسقط حقها في النفقة، كما لو أحرمت بصلاة وزوجها يريدها لجماع والصلاة فريضة، فإنها في هذه الحالة مشغولة بحق لله عز وجل، فلا يسقط حقها. ومن أهل العلم من قال: خروجها للحج والعمرة إنما هو متعلق بنفسها ولا دخل للزوج في ذلك، فحينئذ يسقط حقها في النفقة، وبينا أن من قال بعدم سقوط الحق قال: إنها كالحائض والنفساء، فالحيض لا يسقط الحق، مع أنه لا يجامعها، والنفساء أيضاً لا يسقط حقها مع أنه لا يستطيع أن يستمتع بها. وعلى كل حال بين رحمه الله أن النذر إذا كان مضيقاً كأن تقول: لله علي أن أصوم غداً، فحينئذ لا إشكال. أما إذا كان موسعاً بأن قالت: لله علي أن أصوم ثلاثة أيام من شعبان، وهي في أول شعبان، في هذه الحالة يمكنها أن تؤخر إلى آخر شعبان، فتصوم هذه الثلاثة أيام. قوله: [أو صامت عن كفارة أو قضاء رمضان مع سعة وقته] ذكر صيام الكفارة لأن وقته موسع، وهذا فيه خلاف، فبعض العلماء يقول: إذا كان الصيام عن كفارة يمين أو كفارة نذر، أو كان عن فدية فالأمر فيه موسع. ومن أهل العلم من قال: إنه يجب عليها على الفور؛ لأن الأمر يقتضي الفورية، فإذا أخلت وجب عليها أن تكفر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فليكفر عن يمينه وليأتِ الذي هو خير). قوله: [أو سافرت لحاجتها ولو بإذنه] بأن احتاجت إلى أن تسافر لأبيها أو لأمها أو لعلاج مرض أو لأمر طارئ يخصها، فإذا سافرت ولم تستأذن وخرجت بدون إذنه فهي ناشز، وحينئذ يسقط حقها وجهاً واحداً عند جماهير السلف والخلف؛ خلافاً لمن شذ كما بينا، وإن خرجت للسفر بإذنه فللعلماء وجهان: قال بعضهم: ما دام أنها قد استأذنت فحقها في النفقة ثابت، وقال بعضهم: إن حقها في النفقة يسقط بمجرد الخروج؛ لمكان الفوات، حيث فوتت عليه حقه، وهذا من باب ربط الأسباب بمسبباتها. وقوله: [سقطت] الضمير عائد إلى النفقة، أي: سقطت النفقة، فلا يجب عليه أن ينفق عليها هذه الأيام التي سافرت، ولا يجب عليه أن ينفق عليها الأيام التي صامتها، أو الأيام التي ذهبت فيها لحجها وعمرتها النافلة.

سقوط النفقة على المتوفى عنها

سقوط النفقة على المتوفى عنها قال رحمه الله: [ولا نفقة ولا سكنى لمتوفى عنها]: أي: ولا نفقة ولا سكنى لمرأة توفي عنها زوجها؛ لأن النفقة مبنية على الزوجية، وقد زالت عصمة الزوجية بالموت من حيث الأصل، أي: زال ما بينها وبين الرجل بالموت من بعض الوجوه، ومنها حقوق النفقة، فالمقابلة في الحقوق زائلة بمجرد الوفاة وهذا وجه عند بعض العلماء. وضعف بعض العلماء هذا الوجه، وهناك خلاف: هل العصمة تزول بالموت أو لا؟ قدمنا هذه المسألة وذكرناها في بعض الدروس، وحاصلها: أن من أهل العلم من يقول: العصمة تزول بالموت، ولذلك لا يجيزون للرجل أن يغسل الزوجة إذا ماتت، ولا يجوز للزوجة أن تغسل زوجها إذا مات. وذهب الجمهور إلى أن العصمة لا تزول بالوفاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة: (أرأيت لو متِّ فغسلتك وكفنتك) وكذلك فعل السلف، فإن أبا بكر رضي الله عنه غسلته زوجه أسماء بنت عميس رضي الله عنها، وعلي رضي الله عنه غسل فاطمة، فدل على أن العصمة لا تزول بالموت، فلو زالت لما حل له أن يغسلها؛ لأنه لا يجوز له أن ينظر إليها ولا يجوز له أن يباشرها باللمس كما هو معلوم، لكن لما كانت عصمة الزوجية باقية لم ينكر السلف رحمهم الله هذا الفعل، فدل على أن عصمة الزوجية باقية. لكن يرد الإشكال هنا على قول الجمهور: كيف أسقط العلماء رحمهم الله حق المرأة في السكنى بالوفاة؟ فقالوا: لأن المال ينتقل إلى الورثة، ويصبح ملكاً للورثة وليس ملكاً للميت، وبناء على ذلك فلا حق لها في هذا المال، إلا إذا كانت حاملاً، فإن كانت حاملاً فقد اختلف فيها على وجهين: بعض العلماء قال: لها حق النفقة، وتصبح ديناً في ماله، ومنهم من قال: إنه ينفق على هذا الحمل من نصيبه من الإرث كما سيأتي -إن شاء الله- في كتاب الفرائض؛ والله تعالى أعلم. أي: بالنسبة لقضية وجوب النفقة عليهم من حقه فهو أقوى، لكن بالنسبة للترجيح في هذه المسألة فبعض العلماء يرى أنه إذا توفي الرجل وانتقل المال إلى ورثته، فلا حق للمولود فيه؛ لأن المال لأجنبي وهم إخوانه أو قرابته.

توقيت النفقة

توقيت النفقة قال رحمه الله: [ولها أخذ نفقة كل يوم من أوله لا قيمتها] قوله: (ولها) أي للزوجة والمطلقة الرجعية، ومن ذكرنا ممن لها حق النفقة كالبائنة الحامل المتوفى عنها، فلها أخذ النفقة كل يوم، أن تأخذ طعامها وكسوتها بالمعروف.

وقت أخذ الزوجة للنفقة

وقت أخذ الزوجة للنفقة [من أوله] أي: من أول اليوم. قال بعض العلماء: النفقة في آخر اليوم، وقال بعضهم: النفقة من أول اليوم، وهو الصحيح، وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله، فتأخذه من بداية اليوم حتى تستطيع أن تتقوت وتستطيع أن تعيش، فيعطيها النفقة من أول اليوم، وهذا القول اختاره المصنف رحمه الله وهو الصحيح؛ لأنه لو قيل: إنه لا ينفق عليها إلا في آخر يومها، حصل في ذلك من الحرج والعنت ما لا يخفى.

حكم أخذ القيمة في النفقة

حكم أخذ القيمة في النفقة وقوله: [لا قيمتها] أي: لا قيمة النفقة، يعني: لو جاء بالطعام والشراب ووضعه في البيت ومكنها منه، وأخذت قدر ما تريد من طعامها وشرابها بالمعروف هي وأولادها فلا إشكال، فلو قالت: أنا أريد المال، وأنا أشتري بنفسي، وأفعل بنفسي، فليس لها ذلك، إنما لها حق أن تطعم وتكتسي من ماله بالمعروف، فإذا أصرت على أن تأخذ النقد، فمن حقه أن يمنعها ويقول: لك طعامك وشرابك بالمعروف. وهكذا لو كانت النفقة شهرية، فقالت: أريد النقد نفسه، فإن من حقه أن يقول: لك حق الطعام والشراب، وهذا لك وللأولاد بالمعروف، وليس لك حق عين المال، أي: لا تستحقين عين المال، إنما فقط تستحق أن تطعم وتكسى بالمعروف. قال رحمه الله: [ولا عليها أخذها] أي: لا يجب عليها إذا أعطاها قيمة النفقة نقداً أن تأخذه، إذ الأصل الإطعام والقيام بالحقوق المعتبرة في النفقة، وأما بالنسبة للقيمة والنقد فلا يجب عليه أن يعطيها إياه إذا طالبت، ولا يجب عليها أن تأخذه إذا فرضه عليها، فإذا قال: أعطيك النقود وعليك أن تشتري ما شئت، فلا يجب عليها هذا. لكن إذا تراضيا فيما بينهما بالمعروف، واتفق الزوج مع الزوجة على تحقيق الأمور الزوجية، كأن يتفق الزوج مع زوجته أن يعطيها ألف ريال كل شهر، أو يعطيها ألفين أو يعطيها ثلاثة أو أربعة على حسب ما يتفقا ويتراضيا مع بعضهما بالمعروف، فهذا كله لا إشكال فيه، إنما الإشكال في الحكم الشرعي من حيث الأصل، فالذي للمرأة أن تطعم وتكتسي بالمعروف، وللزوج أن يقوم بذلك، ويشتري لها ما يعد عرفاً نفقة لمثلها كما بينا، ويقدر بمثله غنى وفقراً كما تقدم معنا، فالنفقة تتقيد بحال الزوج، ثم ما بعد ذلك ليس بواجب عليه.

حكم الاتفاق على تأخير النفقة أو تعجيلها

حكم الاتفاق على تأخير النفقة أو تعجيلها قال رحمه الله: [فإن اتفقا عليه أو على تأخيرها أو تعجيلها مدة قريبة أو طويلة جاز] كأن اتفقا على أن تكون النفقة في آخر الشهر، أو على أنها تأخذ النفقة كل شهرين، أو على أنها تأخذ النفقة كل أسبوع، أو على أخذ النفقة كل ثلاثة أيام، فلا جناح عليهما فيما تراضيا بينهما بالمعروف، وهذا هو الأصل في بيوت المسلمين؛ أنها تقوم على المحبة والمودة والتفاهم والرضا والقناعة، وإنما يذكر العلماء هذا إذا وقعت مشاحة وأصرت المرأة على شيء أو أصر الرجل على شيء، فحينئذ يفصل بينهما بمقاطع الحق، أن الذي تستحقه المرأة على زوجها ينفقه عليها.

وقت لزوم الكسوة للزوجة على زوجها

وقت لزوم الكسوة للزوجة على زوجها قال رحمه الله: [ولها الكسوة كل عام مرة في أوله] أي: للزوجة، وللمطلقة الرجعية، وللمطلقة البائنة الحامل، والمتوفى عنها زوجها حاملاً: كسوتها مرة في العام. والكسوة في الحقيقة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، لكنّ الأوجه أن الكسوة تختلف بالصيف والشتاء، فيكسوها كسوة الصيف ويكسوها كسوة الشتاء، والزائد على ذلك لا يجب عليه، وكون المرأة كلما حدثت مناسبة فرضت على الزوج أن يكسوها؛ كل هذا من الإسراف والبذخ والمجاوزة للحدود الشرعية.

نصيحة للنساء في عدم الإسراف في الملابس

نصيحة للنساء في عدم الإسراف في الملابس ولذلك محق الله بركة الأموال، وأصبح كثير من النساء يجدن الضيق والعنت بسبب أنهن ضيقن على أنفسهن، ولربما أدخلن أزواجهن في الديون وأرهقن كاهل الزوج فيما لا طائل تحته، فالمرأة تتقي الله عز وجل، وتعلم أن حقها عند زوجها كسوة صيفها وشتائها، وأنه إذا كساها على هذا الوجه بالمعروف فقد أدى ما أوجب الله عليه. وأما ما وراء ذلك من شراء الملبوسات والمبالغة فيها، حتى إن المرأة كلما جدت لها مناسبة اشترت ثوباً، حتى بلغ ببعضهن أن تقسم أنها لن تلبس فستاناً مرتين، وتقول: كيف أحضر زواج فلانة بما لبسته في زواج فلانة؟!! وكم من أمور يراها الناس أدق وأقل من الخردلة في أعينهم، وهي عند الله عظيمة كأمثال الجبال. وإن العبد ليصنع الأمر اليسير فيوجب مقت الله له وهو لا يدري، ولذلك أخبر الله عن شؤم عاقبة هذا الأمر وهو الإنفاق بالإسراف والبذخ، وتوعد الله سبحانه وتعالى أهله بوعيد شديد، حيث قال: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141] فمن أعظم البلاء وأعظم الشؤم على المرأة التي لا تتقي الله عز وجل -حتى ولو كان عندها راتب ولو كان عندها مال- كلما حضرت مناسبة اشترت ذهباً وفستاناً ولباساً، وأخذت تتباهى بما تلبسه في كل مناسبة وكل سبب، ولا تلبس لباسها مرتين بل تحاول أن تجدد لباسها، وهذا كله عواقبه وخيمة، وإذا كانت امرأة صالحة وقدوة للغير فالأمر فيه أشد وأعظم. وينبغي على الصالحات أن يكن قدوة لغيرهن، فإذا كان غيرهن يسرف فعليهن أن يتقين الله عز وجل، وكم من أمور في المجتمعات تصلح بصلاح الصالحات حينما تتمسك الصالحة بشرع الله عز وجل، وترى أن هذا المال بدل أن تنفقه فيذهب في كسوة ربما تأتي من أعداء الله ورسوله، ويذهب المال لهم بالملايين، ترى أنها لو أنفقته وكست به عارية، أو أطعمت به جائعة، واقتحمت العقبة، ونالت مرضاة الله عز وجل بإطعام ذي المسغبة، لفازت فوزاً عظيماً. وكم من امرأة لم تبال بهذه الأمور والترّهات جعل الله لها من المحبة والقبول والعزة والكرامة، فلم يتق عبد ولم تتق أمة ربها إلا جعل الله لها من أمرها يسراً وجعل العاقبة لها؛ لأن الله يقول: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، خصوصاً إذا كانت ملتزمة، وخصوصاً إذا كانت طالبة علم، فإذا كانت تشهد كل درس وكل محاضرة وكل مناسبة بلباس جديد، وتبالغ في ملبسها وتبالغ في هيئتها، فلتعلم أنها تكون قدوة للغير، وكم من امرأة تجر بلاء على غيرها من حيث لا تشعر، فقد تكون جارة لامرأة ضعيفة أو زوجها فقير، فإذا أخذت تفعل هذه الأفعال ربما دعت الزوجة أن تتنكب على زوجها، وأن تحمله ما لا يطيق، أو تفسد عليه فراشه. ولذلك كان على النساء المؤمنات أن يتقين الله عز وجل، وأن يخفن الله سبحانه وتعالى، خاصة في أمور الكسوة والمبالغة فيها؛ لأن كثيراً من عائداتها تذهب إلى من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولو أن المرأة علمت أن الدرهم بل الريال الواحد قد يكفّ الله به نار جهنم عن عبده، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) فشق تمرة يحجب العبد عن نار الله عز وجل؛ فما بالك إذا كان المال الغزير! هذا عثمان رضي الله عنه لما صب الذهب والفضة في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلّب عليه الصلاة والسلام ماله وقال: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)، فما بالك بالمرأة الصالحة الدينة، التي تشح بمالها ومال زوجها أن تنفقه فيما لا طائل له ولا نفع، والله إن الناس لا ينظرون إلى الجمال، ولو نظروا إليه فإنه متاع حائل وظل زائل، ولكن إذا سمت المرأة المؤمنة بأخلاقها وآدابها وسلوكها، واستقامت على طاعة ربها، وكان بينها وبين الله سريرة صالحة نقية تقية، زكاها الله عز وجل، وأبقى في النساء محبتها وإجلالها. وكم من امرأة تراها النساء ويجتمعن بها وهي تملأ قلوبهن محبة وإجلالاً لم ينظرن يوماً من الأيام ماذا لبست وماذا تركت؛ لأن المحبة في القلوب، والمحبة محبة المبادئ والأخلاق والقيم، وأنت ترى الرجل ربما تراه أشلّ، وربما تراه دميم الخلقة، ولربما تراه بحالة بائسة، ومع ذلك قد تحبه أكثر من أخيك، بسبب أخلاقه وتصرفاته وأدبه واحترامه للناس وإلفه في تواضعه وما يكون من شمائله وخلاله، فليس السمو والكرامة والعلو بهذه الملبوسات، ولتسأل المرأة نفسها: كم وقفت؟ وكم أخذت؟ وكم أعطت؟ وما زادها هذا اللباس؟! وكم من كاسٍ في الدنيا عار في الآخرة كما قال صلى الله عليه وسلم: (رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة). فعلى المرأة أن تتقي الله عز وجل، وأن تعلم أن هذا قد جرّ على الأمة بلاء عظيماً، حينما أصبحت المرأة تتبرج من سوق إلى سوق، ومن مكان إلى مكان، بحجة أنها محتاجة إلى الكسوة، وكلما طرأت مناسبة تذهب لكي تشتري لها كسوة، وخير للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال، خير للرجال أن لا يروا المرأة، وأن لا يحتكوا بالمرأة، واليوم أصبحت المرأة خرّاجة ولّاجة كل يوم، وفي كل مناسبة تجدد ملابسها وتعدّ إلى أن تتعب من المناسبات واللقاءات، وكلما جاءت مناسبة أخذت تفكر ماذا تلبس لهذه المناسبة، ولكنها لو اتقت ربها وخافت من الله سبحانه وتعالى، خاصة إذا كانت طالبة علم، وخاصة إذا كانت قدوة داعية فعليها أن تتقي الله عز وجل، وأن تترسم المنهج السوي. وليس المراد أن تتبذل وتذهب جمال الإسلام وجلاله، ولكن المراد العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، فتتطيب وتتزين في الحدود الشرعية، وتتجمل لأخواتها، والإسلام لا يمنع من هذا، ولكن يمنع من الغلو والإسراف المبالغ فيه، وكم من أشياء تجدها في أوقاتها جميلة جليلة، ولكن بمجرد أن تزول يذهب وقتها تزول بزواله، ولذلك يذهب عقل المرأة وراء هذه الأشياء التي لا تجني منها خيراً، ولربما تجني منها سخط الله وغضبه، فتجدها اليوم تصيح على هذا اللباس أنه أفضل الموجودات، وأنها محتاجة إليه، حتى تقنع زوجها بشرائه. فإذا لبست وذهبت به في المناسبة، ومضى يوم أو يومان، فإذا بها في اليوم الثالث تأتي وتقول له: هذا لا يصلح. سبحان الله! بالأمس كان أفضل اللباس، وبالأمس كان أطيب اللباس، وبالأمس كان هو الذي لا يمكن أن يستغنى عنه، لكن بمجرد أن يمضي اليوم واليومان كأنه لا شيء!! وهذا ليس في اللباس فحسب، بل حتى في متاع البيت، إذا جاء العيد، أو جاءت المناسبة، أقامت الدنيا وأقعدتها من أجل أشياء معينة، ومظاهر معينة، وأنفقت الألوف، وذهبت أموال المسلمين ومحقت بركتها، لكن لو أن أمة الله عز وجل اتقت الله عز وجل زال كل هذا، فأكثر هذا البلاء جاء من المرأة، ونحن لا نتهجم على المرأة ولكن نقيم الأمر في نصابه، فالمرأة هي التي تحكم زوجها وتستطيع أن تقول: لا أريد، وهذا شيء طيب! وكم من امرأة صالحة منعت زوجها من الإسراف في البذخ، وكم من امرأة حفظت مالها فبارك الله لها ولزوجها ولأولادها، فهذه أمور ينبغي للمرأة أن تنتبه لها، وبالأخص طالبات العلم، وبالأخص النساء الصالحات؛ لأنهن قدوة لغيرهن، فعليها أن تحمد الله عز وجل على العافية، ولذلك يقول تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31] خاطب الله عز وجل عباده قال: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] ما حرم الطيبات ولا منع منها {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [الأعراف:31] فجمع جميع أصول النفقة: الكسوة والأكل والشرب، ثم قال بعد ذلك: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31] ثم انظر التأكيد بـ (إنَّ) وقوله: (لا يُحِبُّ) نفي للمحبة، والعبد يصوم نهاره ويقوم ليله، وهذا كله من أجل أنه يبحث عن محبة الله عز وجل، في صلاته وزكاته، وإذا بهذه المحبة تزول عند الإسراف، نسأل الله السلامة والعافية. ولذلك ينبغي على المرأة أن تحاسب نفسها في هذا الأمر، وأن تتقي الله عز وجل في نفسها، فليس لها من نفقة الكسوة إلا كسوة الصيف وكسوة الشتاء، كما هو مقرر عند أئمة الإسلام رحمهم الله.

إلزام الزوج بما أنفقته زوجته في حال غيابه

إلزام الزوج بما أنفقته زوجته في حال غيابه قال رحمه الله: [وإذا غاب ولم ينفق لزمته نفقة ما مضى] أي: إذا غاب الزوج ولم ينفق بأن سافر عن المرأة سفراً مفاجئاً، فأنفقت المرأة بنية الرجوع أخذ بذلك، ولزمه أن يدفع لها تلك النفقة التي أنفقتها على نفسها وعلى ولدها.

حكم ما تنفقه الزوجة من مال الزوج بعد موته

حكم ما تنفقه الزوجة من مال الزوج بعد موته قال رحمه الله: [وإن أنفقت في غيبته من ماله فبان ميتاً غرمها الوارث ما أنفقته بعد موته] كأن أعطاها النفقة، ثم سافر عنها وتوفي في السفر، ولم يتبين أنه ميت إلا بعد شهرين، وكان قد أعطاها نفقة ثلاثة أشهر، فشهر قبل وفاته وشهران بعد الوفاة، رجع عليها الوارث بالشهرين، لأنها لا تستحق هذا، إذ قد انتهى حقها في النفقة بموته.

الأسئلة

الأسئلة

حكم استئذان الزوجة من الزوج في أداء التطوع

حكم استئذان الزوجة من الزوج في أداء التطوع Q إذا أرادت الزوجة أن تكثر من الطاعات غير الصوم، ككثرة الصلاة والعكوف على قراءة القرآن، فهل يجب أن تستأذن زوجها أيضاً؟ A لا حرج على المرأة أن تستكثر من الخير، ولكن إذا طرأ شيء في البيت أو احتاجها زوجها أو احتاجها أولادها فلتعلم أن ذلك أفضل من الطاعات النوافل، من صلاتها وذكرها؛ لأنه أمر واجب فتقوم عليه وتقوم به على وجهه. فعلى كل حال تطيع الله عز وجل، ولا تحتاج إلى استئذان أثناء وجودها في البيت، لكن إذا طرأت حاجة تقوم بها وتسدها بها سواء للزوج أو للأولاد، والله تعالى أعلم.

حكم أخذ المال بدل الطعام في النفقة كما في حديث هند

حكم أخذ المال بدل الطعام في النفقة كما في حديث هند Q هل يكون إذن النبي صلى الله عليه وسلم لـ هند زوجة أبي سفيان رضي الله عنهما، دليلاً على إعطاء المال في النفقة بدل الطعام والشراب والكسوة؟ A هذه المسألة في البدل وليست في الأصل، لأن هند رضي الله عنها، قالت: (إن أبا سفيان رجل شحيح مسيك، أفآخذ من ماله؟) أي: هي لا تستطيع أن تأخذ طعاماً ولا شراباً ولا كسوة، وليس لها إلا البدل وهو النفقة، فأمرها أن تضمن بالبدل؛ لأن الأصل ليس بموجود، ولذلك تقدر وتأخذ بقدره، أي: تأخذ بقدر قيمة الطعام والنفقة، وهذا لا ينقض الأصل الذي ذكرناه، ولذلك أرسل زوج فاطمة بنت قيس رضي الله عنه لها بالشعير، وهو نفقتها من الطعام، وهذا يدل على أن المعروف عند الصحابة والسلف إنما هو الإطعام والقيام بالنفقة الأصلية، فإذا تعذر وجود الأصلية أعطاها البدل، كما لو أنفقت هي وقامت على البيت وهو غائب ثم رجع، فإنها تحتسب النفقة بالنقد، أي: يعطيها نقداً. على كل حال: الأصل هو الإطعام والكسوة والنفقة العينية، ثم بعد ذلك يكون عوضها بالتقدير، وهو القيمة، والله تعالى أعلم.

حكم الاقتداء من خارج المسجد مع عدم رؤية من بالداخل

حكم الاقتداء من خارج المسجد مع عدم رؤية من بالداخل Q ما هو حكم صلاة المأمومين خارج المسجد إذا كانوا لا يرون الإمام ولا المأمومين؟ A لا يصح الاقتداء خارج المسجد إلا برؤية الإمام أو رؤية من يأتم بالإمام، وأما بالنسبة للبلاغ فمذهب جمهور العلماء أنه لا يكفي، وجمهور الأئمة على أنه لا بد من رؤية الإمام، أو من يقتدي بالإمام، ولذلك لو تعطلت الكهرباء لم يعلموا ماذا يصنعون، ولو أن الإمام كان يصلي -مثلاً- الظهر وسها ولم يجلس التشهد الأول ووقف، فإن الذين هم خارج المسجد سيجلسون؛ لأنهم لا يرون الإمام ولا يرون من يقتدي بالإمام، فلا يرون سهو الإمام، فسيجلسون، فإذا كبر للركوع ستختل صلاتهم، وهذا قد وقع، فإذا كانوا لا يرون الإمام ولا من يقتدي بالإمام، ففي هذه الحالة كيف يصلون مع انقطاع الكهرباء؟ ولذلك اشترط العلماء والأئمة رؤية الإمام، أو من يقتدي بالإمام، ولو كان شخصاً واحداً فقط، لأن هذا الشخص يرى غيره، ولو خرج شخص واحد من الباب ورئي من ورائه صح الاقتداء؛ لأن هذا الشخص مبلغ، فبمجرد أن يحدث سهو للإمام يرى، وبمجرد ما ينتقل الإمام من ركن إلى ركن يرى، وإذا تعذر السماع أمكنت الرؤية، ولذلك كان المقرر عند الجمهور رحمهم الله أنه لا بد من رؤية الإمام أو من يقتدي بالإمام على الصحيح. هناك من العلماء من أجاز الاقتداء بسماع الصوت، وقاس بعض المعاصرين عليه الأجهزة، واستدلوا لهم بحديث أسماء في الحجرات، حينما ائتم أقوام بصلاته عليه الصلاة والسلام، وكذلك في قبته في الاعتكاف، وهذا لا يخلو من نظر؛ لأنه قد يكون باب القبة مفتوحاً ويرون النبي صلى الله عليه وسلم أمامهم. أما اقتداء أسماء فكان في الحجرة وهي تسمع الصوت، وحجرات النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن بذلك البناء والشموخ، فهي تراه في بعض الأركان دون بعضها، فلا يصح الاستدلال به من كل وجه. ثم أيضاً أسماء تسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم، وتسمع تكبيراته عليه الصلاة والسلام. ومن يعرف المسجد النبوي يعرف أن حجراته بجوار روضته عليه الصلاة والسلام، ما بين حجرة عائشة التي كانت تجلس فيها أسماء وبين الروضة إلا الجدار، وهذا شيء بسيط جداً بجواره، ولذلك كانت عائشة رضي الله عنها تسمع خطبه، وميمونة رضي الله عنها كانت تقول: (ما حفظت سورة ق إلا من فم النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة ما يرددها في الجمعة) وحجرة ميمونة كانت في آخر الحجرات فإذا كانت في آخر الحجرات تسمع الخطبة فما بالك بالتي في أول الحجرات. وهذا أمر مهم وهو أن النصوص لا بد من ضبطها ولا بد أن يكون طالب العلم عند الاستدلال بها يعرف الحال الذي كان عليه عليه الصلاة والسلام، حتى يستقيم الاستدلال بها على هذا الوجه. وبناء على ذلك: فالذي نراه أحوط للصلاة والعبادة ولشرع الله عز وجل، أن المأموم رجلاً كان أو امرأة لا بد أن يرى الإمام أو من يقتدي بالإمام، ولو شخصاً واحداً، حتى يحصل به البلاغ، ويكون الاقتداء على وجهه، لأنه يبني صلاته على صلاة الإمام، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) فكيف يتابعه إذا كان لا يراه، وإنما يسمعه بواسطة، وأسماء رضي الله عنها كانت تسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يخشى انقطاع تيار كهربائي، ولا يخشى وجود فاصل ولا حائل، ولكن الآن في زماننا بوجود هذه الأجهزة لا يؤمن انقطاعها، ولا يؤمن أيضاً اختلال صلاة المأمومين فيها، والله تعالى أعلم.

حكم زكاة الدين

حكم زكاة الدين Q يقول السائل: لي مبالغ مالية عند بعض الناس استدانوها مني وفيهم الموسر وفيهم المعسر، وفيهم من لا أعلم حاله، فما حكم زكاة بهذه الأموال؟ A إذا كان لك دين على أحد، فإن كان غنياً ويمكنه السداد، أو كان عنده قدرة أن يسددك وجبت عليك الزكاة؛ لأنك إذا طالبته كأن المال في يدك، وفي بعض الأحيان يكون هذا الغني صديقاً لك، أو يكون أخاً لك، فتستحي أن تقول: أعطني المال، لكن في الحقيقة ما دام أن الأجل حل، وهو قادر أن يسدده، فكأن المال في يده إذا كان غنياً قادراً على السداد، فتجب زكاته، وأما إذا استدان منك فقير، أو استدان منك شخص، ولما جاء وقت السداد قال: أنا عاجز ولا أستطيع أن أسددك، فإنه لا زكاة عليك؛ لأن المال غير موجود. ومن هنا تنتظر حتى يسددك وتزكي لسنة واحدة، فلو مكث خمس سنوات أو عشر سنوات، وأعطاك المال بعد عشر سنوات، فلا تزكي إلا لسنة واحدة، والله تعالى أعلم.

حكم إدخال العقيقة تحت الأضحية في النية

حكم إدخال العقيقة تحت الأضحية في النية Q هل يصح إدراج العقيقة تحت الأضحية؟ A لا يصح إدراج العقيقة تحت الأضحية؛ لأن الأصل عند العلماء في مسائل الإدراج أن يتحقق مقصود الشرع، فالعقيقة مقصود الشرع أن تكون في يوم السابع للولد والولد مرهون بها، قال صلى الله عليه وسلم في حديث الحسن عن سمرة: (كل غلام مرهون بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه) فهذا حق واجب مقصود لسبب. وأما الأضحية فإنه على القول بوجوبها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها) تكون مقصودة، ولا يجزئ أن يعق بنية الأضحية، ولا أن يضحي بنية العقيقة، لا يجزئ أحد الأمرين عن الآخر، فواجب عليه أن يذبح لكل منهما ذبيحته المعتبرة، والله تعالى أعلم.

حكم المماطلة في أداء الحقوق للناس

حكم المماطلة في أداء الحقوق للناس Q من استدان مالاً وماطل في السداد، وتساهل، هل يعتبر غاصباً وآكلاً للمال بغير حق؟ A منع الناس حقوقهم والتساهل في رد الحقوق إلى أصحابها كبيرة من كبائر الذنوب، عواقبها وخيمة، ونهايتها موجعة أليمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف هذه الحالة بأنها ظلم، والمظلوم إذا دعا على من ظلمه فإن دعوته مستجابة ولو بعد حين، وقد حرم الله الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرماً، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (مطل الغني ظلم يبيح لومه وعرضه). حتى لو أنه أخر راتبه أو منعه إياه مدة خمسة أشهر أو ستة أشهر فهذا ظلم، ويحاسب بين يدي الله ويسأل بين يدي الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (يقول الله تبارك وتعالى: ثلاثة أنا خصمهم ومن أكن خصمه فقد خصمته، رجل أستأجر أجيراً فلم يوفه حقه) قال العلماء: ممكن أن يعطيه راتبه ولكن بعد شهر، فلم يوفه؛ لأنه قال: (لم يوفه) وهذا يدل على أنه ينبغي الوفاء؛ فإذا قال: أعطيك في نهاية الشهر، فإنه يعطيه في نهاية الشهر. كذلك أيضاً إذا استدان وقال: أعطيك في نهاية الشهر، أو أعطيك بعد سنة، فإنه يجب عليه أن يفي إذا كان قادراً، أما إذا كان عاجزاً فإن الله تعالى يقول: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] والتأخير والتوسعة على المديون من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وبها تفرج الكربات، وبها تكون النفحات والرحمات من الله عز وجل، فالشخص إذا أعطيته ديناً، ووجدت أموره معسرة، وأنه محتاج إلى هذا المال، وأنه يحتاج أن تأخره وأن تنظره، فهذا مكياله أوفى عند الله عز وجل، بل قال بعض العلماء: الصدقة على المستدين أعظم من الصدقة على المحتاج. فعندما ترى إنساناً مديوناً مكروباً في دينك، قد ضاقت عليه الأرض، وتأتيه في ظلمة الليل أو ضياء النهار وتقول: يا فلان مالي ومالك كالشيء الواحد، قد عفوت عنك، فهذا من أعظم الأعمال الصالحة عند الله عز وجل. كان رجل يدين الناس ويقول لغلمانه: إذا وجدتم معسراً فتجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عني، فلقي الله عز وجل، يقول صلى الله عليه وسلم: (فقال الله: يا ملائكتي نحن أحق أن نتجاوز عن عبدنا، قد غفرت لعبدي) فغفر الله له وتجاوز عنه لما تجاوز عن عباده وخلقه؛ لأن الله رحيم ويحب من عباده الرحماء، ويرحم من عباده الرحماء. والمشكلة اليوم دخول شياطين الإنس والجن، تأتي إلى شخص لك عليه دين، ويتأخر في السداد، فتجدهم يأتون ويقولون: لماذا لا تأخذ حقك؟ هذا يتلاعب بحقك، هذا كذا هذا كذا نزعت الرحمة من المسلمين إلا من رحم الله، لكن لو أنزل الإنسان نفسه منزلة هذا المديون ونظر في حاله وقدر ظروفه وقال: قد سامحتك، قد أسقطت عنك نصف الدين، قد أسقطت عنك بعض الدين؛ يرجو رحمة الله عز وجل، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ً: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30] فهذا من الإحسان، والنفوس مجبولة على محبة الأموال. فالتوسعة على المديونين وعدم التضييق عليهم أمر مطلوب. أما أن يكون قادراً على السداد ويمنعك حقك ويماطل، فبعضهم يقول: إنها شطارة في التجارة، وبعضهم يقول: إنها شطارة في الأموال أن يتأخر عن حقوقك، وأن يماطلك في حقوقك حتى يستفيد من المال، ولا يريد أن يدفع المال مباشرة! فهذا من الظلم، ولو دعا صاحب المال على هذا الشخص فإنها تستجاب دعوته؛ لأن الله يقول: (وعزتي وجلالي لأنصرك ولو بعد حين) ودعوة المظلوم على الظالم مستجابة، ولذلك نجد بعض الناس الذين أعطاهم الله الأموال ويؤخرون الناس في السداد، تكون أمورهم منكدة منغصة، لا يأتون إلى باب إلا أقفله الله في وجوههم، ولا يسلكون طريقاً إلا عسر الله عليهم؛ لأن الله مكنهم من الخير فضيقوا على العباد مع قدرتهم أن يوسعوا على العباد. وتجد الشخص الآخر إذا استدان من الناس يوفي لهم ويعطيهم، حتى إنه في بعض الأحيان يذهب ويتسلف من أجل أن يفي بوعده، وهذا ما عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح: (رحم الله امرأً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) والسمح إذا قضى: كما إذا قلت لك: أسددك في نهاية الشهر، فوجدت المال قبل نهاية الشهر، فآتي لأسددك وأقول لك: جزاك الله كل خير. ولا أنتظر إلى نهاية الشهر، مع أن الذي بيني وبينك نهاية الشهر، فآتي وأقدر أن بيني وبينك التزاماً، لكني مع ذلك أقدم السداد، هذه من السماحة. ومن السماحة أنه إذا استدان -مثلاً- ألفاً يزيد ويعطي عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم أحسنكم قضاءً) فينبغي على المستدين أن يقدر المعروف، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، فلا يماطل ولا يؤخر، وإذا ماطل وأخر وظن أن ذلك يكثر ماله، فإن الله ينقص ماله، ويذهب البركة من ذلك المال، ومن أراد أن يجرب ذلك فليفعل. فتأخير حقوق الناس مضرته عظيمة، يمنع خشوع الصلاة ويمنع رقة القلب، ويمنع بركة الرزق، ويوجب على الإنسان ويجلب عليه العواقب الوخيمة، وربما يكون المال الذي جمعه وأخره يريده لشيء فيمحق الله بركة ذلك الشيء، ولذلك ينبغي إنصاف الناس، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] والعقود: الالتزامات التي بين المسلمين، قال عمر رضي الله عنه: (مقاطع الحقوق عند الشروط) فإذا اشترط عليك الوفاء في نهاية الشهر فعليك أن توفّي له، خاصة الخدم والضعفاء والغرباء، فهؤلاء أمرهم أعظم، فإذا كان الإنسان يستغل ضعف صاحب الدين، أو ضعف الخادم، فيؤخر حقوقه، إذا قال له: في نهاية الشهر أعطيك المال، فإن نفسه مرهونة بالدين، هذا الراتب أو هذا الحق الذي للأجير أو الدائن إذا جاء الأجل ولم توفه، فإنه يصير ديناً عليك، وحتى ولو كان راتباً، فيصبح هذا الضعيف أو هذا الخادم أو هذه الخادمة أو هذا الأجير دائناً لك. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (نفس المؤمنة مرهونة بدينه) ولذلك تجد طالب علم بمجرد ما يدخل في الديون تتنكد حياته، وإذا كان أعبد الناس بمجرد ما يدخل في الديون يتنغص عيشه، الدين هم الليل ذل النهار، فيحرص الإنسان على أن لا يدخل في الدين، خاصة إذا كان قادراً، وخاصة إذا جاءه الأجير وقال: عندي ظروف فأريد راتبي وأريد حقي. والأعظم أن يجمع بين السيئتين، تأخير الحقوق، وإذا طلب منه أن يقضيها أقام الدنيا وأقعدها وظن أن هذا من سوء الأدب، ويقول: كيف يقول: أعطني مالي؟! وكيف يقول: أعطني حقي؟! فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم لما جذبه اليهودي بردائه حتى أثر في عنقه، وقال: (أعطني يا محمد فإني ما عهدتكم آل هاشم إلا مطلاً) أراد عمر أن يبطش به، فقال عليه الصلاة والسلام: (دعه، فإن لصاحب الحق مقالة) فكانت سبباً في إسلام اليهودي، فهذه أمور ينبغي للمسلم أن يلتزم بها: وفاء الناس، وأداء حقوقهم وسدادها. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا وأن يسلم منا، وأن يخلصنا من حقوق عباده، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

نصائح في الإخلاص للدعاة

نصائح في الإخلاص للدعاة Q ترد على الداعية والمتقلد للإمامة والخطابة وغيرها من أمور الدعوة بعض الموارد من الرياء والعجب، فكيف يدفع هذه الأمور ويحصل الإخلاص في عمله؟ A إن الله يبارك للداعية وللخطيب وللإمام ولكل متكلم بشرائع الإسلام متى ما أراد وجه الله جل جلاله، وابتغى ما عند الله، وتوجه بكليته إلى الله، ومن كان لله كان الله له، ومن عامل الله فتجارته رابحة، وأموره مستقيمة، وأحواله صالحة، ومن هذا الذي كان مع الله، فخذله ربه؟ ومن هذا الذي استقام لله، فضيعه ربه؟ وقد قال الله: {إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ} [المائدة:12]. فالعبد إذا أقام لله أمره، وأخلص لله قلبا وقالباً، وأراد ما عند الله، وابتغى الدار الآخرة، وسعى لها سعيها وهو مؤمن، كان سعيه مشكورا، ً وإذا شكر الله السعي باركه، ووضع الخير فيه، فقليله كثير، ويسيره عظيم، وكم من عمل عظمته النية، فمن وطن نفسه على إرادة وجه الله جل جلاله، وابتغاء ما عند الله، فإنه سعيد بحق، سعيد في الدنيا وسعيد في الآخرة، ففي الدنيا جنة للمخلصين الذين يريدون وجه الله رب العالمين، لا يمكن لأحد أن يحقق شرطها وأصلها إلا نال سعادتها وخيرها وبرها. وإذا دخل هذه الجنة في الدنيا أدخله الله جنة الآخرة، يعيش فقيراً مرقع الثوب بالي الحال، ولكنه بالإخلاص عزيز كريم غني بالله سبحانه وتعالى، هذا هو الأساس الذي ينبغي أن يبني عليه العبد أموره كلها فضلا عن طالب العلم، فضلاً عن الداعية، فضلا عن غيره. وماذا يريد الإنسان بالناس، هل أحْيَوا ميتاً؟ هل شفوا مريضاً؟ هل أطعموا بدون إذن الله جائعاً أو كسوا عارياً؟ {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:196] فالذي يكون لله، فالله هو الولي وحده، والذي يكون لغير الله فلن يجد من دون الله ولياً ولن يجد له من دون الله نصيراً، طاب عيش المخلصين بإرادة وجه رب العالمين. فماذا يريد الإنسان من الرياء؟ وَهَبْ أن أهل الأرض كلهم رضوا عنك ولم يرضَ عنك الله جل جلاله -لا قدر الله- فماذا يقدمون مما أخر الله منك؟ وماذا يؤخرون مما قدم الله لك؟ العبد الصالح يتوجه إلى الله جل جلاله؛ لأنه يعلم أنه لا صلاح إلا بإرادة وجه الله، ولا يمكن لشيء في هذا العلم وهذا الدين أن يُنْظَر لصاحبه في جزائه وحسن عاقبته، إلا بعد أن ينظر في قلبه، وإرادة ربه. وينتبه الإنسان إلى من يعامل، فإنه يعامل ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، ويعامل من بيده خزائن السماوات والأرض، الذي بيده الخزائن التي لا تنفد، الرب الكريم الحليم العظيم جل جلاله وتقدست أسماؤه، ومن أراد أن يعرف المعاملة مع الله، فليعرف من هو الله، فيتعرف على الله بأسمائه وصفاته؛ لكي يرى عظيم الكرم والجود والإحسان والمنن والفضل والرعاية والعناية والكفاية، وكل ما تريد من خير الدين والدنيا والآخرة: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [المؤمنون:88] من الذي بيده ملكوت كل شيء؟ سبحانه لا إله إلا هو، فما الذي يريد الإنسان من الناس؟ هب أن الناس كلهم مجدوك، وهب أن الناس كلهم مدحوك، وهب أن الناس كلهم رفعوك، وهب أن الناس كلهم رفعوا وأخذوا وأعطوا، فماذا يغنون عنك من الله سبحانه وتعالى؟ تأمل كم من كلمات قلتها وأنت تريد رؤية الناظرين، وسماع المستمعين، فماذا أغنوا عنك من رب العالمين؟ لمّا مرضت التفت يميناً وشمالاً فما وجدت إلا الله جل جلاله، الذي أحاطك برحمته وبلطفه وبمنه وكرمه في ظلمة الليل، ولو كان الإنسان أعز من في الأرض غنى وقوة ويساراً، فربما يأتيه المرض في ظلمة الليل، فلا يسمع صوته إلا الله وحده لا شريك له. فليعامل الإنسان الله سبحانه وتعالى ويذهب عنه الرياء، ويبعد عنه السمعة، فإذا قام خطيباً فليعلم أن مفاتيح قلوب الناس لا يمكن أن يعطيها الله إلا للمخلصين، وأن التأثير في قلوب العباد لا يمكن أن يكون بحلاوة الكلام، ولا بتنميق العبارات، ولا بتحسين الجمل، ولا بتكلف في الشكل ولا في الملبس، ولا بالهيئة، ولكنها أسرار بين العبد وبين الله المطلع على الضمائر، المطلع على السرائر، الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً. تستحي من الله حينما يرفعك على رءوس الناس لكي تخطب أو تعظ أو تحاضر، تستحي من الله أن ينظر في قلبك أن فيه غير الله جل جلاله، فمن الذي بوأك هذا المبوأ؟ ومن الذي أعطاك هذه النعمة؟ ومن الذي أحسن عليك بهذا الإحسان فصرت تتقدم تصلي بالناس؟ فتتذكر أن الله قدمك عليهم، وأن الله فضلك عليهم، وأن الله جعلهم يسمعون لقولك، وأن الله جعلهم يركعون بركعوك، ويسجدون بسجودك، فتستحي من الله جل جلاله. أخطر شيء في هذا الوجود الإخلاص، والمسألة العظيمة التي من أجلها قامت السماوات والأرض هي الإخلاص، حتى إن أهل الخير لا يمكن أن يتنافسوا أو ينالوا خيراً إلا بقضية الإخلاص، هي المحك الخطير في الدين والدنيا والآخرة، فلا تتكلم ولا تعمل ولا تقدم ولا تؤخر إلا وأنت تريد ما عند الله سبحانه وتعالى، وإذا كنت لله كان الله لك، ولا يخذل الله عبداً أخلص لوجهه وابتغى ما عنده، واعلم أن مدح الناس وثناء الناس وتعظيم الناس لا يغني عنك من الله شيئاً، ولا يغني عن الحقائق. وقف رجل على الحسن البصري رحمه الله، وقال له: (عجز الزمان أن يأتي بمثلك، فقال: ويحك، ويحك ماذا تقول؟ أوعلمت ماذا أفعل حينما أغلق باب داري؟) يعني: تزكيني أني صالح وأنت لا تعرف سري وغيبي، هذا لا يعلمه إلا الله جل جلاله، فلا يعامل العبد إلا ربه، ولا يبتغي إلا ما عند الله سبحانه وتعالى، فإن مدح الناس وثناء الناس لا يغير في الحقائق. والعبد المخلص أكره ما عنده مدح الناس، فليكن أكره ما عندك أن يأتي واحد ويقول لك: والله خطبتك نافعة، خطبتك مؤثرة، خف من هذا، فإن هذا لا يغني عنك من الله شيئاً، وأشفق على نفسك وقل له: يا أخي اتق الله، إذا كنت وعظتك وذكرتك بالله، فلا تقع بيني وبين آخرتي، ولا تأتِ تمدحني وتقطع لي عنقي: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ} [النجم:32] وحده لا إله غيره، ولا رب سواه {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] بل يعرف العبد مقدار نفسه، ويشفق طلاب العلم على بعضهم. تزكية العلماء والخطباء والأئمة ومدحهم وتمجيدهم وتضخيم أمورهم لا تغني عن العبد من الله شيئاً، ولنشفق على أهل الخير وأهل الصلاح فلا نقطع رقابهم، وليستح العبد من ربه، أن يأتي ينمق الخطب وينمق المحاضرات والدروس والمواعظ وهو يريد مدح الناس وثناءهم، فعليه أن يستحي من الله جل جلاله، إذا كان يريد الدنيا فسوق الدنيا واضحة، وإذا كان يريد الآخرة فليجعل نصب عينيه الموت ولقاء الله سبحانه وتعالى، وليجعل بين عينيه قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ} [المائدة:119] هذا اليوم يوم لقاء الله سبحانه وتعالى. والله ما استشعر عبد موقفه بين يدي الله إلا هانت عليه الدنيا وما فيها وأراد ما عند الله، وبالأخص الدعاة والهداة للناس، فتحضر الخطبة ولربما تقوم فتأتي تسأل الرجل بعد أن يخرج من المسجد: عن أي شيء كانت الخطبة؟ وإذا به لا يدري عن ماذا كانت، نسأل الله السلامة العافية. وقد يكون هذا بسبب من الخطيب، وقد يكون بسبب من الناس، وقد يكون بسبب منهما، فإن الشهوات والمنكرات والمعاصي إذا كثرت عم بلاؤها: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] وقد يأتي الرجل كأخشع ما يكون ويحال بينه وبين التأثير بسبب ذنوب الناس. لكن ليس هناك شيء يؤثر مثل نية الخطيب ونية طالب العلم، ونية الإمام ونية الواعظ؛ فلا تغتر بالناس، وليكن أكره ما عندك أن يمدحك أحد، وربما مدحك عن حسن نية فتأتي بالتي هي أحسن وتقول له: يا أخي! والله إني مشفق على نفسي، إني كثير الذنوب وعندي خطايا، فخف الله جل جلاله فيّ، ولا تمدحني ولا تمجدني. ثم إن هذا المدح شهادة، فأي شخص تقول عنه: فلان أعلم الموجودين، فلان أفقه الموجودين، فلان أحسن الدعاة، فلان أحسن الخطباء، فلان أحسن القراء، تقف بين يدي الله عز وجل وتسأل: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} [الزخرف:19] يخطها ملائكة حافظون لا يغشون ولا يزيدون ولا ينقصون لتراها أمام عينيك، ويقول لك ربك: هذا الذي قلته لم قلته؟ من الذي نصبنا حكاماً على الناس نزكي من نزكي، فعلى العبد أن يتقي الله في نفسه ويخاف من الله سبحانه وتعالى. وعلى أهل الخير والدعوة والصلاح والبر أن يعاملوا الله سبحانه وتعالى، وأن يعلموا أن تجارة الله لا تبور، وأن العبد إذا كان لله حفظه الله في نفسه، وحفظه الله في أهله وولده، وحفظه الله في طلابه، وحفظه الله في من يصلي معه، حتى إن بعض الأئمة إذا كان على صلاح وخير ترتاح للصلاة وراءه، وتجد من البركة التي يضعها الله في قراءته، ومن البركة التي يضعها الله في خطبه، ومن البركة التي يضعها الله عز وجل في مواعظه، وكل هذا بفضل الله، ثم بالسر الذي بين العبد وبين ربه. وينبغي إذا كان يوم الجمعة وجئت تخطب أن تشفق على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلا تحرم الأمة خير كلماتك ومواعظك بسبب الرياء، أو بسبب محبة المدح والثناء، ولنكف عن تمجيد الناس، ولنكف عن الغلو، ولنتقِ الله في أنفسنا، وليدعُ بعضنا لبعض، ونطّرح بين يدي الله عز وجل، ونسأل الله لنا التوفيق والسداد، والرعاية والعناية. فإذا وجدت داعية أو خطيباً أو عالماً أو فقيها أو غيره ممن يشتغل بالدعوة، قلت: اللهم وفقه، اللهم سدده، اللهم خذ بيده لما يرضيك عنه، اللهم اجزه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء، فتدعو له بالخير، وهكذا كان السلف وهكذا كان الأئمة. وتشفق عليه أيضاً، وتسأل له المعونة وتقول: اللهم وطنه للإخلاص، اللهم ثبته على الحق، فهذا هو الذي تواصى به الصالحون وتواصى به الأئمة واهتدى به المهتدون: إرادة وجه الله جل جلاله، ولذلك قال تعالى: {أَلا

كتاب النفقات [4]

شرح زاد المستقنع - كتاب النفقات [4] تستحق المرأة نفقة زوجها من حين أن تسلم نفسها له، والتسليم إما حقيقي وإما حكمي، والزوج إما أن يسلم النفقة كاملة، أو يعجز عنها كاملة، أو عن بعضها، ولكل حالة حكمها وتفصيلاتها. وهي أحكام مهمة قد يترتب على بعضها فسخ النكاح.

وقت استحقاق المرأة للنفقة تسليمها نفسها للزوج

وقت استحقاق المرأة للنفقة تسليمها نفسها للزوج الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ومن تسلم زوجته أو بذلت نفسها ومثلها يوطأ، وجبت نفقتها ولو مع صغر زوجٍ ومرضه وجبه وعنته]. بعد أن بيّن المصنف رحمه الله وجوب النفقة على الزوجة وبيّن ما تقدر به النفقة، والأحكام والمسائل المتعلقة بهذا الأصل، شرع في بيان متى تستحق المرأة النفقة. فهناك أصلٌ ينبغي اعتباره: وهو أن الزوج إذا سلمت إليه الزوجة ومُكّن منها فقد وجبت عليه نفقتها، وهذا الأصل نبّه عليه رحمه الله في بداية هذا الفصل؛ لأن الله سبحانه وتعالى رتب النفقة على الاستمتاع وعلى قيام الزوجة بحقوق زوجها، وبينا ذلك في مسائل النشوز، وإذا ثبت هذا فإنه إذا تسلّم الزوجة ومُكّن من الاستمتاع منها فإنه حينئذٍ تجب عليه نفقتها، لكنه لو عقد على الزوجة ولم يتسلمها ولم يُمكّن منها فإنه لا تجب عليه نفقتها، وتبقى نفقتها على أبيها أو على إخوانها وقرابتها أو على نفسها إن كانت مستطيعة أن تنفق على نفسها، حتى يُمكّن الزوج منها وتسلّم إليه.

التسليم الحقيقي للمرأة

التسليم الحقيقي للمرأة وهناك ضربان من التسليم: التسليم الحقيقي والتسليم الحكمي. التسليم الحقيقي: مثل أن يكون له منزل ويؤتى بالزوجة وتسلّم له بالمعروف وبالعرف، فحينئذٍ قد تسلمها وتمكّن منها حقيقة، وتجب نفقتها عليه بإجماع العلماء رحمهم الله، لكن لو أنها بقيت في بيت أبيها، وقال أبوها: لا أمكنك من الدخول عليها إلا بعد شهر، أو بعد أن تجد عملاً، أو بعد أن تتخرج، أو بعد كذا وكذا من الزمان أو من الشروط، فإنه في هذه الفترة لا يجب عليه أن ينفق عليها، وتبقى على نفقتها في الأصل، فإن كانت تحت رعاية أبيها وجبت نفقتها على أبيها، وإن كانت تحت رعاية قريبٍ وجبت نفقتها على ذلك القريب حتى تسلم إلى الزوج.

التسليم الحكمي للمرأة

التسليم الحكمي للمرأة قوله رحمه الله: [أو بذلت نفسها ومثلها يوطأ] وهذا التسليم الحكمي: بألا يكون عندها مانع، ولا عند أهلها مانع، وقالوا له: في أي وقتٍ تريد أن تأخذها فخذها، فحينئذٍ يكونون قد مكّنوه منها، وقالوا له: أي وقت تشاء أن تدخل بها فنحن على استعداد، والأمر يسير بالنسبة لنا، فلم يمنعوه من شيء، فأصبح التأخير منه لا منها، ففي هذه الحالة قد مكنوه، وهو لم يتسلمها حقيقة لكنه تسلمها حكماً؛ لأنهم لم يمنعوه منها، ولم يحولوا بينه وبين الدخول بها، وفي هذه الحالة تجب عليه نفقتها. إذاً: هناك التسليم الحقيقي وهناك التسليم الحكمي، فإذا بذلت نفسها له أن يستمتع بها، فحتى ولو كانت في بيت أبيها، فحينئذٍ تجب نفقتها عليه، ولا يشترط أن تنتقل إلى البيت، بل لو استمتع بها في بيتها، أو مكنته من نفسها في بيت والديها ولا يوجد مانع ولا حائل شرعي يحول دون ذلك؛ فإنه يكون في حكم من تسلّم زوجته حقيقة. وقد تقدم أن الشريعة الإسلامية تجعل التسليم الحكمي منزلاً منزلة التسليم الحقيقي، ومن أظهر ذلك ما ذكرنا في الأجير، أن الأجير أو العامل -مثلاً- لو استأجره شخصٌ يوماً كاملاً على أن يعمل عنده فجاء العامل ومكّن صاحب العمل من نفسه، ولكن صاحب العمل لم يعمل أو لم يطالبه بشيء، فإنه قد مكنه من نفسه، ويكون حينئذٍ رب العمل ملزماً بدفع أجرة العامل، فكذلك المرأة إذا مكنت نفسها ولم يمنعه أولياؤها منها، صار ذلك موجباً لثبوت حقها في النفقة عليها.

لزوم نفقة المرأة بتسليمها لزوجها ولو كان صغيرا

لزوم نفقة المرأة بتسليمها لزوجها ولو كان صغيراً قال رحمه الله: [وجبت نفقتها ولو مع صغر زوجٍ]. [وجبت نفقتها] أي: على الزوج، هنا (وجبت) بمعنى: لزمت أو ثبتت نفقتها؛ لأن الواجب يطلق بمعنى: الثابت والمستقر، كقوله تعالى: ((فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا)) [الحج:36] أي: ثبتت على الأرض واستقرت، ومنه قوله: (والمغرب إذا وجبت) أي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب إذا سقط قرص الشمس وغاب، ويطلق الواجب بمعنى اللازم الذي هو الحكم الشرعي. فمعنى (وجبت) أي: أصبحت النفقة واجبة على الزوج ولازمة، وفي الأول لم تكن واجبة عليه، لكن إذا تسلم الزوجة أو مكنته من نفسها فإنه في هذه الحالة يجب عليه أن ينفق عليها. [ولو مع صغر زوجٍ] من أهل العلم من قال: إن الزوج إذا سلمته الزوجة نفسها أو مكن الزوج منها، وجبت نفقتها بغض النظر عن كون الزوج صغيراً أو كبيراً، ومن أهل العلم من قال: إذا كان صغيراً لم تجب نفقتها عليه، وإذا كان كبيراً وجبت النفقة. فالمصنف رحمه الله قال: (ولو مع صغرٍ) إشارة إلى القول المخالف؛ لأننا قلنا: (لو) يؤتى بها إشارة إلى خلاف في المذهب، فيستعملها المصنف رحمه الله في المتن إشارة إلى القول المخالف في المذهب، فإذا قلنا: إن الصغير إذا مكنته الزوجة من نفسها أو تسلمها وجبت النفقة فإن الذي يدفع النفقة هو وليه؛ لأن الصغير لا يتولى القيام على ماله كما قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5] وبالإجماع فإن الصبي لا يتصرف بماله، وإنما يتصرف وليه، فيجب على وليه أن ينفق على تلك المرأة.

لزوم نفقة المرأة على زوجها ولو كان مريضا أو معيبا

لزوم نفقة المرأة على زوجها ولو كان مريضاً أو معيباً قوله: [ومرضه] أي: ولو مع مرض الزوج، فإذا كان الزوج مريضاً، لا يمكن أن يطأ، أو كان صغيراً فالوطء منه ليس كما إذا كان كبيراً، فبين رحمه الله أننا لا نلتفت إلى العذر، بل نلتفت إلى أن المرأة لها حق النفقة متى مكنته من نفسها وسلمتها إلى هذا الزوج، مالمانع منه لا يعنيها، كما أن الأجير إذا مكن نفسه ممن يستأجره فإنه يجب عليه أن يدفع له أجره. قوله: [وجبه] قد تقدم أنه من العيوب، فلو كان مقطوع الذكر لا يتأتى منه أن يجامع ففي هذه الحالة تلزمه النفقة؛ لأن النفقة ليست قضيتها قضية الجماع فقط، بل ولأن المرأة أسيرة عند الزوج، كما قال صلى الله عليه وسلم: (فإنهن عندكم عوان) وهو يقتضي ثبوت حق النفقة، ولذلك قد تكون المرأة عند زوجٍ لا يأتيها ككبير السن ونحو ذلك، فلا يشترط أن يكون قادراً على الجماع، فالعبرة بكون المرأة مكنت من نفسها، وسلمت نفسها إلى الزوج. قوله: [وعنته] هذا أيضاً من العيوب، ومراده أن يقول: إذا كان العيب موجوداً في الزوج وقالت الزوجة: مكنتك من نفسي، أو سلمها أولياؤها إليه، ففي هذه الحالة لا يعنينا وجود العيب فيه أو العذر، والذي يهمنا هو أن للمرأة حقاً، وهو أنه متى مكنت الزوج من نفسها بغض النظر عن كونه يقدر كالكبير الصحيح القادر على الوطئ، أو لا يقدر كالصغير أو المجبوب أو من به عنة -وهو من لا ينتشر عضوه- وقد بينا هذا في عيوب النكاح، فهؤلاء كلهم فيهم عيوب تمنع الوطء. ونحن بينا أن العلة ليست أن يجامع أو لا يجامع، فإذا مكنت من نفسها وسلمت إلى زوجها وجب حقها في النفقة، ووجب عليه أن ينفق عليها بالمعروف، وبينا أن هذا مبني على الأصل، وليس الجماع هو المعول عليه من كل وجه؛ إنما العبرة بكون المرأة سلمت ومكنت الزوج من نفسها.

حكم امتناع المرأة عن تسليم نفسها حتى تقبض صداقها الحال

حكم امتناع المرأة عن تسليم نفسها حتى تقبض صداقها الحال قال رحمه الله: [ولها منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال] إذا تزوج الرجل من امرأة، وعقد عليها وسمى لها صداقها حالاً أي: نقداً، فقال: مهرك -مثلاً- ثلاثون ألفاً أدفعها نقداً، أو قال: ثلاثون وسكت، فإذا سكت وجب دفعها نقداً؛ لأن المؤجل خلاف الأصل؛ فإذا اتفقوا على الثلاثين ألفاً ولكنه لم يحضرها، فمن حقها أن تمتنع من تمكينه من نفسها، ومن حق أوليائها أن يمنعوه حتى يدفع المهر؛ لأن مقاطع الحقوق عند الشروط. فإذا سكتوا على كون المهر مسمىً بدون تأجيل وجب تعجيله، وهذا أشبه بالشرط؛ لأن العقد أصلاً يتضمن التزامات من الزوج والزوجة، فواجب على الزوج أن يؤدي ما التزم به وواجبٌ على الزوجة أن تؤدي ما التزمت به، فمما فرض الله عز وجل أن يعطيها مهرها، ولذلك قال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24] فمن حقها أن تمنع زوجها أو يمتنع أولياؤها من تسليمها حتى يدفع الزوج المهر كاملاً، وهذا قد يكون له سبب؛ فإن المرأة في زواجها قد تتحمل أموراً في لباسها، ويتحمل أولياؤها أموراً في تهيئتها لزوجها، وتهيئة بيتها لها، وهذا يحتاج أن يكون عندها المال أو يكون عندها المهر، فإذا قالت: أنا لا أمكنك من نفسي حتى تدفع لي صداقي، فهذا من حقها، وكذلك من حق والدها ومن حق وليها أن يمنعها منه حتى يؤدي صداقها الحال. ولما قال رحمه الله: (الحال) مفهومه أن المؤجل ليس من حقها أن تمتنع بسببه، فلو قال: أدفع لك عشرة آلاف الآن وعشرين بعد سنة أو سنتين أو ثلاث، فإنه ليس من حقها أن تمتنع حتى يدفع لها المؤجل؛ لأن المؤجل إلى أجل، وبناءً على ذلك لا تمتنع إلا إذا اشترطت وقالت له: أنا لا أمكنك من نفسي حتى تدفع لي الصداق كاملاً، فقال: إذاً: أدفع لك عشرة هذه السنة، والعشرة الثانية في السنة القادمة، والعشرة الثالثة في السنة الثالثة، فمعناه أنه سيكون الدخول بعد السنة الثالثة. وهذا على حسب ما يتفق عليه الزوجان؛ لأنهم إذا تراضوا على شيء وتم العقد على اشتراط شرطٍ لا يعارض الشرع ولا يناقضه، وجب الوفاء به.

حكم امتناع المرأة بعد تسليمها نفسها

حكم امتناع المرأة بعد تسليمها نفسها قال رحمه الله: [فإن سلمت نفسها طوعاً ثم أرادت المنع لم تملك] أي: (فإن سلمت نفسها) في هذه الحالة، وهي أن يكون لها استحقاق في المهر المعجل، فقال لها: مهرك ثلاثون، فاتفقا على ذلك، فقيل له: ادفع المهر، قال: ليس عندي إلا عشرون، فسلمت نفسها له على أساس أنه دفع ثلثي المهر، فلما سلمت نفسها أو مكنته من نفسها أرادت أن ترجع، فهنا سقط حقها في الرجوع، ووجب عليها أن تبقى في بيت الزوجية، وفائدة إسقاط حقها: أنها لو امتنعت تكون ناشزاً ويسقط حقها في النفقة. فإذا مكنت زوجها من نفسها مع أن من حقها أن تؤخر، فقد دل هذا الفعل على الرضا بالتأخير والرضا بإسقاط حقها، فإذا أسقطت الحق فليس من حقها أن ترجع عن هذا الإسقاط؛ لأن حقوق المقابلة لا يملك الإنسان الرجوع فيها.

إعسار الزوج بالنفقة

إعسار الزوج بالنفقة قال رحمه الله: [وإذا أعسر بنفقة القوت أو الكسوة أو ببعضها أو المسكن، فلها فسخ النكاح] العسر ضد اليسر، وعسر النفقة أن لا تتيسر للإنسان، ويكون عسر النفقة على صورتين: الصورة الأولى: أن لا يجد شيئاً، وهو حال الفقير، فلا يجد شيئاً له ولا لزوجته. والحالة الثانية: أن يجد بعض النفقات، ويجد بعض القوت الذي لا يسد الكفاية.

خيار الفسخ للمرأة في حال إعسار الزوج بالنفقة

خيار الفسخ للمرأة في حال إعسار الزوج بالنفقة فإذا أعسر ولم يقم بواجب النفقة على الزوجة فإنه اختلف العلماء رحمهم الله فيه، من أهل العلم من يقول: الإعسار في النفقات يوجب الخيار للزوجات، فالزوجة إذا حبسها زوجها ولم ينفق عليها ولو كان فقيراً -أي: لم ينفق عليها لعذر - فإن من حقها أن تطلب فسخ النكاح، ومعنى الخيار: أنها تخير بين أن تستمر وتصبر حتى يأتي الله بالفرج، وبين أن تفارق الزوج، وحينئذٍ يفسخ النكاح بينهما. ومن أهل العلم من قال: لا خيار في الإعسار بالنفقة. والذين قالوا: إن الخيار ثابتٌ في الإعسار في النفقة قالوا: إن أصول الشريعة دالة على دفع الضرر، ولا يمكن للحياة الزوجية أن تكون حياة زوجية والمرأة معذبة في عصمة الرجل، ولا يمكن أن تقوم المرأة بحقوق الرجل والرجل لا يقوم بحقوقها في النفقات، وهذا تكليف بما لا يطاق؛ لما فيه من الحرج والمشقة، ومعلوم أن المرأة إذا أعسرت ولم تجد طعاماً -خاصة إذا كان عندها أولاد- ربما تعرضت للحرام لأجلهم، وتعرضت للضرر في دينها وفي عرضها، ومن هنا قالوا: إن الإعسار يوجب ثبوت الخيار. وقالوا: إذا كانت الشريعة أعطت المرأة حق الخيار في عيوبٍ تكون في الزوج، مثل عيوب الجماع إذا طرأت، فمن باب أولى في عيوب النفقة؛ لأن النفقة أعظم ضرراً وأشد خطراً من عيوب النكاح، فمن هنا قالوا: يثبت الخيار للمرأة، ونقول لها إذا أعسر زوجها ولم ينفق عليها: إن شئت صبرت وإن شئت طلبت فسخ النكاح، فإن اختارت فسخ النكاح ورفعت الأمر للقاضي فإنه يوقف الزوج ويقول له: يا هذا، هل تستطيع أن تنفق على زوجك؟ فإن قال: لا أستطيع، ثبت عند القاضي إعساره وعدم قيامه بحق نفقة زوجته، فحينئذٍ يحكم بفسخ النكاح بينهما. والذين يقولون: إن الخيار لا يثبت بالإعسار يحتجون بالأحاديث الصحيحة التي منها: ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من شدة الحاجة والفاقة، حتى أن فاطمة رضي الله عنها زوجة علي وبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت تشتكي إلى رسول الله من شدة ما تجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمهات المؤمنين يمر عليه الشهر والشهران والثلاثة وما يوقد في بيته نار. قالوا: فهذا يدل على أن الإعسار في النفقة لا يوجب الخيار. والحقيقة أن هذا الاستدلال محل نظر؛ لأن فقه المسألة: إذا لم تصبر المرأة، وأمهات المؤمنين كنّ صابرات راضيات؛ لذلك خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الدنيا وبين الآخرة، فاخترن ما عند الله سبحانه وتعالى والرضا برسول الله صلى الله عليه وسلم. فالحقيقة أن الاستدلال بهذه النصوص محل نظر؛ لأن الزوجات راضيات، ومحل الكلام إذا لم ترضَ الزوجة وقالت: أنا لا أستطيع، وهذا شيء أحمل فيه ما لا أطيق؛ فأصول الشريعة في الدلالة تقتضي ثبوت هذا النوع من الخيار، وهذا هو القول الصحيح إن شاء الله تعالى: أن الزوج إذا افتقر واشتد أمره حتى حبس عن المرأة نفقتها؛ فإننا نقول له: إما أن تنفق عليها بالمعروف؛ لأن الله أمرك بالعشرة بالمعروف، وإما أن تسرحها بإحسان، ولا نستطيع أن نقول للمرأة إنها ملزمة بشرع الله عز وجل أن تبقى على هذه الحال التي لا تجد فيها قوتها ولا قوت أولادها؛ فهذا لا شك أنه مخالف لأصول الشريعة، وبناءً على ذلك: ترجح القول القائل بأن الخيار يثبت للزوجة إذا أعسر الزوج بالنفقات. وأما إذا صبرت المرأة فلا شك أن هذا أفضل وأكمل، ما لم تخش على دينها، أو على عرضها، فإذا خافت الفتنة ووجدت أن هذا ليس بيدها فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لكن من حيث الأصل صبرها وتحملها واحتسابها للأجر عند ربها لا شك أنه أعظم، والله تعالى يجعل مع العسر يسرا، فمن هنا (لن يغلب عسرٌ يسرين) لأن الله يقول: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6]. وشهد الله جل وعلا أنه لا يكون عسر إلا معه يسر، وكرر إثبات هذا اليسر مرتين، فصار العسر في الآية الأولى والثانية واحداً، واليسر الذي شهد الله به مرتين، فمن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يغلب عسرٌ يسرين) لأن الله شهد باليسر، فإذا صبرت المرأة واحتسبت فالحمد لله، وأما إذا طالبت بحقها فلها حق الفسخ.

تخيير المرأة عند إعسار الزوج بالكسوة

تخيير المرأة عند إعسار الزوج بالكسوة [أو الكسوة] بأن يطعمها ولكن لا يكسيها، مثلاً: رجل عنده القوت وليس عنده المال الذي يشتري به الكسوة، فقلنا له: اكس زوجتك، فقال: ليس عندي ما أكسوها به، ففي هذه الحالة نقول للمرأة: أنت بالخيار، فإن تضررها بالعري وتضررها بعدم الكسوة قد يوجب لها الحرج، وقد يكون بالغاً، مع أنه قد يعرضها للحرام كما لا يخفى، وقد يضرها؛ لأن كسوة الشتاء تحتاجها لصلاح نفسها، فإذا كان لا يكسوها وبقيت على كسوة واحدة أو على كسوة بالية، تضررت في صيفها وتضررت في شتائها، وهذا لا شك أن فيه حرجاً وفيه ضيقاً على المرأة، والله عز وجل يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] أي: ليس في حكم الله ولا في شرع الله الحرج والضيق الذي لا يتحمله الإنسان، أو يوجب له العنت. ومن هنا نقول: إن المرأة إذا لم تُكْسَ تعرضت للحرج، فلو قلنا لها: اصبري، صار أمراً بالحرج، وهذا ليس من حكم الله عز وجل، ولذلك الذين قالوا بثبوت الخيار في الإعسار منهم من فصل فقال: الإعسار يثبت في القوت وفي الكسوة، أي: سواء أعسر في القوت، أو أعسر في الكسوة؛ لأن الزوجة تتضرر بهما.

تخيير المرأة عند إعسار الزوج ببعض النفقة

تخيير المرأة عند إعسار الزوج ببعض النفقة [أو ببعضها] قلنا: الإعسار على صورتين: إما إعسار كلي بأن لا يجد النفقة، أو إعسار جزئي وهو الذي يجد بعض النفقة، فالمرأة تتضرر بعدم وجود النفقة التي تحصل بها الكفاية، فإذا كان -مثلاً- قوتها من الطعام لا يجد إلا نصفه، وقال: ليس عندي إلا نصف طعامك، أو نصف ما يكفيك وأولادك، فإنه إعسارٌ. ولو أنه كساها بعض الكسوة لا كل الكسوة، أي: أنه يكسوها في الصيف ولا يكسوها في الشتاء، على القول بأن لها كسوتين: كسوة في الصيف والشتاء؛ فإن كسوة الصيف تضرها في الشتاء، وإن قال لها: أكسوك في الشتاء ولكن لا أستطيع كسوة الصيف، فإن لباس الشتاء لا يمكن لباسه في الصيف، فهذا فيه ضرر على المرأة، وحينئذٍ يثبت لها الخيار في الإعسار، سواءً كان بكل ما يجب أو ببعض ما يجب. قوله: [أو المسكن] أي: بأن قال: إني لا أجد لك مسكناً، وهي ساكنة في بيت أبيها، أو مثلاً أخذها وأسكنها في موضع عراء لا يعتبر مسكناً في العرف، فهو ملزم بأن يسكنها بالمعروف. مثال الإعسار بكل السكن: أن يضعها في بستان أو في أرض عراء ويقول لها: ما عندي شيء حتى أسكنك في مسكن، فنقول لها في هذه الحالة: لك الخيار، إن شئت صبرت وإن شئت طلبت فسخ النكاح، ويقال له: إما أن تسكنها بالمعروف ويكون لها السكن الذي أمر الله عز وجل بما لا حرج عليك فيه ولا مشقة، وإما أن تسرحها بإحسان. قوله: [فلها فسخ النكاح] أي: أنه من حقها، لكن لا نوجب عليها، فهو ما قال: فيجب عليها فسخ النكاح، أي: أنها بالخيار؛ ولذلك سموه خياراً، يعني: لها أن تختار أحد الأمرين إما أن تصبر وتحتسب، وإما أن تطالب بحقها فتفسخ النكاح.

ما يلتحق بالإعسار بالنفقة من الصور

ما يلتحق بالإعسار بالنفقة من الصور قال رحمه الله: [فإن غاب ولم يدع لها نفقة وتعذر أخذها من ماله واستدانتها عليه فلها الفسخ بإذن حاكم] بين رحمه الله صورة من صور الإعسار الحكمي، فإنه قد يعسر حقيقة، وقد يكون الحال والصورة صورة الإعسار، مثل أن يسافر عنها، أو يذهب إلى عمل في ضاحية في المدينة، أو يخرج من البيت ويتركها، فيغيب عنها ولا يترك لها أي نفقة، ولا تستطيع أن تستدين من أحد على حسابه إن جاء. في هذه الحالة صار إعساراً في حكم امتناعه هو؛ لأن الأصل يقتضي أنه لا يغيب حتى يترك لأهله وولده قدر كفايتهم، والله أمره أن يتقيه سبحانه فيمن يعول، فإذا خرج وسافر وهو لا يبالي بزوجته، ولا يعطيها حقوق نفقتها في الطعام، والكسوة، والسكن، ولم يترك لها ولأولادها ما يكفيهم، فحينئذٍ فصل بعض العلماء واختاره المصنف، أنه يقال لها: هل بإمكانك أن تستديني من أحد حتى إذا حضر الزوج يطالب برد هذا الدين وقضائه عنك؟ إن قالت: نعم، لزمها أن تستدين، وليس من حقها أن تطالب بالفسخ؛ لأن الأصل بقاء العقد، والأصل بقاء العصمة، والزوج قد تأتيه ظروف لا يتمكن معها من إرسال النفقة. فإذا أمكن أن تستدين فإنه لا يبقى إلا هذا الخيار، وأما إذا تعذر عليها بأن يكون زوجها غريباً، أو أهلها فقراء وليس عندهم مال، أو لا تعرف أحداً يدينها، أو الناس الذين تعرفهم فيهم شح وبخل فلا تتمكن من الاستدانة، فلا الزوج ترك لها النفقة، ولم تتمكن من الاستدانة، وليس عندها مال تنفق، ففي هذه الحالة يثبت الخيار لها في قول طائفة كما اختاره المصنف رحمه الله؛ لأن هذا في الضرر كالإعسار في النفقة؛ لأنها تعرضت لنفس الحالة التي تعرضت لها في حال وجوده. قالوا: فلا فرق، فكما أن الزوج لو كان حاضراً وحصل لها ما حصل من الضرر، فإن من حقها أن تطلب الفسخ، فكذلك لو غاب، وهو الذي فرط، وهو الذي ضيع حقه؛ لأنه كان المنبغي أن يحتاط بترك حقها وحق أولادها ونفقتها ونفقة من يعول، فلما ترك ذلك لزمه حكم الشرع بالفسخ، هذا بالنسبة لحالة غيابه دون أن يترك نفقة ودون أن تتمكن المرأة من الأخذ على سبيل الدين، سواء من مالها أو من قرابتها أو ممن تعرف.

الأسئلة

الأسئلة

حكم التضييق على المرأة في النفقة إذا كانت تجعلها في الحرام

حكم التضييق على المرأة في النفقة إذا كانت تجعلها في الحرام Q إذا كانت المرأة تنفق ما يعطيها زوجها من النفقة فيما حرم الله، فهل يجب أو يجوز التضييق عليها؟ A هذا السؤال في الحقيقة يتأتى فيما إذا أعطاها المال نقداً، بحيث تتمكن من شراء المحرمات، وإذا أعطاها المال نقداً من أجل أن تشتري طعامها وتشتري كسوتها، وهذا يستطيع أن يشتريه بنفسه، وإذا رأى أنها تسرف إسرافاً زائداً عن الحد فإنه يتابعها، لأن بعض الإسراف قد يسكت عنه الإنسان من باب الكماليات التي ليس فيها الحرام، فهذا يمكن أن يغض النظر عنه ويتسامح فيه. لكن إذا أنفقت المال الذي يعطيه لها ولأولادها في شراء المحرمات فإنه يجب عليه في هذه الحالة أن يقوم بشراء طعامها، ويوكل من يشتري لها كسوتها، أو يذهب بنفسه ليختار لها، أو يذهب معها لكي تشتري ما تريد من الكسوة التي لها ولأمثالها بالمعروف، ولا يمكنها من المال إذا كانت تعصي الله عز وجل به أو تشتري به المحرمات، وهذا واجبٌ عليه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6] فالواجب عليه أن يقي زوجه من نار الله عز وجل ومن سخطه وغضبه، والله تعالى أعلم.

حكم القول بأن نسك الإفراد منسوخ

حكم القول بأن نسك الإفراد منسوخ Q يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) يستدل بعض العلماء بهذا الحديث على أنه لا يجوز إلا نسك القران والتمتع، ومنع نسك الإفراد فما الحكم؟ A هذا القول شاذ عند العلماء، قال به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس وخالفه جمهرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخالفه الأئمة المأمور باتباعهم من الخلفاء الراشدين، فإن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في أكثر من خمس وعشرين سنة مدة خلافتهم الراشدة كلها ما حجوا إلا مفردين بالحج، وهذا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالقول بأن الإفراد منسوخ قولٌ ضعيف لا عمل عليه عند أهل العلم رحمهم الله، وإنما اختاره أفراد من العلماء، لكن النصوص واضحة: أولاً: ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنه لما أتى ذا الحليفة قال عليه الصلاة والسلام: (من أراد منكم أن يهل بحج فليهل، ومن أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل، ومن أراد أن يهل بحجٍ وعمرة فليهل) ثم أمر عليه الصلاة والسلام من لم يسق الهدي أن يفسخ حجه بعمرة، فهذا الفسخ المراد به بيان مشروعية العمرة في أشهر الحج، وليس بيان لزوم أن يكون النسك في الحج تمتعاً، وفرق بين المسألتين، ولذلك قال أبو ذر في صحيح مسلم -وهم الصحابة الذين هم أعلم بالتنزيل-: (متعتان لا تصلح إلا لنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: متعة النساء ومتعة الحج) يعني: الإلزام بفسخ الحج بالعمرة. فهذا الإلزام فهمه ابن عباس مطلقاً، وكان ابن عباس رضي الله عنه من صغار الصحابة وانفرد بالقول بحل المتعة، وانفرد بمسائل معروفة من ربا الفضل ونحوه، وله جلالة قدره وعلمه ولكن لا يؤخذ بقوله إذا خالف من هو أعلم منه، وقد قرر هذه القاعدة بنفسه، ففي الصحيحين عنه لما أفتى بربا الفضل قال أبو سعيد: (يا ابن عم رسول الله! ألا تتقي الله؟! أيأكل الناس الربا بقولك؟ أهذا الذي تقول به وتفتي به شيء وجدته في كتاب الله، أو شيء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أما كتاب الله فلا -أي: ليس فيه نص يدل على ربا الفضل- وأما سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنتم أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مني). هكذا لا يعرف الفضل إلا أهله، وهذه مسألة واضحة جلية، جماهير سلفنا الصالح والأئمة رحمهم الله من الصحابة والتابعين وكبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان يعتمد عليهم في العمل والفتوى لا يحجون إلا مفردين، وهم الخلفاء الراشدون، وعلي رضي الله عنه لما رأى الناس قد يظنون أن المتعة لا تحل أهل بها وصاح بالعمرة لكي يرد على العكس. فلا الذين يقولون بالإفراد دائماً مصيبون، ولا الذين يقولون بالتمتع مطلقاً مصيبون بحيث يلزمون به الناس؛ إنما العدل الذي ينبغي القول به أنها أنساك ثلاثة خير الناس بينها، وأن الشريعة أرادت أن ترد على أهل الجاهلية في بدعتهم حينما كانوا يمنعون من العمرة في أشهر الحج؛ ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه وهو الذي أفتى بهذه الفتوى كما في صحيح البخاري: (كانوا يقولون: إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر) فمنعوا من العمرة في أشهر الحج، وكانوا يرون أن من أفجر الفجور أن يأتي الشخص بعمرة في أشهر الحج؛ ولذلك خالفهم الشرع وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر أصحابه من لم يسق الهدي أن يتحلل ويجعلها عمرة. وأما مسألة أن الإفراد منسوخ فهذا قول شاذ، يقولون: إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفى والمروة وليس معه هدي فقد حل شاء أو أبى، هذا قول شاذ؛ ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن عروة بن مضرس رضي الله عنه وأرضاه، وكان هذا الحديث ليلة عيد النحر، وهذا الصحابي رضي الله عنه أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المشعر، فقال: (يا رسول الله! أقبلت من جبل طي، أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، ما تركت جبلاً ولا شعباً إلا وقفت عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: من صلى صلاتنا هذه، ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليلٍ أو نهار، فقد تم حجه). فهذا نص واضح على أن الإفراد لا زال باقياً، وهذا الحديث متأخر عن الأمر بفسخ الحج بالعمرة، ولذلك فالصحيح أن إيجاب الفسخ الذي يقول به ابن عباس رضي الله عنه خاص بتلك السنة. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (دخلت العمرة في الحج) أي أنه يجوز فعل العمرة في أشهر الحج، حتى لا يظن أن ذلك خاص بتلك السنة فيعود الناس إلى عادة الجاهلية. ومن هنا فالأحاديث واضحة في دلالتها، فينبغي أن يحمل كل نص على دلالته، فالأحاديث التي دلت على أن العمرة دخلت في الحج، معناها أنها دخلت في أشهر الحج فحل وقوعها في أشهر الحج؛ لأنها لها سبب، وليس المراد أنه لا يمكن أن يأتي الإنسان بحج منفرد وأنه لابد أن يكون معه عمرة إما قران أو تمتع، لأنه لابد من ربط السنة القولية بالسنة الفعلية، وسبر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والأحوال التي قيلت فيها النصوص حتى تفسر النصوص كما وردت، وتربط بفهم السلف الصالح. فإذا كان أئمة الصحابة رضوان الله عليهم والخلفاء الراشدون من بعدهم قد فهموا ذلك وفسروا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، فالواجب العمل بذلك، ولا شك أن القول ببقاء نسك الإفراد نسكاً شرعياً يخير المنسك فيه هو الأرجح، ولذلك اختار شيخ الإسلام رحمه الله أن الأفضل للشخص إذا أمكنه أن يأتي بالعمرة بسفر مستقل والحج بسفرٍ مستقل، فالأفضل له أن يفرد، وأما إذا أمكنه أن يسوق الهدي معه من بلده فالأفضل له القران تأسياً بالرسول صلى الله عليه وسلم. وإن كان كما هو حال كثير من الحجاج الذين يأتون من الخارج ويصعب عليهم الإتيان للعمرة بسفرٍ مستقل، فالأفضل لهم التمتع، هذا من أفضل الأقوال في الجمع بين الأنساك الثلاثة؛ لأنه جمع النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع أيضاً بين الآثار الواردة عن الصحابة. فإن عمر بن الخطاب وعلياً رضي الله عنهما وهما أعلم بكتاب الله كانا يقولان في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] (إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك) أي: تنشئ للحج سفراً مستقلاً وللعمرة سفراً مستقلاً، فهذا أعظم للأجر وأتم للحج والعمرة. ثم قول ابن عباس كما يقولون: إن الأمر بالفسخ معارض للقرآن، لأن القرآن يقول: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] أي: إذا أحرمتم بحجٍ أو أحرمتم بعمرة فأتموها، سواءً وقعتا مجتمعتين أو منفردتين؛ وهذه الآية تدل على لزوم إتمامه بالإجماع، حتى أن الحج لو فسد يجب عليه أن يتمه مع الفساد. ولذلك قضى أبو هريرة وجابر بن عبد الله وابن عمر رضي الله عنهم وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجوب إتمام الحج الفاسد، وعمر رضي الله عنه قضى بذلك: فإن الرجل لما جامع زوجته قبل عرفة أمره رضي الله عنه أن يمضي في نسكه الفاسد وأن يتمه. فنسك الحج لا يقال بوجوب فسخه لكن ممكن أن نقول للإنسان: افسخ حجك بعمرة وارجع بحجة وعمرة فهذا خير لك وأفضل، وليس هناك مانع من ذلك، مثلاً: جاء الحج، فنقول له قبل أن يطوف بالبيت: افسخ حجك بعمرة حتى تصيب العمرة مع الحج وتصبح متمتعاً وتنال فضيلة التمتع، وليس هناك بأس في هذا، لكن هذا على سبيل الفضيلة لا على سبيل الفريضة، وفرق بين الإلزام وبين التخيير، والله تعالى أعلم.

الفرق بين بيع التورق والتقسيط

الفرق بين بيع التورق والتقسيط Q فضيلة الشيخ ما هو التورق، وهل هو نفس بيع التقسيط، وما حكمه؟ A التورق: من الورق، أي: أن الإنسان يريد المال، فيشتري السلعة وهو لا يريدها، ولكنه يريد أن يبيعها من أجل أن يسدد ديناً أو يتزوج، أو يبني بيتاً، فهو يريد مالاً وليس هناك أحد يسلفه هذا المال، فاشترى سيارة بعشرين ألفاً مقسطة، ثم باعها نقداً، قالوا: إنه يريد الورق. فجمهور العلماء على أن من اشترى سيارة أو اشترى عيناً مؤجلة، ثم باعها معجلة بالنقد لغير الذي اشترى منه، كأن تأخذها من معرض ثم تبيعها على معرض أو على مشترٍ ثانٍ؛ فلا بأس في ذلك ولا حرج. والدليل على ذلك هو قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] فإنك لو اشتريت السيارة بالتقسيط بمائة ألف، فإنه يجوز بيع التقسيط ولا حرج فيه إلى أجل، فهذا بيع صحيح، ثم إذا بعتها على يدٍ ثانية بيعاً شرعياً تملكه به وقيمة السيارة حاضرة بتسعين ألفاً، قالوا: يجوز لك أن تملك هذه التسعين ولا بأس. أما كونك تدفع الزيادة في الأجل لزيادة الأجل فهذا أقره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وعن أبيه قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة) لأن هذا ما يحصل به ربا؛ لأنه من المعدودات، والربا هو في المكيلات والموزونات، فأمره أن يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كانت تأتي عليه الغزوة فجأة وليس عنده ظهر يركبه، فيأمر عبد الله بن عمرو أن يستدين للجيش، فيأخذ مائة بعير بمائتين ليرد لصاحب البعير بعيرين (أمرني أن آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة) أي: إلى أجل، وهو أن يأتي الناس بصدقاتهم فتقضى هذه الديون، فدل هذا الحديث على أن قيمة النقد ليست كقيمة المؤجل {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3] فإذا كانت السيارة قيمتها إلى أجل بـ[90] ألفاً أو بـ[100] ألف فلا بأس ولا حرج، هذا بيع شرعي، فقد أحل الله بيع المؤجل كما أحل المعجل ما لم يدخله الغرر. لكن المحظور أن تبيع لنفس المعرض؛ لأنه لو باع لنفس المعرض الذي اشترى منه بمائة إلى آخر السنة القادمة، فباعها نقداً بتسعين أصبحت الحقيقة أنه بيع [90] نقداً مقابل [100] إلى أجل، وهو بيع العينة الذي حرمه العلماء وهو قول الجمهور، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم) فالمقصود أن التورق غير مسألة العينة، العينة يبيع لنفس المعرض الذي أخذ منه، لكن التورق يبيع لشخص آخر، فإذا باع لشخصٍ آخر فالجمهور على أن هذا ليس به بأس، وأنه لا حرج عليه. وشدد فيها بعض العلماء فقالوا: إن هذا الشخص يريد المال، فأصبح كأنه أخذ مائة حاضرة بمائة إلى أجل، وهذا عين الربا، فردوا عليهم بأنه يصير عين الربا لو كانت اليد واحدة، ولكن أخذ من شخص وأعطى لشخص آخر هذا ليس بربا. ثم قالوا لهم: إذا كانت العلة في التحريم عندكم أنه اشترى بمائة إلى أجل وباع بمائة حاضرة لحرمت بيوع التجار؛ لأنهم هنا يقولون في التورق: هذا مقصوده المال، وليس مقصوده السلعة، فنقول: والتجار مقصودهم الأموال وليس مقصودهم السلع؛ لأن التاجر حينما يشتري عشر سيارات ما يريد إلا أن المليون التي دفعها في العشر ترجع له مليوناً ونصفاً، وهذا لا يشك فيه أحد، فهي حلال على الغني حرام على الفقير الذي جاءه ظرف!! ما يمكن هذا؛ لأن الصورة عكسية، الغني يشتري بمليون ويربح مليونين ويتأخر في بيعها حتى تنفد، والفقير اشترى إلى أجل فليس برابح بل هو خاسر عكس الغني؛ لأنه سيدفع مائة ويأخذ تسعين. وبما أنه ليس هناك نص يدل على تحريم هذا، والعلة العقلية التي ذكروها منتقضة، فإنهم إذا كانوا يقولون: هذا مقصوده المال وليس مقصوده التجارة، قلنا: ليس هناك تاجر يشتري سلعة وهو يريد السلعة، فحينما تدخل بمال في التجارة، أو تدخل في معرض سيارات، أو تدخل في شراء القماش أو أي شيء تريد أن تتاجر فيه تدفع أموالاً وأنت تريد المال. وعلى كل حال الذي يظهر جواز هذا وصحة قول جمهور العلماء رحمهم الله، ولذلك شيخ الإسلام رحمه الله لما اختار هذا القول روجع كثيراً في هذه المسألة؛ لأن الحقيقة أن القول بجوازها يؤيده عموم النص: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] فإنه أصلٌ في حل البيع حتى يدل الدليل على تحريمه. وكذلك أيضاً العلة التي جعلوها موجبة للفساد منتقضة، بدليل أنهم يبيحون للتاجر أن يشتري وقصده المال، غير أن التاجر ربح وصاحب الدين غرم، فالأول غنم والثاني غرم، وعلى كل حال الذي يظهر جواز هذه الصورة وأنه لا بأس بها. وأما بيع التقسيط: فالتقسيط بيعٌ مشروع، ولكن هناك صور محرمة، ووجود الصور المحرمة لا تقتضي تحريم البيع نفسه. وبيع التقسيط يقوم على أن تشتري شيئاً وتدفع قيمته أقساطاً بزيادة، ففيه أمران: الأمر الأول: تقسيط الدفعات، والثاني: الزيادة على قيمة السلعة لقاء الأجل. فأما الزيادة على السلعة لقاء الأجل ففيها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو دالٌ على جواز مثل هذا لقاء الأجل؛ إنما المحرم أن يقول له: إن أخذتها ودفعت الأقساط في سنة فهي بمائة ألف، وإن دفعتها في سنتين فمائة وخمسون، فيخرج من عنده ولم يحدد هل هي إلى سنة أو سنتين أو ثلاث، فهذا عين الربا؛ لأنه يمكن أن يعجز في السنة الأولى فيختار التأخير للثانية وهذا عين الربا، وهو (زد وتأجل) الذي كان من ربا الجاهلية، لكن التقسيط الموجود والشائع في أكثر صوره خاصة عندنا هنا أن الشخص يأخذ بمائة ألف كل شهر يدفع قسطاً، فإذاً الزيادة لقاء الأجل مشروعة لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص (بعير ببعيرين) إذا كان باتاً، لأنه ما قال: فإن تأخرت فثلاثة أبعرة، إنما قال: ببعيرين، وهذا الذي يسمونه الجزم والبت، فإن كان التقسيط على البت فلا إشكال. بقيت قضية كون المال أقساطاً فهذا فيه حديث صحيح، وهو حديث عائشة في الصحيحين، فإن بريرة رضي الله عنها لما جاءت إلى عائشة في قصة أهلها لما كاتبوها وعجزت عن أقساط الكتابة، فنفس عقد الكتابة أقساط مؤجلة، وقد أحل الله عز وجل الكتابة في كتابه وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي -أي: الكتابة- مكاتبة بين العبد والسيد قائمة على بيع الأجل بالأقساط، فإذاً: وجود الأجل في التقسيط لا يمنع شرعاً لأن له نظيراً من نظيره. ووجود الزيادة لقاء الأجل لا يمنع، إنما الممنوع أن يقول له: هي لك مؤجلاً على أن تدفع لقاء تأخير كل سنة من القيمة الحقيقية 6% من القيمة الإجمالية أو 10%، أو 5%، فهذا عين الربا ولا يجوز، حتى ولو علم أنه سينتهي في السنة الأولى، ولذلك تجد بعض الناس واثق من نفسه أنه سيسدد في السنة الأولى ويقول: إذاً لا أقع في الربا، نقول: لا، رضاك بالعقد كفعلك له؛ لأن كتابة هذا الربا فيه اللعنة، وحينما رضي به فإنه ملزم به، والراضي به يعتبر شريكاً لصاحبه في الإثم؛ لأنه يؤكل الربا. وعلى كل حال فبيع التقسيط ليس من البيوع المحرمة للوجوه التي ذكرناها من دليل الكتاب والسنة، والله تعالى أعلم.

حكم أداء تحية المسجد وقت الأذان يوم الجمعة

حكم أداء تحية المسجد وقت الأذان يوم الجمعة Q يقول السائل: دخلت المسجد يوم الجمعة والمؤذن يؤذن الأذان الثاني، فهل أصلي ركعتين تحية المسجد أو أستمع إلى المؤذن وأصلي بعده أثناء خطبة الإمام؟ A في الحقيقة إذا استمعت للمؤذن الأذان الثاني سيفوتك شيء من الخطبة، وعند العلماء هذه المسألة تعتبر من مسائل الازدحام، فعندهم مسائل يسمونها مسائل الازدحام، حيث ازدحم عندنا الاستماع للخطبة من أولها ومتابعة الأذان، وذكر الخطبة واجب؛ لأنه أمر بالإنصات له، فهو في مقام الواجبات، ولذلك أمر بالإنصات له وعدم الانشغال عنه، بخلاف الإنصات للمؤذن فإنه في الرغائب، فالأول بمنزلة الواجبات المؤكدة وهو المقصود من السعي إلى الجمعة {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]. إضافة إلى أن الترديد وراء المؤذن من جنس العبادات واستماع الخطبة من جنس العلم، والعلم أشرف من العبادة، فمن هذه الأوجه اختار جمع من العلماء وكان اختيار الوالد رحمة الله عليه أنه يصلي ولا يردد وراء المؤذن، هذا كله على القول بأنه لا يردد أثناء النافلة، وهناك قول عند بعض العلماء أنه لو أذن المؤذن وأنت في نافلة فإنك تردد معه؛ لأنه من الذكر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس وإنما هو التسبيح وقراءة القرآن وذكر الله) فقالوا: هذا من ذكر الله. لكن هذا ضعيف، والصحيح أنه لا ينشغل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أذكاراً محددة، فينبغي أن لا يردد معه، لكن يمكن أن يردد في نفسه، وكما لو كان في بيت الخلاء ونحو ذلك فإنه يردد في نفسه. وعلى كل حال أن تصلي تحية المسجد ثم تنصت للجمعة أفضل وأكمل، والله تعالى أعلم.

حكم من اعتمر وسعى ثلاثة أشواط فقط

حكم من اعتمر وسعى ثلاثة أشواط فقط Q لو أن شخصاً اعتمر، وبعد الطواف سعى بين الصفا والمروة ثلاثة أشواطٍ فقط فما الحكم، هل عليه ذنب، أو الإعادة مرة ثانية؟ A أولاً: ينبغي للمسلم أن يتقي الله في فرائض الله، الحج والعمرة أمر بإتمامهما ولا يجوز التلاعب بشعائر الله عز وجل فإن تعظيمها من تقوى القلوب، وتضييعها والاستخفاف بها لا يؤمن على صاحبه والعياذ بالله. وغالباً أن الاستخفاف بشعائر الله التي أمر الله أن تعظم وتركها وعدم المبالاة بها، هذا شيء يخشى على صاحبه، وعواقبه وخيمة؛ لأن الله تعالى أمر من أهل بالعمرة أن يتمها ومن أهل بالحج أن يتمه، إلا ما استثناه الله من الإحصار وغير ذلك مما يوجب الفسخ. على كل حال فيجب عليك أن ترجع وتتم سعيك، ونظراً لأنك سعيت ثلاثة أشواط ثم حصل الفاصل بين الشوط الثالث والرابع فقد انقطع التتابع، وعليك أن تبدأ بالسعي من أوله؛ لأنه يشترط في صحة السعي التتابع والموالاة، فإذا وقع الفاصل المؤثر كالأكل والشرب والخروج من المسعى فإنه يجب عليك أن تستأنف وتبتدئ سعياً جديداً، وعلى القول بأنه لا سعي إلا بطواف تطوف طواف نافلة ثم بعد ذلك تسعى بعده. لكن لو كان قد وقع جماع من هذا الشخص فإنها قد فسدت عمرته؛ لأنه لم يتم ركن العمرة، وإذا وقع الجماع قبل الطواف بالبيت أو قبل السعي بين الصفا والمروة أو أثناء السعي قبل أن يتمه فإنه يحكم بفساد العمرة ولزوم إتمام الفاسد، ثم يقضي مكانها عمرة وعليه دم.

حكم من صلى بالناس وهو محدث جاهلا حدثه ثم علم بعد الصلاة

حكم من صلى بالناس وهو محدث جاهلاً حدثه ثم علم بعد الصلاة Q إذا صلى الإمام وهو على غير طهارة ولم يتذكر إلا بعد الصلاة، فذكر للمأمومين أنه صلى على غير طهارة، فما حكم صلاة الإمام والمأمومين؟ A هذه المسألة فيها قولان مشهوران للعلماء، جمهور العلماء على أن الإمام إذا صلى بالناس ناسياً للطهارة أن صلاة المأمومين صحيحة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري: (يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم) فإذاً: صلاتكم تامة صحيحة وعليهم خطؤهم. فقالوا: إن من صلى وهو محدثٌ فقد أخطأ، فخطؤه عليه، ومن صلى وراءه فأتم الأركان واستوفى الشروط وأتى بالصلاة كما أمر فله صلاته، وهذا هو الصحيح، وفعل الصحابة دال على ذلك فإن مالكاً رحمه الله روى في الموطأ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صلى بالناس الفجر، ثم انطلق إلى مزرعته بالجرف، وبين الجرف والمدينة ما لا يقل عن أربعة أميال إلى خمسة أميال، فلما جلس على الساقية بعد طلوع الشمس رأى أثر المني على فخذه رضي الله عنه، فقال رضي الله عنه: (ما أراني إلا احتلمت وصليت وما اغتسلت) ثم اغتسل رضي الله عنه وأعاد الصلاة ولم يأمر الناس بالإعادة. وهذا يدل على أن الأصل أن صلاة المأمومين صحيحة ما دام أنه لم يتذكر أنه محدث إلا بعد سلامه ولم يعلم المأمومون بحدثه. أما الإمام فقولٌ واحد أنه يلزمه أن يعيد صلاته، فلو صلى وهو يظن أنه طاهر ثم تبين أنه محدث حدثاً أصغر أو أكبر وجب عليه أن يتطهر كما أمره الله، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة واللفظ لـ مسلم: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول) وهذه الصلاة بغير طهور، وبناءً على ذلك يلزمه أن يتطهر كما أمره الله، وأن يصلي على الوجه المعتبر، والله تعالى أعلم.

حكم بيع التماثيل للكفار

حكم بيع التماثيل للكفار Q النجارون في بعض البلاد ينحتون التماثيل ويبيعونها للكفار بأثمان غالية، هل هذا جائز؟ علماً بأن هذه التماثيل منها ما هو من ذوات الأرواح. A التماثيل محرمة، ولذلك قال علي رضي الله عنه لـ أبي الهياج: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالاً إلا كسرته، ولا صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) فدل على حرمة التماثيل. وبيعها محرم بإجماع العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (إن الله ورسوله حرما بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام) وحرم بيع التماثيل لأنها تفضي إلى أعظم الشرور، وهو الشرك بالله عز وجل؛ وتحريم بيعها من تحريم الوسائل المفضية للمفاسد. والوسائل منها ما هو وسائل تفضي إلى المصالح، ومنها وسائل تفضي إلى المفاسد، فهناك وسائل تفضي إلى المصالح مثل: ركوبك السيارة من أجل أن تصلي في المسجد، وركوبك السيارة من أجل أن تدرك الحج، هذا وسيلة إلى طاعة وعبادة وقربة، وكذلك قد تكون الوسيلة إلى شر وفساد، فالوسيلة إلى الحرام من الزنا وشرب الخمر والربا وغير ذلك تأخذ حكم مقصدها، فمن هنا قالوا: أعظم الوسائل شراً وأعظمها ضرراً وأعظمها إثماً بعظم مقصدها، فإذا كانت وسيلة إلى الشرك فهي أعظم الوسائل ذنباً، وأعظمها شراً، وتشدد فيها الشريعة، ولذلك نهي عن الغلو في صالح أو طالح، في دين أو دنيا؛ لأن العبد الصالح إذا غلوا فيه ربما عُبد من دون الله واعتقد فيه، ووقع الشرك المحظورَ. وأيضاً عظيم الدنيا إذا عظِّم وصار يُعْطَى أشياء لا تليق إلا بالله عز وجل، فإنه يصرف القلوب من الخالق إلى المخلوق، فلذلك نهي عن الغلو؛ لأنه وسيلة للشرك. كذلك نهي عن بيع الأصنام؛ لأنه وسيلة إلى تعظيمها، وعبادتها، فلا يجوز بيع الأصنام مطلقاً، وما ورد في السؤال أنه يبيعها إلى الكفار فإنه في قول جماهير العلماء رحمهم الله محرم، سواء باع لكافر أو مسلم، وكونهم كفاراً لا يعني أن نعينهم على معصية الله عز وجل، وهذا نوع من الإقرار على ما هم فيه؛ ولذلك كان القول بأن الربا يجوز مع الكفار وبيع الخمر يجوز للكافر، والأصنام يجوز بيعها للكافر، كلها اجتهادات في مقابل النصوص، وأرى أنها مصادمة لنصوص واضحة، ولو نُظر وتؤمل إلى المعاني والاجتهادات الشرعية التي هي خلافها لكان أولى وأحرى. فلذلك لا يجوز بيع الأصنام والتماثيل لا إلى مسلمين ولا إلى كفار، ودليلنا: عموم نهي النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما فتح مكة نهى عن بيع الأصنام والتماثيل دون أن يفرق بين الذي يباع له هل هو مسلم أو كافر، والأصل أن العام يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه، ولا مخصص لهذا العموم، ولذلك لا يجوز هذا البيع وماله حرام، لكن لو كسرت التماثيل وأريد الاستفادة من مادتها كالخشب فيصنع به شيء آخر ينتفع به، أو كانت من نحاس وبيعت نحاساً من أجل أن تصهر ويستفاد منها بشيء آخر، فلا بأس ولا حرج، شريطة أن لا تباع لمن يعيدها إلى حالتها التي كانت عليها، ويستوي أن تكون التماثيل لذوات الأرواح أو تكون لمعبودات من غير ذوات الأرواح ما دام أنها لعبادة، فيستوي في ذلك أن تكون من ذوات الأرواح أو غيرها، والله تعالى أعلم.

حكم المبادلة بالنقد مع التفاضل

حكم المبادلة بالنقد مع التفاضل Q كانت مع أخي [500] ومعي [490] فاحتاج الصرف الذي معي، هل يجوز أن أبادله ما معي بما معه، أم يشترط التماثل رغم أنه قال: الزائد هدية مني إليك. A الصرف لا يجوز في المتماثلين إلا مثلاً بمثل يداً بيد، ففي الحديث الصحيح عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد - وفي لفظ - سواء بسواء، فمن زاد أو استزاد فقد أربى). وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى في الصحيح: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض - يعني: لا تزيدوا بعضها على بعض- ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا غائباً منها بناجز). فبين عليه الصلاة والسلام أنه يجب عند صرف الذهب بالذهب والفضة بالفضة أن يكون مثلاً بمثل، وهذه الأوراق النقدية ينظر إلى رصيدها، فإذا كان رصيدها من الذهب كالجنيهات والدولارات والدنانير وجب صرفها مثلاً بمثل يداً بيد، وإن كان رصيدها من الفضة كالريالات والدراهم فإنه يجب أن يكون صرفها مثل بعضها مع اتحاد الصنف، ريالات بريالات مثلاً بمثل يداً بيد. وأما كوننا ننظر إلى أن هذه ورقة وهذا حديد -كما يوصف الريال بالحديد- وأن هذا من اختلاف الصنفين فهذا بعيد، لأن هذه العملة في الأصل أعطيت مستنداً لدين، وهذا الدين كان ريالاً فضة حقيقياً، وكوننا لا نستطيع الوصول إلى الرصيد لا يلغي الأصل من وجود الدين، لأن الدين لا يُلغى رصيده حتى ولو ألغي حقيقة بالتعامل مع الجماعات في الدول بعضها مع بعض، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له، ولذلك يجب صرفها مثلاً بمثل ويداً بيد، فيجب فيها التماثل ويجب فيها التقابض. ثانياً: أن هذا ليس من العدل وليس من الإنصاف، ولهذا حرمت الشريعة صرف الذهب بالذهب متفاضلاً؛ لأن المسلم يظلم أخاه حين يصرف ديناراً بدينارين، ظُلم صاحب الدينارين، والظلم الموجود في صرف الدينار بالدينارين في القديم موجود في هذه الورق نفسها في صرف الـ[500] بالـ[490]-مثلاً- لا يشك أحد، وهل أحد يشك أنه لو صرفت 10 ريالات من الورق بـ 9 ريالات من الحديد أنه لا يظلم صاحب الورق؟ لا يشك في هذا، ولولا أنه محتاج ومضطر ما صرف العشرة بالتسعة، وهذا كل واحد يعرفه والله عز وجل يقول: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] والرضا غير موجود في هذا، ولذلك تجده يعطيها وهو كاره وهو مضطر، وهو محتاج إلى هذا الشيء. وذكر العلماء في علل الربا والمعاني التي من أجلها حرمت الشريعة الدرهم بالدرهمين والدينار بالدينارين: أن هذا ظلم للفقراء، ويجعل الأغنياء يحتكرون الأموال، فإذا جاء الغني وعنده أموال يريد أن يصرفها، صار الذي عنده سيولة أكثر يأخذ أموالاً بدون تعب وعناء، وهذا هو الموجود الآن في الصرف، فإنه إذا كان عند الشخص القطع المعدنية استغل حاجة أصحاب المرض، فاليوم يصرف له عشرة ريالات بتسعة، وغداً لو صرفها بخمسة ريالات لم ينكر عليه أحد؛ لأنه يقول: عندي فتوى بجواز هذا، ولذلك تجده يمر على الشخص يكون له راتب دون [500] ريال فيصرف الخمسمائة بالنقص ثم المئات بالنقص، ثم الخمسينات بالنقص، ثم العشرات بالنقص، ماذا يبقى له من راتبه؟ يؤول له الأمر بعد أن كدح وتعب على [500] إلى أنها [490] والمستفيد الأول والأخير هو الغني على حساب الفقير. ونفس المعنى موجود في الذهب والفضة لا يختلف عنه، فيتضرر الأفراد وتتضرر الجماعة بالصرف المتفاضل، والموجود في القديم موجود الآن إذا صرف الريال بغيره متفاضلاً. ثانياً: لو قيل: إن هذا الورق ليس له رصيد، فلماذا أمر بزكاته؟ فالله ما أمرنا بزكاة الورق، إنما أمر بزكاتها لأن رصيدها مأمور بزكاته، والورق ليس فيه زكاة، إذ ليس في شرع الله أمر بتزكية الورق إنما أمر بتزكيتها لأن رصيدها من الذهب، أو رصيدها من الفضة، فالعلة كلها تدور على أن الرصيد ألغي، فنقول: لو أن شخصاً استدان من شخص وأعطاه مستنداً وقال له: لا رصيد لك، لم يصح شرعاً، كذلك إلغاء الرصيد واقعٌ في غير موقعه، أي: لا يؤثر في حقيقة الريال؛ ولذلك تجد نفس الخمسمائة تسمى خمسمائة ريال التي هي برأس واحد وورقة واحدة، والخمسمائة من المئات تسمى باسم واحد فالورق هو نفس الورق، والاسم هو نفس الاسم، ولذلك سمي الحديد باسم الورق، ولهذا كان الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، العلامة الإمام المجدد، هذا الإمام العظيم الذي في الحقيقة ما رأيت عالماً حفظ الفقه على أصول المتقدمين مع عمق في العلم والورع مثل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه، ومن أراد أن ينظر إلى الفقه المؤصل الذي أبدع فيه وأجاد رحمه الله خاصة في الفتاوى يحار من دقة هذا الإمام -والله لا أقولها مبالغة إنها حقيقة- من يدرس هذه الفتاوى يجد فيها العجب، وحدثني من أثق به من المشايخ، يقول: أنا كنت من رجال الحسبة، وكان يرسلني لتعزير من يصرف الريال بتسعة عشر أو ثمانية عشر قرشاً، قال: أنا ممن عزر في هذا بأمره، كان يرى أنه يجب صرفها متماثلة، وعلى كل حال: الصحيح أنه يجب فيها التماثل ويجب فيها التقابض وأن تكون مثلاً بمثل يداً بيد، إعمالاً للأصل، والله تعالى أعلم. أما قوله: الباقي لك هدية، فهذا حيلة، وإذا أراد أن يهدي فليقبض أولاًَ ثم يهدي، فهناك عقد صرف وهناك عقد هدية، فبعد ما ينتهي الصرف على السنن الشرعي يعطيه ما شاء، وحينئذ سترى هل تجد هدية أو لا تجد؟ وعلى كل حال هذه حيلة على الشرع، فمكنه من مالك ثم انظر هل يهدي أو لا يهدي، على كل حال الأصل يقتضي أن تقبض ويقبض، وانظروا إلى عدل الشرع، فإنه من أروع وأجمل ما يكون! الناس يظنون أنه إذا حرمنا هذه المعاملات أننا نضيق، والله ما من حكم يستنبط من الشريعة فيه تحريم إلا وجدت فيه من الرحمة ما لا يحصى، ثم انظر إلى عدل الشريعة: تعطيه خمسمائة كاملة، وتقول الشريعة: لا تأخذ بذلها إلا كاملة، يقول لك: أنا راضٍ، تقول له: ترضى بإتلاف مالك!! هذا سفه، والشريعة تحجر على السفيه، ولو كان راضياً أن يدفع تسعة مقابل عشرة، لكن لا يرضى بذلك عاقل. ولذلك حرمت الشريعة بيع درهم بدرهمين، ودينار بدينارين، حتى لا يستغل الغني الفقير والقوي الضعيف، وهذا من عدل الله عز وجل، وتجد أن الشريعة أمرت بالتماثل في الموزونات والمكيلات، لكن المعدودات ليس فيها تماثل؛ لأنك لو أردت أن تبيع ثوباً بثوبين فقد تجد الثوب من الجودة بحيث يكافئ الثوبين، لكن الموزون محرر والمكيل محرر، وهذه الريالات في أصلها من الورق لها وزنها، ولذلك وجب النصاب فيها بالوزن، (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة)، فهذا يعني الموزونات والمكيلات، فكله من عدل الله عز وجل، لأن المكيل ينضبط، فلا تستطيع أن تكون عادلاً مع أخيك إذا أخذت الصاع بالصاعين، وأخذت المد بالمدين، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا وأمر بالتماثل فيها، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب نفقة الأقارب والمماليك [1]

شرح زاد المستقنع - باب نفقة الأقارب والمماليك [1] ألزم الشرع الحكيم كل موسر بالنفقة على المعسر ممن كان من قرابته الأصول أو الفروع، وكذلك على الداخلين في الفروض أو العصبات من الحواشي، واستحب له أن ينفق على ذوي الأرحام أيضاً، وهذا كله من التكافل الاجتماعي الذي ينفرد به الإسلام عن غيره من المذاهب الأرضية المنحطة.

النفقة على الأقارب

النفقة على الأقارب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه المصطفى الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [باب نفقة الأقارب والمماليك].

أسباب وجوب النفقة

أسباب وجوب النفقة تقدم أن النفقة من الحقوق التي أوجبها الله عز وجل على المسلم، وأن هذا الحق له أسباب تقتضيه وتوجبه، وهذه الأسباب تتنوع في الشريعة الإسلامية، وهناك ثلاثة أمور مهمة ينبني عليها الحكم بوجوب النفقة: الأول: ملك النكاح. والثاني: ملك اليمين. والثالث: البعضية والقرابة. فهذه ثلاثة أسباب توجب النفقة: إما من جهة ملك النكاح؛ لأن الرجل يملك الاستمتاع بالمرأة. وإما ملك اليمين؛ كما قال تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3]، والرقيق والعبد والمملوك محبوس لخدمة سيده، كما أن المرأة محبوسة لزوجها، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنهن عندكم عوان)، والعوان: هو الأسير المحبوس، فالمرأة مملوكة بالنكاح محبوسة لحق الزوج، وملك اليمين -الرقيق- مملوك لسيده ومحبوس لمصالحه. وكذلك القرابة والبعضية توجب النفقة. فهذه ثلاث جهات ينبني عليها الحكم بوجوب النفقة. والمصنف رحمه الله قد بيّن لنا ما يتعلق بوجوب النفقة من جهة الزوجية، وهي ملك النكاح، وشرع الآن في بيان جانبين؛ الأول منهما يتعلق بالقرابة والبعضية، والثاني يتعلق بملك اليمين. وكلا الجانبين وردت فيه نصوص في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بينت بعض الأمور والمسائل والأحكام المتعلقة به. يقول رحمه الله: (باب نفقة الأقارب والمماليك) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق ببيان النفقة الواجبة من جهة القرابة، والنفقة الواجبة من جهة ملك اليمين.

النفقة للآباء على الأبناء

النفقة للآباء على الأبناء قال رحمه الله: [تجب أو تتمتها لأبويه وإن علوا]. أي: أنه يجب على المسلم أن ينفق على والديه، وهذه النفقة على الوالدين إما أن ينفقها نفقة تامة كاملة؛ بأن كان الوالد لا يستطيع العمل، وليس عنده أي دخل؛ فحينئذ يقوم ولده بنفقته نفقة تامة كاملة، أو يكون عند الوالد بعض الدخل، ويحتاج إلى سد العجز والنقص الموجود، فهذه تتمة النفقة. الأصل في وجوب ذلك: أن الله تعالى أمر الولد-سواء كان ذكراً أو أنثى- بالإحسان إلى الوالدين، قال الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83] أي: أحسنوا بالوالدين إحساناً، ولأن الوالد أنفق على الولد، فجعل الشرع من العدل؛ أنه إذا احتاج الوالد أن ينفق عليه ولده. ولأن الولد كان بسبب الوالدين، فحقهما آكد الحقوق، وفرضهما آكد الفرائض، ولذلك لا يتقيد بقدر -كما سيأتينا- لعظم حقهما. ووجه الدلالة من الآية الكريمة: أن الله فرض على الولد أن يحسن إلى والديه، وليس من الإحسان أن يكون الولد قادراً وبالوالدين عجز ولا ينفق عليهما بل هذا من الإساءة. وأما نص السنة: فقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم). فدل هذا الحديث على أنه إذا أكل الوالد من مال ولده فكأنه يأكل من كسبه هو. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح من حديث فاطمة رضي الله عنها: (إنما فاطمة بضعة مني يري ما رابها، ويؤذيني ما آذاها). والبضعة من الشيء كالشيء، فكما أنه يجب على الولد أن ينفق على نفسه، كذلك ينفق على والده. وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: (أنت ومالك لأبيك). فهذا كله يدل على أن الوالد له حق في مال ولده، وأنه إذا أعوز الوالد أو أعسر وجب على الولد أن يتقي الله فيه، وأن يؤدي الحق الذي أوجب الله، فيسد خلته ويقضي حاجته. وإذا قلنا (الوالد) فهذا يشمل الأب والأم؛ أما الدليل على أنه يشملهما: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن البر، وأحق الناس بالبر: (يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك، ثم الأقرب فالأقرب؛ حقاً واجباً، ورحماً موصولاً)، كما في رواية أبي داود في السنن. فهذا يدل على أنه يجب على الولد أن يقوم بحق والده إن عجز الوالد أباً كان أو أماً، ويسد هذا العجز بالنفقة عليه. وإن كان عجزاً جزئياً؛ فيجب بعض النفقة، أي: يجب عليه أن يتم مادام قادراً مستطيعاً على ذلك الإتمام. الأمر المهم بالنسبة للنفقة أنها قد تكون على الزمان المتباعد، وقد تكون على الزمان المتقارب، فإذا كان الوالدان بهما حاجة في يوم -الذي هو جزء الزمان- فيجب عليه أن ينفق عليهما في ذلك اليوم، لأن الوالد قد يحتاج في يوم من الأيام، وقد يحتاج طيلة الشهر، وقد يحتاج طيلة الأسبوع، المهم أنه يجب عليه أن ينفق. فلو أن والداً لم يجد طعاماً، أو والدة لم تجد طعامها؛ فإنه يجب على الابن أن يعطيها نفقتها من أول اليوم، كما ذكرنا في نفقة الزوجة، وبينا وجه أن النفقة تستحق من أول اليوم. قوله: (لأبويه) هذا من باب التغليب: كالعمرين، والقمرين. وقوله: (لأبويه) يشمل الوالد والوالدة، الذكر والأنثى. وقوله: (وإن علوا): يشمل جده من جهة أبيه، وجده من جهة أمه، وكذلك جدته من جهة أبيه، وجدته من جهة أمه، الجدة سواء كانت صحيحة أو كانت -كما يسمونها- ساقطة أو كاسدة، أي: أنها ساقطة وفاسدة في الإرث، وليس عندها سبب يقتضي ميراثها، كما سيأتي إن شاء الله بيانه في باب الفرائض. لو أن رجلاً عنده أب الأب - الجد الصحيح- ليس عنده نفقة، ولا طعام، ولا كسوة؛ وجب عليه أن ينفق عليه، ولو كان عنده جدة تمحضت بالإناث كأم أمه، أو تمحضت بالذكور كأم أب الأب، أو جمعت بينهما؛ كأم أب الأم؛ ففي هذه الحالة يجب عليه أن ينفق عليها إذا كانت معسرة. فقوله: (وإن علوا) يشمل أب الأب؛ الجد المباشر، والجد بواسطة، أب أب الأب، وأم أم الأم، وإن علوا. أي ولا ينظر إلى القرب والبعد.

النفقة للأبناء على الآباء

النفقة للأبناء على الآباء قال رحمه الله: [ولولده وإن سفل] ويجب على المسلم أن ينفق على ولده وإن سفل-أي: وإن نزل- لأن الله عز وجل وصى الوالد على ولده، وأمره بالإحسان إليه، وجاءت النصوص في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم تقتضي بالقيام على الولد بالرعاية والعناية، قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233]. والمولود شاملاً للذكر والأنثى على التفصيل الذي سيأتي إن شاء الله؛ فهذه الآية تدل على أنه يجب على الوالد أن ينفق على ولده. والإجماع قائم على ذلك، وجاءت السنة تؤكد ما في كتاب الله عز وجل، كما في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قصة هند، لما قال لها عليه الصلاة والسلام - أي: لـ هند -: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فقوله يدل على أنه يجب على الوالد أن ينفق على ولده، لأنها قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، أفآخذ من ماله؟ فدل على تقصيره في النفقة، على دعواها أو سؤالها، على الخلاف هل هي دعوى أو فتوى؟ والصحيح أنها فتوى. فأفتاها عليه الصلاة والسلام أن تأخذ من ماله ولكن بالمعروف، فدل على أن الولد تجب نفقته على والده، لأنه جعل له حقاً في المال، وأمر الزوجة أن تأخذ من ذلك المال بالمعروف للولد. فلو كان الولد لا نفقة له على والده لما أحل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تأخذ من ذلك المال. وأجمع العلماء رحمهم الله على أنه يجب على الوالد أن ينفق على ولده. قوله: (وإن سفل) يعني: وإن نزل، وهذه العبارة يستعملها العلماء والفقهاء رحمهم الله في كتاب الفرائض وغيره، والمراد بها سواء كان مباشراً كالابن، أو بواسطة كابن الابن، سواء تمحضت الواسطة من جهة الذكور كابن ابن، أو تمحضت بالإناث كبنت بنت، أو جمع بين الذكور والإناث: كابن البنت، وبنت الابن.

النفقة على ذوي الأرحام

النفقة على ذوي الأرحام قال رحمه الله: [حتى ذوي الإرحام منهم]. أي: حتى ذوي الأرحام من الأصول والفروع، فهاتان الجهتان أقوى جهات الحقوق في النفقة، أعني جهة الأصول والفروع؛ لأن نصوص الكتاب والسنة تدل على عظم حق الولد عند والده، وعظم حق الوالد عند ولده، وكما في حديث فاطمة رضي الله عنها: (إنما فاطمة بضعة مني)، وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح عن عائشة في السنن: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن ولدكم من كسبكم)، فجعل كسب الولد والوالد كالشيء الواحد؛ فهذا يدل على قوة هذه الجهة من جهة الأصول، أو من جهة الفروع. والواقع يصدق ذلك، فالابن فرع لوالده، والوالد أصل للولد، فتعظيم هذا الجانب حق حتى ولو كان من ذوي الأرحام، وذوو الأرحام هم في الحقيقة دون جهة الفرض والتعصيب. وذوو الأرحام لا يرثون؛ فالخال، والخالة، والعمة، وابن العمة، وابن الخالة، وبنت العم؛ هؤلاء ليس لهم ميراث في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في الأصل، لكن اختلف العلماء رحمهم الله إذالم يوجد وارث لا بفرض ولا بتعصيب، هل ينزلون منزلة من أدلوا به؟ فاختار جمع من العلماء رحمهم الله أنهم ينزلون، ودليلهم حديث: (الخال وارث من لا وارث له). والأصل عندهم قوله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال:75]، فدل على أنها جهة تستحق، وسيأتي تفصيل هذه المسألة إن شاء الله في الفرائض. مثال لذوي الأرحام: الجدة الصحيحة، والجدة الفاسدة، فالجدة الصحيحة من تمحضت في الإناث، من أمثلتها: أم الأم، فهذه حقها ثابت من جهة النفقة، لكن بالنسبة للجدة الأنثى إذا أدلت بذكر بين أنثيين، فهذه تعتبر ساقطة في الإرث، يسمونها الجدة الفاسدة أو الساقطة، إشارة إلى أنه لا حق لها في الإرث، فتعتبر من ذوي الأرحام، ولا إرث لها في الأصل، كأم أبي الأم، هذه جدة لا إرث لها في الأصل، لا فرضاً ولا تعصيباً، وهي من ذوي الأرحام في الأصول. فذوو الأرحام يكونون في الأصول، والفروع والحواشي، فالنسبة لذوي الأرحام في الأصول والفروع لا يسقطون، فبنت بنت الابن لا تسقط، لأننا قلنا: الأصول والفروع لا يسقط ذوو الأرحام منهم، وهذا لعظم جهة الأصول والفروع، وبناءً على ذلك؛ لو كان له جدة أم أبي أم فاسدة، أو جدة ساقطة، فإنه يجب عليه أن ينفق عليها مع أنها من ذوي الأرحام في جهة الأصول، ولو كان عنده بنت ابن البنت، فهذه من جهة الفروع تعتبر من ذوي الأرحام، بخلاف بنت الابن فلها فرضها في كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن بالنسبة لبنت ابن البنت، وبنت البنت، هذه تعتبر من ذوي الأرحام، ويجب عليه أن ينفق عليها، فلو أن بنت بنته احتاجت وجب عليه أن ينفق عليها وكذلك بنت بنته. فالأصول والفروع لا يسقطون إذا كانوا من ذوي الأرحام.

النفقة على المعسر المحجوب في الوراثة

النفقة على المعسر المحجوب في الوراثة قال رحمه الله: [حجبه معسر، أو لا]. أي: سواءً كان الأصل أو الفرع يحجب هذا الذي يجب أن ينفق عليه أو لا. والحجب أصله المنع، والحجب مصطلح يستعمله العلماء رحمهم الله في الفرائض، لأن الشريعة جعلت الحقوق في الإرث مرتبة مفصلة، فالله جل وعلا تولى قسمة الحقوق والفرائض من فوق سبع سماوات، ولم يكلها لا إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:176]. والكلالة مسألة من مسائل الميراث، وهو من انقطع من النسب فلا والد له ولا مولود، أي: انقطع من الآباء والجدود والأبناء. فهذه الفرائض فرضها الله عز وجل وقدرها، وهناك من يحجب ويمنع بوارث جعله الله أحق منه بالإرث، وإذا حجب هذا الشخص ذكراً كان أو أنثى، فإما أن يحجب في شرع الله حجباً كلياً باسم الحجب الكامل (حجب الحرمان) وإما أن يحجبه حجب نقصان، فالشريعة الإسلامية جعلت الحقوق مرتبة في الفرائض، واصطلح العلماء في هذا الحرمان وهذا المنع الكلي أو الجزئي على تسميته بالحجب. فإن قيل: فلماذا أدخل العلماء مسألة الحجب في النفقة؟ ف A لأن النفقة التي للقرابة مبنية على الإرث، وهذا في الحقيقة من عدل الله سبحانه وتعالى، حيث جعل الغرم بالغنم، فإذا كان قريب الإنسان إذا مات يرثه، فكذلك هو يستفيد من إرثه، ويأخذ الربح من جهة إرثه، فكذلك إذا افتقر هذا القريب في حال حياته، فإنه ينفق عليه، فعدل الله سبحانه وتعالى وجعل الإرث مؤثراً: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233]، فجعله موجباً لثبوت حق النفقة. فهنا في مسألتنا إذا كنا نقول: إن الإرث سبب من أسباب وجوب النفقة، فالوارث تارة يحجب وتارة لا يحجب؛ فإن لم يكن محجوباً فلا إشكال لأنه مستحق من جهة الإرث. لكن إذا كان في الإرث يحجب حجب نقصان أو حجب حرمان؛ فهذا يؤثر، لكنه في الأصول والفروع لا يؤثر، وهذا جعله استحقاقاً ثابتاً لأن الأصل والفرع جهته متمحضة من حيث البعضية بخلاف الوارث؛ فإنه من جهة التشريك في القرابة، سواء كان من الفروع أو الحواشي أو نحوها. ففُرق بين الأصول والفروع في مسألة ذوي الأرحام- التي تقدمت معنا- وهنا في مسألة وجود من هو حاجب؛ سواء كان حجب حرمان أو حجب نقصان. فقوله: [حتى ذوي الأرحام منهم حجبه معسر أو لا]. لو أن له جداً، هو أبو أبيه، والأب فقير، فتستحق النفقة عليه للوالد وللجد. إذا جئنا من ناحية الإرث، فإن الجد لا يرث مع وجود الابن. فهذا الذي يريد أن ينفق عليه محجوب، ولا يرث من جده مع وجود أبيه، فالأصل يقتضي أنه لا تجب عليه نفقة هذا الجد، وإنما تجب على الأب، سواء حجبه معسر أو لا. ففي هذه الحالة نقول للابن: أنفق على أبيك وجدك، فإذا حكمنا بإنفاقه على جده، فإنه في الأصل لا يرث من هذا الجد لوجود الأب، ولكن هذه مسألة مستثناة في الأصول-كما ذكرنا- بخلاف غير الأصول والفروع كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وأيضاً قوله: (حجبه معسر أو لا): يفهم منه أنه إذا لم يحجبه؛ مثل أن يفتقر جده ويحتاج إلى النفقة، ووالده ميت - الذي هو أبوه- ففي هذه الحالة يجب عليه أن ينفق على الجد، فاستوت العبارة في الدلالة على أنه ملزم بالنفقة، سواء كان محجوباً بمعسر-الذي هو الأب الموجود- أو كان غير محجوب؛ كأن يكون جده قد مات ابنه-الذي هو الأب- فيجب على هذا الولد أن ينفق على جده سواء حجب من معسر أو لم يحجب.

تأثير التوارث في وجوب النفقة

تأثير التوارث في وجوب النفقة قال رحمه الله: [وكل من يرثه بفرض أو تعصيب]. هذا الجانب الثاني في القرابة، فالجانب الأول: أصل الإنسان وفرعه، وهنا الجانب الثاني، ويشمل البقية؛ كالحواشي والقرابات، كما سيأتي بقية القرابات. فبقية القرابات بين المصنف رحمه الله أنه يجب عليه أن ينفق على من يكون وارثاً له منهم، سواء كان بفرض أو بتعصيب، فإذا كان وارثاً بفرض أو تعصيب استحق النفقة، لقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233]. فهذه الآية الكريمة من سورة البقرة أوجب الله سبحانه وتعالى فيها النفقة، وبينت حكم النفقة على الولد في الرضاعة، فأمر الله عز وجل الوالدة أن ترضع ولدها، وأمر الله الوالد أن ينفق على هذه المرضعة، ولما أمره بالإنفاق، وبين أن المولود له -وهو الوالد- يجب عليه أن ينفق، قال بعد ذلك: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233]. فبعد أن قال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة:233]، قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233]، فاستفدنا من الآية أن الوالد ينفق على ولده في الرضاعة، وذلك حق عليه واجب: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233]. ثم قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233] أي: فلو كان والد الطفل ميتاً لنظرنا إلى قرابته الذين يرثونه، وقلنا لهم: أنفقوا على هذا المولود الذي لا والد له بالمعروف، فكما أنهم يرثون هذا المولود لو مات، كذلك يجب عليهم أن ينفقوا عليه إذا أعسر. ومن هنا ندرك ما ينقمه الأعداء على الإسلام؛ أنه يعطي الذكر مثل حظ الأنثيين أمور جاءت مرتبة مفصلة من لدن حكيم خبير، الذي أعطى كل شيء حقه وقدره، لا تستيطع أن تزيد فتظلم وتجور، ولا تستيطع أن تنقص فيكون فيه إجحاف بحقه، لا تستيطع أن تزيد على ما شرع الله قليلاً ولا تنقص. وهذا هو العدل؛ تجد أن الأنثى لا تحمل ما يحمله الذكر، وتجد في طبيعة الناس وفطرتهم التي فطرهم الله عز وجل عليها أن النساء لا يستطعن في حال العوز والفقر أن يقمن ببعض مايقوم به الرجال، ففضل الله بعضهم على بعض، وهو أعلم وأحكم سبحانه وتعالى؛ يحكم ولا معقب لحكمه. فهذه أمور كلها ارتبطت ببعضها، كما أنه في الإرث يستحق أن يرث منه؛ لوجود الإرثية والقرابة الموجبة للإرث، كذلك إذا أعوز هذا الموروث يجب عليه أن ينفق عليه. ونصت الآية على أن للقريب حق النفقة عليه، وجاءت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وحسنه غير واحد من العلماء؛ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن يبر؟ فقال له: (أمك-أي: بر أمك- وأباك، وأختك، وأخاك، ثم أدناك أدناك). يعني الأقرب فالأقرب إليك، وهذا يدل على أنه ينبغي أن توصل الرحم، فينفق عليها إذا احتاجت، فمثلاً لو كان له أخ محتاج ليس عنده نفقة يومه، نقول له: أنفق على أخيك، كذلك لو كان عنده أخت محتاجة ما وجدت نفقتها، ولا ما تكتسي به، وبحاجة إلى السكنى، فإنه يجب عليه أن ينفق عليها بالمعروف. فهذا الحكم أجمع عليه العلماء رحمهم الله، والأصل فيه دليل الكتاب في قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233]، ودليل السنة والعقل يقتضي هذا، وبناءً على ذلك أجمعوا على أنه يجب على الوارث أن ينفق على قريبه، والتفصيل في هذا يرجع إلى مسألة الإرث، فينفق عليه بقدر ما يكون له من النصيب. قوله: (بفرض، وتعصيب) الفروض في كتاب الله عز وجل ستة: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس. وبعضهم يختصر فيقول: النصف، ونصفه، ونصف نصفه، والثلثان، ونصفهما، ونصف نصفهما. نصف وربع ثم نصف الربع والثلث والسدس بنص الشرع والثلثان وهما التمام فاحفظ فكل حافظ إمام هذه الفروض المحددة المقدرة في شرع الله عز وجل؛ إذا قيل بالفرض؛ فإما أن يكون له النصف، فيكون له النصف، أو نصفه، أو يكون له الثلثان، أو نصفهما، أو نصف نصفهما. أما التعصيب: فهو من العصبة، وعصبة الإنسان: قرابته الذين يحيطون به، وتتمحض العصبة من جهة الذكور، وسموا بذلك: لأنهم في الشدائد يتعصبون معه، ويحيطون به كالعصابة التي تحيط برأس الإنسان. فالإرث في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إما فرضاً وإما تعصيباً، فيجب على القريب أن ينفق على قريبه الوارث؛ سواء كان الإرث من جهة الفرض أو التعصيب. ويشمل هذا عشرة من الذكور، وسبعاً من الإناث في الفرائض: والوارثون من الرجال عشرة أسماؤهم معروفة مشتهرة الابن وابن الابن مهما نزلا والأب والجد له وإن علا والأخ من أي الجهات كانا قد أنزل الله به القرآنا وابن الأخ المدلى إليه بالأب فاسمع مقالاً ليس بالمكذب والعم وابن العم من أبيه فاشكر لذي الإيجاز والتنبيه والزوج والمعتق ذو الولاء فجملة الذكور هؤلاء هؤلاء عشرة يرثون بفرض الله عز وجل الذي فرضه في كتابه، إما أن يرثوا بالفرض المقدر الذي ذكرناه، وإما أن يرثوا بالتعصيب. وأما بالنسبة للإناث فهن سبع من النسوة: والوارثات من النساء سبع لم يعط أنثى غيرهن الشرع بنت وبنت ابن وأم مشفقه وزوجة وجدة ومعتقه والأخت من أي الجهات كانت فهذه عدتهن بانت فهؤلاء سبع يرثن في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويستحق هؤلاء سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً النفقة عليهم، وسيأتي إن شاء الله تفصيل ذلك في كتاب الفرائض. فالوارث: سواء كان إرثه من جهة الفرض أو من جهة التعصيب له حق على القريب، والأصل في هذا-كما ذكرنا- دليل الكتاب، ودليل السنة، وإجماع أهل العلم رحمهم الله.

وجوب النفقة على عمودي النسب من ذوي الأرحام

وجوب النفقة على عمودي النسب من ذوي الأرحام قوله: [لا برحم سوى عمودي النسب] أي لا يجب عليه أن ينفق على القريب من ذوي الأرحام، وذوو الأرحام كبنت البنت، وبنت ابن البنت من جهة الفروع، وكذلك أيضاً من جهة الحواشي؛ كبنت الخال، أو الخال نفسه، وبنت الخالة، أو الخالة نفسها، لا يجب عليه أن ينفق عليها في الأصل؛ لأنها من جهة ذوي الأرحام، وهؤلاء ليسوا من الوارثين، والله عز وجل خص النفقة الواجبة اللازمة بالوارث. وذوو الأرحام لهم إرث كما ذكرنا، لكن من قال بتوريثهم فهذا عندما ينزل منزلة من أدلى به، لكنه ليس في الأصل من الوارثين، وإنما قيل بتوريثه لقوله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال:75]، ولحديث: (الخال وارث من لا وارث له). وفيه كلام عند العلماء رحمهم الله. قوله: (سوى عمودي نسبه): فعمودي النسب من جهة الأب، والأم، والأجداد، والجدات لا يسقطون إذا كانوا من ذوي الأرحام. أما الجدة الساقطة، والجد الساقط، أو كما يقولون: الجدة الفاسدة، والجد الفاسد، فهؤلاء يجب عليه أن ينفق عليهم، وكونهم ساقطون في الإرث لا يسقط حقهم في النفقة؛ لأن في عمودي النسب موجباً للإنفاق أكثر من القرابة والورثة، فليس الأنفاق عليهم بسبب الإرث -أي: عمودي النسب- إنما هو بسبب نعمة الوجود؛ لأن الله عز وجل جعل وجود الابن بفضل الله ثم بفضل والديه، ولذلك قال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14].

النفقة على الوارث من جهة

النفقة على الوارث من جهة قال رحمه الله: [سواء ورثه آخر كأخ أو لا؛ كعمة وعتيق]. أي: سواء ورثه آخر كأخ، أو لم يرثه كعمة وعتيق. فلو أن الأخ توفي فأنت أخوه ترثه ويرثك، فالتوارث من الجهتين، وهذا من دقة الفقهاء رحمهم الله أنهم ذكروا أن بعض الأسباب تتمحض فتكون من الجانبين، مثل مسألتنا هنا: ترث الذي تريد أن تنفق عليه ويرثك؛ فالتوارث من الطرفين. في بعض الأحيان يكون التوارث من طرف واحد، فالعمة أنت ابن أخيها فترثها، لكنها لا ترثك، فالتوارث من جهة لا من جهتين، وبناءً على ذلك يقول: سواء كان من جهة أو كان من الجهتين. العتيق أو المعتقة: جعل الله عز وجل الولاء لحمة كلحمة النسب، فإذا لم يوجد وارث ولا عاصب للميت، فإنه يرثه من أعتقه، فالمولى يرثه سيده الذي أعتقه، أو قرابة السيد -على التفصيل الذي سيأتينا- لأن الولاء سبب من أسباب الإرث الثلاثة المشهورة: وهي نكاح وولاء ونسب ما بعدهن للمواريث سبب هذا الولاء قال عنه صلى الله عليه وسلم: (الولاء لحمة كلحمة النسب)، يرث به السيد من أعتقه في حال عدم وجود من يرث العتيق. مثلاً: أخذ عبده ثم أعتقه، وهذا العبد جميع قرابته كفار، وليس هناك له وارث؛ لأن الكفر مانع من موانع الإرث؛ ففي هذه الحالة يرثه سيده الذي أعتقه، فيبقى الولاء بين السيد وعبده. لكن من الذي يرث؟ السيد يرث العبد، والعبد لا يرث سيده؛ فإذاً التوارث من جهة وليس من الجهتين. فبين رحمه الله أنه يستحق به الإنفاق، فلو أن هذا المولى الذي أعتقه سيده أصبح فقيراً، ولا عائل له، نقول لسيده: أنفق عليه، ويجب عليك أن تنفق عليه لوجود السبب الموجب؛ وهو التوارث.

مقدار ما ينفق على الأقارب والمماليك

مقدار ما ينفق على الأقارب والمماليك قال رحمه الله: [بمعروف]. الأصل في النفقة أنه يرجع فيها إلى العرف والعادة، وأعراف المسلمين يحتكم إليها، والمراد بأعراف المسلمين: الأعراف الغالبة التي لا تطرأ عليها معارضة للشرع، يعني يشترط في العادة أن تكون موافقة للشرع لا مخالفة له؛ لذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لو جرى في العادة محرم ومنكر فإنه لا يحتكم إليها. وهذه المسألة راجعة إلى الأصل الشرعي الذي قرره العلماء رحمهم الله، واستنبط من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم: أن العادة محكمة، وهي إحدى القواعد الخمس التي قام عليها الفقه الإسلامي: الأمور بمقصادها -اليقين لايزال بالشك- المشقة تجلب التسير -الضرر يزال- العادة محكمة. فهذه العادة محكمة؛ أي: يحتكم إلى عادات المسلمين وأعرافهم، والمراد فيما لا نص فيه، أما الذي فيه نص فلا يلتفت فيه إلى العرف. فالعرف إنما يرجع إليه ويلتفت إليه في حالة عدم وجود النص، وبشرط عدم معارضته للنص، فلو جرت العادة-والعياذ بالله- بأمور مستقبحة أو مشينة لم يحتكم إليها. والسبب في هذا أن الله عز وجل نص في كتابه على الرجوع إلى العرف: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، وقال صلى الله عليه وسلم لـ هند: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف). والعلماء رحمهم الله اختلفوا في مسائل النفقات؛ كيف تقدر منها مسألة العسر واليسر ومقدار النفقة؟ أي: متى نحكم بكون القريب معسراً؟ ومتى نحكم بكونه موسراً؟ ومتى نحكم بكونه في حال وسط بين الإعسار واليسار؟ من العلماء من قال: الرجوع إلى العرف، ومنهم من حد ضابطاً، وقال: ينظر إن كان دخله أكثر مما ينفق فهو موسر. وإن كان إنفاقه أكثر مما يدخل عليه فهو معسر. وإذا استوى الأمران فهو متوسط بين اليسار والإعسار. وهنا في مسألة إعطائه النفقة، أنه ينفق عليه بالمعروف، وسبق أن بينا هذا في نفقة الزوجة، وتقدير ذلك: أنه يصار إلى نفقة مثلها بالمعروف، لا تكلف نفس إلا وسعها.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تكليف الأب ابنه فوق طاقته من النفقة

حكم تكليف الأب ابنه فوق طاقته من النفقة Q أنا أنفق على والدي وزوجتي، ومصدر دخلي قد لا يكفي، وأحياناً بل غالباً يأمرني والدي بأن أستدين من الناس. فهل أطيعه في هذا الأمر؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالنفقة على الوالد سداد لحاجته، وقيام بما يكفيه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (خذي من ماله ما يكفيك). فجعل الأمر موقوفاً على الكفاية، وما زاد عن الكفاية فهو فضل وليس بفرض. فلو كان الوالد يحتاج مائة، فأعطاه ما زاد عن المائة فهو فضل من الولد على والده ليس بواجب عليه وليس بلازم، فإذا فعله فهو مأجور، والله يخلف عليه، وإذا لم يفعل واقتصر على قدر الكفاية؛ فقد أدى ما أوجب الله عليه. لكن إذاكان عند الابن قدرة ويساراً، فهنا اختلف العلماء: هل يأثم أو لا يأثم؟ مثلاً: الوالد طلب منه ألف ريال فوق النفقة، والابن عنده قدرة، فهل هذا المستحب يصير واجباً بأمر الوالد؟ بعض العلماء يقول: إذا امتنع مع قدرته على ذلك كان من العقوق، وهذا من جانب آخر لا من جانب الاستحقاق بالنفقة، ولا شك أن الابن لا يكلف فوق طاقته، حتى غير الابن فأي إنسان ينفق لا يكلف فوق طاقته، ولذلك قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] وذلك حينما بين أحكام النفقات في سورة الطلاق، فبين سبحانه وتعالى أنه لايكلف إلا على قدر ما في وسع الإنسان من النفقة، وبناءً على هذا لا يكلف الابن فوق طاقته وفوق كفاية الوالد إذا كان ذلك يجحف به ويضر. أما إذا أمكن الابن أن يتفضل ويتجاسر -شريطة ألا يكون هناك من الوالد الإنفاق على المحرمات أو إسراف- فلا شك أنه لا يزال له من الله عون ومدد، وسيخلف الله عليه إن عاجلاً أو آجلاً. لو أن الوالد صادفته ضائقة في دين، وطلب من الابن أن يستدين من الناس، فنظر إلى مصاريف والده فوجدها مصاريف معقولة، وأنها في حاجة الوالد، ونفقة إخوانه وأخواته، فاحتسب عند الله عز وجل أن يفرج كرب والده، فوالله لن يخيب، وسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً. فأعظم طاعة بعد الإيمان بالله وتوحيده بر الوالدين، فلذلك قرنه الله ببره فقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] ألا ترى والداً ينفق على الإخوان والأخوات، وقد يستدين من أجل الإنفاق عليهم، فإذا نظرته ينفق نفقة معقولة، أو ممكن أن يسدد ديونه التي ترتبت على النفقة بالمعروف؛ فتقف معه، وتستعين بالله عز وجل فتؤدي عنه، والله لن تخيب إن فعلت، فهذا فضل عليك وليس بفرض، والله عز وجل يجزي المحسن على الإحسان، فما بالك إذا كان الإحسان على أحق الناس، وأولاهم بالإحسان؟! وأنت حينما تعطي الوالد؛ إيماناً بالله واحتساباً للأجر عند الله، فما الذي تنتظره عند ربك الذي لا يخلف الميعاد، وقال لك: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83]! والإحسان أعلى مراتب العبادة. فاختار للعبد في بره لوالديه أجمل وأكمل المراتب، حتى إنه قال: {ِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7]، ما قال: أكثر عملاً، والإحسان- كما هو معلوم-: أن تعبد الله كأنك تراه، وهو أعلى مقامات العبودية، فاختار الله هذا المصطلح الكريم الجليل العظيم في التعبير عن حق الوالدين؛ أي: أحسنوا في حق الوالدين إحساناً. فلا شك أنه إذا احتسب الولد وأنفق على والده أن الله سبحانه وتعالى لا يخيبه، لكن إذا كان الأمر يجحف بالابن ويضر به، ولربما يعرض حياته للضرر؛ فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فليس للوالد على ولده إلا قدر الكفاية. والله تعالى أعلم.

حكم النفقة على ذات الزوج المعسر من البنات

حكم النفقة على ذات الزوج المعسر من البنات Q البنت المتزوجة إذا كان زوجها معسراً هل تجب نفقتها على أهليها؟ A من حيث الأصل فإن نفقة الزوجة على زوجها، ولا يجب على الأب أن ينفق على البنت وهي في عصمة زوجها، وقد بينا أنه إذا كان الزوج معسراً فلها أن تصبر، أو تستمر، ولها حق الفسخ -على التفصيل الذي ذكرناه- فإذا اختارت الصبر؛ فحينئذ حقها عند زوجها، ولا يجب على أهلها نفقتها في حال كونها في عصمة الرجل؛ لأن هذا يؤدي إلى تعدد جهات الإنفاق. والأصل الشرعي: أنها في حق الزوجة جهة واحدة؛ وهي إنفاق الزوج على زوجته. والله أعلم.

الإهلال بالإحرام لأهل مكة إن أتوا من خارجها

الإهلال بالإحرام لأهل مكة إن أتوا من خارجها Q إذا كنت من سكان مكة، وذهبت لزيارة الوالدين خارج مكة، ثم رجعت في اليوم الثاني، فهل يجب علي الإحرام من الميقات؟ أم أهل بالحج من مكة؟ A هذا فيه تفصيل: إذا دخلت أشهر الحج، وهو الميقات الزماني، وخرج من كان من أهل مكة إلى قريب أو بعيد؛ كأن سافر إلى المدينة وعنده نية الحج في ذلك العام؛ فإنه في هذه الحالة قد مر بميقات المدينة بعد دخول الميقات الزماني المعتبر، فيأتي بعمرة ويتمتع بها-إذا كان الزمان بعيداً عن الحج- إلى الحج. وأما إذا كان سافر إلى المدينة وليس عنده نية أن يحج، ومر بالميقات راجعاً إلى مكة، وليس عنده نية الحج في ذلك العام، ثم طرأت عليه النية بعد أن رجع إلى مكة، فيحرم من مكة، لأنه أنشأ النية من مكة، ثم يفصل في ذلك: إن طرأت عليه النية في أثناء الطريق، وجب عليه أن يحرم من مكانه، فيتمتع بعمرة، ثم يهل بالحج من عامه. والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام، من حديث ابن عباس في المواقيت: (هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج والعمرة). فهذا قد أتى إلى الميقات الأبعد -وهو ميقات المدينة- بعد دخول الميقات الزماني، وعنده نية للحج. لكن لو أنه سافر إلى المدينة في رمضان، وعنده نية أن يحج، ثم رجع إلى مكة قبل أن يدخل شهر شوال- الذي هو الميقات الزماني- لم يؤثر، لأنه ما دخل عليه الميقات الزماني، فلم يؤمر بالميقات الأبعد، ولم ينطبق عليه الإلزام بالإحرام من الميقات الأبعد. والله تعالى أعلم.

حكم طواف القدوم لمن دخل مكة يوم التروية

حكم طواف القدوم لمن دخل مكة يوم التروية Q من أراد الحج مفرداً من غير أهل مكة، هل عليه طواف القدوم إذا دخل مكة يوم التروية؟ A هذا فيه تفصيل: بعض العلماء لا يرى وجوب طواف القدوم، والأصل عندهم قوله عليه الصلاة والسلام في حديث عروة بن مضرس رضي الله عنه وأرضاه: أنه لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة يوم النحر، فقال: (يا رسول الله! أقبلت من جبل طي أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، وما تركت جبلاً إلا وقفت عليه. فقال صلى الله عليه وسلم: من صلى صلاتنا هذه، ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار، فقد تم حجه، وقضى تفثه). وكان عروة لم يأت إلى مكة ولم يطف بالبيت، كما هو ظاهر الحال في سؤاله لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمن أهل العلم من قال: إن هذا يختص بمن ضاق عليه الوقت، وأما من اتسع له الوقت فيجب عليه أن يأتي ويطوف طواف القدوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طواف قدومه عند قدومه على مكة. وظاهر الحديث، يقتضي عدم وجوبه، لكن السنة أن يطوف بالبيت إن أمكنه. والله تعالى أعلم.

حكم الأخذ من الشعر قبل السعي للرجل والمرأة

حكم الأخذ من الشعر قبل السعي للرجل والمرأة Q عن امرأتين طافتا ولم يسعيا، فما حكم عمرتهما؟ A الواجب على المرأة والرجل أن يتما عمرتهما نويا العمرة أو الحج، فمن نوى العمرة من الرجال والنساء فالواجب عليه أن لا يتحلل، وأن لا يأخذ من الشعر إلا بعد أن يطوف بالبيت ويسعى، وبناءً على ذلك وقوع القص بالشعر أو التقصير يكون قبل السعي واقعاً في غير موقعه؛ فعليهم الفدية؛ لأنهم أخذوا من الشعر قبل تمام النسك. فيرجعون ويؤدون السعي، ثم بعد ذلك يفتدون. أما بالنسبة لركعتي الطواف؛ فهما سنة، وفعلهما بعد الطواف في داخل البيت سنة، على كل حال عليهم أن يصلوا ركعتي الطواف، وإذا أعادوا الطواف ثم سعوا بعده، جعلوا الطواف نافلة بناءً على قول من قال: لا يصح السعي إلا بعد طواف. هذا أفضل. وكونهم يأتون إلى التنعيم، هذا لا أصل له، وما له داع ولا موجب. فيجب عليهم الآن الذهاب إلى مكة ليعيدوا الطواف؛ لفوات الموالاة بين السعي والطواف، فقد كان المفروض أن يقع السعي بعد الطواف. فالأفضل له أن يطوف، ثم يسعى، ثم بعد ذلك يتحلل، وتجب عليهما الفدية إن كانوا قد تطيبوا. أما إن كانوا لم يتطيبوا ولم يكن هناك محظورات فعلوها؛ فهم إلى الآن محرمون، ويجب عليهم أن يذهبوا. وإن كانوا قد قصروا الشعر فهذا يوجب عليهم الفدية؛ لأنه لا يجوز أن يقصروا إلا بعد انتهاء السعي. والله أعلم.

حكم تطييب البدن بعد الإحرام

حكم تطييب البدن بعد الإحرام Q هل يجوز التطيب في البدن فقط بعد ارتداء ملابس الإحرام؟ A إذا دخل في النسك فلا يجوز له أن يتطيب؛ لأن الله تعالى حرم على المحرم أن يتطيب. وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الطيب من محظورات الإحرام، قال صلى الله عليه وسلم: (إنزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الطيب). فأمر المحرم أن لا يتطيب. في هذه الحالة: الواجب على المسلم أن لا يتطيب بعد إحرامه، فإن تطيب قبل الإحرام واغتسل أو اغتسل ثم تطيب قبل أن يدخل في النسك؛ فهذا لا بأس به، وهو في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل حرمه، ولحرمه قبل أن يطوف بالبيت). سواء وقع الطيب بعد الغسل أو قبل الغسل؛ فإن الصحيح أنه من السنة، ولا بأس به، وقد قالت أم المؤمنين عائشة: (كنت أرى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم). فهذا يدل على أنه لا بأس أن يكون على بدن المحرم الطيب، بشرط أن يكون قد وضعه قبل الدخول في النسك. وبعض الناس يرى أنه بمجرد اللبس قد دخل في النسك! وهذا ليس بصحيح، فإن التجرد عن المخيط ليس دخولاً في النسك، إنما يكون الدخول بالنية, وبناءً على ذلك فلا عبرة بلبسه، وإنما العبرة بدخوله في النسك.

حكم العمرة بعد الحج

حكم العمرة بعد الحج هذه المسألة من حيث الأصل: السنة أن من أتى بعمرة قبل حجه، ثم حج وتمتع بها: أن يكتفي بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح، لما أرادت عائشة رضي الله عنها أن تأخذ عمرة بعد حجها، قال عليه الصلاة والسلام: (طوافك بالبيت، وسعيك بين الصفا والمروة كافيك لحجك وعمرتك). فالنبي صلى الله عليه وسلم عتب عليها، وضيق عليها بعض الشيء، كأنها تأتي بعمرة بعد عمرتها، لكن إذا وجد لبعض الناس سبب؛ مثلاً: والده أو قريبه لم يعتمر، وأراد أن يأخذ العمرة عنه؛ فلا بأس أن يأتي بالعمرة بشرط أن تكون النية طرأت عليه في مكة، لا من الميقات الأبعد. والله تعالى أعلم.

حكم ثوب الإحرام الذي فيه أزرار

حكم ثوب الإحرام الذي فيه أزرار وبالنسبة لثوب الإحرام الذي فيه (طقطق) هذا ينصح الناس فيه، ولا يجوز لهم لبسه؛ لأنه في حكم المخيط. الإحرام الذي فيه أزارير يجب أن تزيلها، وتفكها، وتبقى مفتوحة، ولا يضر إن شاء الله. والله أعلم.

حكم حج من اعتمر في أشهر الحج ثم نوى الحج

حكم حج من اعتمر في أشهر الحج ثم نوى الحج Q من أتى بعمرة في أشهر الحج، ثم نوى بعد ذلك الحج في العام نفسه، هل يلزمه التمتع، أم يخير؟ A ليس هناك إلزام بنسك، فعن أم المؤمنين عائشة كما في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى الميقات قال: (من أراد منكم أن يهل بحج فليهل، ومن أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل، ومن أراد أن يهل بحج وعمرة فليهل). فالأصل في هذه الأنساك أنها تخييرية -أي: الأنساك الثلاثة- ومن أتى بأي واحد منها فلا حرج عليه ولا عذر، والخلاف بين العلماء رحمهم الله في الأفضل، وليس هناك إلزام بأحد هذه الأنساك. بل يبقى هذا النص على الأصل وأن المسلم مخير. وأما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بفسخ الحج بعمرة، وهو إيجاب فسخ الحج بعمرة على من لم يسق الهدي؛ فهذا كان في ذلك العام، ولذلك لم يلزم بها أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان مدة الخلافة الراشدة كلها، وفهم الصحابة ذلك وطبقوه، وهم أعلم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: (متعتان لا تصلح إلا لنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: متعة النساء، ومتعة الحج). يعني إيجاب الفسخ، وليس مراده مطلق التمتع بالحج، يعني أن إيجاب الفسخ كان في ذلك العام هدماً لعقيدة الجاهلية الذين كانوا لا يجيزون العمرة في أشهر الحج، وكانوا يقولون كما في الصحيح عن ابن عباس: (إذا برأ الدبر، وعفى الأثر، وانسلخ صفر، فقد حلت العمرة لمن اعتمر)، فكانوا يرونها من الفجور. ولذلك قالوا: (يارسول الله! ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: لا؛ للأبد، للأبد). صلوات الله وسلامه عليه. وقال: (دخلت العمرة في الحج). أي: أنه يجوز لك إيقاع العمرة في أشهر الحج إلى الأبد، لا ما كان يعتقده أهل الجاهلية من تحريم إيقاع العمرة حتى ينسلخ صفر، فذاك من أدران الجاهلية، ومما اختلقه أصحاب الجاهلية من المسائل المحدثة وألصقوها بالحنيفية وهي منها براء فردها عليه الصلاة والسلام, ورد الأمر إلى أصله؛ من أنه يجوز الاعتمار في أشهر الحج، ولذلك وقعت عمرته عليه الصلاة والسلام في أشهر الحج؛ كعمرة الجعرانة حينما وقعت في ذي القعدة لما انتهى عليه الصلاة والسلام من قسم الغنائم بعد فتحه للطائف؛ صلوات الله وسلامه عليه. والله تعالى أعلم.

حكم صيام أيام عشر ذي الحجة

حكم صيام أيام عشر ذي الحجة Q هل يعتبر صيام عشر ذي الحجة من السنة؟ A صيام عشر من ذي الحجة ما عدا يوم النحر لا بأس به ولا حرج، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة، قالوا: يارسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله؛ إلا رجل خرج بماله ونفسه فلم يرجع بشيء من ذلك). فهذا يدل على أنه يشرع فعل الطاعات، وأنه لا بأس بصيامها؛ سواء صام التسع كاملة أو صام بعضها، فلا حرج في ذلك ولا بأس، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يُفعَل الشيء ويتركه، وقد شرع ذلك للأمة بقوله: (ما من أيام العمل الصالح فيهن ... ) وبناءً على ذلك يبقى هذا النص القولي على عمومه، ولم يأت ما ينقضه، فيبقى صيامها مستحباً على الأصل. والله أعلم. أما يوم النحر: ففيه حديث عمر في الصحيحين: (أنه عليه الصلاة والسلام خطب ونهى عن صوم يومي النحر والفطر)، فلا يجوز الصيام في هذين اليومين؛ لأنهما يوما عيد الإسلام، والصيام فيهما إعراض عن ضيافة الله عز وجل، فلا يجوز صيامهما بإجماع العلماء. والله تعالى أعلم.

حكم الدم إن أصاب الثوب

حكم الدم إن أصاب الثوب Q هل دم الإنسان إذا أصاب الثوب يجب غسله؟ أو أن الشرع حدد المقدار الذي يجب غسله؟ A جمهور العلماء على أن الدم المسفوح نجس؛ لقوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145]، وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (اغسلي عنك الدم، ثم اغتسلي وصلي)، فهذا أصل عندهم في أن الدماء نجسة. وقال بعض العلماء: إنها طاهرة؛ لحديث الشعب، ولصلاة عمر رضي الله عنه وجرحه ينزف، وقد أجيب عن حديث الشعب؛ بأنه من النزيف الذي لا يرقأ، لأنه أصيب بالسهم، والسهم غالباً ينزف، والنزيف لا يرقأ، ولذلك محل الخلاف لا يستقيم به الاستدلال، وكذلك عمر رضي الله عنه، لأن جرحه استنزفه إلى الموت، ولذلك قالوا: لو رعف الإنسان -مع قولهم بالنجاسة- أو المرأة المستحاضة يستثقل معها الدم، فهذا من العفو؛ لأنه لا يمكنها إيقافه، فالاستدلال بهذا الحديث فيه نظر من هذا الوجه، كما ذكر جمهور العلماء رحمهم الله والصحيح: أنه نجس، وحكمه حكم النجس؛ يجب غسل الدم، لكن الدم على حالتين: الحالة الأولى: أن يكون يسيراً. والحالة الثانية: أن يكون كثيراً، وهو الذي يسميه بعض العلماء: متفاحشاً. واختلف العلماء رحمهم الله في التفريق بين اليسير والكثير، أو الكثير والمتفاحش، فمنهم من يقول: إذا بلغ قدر الدرهم فهو يسير، وإن كان أكثر من الدرهم فهو كثير يجب غسله. ومنهم من قال: إن الكثير والقليل يفرق بينهما بما لا يتفاحش في النفس؛ يعني إذا رآه كثيراً حكم بكونه كثيراً، وإذا رآه قليلاً حكم بكونه قليلاً. والأول أقوى، لكن يوجد حديث ضعيف، وهو حديث الدرهم البغلي، لكن حكي الإجماع على أن قدر الدرهم من العفو، ولذلك يستدل بعض العلماء على أنه يصح من جهة العفو، ويؤخذ بهذا الأمر المتفق عليه؛ وهو أشبه. وقدر الدرهم تقريباً: قدر الهللة القديمة الصفراء؛ فإنها تقارب الدرهم كما حرره بعض مشايخنا رحمة الله عليهم، فإذا كان مجموع الدم مقدار ذلك فهو من العفو فما دون، ولذلك عصر عبد الله بن عمر بثراً في صلاته ولم يقطعها؛ لأنها من اليسير، وهذا من حيث الأصل-أعني اشتراط أن يكون كثيراً- ودليله ظاهر آية الأنعام؛ فإن الله تعالى يقول: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145]، فجعل الحكم بالنجاسة مبنياً على كونه مسفوحاً، والمسفوح في لغة العرب: الكثير. ففرق الله بين القليل والكثير، ولذلك ذهب جماهير السلف والخلف إلى هذا التفريق، على ظاهر النص في قوله: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام:145]. والله تعالى أعلم.

حكم معارضة الوالد إن أراد غير المعروف

حكم معارضة الوالد إن أراد غير المعروف Q أبي يريد أن يزوج أختي بشاب لا يصلي، وأنا معارض لهذا الأمر، فهل أكون عاقاً، وكيف أنصح والدي؟ A هذا من طاعة الله عز وجل، والسمع والطاعة الأصل أن تكون بالمعروف لا بالمنكر، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنما السمع والطاعة بالمعروف). فسماعك لأمر والدك وامتثالك له إنما هو مقيد بالمعروف الذي أقره الله عز وجل، أما إذا كان بالمنكر فلك أن تنكره وترده عليه، فالحق معك، ولا يزال معك من الله معين وظهير. كيف تزوجها من رجل لا يصلي قد قطع صلته بالله عز وجل، خسر الدنيا والآخرة؛ ذلك هو الخسران المبين، ففي هذه الحالة من حقك أن تعترض، ومن حقك أن تبين للوالد، وتحاول بالتي هي أحسن أن تؤثر عليه، وأن تستعين بالأشخاص الذين يؤثرون عليه إذا لم تستطع بنفسك، وتوصي الأخت أن لا تقبل مثل هذا زوجاً لها؛ بل تمتنع وتصر على عدم القبول، وهي مثابة على إصرارها على هذا الحق. فلا بارك الله بزوج لا يصلي؛ إنه منزوع البركة، مشئوم على من يتزوجه؛ لأن الصلاة صلة بين العبد وربه؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل والكفر ترك الصلاة). فحرمان الخير-والعياذ بالله- موقوف على ترك الأمور التي فرض الله عز وجل، والتي أعظمها عماد الدين بعد الشهادتين. فمثل هذا لا يزوج، وحري به أن لا يكرم بالتزويج، ونسأل الله أن يهدي والدك إلى سماع الحق وقبوله، وأن يختار لأختك ولبنات المسلمين من فيه الخير والصلاح. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

باب نفقة الأقارب والمماليك [2]

شرح زاد المستقنع - باب نفقة الأقارب والمماليك [2] جعل الله تعالى لصلة القرابة حرمة وقداسة، ومن آثار ذلك أنه يجب على القريب أن ينفق على قريبه الذي يرثه لو مات. وهذا الإنفاق إنما يجب بشروط لابد أن تتحقق، وهي لا تسمح للكسول بأن يركن على غيره، ولا تكلف الغني فوق طاقته، بل تحقق التكافل الأسري والتكامل الاقتصادي على أحسن الوجوه وأتمها.

ما يشترط لوجوب نفقة القريب

ما يشترط لوجوب نفقة القريب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستنَّ بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فنسأل الله العظيم العليم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعل ما نتعلمه ونعلمه خالصاً لوجهه الكريم؛ موجباً لرضوانه العظيم. ولا شك في أن حلق العلم ومجالسه خير ما تستفتح بها الوصية بحق الله جل وعلا، ولو كرر ذلك في كل مجلس لم تسأم منه الآذان، ولم تملّ من سماع ذلك؛ لأن حق الله هو أعظم الحقوق، فالوصية بتقوى الله والإخلاص في طلب العلم زاد طالب العلم الذي لا يمكن أن يستغني عنه لحظة من اللحظات؛ لأن الله لا ينظر إلى قول قائل ولا إلى عمل عامل إلا بعد تحقيقه والعمل بحقوقه. وخير ما نتواصى به: أن يخلص الإنسان لوجه الله، وأن لا يجلس في مجالس العلم إلا وهو يريد ما عند الله، وأن يعلم علم اليقين أن التجارة مع الله رابحة، وأنها عند الله رائجة، وأن أسعد الناس في القول والعمل من نظر الله إلى قلبه فوجده خالصاً مستقيماً لربه أسعد الناس من أرى الله من نفسه خيراً حينما يجلس في مجالس العلم، ويستمع العلم، ويقرؤه، ويكتبه، ويتحدث به، وليس في قلبه إلا الله، وهي أمارة من الأمارات بل هي أشرف الأمارات وأعزها وأكرمها؛ إذ لا يعطيها الله إلا لخاصة أوليائه. فمن نظر في قلبه أنه مليء بالله معمور به، مصروف عن زخارف الدنيا وشهواتها وملذاتها؛ لا تصغي أذنه إلى مدح المادحين، ولا يميل قلبه إلى عجب الناس به؛ فقد كملت ولايته لله جل جلاله، وهي العطية التي يختص الله بها من أحب. اللهم ربنا ورب كل شيء نسألك أن تجعلنا ممن اصطفيته فجعلته من المخلصين وأراد وجهك يا رب العالمين. وقد تحدثنا فيما سبق عن مسألة النفقة، وبيّنا أن المصنف رحمه الله جعل الأصل في النفقة على الأقارب من الأصول والفروع والحواشي، مبنياً على شروطاً لابد من تحققها، فنحن لا نلزم شخصاً أن ينفق على قريب إلا إذا توافرت فيه هذه الشروط. والنفقة تبعة من التبعات، فأنت حينما تتحمل طعام شخص وكسوته وسكناه، هذا أمر فيه كلفة ومشقة، لكنه لا يأتي إلا من خلال أسباب وشروط، وهي العلامات والأمارات التي نصبها الشرع لإيجاد النفقة. أول هذه الشروط: وجود العلاقة والسببية الموجبة للنفقة، وهي القرابة المبنية على صفة الإرث، فالقريب الوارث يستحق النفقة، وهذا المذهب اختاره طائفة من العلماء، وذكرنا دليله من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف أن الإسلام عدل حينما جعل الإنسان يرث من الميت، وكما أنه يأخذ غنيمة الإرث بعد موته يتحمل غرم الإنفاق عليه في حياته، فهذا من العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، ومن العدل الذي هو كمالٌ في هذه الشريعة. أما الشرط الثاني: فقد بينا من هم الأقرباء الذين يجب عليك أن تنفق عليهم من الأصول؛ كالآباء والأمهات والأجداد والجدات وإن علت، والفروع: كالأبناء والبنات وإن سفلوا، والحواشي من جهة العصبة ونحوها. وبهذه العبارة التي ذكرها المصنف شرع في الشرط الثاني من شروط وجوب النفقة.

شرط فقر القريب مع عجزه عن الكسب

شرط فقر القريب مع عجزه عن الكسب قال رحمه الله: [مع فقر من تجب له] أي: يشترط في وجوب النفقة على القريب لقريبه أن يكون القريب محتاجاً؛ فتوجد فيه الحاجة والفاقة والفقر، وقريبك الذي تنفق عليه كالأخ والأخت مثلاً، إذا وجب عليك أن تنفق عليهما لابد وأن يكونا فقيرين، ومع الفقر يكون العجز عن التكسب؛ فقد يكون فقيراً ولكنه قادر على أن يتكسب، فحينئذ يفصل العلماء رحمهم الله. أما الفقر فلابد وأن يكون فقيراً؛ لأنه لو كان غنياً فقد أوجب الله عليه أن ينفق على نفسه، وأما إذا كان فقيراً وليس عنده مال فحينئذ يجب عليك أن تنفق عليه بالمعروف. وهذا الشرط مجمع عليه بين العلماء رحمهم الله، فلا نوجب عليك النفقة لقريبك إلا إذا كان فقيراً، لكن يستثنى من ذلك الوالدان والأولاد. فالوالد ينفق على ولده ولو كان غنياً ما دام أنه تحت كفالته، كزوجته يجب عليه أن ينفق عليها ولو كانت غنية؛ لأن الاستحقاق هنا في الأصول والفروع آكد وأوجب، ولذلك ينفق الأصل على والديه وعلى فرعه، كالوالد ينفق على أولاده ولو كانوا أغنياء. مثال لغنى الفرع: أن تموت الأم وتخلف مالاً لولدها، والولد قاصر عمره سنة أو سنتان، عنده مال لكن في الأصل المخاطب بالنفقة عليه هو والده حتى يستقل بنفسه، فحينئذ لا يشترط في الولد الفقر، فينفق على الأصل والفرع سواء كان غنياً أو فقيراً. والزوجة تكون غنية ولكن يجب على زوجها أن ينفق عليها؛ لأن هذا الاستحقاق لا يتوقف على وجود الفاقة، وإنما هو مبني على وجود العلقة والقرابة. ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم الفرع بمنزلة الإنسان، كما في الصحيحين من حديث فاطمة رضي الله عنها، في قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما فاطمة بضعة مني) فالمقصود أننا لا نوجب النفقة عليك لقريبك كالأخ والأخت إلا إذا كان فقيراً ومحتاجاً عاجزاً عن الكسب، أما لو كان غنياً عنده قوت يومه فلا؛ لأننا نتكلم عن نفقة كل يوم بحسبها، فلو أن الأخ أو الأخت لم يجد طعامه وقوته في يومٍ، فحينئذ ننظر إن كان عنده مال؛ فإنه ليس بفقير، فلا يجب عليك أن تنفق عليه، لكن لو لم يكن عنده مال، ولا يستطيع أن ينفق على نفسه، فإنه يجب عليك أن تنفق عليه، إلا أن بعض العلماء قال: ينظر في قدرته على التكسب، فإن كان قادراً على التكسب سقط عنك إيجاب النفقة، ويجب عليه أن يقول له: اطلب العيش بالتكسب، لأن نفقتك عليه إعانة له على البطالة وترك السعي. ومن هنا لا يجب عليك أن تنفق عليه متى كان قادراً على التكسب، وبالتكسب يتحصل على رزقه. لكن لو ضاق الكسب والعيش، فقال بعض العلماء: في هذه الحالة يجب على القريب أن ينفق عليه، ولو كان قادراً على التكسب، ما دام أنه لا يجد مجالاً للتكسب، فالقدرة على التكسب هنا وجودها وعدمها على حدٍ سواء. إذاً لابد وأن يكون فقيراً عاجزاً عن التكسب؛ يكون فقيراً بالنسبة لصفة الحال، والعجز عن التكسب يكون بصغر السن كما هو الحال في الأولاد ونحوهم، أو يموت ويترك أيتاماً أخوه يتيم قاصر فينفق عليه لأنه عاجز عن التكسب، وكذلك أيضاً يكون العجز عن التكسب لسبب الكبر والشيخوخة، كأن يكون له أخ مسن أو أخت مسنة عاجزة وليس لها من يعول، وكذلك يكون العجز عن التكسب للمرض والزمانة، كالشلل -أعاذنا الله وإياكم من الأمراض- والعمى فلا يقوى على العمل لوجود هذه الآفات، فعلى كل حال إذا كان فقيراً عاجزاً عن الكسب ثبت استحقاقه للنفقة. قال رحمه الله: [وعجزه عن تكسب]. هذا الشرط الثاني: أن يكون فقيراً عاجزاً عن التكسب، وهو في الحقيقة شرط يتضمن شرطين، لكنهم جعلوه بمثابة الشرط الواحد بسبب تعلقهما بجهة واحدة، يعني: يشترط في القريب أن يكون فقيراً عاجزاً عن التكسب، ومفهوم الشرط: أنه لو كان غنياً لا يجب عليك أن تنفق عليه، إلا من استثنينا، ولو كان قادراً على التكسب لا يجب عليك أن تنفق عليه، إلا إذا كان الزمان لا يتيسر له فيه سبل العيش؛ فوجود القدرة على التكسب وعدمها على حد سواء.

أن تفضل النفقة عن قوت نفسه وزوجته ورقيقه

أن تفضل النفقة عن قوت نفسه وزوجته ورقيقه قال رحمه الله: [إذا فضل عن قوت نفسه]. هذا الشرط الثالث، وهو يتعلق بالقريب المنفق. تقدم معنا شرطان، الشرط الأول: وجود الوراثة السببية الموجبة للنفقة. الشرط الثاني: عجز المنفق عليه وهو القريب. الشرط الثالث: وجود القدرة على النفقة بالنسبة للقريب المنفق، وهو أن يكون عنده قدرة على أن ينفق على قريبه، والعبرة بذلك اليوم، فلو عجز قريبه عن النفقة ذلك اليوم بسبب المرض والفقر، فهو عاجزٌ عن الكسب فقير. فننظر في قريبه، إن وجدنا القريب عنده مال، نظرنا في هذا المال، فإن كان هذا المال على قدره وقدر عياله، ومن تلزمه مئونته، فلا يجب أن ينفق على القريب الأبعد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول) فهذا في الأصل بدأ بنفسه ثم بمن يعول من الأولاد، ولم يجد فضلاً: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]. وهذا لم يؤته الله شيئاً زائداً عما هو لازم له في الأصل، فلا يجب عليه أن ينفق على الأبعد إذا كان المال الذي عنده لا يكفي لصرفه إليه. قال رحمه الله: [عن قوت نفسه وزوجته ورقيقة]. أي: فاضلاً عن قوت نفسه وزوجته، إذا كان له زوجه، وإذا لم يكن عنده زوجه نظرنا إلى قوته هو. مثلاً تكسب في يوم خمسين ريالاً. إذا جئنا ننظر إلى طعامه وطعام أولاده في ذلك اليوم وجدناه بخمسين ريالاً، فحينئذ لا فضل، فلا نفقة؛ لأنه ليس بغني، فننتقل بالنفقة إلى قريب آخر أبعد منه، ولا يجب في هذه الحالة على من كانت هذه صفته أن ينفق؛ لأنه لم يفضل عن قوته شيء فاستوى مع غيره فلا نكلفه؛ لأن الله يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وهذا لم يؤته الله فضلاً حتى نوجب عليه أن ينفق. إذاً: يكون فاضلاً عن قوت نفسه وزوجه ورقيقه: لأن هؤلاء من تلزمه نفقتهم، والرقيق يجب عليك أن تنفق عليه، وسيأتي إن شاء الله تفصيله أكثر في النفقة على الأرقاء وهم الموالي، فإن الإسلام أوجبه على المسلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم؛ فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يطعم، وليكسه مما يكتسي)، فهذا يدل على أنه يجب عليه أن ينفق عليه بالمعروف، فيقدم المولى والعبد في خاصة الإنسان على القريب من حيث الأصل، ولذلك يجب عليه أن ينفق على زوجه وولده وعبده، ولا ننظر في الفضل إلا بعد الانتهاء من الأقربين الذين هم أحق. قال رحمه الله: [يومه وليلته]. النفقة ننظر إليها في اليوم والليلة، فإذا كان عنده مائة ريالاً ننظر نفقة طعامه في النهار ونفقة طعامه في الليل، فإذا كان طعامه في الليل والنهار وكسوة من تلزمه مئونته في حدود الستين ريالاً ومعه مائة ريال، كان إيجاب النفقة في الأربعين، لأنها فضلت عن قوته وقوت زوجه ومن تلزمه نفقته، فيجب عليه أن ينفق على القريب من الأربعين -لأنها زائدة- في اليوم والليلة.

أن يكون الإنفاق زائدا على الكسوة والسكن

أن يكون الإنفاق زائداً على الكسوة والسكن قال رحمه الله: [وكسوةٍ وسكنى]. (وكسوة) يعني: كسوة من تلزمه نفقته، من نفقة نفسه ومن تلزمه نفقته، ومثال ذلك: عنده زوجة أو أولاد يحتاجون إلى كسوة وطعام، فقدرنا نفقة الكسوة والطعام، فوجدناها بثلاثمائة ريال، وتكسب في ذلك اليوم الزائد عن ماله الموجود ثلاثمائة ريال، فنقول: لا له ولا عليه، يجب عليه أن ينفق على نفسه وزوجه ومواليه بإطعامهم وكسوتهم ولا يجب عليه أن يصرف على القريب؛ لأن الطعام والكسوة استغرقا ما عنده، لكن لو كان لا يحتاج إلى كسوة في ذلك اليوم، ولا يحتاج أحد ممن تلزمه نفقته إلى كسوة، والطعام له ولمن تلزمه نفقته في حدود المائة، وكان عنده في ذلك اليوم مائة وخمسون، فحينئذ نقول: ما دامت النفقة التي تلزمه بخاصته هي مائة، فإن الخمسين تصرف إلى قريبه المحتاج. إذاً لا يختص الأمر بالطعام بل الكسوة داخلة في هذا، فلو كان في كل يوم عنده قريب محتاج، وكل يوم يتكسب مائة ريال، ينفق منها على أهله وولده ثمانين، ويأخذ العشرين ويعطيها إلى قريبة. الثمانون التي ينفقها تصرف كلها في الطعام، لكن في يوم من الأيام احتاج إلى كسوة له أو لزوجته أو أولاده أو لمولاه، وهذه الكسوة تحتاج إلى العشرين، فاستحقاق الكسوة في ذلك اليوم يسقط حق القريب. فإذاً لا يظن أن النفقة مخصوصة بالطعام والشراب، بل شاملة الكسوة أيضاً.

أن تكون النفقة لديه من حاصل أو متحصل

أن تكون النفقة لديه من حاصل أو متحصل قال رحمه الله: [من حاصل أو متحصل]. (من حاصل) أي: الموجود. يقولون: إذا كان رزقه الذي حصل عليه مائة ريال، هذا الحاصل، والمتحصل هو الموجود عنده مثل رأس المال الذي يأخذه دخلاً إما في تجارة وإما في عمل وكدح. لماذا يقول المصنف: من حاصل أو متحصل؟ لأن الرجل في بعض الأحيان لا يعمل، ولكنه عنده مال، مثل رجل غني عنده ألف ريال، الألف في القديم مثل المليون في زماننا، فهذه الألف التي عنده لا يحتاج معها إلى عمل ولا كسب، فعنده حاصل من المال يكفي أن ينفق منه وأن ينفق على قرابته، فنقول له: أنفق من الحاصل، يعني: من الموجود عندك. أو شخص يأخذ المال عن طريق التحصيل بعد أن يعمل ويكدح، كأن يكون عنده بقالة أو مخبز أو سيارة يتكسب فيتحصل، فنسأله: على كم تحصلت اليوم؟ قال: على مائة، فنقول حينئذ: كم قدر نفقتك ونفقت قرابتك الخاصة، قال: خمسون، نقول: أنفق من المتحصل الزائد على نفقتك ونفقتهم، فلا يشترط في نفقتك على القريب أن تكون فقط من الحاصل، بل إنما تشمل الحاصل والمتحصل.

أن لا ينفق من رأس المال

أن لا ينفق من رأس المال قال رحمه الله: [لا من رأس مالٍ] أي: إذا كانت عنده تجارة، أو عمل يومي له رأس مال، لا نقول له: اسحب من رأس مالك. بعض الأحيان يكون رأس ماله هو الذي يثمر دخله ودخل أولاده، فلذلك لا نكلفه ما كان من رأس المال، إنما يكلف بالشيء الفاضل عن رأس المال مما يكون حاصل، مثلما قلنا في حال الغني الحاصل والمتحصل في حال العمل، أو ربح التجارة، فإنه يعد تحصيلاً.

أن لا ينفق من ثمن بيع أملاكه

أن لا ينفق من ثمن بيع أملاكه قال رحمه الله: [وثمن ملكٍ]. أي: لا يطالب بذلك؛ فلو أن شخصاً عنده بيت يملكه، أو مزرعة، والمال الذي يتحصل عليه يومياً هو مائة ريال، والمائة ريال تكفيه وتكفي من تلزمه النفقة، وعنده أقرباء محتاجون، فقلنا له: أنفق على أقربائك، قال: المال الذي يأتيني أنفقه على نفسي وعلى من تلزمني نفقتهم، وليس عندي شيء زائد، فحينئذ يرد Q هل نطالبه ببيع مزرعته، ونقول: أنفقها على القرابة؟ لا، لا يطالب ببيع ما يملك.

أن لا ينفق من ثمن آلة صنعته

أن لا ينفق من ثمن آلة صنعته قال رحمه الله: [وآلة صنعةٍ]. مثل أن يكون حداداً أو نجاراً وقال: أنا دخلي المائة، وليس عندي إلا هذه الآلة أفأبيعها وأنفق على قريبي؟ نقول: لا يلزمك هذا. لكن لو فعل ذلك وآثر واجتهد ما لم يعرض نفسه وأهله للضرر؛ فهذا شيء آخر، لكن من حيث الأصل لا يلزمه أن يبيع آلته التي يتكسب بها ويطلب بها عيشه ورزقه. وهكذا لو كان عنده سيارة أجرة يتحصل بها على قوته وقوت أولاده، لا نقول: له بع آلة صنعتك وهي السيارة، وهكذا لو كانت عنده حراثة يحرث بها الأرض ويؤجرها للناس، لا نقول: بعها وأنفق على قرابتك. لكن كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقول: إذا كانت هذه الآلة ويمكن الاستغناء عنها، أو كانت في حال الكمال ويمكن أن يجد آلة دونها، بحيث لو باعها واشترى ما هو أقل قيمة استطاع أن يسد به عجز أقربائه؛ فالأشبه أن يقال له ذلك، ولو كان عنده سيارة أجرة فارهة غالية ويمكنه أن يبيعها ويتحصل على سيارة أجرة عادية، وينفق بها على قرابة، فإنه يؤمر بذلك، من النظر إلى الفضل والكمال.

وجوب النفقة على الورثة

وجوب النفقة على الورثة قال رحمه الله: [ومن له وارث غير أبٍ؛ فنفقته عليهم على قدر إرثهم]. شرع رحمه الله في مسألة ثانية، فبعد أن عرفنا شروط الوجوب، وأنه لابد من: أولاً: وجود السببية الموجبة للنفقة، وهي: أن يكون وارثاً. ثانياً: أن يكون المنفق غنياً وعنده قدرة على الإنفاق، فيجد ما ينفقه فاضلاً عن قوته وقوت من تلزمه مئونته. ثالثاً: أن يكون الشخص الذي ينفق عليه عاجزاً عن التكسب وفقيراً ليس عنده ما يسد به رمقه أو يكفي لعيشه.

النفقة على القريب المحتاج على قدر الميراث منه لو مات إلا في الأب

النفقة على القريب المحتاج على قدر الميراث منه لو مات إلا في الأب بعد هذا يرد Q كيف تنفق على هذا القريب؟ وما الذي تنفقه؟ وما الذي نلزمك به في النفقة؟ وهل أنت ملزمٌ بكل النفقة أو ملزم ببعض النفقة، أو ملزم بقدر إرثك من هذا الشخص؟ هذه مسألة فيها تفصيل عند العلماء رحمهم الله، وهذا إنما يتأتى إذا كان القريب عصبة وليس له عاصب مثله، فحينئذ يتمحض وينظر إلى وجوب النفقة عليه كاملة؛ لأنه لو انفرد في الإرث لحاز المال كاملاً، فيقال له: عليك النفقة كاملة، وأما إذا كان القريب يشاركه غيره في منزلته أو يشاركه غيره ممن يُنقص إرثه فرضاً أو تعصيباً، انقسمت النفقة على قدر إرثهم. فبين رحمه الله أن النفقة في القريب على قريبه على قدر الإرث، لكن يستثنى من هذا الولد مع والده، فإنه ينفق عليه على قدر كفايته، أعني أن الوالد حينما ينفق على أولاده لا ينظر إلى قدر إرثهم منه، وإنما يسد حاجتهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) فجعل سد العوز والحاجة لازماً على الوالد تجاه ولده، فنوجب على الوالد في نفقته على ولده أن ينفق نفقة تامة كاملة بحيث لا يبقى عند الولد حاجة. لكن لو أن الفقير له قريبان غنيان أخوان، فحينئذ لو مات قسمنا المال بين أخويه، فكل أخٍ يأخذ نصف الإرث، كذلك أيضاً في النفقة نطالب الأخوين النفقة على قدر حصصهما ونقول: كل منكما يدفع نصف النفقة، فبين المصنف رحمه الله أن القريب الوارث ينفق على قريبه المحتاج على قدر إرثه منه. وهذا عدل؛ كما أنه يغنم هذا القدر كذلك يغرمه؛ لأن الله يقول: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233].

إذا اجتمع الذكر والأنثى من قرابة المعسر

إذا اجتمع الذكر والأنثى من قرابة المعسر ولو أن هذا القريب المحتاج له أخ وأخت، ففي الإرث يكون للأخ الثلثان وللأخت الثلث؛ لأن الذكر له مثل حظ الأنثيين، والعجيب في مسألة الإرث أن الشريعة لما فضلت بين الذكر والأنثى صار فيها العدل؛ لأن الأنثى أضعف في الكسب من الرجل، وأيضاً في الحمالة، فلما حمل الأنثى حملها دون الذي حمله الذكر، فأعداء الإسلام يخلطون الأمور، وينظرون من زاوية واحدة فقط، ولذلك إذا نقد أحد الإسلام في هذه الجزئية نقول له: نظرك قاصر؛ لأنه نظر إلى حالة الغنم ولم ينظر إلى حالة الغرم، وصدق الله في قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]، من هذا الذي يريد أن يستدرك على رب العالمين، وأحكم الحاكمين الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين سبحانه وتعالى! فهذا من العجز والقصور. ولذلك كانت الشريعة الإسلامية شريعة كاملة تامة شاملة، ربطت الأمور ببعضها. هناك من العلماء من يقول: لو اجتمع الوارث الذكر والأنثى أُسقط الأنثى وألزم الذكر، وهذا أحد الأوجه عند الشافعية وغيرهم، ويقولون: إن علقة الذكر أقوى من علقة الأنثى، ولأن الذكر يتكسب والأنثى لا تتكسب -هذا في الأصل- ولذلك جعل الله النفقة على الزوج ولم يجعلها على الزوجة. ومن هنا تنظر كيف عظمة هذا الإسلام ودقته، وهنا نلمح حقوق المرأة الحقيقية المبنية على النظر إلى الحالة ودراسة أحوال الناس، وإعطاء كل شيء حقه وقدره، دون غلو أو مبالغة أو تزييف للحقائق، فهذه الحقوق الدقيقة المفصلة في الفقه الإسلامي لن تجدها في غيره؛ لأنها مبنية على شرعٍ كاملٍ تام؛ فبعض العلماء يرى أن على قدر الإرث ينفق الإناث، ويرى أنه إذا اجتمعن مع الذكور سقطن، فلو أن القريب له أخ وأخت يقول: أوجبها على الأخ ولا أوجبها على الأخت؛ لأن خطاب الشرع في التكسب موجه للذكور غالباً وهو الأصل، هذا وجه. وهناك وجه ثان يقول: يجب عليهما، ثم يختلف هذا الوجه الثاني على وجهين، فأصحاب هذا القول منهم من يقول: ويفرق بينهما على قدر الإرث، فيتحمل الذكر ضعف ما تتحمله الأنثى، ومنهم من يقول: يسوى بين الذكر والأنثى، لأن السببية جاءت من جهة القرابة. فالحنابلة يرون أن سبب وجوب النفقة على الأخ والأخت هو وجود الإرث، وذلك كقاعدة الغنم بالغرم، والربح لمن يضمن الخسارة، فكما أنهم يأخذون في الإرث بهذا النصيب، ينبغي أن يتحملوا في النفقة بهذا النصيب، ويستدلون بقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233]، وهذا المذهب أصح وأقوى؛ لأن الله لما أوجب نفقة الرضيع على من يرثه في حال موت أبيه وموت من ينفق عليه قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233]، أي: عليه أن يدفع نفقة الرضيع؛ لأنه لو مات الرضيع ورثه، فجعل وجوب النفقة عليه، وإذا كانت السببية هي الإرث، فينبغي أن تقيد بنص القاعدة التي وضعها الشرع في الإرث، ومن هنا يترجح هذا القول الذي سلكه المصنف رحمه الله، وهو مذهب الحنابلة رحمهم الله، أن النفقة على قدر الإرث. قال رحمه الله: [فعلى الأم الثلث، والثلثان على الجد]. أي: لو كان له أم وجد؛ فإن الأم تأخذ الثلث فرضها، والجد يأخذ الثلثين فرضاً وتعصيباً، ففي هذه الحالة يقولون: إذا افتقر وله جد وأم فإننا نوجب على الأم ثلث النفقة فقط والباقي على الجد، فإذا افتقر وهو يحتاج إلى ثلاثين ريالاً فنقول للأم: ادفعي عشرة، ونقول للجد: ادفع عشرين، عليه الثلثان وعلى أمه الثلث، لأن أصل الإرث على هذا الوجه. قال رحمه الله: [وعلى الجدة السدس، والباقي على الأخ]. وهكذا لو كان له جدة وأخ؛ يكون السدس للجدة فرضها في شرع الله عز وجل، ويأخذ الأخ الباقي وهي الخمسة الأسداس. فلو كانت النفقة ثلاثين ريالاً نقول: ادفعي خمسة ريالات التي هي سدس الثلاثين، والباقي وهي الخمسة الأسداس على الأخ، فنقول للأخ: ادفع خمسة وعشرين، لأنه لو مات وترك الجدة مع الأخ وترك ثلاثين ريالاً كان سدسها للجدة، وخمسة أسداسها للأخ، فما ظلم أحد، مثلما يأخذ الغنم يدفع الغرم. وهذا أتم وأكمل وأجمل وأبهى ما يكون من العدل، لا يستطيع أحد أن يستدرك على الشرع. ولذلك كان من أعدل المذاهب أن ينظر إلى قدر حصته من الإرث، لأن استحقاقه جاء عن جهة الإرث، ولما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن، دل على أن الشريعة ترتب الربح على الخسارة، فالخسارة وهي وجوب النفقة؛ لأنه دفع من ماله، والإرث لا يأتيك بدون مقابل في الأصل، وقد يكون الشخص من أفقر خلق الله، ثم يموت له قريب فما يدري إلا والملايين قد دخلت عليه رضي أو لم يرض، مال ساقه الله إليه، لكن يتحمل أيضاً عن وارثه مثلما يأخذ منه. قال رحمه الله: [والأب ينفرد بنفقة ولده]. ذكرنا أن الأب ينفرد بنفقة ولده ولا يقسم بين الإخوة، وإنما ينفرد الأب بنفقة ولده؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابدأ بنفسك وبمن تعول) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) فدل على أنه يجب على الأب أن ينفق على ولده قدر كفايته.

الأسئلة

الأسئلة

حكم نفقة الزوج على زوجته المريضة

حكم نفقة الزوج على زوجته المريضة Q هل يجب أن ينفق الأخ على أخته المتزوجة المريضة، حيث إن نفقة المرض لا يلزم بها الزوج، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالعلاج من حيث الأصل فيه خلاف بين العلماء، هل الزوج يعالج زوجته أو لا؟ والصحيح من حيث الأدلة: أنه لا يجب على الزوج أن يعالج زوجته، لكن إذا كان هناك سبب يوجب العلاج؛ بحيث جاء المرض من جهة حملها لجنينه وجاء بالتبعية فإنه يجب عليه أن ينفق عليها. لا يجب على الزوج وليس بفرض عليه، ولكن من ناحية الأفضل والأكمل، وهو من المعروف والخير الذي لا يشك أحد في حسن الخلف والجزاء فيه من الله عز وجل، أن يضحي الزوج وينفق على زوجته، هذا من حيث الأصل. وينبغي على الإنسان أن يفرق بين الشرع والعواطف، فبعض الناس حينما يقال له: إن الزوج لا يجب عليه علاج زوجته، يستغرب وينكر، ولا يجوز لأحد إذا سمع حكماً شرعياً أن يبادر بالاستغراب والتعجب؛ لأن الله إذا حكم لا يعقب على حكمه، فالزوجية رباط له حرمته وضوابطه، والشريعة لا تكلف أحداً إلا بأصول وقواعد صحيحة؛ الذي بين الزوجين أن الزوج يملك الاستمتاع من زوجته ويقوم على نفقتها، وما تحتاج من الأمور اللازمة. بعد ذلك ما يتعلق بجسدها من إصلاح حاله إذا مرضت وسقمت، فهذا أمر خارج عن أساس الزوجية في الأصل، ولذلك لم توجبه الشريعة. لكن لو كان المرض متعلقاً بسبب من الزوج، وأن الزوج أمرها بشيء وترتب عليه هذا الضرر، أو فعل بها ما ترتب عليها بسببه هذا الضرر، فهذا شيء آخر. حتى الرجل الأجنبي لو أن شخصاً عمل عنده، وألزمه بشيء وترتب عليه ضرر، فهذا شيء آخر، لكن نحن نتكلم على الأصل، فالأصل يقتضي أن الزوج ليس ملزماً بعلاج زوجته. وبعض الباحثين من المتأخرين يقول: إن هذا حكم غريب في الفقه الإسلامي. وهذا ليس بصحيح، وإنما يجب على الشخص إذا ألزم الزوج بعلاج زوجته أن يحضر دليلاً من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لا ينسب إلى الشريعة الشيء بالهوى وبالعادة وبالتقاليد، ولكن بنص الكتاب والسنة، والذي في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم القيام على نفقة الزوجة بإطعامها وسكناها وتعهدها في كسوتها ونحو ذلك بالمعروف، وأما مسألة العلاج فهذا ليس بلازم كما ذكرنا، وقد تقدمت معنا هذه المسألة، وأشرنا إلى هذه الأدلة وبيناها. إذا ثبت هذا نقول ونكرر: إن الزوج الأفضل له والأكمل أن يضحي من أجل زوجته، وأن يحتسب عند الله سبحانه وتعالى ذلك، وأن الله سبحانه وتعالى لا يضيعه. وأما بالنسبة لنفقة الوارث والقريب فهي وجود الحاجة من الطعام والكسوة، مثلما ذكرنا في الزوج، لكن لو أن أُخته احتاجت للعلاج، فمما لا يمكن للإنسان القريب أن تسمح له نفسه في حق الأخوة أن يترك أخته مريضة ولا يقوم بعلاجها ولا بمداواتها، لا يمكن أبداً إذا كانت نفسه أبية صالحة ولا يهنأ له عيش. والحمد لله فالفطر السليمة والنفوس تختار مرضاة الله سبحانه وتعالى، وأفضل ما يكون التقرب وأبلغ ما يكون من الرضا من الله عن عبده إذا بدأ بأقرب الناس إليه. وقد يستغرب الإنسان إذا تأمل هذا؛ أنك تجد الشيطان لا يقعد لك في الرصد مثلما يكون فيما بينك وبين قرابتك، فتجد الإنسان أنشط وأقوى ما يكون مع الغرباء، وتجده يضحي من أجلهم حتى إنه يذهب لأحدهم يقضي له حاجته ويحس بنشوة إيمانية وراحة نفسية لا يعلمها إلا الله، لكن ما إن تأتي الحاجة لعم أو عمة أو خال أو خالة أو ابن عم أو ابن خالة أو قريب، إلا وجد دون ذلك من الحواجز والضيق والتعب والعناء والكراهية من نفسه ما الله به عليم؛ لأنها غاية وأمنية عظيمة، قد حفت الجنة بالمكاره؛ فلما عظم ثوابها وجل عند الله جزاؤها، وحسنت عاقبتها، صده الشيطان. حتى إن العبد لو غبر قدماً واحدة من أجل أن يصل رحمه للسلام؛ فإن الله يبارك له في العمر والرزق، فما بالك إذا مد المال لكي يقضي دين القريب أو يعالجه من مرضه؟ لا شك أنه أكمل وأعظم، ولذلك قعد عدو الله بالرصد، فالشيطان يجعل الإنسان في هذا أضيق ما يكون إذا ذهب يعالج أخته. تقول له: أنا محتاجة إلى علاج، فتجده يختلق من الأعذار وتضيق به الدنيا، ويحس أنه في أكرب يوم، ويتثاقل يتثاقل حتى يقف على باب بيته، ثم تجده يتضايق ويصيح عليها ويحملها في سيارته وهي مليئة بالكلام الذي تكره معه معروفه، ثم يحملها إلى مكانها حتى يقضي لها علاجها، أو يقضي لها حاجتها، ثم يرجع وهو مكره، مشمئز النفس، وهذا -نسأل الله السلامة والعافية- من الحرمان. لكن لو أنه شعر أنه في أوج الرحمة، وأبلغ ما يكون في الرضا؛ لأن أولى الناس بخيرك أقرب الناس إليك، وإذا لم ترحم الأخت فإلى من تتجه بعد الله عز وجل، الأخت والأخ هم أحوج الناس إليك، خاصة بعد موت الوالدين، خاصة إذا كانوا أيتاماً، وخاصة إذا كانوا قاصرين، وخاصة إذا بليت الأخت بزوج لا يرحمها أو لا يحسن إليها. فتكون في ظلها وكنفها دليلاً لها، تشتهي مرضاة الله بإدخال السرور عليها، تشتري مرضاة الله عز وجل بقضاء حوائجها، تشتري مرضاة الله عز وجل بعلاجها ومداواتها، وتحتسب عند الله كل حركاتك وسكناتك وستجد أثر ذلك؛ ربما تجد العوائق أولاً قبله، لكن والله ما إن تمضي قليلاً منه إلا وجدت من الانشراح والبركة والخير ما الله به عليم، فإن ضاقت عليك الدنيا وسع الله ضيقها، وإن عظم عليك الكرب وجدت من الله تنفيساً، وإن زاد عليك الهم وجدت من الله تثبيتاً، ومن أراد أن يجرب هذا فليجربه. من أبلغ ما تشترى به مرضاة الله عز وجل بعد بر الوالدين؛ الإحسان إلى الإخوان والأخوات، وكل يوم إذا استطاع الإنسان بل في كل ساعة، فضلاً عن كل يوم، أو أسبوع، أو شهر، أو سنة، أن يسأل نفسه ما الذي قدمه لإخوانه وأخواته؟ متى زار الأخ والأخت؟ ومن أفضل وأكمل ما يكون الأخ الكامل الفاضل الذي يريد أن يشتري مرضاة الله عز وجل، والقريب الفاضل الكامل الذي يشتري مرضاة الله؛ ألا ينتظر من الأخ والأخت أن يعرض حاجته، ربما في المرة الأولى تجدهم يسألونك حوائجهم، ثم يرفعك الله إلى درجة أبلغ وأكمل، وهي أن تصبح أنت الذي تتفقد حوائجهم، وتجد الأخت في بعض الأحيان تريق دمعتها خجلاً أمام أخيها من كثرة ما تجد من إحسانه وبره وملاطفته لها، حتى إنها توري أمورها وتغيبها، لأنه سما إلى مرتبة عالية. هناك من الإخوان من لا يبدو لإخوانه إلا إذا سألوه، فهو يعطيهم لكنه بمنزلة أقل، لكن الأكمل والأفضل هو الأخ الذي يذهب بنفسه يتفقد حوائجهم، والأفضل والأكمل الأخ الذي قضى حوائجهم حتى وصل إلى درجة الكمالات. وتصور الساعة التي تدخل فيها على الأخت خاصة؛ لأن النساء فيهن ضعف وحاجة وحنان ورحمة. والكلمة اليسيرة البسيطة عند المرأة تقع بمكان أبلغ من ملايين الأموال من شدة الحنان الذي تجده الأخت، فإذا دخل الإنسان، ومسح رأس ابنها وأدخل السرور عليها بكلمة طيبة، ووقف في ظلها وأخذها لحاجتها أو واساها في كربها، كم سيجد من الرحمات، وليجرب نفسه حينما يخلفها وراء ظهره، وقد رفعت كفها إلى ربها، وتوجهت بقلبها وقالبها إلى خالقها أن يجزيك بالحسنى في الدنيا والآخرة؛ لأنها تدعو من قلبها، وليس هناك أبلغ من دعاء القريب لقريبه، ولا أبلغ من وفاء وحب القريب لقريبه؛ الحب الذي لا تشوبه شائبة، ولا يدور حول المصالح، ولا تكدره الأكدار. الأخ يؤذي أخاه فيزداد بذلك محبة له، والأخ يهين أخاه فيذهب ليكرمه، لأن هذا شيء في القلب. لذلك النبي صلى الله عليه وسلم مع ما وجد من قريش فإنه قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون). فالحاصل أن النفوس لا ترضى إذا وجدت من القرابة الحاجة إلا بمساعدتها، فليصبر الإنسان خاصة طالب العلم الذي يريد أن يفتح الله عليه في علمه، والقدوة كالإمام والداعية والمعلم والشيخ، ينبغي دائماً أن يربأ بنفسه أن يكون في مرتبة قاصرة عن الكمالات، وليعلم أن الرحم تعلقت بالله سبحانه وتعالى، وقالت: (هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال: أما ترضين أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك)، فرضيت من الله أن يصل من وصلها وأن يقطع من قطعها. فنسأل الله بأسمائه وصفاته أن يرزقنا صلة الرحم، وأن يجعلنا ممن وصله بصلتها، وأن يتقبل ذلك خالصاً لوجهه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم، والله تعالى أعلم.

أنواع الإجارة في الحج

أنواع الإجارة في الحج Q من حج عن الغير بأموالهم، ماذا يفعل بالمال الزائد، أثابكم الله؟ A الحج إذا كان بمال، فهذا يسمى عند العلماء الإجارة على الحج، والإجارة على الحج تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: إجازة البلاغ: أن يقول لك: سأحج عن قريبك، أو أحج عنك وآخذ نفقة الحج، وحينئذ يستحق نفقة الركوب والطعام والشراب والسكن والهدي إن كان هناك هدي واجب بتمتع أو قران، فيستحق أربعة وجوه للنفقة، فإذا قال لك: أنا أحج على قدر نفقتي، فالإجارة صحيحة، ويسميها العلماء إجارة البلاغ. القسم الثاني: إجارة المقاطعة؛ يقول لصاحب الحج: أنا أحج عنك أو عن قريبك بعشرة آلاف ريال، إن زاد شيء أخذته وإن نقص شيء كملته، يعني آخذ منك عشرة آلاف وأتحمل الخسارة أو آخذ الغنيمة، فهذا فيه قولان عند العلماء رحمهم الله، والصحيح: أنه لا تجوز إجارة المقاطعة؛ لأن الحج ليس محلاً للمعاوضات، لأنه عبادة وليس محلاً للمزايدة والبيع والشراء، فبناءً عليه نقول: خذ ما يكفيك بالمعروف ذهاباً وإياباً، وتقدر نفقته من خروجه إلى مكان عودته إلى أهله. وأما بالنسبة للمسألة المذكورة، فإذا كان إجارة مقاطعة على القول بجوازها فإنه يأخذ الزائد. وهذا قول ضعيف، وعلى القول بعدم جوازها -وهو الصحيح- فيجب عليه أن يذهب إلى صاحب الحج، ويقول له: زادت ثلاثة آلاف ريال أو زاد ألف ريال، فإن قال: سامحتك أو هي لك، فلا بأس بأخذها؛ لأنها ليست على سبيل إجارة المقاطعة، وإنما صارت هبة زائدة عن أصل التعاقد بين الطرفين، والله تعالى أعلم.

حكم استئجار بئر الماء

حكم استئجار بئر الماء Q ما حكم استئجار البئر، أثابكم الله؟ A أولاً: مسألة بيع فضل الماء معروفة، وفيها نهي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن منع فضل الماء ليمنع به الكلأ). فإذا كان هناك آلة ترفع الماء أو استأجر من ينزح الماء؛ يجوز له بيع الماء. فإذا جاز له بيع الماء، صار الماء هو عين المبيع، فلابد من معرفة قدره، وهنا ما يبيعه مجهول القدر. بل لابد وأن يقول: أبيعك مثلاً الوايت الموجود سعة كذا كذا لتراً، أو أبيعك مثلاً هذا الخزان وأملأ لك ماءً من هذه البئر تذوقها وتعرف طعمها بمائة ريال، فهذا جائز. فالوايت الآن يأتي بالماء من بعيد ويتكلف ويقول لك: الوايت بسبعمائة. فلا بأس بذلك، لأنه أخذ أجرة تعبه وتحصيله، لكن لو قال: أبيعك الماء في البئر على أن تسحب منه يوماً لم يصح؛ لأن بعضهم يعتبره من إجارة الزمان؛ لكن الواقع أنه بيع عين، ونحن لا ندري كم الناتج في اليوم، فلابد من تحديده، يقول مثلاً: خمسة وايتات من سعة كذا وكذا، لأن البيع يشترط فيه معرفة قدر المبيع، وهذا مما يحتاج إلى معرفة قدره دفعاً للغرر؛ لأن جهالة القدر توجب فساد البيع. ولذلك ثبت في صحيح مسلم وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة)، وبيع الحصاة عند العلماء أصل من الأصول في تحريم البيع للأشياء المجهولة القدر، وقد كان ذلك في القديم، ومن صوره أن يقول: أبيعك من أرضي هذه ما انتهت إليه حصاته بمائة، فلا ندري هل هو بعيد أو قريب؟ فهنا جهالة قدر، فلما جهل القدر حرم البيع. ومن هنا فكل شيءٍ له قدر ويمكن ضبطه بالقدر، ووقع البيع عليه دون تحديد لذلك القدر، فلا يجوز لأنه من بيع الغرر، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر وغيره رضي الله عنهما: (أنه نهى عن بيع الغرر). وبناء على ذلك نقول: حدد المبيع من الماء من البئر، فيقول له: القدر عندي مائة لتر بألف ريال، كل لتر بعشرة ريالات، وهكذا يحدد قدر المبيع، هناك من يقول: هذه إجارة تدخل في إجارة الزمان، لكن هذا بعيد. والأشبه من قال: إنه لابد من تحديد القدر، والله تعالى أعلم.

حكم التصرف في أوقاف المسجد إن كانت معطلة

حكم التصرف في أوقاف المسجد إن كانت معطلة Q ما حكم الاستفادة من حاجيات المسجد، كالمكيفات والسجاد في مصالح خيرية أخرى، كوضعها في مدارس التحفيظ أو سكن الإمام أو بعض أمور الدعوة، علماً بأن هذه الحاجيات لا تستعمل في المسجد؛ نظراً لاستبدالها بأخرى، وهي ملقاة في مستودع المسجد، أثابكم الله؟ A هذا السؤال يحتاج إلى أمور ينبغي التنبيه عليها: أولاً: المساجد إذا كانت مرتبطة بجهات تتحمل المسئولية عنها، فهي المسئولة عنها أمام الله عز وجل، وهي التي تنظر في مصالحها، وتقوم بصرف حوائجها على حسب ما يقتضيه الأمر كما هو معلوم، ولذلك لا يتدخل الأفراد إلا عن طريق هذه الجهات المسئولة عن هذه الأشياء إذا كانت في المسجد خاصة، فينبغي أن يعلم أن كل شيء في المسجد أوقف عليه ينبغي أن يبقى في المسجد، ولا يجوز إدخال الأشياء الجديدة، وإخراج القديمة طلباً للأكمل والأجمل والأفضل؛ لأن أي شيء يوقف فمعناه: أنني أخرجته من ملكي صدقة لله عز وجل، ولذلك لا يملك أحد ذلك الشيء. ومن هنا لا يجوز بيع الوقف ولا هبته، ولا شراؤه؛ لأنها خلت اليد عن الملكية، حتى ولو قال: هذا المسجد ملك لي، نقول: ليس ملكاً لك؛ لأنك أوقفته لله، وبناءً على ذلك فصاحب المسجد لا يملك المسجد؛ لأنه خرج بالوقفية لله عز وجل والتسبيل، ومن هنا قال ابن عمر رضي الله عنهما في حديث عمر الذي هو أصل الأوقاف كما في الصحيحين: (فتصدق بها عمر رضي الله عنه إلى أن قال: على أن لا يباع أصلها) أي: لا يباع أصل الرقبة المسبلة من حد السهم. فهذا أصل عند العلماء، فإذا كان في المسجد مكيف أو مصاحف أو كراسي المصاحف، أو فراش أو ساعات أو إضاءة وأنوار، فإنها تترك كما هي حتى تتلف وتتعطل تماماً، لأنها موقوفة ومحبسة على هذا المسجد، ومن أوقفها وحبسها يريد ثوابها عند الله عز وجل، فلا يجوز لأحد أن يأتي ويقطع أجره وخيره، ويقول: أنا أريد أن أحدث فراشاً جديداً، فالمساجد ليس محلاً للمباهاة، هذه المساجد المقصود فيها صلاح القلوب والقوالب والتوجه إلى الله عز وجل، ولو كانت مفروشة بالحصى. فإن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مفروشاً، ولم يكن مزيناً ولا منمقاً، صلوات الله وسلامه عليه، هذه أماكن عبادة، وأدخل الله عز وجل إليها الأغنياء والأثرياء وهم في أوج غناهم وثراهم لكي يذلوا بين يدي ربهم عز وجل بالسجود على الأرض ولو كانت تراباً، ويذلوا بين يدي الله عز وجل حينما ينكسر كبرياؤهم فيصلي عن يمينهم الفقراء وعن يسارهم الضعفاء، ليست أماكن مباهاة. وهذا مقصود الشرع فيها. ولذلك كان من علامات الساعة المباهاة بالمساجد فيما ورد في أكثر من أثر، ومن هنا مسألة الغلو؛ فكلما وجدنا شيئاً قديماً في المسجد سحبناه وأتينا بشيء جديد، ليس المسجد محلاً للتنافس في هذه الأمور التي يقصد بها الكمالات، لكن لو تعطلت مصلحة هذا الشيء فأصبح المكيف لا يشتغل، فإن أمكن تصليحه يصلح، ونقول للشخص: إذا أردت أن تتصدق فأصلحه حتى يكون صدقةً عليك وعلى صاحبه الذي أدخله، وحينئذ تنصح لعموم المسلمين وتنصح لإخوانك المسلمين الذين تقدموا، تريد أن تشتري شيئاً جديداً اذهب وابحث عن مسجدٍ لا يوجد فيه مكيف واشتر له. أما أن تأتي إلى هذا المسجد المسبلة فيه هذه الأوقاف وتتصرف فيها بهذا فلا. ثانياً: الصرف إلى الجهات الخيرية الأخرى، هذا أمر استثناه بعض العلماء في مسائل ضيقه تحتاج إلى حكم القاضي، إذا تعطلت مصلحة الوقف في جهة من أوجه الخير، ولها جهة تشبهها صرفت إليه، وهذه المسألة اختارها بعض العلماء، وبعض العلماء يقول: لا يصرف إليه، بل يبقى حتى ولو تعطلت مصالحه لأننا لا نملكه، ولا يملك أحد التصرف فيه، واختاره جمع من المحققين كـ شيخ الإسلام في أكثر من مسألة، أنه إذا تعطلت مصلحة الوقف أو كان الوقف على محرم صرف إلى الأشبه، مثلاً لو أوقف على بدعة أو ضلالة صرف إلى طلاب العلم؛ لأنه لما أوقف على البدعة كان يظنها قربة، فننظر إلى الشيء المثيل لها في الذكر ونصرفه إلى طلاب العلم، حتى تصرف في وجهها المعتبر، هذا يختاره بعض العلماء؛ لأن الإعمال أولى من الإهمال؛ فبدلاً من تعطيل الوقف وإهماله يعمل أفضل من أن يكون باطلاً من أصله ولا يعمل. على كل حال من حيث الأصل أوصي الإخوان ونفسي بتقوى الله عز وجل، وأوصي الأئمة وجيران المسجد أن يتقوا الله في مصالح المسجد الموقوفة عليه، وأن يجتنبوا الأمور المبالغ فيها، فالبعض يظن أنه يتقرب بهذا إلى الله عز وجل حينما يقول: نكيف بيت الله عز وجل، وإذا ما أصلحنا بيت الله فما نصلح وكذا. لا يعمر المسجد شيء مثل ذكر الله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]، أول ما ذكره الله عز وجل الذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والتواد والتعاطف والتراحم، لا تعمر المسجد بشيء أعظم من الإيمان بالله عز وجل. وإذا أردت أن تكون من عمار المسجد حقيقةً فانظر إلى أمرين اثنين هما أساس بناء المساجد، أولاً: أنك إذا دخلت المسجد تدخل بتوحيد الله حتى تخرج منه وفي نفسك من الإيمان حينما خرجت أعظم وأسمى منها يوم دخلت، فإذا فعلت ذلك فوالله قد عمرت بيت الله عز وجل وجزيت خيراً على ما صنعت، ولن يضع الله أجر من أحسن، فمن أخلص بالتوحيد، هذا أول شيء تعمر به المسجد. ثانياً: تعمر المسجد بحقوق إخوانك المسلمين، إذا أصبحت مساجدنا مزينة منمقة جميلة، وأصبح الرجل يدخل المسجد ويخرج من المسجد ولم يصافح أخاً له مسلماً، وإذا أصبحت مساجدنا جميلة منمقة ويجلس الإنسان في المسجد ساعات، وهو لم يتعرف على أخٍ مسلم، ولم يدخل سروراً على أخٍ له مسلم، فأين عمارة المساجد؟ إن الله عز وجل يجمعنا في اليوم خمس مرات على مستوى الحي، ويجمعنا في الجمعة من خارج المدينة مع من يأتي من أهل البادية لكي يتعرفوا على الحاضرة، ثم يجمع الأمة الإسلامية من مشارق الأرض ومغاربها في العام مرة واحدة في الحج، فإذا كانت المساجد تسري على هذه الأهداف السامية والغايات النبيلة؛ عمرت وازدانت وجملت، وازدانت بعظيم الحسنات. كيف تعمر المسجد لما يكون الفقير إذا دخل إلى المسجد وجد من يواسيه ويكفكف دمعته، ويقضي حاجته، ويبدد بإذن الله همه وغمه وكربه أحب المسجد وأحب بيت الله، وعرف بركة الطاعة والخير، وإذا أصبح كبير السن يدخل للمسجد فيجد صغار المسلمين يقبلون رأسه ويجلونه ويحبونه ويكرمونه ويدخلون السرور عليه حتى نسي همه وغمه، وعاش بكرب من فراق إخوانه وأقرانه، فوجد من إخوانه المصلين الراكعين الساجدين من يتبسم في وجهه، فيمسح عنه دمعته، ويجلي عنه همه وغمه بإذن الله عز وجل حتى أصبح يعود إلى المسجد، حتى إن الرجل تجده من أشد الناس مرضاً وسقماً، لكن إذا قيل له: تذهب إلى المسجد، يفرح وينتشي؛ مما يرى فيه من وجوه الخير وأخلاق الإسلام السامية والكاملة، لكن إذا أصبح يدخل المسجد ويخرج ولا يرى أخاً ولا صديقاً، وإخوانه ذهبوا، وأصبح الناس ينظرون إليه وكأنه كَلٌّ على غيره، يحمل ويوضع، ولا يجد عطفاً ولا رحمة ولا شفقة، فعندها يمل من المسجد -أستغفر الله العظيم- أو يأخذ برخصة الله عز وجل ويقبع في بيته، ويقول: حتى لا تشمت بي الأعداء، وكأنه ينظر إلى الناس كأنهم أعداء. فهذه هي الأمور التي تعمر بها المساجد، لا تعمر بالقيل والقال، ولا بأمور الدنيا ولا بزينتها، فوالله ما كانت مساجد رسولنا صلى الله عليه وسلم مضاءة إلا بأنوار التنزيل، وهذا لا يعني أننا نترك متاع الدنيا وزينتها، بل نقول: لا مانع أن يوجد الخير وأن تزين المساجد، لكن شريطة ألا تكون فيها الزينة التي تلهي عن ذكر الله. لكن لو بنى مسجداً وأحسن بناءه فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة). كما في الحديث الصحيح، والقطاة: طائر معروف، وهو طائر صغير لا يذكر. فانظر كيف أحب الله عمارة بيوته، فمن عمر هذه المساجد بنى الله له قصراً في الجنة، فنحن لا نقلل من بناء المساجد، ولكن نقول: بشرط ألا يكون على حساب حقوق الناس أو على حساب الأصول الشرعية المراعاة في الأوقاف، خاصةً إذا كان إمام المسجد يسحب المكيف من المسجد لأجل أن يجعله له، هذا لا يمكن، لأن النفع للجماعة ليس كالنفع للفرد، وهذه الأمور كلها ينبغي أن يجتنبها الإنسان تحصيلاً للأصول العامة المعتبرة في الأوقاف، والله تعالى أعلم.

الوقت الذي تستباح به رخص السفر للمسافر

الوقت الذي تستباح به رخص السفر للمسافر Q من كان مقيماً وأراد السفر وقت الظهر، فهل يجوز له أن يصلي العصر قصراً؟ A رخص السفر لا تستباح إلا بعد خروجك من آخر عمران المدينة، فإذا أذن الظهر وأنت في بيتك وعندك نية للسفر، فلا عبرة بالنية؛ لأن الله يقول: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184]، فلابد وأن تكون على سفر، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت في السفر، وزيدت في الحضر) أي: في حال الحضر، فأنت في حال الحضر ولست في حال السفر. ومن هنا يجب أن يكون العمل بهذه الرخص بعد ثبوت حججها، والموجب أن تكون على السفر، ولا توصف بأنك على سفر إلا إذا اجتمع فيك الظاهر والباطن. وبعض الفقهاء ينظر إلى الباطن ويغفل الظاهر، فيقول: أنت عندك نية، وهذا يكفي، وبعض العلماء يقول: لابد من النية مع الظاهر، لتعلق العبادة بهما، وهذا هو الصحيح، ولذلك لا تترخص بالجمع ولا بالقصر إلا بعد الخروج من العُمران، لكن لو أذن المؤذن وأنت لم تخرج من آخر بيتٍ من المدينة؛ فإنه يجب عليك أن تصلي الظهر أربعاً والعصر أربعاً والعشاء أربعاً، لكن لو خرجت وبعد مجاوزتك لآخر بيت في المدينة أذن المؤذن صليت الظهر ركعتين والعصر والعشاء ركعتين ركعتين لأنك على سفر. فالسبب أنه لو أذن الظهر وعندك نية للسفر ولم تخرج من المدينة، فقد توجه عليك الخطاب بأربع ركعات ولم يتوجه بركعتين، لأنك في الحضر ولست في السفر، ولذلك قالت: (فأقرت في السفر وزيدت في الحضر) ولما قالت: أقرت في السفر، ليس من الصواب أن ننظر إلى الباطن ونلغي الظاهر، وحديث: (إنما الأعمال بالنيات) مقيد بالظاهر؛ لأنه قال: (على سفر) لذلك لا ينظر إلى حال الإنسان إلا إذا اجتمع فيه الظاهر والباطن. وهذا مذهب الجمهور عملاً بالسنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج لحجة الوداع وغيرها من أسفاره صلى الظهر بالمدينة أربعاً والعصر في ذي الحليفة ركعتين، مع أنه كانت عنده نية للسفر في نفس اليوم، وما ورد عن بعض الصحابة من أنهم كانوا يفطرون وهم في داخل المدينة فقد كانوا يجتهدون مثل عدي بن حاتم لما وضع العقالة، فكان هذا فهمه، لكن ظاهر السنة والفقه بالتحري كما هو مذهب الجمهور والأئمة أنه لابد من وجود الظاهر والباطن في رخص السفر، {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184]. ولما قال: (على سفر) كان له معنى في اللغة، وهذا أبلغ من قول من يقول من العلماء: ومن كان منكم مريضاً أو مسافراً، وإنما قال: (على سفر)، وهذا يدل على أن حالته حالة سفر، ومن هنا ظاهر القرآن أسعد بالقول بوجود الظاهر والباطن من أجل الحكم برخص السفر، فيخرج من آخر العمران في المدينة وحينئذ يحكم بكونه مصلياً صلاة المسافرِ أو صلاة المقيم على حسب الخروج وعدمه. والله تعالى أعلم.

الجمع بين لغو اليمين وإنشائه

الجمع بين لغو اليمين وإنشائه Q كيف يجمع بين قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة:225]، وقوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224]، أثابكم الله؟ A لغو اليمين مختلف في تفسيره، قال بعض العلماء: أن يحلف على الشيء يظنه صواباً فيتبين أنه غيره، فهو لغوٌ أي: لا كفارة فيه. وهذا مأثور عن ابن عباس رضي الله عنه، كأن ترى رجلاً من بعيد، فتقول: هذا محمد، فقال لك قائل: لا، هو علي. تقول: والله إنه محمد، فأنت حلفت على شيء تظنه بغلبة الظن، والحالف على غلبة الظن إن تبين خطؤه كان قوله لغواً لا كفارة فيه. فقوله: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة:225] أي: مؤاخذة التكفير، هذا على التفسير بأنه يحلف على شيء يظنه. فآية المائدة في قوله: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة:225] من جهة إيجاب الكفارة بضمان حق الله عز وجل. أما قوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224]، فمن جهة الحلف نفسه، وإنشاء اليمين، يعني: أن الإنسان لا يحلف كثيراً بالله عز وجل، وهذا من باب تعظيم الله عز وجل، ولذلك كان بعض السلف يتقي الحلف بالله عز وجل باراً أو غير بار. وابن عمر رضي الله عنهما لما اختصم مع الرجل في عبدٍ من عبيده باعه، فادعى الرجل أن فيه عيباً واختصما إلى عثمان رضي الله عنه، فقال للرجل: هل عندك بينة؟ قال: ما عندي بينة، فقال لـ ابن عمر أن يحلف، قال له ابن عمر: لا أحلف، ولكن أرد العبد وأعطيه المال. كل هذا من باب تعظيم الله عز وجل، لا يريد أن يحلف بالله عز وجل، فلما رد العبد باعه بأضعاف قيمته بعد ذلك، فعوضه الله خيراً مما ترك، وهذا من تعظيم الله؛ لأنه لا يعامل أحدٌ ربه إلا كان له الخير في دينه ودنياه وآخرته. فقوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224] هذا المراد به الإكثار من حلف اليمين، والنهي عن الإكثار منها، هذا في الإنشاء والثاني في الأثر، وحينئذ فلا تعارض. يعني تقول: نجمع بين الآيتين إذا وجد تعارض، لكن إذا كانت إحدى الآيتين في شيء والآية الأخرى في شيء آخر فلا تعارض بينهما أصلاً، ولا يجمع بين شيئين مفترقين، وبناء على ذلك لا تعارض بينهما من هذين الوجهين. والله تعالى أعلم.

حكم إهداء العامل من أملاك سيده

حكم إهداء العامل من أملاك سيده Q عاملٌ يعمل في دكان سيده، فهل يجوز له أن يهدي من هذا المحل، وهل يجوز لي أن آخذ من هذه الهدية، أثابكم الله؟ A العامل ليس ملكاً لصاحب الدكان، وإنما بينهما عقد إجارة، فينبغي دائماً أن يعلم الإنسان أن المسلم ليس بالرخيص، ولا بالهين، لا للونه ولا لحسبه ولا لنسبه، ويعلم أن الإسلام شيء كبير، وأن للناس حقوقاً في أعراضهم وكرامتهم، ولا تحسبن أعراض الناس سهله؛ أو أن الناس إذا كانوا غرباء أو ضعفاء فليس لهم حقوق، بل اعلم أن الإسلام قد سوى بينك وبينه، عاملاً أو غير عامل، ولو كان فقيراً فقراً مدقعاً. ولذلك جبلة بن الأيهم لما كان يطوف، فوطأ الأعرابي طرف إزاره فسقط الإزار، فلطم جبلة الأعرابي في داخل المطاف، فاختصما إلى عمر رضي الله عنه، فقال لـ جبلة: كتاب الله القصاص، يلطمك مثلما لطمته، فقال: يلطمني هذا الأعرابي؟ قال: نعم، يلطمك كما لطمته، فإن الإسلام قد سوى بينك وبينه، وكان من ملوك العجم، من أصحاب العزة والمكانة في الروم، فقال له: أنظرني ليلتي. وهذه من قصص العبر التي ذكرت في التاريخ الإسلامي. وأنبه على أنه كان من منهج العلماء أنهم لا يطبقون عليها موازين الجرح والتعديل، والآن كل يوم يأتي من يقول: هذه قصة لا تثبت. هذه القصص التي تقال للاعتبار، كما قال الإمام أحمد: كنا إذا ذكرنا التاريخ تساهلنا، وتجد اليوم من يقولون: لا تثبت، فيطعنون فيها، حتى أنك تجد مبتدئين من الطلاب حينما يمسك (البداية والنهاية) لـ ابن كثير يهينها وينقص من مكانتها، لأنه سمع أن فيها قصصاً لا تثبت، ولما يحضر للشيخ محاضرة ويسمع عنده قصة لا تثبت، يسقط الشيخ من نظره، فهم يفسدون أكثر مما يصلحون، موازين الجرح والتعديل معروفة أين تطبق، لذلك ما وجدنا الحافظ ابن كثير والأئمة والعلماء يشتغلون بنقد مثل هذه القصص، ويخرجون قصصاً لا تثبت في أشياء يقصد منها الاتعاظ والعبرة. الشاهد أنه لطمه لطمة، فقال له: أيلطمني هذا الأعرابي، قال: إن الإسلام قد سوى بينك وبينه. ولو كنت في أعز الناس فأنت معه في الإسلام في قدم واحدة ومكانة واحدة. قال: دعني أنظر ليلتي. ثم إنه ارتد، كما جاء في الخبر أنه انسحب بمن معه وارتد، وكل هذا من أجل عزة الإسلام. ولما وقعت قصة القبطي مع ابن لـ عمرو بن العاص، لما قال: خذها وأنا ابن الأكرمين، أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن العاص أن يوافيه الموسم ومعه ابنه، فلما جاءه وقدم عليه، قال: هذا الذي ضربك؟ قال: نعم، قال: دونك فاضربه، فقام وضرب ابن عمرو كما ضربه، فقال عمرو بن العاص: ما هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: وجهها على صلعة عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين! أما أنا فقد ضربت من ضربني، فقال عمر رضي الله عنه مقالته المشهورة: يا عمرو! متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً! فالإسلام سوى بين الناس، فلا يظن أحد أنه إن كان عنده عامل أو أجير أنه قد ذهب حقه وقدره؛ لأنه يعمل، ووالله إنه في قمة الشرف ما دام أنه تغرب للقمة العيش التي يريد بها أن يعف بطنه وأهله وولده وزوجه، وأيضاً يريح نفسه من ذل السؤال، فهذا كريم شريف عزيزٌ جداً، ولذلك لا يحق لك أن تصف صاحب العمل بأنه سيد له، لا والله فالسيد هو الله، وهو رب كل شيء ومالكه، وهو العزيز الذي ذل له كل عزيز، سبحانه وتعالى، فهذا أمر مهم جداً، وينبغي على طلاب العلم والأخيار ألا تأخذهم سفاسف الناس ومحقراتهم فيخاطبوا الناس بمثل هذه العبارات. فينبغي أن تحفظ للناس حقوقهم وكرامتهم، وأن لا ينظر إلى الناس بألوانهم وأحسابهم، ولا بحوائجهم وضعفهم. كما قال صلى الله عليه وسلم ينبه الأمة: (رب أشعث أغبر ذي طمرين، مدفوع على الأبواب، لو أقسم على الله لأبره) فلو قصد السائل بقوله: (سيده) يعني: صاحب الدكان، فهذا ممكن، لقوله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25] وهي زوجة، والسيد في لغة العرب يطلق بمعنى صاحب الشأن، ومن هنا تجد بعض الناس يقول لك: يا سيدي، وليس قصده أنك سيد له، ولذلك تجد في كل بيئة كلمة لا يراد بها حقيقتها، وعندنا ينتشر كلمة: (يا شيخ) مع أن كلمة (شيخ) إجلال، وكذلك كلمة: (سيد) إجلال، لكن لا يقصد منها المعنى، فإذا قصد السيد بهذا بمعنى صاحب الشأن فلا بأس. على كل حال: إذا كان العامل يهدي من ماله، وكانت الهدية قليلة لا تضر بالمال كتب الله له أجرين، أجراً للمهدي وكتب لصاحب المال أجره، والأفضل أن يستأذن صاحب المال، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا، إذا كان عبداً كما في الموالي، وكان أجيراً وأعطى دون أن يضر؛ فهذا استثناه العلماء، وخاصة إذا جرى بهذا العرف. مثال: جرى العرف أنه إذا اشترى شيئاً أعطى هدية منها لغيره، وجرى هذا العرف بين الناس من باب الإحسان والكرم، فلا بأس إذا أعطاه هذا الشيء، فإذا أعطى العامل في الدكان هذا الشيء كتب الله له الأجر، وكتب لصاحب الدكان أجره، فله مثل أجر صاحب الدكان؛ لأنه أعطى وبذل ويده يد إعطاء، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمره به سيده) يعني لأنهم كانوا عبيداً وموالي (له مثل أجر صاحبه)، فهذا كرم من الله وفضل. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكرمنا بفضله وإحسانه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

باب نفقة الأقارب والمماليك [3]

شرح زاد المستقنع - باب نفقة الأقارب والمماليك [3] من موجبات النفقة على شخص أن يكون المنفق من الوارثين، وتكون هذه النفقة بقدر ما يستحق من الميراث، ومن وجبت عليه نفقة شخص وجبت عليه نفقة من يعول؛ ولا نفقة عند اختلاف الدين إلا بالولاء أو الوالدين. وتلزم الوالد نفقة ولده، ومن ذلك أجر المرضعة، ولو طلبت أمه إرضاعه بأجرة المثل فلها ذلك، ولا يصح منعها لأنها أولى به.

إذا كان القريب الحاجب معسرا والمحجوب موسرا لم تجب النفقة على أحدهما

إذا كان القريب الحاجب معسراً والمحجوب موسراً لم تجب النفقة على أحدهما بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ومن له ابن فقير وأخ موسر؛ فلا نفقة له عليهما]. تقدم أن الوارث يقوم بالنفقة على قريبه، وأن الذي اختاره المصنف رحمه الله، وهو أقوى القولين عند أهل العلم رحمهم الله: أن النفقة تكون مقدرة على حسب الإرث، وأن هذا متفق مع أصول الشريعة؛ لأن الغنم بالغرم، فكما أنه ينال من مورثه قدر تلك الحصة فينبغي أن يتحمل من نفقته قدرها، والوارث له حالتان: الحالة الأولى: أن يرث فرضاً أو تعصيباً. والحالة الثانية: أن يكون محجوباً. وبناءً على ذلك شرع المصنف رحمه الله في تفصيل الحكم بكون الوارث ينفق على قريبه على حسب الميراث؛ إذ يتفرع على هذا الحكم أنه لو اجتمع شخصان أحدهما يحجب الآخر، فهل تجب النفقة عليهما بناءً على أنهما من الورثة من حيث الوصف العام، أم أننا نطبق قواعد الإرث ونقول: يحجب الأقرب الأبعد، فتجب النفقة على الأقرب ولا تجب على الأبعد؟ والثاني هو الذي اختاره المصنف رحمه الله، واستثنينا من هذا عمودي النسب، وبيّنا وجه الاستثناء وذلك في مسألة الجدة. وبيّن رحمه الله مثالاً على القريب الذي يحجب قريبه، فقال: [فإن كان له ابن فقير وأخ موسر] فاجتمع اثنان من الورثة أحدهما الابن والثاني الأخ، وكلٌ من الابن والأخ ميراثه بالتعصيب. لأن الإرث ينقسم إلى فرض وتعصيب، فأصحاب الفروض فروضهم مقدرة في كتاب الله عز وجل، وهي الستة الفروض المنصوص عليها: النصف، ونصفه وهو الربع، ونصف نصفه وهو الثمن، والثلثان، ونصفهما وهو الثلث، ونصف نصفهما وهو السدس، فمن كان يرث فرضاً وله النصف يتحمل نصف النفقة، فلو كان هناك فقير وله وارث وجبت النفقة على هذا الوارث، وإذا كان يرث النصف فإنه يجب عليه أن ينفق عليه نصف نفقته، ولو كان له وارث يرث الربع فكذلك، ولو كان له وارث يرث الثلثين أو الثلث أو السدس فكذلك، وقد تقدم ذلك في مسألة الجدة. واعلم بأن الإرث نوعان هما فرض وتعصيب على ما قسما فالفرض في نص الكتاب سته لا فرض في الإرث سواهما البته نصف، وربع ثم نصف الربع والثلث والسدس بنص الشرع والثلثان وهما التمام فاحفظ فكل حافظ إمام هذا بالنسبة للفروض المقدرة، نجعل وجوب النفقة فيها على حسب قدر الإرث. وإذا كان تعصيباً يأخذ الباقي، إن كان معه ذو فرض حكمنا بوجوب النفقة عليه على قدر حصة ذي الفرض، ثم الباقي وهو الواجب بعد الفرض يكون للعصبة. فالأخ والابن من العصبة، والابن لو انفرد أخذ المال كله، والأخ لو انفرد أخذ المال كاملاً كما هو معلوم، فلو اجتمع ابن وأخ، وكان الابن فقيراً والأخ موسراً، ف Q أن الأخ لا يرث مع وجود الابن، والأصل في النفقة أنها واجبة على الابن؛ لأن الابن يحجب الأخ. فالذين يرثون بالتعصيب العصبة من جهة الأصول وفروع الأصول، وأيضاً تكون من جهة الفروع، والعاصب يكون الأب وأباه وإن علا، والأخ الشقيق والأخ لأب، وابن الأخ الشقيق وابن الأخ لأب، والعم الشقيق والعم لأب، وابن العم الشقيق وابن العم لأب، فهؤلاء هم عصبة الإنسان القرابة الذين لو انفرد أحدهم أخذ المال كله، فلو مات ولم يترك إلا ابن عم شقيق فإنه يأخذ المال كله، فلو افتقر وليس له إلا ابن عم شقيق أوجبنا عليه جميع النفقة؛ لأنه عاصب لو انفرد أخذ المال كله. حتى لو اجتمع العصبة مع الغير مثل الابن مع البنت، فلو أن والداً افتقر وعنده ابن وبنت، فمذهب الحنابلة رحمهم الله أنه لو افتقر الأب وعنده بنت وابن ويحتاج إلى ثلاثين ريالاً، أوجبنا على الابن العشرين وعلى البنت العشرة، على قدر حصصهم من الإرث. وهناك مذهب يقول: إنه لا تجب على البنت النفقة، وإذا اجتمع الذكر والأنثى غُلب جانب الذكر، وهذا لحكمة من الله عز وجل، أن جعل الكسب والنفقة في الأصل واجباً على الذكور، وهذا هو أحد الأوجه عند الشافعي رحمه الله، لكن الصحيح أن الله تعالى قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233] فأوجب نفقة الرضيع على الوارث، وجعل صفة الميراث مؤثرة في الإيجاب فقال: (وَعَلَى الْوَارِثِ)، فإذا كان الأمر كذلك وجب أن نجعل نصيب الوارث في النفقة على قدر نصيبه من الإرث. في مسألتنا هنا مثل المصنف رحمه الله بمثال، وهو: أن يجتمع اثنان من الورثة كلٌ منهما لو انفرد لوجبت عليه النفقة كاملة وهما الابن والأخ، وكلٌ منهما لو انفرد لأخذ المال كله، فلو مات وليس له إلا ابن ذكر فإن الابن يأخذ المال كله تعصيباً، ولو مات وليس له إلا أخ فإنه يأخذ المال كله تعصيباً، هنا يرد السؤال: إذا كان الابن -وهو الأقرب- معسراً وليس عنده قدرة على النفقة، والأخ -وهو الأبعد- موسراً وعنده قدرة على النفقة، فعلى من تكون نفقة الرجل؟ إذا طبقت أصول الميراث فإن الابن يمنع الأخ من الميراث الذي يسمى في مصطلح الفرائض بالحجب، والحجب حجب نقصان وحجب حرمان، فحجب النقصان مثل الابن يحجب الزوجة حجب نقصان فيجعلها بدل أن تأخذ الربع تأخذ الثمن، لكن لا يحجبها بالكلية، وحجب الحرمان يمنع الوارث غيره بالكلية فلا يرث، والحجب بين الابن والأخ من حجب الحرمان؛ لأن العصبة تقدم بالجهة ثم القرب ثم القوة. فبالجهة التقديم ثم بقربه وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا فالعصبة يقدمون على هذا الترتيب، فالابن لو اجتمع مع الإخوة الأشقاء أو الإخوة لأب حجبهم حجب حرمان، وهنا النفقة واجبة في الأصل على الابن، ووجوده يمنع إرث الأخ فيسقط النفقة عن الأخ، فبعض العلماء يقول: ما دام أنه فقير ينتقل الحكم إلى الأخ؛ لأنه موسر، ويكون وجود الابن وعدمه على حد سواء. وفي الأصول الشرعية أنك إذا اعتبرت أصول الميراث فإنه يسقط وجوب النفقة عن الأخ لوجود الابن، ويسقط وجوب النفقة على الابن لكونه معسراً، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] وقد ذكرنا أننا لا نحكم بوجوب النفقة على القريب إلا إذا كان قادراً، والابن غير قادر فتسقط النفقة عنه وعن الأخ. وفي هذا الحال إذا سقطت عن الوارث فإنها تنتقل إلى بيت مال المسلمين على تفصيل آخر، لكن من حيث الأصل فإن المصنف قصد من هذا المثال أن يبين أنه إذا اجتمع الوارثان وأحدهما يحجب الآخر، وكان الحاجب لم يتوفر فيه شرط وجوب النفقة سقطت النفقة عنهما: سقطت عن القريب الأقرب لكونه معسراً ولعدم تحقق الشرط فيه، وسقطت عن الأبعد لوجود الأقرب.

وجوب النفقة على الجدة إن أعسرت الأم

وجوب النفقة على الجدة إن أعسرت الأم قال رحمه الله: [ومن أمه فقيرة وجدته موسرة؛ فنفقته على الجدة]. هذا من باب أنه يستثنى عموداً النسب؛ لأن النفقة متأصلة فيهما، فنفقة الفرع لازمة على الأصول، وقد بينا هذا وبينا دليله وإجماع العلماء على أن الولد يجب على والده أن ينفق عليه. في المثال السابق حجب الابن الأخ، وهنا الأم تحجب الجدة؛ لأن من أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة إن وجدت، والجدة تدلي بواسطة الأم، والأم تحجب الجدة بالإجماع، وبناءً على ذلك لو كانت الأم فقيرة والجدة موسرة فنقول: ينتقل وجوب النفقة إلى الجدة، وهذا مستثنى من الأصل الذي ذكرناه؛ لأن عمودي النسب تجب عليهم النفقة على الأصل الذي ذكرناه، وهذا خاص بعمودي النسب، فيجب على الجدة أن تنفق على ذلك الولد.

النفقة على القريب المعسر وعلى من تلزمه نفقته

النفقة على القريب المعسر وعلى من تلزمه نفقته قال رحمه الله: [ومن عليه نفقة زيد؛ فعليه نفقة زوجته]. قرر رحمه الله النفقة، وبين على من تجب، وشرط وجوبها، وبيَّن إذا كانت تجب على الوارث ما الحكم عند ازدحامهم وحصول حجب من بعضهم لبعض. ثم شرع رحمه الله في مسألة تنبني على مسألة النفقة، وهذا كما ذكرنا من التسلسل في الأفكار والترتيب المنطقي، فإن الفقه الإسلامي يمتاز بالشمولية؛ وهو أنه لا يقتصر على بيان الأصول، بل يبين الفروع المبنية على الأصول، فالسؤال الآن: إذا وجبت النفقة على الوارث لوجود السبب الموجب في المورث الذي ينفق عليه وهو عجزه، فهل يختص إنفاقه على ذلك القريب نفسه فقط، أم أنه يلتحق بهذا القريب من لزمته نفقته وحاجته اللازمة الضرورية؟ هذه المسألة مفرعة على الأصل الذي ذكرناه: هل أنت مطالب بالنفقة على القريب؟ لو فرضنا وجود شخص مات وترك ابناً رضيعاً، وهذا الابن الرضيع ليس له وارث غير فلان فأوجبنا النفقة عليه، لكنه يحتاج إلى مرضعة، فهل نقول: يجب عليك أن تنفق على المرضعة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233]؟ فهذا والد الطفل أوجب الله عليه النفقة، ثم بين حال موت الوالد فقال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233] فأخذ العلماء من هذا دليلاً على أنه إذا مات شخص وله قرابة وترك أولاداً واحتاجوا إلى النفقة عليهم والاسترضاع لهم؛ وجبت نفقة الرضاعة على القريب الوارث، فإذا كانت نفقة المرضعة واجبة على القريب؛ فهذا تنبيه من الشرع أن الأشياء اللازمة لهذا القريب الذي تنفق عليه لازمة عليك أيضاً بالتبع، ولا يقتصر الأمر على أن تنفق عليه فقط، بل إن من يعول ومن تلزمه نفقته يجب عليك أن تنفق عليهم بالمعروف، وهذا لأن الآية نصت على وجوب الاسترضاع على الوارث، مع أن الأصل يقتضي أن ننفق عليه. قال رحمه الله: [ومن عليه نفقة زيد فعليه نفقة زوجته كظئر لحولين]. إذا كان هناك شخصان بينهما قرابة موجبة للنفقة، فالأصل يقتضي أن ينفق أحدهما على الآخر إذا كان معسراً، فلو كانت عنده زوجة وأولاد واحتاجوا للنفقة، فإنه ينفق عليهم أيضاً إذا كان ماله يسع ذلك، وقد ذكر المصنف رحمه الله في الأصل هذا فقال: [كالظئر]. أي: وذلك كما أن الله أوجب علينا أن ننفق على الرضيع نفقة إرضاعه فقال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233] فأوجب على الوارث أن يعطي نفقة المرضعة، وهذا يقول به بعض العلماء، ويرى أنه يجب عليه أن ينفق على زوجه؛ ولأنه لو أنفق عليه ولم ينفق على زوجه لم يقم بحاجته ولم يسد له الحاجة، ولذلك فهو يحتاج النفقة عليه وعلى من تلزمه نفقته. قوله: (كالظئر لحولين) فائدة المتون اختصار المسائل وإدخال بعضها على بعض، والتنبيه على الفروع المبنية على الأصول، والتنبيه على الأصول التي ينبني عليها غيرها، ومن هنا تظهر قوة العالم والفقيه في صياغة المتن، والبعض لا يحسن فهم مقصود العلماء من هذه المتون، ولذلك يقول: إنها تخلو من الأدلة. والمراد من هذه المتون صياغة الأحكام المستنبطة من الأدلة؛ أما الأدلة فلها كتب متخصصة، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له، ولذلك لما قال: (كالظئر) أشار إلى الأصل الذي بُني الدليل عليه، وهو النفقة على المرضع؛ فإن الله عز وجل أوجب على الوارث أن ينفق على المرضعة، فإذا نظر الفقيه في ذلك فهم أن الواجب أن تنفق على الرضيع، لكن لما كان ذلك لازماً له وضرورياً صار كالنفقة عليه. وأجاب بعض العلماء عن هذا الدليل وقال: إن الأصل أن تنفق بالطعام والكسوة، والاسترضاع نوع من الطعام، فهو لم يخرج عن الأصل، فأوجب النفقة عليك بالنسبة للقريب فقط، وأما من تلزمه نفقته فلا يوجب عليك نفقته، هذا اختيار بعض العلماء رحمهم الله، وهو من حيث الأصل أقوى، يعني: لا شك أن الأصل أن الواجب أن تنفق على الشخص نفسه.

لا نفقة مع اختلاف دين إلا بالولاء

لا نفقة مع اختلاف دين إلا بالولاء قال رحمه الله: [ولا نفقة مع اختلاف دين إلا بالولاء]. هذا الحكم وهذه المسألة نحتاجها بين المسلمين وغير المسلمين، كما كان يقع في البلدان الإسلامية، حيث يكون أهل الذمة فيسلم الذمي وقرابته تحت حكم الإسلام ويكون فقيراً، فلا نوجب نفقة مع اختلاف الدين، وتجب نفقة هذا المسلم الذي ليس له قريب مسلم من بيت مال المسلمين، ويصبح المسلمون هم أولياءه الذين ينفقون عليه، كما أنه لو مات ورثه بيت مال المسلمين. وهكذا تصان الحقوق في الإسلام، فليست بالدعاوى ولا بالتشهي ولا بالتمني، ولكنها حقائق مبنية على أصول، هذا مع أنه كان كافراً ثم أسلم ودخل بين المسلمين، فصار منهم وأخذ حكمهم وكأنه لبنة من هذا البناء له ما لهم وعليه ما عليهم، فيكون معهم كالجسد الواحد، فلو أنه افتقر أنفقوا عليه، ولو أنه مات وعنده مال رد إلى بيت مال المسلمين. لا يجب الإنفاق بين المسلم والكافر، ولو أن هذا الذي أسلم له قرابة كفار تحت حكم الإسلام كالذميين، فلما أسلم افتقروا وقالوا: هذا قريبنا فلينفق علينا، فلا يحكم المسلمون لهم بالنفقة، ويقولون: اختلاف الدين يمنع من وجوب النفقة؛ لأن اختلاف الدين يمنع من الإرث؛ لأن من موانع الإرث اختلاف الدين؛ فلا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما قيل له: (أين تنزل غداً؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من دار؟)، وهذا الحديث أصله أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا قرابته للإسلام، وأبى من أبى منهم، بقي عقيل وتأخر إسلامه، فورث الكفار من قرابته، وأخذ هذه الأموال وباعها، ثم أسلم عقيل فحاز خير الدين والدنيا، ولم يرث النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء القرابة الكفار. وفي الحديث الصحيح أنه قال: (لا يرث المسلم الكافر) فلا توارث بين المسلمين والكفار، لذلك يعتبر من موانع الإرث اختلاف الدين، قال الناظم: ويمنع الشخص من الميراث واحدة من علل ثلاث رق وقتل واختلاف دين فافهم فليس الشك كاليقين فاختلاف الدين يمنع الإرث والنفقة، لكن يستثنى من ذلك نوعان: النوع الأول: الولاء، فإن الرقيق ينفق عليه مولاه ولو اختلف الدين، والأصل فيه حديث الدارقطني؛ استثنى الرقيق بوجوب النفقة ولو كان كافراً؛ لأنه معلوم أن السبب هنا بين السيد وعبده ليس كالسبب بين القريب وقريبه، ولذلك استثني. النوع الثاني: الوالدان، لو كان له والدان كافران هل ينفق عليهما أولا ينفق؟ الصحيح أنه يجب عليه أن ينفق على والديه الكافرين، وهو اختيار مذهب الشافعية وطائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم؛ لأن النصوص التي وردت بالأمر بالإحسان إلى الوالدين وبرهما نزلت في الكفار: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] وليس من المعروف أن يكون غنياً ووالداه محتاجين فقيرين ولا ينفق عليهما، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أسماء أن تحسن إلى أمها وأن تبرها. فالوالدان يستثنيان من هذا، فيجب على الولد أن ينفق على والديه ولو كانا كافرين؛ لأن النصوص وردت في الكفار، وهما مستثنيان من الأصل الذي ذكرناه. وبناءً على ذلك نقول: الوارث والقريب من غير الوالدين أوجبنا النفقة عليه لقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233] لكن الوالدين استثنيا من هذا، ولذلك يجب على الوالد لو انفرد تحمل النفقة كاملة، وكذلك أيضاً بالنسبة لوجود الكفر يجب عليه أن ينفق على والديه وأن يقوم بالإحسان إليهما: لأن النصوص التي أمرت بالإحسان إلى الوالدين في الأصل إنما نزلت في الكافرين. ولأن الوالد ذكراً كان أو أنثى له حق عظيم وفضل كبير، والله عز وجل لم يمنع الولد من رد هذا الجميل والمعروف؛ لأنه أنفق عليه حتى كبر وشب. فاستثني الوالدان لأمور: أولاً: لورود النصوص، وثانياً: لأن المعنى الموجود في الوالدين يخالف غير الوالدين من بقية الورثة.

وجوب الاسترضاع وأجرته على الوالد

وجوب الاسترضاع وأجرته على الوالد قال رحمه الله: [وعلى الأب أن يسترضع لولده ويؤدي الأجرة] بمعنى: أن على الوالد أن يطلب من يرضع ولده، وإذا طلب المرضعة فعليه أن ينفق عليها بالمعروف، لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] فأمر الله عز وجل المولود له وهو الوالد أن يقوم على نفقة ولده، وأن يتعهد حاجته إلى الرضاعة بالاسترضاع. فبين رحمه الله وجوب الاسترضاع على الوالد، وهذا مجمع عليه بين العلماء، لورود نص آية البقرة على وجوب الاسترضاع للولد، ولا يجوز للوالد أن يضيع ولده بحرمانه من الرضاعة؛ لأنه إذا حرم من الرضاعة فإنه يموت، وهنا ننبه على الوقت الذي يطلب فيه الوالد امرأة ترضع ولده. إذا كانت الأم موجودة وقالت: أنا أرضع ولدي فلا إشكال، فهي أحق بإرضاع ولدها، لكن الإشكال إذا ماتت الأم أو طُلقت وتزوجت من الغير، أو تحولت عن البلد التي هي فيه، أو كانت مريضة لا تستطيع الإرضاع؛ فحينئذٍ لو ترك الولد سيموت؛ لأنه لابد له من الرضاعة، لينشز بها عظمه وينبت بها لحمه. فإذا كان لابد له من الرضاعة فإن المسئول عن هذه الرضاعة في تكاليفها وطلب المرضعة هو الأب، فيجب عليه أن يطلب من يرضع هذا الصبي. وفي هذه الحالة يجب عليه أن ينصح، فقد يجد من المرضعات من هي أقل ثمناً وأقل كلفة، ولكنها أضعف، وقد يضر لبنها الصبي؛ فلا يجوز له في هذه الحالة أن يغلب مصلحة المادة على مصلحة الصبي، كما هو موجود الآن في زماننا في شراء الحليب الذي يحتاجه الطفل، إذا كان نوعاً رديئاً ونوعاً جيداً فيجب عليه أن ينصح ويتقي الله عز وجل، وأن يعلم أن هذه النفس المحرمة أمانة في عنقه، وهو مسئول أمام الله عز وجل عنها، فيسترضع المرأة التي يحسن رضاعها. ولذلك كانوا يشددون في الرضاعة، وقد بينا في كتاب الرضاعة أن المرأة التي ترضع قد يفسد الولد بسبب لبنها من سوء أخلاقها، ولذلك نهى السلف كـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره من الصحابة من الرضاعة من الفاجرات؛ لأن الأخلاق تعدي. وينبغي عليه أن ينصح في هذه الرضاعة لعل الله أن يوفقه للقيام بحقه على أتم الوجوه {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6] فأوجب على الوالد أن يدفع أجرة الرضاعة للمرضعة، وبين المصنف رحمه الله أن المسئول عن هذه النفقة هو الوالد.

حق الأم في الرضاع

حق الأم في الرضاع قال رحمه الله: [ولا يمنع أمه إرضاعه]. أي: ولا يمنع الوالد أم الولد من إرضاع الولد، فلو قالت الأم: أريد أن أرضع ولدي؛ فهي أحق به وأولى. فلا يمنعها أن ترضع ولدها، ولو وجد الغير الذي سترضعه من قرابته أو من تتبرع ولو مجاناً، أو تزوج امرأة فقالت: أنا أرضع ولدك ولا أريد منك شيئاً، وقالت أم الولد: أنا أرضعه؛ فهي أحق وأولى ولا يمنعها إرضاع ولدها.

حالات إلزام الأم إرضاع ولدها

حالات إلزام الأم إرضاع ولدها قال رحمه الله: [ولا يلزمها إلا لضرورة كخوف تلفه]. أي: لا يجب على الأم أن ترضع ولدها إلا لضرورة، ومن أمثلة الضرورة: أن لا يقبل الولد ثدياً غير ثديها، بعض الأولاد تكون عندهم حساسية ولا يمكن أن يقبل غير ثدي أمه، وهذا من الله سبحانه وتعالى كما وقع لموسى عليه السلام: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12] فكلما جاءت امرأة لم يقبل ثديها. فإذا امتنع ولم يقبل النساء الموجودات وقالت أمه: لا أرضعه، فطلبها زوجها الذي هو والد الطفل فقال: أرضعي ولدكِ واتقي الله في ولدكِ، فقالت: لن أرضعه، فهنا يجبرها القاضي على إرضاعه؛ لأن إنقاذ هذه النفس المحرمة واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولذلك قال: (ولا يلزمها إلا لضرورة)، وهي أن يمتنع الولد أو لا يوجد من يرضع هذا الصبي غير هذه الأم، فيجب عليها أن ترضع هذا الصبي.

حكم طلب الأم أجرة إرضاع ولدها

حكم طلب الأم أجرة إرضاع ولدها قال رحمه الله: [ولها طلب أجرة المثل]. أي: من حقها أن تطلب أجرة مثلها، فإذا أرضعته حولين، نظرنا لو أن مرضعة أجنبية أرضعت هذا الولد كم ستأخذ في الحولين؟ فنعطيها أجرة المثل، فلو طلبت أكثر من أجرة المثل لم يجب على الوالد أن يعطيها تلك الأجرة، وإنما تتقدر الأجرة بالمعروف. قال رحمه الله: [ولو أرضعه غيرها مجاناً]. أي: أنها أحق بإرضاع ولدها، ولو أرضع الولد غيرها مجاناً، ولها أن تطلب الأجرة، ولو وجد من يقول: أنا متبرع بإرضاعه؛ لأنه لا شك أن مصلحة الولد في الرضاعة من أمه أعظم، والأم أنصح لولدها وأكثر محافظة عليه، ولذلك هي أحق، وإذا كانت هي أحق فلو وجدت امرأة وقالت: أنا أرضع لك ولدك مجاناً والولد يقبل ثديها، فقالت الأم: أنا أريد أن أرضعه فهي أحق، ونقول للوالد: أنفق عليها بأجرة مثلها. فلو قال: أنا عندي من يتبرع، نقول: وجود هذه المتبرعة لا يسقط حق الأم ولو طلبت الأجرة، ولذلك قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6] فأمر الله عز وجل بإعطاء الأجرة للمرضعة، وقد صدر الآية بقوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233]، {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] فبين الله سبحانه وتعالى أن الوالدة ترضع ولدها وهي أحق للصفات التي فيها من كون لبنها أكثر نفعاً للولد واغتذاءً له، وكذلك هي أكثر نصحاً للولد وشفقة وعطفاً وإحساناً وبراً لولدها؛ فهذه كلها مصالح، فلذلك تقدم على غيرها. وفي قوله: (ولو) إشارة إلى خلاف مذهبي في داخل مذهب الحنابلة، فهناك من العلماء من قال: نعطيها الأجرة بشرط أن لا يوجد من يتبرع مجاناً، فإذا وجد من يتبرع مجاناً فإننا نقول لها: إن شئت أن ترضعيه بدون مقابل فلك الحق في ولدكِ، فإن قالت: أنا أريد الأجرة صرف إلى غيرها وليست بأحق، والصحيح ما ذكرناه. قال رحمه الله: [بائناً كانت أو تحته]. أي: سواء طلقها وبانت منه أو كانت تحته، فحتى لو كانت تحته ثم قالت له: أريد أن أرضعه وآخذ الأجرة، فإن الحكم لا يختلف باختلاف حال الأم، فسواء كانت تحت الزوج أو لم تكن فهي أحق وأولى بولدها ولها الأجرة إن طلبت، لا يختلف الحكم بين كونها تحت الزوج أو بائنة منه.

حكم منع الزوج الثاني إرضاع ولد الأول

حكم منع الزوج الثاني إرضاع ولد الأول قال رحمه الله: [وإن تزوجت آخر فله منعها من إرضاع ولد الأول ما لم يضطر إليها]. أي: وإن تزوجت آخر فقال لها: ما أريدك أن ترضعي ولدكِ من فلان؛ لأن الرضاعة تضر بالمرأة، وتؤثر على صحتها، وتؤثر حتى على الاستمتاع بها، ومن هنا لا يتدخل الزوج الثاني في حق الأول إلا إذا حصل الضرر عليه. وبعض العلماء قالوا: إنه ينتشي في ماء الثاني فيكون له الحق من هذا الوجه. ولكن الأشبه: أن هذا يؤثر عليه ويؤثر على صحة المرأة، ولذلك خفف على المرأة المرضع في الصيام، وأخذت أحكام الرخص في مسائل، وهذا يدل على أن الرضاعة تؤثر، وإذا كانت تؤثر وأسقط الله بها الحقوق فكذلك أيضاً بالنسبة لحقوق المخلوقين، فإذا قال الزوج الثاني: لا ترضعيه، فحينئذٍ له حق المنع. وإذا منعها نظرنا: فإن كان للصبي بديل صرف إلى البديل ولم تلزم الأم ولم يلزم الزوج، وإن كان لا بديل له فإنه يكون مضطراً ويسقط حق الزوج؛ لأن ضرر الابن أكبر، وهذا من باب المقارنة بين المفاسد؛ لأنه إذا تعارضت مفسدتان قُدمت المفسدة العظمى، فالطفل إذا لم يرتضع تضررت صحته وربما هلك، والزوج إذا أرضعت زوجته ضعفت مصلحته وصار النقص عليه نقص كمال في الاستمتاع، ونقص الضرورة المفضية إلى هلاك الأنفس فيه مفسدة فيه أعظم من نقص الكمال في الاستمتاع والشهوة، ولذلك يقدم حق الولد من هذا الوجه، فنقول: يجب عليكِ أن ترضعيه. فلو قال الزوج: لا أسمح لها بذلك. أُجبرت عليه وسقط حق الزوج، فلا تسمع له ولا تطيع؛ لأن هذا فيه إضرار بالنفس وتعريض لها للهلاك.

الأسئلة

الأسئلة

حكم التضييق على الأهل للنفقة على المحتاجين

حكم التضييق على الأهل للنفقة على المحتاجين Q من ضيق على أهله في النفقة لأجل ما يتعاهده من الصدقات وبذل الخير للمحتاجين، فهل يأثم في هذا التصرف، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فمن ضيق على من تجب عليه نفقته ينقسم إلى قسمين: إما أن يضيق في الحق الواجب، وإما أن يضيق في الكمالات، فإن ضيق في الحق الواجب فهو آثم شرعاً، ولا يجوز للمسلم أن يمنع أولاده وزوجته من حقوقهم في النفقة بناءً على الصدقات والتبرعات للغير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما سأله الصحابي فقال: (عندي دينار، قال: أنفقه على نفسك، قال: عندي غيره، قال: أنفقه على أهلك) فهذا يدل على أن نفقة القريب أحق وأولى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ثم أدناك أدناك) فيبدأ بالأقربين، وهم أولى وأحق، والنفقة عليهم واجبة، والنفقة على الغير إحسان وغير واجبة، فيقدم الواجب على غير الواجب. أما إذا كان التقصير في الكمالات، بمعنى: أنه رأى الغير محتاجاً فصرف الكمالات لأولئك المحتاجين، فهل الأفضل أن يصرف الكمال للقريب ويدخل السرور على قريبه وأولاده، أم الأفضل أن ينفق على البعيد؟ هذه مسألة الذي يظهر فيها: أن الغريب إذا كانت النفقة عليه نفقة إنقاذ؛ بحيث إنه محتاج حاجة شديدة، فإن النفقة عليه أفضل من نفقة الكمال على القريب، والسبب في هذا: أنه ربما يكون الغريب محتاجاً حاجة قد يتعرض معها للحرام، فالمرأة قد تزني -والعياذ بالله- إذا افتقرت، والأولاد قد يضيعون، وربما هلكوا وماتوا من الجوع، فإذا كانت النفقة من هذا الجنس فهي الأفضل إن شاء الله؛ لأن جنسها في إنقاذ النفس واستبقاء الأرواح والمحافظة على العرض، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص. وعلى كل إنسان ينفق على الغريب أن تكون له نية، فإذا حسنت نية العبد أجره الله وجعل أجره على نيته، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يتصدق على الغني وهو لا يعلم بغناه، فجعل الله صدقته بحسن نيته عبرة للغني، فأثابه الله عز وجل عليها. فإذا كان قد أنفق على الغرباء والأجانب ممن ليسوا بأقارب له، وهو ينوي إنقاذ أنفسهم وحفظهم من الحرام أو تحبيبهم في الخير، كان بالوسيلة والنية أفضل وأعظم أجراً، لكن لو كانت النفقة على هذا الغريب من جنس الكمالات، وأولاده يريدون الكمالات فالنفقة على الأولاد وإدخال السرور على الأقرباء في الكمالات أفضل من إدخال السرور على غير الأقارب، بل حتى إدخال السرور على ابن العم القريب في الكمالات أفضل من إدخال السرور على الغريب، فمثلاً: لو احتاج إلى سيارة وعنده سيارة أو متاع أو ثياب زائدة يمكن أن يعطيها لقريبه ويمكن أن يعطيها لغير القريب. فالقريب سواء كان من الأقربين كأولاده، أو كان من الأبعدين كابن العم، فإن إعطاء الثوب له ولو كان من الكمالات أفضل من إعطائه للغريب ولو كان صديقاً، ولو كان خليلاً للإنسان ومحباً، فإن الإحسان إلى القرابة فيه أجران: أجر الصدقة، وأجر الصلة. والإحسان إلى الغريب مهما كان ففيه أجر واحد وهو أجر الصدقة، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لامرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنها وأرضاها في الحديث الصحيح. وبناءً على ذلك ينبغي على المسلم أن يزن الأمور بميزانها، ولا شك أن تفقد الأقرباء والإحسان إليهم وتصديق معنى القرابة أمر مهم، فالإنسان دائماً يتفقد القرابة، وأول ما تفكر في بذل المعروف والإحسان يجب أن تنظر إلى من حولك من الأقرباء، حتى في أمور الدين والدعوة، مع أنها لا محاباة فيها ولا مجاملة، قال الله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] أي: مر القريبين الأقربين. وهذا يدل على أنهم أولى الناس بخيرك وبمعروفك وبإحسانك؛ حتى الابتسامة التي تبتسمها والسرور الذي تدخله على المسلمين تقدم فيه الأقربين الأقرب فالأقرب، فإذا وجدت القريب حرصت على أن تكون على مراتب الكمالات التي تفعلها مع الغرباء، وأن تكون في أحسن وأجمل وأفضل. وانظر رحمك الله إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وهو صديق الأمة يحسن إلى مسطح وهو ابن خالته وقريبه، ثم إذا به يفاجأ بـ مسطح وهو أحد الذين قذفوا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فمع أنه أحسن إليه، ومع وجود القرابة تأتي هذه الإساءة العظيمة في طعنه في زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، فحلف أبو بكر أن لا يحسن إليه بعد ذلك؛ فأنزل الله عز وجل القرآن يعاتب أبا بكر رضي الله عنه: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] حتى إن أبا بكر رضي الله عنه بكى وقال: (بلى! والله نحب أن تغفر لنا). قريب يطعن في ابنته مع أنها أم المؤمنين رضي الله عنها، فاجتمعت جميع الحقوق من الناحية الدينية ومن الناحية الطبيعية الفطرية، ومع هذا كله ينزل القرآن بالإحسان إليه ورد المعروف كما كان، فأحسن أبو بكر رضي الله عنه ورد المعروف إلى مسطح، فهذا يدل دلالة واضحة على عظيم أمر الرحم والقرابة. نحن ننبه على هذه الأمور لأنها عظمت، وسببها التفكك الأسري الذي يعيشه الناس، كثير من المشاكل والأضرار والمصائب سببها هذا التفكك الأسري، كان الناس في القديم في فقر وضعف وحاجة ماسة، ولكن رزقهم الله عز وجل من التواصل والتحاب والتعاطف وحفظ حق القرابة ما هون عليهم مصائب الدنيا كلها، والله إن الناس كانوا يعيشون بحالة لا يعلم شدة ما هم فيه إلا الله جل جلاله، ولكن ما لطف الله عز وجل بهم بشيء بعد الإيمان به وتوحيده مثل بر الوالدين وصلة الرحم. وانظر إلى كبار السن والرعيل الأول، تجد الواحد منهم عطوفاً شفوقاً على قرابته، ما إن يسمع أن قريباً له نزلت به نازلة إلا وجدته لا يهنأ له عيش ولا يرتاح له بال؛ ويسافر إلى المسافات البعيدة، فهذا التواصل والتعاطف والتراحم والتكاتف الذي كان بين الناس هو الذي رحم الله به أمرهم، فجعل ضيق عيشهم سعة، والهموم والغموم عليهم يسيرة، وكم من مصائب تنزل بالإنسان يدفعها الله بفضله ثم بصلة الرحم. لا يحسب الإنسان أن تفقد القرابة أمر هين، كثير من مشاكل اليوم سببها عدم الصلة، وتجد الرجل يقول لك: أنا في ضيق واكتئاب. وقد يكون قاطعاً لرحمه من حيث يشعر أو لا يشعر، ويكون هذا البلاء الذي نزل به إما بسبب أذية أو قطيعة لرحم، أو عدم زيارته لأعمامه وأخواله، هذا التفكك الذي يعيشه الناس أكثره بسبب عدم القيام بحقوق القرابة. ونحن نركز على هذه المسائل ونطيل في الجواب عليها لأهميتها؛ لأن كثيراً من مشاكل اليوم سببها ذلك، الآن لما تجد القريب تنزل به ضائقة دين، لا يستطيع أن يجد في قرابته من يساعده، فيذهب إليه ويريق ماء وجهه عنده، ويقول له: يا فلان أريدك أن تساعدني، فيجد أول من يقفل الباب في وجهه قريبه -والعياذ بالله- ويجده أول من يتهكم به ويستهزئ به ولا يصدقه فيما يقول له، مع أنهم في القديم ربما كان فيهم جهل لو قتل القريب جاءه ونصره مع أنه يعلم أنه ظالم؛ من شدة الحمية والعاطفة، صحيح أن هذا خطأ، لكن كانوا معهم في الخير والشر، وينصره ظالماً ومظلوماً، ويقف معه ويقدم له ما يستطيع من المال، هذا الذي رحم الله به الأمة. لا تحسب أن القليل للقرابة هين عند الله عز وجل، وقد يرفع القريب كفه إلى الله عز وجل فيدعو لك دعوة تنال بها سعادة لا تشقى بعدها أبداً؛ لأنه يدعو من قلبه، ويتمنى لك الخير من صميم فؤاده، ويرى أنك قد أحسنت إليه ووصلته. والله إن كثيراً من النفوس تتبدد أحزانها وأشجانها بالكلمة من القريب القريب تجده مريضاً مهموماً محزوناً، ما إن يلتفت ويجد قرابته حوله إلا تبددت أحزانه وذهبت أشجانه، ولا عليه بعد ذلك يذهب عنه الهم أو لا يذهب، تجده مديوناً معسراً ما إن يأتيه القريب ويجلس معه ويقول: أتمنى لو كان عندي مال أعطيكه، فما إن يقول له هذه الكلمة إلا وكأنه قضى له دينه. ما كان أحد يترك قريبه، بل يقف معه ويبذل له كل ما يستطيع، بل إن دعوة الإسلام كلها قائمة على التوحيد وعلى أداء الحقوق، فإذا أُدي حق الله عز وجل بتوحيده وإخلاصه أُديت حقوق العباد، وأول حق ركزت عليه نصوص الكتاب والسنة وتضافرت عليه واعتنت به أيما عناية بر الوالدين وصلة الرحم، حتى إن أبا سفيان لما سأله هرقل قال: بماذا يأمركم، قال له: يقول: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، ويأمرنا بالبر وصلة الرحم. وأذكر حادثة غريبة وقعت قبل أشهر: كنت في السفر فوجدت رجلاً كبير السن، فاقتربت منه وسألني عن مكاني، وسألته من أين أنت، قال: أنا من بدر، رجل في آخر سنه فوق السبعين تقريباً، ويبيع تمراً، ولا يملك إلا القليل، وجالس في شدة الشمس يتعرض للمشقة، قلت: ما دمت أنت من بدر كيف جئت إلى هنا -كان قريباً من جدة- قال: هذا التمر الذي تراه أريد أن أبيعه وأذهب لأختي بمكة لديها أيتام وأريد أن أعطيها هذا المال، والله حينما نظرت إليه تأثرت من حاله وهيئته، ليست بحال الإنسان الذي يستطيع أن يقوم على نفسه، فضلاً عن أن يبحث عن أخته التي يريد أن يصلها، هكذا كان الناس، وهكذا يكون العيش تواصل تراحم تعاطف. وحدثني أحد كبار السن في المدينة، وهو من أصدق الناس وخيارهم رحمة الله عليه، يقول: عشت يتيماً فكان خالي يأتينا من أكثر من أربعمائة كيلو متر من المدينة، وكان يأتي بالهدايا، فقير معدم ما عنده شيء، لكن يأتي الأربعمائة كيلو هذه، لا يمر شهر حتى يزور أخته، ويدخل على أيتامها ويلاطفهم ويحسن إليهم ويقول لأخته: أسألكِ بالله لا تسقيني شيئاً من مال اليتامى، يعني: إذا جاء في ضيافتها لا يستطيع أن يشرب عندها فنجان القهوة، وهذا شيء كبير معروف بالعادات، وإنه لصعب جداً أن

حكم رفع الصوت بالقراءة في قضاء الصلاة الجهرية

حكم رفع الصوت بالقراءة في قضاء الصلاة الجهرية Q هل يلزم المصلي رفع الصوت بالقراءة في قضاء ما فاته من الصلاة الجهرية، أثابكم الله؟ A الجهر في الصلاة فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، من أهل العلم من قال: يجب الجهر في الجهرية، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، ولأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقع بياناً لواجب، وبيان الواجب واجب. ومن أهل العلم من قال: الجهر والإسرار ليس بواجب، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه في صلاة الظهر أنه رفع صوته بالآية والآيتين، فجهر فيما يسر؛ فدل على أن الأمر فيه السعة، وبناءً على ذلك ينبغي على المسلم أن يحرص على السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يكون قضاؤه يحكي أداءه، فيجهر في الصلاة المكتوبة، فإذا قضى الفجر بعد طلوع الشمس يجهر في قراءته، وهكذا لو نام عن صلاة العشاء حتى ذهب وقتها، وسواء ذهب وقتها أو لم يذهب، إذا قضاها أو أداها في آخر وقتها منفرداً فإنه يجهر بقراءتها، والله تعالى أعلم.

الفرق بين قاعدتي التعبد بالظن وعدم التعبد به

الفرق بين قاعدتي التعبد بالظن وعدم التعبد به Q ما الفرق بين أن الله تعبدنا بغلبة الظن، وبين قاعدة: لا عبرة بالظن البين خطؤه، أثابكم الله؟ A الحقيقة ليس هناك اجتماع بين القاعدتين، فقاعدة غلبة الظن هي التي تعبد الله بها العباد، والإنسان إذا اعتقد شيئاً له أربعة أحوال: الحالة الأولى: أن يعتقد الشيء على وجه لا شك فيه ولا مرية البتة، وهذا يسمى باليقين كما يقول بعض العلماء: (100%)، فهو يعتقد مثلاً: أن الله واحد، فهذا الاعتقاد لا يدخله أي شك ولا مرية فيه، وهذا اعتقاد اليقين. الحالة الثانية: أن يكون اعتقاده للشيء غالباً وراجحاً، وهناك احتمال ضد هذا الاعتقاد لكنه ضعيف، وهذا يبدأ من (51%) إلى (99%) فمثلاً: أنت تعلم أن الوالد إذا صلى العصر يرجع إلى البيت، فجاءك شخص وقال لك بعد صلاة العصر: الوالد موجود في البيت؟ أنت لم تر الوالد ولكن صليت العصر ثم جلست في المسجد، يحتمل أن الوالد رجع إلى البيت ويحتمل أنه لم يرجع، لكن الغالب أنه إذا صلى العصر يرجع إلى البيت، فأنت إذا قلت: الوالد في البيت، فإنه ظن غالب وخبر صادق؛ لأن غالب الظن أن يكون في البيت، هذا الغالب يجوز لك شرعاً أن تخبر به ولست بكاذب، بل لو حلفت وقلت: والله إنه في البيت لم تحنث؛ لأن الحلف على غلبة الظن مشروع. الحالة الثالثة: أن يكون الشيء مستوي الطرفين، مثلاً: الوالد بعد المغرب ربما يجلس في البيت وربما لا يجلس، وليس هناك حالة راجحة، فسُئلت: هل الوالد موجود؟ تقول: أشك، يعني: ما أدري أهو موجود أو غير موجود؛ لأنه تارة يكون موجوداً وتارة لا يكون موجوداً، وهذا الشك يسمى استواء الطرفين. الحالة الرابعة: أن يكون الظن مرجوحاً، وهو عكس الظن الراجح، فأنت حينما قلت في صلاة العصر: الوالد موجود في البيت، عندك احتمال أنه خارج البيت، فلو سألك شخص: الوالد خارج البيت؟ تقول: أظن، فظنك في هذه الحالة ضعيف وليس براجح، ولو سألك: أهو في البيت؟ تقول: نعم؛ لأنه ظن راجح. فهذه أربعة أحوال للظنون، ولا يتعبدنا الله بالأوهام، وهو الظن الضعيف، لأنها ظنون فاسدة ولا تبنى الشريعة على الظنون الفاسدة، وهذا قرره الأئمة، ومن أنفس من تكلم على ذلك الإمام العز بن عبد السلام حينما تكلم على مسائل الظنون في قواعد الأحكام، وبين أن الظنون الفاسدة لا يلتفت إليها، مثلاً: شخص قلت له: اذبح هذه الشاة، فذبحها وجاءك بها، يحتمل أنه ما ذكر اسم الله عليها، ويحتمل أنه أخطأ في الذبح، ويحتمل احتمالات كثيرة، لكن هذا الاحتمال ضعيف ومرجوح، فتلغي هذه الظنون، وتعمل بالظن الراجح، وتتقرب إلى الله عز وجل بالظن الراجح. فقس على هذه من المسائل الكثيرة، فقد تعبدنا الله بها حتى في استباحة الدماء والفروج، الآن لو أن شاهدين شهدا أن فلاناً قتل فلاناً، فإننا نحكم بالقصاص، مع أنه يحتمل أن أحد الشاهدين أخطأ، ويحتمل أنهما زورا الشهادة، لكن الظن الغالب أنهما إذا زُكيا وعدلا وعرفا بالضبط أنهما مصيبان، لكن يحتمل الخطأ، والظن مرجوح ولا عبرة فيه. حينما تسأل العالم ويفتيك في مسألة اجتهادية فإنه يفتيك على غالب ظنه، فيحتمل أن القول الذي اختاره مرجوح، لكن الله عز وجل أمرك بالرجوع إليه وأمرك أن تقبل حكم القاضي؛ لأن الغالب في ظنه هو هذا، وأنت تعمل بهذا الظاهر وأنت مكلف بهذا. وبهذا انضبطت أمور الدنيا، ولو كانت أمور الدنيا لا تسير إلا باليقين لدخل من الوسوسة والبلاء على الناس ما الله به عليم، فاستقامت أمور الدين والدنيا على ذلك، وبُنيت مصالح العباد دينية كانت أو دنيوية على هذا، الآن مثلاً: لما تركب السيارة وترى غالبها السلامة تمشي بها، لكن إذا كان غالبها الهلاك ورأيت فيها أعطال فلا تطيعك نفسك أن تخاطر، والطائرة مثلها: لولا أن الغالب السلامة ما جاز لأحد أن يركب بين السماء والأرض معرضاً نفسه للخطر، والباخرة لولا أن الغالب فيها السلامة لما جاز لأحد أن يركبها فيعرض نفسه للغرق، كل هذا مبني شرعاً على غلبة الظن، وبها استقامت مصالح العقلاء والحكماء واندرأت بها المفاسد، فالشريعة تتعبد بغالب الظن. مسألة: لا عبرة بالظن البين خطؤه، عدل وإنصاف، وقد تعبدك الله أن تعمل بهذا الظن الغالب، لكن لو ظهر لك أنه خطأ رجعت عنه؛ لأن الرجوع إلى الحق فريضة وليس بفضيلة فقط، مثلاً: لما يقول العلماء: لا عبرة بالظن البين خطؤه، فهذا في الحقوق، من أمثلته: شخص أعطاك ألف ريال ديناً، فقلت له: رددتها لك، قال: ما رددتها، مثل التجار يتعاملون كثيراً بهذا، كل يوم يأخذ ويعطي. فجاءه شخص ظن أنه أعطاه، فقال له: أعطيتك، قال التاجر: ما أعطيتني. اختصموا عند القاضي، من حقك أن تقول: والله أعطيته؛ لأن غالب ظنك أنك أعطيته، وبعد شهر أو شهرين أو سنة أو مائة سنة، تبين لك أنك أخطأت في هذا الظن، فحينئذ يجب عليك أن تقضي الرجل حقه، ونقول: لا عبرة بالظن الذي بان خطؤه في حقوق العباد. من أمثلتها في حقوق الله عز وجل: مسألة الصوم، إن أكلت وأنت تظن أن الفجر ما طلع، ثم بعد ما أكلت أقيمت الصلاة، فأنت في المسألة الأولى في حق المخلوق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فدين الله أحق أن يقضى)، فمذهب طائفة من العلماء أنه إذا بان لك الخطأ وجب عليك القضاء؛ لأنه إذا كان في حقوق المخلوقين يجب القضاء إجماعاً؛ فحق الله أولى أن يضمن، فنقول: ظنك أن الفجر لم يطلع يسقط عنك الإثم، وتبينك للخطأ يوجب عليك رد الحق، سواء كان لله أو للمخلوق. فللمخلوق تقضي الدين الذي عليك وللخالق تقضي ذلك اليوم؛ لأن الله تعبدك أن تصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وأنت لم تصم صياماً تاماً كاملاً، فحق الله ينبغي أن يؤدى، ودين الله ينبغي أن يقضى، ولذلك قاس النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة، قال: (أرأيتِ لو كان على أمكِ دين أكنتِ قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى)، فأنت إذا تبين لك الخطأ في حق المخلوق فإنه تؤديه، كذلك في حق الخالق ما لم يرد النص بالاستثناء، فلا عبرة بالظن البين خطؤه. فنقول: قاعدة العمل بغلبة الظن؛ معمول بها في حال غلبة ظنك، وقاعدة: لا عبرة بالظن البين خطؤه معمول بها بعد الاستبيان، فأنت تعمل بالأصل حتى يتبين لك خلافه، وبهذا تكون القاعدتان صحيحتين ولا إشكال فيهما، والله تعالى أعلم.

عدد الرضعات الموجبة للتحريم

عدد الرضعات الموجبة للتحريم Q امرأة أرضعتني عدة مرات وهي لا تعلم العدد، وحاولت التذكر لكن دون جدوى، فهل أنا محرم لها ولبناتها، أثابكم الله؟ A لا تثبت أحكام الرضاعة إلا إذا ثبت أنها أرضعتك خمس رضعات، فلا يجوز لك أن تعتبرها أماً من الرضاعة إلا إذا ثبت أنها أرضعتك خمس رضعات معلومات مشبعات، فإذا ثبت ذلك ثبت حكم المحرمية لها ولبناتها، وأما إذا لم يثبت ذلك، فإنه لا يجوز لك أن تحكم بثبوت الرضاعة، والله تعالى أعلم.

حكم تغسيل الرجل لمحارمه

حكم تغسيل الرجل لمحارمه Q هل يجوز للابن أن يغسل أمه وأخته، أثابكم الله؟ A الرجل لا يغسل المرأة إلا في حالة واحدة، وهي: أن الزوج يغسل زوجته والزوجة تغسل زوجها، وذلك على أصح قولي العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة رضي الله عنها كما في حديث السنن: (لو أنكِ متِ لغسلتكِ وكفنتكِ) وهذا يدل على أن الزوج يغسل زوجته، ولأن علياً رضي الله عنه غسل فاطمة رضي الله عنها ولم ينكر عليه الصحابة، والمرأة تغسل زوجها؛ لأن أسماء بنت عميس رضي الله عنها غسلت أبا بكر الصديق رضي الله عنه ولم ينكر الصحابة ذلك، فلا يجوز للرجل أن يغسل المرأة إلا في هذه الحالة، ولا يجوز للمرأة أن تغسل الرجل إلا في هذه الحالة. وأما الابن مع أمه فلا يغسلها، وهذا يفعله بعض العوام جهلاً منهم؛ لأن عورة الأم ينبغي للغاسل أن ينقي الفرجين، وهذا مع اتحاد الجنس أخف منه عند اختلاف الجنس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عهد إلى النسوة أن يغسلن بناته، فغسلت زينب رضي الله عنها وأرضاها أم عطية وغيرها من الصحابيات رضي الله عنهن، ولم يغسلها أحد من قرابتها الذكور، وكذلك بالنسبة للرجل لا يغسله النساء. وبناءً على هذا: لا يجوز للأخ أن يغسل أخته، وإنما يتولى النساء أمر النساء والرجال أمر الرجال، فإن توفيت امرأة بين رجال يممها ذو المحرم ثم كفنت، ويصلى عليها ولا تغسل، وهكذا الرجل إذا مات بين النساء ولا زوجة له وليس هناك رجل، فإن النساء تيممه ثم بعد ذلك يدرج في ثيابه ثم يصلى عليه، فلا يتولى النساء أمر الرجال ولا الرجال أمر النساء على التفصيل الذي ذكرناه في قول جماهير السلف والخلف، والله تعالى أعلم.

سبل تحقيق العشرة الزوجية بالمعروف

سبل تحقيق العشرة الزوجية بالمعروف Q العشرة بالمعروف تتعدى اقتصار الزوج على بذل الواجب في النفقة والرعاية فقط لزوجته، فكيف يمكن لي أن أحقق العشرة بالمعروف، أثابكم الله؟ A العشرة بالمعروف من أعظم الدعائم التي تقوم عليها السعادة الزوجية، ومن أراد أن يحقق هذه العشرة فليقرأ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانت سنته عليه الصلاة والسلام إلا امتثالاً للقرآن، وقد كان عليه الصلاة والسلام لا يقدم أمراً ولا يؤخر غيره إلا بكتاب الله عز وجل، فمن أراد أن يكون معاشراً لأهله بالمعروف فلينظر إلى أوامر الله جل جلاله، وإلى ما ندب الله إليه من الإحسان والبر والصلة والعفو والصفح والتجاوز وحسن النية، وغير ذلك من الأمور التي تعين على سلامة العمل، وكذلك ينظر بعد كتاب الله إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، يستلهم منها المواقف الجليلة والحوادث الجميلة التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع حبه وزوجه، وكيف كان أبر الأزواج بأزواجه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. والأصل أن الإنسان لا يمكن أن يصل إلى الكمال ما لم يكن نقي الصدر الدعامة الأولى سلامة الصدر، ولذلك لن تجد إنساناً يستقيم على طاعة الله أو يهتدي فينال كمالات هذا الدين إلا بسلامة الصدر، وما إن يتغير قلبه ويكون فيه أي دخل أو درن من أدران الجاهلية إلا أثر على عمله وقوله، أهم شيء يبدأ فيه الإنسان سلامة صدره، ولذلك من دخل إلى بيت الزوجية سليم الصدر، نقي السريرة؛ فإن الله يبارك له في ظاهره، فمن أسر سريرة أظهرها الله في قوله وعمله، وظهرت في علانيته في معاملته. وانظر هذا مع الناس، فالشخص الذي يعاشر إخوانه من طلاب العلم أو غيرهم من الملتزمين أو المهتدين، وهو لا يفرق بين الأبيض والأسود والأحمر والأصفر والغني والفقير، سليم الصدر نقي الصدر تجده في أكمل ما يكون الأخ مع أخيه (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله) وما تفسد القلوب إلا بمعصية الله، فإن دخلها الحقد والحسد واحتقار الناس وانتقاصهم، ودخلها سوء الظن والتهم ونحو ذلك، ساء كل شيء. فالرجل إذا دخل بيت الزوجية وهو يفكر أول ما يفكر أن زوجته نعمة من الله أنعم بها عليه، وأنه يحتقر نفسه، ويقول: من أنا حتى تأتيني هذه المرأة الصالحة، إذا كانت امرأة دينة أو على الأقل تحافظ على واجباته، يقول: الحمد لله الذي رزقني هذه المرأة على هذا الخير والاستقامة، وإذا كانت قريبة قال: الحمد لله الذي سخر لي من أصل به رحمي وأبُلها ببلاها، ودخل وهو نقي الصدر ويحس أنها نعمة أنعم الله بها عليه، وأن المنبغي عليه أن يحافظ على هذه النعمة، وينظر إلى هذه النعمة نظرة الصفاء والنقاء والمودة، كما أخبر الله عز وجل: (مودة ورحمة). فإذا دخل بسلامة الصدر والأسس التي تنبني عليها العشرة بالمعروف موجودة في قلبه وقالبه، بارك الله له في قوله وعمله، فهو إذا دخل إلى بيت الزوجية في أي ساعة يحس أن أي معروف أو أي عمل تقوم به المرأة لا يستوجبه عليها. فإذا دخل فوجدها طبخت طعامه، أكبر منها ذلك ورمى لها بالكلمة الطيبة، وقال: جزاكِ الله كل خير وبارك الله فيكِ، فدعا لها، وهي ردت له دعوته بالخير، وأكبرت منه إكبارها للمعروف فأحبته، وعرفت أن عنده الإنصاف وأنه سليم الصدر لها، ولكن العكس إذا دخل وهو يظن أنه يستوجب عليها الحق، وأنها كالأجيرة عنده، وأنها دونه، وأنها أحقر؛ جعل ينظر إلى نفسه نظرة الكمال وأنه يستوجب عليها، فعندها تسوء أخلاقه ويسوء قوله وعمله، ولذلك ثبت عن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم: أنه ما عاب طعاماً وضع بين يديه، صلوات الله وسلامه عليه، وهذا لا يمكن أن يكون إلا حينما ينظر نظرة التواضع والإكبار من أهله وزوجه. المرأة الصالحة إذا نظر الإنسان إليها زوجة له والفتن تحيط بها من كل جانب، تذكر أن الله رحمه بهذه المرأة الصالحة، فكان أول من يعينها على صلاحها وتقواها لله عز وجل، يعينها بالكلمة الطيبة، بالابتسامة، بإدخال السرور، والله إن العبد يشتري رحمة الله عز وجل كما أنه راكع وساجد، بالابتسامة يبتسم بها في وجه أهله وزوجه، ولذلك حرص عدو الله إبليس على الدخول بينك وبين كل قريب، فيجعل الابتسامة حلال ومحبوبة وطيبة إلا إذا كانت للقريب منك، ويقول لك: لا تبتسم للزوجة، إنك إن ابتسمت إليها أفسدتها، ولا تفعل كذا وافعل كذا وكذا، فيصبح المعروف منكراً ويصبح الشر خيراً والخير شراً. كل هذا -نسأل الله السلامة والعافية- لسوء القلب، إذا دخلت بهذه الأسس وهي سلامة الصدر ونقاء الصدر، وأن تحس أن الله أنعم عليك بنعمة شكرتها، ودائماً إذا أحس الإنسان أن زوجته نعمة؛ شكر هذه النعمة، ولذلك يقول الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53]. فإذا عرفت قدر الزوجة، وأن بنت الناس ما جاءت إلى بيتك لتهان، وأن حرمات المسلمين ما دخلت إلى بيتك لكي تذل، وإنما لتكرم ولتعز ولتحسن إليها وتقابل بالإحسان؛ عندها يجتمع شمل الزوج والزوجة. العشرة بالمعروف أقوال وأفعال، وإذا سلمت السرائر صلحت الظواهر، وزكاها الله جل وعلا المطلع على الضمائر، ولا يمكن أن تزكو علانية الإنسان أو يكون محبوباً بين الناس وهو خبيث السريرة أبداً، ولذلك قالوا: لا يسود حقود ولا حسود، لا يمكن أن تجد إنساناً يحسد الناس ويعطيه الله السؤدد، فلا يسود الناس حتى ولو كان مع أهله وزوجه، لا يمكن أن ينال السؤدد ولا ينال الكمال ولا العشرة بالمعروف إلا إذا كان سليم الصدر نقي النفس مهذب الأخلاق طيب المعدن، فإذا وفق الله له بسلامة الصدر رزقه العشرة بالمعروف. كيف تكون هذه العشرة؟ اقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، اقرأ هذه السيرة وحدك متأملاً متفكراً متدبراً، وانظر في كل حدث يقع بينه وبين زوجه، والله إن القصة الواحدة من قصص النبي صلى الله عليه وسلم -حينما كنا نتذاكر العلم- لأمضي فيها الثلاثة الأيام! اقرأها المرة بعد المرة بعد المرة، كلما تقرأها تجد فيها غير الذي كنت تراه من قبل، مما فيها من الخير والبركة والمواقف الجميلة، والمعاني الكريمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يشهد من فوق سبع سماوات بكرم خلق هذا النبي صلى الله عليه وسلم عبثاً، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] فما نال هذه العشرة بالمعروف إلا بالخلق العظيم صلوات الله وسلامه عليه. ولن تستطيع أن تكون العشرة بالمعروف بينك وبين زوجك إلا إذا عظمت حرمات الله، وأخذت تنظر إلى الأسس التي أوجب الله عليك أولاً فتؤديها كاملة، وبعد ما تؤدي الواجبات تنتقل إلى الكمالات، ودائماً يوصى الإنسان أن لا ينظر إلى نفسه نظرة كمال، بل عليك أن تتهم نفسك بالنقص والتقصير حتى يكمل الله نقصك ويجبر كسرك. والموفق من وفقه الله، فسل الله عز وجل أن يعطيك، وأكثر من الدعاء وقل: اللهم إني أسألك حسن الخلق لأهلي وزوجي وللناس أجمعين، وسل الله عز وجل أن يحسن أخلاقك، وقل: اللهم كما حسنت خلقي فحسن خُلقي، وقل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني شرها وسيئها لا يصرف عني شرها وسيئها إلا أنت). الوصية الأخيرة: مما يعين على العشرة بالمعروف: الإنصاف والعدل، فأي موقف تحس أنك أخطأت فيه فعليك أن تتراجع في نفسك وتستدرك في خطئك، وتخاف من الله عز وجل فيما يكون منك من التقصير، فإذا وفقك الله عز وجل لهذه الأسس: سلامة الصدر وقراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأنت الموفق؛ لأننا لو جئنا نتحدث كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يعاشر بالمعروف ما انتهى الحديث، ولكن نقول: قراءة السيرة. ثم إذا وفقت بعد ذلك إلى أنك دائماً لا تنظر إلى نفسك نظرة كمال، وإذا وقع منك الخطأ أصلحته؛ فإنه لا يزال لك من الله معين وظهير. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا حسن الأخلاق، وأن يعيننا على ذلك؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

باب نفقة الأقارب والمماليك [4]

شرح زاد المستقنع - باب نفقة الأقارب والمماليك [4] ضمن الشرع للأرقاء حقوقهم، فضمن للرقيق أوقات الراحة وعدم تكليفه بما لا يطيق، كما أوجب على المالك الإنفاق على مملوكه وأن يكفيه حاجاته اليومية وضرورياته المعيشية، حتى إنه إن قدر على تزويجه زوجه.

أحكام النفقة على الرقيق

أحكام النفقة على الرقيق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وعليه نفقة رقيقه طعاماً وكسوة وسكنى]. شرع المصنف رحمه الله في بيان ما يجب على السيد تجاه عبيده ومواليه، وهذا الفصل في الحقيقة تابع للذي قبله من جهة كونه من فصول النفقات، وقد تقدم أن النفقات في الإسلام لها ثلاثة أسباب: السبب الأول: النكاح والزوجية. السبب الثاني: النسب والقرابة. السبب الثالث: المِلك، ويشمل مِلك اليمين وملك الدواب والبهائم. وبعد أن بيّن المصنف رحمه الله النفقات المتعلقة بالزوجية، وأحكامها ومسائلها، بيّن رحمه الله أحكام النفقات من جهة النسب، ثم بعد ذلك شرع في بيان أحكام النفقات المتعلقة بملك اليمين والنفقة على البهائم. وفي الحقيقة أن النفقة على المملوك والرقيق أمر فرضه الله عز وجل على عباده، وهو يدل دلالة واضحة على سماحة الشريعة، ولقد كان في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من النصوص ما يدل دلالة واضحة على عظمة هذا الدين، وسموه وكماله، وأنه أبعد مما وصفه به أعداء الإسلام من المنقصة والمعايب التي ألصقوها به زوراً وبهتاناً، خاصةً في مسألة الأرقاء. فمن هنا ومن هذا الدين ومن أنوار التنزيل، كانت الحقوق الواضحة البينة التي بيّنها رب العالمين الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، هنا حقوق المخلوقين تامة كاملة، هنا يوصف الشخص فيبين ما الذي له وما الذي عليه، هنا النظرة الكاملة التامة؛ لأنه تشريع الحكيم العليم الذي تمت كلمته صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم، وهنا المناداة بالحقوق دون أن يتقمصها المنادي لأغراضه الشخصية، وهنا النظر للحقوق دون أن تكون نظرة عمياء أو نظرة عوراء تنظر للحقوق التي لها دون الحقوق التي عليها. فهذه عظمة الإسلام تتجلى وتظهر في أبهى صورها وأجمل حللها، دون كذب وافتراء ومبالغة وخداع للناس وتمويه عليهم، فهذه الأبواب التي انعقدت في الفقه الإسلامي في بيان الحقوق التي منها حقوق النفقة؛ انظر فيها كيف يكون الترابط، يقال للشخص: أنفق على زوجتك ولا تظلمها، وأعط المرأة حقها. ويقال للمرأة: أعطي حق الرجل، ويقال للسيد: أعط حق المملوك ومن جعله الله أمانة في عنقك ورقبتك، وأنت مسئول عنه أمام الله عز وجل، ويقال لللملوك: أدّ حق سيدك. هنا العدل والإنصاف التي قامت عليه السماوات والأرض، وهنا الحقوق واضحة جلية قائمةً على العدل الإنصاف الذي لا يمكن أن تستقيم أمور العباد إلا به، ولا يمكن أن تستقيم أحوال البلاد إلا بهذا الذي شرعه الله جل وعلا، وبيّنه سبحانه وتعالى.

الأرقاء أمانة في أعناق من ولاهم الله عز وجل أمرهم

الأرقاء أمانة في أعناق من ولاهم الله عز وجل أمرهم قبل أن ندخل في حقوق النفقة ننبه على أمرٍ مهم: وهو أن أعداء الإسلام شوهوا صورة الإسلام في الرق، ومن هنا وجب أن نبين أن دين الله وشرعه لم يخص الرق يوماً من الأيام بجنس من الأجناس، ولا بلونٍ من الألوان، ولا بطائفة ولا بأحد، إلا بمن كفر وسلب نفسه كرامة الآدمية، ولو كان أجمل الناس صورة، وأعز الناس مكانة، فعندها ينزل إلى مستوى البهيمية بل أضل: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44]. ضُرب الرق على الكافر ولا يضرب الرق على المسلم، فلا يسترق إلا الكافر، وإذا استرق الكافر فإنه إذا أسلم بعد ذلك استمر على الرق على تفصيل نبينه؛ لأن الشخص إذا كفر وأشرك نزل عن التكريم الذي كرمه الله به، وظلم ومنع حق الله الذي أوجب عليه ذلك، وقد وصف الله الكافر والمشرك بأنه ظالم: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فلما كفر لم يبق الكافر على كفره بل جاء ووقف في وجه الإسلام محارباً له، فإذا حاربه ووقف في وجهه كفر بالعبودية لله عز وجل، وكفر نعمة الله سبحانه وتعالى، ثم جاء وحارب الإسلام ووقف في وجه الإسلام. فإذا تمكن الإسلام منه خُيّر الإمام بين ضرب رقبته واسترقاقه والمنِّ عليه؛ على تفصيل تقدم في كتاب الجهاد، فإذا أمر ولي الأمر برقه ثبت الرق، وليس كل أحد يأتي ويأخذ كل من أسر، ويقول: هذا مملوك لي، ولكن بضوابط وقيود محددة ومرتبة من لدن حكيم عليم: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4]، يضرب الرق على الرجال والنساء والذراري والأطفال كما جاء في حديث سعد حينما حكم في بني قريظة، قال: (أرى أن تسبى ذراريهم، وأن تقتل مقاتلتهم). فإذا سبيت الذرية وضرب عليها الرق ربما تسلم بعد ضرب الرق ويبقى نسلهم مسلمين، لكن العبرة بالأصل، أنهم كانوا على الكفر، ومن هنا إذا أسلموا: رغب الإسلام في عتقهم، ولذلك لا يعتق الكافر، قال لها: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة)، أي: أمرتك بعتقها لما آمنت، وانظر كيف ضُرِب عليه الرق لما كان كافراً وحارب الإسلام، وفتح له باب الحرية ورُغّب في عتقه إذا أسلم وآمن ورجع إلى الأصل، لكن لو أن الإسلام جعل كل من يسترق إذا أسلم يفك عنه الرق ولو كذباً، لكذب الناس والأرقاء في إسلامهم. على كل؛ فهذا نوع من الاسترقاق، والله يحكم ولا معقب لحكمه، فنحن نؤمن ونقتنع قناعة تامة بهذا الأمر الذي هو باقٍ ما بقي الملوان وتعاقب الزمان، لا يحرم تحليله أحد ولا يحل ما حرم الله فيه أحد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (ثلاثة أنا خصمهم؛ ومن كنت خصمه فقد خصمته: رجلٌ أعطي بي ثم غدر، ورجلٌ استأجر أجيراً ولم يوفه أجره، ورجل باع حراً ثم أكل ثمنه)، وهذا يدل على أن الإسلام لا يسمح باسترقاق العباد وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً، ولا يسمح بالاسترقاق للألوان أو الأجناس أو الطبائع أو الملل أبداً، إنما يُضرب الرق في حالة مخصوصة، ولا يدعو هذا إلى رد شبهات الأعداء بأن ننهزم ونحرم ما أحل الله وننطلق من منطلق الضعف، ونجعل الرق وكأنه أمر عند الضرورة. لا. فهذا حكم الله يرضى به من يرضى، ولا علينا أن يسخط من سخط، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فعليه السخط، هذا حكم الله الذي يحكم ولا معقب لحكمه سبحانه وتعالى. لما حكمت الشريعة بالرق لم تترك الأمر هملاً وسدى بل جاءت بالتشريعات التامة الكاملة في بيان حقوق الأرقاء، فلهم الحق في حدود ما جعل الله عز وجل لهم، فبين الله عز وجل حق السيد وحق المملوك، كما قال تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب:50]، وكان من آخر وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على آخر أعتاب هذه الدنيا وقد أوذن بالرحيل منها، واشتاق إلى الرفيق الأعلى، كان يقول: (الصلاة، وما ملكت أيمانكم). فالإسلام ليس يتهم أحداً زوراً وبهتاناً، الإسلام أسمى وأعلى من كل هذه الترهات، ولكن الكافرين هم الظالمون والمعتدون، كما قال القائل: (رمتني بدائها وانسلت)، فهم أهل هذا العيب والنقص؛ الذين استرقوا الشعوب والأمم، وأكلوا خيراتهم وحرموهم حقوقهم، فهذا هو الذي يثلب ويعاب. أما الإسلام الذي عظم الحقوق وبين الواجبات، فهو أعلى مما يوصف به ظلماً وزوراً وبهتاناً.

حق المملوك في السكنى والطعام واللباس

حق المملوك في السكنى والطعام واللباس قال المصنف رحمه الله: [وعليه]: الضمير هنا عائدٌ على السيد، والتعبير بقوله: (وعليه) يدل على اللزوم، أي: يجب على السيد تجاه عبيده وإمائه النفقة، وقد تقدم تعريفها وبينا هذا الطعام والكسوة والسكنى، والأصل في ذلك: ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم وليلبسه مما يلبس، ولا يحمله ما لا يطيق؛ فإن حملتموهم ما لا يطيقون فأعينوهم). في هذا الحديث الشريف دليل على وجوب إطعام السيد لعبده وأمته. ولذلك جاء في الحديث الآخر: (للملوك نفقته وكسوته بالمعروف)، فلما قال رحمه الله: (وعليه نفقته)، أي: على السيد نفقة عبده، ويشمل ذلك الطعام لقوله عليه الصلاة والسلام: (فليطعمه مما يطعم)، والكسوة لقوله: (وليلبسه مما يلبس)، وكذلك يجب عليه أن يسكنه. وهذا كله بإجماع العلماء رحمهم الله لثبوت النصوص فيها. أما الطعام: فإن كان السيد غنياً فإنه لا يجب عليه أن يطعمه طعام الأغنياء، ومن هنا: اختلفت النفقة في الزوجية عن النفقة في ملك اليمين، إنما يطعمه الطعام الذي يقوم به عوده ويصلح به حاله، وأما إذا كان السيد معسراً فإنه يطعم طعام المعسرين. وأما بالنسبة لنوعية الطعام، فلحديث الشافعي في مسنده: (بالمعروف)، يدل على أن هذا يرجع إلى العرف، فالعبيد والموالي لما كانوا في أيام المسلمين كانوا يطعموهم بالعرف، فموالي الغني يُطعمون طعام موالي الأغنياء، والفقراء كذلك يطعمون طعام الموالي الفقراء والضعفاء، على حسب العرف الذي فيه السيد والمولى. وأما اللباس: فهو يختلف بحسب اختلاف المولى: فإذا كان العبد أو الأمة بحال فإنه يلبس ما يليق بحاله، فإذا كان عنده مهنة وعمل لبس لباس المهنة والعمل، ولذلك فرق العلماء والأئمة بين لباس الأمة التي يطؤها سيدها لأنه لباس زينة وجمال، وبين الأمة التي تخدم في البيت وتطبخ على أنه لباس بذلة تحتاج معه إلى شيء يساعدها على ما هي فيه من المهنة والعمل، فاللباس يختلف بحسب اختلاف الرقيق والمولى ذكراً كان أو أنثى. ثم قوله: (عليه) عام يشمل إذا كان الرقيق يعمل أو لا يعمل، وذلك لأن النفقة على الرقيق لا يشترط فيها أنه يخدم سيده حتى ولو كان المولى عاجزاً صغيراً أو كبيراً، فإن الإسلام يلزم سيده بالنفقة عليه، وكذلك لو كان به عاهة أو مرض يمنعه من التكسب والقيام على نفسه، فإن سيده ملزم بأن يقوم عليه وينفق عليه بالمعروف، وفي هذا دليل على رحمةِ الله بعبيده وخلقه، حيث إنه سبحانه راعى أحوال هؤلاء وأمرهم أن يطيعوا لمواليهم ويحسنوا لهم؛ حتى وعد المولى الذي يقوم على خدمة سيده الجنة إذا مات وسيده عنه راضٍ، يعني: أدى حق سيده على أتم الوجوه وأكملها. فبين المصنف رحمه الله: أنه يجب على السيد أن ينفق بالطعام والكسوة والسكنى على الرقيق.

أحكام معاملة الرقيق

أحكام معاملة الرقيق قال رحمه الله: [وأن لا يكلفه مشاق كثيراً]. الكلفة دائماً تكون في الشيء الذي يحتاج إلى عناء وتعب ونصب، فلا يجوز للسيد أن يحمل الرقيق ذكراً كان أو أنثى ما لا يتحمل، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (فلا تكلفوهم ما لا يطيقون)، فنهى عن تكليفهم بما لا يطيقون، لما فيه من الظلم والأذية لهم والإضرار بهم. وبين بعض العلماء رحمهم الله: أنه يدخل في هذا أن يطالبه بعمل يرهق بدنه حتى يصاب بالمرض بعد فترة، أو يطالبه بعمل فيه إرهاق على مر الأيام، مثلاً: في اليوم الأول يطيقه المولى، ثم في اليوم الثاني يطيقه، ثم في اليوم الثالث يعجز عنه، فالعبرة بمشقة العمل وعنائه، كأن يقول له: احمل هذا الشيء الثقيل. ومن تحميله ما لا يطيق: أن يطالبه بالعمل ويعطيه ساعات يسيرة للراحة، فهذا يشق على المولى ويضر به، والواجب عليه أن يتقي الله في مولاه، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تحميلهم ما لا يطيقون.

المخارجة بين السيد وعبيده

المخارجة بين السيد وعبيده قال رحمه الله: [وإن اتفقا على المخارجة جاز]. إن اتفق السيد مع مولاه على المخارجة، وهي: مفاعلة من الخرج والخراج، وهو النسبة التي يحددها السيد لمولاه أن يأتي بها في اليوم أو الشهر، يقول له: اذهب وتكسب، وكل يوم أحضر عشرة دراهم، أو في كل يوم ديناراً، أو يقول له: كل شهر تدفع ثلاثة دراهم. فهذا يسمى الخراج، إن اتفق السيد مع عبده على المخارجة، ويكون عند المولى مهنة كالنجارة والحدادة، فيقول له: اذهب وتكسب واشتغل ثم أعطني كل شهر ثلاثة دنانير، أو يقول: أعطني كل يوم درهماً. فهذا خراج. والأصل في ذلك: أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه حجمه أبو طيبة رضي الله عنه وأرضاه، وكان أبو طيبة مولى من الموالي، فلما حجمه رضي الله عنه أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم أجرته وأمر مواليه أن يخففوا عنه في خراجه، فدل على أن الخراج بشروط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم أن يخففوا؛ فلم يحرم عليهم التكسب من طريق المولى والرقيق. وكذلك إذا كانت أمةً تخدم في البيوت وتعطي خراجها، يقدر لها خراجاً، ويجب على السيد أن يتقي الله عز وجل في الرقيق، وأن لا يحمله خراجاً فوق طاقته، أو يحمله الخراج وهو صغير، انظروا كيف يصيحون في حقوق الأطفال من العمل، هذا هو ما نادى به الإسلام قبل ألف وأربعمائة سنة، وكان أئمة الإسلام يقولون: لا يحمل أطفال الموالي لا يطالب بالكسب حتى يبلغ أشده ويقوى على التكسب. ومن هنا قال بعض الصحابة رضوان الله عليهم، كما هو مأثور عن عثمان بن عفان وهو أمير المؤمنين والخليفة الراشد، قال: (لا تأمروا الصبي بالكسب فيسرق) لأنه إذا لم يجد الكسب يضطر إلى السرقة فعقله ناقص قاصر؛ إذ ليس عنده عقل يمنعه، فإذا حمله سيده وهو صغير ولم يجد الكسب اضطر إلى السرقة أعاذنا الله وإياكم. ثم قال: (ولا تحملوا الأمة ما لا تطيق فتزني)، وفي رواية: (فتكسب بفرجها) والعياذ بالله، انظروا عظمة أئمة هذا الإسلام رحمهم الله برحمته الواسعة، كل هذا الخير مستقى من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم هنا النزاهة في بيان الحقوق وتصوير الواجبات؛ فلا يطالب الصبي بالخراج، ولا تطالب به المرأة إذا لم يكن لها مكان تعمل فيه وخُشي عليها أن تعمل في الحرام. والأصل في الخراج -كما ذكرنا- السنة، وكذلك إجماع الصحابة؛ فإن عمر رضي الله عنه في قصة أبي لؤلؤة المجوسي -لعنه الله- لما اشتكى إلى عمر اشتكى من مولاه المغيرة -كما في الأثر الصحيح- أنه يطالبه بخراج كثير، فلما عرض ذلك على عمر، دل على أنه كان معروفاً بين الصحابة رضوان الله عليهم المخارجة، فبين المصنف رحمه الله: أن يجوز أن يضرب السيد على مولاه خراجاً ذكراً كان أو أنثى على أن يعطي أجرةً يومية أو شهرية. إذا قال له: تكسب وأعطني ثلاثة دراهم؛ فما زاد ملكٌ للعبد ينتفع به ويرتفق، وهذا بين السيد وعبده، لا يدخل في هذا مثلاً العامل مع كفيله؛ لأنه ليس ملكاً له، فلينتبه لهذا؛ لأن السببية في الاستحقاق من الشرع، وأما ما عداه فإنه باق على أصل الحرية لا يملك عرض المسلم وتعبه وكده إلا باستحقاق شرعي. إذا ثبت هذا؛ فإنه يضرب له الخراج إن اتفقا، ونفهم من هذا أنه ليس من حق السيد أن يجبر مولاه على التكسب، فلو قال له: يجب عليك أن تحضر كل يوم درهماً لا يكون إلا باتفاق الطرفين، وهذا اختيار بعض العلماء رحمهم الله.

حق العبد في الراحة والنوم والصلاة

حق العبد في الراحة والنوم والصلاة قال رحمه الله: [ويريحه وقت القائلة والنوم والصلاة]. للرقيق حقوق ينبغي أن يتقي المولى الله فيها، فلا يجوز أن يضيق عليه في هذه الأمور التي جعلها الله من الفطرة، وسجية الإنسان أنه يحتاج إليها، فلا يضيق عليه في نومه وراحته، ولا يحمله ما لا يطيق، ولا يرهقه في وقت نومه وقيلولته، بل يمكنه من النوم في ساعات النوم، ومن القيلولة في ساعة القيلولة. وهذا يدل على أنه لا يجوز للسيد أن يؤذي مولاه أو رقيقه في وقت راحته أو يزعجه ويحمله ما لا يطيق، فما بالك إذا كان عاملاً بأجرة متفق عليها أو أجرة على العمل في وقت معين؛ فيأتي ويرهقه ويستغل ضعفه ويطالبه بالعمل في وقت راحته، هذا من الظلم والأذية والإضرار، ولا يجوز للمسلم أن يؤذي أخاه المسلم. وكما أنه لا يجوز له أن يضايقه بالحس، بأن يطالبه بالعمل أثناء نومه أو أثناء راحته، لا يجوز كذلك أن يؤذيه بالمعنى، والأذية بالمعنى هي السب والشتم، فلا يشمته ولا يسبه ولا يؤذيه بالإهانة؛ لأن للمسلم حقاً في عرضه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد)، فجعل خطبة حجة الوداع التي كان الناس أحوج ما يكونون فيها إلى تبيين الأمور العظيمة، جعل فيها بيان حق عرض المسلم، وقرن العرض بالدم، فكما أنه لا يجوز لك أن تقتل المسلم فكذلك لا يجوز لك أن تستبيح عرضه، ولا يظن أحد أن عرض المسلم رخيص، أو أن الكلام في الناس أمرٌ هيّن؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15]. ومن هنا: فإذا كان السيد مع عبده لا يستطيع أن يطيل لسانه عليه، فما بالك بالمسلم مع أخيه المسلم، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الترمذي: (أن رجلاً اشتكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إنني لي موالي آمرهم فيعصونني؛ فأسبهم وأشتمهم وأضربهم، فما تأمرني يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إذا كان يوم القيامة نُظِر في أمرك وعصيانهم لك، وسبك وشتمك وضربك لهم ثم يقتص، فتولى الرجل يبكي، وقال: أشهدك أنهم أحرارٌ لله)؛ لأنه يخاف من الله عز وجل. وفي حديث أبي مسعود أنه غضب على عبدٍ من عبيده، فأخذ السوط وضربه، قال: (فسمعت صوتاً من ورائي يقول: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك عليه)، أي: لا تحسب أن كونه مولى وأنه ضعيف أن الله سبحانه وتعالى سيفلتك من عقوبته إن اعتديت عليه وأضررت به، قال: (فالتفت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أشهدك أنه حرٌ لوجه الله)، فأمر الرقيق ليس هملاً في الإسلام، لا يستبيح الناس الأرقاء بما شاءوا أبداً، إنما بقيود. فإذا كان هذا حال السيد مع رقيقه فكيف بالعامل الذي يكون غريباً عن أهله ووطنه وولده وهو يتكسب الرزق الحلال؟ وهذا من أشرف وأعظم ما يكون للعبد، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام: (إن نبي الله موسى آجر نفسه لطعمة بطنه وعفة فرجه)، فجعل هذا شرفاً لنبي من أنبياء الله أن جعل نفسه أجيراً من أجل طعمة البطن وعفة الفرج. فالعامل إذا تغرب عن أهله وولده هو أحوج ما يكون إلى من يرحمه ويحسن إليه، ويتصور الإنسان حينما يسافر عن أولاده اليوم واليومين في نفس بلده ومكانه، كيف يجد من الألم والشجى والحزن، فما بالك بأخيك المسلم إذا كان غريباً عن أهله وماله وولده ويعاني الأمرين من تشوش فكري من أمور قد تكون نازلة به؛ فهو أحوج ما يكون إلى الرفق والرحمة. الرقيق ملك للإنسان ملكه الله إياه، ولكن عند خطئه إذا ضربه وآذاه وأهانه اقتص منه، فما بالك بالمسلم إذا كان غريباً لأمرٍ يريد به عفة نفسه وأهله وولده وطُعمة بطنه؟ فالأمر آكد والحق ألزم؛ ولذلك كتب على المسلمين أن يتقوا الله، وأن يتقي الله بعضهم في بعض، وأن يخافوا الله عز وجل من حقوق إخوانهم؛ لأن أعظم ما يضر بالإنسان يوم القيامة بعد الكفر بالله عز وجل الحقوق والمظالم، وأخبر صلى الله عليه وسلم: أن عقول الناس تطيش وتصاب بالرعب الشديد مما ترى في صفحات الأعمال من الحقوق التي بين الناس. فالواجب على السيد أن يتقي الله في المولى، وأن يشعر أن كونه رقيقاً ليس معناه أنه يسبه ويشتمه دون أن يحاسبه الله عز وجل على سبه وشتمه ومخاصمتهما. قال رحمه الله: [ويريحه وقت القائلة والنوم والصلاة]. القائلة تكون قبل الظهر، وهي القائلة المحمودة، وغالباً ما تعين على قيام الليل، وقد تستمر بعد الظهر فيستجم بها الجسم، فكانوا يريحون أنفسهم غالباً بعد الظهر إذا كانوا من أصحاب الأعمال؛ لأن وقت الظهر يشتد فيه وهج الشمس فيخلد الناس إلى الراحة، ولا يستطيع العامل أن يعمل في هذا الوقت، إذاً: يريحه وقت القائلة، ويمكنه من وقت القيلولة التي تكون في النهار ووقت النوم الذي يكون في الليل، وهكذا لو أنه سافر معه، فاحتاج أن ينام نهاراً كأن يكون سرى بالليل، فعليه أن يمكنه من النوم نهاراً. وكذلك أيضاً يريحه وقت الصلاة، وهذا يدل على أن للعامل حقاً في أن يُمكن من الراحة وقت الصلاة؛ لأنه حقٌ لله عز وجل، وحق الله مقدمٌ على حق خلقه، فهو مالك المملوك وما ملك، فهو سبحانه المالك لخلقه، وملكية السيد لعبده نسبية، ولكن ملكية الله سبحانه وتعالى للخلق ملكية مطلقة، وبناءً على ذلك: لا يجوز أن يضيق عليه في وقت صلاته أو يطالبه بالعمل في وقت الصلاة، بل يعطى وقتاً للوضوء ووقتاً للصلاة، وإذا أعطي وقت الصلاة فعلى المملوك أن لا يشتغل عن ذلك، وكذلك العامل في عمله والموظف في وظيفته إذا جاء يصلي، فعليه أن يحدد قدر وقت الحاجة ويذهب ويتوضأ مباشرة، ثم يؤدي صلاته ويرجع إلى عمله مباشرة. وأما أن يستغل وقت الصلاة من أجل أن يجلس ويعقد ندوة أو كلمة من أجل مصالح للمسلمين، فلا يمكن للإنسان أن يشتغل بالنوافل على حساب الحقوق الواجبة، وأما جلوسه مع إخوانه وزملائه في العمل، فهذا له وقت آخر غير أوقات الوظيفة وأوقات الحقوق الواجبة التي ترتبط بها مصالح المسلمين، والله عز وجل لا يطاع من حيث يعصى. وينبغي للمسلم أن يعلم أن وقت الوظيفة أمانة في عنقه، خاصة إذا كان هناك ارتباط بمصالح المسلمين العامة، وليعلم أن الثانية في مصالح المسلمين أجرها عظيم؛ فضلاً عن الدقيقة فضلاً عن الساعة، فكما أنه يحب الله ويطيع الله في سجوده وركوعه فليعلم أنه متقربٌ لله سبحانه وتعالى في كل مصلحة من مصالح المسلمين، ولربما تكون الدقيقة اليسيرة وهو في مصلحة الطب والعلاج أو قضاء حوائج المسلمين العامة تعدل ساعات من العبادة؛ لأن ساعات العبادة نفعها قاصر، وأما ساعات الوظيفة فقد يكون نفعها متعدياً، وقد يأتي الشخص الغريب المسافر والمكروب فيوسع عليه ويفرج كربته، فالمولى والرقيق لا يشتغل وقت الصلاة من أجل أن يتوسع في النوافل إنما يقيد وقت الصلاة، وينظر إلى قدر الحاجة والزائد على ذلك المستحق للعمل؛ لأن ساعات الوظيفة وساعات العمل إجارة بالزمان. والقاعدة في إجارات الزمان: أن وقتها يستغل بكامله في العمل؛ لأنه اتفاق بين الطرفين على استنفاذه في العمل إلا إذا استثني شيء شرعاً. فيخرج إلى الصلاة ويؤدي حق الله عز وجل ثم يرجع مباشرة، وإذا أمكنه أن يصلي في مكان قريب وبعيد فإنه يقدم المكان القريب على البعيد، ولو كان هناك فضائل في البعيد كالصلاة في داخل الحرم بمائة ألف صلاة وفي مكان آخر الصلاة فيه لا تضاعف فإنه ينظر إلى أقرب مكان؛ لأن ما أبيح للضرورة والحاجة يقدر بقدرها، ويكتب له أجر الصلاة في المكان المضاعف بالنية؛ لأنه حبسه العذر، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن المعذور يكتب له أجره كاملاً تاماً. فيريح السيد مولاه ساعة صلاته وساعة نومه وقيلولته، ومن باب أولى إذا كان المولى مريضاً، فلما قال: يريحه وقت القيلولة ولصلاته ونومه؛ فكذلك يريحه عند مرضه وسقمه، فإذا مرض العبد فإنه يعطى الراحة، وهكذا العامل، والعامل إذا كان مريضاً ومرضه لا يمكنه من العمل فله أن يترخص، وأما إذا أمكنه أن يقوم بالعمل مع المرض دون حرج، فإن الله يأجره على ذلك، فالأصل يقتضي أنه لا يحمله ما لا يطيق، فإن المريض لا يطيق أن يعمل أثناء مرضه.

حمل الرقيق على الدابة في السفر

حمل الرقيق على الدابة في السفر قال رحمه الله: [ويركبه في السفر عقبة]. بمعنى أنه إذا سافر فقد جرت العادة أن الرقيق يقوم على دابة السيد، فقد يقود به البعير، فإذا قاد به البعير فعلى السيد أن ينزل من أجل أن يركب الرقيق، فمن يقول هذا؟! من الذي يحفظ الحقوق على أجمل صورة وأكملها؟ حتى إن عمر رضي الله عنه وأرضاه نزل لمولاه، كما في السير حينما سافر إلى الشام، فإنه أركب مولاه عقبه، وأخذ بخطام البعير رضي الله عنه وأرضاه وهو ثالث رجل في الإسلام، وما منعه علو مكانه وشرفه، بل ازداد والله شرفاً وكمالاً رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه تربى في مدرسة النبوة التي هي أنوار التنزيل من الله سبحانه وتعالى الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين. فالمولى يعطى حقه حتى في الطعام، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كما في الحديث الصحيح: (إذا كفى أحدكم خادمه طعامه حره ودخانه) يعني: إذا كفاك العبد مئونة تهيئة الطعام فجلس ينفخ على الحطب والنار ويؤذى بدخانه حتى أنضج لك الطعام (فليجلسه معه وليطعمه مما يطعم، فإن لم يفعل فليروغ له لقيمات وليعطها له)، أين يكون هذا؟! من الذي يتكلم بالحقوق بكل نزاهة ونقاء وصفاء ووضوح وجلاء غير هذا النبي الكريم الذي علمه ربه وأدبه صلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين؟ فالمقصود أن الرقيق إذا قام بالعمل أعطي شيئاً من الراحة، فيجلسه يأكل معه، وإذا كان الأمر فيه صعوبة أو أن الطعام لا يسع اثنين، فليروغ له لقيمات، يعني: يأخذ الخبز ويضعه في الإدام ثم يعطيها لذلك الرقيق شكراً للمعروف وذكراً للإحسان، وهل قامت أمور المسلمين إلا على حفظ حق أهل الحقوق؟ حتى الرقيق حفظ حقه مع أنه مملوك ويخدم فيشعره أن له فضلاً، وأن له حسنة ومعروفاً؛ لأن هذا تشريع العليم الحكيم سبحانه وتعالى؛ الذي يعدل بين خلقه ويفصل بين عباده، فلا أتم منه حكماً جل جلاله وتقدست أسماؤه، فإذا قام على الطعام أطعمه من الطعام وواساه وأحسن إليه، وإذا كان معه في السفر وقام على دابته وتعب وهو يقود به دابته أركبه مكانه. وهذا أيضاً يشعر السيد بما قام به العبد؛ ولذلك لا تستقيم أمور الإسلام، ولا يستقيم أمر مسلم إلا إذا عرف لكل ذي فضلٍ فضله، ولا تجد أحداً ينال السؤدد والعظمة والكمال والشرف إلا إذا كان يحفظ حق الصغير قبل الكبير، وتجده يتلمس مواضع إحسان الغير إليه، فإذا جلس مع الناس ولو كان هو المحسن، ولو كان هو الذي يكرمهم ويعطيهم فأول ما يفكر أن يفكر في الذي قدمه له الناس قبل أن يفكر ما الذي قدمه للناس، وهذا شأن أهل الكمالات والعلو، الرجل يدخل إلى بيته فإذا جاءت زوجته ووضعت الطعام بين يديه شكر لها صنعها، وولده يأتي ويقدم له حذاءه فيدعو له دعوةً صالحة، ويقول له: بارك الله فيك. وإذا كان مُعلِّماً وأحسن إليه تلميذهُ أو قام على شأنه، أو إمام مسجد أو رجلاً مسناً وجد من يخدمه؛ رمى له بالكلمة الطيبة وجعله بخير، وشعر بفضل أهل الفضل. والعكس أيضاً: فإنه إذا قابل المعروف بالإحسان قابله محسن بإحسان أعظم مما أحسن إليه، فألفت الناس على الخير والإحسان. وأما إذا كان الشخص لا يعرف فضل أهل الفضل -والعياذ بالله- لا في الدين ولا في الدنيا، يتعلم من أئمة وعلماء السلف، ثم لا يلبث أن يؤلف الكتب في نقدهم وتتبع عثراتهم وكشف عوارهم، أو يتعلم عند المعلم فيجلس ليجمع سقطاته، أو ينتفع بمحاضرة الداعية في صلاحه واستقامته ثم لا يلبث أن يكشف عوار محاضرته، وهكذا حتى يظلم قلبه ويطمس عليه؛ لأن الله لا يرضى بكفران النعم، والكفر أساس الشر، وكُفر النعم يكون برد المعروف بالإساءة؛ {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]. فالإسلام لا تقوم أموره إلا على حفظ المعروف، فانظر إلى الرقيق عندما يحفظ سيده له هذا المعروف؛ ولذلك قال الإمام الشافعي: (إن الحر من حفظ وداد لحظة وتعليم لفظة)، فلا يمكن أن تستقيم أمور الإسلام والمسلمين إلا بهذا؛ أن تكون عالي النفس عالي الهمة، تشعر أن للناس عليك فضلاً قبل أن تشعر بفضلك على الناس، فإذا نظر الإنسان بهذه النظرة بارك الله أمره ووضع بين الناس محبته والقبول. ولذلك تجد الإنسان الذي يعيش بين الضعفاء يتلمس إحسانهم إليه ويقابله بالإحسان؛ تجده في أحسن المراتب وأفضلها وأكرمها وأعزها؛ فالناس تلهج بذكره الجميل، وتعطر له الثناء الطيب، وإذا مات صار حياً بين الناس بذكره الطيب وبحسناته ومآثره، كما كان ذلك لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان لهم فيه قصب السبق، فكان أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه إذا مشى معه عبيده لا تستطيع أن تفرق بين ثوبه وثيابهم، حتى إنه قد لا يعرف من بينهم مما كان منه رضي الله عنه، حفظاً لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي وصى بها في الرقيق. والعكس: فإذا وجدت الشخص لا يحفظ هذا المعروف، فتجد الزوج لا يتلمس حسنات زوجه التي كفته ولده، ويقابل ذلك بالنقد والتنقد للأمور والكشف للعوار والعيب وجدت القلوب تظلم عنه، والمرأة تنفر منه، ومن هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله)، وهذا مفهومه أن شر الناس شرهم على أهله، وكذلك أيضاً العامل إذا كان عند من يكفله يتفقد حسناته ويقول له: جزاك الله خيراً، ويرد له بالكلمة الحسنة، وإذا جاء يعطيه أجرته قال له: جزاك الله خيراً، قمت بخير كثير، فشكر له معروفه وإحسانه، فيخرج من عنده وهو يذكره بكل خير، وكم تجد الآن من الناس ممن يجلس معك يقول: كنت أعمل مع فلان جزاه الله كل خير، وعملت مع فلان فصنع لي وفعل، وهكذا إذا فعل الإنسان الإحسان حفظ الله له إحسانه. فالمطلوب من السيد أو الولي أن يحسن إلى مولاه، وأن يتفقد حاجته؛ وكما أنه يحسن إليه يحسن إليه فيتفقد حوائجه ويركبه في السفر عقبة. وقد اختلف في مقدار العقبة: أثر رواية عن الإمام أحمد أنه يركبه في اليوم ستة أميال في مسير الإبل، وهذا قد يقارب سبع إلى ثمن المسافة في السفر في الوقت المعتدل ليس بشديد الحر ولا شديد البرد؛ لأن الإبل تسير ما بين (70 - 80) كيلو في اليوم الكامل من أول النهار إلى آخره، والعقبة إذا كانت ستة أميال فإنها تقارب الثمن؛ لأن مسيرة اليوم ثمانية وأربعين ميلاً هاشمياً وهي تقارب الستة الأميال فيما أثر عن الإمام أحمد رحمه الله وبعض العلماء يقول: لا يقدر، وهذا في الحقيقة فيه مناسبة. والفرق بين القولين: أنك إذا قلت: ستة أميال قد تكون الستة الأميال في آخر السفر، لكن هناك قول ثان يقول: لا يقدر. بمعنى أنه يركب ثم إذا قطع مسافة نزل وأركب المولى بقدر ما يستريح، وهذا القول ربما يكون أعدل. وكان بعض مشايخنا رحمه الله يقول هذه المسألة: الأوْلى فيها أن يترك السيد لحاله مع رقيقه ينظر إلى حاجته، والأوضاع والأسفار تختلف، والمواضع تختلف، فلا يقدر بقدر؛ لأنه ليس هناك نص بالتحديد، فيبقى الأمر على ما فيه رفق وعلى ما فيه معروف وإحسان. وهذا هو الأشبه في هذه المسألة. قوله: (في السفر) مفهومه أنه في الحضر لا يلزمه ذلك؛ لأن المسافات فيه لا تصل إلى قدر الإحراج، ولكن في السفر المشقة عظيمة.

حق العبد في الزواج

حق العبد في الزواج قال رحمه الله: [وإن طلب نكاحاً؛ زوجه أو باعه]. إن سأل الرقيق سيده أن يزوجه، وقال: أريد أن أتزوج، فهذا حق من حقوقه؛ لأنه إذا لم يزوجه وقع في الحرام، والشريعة قفلت الأبواب المفضية إلى الفساد، والزنا من أعظم الفساد، ولذلك قفلت جميع الأبواب الموصلة إليه؛ فنهت عن النظر إلى المحرمات، ونهت عن لمس الأجنبية والخلوة بها، وسفر المرأة بدون محرم، وضرب المرأة بقدمها ليعلم ما تخفيه من زينتها كل هذا قفل للأبواب المفضية للفساد وهو الزنا، فإذا كان الرقيق محتاجاً إلى الزواج وشكى إلى سيده أنه يريد أن يتزوج زوجه سيده. واختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: الشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الظاهر على أنه يجب على السيد أن يزوجه؛ لقوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، فأمر الله بتزويجهم، وقال المالكية والحنفية: لا يجب عليه الزواج إنما هذا من باب المعروف والإحسان. وظاهر الآية يدل على الوجوب: (وَأَنكِحُوا)، ولذلك مذهب الحنابلة والشافعية أشبه من حيث النص؛ لأنه أخذ بظاهره، فنقول له: إما أن تزوجه وإما أن تبيعه؛ لأنه لو بقي عنده بدون زواج وهو لا يأمن الفتنة، أفسد نفسه وغيره، نقول له: إما أن تزوجه وإما أن تبيعه، ويؤمر ببيعه.

حق الأمة في الوطء أو الزواج

حق الأمة في الوطء أو الزواج قال رحمه الله: [وإن طلبته؛ وطئها أو زوجها أو باعها]. وإن طلبت الأمة الزواج وطئها، فإذا وطئها عفها عن الحرام، أو باعها. وطئها لأنها ملك يمين، وحق من حقوقها أن تعف عن الحرام، فإما أن يعفها هو أو ييسر لها سبيل الإعفاف بأن يزوجها من آخر، والدليل على ذلك الآية المتقدمة من سورة النور: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، فهذا يدل على أنه يجب عليه أن يزوجها. فالأمة تختلف عن الرجل؛ لأنها توطأ، ومن هنا جاء فيها الخيار الثالث، وأما العبد الرجل ففيه خياران: إما أن يزوجه وإما أن يبعه.

الأسئلة

الأسئلة

جواز أخذ العبد ما زاد عن الخراج بإذن السيد

جواز أخذ العبد ما زاد عن الخراج بإذن السيد Q أشكل عليّ جواز الاتفاق على المخارجة مع أن مال المملوك كله للسيده أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فلا إشكال في هذا؛ لأن السيد له الحق أن يملك مولاه؛ ولذلك يأذن له بالتجارة ويمكن من المال، وإذا مكنه من المال فلا حرج في ذلك ولا بأس، فإذا قال له: أعطني ثلاثة دراهم يومياً والباقي لك فله ذلك، أي: إذا أذن له بالملكية ثبتت له يد الملكية على ما المال، والله تعالى أعلم.

حكم خصم صاحب العمل على العامل من أجرته لسبب يراه

حكم خصم صاحب العمل على العامل من أجرته لسبب يراه Q يعمل عندي عامل ولم يقم بالعمل على الوجه المطلوب، فخصمت عليه من الأجرة ثم أعطيته المتبقي، فلم يقبل فما العمل، أثابكم الله؟ A هذه قضية فيها طرفان وخصمان فلا يحكم لشخص على آخر، ولا يحكم بين خصمين بقول أحدهم؛ لكن ننبه على الأصل، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له في فقه الفتوى، قد يأتيك من يسألك فتحكم له على الطرف الثاني وأنت لم تسمع منه؛ ولذلك عتب الله على داود من فوق سبع سماوات حينما قال: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص:22 - 23]، لما قال الخصم دعواه، قال داود: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص:24]، كان المفروض أن ينتظر حتى يتكلم الخصم الثاني، وهذا تعليم من الله عز وجل لنبيه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. ومن هنا أخذ العلماء الأصل الشرعي؛ أنه لا يجوز في القضاء أن يحكم على خصم دون أن يسمع من خصمه، لابد أن يسمع من الطرفين، ومن هنا كانت الحكمة المأثورة عن علي رضي الله عنه وتحكى عن غيره: (إذا جاءك الخصم وقد فقئت عينه فلا تحكم له، فلعل خصمه فقئت عيناه)، يعني: إذا جاءك يشتكي من مظلمة فقد يكون صاحبه عنده عشرات المظالم يقول: ضربني فلان، وتجد أنه قد ضربه أضعاف الذي ضربه، أو تجده فعل فعلاً يستحق به الضرب؛ فإذاً لا يحكم بين طرفين ما لم يسمع منهما. هذا عامل وهو خصمك أمام الله جل وعلا، هو أجير استأجرته؛ والأصل أنك لست من يقدر عمله، الخطأ الذي أخطأته أنك قدرت عمله وخصمت عليه، وهذا ليس من حق أحد كائناً من كان أنه يخصم من العامل شيئاً بل ينبغي أن يقدر عمله الذي قام به، ويعاقب على خطئه، فالعمل الذي قام به لست أنت الذي تقدره، وليس من حقك أن تقدره، وإنما تنظر إلى اثنين من أهل الخبرة يأتون وينظرون إلى عمله الذي قام به ويقدرونه، فإن قدروه بالأجرة التي دفعتها، فما ظلمته، وإن قالوا: إن أجرته ستة آلاف ريال وأنت أعطيته أقل منها فقد ظلمته، ومن حقه أن يمتنع؛ لأنك لم تعطه حقه، فنحن لا نستطيع أن نقول: هو المخطئ أو أنت، إنما نقول: الأصل الشرعي يقتضي أنك لا تقدر العمل، وإذا امتنع لا تترك الأمر هملاً، وهذا أمر ننبه عليه، أنت الآن تتحمل مسئولية أمام الله عز وجل عن هذه المظلمة وعن منع الأجير أجرته. الواجب على الشخص إذا حدثت بينه وبين العامل خصومة ألا يتركه حتى يفصلها بالوجه الشرعي، ويقول له: ما أدعك، إما أنك محق فأعطيك حقك، وإما أن أكون محقاً فاعرف ما الذي أريده، أما أن تترك الأمر هكذا، وتترك الرجل يذهب، فليس من حقك هذا، وقد قصرت في الجانبين: الجانب الأول: أنك قدرت عمله وليس من حقك أن تقدره، هذا مرده إلى أهل الخبرة. وثانياً: أنك تركته يذهب، المفروض أن تذهب به إلى أهل الخبرة، أو كانت المسألة مشكلة عندك تذهب إلى من تثق بعلمه أو إلى القاضي تقاضيه، أو تنظر من عنده معرفة يفصل بينك وبينه؛ أما أن تعطيه باجتهادك ورأيك، ثم إذا امتنعت يذهب هكذا، فلا فإنه هو خصمك في هذه الأجرة. والذي أوصيك به: أن ترى أناساً من أهل الخبرة يقدرون عمله، ثم إذا كان المبلغ الذي أعطيته دون الذي يستحقه تبحث عنه وتعطيه حقه كاملاً، هذا الذي أوصيك به، فإن عجزت عن معرفته والوصول إليه وتعذر عليك ذلك، تصدقت بهذا الثمن على نيته؛ حتى إذا وافيت الله عز وجل وسألك عن حقه؛ أخذ من حسناتك مما تصدقت به فكفيت مظلمته، والله تعالى أعلم.

الفرق بين مصطلح الجمهور والجماهير

الفرق بين مصطلح الجمهور والجماهير Q ما الفرق بين قولنا: جمهور العلماء، وجماهير العلماء، أثابكم الله؟ A هذا مصطلح، فإذا قيل: الجمهور. فهم الثلاثة في مقابل الواحد من الأربعة، مثلاً الحنفية والمالكية والشافعية، يقولون: يجوز، والحنابلة قالوا: لا يجوز، تقول: قال الجمهور: يجوز، وتقصد الثلاثة في مقابل الواحد. وممكن أن تقول الجمهور. إذا كان خلاف بين الحنفية والمالكية من وجه والشافعية والحنابلة من وجه، إلا أن أصحاب الشافعي مع الحنفية والمالكية، فحينئذٍ تقول: الجمهور، إذا انسحبوا واختاروا قول غير إمامهم. وممكن أن تقول: الجمهور النسبي، وصورته: أن يختلف العلماء الثلاثة على الجواز، ويخالف غيرهم بالتحريم، ثم الذين قالوا بالجواز يختلفون في الجواز مع الكراهة والجواز مطلقاً، فهؤلاء فيما بينهم يختلفون في مسألة أو في قيد، فتقول: جمهور الجمهور، ويكونون -مثلاً- ثلاثة فيكون اثنان في مقابل الواحد، هذا يقال له: جمهور القائلين بالمسألة. وأما بالنسبة للجماهير فهذا مصطلح يقارب الإجماع، إذا قيل: جماهير العلماء. فيقصد به عامة العلماء وهو يكاد يقارب الإجماع، وغالباً لا يقال: جماهير إلا إذا ضُعّف المخالف، أعني: إذا كان المخالف له أفراد فيقال: جماهير العلماء على الجواز. وتجد هذا عند أصحاب المذاهب، فمثلاً: عند الحنفية عالم، ومن علماء المالكية عالم، والشافعية كذلك، فهم أفراد يقولون بضد هذا القول، حينها تقول: الجماهير؛ لأن الخلاف ليس بين الأربعة أنفسهم؛ فالأربعة مع بعضهم على الجواز أو عدمه؛ فتقول: الجماهير. والجماهير غالباً مصطلح لا أستعمله إلا فيما يقارب الإجماع، إذا قلت: الجماهير فهذا مصطلح ألتزم به في الغالب فيما يقارب الإجماع، أو يكون الخلاف في المقابل ضعيفاً في أغلب الأحوال، والله تعالى أعلم.

حكم قراءة المسبوق التشهد

حكم قراءة المسبوق التشهد Q المسبوق بركعة هل يقرأ التشهد الأول والأخير أم يبقى صامتاً، أثابكم الله؟ A المسبوق فيه وجهان للعلماء رحمهم الله: القول الأول: بعض العلماء يرى أنك إذا صليت وقد سبق الإمام فعلت كل شيء مع الإمام كأنك تابعته من أول الصلاة، وبناءً على هذا القول: يقرأ التشهد الأول والتشهد الثاني كاملاً ويدعو؛ لأنه بحال المتابعة فيتابع الإمام. القول الثاني: بعض العلماء يرى أن المتابعة في الظاهر دون الباطن، ومن هنا قالوا بالاختلاف والافتراق، فيقرأ التشهد الأول مرتين، ففي التشهد الأخير لا يتم ويحتسبه كالتشهد الأول، وحينئذٍ يبقى صامتاً بعد فراغه كما لو قرأ التشهد الأول وراء الإمام وطوّل الإمام فإنه يبقى صامتاً. إذا كان التشهد عند قوله: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبينا أن هذا هو الراجح، وأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تجب في التشهد الثاني دون الأول؛ لأن التشهد أصل من الشهادتين، فإذا بلغ قوله: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ فقد وصل وأتم التشهد. أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهي دعاء واستفتاحٌ للدعاء، ولذلك كان التشهد الثاني دون الأول. وأكد هذا الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا جلس في التشهد الأول كأنه على الرضف)، وهي الحجارة المحماة، أي: أنه كان يبادر بالقيام، وهذا يدل على أنه ما كان يطيل في التشهد الأول، ثم إن إيجاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول والإطالة فيه ليس لها دليل قوي يدل عليها. على كل حال: يقرأ التشهد الأول في التشهدين، ويكون جلوسه لعذر المتابعة في الظاهر ولا يتابع في الباطن. بناء على هذا الخلاف: هل المسبوق يتابع الإمام أو يخالفه؟ وهنا ترد مسألة الصلاة على الجنازة؛ فمن دخل والإمام في تكبيرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مسبوقاً، أو دخل والإمام في تكبيرة الدعاء، فعلى القول بالمتابعة يدخل بالدعاء، وعلى القول بأنه ينظر حال نفسه: يدخل بقراءة الفاتحة، ثم بعد ذلك يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو؛ لأنه لخاصة نفسه، ثم إذا سلم الإمام والى بين التكبيرات على التفصيل الذي تقدم معنا في الجنائز. على كل حال: المسألة فيها القولان المشهوران، وإذا قرأ التشهد كاملاً فله وجه، وإن كان الأشبه في الحقيقة أن المتابعة للظاهر دون الباطن، والله تعالى أعلم.

حكم خروج الطائف بالبيت إلى المسعى بسبب الزحام

حكم خروج الطائف بالبيت إلى المسعى بسبب الزحام Q بعض الناس عند طوافهم بالكعبة على سطح المسجد الحرام يخرجون إلى المسعى لإكمال الشوط اجتناباً للزحام الذي يوجد بمحاذاة الحجر الأسود، فهل في هذا العمل شيء، أثابكم الله؟ A اختلف العلماء رحمهم الله في المسعى، هل يعتبر داخل المسجد أو خارجه، والصحيح: أن المسعى خارج المسجد وليس بداخله، وعليه قرار المجمع الفقهي، وهو الأشبه في زماننا أنه خارج المسجد وليس بداخله. فائدة الخلاف: أن المرأة لو جاءت في العمرة وطافت وصلت ركعتي الطواف، ثم خرجت إلى المسعى وحاضت، شرع لها أن تتم عمرتها؛ لأنه لا تشترط الطهارة لصحة السعي، وليست بداخل المسجد، فتتم سعيها. كذلك أيضاً يتفرع على هذا: أنه لو طاف فوق المسعى -إذا قلنا: إنه ليس من المسجد- فإنه قد خرج عن المسجد، ويشترط لصحة الطواف أن يكون داخل المسجد، ومن خرج من باب من أبواب المسجد أثناء الطواف ودخل من باب آخر فقد بطل شوطه، وذلك لأن الله تعالى يقول: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج:26]، فدل على أن الطواف لا يصح إلا داخل مسجد البيت، وبناءً على ذلك: لو خرج إلى جهة المسعى فهذا يؤثر، ولا يصح ذلك الشوط إلا إذا رجع من المكان الذي خرج منه، وأتم طوافه، فحينئذٍ يجزيه، والله تعالى أعلم.

إجزاء السعي والطواف عن المطوف به والمطوف

إجزاء السعي والطواف عن المطوف به والمطوف Q من يدفع الكرسي المتحرك في الطواف والسعي هل يجزئ الطواف عمن يجلس على الكرسي، أو عمن يدفع الكرسي، أو عن الاثنين سوياً، أثابكم الله؟ A يجزئ عن الاثنين؛ لأن الطواف من القاعد على الكرسي وقع تاماً كاملاً، وقد طائف المطوف على قدميه؛ لأن العربة هي التي استغرقت مكان الطواف فكانت كرجلي البعير ويديه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طواف الإفاضة على بعيره لما ركبه الناس كما في الصحيح، وهذه المسألة غير مسألة حمل الصبي؛ لأنه إذا حمل الصبي أو حمل غيره، فكلاهما على قدميه، ولا يجزئ طواف القدمين إلا عن شخص واحد لا عن شخصين، ومن هنا إذا كان على عربته أو دابة فإنه يجزيه حتى ولو لم يقده أحد، وكما لو كانت تتحرك بالكهرباء ونحو ذلك، فإنها تجزيه ويصح طوافه، والله تعالى أعلم.

نفقة الخدم والسائقين وحقوقهم

نفقة الخدم والسائقين وحقوقهم Q هل الخدم والسائقون والخادمات لهم من النفقة والحقوق مثل ما للأرقاء، وبماذا يوصى في التعامل معهم، أثابكم الله؟ A ليس للخدم حقوق الأرقاء؛ لأنهم ليسوا بملك اليمين، فهم أحرار ولا يثبت لهم ما يثبت لملك اليمين، ملك اليمين له حقه، والخادم حقه يندرج تحت أصل يسمى بحق الأجير، هذه إجارة وهذه ملك يمين، هذا باب له أحكامه، وهذا باب له أحكامه. الخدم يوصى بتقوى الله عز وجل فيه، وأول ما يفكر فيه المسئول عنهم أن يكفهم عما حرم الله، وأن يحملهم على طاعة الله عز وجل، وأن لا يفكر في مصلحته ومصلحة أهله وولده قبل أن يفكر في هذا الأمر، وليعلم أنه ابتلاء من الله سبحانه وتعالى، وأنها عورة من عورات المسلمين وضعت أمانة في رقبته، فإذا اتقى الله عز وجل فيها فقد نجح وأفلح وصلح له أمره، وبارك الله له فيما يكون منها. وإن ضيق فالله محاسبه وسائله، خاصة إذا كانت خادمة، فأمرها عظيم، فيرى أنها كواحدة من بناته أو أخواته، وأنها عرض من أعراض المسلمين، وأن كونها أجيرة لا يسقط حقها خاصة إذا كانت مسلمة؛ فعليه أن يتقي الله عز وجل فيها، وأن يحفظها ويصونها، ولا يفتح لها أبواب الشر، وإذا فتحت عليها أبواب الشر قفلها عنها كما يقفلها عن عرضه؛ لأن المسلم مؤتمن على عرض أخيه المسلم، فما بالك إذا كانت أجيرة عنده؛ فإن نصوص الكتاب والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم توصي بالجار، فما بالك بالأجير الذي هو تحت كفالة الإنسان! فالواجب أولاً: حق الله عز وجل، بأن تتفقد الخدم في الصلوات الخمس، وأمرهم بها ومتابعتهم في ذلك ومراقبتهم؛ لأنهم إذا صلوا استقامت لهم أمور دينهم ودنياهم وآخرتهم، وإذا لم يكونوا مصلين محقت البركة، فما من إنسان لا يصلي إلا كان شؤماً على من كان معه، نسأل الله السلامة والعافية. فيتفقدهم في الصلاة، وفي أخلاقياتهم ومحافظتهم على أمور دينهم، فيأمرهم بما أمر الله، وينهاهم عما نهى الله عز وجل عنه، بعد هذا يفكر في مصالحه الدنيوية، ويحدد ماذا لهم وماذا عليهم، فإذا وجد أنهم يحملون ما لا يطيقون، فإنه يوصي زوجته وبناته وأهله أن يتقوا الله عز وجل في الخادمة ويحفظوا ألسنتهم عن أذيتها وسبها وشتمها، ويذكرهم بأنها غائبة عن أهلها، وأنها غريبة عندهم كالضيف، فيحرص الناس على الإحسان إليها، فإنك إن رحمتها رحمك الله كما رحمتها، فالراحمون يرحمهم الله ارحموا عزيز قوم قد ذل، فقد تكون عزيزة في أهلها فاضطرتها الأمور والظروف أن تتغرب، فيحرص كل الحرص على أن يهيئ لها بين أهله وولده من يحفظ حقها، وأهم شيء الرحمة؛ فإن الرحمة إذا سكنت في القلوب أصلح الله بها القوالب، ومن كان قاسي القلب فهو بعيد عن الله عز وجل، لا يَرحم ولا يُرحم، ولما قال الأقرع للنبي صلى الله عليه وسلم: إن لي عشرة من الأولاد ما قبلت أحداً منهم قال: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك)، فالإنسان ينبغي أن يحرص على سكون الرحمة في قلبه. وعليه أيضاً أن يتقي الله عز وجل في الحقوق في الأجرة، يعطيها أجرتها عند نهاية العمل، ولا يؤخر الراتب، ومن أعظم الظلم تأخير الرواتب عن العمال والمستخدمين؛ لأنهم في أمس الحاجة إلى هذه الرواتب، وقد يحتاجها لعلاج مريض، أو لسداد ديون، وقد يأتي بعضهم تحت وطأة الديون، وهو أحوج ما يكون إلى أن يفك أسره منها، وقد يكون بيته ومتاعه مرهوناً في بلده؛ هذا كله ينبغي أن يحس بها الإنسان ويستشعرها ويتقي الله عز وجل. وهذا حقه وهذه أجرته، وإذا جاءه يعطيه الأجرة فلا يعنته ولا يؤذيه، لا تعطيه الأجرة بطريقة يذل بها، ولا تحيله على مكان يذهب يأخذ منه راتبه أو أجرته، لأنه ليس من حقك هذا، فيذهب في الشمس والحر ليقف مع الناس، وهذا ليس من حق أحد في أجور الناس وحقوقهم؛ لأن الأجير يعطى أجره، فكما أنه وفى لك في عملك وأعطاك عملك فعليك أن تعطيه أجرة عمله، وتتقي الله عز وجل، وهذه من حقوق العامل مطلقاً. كذلك أيضاً من حقه عدم تعريضه للخطر والضرر كما تقدم معنا في ملك اليمين، فالأعمال التي فيها خطورة عليه في نفسه وبدنه يحفظهم منها سواء كان خادماً أو خادمة. كذلك أيضاً يحفظ السائقين من مواضع الفتن والريب، ويحجبهم عنها إذا نزلوا في أماكن تكثر فيها الفتن، ويختار أوقاتاً ليس فيها فتن، يتقي الله عز وجل فيهم ويرحم غربتهم، ويحرص كل الحرص على الإحسان إليهم. كذلك مما يوصى به في حقهم: القبول للمحسنين والتجاوز عن المسيء، فإذا أخطأ في كلمة فقد تكون هذه كلمة خرجت من لسانه دون أن يشعر، فالعامل حينما يكون سائقاً قد يسوق ويرهق إلى ساعات متأخرة من الليل، وهذه زائدة على الاتفاق بينه وبين الأجير، ومقاطع الحقوق عند الشروط، فانظر العقد الذي بينك وبينه ووفه له كاملاً، وإلا كان خصماً لك أمام الله عز وجل، فخير لك أن تلقى الله خفيف الحمل خفيف الظهر. وكم من إنسان يمسي ويصبح وهو في كرب وهمّ وبلاء وغم في نفسه، لأنه قد ظلم غيره وهو لا يدري، فإن المظلوم إذا رفع كفه على من ظلمه فإنه يؤذنه بدمار والعياذ بالله، والله تعالى يقول: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين)، وأجمع العلماء على أن دعوة المظلوم تستجاب على من ظلمه ولو كان المظلوم كافراً؛ لأن الله يقول: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين)، فليتق الله الإنسان وليعلم أن هناك عقداً واتفاقاً؛ إذا كان الاتفاق أن يعمل إلى المغرب فإنه ينتهي عمله عند أذان المغرب، فما زاد فإنه يخير هل يريد أن يعمل أو لا، وإذا كان يعمل فتسأله: كم يريد؟ ثم تعطيه أجرته. كذلك إذا كان يراد لأعمال معينة ينجزها، فإذا أنجز هذه الأعمال، فمن حقه أن يستوفي حقه، وجماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، وكما أن رب المال ورب العمل له حق، فكذلك عليه حق للأجير. وكذلك على الأجير أن يتقي الله في حقوق أصحاب الأعمال، وأن يتقي الله عز وجل في أداء العمل بالنصيحة والشعور بأن ماله كماله، وحينما يكون خادماً في البيت؛ فليعلم أن أسرار البيت أمانة ومسئولية أمام الله عز وجل، والإنسان يعلم خادمه هذا، ويقول: هذه الأسرار أمانة في عنقك، ويعلمه أن فضيحة سر المسلم تؤذي العبد بفضيحة الله عز وجل، فقد تأتي الخادمة وتجلس مع خادمة ثانية تحكي لها جميع ما تراه في البيت، وهذه أمانة ومسئولية أمام الله عز وجل، فلا يجوز للمسلم أن يهتك ستر أخيه المسلم، ولو قال: عندنا بعض الناس يفعل كذا، فيفهم من كلامه أنه يقصد هؤلاء حتى ولو لم يذكرهم، ما دام أنه معلوم أنه لا يعمل إلا عند هؤلاء؛ فطبيعة الحال تظهر أنه يقصد من يعمل عندهم. ومثل هذا أسرار التجارة، فهناك أسرار للعمل في التجارة لا يفشيها، وهناك أسرار لزوجته وولده من خصومات ونزاعات، فلا يقول: والله فلان يكره ولده، فلان يضرب ولده، فلان يفعل مع أولاده وهم يفعلون، هذه أسرار ينبغي حفظها. ومن حقوق أصحاب الأعمال على العمال أن يتقوا الله عز وجل ويحفظوا ألسنتهم، وأن لا يفشوا هذه الأسرار؛ لأن المسلم مأمور بالستر على أخيه المسلم؛ لأنه مع أخيه المسلم كالجسد الواحد؛ يحب له ما يحبه لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة؛ ولذلك ينبغي على العمال أن يتقوا الله عز وجل في حقوق أصحاب الأعمال، وأن يؤدوها كاملة. كذلك من الخيانة أن يتقن العمل حال وجود صاحب العمل، فإذا غاب عنه تساهل في أداء العمل ولم يبال بعمله؛ فإن الله رقيب وحسيب وشهيد، ومراقبة الله لك أعظم من مراقبة المخلوق لك، وإذا نصحت في غيبته سخر الله لك من ينصح لك في غيبتك كما نصحت للناس، والله جل وعلا يجزي المحسن بإحسانه، وجماع الخير كله في تقوى الله عز وجل. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا، وأن يتوب علينا، وأن يتجاوز عنا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب نفقة الأقارب والمماليك [5]

شرح زاد المستقنع - باب نفقة الأقارب والمماليك [5] إن رحمة الإسلام قد شملت حتى البهائم، ونفقة الحيوانات ليست من المسائل الاختيارية، أو التي يكون فيها فضل للمنفق، بل هي من اللوازم، فيلزم صاحب البهائم القيام بكل ما يتبع ملكيته لها من نفقة وأكل وشرب ورعاية لها بما يصلحها وإلا باعها ولا يحملها ما لا تطيقه أو تعجز عنه.

أحكام نفقة البهائم ورعايتها

أحكام نفقة البهائم ورعايتها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وعليه علف بهائمه، وسقيها، وما يصلحها]: شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان الأحكام المتعلقة بالنفقة على الدواب، وقد تقدم معنا في أول الباب أن النفقة لها ثلاثة أسباب: السبب الأول: النكاح. والثاني: النسب والقرابة. والثالث: المِلك. وبيّنا النفقة على الزوجة فيما يتعلق بسببية النكاح، ثم النفقة على الأقارب فيما يتعلق بسببية النسب، ثم بيّنا أن سبب الملك يشمل جانبين: الجانب الأول: يتعلق بملك اليمين بالنسبة للآدميين. والجانب الثاني: يتعلق بملك الحيوانات والبهائم. فالإنسان إذا ملك ذوات الأرواح: إما أن يكون المملوك من الأرقاء والآدميين، وإما أن يكون من الحيوانات والبهائم. وفي الفصل السابق تحدث المصنف رحمه الله عن أحكام النفقات بالنسبة للآدميين، وهذا الفصل سيتحدث المصنف رحمه الله فيه عن النفقة على البهائم. فقدّم النفقة على الآدميين؛ لشرف الآدمي، ولأن الله كرمه وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً، فابتدأ بالنفقة على الإنسان قبل بيان نفقة الحيوان. والنفقة على الحيوان حق من حقوق الحيوان، وقد بيّنا أن الشريعة الإسلامية هي وحدها التي كفلت حقوق المخلوقين، وأعطت كل ذي حق حقه بعدل من الله سبحانه وتعالى الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، وهذا يدل على كمال هذه الشريعة الإسلامية، ويدل دلالة واضحة على أن المسلمين ليسوا بحاجة إلى أن ينعق أعداؤهم بالحقوق فيعلموهم شيئاً يجهلونه، بل إن الحقوق مقررة عندهم منذ فجر الإسلام. فهذا رسول الأمة صلى الله عليه وسلم وهو في سياق الموت يأمر بالحقوق، ويذكر بها، فكان آخر ما أوصى به: (الصلاة وما ملكت أيمانكم)، أي: اتقوا الله في الصلاة فهي حق الله، واتقوا الله فيما ملكت أيمانكم، وهذا حق المخلوق، فنبه بقوله: (الصلاة) على كل حق من حقوق الله، ونبه بقوله: (وما ملكت أيمانكم) على كل حق من حقوق المخلوق، سواء كان من الآدميين، أو من غير الآدميين.

علف البهائم

علف البهائم وقوله رحمه الله: (فصل) يدل على أنه قسيم لما قبله، وهذا مبني على أنه متعلق بالنفقات. قال رحمه الله: [وعليه علف بهائمه]. أي: على المسلم أن يقوم بعلف البهائم، والبهائم: جمع بهيمة، قيل: لأن كلامها مبهم غير واضح، فهي من العجماوات مما لا يعرف كلامه. والمراد بـ (عليه): يجب على المسلم أن ينفق على كل بهيمة يملكها بإطعامها، وهذا ما عبر عنه بقوله: (علف). والبهيمة لها حالتان: الحالة الأولى: أن تكون راعية وسائمة، فيمكنه أن يطعمها عن طريق الرعي والسوم، كما يحدث هذا في البادية. الحالة الثانية: أن تكون محتاجة إلى العلف، بأن يشتري لها العلف، أو يحش لها الحشيش ويأتي به إليها. وقد يكون هناك قسم ثالث يجمع بين الأمرين، لكن إذا كانت البهيمة يمكن أن ترعى ويوجد الرعي فيخرجها إلى المرعى، فيجب على المسلم أن يمكّن البهيمة من حقها في العلف، إما أن يطعمها إذا كانت محبوسة، وإما أن يرسلها لكي ترعى إذا وجد الحشيش والمرعى الذي يمكن عن طريقه أن تتحصل على طعامها وعلفها. والأصل في وجوب النفقة على البهيمة: حديث أبي هريرة في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها؛ لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)، فدل هذا الحديث على أن من حبس البهيمة فإنه يجب عليه أن يطعمها، أو نقول له: أرسلها حتى تصيب الطعام، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله لظاهر هذا الحديث. فقد أجمع الأئمة على أن من ملك البهيمة يجب عليه أن يقوم على علفها، سواء قام بذلك مباشرة، أو أقام من يقوم بعلفها كالعامل والأجير، فإذا وكل أحداً بالقيام على علفها، فعليه أن يتقي الله، وأن يعلم أن هذا الحق لا تبرأ ذمته فيه إلا إذا أقام عليه الأمين الذي يوثق به، لأنه ربما أقام شخصاً لا يوثق بأمانته، وحينئذ يضيع البهيمة، ويقصر في حقوقها في الإطعام، فإن العامل إذا لم يكن أميناً، ولم يتق الله عز وجل في البهيمة؛ ربما لم يجد الطعام والعلف، أو وجد مشقة إذا حش الحشيش أو جزه لها، فربما عدل إلى طعام لا يقوم به حالها، وقد يطعمها بعض الطعام لا كله، وقد يبخل عنها بالكلية فيعذبها، فحينئذ يكون من أقامه شريكاً له في الإثم والعياذ بالله. فالواجب على المسلم أن يقوم على علف بهائمه، وإذا أعلفها ينبغي عليه أن يتقي الله في هذا العلف، فإذا أراد أن يطعمها ينبغي أن يكون هذا العلف مما يتحقق به سد حاجة البهيمة، ويكون مما ترغب فيه البهيمة، فإذا كان علفاً مضراً بصحتها، أو قليلاً لا يقوم بها، فإن هذا من تضييع الحيوان، ولا يجوز له ذلك. فقوله: (عليه علف بهائمه): أي عليه أن يطعم البهائم. والذي قرره العلماء: أنه إذا أرسل البهيمة لترعى، فليس بواجب عليه أن يتركها حتى ترعى غاية الرعي، إنما المراد الحد الذي تحصل به الكفاية. وهذا يختلف من بهيمة إلى أخرى.

سقي البهائم

سقي البهائم قال رحمه الله: [وسقيها]. أي: يجب عليه أن يسقي بهيمته كما أنه يجب عليه أن يطعمها، وسقي الماء تختلف فيه البهائم؛ فمن البهائم من يصبر عن الماء كالإبل، ولكن لها مورد وأمد معين، فيراعي هذا الأمد، فيختار أولاً الزمان لسقيها، ويمكنها من أن تشرب، ويكون هذا الشراب الذي تشربه أو المورد الذي ترده مورداً صالحاً؛ بحيث لا يهمل البهيمة فيضع ماءها في أوانٍ قذرة، أو يسقيها من الماء القذر، أو الماء الذي يكون فيه ضرر على صحتها، كل هذا واجب عليه أن يراعيه في طعامها وشرابها. وهذا كله مبني على الأصل؛ لأنه إذا قصر فإنه يحاسب، فإما أن يطعمها ويسقيها بالمعروف، وإما أن يرسلها. قال رحمه الله: [وما يصلحها]. لما ذكر المصنف أن عليه سقي بهائمه، دل على أنه لا يجب عليه سقي بهائم الغير، ولا يجب عليه أن يطعم بهيمة الغير، لكن هذا فيه تفصيل: فلو أنه مر على بهيمة ووجدها محتاجة للطعام أو للشراب؛ فإنه يحسن إليها؛ فيسقيها ويطعمها، وهذا من أعظم المعروف. فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال (مرت بغي من بغايا بني إسرائيل على كلب يطوف ببئر، فنزلت فملأت موقها-يعني: خفها- فسقته؛ فشكر الله له): يعني أن الكلب سأل الله أن يشكرها لأنه لا يستطيع أن يشكرها، وسأل الله جل وعلا المالك لكل شيء، ورب كل شيء، والمطلع على كل شيء، فهو بهيمة لا يستطيع أن يعبر عن شكره لذلك المعروف فسأل الله أن يشكرها، فما كان من ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض الرحيم الذي يرحم من يرحم؛ إلا إن غفر لها ذنوبها، فجعل شربة ماء سبباً في رحمته لها، فغُفرت بها ذنوب عمرها. وفي الرواية الثانية: (شكر الله لها) أي: أن الله أعظم منها هذا المعروف، وهو سقي هذه البهيمة في هذا المكان، ونزولها إلى البئر، وتكبدها مشقة سقيه رحمة منها بهذه البهيمة، فما كان من الله إلا أن رحمها، لأن الله يرحم خلقه، ويرحم من يرحم خلقه. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن). وقال عليه الصلاة والسلام: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء). وقال عليه الصلاة والسلام: (من لا يرحم لا يرحم)، ومفهومه أن من يرحم يُرحم، ففي هذا الحديث الجليل: أنه يسقي بهائم الغير ويحسن إليها كما يحسن إلى بهائمه، لكن الفرق: أن بهائمه على سبيل الوجوب واللزوم، وبهائم غيره على سبيل الندب والاستحباب.

حق البهائم في تحميلها قدر طاقتها

حق البهائم في تحميلها قدر طاقتها قال رحمه الله: [وأن لا يحملها ما تعجز عنه]. أي: وعليه أن لا يحمل بهائمه ما تعجز عنه، فلا يكلف البهيمة ما لا تطيق، والمراد بهذا: النهي عن تعذيب الحيوان، وتعذيب الحيوان يكون على قسمين: القسم الأول: تعذيبه حياً. القسم الثاني: تعذيبه عند موته. وكلاهما محرم بإجماع العلماء رحمهم الله، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان، ونهى أن يتخذ الحيوان غرضاً؛ مثل أن يتخذ العصفور أو الطائر هدفاً يرميه بالسلاح ويتدرب عليه، أو يصيده من غير حاجة، فلا يجوز أن يعذب الحيوان بحياته ولا بعد موته. ولذلك صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته). فبين عليه الصلاة والسلام أن هذا من الإحسان، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز أن يعذب الحيوان بتحميله ما لا يطيق. فلو كانت عنده بهيمة وأراد أن يحمل عليها المتاع؛ نظر إلى طاقتها في حمل المتاع، ولا يجعل عليها من المتاع فوق طاقتها، وإنما يحملها قدر طاقتها، كذلك أيضاً لو أراد أن يسقي على البهيمة، فإنه إذا أراد أن لا يتلفها في السقي وإدارة السواني؛ احتسب لها المدة التي تطيق فيها الإدارة، ولم يحملها فوق طاقتها وما تعجز عنه.

حق البهيمة في إرضاع ولدها

حق البهيمة في إرضاع ولدها قال رحمه الله: [ولا يحلب من لبنها ما يضر ولدها]. أي: ولا يجوز له أن يحلب من لبن البهيمة ما يضر بولدها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الضرر؛ فقال: (لا ضرر ولا ضرار)، وهو حديث أجمع العلماء على صحة متنه، وهناك خلاف في سنده، لكن من أهل العلم من حسنه، وهو قاعدة عند أهل العلم مجمع عليها، وهي: الضرر يزال. فلا يجوز أن يحلب لبنها إذا كان ولدها يحتاج هذا اللبن، والسبب في هذا أنه إذا حلب لبن البهيمة ربما امتنع الولد عن شرب لبن غير أمه، وهذا يحدث في بعض الحيوانات؛ وحينئذ لو شرب الإنسان هذا اللبن أضر بالحيوان، ولربما أزهق روحه ومات الولد أو ساءت صحته، فحينئذ تقدم مصلحة ولد البهيمة على مصلحة الشارب وهو المالك، ونص العلماء على اختلاف مذاهبهم: على أنه لا يجوز لمالك البيهمة أن يحلبها متى احتاج ولدها إلى ذلك اللبن.

ما يلزم به المالك العاجز عن نفقة بهائمه

ما يلزم به المالك العاجز عن نفقة بهائمه قال رحمه الله: [فإن عجز عن نفقتها أجبر على بيعها]. يقول رحمه الله: (إن عجز) المالك عن نفقة بهيمته، (أجبر على بيعها)، وهذه مسألة خلافية بين العلماء رحمهم الله: لو أن إنساناً ملك بهائم ثم افتقر ولم يستطع أن يشتري طعامها، هل يجبر على بيعها، أو لا يجبر؟ جمهور العلماء: المالكية والشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم على أن القاضي يجبره على بيعها. وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله وأصحابه: إلى أنه ليس من حق القاضي أن يجبر صاحب البهيمة على بيع البهيمة؛ والسبب في هذا: أن الإمام أبا حنيفة نظر إلى مسلك قضائي، ووجهه: أن الدعاوى لا تكون في القضاء إلا وجد الطرفان المتنازعان، وسأل صاحب الحق حقه، وصاحب الحق هنا بهيمة، وليس هناك مسلك قضائي يقيم البهيمة خصماً قضائياً لمالكها، صحيح لو كانت البهيمة إنساناًَ، والإنسان هذا طالب بحقه، صح قضاءً أن تجرى الخصومة، وتكون خصومة شرعية، لكن البهيمة لم ترفع الدعوى ولم تدع ولم تشتك بسيدها ومالكها، فالإمام أبو حنيفة يقول: لا يصح أن يقال: إن القاضي يحكم على المسلم ببيع ماله، فالمال ملك له، وحينئذٍ لا يلزم ببيعه، لكن يقول: يأمره بالعدل وبالإحسان، ويحثه على إطعامها أو بيعها، لكن لا يلزمه. وذهب الجمهور إلى غير ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السلطان ولي من لا ولي له)، وهذه بهيمة ولا ولي لها، وهي لا تستطيع أن تسأل حقها، فولي الأمر ولي لمثل هذه الأمور، فهو منصب كالناظر في مصلحتها. فمسلك الجمهور أعدل، وأقيس، وأقعد للأصول، وهم إن شاء الله أولى بالصواب. وبناءً على ذلك: نجبر صاحب البهائم على بيعها، لكن هذا فيه تفصيل: إذا كانت عنده بهائم كثيرة فلا نجبره على بيعها جميعها، بل نجبره على بيع العدد الذي يمكن من خلاله شراء الطعام للعدد الباقي. فلو كانت عنده بهيمتان؛ فلا نقول له: يجب عليك بيع البهيمتين إذا لم يطعمها، بل نقول: بع واحدة، وأنفق على الثانية من نفقة هذه الواحدة. فلا يجبر على بيع الجميع، إنما يجبر على بيع البعض إذا كان البهائم فيها عدد كثير يمكن بيع بعضها وإبقاء البعض. وهذا مبني على أصل شرعي: أن الأصل بقاء اليد، وأن القضاء لا يتدخل بنزع اليد والملك إلا عند الضرورة. وهذه القضية هي التي أثنى الله فيها على حكم سليمان عليه السلام وجعله أفضل من حكم داود عليه السلام: رجل غفل عن غنمه، فأكلت الغنم زرع غيره، فاختصم صاحب الزرع وصاحب الغنم إلى داود عليه السلام، فنظر داود ووجد أن قيمة الطعام الذي أكلته البهيمة تعادل قيمة الغنم، فحكم وقضى عليه السلام: أن صاحب المزرعة يملك الغنم، وحينئذ أخلى صاحب الملك عن ملكه، فلما خرج قال سليمان: لو كان الأمر إلي لحكمت بغير هذا؛ لحكمت على صاحب الغنم أن يأخذ الأرض يزرعها، فيعيدها كما كانت، وأن يأخذ صاحب الأرض غنم الرجل فيشرب من حليبها، وينتفع بها حتى يعود إليه زرعه. فقال الله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79]. فأثنى الله على حكم سليمان وفضله على حكم داود، والسبب في هذا أنه أبقى يد الملك، ولم يحكم بانتقال الملكية؛ فراعى الأصل، ومن هنا لا نقول: بأنه يجب عليه بيع جميع الغنم أو البقر أو الإبل، بل تبقى يد الملكية، ويبيع بقدر الحاجة فقط. لأن القاعدة تقول: ما أبيح لأجل الحاجة يقدر بقدرها، فنحن مضطرون للإنفاق على البهائم، فنقدر قدر الإنفاق، ونوجب عليه البيع بقدر ذلك، ولا يلزم ببيع، وإذا قلنا: يبيع بعض الغنم، فإن كان الغنم كله بحالة واحدة جيدة أو رديئة فلا إشكال، لكن إذا كان بعضه أجود من بعض، فإن القاضي لا يجبره على بيع الجيد، وإنما يجبره على بيع الرديء؛ لأنه يتضرر بيع الجيد كما لا يخفى. قال رحمه الله: [أجبر على بيعها، أو إجارتها]. نقول له: بعها أو أجرها؛ لأنه إذا أجرها أمكنه أن يأخذ الأجرة، وينفق عليها ويطعمها. قال رحمه الله: [أو ذبحها إن أكلت]. إذا قال: ليس هناك من يستأجرها، قلنا له: بعها، ففصلنا بنفس التفصيل الذي تقدم. في هذه الحالة إذا لم يمكن إجارتها ولا بيعها، قال: يؤمر بذبحها؛ لأن الحيوان في هذه الحالة سيموت ويهلك؛ لأنه إذا لم يجد طعاماً فإنه سيهلك لا محالة، وحينما يهلك بالذكاء أفضل من أن يهلك حتف نفسه. وهذه المسألة بنيت عليها مسألة وهي: إذا مرضت البهيمة، وتعذبت بمرضها، أو وجدت بهيمة فيها عاهة وتعذبت بهذه العاهة، وذكاها من أجل أن لا يأكلها ولكن من أجل أن يريحها بالموت، وهذا ما يسمى بقتل الرحمة. فقتل الرحمة: منع منه طائفة من أئمة العلم رحمة الله عليهم، وقالوا: الله أرحم بخلقه، ونحن لسنا مسئولين عن هذه البهائم، إنما نحن مسئولون عما نملك، وأما قتلها وإزهاق روحها لغير الأكل فمنهي عنه شرعاً، فكونها فيها عاهة، فالله خلقها على هذه العاهة، فلا يتدخل مخلوق في أمر الله عز وجل، وهو أعلم سبحانه وتعالى بخلقه. وقال بعض العلماء: يجوز أن يذكيها وأن يقتلها إذا رآها تتعذب، ولكن في الحقيقة إذا كانت حالة الذكاء تمكن من الانتفاع بها، وكان تركها لا يمكن من الانتفاع، قدمت الذكاة، والدليل على ذلك كما ثبت في الحديث الصحيح: أن امرأة كانت ترعى غنمها بسلع، وسلع كان خارج بناء المدينة قديماً، وإلا فهو داخل حدودها، وكان سلع أشبه بالمرعى لأهل المدينة لأنه خارج العمران، وكان سلع إلى إلى الثمانين هجرية خارج سور المدينة، مع أنه لا يفصله عن المسجد بعض الأحيان إلا ميلاً واحداً، فمع هذا كانت ترعى في هذا الموضع، فهجم الذئب على غنمها، وأخذ شاة وبقر بطنها، فاستغاثت المرأة، ففر الذئب، وأخذت الشاة تخرج أمعاؤها، فقامت المرأة وكسرت حجراً، وذكت الشاة، فلما ذكت الشاة سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن هذه البهيمة؛ فأجاز أكلها وأحلها. وهذا الحديث العجيب مع أنه واقعة عجيبة، إلا أن فيه من دقائق ونفائس الأحكام الكثير، بل هو من غرر الأحكام. منها: أن هذا الحديث فرعوا عليه قاعدة فرعت عليها مسألة موت الدماغ الموجودة الآن. هذا الحديث أخذوا منه مسألتنا هذه وهي: أن المرأة قتلت البهيمة وذكتها، لأنها لو تركتها ستموت حتف نفسها فتصبح ميتة، فلا ينتفع بها. وإذا ذكتها صلحت للأكل فانتفع بها. وفرق بعض العلماء بين قتل الرحمة، وبين هذه المسألة؛ فقتل الرحمة: أن تقتل البهيمة ولا تؤكل، وهنا تقتل البهيمة وتؤكل. والأصل أن البهيمة مخلوقة للآدميين للانتفاع بها، وقتل الرحمة يخوف الانتفاع، لأنه البهيمة يكون فيها مرض، ولا يمكن الانتفاع بها، وغالباً ما يكون المرض مضراً، أو نحو ذلك. الشاهد: أن حديثنا هذا أخذ منه جواز قتل البهيمة، لكن لو كان قتلها للمنفعة، مثلاً: دهستها سيارة، فإذا تركت ماتت حتف نفسها، فلم يحل أكلها، فيأتي الشخص فيذكيها حتى تصلح للأكل، لكن إذا ذكاها في هذه الحالة، فهل القاتل الذي دهسها؟ أو الذي ذكاها؟ هذه مسألة مهمة-هي التي تفرع عنها مسألة موت الدماغ- الحياة المستقرة هل هي كالعدم أو هي حياة؟ الحياة المستقرة: هي أن تضرب البهيمة ضربة قاتلة، وترفس وهي في آخر رمق من حياتها، فلو أنها ذكيت، وقلنا: إن حياتها في هذه الحالة حياة مستقرة، فالذكاة صحيحة ويحل أكلها؛ لأنها ماتت بالذكاة، وإن قلنا: إن الروح شبه مزهقة؛ فحينئذ لا تنفعها الذكاة لأنه قد استنفذت روحها. فوجه دخول هذه المسألة: أنه إذا كانت البهيمة تتعذب، وتتضرر بالمرض، وأراد ربها أن يقتلها، فإنه: يجوز قتلها، ومن هنا قالوا: يؤمر بذبحها، لكن الأمر بذبحها لا يمنع من أكلها بعد الذبح، فهي شبيهة بالحديث الذي معنا، لأنه إذا ذبحها دفع الضرر عنها، وحل أكلها، ولكن إذا تركها ماتت حتف نفسها، فلم تصلح للأكل. وحينئذ يستقيم قول المصنف رحمه الله: إنه يؤمر إما ببيعها، أو إجارتها، أو ذبحها.

الأسئلة

الأسئلة

حكم خصي البهائم لتطييب اللحم

حكم خصي البهائم لتطييب اللحم Q هل خصي البهائم من أجل تطييب اللحم أمر جائز؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فقد اخلتف العلماء رحمهم الله في مسألة خصي البهائم: فمن أهل العلم من قال: يجوز خصي البهائم لتطييب اللحم؛ لأنه يقصد به مصلحة، والبهيمة في الأصل مخلوقة للآدمي، كما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13]. قالوا: فإذا خصيت طاب لحمها، واستدلوا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين موجوأين. والذي يظهر أن هناك فرقاً بين الإيجاء والخصاء، فإذا كان خصاءً وليس تعذيباً مضراً، فإنه لا بأس به، وأما الخصي لقطع نسلها، والإضرار بها وتعذيبها؛ فإنه غير جائز، إعمالاً للأصل. والله تعالى أعلم.

حكم قتل الحشرات كالنمل وغيره

حكم قتل الحشرات كالنمل وغيره Q أشكل علي مسألة بعض الحشرات غير الضارة؛ مثل النمل، هل يجوز قتلها أم لا؟ A لا يجوز قتل النمل من غير حاجة، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن نبياً من أنبياء الله نزل في ظل شجرة، فنام فقرصته نملة، فقام فأمر برحله فرُحل؛ فإذا هو بقرية من النمل، فأمر بها فأحرقت، فأوحى الله إليه: أبنملة واحدة أهلكت أمة تسبح الله؟). وهذا يدل على أنه لا يجوز قتل الحشرات، إلا إذا أضرت وآذت. نعم يجوز قتلها بقدر الحاجة، أو تنفيرها من البيت، أو إخراجها منه، فإذا لم يمكن إلا بقتلها فإنها تقتل إذا ضرت بالإنسان، أو ضرت بالطعام، أو نحو ذلك. وقد قال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56]. قال: قطع الشجر، وقتل الحيوانات من غير حاجة، فهذا منهي عنه، ولا يجوز شرعاً. والله تعالى أعلم.

حكم حبس الطيور للزينة

حكم حبس الطيور للزينة Q ما حكم حبس العصافير ووضعها في الأقفاص من أجل الزينة؟ A يجوز حبس العصافير والطيور إذا كان يطعمها ولا يعذبها، كما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال-وهو من حديث أنس في السنن-: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟!). والنغير تصغير النغري؛ وهو نوع من الطير معروف، قيل: يحبس لجماله، وقيل: لجمال صوته، وهذا يدل على أنه لا بأس بحبس البهائم والطيور، بشرط أن يقوم على طعامها ولا يعذبها.

حكم البيع في المسجد وتوابعه

حكم البيع في المسجد وتوابعه Q هل يجوز البيع في المنطقة الواقعة مؤخرة المسجد، كالمظلات؟ A إذا كان في المسجد فلا يجوز، سواء كان في آخره أو أوله أو أوسطه، فالمسجد لا يجوز البيع فيه، ومن باع فيه فلا أربح الله صفقته؛ لأن المساجد ما بنيت للبيع، ولكن إذا كان خارج المسجد؛ فخارج المسجد ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون رحبة؛ له سور محيط به، فإذا كان له سور ويحفظ، وأرض موقوفة مسبلة تابعة للمسجد؛ فمذهب بعض العلماء: أنها تابعة للمسجد، يجوز للمتعكف أن يخرج إليها، ولا تجوز للحائض أن تدخل فيها، فتسري عليها أحكام المسجد. وأما إذا كانت غير مسورة وغير محاطة، فإنها لا تأخذ حكم المسجد، فيجوز فيها البيع والشراء. والله تعالى أعلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب نفقة الأقارب والمماليك [6]

شرح زاد المستقنع - باب نفقة الأقارب والمماليك [6] ما زالت رحمات الله تتوالى على عباده حتى شملت البهائم، ومن رحمته جل وعلا بهذه البهائم أن ألزم مالكها بتبعات الملكية من أكلها وشربها ورعايتها، وقد ذكر الفقهاء تفصيلات وضوابط لما يجب على المالك من حقوق الحيوان المملوك، حتى ذكروا ضوابط ومقادير الحمل عليه والسفر به، وما يحكم على المالك عند العجز عن أداء حقوق البهائم التي تحت يده.

نفقة البهائم وأحكام رعايتها

نفقة البهائم وأحكام رعايتها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وعليه علف بهائمه وسقيها وما يصلحها].

وجوب علف البهائم على المالك

وجوب علف البهائم على المالك يقول رحمه الله: (وعليه) أي: يجب على المسلم أن ينفق على بهائمه، والدليل على ذلك ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة المرأة التي عُذِّبت في الهرة، وهذا يدل على أنه لا يجوز للمسلم أن يحبس الحيوان، إلا إذا قام على رعايته وطعامه وما يحتاج إليه؛ لأنه إذا حبسه ومنعه من الرعي ومما فيه رفق به فقد عذّبه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان، والعكس بالعكس، فكما أن الإسلام نهى عن تعذيب الحيوان فقد رغب في الإحسان إليه، حتى أخبر صلى الله عليه وسلم في قصة المرأة الزانية أن الله غفر ذنوبها بشربة ماء سقتها لذلك الكلب، فدل هذا على أمرين: أولاً: مشروعية القيام على الدواب ورعايتها والإحسان إليها فيما تحتاج إليه من طعام وغيره. وثانياً: وهو عكسه، تحريم الشريعة للإساءة والأذية والتعذيب للحيوان والقتل له بدون وجه حق، ومن هنا قال بعض أئمة التفسير في قوله تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56]، قال: من ذلك قتل الحيوان من غير ما حاجة. قال رحمه الله: [وعليه علف بهائمه] لعلف البهائم صورتان: إما أن يكون هناك مرعى يمكن للحيوان أن يخرج إليه ليرعى ويسوم فيه، فحينئذٍ الواجب عليه تمكين الحيوان من الرعي، وفي هذه الحالة لو أخرج الحيوان بنفسه أو أخرجه وكيله أو العامل عنده فقد برئت ذمته بهذا، لأن الحيوان من طبيعته وفطرته أن يأكل قدر حاجته، لكن الإشكال عند العلماء إذا أخرجه للرعي والسوم هل يجب عليه أن يترك البهيمة إلى أن تشبع غاية الشبع، أم أن الواجب قدر الكفاية، ثم ما فضل بعد ذلك فهو فضل؟ قال بعض العلماء: الواجب أن يخرج بالبهيمة للرعي في حدود حاجتها، وفائدة الخلاف: أنه لو خرج يوماً وعنده ظرف ووقته ضيق وما استطاع أن ينتظر الحيوان حتى يصل إلى حد الشبع، فمكن الحيوان من الرعي إلى حدود الكفاية، أجزأه على القول الذي لا يشترط الكمال، ولم يخل من مسئولية على القول الثاني. والصحيح: أن العبرة بقدر الإجزاء، أعني: القدر الذي تحصل به كفاية الحيوان. إذا كانت ترعى البهيمة فلا يخلو الرعي من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يكون قائماً بالكفاية على أتم الوجوه، بمعنى أنه يرتفق به الحيوان ويجتزئ به، فحينئذٍ لا إشكال. وإما أن يكون الرعي قليلاً كما يحصل في بعض أحوال الجدب، فإذا كان الرعي قليلاً وجب عليه أن يسد كفاية البهيمة من العلف، ولذلك لو كانت البهيمة تحتاج إلى رعي فرعت ثم بقي عندها عجز في طعامها فعلية تأمين هذا العجز، وهذا يختلف باختلاف الإبل والبقر والغنم، فالمقصود أنه لابد من تحصيل قدر الكفاية. وقوله: (عليه) يفهم منه الوجوب وهو محل إجماع، أعني أنه يجب على من ملك البهيمة أن يطعمها. وقد سبق أن بينا أن النفقة تجب: إما بسبب النكاح، أو بسبب القرابة، أو بسبب الملك، وهي هنا بسببية الملك، فنظراً لكونه مالكاً للبهيمة أمر بالنفقة عليها، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى، فالعبد كما أنه ينال منافع البهيمة ويملك رقبتها، فالواجب عليه أن يؤدي حق هذه البهيمة، وعليه علف بهائمه. الحالة الثانية: أن لا يكون هناك مرعى، فإذا لم يكن هناك مرعى وجب عليه أن يشتري للبهائم طعامها، وحينئذٍ ينظر: فهناك طعام من العلف، وهناك طعام من الحبوب، والعلف والحبوب فيها الغالي والرخيص، فحينئذٍ ينظر إلى حال الإنسان، فإذا كان غنياً قادراً فإنه ينفق على قدر ما يحصّل، فلا ينتقل ببهائمه إلى الطعام الرديء القليل الذي يضر بها، أو يجحف بها، بناءً على أنه يريد سد الكفاية، خاصة إذا كان غنياً، فقد أمر الله عز وجل الزوج أن ينفق على زوجته بقدر وسعه، فلما وسّع الله على الغني لزمه أن ينفق نفقة الغني ويحسن إلى بهائمه، ولا يضيق عليها. أما لو ضاق عليه الحال، وصعب عليه أن يشتري العلف الغالي، فإنه يطعمها من العلف الذي يحصل به قوام بدنها، فلو فرضنا أن علفها في اليوم الواحد يختلف، فالجيد منه بعشرين والمتوسط بخمسة عشر والرديء بعشرة، فإن كان العلف الرديء لا يضر بصحتها ولا يجحف بها، علفها من العلف الرديء، وهذا قدر وسعه وطاقته، فإن كان يضر بصحتها ولا يملك هذه القيمة؛ ففيه التفصيل الذي سنذكره، من أنه يؤمر ببيع بعضها والنفقة عليها بالمعروف. وقد بيّن رحمه الله أنه يجب عليه ذلك، والضمير في قوله: (عليه) يعود على المالك، وقوله: (عليه) يدل على اللزوم، أي: أنه أمرٌ على اللزوم وليس على التخيير.

وجوب سقي البهائم على المالك

وجوب سقي البهائم على المالك قال رحمه الله: [وسقيها]. في القديم كان الماء عزيزاً، وكان الناس يستقون من الآبار لأنفسهم ولدوابهم، وهناك آبار تردها البهائم. وهذا السقي سواء قام به الشخص نفسه، أو قام به عامله، أو من يوكله؛ فعليه أن يورد البهيمة في الأيام التي تحتاج فيها إلى السقي، وذلك يختلف: فالإبل أكثر صبراً من البقر والغنم، فيقدر الوقت الذي تحتاج فيه إلى السقي، ولا يجوز تأخيرها عن اليوم الذي ترد فيه. وهكذا لو كانت محبوسة عنده في البيت، فيجب عليه أن يتفقد طعامها وشرابها وأن لا يتكل على العامل، لأن البعض قد يتكل على عماله، وهذا لا يجوز على سبيل الإطلاق، بل الراجح: أن عليه بين فترة وفترة أن ينظر في بهائمه، وأن يتفقد هذا القيام على حوائج البهائم، وهذا أصل واجب على الموكِّل في كل من وكله، فإذا وكلت وكيلاً فلا تتكل عليه، بل عليك أن تباغته، وأن تأتي فجأة لتنظر كيفية رعايته لهذا الشيء الذي ائتمنته عليه، ولا تحسب أن توكيلك له يخليك من المسئولية والأمانة، فإن الوكيل عنك أمين -كما ذكرنا في باب الوكالة- وقد نزلته منزلتك، فلابد من أن يكون اختيارك له في محله، فقد يكون أميناً في حال، وقد يغتر بحسن ظنك فيه فيهمل ويقصر، والإنسان ضعيف. فالواجب على رب البهيمة أن يتفقد بهائمه بسقيها، ويسأل العامل: متى تسقي البهائم؟ ومتى تطعمها؟ ومتى تقوم؟ عليها، فإذا وجد أنه قائمٌ على الوجه المعروف برئت ذمته وخلصت. إذاً: طعام البهائم وسقيها واجب على المالك، سواء قام به بنفسه أو وكل عنه من يقوم بذلك، وليس كل ماء تسقاه البهيمة، وليس كل مورد تورد عليه البهائم؛ فإذا كان الماء كدراً وفيه القاذورات والأوساخ، أو يسقي البهيمة في أواني قذرة لا يهتم بتنظيفها ولا يبالي بحسن القيام عليها، فإنه مسئولٌ أمام الله عز وجل عن هذا التقصير. فالبعض لا يبالي، يقول: هذه بهيمة. ثم يطعمها ويسقيها في أي إناءٍ ولو كان قذراً، فالواجب عليه أن يتفقد الأواني التي تسقى فيها وأن يتعهد ذلك بالرعاية لأنها أمانة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته) فمن قام على البهائم في علفها وسقيها وتفقد ذلك فذاك، أو وكَّل غيره فلابد أن يذكره أنها أمانة ومسئولية، وأنه يجب عليه أن يحسن الرعاية على أتم الوجوه وأكملها حتى تبرأ ذمته.

حق البهائم في كل ما يصلحها

حق البهائم في كل ما يصلحها قال رحمه الله: [وما يصلحها] ومما يصلح شأن البهيمة: أنها في بعض الأحيان قد تحتاج إلى تنظيف بدنها بالغسل، أو إلى جز صوفها وشعرها، وأحياناً تقليم لأظفارها؛ لأنها تؤذيها أثناء مشيها، وأحياناً تحتاج إلى إصلاح في البدن نفسه إذا كانت مريضة أو عليلة، فعليه أن يتقي الله عز وجل فيها، وأن يقوم على رعايتها؛ فإن احتاجت إلى دواء أو علاجٍ قام على ذلك، وطلب من يعالج، لا يقول: هذه بهيمة والله يشفيها، بل إن هذه البهيمة نفس معذبة بالمرض والسقم، فيجب عليه أن يحسن إليها وأن يتعاهدها. وقوله: (وما يصلحها) يشمل إصلاح كل شيء في الشارة والهيئة، وما يصلحها في مسكنها، فمثلاً: إذا كانت البهيمة في مسكنٍ قذرٍ وخيم يضرها ويؤذيها ويضر بصحتها، فإنه يسأل أمام الله عن ذلك. وانظر حقوق الحيوان في الإسلام، وفقهاء الإسلام من فجر التاريخ الإسلامي يبينونها ويقررونها، حتى ذكروا كيف تسكن البهيمة، ولو نظرت في تفصيلات وكلام الفقهاء والعلماء رحمهم الله لتعجبت، وصدق الله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] فهذا دين كامل من أصله. فقد تكلم العلماء حتى على مسكن البهيمة، وفي فتاوى العلماء عندما يسألون عن هذا يقررون أنه لا يجوز تعذيب الحيوان لا في مسكنه ولا مطعمه ولا حاجته من دواء وإصلاح شارة وهيئة؛ حتى في المسير إذا سار بها فلا يعذبها ولا يرهقها، بل يريحها وقت الراحة ولا يحملها في الأسفار فوق طاقتها، بل حتى في الحضر، فكل هذا يدل دلالة واضحة على عظمة هذا الدين، ويدل دلالة واضحة على كماله ووفائه بحوائج الناس، حتى الحيوانات. وحينئذٍ لا تحتاج الأمة الإسلامية أن يأتي من يتبجح أمامها أو يذكرها من غفلة أو يعلمها من جهل؛ فعندها في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وشريعته الغراء التي جمعت محاسن الأخلاق ومكارم الآداب ما يغني عن ذلك، قال الله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:43].

ما ينهى عنه في حق البهائم

ما ينهى عنه في حق البهائم قال رحمه الله: [وأن لا يحملها ما تعجز عنه] أي: لا يحمل البهيمة فوق طاقتها، مثلاً: الركوب على البهيمة مشروع؛ ولذلك امتن الله على عباده بذلك فقال: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل:7] {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8] فجعلها ركوباً للإنسان، ولكنه لما أحل لنا ركوبها لم يحل لنا تعذيبها، ولا أن نحملها ما لا تطيق. فإذا أراد أن يركب البهيمة فينبغي أولاً أن تكون البهيمة مما يعد للركوب، كما في الخبر حينما ركب أحدهم بقرة فقالت: (إن الله لم يخلقني لذلك)، يعني: ما خلقني ظهراً للركوب، وكذلك الشاة ليست محلاً للركوب، لكن الخيل والبغال والحمير والنوق، وهذا الأصل -وهو جواز الركوب- تختص به بهائم. ثم نفس البهائم تختص بزمان وسِنٍّ تطيق فيه الركوب: فإذا كان من الإبل فأن تكون حقة، وسميت حقة لأنها استحقت أن يركب عليها وأن يطرقها الفحل، كما تقدم في كتاب الزكاة، فإذا بلغت السن الذي يركب عليها ويحمل عليها ركبها وحمل عليها. ثم أيضاً في الحمل عليها يفصل، فيقال: لا يحملها ما لا تطيق بل بالمعروف، وهذا الأصل الذي هو جواز الحمل على الدواب محل إجماع عند العلماء رحمهم الله، لكن بشرط أن لا يكون فيه تعذيب للحيوان، ويختلف ذلك من حيوان إلى حيوان، فهناك حيوانات تطيق الحمل أكثر فيحملها ما تطيق، وهناك حيوانات لا تطيق إلا القليل فيحملها على قدر طاقتها. قال رحمه الله: [ولا يحلب من لبنها ما يضر ولدها]. قوله: (ولا يحلب من لبنها) يعني: من لبن البهيمة (ما يضر ولدها)، وهذه المسألة تسمى بمسألة ازدحام الحقوق؛ فالبهيمة فيها حق للمالك وحق للولد. هذا إذا كانت ولوداً وولدت واحتاج ولدها إلى اللبن فصار له فيه حق، وأيضاً ربها ومالكها يحلبها ليبيع الحليب أو ليشرب، ففي هذه الحالة هل نقدم حق المالك لأن يده يد أصل، أم نقدم حق الولد؟ A إذا كان حلبك يضر بالولد لم يجز، والسبب في هذا: أن الولد لا يجد بديلاً والمالك يجد بديلاً، والولد لا يستغني عن حليب أمه والمالك يستغني عن هذا الحليب، وإذا ازدحمت الحقوق نظر إلى الأحق والأحوج، ولذلك نجد في قضاء النبي صلى الله عليه وسلم وقضاء الشريعة أنه ينص على الحق، فإذا كان ولد البهيمة يحتاج إلى هذا اللبن ولابد له منه ولا تستطيع أن تصرفه إلى ناقة ثانية، أو إلى بهيمة ثانية، خاصة الحرائر إذ فيهن شغف وتعلق بالوالدة عجيب، حتى إنه لو ماتت أمه ربما مات بعدها، لأنه لا يُقبِل على ضرع غيرها، وهذا موجود، فكما أن نفوس الآدميين تختلف أصالة وحناناً كذلك نفوس البهائم. فهذا الولد لو صرف إلى غير أمه ربما يتضرر بذلك، والمالك يمكنه أن يجد بديلاً؛ فقدم الأضيق والأحق، ولأن المالك مستفيد على طيلة زمانه والولد محتاج لزمان مخصوص، فيقدم الخاص الذي حاجته خاصة على ما هو عام يمكنه أن يرتفق في أي زمان غير هذا الزمان المحتاج فيه الولد إلى اللبن. واستدل العلماء رحمهم الله بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار) وهذا الحديث حسَّن بعض العلماء إسناده، لكن متنه صحيح بإجماع العلماء رحمهم الله، وأصول الشريعة كلها دالة على صحة هذا المتن، ومن هنا انبنت القاعدة الشرعية المجمع عليها، والتي تقول: الضرر يزال. فعندنا ضرر متعلق بهذا الولد لا يمكن إزالته إلا أن يرتضع من أمه، فحينئذٍ يقال بتقديمه من هذا الوجه.

ما يجبر عليه المالك في حق البهائم عند عجزه عن القيام بحقها

ما يجبر عليه المالك في حق البهائم عند عجزه عن القيام بحقها قال رحمه الله: [فإن عجز عن نفقتها أجبر على بيعها]. بعد أن بين رحمه الله الأصل وهو: وجوب النفقة على البهيمة، شرع في المسائل الطارئة، وقدمنا أن هذا من دقة العلماء رحمهم الله، ومن تسلسل الأفكار عندهم، فإنهم يذكرون الأصل ويذكرون ما خرج عن الأصل، وهو المستثنيات والأمور الطارئة فمما امتازت به الشريعة في أحكامها وتشريعاتها أنها لا تقف فقط عند الحكم، بل إنها تبين الحكم والأثر المترتب على الحكم، وما يطرأ مما يمنع من وقوع الأثر أو كمال الأثر أو يضر بالأثر، ولا شك أن العلماء رحمهم الله اعتنوا به، ولذلك بين المصنف ذلك بقوله: [فإن عجز]. وعجز المالك أمر طارئ والأصل أنه ينفق، لكنه إذا عجز أو كان فقيراً لا يستطيع أن ينفق، فالحكم ما سيذكره المصنف رحمه الله.

إجباره على البيع أو التأجير

إجباره على البيع أو التأجير قال: (أجبر على بيعها). أي: أجبر على بيع بهائمه التي عجز عن الإنفاق عليها، وهذا هو الأصل. وقد اختلف العلماء رحمهم الله فيه على قولين مشهورين: فجمهور العلماء على أن المالك إذا عجز عن شراء العلف وقال: لا أستطيع، وليس عندي مال أنفق منه على بهائمي؛ فإنه يجبر على بيع بهائمه على التفصيل الذي سنذكره. وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أنه لا يجبر، واستدل بأن الحق للبهيمة، والحقوق في القضاء تقام حينما يطالب بها صاحبها، أما إذا لم يطالب بها صاحبها فلا يطالب بها غيره، والبهيمة لا يمكن أن تطالب بحقها؛ لأن القضاء في الإسلام حيادي لا يميل لأحد الخصمين، ولذلك لا يحكم على الخصم إلا إذا طلب خصمه. وهذا أصل، حتى إن بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة لما ولي القضاء أراد اثنان من أصحابه أن يبينوا له فقه القضاء، فاختصما إليه وقال أحدهما: لي عند فلان كذا وكذا، فقال له: ما تقول؟ قال: صدق، فسكت المدعي، فقال القاضي: أعطه حقه، فقال صاحب الحق: ومن أمر القاضي أن يسأل خصمي أن يعطيني حقي. ثم قالوا: إنما أردنا أن نبين لك أن للقضاء فقهاً غير الفقه الذي تعلمته. وهذا أصل عند الجمهور، يقولون: من حيث الأصل فإن القاضي حيادي لا يميل لأحد الخصمين دون الآخر، فإذا حكمنا على رب البهيمة أن يبيعها فما هو مستند هذا الحكم؟ أين الدعوى؟ وأين ما يثبتها؟ الدعوى متعذرة لأن صاحب الحق وهو البهيمة لا يمكن أن تطالب بحقها، وإثباتها ممكن عن طريق الحسبة، بأن يشهد عليه جيرانه أو رفقاؤه، لكن الإشكال في أصل الدعوى، فالإمام أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله تعذر عندهم في هذه المسألة أن يحكم قضاءً، ولكنه يجب عليه ديانة أن يبيعها إذا عجز ولا يجب عليه قضاءً، وفرق بين الديانة وبين القضاء، فمعنى الديانة أنه مطالب فيما بينه وبين الله أن يبيعها، لكن لا يحكم عليه بذلك حكماً شرعياً قضائياً. والجمهور رحمهم الله قالوا: للسلطان ولاية عامة، وهذا أصل في الشريعة، قال صلى الله عليه وسلم: (فالسلطان ولي من لا ولي له) وهذه البهيمة لا ولي لها فهي كالمجنون إذا لم يكن له ولي، فحينئذٍ يتصرف السلطان بالولاية العامة، وهذا أصلٌ صحيح، وقول الجمهور في هذه المسألة أرجح وأظهر إن شاء الله وأولى بالصواب، وبناءً على هذا يجبر قضاءً على البيع. ثم إذا ترجح القول بالإجبار ففيه تفصيل: إن كان عنده بهيمة واحدة فحينئذٍ لا إشكال في أنه يجبر على بيعها، لكن الإشكال إذا كان عنده أكثر من بهيمة وعجز عن إطعام الكل، نقول له: بع بعضها بالقدر الذي تستطيع به أن تنفق على الباقية، فلو كان عنده مثلاً عشر من الغنم، ويمكنه أن يبيع رأسين يتمكن من خلالهما من النفقة على البقية، نقول له: بع الرأسين وأنفق على البقية. ثم إذا أجبر على البيع فلا يجبر على بيع كرائم ماله، وإنما ينظر إلى الأخف؛ لأن ما جاز للضرورة يقدر بقدرها؛ لأن المقصود أن ينفق على بهائمه، فلو بيعت الكريمة تضرر ببقاء غيرها مما هو دونها، وبناءً على ذلك لا يُجبر على بيع كل بهائمه. هذه المسألة الأولى. ثانياً: أنه لا يجبر على بيع كرائم ماله إلا في مسائل، وهو أن يكون كل ماله كريماً كما ذكرنا في الزكاة، وهذا أصل عام؛ فحينئذٍ يجبر على بيع الكريم، ويكون البيع بقدر الحاجة، أي: أن يباع من الرءوس على قدر الحاجة مما تحصل به الكفاية والقيام على نفقة البهائم الباقية. قال رحمه الله: [أو إجارتها] بعض العلماء يقول: لا يجبر على البيع إذا أمكنت الإجارة؛ لأن إبقاء اليد أولى من إلغائها، كما في قضاء داوود وسليمان عليهما السلام، فإن الله عز وجل أثنى على حكم سليمان وقدمه على حكم داوود؛ لأن سليمان عليه السلام أبقى يد الملكية في قصة الغنم الذي نفشت في غنم القوم. وبناءً على ذلك نقول: لو قلنا له: بعها. مع إمكان الإجارة فقد أزلنا يد الملكية جبراً، وإزالة يد الملكية جبراً خلاف الأصل؛ لأن الأصل أنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفسٍ منه، فنحن لا نجبره على البيع متى لم يمكن الإيجار، لكن في بعض الأحيان قد تكون الإجارة أضر عليه من البيع، وهذا في أحوال خاصة، فقد تكون إجارتها تحتاج إلى قيام على علفها ومؤنتها، وقد تتعب من خلال إجارتها، فعلى كل حال ينظر القاضي، فإن كان الأخف ضرراً عليه أن يبيع بدأ بالبيع وقدمه على الإيجار مع أنه نقلٌ للأصل، وذلك لوجود ما ذكرناه، وأما إذا كانت الإجارة ممكنة فإنها مقدمة على البيع في الأصل.

إجبار مالك البهيمة على الذبح

إجبار مالك البهيمة على الذبح قال رحمه الله: [أو ذبحها إن أكلت]. إن لم يمكن بيعها وإجارتها، أو عرضت للبيع فلم ترغب، وعرضت للإجارة فلم ترغب، أو كانت لا تؤجر مثلاً، ففي هذه الحالة قال بعض العلماء: يؤمر بذبحها إن كانت تؤكل؛ لأنه إذا ذبحها باع لحمها. وأولاً: إذا ذبحها قطع عنها العذاب؛ لأنها إذا بقيت تعذبت. وثانياً: ممكن عن طريق ذبح بعضها أن يحصل اكتفاء للباقي، وهذا أصل، أعني أن إتلاف البعض لاستبقاء الأغلب مشروعٌ شرعاً، ودليل ذلك قصة موسى عليه السلام مع الخضر، فإن الخضر عليه السلام كسر لوحاً من السفينة ليبقي السفينة، وحينئذٍ فذبح بعض البهائم من أجل أن يشتري العلف للبقية، أو ذبحها من أجل بيع لحمها لإطعام الباقية سائغ على هذا الأصل. وهذا يظهر في مسألة الأوقاف والتصرف في مال اليتيم بإتلاف بعضه، كذلك أيضاً في ذوات الأرواح جاء ما يقرر هذا الأصل، وذلك أن يونس عليه السلام لما كان في السفينة وتعرضت للغرق، واحتاجوا إلى أن يلقوا بشخص منهم، فساهم فخرجت القرعة على نبي الله يونس فرمي في البحر، وهذا أصل عند بعض العلماء، فيقولون: إنه إذا كان لا يمكن نجاة الكل إلا بهلاك البعض قدم بقاء الأكثر، وهذه لها مسائل تفصيلية وكلام طويل لعلماء الأصول، ومنها مسألة تترس الكفار بالمسلم، وفيها تفصيلات في ذوات الأرواح بالنسبة للآدميين. بالنسبة للحيوان هنا فإنه إذا أمكن ذبح البعض حتى يكفي الطعام للبعض الآخر جاز ذلك، وهذه لها أصول عامة حتى في الأرزاق؛ فذبح بعض البهائم التي يملكها من أجل أن يصبح الطعام كافياً للبقية، سائغ للأصل الذي ذكرناه، أو تذبح لأجل أن لا تبقى فتموت حتف نفسها؛ لأن موتها حتف أنفها يضيع حق المالك، وموتها بالذكاة يبقي استفادة المالك، فحينئذٍ يقال له: اذبحها؛ لأنه لو تركها تموت حتف نفسها تعذبت، فلا هو يستفيد ولا هي تستفيد، ولكن إذا ذكيت استفادت هي فاستراحت، ثم أيضاً هو استفاد بالانتفاع بلحمها، فهذا من حيث الأصول الشرعية سائغ.

ذبح الرحمة وموت الدماغ

ذبح الرحمة وموت الدماغ وتفرعت على هذه المسألة مسألة قتل الحيوان للرحمة، وهي: إذا كان الحيوان قد أنفذت مقاتله، وتفرعت عليها المسألة المعاصرة في موت الدماغ، وهل يجوز سحب الأجهزة على المريض إكلينيكياً وسريرياً أو لا؟ فهل هذه الحياة في حكم الحياة المستقرة، أو هل الحياة المنعدمة في حكم المستقرة؟ اختلف العلماء رحمهم الله في مسألة من أنفذت مقاتله، هل حياته حياة مستقرة أو في حكم العدم؟ فبعض العلماء يقول: حياته مستقرة، وبعضهم يقول: حياته في حكم العدم، إذا قلنا: إن من أنفذت مقاتله كمن ضرب في مكان لا يشك أنه لو ترك سيموت، مثل البهيمة تصدم بالسيارة، وتقطع على أنها لو تركت دقائق ستموت، أو تسقط من مكان عالي وتدركها وهي ترفس فلو تركت ستموت، أو يأتي السبع فيفترسها فيبقى فيها شيء من الحركة، فهل هذه الحركة في حكم الحياة المستقرة وحينئذٍ إذا ذكيت جاز أكلها؟ أو هي في حكم العدم وحينئذٍ إذا ذكيت لا يحل أكلها؛ لأنها أنفذت مقاتلها فهي متردية أو مقتولة حتف نفسها ميتة؟ فبعض العلماء يقول: إنها في حكم العدم، وإذا قيل: إنها في حكم العدم فإن الذكاة لا تؤثر، وظاهر الحديث أن الشاة التي بقر بطنها الذئب فكسرت المرأة الحجر وذكتها، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم أكلها؛ يدل على أن الحركة حياة، وحينئذٍ فما دام قلب المريض يتحرك فهو حي، وما دامت الحياة فيه فلا يجوز سحب الجهاز، ويكون حينئذٍ محظوراً. حتى ولو كانت حركة لا إرادية التي هي الحركة الأخيرة، وذلك استصحاباً للأصل؛ ولأن تشخيص الدماغ فيه اضطراب بين الأطباء، وحتى على تحديد هذا التشخيص لا يتيسر إلا في مستشفيات متقدمة، وهذا يخاطر بأرواح الناس. وهناك مبررات كثيرة ذكرناها في أحكام الجراحة، لكن الذي يهمنا هنا: أن الحيوان يقتل رحمة به على هذا الوجه؛ لأنه لو بقي دون إطعامٍ على الوجه المعروف تعذب، ولا يجوز تعذيب الحيوان، أما الآدمي فلا يجوز قتله، فلو أن إنساناً أصيب بالسرطان -أعاذنا الله وإياكم- وقطع الأطباء على أنه لا يعيش؛ فإنه لا يجوز لأحدٍ أن يقتله، لأن الله حرم هذه النفس، وللمعاني المعتبرة شرعاً في ورود هذا البلاء عليه؛ لأن البلاء مقصود شرعاً، فالله أرحم به من خلقه، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]. سبحان الله! كيف جمال هذا القرآن وعظمته؛ لأنه تنزيل من حكيم خبير {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]، والله عز وجل يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29]. أحد الأوجه في تفسير الآية: أن أنفسكم إخوانكم؛ وذلك مثل قوله: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] يعني على إخوانكم، فقيل معنى: (لا تقتلوا أنفسكم) أي: إخوانكم، فجعل المؤمن مع المؤمن كالنفس الواحدة، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم: (كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو ... ) والجسد الواحد نفس واحدة، فلما قال: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) عقب ذلك بقوله: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)) فإذا تبجح أحد وقال: نريد أن نرحمه، فقد كذبه الله عز وجل، وقال: أنا أرحم بعبدي الذي ابتليته، وأنا أرحم بعبدي الذي أسقمت بدنه، وأنزلت به البلاء. ولذلك ليس لأحد أن يدخل بين العبد وربه، هذا شيء بيد الله، يقف الأطباء عند إمكانياتهم وحدودهم التي يقفون عندها والباقي لله عز وجل مالك كل شيء وخالق كل شيء، وهو على كل شيء وكيل. والطب له هدفان: الوقاية والعلاج، وإذا خرج عن هذين الهدفين فليس بطبٍ شرعي، ولذلك إذا قال: نقتله، فلا هو علاج ولا وقاية، فالقتل ليس بوقاية، فهذا ليس بطبيب! وليس هذا تخصصه، ولا من شأنه، وليس له أن يتدخل بين العبد وربه، فهو الذي ابتلاه وهو الذي يدبر أمره. وكذلك إذا وجدتهم يدخلون في هندسة وراثية أو غيرها فإنهم يكونون قد خرجوا عن مقصود الطب إلى العبث، فهذا عبث وتصرف في خلقة الله عز وجل التي خلق عليها العباد. والله شرع الطب دواءً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن شريك في السنن: (أنه جاءه الأعراب فقالوا: يا رسول الله! أنتداوى؟ قال: تداووا عباد الله، فإن الله ما أنزل داءً إلا وأنزل له دواء) فجعل الطب علاجاً للأسقام، وفي حكم العلاج الوقاية، وما عدا ذلك فليس بطب، فحينئذٍ قتل الرحمة ليس بعلاج ولا دواء. وإن قلنا في البهيمة: إنها تقتل؛ فإنما ذلك لأنه يستطاب لحمها، ويجوز أكله، من المشاكل الآن أنه من ذهب يبحث في مسائل فقهية فيما يسمى بالاجتهاد المقيد، وهو أن يأتي إلى مسألة ويجمع ما فيها ثم ينظر فيها ويخرج بخلاصة الواقع أن هؤلاء الباحثين الذين لا يعرفون مصطلحات العلماء ولا ضوابطهم يجنون كثيراً ببحوثهم، ولذلك ينبغي على طالب العلم ألا يتقبل البحوث الفقهية إلا ممن كان عنده دراية وخبرة بمتون العلماء وأساليبهم، ومصطلحات وضوابط أهل العلم في الحكم؛ لأنه في هذه الحالة سيتعرض للزلل بلا شك. فبعض الذين يبيحون قتل الرحمة يقولون: إن العلماء أجازوا قتل البهيمة، وذلك لأنها إذا بقيت تعذبت، فالبهيمة إذا جاز قتلها لأنها تتعذب فالآدمي أعظم حرمة! فانظر كيف يقيسون؟! فإذا قرر الأطباء أنه ميت ومتعذب ومتضرر بهذا المرض؛ فليسقوه داءً وليحقنوه حقنات ويقضوا عليه، وهذا القضاء أرحم به، ويقولون: عند الطبيب رسالة وهي رحمة المريض، فحينئذٍ ينبغي أن يرحمه بهذا العقار الذي يقضي عليه ويريحه، ثم يريح أهله من عناء التكاليف المادية والعناء النفسي لمتابعته، هذه مبرراتهم. فنقول لهم: إن العلماء رحمهم الله لما أجازوا قتل البهيمة قيدوها بما إذا أكلت، ومعناه: أنها إذا لم تؤكل صار ضرباً من الفساد، والآدمي لا يؤكل، فإذاً الذبح كان متعلقاً لإفادة الغير، وأما الآدمي فلا يذبح ولا يؤكل، فإذا ثبت هذا سنقول: إن هذا الفهم جاء عوره من عدم النظر لضوابط العلماء، ولذلك قال المصنف: (إن أكلت) يعني: إن كانت تؤكل، وهذا قول يدل على أنه لا يجوز ذبحها إذا كانت مما لا يؤكل. فلو كانت عنده بهيمة لا تؤكل كالحمار -أكرمكم الله- ففي هذه الحالة يقال له: أنفق عليه أو بعه أو أجره، لكن لا يؤمر بذبح الحمار لأنه لا يؤكل.

الأسئلة

الأسئلة

حكم ضرب البهائم في السباق أو الحرث

حكم ضرب البهائم في السباق أو الحرث Q هل ضرب البهائم للإسراع في السباق أو المضي في الحرث والعمل أمر جائز، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: ضرب البهيمة لتسرع أجازه جمهور العلماء رحمهم الله، والمنصوص في كتبهم الجواز إذا وجدت حاجة، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما ضرب البهيمة. وفي حديث جابر في الصحيحين قال: (كنت أسير على جملٍ فأعيى، فجاءني النبي صلى الله عليه وسلم فنخسه - وفي رواية - فضربه، فسار سيراً حثيثاً) حتى إن جابراً عجز عن أن يكبح جماح البعير، وهذا من معجزاته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فرواية: (فضربه) أشكلت عند العلماء على حيث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ضرب بهيمة ولا ضرب إلا في سبيل الله). وأجيب برواية: (فنخسه بقضيبٍ)؛ لأنها مفسرة، وراية: (فضربه) مجملة، والقاعدة: أن المجمل محمولٌ على المبين المفسر. فضرب البهيمة للإسراع يجوز عند الحاجة وبقدر الحاجة؛ بشرط ألا يكون تعذيباً للبهيمة، فأجاز العلماء الضرب لكن شريطة ألا يكون تعذيباً. لكن إذا أسرعت وجاء يزيد في سرعتها حتى ربما يتسبب بحادث، وفي هذه الحالة لو ضربها عذبها؛ لأن هذه غاية ما في البهيمة، فإذا ضربها ازداد في تعذيبها، وأصبح عندها عذاب السير والضرب، ففي هذه الحالة يمنع، لكن لو كان عنده ظرف يحتاج معه إلى أن يسرع لحاجة، والبهيمة نزلت عليها السكينة فعطلت مصالحه فاحتاج إلى ضربها، فله أن يضرب ولا بأس، لكن يضرب الضرب المشروع دون أن يكون على سبيل التعذيب. إذاً يفصل: إذا كان قد ضره سير البهيمة، وكانت البهيمة متلكئة وإذا ضربت سارت فهي التي جنت على نفسها، أما إذا كانت تسير سيرها وتقوم بواجبها، وليس عندها تقصير؛ فهذا يكون ضرباً للأذية والإضرار، ولا يجوز تعذيب الحيوان والإضرار به من هذا الوجه. والعلماء نصوا على جواز ضرب البهائم في الحدود التي يحتاج إليها؛ لأنه قد يتعطل الإنسان عن مصالحه، وقد يحتاج إلى ضرب البهيمة لأنها قد تؤذي وتضر ولا يكبح جماحها إلا بالضرب، فتضرب، وهكذا الآدمي شرع الله الضرب له عقوبة، وشرع الله عز وجل الضرب عقوبة لضياع حقوق الله عز وجل وضياع حقوق الآدمي (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)، فإذا أتلفت البهيمة ضربت حتى تكبح جماحها. وهكذا في بعض الأحيان يهيج بعض الدواب ولا ينتهي كبح جماحها إلا بالضرب، فتضرب، فعلى كل حال يجوز الضرب عند الحاجة، لكن بشرط أن يقدر بقدر هذه الحاجة، وبشريطة ألا يوجد أسلوب بديل يكبح هذا الجماح، أو يحقق المصلحة التي يرجوها الإنسان من ضربه للبهيمة، والله تعالى أعلم.

الجمع بين جواز إشعار البهيمة وحرمة أذيتها

الجمع بين جواز إشعار البهيمة وحرمة أذيتها Q أشكل علي عدم جواز الإضرار بالأذية، مع أن الإشعار فيه إيلامٌ لها؛ فأرجو التوضيح أثابكم الله؟ A الإشعار فيه خلاف بين العلماء، والمانع منه سببه هذا؛ لأنه يقال: فيه تعذيب للحيوان، وتعذيب الحيوان ممنوع، نقول: إن الأصل أن يكون السؤال: هل البهيمة مخلوقة لنفسها، أو مخلوقة لغيرها؟ قال الله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13] فهي مسخرة للآدمي، ولمصالح الآدمي، وتنقسم إلى مصالح في عقد نفسه ومصالح بينه وبين ربه، فالذي خلق البهيمة أذن له أن يشعرها، وهذا شيء بسيط جداً، والإشعار تطيقه البهيمة، لكن لو جئت تنظر إلى أن الإشعار عذاب لها فركوبك فوق البعير أعظم إيلاماً من الإشعار. ولو جئت تقارن بين إشعار البعير مع ركوبك عليه الشهر والشهرين والثلاثة لوجدت أن الإشعار ليس بشيء، فلا يدخل الإنسان الأغلوطات على السنة، فهي واضحة، وهذا التعذيب لا يأتي شيئاً أمام المصلحة الشرعية المترتبة على هذا الإشعار، من توحيد الله سبحانه وتعالى، والتقرب إليه جل جلاله، فالعبد وما ملك ملك لله، ولكن الله سبحانه يجعله يتقرب إليه بهذا، {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37] يعني: الإخلاص والتوحيد. سبحان الله! يأمر بهذا وهو أغنى ما يكون عن خلقه: (يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني). فالشاهد: أن هذا إيلام بسيط جداً لا يأتي شيئاً أما المصالح التي تفعلها هذه البهيمة، وهذه هي السنة، وما علينا إلا أن نرضى بما شرع الله عز وجل، وليس للعقل مجال أمام النقل، فالنقل ثبت بهذا، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قلد هديه وأشعره صلوات ربي وسلامه عليه؛ فتبقى السنة كما وردت، والله تعالى أعلم.

صفة الإقعاء المنهي عنه في الصلاة

صفة الإقعاء المنهي عنه في الصلاة Q ما صفة الإقعاء المنهي عنه في الصلاة، أثابكم الله؟ A الإقعاء فيه صفات اختلف العلماء رحمهم الله فيها، لكن من صفاته: الصورة الأولى: أن ينصب القدمين ويفضي بإليتيه إلى الأرض بين القدمين المنصوبتين. هذه صورة. الصورة الثانية: أن يجلس جلوس الكلب -أكرمكم الله- فينصب ساقيه مع الفخذ ثم يرد يديه إلى الخلف، مثل الكلب إذا أقعى وجلس، وهذه صورة شبه متفق على تحريمها، وغالباً ما يفعلها البعض من الجهلة إذا أراد يقوم من الركعة الثانية أو الرابعة، فإنه يرجع ثم ينصب قدميه ويديه وراء ظهره، مثل الكلب يرحمكم الله حينما يجلس ينصب قدميه ثم يقعي، فهذا الإقعاء محرم. وورد عن بعض العلماء أن من الإقعاء نصب القدمين وجعل الإليتين على العقبين، وهذا من الإقعاء؛ لكن هذا ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فلعه، فرُخِّص فيه، واختلفت أقوال العلماء: منهم من رخص فيه في التشهد، ومنهم من خصها فيما بين السجدتين، هذا بالنسبة للإقعاء الذي اختلف العلماء رحمهم الله فيه، والله تعالى أعلم.

جواز التعزية بالعناق والمصافحة

جواز التعزية بالعناق والمصافحة Q ما السنة في التعزية، هل هي بالمصافحة، أو المعانقة، أو بوضع اليد على الكتف، أثابكم الله؟ A التعزية تكون بالمصافحة، وتكون بالمعانقة، لورود السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمصافحة هي الأصل، وذلك بأن تصافح أخاك وتسلم عليه ثم تعزيه. والمعانقة تكون من الرحمة، ولذلك قرر الأئمة رحمهم الله أن العناق ينظر في سببه، فإذا وجد له سبب فهو مشروع، وإذا لم يوجد له سبب فهو ممنوع، ومن هنا قرر الإمام البغوي رحمه الله في شرح السنة: أن العناق يجوز عند حصول فرح، كأن تهنئ أخاك المسلم فتضمه إليك وتعانقه، فرحاً بنعمة الله عز وجل وخاصة نعمة الدين والطاعة، ويكون أيضاً عند الحزن تضمه إليك من أجل أن تشعره بأخوتك بقوته، وتطفئ ما في قلبه، ويكون أيضاً عند السفر إذا أراد أن يسافر تلتزمه وتعانقه، وإذا قدم من سفر، وقال: على ذلك جرت السنة. أما حديث: (لا عناق إلا من سفر) أولاً: فيه ضعف، وثانياً: حسن بالطرق لكن المحققون من أهل الحديث ذكروا أن هناك اختلافاً في الألفاظ يؤثر في التحسين، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يستشكل هذا. وأجيب عن ذلك بأن هذا الحديث لا يعارض ما هو أصح منه، لأن قوله: (لا عناق إلا من سفر) جاء من باب أن الشريعة قد تطالب بالكمال، فالمعنى أن أكمل ما يكون العناق من سفر، وهذا موجود في الشريعة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (لا ربا إلا في النسيئة) وليس المقصود بأن ربا الفضل جائز، وهنا ليس المعنى أن غير العناق من السفر محرم، وكقوله: (الحج عرفة) والمراد المبالغة في الشيء، وهذا واضح. ويدل لهذا ما في الصحيحين من قصة كعب بن مالك رضي الله عنه: أنه لما نزلت توبته وجاء بعد صلاة الفجرة ودخل المسجد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقام لي أبو طلحة فالتزمني فحفظت له هذا، وهذا يدل على مشروعية العناق عند وجود الموجب والسبب. ومثل القيام للداخل والزائر، كلها إذا وجد السبب فلا بأس فيه ولا حرج. وهذه الأمور بعض الأحيان تأتي عفوية بدون أن يكون الإنسان قاصداً أن العناق لمعنى أو اعتقاد، ولذلك تجد في بعض الأحيان أنك لا ترى أخاً أو قريباً لا قدر الله أصابه كربة أو نكبة إلا وتضمه إليك، فأنت لا تستطيع أن تملك نفسك، فهذا شيء ينبعث من النفوس من أسباب الرحمة، والفرح والحزن، لكن يحذر مما كان فيه غلو أو تكلف الشخص يعانق وبعد عشر دقائق يأتي يعانق مرة ثانية، يعانق أول النهار ثم يأتي آخر النهار ويعانق، حتى تكون كالشغل، فهذا التكلف والمبالغة لا أصل له؛ لأنها تحظر ويمنع منها، أما عند وجود السبب الموجب فلا بأس أن تضم أخاك إلى صدرك. أما وضع اليد على الكتف: فاختلف فيه العلماء رحمهم الله، ومن مشايخنا المتأخرين وغيرهم من يراه بدعة؛ لأن الأصل المصافحة والعناق، وبعض مشايخنا رحمة الله عليه يفصل فيه ويقول: إن لمس الكتف إذا كان أثناء الحزن إذا رأيت أخاك اشتد بكاؤه وعظم، فأمسكت بكتفه تصبره أو تثبته فلا بأس به، أما الذي يحدث من الوقوف وكل واحد يمر ويمسك كتف الثاني فهذا لا أصل له عند الكل. لكن إذا كان واقفاً على القبر ووجدته حزيناً، فتمسك بعضده أو بساعده تذكره؛ لأنك بالقرص والمسك كأنك تذكره بالصبر، وتذكره أن يتعزى ويتجلد، وفي بعض الأحيان قد تكون يده في يدك فتضغط عليها، هذه الأشياء يراد بها التنبيه فقط. أما الذي يفعل من الوقوف فيأتي يمسك كتف هذا ثم كتف هذا، فلا له أصل، ماذا يفعل بالكتف، المصافحة فيها فضيلة المصافحة، ومعناها الشرعي، ولها أصل في السنة، وتتحات بها الخطايا، فهذا هو المنضبط، والحرص على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه خير، وكذلك ترك هذه الأمور التي لا يسمح بكونها أموراً في شرع الله عز وجل، وإنما يجارون بها عاداتهم وتقاليدهم. وانظر إلى الأمر العجيب الغريب؛ فلو جئت إلى قوم يمسكون ويعزون بالأكتاف وقلت لهم: لا تفعلوا هذا. أنكروا عليك، فهذا يزيدها بدعة، لأن التشبث والتمسك بها والإصرار عليها يجعلها كالسنة، وكالأمر المعتقد فيه، وهذا ما يسميه العلماء بدلالة الحال؛ لأن الشخص في بعض الأحيان يأتي بدلالة الحال، وإن لم يقل: أنا أعتقد أنها سنة، لكن الإصرار والحرص عليها، وأنه لا يمكن أن يتركها؛ لا شك أنه يشكك في أمره. أما إذا كان واقفاً مع أخيه على القبر وتوفي والده أو قريبه، ثم أراد أن يسليه فأمسك بيده، أو رأى أن الحزن قد اشتد به، فشده كأنه يذكره بالله عز وجل، ويذكره بالصبر عند المصيبة، فهذا الإمساك لا بأس به ولا حرج، والله تعالى أعلم.

ما ورد من الدعاء بين العلمين في الصفا

ما ورد من الدعاء بين العلمين في الصفا Q هل ورد بين العلمين دعاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أثابكم الله؟ A لا أحفظ في هذا شيئاً صحيحاً مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما صح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول بين العلمين: (رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم؛ إنك أنت الأعز الأكرم) وهذا استحبه بعض العلماء رحمهم الله لوروده عن السلف، وأشار إليه بعض الأئمة. ثم لا شك أن أدعية الصحابة رضوان الله عليهم من جوامع الدعاء، وبعضها قد تكون فيه سنة محفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ففي الصفا حفظ هذا عن عبد الله بن مسعود، ولذلك استحب بعض العلماء هذا الدعاء. وكذلك استحب بعضهم الدعاء على الصفا بما كان من دعاء عبد الله بن عمر: (اللهم إنك قلت وقولك الحق: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وإنك لا تخلف الميعاد، اللهم كما رزقتني الإسلام فأسألك أن لا تنزعه مني حتى تتوفاني عليه). وهذا من أعظم الدعاء. وكان من دعائه كما في الصحيح: (اللهم حببني إليك، وحببني إلى ملائكتك وأنبيائك ورسلك وإلى خلقك، اللهم اجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك وأنبيائك ورسلك وعبادك الصالحين)، وأشار إلى هذا شيخ الإسلام رحمه الله في شرح المناسك لوروده عن السلف، والصحابة وهم خيار سلف الأمة بعد نبينا صلوات الله وسلامه عليه ورضي الله عنهم أجمعين، والله تعالى أعلم.

حكم الجمع بين الصلاتين إن كان سيصل قبل دخول وقت الثانية

حكم الجمع بين الصلاتين إن كان سيصل قبل دخول وقت الثانية Q هل يجوز للمسافر القادم إلى مكة جمع صلاة العشاء مع صلاة المغرب وهو يعلم أنه سوف يصل إلى مكة قبل العشاء، أثابكم الله؟ A إذا كنت في السفر وأردت أن تجمع بين الصلاتين وأنت راجع إلى موطنك، فيشترط أن يدخل عليك وقت الثانية قبل وصولك إلى البلد، فإذا كنت راجعاً إلى مكة فيشترط أن يؤذن عليك أذان العصر وأنت في السفر، ولو قبل دخول مكة بدقائق، لأنه إذا أذن عليك الأذان وأنت في السفر وجبت عليك الصلاة ركعتين، وأما إذا أذن عليك بعد دخولك مكة، فقد وجبت عليك أربعاً وأنت قد صليت ركعتين. ومن هنا قرر العلماء والأئمة رحمهم الله أن شرط صحة جمع التقديم أن يستمر العذر إلى دخول وقت الثانية، فإذا لم يستمر إلى دخول وقت الثانية فإنه أذن لك أن تصلي الرباعية الأولى ركعتين ولم يؤذن لك بقصر الرباعية الثانية وهي العصر، ومن هنا كان لابد من دخول وقت الثانية والعذر باق، فإذا لم يدخل فإنه لا يصح الجمع، ويجب عليك إعادة صلاة العصر على أصح قولي العلماء رحمهم الله، وهو مذهب الجمهور، والله تعالى أعلم.

اشتراط التتابع في الصيام في كفارة اليمين

اشتراط التتابع في الصيام في كفارة اليمين Q هل يشترط التتابع في الصيام عن كفارة اليمين، أثابكم الله؟ A في هذه المسألة قولان للعلماء، وجمهور العلماء على أنه لا يشترط التتابع؛ لأن الله تعالى أمر بصيام ثلاثة أيام {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] فآية المائدة مطلقة، ولم تبين وجوب التتابع في صيام الثلاثة الأيام في كفارة اليمين، وذهب الحنابلة رحمهم الله إلى وجوب التتابع واستدلوا بقراءة عبد الله بن مسعود: (فمن لم يستطع فصيام ثلاثة أيام متتابعات) فقالوا: إن هذا يدل على أنه يجب التتابع في صيام الثلاثة الأيام في الكفارة. وهذه المسألة أصولية؛ أعني: هل يجوز الاحتجاج بالقراءة الشاذة في إثبات الأحكام أو لا؟ وإذا قلنا قراءة شاذة فليس فيها انتقاص للقراءة، لأن الوصف للأقوال والقراءات بالشذوذ المراد به عدم جريان العمل عليه، فالقراءة الشاذة لا يقرأ بها؛ لأنها نسخت في العرضة الأخيرة. وضوابط الشذوذ في القراءات معرفة: ومنها مخالفة اللغة، والرواية، وهذا أمر يقرره أئمة القراءات. أما من حيث الاحتجاج بالمتن فالأشبه أنه يصومها ثلاثاً متتابعات، ويحرص على التتابع فيها، وهذا أسلم، ويكون ورود العرضة الأخيرة بغير تقييد: (فصيام ثلاثة أيام) لا ينقض الأصل الذي جاء في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فهذه المسألة القول بالتتابع فيها قوي جداً، فيأخذ بها المسلم ويحرص على صيام أيام الكفارات متتابعات. لكن الإشكال الذي ينبغي التنبيه له، وتنبيه الناس عليه: أن بعض العوام يعتقد أنه إذا حلف في يمين أن عليه أن يصوم ثلاثة أيام مباشرة، والواقع أن صيام الثلاثة الأيام لم يوجبه الله سبحانه وتعالى إلا عند العجز، وكفارة اليمين جمعت بين التخيير والترتيب، فهي في خصالها الأولى وهي: عتق الرقبة، وأن يطعم عشرة مساكين أو يكسوهم تخييرية، إذا فعل واحدة من هذه الثلاث الخصال أجزأه، سواء قدر على غيره أو لم يقدر. وأما الخصلة الأخيرة: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المائدة:89] فتدل على وجوب الترتيب، واشتراط العجز، لأنه لما علقها بفقدان الاستطاعة دل على أنه لا يصح له أن يصوم الثلاثة الأيام إلا عند عجزه عما تقدم، فبناءً على ذلك يجب عليه أن يراعي الترتيب، فإذا صام الثلاثة الأيام وهو قادرٌ على إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم؛ فإنه لا يصح صيامه ولا يجزيه، ويعتبر صيام نافلة، ويجب عليه أن يعتق إن وجد الرقبة، أو يطعم العشرة مساكين أو يكسوهم، وهذا محل إجماعٍ بين العلماء رحمهم الله، أعني أنه لا يجوز صيام الثلاثة الأيام متى قدر على واحدة من الثلاث الخصال: العتق أو إطعام العشرة المساكين أو كسوتهم، والله تعالى أعلم.

حكم الدعاء بأمور الدنيا في مواطن إجابة الدعاء

حكم الدعاء بأمور الدنيا في مواطن إجابة الدعاء Q ما حكم الدعاء في أمور الدنيا في مواطن إجابة الدعاء أثناء الصلاة، أثابكم الله؟ A الدعاء بأمور الدنيا جائزٌ على أصح قولي العلماء، ولا بأس للمسلم أن يدعو بدفع مكروه دنيوي، أو تحصيل أمرٍ دنيوي في صلاته، خلافاً للحنابلة رحمهم الله، واستدل الحنابلة على المنع بقوله عليه الصلاة والسلام: (إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيءٌ من كلام الناس) قالوا: وأمور الدنيا من كلام الناس. واستدل الجمهور بالأحاديث الصحيحة، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أعوذ بك من المغرم والمأثم) والمغرم الدَّين، وهو من أمور الدنيا. وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر دعائه: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة) وهذا يشمل جميع ما فيه الخير من أمور الدنيا، ولذلك اعتبر من جوامع دعائه، فالصحيح أنه لا بأس أن يدعو. وأقوى الأدلة للجمهور على هذه المسألة، قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ثم ليتخير من المسألة ما شاء) يعني بعد التشهد، وهذا عام، والأصل في العام أن يبقى على عمومه، وليس هناك ما يدل على التخصيص، وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يصح فيها شيء من كلام الناس) إنما جاء في مواضع الذكر المخصوصة؛ لأن صورة السبب قطعية الدخول في الحكم، فهذا ليس له علاقة بالدعاء لأن له أصلاً دل عليه، وإذا تعارض الأصل العام مع الأصل الخاص قدم الأول، وقوله: (ثم ليتخير من المسألة ما شاء) جاء بياناً لأصلٍ خاص وهو الدعاء، وأما قوله: (لا يصح فيها شيء من كلام الناس) فجاء على سبيل العموم، فيقدم هذا الخاص الوارد في أصل المسألة وهي الدعاء في أمور الدنيا، وهو الأشبه والأرجح إن شاء الله. ولكن من الحرمان أن يدعو الإنسان في الأماكن الفاضلة التي ترجى فيها الإجابة بالدنيا، ومنها الدعاء أدبار الصلوات، ولذلك لما سئل عليه الصلاة والسلام: (أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر، وأدبار الصلوات المكتوبة) فأدبار الصلوات أماكن ترجى فيها الإجابة، فيخصها الإنسان بالدعوات العظيمة، وأن تكون همته للآخرة، ولذلك عجب الله من قومٍ دعوا بالدنيا فقال: {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200]. فالمنبغي أن الإنسان يتشوف إلى ما هو أعظم، ولا مانع أن يسأل الله في الدنيا الحسنة، وبذلك أقول: إنه ينبغي للمسلم أن يتخير لهذه الأماكن الفاضلة ما يناسبها من جوامع الدعاء وخير الدين والدنيا والآخرة، والله تعالى أعلم.

صلاة المسبوق في الجنائز

صلاة المسبوق في الجنائز Q فاتتني بعض التكبيرات في الصلاة على الميت، فوجدت الإمام في الدعاء، فكيف أتم الصلاة، وهل صلاة الجنازة تقضى، أثابكم الله؟ A هذه المسألة فيها وجهان للعلماء مشهوران، فبعض العلماء يقول: إذا دخلت مع الإمام فإنك تعتبر بحاله، فإذا دخلت في تكبيرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فعليك أن تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وتسقط عنك الفاتحة، وإذا دخلت مع الإمام وهو يدعو، فإنك تدعو وتسقط عنك الفاتحة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من حيث الأصل أقوى. وبعضهم يقول: إن صلاتك مع الإمام تعتبر فيها حالك، فتبدأ بقراءة الفاتحة ثم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تدعو إن وسعت تكبيرة الدعاء، وهذا مبني على قوله عليه الصلاة والسلام: (ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) فلما عبر عليه الصلاة والسلام بقوله: (أتموا) دل على أن صلاتك مع الإمام هي الأولى، وإذا كانت صلاتك مع الإمام هي الأولى فمعنى ذلك أنك لا تتقيد به، لأنك إذا أدركته في الركعة الأخيرة -من الظهر مثلاً- وهي الأولى بالنسبة لك؛ قرأت الفاتحة وسورة على هذا القول، وكذلك إذا أدركته في العشاء، فإنك تقرأ الفاتحة وسورة، ولكن لا تجهر لمكان المتابعة، لأنه لا تجوز المخالفة الظاهرة في القول والعمل. وبناءً على ذلك فالأمر مثلما ذكرنا: أن المذهب الذي يقول تدخل بحال الإمام، أشبه من حيث الأصل، لقوله عليه الصلاة والسلام: (فلا تختلفوا عليه) وبناءً على ذلك لو دخل مع الإمام على حاله كان أشبه، فإن ترجح عنده القول الثاني ودخل بأنه مبتدئ، فدخل بقراءة الفاتحة ثم كبر التكبيرة الثانية وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فله وجه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

باب الحضانة [1]

شرح زاد المستقنع - باب الحضانة [1] لقد اعتنى الإسلام بالقاصرين من الصغار والمعتوهين والمجانين ونحوهم، فجعل لهم حق الحضانة على الأقربين، وقد بينت الشريعة أحكام الحضانة، وحقوق المحضون، وشروط الحاضن، وترتيب الأقرباء في ولايتها؛ بياناً قائماً على تحقيق مصلحة المحضون.

مشروعية الحضانة

مشروعية الحضانة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الحضانة] الحضانة مصدر مأخوذ من قولهم: حضن الشيء يحضنه حضانة إذا ضمه إليه، والحضن الصدر مما دون الإبط إلى الكشح. وسميت الحضانة بهذا الاسم لاشتمالها على ضم المحضون، وهو الشخص الذي يعجز عن القيام بأمور نفسه؛ لصغر أو جنون أو عتهٍ أو غير ذلك. وباب الحضانة يتعلق بالقيام على حقوق الضعفاء من الصبيان والصغار والمجنون والمعتوه. ومناسبة باب الحضانة لما قبله: أن المصنف رحمه الله بيّن حقوق النفقات، فناسب بعد ذلك أن يبين حقاً خاصاً للصغير والمجنون، وهو حق الحضانة. وتقديم باب النفقات على باب الحضانة مبني على أن النفقات لا تختص بنوع معين من كل وجه، ولكنها أشمل وأعمّ من الحضانة، ولكن الحضانة يراها بعض العلماء خاصة بالصغير فلا تشمل الكبير كما عند المالكية، وإن كان جمهور العلماء رحمهم الله على أن الحضانة تشمل الصغير، وتشمل الشيخ الكبير والزمن ومن في حكمهم. ونظراً لأن الحضانة تختص بنوع خاص، فالأنسب أن يبدأ بالحق العام قبل الحق الخاص، من باب التدرج من الأعلى إلى ما هو دونه. والحضانة: هي القيام بأمور من لا يستقلّ بنفسه، وتربيته ودفع الضرر عنه أو ما يهلكه. ولذلك تشتمل الحضانة على القيام بمصالح الصغار، ورعاية هذه المصالح بما يكون فيه الخير إذا كان المحضون صغيراً أو مجنوناً، أو للشيخ الكبير الزمن إذا تحمّل وليّه مصالحه وقام على رعايته. والحضانة القيام بتحصيل المصالح من رعاية المحضون في نومه ويقظته، وبمتابعة أحواله، والإنفاق على تعليمه، وتأديبه وتقويمه، ودلالته على ما يصلح دينه ودنياه وآخرته، فالصبي والصغير سواء كان ذكراً أو أنثى يحتاج إلى من يرعى شئونه ويقوم بأموره، فيرعى شئونه مادياً ومعنوياً. والحضانة تتكفل بذلك كله، والإسلام جعل هذه الحضانة إلى شخص مخصوص بشروط مخصوصة لابد من توفرها فيه، وجعل لهذه الحضانة أموراً ينبغي على الحاضن أن يقوم بها على وجهها، وجعل لها أمداً وغاية تنتهي عند بلوغها إليه، وكل هذا يبينه العلماء رحمهم الله في باب الحضانة. يقول المصنف رحمه الله: (باب الحضانة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بحضانة الصغير ومن في حكمه، ويشمل هذا ثلاثة جوانب: الجانب الأول: بيان من هو الشخص الحاضن؟ ومن هو الأولى والأحق بالحضانة؟ الجانب الثاني: بيان من الذي يحضن؟ وهو الشخص المحضون. الجانب الثالث: بيان صفة الحضانة والمسائل والأحكام المتعلقة بها.

أدلة مشروعية حضانة الصغير

أدلة مشروعية حضانة الصغير قال المصنف رحمه الله تعالى: [تجب لحفظ صغير ومعتوه ومجنون]. (تجب) بمعنى تثبت، فالحضانة ثابتة إما بسبب الصغر أو الجنون أو العته، وبناءً على ذلك لا حضانة لكبير بالغٍ إذا كان عاقلاً، إلا إذا كان شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يقوم بأموره ومصالحه، فأفتى طائفة من أهل العلم بأنه في حكم الشخص المحضون، لكن هذا فيه تفصيل: إذا غاب عنه عقله، فيلحق بالمجنون ولا إشكال، وكذلك إذا كان فيه خرف أو سفه. فبين المصنف رحمه الله أنها تثبت إذا كان المحضون صغيراً، سواء كان ذكراً أو أنثى، والسبب في هذا: أن الصغير ضعيف العقل لا يحسن رعاية مصالحه والقيام على نفسه، وبناءً على ذلك لابد من شخص يقوم عليه، ولهذا قال الله عز وجل: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:37] فجعلها في كفالة من هو أكبر، وهذا يدل على أن الصغير يحتاج إلى من يكفله ويقوم على رعايته. قال بعض العلماء: الحضانة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع. فأما دليل الكتاب فقوله تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:37]، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت شرعنا بخلافه. وأما دليل السنة فأحاديث، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتِ أحق به ما لم تنكحي). فقوله عليه الصلاة والسلام: (أنتِ أحق به) إثبات للحضانة، وهذا الحديث حسن الإسناد، من رواية الوليد بن مسلم عن عمرو بن شعيب، والرواية في السنن بالعنعنة، والوليد مدلس، ولكن هناك رواية في البيهقي صرح فيها بالتحديث، وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يحسنه طائفة من العلماء رحمهم الله، ويختارون أنه من قبيل الحسن. وأما الحديث الثاني فهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقد صححه غير واحد من العلماء والأئمة، وفيه: (أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد نفعني وسقاني من بئر أبي عنبة، فجاء زوجها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا غلام! هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت، فأخذ بيد أمه) وهذا الحديث الثاني يستدل به العلماء على انقطاع الولاية بعد الحضانة في مسألة التخيير بعد سبع سنين وسيأتي الكلام عليها. وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الصغير ذكراً كان أو أنثى تثبت الحضانة في حقه، وذلك على التفصيل الذي سنذكره في قرابة المحضون أو من هو أولى بحضانته. ثم إن دليل العقل يؤكد ما تقدم، فإن الصغير قاصر في نظره قاصر في رعاية مصالحه، وبذلك أمرنا الله بالحجر عليه، قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]، وأمر بالحجر على اليتامى، فهذا يدل على أن الصغير يحتاج إلى من يرعاه، وإذا كان الصغير غير قادر على رعاية مصالحه، فإنه ينبغي أن تسند الرعاية إلى من هو أهل، وأحق من يقوم بذلك قرابته.

حضانة المعتوه والمجنون

حضانة المعتوه والمجنون قوله: [ومعتوه ومجنون]. العته ضرب من الجنون، والجنون ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الجنون المستديم. القسم الثاني: الجنون المتقطع. فإذا كان الشخص به جنون فإنه يولى عليه من يقوم على شأنه ورعاية مصالحه، وهذا قول الجمهور رحمهم الله، وهو أن الحضانة تثبت للكبير إذا كان بالغاً مجنوناً. وأما العته فيقولون: إنه ضرب من الخرف، بأن يكون ناقص العقل، ليس مجنوناً ولا عاقلاً من كل وجه، أو أنه يميز الأمور بعض الأحيان ويخلط بعض الأحيان، وهذا نوع من العته، وقد يكون العتة بسبب الحوادث، كأن يضرب على رأسه، فيصبح عنده نوع من الخلط وعدم تمييز الأمور، نسأل الله السلامة والعافية. فالمقصود أنه إذا كان قاصراً في مصالحه لنفسه، سواء كان سبب القصور صغر السن، أو عدم وجود العقل، أو ضعف العقل والإدراك، فإنه يولى عليه من يقوم عليه.

أحق الناس بالحضانة

أحق الناس بالحضانة وقوله: [والأحق بها أم]. هذا ترتيب للأشخاص الذين لهم حق الحضانة، فالحضانة تثبت للأم، ثم أمها وإن علت بمحض الإناث، ثم الأب وأمه وإن علت كأمه وأم أمه، وهي جدة المحضون، وبعد ذلك للجد ثم أمه وإن علت بمحض الإناث، ثم للأخت الشقيقة، ثم للأخت لأم، ثم للأخت لأب، ثم بعد ذلك الخالة الشقيقة، ثم الخالة لأم، ثم الخالة لأب، ثم العمة الشقيقة، ثم العمة لأم، ثم العمة لأب، ثم بعد ذلك تثبت الحضانة لخالة الأم الشقيقة، ثم لخالة الأم لأم، ثم لخالة الأم لأب، ثم عمة الأب الشقيقة، ثم عمة الأب لأم، ثم عمة الأب لأب، ثم بعد ذلك بنت الأخ الشقيق، ثم بنت الأخ لأم، ثم بنت الأخ لأب، ثم بنت الخالة الشقيقة، ثم بعد ذلك لبنات أعمام الأب الأشقاء، ثم بنات العمات الشقيقات على الترتيب الذي تقدم. فعمات الأب الشقيقات، ثم بعد ذلك بنات العمات الشقيقات، ثم بنات العمات لأم، ثم بنات العمات لأب، ثم بعد ذلك لأقرب عاصب من أولياء المحضون. هذا بالنسبة للأصل في الترتيب، وروعي فيه تقديم جهة تقديم الأم؛ لأن الحضانة بالإناث ألصق منها بالذكور، ولذلك قدم النبي صلى الله عليه وسلم حضانة الأم على حضانة الأب، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث المرأة: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي)، فالذي اختصم هنا عندنا الأب وهو الزوج، والأم وهي الزوجة، فبين عليه الصلاة والسلام بقوله: (أنتِ) خطاباً للزوجة وهي أم المحضون (أحق به ما لم تكنحي) أي: ما لم تتزوجي. فهذا أصل عند العلماء رحمهم الله في أن جهة الأمومة مقدمة، ويراعى في الحضانة جهة الأمومة، وهذا لا شك أنه عين الحكمة والصواب، فإن الطفل والصغير يحتاج إلى الرعاية والحنان من الأم، والحنان من الإناث أكثر من الحنان من الذكور والرجال. والرعاية لمصالح الصغار من الإناث أبلغ من رعاية الذكور، فإن في الرجال من الخشونة والعنف والقوة ما لا يخفى، وفي الإناث من اللين والصبر وتحمل أذية الأطفال والصغار ما لا يخفى، فأعطى الله عز وجل كل ذي حق حقه. ومن هنا قدمت جهات الأمهات، فمثلاً: إذا وُجدت أخت لأب وأخت لأم قدمت الأخت لأم على الأخت لأب، وإذا وجدت عمة لأم وعمة لأب قدمت العمة لأم على العمة لأب. وهكذا. فهذا كله راعى العلماء رحمهم الله فيه الأصل الشرعي من تقديم الإناث على الذكور. إذاً: الأولى والأحق الأم، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي) فقوله عليه الصلاة والسلام: (أنتِ أحق) فيه دليل على أن الأم مقدمة في الحضانة، وهذا بإجماع العلماء من حيث الأصل على أن الأم أولى وأحق بالحضانة، ولذلك هي التي تقوم على تربية ولدها ورعاية شئونه، فأولى من حضن الصبي وقام به الأم. وقوله: [ثم أمهاتها القربى فالقربى] لأن أم الأم كالأم، وهي أم؛ ولذلك تنزل منزلة الأم عند فقد الأم، وهي بعد الأم في الترتيب، ثم أم أم الأم، وهي جدة أم المحضون. وقوله: [ثم أب] من أهل العلم من قدم الأب على أم الأم، ومنهم من جعل جهة الأم مقدمة على الأصل في رعاية الشرع لها، فقالوا: إن الأب يكون بعد فقد أم الأم، أو وجود مانع في أم الأم، والأب له حق، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام للمرأة: (أنت أحق به) و (أحق) صيغة أفعل في لغة العرب تدل على اشتراك شيئين فأكثر، وأن أحدهما أعظم مزية من الآخر، فإذا قيل: محمد أعلم من علي، فهم أن محمداً وعلياً كل منهما عالم، ولكن منزلة محمد أعلى من منزلة علي في العلم. فصيغة أفعل، تقتضي التشريك والمزية بالتفضيل، لكن لما قال عليه الصلاة والسلام: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي) أثبت عليه الصلاة والسلام للأب حقاً، ولكنه بين أن الأم أولى، وإلا لأبطل دعوى الأب من أصلها، وقال: لا حق له في ذلك، ولكنه لما قال: (أنت أحق) دل على أن للأب حقاً في حضانة ولده. ولأن في الأب من الشفقة والحنان والرعاية والقيام بالمصالح ما لا يخفى، وفيه من القدرة على رعاية مصالح الصغير ما ليس في الأم، خاصة عند وجود الحاجة لحقوق الصغير عند الناس أو نحو ذلك، أو يحتاج الصغير إلى تعليم أو تأديب أو دلالة على صنعة أو حرفة، فالأب هو الذي يتولى إخراجه لذلك والقيام عليه ومتابعته وأمره بذلك وحثه عليه. وقوله: [ثم أمهاته]. أي: أمهات الأب، أمه وأم أمه وإن علت بمحض الإناث. وقوله: [ثم جد] لأن الجد منزل منزلة الأب، والجد أب من وجه، ولذلك قال الله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78] فالجد بمنزلة الأب، وعلى ذلك أصول الشريعة، فإذا لم يوجد الأب، أو كان في الأب مانع، انتقلت الحضانة إلى الجد. وقوله: [ثم أمهاته كذلك]. أي: ثم أمهات الجد لهن الحق في الحضانة؛ لأنهن منزلات بمنزلة الأب. فإذاً: أصبح عندنا في الأصول الجهات التالية: الأم، ثم تليها أمها وإن علت، ثم الأب، وتليه أمه وإن علت، ثم الجد، وتليه أمه وإن علت، فهذه ستة أنواع كلها مرتبة من جهة الأصول: إما من جهة الأب أو من جهة الأم. وقوله: [ثم أخت لأبوين]. أي: أخت شقيقة. فإذا لم يوجد أحد من الأصول الستة انتقلت الحضانة إلى فرع الأصل، والأصل عندنا من جهة الأب والأم، وأصل الأصلين من جهة الإناث، ومن جهة الذكر بالنسبة للأب، وبعد ذلك انتقل إلى فرع الأصل وهي الأخت، وقد بينا أن الأخت هي التي شاركتك في أحد أصليك أو فيهما معاً. فهنا الأخت الشقيقة لها حق الحضانة، وفيها من الشفقة والحنان والعطف لأنها صنو المحضون، ولا شك أنها ترعى مصالح أخيها؛ لأنها أدلت من جهتين. ثم تليها الأخت لأم؛ إعمالاً لأصل الشريعة بتقديم جهات الأمهات على جهات الآباء، ثم الأخت لأب. وقوله: [ثم لأم، ثم لأب] كل هؤلاء النسوة الثلاث من جهة الأخوة، فتقدم الشقيقة، ثم بعدها الأخت لأم ثم بعدها الأخت لأب، فإذا لم يوجد شيء من الأصول أو وجد وفيه مانع كأب كافر أو أم كافرة والعياذ بالله، وليس هناك من قرب بعد الأصول إلا الأخت الشقيقة، فانتقلت الحضانة إليها، فإن لم توجد الأخت الشقيقة أو بها مانع انتقلت إلى الأخت لأم، فإن لم توجد أو فيها مانع انتقلت الحضانة إلى الأخت لأب. وقوله: [ثم خالة لأبوين]. أي: تستحق الحضانة الخالة الشقيقة، وهي كل أنثى شاركت الأم في أصليها، وأما الخالة لأب أو لأم فإنها شاركت في أحد الأصلين، فالخالة تنزل منزلة الأم في الحضانة، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه لما فتح مكة جاءت بنت حمزة تقول: يا عم يا عم يا عم! فقال علي رضي الله عنه لـ فاطمة: دونك بنت عمك خذيها واحتمليها، فحملتها فاطمة، فاختصم فيها جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعلي بن أبي طالب). فهذه بنت حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي بنت أخيه من الرضاعة، فالنبي صلى الله عليه وسلم عمها، وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم يأخذون ملحظاً بسيطاً وهو أن هذه بنت صغيرة يتيمة عقلت عمها من الرضاع ونادته: يا عم يا عم! وهو عم من الرضاع، فكيف ببنات اليوم تجهل عمها من النسب! انظر كيف يراعى تربية البنات وكيف كانت الأم تربي، لأن أباها حمزة رضي الله عنه استشهد في أحد، وهذا في فتح مكة، والمسافة بعيدة، ومع هذا عقلت عمها من الرضاع، فما بالك بعمها من النسب، وكذا قرابتها من النسب؟! لأن البنت كانت تربى في حجر أمها، وكانت الأم لا تفرط في فلذة كبدها، أما اليوم إذا دخل عليها عمها أو خالها أو قريبها من النسب، فربما جهلته والعياذ بالله، كل هذا بسبب قطيعة الرحم أو بسبب إسناد التربية إلى المربيات والعاملات، وترك الأمهات لواجبهن من الرعاية. الشاهد أن هذه الصغيرة عقلت وصاحت، فاختصم فيها هؤلاء الثلاثة: علي بن أبي طالب يقول: إنها بنت عمي، وكذلك يقول جعفر رضي الله عنه وأرضاه، لكنه قال: وخالتها تحتي، وقال زيد بن حارثة: إنها ابنة أخي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين زيد بن حارثة وحمزة رضي الله عنهما. فقال عليه الصلاة والسلام: (الخالة بمنزلة الأم) وهذا من أقضيته عليه الصلاة والسلام، قضى في هذه الخصومة وفصل بالحق الذي فصل به ربه سبحانه وتعالى وهو خير الفاصلين. وهذا في الحقيقة ينبغي أن يلحظ في أن علياً رضي الله عنه وجعفراً كل منهما أدلى بالسبب الذي هو من جهة العصبة، فكل منهما يعتبر ابن عم من جهة العصبة، فالقرابة موجودة، لكنَّ جعفراً رضي الله عنه وأرضاه فضل من جهة وجود الزوجة التي هي خالة، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: (الخالة بمنزلة الأم) وفضلت من هذا الوجه. ومحل الشاهد في قوله عليه الصلاة والسلام: (الخالة بمنزلة الأم) حيث دل هذا الوصف على أن الخالة تنزل منزلة الأم. ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله أن الخالة لها حق في الحضانة. وقوله: [ثم عمات كذلك] تقدم الشقيقة منهن لأنها أدلت من جهتين، ثم تقدم العمة لأم، ثم العمة لأب. وقوله: [ثم خالات أمه] انتقل إلى خالات الأم، والخئولة جاءت من جهة الأم، ويقدم فيها خالة الأم الشقيقة، وهي التي شاركت أم الأم في أصليها، ثم تقدم الخالة لأم على الخالة لأب. وقوله: [ثم خالات أبيه] أي: أن الخئولة من جهة الأم مقدمة على الخئولة من جهة الأب، يقدم فيها الخالة الشقيقة، ثم الخالة لأم، ثم الخالة لأب، على التفصيل الذي تقدم. وقوله: [ثم عمات أبيه] عمات الأب يراعى فيهن نفس الترتيب: فالعمة الشقيقة، ثم العمة لأم، ثم العمة لأب، هذا من جهة عمات الأب، ولا حق لعمات الأم، وذلك لأنهن يدلين بأب الأم، وهو من ذوي الأرحام وليس من العصبة. ومن هنا فلا حق لعمات الأم من جهة الترتيب الذي ذكرناه في الحضانة. وقوله: [ثم بنات إخوته وأخواته] بنت الأخ الشقيق، ثم بنت الأخ لأم، ثم

إذا امتنع من له الحضانة أو كان غير أهل انتقلت

إذا امتنع من له الحضانة أو كان غير أهل انتقلت وقوله: [وإن امتنع من له الحضانة]. هل الحضانة حق واجب لا اختيار فيها للحاضن؟ أم أنها حق تخييري بأن يقال له: هذا حقك، إن شئت أن تلي حضانة الصغير فلك ذلك، وإن شئت أن تترك فلك ذلك، فينتقل الحق إلى من بعده؟ فيه وجهان للعلماء رحمهم الله: فبعض العلماء يقول: الحضانة حق واجب، وأصحاب هذا القول منهم من يفصل ومنهم من يطلق. فمن يفصل يقول: إذا كان الشخص المحضون لا يقبل غير الأم، أو لا يقبل غير الأب، وثبتت ولايته دون وجود من هو أحق قبله، فإنه يجب على الأب أو الأم الحضانة، وليس لأحدهما حق الترك والتولي، فإذا تركه أحدهما أجبره القاضي أو الإمام الوالي على القيام بحق الحضانة، هذا على القول بوجوبها. والذين قالوا بعدم الوجوب يقولون: إذا تخلى وقال: لا أستطيع أو لا أريد أن أحضنه، فإنها تنتقل الحضانة إلى من بعده. فمثلاً: إذا كانت هناك أخت شقيقة وأخت لأم وأخت لأب، وبينا أن الأخت لأم لا تكون حاضنة للصغير مع وجود الشقيقة، فلو أن الشقيقة قالت: لا أريد الحضانة، وقلنا: من حقها ذلك، انتقل حق الحضانة إلى الأخت لأم، وقس على هذا. فتبين أنه إذا امتنع الأقرب وكان من حقه أن يمتنع، انتقلت الحضانة إلى من بعده. وقوله: [أو كان غير أهل] الحضانة لها شروط لابد من توفرها للحكم بأهلية الحاضن للحضانة: من إسلام وبلوغ وعقل وحرية وحسن ولاية، وعدم وجود مرضٍ معدٍ. ونحو ذلك من الشروط، فإذا توفرت هذه الشروط حكم بالحق لصاحبه لاستحقاقه للحضانة. فإذا وجد فيه مانع كأن يكون كافراً، أو ارتد -والعياذ بالله- فكفر، سقط حقه في الحضانة، فتنتقل الحضانة إلى من بعد هذا الشخص الذي فيه المانع. وقوله: [انتقلت إلى من بعده] أي: بالترتيب الذي ذكره رحمه الله، فمثلاً: لو كان عنده عمة شقيقة وعمة لأم وعمة لأب، وكانت العمة الشقيقة كافرة أو مرتدة، فحينئذٍ تنتقل الحضانة إلى العمة لأم، وهكذا لو وجد مانع في العمة لأم كأن تكون مجنونة فإنها تنتقل الحضانة إلى العمة لأب، وهكذا تنتقل الحضانة لمن هو أقرب.

موانع الحضانة

موانع الحضانة

مانع الرق

مانع الرق وقوله: [ولا حضانة لمن فيه رق] شرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان الشروط التي ينبغي توفرها في الحاضن، فيشترط فيه: أن يكون حراً، والرقيق ليس أهلاً للحضانة من حيث الجملة، والسبب في ذلك: أن الشرع نزع الولاية عن العبد فهو لا يلي أمر نفسه، حتى إن ماله لا يملكه، إنما هو ملك لسيده إلا ما ملّكه، قال صلى الله عليه وسلم: (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) فأخلى يده عن أن يتصرف في ماله، فكيف يتصرف في غيره؟ فهو لا يملك النظر في نفسه فأولى ألا يتولى أمر غيره، والإسلام في مسألة الرق لا يخصها بجنس ولا بلون ولا بطائفة ولا بزمان ولا بمكان، وإنما جعل ذلك راجعاً إلى وجود الكفر بنعمة الله عز وجل والمحاربة لدين الله، فإذا كان الشخص بهذه المثابة سقطت عنه الأهلية حتى صار كالبهيمة، كما قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44]، وحينئذٍ يباع ويشترى ويملك. وعلى كل حال فالرقيق ليس له حق في الحضانة؛ لأنه لا يملك أمر نفسه، فمن باب أولى ألا يلي أمر غيره، ولأنه مشغول بخدمة سيده، فكيف يتفرغ للقيام برعاية هذا الصبي أو هذه الصبية؟! ولذلك لو قيل: إن لهم الولاية لضاعت حقوق الشخص المحضون؛ لأنه إما أن يضيع حق سيده، وإما أن يضيع حق الشخص المحضون، فقالوا: نبقيه على الأصل من أنه مطالب بحق سيده. والبعض يستغرب من الفقهاء أن يقولوا هذا، وهذه أصول شرعية، فالشرع أثبت الملكية، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:5 - 6]، فجعلهم ملك يمين، فجعل الأمة ملك يمين لسيدها، وجعل المملوك مشغولاً بخدمة سيده. وبناءً على ذلك: لا يستطيع العبد القيام برعاية الشخص المحضون، ومن هنا أسقط جمهور العلماء رحمهم الله الحق في الولاية للرقيق على المحضون.

مانع الفسق

مانع الفسق وقوله: [ولا لفاسق]. الفسق: أصله من فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، فأصله الخروج، وسمي الفاسق فاسقاً؛ لأنه خرج عن طاعة الله، والفسق فسقان: فسق مخرج من الملة وهو فسق الكفر، وفسق لا يخرج من الملة وهو فعل كبيرة من الكبائر، أو الإصرار على صغيرة من الصغائر. والفاسق له أحوال: فتارة يكون فسقه مؤثراً في الحضانة، وتارة لا يؤثر في الحضانة. والمسألة هي: هل الفاسق يتولى الحضانة، أو لا يتولاها؟ A من أعدل الأقوال أننا ننظر في فسقه: فإن كان فسقه متعدياً مؤثراً في الحضانة لم يكن له حق في الحضانة؛ لأن المقصود من الحضانة يفوت بولايته، ومقصود الشرع من ولايته أن يقوم بحقوق الحضانة، ومثل هذا لا يؤمن منه. وأما إذا كان فسقه لا يؤثر في الحضانة، فإنك قد تجد الشخص مثلاً مقصّراً ويقع في بعض المحرمات، ولكنه من أغير الناس على عرضه، ومن أحفظ الناس لحقوق القرابة، وقد تجد عنده أخطاء وزلات ولكنه من أصدق الناس قولاً، ومن أحسنهم معاملة، فليس كل فسق يؤثر في الحضانة. ولذلك فإن من أعدل الأقوال في المسألة قول من قال أن ننظر في فسقه: فإن كان فسقه يضيع الحضانة ويؤثر فيها فلا يتولاها، مثلاً: شخص معروف والعياذ بالله ببعض المعاصي من شرب خمر أو فعل محرم من الكبائر، أو مستهتر بالحقوق والواجبات، فمثل هذا لا يعطى حق الحضانة، لكن لو كان يشرب الخمر، ولكن يؤمن شره وضرره على المحضون، أو كانت امرأة قذفت فحكم بفسقها، لكنها من أحرص الناس على أولادها، ومن أحفظهم لحق الولد أو لحق بنات أخيها أو بنات أختها، فإن الحضانة تنتقل إليها ولا يؤثر فسقها بالقذف في الحضانة؛ لأن القذف مما يوجب الفسق. فالشاهد من هذا: أن الفسق إذا أثر في الحضانة نزع الصبي والصغير ولم يكن للشخص حق في الحضانة، وأما إذا لم يؤثر فإن الحق ثابت في ذلك مع وجود الفسق.

مانع الكفر

مانع الكفر وقوله: [ولا لكافر]. الكافر ليس له حق في الحضانة، على مذهب جمهور من علماء رحمهم الله، قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141] وإذا جعلنا لهم حق الحضانة كان نوع ولاية، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه، ولأن الكافر يؤثر على الصغير، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو يمجسانه، أو ينصرانه) فبين أن الصغير يتأثر بمن يليه، قال: (فأبواه) ولأن الغالب في الحضانة أن تكون للأبوين. ومن هنا قطع جمهور العلماء رحمهم الله ولاية الكافر في الحضانة، وهذا هو الصحيح؛ لأن أصول الشريعة تقوي هذا القول وتشهد بصحته.

مانع زواج المرأة بأجنبي

مانع زواج المرأة بأجنبي وقوله: [ولا لمزوجة بأجنبي] الأم لها حق الحضانة ما لم تتزوج، فلو طلقها زوجها فإنها أحق بولدها وبحضانته، فإذا تزوجت نظرنا في هذا الزوج: إن كان أجنبياً عن الصبية التي هي بنتها فإن الحضانة تنتقل من الأم، لقوله عليه الصلاة والسلام: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي)، فلما قال: (ما لم تنكحي) أخلى يدها عن الولاية بوجود النكاح. وأما إذا كان الشخص الذي تزوجها بينه وبين المحضون محرمية، ففي هذه الحالة لا تنتقل ولا تسقط الحضانة عن الأم، واستدلوا على ذلك بقصة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه قال: إنها بنت عمي وخالتها تحتي، فهو ليس أجنبياً عنها، قالوا: هناك قرابة بين جعفر وبين حمزة رضي الله عنهما، وهنا يقولون: بسبب الرضاع الذي بين جعفر وحمزة استحق أن يليها؛ لأنه ليس بأجنبي عن هذه البنت. ومن أهل العلم من قال: إذا كان قريباً ولو بالنسب التي هي قرابة العصبة غير المحرمية فإن له حقاً، وحينئذٍ تعتضد الزوجة بهذا القريب ولو لم يكن محرماً في ولايتها على بنتها. وعلى هذا فالخلاصة: إن كان قريباً له محرمية فلا إشكال في إبقاء الحضانة عند الزوجة، وإن كانت قرابته لا توجب المحرمية، فاختيار طائفة من أهل العلم رحمهم الله وخاصة في مذهب الحنابلة أنه يكون للمرأة حق الحضانة وذلك لوجود القرابة بين زوجها وبين هذه البنت المحضونة. وقوله: [من محضون] أي: الشخص المحضون أجنبي. وقوله: (من حين عقد) إذا قلنا: إن المرأة إذا تزوجت تسقط حضانتها يرد Q هل تسقط بمجرد العقد أم لابد أن يدخل هذا الزوج الأجنبي بها؟ وجهان للعلماء: فمن أهل العلم من قال: لا تسقط حضانة الزوجة إلا بدخول الزوج، وهو مذهب المالكية ومن وافقهم رحمهم الله. ومنهم من قال: مجرد العقد يوجب سقوط الحضانة، وهو مذهب الشافعية والحنابلة رحمهم الله. وقد استدل الذين قالوا: إن مجرد العقد يوجب سقوط الحضانة؛ بقوله عليه الصلاة والسلام: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي)، والمرأة توصف بكونها منكوحة بمجرد العقد، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] فدل على أن المرأة تكون منكوحة بمجرد العقد. إذا ثبت هذا فيقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي) وقد نكحت وتزوجت، سواء دخل بها أو لم يدخل. ومذهب الحنابلة والشافعية على أن العبرة بالعقد أقوى أثراً، ومذهب المالكية ومن وافقهم أقوى نظراً، مع أن الأثر يحتمل؛ لأن العلماء اختلفوا: هل النكاح حقيقة في العقد أو حقيقة في الوطء؟ خلاف مشهور. بعض العلماء يقول: حقيقة في العقد، وبعضهم يقول: حقيقة في الوطء، ومنهم من يقول: حقيقة فيهما. والسبب في ذلك: أن القرآن ورد فيه النكاح بمعنى الدخول، وورد فيه النكاح بمعنى العقد، وأكثر ما ورد بمعنى العقد. وقالوا: إن النكاح بمعنى الدخول دليله قوله تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] فجاءت السنة وبينت أن النكاح هنا المراد به الدخول، وليس مجرد العقد، فصار قوله: ((حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)) المراد به الدخول. ومن هنا يقولون: إن النكاح حقيقة في العقد وحقيقة في الوطء، فإذا كان حقيقة فيهما يكون قوله عليه الصلاة والسلام: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي) يحتمل الوجهين: ما لم تنكحي، أي: تعقدي، ويحتمل: ما لم تنكحي، أي: يدخل زوجك بك. فالمالكية يقولون: لما احتمل الأمرين اعتضد بالأصل، وهو أن الخطر على الشخص المحضون لا يتأتى إلا بعد الدخول، ويكون تقصير الزوجة لانشغالها بالزوج بعد الدخول لا قبل الدخول، فهو أقوى من جهة النظر؛ لأن الأثر من ناحية إطلاق النكاح حقيقة على الدخول أيضاً فيه إشكال. لأن بعض العلماء يرى أن آية البقرة في الطلاق ثلاثاً هي في النكاح، لكن جاءت السنة بزيادة شرط الدخول. وعلى كل حال فالمسألة محتملة، أما من حيث النظر والقوة في المعنى فلا شك أن الدخول هو المعتبر. وقوله: [فإن زال المانع رجع إلى حقه]. أي: فإن زال المانع عن الشخص المحضون رجع إلى حقه، فإذا أسلم الكافر وأفاق المجنون رجع إلى ولايته للحضانة.

الأسئلة

الأسئلة

الحضانة رعاية معنوية لا نفقة فيها

الحضانة رعاية معنوية لا نفقة فيها Q فضيلة الشيخ! إن كان الذي له الحق في الحضانة فقيراً، وكان الذي يليه موسراً، هل يقدم الموسر على الفقير نظراً لمصلحة المحضون، أثابكم الله؟ بعض العلماء يرى أن الحاضن له أجرة، فإذا كان فقيراً صار من باب أولى وأحرى، والسائل يظن أن الحاضن هو الذي ينفق ويقوم على المحضون بالنفقة. فليعلم أن باب الحضانة يشمل أخذ الصغير لتعليمه وتأديبه وتربيته ورعايته، وليس في المسألة إنفاق؛ بل الحضانة رعاية معنوية للشخص وتصريف أموره المادية، لكن لا يدفع الحاضن من ماله، فلينتبه لهذا! فإذا كان الأقرب فقيراً والأبعد غنياً، فنقول: الحاضن له أجرة في الحضانة، فإذا كان له أجرة صار الفقير أولى من جهتها، أي: صارت المسألة بالعكس، أولى لفقره وأولى لقربه، وبناءً على ذلك صار السؤال معكوساً من هذا الوجه. وعلى كل حال فالحاضن لا يدفع من جيبه شيئاً، فالأصل أن ينفق من مال الشخص المحضون، وإذا كان صغيراً فمن مال والده، على التفصيل الذي ذكرناه في النفقات، فالنفقات لها باب مستقل، ويتولى الإنفاق عليه من ذكرنا من قرابته بالضوابط التي بيناها في باب النفقات، لكن هنا مسألة الرعاية والقيام على المصالح، والله تعالى أعلم.

إجراء الأحكام التكليفية على المعتوه

إجراء الأحكام التكليفية على المعتوه Q هل المعتوه تجري عليه الأحكام؟ وهل هو مكلف؟ A الأصل أن العته نوع من الضعف في العقل، فإذا فقد الإنسان الإدراك للأمور وتمييزها سقط عنه التكليف، فهو إنسان غير مكلف؛ لأنه في حكم المجنون. أما العته الذي فيه خرف ونوع من التمييز وله عقل، فطائفة من العلماء رحمهم الله يقولون: إن الشخص يكون في بعض الأحيان من أذكى خلق الله، ولكن فيه قصور، لأن الذكاء شيء والعقل شيء آخر. ومن هنا فالعته لا يؤثر في العقل من كل وجه، ويؤثر في شخصية الإنسان من ناحية تمييز الأمور وإدراكه لها، لكن لا يصل به إلى حد الجنون، فإذا وصل به إلى حد الجنون لم يكن معتوهاً بل يكون مجنوناً.

انتقال الحضانة من الأم إلى أم الأم

انتقال الحضانة من الأم إلى أم الأم Q الأم إذا نكحت هل تنتقل الحضانة إلى أم الأم، أم إلى الأب مباشرة؟ A ذكرنا أن الحضانة للأم، ثم لأم الأم وإن علت بمحض الإناث، وهي أولى من الأب، لأن شفقة الأم أقوى من شفقة الأب، وأم الأم بمنزلة الأم، وأصول الشريعة دالة على هذا، وأقوى الأقوال عند أهل العلم رحمهم الله: أن أم الأم مقدمة على الأب، والله تعالى أعلم.

معنى المأثم المغرم

معنى المأثم المغرم Q في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم) فما هو المأثم والمغرم أثابكم الله؟ A فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذا بأن الإنسان إذا غرم وأصابه الدين وتحمل وقع في الإثم، ولذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يعد فلا يفي) أي: يقول سأعطيك غداً، ثم لا يتيسر له السداد، فيصبح مخلفاً لوعده كاذباً في قوله، فاستعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الحال، كما ثبت في حديث دعاء التشهد وهو حديث صحيح: قالت عائشة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ من هذا وقال: (إذا غرم الشخص حدث فكذب، ووعد فأخلف) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من غلبة الدين، لأن الدين إذا غلب الإنسان كذب في قوله، وأخلف في وعده، وهذه من الفتن العظيمة. ولذلك لا تظهر قوة الإنسان في دينه وصدقه في إيمانه بمثل ما إذا ابتلي بالدنيا فصدق مع الله عز وجل، فالدنيا بلاؤها عظيم، ومن هنا قال عمر رضي الله عنه: (لا تغرنكم دندنة الرجل في صلاته، انظروا إليه في ديناره ودرهمه). فالشخص إذا ابتلي في الدنيا وأصبح غارماً مديوناً اضطر إلى أن يكذب ويخلف الوعد، ويقع في المزالق التي لا تحمد عقباها: إن السلامة من سلمى وجارتها ألا تمر بوادٍ حول واديها فعلى الإنسان أن يبتعد عن أمور الدنيا خاصة تحمل الديون في التجارات أو في أمور غير واضحة، فهذه لا تحمد عقباها، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم وهو يبين حال الاستدانة وعدم سداد الناس حتى يقع الإنسان في غلبة الدين، ويقع في خلف الوعد والكذب إذا حدث، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) وهذا يدل على أن الإنسان إذا أخذ الديون ينبغي عند أخذه أن ينظر إلى أمرين: أولاً: حسن النية في السداد. ثانياً: وجود غلبة الظن على أنه سيسدد. ولا يجوز أن يخاطر بأموال الناس، خوفاً من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليه: (ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله)، فالتساهل في هذه الأمور لا ينبغي. وكم من إنسان تراه مستقيماً على دين الله عز وجل وطاعته ومحبته ومرضاته، فإذا علم الشيطان ضعفه في الدنيا استدرجه حتى يقع فيها، ويمنيه ويعده بالوعود الكاذبة حتى يقع في غلبة الدين، وعندها لا يهنأ له عيش، ولربما تصيبه دعوات السوء والعياذ بالله؛ لأنه قد يضر الناس -والعياذ بالله- في حقوقهم. المقصود أن غلبة الدين لا خير فيها، فقد تهلك الإنسان وتفتنه في دينه ودنياه، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يقضي عنا وعنكم الدين، ونعوذ بوجهه الكريم وسلطانه القديم من فتنة الدين والدنيا والآخرة، والله تعالى أعلم.

الصلاة على فراش في طرفه نجاسة

الصلاة على فراش في طرفه نجاسة Q إذا صليت على فراش كبير وفي طرفه نجاسة هل تصح الصلاة، أثابكم الله؟ A إذا كانت النجاسة في مكان المصلي أثرت في صلاته، وحينئذٍ لا يصح أن يكون الموضع الذي يليه نجساً أو عليه نجاسة، فإذا صلى على موضع نجس بطلت صلاته. والأصل في ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه صلّى بنعلين، ثم خلع النعلين أثناء الصلاة، فخلع الصحابة النعال، فلما سلّم عليه الصلاة والسلام قال: ما شأنكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، قال: أما إنه قد أتاني جبريل فأخبرني أنهما ليستا بطاهرتين) فدل على أنه لا يجوز أن يصلي على الموضع النجس والمكان النجس، والله تعالى أعلم.

كيفية قضاء السنة الراتبة

كيفية قضاء السنة الراتبة Q إذا فاتت السنة الراتبة قبل الصلاة فهل تقضى بعد الصلاة أثابكم الله؟ A يشرع قضاء الرواتب بعد الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى راتبة الظهر، وذلك بعد صلاة العصر وقالت له أم سلمة رضي الله عنها: (رأيتك تصلي ركعتين لم أرك تصليهما من قبل؟ قال: هما سنة الظهر، أتاني وفد عبد قيس فشغلوني عنهما آنفاً). وفي هذا الحديث من الفقه والفوائد شيء كثير، منها: سؤال العالم عما خالف من حاله وهيئته، خاصة فيما يختص بأمور الشرع، فإن الغالب فيها أن يكون لها سبب وموجب. ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك فعل الراتبة في وقتها لانشغاله بالدعوة، ومن هنا استدل به على جواز تأخير الرواتب إذا اشتغل طالب العلم بالدرس، أو بمحاضرة، وأراد أن يؤخر الراتبة، فهذا الحديث أصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الراتبة لدعوة وفد عبد قيس، فلما ترك الراتبة لوفد عبد قيس دل على تقديم العلم والنفع المتعدي على النفع القاصر؛ لأن فضل العلم والدعوة أعظم من فضل العبادة. الراتبة فضيلتها قاصرة، والعلم فضيلته متعدية، ولذلك تجد بعض الجهال يستعجلون في انتقاد الغير ويعتبون على طلاب العلم حينما لا يرونهم يصلون راتبة المغرب ويزدحمون للعلم، وهذا من جهلهم بالسنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم صح عنه تأخير الراتبة، فلا ينكر على طلاب العلم حيث إن لهم وجهاً من السنة. وسبب هذا أن فضل العلم والدعوة متعدٍ، خلافاً للرواتب والعبادة القاصرة، فأخذ من هذا أن الفضل المتعدي مقدم على الفضل القاصر، ومنه أخذت القاعدة أيضاً: أن ما يمكن تداركه، إذا ازدحم مع الذي لا يمكن تداركه، قدم الذي لا يمكن تداركه على الذي يمكن تداركه. ومن هنا قال بعض العلماء: إذا أراد أن يصلي راتبة الظهر وحضرت صلاة جنازة قدمت الجنازة على راتبة الظهر؛ لأن راتبة الظهر يمكن تداركها والجنازة لا يمكن تداركها، حتى قال بعض العلماء: له أن يقطع راتبه الظهر، ولكن هذا محل نظر؛ لأن الأصل يقتضي عدم إبطال النوافل؛ لأن الله يقول: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] فهو ينوي في قرارة قلبه أنه لولا اشتغاله بالنافلة لصلى على الجنازة حتى يكتب له الأجر، لكن إذا لم يجد أحداً يصلي عليها فحينئذٍ يكون من باب ترك الأقل المستحب لما هو أوجب وآكد، وهذا إذا ضاق الوقت. أما بالنسبة للأصل الذي ذكرناه في مسألة الرواتب، فإنه يشرع قضاء الرواتب القبلية، وكان بعض العلماء رحمهم الله يشدد ويقول: حديث أم سلمة رضي الله عنها في قضاء البعدية وليس في قضاء القبلية، ويقول: إذا فاتت القبلية فلا يقضيها، وهذا محل نظر. وقال: إن السبب في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فاتته راتبة الظهر وصلى بعد العصر ركعتين، وهاتان الركعتان قد صليتا بعد الظهر فصدق عليهما أنهما بعدية، لكن إذا كانتا قبلية وفاتت، فإنها تفوت بفوات القبل، وهذا من جهة النظر والعقل، لكن هذا القول مردود بالسنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضاء راتبة الفجر، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قضاها بعد وقتها. وأجيب عن هذا الجواب بأنه قضاها مرتبة، أنه عليه الصلاة والسلام فعلها بعد للفرض، لكن رد هذا بما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الأحاديث من قوله: (لا صلاة بعد الصبح إلا ركعتي الفجر) وفي أحد الأوجه في تفسير هذا الحديث أن المراد به قضاء راتبة الفجر عند من يقول بجواز قضائها بعد تسليم الإمام، ويستثنيها من النهي عن الصلاة بعد الصبح. وأياً ما كان فإن حديث أم سلمة رضي الله عنها لو نوزع فيه وقيل: إنه فعلها بعدية، فإنه يقال: العبرة بفوات المكان، لأن البعدية بين الظهر والعصر، وقد فعلها عليه الصلاة والسلام بعد العصر. ومن هنا يوجد عند العلماء شيء يسمونه الأصل، أي: تتقيد فيه بالوارد، فإذا تيسر الوارد كان لك أجر المتابعة كاملة، وإن تركت الوارد وفعلت غير الوارد وكان الأصل دالاً على غير الوارد كان لك أصل الأجر. مثال ذلك: النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه دعا في السجود، وقال: (اللهم يا مصرف القلوب صرّف قلبي لطاعتك، اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلبي على طاعتك) فأنت إذا دعوت بهذا الدعاء أجرت في الأصل بالدعاء في السجود، وأجرت بالمتابعة في نوعية الدعاء. لكن لو أنك دعوت في سجودك بغير هذا الدعاء الوارد كان لك الأصل، فنحن نقول: الأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الراتبة في غير وقتها، فكون هذه الراتبة جاءت في صفتها بعدية ليس هو المراد، إنما المراد هو مشروعية القضاء. وحينئذٍ يصلح أن يكون الحديث دليلاً على قضاء القبلية وقضاء البعدية على حد سواء، والله تعالى أعلم.

تزاحم العبادات

تزاحم العبادات Q أحياناً تزدحم على طالب العالم بعض الأمور المختلفة، كزيارة الرحم وطاعة الوالدين وما لديه من دروس، فكيف يتعامل مع هذه المهام بالطريقة المثلى أثابكم الله؟ A هذا سؤال يحتاج إلى نظر، أولاً: من حيث الأصل يقدم الواجب على غير الواجب، فبر الوالدين فرض، وهذا الفرض مقدم على غيره من حقوق الآخرين، فإذا سألك والداك، أو احتاج الوالد منك أن تأتي عنده في القرية، أو في المزرعة أو التجارة، فعليك أن تقدم هذا الواجب، وتتقرب إلى الله عز وجل بذلك. إذاً: الواجبات تقدم على غير الواجبات، مثل شخص أو جماعة دعوك في سفر لعمرة أو للصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك، تقول: الدعوة مستحبة وبر الوالدين واجب، والواجب مقدم على المستحب. إذا ازدحمت الواجبات قُدِّم الآكد على غير الآكد، فمثلاً: إذا نظرنا إلى حق القريب نجده من حيث الأصل حق واجب على المسلم أن يصله، هذا القريب قد يكون مريضاً يحتاج أن تكون معه، أو جاءته ضائقه أو ظرف يريدك أن تكون معه، وهناك مثلاً صديق عنده ظرف ويحتاج أن تكون معه، فإذا نظرت وتأكد عليك أن هذا الصديق ليس له غيرك والقريب ليس له غيرك بعد الله عز وجل، فحينئذٍ يقدم الحق الآكد وهو حق القريب، فتقدم حق القريب ثم الأقرب فالأقرب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم أدناك أدناك) فجعل الحقوق مرتبة، والله عز وجل جعل لكل شيء قدراً. فالمسلم ينظر دائماً للحقوق المؤكدة، فالفضائل والمستحبات والمندوبات يقدم فيها المتعدي على القاصر، وهذه قاعدة في التفضيل، وكما ذكرنا في قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع وفد عبد قيس، فإنه يقدم الشيء الذي لا يمكن تداركه، مثلاً: لو كان عندك أثناء الإجازة أشياء لو أخرتها لم يمكن تداركها، وأشياء من المستحبات لو أخرتها عن الإجازة أمكن تحقيقها في غير الإجازة ولو بعض الشيء، فتقدم الذي لا يمكن تحقيقه بعد الإجازة مطلقاً على الشيء الذي يمكن تحقيقه بعد الإجازة بعض الشيء. هذه كلها أمور لها قواعد وضوابط إذا ازدحمت؛ كأن تكون كلها علوماً، وهذه العلوم لا تدري هل تذهب لهذه الحلقة أو إلى هذه الحلقة أو هذه الحلقة، فإذا كانت الحلقة في علم يحتاج إليه كأن تكثر أخطاء الناس فيه، أو كان عالمه يضبطه أكثر أو يتقنه أكثر، أو كان لا يتيسر لك في غير الإجازة، فتقدم بهذه الوجوه، وتراعي التفضيل من هذه الوجوه، وهذا ليس خاصاً بالإجازة، فهذه أصول عامة، وعند العلماء مبحث في التفضيل تكلموا عليه في كتب القواعد الفقهية في قواعد التفضيل. فعلى كل حال، تقدم الأشياء الواجبة على الأشياء المندوبة والمستحبة، وتقدم الواجبات المؤكدة على الواجبات غير المؤكدة، ويراعي في هذا كله النية الصالحة، أعني: أن تنوي في قرارة قلبك أنه لولا انشغالك بهذا الشيء لفعلت ذلك الشيء، حتى تؤجر بعملك ونيتك، وجمع الخير كله تقوى الله عز وجل وسؤال العلماء. فينبغي لكل إنسان أن يرجع إلى أهل العلم: (وما خاب من استخار ولا ندم من استشار) فالذي يسأل أهل العلم ويرجع إليهم في الأمور الشرعية لا شك أنه سيكون على بصيرة من أمره، ويوفق ويسدد. ومن العجيب -وليس هذا من الله ببعيد- أنك عندما تستشير أحداً من أهل العلم، فيشير عليك بمشورة، أن الله يجعل البركة فيما أشار به، إن عاجلاً أو آجلاً أو هما معاً، ومن أراد فليجرب. فهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى خاصة إذا رزق من يستشيره العقل، فإذا ازدحمت عندك الأمور فإن كانت شرعية فارجع إلى أهل العلم، وإذا كانت أموراً دنيوية فارجع إلى أهل العقل والأمانة، فإنهما شرطان لابد من توفرها فيمن تستشير. فالذي عنده عقل أبعد منك نظراً، وأعرف منك في الحظوظ والمفاسد والمصالح، وكذلك وأما الأمانة فلأنه قد يكون عاقلاً فاهماً لكن لا أمانة عنده، وليس عنده نصيحة. فإذا رزقك الله عز وجل استنارة العلم والعقل، فإنك موفق، ومن هنا كان يقول بعض العلماء رحمهم الله: من الناس من رزق العلم أكثر من العقل، فعنده علم كثير لكن عقله صغير، ومنهم من رزق عقلاً أكثر من العلم، فعقله أكبر من علمه، وهذا موجود في الناس، وبعض الناس طالب علم علمه قليل، إلا أن عنده من رجاحة العقل وبعد النظر الشيء الكثير، وهذه هبة من الله عز وجل، ومن الناس من جمع الله له بين الحسنيين: العلم والعقل، فهذا خير المنازل وأفضل ما يكون. فإذا أراد الإنسان أن يستشير فإن كان لأمرٍ ديني فلا إشكال أنه يرجع إلى أهل العلم، وإن كان في أمر دنيوي فإنه يرجع إلى من هو أعقل: شاور أخاك إذا نابتك نائبة يوماً وإن كنت من أهل المشورات فالعين تبصر ما دنى ونأى ولا ترى ما بها إلا بمرآة فتستشير العاقل الحكيم الذي تأمنه على دينك وعرضك وأهلك. وهنا ننبه على مسألة مهمة جداً، وهي أن بعض طلاب العلم تنزل مسائل شرعية، فيأتي شخص ويقول: والله ما أدري أفعل كذا أو كذا والدي يأمرني! والدتي تأمرني! أو كذا، أمر يتعلق بالدين، فتجد هذا يعطيه رأياً، والآخر يعطيه رأياً. والمنبغي على طالب العلم ألا يفتي في المسائل الشرعية إلا إذا كان أهلاً، فالعجب أنك تسمع بعض طلاب العلم يجيبه ويعطيه قاعدة وأصلاً، يفتي ويُنظِّر ويقعد ويستدل وهو ليس بأهل لذلك، فلا يتقحم المسلم النار على بصيرة، هذه نار الله الموقدة، القول على الله بدون علم، حتى في الرأي يجب ألا تستهين بهذه الأمور، فلا تأتِ لأخيك بأمر شرعي ولو في طلب العلم، فتقول: افعل كذا واترك كذا يا إخوان! تحسبوه هيناً وهو عند الله عظيم. الأمور الشرعية تناط بأهل العلم، ويرجع فيها إلى أهل العلم الذين هم أعلم وأحكم، فنحن نقول هذا لأنه يأتينا بعض الأخيار ويقولون: قال لي بعض طلاب العلم: لا تفعل كذا! وافعل كذا! وبعضهم يقول: إن فعلت كذا أثمت! فهذا لا يجوز، فإن تحليل الحرام كتحريم الحلال. والمنبغي الرجوع إلى من أمر الله بالرجوع إليه من أهل العلم وتقوى الله عز وجل. وعلى كل شخص يستشيره أخوه أو يشاوره أن ينصح له، وخاصة إذا أراد الإنسان أن ينصح فيستنصح الأخيار والأتقياء. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهيئ لنا من أمورنا رشداً، وأن يسلك بنا أفضل السبل، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

باب الحضانة [2]

شرح زاد المستقنع - باب الحضانة [2] ترتكز الحضانة على حفظ الصغير عما يضره في دينه أو دنياه، فإذا أراد الحاضن أن يسافر ويأخذ المحضون معه ففي هذه الحالة لابد من مراعاة الأحكام والشروط التي تتعلق بهذه المسألة، كما أن المحضون تنتهي حضانته عند أجل معلوم بينه الفقهاء رحمهم الله، وذكروا تفصيلات ما للحاضن وما عليه.

أحكام سفر الحاضن بالمحضون

أحكام سفر الحاضن بالمحضون بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وإن أراد أحد أبويه سفراً طويلاً]. شرع المصنف رحمه الله في بيان بعض المسائل والأحكام التي تترتب على الحضانة، وهذه المسائل تكثر فيها الخصومات والنزاعات بين قرابة الولد المحضون من والد ووالدة أو حاضر من القرابة، فيختلفون فيمن يتولى حضانة الطفل. وقد بين المصنف الشروط التي ينبغي توافرها، وبعد ذلك رتب أولياء وقرابة الطفل المحضون، ثم شرع بعد ذلك في جواب سؤال مفترض: وهو أننا إذا علمنا من هو الأحق بالحضانة، وفوجئنا أنه يريد أن يسافر بهذا المحضون أو يخرج به، فما الحكم؟ وهذه المسألة على صور: منها ما يتعلق بسبب الخروج والسفر، ومنها ما يتعلق بالمسافة التي يريد أن يخرج إليها هذا المسافر، ومنها ما يتعلق بحال الشخص أثناء السفر، هل هو مأمون أو غير مأمون؛ وكذلك أيضاً حال الطريق التي يريد أن يسلكها أثناء السفر، وحال البلد الذي يريد أن ينزل فيه. ومن هنا يتبين فضل الله عز وجل على علماء الفقه الإسلامي حيث لم يطلقوا الأحكام دون نظر إلى صفات مهمة تؤثر في أصل المسألة. فالحضانة في أصلها قائمة على الحضن والرعاية والصيانة، فالذي يتولى الحضانة يقوم على حفظ الصغير عما يضره في دينه ودنياه، وهذا الأمر الذي هو الأساس لا بد أن يرتبط بالصفات والأحوال التي يتم بها السفر، وبالجهة التي يسافر إليها، والشخص الذي يتولى السفر به. ومن هنا ضبط المصنف رحمه الله مسألة السفر بضوابط: أولاً: إذا أراد الزوج أو الزوجة السفر فلا إشكال إذا كان سفرهما إلى نفس البلد، أو ينتقلون من مدينة إلى مدينة آمنة، ويكون الاثنان مع بعضهما، وحينئذٍ لا تقع خصومة غالباً؛ لأنه إذا انتقل به الوالد أو الوالدة سيكونان مع بعضهما، أو على الأغلب في حالٍ قريب من حال البعض، إلا أن من أهل العلم من يقول: الأب أحق به على كل حال؛ لأن السفر خطر، ويعظم ضرره ويكثر شره، فلا أمانة إلا بالله ثم بالوالد؛ لأن الوالد أقدر على الحفظ والصيانة من الوالدة، والله عز وجل وصف النساء بالضعف، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (إني أحرّج حق الضعيفين: المرأة واليتيم)، فالمرأة ضعيفة في أصل خلقتها وتكوينها الفطري، ومن هنا يقولون: إذا أرادا أن يخرجا فالأصل أن تكون الحضانة للوالد وحينئذٍ يكون أحق بهذا الولد. وبناءً على هذا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الصغير لأمه: (أنت أحق به ما لم تنكحي)، فينتزع الولد عند السفر من الأم، ويعطى إلى الأب في حال السفر، حتى يصلا إلى المدينة أو القرية أو المكان المراد، ثم يُرَدُّ الولد إلى أمه. إذاً: هذا الحكم في حال السفر إذا كانا مسافرين إلى بلدٍ واحد، لكن إذا كانا مسافرين إلى بلدين مختلفين؛ هل الأحق به الوالد أم الأم؟ نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن الأم أحق بولدها ما لم تنكح وتتزوج؛ لأن الأم تحفظ الصغير وتقوم على شئون تربيته وإصلاح حاله حتى يميز، لكن إذا سافرت به، فإن الوالد يرفض ذلك، فنقول: هل نرده إلى أبيه أو نبقيه مع أمه؟ بعض العلماء يقول: إنه يبقى مع أمه؛ لأن الأم هي الأصل، والقاعدة تدل على استصحاب الأصل والأصل أنه عند أمه، فيستصحب الأصل، واستصحاب الأصل دلّت عليه الأصول الشرعية، وهو مسلك في الفقه الإسلامي لا إشكال فيه. والذين قالوا: يكون عند الأب؛ قالوا: إن استصحاب الأصل شرطه أن لا يرد عارض يوجب الانتقال عن هذا الأصل، والعارض هنا: أن الأم ضعيفة ولا تقوى على حفظ الولد، وعليه فينتقل إلى الوالد. والمصنف رحمه الله ضبط المسألة حين اشترط أن يكون السفر آمناً، وبناءً على ذلك: إذا كان مخوفاً، فمن أهل العلم من قال: السفر المخوف يكون المرد والمعوّل فيه على الله ثم على الأب، وهذا القول تدل عليه الأصول، فإن الأب أقدر على حفظ الولد وعلى صيانته، وأيضاً فكلهم متفقون على أن الأنثى إذا عقلت واستغنت عن والدتها وجب ردها إلى أبيها حتى يزوجها، وكأن الأب أقدر على حفظ العرض من الأم، فإذا كنا قد اتفقنا أنه في حال اكتمال عقل المرأة بعد السابعة تدفع لأبيها، فكذلك هنا. فإذاً: قولنا إن الأب أحق من حيث الأصل أقوى للعارض؛ لكن حق الأم جاء في النص: (أنت أحق به ما لم تنكحي) ولم يفرق، من كونها في حضر أو سفر. ومن هنا يقول بعض العلماء: أنا أستمسك بالأصل، وهو أن السنة دلت على أن الأم أحق به ما لم تطرأ طوارئ، سواء كانت في السفر أو أثناء السفر أو المدينة المسافر إليها. وإذا قلنا إن الحضانة ترد إلى الأب إذا كانت الأم تريد أن تسافر، فإن كان الذي يريد أن يسافر هو الأب فلا إشكال، وهو البقاء على الأصل، وهو أن الطفل عند الأم، والحقيقة أن هذا القول هو أعدل الأقوال: أعني أن نبقى على الأصل في الحضانة، ولكن إذا كان السفر مخوفاً واحتيج إلى رعاية وصيانة فإننا نرد الولد إلى والده؛ لأنه أقدر على حفظه وصيانته، حتى ينتقل إلى المكان الذي ينتقل إليه ويعود الأمر إلى ما كان. بالنسبة للسفر هناك سفر لضرورة أو واجب ديني مثل السفر للحج أو للعمرة، فمثلاً: لو أن القاضي قضى بانتقال الولد إلى والده وثبتت الحضانة للوالد، وقد تزوجت الأم ونكحت، ثم أراد الأب أن يسافر إلى الحج أو العمرة، فعلى الأصل الذي قررناه فإنه يسافر، ونقول: إن الولد يرجع إلى أمه؛ لأن السفر فيه خطر وضرر على الولد، وليس بمتعين خروج الولد، وهذا إذا كان السفر لحاجة دينية واجبة. أما الواجب الدنيوي مثل أن يحتاج الوالد أن يسافر لعلاج مريض والولد في كفالته وحضانته، فهل يسافر به أو يتركه؟ نقول: يبقيه عند أمه؛ لأن العلة التي كنا نقول: إن الأم لو كانت هي التي تحضن الطفل وأرادت أن تسافر والسفر مخوف، فإننا نرده إلى أبيه، والسفر من حيث هو مخوف وفيه ضرر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (السفر قطعة من العذاب)، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن السفر عذاب، وهو على الصغار أشد عذاباً وأعظم بلاء، وبناءً على ذلك نقول: يوضع الولد في هذه الحالة عند أمه وتقوم على رعايته. إذاً: بين المصنف رحمه الله حال السفر إذا كان الطريق آمناً، أما إذا كان مخوفاً وأحدهما مسافر والآخر غير مسافر فإنه يكون الحق للذي لا يسافر؛ لأنه ألزم للأصل الذي ذكرناه، ولأن الحضانة شُرِعت للصيانة والحفظ، والخروج يفوت ذلك، فوجب بقاء المحضون عند الحاضن غير المسافر. وقوله: [وإن أراد أحد أبويه سفراً طويلاً] لماذا قال المصنف: وإن أراد أحد أبويه ولم يقل: وإن أراد الحاضن؟ نقول: الحضانة هي صيانة الصغير وحفظه والقيام على شئونه ورعايته، لكن هذا الحق يرتبط به حق آخر للوالد أو الوالدة إذا حُكِم به لضده. فمثلاً: الأم إذا ثبتت لها الحضانة وقضى القاضي أنها أحق بحضانة الولد، وكانا في نفس المدينة أو نفس القرية وليس هناك خروج، فالوالد يتولى تعليم الولد ورعايته وإطعامه وشرابه، وتتولى الأم مرضه وسقمه، فلو أنه مرض أو أصابته علة أو آفة فإنه ينقل إلى الأم، وإذا اصطلحوا على أن الأم تأتيه وتمرضه في بيت والده فلا إشكال. فالأم أحق به في حال المرض حتى ولو كان الحاضن الوالد؛ لأنها أقدر على هذا الشيء، وانظر كيف أن علماء الإسلام ينظرون إلى الأشياء التي تؤثر وتحقق المصالح وتدرأ المفاسد، فالحضانة المقصود بها تحقيق مصلحة الصبي ودرأ المفسدة والشر عنه، فحيثما وجد السبب الموجب لتحقيق هذا الأصل فإننا معه، سواء مع الوالد أو مع الوالدة. فإذا ثبت أن الطرف الآخر له حق، فحينئذٍ إذا أراد أن يسافر أحدهما ضاع حق الآخر؛ لأننا إذا قلنا: إنه يريد أن يسافر إلى بلد لا يوجد فيه الآخر، فلو أن الأب حكم له القاضي بأنه حاضن، وأراد أن يسافر بابنه إلى الخارج لسياحة أو نزهة، فإن الأم ستقول: أنا أتضرر بخروج ولدي وأخشى على الولد، والعكس لو قضى القاضي للأم أنها أحق وأخذت صغيرها، فأرادت أن تسافر به ولو لصلة رحم أو زيارة قرابتها، يقول الوالد: أنا أريد أن أرى ابني، وأخشى على ابني من هذا السفر، فلها الحق في الحضانة ما دامت مقيمة، أما إذا أرادت أن تخاطر بالطفل فلا. إذاً: هذه هي المسألة، ولذلك تدور أقوال العلماء وتفصيلاتهم حول تحقيق مصلحة الصبي ودفع الضرر عنه. إذاً: علينا أن نلزم السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأم أحق، والتفصيل الذي ذكرناه بالأصول الشرعية في ترتيب المستحق للحضانة، ثم إذا طرأ أي طارئ يتحقق به الضرر أو تزول به المصلحة ويحصل في ذلك شر على الصبي، ونظرنا في سببه، فإنه يجب منع ذلك السبب سواءً كان سفراً إلى بلدٍ آمن أو بلد غير آمن، أو كان الطريق مخوفاً أو الشخص نفسه الذي يسافر مخوفاً، فكل هذا ينظر فيه القاضي؛ ولذلك ترد هذه المسائل إلى القضاة للنظر في الأصلح والأفضل للصغير، وهو الأسلم. ومن هنا كان الأصل الشرعي أن يُنظر إلى مصلحة الصبي، فنحن لا نضبطه بهذه الأوصاف كقاعدة كلية، ولكن نقول: إنه متى كان السفر يترتب عليه الضرر للصغير والمسافر أحد الوالدين وجب بقاء الصبي مع الذي لا يسافر، وأما إذا كان السفر غالبه السلامة أو يؤمن على الصبي من ضرره أو ضرر البلد الذي سيسافر إليه والشخص الذي يسافر معه، فحينئذٍ لا إشكال أن الحاضن يبقى حقه في الحضانة.

حكم استصحاب المحضون في السفر الطويل

حكم استصحاب المحضون في السفر الطويل وقوله: [سفراً طويلاً]. هنا Q إذا كانت الأم حاضنة لولدها فأرادت أن تخرج إلى غير سفر، فمثلاً: حصلت مناسبة في ضاحية المدينة، فهل من حقها الخروج؟ نفس الشيء لو كان الحاضن هو أبوه ثم وقعت مناسبة في ضاحية المدينة أو أطراف المدينة، فهل من حقه أن يخرج به؟ قال المصنف: (سفراً)، ويشترط في السفر أن يكون طويلاً، فيخرج ما كان في الحضر؛ لأنهم في الحضر أشبه بالمكان الواحد أو بالمدينة الواحدة، وحينئذٍ فلا إشكال، لكن مع هذا لا يجوز للوالد ولا للوالدة أن يخرجا بهذا الصغير إلى مكانٍ فيه ضرر، كأن يخرجا إلى أطراف المدينة وفيها السباع والهوام، وفيها مثلاً المزارع والآبار، فقد يسقط الصبي في بئر، وقد يتعثر في شيء. فإذاً: مسألة السفر ليست هي التي ينحصر فيها الضرر فقط، فالواجب شرعاً على الوالد أو الوالدة: أنه متى ما أدرك أن خروجه بهذه الصغيرة أو هذا المحضون فيه ضرر، فعليه أن يرده إلى الطرف الثاني كي يتولى حفظه ورعايته، هذا هو الواجب شرعاً؛ صيانة لحق الصبي المحضون ونصيحة له، وهذا هو الواجب على الوالدين، أما من لم ينصح لولده فلا خير فيه؛ لأن أولى الناس بأن ينصح لهم هم أقرب الناس من الإنسان. وقوله: [إلى بلد بعيد ليسكنه]. أي: كأن يريد أن ينتقل، فيتضرر الطرف الثاني، فالأم تريد أن ترى ولدها، والوالد يريد أن يرى ولده، وبعض العلماء يقول: ننظر في البلد الذي تزوج فيه، فمن كان فيه فهو أحق، وبعضهم يقول: ننظر إلى أخف البلدين وأكثرهما أمناً. والحقيقة أن هذه المسألة إذا نظر فيها القاضي ووجد أن هناك ضرراً على الصبي في سفره منعه، وإن كان الضرر في إقامته أمر بسفره لانتقاله مع من يسافر بشرط أن يكون محافظاً عليه، فقد يكون بقاء الصبي فيه ضرر، مثل ما يقع في بعض الأمكنة، حيث يدخلها فساد في أخلاقها، فهذا ضرر ديني، أو يدخلها فساد في صحتها من انتشار الأضرار والأمراض ونحو ذلك، فهذا فساد دنيوي، أو يكون فيها فقر وشدة مئونة، فأراد أن يتحول إلى ما هو أرفق، فهذا كله ينظر فيه القاضي إلى ما فيه مصلحة المحضون. وقوله: [وهو وطريقه آمنان]. أي: أما إذا كان الطريق مخوفاً فلا؛ ولذلك يقول بعض العلماء: إذا كان الطريق مخوفاً فالحق للمقيم، فلو أن زوجاً وزوجة اختلفا في الولد، وقضى القاضي أنه للزوجة، فإذا أرادت الزوجة أن تسافر في طريق مخوفٍ رد الولد إلى والده، وقيل لها: سافري وحدك، أو اجلسي مع ولدك، وهذا عين العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض؛ لأن المراد حفظ الطفل، والصبي بريء ولا يحمل تبعة غيره؛ ولذلك إذا كان الطريق مخوفاً كأرض مُسبعة، أو أرضٍ فيها هوام، أو يريد أن يركب به البحر والبحر هائج، أو يركب بوسيلة خطرة فيخاطر بها، فلا يجوز. وهذه مسائل تساهل فيها كثير من الناس إلا من رحم الله، فاليوم الناس بين إفراط وتفريط، فتجد حتى الآباء قد يتقصد الواحد منهم أذية الأم وجرح مشاعرها وإخافتها وإقلاقها وإزعاجها، ويبحث عن أي شيء يسيء إلى أهل زوجته، ويزعج هذه الزوجة المسكينة الضعيفة بأخذ ولدها إلى الأسفار أو الأمكنة المخيفة، وقد يستخدم ذلك لأغراضٍ يريدها لنفسه، وحتى مثلاً لو أنه طلقها فقد يحتال ليكون الولد عند أمه أو عنده، وبعد ذلك يضغط عن طريق الولد حتى يرد الزوجة إليه. وهذا كله من الظلم: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]، وإن لله ليملي للظالم ولكن لا يهمله، وويلٌ للظالم إذا نزلت به نقمة ربه، فالله سبحانه وتعالى عزيزٌ ذو انتقام وهو بالمرصاد، لا تخفى عليه خافية، وبالأخص مسائل الوالدة وولدها؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من فرق بين أمٍ وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة)، وهذا في بيع أمهات الأولاد، ومع أن للرجل حق البيع والملكية، ومع هذا ضرب الله هذا الوعيد. ومن هنا ينبغي أن ينتبه الوالد إلى أن أذية الأم وإضرارها بولدها ظلم عظيم، ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يضرب المثل في عظيم رحمته سبحانه وتعالى بين للناس بالتمثيل الذي لا يقصد به التشبيه، جاءت المرأة بالسبي تصيح ولهى على ولدها حتى رأته، فلما أخذته ضمته ضَمة، فقال عليه الصلاة والسلام: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟! قالوا: لا، قال: والله أرحم بعباده من هذه بولدها)، فجاء بأعظم شيء في هذه الدنيا حناناً ورحمة وشفقة وهو حنان الأم وعاطفتها تجاه الولد، وهذا الأمر تظافرت به نصوص الكتاب والسنة، فاستغلال هذه العاطفة بالسفر بمحضون، أو استغلال هذه العاطفة لإقلاق الأم وإزعاجها بأخذ المحضون في الأماكن المخيفة وتعريضه للخطر؛ لا شك أنه من أعظم الضرر والأذية، والله يقول بعد الطلاق: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] فإذا حصل الطلاق والفراق بين الزوجين فليذكر الزوج فضل زوجته وفضل أهلها، والزوجة تذكر فضل زوجها وفضل أهله. كذلك أيضاً استغلال أهل الزوجة لحكم القاضي بأنهم أحق بالولد من منعهم الوالد من رؤية ولده وأذيته إذا جاء يرى ولده، والتضييق والتشويش عليه، والأعظم من هذا والأدهى والأمر أن يسيء الوالد أو الوالدة إلى الولد بتكريهه للطرف الثاني، ويغرس في قلبه كراهيته وعقوقه لوالده وتمرده عليه والعكس، فالوالد يغرس في ولده الكراهية لأمه، فيحاول بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، سواء كان بالأساليب القولية أو الفعلية تنفير هذا الضعيف المسكين وإبعاده عن والدته، وكل هذا من الظلم، ولا شك أنه من خيانة الأمانة. فإذا كانت الأم عندها ولدها فعليها أن تعلم أن الله سبحانه وتعالى يحصي عليها ما تقوله وتشهد به، فلذلك لا يجوز أن تملأ قلوب الذرية الضعيفة من الأبناء والبنات غيظاً على الوالد، فاستغلال الحضانة لأذية الطرف الثاني ظلمٌ عظيم، وقد انتشر هذا الأمر بين الناس إلا من رحم الله، وعلى الخطباء والأئمة أن ينبهوا الناس على هذا الموضوع المهم الذي غفل عنه الكثير، واستغلال الحضانة للأذية والضرر وقطع الرحم والظلم للأطفال والتضييق عليهم، والجبروت بالتسلط من الآباء على أبنائهم، فمنهم من يحبس الولد ويضربه ضرباً شديداً، أو يفزعه ويقلقه حتى لا يصل إلى أمه. أقول: إن الأمر تعدى إلى ما هو أسوأ وأعظم مما رأيناه وعرض علينا من خلال فتاوى الناس وأسئلتهم، إلى درجة أن الولد ليكره والدته، وسحر الولد حتى يكره أباه وقرابته، وإلى الله المشتكى، فإذا نزع الدين من القلوب فلا تسأل عن حال صاحبه، ولكن: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران:5]، وإن الله يستدرج الظالم حتى يأخذه أخذ عزيز مقتدر، فالعبد عليه أن يحذر من عقوبات الله، ومن أخذات الله وسطواته عز وجل، فيحذر مثل هذه الأمور التي يجاوز فيها قدره، ويتعدى فيها حده، فيظلم الظلم المبين، فإن من أعظم الظلم بعد الشرك بالله عز وجل: عقوق الوالدين، فإذا كان الحاضن يستغل الحضانة لعقوق الوالدين، والحاضنة تستغل الحضانة كذلك، فلماذا الحضانة؟ الحضانة أصلها التربية والرعاية والتنشئة على الخير والصلاح والبر، وإذا بها على العكس تماماً. ومن هنا: على الآباء أن يتقوا الله في أبنائهم وبناتهم، وعلى الأمهات أن يتقين الله عز وجل، وليعلموا أنها أمانة، وأن العبد يوم القيامة تصور له الأمانة فيرمى في نار جهنم، ويقال له: أدّ أمانتك، فينزل إلى قعر نار جهنم، حتى إذا صعد إلى أعلاها ردت عليه ثانية فيرجع والعياذ بالله، فهو يتقلب في دركات الجحيم من عذابه حتى يؤدي أمانته. وهذا على قدر الأمانة التي يضيعها، فما بالك بأعظم الأمانات بعد توحيد الله وهو بر الوالدين، إذا كان ربى ولده وربت الأم ولدها على بغض أبيه والنفرة منه وأذيته وإضراره، وإعطائه المغريات حتى يكرهه منذُ نعومة أظفاره، نسأل الله السلامة والعافية، فيربى بطريقة حقد وهو جاهل مسكين، على كراهية والده أو العكس، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعيذنا من منكرات الأخلاق وشأن أهل النفاق، وأن يرزقنا الأمانة، وأن يعيذنا من الخيانة فإنها بئست البطانة! الواجب النظر إلى مصلحة الصبي ومصلحة الصبية وما يتحقق به درأ الشر عنهما، فيقضي القاضي بما هو أرفق وأصلح، فحضانته لأبيه، كما ذكرنا؛ لأنهم غلبوا الجانب الأقوى، فإذا كان يريد أن يسافر إلى بلد يسكنه والطريق آمن فإننا نحكم بأن الحضانة للوالد كما اختاره المصنف رحمه الله؛ لأن الرعاية والصيانة من الوالد أقوى، فإن كان هو المسافر فإنه سيحفظه، ولا ضرر على الصبي، وإن كان هو المقيم فلا إشكال، ولكن الأمر يرجع إلى حال الشخص المحضون. بعض الأحيان يكون الوالد في شغل وهم وغم، ويكون معتنياً بالدنيا وقد أخذت الدنيا مجامع قلبه لا يلوي فيها على ولد، ولا يفكر فيها في تنشئته ومصلحته، وكل هذه أمور ينبغي أن تربط بالقاضي فينظر فيها الأصلح، والفقهاء رحمهم الله حينما ينصون على مثل هذه المسائل فيقصدون ذلك عند انتفاء الموانع وعدم وجود الدوافع، لترجيح إحدى الكفتين للوالدة أو الوالد.

حكم سفر أحد الأبوين لحاجة أو سكنى بمرافقة المحضون

حكم سفر أحد الأبوين لحاجة أو سكنى بمرافقة المحضون وقوله: [وإن بعد السفر لحاجة]. مثل السفر من المدينة إلى مكة للحج أو العمرة، فهي حاجة دينية، أو أراد أن يسافر من المدينة إلى الرياض للتجارة. وقوله: [أو قرب لها]. أي: للحاجة، ولما قال: للحاجة خرج السفر بدون حاجة مثل النزهة والسياحة، فهذا يمنع، ويبقى الولد عند الشخص المقيم منهما على الأصل الذي قرره المصنف رحمه الله. فإذا كان يريد أن يسافر لغير حاجة كالنزهة مثلاً ويريد أن يأخذ الولد معه، فلا يأخذه؛ لأن السفر خطر عليه وسواء بعد السفر أو قصر. وقوله: [أو للسكنى]. كأن يريد أن ينتقل فيسكن في موضع بعيد عن الموضع الذي كان فيه، فيحكم به في هذه الصور للأم، لأن الأم هي الأحق في الأصل، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنت أحق به ما لم تنكحي)، ولأن هذا الخروج يضر بالولد عند اختلاف الأحوال، وانتقاله يضر بمصلحة الولد. ومن هنا يبقى في البلد والمكان الذي هو فيه، ولا يخرج الولد. فحينما يريد أبوه أن يسافر لعمرة نقول له: اذهب إلى العمرة واترك الولد عند أمه، أو أراد أبوه أن يسافر للتجارة نقول له: اذهب إلى تجارتك واترك الولد عند أمه، وهذا فيما إذا قضى القاضي بأن الحضانة للوالد. أما إذا كانت الحضانة للأم، فنقول: يبقى الحكم كما هو، لكن إذا كان عند الأب وأراد أن يسافر للحج والعمرة وقال: أنا أريد أن أحج وأريد الولد أن يذهب معي. نقول: لا. بل يبقى عند أمه، فهي أحق وأولى؛ لأن مصلحة الصبي أن لا يسافر، وهذا إذا كان دون التمييز؛ لأن الصبي إذا ميز خُيّر بين والده ووالدته، والمرأة ترجع إلى أبيها.

سن تخيير المحضون بين أبويه

سن تخيير المحضون بين أبويه وقوله: [فصل: وإذا بلغ الغلام سبع سنين عاقلاً خُير بين أبويه، فكان مع من اختار منهما]. هذه مسألة التخيير إذا بلغ الغلام سبع سنين، ولما قال المصنف: الغلام، خرجت الجارية، والحضانة تستمر إلى سبع سنين، وإذا بلغ الغلام والجارية سبعاً، فالجارية التي هي البنت ترد إلى أبيها إذا كانت الأم هي الحاضنة. فمثلاً: طلق رجلٌ امرأته وعندهم بنت، فقضى القاضي بأن البنت لأمها، فبقيت عند أمها تربيها وتقوم على شئونها والأب يصرف عليها حتى بلغت سبع سنين، فبعدها تدفع إلى أبيها؛ لأن الأب أقدر على حفظ البنت، وصيانتها مما يضرها في عرضها، وهي أحوج في هذه الحالة إليه، وأيضاً هو أولى بتزويجها، لأنه وليها، فترد البنت إليه، ومن هنا ذكر المصنف الغلام؛ لأن البنت إذا بلغت السبع رُدت إلى أبيها، وتحديد السبع السنين مبني على سن التمييز. وهناك سن للتمييز وسن للرشد والعقل الذي هو البلوغ، وهو أن يكون بالغاً سن الحلم، فأما سن التمييز فهو السن الذي يميز فيه الصبي الأمور، وبعض العلماء يضبطها بالعدد، فيقول: سبع سنين، وبعضهم يضبطها بالحال، فيقول: أن يفهم الخطاب ويحسن الجواب، فمثلاً لو قيل له: ماذا تفعل؟ يقول: أفعل كذا وكذا، نقول للذي يفعل: لماذا تفعل؟ يقول: أفعل من أجل كذا. فإذا فهم الخطاب وأحسن الجواب، فإنا نحكم بتمييزه ولو لم يبلغ سبع سنين؛ لأن الأطفال يختلفون، وهذا القول لا شك أنه صحيح، فإن الأطفال يختلفون فهماً وإدراكاً، ولذلك كان الضبط بالحال له وجهُ، لكن لما جاءت السنة بالأمر بالصلاة لسبع، صار أصلاً غالباً أنه لا يصل إلى سبع إلا وقد ميز، والاستئناس بالمشروع والوارد أفضل وأولى، والأصل أن نقدم الوارد على غير الوارد، ومن هنا صارت السبع ميزاناً، وقد مرت بنا مسائل كثيرة في العبادات والمعاملات ربط العلماء بها الحكم بالسبع سنين. فبين المصنف رحمه الله أن سن التمييز هو السبع، والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اختلف الرجل مع زوجه والحديث صحيح على شرط مسلم (خير النبي صلى الله عليه وسلم الغلام، وأمر أباه أن يجلس في ناحية وأمه في ناحية، فقال له: هذا أبوك وهذه أمك اختر أيهما شئت، فاختار أمه) وهذا بالنسبة للغلام الذكر، فيبقى مع من يختار منهما، وحينئذٍ قضى العلماء رحمهم الله بهذا الحكم، وأجمعوا على مسألة التخيير. وانظر سمو منهج هذه الشريعة الإسلامية في المحضون، فإنه إذا كان دون الإدراك ودون التمييز ينظر إلى مصلحته والأرفق والأعدل به، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمه أولى به؛ ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم وقضى الصحابة رضوان الله عليهم أن الأم أحق، فقال عليه الصلاة والسلام: (أنت أحق بها ما لم تنكحي). وعمر بن الخطاب في قصته المشهورة لما فصل القضية في الرجل الذي اختطف ولده من عند جدته وأمه، فاشتكته إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فقال له: ريحها وحضنها أطيب له منك، يعني: من الوالد؛ لأنه في هذه الحالة أحوج ما يكون إلى اليد الحانية والأم المشفقة، فجعل الأصل في حضانة الصغير أن تتولاها الأم، ثم بعد ذلك إذا ميز الصبي فلا يكره على والدٍ ولا على والدة. فهذه هي الحرية المعقولة، المنضبطة المبنية على أسس سليمة صحيحة، فيخير؛ لأن هذا من الوحي، وهي الحرية المبنية على الحق الذي قصه رب العالمين الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، ففصل الله عز وجل بهذا، فيقال له: اختر أيهما شئت: إن اختار الوالد فيكون مع والده، وإن اختار الوالدة فيكون مع والدته. ولو أنه غير هذا الاختيار، فاختار الأسبوع الأول أن يكون مع الوالد، فقال: أريد أبي فيرجع إلى أبيه، وإذا قال: أريد أمي فيرد إلى أمه ولا يكره، ولا يضيق عليه، ويجعل الأمر على الشيء الذي يرتاح إليه الطفل، فإذا كان يرتاح للوالد والوالدة حرص كلٌ منهما على الإحسان إليه والملاطفة به، خاصة من بعد السبع السنين، فهو يحتاج إلى شيء من الإحسان والبر حتى يعقل الأمور ويميز، فإذا وصل إلى سن الرشد، فلا إشكال حينئذٍ، ومن هنا قضى العلماء رحمهم الله بالتخيير، لكن هذا التخيير له أصول؛ كأن يكون منضبطاً، فإذا اختار الوالد من أجل العبث واللعب منع من ذلك. ومن هنا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عن صبيّ أنه خيره القاضي، فقال له: هذه أمك وهذا أبوك فاختر أيهما شئت، فاختار أباه، فقضى القاضي أنه لأبيه، فقالت المرأة الموفقة العاقلة الحكيمة: يرحمك الله أيها القاضي، سله لماذا اختار أباه؟ فسأله القاضي: فقال هذا الصبي: إن أمي تبعث بي إلى المعلم فيضربني، وأما أبي فيبعثني إلى الأولاد فألعب معهم، فقال القاضي: هو لأمه؛ لأنه إلى الآن لم يميز وأصبح تخييره قائماً على الهوى، وتبين أن الوالد لا يريد مصلحته، فإذاً: ليست القضية قضية حرية منفردة؛ لأن الصبي لا عقل عنده، ولم يصل إلى سن الإدراك، فإذا كانت المصلحة في بقائه عند أمه أبقاه؛ لأن أمه ستعلمه، قالوا: وإنما لم يخير لأن الوالد عليه أمانة التعليم والرعاية للولد، فضيع هذه الأمانة، حتى أن الأم صارت هي التي تقوم على تعليم الولد. ونسأل الله السلامة والعافية من أمور تتقرح لها القلوب، لو أن الإنسان يسمع أقضية الناس وفتاويهم لتقرح قلبه مما يسمع ويرى من إهمال الآباء لحقوق الأولاد، يتزوج الرجل وينجب، ثم يبحث عن الثانية والثالثة، ويطلق السابقة ولا يبالي بأولاده ولا ينظر إليهم. إنما المهم أن يشبع شهوته وغريزته دون التفات إلى هذه الحقوق وإلى ما فيه مصلحة الولد، فهذه أمانة ومسئولية عظيمة، فالتخيير شرطه أن لا يكون فيه ضرر على الولد، فإذا كان فيه ضرر على الولد رجع إلى الأصل، فإذا كانت الأم عُرِفت بصلاحها واستقامتها وعنايتها وضبطها للولد وكانت بيئة الوالد فيها إفساد وإضاعة ومجون وهوى، فحينئذٍ للقاضي أن يتدخل. فيختار جمعٌ من العلماء والأئمة والمحققين: أن الشرع ينظر إلى التخيير فيما فيه مصلحة الولد كما ذكرنا، لكن شريطة أن تكون منضبطة بالأصول الشرعية، إذ لا يعقل أن نقول: يقضي القاضي بأنه لأبيه، وأبوه يفسده، ولا يمكن أن نقول: إن القاضي يقضي بحكم الله عز وجل بما فيه ضرر للولد وفساد، فالتخيير ضبطه بعض العلماء بشرط ألا يكون موجباً لضرر على الولد في دينه أو دنياه.

حكم بقاء المحضون عند من لا يصونه ولا يصلحه

حكم بقاء المحضون عند من لا يصونه ولا يصلحه وقوله: [ولا يقر بيد من لا يصونه ويصلحه] أي: حتى ولو قضى القاضي واختار أباه؛ ثم إذا بالولد تردت أخلاقه وساءت أموره، فأصبح والده في شغله وتجارته، وكان الولد أولاً عند أمه ترعاه وتحفظه وتصونه وتعلمه الأخلاق الفاضلة وتقوم على شأنه، فشهد الشهود أنه حينما كان عند والدته كانت أحواله مرضية مستقيمة طيبة، وعندما ذهب عند والده فسدت أخلاقه وأحواله، فحينئذٍ إذا أثبتت الأم هذا بالبينة أو أثبت قرابتها ذلك قضي برجوعه إلى أمه، ولا يقر ولا يترك عند من يفسده ولا يصونه بل يهمله ولا يحافظ عليه.

من أحق بالمحضونة بعد السبع

من أحق بالمحضونة بعد السبع وقوله: [وأبو الأنثى أحق بها بعد السبع] أي: من جهة صيانة العرض، ولأنه أقدر من الأم التي قد لا تستطيع أن تدفع عن ابنتها الضرر، وهو أحق من جهة الولاية في تزويجها، ومن هنا فإن العمل عند أهل العلم رحمهم الله على أن البنت تنتقل إلى أبيها بعد السبع. وقوله: [ويكون الذكر بعد رشده حيث شاء]. هذه المرتبة الثالثة، وهذا غير التمييز بالقضاء الذي قضيناه في الحضانة، فإنه إذا ميز يخير، فإذا وصل إلى سن الرشد فإن أراد أن يكون عند والده أو والدته أو يكون مستقلاً، فالأمر إليه، لكن يجب عليه أن يبر والديه، ويكون قريباً منهما وأن لا يبتعد عنهما؛ خاصة إذا كانا بحاجة إليه، ولا يجوز سفر الولد إلا بإذن والديه إذا كان معهما في المدينة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحيٌ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد). ومن هنا أجمع جماهير السلف والخلف رحمهم الله على أنه لا جهاد إلا ببر الوالدين، وأنه يجب استئذان الوالدين ما لم يكن جهاده فرض عين، وهي الثلاثة الأحوال التي تقدمت معنا في باب الجهاد، فحينئذٍ لا يستأذن الوالدين ويسقط إذن الوالدين؛ لأن الدفاع في هذه الحالة دفاع عن الوالدين، لكن لا يجوز للإنسان أن يضيع حق والديه خاصة عند المشيب والكبر، والوالد يحتاج إلى قرب ولده منه، والوالدة كذلك تحتاج، فلا بد أن يكون قريباً منهما، وأن يحسن إليهما ويبرهما. وقوله: [والأنثى عند أبيها حتى يتسلمها زوجها] ولذلك فإن الوالد أقدر على حفظ العرض، وهو أحق من جهة الولاية على عقد النكاح، ومن هنا فإن العمل عند أهل العلم رحمهم الله والفتوى على أن البنت تكون عند والدها ولا تكون عند والدتها في هذه السن.

الأسئلة

الأسئلة

حكم بقاء المحضون عند الأب نهارا إذا كانت الحاضنة الأم

حكم بقاء المحضون عند الأب نهاراً إذا كانت الحاضنة الأم Q إذا خير الغلام بين أبويه فاختار البقاء عند أمه، فهل من حق والده أن يجبره على العمل معه نهاراً؟ A إذا قضي بالحضانة للأم فالنهار يكون عند الوالد يعلم الولد ويربيه، وسواء علمه العلوم التي يستفيد منها لنفسه، كما كان في القديم حيث لا مدارس تأخذ الأطفال والأولاد، وإنما كانوا في المساجد وحلق الذكر، فيأخذه أبوه من عند أمه ويذهب به إلى شيخ يحفظه أو يعلمه، وكانت مسئولية الأب في النهار، وهذا نص عليه أهل العلم رحمهم الله: أنه يتولى تعليمه والذهاب به إلى من يعلمه ويقوم على تأديبه ودلالته على الخير. كذلك يعلمه الصنعة، أي: إذا نضج أو اختار أمه وهو في السابعة، فحينئذٍ يحتاج إلى تعليم صنعة، خاصة في القديم فقد كان الولد يحتاج لتعلم صنعة حتى يستطيع أن يقوم على أمره بعد استقلاله عن والديه، فيأخذون ويعلمونه صنعة من الصنعات بعد التاسعة أو العاشرة على حسب قدرته وطاقته للعمل. فإذاً: المنصوص عليه عند العلماء: أن الوالد يتولى أمور ولده في النهار تعليماً وتهيئة لظروف الحياة والمعيشة، وأما في الليل أو بعد انتهاء العمل أو بعد انتهاء التعليم، فإنه يرده إلى أمه وتقوم على شأنه، وهذا بالنسبة لمسألة الحضانة. أما الأم فهي أحق به في الليل والنهار، لكن في النهار لا بأس أن يأخذه الوالد من أجل تربيته وتعليمه ما ينفعه، والله تعالى أعلم.

حكم زيارة الأم أولادها إذا كانت سيئة الأخلاق

حكم زيارة الأم أولادها إذا كانت سيئة الأخلاق Q إذا كانت الأم سيئة الأخلاق فهل لها الحق في زيارة بناتها، علماً أن الأب يخاف على بناته؟ أثابكم الله. A على كل حال، لا يستطيع أحد أن يفرق بين الأم وولدها، الأم لا بد أن ترى أولادها، ولابد أن تمكن من زيارة أولادها، أما سيئة السمعة أو سيئة اللسان، فشرها على نفسها، ولا يوجد أعظم من الشرك، وقد جاءت أم أسماء رضي الله عنها وأرضاها إلى بيتها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تبرها وتحسن إليها وتكرمها. وليس هناك أعظم من قول الله عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [لقمان:15] (جاهداك) أي: أنهم بذلوا غاية الجهد، {عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، وليس هناك أعظم من حق الله عز وجل، وليس هناك ذنب ولا فساد ولا ظلم أعظم من الشرك، ومع ذلك: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، فإذاً: لا يستطيع الإنسان أن يتدخل في هذا الحق الذي أمر الله عز وجل به. نحن لا نقول: تجلس البنات بطريقة تفسدهن الأم، ولكن الناس يبالغون في أوصاف الأشياء طلباً لأحكامٍ توافق آراءهم وأهواءهم، لا يريد الأم أن تدخل البيت، وهو يريد أن يأخذ بذلك حكماً شرعياً ينسب إلى شرع الله عز وجل ودين الله، هيهات! نقول له: تعال، ما الذي تخشى؟ يقول: أخشى أن تفسدهن، نقول: إذا جاءت الأم فاجلس في ناحية البيت واسمع ما تقول، هل تفسدهن أو تأمرهن بشيء، أو تجلس معها امرأة تثق بها، هناك مائة حل موجود، لكن أن تبطل الأصول وتهدم القواعد الشرعية لقضايا عينية، ولأسباب موجبة للاستثناء من هذه الأصول، نحن نقول: هذه عوارض تعالج بما يندرئ به الشر ويتحقق به الخير. والأم إذا أرادت أن تزور أولادها فتمكن من زيارة أولادها، ثم إذا كان هناك ضرر فتمكن بطريقة لا ضرر فيها، وحينئذٍ أخذ الوالد حقه، فصان ولده، وأخذت الأم حقها فرأت أولادها وبروها وأحسنوا إليها، والعجيب: أنك تجد الأم من شر خلق الله، في إساءتها وإضرارها، ولكنها إذا رأت أولادها وحاول أولادها يحسنون إليها أو يحتوونها، فإنه يخف شرها ويندرئ بلاؤها، فإن كثيراً من الأمور والشرور تندرئ إذا تعقل الإنسان وعالج السيئة بالحسنى، ولكنَّ كثيراً من الشرور تعظم وتتفاقم إذا أطفئت النار بالنار، فالأم تمنع من أولادها فتزداد حقداً وسوءاً وشراً. والغريب أن الإنسان إذا أنصف وأعذر، هان عليه كثير من الأشياء. أذكر ذات مرة أن أناساً اشتكوا من امرأة جاءت مع ولدها وهو مصاب بحادث، وإذا بها سيئة مع من معها ومن بجوارها، والكل يشتكي منها، وشاء الله عز وجل حينما جئت من العمل فسمعت وسلمت على الإخوان هناك من باب الزيارة، ففاتحوني في الأمر واشتكوا، فقلت لهم: يا إخوان! اتقوا الله في هذه المرأة، المرأة تخرج عن طورها وتسوء أخلاقها تحت ضغوط وظروف، هذه امرأة ولدها له تقريباً تسعة أشهر بين الحياة والموت، وقع عليه حادث فأغمي عليه، فشلت أطرافه كلها، وما استطاع أن يحرك شيئاً. وأيضاً قطعت المرأة هذه البحار كلها من أجل أن تعالجه مع زوجها، ثم رماها زوجها وأهمل ولدها؛ وهذه بعض الظروف التي لاقتها هذه المرأة، ولو مرت هذه الظروف على رجل لانهدت عزيمته وخارت قواه، فكيف بامرأة؟ فقلت: يا إخوان لا يصلح هذا، ليست هذه هي الطريقة التي تعالج بها الأمور، الإنسان عندما ينظر إلى شر غيره أن يبحث عن أسباب ذلك. الولد تجده يفعل الأمور التي لا تفعل، لكن حينما تفتش عن أسباب قد تكون تافهة تعالجها فتستقيم الأمور، وكم من أناسٍ يخرجون من عقولهم وأطوارهم بظروفٍ وضغوط معينة، فهل هناك أم سيئة الأخلاق مع ولدها؟ الغالب لا، فلابد أن يوجد شيء لا معقول؛ لأنها خرجت عن العقل والفطرة، فلا بد من وجود شيء قاهر يقهرها حتى أنها خرجت عن هذه الفطرة، وهذا في الغالب. ولذلك ينبغي أن تعالج الأمور، وهذا هو شأن الرحماء والعقلاء والحكماء، وبالأخص أهل العلم وطلاب العلم والمفتون ونحوهم، فلا يستعجلون في إصدار الأحكام، فقد يأتي الشخص للقاضي ويتظلم، ويذكر كثيراً من الصفات الشنيعة، وقد يأتي للمفتي وقد هيأ كثيراً من الأسباب، الزوج يشتكي من زوجته أنها تفعل وتسب وتشتم، وقد يكون هو السبب في السب والشتم والأذية والإهانة والإضرار، ارجع إلى الوراء واسأله كيف كان يعاملها، وكيف كان يأخذ ويعطي معها، وسوف تجد لماذا خرجت هذه المرأة عن طورها! وكثيراً ما نجد السائل يعطيك صورة بشعة للطرف الثاني من أجل أن يصل إلى غرض معين تحت حكم الله عز وجل ورسوله وهيهات! فعلينا أن نتقي الله عز وجل وأن نعدل. ثانياً: المبالغة في الأوصاف في المسائل، فقد يقول لك مثلاً: هذه أم شريرة أو أم سيئة أو أم كذا أو أم كذا، كثيراً ما يمر بي بعض الأشخاص ويقول: فلانٌ شرير، أقول له: ماذا عرفت من شره، فيظل يتذكر، مما يدلك على أنه يريد غرضاً معيناً، ويجلس يبحث، ثم إذا جاء يقدم لك بدأ يقدم لك شيئاً ليس بذاك. قال الإمام الشافعي رحمه الله: حضرت قاضياً جاءه رجل فطعن في الشاهد، فقال له القاضي: لا أقبل حتى تبين بماذا تجرحه؟ فقال له: أنا أعلم الذي يجرح من الذي لا يجرح، قال له: لا أقبل جرحك حتى تبين لي، قال: رأيته يوماً يبول قائماً، قال له: وما شأنه أن بال قائماً، قال: إنه إذا بال قائماً لطخ ثوبه وقدميه وصلى بغير طهارة، ثم قال له القاضي: هل رأيته فعل ذلك؟ قال: لا، قال: اسكت رحمك الله، ليس هذا جرحاً، بل هذا اختلاق الأشياء وتركيب بعضها على بعض، وهذا هو مصداق قوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ} [الأنعام:43]. إذاً: ليس هناك شيء يهذب الإنسان مثل العدل، ولا يمكن أن يكون العدل من الإنسان في الحكم على الغير إلا بالخوف من الآخرة، فالشخص الذي عنده خوف من الآخرة هو الذي يعرف كيف ينصف إذا حكم أو قوم، بل إنك تجده أبعد الناس عن الكلام في الناس، ومن أسلمهم وأعفهم لساناً وأطهرهم جناناً وذلك من توفيق الله عز وجل. فالمقصود: أن الحضانة لا يمكن أن يحال فيها بين الأمّ وأولادها، والواجب على الأزواج أن يتقوا الله عز وجل في زوجاتهم. وأذكر ذات مرة قضية قريبة من هذا: وهي أن أمّاً مُنعت من زيارة بناتها، وفعلاً كانت شريرة وذات بأسٍ شديد، وشاء الله في يوم من الأيام أن جاءني أحد أقاربها واشتكى لي، وكان عاقلاً حكيماً منصفاً، فقلت: ما بها؟ قال: القضية كذا وكذا، فأراد أن يتدخل في الموضوع، فجيء بقرابة الزوج وكان الزوج معهم، فقال الزوج: هذه لا يمكن أن تدخل بيتنا ولا تزور أولادها، هذه تفسد وتفعل كذا وكذا، فقلت لهم: كم مرة زارت أولادها؟ فذكروا أن لها سنوات وكنت أظن أنها قريبة، فتبين أن لها سنوات وأنها جاءت مرات وكرات فمنعت، فسألتهم حينما تأتي تزور ماذا تفعلون؟ وإذا بها أمور لا تمت إلى الإسلام بصلة، إهانة وإذلال وإضرار وتضييق بطريقة عجيبة جداً، وكل هذا لا يرونه، لكن ينظرون أنها سيئة الأخلاق، لا ينظرون أنه ضيف نزل بيتهم وأنه ذو رحم: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237]، ويوجد فضل وقرابة بين الأسرتين. فالشاهد: قلت: أريد والد الزوج على انفراد، وهذا أمر أوصي به دائماً في حلول المشاكل الزوجية أنها لا تحل بالعلن، بل تجلس مع كل شخص على انفراد، فقلت له: أتخشى الله والدار الآخرة، وتعلم أنك ستقف بين يدي الله، وخوفته بالله وبالدار الآخرة، وقلت له: أنت مسئول أمام الله؛ لأني أعلم أن له قوة على ولده وسلطة على البيت والأسرة، فقلت له: نعم، هناك أخطاء من أم الأولاد نظرتم إليها، ولكن أنتم عندكم أخطاء، والإنسان العاقل دائماً يبحث عن أخطائه عند الغير، فأخذت أبين له، والمقصود: أني قلت له: الآن تسمحون لها بزيارة أولادها ولكن بطريقة كذا وكذا، وطبعاً مرت بهم ثلاثة أسابيع تقريباً وما جاء بعد شهر ومن فضل الله سبحانه وتعالى صلحت الأسرتين وحسنت الأحوال، وأصبحت الأم كأحسن ما أن تراها في خلقها وهي تدخل البيت، وكلهم مجمعون على أنها كانت شريرة تؤذي وتضر فالشاهد أنها حينما أكرمت وأعطيت حقوقها، ووضعت في مكانتها، استحت وكسرت عينها، وأصبحت تقلل من شرها رويداً رويداً، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه) فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يعيذنا من منكرات الأخلاق والأدواء، والله تعالى أعلم.

السنة في الإطالة في سنتي الفجر والمغرب

السنة في الإطالة في سنتي الفجر والمغرب Q هل من السنة الإطالة في سنتي الفجر والمغرب أم التخفيف؟ A السنة في صلاة رغيبة الفجر، أنها تخفف، قالت أم المؤمنين عائشة: (لا أدري أقرأ فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بفاتحة الكتاب أو لم يقرأ) من خفة الركعتين؛ فالسنة أن لا يطيل في رغيبة الفجر. أما بالنسبة للمغرب: فوقتها بين الأذان والإقامة، فالسنة يكون وقتها ضيقاً، ولا يتوسع فيه لأمرين: أولهما: أنه يُخشى فوات الفضيلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبادر بصلاة المغرب، فإذا أخر عن الناس الإقامة فوّت عليهم هذه الفضيلة، والواجب على الإمام أن ينصف المأمومين، وأن يحرص على أن تكون صلاته على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأكمل والأتم والأفضل. وثانيهما: أنه ربما أخر الإقامة، وأضر بالناس معه، لأنهم في الغالب يأتون من شغل من أعمالهم، فيريدون أن يستريحوا ويستجموا أو يكون صائماً يريد أن يفطر، فالأرفق بالناس في المغرب هو التخفيف، وهو يشمل قضية المبادرة بالإقامة، ومن هنا جاء الأثر عنه عليه الصلاة والسلام أن يجعل بين الأذان والإقامة قدر ما يفرغ الآكل من أكله، والمتوضئ من وضوئه. إذا ثبت هذا فمعناه أنه ليس هناك وقت لإطالة سنة المغرب، فالسنة التي قبل المغرب وقبل الفجر لا يطوّل فيهما، أما السنة البعدية فإذا أراد أن يطيل فيها فلا بأس بذلك. أما السنة القبلية فقد ثبت فيها حديث صحيح: (صلوا قبل المغرب ركعتين، صلوا قبل المغرب ركعتين)، فالأفضل فيها ما ذكرنا، فالإمام يبادر بالإقامة ولا يطيل في هاتين الركعتين، لكنهما ليستا من السنن الرواتب، أما بعد المغرب فلو أراد أن يصلي الراتبة فله أن يطيل ما شاء ما لم يدخل وقت العشاء كما عند بعض العلماء؛ لأنه السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء)، فإذا أراد أن يطيل فليطل، لكن السنة الفعلية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يحفظ عنه التطويل، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب العمل ويتركه توسعة على الأمة، واجتزاءً بالأقل، لكن إذا أحب أن يطيل فلا بأس ولا حرج وليس هناك مانع، ولا يقال: هذا لا يجوز، أو هذا: بدعة أو محرم؛ لأن الأصل جوازه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا غربت فصلّ، فإن الصلاة حاضرة مشهودة)، وهذا يدل على التوسعة ولا بأس في ذلك، هذا بالنسبة لمسألة الإطالة. أما رغيبة الفجر فإن النص فيها وضحٌ جلي، أن يخففها الإنسان والله تعالى أعلم.

النصح لطلاب العلم

النصح لطلاب العلم Q أنا شابٌ أحببت طلب العلم وأرجو من الله أن يوفقني فيه، ولكن مشكلتي هي أنني أحياناً لا أحب أن أنصح إخواني في طلب العلم، بل ربما أعلم أن هناك شاباً يحب طلب العلم فلا أنصحه ببعض ما يحتاجه المبتدئون، وكل هذا خوفاً أن يكون أفضل مني، أو يتقرب إلى الله أكثر مني، وأنا أعلم أن هذا ليس من أخلاق طالب العلم؟ فأرشدوني أثابكم الله. A هذا بلاء عظيم، والشخص إذا حُرم إفادة الغير بالعلم فليعلم أن بركة علمه قد محقت، فالعلم ما قام إلا على نفع المسكين؛ لأن العلم تبليغ رسالة وأداء أمانة، فإذا أراد الله بعبده السعادة والخير بعد الهداية شرح صدره للعلم، هذه أول نفحات الله عز وجل بعد الهداية، أن يشرح صدره للعلم. ثانياً: إذا وفقه الله لمحبة العلم والرغبة فيه يسر له من يوثق بدينه وأمانته من أجل أن يتعلم، فيكون علمه صواباً وحقاً فلا يذهب يجثو على ركبتيه عند أئمة الضلال، الذين لا علم عندهم أو عند المتعالمين أو نحو ذلك. ثالثاً: إذا وفقه الله عز وجل لشهود مجالس العلم، وضبط أقوالهم انشرح صدره لهذا العلم، وأحب ما يقولون وما يعملون، فإذا وفق لهذه المرتبة حمل هم العمل بما علم، فيفتح الله عز وجل عليه باب العمل، فلا يتعلم كلمة في مجلس إلا طبقها، ولا سمع نصيحة إلا التزمها وانتقل إلى أهله وولده وهو كاملٌ بتكميل الله عز وجل له في نفسه، فإذا أراد الله عز وجل أن يسعده ويوفقه ويجعل علمه نعمة عليه في الدنيا والآخرة، رزقه نشر هذا العلم. إذاً: علمٌ ثم عملٌ ثم تعليم، وهذا هو الذي عناه الله عز وجل بقوله: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]، فذكر أنهم هدوا الغير لما اهتدوا، فهم مهتدون في أنفسهم هداة لغيرهم رحمة من الله عز وجل، رحمهم الله في أنفسهم ثم رحم بهم خلقه وعبيده، فإذا كان الإنسان أنانياً والعياذ بالله، ولا يحب أن ينشر الخير لإخوانه، فهذا بلاء. وأوصيك بأمور: إما أن يكون هذا البلاء جاء بسبب ذنب، فالإنسان قد يلتزم ويهتدي وعنده من أدران الجاهلية ما لم يتطهر منه، فعلى العبد أن يسأل الله أن يطهر قلبه، قال الله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة:41]، فقد تكون الهداية كاملة وقد تكون ناقصة. والهداية الناقصة: أن يلتزم ولكن عنده أدران وظلمات في قلبه من الجاهلية من الغل والحسد والبغضاء وسوء الظن بالمسلمين ومحبة تتبع عثرات الناس، تجده شاباً ملتزماً، لكنه مولع بأذية الناس، نسأل الله السلامة والعافية، فهو التزم بذكر القبر والنار، لكنها لم تهذب سلوكه ولم تقوم طريقه ومنهجه، فينطلق والعياذ بالله بأدران الجاهلية، ولذلك تعجب حين ترى إنساناً صالحاً ديناً، ثم ترى منه أذية الناس والإضرار بهم؛ لأنه أسلم قالباً ولم يسلم قلباً. ومن أهم ما ينبغي على الإنسان أن يبدأ بقلبه وسماع العقيدة بحق وصدق، لا بكذب وتنميق وتضخيم وتحت غرور أنه عبدٌ صالح، وأنه قد اتبع الصحابة رضوان الله عليهم، كان الرجل منهم يخاف النفاق حتى حين تقبض روحه، من شدة الخوف والوجل والإحسان في العمل، فالإنسان عليه أن يهذب سلوكه، فقد يكون والعياذ بالله ملتزماً ولكن بقيت عنده هذه الآفة، وهذه يعرفها من يعرفها، فمن كان مبتلى بهذا البلاء فعليه أن يسأل نفسه: ماذا كان عنده قبل التزامه وهدايته؟ فإن كان يعرف لنفسه هذا، فليعلم أنه أسلم ولم يسلم قلبه للإسلام تاماً كاملاً. ثانياً: قد يكون بعيداً عن هذا وليس عنده آفات، قد يكون عبداً صالحاً مستقيماً ولكن ابتلي بهذا البلاء من الله، قد يبتلى بسبب عقوق والديه أو قطيعة رحمه أو همزه للناس، أو تتبع عثرة الدعاة، أو الكلام في أهل الخير أو الصلاح، فابتلاه الله بفتنة، وخذها قاعدة: أن فتن الدين لا تأتي إلا بسبب ما يكون بين العبد وربه في القلب: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. يكون الإنسان كأحسن ما تراه ملتزماً، ثم فجأة يتتبع عثرات العلماء والدعاة الأموات أو الأحياء أو ينتقصهم أو ينظر إليهم نظرات، فينكسه الله عز وجل بسبب ذلك: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، كان مهتدياً صالحاً كما قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، ثم أصبح والعياذ بالله خارجاً عن قوله، فاغتر بنفسه، وتعالى على عباد الله أو احتقر خلق الله عز وجل. فهذا موسى عليه السلام، لما قال: أنا أعلم، عتب الله عليه من فوق سبع سماوات وهو كليم الله، ولكن قال الله له: إن بمجمع البحرين من هو أعلم منك، وهو نبي يقول الله له: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:144]، ويقول الله في تشريفه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، لما جاءت حاجة معينة حصل فيها ما حصل؛ عتب الله عليه من فوق سبع سماوات، فكيف بمن يركب على ظهور الناس أو تحصل منه زلة، فلا تأمن من الله عز وجل أن يبتليك، فهذه ابتلاءات تأتي في القلوب بسبب الذنوب، ومن أعظم ما يفتح على العبد الملتزم الهادي الصالح من البلاء بعد حق الله عز وجل حقوق العباد، ولذلك فاحذر وأنت في طلب العلم أن تنتقص أحداً أو تتكلم في أحد أو تذم أحداً، أو تحمل في قلبك غلاً على أحد من أولياء الله عز وجل. عليك أن تنتبه وتحذر من ذلك أتم الحذر؛ لأن هذه الفتن التي يحرم بها الإنسان بركة العلم وقبول العلم والانتفاع بالعلم كثيرٌ منها بسبب الظلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه ظلمات، فالقلب لا يمكن أن يستنير، والنور محله القلب، فاتقوا الله يجعل لكم فرقاناً فالنور الذي في القلوب يطمس، وإذا كان الإنسان لم يهذب نفسه سلبه الله عز وجل البركة في عمره وقوله وعمله، فالحذر من الذنوب. فلذلك أدعوك: إذا كان هذا الأمر قد جد عليك وطرأ، أن تتفقد نفسك ماذا قلت، وماذا عملت، فلعل مسلماً ظلمته أو آذيته فحرمت الخير بسبب أذيته، فتسأله أن يسامحك وتتحلل من مظلمته وتبتعد عن إساءته. وأوصيك أخي بأمر لا أظن أن هناك فرجاً ومخرجاً أعظم منه، وهو دعاء الله سبحانه وتعالى، بأن تشتكي إلى الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وأن تتوكل على الحي الذي لا يموت حتى ينزع ما في قلبك، فإن هذا بلاء عظيم، إن لم يتداركك الله برحمته؛ فإنه شيء يخشى منه عليك ألا تبقى لك بركة في علمك. إذا أحد يريد أن يتعلم هذا العلم دون أن يوطن نفسه على بذله للناس وللخير بالوجه الذي يستطيع، لا يكون إنساناً أنانياً طالب علم ولا معلماً، فلا أنت حينما تعلم شيئاً تعطيه لأخيك وتدله، ولا طالب علم أيضاً من حيث إنك أناني تريد الشيء لك وحدك أو نحو هذا، فهذا أمر عليك أن تحذره قدر المستطاع، وتطلب العلم أنى وجدته، وتحرص على نفع المسلمين. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

مقدمة كتاب الجنايات [1]

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [1] من كمال شريعة الإسلام أنها جعلت للإنسان حرمة عظيمة، فحرمت دمه وماله وعرضه، فلا يجوز الاعتداء على شيء من ذلك أبداً، وقد رتبت الشريعة على من اعتدى على شيء من ذلك عقوبات وأحكاماً معلومة، ومن ذلك ما يتعلق بالجناية على النفس والبدن، فمن جنى على غيره جناية متعلقة بنفسه أو ببدنه فإن الواجب عليه هو القصاص أو الدية، بحسب نوع الجناية من عمد أو خطأ أو شبه عمد وما يترتب على كل ذلك من أحكام، وهذا هو العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، ولن تصلح الأحوال إلا به، ولا يلتفت بعد ذلك إلى شبه الحاقدين والناقمين على الإسلام وأهله، فإنها شبه متهافتة معلومة البطلان والفساد.

تعريف الجنايات لغة واصطلاحا

تعريف الجنايات لغة واصطلاحاً الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الجنايات]. الجنايات: جمع جناية، وأصلها: الاعتداء على النفس أو العرض أو المال أو البدن. وبعض العلماء يقول: الاعتداء على النفس والبدن والمال. وهذا في الأصل، فكل اعتداء على نفس، مثل القتل، أو الاعتداء على البدن؛ مثل قطع الأعضاء وبترها، والتشويه للخلقة بالوسم والكي ونحو ذلك، والاعتداء على المال بسرقته أو غصبه، والاعتداء على العرض بالقذف أو الزنا -والعياذ بالله- كل هذا يعتبر جناية في أصل اللغة، والعرب تسميه جناية؛ لما فيه من الإضرار والأذية وتعدي الحد، ومن فعل ذلك فقد جنى عاقبته؛ لأنه يجر على نفسه الشر، فمن جنى جناية، واعتدى على غيره، فإنه يجني من وراء ذلك العاقبة التي لا تحمد في دينه ودنياه. ولكن العلماء في اصطلاح الفقه خصوا الجنايات: بالاعتداء على النفس والبدن، وأفردوا الاعتداء على المال والاعتداء على العرض بكتاب الحدود، فإذا قالوا: كتاب الجنايات؛ فمرادهم: الاعتداء على النفس والبدن الاعتداء على النفس: بقتلها، وإزهاقها، والاعتداء على البدن-الذي هو أجزاء البدن- إما بقطع يد أو رجل، وإما أن يعمي بصر أو يضر بسمعه، أو نحو ذلك. فالأول للكل-الذي هو النفس-، والثاني: للأجزاء والأطراف والأعضاء.

مقدمة مهمة تتعلق بالجنايات والقصاص

مقدمة مهمة تتعلق بالجنايات والقصاص وبناء على ذلك إذا قال العلماء: (كتاب الجنايات) فإنهم يبحثون في مسائل القتل، ومسائل الأذية والضرر المتعلقة بالبدن، بإتلاف أجزاء البدن أو تشويهها أو نحو ذلك.

أنواع الجنايات

أنواع الجنايات ثم هذه الجناية وهذا الاعتداء تارة يكون عمداً وقصداً، فيعتدي على النفس فيزهقها عمداً وعدواناً، وتارة يكون خطأً؛ مثل ما إذا دهس بسيارته شخصاً فقتله، وهو لا يقصد قتله. وأيضاً الاعتداء على الأطراف تارة يكون عمداً وقصداً؛ مثل ما يقع في المشاجرة والنزاع، فيقدم على قطع يده، أو ضربه في مكان يشل حركته، أو يعمي بصره، أو نحو ذلك من الأضرار. هذا بالنسبة للجناية على النفس وعلى البدن، وهذا ما يسميه العلماء بـ (الجنايات)، ويخصونه بكتاب الجنايات. وأما الاعتداء على الأموال، والاعتداء على الأعراض؛ فقد اصطلحوا على تسميته بأسماء تخصه، ووضعوه في كتب مستقلة؛ فمثلاً: الاعتداء على الأموال سموه: غصباً، وسموه: سرقة. فسموه غصباًَ إذا كان الاعتداء على المال علانية وجهراً، وسرقة: إذا كان خفية، واختلاساً: إذا كان على طريقة لم يشعر بها الإنسان، ولم تتحقق فيها صفات السرقة. وهذا قد تقدم معنا في باب الغصب، وذكرنا أن الفرق بين الغصب والسرقة: أن السرقة تكون خفية، والغصب يكون علانية.

الجناية على النفس

الجناية على النفس فلما قال المصنف رحمه الله: (كتاب الجنايات) معناه: أنه سيبحث في هذا الموضع الاعتداء على النفس، والاعتداء على البدن. وأما الاعتداء على الأموال فقد تقدمت مسائل الغصب في باب الغصب، وستأتي مسائل السرقة في كتاب الحدود. إذاً: سيكون حديثنا عن مباحث الاعتداء على الأنفس في القتل بنوعيه: قتل العمد، وقتل الخطأ، ثم قتل الخطأ بأقسامه: شبه العمد، كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم: عمد الخطأ، يعني خطأ العمد، وأيضاً الخطأ المحض، وهو ما يسميه بعض الفقهاء: ما جرى مجرى الخطأ. وعلى هذا فبعض العلماء -كما سيأتينا- يقسم القتل إلى: عمد، وخطأ. والجمهور على تقسيمه إلى: عمد، وشبه عمد، وخطأ. وهناك قول ثالث: أنه عمد، وخطأ، وشبه عمد، وجار مجرى الخطأ. وسيأتي-بإذن الله- بيان هذه الأقسام في موضعها. هذا بالنسبة للاعتداء على النفس؛ فإما أن يقتل النفس عمداً وعدواناً-نسأل الله السلامة والعافية- وهي نفس محرمة، وإما أن يقتلها خطأً، وفي كلتا الحالتين هي جناية على النفس.

الجناية على البدن

الجناية على البدن وأما بالنسبة للجناية على البدن: فهي الجناية على الأطراف، فيعتدى عليه إما عمداً وعدواناً، كما يقع في المشاجرات، فيقطع يده، أو يفقأ عينه، أو يقطع أذنه، فيؤذيه في سمعه، أو بصره، أو يشل حركته، أو يضربه ضربة تشل حركته، أو تتسبب في إعاقته، فهذه جنايات العمد على البدن والأطراف. وهناك جنايات خطأ على الأطراف؛ كشخص دهس شخصاً بسيارته فقطع رجله، أو كسر يده، أو ازدحم الناس وأثناء الازدحام لم يشعر أحدهم فدفع الآخر دفعة سقط بها فانكسرت يده، أو دفعه دفعة فسقط من على درج فانكسرت رجله، أو تسبب في إتلاف سمعه، كما لو رمى بشيء فدخل في أذنه فأذهب سمعه، أو فقأ عينه ونحو ذلك، فهذه كلها جنايات على سبيل الخطأ، لكنها على الأعضاء والبدن. وكل هذه الجنايات يتكلم عنها الفقهاء والعلماء في كتاب الجنايات.

القصاص في الجناية

القصاص في الجناية ثم هذا الكتاب -كتاب الجنايات- لما كان أخطر وأشد ما فيه ما هو مثار الخصومة، والجدل بين الناس، ويحتاج القضاة والمفتون إلى معرفة أحكامه، والفصل بين الناس فيما شجر من مسائله؛ يركز العلماء كثيراً على القصاص؛ لأن الله عز وجل شرعه للعدل بين الناس، وبين الخلق، فأمر بالقصاص من الجاني، كما أمر بالقصاص في النفس وما دون النفس، ففي النفس من قتل يقتل، وما دون النفس؛ من قطع يداً قطعت يده، ومن كسر سناً كُسرت سنه، ومن فقأ عيناً فُقأت عينه، كما بين الله سبحانه وتعالى ذلك في كتابه. فهذا القصاص يحتاج أولاً أن تبحث عن الأسباب التي توجبه متى يحكم بوجوب القصاص، ومتى لا يحكم به؟ فتارة تقول: هذا القتل يوجب القصاص، أو هذا القطع لليد يوجب القصاص، فالأول جناية على النفس، والثاني جناية على الأطراف. وتارة تقول: هذا القتل لا يوجب قصاصاً، وإنما يوجب دفع الدية، وهو قتل الخطأ، وتارة تقول: هذا الاعتداء على هذه اليد لا يوجب قصاصاً بقطع يد المعتدي، ولكن يوجب دفع نصف الدية، أو هذه الجناية فيها مثلاً خمس من الإبل، أو فيها مثلاً عشر الدية، أو نحو ذلك. إذاً هناك ما يوجب القصاص، وهناك ما لا يوجب القصاص، وهذا ما يبحثه العلماء في بيان ضوابط قتل العمد، وقتل شبه العمد، وقتل الخطأ. وقد امتاز الفقه الإسلامي بوضوح قواعده، واشتمالها على العدل والإنصاف، فالشريعة ليس فيها خلط للأمور، وليس فيها ما يوجد اللبس على الإنسان؛ لأن الله تعالى وصفها بالتمام، والكمال، وما بني على أصل صحيح فإن ثماره وعواقبه تكون صحيحة، فالشريعة مبنية على العدل: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115]، سبحانه وتعالى، فقد وضعت الشريعة القواعد والأصول التي يبنى عليها الحكم بثبوت القصاص، والحكم بعدم ثبوته، ومن هنا يبحث العلماء أول شيء: ضوابط الأنواع الثلاثة التي ذكرناها: قتل العمد، وقتل الخطأ، وقتل شبه العمد.

متى يحكم بالقصاص في الجناية على النفس

متى يحكم بالقصاص في الجناية على النفس ثم بعد أن تعرف أن هذا عمد يوجب القصاص، وأن هذا شبه عمد أو خطأ لا يوجب القصاص، وأن شبه العمد يوجب الدية المغلظة، والخطأ يوجب الدية من حيث هي، فحينئذ تنتقل إلى مسألة ثانية- بعد أن تميز أنواع الجنايات ما بين عمد وخطأ اللذان هما الرأس في الجنايات- تنتقل إلى الشروط التي ينبغي توفرها للحكم في القصاص في العمد، متى يحكم باستيفاء القصاص؟ وهذا يستلزم -مثلاً- أن نقول: إذا كان ضربه في مقتل، والحال دال على أنه قاصد للقتل، أو اعترف بأنه قصد قتله؛ فإن هذا عمد، كأن يكون ضربه بالسكين في بطنه؛ فالسكين تقتل غالباً، وهو قصد قتله، فنقول: هذا عمد. لكن يرد Q هل الذي ضَرَبَ مكلف أم لا؟ لكي يؤاخذ، فهل هو مجنون أو عاقل، أو صبي أو بالغ؟ وحينئذ نبحث في صفات هذا القاتل، فقد أثبتنا أن القتل عمد، فإذا كان عمداً فلابد من وجود شروط وعلامات وأمارات لكي يحكم بوجوب القصاص من هذا الجاني، وقد يكون في الجاني شيء يمنع من استيفاء القصاص منه، بحيث تكون العقوبة متعدية، فلو عاقبناه لم يتحقق العدل؛ كما لو قتلت امرأة وكانت حاملاً، فإننا ننتظر حتى تضع حملها؛ لأن الجنين لا ذنب له. فهناك أمارات وعلامات لا بد من وجودها حتى نحكم بوجوب القصاص من الجاني. فإذاً: أول شيء نثبته أن الجناية عمد توجب القصاص، فلابد من إثبات ما يوجب القصاص، وإثبات أهلية الجاني، والمجني عليه، فلو كان المجني عليه شخصاً يستحق القتل، وقتله وهو قاصد لقتله بما يقتل غالباً، ولكنه قصد إقامة حد من حدود الله عليه؛ كأن يكون ثيباً محصناً، ودخل عليه ووجده على الزنا، والشهود موجودون؛ فقتله، فحينئذ لا يحكم بالقصاص، لكن يعزر هذا الشخص؛ لأنه ليس هو الذي يقيم حد القتل على من زنى محصناً، وإنما نرد ذلك إلى الوالي، وحينئذ نقول: لا يقتص منه؛ لأن الدم الذي أريق ليس بمعصوم، وليس له حرمة؛ لأن الشرع أزهق هذه الروح. ومن هنا فلابد أن يكون الجاني توفرت فيه شروط، ولا بد أن يكون المجني أيضاً توفرت فيه شروط. فإذا تمت الشروط لاستيفاء القصاص، فيأتي السؤال: صاحب الحق إما أن يقول: أريد أن أقتص، وأولياء المقتول الذين جعل الله لهم سلطاناً على القاتل، إما أن يقولوا: نريد القصاص، وإما أن يقولوا: لا نريد القصاص، فإن أرادوا القصاص فلا إشكال، وإن لم يريدوا القصاص فما هي ضوابط العفو؟ ومن الذي له حق العفو؟ ومتى يكون عفوه معتبراً؟ ومتى لا يكون معتبراً؟ إذاً: نحتاج إلى مبحث ثالث، أو باب ثالث في العفو عن القصاص ومن هنا رتب المصنف-رحمه الله- الأبواب؛ فجعل القصاص هو الأصل، والفصل الذي يتبعه في مسألة الصفات المعتبرة لقتل العمد، وقتل شبه العمد، وقتل الخطأ، وأتبع ذلك بشروط استيفاء القصاص، ثم بعد ذلك بين مسألة العفو عن القصاص.

القصاص في الجناية على البدن

القصاص في الجناية على البدن ويبقى عندنا الجناية على الأطراف، وهي الجناية التي تكون فيما دون النفس، وذلك كما ذكرنا مثل: فقأ العين، وكسر السن، وبتر الساق، وكسر الساق، ونحو ذلك. فهذه الجنايات التي دون النفس أيضاً منها ما يوجب القصاص، فمثلاً: لو قطع يداً تقطع يده، ولو قطع رجلاً تقطع رجله، فيمكننا إذاً أن نستوفي، ويمكننا أن نحكم بالقصاص، وليس هناك ظلم إذا ثبت ما يوجب القصاص على الجاني، وتوفرت الشروط المعتبرة للحكم بالقصاص منه، فيقطع منه مثل ما قطع، لكن في بعض الأحيان لا يمكن تحقق العدل في الجناية، مثل الكسر الذي يهشم العظام، فلا يؤمن فيه الحيف، بحيث لو أن شخصاً اعتدى على شخص، فهشم له عظماً على وجه لا نستطيع أن نفعل به مثل ما فعل، فإننا لا نأمن الحيف، فربما نأتي نقتص من الجاني فنزيد ونحيف، فإذا لم يؤمن الحيف فإنه حينئذ يمنع من القصاص. ومثل ذلك: أن يكون الجاني شيخاً كبيراً حُطمة، أو كان فيه مرض أو عاهة؛ بحيث لو أننا أجرينا هذا القصاص لأزهقت نفسه، فإنه حينئذ لو أردنا أن نقتص منه فإن معنى ذلك: أننا نعاقبه بأضعاف عقوبته. فكما أن الجناية على النفس لا بد من توفر الشروط المعتبرة للقصاص فيها، فكذلك أيضاً الجناية على الأعضاء والبدن لا بد من تحقق الشروط المعتبرة للحكم باستيفائه. وبناءً على ذلك قسم المصنف رحمه الله هذا الباب إلى هذه الأقسام، وقد بحث المصنف في الجنايات أن الأصل أنها تحتاج إلى إثبات، ولا تقبل دعوى كل إنسان بجناية إلا بإثبات، فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناس أموال أناس ودماءهم -كما قال صلى الله عليه وسلم- فهذا يحتاج منا أن نعرف: متى؟ وكيف؟ وما هي الوسائل المعتبرة لإثبات الجناية والجريمة؟ فالتسلسل المنطقي يستلزم أن تعرف أول شيء نوعية الجناية، والحكم عليها؛ هل هي عمد أو خطأ أو شبه عمد؟ سواء كانت في النفس أو في البدن، فإن كانت الجناية على النفس فنبحث كيف يحكم بها؟ وكيف تثبت؟ ثم بعد ذلك ينظر في الجاني والمجني عليه، وشروط الاستيفاء منهما، ثم بعد ذلك ينظر في عفو الولي، أو طلبه للقصاص. وبعد ذلك يشرع طالب العلم في دراسة الجناية على البدن والأعضاء على حدة. فالمصنف-رحمه الله- جعل الثلاثة الأبواب الأولي في الجناية على النفس، وجعل الباب الأخير وما يتبعه منفصلاً في الجناية فيما دون النفس. وقد تحدثنا عن هذه المنهجية حتى يكون طالب العلم على دراية قبل الدخول في التفصيل؛ فإن أكثر ما يعين طالب العلم على الفهم والضبط للمسائل: أن يكون عنده تصور مبدئي لمنهج العلماء رحمهم الله في التقسيم، ومن هنا نجد الأئمة رحمهم الله حينما يؤلفون الكتب في المسائل الفقهية أو نحوها، يذكرون الطريقة التي يتناولون بها المسائل التي يريدون بحثها وبيان أحكامها، وهذا يعطي طالب العلم ملكة وتهيؤاً وتصوراً مبدئياً يساعده على الفهم أكثر، والربط بين الأفكار.

حرمة الاعتداء على المسلم

حرمة الاعتداء على المسلم يقول المصنف رحمه الله: (كتاب الجنايات) جمعها المصنف-رحمه الله- بتعدد أنواعها واختلافها-كما ذكرنا- فالجناية على النفس أنواع، والجناية على البدن، والأعضاء أنواع، فقال: كتاب الجنايات؛ مراعاة للأنواع واختلافها. أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالجناية على النفس والبدن. والأصل في شرع الله عز وجل: أن الله عز وجل حرم على المسلم أن يعتدي على أخيه المسلم، في نفسه، وفي بدنه، وماله، وعرضه؛ فلا يعتدي على حق أخيه المسلم، وقد بينت نصوص الكتاب والسنة حصول المسئولية على كل من يعتدي. فمن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى نهانا عن الاعتداء، ولكن الإنسان لا يعتدي على حق أخيه المسلم في نفس أو بدن أو مال أو عرض إلا وهناك ما يدفعه من نفس أمارة بالسوء، أو قرين سوء يحرضه، أو مجتمع يهيئ له ذلك، ويستخف بهذه الأمور العظيمة، أو يحبذ الجرم والجريمة، كما يقع في قرناء السوء-نسأل الله السلامة والعافية- والبيئات الفاسدة، فهذه الأمور هي التي تبعث على الجريمة. ومن هنا افترقت الشريعة الإسلامية عن النظرات البشرية الضيقة في النظريات؛ فتجد النظريات تتخبط في الظلمات، فقسم يرى أن الجريمة والجناية تكون من الإنسان نفسه، فجعل الإنسان مجرماً في الأصل، وهناك من يقول: إن الإنسان ليس فيه أبداً ما يدعو للجريمة، وإنما يرغم عليها ويدفع إليها لا شعورياً، أو يدفع إليها من خلال الاعتياد، والإغراء، ويبرأ الإنسان كلاً. وجاءت الشريعة بالعدل، والوسط، وبينت أن الله عز وجل هدى الإنسان السبيل؛ إما أن يكون شاكراً، وإما أن يكون كفوراً، وأنه إذا اعتدى أحد على أحد فإنه يتحمل المسئولية، وجعلت المسئولية على صورتين: مسئولية الدنيا، ومسئولية الآخرة؛ فحملته تبعة هذا الاعتداء، فإن كان الاعتداء على البدن أو على النفس اعتداء عمدٍ وعدوان؛ تحمل المسئولية في الدنيا؛ لأنه آثم شرعاً، ويحكم بفسقه إذا اعتدى على أخيه المسلم، وأيضاً يتحمل التبعة والمسئولية بالحكم بإثمه وفسقه شرعاً، ويتحمل المسئولية بالمؤاخذة؛ فيعاقب بعقوبته، أو إذا كانت الجناية توجب الضمان دفع الدية والأرش -أرش الجناية- على حسب التفصيل الذي سنذكره -إن شاء الله- في كتاب الديات.

السبب في مؤاخذة المخطئ في الجنايات بالدية والكفارة

السبب في مؤاخذة المخطئ في الجنايات بالدية والكفارة لكن Q إذا كانت الشريعة وسطاً، وقد بينت أن الإنسان مسئول، فلماذا تحمله في حال الخطأ؟ ولماذا توجب عليه تحمل المسئولية في حال الخطأ؟ فمثلاً: لو قتل خطأً؛ كأن رأى طائراً فأطلق النار عليه، فمر شخص فأصابه الرصاص، أو صاد في موضع؛ فمر طفل أو مر أحد فأصابه الرصاص فمات، فلماذا نقول: هو لم يقصد القتل، ولم يرد القتل، وما جاء من أجل أن يقتل، ولا يعرف المقتول، أو مثلاً ركب سيارته فدهس بها شخصاً. قالوا: لأنه ما من قاتل، وما من جان -ولو كان مخطئاً- إلا وهو مقصر، ولو أنه تعاطى أسباب الاحتياط، وحافظ وصان نفسه لما وقع في هذا الخطأ، ولذلك غالباً لا يقع إضرار بغيره؛ سواء في أنفس الناس أو في أبدانهم؛ إلا وهناك شيء من التقصير. وهذا هو الذي ركب العلماء منه مسألة الكفارة؛ فإنه يعتق رقبة، فإن لم يجد فيصوم شهرين متتابعين، فإن لم يجد فإطعام ستين مسكيناً، مع أنه قتل خطأ، قالوا: لأنه لا يفعل ذلك غالباً، إلا بسبب تقصير جاء ليصيد؛ فلا بد أن يضع في حسبانه أن يمر شخص، ولو احتاط لذلك فإن احتياطه ناقص؛ بدليل وجود الخطأ. والمرأة التي تترك طفلها، وتتساهل في هذا الطفل، فلا تشعر إلا وقد سقط في البئر، أو سقط في خزان ماء، أو وقع على النار فأحرقته، وأزهقت نفسه، فإنها قد قصرت في حفظه، وقصرت في رعايته، أو وضعت طفلاً على سطح لا حاجز له، أو وضعته في مكان لا يؤمن سقوطه منه؛ فإن هذا كله من الأسباب الموجبة للمسئولية. فحملت الشريعة الجاني -متعمداً ومخطئاً- حملته تبعة القصد بالأذية والإضرار، ومن هنا جعلت الشريعة الاعتداء على النفس الواحدة كالاعتداء على الأنفس كلها قال تعالى: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32]، فهو بهذه الجناية كأنه جنى على الناس كلهم، فحملته الشريعة المسئولية؛ لأن هذا الاستخفاف بقصد الجريمة يهيئ له أن يقتل كل نفس. وأيضاً الاستهتار في حفظ الأنفس تضيع به الأنفس، فالأم التي تركت طفلها في مكان لا يؤمن أن يتعرض فيه لما يوجب هلاكه وحتفه، وكان الطفل قاصراً، غير مالك لنفسه وزمام نفسه؛ فإنها لا يؤمن منها أن تفعل ذلك بغيره، وأن يفعل غيرها مثل ما فعلت، ولكن إذا أوخذت أحجمت، وإذا علمت أنها تؤاخذ حافظت. ومن هنا حققت الشريعة سبيل الوقاية من الجناية والجريمة، وأغلقت باب الاستخفاف بالجرائم والجنايات، وهذا من أروع ما وجد في الشريعة الإسلامية، ولذلك من نظر إلى نصوص الكتاب والسنة وجد أنها لم تعالج باب الجنايات وأضرار الجنايات من خلال التشريعات والأحكام فحسب، وإنما وضعت جميع ما يمكن وضعه من الأسباب والموانع التي تحول بين الناس وبين الاعتداء. ولذلك إذا نظرت في نصوص الكتاب والسنة وجدتها جلية واضحة في زجر الناس عن الإقدام على الأذية والإضرار، وزجر الناس عن تعاطي الأسباب الموجبة لهلاك الأنفس، والإضرار بالأعضاء؛ فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المسلم السوق حاملاً لرمحه إلا أن يمسك بنصله، والنصل: هو رأس الرمح؛ فإذا جاء يمشي بين الناس وهو غير ممسك برأس الرمح، فيفقأ عيناً، أو يجرح بدناً، أو يبقر بطناً، فيقول: والله ما قصدت، وما أدري، أو الزحام دفعني إلى هذا الشيء، فنقول: لا؛ إن الدخول إلى هذا الموضع على هذه الصفة إهمال، وتساهل في أرواح الناس، فإذا علم أنه مسئول، وأن الشريعة أوجبت عليه حفظ هذا السلاح عن الأذية والإضرار؛ فحينئذ قل أن يقع في هذا الخطأ، ولهذا أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدهم المسجد أن يمسك بنصله، فيجعل رأس الرمح في يده، فلا يلمس أحداً، ولا يضر بأحد. ولو أن شخصاً أراد أن يمزح مع آخر؛ فحمل السلاح عليه، وهدده بالسلاح، نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حمل علينا السلاح فليس منا)، فالشريعة وضعت الحواجز والموانع أمام كل شر، وهذا ما يسمى بالعلاج الوقائي، فإن الجريمة تعالج بالوقاية من الوقوع فيها؛ لأنها مثل المرض والداء والبلاء، فتحتاج إلى علاج وقائي، وأيضاً علاج الزجر والعقوبة. ومن هنا الذي يبحثه الفقهاء إنما هو المسئولية في الدنيا، وهي مسئولية الإنسان أن يحفظ، ولذلك لو أن ولداً -والعياذ بالله- قتل، أو آذى، أو أضر عمداً وعدواناً وعُرف بالجريمة حتى قتل، وعلم القاضي أن والده تساهل معه؛ عاقب والده. فالشريعة جاءت بالعلاج الناجع، ووضع الأسباب والموانع دون الوقوع في هذه الجنايات. إذا ثبت هذا بحصول مسئولية الدنيا، فهناك أيضاً مسئولية الآخرة؛ وهي مسئولية العبد أمام الله سبحانه وتعالى عما أزهق من نفس وأتلف من بدن وأضر، ولذلك يسُأل أمام الله عز وجل ويحاسب، فإن تاب في الدنيا عفى الله عنه، واختار بعض العلماء أن الله عز وجل يُرضي المقتول إذا تاب القاتل، كما اختاره ابن القيم رحمه الله وغيره، إذا هو تاب توبة نصوحاً وأناب إلى الله. فإذاً: فقد جعلت الشريعة مسئولية الدنيا ومسئولية الآخرة، والذي يبحثه الفقهاء رحمهم الله هنا إنما هو في مسئولية الدنيا، من حيث القصاص؛ لأنه حكم قضائي. ثم دراسة طالب العلم لفقه الجنايات تحتاج منه أول شيء: أن يعرف مسائل الجنايات، وتصورها، والإلمام بمقصود العلماء منها، ثم بعد أن يفهم المسائل ويتصورها، يبحث عن الأدلة التي دلت على الأحكام، فإذا يسر الله عز وجل لطالب العلم، واستطاع أن يدرس كتاب الجنايات، ويفهم ما ذكره العلماء وبينوه، ثم اطلع على أدلتهم في ذلك، حينئذ يكون قد فهم مسلك الشريعة الإسلامية في باب الجنايات.

الكلام في الشبهات التي تثار حول الشريعة الإسلامية

الكلام في الشبهات التي تثار حول الشريعة الإسلامية وقد نشأت في زماننا مسألة يحتاج طلاب العلم، وبخاصة المتخصصين في الفقه، أن يكونوا على إلمام بها؛ وهي مسألة الشبهات التي تثار ضد الشريعة الإسلامية؛ وهي أحقر من أن تؤثر في شرع الله عز وجل، الذي يحكم ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، والذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، وأحكم الحاكمين، العدل الملك الحق المبين، سبحانه وتعالى. وهذه الشبهات قطعاً لا يخفى أنها كثرت في الأزمنة المتأخرة، وكثر التلبيس والخلط، فيتصدى لهذه الشبهات أولو العلم، الراسخون في العلم، الذين بينوا زيغها، وكشفوا عوارها، وأنها ليست واردة على الشريعة أصلاً؛ لأن الشبهة إذا جاءت فإنها تأتي من أحد شخصين: إما عدو حاقد على الإسلام والمسلمين، وإما رجل جاهل قذف الشيطان-شيطان الإنس أو الجن أو هما معاً- في قلبه شيئاً فران على القلب وأصبح الحق ملتبساً عليه، وهذا لا يؤثر إلا على ضعاف النفوس، والرعاع-نسأل الله السلامة والعافية- الجهلة الذين لا يحسنون فهم الشريعة الإسلامية. أما النوع الأول: فهو أخبث النوعين وأخطرهما، وينبغي أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى بين وقال: (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118]. فالله يقول: (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ): و (ما) مصدرية، أي: ودوا عنتكم، والعنت: هو الإحراج، والتضييق، فالمسلم يتألم ويتأثر حينما يجد أحداً يتطاول وهو أحقر من أن يتطاول على شرع الله عز وجل، وأحقر من أن يتكلم في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لما كانت هذه الشهبات أثرت، وتؤثر في ضعاف النفوس، وتحدث بلبلة في أفكار المسلمين، وجب صدها؛ لأنه لا يجوز السكوت على الباطل، ولا يجوز السكوت عن الحق، فيجب على طالب العلم أن تكون عنده ملكة، وأن يكون عنده إلمام بمثل هذه الأمور. وهناك أشياء نحب أن ننبه عليها في فقه الشبهات: أولاً: أنه لا يجوز أن يتصدى للشبهة إلا عالم متمكن من فهم الشبهات ومداخلها؛ حتى يحسن أو يحكم إغلاق هذه الثغرات وسدها وصدها، وكذلك يستطيع بأسلوبه وبيانه أن يبين للناس أنها ليست واردة أصلاً، وأنها ليست بحقيقة، وإنما هي تلبيس وباطل يراد به أذية أهل الحق، ونحو ذلك، وهذا لا يستطاع إلا من العلماء الراسخين بتوفيق من الله عز وجل. الأمر الثاني: ينبغي ألا يشغل طالب العلم وقته بهذه الشبهات؛ لأن الأعداء -وهذا أمر مهم جداً- يريدون في بعض الأحيان أن يشغلوا أهل الإسلام عن الإسلام، فإذا ما وصلت الشبهة -على الأقل- شغلت طلاب العلم والمتمكنين بدراستها وفهمها، فيجلس فترة يدرس الشبهات، والرد عليها، وفهمها، وعندما ينتهي من هذه الشبهة يأتونه بشبهة جديدة، ثم ينتهي من هذه الشبهة التي بعدها وإذا به بعد فترة لا يستطيع أن يعلم الناس الفقه، ولا أن يتفرغ للتعليم ولا للتوجيه، وهذا ما يريده أعداء الإسلام. ومن هنا تجد أحياناً من قد يشتغل بالشبهات لا علم عنده، فيأتي الدخل إما أناس يتصدرون لا علم عندهم، أو أناس يتصدون للشبهات ويضيعون أوقاتهم، وحينئذ يحقق أعداء الإسلام ما يريدون، فإن تصدى من لا علم ولا فقه عنده كما يقولون: إن الأحمق يضر الإنسان وهو يظن أنه ينفعه- أتى بأشياء يتكلف فيها برد هذه الشبهات، فيجعل الحق باطلاً. لقد جاءوا بشبهة الجهاد حتى أصبح يقول: ليس في الإسلام جهاد، وإنما شرع فقط في حدود ضيقة جداً، فلا يشرع إلا لدفع العدو، والنصوص واضحة فيه لماذا في هذا؟ لأن الأعداء يريدون أن يتصدى من لا علم عنده، وهذا هو الذي تعاني منه الأمة؛ أنه قد تقع شبهات فيتحمس لردها من عنده إسلام وليس عنده فقه إسلامي، حتى تكثر الردود من أناس بضاعتهم مزجاة، أو ليس عندهم ذاك العلم، فتكثر الردود بوسيلة معينة، أو بطريقة معينة؛ فيسهل على الأعداء إيراد الشبهات على ما أجابوه، وحتى الشخص الذي يقرأ هذه الأجوبة لا تحصل عنده القناعة، فيزداد-والعياذ بالله- انطماساً في بصيرته، ومن هنا وجب رد الأمر إلى أهل العلم. إذاً: الاشتغال بالشبهات أكثر من اللازم ليس بلازم؛ بل إنه مضيعة للوقت، ومن هنا ينبغي أن ينبه على مسألة مهمة وهي: أن من أخطر ما يخافه أعداء الإسلام على المسلمين اشتغال المسلمين بالإسلام؛ فلو أن المسلمين وطلبة العلم خاصة اشتغلوا بضبط العلم، وأحسنوه وأتقنوه؛ لما وجد أعداء الإسلام إليه سبيلاً. وهذه القضية لها أصل في الكتاب وفي السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم حينما بعثه الله عز وجل جاء اليهود والنصارى أهل الكتاب بالشبهات، وأوردوا شبهات على شرع الله عز وجل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت نصوص الكتاب والسنة واضحة جلية في الوقوف مع الشبهات عند حدود معينة، لم تعق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العناية بالأساس، وهو تعليم الأمة وتوجيهها؛ لأنك إذا علمت الأمة فإنها لا تقف أمام هذه الشبهة المعاصرة الوقتية فقط وإنما تقف أمام كل شبهة، لأنك أعطيتها حصانة دائمة تامة كاملة؛ من شرع تام دائم كامل. ومن هنا وجب العناية بالأصل والأساس. وليس معنى هذا أن الرد على الشبهات ليس له قيمة، بل إن له قيمة؛ وقد بينا أنه من شرع الله، وأنه من الحق، وأنه يجب رد الباطل، لكن المقصود هو الاشتغال به أكثر من اللازم، وسواء كان هذا في الفقه أو في الأمور الأخرى. ولذلك بين الله عز وجل أن الكفار وما يعبدون من دون الله حصب جهنم هم لها واردون، قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]، قال ابن الزبرى -عليه لعنة الله-: يامحمد! تقول: إنا وما عبدنا في نار جهنم؛ فنحن عبدنا اللات والعزى، واليهود عبدوا عزيراً؛ فهم وعزير في النار، والنصارى عبدوا المسيح؛ فهم والمسيح في النار. فهذه شبهة، وشبهة ليست بالسهلة، فهي في ظاهرها قوية، قال تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:57 - 58]، فما اشتغل بالشبهة؛ لأن الآية: ((إِنَّكُمْ وَمَا)): قيل: إن (ما) في الأصل لمن لا يعقل، فهي لآلهتهم المعبودة، وكل من رضي أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده؛ لأن عيسى عليه السلام لا يرضى أن يعبد من دون الله، وقد بين الله عز وجل هذا في خصومة الآخرة حينما بين أنه يسأل ابن مريم عليه السلام عن هذا. إذاً: لم يشتغل القرآن بالشبهات أكثر من اللازم، إنما اشتغل بتكوين المسلم على منهج الله، وشرع الله. فطالب العلم والمسلم إذا علم فقه الجنايات، وضبط فقه الجنايات، وألم بالأصل والأساس؛ لم تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، ولذلك يقولون: ما يؤذي الحسود والحقود شيء مثل الإعراض عنه. اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله ولذلك يقول الله تعالى: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران:119].

الشبهات المثارة حول أحكام الجنايات والقصاص

الشبهات المثارة حول أحكام الجنايات والقصاص فهؤلاء الذين يوردون الشبهات على الجنايات، وعلى من يطبق شرع الله عز وجل في القصاص، إنهم أناس يريدون شغل وقت المسلمين، وأيضاً الشبهات الأخر المراد بها: إزعاج المسلم حتى لا يتفرغ لقراءته، ولذلك كان بعض أئمة السلف رحمهم الله لما حدثت البدع والأهواء، يعرضون عن أهل البدع، وكان أيوب بن تميمة السختياني رحمه الله لما يأتي القدري ويقول له: اسمع مني كلمة واحدة-عنده شبه- فيقول: اسمع مني كلمه، فيضع إصبعه في أذنه ويقول: ولا نصف كلمة. رحمه الله برحمته الواسعة. أما ما علمت فقد كفاني وأما ما جهلت فجنبوني فانظر إلى المسلمين حينما كانوا على فطرتهم، وحينما كان الشخص في باديته بعيداً عن الخوض، تجده أقوى تمسكاً بدين الله؛ لأنه لم يلتفت إلى شيء غير الحق، ولا يمكن أن يقبل شيئاً بمجرد أن يتكلم به شخص، ومعلوم أن كثرة الاحتكاك بالشبهات وكثرة سماعها قد تميت القلب، وقد تحدث عند الإنسان إلفاً للمنكر، ولذلك ما يضر الأعداء شيء مثل الاشتغال بالعلم والأساس، والفقه بالكتاب والسنة، وضبط المسائل الشرعية. ومع هذا نعود ونكرر: أن عدم الاشتغال بالشبهات وردها ليس المراد به قفل بابها، وإنما عدم المبالغة فيه، فيؤتى لطالب العلم ويقال له: لا بد أن تدافع، وأول شيء أن تعتني بتربية الأمة، وتأصيل المنهج العلمي الصحيح، وتحصن بالأساسيات. ومن هنا إذا تعلم الناس شرع الله؛ الذي هو الأساس، وبُينت لهم الحِكم والأحكام والأسرار والمقاصد والفوائد والعوائد التي يجنيها من طبق شرع الله عز وجل؛ فإنهم يتمسكون بهذا الدين، ولا يقبلون كلمة تضاده أو تخالفه، ولكنهم إذا درسوا شبهة أو شبهات، وأفنوا فيها أوقاتهم وأعمارهم؛ فلا يستطيعون أن يقفوا أمام غيرها، ولربما أورثت الشبهة في القلب ظلمة، نسأل الله السلامة والعافية. ومن هنا نعود ونكرر: أننا نحتاج إلى من يتخصص في رد الشبهات، ولكن لا نريد أمراً زائداً يشغل المسلم عن هذا الأساس. وقد أحببنا أن ننبه على هذا لأنه أمر مهم جداً، وسنعرج خلال دراستنا لكتاب الجنايات على بعض الشبهات؛ ومن هنا أحب أن أنبه على أن من منهجنا -إن شاء الله- الإلمام ببعض الأمور والثغرات التي تقع في بعض الأحكام، ونبين بعض الشبهات التي أثيرت أو تثار، وكيف يجاب عليها، ونسأل الله بعزته وجلاله أن يلهمنا في ذلك الصواب والسداد، كما نسأله بعزته وقدرته وجلاله وعظمته أن يقطع دابر كل من أفسد وألحد، ونسأله بعزته وجلاله أن يخرص كل من تكلم على الإسلام وأهله، وأن يقطع دابره، وأن يشتت شمله، وأن يسلبه عافيته، وأن ينزل به رجسه وعذابه.

صدور الشبهات على وجه الاستهزاء بالدين وأهله

صدور الشبهات على وجه الاستهزاء بالدين وأهله ومن أعظم ما تكون هذه المصائب إذا كانت على سبيل التهكم والاستهزاء، فليس هناك أعظم من الاستهزاء بالدين، ولذلك كان الأئمة والعلماء يقولون: لا يؤمن على المستهزئ أن تسوء خاتمته والعياذ بالله. وقل أن تجد إنساناً كثير الاستهزاء بالدين، والاستهزاء بشرع الله عز وجل وأحكامه، والاستخفاف بها؛ إلا وجدته مستدرجاً من الله عز وجل، فإن أهل الشرك وعبدة المسيح وغيرهم، يقول الله عز وجل لهم: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]، وأما الذين استهزءوا بقراء الصحابة، وتهكموا بأهل الخير والدين، فقال الله لهم: (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة:66]، فجعل الله الأمر فيهم أشد، والعقوبة أسوأ، وسنة الله عز وجل معلومة ماضية، فلله عز وجل سطوات على الظالمين إذا نزلت بالظالم لم يُفلت منه، وإذا حلت به نقمة الله عز وجل فعندها: (سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]. ولذلك لا يستطيع أحد أن يعرف عواقب الشر الوخيمة، وعواقب التعرض لدين الله وأولياء الله إلا إذا نظر في خواتم هؤلاء، ولا يمكن للإنسان أن يجد ذلك جلياً ظاهراً إلا إذا قرأ التاريخ، ونظر إلى عظمة هذا الرب الذي: {أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:50 - 53]، فمن قرأ عبر الزمان، واستفاد من التاريخ، يعلم أن أهل الشبهات وأهل التوهين دابرهم مقطوع، وكما أخبر الله عز وجل أن الباطل: {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:26]، فهذه شهادة الله عز وجل الذي وصف نفسه بصفتين عظيمتين: العليم، والحكيم، فأخبر أن هذا الباطل وأن هذا الغثاء كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. وكلما سمعت من الشبهات التي تدار على الإسلام، وأهل الإسلام، وبلاد المسلمين التي تضاد شرع الله عز وجل، فاعلم أنه: {َكسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]، ولذلك جعل الله عز وجل أمرهم كالسراب، فهم في الأمر ينظرون كأنهم يجدون شيئاً، فيستدرجون، كمن يرى السراب فيلهث وراءه، (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ) فوصفهم الله بأنهم ظمآنين، فالشخص الذي يرى السراب يلهث يريد الماء، (حَتَّى إِذَا جَاءَهُ) أي: عندما تأتي نهايته، تأتيه قاصمة الظهر من جبار السماوات والأرض، (وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) فيؤخذ بجريمته وجنايته شر أخذ من عزيز منتقم سبحانه وتعالى، ولا يحسب أحد أن الدين عبث، ولا يحسب أحد أن كلمة الله سبحانه وتعالى عبث، والحق يستمد قوته من ذاته، والله عز وجل ليس محتاجاً إلى أحد أن يدافع عنه أو يقول عنه، فالله سبحانه وتعالى له عظمته وجبروته، وهو أعلم وأقدر، جل جلاله، وتقدست أسماؤه، فلا يحزن المؤمن. وأهم شيء ينبغي أن يعتمد عليه المسلم: ألا يحزن، ولذلك يقول الله عز وجل لنبيه: {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127]، فلا تحزن أبداً؛ مهما سمعت فإن هذه أمور منتهية، والباطل له جذور قديمة، قطعت وبترت وأخذت أخذ عزيز مقتدر. لكن لا يكون هذا له أثر على القلب؛ لأنهم يريدون هذا، ولذلك يقول الله عز وجل في كتابه: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]، فقال: (إن) وهو أسلوب التوكيد، وجاء بكلمة الكيد التي هي غاية المكر والعبث، وجاء بالاسم الظاهر (الشيطان)؛ لأنه لا أخبث من الشيطان الذي يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ولا يجد مسلكاً إلا دخل منه، ولأنه هو الذي أمر وسول هذا وزينه، وأتى بـ (كان) التي تفيد الدوام والاستمرار. فالباطل والشبهات ضد الإسلام وبلاد المسلمين وأهل الإسلام مهما ترى لها من عجعجة وصخب ولغط، فإنها منتهية، مقطوع دابرها ودابر أرض أهلها، ودابر من أعانها وسول بها وقال بها، شاء أو أبى؛ إن عاجلاً أو آجلا؛ لأنه أبداً لا يمكن أن يبقى. فلابد على المسلم أن يدرك أن الحق باق ما بقي الزمان، وتعاقب المنوان، وليعلم المسلم حقيقة أنه ليس هناك أصدق من التاريخ شاهداً على صدق الصادق، وكذب الكاذب، فإن هذه الشريعة حكمت العالم من المحيط إلى المحيط، ومع ذلك كانت العدالة الاجتماعية والسمو والرقي الاجتماعي في أبهى صوره، وأجمل حلله، وقادت العالم من المحيط إلى المحيط، وما كانت تقوده بالموازين المختلة، ولا كانت تقوده بالشعارات الطنانة، والكلمات المعسولة، والحقوق المكذوبة الملفقة، ما كانت تقوده إلا بالحق: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء:105]، وحيثما حل قضاء الشرع، وحكم الشرع، لقد حكم العالم والأمم والشعوب على اختلاف ألوانها وأحسابها وأعرافها وتقاليدها، وإذا قرأت التاريخ تكاد تصاب بالوله من عظمة هذا الدين وجماله ماذا تريد بعد هذا كله؟! متى وقفت الشريعة أمام قضية من القضايا لم تفصل فيها؟! ومتى وقفت أمام مسألة من المسائل ففصلت فيها فخرج الخصمان غير راضين عن حكم الله عز وجل؟! ومن هذا الذي يستطيع أن يأتي بشيء يكمل به نقصاً يزعمه في دين الله وشرع الله عز وجل؟ إذاً: عندنا حقائق واضحة تجعل المسلم كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام:57]، وهذا الخطاب ليس للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، وإنما هو لكل مسلم علم الشريعة؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء. فالشريعة ليس فيها خلط، وليس فيها أهواء؛ بل إنها واضحة المعالم: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام:57]، فهذا هو الحق الذي كان عليه الرسل والأنبياء، وسيبقى ما بقي المنوان وتعاقب الزمان، بعز عزيز، أو بذل ذليل، فكلمة الله ماضية، وشرع الله عز وجل ماضٍ، فلا يحزن الإنسان من هذا الكيد، ومن هذه الأراجيف، ومن هذا التوهين؛ بل عليه أن يزداد استمساكاً بالحق؛ ولذلك قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43]، وانظر إلى الأسلوب العربي؛ ففي أسلوب العرب أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فما قال الله: فأمسك الذي أوحي إليك، وإنما قال: (فَاسْتَمْسِكْ)، ومعناه: أن هناك أموراً تزلزل وتقلق وتزعج، فكلما جاءت شبهة زادت ولي الله تمسكاً بالحق، وكلما جاء ران من الباطل وزيف من الباطل انكشف به بهاء الحق ونصوعه، كما قيل: إن الذهب كلما احتك ازداد لمعاناً، وشرع الله أعز وأنفس وأطهر وأقدس من الذهب وغيره، لأنه نور من الله سبحانه وتعالى.

أمور يجب على المسلم معرفتها عند التصدي للشبه

أمور يجب على المسلم معرفتها عند التصدي للشبه إذاً: يجب على المسلم أن يعلم هذه الحقائق: أولاً: العناية بضبط الشريعة، والاشتغال جل الوقت بمعرفة المسائل والأحكام، وتصورها، ومعرفة أدلتها، وعندها سيقف أمام أي شبهة. ثانياً: إذا رفع أهل الباطل عقيرتهم، كشف زيغهم وعوارهم، ولكن بقدر، فلا يضيع الوقت؛ بل يشتغل بأبناء المسلمين؛ توجيهاً، وتعليماً، وتأصيلاً على مدرسة الحق والهدي الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمة من بعده، ثم من بعد ذلك يزداد رسوخاً بقراءة التاريخ، ومن هنا قالوا: من قرأ التاريخ ازداد عقلاً إلى عقله، وحكمة إلى حكمته، ومن قرأ التاريخ كانت له عقول بدل عقل واحد؛ لأنه تظهر له سنن الله عز وجل التي لا تتبدل ولا تتحول، ولهذا لما قال الله عز وجل: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} [غافر:85]، لما بين الله عز وجل أنها سننه، وبين أنها لا تتبدل: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]، فأخبر أنها لا تتحول ولا تتبدل؛ لأن كل من عرفها وكل من علم بها فسيكون على الحق الذي لا يتغير ولا يتحول. فليعلم طالب العلم، وليعلم كل إنسان متخصص في الفقه، أنه لا يمكن أن يكون طالب علم بحق إلا إذا كان عن قناعة تامة، واستفاد من العلم بالشريعة، ومن معرفة سنن الله عز وجل في خلقه من بقاء الحق، وبطلان الباطل، وأن الله سبحانه وتعالى لا يضره كيد الكائدين: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني)، وهو سبحانه أعلى وأجل من هذا كله، وكما قلنا أن الإنسان لا يمنع أن يكون عنده إلمام بقدر.

ضرورة رد الشبهات وبيان زيفها وباطلها

ضرورة رد الشبهات وبيان زيفها وباطلها وأنبه على أننا لا نمنع من رد الشبهات بقدر؛ فقد يقف طالب العلم موقفاً واحداً يرد فيه شبهة؛ يرضى الله عنه رضى لا يسخط بعده أبداً، وقد يأتي إنسان يريد أن يلبس الحق بالباطل، فتقف في وجهه فتخرس لسانه، وتكتم بيانه، وتظهر عواره، وتكشف عيبه، فيكتب الله عز وجل بذلك لك من الأجر ما لم يخطر لك على بال. فهذا حسان بن ثابت رضي الله عنه كما في الحديث الصحيح، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله شكر لك قولك: جاءت سكينة كي تغالب ربها وليُغلبن مغالب الغلاب). فانظر: إن الله شكر لك؛ جبار السماوات والأرض يشكر لـ حسان بيتاً من الشعر قاله، فجاءه الشكر من رب العالمين. فمن قال كلمات، فكشف للأمة بها عوار أهل العوار، وزيفهم، فهو على خير. ومن هنا أنبه أيضاً على قضية: أن هناك أناساً فضلاء، وأناساً لهم جهود طيبة في كشف الباطل، والوقوف أمام أهل الزيغ والباطل، تذكر فتشكر، فينبغي أن نشد على أزرهم، ودائماً نشعر أننا يكمل بعضنا بعضاً، ولا ننظر إلى غيرنا بالنقص، فلن تستطيع أن تجد جمال هذا الإسلام وعظمته إلا إذا أحسست أن الذي يقف في خندقه -يذود وينافح عن الإسلام- أنه أخوك، وأنه ينفح عن الدين، وعن إسلامك؛ فتحبه، وتدعو له بالخير، وترجو له الخير، وما وجدت منه من نقص كملته، وما وجدت من عيب سترته، وحرصت على أن تكون معه، كما يكون الأخ مع أخيه، فإن هذا أمر مهم جداً، ونحن والله نحب أناساً تفرغوا للفكر والدعوة، وسطعوا بكلمات نتمنى أن نلقى الله بهذه الكلمات، وأناساً لهم ردود على الشبهات، وعلى أهل البدع والأهواء والشكوك والزيف، نتمنى أن نلقى الله بأقوالهم وأعمالهم. فلا يحتقر أحد مهمة أحد، إنما أردنا أن ننبه إلى أنه لا يشتغل بهذه الأشياء أكثر من اللازم، وأما من تصدى عن علم ودراية، وغار على الحق، وتفطر قلبه، وتمعر وجهه من أجل الحق، فنسأل الله أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأن يكثر من أمثاله، وأن يثبت أهل الحق على الحق، وأن يسدد ألسنتهم، وأن يصوب آراءهم، وأن يجمع شملهم، وأن يجمع بين قلوبهم، وأن يصلح بينهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من فرط في دفع الخطر عن نفسه

حكم من فرط في دفع الخطر عن نفسه Q من فرط في حفظ نفسه، كمن سافر في أرض بها أخطار، أو قصر في تعاطي أمور السلامة، فهل هو مؤاخذ شرعاً؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن النصوص واضحة في عدم جواز إلقاء الإنسان بنفسه في التهلكة، وتعاطي الأسباب التي تضر به، وتضر بغيره، ولذلك قال تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز المخاطرة بالأنفس والأرواح. ومن أمثلة ذلك: أن يركب البحر-كما ذكروا في القديم- عند هيجانه، أو تكون السفينة التي يركبها، أو المركب الذي يركبه به عوار، ولا يؤمن غرقه، ونحو ذلك في زماننا، وقد كانوا في القديم ينهون عن السفر في الأراضي المسبعة -أي: ذات السباع- والأراضي التي فيها هوام، مثل الحيات والعقارب، فإذا نام فيها، أو -مثلاً- نام في بطون الأودية بالليل، وتعاطى أسباب الإهمال؛ فهذه موجبة لمسئولية الآخرة، لكن القاضي لو اطلع على شخص فعل هذا الفعل فإنه يعزره. ومن هنا فإن الألعاب الخطيرة التي لا يؤمن معها إزهاق الأنفس محرمة شرعاً، فإذا جاء مثلاً يعبث بسيارته، أو يعبث بدراجته، أو يعبث بنفسه بألاعيب قد يدق بها عنقه، أو تنكسر بها رجله، واطلع القاضي على هذا؛ فإنه يعزره شرعاً، وهذا معروف في الفقه الإسلامي: أن التلاعب بالأنفس بتعريض نفسه أو نفس غيره لهلاك، هذا فيه التعزير، فإن مات فإنه مسئول أمام الله عز وجل، وحينئذ تنتقل الحكومة من حكومة الدنيا إلى حكومة الآخرة؛ لأن هذه الأخطاء من الجنايات، والأخطاء المتعلقة بالشخص نفسه لا ينتقل فيها إلى ورثته، ولا يتحمل ورثته شيئاً، ولذلك يتحمل الإنسان فيها مسئولية نفسه، ويلقى الله عز وجل بتبعة ذلك. والله تعالى أعلم.

متى يقول المصلي: (اللهم أعني على ذكرك.

متى يقول المصلي: (اللهم أعني على ذكرك ... ) Q قول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، هل تكون بعد الانتهاء من الصلاة، أو عقب التشهد الأخير؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهذه اللفظة وهذا الذكر ثابت في حديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معاذ! والله إني أحبك؛ فلا تدعن كلمات تقولهن دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). فقوله: (تقولهن دبر كل صلاة). فيه وجهان للعلماء: فبعض أهل العلم يقول: دبر الشيء منه، وبناءً على ذلك يقولها بعد انتهائه من التشهد في الأدعية التي تقال. وقال طائفة من أهل العلم: المراد دبر كل صلاة؛ أي: بعد أن تنتهي من الصلاة، فجعلها من مقول القول الذي يحكى، والصلاة في أصلها عمل، فجعلها تبعاً للعمل، فجعلها من الجنسين: جنس المقابلة، أي: إذا صليت وفعلت الصلاة فقل، فجمع له بين عبادة القول والعمل، فقالوا: يقولها، ويكون مقصوده بدبر كل صلاة؛ أي: أنه يجعلها عقيب السلام، بعد الاستغفار وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام). وعلى كل حال: فالأشبه أنها تقال بعد السلام، وإن قالها داخل الصلاة يتأول قول من قال أنها من الصلاة؛ فلا بأس، لكن الأقوى والأشبه -كما ذكرنا- أنها تقال دبر الصلاة؛ أي: بعد الانتهاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر ثلاثاً وثلاثين دبر كل صلاة، ثم قال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير؛ غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر) فقال: دبر كل صلاة، وهذه بالإجماع لا تقال داخل الصلاة، فدل على أنه من تنويع الطاعة، أي: بعد فراغك من عمل الصلاة. والله تعالى أعلم.

حكم الخصم الجزائي إذا غاب الموظف

حكم الخصم الجزائي إذا غاب الموظف Q إذا غاب العامل عن العمل دون عذر، وقد أخبره صاحب العمل أنه إذا غاب فالجزاء خصم راتب يومين مقابل كل يوم، فهل يجوز لصاحب العمل هذا الفعل؟ A لا يجوز إلا إذا أراد أن يأكل أموال الناس، ويظلم الناس حقوقهم -نسأل الله السلامة والعافية- يقول الله في الحديث القدسي: (ثلاثة أنا خصمهم، ومن كنت خصمه فقد خصمته: رجل استأجر أجيراً فلم يوفه أجره)، والوفاء: أن تعطيه أجرته تامة كاملة. وبناءً على ذلك فإن نصوص الكتاب والسنة واضحة في تحريم هذا الأمر؛ لأننا إذا قلنا: إن العامل قد عمل شهراً إلا يوماً واحداً، فجاء -بناءً على غيابه في اليوم- وأنقص منه أجرة ذلك اليوم مضاعفاً بيومين مثلاً، فأخذ قط يومين عقوبة، ففي هذه الحالة لم يوفه أجره؛ لأن أجره أجرة تسعة وعشرين يوماً، وهذا أعطاه أجرة ثمانية وعشرين يوماً، وإذا قال: اليوم بثلاثة أيام؛ فقد أعطاه أجرة سبعة وعشرين يوماً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فلم يوفه أجره) >فإن قال قائل: هذا من باب العقوبة بالمال. فنقول: في هذه الحال تصبح إجارة فيها شبهة الربا؛ لأنه قال: إذا عملت العمل فلك عشرة، وإذا ما عملته فسآخذ منك عشرين، وهذا أمر واضح جلي، فليس له مدخل، ثم هذا لا يملك أموال الناس حتى يعاقبه في ماله، فأموال الناس محترمة، وحقوق العامل تسعة وعشرين يوماً، أن يعطى أجرة تسعة وعشرين يوماً، وإذا ضيع من أجرته ساعة واحدة، بل دقيقة واحدة؛ فسيقف بين يدي الله ويسأله عنها، شاء أم أبى، فيسأل عن هذه الأجرة، فلابد وأن يوفيها تامة كاملة (ثلاثة أنا خصمهم، ومن كنت خصمه فقد خصمته)، فدل على أنه باطل وظلم. وبعضهم يقول: إن هذا جائز ولا بأس به؛ وهو من باب التعزير بالمال، فنقول: التعزير يكون في مسائل خاصة، أما التعزير بالمال ففيه شبهة، وجمهور العلماء على تحريم التعزير بالأموال؛ لأن النصوص واضحة: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم)، {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ} [البقرة:188]، فكلهم يحرمون العقوبة بالمال، لكن على القول بجوازها: إنما ذلك لولي الأمر، والتعزير مسلك قضائي تشريعي خاص، ولا يتوسع فيه على مستوى الأفراد. فعلى مستوى الأفراد هناك معاملات وحقوق بين الشركة وبين العامل بين المؤسسة وبين العامل بين الأجير والمستأجر، وهذا الأجير له حق يأخذه، وعليه حق يؤديه، لا يظلم ولا يُظلم، فإن غاب يوماً يخصم منه غياب يوم، وكان غاب يومين يخصم منه غياب يومين. وقد يقول: إنه متكاسل فلابد من تأديبه سبحان الله! انظر إلى نفسك متى صليت صلاة مع الإمام من أول تكبيرة الإحرام؟ كم تتخلف عن الصلاة؟ وكم يذهب عنك من حقوق الله عز وجل؟ ومع هذا تذهب وتدقق مع عباد الله والله ما شدد عبد على عباد الله إلا شدد الله عليه، ومن عامل الناس بهذه الأذية والإضرار؛ عامله الله بها في الدنيا والآخرة. ولذلك فإن من يدخل هذه المداخل يظلم الناس، ويجر على نفسه ويلات لا تحمد عقباها، فأوصي السائل، وأوصي من يعمل هذا العمل، وأوصي من يطلع على من يعمل هذا العمل؛ أن يحذره العقوبة من الله عز وجل، والعمال لهم حقوقهم، فإذا عملوا أيامهم فيجب إعطاؤهم أجورهم كاملة تامة بدون منة، وأما بالنسبة للعقوبة؛ فإذا أعجبك عمله وانضباطه أبقيته، وإذا لم يعجبك ولم يناسبك فابحث عن غيره، أما أن تتسلط على ماله، أو تتسلط على عرضه بالسب والشتم والتوبيخ، أو يكتب له خطاباً يؤنبه ويؤذيه ويضره، فهذا مما ليس في شرع الله عز وجل، فلا يجوز هذا العمل، لا في الأمور الخاصة، ولا في الأمور العامة. والله تعالى أعلم.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب) Q نرجو منكم بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب)؟ A هذا الحديث أسلوبه أسلوب تحذير، ومحقرات الذنوب: هي الذنوب الصغيرة التي يحتقرها الإنسان، فإذا فعلها واحتقرها ألفها، فلا تزال به حتى تتعاظم فتهلكه-نسأل الله السلامة والعافية- ومن هنا قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لا تنظر إلى معصيتك، ولكن انظر إلى من عصيت). فالإنسان ينظر إلى عظمة الله جل جلاله، ويستعظم كل ذنب في جنب الله سبحانه وتعالى، وهذا مما يدعوه إلى الإحسان، وإلى الندم، وإلى التوبة النصوح، وقد قالوا في الحكمة: إن الجبال من دقائق الحصى، فالجبل كما تراه هو من دقائق الحصى، وقد ترى الكوم من الرمال متناهي العظمة، ولكنه من ذرات يسيرة، فإذا أحاطت الخطيئة بالإنسان أوبقته-والعياذ بالله- وأهلكته. والله تعالى أعلم.

حكم التدليس في عمر الزوج أو الزوجة

حكم التدليس في عمر الزوج أو الزوجة Q هل الزيادة في عمر الزوجة عما أُخبر به الزوج تعد عيباً من عيوب النكاح؟ A هذا غش، فإذا كان عمرها أربعين أو خمسين أو ستين، فتأتي تقول: إن عمرها ثلاثون سنة، أو خمس وعشرون سنة، فإن هذا غش بلا شك، فإذا كانت كبيرة السن ولم تخبر بالحقيقة فقد غشك. والمرأة قد تخاف من كبر السن، ولذلك يقولون في الحكمة: إذا اختصم النساء فاعلم أنهن في السن يختصمن. وعلى كل حال: لا يجوز الإخبار بسن -لا من الرجل ولا من المرأة- خلاف الحقيقة؛ بل المنبغي أن يكون هناك صدق؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]. أما بالنسبة للحكم الشرعي: فهذا يرجع فيه إلى القضاء، والعيب المؤثر عند العلماء: هو الذي يؤثر في الجماع، ويؤثر في الحياة الزوجية، سواء من الرجل أو المرأة؛ لأن السؤال: هل هذا عيب يعطي الخيار للمرأة، أو الرجل هذا فيه نظر: فإذا كان سنه يؤثر على حياة المرأة، ويضر بها، ويؤثر على حقها في العشرة الزوجية؛ فنعم، ولذلك نرد هذا إلى القاضي، لكن الأصل في السن أنه لا يؤثر، فقد تجد الرجل مثلاً وعمره أربعون سنة، ويخبر أن عمره مثلاً خمساً أو ثمانياً وثلاثين، فالفارق يسير، فلا يكون نقصاً يوجب الخيار، بل قد يكون عمره خمسين سنة، فيقال: إن عمره مثلاً ثلاثون سنة، ولكن تكون فيه قوة الشباب، ويعطي المرأة حقها، ولا يضر بشيء من حقوقها، فالعقد قائم ولا يؤثر ذلك عليه، مادام أنه يقوم ويؤدي حقوق الزوجية. فهذا ليس عيباً يؤثر في النكاح؛ بحيث أنه يوجب الخيار، والأصل -كما تقدم معنا في النكاح- أن العيوب المؤثرة مثل: عيوب الفرج التي تمنع من الاستمتاع، أو تمنع من الجماع أصلاً كالعنين والمجبوب، فهذه كلها عيوب مؤثرة، أما بالنسبة للسن فإنه ليس بمؤثر على كل حال. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مقدمة كتاب الجنايات [2]

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [2] ينقسم القتل إلى ثلاثة أقسام: قتل عمد، وقتل خطأ، وقتل شبه عمد، ولكل قسم شروطه وضوابطه، فيشترط في قتل العمد أن يكون القاتل قاصداً قتل آدمي معصوم الدم، وأن يقتل بما يغلب على الظن موته به، فإذا توفرت هذه الشروط وجب القصاص إلا أن يعفو ولي الدم.

أقسام القتل

أقسام القتل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وهي عمد يختص القود به بشرط القصد]. تقدم معنا تعريف الجناية، وأن مراد العلماء رحمهم الله بها: الاعتداء على النفس والبدن، سواء كان ذلك بالإزهاق، أو بإتلاف الأعضاء وجرح البدن.

القتل العمد

القتل العمد يقول رحمه الله: (وهي عمد يختص القود بشرط القصد). الضمير عائد إلى الجنايات، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: إما أن تكون الجناية عمداً، وإما أن تكون الجناية خطأً، وإما أن تكون شبه عمد. وقد بينا أن هذا التقسيم الذي ذكره العلماء رحمهم الله هو أصح مذاهب العلماء في المسألة، وهو مذهب جمهور أهل العلم رحمهم الله، وهو قضاء عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين، وأئمة التابعين، وهو مذهب الجمهور من الأئمة الأربعة. قال رحمه الله: (وهي عمد). يقال: عمد إلى الشيء إذا قصده، ولا يكون العمد عمداً إلا إذا وجد فيه القصد، وهذا النوع من الجناية هو أعظم أنواع الجناية وأشدها. وقد أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم قتل النفس المحرمة؛ لدليل الكتاب والسنة. أما دليل الكتاب: فقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:92]، فبين أن المؤمن لا يقتل أخاه المؤمن عمداً {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، فهذه أربع عقوبات، كل واحدة منها من الوعيد الشديد من الله سبحانه وتعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً)، فالأصل أن المؤمن لا يتعمد قتل أخيه المؤمن، ولكن إذا تعمد وقتله عمداً وعدواناً فإنه قد غضب الله عليه ولعنه، وجعل جهنم جزاءه وساءت مصيراً، وأعد له العذاب العظيم فيها، وهذا من أشد ما يكون؛ فإن الله عز وجل إذا رتب العقوبة مكررة على الشيء دل على عظمه. وقال سبحانه وتعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، قال بعض العلماء: (أنفسكم) أي: إخوانكم؛ لأن المؤمن مع المؤمن كالنفس الواحدة، ولذلك قال: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61]، قيل: على إخوانكم، فجعل المؤمن مع المؤمن كالشيء الواحد؛ ولأنه إذا قتل أخاه المسلم فقد قتل النفس المؤمنة، فلا يتورع عن قتل أي نفس مؤمنة أخرى. وقال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء:33]، فحرم الله قتل النفس المحرمة ونهى عن ذلك، والنهي يقتضي التحريم كما هو معلوم. وكذلك جاءت نصوص السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين حرمة قتل المسلم بدون حق، حتى قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح. عن أبي هريرة رضي الله عنه: (اجتنبوا السبع الموبقات) والموبقات هي التي تهلك أصحابها -والعياذ بالله- وهي جمع موبقة، ترهنه حتى تأتي عليه وتهلكه والعياذ بالله، وذكر منها: (الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق)، فقتل النفس التي حرم الله بغير حق من الموبقات المهلكات، ولذلك قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (لا يزال الرجل في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً). أي: لا يزال في فسحة ورحمة ما لم يقع في الدم المحرم -والعياذ بالله- لأنه موبق ومهلك لصاحبه. وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، وكذلك جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه اقتص من القاتل، كما في حديث اليهودي الذي قتل الأنصارية. والإجماع منعقد على تحريم القتل، وأنه من عظيم الذنب وشديد الذنب بعد الشرك بالله عز وجل، ولذلك جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي رواه بعض أصحاب السنن: (لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل المؤمن)، أي: بدون حق، وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه وقف على الكعبة فقال: (إنك عند الله بمكان -أي: محرمة معظمة- وإن دم المسلم أعظم عند الله منك)، أي: أن دم المسلم المحرم أعظم عند الله عز وجل من زوال الدنيا ومن الكعبة ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم القتل بدون حق، وأنه من الإفساد في الأرض، وما من أمة ينتشر بينها القتل إلا أصابها البلاء العظيم. ولذلك إذا أراد الله بقوم شر وبلاء وفتنة جعل بأسهم بينهم -والعياذ بالله- فقتل بعضهم بعضاً وتسلط بعضهم على دماء بعض. فالقتل العمد مجمع على تحريمه، إلا إذا وجد السبب الموجب للقتل، وأذن الله في القتل وأحل دم المقتول بالدلائل الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وجوب القصاص في القتل العمد

وجوب القصاص في القتل العمد وقوله: (يختص القود به) أي: القصاص، يقال: قاد فلان من فلان إذا اقتص منه، والأصل أن قتل العمد هو النوع الوحيد الذي يوجب لأولياء المقتول المطالبة بدم القاتل. فإذا توفرت شروط القتل بكونه قتل عمد وعدوان، فإنه يمكن أولياء المقتول من القود من القاتل. كما قال تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:33]، وهذا السلطان هو سلطان الحق الذي بينه كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيقال لولي المقتول: أما أن تأخذ بحقك فنقتل من قتل وليك، أو تعفو وتكون لك الدية، أو تعفو عن القصاص والدية. وهذا الأمر متفق عليه بين العلماء رحمهم الله، وهو أن قتل العمد هو وحده الذي يوجب القصاص، وأن ما عداه -وهو قتل الخطأ وقتل شبه العمد- لا يوجب قصاصاً ويوجب الدية، ويخير الولي بين الدية وبين العفو، إن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا. ولذلك قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:178]. وقد كان في شرع من قبلنا أن القاتل يقتل، كما في شريعة اليهود، ولا عفو ولا دية، فخفف هذا الحكم ووضع هذا الإصر الذي كان على اليهود في شريعة عيسى عليه السلام، فقيل لأولياء المقتول: إما أن تقتلوا قصاصاً، وإما أن تأخذوا الدية، وجاءت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بالتخفيف والرحمة، فخير بين هذه الثلاثة الأشياء: القتل الذي هو القصاص، أو أخذ الدية، أو العفو بدون قتل ولا قصاص. فالشاهد: أن العمد يختص به القود، وقد دل على هذا القود دليل الكتاب كما ذكرنا من الآيات: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:179]، وكذلك دل عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178]، وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45]، والقاعدة: أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا خلافه. وقد دل على ذلك دليل السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: (فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقاد وإما يودى). فقول: (إما أن يقاد) أي: يمكن من القود والقصاص، (وإما أن يودى) أي: يعطى الدية؛ فهو بخير النظرين، إن شاء هذا، وإن شاء هذا. أما لو أسقط حقه وعفا فله ذلك. إذاً: قوله: (يختص القود به) محل إجماع، أنه لا قود ولا قصاص في قتل الخطأ، فلو أن شخصاً خرج إلى البر للصيد فرمى حيواناً، فسقط رجل بينه وبين الحيوان فقتله، فبالإجماع أنه لا يقتل به؛ لأن الخطأ لا يوجب القود، وكذلك أيضاً شبه العمد لا يوجب القود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتص في شبه العمد، فقد جاء في الصحيحين: (أنه اقتتلت امرأتان من هذيل) أي: اختصمتا وحصل بينهما شجار وقتال (اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وجنينها، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبدٌ أو وليدة، وقضى بدية المرأة على العاقلة)، أي: على عاقلة المرأة، مع أنها وقعت في حالة الخصومة والشجار؛ لكنه ليس هو بقتل عمد، وإنما هو قتل شبه العمد. وهذا يدل على أنه لا يوجب القصاص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به. فلا قتل الخطأ ولا قتل شبه العمد يوجب قصاصاً، ومن هنا قال المصنف رحمه الله: (وهي عمد ويختص القود به) أي فلا قصاص إلا في قتل العمد والعدوان. وقوله: (بشرط القصد) أي: بشرط وجود قصد القتل، فلابد أن يقصد القاتل وأن تكون عنده نية للقتل، وأن يقصد قتل المقتول ولا يقصد قتل غيره، فإذا قصد القتل، والمقتول الذي قصده معصوم الدم، وتوفرت فيه الشروط المعتبرة؛ فإنه يجب القصاص. إذاً: لا يمكن أن يحكم بكون الإنسان قاتل عمد ويوجب القصاص عليه إلا إذا وجدت عنده نية للقتل -الذي يسمونه القصد- والأمر الثاني: أن يقتل بشيء يزهق، كما سيأتي -إن شاء الله- في شروطه وأن يكون قاصداً قتل المقتول نفسه، فيقول: أردت قتل فلان، والعياذ بالله!

القتل شبه العمد

القتل شبه العمد قال رحمه الله: [وشبه عمد]. شبه الشيء مثيله ونظيره، والمشابهة: المشاكلة والمقاربة في الأوصاف والصفات، وشبه العمد: هو النوع الثاني من القتل، وله ثلاثة أسماء: شبه العمد، وعمد الخطأ، وخطأ العمد. فهذه كلها من أسماء شبه العمد. وهذا النوع الثاني قد أثبته جمهور العلماء كما سنبينه إن شاء الله، وهو قضاء عمر وعثمان وعلي وجمهور الصحابة رضي الله عنهم، وهذا النوع بين الخطأ وبين العمد، فإن فيه مشابهة للخطأ من وجه، وفيه مشابهة للعمد من وجه، ولذلك يقال له: عمد الخطأ، ويقال له: خطأ العمد. ودليله: ما رواه النسائي وابن ماجة وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن في قتيل شبه العمد -قتيل السوط والعصا والحجر- مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها)، وهذا الحديث فيه فوائد: أولاً: ثبوت القسم الثالث من أقسام القتل، والتي هي: العمد والخطأ وشبه العمد، الذي هو الوسيط بين العمد والخطأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن في قتيل شبه العمد)، فأثبت قسماً ثالثاً وسيطاً بين العمد والخطأ، وهذا محل الشاهد. ثانياً: أنه يوجب الدية ولا يوجب القصاص؛ لأنه قال: (ألا إن في قتيل شبه العمد)، وفي بعض الروايات: (قتيل خطأ العمد -قتيل السوط والعصا- مائة من الإبل)، فبين أن فيه الدية وليس فيه قصاص، وهذا يدل على أنه لا يقتص ممن قتل بهذا النوع. وستأتينا ضوابط شبه العمد. ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثالاً لقتيل شبه العمد، فقال: (قتيل السوط والعصا والحجر)، فكل آلة في الغالب غير قاتلة إذا كانت مستخدمة في القتل فهو من شبه العمد، أما إذا كانت الآلة في الغالب قاتلة فهذا عمد وله ضوابطه التي سنذكرها. إذاً: بين النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا محل الشاهد- أن هناك قسماً ثالثاً، وهو شبه العمد. ويكون في حال الشجار والخصومة مثل النزاع في حال اللجج والخصومة، فيأخذ العصا ويضربه فيكون فيها حتفه، وتكون العصا التي ضرب بها غير كبيرة، أما لو كانت كبيرة الحجم جداً بحيث أنها تقتل غالباً فلا إشكال. وكذلك أيضاً أن يكون الضرب في غير مقتل، فلو أخذ عصا صغيرة ولكنه ضرب في مقتل فهو عمد. فيشترط أن تكون الآلة لا تقتل غالباً، وأن يكون الضرب في غير مقتل، وأن يكون المضروب مثله يتحمل مثل هذا الضرب. فلو كانت العصا لا تقتل، ولكنه كرر الضرب على وجه يقتل غالباً، فهذا قتل عمد، ولو أنه ضرب بها في مقتل، والغالب أن الضرب في هذا المكان يقتل، فهو عمد، مثل جهة الخصية والأنف، وكالضرب على جهة القلب، والضرب على المقاتل المعروفة، فهذه إذا حصل الضرب لها، ولو كانت الآلة لا تقتل غالباً، لكن الموضع يقتل غالباً، فهو من العمد. وكذلك أيضاً كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: قتيل الحجر، كأن يرميه بحجر والحجر لا يقتل غالباً، بحيث لا يكون كبير الحجم، فهذا من شبه العمد أيضاً. فإذا كان الحجر يقتل غالباً، فإنه حينئذ قتل عمد. لكنه إذا كان حجراً لا يقتل مثله غالباً والموضع الذي ضربه فيه لا يقتل، فإننا نغلب القدر وأنه ليس بالآلة ولا بالقصد، فالقصد أنه لا يريد القتل؛ لأن الذي قتل لا يريد القتل، فحينئذ يقال: هذا شبه عمد، فيرتفع عن الخطأ وينزل عن العمد يرتفع عن الخطأ فديته مغلظة يشدد فيها؛ لأنه يوجب الدية، وحينئذ يقال: تغلظ الدية، كما سيأتينا إن شاء الله، وينزل عن العمد فلا يوجب قصاصاً، وسيأتي إن شاء الله بيان ضابطه.

قتل الخطأ

قتل الخطأ قال رحمه الله: [وخطأ]. هذا هو القسم الثالث من أقسام القتل، والخطأ: ضد الصواب، وأخطأ في الشيء إذا لم يصبه، والمراد هنا: أنه لا يقصد القتل ولا يريده، وهو يقع على صور منها: أن يرمي شيئاً يظنه صيداً فيصيب آدمياً ويقتله، وهو معصوم الدم، أو -مثلاً- يأتي بقصد الإحسان، كالطبيب يريد أن يعالج، فيهمل في بعض الأشياء بدون قصد للقتل، فيحصل به إزهاق النفس وموت المريض ونحو ذلك، وسيأتي -إن شاء الله- الكلام عليه. فهذه الثلاثة الأقسام: العمد، وشبه العمد، والخطأ. أجمع العلماء رحمهم الله على أن القتل يكون عمداً ويكون خطأً، والخلاف فقط في شبه العمد هل هو قسم أو لا؟ وهناك نوع رابع يسميه بعض العلماء: (جاري مجرى الخطأ)، وقد نتعرض له إن شاء الله في أقسام الخطأ.

ضوابط وشروط قتل العمد

ضوابط وشروط قتل العمد قال رحمه الله: [فالعمد أن يقصد من يعلمه آدمياً معصوماً فيقتله بما يغلب على الظن موته به]. بعد أن بين المصنف أن القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام، سيضع ضابطاً لكل قسم منها، ثم بعد ذلك سيتحدث عن الصور التي يحكم فيها بقتل العمد، والصور التي يحكم فيها بقتل شبه العمد، والأمثلة أيضاً والصور على قتل الخطأ، حتى يستطيع الفقيه وطالب العلم أن يميز بين هذه الثلاثة الأقسام. فشرع رحمه الله في ضابط قتل العمد.

القصد

القصد قال رحمه الله: (أن يقصد) هذا هو الشرط الأول، وهو أن يكون قاصداً للقتل -والعياذ بالله- بمعنى: أن يقتل ويزهق النفس المحرمة بنية، وإذا تخلفت النية فليس بعمد، ولذلك قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5]، فجعل قصد القلب للشيء عمداً، ومن هنا قالوا: لا يمكن أن يحكم بقتل العمد إلا إذا وجد قصد ونية للقتل. إذاً: الشرط الأول أن تكون عنده نية، فلو أنه رمى ولم يقصد القتل، كأن يرمي صيداً وهو لا يقصد القتل، ومثل المعلم يعذب طالباً ثم يموت الطالب، فهذا علم يقصد القتل وإنما قصد التأديب، فإذا أردنا أن نحكم بالعمد فلا بد من وجود نية للقتل.

أن يعلم كونه آدميا معصوم الدم

أن يعلم كونه آدمياً معصوم الدم ثانياً: أن يعلم كونه آدمياً، فلو أنه رأى شيئاً فظن أنه حيوان أو ظبي أو وعل -كأن يكون في البر- فرماه فوجد أنه آدمي، أو رأى شخصاً نائماً فظنه حيواناً -صيداً- فقتله، أو ظنه سبعاً مفترساً فقتله، فإنه لم يقصد آدمياً معصوم الدم، ولم يرد قتل الآدمي، وإنما أراد قتل السبع ليدافع عن نفسه، أو أراد قتل حيوان صيداً. إذاً يشترط وجود القصد، وأن يكون المقصود آدمياً، فخرج قتل الحيوان، فإذا قتل حيواناً فلا يوجب القصاص. وخرج بقوله: (معصوماً) غير معصوم الدم، كأن يكون حربياً، ففي الجهاد إذا قتل المسلم الكافر فإنه قتل غير معصوم، فلا يوجب هذا القتل قصاصاً عليه. إذاً: الشرط الأول: القصد للقتل. والشرط الثاني: أن يكون المقصود والمقتول معصوم الدم، فخرج غير معصوم الدم. ومن هنا فلو صال على الإنسان شخص يريد أن ينتهك عرضه، أو يريد أن يقتله، فجاء ودفعه وعلم أو غلب على ظنه أنه إذا لم يقتله فسوف يقتله أو يؤذي عرضه، ولا مناص من الخروج من هذا البلاء إلا بقتله فقتله -كما سيأتينا في دفع الصائل- فإنه لا يعتبر قتل عمد وعدوان؛ لأن هذا الصائل أسقط حرمته بالاعتداء على أعراض الناس؛ لأنه أصبح غير معصوم بهذا الاعتداء، فإذا أراد شخص أن يقتل شخصاً فجاءه وشهر السلاح عليه, فهذا الذي شُهر عليه السلاح مظلوم، فأراد أن يدفع عن نفسه فرفع السلاح وعلم أنه إذا لم يقتله فسوف يقتله، فإنه قد قتل غير المعصوم، فخرج الحربي وخرج الصائل لعدم عصمة دمهما.

إزهاق الروح

إزهاق الروح الشرط الثالث: أن يقع القتل وأن يحصل، فلو أنه نوى وقصد المعصوم ولم يحصل القتل؛ فلا يجب القصاص. مثلاً: لو جاء رجل وهجم على شخص يريد أن يقتله عمداً وعدواناً، وكان يعلم أن هذا الشخص معصوم الدم وأنه محرم النفس، فرماه بسلاحه فكسر رجله، فهو يقصد القتل والمعصوم، ولكن لم يقع القتل، فلا قصاص بالقتل، وإنما يقتص منه بمثل ما آذاه، والجروح قصاص، وينظر في الجرح هل مثله يمكن القصاص به أو لا؟ وسيأتينا في قصاص الجرح. إذاً: يشترط وجود القصد، وأن يكون المقصود آدمياً معصوم الدم، وأن يقع القتل.

أن يكون القتل بما يغلب على الظن موته به

أن يكون القتل بما يغلب على الظن موته به الشرط الرابع: أن يكون هذا القتل بواسطة، وهي الآلة أو الوسيلة أو السببية المفضية للهلاك، كما سيأتي -إن شاء الله- في ضوابط قتل العمد، فقتل العمد ينقسم إلى قسمين -سنبينهما إن شاء الله-: المباشرة والسببية. فإذا قصد، وكان المقصود آدمياً معصوم الدم، وحصل القتل، فإنه ينبغي أن يكون القتل، فإنه بآلة يغلب على ظننا أنه يقتل مثلها، فتكون الآلة جارحة، مثل السكاكين والسيوف كما سيأتينا إن شاء الله، وسنذكر ضوابط الآلات المؤثرة. إذاً: هذه الأمور لا بد من توفرها للحكم بكون القتل قتل عمدٍ، فلو كانت الآلة التي استخدمها لا تقتل غالباً، مثل العصا الصغيرة ضربه بها في غير مقتل ومات الشخص، فهو هنا قد قصد القتل، والشخص المقصود معصوم الدم، وحصل القتل والآلة لا تقتل غالباً، فيقولون: الأشبه أنه وافق القدر فمات؛ لأن الغالب أنه لم يمت بسبب الآلة. وبناء على ذلك لا بد أن تكون الآلة قاتلة، أي: يغلب على الظن أن تكون الآلة قاتلة كما سنذكر إن شاء الله. هذا بالنسبة لقتل العمد، فلا يحكم بقتل العمد إلا عند وجود هذه الشروط وهذه الصفات المعتبرة للحكم بوصف القتل أنه قتل عمد.

القتل بالمباشرة والسببية

القتل بالمباشرة والسببية قال رحمه الله: [مثل أن يجرحه بما له مور في البدن]. الآن سندخل في تفصيلات تحتاج إلى شيء من التركيز، وقبل أن ندخل فيها سنقدم بمقدمة نرجو من الله أن ييسر على طالب العلم فهم هذه الأمور، فنقول: إن قتل العمد إذا حصل فإما أن يكون بالمباشرة وإما أن يكون بالسببية. والقتل المباشر: هو أن يباشر القاتل إزهاق النفس والروح، فيأتي تلف النفس من مباشرته لا بواسطته؛ كما لو أخذ السكين وطعن بها في مقتل، فقد باشر القتل، والقتل مسند إليه؛ لأن الفعل والآلة تحت تحكمه وفعله، فحينئذ هو القاتل، ويقال: قتل مباشرة. وفي زماننا كما لو أخذ المسدس وأطلق العيار الناري على الشخص فأصابه وأرداه قتيلاً، فحينئذ باشر القتل؛ لأن الفعل بإطلاق المسدس جاء من فعله هو، والإزهاق للروح والتلف حصل بفعله لا بواسطة أخرى؛ لأن الآلة لا يمكن أن تقتل إلا إذا حركت، والسلاح لا يمكن أن يزهق إلا إذا حُرك، ومن هنا يقال: إنه مباشر. فائدة لطيفة: حينما يقال في التصوير الفوتغرافي: إن الآلة هي التي باشرت، هذا غير صحيح، وهو من القوادح التي تقدح فيها؛ لأن ضوابط العلماء كما قالوا: إن الآلة نفسها إذا كانت لا تتحرك إلا بفعل فاعل لم يسند إليها الحكم، ومن هنا حكم العلماء بأنه لا يمكن للسلاح نفسه -المسدس- أن يعمل إلا إذا حركه الشخص، فإذا حرك الآلة وكان القتل ناشئاً عما نتج عن التحريك الذي حصل بسبب القاتل، فهذا قتل مباشرة. النوع الثاني: قتل السببية: وهو ألا يكون هو القاتل المباشر، ولكن يتسبب في القتل فيكون القتل بشيء آخر، كأن يباشر القاتل إلى شيء يكون سبباً في القتل، مثال ذلك: أن يأخذ حية فيمسكها ثم يلقيها على إنسان فتكون سبباً لوفاته، فالقتل لم يحصل بفعل القاتل نفسه، وإنما الحركة والنهش والسم وقع من الحية -أعاذنا الله وإياكم منها- إذاً القتل مباشرة من الحية، والسببية بحمل الحية وإنهاشها وتقريبها من الشخص القاتل. وكذلك أيضاً أن يأخذه ويدفعه إلى قفص فيه أسد، أو إلى موضع لا مفر فيه، كغرفة محكمة مغلقة، فيفتح بابها ويدخله داخلها مع أسد أو نمر أو سبع مفترس، أو في فرامة لحم، لكنه ألجأه للدخول حتى فرمته وقضت عليه، فافتراس السبع هو الذي قتل، والموت نشأ من افتراس السبع وهجوم السبع على المقتول، فالحيوان والسبع هو الذي باشر القتل، والشخص الذي أدخل المقتول لم يقتل، إنما تسبب في قتله، وهذا يسمى: قتل السببية. وكذلك أيضاً لو أنه ربطه ثم رماه في بركة عميقة، أو علم أنه لا يحسن السباحة فرماه في بركة عميقة، فسقط فمات فيها، فإن الموت حصل بالغرق، وزهوق النفس -خروج الروح والهلاك- حصل بقدرة الله عز وجل، فالذي قتله هو الماء، ولكن من الذي ألقاه في الماء؟ ومن الذي أوقعه فيه؟ ذلك القاتل. فهذا يسمى: قتل السببية، فإن المباشرة ليست من القاتل ولكنها من طرف ثانٍ.

اجتماع السببية والمباشرة في القتل

اجتماع السببية والمباشرة في القتل إذاً: هاتان صورتان: سببية ومباشرة، قد تنفرد السببية، وقد تنفرد المباشرة، وقد تجتمع السببية والمباشرة، ومثال اجتماعهما: كأن يكون القتل من شخصين أحدهما متسبب والثاني مباشر، وتوجب الوصف بالعمد. وهذا على أصح أقوال العلماء في مسألة مشهورة تعرف بمسألة الإكراه، مثل أن يأتي بالسلاح ويقول: يا فلان! اقتل فلاناً وإلا قتلتك فذهب هذا المهدد المكره وقتل الشخص الذي طلب منه قتله، فحينئذ اجتمعت السببية والمباشرة المباشرة بالنسبة للمكرَه الذي هُدد، والسببية بالنسبة للمكرِه الذي دفع وأمر. فعندنا آمر ومأمور، فالآمر سبب والمأمور مباشر، فيقال: هذا اجتماع سببية ومباشرة، وقد يجب القصاص على الاثنين وقد يجب القصاص على أحدهما دون الآخر. فيجب القصاص على الاثنين إذا كان كل منهما عاقلاً مدركاً، فجاء الآمر وقال له: إذا لم تقتل فلاناً فسأقتلك، فذهب وقتله؛ لأنه لا يجوز للمسلم إذا هدد بقتله أن يقتل أخاه؛ لأن شرط الإكراه: أن يهدد بشيء أعظم مما طلب منه، والنفس التي سيقتلها مثل نفسه، وحينئذ فلا يكون مكرهاً؛ لأنه فدى نفسه بقتل أخيه، وحينئذ لا يستباح بالإكراه أن يقتل أخاه المسلم؛ لأنه ليس بمكره. والإكراه شرطه -كما ذكرنا- أن يكون ما هدد به أعظم مما طلب منه من حيث الأصل، فقالوا: في هذه الحالة يعتبر القصاص على المكرِه والمكرَه، على الصحيح من أقوال العلماء، كما هو مذهب المالكية والحنابلة وسنذكر هذه المسألة إن شاء الله تعالى. الصورة الثانية لاجتماع السببية والمباشرة والتي توجب القصاص على الآمر دون المأمور: كأن يأتي إلى شخص مجنون أو إلى صبي غير عاقل وأغراه أو هدده حتى قتل آخر، فالذي باشر القتل لا يقتل؛ لأنه غير مكلف، والذي أمر بالقتل يقتل؛ لأنه ألجأه ودفعه إلى القتل، وكذلك العكس؛ فإذا كان الذي أمر وهدد مجنوناً، فجاء المأمور وقتل، فإنه يقتص من المباشر دون الآمر. إذاً: هذا بالنسبة للأصول العامة، فهناك سببية وهناك مباشرة. والأصل أن القاتل لا يوصف بكونه قاتلاً إلا إذا باشر. ومعناه: أنه سيفعل بآلة أو بوسيلة.

القتل بالمحدد

القتل بالمحدد قال العلماء: والآلة التي باشر القتل بها إما أن تكون محددة وإما أن تكون غير محددة، والمحددة مثل السكاكين والسيوف والزجاج، وسيأتي -إن شاء الله- الكلام على الحديد المسنن والخشب المسنن، وهو الذي ضبطه المصنف رحمة الله بقوله: (أن يجرحه بما له مور) أي: نفاذ، والنفاذ يكون بقطع الجلد والجرح، ولابد من هاتين الصفتين: قطع الجلد والجرج، فإن قطع الجلد ولم يجرح فلا تكون هذه الآلة مما له مور. وقوله: (أن يجرحه بما له مور في البدن)، هذا الذي يجرح يستوي أن يكون من الحديد وغير الحديد. والحديد -كما ذكرنا- مثل السيوف والسكاكين والخناجر والحديد المزجج والمسنن، ومثل رءوس الرماح والأسنة، وكذلك أيضاً في زماننا المفكات التي يطعن بها أحياناً، فهي نافذة تدخل إلى جوف البدن وتجرح وتنفذ. فهذا الجارح إما أن يكون من الحديد أو أن يكون من غير الحديد؛ كالخشب المحدد المسنن الذي يفعل كفعل الحديد الذي ينفذ في البدن، ومثل الزجاج الذي يجرح وينفذ في البدن، ومثل النحاس والرصاص والنيكل وغيرها، إذا سنن فإنه يجرح وينفذ إلى داخل البدن. وقوله: (أن يجرحه بما له مور في البدن) هذا الذي يجرح له صورتان: الصورة الأولى: أن يجرح وينفذ في البدن ولا يخترق البدن حتى يخرج من الجهة الأخرى. الصورةالثانية: أن ينفذ في البدن ويخرج، أي: يجرح من جهة ثم ينطلق ويخرج من الجهة الثانية. مثال الصورة الأولى: أن يطعنه بسكين في بطنه ولا تخرج من ظهره، فهذا جارح لم ينفذ، أي: لم يخرج إلى خارج البدن. ومثال الصورة الثانية: أن يطعنه بسيف ويخرج من ظهره، فهذا جرح دخل في البدن ونفذ. فيستوي في الجارح هذا أن يكون نافذاً -أي: يخرج- أو أن يكون غير نافذ، وغير النافذ سواءً استقر كالرصاصة التي تدخل وتستقر في البدن، أو لم يستقر مثل أن يطعنه بسكينة ونحوها ثم يخرجها. فهذا الذي له مور ونفاذ في البدن القتل به عمداً موجب للقصاص. فلو طعنه بسكين أو بسيف، وفي زماننا كالطلق الناري، فإن الطلق الناري بالرصاص يدخل في البدن وينفذ، وقد يدخل في البدن ولا ينفذ، ولكنه يجرح وله مور في البدن، فسواء استقر في البدن أو خرج فهذا جارح وقاتل. قال رحمه الله: (أن يجرحه بما له مور). هذا الجارح الذي له مور في البدن ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: يوجب القصاص والقود وهو قتل عمد. القسم الثاني: لا يوجب القصاص والقود وهو الذي ليس بقتل عمد، وفيه تفصيل. والقسم الذي يوجب القصاص والقود شرطه أن تكون الآلة قوية تجرح مثلها وتنفذ، وذلك -كما ذكرنا- مثل: السكاكين والسيوف والرماح والرصاص، والقسم الثاني: أن يكون صغيراً مثل الإبرة، فلو أنها غرزت في الإنسان فإنها تجرح، ولها مور في البدن، لكن هل كل طعن بإبرة يوجب القصاص؟ A هذا الجارح الصغير -كالإبرة والمسلة ونحوها- يفصل فيه، فإن كان على صورة تقتل غالباً فعمدٌ، وإن كان على صورة لا تقتل غالباً فليس بعمد. مثال الصورة التي تقتل غالباً: أن يطعنه بالإبرة في مقتل، فيغرز الإبرة في مقتل، كجهة قلبه أو جهة جوفه، فنفذت ومات من ساعته، فإن هذا عمد يوجب القود والقصاص. ومثال الصورة الثانية: أن يغرزها في غير مقتل ومن أمثلة الصورة الأولى -وهي أن يغرزها في مقتل-: كأن يضرب بها شيخاً كبيراً لا يتحمل، فهي وإن كان مثلها صغيراً، ولكن المضروب بها مثله لا يتحمل هذا، وكذلك المريض الساقط بمرضه -الذي بمجرد أن يضرب يموت- قالوا: إن الغالب موته بهذا الضرب، وحينئذ الآلة صغيرة، لكن وجد في الشخص وصف يقتضي صيرورة القتل عمداً؛ لأنه يعلم أن مثل هذا لا يتحمل، والشيخ الكبير لا يحتاج أن يوضع له علامة، فهو واضح الأمر أن مثله بأقل شيء يموت، فغرز مثل ذلك في شاب قوي جلد، ليس كغرزها في شيخ كبير أو مريض، أو غرزها في إنسان قوي لكن في مقتل. إذاً: فصل العلماء رحمهم الله والأئمة في المحدد بين أن يكون جارحاً يزهق غالباً مثل السكاكين ونحوها، وبين أن يكون جارحاً لا يزهق غالباً. ففرقوا فيه بين الشخص الذي يتحمل، والشخص الذي لا يتحمل، والمطعن غير القاتل والمطعن القاتل.

القتل بالمثقل

القتل بالمثقل قال رحمه الله: [أو يضربه بحجر كبير ونحوه]. هذا هو النوع الثاني: وهو أن يكون القتل بغير المحدد، وهذه مسألة خلافية عند العلماء رحمهم الله، وهي التي يسمونها: القتل بالمثقل. والقتل بالمثقل له صور، منها: أن يأخذ حجراً كبيراً ويضرب به رأس المقتول، ومثل أن يأخذ رأس المقتول بين حجرين ويرضه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت أن الحجر، تارة يوجب القصاص وتارة لا يوجب القصاص، فلما وجدنا الشريعة تفرق بين الحجر، عرفنا أن الحجر مختلف، فتارة يكون مثله قاتلاً غالباً، وتارة لا يكون مثله يقتل غالباً. ففرقنا بتفريق النقل والعقل. والدليل على أن الحجر يقتل: حديث أنس في الصحيحين (أن جارية من الأنصار وجدت مقتولة وقد رض رأسها بين حجرين، وأدركوها في آخر رمق من حياتها، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ فلان فلان، حتى ذكروا يهودياً كان يتوعدها، فأشارت برأسها أن نعم، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم باليهودي فأتي به فأقر واعترف أنه قتلها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين)، كما فعل بالجارية. ومن هنا أخذ العلماء أن قتل المثقل يوجب القصاص؛ لأن اليهودي وله ذمة ودمه محرم في الأصل؛ لأنه ذمي، له أمان الله ورسوله، ومعاهد، له عهد الله ورسوله، فلا يستباح دمه إلا بحق، ولذلك لو كان القتل من باب آخر لما فعل به نفس الفعل عليه الصلاة والسلام، فلما فعل به نفس الفعل، علمنا أن قتل المثقل يوجب القصاص، وأن قتل العمد لا يختص بالمحدد، خلافاً للحنفية وغيرهم، والصحيح من مذهب الجمهور أن المثقل -غير المحدد- يقتل كما يقتل المحدد، ويوجب القصاص والحكم بكون القتل قتل عمد كما يوجبه المحدد. فهنا قضى عليه الصلاة والسلام في الحجر أنه يقتل، وأنه يوجب القصاص والقود، وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -الذي تقدمت الإشارة إليه (ألا إن في قتيل شبه العمد -قتيل السوط والعصا والحجر-، مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها)، فهنا أسقط القصاص، وأوجب الدية، ونظرنا فوجدنا الحجر يختلف، وهنا قاعدة: إذا وجدت الكتاب والسنة يحكم على شيء ويخالف في الحكم، ووجدت الشيء المحكوم عليه مختلف الصفات، فاعلم أن الاختلاف سببه اختلاف الصفات، فإن الله قد جعل لكل شيء قدراً. ومن هنا اختلف العلماء إذا كان القتل بغير المحدد، فبعض العلماء يقول: لا يقيل القاتل بغير محدد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن في قتيل شبه العمد، قتيل السوط والعصا والحجر)، فجعله شبه عمد ولم يجعله قصاصاً وعمداً. ولكن الصحيح هو التفصيل؛ لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بكون غير المحدد يوجب القصاص، وإذا ثبت أن غير المحدد يوجب القصاص، فهذا ما يسمى بالمثقل. والمثقل إما أن يكون مثله يتحكم فيه بالرمي، مثل الحجر، فإذا كان مما يرمى مثل الحجر، فيشترط أن يكون كبيراً، وأما إذا كان صغيراً فإن فيه التفصيل الذي تقدم، وهو إن كان صغيراً وضربه في مقتل قُتِل به وصار قوداً، على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله، كما ذكرنا في المحدد، فمثلاً: النبال الموجود الآن، لو أنه حدد في ضربه مكان مقتل ورمى النبال بقوة، فالغالب أنه يقتل، أو كان المضروب لا يتحمل الضرب فغالباً أنه يهلكه، فحينئذ هذا المثقل والحجر إن كان كبيراً فلا إشكال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل به اليهودي، وإن كان صغيراً في مقتل قتل به، أو كان المقتول الذي ضرب ضعيفاً لا يتحمل، أو كرر الضرب بالمثقل الصغير، فإنه يصير في قوة الكبير. ونرجع في ذلك إلى العرف وأهل الخبرة ومن الأطباء ونحوهم، فإن قالوا: الغالب أن هذا الشيء لو كرر مرة أو مرتين أو ثلاثاً فإنه يقتل، وجاء الشهود وشهدوا أنه كرر الضرب عليه ثلاث مرات أو أربع مرات فمات، فحينئذ يكون قتل عمد. والخلاصة: أن المثقل أو غير المحدد إن كان كبيراً يقتل غالباً مثله قتل به، مثل الحجر الكبير، وإن كان دون ذلك فصل فيه، فإن كان في غير مقتل فهو خطأ لا يوجب قصاصاً، وإن كان في مقتل فإنه يوجب القصاص. وهذا المثقل -غير المحدد- له صورتان: الأولى: أن يكون متحكماً فيه مثل الحجر. والصورة الثانية: أن يكون مثقلاً يدفع مثل الجدار، كأن يكون الشخص جالساً تحته فيسقط الجدار عليه فيقتله، فالجدار مثله يقتل غالباً، لكنه يحتاج إلى تفصيل: هل كان المقتول يعلم أو لا يعلم؟ وهل يستطيع الفرار أو لا يستطيع الفرار؟ فهو يحتاج إلى تفصيل ونظر؛ فإن كان قد قيل للمقتول: سيسقط عليك فلان الجدار، فجلس، فإنه قد قصر في حفظ نفسه، وأهمل في دفع الضرر عنها، لكن إذا كان التنبيه في وقت لم يمكنه معه الفرار، أو كان على حالة لا يمكنه معها الفرار، فحينئذ يكون القتل قتل عمد، فإذا أزهقت روحه بإسقاط الجدار عليه، فإنه يعتبر قتل عمد يوجب القصاص.

صور القتل بالسببية

صور القتل بالسببية قال رحمه الله: [أو يلقي عليه حائطاً]. وذلك كما ذكرنا، وانظر إلى دقة العلماء رحمهم الله! فقد بدأ المصنف بالمحدد ثم غير المحدد، وغير المحدد قسمه إلى قسمين، فلم يأت بالحائط قبل الحجر، مع أن الحائط أكبر من الحجر، ولكن الحجر في المباشرة والتحكم أسبق من الحائط، ولذلك القتل به أقوى من القتل بالحائط، وأغلب وقوعاً بين الناس من الحائط، وهذا من دقة العلماء رحمهم الله وترتيبهم للأفكار، ومراعاتهم للتسلسل المنطقي فيها. قال رحمه الله: [أو يلقيه من شاهق]. هنا بدأ المصنف بالقتل بالسببية، وصورته: كأن يلقيه من شاهق، فإن هذا يسمى: الإلقاء في المهلكة، وهو أن يلقيه من شاهق؛ كجبل أو عمارة كبيرة -كما في زماننا- أو طيارة في الجو وغيرها، أو يلقيه على سبع، أو يلقيه على زريبة، أو يلقيه في بحر لجي، أو يلقيه في بركة، أو يلقيه في مكان به أسد قاتل. فهذه كلها من القتل بالسببية، ويحتاج إلى ضوابط إن شاء الله سنتعرض لها ونبينها في المجلس القادم.

الأسئلة

الأسئلة

إثبات قتل شبه العمد بدليل السنة

إثبات قتل شبه العمد بدليل السنة Q العلماء الذين لا يقولون بقتل شبه العمد، بماذا يجيبون عن حديث السنن وكذا الحديث الصحيح. عن المرأة التي ضربت ضرتها بعمود فسطاط فقتلتها؟ A من أسباب اختلاف العلماء في المسائل: الاختلاف في ثبوت النص. فمثلاً: الظاهرية لما لم يقولوا بشبه العمد، قالوا: إن الله عز وجل ذكر العمد والخطأ في القرآن، والحديث لا نصححه، وبناء على ذلك بقوا على الأصل، فقالوا: عندنا عمد وخطأ، ولا يثبتون قسيماً ثالثاً، وهكذا من يوافقهم من المالكية وغيرهم رحمة الله على الجميع، يرون أن الأصل في الكتاب العمد والخطأ، {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء:93]، قالوا: هذا هو القسم الأول، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:92] هذا هو القسم الثاني، قالوا: ولم يذكر الله قسماً ثالثاً. الجمهور فقالوا: إن السنة قد صحت بثبوت هذا القسم الثالث، والسنة تأتي بزيادة على القرآن، وبناء على ذلك نثبت ما أثبته النبي صلى الله عليه وسلم، وصحت به السنة عنه عليه الصلاة والسلام، كما في حديث المرأة التي رمت الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها -قصة المرأتين اللتين اقتتلتا- فإن هذا ليس قتل عمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل بحجر ولم يقتل بحجر، فجزمنا بأن الحجر الذي في قصة المرأتين المسلمتين ليس كالحجر الذي قتل به اليهودي الجارية، وإلا لكان هناك تناقض في الشريعة، والشريعة منزهة عن التناقض. وهذا هو الواقع؛ فإن المرأة لما رمت بالحجر تسبب في سقوط الجنين وسقوط الجنين تسبب في موت المرأة، فالموت لم يأتِ بالحجر نفسه، ولابد أن ينتبه لهذا الاستلحاق، فإن الحجر أسقط الجنين، فأوجب الرسول صلى الله عليه وسلم فيه الوليدة الذي هو ضمان الجنين. ولما كان هذا الإسقاط بالحجر ومثله لا يقتل غالباً، والإسقاط ليس بقتل، وهي لما رمتها بالحجر لم تقصد إسقاط جنينها ولم تقصد قتلها، فالقصد غير موجود حتى نقول: إنه عمد، وأيضاً الإسقاط غير مقصود حتى نقول: إنه أيضاً عمد، فمن هنا أوجب النبي صلى الله عليه وسلم فيها الدية، وقضى بالدية على العاقلة. والدليل على أن هذا قتل ليس بعمد: أولاً: عدم وجود القصاص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم فيه بالقصاص، وثانياً: كما صرح الراوي وهو عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بدية المرأة على عاقلتها)، والعاقلة -كما سيأتينا إن شاء الله في باب الديات- لا تحمل دية العمد، فلو أن شخصاً قتل شخصاً عمداً -والعياذ بالله- وقال أولياء المقتول: نريد الدية، فلا نقول لجماعته وقبيلته أن يساعدوه؛ لأنهم لو ساعدوه لأعانوه على المنكر، وأعين على سفك الدماء بالباطل؛ لأن الأصل في القاتل العامد ألا تعينه العاقلة في الدية، والعاقلة والقبيلة والجماعة لا تحمل دية العمد، بمعنى: أن القاضي لا يلزمها بدفع الدية في العمد، وإنما يلزمها في الخطأ، وبناء على أن قتل المرأة -التي مرت معنا- خطأ، قضى النبي صلى الله عليه وسلم بديتها على العاقلة، فلما قضى عليه الصلاة والسلام بالدية على العاقلة أدركنا أن القتل خطأ وليس بعمد. والله تعالى أعلم.

حكم دعوى القاتل أنه لم يقصد القتل

حكم دعوى القاتل أنه لم يقصد القتل Q إذا كان القتل قتل عمد ولكن القاتل ادعى خلاف ذلك، وقال: لم أقصد قتله، وذكر أمراً خلاف القصد، فما الحكم؟ A قتل العمد فيه إقرار من القاتل وفيه دلالة ظاهر. فمثلاً: شخص أخذ المسدس وجاء ووضعه في رأس المقتول وضربه وقال: أنا لم أقصد أن أقتله، فهل يصدق في هذا؟ وهذا يسمى دلالة الظاهر، ويحتاج طالب العلم دائماً أن يفقه في المسائل الشرعية دلالة الظاهر، ومنها: مسألة التبديع عند بعض العلماء، فعندما يداوم الشخص على شيء ويقول: أنا ما قصدت أغير شرع الله، فيقال له: مداومتك، الذي هو دلالة الظاهر، هذه المداومة كما تدل على أنك تقصد وتعتقد في هذا الشيء، لكن هذه الدلالة لا يحكم بها كل أحد، وإنما يحكم بها العلماء الراسخون الذين يستطيعون أن يعرفوا متى يحكم بالظاهر ويلغى القصد؟ ومتى يلغى الظاهر ويلتفت إلى القصد؟ ومتى يلزم الأمران اجتماع الظاهر والباطن؟ وهذه من أدق المسائل ومن أعوصها عند أهل العلم رحمة الله عليهم. وهنا في هذه المسألة: إذا كان الظاهر ودلائل أخرى دلت على أنه يريد قتل العمد والعدوان، كأن يكون سبق منه التهديد بالكلام، كشخص جاء وقال له: أنا سوف أقتلك، وجاء وضربه بشيء غالباً يقتل، أو جاء ووضع الحبل على رقبته وخنقه، ثم قال: أنا ما قصدت قتله، فنقول: هذا الشيء مثله يقتل غالباً، وكونك تقول: ما قصدت قتله، هذا لا نقبله منك؛ لأن دلالة الظاهر واضحة على أنك تريد قتله وإزهاق روحه. وكأن يصب أحدهم الوقود على آخر ويشعل فيه النار، ثم يقول: أنا ما قصدت قتله، بل قصدت فقط تعذيبه، فلا يقبل هذا، ولو فتح هذا الباب لذهبت دماء الناس بحجة عدم قصد القتل، فالشريعة لا تلتفت إلى مثل هذه المواقف، وهذا هو الذي جعلهم يقولون: أن يجرحه بما له مور. فدلالة الظاهر ودلالة الأحوال معتبرة، وقتل العمد لا بد فيه من النظر في هذه الأمور، وليس هناك شرع أدق من شريعة الله عز وجل وحكم الشريعة الإسلامية في ضبط الأمور، ولن تجد أحكم ولا أسلم من هذه الضوابط المستنبطة من أصول الشريعة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك وقفت القوانين الوضعية وما يسمونها بالتشريعات والنظم المعاصرة والسابقة عاجزة أمام هذه العظمة التي جعلها الله عز وجل كمالاً وجمالاً وجلالاً لشرعه، الذي أخبر في محكم تنزيله أنه تمت كلماته فيه صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم، والله تعالى أعلم.

الفرق بين الذمي والمعاهد والمستأمن والحربي

الفرق بين الذمي والمعاهد والمستأمن والحربي Q أشكل علي التفريق بين الذمي والمعاهد والمستأمن والحربي؟ A أهل الذمة: هم أهل الكتاب، وتختص الذمة بهم، وهم الذين لهم أصل من دين سماوي، فلا تكون الذمة للمشركين، ولا تكون للوثنيين، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، وهذا النوع من الكفار نظراً لأن لهم أصلاً من دين سماوي، إذا فتح المسلمون بلادهم خيروهم بين الإسلام أو دفع الجزية، ويقرون على ما هم عليه، ويبقون في ديارهم تحت حكم المسلمين وأمانهم، فإذا اختاروا الإسلام فلا إشكال، وصارت الدار دار إسلام، وإذا اختاروا دفع الجزية وأن يكونوا تحت حكم المسلمين وأمانهم فهم أهل ذمة، لهم ذمة الله ورسوله؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم)، كما في الصحيح من حديث علي رضي الله عنه، فهذه الذمة لا تنقض عهداً لأحد، وقد تقدمت معنا في مسائل أحكام أهل الذمة، وبينا أحكام الشرع ونصوص الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح في معاملة أهل الذمة. وأما النوع الثاني: وهم المستأمنون، فالمستأمن هو الحربي الكافر الذي جاء وعنده رسالة ويريد أن يدخل بلاد المسلمين لغرض معين بإذن من ولي أمر المسلمين، أو أراد أثناء الحرب أن يدخل موضعاً بإذن من المسلمين، وأذنوا له بالدخول، فإن هذا مستأمن، وذلك مثل الرسل التي كانت تأتي أيام قتال الصحابة رضوان الله عليهم للروم والفرس، فقد كانت تأتي رسل الفرس فيؤمنون حتى يصلوا إلى المسلمين ويروا ماذا عندهم، فهؤلاء مستأمنون، والأمان يكون في حدود ضيقة ولأشخاص محدودين، وقد يكون الشخص مستأمناً وتقام عليه الحجة فيسمع كلام الله، فإذا سمع كلام الله فنبلغه مأمنه، فيرد إلى الموضع الذي يكون فيه آمناً ثم ينتهي أمان المسلمين. والذمي لا تخفر -تنقض- ذمته إلا إذا نقض العهد، كما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم مع بني النظير وبني قينقاع، وكذلك أيضاً بنو قريظة لما أخلفوا وغدروا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فبنو قريظة في يوم الخندق، وبنو النظير في حادثة الحضرمي. الشاهد: أن المستأمن والذمي لها أمان الله ورسوله، فلا يجوز الاعتداء عليهما؛ لأن لهما حقاً وحرمة، والأصل يقتضي أنهم يعاملون معاملة شرعية مخصوصة ومحددة، فمثلاً: المستأمن تقام عليه الحجة فيسمع كلام الله عز وجل، قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6]، فجعل له أمان الله وأمان رسوله عليه الصلاة والسلام، وهذه كلها ضوابط وأحوال مختلفة تختلف بحسب الظروف، فتارةً تكون لطائفة وجماعة وأمة، كأن تدخل مدينة كاملة في أمان امرأة من المسلمين فيجب تأمينها، فقد جاءت أم هانئ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم واشتكت إليه علياً رضي الله عنه أنه يريد أن يقتل ابن عم لها -في يوم الفتح- والنبي صلى الله عليه وسلم يغتسل، (فقال: من؟ قالت: أم هانئ، فقال: مرحباً بـ أم هانئ، فقالت: يا رسول الله! إن ابن عمي قد أمنته وزعم ابن عمك -تعني علياً رضي الله عنه- أنه قاتله، فقال عليه الصلاة والسلام: قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ)، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث علي في الصحيح: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، وهم حرب على من سواهم)، والمقصود أنه قد تؤمن المدينة بكاملها برجل واحد من المسلمين يدخلون في أمانه، وهذا كان معروفاً في أزمنة المسلمين الماضية، فهذا يسمى المستأمن، سواء كان شخصاً واحداً أو طائفة أو مجموعة حتى تقام عليها الحجة. وأما المعاهد: فالعهود تقع بين المسلمين والكفار خاصة في أحوال الحرب، فتارة تكون بالهدنة لمدة معينة، كما وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش في أشهر محدودة، فهذه لا يجوز فيها القتال ما دام أن هناك بين المسلمين وبين الكفار عهداً، فيجب الإمساك عنهم وعدم التعرض لهم حتى تنتهي المدة، إلا إذا خشي منهم النقض وخشي منهم الخيانة فينبذ إليهم، قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:58]، فلا ينقض العهد الذي بين المسلم وبين الكافر إلا بشروط وضوابط، ولذلك جاء حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما -كما تقدم معنا- يوم بدر فأخذه المشركون قبل أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذوا عليه عهداً ألا يقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، فلما جاء وذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك، قال أصحابه: قاتل معنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل نفي لهم ونستعين الله عليهم). فحافظ على عهده حتى مع الكافر، ولذلك فإن العهد أمره عظيم حتى مع الكافر، فكيف إذا عاهدت مسلماً، أو كان بينك وبين مسلم عهداً فالعهد أشد وأعظم، فالعهد لا ينقض، وهذه العهود التي تقع بين المسلمين والكفار تحترم، إذا كانت عن طريق ولي الأمر الذي له النظر في مصلحة المسلمين وهو مؤتمن عليها، ولا يجوز لأحد أن يتخطى هذا الحد أو يحاول أن يخفر -ينقض- ذمة المسلمين وذمة ولاتهم، فإن هذا يتحمل فيه المسئولية العظيمة، ولذلك فقتل المعاهد أمره عظيم؛ لأن هذا يسيء إلى الإسلام إساءة عظيمة -نسأل الله السلامة والعافية- ويتحمل الإنسان بذلك وزره، ولذلك حرم الله على نبيه أن ينقض العهد مع الكفار، وهو خير الخلق صلى الله عليه وسلم ويخاطبه بذلك، ما لم يكن الكافر المعاهد على بينة من أمره، قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:58]، فليس في الإسلام خفاء، بل هو واضح أوضح من النهار وأموره مكشوفة؛ لأن الله عز وجل ينصر الحق وأهله.

وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل دون الوضوء

وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل دون الوضوء Q ما هو الدليل على وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل وعدم وجوبهما في الوضوء؟ A المضمضة تتعلق بالفم، والاستنشاق يتعلق بالأنف، وهناك طهارتان: طهارة صغرى، وهي الوضوء، وطهارة كبرى، وهي الغسل، وقد فرض الله عز وجل في الوضوء -الطهارة الصغرى- أربعة فرائض، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6]، ولما جاء الأعرابي يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يتوضأ؟ قال له: (توضأ كما أمرك الله)، فعلمنا أن المضمضة والاستنشاق ليست من فرائض الوضوء؛ لأنه قال له: (توضأ كما أمرك الله)، وعلمنا أنها من النوافل والفضل، وليست من الواجبات والفرض. وأما في الغسل فوجدنا أن الشرع أمر بغسل ظاهر البدن، فكل شيء من ظاهر البدن يجب تعميمه بالماء، قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6]، أي: طهروا أبدانكم، وفصل ذلك عليه الصلاة والسلام في حديثه في الصحيحين عندما قال: (إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين الماء على جسدك)، وهذا يدل على أن ظاهر الجسد لا بد من غسله، فهل الأنف والفم من ظاهر الجسد أم لا؟ إن كانا من ظاهر الجسد فهما كاليد التي يجب غسلها وتعميمها بالماء؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ثم تفيضين الماء على جسدك)، فوجدنا الشريعة جعلت الفم والأنف من ظاهر الجسد لا من باطنه، والدليل على ذلك: أن الصائم لو وضع الطعام في فمه لم يفطر، فدل على أنه من ظاهر البدن وليس من باطنه. وبناء على ذلك لما وجدنا الشرع حكم بأن الفم والأنف من ظاهر البدن وليس من باطنه، قلنا: تجب المضمضة والاستنشاق في الغسل، ولا يجب واحد منهما في الوضوء، وهذا بتفريق الشرع. وبناء على ذلك يلتفت في الغسل إلى الظاهر، والفم والأنف من الظاهر، ويلتفت في الوضوء إلى ما سمى الله عز وجل من الأعضاء، ولذلك لو أن شخصاً وجد ماء لا يكفي إلا للأربعة الأعضاء في الوضوء لم يصل إلى التيمم؛ لأنه يستطيع أن يغسل ويمسح الفرائض التي أمره الله بغسلها ومسحها. والله تعالى أعلم.

حكم النداء بعد دفن الميت لمن كان له حق على الميت من دين ونحوه

حكم النداء بعد دفن الميت لمن كان له حق على الميت من دين ونحوه Q بعد دفن الميت وعند القبر يقف بعض أقاربه وينادي في الناس: أنه إذا كان لأحد في ذمة الميت شيء من الديون فإني أتحملها عنه، فهل لهذا الفعل أصل شرعي بهذه الصفة أثابكم الله؟ A ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا أتي بالصحابي عليه دين سأل: هل ترك وفاء أم لا؟ فإن ترك وفاء -كأن كان عنده بيت أو عنده دواب يمكن بيعها وسداد دينه- صلى عليه عليه الصلاة والسلام، وإن لم يترك وفاء، قال: (صلوا على صاحبكم)، فقد جاء في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام (أنه أتي برجل، فقال: هل عليه دين؟ فقالوا: نعم. فقال: هل ترك وفاء؟ قالوا: لا. قال: صلوا على صاحبكم)، وهذا من باب الترهيب والزجر للناس عن التساهل في الحقوق، فلما قال: (صلوا على صاحبكم. قال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله!)، فانظروا كيف كان الصحابة رضوان الله عليهم يتراحمون! وكيف كانت محبتهم لبعضهم! وكيف كانت أخوة الإسلام تبقى حتى بعد الموت؛ فلم تكن أخوة مجاملة ولا أخوة مصالح ولا أخوة محدودة مؤقتة، ولذلك كان قول المؤمنين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]، وتجد المؤمن يترحم على أخيه المؤمن ويصل ذريته. فالشاهد: أنه قال: (هما علي يا رسول الله)، فلما قال ذلك صلى عليه عليه الصلاة والسلام، فدل هذا على مشروعية تحمل الدين عن الميت، وإذا كان هذا من أبي قتادة وهو غريب، فلأن يكون من القريب من باب أولى وأحرى. أما بالنسبة للنداء بعد الدفن فإذا كان الشخص لا يتيسر له الاتصال بغرماء الميت وأصحاب الحقوق، وسهل اجتماعهم عند الدفن، فقال هذه الكلمة لأجل أن يعلم الناس، فهذا لا بأس به، وهذا مثل ما يقع في بعض القرى حيث يصعب فيها الاتصال، فيعلم الناس، حتى يعلم بعضهم بعضاً؛ لأنه يصعب جمعهم وإخبارهم، والمفروض أن يبادر بذلك من بعد وفاته، فإذا توفي بادر بالاتصال بأصحاب الحقوق ومعرفة ما الذي له؛ لأنه لا يجوز التصرف بالمال إلا بعد قضاء الدين عليه، ولا تعطى حقوقهم إلا بعد سداد الدين. فالمقصود: أنه لا داعي لذلك عند القبر، وهناك أمر مهم جداً ينبغي أن نعلمه، وهو أن السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد دفن الميت عدم شغل الناس عما هو أهم، فبعد دفن الميت هناك أمران هامان: الأمر الأول: اتعاظك بهذا الميت الذي سبقك، وأنك ستصير إلى ما صار إليه، وتنقلب إلى ما انقلب إليه، فتتعظ وتعتبر وأنت ترى هذا بأم عينك؛ فإنه ليس هناك وقت أبلغ في الاتعاظ والاعتبار من ساعة إنزال الميت في لحده وقبره ودفنه والفراغ من ذلك، فإن هذه من أعظم الساعات اتعاظاً وعبرة؛ حيث ترى أقرب الناس من الميت وهو ولده ينزله إلى القبر ويسلمه إلى اللحد، ويغلق عليه القبر، ويهيل عليه التراب، فإذا رأى الإنسان ذلك انكسر قلبه وخشع فؤاده؛ لأنه سيعلم أن أقرب الناس منه سيتولى أمور فراقه لهذه الدار، وهذا من أقرب ما يكون عظة. ولذلك لم يعظ النبي صلى الله عليه وسلم على القبر، ففي حديث البراء أنه جلس ينتظر الأنصاري يحفر له قبره، ولم يعظ، والصحابة كانوا واقفين على القبر -بمعنى أنهم ينظرون إليه- والذي ورد عنه صلى الله عليه وسلم كلمتان: (أي إخواني! لمثل هذا فأعدوا)، فربط الموعظة بنفس الحال؛ لأن الحال يكفي موعظة. فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من هديه هذا. الأمر الثاني: وهو خاص بالميت، قال عليه الصلاة والسلام: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل). هذا هو ما يأتي بعد الدفن مباشرة؛ فينصح الخطباء بتنبيه الناس على هذه السنة، حتى تحيا السنة وتموت الأمور المخالفة لها، وهو أن الميت بعد الدفن مباشرة أحوج ما يكون إلى الاستغفار وإلى الترحم، ثم إن هذا الاستغفار يرتبط كل شخص بنفسه، فلا يأتي أحد فيقول: اللهم اغفر لأخينا، فيقول الناس: آمين وهكذا لا؛ فإنه إذا ارتبط الاستغفار بالجماعة لم يكن كاستغفار الشخص لوحده؛ لأن هذا أبلغ ما يكون وأصدق ما يكون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استغفروا لأخيكم)، وكان بالإمكان أن يقول: اللهم اغفر لفلان، ويقول الصحابة: آمين، لكنه قال: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل)، وهذا يدل على أن الأمر مرتبط بالشخص بنفسه. فإذا ترك الإنسان لوحده هو الذي ينظر وهو الذي يدعو، خرج من المقبرة بموعظة تامة كاملة، لكن إذا شغل بغيره هو الذي يدعو له وهو الذي يختار كلمات، ولربما لا يفهمها السامع بنفسه، إذاً: فيقال له: السنة أن تستغفر لأخيك وتسأل له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل، فإذا وقف ولو كان جاهلاً ولو كان لأول مرة يدخل القبر فسمع من يذكره بالسنة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من دفن الميت يقول: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل) اتعظ واعتبر، وكان ذلك أبلغ ما يكون، فما أطيبها من سنة عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم الذي ما ترك باب خير إلا دلنا عليه، ولا سبيل رشد إلا هدانا بفضل الله إليه. فنسأل الله العظيم أن يجزيه عنا خير ما جزى نبياً عن نبوته، وصاحب رسالة عن رسالته، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى يوم الدين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مقدمة كتاب الجنايات [3]

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [3] ينقسم القتل العمد إلى: قتل بالمباشرة، وقتل بالسببية، فالمباشرة بأن يباشر القتل بنفسه، فيحكم بكونه قتل عمد، ويجب فيه القصاص، أما القتل بالسببية بأن لا يباشره بنفسه، وذلك مثل إلقاء الحائط على شخص، أو إلقاؤه من شاهق، أو إلقاؤه في النار، أو إغراقه في الماء، أو خنقه بما يقتل، وكل هذه الصور لابد لها من شروط حتى يحكم بكون القتل بها قتل عمد يوجب القصاص.

القتل بالسببية

القتل بالسببية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [مثل أن يجرحه بما له مور في البدن، أو يضربه بحجر كبير ونحوه، أو يلقي عليه حائطاً، أو يلقيه من شاهق]. تقدم معنا في المجلس الماضي أن القتل يكون على صورتين، إذا كان قتل عمدٍ يوجب القصاص والقود: الصورة الأولى: أن يكون القتل مباشرة. والحالة الثانية: أن يكون بالسبب، بمعنى: أن يتعاطى فعل شيء يؤثر في حصول القتل، وهذا ما يسميه العلماء رحمهم الله: بقتل السببية. وقد ذكر المصنف رحمه الله النوعين: القتل المباشر، والقتل بالسببية، والقتل المباشر ينقسم إلى قسمين أيضاً: فإما أن يكون بآلة جارحة لها مور ونفوذ في البدن، مثل: السكاكين، والسيوف، والخناجر، ونحوها كما ذكرنا في المجلس الماضي. وإما أن يكون بغير المحدد، مثل: الضرب بالآلات التي لا تجرح ولكن تقتل، كتكرار الضرب بالخشب الذي يقتل مثله غالباً إن كُرر الضرب به، ومثل ما ذكر المصنف رحمه الله: الضرب والرمي بالحجر القاتل يعتبر من قتل العمد، وقد فصلنا في هذه المسألة. ثم بعد ذلك ذكر المصنف رحمه الله عبارة: (أو يلقي عليه حائطاً)، وقد ذكرنا أن إلقاء الحائط على الشخص مثل الضرب بالحجر، من جهة المقاربة في القتل بهما، والمقاربة بينهما من جهة كون العلماء رحمهم الله ذكروا الصخرة الكبيرة، فقالوا: إن قتل الحجر ينقسم إلى ثلاثة أقسام: فإما أن يكون بحجر صغير، وقد ذكرنا أنه لا يعتبر قتل عمد إلا إذا ضربه بحجر صغير في مقتل، يقتل مثله غالباً، أو كان الشخص الذي ضُرب بهذا الحجر الذي لا يقتل مثله غالباً مريضاً، أو طفلاً صغيراً، أو شيخاً كبيراً يتأثر بمثل هذا الحجر. والحجر الكبير فيه تفصيل، فتارة يرمى، مثل حجر المنجنيق في القديم، وتارة يدحرج على الشخص، مثلما يقع في الصخرة الكبيرة التي يكون تحتها شخص، أو يكون في موضع وفوقه صخرة فيأتي شخص ويدحرجها عليه، فيكون هذا مثل إلقاء الحجر، فمن دقة المصنف رحمه الله أنه لم يقل: ودحرج عليه صخرة، ولكن قال: (أو يلقي عليه حائطاً)، وإلقاء الحائط بناءً على هذا يتبع القتل المباشر، لكن العلماء في الأصل ذكروه من باب السببية؛ لأن من بنى حائطاً ثم جاء الغير ودفعه على الغير، ففيه سببية ومباشرة، السببية من جهة أنه من بناء الحائط، والمباشرة بالنسبة لمن دفعه على الغير.

شروط الحكم بأن القتل بإلقاء الحائط قتل عمد

شروط الحكم بأن القتل بإلقاء الحائط قتل عمد قال رحمه الله: [أو يلقي عليه حائطاً]. يشترط أولاً: أن يكون الحائط كبيراً يقتل مثله في أغلب الأحوال، بحيث لو سقط على آدمي ففي الغالب أنه يقتله. الشرط الثاني: أن يكون الشخص لا علم عنده، أي: لا يعلم أن هناك من يريد أن يدفع عليه الحائط، أو غرر به شخص فأجلسه تحت الحائط ثم ختله وخدعه فألقى عليه الحائط. فلو كان الحائط صغيراً لا يقتل مثله فإننا ننظر في الشخص الذي سقط عليه الحائط ونفصل فيه: فإن كان كبيراً، والحائط لا يقتل مثله غالباً، فهذا ليس بقتل عمد؛ لأن الغالب أن الحائط لا يقتله، وإن كان الشخص صغيراً كالطفل الرضيع والصغير والصبي، فسِنُّه وحجمه الغالب أنه لو سقط عليه لقتله، وإن كان لا يقتل غالب الناس لكنه يقتل مثل هذا، فإنه قتل عمد، وهكذا لو كان الذي قُتل شيخاً كبيراً أو مريضاً يقتل بأقل شيء، فإلقاء الحائط الصغير عليه قتل عمد يوجب القصاص. إذاً: يشترط أن يكون الحائط مثله يقتل، وإذا كان مثله لا يقتل في غالب الأحوال وغالب الناس فنفصل في الشخص الذي ألقي عليه الحائط. أما الشرط الثاني: فهو أن يكون المقتول لا يعلم، فإن كان يعلم أنه سيلقى عليه الحائط نظرنا وفصلنا: فإن كان بإمكانه الهرب والدفع عن نفسه ولم يهرب ولم يدفع عن نفسه، فإنه حينئذٍ لا قصاص؛ لأنه قصر في حفظ نفسه، فلا يكون هذا قتل عمد، كالذي أمر غيره أن يقتله؛ لأنه في هذه الحالة بإمكانه أن يهرب، وبإمكانه أن يدفع الضرر عن نفسه، فتقصيره في ذلك وامتناعه من الهرب والنجاة بنفسه كمن قال لغيره: اقتلني، وفيه تفصيل: فمن قال لغيره: اقتلني، فإنه لا يقتل القاتل، على تفصيل عند العلماء رحمهم الله، فليس هذا بقتل عمد. ومسألتنا الآن: أن يعلم، وبقدرته وبإمكانه أن يفر ويهرب فلا يحصل القتل، فقصر في ذلك، فلا قصاص على القاتل، وحينئذٍ يتحمل الشخص -كما ذكرنا- المسئولية، لكن لو أنه علم وتعاطى أسباب الهرب وأسباب الفرار، ولكنه لم يفلح شيء من ذلك فقتل، فإنه يعتبر مقتولاً قتلاً عمداً، ويجب القصاص على القاتل؛ لأن علمه لم يؤثر، وقد تعاطى الأسباب ولكنها لم تؤثر، فحينئذٍ وجود العلم وعدمه على حد سواء. إذاًَ: يشترط أن يكون الحائط يقتل مثله غالباً في أغلب الأحوال، وأن يكون الشخص لا علم عنده بذلك. الشرط الثالث: أن يحصل الزهوق وخروج الروح والموت بعد إلقاء الحائط مباشرة، أو يكون مستتبعاً لحكم قتل الحائط. وبناءً على ذلك نفصل: فإن دفع الحائط عليه فسقط الحائط ومات الشخص مباشرة، فوجهاً واحداً أنه قتل عمد ويوجب القصاص، وأما إذا عاش بعد سقوط الحائط عليه فننظر فيه: فإن كان حاله كحال الذي أنفذت مقاتله، وصار بحالة مثل حالة من أصابته السكرات، أو حالة المقارب للموت، فإن القاعدة: أنه ينسب لأقرب حادث، فهو ميت بالجدار لا بغيره، ويحكم بالقصاص والقود، ولا يؤثر هذا التأخير؛ لأنه في حكم الميت. لكن لو أنه بقي بعد سقوط الحائط عليه وبه جراحات يمكن علاجه وتداويه ونجاته، فيفصل فيه بالتفصيل الذي ذكره العلماء رحمهم الله، فهل بإمكانه تعاطي المعالجات أو ليس بإمكانه؟ وهل يوجد من يعالجه أو لا؟ فتحكم على حسب تقصيره وعدمه فهو قتل عمد، فإذا كان مثلاً في برية وليس هناك من ينقذه ولا من يقوم به، ونزفت جراحاته حتى هلك فهو قتل عمد؛ لأن الزهوق حصل بسراية الجرح، ولم يوجد في البرية عنده أحد، ولا يمكنه الصراخ، ولا يمكنه الاستغاثة بعد الله بأحد، فحينئذٍ يكون قتل عمد. قوله رحمه الله: (يلقي عليه حائطاً) في حكم إلقاء الحائط: إسقاط الخرسانات في زماننا، فمثلاً: لو رفع خرسانة ثم رماها على نائم فقتله، فإنه كإلقاء الحائط عليه، وفيه تفصيل: فإذا كان يعلم وجاء ونام وهو يعلم أنه سيقتل، فقد فرط في حفظ نفسه، وإذا كان علم وصرخ عليه أحد ونبهه ولكنه تساهل وتلاعب في حفظ نفسه، ففيه التفصيل الذي ذكرناه في إلقاء الحائط. وفي حكم إلقاء الحائط أيضاً سقوط السقف على الشخص، وفي زماننا الجرافات، فلو أنه يعلم أن في هذه الغرفة شخصاً أو أشخاصاً، فجاء بالجرافة وهدم قواعد البيت أو أركان الغرفة فسقطت عليهم فقتلتهم، فإنه كإلقاء الحائط والقتل بالحائط، وحينئذٍ يكون قتل عمد، ويفصل فيه بنفس التفصيل السابق. وفي حكم إلقاء الحائط أيضاً أن يسلط الماء على أساس الغرف والبناء، فتختل قواعد ذلك المسكن حتى يخر على من بداخله السقف ويقتله، فكل هذه الصور في حكم إلقاء الحائط على الشخص، وفيها التفصيل الذي ذكرناه، فإذا تبين هذا فإنه لابد من النظر في الشيء الذي يلقى، والشخص الذي يلقى عليه، والحالة التي حصل بها الزهوق والقتل.

حكم من بنى حائطا فجاء شخص فدفعه على آخر فمات

حكم من بنى حائطاً فجاء شخص فدفعه على آخر فمات لقد بينا أنه لو جاء شخص ودفع الحائط على غيره فقتله فإنه قاتل، ويبقى السؤال في الشخص الذي بنى حائطاً: هل عليه مسئولية؟ وهل عليه شيء؟ A من العلماء من أطلق الحكم فقال: لا شيء عليه، ومن بنى حائطاً فمن حقه أن يبني؛ ولا شيء عليه، صحيح أن الحائط سبب في القتل والزهوق، ولكن المباشرة لفعل الجريمة أسقط حكم السببية، فإن القاعدة المعروفة تقول: (المباشرة تسقط حكم السببية)، وسنبين أن هذه المسألة فيها ثلاث صور، وهي اجتماع السببية والمباشرة: فتارة تقدم السببية، وتارة تقدم المباشرة، وتارة يجمع بين المتسبب والمباشر، وسيأتي -إن شاء الله- تفسيرها في صور السببية. فالشاهد: أن من بنى الحائط إذا بناه وجاء شخص ودفعه، فإن الجريمة وقعت بالدفع ولم تقع ببناء الحائط، والقتل والزهوق حصل بالفعل المؤثر فيه وهو الدفع وليس بناء الحائط؛ لأن بناء الحوائط لا يقتل الأنفس، ولا يوجب زهوق الأرواح، ولذلك لا يؤثر. لكن لو أنه بناه من أجل أن يقتل به الغير، فهذا فيه تفصيل في مسألة قتل الجماعة والاشتراك بتعاطي الأسباب؛ لأنه إذا اجتمع أشخاص على قتل شخص، فتارة تكون المباشرة من واحد والسببية من غيره، وتارة تكون المباشرة من اثنين وتكون السببية من أقل عدداً أو من عدد مساوي، وسيأتي تفصيلها -إن شاء الله- في قتل الجماعة. وقوله رحمه الله: (يلقي عليه حائطاً) حائطاً: نكرة، والحائط: هو الجدار يكون من اللبن، ويكون من الحجر، ويكون من الأسمنت في زماننا، فهو قال: (يلقي عليه حائطاً) وعمم؛ لأن النكرة تفيد العموم، لكن التفصيل هو ما ذكرناه.

ما يشترط لإلحاق الإلقاء من شاهق بالقتل العمد

ما يشترط لإلحاق الإلقاء من شاهق بالقتل العمد قال رحمه الله: [أو يلقيه من شاهق]. قوله: (أو يلقيه) أي: يلقي المقتول، (من شاهق) الشاهق: هو المكان المرتفع، والمكان المرتفع في القديم مثل: قمم الجبال العالية وأطرافها أيضاً، فلا يشترط أن يصل إلى القمة، بل العبرة أن يكون المكان الذي حصل منه الدفع والرمي عالياً لو سقط منه الإنسان لهلك، وفي حكم قمم الجبال أسطح المنازل، وفي زماننا أسطح العمائر، والأدوار العالية، وأبراج الحديد، كما لو صعد به إلى برج عالٍ فدفعه، فكل هذا يعتبر من الشواهق، لكن الشرط: أن يكون ارتفاعه يوجب الزهوق، أي: أن من سقط من هذا الارتفاع فالغالب فيه أنه يهلك، فإن كان مثله لا يقتل بأن كان قريباً لا يوجب الزهوق، وقد ينجو منه الإنسان غالباً، فيفصل فيه بالنسبة للشخص: فمن رمى طفلاً رضيعاً من فوق سطح غرفة، فقد يموت الرضيع؛ لأن مثله لا يتحمل هذه المسافة، بخلاف الرجل السوي لو ألقي من فوق غرفة ثلاثة أمتار قد لا يقتل ولا يموت، ومن رمى شيخاً كبيراً ضعيف البنية حطمة، أو رمى مريضاً به مرض وبه آفة، ولكن هذا المرض أقل شيء يحصل معه الزهوق والموت، فهذا يفصل فيه إذا كان الارتفاع غير شاهق، لكن المصنف قال: (من شاهق) وهذا من دقة المصنف رحمه الله؛ لأنه راعى أغلب ما يحصل به الزهوق، ولكن هذا لا يمنع في المسائل الخاصة والأحوال الخاصة أن يفصل فيها كما ذكرنا، ومحل ذلك هو كتب المطولات. وقوله: (أو يلقيه من شاهق) سواء ألقاه بالرمي، كأن يكتفه ويربطه ثم يأتي ويرميه من شاهق، أو يلقيه بالدفع، كأن يتركه على غفلة ثم يدفعه من شاهق؛ أو يلقيه بالمغالبة، كأن يشتبكا ويتدافعا فيدفع المغلوب ويموت. وأيضاً في حكم الشواهق: ما يقع من الطائرات، فلو أنه ألقاه من طائرة وكانت على ارتفاع يقتل مثله، فحينئذٍ يعتبر قتل عمد، وهذه الصور كلها الشرط فيها تحقق أن يكون الارتفاع يقتل غالباً. إذاً: الشرط الأول: أن يكون الارتفاع مؤثراً. الشرط الثاني: ألا يعلم الشخص الملقي أنه سيلقى، كأن يأخذه على غرة، أو غافله بشيء ينظر إليه ثم دفعه -والعياذ بالله- ورماه، أو كان يعلم ولكنه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، كمن حُمل مكتفاً إلى سطح العمارة ثم رمي، فإنه يعلم أنه سيرمى، لكنه لا يملك أن يدفع عن نفسه، فعلمه وجهله على حد سواء، ولا تأثير له في الحكم. إذاً: يشترط ألا يعلم، أو أن يكون عالماً عاجزاً عن الدفع وصرف البلاء عنه. الشرط الثالث: أن يكون القتل والزهوق والموت حصل بالارتطام أو بالتردي من الشاهق لا بشيء آخر، وهذه ما يسمونها: مسألة الحائل، وتفصيل ذلك: أنه أخذه وصعد به إلى سطح العمارة، سواء رماه من طرف العمارة، أو رماه من داخل العمارة مثل ما يقع في المناور، فليس شرطاً أن يرميه إلى الشارع من أي مكان، مادام أنه يهوي به إلى مكان يقتل مثله غالباً فلا إشكال. فإذا رماه من الموضع العالي وارتطم بالأرض ميتاً، فقتل عمد؛ لأنه تمحض زهوق الروح وخروج الروح بالارتطام على الأرض، أو بفعل التردي مثل ما يقع على الجبال الشاهقة، فلو أنه صعد به على جبل ثم غرر به ودفعه، فإنه يتردى ويتدحرج على نتوء الجبال، وهذه تقتل؛ لأنها قد تصيب مقتلاً فيقتل قبل أن يصل إلى الأرض، فالقتل في تلك الصورتين حصل بالتردي، إما مآلاً حينما سقط على الأرض وارتطم، وإما بالتردي نفسه قبل أن يصل إلى مآل التردي، ففي تلك الصورتين قتل عمد؛ وذلك لأن الموت والزهوق وخروج الروح حصل بالارتطام، وهذا سببه المؤثر فيه، أو حصل بالتردي والاصطدام بنتوء الجبل أو تعاريج الجبل، مثل ما يقع في الزوائد في العمائر ونحوها، إذا هشمت أعضاءه وقتلته، فهذا لا إشكال فيه أن الموت حصل بهذا التردي.

تعارض السببية والمباشرة في القتل

تعارض السببية والمباشرة في القتل لكن لو أن الموت والزهوق حصل بسبب آخر، مثل ما ذكر الأئمة والعلماء رحمهم الله: أن يلقيه من شاهق، وقبل أن يصل إلى الأرض يتعرضه شخص بسيفه فيقده نصفين، وهذا يقع في بعض الأحيان، كأن يجعل السيف في خاصرته أو في موضع الوسط من الجسم، فينزل الساقط على السيف فيقسم، فيقال: قده بالسيف، إذا قطعه فمات، فيكون الموت والزهوق بالقد لا بالتردي ولا بالارتطام، فحينئذٍ القاتل هو صاحب السيف وليس المرُدِي. وهذه من الصور التي قدمت فيها المباشرة على السببية؛ لأن التردية سببية، والتعرض بالسلاح هو الذي حصل به الموت صحيح أنه لو وصل إلى الأرض لمات وهلك، ولكن هذا الاعتراض هو الذي أزهق الروح، وحينئذٍ يكون هذا من تقديم المباشرة على السببية، وقد ذكرنا أنه تارة تقدم السببية على المباشرة، وتارة تقدم المباشرة على السببية، وتارة يحكم بالاثنين، ومن تقديم المباشرة على السببية هذه المسألة، فإن الذي باشر القتل هو صاحب السيف. وفي زماننا لو أطلق عليه ناراً قبل أن يصل إلى الأرض، كشخصين أخذا شخصاً يريدان قتله، وحرص كلٌ منهما على قتله، فأما الأول فدفعه من فوق العمارة مثلاً، وأما الثاني فأطلق عليه النار، فيُنظر: فإن كان طلق النار قد أصابه في مقتل الغالب أنه يزهق الروح قبل الوصول إلى الأرض، فالقاتل هو صاحب الطلق، وإن كان الذي أصابه من الطلق في مكان لا يقتل، فالذي قتل هو الارتطام بالأرض، وهناك مسألة وهي مسألة الجرح؛ لأنه جرحه قبل موته. ومن هنا ينتبه إلى ترابط الفقه، فهذه المسألة في القتل مثلها في الصيد، كما لو أنه رأى شاة ساقطة من فوق الجبل، وقبل أن تصل إلى الأرض أطلق عليها النار، فإنه إذا أصابها في مقتل وقتلها فيحل أكلها، وإن أصابها في غير مقتل وارتطمت بالأرض فإنها متردية، والله قد حرم المتردية والنطيحة والميتة، فهذا راجع إلى استقرار النفس، فإذا كان استقرار النفس واقع مع حصول هذا الطلق والعيار الناري، فحينئذٍ يحكم بأن القتل وقع بالارتطام لا بالطلق، والعكس بالعكس، فإن كان في مقتل فإنه يكون حينئذٍ القاتل هو المباشر وليس الذي ألقاه من الشاهق. والسببية والمباشرة إذا اجتمعا تقدم المباشرة على السببية، كما في مسألة القد بالسيف فيمن رمي من شاهق، وكما في مسألة من حفر بئراً وجاء شخص ودحرج الغير فيه فمات، فإن الذي حفر متسبب، والذي دفع مباشر، فتقدم المباشرة على السببية، ومن هنا قالوا في القاعدة: إن المباشرة تسقط حكم السببية، في مسألة بناء الجدار، وحفر البئر، ومسألة القد بالسيف في التردية. ومن الصور التي تقدم فيها السببية على المباشرة وهي العكس: أن يشهد شهود بالزور على شخص أنه زانٍ محصن، فيرجم فيقتل، ثم يرجعون عن شهادتهم، ويقولون: نحن تعمدنا قتله، فحينئذٍ الذي تسبب في القتل هم الشهود، والذي باشر القتل هو القاضي بالحكم والمنفذ لحكم القاضي، فحينئذٍ القاضي والمنفذ لا يتحملان مسئولية مع أنهما باشرا القتل، لكن الذي يُقتل هم الشهود الذين قالوا: تعمدنا قتله؛ لأنها سببية، ولكنها أقوى من المباشرة. ومن الصور التي تجتمع فيها السببية مع المباشرة ويكون الاثنان مسئولان وقاتلان: مثل أن يهدد شخص شخصاً ويقول له: إن لم تقتل فلاناً أقتلك، وهذا هو الإكراه، فحمل السلاح عليه وقال له: إن لم تقتل فلاناً أقتلك، فقام المكرهَ -المهدَد- وقتل من طُلِب منه قتله، فحينئذٍ يقتل الآمر والمأمور، يقتل الآمر لأنها سببية مؤثرة موجبة للزهوق ومحصلة للزهوق، والمنفذ لأنه فدى نفسه بقتل أخيه فليس بمكره؛ لأنه شرط الإكراه: أن يهدَد بشيء أكبر، كما سيأتينا -إن شاء الله- في مسألة قتل المكره، ففي هذه الحالة اجتمعت السببية والمباشرة، فوجب القصاص على المتسبب وعلى المباشر. إذاً: الشرط الأول: أن يكون الشاهق يقتل مثله، الشرط الثاني: ألا يمكن للشخص الفرار والنجاة، الشرط الثالث: أن يحصل الزهوق بالارتطام بالأرض لا بسبب عارض كما ذكرنا في السيف. الشرط الرابع: أن يموت بعد الارتطام مباشرة، فيكون موته بالتردي والارتطام، فلو عاش بعد التردي فننظر: فإن كان قد استنفذت مقاتله، وصار في عداد الأموات فعاش قليلاً ثم مات، فإنه قتل عمد يوجب القصاص، وبقاؤه بعد التردي وبعد الارتطام وجوده وعدمه على حد سواء؛ لأنه في حكم الميت، وأما إن بقي وعاش ثم بعد ذلك مات فننظر فإن كان من جراح تنزف، وبسبب اعتلال الجسم حتى استنفذت مقاتله وهلك، فإنه في حكم ما تقدم، وينسب لأقرب حادث، فهناك قاعدة تقول: ينسب لأقرب حادث، ولها فروع كثيرة في العبادات والمعاملات. ففي العبادات مثلاً: لو أن شخصاً رأى على ثيابه المني وهو لا يتذكر متى احتلم، فينسب إلى أقرب حادث، أي: إلى آخر نومة نامها، فيغتسل ويعيد الصلاة منها، فلو نام بعد العصر، ونام بعد الفجر، ونام في الليل، ووجد المني في المغرب؛ فإنه إذا نام بعد الظهر ينسب إلى نومة الظهر، فإذا نام بعد العصر ينسب إلى نومة العصر، المهم أنه ينسب إلى أقرب نومة نامها، ويعيد الصلاة من آخر نومة نامها، وهذا في العبادات، وفي الجنايات فهنا ينسب لأقرب حادث، فإذا استنفذت مقاتله ومات فأقرب حادث هو الارتطام، وحينئذٍ يحكم بأنه مقتول قتل عمد، ويجب القصاص على قاتله. ولما قال: (أو يلقيه من شاهق) شرع في القتل بالسببية كما ذكرنا، والصور الأولى وهي: أن يجرحه بما له مور، أو يضربه بحجر كبير ونحوه، أو يلقي عليه حائطاً، هذه كلها مباشرة، فلما قال: (أو يلقيه من شاهق)، شرع في القتل بالسببية، وهذه الصورة يعتبرها العلماء من صور الإلقاء في التهلكة. وقتل السببية يقوم على: قتل بالشرط، أو قتل بالعلة، أو قتل بالتغرير، وكلها صور لقتل عمد، وفيها تفصيل، لكن قتل السببية هنا من صوره الإلقاء في المهلكة، والإلقاء في المهلكة يشمل: الإلقاء من شاهق والإلقاء في نار تحرق ويهلك فيها، والإلقاء في ماء يغرقه، والإلقاء في زريبة أسد أو في جحر فيه أسد، أو فيه حية أو عقرب سامة قاتلة ولا يستطيع الفرار، فهذه كلها صور يصفها العلماء بالإلقاء في المهلكة، فشرع رحمة الله بأن يلقيه من شاهق.

شروط الحكم بأن القتل بالنار قتل عمد

شروط الحكم بأن القتل بالنار قتل عمد قال رحمه الله: [أو في نار أو ماء يغرقه ولا يمكنه التخلص منهما]. قوله: (أو في نار) النار معروفة، والإلقاء في النار يشترط فيه: أن تكون النار قاتلة أو يقتل مثلها، وهي النار التي تزهق الروح غالباً، إما مباشرة مثل النار الشديدة والمتأججة والقوية، أو أن تقتل ببطء، وهي أشد عذاباً -والعياذ بالله-، وتكون المدة التي استغرقها بقاؤه في النار تحت ضغط القاتل ومحاصرته كافية لإزهاق الروح. إذاً: يشترط في النار أن تكون قاتلة غالباً، وإذا لم يكن مثلها قاتلاً غالباً بأن كانت ضعيفة نظرنا في المدة التي مكثها فيها، وهذه أمور يعرفها ما يسمى بالطب الشرعي، وعلم السموم في الطب هو علم خاص يتخصص فيه بعض الأطباء في هذه الأشياء القاتلة، فهم أهل الخبرة وهم الذين يرجع إليهم القاضي، ويرجع إليهم للقول بأنه هل هذه النار تزهق أو لا تزهق؟ درجة النار، طبيعتها، المواد المشتعلة هذا كله أمر ليس مرتجلاً، إنما يكون بضوابط، ولابد من الرجوع فيه لأهل الخبرة. إذاً: يشترط في النار أن يقتل مثلها، فإن كان مثلها لا يقتل نظرنا في المدة التي حبس فيها الشخص حتى قتلته النار، وأيضاً نظرنا في الشخص نفسه، فقد يكون طفلاً رضيعاً ألقي في نار صغيرة الغالب في مثلها أن يقتل مثل هذا الطفل، فحينئذٍ لا نشترط أن تكون النار كبيرة على كل حال، إنما نشترط أن تكون النار مثلها يقتل في غالب الناس، لكن لا يمنع هذا -كما ذكرنا في الحائط- في صغار السن، وفي المرضى، وفي كبار السن ونحو ذلك ممن تكون لهم ظروف معينة، وكذلك أيضاً النار في الصيف والشتاء تختلف، فنار الشتاء أضعف من نار الصيف، والقتل بنار الصيف ليس كالقتل بنار الشتاء. الشرط الثاني: ألا يستطيع الشخص الفرار أو الاستغاثة أو الخروج من النار أو المدافعة، فإذا أمكنه أن يدفع عن نفسه أو يستغيث ولم يفعل شيئاً من ذلك، فهذا لا يحكم فيه بالقصاص والقود عند جمهور العلماء رحمهم الله، ومن أهل العلم من فصل تفصيلاً دقيقاً وقال: إن النار إذا كان الشخص يمكنه أن يستغيث أو يتعاطى سبباً فننظر في الشخص نفسه: فإن كان مثله فيه دهشة وفيه ضعف، وما يحسن التصرف في الأمور، بحيث بوغت بالنار فأشكلت عليه الأمور ولم يستطع أن يتعاطى أسباب النجاة بسبب الدهش والمفاجأة، ففي هذه الحالة يكون قتل عمد؛ لأن وجود القدرة على تعاطي الأسباب زال تأثيره بنوعية الشخص؛ لأن الشخص فيه نوع من الضعف، مثلما يكون في بعض الناس من الغفلة، وبعض الناس فيهم ذعر شديد بحيث أنه إذا فوجئ بالشيء فلا يحسن التصرف، فتجعله الصدمة لا يحسن النظر في الخروج والهرب، فبعضهم يفصل بهذا التفصيل، لكن الذي جعل العلماء يجعلون القاعدة للغالب: أن من استطاع أن ينجو من النار ولم ينجُ فإنه يتحمل مسئولية نفسه، بغض النظر عن التفصيل الذي ذكروه. الشرط الثالث: أن يحصل الزهوق بالاحتراق بالنار، أو ما هو مستتبع لها مثل دخان النار نفسها، وانكتام نفسه في النار التي وضعوه فيها، فإذا حصل الزهوق بحرق النار، بأن كانت النار تشويه، وقوة الشوي أجهز عليه وقتله، أو كان الزهوق بفعل الدخان الذي كتم نفسه، وإن كانت الأعضاء التي احترقت ليست بتلك التي يزهق مثلها، فالمهم أن الزهوق حصل بالحبس في النار والإلقاء فيها، فإذا كان القتل على هذا الوجه فهو قتل عمد موجب للقصاص. الشرط الرابع: أن يموت في النار، أو يموت بعد خروجه منها مباشرة، بحيث ينسب لها، فإن عاش وأمكن بقاؤه بحيث ينسب لسبب آخر في علاجه ونحوه، فليس بعمد في مذهب جمهور العلماء رحمهم الله. والإلقاء في النار يستوي فيه أن يكون بالطريقة القديمة، أو بما يوجد في زماننا -والعياذ بالله- مثل: الإلقاء في الأفران، والحبس في الشقق والغرف إذا اشتعلت فيها النار، كما يقع في بعض الجرائم بأن يسكب البنزين أو الحارق على الشقة وفيها إنسان نائم، أو إنسان محبوس في غرفة، ثم تشعل النار، فكل هذه الصور داخلة، فلا يشترط أن يلقيه إلقاءً كما ذكر المصنف؛ فإن هذا فقط تأصيل تبني عليه غيره، وافرض أنه ما ألقاه، كأن يكون إنسانٌ موجوداً في داخل شقة، وجاء شخص وأشعل عليه شقته وهو نائم، وقفل عليه أبواب الشقة ولم يمكنه الهرب، فكل هذه الصور تعتبر من القتل بالنار والتحريق بالنار، وهذا من أشد ما يكون تعذيباً. وهنا مسألة: إذا أحرق بالنار فهل يكون القصاص بحرقه بالنار أم لا؟ وإذا حرق بالنار فهل ينظر لنفس درجة النار أو تكون أضعف أو تكون أعلى؟ هذا فيه تفصيل عند العلماء سيأتي في مسألة استيفاء القصاص بالمماثلة، وظاهر النصوص أنه يعاقب بمثل ما عاقب به، وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل هذه المسألة.

شروط الحكم بأن الإغراق قتل عمد

شروط الحكم بأن الإغراق قتل عمد وقوله: [أو ماء يغرقه]. كأن يلقي المقتول في ماء يغرق مثله غالباً، سواءً كان بحراً أو نهراً أو سيلاً أو بركة أو مسبحاً أو نحو ذلك، كأن أدخله فوطأ رأسه وغالبه حتى لا يرفع رأسه حتى مات، فلا يشترط الإلقاء كما ذكرنا، إنما المهم أن يحصل زهوق الروح وخروجها بالتغريق. فالشرط الأول: ألا يمكنه الفرار والنجاة. الشرط الثاني: أن تكون المدة التي حبسه فيها في الماء كافية لزهوق النفس وخروج الروح. الشرط الثالث: أن يحصل الموت بالتغريق، بحيث لو أنه خرج فإنه ينظر، ففي بعض الأحيان يخرج وقد امتلأت أحشاؤه بالماء ثم يستنفذ ويهلك، وهذا عند بعض العلماء -كما ذكرنا- ينسب لأقرب حادث. لكن من أهل العلم من قال: إنه إذا خرج وعلمنا أنه لم يقتل بالغرق فليس بعمد ولا قود فيه؛ لأنه من المعلوم في مسألة الغرق أنها راجعة إلى النفس مثل الخنق، والصحيح في مسألة الخنق -كما سيأتينا إن شاء الله- أنه لو بقي بعد الخنق مدة ومرض فيها بفعل ما فعل به، واستتبعت الأمراض أو الأثر، استتبع أثر الجناية حتى أجهز على الروح، فهو قتل عمد، وهذا القول هو الصحيح في هذه المسألة، أنه حتى ولو خرج وأخرج من البحر، أو أخرج من النهر، أو أخرج من البركة التي غرق فيها، واستنزفه الإعياء والجهد حتى مات بفعل هذا التغريق؛ فإنه يحكم بأنه قتل عمد، ويوجب القصاص، ويشترط ألا يتمكن من الفرار كما ذكرنا والدفع. ثم فصل العلماء إذا كان يمكنه السباحة، فإذا ألقاه في ماء وأمكنه أن يسبح نُظر: فإن كان الماء الذي ألقاه فيه يعييّ السباح، كأن يلقيه في بحر فإلى متى يسبح؟ فلا شك أنه سيهلك، ومما يذكر أن أبا قلابة رحمه الله التابعي الجليل طُلب للقضاء، فامتنع من ورعه، وهذا من مواقفه، فقيل له: أنت العالم والإمام وتمتنع من القضاء، وعندك العلم بالسنة الفقه؟ فقال: أرأيتم سباحاً ألقي في بحر لجي إلى متى؟ أي: أنه سيسبح ويسبح وأخيراً سوف تعييه السباحة فيهلك. فلا شك أن الإلقاء في البحر والمكان الواسع الكبير، أو الإلقاء في السيل القوي في حال تضعف فيه المغالبة والسباحة، فإنه يضعف فيها تأثير السباحة، ولا يؤثر في الحكم كون الشخص قادراً على السباحة، ولو كان سباحاً ومنعه من السباحة مثل أن يلقيه مكتفاً، فإذا ألقاه مكتفاً في بحر أو نهر، أو ألقاه -والعياذ بالله- في بركة، وهي فاضية ليس فيها ماء ثم سلط الماء عليها، فإنه ولو كان سباحاً فكونه مكتوفاً فإنه سيغرق لا محالة. ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء فإذا غرقه سواء ألقاه كما ذكر المصنف، كأن ألقاه مربوطاً، أو ألقاه مطلقاً في مكان لا يستطيع فيه أن ينجو، أو ألقاه في بركة ثم فتح الماء عليه، أو وضعه في موضع وسلط الماء عليه، فإن هذا كله من التغريق، ويوجب القصاص والقود، والقتل به -والعياذ بالله- يعتبر من قتل العمد. وفي حكم التغريق ما يجري مثلاً في الجرائم، فلو أنه اعتدى على سفينة فثقبها أو ضربها بآلة أو طلق ناري حتى غرقت في بحر أو في نهر، فهذا قتل عمد، فلا يشترط أن يلقيه، فقد يكون على مركب فيصيبه بشيءٍ ويغرق المركب، أو يصدم مركبه حتى ينقلب، ففي هذه الحالة يكون كالإلقاء؛ لأن المهم أن يزهق الروح بفعل مؤثر في هذا الإزهاق بحيث تكون السببية موجبة للحكم بالعمدية كما ذكرنا، فلا يشترط أن يلقيه كما ذكرنا، إنما العبرة بحصول الزهوق عن طريق التغريق، سواء باشره كما لو جاء به فوضعه في حوض ثم طأطأ رأسه حتى خرجت روحه، أو ألقاه مكتوفاً، أو ألقاه في مكان واسع لا يمكنه أن يسبح فيه، فهذه كلها تعتبر من صور العمدية الموجبة للقصاص والقود. ويشترط أن يكون الزهوق -كما ذكرنا- بالتغريق كالحال في القتل بالنار. قال رحمه الله: [ولا يمكنه التخلص منهما]. قوله: (ولا يمكنه) الضمير عائد إلى المقتول، أي: ليس في إمكانه وقدرته التخلص، ويستوي في ذلك أن يكون التخلص بنفسه أو بمعين بعد الله عز وجل يستغيث به، فإذا أمكنه أن يصرخ، أو أمكنه أن يتصل أو يستغيث بأحد بعد الله عز وجل ولم يفعل ذلك تحمل مسئولية نفسه.

شروط الحكم بأن القتل بالخنق قتل عمد

شروط الحكم بأن القتل بالخنق قتل عمد قال رحمه الله: [أو يخنقه]. الخنق: حبس النفس، والخنق يأتي على صورتين: الصورة الأول: الخنق المباشر، والصورة الثانية: الخنق بآلة، والخنق بالآلة يشمل الخنق بالحبل، والخنق بالسلك، وبالنايلو، مثل الليات ونحوها، فهذا كله يعتبر من صور القتل العمد، إذا خنقه ومنع النفس عنه بآلة أو بدون آلة. ونبدأ بالآلة: فيشترط في الآلة التي يخنقه بها أن تكون مانعة للنسم، مثل الحبل القوي، فلو ربط على عنقه حبلاً قوياً وشده، سواء شده بنفسه أو شده إلى عالٍ كما ذكر العلماء، مثلما يحصل في الشنق -والعياذ بالله-، فإذا ربطه في شيء ثم شده حتى حبس نفسه فمات؛ فقتل عمد موجب للقصاص، ويشترط أن يكون الحبل -كما قلنا- قوياً. ومن ذلك أيضاً لو وضع عليه وسادة، كأن يكون نائماً، فدخل عليه ووضع الوسادة عليه فمنع نسمه حتى مات، فهذا قتل عمد، وقد حدث هذا في قصة أم ورقة الشهيدة رضي الله عنها وأرضاها وهي صحابية جليلة، وقد كانت من النساء اللاتي جاهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته، فجاءت تسأله أن تكون معه في الغزو حتى تنال الشهادة، فقال لها: (ستأتيكِ الشهادة)، وفي رواية: (أنتِ شهيدة)، فمكثت رضي الله عنها وأرضاها إلى زمان عثمان، وكان عندها عبدان، فتركاها حتى إذا نامت أخذا القطيفة وجلسا عليها حتى فارقت الحياة، فكان يقال لها: شهيدة، وهي حية، فتحققت فيها معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوفيت رضي الله عنها شهيدة، ولكنه نوع من أنواع الشهادة. فهذا الخنق بالمخدات والوسائد، والآلات الكاتمة، وفي زماننا يستوي أن يكون الخنق بالمواد المؤثرة، مثل رش المواد السامة التي تمنع النسم وتقتل، أو وضع الآلات المخدرة بكمية قاتلة على المنديل ونحوه وخنق الشخص به، فكل هذا من صور الخنق. فالخنق بالآلة إذا كان باللي أو كان بالحبل، يشترط أن تكون قاتلة، وهكذا لو أخذ المنديل فهو قاتل إذا حبس النسم، فإذا خنقه ومنع النسم منه فيشترط ألا يستطيع أن يدفع عن نفسه، كما ذكرنا فيما تقدم في السببية، فإذا أمكنه الدفع والمنع عن نفسه ولم يدفع فلا قصاص. وكذلك أيضاً يشترط أن يكون الزهوق بالخنق، فلو أنه خنقه ومات بعد الخنق بوقت نظرنا: فإن كان قد استنفذت مقاتله، وأصبح نبضه ضعيفاً جداً حتى مات، علمنا أنه مات بفعل الخنق، وحينئذٍ يجب القصاص. إذاً: لابد من تحقق هذه الشروط: تأثير الآلة الخانقة، وألا يستطيع الدفع، وأن يحصل الموت بالخنق لا بسبب آخر. والخنق بالسلك فيه بعض التفصيل من جهة أن السلك في بعض الأحيان يوحي بقطع الرقبة، فإن بعض الأسلاك إذا شدت جرحت، وقد يكون الموت بسبب النزيف لا بسبب الشد، فمثلاً: لو أنه شد شداً لا يحبس كل النسم بل يبقي بعض النسم، فسيبقى الميت فترة طويلة؛ لأن النسم موجود، لكن النزيف يكون سبب وفاته، فالنزيف مستتبع لحكم الخنق، وحينئذٍ لا نقول: إن الموت لم يحصل بالخنق، لما قلنا: إنه وقع، لكنه أشبه فيه أن يكون بالجرح لا بالخنق، وفائدة الخلاف تظهر في مسألة الاقتصاص بالمثل. فالشاهد: أن الخنق من قتل السببية ويوجب القصاص.

الأسئلة

الأسئلة

حكم قتل المريض الميئوس منه بطلب منه من قبل الطبيب ونحوه

حكم قتل المريض الميئوس منه بطلب منه من قبل الطبيب ونحوه Q إذا كانت حياة المريض ميئوسة وطلب من الطبيب أن يقتله، فهل يجوز طلب ذلك؟ وهل يلحق الطبيب شيء من التبعية إن فعل ما طلب منه؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير، خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهذه مسألة خطيرة جداً، وهي التي يسمونها: مسألة قتل الرحمة، ولذلك -والعياذ بالله- من غرائب هذا الزمان أن الحرام في هذا الزمان لا يسمى باسمه؛ بل يصدق عليه قول الله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [العنكبوت:38]، وهذا من تزيين الشيطان لعصاة بني آدم، فهناك قتل يقولون عنه: قتل الرحمة، ويسمونه بهذا الاسم، وصدق عليهم قول الله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11]. وهذا القتل الذي يسمونه بقتل الرحمة يكون المريض ميئوساً من علاجه، فيقولون: لماذا يتعذب؟ يعطى إبرة تقضي عليه فيرتاح من عذاب المرض، ومن آلام المرض، وهذا لاشك أنه اعتداء وقتل عمد، وسيأتينا -إن شاء الله- في مسألة القتل بالسم، فحقن المواد السامة في جسم الإنسان التي يقتل مثلها يعتبر قتل عمد، والطبيب إذا فعل ذلك فإنه يعتبر قاتلاً، وللعلماء كلام في مسألة من قال لغيره: اقتلني، فإذا قال لغيره: اقتلني، فله صورتان: الصورة الأولى: أن يكرهه على قتله، فيقول له: إن لم تقتلني سأقتلك، ففي هذه الحالة لا قصاص ولا دية على القاتل؛ لأنه في هذه الحالة هدده، وله الحق أن يدفع عن نفسه، ولم يستبح نفساً محرمة، وسقط القصاص لوجود الإذن بالقتل، وسقطت الدية لأنه مستتبع لحكم القصاص، كما سيأتينا إن شاء الله في باب الديات، في مسألة: إذا طلب من الغير أن يقتله. وعلى كل حال: هذا القتل لا يجوز، وقد قالوا: إنما ذلك لأجل أن الشخص يتعذب بالآلام، بل توسع الأمر إلى درجة -والعياذ بالله- أنهم نظروا في الأشخاص المتخلفين عقلياً، ووجدوا أنهم عبء على أهليهم وعبء على ذويهم، فيحقنونهم بمواد تقضي عليهم، وهذا لاشك أنه من الاعتداء على حدود الله عز وجل، والإنسان وصفه الله عز وجل وقال: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، وهناك قاعدة يضعها طالب العلم بل يضعها كل مسلم نصب عينيه، وهي أن الطب له جانبان إن خرج عنهما فليس بطب، ولا تأذن له الشريعة أبداً: الجانب الأول: علاج الأسقام ومداواة الجروح ونحو ذلك، وهو إصلاح الفاسد في الجسد. الجانب الثاني: بذل الأسباب التي تحول بين الإنسان وبين الوقوع في المرض والسقم، وهو الذي يسمى بالطب الوقائي، فالأول يسمى: الطب العلاجي، والثاني يسمى: الطب الوقائي، فإن فعل الطبيب أي فعل في الآدمي خارج عن العلاج، أو خارج عن الوقاية؛ فهذا ليس بطب، وقد خرج عن رسالة الطب، وخرج عن الإذن الشرعي بالطب. فإذا قال: إن هذا مريض يتألم ويحصل له كذا وكذا، فنقول له: أنت طبيب تداوي، فإن أمكنك أن تداوي بذلت ما في وسعك، وإذا لم يمكنك أن تداوي فلا تدخلن بين المخلوق والخالق، فإن هذا ليس إليك، ولست أنت الذي ترحم، وليس بيدك الرحمة، إنما هي بيد الله سبحانه وتعالى الذي وسعت رحمته كل شيء، ولا تكن كمن قال الله فيهم: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} [الحجرات:16]، فلست أنت الذي تعلم الله من هو الذي يُرحم والذي لا يُرحم. ارحم بشيء تملكه، وشيء لا تملكه ليس من صنعك، وقد تكون هناك درجات من درجات العلى في الجنة جعلها الله لولي من أوليائه بعذابه في المرض والسقم، وقد يجعل الله عز وجل في قرارة قلبه من اليقين ما يتلذذ به بهذا السقم والمرض، وقد كان بعض الصحابة رضوان الله عليهم، وبعض السلف لما مرض في الطاعون كان يقول: (اطعني فوعزتك وجلالك إني لأتلذذ بما يصيبني منك)، وهذه هي منزلة الرضا عن الله عز وجل. فلست أنت الذي تتدخل بين المخلوق والخالق، فهذه أشياء لا دخل للإنسان فيها، وليست من رسالة الطبيب، فإن حدود الطبيب محصورة، والله عز وجل بعزته وجلاله وقدرته وعظمته وكماله جعل كل شيء لغيره محدوداً قاصراً، فمهما بلغ من القوة ومهما بلغ من المنزلة في العلم والإدراك للأشياء، فإنه يقف عند حد معين، ليقف ذليلاً أمام عزة الله جل جلاله، مهاناً أمام كرامة الله، يقف مكتوف اليدين أمام الله الذي علَّمه، وعندها يعلم علم اليقين أنه لا حول له ولا قوة، ولذلك مهما تقدم الطب فسيصل إلى درجة لن يستطيع أن يتقدم عندها؛ لأن الله قال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، وسيقولون: إن هذا لا علاج له عندنا، لكي يعلم كل أحد أن الله سبحانه وتعالى وحده الذي يشفي من المرض، كما قال صلى الله عليه وسلم: (واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك). هنا تظهر عظمة الله عز وجل، فيعيش المريض يئن ويتألم في المستشفى، والأطباء واقفون، حتى يدخل كل شخص إلى المستشفى فيعلم أن الطبيب لا يملك له مثقال خردلة ولا أقل من ذلك من دون الله عز وجل، فهذا كله فيه أسرار وحكم، ولكن الذين كفروا لا يعقلون. وهذه أشياء ما كان يعرفها المسلمون، فما كان المسلمون كلما مرض مريض حقنوه بحقنة وقضوا عليه، ما كانوا يفعلون هذا أبداً، ولكن بحكم الاتصال بالكفار وسهولة المعرفة كما يقولون، أصبح شيئاً مألوفاً، وإلا فالمسلمون يعرفون الرضا، والتسليم بقضاء الله وقدره، ويعيش المريض ويأتي شخص ويقول لك: هذا المريض جالس عند أهله سنة أو سنتين وقد عذبهم وما يدريك أن هذه السنة والسنتين كم أصلحت من قلب كان فاسداً، وكم قومت من شخص كان معوجاً، وكم سددت من شخص كان تائهاً بعيداً عن الله سبحانه وتعالى، فقد يعيش مريض في البيت ويئن ويتألم فإذا بالشاب السوي القوي يتذكر أنه إذا شاب وهرم سيئول إلى هذا المآل، فيخاف من معصية الله عز وجل. فهناك حكم وأسرار كثير من الناس لا يعقلها ولا يعلمها، وأشياء لا يتدخل فيها الإنسان، أما الطب فله حدوده إذا رأى مفسدة أن يزيلها، أما حكم ومصالح ذلك المرض فلا يعلمها إلا الله عز وجل، والله أرحم بخلقه من خلقه بأنفسهم، قال صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها). المقصود: أن هناك حدوداً ينبغي الوقوف عندها، وإذا خرج الطب عن هذه الأمانة والمسئولية من مداواة الأجساد، ووضع الأسباب، والحيلولة بين الأجساد والأسقام بقدرة الله عز وجل؛ فإنه ليس بطب، وإنما هو العبث، ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يزن الطب بهذا الميزان، قال صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله، فإن الله ما أنزل من داء إلا وأنزل له دواء)، وقال في الحديث الآخر: (علمه من علمه وجهله من جهله). فنحن نقول: لا يجوز هذا الأمر، وهو حقن المريض بما يؤدي إلى موته، ولو كان مرضه ميئوساً منه، ولو كان قد استنفذت مقاتله، فيسلم الأمر لله سبحانه وتعالى، فلا يجوز للطبيب ولا يجوز لأولياء المريض ولا للمريض أن يأذن بهذا الأمر الذي لا يحله الله ولا رسوله، والله تعالى أعلم.

حكم من أرسل غلاما لمنفعة فلدغته حية فمات

حكم من أرسل غلاماً لمنفعة فلدغته حية فمات Q إذا أرسل رجل ولداً صغيراً يشتري شيئاً، وفي الطريق نهشته حية فمات، فماذا يترتب على هذا الرجل من الأحكام، أثابكم الله؟ A هذا فيه تفصيل: فإذا كان الموضع الذي أرسله إليه فيه حيات وفيه هوام، فلا شك أنه غرر به، وتكون سببية قوية مفضية للهلاك، وأما إذا كان الموضع لا توجد فيه الحيات، فهذا صادف قدراً وسببية ضعيفة، والمباشرة هي القاتلة، ومن أهل العلم من قوى السببية. وبناءً على ذلك فإن قال: تعمدت، ففي الصورة الأولى حينما كان الموضع فيه حيات، فعند العلماء تفصيل في مسألة الحية، إذا أرسل شخصاً إلى موضع فيه حية أو عقرب سام أو سبع قاتل، والحية والعقرب يشترط أن تكون سامة، يقتل سمها، فإذا أرسله إلى هذا الموضع فينظر في الموضع: فإذا كان الموضع يمكنه فيه الفرار، فهذا لا قصاص فيه ولا قود في مذهب طائفة، كما يختاره أئمة الشافعية. لكن بعض العلماء -كما هو في مذهب الحنابلة- يفصلون، ففي بعض الأحيان إذا كان مثل الصبي هذا يندهش ولا يحسن النظر لنفسه، فمسألة التفصيل في قتل الحية بين أن يكون الموضع يمكن فيه الفرار، يقولون: إن الحية تفر من الآدمي، فبعض العلماء يقول: إن القتل بها ليس بقتل عمد، كما لو جمع بينه وبين حية في مكان، فقالوا: لو قتلته فليس بقتل عمد؛ لأن الحية تفر من الآدمي، وإذا رآها فر منها، وإذا فر منها تشجعت، حتى إنهم يقولون: إن السبع يتشجع حينما يرى الشخص يفر، ولذلك إذا ثبت ووقف فإنه لا يصاب بأذى، وأما إذا كان الفرار ممكناً فلا إشكال، لكن المشكلة أنه في بعض الأحيان يكون عاجزاً، كأن تكون الأرض أرض طين ووحل، فالفرار لا يفيد، فالأفضل أنه يقف، وهو سيقع سيقع، فالأفضل أن يكون مقبلاً غير مدبر. وعلى كل حال: في هذه المسألة إذا كان قد غرر بالطفل فهذا قتل تغرير، وقتل التغرير إذا قال: قصدت قتله، فهذا شيء، وإذا قال: ما علمت أنه يقتل، فإنه يكون نوعاً من الإهمال، وبعض العلماء يوجب فيه الدية؛ لأنه عرضه إلى القتل بسببية قوية التأثير في زهوق الروح، والله تعالى أعلم.

حكم من سقط من علو على سيارة واقفة فمات

حكم من سقط من علو على سيارة واقفة فمات Q رجل كان واقفاً بسيارته في أحد الشوارع، فسقط رجل على سيارته فمات، فهل يكون صاحب السيارة سبباً في القتل، وتكون عليه الدية، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهذه المسائل أصلاً مردها إلى القضاء، لكن طالب العلم ينبغي أن يعلم حكم هذه المسائل، فإذا سقط شخص من مكان عالٍ على سيارة شخص، فإنه يجب الضمان على صاحب السيارة، والسبب في هذا: أن الارتطام وقع على السيارة، ومن دقة الشريعة أن أي شيء تملكه فلك غنمه وعليك غرمه، فإن هذا الشيء لو أصبحت قيمته مليوناً فإن ربحه لك، ولو تسبب في ضرر أحد فأنت المسئول عنه. وفي هذه المسألة: لو أن السيارة حركت عن موضعها لكان القتل بسبب الارتطام على الأرض، ويحتمل أنه يرتطم على الأرض ولا يموت، ولكنه ارتطم بسيارته فمات، فجميع ما يحصل للسيارة ويكون من السيارة غنماً وغرماً فأنت المتحمل له، فكما أنك تأخذ غنمها فعليك غرمها، ولذلك المعمول به والذي عليه العمل عند مشايخنا، وينقل هذا عن سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه، أنه يعتبر قتل خطأ، ويجب عليه ضمانه، فتجب الدية على صاحب السيارة. لكن هناك تفصيل في مسألة إذا دفعه شخص؟ فإن هذه فيها تفصيل قد نتعرض له -إن شاء الله- في مسألة الاشتراك، والله تعالى أعلم.

حكم صلاة الوتر بين الأذان والإقامة لصلاة الفجر

حكم صلاة الوتر بين الأذان والإقامة لصلاة الفجر Q هل يجوز للإنسان إذا أذن المؤذن ولم يصل الوتر، فهل يجوز له أن يصليها بعد فراغ المؤذن من الأذان في صلاة الفجر، أثابكم الله؟ A الوتر ينتهي وقته بأذان الفجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أوتروا قبل أن تصبحوا)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم وهي الوتر، وجعلها لكم ما بين صلاة العشاء والفجر)، فهذه النصوص تدل على أن الوتر ينتهي بطلوع الفجر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث ابن عمر: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة)، فإذا أذن المؤذن فجمهور العلماء على أنه قد انتهى وقت الوتر ولا قضاء بين الأذان والإقامة، ويكون القضاء بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح إلى زوال الشمس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من فاته حزبه من الليل فقرأه ما بين طلوع الشمس إلى زوالها كتب له كأنما قرأه من ساعته). لكن لو أنك ركعت ورفعت رأسك من الركوع ثم أذن المؤذن، فقد تم لك الوتر، فتستمر في الدعاء، ولا بأس أن تدعو بين الأذان والإقامة، وهو وقت إجابة، ولا بأس لو طولت في الدعاء، أما إذا أذن المؤذن قبل أن تركع وقبل أن تكبر تكبيرة الركوع وتنتهي منها، فقد انتهى وقت الوتر، فتقلبها شفعاً وتتمها شفعاً، والله تعالى أعلم.

نصيحة لمن ابتلي بالوسوسة

نصيحة لمن ابتلي بالوسوسة Q أنا شخص مبتلى بالوسوسة ولا أنام الليل أفكر في الموت، وأصبحت حياتي كلها هم، وأصبحت أنظر للحياة نظرة يائس منها، علماً أن هذا الداء لم يكن فيّ إلا أنه أصابني منذ شهرين، وقد بلغ بي البلاء ما لا أستطيع وصفه، وأرغب في توجيه منكم علّ كلماتكم تكون لي بلسماً، وأرجو منكم الدعاء لي، وجزاكم الله عني وعن المسلمين خير الجزاء؟ A أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يفرج همك، وأن يكشف غمك، وأن يشفيك، وأن يعافيك، وأن يعافي كل مسلم. أخي في الله! الشكوى إلى الله الذي هو منتهى كل شكوى، وسامع كل نجوى، وكاشف كل ضر وبلوى، سبحانه لا إله إلا هو، وهذا البلاء قد يكون بسبب ذنب، فتفقد نفسك في حقوق الوالدين والرحم، وحقوق المسلمين خاصة العلماء والصالحين والدعاة، فقد تكون آذيت أحداً منهم؛ لأن الإنسان قد يبتلى بالبلايا العظيمة بسبب الذنوب فيحذر من هذا، ولذلك يحذر طالب العلم من التعرض لأولياء الله، وكذلك قد يجعل الله لك هذا البلاء لحكمة يريدها الله عز وجل، كي يرفع به درجتك ويعظم به أجرك، فأحسن الظن بالله عز وجل. أما العلاج: فأول شيء كثرة الدعاء، وإذا جئت تدعو الله عز وجل فاستشعر في قلبك عظمة الله سبحانه وتعالى، خاصة في رحمته، وأنه أرحم بك من والديك، ثم تأمل لو أن والدك ووالدتك اللذين هما أرحم الناس بك، لو نظرا إلى حالك وبيدهما بعد الله شفاؤك لتقدما بشفائك، وما بالك بالله عز وجل الذي هو أرحم بك من والديك، فإذا شعرت هذا الشعور اعتمدت على الله، وارتاح قلبك؛ لأنه ليس عند الله إلا كل خير، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب)، وهو سبحانه غاية في الكرم والإحسان والبر. فتقوي صلتك بالله عز وجل؛ لتدفع عنك هذه الوساوس، فيضعف سلطان الشيطان على قلبك، ولذلك كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم إذا اشتكى إليه الموسوس والمهموم يوصيه بكثرة التفكر في عظمة الله؛ لأن ذكر الله عز وجل يضعف سلطان الشيطان على القلب، فإذا تفكر في عظمة الله وملكوت الله عز وجل ذكر الله، والله يذكر من ذكره، وحينئذٍ يضعف سلطان الشيطان على القلب؛ لأنه لا يمكن أن يتسلط على قلب معمور بتوحيد الله والإيمان بالله، فأوصيك أن تأخذ بهذا الشعور: رحمة الله عز وجل بعباده، ولا تظن بربك إلا كل خير، واسأل الله المسألتين، فقل: اللهم إن كان لي الخير في هذا البلاء وأن يبقى فيِّ والخير أن أصبر، فأفرغ عليَّ صبراً يرضيك عني، فإذا بلغت هذا المبلغ نعمت عينك وقرت وجعل الله العاقبة لك، والأمور بعواقبها. فلو عاش الإنسان في هذه الدنيا وقد فرشت له الأرض ذهباً عن يمينه وشماله، ومن أمامه ومن خلفه، ومن فوقه ومن تحته فلا خير فيها إن لم تحسن العاقبة، فهذا فرعون الطاغية كان في نعمة ورغد من العيش لا يعلمه إلا الله، كما قال تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان:25] {وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء:58] {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان:27]، و (كم) للتعظيم والتكثير، فقد كانوا بهذه الحالة، ولكن كانت غايتها أن أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، قال تعالى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} [النازعات:25] {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل:16] فماذا نفعه ذلك كله؟ إذاًَ: ضيق الدنيا وسعتها لا عبرة به ما لم تحسن العاقبة، وكم من شخص يعيش في هم وغم وكرب لا يعلمه إلى الله سبحانه وتعالى، فإن سلم من العناء في نفسه جاءته بنته تشتكي، وجاءته زوجته تشتكي، وجاءته أخته تشتكي، وجاءه أخوه يشتكي، وجاءته الدنيا من كل حدب وصوب، فلا يسلم من هم حتى يقع فيما هو أكبر منه، أو أعظم بلاء منه، ولكن ما هي العاقبة؟ إذا كانت هذه الهموم تجر العبد إلى ربه جراً، وتستوجب الرحمات وسحائب المغفرات، وتكفر الذنوب والخطيئات، فيا له من مقام، ينعم به عيشه ويرغد به حاله! قال عليه الصلاة والسلام لتلك المرأة: (إن شئت دعوت لكِ، وإن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة، قالت: أصبر يا رسول الله) وهذه هي العاقبة، فلا تفكر فيما فيك، بل فكر في العاقبة، وفكر أن لك رباً، وأنه هو الذي ابتلاك، وأنه هو الذي أنزل الداء ومنه الشفاء والدواء سبحانه لا إله إلا هو، فاستسلم، وما من عبد ينزل به البلاء فيسلم لله ويستسلم لله إلا تأذن الله له بالفرج. ولذلك قال الله عز وجل: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] أي: استسلم لله، {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:104 - 105]، فجاء الفرج من الله عز وجل، وهي لحظة قتل وموت وفراق لهذه الدنيا، ومع ذلك قتل من؟ من يحبه ويهواه وفلذة كبده، وحينما أسلم واستسلم لله قال العلماء: هنا جاء الفرج من الله؛ لأن إبراهيم استسلم لله استسلاماً كاملاً، ولذلك مدحه الله في الموحدين المخلصين الموقنين، وجعل له لسان صدق في الآخرين، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى يوم الدين، بالإخلاص واليقين والشعور بالرضا عن الله عز وجل. فالعبرة بالعواقب، والإنسان إذا تفكر في العاقبة هان عليه كل شيء، ولذلك لما قال لها: (إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة)، فلما كانت عاقلة حكيمة نظرت للعاقبة فقالت: (أصبر يا رسول الله)!، أفوض الأمر لله عز وجل، وكم من عبد يسلط الله عليه البلاء بالهم والغم والنكد؛ لأن الله يعلم أنه لو كان في عافية لطغى وبغى، فيلطف الله به من حيث لا يشعر، ويقاد إلى الجنة بالسلاسل، بالهموم، بالغموم، بالنكبات، بالفجائع: (إن من عبادي من لو أغنيته أطغيته) يطغى لكن الله يحبه في الصالحين ولا يحبه في الطغاة المجرمين. ولذلك مما يسلي العبد: استشعار ما له من الأجر والمثوبة عند الرحمن، فكل زمن مر عليك وأنت مبتلى صابر كتبت لك ثوانيه ولحظاته ودقائقه وساعاته في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وعلمها رب لا تخفى عليه خافية، سمع فيها شكواك وبثك وحزنك، وأنت تبث حزنك إليه سبحانه، وتشتكي إليه سمعك متضرعاً سائلاً متوجعاً متفجعاً قلقاً، ومع ذلك لم يستجب لك الدعوة عاجلاً، فكتب لك بها درجات، أو صرف عنك مثلها من البلاء، فلا تدري كم لك في هذه الدعوات من خيرات وبركات وعواقب صالحات لا يعلمها إلا فاطر الأرض والسماوات. ولو علم أهل البلاء ما لهم عند الله يوم القيامة، لتمنوا أن حياتهم كلها كانت بلاء، ولو علم أهل البلاء ما لهم عند الله عز وجل من الأجر والمثوبة لتمنوا أنهم منذ نعومة أظفارهم وهم في البلاء، لعظيم ما يجدون عند الله عز وجل، ويكفي المبتلى قول الله جل وعلا: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، تمضي الليلة على أخيك مثلما مضت عليك، لكن يكتب لك في ميزان حسناتك ما الله به عليم، وعلى ذلك الشقي الذي أغوي بالمال والجمال والشباب والصحة والعافية الشقاء، فينغمس في معصية الله عز وجل، فنجوت وهلك غيرك، شهران لم يقر قرارك ولم تهنأ نفسك، ولكن ربك ليس بغافل عنك، فأبشر بكل خير، وأحسن الظن بالله، وارج من الله الفرج. ومما أدعوك إليه كثرة الاستغفار؛ لأنه سبب الرحمة، وكذلك أيضاً عليك بكثرة قراءة القرآن؛ لأنه شفاء لما في الصدور، ودفع للوساوس والقلق، ومما أدعوك إليه أن تتفكر في أن الموت ليس بهم ولا غم، وإنما الهم والغم أن يكون الله غاضباً عليك، فإذا كان الله غاضباً على عبده فويل له إذا لقي ربه، وويل له من ساعة موته وفراقه لدنياه، وأما إذا كان ربه راضياً عنه فما أسعدها من ساعة وما أسعدها من لحظة! قال صلى الله عليه وسلم حينما قالت فاطمة: (واكرب أبتاه! قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم). ولذلك قال الله عن أهل الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34] أذهب عنا الحزن؛ لأنهم عاشوا حياتهم كلها حزن، وأهل الإيمان من حزن إلى حزن، ومن هم إلى هم، ومن غم إلى غم، حتى تطأ قدم عبد الله الصالح الجنة، فينسى كل هم مر به أبداً، وفي الحديث الصحيح: (أنه يؤتى بأبأس أهل الدنيا ثم يغمس في نعيم الجنة غمسة ويقال: عبدي! هل مر بك بؤس قط؟ فيقول: لا وعزتك ما مر بي بؤس ولا مر بي هم ولا مر بي غم)، مما رأى من نعمة الله عز وجل ومن كرامة الله سبحانه وتعالى ومن حسن العاقبة. فليبشر كل مبتلى، وليحسن الظن بالله، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يفرج همومنا وغمومنا، وأن ييسر أمورنا، وأن يصلح أحوالنا، وأن يفرج عن كل مسلم مهموم مغموم همه وغمه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

مقدمة كتاب الجنايات [4]

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [4] من أنواع القتل العمد: القتل بالسببية، وهو أن يتسبب الشخص في قتل الغير دون أن يباشر القتل بنفسه، وللقتل بالسببية صور كثيرة: كأن يحبسه ويمنعه من الطعام والشراب حتى يموت، أن يقتله بالسحر، أو يقتله بالسم، أو يشهد جماعة زوراً على رجل بما يوجب القتل فيقتل وكل هذه الصور لابد فيها من شروط حتى يحكم بكون القتل عمداً يجب فيه القصاص.

من صور القتل العمد بالسببية

من صور القتل العمد بالسببية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [أو يحبسه ويمنعه الطعام أو الشراب فيموت من ذلك في مدة يموت فيها غالباً].

شروط الحكم بأن القتل بالحبس قتل عمد

شروط الحكم بأن القتل بالحبس قتل عمد ما زال المصنف رحمه الله يذكر الصور التي تتعلق بالقتل بالسببية، ومنها هذه الصورة، وهي: أن يحبس القاتل المقتول، ويمنعه من الطعام والشراب، وتمضي مدة يموت الإنسان فيها غالباً، وهذه الصورة لا شك أنها تفضي إلى القتل في غالب الأحوال، والذي عليه المحققون من أهل العلم رحمهم الله أنه لا يحكم بمدة معينة تحدد، بحيث يقال: إذا حبس فوق ثلاثة أيام أو أربعة أيام فيحكم بكونه قتل عمد، إنما ينظر إلى حال الشخص، والمدة التي حبس فيها، وطبيعة الحبس. والأصل في هذا أن الطعام والشراب يرتفق بهما البدن، ولا يمكن للإنسان أن يعيش من دون طعامٍ وشراب، ولكن إذا وقع المنع للمقتول من الطعام والشراب فيفصل فيه العلماء من جهة كونه مدة لا يموت فيها الإنسان غالباً، فلو حبس عنه الطعام والشراب يوماً واحداً ثم مات، فإنه يغلب على ظننا أن موته ليس بسبب حبس الطعام والشراب، والدليل على ذلك: أن الله سبحانه وتعالى فرض الصيام، والصيام لا يقتل الإنسان، ولو كان يقتل الإنسان لما شرعه الله عز وجل، ولذلك قرر العلماء رحمهم الله أنه لو حبسه يوماً ومنع منه الطعام والشراب فمات، فالغالب أنه مات بسببٍ آخر لا بسبب حبس الطعام والشراب. ومن هنا اشترط أهل العلم رحمهم الله أن يكون منع الطعام والشراب مدة مؤثرة، ويرجع في ذلك للأطباء والحكماء؛ لأنهم هم أهل النظر وأهل الخبرة في أحوال الأشخاص. إذاً: هذه الصورة يشترط فيها أولاً: أن يكون هناك حبس، فلما قال المصنف: (أن يحبس) دل على أنه لو كان بيد المقتول أن يأكل ويشرب، وامتنع المقتول من الأكل والشرب؛ كان قاتلاً لنفسه، وعلى هذا فلو أضرب عن الطعام فإن إضراب المسجون عن الطعام حتى يموت يعتبر من الانتحار، وهو قاتلٌ لنفسه، فإذا كان بإمكانه أن يأكل وبإمكانه أن يشرب وامتنع من الأكل وامتنع من الشرب، فإنه يكون قاتلاً لنفسه والعياذ بالله! كذلك يشترط في هذا الحبس والمنع أن يكون مؤثراً، وقد ذكر العلماء من صوره في القديم: تطيين البيت، فقد كان البعض إذا أراد أن يقتل الشخص يدخله في بيت ويطين عليه البيت، فيسد عليه منافذه بحيث يتعذر على من بداخله الخروج، فهذا التطيين يحقق شرطاً اعتبره العلماء في الحبس عن الطعام والشراب، وهو: ألا يتمكن المحبوس من الاستغاثة، وألا يتمكن من طلب النجدة بالغير، فإذا أمكنه أن يستنجد وأن يستغيث -بعد الله عز وجل- بالغير ولم يفعل، وقصر في هذا حتى مات؛ فإنه لا يعتبر قتل عمدٍ من كل وجه، ولا يجب القصاص، وهذا مبني على ما تقدم معنا أنه متى ما أمكن للمقتول أن يدفع الضرر عن نفسه وقصر في ذلك فإنه لا يحكم بقتل العمد، ولا يحكم بالقصاص؛ لأنه هو الذي قصر في حفظ نفسه والدفاع عنها. ومثل ذلك ما هو موجود الآن في زماننا، كأن يدخله في غرفة ويغلق عليه ثم يكمم فمه أو يربطه ويربط يديه، حتى لو كان أمامه طعام وشراب فلا يستطيع أن يأكل، بحيث يتعذر عليه أن يدنو من الطعام ليأكل منه، المهم أن يتحقق مانع وحائل من الوصول إلى الطعام والشراب. إذاً: لابد أن يكون الحبس لا يتأتى معه استغاثة. الشرط الثاني: أن تمضي مدة مؤثرة، فإذا مضت المدة المؤثرة التي يموت فيها الإنسان إذا حبس عن الطعام والشراب حكم بالقصاص، ووجوب القود. أما لو لم تمض المدة -كما ذكرنا- كأن يكون يوماً، فشبه اتفاق على أنه لو مضى يوم فليس بقتل؛ لأن الله شرع الصوم -كما ذكرنا- وهذا لا يموت الإنسان فيه. وانظر إلى دقة المصنف حينما قال: (غالباً)، وهذا مبني على القاعدة المعروفة: أن الحكم للغالب والنادر لا حكم له، فنحن نربط الأحكام الشرعية بالغالب، فغالب الحال أنه لو مضت ثلاثة أيام أو أكثر من ذلك فإنه يموت الإنسان في الغالب، لكن بعض العلماء يشكك في هذا، ويقول: إنه لا يحد في هذا بحد، وإنما ينظر في كل قضية بعينها وبحسبها، وهذا لا شك أنه أدق وأولى، ويكون للقاضي وأهل النظر والخبرة القول في هذا. ويبقى Q لو منع عنه الشراب ولم يمنع عنه الطعام، أو منع عنه الطعام ولم يمنع عنه الشراب، فهل هو قتل؟ هناك خلاف بين العلماء رحمهم الله، فبعض أهل العلم يقول: إذا منع عنه الشراب لمدة مؤثرة فإنه يعتبر قتل عمد، وهذا هو الصحيح؛ فإن الله تعالى يقول: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30]، فدل على أن حبس الماء عن المسجون أو الممنوع مؤثر، وأنه لو مات من هذا المنع والحبس فإنه يعتبر قتل عمدٍ على أصح قولي العلماء. ولو منع عنه الطعام ولم يمنع عنه الشراب فقال بعض العلماء: إنه ليس بقتل؛ لأن الماء قد ينتفع به البدن، واستدلوا على ذلك بقصة أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، فإنه مكث أربعين يوماً يغتذي بماء زمزم، وهو مستتر تحت ستار الكعبة، ويشرب من زمزم، ومع ذلك لم يهلك ولم يمت، فقالوا: إذا منع عنه الطعام ولم يمنع الشراب فليس بقتل عمد، والدليل أن أبا ذر عاش، وهذا محل نظر؛ وذلك لأن أبا ذر رضي الله عنه لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أنه طعام طعمٍ وشفاء سقم؟) فهذا خاص بماء زمزم، والخاص لا يثبت حكمه على سبيل العموم، فهذه خاصية في زمزم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنها طعام طعم وشفاء سقم)، فإذا منع من الطعام وسقي زمزم وبقي يغتذي بزمزم، فهذا خاص وليس بعام؛ ولذلك ضعف بعض العلماء الاستدلال بهذا الحديث من هذا الوجه. وعلى كل حال فالمنع من الطعام، والمنع من الشراب، متى ما كان على صورة مؤثرة فإنه يوجب القصاص والقود إذا أزهق النفس. ومن أهل العلم من قيد طبيعة المنع بأنه لا يشترط فيه الرباط، فلو منع في داخل البيت، وفي زماننا داخل الشقة أو داخل غرفة من الغرف، وأغلقت عليه؛ فإن هذا يعتبر كافياً في الحكم، وهكذا لو رماه في بئرٍ فإن هذا يعتبر قتلاً، والأصل في هذه المسألة -أن حبس الآدميين عن الطعام والشراب يعتبر قتل عمدٍ موجبٍ للقصاص- ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها؛ لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)، فدل على أن هذا يعتبر قتلاً، وأنه إذا منعت النفس من طعامها ومن شرابها حتى مضت المدة المؤثرة فإن هذا يعتبر إزهاقاً للروح، وقتل عمدٍ موجبٍ لثبوت القود والقصاص.

القتل بالسحر وشروط الحكم بأنه قتل عمد

القتل بالسحر وشروط الحكم بأنه قتل عمد قال رحمه الله: [أو يقتله بسحرٍ]. سيأتينا إن شاء الله الكلام على السحر وأحكامه في كتاب الردة بإذن الله عز وجل، وهو من أخبث أنواع الضرر وأسوئها وأعظمها شراً في العباد والبلاد، ولكن الله لحكمته ابتلى عباده بهذا البلاء، وجعل السلوان لمن ابتلي به في رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سحر حتى خيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله. ليكون في ذلك سلواناً لمن يبتلى بهذا البلاء، وهو تسلط من الأرواح الخبيثة الشريرة على النفس فتضرها. ومذهب أهل السنة والجماعة أن السحر يؤثر ويضر في البدن، وأنه يقتل، وأنه يحدث للإنسان النسيان والبغض والكراهية، ويحدث فيه المحبة والتعلق والعشق، ويحدث منه تصرفات غير منضبطة، وكل هذا من الشر والبلاء الذي جعله الله عز وجل اختباراً وامتحاناً لعباده، ومن ابتلي بهذا البلاء فصبر ووثق بالله عز وجل، وسلم قلبه لليقين بالله سبحانه وتعالى، فإن الله لا يخذله، بل يجعل له من حسن الجزاء في الدنيا والآخرة ما لم يخطر له على بال. والسحر أمره صعب، والقتل به ليس كالقتل بغيره، ولذلك يختلف القتل بهذه الأساليب الخفية عن القتل بالأساليب المعروفة، كالقتل بالسيف -كما تقدم- وبالمثقل، والقتل بالأسباب التي تقدمت، فإنها واضحة جلية، ولكن القتل بالسحر قتلٌ بأسبابٍ خفية، ولذلك من الصعوبة بمكان دخول هذه المسألة على القضاء؛ لأن القاضي لا يستطيع أن يثبت عنده هذا إلا إذا أقر الساحر، فإذا جاء وأقر وقال: نعم، أنا قتلته، فهذا فصل فيه العلماء رحمهم الله، وبينوا أن السحر ينقسم إلى أقسام: قسمٌ يقتل، وقسم لا يقتل، فإذا جاء الساحر وأقر واعترف عند القاضي وقال: لقد سحرته، ثم قال: إن سحري الذي سحرته به يقتل، فحينئذٍ يحكم به. وتأتي المسألة التي معنا أولاً: أن يقر الساحر أنه سحره، ويعترف بهذا، وثانياً: أن يقول: إن هذا السحر الذي استخدمه قاتل، ويعرف أنه قاتل من خلال التجربة -والعياذ بالله- أو من الممارسة مع غيره، أو من نفس طبيعة السحر ومن أثره حينما سحر الشخص وحدث منه ما حدث، فهذا كله يدل على أن سحره قاتل -والعياذ بالله-، فإذا اعترف وثبت عند القاضي أن سحره قاتل، فحينئذٍ القتل هنا بالسحر موجب للقصاص، وموجب للقود، كما صرح به الأئمة رحمهم الله، لكن المشكلة الآن أن الناس توسعوا في الحكم بالسحر، وقد تتسلط الأرواح الشريرة على الناس بالكذب وادعاء أشياء لا حقيقة لها، فبعض القراء -أصلحهم الله- إذا قرأ على الشخص وجاءه القرين وقال له: سحره آل فلان، صدق القرين، ثم قال للمسحور أو قرابة المسحور: إن امرأتكم أو ابنكم سحره فلان أو فلانة، وهذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صدقك وهو كذوب). والأرواح الشريرة التي هي الشياطين دائماً تريد الشر لبني آدم {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6] {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف:50]، فأخبر الله أنهم أعداء، فمثله لا يصدق؛ لأنه عدو، والعدو يكذب على عدوه، والمعاداة تستلزم الخديعة، ولذلك فلا يجوز للقراء أن يقطعوا ويجزموا بأن فلاناً سحره فلان، فيتهم شخص بأنه سحر آخر ما لم يقر ذلك الشخص أنه سحر، وأنه فعلاً سحره أو أمر من يسحره؛ لأن الأصل البراءة، ولا يجوز اتهام الناس إلا ببينة ودليل، والذي شهد أن فلاناً سحر فلاناً لا نعرف من هو أصلاً، فقد يكون في بعض الأحيان يتكلم الشخص الممسوس وهو في غير شعوره، أو عنده وسوسة أن فلاناً يؤذيه، فإذا ضغط عليه أو كان في حالة فسيتكلم بما في مكنون في نفسه ويقول: فلانٌ سحرني وفلان أضرني، ولذلك -من باب التنبيه- فلا ينبغي للقراء أن يتعاطوا القراءة على الماس ما لم تكن عندهم تجربة على أيدي أهل الخبرة والنظر؛ لأن هذا أمر صعب جداً، وفيه أمور حساسة جداً تتعلق بأرواح الناس وأسرارهم. فينبغي أن يكون القارئ محافظاً على أرواح الناس وأسرارهم وعوراتهم مثلما يقع للأطباء، فالقراءة نوع من الطب، ومثلما يقع للعلماء والمفتيين، فقد تجد بعض طلاب العلم إذا لم يتمرن على أيدي العلماء كيف يتعامل مع فتاوى الناس وأسئلتهم، فقد يوقع الناس في كثير من الحرج، وربما تعجل في الفتوى في أمور لا ينبغي أن يفتي فيها، وربما تعاطى أموراً تضر ولا تنفع، وتفسد ولا تصلح، والسبب في هذا أنه لم يأخذ هذا العلم عن بينة وبصيرة، وإن كانوا لا شك يريدون مصلحة الناس -نحسبهم كذلك- ويريدون الخير للناس، لكن لا بد أن يكون عندهم خبرة ومعرفة. فانظر إلى رسول الأمة صلى الله عليه وسلم حينما جاءه أبو هريرة، وأخبره خبر الشيطان معه في الثلاثة الأيام حينما كان يأخذ من تمر الصدقة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرجع إليه أبو هريرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: ما فعل صاحبك البارحة؟ حتى تتبين لـ أبي هريرة رضي الله عنه حقيقة الأمر، فما ترك الكتاب والسنة شيئاً إلا وبينه، وهذه من نعم الله عز وجل على هذه الأمة، كما قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا طائر في السماء يقلب جناحيه إلا وعندنا منه خبر)، فمن عظمة الله عز وجل وجلاله سبحانه ما وضع في هذا الدين من الكمال، فانظر إلى هذه القصة العجيبة الطريفة كيف جاءت بكلمتين: (صدقك وهو كذوب)، ولو جئت لتستخرج من هاتين الكلمتين مسائل وأحكام لاستخرجت ما لا يقل عن عشرين مسألة. فقوله: (صدقك) إثبات ما قاله، وتتفرع عليها المسائل المنبنية على شرعية قراءة آية الكرسي وفوائدها، وآثارها، لكن بعدها (وهو كذوب) أي: الحال أنه في الأصل كذوب، والأصل أنه لا يصدق، فيأتي تفريع مسألة القرين والشياطين، وما هو الأصل في أقوالهم وأخبارهم، فلما قال: (وهو كذوب) لم يقل: وهو كاذب، بل كذوب: فعول وهي صيغة مبالغة، ولو قال: كاذب لكان الأمر شر، فلما قال: كذوب، كان الأمر أشر، ومعناه: أنه كثير الكذب حريصٌ عليه، وأن من شأنه الكذب، فكيف يصدق من عادته الكذب؟ فلا يعتمد على قوله: إن فلاناً قد سحر فلاناً، ولابد أن يحتاط في هذا الأمر، فلا يجوز للقاضي أن يحكم بأن فلاناً سحر فلاناً بناء على أخبار القرناء والشياطين، بل لا بد من إقرار الساحر أنه سحر، أو ثبوت ذلك عليه بالبينة أنه اعترف في مجلس وقال أنه سحر فلاناً، وأن سحره الذي سحر به قاتل. وقد بين المصنف رحمه الله أن مما يوجب القصاص: القتل بالسحر، وبناءً على ذلك ذكروا الطلاسم -نسأل الله السلامة والعافية- وهي تتنوع، وقد ذكر بعض مشايخنا رحمة الله عليهم ما استفيد بالمذاكرة والمدارسة يقولون: كأن يسحره سحراً يمنعه من الأكل والشرب حتى يموت -والعياذ بالله- أو يسحره سحراً يمنعه من النوم بتاتاً حتى يموت -والعياذ بالله- فيقض مضجعه ويصبح يفقد السيطرة على نفسه ثم يهلك، أو يسحره بسحر يجعله يعتدي على نفسه فيقتلها، وغير ذلك من الأنواع، فإذا قال الساحر: سحري قاتل، أو سحري يقتل، أو سحرته سحراً يقتل مثله، فهذا اعتراف، يقول الشافعي وغيره من أئمة السلف أنه بهذا الكلام يثبت عليه القود والقصاص.

القتل بالسم وشروط الحكم بأنه قتل عمد

القتل بالسم وشروط الحكم بأنه قتل عمد قال رحمه الله: [أو بسمٍ] أي: أو يقتله بالسم، والسم مادة مزهقة للروح، سواء كانت مطعومة، أو كانت مشروبة، أو كانت مشمومة، وسواء كان تعاطيه للسم عن طريق السقي، أو دسه في طعامه، أو وضعه في قطيفة وكممه بها، فاستنشقها حتى مات، أو وضعها في حقنه فحقنه بها، فكل هذا يعتبر من القتل بالسم. والقتل بالسم في زماننا مثل المواد المخدرة، والمواد السامة، وهذا معروف فيما يعرف بعلم الطب الشرعي، وفيه مباحث خاصة تسمى بمباحث علوم السموم، يبحث فيه المواد التي ثبت طبياً أنها قاتلة. وللعلم فإنها تنقسم إلى أقسام: فقد تكون مواداً نباتية، أو مواداً كيميائية، أو نباتية مركبة، أو مفردة، أو من الاثنين أي: مركبة من النبات ومن المركبات الكيميائية، المهم أن يثبت عند أهل الطب والخبرة أن هذه المادة التي حقن بها المريض، أو وضعت في طعامه أو في شرابه، أنها قاتلة، وأنها من السمومات، أو أن هذه المادة التي رش بها، أو التي كمم بها فاستنشقها، أو التي حقن بها، أنها قاتلة. وهذا الأمر يحتاج إلى تفصيل فصل فيه العلماء فقالوا: أولاً: إذا سقاه السم أو وضع له السم، فإما أن يكرهه عليه، ويفرض عليه تعاطي السم أكلاً، فإذا وضع له السم وعرف المقتول أنه سم، فهدده وضغط عليه حتى أكل منه، أو ربط يديه فأدخله في فمه، أو جعله سعوطاً، أو كممه به فشمه بغلبة وقهر؛ فلا إشكال أنه قتل عمد موجب للقصاص والقود. لكن يشترط عند العلماء رحمهم الله أن تكون المادة والجرعة الموضوعة هي التي تسببت في زهوق الروح، وإذا كانت مادة مشمومة فنرجع إلى الأطباء، وهذا معروف عادة في الجنايات والجرائم، فتحال مثل هذه المسائل إلى الأطباء المختصين فينظرون فيها، فإذا وجدوا أن المادة والجرعة التي وضعت كافية لقتله فحينئذٍ لا إشكال أنه قتل عمد، وإن كانت المادة والجرعة لا تقتل إلا نوعاً خاصاً، فصل في القتل بحسب نوعية المقتول، فلو قالوا: تقتل الصغير ولا تقتل الكبير، وهم عصابة أو شخص اعتدى على طفل رضيع فوضع هذه المادة وكمم بها أنف الرضيع حتى لا يصيح فمات، فهذا قتل عمد؛ لأن مثله يقتل بهذه الجرعة، والجرعة كافية لقتله، وهكذا لو حقنوه حقنة وكانت كمية حكم الأطباء أنها كافية للقتل؛ فقتل عمد، وإن قالوا: لا تكفي للقتل، فهذا فيه تفصيل عند العلماء رحمهم الله: فمن حيث الأصل لا يحكم بكونه قتل عمد موجب للقصاص والقود، إلا إذا كانت الجرعة والمادة التي يفرض عليه تعاطيها كافية لزهوق الروح، فعندنا شرطان: الأول: أن يفرض عليه تعاطيها، والثاني: أن تكون كافية لزهوق الروح. فإن لم يفرض عليه ذلك فإنه يأتي على صور: الصورة الأولى: أن يقدمه له في طعام أو شراب، فيضع السم في طعامه، أو يضع السم في شرابه، ويقدمه له، فإن قدم له السم في الطعام والشراب فإما أن يكون ظاهراً أو خفياً، فإن كان ظاهراً وعلم المقتول أنه سم وأكله، فقد باشر قتل نفسه، وحينئذٍ إذا علم المقتول أن المادة سامة وجاء وتعاطاها فشرب، أو استعط بها وهو يعلم أنها سامة وكافية لقتله، أو ما يحصل -نسأل الله العافية- عند بعض أهل المخدرات، فيأتي بإبرة فيها مخدرات والكمية كافية لقتله، فيأخذها ويباشر حقن نفسه بها دون أن يكرهها، ودون أن يلزمها، فحينئذٍ قد قتل نفسه، فهذا إذا علم المقتول أنها مادة سامة. الصورة الثانية: أنه لم يكره على تعاطيها، فحينئذٍ قتل نفسه، لكن يبقى السؤال إذا عاونه غيره، ففيها تفصيل قد يأتينا في قتل الجماعة ومسائل المعونة على القتل. الصورة الثالثة: أن يقدمه له وتكون علامة السم واضحة معلومة، ولكن الشخص الذي قدم له السم لا يميز، أو لا يعقل، مثل الصبي والمجنون، ومثل الأبله والمغفل -المعروف بالغفلة- فقدم له هذه المادة، فهذا الصبي لا يعرفها فظنها حلوى، أو ظنه شيئاً يؤكل فأكله، فحينئذٍ هذا قتل عمدٍ يوجب القصاص؛ لأن مباشرة الصبي ساقطة، والسببية مفضية للهلاك، ولو كان عند الصبي تمييز لامتنع، لكن ليس عنده تمييز ومعرفة.

الصور التي تكون عليها المادة السامة

الصور التي تكون عليها المادة السامة وقد ذكر العلماء أن المادة السامة لها صور: الصورة الأولى: أن تكون قاتلة لوحدها، ولا تقتل إذا خلطت بغيرها. الصورة الثانية: أن تكون قاتلة إذا خلطت بغيرها، ولا تقتل إذا كانت مفردة. الصورة الثالثة: أن تكون قاتلة سواء أفردت أو خلطت. فإن كانت المواد السامة يقتل مثلها إذا أفردت، ولا يقتل إذا خلطت، نظر في السم: فإن عرض على المقتول مخلوطاً بغيره فليس بقتل عمدٍ، ولا يوجب القصاص؛ لأن مثلها لا يقتل غالباً، والعكس فإن أعطاه المادة مفردة، فإنه يعتبر قتل عمدٍ. وكذلك الصور العكسية: إذا كانت تقتل مخلوطة بغيرها، ولا تقتل مفردة، فإن أعطاه إياها مفردة فلا يحكم بالقصاص، وإن أعطاه إياها مخلوطة حكم بالقصاص، وإن قتلت في الحالين حكم بالقصاص في الحالين، وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله. ومن هنا ندرك دقة الشريعة الإسلامية وفقه الفقهاء رحمهم الله، وكيف أن الأحكام الشرعية كان يرجع فيها إلى أهل الخبرة، فمثلاً: مسائل القتل تجدهم يرجعون -إن كانت في علم الطب- إلى الأطباء، حتى بالنسبة للقتل بالمثقل، يرجع فيه إلى أهل الخبرة، ليعلم هل مثله يقتل أو لا يقتل؟ وهذا يدل على أنه يُجعل لكل شيء أمارته وعلامته التي يمكن من خلالها معرفة الحق والحكم به، فلا نستطيع أن نحمل الأشياء ما لا تحتمل، فإنه ربما وضع الشيء الذي لا يقتل ويظن أنه قاتل، ويكون القتل بسبب آخر. وعلى كل حال: لابد من وجود هذه الشروط التي ذكرها العلماء في سقي السموم، ولا يختص الحكم بالشراب؛ بل يشمل الشراب والطعام والمشموم، وسواء كان ذلك عن طريق الفم أو كان ذلك عن طريق الحقن. وفي زماننا يوجد ما يسمى بالحبوب، ولو أعطي جرعة من الحبوب قد تكون قاتلة، كممرضة -مثلاً- فعلت ذلك بقصد إزهاق روح المريض، وهذا -إن شاء الله- أمر نادر أو بعيد جداً، لكن لو فرض أنه حدث، كأن تكون كرهت الممرضة مريضها أو مريضتها فأرادت قتلها، فأعطتها جرعة زائدة على الجرعة، فحينئذٍ يكون قتل عمدٍ. فالقتل بالسموم قتل سببية، يصفه العلماء بالسببية العرفية، وهناك سببية شرعية، وسببية عرفية: فالسببية الشرعية ستأتي، وهي القتل في شهادة الزور، والسببية العرفية مثل القتل بالسم، والقتل بالسم ألحقوه بالسببية العرفية؛ لأن الغالب في العرف أن الضيف إذا قُدم له الطعام والشراب، أنه يأكل ويشرب، فأسقطوا مباشرة المقتول للأكل والشرب، وقالوا: لا تأثير لها؛ لأن هناك شيئاً يفرض عليه وهو الحكم العرفي، والمعتاد بين الناس أنه إذا قدم له الطعام والشراب أنه يأكل ويشرب، وأن الضيف لا يخونه مضيفه، وبناءً على ذلك قالوا: إن هذا من القتل بالسببية العرفية.

الدليل من السنة على قتل من قتل غيره بالسم

الدليل من السنة على قتل من قتل غيره بالسم والأصل في القتل بالسموم: ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة المرأة اليهودية التي سمته عليه الصلاة والسلام وأصحابه في قصة الشاة المسمومة، وكان صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، وكان يجيب الدعوة، فدعته هذه اليهودية، وقيل: إنها صنعت الشاة وبعثت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألت ما الذي يحبه عليه الصلاة والسلام؟ وكان عليه الصلاة والسلام يحب الكتف، وقد ذكر العلماء في الطب النبوي فوائد عجيبة من كونه عليه الصلاة والسلام كان يحب الكتف، حتى أُخذ منها أن أجود وأفضل وأحسن اللحم في الأنعام ما كان قريباً من العظم، والأطباء يثبتون هذا، ولذلك فإن لحم الكتف قريب من العظم، وأيضاً: الكتف بعيدٌ عن البطن والجوف، وقد ذكر هذا شيخ الإسلام رحمه الله في المجموع، وكان شيخ الإسلام عنده معرفة قوية بعلم الطب، فذكر أن أفضل اللحم هو هذا النوع، فكان صلى الله عليه وسلم يحبه، فوضعت السم في هذا الموضع -كتف الشاة- فرفع عليه الصلاة والسلام الكتف فنهشه ثم قال: (إن هذه الشاة تخبرني أنها مسمومة)، وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام، وكان قد أكل بعض أصحابه، فأكل أبو بكر رضي الله عنه، وأكل بشر بن البراء بن معرور رضي الله عنه وعن أبيه، فأما بشر فمات من ساعته بعد أن أكل السم، فرواية أبي داود بقتلها كانت بسبب موت بشر رضي الله عنه وأرضاه، فقتلها النبي صلى الله عليه وسلم قصاصاً بـ بشر، وبناءً على ذلك صار أصلاً، حتى جاء في الرواية أنه قال أنس رضي الله عنه كما في الرواية عنه: (ما زلت أرى أثر السم في لهاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى قبضه الله)، حتى اشتد ذلك التغير على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسب ذلك السم حتى فارق الحياة، ولذلك قالوا في قوله تعالى: {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87]، يخبر عن حال اليهود مع الأنبياء، فقال: {وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87]، وما قال: قتلتم، فعبر بصيغة المضارع التي تدل على أن من شأنهم قتل الأنبياء فيما مضى وفيما حضر وفيما سيأتي، فسم عليه الصلاة والسلام ومات من أثر السم، فكان هذا من إعجاز القرآن وحسن بيانه. فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قَتَل بالسم، وصار أصلاً عند أهل العلم رحمهم الله في القتل بالسم، والإشكال في القتل بالسم: أن الذي باشر الأكل هو المقتول، ولم يفرض عليه أحد أن يأكل أو يشرب، ومن هنا يكون A أن العرف يصعب معه أن يمتنع الضيف من أكل الطعام من مضيفه، وإذا لم يأكل طعام مضيفه فلابد أن هذا يعني أمراً، ولذلك كان من عادات العرب أنهم كانوا إذا جاءهم الضيف يمتنع من الأكل حتى تقضى حاجته، وهذا معروف، فلا يأكل أحد طعام أحد إلا وصار شيء من العلقة والحق بينهما، فبعيد جداً، ومن أخبث وأسوأ وأنقص ما يكون للمرء أن يؤذي ضيفه، ولذلك جعل الله عز وجل في شرعه أن الإحسان إلى الضيف إيمانٌ به سبحانه وتعالى: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، فكونه يضع السم للضيف -والعياذ بالله- هذا من أسوأ ما يكون خيانة، وأسوأ ما يكون نقيصة لمن يفعله -نسأل الله السلامة والعافية-، ولذلك تخلَّق به هؤلاء الذين لا ذمة عندهم ولا عهد وهم اليهود. فالأصل في العرف أن الضيف يأكل من طعام مضيفه، فإذا كان هذا قالوا: فتسقط المباشرة؛ لأنه أكل بنفسه، ويتحمل الساقي والمضيف المسئولية عن طعامه. ويبقى السؤال في مسألة ما إذا كان في غير ضيافة، كما إذا كان في مطعمٍ أو نحوه، وهو يأخذ نفس الحكم؛ لأنه جرت العادة على أنه مأمون، وأنه ملزمٌ بحفظ طعامه وصيانته عما يضر، فإذا وضع له ذلك الشيء فإنه يكون قاتلاً، ويجب القصاص والقود على التفصيل الذي ذكرناه.

القتل بشهادة الزور وما يجب فيه

القتل بشهادة الزور وما يجب فيه قال رحمه الله: [أو شهدت عليه بينة بما يوجب قتله ثم رجعوا وقالوا: عمدنا قتله، ونحو ذلك] قوله: [أو شهدت عليه بينة] البينة: من البيان، يقال: بان الشيء إذا اتضح، بان الصبح إذا اتضح ضوءه ونوره، والبيان: الدليل، وقد سمي الدليل دليلاً لأنه يبين ويظهر ويكشف، ومنه قول زهير بن أبي سلمى أضاعت فلم تغفر لها خَلواتها فلاقت بياناً عند آخر معهدِ دماً عند شلوٍ تحجل الطير حولهُ وبضع لحامٍ في إهابٍ مقددِ يصف غزالاً ريماً فقدت ولدها في الصحراء، فقوله: (أضاعت فلم تغفر لها خلواتها) أي: فقدت هذا الصغير فلم تستر لها الخلوات؛ لأن الغفر الستر، (فلاقت بياناً) هنا موضع الشاهد، فلاقت أي: وجدت علامة وأمارة، (فلاقت بياناً عند آخر معهدِ)، أي: وجدت علامة ودليلاً عند آخر مكان عهدت فيه صغيرها، (دماً عند شلوٍ): الأشلاء التي هي القطع من الصغير وهو ولدها، بمعنى: أنه دليل على أنه قد مزقه السبع وافترسه. فقوله: (فلاقت بياناً) البيان: هو الدليل والحجة، والشيء البين: هو الواضح، فلما كان الدليل والحجة يظهران ويكشفان وجه الحق، وصف الدليل بكونه بينة؛ لأنه يتبين به الحق. وإذا أطلق جمهور العلماء كلمة البينة فمرادهم بها الشهود، وإذا قالوا: البينة، فالمراد بها الشهود غالباً، لكن في الأصل الشرعي البينة عامة، ولذلك تُعرَّف بتعريفين: خاص بمعنى الشهود، وعام، وسيأتي بيان هذا في باب القضاء، فيقال: البينة بالتعريف العام: هي ما يكشف الحق ويظهر وجه الصواب. وهنا المراد بها الشهود، وهو المعنى الخاص، وليس المراد بها المعنى العام. فإذا شهد شهودٌ على شخص وكانوا شهود زورٍ -والعياذ بالله- فشهدوا عليه أنه زنى وهو محصن، فأخذ المشهود عليه ورجم حتى مات، ثم جاء هؤلاء الشهود إلى القاضي وقالوا: لقد شهدنا عليه بالزور وهم لم يفعل، فإذا قالوا: شهدنا عليه بالزور، فمعنى ذلك أنهم يريدون قتله، وإذا قالوا: لقد تعمدنا قتله، نحن لا نحبه بل نكرهه، وقد تمالأنا وتواطأنا على أن نتعاطى سبباً لقتله، فشهدنا عليه هذه الشهادة، ففي هذه الحالة يكون قتلاً موجباً للقصاص والقود. أما لو قالوا: نحن أخطأنا، فالشهادة التي شهدنا فيها خطأ، فهذا فيه الدية، فيحكم القاضي بالدية عليهم، ويجب عليهم العتق، وإن لم يستطيعوا فصيام شهرين متتابعين على التفصيل المعروف؛ لأنه قتل خطأ حينما قالوا: أخطأنا، فقد كنا نظنه فلاناً وتبين أنه فلان، فهذا أمر آخر؛ وقد شهد شهودٌ عند علي رضي الله عنه على رجلٍ أنه سرق فقطعت يده، ثم جاءوا إلى علي وقالوا: أخطأنا، فالرجل لم يسرق، وقد شهدنا خطأً، فقال: لو تعمدتما ذلك لقطعت أيديكما كما قطعت يده، ثم أمرهما بضمان نصف الدية؛ لأن هذا من الخطأ الموجب للضمان. وبالنسبة لمسألتنا: إذا شهد الشهود بالزور بما يوجب القتل، وقتل المشهود عليه ظلماً، فإنه في هذه الحالة يجب القصاص على الشهود، وهذا ما يسميه العلماء: السببية الشرعية؛ لأن في الشرع إذا تم نصاب الشهادة واكتمل فيما يوجب القتل حكم بالقتل. والسؤال الآن: إذا شهد الشهود على شخص بما يوجب قتله فقتل، فإن الواقع أن الذي باشر القتل هو المنفذ لحكم القاضي، وهو السياف مثلاً، أو الناس الذين رجموه إن مات رجماً في حد الزنا، والشهود سببٌ في القتل؟ و A أنه تسقط المباشرة بوجود الخديعة من الشهود، وهذه من الصور التي تقدم فيها السببية على المباشرة، وقد ذكرنا أن السببية تقدم على المباشرة في مسائل، وتارة تقدم المباشرة على السببية، وتارة تقدم المباشرة وتفقد حكم السببية في صور، وتارة يحكم بالسبب والمباشرة، أي: على المتسبب والمباشر، على التفصيل الذي ذكرناه فيما تقدم. ولاشك أن شهادة الزور من أعظم الفساد، وسيأتي -إن شاء الله- حكم شاهد الزور، وماذا يفعل به القاضي إذا شهد شهادة زورٍ واعترف أنه تعمد ذلك وقصده في باب القضاء إن شاء الله تعالى.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من ذهب إلى ساحر تسبب بسحره في قتل إنسان

حكم من ذهب إلى ساحر تسبب بسحره في قتل إنسان Q إذا اعترف الساحر أنه قتل فلاناً بالسحر، وأنه قد جاءه رجل وطلب منه ذلك، فهل يقع الحكم على الساحر ومن استأجره أثابكم الله؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإغراء الساحر بالمال حتى يقتل سبب، ولكنه ليس بسبب قوي في حصول الإزهاق والقتل، فلا أحد أكره الساحر على فعل السحر، إنما هو الإغراء بالمال فقط، لكن لو أنه جاء إلى الساحر ووضع سلاحه على الساحر وقال: إن لم تقتل فلاناً أقتلك، فهذه المسألة سنذكرها في باب الإكراه، ويكون تهديد وإكراه الساحر وتخويفه مؤثراً، أما في مسألتنا فإن القاضي يعزر هذا الشخص الذي أغرى الساحر بالمال، ولذلك لو جاء شخص إلى شخص وقال له: خذ هذه المائة ألف واقتل فلاناً، فذهب وقتله، لم يجب القصاص على من دفع المال؛ لأن الذي باشر القتل هو الذي يتحمل المسئولية، وهذا سيأتينا -إن شاء الله- في مسألة الإكراه. والأصل عند العلماء أنه إذا دفع الشخص للقتل فإما أن يدفع بقوة مؤثرة، فحينئذٍ تكون السببية فاعلة ومؤثرة، وإما أن يُدفع دفعاً ليس هو المؤثر حقيقة، فتكون سببية قاصرة، مثل الإغراء بالمال، بمعنى: أن نفس الساحر هي الخبيثة وهي القاصدة للشر، وهي المريدة له، فما فتأت منذ أن وجدت إغراءً أن تتقدم لهذا الشيء، وهذا لو كان القاتل عنده شهوة للقتل وشهوة لإزهاق الأرواح بمجرد ما يأتيه إغراء قام وقتل. إذاً: هذه المباشرة تعتبر هي المؤثرة، وهي التي يحكم بالقصاص فيها، وأما بالنسبة لهذا الشخص فإذا عزره القاضي فيعزر تعزيراً بليغاً يليق بجنايته وما ترتب على إغرائه للساحر حتى قتل بسحره، والله تعالى أعلم.

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ادرءوا الحدود بالشبهات)

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ادرءوا الحدود بالشبهات) Q يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات) ما هي الشبهات التي تدرأ بها الحدود أثابكم الله؟ A لو جلسنا إلى الفجر لما انتهينا من الشبهات، وهذا من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، وهذا باب حير العلماء رحمهم الله، فكم من مسائل في القتل قد يقال: فيها شبهة، فلا يقتل لوجود الشبهة، والذي هدد وأكره ليس هو الذي فعل القتل، والله أمرنا أن نقتل الذي قتل، فقالوا: هذه شبهة تسقط الحد عن المُكرِه وتسقط القصاص عن المُكْرَه، فلا قصاص عندنا لا على المُكرِه ولا على المُكرَه، ولذلك فإن أوسع باب في مسائل القتل عند الحنفية رحمهم الله، حتى إنه في أيام الدولة العثمانية كان المذهب الحنفي هو الذي يطبقونه، فكان إذا استعصى عليهم إقليم بكثرة القتل بحثوا عن قاضٍ مالكي؛ لأن المالكية على العكس تماماً، وهذا كله له أصول شرعية وليس من باب العبث، فهم فقهاء أجلاء لهم اجتهاداتهم ومدارسهم الاجتهادية، وهذا من مرونة الشريعة. فالمالكية يقولون: هذا الدم الذي أزهق لا يذهب هدراً، ولذلك عندهم إذا جئت في باب القتل واختلف العلماء على قولين أو على ثلاثة أقوال: قول يقتل، وقول لا يقتل، فالذي لا يقتل تقول به الحنفية، والذي يقتل تقول به المالكية؛ لأن عندهم لا يمكن أن يستهان بالدم الذي أزهق؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل شريعته حياة للناس، وجعل لمن قتل مظلوماً لوليه سلطاناً، وهذا يدل على أن مقصود الشرع ألا يذهب دمه هدراً. فالشبهات عند المالكية ضعيفة ولا تؤثر أمام أصول عامة وشرعية، ولا يسقطون الحد إلا بشبهة قوية جداً توجب التأثير في الحيلولة دون القتل. ومن حيث الأصل فإن الشبهة قد تكون شبهة ظاهرة واضحة مؤثرة، وقد تكون أحياناً شبهة ضعيفة، فالأصل حينئذ (ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم)، مثلاً: لو أن شخصاً كان مسافراً مع جماعة ثم جاء في وقت النوم ووطأ امرأة ليست زوجته، ولما تبين أنها ليست زوجته، قال: لقد كنت أظنها زوجتي، فنقول: هذه شبهة تدرأ عنه الحد، فلا نقيم عليه حد الزنا. وكذلك في مسائل الخمر، فمثلاً: لو أن شخصاً معروفاً بالاستقامة والصلاح والديانة، فشرب شراباً وقال: هذا الشراب لقد خدعني به شخص، كنت أظنه عصيراً فشربته فإذا به خمر، فحينئذٍ تكون هذه شبهة، وستأتي -إن شاء الله- في باب حد الخمر، فهناك أمارات ودلائل وقرائن يصدق فيها قوله، ولو فتح باب الشبهة لسقطت كثير من الحدود والزواجر الشرعية باسم الشبهة، ولذلك لا يفتح هذا الباب على مصراعيه دون ضوابط شرعية، ولا يمكن أن يحكم بكل شبهة أنها مؤثرة. وقوله عليه الصلاة والسلام: (ادرءوا الحدود بالشبهات) الحدود: جمع حد، وهو يشمل هذا القتل، والقتل من حدود الله عز وجل التي حدها وشرعها لعباده، ويشمل الجلد والرجم في الزنا، وكذلك أيضاً الجلد في شرب الخمر، فلا نقيم هذه الحدود ولا نأمر بتنفيذها متى ما وجدت شبهة فيمن تلبس بموجباتها تصرفه عن وجود القصد لانتهاك حدود الله عز وجل والتلبس بها، فإذا وجدت هذه الشبهة وأثرت فإنه يحكم بسقوط الحد، أما ضوابط الشبه والكلام فيها فهذا أمر طويل جداً. ولذلك في كل باب سنذكر -إن شاء الله تعالى- وسيأتينا في كتاب الحدود ضوابط الشبهات، بحيث نقول: إن هذه شبهة مؤثرة أو غير مؤثرة، على حسب المسائل التي يذكرها المصنف رحمه الله تعالى، والله تعالى أعلم.

كيف يسحر النبي عليه الصلاة والسلام مع مداومته على قراءة الأذكار؟

كيف يسحر النبي عليه الصلاة والسلام مع مداومته على قراءة الأذكار؟ Q أشكل علي إصابة النبي صلى الله عليه وسلم بالسحر مع أنه عليه الصلاة والسلام محافظٌ على الأذكار التي تقي من الشرور عموماً، أثابكم الله؟ A مما لا شك فيه أن المعوذات نزلت بعد قضية السحر، ولذلك اقتضت حكمة الله أن المعوذات لم تنزل قرآناً يتلى إلا بعد قضية سحره عليه الصلاة والسلام، وعلى كل حال لا يشكل ولا يلتبس عليك الأمر، ودع وساوس الشيطان عنك، فإذا جاء شيء في الشرع وحكم الله عز وجل به فسلم به واترك عنك كل شيء يشوش عليك في هذا الباب. والأهم من ذلك أنه لم يحصل لهذا السحر تأثير على الوحي، فإذا جاء عقلاني يريد أن يناقشك فقل له: أثبت لي أن النبي صلى الله عليه وسلم حصل له من هذا السحر تأثير على الوحي، أو أنه قال أو قرأ آية أو ادعى وحياً وهو مسحور هذا أمر. الأمر الثاني: إذا قال لك: كيف يسحر وهو يوحى إليه؟ فقل له: الأمر بسيط، فإن المسحور يسحر مع زوجته، لكنه مع الناس رجل طبيعي، فإن المسحور إذا سحر لبغض زوجته فتجده طبيعياً في جميع الأمور إلا إذا دخل بيته، فإذا كان السحر محدوداً في شيء معين فما الذي جعلك أنت تتصوره عموماً؟ وإنما أشكل عليهم هذا لأنهم لم يفهموا ما هي حقيقة السحر، وجلسوا يخوضون ويتكلمون في شيء لم يفقهوه، فظنوا أنه ما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سحر فيصبح -أجارنا الله وإياكم- كالمجنون، مع أن السحر جاء محدوداً، وقد بينته عائشة رضي الله عنها فقالت: (كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعل)، هذا ما ورد في الرواية الصحيحة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهذا التأثير المحدود ليس له سلطان على الوحي، لكن البعض يريد أن يدخل في المغيبات ويسأل: كيف يتأثر الجسد بالسحر؟ فنقول له: إذا جئت تخوض في هذه المسألة فأعطنا من عندك علماً بالأسحار كيف تؤثر بالأبدان؟ وكيف هي طبيعتها؟ حتى نعلم أن هذا السحر يستحيل أن يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم. ثم أثبت أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحر على وجه يتعارض مع الوحي ويتعارض مع الرسالة، فلابد من إثبات القضيتين، والواقع أنه لا يستطيع أن يتكلم ولا أن يخوض في ذلك. وقد جاءت السنة الصحيحة بإثبات أنه سحر، فنقول: سُحر عليه الصلاة والسلام، فسيقول لك: كيف يُسحر وهو نبي الأمة؟ فنقول: لا يمنع أن الله يسلط الشياطين عليه لحكمة، ألم تكسر رباعيته عليه الصلاة والسلام؟ ألم يشج بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فقد سلط عليه -عليه الصلاة والسلام- الألم النفسي، والألم البدني، والألم الروحي، وهذا كله لحكمة، ابتلي بالألم الروحي حتى إن زوجته تُتهم بالزنا، ويمكث النبي عليه الصلاة والسلام مدة وهو لا يعلم هل هذا صحيح أو لا، وقد جاء في الصحيح أنه جاء إلى عائشة وجلس عندها وقال: (يا عائشة! إن كنت أذنبت ذنباً فتوبي إلى الله واستغفريه)، فمن يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب؟! هذا رسول الأمة صلى الله عليه وسلم يقف بين الأمة وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، يقول لها: (يا عائشة! إن كنت أذنبت ذنباً فتوبي إلى الله واستغفريه)، فما استطاعت رضي الله عنها أن تجيبه حتى بكت. فقد وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الحد، فكان من أعظم الأيام التي مرت عليه، وهذا كله من الأذى، وما من مكروب ولا منكوب ولا مهموم ولا مغموم من أمته -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- يأتيه هم إلا ويجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ابتلي بأضعافه وأشد منه، فيسلو ويقول: إذا كان رسول الأمة صلى الله عليه وسلم ابتلي فأين أنا من هذا كله! وأنبياء الله عز وجل من قبل أوذوا وابتلوا، فهذا موسى عليه السلام يؤذى في كل شيء، حتى جعل الله وجاهته في الدنيا والآخرة بهذه الأذية {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69]، سبحان الله! الوجاهة والإنعام على الأنبياء لا يكون لهم ذلك إلا بعد البلاء، وهذا أيوب قال الله عنه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44] الله أكبر! إذا قيل للإنسان: نعم العبد، كيف بالعبد إذا أثنى عليه والده أو شيخه أو أي إنسان له مكانة ووجاهة، فما بالك إذا قالها أصدق القائلين الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين سبحانه وتعالى يقول: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44] لكن متى؟ لما قدم الثمن، لما قدم الدليل، لما جاء بالصبر {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص:44]، فما جاءت هذه الكلمة ولا جاءت هذه الشهادة من رب العالمين من فراغ، وما جاءت بالتشهي، ولا بالتمني، ولا بالدعاوى العريضة أن يقول الإنسان: إنه موحد، أو أنه صاحب عقيدة، أو إنه صاحب إيمان، أو إنه من الصابرين، أو إنه من المحسنين {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران:179] إذاً لا بد أن تأتي فتن ومحن وبلايا. ثم أيضاً: إذا جئت ونظرت إلى رسول الأمة صلى الله عليه وسلم في حياته كلها طيلة ثلاثة وعشرين عاماً من الرسالة، لا يخرج من هم إلا ابتلي بما هو أكثر وأعظم منه صلوات الله وسلامه عليه، حتى جاءته سكرات الموت عليه الصلاة والسلام، فخرج من الدنيا بسكرات الموت، فلو جاء شخص من الناس في يوم من الأيام قد ابتلي بالسحر فقال له شخص: إن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أوذي وفعل به، فيقول: لكن الذي جاءني من السحر ما أظن أحداً ابتلي بما ابتليت به، لكن إذا علم أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ابتلي بهذا الأمر سلت نفسه وسلت روحه، وعلم أن هذا لا ينقص قدره. ومن العجيب أن تسلط الشياطين على الإنسان في بعض الأحيان يجعل الإنسان يشك في مكانته عند الله؛ لأنه من المعلوم أن الله يسلط الشياطين عادة على أوليائهم، لكن أهل الطاعة إذا سلط عليهم الشياطين فقد يظن الواحد منهم أن هذا لنقص عنده، أو غضب من الله عز وجل عليه، أو سخط، لكن حينما يعلم أن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم قد أوذي وسلط عليه وابتلي صلوات الله وسلامه عليه، عندها تسمو نفسه، ويطمئن قلبه، ويثق بالله عز وجل. أيضاً: بسبب هذا السحر وهذا الابتلاء أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمعوذات، وهي من أعظم ما يكون، تقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله عز وجل بالتعاويذ الشرعية، فلما نزلت عليه المعوذتان لزمهما وترك ما سواهما)، من عظيم ما فيها من الحرز للعبد. {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2] فما تركت شيئاً في هذا الوجود من الشر إلا وقد استعذت بالله منه، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2] أي: من أي مخلوق شر، كلمتان وجملتان ما تركتا شيئاً، لكن متى جاءت؟ جاءت لما ابتليت الأمة وابتلي نبيها عليه الصلاة والسلام، إذاً فقد صار السحر خيراً على هذه الأمة؟ والله يقول في القذف: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} [النور:11] في قذف عائشة رضي الله عنها، القذف الذي فيه انتهاك للعرض، وفيه بلاء، يقول الله: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]، فهي أمة مبتلاة؛ ولكن هذا البلاء رحمة، ولا يمكن أن يظهر فضل أهل الفضل وصبر الصابرين ورباط المرابطين، إلا إذا احتكت قلوبهم بالبلاء من رب العالمين، وعندها: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم:27]، وعندها ينعم الله على عباده فيسلهم من ذلك البلاء كما تسل الشعرة من العجين، وسلم من ذلك كله لطفاً من أرحم الراحمين وكان ربك خبيراً بصيراً، فالله أعلم بخلقه، وأعلم بعباده، ومن يقرأ قصة أيوب عليه السلام وابتلاءه وتسليط الله عز وجل للشيطان عليه؛ يدرك كيف أن الله عز وجل يمتحن عباده هذا الامتحان العظيم، ولكن لله الأمر من قبل ومن بعد. وعلى كل حال: أعود وأكرر أن المسلم دائماً يلتزم بالتسليم، فلا تدخل في هذه المتاهات، وأوصي أن مثل هذه المسائل الدقيقة لا تقبل من كل أحد، وما يثيره بعض العقلانيين من رد السنن الصحيحة والطعن فيها والتشكيك فيها بناءً على أن عقولهم لا تتحمل، فوالله ليست عقولهم التي تتحمل، وليست نفوسهم التي تتحمل، ولكنها قلوبٌ ران عليها المرض فاستغلقت فما قبلت وما أسلمت وما استسلمت -نسأل الله السلامة والعافية- ولذلك عجز منهم -والعياذ بالله- التصديق لهؤلاء العدول الثقات الذين أجمعت الأمة على قبول رواياتهم فيما صح في الصحيحين وغيره من الأحاديث الصحيحة، فضربوا بها عرض الحائط؛ بل لم يقتصروا على ذلك حتى قالوا بالتشكيك والشبهات؛ لأجل أن يبطلوا حقاً، ويحقوا باطلاً، نسأل الله بعزته وجلاله أن يقطع دابرهم، وأن يخرس ألسنتهم، وأن يكفي المسلمين شرورهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

حكم الطواف بالبيت لمن أراد سفرا أو عاد منه لمن كان مقيما بمكة

حكم الطواف بالبيت لمن أراد سفراً أو عاد منه لمن كان مقيماً بمكة Q أنا من سكان مكة واعتدت عند خروجي منها للسفر أن أطوف بالبيت وحين وصولي إليها كذلك، فهل عملي هذا صحيح، وذلك اعتقاداً مني بفعل النبي صلى الله عليه وسلم حين يقدم من السفر أن يبدأ بالمسجد أثابكم الله؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالحديث صحيحٌ وثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من السفر أنه يبدأ بالمسجد قبل بيته عليه الصلاة والسلام، وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله، وفعلك لا بأس به ولا حرج، ما لم تعتقده تشريعاً، بمعنى أنك تقول: إنه لا يسافر أحد حتى يطوف، أو لا يدخل مكة حتى يطوف، فهذا فيه الزيادة والحدث، وأما بالنسبة لما تفعله فليس فيه من بأس، وليس فيه من حرج؛ بل هو عمل خير وبر نسأل الله العظيم أن يثبتك فيه، وأن يكتب لك الأجر فيه، والله تعالى أعلم.

حكم من يداوم على صلاة النافلة في السفر

حكم من يداوم على صلاة النافلة في السفر Q هل يبدع من داوم على صلاة الراتبة في السفر؟ A لا شك أن السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم عدم صلاة الراتبة في السفر، وإذا اعتقدها فلا شك أنها بدعة؛ لأنها أولاً: العدد مخصوص، والزمان مخصوص، أن يصليها قبل الصلاة، وبعد الصلاة، فيصلي أربعاً قبلية، ويصلي البعدية، ركعتين للمغرب بعدية، وركعتين للعشاء بعدية، وهذا كله توقيت، وضوابط البدعة منطبقة عليه، ولذلك إذا اعتقدها سنة راتبة في السفر فإنه لا شك أنه قد ابتدع، فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم سافر ولم يصل راتبة في السفر إلا راتبة الفجر، وقال صلى الله عليه وسلم فيها: (لا تدعوها ولو طلبتكم الخيل)، تعظيماً لشأن ركعتي الفجر، فإذا صلى الراتبة في السفر فإنه قد خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وعارضه وأحدث في دين الله ما ليس منه؛ لأن الذي في دين الله ألا تصلى هذه الصلاة في السفر، وهو أحدثها وصلاها في السفر، ولو صلاها نافلة عامة فلا بأس، لكن يصليها وهو يعتقدها راتبة، فلا شك أنه مبتدع، ولذلك عليه أن يقلع عن ذلك ويتوب، والله تعالى أعلم.

حكم تأجير الوقف للاستفادة منه

حكم تأجير الوقف للاستفادة منه Q إذا كان الوقف لا يستفاد منه، فرأى الناظر على الوقف أن يؤجر عينه، ويستفيد من ثمن الإجارة في وقفٍ آخر، فهل تجوز إجارة الوقف في مثل هذه الحالة أثابكم الله؟ A مسائل الأوقاف مسائل دقيقة، والمسئولية عنها أمام الله عظيمة، ولذلك تلاعب الناس -خاصة في هذا الزمان- في الأوقاف، حتى إنك تجد بعض الأوقاف مسبلة على مصالح يستحدث فيها دكاكين للإيجار، ويستحدث فيها عمارات للاستغلال، وتخرج كثير من الأوقاف عن مقصودها الأساسي من رحمة الضعفاء والرفق بالأيتام والمساكين إلى هذه الأشياء الدنيوية التي لم يردها أهلها يوماً من الأيام. شخص يأتي ويبني رباطاً لأيتام لأرامل، نظر إلى الدنيا الفانية، والآخرة الباقية، وماله بين يديه، فأحب أن يقدمه لآخرته، فجاء واشترى له أرضاً وبنى فيها رباطاً، وأدخل فيه العجزة والمساكين، وقال للناظر: قم على هؤلاء وانظر في مصالحهم، فيأتي الناظر في يوم من الأيام ويريد أن يهدم هذا الرباط ويجدده، ويحدث دكاكين في البناية الجديدة، ويأتي ويبحث له عمن يفتيه بهدم الرباط الأول، ويستدين مبلغاً من المال من أجل أن يبني رباط جديداً. كذلك إحداث مرافق مالية تدر أموالاً، حتى يسدد الذي على الوقف، ثم يبدأ يستدرجه الشيطان -والعياذ بالله- وشيئاً فشيئاً، فبدلاً من أن تكون المسألة محدودة بسداد الدين، يبدأ يتوسع قليلاً حتى يصل الأمر إلى أنك تنظر للأيتام والأرامل والمساكين فلا تجد لهم حظاً في هذه البناية بعد بنائها إلا ما ندر. ويصبح الميت في قبره معدوماً من كثير من الأجر، ولو تركت العمارة على ما هي عليه لدرت عليه من الحسنات والأجور ما الله به عليم، ولكن سيقف ويرهن ويحاسب بين يدي الله، وسيكون خصمه لجرأته على تغيير وتبديل ما لا يجوز له تغييره، فهذه أمور لا ينبغي التلاعب فيها والتساهل، ومن قرأ الفقه وقرأ فتاوى العلماء، يجد كيف كانوا يشددون في مسائل الوقف، حتى الخلاف في المسجد الذي يكون في جزء من أجزائه خلل هل يهدم ذلك الجزء أو لا يهدم؟ وتجدهم يختلفون تعظيماً لحرمة الوقف؛ لأن الوقف ليس بالسهل، وليس بالأمر الهين، بل هو يحتاج إلى نظر، ويحتاج إلى تقوى لله عز وجل وورع وصيانة، فهذه أمور ترتبط بها حقوق الموتى، وترتبط بها حقوق أناس آثروا الآخرة على الدنيا. فيبحث المفتي والفقيه في المسألة حتى يعرف كيف يقف بين يدي الله ويفتي في هذا الأمر، ولقد عهدنا علماء أمثال الجبال علماً وعملاً ما تضيق عليهم الدنيا إلا إذا جاءت مسألة الوقف، والله إنك تجد وجه الواحد منهم يحمر ويرد السائل، ويحاول جهده ألا يبت في هذه المسألة؛ كل ذلك خوفاً من الله عز وجل، فلا يحسب أحد أن هذا الأمر سهل، ولذلك تجد كثيراً من مشاريع الخير وأربطة الخير غير موجودة، أين ذهبت؟ بحكم الفتاوى، فتجدهم يقولون: نبني عمارة ونستغلها وبدلاً من أن نسكنهم نعطيهم أموالاً من الذي جعلك تغير إرادة الواقف، مع أن الذي أوقف قال: يدخلون فيها ويسكنون هذا المسكن؟ ما الذي جعلك تغير؟ يقولون: المصلحة، وهذا أفضل إلخ. فلذلك هذه المداخل التي يدخل بها والمصلحة التي تدعى، هذه أمور ينبغي أن تُعرض على علماء ربانيين، ولا يفتى في مسائل الوقف إلا من عنده بصيرة، وعنده نور ورع، وعنده محافظة على هذه الأمور التي ينبغي المحافظة عليها. وقد نص العلماء على أن الوقف لا يملكه أحد، بل هو مالٌ أخرجه الإنسان عن ملكيته لله عز وجل؛ ولذلك لو أردنا بيع الوقف فلا نستطيع أن نصحح بيع الوقف إلا إذا قضى به القاضي؛ لأن البيع يفتقر إلى ملكية، والوقف لا مالك له، والقاضي له ولاية مستندة مبنية على الولاية العامة لولي الأمر العام فيبيع ما لا مالك له، وحينئذٍ لا يمكن، فلو أفتى أي مفت فلا يصح البيع؛ لأنه لابد من حكم قاضٍ، وهذا كله تعظيماً لأمر الوقف، ولئلا يحسب أحد أن الأوقاف أمرها سهل، خاصة إذا تعلقت بها مصالح لأموات ونحوهم. وعلى كل حال: الأمر مثلما ذكرنا أنه ينبغي التورع ما أمكن في مسائل الوقف وعدم التساهل فيها. والخلاصة في الجواب: أنه لا يستفاد منه، فهذا أمر مبهم، فإن الخطأ أن يأتي المفتي ويفتي في هذه المسألة حتى يقرأ صك الوقفية، ويعرف ما هو هذا الوقف، والدعوة التي ادعاها الناظر أن مصلحته تعطلت، كأن يأتيك ناظر ويقول لك: تعطلت مصلحة الوقف، فيأتي إلى عمارة مبنية من عشر سنوات، ويرى فيها أيتاماً وضعافاً ساكنين فيها، وبمجرد ما يجد كهرباءها تعطلت أو ماءها يقول لك: لقد تعطل الوقف. فلا يعتبر عنده الوقف إلا إذا كان جميلاً جيداً كاملاً من كل النواحي، هذا هو الوقف عنده، لكن إذا حصل أي خلل يقول لك: تعطلت مسألة الوقف، ولذلك هذه الأمور لا تقبل فيها الدعاوى المبهمة غير الواضحة. وعند العلماء إذا كان -مثلاً- بنى بناية للمسجد، وتعطل المسجد وأمكن أن تصبح مدرسة؛ صرفت إلى أقرب شيء، وقد تتعطل تعطلاً تاماً، فيمكن صرف عين الوقف لما هو من جنسه؛ لأنك لو بعت الوقف أو أجرته أخرجته عن أصل الوقفية؛ لأن أصل الوقفية ليس فيها استثمار، وإنما فيها حسنات وأجور، فينبغي أن تكون إلى الأقرب، ومن هنا قالوا: اختلف العلماء إذا أوقف على بدعة، أي على شيء خاطئ لا يجوز الوقف عليه، كبدعة مثلاً يظن أنها سنة، فأوقف عليها، فمن العلماء من قال: يبطل الوقف. ومنهم من قال: يصرف لطلبة العلم. وهذا اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وعدد من العلماء والمحققين، يصرف لطلبة العلم؛ لأنه حينما أوقفه على الذكر، أو على أمور غير مشروعة، أراد أن يستغل المكان لطاعة الله وذكره، فبدلاً من أن نحكم بالنقض والإبطال من الأصل وعندنا مجال للتصحيح فنصحح بالأقرب، فهو إذا قال لك: تعطلت مصلحة الوقف، فهل تعطلت تعطلاً كلياً أو تعطلت على وجه يمكن صرفه إلى الأقرب؟ وعلى كل حال: أحب أن أنبه إلى أن من عادتنا مع طلاب العلم أن نفصل في بعض الفتاوى، فنحن نريد المنهج، نريد أن يقعد لطلاب العلم؛ لأننا نجد اليوم من السهولة بمكان أن تسمع أحدهم يقول لك: هذا حلال وهذا حرام، بيع الوقف يجوز أو لا يجوز، وهذا ليس هو المهم، إن الأهم هو رسم المنهج، ولذلك قد نفصل في بعض الأسئلة ونتوسع فيها، والمقصود من هذا: رسم المنهج، حتى يكون طالب العلم على بينة وبصيرة. وهذا السؤال لا يجاب عنه بالإجمال؛ لعدم وضوح السبب الموجب للحكم بتعطل الوقف، ولم يبين وجه هذا التعطيل، وهل بالإمكان المعاوضة والمناقلة في الوقف أو لا يمكن ذلك؟ وكل هذا أصل في الفتوى في هذه المسألة، لذلك ينبغي على السائل إذا أراد أن يسأل عن حكم هذا الوقف أن يحضر صك الوقفية وننظر فيه إن شاء الله، أو يعرضه على أهل العلم، أو يرفعه إلى القاضي، وهذا هو الذي أوصي به، وما يحكم به القاضي يقوم بتنفيذه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

مقدمة كتاب الجنايات [5]

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [5] من أنواع القتل: قتل شبه العمد، وهو أن يقصد جناية لا تقتل غالباً فقتل بها، ومن صوره: أن يضرب بسوط أو عصا، أو يلكزه بيده، فيموت بذلك، وفيه خلاف، والصحيح وجوده. ومن أنواع القتل: قتل الخطأ، وهو أن يرمي شيئاً فيصيب إنساناً لم يقصده فيقتله، ويندرج تحت القتل الخطأ: عمد الصبي والمجنون.

قتل شبه العمد

قتل شبه العمد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وشبه العمد أن يقصد جناية لا تقتل غالباً].

خلاف العلماء في قتل شبه العمد وأدلة القائلين به

خلاف العلماء في قتل شبه العمد وأدلة القائلين به شرع الإمام المصنف رحمه الله في بيان القسم الثاني من أقسام القتل؛ وهو شبه العمد، وشبه الشيء: مثيله والقريب منه في الصفات، وسمي هذا النوع من القتل بهذا الاسم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله وسطاً بين العمد والخطأ؛ ولذلك سماه بعض العلماء: خطأ العمد، وسموه: شبه العمد، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي تقدم معنا: (ألا إن في قتيل شبه العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل). وجمهور العلماء رحمهم الله على أن هذا القسم موجود في القتل، وأنه وسط بين العمد وبين الخطأ، وأنه لايوجب قصاصاً، أي: أن من قتل بهذا النوع وتوفرت فيه الصفات التي لا يرتقي فيها القتل إلى العمد، ويرتفع بها عن محض الخطأ، فإنه لا يُقتص منه، فلا يوجب قوداً، ويوجب الدية إجماعاً، إلا أن هذه الدية تكون مغلظة في قول جمهور العلماء رحمهم الله إجماعاً عند من يقول بهذا النوع. وخالف بعض العلماء فقالوا: القتل نوعان: قتل عمد، وقتل خطأ؛ لأن الله عز وجل بين هذين النوعين، ولم يذكر النوع الثالث في كتابه وهو شبه العمد. وهذا القول مرجوح، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من أن القتل ثلاثة أنواع: قتل عمد، وقتل شبه عمد، وقتل خطأ. والدليل على ثبوت هذا القسم: ما جاء في صريح السنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (ألا إن في قتيل شبه العمد؛ قتيل السوط والعصا)، وكذلك أيضاً يدل على هذا القسم حديث الصحيحين في قصة المرأتين من هذيل حينما اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، وألقت ما في بطنها -وهو جنينها- فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بديتها على عاقلتها، ولم يوجب قصاصاً، ولو كان شبه العمد من العمد -كما يقول المالكية في رواية، وكذلك الظاهرية- لكان اقتص رسول الله صلى الله عليه وسلم من المرأة، ولكنه جعله من شبه العمد. وقد سمي شرعاً بشبه العمد وخطأ العمد، والسبب في هذه التسمية: أن القصد للجناية موجود؛ فشابه العمد، وهو لم يقصد القتل، ولم يرد إزهاق الروح؛ فشابه المخطئ، ومن هنا كان وسيطاً بينهما؛ أي أنه ليس بعمد محض ولا خطأ محض، فارتقى عن الخطأ -أي: زاد في الخطأ- في العقوبة؛ لأن فيه مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها، وهذا ما يسمى بالدية المغلظة -وسيأتينا إن شاء الله تفصيله وبيانه في باب الديات- فارتفع عن الخطأ من جهة تغليظ الدية، ونزل عن العمد من جهة كونه لا يوجب قصاصاً، وصار وسيطاً بين العمد والخطأ، والغالب أن هذا القسم يقع في حال الخصومات والنزاعات. فالقصد موجود؛ وهو الإضرار وقصد الأذية، أما قصد الإزهاق والقتل فغير موجود، كأن يقتتل اثنان، ويضرب أحدهما الآخر بشيء لا يقتل غالباً، مثل الضرب بالعصي، -ومثلها لا تقتل- كالعصا الصغيرة، فوافقت قدراً فقتلت؛ فهذا قتيل شبه عمد، لا يقتص من قاتله، وعلى من قتل الدية مغلظة.

ضابط قتل شبه العمد

ضابط قتل شبه العمد قال المصنف رحمه الله: [وشبه العمد أن يقصد جناية لا تقتل غالباً] فهو بحمله للعصا واللكز -الضرب في مجمع اليد- ونحو ذلك، يقصد جناية لا تقتل غالباً، لكن لو لكزه في مقتل-أي: في مكان يقتل غالباً- أو ضربه بشيء له مور-كما تقدم معنا- فهذا عمد. إذاً: اتفق العمد وشبه العمد في وجود الحالة التي تتوفر فيها بواعث الجناية؛ بمعنى أن الإنسان يختصم مع شخص، ولا يريد قتله، وإنما يريد عقره، أو إضراره، أو أذيته، ولم يكن مستعملاً لآلة تقتل غالباً. وقوله: [ولم يجرحه بها]. لأنه إذا جرح فقد ذكرنا أنه يكون من قتل العمد، وقد بينا أن العمد في المذهب: أن يجرحه بما له مور في البدن -أي: ينفذ إلى البدن- ويقتله، مثل السكين، والسهام، والسيوف، ونحو ذلك.

صور قتل شبه العمد

صور قتل شبه العمد قال رحمه الله: [كمن ضربه في غير مقتل]. فلو تخاصم اثنان؛ فضرب أحدهما الآخر في غير مقتل، كأن يضربه على كتفه، أو يضربه على فخذه، أسفل الفخذ بعيداً عن الخصية، فضربه ضربة لا يقتل مثلها، وليست في مكان مقتل، والسبب: أنها إذا كانت في مكان لا يقتل غالباً، فترجح أن موته قدراً، وليس بفعل الجناية. وقوله: [بسوط]. أي: كأن يضربه بسوط، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن في قتيل شبه العمد قتيل السوط والعصا)، فاعتبار القتل بالسوط من شبه العمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أنه من قتل عمد الخطأ، أو خطأ العمد، كما يسميه بعض العلماء، أو شبه العمد كما ذكر المصنف رحمه الله. فالقتل بالسوط: كأن جاء وضربه بالسوط ضربة؛ فسقط الرجل ميتاً، والضرب بالسوط فيه تفصيل: فمن حيث الأصل: السوط لا يقتل غالباً، فليس بآلة يحكم بأنها موجبة للعمدية والقصاص والقود، ولكن تقدم معنا أن الآلة إن ضعفت، وكان حال الشخص معيناً على الإزهاق بها؛ كانت من العمد لا من شبه العمد، فلو أنه ضربه بالسوط وهو مريض، أو ضربه بالسوط وهو شيخ هرم ضعيف، لا يحتمل ضرب السوط؛ فإنه قتل عمد، وقد ذكرنا ضوابطه في العمد، وقلنا: إن هناك أحوالاً تستثنى عند العلماء، فهناك الأصل وما يستثنى من الأصل، فالأصل أن القتل بالسوط ليس بقتل، كما لو اختصم اثنان؛ فضرب أحدهما الآخر بسوط -الكرباج في أعرافنا- فمات المضروب، فنقول: هذا شبه عمد، ولكنه إذا كان في مقتل، أو كما قال العلماء: كرر الضرب عليه بالسوط، وكان مثله لا يحتمل التكرار، وأخذ الشاب الجلد القوي ووضعه تحت السياط، وضربه ضرباً مكرراً مفضياً إلى الإزهاق والعمد؛ فإنه قتل عمد، فالتكرار للضرب، والمداومة عليه، والاستمرار تزهق الأرواح، وكم من أنفس أزهقت تحت الجلد والسياط! وبناءً على ذلك: ليس كل ضرب بالسوط يعتبر من قتل شبه العمد، وإنما ذكر العلماء الصفة الغالبة للسوط اتباعاً للسنة، لكن لو كان الشخص لا يحتمل ضرب السوط؛ كالمريض، أو الشيخ الهرم، أو ضربه بالسوط في مقتل، فالغالب أنه يقتل، أو ضربه بالسوط وكرر الضرب عليه على وجه تزهق به الروح غالباً؛ فإنه يعتبر قتل عمد، وموجب للقصاص. وقوله: [أو عصا صغيرة]. إذا ضربه بالعصا الصغيرة فليس بقتل عمد إذا مات منها، ولكن إذا ضربه بعصا صغيرة، وكرر الضرب عليه، وكان لا يحتمل هذا التكرار؛ كمن أخذ صبياً أو صغيراً وضربه بعصا صغيرة، وكرر عليه الضرب على وجه في الغالب أنه يزهق؛ فإنه قتل عمد، ويوجب القصاص، لكن الغالب في العصا الصغيرة أنها لا تقتل، وقوله: (صغيرة) المفاهيم معتبرة في المتون، ومن هنا لو ضربه بعصا كبيرة يقتل مثلها غالباً؛ فإنه قتل عمد. وقوله: [أو لكزه]. أي: أن يجمع يده ويضربه بها، والوكز واللكز بمعنى واحد؛ والغالب أنه لا يقتل، لكن لو لكزه في مقتل، أو كان الملكوز صغيراً؛ كما لو أخذ طفلاً في مهده فلكزه لكزة واحدة قضت عليه، فهذا قتل عمد. إذاً: لا بد من الانتباه إلى أن الأصل العام والغالب في اللكزة أنه لا يقتل مثلها، والناس تقع بينهم الخصومات، ويلكز بعضهم بعضاً، ويضرب بعضهم بعضاً، ولكن لا تزهق الأرواح، ولا تموت، فقد يحصل تأثر وضرر، ولكنه لا يحصل زهوق غالباً، ومن هنا قال رحمه الله: إنه شبه عمد، ولكن الوكز قد يقتل، ولذلك قال تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15]، فالوكز قد يقتل، ومن هنا صار وسيطاً بين ما لا يقتل غالباً وما يقتل غالباً، وارتقى إلى درجة شبه العمد، وبعضهم يقول: بقصد الجناية، وإن كان الأشبه أن الوكز فيه أذية، وإضرار وإيلام. وعلى كل حال: هذا نوع من أنواع شبه العمد الذي لا يوجب القصاص، إلا إذا كان الذي لكزه ضعيفاً، أو مريضاً، أو شيخاً هرماً، أو طفلاً صغيراً؛ تقتله اللكزة غالباً، أو كان شاباً قوياً جلداً، فلكزه لكزة قوية في مقتل، مثل: الخصيتين، أو الضرب على أسفل البطن إلى جهة الكبد، أو جهة القلب، ونحو ذلك، فهذه غالباً مقاتل، فإذا ضربه ولكزه فيها، فهو قتل عمد، ويجب القصاص. وقوله: [ونحوه]. أي: شبهه.

قتل الخطأ

قتل الخطأ قال المصنف رحمه الله: [والخطأ أن يفعل ما له فعله؛ مثل أن يرمي صيداً، أو غرضاً، أو شخصاً، فيصيب آدمياً لم يقصده]. قوله: (ما له فعله) أي: ماله أن يفعله عمداً، وهذا النوع من أنواع القتل، وهو قتل الخطأ، والغالب في المسلم، بل الأصل في المسلم ألا يقتل أخاه إلا خطأً، ومن هنا قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:92].

مقاصد الشريعة من إيجاب الدية والكفارة في قتل الخطأ

مقاصد الشريعة من إيجاب الدية والكفارة في قتل الخطأ وقتل الخطأ لا يتوفر فيه قصد إزهاق الروح، ولا قصد الجناية على المسلم، ومن هنا كان أخف أنواع القتل، ولكن الله عظم أمر الدماء، ومن حكمته سبحانه وتعالى أنه أوجب على القاتل خطأً أن يضمن النفس، فصار حقاً للآدميين، وأن يضمن حق الله في الكفارة؛ وهي عتق الرقبة، فإن لم يجد أو لم يستطع شراءها فإنه يصوم شهرين متتابعين توبة لله عز وجل. والحكمة في هذا ما ذكر بعض أهل العلم: أن كل إنسان يقتل خطأً لا يقتل إلا بإهمال، وأنه ما من نفس مؤمنة تزهق، وتقتل خطأً إلا وهناك تقصير وإهمال من القاتل، وبناءً على ذلك وجبت الكفارة صيانة للأنفس، وحتى يحتاط الناس فيما يوجب الزهوق، فلا يتساهلون فيه، ولا شك أن في ذلك خيراً كثيراً للعباد، الله عز وجل أعلم وأحكم بها. وقد أجمع العلماء على أنه لا يقتص بقتل الخطأ؛ بمعنى: أنه لا يوجب القصاص، وأجمعوا على أنه يوجب الدية كاملة مسلمة إلى أهل المقتول المسلم المعصوم الدم، بالإضافة إلى الكفارة التي هي عتق الرقبة، وأنه إذا عجز عن الكفارة بالعتق فإنه ينتقل إلى صيام شهرين متتابعين توبة منه لله عز وجل من التقصير، وتعظيماً لأمر الدم كما ذكرنا، وإلا فهو لم يقصد، والله عز وجل يقول: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5]. ومن قتل خطأً لم يحكم بإثمه، ولكن الله تعالى عظم أمر الدماء والأنفس، حتى لا يتساهل في ذلك، فإذا تصور المسلم أن القتل وقع بقيادة سيارة مثلاً ساقها، فصدم شخصاً فقتله؛ فإنه يلزم بالدية، فإذا دفع الدية فإنه يتحفظ عن أن يزهق أرواح الناس بالتساهل في قيادته وسياقته، وكذلك أيضاً إذا أعتق الرقبة، فإذا لم يجدها صام شهرين متتابعين؛ فإذا رآه غيره اعتبر، فتصبح الأنفس مهابة، والحرمات معظمة، بخلاف ما إذا قيل: إن هذا أخطأ، فلا شيء عليه، فإن الأمر يكون دون ذلك، فيتساهل الناس في الأسباب الموجبة للزهوق، وإذا جاء الطبيب في طبه وعلاجه فخرج عن السنن والقواعد المعتبرة عند أهل الخبرة، أو تساهل في تدبير أمور المريض؛ حتى زهقت نفسه ومات، فإنه يحكم عليه بالدية، فيضمن هذه النفس، ويحكم بوجوب الكفارة عليه، فعندها يتحفظ الأطباء في أرواح الناس وأجسادهم، وقس على ذلك غيرهم ممن يخطئ وتحصل منه الجناية. وكذلك في البر؛ فلو أنه خرج ورمى غزالاً وظنه صيداً، فمر شخص بينه وبين الغزال؛ فقتله، أو رمى شاخصاً يظنه فريسة؛ فإذا به إنسان، فإنه في هذه الحالة سيدفع الدية لأهله، ثم بعد ذلك يكفر الكفارة الشرعية، الأمر الذي يجعله إذا أراد وفكر أن يصيد بعد ذلك يتحفظ غاية التحفظ، وإذا علم غيره بخطئه تحفظ أيضاً، فابتعد عن الأماكن التي فيها الناس، ورمى على وجه يأمن فيه غالباً من الخطأ، وكل هذا حكمة من الله سبحانه وتعالى. ولا شك أن الأصل يقتضي أن المخطئ لا شيء عليه، ولكن العلماء بينوا أن الشريعة أوجبت هذه العقوبات، وتسميتها عقوبات تجوزاً، فإن المعاقبة بالكفارة وبالدية صيانة للأنفس، وصيانة للأرواح، وحتى لا يتساهل الناس في الدماء، وفي إزهاق الأرواح، ولا شك أن من نظر إلى هذه الأحكام وعواقبها؛ فإنه يجد ذلك جلياً. وقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ} [الأحزاب:5] لا يعارض وجوب الكفارة ووجوب الدية؛ لأن قوله: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) أي: ليس عليكم إثم، فمن هنا من قتل خطأً لا إثم عليه، لكن لا يمنع هذا أنه يضمن للناس حقوقهم، ولا يمنع هذا أنه لا يقع في هذا الخطأ إلا بنوع إهمال وتقصير؛ فيترتب على هذا الإهمال ما يوجب زجره وجبر النقص الموجود فيه، من باب الخطاب الوضعي، لا من باب الخطاب التكليفي. وهذا كما قرره الأئمة في كتاب المقاصد ومباحثه: أن المؤاخذ هنا من باب الخطاب الوضعي، وليس من باب الخطاب التكليفي؛ لأن الخطاب التكليفي يفتقر إلى وجود نية وقصد، وهذا لم يقصد القتل، فاستشكل العلماء: كيف أوجبت الشريعة على من يقتل خطأً الضمان والكفارة، مع أنها لا تعتبر عمل الشخص إلا بنية، والأصل أنه لا عمل إلا بنية، فهو لو كان ناوياً للقتل لصح أن يؤاخذ بالضمان، وأن يؤاخذ بالكفارة؟ وقد أجاب على ذلك الإمام الشاطبي -رحمه الله- في كتابه النفيس (الموافقات)، وفي كتاب المقاصد منه؛ فقال: (إنه وإن لم يكن قاصداً للقتل-النية غير موجدة- فإن هذا من باب الخطاب الوضعي، والخطاب الوضعي لا يشترط فيه النية). ومعنى الخطاب الوضعي: أن الشريعة وضعت علامات وأمارات حكمت بأحكام عند وجودها، بغض النظر عن كون الإنسان قاصداً أو غير قاصد. فمثلاً: قالت الشريعة: من أتلف شيئاً رد مثله، أو دفع قيمته، بغض النظر عن كونه قاصد لهذا الإتلاف أو غير قاصد، فهذا يسمى بالخطاب الوضعي، ولا يشترط فيه القصد والنية. ولهذا نظائر كثيرة؛ منها مثلاً: الطلاق؛ فمن طلق زوجته هازلاً فهو ما قصد الطلاق، وما نوى الطلاق؛ بل كان يمزح مع زوجته، فقال لها: أنت طالق، فأوجبت الشريعة عليه تطليق زوجته؛ لأنها جعلت هذا من باب الخطاب الوضعي، بغض النظر عن نيته قاصداً أو غير قاصد. وهذا يسمى: الحكم بالعقوبة بخطاب الوضع، وبناءً على ذلك لا تعارض بين المؤاخذة بالنيات، وبين العقوبة التي وردت هنا بالكفارة والدية؛ من باب الزجر، ومنع الناس من التساهل في الدماء وإزهاقها.

صور القتل الخطأ

صور القتل الخطأ قال المصنف رحمه الله: [مثل أن يرمي ما يظنه صيداً]. الآلة التي رمى بها وهي: السلاح تفعل فعل العمد، فتوجب زهوق النفس، لكن في شبه العمد الآلة لا تقتل غالباً، ومن هنا فإن الخطأ يكون برمي شيء بشيء قاتل يظنه غير معصوم؛ فبان معصوماً، كأن رمى بهيمة فأصاب إنساناً، ونحو ذلك، فالآلة قاتلة، والمرمي مقتول، ولكن الرامي لم يقصد المقتول، ولم يرده. وقوله: [أو غرضاً]. مثلاً: وضع هدف فرمى الناس على هذا الهدف، فلما رموا الهدف، مر شخص بينهم وبين الهدف، فهذا إذا قتلوه فهو قتل خطأ. وقوله: [أو شخصاً]. كأن رمى كافراً مهدر الدم -حربياً- فجاء مسلم بينه وبين الكافر فقتله، ومن رمى مسلماً يظنه حربياً، ففيه خلاف مشهور بين العلماء رحمهم الله، لكنه عند بعض أهل العلم يدخل في هذا؛ لأنه ظنه كافراً فبان مسلماً، فليس بقتل عمد. وقوله: [فيصيب آدمياً لم يقصده]. أي: لم يقصده بالقتل.

حكم عمد الصبي والمجنون

حكم عمد الصبي والمجنون قال رحمه الله: [وعمد الصبي والمجنون] أي: وعمد الصبي والمجنون خطأ؛ لأن الصبي غير مكلف، فلو تقاتل صبيان، فأخذ صبي منهما السلاح فطعن الآخر وقتله، فإنه لا يقتص من الصبي القاتل؛ لأنه غير مكلف، وغير مؤاخذ؛ لعدم وجود العقل الذي هو مناط التكليف، ولكن تجب عليه الدية، فإن كان للصبي مال؛ وجبت في ماله، والأصل عند العلماء رحمهم الله أن عمد الصبي والمجنون خطأ؛ لعدم التكليف، فإن كان للصبي عاقلة ضمنت عنه الدية، وإلا كانت من بيت مال المسلمين، على الأصل المعروف في باب الديات. فالشاهد: أن الصبي إذا تعمد القتل فعمده خطأ، وإذا تعمد الإتلاف فعمده خطأ. ولو جاء صبي وكسر سيارة شخص، وجب ضمان هذا الشيء المكسور، ويجري عليه مجرى الخطأ، ولا يجري عليه مجرى العمد؛ فإذا تعمد شخص إتلاف شيء، ولا تضمن عاقلته إذا كان فوق ثلث الدية؛ لأن العاقلة تعقل -وسيأتينا إن شاء الله- وهذا نظام شرع في الإسلام، نظام العاقلة: وهم القرابة والعصبة، وهم يتحملون الدية في الخطأ، ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المرأتين من هذيل بالدية على عاقلة المرأة القاتلة، فهذا يدل على أن الصبي إذا قلنا: إن قتله خطأ؛ فعاقلته تعقل، وإن قلنا: عمده خطأ، فمما ينبني على ذلك ضمان الجناية، سواء أتلف مالاً أو نفساً، فإنها تأخذ حكم القتل بالخطأ. ولو أن مجنوناً -والعياذ بالله- أخذ سلاحاً وقتل شخصاً، فإنه لا يقتص من المجنون؛ لأنه غير مكلف، ويجب أن يضمن أولياء المجنون وعاقلته الدية، ولو أنه جنى جناية؛ فقطع يد شخص، أو أتلف مال شخص، فهذا كله يعتبر من الخطأ؛ لعدم التكليف في المجنون والصبي.

مقدمة كتاب الجنايات [6]

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [6] من المعلوم أنه يجب أن نعرف نوعية القتل حتى نزل الحكم في منزله، فالعمد له حكمه والخطأ له حكمه والخطأ له حكمه وشبه العمد له حكمه، وقتل الخطأ لا يكون فيه قصاص بل تجب فيه الدية والكفارة.

قتل الجماعة بالواحد

قتل الجماعة بالواحد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: تقتل الجماعة بالواحد]. بعد أن بين المصنف رحمه الله أنواع القتل، ومتى يحكم بقتل العمد، ومتى يحكم بقتل الخطأ، ومتى يحكم بالوسيط بينهما؛ وهو قتل شبه العمد؛ شرع في مسائل القتل بالاشتراك؛ وهذه المسألة -وهي قتل الجماعة الواحد- تكون غدراً، وفتكاً، ومجاهدة، ومغالبة.

االقائلون بقتل الجماعة بالواحد

االقائلون بقتل الجماعة بالواحد فإذا اشتركت الجماعة في قتل الواحد؛ فالأصل أنهم إذا اجتمعوا وفعلوا به فعلاً، لو انفرد كل واحد منهم بفعله لقتله؛ فكلهم قاتل، وبناءً على ذلك فإن هذه الصورة لا خلاف فيها عند من يقول بقتل الجماعة بالواحد. فنبدأ بالمجمع عليه عند من يقول بقتل الجماعة بالواحد: الجماعة: اثنان فأكثر، والأصل أن الجمع ثلاثة، لكن هنا مرادهم: أن يشترك اثنان فأكثر، فلو اتفق اثنان على شخص أن يقتلاه؛ فجاء أحدهم وبقر بطنه، وجاء الآخر وطعنه في قلبه، فكلا الفعلين وقعا في زمان واحد، أو ضربتان قاتلتان وقعتا في زمان واحد، وكلا الفعلين مزهق، وكل منهما قاتل، فجمهور العلماء من السلف والخلف رحمة الله عليهم على أنه يقتل هذان الشخصان بالواحد، وهذا هو مذهب عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، والمغيرة بن شعبة، وقد نفذ هذا الحكم أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقتلوا جماعة بواحد، فأما عمر رضي الله عنه وأرضاه فارتفعت إليه قضية من اليمن: أن جماعة تمالئوا على رجل، وقتلوه غيلة، استدرجوه وقتلوه، وهذا ما يسمى: بقتل الغيلة، كأن يخدع ويستدرج ويخرج من المدينة، أو يقولون له: نريدك في نزهة، أو نريدك في غرض ما، أو نريد أو نرى بستانك، أن نريد أن نريك شيئاً، أو نريد أن تذهب معنا في السفر، فيستدرجونه حتى يخرج، ثم بعد ذلك يغتالونه ويقتلونه، فهذا من قتل الغيلة، فيؤخذ على غرة-على حسن نية- فيقتل، وهذا من أخبث ما يكون من أنواع القتل، والغالب أنه لا يقع إلا من الأنفس الشريرة، حيث تكون هناك عصابات تقوم بمثل هذا، الفعل فقال عمر رضي الله عنه: والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به. فقتلهم رضي الله عنه وأرضاه، وقد قيل: إنهم كانوا سبعة، وقيل: تسعة أشخاص، كانوا متمالئين عليه حتى قتلوه. أما علي رضي الله عنه فقتل أربعة بواحد، وأيضاً له قصة ثانية في قصة عبد الله بن خباب بن الأرت رضي الله عنه وأرضاه، حين كان عاملاً له على النهروان، فقتله أهل النهروان، فكتب إليهم أن ادفعوا إلي من قتله، فأخذتهم العزة، فقالوا: كلنا قتلناه، فقال: إذن سلموا أنفسكم لأقتلكم جميعاً به، وإلا آذنتكم بحرب، فامتنعوا، فركب إليهم فقتل منهم قتلاً ذريعاً، رضي الله عنه وأرضاه. وكذلك أيضاً عبد الله بن عباس قضى بهذا، أما الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة فقد قتل في إبان ولايته وإمارته؛ وقد كان أميراً لـ عمر رضي الله عنه وأرضاه على الكوفة، فقتل ثلاثة بواحد، وقيل: أربعة بواحد. فهؤلاء أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم أثنان مأمور باتباع سنتهما، والعمل بها؛ وهما: الخليفتان الراشدان: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عن الجميع وأرضاهم. وقد وقعت هذه الحوادث ونفذ فيها الحكم من هذين الراشدين أمام الناس، وعمل به الناس، وتوافرت الدواعي لنقله، ولم ينقل إلينا إنكار أحد من الصحابة على هذين الصحابيين. ومن هنا قال بعض العلماء: إنه حكم متفق عليه بين الصحابة، وهذا ما يميل إليه الإمام ابن القيم رحمه الله، ويقرره غير واحد من العلماء؛ أن هذا الحكم صدر من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكانت المدينة مليئة بفقهاء وأئمة الصحابة؛ لأن عمر رضي الله عنه كان يمنع فقهاء الصحابة من الخروج للجهاد؛ لأنه كان يحتاجهم للفتاوى، ومن هنا قالوا: إن المدينة كانت عامرة بأهل الفتوى والعلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يرد أحد هذا الحكم وهذا القضاء. وكذلك أيضاً قال بهذا الحكم: سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وابن عون -التابعي المشهور- وكذلك الحسن البصري، وهو مذهب جمهور العلماء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة في المشهور؛ على أنه تقتل الجماعة بالواحد. واتفقوا على أنه إذا كان كل واحد منهم انفرد فعله بقتل، فإنهم يقتلون به، والذين قالوا بقتل الجماعة بالواحد اتفقوا على الصورة التي ذكرناها، لكنهم فصلوا، واختلفوا في بقية الصور.

القائلون بعدم قتل الجماعة بالواحد

القائلون بعدم قتل الجماعة بالواحد وهناك قول ثانٍ: أنه لا تقتل الجماعة بالواحد؛ وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله تعالى عليه، وقول ابن المنذر، وطائفة من متأخري السلف رحمة الله على الجميع، حتى قال بعض العلماء: إن هذا القول أسبق، وقد حكي هذا القول عن عبد الله بن الزبير، وعن معاذ بن جبل، ولكن لم يوثق، ولم يحرر بالرواية الصحيحة، ولذلك فإن حكاية الخلاف عن الصحابة لا تقدح في الإجماع ما لم تكن موثقة؛ لأن هناك قولاً للصحابي حكاية أو قولاً للصحابي رواية، وهنا جاء من باب الحكاية، ولم أطلع على رواية صحيحة عن هذين الصحابيين أنهما قالا: لا تقتل الجماعة بالواحد. وكذلك أيضاً قال به محمد بن سيرين من التابعين. وهناك قول ثالث: قالوا: إذا قتلت الجماعة واحداً، فيقتل واحد بالمقتول، ثم يؤمر البقية بدفع ما بقي على حسب حصصهم من الدية، فمثلاً: لو اشترك ثلاثة في قتل واحد يقتل واحد منهم، ثم الاثنان الباقيان يدفع كل واحد منهما ثلث الدية، ولو اشترك عشرة في القتل فنقتل واحداً، ويدفع التسعة تسعة أعشار الدية، وقس على ذلك. وهذا القول ضعيف.

أدلة القائلين بقتل الجماعة بالواحد

أدلة القائلين بقتل الجماعة بالواحد أما الدليل على أن الجماعة تقتل بالواحد: فقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله أمرنا أن نقتص من القاتل، وكل واحد من هؤلاء العشرة، أو الخمسة، أو الثلاثة، أو الاثنان، كل واحد منهم قاتل؛ لأنه لو انفرد فعله لقتل، وقد أتى كل واحد منهم بفعل قاتل فهو قاتل؛ لأن النفس أزهقت بهذه الأفعال القاتلة، فهو قاتل. وكذلك أيضاً عموم الأدلة التي دلت على أن من قُتل له مقتول فله الحق في الأخذ ممن قتله والقصاص، كقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:33]، فجعل الله لوليه السلطان في أن يقتل من قتله، وكل واحد من هؤلاء قاتل. الدليل الثالث: الأثر الصحيح عن عمر بن الخطاب، وقد ذكره الإمام البخاري تعليقاً، ووصله غيره، والسند صحيح عن هؤلاء الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أنهم قتلوا الجماعة بالواحد، وسنة الخلفاء الراشدين مأمور باتباعها. الدليل الرابع: أننا لو قلنا: إن الجماعة لا تقتل بالواحد؛ لانفتح باب الشر والفساد والبلاء، فكل شخص يريد أن يقتل، يعلم أنه لو قتل سيقتل، فيطلب من شخص آخر أن يعينه على القتل؛ وحينئذ تسلم العصابات من القتل، ويسلم أهل البغي من القتل، ويذهب المقصود الشرعي من استتباب الأمن، وحفظ أنفس الناس، فما على أهل الفساد إلا أن يجتمعوا، ويتواطأ بعضهم مع بعض، فيقول أحدهم: أنا أريد أن أقتل فلاناً، فشاركني حتى أشاركك لتقتل فلاناً، وحينئذ تذهب الحكمة من شرعية القصاص، ويسترسل أهل الشر في دماء المسلمين، وقد قال الله عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45]، فقوله: (النفس): جنس، فالنفس المقتولة بالنفس القاتلة جنس، سواء اتحدت أو تعددت.

أدلة القائلين بعدم قتل الجماعة بالواحد والرد عليها

أدلة القائلين بعدم قتل الجماعة بالواحد والرد عليها أما الذين قالوا: إنه لا تقتل الجماعة بالواحد، فقالوا: إن الله تعالى أمر بالمساواة في القصاص، فقال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45]، وأجيب: بأن الآية المراد بها: جنس النفس، بغض النظر عن العدد، وأيضاً نقول: إن كل نفس من هذه الأنفس متهمة بالقتل لا على شك، ولا على مرية؛ لأن الفعل الذي فعلته قتل، وموجب للزهوق، فحينئذ يجب القصاص منها. وقالوا: إن النفس التي قتلت واحدة، والذين يُقتص منهم أكثر، والله عز وجل يقول: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء:33] قالوا: فحينئذ أسرفنا؛ لأننا قتلنا عشرة بواحد، وقتلنا ثلاثة بواحد. ونجيب عن هذا: بأن هذا الكلام ضعيف؛ لأننا نسألهم: هل الذين قتلناهم قتلة أو برآء لم يقتلوا ولم يفعلوا القتل؟ فإن قالوا: برآء، فإن الواقع يخالفهم، وإن قالوا: قتلة، فإن الله أمرنا أن نقتل القاتل. فنقول: قوله تعالى: (فَلا يُسْرِفْ)، أي: لا يقتل من لم يقتل، أما قتل من قتل فلا يعتبر من الإسراف، وتوضيح ذلك: أن الإنسان إذا أخذ حقه لم يسرف، فإذا زاد عن حقه فقد أسرف، وأساء وظلم، فهذا الذي قتل الاثنين بالواحد قتل من قتل وليه، وإذا قتل من قتل وليه لم يسرف؛ لأنه قتل بحدود حقه، وحده: أن الاثنين قد قتلا، وأن الثلاثة اشتركا في القتل. ثانياً: نقول لهم: هؤلاء العشرة، أو هؤلاء الثلاثة، أو الأربعة، كل منهم فعل فعلاً قاتلاً، فإذا لم نقتله، فماذا نفعل؟ وإذا لم نقتلهم جميعاً حصل الفساد والشر، كما بينا، فيشترك أهل الفساد فيقتلون المسلمين. وإن قلتم: نقتل واحداً، فنسألكم: هل الواحد قاتل؟ فإن الظاهرية يقولون: نقتل واحداً ونترك البقية، فنسألهم: لماذا قتلتم هذا الواحد؟ فإما أن تثبتوا أنه قاتل، مع أن الصفة التي فيه موجودة في غيره؛ لأن الكل منهم فعل فعلاً موجباً للقتل، وما الذي جعل هذا يقتل وهذا لا يقتل؟ ثالثاً: نقول لهم: أنتم تقولون: يقتل واحد، ثم البقية يدفعون ما بقي من الدية، فجمعتم بين القصاص والدية! والله جعل الدية عوضاً عن القصاص، وبناءً على ذلك فلا يصح أن تجمع بين الأصل وبديله؛ لأن الشريعة جعلت الأصل، فإن لم يستطع فبديله. فإذا جئت تقول: يقتل واحد، ثم البقية يدفعون تسعة أعشار الدية، فإنك في هذه الحالة خالفت، فإما أن تقتلهم جميعاً، أو توجب الدية عليهم جميعاً، وهذا هو العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض. وعلى كل حال: هنا قاعدة: أن خلاف العلماء وأقوالهم ما تعددت من فراغ، ولا اختلفت من هوى، ولكن حصل لكل منهم شبهة أو دليل، والحق أقوى دلالة، فقد تجد القول المخالف له وجه، لكن الأوجه والأقوى هو الصحيح، وإن وجدت حسناً عند المرجوح، فالأحسن عند الراجح؛ لأنك إذا نظرت إلى هدي السلف الصالح، وأصول الشريعة العامة، وعموم الأدلة التي أمرت بقتل من قتل، لاطمأنت النفس برجحان مذهب جمهور السلف رحمهم الله.

صور قتل الجماعة بالواحد

صور قتل الجماعة بالواحد بقي في مسألة قتل الجماعة بالواحد: هناك اشتراك بالفعل، وهناك اشتراك بالفعل مع غير الفعل، فإذا كانوا قد اشتركوا في الفعل ففيهم تفصيل، وإن اشتركوا بفعل ورأي، فبعضهم دبر المكيدة، وبيَّن الطريقة التي يتم بها اغتياله وقتله، وبعضهم نفذ وقام بالعمل، فهذا يحتاج إلى تفصيل. فعند بعض العلماء: أن الاشتراك بالرأي لا يوجب القصاص؛ لأنه يصبح سببية ومباشرة، وبعض العلماء يقول: إذا كان الذي خطط وقال الرأي عن طريق رأيه تُوصل إلى القتل، أصبحت سببية قوية التأثير في الزهوق، فيقتل مع من نفذ. ومن هنا احترز بعض العلماء خروجاً من هذا الخلاف؛ لأنه لا يرى مسألة الرأي، فقال: تقتل الجماعة بالواحد إذا كان فعل كل واحد منهما موجباً للزهوق لو انفرد، كما ذكرنا في الصورة المتفق عليها. ومنهم من قال بوجوب القصاص على المدبر إذا كان الشخص المنفذ لا يستيطع أن يعرف الطريقة التي يدخل بها، ولا يعرف الوسيلة التي يتوصل بها إلى قتل هذا الشخص وجاءه هذا الشخص، وبين له الطريقة والوسيلة، ومكنه على وجه لولا الله ثم هذا التمكين لما حصل الإزهاق؛ فقالوا: إنه يكون شريكاً له في القتل بسببية مؤثرة؛ لأنها سببية مفضية للقتل بقوة، فليست سببية ضعيفة، وقد بينا أن السببية تارة يقتل المتسبب والمباشر، وتارة يقتل المتسبب دون المباشر، وتارة العكس، فهنا بعض العلماء يرى أنه إذا كان الرأي والتخطيط من الشخص قوي التأثير في الزهوق، فيقتل أيضاً، فمثلاً قال له: افعل كذا، فدخل القاتل على المقتول، ولم يعرف كيف يقتله، فقال له: افعل به كذا وكذا، ففعل؛ فقتله، وفي زماننا الآن توجد أجهزة، وقد تحتاج الجريمة إلى تنظيم وترتيب، فلا يمكن أن تقع بواحد، ولا يمكن أن تغفل الأسباب والمشتركين مع المنفذ بحال، وحينما تنظر تجد الذين تسببوا وأعانوا المنفذ ودلوه سببيتهم قوية التاثير، بحيث يصعب إغفالها أو إسقاطها من القصاص. ولو رد هذا الأمر أيضاً إلى القاضي فقد يكون أضبط للمسائل، وله نظر فيما اشتركوا فيه. لكن إذا اتفق اثنان على قتل شخص، فجاءا وفعلا فعلاً أزهق روحه، فإن كان الفعل الذي أزهق الروح صدر منهما معاً؛ فهما قاتلان بلا إشكال، فمثلاً: لو أن الاثنين أمسكا السلاح مع بعضهما وأطلقاه، فهما قاتلان، ولو أن الاثنين أمسكا بالسيف وبقرا به بطن المقتول، فهما قاتلان هذه صورة. الصورة الثانية: أن ينفرد كل منهما بفعل، فإذا انفرد كل منهما بفعل، فإما أن يكون فعل كل منهما مزهقاً، وإما أن يكون فعل أحدهما مزهقاً والآخر لا يزهق، فإن كان فعل كل منهما مزهقاً؛ فصورتان: إما أن يكون وقوع الفعلان مع بعضهما، فواحد منهما طعنه في بطنه، والآخر طعنه في قلبه، وحصلت الطعنتان مع بعضهما، فالإزهاق حصل بالطعنتين، فكلاهما قاتل، وإما أن يتأخر أحدهما عن الآخر، فإن تأخر أحدهما عن الآخر؛ فننظر: فإن كان الأول قد فعل الفعل، فاندمل جرحه، أو ضعف عن القتل، أو برئ، ثم جاء الآخر وأزهق، أو فعل الفعل القاتل، فالقاتل هو الثاني دون الأول، وإن كان الأول قد ضرب مقتلاً، وأصاب المقتل، ثم جاء الثاني بعده وضرب مقتلاً بعد المقتل الأول، فالقاتل هو الأول دون الثاني؛ لأن الإزهاق وقع بالأول دون الثاني، لكن يشترط في هذه الصورة الأخيرة: أن يتأخر فعل الثاني تأخراً يقوى به الإزهاق بالفعل الأول، فإن لم يتأخر، ولم يتراخ، انتقل للمسألة الأولى التي ذكرناها، وهي أن يشترك الاثنان بفعل موجب للزهوق. إذاً: إذا كان فعل كل منهما قاتلاً: إما أن يقعا في وقت واحد؛ فكلاهما قاتل، وإما أن يختلفا؛ فإن اخلتفا فتأخر أحدهما عن الآخر، فإما أن يتأخر تأخراً مؤثراً، ومثاله: اثنان يريدان قتل شخص، فجاء أحدهما وطعنه بالسكين، فنقل المطعون إلى المستشفى وعولج، حتى نجا من الموت، وغلب على الظن أنه نجا من الحالة الخطرة، فدخل عليه الثاني وهو على سرير المرض وطعنه فقتله، فالقاتل هو الثاني دون الأول؛ لأن ضربة الثاني تأخرت تأخراً متفاحشاً مؤثراً، ولا يشترط طول الزمان؛ بل يشترط ألا تكون الضربة الأولى تأتي على الروح، وفي هذه الحالة تكون الطعنة الأولى جراحاً، وموجبة لضمانها بالدية، أي: بقدرها وحصتها من دية الجراحات، والضربة الثانية موجبة للقصاص، فالثاني قاتل، والأول ضامن يضمن الجرح الذي جرحه به. مثال آخر: ضربه الأول على دماغه، ضربة مأمومة-وهي التي تكشف خريطة الدماغ وأم الدماغ- ثم عولجت هذه الضربة؛ ففيها ثلث الدية، والثاني ضربه بسكين فقتله، فالقاتل هو الثاني دون الأول، فالأول عليه ضمان ضربة الدماغ بقدر حصتها من الديات، والثاني يضمن النفس، فيجب عليه القصاص. وهذا كله إذا كان الفعل الذي فعلاه موجباً للزهوق. فإذا كان أحدهما يزهق، والثاني لا يزهق، نظرنا: فإن كانت الضربة الأولى من الأول هي القاتلة المزهقة، والضربة الثانية لا تزهق، فالأولى هي القاتلة، فمثلاً: شخصان دخل أحدهما فضرب شخصاً بسكين في بطنه حتى أنفذت مقاتله، وغلب على الظن أنه ميت، فجاء الثاني وجرحه، أو كسر عظمه، فحينئذ إن كانت الضربة الثانية لا تزهق، فإن من العلماء رحمهم الله من حكم بكونها مضمونة، وإن كانت من الجراح ففيها أروش الجراحات، والقاتل هو الأول الذي عليه القصاص، والثاني ضامن، إلا أن بعض العلماء يقول: إذا أُنفذت مقاتله، كما لو ضربه وأصبح في عداد الموتى، وجاء الآخر وخدشه، أو فعل به فعلاً، فلا شيء عليه، وهذا هو ضعيف وباطل، وقد عجبت من بعض المتأخرين حين كان يفتي به! مع أنه لا أصل له؛ لأن نفس المؤمن محرمة، حتى قال صلى الله عليه وسلم (كسر عظم المؤمن ميتاً ككسره حياً)، يعني: في الإثم، وهو من حديث عائشة في سنن ابن ماجة، وهو حديث حسن، وبعضهم يراه صحيحاً لغيره، فهذ يدل على أنه لا تهدر هذه الضربة، وهناك قاعدة تقدمت معنا: الحياة المستقرة هل هي كالعدم أم لا؟ وهذه سيأتي تفصيلها-إن شاء الله- في باب الذبائح، كأن يهجم سبع على فريسة، وأدركتها وهي ترفس فذكيتها، فهل الذكاة تنفع أم لا؟ إن قلنا: الحياة المستقرة كالعدم، فلا تنفع الذكاة؛ لأن الفريسة ماتت بالبقر، وهو فعل السبع، فهي ميتة، وحينئذ التذكية جاءت في غير حياة مؤثرة، وإن قلنا: إنها ليست كالعدم؛ فإنها تكون مؤثرة. وبناءً على ذلك: إذا ضربه ضربة أنفذت مقاتله؛ فإن قلنا: إنها حياة مستقرة كالعدم؛ فإنه لا يؤثر، وإن قلنا: إنها ليست كالعدم أثرت، وظاهر السنة فيها شيء يدل على أنها ليست كالعدم -أن الحياة المستقرة ليست كالعدم- فقد ثبت في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (أن امرأة كانت ترعى غنمها بحذاء سلم، فجاء الذئب وعدا على شاة منها، فاستصرخت الناس، ففر الذئب وقد بقر بطن الشاة، فكسرت حجراً وذكت الشاة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكلوا منها). فبقر البطن يعتبر مقتلاً، وبعض العلماء يشك، لكن ليس على كل حال، فقد تبقر بطن البهيمة وترد وتخاط أحشاؤها، والآن هذا ملاحظ ومعلوم، فقد يُفك بطن الإنسان، وتخرج أمعاؤه وأحشاؤه، وتدبر الجراحات، ويرجع كما هو. إذاً: معنى ذلك: أن الحديث لا دليل فيه على مسألتنا، والذي يقولون: إنه لا دلالة فيه، يعارضون بحديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، وهناك مسائل كثيرة الأشبه بها كتاب الذبائح، منها: لو أصبت عصفوراً وهو على البحر، على وجه الغالب أنه يموت، ثم سقط في النهر ومات، فهل هو ميت بالطلق فحلال مذكى؟ أم هو ميت بالخنق كالمنخنقة لا يحل أكلها؟ هذا كله راجع إلى مسألتنا؛ لأن طلق النار إذا أنفذ فهو قاتل، وبعد ذلك الخنق الذي وقع في النهر جاء والروح قد أُنفذت، فليس له من تأثير، وكذلك: لو أصاب صياد غزالة على جبل؛ فسقطت وارتطمت بالأرض فماتت، فهل هي مذكاة؟ أم هي متردية حينما ارتطمت بالأرض فماتت؟ والأصل عند العلماء أنه إذا تعارض حاظر ومبيح؛ رجع إلى الحاظر، وكل هذا سنفصله-إن شاء الله- في كتاب الذبح. والخلاصة: أنه إذا أنفذ مقاتله، فكانت الضربة في مقتل، وجاء الآخر وجرحه، ولا زالت النفس باقية، فالأصل يقتضي أنه يضمن، وهذا قد نص عليه غير واحد من العلماء والأئمة رحمة الله عليهم أجمعين. فبين المصنف -رحمه الله- أن الجماعة يقتلون بالواحد، وقلنا: إن هذا يشمل الغيلة، ويشمل الغدر: وهو أن يخدع الإنسان بأمان، كأن يقال له: اخرج معنا ولن نفعل بك شيئاً، ويتوجس منهم، فيعطونه الأمان-والعياذ بالله- ثم يغدرونه، والفتك: هو الهجوم، فيشمل قتل الجماعة: غيلة، وغدراً، وفتكاً، وصبراً؛ الذي هو الدم البارد، مثل: قتل الإنسان المأسور والسجين، يجتمعون عليه ويسجنونه في مكان أو بئر، ويمنعون عنه الطعام والشراب، ويشترك الجميع في هذه الجريمة، فهم جماعة قتلة، كل منهم قاتل، فكل هذه الصور يجب فيها القصاص، وتقتل الجماعة بالواحد، سواء كانوا اثنين، أو أكثر من اثنين، والجمع -كما ذكرنا- عند العلماء في هذه المسألة: اثنان فصاعداً.

إذا سقط القصاص أدت الجماعة دية واحدة

إذا سقط القصاص أدت الجماعة دية واحدة وقوله: [وإن سقط القود أدوا دية واحدة] معلوم أن قتل الجماعة بالواحد مرد القصاص فيه إلى أهل الميت-أولياء المقتول- فإن قالوا: نريد القصاص؛ قتلوا الجماعة، وإن قالوا: نريد الدية، فهل يدفعون_إذا كانوا ثلاثة- ثلاث ديات؟ أم دية واحدة؟ A يدفعون دية واحدة، يشتركون فيها؛ لأن الدم المضمون دم واحد لا غير.

الأسئلة

الأسئلة

حكم القتل بالعصا والسوط عند من لا يرون قتل شبه العمد

حكم القتل بالعصا والسوط عند من لا يرون قتل شبه العمد Q الذين لا يرون شبه العمد في القتل، ماذا يسمون القتل بالعصا والسوط؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فمن قال بهذا القول يضعفون الحديث الوارد في شبه العمد، وأما القتل إذا كان بآلة أزهقت؛ فعند المالكية: يوجب القصاص، وقد بينا أن مذهبهم رحمة الله عليهم من أقوى المذاهب في مسألة القتل والقصاص في القتل، أما بالنسبة للحنفية رحمة الله عليهم فهم مع الجمهور في مسألة التقسيم، وزادوا القتل الجاري مجرى الخطأ، ولكن عندهم لا يقتص في المثقل، فلا يقتصون بالسوط ولا بالعصا؛ لأنهم يرونه قتلاً بالمثقل، وقد تقدمت معنا هذه المسألة، وبينا أن القتل بالمثقل يوجب القصاص؛ لحديث أنس في الصحيحين عنه رضي الله عنه وأرضاه: (أن امرأة من الأنصار وجد رأسها مرضوضاً بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ فلان، فلان، حتى ذكروا يهودياً؛ فأشارت برأسها: أن نعم. فأخذ اليهودي فأقر واعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين). وهذا أصل عند العلماء في القصاص بالمثقل، وبه يقول جمهور العلماء رحمهم الله، وهم -أي: الحنفية- لا يرون القتل بالسوط والعصا، ولذلك يحتجون بحديث: (ألا إن في قتيل شبه العمد قتيل السوط والعصا)، على أنه لا يقتص بالمثقل، واستدلالاً بقصة المرأتين من هذيل، وقد أجبنا عن هذا، وبينا أن الصحيح مذهب الجمهور رحمة الله عليهم، والله تعالى أعلم.

مدى صحة الاستدلال بحديث العرنيين على جواز قتل الجماعة بالواحد

مدى صحة الاستدلال بحديث العرنيين على جواز قتل الجماعة بالواحد Q ألا يمكننا أن نستدل على أنه يقتل الجماعة بالواحد بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حينما قتل من قتل الراعي، وسمل أعينهم؟ A يا أخي! لا تستدل، اترك الأمر للعلماء الجهابذة، هذه مسائل قُتلت بحثاً من بداية القرن الرابع عشر، فتأتي وتستدرج على العلماء! قتل الراعي هو قتل حرابة، وقتل الحرابة شيء، وقتل القصاص شيء آخر، فقتل الحرابة لا يرجع فيه إلى أولياء المقتول، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم ما رجع إلى أولياء الراعي، ولا استأذنهم في القتل؛ أما القصاص فلا يجوز للإمام أن ينفذه إلا بإذن أولياء المقتول، ولذلك فقتل الحرابة أدق، فلا يفتي فيه إلا العالم الفقيه المتمكن، ولا يقدم عليه إلا القاضي الورع، الذي يخاف الله عز وجل ويتقيه، وليس كل شيء حرابة؛ بل يحتاج إلى نظر وتعمق؛ لأنه متى حكم بكونه حرابة فإنه يأخذ حكم الحرابة، ومتى لا يحكم فلا يلحق بالحرابة. وهنا مسألة الراعي مسألة حرابة، والنص فيها واضح: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33]، فهذا نص جاء في المحاربة، وهم جماعة خرجت وحاربت، فهذا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله ذمة المسلمين وحرمة المسلمين، فجاءوا إليه في البرية فقتلوه وسملوا عينه-والعياذ بالله- واستاقوا الإبل، فجمعوا بين الجناية على المال، والجناية على الروح، والجناية على البدن، وهي جرائم عظيمة، والجناية على الروح بالقتل؛ فقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجناية على البدن بأن سملوا عينه ومثلوا حتى بجثته، ولذلك قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم سمل أعينهم؛ لأنهم سملوا أعين الراعي، والجناية على المال؛ لأنهم سرقوا الإبل، ومن هنا انظر كيف جاءت الآية: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة:33]. ومن هنا فإن مذهب بعض السلف: أنهم إن قَتلوا قُتلوا، وإن مثلوا مُثل بهم، وصلبوا، وهذا كله نكاية بهم حتى يكون زجراً لغيرهم، والأمر الثالث: إن سرقوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وهذه كلها اجتمعت فيهم. والأقوام كانوا من عكل أو عرينة-الشك من الراوي- والحديث في الصحيحين وليس فيه إشكال، فإن هذا قتل حرابة لمن خرجوا عن جماعة المسلمين، وفي حكمهم العصابات المنظمة، كأن يجتمع خمسة أو ستة على إخافة السبل، أو الهجوم على البقالات وتكسيرها وإتلاف ما فيها، أو يهجمون على البيوت وتجمعات النساء، فهذه جريمة منظمة، يخططون ويرتبون وينشرون الرعب، فيحدثون عند الناس نوعاً من الرعب، وينحازون عن جماعة المسلمين، فقد حاربوا الله ورسوله، فهذه جريمة لها حكم خاص، وفي هذه الحالة لو أن هذه العصابات والجماعات جاءوا فقطعوا الطريق، أو أوقفوا حافلة في سفر، وأشهروا السلاح عليها، وأنزلوا من فيها، فبمجرد أن يفعلوا هذا فهذه محاربة، وإن أخذوا أموالهم فلهم حكم، وإن سفكوا الدماء فلهم حكم، قال بعض العلماء: الحكم للقاضي، حتى لو أنهم أنزلوهم بالسلاح والقوة والتهديد، أخذوا مالهم أو لم يأخذوها، مجرد الرعب أو إخافة السبل، فإنه يعتبر محاربة؛ لأن المسلم لا يفعل مع أخيه المسلم هذا. فصاروا محاربين بهذا، ولو فرضنا أنهم جاءوا وقتلوا شخصاً من المجموعة التي هجموا عليها، لانطبقت عليهم المحاربة، ولو أن الشخص الذي قتلوه قريب لهم، فجاء قريبه وقال: قد عفوت، وما أريد القصاص، ففي هذه الحالة نقول: الحق ليس لك، فهذه محاربة لله ورسوله، وسواء عفوت أو لم تعف فإن هذا ليس لك، ولا يمنع من قتله، فإذا رأى القاضي قتلهم فإنه يقتلهم. وفي هذه الحالة يفرق بين مسألة الحرابة وبين مسألة القصاص، وما نتكلم نحن فيه هو القصاص، وما تسأل عنه هو محاربة، وأوصي طالب العلم إذا قرأ المسائل فعليه أن يتدرج ويعي ويفهم ويضبط، ولن يرتقي في سلم العلم إلا بهذه الأمور، والمشكلة: أن بعض المربين والموجهين منذ الصغر في تربيته في المراكز والمدارس يحدث في الطالب نوعاً من التهور، كأن يقول له: أنت ما شاء الله عندك طاقات، وهذا من باب التشجيع، فيا أخي! لا تشجعه تهوراً، بل شجعه تعقلاً، وقل له: أخلص لله، اضبط العلم يفتح الله عليك، خذ العلم من سبيله تكن مثل أهله، فإن التشجيع يكون بالشيء المعقول، وهل من المعقول أنه وبعد أربعة عشر قرناً من الزمان، وهذا الكم الهائل من العلماء الجهابذة المشهود لهم لم يستطع أحدهم استنباط هذا الحكم؟ الله المستعان! وأنا لا أقول هذا تهكماً، أقول هذا لأن بعض العلماء في بعض القضايا المنهجية يشدد، ويريد منهجاً، فعلى طالب العلم أن ينتبه، كفانا جرأة على الاجتهاد، وجرأة في استخدام النصوص في غير ما هي له، فعليك أن تقف حيث وقف العلماء، وتفهم كما فهم العلماء، وتحكم الأمر كما أحكمه الحكماء، وإلا زلت القدم، وعندها يعظم الندم، ولات حين ساعة مندم. فمسائل الشريعة حساسة، ولو أن شخصاً كان من بداية الطلب عنده هذا الذوق، أنه يستكشف و. إلخ؛ لربما لا يوفق لعالم يبين له خطأه، وإذا به كل يوم يأتي بجديد، ومن الآفات التي ضرت الأمة اليوم مسألة الجديد، ولا يمكن أن يعترف لأحد جاء ليكتب بحثاً إلا إذا جاء بجديد، وما هو الجديد؟ أن يقال: ولقد عثرت على دليل في هذه الآية. لم يسبقني إليه أحد، وهذه الآية وإن قال العلماء: إنها تدل، فإنها لا تدل!! وهذا لا ينبغي، فينتبه الإنسان! فإن صلاح آخر هذه الأمة مقرون بما كان عليه أولها، وقديم الإسلام جديد، وجديده قديم ما تعاقب المنوان، وتتابع الزمان، وهذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولن يمر قرن من الزمان خال من أهل الحق، فإذا جئت وقلت: الأولون ما عرفوا، فمعنى ذلك: أنه خلا قرن من معرفة الحق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)، فمعنى ذلك: أن هذا الفهم الذي بقي في هذه الطائفة هو الذي تفهم به، وهو الذي تنضبط به، وهو الذي تسعد به في الدنيا والآخرة. فعلى طالب العلم أن يكون حريصاً على أن يتأدب ويفهم ويضبط، فإذا ضبطت ما معك وتفهمت، فأنت في خير وبركة، ولا تتجاوز ذلك إلى الفهم والاجتهاد، فليس وقتك وقت اجتهاد، ولم تعط آلة الاجتهاد، ولم يسغ لك شرعاً أن تنظر في آية فتستنبط منها حكماً، ولذلك فإن هذا الحديث ظاهره يدل على قتل الجماعة بالواحد، لكنه لا يدل، ولو قال الإنسان بدلالته لضرب النصوص بعضها ببعض، ولذلك فينبغي لطالب العلم أن يكون متقيداً بحاله، فأنت في الطلب تحرص على جمع العلم وضبطه، وقراءة الأصول -علوم الآلة- التي تفهم بها كيف تستنبط، وكيف تستنتج، ثم تعرض فهمك واستنتاجك على العلماء، وبعد أن تمضي فترة طويلة تحصل بها هذا العلم المقرون بعلم السلف رحمهم الله وتنضبط بضوابطهم، سيفتح الله عليك وهو خير الفاتحين، ومن أخذ حيث أخذوا، وانتهل من حيث انتهلوا، ووضع القدم حيث وضعوا؛ فُتح عليه كما فُتح عليهم، وبورك له كما بورك لهم. فالخير الذي بارك الله به هذه الأمة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما نفع الله به في سلف هذه الأمة؛ سينفع الله به لخلفها، وفضل الله واسع، وليس محجراً في بعض العصور، وكما قال ابن المنير رحمه الله: فمن ظن أنه محصور في بعض العصور فقد حجر واسعاً. فضل الله واسع، والله يؤتي الحكمة من يشاء، فإذا بدأت بهذه الخطوات؛ فحفظت كتاب الله، وحفظت سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفهمت الأحكام، وجئت تطلب الفقه والأحكام، وصرت طالب علم يفهم، واستفرغت جهدك كله في حفظ ووعي ما يقال لك، ثم انتقلت بعد ذلك إلى درجة المقارنة لمن خالفك، وما دليله، وما حجته، وكيف تفهم دليل المخالف، وكيف ترد عليه، وكيف تقرر دليلك، وكيف تشيده، بعد هذا يفتح الله عز وجل عليك بدرجة الاجتهاد، لكن لا تستعجل، ولا يغرك الناس حينما يقولون: إن عندك الفهم، أو الاستنباط، أو ملكة، أو عندك كذا، فكل هذا لا يغني عنك من الله شيئاً، فالحق لا يعرف بطيب الكلام، ولا بلين الكلام، ولا بمدح المادحين، ولا بزخرفة المزخرفين، ولكنه حق ونور، لو أن أهل السماوات والأرض أرادوا أن يأخذوا هذا النور من حيث لم يأذن الله لم يستطيعوا إليه سبيلاً، ولو تكلم من تكلم، حتى ولو كتب، ولو فعل ما فعل، ولو كان البحر له مداداً، وكتب ما شاء، فلن يستطيع أن يجد قوة الحق إلا إذا أعطاه الله إياها. فهذا الذي ينبغي لطالب العلم؛ فلا تستطيع أن تفهم نصاً، وتحكم فهمه، وتصيب الحق في فهمه، إلا إذا فهمت كفهم السلف. وأختم كلمتي بأن نعرف من هم السلف؟ فلتعلم أن فيهم أقواماً منذ نعومة أظفارهم ما اكتحلت عيونهم إلا بكتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولتعلم أن فيهم أقواماً حفظوا من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم دلالة وتقريراً، حتى أصبح الفهم يجري في عروقهم ودمائهم، فتجد الرجل يضبط أمره كما يضبط الواحد منا فاتحة الكتاب، فهم أناس ما كان عندهم إلا هذا الحق، وما كان عندهم إلا هذا العلم، منذ نعومة أظفارهم، أعرف علماء وأئمة شُهد لهم، منهم من حفظ القرآن وهو ابن تسع سنوات، فما عرف اللعب ولا اللهو، وما نشأ في بطالة، بل نشأ نشأة صالحة، ومثل هذا أكثر توفيقاً من الله، ولذلك يقولون: أوعى القلوب للخير الذي لم يسبق الشر إليه، ومن نشأ نشأة صالحة يفتح عليه بإذن الله عز وجل، ويُعطى نور العلم، ويُنفح من الله عز وجل بنفحاته ورحماته سبحانه وتعالى، كما قالوا: أعضاء حفظناها في الصغر، فحفظها الله لنا في الكبر. واعلم أن هذا الفقه الذي تدرسه اليوم في مجلس واحد في الأسبوع، أنهم كانوا يجلسون-وهذا معروف في كتب التراجم وطبقات الفقهاء- من بعد صلاة الفجر إلى أذان الظهر في مجلس الفقه، وهم لا يتجاوزون الثلاثة الأسطر، والأربعة الأسطر، يقرءونها، ثم يبينون معانيها، ثم يضربون الأمثلة عليها، حتى إذا استقرت وفُهمت، يأتي لعبارة من العبارات تحتاج لشواهد من اللغة، وتحتاج إلى معانٍ لغ

مقدمة كتاب الجنايات [7]

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [7] ذهب جمهور العلماء إلى أنه إذا أكره شخص شخصاً آخر على قتل رجل فقتله، فإنه يقتص من الآمر والمأمور جميعاً، وهناك حالات يقتص فيها من الآمر دون المأمور، منها: أن يكون المأمور غير مكلف، وأن يكون جاهلاً بحكم قتل المسلم، وأن يكون الآمر سلطاناً معروفاً بالعدل، ويقتص من المأمور إذا كان عالماً بتحريم القتل فقتل، وإن اشترك اثنان في قتل واحد وسقط القصاص عن أحدهما وجب على الآخر، وإن عدل إلى الدية وجبت عليهما.

القتل بالإكراه

القتل بالإكراه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ومن أكره مكلفاً على قتل مكافئه فقتله فالقتل أو الدية عليهما]. تقدم في المجلس الماضي استفتاح المصنف رحمه الله لهذا الفصل بحكم قتل الجماعة للواحد، وبناءً على ذلك فسينصب كلام الإمام رحمه الله في هذا الموضع على القتل بالاشتراك، وهو يأتي على صور: منها ما ذكرناه سابقاً أن تشترك جماعة في قتل معصوم الدم فيقتلونه، ويكون فعل كل واحد منهما مفضياً إلى القتل، وقد بينا حكم ذلك. لكن هناك اشتراك من نوعٍ ثانٍ، وهو اشتراك السببية والمباشرة، بحيث يشترك اثنان في القتل على سبيل الإكراه، وقد تقدم معنا في كتاب النكاح -حينما بينا أحكام الطلاق- حكم طلاق المكره، وبينا حقيقة الإكراه لغة واصطلاحاً، وأن الشريعة الإسلامية أعطت هذا النوع من الأمور حكماً خاصاً، لكنه هنا في باب القتل لا رخصة فيه، مع أن الأصل أن المكره معذور بحكم الإكراه، ولكن في باب القتل إذا أكره على قتل معصوم؛ فإنه يُقتص من المُكرِه والمُكرَه معاً، فبين المصنف رحمه الله أن القصاص واجب على الاثنين: على الشخص الذي أكرَه، وعلى الشخص الذي أُكرِه فقتل؛ والسبب في ذلك: أن الذي أكرِه على القتل نجى نفسه بقتل أخيه المسلم، وحينئذٍ يكون كمن قتل غيره ليأكله وينجو.

أقوال العلماء في قتل المكره

أقوال العلماء في قتل المكرَه ذهب جمهور العلماء رحمهم الله -وهو مذهب المالكية والحنابلة في المشهور، والشافعية على الصحيح- إلى أنه إذا أكرِه شخصٌ على قتل معصومٍ فإنه لا يستجيب للإكراه، ولا يحق له شرعاً أن يقتل ذلك المعصوم، والسبب في ذلك: أن دم المعصوم محرمٌ كدمه هو، فإذا قال له: إن لم تقتل فلاناً أقتلك؛ فإنه في هذه الحالة ينجي نفسه بقتل أخيه، ومن شرط الإكراه حتى يكون مؤثراً -كما تقدم معنا في كتاب الطلاق-: أن يكون الذي يطلب من الشخص أهون من الذي يهدد به، فحينما يقول له: طلق زوجتك وإلا قتلتك. فالطلاق أخف من القتل، فحينئذٍ يكون مكرهاً، لكن لو قال له: طلق زوجتك وإلا أخذت منك عشرة ريالات. فتكون العشرة رخيصة، فالعشرة ليست في الضرر والمفسدة كالطلاق، فهذا بلاء يصبر عليه. فإذا قيل له: إن لم تقتل زيداً نقتلك، وإن لم تقتل فلاناً -وهو معصوم الدم- نقتلك. فالواجب عليه أن يمتنع؛ لأنها نفسٌ محرمة، معصومة في الشرع، لا يجوز أن يستبيح حرمتها ولا أن يسفك دمها فيزهقها بدون حق، ومن هنا لا يعتبر الإكراه موجباً للرخصة، وهذا أصح قولي العلماء. وخالف في هذه المسألة الحنفية رحمهم الله فقالوا: إنه لا قصاص لا على الذي أكرَه ولا على المُكرَه؛ لأن الذي أكره وهدد لم يباشر القتل وإنما قتل غيره، والقصاص للقاتل، وهذا لم يقتل، وليس هناك قصاصٌ على الذي هُدِّد -المكرَه- لأنه خرج عن اختياره، وإذا خرج عن اختياره لم يحاسب، وليس هو بقاتلٍ حقيقة؛ لأن الغير ألجأه، ومن هنا قالوا: كما لو دفع فسقط على الغير فقتله؛ فإنه لا يقتص منه.

أدلة القائلين بأنه يقتص من المكره والمكره

أدلة القائلين بأنه يقتص من المكرِه والمكرَه والصحيح هو ما ذهب إليه الجمهور، والدليل على ذلك: أولاً: ما ذكرناه من أنه ليس بمكره حقيقة؛ لاستواء ما طلب منه وما هدد به، فلم يتحقق به الشرط المعتبر شرعاً للإكراه. ثانياً: أن المكرَه الذي أمر بالقتل يُقتص منه؛ لأنه كالشخص الذي أمسك حية فأنهشها للغير فقتلته، فإن الذي قتل في الحقيقة هو الحية، لكن الذي قربها منه وأوصلها إليه وكانت سببية للقتل مؤثرة هو الممسك، ومن هنا يكون الذي أكره وحرك على القتل دافعاً للشخص لسببية لم يشك في تأثيرها في إزهاق الروح؛ لأنه لولا الله ثم هذا الإكراه والضغط لما حصل الإزهاق ولما حصل القتل، ومن هنا يكون الذي أَكرَه قاتلاً من هذا الوجه. ثالثاً: أننا لو قلنا: إنه لا يُقتص من المكره؛ لعاث الناس في الأرض فساداً، فكل شخصٍ يريد أن يقتل شخصاً ما عليه إلا أن يضع سلاحه على شخصٍ آخر ويقول له: اقتل فلاناً وإلا قتلتك، وحينئذٍ ينجو القتلة من القتل، ويذهب معنى القصاص الذي أمر الله عز وجل به وشرعه لعباده. وأيضاً: أهل الفساد يتذرعون بالإكراه لخروجهم من تبعة القصاص، ومن تبعة القتل وما ترتب عليه من القصاص والقضاء، ومن هنا فقول من قال: (إنه يقتص من الآمر والمأمور) قولٌ صحيح؛ لأن الذي أمر وهدد فعل فعلاً أفضى إلى القتل وأثر فيه تأثيراً قوياً، بحيث لو انعدم هذا التأثير لما حصل الإزهاق والقتل، والذي قتل باشر، فحينئذٍ لا يسقط القصاص عن الذي باشر؛ لأنه لا رخصة له؛ لأنه فدى نفسه بأخيه، فكانت أنانية لا يقرها الشرع، وليس مثله مرخصاً له أن يقتل، وعلى هذا يقتص من الاثنين الآمر والمأمور على أصح قولي العلماء، وقد اختار المصنف هذا ودرج عليه.

شروط الاقتصاص من المكره والمكره

شروط الاقتصاص من المكرِه والمكرَه وقوله (ومن أكره مكلفاً) فخرج من أكره غير المكلف، ومن هنا لو أكره مجنوناً أو صبياً وقال له: اذهب واقتل فلاناً وإلا قتلتك، وهدده بما يخاف، فإنه في هذه الحالة يُقتص من الذي أمر ولا يُقتص من الذي باشر؛ لأن غير المكلف يسقط القصاص عنه، ومن شروط القصاص: أن يكون القاتل مكلفاً، فلو أنه هدد صبياً وقال له: اقتل فلاناً، فإن الصبي لا يعقل الأمور ولا يميزها، وقد رفع الله عنه القلم، فأسقط عنه المؤاخذة، فلذلك جماهير السلف والخلف -إلا قولاً ضعيفاً- أن الصبي ولو كان مميزاً غير مكلف؛ لظاهر النصوص الصحيحة الصريحة التي تدل على عدم تكليفه، فإذا ثبت هذا؛ فإننا نقول: يشترط في القصاص من الاثنين (الآمر والمأمور) أن يكونا مكلفين. والعكس: فلو أن مجنوناً وضع السلاح على عاقل ومكلفٍ وقال له: إن لم تقتل قتلتك، فإن الحكم لا يختلف، لكن إذا قتل هذا المأمور؛ فإنه يقتص منه ولا يُقتص من الآمر؛ لأنه فدى نفسه بقتل أخيه، وهذا لا يباح في الشريعة. وقوله: (على قتل مكافئه) من شرط القصاص -كما سيأتي- وجود المكافأة، أي: أن يقتل مكافئاً، فلو كان الذي قتله أعلى منه ففي هذه الحالة ننظر: فتارة يكره حر على قتل عبدٍ؛ فإنه لا يقتل الحر بالعبد، أو مسلمٌ يُكره مسلماً على قتل كافر، فإذا كان هذا الكافر مباح الدم فلا تأثير؛ لأنه لا قصاص مثل الحرب، أو غير معصوم الدم كالزاني المحصن، أو أكرهه على قتل كافرٍ أو على قتل عبدٍ، وهما حران؛ فإنه لا يُقتص منهما. لكن لو أن مسلماً أكره ذمياً على قتل ذمي، فإن الذمي والذمي مرتبتهما واحدة، فيُقتص منهما، وفي هذه الحالة يُقتل الذمي بالذمي، لكن لا يُقتل المسلم بالذمي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نصّ في حديث عليٍ الصحيح: (لا يُقتل مسلم بكافر)، فبين المصنف رحمه الله أن شرط القصاص من الاثنين: أن يكون المقتول مكافئاً لهما، فإذا كان مكافئاًَ لأحدهما؛ اقتص من ذلك الذي يكافئ، وسقط القصاص عن غير المكافئ، كما لو اشترك مكلف وغير مكلف. وبناءً على ذلك لو أن المسلم أكره الذمي على قتل ذمي؛ اقتص من الذمي القاتل، ولم يُقتص من المسلم المكرِه، وإنما يعزر، على تفصيل عند العلماء في مسألة الإكراه إذا سقطت عن الطرف الثاني، والعكس: فلو أن ذمياً أكره مسلماً على قتل ذمي؛ وجب القصاص على المُكْرِه الذمي دون المُكْرَه المسلم؛ لأنه غير مكافئ له؛ لأن الكافر ليس بكفء للمسلم فيقتص منه، وهذا على مذهب الجمهور، خلافاً للحنفية رحمهم الله الذين يرون أن المسلم يقتل بالذمي، لكن الأحناف رحمة الله عليهم لا يرون في الإكراه قصاصاً، وعندهم قاعدة في هذه المسألة وهي حديث: (ادرءوا الحدود بالشبهات)، قالوا: إن الذي قتل عنده شبهة، وهي الإكراه، والذي هدد لم يقتل حقيقة، فلا قصاص على الذي هدد؛ لأنه لم يقتل حقيقة، وقد أمر الله بالقصاص من القاتل حقيقة، ولا قصاص على المكرَه؛ لأن فيه شبهة، وقد أمرنا بدرء الحدود بالشبهات. وهذا قول ضعيف بل باطل لما ذكرناه؛ فكلٌ منهما قاتلٌ من وجه، فإنك لو نظرت إلى الجماعة يشتركون في قتل واحد، لوجدت الإكراه أشبه باشتراك الجماعة في قتل الواحد، كما لو أن أحدهما أمسكه على وجهٍ يحصل به الزهوق، وأزهق الآخر روحه؛ فإنه في هذه الحالة يُقتص من الاثنين: من الذي تعاطى السبب المؤثر في الإزهاق، والذي قتل حقيقة، فكل منهما قاتل. ويجاب كذلك بأن حديث: (ادرءوا الحدود بالشبهات) الشبهة فيه مؤثرة، وهنا الشبهة غير مؤثرة؛ لأن الإكراه لم يثبت حقيقة، وكذلك نقول لهم: الشبهة تكون مؤثرة وموجبة للإسقاط في الحدود والقصاص إذا كانت قوية، وهنا لم تقو على إسقاط حكمٍ شرعي، فكل من الآمر والمأمور قاتل من وجه؛ إذ لولا الله ثم هذا الإكراه لما حصل هذا القتل، فهو قاتل وهو يريد القتل، وهو الذي حرك المأمور والمُكرَه على القتل. والذي قتل وهو المأمور -المكرَه- لا إشكال فيه؛ لأن الإزهاق حصل بفعله، وحينئذٍ يُقتص من الاثنين، فأما الشبهة التي ذكروها فإن الإكراه شرطه: أن يكون ما هدد به أعظم ضرراً مما طُلب منه، وهذا لم يتحقق، فإن المطلوب مساوٍ لما هدد به، وحينئذٍ لم يكن مكرهاً حقيقة. ثم أيضاً: العجب أن الحنفية رحمة الله عليهم من أضيق المذاهب في تحقيق الإكراه، والحكم بالإكراه، فعندهم الإكراه التام، والإكراه الناقص، والإكراه الملجئ وغير الملجئ، وهذا لأنهم لا يرون الإكراه إلا في حدود ضيقة جداً، ويرون أن الإنسان ينعدم به التصرف كلية كما لو رمي شخص فسقط على الغير وهو مكره؛ لأنه لا يستطيع أن يميل يمنة أو يسرة، فالإكراه عندهم مضيق، وهنا اعتبروه شبهة، مع أنه إكراه غير مؤثر، حتى في الطلاق ومسائل الطلاق، ومثل هذا الإكراه الناقص لا يرونه إكراهاً مؤثراً، ولذلك نقول: الصحيح هو مذهب الجمهور، خاصة وأننا إذا نظرنا إلى حكمة الشرع ومقصوده من القصاص كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، فإن هذا ينعدم؛ إذ لا ضير على أحد بل حتى على المجرمين، لا بأس ولا خوف عليهم، وكلما أراد مجرم أن يقتل شخصاً آخر ما عليه إلا أن يهدد شخصاً جريئاً على أن يقتل، أو شخصاً كثير الخوف على القتل فيقول له: اذهب واقتل فلاناً وإلا قتلتك وهكذا.

الشروط التي يتحقق بها الإكراه

الشروط التي يتحقق بها الإكراه وقوله: (ومن أكرَه) لا بد من تحقق شروط الإكراه وهي: أولاً: أن يكون الشخص الذي يهدد قادراً على تنفيذ ما هدد به. ثانياً: أن يكون الذي هدد به فيه ضرر كالقتل هنا، فيقول له: إن لم تقتل أقتلك. ثالثاً: أن يغلب على ظن المكرَه أن الشخص الذي هدده صادقٌ في قوله، وعازمٌ على ما وعده من تنفيذ وعده ووعيده، فإذا كان الشخص يعرف فيه اللعب وعدم الصدق، ويعرف فيه المبالغة في الأشياء؛ فهذا مثله لا يعتد بقوله؛ لأنه يغلب على ظنه أنه لا ينفذ، فلا يكون مكرهاً إلا إذا غلب على ظنه أنه ينفذ. رابعاً: أن يكون الشخص الذي هدد وأُكرِه -المأمور- لا مندوحة عنده، وليس عنده طريقة يستنجد بها، أو ليس عنده طريقة أن يفر أو يستغيث بالغير. والحقيقة أنه في زماننا قد يُكْرَه الشخص وقد يهدد دون أن يكون بالصور القديمة، بحيث يقال له: لم تقتل فلاناً في حدود الساعة العاشرة -مثلاً- نقتلك، فهذا له حكم الإكراه، لكن نفس المسألة نحن نقول: عند من يقول: إن الإكراه يسقط القصاص لا إشكال، فيصير إذا هدد بهذه الحالة والطريقة فهو مكره ويسقط القصاص، لكن نحن نقول: إن الإكراه لا يسقط القصاص؛ لعصمة النفس المقتولة، والشخص الذي نفذ ما هدد به ليس بمكره حقيقة؛ لأنه لم يطلب منه ما هو أقل مما هدد به، ولذلك يقتص منهما معاً.

حالات وجوب القصاص أو الدية على الآمر والمأمور

حالات وجوب القصاص أو الدية على الآمر والمأمور وقوله: (فقتله فالقتل أو الدية عليهما). قوله: (فالقتل) أي: إن طلب أولياء المقتول القصاص عليهما، على المكرِه والمكرَه، سواءً قتلا معاً أو قتل أحدهما، كأن يمسك أحدهما ويفر الآخر، ففي هذه الحالة يقتص من الممسك به، ثم بعد ذلك إذا عثر على الآخر يُقتص منه. فقوله: (أو الدية عليهما) إذا قال أولياء المقتول: نحن لا نريد القصاص، ولا نريد أن يقتل، بل نريد الدية، فالدية عليهما، يدفع المكرِه نصف الدية، والمكرَه النصف الثاني. وهناك أقوال أخرى في المسألة: فمنهم من يقول: القتل على الآمر دون المأمور، وهناك من يقول: القتل على المأمور دون الآمر، فهي أربعة أقوال في المسألة: يقتص منهما، لا يقتص منهما، يقتص من الآمر دون المأمور، يقتص من المأمور دون الآمر، فهذه أربعة أقوال في المسألة، وكل منها -كما ذكرنا- له وجهه. فالذي يقول: يقتص منهما، دليله ما ذكرنا، والذي يقول: لا يقتص منهما، دليله الشبهة، والذي يقول: يقتص من الآمر دون المأمور يقول: لأن المأمور مكره ومعذور، والآمر هو الذي حركه، فأشبه ما لو أمسك حية وقتل بها، والذي يقول: يقتص من المأمور دون الآمر قال: لأن المأمور هو الذي باشر، وكان المفروض ألا يستجيب له، وليس بمكره، والآمر فيه شبهة؛ لأنه لم يقتل حقيقة. والصحيح ما ذكرناه: أنه يقتص من الجميع، وإذا ثبت أنه يقتص من الجميع فالدية على الجميع، أي: على الاثنين، ويستوي في هذا أن يهدد شخصاً، أو يهدد أكثر من شخص، ما دام أنهما باشرا القتل، فلو أن جماعة هددت شخصاً واحداً، وكلهم قالوا له: إن لم تقتل نقتلك، فصار كالاشتراك في القتل، ومن هنا نفهم لماذا صدر المصنف الفصل بقتل الجماعة بالواحد، ثم جاء بمسألة قتل المكرَه والمكرِه، وهذا من باب القتل بالسببية. فالأول: اشتراك في الفعل وهو القتل، أن تشترك جماعة في الإزهاق، والثاني: أن تشترك جماعة في القتل بسببية ومباشرة.

الحالات التي يقتل فيها الآمر دون المأمور

الحالات التي يقتل فيها الآمر دون المأمور قال المصنف رحمه الله: [وإن أمر بالقتل غير مكلف، أو مكلفاً يجهل تحريمه، أو أمر به السلطان ظلماً من لا يعرف ظلمه فيه، فقتل، فالقود أو الدية على الآمر]. من ترتيب الأفكار ذكر المسائل المفرعة على مسائل الأصول، فقتل الجماعة بالواحد هي مسألة أصل في هذا الباب، وأمر الغير أن يقتل بالإكراه وبدون إكراه، بالإغراء، أو بالتغرير، والكل يجمعها أصل واحد وهو الاشتراك في القتل، فلما كان الاشتراك في القتل له تأثير عند من يقول بقتل الجماعة بالواحد، فصدر رحمه الله بمسألة قتل الجماعة بالواحد، ثم أتبعها بمسألة السببية، وإذا جاءت مسألة السببية، فتارة تكون السببية بالأمر، وهذه يسمونها: السببية الحسية؛ لأن هناك سببية تؤثر حساً، وسببية تؤثر عرفاً، وسببية تؤثر شرعاً، فالسببية الحسية منها: مسألة الإكراه حساً، كشخص هدد أنه سيقتل، فهذا بالحس ندرك، أنه إذا ضغط عليه سيقتل، فهذه اشتراك للسببية في الحس. والسببية بالعرف: مثل أن يأتي ويقدم له طعاماً وهو ضيفه، وفي الطعام سم -أعاذنا الله وإياكم- فأكل السم فمات، وهذه قد تقدمت معنا، فإنه قد درج في العرف على أنه إذا قدم الطعام للضيف فإنه يأكله، فصارت سببية مؤثرة بالعرف؛ لأنه قد يقول قائل: إن الشخص الذي أتى بالطعام وقدمه للضيف ما جاء ووضع السم في بطنه، وليس هو الذي باشر قتله، وإنما الشخص هو الذي باشر وأكل، فيتحمل مسئولية نفسه، فنقول: لا، لما كان العرف يحرج هذا الضيف ويلجئه إلى أن يأخذ من هذا الطعام؛ صار العرف يثبت أن صاحب الضيافة يحتاط لضيفه ويصون له طعامه، فصار هذا موجباً لقوة التأثير في السببية؛ لأنه في بعض الأحيان تكون السببية قوية، وأحياناً تكون ضعيفة، فيقولون: إن هذه سببية مؤثرة بالعرف. وهنا في مسألتنا بالحس مثلاً: الشهود إذا شهدوا بالزور فإنهم ليسوا هم الذين قتلوا، وإنما القاضي قضى، والذي قتل هو الذي نفذ حكم القاضي، لكن سببية الشهادة شرعاً تثبت القتل، والشرع يلزم بقتل هذه النفس، فهي مؤثرة استناداً إلى الشرع، وقس على هذا، ففي مسألة الشهادة، الحس يثبت أن الإكراه يدفع المكرَه دون اختياره، فهناك اشتراك من نوعٍ آخر، وهو أن يأمر غير المكلف.

الحالة الأولى: أن يكون المأمور غير مكلف

الحالة الأولى: أن يكون المأمور غير مكلف قال رحمه الله: [وإن أمر بالقتل غير مكلف] كأن دعا صبياً وقال له: اذهب واقتل فلاناً، والصبي لا يعصي، كأن يكون والداً له، أو يكون شريراً يخاف منه الصبي ويفزع، فقال له: اذهب واقتل فلاناً، فذهب وقتله؛ فإنه يسقط القصاص عن الصبي؛ لأنه غير مكلف، ويجب القصاص على الآمر؛ لأنها مثل مسألة الإكراه، فالصبي أو المجنون يندفع بدون شعور. والمجنون قد يفعل بتمييز، فإن بعض المجانين عنده نوع تمييز، وبعضهم يكون فعله بدون تمييز، فمثلاً: بعض المجانين -أعاذنا الله وإياكم- يقال له كلام معين فيحدث عنده رهبة أو خوف، وعندها يتصرف بتصرفات معينة تفضي إلى القتل، سواء قتلت صبياً أو امرأة أو رجلاً، ما دام أنه يعلم أن هذه الإثارة لهذا الشخص غير المكلف مفضية إلى إزهاق الروح التي أزهقت وماتت؛ فإنه قاتل كفعل الإكراه في المكرَه؛ لأن مراده التأثير، ولذلك فالصبي قد يُدفع إلى القتل بالقوة أو بالتخويف والتهديد، وعقله قاصر، ويضيق شرط الإكراه في الصبي أكثر منه في غير الصبي؛ لأن غير الصبي يكون عنده من العقل والتمييز والإدراك للأمور ما يستنجد معه بالغير، أو يستغيث به بعد الله بالغير، أو يمكر، أو يحتال، ولكن الصبي لا حيلة له غالباً، فمن هنا إذا أمر غير مكلف؛ فالحكم أنه يسقط عن غير المكلف لوجود موجب الإسقاط، كما لو قتل الصبي منفرداً فإنه لا قصاص عليه، فيسقط القصاص عن غير المكلف، ويثبت القصاص على الآمر المكلف. ويدخل في هذا أيضاً المجنون، فالصبي والمجنون كلٌ منهما إذا أُمر بالقتل فقتل فإنه يقتل الآمر، إذا قال أولياء المقتول: نريد القصاص والقود.

الحالة الثانية: أن يكون المأمور يجهل تحريم القتل

الحالة الثانية: أن يكون المأمور يجهل تحريم القتل قال المصنف رحمه الله: [أو مكلفاً يجهل تحريمه]. انظر إلى فقه المسألة؛ حيث إن المصنف رحمه الله ذكر لك أن هذا النوع من السببية إما أن يوجب القصاص على الاثنين كما في الإكراه، وإما أن يوجبه على أحدهما دون الآخر، فإذا أوجبه على أحدهما دون الآخر نوع رحمه الله في المثال، فجعل الصورة الأولى التي يسقط القصاص فيها عن المأمور الذي هو الصبي غير المكلف، والصورة الثانية يثبت القصاص على الآمر، وهنا إذا أمره السلطان أن يقتل ظلماً، وهو يعرف أن السلطان عادل، أو قال له القاضي: اقتل فلاناً، فإنه من جنس الأول. فذكر رحمه الله أنه إذا وجد العذر في المأمور؛ كأن يكون صبياً أو مجنوناً، فهنا العذر في ذات الشخص، وصورة أمر القاضي أو أمر الوالي يشترط فيها شروط: منها: أن يكون معروفاً بالعدل، أو يكون الشخص الذي أمر بالقتل مغرراً به، أو يجهل تحريم القتل، فهذه كلها صور سيذكرها المصنف رحمه الله من باب تطبيق القاعدة. فقوله: (أو مكلفاً يجهل تحريمه) يصبح العذر موجوداً في المأمور، فإذا أمر مكلفاً يجهل تحريمه، كأن يكون حديث عهد بإسلام، فجاءه شخص وقال له: يا فلان! إذا قتلت فلاناً دخلت الجنة، وهو لا يدري؛ لجهله بأحكام الشريعة، ولم يلبث أن دخل في الإسلام يريد الجنة، فجاء وقتل فلاناً، فقلنا له: لم قتلت أخاك، هذا لا يجوز في الإسلام؟ فقال: أنا كنت أظنه يجوز، بل كنت أظن أنه يدخل الجنة. وقد ذكروا في بعض العصور الإسلامية وقوع مثل هذا -نسأل الله السلامة والعافية- وكان من عجيب ما فعله أحد قضاة المسلمين بالآمر أنه ابتدأ بتعزيره، فعذبه أشد التعذيب، ثم بعد ذلك أمر بقتله، فما اقتصر على الاقتصاص منه؛ لأنه نظر إلى الكذب على الله عز وجل - نسأل الله السلامة والعافية- والجرأة على أن يقول الإنسان: إن قتل معصوم يوجب دخول الجنة، ولا يستطيع الإنسان أن يشهد لنفسه بدخول الجنة. فالشاهد: أن حديث العهد بالإسلام قد يغرر به وينخدع، أو يفعل فعلاً كان يفعله في جاهليته وكفره، وهو يظن أنه لا بأس بفعله بعد إسلامه، فكل من خاصمه أمسك سلاحه وقتله، فلما أسلم ودخل في الإسلام لم يطمئن قلبه بعد ببيان الأحكام، فجاء وقتل مباشرة، ظناً أن مثل هذا الفعل جائز، فهذا يعذره العلماء، وهو ما يسمى: العذر بالجهل، وهي مسألة دقيقة جداً عند المحققين من أهل العلم. أما أن يأتي شخص إلى الحج والعمرة، ويدخل في أحكام الحج على مزاجه وعلى كيفه، ثم يقول: أنا كنت أجهل الحكم، ويقال له: ليس عليك شيء؛ فإن هذا مما لا ينبغي، فالعلماء موجودون، والكتب موجودة، والأشرطة مسموعة، وهذا ليس بمعذور، وعذره يعتبر إعانة على الإخلال والتقصير والعبث بالأحكام الشرعية، أما أن يكون هناك شخص يكون الجهل فيه واضح التأثير في إسقاط الحكم. كحديث العهد بالإسلام وليس عنده وقت يتعلم لكي يدرك مقاصد الشريعة ويبين له ما حل وحرم، فمثل هذا يكون جهله مؤثراً، وكذلك الشخص في البرية البعيدة التي لا يوجد فيها علماء. وعلى كل حال: سواء كان الجهل عذراً أو ليس بعذر أولاً يحرر ما هو الجهل الذي يعذر بمثله، ومن هو الشخص الجاهل الذي يعذر مثله، ثم بعد ذلك ينظر في مسألة العذر بالجهل، كالمسألة التي ذكرها المصنف رحمه الله؛ لأن العذر فيها فعلاً مؤثر؛ فحديث العهد بالإسلام لم يسعه الوقت الذي يعلم فيه تحريم قتل أخيه، فيعذر لجهله، ويسقط القصاص في هذا.

الحالة الثالثة: أن يكون الآمر سلطانا معروفا بالعدل

الحالة الثالثة: أن يكون الآمر سلطاناً معروفاً بالعدل وقوله: (أو أمر به السلطان ظلماً من لا يعرف ظلمه فيه). كالقاضي يكون عنده سياف، فقال له: خذ فلاناً واقتله. فإذا عُرف الوالي أو السلطان أو القاضي بالعدل، وعَرف المأمور منه العدل، وأنه لا يظلم، فهذا عذر به جمهور العلماء رحمهم الله؛ لأن الغالب كالمحقق، فلما كان غالبه العدل والإنصاف، وعرف منه العدل؛ فإن مثله يعذر، أما لو كان معروفاً بالعكس فلا يعذر، لكن الإشكال في الشخص الذي يعلم أنه أمر بقتله ظلماً؛ ولذلك قال: (لا يعرف)، فكون المأمور جاهلاً بظلم الآمر، سواء كان قاضياً أو سلطاناً أو غيره، فيعذر، وأما إذا كان عالماً؛ فاختار طائفة من العلماء أن القصاص على المأمور دون الآمر، ما لم يكن الآمر قد أثر عليه وضغطه على وجه يرتقي به إلى الإكراه، فحينئذٍ القصاص على الآمر والمأمور. قال المصنف رحمه الله: (فالقود أو الدية على الآمر)، أي: في هذه الحالة القود أو الدية على الآمر؛ لأن المأمور جاهل بظلم الآمر، أو غير مكلف، أو يجهل تحريم القتل، وكلها أعذار موجبة لسقوط القصاص عنه.

الحالة التي يقتل فيها المأمور دون الآمر

الحالة التي يقتل فيها المأمور دون الآمر قال المصنف رحمه الله: [وإن قتل المأمور المكلف عالماً بتحريم القتل فالضمان عليه دون الآمر]. قوله: (وإن قتل المأمور المكلف عالماً) أي: حال كونه عالماً بحرمة قتل من يقتله؛ فإنه في هذه الحالة يكون القصاص على المأمور وحده. إذاً: هناك القصاص على الآمر، وهنا القصاص على المأمور، ومن هنا ندرك فائدة ترتيب المصنف لهذه المسائل بعد مسألة الإكراه، فالإكراه يقتص منهما معاً، وإن حصل الخلل في المأمور اقتص من الآمر وحده، فإن كان المأمور لا خلل فيه ويعلم أنه أمر بالظلم، وأنه أمر بقتل معصوم، فأقدم على القتل، فالقصاص على المأمور دون الآمر. فأصبحت الصور ثلاثاً: يقتص من الآمر والمأمور في حالة الإكراه، إذا كان كلٌ منهما قد استوفى شروط القصاص والقود. ويقتص من الآمر دون المأمور إذا كان المأمور به عذر، مثل أن يكون غير مكلف، أو يكون جاهلاً بحرمة القتل في الإسلام مثل حديث العهد بالإسلام، أو جاهلاً جهلاً معيناً؛ كأن يكون الشخص الذي أمر بقتله مظلوماً، وظن أنه يقتل بالحق، فحينئذٍ في هذه الثلاث الصور يقتص من الآمر دون المأمور؛ لأن في المأمور عذراً يمنع القصاص منه. والصورة الأخيرة: إذا كان المأمور مكلفاً عالماً غير معذور، فإنه في هذه الحالة يُقتص من المأمور دون الآمر، إلا في مسألة الصبي، فقد ذكرنا أن بعض العلماء قال: في مسألة الصبي يقتص من الآمر دون المأمور، لكن في الصورة الثالثة -وهي التي يقتص فيها من المأمور دون الآمر- قالوا: لأن المأمور أقدم على القتل بدون إكراه وبدون ضغط، ففي هذه الحالة يُقتص منه؛ لعلمه بحرمة دم المقتول، وعلمه بحرمة القتل، فليس فيه عذر يمنع من القصاص منه. ولو قال قائل: إنه أمر، فنقول: إنه أمر على وجهٍ لم يكن الأمر فيه سبباً مؤثراً -أي قوي التأثير - في الإزهاق، فليس هو مثل الإكراه، حيث إن أمر الإكراه سبب قوي التأثير في الإزهاق، لكن هنا الأمر ليس بسببٍ مؤثر في الإزهاق، إلا فيما استثنيناه في مسألة الوالي إذا أكره أو ضغط، فحينئذٍ تنتقل المسألة إلى مسألة المكرِه والمكرَه، فيقتص منهما، ويجب القصاص والقود عليهما.

إذا اشترك اثنان في قتل وسقط القصاص عن أحدهما

إذا اشترك اثنان في قتل وسقط القصاص عن أحدهما قال رحمه الله: [وإن اشترك فيه اثنان لا يجب القود على أحدهما منفرداً لأبوة أو غيرها فالقود على الشريك]. من باب ترتيب الأفكار: فقد ذكر رحمه الله مسألة إذا اشترك اثنان، فعرفنا متى يقتص من الاثنين معاً، ومتى يقتص من الآمر دون المأمور، ومتى يكون القصاص بالصورة العكسية، والسؤال الآن: لو أنه اشترك اثنان، أحدهما يجب القصاص عليه، والثاني لا يجب القصاص عليه، وقال أولياء المقتول: لا نريد القصاص، بل نريد الدية، وكنا قد ذكرنا أنه إذا اشترك اثنان يجب القصاص على أحدهما دون الآخر، فيقتص من الذي يجب القصاص منه، فلو عفا أولياء المقتول عن الدم فهل تجب الدية عليهما، أو تجب على الذي يجب عليه القصاص؟ بين المصنف رحمه الله أنها تجب عليهما، وبناءً على ذلك يكون عليه نصف الدية، فقال رحمه الله: (وإن اشترك فيه اثنان لا يجب القود على أحدهما منفرداً لأبوة أو غيرها فالقود على الشريك). فقوله: (فالقود على الشريك) إذا اشترك اثنان لا يجب القصاص على أحدهما، كما لو اشترك -والعياذ بالله- مع شخصٍ أجنبي وقال له: أريد أن أقتل ولدي هذا، فساعدني على قتله، فاشترك الاثنان، وقتل هذا الولد، وحصل الزهوق بفعلهما بالشروط المعتبرة في اشتراك الجماعة، ففي هذه الحالة الأب لا يجب عليه القصاص، كما سيأتي إن شاء الله وسنذكر دليل ذلك، والأجنبي يجب عليه القصاص؛ لأن الأب سقط عنه القود لمعنى يخصه، وهذا المعنى لا يؤثر في السببية؛ لأن الإزهاق والقتل حصل بفعل الاثنين، وكان أحدهما عنده عذر يخصه لم يسرِ العذر إلى غيره، والقصاص في الأصل واجب على الاثنين، فإذا تعلق الإسقاط وتعلقت الرخصة بأحدهما لم تسرِ إلى الآخر وهو الأجنبي، فيجب القصاص على الأجنبي دون الوالد، هذا أصل المسألة. قال رحمه الله: [فإن عدل إلى طلب المال لزمه نصف الدية]. أي: إذا عفا الأولياء فإن الأجنبي يدفع نصف الدية؛ لأن الدية مشطرة بينهما. إذاً: المصنف رحمه الله بين حكم اشتراك الجماعة في قتل الواحد اشتراكاً على وجهٍ لو انفرد كل واحدٍ منهم لقتله، فكلٌ منهم قاتل، ويجب القصاص على الجميع، وإن عفي لزمتهم دية واحدة، وانتقل بعد ذلك للاشتراك بالسببية في مسألة الإكراه ومسألة الأمر بالقتل، وفصل رحمه الله في هذا، ثم شرع في مسألة اشتراك من يعذر ومن لا يعذر، فبين أن سقوط القصاص والقود عمن يعذر لا يوجب سقوطه عمن لا يعذر؛ لأنه لو انفرد فعل كل واحد منهما لأوجب الزهوق، وبناءً على ذلك فكلٌ منهما قاتل، فإذا عفي عن أحدهما أو أسقطت الشريعة القصاص عن أحدهما لمعنى لا يوجد في الآخر؛ فإن الرخص لا يُتجاوز بها محالها. وهذا أصل في الشريعة: أن الشيء الذي يكون معذوراً يختص العذر به ولا يتجاوزه لغيره ممن لا يوجد فيه هذا العذر، وإلا ضاعت أحكام الشريعة، فهذا الأجنبي مع هذا الوالد قاتل، وإذا سقط القصاص عن الوالد لمكان الأبوة لم يسقط عن الأجنبي، وكذلك لو مات أحد الشركاء في القتل قبل أن يُقتص منهم، فإنه يقتص من الباقين، فلو أن ثلاثة قتلوا زيداً من الناس، فمات أحد الثلاثة قبل القصاص، وقال أولياء المقتول: نريد القصاص؛ فإنه يقتص من الاثنين الباقين، وموت أحدهم لا يسقط كون البقية قتلة. ومن هنا إذا كان الخلل مرتبطاً بسببية القتل، ويوجب التأثير فيها، فحينئذٍ يكون مؤثراً، أما هنا فإنه ليس من هذا الباب، ولذلك لا يوجب إسقاط القصاص عن الأجنبي، فيقتص من الأجنبي ويترك الوالد ولا يقتص منه؛ لأن القصاص لا يجب في حقه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم سقوط الجنين نتيجة الحمل الثقيل على الحامل

حكم سقوط الجنين نتيجة الحمل الثقيل على الحامل Q امرأة كانت حاملاً، فرفعت ثقيلاً، ثم سقط الجنين، فهل عليها كفارة أثابكم الله؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: أولاً: لا بد للإنسان أن يذكر بعظمة الله سبحانه وتعالى، فقد كنا في صلاة المغرب وخلال دقائق يسيرة نظر الإنسان إلى عظمة الله جل جلاله، وحقارة الناس أمام رب الجنة والناس، لحظات يسيرة لو شاء الله أن يهلك من على الأرض لأهلكهم، يذكر الله سبحانه وتعالى الغافلين، ويوقظ النائمين، وهذه الأشياء التي يحتاجها الإنسان ليكون قلبه حياً دائماً، وإذا أرى الله عبده الآيات والنذر فاتعظ قلبه وانكسر فؤاده؛ أصلح الله حاله، وعرف الله عز وجل، ومن عرف الله نال سعادة في الدنيا والآخرة. وليس هناك شيء في الدنيا أعز ولا أكرم ولا أعظم من المعرفة بالله عز وجل من عرف جبار السماوات والأرض الذي بيده أزمة الأمور ومقاليدها، من أسلم له من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً، الكهرباء تقف أمام عظمته ذليلة فتنطفئ، والسيارات تتعطل، والطرقات تتوقف، ولا يستطيع أحد أن يقدم شيئاً أخره الله أو يؤخر شيئاً قدمه الله؛ لأن الأمر أمره، والملك ملكه، والتدبير تدبيره جل جلاله. ثم لو خرج الإنسان إلى الدول التي فيها الجنات والنعيم، لرأى أشياء تهز القلوب، وهذا الذي نراه يسيراً، ففي بعض الأحيان يأتيهم الإعصار -أعاذنا الله وإياكم- دقائق معدودة فلا يبقي ولا يذر، وتجد الخلق عاجزين لا يستطيع أحد أن يتحرك، والعجب كل العجب أن الله لا يسلط مثل هذه الأمور إلا على أقوى دول الأرض، حتى يعلموا أن الله فوقهم، وأن الله قاهرٌ لهم، وأنه سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، وأن الأمر أمره، والكون كونه، والتدبير تدبيره، ولكن ما أغفل الخلق عن الخالق سبحانه وتعالى! كل شيء يتحدث عنه الناس، وكل شيء يذكره الناس إلا الله جل جلاله، فما أغفلهم عن ربهم! الواحد منا لو حصل له ظرف أو نكبة أو كربة فوجد أحداً يقف بجنبه وقوف العاجز مع العاجز، وضعف الطالب والمطلوب، وإذا أجرى الله على يد هذا العاجز فرجاً، وفتح له باباً ومخرجاً، جعل يتحدث بهذه الحسنات، ويفتخر لهذا الرجل بمآثره، ويزين قبيحه، ويرفع وضيعه، ويزكي فاسده، كل هذا من أجل هذا المعروف، فأين الله جل جلاله؟! أين الله سبحان وتعالى الذي ما من طرفة عين ولا أقل من ذلك إلا وهي نعمة مرسلة عليك، وألطافه، ورحمته، وحلمه، وإحسانه وبره، كيف لو أن هذا البلاء وهذا المطر الشديد لو أن الله سبحانه وتعالى أذن أن يستمر ليلة واحدة، كيف سيكون حال الناس؟! كيف لو أن الله أرسل هذه الصواعق التي يصيب بها من يشاء! وقف رجل ملحد ذات مرة من المرات يقول لشخص أثناء نزول المطر: من هو الله -أعوذ بالله- الذي تدعوني إلى عبادته؟ فما انتهى من كلامه حتى أصابته صاعقة قسمته قصمته نصفين، وصدق الله في وصفه: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:13]. فالسعادة التي يبحث عنها كل سعيد، وسيجدها كل موفق، هي المعرفة بالله سبحانه وتعالى، فلا تمر عليك لحظة إلا وقد ازددت معرفة بملك الملوك، وجبار السماوات والأرض، وعرفت من الذي بيده الأمر كله {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:123]. تعرَّف على ملك الملوك، تعرف على جبار السماوات والأرض، تعرف على من لا تخفى عليه خافية، تعرف على الذي {بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون:88]. لقد كان الناس في شدة وضيق وفقر، والشخص تراه يسافر في خوف وفقر وجوع، وأحوال شديدة، لكن كانت قلوبهم عامرة بالله جل جلاله، فكان خوفهم أمناً، وجوعهم سبعاً، مما يجدون من لذة المعرفة بالله سبحانه وتعالى، فلن تضيق الدنيا على عبدٍ عرف الله، ولن تضيق الدنيا على عبدٍ أخذ من هذه الدلائل والشواهد زاداً للقاء الله، وعرف من ربه ومن خالقه، فالناس تعتريهم الغفلات، وتحيط بهم من كل جانب الملهيات، وتجدهم بعيداً عن التفكر في ملكوت الأرض والسماوات، ولكن يرسل الله الآيات تخويفاً، فتقرع قلوب المؤمنين فتزيدهم توحيداً وتحقيقاً، وصدقاً وإحساناً وبراً له سبحانه وتعالى، ويقيناً بعظمته، والعبد من لحظة إلى لحظة ومن فكرة إلى فكرة تقربه إلى ربه، وتزيده إيماناً بخالقه؛ فعندها يطمئن القلب بالله عز وجل. فكيف لو كشف الله للعبد ملكوت السماوات والأرض! وكيف لو كشف الله له أخذه بأزمة الأمور ومقاليدها! فرسول الأمة صلى الله عليه وسلم لما جاءه عام الحزن، وأراد الله عز وجل أن يملأ قلبه بأعز الأشياء وأحبها إليه، أسري به صلوات الله وسلامه عليه، ثم عرج به إلى أطباق السماوات العلى، ومن بعدها ما عرف خوفاً إلا من الله، عرف من هو الله سبحانه وتعالى: (إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأتقاكم)، فكان أخشى الخلق وأتقاهم صلى الله عليه وسلم لماذا؟ للنظر في هذه الآيات والدلائل، ولذلك كان إذا هبت الريح دخل وخرج، وعرف في وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وكان يخشى أن تكون كريح عاد التي أخذهم الله بها أخذ عزيزٍ مقتدر. ثم إذا أحس المؤمن أن الكون لهذا الرب الذي يرسل الرياح، ويجري الأنهار والبحار، وله الليل والنهار؛ علم أنه مهما طغى في هذه الأرض طاغية فإن الله سيقصم ظهره، وسيشتت أمره، وسيتأذن الله عز وجل بنهايته إن عاجلاً أو آجلاً، ولذلك عرف الموحدون ربهم فاطمأنوا، تجد الناس في قلق وهم في طمأنينة، في خوف وهم في أمن للمعرفة بالله عز وجل، والمعرفة بعظمته في لحظة واحدة، في شدة الحر والصيف ينزل المطر، وقد يكون نزوله في هذه الدقائق يمكن من خلال فصل ما مر مطر بهذا الشكل؛ لأن الله أذن له أن ينزل. ثم انظر كيف سبحانه، وهذه من أعظم الدلائل التي ينبغي للمؤمن أن يتفكر فيها، أن الله أخلف السنن والعادات، وأجرى أشياء تناقضها حتى يتفكر الناس، ويعلم أن الأمر له سبحانه لا لغيره، ولذلك فمن عادة الصيف ألا يوجد فيه المطر، ولذلك قال القائل: سحابة صيف عن قريب تقشعُ لكن الله قال لها: كوني فكانت، وقال لها: أفرغي ما فيك فأفرغت، وأسلمت واستسلمت، وذلت لله عز وجل، وحق لها أن تذل، فهذا كله بأمره، ويرينا هذه الآيات والدلائل ليس في فصل الشتاء بل في عز الحر، قبل ساعات ونحن نكتوي بلظى الحر، كلٌ منا يريد شيئاً يبرد عليه، مكيفاً أو غيره، وإذا به سبحانه وتعالى يري عباده عظمته وجلاله. ثم انظر كيف إذا جاءت آيات الله عز وجل -في غير ما اعتاده الناس- فتهز قلوب العباد هزاً، والله ما من إنسان ملأ عينه من عظيم في الدنيا -أياً كان هذا العظيم- إلا احتقره في جنب الله جل جلاله، من عظمة الله سبحانه وتعالى. فالناس صنعت الطائرات، وفعلت بأمر الله عز وجل وبقدرته، ولكن الطائرات إذا هبت الرياح لا تطير، وإذا طارت سقطت، وأصبحت في كرب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يمسكها بين السماء والأرض أن تسقط، ولو صنعوا ما صنعوا من القوى العاتية التي مهما بلغت فلابد أن تجدهم يذلون له سبحانه وتعالى، وحق لهم أن يذلوا له وحده لا شريك له. لكن من الذي يتعظ؟! ومن الذي يتفكر ويتدبر؟! البراكين تنفجر، فإذا انفجرت لو اجتمع أهل الأرض على أن يخمدوا بركاناً لما استطاعوا، هل سمعتم بما يسمونه بالعلم الحديث؟ لا علم حديث ولا قديم، هذا كله تعليم من الله عز وجل: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} [الأنعام:6]، فلا ينفع علم حديث ولا غيره، فهل وجدتم علماً حديثاً أطفأ بركاناً إذا انفجر؟ هل وجدتم علماً حديثاً أمسك إعصاراً أمر الله له أن يجري؟ هل وجدتموه يتحرك ويفعل شيئاً؟ يقفون مستسلمين؛ لأن الله جعل لهم حدوداً معينة إنهم يقفون عندها يذلون له سبحانه وتعالى. فهذه كلها دلائل لا ينبغي للمؤمن أن يتغافل عنها، فإن المؤمن إذا أرسل الله له الآيات وأصبح في غفلة ولا يتعظ ولا يتفكر؛ قد يطبع -والعياذ بالله- على قلبه فيكون من الغافلين. فسعادة الدنيا وسرورها بالتفكر في عظمة الله جل جلاله، والتفكر والتدبر في عظمة الله جنة فهنيئاً لمن دخلها، وهنيئاً لمن عاش بينها، حيث يجعل الله بها لوليه المؤمن ما لا يخطر له على بال، فمتى ما عرفت ربك هان عليك كل شيء سوى الله سبحانه وتعالى، ومن جهل بالله سلط الله عز وجل عليه نقمة الدنيا والآخرة، ولذلك تجد أضعف الناس وأخوف الناس وأجبن الناس من كان جاهلاً بالله {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، فهؤلاء هم أخوف الناس، وأتعس الناس، ولذلك فإن الشخص منهم يحسب حسابات مادية، إذا قعد على كرسيه ربط حزامه وجلس يحسب الأشياء حساباً دقيقاً من الخوف والذل {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96]، ولكنه لن يستطيع أن يفلت من عظمة الله جل جلاله ومن أمره. فهذه كلها دلائل واضحة على عظمة الله سبحانه وتعالى، ينبغي للإنسان ألا يغفل عنها، وهذه الآيات التي نراها أشياء جعلها الله عز وجل حتى نتفكر ونتدبر ونتعظ بها، ونقول ملء قلوبنا وملء ألسنتنا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، ولا معبود غيره سبحانه وتعالى جل جلاله فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يزيدنا من الإيمان به، والتصديق والتسليم له، وأن يملأ قلوبنا بالمعرفة به، وأن يجعلنا من المحسنين والموقنين، وأن يختم لنا ولكم بخاتمة السعداء المفلحين، إنه ولي ذلك وهو أرحم الراحمين. أما الجواب عن السؤال: فهذه المسألة فيها تفصيل:

إذا مات أحد القاتلين بعد العدول إلى الدية

إذا مات أحد القاتلين بعد العدول إلى الدية Q إذا مات أحد الشريكين في القتل بعد العدول إلى الدية، فهل تجب كل الدية على الحي كاملة أثابكم الله؟ A يجب نصف الدية على الشريك، ثم الآخر الذي مات قبل القصاص تجب نصف الدية في ماله، وحكمها حكم الدين، والله تعالى أعلم.

ما يقال بين خطبتي الجمعة

ما يقال بين خطبتي الجمعة Q نرجو توضيح ما يجب فعله ما بين الخطبتين: هل ندعو أم نستغفر أثابكم الله؟ A الأمر واسع في هذا، لكن جرت العادة بالاستغفار، وهذا له أصل من فعل بعض السلف رضي الله عنهم من الصحابة، لكن إذا أمر الخطيب بالاستغفار فالأفضل أن يستغفر ولو مرة واحدة؛ لأنه كولي الأمر، فيسمع له لأنه ولي أمر المسجد، فالعالم في حلقته ولي أمرها، والخطيب في خطبته ولي أمرها، فينصت له ولا يتكلم إلا معه، والإمام في مسجده ولي أمره، فإذا أمر بالاستغفار فيطاع أمره، وهذا الموضع -ما بين الخطبتين- مذهب بعض العلماء أنه مظنة الساعة التي يستجاب فيها الدعاء، وقالوا: إن قوله: (وهو قائمٌ يصلي) يشكل على هذا القول، لكن أجاب بعض العلماء بأن قائماً يصلي من الإقامة في المكان والموضع، ومن جلس ينتظر الصلاة فهو في حكم من يصلي، وقالوا: إن الخطبتين في حكم الركعتين الأوليين من الظهر، ولذلك منع الكلام فيهما، وهذا مما خرجوا به، فأحد الأقوال: أنه موضع الساعة التي يجاب فيها الدعاء، فيجتهد فيه بالدعاء، وأما الأصل فإنه فلا بأس ولا حرج على المسلم أن يدعو فيما بين الخطبتين، وهذا محفوظ من فعل السلف، كما في صحيح البخاري من فعل الصحابة مع عمر رضي الله عنه وأرضاه، ورضي الله عن الجميع وأرضاهم، والله تعالى أعلم.

حكم القود من الجد إذا قتل ولد ابنه

حكم القود من الجد إذا قتل ولد ابنه Q إذا قتل الجد ولد ابنه فهل يقتل أثابكم الله؟ A الأصل عدم قتل الوالد بولده، وهذه المسألة ستأتي -إن شاء الله- وأحب أن الأسئلة التي ستأتي تترك، وعلى كل حال هذه المسألة جمهور السلف على أنه لا يقتل الوالد بالولد، والجد والدٌ لولده، ومن هنا يقولون: يشمل الوالد المباشر، والوالد بواسطة، وهناك بعض العلماء يرى أنه يقتل الجد إذا قتل إعمالاً للأصل، ويرون أن القود مختص بالوالد، ولكن ظاهر أثر علي رضي الله في السنن أنه لا يقاد الوالد بولده، والله تعالى أعلم.

حكم النفث مع قراءة المعوذات دبر الصلوات

حكم النفث مع قراءة المعوذات دبر الصلوات Q هل من السنة النفث عند قراءة المعوذات دبر الصلوات المفروضة أثابكم الله؟ A السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نفث قبل القراءة عند النوم، كما في حديث عائشة في الصحيح: أنه كان يجمع كفيه فينفث فيهما ثم يقرأ المعوذات فيمسح، ثم يرجع مرة ثانية، ثم مرة ثالثة، هذه هي السنة، ولا يكون النفث بعد القراءة إلا عند النوم خاصة، ولم يحفظ نفثٌ إلا في هذا الموضع، فيقتصر على الوارد، لكن إذا كان يريد أن يرقي نفسه فنفث ومسح على جسمه فلا بأس، فقد جاء في الحديث الصحيح: (فكنت أقرأ الفاتحة ثم أجمع بريقي وأتفل عليه)، فالرقية لا بأس فيها بالنفث وأيضاً التفل اليسير؛ لأن لها أصلاً، أما بالنسبة لقراءة المعوذات فإن الثابت في حديث السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أدبار الصلوات أنه لا نفث فيه، ويقتصر فيه على الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مجرد القراءة، والله تعالى أعلم.

حدود قاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات)

حدود قاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات) Q يتوسع البعض في فهم قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات، فكلما احتاج إلى أمر قال هذه العبارة، فما هو حد الضرورة المقصودة هنا أثابكم الله؟ A أولاً: ما هو حد الذي يقول: الضرورات تبيح المحظورات؟ من هو العالم أو الشيخ أو الشخص المؤهل لكي يحكم بالضرورة واعتبارها؟ الضرورات بحرٌ لا ساحل له، لكن نحن نبين الأصول أولاً وقبل كل شيء ليعلم كل إنسان أن الله لا يخادع. وثانياً: أن أي حكم شرعي يأخذه الإنسان ويدين الله به ويعمل به، سيسأل أمام الله عز وجل عمن أخذه، فلا يجوز أن يأخذ حكماً إلا ممن ترضى ديانته وأمانته ويرضاه حجة له بينه وبين الله سبحانه وتعالى، وإلا زلت قدمه وهلك وأهلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا، فأفتوا بغير علمٍ فضلوا وأضلوا)، فوصفهم بالضلال، نسأل الله السلامة والعافية. والضرورات تبيح المحظورات قاعدة شرعية دلت عليها نصوص الكتاب والسنة، وأجمع عليها علماء الأمة، وهي أن الإنسان عند الاضطرار يباح له فعل المحرم، وكما في الأصول قال تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، فاستثنى سبحانه وتعالى المضطر؛ ولأن الضرورة فيها حرج، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، ولأن الضرورة عسر والله يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، فإذا ثبت أن الشريعة تخفف عن المضطر فالضرورة عند العلماء بالمصطلح الخاص: هي خوف فوات النفس، فإذا خاف الإنسان أنه إذا لم يفعل هذا الشيء فإنه سيموت، فهو مضطر، مثل من جاع ولم يجد طعاماً إلا ميتاً، فإنه إذا بقي على حكم الشرع بالتحريم فإنه سيموت، وحينئذٍ يرخص له بأكل الميتة اضطراراً لا اختياراً؛ لأنه لو لم يأكلها لهلكت نفسه. إذا ثبت هذا فالضرورة هي خوف فوات النفس، وهذا القول فيه خلاف: هل يشترط في المضطر أن يرى أمارات الموت عليه حتى يحكم باضطراره؟ أو يحكم بغالب ظنه؟ اختار بعض الأئمة رحمهم الله أن الضرورة هي الخوف، فإذا غلب على ظنه أنه سيموت فهو مضطر، وإن لم ير أمارات الموت، وقال بعض العلماء: لا ضرورة حتى يقف الموقف الذي يشرف فيه على الهلاك؛ لأنه ربما جعل الله له فرجاً ومخرجاً قبل أن يشرف على الهلاك، والصحيح في الضرورة: أنها الخوف الذي هو غلبة الظن، والغالب كالمحقق. واختلف أيضاً في الخوف على الأعضاء، فلو خاف على عضو من أعضائه أن يقطع أو يفسد، أو يشل، فهل يدخل هذا في باب الضرورة؟ أيضاً اختار بعض المحققين أن الخوف على الأعضاء من الجسم ضرورة تبيح المحظور كالخوف على النفس، ولذلك ضبطها علماء القواعد كـ السبكي والسيوطي وابن نجيم في الأشباه أنها: الخوف على النفس والأطراف والأعضاء. أما بالنسبة لغير هذا فيسمونه: إذا كان يوجد الحرج، فمثلاً: ألم الرأس إذا اشتد شدة عظيمة على الإنسان، فلا هو خوف موت ولا هو خوف على عضو أن يتلف، لكنه يوجب حرجاً شديداً، فهذا يسمونه حاجة، فإذا وصل إلى درجة العنت والمشقة فيسمونه: حاجة، والقاعدة عندهم: أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة. وكذلك ألم الضرس، فإن الضرس إذا اشتد ألمه فيضطر الإنسان أن يستعمل المخدر، والمخدر محرم، فلا يجوز استعمال المخدرات، لكن إذا كان ألمه شديداً جداً بحيث يصل إلى مقام الحرج فنقول: يجوز له؛ لأنها حاجة تنزل منزلة الضرورة، إذاً: الحاجيات تكون في مقام الضروريات إن كانت أخف من جهة السبب الموجب للتأثير في الحكم. أما بالنسبة لكل شخص يفتي نفسه بأنه مضطر فلا، فإن الله عز وجل حف الجنة بالمكاره، والمكاره فيها آلام ومشاق، وفيها متاعب، والرجل قد يكون نائماً في فراشه في شدة البرد، فيسمع أذان الفجر فيقوم من فراشه ويتوضأ في شدة البرد، وهذه مشقة، لكن الله كلفنا بها وأمرنا بها، فلا يقل: أنا مضطر، ويترك الصلاة، هذه ليست بضرورة، بل هذا عبث بالأحكام. ومن هنا ينبغي أن ينتبه لمسألة فتح أبواب الرخص والترخيص للناس، فلا يقبل ذلك إلا من عالم يوثق بدينه وعلمه، وكذلك أيضاً مسألة الضرورة حينما يفتى بها فتاوى عامة، فيقال: اتركوا الناس يخرجون قبل غروب الشمس يوم عرفة، فنقول: لماذا؟ قالوا: هذه ضرورة؛ لأن الناس ازدحموا! هذه أحكام شرعية لا أنا ولا أنت نعبث بها، هذه أشياء مرتبة وأحكام مؤصلة ليست محلاً للعبث، أن يأتي إنسان ويفتي فيها فتوى عامة ويرخص فيها للناس أنهم يتركون ما شرع الله ويقول: باسم الضرورة، فإن هذا شيء شرعه الله عز وجل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وكذلك أيضاً الرمي بعد الزوال، هناك من يقول: دعه يرمي قبل الزوال ضرورة!! العيب يا إخوة! ليس في الشريعة، هذا من الخلط والجهل الذي يصيب البعض، وقد ذكر بعض العلماء أنه أضر ما يكون على المسلمين أنصاف المتعلمين، يمسك قاعدة وعنده نص علمي يستطيع أن يفتح به أبواب المحرمات -والعياذ بالله- فيجعل الحرام حلالاً والحلال حراماً، إما أن يذهب مع المتساهلين فينسلخ من الدين رويداً رويداً، حتى لا يبقى له من الدين -والعياذ بالله- إلا اسمه، من تتبع الرخص والتساهل، وإما أن يذهب مع المتزمتين فيضيق ما وسع الله على عباده باسم نصف العلم الذي عنده، فيشدد حتى يضيق على العباد ما وسع الله عليهم، ولكن العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، لا إفراط ولا تفريط، تطبق القواعد حيث أذن الله لك أن تطبقها، وتترك العبث بشرائع الإسلام وأحكامه الثابتة الواضحة والسنن المحكمة التي لم تنسخ يوماً من الأيام، وتبقيها كما حفظتها نصيحة لله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، فلا تغش المسلمين؛ لأنك إن قلت: الرمي قبل الزوال ضرورة! وما هو ضرورة، والعيب ليس في الشريعة، العيب في أخلاق الناس، ليس العيب أن الناس ترمي قبل الزوال أو بعد الزوال، هذا خلط في الأحكام، العيب جاء من سلوكيات وتصرفات الناس، ومعناه أن عندنا تقصيراً في توجيه الناس، وفي تعليم الناس، مما يؤدي إلى أن تحمل الشريعة أكثر مما تتحمل. ونأتي ونقول لهم: ادفعوا قبل غروب الشمس؛ لأن الناس يزحم بعضهم بعضاً لا، علم الناس آداب الحج، علم الناس هذه الآداب التي في كتاب ربك وسنة نبيك عليه الصلاة والسلام، وأقم الحجة على عباد الله عز وجل، وبعد هذا لست مكلفاً أن تبحث عما وراء ذلك حتى لا تحل حراماً ولا تحرم حلالاً، وهذا هو الفقه. وهناك سنة وحدود، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تحلوها) قال لك: لا تخرج قبل غروب الشمس، معناه أنه حرم عليك الخروج قبل غروب الشمس، ورسول الأمة صلى الله عليه وسلم كان معه مائة ألف. النقطة الثانية: مسألة الضرورة في أشياء هي من طبيعتها وتكييفها ومقصود الشرع فيها؛ فيها نوع من المقصود الشرعي، فتعطله بمخالفة الشرع. الآن الحج إذا نظر الإنسان فيه، يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (عليهن - يعني النساء- جهادٌ لا قتال فيه)، فهل معنى ذلك أن الحج لليسر أو للامتحان والاختبار؟ للشدة والامتحان والاختبار حتى يخرج الإنسان عن حياة الترف والبذخ ويأتي إلى حياة المحن، ولذلك تجد الغني والثري ما يصهر بين الناس ويقهر على أشياء مثل أيام الحج، خاصة إذا لم تجد بجوارك من يفتي بالرخص، إذا وجدته يمشي على السنة وجدته يختلف حاله تماماً بالحج، ويصبح الحج له مدرسة حقيقية، فإذا جاء الشخص ينظر إلى الصحابة رضوان الله عليهم يقول الراوي: (كاد أن يقتل بعضهم بعضاً)، وهذه ثابتة، ولما جاء في يوم الحديبية وحلق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه ماذا فعل الصحابة؟ قال: (كادوا أن يقتتلوا على الحلاق)! الصحابة رضوان الله عليهم كادوا أن يقتتلوا على الحلاق؛ لأن طبيعة الشيء يستلزم هذا. ولما ترى طلاب العلم يزدحمون عند عالم أو عند شيخ، فهذه طبيعة هذا الشيء، فلا تحمل الأشياء ضدها وما لم تتحمله، فالحج طبيعته هذا الشيء من الازدحام وغيره، وأنت تريد أن تغير الحج عن طبيعته، ليس ذلك لك ولا هو لي، هذا أمرٌ من الله سبحانه وتعالى، فانظر إذا خفف الشرع فخفف، وإذا ضيق الشرع فيضيق، فإن ضيقه رحمة وسعة بالناس؛ لأن الله يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. وكم من إنسان ثريٍ غنيٍ لم يشاهد يوماً من الأيام ضيقاً يذكره بالله، فجاء إلى الحج فضيق عليه في الحج حتى رجع إلى ربه، ولربما رأى الموت في الزحام، وتشهد ورأى الشهادة فتاب توبة نصوحاً، وما وجد هذا إلا في الحج، فهذه أشياء وحكم وأسرار لا يعلمها كل أحد. ولذلك ينبغي علينا أن نقف عند الحدود، فلا يتوسع الإنسان في الرخص تحت مقام الضرورات تبيح المحظورات، وأحذر كل طالب علم تعلم علماً لم يستوفه ولم يعطه حقه عن أن يرخص لنفسه ما لم يعلم طبيعة المرخص فيه، وحقيقته، وهل مثله يوجب الرخصة أو لا يوجبها، حتى يكون على بينة من أمره وسداد وصوابٍ في حاله وشأنه. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نسألك بعزتك وجلالك وعظمتك وقد اجتمعنا في هذا البيت من بيوتك يا واسع الرحمة أن تلحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، ولا نادمين ولا مغيرين ولا مبدلين، اللهم إنا نعوذ بك أن نضل أو يضل بنا، أو نزل أو يُزل بنا، يا حي يا قيوم! اعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، لا إله إلا أنت توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، ولا نادمين ولا مبدلين، برحمتك يا أرحم الرحمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

باب شروط القصاص

شرح زاد المستقنع - باب شروط القصاص لابد من وجود شروط معتبرة حتى يتحقق ويجب القصاص على القاتل، وهذه الشروط منها ما يتعلق بالقاتل ومنها ما يتعلق بالمقتول، وهي: أن يكون القاتل مكلفاً، وأن يكون المقتول معصوم الدم، وأن يتكافأ القاتل مع المقتول، وألا يكون بينهما ولادة، كالوالد مع ولده، فإن تحققت هذه الشروط وجب تنفيذ القصاص، وإن تخلف واحد منها سقط القصاص عن القاتل.

شروط القصاص

شروط القصاص بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب شروط القصاص]. بعد أن بين المصنف رحمه الله الأمور التي ينبغي توفرها للحكم بقتل العمد الذي يوجب القصاص من القاتل، شرع رحمه الله في بيان الشروط التي ينبغي توفرها لكي يحكم لولي المقتول بالقصاص من القاتل، وهذا ما ترجم له رحمه الله بهذه الترجمة: (باب شروط القصاص)، أي: في هذا الموضع سأذكر لك العلامات والأمارات التي نصبها الشرع لكي يحكم الفقيه ويقضي القاضي ويفتي المفتي بثبوت استيفاء القصاص، وتمكين ولي المقتول من الأخذ بحقه. قوله: (شروط القصاص)، تقدم معنا تعريف الشروط أكثر من مرة، وأن الشرط: هو العلامة، وأما في الاصطلاح: فما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود. وجمعها رحمه الله فقال: (شروط)؛ لتعددها واختلافها، فهناك شروط تتعلق بالمقتول، وهناك شروط تتعلق بالقاتل، فلا بد من توفر هذه الشروط حتى يحكم بالقصاص. والقصاص مأخوذ من قولهم: قص الأثر إذا تتبعه: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص:11] أي: تتبعي أثره، فلما كان حكم الشريعة بالقود -وهو القصاص- يتتبع فيه ولي المقتول القاتل لكي يفعل به مثل ما فعل بالمقتول وصف بهذا الوصف، وهو وصف شرعي وردت به نصوص الشرع، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178]، فهو مصطلح شرعي، والمصطلحات منها ما هو مستقى من نص الكتاب والسنة، ومنها ما هو مفهوم من الشرع، فهذا مصطلح مستقى لفظاً من الشرع. قال رحمه الله: [وهي أربعة]. إجمال قبل البيان والتفصيل، وقد تقدم أن هذا منهج العلماء رحمهم الله. وقد ذكر المصنف رحمه الله أربعة شروط، شرطاً منها يتعلق بالمقتول، وشرطين يتعلقان بالقاتل، وإن شئت قلت: شرطاً يتعلق بالقاتل وهو كونه مكلفاً، وشرطين مجتمعين يتصل بهما القاتل بالمقتول، وهي قضية المكافأة والمساواة، وقضية عدم البعضية أو عدم الولادة، أو ألا يكون القاتل والداً للمقتول، سواء كان ذكراً أو أنثى، فيشمل الأب ويشمل الأم، وسواء كان مباشراً كالأب المباشر أو بواسطة كجده وإن علا.

الشرط الأول: عصمة المقتول

الشرط الأول: عصمة المقتول قال رحمه الله: [عصمة المقتول]. المراد بهذا الشرط أننا لا نحكم بوجوب القصاص إلا إذا كان المقتول معصوم الدم، وهذه العصمة يحكم بها الشرع، بمعنى: أن الشريعة حرمت قتل هذا المقتول، فإذا ثبتت العصمة للمقتول؛ فإن من قتله بدون حق يجب عليه القصاص. والأصل في هذا: أن الله حرم قتل المعصوم، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:92]، فبين أن الإيمان عصمة للإنسان، وأنه لا يجوز قتل المؤمن إلا على وجه الحق. وقال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] قيل: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) أي: لا تقتلوا إخوانكم، فدل هذا على أن الإيمان عصمة. ودلت السنة أيضاً على هذا، كما في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، فقوله: (لا يحل دم امرئ مسلم) يدل على أن هناك عصمة للمسلم، ولذلك قال: (لا يحل) فعبر بهذه الصيغة المقتضية للتحريم. واتفق العلماء على هذا المصطلح، وهو ما يسمونه بمصطلح العصمة، وهو مستقى من قوله عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وحسابهم على الله)، فهذا يدل على العصمة. والعصمة تكون للدم، وللمال، وللعرض، وهذا ما أشار إليه عليه الصلاة والسلام في خطبته في حجة الوداع حينما قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد)، فجعل العصمة شاملة للنفس والعرض والمال. والعلماء يسوون بين عصمة الدم وعصمة النفس فالمعنى واحد، فهذه العصمة تكون مستحقة بالشرع وتكون بالأمان، فلا يجوز أن يقتل من له عصمة في الشرع مثل: المستأمن والذمي والمعاهد، وإن كان مثله لا يقتص له على تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى. فهذه العصمة لا بد من توفرها في المقتول، فإن كان المقتول مهدور الدم أو مباح الدم، مثل الحربي، فإنه لا يقتص من المسلم في قتل الحربي؛ لأن الحربي لا عصمة له في الشرع، وليس بمعصوم الدم، فالقتل ليس واقعاً في غير موقعه، بل واقع في موقعه؛ لأن الحربي يقتل، وكذلك إذا كان المقتول غير معصوم الدم كالكافر والمرتد والحربي والمسلم المستحق الدم، فمثلاً: لو أن إنساناً قتل ظلماً وعدواناًَ، وفر القاتل وهرب، وعلم شخص أنه قاتل، فجاء وأراد أن يأخذه ففر عنه، فقتله بنية القصاص لمن قتله، وهذا سيأتينا -إن شاء الله تعالى- بيانه، ففي هذه الحالة ليس بمعصوم الدم. وأما إذا كان محصناً وزنى -والعياذ بالله- فاستحق القتل، ففيه خلاف بين العلماء فيمن قتله، فبعض العلماء يرى أن المحصن مهدر الدم، وأنه إذا قتله القاتل فلا قصاص عليه، قالوا: لأن دمه مستحق بالشرع، فإذا قتل فإنه لا عصمة له حتى نقتل من قتله، فأسقطوا القصاص لعدم وجود العصمة. ومن أهل العلم من قال: إن قتل الزاني المحصن أمر إلى ولي الأمر والقاضي، فهو مستحق بحكم الشرع، وليس لأحد أن يأتي ويقتله؛ لأن هذا لا يستند إلى ولاية بالقتل، وقد جعل الله عز وجل ولاية للسلطان ومن يقوم مقامه. وفي بعض الأحيان يكون قتله حميةً، كما لو جاء ووجده مع زوجته وهو محصن فقتله، أو شهد الشهود الأربعة على أنه زنى بزوجته فقتله، قالوا في هذه الحالة: يكون قتله أشبه بالغيرة، وليس قياماً بحق الشرع، قالوا: فإنه يقتل به، وفي هذه الحالة لا يقال: إن هذا قتل شرعي؛ لأنه ليس على الصفة المعتبرة شرعاً. ومن أهل العلم من قال كما اختاره الحنابلة وطائفة: إن الزاني المحصن إذا قتل أو مهدر الدم إذا قتله من قتله؛ فإنه يكون مهدر الدم، ولا قصاص على قاتله، وهذا أشبه من جهة الأصول. أما في مسألة المرتد فالأمر يختلف، فلو أن رجلاً سب الله عز وجل -والعياذ بالله- أو سب الدين، أو تهكم واستهزأ استهزاءً بيناً موجباً للكفر، فهذا كافر مرتد، ومن قال الكفر أو عمل به وقيل له: هذا كفر، وقامت عليه الحجة، فأبى وأصر على ما هو؛ فهو كافر مرتد مباح ومهدر الدم، فإذا قتله فإنه في الأصل ليس هنا حمية إلا حمية الدين، ولا عصبية إلا عصبية الدين، فإذا قتله فإنه مأجور على قتله، لكنه -كما ذكر العلماء رحمهم الله- افتيات على حق السلطان والوالي، لكن مثل هذا مهدر الدم لا يقتص له بوجه، فلا يقتص ممن قتله لما سب الله عز وجل، أو سب الدين، أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله، فيكون مهدر الدم. وفي هذه الحالة لا يكون القصاص على من قتله، فإن قتل به فهو شهيد، إذا ثبت على هذا الوجه أنه مرتد. قال رحمه الله: [فلو قتل مسلم أو ذمي حربياً أو مرتداً لم يضمنه بقصاص ولا دية]. المسلم إذا قتل حربياً، فإنه مهدر الدم، وإذا حارب المسلمون الكفار سقطت الحرمة لدمائهم، إلا إذا كان بينهم وبين المسلمين ذمة، على تفصيل سبق أن بيناه في باب العهد والأمان. ولكن من حيث الأصل أنه لو قتل المسلم الحربي فلا يقتل به، لكن لو قتل الذمي الحربي، كما كان في القديم عندما كان أهل الكتاب تحت ذمة المسلمين، فلو خرج رجل من أهل الكتاب أو كتابي فوجد حربياً فقتله، فإن هذا الحربي مهدر الدم، مع أن قاتله كافر مثله، لكن هذا له أمان، وله ذمة الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ذمة المسلمين واحدة)، فله ذمة المسلمين، فإذا قتل فله حرمة في بلاد الإسلام، فلا يقتل بمن قتله؛ لأنه في حكم الشريعة، وفي حكم من أعطاه الأمان والذمة أن هذا الدم مهدر، ولذلك لا يقتل به. وقوله: (فلو قتل مسلم أو ذمي حربياً) هذا تمثيل على الدم المهدر وهو دم الحربي. وقوله: (أو مرتداً) أي: لو قتل مسلماً مرتداً، فإن هذا بإجماع العلماء على أن المرتد مباح الدم، لكن عندهم تفصيل هل تشترط الاستتابة أو لا تشترط؟ فمن أهل العلم من قال: إن المرتد لا يستتاب بل يقتل كما في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (أن امرأة وجدت مقتولة في المدينة، فقال صلى الله عليه وسلم: أحرج بالله من كان عنده خبر منها أن يقوم. فقام زوجها -وكان كفيف البصر أعمى- وقال: يا رسول الله! إنها كانت تسبك وتتكلم في دينك، فما هو إلا أن قمت عليها وهي نائمة بمعول -وهو الفأس- فبقرت بطنها فقتلتها، فقال صلى الله عليه وسلم: ألا اشهدوا أن دمها هدر)، فأسقط عليه الصلاة والسلام هذا الدم؛ لعدم عصمتها بالردة. وهذا يدل على أن من سب الله وسب الدين وسب الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه مهدر الدم، ولا يقتص من قاتله. قوله: (أو مرتداً) الردة سواء كانت بالأقوال أو بالأفعال الموجبة للخروج من الإسلام، فهذا كله سيأتي تفصيله -إن شاء الله- في ضوابطه، والأحوال التي يحكم فيها بالردة. ومن أهل العلم من يشترط الاستتابة، واحتجوا بما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما جاءه معاذ رضي الله عنه وقال: (إن رجلاً اختار دين اليهودية بعد أن أسلم، قال: فقربناه فقتلناه، فقال عمر رضي الله عنه: هلّا أدريتموه وأطعمتموه ثلاثاً وعرضتم عليه، وإن أبى قتلتموه، اللهم إني أبرأ إليك، لم أشهد ولم آمر، اللهم إني أبرأ إليك، لم أشهد ولم آمر)، فـ عمر رضي الله عنه برئ من قتله بدون استتابة. وعلى كل حال الأصل الشرعي يقتضي أن المرتد مباح الدم، والنص في هذا واضح في قضية الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يبقى النظر في تعزير من افتات على السلطان وقتل بدون بإذنه، وهذا يحتاج إلى نظر وتفصيل. وقوله: (لم يضمنه بقصاص) فلا يقتص من الذي قتله، فلو كان مرتداً في الحقيقة، ولم يوجد شهود يثبتون ردته، وجاء رجل وقتله، فالأصل أن نقول: إنه مسلم، فهذا القاتل إذا أخذه أولياء المقتول، وقالوا: نريد القصاص، فاقتص منه وقتل فهو شهيد؛ لأنه في هذه الحالة قُتل بغير حق، وقتله للمرتد هو على وجه شرعي. وبناء على ذلك لا يكون دمه مباحاً في الأصل الشرعي، فإذا قُتل به فإنه مقتول ظلماً، ولكنه في حكم الشرع يُقتل؛ لأنه لو فتح هذا الباب لكان أي شخص يقتل شخصاً ويقول: هذا مرتد، ولذلك لا بد من إثبات الردة، وعدم وجود دليل يدل على توبته من الردة؛ لأنه يمكن لأي شخص -والعياذ بالله- أن يرتد ثم يتوب. وهذا الذي جعل بعض العلماء يقول: من زنى -والعياذ بالله- وهو محصن، ثم قتله القاتل فيقتل به، ما لم يثبت عند القاضي زناه وعدم توبته؛ لأن أصل القضية أنه إذا كان زانياً محصناً فيحتمل أنه تاب، وإذا تاب لم يُقتل؛ لأن الزاني إذا زنى وتاب ولو بعد الزنا مباشرة، ولو زنى مليون مرة -والعياذ بالله- فما دام أنه تاب إلى الله توبة نصوحاً؛ فإن الله يتوب عليه. والله عز وجل لا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة الطائعين، وإنما يريد التقوى من القلوب، فالعبد الذي يفعل الذنب ثم يتوب يتوب الله عليه، وهذا وعد من الله عز وجل قطعه على نفسه: {لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9]، أما من تاب صادقاً من قلبه بعد ذنبه فالله يغفر ذنبه. فقالوا: يحتمل أنه زنى ورآه يزني، وعلم أنه محصن، وتاب الرجل بينه وبين الله، فحينئذٍ لا يستحق دمه؛ لأنه في الأصل قد تاب وأناب إلى الله عز وجل، فقالوا: لشبهة التوبة ولاحتمال أن يكون تاب بينه وبين الله لا يفتح هذا الباب. فقالوا: إذا قتله فيحتمل أنه تاب قبل قتله، ومثل هذه الذنوب تنفع فيها التوبة، وحينئذٍ قتل معصوماً، وأكدوا هذا بالدليل في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أن سعداً رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! أرأيت لو وجد لكع قد تفخذها رجل، فيذهب فيحضر الشهود، إذاً يفرغ الرجل من حاجته، وإذا قتله قتلتموه). وفي الصحيحين من ح

الشرط الثاني: أن يكون القاتل مكلفا

الشرط الثاني: أن يكون القاتل مكلفاً قال رحمه الله: [الثاني: التكليف]. الشرط الثاني: التكليف، والتكليف يقوم على أساسين: البلوغ والعقل، قال الناظم: وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثمانية عشر حولاً ظهر فلابد في التكليف من البلوغ والعقل، فإذا كان القاتل غير مكلف، كصبي قتل رجلاً أو قتل صبياً، فإنه لا يقتص من هذا الصبي؛ لأنه مرفوع عنه القلم وغير مكلف وغير مؤاخذ. وكذلك أيضاً إذا قتل مجنون رجلاً أو قتل جماعة، فإنه لا يقتص منه؛ لأنه غير مؤاخذ، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله، وفي الصبي خلاف إذا كان مميزاً، والقول بأنه يكون في حكم المكلف قول معارض للنصوص القوية، والأدلة الواضحة، والإجماع السابق لهذا القول يدل على أنه إن كان مميزاً أو غير مميز فإنه لا تكليف عليه، والتفريق بين الصبي المميز وغير المميز قول ضعيف. والنصوص واضحة، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يقول في حديث عائشة رضي الله عنها الصحيح: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: الصبي حتى يحتلم)، فهذا نص واضح ليس فيه إشكال، وإن كان بعض أهل العلم رحمة الله عليهم فرقوا بين الصبي المميز وغير المميز، وهو تفريق بدون دليل، ومعارض لما ذكرناه من الأصول الشرعية وإجماع السلف قبل حدوث هذا القول. قال رحمه الله: [فلا قصاص على صغير ولا مجنون]. ولذلك فعندهم قاعدة تقول: عمد الصبي والمجنون خطأ، فالصبي إذا قتل فلا يجب القصاص ولكن تجب الدية، وهكذا لو أن الصبي قطع عضواً أو ضرب شخصاً فأتلف له عضواً أو نحو ذلك، فإنه يجب ضمان هذه الجناية، ولا يجب القصاص والقود.

الشرط الثالث: المكافأة

الشرط الثالث: المكافأة قال رحمه الله: [الثالث: المكافأة]. الشرط الثالث: المكافأة، وهي المساواة، أي: أن يساوي القاتل المقتول، وألا يكون أزيد منه، وتحقق بمسألة الديانة والحرية، والأصل في ذلك أن الله تعالى قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} [البقرة:178]، فجعل الله عز وجل المقابلة، والقصاص في الأصل يقتضي المساواة؛ لأن المقاصة تحتاج إلى مماثلة، وعدم وجود فضل في القاتل على المقتول من جهة الدين أو من جهة الحرية مما يعتبر في المكافأة، قالوا: لأنه إذا كان القاتل فوق المقتول حرية مثلاً، فإننا إذا قتلنا القاتل وهو حر، لم نساوه بمن قتله، وكان هذا ليس قصاصاً؛ بل كان زيادة في القصاص، والله عز وجل يقول: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء:33]، فحرم الله الزيادة في القصاص عن الأصل. وقول الله عز وجل: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة:178] هذا يسمى عند العلماء: مفهوم الحصر، أي: لا تقتلوا الحر إلا بالحر، والسبب في ذلك بيناه في غير مرة: أن مسألة الرق والحرية مبنية على أصول شرعية، ولذلك فإن الإسلام لا يحكم بالرق في الأصل والأساس إلا في حالة مقاتلة المسلمين للكفار وضرب الرق عليهم، فالرق مستفاد من الكفر؛ لأنه عرض عليه الإسلام فأبى، ثم قاتل المسلمين، فلما أخذوه في الأسر ضرب عليه الرق وصار في مستوى البهيمية، قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44]، فهو كافر بالله، ثم حمل السلاح على دين الله وشرع الله عز وجل مانعاً من كلمة الله عز وجل؛ فنزل إلى مستوى أحط من مستوى البهيمية، وهذا المستوى لا يمكن أن يكافئ به المسلم. ولذلك فإن القول المعتبر عند جماهير السلف والخلف، وهو قول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان رضي الله عنهم، وجمهرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضائهم: أنه لا يقتل حر بعبد، سواء كان العبد عبده أو عبد غيره، وهذا يستفاد منه الشرط الذي ذكرناه وهو المساواة، وأنه ينبغي أن يكون مكافئاً لمن قتله.

خلاف العلماء في قتل المسلم بالذمي

خلاف العلماء في قتل المسلم بالذمي قال رحمه الله: [بأن يساويه في الدين]. أي: أن يساوي المقتول القاتل في الدين، فلا يقتل المسلم بكافر؛ لأن الكافر لا يكافئ المسلم، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث السنن: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم حرب على من سواهم، ولا يقتل مسلم بكافر، ولا يُقتل ذو عهد في عهده). فقوله عليه الصلاة والسلام: (المسلمون تتكافأ دماؤهم)، هذا حصر يدل على أن غير المسلمين لا يكافئ المسلمين، فلا تتكافأ دماء المسلمين مع غير المسلمين. ومن هنا قال جمهور العلماء رحمهم الله: إن المسلم لا يقتل بغير المسلم إذا كان حربياً إجماعاً، وإذا كان ذمياً على خلاف، فالجمهور يرون أن المسلم لا يقتل بالذمي، فلو أن يهودياً أو نصرانياً دخل إلى بلاد المسلمين ذمياً، وبينه وبين المسلمين عهد الذمة، فجاء مسلم فقتله، فالجمهور يرون أنه لا يقتل به. وذهب الإمام أبو حنيفة والنخعي وطائفة من السلف إلى أنه يقتل المسلم إذا قتل هذا الذمي، واحتجوا بعموم الأدلة في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178]. واحتجوا بحديث مشهور وهو حديث ابن البيلمان وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلماً بمعاهد وقال: أنا أحق من وفّى بذمته)، وهذا الحديث ضعيف، حتى إن أئمة الحديث رحمهم الله ردوه سنداً، وقال أبو عبيد رحمه الله مقالة مشهورة: إنه من رواية عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن البيلمان، وبمثله لا تستباح دماء المسلمين. يعني أنه راوٍ ضعيف، ومثله ليس بحجة حتى يحكم بما تضمنه حديثه فنستبيح دماء المسلمين بدماء الكفار، وهذا لا إشكال في بطلانه ورده. أما بالنسبة لأدلة الجمهور فقد استدلوا بالآتي: أولاً: استدلوا بما ثبت في حديث علي رضي الله عنه وأرضاه، أن أبا جحيفة وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه وأرضاه سأل علياً رضي الله عنه، وقال: (هل خصكم صلى الله عليه وسلم بشيء؟ -لأن الغلاة في علي رضي الله عنه كانوا يقولون: إن آل البيت خصوا بأشياء- فقال علي رضي الله عنه: لا والذي برأ النسمة وخلق الحبة، ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، إلا فهماً يعطيه الله لرجل منا في كتابه وما في هذه الصحيفة، ثم نشرها، وفيها: المدينة حرم من عير إلى ثور، ومن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً يوم القيامة، وفيها: لا يقتل مسلم بكافر). فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقتل مسلم بكافر) هذا نص عام، سواء كان المسلم ذكراً أو أنثى، وسواء كان الكافر ذمياً أو معاهداً أو مستأمناً أو حربياً أو مرتداً، فقال: بكافر، وكافر نكرة، والنكرة تفيد العموم، وهذا أصل عند العلماء، فلما قال: بكافر، ولم يستثنِ كافراً من هذا العموم؛ دل على أن المسلم إذا قتل الكافر لا يقتل به ألبتة. إذاً: أدلة الذين قالوا: إنه لا يقتل، صحيحة وصريحة واضحة على أن المسلم لا يقتل بالكافر. أما ما استدل به الإمام أبو حنيفة رحمه الله من عموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178] فنجيب عنه من وجهين: الوجه الأول: لا نسلّم أن هذا يشمل الكافر؛ لأن الله صدر الآية بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:178]، والخطاب بين المؤمنين في قتل المؤمنين بعضهم لبعض، وبقي ما عداهم على الأصول. ثانياً: أن قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178] يدل على وجوب المساواة، وإذا كانت الآية تدل على وجوب المساواة في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178] فمعنى ذلك أنه لابد أن يساويه ديانة، والمسلم لا يساوي الكافر ديانة. وهناك جواب آخر يختاره جمع من العلماء رحمهم الله والمحققين وهو أن يقال: إن آية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178] عامة، وحديث: (لا يقتل مسلم بكافر) خاص، والقاعدة: أنه لا تعارض بين عام وخاص. هذا بالنسبة لقول الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، بل إن بعض أصحابه كالقاضي أبي يوسف رحمه الله أجاز قتل المسلم بالمستأمن، وأنه لو قتل مسلم مستأمناً فإنه يقتل به. وعند المالكية مسألة غريبة وهي: قالوا: يقتل المسلم بالكافر إذا قتله غيلة، والغيلة هي الجريمة المنظمة التي تكون بترتيب وتنظيم، وفيها نوع من الافتيات على المسلمين والأذية والإضرار بالمسلمين، ففي هذه الحالة أجازوا، مثل أن يستدرج ذمياً ويخرجه إلى خارج المدينة ويخدعه أن عنده شيئاً أو حاجة، فيخرجه عنها ثم يقتله. وقتل الغيلة من أسوأ أنواع القتل، ولذلك يشدد فيه العلماء رحمهم الله، ومذهب مالك رحمة الله عليه أيضاً من المذاهب التي راعت مثل هذا النوع من الجرائم المنظمة، سواء كانت بشخص أو أشخاص متعددين، فهذه مستثناة؛ لأن فيها نوعاً من المحاربة، والقتل فيها ليس من جهة القصاص إنما من جهة المحاربة، كأنهم حينما نظموا قتل الذميين داخل بلاد المسلمين خرجوا عن مطلق أمان المسلمين، لا من جهة أنهم يقتلون قصاصاً. والفرق بين القولين: أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يجعل الحق في قتل من قتل الذمي لأولياء الذمي، ولكن عند المالكية يكون الحق في قتله للسلطان. وبناءً على ذلك: لو عفا أولياء الذمي في قتل الغيلة؛ فإن الإمام أبا حنيفة يسقط القصاص مع الجمهور، ولكن الإمام مالكاً لا يسقط القصاص؛ لأن الحق ليس لأولياء الذمي، ولم يره من جهة الدم، أي أن دم الكافر يكافئ دم المسلم، وللإمام مالك رحمه الله مسائل عجيبة جداً في مسائل القتل، وإلى ذلك أشار شيخ الإسلام رحمة الله عليه في القواعد النورانية؛ لأن مذهبه مستقى من مذاهب الصحابة رضوان الله عليهم، ومن فهم أصول الشريعة، ومذهبه من أشد المذاهب -كما بينا غير مرة- في مسألة القتل؛ لأنه ينظر إلى أصول في الشريعة لا بد من مراعاتها وتحقيق مقصود الشرع الذي وردت من أجل تحقيقه، فقال: إن هذه المسألة وحدها وهي مسألة الغيلة تستثنى في قتل المسلم بالكافر. وعلى كل حال: فالذي يظهر من خلال النصوص أنه لا يستباح دم المسلم بالكافر، سواء كان الكافر مرتداً أو حربياً أو ذمياً أو مستأمناً، لكن إذا كان هناك افتيات وأذية ومحاربة لجماعة المسلمين بالخروج عليهم، فهذا أمر يرجع تقديره إلى الوالي، فإن رأى المصلحة في هذا قتله من باب الحرابة لا من باب القصاص فلا بأس، أما من باب القصاص فالنصوص واضحة على أن دم الكافر لا يكافئ دم المسلم بحال. وعلى هذا فإنه يترجح مذهب الجمهور من حيث الأصل، ويخرج باب الغيلة عن باب القصاص من الوجه الذي ذكرناه.

خلاف العلماء في قتل الحر بالعبد

خلاف العلماء في قتل الحر بالعبد قال رحمه الله: [بأن يساويه في الدين والحرية والرق]. أي: يساويه في الدين والحرية، فإذا قتل حرٌ حراً قتل به، وهذا نص القرآن: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة:178] وهذا يسميه العلماء: مفهوم الحصر، وهو أحد أنواع المفاهيم العشرة المشهورة، وهي: مفهوم الصفة، والشرط، والعلة، واللقب، والاستثناء، والعدد، وظرف الزمان، وظرف المكان، والحصر والغاية. وقد أشار إليها الناظم بقوله: صف واشترط علل ولقب ثنيا وعد ظرفين وحصر إغيا فلما قال: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة:178] يعني: اقتلوا الحر بالحر، وأيضاً لا تقتلوا الحر إلا بالحر. وبناءً على ذلك: لا يقتل الحر بالعبد، وهذا مبني على أن الحر أرفع درجة من العبد، كما بين الله تعالى أن العبد المملوك لا يقدر على شيء، وأن الحر أرفع منه درجة بأصل الإسلام كما ذكرنا: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18]. إذا ثبت هذا فإن الناقص لا يقتل به الكامل؛ لأن ذلك لا يعتبر قصاصاً ولا عدلاً، والشريعة جاءت بالعدل، كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]، فالشريعة جاءت بالعدل، فالحر لا يقتل بالعبد. وخالف في هذه المسألة داود الظاهري رحمه الله فقال: الحر يقتل بالعبد، وجماهير السلف والخلف على غير ذلك، وفيه حديث مرفوع عن عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه لا يقتل حر بعبد)، وحديث السنن عند ابن ماجة وغيره، وحسن بعض العلماء إسناده. فهذا يدل على أن الأصل ألا يقتل الحر بالعبد، سواء كان العبد مملوكاً كامل الملك، وسواء كان مملوكاً للقاتل، أو كان مملوكاً لغيره، وسواء كان الرق فيه كاملاً كالرقيق الكامل، أو مبعضاً، كما لو كان نصفه حراً ونصفه عبداً، فإنه لا يقتل به إلا إذا كان حراً كامل الحرية. وعلى هذا فلو قتل العبد العبدَ قتل به: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة:178]، فهذا يدل على أن العبد يقتل بالعبد، وإذا قتل الحر العبد؛ فإنه لا يقتل به، ولكن هل يدفع قيمته أو الدية؟ وجهان للعلماء: قيل: يدفع قيمته بالغاً ما بلغ، وفي بعض الأحيان تكون قيمة العبد أضعاف أضعاف قيمة الدية، مثل أن يكون عبداً عنده صنعة وهو غالي الثمن، فتكون قيمته مثلاً ثلاثمائة ألف، والدية مائة ألف؛ لأنه صاحب صنعة. فحينئذٍ اختلف العلماء -وسيأتينا إن شاء الله في باب الديات-: هل الرقيق ملحق بالأموال فتقدر قيمته عند الجناية، أو ملحق بالآدمية؛ لأنه في الأصل آدمي، ولا يعامل معاملة الأموال في البيع والشراء بل يبقى على آدميته على الأصل؟ نقول: إن العبد تكون ديته نصف دية الحر، وحينئذٍ تكون خمسين ألف مثلاً، إذا كانت الدية مائة ألف، وإذا قلنا: يدفع قيمته بالغة ما بلغت فقد تكون ثلاثة أضعاف الدية كما ذكرنا، وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل هذا في باب الديات. قال رحمه الله: [فلا يقتل مسلم بكافر ولا حر بعبد]. (الفاء) للتفريع، وهذا هو التفصيل والبيان، فإذا كان قد ثبت أنه لا بد من المكافأة في الدين والحرية والرق فينبني على هذا، ويتفرع عليه ألا يقتل مسلم بكافر، وهذا عام، كما ذكرنا في الردة، ولو أن شخصاً -والعياذ بالله- ثبت بالشهود أنه سب الدين وسب الله عز وجل، فإنه يحكم بردته، فإذا قتله بعد سبه لله عز وجل مباشرة؛ فإنه قد قتل كافراً، فلا يقتل مسلم بكافر. ولا يقتل حر بعبد كما ذكرنا، سواء كان عبده أو عبداً لغيره.

حكم قتل الذمي بالمسلم

حكم قتل الذمي بالمسلم قال رحمه الله: [وعكسه يقتل]. فلو أن ذمياً كان بين المسلمين، وجاء وقتل مسلماً، أو قتل امرأة مسلمة، قُتل بها، ففي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن امرأة وجدت وقد رض رأسها بين حجرين، وكانت من الأنصار، فسئلت: من فعل بك هذا؟ فلان فلان حتى ذكروا يهودياً)، وقال بعض أهل العلم: إنه كان اليهودي يتربص بها من قبل، فلما ذُكر اسمه هزت برأسها وأومأت، وهذا ما يسميه بعض العلماء بالتدمية البيضاء، فعند مالك رحمه الله من مسائله في القتل هذه المسألة: أن الشخص إذا وجد في آخر رمق من حياته وقيل له: من الذي قتلك: فلان؟ وهز رأسه، قلنا: هذا تدمية بيضاء موجبة للقسامة ومؤثرة في الحكم؛ لأن الشخص في هذه الحالة أقرب ما يكون إلى الصدق, وأبعد ما يكون عن الكذب؛ لأنه مقبل على آخرته وقد ترك الدنيا، ولا مصلحة له أن يكذب، ولذلك يرى أن قوله هنا يؤخذ به لما ذكر، وستأتي -إن شاء الله- هذه المسألة. وفي هذه الحالة سئلت المرأة فقيل: من فعل بك؟ فلان فلان؟ فأُخذ اليهودي فأقر واعترف، والحقيقة أن هذا الحديث ليس فيه حجة على ثبوت الدم، بل فيه حجة على ثبوت التهمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتفِ بقولها، وإنما أخذ اليهودي فاعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين، فأخذ ووضع رأسه بين حجرين ورض كما رض رأس الجارية. وهذا يدل على أن الكافر يقتل بالمسلم، وعلى ذلك إجماع العلماء رحمة الله عليهم، أنه إذا قتل كافر مسلماً؛ فإنه قد أسقط العهد الذي بينه وبين المسلمين فيقتل قصاصاً، ويقتل أيضاً لخروجه عن العهد الذي بينه وبين المسلمين.

أقوال العلماء في قتل الذكر بالأثنى

أقوال العلماء في قتل الذكر بالأثنى قال رحمه الله: [ويقتل الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر]. الذكر أرفع درجة من الأنثى، ونصوص الكتاب والسنة واضحة جلية في أن الرجل لا يساوي المرأة من حيث الأصل، وهذا أمر واضح جلي في الشرع، وعلى المسلم أن يكون على بينة من أمره، وأن يترك هذا الخلط الذي يدعيه أعداء الإسلام من مساواة الرجل بالمرأة من كل وجه، فهذا قول باطل معارض لنصوص الكتاب والسنة. والله تعالى يقول: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36]، والله عز وجل خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، ثم بعد هذا التكريم خلق منه حواء، فجاءت خلقة الأنثى بنصوص الشرع تبعاً ولم تأتِ أصلاً، وجاء التكريم استقلالاً للإنسان الذكر، وجاءت خلقة الأنثى بنص الكتاب أنه خلق منها زوجها ليسكن إليها، فهي تبع للرجل، ولحكمة من الله سبحانه وتعالى أن جعلها على هذا الوجه، ولم يسوِ بينها وبين الذكر، والله عز وجل يخلق الضعيف والقوي، ولا يستطيع أحد أن يقول: إن الضعيف كالقوي، فهذه خلقة الله عز وجل، ولا يمكن أن تستقيم أمور الحياة إلا بوجود قوي وضعيف. وهذا ليس فيه ظلم ولا جور، بل هذه خلقة الله عز وجل، فلا تستطيع أن تستدرك على الخالق، حاشا وكلا! تعالى الله عز وجل. فالله عز وجل في أصل الخلقة خلق المرأة على هذا التكوين: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] خلقها على هذا الضعف لحكمة بينها تعالى فقال: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]، فلو خلقت قوية لما استقامت أمور الحياة، ولتنكد العيش، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل الأمر على هذه السنن {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]، فلا يستطيع أحد أن يبدل خلق الله. نعم في الشريعة جاءت التشريعات تخاطب الرجال وتخاطب الإناث، ومع ذلك خصت الرجال بما خصتهم، وخصت الإناث بما خصصتهن، ولا يستطيع أحد أن يقول: إنها قد جعلت الرجل مثل المرأة سواء بسواء أبداً، هذا أمر واضح جداً في التكاليف الشرعية وفي الأحكام والمسائل، فلا يخلط الأمر، بل ينبغي على المسلم أن يكون على بينة من أمره، وأن تكون الأمور واضحة. ولذلك متى ما خرجت المرأة عن هذه الفطرة استرجلت، وقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لعن المسترجلات من النساء، أي: أنها خرجت عن هذا المقام الذي فطرها الله عز وجل عليه، وأرادت أن تساوي الرجل، والله يقول: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228]. فهذه أمور خلطت على المسلمين، ودخلت من الأفكار الوافدة من أعداء الإسلام؛ لأنهم يعلمون أنهم يناقضون كثيراً من أصول الشريعة، وتستقيم أمور المسلمين كثيراً إذا عرفت المؤمنة الصالحة مكانتها وعرف الرجل مكانه، وكمل كل منهما الآخر، وحاول كل منهما أن يكون على السنن والفطرة التي خلقه الله عز وجل عليها ولا يخرج عنها ألبتة. ولذلك الذين يقولون: حقوق المرأة، هؤلاء والله يعذبون المرأة ويحملونها ما لا تطيق، وفوق ما تطيق، فهل يستطيعون أن يجعلوا فيها من القوة مثل ما في الرجل؟ إذا كانوا لا يستطيعون أن يجعلوا فيها من القوة مثل ما في الرجل فلا يكلفوها، ولا يحملوها ما لا تتحمل. ومن هنا لما خرج الناس عن هذه الفطرة تنكدت الحياة، وتعذبت المرأة وأهينت وأذلت، حتى إن بعض أعداء الإسلام انتصر لحقوق المرأة، فلما خرجت المرأة في الدول الشيوعية للاتحاد السوفيتي تكنس الشوارع، وتعمل مثلما يعمل الرجل، صارت مهانة ذليلة ورجعت على العكس، فقد كانت تظن أن مسألة حقوق المرأة أنها مسألة يراد بها تكريم المرأة حقيقة، فتبين أنها إهانة للمرأة وإذلال لها. وأقسم بالله الذي فطر السماوات والأرض لن تجد المرأة تكريماً غير الذي كرمها الله به، وأنها إذا ظنت أنها تجد التكريم في غير كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلتعلم أنها لن تزداد عند الله إلا مهانة وذلاً، ولتقدم على ما أقدمت أو تحجم. فعليها أن تعلم أن التكريم الحق إنما هو حينما تكون في مكانتها الطبيعية الجبلية التي فطرها الله عز وجل عليها، قائمة على أسرتها، وربة لبيتها، ومحافظة على أولادها، وراعية لزوجها، فقادت العالم أجمع بعدل وإنصاف وحكمة وقدرة من الله واقتدار، ومع ذلك ما تخلفت ولا تقاعست وكانت في أوج الحضارة، وكانت المرأة في قعر بيتها قائمة لحقوق أولادها وزوجها. وهل معنى ذلك أننا لن نتقدم إلا إذا كانت المرأة مثل الرجل؟ أبداً، هذه كلها أمور مخلوطة، وأوراق مغالط فيها ومكابر فيها، فعلى الإنسان أن ينظر إلى الحقيقة. وعلينا أن نفهم الكتاب والسنة لنرد على كل من يأتي ويروج ويقول: المرأة مثل الرجل، وقد خاطبها الله كما خاطب الرجل، فهذه أمور لو جئنا نفصل فيها وأمسكنا من باب الطهارة إلى نهاية أبواب الفقه الإسلامي، لوجدت من المسائل ما لا يحصى كثرة من التفريق بين الرجل والمرأة، وتجد أن هناك أصلاً شرعياً يرضى به من يرضى ويسخط من يسخط. وعلى كل حال: الأمر في هذا واضح، وليس هذا مقامه، لكن نقول: إن الرجل إذا قتل المرأة قتل بها، وإذا قتلت المرأة الرجل قتلت به. لكن إذا قتلت به فبعض العلماء يرى أنه يأخذ أولياء المقتول نصف الدية من أولياء المرأة أو من مال المرأة، قالوا: لأن المرأة نصف الرجل كما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديتها)، فهذا يدل على أنها على النصف، فإذا كانت على النصف فديتها نصف دية الرجل كما سيأتي إن شاء الله، وإذا ثبت أنها على النصف فمعنى هذا أنها لا تساوي الرجل، فلو قتل رجل امرأة وحكمنا بالقصاص، فإنه إذا قتل أولياء المرأة الرجل، فقال بعض العلماء: يدفع أولياء المرأة نصف الدية؛ لأنها لا تكافئ الرجل من كل وجه. والصحيح: أن المرأة تقتل بالرجل، والرجل يقتل بالمرأة، ولا دفع للفرق بينهما.

الشرط الرابع: انتفاء التوالد بين القاتل والمقتول

الشرط الرابع: انتفاء التوالد بين القاتل والمقتول قال المصنف رحمه الله: [الرابع: عدم الولادة]. الشرط الرابع: عدم الولادة وعدم البعضية، وهو ألا يكون المقتول بعضاً من القاتل، أو ألا يكون القاتل والداً للمقتول، سواء كان ذكراً كأبيه أو أنثى كأمه، فلا يقتل الأب إذا قتل ابنه، ولا تقتل الأم إذا قتلت بنتها أو ابنها، وقد ثبت هذا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجرى عليه العمل، وفيه حديث مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الإمام الحافظ ابن عبد البر: إن الأمة تلقته بالقبول، يقصده حديث: (لا يقتل الوالد بالولد)، وهو حديث تلقته الأمة بالقبول، وأغنت شهرته عن طلب إسناده. ولـ شيخ الإسلام رحمه الله كلام نفيس في مجموع الفتاوى، وكذلك الإمام ابن القيم تكلم على هذه المسألة في الإعلام، في مسألة الأحاديث التي اشتهرت فأغنت شهرتها عن طلب إسنادها وتلقتها الأمة بالقبول، وهذا الذي درج عليه أئمة الإسلام والسلف الصالح. والمنبغي للمسلم أن يسعه ما وسع السلف، وما جرى عليه العمل وأجمعت عليه الأمة، وكانوا فيه على السنن؛ فإن المسلم يلزمه ذلك، وهو أولى بالصواب وأحرى به إن شاء الله. ولماذا لا نقتل الوالد بالولد؟! قالوا: لأن الوالد سبب وجود الولد، فلا يكون الولد سبباً في موته وهلاكه, هذه علة. وبعضهم قال: لأن الولد جزء من الوالد، وهذا صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: (إنما فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها)، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم)، فجعلهم كجزء من الإنسان. وقال بعض العلماء: العلة في عدم قتل الوالد بولده: أن الوالد يؤدب ولده، والغالب ألا يقتل والد ولده عمداً وعدواناً لكن هناك شبهة التربية والتأديب، وأنه لا يقدم على ضربه حتى يموت، لما جبل عليه الوالد من الرحمة والعطف عليه، فالشبهة قائمة، والشبهة تسقط القصاص. وعلى هذا الوجه الأخير استثنى المالكية المسألة المشهورة، وهي أن يضجع الوالد ولده ويقتله، مثل أن يذكيه تذكية مثل البهيمة، ففي هذه الحالة قالوا: تسقط شبهة التربية، ويقوى أن الوالد يريد إزهاق الروح عمداً وعدواناً، فيقتص منه. وعلى كل حال: فجمهور العلماء على عدم قتل الوالد بالولد مطلقاً، ويشمل هذا الحكم الوالد المباشر والجد والجدة سواء من جهة الوالد أو من جهة الوالدة، أي: سواء تمحضت بالذكور أو تمحضت بالإناث. قال رحمه الله: [فلا يقتل أحد الأبوين وإن علا بالولد وإن سفل] وذلك كما ذكرنا. قال رحمه الله: [ويقتل الولد بكل منهما]. أي: العكس، يقتل الولد بكل منهما، فلو قتل الولد -والعياذ بالله- والده، وهذا من أسوأ ما يكون؛ لأنه جمع بين العقوق والقتل -نسأل الله السلامة والعافية- فهذا من الشقاء المتناهي -والعياذ بالله- فإذا قتله فإنه يقتل به.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الذمي إذا قتل رقيقا مسلما

حكم الذمي إذا قتل رقيقاً مسلماً Q لو قتل ذمي عبداً مسلماً فهل يقتص منه أم لا، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإذا قتل الذمي رقيقاً مسلماً فإنه يقتل به، والجارية الأنصارية قيل: إنها كانت مولاة، ومن هنا يقتل به من جهة الكفر، والكافر ليس له فضل على الرقيق، ولذلك قال: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:221]. وعلى كل حال ليس هذا مما يمنع القصاص من الذمي، بل يقتص منه ويقتل، والله تعالى أعلم.

حكم القصاص من السكران إذا قتل

حكم القصاص من السكران إذا قتل Q هل هناك قصاص على السكران إذا قتل، أثابكم الله؟ A هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: هل السكران مكلف أو غير مكلف؟ ومن حيث الأدلة والأصول قد سبق أن ذكرنا هذه المسألة في كتاب الطلاق، وأن السكر موجب للحكم بزوال العقل، ونص الله عز وجل على أن السكران لا يعلم ما يقول، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]. فمن حيث الأصل لا شك أن مذهب الظاهرية ومن وافقهم في أن السكران غير مكلف قوي جداً. وفي مسألة القتل هنا استثنى بعض العلماء فقالوا: لو فتح الباب لكان لا يسع الإنسان إلا أن يسكر ثم يقتل. وعلى كل حال: فإن قضاء الصحابة هو الأولى، كما ذكرنا في قضاء علي رضي الله عنه في خلافة عمر رضي الله عنه حينما جمع الصحابة، وقد اشتكى إليه خالد بن الوليد أن الناس قد انهمكوا في شرب الخمر، فقال علي: هذا أصل يقتضي أنه يعامل معاملة الصاحي. والذي يظهر والله أعلم أنه من حيث الأصل في الحكم أنه غير مكلف، لكن لا مانع في بعض الأحوال المستثناة إذا استشرى الأمر وعظم الفساد أن يستثنى كما استثنى الصحابة، فإن الصحابة زادوا في الحد وزادوا في العقوبة عند الانهماك في شرب الخمر. ولذلك رجح شيخ الإسلام رحمه الله أن هذه الزيادة راجعة إلى تقدير الظرف، لا من باب أن الزيادة تعزيرية، وليست زيادة نصية حدية، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس إن شاء الله، وهو الأقرب، والله تعالى أعلم.

حكم الأكل والتعامل مع تارك الصلاة

حكم الأكل والتعامل مع تارك الصلاة Q هل يجوز قبول مال الذي لا يصلي أو الأكل من طعامه أو محادثته إن كان من الأقرباء، أثابكم الله؟ A أما بالنسبة للأكل من طعامه فلا شك أن فيه خلافاً: هل هو كافر أو ليس بكافر؟ فإن ترك الصلاة كلية وحكمنا بكفره؛ فإنه يجوز الأكل من مال الكافر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة، واستضافه يهودي على خبز وإهالة سنخة، كما في مسند أحمد، ولأنه طعم من شاة اليهودية كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام، فهذا يدل على قبول ضيافة الكافر، خاصة إذا رجي تأليفه وكسبه للإسلام، وبشرط أن يؤمن مكره وضرره. وأما قبول هديته ففيها تفصيل: فبعض العلماء يقول: إذا كان فيها منة وأذية على المسلم؛ فإنه لا يقبل هديته، ولا يقبل منه شيئاً، فلا يقبل منه مالاً، ولا يجيب له دعوة، فإذا كان فيه خبث وله أغراض سيئة، أو يريد مثلاً أن يدعو إنساناً طيباً وحاله طيب حتى يغري غير الطيبين، أو نحو ذلك من المداخل التي قد يفعلها أصحاب الكفر لأذية المسلمين، فإنه لا يجوز في هذه الحالة قبول الدعوة؛ لأن درء المفسدة أولى من جلب المصلحة، والله عز وجل أمرنا معهم أن نأخذ الحذر، والواجب على المسلم أن يأخذ الحذر، وهذا من الحذر، وفيه استجابة لأمر الله عز وجل، وتحقيق لمقصود الشرع، والله تعالى أعلم.

بيان من هم أهل الذمة

بيان من هم أهل الذمة Q هل أهل الذمة هل هم أهل الكتاب فقط، أم يشمل حتى المجوس وأهل الشرك أثابكم الله؟ A الذمة تختص بأهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، واختلف في السامرة والصابئة، هل كانت لهم أصول سماوية أم لا؟ على وجهين مشهورين عند العلماء رحمهم الله. فالذمة خاصة بالكتابيين كما قدمنا في باب العهد وأحكام الذمة، وقد فصلنا في هذه المسألة وذكرنا خلاف العلماء رحمهم الله، وأن الصحيح أن الكتابي من كان له أصل من دين سماوي، كما قال تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام:156]، فخص الكتب السماوية بهاتين الملتين، وهذا هو الأصل فيهم أنهم هم اليهود والنصارى. وأما المجوس فإنهم يعاملون معاملة أهل الكتاب في شيء، ويبقون على الأصل في شيء آخر، قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم)، فتضرب عليهم الجزية ويعاملون كما فعل الصحابة رضوان الله عليهم، ولكن لا تنكح نساؤهم، ولا تؤكل ذبائحهم، ومن هنا فإنه يختلف أهل الذمة عن المجوس من وجه، ويوافقونهم في وجه. وأما المشركون فإنهم لا ذمة لهم عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عند المسلمين، فإن المشرك إما أن يعرض عليه الإسلام وإما أن يقتل، إما أن يسلم وإما أن يقتل. أما أهل الكتاب فلأن لهم ديناً سماوياً، وقد اختلفوا عن غيرهم من هذا الوجه، فالإسلام يقر الشرك ولا يقر الوثنية، فعباد الأشجار والأحجار وعباد الأوثان إذا هجم عليهم المسلمون فإنهم لا يخيرونهم إلا بين أمرين: أن يسلموا أو أن يقاتلوا. وأما إذا كانوا من اليهود والنصارى فيخيرون بين الثلاثة الأمور: الإسلام، أو القتال، أو دفع الجزية: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، وقد تقدم تفصيل هذه المسائل في كتاب أحكام الذمة، والله تعالى أعلم.

حكم الجمع بين صلاة الجمعة والعصر في السفر

حكم الجمع بين صلاة الجمعة والعصر في السفر Q هل يجوز جمع صلاة الجمعة والعصر للمسافر، أثابكم الله؟ A هذه المسألة الأصول الشرعية تقتضي جواز الجمع بين الجمعة والعصر، وهذا لا إشكال فيه من جهة الأصول، أي: لا فرق بين الجمعة وبين الظهر. لكن الأصل أن المسافر لا يصلي الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ جمعة في سفره ألبتة، وهذا أمر واضح وجلي، حتى إنه عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع كان معه مائة ألف نفس في عرفات، وكان بالإمكان أن يجمِّع ولو مراعاة لأهل مكة، ومع ذلك لم يصلِّ الظهر جمعة. ومن هنا نص العلماء على أن المسافر في الأصل لا تجب عليه الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر ومعه العدد الذي تصح به الجمعة وما صلّى جمعة واحدة. ومن هنا كان يشدد بعض مشايخنا رحمة الله عليهم في خروج الإنسان وهو مسافر يجمِّع بالغير؛ لأنه لا يجمع بهم إلا من كان منهم، من أجل تحقيق هذه السنة الثابتة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المعروفة من هديه وسنته عليه الصلاة والسلام. والجمع بين الصلاتين يشدد فيه بعض الحنابلة، وبعض المتأخرين يقول: دليلنا أنا وجدنا العلماء يقولون: يجمع بين الظهر والعصر، وما وجدناهم يقولون: يجمع بين الجمعة والعصر، لكن هذا ليس بدليل، فالعلماء رحمهم الله يذكرون الأصل وينبهون به على ما حلّ محله، ولذلك الجمعة إذا صلاها فإنه يصح له أن يجمع بعدها العصر، ولكن إذا أراد أن يخرج من الخلاف ويحتاط فهذا شيء آخر. أما من حيث الأصل فإنه لا إشكال في جواز أن يجمع العصر إلى الجمعة، وليس هناك دليل بمنع ذلك، بل الرخصة التي أحل بها الجمع هي وجود السفر، ووجود السفر موجب للرخصة، ولا فرق بين الجمعة وبين غيرها، ولذلك إذا فرق المفرق فعليه بالدليل. لكننا نقول: إذا احتاط وصلى الظهر وجمع إليه العصر فلا بأس. وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقولون: يحضر الجمعة فينوي بها الظهر ولا ينويها جمعة, فإذا نواها ظهراً فلا إشكال، ووجه واحد أنه يجمع العصر إليها؛ لأنه يصلي وراء الإمام بنية الظهر، ويصح أن يصلي الظهر لاتحاد صورة الصلاتين، واختلاف النية مخرج على حديث معاذ رضي الله عنه؛ لأن الشرط ألا تختلف صورة الصلاتين، فإذا أراد أن يخرج من الإشكال فينوي المسافر الظهر، ويستفيد من حضور الجمعة للذكرى. والفرق: أنه إذا حضرها بنية الظهر جاز له أن يتكلم، وجاز له أن يتحرك، وجاز له أن يفعل؛ لأنه ليس بمجمع أصلاً، وهذا مبني على أصل عند العلماء رحمهم الله، وخاصة أن المسافر لا تجب عليه الركعتان الأوليان من الظهر، وقد قالوا: إن الخطبتين منزلة منزلة الركعتين خاصة في الحاضر. فإذا ثبت هذا فإنه يدخل بنية الظهر، ثم يحضر الجمعة ويستفيد، ويصلي العصر جمعاً، وإن أراد أن يدخل بنية الجمعة طلباً لفضيلة الجمعة فلا بأس؛ لأنه يحصل له فضيلة أفضل من الظهر، إلا أن الوالد رحمة الله عليه كان يختار أن تكون نيته للظهر؛ لأن اتباع السنة بعدم التجميع أولى وأقوى، وإن كان الأصل في ظاهره أن الجمعة أفضل من الظهر، والله تعالى أعلم.

حكم تعدد النية في صلاة وصيام النافلة

حكم تعدد النية في صلاة وصيام النافلة Q هل يجوز أداء صلاة السنة الراتبة وتحية المسجد في الصلاة الواحدة؟ وأيضاً في نية الصوم هل يجمع بين صيام الإثنين إذا وافق يوماً من أيام البيض، أثابكم الله؟ A يجوز أن يدخل المسجد وينوي الراتبة وتندرج تحتها التحية، والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين)، فلما قال: (يركع ركعتين) دل هذا على أنها إذا كانت مقصودة أو غير مقصودة أجزأت، وأن مراد الشرع ألا يجلس في المسجد حتى يصلي، وعلى هذا فإنه تجزيه عن الراتبة. وأما بالنسبة للصوم فإنه إذا كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ووافق الإثنين والخميس؛ أجزأه عن صيامه المعتاد للإثنين والخميس، وهكذا لو وافقت الأيام البيض يوم الخميس أو يوم الإثنين، فإنه ينوي في قرارة قلبه الإثنين, كونها من البيض، وكونه يوماً مستقلاً من عادته أن يصومه، فيكتب الله له أجر اليومين، الأول بنيته والثاني بعمله. وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله: أن من اعتاد الشيء من الطاعة وحال بينه وبين تحقيقه العذر؛ كتب له الأجر، فهو اعتاد أن يصوم أيام البيض، واعتاد أن يصوم الإثنين، ولا وجه للفصل بينهما، إذا وافق يوم الرابع عشر يوم الإثنين فلا يستطيع أن يجعل أيام البيض في غير يوم الإثنين، ومن هنا يكتب له أجر اليومين، وهذه فائدة المداومة على الأعمال الصالحة. وهكذا إذا كان يصوم يوماً ويفطر يوماً؛ شرع له أن يدخل زيادة الإثنين والخميس؛ لأنها مقصودة لليومين، فلو كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، فصام الأحد، شرع له أن يصوم الإثنين؛ لأنه لمعنىً مستقل، كما لو صام يوماً وأفطر يوماً، ووافق يوم فطره يوم عاشوراء أو يوم عرفة؛ فإنه يشرع له أن يصومه؛ لأنه لمعنىً خاص، والله تعالى أعلم.

نصيحة لزوج يسيء الظن بزوجته

نصيحة لزوج يسيء الظن بزوجته Q زوجي رجل مستمسك بدينه والحمد لله، وحسن الخلق مع الآخرين، ولكنه يشدّ علي، ويسيء الظن بي، ويتلمس أخطائي، ولا يرعى كوني امرأة ضعيفة أمانة بين يديه، فهل يحق لي طلب الطلاق منه، أرجو منكم توجيه النصيحة لزوجي أثابكم الله؟ A الله المستعان! أولاً وقبل كل شيء: احمدي نعمة الله عز وجل أن رزقك الله زوجاً بهذه المثابة، ما دام أنه يخاف الله عز وجل وفيه حسن خلق، وما كان من إساءة الظن، ففي بعض الأحيان قد يقسو الرجل على زوجته من باب الغيرة، وحب الخير لها، وفي قرارة قلبه هو يحبها ويجلها ويكرمها، فيدخل الشيطان على المرأة بالظنون، فأوصيك دائماً أن تجعلي احتمالاً مضاداً لهذا الاحتمال حتى يضعف سلطان الشيطان على قلبك. ثانياً: أرجو لك عند الله أجراً عظيماً، وثواباً جليلاً كريماً إن صبرت على هذا الزوج، وأرجو لك من الله أن يعوضك على صبرك في دينك ودنياك وآخرتك؛ لأن لله سنناً لا تتبدل ولا تتحول، والله لا يضيع أجر الصابرين، ولا يخيب أمة أو عبداً صبر لوجهه. فأنتِ إذا صبرتِ على عبد صالح ترجين رحمة الله؛ فأنتِ على خير، وأما الحدة والشدة فلا خير فيها، وقد كان أبو بكر رضي الله عنه في الإحرام يضرب عبده وهو محرم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (انظروا إلى هذا المحرم) يعني: هو في إحرامه وهو يضرب. فكان عند الصحابة قسوة، حتى إنه لما دخل على ابنه عبد الرحمن قسا عليه قسوة شديدة في قصة الضيف المعروفة، وقال له: اخرج غدر. فقد يكون الإنسان صالحاً وفيه حدة، فالصبر على هذا الصالح المحتد أجره عظيم عند الله عز وجل وثوابه عظيم. فأوصيك بالصبر، فإذا جاوز حدوده فبالإمكان الاستعانة بمن يوثق فيهم، فإذا كان له عم أو والد أو أخ كبير، فتعرضين الأمر عليه عن طريق أخيك، وإذا لزم الأمر تكلميه مباشرة أو عن طريق الهاتف أن فلاناً يقسو زيادة عن اللازم، وتحددي الأمور التي تضايقك ولا تستطيعين الصبر عليها. أما الطلاق فليس هو الحل، بل هو نهاية الحلول، وما دام أنه رجل يخاف الله عز وجل؛ فأوصيكِ إذا جاوز الحد أن تقولي له: اتقِ الله عز وجل، فإن المؤمن إذا قيل له: اتقِ الله؛ رعدت فرائصه من الله عز وجل خوفاً من الله سبحانه، فأنتِ عندك سلاح متين. وأخاف عليكِ -لا قدر الله- إن طلقكِ ألا يبدلك الله خيراً منه، وقد تجدين من يهش لك ويبش، ولكن تجدين منه من الشؤم والبلاء ما لا يخطر لك على بال، وهذه سنة الله عز وجل، أنه إذا أنعم على العبد أو الأمة بنعمة ونظر إلى غيرها أنه يصرفها عنه ويذيقه الويلات فيما انصرف إليه. ولا أقول لكِ: أنه كامل، ولا أحملكِ فوق طاقتكِ، أنا أقول: ما دام أنه يخاف الله، فبيدكِ سلاح عظيم وهو التذكير بالله عز وجل، ولذلك قولي له: اتقِ الله؛ لأن التقي يخاف من الله عز وجل. فعندك أمر تستطيعين أن تحلي به مشاكلك وهو تذكيره بالله، وإذا كان لا يسمع منك فكما ما ذكرنا تنظرين إلى العاقل من قرابته وتعرضين الأمر عليه، وثقي ثقة تامة وليثق كل إنسان في هذه الحياة أنه لن يجد شيئاً كاملاً، وأن الحياة جبلت على النكد والبلاء والكد: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، فالله عز وجل الذي خلق كل شيء، وقدر كل شيء، وعلم بكل شيء سبحانه، وأحاط بكل شيء رحمة وعلماً, ووسع كل شيء رحمة وعلماً يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، فأقسم سبحانه وتعالى بالبلد الأمين، وأقسم برسوله وهو حال فيه، وبكل ما خلق: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:3 - 4] أي: في تعب وعناء. فإذا كان التعب والعناء تستطيعين أن تصبري عليه فهذا خير لكِ، والحكماء والعقلاء على مر العصور والدهور ما كانت حياتهم إلا صبراً وتجلداً، فتجلدي واصبري يا أمة الله، فإن الله يصبركِ. وما يدريكِ فلعل الله أن يخرج منك من هذا الرجل ذرية صالحة، واحمدي الله عز وجل أن زوجكِ لم يبتلَ بالمخدرات، ولم يبتلَ بالمحرمات، واحمدي الله عز وجل أنه لا يأتيك آخر الليل سكران، ولا يأتيك آخر الليل -والعياذ بالله- من عند مومسة، أو من بعد حرام أو من بعد فحش وآثام، فاحمدي الله عز وجل، وقولي: بعض الشر أهون من بعض، وكم من امرأة أقض مضجعها زوج يقلقها بالمحرمات، ويسبها ويسب أهلها وذويها وقرابتها، واحمدي الله عز وجل أنه لم يظلمكِ في مال، ولم يظلمكِ في فراش، واحمدي الله عز وجل على أشياء كثيرة. ولابد من وجود النقص، فالإنسان ضعيف، وأنتِ ضعيفة وأضعف منه، لكن الله سبحانه وتعالى يجبر كسركِ ويعينك إن صبرتِ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (وجدنا ألذ عيشنا بالصبر). فما طابت الحياة إلا بالصبر، والصبر لا يكون إلا بالأذية والتعب والعناء، وأشد ما تكون الأذية والتعب والعناء من القريب، ولذلك إذا أراد الله بعبده خيراً ابتلاه، وإذا أراد أن يعظم له الأجر في البلاء جعل بلاءه من أقرب الناس إليه. الزوجة يؤذيها زوجها، وابن العم يؤذيه ابن عمه وقريبه، والشيخ يؤذيه طالبه، قد يعلم طالباً ثم يوماً من الأيام يرميه بنبله، أو يسييء الظن به، أو يتهجم عليه، فلابد من الأذية والبلاء. وإذا أتتك الأذية من أقرب الناس إليك؛ رفع الله درجتك، وأعظم أجرك، وأجزل مثوبتك، وجعل عاقبتك لك. يا أمة الله! إن الله وعدكِ وعداً لا يخلفه والله لا يخلف الميعاد، بشيء واحد إن حققتيه وقمتِ بحقوقه وآمنت به وصدقتيه، فإن الله سبحانه وتعالى سيجعل أمره بين يديه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]. فلا تنظري إلى ما أنتِ فيه اليوم، ولا تنظري إلى الهم والغم، فإن هذا من الشيطان، ولذلك كل امرأة تأتيها الهموم والغموم وتنظر فيها وتتأملها؛ تزداد عليها الهموم، ويدخل الشيطان عليها، ولكن إذا نظرت إلى أن الله معها، وأن هذا ابتلاء، وأنها سنة الحياة؛ والله ثم والله لو أن زوجك صفا لك من الكدر، ونعمت حياتك معه؛ إذا بكِ تفاجئيه بأولادك قد خرجوا عليكِ, وإذا سلمت من الأولاد؛ سلّط الله عليكِ صويحباتك، فلن تسلمي من البلاء، وما يزال المؤمن في هم وغم وكرب وبلاء، ومن بلاء إلى بلاء حتى يقف على أبواب الجنة، ويطأ بقدمه أعتابها، فيقول كما قال تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34]؛ لأن الدنيا سجن المؤمن. أتظنين أن زوجك إن طلقكِ أنكِ ستعيشين حياة هنية سعيدة؟! أتظنين أنه لو جاءك زوج آخر أنكِ ستعيشين معه حياة سعيدة، وأنكِ ستجدين فيه الكمال والخير الموجود في زوجكِ، ثم هذا النقص الموجود فيه يكمل؟! يا أمة الله! الصبر الصبر، وقد قال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: (ومن يصبر يصبرّه الله)، تذكري ثم تأملي وتفكري في الأيام التي مضت والسنين التي انقضت وأنتِ في الهم والغم، كم لكِ من درجات وحسنات وأجور وخيرات وبركات لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى!! فاحمدي الله، واصبري بصبر الله. أما الكلمة الأخيرة فأوصي هذا الزوج أن يتقي الله، وأوصي الإخوان والصالحين دائماً أن يتواصوا بحقوق الأهلين والزوجات، وإذا جلس الصديق مع صديقه ينبه لمثل هذا، سواء في حقوق السهر، أو الفراش، أو حقوق المال والنفقة، فإذا رأيت صديقك أو قريبك مقصراً في ولده، كأن يكون بخيلاً، فهو رجل صالح طيب ولكنه لا ينفق على ولده، بل يقتر على ولده وعلى نفسه، فعليك أن تقول له: اتق الله. فأوصي الصالحين أن يوصي بعضهم بعضاً بالله عز وجل، ويقول: اتق الله عز وجل في أهلك وولدك. ففي بعض الأحيان تراه يسهر إلى ساعات متأخرة ولا يأتي إلى زوجته إلا في ساعات متأخرة، وهذا لا يأمن على زوجه الحرام، وقد لا يأمن عليها الآثام, فلينصح بعضنا بعضاً، وليذكر بعضنا بعضاً. وأوصي هذا الأخ أن يتقي الله في أمة الله، وأن يرحم ضعفها، وأن يرفق بها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (إني أحرج حق الضعيفين: المرأة واليتيم). فالله الله في حقها، وليتذكر ما أمره الله عز وجل به: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

معاذ القباطي

معاذ القباطي

باب استيفاء القصاص

شرح زاد المستقنع - باب استيفاء القصاص إذا تحققت الشروط المطلوبة لتنفيذ القصاص فإن من حق أولياء المقتول أن يستوفوا حقهم بطلب القصاص وتنفيذه، فإذا أرادوا استيفاء القصاص فلابد من شروط لذلك، وهي: أن يكون ولي المقتول مكلفاً، وأن يتفق أولياء المقتول على طلب القصاص، وأن يؤمن التعدي في القصاص على الجاني، فإذا تحققت هذه الشروط فإنه يحكم بالقصاص، وإذا تخلف منها شرط لم يحكم به. ولابد من حضور السلطان أو القاضي أو نائبه عند تنفيذ الحكم واستيفاء القصاص، ويجوز أن يكون القصاص بالمماثلة أو بالسيف على خلاف في ذلك.

المراد باستيفاء القصاص

المراد باستيفاء القصاص بسم الله الرحم الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب استيفاء القصاص]. الاستيفاء: استفعال من (وفى الشيء)، والمراد به: حصول الإنسان على حقه كاملاً، يقال: استوفى حقه، إذا أخذه كاملاً ولم يترك منه شيئاً، ولما كان أولياء المقتول لهم حق عند القاتل، والله سبحانه وتعالى مكنهم من هذا الحق، وجعل لهم سلطاناً أن يطلبوه؛ وصف العلماء رحمهم الله تعالى أخذهم لهذا الحق بالاستيفاء، ومن عادة أهل العلم رحمهم الله تعالى أن يذكروا باب الاستيفاء بعد بيان شروط القصاص؛ لأنه لا يُمكَّن أولياء المقتول من قتل القاتل إلا إذا استوفيت الشروط وتمت الشروط المعتبرة شرعاً للقصاص، فإذا ثبت أنه يجب القصاص والقود قلنا لأولياء المقتول: هذا حقكم، فإن شئتم استوفيتموه، وإن شئتم تنازلتم عنه إلى عوض وهو الدية، أو تنازلتم بدون عوض وهو العفو المطلق، فقد خيرهم الله عز وجل بين هذه الثلاثة الأمور: بين أن يأخذوا بالقود والقصاص، وبين أن يأخذوا الدية، فيكون منهم العفو عن القتل ولكن تثبت لهم الدية، وبين أن يعفوا عفواً مطلقاً بدون دية وبدون أخذ شيء. وهذا القصاص واستيفاء القصاص هو جوهر القضية ومحور الأمر؛ لأنه عن طريق استيفاء القصاص تسكن النفوس، وتصل الحقوق إلى أهلها، ويشفى الغليل، فإن أولياء المقتول في حنق وغيض بسبب ظلم القاتل وسفكه لدم وليهم. وسفك الدماء لا شك أن مرارته مؤلمة في النفوس، حتى إن المرأة قد تذهل عن عقلها، والرجل يذهل عن نفسه حتى يقتص من قاتل أبيه أو قاتل أخيه، وقد كانت العرب في جاهليتها الجهلاء وضلالتها العمياء يشتط الغضب بالواحد منهم فيقتل بالواحد العشرة، ولا تسكن نفسه إلا بقتل العظيم، فإذا قُتل له أخٌ، أو ابنٌ، أو قريب، التمس أعز الناس في عشيرة القاتل فقتله بوليه، ولربما قتل أضعاف العدد، كل ذلك من أجل أن يشفي غليله، حتى قال القائل: فساغ لي الشراب وكنت قبلاً أكاد أغص بالماء الفرات أي: أنه كان إذا شرب الشراب لا يستطيع أن يستطيبه، وهذا جبلة في النفوس، ولذلك حكم الله تعالى بالقصاص من أجل قطع أسباب التشفي وقطع بوادر الشر، والتوسع في إزهاق الأنفس، كما قال تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء:33]. وهذا الاستيفاء له ضوابط في الشريعة الإسلامية، حيث يمكن أولياء المقتول من قتل القاتل، ولكن لا بد من وجود شروط إذا توفرت حكمنا بأن لهم حق الاستيفاء، وقد تأتي عوارض وموانع تمنع من الاستيفاء مباشرة، وحينئذٍ ينبغي أن ينتظر حتى يُمكن صاحب الحق من حقه كاملاً ويمكن من النظر في أمره على الوجه المعتبر وعلى السنن والرشد. فقوله رحمه الله تعالى: (باب استيفاء القصاص) أي: في هذا الموضع سأذكر لك الأمور المعتبرة للحكم باستيفاء أولياء المقتول حقهم من القاتل، وذلك بالقصاص والقود.

شروط استيفاء القصاص

شروط استيفاء القصاص قال رحمه الله تعالى: [يشترط له ثلاثة شروط]. أي: يشترط لاستيفاء القصاص ثلاثة شروط لابد من توفرها حتى يحكم بالقصاص: الشرط الأول: أن يكون طالب القصاص مكلفاً، فلا يُستوفى القصاص إذا طلبه مجنون أو صبي، أو نحوهم ممن ليس بأهل. الشرط الثاني: أن يتفق أولياء المقتول على القتل، فإذا كان للمقتول وليان فعفا أحدهما والآخر طلب القصاص، فلا قصاص، إذ لا بد أن يتفق الاثنان على القصاص، ولو كانوا عشرة فلا بد من اتفاق العشرة، فلو تنازل أحدهم عن القصاص، وقال: أريد الدية، فحينئذٍ لا قصاص؛ لأننا لو حكمنا بالقصاص لأسقطنا حقه في الدية، وهو يريد حق الدية ولا يريد حق القصاص. الشرط الثالث: أن يؤمن الحيف، ومحل ذلك في المرأة الحامل، فلا يقتص من امرأة حامل، فلو قتلت امرأةٌ امرأةً ثم حملت القاتلة أو كان بها حمل، لم يقتص منها حتى تضع ما في بطنها، ثم ينظر هل تُنتظر إلى أن تتم الرضاعة أو لا؟ فهذه ثلاثة شروط، قُصِد منها تحقيق العدل، وتمكين صاحب الحق من حقه على الوجه المعتبر. فالشرط الأول: التكليف، والشرط الثاني: اتفاق أولياء المقتول على طلب القصاص والقود، والشرط الثالث: الأمن من الحيف، وهذه أصول في الاستيفاء سواءٌ في القصاص في الأنفس أم في الأطراف.

الشرط الأول: أن يكون ولي المقتول مكلفا

الشرط الأول: أن يكون ولي المقتول مكلفاً قال رحمه الله تعالى: [أحدها: كون مستحقه مكلفاً]. قوله: (كون مستحقه)، الضمير عائد إلى القصاص، (مكلفاً) أي: بالغاً عاقلاً، فالمستحق للقصاص هو ولي المقتول الذي له حق طلب القصاص، وله حق العفو عن القصاص، كأبيه وابنه وأخيه من عصبته، وهل يدخل في هذا النساء؟ فيه قولان لأهل العلم: فمنهم من قال: حق القصاص للقرابة الوارثين سواءٌ أكانوا من جهة النسب أم من جهة السبب، فتدخل الزوجة، وهو الذي عليه الأصحاب في المذهب، وهناك رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى وهي مذهب المالكية، واختارها الإمام العلامة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى إمام العلماء، أنها للعصبة، والذين قالوا: إنها لأهل الميراث ذكوراً وإناثاً، فعلى قولهم يكون للزوج الحق، وأما على القول الثاني فليس للأخت ولا للبنت ولا للزوجة حق، وإنما هو حق للرجال العصبة، وهذا هو الصحيح الذي تميل إليه النفس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (أما أنتم يا خزاعة فقد قتلتم القتيل وأنا عاقله)، ومن جهة قال: (من قتل له قتيل فأهله بخير النظرين). فقوله عليه الصلاة والسلام في هذه القضية: (من قتل له قتيلٌ فأهله)، و (أهل): أصلها في لغة العرب آل؛ ولذلك فإن المراد بهم آل الرجل، وهم عصبته المتعصبون حوله، وهذا يشمل الرجال دون النساء، يقال: آل الرجل في العصبة، وقال الناظم: قال الإمام سيبويه العدل أصل آل لديهم أهل فالأهل في قوله: (فأهله بخير النظرين) أي: قرابته وعصبته. والذين قالوا: إن النساء يدخلن، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأهله)، والأهل يشمل الزوجة، وهذا ضعيف؛ لأن إطلاق الأهل إذا جاء في جانب العصبة والقتل فالأشبه به الآل والقرابة، تقول: آل فلان، بمعنى قرابته من جهة الرجال لا من جهة النساء. وإما إطلاق الأهل على الزوجة فهذا معروف في لسان العرب، كما قال تعالى: {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} [طه:10]، أي: لزوجته، لكن هنا الأهل بمعنى: الآل، وليس الأهل بمعنى الزوجة والقرابة، وإلا لضاق معنى الحديث: (فأهله بخير النظرين)، والأشبه في هذا أن يليه الرجال، وهذا صحيح؛ لأن النساء الغالب فيهن الشفقة وفيهن الضعف، وهذا لا تسكن به تارة النفوس، ولا تستقر به الأحوال غالباً، ولذلك فولاية الرجال فيه أحظ وأقوى، وهو الأشبه إن شاء الله تعالى. إذاً: يشترط في الولي أن يكون مكلفاً، والتكليف فيه جانبان لا بد من توفرهما في الإنسان ليحكم بكونه مكلفاً: أولهما: البلوغ، والثاني: العقل. قال الناظم: وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثمانية عشر حولاً ظهر وإن كان الصحيح في البلوغ في السن أنها خمسة عشر حولاً، لكن المراد أن التكليف له شرطان: أحدهما: البلوغ، والثاني: العقل، فإذا كان ولي المقتول مجنوناً فلا يستوفي القصاص حتى يفيق من جنونه، وإن كان صغيراً دون البلوغ فإنه ينتظر إلى بلوغه.

فرع: إذا كان الولي صبيا أو مجنونا

فرع: إذا كان الولي صبياً أو مجنوناً قال رحمه الله تعالى: [فإن كان صبياً أو مجنوناً لم يستوف]. أي: لم يستوف القصاص، فلو أن هذا الصبي قال: اقتلوا قاتل أبي، فنقول: لا يقتص، ولا يستوفى القصاص حتى يبلغ؛ لأنه وهو صغير ضعيف ربما خوّف وهُدد، وربما عطف على القاتل لضعفه وصغره؛ لأن الله تعالى وصف الذرية من الصغار بأنها ذرية ضعيفة، فلذلك ينظر في أمره تمام النظر، إلا إذا كان بالغاً عنده حلم وعقل يميز فيه بين محاسن الأمور وضدها. فلو قال: اقتلوه، وهو صغير، فإنه لا يقتل حتى يبلغ، ولو طلب فإنه لا يقتل، ولو قال: لقد عفوت، فلا يقبل عفوه حتى يبلغ. ولو كان وليه مجنوناً، فقال: قد عفوت عنه، لم يقبل عفوه، ولو قال: اقتلوه، لم يقبل طلبه، ولم يستوف القصاص، والسبب في هذا أننا لا نثق بعقله، ومن هنا لا يقتص لصبي ولا لمجنون، فينتظر بلوغ الصبي وإفاقة المجنون. ولكن اختلف في الوالد: فلو أن هذا الصبي قُتلت أمه وكانت غير زوجة الوالد؛ إذ لو كانت زوجة الوالد لحمله الحنق والغيظ على أن يطلب القصاص، فالوالد هو وليه، فهل يلي الوالد لابنه القاصر؟ هناك رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أنه يلي، وقال بها بعض أهل العلم، والصحيح المشهور عند أهل العلم: أنه لا يلي، إنما يلي مصلحة الصبي في تدبير أموره، وأما هذا الأمر فإنه متعلق بالصبي بعينه حتى يبلغ وينظر الأحض، هل يطالب بالقصاص أو يعفو؟ وهناك مسألة ثانية: إذا كان الصبي والمجنون فقيرين محتاجين إلى المال حاجةً ماسة، وفي عفو أبِ الأب عن القصاص مصلحة من حيث وجود الدية، وهذا أرفق بالصبي والمجنون، فهل يعفو ويقبل عفوه؟ من أهل العلم من قبل عفوه في المجنون ولم يقبل في الصبي، والسبب في هذا: أن المجنون يطول انتظاره، ويتضرر بهذا الانتظار، هذا قول. القول الثاني: أن الحكم كما تقدم، وهذا القول أشبه بالأصل وأقوى، فينتظر إلى إفاقة المجنون وبلوغ الصبي، ولو طال انتظار إفاقة المجنون زمناً. قال رحمه الله تعالى: [وحبس الجاني إلى البلوغ والإفاقة]. حَبْس الجاني: أن يمنع من الخروج، أو يوضع في موضع لا يمكنه الفرار؛ لأننا لا نأمن من فراره وهربه، حتى ولو جاء بوكيل وكفيل فلا يقبل؛ لأنه لو فر فلا نستطيع أن نقتص من الكفيل، بخلاف الأموال، فيمكننا أن نأخذ من مال الكفيل ونستوفي الحق، فإذا قُبِل الوكيل والكفيل في هذا غُرر بحق أولياء المقتول، ومن هنا لا يقبل كفيل، ولو قال: سيرجع ويأتي عند بلوغه، وهذا كفيل يتكفل بحضوري بعد ثلاث سنوات، أو بعد أربع سنوات، لم يطلق ويبقى في السجن، وأما المعسر في المال فإنه يطلق، والسبب في هذا واضح: وهو أن استحقاق الحق بالقتل ليس كاستحقاقه في المال، والكفيل في المال ليس كالكفيل في النفس، فإنه لو فر القاتل وكان قد وضع كفيلاً فبالإجماع لا يقتص من الكفيل؛ لأن الكفيل لم يقْتُل، ومن هنا لا يقبل قوله: خذوا مني كفيلاً، بل يحبس حتى يبلغ الصبي ويفيق المجنون، ولو طال الانتظار إلى عشرات السنين فيبقى في سجنه، فهذه جريمته والحق لصاحبه، إلا إذا عفا من يشارك الصبي والمجنون، فإذا كان مع الصبي والمجنون ورثة وطال الانتظار، فقالوا: ما دام الأمر فيه انتظار فنحن قد عفونا؛ سقط القصاص، ففي أحكام الشريعة إن وجدت فيها تشدداً وجدت فيها رحمةً من وجهٍ آخر. فقد ينتظر إلى إفاقة المجنون فتلين قلوب أولياء القتيل، وقد لا تلين والله تعالى أعلم بخلقه، وأحكم في تدبيره، فإن طال الأمر إلى إفاقته عذّب بجريمته، وإن لم يطل فإنه قد يعفو الأولياء، ويتذمرون من طول الانتظار فيعدلون إلى الدية ويعفون. وحينئذٍ لا بد من الانتظار سواءٌ أكان المجنون فقيراً أم كان الصبي فقيراً، ويحبس القاتل حتى يبلغ الصبي ويفيق المجنون، والدليل على حبس القاتل: إجماع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فإن هدبة بن خشرم وهو الصحابي المعروف الذي أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم المال بالنهد، قَتَل، ورفع الأمر إلى معاوية رضي الله عنهما، وكانت الحادثة في عهد معاوية رضي الله تعالى عنه، وكان ولي المقتول يتيماً، فحبس هدبة إلى بلوغ اليتيم، وشفع الحسن والحسين رضي الله عنهم وغيرهم من الصحابة في أمره فلم يُشَفَّعوا، وقتل بمن قتله، وانتظر إلى البلوغ، ولم ينكر أحد من الصحابة فعل معاوية رضي الله تعالى عن الجميع، ولذلك قالوا: في هذه المسألة إجماع سكوتي، فلم ينكره أحد، وجرى عليه عمل السلف أنه إذا كان ولي المقتول صبياً لم يبلغ ينتظر إلى بلوغه، ويحبس القاتل ضماناً لحق المقتول ووليه.

الشرط الثاني: اتفاق أولياء المقتول على طلب القصاص

الشرط الثاني: اتفاق أولياء المقتول على طلب القصاص قال رحمه الله تعالى: [الثاني: اتفاق الأولياء المشتركين فيه على استيفائه]. قوله: (اتفاق الأولياء المشتركين فيه) أي: في حق القصاص والقود، (على استيفائه): أي على طلب القتل، فلو أن المقتول له عشرة من الأولياء، وهم قرابته الذين لهم حق القصاص، فسامح واحد منهم، أو عفا واحد منهم، سواءٌ عفا إلى دية أم عفا بدون دية، فإنه يسقط القصاص ويُعدل إلى الدية، فإذا عُدِل إلى الدية وقال: أنا سامحت عن كل شيء، ولا أريد دية ولا أريد شيئاً، فقد سقط عشر الدية، وتبقى التسعة الأعشار للباقين، فإن أرادوا أن يعفوا أيضاً سقطت الدية كلها وسقط القصاص، وإن قالوا: نريد حقنا من الدية، أخذ كل واحد حقه ونصيبه، وعلى كل حال هناك تفصيل في هذه المسألة، لكن الأصل أن عفو بعض الأولياء يسقط القصاص، والسبب في هذا: أن له حقاً، والقصاص لا يتبعض؛ لأن الآخر يريد الدية، فإذا أراد الدية وقُتِل القاتل لم نستطع دفع الدية إليه. ومن هنا فلا قصاص مع عفو بعض الأولياء، وليعدل إلى الدية ولا بد بناءً على هذا، وهذا الأمر بإجماع عند العلماء أنه لا بد من اتفاق الأولياء على طلب القصاص، وهو القتل. قال رحمه الله تعالى: [وليس لبعضهم أن ينفرد به]. قوله: (وليس لبعضهم) أي: بعض المستحقين للقصاص إذا طالب بالقتل فليس له ذلك، فلو أنه قتل رجل آخر وكان له ثلاثة أولياء مستحقون للقود والقصاص، فقام أحدهم وقتله قبل أن يحكم بقضيته، وقبل أن يحكم القاضي بالاستيفاء، فإذا قتله فإما أن يقتله قبل عفو الباقين، وإما أن يقتله على اتفاق الباقين على القتل، أو يقتله وقد عفا بعضهم وطالب الآخرون، فهذه ثلاث حالات: أما الحالة الأولى: فإذا قتله وقد اتفق الجميع على قتله فلا إشكال أنه لا قصاص؛ لأنه سيقتل أصلاً، لكن يؤدب ويعزر؛ لأنه كان ينبغي أن يناط الأمر بولي الأمر حتى يمكنه من حقه، فلما استعجل وقتل كان هذا منه افتياتاً على الحاكم والقاضي كما يسمونه، فحينئذٍ يُعزر بما يناسبه. وأما الحالة الثانية والثالثة: فهي أن يعفو الجميع، أو يعفو بعض الأولياء، كاثنين شريكين في القصاص، فقام أحدهما وقال: عفوت، فغضب الآخر وأخذ سلاحه وقتله، فإذا ثبت العفو عند القاضي، فإنه حينئذٍ يقتص من هذا الثاني؛ لأنه إذا ثبت العفو حُقِن دم المقتول الذي هو القاتل في الأصل، فإذا جاءه وقتله فقد قتله بدون وجه حق؛ لأنه ليس له حق في القتل، وحينئذٍ يقتص منه في قول جمهور العلماء رحمهم الله تعالى؛ لأنه في هذه الحالة لا حق له في القصاص؛ لكن إذا لم يعلم بعفوه وجاء وقتله، وهو لا يعلم أن شريكه قد عفا، فحينئذ تكون شبهة، ويدرأ عنه الحد ولا يقتص منه. إذاً: إذا اتفقوا على طلب القصاص، ولم يحكم القاضي بالاستيفاء، وقتل بعضهم، فإنه لا قود ولا قصاص على هذا القاتل؛ لأنه طلب حقه، وهو مقتول لا محالة، وحينئذٍ لم يتعد، وإن عفا بعضهم وثبت عفوه عند القاضي وعلم شريكه، فأخذه الحنق وقتل، فقد قتل معصوماً، وحينئذٍ ليس له حق في هذا القصاص؛ لأنه بعفو شريكه سقط القصاص، وحينئذٍ يكون كأنه قتل معصوماً، فإذا استوفيت الشروط يقتل به ويقتص منه، وأما إذا لم يعلم بعفوه وقتله، أو قتله قبل أن يسأل هل عفا أم لم يعف؟ فإنه لا يقتص منه لوجود الشبهة. قال رحمه الله تعالى: [وإن كان من بقي غائباً أو صغيراً أو مجنوناً انتظر القدوم والبلوغ والعقل]. أي: إذا قال بعض الورثة: نريد القصاص، ولهم شركاء فيه كصبي أو مجنون أو غائب؛ فإننا ننتظر الغائب حتى يأتي، وننتظر المجنون حتى يفيق، والصبي حتى يبلغ، كما قدمنا في مسألة المستحق، ففي هذه الحالة لا يقتص بقول بعضهم. فلو كانوا عشرة، وطالب الأكثرون كتسعة مثلاً، وبقي يتيم قاصر دون البلوغ، فإننا نقول: لا حق لكم حتى يبلغ هذا اليتيم، فإن طلب القصاص اقتص، وإن لم يطلب القصاص فلا إشكال أنه يعدل إلى الدية أو العفو المطلق على حسب الحال. وبناءً على ذلك: لا ننظر إلى الأكثرية، ولا ننظر إلى نوعية الذين عفوا والذين هم غائبون، إنما ينظر إلى إجماعهم واتفاقهم، وهذا الذي عبر به المصنف باتفاق أوليائه، فلابد أن يتفق المطالبون بالقصاص على طلب القصاص.

الشرط الثالث: أن يؤمن التعدي في القصاص على الجاني

الشرط الثالث: أن يؤمن التعدي في القصاص على الجاني قال رحمه الله تعالى: [الثالث: أن يؤمن الاستيفاء أن يتعدى الجاني]. لو قال: (أن يعتدى على الجاني) لكان ممكناً، لكن مراده: أن يؤمن في القصاص التعدي، فالأصل أن يؤمن الحيف، فبعضهم يقول: أن يؤمن الحيف، وبعضهم يقول: أن يؤمن الاعتداء والزيادة، والمراد بهذا: أن نأمن عند حكمنا بالقصاص الزيادة على الحق. وتوضيح ذلك: أن القاتل يُقتل، ولا يُقتل معه غيره، فلا يؤخذ بجريمته من لا جريمة له، وتبرز هذه الصورة وتتضح أكثر شيء في المرأة الحامل، ففي بطنها الجنين الذي لا ذنب له، وحينئذٍ لو قتلناها قتلنا نفسين بنفس واحدة، والله عز وجل يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178]، ويقول سبحانه وتعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]. وبناءً على ذلك: لا يقتل هذا الجنين؛ لأنه لا ذنب له، فينتظر إلى وضعها، فذكر العلماء هذا الشرط تنبيهاً على هذه المسألة: أنه لا تقتل المرأة الحامل حتى تضع ما في بطنها، والأصل في ذلك في الحدود: قصتا المرأتين اللتين زنتا وأتي بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما محصنتان، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولي المرأة أن يبقى معها حتى تضع ما في بطنها ثم يأتي بها إليه، وفي الثانية قال: حتى ترضعه؛ لأنه لم يوجد من يقوم به ويرضعه، فهذا يدل على أنه لا يجوز التعدي على المرأة الحامل؛ لأن الجنين لا ذنب له، ثم ينظر إذا وضعت ما في بطنها أمرت بسقيه اللبأ؛ لأنه يكون به أوده وحياته، ولا بد له منه، وهو اللبن الذي يكون بعد الولادة، ثم ننظر في رضاعته، فإن وجدت امرأة بدلها ترضعه وتقوم عليه أُخذت أمه واقتص منها وقتلت، وإن لم يوجد امرأة ترضعه والولد متعلق بأمه لا يريد إلا أمه ولا يرتضع إلا من أمه، مثل ما وقع لموسى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12]، فبعض الأولاد فيهم حساسية لا يمكن أن يقبل إلا ثدي أمه، فإذا أبى أن يقبل إلا ثدي أمه، فإنه في هذه الحالة لو قتلنا أمه لقتلناه معها؛ لأنه سيمتنع من الرضاعة وسيموت، أو يتضرر في صحته، فحينئذ يكون قد حصل القصاص من الجاني وزيادة، وهي زيادة الضرر على الجنين، فننتظر إلى أن ترضعه وتفطمه، ثم بعد ذلك يُقتص من هذه الأم. إذاً: الشرط أن يؤمن الحيف، كما يعبر بعض العلماء، وأن تؤمن الزيادة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء:33]، فقتل الأم مع جنينها إسراف في القتل؛ لأن معنى (لا يسرف في القتل) أي: لا يزيد على قتل القاتل، وأخذ الجاني بجنايته دون أن يستتبع من لا حق في قتله، أو يستتبع في الحق الضرر به كالجنين بعد وضعه. ومن هنا فجمهرة العلماء رحمهم الله تعالى نصوا على أن الجنين لا يقتل مع أمه، فلا تقتل الأم وهي حامل بجنينها، حتى لا يكون إزهاقاً لنفسين بنفس واحدة، فليس بالعدل أن تُقتل النفس البريئة مع النفس القاتلة في مقابل نفس واحدة، هذا هو وجهه. فيشترط الأمن من الحيف، والأمن من التعدي على الجاني، وذلك التعدي على الجاني بقتل ولده معه ونحو ذلك. قال رحمه الله تعالى: [فإذا وجب على حامل أو حائل فحملت لم تقتل حتى تضع الولد وتسقيه اللبأ]. قوله: (إذا وجب)، أي: القصاص على امرأة في بطنها جنينها، فهذا لا إشكال فيه مثل ما ذكرنا. فلو أنها كانت حائلاً قبل الحكم، فعند جنايتها كانت حائلاً، ثم جامعها زوجها، وحملت، وظهر الحمل بعد حكم القاضي بالقصاص والاستيفاء، وثبت عند القاضي، وطالب أولياء المقتول واستحق القصاص، ولم يبق إلا التنفيذ، وعند التنفيذ وجدت حاملاً، فإنه لا يقتص منها، فليست العبرة بحالها أثناء القتل؛ لأنها أثناء القتل كانت حائلاً، فالعبرة وجود الضرر والتعدي أثناء القصاص والاستيفاء، ويستوي في هذا أن تكون حاملاً في بداية حملها، أو أن تكون حاملاً في نهاية حملها، أو وسطاً بين ذلك؛ لأن العلة هي أن لا يتعدى في القصاص، وهذا يشمل هذه الأحوال كلها. وإذا قالت: إني حامل، فقال أولياء المقتول: ليست بحامل، بل هي حائل، عرضت على أهل الخبرة، فإن قالوا: إنها حامل انتظرت، وإن قالوا: إنها حائل اقتص منها، والآن في زماننا يمكن اكتشاف ذلك والتثبت منه على وجه بين. قال رحمه الله تعالى: [ثم إن وجد من يرضعه وإلا تركت حتى تفطمه]. قوله: (ثم إن وجد من يرضعه) أي: يرضع هذا الصبي الذي وضعته، فإن وجد من يرضعه فلا إشكال، وحينئذٍ يدفع إليها وترضعه، وإن لم توجد من ترضعه، أو وجدت امرأة ترضعه ولكنه لا يقبلها، ولم يرض بها، فحينئذٍ وجودها وعدمها على حدٍ سواء فينتظر حتى تفطمه. قال رحمه الله تعالى: [ولا يقتص منها في الطرف حتى تضع]. ذكر المصنف رحمه الله تعالى القصاص في الطرف وألحقه بالقصاص في النفس في هذه المسألة؛ لأن المرأة الحامل إذا قطعت يدها ففي الغالب أنها تسقط جنينها، ولا تتحمل، بل تسقط ما هو أخف وأقل من هذا، وبناءً على هذا ينتظر إلى أن تضع الجنين، وبعد أن تضع الجنين يقتص منها، وهكذا لو كانت زانية وحملت من الزنا، فإذا كانت بكراً وأريد جلدها انتظر حتى تضع، وإن كانت محصنة ففي هذه الحالة ينتظر وضعها للجنين ولو كان من الزنا، ثم بعد ذلك يقام عليها الحد. والقصاص في الأطراف وإقامة الحدود حكمهما حكم القصاص في النفس، فالمسألة تدور حول أصل واحد، بل إن الحد وتنفيذ الحد هو الأصل في تأخير تنفيذه على المرأة الحامل، كما ذكرنا في قصة المرأتين اللتين زنتا، والحديث في أمرهما صحيح وثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا جرى عمل السلف الصالح رحمهم الله تعالى، وذكر المصنف رحمه الله تعالى مسألة القصاص في الأطراف من باب التنبيه بالنظير على نظيره، وهذه يسميها العلماء: مسائل النظائر، وإذا جاءوا يبحثون يقولون: المظانُّ، فهناك مسائل تذكر تبعاً ليست في أصل الباب؛ لأن الباب القصاص في النفس. وقد يقول قائل: كان ينبغي أن يؤخر مسألة القصاص في الأطراف من الحامل إلى باب القصاص في الأطراف، ولكن المصنف ذكر هذا من باب المظان، ومن هنا يعتني العلماء بذكر المسائل بأقربها شبهاً، وتعرف هذه بالمظان، بمعنى: تذكر في أقرب المواضع وتُجمع المسائل مع أنها ليست تحت الباب. ولذلك قال رحمه الله تعالى: [والحد في ذلك كالقصاص]. وهذا هو الأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من تنفيذ الحد لخوف الضرر على الجنين، وهو أصل المسألة، والحد في ذلك كالقصاص؛ بل هو أصل مسألة القصاص، فلو شربت الخمر -والعياذ بالله تعالى- امرأة حامل، أو زنت، أو قذفت، فإنه ينتظر إلى أن تضع ما في بطنها، ثم يقام عليها حد الزنا وحد القذف وحد الخمر، وهكذا لو سرقت فلا تقطع يدها، بل ينتظر حتى تضع ما في بطنها، ثم بعد ذلك تقطع يدها، للعلة التي ذكرناها.

حضور السلطان أو نائبه وشرط آله القتل في استيفاء القصاص

حضور السلطان أو نائبه وشرط آله القتل في استيفاء القصاص قال رحمه الله تعالى: [فصل: ولا يستوفى قصاص إلا بحضرة سلطان أو نائبه وآلة ماضية]. هناك مراحل للقصاص: المرحلة الأولى: أن يحكم القاضي بثبوت القصاص. المرحلة الثانية: مرحلة التنفيذ للقصاص، ولا يمكن أن ينفذ القصاص إلا بعد ثبوت الحق وحكم القاضي به، فإذا قضى القاضي بتنفيذ القصاص، فينبغي أنه ثبت لفلان حق القصاص، فالتنفيذ يفتقر إلى أمور لا بد من وجودها: أولها: أنه لا يستوفى إلا بحضرة السلطان، أو الحاكم، أو القاضي، أو من ينيبه، وذلك لأنه قد تطرأ أمور أثناء تنفيذ الحد لا بد من الرجوع فيها إلى رأي القاضي وحكمه، وهذا أصل حتى في الحدود، والسبب في ذلك: تلافي الضرر بعدم وجود القاضي والحاكم. وبعض العلماء يقول: لا يشترط، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام لولي الدم: (اذهب فاقتله)، فأمره أن يذهب ويقتله، ولم ينصب وكيلاً عنه عليه الصلاة والسلام، ولأن ماعزاً لما آذته الحجارة وأدرك حرها فرّ رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقال صلى الله عليه وسلم: (هلا تركتموه لعله يرجع فيتوب فيتوب الله عليه)، وفي رواية: (يراجع نفسه). وأصحاب القول الأول قالوا: إنه إذا أقر بالزنا، وكان القاضي موجوداً، وقال: لقد رجعت عن إقراري، أوقف التنفيذ؛ لأنه لا يوقف التنفيذ إلا بحكم القاضي، ومن هنا يمكن أن يحتاط لدماء الناس وحقوقهم؛ لأن هذا يسمونه: حق الجاني بعد صدور الحكم، فللجاني حقوق بعد صدور الحكم عليه، ولا يمكن الاحتياط فيها بالشيء على الوجه المعتبر إلا بوجود القاضي أو الحاكم أو كل منهما. والحمد لله تعالى فهذا موجود في زماننا، وقد جرت العادة في المملكة -ولله الحمد- أنه يوجد من يكون وكيلاً عن القاضي، وهذا على الحقيقة فيه احتياط، وهو أحوط المذهبين؛ لما فيه من صيانة لحق الجاني، وخوف أن تطرأ أمور يحتاج فيها إلى النظر، وحينئذٍ تحقن دماء الناس وتحفظ، ولا ينفذ القصاص على الوجه المعتبر إلا بحضور الحاكم أو نائبه، وحضور الحاكم لا شك أنه أبلغ في الزجر، وأبلغ في تنفيذ حكم الله عز وجل، وأكثر تعظيماً لشعائر الله عز وجل، ولذلك حضر الخلفاء الراشدون، وكان بعضهم يحضر تنفيذ الحد وتنفيذ القصاص؛ لما في ذلك من إعلاء كلمة الله عز وجل وحصول الهيبة أكثر وأبلغ. أما كون الآلة حادة، فهذا أصل في الشريعة أنه لا يُعذب عند القتل، وعند إزهاق الروح، فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، وهذا في البهائم فالآدمي من باب أولى، فإذا أريد القصاص فيجوز أن يمكِن القاضي ولي المقتول من الجاني، ويقول له: هذا قاتل أبيك فاقتله إن شئت. فيكون ولي المقتول معه سلاحه أو سيفه، وهذا في القديم كان موجوداً، فإذا قال: أريد أن أقتله بنفسي، ينظر في سيفه والآلة التي يريد أن يقتل بها، فإنه ربما كانت كالة -أي: لم يحدها كما ينبغي- فيضر بالقاتل إذا قتله، فإذا كانت كالة ليست ماضية عذب بها الجاني؛ لأن هذا لا ينفذ الإزهاق بسرعة فيتعذب، وهذا لا يجوز. وكذلك أيضاً ربما وضع السم في آلته، وهذا كان يفعله بعضهم، وهو زيادة في التعذيب؛ لأن القاتل ما قتل بهذا الوجه، وحينئذٍ لابد أن تتفقد آلة القاتل، لكن في زماننا وُضع من يقوم بالتنفيذ من بيت مال المسلمين، وهذا نص عليه بعض العلماء، وأُرِيْح الناس من هذه الأمور، وكُفوا فيه، وحصل بحمد لله عز وجل الرفق في كثير من هذه الدواخل والاعتبارات التي ربما يفعلها بعض الأولياء احتيالاً لحقه، ومبالغة في التشفي، لكنهم نصوا على هذا الأصل أن على القاضي أن يتفقد آلة القاتل وينظر فيها.

المماثلة في القصاص وخلاف العلماء فيها

المماثلة في القصاص وخلاف العلماء فيها قال رحمه الله تعالى: [ولا يستوفى في النفس إلا بضرب العنق بسيف]. هذه المسألة في الحقيقة فيها تفصيل، والذي اختاره المصنف رحمه الله تعالى أنه لا قود إلا بالسيف، وحينئذٍ إذا قُتل المقتول قلنا لأوليائه أو لمن يقوم بالتنفيذ: خذ السيف واضرب عنق القاتل، فهذا ما اختاره المصنف رحمه الله تعالى. لكن هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء حاصله: أن القاتل إذا قتل بطريقة، وطالب أولياء المقتول وعصبته أن يقتل بنفس الطريقة؛ كان من حقهم ذلك، فإذا أخذ المقتول وقطع يده، ثم قطع يده الثانية حتى نزف ومات، فنقول لأوليائه: اقطعوا يديه بالطريقة التي قطع بها يدي المقتول. ولو أنه أخذه وضربه بحجر على رأسه، فرضخ رأسه فمات، قلنا لهم: خذوا حجراً كالحجر الذي قتل به، واضربوه مثلما ضربه، هذا هو الأصل في القصاص، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: (أن جارية من الأنصار وجدت قد رضّ رأسها بين حجرين -أي: أُخذت المسكينة بين حجرين وضرب رأسها حتى ماتت- فقيل لها: من فعل بك؟ فلانٌ فلانٌ؟ حتى ذكروا يهودياً، فأشارت برأسها: أن نعم، فأخذ اليهودي فأقر واعترف، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ رأسه ويرض بين حجرين، وفعل به مثل ما فعل بالجارية)، ولأن الله تعالى يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178]، والقصاص: من قصّ الأثر إذا تتبعه، فنتتبع جناية الجاني، ونفعل به مثل ما فعل بالمجني عليه، وهذا في الحقيقة يختاره غير واحد من العلماء، أي: أن يفعل بالجاني مثلما فعل، إذا طلب ذلك أولياء المقتول، فلو قال أولياء المقتول: لا نريد أن نقتص بالسيف، بل نريد أن نشفي غليلنا وأن نأخذ حقنا كاملاً بأن نفعل به مثلما فعل بالمجني عليه؛ كان من حقهم هذا، ويمكنون من هذا الحق. ولو أنه أخذه فغمسه في الماء حتى غرق ومات، قلنا لهم: خذوه فاغمسوه في الماء مثلما غمسه، ولو ربطه ورماه في بركة حتى مات، قلنا لهم: اربطوه كما ربط المقتول، وارموه في بركة مثلها يموت غرقاً كما قتل غرقاً، ولو أنه أحرقه فوضع الوقود عليه، ثم أشعل عليه النار فأحرقه، قلنا لهم: خذوا الوقود وافعلوا به مثل ما فعل بالمجني عليه. وهذا أبلغ في زجر الناس، وأشد هيبة في زجر المجرمين والعصاة، ولو أن ولي الأمر في بعض الأحوال المستثناة يفعل هذا عند استشراء القتل في الناس؛ لكان أبلغ في زجرهم، وهو أبلغ في إسكان الثائرة، وهدأة النفوس، ولكن العبرة بالقتل، فإذا قتل يقتل وقد جاء في حديث ابن ماجة رحمه الله تعالى: (لا قود إلا بالسيف)، ولكنه حديث ضعيف، ولو حُسِّن لعارض ما هو أصح منه، فإن حديث الجارية في الصحيحين. ولكن لو أنه قتله بطريقة محرمة، مثل أن يسقيه خمراً -والعياذ بالله تعالى-، ويبالغ في سقيه حتى يموت، فإذا سُقي الجاني الخمر سكر، وحينئذٍ لا يجوز لنا أن نسقيه الخمر؛ لأن هذا يفضي إلى حرام، فلا يفعل به مثلما فعل في هذه الحالة، ولا يوجر الخمر في حلقه حتى يموت؛ لأنه يؤدي إلى حرام، فهذا يستثنى، ولذلك قالوا: يفعل بالجاني مثلما فعل بالمجني عليه ولأوليائه الحق في طلب ذلك، ويمكنهم السلطان والقاضي من ذلك، بشرط ألا يكون الفعل محرماً ولا يمكن الاستيفاء به مثل ما ذكرنا في الخمر. ومن أمثلتها في زماننا المخدرات، حيث يحقنه بكمية كبيرة من المخدر تقضي عليه، فإنه لا يمكن أن نقول لأوليائه: احقنوه؛ لأنه في هذه الحالة سيسكر، وستؤثر عليه قبل الإزهاق، ولا يجوز تعاطي المسكرات والمخدرات، فحينئذٍ يعدل إلى السيف وتدق عنقه ويقتص منه بالسيف. قال رحمه الله تعالى: [ولو كان الجاني قتله بغيره]. أي: ولو كان الجاني قتله بغير السيف كما ذكرنا، فالمصنف يرى أنه لا قصاص إلا بالسيف، لحديث: (لا قود إلا بالسيف)، وهذا مرجوح، والصحيح أن لأولياء المقتول أن يطالبوا بالقصاص مماثلةً، وهذا ما يسميه العلماء: القتل بالمماثل، فإن أخذ حديدة عريضة فضربه في رأسه فشق رأسه نصفين، قلنا لهم: خذوا نفس الحديدة أو مثلها، واضربوه بمثل ما ضرب به وليكم، وإن أخذه فغطه وكتم نفسه، أو فعل به أي فعل محرم فنقول لهم: خذوه وافعلوا به مثل ما فعل، وهذا هو الأصل، لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (كتاب الله القصاص، كتاب الله القصاص، كتاب الله القصاص)، فنحن نقتص من الجاني بأخذه بجنايته مماثلة.

الأسئلة

الأسئلة

حكم القصاص داخل حدود الحرم

حكم القصاص داخل حدود الحرم Q ما حكم القصاص داخل حدود الحرم؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالقصاص في الحرم فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله تعالى، فمن أهل العلم من قال: يقاد في الحرم، خاصة إذا حصل الإزهاق في الحرم، فمن قَتل في الحرم قُتَل في الحرم، وهذا للأصل الذي ذكرنا؛ لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178]، ولأن القاتل لم يعظم الحرم فيؤخذ بجنايته وجريمته، ولأننا لو لم نقتص ممن يجني في الحرم، أو لا نقتص من الشخص إذا كان داخل الحرم، فمعنى ذلك أن نجعل الحرم محلاً للمجرمين والمفسدين، فكل قاتل إذا قتل لا يسعه إلا أن يدخل البلد الحرام حتى لا يتعرض له، وفي هذا من الشر والبلاء ما الله تعالى به عليم، بل تصبح هذه البقعة المفضلة المشرفة بقعة أهل الفساد وأهل الشر، وهذا كله يناقض شرع الله عز وجل، وبناءً على ذلك قالوا: يقتص من الجاني ولو كان في الحرم، وهذا أقرب إلى الأصول وأوفق، والله تعالى أعلم.

الجمع بين شرعية المماثلة في القصاص تحريقا وبين النهي عن التعذيب بالنار

الجمع بين شرعية المماثلة في القصاص تحريقاً وبين النهي عن التعذيب بالنار Q إذا قلنا بالمماثلة في القصاص لو قتل بالتحريق، فكيف يجمع بين ذلك وبين النهي عن التعذيب بالنار؟ A لا تعارض بين عام وخاص، فالنهي عن التعذيب بالنار عامٌ، والمماثلة في التحريق قصاصاً خاصة؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، فهذه مسائل مستثناة، والفقه أن تنظر إلى الأصول العامة وما استثني منها، فتجعل الأصل العام كما هو، وتبقي المستثنى على استثنائه، وبهذا تكون عملت بشرع الله عز وجل وطبقته، فالله تعالى قال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]. فالنهي عن التحريق نهيٌ عن عقوبة مبتدأة وعقوبة منشأة، فلا ننشئ العقوبة بالتحريق، ولا يعذب بالنار إلا رب النار، ولكن هذا أخذٌ بالجناية والجريرة، وأمرنا الله عز وجل أن نعاقب بمثل ما عوقبنا به، ألا ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ينهى عن التمثيل، وقال لأميره على السرية: (اغزوا باسم الله في سبيل الله، لا تقتلوا شيخاً ولا صغيراً ولا امرأةً، ولا تمثلوا، ولا تغدروا)، فقوله: (ولا تمثلوا)، نهي عن التمثيل بالقتلى، ولما خرج العرنيون إلى إبل الصدقة، وقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا المسامير من النار فسملوا بها عين الراعي، فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل بهم مثلما فعلوا بالراعي، فسمل أعينهم، وفي رواية: (سمل وسمّر)، والله تعالى يقول: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، فهذه أمور وأحوال مستثناة لوجود الموجب بصفائهم. وبناءً على ذلك: يجوز في هذه الحالة أن يقتص من الجاني بمثل جنايته، ومن باب المماثلة ما يوجد الآن عندنا من الأكسيد -أعاذانا الله تعالى وإياكم- والمواد الحارقة، والمواد الكيماوية، حيث يؤخذ المقتول ظلماً ويصب على رأسه وبدنه من هذه المواد، أو يربط ويقتل بأبشع الصور، فيؤخذ مثل هؤلاء المجرمون ويوضعون أمام الناس، ويفعل بهم مثل ما فعلوا بالمجني عليهم، ليكون فيه من الزجر والردع، خاصة في هذه الأمور من القتل الذي توسع فيه بعض الناس، وفي الجرائم المنظمة، فهذا لا شك أنه يردع، ويكون وقعه في النفوس بليغاً، فالجاني يكبت بجنايته، ومن تسول له نفسه ذلك يرتدع عن الإقدام في فعله، وهذا هو مقصود الشرع أن يرتدع الناس، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، قالها أصدق القائلين وأحكم الحاكمين، بل الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين سبحانه وتعالى، فإذا اقتص من الجناية بمثلها، أياً كانت هذه الجناية ما لم تكن محرمة، فلا إشكال أن هذا أبلغ وأوجب في حصول المقصود شرعاً، والله تعالى أعلم.

حكم الرجوع في العفو عن القصاص

حكم الرجوع في العفو عن القصاص Q إذا طالب أبناء المقتول بالقصاص، وعفا أحدهم فطلب الدية، فقال إخوته: نحن نعطيه حقه من الدية من أموالنا، ونريد أن نُمضي القصاص، فهل يمضي؟ A لا يمضي، وهذا حكم جديد، فلو أعطوه ملء الأرض ذهباً فلا يمضي القصاص، فإن قال: قد عفوت، فقد عفا، وبناءً على ذلك يسقط القصاص، وهذا أصل. فإن كانوا يريدون أن يرضوه بالمال فإنهم لم يرضوا المقتول الذي سيقتل؛ لأن الحق للمقتول الذي هو الجاني في الأصل، أما إذا اتفقوا فيما بينهم وقالوا: ما دام أنك فقير ومحتاج، وتريد المال، فنحن نعطيك المال ولا تعفُ، فهذا شيء آخر، إذ قد يكون الشخص مُجرماً مفسداً، وفي القرابة رجل ضعيف، أو فيهم من عنده حنق وغيض، وخافوا أنه إذا لم يُقتل الجاني بالقصاص أن يذهب ويقتله، فيحصل ضرر، فأرادوا أن يضغطوا على قريبهم أن لا يعفو، فلهم الحق أن يضغطوا على قريبهم حتى لا يعفو، وهذا شيء يتفاهمون فيه بينهم. أما من ناحية شرعية فإذا قال: قد عفوت، فقد عفا وسقط الحق، ويصبح الحق مشتركاً؛ لأنه حق للقاتل أن لا يقتل، وحق لهذا الذي عفا، وهو أن يكون له حق في الدية، والله تعالى أعلم.

الآداب الإسلامية تجاه من حد واقتص منه

الآداب الإسلامية تجاه من حُدَّ واقتص منه Q يسمع من بعض الناس إذا تم تنفيذ القصاص على القاتل الشتمُ والسبُ واللعنُ، فهل يجوز هذا؟ أم أنه تطهر من جنايته بهذا الحد؟ A لا يجوز أن يُسب ويُشتم ويُلعن القاتل، ولا من طبق عليه الحد؛ كالزاني وشارب الخمر، فلا يجوز لأحد أن يلعنهم، أو يسبهم، أو يشتمهم، فالله تعالى أقامهم أمام العباد اعتباراً، ولم يقمهم شماتةً، ولم يقمهم من أجل أن يعيرهم الناس، أو يسبوهم وينتقصوهم، فلا يجوز هذا، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما جلد شارب الخمر، قال بعض الصحابة: تباً له، وزجروه، فقال عليه الصلاة والسلام: مه! لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، ما علمته إلا أنه يحب الله ورسوله)، فرجل تقطر لحيته من الخمر وقالوا: تباً له، ومع ذلك قال: (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، ما علمته إلا أنه يحب الله ورسوله)، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات:11]، فاحمد الله تعالى على العافية، واشكره أن عافاك. وقد يكون الإنسان مبتلىً بذنوب ويفضحه الله تعالى بها لكي يرفع درجته؛ لأنه يطهره بها في الدنيا، ثم يصلح له حاله ويحسن له خاتمته، وقد يكون غيره ممن يراه يحد يفعل الذنب ويستره الله عز وجل، فيتراكم عليه الذنب تلو الذنب تلو الذنب، حتى يهلك، وقد يكون ذلك سبباً في سوء خاتمته والعياذ بالله تعالى، فلا يدخلن أحدٌ بين الخالق والمخلوق، وهذا ربهم وهو أعلم بهم سبحانه وتعالى، قال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} [الشعراء:113]، فعلى الإنسان أن يتقي الله عز وجل. وهكذا في أهل الجرائم وأهل الفسوق وأهل الجنايات، لا يسخر الإنسان منهم، ولكن يقول: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاهم به ويشعر بالضعف والمسكنة والحاجة إلى ربه تعالى، فإن الله تعالى إذا أراك عورةً من أخيك لم يركها لكي تشمت به، ولكن أراكها لكي تعرف مقدار نعمة الله تعالى عليك، وفضله وجميل إحسانه وجليل كرمه عليك، فلا تسئ إلى عباد الله تعالى، والله تعالى يقول: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات:11]. ومن هنا قال بعض العلماء: إن المظاهر ليست قطيعة الدلالة على الجواهر، وقد تجد الرجل لحيته إلى نصف صدره، وهو من أكثر الناس حقداً وحسداً وكراهيةً للناس واحتقاراً للناس، وقد تجد الرجل حليقاً وترى حاله فتزدريه، كأنه غير صالح، ولكنه من أبر الناس بوالديه، وأوصلهم لرحمه، وأكثرهم جوداً وكرماً وسخاءً، فالمظاهر ليس فيها كل شيء، والعبرة بالجواهر والحقائق، وصحيح أن المظاهر تتبع الجواهر، لكن لا يُسخر من الإنسان. وقد ترى الإنسان مبتلى بشرب الخمر، وهو من أحسن الناس في أشياء يفعلها في جوده وكرمه، وستره لعورات المسلمين، وتفريجه لكرباتهم، وما يكون منه من الخير قلّ أن يوجد له نظير، ولكن الله تعالى ابتلاه بشرب الخمر، وليس معنى هذا أنه قد انتهى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب)، والتثريب: الملامة، فنهاه أن يلومها بعد إقامة الحد، وقال صلى الله عليه وسلم: (من ابتلي بشيء من هذه القاذروات فأبدى لنا صفحة وجهه أقمنا عليه حد الله)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أقيم عليه الحد فهو كفارةٌ له في الدنيا)، فهذا أصل، فلا تحتقر أهل الجرائم ولا تشمت بهم، ولا تتبع الحديث عنهم، فإذا أقيم عليهم الحد فهو كفارةٌ لهم وطهارةٌ لهم، خاصة في الحدود التي هي غير القتل، أما القتل ففيه تفصيل عند العلماء رحمهم الله، لكن ينبغي للإنسان أن يخاف، وكم من معافىً ابتلاه الله تعالى بتعييره للغير. والتعيير والانتقاص يكون على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون في الجنان والقلب، والصورة الثانية: أن يكون في اللسان. فإذا رأيت عاصياً، أو رأيت مبتلىً، أو رأيت أحداً يفعل معصية، فلا تشمت به ولا تتكلم عليه، ولا تقل: كيف يفعل هذا؟ وما يليق به أن يفعل هذا، ولماذا يفعل هذا؟ فهذا ليس من شغلك ولا من شأنك. وإنما من شغلك وشأنك أن يتفطر قلبك بين يدي الله تعالى، وتقول: يا رب! لك الحمد على العافية، اللهم عافه ولا تبتلني، واسأل الله تعالى لأخيك وادع له بظاهر الغيب، فهذه نصيحة المؤمن لأخيه المؤمن، أما أن يذهب ويشمت به، ويشهر به، ويكون حديثه في المجالس أرأيتم فلاناً كيف فعلوا به؟ وفلاناً الذي فعل؟ ولربما يتوب هذا المسكين، ويأتي هذا يعيره ويتابعه وهذه هي المصيبة العظمى التي ابتلي بها المسلمون، خاصة في هذه الأزمنة الأخيرة، فالعصاة والمجرمون إذا دخلوا السجون قضي عليهم، وانتهى أمرهم، وإذا أقيمت عليهم الحدود أصبحوا محل نبذ من الناس، وهذا لا ينبغي، فإذا أقيم الحد على الإنسان فلتفتح له أبواب التوبة وأبواب الصلاح، وأبواب الاستقامة، وليزره أهل الخير، ويقولون له: لعل الله عز وجل أن يبارك لك فيما بقي من عمرك، ولا تيأس، وكلنا خطاء وكلنا مذنبون، والأمل في الله تعالى كبير، فإن الله تعالى يحب أن يُهدى عبده، ويحب أن يتوب عبده إليه. فانظر إذا جعل الله تعالى توبته على يدك، وانظر كم يكون من الخير للأمة حينما يُفتح لمثل هؤلاء أبواب الأملُ، وهم مكروبون منكوبون منبوذون، يحتاجون إلى من يرحمهم، ويحتاجون إلى من يحتويهم، ويحتاجون إلى من يريهم بارقة الأمل لكي تصلح أحوالهم، وما أرسل الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام عذاباً على العباد، وإنما أرسله رحمةً للعالمين، وأرسله سعة لا ضيقاً، وأرسله رحمةً لا عذاباً، ويسراً لا عسراً، وقد قال بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه: (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا)، وقال: (إن منكم منفرين). فهذا الذي ينصب نفسه للدخول بين الناس وبين ربهم، والاطلاع على أعمال العباد والتشهير بهم، قد فعل سوءاً بنفسه وبالناس، ولا والله ما اتقى الله تعالى في نفسه ولا في عباد الله تعالى. وعلى الإنسان أن يذكر نفسه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم السابق، فالمرأة أمة عند سيدها، ويقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (فليجلدها الحد ولا يثرب)، وهو سيدها الذي يُعيَّر بها ويُؤذى بها، ومع ذلك يقول: (ولا يثرب)، قالوا: لأن التثريب يُحطِّم الإنسان، ويقتل معاني الأمل في نفسه، ويجعله كأنه انتهى، وهذا هو الذي نجده كثيراً خاصة في هذه الأزمنة. وعلى الهداة والدعاة والمصلحين والأئمة والخطباء أن ينبهوا الناس على هذا، ويبينوا لهم أن هؤلاء مكروبون، وأن هؤلاء معذبون ويحتاجون إلى من يذكرهم، وكلٌ منا يسأل نفسه: هل هو سالم من الذنوب؟ لربما يكون الشخص عنده صغيرة من صغائر الذنوب يداوم عليها يبلغ بها ما بلغته كبائر الذنوب، وقد تزيد بأضعاف أضعاف، ولربما يكون الواحد منا يحتقر بعض الصالحين، أو يتكلم في مناهجهم أو أفكارهم، فيبوء بالذنوب والسيئات التي لم تخطر له على بال، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من غضب الله لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرف والمغرب، أو سبعين خريفاً)، فالاستقامة الحقيقية والملتزم الحقيقي هو الذي يشفق على نفسه، ويعلم أن الهداية ما كانت له ولا لأبيه ولا لجده، ولا حكراً عليه ولا حكراً على آله، وإنما هي من الله تعالى يهدي بها من يشاء، سبحانه وتعالى، وليعلم أن الله تعالى رحمه، وأن الله تعالى لطف به بهذه الهداية، فلا يتخد من هدايته وصلاحه وسيلة لتعيير الغير وانتقاصه. عليك نفسك فاشغتل بمعيبها ودع عيوب الناس للناس وطوبى لمن شغله ربه تعالى عن نفسه، وشغلته نفسه عن الناس، فأقبل عليها فاستكمل نواقصها، وطوبى لمن جعله الله تعالى رحمةً للعالمين، فآوى إلى الناس وآوى الناس إليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، الموطؤون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون)، فهم المبشرون لا المنفرون، وهم الميسرون لا المعسرون، جعلنا الله تعالى وإياكم منهم بمنه وكرمه ورحمته، والله تعالى أعلم.

حكم صلاة الجماعة الثانية في المسجد

حكم صلاة الجماعة الثانية في المسجد Q إذا دخلت المسجد ووجدت الإمام قد سلم من الصلاة، فهل أعود إلى المنزل؟ أم أصلي وحدي؟ أم أنتظر أحداً وأصلي معه؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فهذه المسألة تعرف بالجماعة الثانية، وقد اختلف العلماء فيها، والجمهور على جواز إحداث الجماعة الثانية بعد الجماعة الأولى في المسجد، وذلك لما ورد في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وحده، فقال عليه الصلاة والسلام: من يتصدق على هذا؟ فقام أبو بكر فتصدق عليه فصلى معه)، وهذا الحديث فيه مسائل: المسألة الأولى: بطلان مذهب من يقول: إنه يذهب إلى بيته؛ لأن الرجل صلى في المسجد فأقره النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليه. وأما الاستدلال بحديث قباء حينما تأخر عليه الصلاة والسلام ودخل المسجد ووجدهم قد صلوا فرجع إلى بيته، فالجواب عنه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لو صلى جماعة ثانية لوقع الحرج للصحابة، ولكان فيه مما لا يخفى بالنسبة للصحابة حينما يرون أنهم سبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان عليه الصلاة والسلام يطيب خواطر أصحابه، وكان نعم الصاحب لصحبه صلوات ربي وسلامه عليه، وهل كان ذهابه ليجدد وضوءه؟ أم هل ذهب عليه الصلاة والسلام لأجل أن لا يكسر خواطر الصحابة؟ فليس هناك دليل صريح يبين علة تركه للجماعة، ثم إن حديث أبي بكر قوي الدلالة من وجوه: أولاً: أنه قال: (من يتصدق على هذا)، فجعل سر المسألة أن يحصل الفرد على الجماعة، ولا يختلف اثنان أن مقصود النبي صلى الله عليه وسلم حصول جماعة ثانية، وإلا فلماذا يقول: (من يتصدق على هذا) بأسلوب الترغيب والتحديد؟ فهذا واضح الدلالة على مشروعية طلب الجماعة الثانية، وتحصيل الجماعة الثانية. ثانياً: أن هذا الدليل دليل قول، وفعله عليه الصلاة والسلام دليل فعل، والأصل أن أدلة الأقوال أقوى؛ لأنها تشريع للأمة، ومخاطبة للأمة، ودليل الأفعال تدخلها الخصوصية، وإلا فكله من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا مسلك أصولي، فيقولون: إنه إذا جاءنا دليل يحتمل مع دليل لا يحتمل؛ قُدّم غير المحتمل على المحتمل، فدلالة الفعل تحتمل خصوصيته، وتحتمل العارض، أي: أنه عرض له عليه الصلاة والسلام عارض، مع أنه ليس عندنا جزم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلّ بعد، وإن كان هذا يسمونه: دلالة ظاهر. فالشاهد: أن حديث ابن مسعود رضي الله عنه في كونه يذهب إلى بيته ولم يعرج، تدخله كثير من الاعتراضات، بخلاف حديث: (من يتصدق على هذا). هذا جانب. والجانب الثاني في القضية: أن القاعدة عند العلماء: أنه إذا تعارض نصان -وهب هنا أن النصين بمرتبة واحدة- فإنه إذا تعارض النصان رُجِع إلى الأصل، فهل الأصل أن يصلى في المسجد أو لا؟ والجواب: أن الأصل أن تصلي في المسجد، وأن تكسب أجر الصلاة في المسجد بالجماعة. وعلى كل حال: فالقول بأنه يصلي الجماعة الثانية هو الصحيح، وهو الأولى بالأصول الدالة على مشروعية الصلاة في المسجد، وأما تحريم أن يصلي في المسجد ومنعه من ذلك فبعيد. ثم العجيب أنهم قالوا: لا يصلي جماعة ثانية، أي: نهوا وحرموا، ودلالة الفعل ليس فيها نهي، فنفس الدليل الذي استدلوا به أن النبي صلى الله عليه وسلم مضى إلى حجرته، ليس فيه دليل نهي، وهذا مسلك ننبه عليه طلاب العلم، وهو أنه إذا استدل أحد بدليل طبق وجه الدلالة على الحديث، فالحديث الذي استدلوا به أن النبي صلى الله عليه وسلم مضى إلى بيته ولم يعرج على المسجد، هل فيه: (لا تصلوا)؟ وهل فيه نهي ينقل عن الأصل الذي جُعلت المساجد من أجله وهي الصلاة؟ فالواضح من هذا أن مذهب المالكية ومن وافقهم بأنه لا تعاد الجماعة الثانية ولا تكرر مذهب ضعيف مرجوح أمام ما هو أرجح منه قوةً ودلالة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخيراً: فعند العلماء أصل في النصوص، وهو أنه ربما نُبه بالأدنى على ما هو أعلى منه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الرجل يصلي وحده قال: (من يتصدق على هذا)؟ فندب من صلى أن يصلي مرة ثانية، وهذا يدل على أنه إذا وجد من لم يصل أصلاً فمن بابٍ أولى وأحرى، وهذا ما يسميه العلماء: الدلالة بالأدنى على ما هو أعلى منه، والله تعالى أعلم.

وقت صلاة الجمعة

وقت صلاة الجمعة Q متى يبتدئ وقت صلاة الجمعة، هل بعد طلوع الشمس أم بعد الزوال؟ A الصحيح مذهب الجمهور أن الجمعة تبدأ بعد الزوال، وأما حديث: (نقيل قائلة الضحى ونرجع ونتتبع الفيء)، فإنه ليس بصريح في أن الجمعة تصلى قبل الزوال، وهذا الأمر حرره بعض العلماء بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة بعد الزوال مباشرة، بحيث إنه عليه الصلاة والسلام كانت خطبته قصيرةً صلوات الله وسلامه عليه، وقراءته مرتلة، فالبعض يطبق واقعه على أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، فينظر إلى الجمعة في زمانه فيقوم الخطيب يخطب قرابة نصف ساعة، ثم يقوم يصلي، وربما يطيل قراءته، وقد يقرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] فيما لا يقل عن عشر دقائق، فهذه ساعة إلا ثلث، فلا يتصور في ساعة إلا ثلث امتداد الفيء، فيقول: كيف كان الصحابة يتتبعون الفيء؟ والواقع أن هذا معروف في المدينة، ومن يعرف سمت الظل في الجدران والحيطان يجد هذا، وهذا يقع إذا كان أوقع الجمعة عند بداية الزوال، وخفف الخطبة، فإنه بإمكانه أن يدرك هذا القدر، ثم إن الأمر يختلف صيفاً وشتاءً بحسب بعد الشمس عن خط الاستواء وقربها، والحديث: أنه يتتبع الفيء، لا يدل على أن الجمعة وقعت قبل الزوال. وأياً ما كان فالأشبه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقعها بعد الزوال مباشرة، وكانت خطبته قصيرة عليه الصلاة والسلام. ثم انظر رحمك الله تعالى إذا كان يقرأ بالجمعة والمنافقون، أو بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}، فهاتان السورتان صفحة ونصف، وخطبته أقصر من صلاته، فكم وقتاً تتوقع؟ وكانت كلماته تعد عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك فالأمر يحتاج إلى نظر، فقد كان عليه الصلاة والسلام كلامه محدوداً وقليلاً، فلا يبعد أنه إذا كان بعد الزوال مباشرة وصلى بالناس وقراءته مرتلة أن يخرجوا ويتتبعوا الفيء وانتهى الإشكال، أما إن يقال: أنه صلاها قبل الزوال، ويبنى على ذلك أن الجمعة عيد، ثم تأتي الأقيسة: والعيد تصح صلاته من بعد طلوع الشمس قيد رمح، ثم ركب من هذا أن من صلى العيد سقطت عنه الجمعة، فهذا كله بالاحتمالات والاجتهادات، والأصل أن الجمعة بدلٌ عن الظهر، والبدل يأخذ حكم مبدله، وحديث أنس رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الجمعة بعد زوال الشمس) هو الأصل، وهو الذي عليه المعول. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب العفو عن القصاص

شرح زاد المستقنع - باب العفو عن القصاص من رحمة الله تعالى بخلقه أن شرع لهم القصاص إبقاءً لحياة النفوس وحفاظاً عليها، وقد تقع الجناية على النفس عمداً لغضب ونائرة أو غير ذلك، فيجب حينئذٍ القصاص وقد جعله الله تعالى حقاً لأولياء الدم، وما دام حقاً لهم فإنه يصح منهم العفو إن عفوا، وبالتالي فعفوهم إما على دية وإما على إسقاطها.

العفو عن القصاص

العفو عن القصاص بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن سار على سبيله ونهجه واهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب العفو عن القصاص]. هذا الباب يتعلق بعفو ولي المقتول عن حقه في القود، وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل لولي المقتول الحق في أن يأخذ بحقه فيقتص، وبين أن يسامح فيعفو، فبعد أن بين المصنف رحمه الله تعالى الشروط المعتبرة للقصاص ولاستيفاء القصاص؛ شرع في الخيار الثاني وهو العفو عن القصاص. فقوله: (باب العفو عن القصاص)، أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بعفو ولي المقتول عن القصاص والقود.

مشروعية العفو عن القصاص

مشروعية العفو عن القصاص والأصل في مشروعية العفو دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، حيث أجمع العلماء رحمهم الله تعالى على مشروعية العفو. فأما دليل الكتاب: فإن الله تعالى يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]، فجعل الله عز وجل لأولياء المقتول أن يعفوا عن القاتل، ورغب الله سبحانه وتعالى في العفو فقال سبحانه: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة:237]، فمن عفا عن القصاص والقود فإنه بخير المنازل عند الله سبحانه وتعالى، وذلك أن العفو إذا كان عن الجناية العظيمة كان أجره أعظم، وثوابه عند الله تعالى أكبر؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يعفو عن دم قريب من أقربائه إلا بقوة إيمان وحسن ظن بالله عز وجل، ورجاء في عفوه وكرمه وإحسانه، والله عز وجل يعامل عبده بالإحسان إذا عمل الإحسان مع خلقه، وإذا تولى الناس بالرحمة تولاه الله تعالى برحمته. ولذلك جاءت السنة تؤكد هذا المعنى، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً)، وهذا الحديث رد النبي صلى الله عليه وسلم فيه ظنون أهل الجاهلية، فإن أهل الجهل في كل زمان إذا أراد الإنسان أن يعفو قالوا له: أنت جبان، وأنت ضعيف، وأنت لا تحترم حقك ولا تأخذ بحقك، وأنت وأنت. ، فيجعلون العفو في نظره منقصة، وذلة وهواناً، فكَذَّب النبي صلى الله عليه وسلم هذا وقال: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً)، فمن عفا عن أي ذنب، وعن أي جريرة، وعن أي أذية من إخوانه المسلمين، فإن الله عز وجل يبدله بهذا العفو عزاً، فإذا عظم العفو عظمت رفعة الله عز وجل للعبد وإعزازه له وإكرامه له. ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله تعالى على مشروعية العفو، وقد جعل الله تعالى لهذه الأمة الخيار بين القصاص وبين العفو إلى الدية، وبين العفو بدون أخذ الدية، فالعفو عفوان: عفو بدون عوض، وهو أعظم العفوين وأجلهما وأكثرهما ثواباً عند الله عز وجل، فلو أن شخصاً قتل له قريب فقيل له: تقتص؟ قال: لا أريد القصاص، فقيل له: تعفو وتأخذ الدية؟ قال: لا أريد الدية، وإنما عفوت لوجه الله عز وجل، فهذا وأمثاله ينطبق عليه قوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]، فإذا كان يوم القيامة تولى الله أجره وثوابه، ولذلك انظر إلى قوله سبحانه: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]، ولم يبين الله عز وجل هذا الأجر والثواب كيف يكون؟ وكم يكون؟ وهذا يدل على أن الله تعالى يتولى جزاءه؛ لأن الأذية والشرور والمظالم والجنايات تتفاوت، والنفوس تتفاوت، وضيق الحال يتفاوت بالإنسان، فالذي يعفو عن القصاص والدية عمن يرجو صلاحه ويرجو هدايته واستقامته، ويكون سبباً في هدايته واستقامته، ولا يُحمِّله الدية، بل يستغني بغنى الله تعالى، فإن الله عز وجل يعوضه عن ذلك كله خيراً، فيعوضه خيراً في الدنيا، وهو الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً)، ويعوضه خير الآخرة، فأجره على الله تعالى إذا كان يوم القيامة. وقد جاء في الأثر: (أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من كان أجره على الله فليقم، فتقول الملائكة: ومن هذا الذي أجره على الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: فلا يقوم إلا من عفا عن مظلمة)؛ لأنه جعل الأمر إلى الله عز وجل أن يتولى جزاءه وثوابه، وقل أن تجد إنساناً يعامل الناس بالعفو إلا وجدت أمره على اليسر وعلى السماحة وعلى العزة والكرامة، فعدوه يريد أن يهينه والله تعالى يكرمه، وعدوه يريد أن يذله بتلك الأذية فإذا به بعفوه يرفعه الله تعالى ويعزه، والله جل وعلا عليم بخلقه، حكيم في تدبيره سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، فهو العدل سبحانه وتعالى الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ومن أعظم الإحسان العفو، ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله تعالى على مشروعية العفو عن القصاص.

حكم العفو عمن عرف بالشر والفساد وسفك الدماء

حكم العفو عمن عرِف بالشر والفساد وسفك الدماء لكن هنا مسألة وهي: إذا كان القاتل الذي قتل المظلوم معروفاً بالشر والأذية والبغي والإضرار، فهل يشرع العفو عنه؟ وهل تشرع الشفاعة من أجل العفو؟ لأنه إذا كان العفو محموداً شرعاً فإن الشفاعة من أجله شأنها كذلك، فلو أن إنساناً شفع ودخل بين قوم بينهم دم وأصلح ودعاهم إلى العفو، فإنه يكون له مثل أجر من عفا، فمن دعا إلى خير وهدى كان له أجره وأجر من عمل به، فإذا رغبهم في ذلك، وأسكن النفوس، وأطفأ ثائرات النفوس، وحاول أن يدعوهم إلى العفو وإلى المجاوزة والصفح فعفو، فله مثل أجرهم، وله أجر الشفاعة وما يتحمل فيها من المشاق والمتاعب، فالله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً، قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]، و (عظيماً) من الله تعالى ليست بالهينة، ولذلك قال: {أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114]. فإن أعظم شيء يفسد الناس هو الدماء، فإذا وقعت بينهم الدماء ووقعت بينهم الخصومات والنزاعات، فخرج الشخص للصلح بينهم، بشرط أن لا يخرج إلا لوجه الله تعالى، لا حمية ولا عصبية ولا رياءً ولا سمعة، وإنما يخرج لله تعالى وفي الله تعالى، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]، و (ابتغاء) أي: طلباً، أي: أنه يخرج وهو يريد أن يرضى الله تعالى عنه بذلك الذي يفعله، وهو يعلم أن الله تعالى يرضى عنه حين يصلح بين هذين المتخاصمين، أو يطفئ ثارات النفوس بالعفو عن القصاص والمسامحة والمجاوزة عن الجاني؛ فإن الله تبارك وتعالى يأجره على عمله وسعيه. فالشفاعة في العفو عن القصاص مشروعة، والنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه تأخر عن الصلاة مع الجماعة من أجل أن يصلح بين حيين من بني عوف، والحديث في الصحيحين، وهذا يدل على فضل الشفاعة، وأنها سنة النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن إذا كان القاتل معروفاً بالشر والفساد والبغي ففيه تفصيل: إذ يقول بعض العلماء: إذا شفع أحد في إسقاط القصاص عنه وهو يرجو صلاحه، ويغلب على ظنه أن هذا يتسبب في إصلاحه وحسن حاله، فإنه يدخل في فضل الشفاعة، ولا يمنع من ذلك بل يندب إليه ويرغب فيه، ولا يعاتب بل إنه مثاب على هذا العمل. أما إذا كان رجلاً شريراً لا يزداد بالعفو إلا شراً، ولا يزداد إلا تسلطاً على دماء المسلمين وأذيتهم، كأن قتل فعفي عنه، ثم قتل مرة ثانية، وعرف منه بعد القتلة الثانية أنه على حاله، وأنه مصر على بغيه، ومصر على كبره، ومصر على أذيته للناس، فهذا لا يجوز أن يسلط على دماء المسلمين، فالعفو عنه إبقاء لشره، ومن هنا نص جماعة من أهل العلم على أنه لا تشرع الشفاعة في مثل هذا. وقد وقع ذلك لبعض مشايخنا رحمة الله عليهم، وأذكر أن رجلاً كان معروفاً بذلك وطلب من الوالد أن يشفع، فامتنع الوالد رحمه الله تعالى؛ لأنه سأل عنه وتبين من حاله أنه لا يزيده العفو إلا بغياً وفساداً، فمثل هؤلاء لا يعانون على الإضرار بالناس والإضرار بمجتمعاتهم والإضرار بالأبرياء، فهؤلاء إذا عفي عنهم تسلطوا على دماء المسلمين، وتسلطوا على الناس بأذيتهم والإضرار بهم، وليس الأمر خاصاً بالقتل بل إنه شامل لكل عقوبة، بحيث إذا كان الجاني يتسلط ويزداد أذية وبغياً وفساداً فمثله لا يعان على بغيه وفساده.

العفو عن القصاص إلى الدية

العفو عن القصاص إلى الدية قال رحمه الله تعالى: [يجب بالعمد القود أو الدية]. قوله: (يجب بالعمد القود) أي: القصاص، وقد تقدم؛ لأن الله تعالى يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178]، وقال صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص)، وقال صلى الله عليه وسلم: (فمن قُتل له قتيلٌ فهو بخير النظرين إما أن يقاد وإما أن يودى)، فقوله: (إما أن يقاد) يدل على مشروعية القود، والإجماع على هذا، وقد تقدم. وقوله: (أو الدية) أي: يخير فيقال له: إما أن تقتص وتأخذ بحقك بقتل من قتل وليك، كما قال تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء:33]، فيقال له: اقتل من قتل أباك، أو اقتل من قتل أخاك، فإن الله تعالى أعطاك هذا الحق، فإن قال: لا أريد أن أقتله، وقد عفوت عن القاتل، فنقول: لك الدية؛ لأن الله عز وجل أمر إذا عفا ولي الدم عن الدم والقصاص بإعطاء الدية له، وقد صحت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فإذا قتل وعفا ولي المقتول فإنه ينتقل إلى الدية، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله تعالى. قال رحمه الله تعالى: [فيخير الولي بينهما]. أي: يخير الولي بين أن يقتل قصاصاً وبين أن يأخذ الدية -وسيأتينا في باب الديات توضيح الدية وضوابطها وأحوالها- فهذا بإجماع أهل العلم رحمة الله تعالى عليهم؛ لانعقاد نصوص الكتاب والسنة على أنه بالخيار بين الأمرين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على هذا، وهو ظاهر الكتاب، فإن الله عز وجل أمر بالقصاص فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:178]، فهذا يدل على أنه يخير بين القصاص وبين أخذ حقه وهو الدية، فإذا كان لا يريد القصاص يأخذ حقه من المال وهو الدية.

العفو عن القصاص والدية جميعا

العفو عن القصاص والدية جميعاً قال رحمه الله تعالى: [وعفوه مجاناً أفضل]. أي: وعفوه بدون أن يأخذ شيئاً أفضل؛ لأنه إذا فعل ذلك تولى الله تعالى أجره وثوابه، ولأن غاية الإحسان أن يعفو عمَّن ظلمه وعمَّن آذاه، ولا يأخذ منه شيئاً، وإنما ينتظر من ربه العوض والخلف، ولو أنه عفا ثم أخذ الدية فلا يلام. ومن أدران الجاهلية والعصبيات الممقوتة عند بعض الناس: أن أولياء المقتول إذا قالوا: لا نريد القصاص ونريد الدية، فإنه يعتب عليهم، ويأتي أولاد العم والقرابة ويقولون: أنتم لا تقدرون أباكم، وأبوكم لا يقدر بثمن، وما هذه الدية؟ أترضون بالمال دون دم أبيكم؟ أنتم كذا أنتم كذا ولربما هددوهم بالقطيعة -والعياذ بالله تعالى- وهذا من مضادة شرع الله عز وجل، ومن المحادَّة، ومن الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف. فإن الله تعالى يحب العفو ويقول: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة:237]، وهؤلاء -نسأل الله تعالى السلامة والعافية- بخلاء على أنفسهم، ويأمرون غيرهم بالبخل، فهؤلاء لا يجوز طاعتهم؛ لأنهم لا يريدون الخير لمن عفا أو أراد أن يعفو، فالذي يريد أن يعفو ويقول: أسامح لوجه الله تعالى، فأجره على الله عز وجل، والأفضل أن لا يأخذ شيئاً.

أخذ الدية والصلح على أكثر منها

أخذ الدية والصلح على أكثر منها قال رحمه الله تعالى: [فإن اختار القود أو عفا عن الدية فقط فله أخذها والصلح على أكثر منها]. إذا اختار القود مكن منه، وإذا قال: أريد أن أقتص، فحاول معه أولياء القاتل، وقالوا له: اعفُ عنه، ورضي بالدية، فلا إشكال، لكن في بعض الأحيان لا يرضى بالدية، فيبذلون أكثر من الدية، وهذا البذل لأكثر من الدية على سبيل الصلح، فيقولون له: إن تنازلت نعطك ديتين، أو إن عفوت نعطك ثلاث ديات، أو إن عفوت نعطك أربع ديات، أو خمس ديات، فهذا من باب الصلح. وفي الحقيقة من حيث الأصول أن الدم له دية مقدرة شرعاً لا يزاد عليها، لكنه يزاد عليها صلحاً، وقد كنا نميل إلى الوجه الأول، ثم تبين في الأخير بعد تصحيح حديث الترمذي صحة الوجه الثاني، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإن صالحوا فلهم ما أخذوا) أي: ما اصطلحوا عليه، وهذه الزيادة حسنها غير واحد، وملنا إلى تحسينها في الأخير في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا يجوز الصلح بأكثر من الدية، ولكن من حيث الأصل ينبغي أن ننبه على مسألة ستأتينا في الديات وهي: أن القرابة والعصبة هم الذين يتحملون دية الخطأ في الأصل، فإذا صالحوا بأكثر من الدية ألزموا القرابة أن يدفعوا ثلاث ديات أو أربع ديات، ويقع فيها من الإحراج والأخذ بسيف الحياء ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فلا يجوز إحراج القرابة بمثل هذا، وإذا أراد أحدٌ أن يتبرع بدية ثانية أو ثالثة فلا يضر بقرابة القاتل؛ لأنهم لا ذنب لهم، والأصل أنهم يحملون ما في طاقتهم، فتحميلهم فوق طاقتهم وتحميلهم الديون من أجل جانٍ قد لا يستحق أن يبذل له ذلك، وقد يكون شريراً كما ذكرنا؛ كل هذا لا يجوز. فالمقصود: أن الأصل يقتضي أن يقتصر على الدية، وإن حصل صلح فيجوز أن يصالح على أكثر من الدية، وفي هذا قصة هدبة بن خشرم المعروفة أنه قتل رجلاً، وكان أولياء المقتول يتامى قاصرون، منهم ابن المقتول، فحبس هدبة، ووقعت الحادثة في زمان معاوية رضي الله تعالى عنهما، فشفع سعيد بن العاص وكذلك الحسن والحسين رضي الله عنهم من أجل أن يعفو وليُّ المقتول، وبذلوا لابن القتيل سبع ديات حتى يعفو، فأبى إلا القتل، فقتل به، والشاهد في كون هؤلاء الصحابة بذلوا أكثر من الدية، فاجتمع دليل السنة ودليل الأثر عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وعلى هذا فجمهور العلماء رحمهم الله تعالى على أنه يجوز في الصلح في الديات بأكثر من الدية.

إذا اختار الدية أو عفا مطلقا أو هلك القاتل فليس له إلا الدية

إذا اختار الدية أو عفا مطلقاً أو هلك القاتل فليس له إلا الدية قال رحمه الله تعالى: [وإن اختارها أو عفا مطلقاً أو هلك الجاني فليس له غيرها]. أي: إن اختار الدية فليس له إلا الدية، بمعنى أنه لو قال: عفوت، ثم رجع وقال: أريد القصاص، فإنه لا يمُكن من القصاص؛ لأنه إذا قال: عفوت؛ سقط حقه في القصاص إلى الأبد، ولا رجوع عن هذا الحكم، وليس له إلا الدية إن اختارها. قوله: (أو عفا مطلقاً) إذا قال: عفوت عنه، ثم رجع إلى القاضي وقال: أريد القصاص، فقال بعض العلماء: لا قصاص ولا دية، وقيل: لا قصاص ولكن له الدية؛ لأنه إذا عفا عن الدية ثم رجع فيكون مثل الهبة إذا وهب شيئاً ثم رجع فيه، فكأنه وهب الدية للقاتل، ثم رجع عن هبته، وهذا مذموم شرعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يقيء، ثم يأكل قيأه). وقوله: (أو هلك الجاني) أي: لو أن شخصاً قتل عمداً عدواناً، ثم جاءته نقمة من الله تعالى فأخذه الله تعالى وأهلكه، فحينئذٍ لا يمكننا القصاص، لكن يبقى حق أولياء المقتول في الدية، وحينئذٍ تثبت لهم في تركته الدية، فتؤخذ من تركته. وقوله: (فليس له غيرها) أي: ليس لولي المقتول غير الدية، وليس له القصاص، ولو قال: رجعت، وأريد أن أقتص، فإنه لا يعطى القاتل ولا يمكن من قتله.

السراية وأحكامها

السراية وأحكامها قال رحمه الله: [وإذا قطع أصبعاً عمداً فعفا عنها، ثم سرت إلى الكف أو النفس، وكان العفو على غير شيء فهدر]. هذه المسألة صورتها: لو وقعت مخاصمة بين اثنين، فقام أحدهما وقطع أصبع الآخر عمداً وعدواناً، فثبت القصاص أن تقطع أصبعه بأصبعه، فعفا المجني عليه، فلما عفا سرت الجناية -والعياذ بالله تعالى- حتى أتت على يده، ثم سرت على جسمه حتى مات، فالموت وقع بسبب سراية الجروح؛ لأن الجروح تسري في البدن، إما بسبب التلوث، أو بسبب قوة الجناية، أو بسبب الجراثيم التي تدخل، فإذا سرت الجناية فقد تسري على عضو لكون الجناية في جزء العضو، مثل الأصبع والأصبعين، ثم تسري إلى العضو كاملاً، وقد تسري إلى البدن بكماله، وقد تسري إلى نصف البدن كأن تشل نصفه -والعياذ بالله تعالى-، فهذا يسميه العلماء: السراية، وهي في الأصل جناية في موضع، ثم تتوسع حتى تسري إلى مواضع، وقد تأتي على النفس فتهلك صاحبها. فلو أنه جنى عليه جناية في الطرف الذي هو الأصبع، أو قطع يده، فلما قيل له: إن شئت أخذت بالقصاص وإن شئت عفوت، قال: قد عفوت، فلما عفا سرت الجناية وأتت على نفسه، فنقول: اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في هذه المسألة، فقال بعض العلماء وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى: يجب القصاص، فإذا عفا عن الأصبع وسرت الجناية إلى البدن كله فالعفو عن الجزء ليس عفواً عن الكل، وهو إنما عفا عن جناية قاصرة متعلقة بجزء من البدن، ولم يُسأل عن بدنه كله، وبعبارة أدق: أن الجناية لم تتضح بعد، بمعنى أنه سبق عفوه حقيقة الجناية؛ لأن الجناية وقعت على البدن كله، وهي في الأصل على الأصبع، لكنها سرت إلى البدن كله، فهذا الإتلاف إزهاق للنفس أتى على النفس بكاملها، وقد جاء من فعل الجناية، والجناية عمد، فيثبت القصاص في البدن كله. وخالفه جمهور العلماء فقالوا: ليس هذا موجباً للقصاص، حتى لو قلنا: إنه يقتص منه فإن الشبهة قائمة، فهذا لم يرد إزهاق روحه كلها، وإنما اعتدى على جزء بدنه، فكيف ينزل منزلة من اعتدى على البدن كله، فهناك فرق بين الاثنين، ثم إن القتل لم يحصل بالقطع، أي: أن القطع نفسه للعضو ليس مما يوجب الإزهاق في الأصل، ومن هنا رد الجمهور هذا القول، وقولهم أقوى. فإذا قطع الأصبع وقال المعتدى عليه: أريد الدية، وأعطي دية أصبعه، ثم سرت إلى بدنه كله فقال أولياؤه: نريد الدية كاملة، فإنهم يعطون الدية كاملة، فإذا لم يعف وأخذ الدية عن الأصبع، وسرت الجناية إلى البدن كله، وجب ضمان الدية كاملة إذا طالبوا بها ولا إشكال في هذا، لكن الإشكال إذا طالبوا بالقصاص، فـ مالك رحمه الله تعالى يقول: يمكنون من القصاص، والجمهور يقولون: لا يمكنون، لكن لو أنه أخذ الدية عن أصبعه ثم سرت الجناية إلى بدنه كله وطالب أولياؤه بالدية، كان من حقهم أن يأخذوا الدية؛ لأنه ليس هناك عفو والولي لم يعفُ. ومما وقع فيه الخلاف بين العلماء: أنه لما قطعت أصبعه فعفا عن الأصبع، وإذا بالجناية تسري فتأتي على النفس، ف Q هل يلزم بالدية كاملة؟ أو يلزم بالدية إلا ما عفا عنه وهو الأصبع؟ فمذهب طائفة من العلماء وفي مذهب الحنابلة أيضاً أنه تؤخذ الدية كاملة ما عدا القدر الذي عفا عنه وهو الأصبع؛ لأنه قد عفا عن أصبعه، وحينئذٍ يؤخذ من الجاني بقية الدية وهي تسعة أعشار الدية، وعلى هذا يقولون: إن الجناية في سرايتها مضمونة. وهذا أصل عند العلماء، على تفصيل سنذكره -إن شاء الله تعالى- في باب الديات. ولعل الأشبه أن الذي عفا عنه -وهو الأصبع- يسقط حقه فيه، ويبقى الضمان فيما عداه، والقائلون بوجوب الدية كاملة يقولون: يجب ضمان الدية كاملة؛ لأن الجناية على الأصبع جناية، والجناية على البدن جناية ثانية، وحينئذٍ يكون كأنه قتل مباشرة؛ لأنه قتل بسببية هنا؛ فتسبب الجرح في إتلاف البدن كله، فقالوا: ما عفا عنه فهو عفو، وكتب الله تعالى له أجره، ولكن لأوليائه أن يأخذوا الدية كاملة. على أن السراية إذا كانت بالسلاح فهي أقوى، فإذا كان السلاح آلة كالَّةً، مثل أن يقطعه بسكين ملوثة، أو يقطعه بسكين مسمومة، فالقطع بالسكين المسموم قوي جداً في مذهب القصاص؛ لأن السكين المسمومة معروف أنها مما يفضي إلى إزهاق الروح، فمذهب مالك رحمه الله تعالى فيها قوي، ولذلك كان بعض مشايخنا رحمه الله تعالى يستثني هذه الحالة، وهي: أن يقع القطع بآلة أو بطريقة تفضي إلى السريان، ويكون السريان غالباً، وحينئذٍ تكون سببية على العضو ولكن المراد بها كل البدن.

العفو في السراية

العفو في السراية قوله: (وكان العفو على غير شيء فهدر). إذا قال: عفوت عن الأصبع، فهذه صورة، وكل الذي ذكرناه فيما إذا قال: عفوت عن هذه الأصبع، ويبقى قوله: عفوت عن هذه الجناية، فإذا قال: عفوت عن الجناية فلا شيء له، حتى ولو سرت إلى البدن كله؛ لأنه لما قال: عفوت عن الأصبع، حدد عفوه بالعضو، وحينما قال: عفوت عن الجناية، فقد عفا عن الشيء وما يترتب عليه، ومن هنا لا يُعطى ولا يضمن، ولا يطالب الجاني بضمان سراية الجناية؛ لأنه عفا عن الجناية كلها، فلما قال: عفوت عن هذه الجناية يسقط حقه، وإذا قال: عفوت عن هذه الأصبع، فالتفصيل الذي ذكرناه، والخلاف الذي بيناه بين أهل العلم رحمهم الله تعالى في تلك المسألة. قال رحمه الله تعالى: [وإن كان العفو على مال فله تمام الدية]. المصنف رحمه الله تعالى اختار أن العفو عن الأصبع عفوٌ عن جزء، ولكن إذا سرت إلى البدن فهو إتلاف مستأنف، وحينئذٍ تجب فيه الدية كاملة، فهذا الذي اختاره رحمه الله تعالى، واختاره أيضاً غيره من أئمة المذاهب رحمهم الله تعالى، وهو قوي جداً من حيث الحجة والدليل.

التوكيل في القصاص

التوكيل في القصاص قال رحمه الله تعالى: [وإن وكل من يقتص ثم عفا فاقتص وكيله ولم يعلم فلا شيء عليهما]

حكم التوكيل في القصاص إثباتا واستيفاء

حكم التوكيل في القصاص إثباتاً واستيفاءً هذه المسألة تحتاج إلى تفصيل: أولاً: هل يشرع التوكيل في إثبات القصاص، والقصاص؟ جماهير العلماء وأئمة السلف على أنه من حق أولياء المقتول أن يوكلوا شخصاً يتولى في القضاء إثبات الجناية، فإذا وكلوا شخصاً وقالوا له: أثبت جناية فلان على عمنا، أو أثبت جناية فلان على أبينا، فإن هذا مشروع، والدليل على مشروعيته عموم الأدلة الواردة على مشروعية الوكالة، وقد بينا في باب الوكالة ذلك، وذكرنا أدلة النقل والعقل، فيشرع للإنسان أن يوكل غيره في إثبات حق من حقوقه، فإذا قالوا له: وكلناك فعلى صورتين: الصورة الأولى: أن يوكلوه في إثبات الجناية التي هي القتل العمد العدوان الموجب للقصاص. الصورة الثانية: أن يوكلوه في استيفاء حقهم، أي: في القصاص وقتل القاتل. ففي الصورة الأولى يقوم هذا الشخص بإحضار الأدلة والشهود على أن فلاناً قتل فلاناً، فهذا يسميه العلماء: التوكيل في الإثبات، والتوكيل في الإثبات مشروع فيما قاله جمهور العلماء والأئمة من المذاهب الأربعة وغيرهم، إلا القاضي أبا يوسف رحمهم الله تعالى من فقهاء الحنفية رحمهم الله تعالى، فيقول: لا يشرع أن يوكل شخص لإثبات الجناية، فالإثبات يكون على أولياء المقتول، وهم الذين يحضرون عند القاضي، وهم الذين يكون عليهم عبء الإثبات. والصحيح هو مذهب جمهور العلماء وأئمة السلف وأهل العلم رحمه الله تعالى أجمعين؛ أنه يشرع لأولياء المقتول أن يقوموا بأنفسهم، وأن يوكلوا غيرهم لإثبات حقهم، شأنه في ذلك شأن سائر الحقوق. هذه المسألة الأولى. المسألة الثانية: إذا وكله على الإثبات فهل من حق الوكيل إذا أثبت أن فلاناً قتل فلاناً أن يطالب بالقصاص؟ أي: هل التوكيل في الإثبات توكيل في الاستيفاء؟ جمهور العلماء يقولون: ليس التوكيل في الإثبات توكيلاً في الاستيفاء، وهذا الوكيل ليس من حقه إلا الإثبات فقط، فيحضر الأدلة ويثبت أن فلاناً هو القاتل، فإذا أثبت وحكم القاضي بصحة إثباته انتهت الوكالة. وخالف في هذه المسألة ابن أبي ليلى من أئمة السلف رحمه الله تعالى فقال: إذا وكل في إثبات الجريمة وإثبات القصاص، كان من حقه أن يطالب بالقصاص؛ لأن المقصود من الإثبات هو القصاص، فإذا وكل في الإثبات فمعناه أنه موكل في القصاص، كما لو وكل في البيع فله حق القبض. والصحيح هو مذهب الجمهور؛ أنه إذا وكل في الإثبات فقد اختصت الوكالة بالإثبات، فهي وكالة خاصة، ولا يكون من حقه أن يطالب بالاستيفاء. فإذا ثبتت مشروعية الوكالة على الإثبات، فيبقى الكلام على الاستيفاء فنقول وبالله التوفيق: الاستيفاء: هو تنفيذ الحكم، فقد نص العلماء على جواز أن ينصب ولي الأمر شخصاً، أو جهة معينة تقوم بتنفيذ هذه الحدود والحقوق، وارتاح الناس من كثير من الإشكالات الموجودة في الفقه بهذه الطريقة والحمد لله تعالى. لكن الأصل أن استيفاء القصاص حق لولي القتيل، وله أن يوكل في ذلك كشأن سائر الحقوق، وهنا يجيء الكلام على مسألة الوكالة في القصاص. فقد كان في القديم إذا ثبت عند القاضي أن رجلاً قتل رجلاً، فيقول القاضي لولي القتيل: هذا قاتل وليك فاقتله إن أردت، ويمكنه من قتله، فيأخذ الولي سيفه ويقتله، فيكون ولي الدم هو الذي يباشر القتل، كما ذكرناه في الاستيفاء. إلا أن ولي الدم قد لا يستطيع أن يقتل قاتل وليه، إما لصغر سنه، كصغير بلغ ولا يحسن الضرب بالسيف، أو يكون رجلاً كبيراً في السن، أو مشلولاً، أو مقعداً، أو زمناً، أو مريضاً، فقد تكون هناك أعذار في ولي المقتول، فحينئذٍ يحتاج إلى شخص يقيمه مقامه من أجل تنفيذ القصاص، فهذه مسألة التوكيل في الاستيفاء.

عفو ولي الدم بعد التوكيل في الاستيفاء

عفو ولي الدم بعد التوكيل في الاستيفاء فإذا وكل شخص شخصاً من أجل أن يقتل قاتل وليه، فلهذه الوكالة صور: الصورة الأولى: أن يوكله ولا يرجع عن الوكالة، ويذهب الوكيل ويقتص، فهذه الصورة لا إشكال فيها، فالوكالة صحيحة والتنفيذ صحيح، ولم يرجع الموكل عن وكالته حتى حصل التنفيذ، وكما أن الأصيل له حق الاستيفاء فقد قام الوكيل مقامه، والقاعدة: أن الوكيل ينزل منزلة الأصيل أو من وكله. الصورة الثانية: أن يرجع الموكل عن وكالته، وهذه هي التي أشار إليها المصنف رحمه الله تعالى، فيقول الموكل لوكيله: اقتل من قتل أبي، أو وكلتك في قتل من قتل أبي، أو وكلتك في استيفاء حقي في القصاص من فلان، فخرج هذا الوكيل من أجل أن ينفذ الوكالة، فلما خرج رجع الموكل عن وكالته، رجوعاً بالعفو لا رجوعاً مطلقاً؛ لأن الرجوع المطلق الأمر فيه أخف، لكنه رجع بالعفو بقوله: قد عفوت عمن قتل أبي، فالوكيل ذهب، والعفو وقع من صاحب الحق، وحنيئذٍ فلذلك حالتان: الحالة الأولى: أن يقع العفو بعد التنفيذ، كما لو خرج الوكيل وطالب بالدم وقتل القاتل الساعة الواحدة ظهراً، والموكل عفا عن الدم الساعة الثانية ظهراً، أو الواحدة والنصف، فمعنى ذلك أن العفو وقع بعد استيفاء الحق، فلا شيء على الوكيل ولا على الموكل؛ لأن العفو لم يصادف محلاً، فإن الوكيل حينما قتل القاتل قتله وعنده مستند شرعي؛ لأن الوكالة شرعية، وصاحب الحق لا زال على حقه، فقتله بدون أي شبهة، ولا غبار على قتلهِ، لأن عفو ولي الدم بعد القتل، وإذا قتل القاتل سقط حق الموكل؛ لأنه لم يعد للموكل حق، فقوله: (عفوت) عفوٌ عن شيء غير موجود أصلاً؛ لأن حقه قد انتهى بتنفيذ القصاص. ففي هذه الحالة إذا حصل العفو بعد التنفيذ فإنه لا شيء على الوكيل ولا شيء على الموكل الذي عفا، أما الوكيل فقد نفذ الوكالة، وقتله لمن قتل وقع في محله، وإذن صاحب الحق مستصحب، وأما عفو من عفا -وهو صاحب الدم- فقد وقع في غير موقعه؛ لأنه وقع بعد الاستيفاء، ولما وقع بعد الاستيفاء فقد سقط الحق لولي المقتول بالكلية، وحينئذٍ فقد عفا عن شيء غير موجود أصلاً؛ لأنه قد انتهى حقه. الحالة الثانية: أن يقع العفو قبل التنفيذ، فيقول ولي القتيل: اشهدوا أني قد عفوت عن القاتل، سواءٌ قال: أريد الدية، أم قال: عفوت مطلقاً، فلهذه الحالة صورتان: الصورة الأولى: أن يبلغ الوكيل رجوع من وكله، فحينئذٍ لا يجوز له شرعاً أن يقتل القاتل بإجماع العلماء، إذا بلغه أناس عدول رجوع موكله، وقالوا له: إن فلاناً رجع عن وكالته لك، وقد عفا عن الدم، فإن ماطل وكابر وقتل القاتل، وهو عالم أن الوكيل قد رجع؛ فحينئذٍ يكون قاتلاً عمداً عدواناً فيقتص منه. هذا إذا علم وثبت عنده الرجوع. الصورة الثانية: إذا لم يعلم، كأن يكون بين الوكيل والموكل مسافة أيام، وبلوغ الوكيل لمكان القصاص لم يبق عليه سوى يومين، فالمسافة ما بين الموكل والوكيل لا يمكن أن يتوصل بها إلى إبلاغ الوكيل رجوع موكله، فقتل، ثم علم أن موكله رجع قبل تنفيذ القتل، فهل يتحمل المسئولية الوكيل بناءً على أنه بعفو الموكل سقط حق القصاص، والذي نفذ القصاص هو الوكيل؟ أم أنه يكون الاستحقاق على الموكل؛ لأنه هو الذي عفا وغرر بالوكيل، وكان المفروض أن يتعاطى الأسباب لإعلام الوكيل؟ هذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله تعالى، وبعض أهل العلم رحمهم الله تعالى يقول: لا شيء على الوكيل ولا شيء على الموكل، أما الوكيل فلأنه يستند إلى أصل شرعي، والأصل مستصحب وهو الإذن، فلما كان العفو على وجه لا يمكن فيه البلوغ كان ضرباً من العبث، فوجود هذا العفو وعدمه على حد سواء؛ لأنه لم يبلغ الوكيل، فصار عفو الموكل في هذه الحالة واقعاً في غير موقعه؛ لأنه قد انتهى الأمر، وإنما يكون مؤثراً لو كان هناك مجال لإعلام الوكيل وتنبيهه وتلافي القتل، فلما أصبح الأمر على هذا الوجه الذي لا يمكن فيه التدارك سقط، وأما بالنسبة للموكل فلا شيء عليه؛ لأنه حينما وكل كان معذوراً شرعاً، وحينما عفا عفا على وجه لا يؤثر؛ لأنه لا يمكن تدارك الوكيل وإعطاؤه الخبر بالرجوع، وهو معذورٌ؛ لأنه يتعذر عليه إعلام الوكيل. وهناك وجه ثانٍ للعلماء رحمهم الله تعالى: أنه يضمن الموكل؛ لأنه يعلم أنه لا يبلغ عفوه الوكيل لو عفا، فخاطر بالوكيل، والوكيل معذور في تنفيذ ما أمر به، ولما عفا تحمل عاقبة عفوه؛ لأن كلا الأمرين وقع بسببه، فالوكالة بسببه والعفو جاء بسببه، ففي هذه الحالة إذا رجع تحمل مسئولية الرجوع؛ لأن الرجوع منه، فهو متحمل لتبعة ما نجم عن عفوه، وهذا القول الثاني في الحقيقة من القوة بمكان، فيتحمل الموكل عن الوكيل في الضمان.

حقوق الرفيق في الحد والقصاص

حقوق الرفيق في الحد والقصاص قال رحمه الله تعالى: [وإن وجب لرقيق قود أو تأثيرُ قذف فطلبه وإسقاطه إليه]. هذه مسألة أخيرة يختم بها هذا الفصل، وهي: مسألة حقوق العبد إذا كانت في قتل أو قذف، فإذا كان للعبد حق معنوي، فإنه يتولى الأخذ والعفو، فله أن يطالب وله أن يعفو، ولا أحد يستطيع أن يجبره على أمر خيَّره الله عز وجل فيه؛ لأن هذه الأمور لا يملكها السيد، فليس للسيد أن يقول: أنا أتولى أمر عبدي في هذا؛ لأن الحق للعبد، فإذا قذفه شخص فإنه حق ليس بمادي وإنما هو معنوي، والحقوق المعنوية مردها إلى صاحبها، فيتولى العبد أمر نفسه، وليس لسيده عليه سلطان، فبين المصنف رحمه الله تعالى بهذا أن الحق في القصاص في النفس والأطراف راجع إلى العبد وليس إلى السيد، وهكذا بالنسبة لبقية الحقوق كما في القذف ونحوه. قال رحمه الله تعالى: [فإن مات فلسيده]. أي: فإن مات فإنه ينتقل الحق إلى سيده؛ لأنه وليه، ومعلوم أن الولاء لحمة كلحمة النسب، وهذا في حال العتق، فإذا لم يعتق فمن باب أولى وأحرى، وكما أن النسيب والقريب يرث نسيبه وقريبه في الحقوق، فكذلك السيد يرث حق عبده في هذا، كورثة المقذوف ينزلون منزلة المقذوف بعد موته.

الأسئلة

الأسئلة

الأفضل في الدية من أخذها وصرفها في وجوه الخير، وإسقاطها بالعفو

الأفضل في الدية من أخذها وصرفها في وجوه الخير، وإسقاطها بالعفو Q إذا أراد بالدية صرفها في وجوه الخير فهل هذا أفضل أم العفو؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالحقيقة أن هذا أمر يُحتاج فيه أن ينظر الإنسان في الثواب المترتب على عفوه، والثواب المترتب على توزيع هذه الصدقات، وهذا أمر غيبي لا يستطيع الإنسان أن يجزم به، لكن عند العلماء نظائر من هذه المسائل، وهي: الحكم النسبي، ففي بعض الصور الأحكام النسبية معتبرة، كما إذا كان القاتل غنياً ثرياً لا تهمه الدية، والمال عنده كثير، وهناك ضعفاء وفقراء محتاجون، وقد يكون بعضهم من قرابة المقتول نفسه، فأحب وليه أن يأخذ الدية وأن يتصدق بها على رحمه، وأن يعيل بها أيتاماًَ وضعفاء وفقراء، فهذا لا شك أن أجره عند الله تعالى عظيم، ولكن هذا شيء نسبي، ومن الخطأ تطبيق هذه الصورة عموماً، كما تجد في بعض الفتاوى: أن الأفضل أن يأخذها ويتصدق بها، وذلك أنه إذا أخذها وتصدق بها على الضعفاء والفقراء فهذا أعظم. فهذا لا ينبغي تعميمه؛ إذ قد يكون أولياء القاتل ضعفاء وفقراء لا يستطيعون الدية، وإذا حملوا الدية تحملوا مشقة كبيرة، وإن كانوا في العمد لا يتحملون، لكن ما جرت به العادة أنه يضغط عليهم ويحملون هذه الدية، فإذا كان القاتل سيتحمل عناء الدية ومشقتها، وكان ضعيفاً، فلا تستطيع أن تطبق عليه هذا الأصل. ولذلك نقول: من حيث الأصلُ الأمر غيبي، فلا يستطيع أحد أن يقول: ثواب العفو أعظم من ثواب إنفاق الدية على الضعفاء؛ لأن الناس تتفاوت أحوالهم وتختلف، ما لم يرد نص يبين أيهما أفضل، لكن في الأحوال الخاصة -كما ذكرنا- إذا كان أولياء القاتل لا يهمهم المال، ودفع المال يسيرٌ عليهم، ويمكن أخذ هذا المال والتصدق به، فهذا لا شك أنه أفضل وأحسن وأكمل، والتصدق بالمال فيه ثواب عظيم عند الله عز وجل، ولذلك لما باع حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه داره -دار الأرقم- قيل له: بعت مفخرة قريش! قال: ستعلمون من هو المغبون. ثم نزل ونادى في الناس: من كان عليه دين فليأتني، فما بقي أحد إلا قضى دينه، فكان ربحه عند الله تعالى أعظم، وثوابه أجل من أن يمسك داراً على أنها مفخرة، فرضي بمفخرة الآخرة على مفخرة الدنيا، ورضي بربح الآخرة على ربح الدنيا، ورضي بعز الآخرة على عز الدنيا. فالأمور النسبية والأحوال النسبية معتبرة، لكنها لا تعتبر قواعد في الفتوى، أي: لا تعتبر أصولاً يُحكم بها حكماً عاماً في الفتاوى، بل يقال: يمكن نسبياً أن يقع هذا، ولذلك نترك الأمر، فإذا نظر الشخص إلى مصلحة قرابته وجماعته وأوليائه، ورأى أن يصل رحمه وأن يحسن إليهم بهذه الدية، وتأول أن يكون ذلك له أفضل عند الله تعالى فأرجو، والله تعالى أعلم.

ما يصح فيه الصلح على أكثر من الدية من أنواع القتل

ما يصح فيه الصلح على أكثر من الدية من أنواع القتل Q هل الصلح على أكثر من الدية في العمد فقط أو في جميع أنواع القتل؟ A من حيث الخطأ فليس لهم إلا الدية المقدرة شرعاً، ولا يجوز أن يزيدوا عليها إذا كان القتل خطأً، أما في العمد إذا استحق أولياء المقتول القصاص، فيحتاج إلى ترغيبهم ترغيباً أكثر، أما القتل خطأً فلا يحتاج فيه إلى الترغيب بأكثر من الدية؛ إذ ليس لهم إلا الدية، ولا يستطيع القاضي أن يحكم بثلاث ديات أو ديتين؛ لأن هذه مخالفة مضادة لشرع الله عز وجل؛ لأن الله تعالى جعل للنفس حق الدية الواحدة، ومن هنا كنا نستشكل الصلح في قتل العمد على أكثر من الدية؛ لأن هذا وجهه أن الله تعالى قدر المقادير، فلا يجوز لأحد أن يزيد عليها، والله تعالى أعلم.

حكم الصرف من الزكاة لمن وجبت عليه الدية

حكم الصرف من الزكاة لمن وجبت عليه الدية Q هل يجوز صرف أموال الزكاة لمن وجبت عليه الدية وكان فقيراً لا يستطيع السداد؟ A الغارم وهو المدين يستحق الزكاة، لكن ينبغي أن ينتبه إلى أن الدين فيه نظر، فإن كان سبب الدين يعذر به شرعاً فإنه يعطى من الزكاة سداد دينه، كشخص يعول أسرة، ويسكن في شقة تكفيه وتكفي عياله دون بذخ ودون إسراف، فسكن في هذه الشقة بعشرة آلاف في السنة، وأصبح مديوناً، فنعطيه العشرة آلاف كاملة؛ لأن الغارم يعطى سداد دينه، بشرط أن يكون دينه على الوجه المعروف، لكن لو كان دينه في الحرام، كمن يسافر للحرام والفساد -والعياذ بالله تعالى- ثم أصابته ديون، فحينئذٍ نقول: إنه لا يعطى؛ لأن سبب غرمه محرم، وكذلك لو أنه تزوج وهو فقير، وتكلفة زواجه في فرضنا ثمانون ألفاً، فكانت مؤنة زواجه بمائتي ألف، فيعطى في حدود الثمانين. أما في هذه المسألة ففيها نظر؛ إذ القتل إما أن يكون عمداً، وإما أن يكون خطأ، فإذا كان عمداً فهو جناية وجريمة، ومثلها لا يساعد فيها؛ لأن أصل الجناية لا تجوز شرعاً، ولو أننا كلما قتل قاتل وعفي عن قتله أعطيناه من الزكاة؛ لذهب المعنى من زجر الناس، وتحملهم لمشقة الدية حتى يجدوا العناء فيحجموا عن الدماء المحرمة وعن سفك الدم الحرام. أما إذا كان القتل خطأً، كشخص عنده حافلة ووقع عليه حادث، فمات معه شخصان وتحمل ديتهما، فالأصل أن العصبة هم الذين يتحملون من الدية ما كان فوق الثلث، كما سيأتي معنا إن شاء الله تعالى، وهذا نظام معروف في الإسلام بنظام العاقلة، ففي الحديث الصحيح: (وقضى بديتها على عاقلتها)، فالعاقلة نظام شرعي، وهو موجود والحمد لله وعند كثير من القبائل جزاهم الله تعالى خيراً، ولا يزال ما يسمى بصندوق القبائل يفعل حقيقة العقل الشرعي في كثير من الصور تشبه الأصول الشرعية، وهذا أمر محمود ينبغي بقاؤه. فإذا كانت عاقلته غنية وامتنعت فالواجب أن يشتكيهم إلى القاضي حتى يدفعوا ما عليهم، والقاضي يُلزم عاقلته بما يَلزمه هو، فهذا هو الأصل، فإن كانت العاقلة فقيرة، أو كانت مديونة، فحينئذٍ يشرع إعطاء الزكاة له سداداً لهذا الدين، وسواءٌ أكانت الجناية خطأً بالقتل أم كانت الجناية على الأطراف، كما لو وقع عليه حادث فقطعت يد راكب من ركاب سيارته فعليه نصف دية، ففي هذه الحالة إذا كانت عاقلته قادرة على السداد فلا إشكال، وإذا كانت غير قادرة على السداد فإنه يعطى من الزكاة على قدر دينه. وعلى كل حال: ينبغي على من يتولى الزكاة أن يتقي الله عز وجل، وأن يحذر من حرمان أهل الحقوق حقوقهم، فهناك فقراء، وهناك مساكين، وهناك أيتام وأرامل لهم حق في هذه الزكوات دون غيرهم، حتى ولو وجدت بعض الفتاوى المتوسعة مثل إجازة طبع الكتب من أموال الزكاة، ومثل إعانة المتزوج من أموال الزكاة، بناءً على قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:60]، فهذا مذهب مرجوح وضعيف عند أهل العلم، إذ الصحيح أن قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}، مختص بالجهاد في سبيل الله عز وجل، وحتى لو قيل بهذه الفتوى فينبغي أن ننظر إلى من هو أحوج وأحق، وبدل أن يعطى هؤلاء القتلة يعطى من هو أحوج، وقد تطبع بعض الكتب وتدفع فيها عشرات الألوف، ثم توزع هدراً، فتعطى للذي يستطيع أن يشتري والذي لا يستطيع أن يشتري، وهناك من هو في أشد الحاجة إلى مثل هذا المال. فينبغي الانضباط، وينبغي تحديد هذه الأمور بالضوابط الشرعية، فهناك من هو أحق وأحوج، فهناك اليتيم، وهناك الأرملة، وهناك الأسر التي تكتوي بنار الفقر والمسكنة، فهؤلاء جعل الله تعالى لهم حقاً في الزكاة، فلا يتوسع في هذه الأمور على حساب من هو أحق وأحوج، وإن كنت طالب علم فانظر كم في مكتبتك من الكتب، فأسألك بالله تعالى كم من كتاب قرأت؟ وتؤخذ المنشورات وتطوى وترمى في الصناديق، ولربما ترمى في المكاتب ولا ينظر إليها إلا قليلاً، وهذا كله على حساب من هو أحوج وأحق، فينبغي أن ينتبه لهذه الأمور في الزكوات وتوزيعها؛ إذ يخشى على من يتولاها أن يصلى بنار جهنم. فالزكاة أمرها عظيم، وليس من السهل بمكان أن الشخص يحرم صاحب الحق حقه ويُذهبُه في أمور مختلف فيها، بل يصرفه بدون ضوابط. وأذكر أن رجلاً ذات مرة طبع مطوية في أمر قد نوقش في أكثر من رسالة، وقتله أهل العلم بحثاً، وهو طويلب علم مبتدئ ليس من أهل العلم وليس من أهل التأليف، فجاء وقال: أبشرك أن بعض المحسنين دفع لي مالاً فوزعت منها بتسعين ألف ريال!! فهذه التسعون ألف ريال كم من أسرة لو أُعْطِيَتْ أنقذتها! وكم من نساء قد يتعرضن للحرام بسبب الفقر والجوع والمسكنة لو أعطين لامتنعت من ذلك! وليس معنى هذا أن نحجم أمور الدعوة، فالدعوة لها وسائل كثيرة ولها طرق كثيرة، ولا تقتصر على المطوية ولا على الشريط. ولا شك أن من دفع في الشريط والمطوية مأجور ومثاب، ولكن ليس على حساب الحقوق الواجبة في الزكوات، وإنما تكون من بابها المعروف، فإذا جئنا لغني نريد أن نصرفه لمقام أفضل، فهناك مدينون في السجون، وهناك أناس أصحاب أسر وعوائل مدينون في حقوق ومسجونون؛ لأن الدائن من حقه سجن الغريم، فمثل هذا الذي عليه عشرون ألفاً أو عشرة آلاف أو خمسة آلاف ربما وقع أولاده في الحرام، وربما وقعت زوجته في الحرام، فهؤلاء هم الذين يوجه الناس لإعانتهم والرفق بهم. ونريد من هذا أن يُتنبه إلى أن الخير ينبغي أن يصرف في بابه، وأمور المعونة والزكوات والصدقات ينبغي أن تصرف في بابها، وأعظم ما يكون في هذا الباب الزكوات إذا صرفت في غير حقها، وكذلك الصدقات، فقد تجد شخصاً يتبرع لجمعية خيرية من أجل أن تنفق هذا المال على الأيتام والفقراء والضعفاء والمساكين، فتقوم الجمعية وتفعل مسابقة، وتوزع الجوائز والنثريات بعشرات الآلاف! ولا نشك أن أهل الجمعية يريدون الخير، ولا نشك أنهم يريدون الطاعة ويريدون البر، ولكنه الجهل وعدم الرجوع إلى العلماء، وعدم ضبط الأمور بضوابطها الشرعية، إذا وضعت جمعية للصدقات، فضع صندوقاً للمسابقات، وانظر من الذي يتبرع لك من أجل المسابقات، ومن أجل الأمور الزائدة التي تكون على حساب من هو أحق؟ فأنت مؤتمن، فمن دفع لك هذا المال لكي تدفعه للمحتاج فعليك أن تدفعه للمحتاج، وتنضبط بضوابط شرعية، أما الأمور الفاضلة فتوضع لها صناديق خاصة، وهي أمور خير، كتوزيع شريط، أو كتيب، أو منشور، لكن لا تكون عُمية وبدون ضوابط شرعية، فلابد من التقيد بهذا، ولا بد من الرجوع إلى أهل العلم. وأكثر ما ضر الدعوة اليوم وهو الاجتهاد الذي لا يرجع إلى فتوى من أهل العلم المعتبرين، فكل يجتهد، وكل يرى أنه على حق، وإذا جئت تنبهه على ملاحظة ظن بك ظن السوء -نسأل الله تعالى العافية- وهذا لا يجوز، فلابد من بيان هذه الحقوق، ولابد من التوجيه فيها، ولابد من ضبطها بالضوابط الشرعية. ولذلك ينبغي صرف الزكاة في مجالها، والله جل وعلا لم يكل أمر قسمة الزكاة إلى ملك مقرب وإلا إلى نبي مرسل، ولكن تولى قسمتها من فوق سبع سماوات؛ لأن فيها الحق المعلوم للسائل والمحروم، وجعل هذه الزكاة لا منة فيها للغني على الفقير، حتى كان بعض أهل العلم يقول: ينبغي على الغني إذا أعطى الفقير أن لا يشعره المن؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:24]، فليست فيها منة للغني على الفقير، وهذا يدلك على عظم أمرها، فتولى الله تعالى قسمتها من فوق سبع سماوات، وأنزل جبريل الأمين على نبيه بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60]، فعددها وبينها وجعلها آيات تتلى إلى يوم القيامة، إنصافاً لهم في حقوقهم، وتنبيهاً للأمة على خطر هذا الباب. فإذا كان الشخص محتاجاً ومن أهل المساعدة في قتل الخطأ لا قتل العمد، فعند عجز أوليائه وعاقلته عن تحمل الدية يعطى من الزكاة من باب سداد الدين عن العاقلة؛ لأنهم أصبحوا مدينين، فيندرجون تحت القسم الذي ذكره الله عز وجل في قوله: {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة:60]، والغارمون: جمع غارم، وهو المدين الذي عليه دين، ويشترط عند العلماء أن لا يكون دينه في سفه، كما ذكرنا. فهؤلاء المدينون من أحق الناس بالزكاة، فينبغي تفقدهم والسعي في قضاء حوائجهم، وتفريج كرباتهم، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا مفاتح الخير، وأن يجد الخير على أيدينا وأيديكم إنه سميع مجيب، والله تعالى أعلم.

معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله.

معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله. مائة مرة ... ) Q في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يومه مائة مرة ... ) الحديث، هل تقال المائة مرة مجتمعة أم تقال متفرقة؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالأصل أنها تقال مجتمعة، والتفريق الذي لا يطول لا يضر، ولكن الأصل أنها تقال مجتمعة في حين المساء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (من قالها حين يمسي. ومن قالها حين يصبح)، وهذا يدل على أنها تكون في حين الإمساء وحين الإصباح، وأما أن تكون متفرقة طيلة اليوم فهذا ليس ذكراً للمساء والصباح؛ لأن هذا ذكر مقيد من أجل الحفظ والحرز صباحاً ومساءً، فينبغي أن يكون عند أول المساء وعند أول الصباح. والمساء يبتدئ من بعد العصر، فلو أنه قالها بعد العصر خمسين مرة، ثم جلس ساعة يرتاح، ثم قالها بعد ذلك، فما زال في حين المساء ولا يضره، كما لا يضره أن يقولها عشرين مرة، ثم يرتاح، أو يقوم ليقضي عملاً، ثم يرجع ويقولها عشرين مرة، ثم يتكلم بكلام، ثم يقولها عشرين مرة وهكذا؛ لأنه في حين الإمساء، أما أن يفرقها خلال اليوم كله فلا؛ لأن الفضل هو الحفظ والحرز، وهذا يقتضي أن تكون في أول النهار حتى يحفظ إلى مسائه، أو في أول المساء حتى يحفظ إلى صباحه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من قالها حين يمسي. ومن قالها حين يصبح) فالمراد بها الحينية والوقت، وهذا يتقيد بالبداية. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (تقول: قل هو الله أحد، والمعوذتين إذا أمسيت وإذا أصبحت ثلاثاً تكفيك من كل شيء)، فهل معنى ذلك أنه يقولها ثلاث مرات طيلة اليوم؟ فقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمسيت وإذا أصبحت) يقتضي أنها تكون حرزاً في حين المساء وحرزاً في حين الصباح، ومن هنا فلابد أن تكون مجتمعة، بمعنى أنها في الحينية والظرفية التي يبتدأ بها المساء، أو الحينية والظرفية التي يبتدأ بها الصباح.

تحويل النية في السنة من ركعتين إلى أربع

تحويل النية في السنة من ركعتين إلى أربع Q شخص كان يؤدي سنة الظهر بعد الصلاة، فجاء شخص وائتم به، فحول نيته من السنة إلى أربع ركعات، فما الحكم؟ A هذه المسألة فيها جوانب: الجانب الأول: يجوز الانتقال من الأدنى عدداً إلى الأكثر، كما لو كان في قيام الليل وصلى الركعة الأولى والثانية، ثم رأى أنه يحتاج إلى كسب الوقت، فبدل أن يجلس في التشهد ويسلم، أتى بالأربع متصلة، فلا بأس به، وليس فيه حرج، لكن المشكلة أن الانتقال هنا سيشبه النافلة بالفريضة، وهذا أصلٌ منعَ منه طائفة من أهل العلم رحمة الله تعالى عليهم، ولذلك نهي في الوتر أن يجلس بين الركعة الثالثة والثانية إذا قصد الوصل، حتى لا يتشبه بصلاة المغرب، وهو الأمر الذي اختلف فيه الجمهور مع الحنفية رحمهم الله تعالى، فالشاهد من هذا: أن الأفضل أن يُصلي ركعتين ويُسلم، ثم يقوم هذا الشخص ويتم الركعتين الباقيتين عليه، والله تعالى أعلم.

النذر بعبادة الله تعالى حق عبادته

النذر بعبادة الله تعالى حق عبادته Q كنت مريضاً ونذرت إن شفاني الله تعالى أن أعبده سبحانه وتعالى، وقلت مرة: أعبده حق عبادته، فشفاني الله عز وجل، ولكنني قلق جداً؛ لأنني نذرت بما لا أستطيع؟ A تعبده حق عبادته بما تستطيع، فتكون عابداً لله عز وجل، وهذا يستلزم ثلاثة أمور: الأول: أن تكون في عقيدتك أخلص الناس قلباً لله عز وجل، وأصدقهم حباً لله سبحانه وتعالى، وأخوفهم لله تعالى، وأشدهم خشية من الله تعالى، وأكملهم رضاً عن الله عز وجل، وتستجمع معاني العقيدة في الله عز وجل في قلبك، فتوحده في ألوهيته، وتوحده في ربوبيته، وتوحده في أسمائه وصفاته على أكمل وأتم ما يكون التوحيد. الثاني: أن تعبد الله تعالى بقولك حق عبادته، باستدامه قراءة القرآن، والذكر لله عز وجل. الثالث: أن تعبده سبحانه حق عبادته في جوارحك وأركانك، وتسخرها في طاعة الله تعالى ومرضاته، وما الذي يمنعك من هذا؟ ما الذي يمنعك أن تعبد ربك حق عبادته؟ إذ الأصل أن المسلم يعبد الله تعالى حق العبادة، وما خلق إلا من أجل هذا، فهذا خير عظيم فتح الله تعالى عليك بابه، فإن استغللت وجوب النذر والإلزام عليك، وصدقت مع الله تعالى صدق الله تعالى معك. فإذا كان الإنسان في بعده عن الله عز وجل يجد من التيسير، ويجد من الأمور ما لم يخطر له على بال، فكيف بمن أحب الله تعالى وتقرب إلى الله عز وجل؟! وما الذي يحول بينك وبين عبادة الله تعالى حق عبادته؟ ولا شك أنه لا يستطيع أحد أن يبلغ المقام الكامل في العبادة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أما إني أرجو أن أكون أخشاكم لله وأتقاكم له)، ولم يقل: إني خشيت الله تعالى كمال الخشية، ولم يقل: عبدته كمال العبادة، وإنما هذا أمر نسبي؛ لأنك تعبده حق العبادة بالنسبة لما تستطيع، وأنت مكلف بما تستطيع لا بما لا تستطيع، ولو قلت: أعبده عبادة الأنبياء، أو أعبده عبادة الملائكة، فهذا أمر ليس بيدك، ونذر فيما لا تملك، ولا نذر على الإنسان فيما لا يملك، ولا طلاق فيما لا يملك، كما في السنن. فقولك: أعبده حق عبادته، أمر نسبي معروف بالنسبة لك، والنذور تدخلها الحقيقة الشرعية، وتدخلها الحقيقة العرفية، وتدخلها الحقيقة اللغوية، والأصل أن المكلف إذا تلفظ بهذا اللفظ فإنما يقصد الأمر النسبي، أي: إذا نذر أن يكون ملتزماً بالإسلام حقاً، وأن يكون مؤمناً صدقاً، وأن يكون موحداً كما يحب الله تعالى ويرضى، فاستعن بالله عز وجل ولا تعجزن، (ومن تقرب إلى الله شبراً تقرب الله منه ذراعاً، ومن تقرب إلى الله ذراعاً تقرب الله منه باعاً، ومن أتى يمشي أتاه الله هرولة)، ففي أي مقام حين تفكر أن تقبل على الله تعالى، وحين تفكر أن تكون مع الله عز وجل، تجد من نفحاته ورحماته وبركاته ما لم يخطر لك على بال! فالله أكرم من أن تسيء الظن به أن يجعلك من العاجزين، فاستعن بالله تعالى ولا تعجز. ومما أوصى به العلماء والأئمة: أن تكون في هذه الحياة مستشعراً أن الله تعالى خلقك لعبادته، وأن الله تعالى أوجدك لطاعته، وهو أغنى ما يكون عنك، وأنت أفقر ما تكون إليه، وأنك لو بلغت مقام العابدين في غاية المقامات فلن تنفع الله تعالى شيئاً، والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً)، ولا تحسب أن الله بحاجة لهذا، وإنما هي أعمال منفعتها للعبد، فالمسلم إذا أراد الله تعالى به الخير، وأراد أن يجعله من الصالحين، وأن يهيأه لمراتب المفلحين، جعل في قرارة قلبه أنه لا يرضى لنفسه إلا بالمقام الأعلى في طاعة الله تعالى ومرضاته، فإذا دخل المسجد تمنى من الله تعالى وسأل الله تعالى أن يكون أحب العباد إليه، وإذا جلس في مجلس الذكر تمنى ورجا من الله عز وجل أن يكون أكثر الناس فوزاً برحمة الله عز وجل، وإذا قال أو عمل أو سلك أي طريق من الخير دخله وفي قلبه من حسن الظن بالله تعالى وحسن الرجاء في الله تعالى ما يبلغ به مقامات الخير، فإذا لم يكن بعمله فبنيته. والشخص قد يدخل في حلقة، أو يفعل طاعة، أو يأتي في أمر من أمور الخير والطاعة والبر ويشترك مع الأمة، فيدخل المسجد ويصلي مع الجماعة، ويخرج من المسجد حينما يدخل وهو يرجو أن يكون أفلح الناس، وكأنه حينما يدخل المسجد منكسر القلب يقول: يا رب! لا تجعلني أشقى القوم، اللهم لا تحل بيني وبين رحمتك بسبب ما كان من ذنبي وتقصيري، فيدخل منكسر القلب، فيرفعه الله تعالى بهذا الانكسار، ويفتح عليه من الخشوع والقرب والدنو والإنابة إلى الله عز وجل الخير الكثير، فإذا أراد أن يخرج خرج بالانكسار أيضاً، وخرج وهو يظن أنه أحقر الناس، وأنه أقل الناس، فلا يزال بهذا الاحتقار يرفع إلى درجات. والعكس، فربما دخل -والعياذ بالله تعالى- وهو لا يفكر في شيء إلا أن يؤدي الصلاة، فيدخل وقلبه خاو -والعياذ بالله تعالى-، ثم إذا خرج ظن أنه كطالب علم، أو كأنه بلغ منزلةً من منازل العبادة، وأنه ليس بالحال التي يعتقد فيها البعد عن الله تعالى، فلا يزال في سفال من الله عز وجل. فإذا جئت للعبادة قائلاً: يا رب! لا تجعلني أشقى القوم، فمعناه: أنك تستشعر أن لله تعالى عليك حقاً، أن تقف بين يديه أكمل الوقوف، وأن تخشع بين يديه كمال الخشوع، فلما استشعرت أن لله تعالى عليك هذا الحق جاهدت نفسك قبل العبادة، ثم احتقرت نفسك وانتقصتها بعد العبادة، فبلغك الله تعالى بهذا مقام العابدين. وإذا لم يكن عندك هذا الشعور كإنسان صالح تقي، فقد جاءك بالنذر، فأنت حينما تحس أنه نذرٌ عليك، وبينك وبين الله عز وجل أن تكون في هذا المقام الصالح على أكمل ما يكون عليه أهلُ العبادة قولاً وعملاً واعتقاداً، فكلما قصرت احتقرت نفسك، فنحن نريد هذا الشعور أن يبقى معك، ونريد أن هذا الأمر يبقى ملزماً لك لتكون في أعلى المقامات، واستعن بالله تعالى ولا تعجز، فإنه ليس بينك وبين الجنة شيء، فإنها أقرب إليك من شراك نعلك، وليس بينك وبين النار شيء، فإنها أقرب إليك من شراك نعلك، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما هي إلا الأعمال والأقوال تدني إلى ذي العزة والجلال، أو تنتهي إلى خسارة ووبال، والمعصوم من عصمه ذو العزة والجلال. فعلى العبد أن يتقي الله عز وجل، وأن يحرص دائماً -سواءٌ نذر أم لم ينذر- على أن يكون في أكمل المقامات، فإذا دخل بيته رجا من الله تعالى أن يكون أبر الناس بوالديه، وأكمل والد لولد، وأعطفهم وأرحمهم على ذريته ومن ولاه الله تعالى عليه من رعيته، ثم إذا جاء إلى عمله طمع من ربه أن يجعله في وظيفته وعمله ومكتبه على أحسن ما يكون من تحمل الأمانة والقيام بها، فيرعاها حق رعايتها، ويسأل الله تعالى أن يجعله موفقاً مسدداً، وهكذا ينتقل من بر إلى بر، ومن خير إلى خير، فيخوض في الرحمات، ويفوز بأعالي الدرجات، حتى ينتهي به الحال والأمر إلى الجنات. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل إنه ولي ذلك والقادر عليه.

باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس [1]

شرح زاد المستقنع - باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس [1] ينقسم القصاص إلى: ما يتعلق بالنفس، وما يتعلق بما دون النفس، ومما يتعلق بما دون النفس: القصاص في الأطراف؛ كاليد والرجل والعين والأذن ونحوها، فإذا جنى الجاني على المجني عليه بقطع شيء من ذلك قطع منه مثل الذي قطع سواء بسواء، وهناك شروط لابد من توافرها حتى يحكم بالقصاص في الأطراف.

أقسام القصاص

أقسام القصاص بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس]. ترجم الإمام المصنف رحمه الله بهذه الترجمة، والتي قصد بها أن يبين أن هذا الموضع مختص بالقصاص فيما دون النفس، وقد تقدم معنا أن القصاص ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: يتعلق بالقصاص في الأنفس، وذلك بالاعتداء على الأرواح بإزهاقها. القسم الثاني: يتعلق بالقصاص فيما دون النفس. والذي دون النفس ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون الجناية على الأطراف، ويكون القصاص في الأطراف. القسم الثاني: أن تكون الجناية في غير الأطراف من الجروح والكسور ونحو ذلك. فإن كانت الجناية في الأطراف فتنقسم إلى قسمين أيضاً: الأول: أن تكون الجناية على الأطراف بقطعها وبترها، مثل أن يقطع يده، أو يقطع رجله، أو يقطع أذنه، أو يفقأ عينه، ونحو ذلك. الثاني: أن تكون الجناية على الطرف بإتلاف منفعته، مثل أن يجني عليه فيضربه ويلطمه لطمة تذهب نور بصره، فلا يبصر ويصبح كفيف البصر، أو يزول الإبصار من إحدى عينيه دون الأخرى، فهنا العين موجودة، ولكن الجناية أثرت في منفعة العين وهي الرؤية، أو يضربه على أذنه فيذهب السمع والأذن موجودة، فالطرف لم يتضرر ولم يذهب بل هو موجود، ولكن الجناية أثرت في منفعة هذا الطرف، فهذا مجمل الجنايات. فالمصنف رحمه الله بعد أن فرغ من بيان القصاص في النفس أراد أن يبيّن القصاص فيما دون النفس، وهذا ترتيب منطقي عند العلماء، وهو التدرج من الأعلى إلى الأدنى، وهذا له دليل من الكتاب، فإن الله تعالى يقول: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45]، فابتدأ الله بالأنفس، ثم بعد ذلك بالأطراف، فابتدأ بما هو أعظم. ومن هنا سلك الفقهاء رحمهم الله هذا المسلك، فابتدءوا بالقصاص في النفوس، وبيان متى يجب القتل قصاصاً ويثبت القود لمستحقه، ثم بعد ذلك شرعوا فيما يتعلق بالأطراف والجنايات بالجروح، والله عز وجل جاء بالثلاثة الأنواع فقال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45]، فجعل القصاص في هذه الأمور إما في النفس، وإما في الأطراف، وإما في الجروح، وهذا من بديع القرآن، وهو تدرج من الأعلى إلى ما هو أدنى منه. فالمصنف رحمه الله يريد أن يبين لنا في هذا الموضع القصاص في الأطراف وفي الجروح، فقال رحمه الله: (باب القصاص فيما دون النفس)، أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بثبوت القصاص في الجناية إذا كانت لا تصل إلى حد إزهاق النفس، ويستوي في ذلك أن تكون جناية بإتلاف الأطراف أو منافعها، أو جناية بالكسر، أو جناية بالجروح.

ما يقاد به في النفس يقاد به في الأطراف والجراحات

ما يقاد به في النفس يقاد به في الأطراف والجراحات قال رحمه الله تعالى: [من أُقيد بأحدٍ في النفس أُقيد به في الطرف والجراح]. هذه قاعدة في القصاص في الأطراف، وعلى هذا فلا بد من وجود -أولاً- العمد والعدوان، فلا نحكم بالقصاص على رَجُل قطع يَد رَجُلٍ إلا إذا كان القاطع قاصداً للجناية وقاصداً للإتلاف. فلو أن شخصاً أغلق باب بيته ولم ينتبه لمن كان واقفاً، فقطع الباب يد رجلٍ، فهذا خطأٌ لا قصاص فيه؛ لأنه ليس هناك موجب القصاص وهو العمد العدوان، وقد تقدم معنا هذا، وبينّا متى تكون الجناية عمداً، ومتى تكون خطأً، ومتى تكون شبه عمد، وبينا الضوابط في هذا من خلال الأدلة النقلية والعقلية. ولو جنى عليه جناية أضرت بالطرف أو منفعته، أو أوجبت جرحاً أو كسراً، فإننا لا نحكم بالقصاص إلا إذا كان الجاني مكلفاً، فلو أن مجنوناً أقدم على ضرب شخص فقطع رجله، أو قطع يده، أو فقأ عينه، أو قطع أذنه فلا قصاص؛ لأن المجنون غير مكلف، ولو أن صبياً اعتدى على بالغ فقطع رجله، أو قطع يده، فعمد الصبي والمجنون خطأ، وقد تقدم معنا هذا. وكذلك يشترط أن يكون المجني عليه معصوماً، فإذا قطع المسلم يد المسلم عمداً عدواناً قُطعت يد الجاني، وإذا قطع أذنه قطعت أذنه، ولو أن كافراً قطع يد مسلم عمداً عدواناً قُطعت يده، ولو أن رقيقاً قطع يد الحر عمداً عدواناً قطعت يده، على تفصيل عند الفقهاء رحمهم الله. فما تقدم معنا في شروط القصاص في النفس كذلك هو شرط في القصاص في الأطراف والجروح، فلابد من وجود العصمة للمجني عليه، ووجود التكليف في الجاني، وقصد العمد والعدوان في الجناية، وألا يكون المجني عليه بعضاً مثلما ذكرنا، وألا يوجد موجب لسقوط القصاص، وبناءً على ذلك: لو أن امرأة قطعت يد رجل قطعت يدها، ولو أن رجلاً قطع يد امرأة قطعت يده، ولو أن جماعة قطعوا يد رجل ظلماً وعدواناً، واشترك الجميع في فعل القطع قطعت أيديهم، لكن لو أن أحدهم قطع أصبعاً، والثاني قطع الأصبع الثاني، والثالث قطع الأصبع الثالث، والرابع والخامس. قطعنا من كل واحد مثل الأصبع الذي قطعها. إذاً: لابد من وجود الأصول التي قررناها في القصاص في النفس، واستيفاء الشروط المعتبرة للحكم بثبوت القصاص؛ لأن الله عز وحل شرع لعباده القصاص، وهذه الشرعية من الله سبحانه وتعالى جاءت بغاية العدل الذي تمت كلمة الله عز وجل به كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115]. فلا بد من تحقق هذه الأمور لكي نوجب القصاص في الجناية على الأطراف، مثلما قررنا في الأنفس كذلك نقرر في الأطراف. قال رحمه الله: [ومن لا فلا]. أي: لو أن والداً قطع يد ولده، لم تقطع يد الوالد، كما أنه إذا قتله لم يُقتل به، على التفصيل الذي تقدم معنا، ولو أن مسلماً قطع يد كافر لم تقطع يد المسلم؛ لأن الذي قطعت يده ليس بمعصوم. قال رحمه الله: [ولا يجب إلا بما يوجب القود في النفس]. أي: ولا يجب القصاص إلا بما يوجب القود في النفس، وقصده في الأول من جهة الأفراد، وفي الثاني من جهة الشروط، من وجود العصمة، وثبوت الجناية العمد العدوان، والمكافأة. إلى غير ذلك مما ذكرناه في القصاص في النفس.

القصاص في الأطراف

القصاص في الأطراف قال رحمه الله: [وهو نوعان: أحدهما في الطرف]. أي: القصاص فيما دون النفس نوعان، وهذان النوعان منتزعان من القرآن؛ لأن القرآن قسّم الجناية على ما دون النفس إلى قسمين: الأول: جناية على الأطراف. الثاني: جناية على الجسد بالجروح والشجاج والكسور، وجمع الله النوعين في قوله: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] فَمِنْ قوله تعالى: (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) يبدأ القصاص في الأطراف، ثم قوله تعالى: (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ)، جمع فيه الجناية على العين بالذات، والجناية على منفعتها بإذهاب البصر، ومن هنا يقتص بإتلاف العضو قائماً، وإتلاف منفعته، على التفصيل الذي سنبينه إن شاء الله تعالى.

القصاص في ذهاب العين كلها أو منفعتها

القصاص في ذهاب العين كلها أو منفعتها قال رحمه الله: [فتؤخذ العين والأنف والأذن والسن والجفن والشفة واليد والرجل والأصبع والكف والمرفق والذكر والخصية والإلية والشفر كل واحد من ذلك بمثله]. قوله: (فتؤخذ العين) أي: فتؤخذ العين بالعين؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة:45]، فالعين الأولى عين الجاني، تؤخذ بالعين الثانية التي هي عين المجني عليه، فالله عز وجل أوجب علينا أن نفقأ عين الجاني كما فقأ عين المجني عليه، وأن نتلف بصر عين الجاني كما أتلف بصر عين المجني عليه، وأن يكون هذا على سبيل المماثلة بالشروط التي سيبينها المصنف رحمه الله، بما يتحقق به العدل وتتحقق به المساواة، وأن لا يكون فيه جور ولا ظلم. والعين: العضو المعروف، ويستوي أن تكون العين المقتص منها مماثلة للعين وغير مماثلة، فالعين الكبيرة بالعين الصغيرة، والعين الصغيرة بالكبيرة، والعين الجميلة بالعين ناقصة الجمال، والعين الكحلاء بالزرقاء، والزرقاء بالكحلاء، وتؤخذ العين بالعين على العموم الذي ذكره الله عز وجل في كتابه، لكنه مقيد بضوابط تتحقق بها المساواة ويحصل بها التماثل. فإذا جنى الجاني على عين المجني عليه كلاً، فقلع العين كلها، قلعت عينه كما قلع عين المجني عليه، بشرط أن يؤمن الحيف، على تفصيل سيذكره المصنف رحمه الله في الشروط. ولو أنه ضربه ضربة أذهبت منفعة العين وأبقت العين، مثل اللطمة، ففي هذه الحالة يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه، ومن العلماء من قال: يلطم، فإن ذهب نور بصره حصل العدل، وإن لم يذهب نور بصره أذهب هذا النور بالعلاج، فيقطر في عينه من الدواء ما يذهب نور البصر، كما أذهب نور بصر غيره. وهذه المسألة فيها قضاء عن الصحابة وشبه إجماع؛ لأنه لم يخالف فيها أحد، وحاصله: أن عثمان رضي الله عنه كان عنده مولى، فجاء رجل من الأعراب بجلب إلى السوق يريد أن يبيعه، فأخذ وأعطى مع هذا المولى، وكان المولى شديداً، فوقعت بينهما خصومة، فقام المولى وضرب الأعرابي ضربة أذهبت نور عينه، وأضرت بالمنفعة والعين قائمة، فوصل الخبر إلى عثمان رضي الله عنه، فنادى الأعرابي، وعرض عليه أن يعطيه ضعف الدية حتى يسامح ويتنازل، فأصر الرجل على حقه، فلما أصر على حقه رفعهما إلى علي رضي الله عنه، فأمر علي أن تحمى حديدة فأحميت، وأمر أن تكف العين الثانية التي هي خارج الجناية وأن تستر، ثم وضع الحديدة أمام العين حتى سالت وذهب بصرها، ففعل به مثلما فعل بالجاني من إذهاب بصره. وهذا الفعل من علي رضي الله عنه شبه إجماع لم ينكره أحد من الصحابة، وهو خليفة راشد وبمحضر عثمان رضي الله عنه، وفي حال حياته، ولم ينكره أحد. ولذلك فبعض الفقهاء يقول: إنه إذا لطمه وأذهب بصر العين فإنه لا يلطمه؛ لأن اللطم لا يؤمن معه الحيف، واللطمة عن اللطمة تختلف، ولا نستطيع أن نضبط اللطمة بقدر تتحقق به المساواة، فقالوا: في هذه الحالة ذهاب المنفعة، فنذهب منفعة عينه كما أذهب منفعة عين أخيه. فمنهم من قال بالدواء، مثلما ذكر بعض الأئمة من تقطير الكافور ونحوه مما يذهب البصر، ولكن يشترط إذا عُولجت العين بالدواء ألا يؤذي هذا الدواء داخل البدن؛ لأنه زيادة على الجناية فلا يجوز. وفعل علي رضي الله عنه أخرج الأمر عن الإشكال؛ لأنه جاء بالحديدة محماة ثم وضعت أمام العين حتى سالت وذهب نور الإبصار فيها، وما أحرق بها العين، وحينئذٍ تلافى الضرر بتقطير الدواء؛ لأن تقطير الدواء لا يؤمن معه الضرر كما لا يخفى. وعلى هذا انعقدت كلمة الصحابة رضي الله عنهم، فإنه لا يعرف مخالف لـ علي رضي الله عنه في هذا، ولـ عثمان في سكوته على هذا القضاء. ويستوي في ذلك أن تكون العين المجني عليها قوية الإبصار والجانية ضعيفة، أو العكس، فتؤخذ العين قوية الإبصار بالعين الضعيفة، ما دام أنه يبصر بها، ومنفعة الإبصار موجودة، فتؤخذ منفعة عينه كما أخذ منفعة عين أخيه، هذا بالنسبة للعين.

القصاص في الجناية على الأنف

القصاص في الجناية على الأنف قوله: (والأنف) الأنف: هو العضو المعروف في الوجه، فلو جنى على الأنف جناية فقطع بها الأنف، كما لو اختصما فأخذ الجاني سكيناً فقطع أنف الآخر، والقطع يكون لما لان من الأنف وهو المارن، فإذا جدع الأنف وقطعه جدع أنفه بأنف أخيه، لقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ} [المائدة:45]. ويستوي في ذلك أن يكون الأنف كبيراً وأنف المجني عليه صغيراً، أو أن يكون الأنف طويلاً والآخر أفطس أو قصيراً، فما دام أنه قد أخذ هذا العضو وجدعه من أخيه جُدع أنفه، سواءٌ ماثله في صفات الكمال أم لم يماثله، ولو كان المجني عليه لا يشم بأنفه، فحاسة الشم عنده غير موجودة، وجاء جانٍ فقطع أنفه، والجاني يشم وحاسة الشم عنده موجودة، فيقطع أنفه؛ لأن العبرة بالجرم، ومسألة أن يشم أو لا يشم أمر متعلق بالدماغ في تلك المنفعة، لكن الجناية وقعت على الطرف نفسه، فمادام قد قطع الأنف يقطع أنفه، بغض النظر عن كون الأنف المقطوع يشم به أو لا يشم، وإنما المراد أنه مثّل بأخيه المسلم، ثم إنه إذا قطع أنفه لم تذهب حاسة الشم من كل وجهه؛ لأن حاسة الشم متعلقة بالدماغ، فيقطع أنفه كما قطع أنف أخيه، ويُجدع أنفه كما جدع أنف أخيه. وهذا لقوله تعالى: {وَالأَنفَ بِالأَنفِ} [المائدة:45]، فأمر الله بالقصاص في الأنف، سواءٌ استوى الأنفان في الطول والقصر -كما ذكرنا- أم اختلفا، فكما أنه أزال العضو بكامله يزال عضو الأنف منه بكماله وتمامه.

الأذن والخلاف في القصاص بالمتحشفة

الأذن والخلاف في القصاص بالمتحشفة قوله: (والأذن) أي: يجب القصاص في الأذن، فتؤخذ أذن الجاني إن قطع أذن المجني عليه، وذلك لقوله تعالى: {وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} [المائدة:45]، فأمر الله بالقصاص في طرف الأذن، وأوجب علينا أن نقطع أذن الجاني كما قطع أذن المجني عليه، سواءٌ اتفقت صفات الأذن طولاً وقصراً وجمالاً ونقصاً في الجمال أم اختلفت. ولكن عند العلماء خلاف في الأذن المتحشفة، وهي التي تيبست من المرض حتى صارت مثل خسف التمر، فإذا جنى الجاني على أذن متحشفة، وأذن الجاني سليمة، فهل تقطع أذن الجاني أو لا؟ في ذلك وجهان للعلماء رحمهم الله تعالى: فمنهم من قال: إن كونها متحشفة لا يمنع منفعة السمع؛ لأن صوان الأذن يحفظ الأصوات ويعين على السماع، فقطع أذن الجاني مثلما قطع أذن المجني عليه؛ لأن المعنى فيهما واحد، وهذا في الحقيقة أقوى الوجهين وأصحهما وأولاهما بالصواب إن شاء الله؛ لأن العبرة بصوان الأذن كما لا يخفى، وهذا معروف؛ لأن الأذن إذا تحشفت يبست، ولكن الجرم موجود والسماع موجود، والانتفاع بالمتحشفة موجود كالانتفاع بغير المتحشفة. وكما أننا نقتص من صاحب الأذن الكبيرة بالأذن الصغيرة لوجود الخلقة، فالمتحشفة في حكم الأذن الصغيرة، ولكن المنفعة موجودة وهي السماع، ولأن الله عمم فقال: {وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} [المائدة:45]، وهذا عام يدل على أننا نقتص ممن قطع الأذن على الصفات التي ذكرناها. فإذا نظرنا إلى الأذن ففيها منفعة وهي السمع، وفيها الجرم والذات المتعلقة بالطرف، فإذا كانت الجناية على طرف الأذن أخذت أذن الجاني بأذن المجني عليه.

القصاص في الجناية على السن

القصاص في الجناية على السن قوله: (والسن). أي: وتؤخذ السن بالسن، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أن الربيع بنت النضر رضي الله عنها وعن أبيها، اختصمت مع امرأة فاعتدت على سنها، فبلغت القضية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء أنس بن النضر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: كتاب الله القصاص -أي: تكسر ثنية الربيع كما كسرت ثنية أختها في الإسلام-، فقال أنس بن النضر رضي الله عنه: لا والله لا تكسر ثنية الربيع، -قالها من محبته، والإنسان تدركه الشفقة، وقد كان رجلاً صالحاً، ومن خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطمع من الله أن لا تكسر ثنية الربيع - فتنازل أهل المجني عليها، فقال صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) فما ذهبت يمينه. فالشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص)، والله يقول في كتابه: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45]. وعلى هذا فلو أنه اعتدى على سن أو أكثر فقلعها من المجني عليه قُلع مثلها من الجاني، وأخذ بجنايته مثلاً بمثل، كما أمر الله تعالى.

القصاص في الجناية على الجفن والشفة

القصاص في الجناية على الجفن والشفة قوله: [والجفن] أي: جفن عين الجاني يُؤخذ بجفن عين المجني عليه، فنأخذ من الجاني جفنه، ولو أنه اعتدى فقطع الجفن الأعلى والجفن الأسفل من المجني عليه قطعنا من عينه مثلما قطع، وهذا -كما ذكرنا- بشرط أمن الحيف، وكما يقع القصاص في الطرف كاملاً يقع في جزء الطرف، فلو أن الجاني قطع يد المجني عليه كاملة من المنكب، فإننا نقطع يد الجاني من مفصل الكتف، مثلما قطع يد المجني عليه. ولو أنه قطع جزء اليد فقطع الأصابع قطعنا أصابعه، ولو قطع من مفصل الكف مع الساعد قطعنا يده من مفصل الكف مع الساعد، ولو أنه قطع من مفصل المرفقين قطعنا من مفصل المرفقين، فيكون القصاص في كل الطرف وفي جزء الطرف، لكن بشرط أمن الحيف -كما سيأتي-، ويكون له موضع يمكن أن تتحقق به المساواة ويتحقق به العدل. قوله: [والشفة] أي: لو أنه قطع شفة المجني عليه السفلى أو العليا قطعنا شفته السفلى إن كانت الجناية في السفلى، وإن كانت في العليا قطعنا العليا، وإن قطعهما قطعناهما منه، مثلاً بمثل سواءً بسواء؛ لأن الله أمرنا بالقصاص، فلما ذكر الله عز وجل العين والأنف والأذن والسن نبه بما ذكر على بقية الأعضاء، فلا يأتي شخص ويقول: القصاص في هذه الأعضاء المذكورة فحسب، فإن الله عز وجل ينبه بالمثل على مثيله، وبالشيء على نظيره وشبيهه، فكما أن الجاني إذا جنى على الأذن قطعنا أذنه، كذلك إذا جنى على اليد قطعنا يده، وإذا جنى على الرجل قطعنا رجله مثلاً بمثل سواءً بسواء؛ لأن الله قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178]، وقال: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45]، فجعل الأمر راجعاً إلى المقاصة والمماثلة، فكما أنها تقع في الأنفس تقع كذلك في الأطراف.

القصاص في الجناية على اليد

القصاص في الجناية على اليد قوله: (واليد) أي: تقطع يد الجاني باليد وهي يد المجني عليه، وننظر في جنايته على اليد، فإن كانت على اليد كلاً بأن قطع بالسكين يد المجني عليه من مفصل الكتف -والعياذ بالله- فإننا نفعل به مثلما فعل بالمجني عليه، سواءٌ أكانت يده طويلة أم قصيرة، وسواءٌ كانت يده ذات قيمة أم لم تكن، كيد الصناع الذي له حرفة، فيده لها أثر ولها قيمة. فإذا قطع رجل أو ذو صنعة يد رجل لا صنعة له فقالوا: تقطع أيدي أصحاب الحرف بأيدي من لا حرفة له؛ لأن الإسلام سوى بينهم، وتقطع يد الجاهل بالعالم، وتقطع يد الوضيع بالشريف، والضعيف بالشريف، ويد القوي تقطع بيد الضعيف، عدلاً من الله عز وجل، فمثلما فعل بأخيه يفعل به، وقد سوى الإسلام بينهما، فإذا قطعها كلاً قطعت يده كلها، وإذا قطعها من مفصل يمكن القطع منه دون حيف وجور، قطع من مفصل الكف، وكذلك من مفصل المرفق، وهكذا.

القصاص في الجناية على الرجل

القصاص في الجناية على الرجل قوله: (والرجل) أي: تقطع الرجل بالرجل، فلو أنه اعتدى على رجل المجني عليه فقطعها من الكعبين، قطعنا رجله من الكعبين، أو قطع رجله اليمنى قطعنا رجله اليمنى، أو قطع رجله اليسرى قطعنا رجله اليسرى، مثلاً بمثل سواءً بسواء، سواءٌ أكانت الرجلان على صفة واحدة طولاً وقصراً أم لا، فلو كانت رجل الجاني طويلة ورجل المجني عليه صغيرة، قطعنا الرجل الطويلة بالصغيرة، والعكس؛ لأن المراد الاتحاد في العضو وقد حصل، والعدل يتحقق بأخذ هذا العضو بمثله ممن اعتدي عليه.

القصاص في الجناية على الأصبع

القصاص في الجناية على الأصبع قوله: (والأصبع): أي: ولو قطع الأصبع قطعنا أصبعه، فيقطع أصبع الجاني بأصبع المجني عليه، سواءٌ أكان من أصابع اليد أم من أصابع الرجل، ولا بد من العدل في هذا، فإذا قطع الخنصر قطعنا خنصره بخنصر المجني عليه، ولو قطع البنصر قطعنا بنصره، ولو قطع الوسطى قطعنا الوسطى منه مثلاً بمثل، ولو اجتمع جماعة -كما ذكرنا- فقطع بعضهم الخنصر والثاني البنصر والثالث الوسطى والرابع السبابة والخامس الإبهام، قطعنا من كل شخص مثلما قطع. فإن اجتمعوا كلهم وأخذوا حديدة، أو قاموا بتحريك جهاز كلهم اشتركوا في تحريكه وإدارة الفعل الذي يكون به قطع الرجل، فحسمت الرِّجلُ كلها، أو حسمت الأصابع كلها، أو حسمت اليد كلها، حسمنا من الجماعة جميعاً أيديهم، وحسمنا أرجلهم مثلما يقع من الجناية على المجني عليه؛ لأن كل واحد منهم لو انفرد ففعله موجب للقطع. وهذا كما ذكرنا في القصاص في النفس أن الجماعة لو اشتركوا في فعل لو انفرد الواحد منهم به قتل، فإنهم كلهم قتلة فيقتلون بالمقتول، وبينّا دليل ذلك، والأصل في هذا قضاء الصحابة رضوان الله في السنة العمرية من الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الراشد رضي الله عنه، وإقرار الصحابة على هذا.

القصاص في الجناية على الكف والمرفق

القصاص في الجناية على الكف والمرفق قوله: (والكف) أي: وكذلك الكف، والكف سمي كفاً؛ لأنه تكف به الأشياء، وحد الكف من أطراف الأصابع إلى الزندين، فهذا يمسى كفاً، وبطنه تسمى الراحة، فلو أنه قطع الكف قطعنا كفه، فإن قطع كف اليمنى قطعنا كفه اليمنى، وإن قطع كفه اليسرى قطعتا كفه اليسرى. وقوله: (والمرفق) سمي المرفق مرفقاً؛ لأنه يرتفق عليه، أي: يتكأ عليه، والمرفق: هو مفصل الساعد مع العضد، فالعظم الذي بين زند الكف وبين العضد يقال له: الساعد، وما بين مفصل المرفق ومفصل الكتف يقال له: العضد، فإذا قطع اليد إلى المرفقين قطعنا يده إلى المرفقين، وإذا قطعها إلى الكوع قطعناها إلى الكوع، وهكذا.

قطع الذكر والخصية أو تعطيل منافعها

قطع الذكر والخصية أو تعطيل منافعها قوله: (والذكر) إذا جنى عليه بقطع ذكره، فقد أجمع العلماء رحمهم الله كلهم على أنه يقتص من الجاني، فيقطع ذكره كما قطع ذكر المجني عليه، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45]، وهذا بإجماع العلماء، كما حكاه الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني؛ أنه يجب القصاص بإجماع أهل العلم في قطع الذكر، سواءٌ أقطعه كاملاً مع الخصيتين، أم قطع العضو وحده دون الخصيتين، فيُقطع منه مثلما قطع من المجني عليه، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص)، فكما أنه جنى هذه الجناية على أخيه المسلم فإنه يفعل به مثلما فعل به. وقوله: (والخصية) كذلك لو أنه جنى على خصيته، فإذا جنى على خصيته فقطعها قطعنا منه مثلما قطع، وهذا كله بشرط أمن الحيف، أي: أن يكون القطع بطريقة يمكن أن يقتص منه فيها، ولا تكون هناك زيادة عند القصاص، أما إذا لم تؤمن الزيادة فلا، وهذا سيأتي إن شاء الله تعالى في الشروط. ولو جنى عليه جناية في خصيته عطلت منافعه فأصبح عقيماً، فيفعل به مثلما فعل بالمجني عليه إذا أمكن ذلك وأمن الحيف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص)، وكذلك لو اعتدى عليه فعطل منفعة الذكر فأصبح لا ينتشر، فيفعل به من الدواء ما يمنع انتشار ذكره، فيستعمل منه مثلما استعمل من أخيه.

القصاص في الجناية على الإلية

القصاص في الجناية على الإلية قوله: (والألية) وكذلك لو أنه قطع إلية أخيه، فإنه تقطع إليته، ولو قطع الإليتان قطعت منه الإليتان، ويستوي أن يتفقا في حجم الإلية أو يختلفا، كما لو كان أحدهما سميناً ذا شحم فإنه يؤخذ النحيف بالسمين والسمين بالنحيف؛ لأن المراد المساواة في العضو، فما دام أن هذا الجزء قطع فيقطع من الجاني مثله، وهذا كله -كما ذكرنا- بشرط أمن الحيف، وهذه المواضع ليست كالكف، وليست كالمرفق لها مفصل معين، بل تحتاج إلى نظر في الجناية، والرجوع إلى أهل الخبرة والأطباء في تقرير المماثلة والقصاص. فإن قالوا: تمكن المماثلة حكمنا بالقصاص، وإن قالوا: لا يمكن، فحينئذٍ لها شأن آخر يأتينا إن شاء الله في حال عدم أمن الحيف.

القصاص في الجناية على شفر المرأة وشرط اتحاد الجنسين في الأعضاء التناسلية

القصاص في الجناية على شفر المرأة وشرط اتحاد الجنسين في الأعضاء التناسلية قوله: (والشَفر) الشفر في فرج المرأة، فإذا اعتدت امرأة على امرأة فقطعت شفريها قُطع منها الشفران، ولو قطعت أحد الشفرين الذي هو جانب الفرج الأيمن أو الأيسر قُطع منها مثلما قطعت من أختها، وهذا بالنسبة لاتحاد الجنس. أما إذا كان الجاني رجلاً فلا يمكن أن يتحقق التماثل، ومثل هذا لا تستطيع أن تحكم فيه بالقصاص، فيشترط اتحاد الجنسين -أي الجاني والمجني عليه- بالنسبة للأعضاء التناسلية. ولكن هنا مسألة أخرى وهي: لو أنه اعتدت امرأة على خنثى مشكل، فإن الخنثى إذا أشكل فرجه فليس أصلياً، وحينئذٍ فهناك نزاع بين العلماء رحمهم الله، أما إذا تبيّن وكان فرجاً أصلياً، فبعض العلماء يرى أن الخنثى إذا صار ذكراً صار الشفر وفرج الأنثى فيه عضواً زائداً، وحينئذٍ تأتينا مسألة قطع الأصلي بالزائد، والزائد بالأصلي، وسيكون تفصيله -إن شاء الله- في موضعه. وكذلك إذا استبانت أنثى وكانت الجناية على عضو الذكر فنفس الحكم؛ لأنها لما تمحضت أنثى وتبين أن الخنثى وجدت فيه علامات على كونه امرأة، فحينئذٍ عضو الذكر فيها زائد، فيكون كالجناية على العضو الزائد. وقوله: (كل واحد من ذلك بمثله) أي: يؤخذ كل واحد مما تقدم من العين والأنف والأذن والسن والذكر والخصية والإلية والجفن وغيرها مما ذكره رحمة الله عليه بمثله، وعلى هذا فلابد من اتحاد الأعضاء، فلا تؤخذ اليد بالرجل، ولا تؤخذ العين بالأذن، ولو كان المأخوذ أقل منفعة مما أُخذ، فلابد من الاتحاد والتماثل، ولا يجوز اختلاف الموضعين، وهذا محل إجماع، فلو اعتدى على يده وكانت يدي الجاني مقطوعة بأن قطعت بعد الجناية، سقط القصاص؛ لأنه لا يمكن الاتحاد والتماثل. وكذلك لو اعتدى على رجله فقطعت رجله قبل أن يقتص منه، فلا يمكن القصاص، ولا يجوز أن يقتص من يده مثلاً. ومن هنا قال رحمه الله: (كل واحد من ذلك بمثله)، فلابد من وجود التماثل بين عضو الجاني وعضو المجني عليه.

شروط القصاص في الأطراف

شروط القصاص في الأطراف قال رحمه الله: [وللقصاص في الطرف شروط] الشروط: جمع شرط، وهذه الشروط إذا وجدت حكمنا بالقصاص، وإذا فقدت أو فقد بعضها لا يُحكم به.

الشرط الأول: الأمن من الحيف

الشرط الأول: الأمن من الحيف قال رحمه الله تعالى: [الأول: الأمن من الحيف] معنى الأمن من الحيف أي: من الزيادة في القصاص على مقدار الجناية، والدليل على ذلك أن الله تعالى أوجب القصاص؛ كما نص على ذلك دليل الكتاب، ودليل السنة الصحيحة في قوله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص)، ولا يمكن أن يتحقق القصاص مع وجود الزيادة؛ لأن الجاني حينها يكون مظلوماً، ومن هنا قالوا: لو أنه قلع عينه، وغلب على الظن أننا لو قلعنا عينه بالطريقة التي قلعها الجاني أننا سنزيد ولا نأمن أن تحدث مضاعفات، وقد يموت الجاني، ففي هذه الحالة لا يقتص؛ لأن الجناية التي فعلها الجاني لا يمكننا أن نفعل مثلها بالجاني، وحينئذٍ لا يتحقق القصاص الذي أوجب الله عز وجل وفرضه. وعلى هذا إذا لم تُؤمن الزيادة، ولم يُؤمن الحيف، فإنه لا يجب القصاص. قال رحمه الله: [بأن يكون القطع من مفصل]. هذا تفصيل وتفسير لما تقدم، فالأمن من الحيف يتحقق بوجود نهاية للعضو المجني عليه، فيمكننا عند القطع أن نصل إليها، فإذا قطع كفه فعندنا مفصل الكف، وإذا جئنا نقطع كف الجاني فإننا نأمن الزيادة؛ لأن عندنا حداً واضحاً نقف عنده، فحينئذٍ القطع فيه أمن من الحيف والزيادة، فيجب حينئذٍ القصاص ويثبت، ولذلك قال رحمه الله: [أو له حد ينتهي إليه]، وذلك مثل أن يكون له مفصل كالكف والأصابع، فلو أنه أخذ أنملة من أصبع فإنه يمكن أن تؤخذ نفس الأنملة من الجاني؛ لأن لها مفصلاً، فيمكن تحقق المساواة، وحصول العدل المطلوب بالقطع والبتر والإبانة من هذا المفصل. قال رحمه الله: [كما رن الأنف وهو ما لان منه]. أي: كما في مارن الأنف، فلو أخذه بسكين فجدعه جدعنا المارن من الجاني، وحينئذٍ يتحقق العدل وتحقق المساواة.

الشرط الثاني: المماثلة في الاسم والموضع

الشرط الثاني: المماثلة في الاسم والموضع قال رحمه الله: [الثاني: المماثلة في الاسم والموضع]. أي: يشترط أن يتماثلا في الاسم ويتماثلا في الموضع؛ لأن أصل القصاص المساواة والتماثل، فإذا اختلف الاسم واختلف الموضع فإنه لا قصاص، فإذا أخذ الجاني يد المجني عليه اليسرى فيجب أن نأخذ يده اليسرى، وحينما يأخذها من مفصل الكف نأخذ من مفصل الكف، وهكذا. ولا يجوز أن تؤخذ اليسرى باليمنى ولا اليمنى باليسرى؛ إذ لابد من التماثل في الاسم والموضع. ولذلك قال رحمه الله: [فلا تُؤخذ يمين بيسار ولا يسار بيمين]. ولو أنهما تراضيا على ذلك، فنقول: لا، حتى ولو تراضيا، فلا تؤخذ اليد إلا بمثلها مستوية في الاسم والموضع؛ لأن موضع اليد اليمين ليس كموضع اليد الشمال، والجناية في موضع اليمين ليست كالجناية في موضع الشمال، وأخطر ما تكون الجناية في اليسار؛ لأنها جهة النزف للقلب، وأكثر المنافع في اليمين؛ لأن اليمين غالباً يكتب بها، ويتعاطى بها الأشياء المنتفع بها الصالحة والطيبة. فعلى كل حال موضع اليمين ليس كموضع اليسار، واسم اليمين ليس كاسم اليسار، فلا تؤخذ يد يسرى بيد يمنى ولا العكس. قال رحمه الله: [ولا خنصر ببنصر]: أي: ولا يؤخذ الخنصر بالبنصر، فلو قطع الخنصر - وهو الأصبع الصغير- من المجني عليه، فقال الجاني: اقطعوا بنصري، فنقول: لا يقطع إلا الخنصر الذي قطعت مثله، وسواءٌ أوجد الخنصر أو أم يوجد، فإن لم يوجد الخنصر وقال: اقطعوا البنصر، فنقول: لا يقطع إلا ما قطعت، ولا يبتر إلا ما بترت، ولا يجدع إلا ما جدعت. قال رحمه الله تعالى: [ولا أصلي بزائد ولا عكسه]. هذه المسألة سبقت الإشارة إليها، فلو كان عنده أصبع زائد، فجاء الجاني وقطع الأصبع الزائد، فلا نقول: اقطعوا أصبعاً من أصابعه؛ لأن الجاني ليس له أصبع زائد، والأصبع الزائد ليس كالأصبع الأصلي. ومن هنا تفرعت مسألة الخنثى المشكل، فقالوا: إنه إذا قُطع من الخنثى المستبين الذكر شيءٌ من فرج الأنثى وقطعته الأنثى، لم يقتص منها؛ لأنها لم تقطع عضواً أصلياً، والشفر في حق الجانية شفر أصلي، وبناءً على ذلك لو أننا حكمنا بالقصاص في هذه الحالة فقد ظلمنا الجانية؛ لأن المجني عليه لا ينتفع بهذا العضو، وليس هناك مساواة بين هذا العضو ومثله في الجاني. ومن هنا فُرِّق بين العضو الزائد والعضو الأصلي، فلا ينظر إلى كونه عضواً أصبعاً، أو شفراً، أو ذكراً فحسب، فإذا كانت أنثى فقُطع منها الذكر فإنه لا يقطع الأصلي بالزائد، إذاً فالجناية إذا كانت متعلقة بالزوائد يعدل فيها إلى الضمان. قال رحمه الله: [ولا عكسه]. أي: لو أن الجاني خنثى استبانت امرأةً فقطعت ذكر رجل، فإن الذكر بالنسبة لها زائد، ولا يقال: إن القصاص تحقق من كل وجه، ولذلك لو بتر فلا تتحقق المساواة. قال رحمه الله: [ولو تراضيا لم يجز]. قوله هذا إشارة إلى خلاف بين العلماء، فقد قال بعضهم: إذا تراضيا جاز، كما أنه من حق المجني عليه أن يتنازل عن حقه، فلو جنى على أصبع أصلي فقال المجني عليه: اقطعوا الزائد، أو جنى على زائد فقال المجني عليه: اقطعوا الأصلي. وتراضيا على ذلك، فإنه جائز عند هذا الفريق من العلماء؛ لأن هذا حق المجني عليه، فإذا رضي جاز، ولكن اختار المصنف رحمه الله وهو مذهب طائفة من العلماء أنه لا يجوز وإن تراضيا، والمنصوص عليه عند الجمهور أنه لا يؤخذ الأصلي بالزائد ولا الزائد بالأصلي. وبعضهم فرق وقال: إن أخذ الزائد بالأصلي فله وجه إذا رضي صاحب الأصلي؛ لأنه دون حقه، فإذا رضي به كان له ذلك.

الشرط الثالث: استواء الطرفين في الصحة والكمال

الشرط الثالث: استواء الطرفين في الصحة والكمال قال رحمه الله: [الثالث: استواؤهما في الصحة والكمال] أي: الشرط الثالث، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أوجب في القصاص المماثلة؛ لأنه إذا كان العضو الذي يقتص منه مماثلاً للعضو الذي اعتدي عليه تحقق العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، فالمقصود من القصاص: العدل بين الجاني والمجني عليه، ومن هنا اشترط الأئمة رحمهم الله اقتباساً من النصوص استواء الطرفين في الصحة والكمال، فلا يؤخذ طرف صحيح بطرفٍ مريض، ولا يؤخذ طرف كامل بطرفٍ ناقص؛ وذلك لأننا لو أخذنا طرفاً كاملاً بطرفٍ ناقص فقد ظلمنا الجاني. فلو أنه اعتدى عليه فقطع يده، وكانت يد المجني عليه مقطوعة الأصابع، والجاني يده كاملة الأصابع، فإننا لو قطعنا يد الجاني فقد ظلمناه، ومن هنا لابد من وجود العدل في القصاص في الأطراف، كما يجب العدل في القصاص في الأنفس، ولذلك قال رحمه الله: (استواؤهما) أي: وجود التماثل، وعدم وجود التفاوت بين العضوين في القصاص في الأطراف. قال رحمه الله: [فلا تؤخذ صحيحة بشلاء]. أي: لا تؤخذ اليد الصحيحة باليد الشلاء، واليد المشلولة مسلوبة الحركة، وهذا الخلل في اليد يقتضي نقصها، ومن هنا لو اعتدى على يدٍ مشلولة فقطعها لم نقطع يده الصحيحة؛ لأننا لو قطعنا يده الصحيحة فقد ظلمناه؛ لأن الجناية التي فعلها لا تماثل ما نفعله به، ومن هنا لا بد من وجود العدل، فلا تؤخذ يدٌ صحيحة بيدٍ شلاء، كما لا تؤخذ رجلٌ صحيحة برجلٍ شلاء، ولا أصبعٌ صحيحة بأصبعٍ شلاء، فهذا من العدل، والدليل على هذا قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178]، وهذا يقتضي أن يكون هناك تماثلٌُ، وهذا أصلٌ منتزعٌ من قوله سبحانه وتعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ. } [المائدة:45] إلى آخر الآية، فإن من تأمل هذه الآية الكريمة وجد أن المقصود العدل بين الجاني والمجني عليه، فإذا كان طرف الجاني المماثل للطرف المجني عليه أكمل، فإنه لا يمكن أن يتحقق العدل بقطع ذلك الطرف الكامل بالطرف الناقص. فلا تقطع يد صحيحة -أي كاملة- بيدٍ شلاء، سواءٌ أكانت مشلولة بكاملها أم كان الشلل في بعضها، وسواءٌ أكان الشلل في أكثر اليد أم في بعض اليد، فلابد من وجود التماثل، ولكن لو اعتدى على يدٍ مشلولة الكف، ويده هو مشلولة الكف، فإنه تؤخذ يد الجاني بيد المجني عليه، ويقتص منهما؛ لأن العدل يتحقق بهذا. قال رحمه الله: [ولا كاملة الأصابع بناقصة] أي: ولا تؤخذ يدٌ كاملة الأصابع بيدٍ ناقصة الأصابع، واليد الناقصة الأصابع تكون على ضربين: الضرب الأول: أن يكون النقص في أصابعها خلقة، كأن خلقها الله عز وجل بثلاث أصابع، أو خلقها الله بأصبعين، أو خلقها الله بأربع أصابع، فهذا نقص في الأصابع خلقة. الضرب الثاني: أن تكون الأصابع موجودة في الأصل، ولكن قطعت أو بترت، كشخص قطع منه أصبعان في حادث، ثم جاء الجاني وقطع يده، أو قطع كفه، فإذا قطع كفه وكف الجاني كاملة الأصابع، فلا يمكن أن تقطع كف الجاني الكاملة الأصابع بهذه الكف الناقصة الأصابع، فيستوي أن يكون نقص الأصابع خلقة، أو أن يكون نقص الأصابع عارضاً لحادث أو أمر اقتضى بتر هذه الأصابع، فإنه لا تؤخذ الكاملة بالناقصة. قال رحمه الله: [ولا عينٌ صحيحة بقائمة] أي: ولا يجوز أن تؤخذ عينٌ صحيحة يُبصر بها صاحبها، سواءٌ أكان إبصاره كاملاً أم كان إبصاره ناقصاً، بعينٍ قائمة، وهي التي فيها البياض والسواد، ولكن صاحبها لا يبصر بها، ولا يعتبر في قيامها بالبياض والسواد من ناحية الشكل أنها تماثل العين الصحيحة؛ لأن عين الجاني فيها صفتان: كونها قائمة في الصورة والشكل، وكونه يبصر بها، فمنفعة العين موجودة غير مفقودة، وعين المجني عليه منفعتها مفقودة، فلو أننا قلعنا عين الجاني ظلمناه؛ لأنه قلع عيناً ناقصة، ولا يمكن حينئذٍ أن يتحقق العدل لو قلعنا عينه؛ لأن الكامل لا يتحقق العدل فيه بالناقص، ومن هنا لا تؤخذ ولا تقلع العين الصحيحة بالعين القائمة، وهي التي لا يبصر بها صاحبها. وهكذا في العينين، فلو جنى الجاني على أعمى، وكانت عيناه قائمتين، فإنه لا يقتص من الصحيح المبصر؛ لأنه لا يمكن أن يتحقق العدل، فلو اقتلعنا عين الجاني الصحيحة بعين المجني عليه القائمة فقد أخذنا كاملاً بناقص، وهذا لا تأذن به الشريعة، ولذلك يُعدل عن القصاص. قال رحمه الله: [ويؤخذ عكسه ولا أرش] هذه حالة ما إذا كان الأمر عكسياً، بحيث تكون يد الجاني شلاء، وقطع يد المجني عليه وهي صحيحة، فحينئذٍ نقول: إن يد الجاني يدٌ مشلولة، ويد المجني عليه يد كاملة، واليد الكاملة فيها صفتان: الصفة الأولى: صورة اليد وذاتها. الصفة الثانية: منفعة اليد، وهي كونه يحركها ويقوم بها. فالجاني وجُد في يده أحد الأمرين؛ لأن الحركة غير موجودة في المشلولة، والعضو الذي هو ذات اليد موجودٌ، فإذا رضي صاحب الحق -وهو المجني عليه- بقطع يد الجاني المشلولة، فإننا نقطع يده؛ لأنه رضي بالأقل، ومن حقه أن يرضى بهذا؛ لأن القصاص في مثل هذه الحالة يقتضي قطع يدٍ فيها الصفتان، وهذا حقه كاملاً، وللإنسان أن يأخذ حقه كاملاً، وله أن يأخذ حقه ناقصاً، وله أن يعفو، فلو قال: اقطعوا يده، فإني أريد أن يكون مقطوع اليد كما عذبني بقطع يدي؛ قطعنا يد الجاني. وكذلك لو كانت كفه مشلولة، واعتدى على ذي كفٍ صحيحة، فقال صاحب الكف الصحيحة: أريد أن تقطعوا كفه، كما أنه بتر كفي، لأراه مبتور الكف فأشفي غليلي، قطعت كفه؛ لأنه وإن كانت كفه مشلولة لا يتحرك بها فالصورة قائمة في ذات اليد، والاعتداء على العضو كان صورة ومعنىً؛ لأن المقصود من العضو المنافع، فإذا تعطلت المنفعة فلا يُمنع أن يقتص الإنسان من الصورة وهي بعض حقه، ولذلك قال رحمه الله: (ويؤخذ عكسه)، وهكذا لو كانت كف الجاني فيها ثلاث أصابع وكف المجني عليه فيها أربع أصابع، أو كف الجاني فيها أصبعان، وكف المجني عليه فيها ثلاث أصابع، أو كانت كف المجني عليه كاملة فيها خمس أصابع، وكف الجاني فيها أربع أصابع، أو كانت كف الجاني فيها بعض الأصابع مشلولة، فقال المجني عليه: أريد أن تقطعوا كفه كما قطع كفي، أعطي حقه، ووجب أن يقتص من الجاني، فيؤخذ الناقص من طرفه بالطرف الكامل؛ لأنه يجوز للإنسان أن يأخذ بعض حقه. وقوله رحمه الله: (ولا أرش) إذا اقتص من العضو الناقص في الجاني، فإن بعض العلماء قال: يضمن له الأرش، أي: أرش الفرق بين اليدين، فلو كان الأرش ألف ريال، أو عشرة آلاف ريال، قطعت يد الجاني الناقصة، ويقال له: ادفع للمجني عليه الفرق بين اليدين وهو العشرة آلاف ريال، وستأتينا -إن شاء الله تعالى- مسائل الأروش، وسنبين كيف يرجع فيها إلى أهل الخبرة في تقديرها وضابطها.

الأسئلة

الأسئلة

حكم استعمال المخدر حال القصاص في الأطراف

حكم استعمال المخدر حال القصاص في الأطراف السؤال: هل يجوز استعمال المخدر أو ما يسمى بالبنج عند القصاص في الأطراف؟ الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن ولاه، أما بعد: فعند القصاص لا يجوز استخدام المخدر؛ لأن المجني عليه تألم بالقطع، فيجب أن يتألم الجاني كما تألم المجني عليه، فالجريمة مشتملة على الألم ومشتملة على الضرر، فالألم بالحسم ووجود الألم الذي تضرر به المجني عليه بعد الجناية، والحسم: هو قطع العضو، فإذا خدرناه وقطعنا يده حصل الحسم ولم يحصل الألم، والمقصود: أن يتألم كما تألم المجني عليه، فعندها يمتنع ويُحرِّم على نفسه أن يقدم على قطع يد مسلم بعد ذلك. ولذلك قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:179]، فبيّن سبحانه وتعالى أن الأرواح تُصان، وأن الأعضاء تحفظ، والأطراف تصان عن الاعتداء عليها بحصول الألم، فإذا ذاق مرارة الألم كما ذاق غيره، فإنه حينئذٍ يتحقق العدل، وثم شرع الله الذي كتبه الله عز وجل. ومن هنا فحصول الروع للجاني مثلما فعل بالمجني هو العدل، ولابد أن يتألم كما تألم المجني عليه، ولكن لو أنه أراد أن يقطع يد المجني عليه فخدرها ثم قطعها، خُدرت يده، وفُعل به مثلما فعل بالمجني عليه. والله تعالى أعلم.

العدول إلى الدية حال تعذر القصاص

العدول إلى الدية حال تعذر القصاص Q في مسألة اختلاف الجنسين ذكرنا أنه لا قصاص، فهل يكون محله الدية؟ A هذا سيأتي تفصيله -إن شاء الله- في الكلام على مسائل الديات ولزوم الأرش في حال تعذر القصاص.

حكم المسح على الجورب

حكم المسح على الجورب Q ما حكم المسح على الجوارب التي نلبسها اليوم ولا تُرى البشرة من خلالها، ولكن بلل الماء الممسوح ينفذ من حلال الجورب ويصل إلى البشرة؟ A المسح على الجوربين سنة محفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح عن المغيرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين)، وهذا هو أصح قولي العلماء رحمهم الله، لكن يشترط في الجورب -وهو الشراب- أن يكون ثخيناً، وأما الرقيق فالصحيح أنه لا يمسح عليه، وهو مذهب جماهير العلماء رحمهم الله تعالى. والدليل لمن قال بجواز المسح عليه هو: القياس على الثخين؛ لأنه ما كان موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقيس على الثخين، والقياس في الرُّخَصِ ضَيِّقٌ وضعيف، هذا أولاً. ثانياً: أن هذا القياس مع الفارق، فإن الرقيق إذا مسحته كأنك تمسح ظاهر القدم، ومذهب مسح ظاهر القدم يمكن أن يكون أرحم وأفضل من مسح الرقيق. والثخين يُنزل منزلة الخف؛ لأن الخف من الجلد ساترٌ حافظ للقدم، وأما الرقيق فإنه لا يستر ولا يُنزل منزلة الجورب ولا منزلة الخف. وعلى هذا فالواجب على المسلم أن يستبرأ لدينه، وأن يحتاط لدينه، خاصة أمر الصلاة، فإن أمرها عظيم، ومن هنا قال الإمام الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: إن الله فرض علينا غسل الرجلين بيقين، ولما جاءت أحاديث الخفين متواترة صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عملنا بها وانتقلنا إلى هذه الرخصة. وعلى هذا فكذلك لما جاءتنا رخصة الجوربين نقول: إنها جاءتنا بحديث صحيح بجوربين كانا ساترين لمحل الفرض، ولم تكن الجوارب كهذه الجوارب الموجودة الآن الشفافة الرقيقة، التي لو وضع الإنسان أصبعه لربما وجد حرارته على بدنه من رقتها، فهي حوائل ضعيفة جداً، لا تُنزل منزلة الحوائل الثخينة في الجلد -كما في الخف- ولا في الجوربين. ومن هنا اشترط بعض العلماء أن يكون الجورب منعلاً؛ لأن الرواية في الجوربين المنعلين؛ كل هذا تحقيقاً لمماثلة الجورب للخف حتى يكون أشبه بالخف. وعليه فإنه لا يجوز المسح إلا على شُرَّاب ثخين لا ترى البشرة من تحته. والله تعالى أعلم.

كيفية قضاء الفائت من ركعات الصلاة

كيفية قضاء الفائت من ركعات الصلاة Q إذا دخل المصلي في الركعة الثالثة لصلاة العشاء، فهل يأتي بالركعتين المتبقيتين جهراً ويقرأ الفاتحة وسورة سواها، على أساس قضاء الركعة الأولى والثانية، أم يأتي بهما سراً ويقرأ الفاتحة فحسب، على أساس أنهما الثالثة والرابعة بالنسبة له؟ أثابكم الله. A هذه المسألة الصحيح فيها أن صلاة المأموم مع الإمام هي الأولى، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)، فقوله عليه الصلاة والسلام: (أتموا) أي: ابنوا على صلاتكم مع الإمام. وعلى هذا يعتبر صلاته مع الإمام هي الأولى في الأقوال والأفعال، وأما رواية: (وما فاتكم فاقضوا)، فيجاب عنها من وجهين: الوجه الأول: من جهة السند، فإن رواية الإتمام أصح، ومن رواةٍ أقوى؛ لأنهم أصحاب الزهري رحمه الله، فهم الأوثق والأقوى والأضبط ممن روى القضاء. ثانياً: من ناحية المتن، فالقضاء يستعمل بمعنى الإتمام، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة:10]، أي: أتِمَّت، وقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة:200]، أي: أتممتموها، ومن هنا قويت رواية الإتمام، وصارت هي الأصل؛ لاحتمال أن رواية القضاء جاءت بالمعنى، خاصة وأن رواتها أقل ضبطاً من رواية الإتمام. وعلى هذا فالأرجح أن صلاتك مع الإمام هي الأولى، وعليه فإنك تصلي بركعتين لا تجهر فيهما في العشاء، وتصلي ركعتين لا تقرأ مع الفاتحة سورة كما في العصر؛ لأن الصحيح أنها لا تقاس على الظهر بقراءة سورة الإخلاص. والله تعالى أعلم.

نية الغسل والوضوء داخل الحمام

نية الغسل والوضوء داخل الحمام Q بالنسبة للنية للغسل أو الوضوء، إذا كانت المغسلة داخل دورة المياه، فهل يشترط أن ينوي قبل دخول الدورة، أو عند إرادة الشروع في الوضوء أو الغسل؟ A النية ليست كلاماً فيمتنع داخل الحمام، بل النية في القلب، ولا علاقة لها بداخل الحمام أو خارجه، فإذا كان يغتسل داخل الحمام فلا يضره أن ينوي الغسل أو ينوي الوضوء، فينوي في قرارة قلبه ويجزيه ذلك. والله تعالى أعلم.

انتقاض الوضوء أثناء الغسل

انتقاض الوضوء أثناء الغسل Q إذا توضأت قبل الغسل ثم غسلت البدن، وفي أثناء غسل البدن لمست الفرج أو خرج الريح، فهل يجب إعادة الوضوء عقب الغسل؟ A من مس ذكره أثناء الغسل فغسله صحيح وترتفع جنابته، ولكن لا يصلي بهذا الغسل إلا إذا عمم بدنه بعد هذا اللمس، حتى يندرج الوضوء تحت الغسل أو توضأ بعد غسله؛ لأنه بلمسه للذكر انتقضت طهارته الصغرى دون طهارته الكبرى، فيشترط بعد لمسه للذكر أن يتوضأ وضوءاً كاملاً، أو يعمم بدنه بالماء. والله تعالى أعلم.

استيعاب غسل الرجلين ثلاثا

استيعاب غسل الرجلين ثلاثاً Q ما المراد بغسل الرجلين ثلاثاً، هل استيعابها بالغسل ثلاث مرات، أم المراد ثلاث غرفات؟ A المراد به الاستيعاب ثلاث مرات، وهذا هو الإسباغ، وذلك أن يتوضأ فيغسل رجليه ثلاث مرات، ويغسل وجهه ثلاث مرات، ويغسل يديه ثلاث مرات، وأما رأسه فيمسحه مرة واحدة على الصحيح من أقوال العلماء، وهو مذهب الجمهور رحمهم الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً ومسح برأسه مرة واحدة، فهذه هي السنة، ولأنه لو مسح رأسه ثلاث مرات لأصبح الرأس مغسولاً؛ لأنه بتكرار المسح يصير في حكم المغسول، ومن هنا فُرّق بين مسح الرأس وبقية الأعضاء، فلا يشرع التثليث في مسح الرأس وحده. والله تعالى أعلم.

باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس [2]

شرح زاد المستقنع - باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس [2] من أنواع القصاص فيما دون النفس: القصاص في الجراح، وهناك جراح يمكن فيها القصاص، مثل الموضحة التي توضح العظم، وكجرح العضد والساق والفخذ والقدم ونحوها، وهناك جروح لا يمكن القصاص فيها، ويرجع فيها إلى الأرش والضمان، وذلك مثل الشجاج كالهاشمة والمنقلة والمأمومة، ويقتص من الجماعة إذا قطعوا طرف شخص أو جرحوه بما يمكن فيه القصاص.

القصاص في الجراح

القصاص في الجراح بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: النوع الثاني الجراح] القصاص فيما دون النفس إما أن يكون في الأطراف؛ كالعين والأنف والأذن والسن، وإما أن يكون في الجروح؛ لأن الجاني ربما قطع عضواً كاليد، وربما طعن بسكين، أو جرح بها، أو خدش بها، ولربما ضرب بحديدة فكسر العظم أو هشمه، فالجنايات فيما دون النفس على هذين النوعين، فإما جناية على الأطراف والأعضاء، وإما جناية بالجروح والكسور، والكلام هنا عن النوع الثاني وهو الجناية بالجروح، والجناية بالجروح يتبعها الجناية بالكسور. والجناية بالجروح كأن يأخذ سكيناً فيضربه على كتفه، أو يأخذ سكيناً فيضربه على عضده، أو يأخذ سكيناً فيضربه بها في بطنه فتُظهر جوفه وأحشاءه، وهي الجائعة، وربما ضربه على موضع من بدنه فتكون موضحة، وربما كانت مأمومة تبين أم الدماغ، وربما كانت الجناية على العظام بهشمها وهي الهاشمة، أو كسرها كسراً ينقل العظم وهي المنقلة، فهذه كلها جنايات في الجروح، وهذا من كمال الشريعة وسعتها، وعظمة هذا الدين في تفصيله لهذه الأشياء، ولذلك لم يقتصر في الجناية على وضع الضوابط العامة، دون دخول إلى تفصيلات، وبيان أنواع هذه الجنايات وأحوالها المختلفة، فرحمة الله على أئمة الإسلام وفقهائه الأعلام، الذين أظهروا مكنونات هذه الشريعة بفضل الله عز وجل الذي لا فضل إلا فضله وحده لا شريك له، والذي علمهم وفهمهم فبينوا هذه الأحوال والظروف.

ما يقتص فيه من الجراح

ما يقتص فيه من الجراح قال رحمه الله تعالى: [فيقتص في كل جرحٍ ينتهي إلى عظم]. أي: يتقص من الجاني في كل جرحٍ ينتهي إلى عظم، وهذا مبني على أن الجناية بالجروح أضيق من الجناية على الأعضاء والأطراف، فإن الجناية على الأطراف والأعضاء يستطاع فيها أن يستوفى من الجاني حق المجني عليه؛ لأنه يستطاع تحديد موضع الجناية على الطرف وعلى منفعته، أما الجناية بالجروح فمقيدة، ولذلك لا يُقتص فيها إلا بحدود، والسبب في هذا: أن الجناية بالجروح لا يؤمن معها الحيف، ولا تؤمن معها الزيادة. ومدار القصاص على العدل والمساواة، ولذلك يكون أمر القصاص هنا أضيق منه في القصاص في الأطراف، ولذلك قال رحمه الله: (فيُقتص في كل جرحٍ ينتهي إلى عظم)، وذلك مثل الجروح التي تكون في العضد، والجروح التي تكون في الساعد، والجروح التي تكون في الساق، ونحوها؛ لأنه يمكن ذلك، فلو قيل للخبير في القصاص أن يجرحه جرحاً مثل الجرح الذي فعله بالمجني عليه لأمكنه ذلك، ولكن إذا كان في موضعٍ لا ينتهي إلى عظم، والجناية إن لم تنتهِ إلى عظم فلا تستطيع أن تحدد غور الجرح، بحيث تجرحه مثل جرحه، وتبضع اللحم مثلما بضع لحم المجني عليه، ومن هنا يضيق القصاص في الجروح ويكون صعباً؛ لأنه لا يؤمن معه الحيف، فإذا أراد المقتص أن يقطع مثل قطع الجاني فلن يستطيع أن يزن السكين، أو يزن القطع بنفس الوزن الذي وزنه به الجاني، أو يضربه نفس الضربة، أو يطعنه نفس الطعنة، والقاعدة أن كل ما لا يؤمن معه الحيف فإنه لا قصاص فيه؛ لأنه إذا لم نأمن الحيف فإننا لا نأمن التعدي، والأصل أن الجاني له حرمة، وإنما يؤخذ منه بقدر جنايته، فإذا لم نظمن أن نأخذ بقدر جنايته، فحينئذٍ لا يكون ظلمه للمجني عليه داعياً لنا أن نظلمه هو، وحتى يتحقق بين الطرفين فقد وضعوا ضابطاً هو القصاص في الجرح الذي ينتهي إلى عظم. قال رحمه الله تعالى: [كالموضحة]. الوضوح: ضد الخفاء، ووضح النهار إذا بان ضوؤه، والموضحة: هي التي توضح العظم، كما لو وقعت خصومة بين الجاني والمجني عليه فأخذ السكينة -والعياذ بالله- فضربه على كتفه، فوجدنا أن الجرح الذي جرحه به أبان العظم وأوضحه، وما أضر بالعظم ولا كسره ولا هشمه، لكنه جرح يظهر العظم، فحينئذٍ انتهى الجرح إلى حد معين وواضح، فتستطيع أن تفعل بالجاني مثلما فعل بالمجني عليه، سواءٌ أكان هذا في العضد، أم في الساعد، أم في الساق، فهذه كلها يمكن فيها الجرح مماثلاً لجرح الجاني، فحينئذٍ يُقدر الجرح ويُسبر، ثم بعد ذلك يُفعل بالجاني مثلما فعل بالمجني عليه. قال رحمه الله تعالى: [وجرح العضد]. العضد: ما بين مفصل المرفق إلى مفصل الكتف، وما بين مفصل المرفق ومفصل الكف يقال له: الساعد، ومثل هذا يقع أيضاً في جرح الساعد، فإنه إذا ضربه بالسكين على ساعده وأوضح العظم، وظهر العظم من ضربته، فيمكن أن يفعل به مثلما فعل بالمجني عليه. قال رحمه الله تعالى: [والساق]. الساق: ما بين مفصل القدم ومفصل الركبة، فلو أنه ضربه بسكين، أو بآلة جارحة فأظهرت عظم ساقه، ولم تؤثر في العظم؛ اقتص منه في الموضحة، ولو أنها هشمت العظم وكسرت عظم المجني عليه، فقال: أريد أن تفعلوا بالجاني موضحة، فإنه يقتص منه بالأقل؛ إذ لا يستطاع أن يكسر عظمه نفس ما كسر، فيقتص بالأقل، وسيأتينا هذا إن شاء الله تعالى. قال رحمه الله تعالى: [والفخذ]. أي: والفخذ كذلك، وعظم الفخذ ما بين مفصل الركبة ومفصل الورك الذي في الأعلى، وسواءٌ ما أقبل منه أم أدبر، فإذا ضربه بالسكين عليه فأوضح عظم الفخذ فُعل به مثلما فعل بالمجني عليه، واقتص منه موضحة. قال رحمه الله تعالى: [والقدم]. إذا أتت الجروح في نفس القدم من مفصل الكعبين إلى أطراف الأصابع، فإنها تنتهي إلى عظم، فلو جرحه جرحاً أوضح عظم قدمه فُعل به مثله، فلو كان جرحاً طويلاً جرحناه جرحاً طويلاً، ولو كان وضوح العظم في نصف الجرح أوضحنا عظمه في نصف الجرح، فخدشناه الخدش ثم أوضحنا فيه، ولو كان الوضح في نفس العضو كاملاً فُعل به مثلما يفعل بالمجني، سواءً بسواء، والدليل على هذا كله قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45]، فإن هذه الآية الكريمة أصل عند أهل العلم في القصاص في الجروح، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نقتص من الجارح إذا جنى على المجني عليه بجرحٍ، وأجمع العلماء رحمهم الله على أن القصاص يقع في الجروح كما يقع في الأنفس والأطراف.

ما لا يقتص فيه من الجراح وأنواع جناياتها

ما لا يقتص فيه من الجراح وأنواع جناياتها قال رحمه الله: [ولا يقتص في غير ذلك من الشجاج والجروح]. تقدم معنا أن القصاص إما أن يكون في النفس، فيما دون النفس، والذي دون النفس: إما أن يكون في الأطراف -وقد ذكرنا مسائله-، وإما أن يكون في غير الأطراف، والذي في غير الأطراف يشمل: القصاص في الجروح، والقصاص في الشجاج، وهي جمع شجة، ويعبر بها عن الجنايات المتعلقة بالرأس والوجه. ثم هذه الشجاج والجروح تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يمكن فيه القصاص، وتتحقق فيه المماثلة، ويؤمن فيه الحيف، بمعنى أننا لو أردنا أن نمكن المجني عليه من فعل جناية بالجاني كجنايته عليه أمكن ذلك. القسم الثاني: أن يتعذر ذلك، بحيث يغلب على ظننا أننا لو أردنا القصاص فلابد من حصول الزيادة -التي هي الحيف-، أو عدم حصول التماثل، ومن هنا بين المصنف رحمه الله أن الموضحة، وجرح العضد، وجرح الساق، وسائر ما سمى رحمه الله أنه يقتص فيها، والموضحة -كما تقدم معنا- هي التي توضح العظم. ومن حيث الأصل فالجنايات إذا كانت جروحاً ففي الجسم ثلاث طبقات: الطبقة الأولى: الجلد، والطبقة الثانية: اللحم، والطبقة الثالثة: العظم. فهذه ثلاثة مواضع تقع عليها الجنايات، وإذا حصلت الجناية على الجلد فإنها تأتي على طبقات، وإذا حصلت الجناية على اللحم فإنها تأتي على طبقات، وإذا حصلت الجناية على العظم فإنها -كذلك- تأتي على طبقات ومراتب. وبناءً على هذا بين المصنف رحمه الله أنه لا يُقتص في غير الموضحة، وهي التي توضح العظم، فإذا أوضحت العظم فمعنى ذلك أن الآلة وصلت إلى كشف العظم دون أذيته، فهذا النوع من الجنايات له حد ينتهي إليه، بخلاف جرح الجلد، وبخلاف جرح اللحم، فإنه ليس له حد ينتهي إليه. وتوضيح ذلك: أن الجناية غير الموضحة إما أن تكون أقل من الموضحة، وإما ان تكون فوق الموضحة. أما الجنايات دون الموضحة فأولها يسمى: بالقاصرة والحاصرة، وهي التي تقشر الجلد، ولا يخرج معها الدم، ثم يلي ذلك البازلة، ويقال لها: الدافعة، والبازلة: هي التي تكشط الجلد، ويخرج معها دم، فالجناية بها أقوى من الجناية الأولى، ثم بعد ذلك الباضعة، والباضعة: هي التي تنتهي من الجلد، وتدخل في اللحم، ولكنها لا تتوغل في اللحم، وإنما تجرح اللحم فتبضعه، ثم بعد ذلك المتلاحمة: وهي التي تغوص في اللحم، ولكن لا تصل إلى العظم، ثم بعد ذلك السمحاق، والسمحاق: هي التي ليس بينها وبين العظم إلا القشرة الرقيقة. فهذه الجنايات الأول كلها قبل الموضحة، ولا قصاص فيها على ما اختاره المصنف رحمه الله. وبناءً على ذلك: فلو اختصم اثنان، فجرح أحدهما الآخر بسكين، فكشط لحم جلده، ولم يخرج دم، فهي حاصرة، ولا قصاص فيها، ويعدل إلى الأرش، وفيها حكومة، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- كيف تقدر، وكيف يعطى حقه في هذه الجناية. وإذا ضربه بالسكين، فنفذ من الجلد إلى اللحم، وغاص في اللحم، ولم يصل إلى العظم، فهي متلاحمة، أو قطع اللحم، ولكن ضربة السكين لم تدخل في اللحم، فهذه باضعة، وكلها لا قصاص فيها على ما اختاره المصنف رحمه الله تعالى. إلا أن بعض العلماء يرى القصاص في الباضعة، ويرى القصاص في المتلاحمة، ويرى القصاص في البازلة، التي تكشط الجلد ثم يخرج منها دم، وهو مذهب المالكية وأهل الرأي، وقالوا: إنه بالإمكان إذا جُني على شخص جناية بمثل البازلة أن نقيس الجرح الذي جرح طولاً، ونحدد مكان الجناية، ثم نبضعه، ونفعل به مثل ما فعل بالمجني عليه، وبهذا يمكن القصاص. والذي دعا الحنابلة والشافعية رحمة الله عليهم إلى منع القصاص في هذا هو قولهم: إنه يتعذر أو يصعب التماثل، ومن شرط ثبوت القصاص في الجروح: حصول التماثل وأمن الحيف، والناس يختلفون من حيث اللحم نحافة وسمناً، ثم طبيعة العضو طولاً وقصراً، وهذا يؤثر في الجناية نفسها، ولا يمكن أو لا يستطاع -غالباً- أن يأتي القصاص مثل الجناية سواءً بسواء، وإذا لم يؤمن الحيف سقط القصاص. وفي الحقيقة مذهب الحنابلة ومن وافقهم أقوى؛ إذ إن هذه الجنايات والجروح لا يؤمن معها الحيف في الغالب، خاصة لاختلاف أحوال الناس، ومن هنا فالأحوط مذهبهم الذي يقول: لا قصاص في هذه الأشياء. هذا بالنسبة لما هو أقل من الموضحة. وأما ما فوق الموضحة: فالهاشمة، والمنقلة، والمأمومة، فإذا دخلت الضربة في العظم وكسرته فقد هشمته، فالهاشمة توضح العظم وتهشمه وتكسره، والمنقلة -وهي فوق الهاشمة- توضح العظم، وتهشمه، وتنقله، فإذا جاءت الشجة في الرأس، أو في جهة الدماغ، وكسرت العظم ونقلته عن موضعه فهي منقلة، والمأمومة: وهي الدامغة التي تكسر العظم، وتنفذ حتى تظهر لنا خريطة دماغ الشخص، وتسميتها قديمة من زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت في كتاب عمرو بن حزم رضي الله عنه الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إليه، وفيها ثلث الدية، وهي أعلى أنواع الجنايات بالنسبة لما يتعلق بالرأس. فهذه الثلاث، وهي: الهاشمة، والمنقلة، والمأمومة؛ لا قصاص فيها، ويكاد يكون شبه إجماع على أنه لا قصاص فيها؛ لأننا لا نأمن الحيف، ولا يستطيع أحد أن يكسر عظماً مثل كسر الآخر؛ لأن العظم إذا انكسر تهشم، ولا يمكن أن تكسره كسراً يساوي كسر الجاني، ومن هنا قالوا: يتعذر القصاص، ويمتنع الحكم به. وقد حفظ عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وعن أبيه أنه قضى بالقصاص في المأمومة، وأنكر عليه الناس ذلك، وقالوا: ما عرفنا أحداً يقتص في المأمومة، وهذا الأثر اختلف فيه، وإن كان نص غير واحد من الأئمة على أنه لا يثبت عن عبد الله بن الزبير، فإن لم يثبت فالأمر واضح، والإجماع محكيٌ على أنه لا قصاص في الهاشمة والمنقلة والمأمومة، والسبب في هذا: أنه لا يمكن تحقيق المساواة، كما لا يؤمن الحيف والزيادة، وهذان عذران موجبان لسقوط القصاص. و (من) في قوله: (ولا يقتص في غير ذلك من الشجاج والجروح) بيانية، والشجاج: جمع شجة، وهي التي تكون في الوجه، وتكون في الرأس، والجروح: هي التي تكون في سائر البدن، فبين رحمه الله تعالى أن القصاص فيما دون النفس، سواءٌ أكان في الشجاج، أم كان في الجروح، لا يقتص فيه إذا كان على هذا الوجه الذي ذكرناه.

القصاص في كسر السن

القصاص في كسر السن قال رحمه الله: [غير كسر سن]. استثنى رحمه الله السن، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، وكلهم متفقون على أنه لو قلع سن أخيه قلعت سنه، إذا أتلف السن كلية، فتتلف سنه كما أتلف سن المجني عليه، وتؤخذ نفس السن التي جنى عليها، سواءٌ أكانت من الأضراس، أم كانت ناباً، أم كانت غير ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45]، أي: كتبنا عليهم أخذ السن -وهي سن الجاني- بالسن، والباء للبدلية، أي: بدلاً عن السن، وهي سن المجني عليه الذي ظُلم بالاعتداء على سنه، سواءٌ أكان ذكراً أم أنثى، وسواءٌ أكانت السن زائدة، أم أصلية، فلو أنه جنى على سن زائدة في أخيه وقلعها، وهو له سن زائدة مثلها، فإنه تقلع سنه بسن أخيه، ولو قلع سناً أصلية من أخيه؛ فإنه تقلع منه مثل السن التي قلعها من أخيه، والدليل على ذلك ظاهر الآية، وما ورد في السنة في حديث أنس بن النضر في قصة الربيع رضي الله عنها لما كسرت سن الجارية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص). أما إذا جنى عليه جناية دون القلع، فكسر له نصف سنه، أو كسر ربع سنه، ففي القصاص حينئذٍ وجهان للعلماء رحمهم الله: أصحهما وأقواهما أنه يُقتص من سن الجاني بمثل وبقدر ما اعتدى على سن المجني عليه، بشرط أمن الحيف، فلو كسر سن المجني عليه، فقال الأطباء: هذا الكسر نصف السن، أخذ من سن الجاني بقدر ما جنى، وكانوا في القديم يبردونها بالمبرد الحديد، فيأخذون نصف السن برداً، أو ربعها، أو نحو ذلك على قدر جنايته. فالصحيح أنه يُقتص من السن، والدليل على ذلك الحديث الصحيح في قصة الربيع، فإنها كسرت سن الجارية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص)، فأمر بالقصاص، فدل على أن السن يُقتص منها بأخذ جزء معادل للجزء الذي جُني عليه. فإن كان الكسر على صفة لا نستطيع أن نفعل بالجاني قدرها، أو قال الأطباء: لا نأمن أن السن تتهشم، أو أن السن التي كانت في الجاني ضعيفةٌ، بحيث لو بُردت تكسرت وتشهمت، سقط القصاص وعدل عنه إلى الضمان.

القصاص بموضحة في أعظم منها

القصاص بموضحة في أعظم منها قال رحمه الله تعالى: [إلا أن يكون أعظم من الموضحة كالهاشمة والمنقلة والمأمومة، فله أن يقتص موضحة، وله أرش الزائد]. أي: إلا أن تكون الجناية أعظم من الموضحة، وهنا مسألتان: المسألة الأولى: لو أنه جُني عليه بجناية فوق الموضحة، وأراد أن يقتص بها موضحةً، فهل يجوز له ذلك؟ المسألة الثانية: إذا اقتُص وأُذن بالقصاص، فهل يضمن الجاني الباقي ويدفع الأرش. فهاتان المسألتان اختلف فيهما العلماء رحمهم الله، والصحيح: أنه إذا جنى عليه جناية هشمت عظامه، أو نقلت العظم، فإنه يُمكن جرحه موضحة، ثم يؤمر الجاني بدفع الفرق بين الموضحة وبين الجناية، فالموضحة فيها خمس من الإبل، فإذا كانت الجناية هاشمة ففيها عشر من الإبل، فيدفع خمساً من الإبل باقية عليه، وهذا المذهب هو الذي اختاره المصنف رحمه الله. والدليل على ذلك: أنه جنى عليه جناية يتعذر القصاص فيها، فأخذ بعض حقه، وبقي له الآخر، كما لو قطع له أصبعين، فاقتص من أحدهما وأخذ قيمة الثاني، كما لو كان الأصبع الثاني مشلولاً فقال المجني عليه: أريد أن تقطعوا منه مثل ما قطع مني، وآخذ أرش الباقي لي من الأصبع المشلول، فلا أريد القصاص فيه، فله ذلك، وبناءً على ذلك فإن الأصل يقتضي أن يطالب بحقه كاملاً، وهو القصاص، فلما تعذر أن يأخذ بالقصاص في الهاشمة والمنقلة والمأمومة لما ذكرناه كان من حقه أن يقتص موضحة. لكن هناك ملاحظة دقيقة لبعض مشايخنا رحمة الله عليهم في هذا، حاصلها أنه يقول: إن هذه المسألة ينبغي أن يفرق فيها بين الهاشمة والمنقلة إذا كان معهما جرح وإذا لم يكن معهما جرح؛ لأن الهاشمة قد تهشم عظامه دون جرح، كأن يضربه بحديدة فتتهشم العظام ولا يحصل جرح، وحينئذ فالجناية في العظم، وليست في الجلد، وكذلك المنقلة فقد ينتقل العظم بالضرب بدون جرح، فلو فُصّل بين ما إذا كانت الجناية قد جرحت، وأوضحت، ثم هشمت أو نقلت، وبين أن يكون الهشم أو النقل بدون جرح؛ لأن الجرح فيه إيلام زائد على الجناية؛ لأن الجناية قد تكون بالضرب والرض فقط، وفرق بين الجرح وبين الرض. وهذا الملحظ أستسيفه, وأرى له قوة ووجاهة؛ لأن أصل القصاص المماثلة، ومن هنا فلو ضربه بحديدة، فلم تجرح، ولكنها كسرت العظام فهشمتها، أو كانت الجناية منقلة نقلت العظام ولكنها لم تجرح، فحينئذ لو حكمنا بجرح الجاني فمعنى ذلك أننا آلمنا الجاني بغير جنايته؛ لأن جنايته بالرض، وليست بالجرح، فالأشبه أن ينبه على هذا، ويُفرق بين أن تكون المنقلة والهاشمة بجرح الجلد واللحم والنفوذ إلى العظم، وبين أن تكون رضاً بدون جرح.

القصاص من الجماعة بالواحد في الأطراف والجروح

القصاص من الجماعة بالواحد في الأطراف والجروح قال رحمه الله تعالى: [وإذا قطع جماعة طرفاً، أو جرحوا جرحاً يوجب القود، فعليهم القود]. هذه المسألة فيها نفس التفصيل الذي تقدم معنا في القصاص من الجماعة، والحاصل: أنه إذا اعتدى على الشخص جماعة، فلهم صورتان، والكلام عن إحداهما: وهي إذا كان فعل كل واحد منهم جناية لوحده، بحيث لو انفرد لحصل به القطع، ومن أمثلة ذلك: أن يعتدي ثلاثة أشخاص على شخصٍ، فيقوم أحدهم ويجرحه موضحة في آخر رأسه، ثم يضربه الثاني موضحة في منتصف الرأس، ثم يضربه الثالث موضحة في وجهه، فهذه ثلاث جنايات من جماعة، فيقال له: افعل بكل واحد مثل ما فعل بك في نفس الموضع الذي ضربك فيه، فالأول يقتص منه موضحة في آخر الرأس، والثاني يقتص منه موضحة في منتصف الرأس، والثالث يقتص منه موضحة في وجهه، ولو أراد أن يقتص من بعضهم ويعفو عن بعضهم، أو يقتص من بعضهم، ويأخذ الدية من بعضهم، فذلك من حقه، فلو قال: فلان أقتص منه، وفلان أريد منه المال، وفلان عفوت عنه لوجه الله تعالى؛ فله ذلك، كما لو اعتدوا عليه متفرقين. وبناءً على ذلك: فإذا اعتدى عليه جماعة، فإننا نظر إلى فعل كل واحد منهم، وإذا كان فعلهم جميعاً في موضع لو انفرد كل واحد منهم بالفعل لأبان ذلك الموضع، فإنه يثبت القصاص على كل واحد منهم منفرداً مستقلاً، كما تقدم معنا تفصيله في القتل. فالخلاصة: أن الجماعة يُقتص منهم، وهذا هو الذي جرى عليه عمل السلف، ونصوص الشريعة تدل عليه. أما عمل السلف: فإن عمر بن الخطاب لما قتل جماعةٌ رجلاً باليمن أمر بقتلهم، وقال قولته المشهورة: (والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم)، فلا يفرق بين أن تكون الجناية على الواحد من شخص أو أشخاص، وأما نصوص الشريعة فعموم الكتاب في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178] يدل على أنه يقتص من الجاني، وهؤلاء كل واحد منهم جانٍ، وكل واحدٍ منهم يوصف بكونه في فعله جانياً، فيمكن المجني عليه من أخذ حقه من كل واحد بحسبه، وهذا هو المذهب الصحيح، والذي دلت عليه الأدلة، واقتضته قواعد الشريعة، ولو أننا لا نقتص من الجماعة فما على المجرمين-إذا أرادوا أن يفعلوا جريمتهم- إلا أن يفعلوها مجتمعين حتى يسقط عنهم القصاص، وبهذا يحصل الشر والبلاء على الأمة، فقطع الله دابر أهل الفساد، فجعل كتابهَ وشرعهَ وحكمه: القصاصَ من الظلمة والجناة مجتمعين ومنفردين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تعزية أهل المقتول قصاصا

حكم تعزية أهل المقتول قصاصاً Q هل تسن تعزية أهل القاتل إذا اقتص منه؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فيجوز تعزية أهل القاتل؛ لأنه لا ذنب لهم، والمسلم يُعزى في مصيبته، والأصول الشرعية دالة على مواساة المسلم لأخيه المسلم، فيشرع إذا قُتل القاتل أن يعزى أهله في مصيبتهم، ولا بأس في ذلك ولا حرج، وكونه يجني هذه الجناية لا يقتضي إسقاط حق أهله، فواجب على المسلم أن يعزي أخاه المسلم في مصيبته، وهكذا بالنسبة لأهل الجرائم، فلو كان قُتل في جريمة المخدرات أو نحوها، فيشرع أن يعزى أهله، فما دام أنه من المسلمين فإنه يشرع تعزية أهله فيه، وبعض الناس يظن أنه إذا قتل في مخدرات، أو قتل في قصاص، أو في جريمة؛ أنه لا يُزار أهله ولا يعزون. وبعضهم يبالغ في هذا فيقول: مثل هذا لا تعزونا فيه. وهذا لا يجوز شرعاً؛ لأنه إذا أقيم الحد على العبد طُهِّرَ من ذنبه، والدليل على ذلك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقام الحد على المرأة التي زنت تكلموا فيها، وتكلموا في ماعز حينما أقيم عليه الحد رضي الله تعالى عنهما، فقال عليه الصلاة والسلام في ماعز: إنه الآن ينغمس في أنهار الجنة)، وهذا يدل على سعة رحمة الله عز وجل، ويدل على أن من أعظم نعم الله على الإنسان ألا يشتغل بالناس، ولذلك قال الإمام ابن القيم رحمه الله كلمة عظيمة في كتابه الفوائد -وكلامه رحمة الله عليه درر- قال: (أخسر الناس صفقة من اشتغل بنفسه عن الله، وأخسر منه صفقة من اشتغل بالناس عن نفسه). فأخسر الناس صفقة من اشتغل بنفسه عن الله فجلس في الشهوات والملهيات يلذذ نفسه، ونسي ربه -والعياذ بالله- فاشتغل بنفسه عن الله، فهذا على الأقل متع نفسه، وأخسر منه صفقة من اشتغل بالناس عن نفسه، فقد يبدأ الإنسان بغيبة الناس حسبة أو طاعة أو قربة فيزل لسانه، ثم يستدرج حتى تصبح الغيبة في لسانه تأكل من حسناته ما لم يخطر له على بال، ولذلك فالاشتغال بالناس لا خير فيه، ومن هنا قال تعالى: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11]. ولما تكلم بعض الصحابة في الذي شرب الخمر رضي الله تعالى عنه، وقالوا: فلانٌ تقطرُ لحيته خمراً، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله)، فظاهره ذنوب وخطايا ولكنه مبتلىً، وعندها شهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحب الله ورسوله. عليك نفسك فاشتغل بمعيبها ودع عيوب الناس للناس ولذلك ترى الرجل الصالح التقي الورع شغلته ذنوبه، وألهته عيوبه، وأقبل على نفسه فاستكمل نواقصها، وقال: أنا المسيء، وأنا المذنب، وأنا الذي عندي عورات، وأنا الذي عندي سيئات. وأذكر أن بعض مشايخنا رحمة الله عليهم كان لا يجلس أحد عنده فيذكر أحداً بسوء إلا نفر وقام كالأسد، فإما أن يطرده، وإما أن يوبخه، وإما أن يسكته، ويقول له: أنا الذي عندي العيوب، ونحن المخطئون، ونحن المذنبون، فدع الناس عنك، ومع ذلك تجده في نعمة محبوباً من الناس، ومقرباً من الناس، ومهاباً عند الناس، ومحفوظ العرض بين الناس، وفي الحديث: (قيل: يا رسول الله! من المسلم؟ قال: الذي سلم المسلمون من لسانه ويده). وكثيراً ما يُجر الإنسان بسبب الغرور، فإذا التزم نسي أنه لا حول له ولا قوة، ثم يبدأ بنفسه وكأنه قد وصل إلى أعتاب الجنة بل إلى درجاتها العُلا، ثم يبلغ به الشيطان استدراجاً وأخذاً حتى يقف على أبواب الجنة -والعياذ بالله- ليدخل من شاء ويخرج من شاء، فهذه زلات القدم، ولذلك على الإنسان أن يتفقد نفسه، ومن سرته حسنته وأبكته أو ساءته سيئته، فهذا هو المؤمن الحق. فمن نعم الله على العبد، بل من أجل النعم أن ينظر إلى نفسه وإلى عيوبه وإلى خطاياه، ويزدري نفسه في جنب الله عز وجل، وعندها إذا سمع عن مؤمن أو مسلم أخطاءً أو عيوباً رفع كفه إلى الله، وقال: اللهم عافه ولا تبتلنا، اللهم اهد فلاناً، اللهم تب على فلان، وإذا بالملك يؤمن، بينما تجد البعض -نسأل الله السلامة- يتتبع العثرات، حتى يبلغ به الأمر أن لو قيل له: فلان تاب، فإنه يشكك في توبته -نسأل الله العافية والسلامة- والله تعالى يقول: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:8]، وهذا كله بالاستدراج، ووالله لو أن العبد الواعي الفاهم درس نصوص الشرع في بيان كيفية استدراج الله للعبد في معصيته، خاصة في حقوق عباده وأوليائه؛ لتعجب كيف أن الله سبحانه وتعالى يخذل من يؤذي عباده. وإنما نقول هذا ونؤكد عليه؛ لأننا درسنا نصوص الكتاب والسنة فوجدنا الوعيد الشديد، والتقريع والتوبيخ على ازدراء المسلم؛ لأنه لا يتكلم في الناس إلا من يزدريهم، ولا يتكلم في الناس إلا من يحتقرهم، وانظر كيف عاتب الله نبيه عليه الصلاة والسلام من فوق سبع سماوات بسبب ما حدث من عبد ضعيف جاء يريد أن يستفيد، فقال تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام:52]، مع أنه عليه الصلاة والسلام تأول واجتهد، ومع هذا جاء الخطاب من فوق سبع سماوات. فحرمة المسلم عظيمة، وليعلم كل إنسان أن أعراض الناس ليست رخيصة، وليعلم كل إنسان أنه إذا جاء ينظر إلى الناس بأحسابها وأنسابها وألونها، وفقرها ومناصبها؛ فذلك لا يغني عند الله شيئاً، وقد قال الله لكل عبدٍ مؤمن بالله واليوم الآخر: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، فويلٌ لك إذا تكلمت في عبدٍ كريمٍِ عند الله عز وجل. والتقوى في القلوب، والله يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]، فإذا أصبح الإكرام من الله لعبده وكرامة العبد عند الله عز وجل موقوفة على التقوى، فإن التقوى ليس لك سبيل إلى علمها، وغيب القلوب لا يعلمه إلا الله تعالى نعم، لك أن تحكم على الظاهر، وكلامنا إذا لم توجد حاجة، وإنما في الاسترسال في أعراض المسلمين. والعجيب أن تجد الشخص ملتزماً، وربما يمسي الليل قائماً، ويصبح بالنهار صائماً، ثم إذا به يقول كلمة واحدة عن الجنس الفلاني، والقبيلة الفلانية، فإذا به يبوء بالسيئات العظام؛ لأنه اغتاب جنساً، أو جماعة فلان، أو قوم فلان، وفي الحديث: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقي لها بالاً -وفي لفظ: ما يتبين فيها- يهوي بها في النار سبعين خريفاً، أو أبعد مما بين المشرق والمغرب). فلا يظن أحدٌ أن أعراض المسلمين عند الله رخيصة، وأن المسلم سهل أن يلاك عرضه باللسان، وليعلم أن له رباً يحاسبه، وأنه كما يستشعر عظم عرضه ومكانته، فلربما يكون مرقع الثوب عند الله بمكانٍ أفضل من مكانه، وله عند الله حرمة أعظم من حرمته. فهنيئاً لمن قدر نفسه قدرها، وأذل نفسه وعرف حقها، هنيئاً لمن شغلته عيوبه عن عيوب الناس، وتوطن بالتقوى، وتسربل بسربالها، وسلم المسلمون من يده ولسانه، وزلات جوارحه وأركانه، وجماع الخير كله في الخوف من الآخرة، وما كف المسلم عن الوقيعة في المسلمين واحتقارهم والكلام فيهم شيءٌ مثل ذكر الآخرة، فوالله لو استشعر الإنسان أنه قائمٌ بين يدي الله، موقوفٌ بين يدي جبار السماوات والأرض؛ لهانت عليه الدنيا وما فيها، ولم يستطع أن يذكر مسلماً إلا بكل خير. وكم رأينا والله من الصالحين والأخيار من العلماء والأئمة وطلاب العلم الفضلاء من شغلته نفسه عن الناس، فوجدناه في عافية من أمر دينه عجيبة، فقل أن تجده مفتوناً، وقل أن تجده يشتكي فتنة؛ لأن الذي بينه وبين الله صالحٌ، فأصلح الله سريرته، وأصلح ما بينه وبين الناس، فزكت روحه وسمت نفسه، فالمؤمن دائماً يبحث عن هذا، وثق ثقة تامة أنك إن وطنت نفسك على أنك المقصر، وعلى أنك الذي تطلق لسانك، وأنه ينبغي أن تكبح هذا اللسان، وأن تكبح جماحه، وأن تمنعه بمانع التقوى، حفظك الله، وذلك كله بفضل الله، ثم الدعاء، ثم ذكر الآخرة. فما هذب أخلاق الإنسان وسلوكه شيء مثلُ ذكر الآخرة، والعلم بأنه لا مكان له بين يدي الله إلا بالعمل الصالح، وأن الله لم يجعله حكماً على عباده، وأن الله لم ينصبه من أجل أن يدخل من شاء في جنة الله، ويخرج من شاء عن رحمة الله عز وجل، وإنما هو عبدٌ مربوب، وليس برب يحاسب، وليس برب مطلع على ضمائر الناس في سرائرهم. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدينا لمحاسن الأخلاق، وأن يصرف عنا شرها وسيئها، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، ونسأل الله للجميع التوفيق والسداد، والسلام عليكم.

باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس [3]

شرح زاد المستقنع - باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس [3] إذا جنى الجاني جناية على غيره فقد تسري هذه الجناية فتصيب العضو كله كاليد ونحوها، وقد تؤدي إلى إزهاق النفس وهلاكها، فإذا حصل شيء من ذلك فإن الجاني يضمن هذه السراية كلها، وإذا مات المجني عليه اقتص منه جزاء وفاقاً، وأما السراية بسبب القصاص فلا ضمان فيها، وكذلك إذا كانت السراية بعد القصاص والقود من الجاني فلا ضمان فيها أيضاً.

أحكام سراية الجناية

أحكام سراية الجناية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

سراية الجناية مضمونة فيما انتهت إليه

سراية الجناية مضمونة فيما انتهت إليه فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وسراية الجناية مضمونة في النفس فما دونها]: السراية: مأخوذة من (سرى) إذا مشى ليلاً، وسرى الشيء إذا مشى، وكأنهم صوروا سريان الضرر من العضو إلى البدن، أو سريان الضرر من جزء العضو إلى العضو كاملاً، ووصفوه بهذه الصفة؛ لأنه يسري ويدب ويمشي داخل العضو. وهناك نوعان من السرايات: سراية قود، وسراية جناية، فسراية الجناية: كأن يجني الجاني على طرف الأصبع، فتسري الجناية من هذا الطرف فيسقط الأصبع -والعياذ بالله- أو يُشل ويتلف، وقد تسري إلى الكف كاملة، وقد تسري إلى الساعد، وقد تسري إلى الكتف، وقد تسري إلى البدن كله فتقتله، فهذه أحوال وصور لسراية الجناية، ومثلها سراية القود. وقد تقع السراية بالأسلحة والآلات المسمومة، كما لو ضربه بسكين مسمومة، أو ضربه بسكين كالة وحصل تلوث بسببها، وقد سبق الكلام على القصاص فيما إذا حصلت الجناية على موضع بقطعه. والأصل في الشريعة أنه لا يقتص من الجاني حتى يبرأ الجرح، خوفاً من السرايات، ولذلك امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من القصاص، وأمر المجني عليه أن يصبر حتى يبرأ. فالأصل أننا لا نقتص حتى يبرأ الجرح، فإذا برئ الجرح وعرفنا نهاية الضرر، فإننا نقتص من الجاني بمثل جنايته، أما إذا لم يبرأ الجرح وسرى، فإما أن يسري إلى العضو كاملاً، أو يكون أكثر من ذلك، ولربما أتى على النفس فقتل المجني عليه. فإذا سرت الجناية من طرف الأصبع إلى الأصبع كاملاً، فإننا نحكم بثبوت القصاص في الأصبع كاملاً، ولا نحكم به في الموضع الذي قطع منه؛ لأن هذا مستتبع، وهو تبع للجناية، والقاعدة أن التابع تابع، فهذا الضرر جاء تبعاً للجناية، ومن هنا يقتص منه قصاصاً كاملاً، فإذا أسقط العضو، أو شل اليد-والعياذ بالله-، أو شل الرجل اقتص من العضو كاملاً، او اعتدى على رأسه، ثم سرت الجناية حتى أخذت العين كاملة، فإننا نقتص من عينه كاملة، أو قطع منه طرف الأذن، فسرت الجناية حتى أتلفت الأذن كاملة، قطعت أذنه كاملة، وهكذا في بقية الأعضاء. فإذا تعدى الضرر من الموضع المجني عليه إلى موضع آخر، فإنه يجب القود كاملاً تاماً، أما إذا سرى الضرر إلى نفس المجني عليه فمات، وقال الأطباء: إن سبب الموت هو هذا الجرح، أو هذه الجناية، كما لو ضرب شيخاً كبيراً وعاجزاً، فطعنه طعنة جائفة، فسرت الجائفة حتى أتت عليه فأهلكته، فإننا نوجب القصاص من الجاني، فيكون القصاص في نفسه بقتله؛ لأن سراية الجناية أتت على النفس، وكتاب الله القصاص في النفس كاملة، ولا نقول: إنه يتقيد بفعله الذي فعله؛ لأن هذا مستتبع بالجناية، فيُفعل به مثل ما فعل بمن جنى عليه. وعلى هذا فإن سراية الجناية معتبرة، وبهذا قضى الأئمة والسلف الصالح رحمهم الله، وعليه اتفاق الأئمة رحمهم الله من حيث الجملة.

سراية القود وحكمها

سراية القود وحكمها قال رحمه الله تعالى: [وسراية القود مهجورة]. أي: إذا حصلت السراية في القصاص، كما لو قطعت يده كما قطع يد المجني عليه، وشاء الله تعالى أن لا تبرأ يد الجاني، فنزف منها الدم حتى مات، فإنه لا يجب الضمان، وهذا هو قضاء أبي بكر، وعمر، وعلي رضي الله عنهم، وكلهم قضوا بأن سراية القود والقصاص والحدود لا ضمان فيها، وأُثر عن علي رضي الله عنه حينما أقام الحد على رجل فمات، فقال رضي الله عنه: (الحق قتله)، أي: لسنا الذين قتلناه، وإنما قتله الحق؛ لأن الله أمرنا أن نقتص، فإذا مات بالقصاص، فهذا حكم الله عز وجل وليس بحكمنا، وهذا هو القول الصحيح، وهو مذهب الجمهور رحمة الله عليهم، فسراية القود غير مضمونة. وقال بعض العلماء كما هو مذهب الحنفية وطائفة رحمة الله على الجميع: إنها مضمونة، والصحيح أنها غير مضمونة. ومن هنا فلو أن امرأة زنت-والعياذ بالله- وهي بكر، فجلدناها مائة جلدة، وبعد الجلد ماتت، وكان موتها بفعل حر الجلد وألمه، فإنه لا يقتص من الجلاد، ولا نوجب عليه الضمان في ماله، ولا في بيت مال المسلمين؛ لأن الله عز وجل أوجب علينا أن نفعل هذا الفعل، وهذا حكم الله تعالى في خلقه، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا ضمان في قصاص أو حد)، فلو أننا اقتصصنا منه فمات بفعل هذا القصاص، فإنه قد قتله الحق، ولم نقتله نحن، وحينئذ لا ضمان على المقتص، سواءٌ أكان أمره السلطان، أم القاضي، فلا ضمان عليه في ماله، ولا في مال بيت المسلمين، خلافاًً لمن قال: إنه يضمن، ثم اختلفوا: هل يضمن من بيت مال المسلمين إذا كان أمره القاضي؟ أو يضمن من ماله على عاقلته؟ على وجهين مشهورين عندهم، والصحيح أنه لا ضمان في هذا كله.

الاستعجال في القصاص أو الدية وحكم السراية بعدها

الاستعجال في القصاص أو الدية وحكم السراية بعدها قال رحمه الله تعالى: [ولا يُقتص من عضو وجرح قبل برئه، كما لا تطلب له دية]: أي: لو أن رجلاً قطع يد رجل، فقال المجني عليه: أريد أن أقتص، فيقال له: انتظر حتى تبرأ مخافة سراية الجناية، وحينئذٍ فننتظر إلى أن يبرأ، ونعرف حدود الجناية، فلا يقتص من عضو ولا طرف، ولا من جرح إلا بعد برئه، فإذا برأ قلنا له: اقتص منه، وهذا كما حديث جابر رضي الله عنه عند الدارقطني رحمه الله، وكذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم، والعمل على هذا عند أهل العلم رحمهم الله، فالجمهور على أنه لا يُقتص حتى يبرأ الجرح، فنعرف حدود الجناية، وهذا صحيح ولا إشكال فيه. لكن إن اعتدي عليه فقطعت يده، فقال للقاضي: أريد أن أقطع يد الجاني، فقال له القاضي: انتظر حتى تبرأ، فأصر على حقه ليقتص فوراً، فبعض أهل العلم يقول: يُمكن من حقه، فإذا مُكن من حقه، ثم سرت الجناية بعد اقتصاصه، كما لو قُطع أصبعه، فقال: أريد القصاص وأريد أن آخذ بحقي، فمكنه القاضي، فقطع أصبع الجاني، ثم بعد القطع سرت الجناية حتى سقطت كفه، فسريان الجناية هدر، وفي هذا قصة مشهورة: (أن رجلاً ضرب رجلاً بقرن في ركبته، فقال: يارسول الله! أقدني، فأمره صلى الله عليه وسلم أن ينتظر، فأصر الرجل على القصاص، فقال: أقدني يا رسول الله! فأمره أن ينتظر، حتى ألح عليه فأمره أن يقتص، فلما اقتص سرت الجناية حتى أخذت رجله فعرج، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب حقه، فقال صلى الله عليه وسلم له: بطل جرحك)، أي: ليس لك حق، مادام أنك طلبت القصاص فوراً؛ إذ لو اقتص من الجاني بعدها لكنا قد أوقعنا به الضرر مرتين، وفعلنا به فعلين، وكانت جنايتين في مقابل جناية واحدة، والقصاص يقتضي التماثل، ومن هنا إذا استعجل في مطالبة حقه فقد أسقط حقه بعد ذلك، وقال بعض العلماء: له القصاص، والصحيح ما ذكرناه. وقوله رحمه الله تعالى: (كما لا تُطلب له دية): لاحتمال أن تقطع أصبعه فتتلف يده كاملة، فيكون له نصف الدية، ومن هنا قالوا: إنه لا يعطى عشر الدية في أصبعه، وإنما ينتظر إلى برئه، فربما سرت الجناية، فكان حقه نصف الدية، فبدل أن يعطى عشر الدية يعطى حقه كاملاً.

الأسئلة

الأسئلة

ضمان التفريط في سراية الجناية

ضمان التفريط في سراية الجناية Q إذا كانت سراية الجناية بسبب تفريط المجني عليه، فما الحكم؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهذا السؤال له جانبان: الجانب الأول: أن تكون السراية بسبب إهمال الطبيب، أو خطأ الطبيب، كشخص قطع أصبع أخيه، فجاء الطبيب ليعالجه، فلم يعالج أصبعه بالطريقة المعتبرة عند الأطباء، وأهمل مداواة الجرح حتى تلوث الجرح وتسمم، وسقطت يده، أو مات، فحينئذٍ إذا كان الموت بسبب هذه السراية وهذا الضرر فالضامن هو الطبيب، وليس الجاني؛ لأن الموت ما جاء من الجناية، وإنما جاء من العلاج، فإذا كان بالدواء الذي وضعه الطبيب، أو أهمل فيه، حتى حصل الضرر، فإن الطبيب يتحمل المسئولية؛ لأن الإهمال والتقصير من أسباب ضمان الأطباء، والطبيب يضمن إذا تعدى، ويضمن إذا أهمل وقصر في تتبع الأمور المتبعة عند الأطباء. الجانب الثاني: أن يكون الإهمال من نفس المريض، كما لو كان المفروض عليه أن يذهب إلى الطبيب ليعالجه، فامتنع حتى تسمم الجرح وتلف، فإنه ضامن لنفسه، ولا يتحمل الضمان الطبيب ولا الجاني، فالجرح تعتبر سرايته إن كانت بسبب الجناية، فالطبيب بذل ما في وسعه، ولكن المرض استفحل والداء استشرى، فحينئذ يضمن الجاني، أما إذا كان بإهمال الطبيب، أو بإهمال المريض، فكلٌ يتحمل مسئوليته: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، فالجاني تقدر جنايته ويضمن، والطبيب يقدر إهماله وإخلاله فيضمن، وإذا كان التقصير من المجني عليه فلا إشكال؛ لأنه يتحمل مسئولية نفسه. والله تعالى أعلم.

كيفية القصاص في الجناية الجماعية

كيفية القصاص في الجناية الجماعية Q إذا لم تعرف جناية كل جان لوحدها، كالجناية الجماعية، فكيف يُقتص؟ A إذا لم تعرف الجناية، ففي هذه الحالة إما أن يموت المجني عليه، وإما أن يكون حياً يقبل قوله، فإذا مات فالأمر إلى ورثته، ولهم أن يَدَّعوا فيقولون: فلان فعل كذا، وفلان فعل كذا، وفلان فعل كذا، فإذا ادعوا على كل واحد جناية جرى في ذلك سنن القضاء وصارت دعوى، فيُحضر كل واحد من هؤلاء الجناة، ويسأل عن دعوى الجناية، فإذا أقرَّ أُخذ بإقراره، وإذا لم يقرَّ فحينئذ يُطالب الورثة بالبينة والدليل، وعليه يمين إذا أنكر، ولو أن واحداً منهم قال: أنا أمسكته، والثاني هو الذي ذبح، وهو الذي بقر بطنه وأشعل النار فيه، فحينئذ في هذه الحالة يؤتى بالثاني، فإن أقر أنه هو الذي قتل، وأنه هو الذي فعل؛ فإن الأول ممسك والثاني قاتل، فالممسك يحبس إلى الموت؛ لأنه أمسك شخصاً لشخص يعلم أنه سيقتله، وكان بإمكان الشخص أن يفر لولا هذا الإمساك، فيحبس كما حبس هذه النفس المحرمة حتى يموت، ولا نستطيع أن نقتص منه؛ لأنه لم يكن الزهوق بفعله، ويقتص من الذي باشر، فالإمساك سببٌ، والبقر والبطن وإشعال النار مباشرةٌ، فحينئذ تجتمع السببية مع المباشرة، وقد تقدم معنا التفصيل في هذا. ثم الأعضاء على نفس التفصيل، فإذا ادعوا على أن كل واحد فعل فعلاً، فقالوا: هذا قطع يده، والثاني قطع رجله، فنأتي بهؤلاء الذين ادعي عليهم، فإن أقروا فحينئذ يقتص من كل واحد بمثل جنايته، وأما إذا وجدوا مجتمعين، فظاهر الحال أنهم اشتركوا، وحينئذ كل منهم يحتمل أنه جانٍ، مادام أنهم كلهم في مكان الجريمة، وأُخذوا على ذلك، وأقروا، ولا تستطاع استبانة الفعل، والفعل مشترك بينهم، فحينئذ يُقتص منهم جميعاً، فلو أنهم كلهم قطعوا رجله، فأحدهم وضع السكين وحز بها، وقطعوا العضو، فالقطع حاصل بفعل من؟ فتقطع رجل كل واحد منهم. وكذلك لو أرادوا أن يلقوا صخرة على شخص، فاحتاجوا الى تشغيل جهاز، فاتفقوا على تهيئته ووضعه، وكلهم جاء وشغله، فنزلت الصخرة على يده فقطعتها، أو كانوا يريدون قتله، فشرد الرجل فسقط على يده فقطعها، فحينئذ نقطع أيديهم كلهم. فالجماعة إذا فعلوا فعلاً بحيث لو انفرد كل واحد منهم لحصل الزهوق بفعله، ولحصل القطع أيضاً للعضو بفعله، فإنه يُقتص منهم. أما لو فُصل فعل كل واحد منهم فإننا نفعل بكل واحد مثل ما فعل، فلو أن أحدهم قطع يده، والثاني قطع رجله، والثالث قطع أذنه، قطعنا رجل من قطع الرجل، ويد من قطع اليد، وأذن من قطع الأذن؛ لأن كتاب الله القصاص، ولا يُجنى على الجميع بجناية إلا بمثل، ولا يؤخذ من الجميع شيء إلا مثل ما فعل بالمجني عليه، فهذا بالنسبة لاشتراك الجماعة في فعلهم بالمجني عليه، والله تعالى أعلم.

نوع القتل بسراية الجناية

نوع القتل بسراية الجناية Q سراية الجناية على النفس أليست من قبيل قتل الخطأ؛ لأنه لم يرد قتله، ولكن سرى الجرح فقتله؟ A لا، فليت القضية هنا قضية قتل خطأ، فهذا رجل جاء بالسكين وقطع أصبع المجني عليه، أو قطع يده، أو قطع رجله، فهو جان متعمد قاصد للضرر، وهذا الضرر استفحل حتى أتى على النفس، فيتحمل هذا الضرر كاملاً؛ لأن الموت حصل بهذه الجناية، وحصل بهذا الفعل، والدليل على ذلك: أن جرح أي موضع من البدن لا يؤمن معه أن يفضي إلى البدن كله، وعلى هذا فإنما ينظر إلى وجود العمد العدوان، فالنفس محرمة، والاعتداء على عضو منها لا يؤمن معه سريانه إلى جميع البدن، فيُحمل المعتدي المسئولية عن البدن كاملة، وإلا لضاعت الحقوق؛ إذ ما على الشخص إلا أن يأتي بسكين مسمومة، ويقطع بها أصبعاً، ويتركها حتى يموت المجني عليه. فإيجاب ضمان السراية هذا ضبطٌ لحقوق الناس، وزجر عن الفتنة، وحسم لمادة الشر، ولو أن شخصاً وخز شخصاً بسكين في موضع وربطه، أليس من المحتمل أن ينزف جرحه حتى يموت؟ ففي بعض الأحيان الضرر البسيط على البدن قد يأتي على البدن كله، فمادام أنه قد أضر به ضرراً يأتي على النفس، فيتحمل مسئولية هذا الضرر، وعلى هذا فإننا لو حكمنا بالقصاص فما ظلمنا الجاني؛ بل فعلنا به مثل ما فعل بأخيه، فاستوى أن يكون ذلك بالطرف، أو يكون فيما هو مقتل، والله تعالى أعلم.

طهارة المصاب بالباسور أو الناسور عند إرادة الصلاة

طهارة المصاب بالباسور أو الناسور عند إرادة الصلاة Q إذا كان الإنسان مصاباً بالباسور، ويخرج منه شيءٌ بسيط، فهل عليه وضوء لكل صلاة مثل المستحاضة؟ A البواسير والنواسير فيها تفصيل؛ إذ البواسير من الخارج، وغالباً تكون على حلقة الدبر، أما النواسير فتكون من داخل الدبر. فالجروح السيالة التي في داخل الدبر من النواسير إذا استمر النزيف فلها حكمان، والبواسير لها حكم واحد. أما البواسير فإذا كانت من خارج، أو على الحلقة-حلقة الدبر فتحة الشرج- فإنها لا تنقض الوضوء؛ لأنها من خارج، ومادتها نجسة، وأما النواسير الداخلية فتنقض الوضوء، ومادتها نجسة، فللبواسير حكم واحد، وهو النجاسة، وللنواسير حكمان: وهما النجاسة، ووجوب إعادة الطهارة. ومن هنا فإذا كان عنده نواسير، وخرجت الدماء مسترسلة، أو كان عنده سلس في خروجها، فإنه إذا استمر خروج الدماء من النواسير، واستغرق وقت الصلاة كاملاً، فحينئذ نقول له: توضأ عند دخول الوقت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة، فقال عليه الصلاة والسلام: (وتوضئي لكل صلاة)، وعلى هذا فإذا دخل الظهر فيتوضأ، ثم يصلي الظهر والسنن الراتبة القبلية والبعدية، ولو خرج معه دم النواسير؛ لأنه معذور، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فيعذر في هذا، وهذا بالنسبة لظاهر الحديث، أما إذا كانت النواسير تستمر معه وقتاً يسيراً كعشر دقائق، أو ربع ساعة، بحيث يأتيه نزيف بعد البراز مدة ربع ساعة، أو عشر دقائق، وحضر وقت الصلاة، فيقال له: لا تصل، وانتظر حتى تطهر، فتنقي الموضع وتطهره وتغسله، ثم تصلي صلاة بطهارة تامة كاملة. وإذا كانت النواسير سيالة، وأمكنه أن يضع قطنة يسد بها موضع خروج الدم فليفعل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المستحاضة أن تتلجم، وقال عليه الصلاة والسلام: (أنعت لك الكرسف، قالت: يا رسول الله! هو أشد من ذلك)، ومعنى (أنعت): أصف، والكرسف: القطن، وذلك لأنه كان يخرج منها الدم من الفرج، والدم دم الاستحاضة، فهو مثل النواسير؛ لأن هذا من القبل وهذا من الدبر، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في دم الاستحاضة (إنما ذلك عرق)، فوصفه بكونه نزيفاً من عرق، وهذا العرق ورد تسميته في السننن وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله بأنه: العاذر، والعاند، والعاذل. فإذا كان المعنى في النواسير هو نفس المعنى في الاستحاضة فالحكم واحد، فيقال لمن به ناسور: ضع قطنة تمنع خروج الدم وصلِّ، حتى إذا خرج الوقت أعدت الطهارة للصلاة الثانية. ولكن إذا حصلت مشقة على الإنسان، كأن يكون في زمن شديد البرد، ويصعب عليه أن يتوضأ لكل صلاة، فإن له أن يؤخر صلاة الظهر إلى آخر وقتها، حتى لا يبقى من الوقت إلا بقدر ما يتطهر، ثم يتطهر فيصلي الظهر، فإذا أذن العصر صلى بعده العصر، ثم يؤخر المغرب إلى ما قبل آخر وقتها، ثم يتطهر فيصلي المغرب، ثم يؤذن العشاء فيقيم ويصلي العشاء، وهذا يسمى بالجمع الصوري، وهذا إذا كان قد استفحل عليه الأمر، أو كان الماء عنده قليلاً، ولا يمكنه أن يتوضأ لكل صلاة، فحينئذ نقول له: اجمع جمعاً صورياً، وهو معذور في ترك الجماعة من هذ الوجه، والله تعالى أعلم.

حكم الأخذ من مال اليتيم دينا دون علمه وإدراكه

حكم الأخذ من مال اليتيم ديناً دون علمه وإدراكه Q عندي مال ليتيم، وقد أخذت منه مبلغاً، واعتبرته ديناً عليَّ، لأقوم بإرجاعه، وذلك دون علمه، حيث إنه صغير السن، فهل يجوز لي ذلك؟ A الله المستعان! والله يعينك، فقد تحملت أمانة عظيمة، وأموال اليتامى بلاء عظيم، ومن تحملها فليجعل الجنة والنار نصب عينيه، فأمرها عظيم، وعليه أن يتقي الله عز وجل، والذي أراه في هذه المسألة -وهو أصح قولي العلماء- أن ولي اليتيم ليس له أن يخاطر بماله، فلا يستدن من مال اليتيم لنفسه، ولا يستدن لغيره؛ لأنه لا يأمن العجز عن السداد، وقد يكون بحال طيب، ثم يتلاعب به الشيطان، فأوصيك أخي ونفسي بتقوى الله الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، وأن ترد لهذا اليتيم حقه، وأن تكون ممن أثنى الله عليهم من فوق سبع سماوات بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8]، فارع أمانة اليتيم، ورد ماله كاملاً تاماً، ولو استدنت من شخص آخر، فرد هذا المال، وابحث عمن يدينك، وأما مال اليتيم فهو أمانة في عنقك، فالله الله في هذه الأمانة، وأدِّها كما أخذتها، واتق الله عز وجل في مال اليتيم، فهذه وصيتي لك؛ لأن هذا أسلم لدينك، وأبر في طاعة ربك، فاتق الله عز وجل، ولا تخاطر وتعرض مال اليتيم للمخاطرة. والله تعالى أعلم.

حكم قص المرأة لشعرها

حكم قص المرأة لشعرها Q هل يجوز للمرأة أن تقص شعرها؟ وهل ورد ذلك عن عائشة رضي الله عنها؟ A قص الشعر له صور: الصورة الأولى -وهي ممنوعة محرمة-: أن يكون قصاً متفاحشاً؛ لأن هذا تشبه بالرجال، وهذا فعل المسترجلات، فتقص شعرها قريباً من شعر الرجل، حتى تبدو كأنها رجل، وهذا فعل المسترجلات من المتبرجات ونحوهن-أعاذنا الله وإياكم من أدران الأخلاق وسيئها-، ومثل هذا فيه اللعنة؛ لأن المرأة تفعله بقصد الاسترجال، والمرأة إذا استرجلت فهي ملعونة. الصورة الثانية: قص المشابهة المحرم، وهو أن تقص على نمط أو طريقة وافدة من أعداء الله عز وجل، وهذا أيضاً فيه الوعيد، وفيه تشبه لمن سمى الله عز وجل، ولا يجوز للمسلمة أن تفعله. الصورة الثالثة: القص النسبي، وهو التخفيف من الشعر، خاصة عند حدوث الأذية منه عند غسله ونحو ذلك، فتخفف منه، أو القص المسنون شرعاً كما في النسك؛ فلا بأس به ولا حرج، ولكن ما ذكرناه من القص الممنوع فإنه محظور. وعلى كل حال فعلى المرأة أن تحمد الله عز وجل على العافية، وأن تحمد الله عز وجل على نعمته وخلقته، فالعبد المؤمن والأمة المؤمنة عليهم الرضا بخلقة الله عز وجل وتصويره، ومن رضي عن الله أرضاه، ومن أرضاه ربه بارك له، فأوصي المرأة أن تحمد الله عز وجل وتشكره، فكم من امرأة تساقط شعرها حتى تمنت أن تجد شعراً ولم تجده، ولكن إذا حصل ضيق، وتضررت منه، فتقص منه في حدود معقولة، ولا بأس بذلك ولا حرج، وأما أن تقص كما شاءت، وتفعل ما شاءت فلا. وأما ما ورد عن أمهات المؤمنين فمحل نقاش كبير عند العلماء رحمهم الله تعالى، وفيه إشكالات في قصهن كالوفرة، وهل هذا فعلنه رضي الله عنهن وأرضاهن من باب التقشف والبعد عن الزينة؛ لأنهن من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرغبن في الزواج ففعلن ذلك؟ فهذا وجه، وقد جاء في حديثٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الله قال لهن: (الزمن الحُفُر)، وفيه إشكال عند العلماء معروف، ولكن الأصل في الشرع عدم تغيير الخلقة، والله تعالى خلق للمرأة هذا الشعر، وأحل لها الأخذ منه في النسك، وما عدا ذلك فإذا قصته خرجت به عن سنن فطرتها، وقد جعل الله عز وجل فيها الشعر جمالاً وشيئاً تتزين به، والأصل يقتضي عدم التصرف في هذه الأشياء، خاصة إذا استفحل القص، فإذا ترفعت في القص، وقصت قصاً متفاحشاً، فنقول: الأصل المنع منه، ولا يقال بجوازه إلا بدليل، خاصة وأنها إذا تفاحشت في القص شابهت الرجال، وعلى هذا يمنع منه، وأما إن كان قصاً نسبياً يقصد منه تخفيف الشعر، خاصة عند تضررها في الغسل من الجنابة والحيض ونحو ذلك، فلا بأس بذلك ولا حرج، والله تعالى أعلم.

مدى مشروعية توجيه الذبيحة للقبلة

مدى مشروعية توجيه الذبيحة للقبلة Q هل هناك دليل على توجيه الذبيحة للقبلة؟ A هذا الأصل ينتزعونه من دليل المقارنة في قوله صلى الله عليه وسلم: (من استقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا)، ويستأنسون بهذا، ولكن المحفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه أضجع الذبيحة على شقها الأيسر، ووضع قدمه عليه الصلاة والسلام على الذبيحة، ثم سمى الله وكبر)، كما في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه. وهذا أصل يحبه العلماء، ويقولون: التوحيد لله عز وجل، والذبح لله سبحانه وتعالى يكون ظاهراً وباطناً، ومن هنا فإذا استقبل القبلة، وسمى الله وكبره ووحده سبحانه وتعالى، فقد جمع بين الظاهر والباطن، وعلى كل حال فهذا ليس فيه حظر، وليس فيه منع؛ لأنه حقق مقصود الشرع من التوحيد والإخلاص. كما انتزع العلماء من ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً)، وهو حديث حسنه غير واحد من الأئمة، مشروعية الاستقبال عموماً، فقالوا: فيستحب استقبال القبلة حال الحياة وحال الموت، ومن هنا يقولون: إنه يشرع بأصل عام، ولكن لا يلزم به الناس، ولا يكون إلزاماً واجباً محتماً على المكلف، والله تعالى أعلم.

حكم وضع الصدقة عن الميت على قبره

حكم وضع الصدقة عن الميت على قبره Q هل يجوز وضع شيء على القبور كالحب مثلاً بنية الصدقة عن صاحب ذلك القبر؟ A هذا لا يشرع؛ بل قد نهي عن الجلوس على القبر، ونهي عن وط القبر، وإذا وضع الحب على القبر فلربما جاءت البهيمة ووطأت القبر، وهذا مخالف للشرع تماماً، والذي يريد أن يتقرب إلى الله عز وجل فليتقرب بالمشروع، والقبور ليست مكاناً لتوزيع الحبوب، وهذا ليس بواردٍ وليس له أصل شرعاً، والذي يريد أن يوزع الحب، أو يريد أن يتصدق عن ميته، فالصدقة عن الميت مشروعة، والحديث فيها صحيح وهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليه سعد بن عبادة رضي الله عنه، وقال: يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها، وما أُراها لو بقيت إلا أوفت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم، فتصدق عنها بحائطه الخراف)، وهذا يدل على مشروعية الصدقة عن الميت، وأن الميت ينتفع بصدقة الحي، ولـ شيخ الإسلام رحمه الله كلام نفيس في هذه المسألة في مجموع الفتاوى، ويشرع أن يفعل ذلك بالصدقات، فيذبح ويعطي الفقراء والمساكين، أو يطعم الدواب الحبوب، أو يطعمها شيئاً صدقة عن والده الميت، أو والدته، وهذا من البر والإحسان إلى الأموات بعد موتهم. وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين، وقال في أحدهما: اللهم هذا عن محمد وآل محمد -أي: آل محمد الأحياء والأموات- وقال في الثاني: عمن لم يضح من أمة محمد)، فشمل أحياءهم وأمواتهم، وقد أخذ منه الجمهور دليلاً على مشروعية الصدقة عن الميت، وأنه لا بأس بذلك ولا حرج، والله تعالى أعلم.

حكم من نوى العمرة بعد مجاوزة الميقات

حكم من نوى العمرة بعد مجاوزة الميقات Q رجل جاء إلى جدة، وبعد أسبوعين نوى العمرة وهو في جدة، فهل يُحرم من جدة؟ أم يذهب إلى الميقات الذي جاء منه؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهذه المسألة فيها تفصيل: فإذا كان قد مر بميقاته ناوياً بعد الأسبوعين أن يعتمر، فيلزمه بعد الأسبوعين أن يرجع إلى الميقات، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المواقيت: (هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة)، فإذا مر بميقاته مريداً للنسك، فيلزمه أن يرجع إلى ذلك الميقات، وأما إذا مر بالميقات غير ناو للنسك، أو متردداً، لا يدري: هل يسع الوقت للعمرة أو لا، ونزل إلى جدة لعمل، أو حاجة، فجد وطرأ، أو تيسر له أن يعتمر؛ فحينئذ يحرم من جدة؛ لأنه أنشأ النية من جدة، وقد مرَّ بالميقات غير متمحض للنسك، ولا مريدٍ له، وحينئذٍ سقط عنه الميقات، وجاز له أن يحرم من جدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن كان دون ذلك فإحرامه من حيث أنشأ)، فهذا يدل على أنه ينشئ عمرته من جدة، والله تعالى أعلم.

آداب ونصائح لطلاب العلم مع إخوانهم

آداب ونصائح لطلاب العلم مع إخوانهم Q أنا من طلاب العلم، وأشتكي من بعض التصرفات من إخواني الطلاب، فما توجيهكم؟ A الدنيا كلها كدر، ولا بد من الصبر، ولا يفلح مؤمن في هذه الدنيا إلا بالصبر، فبالصبر تقوى نفسه، وتثبت عزيمته، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (وجدنا ألذ عيشنا بالصبر)، فهل وجدت أحداً مرتاحاً في هذه الدنيا؟ وهل وجدت أحداً مطمئناً دون أن يجد منغصاً أو كدراً في هذه الحياة؟ قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، واللام جواب للقسم و (قد) للتحقيق، فقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}، أي: في تعب وعناء، ولا يزال المؤمن من هم إلى هم، ومن غم إلى غم، حتى تطأ قدمه الجنة فتتبدد عنه همومه وغمومه، ويقول إذا رأى نعيمها وسرورها ما قاله الله عز وجل حكاية عن أهلها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34]. أخي في الله! أوصيك أن تحمد نعمة الله عز وجل عليك، وأن تحس أن الله عز وجل يوم اختارك طالباً للعلم أنه قد أعطاك أحسن ما يُعطى بعد الإيمان بالله تعالى، وهو أن تطلب العلم، فإن زكوت واستقمت وصلحت سريرتك، وطابت سيرتك، وزكت علانيتك؛ بوأك الله مبوأ صدق في الدنيا والآخرة، ولن ترى من ربك إلا كل خير، فوالله ثم والله، ونشهد لله في هذا العلم بكل خير ورحمة، فما من أحد يطلب هذا العلم صابراً فيه لوجه باريه إلا أحسن الله له العاقبة في الدنيا والآخرة، ولن تجد أحداً أسعد من أهل العلم وطلاب العلم لو شعروا بالسعادة. أخي في الله! إن وجدت أذية أو ضيقاً، فاعلم أن العلم لا ينال بالتشهي، ولا بالتمني، ولكن بالعناء والنصب، وهذا التعب والنصب هو الذي ينزل الله به عبده مبوأ صدق في الدنيا والآخرة. وقد قال الشاعر: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يعدم والإقدام قتال فبهذه المشقات، وبهذه المنغصات، وبهذه المكدرات، تتبوأ الدرجات العلا في الجنات، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره). ثم الأمر الثاني مما يهون عليك، ومما يوصَى به الإنسان، خاصة إذا أراد أن يطلب العلم: أن يعظم بعد الله عز وجل، وكتابه وسنة نبيه عليه عليه الصلاة والسلام أمرين، ويحبهما في الله عز وجل، ويعتقد هذه المحبة خالصة لوجه الله عز وجل، أولهما: أهل العلم، فلن يفلح طالب علم في علمه ما لم يعظم أهل العلم، ولا يعظمهم تعظيم الغلو، وإنما يعظمهم في الحدود الشرعية، وأن يشعر أن الله عز وجل أعطاهم هذه الأنوار من كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فيحبهم ويجلهم ويقدرهم ويوقرهم ويصبر على كل أذية منهم. أخي في الله: قد يؤذيك طالب عالم، زميل لك-كما تشتكي أنت- تأتي تريد أن تسأل الشيخ -مثلاً- فيسبقك، وينافسك، ولكن هل تعلم من هو هذا الطالب؟ وهل تعلم من هو هذا المجد المثابر الذي تعلق قلبه بمحبة العلم فاستولى على مشاعره، فلم يلتفت إلى من عن يمينه أو يساره؟ ولو أن كل طالب شعر من هو طالب العلم الذي يرافقه، وشعر بحرمته في الإسلام، وشعر بحقه في طلب العلم؛ لهانت علينا كثير من التصرفات. ومن المجرب أن الإنسان حينما يدخل مسجداً، ويعتقد أنه أقل الناس، وأنه أحقر الناس، وأنه أضعف الناس، حتى يرفع الله درجته، تهون عليه تصرفات الناس كلها، وعندها يرضى عنه ربه، ويعظم أجره، فهذا الطالب-طالب العلم- قد يكون في ذلك اليوم ترك أعز الأشياء عليه من ماله وولده وأهله، وجاء من أجل طلب العلم، فلا تستغرب منه أن يأتي كالبعير الهائج على الشيخ؛ لأنه ضحى بشيء كبير، وقد يكون أتى من مسافات بعيدة، وقد يكون ضحى بأشياء عزيزة عليه، فحينما تحس من هم طلاب العلم، وتحس من هذا الذي ضحى بوقته، وجاء تاركاً لأشغاله وأعماله؛ تحس أنه شيءٌ عزيز، وأنه شيءٌ غالٍ، ولو كان مرقع الثياب فقير الحال، فقد يكون عند الله أعظم منزلة من غيره، وربما كان لا يملك إلا قوت يومه، ومع ذلك يضحي في ركوب السيارة من أجل الوصول إلى الدرس، فلو أن كل طالب علم يستشعر أن إخوانه من طلاب العلم ضحوا، وأنه لم يضح، وأنه لم يقدم شيئاً؛ لأدرك أن طلب العلم شيءٌ كبير، ولصبر على تصرفاتهم وعذرهم وأحبهم، فتأتلف القلوب بهذا. وكما أننا نوصي هذا الطالب بالصبر، فنوصي أيضاً طالب العلم أن لا يؤذي إخوانه؛ إذ لا يجوز للمسلم أن يؤذي إخوانه، وأذية المسلم للمسلم محرمة، ولكنها لطالب العلم أعظم حرمة عند الله عز وجل، فانتبه واحذر. إخواني! إن القرب من أهل العلم بلاء ومصيبة والله، وبعض طلبة العلم يظن أن القرب سهل، فربما يقترب طالب العلم من شيخ، ويبوء بسيئات لم تخطر له على بال؛ لأنه ربما تصرف تصرفاً ينفر أخاه من طلب العلم، وربما يتصرف تصرفاً مع الشيخ يكرهه في إفادة طلاب العلم، فهو سلاح ذو حدين، فإما إلى جنة، وإما إلى نار. والله عز وجل قد نبهنا إلى هذا، فهؤلاء الصحابة الذين تبوءوا المقامات العلا من الجنة نزلت عليهم قوارع التنزيل، تأمرهم بالأدب، فصحبة النبي صلى الله عليه وسلم عزيزة غالية، ولكن لو رفع صوته على رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبط عمله-والعياذ بالله-، فتحبط صلاته وزكاته وحجه وعمرته، وهذا يدل على أن القرب من أهل الفضل والعلم خطر، فعلى الإنسان أن يتأدب في مسائله، ويتأدب في تصرفاته مع إخوانه، فلا يؤذِ أخاه ولا يضيق على إخوانه، كأن يستبد بالسؤال، فيريد أن يسأل وحده، ويريد أن يستشكل وحده؛ إذ قد يأتي إنسان عنده كربة في أمر زوجته؛ لأنها مطلقة، فلا يدري: أتحل له أو تحرم؟ وقد يأتي شخص مهموم مغموم يريد كلمة من الشيخ، فعلى القريب من الشيخ أن يعطي مجالاً لغيره، وأن يحذر من هذا القرب، وأن يعلم أنه خطر عليه، فكما أنه سبب في رحمة الله عز وجل فقد يكون سبباً في الخطأ والزلل والغرور، فعلى الإنسان إذا اقترب من أهل العلم، أو جلس في حلق الذكر أن ينتبه لمن حوله. وعلى الذي يؤذي إخوانه أن يعلم أن أبناء المسلمين ما جاءوا إلى بيوت الله ليهانوا، وما جاءوا ليُذلوا؛ لأن بعض طلبة العلم قد يدفع أخاه، أو يحس أنه أحق من أخيه، وقد يأتي متأخراً، أو يأتي من آخر الناس، ويتخطى الحلقة ليجلس وسطها، فالناس لهم حقوق، ولهم حرمات، والمسلم -ولو كان من كان- له حرمة ينبغي أن تُحفظ ولا تُضيع، ومن حق المسلم أن يكرم ولا يهان، ويُرفع ولا يوضع؛ لأن الله أمرنا بإكرام المسلم. فشيمة المسلم الموفق أن يستشعر هذا الشيء، وعلى كل طالب علم أن يحذر، ووالله من خاف سلم، ومن خاف في طلبه للعلم، وصحبته لطلاب العلم من أذية طلاب العلم، والإضرار بهم؛ فإنه يسلم بإذن الله عز وجل، فراقب نفسك في جميع تصرفاتك، ولا تزاحم، ولا تؤذِ، ولا تضر. وهناك أمر لابد من إيضاحه، وهو أن طلاب العلم حين يزدحمون على الشيخ، تجد بعض الناس يستنكر هذا، بينما يرون على أفران الخبز أعداداً من الناس واقفة ولا يستنكرون، فهذا واقع وزمان أصبح المعروف فيه منكراً، والمنكر معروفاً. فإذا جاء أناس يشترون رحمة الله عز وجل، وتركوا بيوتهم وأهليهم، وجاءوا حفاة الأقدام يلهثون وراء أهل العلم، ويلتمسون زاداً لهم لآخرتهم، فهل هذا شيء يستغرب؟! وإذا رأيت الناس في الدنيا يصيحون، ويهرجون، ويبهرجون، فهذا شيء لا يمكن أبداً أن ينكر؛ بل أصبح هذا من المسلمات والبدهيات؛ لأنه إذا ماتت القلوب فلا تسأل عن أحوالها. ولذلك ينبغي علينا أن نستشعر مسئولية طلاب العلم أمام الله، فقد ارتحل العلماء، وذهب الأئمة، وخلت الساحة، وأصبحت المسئولية عظيمةً، والكرب عظيماً، والشكوى إلى الله تعالى. فمثل هؤلاء ينبغي أن نهيئ لهم كل ما نستطيع، وكل ما نقدر عليه من أجل أن يطلبوا العلم، فنحبب العلم إليهم ولا نبغضه، ونرغبهم فيه ولا ننفرهم عنه، ونيسر عليهم ولا نعسر، وقد يحصل العسر بكلام؛ إذ قد يأتي طالب العلم فيسأل أسئلة لا داعي لها، وغيره أحوج إلى الأسئلة، فإذا رأيت طالباً أكثر منك ذكاءً، وأكثر ضبطاً، ويستفاد من أسئلته، فقدمه وآثره حتى تستفيد؛ ليكون هناك وعي عند القرب من أهل العلم، والجلوس في مجالس أهل العلم، والموفق من وفقه الله، فوالله ما زكت ولا صلحت سريرة عبد إلا أصلح الله علانيته ووفقه وسدده، وسيطلب العلم من يطلبه، فإما موفق سعيد يرزقه الله عز وجل المراقبة التامة لأقواله وأفعاله وتصرفاته وانضباطه، حتى يبوئه الله مبوء صدق بهذا، فيكون محل الرضا عند علمائه ومشايخه، ومحل الرضا عند إخوانه، وإما غير ذلك. وستعاشر طلاب العلم -وهم الصفوة- فلتحتسب عند الله عز وجل أن يأخذوا عنك، فهؤلاء هم شهود الله في الأرض، فإذا شهد عليك طلاب العلم فهم أزكى الشهود، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: إذا لم يكن أولياء الله أهل العلم وطلبتهم فلا أدري من هو ولي الله؟! فهؤلاء هم الصفوة، فإذا عاشرتهم، وكنت معهم على المحبة, والصفاء، والمودة، والنقاء، وعلى المراتب العلا في الإيثار، والإخاء؛ بارك الله لك، وبارك في علمك، وبارك في وقتك، وما وجدنا من ربنا إلا كل خير، فقد وجدنا طلاب علم تأدبوا مع مشايخهم، وتأدبوا مع إخوانهم، فزكاهم الله في الدنيا قبل الآخرة، ووجدنا من كان لا يبالي بطلاب العلم وكان فظاً غليظاً فعاقبهم الله تبارك وتعالى، وقد سألت عن بعض الزملاء طلابهم، فذكروا أنهم في الدعوة الى الله تعالى، وأنهم كذا، ثم سألتهم من بعيد عن أشياء، فإذا بهم يتذمرون، ويقولون: إن طلاب الشيخ يؤذونه، وإني -والله- أعرف أنه كان يؤذي المشايخ، وكذلك جزاءً وفاقاً، فما توفاني الله عز وجل حتى رأيت بعيني وسمعت بأذني سنناً لله لا تتبدل ولا تتحول، ولا يظن أحد أن الله غافل عن خلقه، فليحذر طالب العلم، فاليوم يزرع، وغداً يجني، فمن زرع الخير كان له. فنسأل الله بعزته وجلاله أن يرزقنا السداد في القول والعمل، إنه المرجو والأمل. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مقدمة كتاب الديات [1]

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الديات [1] إن الله سبحانه وتعالى أوجب الدية في القتل، وهي استحقاق شرعي جعله الله ضماناً للتلف الحاصل بسبب الجناية، والدية تعطى للمجني عليه أو لوليه وهو وارثه من بعده، والدية لها أحوال، ففي العمد المحض تكون حالة ولا تلزم بها العاقلة، وأما في شبه العمد والخطأ فتكون آجلة وتلزم بها العاقلة وهذا من حكمة الشريعة.

الديات

الديات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الديات]. (الديات): جمع دية، وهي المال الذي يعطى للمجني عليه أو لوليه بسبب الجناية، وبناء على ذلك تكون الدية عوضاً عن الجناية، وهذا في حالة العفو عن القصاص، وكذلك أيضاً في حال الخطأ وشبه العمد، وذكر المصنف رحمه الله هذا الموضع بقوله: (كتاب الديات) وذلك لكثرة أبوابه وتعدد مسائله واختلاف أحكامه، ولذلك يعبر العلماء رحمهم الله بالكتب في المادة الكثيرة، ونظراً لأن الديات منها ما يتعلق بالأنفس، ومنها ما يتعلق بالأعضاء، وهناك أمر مستتبع من أروش الجنايات التي تقدر فيها الجناية، ولا يكون هناك تقدير من الشرع للجناية، وكل هذا يذكره العلماء رحمهم الله في كتاب الديات، وقول العلماء: إن الدية هي المال الذي يعطى للمجني عليه أو وليه. وهذا استحقاق شرعي جعله الله ضماناً للتلف الحاصل بسبب الجناية، وقد جعل الله عز وجل العوض عن الجنايات: إما أن يكون بالقود، فيفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه، وهذا يختص بالعمد كما تقدم معنا، وإما أن يعفو المجني عليه، وحينئذ يكون هناك الضمان بالأموال، وقد يعفو بدون مال. وقول العلماء رحمهم الله في الدية: إنها المال الذي يعطى للمجني عليه أو وليه؛ لأنه إذا جني على شخص ومات لا يمكن إعطاء المال والدية للمقتول، وإنما يعطى لوليه وهم ورثته من بعده، وقوله رحمه الله: (كتاب الديات) أي: في هذا الموضع سأذكر لك من الأحكام والمسائل التي تتعلق بديات الأنفس والأعضاء، وما يلحق بذلك من أروش الجنايات، والأصل في هذا الباب كتاب الله عز وجل. إن الله سبحانه وتعالى أوجب الدية في القتل، قال سبحانه وتعالى في قتل الخطأ: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء:92] فنص الله عز وجل على لزوم الدية، وهذا النص يدل على لزومها في الأنفس، وأما بالنسبة للأعضاء، فورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأعضاء والأطراف حديث يعتبره العلماء رحمهم الله أصلاً في ديات الأعضاء والأطراف، وهو حديث عمرو بن حزم في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان عاملاً له رضي الله عنه وأرضاه، فكتب له مقادير الديات في بعض الأعضاء والأطراف، وأجمع العلماء رحمهم الله أيضاً على اعتبار هذا الأصل -وهو الدية- في الأنفس وفي الأعضاء. وأما بالنسبة لتقدير هذه الدية، وبيان ما يجب في النفس وفي الأعضاء والأطراف، فالعلماء رحمهم الله يبحثونه في أبواب متفرقة من هذا الموضع وهو كتاب الديات، فيبدءون بالأنفس أولاً؛ لأن دياتها تختلف على حسب نوعية النفس المجني عليها، سواء كانت الجناية جناية عمد أو كانت الجناية جناية شبه عمد، أو كانت خطأ أو جارية مجرى الخطأ عند من يقولون به. وعلى هذا سيبدأ المصنف رحمه الله -أولاً- في بيان لزوم الدية وتقرير هذه الدية، ثم بعد ذلك يفصل في أنواعها وعلى من تجب، والأحوال التي يتحمل فيها الجاني الدية بنفسه، والأحوال التي تتحمل فيها العاقلة عنه جنايته.

وجوب الدية على القاتل

وجوب الدية على القاتل قال رحمه الله: [كل من أتلف إنساناً بمباشرة أو سبب لزمته ديته]. (كل): من ألفاظ العموم. وقوله: (كل من أتلف إنساناً بمباشرة أو سبب لزمته ديته) هذا الحكم فيه عموم، وبناء على ذلك كل من جنى جناية، أوجبت هذه الجناية زهوق النفس وقتل النفس المحرمة، فإنه يجب عليه أن يضمن الدية، سواء كانت الجناية بالسببية أو كانت بالمباشرة، وبينا أن القاتل إما أن يقتل مباشرة كمن أضجع شخصاً فذبحه بالسكين، أو أطلق عليه النار فقتله، هذه مباشرة، أو سببية -مثلما ذكرنا- كما لو دفعه في بئر أو دفع حائطاً عليه فقتله أو نحو ذلك من صور السببية التي ذكرناها. (كل من أتلف إنساناً). يشترط في هذا الإنسان أن يكون له حرمة على الضوابط التي ذكرناها. (بمباشرة) كما ذكرنا في الصور التي يحكم فيها بأن القتل قتل مباشرة أو سببية بحيث فعل فعلاً أفضى إلى القتل لا على سبيل المباشرة، وإنما كان موصلاً إلى القتل، كما ذكرنا في الإلقاء من شاهق، والحبس في زريبة فيها أسد أو أنهشه حية ونحو ذلك من الصور التي ذكرنا فيها قتل السببية. (لزمته ديته) الضمير عائد على الجاني القاتل، ولما قال: (كل) يشمل العاقل والمجنون، فلو أن مجنوناً قتل فإننا نجعل قتله خطأً، ونلزم أولياء المجنون الدية على التفصيل الذي يأتينا في عمد الصبي والمجنون، فإن عمد الصبي والمجنون خطأ ويجب فيه الضمان كما سنبين إن شاء الله تعالى. بين المصنف رحمه الله عظمة هذه الشريعة في صيانة الأرواح والأنفس أن يجنى عليها، حيث أوجبت ضمان الجناية والتلف الحاصل، يستوي أن يكون القتل عمداً أو يكون خطأً، فلو أن إنساناً ساق سيارةً فدهس شخصاً خطأً لزمته ديته، ولو أنه ركب معه شخص ثم انقلبت السيارة وكان هناك سببية في انقلابها بإهمال ونحو ذلك لزمته الدية؛ فإذاً: كل من أتلف بمباشرة أو سببية، فإنه يلزم بضمان ما أتلفه.

وجوب الدية حالة في قتل العمد المحض

وجوب الدية حالة في قتل العمد المحض قال رحمه الله: [فإن كانت عمداً محضاً ففي مال الجاني حالَّةً]. (الفاء) للتفريع. وقوله: (فإن كانت الجناية عمداً محضاً ففي مال الجاني حالّة) أي تجب الدية، فهناك ثلاثة أحكام: الحكم الأول: أن من تعمد القتل وعفا أولياء المقتول عن القصاص لزمه أن يدفع الدية. الحكم الثاني: أن تكون هذه الدية حالة نقداً. الحكم الثالث: أنها في مال الجاني دون عاقلته. فإذاً: عندنا ثلاثة أحكام: الحكم الأول: لزوم الدية في قتل العمد، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين؛ إما أن يقادَ، وإما أن يودى)، فبين عليه الصلاة والسلام أن القاتل المتعمد إما أن يقتص منه أو يدفع دية المقتول، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله. الحكم الثاني: أن هذه الدية حالة، يعني يجب عليه أن يدفع فوراً، وهذا الإلزام مبني على أن الأصل في الجنايات والإتلافات أنها تكون حالّة، فلو أن شخصاً كسر زجاج بيت أو كسر نافذة بيتٍ، فإننا نقول له: اضمن هذا الزجاج واضمن هذه النافذة فوراً ليس هناك تأجيل، فالأصل في الضمان أنه يكون فوراً؛ لأن حقوق الناس مضمونة، والتأخير والمماطلة ظلمٌ لأصحاب الحقوق وتعطيل لمصالحهم، ولذلك يلزم بدفعها فوراً، وهو معنى قوله: (حالة)، لكن سيأتي إن شاء الله أن دية الخطأ مؤجلة وفيها قضاء الخلفاء رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذا مما تفترق فيه دية العمد ودية الخطأ، أن دية العمد: حالة، ودية الخطأ: مؤجلة. ثم هذه الدية الحالة تكون في مال الجاني ولا نلزم عاقلته بدفعها، وأما في الخطأ فإننا نجعلها على العاقلة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلها عليها كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وقد بين المصنف رحمه الله ما يترتب على قتل العمد، فإذا عفا أولياء المقتول يجب أن يدفع الدية، والأصل في ذلك النصوص التي بيناها في الكتاب والسنة. الحكم الثالث: أن تكون في مال الجاني وليس في مال العاقلة.

لزوم الدية على العاقلة في شبه العمد والخطأ

لزوم الدية على العاقلة في شبه العمد والخطأ قال رحمه الله: [وشبه العمد والخطأ على عاقلته]. وقتل شبه العمد وشبه الخطأ الدية فيهما على عاقلة المخطئ؛ وذلك لأن شبه العمد والخطأ قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية على العاقلة، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن امرأتين من هذيل اقتتلتا فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنين بغرة؛ وليدة أو عبد، ثم قضى بديتها -يعني دية المرأة- على عاقلتها) أي: على عاقلة المرأة الجانية. وهذا يدل على أن من قتل خطأ فعاقلته تحمل عنه، فمثلاً: لو أن رجلاً أركب معه أشخاصاً في سيارته ثم حصل حادث، وكان متحملاً لجميع ما في هذا الحادث من خطأ دون اشتراكٍ مع غيره وأزهق ثلاثة أنفس، فنقول: إن هذه الثلاث ديات على عاقلته. وعاقلته تحمل عنه هذه الديات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ألزم عاقلة المخطئ بتحمل الدية، وهذا فيه حكمة من الشريعة؛ لأن المخطئ ليس كالمتعمد؛ ولأن العاقلة وهم القرابة يرثون، فالإنسان إذا لم يكن له قريبٌ وارث فإن العصبة ترث جميع المال، ولذلك: الغُنم بالغرم، فهم يغرمون كما يغنمون، ويغنمون كما يغرمون، ولذلك قال الله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233] وقد تقدم معنا هذا في مسائل عديدة بينا فيها لماذا تلزم الشريعة الأقرباء بضمان بعض الأشياء لقراباتهم. وهنا نلزم العاقلة بدفع دية الخطأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بها على العاقلة، وسيأتي إن شاء الله ضابط العاقلة وكيف تقسط هذه الدية عليهم. ثم بين المصنف رحمه الله أن هذه الدية على العاقلة معاً. قوله رحمه الله: (وشبه العمد والخطأ على عاقلته). المفروض أن يُضاف مؤجلة؛ لأنه نص في العمد على أنها حالة، وسكت عن كونها حالة في الخطأ وشبه العمد من أجل أن طالب العلم يدرك أنها لو كانت حالة لنص على ذلك، لكن لما كان هذا قد يوهم، كان الأولى أن يقال: مؤجلةً، فهي على العاقلة مؤجلة ثلاث سنوات وقيل أكثر من ذلك، والذي قضى به عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ولم يخالف ذلك أحدٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الدية إذا أُلزمت بها العاقلة تقسط على ثلاث سنوات، وبناء على ذلك تخالف دية العمد، فدية الخطأ مؤجلة، ودية العمد معجلة.

حكم من كان سببا في القتل

حكم من كان سبباً في القتل قال رحمه الله: [وإن غصب حراً صغيراً، فنهشته حية، أو أصابته صاعقة، أو مات بمرض، أو غل حراً مكلفاً وقيده؛ فمات بالصاعقة أو الحية، وجبت له الدية]. قوله: (وإن غصب حراً صغيراً فنهشته حية). تقدم معنا في الغصب أن العلماء رحمهم الله يقولون: (يد الغاصب يد ضمان) وبينا وجه ذلك؛ لأنه باعتدائه على المغصوب يتحمل جميع ما يحصل لهذا المغصوب من ضرر، فإن حصل هذا الضرر بفعله لا إشكال، وإن حصل بآفةٍ سماوية أو نحو ذلك فهو ضامن؛ لأن يده يد ضمان؛ كان المفروض أن يرده إلى صاحبه حتى يصبح صاحبه ضامناً له، فمثلاً: من غصب منك سيارة فإن هذه السيارة مدة بقائها تحت يدك تأخذ منفعتها وتتحمل ضررها، لكن إذا أخذها منك أصبحت يده يد ضمانٍ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فجعل يد الغاصبِ يد ضمان، وبينا ذلك ووجهناه وذكرنا له صوراً وأمثلة. قوله: (وإن غصب حراً صغيراً فنهشته حية) الصغير لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ولا يستطيع أن يقاتل، ولذلك لا يتحمل مسئولية نفسه، ولا يكون هناك تحمل من النفس المقتولة للجناية، ويصبح الغاصب متحملاً لدية هذا المقتول. (نهشته حية) الموت حصل بنهش الحية، لكن لولا الله ثم كونه جاء به إلى هذا الموضع وغصبه إلى هذا الموضع ما حصل الموت، فيتحمل التبعة وما يترتب على هذا الفعل وعلى هذه الجناية فيكون ضامناً لهذه النفس. قال: [أو أصابته صاعقة]. يعني: الإتلاف قد يكون بالعوارض التي لا دخل للمكلف فيها، أو بالعوارض التي يكون فيها دخل على جهة السببية بالحيات والعقارب ونحو ذلك، فإذا نزلت عليه صاعقة فمات، فإن الذي قتله هي الصاعقة في الأصل، لكن كونه حمله إلى هذا الموضع الذي أصابته فيه الصاعقة فإنه غاصب ومتحمل لما يترتب على غصبه، وبهذا الحمل وقع هذا الضرر على الصبي فيتحمل مسئوليته. قال: [أو مات بمرض]. أو مات هذا الصبي بمرض؛ لأنه بحمله أصبح ضامناً له حتى يؤديه، فإذا لم يؤده ولم يرجع فإنه ضامنٌ له، وبعض العلماء يفرق بين موته بالأسباب الإلهية التي لا دخل فيها للمكلف، وهي الموت بالشيء الطبيعي، وبين موته بأسباب يكون للغصب فيها تأثير، ولكن من أهل العلم من لم يفرق، والسبب في هذا أنه يجعل مرد المسألة إلى أن يده يد ضمان، فلا يزال ضامناً حتى يرد المغصوب، وهذا أصل قرره العلماء في مسائل الغصب، وينبغي أن يكون مطرداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على هذا فقال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فهو ضامن له حتى يرده كما أخذه. قوله: [أو غل حراً مكلفاً وقيده، فمات بالصاعقة أو الحية]. الأول كان صغيراً وهذا مكلف، فإنه لما وضع الحر في الأغلال ومنعه من الحركة، أصبح هذا المكلف والكبير في حكم الصغير، وحينئذٍ لولا الله ثم هذا الغل لما مات؛ لأنه مقيد ولا يستطيع الحركة، والغل في جسده يمنعه من الحركة، فإذا كان الأمر كذلك فإنه لو نزلت عليه صاعقة فمن الذي جاء به في هذا الموضع، ومن الذي حبسه في هذا الموضع؟ ولولا الله ثم هذا الحبس وهذا المجيء لما حصل الزهوق، ولذلك يتحمل المسئولية عنه ويضمنه، ولو قال قائل: إنه كبير وإنه مسئول عن نفسه، نقول: إنه لما قيده وغله أصبح في حكم المشلول العاجز. وحينئذ كونه كبيراً ومكلفاً لا تأثير له؛ لأنه لا يستطيع أن ينقذ نفسه، ولا أن يبذل الأسباب لنجاة نفسه فيكون ضامناً لها. قال: [وجبت الدية فيهما]. وجبت الدية على الغاصبِ، ويده يد ضمان لما ذكرنا. هذا بالنسبة للنفس، فإنها تجب الدية إن مات كما ذكرنا، وإن أتلفت هذه العوارض ففيه بعض الدية، فإن أتلف عضواً كيده أو رجله وجب عليه أن يدفع نصف الدية، وهكذا لو عورت عينه أو فقد إحدى أذنيه، أو أصابه ضرر في لسانه فأصبح لا يتكلم، وجبت عليه دية اللسان وهكذا. إذاً: كما يجب ضمان النفس كاملةً يجب ضمان الأعضاء، فمثلاً: لو أنه قيده ثم وضعه على حالة انكسرت يده فيها، أو وضعه على حالة جرحت فيها أصبعه، ثم سرى هذا الجرح حتى شلت يده، فحينئذ نوجب عليه ضمانه بنصف ديته. فكما يجب ضمان النفس كاملة يجب ضمان الأعضاء والأطراف وما يحصل من هذا الغصب من ضرر، فوجبت الدية إن كان زهوقاً للنفس كاملة، ووجبت أيضاً دية الأعضاء على حسب ما ترتب من هذه الجناية.

الأسئلة

الأسئلة

الرد على من يقول بعدم أخذ الدية

الرد على من يقول بعدم أخذ الدية Q شاع في عرف بعض الناس أن الدية مال لا بركة فيه، وأن أخذه ينافي المروءة وكذلك أخذ الأرش، مما يدفع بعض أهل المجني عليه إلى التنازل عن حقهم مع عدم رضاهم بذلك وعدم قناعتهم، فما توجيهكم أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: الدية شرع الله عز وجل، ومن قال: إن الدية لا بركة فيها بل بعضهم يقول: من أخذها أضره الله في ماله، فهذا قول باطل ومصادمٌ لشرع الله عز وجل، وهناك قاعدة تقول: كل حكمٍ يحلل حراماً أو يحرم حلالاً فإنه خلاف شرع الله عز وجل، وهو ردٌ على من قاله. قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها) فهؤلاء كأنهم يريدون أن يحرموا على الناس ما أحل الله لهم، والدية حقك؛ إن شئت أخذتها، وهذا حسن؛ لأنك لم تظلم أحداً وأخذت حقك؛ كما لو جاء شخص -مثلاً- واعتدى على سيارتك فكسرها وجئت وأخذت قدر جنايته وقدر خطئه، ما ظلمته، كأن تكون سيارتك واقفة فجاء وصدمها، فقال أهل الخبرة: أنه هو المخطئ ولزمه أن يصلح هذا الخطأ، فلو كانت كلفة إصلاح السيارة ثلاثة آلاف ريال، فأي ظلمٍ في هذا؟!! وأي جناية في هذا؟ وأي اعتداء؟ فلماذا يُحرم ما أحل الله؟ وهل كل الناس يستطيع كلما جنيت عليه جناية أن يصفح؟ دعوا الأنفس والأرواح؟ لكن نقول: إذا كان هذا في الأموال العادية فكيف بالأنفس؟ السبب في هذه الديات في الأنفس: أن الإنسان إذا اُعتدي على قريبه وأعطي الدية وأخذها سكنت النفس واطمأنت وحصل أنه عوض عن حقه، وحينئذ لا توغر صدور المؤمنين بعضهم على بعض، فإذا قطعت يده بالخطأ وأعطي نصف الدية جبر خاطره وجبرت نفسه، فإذا نظر إلى يده المقطوعة وتذكر ثوابه عند الله عز وجل واطمأنت نفسه للآخرة، فإذا جاءت النفس تتحدث عن الدنيا وجد شيئاً من الدنيا يسليه ويجبر خاطره، وهذا تشريع الحكيم الحميد سبحانه وتعالى، وحكم الله الذي لا يعقب في حكمه سبحانه وتعالى. ولو علم الله أن فيها شراً ما سكت عن ذلك، ولا يشرع سبحانه لعباده إلا ما فيه الخير لهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ولقد جاءت رسل ربنا بالحق، فهذا من كلام الجاهلية ودعوى أهل الجاهلية، لكن إن تنازلت عن هذه الدية فهذا أحسن، وأعظم لأجرك وأثقل لميزانك. فإذا تركتها محبة لأخيك في الله ورحمة به، وشفقة عليه آجرك الله، وأحسن لك الخلف، ولكن من تركها خوفاً من أن تأتيه المصيبة، فهذا لم يتركها لله، وإنما تركها خوفاً من الضرر الأعظم، وحينئذ لا ينال الدنيا ولا ينال الآخرة؛ لأنه لم يتركها لله عز وجل، فهذا من تلبيس الشيطان نسأل الله السلامة والعافية، انظروا كيف يصرف الناس وتجتالهم شياطين الإنس والجن بالأهواء والآراء التي ما أنزل الله بها من سلطان، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23]. فهذا أمر الله الذي لا يعقب، فهو سبحانه الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، وليس لأحد أن يستدرك على الله في شرعه، ولو علم الله أن في هذه الضمانات والديات ضرراً لما شرعها؛ لأنه قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. فكل تشريع أوحي إليه في كتاب الله وسنته عليه الصلاة والسلام فهو الرحمة والخير والبركة، وعلى كل حال: ينبغي أن يعلم الناس ذلك، وأن يقال لهم: إن هذا حقهم، فالحسن أن يأخذوه والأحسن أن يتنازلوا عنه، {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96]، فمن صبر ظفر وأحسن الله له العاقبة، ولا شك أن الخلف مضمونٌ من الله عز وجل لمن ترك شيئاً لله. (فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه) والله تعالى أعلم.

تربية الأيتام وعظم أجرها

تربية الأيتام وعظم أجرها Q هل ينطبق على تربية الأيتام من حيث الأصول والتربية الكاملة ما ينطبق على تربية الأولاد أثابكم الله؟ A أما اليتيم فأمره عظيم جداً، الأيتام جنة ونار، ومن عال الأيتام وكفلهم واتقى الله فيهم فقد أفلح وأنجح، وأصاب خير الدنيا والآخرة، وكم أسعد الله أقواماً كفلوا الأيتام، حتى إن الله سبحانه وتعالى جعل لهم من عاجل البشرى في الحياة أن جعل حياتهم سعيدة، وجعل خاتمتهم طيبة حسنة، ولقد رأينا ذلك فيمن كان يعول الأيتام ويحسن إليهم. وجدنا من لطف الله به ورحمته وإحسانه به الشيء الكثير، فكفالة الأيتام والإحسان إليهم جنة للعبد في الدنيا قبل الآخرة. وأما عدم الرعاية لمشاعرهم، والتقصير أثناء تربيتهم فهذا خطر عظيم، وتربية الأيتام، دحضٌ فيه زلل كثير، ولذلك من يربي الأيتام ينبغي أن يكون على حذر شديد في التعامل معهم. فإن اليتيم لا يجد من يكفكف دمعه، ولا يجد من يجبر كسره، فإذا قسا عليه من يعلمه تذكر أباً كريماً أن لو كان حياً ما عامله بهذه المعاملة، ولو قسا عليه معلمه نظر إلى ذلك المعلم مع ولده، فقل أن يؤذي أحد يتيماً ويكون عنده أولاد إلا راقبه اليتيم في أولاده، فإن رآه محسناً لولده اغرورقت عينه ودمعت؛ لأنه لا يتصور أن هذا المعلم يريد مصلحته. فإذا كان المعلم ظالماً أو آثماً أو جائراً وكان الكافل شديداً، خاصة إذا كان اليتيم يعيش تحت كفالة عمه، أو خاله، أو نحو ذلك من أقربائه، فإذا أوذي أي أذية ولو كانت لسبب ورأى إحسان ذلك المؤذي إلى ولده تفطر قلبه بالحزن الذي لا يعلم قدره إلا الله. ولذلك قال الله عز وجل: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:9]، فقهر اليتيم أمره عظيم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وقرن بين السبابة والتي تليها)، صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يدل على علو درجته عند الله في الآخرة، لكن لابد أن تكون كفالة طيبة كاملة، وكفالة رحمة لا كفالة عذاب، وكفالة إحسان لا كفالة إساءة، وكفالة ود ورحمة وبر وإدخال سرور لا كفالة وحشة وضيق وعسر وتنكيد وتنغيص في العيش، فعلى كل من يعامل الأيتام عموماً أن ينتبه، حتى لو دخلت فصلك -لو كنت معلماً- فانتبه من اليتيم، فإنه أحوج ما يكون إلى إحسانك وبرك وعطفك، واجعل له ميزة على غيره، وهذا ليس من باب الظلم، وإنما من إنزال كل إنسان منزلته، وليس معنى ذلك أنك تفضله على غيره، لكن له شأن خاص، فالابن إذا آلمه مدرسه رجع إلى أبيه، فواساه وأحسن إليه وأنساه ما حصل له من إساءة، ولكن اليتيم يرجع إلى بيته بلا أب، وقد لا يجد أماً، وقد يرحم أمه حينما يراها في همها وغمها، فيصعب عليه أن يدخل عليها هماً إلى همها، أو غماً إلى غمها. فلذلك من الرحمة ومن هدي الإسلام وسنن الإسلام: النظر إلى هؤلاء والإحسان إليهم، وأن يحاول كل معلم يحبُ الكتاب والسنة، ويلتزم بالشريعة التزاماً صادقاً أن يجعل لهؤلاء في قلبه وفي معاملته وفي إحسانه وبره أوفر حظ ونصيب، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وما أعظم جبر القلوب المنكسرة عند الله ثواباً، وما أحسن ما يكون لأهلها عاقبة ومآباً. ومن أراد أن يجرب حسن العاقبة في الإحسان إلى القلوب المنكسرة والنفوس الضعيفة فليجرب ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة كالصائم الذي لا يفطر، والقائم الذي لا يفتر)؛ فجعله في هذه المنزلة العظيمة؛ لأن الأرملة لا أحد يعولها، وهي تحتاج إلى من يقوم عليها، فإذا نظر إلى أرملة من أرامل المسلمين، فأمست وأصبحت وهو يسعى عليها يقضي حوائجها وينفس بإذن الله كرباتها، ويدخل السرور عليها جعل الله ما كان منه من حسنات لا يعدل بصيام النهار ولا بقيام الليل. وهذا يدل على عظم الأجر عند الله في جبر القلوب المنكسرة. (وهل تنصرون إلا بضعفائكم)، فيحرص طلاب العلم والأخيار على النظر في تربية الأيتام، وإذا كان عندك في حلقة التحفيظ يتيماً فإنك تكرمه وتجله وتعامله معاملة خاصة، وتنظر إليه نظرة خاصة، وتؤويه إلى حنانك، وإلى برك وإحسانك، فإنك إن فعلت ذلك رحمت أموات المسلمين وخلفتهم في ذريتهم بخير، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، وأن يفتح على أيدينا وعلى أيديكم أبواب الخير. الخلاصة: أن اليتيم ينبغي على من يؤدبه ويعلمه أن يكون على حذر شديد، وأن يعامله معاملة خاصة؛ لأنه أضعف من غيره، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الضعيف أمير الركب) فينبغي مراقبة مشاعره. ونسأل الله العظيم أن يسلمنا وأن يسلم منا، وأن يتوب علينا وأن يتجاوز عنا، والله تعالى أعلم.

تقديم تحية المسجد على السلام

تقديم تحية المسجد على السلام Q إذا دخلت المسجد فهل أبدأ بالسلام على من في المسجد أو بتحية المسجد أثابكم الله؟ A بسم الله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد. فالسنة أن يبدأ المسلم بتحية المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين) وثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع أصحابه ودخل رجل -وهو المسيء صلاته- فصلى ثم أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم ورحمة الله. فقال عليه الصلاة والسلام: وعليكم السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل). فكون الرجل بدأ بالتحية، ثم جاء وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، دل على أن السنة أن يبدأ المسلم بالتحية قبل السلام. وقال بعض العلماء: إن هذه هي السنة، ولذلك قالوا: من زار مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ أولاً بصلاة التحية ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى الرغم من عظم حقه صلوات الله وسلامه عليه، إلا أن الداخل يبدأ بالتحية قبل السلام عليه. فإذا كان هذا مع رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، فما بالك بغيره؟ فالسنة أن يبدأ أولاً بتحية المسجد، لكن لو سلم له وجه. وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء الأعرابي وسلم رد عليه السلام ثم قال له: (ارجع فصل فإنك لم تصل) فمعناه أنه وقع سلامه قبل الصلاة. ولكن هناك سبب في هذه الحالة وهو أنه إنما رد عليه السلام لأن رد السلام واجب، والمسلم سلم لشبهة الإتمام. والمراد حكاية صورة الحال، فكونه يبدأ بالتحية قبل السلام عليه، يدل على أنهم كانوا يفعلون ذلك، وأنه هو السنة المستقرة أن يبدأ بالتحية قبل السلام. وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس، والله تعالى أعلم.

حكم الوضوء من المياه الموضوعة للشرب

حكم الوضوء من المياه الموضوعة للشرب Q ما حكم الوضوء من المياه الموضوعة للشرب في المسجد الحرام وغيره من المساجد أثابكم الله؟ A المياه الموضوعة للشرب موقوفة للشرب، ولا يجوز صرفها في غير ذلك. هذه أوقاف مسبلة في المسجد الحرام وغيره. ولكن إذا حصل عند الإنسان اضطرار، بحيث ضاق عليه وقت الصلاة وكان هناك سبب موجب صعوبة خروجه من مرض أو ضعف وتوضأ بها، فهذا مغتفر إن كان شيئاً يسيراً لا يضر بالشاربين، وإلا فالأصل أنها موقوفة مسبلة للشرب. ولذلك كان العباس رضي الله عنه يقول في زمزم: إني لا أحله لمغتسل وهو لشارب حل، والله تعالى أعلم.

حكم من صلى المغرب جماعة بنية العصر

حكم من صلى المغرب جماعة بنية العصر Q رجل لم يصل العصر ودخل المسجد ووجدهم يصلون المغرب. فهل يصلي معهم بنية العصر ويزيد ركعة بعد التسليم، أثابكم الله؟ A يشترط في صحة الصلاة وراء أخرى: أن تتحد صورة الصلاتين، فلا تصح المغرب وراء العشاء، ولا العصر وراء المغرب؛ لأن المغرب ثلاث ركعات، والعصر أربع. وحينئذ سيضطر إلى الجلوس بين الثالثة والرابعة، وليس في شرع الله أن يجلس بين ثالثة ورابعة؛ لأن الله ألزمه أن يصلي أربعاً لا جلوس بين الثالثة والرابعة فيها، وإنما يجلس بين الاثنتين على الصورة المعروفة في صلاة المغرب وصلاة العصر، وعلى هذا: لا يجوز أن يصلي المغرب وراء العشاء، ولا أن يصلي العصر وراء المغرب، وإذا دخل المسجد وأقيمت الصلاة وتذكر أنه لم يصل العصر، يدخل وراءهم بنية النافلة، ثم يصلي العصر قضاء. ثم يصلي المغرب بعد ذلك. فيتعذر عليه أن يصلي العصر؛ لعدم اتفاق صورة الصلاتين. ثم يتعذر عليه أن يصلي المغرب؛ لأنه لا تصح المغرب حتى يصلي العصر. وحينئذ يصليها نافلةً، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فمن حضر المسجد فإنه يصلي نافلة ثم يعيد بعد ذلك، فيصلي العصر ثم يصلي المغرب بعدها. والله تعالى أعلم.

أسباب استجابة الدعاء

أسباب استجابة الدعاء Q ماذا أقول حتى يستجاب لي، أثابكم الله؟ A فتحت أبواب رحمة الله عز وجل فاسأل ما تشاء، فأنت أمام ملك الملوك الذي لا تنفد خزائنه، ويده سحاء الليل والنهار، لا تغيضها نفقة. يقول صلى الله عليه وسلم: (ألم تر إلى ما أنفقه منذ أن خلق السموات) فهو سبحانه الكريم الجواد الذي يحب من سأله ويرضى عمن سأله. فمن سأل الله فقد وحده، ولذلك الدعاء هو العبادة؛ لأنك لا تسأل الله إلا وأنت تعتقد أنه هو المسئول، ولا ترجو الله إلا وأنت تعتقد أنه هو المرجو سبحانه وتعالى. أما كيف تستجاب الدعوة؟ فالدعاء يستجاب إذا حصلت آدابه، وهي كالآتي: أولها وأعظمها: توحيد الله، قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:14] فمن دعا الله مخلصاً موقناً فتح الله له أبواب السموات، واستجيب له ما قال من دعوات، وحقق له ما رجا في تلك الكلمات الطيبات المباركات، فعلى العبد أن يدعو بقلبٍ موقنٍ موحدٍ مخلصٍ لله عز وجل، وإذا وقف العبد بين يدي الله، فأحس أنه لا أكرم من الله سبحانه وتعالى! وأنه لو سأل الله عز وجل ذلك الأمر الذي يراه عسيراً أنه أيسر ما يكون عند الله جل وعلا، فإن الله تعالى إذا أراد أن يفتح أبواب رحمته لا يستطيع أحد أن يغلقها، وإذا أمسك رحمته لا يستطيع أحد أن يرسلها، فإذا أحس العبد وأيقن بربه سبحانه وتعالى، وعرف من الذي يسأل، وعرف أن الذي يسأله أرحم به من نفسه التي بين جنبيه، وأن الذي يرجوه أعظم براً وأعظم إحساناً من كل شيء، وأنه المنتهى في الكرم والجود، وأنه المنتهى في الإحسان واللطف والرحمة؛ عندها تنساب نفسه وكأنه يدلَل بين يدي الله جل جلاله، وعندها يعرف من الرب الذي يسأل، فلا يحس أن هناك مسألة تعيي الله عز وجل، ولا يحس أن الله عز وجل يمنع عنه شيئاً. فإذا أحس بهذا الإحساس دعا وهو موقن بالإجابة، الرجل المشلول لا يتحرك فيه شيء ومع ذلك لا يقنط من رحمة الله عز وجل، وتجده يطلب الأمور فتستعصي عليه وتغلق في وجهه أبوابها، كلما طلب أمراً عسر عليه، وأصبح يسيره عسيراً وسهله حزناً، حتى تضيق عليه الأرض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه التي بين جنبيه، ومع ذلك لا يقنط من ربه ولا ييأس من رحمته، فيرفع يديه للحي القيوم، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، فيدعوه ويقول: يا رب! من قلب يعلم ما معنى قوله (يا رب) أنه الذي رباه بالنعم، وأنه الذي دفع عنه البلايا والنقم، وأنه الذي يحفظه، وأنه الذي يكلؤه، وأنه الذي يرحمه ويحسن إليه، فإذا دعا بهذا الشعور، فإن الله سبحانه وتعالى يستجيب دعاءه. ثانياً: الثناء على الله بما هو أهله، فإنه إذا استفتح الدعاء بتوحيد الله فلن تغلق أبواب السموات دون اسم الله جل جلاله، مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو يقول: (اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب) الثناء على الله بما هو أهله يعين العبد ويحقق للعبد رجاءه. ثالثاً: أن يكون مضمون دعائه غير مشتمل على قطيعة رحم، ولا على إثم، ولا يدعو على المسلمين، وإنما تكون الدعوة طيبة، يدعو العبد لصلاح دينه، ثم لصلاح دنياه، ثم يسأل الله عز وجل حسن الخاتمة، فلابد لك حين تبدأ مسألتك أن يكون أول ما تبدأ به دينك؛ لأنه رأس مالك في هذه الحياة، وفي الدين تسأل الله عز وجل مسألتين في الرجاء: أولهما: أن يعينك على أداء فرائضه، والثانية: أن يعينك على بلوغ الكمال في الطاعات والخيرات والباقيات الصالحات، ثم ضد ذلك أن يعينك على ترك المحرمات، وأن يبلغك في الورع والزهد منزلة تدع فيها ما لا شبهة فيه خشية الوقوع في ما فيه شبهة، فإذا وفقت في هذا عصمت في دينك. ثم تسأل الله عز وجل بعد ذلك أن يرزقك الزيادة من الخير والثبات على الحق حتى تلقاه، ثم تسأله حسن الخاتمة، ثم تسأله بعد ذلك أن يجعل قبرك روضة من رياض الجنة، ثم تسأله أن يعيذك من عذاب القبر، ومن فتنة القبر، ومن أهوال القبر، وتتصور كأنك وحيدٌ فريدٌ في قبرك، ثم تنتقل بعد ذلك إلى مشاهد الآخرة، فتسأل الله عز وجل أن يرحم في موقف العرض عليه ذلَّ مقامك بين يديه، وتسأل الله جل وعلا أن ييمن كتابك، وأن ييسر حسابك، وأن يعيذك من الصراط وزلته، وأن يعيذك من بطشته ونقمته، وأن يجعل حسابك يسيراً، ثم تسأل الله أن تدخل الجنة دون عناء ودون هم ودون غم، ثم تسأل الله أن يرفع درجاتك فيها، فإذا انتهيت من هذه المسائل التفت إلى أقرب الناس إليك من والديك، ثم أولادك وذريتك، ثم إخوانك وقرابتك، ثم أهل ودك الذين أحبوك في الله من علمائك الذين كانوا سبباً في هدايتك من أمواتهم، فتسأل الله أن ينور لهم قبورهم، وأن يفسح لهم فيها، فتدعو لعلماء المسلمين حيهم وميتهم، ثم حتى تعم دعوتك جميع المسلمين، فتعيش مع المسلمين في همومهم وغمومهم وأشجانهم، فتدعو الله للمكروبين من المسلمين أن يفرج الله كربهم، فتحس بأحاسيس المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. فلا تسمع بنكبة إلا بسطت كفك إلى الله سائلاً إياه أن يفرج عن المكروبين والمنكوبين. وبهذا تكون رحمة لعباد الله. ثم تدعو على أعداء الله وأعدائك الذين هم من شياطين الإنس والجن، الذين يحولون بينك وبين ربك. فتسأل الله عز وجل أن يحول بينك وبينهم، وأن يكفيك شرورهم، وتسأل الله عز وجل للأمة كذلك. ونسأل الله العظيم رب العرش العظيم في هذا المقام أن يصلح لنا أمور الدنيا والآخرة، وأن يثبتنا على الحق حتى نلقاه، ونسأله أن يحسن لنا ولكم الختام، وأن يدخلنا وإياكم دار السلام، دون حساب ولا عذاب، ولا سبق خصومة ولا عتاب، ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يفرج عن كل مهموم منكوب مكروب، وأن يفرج عن إخواننا في أفغانستان من أراملهم وضعفائهم، ونسأل الله العظيم أن يجبر كسرهم، ونسأل الله العظيم أن يرحم ضعفهم. اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وأنهم جياع فأطعمهم. اللهم ارحم ضعفهم واجمع شملهم. يا حي يا قيوم! اللهم اجعل لهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، نسألك اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، أن تفرج عن المسلمين والمسلمات في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين! اللهم اجعل لهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية يا حي يا قيوم! وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

مقدمة كتاب الديات [2]

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الديات [2] من حكمة الشارع أنه أسقط الدية في أحوال خاصة كتأديب الوالد لولده والمعلم لطالبه والسلطان لرعيته؛ لأن الشرع أذن لهؤلاء بتأديب من تحتهم، فلو فرض عليهم الضمان في حال الضرر لما تحققت المصلحة المرادة من التأديب وهي الإصلاح، لذا فقد رخص الشارع في حصول المفسدة الصغرى درءاً للمفسدة الكبرى.

عدم ضمان المؤدب إذا لم يسرف في التأديب

عدم ضمان المؤدب إذا لم يسرف في التأديب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه وسبيله إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصلٌ: وإذا أدب الرجل ولده، أو سلطان رعيته، أو معلم صبيه ولم يسرف لم يضمن ما تلف به]. يقول المصنف رحمه الله: (فصل) هنا سيبين المصنف رحمه الله الأحوال التي تسقط فيها الدية لأسباب خاصة، ومن ذلك: تأديب الوالد لولده، وتأديب السلطان لرعيته، والأصل في التأديب أنه يراد به المصلحة أو يراد به درء المفسدة العظمى في ارتكاب المفسدة الصغرى. فالأصل في الوالد مع ولده أنه لا يريد أن يضره، وهكذا المعلم مع طلابه؛ لأنه يريد الخير، والظاهر من حاله والأصل فيه أنه لا يريد الجناية والأذية، فلذلك يحمل على هذا المحمل الحسن فلا نحكم بلزوم الدية فيما يترتب على التأديب؛ لأن الإذن بالشيء يفقد الضمان في تبعته، لكن هذه القاعدة فيها تفصيل واستثناءات، والشرع أذن للوالد أن يؤدب ولده، وأذن للسلطان أن يؤدب رعيته، وأذن للمعلم أن يؤدب من يعلمه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر) فشرع الضرب في التعليم، والدعوة للخير، والأصل: أن العلم يراد به الدعوة للخير؛ يتعلم الإنسان ثم يعمل. فهذا الإذن الشرعي بالتأديب والتعليم، وأيضاً صيانة الناس والرعية، كل هذا إذا كان الأصل يقتضي جوازه فإن ما يترتب عليه من ضرر مغتفرٌ شرعاً؛ لأن الأصل أن من فعل هذه الأفعال يقصد بها مصلحة المجني عليه، ولذلك لا يجب عليه ضمان. مما السبب في أنه لا يجب عليه ضمان؟ لأننا لو أوجبنا الضمان في مثل هذا لامتنع التعليم، وامتنع الوالد من تربية ولده، وامتنع السلطان من تأديب الرعية؛ لأنه كلما جاء يؤدب خاف أن يترتب على الأدب ضرر فأحجم، وكلما جاء الوالد يريد أن يؤدب ولده وعلم أنه إذا أصاب ولده ضرر أنه مسئول أمام الله وأنه آثم، وأنه يتحمل الضمان أحجم وامتنع، وهذا يؤدي إلى ضررٍ أعظم وحينئذ اغتفر هذا الضرر بالنسبة للولد لمصلحته. ثم الأمر الثاني: أن الغالب السلامة في هذا والنادر حصول الضرر، ولذلك الحكم للغالب والنادر لا حكم له. يدخل في هذا تأديب الزوج لزوجته؛ لأن الله شرع تأديب الزوجة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واضربوهن ضرباً غير مبرح)، فالزوج له الحق أن يؤدب زوجته ولا يعنف ولا يقبح ولا يضرب الوجه، فإذا أدبها وحصل ضرر فالأصل أنه يريد الخير لها ولا يحمل على المحمل السيء. هذا بالنسبة لقضية القواسم المشتركة في هذه الصور؛ في الوالد مع ولده، والمعلم مع صبيته -الصبية الذين يتعلمون تحت يده- والسلطان مع رعيته، والزوج مع زوجته؛ فكل هؤلاء هدفهم الخير، والغالب فيهم أنهم يريدون مصلحة المُعْلَّمْ ومن يريدون تأديبه، ولذلك لا يجب عليهم الضمان. قال رحمه الله: [وإذا أدب الرجل ولده]. الذكر والأنثى، أولاً: يجب على الوالد أن يقوم على مصالح أولاده فيأمرهم بما أمر الله به وينهاهم عما نهى الله عنه، وهذا من الوقاية لهم من نار الله وغضبه، وكل والد أدب ولده التأديب الشرعي فقد سعى في فكاك نفسه من نار الله عز وجل، وكل والد أدب ولده وأقام الحجة عليه؛ فإنه يكون قد سعى في فكاك ولده من نار الله عز وجل، ولذلك إذا قام الوالد بحق التأديب والتعليم على الوجه المعتبر أعظم الله أجره وعظم مثوبته، كما في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من عال جاريتين فأدبهما فأحسن تأديبهما، ورباهما فأحسن تربيتهما، إلا كانتا له حجاباً من النار يوم القيامة)، فهذا يدل على أن التأديب والتعليم مقصود شرعاً. هذه الرسالة -رسالة التعليم والتربية- تحتاج إلى قوة، ولذلك لابد من وجود القوة في بعض الأحوال، فمن الأولاد من ينكف بالزجر، ومنهم من لا ينكف إلا بالضرب، والأحوال تختلف، ومن هنا كان من حق الوالد أن يزجر أولاده ذكوراً كانوا أو إناثاً عن الأمور التي لا تجوز بالتوجيه إن نفع التوجيه، ثم إذا لم ينفع فإنه يضرب ولا بأس في ذلك، وهذا الضرب فيه مصلحة، ولذلك كان من الحكمة استخدامه، وكما قال القائل: قسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقس أحياناً على من يرحم والأب إذا ضرب ولده وتألم الولد فإن هذا الألم صلاح لدينه ودنياه، كما أن الطبيب يؤلم المريض، فهذا الألم من ورائه خير ومصلحة متى ما كان واقعاً في موقعه، ولذلك اتفق الحكماء والعقلاء: على أن أكمل ما يكون في التربية ألا يكون الضرب والإيجاع والألم العامل الأول في الحفز على الخير والمنع من الشر؛ لأن الأولاد إذا أصبحوا لا يرتدعون عن المحرمات إلا بالضرب، ولا يفعلون الخير إلا بالضرب تعطلت مداركهم، وأصبحوا تحت سلطان الرغبة والرهبة، وحينئذ يغلب عليهم الهوى، فإن غابت القوة وغاب الوالد رتع الأولاد كيف شاءوا. وهذا معلوم ومشاهد -نسأل الله السلامة والعافية- في النفوس التي تتربى على القهر، فإنها متى ما زال عنها القهر طاشت وخرجت وفلتت لنفسها الزمام -والعياذ بالله- فرتعت في حدود الله ومحارمه دون هوادة. بل إن من الآباء من يحفظ ولده القرآن ويربيه على أكمل ما تكون التربية لكنها بعنف وقسوة وضرر وأذية، فما إن يموت الوالد أو يغيب عن ولده إلا ويضيع ذلك الولد -نسأل الله السلامة والعافية- وكأنه لم يتعلم شيئاً من الخير، بل لربما رجع حاقداً على كل خير وبر، وهذا يدل على ما ذكرنا من اتفاق الحكماء والعقلاء: على أن البداء بالضرب يبلد الإحساس ويقتل معاني النفوس السامية التي تحفز إلى الفضائل واجتناب الرذائل، فلابد من ترسيخ القناعة الذاتية، وتحريك المدارك في الصبيان وفي الأولاد ذكوراً كانوا أو إناثاً حتى إذا بلغوا استطاعوا بأنفسهم أن يحكموا على الأشياء، فما كان من خير قبلوه، وما كان من شر تركوه، وهذا هو الأسلم والأحكم، وهو الذي يجب على الوالد أن يلتزمه. بناء على ذلك اتفقوا على أنه ينبغي على الوالد أن يبدأ أولاً بالتوجيه، والتوجيه في الكمالات لا يوجب العقوبة، فلا يحفزهم على الكمالات بالقهر؛ لأن الله لم يفرض ذلك على المكلفين فضلاً عن غير المكلفين، ومن هنا يوجه أولاً، ثم يوجه في غير الكمالات التي هي الأمور الواجبة، فيأمرهم بها، والمحرمة ينهاهم عنها، فالتوجيه يشمل الأمر بطاعة الله والنهي عن معصية الله، فإذا كان التوجيه لم يجد فيه أذناً صاغية انتقل إلى مرحلة التحذير، وينذره ويقول له: إن لم تستجب فسأعاقبك إن لم تستجب فسأفعل بك، وهذا من أفضل ما يكون، فيجعل له مدة في الإنذار بالعقوبة، ويعوده على أنه ينذره مرة أو مرتين، ثم الثالثة إذا أنذره فعل به ما وعده، فلا يتأخر؛ لأنه إذا وعده أنه يضربه أو يؤدبه وفعل الصبي خلاف ما أمر أو ترك خلاف ما أمره به، فإنه إذا تسامح معه اعتادت نفس الصبي ألا تبالي بالإنذار، واعتادت الإهمال، وأصبحت نفساً تستهتر بالنُذر، ولكن إذا عوده على أن ينذره المرة الأولى ثم المرة الثانية، فإن رأى المصلحة أن يصبر إلى الثالثة وإلا بطش به. الأمر الثالث: إذا أراد أن يبطش به، يبطش به على وجهٍ يحمل على مكارم الأخلاق بفعلها على الأمور المحمودة أن تفعل، والأمور المذمومة أن تترك دون قهر ودون مبالغة في العقوبة؛ لأن المبالغة في العقوبة تؤثر على نفسية الصبيان، والأطفال الصغار ذكوراً كانوا أو إناثاً كما ذكرنا، فلابد أن تكون العقوبة معقولة، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ضرب الوجه ولطم الصور -يعني لطم الوجه- وكذلك أيضاً نهى عن الضرب المبرح بالنسبة لتأديب المرأة. هذا الأصل الشرعي: أنه يعاقب بهذا التدرج، وقد ينتهي به الأمر إلى العقوبة وهي المرحلة الأخيرة، فنحن أحببنا أن ننبه على ذلك؛ لأن البعض بمجرد أن يسمع أن للوالد أن يؤدب ولده يبطش بالولد مباشرة، وإنما المنبغي التفصيل، ولذلك قال الله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]، فذكر ثلاث مراتب: الوعظ والتذكير بالله عز وجل ثم الهجر في المضاجع. والهجر في المضاجع يقابله في الأولاد كف الحسنات عنهم، يعني لو كان من عادته أن يأخذ ولده إلى نزهة في نهاية الأسبوع، ومن عادته أن يذهب به إلى مكان يحبه، ففي ذلك اليوم الذي يترك فيه واجباً أو يفعل فيه محرماً يمتنع من أخذه، وهذا ينبغي أن يكون بأسلوب حساس جداً، يعني بطريقة لا تجعل الولد ينقطع رجاؤه في خيرك ويصبح مبلد الإحساس. بل عليك أن تكون حكيماً، واعلم علم اليقين أنك مهما أوتيت من عقلٍ وبصيرة فلن تستطيع أن تربي ولن تستطيع أن تعلم ما لم تكن موفقاً من ربك. فالأمور كلها بيد الله عز وجل، وكما قال تعالى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88] فمن افتقر إلى ربه أغناه وسدده. فالمقصود أن الوالد إذا أدب ولده فكسر يده، أو رجله، فالأصل أنه لا يريد ذلك، ومن هنا تسقط عنه المؤاخذة ولا يجب عليه الضمان. كذلك السلطان مع رعيته، لو أن السلطان جيء له برجل فعل جنايةً؛ يعني فعل فعلاً لا يبلغ حد العقوبة المقدرة شرعاً، فمثلاً: لو آذى امرأة أذيةً لم تصل إلى الزنا والاعتداء على عرضها، فنظر السلطان فأراد أن يعزره فأمر مثلاً بجلده أسواطاً، فلما جلد سقط الرجل فانشل، أو سقط الرجل فشلت يده أو رجله، أو أصابه مرض بسبب هذا الضرب، فحينئذ لا ضمان على السلطان، ولذلك جاء عن علي رضي الله عنه -وهو قضاء عمر في القود في الحدود- أنه قال: الحق قتله. وهذا أصل عند العلماء، لكن المشكلة أن التعزيرات فيها الضمان بخلاف الحدود، وهذه مسألة سنناقشها إن شاء الله أكثر في باب التعزير بإذن الله عز وجل. بين المصنف رحمه الله أنه لا ضمان على هؤلاء، والعلة في هذا كما ذكرنا: أننا لو ذهبنا نضمنهم لتعطلت المصالح العظمى من التعليم والتربية وردع الناس، ولذلك لا يضمن السلطان إذا أدب رعيته. لكن كل هذا بشرط أن يكون التأديب لا مجاوزة فيه للحدود، أما لو أن السلطان أمر بجلد رجلٍ بطريقة مضرةٍ مؤلمة فإن حصل الضرر فإنه يضمن، وهكذا

التسبب في إسقاط الحمل وضمانه

التسبب في إسقاط الحمل وضمانه يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ولو كان التأديب لحامل فأسقطت جنيناً ضمنه المؤدب] بين المصنف رحمه الله في هذه المسألة: أنه لو أدب رجل امرأة حاملاً فأسقطت جنينها فإنه يضمن الجنين، والسبب في ذلك: أن الضرر متعدٍ، والتأديب متعلق بالحامل، والجنين لا ذنب له، ولذلك وجب ضمانه، ولأن الحامل أمرها على الخطر، ولذلك كان يجب عليه أن يتحفظ وأن يتقي ما يوجب الضرر، ومن هنا حكم بوجوب الضمان عليه؛ لأنه لا يخلو الأمر من إفراط في التأديب وخروج عن الأصل، فنقول: إن الضمان لازم، ولا يسقط التأديب حق الجنين وضمانه؛ لأن الضرر هنا متعدٍ، وبينا أن التأديب متعلق بالمرأة نفسها وبالمؤدب، فالمصلحة للمؤدب نفسه، وأما الجنين فلا ذنب له ولا علاقة له، فلذلك بقي على الأصل من وجوب ضمانه، وعليه: فلا تتعارض هذه المسألة مع مسألة ما إذا أدب الأب ولده فمات، أو أتلف عضواً من أعضائه، أو أدب المعلم تلميذه ولم يفرط في التأديب -كما تقدم معنا- فحصل الضرر، فإنه يسقط الضمان. وقد يستشكل طالب العلم كيف قلنا: إن المؤدب لا يضمن، وهنا لو أدب امرأة حاملاً فأسقطت جنينها ضمن؟ ف A أن المسائل المتقدمة معنا تعلق الضمان بالأصول التي هي محل المصلحة من جهة التأديب، فالولد إذا أدب هو الأصل المنتفع بالتأديب، وقد أذن الشرع بتأديبه، وأما هنا فإن الضمان للفرع وليس للأصل، وقد أمر الله بتأديب الأصل وأحل تأديب الأصل، ولكن الفرع لا ذنب له، ولذلك وجب ضمانه، وهذا من دقة الشريعة الإسلامية، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، فالجنين لا ذنب له، ولذلك يجب ضمانه، وفيه حق لورثته، فيجب ضمان هذا الحق لصاحبه. قال رحمه الله: [وإن طلب السلطان امرأة لكشف حق لله تعالى، أو استعدى عليها رجل بالشرط في دعوى له فأسقطت ضمنه السلطان والمستعدي]. قوله: (وإن طلب السلطان امرأة لكشف حق لله تعالى) ذكر مسألة ضمان الجنين من المؤدب، وألحق هذه المسألة تبعاً، هي ليست أساساً في الباب، ولكن من باب ذكر النظائر والمسائل في مظانها. صورة المسألة: أن تكون هناك امرأة لزم حضورها إلى مجلس القضاء أو إلى مجلس الحكم، وطلبت من أجل أن يكشف حق الله عز وجل عندها، فارتعبت وأصابها الذعر فأسقطت جنينها، فإن هذا الإسقاط ترتب عليه ضرر متعلق بالجنين، والجنين لا ذنب له كما ذكرنا، نعم المرأة تطلب تطلب، ولكن الجنين لا ذنب له، فنسأل: كيف سقط هذا الجنين وبأي سبب؟ فوجدنا أن الطلب والأمر بإحضارها أحدث الرعب الذي نشأ عنه إسقاط الجنين، فيكون قتلاً بالسببية -كما تقدم معنا في صور القتل بالمباشرة والسببية- فيجب الضمان، وهذا أحد الأوجه عند العلماء رحمهم الله أنه يجب الضمان للجنين، وأنه لا يسقط خلافاً لما اختير من القول بعدم الضمان، والصحيح أنه يضمن. قال: [أو استعدى عليها رجل بالشُرَط في دعوى له]. الشُرَط: جمع شرطي؛ لأن الشرطي يحدث الرعب والخوف، ولذلك إذا استعدى عليها -يعني: اشتكاها- وجاءها بالشرط ووقف على بابها فإن هذا يحدث عندها الرعب والخوف، ومن هنا فعله هذا تسبب في سقوط الجنين وحصول الضرر لطرف لا ذنب له، وله دعوى على المرأة نفسها. قوله: (استعدى) يعني: طلب؛ إما أن يقيم عليها دعوى ثم يطلبها، أو يشتكيها إلى الشرط ثم يبعث معه الشرطي فيقف على بابها فيحدث لها هذا الخوف والرعب ويأمرها بالنزول، سواء كان ذلك بصورة الخوف؛ مثل أن يتكلم بكلام يحدث عندها الخوف والرعب، فارتعبت المرأة وخافت فأسقطت جنينها، فإن هذا الإسقاط جاء بسبب الخوف، والذي تسبب في الخوف وتعاطى أسبابه هو هذا المستعدي؛ لأنه لولا الله ثم استعداؤه ما حصل هذا كله، ولذلك يتحمل مسئولية فعله. قال: [فأسقطت، ضمنه السلطان والمستعدي]. ضمنه السلطان في الصورة الأولى إذا طلبها للحضور، والسلطان يشمل القاضي، وهذا أكثر ما يقع من الصور، أنه في مجلس القضاء تكون هناك دعاوى مثلاً: لو أن قاضياً أراد أن يطلب امرأة لحق من حقوق الله عز وجل فطلبها، لحق من حقوق الله فاسقطت فإنه يضمن، وعليه فلو طلبها ظلماً فمن باب أولى وأحرى، وهذا من باب التنبيه بالأدنى لكي ينبه على ما هو أعلى منه وأولى بالحكم منه، فبين رحمه الله أن القتل بالسببية في هذه الصور لا يكون قتلاً من كل وجه، الجنين إذا نزل فاستهل صارخاً ثم مات بفعل السقوط والإسقاط لا شك أن الضمان يكون كاملاً، لكن سيأتي أن فيه الغرة إذا كان ميتاً، أو أسقطته ميتاً. فالشاهد من هذا: أن السلطان يضمن، والمستعدي يضمن، لكن الإشكال في السلطان والقاضي، هل يكون الضمان في ماله أو في بيت مال المسلمين؟ من أهل العلم من قال: إنه إذا طلبها من أجل جريمة أو من أجل حق يتعلق بالمصلحة العامة، فإن عنده مبرراً شرعياً، وهذا المبرر متعلق بمصلحة المسلمين العامة، ولذلك يجب ضمان هذا التلف الحاصل من بيت مال المسلمين؛ لأنه مأمور شرعاً أن يطلبها، وعند السلطان عذر أن يستدعيها، فقالوا: في هذه الحالة يكون الضمان من بيت مال المسلمين، هذا أصل في القضاة والحكام؛ أنهم إذا تصرفوا بما فيه المصلحة العامة، وكان على وفق الحدود الواردة شرعاً، ولم يخرجوا عنها، فإنه يكون الضمان من بيت مال المسلمين بما يشاء من الضرر؛ لأنهم قصدوا مصلحة المسلمين العامة، وسواء فيما يتعلق بشجارات الأفراد أو خصومات الأفراد إذا قصد بها المصلحة العامة وطلب القاضي هذه المرأة من أجل هذه المصلحة، وفي كشف حق الله عز وجل في قضية أو أمر لابد من حضورها، فإنه حينئذٍ يجب ضمان هذا الضرر المترتب على هذا الفعل الذي يقصد به المصلحة العامة من بيت مال المسلمين، ولا يكون من مال السلطان الخاص، لكن لو أنه أسرف وتجاوز أو كان فيه ظلم ضمن من ماله الخاص، هذا الفرق بين الصورتين، والصحيح أنه يضمن من بيت مال المسلمين. أما المستعدي: فلا إشكال أنه يجب ضمانه من ماله الخاص؛ لأن الأصل في الضمان أن يكون على هذا الوجه بالنسبة له. قال: [ولو ماتت فزعاً لم يضمنا]. إذا مات الجنين ضمن المستعدي وضمن السلطان، لكن لو أن المرأة نفسها ماتت من شدة الخوف فللعلماء فيه وجهان: منهم من قال: لا ضمان، لا على السلطان ولا على المستعدي، فلو أن السلطان استدعى امرأة، فمن شدة الخوف سقطت ميتة، أو جاء رجل واشتكى امرأة ومن شدة الخوف سقطت وماتت، أو اشتكى رجلاً معروفاً بالخوف، وليس الخوف خوف ذلة ومهانة، وإنما الخوف الطبيعي الجبلي، الذي وقع لأنبياء الله عز وجل، قال تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ} [طه:67 - 68]، فالخوف فيه جبلة للإنسان، فإنه يخاف من الشيء الذي فيه ضرر، وقد يكون حيياً، وقد يكون عزيز النفس، فبمجرد أن يستدعى لمثل هذه الأمور تضيق نفسه وتتألم ويتعب، وقد يموت قهراً، يعني: ليس فيه ذلة أو خوف أو جبن، وإنما قد يكون هذا لعوارض أخرى، وقد تجد مثلاً الرجل في علمه وخطابته وقوة بأسه ربما لو قام شخص يناقشه يضيق من الغيظ فلا يستطيع أن يجيبه، لكن ليس هذا دليلاً على خوفه وجبنه، فقد يكون من القهر، ولذلك استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من قهر الرجال، وقال موسى عن نفسه: {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي} [الشعراء:13]، فقد تكون الحوابس عوارض ذاتية في النفس، فالناس يختلفون في طبائعهم. فالمقصود من هذا: أنها لو استدعيت إلى مجلس القضاء وماتت فزعاً، أو خرجت من بيتها فماتت فزعاً، أو حبس على بيته فامتنع من الخروج حتى مات فزعاً، في هذه الحالة اختلف العلماء: قال بعض العلماء: يجب ضمانه، وهذا هو الصحيح، والمصنف اختار عدم الضمان، والمذهب على أنه يضمن السلطان ويضمن المستعدي؛ لأنه لا فرق بين هذه المسألة وبين المسألة التي قبل، لكن الذين قالوا: إنه لا يضمن، قالوا: لأنه طلبه لحق الله عز وجل، وهذا أشبه بالمؤدب إذا أدب، والواقع أن هناك فرقاً بين التأديب وبين الطلب؛ لأنه بالطلب لم يثبت الحق بعد، ولم يجب تأديبه بعد، ولم يثبت السبب الموجب للإسقاط، لكن إذا أدب المعلم فإنه لا يؤدب إلا بعد الخلل، فوجد الخلل المقتضي للتأديب، أما هنا فقد استدعى، ومن المعروف أن الخصم إذا استدعي أول شيء يطلب، ثم بعد ذلك يناقش ويثبت عليه الحكم، وبعد ثبوت الحكم يؤدب، فنحن لم نثبت عليه جريمة بعد، وحينئذٍ لا وجه لتعميم الحكم بالإسقاط، لكن لو أنه كان مجرماً وطلبه السلطان من أجل إقامة حق الله عليه فمات فزعاً يصح قول المصنف أنه لا يضمن، ولذلك الأوجه والأشبه في هذه المسألة أن تستثنى منها ثبوت الحق في مجلس القضاء؛ لأن هذا مبني على مسألة الحكم على الغائب، وستأتينا في القضاء، فإذا حكم عليه غيابياً، وثبت الحكم عليه غيابياً، وطلب بعد ثبوت الحكم عليه، فقد طلب لحق الله عز وجل. لكن في أكثر الصور من حيث الأصل أنه يطلب المدعى عليه، ثم بعد ذلك يجيب عن دعواه، فيقر أو ينكر، ثم بعد ذلك تجري القضايا على السنن الشرعي، وحينئذٍ لا نستطيع أن نقول: إنه في كل مسألة يسقط الحق، ولا نستطيع أن نقول في كل مسألة: يسقط الضمان، ولا نستطيع أن نقول في كل مسألة: يجب الضمان، فيفصل على حسب ثبوت الحق عليه، بحيث يكون الاستعداء والطلب صحيحاً شرعاً، وبين أن يكون غير ثابت عليه ما ادعي، فحينئذٍ يكون الأشبه ضماناً كما هو المذهب.

تقديم المباشرة على السببية في المكلف العاقل

تقديم المباشرة على السببية في المكلف العاقل قال رحمه الله: [ومن أمر شخصاً مكلفاً أن ينزل بئراً أو يصعد شجرة فهلك به لم يضمنه]. (ومن أمر شخصاً مكلفاً) المكلف: البالغ العاقل (أن ينزل بئراً) أن ينزل بئراً يحضر له شيئاً، أو يحفر بئراً، أو -نسأل الله العافية- مثلما يحدث لبعضهم بأن يعجِّز غيره فيقول له مثلاً إذا كان سباحاً: لا تستطيع أن تبلغ قعر البئر، فيقول له: بلى أستطيع، فينزل فيموت، فحينئذٍ اجتمعت السببية والمباشرة، السببية: حينما قال له: انزل إلى البئر، والمباشرة حينما باشر الشخص نفسه النزول، فأصبحت الجريمة فيها سببية من جهة الأمر بالنزول، فيفصل في هذا: فإذا كان الآمر له قوة وأكره الشخص على النزول فنزل وتلف؛ ضمنه، وهذا لا إشكال فيه؛ لأنه إذا كان له قهر وأكرهه على النزول فيكون في حكم من غصبه على فعل، وهذا الفعل أدى إلى الضرر، فيضمن من غصب وأكره وقهر. الصورة الثانية: أن يقول له بمحض الاختيار: تحفر لي هذا البئر؟ أو تصعد هذه الشجرة وتجني لي منها المحصول؟ فإذا كان حفر البئر محفوفاً بالخطر؛ وهو انهيار البئر أو انهيار جزء منه، فحينئذٍ لو حفر البئر فانهال عليه فمات لم يضمنه الآمر؛ لأن الأمر سببية والنزول مباشرة، والمكلف العاقل كان ينبغي عليه ألا يخاطر بنفسه، فلما خاطر بنفسه تحمل المسئولية عن نفسه وسقط حكم السببية، وتعلمون كما تقدم معنا في القاعدة (أن المباشرة تسقط حكم السببية) فهذا قد باشر قتل نفسه بتعاطي الأسباب وإن كان الآمر لا سلطان له عليه. لكن هناك مسألة التغرير؛ ومسألة التغرير صورة مستثناة، وهي أن يقول له: مثلاً في داخل هذا البئر ذهب، أو: في داخل هذا البئر مال إن أحضرته أعطيتك نصفه، أو يقول له مثلاً: هذا كتابي قد سقط في هذه الحفرة، انزل فائتني به، ويكون في داخل الحفرة ثعبان، أو سبع مفترس، ولا يخبره بذلك، فيغرره باقتحام المباشرة الموجبة للهلاك والتلف؛ لأن الغالب أنه إذا خلا مع السبع افترسه وأهلكه، وإذا اختلى مع الحية أهلكته، فإذا غرر به على هذا الوجه لم يسقط الضمان. وإن قصد قتله وغلب على الظن أنه يقتل ويموت بهذا، أو علم أن البئر له مورد ماء ينهار بعد دقائق أو بعد لحظات، وأمره بالنزول من أجل أن ينهار عليه قاصداً قتله، فهذا قتل عمد، وهو من باب التغرير، والتغرير له تأثر، وفي بعض الأحيان ينزل التغرير منزلة السببية، وبعض الأحيان ينزل منزلة المباشرة، وبعضهم يعتبره من القتل بالسببية. على كل حال: من أمر مكلفاً أن يحفر بئراً، فالمكلف يتحمل مسئولية نفسه، وهكذا لو قال له: أريدك أن تطلي لي واجهة البيت، فأحضر السلالم وبدأ بطلائها فسقط، فإنه في هذه الحالة لا يضمن، سواء هلك أو ترتب على سقوطه ضرر؛ لأن هذه الأفعال المكلف العاقل لا يخاطر بنفسه بإتيانها، وهو مسئول عن مباشرتها، فإذا اختار أن يفعلها بطوعه دون قهر ودون إكراه على الفعل فإنه لا يضمن الآمر والطالب شيئاً. والذي يختاره الأئمة رحمهم الله أنه لا ضمان على الآمر؛ لأن المكلف متحمل لمسئولية نفسه. ومن هنا: المستأجرون في الأعمال والحرف لا ضمان على أصحاب الأعمال من حيث الأصل؛ لأن العمال مستأجرون في الأصل مكلفون عاقلون، لكن لو أنه أكرههم وقصرهم على فعل هذه الأفعال بغير اتفاق سابق، يعني: لم يكن اتفاقه مع العامل أنه يطلي له واجهة منزله، ولم يكن اتفاقه مع العامل أنه يشتغل هذه الأعمال الخطرة، فقال له: لابد أن تشتغل، وأكرهه على فعلها، حينئذٍ يضمن، وبناء على ذلك يفصل فيها، ومن حيث الأصل ما دام أن العامل عاقل ومكلف فإنه يتحمل مسئولية نفسه في القيام بهذه الأعمال الخطرة، وما ترتب عليها من أضرار، وهذا من عدل الشريعة، كما أن العامل يأخذ المنفعة والمصلحة كذلك يتحمل الضرر (فالغنم بالغرم) فهو يتحمل مسئولية نفسه إن حصل له ضرر، وإذا لم يحصل له ضرر أخذ النتيجة والمنفعة. قال: [ولو أن الآمر سلطان]. (ولو) إشارة إلى خلاف مذهبي، وليست القضية خاصة بالسلطان، وإنما المراد وجود الإكراه، فبعضهم يقول: إذا كان مثله لا يرد طلبه فإنه بسيف الحياء والقهر، لكن المصنف رحمه الله اختار القول الذي يسقط الضمان على السلطان؛ لأن هذا مكلف، وكان بالإمكان أن يقول له: لا أستطيع أو لا أخاطر بنفسي، لكن قالوا: الخوف والرعب يمنعه من ذلك فيكون شبه مكره على هذا. من حيث الأصل مذهب المصنف قوي، لأنه كان المفروض أن هذا المكلف يقول: لا أفعل هذا الشيء، ويمتنع من فعله؛ لأنه مأمور بحفظ نفسه، وغاية ما سيفعله به السلطان أن يؤذيه أو يضره، وإذا قتله السلطان إذا امتنع فأن يقتل شهيداً خيراً من أن يتعاطى أسباب قتل نفسه، هذا وجهه، ولذلك قول المصنف من حيث الأصل صحيح قوي. ومن حيث النظر وهو الاحتكام إلى العادة الصحيحة؛ لأنه جرت العادة أن مثل هذا يغلبه الخوف ويكون فيه شبه بالمكره، لكن قول المصنف من حيث الأصل قوي جداً، وعلى هذا سنخرج بخلاصة: أن السلطان أو غيره لا تأثير له ما لم يقهر قهراً فعلياً، بحيث يضغط عليه وينزله قهراً وبدون طواعية، فإذا فعل ذلك فإنه حينئذٍ يلزمه الضمان. قال: [كما لو استأجره سلطان أو غيره]. كذلك نفس المسألة؛ لأن الإشكال هو في إثبات صورة تكون في حكم الإكراه، أما لو أكرهه قوة وقسراً فلا خلاف أنه يضمنه، فإذا أكرهه وقسره على النزول إلى البئر، وانهار به البئر، أو قال له: لابد وأن تأتيني بما في قعر هذه البئر، وهو سباح، وقعر البئر بعيد، فنزل فهلك، فإنه حينئذٍ يضمنه إذا قهره، أما إذا لم يحصل قهر فالأشبه ما اختاره المصنف أنه لا ضمان عليه.

باب مقادير ديات النفس [1]

شرح زاد المستقنع - باب مقادير ديات النفس [1] جرت عادة الفقهاء أنهم يفرقون في الديات بين دية النفس ودية الأعضاء وغيرها، والأنفس تتفاوت في ذاتها من حيث الضمان، وتختلف بحسب اختلاف المجني عليه، فدية المسلم ليست كدية الكافر، ودية الكافر الكتابي ليست كدية المجوسي، ودية الذكور ليست كدية الإناث وهكذا، فلما اختلفت الديات وجب ضبطها وبيان القدر الواجب في كل منها.

مقادير ديات النفس

مقادير ديات النفس بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه وسبيله إلى يوم الدين. أما بعد: قال رحمه الله تعالى: [باب مقادير ديات النفس]. تقدم معنا أن الدية واجبة في القتل، وأن للأعضاء والمنافع دية أيضاً تقدر بحسب الضرر المتعلق بالعضو والمنفعة. والمصنف رحمه الله بعد أن بين لزوم الدية وفصل في دية العمد وشبه العمد والخطأ؛ التي هي أنواع القتل، شرع بعد هذا في بيان مقدار هذه الدية، وبناء على ذلك فإنه يتكلم على القدر الواجب من الديات، وقد جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان هذا، وتعتبر هذه المسألة من المسائل التي أجملها القرآن وفصلتها السنة؛ لأن الله يقول: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ} [النساء:92]، فأجمل هذه الدية، هل هي من الإبل، أو البقر، أو الغنم، أو هي من الذهب أو الفضة، أو من مجموع هذه الأشياء؟ فهذا إجمال، وبينت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت أقضية الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين المأمور باتباع سنتهم رضي الله عنهم وأرضاهم بتفصيل هذه الديات. والمقادير: جمع مقدار، والمراد بذلك: القدر الذي فرضه الله عز وجل. والسبب في هذا: أن الأنفس تتفاوت في ضمانها، وتختلف هذه الدية بحسب الأنواع، فالدية من الحيوان من الإبل والبقر والغنم تختلف في مقاديرها في الإبل ومقدارها في الغنم والبقر، ومن هنا أفرد المصنف رحمه الله باباً لبيان هذه المقادير، سواء كانت في الأثمان من الذهب والفضة، أو في الحيوانات. وقال: [مقادير ديات النفس] لأن الدية إما في النفس وإما في الأعضاء، وإما في الجروح والشجاج، ومن عادة الفقهاء رحمهم الله أن يفردوا دية الأنفس على حدة؛ لأنها تحتاج إلى تفصيل، وتختلف بحسب اختلاف المجني عليه، فدية المسلم ليست كدية الكافر، ودية الكافر الكتابي الذي له دين ليست كدية المجوسي، ودية الذكور ليست كدية الإناث، ومن هنا اختلفت مقادير الدية، ولما اختلفت وجب ضبطها وبيان القدر الواجب في كل منها. قوله رحمه الله: [باب مقادير ديات النفس]. أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بتقدير الديات خاصة بالأنفس، وحينئذٍ لا يتكلم على دية الأعضاء والمنافع، لأنه سيأتي الكلام عليها تبعاً، فابتدأ بالأعلى وهو دية النفس، وسيتبع ذلك بالأدنى كما سيأتي في الأبواب الآتية إن شاء الله تعالى.

دية المسلم الحر

دية المسلم الحر قال رحمه الله: [دية الحر المسلم مائة بعير]. الأصل في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه المعروف بكتاب عمرو بن حزم الذي تقدم معنا، وكتبه لأهل اليمن في زمانه عليه الصلاة والسلام، بين فيه مقادير الديات، وقال: (دية المسلم مائة من الإبل). قوله: (دية الحر) خرج العبد، فالعبد بقيمته كما سيأتي، فإذا قتل أحد عبداً فإنه يضمن بقيمته. قوله: (المسلم) خرج الكافر؛ لأنه لا يبلغ هذا القدر، فدية المسلم أعلى من دية الكافر، فدية المسلم مائة من الإبل، والمراد به الذكر، أما الأنثى فإنها على الشطر من الذكر، تتنصف ديتها عن دية الذكر، فعقل المرأة على النصف من عقل الذكر في النفس. والدية كانت معروفة في الجاهلية وأقرها الإسلام، والأصل فيها قصة عبد المطلب حينما نذر إذا جاءه عشرة من الولد أن ينحر أحدهم، وكان آخر العشرة عبد الله، وهو والد النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل إلى الكعبة ونذر السهام على عدد أولاده فخرج سهم عبد الله، فأراد أن يقتله وأن يذبحه، فصاحت قريش وامتنعت من ذلك، وقيل: إنه هو نفسه كان يحب عبد الله حباً شديداً، وهذا من قصص التاريخ التي اختلفت، فقيل: إنه ذهب إلى عراف في المدينة واختصم إليه مع قريش، فقال العراف: أخرجوا في كل سهم عشرة من الإبل حتى يخرج السهم على الإبل، وكان الأصل في الدية في الجاهلية عشرة من الإبل، فلما أشار عليه بهذا الرأي أخرج القدح الأول، والعشرة من الإبل التي كانت دية ثابتة، ثم حاول المرة الثانية فخرج الولد عبد الله، فحاول المرة الثالثة والرابعة والخامسة، حتى بلغ مائة من الإبل فخرج السهم على المائة من الإبل، فنحر المائة من الإبل وصارت سنة؛ لأنهم كانوا في الجاهلية ما يفعله العظماء يتخذونه سنة، فأصبحت الدية مائة من الإبل، فجاء الإسلام وهي مائة من الإبل فأقره. وهذا مثلما ذكرنا أن أفعال الجاهلية منها ما أقرها الإسلام، ومنها ما أبطله، ومنها ما فصل فيه، وذكرنا من هذا أمثلة كثيرة، ومر بنا في العبادات والمعاملات مسائل من هذا، فهذه السنة كانت موجودة في الجاهلية؛ وهي ضمان الدم بالمال، وكانت الإبل أعز شيء وأنفس شيء عند العرب، وجاء الإسلام فجعلها رأساً في الدية، ولذلك لما كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاب عمرو بن حزم لأهل اليمن جعل الإبل أساساً وابتدأ بها، وجاء في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ألا إن في القتيل الخطأ -شبه العمد قتيل السوط والعصا- مائة من الإبل) فنص عليها عليه الصلاة والسلام، وهي كما ذكرت أعز ما كان يملكه العرب، فضمن بهذا الضمان؛ لأن الإبل محل إجماع، وكل العلماء متفقون بحمد الله على هذه السنة، ونص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل بها الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون رضي الله عنهم كلهم، والصحابة رضي الله عنهم على أن دية المسلم الحر الذكر هي المائة من الإبل. ويشترط في هذه المائة من الإبل: أن تكون سليمة من العيوب، فلا يجوز أن يكون فيها معيب، وتؤخذ هذه المائة من الإبل من العاقلة إذا كان القتل خطأ، مثلاً شخص عنده سيارة فارتطم بأحدهم حتى قتله، فيطالب قرابته بهذه الدية، وتقدم معنا أنها تكون مقسطة ويطالب بها العاقلة، وهذا من دية الخطأ، فإذا طالب بها أحدهم فإنه يخرج وسط ماله، مثلاً عنده عشرة من أولاد العم، وعدد أولاده عشرة أو أكثر، فإذا تعين مثلاً على واحد منهم أن يدفع بعيراً ننظر إلى وسط ماله، فنقول: أخرج بعيراً من وسط مالك، ولا يطالب بالأنفس والكريم والجيد، ولا يجوز أن يخرج السقيم والعليل، وإنما يتوسط ويؤخذ من أوسط ماله، وهي واجبة على العاقلة، وسيأتي تفصيل العاقلة. هذه المائة من الإبل يشترط سلامتها من العيوب كما ذكرنا، وهي أصل عند بعض العلماء -الأصل في الدية الإبل- ومنهم من قال: إن الأصول هي: الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة، فجعل الأصول خمسة في الديات، فالإبل هي الأساس، وكذلك الذهب والفضة والبقر والغنم، فيخير أن يخرج أي واحد من هذه، يعني: ليس بملزم أن يخرج إبله، فلو جاء بمائتين من البقر أجزأه، أو جاء بألفي شاة أجزأه -كما سيأتي إن شاء الله تعالى- قالوا: هذه كلها أصول الديات، أيها أحضر أجزأه. قال رحمه الله: [أو ألف مثقال ذهباً]. مثقال يعني: دينار من الذهب؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم فقال: (ومن الورق ألف مثقال) وفي حديث السنن أن رجلاً من بني عدي عدا على رجل فقتله، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بديته ألف دينار، فهذا يدل على أن الدية تكون من الذهب ألف دينار، وهذا طبعاً على الدينار الذي كان موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وجد الدينار الذي ضرب على عهد عبد الملك بن مروان رحمه الله: وهو ما يسمى بالدينار الإسلامي، واستشكل العلماء تقدير الذهب في الديات عندنا مع تقدير الذهب في الزكاة والجزية. وأجيب عن ذلك بأنه لا تعارض بين الاثنين، وهذا راجع إلى صرف الذهب، فإن عدل الذهب في الزكاة كل عشرين مثقالاً تعادل مائتين من الدراهم، فمعنى ذلك أن المثقال والدينار كان يصرف بعشرة دراهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فهنا ذكر المصنف رحمه الله أنها ألف مثقال. قال: [أو اثنا عشر ألف درهم فضة]. هنا الإشكال (اثنا عشر ألف درهم من الفضة) قالوا: إذا كان ألف دينار، فالمفروض أن يقابله عشرة آلاف درهم؛ لأننا قلنا: إن الدينار يصرف بعشرة دراهم، وتقدم معنا في الزكاة؛ لأنه قال: عشرين مثقالاً أو مائتي درهم من الورق خمس أواق، وهي تعادل مائتي درهم، فاستشكل العلماء هذا في الألف دينار، وأجيب: أن هذا يختلف باختلاف الصرف، وقالوا: إن تقدير الدنانير في صرفها تختلف، ولذلك اختلف الحكم في الزكاة عن الحكم في الديات، وفي الحقيقة هذه المسألة لا زلت أبحثها، وقد سبق أن نبهت في الزكاة على أن فيها إشكالاً وكلاماً طويلاً للعلماء رحمهم الله من المتقدمين والمتأخرين في ضبط الدينار القديم وبعده الدينار الإسلامي البغلي، ثم الدرهم الإسلامي في عهد عبد الملك، واختلاف تقديرها بالعملات الموجودة الآن، ولا زلت أبحث عن المسألة إن فتح الله عز وجل وتبين فيها وجه الصواب يستطيع الإنسان أن يجزم. لكن مما ذكره بعض الأئمة والمحررين في رفع هذا الإشكال قد أشار إليه بعض الأئمة كالإمام ابن قدامة رحمه الله وبعض أئمة المالكية، وبعض أئمة الحنفية أيضاً أشاروا إلى أن الصرف اختلف، وقد بين عمر رضي الله عنه ذلك في خطبته في الديات وقال: (ألا إن الإبل قد غلت) وهذا يدل على أنهم كانوا ينظرون إلى تأثير السوق، وعلى كل حال جعل العدل اثني عشر ألفاً، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضمن الرقبة باثني عشر ألف درهم، وهذا عند العلماء رحمهم الله يعتبر أصلاً في الورق الذي هو من الفضة أنها تكون اثني عشر ألفاً، سواء كانت عدلاً للذهب؛ لأن الصرف كل دينار باثني عشر درهماً، أو كانت غير الصرف، فإذا لم تكن صرفاً له صار أصلاً، ومن هنا نفهم أن الفضة ليست عوضاً عن الذهب، يعني: ليست مقابلاً من باب صرف الذهب، فإذا كانت أصلاً فلا إشكال، وأما إذا كانت بدلاً حينئذٍ يرد الإشكال، إلا أن الذين يقولون: إنها بدل وإنها من الأصول لكن فيها معنى البدلية يعتذرون باختلاف الصرف، وهذا وارد: أن صرف الناس بالسوق يختلف من زمان إلى آخر. قال: [أو مائتا بقرة]. يدفع مائتين من البقر، فيخير؛ إن شاء دفع مائة من الإبل، أو مائتين من البقر، وهذا يدل على التفاوت بين الإبل والبقر، وجاء في الشرع ما يدل على أن الإبل والبقر بمنزلة واحدة، وكلا الأمرين جاء شرعاً، ففي الشرع في حديث جابر رضي الله عنه وأرضاه (أنهم كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ينحرون الإبل عن سبعة) وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه ضحى بالبقر عن نسائه، واتفق القول على أن البقر عن سبع كما أن الإبل عن سبع، وهذا يقتضي المساواة، لكن جاءت السنة بالتفاوت، قال عليه الصلاة والسلام: (من راح في الساعة الأولى في يوم الجمعة كان كمن قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية كان كمن قرب بقرة) فجعل البقرة دون الناقة، وجعل البقر دون الإبل، فتارة يستويان وتارة يختلفان، ومن هنا انعقدت الكلمة على أنه لو ضحى بالبقر عن سبع أجزأه، ولو ضحى بالإبل عن سبع أجزأه، وفي الدماء الواجبة كذلك، فإن البقرة يجزي عنها الإبل، فهذا يقتضي المساواة، وهنا فرق بينهما. وفي الحقيقة التفريق هنا وارد، وقد جاء في خطبة عمر رضي الله عنه في جعل العدل من البقر مائتين، ولم يخالفه فيه رضي الله عنه أحد من الصحابة، ولذلك يعتبر شبه إجماع من الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنه إجماع سكوتي من الصحابة رضوان الله عليهم. أيضاً: في البقر يشترط أن تكون سالمة من العيوب، فلا يجزئ أن يخرج من البقر المعيب، ثم لا يشترط أن يخرج نوع البقر الموجود في بلده، يعني: في الإبل يجوز أن يخرجها عراباً أو يخرجها بختية، ولا يشترط أن تكون من غالب إبل القوم الموجودة، فنقول لكل واحد من العاقلة: ادفع تيسر لك على حسب ما هو واجب عليك، سواء كانت عراباً أو بختية، وهكذا بالنسبة للبقر جيدها ورديؤها من جهة النوع. وأما من جهة المعيبة فإنها لا تجزئ لا في الإبل ولا في البقر كما قدمنا. قال: [أو ألفا شاة]. وهذا عدل البقر والغنم، ومثلما ذكرنا أن الزكاة والأضاحي تختلف عن الديات، ومن هنا فرق بينهم، وقوي القول الذي قال: إن الألف دينار لا يقال: عدلها عشرة آلاف درهم، بل تفاوتت وزادت في الفضة، وهكذا هنا لا مانع أن تزيد البقر وأن تزيد الغنم، ولذلك في الأصل السبعة من الغنم تعادل البعير -كما في الأضاحي- ولكن هنا العشرة من الغنم تعادل البقرة الواحدة، ولذلك يصبح الواجب عليه ألفي شاة. قال رحمه الله: [هذه أصول الدية، فأيها أحضر من تلزمه لزم الولي قبوله

الأسئلة

الأسئلة

سبب وجوب الضمان في الإسقاط

سبب وجوب الضمان في الإسقاط Q إذا أسقطت الحامل جنينها خوفاً فهل يكون الضمان على الإسقاط أم على موت الجنين، وهل إذا أسقطت وعاش الولد فلا ضمان؟ A إذا كان الجنين حياً وأسقطته ميتاً ففيه غرة؛ وليدة أو عبد، وأما إذا أسقطته وعاش وحيا ثم مات فحينئذٍ لا ضمان، الحمد لله أتى الله بالفرج، فبدل أن تتعب في الولادة أسقطته، يعني: ليس هناك قتل ما دام خرج حياً وبقي. على كل حال: لا ضمان عليه؛ لأنه -كما تقدم معنا في القتل- إذا عاش الجنين ثم مات بعد ذلك فإن هذا الموت بسبب آخر؛ لأنه لو كان بالإسقاط لمات فوراً، ولذلك يفرق بين السبب المؤثر والسبب الضعيف، وهنا السبب ضعيف جداً، ويقول العلماء: إذا وجد الفاصل يقول العلماء: السبب لا يؤثر؛ لأن غالب الظن أنه مات بقدر، ليس له عمر، وكتب الله أنه يموت بعد ولادته، لكن إذا أسقطته ميتاً فهذا ضمانه بالغرة كما ذكرنا، والأصل فيه حديث اقتتال المرأتين من هذيل، وهو حديث في الصحيح، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بضمان الجنين لما أسقطته بغرة؛ وهي وليدة أو عبد وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله في مقادير الديات، والله تعالى أعلم.

حكم ضمان رب العمل للعامل إذا تضرر

حكم ضمان رب العمل للعامل إذا تضرر Q أحياناً يتعرض العمال لحوادث من جراء التعامل مع الآلات والمكائن، فيبعد العامل عن العمل فترة طويلة يخضع فيها للعلاج، فهل يجب على صاحب العمل أن يمضي له أجرته الشهرية حتى وهو مبعد عن العمل؟ A من ناحية شرعية ليس ملزماً، فالعامل إذا عمل وباشر العمل فهو متحمل لمسئولية نفسه، فإذا قطعت يده من المنشار فهو الذي باشر العمل، ولا يحصل القطع إلا بإهمال من نفسه، وحينئذٍ لا ضمان عليه؛ لأن رب العمل ليس هو الذي أمسك هذه الآلات ولا هو الذي حركها، ولا هو الذي باشر الضرر الذي فيها، فالعامل متحمل لمسئولية نفسه، وهو عاقل بالغ رشيد، عنده خبرة وعنده معرفة. إذا بقي للعلاج ففضل من رب المال أنه يتولى نفقته ويتولى الإحسان إليه، لكن لا يجب عليه ذلك، إنما تجب عليه الأجرة إذا أعطاه عملاً وقدم له عملاً، هذا هو الأصل الشرعي، ولا يلزم رب المال أن يدفع أجرته حتى يشفى ويعافى، فإن هذا ما أنزل الله به من سلطان. الشريعة عدل وقسط لا جور فيها ولا غلو، لا نأتي ونقول: حقوق العمال! ونغلو في هذا الباب، ولا نأتي ونقول: حقوق أرباب العمل، كما أن العمال لهم حقوق كذلك أرباب العمل لهم حقوق، ولذلك الشريعة لا تغلو. تجد البعض يقول: أنا فقط مع الضعيف، فيأتي في حق الضعيف ويغلو على حساب حقوق الآخرين، وهذه هي المدنية الزائفة التي هجمت على الناس مناقضة لشريعة الله في كثير من المسائل، وعندما يأتون لحقوق المرأة فيصيحون: حقوق المرأة. حتى تذهب حقوق الرجال، يا ليت للرجال أناس ينادون بحقوقهم! يعني: تضيع حقوق الرجال على حساب مسألة حقوق النساء، وهذا سبب الغلو في الطرف، فالضعيف في الشريعة ضعيف حتى يرد له حقه دون غلو، فإذا غلي في حقه صار الطرف الآخر هو الضعيف الذي يضيع حقه، فالشريعة لا تنظر إلى هذا الغلو، وإلى هذه النظرات الضيقة التي تخالف شرع الله عز وجل، والتي تبالغ في حق الشخص حتى يكون على حساب غيره، ولذلك أمرنا الله عز وجل أن نشهد شهادة الحق: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء:135]، إن كان قوياً أو ضعيفاً فالله أولى بهما أيضاً، فبينت النصوص الواردة في كتاب الله عز وجل أنك إذا جئت تشهد لضعيف لا تشهد له بالباطل وتقول: والله خصمه غني أريد أن أشهد له، فالغني لا يضره لو دفع عشرة آلاف أو خمسة آلاف عوضاً. فهذا لا تأذن به الشريعة، وليس من حقك أن تتدخل في غني أو فقير، ولا في قوي أو ضعيف، فالله هو الذي يحكم، أما أنت فملزم أن تؤدي شهادتك على وجهها، فنقول: العامل هو الذي قام بهذا العمل، وهو الذي فعل هذا الضرر، وترتب على عمله بيده ومحض إرادته هذا الضرر، فيتحمل مسئولية نفسه هذا الأصل الشرعي. بعد هذا من الإحسان تكرماً من رب المال وتفضلا ًمنه، ومن باب حفظ العهد، وهؤلاء العمال فيهم ضعف، ومنهم من لا يجد حتى براتبه إلا قدر سداد الكفاية، فكون رب المال يريد أن يضع له راتباً مستمراً حتى يبارك الله له في ماله فجزاه الله كل خير، وأكثر الله من أمثاله وأعظم أجره، لكن أن يلزم ويفرض عليه ذلك فلا، هب أن فقيراً جاء بعامل من أجل أن يصلح له باباً أو يفعل له شيئاً، ثم انكسرت يده، فهل يظل الفقير يصرف عليه حتى يشفى؟ أبداً الشريعة ليس فيها هذا، الشريعة تقول: كل شخص يتحمل جناية نفسه، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، فهو من ألحق الضرر بنفسه، إذ لو قام بعمله كما ينبغي وتحفظ لما حدث هذا الشيء، فلما أهمل وقصر حصل الضرر فهو يتحمل مسئولية نفسه، ولا يلزم رب المال بدفع الأجرة له، ولا بمعالجته، ولكن الأفضل والأكمل أن يفعل ذلك والله تعالى أعلم.

التوسع في المسائل الخلافية وأقوال العلماء

التوسع في المسائل الخلافية وأقوال العلماء Q هل يستحب لطالب العلم في دراسته للفقه التوسع في مسائل الخلاف وأقوال العلماء، أثابكم الله؟ A إذا أراد أن يشوش على نفسه ويتعب ويضيع يتوسع، الفقه يؤخذ بالتدرج، فيبدأ في المذهب بالدليل ويأخذه ويؤصله ويراجع المرة تلو المرة، ويقرأ في هذا الذي سمعه من الشيخ أو قرأه في الكتاب المرة بعد المرة؛ لأنه مسئول أمام الله عز وجل، فكل درس يحضره طالب العلم يسمع فيه حكماً شرعياً فقد تحمل أمام الله المسئولية عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة، فلا بظن أحد أن حضور مجالس العلماء هو من باب إضاعة الوقت والتفكه والتندر أبداً هذه المسألة تسأل عن حفظها وضبطها، خاصة إذا كنت من طلاب العلم المتخصصين، فيجب عليك إتقانها. فالمشكلة أن بعض طلاب العلم بمجرد أن يأخذ هذه المسألة يذهب إلى أقوال العلماء ويبحثها في المطولات، فيدخل في بحر لا ساحل له. طالب العلم أول ما يبدأ بالتأصيل، ويبدأ بصغار العلم قبل كباره، فيأخذ من شيخ الزبدة والدليل، ثم بعد ذلك إذا جاء أحد يشوش عليه بقول مخالف يسكته، يقول: هذا الذي أعرف، وهذا الشيخ أدين الله عز وجل أنه متمكن في علمه، وأعتقد قوله بالدليل؛ لأنك ستقف بين يدي الله وتعتقد شيئاً بالدليل، الممنوع أن تتعصب بدون دليل، فإذا قال لك الشيخ حكماً بالدليل تبقى عليه، فإن جاءك شخص يشوش عليك بقول آخر أو بدليل آخر فقل له: أنا والله لم أبلغ درجة الاجتهاد حتى أعرف هل هذا الدليل يصح أم لا يصح، وقد يكون في الصحيحين لكن دلالته ليست صحيحة. وهذا ليس خاصاً بالمسائل، وإنما يشمل حتى الفتاوى في الحوادث التي تقع، تجد فتوى عن علماء أجلاء يذكرون قولاً، ثم يأتي شخص ويعقب على هذه الفتوى بعشرات الأحاديث والآيات والله لو تأمل المتأمل لوجد أنها لا علاقة لها بهذه المسألة التي أفتي فيها لا من قريب ولا من بعيد، والسبب في هذا: أن البعض يغتر، وبعض الأحيان تأتي مسألة يؤصلها العالم بأدلتها وحسن النظر فيها وهو يعرف كيف يفتي، ولا يمكن أن تتجاوز الفتوى فيها خمسة أسطر، ويأتيك شخص يؤلف كتاباً فيها؛ لأنه يجمع من هنا ومن هناك، ويأتي بأقوال العلماء ويسردها ويفهمها بفهمه، ويؤولها بتأويله، ويسوغها على حسب ما ظهر له، وأما العالم النحرير فإنه يعلم ما الذي يقوله، ويعرف ما هي أصول الفتوى، وكيف يخاطب الناس بفتاويه، وكيف يؤصل؛ لأنه يعلم أن كل كلمة محسوبة، وأن كل عبارة يمكن أن تؤول ويمكن أن تصرف، فلذلك لا يتشتت طالب العلم، فإذا وجدت إنساناً تثق بدينه وأمانته وعلمه، أو شهد له أهل العلم أنه أهل؛ سواء كان من المتقدمين أو المتأخرين أو المعاصرين ودرست على يده وأخذت على يده فأنت تبقى على قوله بالدليل، لكن اضبط هذا الذي تسمعه. وهذه هي مشكلة بعض طلاب العلم فإنه لا يضبط الذي يسمعه، وإنما ينشغل بشيء آخر فيقرأ كتباً كثيرة، ثم يقول: والله أنا لا أستطيع أن أركز، وهذا ما هو إلى بسبب عدم المنهجية وعدم وضوح الطريق الذي يسير عليه طالب العلم، وثق ثقة كاملة أنك عندما تلخص كل درس، وتلخص أحكامه بالأدلة، وتعتقد هذه الأحكام بدليلها وتخاف من الله عز وجل في كل شيء تنسبه إلى الشريعة ألا تنسبه إلا بقول عالم يوثق بدينه وعلمه، حتى في الفتاوى، فليس كل شخص وجد منشورة يوزعها من باب بيان الحق وهو لا يعرف هل هذا الذي أفتى بما فيها إنسان من أهل العلم أم لا، أو إنسان يوثق بعلمه أم لا، وقد تكون في المعضلات والمسائل التي يقف عليها مصير الأمة. والمشكلة: أنك لا تشك أن من يفعل هذا ويتبعه أنه يريد الحق والخير، فالخوارج رفعوا القرآن على أسنة الرماح وقالوا لـ علي: (لا حكم إلا الله) هل يستطيع أحد أن يرد هذا القول؟ ماذا قال علي رضي الله عنه: (كلمة حق أريد بها باطل). هذا من رسوخ علي رضي الله عنه الذي كان يقال عنه: (آية في الفقه) رضي الله عنه وأرضاه، وكان ملهماً في فقه القضايا، حتى كان عمر رضي الله عنه يستعيذ من قضية لا يحضرها أبو الحسن، وكان إذا جاءته النازلة أول ما يلتفت إلى علي رضي الله عنه، مما أوتي من الفهم، ومع ذلك يرفعون له القرآن. ليس كل قول يأتي في المطولات يخالف قولك الذي درسته معناه أنه انتهى الأمر، والله كنا بعض الأحيان نشك في بعض مشايخنا من باب ما يحدث للإنسان، فالإنسان بشر، ولكن إذا زالت الفتن وانقشعت عرفنا حقيقة الفتوى وما هي أصولها، وما هو العمق الذي كانوا يتكلمون به، وما هو الأصل الذي كانوا يعتمدونه، وفي دروسهم وجدنا أن هذه الأحاديث التي كان يشوش علينا بها بعض طلاب العلم من أسهل ما يكون الجواب عنها، وأنها إما أعم من موضع النزاع، أو خارجة عن موضع النزاع، ولكننا في البداية كنا نجد الحديث المتفق في الصحيحين يدل على كذا، والآية تدل على خلافه فلذلك ينبغي التريث. ثم إني أقول: لا مانع أن تأخذ بفتوى الغير، ولا مانع أن تأخذ بأقوال الغير، ولكن المصيبة كل المصيبة إذا احتقر الشخص قول غيره -نسأل الله السلامة والعافية- فتجده يقول: القول الآخر ضال أو خطأ، ومن باب بيان الحق لابد أن ينشر هذا القول المخالف، ولذلك أنصح كل النصيحة ألا تدخل في الفتاوى وألا تدخل في المسائل بضرب بعضها ببعض، أو الحكم بصواب عالم على حساب عالم آخر، قل: هذا شيخي، وهذا العلم الذي رأيتم بالدليل، وأما غيره فلم يظهر لي، إلا إذا تمكنت من الأصول وقامت علي الحجة، أو خذ الدليل واعرضه على شيخك، أما أن تذهب إلى المطولات وتنظر فيها، أو مثلاً تجمع فتاوى في المسألة، فهذا مما تضيع به الأمة. وأقول هذا بمناسبة الأحداث التي نعيشها الآن: هي مسألة عارضة، نحن ذكرنا من فقه العالم في المسائل التي تطرح على الأمة ألا يتشتت وألا يشتت الأمة معه، هناك ثوابت مسلمة ينبه عليها، ينصح فيها لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، لا يستطيع أحد أن يقول: إنه كذب أو إنه أخطأ، هذا أمر ينبغي أن يضعه كل شخص في حسابه، وأن يفهم ذلك وأن يعيه كذلك، ويجب على طلاب العلم أن يحرصوا على غرس منهج السلف الصالح بلزوم الجماعة والبعد عن القيل والقال، وهذا أمر لا يُختلف فيه. إذا حصل اختلاف في المسألة قلنا: في المسألة توقف؛ لأنه إلى الآن لم نعلم الصواب عند زيد أو عمرو، قلنا: كفوا ألسنتكم، هل هذا جاء من فراغ، لو أننا اتضحت لنا الصورة لعرضنا هذه المسألة على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفصلنا فيها تفصيلاً واضحاً في مسألة الأحداث التي جرت وما كان لها من تبعات، أما أن يأتي الشخص ويلتقط له فتوى يشوش فيها على فتاوى علماء كبار أجلاء ويتهمهم بالباطل ويتهمهم بالمداهنة وبالممالأة أبرأ إلى الله، اتق الله في نفسك! ينبغي على كل إنسان أن يتقي الله ويحذر. إذا كنت تريد أن تقول لشخص حقاً وكنت من أهل الاجتهاد قل ذلك، لكن إياك أن تكسب الإثمين فتدخل في نوايا العلماء وقلوبهم، هل كلما وجدنا قولاً يخالف العلماء الكبار فمعناه أنه هو الحق، وأن ما قاله العلماء الأجلاء مشكوك فيه؟ هذا حرام ولا يجوز، وما هكذا يقابل العلماء الذين ينصحون للأمة، يا أخي! لست عليهم بمسيطر، ولست تعلم بما في قلوبهم وصدورهم ونواياهم من أنهم يداهنون أو يقصدون غير الله عز وجل، لك الظاهر والله يتولى السرائر، وهم مسئولون أمام الله فيما أفتوا به، فنحن ننبه على هذا؛ لأن هذا من المنهج. وإذا أفتى أحدهم فتوى وجاء شخص وبرر هذه الفتاوى واتهم العلماء الكبار والله ليقفن بين يدي الله عز وجل، وليسألن عن هذه الأرواح التي أزهقت في هذا الحادث، تفجير ما لا يقل عن مائتي مسلم، وهذا أقل تقدير وقيل: سبعمائة مسلم، سيقف بين يدي الله حافياً عارياً يسأل عن دمائهم، ويسأل عن مشروعية قتلهم، هذا إذا كان يرى أن هذا جائز، أما كون المسلمين هم الذين يفعلون هذا، فلا تستطيع أن تقول: إن هذه الأمة هي التي فعلت هذا الفعل بالمسلمين، وتحتاج المسألة إلى دراسة، هذا إذا كان المسلمون فعلوه، ثم تسأل أمام الله عز وجل عن التبعة التي جرَّت غير المسلمين إلى بلاد المسلمين، وحدث ما حدث من جميع الآثار والأضرار. إذا روجت فتوى -تعارض فتوى العلماء- تبرر هذه الأفعال ستقف بين يدي الله لتسأل عمن أفتاك بهذا، لا يحسب الإنسان أنه إذا رأى قولاً أن القول الآخر منتهٍ، وأن هؤلاء ضعاف، وأن هؤلاء مساكين، وأن العلماء لا يعرفون قول الحق، عليك أن تتريث، وأن تعلم أنه لو سكت عالم يريد أن يستبين الأمور ليس معناه أنه خائف أو جبان، موسى عليه السلام يواعده الله عز وجل أربعين ليلة، ثم يأتي ويأخذ برأس أخيه وبلحيته ويجره لما عبد قومه العجل، {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف:150]، ويصيح عليه هارون ويقول له: {يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94]، وبين له عذره فقال: {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94]، خاف الفتنة، هذا نبي من أنبياء الله، ماذا قال بعدها: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ} [الأعراف:151]، ليس كل من سكت معناه أنه خائف أو جبان، من يسكت خوفاً من الله أن يوقع الأمة في خطأ أو خلل، ومن يأتي بالأصول والثوابت ليس كمن يطلق العنان لنفسه في الفتاوى، ولا تحسب أن كل فتوى يقال فيها تبرير لأشياء أنها هي الحق والصواب، وما بلغت مبلغ العلم، وكم من أحاديث سردت في تبرير بعض الأشياء والله لا تمت إلى الأمر بصلة، هناك مسائل واضحة عند العلماء في مواجهة الكفار للمسلمين، وقواعدها معروفة، ومسائل الجهاد أدلتها وأصولها واضحة مضبوطة ليس فيها أي إشكال، والمسائل المستثناة لها ثوابت، وهذه المسألة أقسم بالله أنها لو عرضت على عالم جهبذ من علماء المسلمين لجثا على ركبتيه خوفاً من أن يقول فيها على الله عز وجل، ومع ذلك تجد من لا يبالي، نحن نقصد نوعية من الناس وإن كانت قليلة وشاذة، وأرجو من الله أنهم حسني النية، ولا نحب أن يأخذهم أحد على

حكم من أفطر قبل دخول الوقت

حكم من أفطر قبل دخول الوقت Q في رمضان الماضي أذن المؤذن قبل دخول المغرب، فأفطر بعض الناس، فهل عليهم قضاء؟ A إذا أذن المؤذن قبل الوقت فإنه يجب على الناس أن يقضوا هذا اليوم إذا أفطروا بأذانه، وهكذا لو تأخر المؤذن حتى طلع الفجر ومضى وقت على طلوعه فأمسكوا بأذانه، بمعنى أنهم أكلوا قبل الأذان مباشرة وكان الوقت وقت إمساك فإنه يجب عليهم الضمان. والأصل في ذلك: أن الله أوجب على المكلف أن يصوم يوماً كاملاً من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وحق الله يجب ضمانه، والخطأ في هذا كونه أذن خطأ فيسقط الإثم ولكنه لا يسقط الضمان للحق، ولذلك الخطأ لا يوجب سقوط الضمان في الحقوق، والله تعالى يقول: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] فقال: (لا تؤاخذنا) والمؤاخذة هي الإثم، فالإثم ساقط بوجود الخطأ ولكن الحق ثابت، ولو أن شخصاً استدان من شخص ألفاً ثم أخطأ وقال: ليس لك عندي شيء، فإن هذا الخطأ لا يسقط حق الرجل، فلو تذكره بعد فترة يجب عليه أن يسدد، فالخطأ يسقط الإثم أثناء التلبس بالعذر، ولكنه لا يسقط الضمان، وإذا كان هذا في حقوق المخلوقين فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (دين الله أحق أن يقضى)، فذمة المخلوق مشغولة بحق الخالق من صيام هذا اليوم تاماً كاملاً، فيجب عليه الضمان، والله تعالى أعلم. المسألة الثانية: نحب أن نوصي المؤذنين أن يتقوا الله عز وجل في أذانهم، خاصة في شهر رمضان، فلا يجوز للمؤذن أن يتساهل وأن يقوم وقت ما شاء يؤذن للفجر أو يتساهل في أذان المغرب، وعلى أهل الحي إذا وجدوا من مؤذنهم تلاعباً أن يشتكوه وأن يرفعوه إلى المسئولين، وإلا كانوا شركاء له في الإثم؛ لأن أمثال هؤلاء يفسدون على الناس دينهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن) قال العلماء: مؤتمن على ركنين من أركان الإسلام: الركن الأول: الصلاة، والركن الثاني: الصوم، فهو إذا أذن قبل الوقت في الفطر أو أذن بعد الوقت في الإمساك عرض صيام الناس للخلل، فلا يجوز السكوت على أمثال هؤلاء، بل يجب نصحهم وتوجيههم، فإذا لم يرتدعوا استبدلوا بغيرهم ممن يخاف الله ويتقيه في أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يفسد صيامها، والله تعالى أعلم.

بيان أن الزكاة تكون في أهل البلد الذي فيه المزكي

بيان أن الزكاة تكون في أهل البلد الذي فيه المزكي Q إذا كان لدي مال سواء كان أغناماً أو مزارع أو أي شيء من عروض التجارة في بلد آخر غير بلدي الذي أسكن فيه، فهل أخرج زكاته في أهل البلد الذي أسكن فيه، أم أخرجها في البلد الذي فيه هذا المال، أثابكم الله؟ A هذه مسألة مبنية على اشتراط إخراج الزكاة في الموضع الذي فيه المزكى، والدليل عليها قوله عليه الصلاة والسلام: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) وهذا في حديث معاذ في الصحيحين، فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم إخراج الزكاة في نفس البلد الذي هي فيه، ومن هنا يرد السؤال المذكور: هل العبرة بمال الرجل أو بمسكنه؟ الذي عليه المحققون من الأئمة من أصحاب هذا القول أن العبرة بمال الرجل، فيخرجه في الموضع الذي فيه المال، وإن أخرجه في الموضع الذي هو فيه فلا بأس ولا حرج، لكن الأحوط والأسلم أنه يخرجه في الموضع الذي فيه المال، والله تعالى أعلم.

حكم قضاء السنن الراتبة

حكم قضاء السنن الراتبة Q من كان مداوماً على السنن الرواتب وفاتته سنة راتبة فلم يتذكرها إلا بعد يوم أو يومين، هل يقضيها أم لا؟ A كتب له الأجر، والسنن الرواتب ليست واجبة مثلما ذكرنا في الواجبات في الصوم، فحينئذٍ السنن الراتبة إذا نسيها كتب الله له الأجر كاملاً، وهذه فائدة المداومة على الأعمال الصالحة، فإنك إن داومت على قراءة القرآن والأذكار، وداومت على الأعمال الصالحة، ثم -لا قدر الله- أصابك مرض كتب الله لك الأجر كاملاً، وقد يكون الرجل في عز شبابه وقوته يسافر في تعليم الناس وتوجيههم، ويسافر للحج والعمرة والأعمال الصالحة، فلما كبر قعد عن ذلك كله، فيكتب الله له أجر شبابه تاماً كاملاً، فكل من عذر يكتب الله له أجر الطاعة التي يداوم عليها في السفر يكتب له في المرض يكتب له قال صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له عمله) وهذه فائدة المداومة على الأعمال الصالحة، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يعيننا على حبه وطاعته ومرضاته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا.

باب مقادير ديات النفس [2]

شرح زاد المستقنع - باب مقادير ديات النفس [2] أصول الدية: الإبل، والذهب والفضة، والبقر والشياه، وبعض العلماء يرى أن الدية الأصل فيها الإبل. فإذا أحضر القاتل أياً من هذه الصور فإن الولي يلزم بقبولها، وقد جاء في الكتاب والسنة بيان دية القتل والعمد وشبهه، واختلف العلماء في تغليظها.

أصول الدية ولزوم قبول الولي بأي واحد منها

أصول الدية ولزوم قبول الولي بأي واحد منها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [هذه أصول الدية] تقدم معنا أن المصنف رحمه الله ذكر أصول الدية خمسة: الإبل والذهب والفضة والبقر والماشية، ومن أهل العلم من قال: الإبل هي الأصل، وهذا من حيث الدليل أقوى وأصح وأولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها في الديات، وهذا في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (ألا إن في قتيل شبه العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل) فنص عليه الصلاة والسلام على هذا الأصل. وفي حديث عمرو بن حزم في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم في الديات ما يشهد بهذا، وقد أجمعت الأمة على قبول هذا الكتاب والعمل به، كما ذكر ذلك الإمام الحافظ ابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، والحافظ ابن حجر رحمة الله على الجميع. حتى قالوا: إن شهرته أغنت عن طلب إسناده، والعمل عند سلف الأمة الصالح رحمهم الله والتابعين لهم من الخلف على هذا، أي: العمل بهذا الكتاب، وقد قال صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب: (في النفس المؤمنة مائة من الإبل) فهذا هو الأصل، والمصنف رحمه الله زاد لنا الذهب والفضة، وفيها قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقضاء الصحابة رضوان الله عليهم، وقدر عمر رضي الله عنه الإبل كما بينا في المجلس الماضي، ومن هنا صارت أصلاً ثانياً عند العلماء رحمهم الله. ثم بعد ذلك البقر والغنم على الأصل الذي ذكرناه في خطبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه اعتبر البقر واعتبر الغنم بديلاً عن الإبل، وبديلاً عن الذهب والفضة. لكن عند النظر من حيث الأصل فإن الإبل هي الأصل، وعلى هذا فهي التي عليها المعول، وإنما لزم الرجوع لهذا للتنبيه؛ لأنه سيرتبط كلام سيأتي للمصنف رحمه الله بهذه الجملة، وأن العبرة بالإبل بالغة ما بلغت، سواء غلت قيمتها أو نقصت فهي الأصل وهي التي عليها المعول. قال رحمه الله: [فأيها أحضر من تلزمه لزم الولي قبوله]: قوله: (فأيها أحضر من تلزمه) أي: الدية (لزم الولي قبوله) أي: قبول الذي أحضره، سواء كان الإبل أو الذهب أو الفضة أو البقر أو الشياه، على التفصيل الذي تقدم، لكن إذا قلنا: إن الإبل هي الأصل؛ فالأصل الذي يلزم بأخذه هو الإبل، وحينئذٍ لا يُلزم بالذهب والفضة وله الحق أن يقول: أريد الإبل. هذا من حيث الأصل، لكن العلماء والأئمة رحمهم الله نبهوا على مسألة إذا شحت الإبل وقلت. مثلاً: في بعض الأزمنة مثل زماننا تكثر الحوادث ويكثر قتل الخطأ في السيارات ونحوها، فلو تصورت مثلاً السيارة ربما يكون فيها الأربعون ويهلكون في لحظة واحدة، وتلزم دية هؤلاء، فإذا كانوا أربعين، فيلزم لهم أربعة آلاف من الإبل، ثم حادث آخر وثانٍ وثالث حتى تشح الإبل، وحينئذٍ تصبح عزيزة. لذلك ذكر بعض العلماء هذا من باب المصلحة المرسلة، وعدلوا بها إلى التقويم؛ أي: تقويمها بالذهب والفضة، والتقويم على وجهين: تقويم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويعتبر أصلاً عند أهل العلم إذا قلنا: إنها ألف مثقال من الذهب. وهناك خلاف في مسألة مهمة وهي: هل تقديرات الصحابة في الأحكام تعتبر وقتية زمانية بحسب عرفهم؟ أم أنها باقية إلى قيام الساعة، يعني تعبدية؟ إن تقديرات الصحابة واجتهاداتهم مثل أقضية الصحابة في قتل الصيد التي تقدمت معنا، حينما قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحمامة في الحرم شاة، وهذا حكم وقضاء من خليفة راشد، وقضاء الصحابة رضوان الله عليهم في الوعل والثيتل، كما قضى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وعبد الله بن عباس. إن قلت: إن هذا القضاء يبقى إلى يوم القيامة فلا يستأنف الاجتهاد فيه، فهذا وجه، ويختاره الحنابلة ويدرجون عليه، ومنها مسألة الحمى؛ فمثلاً عندنا حمى عمر بن الخطاب وحمى عثمان رضي الله عنهما، فهل إذا حموا يظل حمى إلى قيام الساعة؟ أم أنه وقتي زماني مقدر بذلك الزمان، فإذا تغير الزمان ممكن أن يجتهد باجتهاد جديد، فيحكم بارتفاع الحمى، ويحكم بتجديد اجتهاد الحكمين في مسألة الصيد، ومن أمثلتها مسألتنا. فإن قلنا: إن عمر بن الخطاب وقت وحدد الدية على سبيل الإلزام فلا تغير، فننظر قيمة الألف دينار كم تعادل في زماننا، والاثني عشر ألف درهم، ونقدرها بالدراهم، مثل الريالات الموجودة وعدلها من الذهب بالجنيهات والدنانير والدولارات، هذه من جهة الذهب وهذه من جهة الفضة، هذا إذا قلنا: إنها زمانية محددة بذلك العرف. ويشهد لهذا قول عمر: ألا إن الإبل قد غلت. ففارق بين زمانها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبين زمانه هو، فجعل طرو الاختلاف في الأسعار موجباً لطرو الحكم وتجديد الحكم، وهذا وجه عند بعض العلماء رحمهم الله. وبناءً على هذا تصبح الإبل هي الأصل وتخرج من الإشكال كله. فإذا قلنا: إن الإبل هي الأصل. أصبح التقدير بالعدل من اجتهاد عمر رضي الله عنه، وفيه أحاديث مرفوعة ضعيفة، وقد بينّا هذا وأشرنا إليه فيما مضى.

مقدار دية قتل العمد وشبهه

مقدار دية قتل العمد وشبهه قال رحمه الله: [ففي قتل العمد وشبهه خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة].

أنواع الدية واختلاف العلماء في تغليظها

أنواع الدية واختلاف العلماء في تغليظها قوله: [ففي قتل العمد وشبهه]: الدية تنقسم إلى نوعين: النوع الأول: الدية المغلظة. والنوع الثاني: الدية المخففة، أو مطلق الدية، كما يقول بعض العلماء رحمهم الله. التغليظ في الدية: التشديد والتعظيم، وأصل الشيء الغليظ هو: الشديد والعظيم، وبعض العلماء يرى أنه يُشرع تغليظ الدية، ومنهم من لا يرى التغليظ، والذين يرون التغليظ يختلفون: المذهب الأول: منهم من يحصر التغليظ على صفة القتل، فيقول: إذا قتلَ قتل عمد أو شبه عمد فإنه تُغلظ عليه الدية، ولا يسوى بين دية الخطأ المحض وبين دية العمد وشبه العمد. والمذهب الثاني يقول: إن الدية تغلظ؛ فتغلظ في صفة القتل، وتغلظ بالزمان وتغلظ بالمكان، وتغلظ بالشخص المقتول، فيغلظونها إذا كانت في حرم مكة، واختلف في حرم المدينة هل تغلظ أو لا؟ فتغليظها في حرم مكة مأثور عن خليفتين راشدين عن عمر حكاية، وعن عثمان رواية صحيحة، وفي شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكنه ضعيف. فهذا التغليظ أُثر عن عمر، وعثمان، وعبد الله بن عمر، وصار التغليظ إلى ثلث الدية، يعني يجب عليه دية مع زيادة الثلث، وهذا كما ذكرنا صح عن عثمان رضي الله عنه، ويلاحظ أن التغليظ هنا ليس في الإبل، وإنما هو في النقد، ويشمل الإبل والنقد ولا ينحصر في الإبل وحدها. قضى عمر بن الخطاب في رجل وطئ في الطواف في البيت بدية وثلث، يعني زاد على الجاني ثلث الدية تعظيماً للحرم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أيضاً. قالوا: فهذا يدل على أن الدية داخل الحرم تغلظ، وهذا مذهب طائفة من السلف رحمة الله عليهم، وخالف هذا القول قول آخر فقال: إن الدية لا تغلظ في الحرم. والقول الأول عند الشافعية، وعند الحنابلة قول به، وهو رواية عن الإمام أحمد، ولكن الرواية التي عليها ظاهر مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه، وهو مذهب الحنفية وأهل الرأي، وقول فقهاء المدينة السبعة: على أنه لا تغلظ الدية داخل الحرم. فلو أخطأ شخص وقتل شخصاً في الحرم لا تضاعف عليه الدية، واستدلوا بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم فتح مكة، قال: (وأنتم يا خزاعة! قد قتلتم القتيل من هذيل وإني عاقله) فخزاعة قتلت الرجل من هذيل، وكانت خزاعة حلفاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فتحمل النبي صلى الله عليه وسلم دية المقتول ولم يغلظ الدية مع أن القتل وقع داخل الحرم، وهذا يدل على أن الدية لا تغلظ لا بالزمان ولا بالمكان. الصورة الثانية عند القائلين بالتغليظ: التغليظ بالزمان، يقولون: من قتل خطأً في الأشهر الحرم، فإننا نوجب عليه الدية وثلثاً، وهذا من باب التغليظ بالزمان. ودليلنا على أن هذا القول مرجوح: أن الله تعالى أمر بالدية، وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم الدية أنها مائة من الإبل، وغلظ في أثمان الإبل وطريقتها أثلاثاً وأرباعاً على التفصيل الذي سنذكره، ولم يذكر زيادة على الوارد الذي هو مائة من الإبل. ولذلك نقول: هذا هو الأصل والذي دل عليه الدليل، وحرمة الزمان هذه لا دليل على التغليظ بها، فنبقى على الأصل الموجب للدية الأصلية وهي مائة من الإبل. كذلك أيضاً عندهم التغليظ في الشخص المقتول، ويأتي على صورتين عندهم: منهم من قال: إذا كان المقتول قريباً للقاتل، فلو قتل والعياذ بالله أخاه يغلظون الدية، وهو ذو الرحم المحرم. وأيضاً عندهم وجه ثان من التغليظ، وهذا وجه قليل من يقول به، وهو التغليظ بغير الصفات، فهم يرون أن قتل المحرم تغلظ فيه الدية. وكل هذه الأقوال الصحيح أنها مرجوحة، وأنه لا تغليظ إلا في قتل العمد وشبه العمد، كما ذكر المصنف رحمه الله؛ وذلك لأنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غلظ، ولما جاء قضاء الصحابة مخالفاً للمرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتمل الاجتهاد منهم بقينا على الأصل، وقلنا: إن الحجة فيما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجب العمل به، والأصل أن مال المسلم حرام حتى يدل الدليل على استباحته، وليس عندنا دليل صريح واضح بهذا التغليظ. فلا تغلظ الدية إلا في المسألة التي ذكرها المصنف وهي قتل العمد وقتل شبه العمد: لو أن شخصاً والعياذ بالله قتل شخصاً عمداً، ورفع إلى القاضي لأجل الحكم عليه، فقيل لأولياء المقتول: تقتلونه أو تعفون؟ قالوا: نعفو. فعدلوا إلى الدية، فإذا عدلوا إلى الدية فإنها تغلظ الدية عليه. هذا التغليظ فيه وجهان مشهوران للعلماء رحمهم الله في المذاهب الأربعة: القول الأول: كما ذكر المصنف أن تغليظ الإبل أرباعاً: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وقد فصلنا في كتاب الزكاة أسنان الإبل وبينا المراد بها. ويجب عليه أن يأتي بها على هذه الصفة، كما يجب أن تكون حالة ويحضرها دون تأجيل كما تقدم معنا في دية العمد. هذا القول اختاره المصنف رحمه الله، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، وهو مذهب المالكية والحنفية رحمة الله على الجميع، كما هو مروي عن بعض السلف. القول الثاني: وهو مروي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مذهب الشافعية، ورواية أيضاً عن الإمام أحمد: أن التغليظ للدية يكون أثلاثاً: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة -حوامل- في بطونها أولادها، فيرون أنه يجب عليه أن يحضر الإبل على هذه الصفة. والذين قالوا بالقول الأول -والذي اختاره المصنف رحمه الله وأشار إليه- احتجوا بحديث الزهري عن السائب بن يزيد قال: (كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباعاً، خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة -طروقة الفحل- وخمس وعشرون جذعة) فأصبح المجموع مائة. وأصحاب القول الثاني استدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقد حسنه غير واحد من العلماء رحمهم الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن قتل القتيل فأهله بخير النظرين؛ إن شاءوا قتلوه، وإن شاءوا أخذوا الدية؛ ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها). هذا نص واضح دل على تغليظ الدية، فمن قتل له قتيل فأهله بخير النظرين: (إما أن يقتلوه) هذا يدل على أنه في العمد وليس في الخطأ، إما أن يقاد، والقود لا يكون إلا في العمد، وإما أن يدفع الدية، ثم بين الدية، فلما جعل الدية بدلاً عن القتل فهمنا أن هذا في العمد، وأنه عليه الصلاة والسلام شدد في الإبل وجعلها على هذه الصفة. فنقول: يجب عليه أن يأتي بها على هذه الصفة، وهذا القول الثاني أقوى وأرجح إن شاء الله؛ لأن الحديث حسنه الإمام الترمذي وغيره، وهو حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بروايته في هذه المسألة، وهو نص في موضع النزاع، حيث بيّنها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أقوى ثبوتاً من رواية الزهري عن السائب. ولذلك يقدم العمل بتثليث الدية كما هو مذهب الشافعية، ويحكى عن أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم اختاروا هذا القول، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس؛ أنها ثلاثون حقة -استحقت أن يطرقها الفحل وأن يحمل عليها وأن يركب -وثلاثون جذعة- وهي التي تقدمت معنا في الأضاحي والزكاة- وأربعون في بطونها أولادها. هذا بالنسبة لقتل العمد وقتل شبه العمد.

مقدار دية القتل الخطأ

مقدار دية القتل الخطأ قال رحمه الله: [وفي الخطأ تجب أخماساً ثمانون من الأربعة المذكورة، وعشرون من بني مخاض]: قوله: (وفي الخطأ): أي في قتل الخطأ. (تجب الدية أخماساً) أي: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، هذه ثمانون، ثم عشرون من بني مخاض من الذكور. وهذه ورد فيها أيضاً حديث السنن وحسنه غير واحد من الأئمة رحمة الله عليهم، وهو نص في موضع الخلاف؛ والذي عليه طائفة من العلماء ما اختاره المصنف رحمه الله أنها تكون أخماساً، لكن عارضه قول وهو مذهب الشافعية رحمة الله عليهم، فإنهم يجعلون العشرين الباقية من ابن لبون ولا يجعلونها ابن مخاض، يعني: يلاحظ في قتل الخطأ أنه أوجب عليه الصلاة والسلام العشرين الخامسة من بني مخاض، والشافعية يقولون: بل يجب ما هو أعلى وهو ابن لبون. والصحيح ما ذهب إليه المصنف رحمه الله والحنابلة، وأيضاً هو قول طائفة من أئمة السلف، ويحكى عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن الواجب من بني مخاض، حتى قال بعض أهل العلم: إنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جعل بدل بني المخاض بني لبون، والصحيح أنه ابن مخاض، وهذا أنسب، خاصة على التخفيف، ولذلك يترجح ما اختاره المصنف رحمه الله: أن العشرين الخامسة من بني مخاض وليس من بني لبون.

عدم اعتبار القيمة في الإبل

عدم اعتبار القيمة في الإبل قال رحمه الله: [ولا تعتبر القيمة في ذلك]: أي: في الإبل، والقيمة هي الألف دينار والاثنا عشر ألف درهم، فهذه المسألة فيها إشكال، وإذا دفعنا الدية من الإبل فهناك حالتان: الحالة الأولى: أن تساوي قيمة الإبل قيمة الذهب والفضة، وحينئذٍ لا إشكال عند العلماء ولا اختلاف؛ لأنه حينئذٍ صارت عدلاً، والقيمة مساوية للإبل. الحالة الثانية: أن تكون قيمة الذهب والفضة الألف دينار، فهل تكون الإبل أغلى أو أرخص؟ تكون أرخص، بمعنى أنها لا تعادل الألف دينار، فتكون مثلاً تعادل ثمانمائة دينار -ثمانمائة مثقال- فحينئذٍ نقصت قيمة الإبل عن معادلة الذهب. الصورة الثانية: أن تزيد قيمة الإبل على قيمة الذهب والفضة، فتكون المائة من الإبل تعادل مثلاً ألفي دينار، يعني الضعف، ولربما ألفاً وخمسمائة، فقال: سواء زادت أو نقصت العبرة بالإبل سواء كانت قيمتها غالية أو رخيصة، وهذا هو الصواب إن شاء الله؛ لأن قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدل على هذا أيضاً؛ فإنه قال: (ألا إن الإبل قد غلت). قال بعض الأئمة كما اختاره الإمام ابن قدامة وأشار إليه: إن الإبل كانت على زمان النبي صلى الله عليه وسلم تعادل الثمانمائة دينار، ولذلك يقول عمر: (ألا إن الإبل قد غلت) ولما غلت عادلت في عهده ألف دينار، وهذا يدل على أن الزيادة والنقص لا تأثير له، وأن الإبل هي الأصل، وهذا مبني على المذهب الذي اخترناه؛ أن الإبل هي الأصل في الديات، وأن الواجب الرجوع إلى الإبل والعمل بذلك. قال: [ولا تعتبر القيمة في ذلك بل السلامة]: بل يجب أن تكون الإبل المدفوعة في الدية سالمة من العيوب بريئة من العيوب المؤثرة، والعيب هو: النقص، يقال: عاب فلان فلاناً إذا انتقصه، ولما كان العيب في الإنسان نقصاناً في خلقته، قيل له: عيب، من هذا الوجه. فالعيب ينقسم إلى قسمين: عيب مؤثر، وعيب غير مؤثر. والعيب المؤثر ضابطه في الإبل والبقر والغنم: هو الذي يوجب نقصان المالية نقصاناً مؤثراً، بعض العلماء يضيف هذا القيد (نقصاناً مؤثراً) يعني لو أنقصها شيئاً تافهاً أو يسيراً لا يؤثر. وبناءً على ذلك: لو -مثلاً- جئنا نأخذ دية الإبل من القاتل، أو أولياء القاتل، فأعطانا إبلاً عرجاء، أو شلاء، أو مقطوعة الأذن، أو عجفاء، أو هزيلة أو مريضة، كل هذا لا يجزئ، بل لابد وأن تكون سالمة من العيوب. وكذلك العيب الخلقي، مثل جنون الحيوان، يقولون: يمكن أن يوصف الحيوان بالجنون، فيجن في بعض الأحيان، وليس له عقل في الأصل، لكن يقول العلماء: إنه لا يستقر ويضطرب، ففي هذه الحالة يقولون: لا يجزئ حتى في الأضاحي والزكاة، فإذا كانت معيبة عيباً مخلاً فإنها لا تجزئ في الدية، ومن حق أولياء المقتول أن يردوها. لكن لو رضوا وقالوا: قبلنا ورضينا بها سقط حقهم، وهم في ذلك بالخيار. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

حكم التنويع في الدية

حكم التنويع في الدية Q لو خلط في الدية بين الإبل والبقر والغنم، فهل يلزم الولي قبولها؟ أثابكم الله. A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. هذه دية مشكلة على من يقول: إنها كلها أصول، فحينئذ ينظر إلى التقدير، ويصححون هذا وهو أحد الأوجه عند العلماء رحمهم الله، فإنهم يرون هذا، يعني أنه إذا دفع نصفها من الذهب ونصفها من الإبل صح، كما لو شحت عنده الإبل ولم يجد كمالاً لها وأخرج الباقي من الذهب والفضة قالوا: يصح هذا؛ لأنهم يرون أنها أصول، وكذلك في حالات الاضطرار إذا لم توجد أصلاً في البلد أو المدينة التي هو فيها، فأخرج عدلها فإنهم يصححون هذا ويجيزونه، والله تعالى أعلم.

حكم اشتراك العاقلة في دفع دية العمد

حكم اشتراك العاقلة في دفع دية العمد Q إذا جرى في عرف القبيلة أن دية العمد يشترك فيها العاقلة، فهل فيه حرج؟ أثابكم الله. A لا. هذا خلاف شرع الله عز وجل، دية العمد لا تشارك فيها القبيلة؛ لأن هذا يجرئ العصاة على سفك الدماء. لكن لو أن هذا القاتل تاب وأصلح واستقام، وأحبت القبيلة أن تقف معه لتوبته وصلاحه هذا أمر آخر، أما عاص مجرم سفاك لدماء المسلمين يقتل عمداً، ثم تأتي القبيلة وتساعده في ذلك، فهذا من الظلم؛ لأن هذا من الإعانة على الظلم، ويقع فيها إحراجات، فلو أتى شيخ القبيلة وفرض ذلك على القبيلة، فيكون قد ظلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصول الشريعة والإجماع منعقد على أن العاقلة لا تحمل إلا في الخطأ. أما إذا قتل عمداً وجئنا نساعده فمعنى ذلك أننا نعينه على قتل المسلمين ولا يبالي، ثم هو لا يحس أصلاً أنه قتل؛ لأنه عفا الأولياء عن القتل، ثم قامت جماعته وقبيلته بجمع المال فلم يخسر شيئاً، فإذا أصبح الأمر بهذه المثابة لم يشعر بحرمة هذا الدم الذي سفك، لكن عندما يتحمل دفع الدية إذا عفا أولياء المقتول، وغلظت عليه، وامتنعت قبيلته من أن تعينه أو تساعده، شعر أنه منبوذ بجرمه وأنه مسيء بخطئه، وأنه تعدى حدود الله عز وجل بفعله، وحينئذٍ يصلح حاله ويكون أدعى إلى أن يستقيم. أما إذا كان كلما جنى جناية يعلم أن قبيلته تقبل شفاعتها، ثم يعلم أن القبيلة الأخرى لا تستطيع أن تطالب بالدم، فيحرجون، ثم يتنازلون عن الدم، وتدفع قبيلته الدية، وهكذا يسترسل في الفساد، ويسفك الدماء المحرمة، فهذا لا يجوز، ويجب على ولي القبيلة وشيخ القبيلة أن ينظر ما هو الأصلح، وأن يتقي الله عز وجل فلا يحمل أفراد القبيلة إلا ما أمر الله عز وجل بتحميلهم إياه، وهو قتل الخطأ، والعاقلة تعقل الخطأ ولا تعقل العمد، وهذا بإجماع المسلمين. وعلى هذا: فإن هذا الفعل إذا أصبح سنة في القبيلة فإنها سنة سيئة، ويجب تعليم هؤلاء وتذكيرهم بالله عز وجل وبيان الحق لهم، فإن إجماع العلماء على أن العاقلة لا تحمل إلا الخطأ، وعليه: فإننا لو حملنا العاقلة العمد فقد خالفنا شرع الله عز وجل، وهي سنة سيئة ومعونة على الإثم والعدوان، وقد نهى الله عز وجل عن ذلك بقوله: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]. فحرم الله عز وجل التعاون على الإثم والعدوان، فالقاتل أثم بقتل النفس المحرمة، واعتدى حدود الله عز وجل، وزوال الدنيا أهون عند الله من سفك دم المسلم البريء، والكعبة عظيمة الحرمة عند الله، ولدم المسلم أعظم حرمة عند الله من الكعبة. يقول ابن عمر رضي الله عنه: إن من ورطات الأمور سفك الدماء المحرمة. وفي الأثر: (لا يزال المؤمن في فسحة من أمره حتى يسفك دماً حراماً) فإذا سفك الدم الحرام والعياذ بالله فقد أوبق نفسه وأهلكها، ولذلك جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بعد الشرك بالله عز وجل، فقال: (اجتنبوا السبع الموبقات -يعني المهلكات- الشرك بالله، وقتل النفس المحرمة). فهذا يدل على حرمة هذا الذنب وعلى عظمه؛ وهو قتل النفس المحرمة، فكيف يعان عليه؟ هذا لا يجوز، فإذا ثبت هذا فإنه ينبغي تنبيه هؤلاء وإرشادهم وتعليمهم. لكن نقول لشيخ القبيلة: جزاك الله خيراً على حفظ الرحم وحبك أن تنصر أخاك، ولكن انظر في حال القاتل، فإن وجدت عنده استعداداً أن يتوب، وحاله صلح واستقام، ورأيتم أن تعينوه فهذه حسنة منكم وأنتم مجزيون عليها خيراً، استصلاحاً لحاله، لكن لابد وأن يشعر بالجريمة التي فعلها، والعظيمة التي أتاها، والله تعالى أعلم.

استواء التغليظ في الرجال والنساء

استواء التغليظ في الرجال والنساء Q إذا قتلت المرأة عمداً فهل التغليظ يرد في ديتها؟ أثابكم الله. A إذا قتلت المرأة عمداً نفس الحكم، يعني التغليظ يشمل الرجال والنساء، والله تعالى أعلم.

حكم استبدال الموقوف

حكم استبدال الموقوف Q عندي مجموعة من الضأن وهي لأمي، وهي صدقة لوجه الله، تذبح ذكرانها وتوزع وتباع إناثها، ويصرف منها على بقيتها، أحببت استبدالها بغنم حيث أن الغنم مرغوبة عند الناس وقليلة في مصارفها، أفتوني أثابكم الله. A إذا كانت الأم قد حددت أو أوقفت هذا الشيء فلا يجوز العدول والتغيير والتبديل، لكن إذا أوصت وقالت في وصيتها النظر لمن يليها، فأنت انظر الأصلح إذا فوضت لك النظر. أما إذا حددت وقالت: إن هذه الغنم أو هذا الضأن وقف يفعل به كذا وكذا، فالواجب على ولي هذا المال أن يتبع ما قالته وأن يبقى المال بعينه؛ لأنه مخصوص بعينه لهذه الصدقة، فيبقى على حاله. والحمد لله، الضأن فيه خير كثير، وفيه نفع للناس، ولا شك أن التضحية به أفضل من المعز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم (ضحى بكبشين أملحين أقرنين موجوئين)، وهذا يدل على تفضيله بالنسبة للصدقة. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من راح الساعة الثالثة كان كمن قرب كبشاً أقرن) لم يقل: كان كمن قرب معزاً، وهذا يدل على تفضيله في الصدقات، فلا تستهن بالضأن، الضأن فيه خير، لكن الماعز سبحان الله! فيه بركة، خاصة المعز الحجازي الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (كنت أرعاه على قراريط لأهل مكة) وقال: (عليك بالأسود منه فإن فيه بركة) وهو المعز الصغير الموجود بكثرة في جبال الحجاز، فهذا فيه بركة، وأخبر عنه عليه الصلاة والسلام بذلك في الحديث الصحيح، فهذا فيه بركة من جهة النماء، ومثلما ذكرت أنت في السؤال أنه أخف مئونة وأكثر نسلاً، هذا فعلاً موجود فيه، لكن من ناحية الشرع، فالشرع فضل الضأن، ولذلك قالوا: إنه أفضل، والأضحية به أكمل، وإذا كانت الضأن مقصودة بالصدقة فيبقى مالها على حاله. أما لو فوضت لك النظر، وقالت: هذا الثلث أخرجوا منه شياهاً أو غنماً، واجعلوها على صفة كذا وكذا، فجعلت أنها شاة بغض النظر عن كونه ضأناً أو معزاً، فالأمر إليك أن تنظر الأصلح والأنفع، والله تعالى أعلم.

حكم من وجد نجاسة في ثوبه بعد الاستنجاء

حكم من وجد نجاسة في ثوبه بعد الاستنجاء Q من استنجى ثم وجد بعد ذلك نجاسة في ثوبه فهل ينتقض وضوءه؟ أثابكم الله. A إذا استنجى ووجد النجاسة في الثوب، إما أن يغلب على ظنه خروجها بعد الاستنجاء وقبل الوضوء، فحينئذٍ وضوءه صحيح، ويغسل النجاسة، وصلاته صحيحة لو صلى وهو لم يعلم بهذه النجاسة، إذا كانت النجاسة موجودة ووقعت قبل الوضوء. مثلاً رجل دخل الحمام الساعة الواحدة واستنجى، ثم خرج من الحمام ونسي أن يغسل النجاسة الموجودة في الثوب مثل من معه سلس، أو تقاطر في البول، فهذه النجاسة قبل توضئه وقبل طهارته، ولكنها ليست على وجه النقض، فصلاته صحيحة ووضوءه صحيح، وكونها في الثوب وصلى ولم يعلم بها لا يؤثر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بنعليه وفيهما نجاسة ثم خلعهما أثناء الصلاة ولم يعد الصلاة من أولها، فدل على أن من نسي النجاسة وصلى فصلاته صحيحة. لكن إذا شك هل خرجت هذه القطرة، فصلاته باطلة؛ لأنه صلى بغير وضوء، أو خرجت بعد الصلاة فصلاته صحيحة، فاليقين أنها خرجت بعد الصلاة، ولذلك يقولون في القاعدة: ينسب لأقرب حادث، وهذه القاعدة من فروعها هذه المسألة: أنه إذا شك في الخارج هل خرج قبل الصلاة فيجب عليه أن يعيد؟ أو خرج بعد الصلاة فصلاته صحيحة؟ أو إذا طافت المرأة ووجدت دم الحيض، ولم تدرِ هل خرج قبل الطواف أو أثناء الطواف، فطوافها فاسد؟ أو خرج بعد الطواف فطوافها صحيح؟ تنسبه لأقرب حادث؛ لأن الأصل صحة طوافها وصحة صلاتها حتى تستيقن أنه خرج منها الخارج قبل الطواف، أو أثناء الطواف أو أثناء الصلاة أو قبل الصلاة. هذا من حيث الواجب عليه، صلاته صحيحة حتى يتأكد أنه خرج منه ذلك بعد وضوئه وقبل صلاته أو أثناء الصلاة، فيجب عليه أن يعيد، والله تعالى أعلم.

حكم الانتفاع بظل الدار مع وجود الضرر على صاحب الدار

حكم الانتفاع بظل الدار مع وجود الضرر على صاحب الدار Q هل ظل الدار حق لصاحبه يأثم من ينتفع به إذا تضرر صاحب الدار، ومثال ذلك كمواقف السيارات تحت المنازل في الظهيرة؟ أثابكم الله. A هذا أمر يحتاج إلى نظر، مالك الدار يملك أرضها وسماها، ولا يملك ما خرج عن حدودها وسمتها، لكن الذي ذكره العلماء: إذا تضرر بالوقوف في وجه بابه، يعني إذا كان الظل يأتي على جهة الباب، فالضرر حينئذٍ من حيث خروج النساء، وخروج الذرية، وخروج الأطفال والعجزة؛ لأنه تنكشف عورته، وأيضاً يتضرر بخروج نسائه أمام الأجانب، فمن حقه أن يقول له: لا تقف أمام باب داري. لكن إذا كان الظل في جانب آخر من جوانب البيت، فهو يملك البيت ولا يملك ظله. ولذلك هذا الظل من سبق إليه فهو أحق به، لا يستطيع أن يمنعه؛ لأن الظل ملك لله سبحانه وتعالى، وهو من ظل الدار وليس للدار نفسها، وليس بمتصل بالدار ولا بفرع عن الدار، ولا منفعة ناشئة عن الدار نفسها نشوء الفرع من أصله، وإنما جاء استتباعاً لجريان الشمس على حسب قربها وبعدها من خط الاستواء في طول الظل وقصره واختلاف جهاته، وهذا أمر ليس مما يملكه الإنسان. وعلى هذا: الأشبه فيه والله أعلم أنه لا يملكه الإنسان، إنما إذا كان الظل على باب الدار أو على حوش الدار؛ مدخل الإنسان ومخرجه فيمنع، لكن لا يمنع لسبب آخر، أما المنافع التي من الدار نفسها في الأشياء المنفصلة فالأشبه أنه لا يملكها صاحبها، والله تعالى أعلم.

الصبر على بر الوالدين

الصبر على بر الوالدين Q لدي مشكلة وهي عدم رضا والدي عني مهما فعلت وبذلت، ويواجه هذا الإحسان بالإساءة والسب، فبماذا تنصحني؟ أثابكم الله. A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: أسأل الله العظيم أن يعينك، وأن يرزقك رضا والديك عنك، وأن ينزع ما في قلب أبيك عليك. أخي في الله! أوصيك بالصبر، ومن صبر ظفر، وليس هناك أعظم للمؤمن بعد الإيمان بالله عز وجل من صبره على طاعة الله عز وجل، فأنت تخوض غمار رحمات الله ببرك لوالديك. واعلم أن أفضل ما يكون البر إذا وجدت صدوداً وإعراضاً من الوالدين فأبيت إلا أن تبر، فتحسن ويسيئا، وتكرمهما ويهينانك، وتعطيهما ويحرمانك، فإذا كنت كذلك انصرف قلبك لله، ولم ينصرف لغيره أو أحد سواه، لعلمك أن الله لا يضيع لك الأجر، فاطمأننت بالله ووثقت أن الله نعم المولى ونعم النصير، واستجبت لأمر الله عز وجل، وكأن لسان حالك يقول: يا رب! إني أبر والدي وألتمس رضاهما وأقدم ما أوجبت عليّ في حقيهما، فأسألك أن تتقبل مني وأن ترضى عني. ثم بعد ذلك رضيا أو لم يرضيا لم تبال بذلك؛ لأنك تعامل الله وحده وترجو ثواب الله المطلع على الخفايا الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً. يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30] وكان الناس حينما نزل الوحي مبتلين بشرك الوالدين وكفر الوالدين، فيجاهد الوالدان الولد على الكفر والشرك، ومع ذلك تتنزل الآيات بالعضات البالغات والكلمات الصادقات تأمر ببر الآباء والأمهات، ووالداك على الإيمان والحمد لله، فاصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، واصبر فإن الله مع الصابرين، واصبر فإن الله يحب الصابرين، لا تعلم مقدار ما لك من الأجر، وكم من بار لوالديه قد ضحك الوالدان وسر الوالدان ببره فاغتر بسرورهما، وفاته شيء كثير من الإخلاص بسبب عطفهما وأنسهما. أما أنت فسلط الله عليك أن تدخل على الوالد عبوساً، وأن تدخل على الوالد ساباً شاتماً، فينكسر قلبك لله، وتطمع في رحمة الله، وترجو ما عند الله، فيستهزئ بك أبوك، ولكنك واثق أن معك الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58] الله لك خير من والديك، ومن ولدك ومن الناس أجمعين. هل تريد أن يكون لك والداك وتحرم عظيم الأجر من ربك، ولكن كن على ثقة بأن كل الذي تفعله إن أخلصت فيه لوجه الله فإن الله لا يحرمك الخير، ولا يحرمك الثواب والأجر، وهذه من بشائر الخير لولي الله المؤمن، ولذلك كما تجد هذا في الوالدين تجده في الولد، تحسن إلى أولادك فلا ترى إلا قلوباً كافرة للمعروف، تحسن إلى الزوجة فتجد قلباً منصرفاً ينكر المعروف ولا يعرف معروفاً، وتحسن إلى طلابك، وتحسن إلى تلامذتك، وتحسن إلى جيرانك وأقاربك، فتجد الصدود والإعراض، فيزيدك الأمر إخلاصاً لله عز وجل، وطلباً لرحمة الله، ومحبة لله، وثقة بالله، وما ألذها من ساعات للمؤمنين والمؤمنات والمخلصين والمخلصات إذا تلذذوا بمعاملة الله ونسوا كل شيء سواه. فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب ماذا تريد من الناس؟ وماذا تريد من الجِنة والناس؟ لك ربك الذي لا تخفى عليه خافية، لك ربك الحليم الرحيم الكريم العدل الذي أقام السماوات والأرض بميزان قسط لا يخيب شعرة، ويقيمه يوم القيامة، فإن كان مثقال حبة من خردل أتى بها، وكفى به سبحانه حسيباً رقيباً، فاطمع في رحمة ربك وثق بالله، وكن قوي العزيمة. وهذا ليس بخاص بهذا الأخ، بل هو منهج لكل مؤمن أنه إذا فعل الحسنة لا ينتظر من الناس جزاءً ولا شكوراً، هذا مقام المحسنين والصابرين، وهذا مقام الأقوياء، الذين قوي إيمانهم وصح معتقدهم، وسلمت عقيدتهم في ربهم، فأسلموا لله صدقاً وحقاً، لا ينتظرون من أحد جزاءً ولا شكوراً. تجد علماء السلف ودواوين العلم؛ مثل الإمام البخاري رحمه الله برحمته الواسعة، فقد حفظ للأمة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مئات الألوف من الأحاديث، وأصبح الناس يطعنون حتى في عقيدته، وتوفي رحمه الله برحمته الواسعة وهم يسبونه ويشتمونه، ويختلف فيه أهل سمرقند: هل يدخل أو لا يدخل؟ وذلك لخلل عندهم في عقيدتهم، ولكن أبى الله إلا أن يزكيه ويطهر سيرته، ويرفع قدره، ويحسن جزاءه، فأبقى للأمة مشكاة عظيمة اهتدى بها السائرون، وصلحت بها أحوال المؤمنين، وسيلقى عند الله جزاءها وثوابها. لا تنتظر من الناس شيئاً، الزوجة تعمل في بيت زوجها لا تنتظر مدح زوجها ولا ثناءه، والزوج يخدم زوجته ويقوم على أهله وأولاده لا ينتظر إلا جزاء الحي القيوم الكريم سبحانه، والطالب مع شيخه، والشيخ مع طلابه، لا تنتظر إلا جزاءً من الله، خاصة في أمور العبادات. هذا هو مقام المحسنين ومقام المخلصين: ألا تلتفت إلى شيء غير الله جل جلاله، وأن تطمع في رحمة الله، وأن تعلم أن الله إذا صرف عنك مدح المادحين، وثناء المثنين، تدخل على أبيك وأمك فتقدم مثاقيل الحسنات فتجابه بالسخرية والاستهزاء بأنك متدين أو صالح أو غير ذلك، ويدخل أخوك فلا يقدم إلا القليل الذي لا يذكر فإذا به يرفع إلى السماء، رفع في الدنيا ورفعت في الآخرة، وأعطي الدنيا وحرم الآخرة، وأعطيت الآخرة وحرمت الدنيا {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16 - 17]. يا هذا! أخلص لله وكن مع الله ولله وفي الله، وأبشر بكل خير من الله، قال الحسن رحمه الله: لا يزال الرجل بخير إذا قال قال لله، وإذا عمل عمل لله. وهذا عام في جميع أمور الحياة، وهي وصية من يريد الإخلاص لوجه الله عز وجل، ومن أحس لذة الإخلاص، عرف أن الله له حكم في عباده، إذا أحب عبداً من عباده صرف عنه الحرص على مدح الناس وكرهه إلى قلبه، وجعله لا يفكر في مدح المادحين، فهو لم يفكر في مدح المادحين فضلاً عن ذم من يذم، فتجده في مقام صدق عند رب العالمين. نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، فالإخلاص هو سر الحياة، وصلاحها وسعادتها وفلاحها، وللمخلصين جنة في الدنيا قبل جنة الآخرة، وسرور في الدنيا قبل سرور الآخرة، وهو السرور بالله وحده، فتأنس بالله عز وجل حينما تقدم للناس الخير، وتقدم للناس البر، ولا تجد منهم حامداً ولا شاكراً؛ لأن الله عز وجل يريد أن يدخر لك ذلك كله، فهذه نعمة من الله عليك، فاستبشر بفضل الله، وأحسن الظن بالله، ثبت الله قلبك وسدد قولك وعملك، والله تعالى أعلم.

حكم انقطاع النفاس قبل الأربعين

حكم انقطاع النفاس قبل الأربعين Q امرأة انقطع دم النفاس عنها بعد إحدى وعشرين ليلة من النفاس، هل تصلي وتصوم؟ أو تنتظر إلى الأربعين؟ أثابكم الله. A إذا انقطع الدم ورأت علامة الطهر وهي القصة البيضاء والجفوف على أصح قولي العلماء، وانقطع يوماً كاملاً، فإنها تصوم وتصلي فيه، ثم إذا عاودها لفقت؛ يعني أضافت الأيام الجدد إلى الواحد والعشرين حتى تتم أربعين يوماً فتحكم بخروجها من نفاسها، والله تعالى أعلم.

الواجب على من أفطر في رمضان لعذر ثم انقطع العذر

الواجب على من أفطر في رمضان لعذر ثم انقطع العذر Q المسافر في رمضان إذا أفطر ووصل إلى أهله بعد العصر، هل يبقى على إفطاره أو يمسك؟ أثابكم الله. A يمسك بقية يومه، قال صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! إن الله فرض عليكم صيامي هذا في مقامي هذا، فمن أصبح منكم صائماً فليتم صومه، ومن أصبح منكم مفطراً فليمسك بقية يومه) هذا الحديث دل على أن من كان مفطراً لعذر وانقطع عنه العذر وجب عليه الإمساك لحرمة اليوم، وهو أصل عند جمهور العلماء رحمهم الله، على أن المسافر إذا قدم المدينة أنه يمسك بقية يومه، ويكتب له أجر ذلك الإمساك. يقول تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184] والمسافر إذا رجع من السفر انقطع فيه؛ لأنه ليس على سفر، ومن هنا رجع إلى الأصل وهو الإمساك، وأجره مكتوب، ولذلك يلتزم بهذا الأصل الذي دل عليه دليل الكتاب والسنة، والله تعالى أعلم.

حكم من صام كفارة اليمين بلا تتابع

حكم من صام كفارة اليمين بلا تتابع Q حلفت بالله وأردت أن أكفر عن هذه اليمين المنعقدة، فصمت يومين، وفي اليوم الثالث أفطرت، جهلاً مني بأن الصيام يجب أن يكون متتابعاً، وفي اليوم الرابع أكملت الصيام، فهل يجزئ ذلك؟ أثابكم الله. A أولاً: لا يجوز لك الصيام إلا إذا كنت عاجزاً عن الرقبة، عاجزاً عن إطعام عشرة مساكين أو الكسوة، فإذا عجزت عن هذه الخصال الثلاث وأنت مخير بينها، حينئذٍ تصوم ثلاثة أيام متتابعة، ويجب عليك أن تعيد هذا الصوم؛ لأن التتابع لازم في صيام كفارة اليمين على أصح قولي العلماء، لقراءة ابن مسعود رضي الله عنه (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) وهذه قراءة شاذة، والمراد بالشذوذ: انفرادها عن القراءة المعتبرة، لكن نسخت تلاوة وبقيت حكماً. والقراءة الشاذة يجوز العمل بأحكامها؛ لا القراءة والتعبد بقراءتها، وحكمها لا يشترط فيه التواتر، ولا يشترط فيه أن تكون القراءة غير شاذة، فالصحيح أنه يحكم بها ويعمل بها، ولذلك يجب عليك قضاء هذه الثلاث؛ لأن التتابع لازم، والله تعالى أعلم.

حكم شراء المصاحف ووقفها

حكم شراء المصاحف ووقفها Q هل يجوز أن أشتري مصاحف وأضعها في الحرم وقفاً لله عن شخص ميت وآخر حي؟ أثابكم الله. A هذه المسألة فيها جانبان: الجانب الأول: بيع المصاحف وشراؤها اختلف فيه العلماء: الجمهور على جواز بيع المصحف وشرائه. وكره الإمام أحمد رحمه الله ذلك وهو محفوظ عن بعض السلف، حتى قال ابن عمر: وددت أن الأيدي تقطع في بيع المصاحف. لكن الصحيح أنه يجوز بيعه كمذهب الجمهور، ويجعل الانعقاد على الصحف والورق، وليس على كلام الله عز وجل؛ لأن كلام الله لا يباع ويشترى، وأشار بعض العلماء إلى ذلك بقوله في خواص القرآن: ومنع بيعه لدى ابن حنبل وكرهه لدى ابن شافعٍ جلي فالجمهور على كراهية ذلك، مع صحة البيع. إذا ثبت هذا؛ فيجوز شراء المصاحف، فإذا جاز شراؤها بقيت مسألة الصدقة بها إذا قرئت وانتفع بها. وهكذا كتب العلم، كأن تشتري كتب علم وتضعها في مكتبة أو مسجد على أن ثواب قراءتها لك أو لوالديك الأموات، فهذا لا بأس به ولا حرج؛ لأن الصدقة عن الميت ثبت النص بها كما في الصحيح من حديث سعد رضي الله عنه (أنه اشتكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي افتلتت نفسها، وما أراها لو بقيت إلا أوصت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم ... ). وفي صحيح البخاري جعل سعد رضي الله عنه حائط الخراف -وهو بستان له- صدقة على أمه بعد موتها، فدل هذا على مشروعية التصدق عن الميت بالأمور التي ينتفع بها، سواء كانت دينية أو دنيوية، فالدينية أعظم أجراً وأعظم ثواباً. ولذلك يجوز أن تتصدق ببئر الماء وثلاجة الماء، والكتب العلمية في مسجد، أو تشتري لطالب علم كتاباً يقرؤه تنويه عن والديك أو عن ميت لك، فهذا مما تؤجر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب مقادير ديات النفس [3]

شرح زاد المستقنع - باب مقادير ديات النفس [3] جاء في الكتاب والسنة بيان مقادير الديات، ومنها: دية الكتابي والمجوسي والوثني، وكذلك مقدار دية الجنين والمرأة، وهناك أسباب تؤدي إلى نقصان الدية، وهذه الأسباب هي: الكفر، والرق، والجنين، والأنوثة، وهذه المسائل تعرف عند العلماء بمسألة: أسباب نقصان الدية.

دية الكتابي

دية الكتابي قال رحمه الله: [ودية الكتابي نصف دية المسلم]: قوله: (ودية الكتابي): قد تقدم معنا الكتابي أنه هو اليهودي والنصراني، لقوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام:156]. فأخبر تعالى أنهم أهل كتاب، وبينّا هذه المسألة، ومنهم الذين ينطبق عليهم أنهم أهل الكتاب فيما تقدم معنا في كتاب الذمة. إذا قتل المسلم كتابياً فقد يكون القتل عمداً، وقد يكون خطأً، وإذا قتله قتل عمد غلظت الدية، وحفظ تغليظ الدية في قتل الذمي عمداً عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأيضاً حكي عن عمر بن الخطاب لكن عثمان السند عنه صحيح فيما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، وغلظ الدية فيه ونزله منزلة المسلم؛ لأن له ذمة وعهداً بينه وبين المسلمين، فغلظ فيه الدية إذا قتل عمداً، وأما إذا قتل خطأً فلا إشكال.

النقصان في الدية وأسبابه

النقصان في الدية وأسبابه شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في مسألة تعرف عند العلماء رحمهم الله في باب الديات بمسألة: النقصان في الدية. المنقصات للدية والتي توجب نقص الدية لها أسباب، والدية مائة من الإبل، لكن يعدل عن هذا الأصل إلى النقص فتجعلها على النصف أو على الثلث، أو تجعل عُشر الدية (الغرة) في الجنين إذا أسقط بالشروط التي سنذكرها، والتفصيل الذي سنبينه إن شاء الله تعالى، أو نصف العشر كما يقول بعض العلماء رحمة الله عليهم، هذا كله يسمى: نقصان الدية. ونقصان الدية له أربعة أسباب: السبب الأول: الكفر. والسبب الثاني: الرق. والسبب الثالث: الجنين. والسبب الرابع: الأنوثة. فحينئذٍ تعدل من الكمال في الدية الذي هو المائة وتنقص الدية، ثم يفصل في هذا النقصان: هل تشطّر الدية بالنصف؟ أم هل يُحكم بنقصانها إلى الثلث؟ كل هذا سنبينه إن شاء الله تعالى. فابتدأ المصنف رحمه الله بالنقصان من جهة الكفر: أن يكون المقتول كافراً، ثم هذا الكافر على أقسام: قسم: محقون الدم، وله عهد وذمة بين المسلمين، وله دين سماوي وهم الكتابيون، ولذلك فرقت الشريعة بين الكتابيين وغير الكتابيين كالمشركين والمرتدين والوثنيين والملحدين، هؤلاء فرقت الشريعة بينهم؛ لأن الكتابيين لهم أصل من الدين السماوي، ولأن الكتابيين يؤمنون بوجود الله عز وجل، ولكن والعياذ بالله بعض الكفار يقول: لا يوجد إله. أو يجعل مألوهه حجراً أو شجراً أو بقرة نسأل الله السلامة والعافية، فيعبد غير الله سبحانه وتعالى. فالشاهد من هذا أن أهل الكتاب الذين لهم دين سماوي خولف في أحكامهم عن الكفار من سائر الملل الأخرى والطوائف، فالكتابي إذا قتله المسلم اختلف فيه العلماء رحمة الله عليهم على ثلاثة أقوال مشهورة: القول الأول يقول: الكتابي ديته نصف دية المسلم، وهذا على ما اختاره المصنف رحمه الله، وهو مذهب طائفة من السلف، وأيضاً مروي عن طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين. القول الثاني يقول: دية الكتابي مثل دية المسلم، فإذا قتل المسلم كتابياً، فالواجب أن تدفع الدية لأوليائه وأهله كاملة مثل المسلم، وهذا مذهب الحنفية رحمة الله عليهم. والقول الثالث يقول: دية الكتابي على الثلث، وهو مذهب الشافعية، والأول مذهب الحنابلة والمالكية رحمة الله على الجميع. فالذين قالوا: إن دية الكتابي مثل دية المسلم استدلوا بقوله تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] وسوى في هذا الوصف بين دية المسلم ودية الكتابي، وقالوا: هذا يدل على أن ديته كدية المسلم، واستدلوا بحديث استظهر بعض العلماء عدم صحته، وبعضهم يقول: لا نعرف له أصلاً (أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية الكتابي مثل دية المسلم). قالوا: هذان الدليلان من الكتاب والسنة يقتضيان أن الكافر الكتابي إذا قتله المسلم وجب دفع الدية إليه كاملة كالمسلم سواءً بسواء، ثم قالوا: إنه لما أصبح ذمياً في بلاد المسلمين، له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، فتكون ديته مثل دية المسلم إذا اعتدي عليه. والذين قالوا: إن الدية تكون على الثلث استدلوا بقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك أنه جعل دية الكتابي على الثلث من دية المسلم، وعلى هذا يقولون: إنه تثلث الدية ولا يعطى على التشطير، وقالوا: إن عمر بن الخطاب من الخلفاء الراشدين المأمور باتباع سنتهم وهديهم، فيصبح هذا الحكم لازماً وسنة متبعة. والذين قالوا: إن دية الكتابي على النصف من دية المسلم كما اختاره المصنف رحمه الله، وهو قول طائفة من السلف كما ذكرنا استدلوا بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن عقل الكتابي على النصف من عقل المسلم) وهذا الحديث حسن إسناده غير واحد من أهل العلم رحمة الله عليهم، وهو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جعل دية الكتابي نصف دية المسلم. وبناءً على ذلك لما قال: (الكتابي) شمل اليهود والنصارى، فتكون ديتهم نصف دية المسلم؛ خمسين من الإبل في ذكورهم، وخمس وعشرين من الإبل في إناثهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وخمسمائة دينار بالنسبة للذهب، وستة آلاف درهم بالنسبة للفضة، ومائة بقرة وألف شاة بالنسبة للبقية، ومائة حلة من الثياب على القول بأن الحلل تدخل في أصول الديات. وهذا الحديث هو أصح، والقول به أرجح، ويجاب لما ورد في القرآن في قوله تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] أن هذا مطلق، وجاءت السنة فقيدته، والقاعدة: (إن المطلق يحمل على المقيد). وكم قيدت السنن من إطلاقات القرآن وخصصت من عموماته وبيّنت من إجمالاته، فلا إشكال أن السنة تبين القرآن. ثانياً: الاستدلال بأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه نقول: تعارض المرفوع والموقوف، فيقدم المرفوع على الموقوف، ويعتذر لـ عمر بأنه يحتمل أنه لم يبلغه قضاء النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن الرواية عنه ضعفها بعض العلماء رحمة الله عليهم في كونه قضى بالثلث الذي ذكروه. وعلى هذا يترجح القول الذي اختاره المصنف: أن الكتابي ديته تكون على النصف من دية المسلم.

دية المجوسي والوثني

دية المجوسي والوثني قال: [ودية المجوسي والوثني ثمانمائة درهم]: قوله: (ودية المجوسي): هم عبدة النار، وهم وثنيون في الأصل ومشركون، ولذلك سوى الكتاب العزيز بينهم وبين أهل مكة فقال: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:1 - 5]. هذا مبني على أن الروم غزوا الفرس، وكان الفرس عبدة للنار، ففرح المشركون بانتصار المجوس على الروم، وحزن المسلمون؛ لأن بيننا وبين أهل الكتاب أصل مشترك وهو الإيمان بوجود الله عز وجل، وهم أهل دين سماوي ونحن أهل دين سماوي، فبيننا وبينهم قاسم مشترك من هذا الوجه، ففرح المشركون بانتصار الفرس على الروم كما أخبر الله عز وجل أنهم من بعد غلبهم سيغلبون، وأخبر أنه إذا غلبت الروم الفرس فرح المؤمنون بنصر الله، وجعل انتصار الروم على الفرس نصراً من الله عز وجل؛ لأنهم أهل دين سماوي، والذي له دين سماوي أفضل من الذي لا دين له، وأفضل من الملحد، وأفضل من المشرك من جهة أن له أصلاً، وهذه من ناحية أن الله عز وجل جعل لكل شيء قدراً، وهذه حكمة في الشريعة الإسلامية. قال الله تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:4 - 5] مع أنهم كفار لكن وجد القاسم المشترك بيننا وبينهم، فأنت حينما ترى أهل الأديان السماوية مثل اليهود والنصارى تجد أن أديانهم في الأصل فيها قواسم مشتركة؛ وتجد اللاديني إباحي، يرى الإباحية ويرى -والعياذ بالله- الفواحش والمحرمات أنها مباحة وأنه لا دين ولا خلق ولا قيم ولا تقاليد، لكن تجد اليهودي والنصراني أرحم من هذا الذي لا دين عنده، وهذا من جهة الفارق النسبي وليس من كل وجه، ولذلك تبغض من وجه وترى أصلاً توالي فيه من وجه آخر. ومن هنا جعل الله عز وجل المحبة والفرح مبني على أصل وهو وجود القاسم المشترك؛ لأن المشركين شمتوا بالمسلمين حينما غلبت الفرس الروم. وبين الله تعالى أنه سيمكن الروم من الفرس، وجعل ذلك نصراً؛ لأن الروم لهم دين سماوي كما ذكرنا. إذا ثبت هذا فالشريعة تفرق بين الاثنين، فإن المجوس عبدة النار، وهم وثنيون، والأصل يقتضي أن الوثني والملحد والمشرك دمه لا قيمة له، وليس له دية في أصل الشرع، هؤلاء الذين لا دين لهم لم تجعل الشريعة لهم دية في الأصل. لكن لو دخل المجوسي إلى بلاد المسلمين بأمان -مستأمن- أو دخل كرسول عنده رسالة يريد أن يؤديها، ثم قتله مسلم خطأً فحينئذٍ يرد الإشكال؛ لأنه دخل إلى بلاد المسلمين وله أمان، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم كما أخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، فلو أنه قُتل خطأً مثلاً في بلاد المسلمين فقضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووافقه على هذا طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الدية؛ ثمانمائة درهم، وهذا القضاء لم يخالف فيه، ولذلك لم يرد شيء مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعارض هذا القضاء، فوجب العمل به، ومن هنا عمل بهذه السنة، وقال بها جمهور العلماء رحمة الله عليهم. المجوسي إذا لم يكن له أمان وقتله مسلم خطأ، فهذا ليس له دية في الأصل، وإنما هذا القضاء وقع في الأحوال التي يكون له فيها ذمة وعهد بين المسلمين. قال: [ودية المجوسي والوثني ثمانمائة درهم]: هذا في أحوال الأمان، ومن أهل العلم من قال: يختص الحكم بالمجوسي، وأما من عداه من الوثنيين والملحدين فهؤلاء ليس لهم شيء، ولو أن شخصاً ارتد عن الإسلام واستهزأ بالدين أو سب الله والعياذ بالله ثم ركب سيارته وصدمه مسلم فقتله خطأً، إذا شهد عدول أنه قال كلمة الكفر وحكم بكفره، لا دية على قاتله ولا ضمان عليه؛ لأنه ليس له حرمة، وليس له دية، وهذا بإجماع العلماء أن المرتد إذا قتله المسلم خطأً لا دية له. وهكذا إذا قتله عمداً، لكن الأصل أنه يرد إلى ولي الأمر، وهو الذي يستتيبه، كما سيأتينا إن شاء الله في أحكام الردة، لكن من حيث الأصل ليس لهذا عصمة عند الله وعند رسوله صلوات الله وسلامه عليه وعند المؤمنين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله). مفهوم ذلك أنهم إذا لم يفعلوا ذلك سقطت عصمتهم فلا عصمة لهم، وإذا كان المقتول لا عصمة له فقد قدمنا أن الدية لا تثبت إلا لمعصومي الدم، وحينئذٍ يسقط اعتبارها.

دية نساء أهل الذمة

دية نساء أهل الذمة قال رحمه الله: [ونساؤهم على النصف كالمسلمين]: ونساء أهل الذمة على النصف من ديات ذكورهم، كما أن نساء المسلمين على النصف من دية ذكورهم، وهذا فيه أثر مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه أيضاً مرسل عن سعيد بن المسيب في الصحيح رواه مالك في الموطأ: (عقل المرأة على النصف من عقل الرجل). وعليه سواد الأمة الأعظم على أن المرأة ديتها على نصف دية الذكر، وهذا هو السبب الثاني من النقصان: الأنوثة، أن يكون المقتول أنثى، السبب الأول: الكفر، والسبب الثاني: الأنوثة، فإذا كان المقتول أنثى فإن ديتها على النصف. ذكر المصنف الكتابية ثم قال: [كالمسلمين] فأشار إلى أصل المسألة، فالمرأة المسلمة إذا قتلت خطأً فإن ديتها على النصف، وإذا قتلت عمداً أيضاً ديتها على النصف -تشطر ديتها- وهذا كما ذكرنا حكى بعض العلماء الإجماع عليه. وخالف في هذه المسألة الأصم بن علية، وخلافه شذوذ، وللأصم بن عُلية شذوذات عجيبة، فقد خالف في أشياء منصوص عليها، وخرجوا فيها إجماعات العلماء رحمهم الله، ولذلك لم يعتد بخلافه، حتى إن الإمام ابن العربي رحمه الله الفقيه المشهور لما ذكر مشروعية الإجارة وذكر نصوص الكتاب والسنة الواضحة على أن الإجارة مشروعة، وكان الأصم يقول: لا تجوز الإجارة؛ لأنها بيع لمعدوم، والمنفعة غير موجودة أثناء العقد، فشكك في جوازها مع ورود النصوص في الكتاب والسنة، فقال الإمام ابن العربي رحمه الله كلمته المشهورة: ولم يخالف فيها إلا الأصم فكان عن شرعها أصم. وعند العلماء عبارات قد تكون ثقيلة في بعض الأحيان، لكنهم يريدون التشنيع على المخالف حتى لا يقتدي به غيره، مثل قول الإمام أحمد عن أبي ثور في مسألة أكل الذبيحة إذا لم يذكر عليها اسم الله عز وجل قال: أبو ثور في هذا كاسمه، ومع أنه يقول عن أبي ثور إبراهيم بن خالد بن يزيد الكلبي: أبو ثور أعرفه بالسنة منذ ثلاثين عاماً، فأثنى عليه هذا الثناء العظيم. هذا منهج عند العلماء وهو فقه الفقه: إنه إذا كان القول شاذاً يشنعون فيه حتى تستبشع الناس اتباعه وينفر طالب العلم؛ لأن بعض طلاب العلم عندهم قصور في الفهم، فلربما قرأ الدليل لهذا القول الشاذ المخالف للإجماع فاغتر به، لكن لو وجد التشنيع من أئمة السلف والتقريع والتوبيخ صار أمراً زائداً على المسألة، وهذا فقه الفقه، أنه ينبغي النصيحة لعامة المسلمين ولكن لا يقصد بها التحقير، مع أن العلماء ذكروا خلافه واعتنوا بنقل قوله من باب التنبيه، والتحذير من متابعته في شذوذه. على كل حال: هذه المسألة خالف فيها الأصم بن علية فقال: إن عقل المرأة كعقل الرجل، وهو خلاف من ذكرنا من السلف، حتى إن فتوى الصحابة وقضاءهم على ذلك، يعني على تشطير دية المرأة. إذا ثبت أن دية المرأة نصف دية الرجل في المسلمين كذلك في الذميين والكتابيين، فلو قتل مسلم امرأة من اليهود أو نصرانية، أو قتلها يهودي مثلها خطأً أوجبنا عليه نصف الدية الواجبة في الكتابي، فيجب فيها خمس وعشرون من الإبل؛ لأن دية الكتابي خمسون.

دية العبد

دية العبد يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ودية قن قيمته]. هذا السبب الثاني من المنقصات وهو: الرق، فإذا كان المجني عليه رقيقاً فإن هذا ينقص ديته، والأصل في الرقيق أنه ينظر إلى قيمته، فلو أنه قتل عبداً نظرنا إلى قيمة هذا العبد، سواء كان مملوكاً لسيده ولا زال عليه الرق حتى مات وقتل، أو كان مكاتباً أو كان مدبراً أو كان أم ولد، فجميع هؤلاء قيمتهم بالغة ما بلغت. وعلى هذا جمهور العلماء رحمهم الله: أن دية العبد قيمته بالغة ما بلغت، واختلف في العبد، لكن من حيث الأصل أن العبد مملوك يباع ويشترى، ولذلك تكون ديته إذا قتله الإنسان خطأ أو قتله عمداً ولم يثبت القصاص لمانع أن يدفع قيمته بالغة ما بلغت. قال: [وفي جراحه ما نقصه بعد البرء]. يعني: إذا جني عليه جناية فإننا ننظر إلى قيمته قبل الجناية وقيمته بعد الجناية والبرء، والناقص يدفعه ذلك الجاني، فلو كانت قيمته مائة ألف قبل الجناية، وبعد الجناية خمساً وتسعين يجب أن يدفع خمسة آلاف، فما أنقصته الجناية يجب ضمانه، وهذا أصل في جميع الأموال أنها تضمن بالنقص، كما تقدم معنا في باب الضمان. هناك خلاف للعلماء رحمة الله عليهم: إذا جنى أحد على العبد جناية فقطع يده أو فقأ عينه، أو قطع أذنه، هل ننظر إلى نسبة هذا العضو من قيمته الأصلية؟ أم أننا نقدره فما نقص يدفع؟ وجهان لأهل العلم رحمة الله عليهم: من أهل العلم من قال: إذا قطع يده نظرنا إلى نصف قيمته فأوجبناها على القاطع؛ قياساً على الحر. ومنهم من قال: ينظر إلى قيمته قبل قطع يده وقيمته بعد قطع يده، ويدفع الفرق كما قدمنا في الجراح. القول الأخير قيل: إنه هو المذهب، واختاره شيخ الإسلام رحمة الله عليه، وطائفة من أهل العلم، وصوبه المرداوي رحمه الله في (الإنصاف)، وهو أحد الأوجه عند الشافعية وينص هذا القول على: أننا ننظر إلى ما نقص من قيمته بعد الجناية بغض النظر عن كونه إتلافاً لما في الأصل، ينظر في نسبته إلى الدية مثلما ذكرنا في اليد، فإن فيها نصف الدية، والرجل فيها نصف الدية، والعين فيها نصف الدية كما قدمنا. في هذه الحالة عندنا قولان: الصحيح منهما الذي اختاره طائفة من العلماء أنه ينظر إلى أرش الجناية وما نقصته الجناية. فالفرق بين القولين: أنه في بعض الأحيان تنقصه الجناية ثلاثة أرباع القيمة، مثلاً: يكون خطاطاً بيده، أو عنده صنعة في يده، وتكون قيمته غالية، وقد تكون قيمته ضعفي قيمة العبد المعتاد، ولكن بعد الجناية قد تنقص ثلاثة أرباع القيمة، وحينئذٍ يكون ضمان هذا أكثر من ضمانه بنسبته لأصل القيمة، فهناك فرق بين ثلاثة أرباع القيمة وبين نصف القيمة، وهذا القول كما ذكرنا اختاره جمع من المحققين رحمهم الله.

دية الجنين

دية الجنين قال رحمه الله: [ويجب في الجنين ذكراً كان أو أنثى عشر دية أمه غرة]. هذا النوع الثالث من المنقصات وهو: الجنين، والجنين: من جن الشيء إذا استتر، وتوارى عن الأنظار فلم يرَ، ومنه سمي البستان جنة؛ لأن من دخل البستان سترته أشجاره وزروعه. وسمي الجن جناً؛ لأنه مستور عن الأنظار ولا يرى، قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]. فأصل الجن هو: الاستتار، وسمي المجن وهو الدرع؛ لأنه يقي الإنسان ويحفظه من الضربات أثناء القتال، وقال صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة) أي: أنه وقاية للعبد من النار، قال بعض العلماء: المراد بقوله: (الصيام جنة) أنه إذا ضرب الصراط على متن جهنم، وأمر الناس أن يجتازوا كان الصوم وقاية من كلاليب النار، فمن حفظ صومه تاماً كاملاً حفظه الله من ناره، ومن ضيع خطفته الكلاليب على حسب ضعف هذه الجنة؛ لأنها وقاية، فالجن والمجن هو الساتر هو الاستتار. لو حصلت جناية على نفس فإنها تضمن بديتها كاملة، هذا الأصل، لكن الجنين نقص عن هذا، وجاء فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء، والجناية على الجنين لها صور. تارة تكون جناية عمد مثل المرأة الحامل تختصم مع غيرها -ذكراً أو أنثى- فيضربها على بطنها، فيقتل جنينها فتسقطه، هذه صورة من صور العمد، أو يكون الطبيب قاصداً إسقاط هذا الجنين متعمداً لقتله بعد ثبوت حياته, فيعطيها دواء ليقتل الجنين في بطنها ثم تسلبه وتسقطه، هذه جناية عمد كذلك إذا تحقق وثبت أنه حي. ومن الجنايات: جناية الخطأ وشبه العمد في الاختصام، مثل أن تقع خصومة بين امرأتين ولا تقصد قتل جنينها فتضربها، فمن أثر الضربة تسقط المرأة، أو تأتي الضربة في مكان قريب من الجنين فلا تتمالك المرأة فتسقط جنينها، فهذه تعتبر عند العلماء رحمهم الله والجمهور شبه عمد. ومن قتل الجنين والاعتداء عليه: الاعتداء على سبيل الخطأ؛ مثل أن يعطيها أحد دواءً ولا يعلم أن هذا الدواء يترتب عليه إسقاط الجنين، فتسقط جنينها. كذلك المرأة نفسها تستعمل الدواء فتخطئ في الدواء فيسلب هذا الدواء جنينها، كل هذه صور من صور إسقاط الأجنة والاعتداء عليها. هذه المسألة -الاعتداء على الجنين- فيها قضاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقعت حادثتان -فيما شهر- الحادثة الأولى: لمرأتين من هذيل، والحديث في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن امرأتين من هذيل اختصمتا، فضربت إحداهما الأخرى فقتلتها فأسقطت ما في بطنها وقتلت الجنين). كذلك أيضاً في الحديث الآخر وهو صحيح: في اختصام امرأتين من بني لحيان اقتتلتا فضربت إحداهما الأخرى فأملصت وأسقطت جنينها. وجاء عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين أنهم عملوا بهذا القضاء، فـ عمر رضي الله عنه وقعت في عهده هذه الحادثة -وهي الاعتداء على الجنين- فقام رضي الله عنه خطيباً في الناس وقال: أحرج بالله على من سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر قضاء أن يخبرنا، فقام له المغيرة بن شعبة فقال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. وذكر له الحديث، فقال له: لتأتيني بمن يشهد معك، فقام محمد بن مسلمة رضي الله عنه وأرضاه وشهد معه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في إملاص المرأة بغرة وليدة عبد أو أمة. الغرة هي من أنفس المماليك، وأصل الغرة: البياض في جبين الفرس، وفي قوائمه: التحجيل، ومنه الحديث: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء). والقضاء بثبوت الغرة شبه مجمع عليه، وفيه بعض الخلاف الشاذ لكن لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضى به جماهير السلف والخلف رحمهم الله. ولابد من وجود أمور حتى نحكم بهذا القضاء، فإذا اعتدى أحد على الجنين لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تسقط المرأة الجنين حياً ثم يموت. الحالة الثانية: أن تسقط الجنين ميتاً. فإذا أسقطت الجنين حياً من أثر الضربة، فلا يخلو إما أن يعيش فترة وجيزة جداً أو يموت مباشرة بعد سقوطه، والضابط عندهم في ثبوت الحياة: أن يتحرك حركة قوية أو يصيح؛ مثل رفع اليد ورفع الرجل، هذه تثبت الحياة، ولذلك يثبت له الإرث، وتترتب عليه أحكام الحي. فإذا سقط الجنين حياً وثبت بقول أهل الخبرة، أو ظهرت الدلائل على أن موته وسبب موته بفعل الجناية، فهذا فيه دية كاملة ذكراً كان أو أنثى، على نفس التفصيل الذي تقدم معنا. وإذا قصد قتله فهذا قتل عمد، فإذا ثبت وأقر أنه قصد قتله عمداً وعدواناً فلا إشكال، فيه القصاص على التفصيل الذي تقدم معنا. من حيث الأصل عند أهل العلم رحمهم الله: أنه إذا نزل الجنين وسقط مباشرة بعد الضربة أو وجدت الآثار والدلائل الواضحة على أن هذا السقوط كان بفعل الضربة، وأنه أثر في الجنين حتى مات، وكان موته بسبب الإسقاط والإملاص، فإنه حينئذٍ يكون حكمه ثبوت الدية كاملة إذا عدل عن القصاص، على التفصيل من حيث كونه عمداً أو خطأً. لكن لو عاش هذا الجنين بعد الإسقاط وبقي فترة ثم مات، وقال الأطباء: إن موته الغالب فيه ليس بسبب الإسقاط، فحينئذٍ لا ضمان فيه. إذاً: إذا سقط حياً ومات بفعل السقوط بسبب الإملاص والضرب والاعتداء ففيه ما فيه من الاعتداء على الحي؛ لأنه اعتدى على جنين حي وأضر به وأزهق روحه إن كان أدى إلى موته، وحينئذٍ يضمنه بما يضمن به الزهوق في حال الاعتداء والقصاص، وإذا عفوا فالدية. لكن الذي يهمنا: أن الدية لا تنقص؛ لأنه في هذه الحالة جناية على روح ونفس لها ما للأنفس، سواء كان الجنين ذكراً أو كان أنثى، هذا الأصل. الحالة الأولى: أن يعيش فترة ويثبت أن موته بعد عيشه بسبب آخر، فحينئذٍ لا ضمان عليه؛ لأنه مات بسبب لا دخل للجاني فيه. الحالة الثانية: أن يسقط الجنين ميتاً؛ فإما أن يكون كامل الخلقة أو يكون ناقص الخلقة، فإذا أسقطت جنيناً كامل الخلقة أو ناقص الخلقة بل حتى لو أسقطت وليس فيه من صور الآدمي -كما لو أسقطت قطعة لحم فيها تخلق يد أو رأس أو رجل- فهذا هو الذي يضمن بالغرة. وهذه الغرة: عبد أو أمة وليدة، واختلف العلماء، فبعضهم يقول: ما بين سبع سنوات إلى عشرين سنة، والأنثى لا تبلغ أكثر من عشرين، وهو أحد القولين عن الشافعي، وقيل في الذكر: لا يزيد عن خمسة عشر سنة، وقال بعض العلماء: إنه غرة وليدة أو عبد سواء حتى ولو كانت كبيرة، لكن يشترط في هذه الغرة أن تكون سالمة من العيوب، فلا يجزئ أن تكون هرمة، أو يكون شيخاً هرماً، ولا يجزئ أن تكون معيبة بنقص في الخلقة: كالعور، والعرج، والشلل، والصمم والبكم ونحو ذلك من العيوب التي تقدمت معنا. فيجب أن تكون سالمة من العيوب، ولا تضمن الجناية بغرة معيبة، ويشترط في إثبات الضمان بالغرة أن ينفصل هذا الجزء، فلو أنها أخرجت يداً أو رجلاً أو قطعاً من اللحم فيها صورة تخلق الآدمي يشترط أن تنفصل، ولا تكون متصلة، لكن لو أنها أخرجت يداً ثم ماتت ولم ينفصل، وجاء عن بعض العلماء أنه لا ضمان عليه، والضمان على النفس التي هي الأم، ويفصل فيها إذا كان الاعتداء بالجناية عمداً أو خطأ، هذا من حيث الأصل. (فيها وليدة) الوليدة تعادل عشر دية الأم، ولذلك قضى الخلفاء الراشدون ومنهم عمر رضي الله عنه بأن الغرة تعادل خمساً من الإبل؛ لأن الدية مائة بالنسبة للذكر، وخمسون بالنسبة للأنثى، وعشر الخمسين خمس من الإبل، ولذلك تضمن بهذا القدر (خمس من الإبل) وهناك رواية صححها بعض العلماء عن عمر رضي الله عنه أنه جعل العدل خمسين ديناراً أو ستمائة درهم، وهذا على نفس الأصل؛ لأنها تعادل خمساً من الإبل، وهذا عشر الدية، فإذا ثبت أنها عشر الدية فبعض العلماء يخصها بالإبل، وإذا قلنا: إن الذهب والفضة أصول يصبح عشر دية المرأة من الذهب هو خمسون ديناراً؛ لأننا بينا أن ألف دينار هي الدية، والمرأة ديتها خمسمائة دينار، وعشر الخمسمائة خمسون، وبالنسبة للفضة فهي اثنا عشر ألف درهم، ونصفها ستة آلاف درهم دية المرأة، وعشر الستة آلاف درهم ستمائة درهم، وبعض العلماء يقول: لا نعطي إلا خمساً من الإبل، والخمس من الإبل تعادل الوليدة. الجواري والعبيد ما عادوا موجودين في الوقت الحاضر، ففي هذه الحالة إذا قلنا: إن الإبل أصول والذهب والفضة عدل الإبل، ينظر قيمة الخمس من الإبل كم تعادل، وإذا قلنا: إن الذهب والفضة أصول، فحينئذٍ ننظر كم تعادل الخمسون ديناراً؟ وكم تعادل الستمائة درهم؟ لكن إذا قلنا: إنها عدل عن الإبل فحينئذٍ تنظر إلى قيمة الخمس من الإبل، ولربما كانت قيمة الخمس من الإبل مائة دينار، ولا تعادل خمسين ديناراً، وهذا هو الفرق؛ فأنك إذا جعلت الإبل هي الأصل وألغيت الذهب والفضة في الغرة فحينئذٍ تقول: انظر إلى قيمة الخمس من الإبل بالغة ما بلغت، إذا ما تيسر وجودها يدفع عدلها. من حيث الأصل قالوا: إن خمساً من الإبل تعادل الغرة، وهي عشر دية الأم. قوله: [وعشر قيمتها إن كان مملوكاً]. أي: قيمة الأم، إن كان الجنين مملوكاً، صورة المسألة: أن يعتق سيد أمة ويستثني ما في بطنها، فيكون ما في بطنها وهو الولد مملوكاً له، فمثلاً: لو أذن لأمته أن تتزوج وتزوجت عبداً، فلما تزوجت عبداً أعتقها، وإذا أعتقها يكون لها الخيار -كما تقدم معنا في النكاح- فإذا حملت من هذا المملوك فالولد تابع لأمه رقاً وحرية؛ لكن المولى استثنى هذا الجنين وقال: هذا الجنين ملك لي، يعني: أعتقها وأستثني جنينها الذي تحمله في بطنها، وهذا وجه عند العلماء، فيجوز أن يعتق الأمة ويستثني ما في بطنها، فإذا استثنى ما في بطنها فحينئذٍ تنزل الأم -التي قد أعتقت وأصبحت حرة- منزلة الأمة فتقوم كأنها أمة، وينظر كم قيمتها فيدفع عشر القيمة، والسبب في هذا واضح؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم قالوا: إن الغرة تعادل الخمس من الإبل كما ذكرنا، وهي بهذه الحالة تعادل عشر دية المرأة. وفي الرقيق قلنا: إن المعتبر في ديته النظر إلى ما أنقصته الجناية من قيمته. قوله: [وتقدر الحرة أمة]. ال

أحكام جناية الرقيق

أحكام جناية الرقيق قال رحمه الله: [وإن جنى رقيق خطأ أو عمداً لا قود فيه، أو فيه قود واختير فيه المال، أو أتلف مالاً بغير إذن سيده: تعلق ذلك برقبته، فيخير سيده بين أن يفديه بعشر جنايته، أو يسلمه إلى ولي الجناية فيملكه، أو يبيعه ويدفع ثمنه]. قوله رحمه الله: [وإن جنى رقيق خطأ أو عمداً لا قود فيه]. الرقيق جنايته في رقبته، وبناء على ذلك بين المصنف رحمه الله في هذه المسألة أنه إذا كانت جنايته قدرت نقول لسيده: إن شئت ادفع قيمة هذه الجناية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان) فكما أنه يأخذ نفعه يتحمل ضرره، ونقول له: إن شئت أن تدفع هذه الجناية وإلا كانت الجناية في رقبة المملوك، وإذا كانت في رقبة المملوك فرضنا أن هذه الجناية تعادل قيمته، أو أكثر من قيمته، فحينئذٍ قال السيد: أنا لا أدفع! ولا أريد أن أدفع وهذا العبد عندكم، يرد Q لو قال المجني عليه: لا أريد العبد، أنا أريد ثمن الجناية التي جنى عليّ. مثلاً: الجناية بخمسين ألفاً، والعبد قيمته خمسون ألفاً، فحينئذٍ لابد من بيع العبد، فمن الذي يتولى البيع ويتحمل تكاليف البيع وعبء البيع؟ وجهان للعلماء في ذلك، وهما روايتان عن الإمام أحمد رحمة الله عليه: هل يتولى السيد أو يتولى ذلك المجني عليه؟ والأقوى في الحقيقة أنه يتولاه سيده؛ لأنه استحقاق وهذا عبده، فيسلم للمجني عليه حقه. قال: [أو فيه قود واختير فيه المال]. يعني: شيء يثبت في عوض ماله، وإذا قلت: يثبت في عوض ماله إما أن يجني جناية قطعاً فعوضها بالمال وفيها الدية وأرش الجناية، وإما أن يجني جناية عمد ويعفو من جني عليه ثم يطالب بالمال. قال: [أو أتلف مالاً بغير إذن سيده]. مثلاً: دخل مزرعة شخص وأتلف شجرة، أو أحرق سيارة، أو هدم داراً، أو قتل حيواناً، وهذا الحيوان مملوك، فهذه كلها أموال اعتدى عليها، ولكن هذا الاعتداء من العبد لم يكن بإذن من سيده؛ لأنه لو أذن له سيده ففي هذه الحالة يضمن السيد؛ لأن العبد في الأصل مطيع لسيده، وربما كان يظن أن سيده عنده شبهة، فلذلك يتحمل السيد ضمان هذه الأشياء؛ لأن فيها نوعاً من الإكراه، والعبد لا يستطيع أن يخرج عن إذن سيده في الغالب، ومن هنا يضمن السيد إذا قهره على ذلك وأمره به وألزمه به. لكن إذا فعل العبد من تلقاء نفسه هذه الجنايات وأتلف للناس أموالهم، فإنه حينئذٍ يجب الضمان على ما ذكرناه. قال: [تعلق ذلك برقبته]. نقول لسيده: إن شئت أن تدفع وإلا قمت ببيع العبد؛ على القول أنه يتولى بيعه، وإلا أخذناه؛ على القول الثاني أنه يأخذه ولي المجني عليه ويبيعه. قال: [ويخير سيده بين أن يفديه بأرش جنايته]. (يفديه): يخلصه، يقول سيده: كم أتلف؟ قالوا: أتلف خمسة آلاف، فيفديه بدفع الخمسة آلاف ويخلصه. قال: [أو يسلمه إلى ولي الجناية]. أو يعطيه ولي الجناية ويقول له: دونك العبد، وهذا على ما ذكرنا أن الذي يبيعه هو ولي الجناية، لكن لو امتنع ولي الجناية وقال: أنا لا أريد إلا حقي؛ لأن بيع العبد قد يتأخر، ولأن فيه كلفة ودفع مال للبائع، وأجرة من يتولى بيعه، فهذا كله فيه ضرر على المجني عليه، يعني: ينقص من قيمة العبد. قال: [فيملكه أو يبيعه ويدفع ثمنه]. لو كانت الجناية قيمتها خمسين، والعبد قيمته خمسون، فقال: رأس برأس! نقول لسيده: هل تدفع؟ فإذا قال: لن أدفع، قلنا: هذا العبد قيمته خمسون والجناية قيمتها خمسون، إذاً: الجناية متعلقة برقبته، فنقول للمجني عليه: ما رأيك؟ فإذا قال: أنا آخذه بقيمته، فحينئذٍ لا إشكال. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجهه الكريم.

باب ديات الأعضاء ومنافعها [1]

شرح زاد المستقنع - باب ديات الأعضاء ومنافعها [1] جاءت الشريعة الإسلامية ببيان ديات الأنفس، وجاء عند الفقهاء التفصيل في تحديد المقادير المختلفة لهذه الديات، وكما أن الدية تثبت بالجناية على النفس، فهي تثبت أيضاً بالجناية على العضو، والجناية على العضو إما أن تكون بالجناية عليه كقطع اليد أو الرجل أو الأذن، وقد تكون بالجناية على منفعة العضو، وقد بين العلماء رحمهم الله دية العضو والطرف إذا قطع وأبين، ودية منفعته ودية الشجاج والكسور.

دية الأعضاء التي في الإنسان منها شيء واحد

دية الأعضاء التي في الإنسان منها شيء واحد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب ديات الأعضاء ومنافعها]. تقدم معنا أن الديات تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يتعلق بالديات من ذوات الأنفس، فإذا كانت الجناية بالقتل فإن الدية تكون كاملة. وأما القسم الثاني: فهو الجناية على ما دون النفس، وتقدم بيان الديات إذا كانت متعلقة بذوات الأنفس، فبينا فيها دية المسلم والكافر، على اختلاف أنواع الكافر، وكذلك أيضاً دية الرجل والمرأة ودية الجنين. بعد هذا شرع المصنف رحمه الله في بيان الدية المتعلقة بما دون النفس، وما دون النفس ينقسم إلى قسمين: الأطراف وغير الأطراف، فالجناية إذا كانت على الأطراف، مثل: أن يقطع عضواً كاليد أو الرجل أو الأذن أو الأنف ونحو ذلك. وإما أن تكون جناية على منفعة الطرف، أو جناية بالشجاج أو الكسور. فهذه كلها تتعلق بالجناية على ما دون النفس، والديات إذا بحثها العلماء رحمهم الله فيما دون النفس: إما أن يبينوا دية العضو والطرف إذا قطع وأبين، وإما أن يبينوا دية منفعته، وإما أن يبينوا دية الشجاج، وإما أن يبينوا دية الكسور. هذه أربعة مباحث سنتكلم عليها، وسيبينها المصنف رحمه الله: الأول: يتعلق بدية الأعضاء إذا قطعت وأبينت، وهو الذي يسميه العلماء رحمهم الله: بإبانة الطرف، فإذا قطع يده أو قطع أنفه أو أذنه، فإنه تجب عليه الدية في ذلك العضو الذي قطعه. الثاني: تكون الجناية على منفعة العضو، لا على العضو نفسه، فلو ضربه ضربة -والعياذ بالله- أذهبت سمعه، أو أذهبت بصره، أو أذهبت شمه، فهذه منفعة من المنافع، العضو موجود ولكن منفعة العضو غير موجودة, وحينئذ يكون الضمان للمنافع. الثالث: يتعلق بالشجاج، وهي الجروح التي تكون في الوجوه؛ خاصة في الرأس. والمبحث الرابع والأخير: ما يكون من الكسور؛ سواء كانت الكسور تامة أو قاصرة أو ناقصة، كل هذا سيبينه العلماء رحمهم الله في قولهم: (باب ديات الأعضاء ومنافعها). إذا كان الأمر يتعلق بأربعة أشياء: الأعضاء، منافع الأعضاء، الشجاج، الكسور، والمصنف رحمه الله قسم هذه الأربعة إلى بابين: الباب الأول: يتعلق بالأعضاء ومنافعها. والثاني: يتعلق بالشجاج والكسور. ففي الموضع الأول الذي سنبحثه اليوم -إن شاء الله تعالى- يتعلق بديات الأعضاء ومنافعها، والذي يليه سيتعلق بالشجاج والكسور. قسم هذا الباب إلى قسمين: الأول: يتعلق بديات الأعضاء، والثاني: يتعلق بمنافع الأعضاء. قال رحمه الله: [من أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد؛ كالأنف واللسان والذكر، ففيه دية النفس]. الأعضاء في بدن الإنسان تنقسم إلى أقسام: القسم الأول: ما كان منه في الإنسان شيء واحد، مثل ما ذكر المصنف رحمه الله؛ كاللسان والذكر. وهناك أعضاء في الإنسان منها شيئان، مثل: الأذنين، والعينين. وهناك أعضاء في الإنسان فيها ثلاثة أشياء منقسمة وهو: الأنف؛ لأن الأنف ينقسم إلى منخرين وحاجز بينهما. النوع الرابع: ما في الإنسان منه أربعة أشياء: كالأهداب والأجفان. النوع الخامس والأخير: ما في الإنسان أكثر من أربعة أقسام: مثل الأسنان والأصابع. هذا بالنسبة للأقسام الرئيسة الموجودة في أعضاء الإنسان، وابتدأ المصنف بما في الإنسان منه شيء واحد، فقال رحمه الله: [من أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد]. أجمع العلماء رحمهم الله على أنه إذا كان العضو واحداً في البدن وقطعه أن عليه الدية كاملة، وهذا له أحاديث وأصول وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصة في كتاب عمرو بن حزم رضي الله عنه الذي كتبه عليه الصلاة والسلام لأهل اليمن. يقول رحمه الله: [من أتلف. ] الإتلاف أصله: الإفساد، والمراد هنا: أن يقطع العضو كاملاً، أو يبينه من الجسد إبانة كاملة، فلو كان الإتلاف ناقصاً مثل: أن لا يقطع العضو كاملاً، ولكن يقطع نصف العضو، أو ربع العضو، أو ثلث العضو، فحينئذ تكون الدية بحصة ما قطع، فإن قطع النصف فالنصف، وإن قطع الربع فالربع، فمثلاً: لو قطع نصف اللسان، وأذهب نصف الحروف، فعليه نصف الدية، ولو أنه قطع نصف الأذن فعليه ربع الدية؛ لأن كل أذن فيها نصف الدية، فإذا قطع بعضها وأتلف بعضها، وكان هذا الإتلاف بقدر النصف، فإنه حينئذ يكون نصف النصف: الربع، فيكون عليه ربع الدية، ولو أنه قطع ثلث الأذن فحينئذ يكون ثلث النصف بالنسبة للأذن اليمنى، أو الأذن اليسرى.

الأنف

الأنف قال رحمه الله: [كالأنف]: الأنف هو العضو المعروف، والذي جعل الله عز وجل فيه حاسة الشم للإنسان، والمراد بالأنف: ما لان منه، وهو العضو البارز في الوجه، وقطع هذا العضو المراد منه: أن يستأصل ما لان منه، يعني: الزائد عن حد الوجه، لو أنه قطعه واستتم القطع، وهذا ما عبر عنه عليه الصلاة والسلام بقوله: (وفي الأنف إذا أوعب جدعاً)، يعني: إذا استوعبه كاملاً، وهذا يكون لما لان من الأنف، وهو الذي يسمى: مارن الأنف، وفيه ثلاثة أشياء: المنخر الأيمن، والمنخر الأيسر، والحاجز بينهما، فلو أنه قطع أنفه-والعياذ بالله- فاستتم القطع، فقد أذهب الجمال، وأذهب المنفعة، وفي بعض الأحيان تُذهب المنفعة، ولا يذهب العضو، لكن مادام أنه قد أزال العضو كاملاً فعليه الدية، وبناءً على ذلك: يرد Q ما الدليل على إيجاب الدية في قطع الأنف؟ نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتابه: (وفي الأنف إذا أوعب جدعاً: الدية) فأمر عليه الصلاة والسلام في الأنف إذا قطع كاملاً: الدية. ولو أنه قطع نصف أنفه، فأخذ النصف الأعلى، وترك النصف الأسفل، فإنه يجب عليه نصف الدية، أما لو أنه قطع المنخر الأيمن، أو قطع المنخر الأيسر فعليه ثلث الدية، ولو أنه قطع المنخرين فعليه ثلثا الدية، ولو أنه عمل له طبيب عملية جراحية فأزال الحاجز بين المنخرين، وقال الأطباء: إنه أخطأ الطبيب، وأن هذا ليس بسائغ طبياً، وليس له داع، فإذا تبين أن الطبيب أخطأ فعليه ثلث الدية. إذاً: في المنخر الأيمن ثلث، وفي الأيسر ثلث، وفي الحاجز بينهما الثلث، لكن المصنف رحمه الله هنا يتكلم على قطع الأنف كاملاً.

اللسان

اللسان قال رحمه الله: [واللسان]: والمقصود هنا اللسان المتكلم، أي: إذا قطع لسان متكلم لا أخرس، فقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لو قطع لسان رجل يتكلم أن عليه الدية، سواء كان صغيراً أو كبيراً، يجب أن يضمن له ذلك، ولو قطع بعض اللسان، مثل: نصف اللسان، نظرنا: فإذا أذهب الحروف كاملة وأصبح لا يتكلم، فإنه حينئذ تجب الدية كاملة، لكن لو أنه بقي يتكلم ببعض الحروف، وذهبت بعض الحروف فإنه تقسم الدية على ثمانية وعشرين حرفاً، وهي حروف الهجاء، وينظر في كل حرف بحسبه، وينظر ما هي الحروف التي ذهبت، ثم تقسط الدية على قدر ما ذهب من الحروف. الدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (وفي اللسان الدية) وأجمع العلماء رحمهم الله على أنه لو قطع لسان شخص عليه الدية، لكن بعض العلماء يفصل في مسألة الحروف وانقسامها، ويفرق بين الحروف الأربعة التي تخرج من الشفة، والستة التي تخرج من الحلق، التي تخرج من باقي اللسان، فيجعل أقساط الدية على هذا، ولكن المحفوظ المشهور: أنها تقسم على الحروف كلها، وينظر: ما الذي أتلف من هذه الحروف ولم يستطع أن يتكلم به، فيجب عليه ضمانه.

الذكر

الذكر قال: [والذكر]: وفي الذكر الدية، أجمع العلماء أيضاً رحمهم الله على أنه لو قطع الذكر فعليه دية، مثلاً: لو أن طبيباً قرر: أن الشخص مصاب بالسرطان -والعياذ بالله- وقال له: لابد من استئصال هذا العضو، فلما استأصله تبين أنه ليس مصاباً به، فإنه يجب عليه ضمان الدية كاملة، ولو أنه جنى عليه جناية فقطع ذكره، فإنه يجب عليه الدية كاملة، ولو قطع بعضه كانت الدية بقسط ما قطع، لكن عند بعض العلماء مسألة: إذا منع انتشار الذكر، فإذا منع انتشار الذكر وجبت الدية كاملة، وهذا سيأتي في المنافع أنه أصل عندهم، فإذا ذهبت وجبت الدية. ذكر المصنف رحمه الله هذه الثلاثة الأشياء: الأنف، واللسان، والذكر، على أنها موجودة واحدة في الإنسان، وعلى أن هذه الأعضاء إذا قطعت ففيها الدية كاملة، إذن الضابط: أن يكون العضو واحداً في الإنسان فتجب به الدية، يلتحق بهذا الصلب؛ فإن الصلب إذا جنى عليه فأضره وأذهب منفعته، وجبت الدية كاملة، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام في كتاب عمرو بن حزم رضي الله عنه في الديات: (وفي الصلب الدية)، وأجمع العلماء رحمهم الله من حيث الجملة: أن الصلب فيه الدية. أيضاً يلتحق بالأعضاء الواحدة في الإنسان: الجلد، قالوا: فلو سلخ جلده-والعياذ بالله- مثل: أن يرميه في بركة فيها أسيد، أو مادة حارقة، فانسلخ جلده كله، ثم جاء شخص وقتله، لأن الجنايات -والعياذ بالله- والجرائم تتنوع، فلو أن شخصين اعتديا على شخص، فجاء الأول ورماه في هذا الموضع حتى سلخ جلده، ثم أدركه الثاني قبل موته، لأنهم يقولون: إذا انسلخ الجلد لا يعيش الإنسان، وهذا نص عليه بعض الأئمة رحمهم الله وذكروه عن بعض الأطباء، لكن لو أنه بقي بعد سلخه، وجاء الآخر وقتله، فحينئذ السلخ فيه الدية كاملة، والقاتل أيضاً يجب عليه القصاص إذا كانت النفس مستقرة على الأصل الذي قررناه في مسألة ما تقدم معنا في الحياة التي يشرف الإنسان معها على الهلاك، هل هي حياة مستقرة؟ أو هي كالعدم؟ فالشاهد: أنه لو سلخ جلده وجبت عليه الدية كاملة، فلو أنه أخذه فرماه في بركة فيها أسيد، أو صب عليه الأسيد حتى سلخ جميع جسده، ثم جاء سبع وقتله، فإنه يجب على من سلخ الجلد الدية كاملة، والجلد واحد في البدن، فهو من الأعضاء التي لا تتعدد، كذلك أيضاً شعر اللحية، وشعر الرأس، هذه واحدة في البدن، فلو أنه سقاه الطبيب دواءً، أو قال له: أعالج لك تساقط الشعر، فسقاه دواءً فأسقط جميع شعره، فأصبح أصلع الرأس، ولا يمكن علاجه، وجب على الطبيب أن يضمن الدية كاملة، وكذلك اللحية، لو سقاه دواءً فأسقط لحيته، وتبين أن هذا الدواء مضر، أو أنه من الخطأ أن يأخذه المريض، أو لا حاجة لسقي المريض منه، فإنه حينئذ يضمن، لكن لو وجدت حاجة، مثلاً: في بعض أدوية السرطان -أعاذنا الله وإياكم- أو أدوية بعض الأمراض، إذا سقي الدواء تساقط شعر اللحية، فهذا ليس بمؤثر، خاصة إذا وجدت الحاجة والضرورة إلى ذلك. قال رحمه الله: [ففيه دية النفس]: أي: فيه الدية كاملة؛ لما ذكرناه من أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على هذه الأشياء كما في كتاب عمرو بن حزم، وكذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن الدية كاملة إذا قطع لسانه، أو قطع أنفه، أو قطع ذكره، وكذا إذا اعتدى على صلبه، وإذا اعتدى على الجلد كما ذكرناه، فإنه يجب عليه أن يضمن هذا العضو الذي أتلفه بالدية كاملة.

دية الأعضاء التي في الإنسان منها شيئان

دية الأعضاء التي في الإنسان منها شيئان قال رحمه الله: [وما فيه منه شيئان: كالعينين، والأذنين، والشفتين، واللحيين، وثديي المرأة، وثندوتي الرجل، واليدين، والرجلين، والإليتين، والأنثيين، وإسكتي المرأة، ففيهما الدية، وفي أحدهما نصفها]: قال: [وما فيه منه شيئان]: هذا النوع الثاني من الأعضاء، وهو ما في الإنسان منه شيئان، يشمل ذلك: العينين، والأذنين، واللحيين، والثديين، وثندوتي الرجل، وإسكتي المرأة، وإليتي الرجل، والرجلين، واليدين، فهذه كلها مثناة في الإنسان، يلتحق بها الأنثيان، وقد نص عليهما عليه الصلاة والسلام ولم يذكرهما المصنف، لكن تلتحق بالأعضاء المثناة، ويلتحق أيضاً حلمتا الثدي، وسيأتي-إن شاء الله- بيانهما.

دية العينين

دية العينين قال رحمه الله: [كالعينين]: لو أنه قلع عينيه، أو اعتدى على العينين ففقأهما، وجبت عليه الدية كاملة، وذلك محل إجماع بين العلماء رحمهم الله: أن العينين فيهما الدية كاملة، وأن كل عين فيها نصف الدية، ولا تفضل اليمنى على اليسرى، وإذا كان أعور ففقأ عينه، أو قلع عينه، فقضى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ عمر، وعلي، وغيرهم رضي الله عنهم أن عين الأعور فيها الدية كاملة؛ لأنها منزلة منزلة العينين، والأصل: أن العين الواحدة فيها نصف الدية، ولكن قالوا: لأنه لما لم تبق له إلا هذه العين واعتدى عليها، أذهب له منفعة النظر. ويستوي في العينين أن تكونا صغيرتين، أو تكونا كبيرتين، ولو أنه سقاه دواءً، أو عالجه طبيب فأذهب عينيه، وقال الأطباء: إن الطبيب قد أخطأ؛ لأن الأطباء يجب عليهم الضمان، فيشهد طبيبان عدلان: أن هذا الذي فعله الطبيب خطأ، ومسألة ضمان الطبيب فيها تفصيل، خاصة في عصرنا الحاضر، في بعض الأحيان يكون الخطأ من التشخيص الذي يُكتب للطبيب، ولا يتحمل الطبيب فيه المسئولية، إلا إذا كانت هناك أصول يجب عليه أن يتبعها من التأكد، ونحو ذلك، أما إذا كان العبء الأكبر على غيره، وكتب له ذلك الغير مثل التحاليل، والتصاوير، وكتب المصور تقريره، وبنى الطبيب على هذا التقرير، فحينئذ يكون المتحمل المشخص لهذا المرض؛ لأنه هو الذي تسبب في خطأ الطبيب، المهم أن هذا كله يحتاج إلى تفصيل، لكن من حيث الأصل: لا تذهب أرواح الناس وأجسادهم هدراً، وأن الطبيب إذا أخطأ يتحمل المسئولية؛ وذلك أدعى للاحتياط والمحافظة على أرواح الناس وأجسادهم، ولو أنه سقاه دواءً فأذهب البصر، أو أضر بعينيه، فإنه يجب عليه الدية كاملة، ولو أضر بإحدى عينيه، أو قال: أفعل لك عملية جراحية، فعمل له العملية الجراحية وأتلف عينه، أو أتلف عينيه فإنه يجب عليه الضمان.

دية الأذنين

دية الأذنين قال رحمه الله: [والأذنين]: لو قطع الأذنين فعليه الدية، ولو قطع إحدى الأذنين ففيها نصف الدية، كما نص عليه الصلاة والسلام على هذا، والأصل يدل على هذا، فقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن في اليدين وفي الرجلين الدية، وفي العينين الدية، وقال عليه الصلاة والسلام: (وفي اليد الواحدة خمسون من الإبل) فبين أن الاثنين: وهما اليدان، والرجلان، والعينان، فيهما دية كاملة، أما الواحدة منهما: فيها شطر الدية، ومن هنا أخذ العلماء القاعدة: أن العضو الذي في الإنسان منه شيئان اثنان فيهما الدية كاملة، وإن أتلف واحداً منهما ففيه نصف الدية.

دية الشفتين

دية الشفتين قال رحمه الله: [والشفتين]: الشفتان: عضوان في الإنسان، فيهما منفعة المحافظة على الأسنان، والمحافظة على اللثة، ويستفيد منهما في طعامه، ويستفيد منهما في شرابه، ففيهما منفعة للإنسان، وحدهما: مما أقبل منهما على الفم، العليا: إلى حدود المنخر أو الأنف طولاً، وبالنسبة للسفلى: من العالي منهما المنطبق مع الشفة العليا إلى الحد الذي ينفصل عن أسفل أصول الأسنان، فلو أنه استأصل الشفتين من المنخرين إلى ما سفل عند اللحي والذقن؛ فإنه يجب عليه أن يدفع الدية كاملة، لكن لو أنه أخذ جزء هذا المحدود بقدر النصف وجبت ربع الدية في الشفة السفلى إذا أخذ نصفها، وربع الدية في الشفة العليا إذا أخذ نصفها. فهذا العضو: أجمع العلماء رحمهم الله على أن فيه الدية كاملة، وأن في كل واحدة من الشفتين نصف الدية.

دية اللحيين

دية اللحيين قال رحمه الله: [واللحيين]: وهما العظمان السفليان اللذان عليهما الأسنان والأضراس، اللحي الأيمن، واللحي الأيسر، فلو أنه ضربه ضربة أتلفت أحد لحييه، كما في بعض حوادث السيارات ونحوها-نسأل الله السلامة والعافية- فإنه يجب في كل واحد من اللحيين نصف الدية، ولو أنه قضى على اللحيين فأزال اللحيين كليهما فإنه يجب عليه الدية كاملة.

دية ثديي المرأة

دية ثديي المرأة قال رحمه الله: [وثديي المرأة]: ثديا المرأة فيهما منفعة الجمال للمرأة، وفيهما منفعة اللبن للرضيع-الولد- فهي ترضع ولدها، وتقوم عليه؛ لما جعل الله عز وجل في هذين الموضعين من الرزق له في شرابه، فلو أنه اعتدى على ثديي المرأة فأزالهما؛ وجبت الدية، ولو قرر طبيب استئصال الثديين مدعياً وجود مرض في المرأة، وتبين أن المرض غير موجود، وأن هذا الاستئصال ليس في محله؛ وجب عليه أن يضمن الثديين بدية كاملة، ولو استأصل واحداً من الثديين دون الآخر؛ وجب عليه نصف الدية، ثم الحلمتان: وهما في أعلى الثدي، ومنهما يكون سقاء الصبي، ويلتقمها الصبي عند ارتضاعه، هاتان الحلمتان: مذهب طائفة من أهل العلم أن في كل واحدة منهما نصف الدية، ولا يمتنع هذا، كما هو معروف في الأجفان والأهداب، فإن كل جفن فيه ربع الدية، ولو أنه اعتدى على جفنه فأتلف الشعر الموجود في الرمش الأسفل الذي في العين وجب عليه ربع الدية، فلا يمتنع أن يكون متشطراً في جزء الجزء الذي فيه نصف الدية، والحلمة جزء الجزء، ولكنها لوجود المنفعة الخاصة بها في التقام الرضيع لها، وحصول منفعة الارتفاق، حتى إن اللبن قد لا يستمسك، وهذا يضر بالمرأة، فمذهب جمهور العلماء رحمهم الله على أنه لو استأصل الحلمتين فقط، كأن يقول الطبيب: فيهما مرض، ثم تبين أن المرض غير موجود، وأخطأ فاستأصلهما، فإن عليه الدية كاملة، وهذا لا يلتحق بما ذكره المصنف رحمه الله، لكن لو أنه أزال الثدي كاملاً فالحلمة تبع، والتابع تابع، لا يعطى دية خاصة، ومن هنا يكون تابعاً، ولا يكون أصلاً، إنما يكون أصلاً إذا كانت الجناية متعلقة به برأسه.

دية ثندوتي الرجل

دية ثندوتي الرجل قال رحمه الله: [وثندوتي الرجل]: وهما موضع الثديين بالنسبة للرجل في مقابل المرأة، لو أنه استأصل هذا الموضع من الرجل، فهل عليه الدية؟ وجهان للعلماء: بعض العلماء يقول: إذا اعتدى على ثديي الرجل فاستأصلهما لا دية عليه، وإنما فيها حكومة، تقدر هذه الجناية عن طريق أهل الخبرة، ثم يجب عليه دفع وضمان ما يقوله أهل الخبرة في الحكومة. القول الثاني: وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله أن فيهما الدية، وهذا هو الصحيح؛ لأن فيهما جمالاً للرجل، وفي استئصالهما ضرر على الرجل، ولأن المرأة قد لا ترضع، ومع ذلك استئصال الثديين يضر بها، فإذن: استوى الرجل مع المرأة في وجود الجمال، وحصول الضرر في إتلاف هذا الموضع منه، فتجب الدية في ثندوتي الرجل، وفي كل واحد منهما النصف.

دية اليدين

دية اليدين قال رحمه الله: [واليدين]: نص عليهما عليه الصلاة والسلام فقال: (وفي اليدين الدية، وفي اليد الواحدة خمسون من الإبل)، فبين عليه الصلاة والسلام أن اليد إذا قطعت فيها نصف الدية، وأن اليدين إذا قطعتا فيهما الدية كاملة، وإذا قطع الكف فقد أذهب منفعة اليد، ومن هنا قالوا: تجب عليه الدية؛ لأن الله يقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة:38]، فقالوا: وقد قال عليه الصلاة والسلام: (وفي اليد الواحدة خمسون) فإذا قطع اليد من الزندين وجبت الدية، ولو قطعهما من المنكب ففيهما الدية، مثلما ذكرنا في الأهداب والأجفان، فهذا كله مشطر لكنه يوجب، ولو قطع الكفين ففيهما الدية، قال بعض العلماء: إذا قطع الكفين فيهما الدية، ثم الزائد عن الكفين نقدر له الزيادة، وهذا مذهب مرجوح، والصحيح ما اختاره المصنف رحمه الله: أن الدية تشمل اليدين سواء قطعهما كاملة أو قطع الكفين، كما لو أخذ الأشفار والأهداب من الأجفان فإنها تجب الدية كاملة.

دية الرجلين

دية الرجلين قال رحمه الله: [والرجلين]: وكذلك الرجلان: فلو قطع رجليه فإنه تجب عليه الدية كاملة، وهذا بإجماع العلماء، وإذا قطع رجلاً واحدة؛ فعليه نصف الدية.

دية الإليتين

دية الإليتين قال رحمه الله: [والإليتين]: وهما في مؤخر الإنسان، وما بدا من ظهر الإنسان، وفيهما منفعة الجلوس، وهما كالوسادة للإنسان إذا جلس، وفيهما منفعة الستر للدبر بالنسبة للرجل والمرأة، فإذا قطعت الإليتان فإنه تجب الدية كاملة، وهذا مذهب جماهير العلماء رحمهم الله.

دية أنثيي الرجل وإسكتي المرأة

دية أنثيي الرجل وإسكتي المرأة قال رحمه الله: [والأنثيين]: بينا أن السنة نصت على اليدين والرجلين، ونصت على العينين والأذنين، فنبهت بهذه المواضع على أمثالها، فيلتحق بها ما يشابهها من كل مثنى في جسد الإنسان، فذكر المصنف رحمه الله الإليتين، وإسكتي المرأة، وهما الشفران على الفرج، فلو أنه قطع أحد الشفرين فإنه تجب عليه نصف الدية، ولو قطعهما فإنه تجب عليه الدية كاملة، وفي الشفرين منفعة للفرج، واستمتاع في الجماع، وقد يستأصل الشفرين فيضر بالبكارة، وحينئذ إذا استأصل الشفرين-وهما إسكتا المرأة- وأضر بالبكارة، وجبت الدية في الإسكتين والشفرين، ووجب ضمان البكارة على الأصل الذي تقدم معنا في النكاح. قال: [وإسكتي المرأة ففيهما الدية، وفي أحدهما نصفها]: يلتحق بهذا الأنثيان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفي البيضتين دية) فالأنثيان وبيضتا الرجل إذا قطعهما وجبت الدية كاملة، وفي الواحدة نصف الدية، فلو أن طبيباً عالج مريضاً فقطع منه الأنثيين، -استأصل البيضتين- وجب عليه الدية كاملة إذا تبين أنه أخطأ في هذه الجراحة، وأنه لم يكن يجب قطعهما.

دية المنخرين

دية المنخرين قال رحمه الله: [وفي المنخرين ثلثا الدية]: (المنخرين): المنخر الأيمن، والمنخر الأيسر، والأنف فيه ثلاثة أشياء: المنخر الأيمن، والمنخر الأيسر، والحاجز بينهما، فهذه الثلاثة الأشياء توجب تقسيم الدية أثلاثاً، فإذا اعتدى على واحد منها وجب عليه ثلث الدية. قال: [وفي الحاجز بينهما ثلثها]: وفي الحاجز بينهما -يعني بين المنخرين- الثلث؛ لأنه قد ذكرنا أن المنخر الأيمن والأيسر في كل واحد منهما الثلث، والحاجز يجب فيه ثلث الدية.

دية الأجفان

دية الأجفان قال رحمه الله: [وفي الأجفان الأربعة الدية]: جعل الله الأجفان لحكمة عظيمة، ورحمة منه سبحانه وتعالى بالمخلوق. سبحان الله العظيم! عجيب أمر هذا الشرع، يعني الفقهاء رحمهم الله بحثوا في الطب، حتى إنك تجد في الجنايات علوماً طبية مفيدة جداً، وهذا الذي نذكره كله باختصار، فلو أردنا أن نتوسع في ضوابط هذه المواضع، وكيفية الجناية عليها وتدقيقها، وكلام العلماء فيها لأخذ منا وقتاً طويلاً، لكن تتعجب كيف أن العلماء رحمهم الله مع قدمهم، وتجد الكتب القديمة الصفراء قد بحثت هذه الأشياء وتناولتها كأنك تدرس علم التشريح، واليوم يفتخرون باكتشافات في الإنسان، وهذا كان يعرفه العلماء رحمهم الله، ثم تأتي في الطب في كتاب الحج، وتأتي إلى مسائل الطيب، وكونه محظوراً من محظورات الإحرام، فيبحث العلماء ما هي الشجرة، أو الثمرة التي تعد طيباً، والتي لا تعد طيباً، وهناك عالم عجيب في عالم الأعشاب وخصائصها، وأنواعها، وما الذي يعتبر منها طيباً، وما الذي لا يعتبر منها طيباً. ثم تأتي إلى الصيد، فيتكلمون على ما أحل الله عز وجل صيده، وما حرم الله صيده، ويكشفون لك كنوز العلوم العجيبة الغريبة، وقد يعجز بعض من يدرس علم الأحياء عن اكتشاف تلك الدقائق؛ لأنها كانت تجربة واقعية مدروسة خلال قرون متعددة من أناس عاشوا هذه البيئات وعرفوها، حتى إنه في بعض الأحيان يقول: وهذا يجوز أكله، وقال فلان: لا يجوز أكله؛ لأنه يورث كذا وكذا، أي أن لحمه يورث مرضاً معيناً، وهذا من أغرب ما يكون، بل في بعض الأحيان يقول: وهو صيد، ولحمه ينفع من مرض كذا وكذا، فتجد فوائد عظيمة جداً، وهذا كله كتب بعض العلماء فيه في القرن الثالث الهجري، بل بعضهم في القرن الثاني الهجري، ولم يقتصروا على ذلك، بل بحثوا في الأفلاك، ومنازل القمر، وحسابات المنازل وترتيبها، ومتى يحكم بدخول الشهر، ومولد الهلال، ومتى لا يحكم. فتعيش في علم الفلك، والكسوف، والخسوف، ثم تدخل في علم الفلك في الجهات، واستقبال القبلة، وكيف تعرف القبلة إذا كنت في غيم، وكيف تعرف القبلة إذا كنت في سفر، وإذا كانت القبلة في الغرب تجعل الشمس أمامك عند غروبها، ووراء ظهرك عند شروقها، هذه الأشياء المفيدة القيمة درسها العلماء ونبهوا عليها، ومنها ما نحن فيه الآن؛ الأعضاء وصفاتها، وحينما يتكلمون عن الأدلة يفصلون فيها، يقولون مثلاً: الجفن فيه منفعة المحافظة على العين، فإذا استؤصل الجفن انكشفت عينه وتضرر، وفيه منفعة الجمال، ويقي ويحفظ، والشفة كذلك: تحفظ الأسنان، وتحفظ اللثة، وأيضاً فيها السقيا عند السقاء، واللسان فيه منفعة الكلام، وفيه منفعة إدارة الطعام على الطواحن، وإدارته على الأسنان، وأيضاً عند شربه، هذه كلها أشياء ذكرها العلماء رحمهم الله وفصلوا فيها، ثم فصلوا، وهذا ما نؤخره إلى مسألة المنافع كي يتضح أكثر؛ لأننا في الأعضاء نتكلم عن الجفن وإبانته، لكن في المنافع يتضح هذا أكثر، وهنا يبين رحمه الله ما في الإنسان منه أربع: وهي الأجفان: الجفن الأعلى، والجفن الأسفل في العين اليمنى، والجفن الأعلى والأسفل في العين اليسرى، فلو أنه جنى على الجفن الأعلى فيهما-يعني في العينين- وجبت عليه نصف الدية؛ لأن الجفن الأيمن فيه الربع، والجفن الأيسر فيه الربع، ولو جنى على جفن واحد من الأربعة الأجفان فعليه ربع الدية، كذلك أيضاً بالنسبة للشعر -الرموش- الموجودة في العين: إذا أعطاه دواءً أسقط رمش عينه في الجفن الأعلى وجب عليه ربع الدية، ولو أعطاه دواءً أسقط الرمش والشعر الذي في العينين وجبت الدية كاملة؛ لأن كل جفن فيه ربع الدية، وحينئذ يجب عليه أن يضمن الدية كاملة إذا أتلف الأربع، وإذا أتلف البعض فبحسابه. قال: [وفي كل جفن ربعها]: وفي كل جفن من أجفان العين الربع، فإذا كان الأسفل ففيه الربع، وإذا كان الأعلى ففيه الربع؛ من اليمنى، أو اليسرى، مثلما ذكرنا، العين نفسها لو فقأها فيها نصف الدية، وهذا لا يمنع؛ لأن العين نفسها فيها منفعة الإبصار، ثم الجفن له منفعة تغاير منفعة العين، ومن هنا فصل العلماء في مسألة قطع اليد-كما ذكرنا- وذكروا أنه تجب فيه الدية، ونصف الدية على إبانة الكف، وهي منفعة كاملة، فإذا قطع يده من الزندين؛ أذهب منفعة كاملة، لأنه لا يستطيع أن يمسك الأشياء، ولا يستطيع أن يحمل الأشياء، ولا يستطيع أن يرتفق في كتابته، وغير ذلك من المنافع الموجودة في الكف وليست موجودة في الساعد، ومن هنا تكون مستقلة, ويجب ضمانها بحقها كاملاً.

دية الأصابع

دية الأصابع قال رحمه الله: [وفي أصابع اليدين الدية كأصابع الرجلين, وفي كل أصبع عشر الدية]: الأصابع عشرة، والدية مائة من الإبل، ففي كل أصبع عشر من الإبل بالنسبة للذكر، وخمس من الإبل بالنسبة للأنثى، فكل أصبع يعادل العشر، فنوجب عليه إذا قطع أصبعاً واحداً عشر الدية، ولو قطع أصبعين، فعليه عشران، لو نظرنا إلى هذه الأصابع وجدناها مختلفة، فالسبابة ليست كالإبهام، والخنصر ليس كالبنصر، لكن الحكم واحد، تستوي هذه الأصابع كلها، فكل واحد من هذه الأصابع إذا جنى عليه وجب عليه أن يضمنه بقسطه من الدية. ثم لو أنه جنى على جزء الأصبع، فقطع مثلاً أنملة الخنصر العليا، ففيها ثلث العشر، ولو قطع الأنملة الثانية، ففيها ثلثا العشر، فالأنملة لها قسط من هذا العشر، إلا في الإبهام، ففي الإبهام ينقسم العشر إلى قسمين، فيكون نصف العشر في نصف الإبهام الأعلى، وهذا مبني على أن الله تعالى جعل الإبهام على هذه الخلقة، منقسم إلى اثنين، بخلاف بقية الأصابع، فهو الوحيد الذي يفارق جميع الأصابع عند قطع الجزء، لا عند قطع الكل، فإذا قطع الكل فهو مستو معها في وجوب عشر الدية. قال: [وفي كل أنملة ثلث عشر الدية]: أجمع العلماء على ما ذكرنا في دية الأصبع: أن فيها عشر الدية، وفي كل أنملة ثلث العشر، إلا في الإبهامين كما ذكرنا، ففي كل أنملة من الإبهام نصف العشر. لو أنه قطع مثلاً أنملة الإبهام اليمنى، وقطع أنملة الإبهام اليسرى، فإن الواجب عليه عشر الدية، لكننا هنا أعطيناه نصف العشر لنصف إبهام اليمنى، ونصف العشر لنصف إبهام اليسرى.

دية الأسنان

دية الأسنان قال رحمه الله: [والإبهام مفصلان، وفي كل مفصل نصف عشر الدية كدية السن]: وهذا -كما ذكرنا- اختصار من المصنف رحمه الله. الإنسان فيه اثنتان وثلاثون سناً وضرساً، الثابت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: أنه جعل في كل سن خمس من الإبل، ولم يفرق بين سن وأخرى، ولذلك تستوي الثنايا، والرباعيات، والنواجذ، والطواحن، وبقية الأضراس، لكل واحد منها إذا جنى عليه يجب أن يدفع خمساً من الإبل، هذه هي السنة، مع أنها على خلاف القياس؛ لأنها تقارب مائة وستين من الإبل، لكن من حيث الأصل، لو أنه أعطاه دواءً أسقط جميع أسنانه وأتلفها، فإنه يجب عليه أن يدفع الدية كاملة، وأما بالنسبة للأشطار -التشطير والأجزاء- ففي كل سن ما ذكرناه: خمس من الإبل، يستوي السن الطويل، والسن القصير، لكن إذا كان صغيراً فيشترط أن يكون قد أثغر، وليست السن لبنية، فإذا أثغر الصبي فإنه يجب ضمان هذه السن، وهذا قول جماهير العلماء رحمهم الله، وهناك خلاف عن بعض الصحابة يروى عن عمر رضي الله عنه: أنه جعل في الضرس بعيرين، ويروى عنه بعير، ولكن ضعفه ابن المنذر رحمه الله، وأن السند لا يصح عنه رضي الله عنه في هذا، والسنة واضحة: أن في كل سن خمس من الإبل، وعلى هذا: لو أنه كسر نصف السن وبقي نصفها، فإنه حينئذ يجب عليه ضمان الجناية بحصتها من القدر الواجب في السن، وهو نصف الخمسة، فيقدر نصفها ويجب عليه ضمان ذلك. لكن لو أنه اعتدى على نصف السن؛ فاختلت وسقطت كاملة؛ وجب عليه ضمان الخمس كاملة، إنما المراد إذا بقي فيها منفعة-منفعة النصف- أما إذا أتلفها ولم يبق فيها شيء، أو اسودت، أو سقطت، فإنه في هذه الحالة وجودها وعدمها على حد سواء.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الاعتداء على الذراع مقطوعة الكف

حكم الاعتداء على الذراع مقطوعة الكف Q إذا كانت الكف مقطوعة، ثم اعتدى عليه في الذراع هل تجب عليه نصف الدية. أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فمذهب طائفة من العلماء على أنه إذا جنى على اليد بعد استئصال منافعها في الكف وفي الساعد، أنه يقدر القدر الواجب من نصف الدية، فيجب عليه ضمانه؛ وذلك لوجود المنافع في الكف دون الساعد، واختار بعض العلماء رحمهم الله أنه يجب عليه نصف الدية؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (في اليدين الدية، وفي كل واحدة منهما خمسون من الإبل)، وهذا كان يختاره بعض مشايخنا لعموم النص، وإذا كان قد جنى على يده، خاصة إذا كانت يده مقطوعة خلقة كالأكتع ونحو ذلك، قالوا: تجب عليه؛ لأنه توجد له منفعة، ولأنه يحرك اليد، ويرتفق بها في بعض مصالحه، يقولون: إن هذا أشبه من جهة النص؛ لأن النص عام، قال: (وفي اليد الواحدة خمسون من الإبل) ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الأصل الذي ذكرناه من كونه يقطعها تامة كاملة، أو يقطع جزءها من مفصل الكف، بعد وجود المنفعة في الساعد، وفي العضد. والله تعالى أعلم.

حكم إذهاب العقل عمدا أو خطأ

حكم إذهاب العقل عمداً أو خطأ Q إذا جنى على شخص، فأذهب عقله عمداً أو خطأً، فما الحكم، أثابكم الله؟ A سيأتينا-إن شاء الله- حكم الجناية على العقل، ولا شك أن فيه الضمان، وتجب الدية كاملة، فلو أنه ضربه بخشبة على رأسه ففقد عقله -والعياذ بالله- وقال الأطباء: إن هذه الضربة لا يرجى منها عود العقل إلى صاحبها، فإنه يجب عليه أن يضمن الدية كاملة، والعقل منفعة كاملة، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله: أن في العقل الدية كاملة، فلو أن طبيباً سقى مريضاً دواءً مخدراً وأذهب عقله، أو مثلاً عمل له عملية في دماغه فأخطأ، فترتب على الخطأ اختلال عقل المريض، فإنه يجب عليه أن يضمن الدية كاملة إذا ثبت خطؤه، والله تعالى أعلم.

حكم ضمان التابع

حكم ضمان التابع Q كيف تكون الدية لو فقأ عينه مع إفساد جفنيه في نفس العين. أثابكم الله؟ A قلنا: هذا تبع، والتابع تابع، ولذلك لا يجب ضمان أشفار العينين، ولا الأهداب، مع أن كل واحد من الأشفار فيه ربع الدية؛ لأنه وقع تبعاً، ولا يجب ضمان التابع، وهذا أصل في الشريعة: أنه يُغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصل، ولذلك يجوز بيع البستان قبل بدو صلاحه، وتكون الثمرة تابعة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه في الصحيحين من حديث ابن عمر، وحديث أنس بن مالك رضي الله عن الجميع: (أنه نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحها)، لكنها وقعت تبعاً، فقال عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما-: (من باع نخلاً قد أُبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع)، فهنا وقعت الثمرة بعد التأبير وقبل بدو الصلاح تبعاً، ولم تقع أصلاً، فيجوز حينئذ إعطاء حكم التابع، ولا يجب الضمان في مسألة الأجفان، فلو أنه فقأ عينه-والعياذ بالله- قلنا: عليه نصف الدية، سواء اشتمل الفقء على إتلاف الأجفان أو لم يشتمل، والعبرة بذهاب العين، ففي كل عين نصف الدية، سواء بقيت الأجفان أو تلفت، والله تعالى أعلم.

سنن الاعتكاف وآدابه

سنن الاعتكاف وآدابه Q من أراد الاعتكاف فما هي سننه وآدابه. أثابكم الله؟ A الاعتكاف من أجل العبادات وأشرف الطاعات، شرعه الله في كتابه المبين, وبهدي رسوله المبين صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187]، وقال تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} [البقرة:125]، وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف، وأمر أصحابه رضوان الله عليهم الذين اعتكفوا العشر الوسطى من رمضان: أن يعتكفوا العشر الباقية تحرياً لليلة القدر. والأصل عند الأئمة رحمهم الله: أن الاعتكاف جائز في كل زمان، وأنه لا يختص برمضان، ولكنه في رمضان مؤكد الاستحباب، والدليل على جوازه في سائر السنة: عموم الأدلة في كتاب الله عز وجل الواضحة في الدلالة على أن المساجد محل للمعتكفين، لم تخص رمضان عن غيره، وهذا أصل عند العلماء، وفيه شبه إجماع، وليس هناك أحد يقول: لا يجوز الاعتكاف في غير رمضان، هذا الذي يحفظ عن الأئمة رحمهم الله لثبوت النص في كتاب الله عز وجل دون تفريع. لكن عند العلماء: ما جاء الأصل باستحبابه، يقال مثلاً: يجوز الاعتكاف، ولكنه في العشر الأواخر آكد، وفي العشر الأواخر أكثر استحباباً، هذا الذي نص عليه الأئمة رحمهم الله وهو على أنه في العشر الأواخر أكثر استحباباً، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه في اعتكافه حينما نذر، ولم يسأل: هل نذرت في رمضان؟ أو غير رمضان؟ وهذا يدل على أن الاعتكاف جائز في سائر السنة، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، كما هو مقرر في الأصول. فالمحفوظ عند العلماء رحمهم الله أن الاعتكاف مشروع في كل وقت، ولكنه في العشر الأواخر آكد. المسألة الثانية: إذا ثبت أنه مشروع، والإجماع منعقد على شرعيته، فإنه يشرع في سائر المساجد، لكنه إذا نوى أن يعتكف العشر الأواخر، فلابد وأن يكون المسجد مسجد جمعة؛ لأنه يجب عليه أن يصلي الجمعة، وإذا كانت الجمعة واجبة عليه، فلا يمكن أن يشتغل بالنافلة حتى يضيع الفرض، ولو أنه خرج للفرض لبطل اعتكافه، ومن هنا: اشترط العلماء والأئمة رحمهم الله في العشر الأواخر إذا نواها كاملة أن يكون في مسجد جمعة. المسألة الثالثة: أن الأفضل في الاعتكاف أن يكون في المساجد الثلاثة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة)، وهذا نفي مسلط على حقيقة شرعية محمول على الكمال؛ لورود الدليل الذي يدل على صرفه عن ظاهره، مع أن هذا الحديث فيه ضعف عند طائفة من أئمة الحديث-رحمة الله عليهم- لكن على القول بتحسينه يحمل على الكمال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة): محمول على الكمال، وهو النفي المسلط على الحقيقة الشرعية الذي دل الأصل على صرفه عن ظاهره، كقوله عليه الصلاة والسلام: (لا إيمان لمن لا أمانة له): فإنه لا يدل على كفر من خان الأمانة، وإنما المراد نفي الكمال. المسألة الرابعة: إذا ثبت أن الاعتكاف يكون في المساجد الثلاثة، فأفضلها وأعظمها ثواباً وأجراً المسجد الحرام؛ وذلك لأنه تجتمع فيه فضيلتان ليستا موجودة في غيره: الفضيلة الأولى: الطواف، حيث لا يشرع الطواف إلا بالبيت العتيق، وهذه العبادة لا تجوز ولا تكون إلا في هذا الموضع-أعني المسجد الحرام- ومن هنا فُضّل المسجد الحرام بوجود هذه المزية. ثانياً: أن فيه مضاعفة الصلاة إلى مائة ألف، وهذه المزية يفضل بها بقية المسجدين: مسجد المدينة، والمسجد الأقصى، فالمدينة بألف، والأقصى بخمسمائة على اختلاف في الروايات. إذا ثبت هذا نفهم من هنا أن قوله: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) للكمال؛ لأن في الثلاثة الأشياء قرينة الوصف التي تدل على التفضيل، فدل على أنه للكمال، ولم يأخذ بظاهر هذا الحديث على النفي: (لا اعتكاف) إلا مجاهد، وقال بعض العلماء: إنه قول شاذ. المسألة الخامسة: ما هو الاعتكاف؟ الاعتكاف: من العكوف على الشيء، والمراد به: لزومه، ومن هنا قال تعالى: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] أي: ملازمون لها، فالمعتكف هو الملازم لبيت الله عز وجل-أعني المسجد- بقصد التقرب لله سبحانه وتعالى وطاعته، فإذن لابد من أن يلزم المسجد، وأن تكون النية: إرادة ما عند الله سبحانه وتعالى، والتقرب لله جل وعلا، فلزوم المسجد يقتضي ألا يخرج منه إلا لضرورة وحاجة، مثل: أن يقضي حاجته، ومثل أن يتعذر أن يجد طعاماً داخل المسجد؛ فيخرج بقدر أن يطعم، ثم يعود. فالأصل يقتضي أنه يلزم المسجد، وأجمع العلماء رحمهم الله: على أن من نوى الاعتكاف، أو نذر الاعتكاف، فخرج من المسجد من دون حاجة بطل اعتكافه، وعليه أن يعود ويستأنف النية، ومن هنا لابد وأن يعلم المسلم: أن الاعتكاف: هو الملازمة للمسجد، فلا يخرج من المسجد إلا لضرورة وحاجة، فلا يخرج لعيادة مريض، ولا لتشييع جنازة، ولا يخرج لغسل؛ إلا إذا كان واجباً محتماً عليه كغسل يوم الجمعة على القول بوجوبه، أو غسل جنابة إذا أصابته جنابة، أما إذا لم توجد حاجة، فالأصل يقتضي عدم جواز الخروج. إذا عُلم أنه يلازم المسجد، ينبغي عليه أن يعلم أنها ملازمة لذكر الله عز وجل، وأن المعتكف الصادق في اعتكافه هو من ترسم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل وقته وساعاته ولحظاته في ذكر الله سبحانه وتعالى، حتى إنه يحتسب عند الله عز وجل النومة ينامها من أجل أن يتقوى بها على طاعة الله، هذه العبادة مدرسة من مدارس رمضان، وانظر إلى حكمة هذه الشريعة كيف جعلت الاعتكاف في ثلث الشهر، ولم تجعله في كل الشهر؛ لأن الإسلام دين لا رهبنة فيه، وهذا يدل على أن الإنسان إذا تعبد واجتهد في العبادة، ينبغي أن يكون بحدود، وألا يغلو كغلو النصارى فيترهبن، ويصبح من الرهبان، فلا رهبانية في الإسلام، ومع أن الموسم موسم طاعة -شهر رمضان- لم يدع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الاعتكاف الكامل، وقد كان صلى الله عليه وسلم يترك شيئاً ويحب أن يفعله، لكن وقع منه اعتكافه عليه الصلاة والسلام تحرياً لليلة القدر، والدليل على ذلك: أنه اعتكف العشر الوسطى، فلما نزل عليه جبريل أن ليلة القدر في العشر الأواخر، وقال كما في الصحيح: (إن الذي تطلبه أمامك)، أصبح عليه الصلاة والسلام وأمر أصحابه أن يعتكفوا العشر معه عليه الصلاة والسلام. هذا الاعتكاف يقصد منه إصابة فضيلة ليلة القدر، وهو الاعتكاف المخصوص في رمضان، ويتعلم المسلم منه ذكر الله عز وجل وطاعته، فهذا الجو الإيماني الذي يهيئ العبد لمرضاة الله جل جلاله ومحبته، وبلوغ الدرجات العلا في جنته، ودار كرامته، كم من معتكف صادق في اعتكافه دخل إلى معتكفه ناقصاً، فخرج منه مكملاً، دخله شقياً فخرج منه سعيداً، دخله مذنباً فخرج منه مغفوراً مرحوماً، ودخله بعيداً عن الطاعات فخرج بالباقيات الصالحات، المعتكف الصادق في اعتكافه الذي تعلم من اعتكافه حفظ اللسان، وصيانة الجوارح والأركان، والإكثار من ذكر الله عز وجل في سائر الأوقات والأزمان، ومن الناس من خرج من اعتكافه بختم القرآن كل ثلاث ليال، ومنهم من خرج من اعتكافه بالبكاء عند سماع القرآن، ومنهم من خرج من اعتكافه بمحبة كل خير، وكل طاعة وبر، وهل يراد من العبد إلا أن يكون اعتكافه زيادة له في الخير، وزيادة له في البر، وكل معتكف حقيق وواجب عليه: أن يقف في آخر يوم من أيام اعتكافه فينظر إلى نفسه، وينظر إلى قلبه وعمله؛ لكي يسأل: ما الذي خرج به من هذه العبادة؟ فإن وجد أنه خرج بطاعة يحبها ويأنس بها، ويشتاق إليها، ويرتاح بالجد والاجتهاد فيها، فليحمد الله عز وجل عليها، ويسأل الله الثبات، ولذلك علينا أن ندرك أن الاعتكاف مدرسة للخير والبر، يُحبس ولي الله المؤمن في بيت الله عز وجل، الذي ترى عينه فيها الراكع والساجد، فينظر إلى هذا ساجداً بين يدي الله عز وجل، وينظر إلى هذا رافعاً كف الضراعة إلى الله، وينظر إلى ثالثٍ يتلو كتاب الله، وينظر إلى رابعٍ قد أقبل على نفسه يلومها في طاعة الله، وفي جنب الله، فعندها يطمئن قلبه، وينشرح صدره، مع رفقة إيمانية، وفي مجالس رمضانية، مليئة بذكر الله، مليئة بطاعة الله، يصبح ويمسي بوجوه مشرقة من طاعة الله سبحانه وتعالى، كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا أصبحوا من قيام الليل تلألأت وجوههم: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] فهذه نعمة من الله عز وجل على المعتكف، كل معتكف يريد أن يكون موفقاً في اعتكافه؛ فليسأل الله، وليدع قبل أن يدخل معتكفه أن يرزقه الله عز وجل التوفيق، فالتوفيق أساس كل خير، وأساس كل بر، ومن وُفق أصاب الخير؛ لأن الأمور كلها لا تكون بحول الإنسان وقوته، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)، فإذا دخل الإنسان إلى المسجد مفتقراً إلى رحمة الله، وهو يقول: يارب! أسألك التوفيق، يارب! أسألك اعتكافاً يرضيك عني، وأسألك ساعات ولحظات معمورة بذكرك وشكرك. ثانياً: من الأسباب التي تعين على الاجتهاد في الاعتكاف: أن تستشعر نعمة الله عز وجل عليك، فكم من ميت تمنى هذه العشر -التي أنت فيها- فحيل بينه وبين ما يشتهي، وكم من مريض طريح الفراش يتمنى العافية التي أنت فيها، وكم من مشغول في تجارته وأمواله وأولاده، شُغل عن المكان الذي أنت فيه، فتحمد الله عز وجل أن هيأ لك ذلك، ويسر لك ذلك، فإذا دخلت مستشعراً أن الله أنعم عليك، وأن الله اختارك من بين الناس، عندها تعرف قيمة هذا الاعتكاف. ثالثاً: إذا دخلت المعتكف فاعلم أنه ليس لك من هذا الاعتكاف إلا ما قضيت في طاعة الله عز وجل، فليكن أنسك بالله عز وجل أعظم من أنسك بالناس، أي معتكف هذا الذي ينتقل من فلان إلى فلان؟!! أي معتكف هذا الذي جعل اعتكافه زيارة الأصحاب، والجلوس مع الأحباب، والتفكه بالنك

باب ديات الأعضاء ومنافعها [2]

شرح زاد المستقنع - باب ديات الأعضاء ومنافعها [2] الحواس جملة من المعاني يستشعر بها الإنسان فيدرك بها الأمور، ويستطيع أن يميز بها بين الأشياء، ويفصل بعضها عن بعض، فحاسة البصر يميز بها ما لا يميزه بحاسة الشم وحاسة السمع، وهكذا حاسة العقل، فكل حاسة أو منفعة عضو فيها الدية، وإذا اعتدى إنسان على آخر فقطع أذنه مثلاً وأصبح لا يسمع، فإنه تكون عليه دية العضو -والتي هي النصف- ودية منفعة العضو أو الحاسة إن ترتب على ذلك فقدها.

دية منافع الأعضاء

دية منافع الأعضاء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يبارك لنا في أعمارنا، وأن يرزقنا الصواب والسداد في أقوالنا وأعمالنا، وأن لا يؤخرنا إلى شر، ولا يقدمنا إلى بلاء وضر. يقول المصنف رحمه الله تعالى [فصل: وفي كل حاسة دية كاملة]. هذا الفصل عقده المصنف رحمه الله بعد الباب الذي تقدم، ومن عادة العلماء رحمهم الله في باب الديات؛ أن يتكلموا على الأصل، وهو دية الأنفس، ثم بعد ذلك يتكلمون على دية الأعضاء ومنافعها، ثم الشجاج والكسور. فهنا أربعة أشياء: أولها: الأعضاء. وثانيها: منافع الأعضاء. وثالثها: الشجاج. ورابعها: الكسور. بالنسبة للأعضاء، تقدم معنا فيما مضى في آخر الدروس بيان ديات أعضاء الإنسان، وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وكذلك ما جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من القضاء والفتوى في مسائل الأعضاء. شرع المصنف رحمه الله، فقال في قسم آخر: (فصل)، إذا قال الفقيه: (فصل) فمعنى ذلك أن هناك اشتراكاً أو رابطاً بين اللاحق والسابق، فإذاً: لابد من وجود ارتباط بين الفصل الذي نتكلم عليه اليوم، وبين المقطع الذي مضى معنا في آخر الدروس. المقطع الذي مضى معنا في دية الأعضاء، بين فيه كيف تقسم الدية على ما في الإنسان منه شيء واحد، وما في الإنسان منه شيئان وأربعة كما تقدم، ثم بعد ذلك قال: (فصل) ولذلك يترجم بعض العلماء لهذا الفصل فيقولون: (فصل في دية المنافع) وبناء على ذلك سيتكلم عن القسم الثاني من الباب كله، فالباب في دية الأعضاء ومنافعها، وعليه فيكون قد قسم الباب إلى قسمين: القسم الأول: الأعضاء. والقسم الثاني: منافع الأعضاء. المنافع: جمع منفعة، وهي ضد المضرة، ومنفعة الشيء: مصلحته التي تقصد منه، فاليد مصلحة الإنسان فيها أن يبطش بها، ويحمل، ويضع، ويكتب، وغير ذلك مما يكون من حركات اليد وأعمالها، والرجل منفعتها المشي عليها، والاعتماد عليها ونحو ذلك، واللسان منفعته الكلام، ومنفعته الذوق، والأنف منفعته الشم، والأذن منفعتها السمع، فهذه أعضاء خلقها العزيز العليم وقدرها بتقديره، وجعل فيها هذه المنافع، وكل منفعة من هذه المنافع بحثها العلماء رحمهم الله، ومن هنا كان من سمو الشريعة الإسلامية، وكمال منهجها، وعظم ما منحها الله عز وجل ووضع فيها من البركة والخير، أنها فصَّلت في أحكام الجنايات، حتى في أحكام الجنايات على الأعضاء -جملة وتفصيلاً- وعلى منافعها، ولن تجد على وجه البسيطة حكماً أتم من حكم الله عز وجل، ولا حاكم إلا الله سبحانه وتعالى: {يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57]. فالعلماء رحمهم الله ذكروا هذا القسم الثاني وهو ما يتعلق بالمنافع، وبناء على ذلك سيتحدث المصنف رحمه الله في الجناية على الحواس؛ حاسة السمع، وحاسة البصر، فلو أن رجلاً بطش برجل فضربه ضربة فأصبح المضروب -المجني عليه- أخرس لا يتكلم، أو أصبح أصم لا يسمع، أو ضربه ضربة أذهبت عقله -نسأل الله السلامة والعافية- أو أصبح لا يمشي، أو أصبح لا يستطيع الأكل، أو أصبح لا يستطيع الجماع، كل هذا محل سؤال، فكما بين العلماء رحمهم الله أحكام الجناية على الأعضاء وتقديرها كان من الأهمية واللازم أن يبينوا أحكام الجناية على المنافع وتقديراتها في شريعة الله عز وجل. قوله رحمه الله: [وفي كل حاسة دية كاملة]. الحاسة: واحدة الحواس، وأحس بالشيء: إذا شعر به، والحواس: جملة من المعاني يستشعر بها الإنسان فيدرك بها الأمور، ويستطيع أن يميز بها الأشياء، ويفصل بعضها عن بعض، فحاسة البصر يميز بها ما لا يميزه بحاسة الشم وحاسة السمع، وهكذا حاسة العقل. يقول رحمه الله: (في كل حاسة) وهذا بالاستقلال؛ يعني كل حاسة ينظر إليها منفردة، والأصل في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الجناية على المنفعة كالجناية على العضو، والذي في كتاب الله عز وجل، الجناية على الأعضاء: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45] فهذه كلها أعضاء من حيث الأصل، لكنها أعضاء لها منافع، والغالب في الجناية على المنافع أن يصرف إلى الدية؛ لأنه قد يتعذر أن يفعل بالجاني فعلاً يفقده ذلك المعنى الذي أفقده المجني عليه، لكن إذا أمكن أن يفعل بالجاني مثل فعله فلا إشكال، والغالب في هذه المسائل من مسائل الجناية على المنافع، وكثيراً ما تحدث في زماننا في حوادث السيارات ونحوها، وحوادث الأعمال في البناء، والمصانع، والحرف، وتحدث أيضاً في الطب، فالطبيب قد يعطي دواء يتسبب في ذهاب السمع، وقد يعطي دواء يتسبب في ذهاب البصر، وقد يعطي دواء يتسبب في ذهاب حاسة الشم، أو حاسة الكلام، وكل هذه تترتب عليها مسئولية متعلقة بمسئولية شرعية دنيوية قبل الآخرة، وهي ضمان هذا التلف، ووجوب الدية فيه. يقول رحمه الله: (في كل حاسة) أي من الحواس (دية كاملة) وبناء على ذلك نقول: إن الجناية على العضو غير الجناية على الحاسة، فلو أنه قطع أذنه، فسرت الجناية حتى أتلفت السمع، فحينئذ عليه دية ونصف، دية السمع إذا ذهب السمع من الأذنين معاً، ودية الأذن التي هي نصف الدية لو قطع له أذنه اليمنى، قلنا: الأذن فيها نصف الدية، ثم سرى القطع حتى أذهب السمع فأصبح لا يسمع بالكلية بالأذنين، فحينئذ تجب عليه دية كاملة لذهاب السمع، ونصف دية لذهاب أحد العضوين المثنيين، فالأذنان في كل واحدة منهما نصف الدية، مثلما ذكرنا فيما تقدم معنا في دية الأعضاء، فنفصل بين الأعضاء وبين المنافع، وهناك فاصل بين الأعضاء والمنافع، فجعل رحمه الله الأصل أن كل حاسة لها ديتها المستقلة بها. قوله: (في كل حاسة) الجناية على الحاسة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون الجناية موجبة لذهاب الحاسة بالكلية، فحينئذ تكون الدية كاملة، فلو أنه ضربه ضربة، أو صدمه بسيارته صدمة أخرست لسانه وأصبح لا يتكلم ألبتة، فحينئذ له الدية كاملة. القسم الثاني: أن تكون الجناية موجبة لذهاب شيء من الحاسة، وليس كل الحاسة، فضربه ضربة أصبح بصره فيها بعدها ضعيفاً، كما لو كان في السابق يبصر إبصاراً تاماً، فأصبح بعد الحادث يبصر إبصاراً ناقصاً، فأذهب بعض البصر أو بعض السمع أو بعض الكلام، كما سيأتينا في اللسان فحينئذ ننظر إلى الجزء الذي ذهب، وقدره من الأصل، فلو ذهب النصف أوجبنا عليه نصف الدية، وإذا ذهب الربع أوجبنا عليه ربع الدية، وإذا ذهب الثلثان، فالثلثان. وهكذا. لكن كيف نعرف هذا حتى نعلم أننا أمة لسنا متخلفين، ولسنا متحجرين، وأن قياس السمع كان يعرفه سلفنا الصالح من القرون الأولى؟ يقول الإمام الشافعي رحمه الله: تسد الأذن المريضة التي جني عليها وتفتح الأذن السليمة، فيصيح رجل من بُعْد، فإذا لم يشعر بصوته اقترب حتى يسمع أول سماع من صوته، فيحد الحد عندها، ثم بعد ذلك تفتح الأذن المريضة وتغلق الصحيحة، فلا يزال يقترب ويصيح حتى يبلغ المدى، فلو بلغ نصف المسافة فإنه قد ذهب نصف سمعه من الأذن اليمنى، وإذا بلغ الربع فالربع، وإذا بلغ الثلث فالثلث، والآن لو جئت تقدر بالآلات الموجودة في قياس السمع لا تبعد، يضعون آلات فيها صوت معين لا يزال يرفع حتى يشعر به المريض أو يشعر به الذي يراد قياس سمعه. أما في البصر، فقارن نفس الشيء، يوضع الرجل عن بعد، ويوضع له شاحصة فإذا لم يرها اقترب ثم اقترب للعين الصحيحة حتى يميزه، فإذا أثبته وميزه كفت العين الصحيحة، ثم اقترب وما زال يقترب، ثم يضع الشاخص أو العلامة على المكان الذي ميز فيه، ثم يقترب والعين المعيبة أو التي جني عليها مفتوحة حتى يميزه، فإن وصل عند ثلثه فثلث بصره بقي وضاع الثلثان، وإن وصل إلى النصف فقد أذهب نصف بصره ووجب عليه ربع الدية؛ لأن البصر للعين الواحدة فيه نصف الدية، هذا كله تفصيل لقوله: (وفي كل حاسة دية كاملة) إن أذهبها كلها وجبت الدية كاملة، وإن أذهب بعضها فبقسط ذلك البعض الذي أذهبه، سواء أذهبه في جناية عمدٍ، وقال الرجل: لا أريد القصاص أريد الدية، أو أذهبها في خطأ كما ذكرنا، فكل ذلك يجب فيه الضمان على التفصيل الذي بيناه.

دية السمع

دية السمع قال رحمه الله: [وهي السمع] قوله: (وهي) أي: هذا تفصيل لقوله (في كل حاسة) فقال رحمه الله: (السمع)، والسمع حاسة من أعظم الحواس، ولذلك قدمه الله قيل تشريفاً له، حتى إن مذهب بعض العلماء أن السمع أفضل من البصر كما قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ} [الإسراء:36] فقدم السمع على البصر، وقالوا: إنه أعظم، ويقال: إن الفهم بالسمع أقوى من الفهم بالبصر، ولذلك اختلف العلماء رحمهم الله في الطفل؛ لأن الطفل يميز الأشياء بعد السماع، والسماع يعين الطفل على التمييز، ومن هنا كان أمر السمع أعظم، وشأنه أكبر، فلو جنى عليه جناية أذهبت سمعه والعياذ بالله كلياً، فإنه يجب عليه ضمان السمع كاملاً بديته كاملة. لكن الذي استشكله العلماء في هذه المسألة، أنه قد يدعي -والعياذ بالله- شخص أن سمعه ذهب، فكيف يمكن أن يعرف في السمع والبصر أنه فعلاً قد أثرت الجناية فيه حتى أذهبت سمعه؟ وهذا أمر أيضاً ذكره العلماء والأئمة من المتقدمين رحمهم الله، فقالوا: إنه إذا كان يدعي أن سمعه ذهب، وقال الجاني: لم يذهب سمعه، واختلفا، اختبر وامتحن. قالوا: ومن الامتحان: أن يترك في حال غفلة ثم يصاح عليه صيحة مزعجة، فإن تأثر بها فجأة، فمعنى ذلك أنه كذب، ولذلك هذه مما ذكرها العلماء رحمهم الله والأئمة، لأنه لو فتح هذا الباب، فهناك من الناس -نسأل الله السلامة والعافية- من لا يتورع عن الكذب، حتى ولو لم يؤثر الإضرار في حقيقته إلى ذلك، لكن قد يكون هناك رغبة في الإضرار بالجاني بسبب العداوة، أو لحب الانتقام، أو بسبب محبة الدنيا، -نسأل الله السلامة والعافية- مهما كانت الدوافع والموجبات، لكن الذي يهمنا أنه يختبر ويمتحن، وفي البصر قالوا: إذا ادعى أنه لا يرى شيئاً، تؤخذ له حية، أو شيء مخوف، وهو مؤتمن على نفسه، وقد يكون رجلاً ليست عنده أمانة، قالوا: فيقال له: سر في مكان فيه حية، وفيه تلف، أو يكون آخر المسير فيه مثلاً كبوة أو حفرة، فإذا اتقى أو امتنع أو تلكأ أو تأخر يعني: وجدت الريبة في تصرفه، ظهر أنه ليس بصادق. ، فعلى كل حال هذا مما ذكره العلماء والأئمة من المتقدمين رحمهم الله، وكل هذا يراد به الوصول إلى حقيقة الجناية، فإذا ثبت أن السمع ذهب كله وجبت الدية كاملة، فإذا جنى عليه فأبقى شيئاً من سمعه، والسمع يشترط ذهابه من الأذنين، فإذا أذهب السمع من الأذنين فيه الدية كاملة، لكن لو أنه أتلف السمع في أذن والأذن الأخرى سليمة، أو جاء مريض إلى طبيب واشتكى أذنه فعالج تلك الأذن فأذهب سمعها، فإنه حينئذٍ يجب ضمان السمع بجزئه بحسب ما فات وهو النصف. يجب عند الحكم بالدية كاملة أن يراعى أمر مهم جداً وهو أن يقول الأطباء: إن هذه الحاسة التي تلفت لا تعود، فلو قال الأطباء: إن هذه الضربة تذهب السمع إلى حين، وهناك أمل أن يعود السمع بعد علاج أو دواء، أو بعد مضي مدة فحينئذٍ ينبغي التريث والتربص، ثم اختلف العلماء في التفصيل فقالوا: إذا قال الأطباء إن سمعه يمكن أن يعود فلا يخلو قولهم من حالتين. الحالة الأولى: أن يحددوا زماناً لرجوع السمع، وهذا التحديد ليس من علم الغيب، إنما هو راجع إلى التجربة، وهذا مما يقبل فيه القول؛ لأن الله عز وجل جعل في الحياة سنناً، فإذا ثبت بتجربة الأطباء أنه مرت عليهم حوادث من جنس هذه الحادثة ذهب فيه السمع سنة ثم عاد، أو شهراً أو شهرين ثم عاد، فإذا حددوا كان في ذلك تفصيل: فإن حددوا مدة يغلب على الظن عيش المجني عليه إليها؛ فإنه لا يجب إعطاء الدية إلا بعد مضيها، فإذا مضت المدة ولا زال فاقداً لسمعه وجبت الدية، وأما إذا حددوا مدة يغلب على الظن موته وهلاكه قبل مضيها ففيه وجهان مشهوران للعلماء رحمهم الله: فمنهم من يرى التربص، ومنهم من يرى أنه يعطى الدية وهو أقوى. أما إذا لم يحدد مدة، قالوا: يمكن أن يرجع إليه ويمكن ألا يرجع، فإنه قد جنى جناية توجب الدية، فالأصل وجوب الدية، وحينئذ احتمال أن يرجع أو لا يرجع ساقط ما لم يغلب ويترجح، وعلى هذا فإننا: نوجب على الجاني أن يدفع للمجني عليه الدية كاملة.

دية البصر

دية البصر قال رحمه الله: [والبصر] وهو الحاسة الثانية من الحواس التي إذا جني عليها وجبت فيها الدية كاملة، وهذه الحواس -السمع والبصر- قرنها الله عز وجل في كتابه لعظم أمريهما، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفي العينين الدية) وكذلك صح عن الصحابة رضوان الله عليهم قضاؤهم بأن العين فيها الدية، وهذا أصل عندهم أن منفعة الإبصار فيها، ولذلك أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رجلاً اعتدى على رجل فأذهب سمعه وبصره، ونكاحه وعقله -أصبح مجنوناً- فأوجب فيه عمر أربع ديات، وهذا الأثر رواه البيهقي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفه، والعمل عند أهل العلم رحمهم الله عليه، فجعل لكل حاسة دية كاملة، وهذا هو الأصل في الباب، وإن كان في حديث معاذ رضي الله عنه أيضاً عند البيهقي وفي المصنف أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بالدية، وفي العقل أصل الإجماع على أنه لو ضربه فجن أن فيه دية كاملة. فإذا جنى على بصره وأذهب البصر، ففيه الدية كاملة، ولو أذهب بصر إحدى العينين وجب قدر ما ذهب وهو النصف، ولو أذهب نصف النظر باليمنى فعليه ربع الدية، فيتقسط المال بقدر الجناية.

دية الشم

دية الشم قال رحمه الله: [والشم] الشم حاسة يدرك بها الإنسان الروائح، فيميز الروائح طيبها وخبيثها، وهذه الحاسة موجودة في الأنف، ومن نظر وتأمل إلى بديع خلق الله وعظيم صنع الله فيما حار فيه الأطباء، وتعجب واستغرب منه الحكماء، مما وضع الله سبحانه وتعالى في هذه الحاسة؛ من الحفظ والحرز للإنسان من حيث يشعر أو لا يشعر، فكم من الشرور والمصائب والبلايا يحفظ الله بها عبده بفضله سبحانه، ثم بفضل هذه الحاسة، وقد يكون الإنسان بين الحياة والموت ولا ينجو إلا بفضل الله، ثم بوجود هذه الحاسة، وهي حاسة الشم، فبها يميز الأشياء، ويتنعم ويرتفق بالروائح الطيبة، وقد حبب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الطيب وهو من الروائح، فجعل الله عز وجل في هذه الحاسة الخير الكثير للإنسان. وتقع الجناية لو أن طبيباً عالج مريضاً وعنده حاسة الشم، فأذهب هذه الحاسة، وبعض العمليات الجراحية التي تجرى في الدماغ -نسأل الله السلامة والعافية- قد يحدث فيها خطأ فتذهب حاسة الشم، وبعض العمليات أيضاً التي تحدث في الأنف قد تعطل حاسة الشم، فلو حصل هذا وجب فيه الضمان، فإذا أصبح لا يشم ولا يميز الأشياء التي يشمها، فإنه تجب له الدية كاملة، وهذا محل إجماع عند العلماء رحمهم الله، ولا يعرف فيه مخالف، فمن اعتدى على غيره فأذهب حاسة الشم، فإنه يجب عليه ضمان تلك الحاسة بالدية كاملة، ولو أذهب بعض الحاسة فإنه يقدر بقدر الجناية، ويجب ضمان ما أذهبه.

دية الذوق

دية الذوق قال رحمه الله: [والذوق] الذوق: تمييز للأشياء التي تطعم وتشرب، يميز حلوها ومرها، وحامضها وعذبها، وهذا التمييز جعله العلماء مقسط على هذه الأربعة التي ذكرناها، قالوا حاسة الذوق موجودة في اللسان، وهناك عصب موجود في اللسان يتذوق به الأشياء بقدرة الله عز وجل، وهذه الحاسة إذا عطلت كلها فلا إشكال، لكن لو أصبح لا يذوق الحلو ولا يجد له طعماً، أو العكس لا يجد طعماً للمر، ففي هذه الحالة يتقسط بقدر الجناية التي جني عليه فيها، كما تقدم معنا في الحواس الأخرى، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في الذوق، فقال بعضهم: الذوق موجب للدية كاملة، وهذا طبعاً منصوص عليه عند الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، ومشى عليه المصنف رحمه الله، وهناك وجه ثان عند العلماء رحمهم الله يقول: إن الذوق لا يبلغ مبلغ الحاسة الكاملة، وإنه إذا ذهب فيه الحكومة -والحكومة سيأتي إن شاء الله تفصيلها- فيقدر قبل الجناية عليه ثم يقدر بعد الجناية عليه، وينظر إلى الأرش بين الحالين فيجب ضمانه.

دية الكلام

دية الكلام قال رحمه الله: [وكذا في الكلام] هذه الحاسة الخامسة التي ذكرها هي من نعم الله عز وجل على الإنسان؛ لأنه يتكلم فيبين عن مراده ويفصح، ولذلك يعتبر من المعاني، وهذا من الجناية على المنافع والمعاني، فالكلام الذي عليه جماهير السلف رحمهم الله والأئمة على أنه إذا جنى عليه جناية أخرس لسانه؛ فإنه تجب الدية كاملة، ولو ضربه ضربة على رأسه فأصبح لا يتكلم أو يتكلم فلا تعرف ماذا يقول، أو لا يخرج الحروف كما هي أبداً؛ فإنه حينئذ تجب الدية كاملة، سواء أخرسه بالكلية بحيث لا يتكلم -نسأل الله السلامة والعافية- أو يصيح بدون أن يبين الحروف، ومن المعلوم أن الأصل في اللغة العربية ثمانية وعشرون حرفاً، فإذا جنى عليه جناية وأصبح لا يتكلم بالكلية فلا إشكال، لكن لو أنه جنى عليه جناية فتكلم ببعض الحروف ولم يتكلم ببعضها، فمن أهل العلم رحمهم الله من قال: نقسم الدية على ثمانية وعشرين حرفاً التي هي أصل حروف اللغة العربية، ومن أهل العلم من قال: تقسم على ثمانية عشر حرفاً؛ لأن اللسان الذي يخرج منه ثمانية عشر حرفاً، والستة الحروف التي تخرج من الحلق، والأربعة التي تخرج من الشفتين هذه خارجة عن المعدود؛ لأن الجناية على اللسان وليست على الكل، ومن هنا اختلف -يعني قول العلماء رحمهم الله والأئمة في هذا- والذي نص عليه الأكثرون أنها تقسم على ثمانية وعشرين حرفاً، وأن اللغات من الغير عربية تنزل منزلة العربية، فإذا كانت اللغة غير العربية نظر إلى عدد حروفها، وما أبطلت الجناية من تلك الحروف بحيث تعذر على المجني عليه أن ينطق بها، فلو أنه أفسد له نصف الحروف وجب عليه أن يدفع نصف الدية، وإذا أفسد الثلثين فالثلثان وهكذا يعني تقدر بقدر الجناية، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وفي اللسان الدية) فأثبت عليه الصلاة والسلام الدية في الجناية على اللسان وإن كان الأصل فيها العضو.

دية العقل

دية العقل قال رحمه الله: [والعقل] العقل في لغة العرب: الحبس، ومنه العقال الذي يحبس البعير عن المسير، ويسمى العقل عقلاً؛ لأنه يحبس الإنسان عن الأمور التي لا تليق بمثله، ولذلك سماه الله حجراً وسماه نهية فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} [طه:54] وقال سبحانه وتعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر:5] أي لذي عقل يحجره عما لا يليق به، فالعقل به يدرك الإنسان صحيح الأشياء وفاسدها، وصوابها وخطأها، وجعله الله عز وجل في قلبه، فعقل الإنسان في قلبه، وهذا منصوص النصوص التي جاء بها الوحي من السماء، من لدن حكيم خبير، كما قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، وقال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179] فنسب الفقه والفهم إلى القلوب، وهذه المسألة حصل فيها خلط وخلاف قديم مشهور إلى يومنا هذا، والأطباء يصرون على أن العقل في الدماغ، وهذا خلاف النص الذي نعتقده وندين الله عز وجل به، فإن العقل في القلب، ولا يمنع أن تكون آلة العقل في الدماغ، وهناك فرق بين الآلة وبين الروح التي هي متحكمة في مشاعر الإنسان، ألا ترى الرجل من أكمل الناس عقلاً، فإذا دخل عليه الحزن في قلبه لم يعرف أن يفعل شيئاً، وإذا دخل عليه الفرح في قلبه لم يعرف أن يقدم أو يؤخر شيئاً، ولذلك القلب يؤثر تأثيراً عجيباً في نفس الإنسان خيراً وشراً، ونسب الله عز وجل إليه فلا يمتنع أن يكون العقل في القلب، ولكن مع وجود هذه الأجهزة يقولون: إن الشخص لو ضرب على دماغه يصبح مجنوناً ولا يعقل، وهذا ليس بدليل، فقد استندوا إلى أدلة عقلية، أما نحن فنتكلم على الروح الخفية؛ لأن العقل ليس من الأشياء الملموسة، وما يوجد في خريطة الدماغ فهذه أشياء أشبه بالآلة، وهي التي تتصرف بالإنسان وتتحكم وتصدر منها الأوامر للإنسان، لكن العقل والفهم كله في قلب الإنسان، ولذلك تجد الإنسان في نفسيته يرجع إلى قلبه وفؤاده، فإن حزن أو فرح فإنك تجد الفرح والحزن كله متعلق بفؤاده وقلبه، ولذلك وجود هذه القضية، وأنه إذا ضرب على رأسه ربما فقد عقله، وبعض أهل العلم لما احتج عليه بهذا الدليل قال: إن الشخص ترض خصيتيه فيغمى عليه، فهل معنى ذلك أن عقله في خصيتيه، لما اعترض أحد الفلاسفة على أحد أهل العلم رحمة الله عليه وقال له: لقد قلت قولاً عجيباً، فأجاب بهذا الجواب، قال له: الإغماء وفقد العقل لا يستلزم وجود العقل في المكان؛ لأنها آلة من الآلات، وقد تكون شدة الأذية والضرر موجبة لذلك، ولذلك الفرح الذي يكون في القلب يعمي الإنسان عن معرفة الأشياء، ونهي القاضي أن يقضي وهو غضبان، ومن القضاء وهو في شدة الفرح والسرور، فمعنى ذلك أن القضية ليست قضية الآلة نفسها، إنما القضية قضية روح موجودة في الإنسان، ولذلك تجد أن إدراك الأشياء يستند إلى روح أودعه الله سبحانه وتعالى لا يستطيع الإنسان أن يقول أن العقل مثلاً أصفر أو أحمر أو ملموس، ولا أنه ذاك الشيء الذي في الدماغ، وبالرغم من الاكتشافات التي اكتشفوها -والتي نسلم بها- إلا أنهم لا زالوا في حيرة، ولن يزالوا في حيرة ما لم يهدهم الله سبحانه وتعالى، ولا زالوا إلى الآن لا يعلمون أين أماكن السمع، ولم يعلموا إلا فيما بعد، وإن كانوا وصلوا إلى بعض الأشياء التي يثبتون بها محل السمع، ومحل الكلام، ويعملون عمليات جراحية معقدة جداً في الدماغ بأدق الأجهزة، فما إن يختل هذا الجهاز بأقل مقدار إلا ويحدث خلل لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فإذا بالرجل لا يستطيع الكلام، وإذا به لا يستطيع أن يتحكم في بوله، أو لا يستطيع أن يتحكم في مشيه، فسبحان الله العظيم {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] هذا تقدير العزيز العليم، فإذا قدره العزيز العليم فلا ينبئك مثل خبير، فإن قال لك العقل في القلب، قلت: نعم، سمعنا وأطعنا، فلو أجمع أهل الأرض كلهم على خلاف ذلك لم نسمع ولم نطع، ولا نعبأ بأحد إذا خالف نص كتاب الله، فقد نص الله عز وجل على ذلك وبين أن العقل هو فهم الأمور؛ لأن الأصل في الفهم مستند إلى العقل، ولذلك لم يوجه الخطاب إلا إلى عاقل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة؛ وذكر منهم المجنون حتى يفيق) فعلى هذا لو أنه جنى على عقله جناية أذهبت العقل -نسأل الله السلامة والعافية- وأصبح مجنوناً وجبت الدية كاملة، وفيه أثر مرفوع عنه عليه الصلاة والسلام، وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الجناية على العقل إذا أفسدت العقل كلاً أنها توجب الدية كاملة. لكن لو أنه جنى عليه جناية أذهبت العقل حيناً دون حين، فأصبح مثلما يقع في بعض الأحوال يجن مثلاً فترة ثم يفيق فترة، ولو عمل له عملية جراحية تسببت في حصول غيبوبة للعقل فترة ثم رجع الشخص طبيعياً فترة أخرى ننظر في هذه الفترة التي يفيق فيها والفترة التي يستضر فيها، فلو كان يفيق يوماً ويجن يوماً، فإنه تجب نصف الدية؛ لأنه عطل عقله نصف عمره، وحينئذ كأنه عطل نصف العقل، لأنك لا تستطيع أن تقول: هذا عاقل أو هذا نصف عاقل، ولا تستطيع أن تقول: هذا ربع عاقل ولا ثلثي عاقل، إنما ينظر إلى التقدير بالزمان، وهذا ضابط كثير من أهل العلم رحمهم الله، لو أنه جنى على عقله فغاب عقله ستة أشهر ويرجع إليه ستة أشهر ففيه نصف الدية، ولو غاب عقله ثمانية أشهر ورجع إليه أربعة أشهر فعليه ثلثا الدية، وهكذا يتقسط بقسطه من العقل.

دية منفعة المشي

دية منفعة المشي قال رحمه الله: [ومنفعة المشي]. وهكذا لو جنى عليه جناية لم يستطع أن يمشي بعدها فأصبح مشلول الرجلين؛ فإنه تجب عليه الدية كاملة، وهذا قول جمهور العلماء رحمهم الله: أنه إذا عطله عن منفعة تامة -وهي منفعة المشي- أنه يجب عليه ضمان ذلك بدية كاملة، لكن لو أنه اختل مشيه فحينئذ يتقسط بقدر ما حصل من الضرر، إن كان يقوم يمشي ويحصل له ضرر ففيه الحكومة، وأما إذا كان عطله على وجه تتشطر معه الجناية فإنه يتشطر بقدرها من الدية.

دية منفعة الأكل

دية منفعة الأكل قال رحمه الله: [والأكل] لو جنى عليه جناية عطلت منفعة الأكل فأصبح لا يستطيع أن يأكل وإنما يؤكل، أو لا يستطيع بلع الطعام، أو يستضر في أكله، فإن الذي اختاره المصنف رحمه الله وجماعة وهو منصوص عليه في مذهب الحنابلة أنه تجب الدية كاملة، وهذا مبني على أن الأصل ملحق به نظيره، فأنت إذا نظرت إلى أن السمع حاسة، والبصر حاسة، وهي منفعة قائمة بذاتها، فالأكل منفعة قائمة بذاتها وعليها أود وقوام البدن، وبها يرتفق الإنسان، وإذا كان عمر رضي الله عنه قد قضى بأن الرجل الذي ضرب الرجل فأفسد نكاحه وهي شهوة من الشهوات لا تعدل شهوة الأكل؛ لأن الأكل أعظم منها بل حياة الإنسان موقوفة على الأكل، فإذا كان هذا فيما عمل به الخلفاء رحمهم الله وقضوا به وقالوا أنه يلتحق بهما هو أولى، فإن منفعة الأكل أعظم.

دية منفعة النكاح

دية منفعة النكاح قال رحمه الله: [والنكاح] النكاح: الجماع، والمراد بذلك أن يعطله فلا ينتشر عضوه، ولا يستطيع أن يجامع، فإذا عطله عن الجماع فإنه في هذه الحالة تجب الدية كاملة، وإن عطل بعض المنفعة وحصل عنده ضعف وعجز عن الجماع قدر بحسب ذلك العجز، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في كتاب عمرو بن حزم أن في الذكر الدية، وقضى عليه الصلاة والسلام أيضاً في البيضتين الدية، ونظر إلى هذه الأعضاء كل عضو ففصل البيضتين عن الذكر؛ فدل على الالتفات إلى المنفعة، ففي الخصيتين -أكرمكم الله- من المنفعة ما ليس في الذكر نفسه، ولذلك كان نظر الفقهاء صحيحاً، وهو نظر مستنبط من الأصل المنصوص عليه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنسل والحيوانات المنوية والتأثير في الماء والجينات الوراثية كلها موجودة في الخصيتين، وهي أشبه بالمعمل الذي يخرج وينتج هذا الشيء بقدرته سبحانه وتعالى، ولذلك كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا نوع من الإعجاز، وهذه الأمور لا يمكن أن تدرك إلا بدقائق الطب ومعرفة الأسرار الموجودة في هذه الأعضاء لكن نبأه العليم الحكيم سبحانه وتعالى، وبين له العليم الخبير جل جلاله وتقدست أسماؤه، فدل على أن اعتبار المنافع في الأعضاء أصل، وثبتت به السنة واعتبرته.

دية استمساك البول والغائط

دية استمساك البول والغائط قال رحمه الله: [وعدم استمساك البول والغائط] هذا يحدث في الجنايات، فلو ضربه على خصيتيه ضربة أو على مثانته ضربة فأصبح لا يستمسك بوله، أيضاً يحدث في ضرب الصلب في بعض الخصومات والنزاعات قد يجني أحد على آخر فيضربه على ظهره، فضرب الظهر في بعض الأحيان -نسأل الله السلامة والعافية- يضر بالنخاع الشوكي، وحينئذ يؤثر في استمساك البول واستمساك الغائط، فإذا ضربه على بطنه فلم يستمسك غائطه أو ضربه على خصيته فلم يستمسك بوله، أو ضربه على أي موضع بحيث أثر في استمساك البول والغائط فإنه يتضرر بذلك، وهذه منفعة موجودة في البدن ألحقها كما اختاره المصنف وغيره من بعض العلماء رحمهم الله بمسألة الجناية على المنافع التي تقدمت معنا.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تحمل العاقلة للدية في منافع الأعضاء

حكم تحمل العاقلة للدية في منافع الأعضاء Q في حالة إتلاف حاسة بطريق الخطأ فهل تجب الدية على العاقلة، أم على الجاني، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن وآلاه. أما بعد: فإذا كانت الجناية خطأ حملتها العاقلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة المرأتين بالدية على العاقلة، فالدية تحملها العاقلة إذا كانت الجناية خطأ، والله تعالى أعلم.

تعدد الديات في الجناية على منافع الأعضاء

تعدد الديات في الجناية على منافع الأعضاء Q أشكل عليّ استحقاق المجني عليه لأكثر من دية إذا جني على أكثر من حاسة، بينما لو جني على النفس لم يستحق إلا دية واحدة، بينوا لنا هذا الإشكال، أثابكم الله؟ A هذا لا إشكال فيه، والجواب عنه من عدة وجوه: الوجه الأول: أن الأصل يقتضي تجزئة الجنايات كما هو معلوم، وجاء قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الرجل الذي جني عليه بالجنايات، وأوجب فيها أربع ديات دون إنكار من الصحابة، فصار عند الفقهاء ناقلاً عن الأصل، ولذلك يعتبرون أنه مستثنى، وركبوا منه مسألة الجناية على المنافع، هذا الوجه الأول، وهو أن تقول: لا تعارض بين العام والخاص، الأصل العام أن المقدم للجنايات ويعني إذا جني مثلاً على العين كلها فيها دية واحدة مع أن منفعة الإبصار تابعة للعين، ومع ذلك لم تجب ديتها، لم نقل: إن الإبصار منفعة، ثم لم نجزئ مثلاً الحاجب؛ الجفن الأعلى فيه ربع الدية، والجفن الأسفل فيه ربع الدية، والرموش كذلك العليا فيها الربع، والسفلى فيها الربع، ومع ذلك تجب دية واحدة، وهنا نقول: تجب أكثر من دية، والجواب أننا نقول: الأصل عندنا أنها تتداخل، لكن جاء قضاء عمر فاستثنى من الأصل، وهذا منهج أصولي لا تستطيع أن تتكلم فيه؛ لأنك لو اعترضت عليه عارضتك التخصيصات في الشريعة، لأنك تقول بها وتعتبرها، فهذا شيء مألوف في الشريعة أنه يجعل شيئاً عاماً ثم يستثني أشياء خاصة. الوجه الثاني: أن يقال -وهو أقوى-: أن المستقل ليس كالتابع، فالمستقل لا يأخذ حكم التابع، والجناية المستقلة تأخذ حكم الاستقلال ولا يلتفت إليها تابعة لغيرها؛ لأن الله أعطى كل شيء حقه وقدره، {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3] فالنبي صلى الله عليه وسلم أحل لـ كعب بن عجرة رضي الله عنه وأرضاه أن يحلق رأسه وأن يفتدي مع أن الأصل لو أن شخصاً وقعت منه الجناية على الأعضاء سواء كان في ضمان حق الله عز وجل كما في الفدية، أو في ضمان حق المخلوق كما في الديات فإننا نوجب عليه التبعية؛ لأن التابع تابع لكن إذا جنى في الجناية فهناك منهج للشريعة وهي معاقبة الجاني، فإذا قلت: إذا أتلف هذا الشيء وجبت عليه دية واحدة، فحينئذ هذا يخالف أصل الباب؛ لأنه جنى على سمعه، فهذه جناية مستقلة، وجنى على بصره، وهذه جناية مستقلة، وجنى على عقله، وهذه جناية مستقلة، أرأيت لو أن شخصاً هجم على بيت فيه ثلاثة أشخاص، فضرب أحدهم فأصمه، والثاني أخرسه، والثالث أصبح مجنوناً، ألا توجب على الجاني ثلاث ديات، تقول: نعم، هذا الأصل، نقول: لماذا؟ تقول: لأن كل فعل له حقه وقسطه، نقول: ما دام أن كل فعل في شرع الله له حقه وقسطه متفرقاً، كذلك أيضاً له حقه وقسطه مجتمعاً وهو تعظيم للأنفس، يعني منهج للشريعة في الجنايات وحينئذ لا يستشكل الإنسان، لأنه حين اعتدى على السمع نعاقبه عقوبة من اعتدى على السمع مستقلاً، والسمع بذاته له حقه دية كاملة، والبصر كذلك، والعقل كذلك، وهذا لا إشكال فيه، حينئذ نقول: هذا قصد الشريعة، والشرع له أن يقول: دية الإنسان كاملة إذا جنى عليه كاملاً فيكون السمع والبصر تبعاً؛ لأنه ما فقأ عينه، ولو أنه جاء وفقأ عينه فأعماه، ثم ضربه على أذنه فأصمه، ثم قتله وجبت عليه ثلاث ديات، وليست دية واحدة، وهذا الذي أردنا: أن الشريعة تريد كل جناية لها حقها وقدرها، لكن لو أنه قتله فعطل جميع هذه الحواس لا نقول: إن عليه عشر ديات، هذا أمر واضح، يعني: في حالة الجناية كل شيء فعله يؤاخذ عليه، فلما قتل النفس جاء غيرها تبعاً، كما لو جنى على العين فاقتلعها فأصبحت الرموش والشعر والجفن تبعاً، فحينئذ لا يوجد ضمان إلا بنصف الدية مع أن كل واحد من هذه الشعور فيه ربع الدية، فالرمش الأعلى فيه الربع، والأسفل فيه الربع، ثم الجفن الأعلى فيه الربع، ثم الجفن الأسفل فيه الربع، هذه تكملة الدية، ثم العين نفسها فيها نصف الدية لكن هذا كله تبع، فإذا جنى على النفس فقتله وجبت دية كاملة؛ لأنه جنى على النفس فأصبح غيرها تبعاً، لكن لو أنه قبل جنايته على النفس فقأ عينه أو قلع عينيه، أو أصمه، أو أخرسه أو -والعياذ بالله- ضربه حتى جن، أو سقاه سماً حتى أصبح مجنوناً ثم قتله واعتدى عليه، فجنايتان وليست بجناية، وحينئذ لا يقال بالاندراج والتبعية؛ لأنه ينبغي أن يعاقب على كل جناية وجريمة فعلها، وهذا الجواب أشبه وأقوى، وحينئذ نقول: إنه لا تعارض، ففي حالة الجناية على النفس جنى على شيء واحد وهو النفس، وحصلت الجناية على الحواس تبعاً، فبتعطيل النفس تعطلت الحواس وجاء ذلك تبعاً ولم يأت استقلالاً، وعندنا هنا جاء استقلالاً فوجب أن يعاقب على كل جناية بحقها وقدرها، والله تعالى أعلم.

حكم التنازلات التي يوقع عليها المرضى لإخلاء مسئولية الطبيب

حكم التنازلات التي يوقع عليها المرضى لإخلاء مسئولية الطبيب Q يطلب الأطباء من بعض المرضى التوقيع على أوراق تخلي مسئوليتهم عن أي خطأ منهم، أو حالة وفاة، أو أي أمر آخر، فهل يعتبر بذلك، وما الحكم أثابكم الله؟ A من حيث الأصل هناك شيء يسمى: التنازل؛ إذا الشخص قال: افعل لي هذا الأمر وأنا متنازل عن حقي، هذا من ناحية شرعية إذا كان عاقلاً عنده شعوره فلا إشكال، بشرط أن يكون الذي طلبه من الفعل مأذوناً به شرعاً، يعني: أن تكون هذه العملية ليست بخطرة، والغالب فيها السلامة، لكن لو الغالب فيها الهلاك وقال له: افعلها لي، قال له: يا أخي! الغالب أن تهلك، فقال: افعلها لي، فهذا لا شك أنه لا يجوز له أن يقدم على هذه العملية الجراحية إذا كان غالبها الهلاك، وقدر الأطباء وعرف بالاستقراء والتجربة أنها تهلك، وقد بينا هذا في شروط جواز الجراحات الطبية أنها لا تجوز؛ لأن هذا من الإقدام على التهلكة، وقد أذن الله بالجراحة إذا كانت نفعاً لا إن كانت ضراً، والظنون الفاسدة هي النسب الضعيفة المرجوحة، ولا تلتفت إليها الشريعة الإسلامية، ولذلك الحكم للغالب، والنادر لا حكم له، فكما حكمنا بجواز هذه الأعمال عند غالب السلامة نحكم بعدم جوازها عند غالب الهلاك، وحينئذ نقول: إذا أذن له بفعل عملية جراحية أو أمر لا محظور فيه والغالب فيه السلامة فإنه لا يضمن الطبيب، أيضاً بشرط أن يكون تطبيق الطبيب للعمل الجراحي أو لطبه أو الدواء الذي صرفه للمريض موافقاً للأصول المعتبرة عند الأطباء، فإن خرج الطبيب عن هذا تحمل المسئولية ولا يعتبر معفياً؛ لأن المريض إنما أذن له بالمعروف عرفاً ولم يأذن له بغير المعروف، وحينئذ يكون الإذن مقتضياً للإباحة إذا سرى على وفق المتبع عند الأطباء. إذاً: المسألة تحتاج إلى تأصيل؛ وهو: أن المريض لا يجوز أن يقدم على عمل شيء بجسم الإنسان بإذن الإنسان، إذا علم أن هذا العمل مفسدة ولا يجوز شرعاً، ويكون الطبيب في هذه الحالة متحملاً للمسئولية، وهي مسئولية أخلاقية؛ لأن المسئولية الأخلاقية منها ما يرجع إلى إذن الشرع، ومنها ما يرجع إلى الأخلاق من خلف المواعيد والصدق ونحو ذلك، فالمسئولية الأخلاقية الراجعة إلى الشرع أنه لا يجوز له أن يقدم على هذا العمل إذا كان غالبه الهلاك، ويعلم أن المريض إنما يقتل نفسه أو يتلف عضوه أو نحو ذلك. فهذا الإذن منه لا يسقط معاقبة الطبيب، ولو رفع الأمر إلى القاضي فالقاضي يعاقبه؛ لأنه خرج عن مهمته الأصلية، وكذلك اشترط أن يكون الطبيب من أهل العلم والمعرفة، فلو قال له مثلاً: اعمل لي عملية، وهي عملية جراحية صحيحة، والغالب فيها السلامة، ولكن هذا الطبيب لا يعمل هذه العملية، كأن يكون طبيب آذان وقال له: اعمل لي عملية في العيون، فهذا ليس من تخصصه وليس من مجاله، فحينئذ يكون من التطبب، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عند ابن ماجة: (من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن) فالشاهد من هذا أن إسقاط المسئولية ليس على كل حال. يبقى النظر في مسألة وهي: هل يجوز للأطباء أن يحرجوا الناس ويقولوا لهم: لا تدخلون إلا بعد أن توقعوا. هذا الأمر يحتاج إلى نظر وبحث؛ لأنه ليس من حق الطبيب؛ لأن الطبيب مأمور شرعاً بإنقاذ هذه الأنفس، ولا يستغل حاجة المريض من أجل إسقاط التبعية عنه عند تقصيره، فالطبيب إذا قصر يؤاخذ بتقصيره حتى ولو وقع المريض؛ لأن المريض وقع على أن الطبيب يقوم بواجبه، والمشكلة أن البعض يظن أنه بهذا التوقيع أصبح الطبيب لا ضمان عليه والواقع أن عليه الضمان إذا خرج عن الأصول المتبعة عند الأطباء وخالف المجال الذي يعمل به أو نحو ذلك من الأمور التي كان ينبغي عليه أن يراعيها، فعلى كل حال: لا ينبغي إحراج الناس بإسقاط حقوقهم، وثانياً: لو أن قاضياً رفع إليه هذا الأمر وكان المريض محتاجاً إلى هذا العمل والطبيب أحرجه بهذا التوقيع؛ فمن حقه أن يعتبره نوع من الإكراه بحيث لم يوجد إلا هذا الطبيب فقال له: لا أفعلها لك إلا إذا وقعت على هذا، فهذا نوع من الإكراه بإسقاط الحق، وحينئذ تكون هناك شبهة في تنازل المريض، ومن الشبه التي تسقط التنازل: وجود الإكراه أو شبه الإكراه، لأنه جعله بدون محض اختياره، يعني: لم يعطه اختياراً وإنما حاجته إلى النجاة، وإلى التخلص من الألم فإنه لا يخفى على أحد من الناس ما يتعرض له المريض من الأذية والضرر عند وجود العاهات والأمراض عافانا الله وإياكم منها ورزقنا وإياكم السلامة، فهذا كله يعتبر من أنواع الإكراه، كأنه محرج ومضطر، وقيل له: نجاتك في هذا العمل، فأصبح مستعداً أن يقول للطبيب: لست مسئولاً، وأن يوقع له ما يشاء، لكن هذا كله يحتاج إلى نظر وإلى بحث، ومرد هذا كله إلى القضاء، والأصل الشرعي يقتضي أن التنازل معتبر إذا كان على السنن الشرعي، والله تعالى أعلم.

حكم تكرار الإمام للآيات في الصلاة

حكم تكرار الإمام للآيات في الصلاة Q هل يجوز للإمام أن يكرر بعض الآيات وذلك لتفكير المصلين أو التأثير فيهم أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: إذا كان الإمام يكرر الآية من شدة الحزن والتأثر والخشوع فهذا اغتفره بعض العلماء رحمهم الله. ولكن إذا كان يكرر الآية وهو لم يتأثر ذلك التأثر، وكأنه يتهم الناس بالغفلة ويحاول أن يذكر غيره، وهو أبعد الناس عن التذكير، فهذا نبه بعض العلماء على أنه لا يجوز له ذلك؛ لأن السنة أن يقرأ بدون تكرار. أما إذا كان صادقاً في خشوعه، صادقاً في تأثره، وقد وصل القرآن إلى شغاف قلبه وسكن في فؤاده، وبلغت الآية مبلغها فأصبح يرددها يذوق حلاوتها ويؤثر في الناس بذلك الأثر فلا بأس، قيل: إن عثمان رضي الله عنه قام يتهجد من الليل واستفتح قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1] فما زال يكررها وهو يبكي حتى انبلج عليه الفجر وأصبحت وتره، وهذه أحوال بعض الناس إذا صدقوا، ولا شك أن الخاشع الصادق في خشوعه ليس بغريب عليه ذلك. وأما التكلف والتشدد في هذه الأشياء وكل ما قرأ يحاول أن يكرر آيتين أو ثلاثاً في أي سورة يقرؤها أو أي مقطع يقرؤه، فالذي أراه تحري السنة واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم للقراءة المسترسلة، وإعطاء القرآن حقه بمتابعة القراءة، وقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قرأ في صلاة الصبح وسمع نشيجه من البكاء، وهذا من الغالب؛ لأن الخشوع غلبه، لذلك كان يبكي رضي الله عنه خاصة حينما بلغ قوله تعالى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:84 - 86] فما زال رضي الله عنه يكررها حتى أبكى الناس، وهذا خشوع الصادقين، خشوع المتأثرين الذين صدقوا مع الله عز وجل في سرائرهم وزكى الله سريرتهم وعلانيتهم، وللخاشعين الصادقين في الخشوع دلائل واضحة في قلوب الناس إن خطبوا أو أموا أو صلوا أو وعظوا؛ لأن الله لا يغش عباده، فما من عبد يسر سريرة يصدق فيها مع الله إلا صدق الله معه، ولذلك تجد الصادق إذا قرأ آية وتأثر بها والله يعلم أنه خاشع فيها تبلغ هذه الآية مبلغها، وكان أئمة السلف ومن بعدهم من الخلف من الصالحين يخفون الخشوع ويخافون الرياء، ويخافون اغترار الناس بهم، وكنا نذكر بعض مشائخنا من إذا خلا في قيامه في الليل تسمعه يبكي بكاء الطفل، وإذا جلس أمام الناس وورد شيء يؤثر عليه فيحاول أن يخفي شيئاً كثيراً من ذلك، وذات مرة سألت بعضهم، فقال: أخشى أن يتكلف بعض الحاضرين الخشوع فيهلك، والخشوع أمره عظيم، والله الذي يُقرأ القرآن بين يديه ويقف الإمام بين يديه أجل وأحق من عبد، وينبغي على الإنسان أن يصدق مع الله، وأن يخاف الله جل جلاله، وألا يكرر القرآن إلا وهو صادق التأثر، وتكون قراءته قد خرجت من قلبه فذلك أصدق وأبلغ. ولا شك أن الناس بحاجة إلى من يذكرهم الله، وما شرعت الصلاة الجهرية إلا وفيها الخير العظيم والبركة العظيمة من سماع كتاب الله عز وجل، فالله أعلم كم من قلوب اهتدت، وكم من قلوب خشعت وعيون دمعت، وكم من نفوس استقامت على منهج ربها وطاعة خالقها حينما سمعت آيات ربها ممن صدق في تلاوتها، الله أعلم كم من أناس خشعوا وخضعوا وصدقوا، وأرادوا وجه الله عز وجل، وابتغوا ما عند الله في تحبيب عباد الله وتقريبهم لله سبحانه وتعالى، وتعريفهم لله جل جلاله، فتلوا الآيات حق تلاوتها، وتأثروا بها، ومن الأئمة من يقرأ المقطع الذي يريد أن يقرأه على الناس، فلا تسكن له عين من دمعة ولا يفتر له قلب من خشوع خالياً فيما بينه وبين الله، فيتلوها ويتأثر فيما بينه وبين الله عز وجل، ومن الخطباء والوعاظ والمحاضرين ومن الموجهين والمعلمين من إذا أراد أن يعظ أو يحاضر أو يخطب تدبر ماذا يقول، وعرض قلبه عليه وقالبه على ذلك، وتأثر به في نفسه فرآه ربه وعلمه ربه خاشعاً متخشعاً صادقاً في خشوعه وتذلّله لربه، فلما خرج إلى الناس وخرجت كلماته موعظة للناس أسكنها الله في القلوب وهز بها المشاعر وأصغى لها الأذان، {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26] {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] أولئك الذين صدقوا وأولئك الذين خشعوا فلم ينافقوا ولم يراءوا، وهان عليهم الناس أمام عظمة رب الجنة والناس، وأن الواحد منهم ليصلي بالناس فيقرأ من كتاب الله جل جلاله ما تخشع له الجبال وتهتز له المشاعر والقلوب، فإذا به يخشع ويتخشع ويبكي ويدمع صادقاً لربه، ثم يتمنى بعد صلاته أن لو كان هذا بينه وبين الله لم يره أحد، فلا يفرح أن الناس اطلعت، ولا يفرح أن الناس خشعت، ولا يسأل: هل الناس تأثرت؟ على خلاف من دخله الدخن فتجده يخطب الخطبة ثم يبحث ما هو أثرها وما وقعها، ثم يدخل عليه هذا ويقول له: صار لها موقع وصار لها كذا، فلا يزال الشيطان يأخذ من قلبه الشعبة تلو الشعبة حتى ينصرف القلب كله عن الله، فعندها لا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك. وعلى كل تال لكتاب الله وكل واعظ وكل إمام وخطيب وكل موجه وكل مربٍ وكل معلم أن يجعل الله نصب عينيه، وأن يعلم أن ما عند الله أسمى وأعلى وأزكى {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16 - 17] الله أكبر! لو أن النفوس أيقنت وتعقلت وفقهت، ولو علمت من تعامل ولمن تذل وتخضع؟ لو علمت أن اللحظة بل لربما طرفة عين من خشوع صادق لربما رضي الله عن عبده رضاً لا سخط بعده أبداً، ولو علمت أن هذا الرب الكريم لربما نظر إلى عبده في مقام ذل وانكسار، فجعله في كرامة لا مهانة بعدها أبداً، فكم من عين دمعت حرمها الله على النار! وكم من قلوب خشعت تكفل الله أن يسعدها فلا تشقى أبداً. يعامل الإنسان ربه، ويعلم أن الإمامة في الدين، وأن التقدم والتصدر والتوجيه والموعظة ليس من أجل أن يجتمع حوله الناس أو ترمقه الأبصار، أو تخطفه الأنظار، ولا أن يتحدث به الناس، إنما المراد أن يذكر في الملأ الأعلى راضياً مرضياً عنه من الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبداً من عباده ... ) يكون الإنسان إماماً فيحبه الله في إمامته، ويكون خطيباً فيحبه في خطابته، ويكون طالب علم فيحبه في طلبه للعلم، ويكون عالماً فيحبه الله في علمه، ويكون مفتياً قاضياً في أي أمر من أمور الطاعات، حتى يكون رب أسرة رحيماً بأولاده رحيماً بزوجه واصلاً لرحمه، فتكون خصلة من الخصال الموجبة له للزلفى والوسيلة عند الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] فجعلها وسيلة إليه من الأعمال الصالحة، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبداً من عباده ... ) اللهم إنا نسألك بأسمائك وصفاتك أن تجعلنا ممن أحببت، اللهم اجعلنا ممن أحببته وناديت فيه جبريل (يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه) فإذا نادى الله عز وجل: يا جبريل! ارتجت السموات فقال (. يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فينادي جبريل: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه ... ) ينادي باسم الإنسان في السموات وهذا هو الشرف، وهذه هي الكرامة والعزة، وهذه هي الرفعة، وهذا هو المجد والسؤدد، وهذه هي الغاية التي وراءها جنات عدن التي فيها النعيم المقيم (إني أحب فلاناً فأحبه) لكن ليس بالتشهي ولا بالتمني، ولا بالهوى ولا بالمبالغة، ولا بالتصنع للناس ولا بالتزلف، ولا بالنفاق ولا بالرياء، بل بحقائق أمور صادقة؛ لأن الله سبحانه طيب لا يقبل إلا طيباً (إني أحب فلاناً فأحبه، فينادي جبريل: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه، ثم يوضع له القبول في الأرض) فإذا كان إماماً قبلت إمامته، ورضي الله عن إمام قبلت إمامته، فإن خشع قبل خشوعه، وإن خضع قبل خضوعه، وإن أمر وضع الله القبول لأمره ونهيه ووعظه، هكذا كان الصالحون، وهكذا يمضي بعدهم الأخيار والمتقون، هكذا وإلا فلا. معاملة مع الله صادقة نظيفة زكية، يرى العبد ما يقدمه لربه قبل أن يكون في قوله وعمله، وقبل أن يتكلم، وقبل أن يعمل، يرى ما الذي يقدم لله جل جلاله، أيقدم له شيئاً مليئاً بالرياء والنفاق، ومحبة المدح والثناء؟ ماذا يفيدك الناس إن غضب عليك رب الجنة والناس؟ إن العبد في منزلة لو سخط عليه أهل السموات والأرض ما استطاعوا أن ينزلوه عنها شعرة إلا بإذن الله جل جلاله، وإن العبد في منزلة إذا رضي الله عنه لو أطبق الخلائق كلهم على أن ينزلوه منها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وذلك الذي عناه الله بقوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة:4]. فعلى الإمام إذا أراد أن يؤثر في الناس أن يعلم أن التأثير ليس بتكرار الآيات، وليس التأثير أن نشتغل بالتأثير في الناس قبل أن نؤثر في أنفسنا، وليس التأثير في الناس بتنميق العبارات وتجميل الكلمات وتحبير الخطب، إنما التأثير أسرار بين الأبرار والواحد القهار، جن عليه الليل وأضاء عليه النهار، أسرار في القلوب لا يعلمها إلا الله جل جلاله، هكذا عاش السلف الصالح؛ بالإخلاص والإحسان واليقين وإرادة وجه الله عز وجل {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء:19] هذا الشرط، ولا إيمان إلا بإخلاص وتوحيد، ولا إيمان إلا بمعرفة أسماء الله وصفاته ومعرفة من هو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وإذا عرف العبد ربه استجمع جميع ما يملك مما بين يديه وخلفه، وفوقه وتحته كله لمرضات الله سبحانه وتعالى. فنسأل الله العظيم رب

باب ديات الأعضاء ومنافعها [3]

شرح زاد المستقنع - باب ديات الأعضاء ومنافعها [3] أنواع الشعر في الإنسان أربعة: شعر الرأس، وشعر اللحية، وشعر الحاجبين، وشعر الأهداب، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في الشعور: هل هي موجبة للدية أو موجبة للضمان بالحكومة، كما جاء عن أهل العلم التفصيل في الدية إذا كان الجاني أو المجني عليه أعور العين.

دية الشعور

دية الشعور بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [وفي كل واحدة من الشعور الأربعة الدية]. شرع في بيان أحكام الاعتداء على شعر الإنسان، سواء وقع الاعتداء على شعر الرأس، أو وقع الاعتداء على شعر اللحية، أو على شعر الحاجبين، أو على شعر الأهداب؛ فهذه أربعة شعور في الإنسان يعتدى عليها فتزول ولا تعود، وتكون الجناية موجبة لذهاب الشعر، فلا ينبت شعر الرأس ولا شعر اللحية، ولا ينبت شعر الحاجبين ولا شعر الأهداب، واختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة: إذا اعتدي على الشعر على هذا الوجه في المواضع الأربعة التي ذكرها، هل هي موجبةٌ للدية أو موجبةٌ للضمان بالحكومة؟ في ذلك خلافٌ بين العلماء رحمهم الله، فاختار الحنفية والحنابلة ومن وافقهم القول بوجوب الدية، وهو محفوظ عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قضى بذلك، وكذلك أيضاً دلّ عليه دليل النظر الصحيح، فإن في كل واحدٍ من هذه الشعور الأربعة جمالاً للإنسان وزينة، كما أن في ذهابه ضرراً عظيماً وتأذياً، ولذلك أوجب العلماء رحمهم الله في الأنف الدية، مع أن شاخص الأنف، وهما المنخران والمارن كما تقدم معنا ليس فيهما منفعة الشم، وإنما فيهما الجمال، وبذهابهما وجبت الدية، والأذن كذلك تجب فيها الدية مع أن السمع يكون بداخل الأذن وليس بالصوان الخارجي، وقد بينا وجه وجوب الدية في ذلك كله، وذكرنا المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقتضي الضمان، فهذا أصل شرعي يدل على أن الديات لا تنحصر في الأعضاء التي فيها المنافع، وإنما تشمل أيضاً الزينة، وقوى أصحاب هذا القول مذهبهم لهذا الوجه، وعليه فإنه لو أضر بشعر المجني عليه فسقط بسبب الجناية والاعتداء أو بسبب الخطأ فإنه يجب عليه دية كاملة في كل واحدٍ من هذه الشعور الأربعة.

دية شعر الرأس

دية شعر الرأس قال رحمه الله: [شعر الرأس] نبدأ بشعر الرأس، من أكثر ما تقع هذه الجناية في الطبيب إذا أخطأ في العلاج، أو أعطى دواءً تساقط معه الشعر، وهو في هذه الحالة لا يخلو إما أن لا ينبت الشعر بالكلية، وقرر الأطباء أنه لا أمل في رجوعه، فحينئذ الدية كاملة على الوجه الذي ذكرناه من قول أهل العلم رحمهم الله وهو أشبه بالأصول وأقواه. ثانياً: أن تكون الجناية موجبة لذهاب بعض الشعر دون البعض، فحينئذٍ إذا كانت مما يتشطر مثل الحاجب لكن الرأس لا يتشطر، فإذا أتلف شعر أحد الحاجبين فإن عليه نصف الدية، وكذلك إذا أتلف أحد الأهداب الأربعة وهي الرموش، الرمش الأسفل من العين اليمنى، والرمش الأعلى منها، وكلاهما من اليسرى، فلو أتلف واحداً من هذه الأربعة فعليه ربع الدية؛ لكن لو أنه جنى عليه جناية أذهبت نصف شعر رأسه، فهل يتشطر أو لا يتشطر؟ المعمول به عند طائفة من العلماء رحمهم الله أنه يتشطر، وتكون الدية بحصته، فإن أتلف نصف شعر رأسه قالوا: يتشطر، وهناك وجه أن فيه حكومة بتقدير الجناية؛ لأن الشعر في الأصل يتساقط من رأسه لكن هذا لا يخلو من نظر، كذلك أيضاً لو أنه جنى عليه جناية وسقط شعر رأسه أو أخطأ الطبيب في العلاج فأسقط شعر الرأس، لكن نبت شعر الرأس بعد ذلك فإنه لا دية، إلا أنه في هذه الصورة لو حصل ضرر في موضع الشعر مثل ما يقع والعياذ بالله في جناية الاعتداء العمد، مثل أن يصبّ على رأسه حارقاً أو أسيداً، وفي بعض الأحيان تكون الجناية مذهبة للشعر فلا إشكال، لكن لو أنها أذهبت الشعر ثم عاد الشعر، لكنها أحدثت ضرراً في الموضع، فالشعر ليس فيه شيء، لكن موضعه فيه تشوه أو فيه ضرر، فحينئذٍ يقدر حكومةً بمعنى أننا ننظر، وسيأتي إن شاء الله بيان ما هو الحكم وما هو الأصل فيها. المقصود: أن الجناية على شعر الرأس إذا أتلف الشعر كاملاً ففيه الدية يتشطر لبعضه، ويبقى النظر إذا جنى عليه فنبت الشعر، وكان تشوه في الخِلقة، فإنه حينئذٍ يقدر ذلك التشوه بحصته ويعطاه على سبيل الحكومة. قال: [وهي شعر الرأس]. وهي: بيانٌ للأربعة، وهي شعر الرأس، والرأس من التراوس وهو العلو، والمراد به الشعر الذي ينبت على رأس الإنسان ذكراً كان أو أنثى، يعني هذه الدية لا تختص بالإناث وهن أكثر تضرراً؛ لأن هذه الشعور الأربعة منها ما يختص بالذكور كاللحية ومنها ما يشمل الجنسين كبقية الشعور. ففي هذه الحالة إذا جنى على شعر الرأس فإنه تجب عليه الدية، سواء كان المجني عليه ذكراً أو كان أنثى، وسواء كان الشعر طويلاً أو كان قصيراً، أو كان ملفوفاً مثلاً، الأصل يقتضي أن عليه الدية كاملة بإتلاف هذا الشعر، وحينئذٍ إذا كانت الجناية عمداً فلا إشكال، وهناك أصل قررناه في مسألة القصاص، بحيث أنه لو فعل به فعلاً يمكن أن يفعل به مثله، أو سقاه دواء يسقط الشعر وهذا الدواء من خاصيته أنه يسقط الشعر، فاعتدى عليه وسقاه هذا الدواء، وهذا الدواء يمكن أن يقتص بالفاعل بمثله، فإنه يسقى نفس الدواء حتى يتساقط شعره كما تساقط شعر المجني عليه.

دية شعر اللحية

دية شعر اللحية قال رحمه الله: [واللحية]. اللحي: هو العظم الذي هو فك الإنسان، ومجمع اللحيين: هو الذقن، فاللحية تنبت على هذا العظم، ولذلك مبتدؤها من طرف عظم الصدغ، الذي هو ابتداء اللحي وتقيدت به، وكان ابن عباس رضي الله عنهما في الحج والعمرة إذا أراد أن يحلق رأسه أمر الحلاق أن يقف عند العظمة، وهذه العظمة تفصل بين الشعرين؛ الممسوح والمغسول، وتفصل بين المأذون بحلقه وغير المأذون بحلقه، فاللحية في الأصل ما نبت على اللحي -العظم- وللعلماء فيها وجهان: من أهل العلم من يقيدها بهذا الموضع، ولذلك يجيز أخذ ما نبت على الخد والوجنة ويقول: هذا ليس من اللحية، وإنما أُمِر باللحية وهي ما كان على اللحي، وقال أصحاب هذا القول: ما كان أسفل من اللحي، وهو مما يلي الرقبة يجوز أخذه وحلقه؛ لأنه ليس من اللحية، فتقيدت اللحية عندهم بما نبت على اللحي، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإرخاء اللحى كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيح وغيره، فيقولون: إن اللحية تتقيد بهذا الموضع، ومجمع اللحية وهو الذقن: العظم أسفل الفم، ويرون أن العنفقة والمسربة لا تدخل في اللحية، وقد أثر عن بعض الصحابة أخذهم من نفس المسربة، والذي يهمنا الآن هو الشعر الذي على اللحيين. وهناك وجه ثان يقول: إن ما قارب الشيء أخذ حكمه، واللحية تشمل في الأصل ما نبت على اللحي، وما نبت على الوجنة آخذٌ حكم اللحية؛ لأن ما قارب الشيء فهو آخذ حكمه، وهذا لا شك أنه أحوط وأسلم لكن لا ينكر على من أخذ من شعر وجنته أو أخذ من جهة رقبته؛ لأن له وجهاً، وهناك من أهل العلم ومن أجلاء أهل العلم من يقول بهذا القول، خاصة وأن ظاهر اللغة فيه وجه لهذا. الشاهد من هذا: أن تحديد اللحية على هذا الوجه يشمل ما نبت على أسفل اللحي دون ما يلي الرقبة، فلو سقاه دواءً أسقط لحيته فإنه في هذه الحالة يجب ضمان هذه اللحية بدية كاملة على الصحيح من قولي العلماء رحمهم الله، وهذا النوع من المضمونات يختص بالرجال دون الإناث، فالمرأة اللحية ليست لها زينة، وقد قررنا أن الأصل في الضمان لهذه الأشياء إنما هو وجود الزينة، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: سبحان من زين الرجال باللحى. فهي زينة من الله سبحانه وتعالى، والأصل عدم جواز حلقها، فإذا اعتدى عليها بدواء أو اعتدى عليها عمداً فإنه لا قصاص في هذه الحالة؛ فهذا مانع شرعي؛ لأن المانع يكون مانعاً حسياً من جهة كونه يوجب الزيادة فينتفي القصاص، وكونه مانعاً شرعياً؛ لأنه مأمور بترك هذا الموضع، في هذه الحالة يجب عليه ضمان الدية كاملة، لكن لو أنه أسقط بعض شعر اللحية، ففيه الوجه الذي ذكرناه في التقسط؛ أنه يتقسط بقدر جنايته.

دية الحاجبين

دية الحاجبين قال رحمه الله: [والحاجبين]. والحاجبان: مثنى حاجب، وهو في الأصل: الشعر الذي ينبت على العظم فوق العين، سواء اتصل الحاجبان أو انفصلا؛ ولذلك جاء في النمص وهو: نتف شعر الوجه الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله، وأكثر ما يقع في النساء، ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن النامصة والمتنمصة، والواشرة والمستوشرة، المتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)، فلا يجوز الاعتداء على هذا الشعر، حتى ولو اتصل الحاجبان؛ لأن سر المنع وورود اللعن هو عدم الرضا بخلقة الله عز وجل، فإذا خلق الله الحاجب متصلاً وجاءت هي تفصله فقد غيرت الخلقة ولم ترض بقسمة الله، ولذلك ورد اللعن على هذا؛ لأن هناك أفعالاً قد تكون أخف، لكن لما اتصل أمر هذا الفعل بالعقيدة وهو عدم الرضا بخلقة الله عز وجل والاعتداء عليها؛ ولذلك جاء في آخر والحديث: (المغيرات خلق الله)، فرجع الأمر إلى الاعتقاد، فمن نمصت شعر حاجبها سواءً فيما كان بين الحاجبين لكي تفصل الحاجبين أو كان ترقيقاً للحاجب بعد أن كان عريضاً ونحو ذلك فيشملها. الحاجبان إذا اعتدي عليهما، أو مثلاً وقع حادث فحصلت منه جروح وحصل منه ضرر على شعر الحاجبين حتى قُلِع الشعر ولم يعد ذلك الشعر وجبت الدية، وإن حصل الضرر على أحد الحاجبين، تقسطت الدية بقسط ذلك وهو النصف، وهذا يشمل الرجال والنساء؛ لأن الحاجبين زينة في الرجل وزينة في المرأة أيضاً.

دية شعر أهداب العينين

دية شعر أهداب العينين قال رحمه الله: [وأهداب العينين]. والمراد بها الشعور التي تنبت على الجسم الأعلى والأسفل من كل عين، فالعينان لكل واحدة منهما جفنان، فأصبحت الأهداب أربعة؛ وهو الذي يسمى: الرمش، فلو سقاه الطبيب دواء خطأ حتى تساقط شعر العين -الرمش- فإنه يجب عليه ضمان ذلك بالدية كاملاً: إن كانت الجناية في العينين فتكون كاملة، وإن كانت الجناية في عينٍ دون أخرى وجب عليه النصف، وإن كان في جزء العين وهو شعر الجفن الأعلى أو شعر الجفن الأسفل فبقسطه وهو ربع الدية؛ لأنها أربعة، فتتقسط الدية وتقسم على أربعة، فكل واحد من هذه الشعور الأربعة إذا جُني عليه فإن فيه ربع الدية، وهذا يخالف به شعر الرأس كما قدمنا، ويشمل الرجال والنساء على حد سواء.

سقوط دية الشعر إذا نبت

سقوط دية الشعر إذا نبت قال رحمه الله: [فإن عاد فنبت سقط موجبه]. ليس خاصاً بشعر الأهداب، فليس قوله: (فإن عاد) يعود إلى آخر الكلام، وإنما المراد: إن عاد الشعر في هذه المواضع التي ذكرناها سقطت الدية، وإن عاد الشعر في حاجبٍ سقطت نصف الدية، وإن عاد الشعر في أحد الرموش سقطت ربع الدية، فلو اعتدى على رمش منها فعاد الشعر أو قال الأطباء: سيعود. ننتظر حتى تمضي المدة التي قرروها للعود، فإن عاد فإنه تسقط الدية، ولو أخذ الدية ثم عاد شعره وجب عليه ردها.

مقدار دية عين الأعور

مقدار دية عين الأعور قال رحمه الله: [وفي عين الأعور الدية كاملة]. قضى بهذا عمر وعثمان وعلي من الخلفاء الراشدين، وقضى به من الصحابة أيضاً عبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع: أن الأعور في عينه الدية كاملة؛ لأنه حينما فقد العين الأخرى قامت منافع العينين في عين واحدة، سواء كان ذلك العور خِلقةً أو جناية أو مرضاً، فقالوا: إن الاعتداء عليها يوجب الضمان بدية كاملة، وهناك قول ثان: أن فيها نصف الدية وهو من حيث الدليل إعمالاً للأصل، لكن قضاء هؤلاء الخلفاء الراشدين، لا شك أن له وجهاً ومعناه صحيح؛ لأنه انتقلت منافع العين الثانية إلى منافع العين الباقية، وتجده في عينه أكثر مصلحة من العين المعتادة، ومن هنا ورود هذا عن هؤلاء الصحابة الخلفاء المأمور باتباع سنتهم جعلوا كان قول الإمام أحمد رحمه الله وطائفة من أئمة السلف بهذا لوروده عن هؤلاء الخلفاء ولزوم اتباع سنتهم.

حكم الأعور إذا قلع عين الصحيح

حكم الأعور إذا قلع عين الصحيح قال رحمه الله: [وإن قلع الأعور عين الصحيح المماثلة لعينه الصحيحة عمداً فعليه دية كاملة ولا قصاص]. إذا جنى الأعور على صحيح العينين فقلع عينه اليمنى عمداً فعليه الدية كاملة؛ لأنه في الخطأ تجب نصف الدية ولا إشكال، لكن لو أنه اعتدى على مثل عينه، كأن تكون العين الباقية عنده هي اليمنى فقلع عين خصمه اليمنى عمداً وعدواناً، فالأصل يقتضي أن يقتص من عينه اليمنى، على مذهب طائفة من العلماء، قالوا: لأنه اعتدى، والله أمرنا بالقصاص، فيجب أن نقلع عينه كما قلع عين غيره؛ لأنه هو الذي تسبب بالضرر على نفسه وهو الذي رغب لنفسه بهذا، وذلك بالاعتداء عمداً وعدواناً على أخيه المسلم، وقد أُثر عن عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما قضيا في هذا، لكن قالوا: لو أن المجني عليه قال: لا أريد القصاص أريد الدية، يعني: أريد العوض، فللعلماء وجهان: من أهل العلم من قال: يبقى الأصل، وهو نصف الدية؛ لأنه قلع عيناً واحدة ولم يقلع عينيه، ولا يمكن أن نقول: إن عليه الدية كاملة وعينه الثانية باقية، لكن الذين أوجبوا الدية وهم الحنابلة وطائفة من أهل العلم، قالوا: لأنه فدى عينه، يعني: المفروض أن تُقلع عين الأعور، فإذا عدل إلى الدية فقد فدى عينه، فيجب أن يفدي بدية كاملة، ولذلك قالوا: الغنم بالغرم، كما أسقط الضمان عنه، وهذا من فقه الصحابة رضوان الله عليهم، وفيه إعمال للقاعدة التي ذكرناها: الغنم بالغرم، فهنا يغرم دية كاملة؛ لأنه نزلت عينه منزلة تلك العينين، بدليل أن عمر لم يقتص منه، فقالوا: لما سقط عنه القصاص كان واجباً عليه أن يضمن عينيه بالدية كاملة، فله الغنم بإسقاط القصاص عليه، هذه غنيمة ونعمة وخير له، وأيضاً عليه الغرم إن فدى هذه العين التي أنجته من القصاص أن يفديها بدية كاملة. هذا من حيث الأثر ومن حيث النظر، وهذا مذهبهم وهو الأصل الذي اعتمدوه. والذين قالوا: إنه لا يجب إلا نصف الدية، مذهبهم أقعد بالدليل وأعمل للأصل. قال: [ولا قصاص]. كما ذكرنا

دية قطع يد الأقطع

دية قطع يد الأقطع قال رحمه الله: [وفي قطع يد الأقطع نصف الدية كعين]. قالوا: لأنهم بقوا على الأصل فلا إشكال؛ لأن تلك فيها أقضية عن الصحابة فاستثني، والفقه أن تجري المسائل على الأصول الواردة في الشرع: وهي أن اليد الواحدة فيها نصف الدية، وأن اليدين فيهما الدية كاملة، فإذا حصل العارض من كونه أعور، فلو نظرنا لوجدنا آثاراً عن الصحابة الذين أمرنا باتباع سنتهم فخرجنا عن الأصل المستثنى باتباع سنتهم، فاستثنى الإمام أحمد من هذا الوجه وأبقى ما عدا هذا على الأصل، فإذا اعترض معترض وقال: هذا أمر خرج عن الأصل لوجود قضاء عن الصحابة، وهؤلاء مأمورون باتباع سنتهم خاصة الخلفاء الراشدين، فلهم من المزية ما ليس لغيرهم، وبقي ما عدا ذلك على الأصل، ومن هنا فإن الشافعية وطائفة الذين يخالفون يلزمونهم بهذا، فيجعلون الأمر فيه اعتراض من هذا الوجه، لكنه لا يلزمهم هذا؛ لأن الاستثناء إنما هو لورود المستثني المقتضي لذلك، فلا يرد الاعتراض به.

الأسئلة

الأسئلة

حكم المتعجل إذا خرج من منى قبل الغروب ثم عاد لحاجته

حكم المتعجل إذا خرج من منى قبل الغروب ثم عاد لحاجته Q المتعجل إذا خرج من منى قبل الغروب ثم عاد لحاجة، هل يلزمه البيات، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: الأصل الشرعي يقتضي حقيقة التعجل، وهذا هو ظاهر القرآن: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَليه} [البقرة:203]، واختار بعض العلماء العمل بهذا الظاهر: وهو أنه لابد وأن يكون متعجلاً حقيقة، قالوا: ولو فتح هذا لتحايل الناس على الشرع، وأصبح الحكم صورة لا معنى، قالوا: بإمكان الشخص أن يخرج قبل الغروب بجسده، ثم إذا غربت الشمس رجع فأخذ متاعه ثم صدر وسافر، قالوا: وهذا خلاف الشرع؛ لأن الشرع نص على أنه متعجل، ومن رجع إلى منى ولم يزل له بها غرض لم يتعجل حقيقة، وهذا وجه من أخذ الأصل، ولا شك دائماً في المسائل أنها ينبغي أن تبقى على الأصل؛ لأنه في الأصل ملزم بالمبيت، والرخصة جاءت بشرط، وكثير من الناس يجهل هذه الرخصة حتى إن بعض السلف يقول: من تعجل -ليس كل متعجل- لابد وأن يكون متعجلاً بشرطه، قالوا: وما شرطه؟ قال: أن يكون متقياً لله عز جل، يعني: ليس كارهاً للمبيت، ولا نافراً من المبيت، ولا متضجراً من العبادة لكن إذا كان هذا المعنى أن الشخص يخرج ويأخذ أغراضه بعد المبيت أو مثلما يقول بعض منهم، بمجرد ركوبه للسيارة: إنه تعجل. والنص القائل: {فَمَنْ تَعَجَّلَ}، لابد أن يطبق كما هو، بمعنى أنه تغرب عليه الشمس وليس في منى لا بمتاعه ولا بحوائجه، قد خرج حقيقة: {فَمَنْ تَعَجَّلَ}، وانظر إلى تعبير القرآن: (تعجّل) ومن كان على عجل فحاله يقتضي أن يكون مهيئاً لأموره مرتباً لها، فإذا كان على هذه الصفة الشرعية مع هذا يقول الله عز وجل: {لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203]، فإذاً: لابد أن نلاحظ أن الفتوى في هذه المسائل ليست بمجرد الشكل، أي: مجرد أن الشخص يخرج ثم بعد ذلك يعود، حتى كان بعض مشايخنا رحمه الله عندما يسأل هذه المسألة يقول: أمر الناس عجيب، فمنهم من يأتيك ويقول: خرج من منى ثم عاد ثم خرج ولا يقول: عاد لمتاعه، ولا يقول: عاد لحاجته، وهذا من فقه أسئلة الفتوى: أنه ليس كل سؤال يقبله المفتي؛ فإن عاد سأله: لماذا عاد، وكيف عاد، وما الذي دعاه للعود؟ إن عاد إلى متاعه ليس بمتعجلاً حقيقة، فالمفتي يقول له: قد خرجت، والعبرة بالخروج، وأنت إذا خرجت فأنت في حلّ المبيت، فإذا رجعت بعد ذلك لا يضر، وقد يكون خرج بجسده ولم يخرج متعجلاً حقيقة، ومن هنا لابد من رعاية الأوصاف الشرعية. الوصف الشرعي فيه أمران: أحدهما، فمن تعجل، ثانياً: أن يكون لمن اتقى، واللام للاختصاص، أي: هذا الحكم خاصٌ بمن اتقى، والشخص الذي تحرى فامتثل أمر الله سبحانه وتعالى وخرج آخذاً بسماحة الشرع، وآخذاً بيسره ورفقه، أو شخصٌ عنده مريض أو عنده ضعفة أو عنده أناس يحتاجون إليه، فهذا هو الأصل، وهذا هو الذي عليه العمل، فكونه يقول: (ثم عاد) على صورة مبهمة فلا يقتضي أن يجاب، بل لابد أن ينظر فيه ويفصل، والله تعالى أعلم.

حكم من تأخر في ذبح هدي التمتع إلى ما بعد أيام التشريق

حكم من تأخر في ذبح هدي التمتع إلى ما بعد أيام التشريق Q رجل تأخر في ذبح هدي التمتع إلى ما بعد أيام التشريق بيومين فما الذي عليه؟ A قال بعض العلماء: إن الهدي يتقيد كتقيد الأضحية، ولذلك يكون فواته بفوات زمانه، فيرون أن الهدي مقيد بالزمان، ومنهم من يعتد ببلوغه للبيت سواءً كان في أيام التشريق أو قبل خروجه من شهر ذي الحجة فإنه يجزيه، وهذا القول يختاره بعض مشايخنا رحمةُ الله عليه ويميل إليه؛ أنه لو ذبح قبل خروج شهر ذي الحجة فلا بأس بذلك.

سبب إلزام النبي صلى الله عليه وسلم كعبا بالفدية وهو مضطر

سبب إلزام النبي صلى الله عليه وسلم كعباً بالفدية وهو مضطر Q أشكل عليّ لماذا ألزم النبي صلى الله عليه وسلم كعباً بالفدية وهو مضطر، ولم يلزم المضطر إلى استخدام السراويل والخفين رغم الحاجة والضرورة في الكل. أثابكم الله? A هذه هي العبادة، وهذا هو الدين، وهذا هو التسليم، وهذا هو الشرع، أن يجمع بين المفترق وأن يفرق بين المجتمع، حينما يأتي الشرع ويأتي بأشياء تجدها نظائر فإذا أحكامها مختلفة، وتجد أشياء متضادة وأحكامها متفقة، هنا تأتي العبادة ويأتي التسليم والرضا. أما بالنسبة للمسألة، فالله تعالى يقول: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]، هنا أوجب الله سبحانه وتعالى على الذي به ضرر كما أثر عن كعب بن عجرة رضي الله عنه كما في الصحيحين أنه حُمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما كنت أُرى أن يبلغ بك الجهد ما أرى)، يعني: ما كنت أظن القمل والضرر المترتب عليه أن يصل بك إلى هذه الحالة، من يتأمل حالنا اليوم يعلم ما نحن فيه من النعمة والرخاء، فقد كان الرجل يجلس عامه لا يحلق شعر رأسه، وكان الرجل إذا كان عنده شعر كبير لا يفتأ كلما جاء في ليلة ينام يتسلط عليه القمل ويتسلط عليه هوام الأرض، حتى إن الرجل يحمل شعر رأسه فيحمل هم إزالة هذا الشعف الذي فيه والقمل الذي بينه من شدة العناء والتعب، ينامون تحت الأشجار، بل ينامون في بيوتهم، لا يهدءون من البعوض والذباب، ولا من الحيات والعقارب، فمن يشكر نعمة الله التي نحن فيها اليوم، ومن يشكر منة الله عز وجل؟! كان الرجل يضع رأسه لكي ينام في الظهيرة فلا يستطيع أن ينام من أذية الذباب، وإذا انصرف عنه الذباب سلط الله عليه النمل، وإذا سلم من هوام الأرض وطائر السماء جاءه من الغبار والأتربة ما الله به عليم، من الذي يتفكر ويتدبر في نعمة الله عز وجل؟ الناس اليوم في نعمة ورغد من العيش لا يعلمه إلا الله عز وجل، فالرجل ينتقل من قاع الأرض إلى سبعين متراً إلى مائة متر في عنان السماء في ظرف دقيقة أو دقيقتين بالمصعد، وكانوا سابقاً لا يبلغون ذلك إلا بشق الأنفس، لا يصعد إلى الدور العشرين والثلاثين والأربعين والخمسين إلا وروحه في حلقه، واليوم يصعدون في دقائق، بل حتى في بعض الأحيان في ثوان، من الذي سخر هذا؟ هو الله، ولكن هل هناك شاكر، هل هناك ذاكر؟! السؤال يقول: لماذا أوجب النبي صلى الله عليه وسلم على كعب الفدية وهو مضطر، ولم يلزم المضطر إلى استخدام السراويل؟ الفرق بينهما واضح، ولو تأملت رحمك الله لوجدت أن هناك فرقاً شاسعاً؛ لأن حلق الرأس إزالة لجزء من البدن ولبس السراويل ليس فيه إزالة، هنا أتلف جزءاً من البدن بحلقه وهو الشعر، ولذلك الناسي لو نسي وحلق شعره يجب عليه الضمان ولو كان ناسيا، ولو نسي وغطى رأسه ثم أزال الغطاء لم يجب عليه شيء؛ لأنه ما حصل إتلاف، ولو نسي وقلم أظفاره لوجب عليه الضمان، ولو نسي وتطيب ثم أزال الطيب لم يجب عليه الضمان، والفرق واضح بين الاثنين، يعني الأول ليس فيه ضمان، والثاني فيه الضمان الأول فيه إزالة وإتلاف، والثاني لا إزالة فيه ولا إتلاف، فهذا عين الحكمة وعين التقدير، والله تعالى أعلم.

حكم المرأة إذا حاضت قبل طواف الإفاضة ولا تستطيع البقاء

حكم المرأة إذا حاضت قبل طواف الإفاضة ولا تستطيع البقاء Q امرأة حاضت قبل طواف الإفاضة وهي لا تستطيع البقاء حتى الطهر، فهل يجوز لها الطواف وهي على هذه الحال؛ لأنه قد يترتب على تأخرها ضرر، أثابكم الله? A الذي أعرف في دين الله وشرع الله: أن المرأة لا تطوف وهي حائض، وفي هذا أحاديث واضحة صحيحة صريحة مما اتفق عليها الشيخان، هذا رسول الأمة صلى الله عليه وسلم يقول: (عقرى حلقى! أحابستنا هي؟)، يقول العلماء في شرح الحديث: يقول النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المرأة: (أحابستنا) ما قال: أحابستني، قالوا: لأنه لو لم تطف طواف الإفاضة لتأخر النبي صلى الله عليه وسلم من أجلها، وهذا يثبت أنه سيتأخر، وإذا تأخر تأخر المسلمون معه، فقال: (أحابستنا هي؟ ثم قال: ألم تكن طافت يوم النحر؟ قالوا: نعم. قال: فلا إذاً)، معناه: أنه لو لم تكن طافت يوم النحر للزمنا أن نبقى حتى تطهر، فأيهما أهون أن تتأخر امرأة من أجل حجز في طائرة، أو مائة ألف من الصحابة يحبسون؟ هذا دين وشرع، وهذا ركن من أركان العبادة، فليس هناك طواف أجمع العلماء على ركنيته في الحج إلا طواف الإفاضة: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، وما هذا إلا لعظم أمره وعظم شأنه. لو أن هذه المرأة حصل عندها خطأ بسيط في اسمها وجوازها لتأخرت وقعدت ولو قعد معها مليون شخص، وهذا في حكم البشر فكيف بحكم رب الجنة والناس؟ هذا دين وشرع، فإذاً لابد أن تبقى حتى تطهر، ولا تدخل بيت الله؛ لأن الله منع منه الحائض، قال صلى الله عليه وسلم: (اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت). ثانياً: عائشة رضي الله عنها وأرضاها جاءت بعمرة نسك قصدت به البيت، والله يقول: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، وجاءها الحيض بسرف -كما في الرواية الصحيحة- قبل الحج، فهي لا تستطيع أن تؤدي عمرتها قبل الحج، فانقلب نسكها من نسك إلى نسك كله من أجل أن لا تدخل البيت؛ تعظيماً لهذا البيت. فلو قالوا: تلبس حفاظة وتذهب تطوف، فنقول: أعطونا دليلاً من كتاب الله ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم! لسنا نحن الذين نرخص ما دام أن الشرع شدد في هذا، وهذا ليس بتشديد، كل من أفتى بفتوى له دليل من أدلة كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ليس هو المشدد، ومن وصفه بالتشديد فقد جار وظلم؛ لأنه من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وليأتين على الناس زمان تصبح الواجبات أشبه بالسنن، وليأتين على الناس زمان لا يعرفون واجباً ولا يعرفون سنة! فهذا من غربة الشرع والدين. تجد أنك إذا جئت قلت لها: تتأخر، قالوا: هذا والله تشدد، وهذا والله التضييق على الناس، وهذا خلاف شرع الله، الدين يسر ورحمة، جاء بها من آلاف الكيلومترات من أجل أن تحج، هذا يسر: (عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة) نحن نيسر إذا يسر الله سبحانه وتعالى، أما ديننا وأركان شريعتنا وواجباتها وفرائضها فنبقيها كما أبقاها النص، لا نتقدم ولا نتأخر، سواء أرضي الناس أو كرهوا، المهم عندنا حكم الشرع، قال: (أحابستنا هي -ثم يدعو ويقول:- عقرى عقرها الله، وحلقى حلقها الله)، بمعنى: أن تأتيها مصيبة، ولم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم هذا؛ لأنه إذا دعا، قال: (أيما مسلم دعوت عليه أو سببته فاجعلها له رحمة)، فهذا من مناقب أم المؤمنين أنها عادت عليها رحمة، لكن انظر كيف النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه الكلمة تعظيماً للأمر، مع أن العذر ليس بيدها. فالمقصود نقول: تتأخر، فإذا كان لا يمكنها التأخر لها أن تسافر، ولكن لا يقربها زوجها وترجع وتؤدي فرض الله كما أوجب الله عليها، فتطوف بالبيت معظمة لشعائر الله عز وجل وهي طاهرة، أما أن نقول: تلبس حفاظة تتلجم من عنده دليل فليأتنا به، أما أن نوسع للناس أمراً ضيقه الله، أو نضيق على الناس أمراً وسعه الله فلا، الذي عندنا من النص أنه لا يجوز لها أن تطوف ببيت الله ولا أن تدخل بيت الله وهي حائض، هذا نص واضح، فينبغي أن نلتزم به. فالذي ظهر لي: أنه يجب عليها أن تبقى حتى تطوف طواف الإفاضة، إما إن كان هناك عليها ضرر وتريد أن تسافر فلتسافر، وأجمع العلماء على أنه لو صدر الحاج قبل أن يطوف طواف الإفاضة أنه عليه الرجوع من أجل أن يطوف طواف الإفاضة ويلزمه ما يلزم من التحلل الأصغر، ولم يتم التحلل، فتمتنع من الموانع التي منها: الجماع، والمباشرة، وعقد النكاح، ومقدمات الوطء ودواعيه، واختلف في قتل الصيد: هل يبقى محظوراً على الطواف أو لا؟ على وجهين مشهورين للعلماء رحمهم الله، والله تعالى أعلم.

الواجب على الصبي إذا تمتع في النسك

الواجب على الصبي إذا تمتع في النسك Q لو تمتع الصبي فهل يلزمه الدم أم لا؟ وإذا لم يستطع الدم فهل يصوم، أثابكم الله؟ A إذا تمتع الصبي لزمه الدم، والأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزله منزلة البالغ من حيث صحة الحج، وهذا مذهب جمهور العلماء من حيث الأصل، أن الصبي يعامل معاملة الكبير على تفصيل في كونه: هل أحرم هو أو أحرم وليه، فالشاهد من هذا: أنه إذا كان وليه هو الذي لبى عنه مثل أن يكون صغيراً لا يعرف التلبية فتكون حينئذٍ في مال الولي وليس في مال الصبي، ولكن إذا لبى الصبي نفسه وتمتع بعمرته إلى الحج فإن الضمان يكون في ماله، والله تعالى أعلم.

حكم من ترك المبيت بمنى أيام التشريق

حكم من ترك المبيت بمنى أيام التشريق Q هل يكفي دم واحد لمن ترك المبيت بمنى أيام التشريق كلها، أثابكم الله؟ بالنسبة للمبيت في منى فيه وجهان: بعض العلماء يرى أن لكل ليلة نسكاً تاماً، وهذا هو الذي يظهر والأصول تقويه، ومنهم من يرى أن مبيت الليالي كلها نسكٌ واحد، وعليه دار الخلاف: هل عليه دم أو ثلاثة دماء؟ والصحيح: أن المبيت كل ليلة يعتبر نسكاً تاماً مستقلاً يجب ضمانه بحقه، والله تعالى أعلم.

مكان إحرام المكي لنسك القران

مكان إحرام المكي لنسك القران Q لو أراد المكي نسك القران فمن أين يحرم للعمرة، أثابكم الله؟ A الصحيح أنه يصح القران من أهل مكة، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، واستدلوا بظاهر قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة:196]، فجعل التمتع عاماً شاملاً للمكي وغير المكي، والتمتع؛ تمتع القران والتمتع المعروف بالعمرة، فلما عبرت الآية على سبيل العموم فقال الله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ} [البقرة:196]، دل على أن أهل مكة يتمتعون تمتع القران وتمتع العمرة المعروف، وبناءً على ذلك: فإنه في هذه الحالة إذا أحرم أهل مكة بالعمرة مع الحج، فإن مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله، أنهم يخرجون إلى أدنى الحل تغليباً للأصل في العمرة؛ لأنه إذا وجد ما يوجب الخروج وما لا يوجبه وهما مجتمعان قُدّم الذي يوجب؛ لأنه شغلٌ للذمة يوجب الخروج عن الأصل، فيقدم، ومن هنا قالوا: إنه يخرج إلى أدنى الحل ويحرم بمكان العمرة، ومنهم من يقول: إنه مغتفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحج والعمرة بمثابة النسك الواحد، فيكون مخففاً عليه في ذلك، والأول هو الأحوط، والله تعالى أعلم.

حكم من رجع إلى بلده ولم يطف طواف الإفاضة ومات قبل أن يطوف

حكم من رجع إلى بلده ولم يطف طواف الإفاضة ومات قبل أن يطوف Q رجلٌ سافر إلى بلده وبقي عليه طواف الإفاضة ثم لم يتمكن من الرجوع حتى توفاه الله، فهل يحج عنه، أثابكم الله؟ A إذا توفي الشخص قبل أن يتم حجه فأصح قولي العلماء أنه لا يتم الحج عنه، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة الرجل الذي وقصته دابته؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة فوقف معه هذا الرجل، فجنحت دابته فأسقطته فاندقت عنقه، فمات رضي الله عنه وأرضاه، فقال صلى الله عليه وسلم: (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه بطيب)، قالوا: ولم يأمر بإتمام الحج عنه، مع أنه حاج وقف بعرفة وبقيت عليه بقية الأركان، ومع ذلك لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم قرابته بالحج عنه، وهذا وقت الحاجة ووقت البيان، قالوا: فلما سكت عليه الصلاة والسلام عن ذلك دلّ على الإجزاء، وهذا أصل؛ لأنه أدى ما عليه، وجاء إلى الحج وبذل ما يستطيع والله لا يكلفه فوق طاقته، وورثته ليسوا ملزمين؛ لأن ذمته لم تشغل، ولما تعذر عليه الإتمام تعذر بعارض من الله سبحانه وتعالى، وحينئذٍ لا يلزم بالإتمام ولا يلزم ورثته أيضاً بالإتمام على أصح قولي العلماء، والله تعالى أعلم.

أسباب استجابة الدعاء

أسباب استجابة الدعاء Q ألححت في الدعاء يوم عرفة أن يرزقني الله علماً نافعاً وعملاً صالحاً، فما هي الأمور التي ينبغي أن أتعاطاها حتى أصيب هذا الفضل، أثابكم الله؟ A في هذا السؤال جوانب: الجانب الأول: من ألح على الله في الدعاء فحريٌ به ألا يقنط وألا ييئس، بل عليه أن يتخذ من كثرة الإلحاح ما يدعوه إلى الزيادة؛ لأن الله يحب من عبده الإلحاح وكثرة الدعاء، فهو الكريم الذي لا تنفد خزائنه، ويده سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة سبحانه وتعالى، فالله يحب من عبده كثرة الإلحاح، ثم إن كثرة الإلحاح توحيدٌ لله عز وجل؛ لأنه إذا دعا المرة الأولى والمرة الثانية والمرة الثالثة، ثم ما زال يدعو، وما زال مؤمناً موقناً أن الله يسمع دعاءه، وأن الله أحكم وأعلم، وأن الله أعلم بحاله، فقد يكون من الحكمة من الله سبحانه وتعالى، فإنه يعلم أنه لو أعطاه العلم الآن فتن في دينه، فيؤخر عنه تلك العطية، فلذلك يرضى عن الله سبحانه وتعالى، وسعادة الدنيا وسرورها وبهجتها في الرضا عن الله سبحانه وتعالى، أي شيء تسأله الله عز وجل فيؤخره عنك، فارض عن ربك فهو أرحم بك من نفسك التي بين جنبيك، وأرحم بك من والديك، وأرحم بك من الناس جميعاً، فهو الحليم الرحيم، إذاً لا يقنط الإنسان ولا يسئ الظن بالله مهما ألح. ثانياً: عليه أن ينظر إلى حاله بما يدعوه بحسن الظن بالله عز وجل، فمثلاً: المبتلى يبتلى بمرض أو يبتلى في دينه فيجد أنه لا زال على نفس المعصية أو لا زال على نفس البلاء في جسده، والله لو لم يدع لكان حاله أسوأ، ولكن الله عز وجل يلطف به بهذا الدعاء. ثالثاً: أنه ما من عبدٍ يدعو الله عز وجل مخلصاً موقناً إلا أعطاه الله سؤله، أو صرف عنه من البلاء مثل ما دعاه، أو ادخرها له يوم القيامة. فإذاً: قد يدعو الإنسان فيؤخر الله عز وجل عنه الإجابة، فلا يزال يكسب خيراً كثيراً، وما يدريك ما الذي سيعود على الإنسان الملح إن أكثر في سؤال الله عز وجل والله يؤخر عنه الإجابة، فكم من درجات تنتظره يوم القيامة لا يبلغها بكثرة صلاة ولا صيام، ادخرها الله له يوم القيامة، فإذاً يدعو الإنسان، قالوا: (نكثر يا رسول الله! قال: الله أكثر)، يعني أكثر كرماً وأكثر جوداً، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، فأكثر من الإلحاح واستمر في دعاء الله عز وجل، لكن إذا سألت الله فكن في سؤالك على بصيرة، من سأل الله العلم فليسأله العمل، ومن سأله العلم والعمل فليسأله الإخلاص، ومن سأله العلم والعمل والإخلاص، فليسأله القبول، وإذا رزق الله العبد العلم والعمل والإخلاص والقبول؛ احتاج إلى الثبات وحسن الخاتمة، فيسأل الله أن يثبت ذلك في صدره، وأن يثبته على الحق حتى يلقاه سبحانه وتعالى راضياً عنه، ثم بعد ذلك يسأله من خير المسائل مما يعين على هذه المنزلة الشريفة الكريمة؛ وهي حسن الخلق، فيسأل الله هذه المسائل الجامعة للخير؛ علمٌ وعمل وإخلاصٌ وقبول، وثباتٌ على الحق، في بر وحسن خلق، ومن رزقه ذلك فبخٍ بخ، أي تجارة رابحة وأي منزلة رابحة فاز بها من الله جل جلاله، أن يسأل الله هذه المسائل العظيمة وأن يكون على بصيرة. كيف يسأل الله عز وجل، ذكروا عن الإمام أبي بكر بن العربي الفقيه المشهور المالكي في مسألة: (زمزم لما شرب له) يقول: إني شربته فسألت الله العلم فرزقنيه، فندمت أني لم أسأله مع العلم العمل، فانظر إلى فقه الدعاء؛ وهو أنه كان ينبغي أن يسأل مع العلم العمل. وعالمٌ بعلمه لم يعملن معذبٌ من قبل عباد الوثن وتسأل الله البركة؛ لأنه في بعض الأحيان قد يكون الإنسان من أعلم الناس في زمانه، لكنه ممحوق البركة من علمه، وقد ترى الرجل حافظاً للسورة والسورتين من كتاب الله عز وجل، وضع الله له فيهما البركة بما لم يخطر لك على بال، فهو يردد هذه السورة على لسانه، فينال ملايين الحسنات، ثم إذا جلس لا يرى شخصاً لا يحفظها إلا حفظه إياها، فكم له من الأجور والحسنات والخيرات والبركات، وكم له من قوله عليه الصلاة والسلام: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) >فالمقصود: أن الإنسان يبحث عن الأمور المهمة في الدعاء، نسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وأن يجعل ما وهبنا من العلوم نافعاً شافعاً: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]، والله تعالى أعلم.

حكم تأخير طواف الإفاضة إلى ما بعد النصف من شهر ذي الحجة

حكم تأخير طواف الإفاضة إلى ما بعد النصف من شهر ذي الحجة Q من أخر طواف الإفاضة إلى ما بعد النصف من شهر ذي الحجة أو آخره؛ وذلك بسبب الزحام، فما الحكم أثابكم الله؟ A ما شاء الله تبارك الله! الزحام مستمر إلى آخر ذي الحجة! إذا كان الذي ليس عليه حج يزاحم، فمن باب أولى الذي عليه باقي حج أنه يذهب يزاحم. على كل حال: ليس كل ما قاله الناس في أسئلتهم يكون صحيحاً، المطاف يخلو خاصة في الليل، ويخلو في أوقات مثل ساعات الظهيرة، والأصل يقتضي أن من أخر طواف الإفاضة إلى ما بعد أيام التشريق فيه وجهان: بعض العلماء يقول: العبرة بأيام التشريق، ومن أخر لغير عذر فعليه دم، وبعضهم يرى أن الدم لا يجب إلا بخروج ذي الحجة، وهذا هو الذي أميل إليه، أن الدم لا يجب على من أخر طواف الإفاضة إلا إذا خرج عليه شهر ذي الحجة، وهذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله. وينسب للجمهور أنهم يرون أنه إذا خرج عن ذي الحجة، وهذا هو الذي عُني بقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]، قالوا: تمام الأشهر في ذكر الآية مراعاة للانتهاء، فنهاية الحج بنهاية طواف الإفاضة، وآخر أمده بغروب شمس آخر يوم من شهر ذي الحجة، والله تعالى أعلم.

أحكام صيام العاشر من محرم

أحكام صيام العاشر من محرم Q أيهما أفضل: صيام يوم قبل العاشر من محرم أم بعده مع صيام العاشر؟ وهل يكره إفراد العاشر بالصيام ولو وافق يوم الجمعة أو السبت، أثابكم الله؟ A أما بالنسبة للمسألة الأولى: الأفضل أن يصوم التاسع والعاشر، وهذا هو السنة، ومن أهل العلم من قال: الأفضل أن يصوم يوماً قبله ويوماً بعده، ولكن شهر محرم الأفضل صيامه والإكثار من صيامه، لما سُئِل عليه الصلاة والسلام: (ما أفضل الصيام بعد شهر رمضان؟ قال: شهر الله المحرم)، يعني كل شهر محرم مرغب فيه الإكثار من صيامه، لكن في هذا اليوم يوم عاشوراء سنة المخالفة أن يصوم التاسع والعاشر، وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع) والتاسع محمول على الحقيقة، والعاشر محمول على الحقيقة، وأما بأن العاشر المراد به: تاسوعاء فهذا فيه ما فيه، وتكلم العلماء على هذا، لكن الأصل أن الأفضل أن يصوم التاسع والعاشر. فلو قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع)، ولم يقل: والعاشر، نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم سكت عن الأصل مستصحباً له؛ لأنه هو قالها: (نحن أولى بموسى منكم)، يعني في شكر نعمة الله بنجاة موسى صوم هذا اليوم، فإذاً: الشعيرة باقية؛ لأن سببها بخصوص اليوم، وهو شكر الله عز وجل على نجاة هذا النبي، حمداً لله عز وجل بنصرة أهل التوحيد على أهل الشرك، وأهل الإيمان على أهل الوثنية، وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن أولى بموسى منكم)، لأنه على التوحيد والإخلاص، وأنتم غيرتم وبدلتم، فإذاً: الموجب للصوم باق لا يتغير، فلما كان ثابتاً سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا معمول على القاعدة: الأصل بقاء ما كان على ما كان، ثانياً: نقول: من منع من صيام يوم عاشوراء خالف الأصل؛ لأن الأصل إذا ثبت الصوم بدليل شرعي يدل على الفضيلة، لا ينقل عنه إلا بدليل مثله، والدليل المثبت صريح، والدليل النافي الذي يدعونه محتمل؛ لأنه لما قال: (لأصومن التاسع)، سكت عن العاشر، هل يصومه أو لا يصومه، وليس إثبات أحد النقيضين بأولى من الآخر كمسلك جدلي، فلا يستقيم لهم الاستدلال بقوله:: (لأصومن التاسع)، وهذا ما أحببنا أن ننبه عليه حول من يقول: إنه يصوم التاسع فقط، وهذا شذوذ، يعني: مذهب من أضعف المذاهب، ومخالف للأصل الذي ذكرناه، ويفوّت مقصود الشرع بتعظيم نعمة الله عز وجل بهذا، فصوم يوم التاسع والعاشر هو الأفضل في صوم عاشوراء على ما ذكرناه. أما الجانب الآخر من السؤال والذي يقول: هل يكره إفراد العاشر بالصيام ولو وافق يوم الجمعة أو السبت؟ الجواب: إفراد العاشر بالصوم هو خلاف السنة، والسنة أن يخالف اليهود، فيصوم يوماً قبله أو يوماً بعده، وأما بالنسبة لإفراد عاشوراء، إذا وافق السبت وصام السبت، فإن النهي عن صوم يوم السبت حديثه متكلم في إسناده، وإثبات هذا الحديث مبني على القول بتحسينه مع أن فيه ما فيه، إذا قيل بتحسين هذا الحديث، فإن الحديث الحسن لا يعارض الحديث الصحيح، ولذلك: وهو في الحجة كالصحيح ودونه إن صير للترجيح ثانياً: الذي عليه العمل عند أهل العلم رحمهم الله: أن المنع من صوم يوم السبت المراد به من قصد يوم السبت تعظيماً للسبت، وهذا أصل في جميع ما ورد، مثل يوم عرفة لو وافق يوم سبت ونحو ذلك من الأيام المفردة، فإنه يشرع صيامها، ولا بأس في ذلك، ولا حرج أن يصومه؛ لأنه يصومه لسبب شرعي، ولذلك منع النبي صلى الله عليه وسلم من تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، ثم قال: (إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه)، فهذه هي السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لما كان معتاداً لصيام ذلك اليوم والشريعة منعت من صوم يوم قبل رمضان حتى لا يزيد في العدد فيغلو في العبادة أذن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه فات المعنى الشرعي. فالمعنى الشرعي في إفراد يوم السبت، هو تعظيمه؛ لأنه شعار اليهود، وقد أمرنا بمخالفة أهل الكتاب، ومن هنا لا بأس ولا حرج إذا وافق يوماً، لأن الشرع ندب إلى صيامه، والله تعالى أعلم.

أمور تعين على استجابة الدعاء

أمور تعين على استجابة الدعاء Q ألححت في الدعاء يوم عرفة أن يرزقني الله علماً نافعاً وعملاً صالحاً، فما هي الأمور التي ينبغي أن أتعاطاها حتى أصيب هذا الفضل، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فلا شك أن من توفيق الله عز وجل لك: أن ألهمك أن تدعو الله عز وجل بهذا الأمر، وإذا وقف الإنسان في يوم عرفة أو وقف في ساعات يرجى فيها إجابة الدعاء فاختار أفضل المسائل وأحبها وأكرمها وأعظمها ثواباً وخيراً للعبد في الدنيا والآخرة، فليعلم أن هذا من توفيق الله عز وجل له، فالدعاء إذا وفق العبد فيه نال خير الدنيا والآخرة. الأمر الثاني: في قولك (علماً نافعاً وعملاً صالحاً) أعظم الأسباب التي تعين على بلوغ العلم النافع: الإخلاص لوجه الله عز وجل، وهو أساس النفع في كل عمل صالح، فلا يمكن أن يكون العمل نافعاً إلا إذا أراد طالب العلم به وجه الله سبحانه وتعالى، فينطلق في طلبه للعلم، والجنة والنار بين عينيه، وكل يوم يجدد إخلاصه، بل كل ساعة بل كل لحظة إذا أمكنه ذلك، كلما جلس في مجلس علم ينظر ماذا في قلبه، وكان السلف إذا سُئلوا عن حديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أثر عن سفيان رحمه الله يمتنع من الحديث ويتأخر قليلاً فيقولون: ما بك؟ يقول: حتى أنظر ما في قلبي، يعني: هل أريد أن أحدث لله أو أريد أن أحدث لغير الله عز وجل، وكان يقول قولته المشهورة: ما رأيت مثل نيتي، إنها تتقلب عليّ، يعني أشد ما جاهدت النية لإرادة وجه الله عز وجل، يمشي الإنسان إلى مجلس من مجالس العلم وهو يريد وجه الله، ولا يريد قضاء الأوقات، ولا إضاعة الوقت، ولا من أجل التفكه في المجلس أو التندر فيه، وإنما يريد وجه الله سبحانه وتعالى، يستشعر هذا الإخلاص حينما يشعر بالمسئولية، فوالله ثم والله ما جلست في مجلس علم ولا سمعت علماً ولا نظرت عيناك إلى علم إلا حوسبت بين يدي الله عليها. ما من مجلس تجلسه فتسمع قال الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو هذا حلالٌ أو هذا حرام؛ شيءٌ من دينك وشرعك إلا سُئِلت أمام الله عز وجل عن هذا العلم الذي بلغك، إن هذه الكلمات وهذه الأحكام وهذه المسائل حجج يلقيها العلماء من على أكتافهم ويلقونها على ورثة العلماء وهم طلاب العلم، وهذا يحتم عليك كطالب علم أن تعرف ماذا يراد بك، وماذا ينتظر منك، كم من عالم تمضي عليه عشرات السنين، وقل أن يجد طالب علم يملأ عينيه، كم من عالم يضحي ويتعب ويكدح، فقل أن يجد طالب علم جمع فأوعى، وهذا بسبب عدم الاستشعار، يصحب أناس أهل العلم وكأن الأمر نوع من التفكه والتندر، ويقفون لمسائلهم والأسئلة التي تنهال عليهم وتكرر الأسئلة عشرات المرات، ثم يفاجأ ذلك العالم والشيخ وإذا بنفس الطالب يأتي بنفس الأسئلة، وقد كان أهل العلم يضبطون العلم من أول مسألة، فإذا سمع المرة لم تعد عليه، يحفظ كلام الشيخ حتى إن طالب كان يحفظ الفتوى من العالم ثم يمكث العلم يجلس الأربع سنوات والخمس سنوات وإذا به يجدها عند العالم كما هي فيطمئن على أن قلبه لا يزال بخير حيث حفظ ووجد العلم كما هو لم يتغير. أما أن يأتي هكذا تفكها وتندراً، والله ما اقترب أحد من أهل العلم إلا حوسب بين يدي الله عز وجل وسُئِل أمام الله عز وجل. إذاً: استشعار المسئولية بعد الإخلاص، هذا الاستشعار يلهب القلب، ويلهب الضمير والإحساس، حتى إنك تجد طالب العلم إذا جلس مع العالم لا يفرط في ثانية أو دقيقة فضلاً عن ساعة، ولذلك تجد العلماء يجلسون مع الناس ويحضرون، فقل أن تجد سائلاً يسأل، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وإذا سُئِل العالم أسئلة مكررة وأسئلة فيها خلاف بين العلماء لِيرى هل هذا العالم أخذ ذات اليمين أو أخذ ذات الشمال، أو يميل إلى قول فلان أو علاّن؟ ما لهذا كان العلم، ولن يكون العلم من أجل هذا، العلم رفعة لهذه الأمة ومجد لها، ولن يكون مجداً ورفعة لهذه الأمة إلا إذا كان حملته أصحاب مبادئ، وأصحاب أسس صحيحة، أهل الدنيا يتنافسون في علومهم ويكدحون ويتعبون، وكل واحد يستشعر ما الذي يتعلمه، ودين الله عز وجل قلّ أن تجد من يرعى حرمته، فالشكوى إلى الله سبحانه وتعالى، لا يعني هذا أنه لا يوجد طلاب العلم، إنما نتكلم على الصفة الغالبة، فإذاً: الاستشعار أمر مهم جداً بعد الإخلاص. ثالثاً: يصحب هذا الاستشعار الثقة بالله عز وجل، والثقة بالله سبحانه وتعالى هي التي تفتح لطالب العلم آفاق العلم ورحابه الواسعة بمجرد أن يضع قدمه في أي منهج أو طريق أو سبيل يقوده إلى العلم، يضع قلبه في السماء وإن كان قالبه في الأرض؛ لأنه من أولياء الله سبحانه وتعالى وتولى الله سبحانه وتعالى، يريد أن يحمل شرعه ودينه ويكون أميناً على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو في منزلة شريفة كريمة. كيف تكون الثقة بالله عز وجل؟ يبدأ طالب العلم وكله أمل في أن الله سبحانه وتعالى ينفحه برحماته: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79]، {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ} [البقرة:31]، من الذي علم آدم؟ ومن الذي فهم داود وسليمان؟ الله سبحانه وتعالى، الثقة بالله عز وجل، الصدر المنشرح، القلب المطمئن، النفس القوية، قوية صادقة؛ لأنها توقن أن الله سبحانه وتعالى لا يخيب من سلك هذا السبيل، وتكفل الله بالجنة لأهله لما أعد لهم من النعيم، كيف تثق بالله؟ تثق بالله أنه سيعلمك، والله ثم والله لو تعلمون كيف كان أهل العلم ممن أدركنا وعرفنا، ومما رأينا من ألطاف الله في أنفسنا يحار عقل الإنسان، العالم حينما تنظر كيف يجمع هذا العلم، وكيف يفهم هذا العلم، وكيف يرتب مسائل العلم تثق ثقة تامة أنه لا حول له ولا قوة، وأن وراءه قوة إلهية، وحفظاً إلهياً فوق ما يخطر للإنسان على بال، والله إن الإنسان يكون متعباً منهكاً مريضاً لا يفتر أن يجلس في مجلس العلم، وكأن لسانه يقاد فيما يقول وفيما يتكلم؛ لأن هذا دين الله عز وجل، وإن لم يكن العلماء أولياء الله عز وجل فمن؟ فيا طالب العلم! إذا كنت تريد أن تسلك سبيل الله عز وجل فلابد أن يكون عندك ثقة أن الله يفهمك؛ ولذلك كل طالب علم يأتي الشيطان ويقول له: أنت لا تستطيع أن تحفظ، أنت إنسان كسول خمول، ابحث عن شيء آخر غير العلم، فيثبطه عن طاعة الله عز وجل ويجعل الأمر راجع إلى ملكته، وليس راجعاً إلى فتوح الله جل جلاله الفتاح العليم الرزاق الكريم سبحانه وتعالى، لكن حينما يقول: أنا الضعيف، أنا المسكين، أنا الجاهل، أنا المقصر، وربي هو الكريم، وهو الحليم الرحيم، وأملي في الله كبير، فتح الله له أبواب رحمته: (أنا عند حسن ظن عبدي بي)، إخلاص واستشعار وثقة بالله سبحانه وتعالى، كنا جاهلين فعلمنا الله، وكنا ضلالاً فهدانا الله، والله عز وجل يقول لنبيه: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7]، {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا} [الشورى:52]، يقولها لخير الخلق صلوات الله وسلامه عليه: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]، يا طالب العلم! حينما تطلب العلم وصدرك منشرح أن الله يكرمك ويعلمك، وأن الله يرحمك، وأن الأمة في حاجة إلى من يعلمها ويفهمها، فتطرح بين يدي الله عز وجل، وكان بعض العلماء يصغي بخده، ويقول: يا معلم آدم! علمني، ويا مفهم سليمان فهمني، فيكون فتوح من الله سبحانه وتعالى، ولعل العبد في ساعة من الساعات يحتقر نفسه فيسمو إلى درجات الكمال، فإذا كان هناك إخلاص واستشعار بالمسئولية وثقة أخذت بالأسباب؛ من ضبط العلم وإتقانه فلا تفوتك الكلمة فضلاً عن الجملة والعبارة، وتحسّ أنك ستسد ثغراً لأمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأن هؤلاء العلماء لا يبقون ولا يدومون، وأن سنة الله ماضية ومضت في خيرهم وخير خلق الله عز وجل وأحب رسل الله إلى الله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، فإذا علم الإنسان أنهم سيزولون وأنهم سيذهبون ويرتحلون، وأن الأماكن التي استنارت بعلومهم ستخلو يوماً من الأيام، وتخبو فيها شموسهم وتطفأ فيها أنوارهم، ولا يبقى إلا الله سبحانه وتعالى، ثم ما خلفوه من ثقات أهل العلم الذين صحبوهم، وينبغي ألا نكون مقصرين نائمين لا نستشعر أين نحن ولا نحس أين يجب أن نكون، بل على كل إنسان أن يستنهض الهمة في نفسه. كذلك أيضاً من الأمور التي تعين على ضبط هذا العلم وإتقانه: كثرة التكرار والترداد، طالب العلم الصادق في طلبه قد نزع الله من قلبه الدنيا وملأ قلبه بالآخرة، وثق ثقة تامة أنه لا طالب علم ولا عالم إلا بمبدأ، العلم ليس بالمظاهر وليس بالألقاب، وليس بكثرة الكتب ولا بكثرة الزينة والتعالي، وإنما هو مبادئ قيمة، وما سما العلماء إلا بمبادئهم وبصدقهم مع الله وقولهم للحق، وصدعهم بالحق، وتبليغهم لرسالة الله عز وجل، وتفانيهم في نصح أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وحرصهم على تعليم الجاهل وتنبيه الغافل ودلالة الحائر وإرشاد التائه، كل هذه المبادئ كانت من أسس صحيحة وهو استشعار المسئولية والتفاني فيها بالجد والاجتهاد، وإذا أراد طالب العلم أن يطلب العلم فعليه أن يتعب وأن ينصب، وأن يعلم أنه على قدر تعبه اليوم يبوأ غداً من الله سبحانه وتعالى، فمن كانت له بداية مليئة بالمصاعب والمتاعب ستكون له النهاية التي يبوئه الله فيها مبوأ صدق، العلم لا يأتي بالتشهي ولا بالتمني، ولا بالدعاوى العريضة، وهنا أنبه على مسألة مهمة جداً ينبغي على كل طالب علم أن يستشعرها، فإذا صحب العلماء أو صحب عالماً فوجد العالم يعطيه ألقاباً أكثر مما يستحق أو وجد العالم يزكيه وكأنه أخرجه من النار وأدخله الجنة، وكأنه أصبح مزكى فليعلم أن هذا هلاك للعبد، ولذلك على الإنسان أن يصحب العلماء محتقراً لنفسه مقبلاً على آخرته مجداً مجتهداً في تحصيله وضبطه وإتقانه، لا يفتر ولا ينصب في حفظ هذه الأمانة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والله كم من عيون للعلماء بكت، وكم من قلوب انكس

باب الشجاج وكسر العظام

شرح زاد المستقنع - باب الشجاج وكسر العظام إن من رحمة الله بعباده أن شرع لهم الحدود، حتى لا يتساهل الإنسان بدم أخيه، فلم يهمل حتى الشجة، وجعل منها ما قدر ديتها ومنها ما جعل فيها حكومة، أي: يحكم القاضي فيها وبقدرها بحيث لا تزيد على المقدر شرعاً، والشجاج يختص بما يكون في الرأس والوجه، بينما الكسر يختص بما يكون في العظام.

بيان الديات المتعلقة بالشجاج المقدرة وغير المقدرة

بيان الديات المتعلقة بالشجاج المقدرة وغير المقدرة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الشجاج وكسر العظام] هذا الباب يختص بالديات المتعلقة بالشجاج فيما ورد التقدير فيه من الشرع، وكذلك أيضاً بيان حكم كسر العظام، وما يجب فيه من الحكومة والتقديرات الواردة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم أجمعين. قوله: (الشجاج) جمع شجة، تقول العرب: شج المفازة إذا قطعها، وأصل الشج في لغة العرب: القطع، والشجاج لا يكون إلا في الرأس والوجه، ومن هنا تختص بالجناية على الرأس والوجه، وتشمل الشجة ما كان في مقدم الرأس عند الناصية، وما كان في وسط الرأس عند الهامة، وما كان في القذال وهو آخر الرأس، وكذلك أيضاً تشمل الشجة ما كان في أعراض الرأس، مثل أن تكون في العظم الذي يلي الأذن، سواءً من الأذن اليمنى أو اليسرى، فكل هذا تقع الجناية عليه وتسمى: بالشجة، فتارة تكون جرحاً للجلدة، وتارة تنفذ من الجلدة إلى اللحم، وتارة تنفذ من اللحم إلى العظم، وتارة تكسر العظم وتهشمه، وتارة تكسره وتهشمه وتنقله، وتارة تصل إلى خريطة الدماغ، كما إذا كانت الضربة في جهة الدماغ، هذا بالنسبة للشجاج في الرأس. كذلك في الوجه، والوجه يشمل اللحيين، والخدين، والوجنتين، وكذلك أيضاً الجبهة، واستظهر طائفة من العلماء الأنف بطرفيه، فكل هذه المواضع الجناية عليها تكون على الترتيب الذي سنذكره إن شاء الله تعالى، وفيه المقدرات الواردة في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في سنة الخلفاء الراشدين المأمور باتباع سنتهم وهديهم رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين. وأما العظام فجمع عظم، ومراده هنا كسر العظام، أي: الجناية على العظم بكسره، فتارة تكون الجناية بهشم العظم وتارة تستفحل فتهشم العظم وتكسره، ثم ينتقل العظم بحيث ينفصل بعضه عن بعض، والعظم تارة يكون في الصدر، وتارة يكون في الذراع، وتارة يكون في الفخذ، وتارة يكون في الساق، إلى غير ذلك من المواضع التي تكون فيها العظام. قوله: (باب الشجاج وكسر العظام) أي: في هذا الموضوع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالجناية، والاعتداء بالشجاج وكسر العظام، ثم هذه الجناية تكون عمداً وتكون خطأً، ومن أمثلتها في العمد: هي أن تحصل الخصومة بين الرجل والرجل، فيأتي والعياذ بالله! فيضربه على رأسه فيشج رأسه شجة تدميه، يعني: تسيل الدم، أو شجة حارصة أو قاشرة تقشر الجلد ولا يسيل معها الدم، وتارة تكون شجة تكشف اللحم وتصيبه، وتارة تكشفه وتصيبه وتغوص فيه، وتارة تكون الشجة بالوصول إلى العظم دون قشرته حتى تحول القشرة دونه وهي السمحاق، كل هذا يقع بالعمد. ويقع بالخطأ مثل حوادث السيارات، فلو أنه كان يقود سيارة فانقلبت به وبمن معه، فأصابت من معه شجة قشرت جلدة رأسه، أو أدمته، يعني: سال الدم منها، أو كسرت عظامه، فهذا من الخطأ، أو طبيب يعالج، فأخطأ في علاجه فترتب على الخطأ ضرر في العضو، وحصل منه جناية من هذه الجنايات، كذلك يعتبر من الخطأ أن يقوم رجل يحمل متاعاً ثم أسقط المتاع على غيره فشجه، وقس على هذا من الصور في الأخطاء التي تقع بين الناس، وكل هذا له أحكام خاصة في العمد اختلف العلماء في بعضها، يقولون: في بعضها القصاص، وبعضها لا يتأتى فيه القصاص؛ لأننا لا نستطيع أن نفعل بالجاني مثلما فعل بالمجني عليه بالمماثلة، فمثلاً لو كانت الهاشمة: تهشم العظام، وتكسر العظام، فلا نستطيع بحال أن نضرب الجاني إذا كان متعمداً ضربة مثل ضربته بحيث تكسر نفس العظام وتصل إلى ما وصلت إليه الضربة الأولى في الجناية، ومن هنا يسقط القصاص وينتقل إلى الأرش إلى الحكومة إلى الدية، على حسب نوع الجناية، فهذه الأشياء التي سيذكرها المصنف في الشجاج تشمل عشرة أنواع، منها: الخمس التي لا تقدير فيها. ومنها: الخمس المقدرة، فهي عشرة أنواع من الجنايات في الشجاج وما يتبعها، وهي الجائفة التي تكمل العدد العاشر، وفي بقية البدن لا تكون هذه الأشياء الخمسة التي لا تقدير فيها، كما سنبينه إن شاء الله في موضعه.

حقيقة الشجة وما تختص به وعددها وحكمها

حقيقة الشجة وما تختص به وعددها وحكمها قال رحمه الله: [الشجة الجرح في الرأس والوجه خاصة] قوله: (الشجة الجرح في الرأس والوجه خاصة) وهذا عليه جماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله، وأصله قضاء الصحابة رضوان الله عليهم، أنهم خصوا الشجة بالوجه والرأس، وله أصل في اللغة، ومن هنا قالوا: إن الجناية بالشجاج تختص بالضربات في الرأس والضربات في الوجه، على ما سبق بيانه، يستوي في هذا أن تكون في مقدم الرأس أو في وسطه أو في آخره، أو في جوانبه، لكن اختلف في آخر الرأس، فآخر الرأس مما يلي الرقبة وهو العظم المتدلي هل يعتبر من الرأس أو يعتبر من الرقبة؟ فالرقبة لا يعتبر فيها شجاج سواء من جهة ما أقبل أو ما أدبر، فالجناية عليها لا تأخذ حكم الجناية على الرأس والوجه، وبالنسبة للوجه يشمل ما ظهر وحصلت به المواجهة، وما كان تحت الحنك، أو تحت اللحيين، أو تحت الذقن مما لا مواجهة فيه فإنه آخذٌ حكم الوجه، ما لم يصل إلى الرقبة، فإن وصل إلى الرقبة ففيه الحكومة على ما سنبينه إن شاء الله تعالى. قال: [وهي عشر]: قوله: (وهي عشر) أي: الشجات أو الشجاج، أو الجنايات المتعلقة بالرأس والوجه عشرٌ، وهذا إجمالٌ قبل البيان والتفصيل، وبينا أن المراد به استحضار الذهن وتهيئته لما يذكر بعد. هذه العشر منقسمة إلى قسمين: الخمس الأولى: التي فيها الحكومة وليس فيها مقدر ولا دية. والخمس الثانية: التي فيها مقدر، الخمس الأولى إذا أراد طالب العلم أن يضبطها؛ ليعلم أنها مرتبة تلو بعضها، فالمصنف رحمه الله من دقته وحسن بيانه ذكرها مرتبة، فراعى ترتيب الوقوع على حسب الجنايات. ومن العلماء من عكس فقدم الخمس المقدرة على الخمس التي لا تقدير فيها، وهذا من باب العناية بالأهم، وهو الذي فيه مقدرٌ شرعاً، لكن طريقة المصنف أنسب وأدق في البيان والتوضيح.

الحارصة حقيقتها وحكمها

الحارصة حقيقتها وحكمها قال رحمه الله: [الحارصة وهي التي تحرص الجلد، أي: تشقه قليلاً ولا تدميه]. الحارصة، وتسمى: القاشرة، وهذه فسرها أئمة اللغة ومن يُحتج بتفسيره، كـ الأصمعي رحمه الله وغيره، حيث قالوا: هي الجرح الذي يكون في الوجه أو الرأس، يقشر الجلد ولكنه لا يخرج معه الدم، فلو أنه ضربه على رأسه ضربة قشرت جلدة الرأس ولم يخرج الدم منها، فهذه تسمى: بالحارصة وبالقاشرة، فهي أصلها من الحصر وهو الشق، يقال: حصر الثوب إذا شقه.

حقيقة الدامية وحكمها

حقيقة الدامية وحكمها قال رحمه الله: [ثم البازلة الدامية الدامعة وهي التي يسيل منها الدم] قوله: (ثم البازلة الدامية الدامعة) ثلاثة أسماء لها، النوع الثاني: أن يضربه على رأسه أو وجهه ضربة تقشر الجلد، ثم يخرج الدم ويسيل، فهي دامعة؛ لأن الدم يخرج ويسيل مثل دمع العين، ودامية؛ لأنها أدمته فأسالت الدم منه، والبازلة؛ لأنها بزلت الدم فأخرجته، هذه المرتبة الثانية من الجناية، الأولى تقشر الجلد، والثانية تقشر الجلد وتدمي، بمعنى: تسيل الدم. قوله: (وهي التي يسيل منها الدم) أي: أن الدم يسيل منها قليلاً. يلاحظ هنا في الحارصة طالت أو قصرت، يعني مثلاً: لو أنه قشر جلدة رأسه بقدر أنملتين، أو قشر جلدة رأسه بقدر أنملة، فالحكم واحد، طولها وصغرها وكبرها هذا لا تأثير له، ما لم تتعد فتنزل، فتصبح في الرأس بازلة، وفي الوجه بازلة، أو حارصة في الرأس وحارصة في الوجه، أو تكون في موضعين من الرأس فتكون فيه ضربة في شقه الأيمن من الرأس، والثاني في الشق الثاني من الرأس، وكلاهما حارصة، فهما: حارصتان. وهكذا إذا خرج الدم من اليمنى وخرج من اليسرى فهما: بازلتان، وداميتان، ودامعتان، فإن خرج الدم من واحدة ولم يخرج من الأخرى فحارصة وبازلة.

حقيقة الباضعة وحكمها

حقيقة الباضعة وحكمها قال رحمه الله: [ثم الباضعة وهي التي تبضع اللحم] هذه الدرجة الثالثة، فبعد أن قشرت جلده وأدمته بضعت اللحم، وأصل البضع القطع، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما فاطمة بضعة مني) يعني: قطعة مني، وقوله عليه الصلاة والسلام حينما سئل -كما في حديث طلق بن علي رضي الله عنه- عن مس الذكر؟ قال: (إنما هو بضعة منك) فالبضع القطع، والمِبْضَعُ هي السكين التي يقطع بها، كسكين الجراح ونحوه، فالباضعة تقطع اللحم لكنها لا تغوص فيه، يعني: تأتي إلى مشارف اللحم فتقطع فيه.

حقيقة المتلاحمة وحكمها

حقيقة المتلاحمة وحكمها قال رحمه الله: [ثم المتلاحمة وهي الغائصة في اللحم] قوله: (ثم المتلاحمة وهي الغائصة في اللحم) المتلاحمة درجتها فوق الباضعة، والشق فيها أمكن، ويأتي بالضربات الشديدة سواءً في الوجه أو في الرأس، وسواءً في الخطأ أو في العمد، فتبضع اللحم ثم تغوص فيه، كما لو ضربه بسكين أو بآلة حادة، وغاصت هذه السكين في لحمه دون أن تصل إلى العظم فهي متلاحمة.

حقيقة السمحاق وحكمها

حقيقة السمحاق وحكمها قال رحمه الله: [ثم السمحاق وهي ما بينها وبين العظم قشرة رقيقة] فإن غاصت فلا تخلو من حالتين: إما أن تغوص ولا تكشف هذه القشرة وهي السمحاق، فلا تقارب العظم. وإما أن تكون نسبة اللحم كثيفة نوعاً ما فغاصت في نصفها أو غاصت في ثلثيها فهي متلاحمة، ما لم تنته من اللحم وتصل على مشارف العظم، هنا قشرة رقيقة أشبه بالماء أو بالزجاج حينما تظهر ترى العظم من ورائها، هذه تسمى: السمحاق، وهي فوق العظم، هذه السمحاق إذا جاوز اللحم وصل إليها، فإذا وصل إلى السمحاق فإنها درجة رابعة، وحينئذٍ يقال لها: الملطاة، ويقال لها: السمحاق، وتسمى: بالملطاة كما في مذهب الشافعية رحمهم الله، وقالوا: إنها لغة أهل الحجاز، والسمحاق: هي القشرة التي على العظم. قال: [فهذه الخمس لا مقدر فيها بل حكومة] أي: أن هذه الخمس الجنايات لا مقدر فيها في شرع الله عز وجل، وعن بعض الصحابة رضوان الله عليهم تقدير في بعضها عن زيد رضي الله عنه، لكن تكلم بعض العلماء في ثبوت ذلك عن زيد، ولكن للعلماء في هذه الخمس وجهان: الوجه الأول يقول: هذه الخمس فيها الحكومة، وليس فيها تقديرٌ شرعي، وحينئذٍ نقدر هذه الجناية في المجني عليه، فننزله منزلة العبد ونقدره قبل الجناية، ثم نقدره بعد الجناية، ثم نوجب على الجاني أن يدفع الفرق بينهما. ثم هذا التقدير يتأثر بالشين، يعني: ربما يأتي يضربه ضربة فيها حارصة فتشين وجهه، يعني: إذا شفي واندمل الجرح وبرئ تبقى آثار تشين الوجه؛ لأنها في الوجه تظهر، بخلاف ما إذا كانت في الرأس فهي مستترة، وللعلماء في هذا الشين وجهان: بعض العلماء يقول: تقدر الجناية حكومة، ثم يقدر الشين استقلالاً، يعني ينظر إلى أثر هذا الشين ويدفع له حقه فيه. الوجه الثاني: إن هذه الخمس لها نسبة من الموضحة، إذا كان في الموضحة فيعطى خمساً من الإبل، فهذه الخمس نقسط الجناية التي دون الموضحة على حسبها، فنجعل لكل جناية من الجنايات قدراً ينزل عن حصة الخمس من الخمس، يعني: عن البعير، حتى تصل إلى حد الموضحة، والوجه الأول الذي اختاره المصنف رحمه الله أقوى، وهو أن فيه الحكومة.

حقيقة الموضحة وحكمها

حقيقة الموضحة وحكمها قال رحمه الله: [وفي الموضحة وهي ما توضح العظم وتبرزه خمسة أبعرة] الآن انتهينا من الجلد واللحم، وننتقل إلى الجناية على العظم، فإن وقعت الجناية، ووصلت إلى العظم ولم تصبه فإنها تكون الموضحة، أما لو وصلت إلى العظم فهشمته وكسرته كسراً يسيراً أو كثيراً متفاحشاً، منحصراً في الموضع، أو متفرقاً في نفس الموضع فإنه تكون الجناية بالهاشمة، والهاشمة بعد الموضحة، والموضحة فيها خمس من الإبل.

حقيقة الهاشمة وحكمها

حقيقة الهاشمة وحكمها قال رحمه الله: [ثم الهاشمة وهي التي توضح العظم وتهشمه وفيها عشرة أبعرة]: الهاشمة: توضح العظم وتهشمه، والهشم الكسر للعظم، ويقال: هشم الشيء إذا فككه وكسره، ومنه هشم الثريد، ولذلك سمي جد النبي صلى الله عليه وسلم: بـ هاشم؛ لأنه هشم الثريد للناس بمكة من كرمه فكانت مفخرة له. الشاهد أن الهاشمة هي التي تهشم العظم في الوجه والرأس، وفيها عشر من الإبل، وللعلماء في هذه العشر وجهان: الوجه الأول: أن خمساً من العشر لكونها أوضحت العظم، والخمس الثانية؛ لأنها هشمت العظم. الوجه الثاني: أن الهاشمة فيها عشرٌ من الإبل ولا يفصل. فائدة الخلاف بين الوجهين: أنه لو ضربه فهشم عظمه دون أن يجرحه، يعني هشم العظم داخل الجلد دون جرح، فعلى القول الأول لا يجب عليه إلا خمس من الإبل؛ لأنه لم يقع إلا الهشم، ولم تقع الموضحة، وعلى القول الثاني يجب عليه عشرٌ من الإبل، سواء كان هناك جرح وإيضاح للعظم، أو لم يكن هناك جرحٌ وإيضاح للعظم. الموضحة: فيها خمس من الإبل قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصل في ذلك كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمرو بن حزم، وقد تقدم معنا وبينا أنه الكتاب الذي أجمعت الأمة على تلقيه وعلى قبوله، وضربه العلماء مثالاً للحديث الذي أغنت شهرته عن طلب إسناده، وحسن أئمة الحديث كالإمام الترمذي وغيره إسناد هذا الحديث، والعمل عند العلماء على حديث عمرو بن حزم رضي الله عنه الذي هو كتاب النبي صلى الله عليه وسلم له في الديات ومقاديرها، هذا الكتاب جاء فيه: (وفي الموضحة خمسٌ من الإبل)، وسكت عليه الصلاة والسلام عن الهاشمة، فلم يرد عنه عليه الصلاة والسلام حديث صحيح يبين حكم الهاشمة، ولكن جاء عن أصحابه رضي الله عنهم، وقضى زيد بن ثابت وهو الصحابي الفقيه رضي الله عنه وأرضاه ولم يعرف له مخالف: أن الهاشمة فيها عشرٌ من الإبل، وبناءً على ذلك جرى العمل عند أئمة الإسلام سلفاً وخلفاً على هذا القول، هناك من خالف من العلماء رحمهم الله وقال: إن فيها حكومة، وذلك بأن يقدر المجني قبل الجناية ويقدر بعد الجناية -وسيأتي إن شاء الله بيان الحكومة- وهو مذهب مالك رحمه الله وغيره، والصحيح ما ذكرناه.

حقيقة المنقلة وحكمها

حقيقة المنقلة وحكمها قال رحمه الله: [ثم المنقلة وهي ما توضح العظم وتهشمه وتنقل عظامها وفيها خمسة عشر من الإبل] قوله: (ثم المنقلة) المنَقَّلَة والمُنْقِلة هي التي تنقل العظم من مكانه، فيلاحظ أن الضرب في الهاشمة أخف من الضربة في المنقلة، فالمنقلة ضربة قوية تهشم العظم فتفصله عن بعض حتى ينتقل، ويعرف ذلك الآن عن طريق الأشعة، وكانوا في القديم يعرفون ذلك بالسبر، ويلاحظون العظم ويلاحظون انتقاله، ويكون ذلك من أهل الخبرة كالأطباء. (خمس عشرة من الإبل) وذلك كما جاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمرو بن حزم، فإذا ضربه في رأسه أو ضربه في وجهه فكسر عظمه وانتقل هذا العظم المكسور، فإنه حينئذٍ يلزمه خمس عشرة من الإبل؛ لأن الكسور تكون متفاوته، فإما أنه يهشم العظم ولا ينتقل، أو يهشم العظم هشماً قوياً يفصله عما جاوره، وحينئذٍ ينتقل، فإذا حصل هذا الهشم بهذه القوة ففيه خمس عشرة من الإبل، وهذا قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأولون الذين سبق بيان مذهبهم يقولون: المنقلة: خمسٌ من الإبل للموضحة، وخمس من الإبل للهاشمة؛ لأنها هشمت العظم، وخمس لكون العظم انتقل، هذه خمس عشرة من الإبل يجعلونها على هذا الوجه.

حقيقة المأمومة وحكمها

حقيقة المأمومة وحكمها قال رحمه الله: [وفي كل واحدة من المأمومة والدامغة ثلث الدية] قوله: (وفي كل واحدة من المأمومة والدامغة ثلث الدية) أُمُّ الشيء أصله، وأم الدماغ خريطة الدماغ، فإذا ضربه -والعياذ بالله- على دماغه ضربة أوضحت عظم الدماغ، وكشفت خريطة الدماغ، فإنها في هذه الحالة يقال لها: مأمومة، وأم الدماغ، هذه جناية، فإذا لامست الدماغ ووصلت إلى الدماغ يقولون لها: دامغة، والمصنف قال: المأمومة والدامغة. وفي الحقيقة من العلماء من يذكر المأمومة ولا يذكر الدامغة؛ لأنهم يقولون: في الغالب إذا وصل إلى الدماغ يقتله؛ لأنها في مقتل. وغالباً ما تحدث أضراراً توجب الديات مثل أن تخرسه -والعياذ بالله- فلا يتكلم، أو يصبح أصمّ لا يسمع، خاصة إذا جاءت على مواضع الحواس، فالشاهد عندنا أنه إذا ضربه على دماغه ضربة كشفت خريطة الدماغ، فحينئذٍ يجب عليه ثلث الدية، وهذا قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه لـ عمرو بن حزم (أن المأمومة فيها ثلث الدية). الموضحة والهاشمة والمنقلة والمأمومة يستوي فيها الذكر والأنثى، يعني: من حيث تقدير الجناية، أما من حيث ما يجب على الجاني فالأنثى على النصف من الذكر، تقدر على الأصل الذي قررناه: أن الأنثى يكون لها النصف، ومن أهل العلم من يرى: أن عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث، وهذا في حديث السنن: (عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديتها).

حقيقة الجائفة وحكمها

حقيقة الجائفة وحكمها قال رحمه الله: [وفي الجائفة ثلث الدية وهي التي تصل إلى باطن الجوف] الجائفة تكون في غير الرأس والوجه، تكون جائفة في البطن، وجائفة في الصدر، وتكون الجائفة في ثغرة النحر، وتكون جائفة فيما بين السبيلين، وهذه الجائفة فيها ثلث الدية، فلو طعنه بسكين ودخلت السكين إلى جوفه فأبانت أحشاءه فهي جائفة، وهكذا لو ضربه من ظهره فأظهر عظمه فهي جائفة، ولو ضربه على صدره فأبان جوف الصدر فهي جائفة، ولو ضربه بين السبيلين فنفذ إلى مجرى البول ففيه وجهان عند العلماء رحمهم الله: من أهل العلم من قال: إنها جائفة كالضرب في جهة العجان سواءً بالذكر أو الأنثى. قوله: (وهي التي تصل إلى باطن الجوف) باطن الجوف من جهة البطن ومن جهة الصدر ومن جهة الظهر، وغالباً ما تكون بالآلات الحادة، وممكن أن تكون بغير آلة حادة.

حكم كسر الضلع وإحدى الترقوتين

حكم كسر الضلع وإحدى الترقوتين قال رحمه الله: [وفي الضلع وكل واحدة من الترقوتين بعيرٌ] (وفي الضلع) لو كَسَرَ ضلعاً من المجني عليه ففيه بعير، وهذا في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وهي سنة راشدة عمرية لا مخالف له من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أُمرنا باتباع سنته- حين كتب إلى عامله رضي الله عنه وأرضاه: أن الضلع فيه جمل، فإذا كسر أحد أضلع شخص فإنه يجب عليه ضمان الكسر بجمل، لكن لو أنه كسر هذا العظم أو هذا الضلع ثم برئ مستقيماً فلا إشكال، وإن برئ مشوهاً معوجاً ففيه وجهان للعلماء: منهم من قال: يأخذ فقط المقدر ولا شيء زائد. والصحيح أن فيه حكومة في الشين، والحكومة في هذا تتبع الشين، وتتبع الضرر، وتتبع الألم، فلو أنه كسر الضلع أو مثلاً الترقوة فحصل شيء مثلاً في الترقوة كأن ينعقد العظم، ويصبح موضع الإصابة مثل الكرة عند الالتحام، فهذا الشين يقدر بحكومة، ينظر إليها أهل الخبرة، وسيأتي معنا الحكومة، فنقدر كم تضرر وكم نسبة هذا الضرر فيعطى حقه في ذلك. لو حصل أيضاً ألم، حيث برئ ورجع العظم على صفته، ولكن يوجد ألم في الموضع إذا قام وإذا قعد، وإذا تنفس فينظر في هذا الألم، وقدر تضرره ويقدر له حقه.

حكم كسر الذراع والعضد والفخذ

حكم كسر الذراع والعضد والفخذ قال رحمه الله: [وفي كسر الذراع -وهو الساعد والجامع لعظمي الزند والعضد- والفخذ والساق إذا جبر ذلك مستقيماً بعيران] قوله: (وفي كسر الذراع) لو كسر عظم الذراع، وهو العظم الجامع ما بين الزند والعضد، والزندان: هما عند مفصل الكف مع الساعد، الزند الأعلى والأسفل، فهذان العظمان الناتئان هما زندا اليد، يلي الزندين الساعد إلى المرفق، والمرفق هو الذي يرتفق به الإنسان والذي أمر الله بغسله في الوضوء وهو حد غسل اليد في الوضوء، هذا كله يسمى: بالساعد، فكسره فيما ذكر رحمه الله فيه بعيران، أي: في الساعد وفي الزند، وإذا كان الزندان فمعنى ذلك: أن فيهما أربعةَ أبعرة، وهذا له أصل من كتاب عمر رضي الله عنه أيضاً، فإنه كتب إلى عامله بذلك، ومن هنا عمل به جمهور العلماء رحمهم الله على أن فيه بعيرين. قوله: (والفخذ والساق إذا جبر ذلك مستقيماً بغيران) يدل على أن المصنف يرجح مذهب من يقول بالحكومة في الشين والألم والضرر بعد البرءُ، يعني: إذا حصلت الجناية وانكسر العظم ننتظر إلى أن يشفى ويبرأ، فإذا شفي والتحم العظم، ننظر في هذا العظم الذي التحم، هل التحم مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا ألم معه، ولا شين؟ فحينئذٍ لا إشكال، حكمنا بهذا المقدر، وأما إذا جبر معوجاً، أو جبر وفيه شين، أو فيه ألم قُدر هذا الزائد بحقه وحكومته. ومن نص المصنف رحمه الله على قوله: (إذا جبر ذلك مستقيماً)، وعظم الفخذ والساق ذكر فيه البعيرين كله من باب الإلحاق؛ لأن عمر رضي الله عنه لم ينص على عظم الفخذ والساق، ولكن هو في حكم عظم الساعد والزندين، والمنافع فيه كالمنافع في المفصل؛ لأنه من جنس المفاصل التي يرتفق بها.

بيان وحكم الجروح التي لا تقدير فيها

بيان وحكم الجروح التي لا تقدير فيها قال رحمه الله: [وما عدا ذلك من الجراح وكسر العظام ففيه حكومة] ذكر المصنف رحمه الله الواجبات المقدرة في الاعتداء على الأنفس والأعضاء، وبينا فيما مضى ما ثبت من النصوص ودلت عليه في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في مقدرات وأحكام الجنايات، هناك جنايات لا تقدير فيها، وهي ما عدا ما ذكر مما له أصل مقدر، فلو أنه جرحه جرحاً لا تقدير فيه، أو ضربه ضربة على مكان أورمت المكان، وحصل ضرر لا تقدير فيه في الشرع، فما الحكم؟ قال رحمه الله: (وما عدا ذلك) أي: من الشجاج والكسور والجراحات. قوله: (ففيه حكومة) الحكومة: أن يقدر هذا المجني عليه وينزل منزلة العبد، فيقدر قبل الجناية ويقدر بعد الجناية، وينظر كم أنقصته الجناية من القيمة، وهذه النسبة تكون مقدرة من دية المجني عليه، وسميت بحكومة؛ لأنها راجعة إلى الحكام وهم القضاة، فلا يقدر هذا التقدير ولا يجتهد هذا الاجتهاد ولا يبين حكم هذه المسائل إلا الحكام والقضاة، ومن هنا وصفت بكونها حكومة، وبين رحمه الله أنه يرجع فيها إلى حكومة عدل، إذ يطالب القاضي من له خبرة ومعرفة بتقدير المجني عليه على الوجه الذي ذكرناه، ثم إذا ثبت ذلك القدر حكم به، وسيبين المصنف رحمه الله ذلك بالمثال.

الحكومة في الجنايات التي لا تقدير فيها

الحكومة في الجنايات التي لا تقدير فيها قال رحمه الله: [والحكومة: أن يقوّم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به] قوله: (لا جناية به) مثل أن يقدر بمائة ألف قبل الجناية. قال: [ثم يقوم وهي به قد برئت] قوله: (وهي به) أي: الجناية. قوله: (قد برئت) أي: بعد البرء فينظر ماذا حدث في الجسم أو في العضو من النقص؟! فإذا قوم قبل الجناية بمائة، ثم قوم بعد الجناية بخمس وتسعين أو بسبع وتسعين ونصف، فحينئذٍ يكون نصف نصف العشر، يكون قد أنقصته نصف نصف عشره، فيقدر ذلك القدر الذي أنقصته من الدية؛ لأنه لا تقدير في تلك الجناية.

شروط صحة الحكومة في الأمور التي لا تقدير فيها

شروط صحة الحكومة في الأمور التي لا تقدير فيها ويشترط في صحة الحكومة ما يلي: الشرط الأول: أن تكون الجناية لا تقدير فيها في الشرع، فهذا محل اتفاق على أن هذا الأمر -وهو الحكومة- يختص بالجنايات التي لا تقدير لها في الشرع، هذا أول شرط. الشرط الثاني: أن يكون من ذوي الخبرة والنظر والمعرفة، يقال لهم: قدروه قبل الجناية وقدروه بعد الجناية، وانظروا نسبة النقص هذه التي تكون من هذا الشخص المجني عليه ذكراً كان أو أنثى، يعني: يستوي في ذلك أن يكون المجني عليه ذكراً أو أنثى. قال رحمه الله: [فما نقص من القيمة فله مثل نسبته من الدية] سيذكر هذا بالمثال. قال: [كأن كان قيمته عبداً سليماً ستين وقيمته بالجناية خمسين ففيه سدس ديته] أي: إذا كانت القيمة تساوي الستين، يعني: يعادل ستين ألف ريال، ثم بعد الجناية أصبح بخمسين، فمعنى ذلك: أنها أنقصته عشرة، والعشرة تعادل السدس من القيمة، فحينئذٍ يجب على الجاني أن يدفع له سدس ديته، وهنا بالنسبة للحكومة يكون الرقيق أصلاً والحر مبنياً عليه، والعكس بالنسبة للديات، يكون في المقدرات والأعضاء المقدرة يكون الحر أصلاً والرقيق مبنياً عليه. قال: [إلا أن تكون الحكومة في محل له مقدر فلا يبلغ بها المقدر] مثلاً: لو كانت الجناية على أصبع من أصابعه، وهذه الجناية ليس لها تقدير، بمعنى: أنه ما قطع الأصبع كاملاً، وفي بعض الأحيان يكون الرقيق ذا صنعة، وإذا قدر قبل الجناية على أنه بمائة ألف، ثم أنقصته الجناية الربع، مثلاً: أصبح بخمسة وسبعين ألفاً، فحينئذٍ أنقصته ربع القيمة، يعني: لو حصلت فيه هذه الجناية في أصبعه، وكان قبلها كاتباً، أي: عنده صنعة الكتابة، أو عنده صنعة غيرها ينتفع بها، فأنقصته -مثلاً- الربع، في هذه الحالة الأصبع لا تعادل الربع؛ لأن الأصبع لو قطعت ففيها عشر الدية، فلا تبلغ الحكومة أو مقدر الحكومة لا يبلغ دية العضو الذي فيه الجناية، وهذا أصل شرعي، وبناءً على ذلك ينقص من هذه الحكومة حتى تصل إلى أقل من عشر الدية؛ لأن الأصبع موجود ولا يعقل مساواتها بعدم الوجود، فلو قطعت الأصبع كاملة لكان فيها عشر الدية، فكيف نقول له: جناية الحكومة يقدر أكثر من المقدر شرعاً والأصبع موجودة؟! فهذا يخالف شرع الله عز وجل. ومن هنا اشترط العلماء رحمهم الله شرطاً في الحكومة وهو الشرط الثالث: أن لا يبلغ التقدير أكثر من قيمة العضو الذي فيه الجناية.

الأسئلة

الأسئلة

إشكال في تعبير المؤلف بالبعير لا الإبل في الهاشمة

إشكال في تعبير المؤلف بالبعير لا الإبل في الهاشمة Q ذكر المصنف في حد الهاشمة عشرة أبعرة، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، والمعروف عن الأبعرة هي ذكران الإبل، أما الإبل فيشمل الذكر والأنثى، فهل في ذلك فرق، أثابكم الله؟ A باسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، في الحقيقة هذا أمر ملاحظ، والأصل في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد التعبير بالبعير، وإنما ورد التعبير بالإبل، قال: خمسٌ من الإبل، وعلى هذا فقد يكون هناك تسامح من المؤلف، وأنه لا يعتبر المعنى الذي ذكرته، والله تعالى أعلم.

حكم طلب المجني عليه من الجاني تكاليف العلاج

حكم طلب المجني عليه من الجاني تكاليف العلاج Q لو طلب المجني عليه من الجاني تكاليف العلاج بدلاً من الدية هل يعطى ذلك؟ A نعم إذا أراد أن يخالف شرع الله، ويجتهد من عنده، ويعبث بالأحكام الشرعية، هذه أحكام شرعية ما فيها تلاعب، لا ينظر لا إلى أجرة الطبيب، ولا إلى تكاليف العلاج، هذا دين وشرع جاء بهذه الصفة، ينفذ هذا الوارد كما ورد، كونه يقول: أريد تكاليف العلاج أو قيمة العلاج ليس من حقه ذلك، وليس له غير هذا الذي حكم به الشرع، حتى ولو كانت تكاليف العلاج أكثر، العبرة بالمقدر شرعاً قليلاً كان أو كثيراً؛ لأنه لو فتح هذا الباب قد تكون تكاليف العلاج لا تساوي شيئاً، ولذلك الشريعة لا تنظر إلى تفاوت الأزمنة، وهذا من سمو منهج الشريعة أنها أعطت أحكاماً تقديرية، سبحان الله العظيم! الآن لو جئت تنظر تجد في غالب الأحوال أن هذا المقدر يعادل العلاج وزيادة، وهذا نعرفه من خلال أسئلة الناس، وعلى كل حال هذا غير وارد، وتكاليف العلاج ليست بواردة، إنما الوارد أنه يعطيه حقه الشرعي سواءً كان قليلاً أو كثيراً، وعليه أن يرضى بحكم الله سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم.

الصحيح في تعريف الموضحة

الصحيح في تعريف الموضحة Q تعددت النسخ في قول المصنف رحمه الله في تعريف الموضحة وهي ما توضح اللحم، وفي بعض النسخ ما توضح العظم، فأيهما أصح، أثابكم الله؟ A الصحيح ما توضح العظم، وهذا استدركه الشراح رحمهم الله، وقالوا: إن هذا موجود في النسخ، ولكن الصحيح أنها توضح العظم، وهذا هو الذي ذكره أئمة اللغة، والاحتجاج في هذه التفسيرات مرده إلى أئمة اللغة؛ لأن القاشرة إيضاح اللحم، والقاشرة مع ذلك ليس فيها ما في الموضحة، الموضحة هي التي توضح العظم، وعبارات النسخ توضح اللحم خطأ، ونبه على ذلك، والله تعالى أعلم.

حكم من فرط في قضاء الصوم حتى عجز عنه

حكم من فرط في قضاء الصوم حتى عجز عنه Q تبلغ أمي من العمر خمسين سنة، كانت تفطر في شبابها من التعب، وبعد زواجها أفطرت في ولادة إخوة لي، وكانت تجهل قضاء ما عليها من الأيام، وهي الآن مريضة حيث عندها القلب والضغط وتجلطٌ في الدم، أفيدونا في قضاء هذه الأيام أثابكم الله؟ A أولاً: لا ينبغي للمسلم أن يتساهل في حقوق الله عز وجل، والصوم إذا وجب على المسلم فهو دين، وقد جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما- قالت: (إن أمي ماتت وعليها صوم، أفأصوم عنها؟ قال: أرأيت لو كان على أمك دين أكنتِ قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى) حق الله أحق بالوفاء، وأحق بالقضاء، ولا ينبغي للمسلم أن يتساهل في حقوق الله عز وجل، سواءً كانت كفارة في الصوم أو كفارة في الحج أو كفارة في العمرة، أو كفارة في سائر الأمور التي تجب فيها الكفارات فلا يتساهل في شيء منها، حتى قالوا: إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن مرهونة بدينه حتى يؤدى عنه) يقولون: إن الإنسان والعياذ بالله! قد يرهن عن كثير من الخير بسبب تعطيل حقوق الله عز وجل وحقوق الناس، ولذلك تجد المديون في بعض الأحيان لا يستطيع تحصيل أشياء من الخير كان يحصلها قبل دينه وقبل انشغال ذمته للناس، تجده قبل تحمل ديون الناس مستجماً ومنشرحاً ومنطلقاً، ولكن ما أن يقع في الدين حتى يصبح كالمرهون، وهذا مصداق قوله: (نفس المؤمن مرهونة) والرهن الحبس. ولذلك ينبغي للمسلم أن يبادر بسداد حقوق الله عز وجل، فإذا تساهل وفرط لم يأمن أن يأتيه المرض أو يأتيه البلاء أو يتقدم به السن ويعجز عن أداء حق الله، وحينئذٍ تكون الحالقة؛ حالقة الدين لا حالقة الشعر، فيخرج من الدنيا وقد فرط في حق الله، حتى أصابه الكبر فحيل بينه وبين الوفاء، وبين رد الحقوق والقيام بالواجبات، وقد وصف الله أهل الجنة بأنهم موفون بعهودهم مؤدون للحقوق التي عليهم، فعلى المسلم والمسلمة أن يتقي الله عز وجل كل واحد منهما في حق الله خاصة، وفي الحقوق عامة؛ لأن حق الله أحق، الله أحق أن يعبد وأحق أن يؤدى حقه، وهو الغني عن عباده في جميع ما أوجب عليهم سبحانه وتعالى. ثانياً: إذا بلغت هذا المبلغ وأصبحت عاجزة عن الصوم فإنها تنتقل إلى الإطعام عن كل يوم، مع الندم والاستغفار والتوبة، والله تعالى أعلم.

جواز الرد على الخطيب عند خطئه في الآية

جواز الرد على الخطيب عند خطئه في الآية Q إذا أخطأ الإمام في الآية مثلاً في خطبة الجمعة هل يرد عليه أم لا؟ A الصحيح أنه إذا أخطأ في الآية فإنه يرد عليه ويفتح عليه؛ لأن كتاب الله عز وجل تجب صيانته عن الخطأ، وهذا جائز في الصلاة كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بالناس الفجر فارتج عليه في آية، ثم لما سلم قال: (أفي الناس أبي؟ قال: نعم يا رسول الله! قال: ما منعك أن تفتح عليَّ آنفاً؟) فدل على عظمة كتاب الله عز وجل، وعظيم حقه أنه يصان من الخطأ، ومن اللحن، ومن القصور الذي يكون من بني آدم، المبني على الجهل والإساءة كما قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] فلا ينبغي التساهل في كلام الله عز وجل، بل ينبغي الرد عليه وتنبيهه على الخطأ والفتح عليه، فإذا كان هذا في الصلاة فمن باب أولى في خطبة الجمعة، والله تعالى أعلم.

حكم صلاة الليل جماعة في غير رمضان

حكم صلاة الليل جماعة في غير رمضان Q أسكن ومعي زميلي في بيت وأصلي صلاة الليل فهل يجوز أن نصلي جميعاً ونوتر مع بعضنا، أثابكم الله؟ A يجوز اتفاقاً لا قصداً، فإذا قمت تصلي بالليل وجاء أخوك وصلى معك فلا بأس، كما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم مع ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، لكن أن يكون بالترتيب والقصد كأن تقول له: إذا صارت الساعة الثانية أقوم وتقوم معي، أو إذا صارت الساعة الواحدة من الليل فلا؛ لأن الأصل أن القيام المرتب لا يكون إلا في التراويح، وقيام رمضان خاصة، وأما في بقية السنة فإنها عبادة خفية قصد منها الإخلاص وإرادة وجه الله عز وجل، ولا تكونوا جماعة إلا في الوارد، والله تعالى أعلم.

كيفية تشميت من عطس أكثر من ثلاث مرات

كيفية تشميت من عطس أكثر من ثلاث مرات Q إذا عطس الإنسان مرات عديدة خارج الصلاة هل يشرع تشميته في كل مرة يحمد فيها الله، أثابكم الله؟ A نعم يشرع إذا عطس وكرر العطاس ففي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عطس الرجل رد عليه، ثم عطس الثانية فرد عليه، ثم عطس الثالثة فقال: إنه مصاب) فمن أهل العلم من قال: لا يرد عليه؛ لأنه مريض، وإنما يدعى له بالشفاء، فانتقل من العطاس المألوف المأمور بتشميته إلى الدعاء له بالشفاء، ومن أهل العلم من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم وصفه بكونه مريضاً، فبقي الأصل على ما هو عليه وهو تشميت العاطس، ولم يسقط هذا الأصل صلوات الله وسلامه عليه فهذا وصف حال. وعلى كل حال إذا شمته فهذا أفضل، فهو إذا قال: الحمد لله فعليك أن تشمته، أما إذا عطس وسكت فهذا منه، وبعض العلماء يقول: إنه إذا كانت الثالثة والرابعة وكان مريضاً فلا يقول: الحمد لله؛ لأنه أصبح مريضاً والأمر إذا ضاق اتسع وإذا اتسع ضاق، لكن كل هذه اجتهادات وآراء، هذا الأصل عطس رجل عند رجل فشمته، ثم عطس الثانية فشمته، ثم عطس الثالثة فقال: يرحمك الله مائة، فعطس الرابعة فقال: اللهم من عندك، يعني أصبحت المائة دين كلما عطس قال: اللهم من عندك، هو لو نظر اللهم من عندك، أخف من أن يقول له: يرحمك الله، نسأل الله السلامة والعافية من الحرمان! هذا دعاء بخير وفيه أجر لك ولمن تدعو له، فلا يبخل الإنسان بهذا. كم هي سعادة للمسلم أن يلهج لسانه بذكر الله عز وجل؟! هذا اللسان الذي تجده يتحدث في أمور الدنيا فلا يكل ولا يتعب، ويجلس الرجل مع ضيفه وصاحبه وحبه، يسأله عن ثوبه ومأكله وملبسه ومخبزه وبيته وعن كل صغيرة وكبيرة ولا يكل ولا يمل، ولكن لما يريد أن يكرر يرحمك الله أربع مرات خمس مرات تجد السآمة والملل، وهذا حال الإنسان -نسأل الله السلامة والعافية- في تقصيره في حق الله عز وجل، ولكن للآخرة أهلها، فيا حبذا المسلم أن يكون متلذذاً بذكر الله عز وجل حريصاً على هذا الخير، يشمت العاطس، فكلما قال: الحمد لله تشمته، فهو من ذكر الله سبحانه وتعالى، قال بعض العلماء: إلا إذا كان هناك ما يشغل، مثل: أن يكون هناك ما هو أشرف كاشتغالك بقراءة القرآن، أو اشتغالك بعلم، أو اشتغالك بشيء أوجب وأوكد، حينئذٍ لا مانع أن تأخذ بالسنة، وهي أن يشمت ثلاث تشميتات، ثم بعد ذلك يكون الإنسان في العفو، والله تعالى أعلم.

نصيحة عامة لمن يتكرر منه الذنب بعد التوبة منه

نصيحة عامة لمن يتكرر منه الذنب بعد التوبة منه Q عندي ذنبٌ كلما تبت منه رجعت إليه، وأدعو الله أن يبعدني عنه، ولكن كلما أردت الاستقامة لم أثبت على ذلك بم تنصحني، أثابكم الله؟ A إذا كان المستقيم هو السالم من الذنب فإنا لله وإنا إليه راجعون! يعني: إذا كان المستقيم هو الذي لا ذنب له البتة فحينئذٍ الله المستعان، من هو هذا الذي لا ذنب له، ولا خطأ عنده؟! إن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة:222] ووصفهم بأنهم توابون، والتواب فعال، أي: كثير التوبة وما كثرت التوبة إلا من كثرة الذنوب. أخي في الله! لا يتسلط الشيطان على قلبك، ولا يحولن بينك وبين ربك، فالله جل وعلا يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وهو سبحانه الحليم الرحيم، هل رأيته دفع تائباً عن بابه؟ هل رأيته خيب تائباً في رجائه؟ هل رأيته قطع تائباً من محبته وإنابته إلى ربه؟ كلا والله بل إنه فرح بتوبته وشمله بعفوه وحلمه ومنّه وكرمه ورحمته. أخي في الله! تب إلى الله، واقهر عدوك إبليس بالإنابة إلى الله ولو (مليون) مرة تكرر التوبة، صادقاً منيباً إلى ربك، ولا تبال إن قال لك: أنت منافق، أنت كذاب، أنت غشاش، تبت المرة الأولى، تبت المرة الثانية ثم ترجع، ثم تبت المرة الثالثة، إذا كان الشخص يقع في الذنب وبعد فعله للذنب يكره هذا الذنب ويمقته في جنب الله، ويعقد العزم في قرارة قلبه على كراهته وعدم الرجوع إليه، فإنه مبشرٌ بخير وهو التوبة من الله، {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:71]. والله سبحانه يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] فقوله: (قُلْ يَا عِبَادِيَ) لأنه علم سبحانه أنه لا رب لنا سواه، ولا أمل ولا رجاء لنا في أحد عداه، فأخي في الله! اصدق مع الله يصدق الله معك، ولا تقولن: تبت مائة مرة، أو ألف مرة. ثم هنا أمر ينبغي التنبيه عليه وهو: أن الشيطان عليه لعائن الله تترى إلى يوم الدين، قعد للإنسان بالرصد وأعظم شيء يحرص عليه الشيطان قطع العبد عن ربه، وبالأخص إذا كان خيراً صالحاً، فإنه يأتيه بالذنب ويحول بينه وبين الله، فيقول له تارة: لو كنت من الصالحين ما أوقعك الله في الذنب، ولو كنت صالحاً بحق ما أوقعك في الزلة، قاتله الله عدو الله! أنى يؤفك وأنى يكذب على الله سبحانه وتعالى، بل إن الله يبتلي ويمتحن ويختبر إذا كان التائب موحداً لربه؛ لأنه إذا قال: رب اغفر لي فقد علم أن له رباً يأخذ بالذنب ويعفو عن الذنب. وينادي الله في ملائكته: (يا ملائكتي! علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويعفو عن الذنب قد غفرت لعبدي). فإذا كان الإنسان في هذه الصورة من الفتنة جعله يعود إلى الذنب المرة تلو المرة، ثم يقول له: أنت لا تصلح أن تكون مع الأخيار، اترك الأخيار واترك الملتزمين، واترك الصالحين, ولا تجلس معهم، لا تدنس مجالسهم، يعني: وكأن إبليس ما شاء الله! غيور على الصالحين، ومحب للصالحين. وضع السم في العسل؛ لأنه يعلم أنه متى ابتعد عن الصالحين تخطفته الشياطين، فأعرض عن سبيل رب العالمين، فكانت الهلكة والضلال المبين نسأل الله السلامة والعافية! فيأتيه من هذا الباب. ثم هناك صنف ثالث: إذا أذنب الواحد منهم المرة والمرتين والثلاث والأربع يأتيه بنوع من الانشراح يخلي بينه وبين الطاعة؛ لأنه يعلم أن المعصية قد استحكمت في قلبه، وأن قرناء السوء حوله، فتراه يتركه اليوم واليومين والأسبوع والأسبوعين في نوع من الانشراح، ويكف عدو الله عنه حتى يأمن ويطمئن ويقول له: افعل عهداً على أنك لا تعود، واجعل عليك المواثيق بينك وبين الله أنك ما تعود، فهذا المسكين من حبه لربه، وحبه للطاعة يأتي بالعهود المغلظة ثم لا يلبث في اليوم الثاني أن يتسلط عليه عدو الله، فينهزم وينكسر وعندها يريد أن يسلخه من دينه بالكلية والعياذ بالله! فيقول له: أنت فعلت هذا فإذاً لا عودة ولا رجعة، وهذا كله من الأباطيل، ومن الإرجاف من عدو الله. ولذلك على المؤمن أن يعلم أن ربه هو الحليم الرحيم الغفور الذي يفرح بتوبته، ويشمله بعفوه وحلمه ورحمته، والذي وسعت رحمته كل شيء سبحانه وتعالى. أخي في الله! لو تبت (ملايين) المرات، فكل مرة تتوب فيها فاعلم أن الله يعوضك خيراً مما فقدت، وكل ذنبٍ تقع فيه فقف بعد ذنبك منكسراً إلى ربك، وقل يا رب! أسأت وأخطأت، منك الخير ومني الشر، منك الإحسان ومني الإساءة، تب عليَّ يا خير التوابين! تب عليَّ وارحمني وأنت أرحم الراحمين! واسأل الله عز وجل أن يجبر كسرك في دينك، فكم من شخصٍ يقع في الذنب فيقول صادقاً من قلبه: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي هذه واخلف لي خيراً منها، إلا آجره الله في مصيبته وخلف له خيراً منها، وصفع الشيطان على وجهه، واندحر عدو الله مغاظاً مهاناً ذليلاً، هكذا يكون ولي الله المؤمن. ثم قضية الرجوع إلى الذنب ففي بعض الأحيان -والعياذ بالله- قد يُبتلى الإنسان بالذنب تلو الذنب، قد يكون سببها غيبة الصالحين، وقد يكون سببها أذية أولياء الله المتقين؛ لأن أعظم شر ينزل على الإنسان عداوته لله أو لرسوله أو للصالحين من عباده، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث كما في صحيح البخاري وغيره يقول الله تعالى: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم، لما يشتكي الشخص من كثرة الرجوع إلى الذنب يقول له: تفقد نفسك، لابد وأنك عاديت ولياً من أولياء الله. مثال ذلك: أن الشخص يأتي ويحضر الجمعة ثم يخرج من الجمعة ويقول: والله الخطيب أطال الخطبة، والله عندنا إمام مسجد يطيل بنا. فيغتاب عبداً صالحاً، وهذا العبد الصالح في كل ليلة يناجي ربه ويقول: اجعل ثأرنا على من ظلمنا، فهذا الذي اغتابه ظلمه بغيبته فلا يأمن أن يُنكب، ولذلك ينبغي الحذر من التعامل مع الصالحين والأخيار؛ لأن القرب منهم خير، لكنه سلاحٌ ذو حدين لمن لم يحفظ حرمتهم، وكنا نجد أناساً يجلسون في مجالس العلم يكثرون الاعتراض، ويكثرون الأذية للعلماء ولإخوانهم من طلاب العلم، فما وجدناهم سلكوا سبيلاً -نسأل الله السلامة والعافية- في الطاعة، وغالباً ما تأتي نهايتهم سيئة، وغالباً ما يحرمون، حتى إن الواحد منهم يأتي ويشتكي ويقول: قسا قلبي، كنت على حال طيبة ثم أصبحت في حال سيئة، يعني كان الإنسان على حال صالحة حينما كان يحفظ الحقوق والذمم. كذلك أيضاً مما يُبتلى الإنسان به الوقوع في الفتن بسبب أذية أولياء الله، والله تعالى يقول في الذين سبوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستهزءوا بهم وقالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء يكثرون عند الطمع، ويقلِّون عند الفزع، وفي بعض الألفاظ يجبنون عند اللقاء، فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65] انظروا كيف جعل الاستهزاء بالقراء استهزاء بالله والرسول؛ لأنه جاء من جهة الدين. فكل شخص ينتسب لهذا الدين من داعية وعالم وخطيب وإمام يجب أن تحذر في التعامل معه؛ لأنه ولي لله تعالى قائم بحقه، ولما تستهزئ به من خلال أدائه لرسالته وأمانته التي يحبها الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33] هذا الذي أثنى عليه ربه من فوق سبع سماوات، فقال الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا} [التوبة:65 - 66] حتى لم يقبل منهم المعذرة وقال: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] لأن الأمر نشأ من الاستخفاف بالدين والاحتقار للصالحين، فقد يجلس الشخص يلمز جماعة وقد يلمز منهجاً لإخوان عندهم بعض الأخطاء، ثم يأتي يتهكم بهم، ويسخر بهم، ويستهزئ بأمور قد تكون من أمور الطاعة في شأنهم، فهنا تأتي الفتنة والعياذ بالله. قال تعالى: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة:66] فجعل - والعياذ بالله- هذا البلاء والفتنة بسبب التعرض لأولياء الله عز وجل، وكانوا يقولون: من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمن عليه سوء الخاتمة والعياذ بالله! وقل أن تأتيه حسن خاتمة، وقلَّ أن يتولاه الله برحمته، وهذا معروف في بعض أهل البدع نسأل الله السلامة والعافية! فالمقصود من هذا الحذر حتى لا يقع في الفتنة، ولذلك تجد شخصاً يتوب توبة صادقة، ومع ذلك يُبتلى بالوقوع في الذنب مرة ثانية، بمعنى: أن هناك أمراً بينه وبين الله عز وجل، فليقل بصادق من قلبه: اللهم! إني أستغفرك من ذنبٍ أوقعني في هذا البلاء، اللهم أدركني برحمتك، ونحو ذلك من الدعاء الصادق. كذلك أيضاً مما يوجب الوقوع في الفتن تلو الفتن، والمعاصي تلو المعاصي، عقوق الوالدين وقطيعة الرحم، ولذلك قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23] نسأل الله السلامة والعافية! فالعقوبة التي جلت بهم الصمم وعمى البصيرة مع اللعنة، وكل هذا جاء بسبب قطيعة الرحم، فما بالكم بعقوق الوالدين! وهو أعظم من قطيعة الرحم! الرجل يستهزئ بأمه فيكون عاقاً، ويستهزئ بأبيه فيكون عاقاً، ويرفع صوته في وجه أبيه كاشحاً له في وجهه فيكون عاقاً، ولربما والعياذ بالله يلمز أباه في وجهه فيكون عاقاً، وتبقى جرحاً في قلب الأب إلى أن يموت، فيكون عاقاً والعياذ بالله! كلما تذكر الأب آلامها وأحزانها تجدد البلاء على من قالها. إذاً على الإنسان أن يحذر في التعامل مع الناس: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُو

بيان فضيلة الجماعة الأولى والفرق بينها وبين الثانية

بيان فضيلة الجماعة الأولى والفرق بينها وبين الثانية Q بعض الناس يتأخر عن صلاة الجماعة في المسجد ويقيمون جماعة ثانية بعد الجماعة الأولى فهل يكون أجر هذه الجماعة مساوياً لأجر الجماعة الأولى، أثابكم الله؟ A هذا فيه تفصيل: الجماعة الأولى من حيث الأصل أفضل، وقد حصلت فضيلة أول الوقت، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليصلي الصلاة وما يصليها في وقتها وما فاته من وقتها خيرٌ من الدنيا وما فيها) الثواني بين الجماعة والجماعة خير من الدنيا وما فيها، يصلي أهل المسجد الأول في الوقت ويصلي أهل المسجد الثاني بعده ويكون الفرق بينهما يسيراً وبينهما كما بين السماء والأرض، ولذلك يقول عبد الله بن مسعود: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها) يعني: على أول وقتها، فهذا أفضل الأعمال وأحب إلى الله، فالجماعة الأولى أفضل وأعظم وأزكى أجراً عند الله عز وجل. ومن هنا كان من الخطأ قول أهل الرأي -وبعض المتأخرين اختار هذا القول-: إن الشخص إذا أتى والجماعة في التشهد فيظل واقفاً حتى تأتي جماعة ثانية، نقول: أولاً: دخولك مع الجماعة الأولى إدراكٌ لفضيلة أول الوقت، وحينئذٍ تدرك فضيلتها، ثم بعد ذلك إذا كان بجوارك شخص فتتمان جماعة، وتحصلان على الفضيلة وإن لم تحصلا على الحكم، فهذا أمر يغفل عنه الكثير، ومن هنا ينبغي الحرص على الجماعة الأولى. ثانياً: الجماعة الثانية تكون أقل من جهة العدد، فإن الجماعة الأولى في الغالب هي أكثر عدداً، وقد قال صلى الله عليه وسلم في هذه الفضيلة الثانية: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أزكى) فالجماعة الأولى أزكى من هذا الوجه ومن حيث إدراك فضيلة أول الوقت. كذلك أيضاً ينبغي أن ننبه على أمر وهو: قِدَمُ الإنسان في الطاعة، فإن إمام المسجد في محافظته على الإمامة أكثر خيراً ممن هو دونه، والصلاة وراء الإمام الراتب المداوم على إمامة الناس والصلاة بهم ومعونتهم على الخير، أفضل من الصلاة وراء شخصٍ لا يلي الإمام إلا في الأحوال الطارئة، وهذا هو الراجح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان رمضان فاعتمري فيه، فإن عمرة في رمضان كحجة معي) فجعل للفضل مزية في الطاعة، ومن هنا قالوا بأفضلية القدم، وكانوا يفضلون في الأئمة من يكون الأخشع، ولماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم قال (أقدمهم سلماً) يعني: أقدمهم إسلاماً، فهذه كلها من الفضائل، فالإمام الراتب هذا أكثر فضلاً وأكثر طاعة وأحض، خاصة إذا كان لا ينسى المأمومين، ويأخذ بالسنة في دعائه له ولمن وراءه، فإن بعض الأئمة يكون حريصاً على الدعاء بالخير للمأمومين، فيسأل الله لهم الطاعة والخير والبر، ويكون فيهم حفظة لكتاب الله عز وجل، قائمون بحقوق الله، داعون إلى الله، فالصلاة وراء هؤلاء المتمسكين بالسنة، المتمسكين بطاعة الله عز وجل، لا شك أنها أفضل وأعظم وأقرب وأحظى منزلة، والله تعالى أعلم.

حكم رفع اليدين في الدعاء ومسح الوجه والجسم بعده

حكم رفع اليدين في الدعاء ومسح الوجه والجسم بعده Q ما حكم رفع اليدين في التأمين، وكذا مسح الجسم بعد الفراغ من التأمين أثابكم الله؟ A السؤال عام: من حيث الأصل المؤمِّن داعٍ، قال تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} [يونس:89] وكان هارون مؤمِّناً ولم يكن داعياً، ومن هنا نص العلماء على أن المؤمِّن داعٍ؛ لأنه يقول: آمين. ومعنى: آمين، اللهم! استجب، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه رفع كفيه في الدعاء، وجاء عنه في ذلك أكثر من خمسين حديثاً، ما بين صحيحٍ وحسن وضعيف، مما يقبل بعضه الانجبار، فهذه السنة محفوظة ما فيها إشكال، حتى في الصحيحين عليه الصلاة والسلام أنه ذكر: (الرجل أشعث أغبر يطيل السفر يمد يديه إلى السماء) يقول العلماء: إن هذا الحديث فيه ثلاث خصال من أسباب إجابة الدعاء، أولاً: أشعث أغبر، وقد قال في الحديث الآخر: (رب أشعث أغبر مدفوعٍ بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) لأن الدنيا ولّت عنه، فدفعه أهل الدنيا وأهانوه، ولكن الله لم يدفعه ولم يهنه، بل فتح له أبواب رحمته، فلم يجمع له بين هم آخرته ودنياه، بل عوضه عن دنياه بأحسن الثواب وأتمه وأكمله، فلو أقسم على الله لأبره واستجاب دعاءه. ثانياً: قوله عليه الصلاة والسلام: (يطيل السفر) فالمسافر مستجاب الدعاء، وإذا كان سفره أبعد فإن الاستجابة أحرى، كما ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله ونقله عن الأئمة. ثالثاً: يمد يديه إلى السماء، وقد قال في الحديث الذي حسنه غير واحد من العلماء: (إن الله حييٌ كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفراً) وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة أنه رفع كفيه ودعا، إلا في بعض العبادات التوقيفية مثل: الصلاة، فلا يرفع فيها الكف إلا في المواضع التي شرع فيها رفع الكف، مثل: القنوت. وذكر الحافظ ابن الملقن وحسن إسناده عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أنه رفع يديه لما قنت عليه الصلاة والسلام)، ونص الأئمة على أنه يشرع للمأمومين أن يرفعوا أيديهم تأميناً لدعاء الإمام في القنوت، فهذا الرفع ما فيه بأس. وأما مسح الجسد والوجه فهناك تفصيل: مسح الوجه فيه حديث عمر، وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في البلوغ: أن له طرقاً يقوي بعضها بعضاً، مما يشهد أن للحديث أصلاً، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع يديه في الدعاء لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه) وهذا الحديث أصل في مشروعية مسح الوجه، وذكر الإمام الصنعاني رحمه الله في السبل وغيره: أن هذا من باب الفأل، كأنه من ثقته بالله وكمال توحيده وصدق ظنه في الله أصابته الرحمة، وأخذ حاجته من ربه، فكان أفضل وأشرف شيء ما عفره بالسجود لله وهو أن يمسح وجهه، هذا إذا صح الحديث، ومن العلماء والأئمة من ذكر: أن المسح للوجه يشرع في الدعاء، فلا ينكر على من فعله، لأن له أصلاً وإن توقف الإنسان متحرياً للسنة فلا بأس. وأما بالنسبة لمسح الجسم كله فلا؛ لأنه لم يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسحه، وإذا كان في مسح الوجه إشكال فكيف بمسح الجسم كله؟! ولذلك إن كان ولابد ماسحاً فإنه يقتصر على مسح الوجه، والله تعالى أعلم.

المرأة المسلمة والدعوة إلى الله

المرأة المسلمة والدعوة إلى الله Q ما هو واجب المرأة المسلمة تجاه أخواتها من الأقارب والجيران في الدعوة إلى الله؟ وما هي الوسائل المعينة على ذلك؟ وهل المرأة مأجورة على دعوتها لأهلها وأقاربها، حتى وإن رفضوا وأعرضوا، أثابكم الله؟ A في الحقيقة الكلام على دعوة المرأة أمر يحتاج إلى تفصيل، ويحتاج إلى تأصيل، ويحتاج إلى شرح وبيان؛ لأنه كلما عظم الشيء وجلَّت مرتبته ومنزلته عند الله عز وجل، كان أحق أن يوفى حقه، ولكن هناك أمور: فالمرأة الصالحة إذا أراد الله بها خيراً حبب الدين إليها، فشرح صدرها، وطمأن قلبها بذكر الله عز وجل، فإذا أراد الله أن يعلي مرتبتها، وأن يعلي منزلتها، ألهمها طلب العلم، وألهمها أن تتبصر في أمور دينها، فتحب العلم، وتحب سماع العلم ومذاكرة العلم، فتتفقه في أمور دينها، وتعرف حلال ربها وحرامه، وشرعه ونظامه. وتعلم كذلك ما يجب عليها فيما بينها وبين الله سبحانه وتعالى، من تصحيح عقيدتها، وسلامة إيمانها والتعرف على حقوق ربها، من الإخلاص وابتغاء ما عنده سبحانه وتعالى، فإذا أراد الله أن يعلي مرتبتها أكثر هيأها إلى العمل بهذا العلم الذي تعلمته، فتجد المرأة الصالحة تبحث عن الخير، فإذا وجدته تعلمته وعلمته، ثم إذا تعلمت ذلك العلم حرصت على التطبيق والعمل، فإذا أراد الله أن يزيدها علواً في الدرجة وعظماً في الأجر، شرح صدرها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأصبحت آمرة بأمر الله، ناهية عما نهى الله عنه، تقول بقول الله، وتنهى بنهي الله، وعندها تنال الحكمة التي لا يعطاها ولا يؤتاها إلا من أراد الله له الخير الكثير: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269] وكثيراً من الله ليست بالهينة. والحكمة المراد بها هنا علم القرآن والسنة؛ لأن الله أحكم بهما الأمور، وقال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود:1] فالدين المستنبط من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم محكمٌ في ذاته، أحكمت آياته وأحكمت شريعته، فهو الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين سبحانه وتعالى، وهو محكمٌ في بيانه، ومحكمٌ في تفصيله، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115]. فتؤتى المرأة الحكمة، والنساء هن شقائق الرجال، فإذا أصبحت المسلمة حريصة بدأت أول ما تبدأ بفلذات كبدها، وأهل بيتها، فأمرت بطاعة ربها، بين بناتها وأبنائها، وكانت خير قدوة لهم، فكم من أبناء نشئوا على الخير والطاعة والبر حينما تربوا في أحضان أمٍ صالحة، وكم من بنات نشأن على الخير والبر حينما كانت تتلقفهن الأيدي الأمينة، من تلك الأم التي تخاف الله عز وجل في أمانتها ورسالتها، فتبدأ بأولادها والذكور والإناث، فإذا أراد الله عز وجل أن يعلي لها الدرجة جعلها داعية في قرابتها. فلا تجلس مجلساً إلا كانت مباركة على ذلك المجلس، كما قال الله عن نبيه يحيى عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم:31] فحملة العلم ودعاة العلم مباركون أينما كانوا، ما داموا يعلمون العلم وينشرون العلم، ويقولون بالحق وبه يعدلون، فالمرأة الصالحة إذا قالت بالخير ودعت إلى الخير كانت مباركة. أما واجبها تجاه مجتمعها فإنها تأمر بما أمر الله عز وجل به، وتنهى عما نهى عنه بالموعظة الحسنة، والكلمة الطيبة، والنصيحة الهادفة، وتأخذ بمجامع قلوب بنات المسلمين، وتحرص على أن تحببهن في الخير، وتؤلفهن في الخير، ما تكون فظةً، ولا تكون غليظة، ولا تكون منفرة، وإنما تكون ميسرة لا معسرة، مبشرة لا منفرة، إذا جاءت المجلس وتكلمت كان كلامها كالغيث لتلك القلوب العطشى الظمأى التي تنتظر ماء الوحي أن يحيي مواتها بإذن الله عز وجل، فتتكلم ذلك الكلام الهادف، الكلام المختصر المفيد الجيد، وعلى كل امرأة أرادت أن تسير في هذا المسير أن تكون على بصيرة. فالذي ينبغي أن يحذر منه الرجال والنساء في مسألة الدعوة: الحذر من فتنة الدعوة، فإن للدعوة فتنة، قل أن ينتبه لها من يتحمل مسئوليتها، وهي فتنة الغرور بالنفس، فالمرأة والرجل والداعي والداعية، يبدأ الواحد منهم في الوعظ والرقائق، ثم يفتي في المسألة الواضحة، ثم لا يلبث أن يجر إلى الفتاوى الكبرى، التي لو عرضت على أئمة السلف لجثا الواحد منهم على قدميه خوفاً من الله عز وجل، ومع ذلك تجده من أجرأ الناس فيها، وهذا هو سبيل الردى؛ لأن الشيطان إذا يئس من الشر أخذ -والعياذ بالله- المفتون من جهة الخير، فعلى المرأة الحذر من هذه الفتاوى العجيبة التي يطلقها بعض النساء في الدعوة. والعجب والأعجب من هذه الفتنة أن بعض النساء يغرر بهن، يقال لهن: من قال لكن: إن الدعوة خاصة بالرجال، ومن قال لكن: إنه لابد أن نحضر عند الرجال وعند المشايخ، ينبغي أن يكون عندنا مشايخ أيضاً من النساء، ونحن شقائق الرجال، والمرأة مثل الرجل، وغيرها من الدعوات والنعرات التي تخالف شرع الله عز وجل، من الغلو في أمر المرأة. أقول: لا حرج أن يكون هناك داعيات من النساء، لكن أن تغتر هؤلاء الداعيات، وتصبح الواحدة منهن متصدرة لكي تفتي في الحلال والحرام، يقولون: ما وجدنا شيخاً إذاً هذه هي التي تفتي، وهي التي تعلِّم، وهي التي تجتهد، وهي التي تقعد وتؤصِّل، هذا هو الغلو الذي ينبغي الحذر منه. وما هو موجود في النساء موجود في الرجال أيضاً، ولذلك تجد أناساً يتصدرون للدعوة بالوعظ، وما عرفوا إلا بالخطابة وترقيق القلوب، وفجأة أصبحوا يتكلمون في الأحكام، وفجأة أصبحوا يفتون، وفجأة أصبحت لهم أقوال، حتى إذا نزلت النازلة بُحِثَ عن رأيهم في المسألة، الله الله! رحم الله امرأً عرف قدر نفسه! ورد الأمر إلى أهله، وأنزل نفسه منزلتها اللائقة بها، فإذا كان واعظاً وقف عند وعظه، وزم نفسه بزمام التقوى، وجلس في مجالس العلم يتعلم ويضبط العلم حتى يصل إلى الدرجة التي يبوئه الله فيها مبوأ صدق، ولا يغشنَّ أمة محمد صلى الله عليه وسلم. من الغش أن يأتي الإنسان ويتصدر وليس عنده علم، ولم يأذن له العلماء بالفتوى، ولم يأذن له العلماء ببيان الأحكام، وهل تشتت الأمة وتفرقت إلا حينما لمع أقوام لا حظّ لهم في العلم، فأصبحوا يفتون، وأصبحوا يقعدون ويؤصلون، حتى شوشوا على أئمة العلم والهدى، فأصبح منارُ الحق ملبساً عليه بفتاوى عجيبة غريبة قل أن تجد الناس تصل إلى عالم يوثق بدينه وعلمه من كثرة من يفتي، فتجد الفتوى على لسان كل أحد، والأعجب من هذا أنك تجد مثل هذا في الرجال والنساء على حد سواء، فالمرأة تقول: هذا في رأيي ما فيه شيء، والرجل يقول: هذا في رأيي ما فيه شيء، متى كان الرأي حكماً في دين الله وشرعه؟ متى كان الرأي يفتى به في الحلال والحرام؟ والله عز وجل يقول: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23] فالذي يريد الهدى من ربه، فليتبع كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والمرأة الداعية تزم نفسها بزمام التقوى، فإذا سئلت عن شيءٍ لا تعلمه قالت: الله أعلم، أو قامت بسؤال العلماء ونقل المسألة إلى العلماء، لكي يفتوها ويعلموها ويرشدوها ويدلوها، كي تدل أخواتها على الخير، وجماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله علَّمه، ومن اتقى الله فهمه، ومن اتقى الله جعل له فرقاناً يفرق به بين الحق والباطل، وجعل له نوراً يمشي به، وصراطاً يهتدي به إلى لقاء ربه، حتى يلقى الله غير مبدل ولا مفتون ولا مفتون به. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم! أن يجعلنا ذلك الرجل، وأن يوفقنا لهذه النعمة الكريمة، وفي الختام تعلمون ما أصاب إخوانكم في فلسطين وهم أشد ما يكونون حاجة إليكم بعد الله عز وجل، وللمسلم على أخيه المسلم حقوق ينبغي عليه أن يحفظها ولا يضيعها، والمسلم إذا أصابته النكبة فينبغي على أخيه المسلم أن يقف معه، وأن يناصره ويؤازره بكل ما تعنيه هذه الكلمة، وأقل ما يكون -وليس بالقليل- كثرة الدعاء لهم، والابتهال لله سبحانه وتعالى، فكم من كفٍ صادقة من قلبٍ صادق كَبَتَ الله بها عدوه! وكم من كفٍ صادقة من رجلٍ مؤمن صادقٍ مع الله عز وجل رفع الله دعوته! وأعلى بها منزلته! فكونوا صادقين في الدعاء لإخوانكم، وتذكروا ما يعانونه من الظلم ومن الاضطهاد، ومن الأذية والبلاء مما لا يشتكى إلا إلى الله جل وعلا، فاجتهدوا في الدعاء لهم ومناصرتهم ومؤازرتهم بالماديات والمعنويات على قدر الاستطاعة، وتذكير المسلمين بذلك. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينصر إخواننا في فلسطين، اللهم! ثبت أقدامهم، اللهم! ثبت أقدامهم، اللهم! ثبت أقدامهم، اللهم! أصلح أحوالهم، اللهم! نور قلوبهم، اللهم! أنزل عليهم السكينة والثبات، اللهم! أنزل عليهم السكينة والثبات، اللهم! اجمع شملهم، اللهم! وحد صفوفهم، اللهم! سدد آراءهم، اللهم! صوب آراءهم، اللهم! سدد سهامهم، اللهم! صوب آراءهم. اللهم! عليك بأعدائك أعداء الدين، اللهم! عليك باليهود فإنهم طغوا وضلوا، وأشركوا وأفسدوا وأرجفوا، اللهم! أنت الله لا إله إلا أنت يا من يسمع الدعاء ويكشف البلاء فاطر الأرض والسماء، اللهم! إنا نستغيث بك لا إله إلا أنت لإخواننا، اللهم! عليك باليهود ومن شايعهم، اللهم! شتت شملهم، اللهم! فرق جمعهم، اللهم! صدع بنيانهم، اللهم! زلزل عروشهم، اللهم! فرق جمعهم، أنزل بهم لعنتك، اللهم! اسلبهم عافيتك، اللهم! اسلبهم عافيتك، واشدد عليهم وطأتك، وأنزل بهم رجسك ولعنتك إله الحق لا إله إلا أنت، اللهم! اقصم ظهورهم، وشتت أمورهم، اللهم! اقصم ظهورهم، اللهم! اجعل أمرهم إلى سفال، وعاقبتهم إلى خزيٍ ووبال، يا ذا العزة والجلال! يا كبير يا متعال! اللهم! أنت الله لا إله إلا أنت نسألك بعزتك وق

باب العاقلة وما تحمله [1]

شرح زاد المستقنع - باب العاقلة وما تحمله [1] إن من رحمة الله بعباده أن فرض على العاقلة التي هي عصبة الإنسان وقرابته أن تتحمل الدية عنه في قتل الخطأ، ولقد كانت العاقلة موجودة في الجاهلية، وأقرها الإسلام؛ لما فيها من الألفة والتكاتف والترابط والمحبة بين الأقرباء بعضهم بعضاً. وللعاقلة ثلاث جهات: جهة النسب، وجهة الولاء، وجهة الحلف. وللعاقلة أحكام كثيرة منها: الاكتفاء بالأقربين حال الغنى واليسار، وعدم وجوب العقل على غير المكلف ولا الرقيق ولا المرأة، ولا مع اختلاف الملة وغير ذلك من الأحكام.

حقيقة العاقلة وما يجب عليها وجهاتها

حقيقة العاقلة وما يجب عليها وجهاتها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. فقال رحمه الله تعالى: [باب العاقلة وما تحمله] العاقلة من العقل، والعقل في لغة العرب: الحبس والمنع، يقال: عقل البعير إذا ربطه ومنعه من السير، وسمي العقل عقلاً؛ لأنه يعقل صاحبه، بمعنى: يمنعه عما لا يليق من سفاسف الأمور، والمراد بالعاقلة هنا في اللغة والاصطلاح شيء واحد: وهو العصبة، والعصبة سميت عصبة من العصابة، والمراد بهم قرابة الإنسان المتعصبون بأنفسهم، كإخوانه وبني إخوانه من جهة الأشقاء أو لأب، وكذلك أيضاً بنو العمومة كأعمامه وبني أعمامه وبني بني أعمامه وإن نزلوا من جهة الأب والأشقاء، هؤلاء كلهم قرابة الإنسان، يوصفون بكونهم عصبة كما تقدم معنا في العبادات والمعاملات أكثر من مرة، وصفوا بذلك لأنهم كالعصابة تحيط بالرأس وهم يحيطون بالقريب، فإذا نزلت به نازلة أو ألمت به مصيبة -لا قدر الله- فهم الذين يتعصبون له ويحيطون به، هؤلاء يوصفون بكونهم عاقلة؛ لأنهم يعقلون قريبهم، بمعنى: يحيطون به فيمنعونه من الأعداء إذا أرادوه بسوء؛ ولأنهم إذا وجدت الدية أخذوا الإبل فعقلوها عند باب المجني عليه؛ لأنهم هم القرابة الذين يذهبون؛ ولأنهم يعقلون بمعنى: يتحملون الدية، يقال: عقلت الدية أي: تحملتها، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (ثم أنتم يا خزاعة! قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا عاقله) يعني: دافع ديته، فهذه كلها أوجه في سبب تسميه العاقلة بهذا الاسم. المراد بالعاقلة: تشريع إسلامي كان موجوداً في الجاهلية، حيث كانوا في الجاهلية تتحمل قرابة الإنسان الدية وتدفعها عن قريبهم، وأقر الإسلام هذا العمل الذي كان موجوداً في الجاهلية، وهذبه وقومه، وجاءت شروط شرعية أحق الله بها الحق وأبطل بها الباطل، وبناءً على ذلك لو أن شخصاً أخطأ فقتل شخصاً خطأً ووجبت عليه الدية، فقرابته وعصبته يدفعون هذه الدية ويتحملونها عنه، وهكذا لو أنه صدم شخصاً بسيارته خطأً فوجبت عليه نصف الدية، فقرابته هؤلاء من العصبة يدفعون نصف الدية، فهم يتحملون عنه هذه الحمالة، وهذا قضاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الذي في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قضى بالدية على عاقلة المرأة من هذيل، وذلك حينما اختصمت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، فقضى عليه الصلاة والسلام بديتها على عاقلتها.

الجهة الأولى: جهة الحلف

الجهة الأولى: جهة الحلف في قصة قتيل هذيل الذي قتلته خزاعة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم تحمله من باب الحلف؛ لأنه بين أجداد النبي صلى الله عليه وسلم وخزاعة حلفاً في الجاهلية، وخزاعة أحلاف لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية والإسلام، ولذلك كما تعلمون في صلح الحديبية أن من أسباب نقض هذا الصلح من قريش إغارة حلفائهم على حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم من خزاعة، حتى قال قائل خزاعة: اللهم إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا فناشده بالحلف الذي كان موجوداً واستمر وبقي بعد الإسلام، ويدل هذا على مشروعية العاقلة بالأحلاف بين القبائل، فإذا وقع الحلف بين القبيلة والقبيلة على المناصرة والمؤازرة والتحمل، فإن هذا له أصل في الإسلام، ومحمول على ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه أبقى حلف آبائه وأجداده مع خزاعة، مع أنه حلف مع القبيلة، فإذا وقعت المناصرة بين قبيلة وقبيلة وبينهم حلف، فإن هذا الحلف تجب به المناصرة، وتتحمل به القبيلة عن القبيلة الأخرى إذا حصلت دماء، وحصلت ديات كثيرة لم تستطع القبيلة الأولى أن تتحملها، فإنها تنتقل إلى القبيلة الثانية بالحلف. والعاقلة في الأصل كما سيبين المصنف رحمه الله: من جهة النسب ومن جهة الولاء، ويلتحق بذلك حلف القبائل -كما ذكرنا- لثبوت السنة به، وقد حمل بعض العلماء قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33] على أن المراد به التعاقد باليمين، والحلف على النصرة بين القبائل بعضها مع بعض، وأما إذا انتقل شخص من قبيلته إلى قبيلة أخرى؛ بسبب دم أو فرار من حق فهذا لا حلف فيه على قول طائفة من العلماء، ولا يحصل به العقل، كما قرره غير واحد من الأئمة رحمهم الله، وبينوا: أن المراد به الأحلاف الظاهرة، والحلف إذا كان على الوجه الذي ذكرناه، وكان على أمور شرعية لا جاهلية فيها فإنه مشروع؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث: (شهدت بدار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أُحب أن لي به حُمر النعم ولو دُعيت لمثله في الإسلام لأجبت) وهذا الحلف: هو حلف الفضول، وحلف الفضول وقع في دار عبد الله بن جدعان في أنهم يناصرون المظلوم، ويعينون المحروم، وأنهم يعينون الحاج والمنقطع، ونحو ذلك من الأمور التي لا تخالف شرع الله عز وجل. قوله: (باب العاقلة وما تحمله) هذا الباب في الحقيقة هو من عدل الله عز وجل، وهو باب عظيم، عدلت فيه الشريعة بين الناس، وجعلت العقل على قرابة الإنسان؛ لأن الذي يرث الإنسان هم قرابته، فكما أنهم يأخذون الإرث ويغنمون، كذلك يتحملون الخسارة، ومن يعترض على الإسلام أنه أعطى الذكر مثل حظ الأنثيين أخطأ في فهم الإسلام؛ لأن الإسلام في الأصل جعل الذكر يتحمل ويعقل ويغرم، وفي النفقة يتحمل النفقة والأنثى لا تتحمل هذه التبعات، ولذلك في نظام العاقلة في الإسلام لا تتحمل الأنثى، كما سيأتي إن شاء الله تفصيله؛ لأن العقل للقرابة بالنسبة للعصبة المتعصبين بأنفسهم، وهذا من أقوى الأمور التي تدمغ بها هذه الشبهات. والإسلام ربط بين الغنم والغرم، والقاعدة تقول: إن الغرم بالغنم والغنم بالغرم، وهو معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنن: (الخراج بالضمان). فالمصنف في هذا الموضع سيذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بعقل الديات.

الجهة الثانية: جهة العصبة من النسب

الجهة الثانية: جهة العصبة من النسب قال رحمه الله: [عاقلة الإنسان عصبته كلهم من النسب] قوله: (عاقلة الإنسان عصبته كلهم) أي: أن عاقلة الإنسان إذا جنى جناية هم عصبته، لو أنه قاد سيارة ودهس شخصاً، أو كان معه في السيارة أربعة أشخاص وماتوا، وكان متسبباً في موتهم، فعليه أربع ديات، من الذين يتحملون هذه الديات؟ هم العاقلة، وهم عصبته كلهم، العصبة هي الأقرب فالأقرب. وعصبة الإنسان هم عمود النسب: أولاً: آباؤه وإن علوا، أبيه وأبو أبوه الذي هو جده من جهة الذكور متمحضاً بالذكور دون الإناث. ثانياً: أولاده الذكور وفروعه من الذكور: أبناؤه وأبناءُ أبنائه وإن نزلوا، فالإناث لا يدخلون في هذا التعصيب. ثالثاً: فروع أبيه كإخوانه الأشقاء، ومن شاركه في والده وهم الأخوة لأب دون الأم، فالأخ لأم ليس من العصبة ولا يتحمل. ثم رابعاً: ننظر إلى من شاركه في جده الذين هو أصل أبيه، وهم أعمامه الأشقاء، وأعمامه لأب، وأبناؤهم. خامساً: ننظر من شارك أبا الجد، ثم من شارك جد الجد، ننظر في هؤلاء الأقرباء، إن كان عندهم قدرة وعندهم مال، واستطاعوا أن يدفعوا خمسين ألفاً التي هي نصف الدية، أو مائة ألف فلا إشكال، حينئذٍ نكتفي بالأقرباء، الأقرب فالأقرب، فإذا كانوا فقراء وضعفاء وفيهم من لا يتحمل، وظروفهم لا تساعد ننتقل إلى الأبعد فالأبعد، حتى نصل إلى جميع العشيرة، يعني: ينظر إلى الأقرب، ثم إلى العشيرة، ثم إلى القبيلة بكاملها فيتقسم عليها، فلو كانت القبيلة قليلة العدد، قليلة المال، ولا تستطيع، ولها حلف مع قبيلة أخرى، انتقلت العصبة إلى القبيلة الأخرى كما ذكرنا في العقل بالأحلاف. هذا بالنسبة لجهة النسب والقرابة، وقد بينّا تعريف النسب والقرابة وقلنا: ما سمي بذلك إلا لأن الإنسان ينسب، بمعنى: يضاف؛ لأن النسب أصله الإضافة، وسمي القريب بهذا الاسم؛ لأنه يضاف إلى قريبه.

الجهة الثالثة: جهة الولاء

الجهة الثالثة: جهة الولاء قال رحمه الله: [والولاء] الولاء: نعمة المعتق على العتيق، وهناك مولى أعلى ومولى أسفل: المولى الأعلى: هو نفس المعتق، والمولى الأسفل العتيق، فإذا أعتق المولى صار بينه وبينه ولاء، ونحن بيّنا أن الرق ليس مختصاً بلون ولا بجنس ولا بطائفة، وإنما هو راجع إلى الكفر، فإذا ضرب الرق بهذا السبب وأعتق شخص مولىً له صار هذا العتق موجباً للولاء، حتى ولو أعتقه في كفارة واجبة، فإذا ثبت الولاء، ففائدته: أن هذا الرقيق لو توفي يرثه موالاه عند انعدام الورثة، مثلاً: لو فرضنا أنه أخذ عبداً من الروم، ثم أسلم هذا العبد وأعتقه سيده في كفارة أو أعتقه نافلة، فلما أعتقه قام هذا المعتق وباع واشترى فأصبح ذا مال كثير، فلما توفي نظرنا إلى قرابته لم نجد له قريباً يرثه، وليس عنده أولاد ولا إخوان ولا قرابة ولا زوجة، أو عنده زوجة وفاض المال، من الذي يرثه إذا انقطع من جهة النسب؟ الميراث ينتقل إلى الولاء، فالولاء سبب من أسباب الميراث، كما أن السيد يأخذ الولاء في حال الغنيمة، يتحمل أيضاً مع المولى الأسفل في حال الجناية، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (الولاء لحمة كلحمة النسب) كما في الصحيح، وقال: (قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق) والنبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (نهى عن بيع الولاء وهبته)، فجعل هذه وصلة بين المعتِق والمعتَق، وفي هذه الحالة يتحمل بالولاء كما ذكرنا.

الاكتفاء بالأقربين في الدية حال الغنى واليسار

الاكتفاء بالأقربين في الدية حال الغنى واليسار قال رحمه الله: [قريبهم وبعيدهم] قوله: (قريبهم وبعيدهم) نبدأ بالأقربين، إذا اكتفوا بهم، خاصة إذا كان فيهم غنى ويسار وتحملوا الدية، وقالوا: نحن نتحمل، فمثلاً: لو أن شخصاً لزمته دية في قتل الخطأ، وكان له، ثلاثة أعمام أشقاء، أو ثلاثة أعمام أشقاء ولأب، وهم أغنياء أثرياء فقسموا هذه الدية بينهم، وقالوا: نتحملها، سقطت عن الأبعد، ولزمت هؤلاء، لكن لو لم نكتف بالأعمام، فحينئذٍ ننتقل إلى بني الأعمام وبني بني الأعمام، وإذا كان الأعمام في درجة الجد، فإنه ينتقل إلى أعمام الأب وأعمام الجد وأعمام جد الجد وبنيهم، يعني: لو كان لهم نسل وذرية، فهؤلاء كلهم قريبهم وبعيدهم يستوون في فرض العقل. وهذا من نعم الله عز وجل على المسلمين، وما كانت تعجزهم هذه الحقوق، ثم انظر رحمك الله! إذا أعان القريب قريبه في حال الخطأ كيف تجتمع القلوب! وكيف تتآلف وتتكاتف وتتعاطف! ويحصل بينها المحبة والتواصل! وهذا مقصود الإسلام: أنه يحرص على ربط الناس بعضهم ببعض، فكيف إذا كانوا أقرباء؟! فلو أن إنساناً مثلاً: يقود سيارته ومعه أشخاص وحصل له حادث وتوفي هؤلاء الأشخاص، ثم جاء أقرباؤه وتحملوا الديات، كيف يكون أثرها في نفس هذا الشخص؟ وكيف يحب جماعته وقرابته ويتصل بهم؟ إذاً الإسلام يقوي هذه الوشائج، ويقوي هذه الصلات، ويذكر القريب بحق قريبه عليه، ولا شك أن في هذا خيراً كثيراً، مع أن فيه تحملاً للمسئولية وتحملاً للضرر؛ لكنه يحدث شيئاً من المحبة والترابط بين أفراد المجتمع، ناهيك عن القرابة الذين هم أولى وأحق من يكون بينهم ذلك.

وجوب الدية على الحاضر والغائب من الأقرباء

وجوب الدية على الحاضر والغائب من الأقرباء قال رحمه الله: [حاضرهم وغائبهم] (حاضرهم وغائبهم) الأقرباء فيهم الذي يكون في نفس المدينة، وفيهم الذي يكون في مدينة أخرى، وفيهم الذي يكون في الحضر، وفيهم الذي يكون في البادية، فبعض العلماء يرى: أنه إذا كان الغائب غائباً بعيداً فإنه ينظر إلى الأقرباء الحاضرين ولا ينظر إلى الأقرباء البعيدين، وتفرض الدية مقسمة على الأقرباء الحاضرين. ومن أهل العلم من قال: إن الأقارب لو كانوا في بلد بعيد، فعلى قاضي البلد الذي فيه الجناية أن يكتب إلى قاضي البلد الذي فيه البعيد ويلزمه، والحقيقة من حيث الأصل هذا أقوى؛ لأن العبرة بوجود الموجب للتحمل والمسئولية، وهذا موجود من جهة القرابة، فيستوي قريبهم وبعيدهم، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله.

حكم دخول الجاني في تحمل الدية

حكم دخول الجاني في تحمل الدية اختلف العلماء رحمهم الله في أخذ الدية من القاتل نفسه، لو أن شخصاً قاد سيارة، وحدث له حادث وتحمل فيه ثلاثَ دياتِ، هل الدية يدفع هو فيها أم أنها تكون على العاقلة فقط؟ وجهان لأهل العلم: الوجه الأول: من أهل العلم من قال: العاقلة هي التي تحمل والقاتل لا يتحمل شيئاً، وهذا له نظائر في الشريعة، ويقولون: إن العاقلة ترثه، وتأخذ الميراث من تعصبهم بأنفسهم، كما ذكرنا في القرابة من جهة الآباء والأصول، فقالوا: في هذه الحالة يتحملون، واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث في الصحيحين: (قضى بديتها على عاقلتها) ما قال: عليها وعلى عاقلتها، قالوا: فخص الدية بالعاقلة، وفي الحديث الآخر: (فقضى بديته على عاقلته) وقال: (ثم أنتم يا خزاعة! قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله) فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه أنه يعقل، ما قال: إن على القاتل أو على قرابة القاتل أو في مال القاتل شيئاً من العقل. والوجه الثاني: أن يتحمل القاتل جزءاً على قدر غناه ويسره، كما سيأتي إن شاء الله، فإن كان القاتل ما عنده مال فإنه ينتقل إلى أقربائه. وفي الحقيقة القول الأول قوي جداً من جهة النص. قال: [حتى عمودي النسب] في المسألة الأولى: إذا أثبتنا أن القاتل لا يتحمل بناءً على ظاهر الحديث، في هذه الحالة اختلف العلماء في عمودي النسب أصوله وفروعه، قالوا: إذا امتنع فإن عليه أن يدفع فأصله آخذ حكمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما فاطمة بضعة مني) فالولد قطعة من والده، وإذا كان الفرع لا يلزمه فالأصل من باب أولى وأحرى؛ لأنه أصله، ولأنه لم يجن الجناية، قالوا: فتسقط عنه، والفرع كذلك؛ لأنه بضعة من القاتل، والأصل كذلك؛ لأن القاتل بضعة منه. فقوله: (حتى عمودي النسب) يرد على هذا القول، ويرى بعض العلماء: أن الحكم مختص بالقاتل فقط؛ لأن الأصل أنهم يتحملون، وسقطت عن القاتل الدية على الذي ذكرناه، فيضعف جريان القياس أو جريان الأصل من هذا الوجه.

الأصناف التي لا يجب عليها العقل

الأصناف التي لا يجب عليها العقل

عدم وجوب العقل على الرقيق

عدم وجوب العقل على الرقيق قال رحمه الله: [ولا عقل على رقيق] قوله: (ولا عقل على رقيق)؛ لأنه لا يملك المال، وملكيته ضعيفة، والدليل على ذلك: حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) فأخلى يد العبد عن الملكية.

عدم وجوب العقل على غير المكلف

عدم وجوب العقل على غير المكلف قال رحمه الله: [وغير مكلف] قوله: (وغير مكلف) الذي هو الصبي والمجنون، فلو أن قرابته كان فيهم صبيان، كما لو كان لو كان ابن عمه صبياً دون البلوغ، وعنده مال، أو كأن يكون يتيماً وورث عن أبيه مالاً، فإننا لا نوجب في ماله عقلاً؛ لأن العاقلة لا تثبت في غير المكلف، قالوا: لأن الأصل في العاقلة المعاضدة والنصرة، فكما أنه ينصره إذا أخطأ، كذلك يتحمل هو خطأه، الآن هذا الولد لو أنه بالغ وحصل له نفس الخطأ تحمل قريبه، والعكس مادام وقع لقريبه فإنه يتحمل، لكن حينما يكون قاصراً ودون البلوغ ولا يستطيع النصرة ولا يستطيع المعاضدة، وبناءً على ذلك قالوا: إنه لا عليه، وهذا الحق سقط عنه بناءً على الحديث الذي ذكرناه، وقالوا: إن غير المكلف من صبي ومجنون لا عقل عليهما؛ وذلك لسقوط المعاضدة والمناصرة منهما.

عدم وجوب العقل على الفقير

عدم وجوب العقل على الفقير قال رحمه الله: [ولا فقير] قوله: (ولا فقير)؛ لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فلو كان بنو أعمامه كلهم فقراء فإنه يُنتقل إلى بني أعمام الأب، وإذا كان بنو أعمام الأب كذلك فإنه ينتقل إلى بني أعمام الجد، يعني: يُنتقل إلى الأقرب فالأقرب على حسب اليسار والغنى، ولا تجب على فقير، فالفقير لا يستطيع أن يعول نفسه فكيف يعول غيره؟ ولذلك قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] والإجماع على أن الفقير لا يجب عليه العقل.

عدم وجوب العقل على الأنثى

عدم وجوب العقل على الأنثى قال رحمه الله: [ولا أنثى] قوله: (ولا أنثى) لقد ذكرنا أن هذا مختص بالذكور دون الإناث، ولذلك الذكر عليه النفقة وله الميراث بالعصبة، ولذلك لو انفرد هذا الذكر لأخذ مال قريبه كله بالتعصيب، وانظر كيف يكون التفريق في الشرع بين الذكر والأنثى، في الميراث وفي المؤاخذة، ومن هنا جاء العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، والأنثى لا تناصر ولا تعاضد؛ لأن الأنثى ليست من أهل النصرة والمعاضدة، ولذلك سقط الجهاد عن النساء، ومن هنا قالوا: إن الأنثى لا تتحمَّل ولا تعقل.

الأحوال التي لا يجب فيها العقل على العاقلة

الأحوال التي لا يجب فيها العقل على العاقلة

عدم وجوب العقل على من خالفت ملته ملة الجاني

عدم وجوب العقل على من خالفت ملته ملة الجاني قال رحمه الله: [ولا مخالف لدين الجاني] قوله: (ولا مخالف لدين الجاني)؛ لأنه ينقطع إذا كان على ملة غير ملة الجاني، فليس بينهما الأصل الموجب للمعاضدة والمناصرة في الدين والشرع؛ لأن العاقلة فيها المناصرة والمعاضدة بالطبع، والمناصرة والمعاضدة بالشرع، فإذا وجد ما يمنع المناصرة والمعاضدة بالطبع امتنع، وإذا وجد ما يمنع المعاضدة والمناصرة بالشرع امتنع، ومن هنا لا يقضي القاضي على قريبين من ملتين مختلفتين، وصورة هذه المسألة: كانوا في القديم -هذا بالنسبة لأهل الكتاب- إذا كانوا تحت حكم المسلمين وحكم القاضي بينهم في العقل بشريعتنا، فإن القاضي يحكم بالعاقلة، فإذا كان هناك قريب من العاقلة على ملة غير ملة الجاني لم يحمل، ولا يقضي القاضي بحمالته، فلا يقضى بين ملتين مختلفتين، ومن باب أولى بين المسلمين والكفار. ولذلك قطع الله التوارث بين المسلم والكافر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح، حينما قال له أسامة بن زيد -حبه وابن حبه رضي الله عنه وعن أبيه-: (أين تنزل غداً؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من رباع؟ -ثم قال عليه الصلاة والسلام-: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم، منزلنا بخيف كنانة حيث تقاسموا على الكفر)، فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع التوارث بين المسلم والكافر.

عدم وجوب العقل على العاقلة في العمد المحض

عدم وجوب العقل على العاقلة في العمد المحض قال رحمه الله: [ولا تحمل العاقلة عمداً محضاً] قوله: (ولا تحمل العاقلة عمداً محضاً) بعد أن بين حقيقة العاقلة، ومن هم العاقلة، ومن الذي يُدخل في العاقلة، ومن الذي لا يدخل، شرع رحمه الله في الموجبات للعقل، وهو الخطأ دون العمد، لكن لو قتل -والعياذ بالله- عمداً فالعاقلة لا تحمل الدية، لو قال أولياء المقتول: نريد الدية، فقال القاتل لعاقلته: ادفعوا الدية، نقول: لا تلزم العاقلة الديةُ، إذا كان عمداً محضاً.

عدم وجوب العقل على العاقلة إذا جنى الرقيق

عدم وجوب العقل على العاقلة إذا جنى الرقيق قال رحمه الله: [ولا عبداً] قوله: (ولا عبداً) كذلك لا تحمل العاقلة العقل إذا كان الجاني رقيقاً مملوكاً؛ لأن جنايته في قيمته.

عدم وجوب العقل على العاقلة في صلح الإنكار

عدم وجوب العقل على العاقلة في صلح الإنكار قال رحمه الله: [ولا صلحاً] قوله: (ولا صلحاً) أي: لا تحمل العاقلة العقل في صلح الإنكار، وهذا تقدم معنا في مسألة الصلح، وبينَّا في مسائل الصلح أن الصلح يكون على الإقرار وعلى الإنكار، فخصه طائفة من العلماء على أن العاقلة لا تحمل في صلح الإنكار خاصة، وهذا الذي نفاه المصنف من عدم العقل في هذه الصورة، وأصله أثر ابن عباس الذي رواه البيهقي في سننه، وصحِح وقفه وضعف رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الزيلعي في المرفوع: إنه غريب، يعني: المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضعف بعض العلماء رحمهم الله إسنادَ المرفوع، لكن العمل عليه عند أهل العلم رحمهم الله.

عدم وجوب العقل على العاقلة في اعتراف لم تصدق به

عدم وجوب العقل على العاقلة في اعتراف لم تصدق به قال رحمه الله: [ولا اعترافاً لم تصدقه به] لو اعترف بجناية وقال: أنا قتلت فلاناً خطأً، والعاقلة لا تصدقه بهذا، قالوا: إنه لا تحمل العاقلة هذا الاعتراف الذي تنكره، إذا كان لإنكارها وجه؛ لأنه قد يتواطأ هذا الشخص مع أولياء المقتول، في أنه يضغط على جماعته وقرابته وقبيلته، ثم يقتسم ذلك بينه وبين من يدعي زوراً وكذباً أنه اعتدى على صاحبهم أو سفك دمه، وهذا من باب سد الذرائع.

أقوال العلماء في القدر الذي تحمله العاقلة

أقوال العلماء في القدر الذي تحمله العاقلة قال رحمه الله: [ولا ما دون الدية التامة] قوله: (ولا ما دون الدية التامة) اختلف العلماء رحمهم الله في مسألة القدر الذي تحمله العاقلة، بعض العلماء يقول: العاقلة تحمل القليل والكثير في الضمانات التي ذكرناها، ولا يتقيد هذا لا بالثلث ولا بنصف العشر من الدية، ولا بما يعادل الغرة، ومن أهل العلم من حده بالغرة كـ أبي حنيفة رحمه الله، ومنهم من حده بالثلث كما هو مذهب الحنابلة، والمالكية عندهم وجه في ذلك رحمة الله على الجميع، وفي الحقيقة عندهم نظر في الأدلة قد يقوى حمل القليل والكثير؛ لأن التحديد بالثلث مبني على النظر، والأصل في الحمالة بأسبابها وموجباتها أنه يتحمل جناية غيره، سواءً كانت قليلة أو كثيرة.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الانتقال من القريب إلى البعيد في العقل مع الاستطاعة

حكم الانتقال من القريب إلى البعيد في العقل مع الاستطاعة Q هل الانتقال من القريب إلى البعيد توقيفي، أم أننا نلزم القبيلة بالدفع والمشاركة، علماً بأن أقرباء الجاني يستطيعون تغطية الديات، أثابكم الله؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فعلى القاضي أن ينظر في قرابة الشخص ويفرض عليهم على حسب غناهم ويسرهم، فهناك الغني، وهناك المتوسط، فإذا اجتزأ بالأقرباء القريبين من الشخص فإن له ذلك، ولا ينتقل للأبعد، فهي تختص بالأقرب فالأقرب، فإذا سدوا لم ينتقل إلى الأبعد، والله تعالى أعلم.

حكم جمع المال للنوازل وحكم زكاته

حكم جمع المال للنوازل وحكم زكاته Q عندنا في القبيلة يلزم كل بالغ بدفع مبلغ معين، وأحياناً تتكدس الأموال المجموعة لغرض العقل، فهل في هذه الأموال زكاة، أثابكم الله؟ A بالنسبة لصندوق القبيلة، ينبغي أن يعُلم أنه لا يُحكم بخروج المال من ذمتي أنا الدافع إلا إذا وصل لمستحقه، فمن هنا نقول: إن الأصل أن المال لمن دفع، وإذا كان لمن دفع فلا نحكم بانتقال يده؛ بدليل أنه لو مات لوجب رده إلى ورثته شرعاً، لو قالت القبيلة: ما نرده، نقول: هذا حكم خلاف شرع الله عز وجل، الأصل أنه يرد إلى صاحبه؛ لأنه دُفع من أجل الطارئ، وما دُفع لسبب يتقيد بذلك السبب، وإذا مات الشخص ولم يُدفع ذلك المال فإنه يرد إلى قرابته وورثته، هذا مال يجب أن ينظر إلى سبب الدفع فيه، فإذا كان الذي دفعه على أنه للنوازل والعوارض، وإذا لم توجد هذه النوازل والعوارض، فهو في ملكيته حتى تحدث هذه النوازل والعوارض، إذا ثبت هذا فعليه زكاته، وإذا مات فإنه يرد إلى ورثته ولهم النظر في ذلك المال. بعض العلماء يقول: هذا المال أصبح لا مالك له، وإذا كان لا مالك له فإنه لا تجب فيه الزكاة، وهذا محل نظر، أولاً: إذا اختلف عندنا قولان نرجع إلى الأصل، هل الأصل في هذا المال أنه مملوك لدافعه أو لغيره؟ وهل الذي دفعه لسبب خرج عن يده؟ كأن يقول: إذا حدث حادث، فاخصموا منه قسمي أو نصيبي من العقل، فلو قال قائل: إن هذا مدفوع ومفروض على أفراد القبيلة، من أجل إذا طرأ طارئ، بغض النظر عن العاقلة أو غيرها، نقول: إن هذا الأصل ينبغي أن ينُظر فيه؛ لأن إلزام الناس بالدفع في غير ما ألزمت به الشريعة يحتاج إلى نظر، ولا يُحرج الناس ولا يؤخذ المال بسيف الحياء، وأموال الناس لها حرمة كحرمة الدماء. ومن هنا نقول: إن هذا المال ملك لمن دفع، حتى يدل الدليل على أنه خرج عن ملكيته، فلو قال قائل: إنه تصدق به، قلنا: لم يصل إلى يد المتصدق عليه، فأصبح شيخ القبيلة وكيلاً بدفعه للمحتاج، ومن دفع صدقة إلى شخص من أجل أن يعطيها إلى محتاج ولم يعطها، فالوكيل منزل منزلة الأصيل، ولا زالت يده يد أمانة، والمال واجب زكاته، فلو أعطيت رجلاً مائة ألف ليتصدق بها على الفقراء، وحبسها حتى حال عليها الحول وجبت زكاتها إجماعاً؛ لأنها لم تصل إلى مستحقيها، ولم تخلُ يدك من الموجب للزكاة إلا بعد أن يستلمها المسكين والمحتاج، فإذا كانت الأموال دفعت بسبب، والسبب لم يقع ولم يحدث، فلا زالت في ملك أهلها، ويجب ردها إلى أهلها إذا طلبوا ذلك المال، أو حدث أن توفي الشخص حينئذٍ يُرجع المال إلى ورثته، وينظر في قول الورثة، ويجري عليها حكم التصدق بالثلث، على الأصل المعروف في الشرع إذا قصد بها الصدقة، وأما إذا قصد بها العقل فلا إشكال أنها ترجع إلى الورثة، ثم ننظر في عقل الورثة إذا نزل الموجب للعقل، والله تعالى أعلم.

حكم تحمل الدية عن الفاسق

حكم تحمل الدية عن الفاسق Q إذا كان القول الصحيح: أن العاقلة تتحمل الدية ولا يتحملها القاتل المتسبب في الحادث، فهل إذا كان هذا القاتل معروفاً عنه عدم المبالاة وعدم الاستقامة؟ فهل يدفع عنه أيضاً، أثابكم الله؟ A تحمل العاقلة يستوي فيها البر والفاجر، يعني: لو كان هذا السائق فاسقاً يشرب الخمر أو يزني -والعياذ بالله- فهذا حق من حقوقه، فلو أنه توفي لَوَرِثْتَه سواءً كان براً أو فاجراً، ما دام أنه مسلم ولم يخرجه فسقه عن الإسلام، فالشاهد: لا ينُظر فيه إلى كونه فاسقاً أو صالحاً، هذا لا عبرة به، العبرة بكونه قريباً له حق القرابة، وما بينه وبين الله من الأخطاء والذنوب هذا شيء بين العبد وربه وليس بيننا وبينه، فنحن لسنا مكلفين بهذا الأمر. إذاً يستوي في ذلك برهم وفاجرهم، وعليه فيعقل عن الفاسق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل، ولم يقل: على عاقلتها إن كانت تقية، ولم يقل: على عاقلتها إن كانت صالحة، هذا حكم عام في الشرع، له سبب وهو القرابة، ومن ذلك يبقى الحكم على هذا الأصل، والله تعالى أعلم.

التوفيق بين قوله: (ولا تبطلوا أعمالكم) وقوله: (المتطوع أمير نفسه)

التوفيق بين قوله: (ولا تبطلوا أعمالكم) وقوله: (المتطوع أمير نفسه) Q كيف نوفق بين قوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (المتطوع أمير نفسه)، أثابكم الله؟ A لا تعارض بين عام وخاص، فقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] عام وقوله عليه الصلاة والسلام: (المتطوع أمير نفسه) خاص، فلا تبطلوا أعمالكم عام، يشمل الفرائض والنوافل، ويشمل جميع الأعمال الصالحة، سواءً كانت في الفريضة: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] فإذا كبرت لصلاة الفريضة فعليك أن تتمها، وإذا ابتدأت صوم الفرض فعليك أن تتمه، وإذا حججت فعليك أن تتم الحج، وإذا اعتمرت فعليك أن تتم العمرة، {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] هذا في الفرائض. أيضاً قوله سبحانه: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] في النوافل، فلو أن شخصاً تطوع بصلاة، فإنه لا يقطعها إلا إذا طرأ له طارئ، أو رخص له الشرع بالقطع. لقد نهانا الله عز وجل أن نبطل أعمالنا؛ لأن إبطال الأعمال فيه مخالفة للشرع إذا كان العمل واجباً، فمن قطع صلاته وهو يصلي الظهر بدون سبب فإنه آثم شرعاً؛ لأن الله أمره بإتمام صلاته وأداء حقه سبحانه، ومن أفطر في رمضان من دون عذر فإنه آثم شرعاً، ولم يقضه صيام الدهر ولو صامه، ومن جاء في حج فجامع زوجته قبل الوقوف بعرفة فقد أفسد حجه وأبطله، وهكذا لو جاء في عمرة فجامع قبل الطواف بالبيت فإنه قد أفسد عمرته، هذا كله منهي عنه شرعاً في الفرائض وفي النوافل. فجاء النص في النافلة: (المتطوع أمير نفسه) في مسألة الصوم، فمن صام الإثنين ثم رأى من المصلحة أن يفطر، إما جبراً لخاطر قريب، أو دُعي إلى وليمة، أو أمره والده أو والدته أن يفطر فهذا خاص، قال صلى الله عليه وسلم: (المتطوع أمير نفسه)؛ لأنه ألزم نفسه ما لم يلزمه الشرع، فوسع الشرع في حقه أكثر من غيره، والقاعدة: لا تعارض بين عام وخاص، والله تعالى أعلم.

حكم التكبير لسجود التلاوة في الصلاة

حكم التكبير لسجود التلاوة في الصلاة Q سجود التلاوة إذا وقع في الصلاة هل أكبر أم أسجد بدون تكبير، أثابكم الله؟ A الظاهر والصحيح وجوب التكبير على ظاهر حديث أبي داود وغيره في سجوده عليه الصلاة والسلام في الصلاة، فيشمل الصلاة وغيرها، والله تعالى أعلم.

أجر النافلة في الصف الأول كأجر الفريضة عدا روضة المسجد النبوي

أجر النافلة في الصف الأول كأجر الفريضة عدا روضة المسجد النبوي Q هل أجر النافلة في الصف الأول مثل أجر صلاة الفريضة في الصف الأول، أثابكم الله؟ A هذا فيه تفصيل: في بعض المساجد النافلة في غير الصف الأول أفضل، فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم النافلة في الروضة أفضل من النافلة في سائر المسجد؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) وهذه الروضة يحرص المسلم على أن يصلي فيها ويستكثر فيها من الخير، وهذا عليه عمل أهل العلم رحمهم الله من السلف والخلف، هذه الروضة أفضل بقعة في المسجد النبوي. لكن في الفريضة الصف الأول أفضل على أصح قولي العلماء، وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله جمعاً بين النصوص، وقال: إذا أُقيمت الصلاة فالصف الأول أفضل؛ لورود النص الخاص به؛ لأن الصف الأول في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في غير الروضة، وحينئذٍ يتقدم من أجل الصف الأول، أما في سائر النوافل فالأفضل أن يصلي في الروضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) دل على فضلها وفضل العمل الصالح فيها، وهذه مزية منصوص عليها، لا يقدم الإنسان معها ولا يؤخر، شيء ثبت به الدليل لا يُعْمِل رأيه في رد هذه السنة الصحيحة، ولذلك الذي عليه العمل عند العلماء: أن الطاعة في هذا الموضع أفضل، ومن هنا بين النبي صلى الله عليه وسلم حال الطاعة، فقال عليه الصلاة والسلام: (من عاد مريضاً فهو في خرفة الجنة) وهذا دليل على عظم الأجر، فدل على فضل هذا المكان وعظم الأجر. قال بعض العلماء: قوله عليه الصلاة والسلام: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) أي: أن الطاعة فيها موصلة لدخول الجنة، وهذا فضل عظيم، وخير كبير جداً، والإنسان يحرص على أن يكون في هذا المكان؛ لأنه أفضل ما في المسجد، أما ما عدا المسجد النبوي، مثلاً: الآن شخص دخل المسجد، وجاء إلى الروضة وصلى نافلة، فإذا أُقيمت الصلاة يريد أن يتقدم إلى الصف الأول، نقول: الأفضل أن تأتي إلى الصف الأول وتصلي تحية المسجد فيه، وتجلس في مكانك؛ لأن الملائكة تصلي وتترحم عليك مادمت في مصلاك. ومن هنا فلا تقطع هذا الفضل العظيم، ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (وذلك أنه إذا توضأ فأسبغ الوضوء ثم خرج إلى مسجده لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخطُ خطوة إلا كتبت له بها حسنة وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه تقول: اللهم اغفر له! اللهم ارحمه!) وهذا فضل عظيم يفوت بالانتقال، ومن هنا يحرص على هذا الفضل من هذا الوجه، والله تعالى أعلم.

حكم استخلاف الإمام في الصلاة

حكم استخلاف الإمام في الصلاة Q كيف يتصرف الإمام إذا تذكر أنه على غير وضوء أثناء صلاته بالمأمومين، أثابكم الله؟ A إذا علم أنه محدث أو حصل له الحدث أثناء الصلاة فإنه يسحب شخصاً ويستخلف، وهذا يسمى: بالاستخلاف، يسحبه ويقيمه مكانه ثم ينصرف، ويسحب أَوْلَى الناس بالإمامة، فإذا كان وراءه ثلاثة أشخاص أحدهم أولى فإنه يقدمه، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى) فهذا لأجل وجود حاجة الإمام قالوا: إن هذا الحديث نبه على قضية الاستخلاف؛ لأن الإمام يحتاج إلى أن يستخلف عند حدوث عارض له، والله تعالى أعلم.

بيان وقت النهي قبل الظهر وحكم التنفل فيه

بيان وقت النهي قبل الظهر وحكم التنفل فيه Q هل هناك وقت نهي قبل صلاة الظهر؟ وإذا كان فمتى يبدأ، أثابكم الله؟ A قبل صلاة الظهر إذا انتصف النهار لا يتنفل الإنسان، وانتصاف النهار عند وقوف الشمس عن الحركة، فالشمس تسير من المشرق إلى المغرب، وإذا وصلت في منتصف النهار في كبد السماء وقفت هُنيّة، يعني: وقت يسير، وهذه الساعة ممنوع من الصلاة فيها؛ وذلك لقوله: (ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن، أو أن نقبر موتانا: حين تطلع الشمس، وحين تغرب، وحين يقوم قائم الظهيرة) حين يقوم قائم الظهيرة؛ لأن الشمس إذا جاءت من المشرق فإن الظل يتقاصر حتى تقف الشمس في كبد السماء، فالظل يتحرك أثناء مسيرها من المشرق إلى منتصف كبد السماء، فإذا انتصفت في كبد السماء وقفت، فيقوم قائم الظهيرة الذي هو الظل، فإذا وقفت الشمس وجدت الظل لا يتحرك لا بنقص ولا بزيادة، هذه ساعة انتصاف النهار، فإذا انتصف النهار منع من صلاة النافلة؛ لأنها ساعة تسجر فيها نار جهنم والعياذ بالله! وفي الحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام علَّم بعض الصحابة بأوقات النوافل حيث يقول: (فإذا طلعت الشمس فصلِّ فإن الصلاة حاضرة مشهودة) يعني: تنفل، وقوله: حاضرة مشهودة، أي: تحضرها الملائكة وتشهدها، وقيل: مشهودة بالخير، أو مشهود لها بالخير، (فإذا قام قائم الظهيرة -يعني: انتصف النهار- فأمسك عن الصلاة فإنها ساعة تسجر فيها نار جهنم) يعني: أنها ساعة غضب وليست بساعة رحمة، هذا وقت نهي، والصحيح مذهب جمهور العلماء: أن هذا النهي يشمل حتى يوم الجمعة، والإمام الشافعي رحمه الله وبعض أئمة السلف يستثنون يوم الجمعة، وفيه حديث ضعيف وأشار إليه الحافظ ابن حجر في البلوغ، والصحيح أنه يشمل يوم الجمعة وغيره على حد سواء؛ وذلك لورود النص على العموم، والله تعالى أعلم.

معنى حديث: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها)

معنى حديث: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها) Q ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه)، أثابكم الله؟ A النضارة: هي الحسن والجمال، فقوله: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغٍ أوعى من سامع) حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ندب فيه الأمة إلى حفظ السنة، والعناية بهذا الحفظ حتى يكون حفظاً متقناً لا يرويه بالمعنى، قال: (فحفظها فأداها كما سمعها) فقوله: (نظر الله) النضارة: هي الحسن، قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] فلما نظرت إلى وجه الله عز وجل ازدادت جمالاً وحسناً. النضارة التي وردت في هذا الحديث اختلف فيها العلماء على قولين: أولاً: قال بعض العلماء: إنهم يحشرون يوم القيامة تتلألأ وجوههم كالشمس، وهم حفظة السنة، فمن أكثر من حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم نضر الله وجهه، ونوره بالسنة، ولذلك أهل السنة على وجوههم نور، وقال بعض العلماء: إن لأهل السنة نوراً في وجوههم في الدنيا، وذلك أن الله عز وجل يجعل لهم النور والنضارة، فوجوههم وجوه خير، إذا رأيت وجه الرجل منهم يطمئن قلبك، ورأيت أنه وجه رجل فيه خير وصلاح وبر؛ لأن الناصية والوجه تابعة للعمل، قال تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق:16]. ولذلك تجد أهل الظلم والأذية والإضرار، لو نظرت إلى شخص منهم يقطع رحمه تجد وجهه مظلماً، وانظر إلى شخص واصل للرحم أو بار بوالديه أو كثير الصدقات أو كثير الحسنات ترى نور الطاعة في وجهه، وهذا أمر جرت به العادة من الله سبحانه وتعالى، وهو معروف، وقوله: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها) يعني: سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يشمل الصحابة من باب أولى؛ لأنهم الذين باشروا السماع منه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله عنهم أجمعين، ويشمل من بعدهم؛ لأنه قال: (سمع مقالتي) ما قال: سمع مني، يعني: سمع حديثي، وفي قوله: (مقالتي) يختص بالصحيح دون المكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المكذوب لا ينسب إليه عليه الصلاة والسلام، وقوله: (سمع مقالتي فوعاها) يعني: وعى هذه المقالة، وشبه القلب الفاهم للشيء بالوعاء الذي قد حفظ ما فيه، (فأداها كما سمعها) يعني: عنده ضبط في الحفظ، وضبط في الأداء، فيأتي باللفظ كما سمعه، وهذه أعلى منازل حفظ السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاحفظ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تستطيع، فلك من النور والنظارة على قدر ما حفظت؛ لأن الله وعدنا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الفضل العظيم، ومن نضر الله وجهه في الدنيا نضر الله وجهه في الآخرة. ومن هنا يبدأ الحرص على حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والعناية بما اتفق عليه الشيخان، فيبدأ المسلم بالأحاديث التي في أحكام دينه، مثل أحاديث: عمدة الأحكام؛ لأنها تتعلق بالحلال والحرام والعبادة، وكيفية القيام بحق الله، ثم بعد ذلك ينتقل إلى الآداب والأخلاق ونحو ذلك، ويتوسع في الحفظ، فالأصل أن هذا الفضل خاص بمن حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثانياً: لم يكتم هذا العلم بل أداه وبلغه، فمن بلغ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد فحفظه كان له مثل أجره، ولم ينطق لسان ذلك الذي حفَّظْته من أولادك أو من طلابك بهذا الحديث إلا كان لك مثل أجره، ولا يعلمُ أحداً فينطق به ذلك المعلم إلا كان لك مثل أجره، فالله أعلم كم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخير والبركة والأجر؟ ولذلك فازوا بخير لا تستطيع الأمة أن تدركهم في ذلك الخير والفضل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه) في هذا الحديث إشارة إلى أنهم تبوءوا المنزلة السامية العالية في هذا الفضل العظيم. نسأل الله بعزته وجلاله أن يعيننا على حفظ السنة ومحبتها، وأن يجعلنا من أهل هذا الفضل، وأن يجعل لنا فيه أوفر حظ ونصيب، والله تعالى أعلم.

صلاة المسافر خلف المقيم

صلاة المسافر خلف المقيم Q مررت وأنا مسافر بأحد المساجد على الطريق، ووجدت جماعة يصلون صلاة العصر، ودخلت معهم في الركعة الرابعة، وبعد أن سلَّم الإمام قمت وصليت ركعة واحدة وسلَّمتُ بنية القصر، ثم سألتهم هل صليتم أربعاً أم قصرتم الصلاة؟ قالوا: صلينا أربعاً، فقمت فأتيت بركعتين ثم سجدت للسهو، هل عملي هذا صحيح؟ وإن كان غير ذلك فماذا أفعل، علماً أنه مضى على ذلك شهر، أثابكم الله؟ A الصلاة صحيحة وما فعلته صحيح سديد، وفيه خروج من خلاف العلماء رحمهم الله، أما كونك تكلمت بين الركعتين الأوليين والأخريين، فكلامك كان لعذر ولمصلحة الصلاة، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي -إما الظهر أو العصر والشك من الراوي- فسلَّم من ركعتين، فقام له رجل يقال له: ذو اليدين -وهو الخرباق رضي الله عنه- وقال: يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: ما كان شيء من ذلك، قال: بلى قد كان شيء من ذلك ... ) الحديث، فأنت تكلمت لمصلحة الصلاة، وصححت صلاتك، خاصة على مذهب من يقول: المسافر يتم وراء المقيم مطلقاً سواءً صلى الصلاة مع الإمام من أولها أو من آخرها؛ لعموم قوله: (من السنة أن يتم المسافر وراء المقيم) وهذا أحوط في الخروج من خلاف العلماء. ولكن لو أنك سلمت من ركعتين واجتزيت بهما فإنه يجزيك؛ لأن عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح قالت: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأُقرت في السفر وزيدت في الحضر) فدل على أنك في السفر تصلي الركعتين، وأقرت على هذا الأصل، فلما كان المسبوق يتم النقص في صلاته، والمسافر لا نقص له في صلاته؛ لأن الله فرض عليه الركعتين، ومن هنا لو أدركه في الركعة الأخيرة فأضاف ركعة أجزأه، ولو أدركه في الركعتين الأخيرتين من الظهر فسلم معه أجزأه، ولكن الخروج من الخلاف أفضل، ولاشك أن الذي فعلته صحيح وصلاتك صحيحة، والله تعالى أعلم.

أقسام التشهدات في الصلاة وأحكامها

أقسام التشهدات في الصلاة وأحكامها Q ما حكم التشهد في الصلاة، أثابكم الله؟ A التشهد تشهدان: التشهد الأول: في الثلاثية والرباعية واجب وليس بركن، والدليل على ذلك حديث عبد الله بن مالك ابن بحينة -رضي الله عنه وعن أبيه وأمه- في الصحيحين قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين في الظهر، ثم لما كان السجدة الثانية من الركعة الثانية قام عليه الصلاة والسلام ولم يجلس -يعني: لم يجلس في التشهد الأول- فسبح له القوم فأشار إليهم أن قوموا) فلم يرجع عليه الصلاة والسلام إلى التشهد، ولو كان ركناً لرجع إليه، فلما لم يرجع إليه قال رضي الله عنه: (حتى إذا كان في التشهد وانتظر الناس تسليمه كبر فسجد سجدتين عليه الصلاة والسلام جبراً للنقص) فدل على أنه من الواجبات لا من الأركان، ولذلك رجع عليه الصلاة والسلام في حديث ذي اليدين إلى الركعتين؛ لأنها أركان، ولم يرجع إلى التشهد الأول؛ لأنه واجب، ومن هنا كان تقسيم العلماء رحمهم الله للواجبات والأركان منتزع من أصول شرعية صحيحة. فالشاهد من هذا: أن التشهد الأول واجب وليس بركن، والتشهد الثاني ركن من أركان الصلاة، ومن هنا أمر به عليه الصلاة والسلام، وبين للمسيء صلاته هذه الركنية فقال: (ثم ارفع -يعني بعد السجدة الأخيرة- حتى تستوي جالساً) فالتشهد الأخير والجلوس له ركن من أركان الصلاة على أصح قولي العلماء، والله تعالى أعلم.

ثبوت الولاء للمعتق مطلقا مع عدم جواز عتق الكفار

ثبوت الولاء للمعتق مطلقاً مع عدم جواز عتق الكفار Q هل الولاء يبقى مكانه لو أسلم هذا المعتق؟ أم حتى لو بقي على كفره وأعتق ثم مات فهل يرثه مولاه، أثابكم الله؟ A أولاً: إذا كان كافراً لا يعتق؛ لأن الدخول في الرق سببه الكفر، وتوضيح هذه المسألة أنّا ذكرنا غير مرة: أنه في حال الإسلام إذا كان هناك كفار ودعوا إلى الإسلام فامتنعوا، فإن كانوا من أهل الكتاب عرضت عليهم الجزية، فإن امتنعوا وجاءوا يقاتلون المسلمين وجمعوا بين الكفر ومحاربة الإسلام، حينئذٍ يضرب عليهم الرق، والرق لا يضرب إلا بولي أمر المسلمين، وفي حال الجهاد الشرعي الصحيح، ولذلك لا يختص بمكان ولا بزمان ولا بلون ولا بطائفة ولا بجنس معين، بل يشمل كل من كفر بالله؛ لأن الله يقول: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44] يعني: الكفار، فلما يقف في وجه الإسلام فإنه ينزل عن مستوى الآدمية إلى مستوى البهيمية، بل أضل من البهيمة، وحينئذٍ يباع ويشترى. ومن هنا لا يعتق إذا كان كافراً، إذ كيف يعتق وهو إنما ضرب الرقُ عليه بسبب الكفر؟ إذاً تفوت مصالح الشريعة، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الصحابي أن يعتق أمته قال: (عليَّ بها، فلما جيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة) جملة (فإنها مؤمنة) جملة تعليلية، يعني: أعتقها؛ لأنها مؤمنة، ومفهوم ذلك: أنها لو كانت كافرة لما عُتقت؛ لأنه فات مقصود الشريعة، وعلى هذا يختص العتق بهذا الوجه الذي ذكرناه، والولاء ثابت على كل حال للمعتق، والله تعالى أعلم.

حكم صلاة الجمعة مع عدم إتمام الخطبتين

حكم صلاة الجمعة مع عدم إتمام الخطبتين Q شخص صلى في مسجده بالناس الجمعة، وخطب الخطبة الأولى ولم يتمها؛ لمرض ألم به منعه من إتمام الخطبة الأولى، ولم يخطب على ذلك الثانية، ولم يصل بالناس، وبعد ذلك قام رجل من الجماعة وصلى بالناس ولم يتم الخطبة الأولى، ولم يأت بالخطبة الثانية، هل صلاتهم صحيحة أم باطلة، أثابكم الله؟ A إذا لم تقع الخطبة الثانية فإنهم يصلون ظهراً، والأصل فيهم أنهم ينظرون إذا كان فيهم أحد يحسن الخطبة ويحسن أن يعظ الناس قام وخطب، وقد بينا في باب الجمعة أنه لا تشترط للخطبة شروط معينة، وأن المدار يدور حول البشارة والنذارة، فلو وقف أمام الناس وأوصاهم بتقوى الله عز وجل، وأمرهم بالصلاة، وأمرهم ببر الوالدين، وأمرهم بأي عمل من أعمال الخير، ونهاهم عن أي عمل من أعمال الشر، أو حذرهم من عقوبة الله العاجلة أو الآجلة، فقد تمت الخطبة، وكما قلنا: ليس لها شروط معينة بحيث لو أنها فقدت بطلت الجمعة، لا، إنما تقوم على البشارة والنذارة، فإذا حقق ذلك المقصود فقد تمت الخطبة وكملت وأجزأت، وبقيت الخطبة على السنة كاملة تامة. أما الوارد في السؤال: فلا تصح الجمعة على هذا الوجه، بل كان عليهم أن يجعلوا شخصاً يخطب بهم، وإذا تعذر فإنهم يصلونها ظهراً، وإذا لم يفعلوا ذلك فإنهم يعيدون الصلاة ظهراً، والله تعالى أعلم.

حكم من ترك الحلق في العمرة ناسيا

حكم من ترك الحلق في العمرة ناسياً Q اعتمرت قبل خمس سنوات ولم أحلق ناسياً، ولبست الثياب وانشغلت ولم أتذكر إلا بعد مدة، فماذا عليَّ، أثابكم الله؟ A الله المستعان! ما أهون الدين عند الناس؟! وما أكثر الغفلة عن حقوق الله عز وجل؟! شخص يأتي في عمرة ويأتي في حج ولا يحس أنه ضيف على الله سبحانه وتعالى، ولا يفرِّغ قلبه من هذه الدنيا، ولا يحس أنه في أشرف المواطن وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يحس بنعمة الله عز وجل، ولا يستشعر أن الله اختاره من بين (الملايين) لكي يطوف حول بيته، وقد يكون في ساعة لا يطوف فيها إلا القليل، ولا يحس بنعمة الله عز وجل الذي سلَّمه من المصائب والنكبات والبلايا، وقد كان بالإمكان أن تنقلب به سيارته، أو تغرق به سفينته، أو تهوي به طائرته ولكن الله سلّم سبحانه وتعالى. يا ليت الذي يعتمر أو يحج يستشعر أين هو؟ وما هو حاله؟ وفي باب من يقف؟ لو أن الإنسان بمجرد أن يلبي بالعمرة يستشعر أنه ينادي ربه، كان علي زين العابدين يقول: لبيك، فيخر مغشياً عليه، فقيل له: ما شأنك رحمك الله! يا ابن بنت رسول الله؟! قال: أخشى أن يقال لي: لا لبيك، فعلى الإنسانِ أن يستشعر أنه ضيف على الله عز وجل، فإذا جاء ووطئ هذه الرحاب مؤمناً مخبتاً خاشعاً متخشعاً متذللاً لربه سبحانه يرجو رحمته، عندها تهون عليه الدنيا وما فيها، ويصبح في لذة وأُنس، فالإنسان عندما يدخل -ولله المثل الأعلى- ضيفاً على غني من أغنياء الدنيا يحس أنه في نشوة، بعضهم إذا زار غنياً جلس يتحدث بهذه الزيارة السنة، بل السنوات، بل عمره كله، وهو يتحدث أنه زار فلاناً، لا إله إلا الله! كيف وهو في هذه الرحاب الطاهرة في زيارة لملك الملوك وجبار السماوات والأرض؟! الحاج والمعتمر ضيف على الله، وهذه الغفلة من الناس سببها أن الشخص يأتي ويفعل المناسك وكأنه في سجن، إذا أهل بالحج والعمرة فهو ينتظر فقط متى ينتهي من حجه وعمرته؟! ومتى يحل إحرامه؟! ثم إذا حل من إحرامه لم يفكر مع الغفلة إلا بالرجوع إلى بلده، يريد أن يرجع إلى أهله، لا ينظر إلى نسكه هل أتمه أو لم يتمه؟ لا ينظر هل كان في نسكه على حال توافق السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على خلاف ذلك؟ لا يتفقد نفسه ولا ينظر، ولذلك يعتمر المعتمرون ويكررون، وحالهم بعد العمرة كحالهم قبل العمرة. ومن الناس من اعتمر فزار بيت الله عز وجل، وسعى بين الصفا والمروة، فانقلبت حياته وتغيرت شئونه، ومن الناس من وقف في هذه المواقف ونزل في هذه المنازل، فرفع الله درجته وأعظم أجره وكفر خطيئته، وهو في كل لحظة وفي كل ثانية يستشعر أنه ضيف على الله جل جلاله، فأفاض الله عليه من الرحمات والبركات والخيرات، ما لم يخطر له على بال، وما أسعد أولئك الأقوام والفئام من الناس، الذين وقفوا وابتهلوا وتضرعوا وتذللوا وتبذلوا بين يدي الله عز وجل، في عمرة ما جاوزت طوافاً وسعياً، ولكنهم قاموا بحقها وحقوقها وآدابها وصفاتها على أتم الوجوه وأكملها، فدعوا الله دعوة نالوا بها سعادة لم يشقوا بعدها أبداً. كيف بهذا الإنسان الذي يأتي ويعتمر، ولم يقصر ولم يحلق؟! بل بمجرد ما ينتهي يركب سيارته، وينسى أين كان غفلة ما بعدها غفلة؛ لأنه لو كان مستشعراً لهذه العبادة، مستجم الروح والبدن؛ لأصبح في هذه اللذة، من الناس من يعتمر ويبقى في لذة عمرته شهراً، بل منهم من يبقى في لذة عمرته سنة، بل منهم من يبقى في لذة عمرته دهراً. أُناس يأتون من مسافات بعيدة وهم يتمنون أن يعتمروا، فإذا وقفوا أمام بيت الله عز وجل خشعت قلوبهم، وذرفت من خشية الله عيونهم، والواحد منهم يتأمل الكيلو مترات وآلاف الأميال التي قطعها وجاوزها، راجياً لرحمة ربه، فيقف أمام ذلك البيت متضرعاً لربه، متخشعاً متذللاً كل التذلل والتبذل في ذلك المقام الكريم، فيجد تلك النشوة وتلك اللذة وتلك السعادة وذلك الأُنس العظيم بربه سبحانه، قال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة:97]. ويقول تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) [النساء:5] اربط بين الآيتين، من أجل المال تقوم به الدنيا ولا تقعد، والله عز وجل يقول: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة:97]؛ لأن فيها قيام الدين والدنيا في هذه العبادة الجليلة؛ لأنها تذكر بالتوحيد وبالإخلاص وبالتجرد. الإنسان يأتي إلى هذا المكان وإلى هذا البيت، الذي هو بيت ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، ولذلك قل أن يأتي مكروب بكربه إلا فُرج كربه عنه، أو ملأ الله قلبه من الإيمان واليقين ما يجعل كربه أُنساً عليه إلى أن ينتهي، نعم! إنها المنازل التي لو علم الناس مقامها عند الله جل جلاله، لعظمها الإنسان؛ لأن تعظيمها من تقوى القلوب لله جل جلاله. قوله: (ذَلِكَ) اسم الإشارة الذي يدل على العلو، العرب لا تقول: ذلك إلا لشيء بعيد بعيد، ما تقول ذلك لشيء قريب، (ذَلِكَ) يعني: الشيء البعيد، (ذَلِكَ وَمَنْ) يعني: من ذكر وأنثى، غني وفقير، قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ} [الحج:32] والتعظيم كلمة ليست بالسهلة، {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] زكى الله من فوق سبع سماوات الذين يعظمون شعائره، ووصفهم بأنهم متقون، وزكاهم سبحانه وتعالى بأنه قد صلحت قلوبهم؛ لأن القلوب لا تصلح إلا بالتقوى، أما من كانت فيه الغفلة نسأل الله السلامة والعافية! فهو يأتي بمناسكه ولا يلتفت إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يحرص على أن يتحلل في مكة بعد عمرته كما هو هديه عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي. وعلى الإنسان عندما يأتي بعمرته ويطوف ويرمل عند بيت الله عز وجل، أن يتذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل، ويتذكر أنها أماكن وأنها منازل تسكب عندها العبرات، وأنها منازل تستجاب فيها الدعوات، هنا خشع المؤمنون والمؤمنات، هنا بكى الصحابة والصحابيات، هنا رجفت القلوب، هنا أنابت إلى علّام الغيوب، هنا المقامات بين يدي فاطر الأرض والسماوات، هنا السعادة التي لا شقاء بعدها أبداً، هنا الكرامة التي لا مهانة بعدها أبداً، هنا العز الذي لا ذل بعده، والغنى الذي لا فقر بعده، فكم من رجل فقير وقف بهذا المكان فسأل ربه من خيري الدنيا والآخرة، فرجع غنياً بالله وحده لا شريك له، فالذي يطوف بالبيت وعنده هذه المشاعر، ويبث أشجانه وأحزانه إلى ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، ويقف عند المقام يصلي ركعتين فيبتهل إلى ربه، فيسأله في تفريج كربه وتنفيس همه وغمه، ثم ينطلق إلى الصفا والمروة فيقف كما وقف رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، يترسم خطاه وكأنه أمامه عليه الصلاة والسلام، يقف كما وقف، ويبتهل كما ابتهل، ويدعو كما دعا، ويسأل كما سأل، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقف على الصفا حتى إن أصحابه يصيبهم الملل، يقول ابن عمر: فكنا نملُّ ونحن شباب من طول موقفه عليه الصلاة والسلام، لماذا يقف؟ إنه يقف بين يدي الله عز وجل، وكانت له دعواته، وكان من دعائه كما روى البيهقي في سننه بسند صحيح: (اللهم! إنك قلت وقولك الحق: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وإنك لا تخلف الميعاد، اللهم! كما وعدتني فاستجب لي، اللهم كما أذقتني الإسلام وهديتني إليه فلا تنزعه مني حتى ألقاك مسلماً)، فسأل الله أعز مسألة. من عاش هذه اللحظات وهذه المواقف، وجاء وسعى بين الصفا والمروة فهرول وتذكر المكروبة التي فرج الله همها في هذا المكان، لما يأتي بهذه المشاعر ويستشعر هذه المشاعر أينسى هذه العبادة؟ لما يكون متبعاً للسنة ينسى الحلق والتقصير؟ أو ينسى شيئاً من نسكه؟ لا ينسى؛ لأنه متبع لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، والغفلة عن السنة نسأل الله السلامة والعافية! من أسباب الحرمان. فإذا استشعر هذه المشاعر انتهى من سعيه وقلبه ونفسه يحدثانه، يريد أحب شيء وأعز شيء وهو رحمة الله عز وجل، ومن أصابته رحمة الله فلا عذاب بعدها أبداً، رحمة الله التي وسعت كل شيء، وكتبها للذين يتقون ويقيمون الصلاة فأفلحوا في الدنيا والآخرة، هو ينتظر الرحمة من الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بها ثلاث مرات، (اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال: والمقصرين). حسناً! إذا كان عنده هذا الشعور بمجرد ما ينتهي من عمرته، وقلبه يحدثه أن يبادر حتى يصيب هذه الدعوة من رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، ثلاث مرات يدعو له بالرحمة من نبي لا ترد دعوته، إنها رحمات مكررة سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم وابتهل بها إلى الله جل جلاله، ثم يأتي وينتهي من عمرته وقلبه معلق بالسماء؛ لأنه في سائر عمرته يدعو الله عز وجل هذه الدعوة: اللهم ارحمني، ومن رحمه الله فلا يعذب، ومن رحمه الله سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وأصاب العز الذي لا ذل بعده أبداً؛ لأن من أصابته رحمة الله فهو في حفظ الله ورعاية الله له سبحانه وتعالى، حتى إن الجنة التي هي غاية ما يتمنى الإنسان من رحمة الله: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) من تغمده الله برحمته حسنت خاتمته، وصلح قوله وعمله، وزكى ظاهره وباطنه، ومن أصابته رحمة الله أُمن في قبره وسعد في حشره ونشره، ودخل جنة الله برحمته عز وجل. نعم! أعدنا وكررنا في هذا السؤال؛ لأنه عمت به البلوى، وكثرت الشكاوى من الناس، بمجرد ما يذهب بعائلته ويركبون السيارة وينطلقون إلى جدة، وبعد أداء العمرة يقول: يا الله! انتهينا من العمرة، وكأن العمرة ثقل يلقى، وكأنها حمل يتخلص منه، ما يستشعر أين كان؟ وأين هو؟ وما هذه الرحمة التي يعيشها؟ فحينئذٍ ندعوه إلى أن يحرص عل

باب العاقلة وما تحمله [2]

شرح زاد المستقنع - باب العاقلة وما تحمله [2] لقد جعل الله عز وجل في قتل الخطأ كفارة، والحكمة من ذلك أن يحذر الناس من التساهل في هذا الأمر، ولعظم حرمة الدماء عند الله سبحانه وتعالى، والكفارة لا تكون إلا في قتل الخطأ؛ لأن قتل العمد عقوبته القصاص. ويشترط في كفارة القتل أن يكون المقتول نفساً معصومة، كأن يدوس مسلماً بسيارته خطأ. وقتل الخطأ يدخل فيه مباشرته للفعل بنفسه أو تسببه فيه، وفي كل تلزمه الكفارة.

بيان كفارة القتل وما يتعلق بها من أحكام

بيان كفارة القتل وما يتعلق بها من أحكام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: من قتل نفساً محرمة خطأً مباشرة، أو تسبباً بغير حق فعليه الكفارة] شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان كفارة القتل، وهذه الكفارة قد دل عليها الدليل الشرعي الثابت في كتاب الله عز وجل، حيث أمر من قتل خطأً أن يكفر، وأجمع عليها العلماء رحمهم الله، ومن عادة أهل العلم أنهم إذا فرغوا من بيان مسائل القتل، والأحكام المترتبة عليها من الحقوق، والواجبات، من الديات للأنفس، والأعضاء، والجروح، والشجاج، والكسور، فإنهم يشرعون بعد ذلك في بيان حق الله عز وجل من وجوب الكفارة، وهذا حق لله سبحانه وتعالى، ولا شك أن حق الله هو أعظم الحقوق، ولكن المقاصة والمشاحة في حقوق المخلوقين أكثر، ومن هنا أمر الله عز وجل بالدية المسلَّمة إلى أهل القتيل إن قتل خطأً، فقال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:92] فأمر الله سبحانه وتعالى بهذا الحق له جل جلاله، بعد أن رتبه على حق المخلوق: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فابتدأ العلماء بالديات، وأحكام الديات، ثم ثنوا بعد ذلك بحق الله عز وجل، ومن هنا هذه الدية تكفر عن العبد، وأصل الكفارات: أنها تكفر الذنوب، بمعنى: أنها تسترها، وتذهب بلاءها وشقاءها عن صاحبها، فإذا كفر الله عز وجل للعبد ذنبه، فإنه قد أمن العبد من عقوبة الله عز وجل، وأمن من سوء السيئة في الدنيا والآخرة، كما هو معلوم، ولذلك سميت المغفرة كفارة للعبد، وقالوا: الكفر في لغة العرب أصله: الستر، يقال للباذر الذي يبذر البذر: كافر؛ لأنه إذا بذر البذر غطاه، فيقولون للمزارع: كافر؛ لأنه يكفر البذر، والكفر: هو الستر، ومنه قول الشاعر: وفي ليلة كفر النجومَ غمامُها. يعني: ستر النجومَ الغمامُ ولما كانت توبة الله عن العبد، ومغفرة الله للعبد تمحو ذلك الذنب، فكأنها صارت غطاءً لذلك الذنب، فكأنه لم يكن من العبد، فلا تراه عين، ولا يحس به أحد، فالكفر والغفر، معناهما متقارب، فلما كانت هذه الحقوق التي أوجبها الله عز وجل لقاء ذنوب معينة من العبد، سواءً كانت في الجنايات بين المخلوقين بعضهم مع بعض، مثل: كفارة القتل، أو كانت الجناية والاعتداء على حق الله سبحانه وتعالى: كالجماع في نهار رمضان، أو كانت جامعة بينهما: كقوله لزوجته: أنت علي كظهر أمي، فهذا جعل الله عز وجل فيه الكفارة. والكفارات كما تقدم معنا منها ما هو مغلظ، ومنها ما هو دون ذلك، فأعظم الكفارات المغلظة: عتق رقبة، ويترتب على ذلك، وجوب صيام شهرين متتابعين لمن عجز عن الرقبة، وقد جعل الله ذلك في الظهار، وجعله سبحانه في قتل النفس المؤمنة المحرمة, وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم جعل ذلك في من جامع أهله في نهار رمضان وهو صائم، هذه الكفارة المغلظة اعتنى العلماء ببيانها، وتقدمت معنا، ولذلك المصنف رحمه الله لم يفصل كثيراً فيها في باب القتل؛ لأنه تقدم معنا ما هي الرقبة التي تجزي، وبينا هذا في كتاب الصوم، وكذلك في كفارة الظهار، ولذلك أجمل المصنف رحمه الله الكلام في تفصيلات هذه الحقوق الواجبة. الكفارة في الشريعة منها ما هو مخير؛ أي: يخير الإنسان فيها، ومنها ما هو مرتب، فإذا كانت الكفارة تخييرية، كقوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] فهذا كله على التخيير، يختار أي نوع من هذه الثلاث، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما كان في القرآن بأو فهو خيار للعبد-يعني: يختار أيَّ واحدة منها فيجزيه- وما كان بثم فلا يجزي الثاني إلا إذا عجز عن الأول. ومن هنا اختلفت كفارة القتل عن كفارة الظهار، وكفارة الجماع في نهار رمضان: من جهة النوع الثالث وهو: إطعام ستين مسكيناً بدلاً من صيام شهرين متتابعين، والذي يقويه الدليل، ويختاره طائفة من أئمة العلم رحمهم الله: أنه لا إطعام في كفارة القتل، وأن الواجب هو عتق الرقبة، فإن عجز عن عتق الرقبة، أو لم يجد الرقبة، فإنه ينتقل إلى صيام شهرين متتابعين توبة من الله عز وجل على عبده، وإذا كفر بعتق الرقبة المؤمنة، أعتق الله كل عضو منه من النار، كما ورد في الخبر، وصحيح أن هذا التكفير ورد في قتل الخطأ، وجعل الله عز وجل هذه الكفارة في قتل الخطأ، ويجري مجرى الخطأ شبه العمد، وقد تقدم معنا ضابط الخطأ، وضابط شبه العمد، وبينا أن كثيراً من المسائل يشترك فيها شبه العمد مع الخطأ، ولذلك تجب الكفارة في شبه العمد كما تجب في الخطأ؛ لأن شبه العمد جرى مجرى الخطأ ولم يجر مجرى العمد، ولذلك لا يجب القصاص في شبه العمد، كما لا يجب في الخطأ، فهذه الكفارة جعلها الله سبحانه وتعالى في قتل الخطأ، ومن هنا يرد الإشكال: كيف يجب على الإنسان أن يكفر، مع أنه قد أخطأ ولم يكن متعمداً للقتل؟ هذا فيه تعظيم للدماء، وتعظيم لأرواح المسلمين، والدماء المحرمة، وأنه لا يجوز للإنسان أن يتساهل في تعاطي الأسباب التي تزهق أرواح الناس، كأن يتهور في أمر مثلاً: يحفر لعمارته دون أن يضع حواجز تقي الناس من السقوط في هذه الحفرة، أو مثلاً: يأتي إلى طريق سابل فيضع فيها شيئاً يوجب هلاك الأنفس، كل هذه الأشياء في مجامع الناس، أو في الأماكن التي يوجد فيها الصيد، ولكنها عامرة بالسكان، فلا يأمن إذا صوب بندقيته أو سلاحه أن يقتل شخصاً، أو يصيب شخصاً، فلما وضعت الشريعة كفارة القتل زجرت الناس عن التساهل، صحيح أنها لم توجب القصاص، ولكنها أوجبت الدية فعظمت دم المسلم. هذا الفصل فصله المصنف، وبناه على ما تقدم، وذلك لوجود الإشتراك؛ لأن العاقلة تحمل الخطأ، وكذلك أيضاً الكفارة تكون في قتل الخطأ، فإذا قتل خطأً فإنه تجب عليه الدية، وأما قتل العمد فإنه لا كفارة فيه؛ لأن من قتل عمداً فقد صار الحق لأولياء المقتول، فإما أن يقتلوه، وإما أن يقبلوا بالدية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فمن قُتل له قتيل فهو بخير النظرين؛ إما أن يقاد -يعني: يأخذ بالقصاص- وإما أن يودى -يعني: يأخذ الدية) ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم في حال العفو عن القاتل بالكفارة، والصحيح من مذهب العلماء رحمهم الله: أن قتل العمد عقوبته القصاص، قال صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص)، وفي كتاب الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178]، فإذا عفا المؤمن عن أخيه القاتل وسامحه، فقد سقط الحق في هذه الحالة، إن سامحه لبدل فحقه أن يأخذ الدية، وإن سامحه لغير بدل فقد عظم أجره وثقل ميزانه، والله عز وجل مثيبه على ذلك، حتى قال بعض العلماء: من فك الرقبة كان له أجر ما يكون فيها من صلاح وعبادة إذا بقيت، يعني: جميع ما يكون منها من طاعة وخير وبر، فهو في ميزان حسنات الذي عفا، وهذا يشمل كل من يتسبب في إنقاذ الأرواح، أو يكون مثل الأطباء ونحوهم، ويتسبب في إنقاذ إنسان من الهلاك، ناوياً أن يبقى فيعمر حياته بطاعة الله ومرضاته. فإذا تنازل عن حقه وعفا، فقد سقط الحق كله، ومن هنا قالوا: لا كفارة في قتل العمد.

أوجه الكفارة وشروط وجوبها

أوجه الكفارة وشروط وجوبها هذا الفصل بين المصنف رحمه الله فيه وجوه الكفارة: بقوله: (من قتل نفساً محرمة). من قتل نفساً محرمة -فخرج بذلك من قتل نفساً غير محرمة- مثلما يقع بين العدو وعدوه، فقد تقع عداوة وخصومة بين اثنين من المسلمين، فيقتل أحدهما الآخر، هذا ظاهره العموم، فيشمل العمد. أو يقتلها خطأً مثل أن يدوسه بسيارته، فيقتل نفساً محرمة، إذاً يشترط أن تكون نفساً معصومة، سواءً كانت هذه النفس صغيرة، أو كبيرة، يعني: لو قتل طفلاً صغيراً، فإنه تجب عليه الكفارة، كما لو قتل كبيراً، ولو قتل أنثى وجبت عليه الكفارة، كما لو قتل ذكراً. فإذاً لابد أن تكون النفس محرمة، وعلى هذا قالوا: لو ضرب امرأة حاملاً خطأً، فألقت جنينها ميتاً، وعُلمت حياته قبل الضرب، قالوا: إن هذا عليه كفارة القتل، أو طبيب أعطاها دواءً فأخطأ فأسقطت الجنين، فخرج ميتاً، فإنه يجب عليه كفارة، أو أعطى دواءً لصغير قريب الولادة، فكان سبباً في موته خطأً، فإنه يجب عليه أن يكفر. قال: (محرمة) بناء ًعلى ذلك يرد Q لو أنه قتل نفساً مباحة القتل، مثلاً الآن: وجب القصاص على قاتل، فجاء السياف وضرب عنق القاتل، فالسياف قاتل، لكنه قاتل لنفس يباح قتلها، فلا تجب عليه الكفارة. إذاً يشترط أن تكون النفس محرمة، كذلك أيضاً لو أن شخصاً كان في بيته، فهجم عليه شخص معه سلاحه يريد أن يقتله، أو يريد أن ينتهك عرضه والعياذ بالله! أو يريد أن يأخذ ماله، فقال بعض العلماء: بمشروعية المقاتلة؛ وذلك لقوله كما في الحديث: (يارسول الله! أرأيت إن جاء يريد أخذ مالي، قال: لا تعطه قال: أرأيت إن قاتلني قال: قاتله قال: أرأيت إن قتلته، قال: هو في النار قال: أرأيت إن قتلني، قال: أنت شهيد)، فجعل من ذب عن عرضه، وعن نفسه، وعن ماله شهيداً، وجاء في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (من قُتِلَ دون عرضه فهو شهيد، ومن قُتِلَ دون ماله فهو شهيد)، ففي هذه الحالة، لو أنه كان في بيته فهجم عليه شخص صائل، وحاول أن يدفعه بالموعظة فلم يندفع، وحاول أن يذكره بالله فلم يتذكر، أو لم يسع الوقت أن يذكره، كأن جاء شاهراً سلاحه، وعلم أنه إذا لم يقتله سيقتله، أو أنه يريد أن يقتل قريبه، أو زوجه، وكان هو متخفياً ومعه سلاحه، فعلم أنه لو تأخر سيقتله. والشرط في دفع الصائل: هو أن لا وسيلة لدفع شره من اعتدائه على العرض بالزنا مثلاً إلا بقتله، فإنه يكون هدر الدم، ففي هذه الحالة لو أطلق عليه النار وقتله، وكان مستوفي الشروط، فإنه حينئذ تكون نفساً يباح قتلها؛ لأنه باعتدائه على عرضه، وصولانه على أعراض المسلمين بدون حق، أهدر حقه وأسقطه، فإذا قتله فقد قتل نفساً مباحة القتل، بهذا الوجه، كذلك أيضاً البغاة الذين يبغون، ويخرجون على إمام المسلمين، فلو قاتلهم شخص فقتل منهم، فلا يجب عليه القصاص ولا الدية. إذاً يشترط في وجوب كفارة القتل الخطأ: أن تكون النفس المقتولة معصومة محرمة، وعلى هذا لو كان حربياً، لو كان باغياً، لو كان صائلاً، لو كان مباح الدم؛ بأن قتل فقُتل بالدم الذي قتله، أو كان محصناً فتأول قتله، فإنه لا تجب عليه الكفارة. قوله: (خطأً) مفهومه أنه لو قتله عمداً فلا كفارة عليه، وفي قوله: خطأً يلتحق به شبه العمد؛ لأن شبه العمد يجري مجرى الخطأ ويأخذ حكم الخطأ. قوله: (مباشرة) مثل أن يحمل السلاح ويقتله، كما تقدم معنا في قتل المباشرة. قوله: [أو تسبباً بغير حق] مثلاً: ألجأه حتى أدخله في مكان فيه أسد، وقفل عليه الباب، فالذي باشر القتل هو الأسد، أي أن الذي افترسه وقتله هو الأسد، لكن الذي تسبب وأغلق الدار، أو ربطه في حوض، وملأ عليه الحوض بالماء حتى فلتت نفسه، هو ذلك الشخص المتسبب في هذا. وقد تقدمت معنا صور السببية والمباشرة، وفصلنا فيها، فإن كانت سببية -وهذا في العمد- فالشافعية عندهم: أن العمد يوجب الكفارة، لكن إن قلنا: إن العمد لا يوجب الكفارة، كيف يكون قتل المباشرة؟ مثلاً: أخطأ وظنه كافراً، وأطلق عليه على أنه حربي أو معادٍ، فقتله، وتبين أنه مسلم فعليه الكفارة، كذلك أيضاً في مسألة السببية: أن يتسبب في قتله، مثل الطبيب يخطئ في دواء فيعطيه لمريض خطأً، ويكون هذا الدواء قاتلاً، فتناوله المريض، فالذي باشر قتل نفسه هو المريض حينما تناول الدواء؛ لأن الطبيب لم يضع الداء، لكن لو أعطى الطبيبُ الحقنةَ للمريض بنفسه فقد باشر، لكن حينما يصف له دواءً فقد تسبب، هذا قتل بالسببية، وهو خطأ؛ لأن مقصود الطبيب أن يداوي ويعالج، والظن بالطبيب أنه يريد الخير للمريض، فإذا أخطأ ووقع المكروه من فوات النفس، وجبت عليه الكفارة. قوله: (فعليه الكفارة). أي: تلزم القاتل الكفارة.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الكفارة على من قتل نفسه خطأ

حكم الكفارة على من قتل نفسه خطأً Q يقول الشارح: ومن قتل نفساً محرمة، ولو نفسه، فهل تجب الكفارة في ماله؟ ولمن تدفع أثابكم الله؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالمصنف رحمه الله يقول: (ولو نفسه) يعني: ولو قتل نفسه خطأً، هل ممكن أن يقتل نفسه خطأً؟ ممكن، مثلاً: جاء يصلح سلاحه، فثار عليه السلاح وقتله، أو جاء يريد أن يأخذ السكين فحركها فسقطت عليه وقتلته، هذا هو الذي تسبب في قتل نفسه، في هذه الحالة للعلماء وجهان: من أهل العلم من قال: تجب عليه كفارة نفسه، على هذا القول؛ لو توفي وله مال، أخذنا من ماله قيمة الرقبة، قبل أن نقسم التركة؛ لأنه دين لله عز وجل، نأخذها من ماله ونشتري رقبة ونعتقها كفارة لنفسه؛ لأنه قتلها، قتل هذه النفس، والمصنف قال: (ولو نفسه) لو: إشارة إلى خلاف مذهبي، فبعض العلماء يقولون: لا يجب عليه في قتل نفسه، وهذا أظنه أقعد وأقوى، ولذلك لا يجب عليه في قتل نفسه أن يكفر. والله تعالى أعلم.

حكم قراءة الفاتحة على المأموم في السرية والجهرية

حكم قراءة الفاتحة على المأموم في السرية والجهرية Q هل تجب على المأموم قراءة الفاتحة، مع الدليل، وبيان قول المخالفين في ذلك؟ وإذا لم يتمكن المأموم من قراءة الفاتحة في سكتة الإمام فهل يقرؤها والإمام يقرأ؟ وماذا عن قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] أثابكم الله؟ A هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال على التفصيل، وقولان من حيث الإجمال: القول الأول: وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في السرية والجهرية وراء الإمام، وهذا هو مذهب الشافعية، وطائفة من أصحاب الحديث رحمهم الله. واستدلوا بأدلة منها: أولاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب ... ) والقاعدة في الأصول: أن أي من صيغ العموم، تقول: أيما رجل، أيما امرأة، هذا من صيغ العموم. ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ما قال: إلا إذا كان مأموماً. ثالثاً: ورود الدليل النصي في موضع النزاع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى وارتج عليه، قال: (إنكم تقرءون وراء إمامكم؟ قالوا: نعم، يا رسول الله!) لأن المسألة في أول الإسلام- فكانوا إذا قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة بعد الفاتحة، قرءوا معه، فكان إذا قرأ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] وهو إمام، يقرءون هم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} فقال: (إنكم تقرءون ورائي قالوا: نعم. قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) هذا نص صريح واضح على أن فاتحة الكتاب مستثناة. القول الثاني: الذين قالوا: إنه لا يقرأ وراء الإمام احتجوا بحديث جابر، وغيره رضي الله عن الجميع وفيه: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة): أولاً: هذا الحديث من حيث السند أضعف، ومختلف في ثبوته، وبين العلماء نزاع طويل في حديث:) من كان له إمام) وغاية ما فيه أنه حسن لغيره عند بعض العلماء بالشواهد، ولعل القول بأنه حسن لا يرتقي إلى معارضة الصحيح الصريح؛ لأن قوله: (لا صلاة) نكرة في سياق النفي، وهي تفيد العموم، وهذا من أقوى المتون. ثانياً: هذا الحديث مما اتفق عليه الشيخان، وهذا حديث حسن، هذا من ناحية السند. أما من ناحية المتن فقوله: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة): القراءة تحتمل أمرين: الأمر الأول: تحتمل كل شيء يقرؤه الإمام. الأمر الثاني: تحتمل ما بعد الفاتحة؛ لأنهم كانوا يفعلون كل شيء معتقدين فيه بالإمام، ولابد أن نفهم الأحاديث كما فهمها الصحابة، لا على فهمنا الآن، وهذا أمر مهم جداً يفيد طالب العلم، لأن البعض يتصور الأحاديث الآن ويحملها على صور معينة محدودة، مع أن الأحاديث في زمان التشريع لها أوجه، ومن هنا: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) كانوا يقرءون وراء الإمام، فماذا قال لهم عليه الصلاة والسلام؟ قال: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، فقراءة فاتحة الكتاب مأخوذة من هذا الحديث، وهذا الحديث يفسر ذلك الحديث. أولاً: نقول: إن حديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام ... ) من ناحية السند أضعف من حديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب). ثانياً: من ناحية المتن، نقول: احتمل معنيين: معنى العموم، ومعنى الخصوص، فحديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) عام، نخصصه بحديث: (إلا بفاتحة الكتاب)، وتخصيص العموم واضح ومعروف، أو نقول: إنه محمول على قراءة غير الفاتحة، حينئذ لا إشكال؛ لأنه خرج عن موضع النزاع، وموضع النزاع في الفاتحة لا فيما بعد الفاتحة، هذا بالنسبة للذين قالوا: لا يقرأ وراء الإمام. أما آية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] هذه الآية الكريمة لا تعارض ما نحن فيه؛ لأن الآية غاية ما فيها وجوب الاستماع للقرآن عند الإمكان، ولذلك لو أخذت بعموم هذه الآية: كأن خرجت إلى السوق وسمعت شخصاً يقرأ القرآن، أيجب عليك أن تستمع له؟ لا يجب عليك؛ لأن المراد بها الفضل في قوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي: من أجل أن ترحموا، وبالإجماع عند العلماء رحمهم الله: أن من مر على قارئ قرآن لا يجب عليه أن يجلس ويستمع لقراءته، بل هو مخير إن أراد الرحمة جلس، وإن أراد الانصراف انصرف، وقد نزلت في الصلاة, والمراد بهذا: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي: أنصتوا للقرآن، وهذا أعم من موضع النزاع؛ لأن عندنا أحاديث مستثناة خاصة، فغاية ما تقول في الآية: إنها متعارضة مع الحديث، وهذا القول لا يسلّم به؛ لأنه في اعتراضات واردة، لكن لو سلِّم أن هذه الآية تعارض الحديث، وأنها في الصلاة، نقول: الحديث دل على ركنية الفاتحة، حتى الذين قالوا بالاستثناء؛ فإنهم يسلِّمون أنها ركن، إلا الحنفية رحمهم الله، فإذا كان يُسلّم أنها ركن، فالحديث الذي أثبت وجوب قراءة القرآن في الركنيات، وآية: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} غاية ما فيها أنها في الواجبات التي هي ليست أصلاً في الصلاة؛ لأن هناك واجبات من أصول الصلاة، مثل: التسبيح، والتحميد، وأذكار الصلاة، وواجبات ملحقة بأصول الصلاة، ليست هي أصلاً في الصلاة، بدليل أنها لا تجب إلا في القراءة الجهرية، دون غيرها، فليست من الواجبات المؤصلة، إنما من الواجبات العارضة، وواجبات العوارض لا تعارض واجبات أصول الصلاة؛ لأن الفاتحة واجبة في الصلاة، ثم كيف تعارض ما هو ركن في الصلاة؟! حتى لو سلم أنها من واجبات الصلاة، وأنها داخلة في واجبات الصلاة، والفقه أن تعرف دلالة كل دليل، ومنزلة هذا الدليل، هل في أصول الصلاة، أو هو ملحق بالصلاة؟ وبناءً على ذلك نقول: إن هذه الآية الكريمة لا يمكن بحال أن ننزلها منزلة: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) الذي هو نص في موضع النزاع. ثم نقول: إن حديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وآية: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} يمكن الجمع بينهما: فليقرأ الفاتحة، ويسمع القرآن، أليس عند قراءة الفاتحة يستمع للإمام، وحصل امتثال للأمر فيما هو في الإمكان؟! فجاءه عذره الشرعي، فقرأ القرآن واشتغل بما هو ركن عن واجب، وعندنا نظائر في الشريعة في الاشتغال بالأركان عن الواجبات، وبالواجبات الأهم عن الواجبات المهمة، وبناءً على ذلك نقول: إننا نقدم الأقوى، والقول بوجوبها على المأموم من هذه الأوجه كلها أقوى وأحرى، ويدل على ذلك فعل السلف: فهذا أبو هريرة رضي الله عنه الذي كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اعترض عليه بهذه الآية، وقال المعترض: إن الإمام يقرأ، فقال له: إقرأها في نفسك يا فارسي! من شدة تشديده على هذا الأمر رضي الله عنه وأرضاه، قال: اقرأها في نفسك، فإذا قرأها في نفسه فقد اشتغل بواجب في حظ نفسه، وحرص على إتمام ما فرض الله عز وجل عليه إتمامه. والله تعالى أعلم.

حكم المسبوق بركعة في الرباعية مع قيام الإمام للخامسة سهوا

حكم المسبوق بركعة في الرباعية مع قيام الإمام للخامسة سهواً Q صليت مسبوقاً بركعة في الصلاة الرباعية، وكان قد سها الإمام وزاد في صلاته، وصلى خمساً، فماذا عليّ؟ هل أسلم معه أم آتي بالركعة التي كنت مسبوقاً بها أثابكم الله؟! A إذا صلى الإمام ركعة زائدة، عذر بالسهو في قيامه، لكن يسبح له المأمومون، فإن أصر على أنه بقيت ركعة، فمن ناحية شرعية يتعبد الله الإمام باعتقاده، والمأمومون يتعبدون الله باعتقادهم؛ فمن كان قد صلى أربع ركعات لا يقوم وراء الإمام إذا علم أنه في الخامسة، وإذا قام المأموم بطلت صلاته؛ لأنه قام إلى شيء زائد، وزاد ركناً في الصلاة عالماً متعمداً، فتبطل صلاته. لكن لو كان مسبوقاً بركعة جاز له أن يتابع الإمام؛ لأن ركعة الإمام في حق نفسه صحيحة، وغاية الأمر أنه مفترض يتأسى بمتنفل، وحينئذ تسلم مع الإمام، ثم إذا سجد الإمام سجود السهو، سجدت معه، كمن لم يدرك سهو الإمام؛ فإنك تسجد لمكان المتابعة، فصلاتك تامة، وصلاة الإمام مجبورة. والله تعالى أعلم.

معنى قوله: (خير النساء بركة أيسرهن مئونة)

معنى قوله: (خير النساء بركة أيسرهن مئونة) Q ما المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (خير النساء بركة أيسرهن مئونة) أثابكم الله؟ A ( خير النساء بركة أيسرهن مئونة): يعني: أن المرأة إذا تزوجها زوجها، فخففت في مهرها، وخففت في وليمة عرسها، وخففت في تكاليف زواجها، وضع الله البركة في ذلك النكاح، وهذا مجرب، وقد أخبرنا الثقاة: أنهم تزوجوا فبالغوا في زواجهم، فما مكثوا إلا مدة وجيزة، ثم تزوجوا وخففوا قليلاً فلم يمكثوا إلا مدة أطول قليلاً من التي قبلها، حتى تركوا البذخ والإسراف فتزوجوا بيسر الحال، وبقيت الزوجة الأخيرة معه مدة طويلة، ولذلك يقول لي شخص: تزوجت ودفعت قرابة ثلاثمائة ألف، قال: والله ما مكثت معها إلا شهراً ونصفاً، أو قرابة شهرين، قال: ثم تزوجت الثانية: بحوالي مائتي ألف -وكان ثرياً عنده مال- فمكثت معي ستة أشهر، ثم تزوجت الثالثة، ويسر الله عز وجل أن تزوجت من رجلٍ صالحٍ، وكانت مئونة الزواج بجميع ما فيه قرابة ستين ألفاً، قال: هي الآن أم أولادي، والآن لي بلغت سبع سنوات وأنا معها، فخير النساء أيسرهن مئونة، وهذا ليس في النكاح فقط، كل من يسر على المسلمين، وأخذ الأمور بالسماحة واليسر يسر الله له في الدنيا والآخرة، وأي أمر من الأمور الآن تشاهده وتجده مبنياً على السماحة واليسر، إلا وضع الله فيه البركة، ووضع الله فيه الخير؛ لأن الله يحب التيسير على عباده؛ لأنها من الرحمة، والراحمون يرحمهم الله. والله تعالى أعلم.

حكم من صرف مالا ولم يعطه الصراف كل المال

حكم من صرف مالاً ولم يعطه الصراف كل المال Q كان عندي مبلغ من المال، فأردت أن أصرفه، فذهبت إلى الصراف، فأعطاني جزءًا من المبلغ، وقال لي: تعال غداً؛ لأنه ليس لدي الباقي. فهل هذا ربا؟ A إذا لم يكن هذا هو الربا، فما هو الربا؟ هذا ربا نسيئة، وإذا قال لك الصراف: تأتي بعد عشر دقائق، أو تعال بعد خمس دقائق، فقد افترقت ولم تأخذ حقك من الصراف، وهذا عين الربا، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لك أن يفارقك وبينكما شيء) يداً بيد، تصرف عشرة ريالات، وتأخذ عشرة ريالات حديد يداً بيد، مثلاً بمثل، فمن زاد أو استزاد، فلعنة الله على من أخذ وأعطى، فهذا عين الربا، فإذا قال شخص: هذا ورق، وهذا حديد، وإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، نقول: لماذا تزكي الورق والحديد؟ لماذا يقال له: نصف ريال؟ ولماذا يقال له: ربع ريال؟ ولذلك هذه رصيدها فضة، فإذا صرفها ورقاً، أو حديداً، ناقصة بزائد؛ فاللعنة على الآخذ والمعطي، ولو لم يكن رباً لكان من أكل المال بالباطل؛ لأنه بأي حق يأخذ الواحد عشرة من أخيه المسلم، ويعطيه تسعة، واليوم يصرفون بتسعة، وغداً سيصرفون بخمسة، يقولون: والله عندنا فتوى أنه لا بأس في ذلك، لي الحق أن أصرف بأربعة، من يمنعني؟ وقد قيل: بيعوا كيف شئتم، وحينئذ يتسلط الأغنياء على الفقراء؛ لأن السيولة موجودة عند الأغنياء غالباً، وما الذي جعل الشريعة تحرم الربا في القروض؟ لأن الغني الذي عنده رأس مال يعطي الناس قروضاً، وتأتيه الأموال زائدة بالقرض ويصبح غنياً، الآن يفتح له مكتب صرافة، ويصرف العشرة بتسعة، وبعد شهر ما شاء الله يغتني، على حساب من؟ على كد الفقراء وضعفهم، تصرف من راتبك خمسمائة ريال، إذا جئت تصرف الخمسمائة تصرفها بنقص، ثم تصرفها مئات بنقص، ثم تصرفها بخمسينات بنقص، ثم تصرفها عشرات بنقص، لو لم يحرم من جهة الربا، لحرم من جهة أكل أموال الناس بالباطل، لابد أن نعي الأمور، ليس المسألة أن الإنسان يبحث عن مخرج، ثم يأتي الشخص وينشر هذه الفتوى ويعلقها، وما شاء الله! من الحق الواضح، ينبغي علينا أن نتورع وننتبه، وأن لا ننظر إذا كان الناس يفعلون هذا الأمر نقوم ونبحث لهم عن مسوغ شرعي، علينا أن نزن الأمور بموازين الشريعة، وأن ننظر إلى الأصول العامة، وإلى القواعد العامة، وأن نعرف أين هذا الأمر؟ أمر الربا أمر عظيم، فهذا هو الربا الذي حرمه الله ورسوله: (ولا يحل لكما أن تفترقا وبينكما شيء) يجب التقابض، ويجب التماثل، يداً بيد، ومثلاً بمثل، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

نصيحة لمن سئم مذاكرة العلم ومدارسته

نصيحة لمن سئم مذاكرة العلم ومدارسته Q ما نصيحتكم لطلبة العلم الذين سئموا المذاكرة، وأصبحت قلوبهم فيها قسوة؟ وما علاج هذه القسوة أثابكم الله؟ A الله المستعان! هل أحد يسأم من العلم؟! يا أخي! والله لو تعلم مقدار نعمة الله عليك، وأنت جالس في مجلس واحد من مجالس العلم، لجثوت على ركبتيك، ولخررت ساجداً لربك حامداً لنعمته وفضله عليك، أي نعمة أنت فيها! وأنت تذاكر قال الله، قال رسوله عليه الصلاة والسلام؟ إن لم يكن أهل العلم في جنة فلا أدري من هو الذي في الجنة؟

حكم الصلاة خلف إمام لا يحسن قراءة القرآن

حكم الصلاة خلف إمام لا يحسن قراءة القرآن Q أنا أصلي خلف إمام مسجد الحي، وهو لا يجيد قراءة القرآن! هل يجوز أن أصلي في مسجد آخر في نفس الحي؟ وما حكم صلاة المصلين الذين يصلون خلفه أثابكم الله؟ A قولك: لا يجيد قراءة القرآن، فيه وجهان: الوجه الأول: أن يكون مرادك أنه يخطئ في قراءة القرآن خطأً مؤثراً، والخطأ المؤثر عند العلماء: أن يلحن في الفاتحة لحناً يحيل المعنى، أو يبدل حرفاً مكان حرف، فهذا هو الذي يسميه العلماء: الأمي الذي لا يحسن قراءة الفاتحة، فهذا لا تصح صلاته إلا بمن هو مثله أو دونه، أما إذا كان الإنسان الذي يصلي خلفه يضبط الفاتحة، فلا يصلي وراء مثل هذا، ولا يجوز تقديم أمثال هؤلاء الجهلة الذين يخطئون في قراءة الفاتحة خطأً يحيل المعنى، أو لا يتقنون إخراج الحروف على الوجه المعتبر الذي يحصل به الإجزاء، ففي هذه الحالة لا تصل معه، وينبغي نصح هذا وتعليمه، وإذا صليت وراءه تصحح له الخطأ، وتفتح عليه في خطئه، ولو امتنع تردد عليه حتى يرجع عن خطئه، فلا تصح صلاة الأمي إلا بمن هو مثله أو دونه. الوجه الثاني: أن يكون قولك: لا يجيد القرآن: يعني: لا يحسن بعض الأحكام المتعلقة بالتجويد، فتحصل عنده بعض الأخطاء في القراءة، فإذا كان هذا في القراءة من مراعاة أحكام التجويد، فالأمر أخف، إذا كان لا يحسن هذا لا يحكم ببطلان الصلاة، لكن يعلّم وينبه على أنه ينبغي عليه إتقان هذه الأشياء، إلا إذا كانت قراءته قراءة سرد وحدر، وخفف فيها في بعض الأحكام، هذا شيء آخر، لكن الظاهر أن سؤالك أنه ليس من هذا النوع. على كل حال: إذا كان من النوع الثاني، فالذي أراه أن تصلي معه، وتحرص على تقويمه، وإعطاء ملاحظتك له بين الفينة والأخرى، فلعل الله أن يقوّمه، قال صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم) أي: لكم صلاتكم كاملة، وعليهم خطؤهم، هذا إذا كان الخطأ لا يحيل المعنى، وليس بذاك الذي يوجب الحكم ببطلان الصلاة، لكنه آثم، هذا الإمام إذا أمكن أن يضبط أحكام التجويد ويتعلمها لكنه لم يتعلمها، فإنه آثم شرعاً؛ لأن تجويد القرآن واجب، والقرآن ينبغي أن يُقرأ كما نزل، وأما قول البعض: إن التجويد بدعة، فقوله رد عليه؛ لأن أئمة الإسلام، ودواوين العلم كلهم على إثبات هذه القراءة كما جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن المرد فيها إلى أهل العلم بالقراءة، ولذلك فالتجويد لازم، فمعنى قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:4] أي: رتله كما نزل، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من أراد أن يقرأ القرآن غضاً طرياً كما نزل فليقرأه ... ) الحديث، فقال: غضاً طرياً كما نزل، وهذا يدل على أن التلقي عمن روى موجب ومتبع، ومن هنا قال العلماء: القراءة سنة متبعة تؤخذ من أفواه الرجال، فالأصل في هذا: أن هذا التجويد واجب، ولا يجوز الإخلال به، وعليه ضبطه وإتقانه، فإن قال قائل: إنه لا دليل على هذا، نقول له: أنت الآن تقول: {الم} [البقرة:1] ما الدليل على أنك تقول: ألف لام ميم؟ لماذا لم تقل: ألم، وهي مكتوبة: ألم، من الذي قال لك: إنها تقرأ: ألف لام ميم، وكذلك: {كهيعص} [مريم:1] تقرأها: كهيعص ما يمكن هذا. لو قال شخص: إن زيادة الحرف في القرآن باعتقاد أنه من القرآن، وهو ليس من القرآن موجب للكفر، ونقص حرف من كتاب الله، وباعتقاد أنه من كتاب الله موجب للكفر، فهو يقول: {يََا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا} [هود:42] لا ينطق بالباء، وهي قراءة حفص، لماذا تسقط حرفاً من كتاب الله؟ لو جاء وقال: يا بني اركب معنا، خالف الأصل في الرواية؛ لأن هذه رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تقرأ على هذا الوجه. إذاً من أين الدليل على هذه الأشياء؟ نقول: الدليل على هذه الأشياء: الرواية عن أئمة القراءة، يقول شيخ الإسلام: كل أهل علم يرجع إليهم فيه، وكل أهل فن يُرجع إليهم فيه، هذا الذي أمرنا الله عز وجل أن ننزل الناس منازلهم، ونأخذ عنهم العلم، فالذين يقولون: إن التجويد بدعة، هؤلاء لا يفقهون، ولا يعرفون ما كان عليه سلف الأمة، ولو كان بدعة والله ما بقي يوماً واحداً بين أئمة الإسلام، وما كانوا ليجاملوا في أعظم شيء وهو القرآن، ما شاء الله! الأمة أربعة عشر قرناً ساكتة عن هذه البدعة، وتسكت عن أئمة القرّاء يعلمون الناس البدع! هذا أمر ما ينبغي، إذا كان الإنسان يجهل التجويد، أو على وجه لا يحسن به التجويد، لا يأتي يهين هذه القراءة النبوية المحفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي جثا فيها أئمة الإسلام جيلاً بعد جيل ورعيلاً بعد رعيل في مجالس العلم يتلقون فيها ويكافحون ويكابدون من أجلها، فالتجويد سنة متبعة، ولذلك ينبغي الأخذ به، والأصل: أن الله عز وجل أمرنا بترتيل كتابه على الوجه الذي نزل، وقال سبحانه: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] وإبانة القرآن: إفصاحه، وإعطاء الحروف حقها من صفة لها ومستحقها دون تغيير ولا تبديل، فالمقصود من هذا أنه يجب عليه أن يتعلم هذه الأحكام، وأن يلم بها؛ حتى يؤدي للقرآن حقه وحقوقه. والله تعالى أعلم.

عدم جواز إخراج المصاحف الموقومة وغيرها من المساجد

عدم جواز إخراج المصاحف الموقومة وغيرها من المساجد Q لا يخفى على فضيلتكم ما لكتاب الله عز وجل من تأثير في النفوس، كما لا يخفى الأجر العظيم المترتب على تلاوته، وحفظه، وتدبره، وحيث أن كثيراً من أبناء العالم الإسلامي حرم هذا الأجر بسبب عدم تملكه لكتاب الله، ولضيق ذات اليد، وحيث إنه توجد أعداد كثيرة من نسخ المصحف في المساجد، وهي في حالة جيدة موضوعة في المستودعات، وعدم الحاجة إليها، مما يعرضها للتلف، والامتهان، إضافة إلى عدم الاستفادة منها، حيث أن المساجد تستقبل سنوياً أعداداً جديدة من المصاحف، مما يجعل القديمة التي في حالة جيدة لا يستفاد منها، لذا اقترح بعض منسوبي بعض الجمعيات الخيرية، والتي لها نشاط واسع في أنحاء العالم، وخاصة العالم الإسلامي: مخاطبة أئمة المساجد بأخذ تلك المصاحف الموجودة في المستودعات، والتي غالبها من طبعة المجمع، ولا يُحتاج لها، وإرسالها مع الدعاة إلى تلك المناطق الخارجية؛ لتوزيعها على المسلمين هناك مجاناً للاستفادة منها، لذا نأمل منكم إيضاح الحكم الشرعي في هذه المسألة أثابكم الله؟ A أولاً: حقيقة هذه الطبعة-طبعة المجمع- من يعرف حال الطبعات قبل عشرين سنة، أو ثلاثين سنة، يعلم أنه من أجل نعم الله، وأعظم نعم الله عز وجل في حفظه لكتابه وجود هذه الطبعة، هذه الطبعة التي نعرف من العلماء والأئمة الذين قاموا على تحريرها وضبطها، ممن شُهد لهم في العالم الإسلامي من أئمة القراءة، ومن علماء الأزهر، ومشايخ الأزهر القدماء، الذين نعرفهم بالصلاح والاستقامة والضبط والتحرير، وبلوغ الإمامة في هذا الشأن، وغيرهم من العلماء الفضلاء، رحم الله أمواتهم! وأحسن الخاتمة لأحيائهم وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، هذه الطبعة: الحقيقة كنا في الحرم النبوي نجلس فتأتي طبعات من مختلف العالم الإسلامي، بعضها القرآن فيها محرف، يعني: اطلعنا على بعض طبعات محرفة، والكلام محرف، والآيات فيها سقط، وفيها تحريف، فنعمة عظيمة من الله عز وجل وجود هذه الطبعة، نسأل الله أن يعظم الأجر والمثوبة لمن كان سبباً فيها؛ لأنها حقيقة أغنت العالم عن كثير من الغثاء، وعن الدَّخل الذي ضر المسلمين في كتاب الله، وأن الله تكفل بكتابه. المسألة الثانية: مسألة المصاحف الموجودة في المساجد لا يجوز إخراجها من المسجد، هذا أول شيء. والأصل أنه إذا وضع في مكان، هذا يسمونه: دلالة الفعل على خصوص الحبس، والوقف هو الحبس. أولاً: الوقف إذا وضع في مكان، كأن يضع فراشاً في مسجد، نفهم من هذا الفعل أنه قصد وقفه على هذا المسجد، ولو لم يتلفظ بلسانه، فيصبح وقفاً على هذا المسجد إلى أن يتلف بالكلية، فلا يجوز إخراج المصاحف من المساجد، حتى ولو كانت قديمة، وهذا للأسف يتساهل فيه البعض، والذين أوقفوا مصاحف للمساجد، فهم يرجون الأجر والمثوبة، وفيهم أموات أوقفوا هذه المصاحف، وهذه البسط، وهذه الأجهزة، لا يجوز لأحد أن يقدم على التغيير، أو التبديل بها إلا بوجه شرعي، هذا أمر مقرر عند العلماء في الوقف. ثانياً: حينما يقول الإنسان: أوقفت هذا، أو سبلت هذا، فقد أخرجه من ملكيته لله عز وجل، ما يستطيع أحد أن يتولى النظر فيه؛ لأنه أصبح وقفاً لوجه الله عز وجل، مسبلَ المنافع، فلا يجوز العبث بالأشياء الموجودة في المساجد والاجتهاد فيها، إلا ممن له الشأن في ذلك، هذه المصاحف تكتبون في شأنها إلى جهات الأوقاف، هناك جهات معنية بهذا الشيء، مفوض إليها النظر في هذا الشيء، هي التي تتحمل المسئولية، أما أن يأتي كل شخص ويجمع المصاحف من المساجد ويخرجها ويرسلها إلى الخارج فلا! هذا اجتهاد باطل مردود؛ لأن هناك ضوابط شرعية. هذا وقف مسبلٌ على هذا المسجد، فلا يجوز إخراجه. نعم هناك أماكن تحتاج إلى مصاحف، ليس معنى هذا أنها ما تحتاج، بل هناك حاجة وهناك فاقة، بإمكانك أن تكلم الأغنياء أن يشتروا نسخاً وطبعات وترسل بها إليهم. هناك جمعيات جزاهم الله كل خير، يعتنون بهذا الأمر، لكن ليس من حق الإنسان أن يأتي إلى طبعة موقوفة في المسجد، ويخرجها من هذا المسجد، هذا أمر لا إشكال فيه، من جهة الوقفية هناك أمور: الأمر الأول: أن من سبل أو حبس، فإنه لا يجوز لأحد أن يخرج حبسه عن مكانه إلا بوجه شرعي، ولذلك قالوا: إن الأوقاف لا تباع إلا بقضاء من القاضي؛ لأنه ليس لها ولاية، فتحتاج إلى الولاية العامة من القاضي؛ حتى يحكم ببيعها وصحة التصرف فيها. الأمر الثاني: لا يجوز لأحد أن يأتي والمصاحف موجودة في المسجد، ويدخل مصاحف جديدة، مادام المسجد مستكفياً، ولذلك مادام أن المسجد مستكفٍ، فاذهب بالمصاحف إلى مسجد آخر، وبدلاً من أن تخرج المصاحف القديمة التي أوقفها أصحابها فبقاؤها أولى وأسبق، خذ الأشياء الجديدة وقل لهم: أرسلوها إلى من هو أحوج، أما من سبق فهو أحق، ولذلك لا ينبغي إخراج حتى الفراش، لو أن شخصاً فرش مسجداً، وفتح هذا الباب، لأتى شخص وقال: والله هذا الفراش ما يعجبني، فيأتي بفراش آخر، والثاني يقول: وأنا أيضاً هذا الفراش ما يعجبني، أبغي الأجر والمثوبة، وَلَمَا انتهى هذا الأمر، ولذلك الأصل أن من سبق فهو أحق، ونقول لمن لحق: ابحث عمن هو أحوج، واجعلها له، إن شئت أن توقف مصاحف، أو أن توقف أجهزة، أو أن توقف أشياء أُخر، فالأصل أنه ليس من صلاحية الإمام ولا غيره النظر في هذه الأشياء، إنما توكل إلى من هو معني بهذا الأمر، تكتبون إليه، ثم يُجتهد في هذا الأمر بما فيه المصلحة، نسأل الله التوفيق لذلك! أحب أن أنبه إلى ما يعانيه إخوانكم في فلسطين من الكرب العظيم، والبلاء العظيم الذي نزل بهم، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعجل بالفرج لنا ولهم وللمسلمين، وتعلمون كما لا يخفى على الجميع تكالب أعداء الإسلام عليهم، وما فعله اليهود بهم، الأمر الذي يحتم على المسلم أن يكون مع إخوانه، كما بين الله عز وجل في كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، من وجوب نصرة المسلم لأخيه المسلم بكل ما تعنيه هذه الكلمة، ولذلك أقول: على كل مسلم أن يقدم ما يستطيع تقديمه لإخوانه، ومن أعظم ما تنصرون به إخوانكم كثرة الدعاء، فإن الدعوة فيها خير عظيم، ولعل دعوة منك تفتح لها أبواب السماوات، تفرج بها كربات المؤمنين والمؤمنات، ترفع بها إلى عالي الدرجات، وتعظم لك فيها الحسنات في الدنيا والآخرة، فاجتهدوا -رحمكم الله- في الدعاء لإخوانكم، وتصوروا كربهم حينما يقتل شيوخهم، وترمل نساؤهم، وييتم أطفالهم، وهم إخوانك في الدين والعقيدة، وما نقموا منهم إلا أنهم آمنوا بالله، وصدقوا رسله، فالمسألة مسألة إيمان وعقيدة، فعلى المسلم أن يجتهد في الدعاء لهم بين الأذان والإقامة، وفي السجود في الأسحار، في مظان الإجابة، عند خشوعه، وحضور قلبه، يجتهد في الدعاء لإخوانه المسلمين. فنسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، اللهم!! أنت الله لا إله إلا أنت يا من يكشف البلاء! ويزيل العناء! يا فاطر الأرض والسماء! لا إله إلا أنت، نسألك اللهم!! أن تجعل لإخواننا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، اللهم!! داو جرحاهم، واشف مرضاهم، وتقبل شهداءهم، اللهم! ثبت أقدامهم، وسدد سهامهم، وصوب آراءهم، واجمع شملهم، وأصلح ذات بينهم، يا حي يا قيوم! اللهم!! بارك أرزاقهم، اللهم!! بارك أرزاقهم، اللهم! بارك أقواتهم، اللهم! بارك أرزاقهم وأقواتهم يا حي يا قيوم! اللهم! أنزل عليهم من الثبات والصبر أضعاف ما أنزلت عليهم من البلاء، اللهم! إن اليهود قد طغوا، وبغوا، وأسرفوا، وأرجفوا، اللهم! جبار السماوات والأرض لا إله إلا أنت، يا من يسمع الدعاء! ويكشف البلاء! يا فاطر الأرض والسماء! يا حي يا قيوم! يا حي يا قيوم! يا حي يا قيوم! نسألك اللهم بأنك أنت الله لا إله إلا أنت أن تزلزل عروشهم، اللهم! زلزل عروشهم، اللهم! صدع بنيانهم، اللهم! شتت شملهم، اللهم! فرق جمعهم، اللهم! أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم! اسلبهم عافيتهم، واشدد عليهم وطأتك، وأنزل بهم رجزك ولعنتك، إله الحق لا إله إلا أنت، اللهم! شتت شملهم، وشمل من شايعهم، وظاهرهم، وأعانهم، ورضي أفعالهم، اللهم! اقصم ظهورهم، اللهم! اقصم ظهورهم، وشتت أمورهم، اللهم! شتت أمورهم، يا حي يا قيوم! اللهم! أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم! أرنا فيهم عجائب قدرتك، عجل لنا ولإخواننا بالفرج، لا إله إلا أنت، لا إله إلا أنت، لا إله إلا أنت، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

باب القسامة [1]

شرح زاد المستقنع - باب القسامة [1] كانت القسامة مما يعمل به العرب في الجاهلية، فجاء الإسلام وأقرها وهذبها وجعل لها شروطاً، فهي لا تكون في أموال أو عروض أو غيرها، وإنما تكون في القتل والدماء. والأيمان في القسامة إما أن تكون أيمان إثبات من أولياء الدم، وإما أن تكون أيمان نفي من أولياء المدعى عليه.

مقدمة في القسامة وما يتعلق بها من أحكام

مقدمة في القسامة وما يتعلق بها من أحكام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب القسامة].

تعريف القسامة ومشروعيتها

تعريف القسامة ومشروعيتها القسامة: مأخوذة من القسم وهو اليمين، وهذا الباب المراد به: أيمان مكررة لاستحقاق دم على صورة مخصوصة. والقسامة وقعت في الجاهلية، وأقرها الإسلام، وهي من الأمور الخاصة التي جاء فيها دليل السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثبتت على خلاف الأصل، وهي أصل في باب الأيمان في القتل، لكنها في الأصل مستثناة؛ لأن الأصل في القتل أولاً: أننا لا نقتل أحداً إلا إذا أقر واعترف أنه قتل عمداً عدواناً، وتوافرت فيه أهلية الإقرار بالقتل، وسيأتي إن شاء الله بيان أهلية المقر في كتاب القضاء. ثانياً: أن توجد بينة، وهي شاهدان عدلان من الذكور، يشهدان أن فلاناً قتل فلاناً، ويكون ذلك برؤيا منهما، أي: أنهما رأيا قتل ذلك الشخص، وهناك شروط سنذكرها في الشهادة: كأن يتفقون على صفة القتل، وطريقة القتل، وتتفق الشهادة لفظاً ومعنى، بحيث لا يكون هناك خلاف بينهم، فإذا ثبتت الشهادة على الوجه المعتبر، وزُكي الشهود، ولم تكن هناك تهمة ولا ظنة بالشاهدين، ولا أمر يقدح ويوجب رد شهادتهما؛ فإنه في هذه الحالة نحكم بوجوب القصاص. إذاً: لا بد من وجود البينة: شاهدين عدلين، أو إقرار من الشخص، هذا هو الأصل، فلا يعطى الناس بدعواهم، كأن يأتي شخص ويقول: فلان قتل أبي، أو فلان قتل أخي، فلا نقبل منه مجرد الدعوى، وإنما نأتي بالشخص المدعى عليه، ونقول له: هل قتلت فلاناً؟ فإن أقر وقال: قتلته، أخذناه بإقراره؛ لأنه ليس هناك أوثق من شهادة الإنسان على نفسه، فإذا أقر فقد شهد على نفسه، ومن شهد على نفسه، فالأصل أنه لا يشهد بالضرر على نفسه، فيؤاخذ بإقراره، لكن لو قال: لم أقتله، نقول للمدعي: أحضر البينة وشهودك على أن فلاناً قتل أباك أو أخاك، فإن أحضر البينة والشاهدين، فنحكم بالقصاص، ما لم يُطعن في الشاهدين، ويتبين أن هناك عداوة للمشهود عليه، أو أن هناك قادحاً يمنع من قبول شهادتهما، فحينئذ نرد الشهادة، لكن لو زُكوا وثبتت عدالتهما وضبطهما، وأنهما أهل للشهادة بالقتل، حكمنا بالقصاص، إذا طلب أولياء المقتول القصاص. لكن باب القسامة خرج عن هذا الأصل، كما خرجت أيمان اللعان عن الأصل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى الأصل، وأشار إلى الاستثناء، فإذا قال العلماء: هذا على خلاف الأصل، فليس مرادهم أنه مخالف للأدلة، هذا لا يقصده العلماء أبداً، ولا يمكن للعلماء أن يثبتوا شيئاً مخالفاً للأدلة، إنما المراد بالمخالفة للأصل: أنها صورة مستثناة لا يقاس عليها غيرها، ولذلك يقال: ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس. فلا يفهم البعض هذه العبارات ويظن أن العلماء إذا قالوا: هذا على خلاف الأصل، فإن معنى ذلك أنه رأي خارج عن الأدلة لا؛ فإن هذا لا يمكن أن يقوله العلماء مادام أنه قد ثبت به الدليل، ولكن مراد العلماء أن يبينوا ما هو أصل وما هو مستثنى من الأصل، فأعطوا كل دليل حقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل المثال في مسألة الأصل والمستثنى من الأصل، جاءه هلال بن أمية، وقذف امرأته بـ شريك بن سحماء، كما في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عن الجميع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة، أو حد في ظهرك، فقال: يا رسول الله! الله يعلم أني صادق، وأني لم أكذب عليها، وسينزل الله قرآنا يبرئني)، فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم آيات اللعان، وقيل: نزلت في عاصم مع عويمر العجلاني، كما تقدم معنا في باب اللعان، فإنه قال له: سل لي يا عاصم لو أن رجلاً وجد مع امرأته. إلخ. الشاهد: أنه لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (البينة أو حد في ظهرك)، فالأصل: أنه إذا قذف زوجته أو قذف أي محصنة، فعليه أن يأتي بالبينة، أو إقرار من المرأة، فتقول: نعم إني زنيت، أو شهود يشهدون أنها زنت، فلما لم يقل ذلك، قال له: (البينة أو حد في ظهرك)، فنزلت آيات اللعان، فكان قوله: (البينة أو حد في ظهرك) أصل، فخاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بالأصل، فلما نزلت آيات اللعان، نزلت على خلاف الأصل، بحيث اختصت بالزوجين ولم تشمل غيرهما، ومن هنا: لو قذف القريب قريبه، كأن يقذف أخ أخاه، وجاء شخص يقول: أنتم تثبتون القياس، إذن نجري اللعان بين الأخ وأخيه، كما نجريه بين الزوجة وزوجها، بجامع وجود القرابة والرحم في كلٍ منهما، فنقول: ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس، وهنا تعرف فائدة الخروج عن الأصل، والاستثناء من الأصل، حتى لا يحصل الخلط. ومن لم يعرف الأصول المقررة, والأصول الخارجة عن الأصول التي هي أصول في بابها، لكنها مستثناة من الأصول؛ فإنه لا يأمن من الخطأ، خاصة في الأقيسة ومعرفة النظائر، وعمر رضي الله عنه يقول لـ أبي موسى: اعرف الأشباه والنظائر، ثم قس الأمور بها. فالأصل في هذا أننا نطالب من ادعى القتل أن يحضر بينة، وإلا رددنا دعواه إذا أنكر المتهم وحلف. إذاً: في هذه الحالة جاءت أيمان القسامة على خلاف الأصل: وذلك أنه قُتل قتيل لبني هاشم -كما روى ابن عباس رضي الله عنهما- فقال أبو طالب: احضروا خمسين رجلاً منكم يحلفون خمسين يميناً ونبرئكم، فأحضروا تسعة وأربعين رجلاً إلا ولي يتيم هو المكمل للخمسين من العصبة، فقال: إني أدفع هذا القسط من الدية عن يتيمي، فحلف التسعة والأربعون أيمانهم في الجاهلية، وكانت أيماناً فاجرة، فما مضى الحول وفيهم نفس حية. ولذلك يقولون: من المعروف في أيمان القسامة أنه لا يحلفها أحد كاذباً إثباتاً أو نفياً، فلا يمر عليه الحول وهو بخير أبداً؛ لأنه يثبت أن فلاناً قتل، فيُقتل هذا المسكين ظلماً، ومن هنا صار أمرها عظيماً، حتى كان أهل الجاهلية يخافون اليمين، وكذلك يمين القضاء كلها، فمن وقف في القضاء وطلبت منه اليمين، فحلف بها فاجراً، لقي الله وهو عليه غضبان، وهي اليمين التي تغمس صاحبها في النار، تسمى: الغموس، فإذا كانت في الدماء فهي أشد وأعظم. ومن هنا جعل الله الفكاك من هذه المصيبة العظيمة، وهي ورطات الدماء، فإن أصعب شيء بين الناس ثارات الدماء، خاصة إذا كانت بين الجماعات، أو ثارات ومنازعات بين القبائل، أو بين الأحياء، أو منازعات وثارات بين القرابة أنفسهم في أفخاذهم، فلو لم تشرع هذه القسامة لحصل للناس شر عظيم، وبلاء وخيم، ولذلك حكمة عظيمة عالجت فيها الشريعة حقن الدماء، عالجت فيها الاسترسال في الدماء والثارات، وكان العرب في جاهليتهم الجهلاء يسترسلون في القتل بدرجة مستبشعة، حتى إنه إذا قتل الرجل من القبيلة، قد لا يرضون إلا بمائة نفس، ولا يرضون إلا أن يكون من عظماء القبيلة الأخرى، فيدخلون في تسلسل من سفك الدماء، حتى عصم الله دماء عباده بفضله سبحانه، ثم بهذا الشرع: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179] قال: (يا أولي الألباب) ولم يقل: المجانين، وأولو الألباب: هم أهل العقول الراجحة السوية، التي تعي وتفقه عن الله عز وجل.

حادثة عبد الله بن سهل وحويصة بن مسعود في القسامة

حادثة عبد الله بن سهل وحويصة بن مسعود في القسامة هذه القسامة اضطرت الشريعة إليها، ولا يحكم بها إلا في حالة مخصوصة، وقد وقعت في الجاهلية، وكذلك وقعت في الإسلام، وذلك لما فتحت خيبر خرج عبد الله بن سهل وحويصة إلى خيبر، وافترقا في الطريق في حي من خيبر، فذهب حويصة وترك عبد الله في مكان آخر، فرجع حويصة فوجد عبد الله بن سهل رضي الله عنه يتشحط في دمه مقتولاً قد انتهى، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء هو وأخوه الأكبر منه محيصة وعبد الرحمن أخو عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطالبون بحقه، فهنا يلاحظ: أن هناك عداوة بين الأنصار وبين اليهود، وهي عداوة دينية، وأشد العداوات العداوة الدينية؛ لأنها عداوة يتقرب بها العبد إلى ربه سبحانه وتعالى، فهي أعظم من عداوة الدنيا. إذاً: في هذه العداوة لوث، ومن هنا من فقه العلماء أخذوا هذا الحديث كلمة كلمة، وجملة جملة، وبنوا الأحكام على هذا التفصيل، فوجدوا أن هناك عداوة بين من يدعي وبين المدعى عليه، فهذا أول شرط لمسألة القسامة: أن يكون هناك لوث أو لطخ، أي: وجود عداوة بين الطائفتين أو الجماعتين، أو يثبت أن جماعة فلان هددوا جماعة فلان وقالوا: إنهم سيضرون بهم، وذلك باعترافهم، أو قالوا: سنفعل بكم، أو سنضركم، أو لن نترككم، أو ستذكرون، ستندمون، كلمات تدل على أنهم يريدون أو يتربصون بهم الشر. كذلك من اللوْث أيضاً قالوا: لو وجد هذا القتيل في مكان وبجواره رجل معه سلاح، وثوبه ملطخ بالدم، فحينئذ هذه يسمونها: القرينة القاطعة؛ لأن الرجل مقتول، وليس هناك أحد معه آلة القتل إلا هذا القائم، ونحن لم نره يقتل حتى نقول: إنه هو القاتل؛ لأنه احتمال أن يأتي شخص يريد إسعافه وإنقاذه، فيحمل السكين عفواً، ثم تلطخ بدمائه، فالاحتمال موجود، والشبهة موجودة، لكن هناك غلبة الظن، فإذا وجد بجواره في هذه الحالة، حتى ولو لم تكن هناك عداوة فهذا أيضاً لوث. إذاً: عندنا حالتان: الحالة الأولى: أن تكون هناك عداوة، وحينئذ تكون الشبهة بالقتل، وبالقسامة يثبت القصاص، والذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم في القسامة هو في هذا الحديث في مسألة القصاص، لكن إن قلنا: إن القسامة تثبت الدية في قتل الخطأ، فمثلاً: وجدنا شخصاً مقتولاً ملطخاً بالدماء، وبجواره شخص بسيارته وهي ملطخة بالدماء، فقلنا له: هل قتلته؟ قال: ما قتلته، وأبى أن يعترف، وليس عندنا شهود يثبتون أنه قتله، فحينئذ تكون القسامة على القول بأنها تجري في الخطأ كما أنها تجري في العمد، وهو الوجه الثاني عند أهل العلم. وبناءً على هذا قالوا: لو حدثت زحمة عند بئر، ثم خرجت هذه الجماعة المزدحمة ووجد بينهم رجل ميت، فيحلف أولياء المقتول على هذه الجماعة، ويلزمونهم الدية، كذلك أيضاً لو كان في يوم جمعة، المهم أن يكون في مكان فيه زحام، فمات بينهم، فهم الذين قتلوه، وحينئذ يحلف أولياء المقتول: أن هذه الجماعة هي التي قتلت، ويستحقون الدية، لكن لا يستحقون القصاص، على القول بأن الخطأ يجري مجرى العمد في ثبوته بالقسامة. وإن قلت: إن القسامة خرجت عن الأصل، فتقول: تنحصر في قتل العمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبتها في حادثة العمد، وهذا أقوى من جهة الأصول، وأقيس كما يقول العلماء؛ وذلك لما وجد عبد الله بن سهل رضي الله عنه يتشحط في دمه، انطلق حويصة -الذي وجده على هذه الحالة- وأخبر قريبه، فمضوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (تحلفون خمسين يميناً، فتستحقون على رجل منهم-يعني من اليهود- فيدفع إليكم برمته)، وفي لفظ في الصحيح: (تحلفون خمسين يميناً، وتستحقون دم صاحبكم) يعني: اختاروا أي رجل منهم، وقولوا: هذا هو الذي قتل، وتحلفون خمسين يميناً، فيقتل به قصاصاً. ومن هنا قالوا: إذا وجد اللوث-العداوة- أو كان بين الشخصين عداوة، وأثبت أولياء المقتول أن فلاناً كان يتوعد قريبهم، أو عرف عن هذا الشخص أنه رجل سوء، وقد ذكر عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف، وقرره واختاره: أنه لو كان هناك شخص في حي، وهو معروف بسفك الدماء، معروف بالبغي، معروف بالاعتداء على الناس، فوجد قتيل في نفس ذلك الحي، فإننا نقول لأولياء القتيل: احلفوا على هذا الرجل؛ لأن دلالة الظاهر تدل على أنه ليس في هذا الحي أحد يجرؤ على القتل إلا هذا الرجل، ولا يستمرئ القتل ولا يستخف به إلا هذا الرجل، قالوا أيضاً: كذلك العداوات المشهورة بين أهل الأحياء، أو بين الجماعات والطوائف، توجب اللوث. قال صلى الله عليه وسلم: (تحلفون خمسين يميناً، وتستحقون على رجل منهم، فيُدفع إليكم برمته، قالوا: يار سول الله. !) انظر إلى هذا الورع! انظر كيف ربى الإسلام هذه الأمة، فالأنصار كانت بينهم الثارات، حتى إنهم دخلوا ذات يوم إلى حديقة، تواعدوا أن يتقاتلوا فيها، فدخل في الحديقة رجالهم وأبطالهم وشجعانهم، فما خرج منهم أحد حي؛ من شدة ما كان بين الأوس والخزرج من القتال، وذلك يوم بعاث، فالشاهد من هذا: أن هؤلاء القوم الذين كانوا منغمسين في الثارات، وفي سفك الدماء، ومحبة الانتقام، انظر كيف أثر الإسلام فيهم، فقوّم أخلاقهم، وقوّم سلوكهم، وأصلح ظاهرهم وباطنهم بإذن الله عز وجل، وعلى من؟ على اليهود أعدائهم، ومع هذا كانوا أهل عدل حتى مع الأعداء، فإذا بهم يقولون: (يا رسول الله! كيف نحلف ونحن لم نشهد ولم نر؟!) فما شهدنا قتله، ولم نر القاتل، فكيف نحلف خسمين يميناً؟! وقد قرر العلماء أن من غلب على ظنه أن فلاناً قتل قريبه، فيجوز له أن يحلف اليمين؛ لأن اليمين تجوز على غلبة الظن، والدليل على ذلك: مسألة القسامة. فقالوا: (يا رسول الله! كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟! والله تعالى يقول: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف:81]) انظر كيف تورعوا مع وجود الدلائل والظواهر، ومع وجود الحمية لقريبهم، ومع هذا كله كفوا، وعفوا، ومع من؟ مع اليهود، فيا ليت المسلم يفعل عشر معشار هذا مع أخيه المسلم، حينما يتكلم في فكره، وفي منهجه، ويسفِّه، ويبدع، ويفسق، ويخرج المسلمين من الملة، دون أن يرعى فيهم حق الإسلام! فإن هؤلاء الأنصار اتقوا الله وتورعوا حتى مع أعدائهم، وهكذا يكون من يتأسى بالسلف الصالح حقيقة، ويكون على منهج الصحابة الذين هم أئمة السلف الصالح، قالوا: (يا رسول الله! كيف نحلف ونحن لم نشهد ولم نر؟! فقال صلى الله عليه وسلم: فتبرئكم يهود بخمسين يميناً)، فدل على فائدة وهي: أولاً: أن توجه الأيمان على أولياء المقتول على رجل، فإن حلفوا ثبت القصاص، وهذه يسمونها: أيمان الإثبات، فيحلفون ويقولون: والله إن فلاناً قتل فلاناً، يحضرون إلى مجلس القضاء ويقولون: إن فلان بن فلان، ويشيرون إليه؛ لاحتمال أن يكون أحد يشبهه في الاسم، ولذلك يقولون: إن فلان بن فلان الفلاني هذا قد قتل قريبنا فلانَ بن فلانَ، فإذا كانوا خمسين رجلاً فتقسم عليهم الأيمان, وإذا كان عددهم عشرة حلف كل واحد منهم خمسة أيمان حتى يكمل النصاب إلى خمسين، فهم مجتمعون، ومنفردون، فيحلفون على الإثبات، قالوا: (يا رسول الله! كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟! قال: تبرئكم يهود بخمسين يميناً) وهذه شهادة النفي، أي: على العكس، فإذا ادعوا، أحضرنا خصومهم، فإن قالوا: نحن ما نحلف، نقول لخصومهم: احلفوا خمسين يميناً على أنكم ما قتلتم، وتفصيل هذه اليمين أن يقول الحالف: والله ما قتلته، ولا أعنت على قتله، ولا تسببت في قتله، ولا أعلم من قتله، فيحلف هكذا؛ لأنه ربما يقول: ما قتلته، ويعني مباشرة، ولكنه تسبب في قتله، لكن عليه أن يقول: ما قتلته، ولا تسببت في قتله، ولا أعلم من قتله، فيحلف هذه الأيمان على هذا الوجه، فهي يمين نفي، ولما كانت يمين نفي. قال صلى الله عليه وسلم: (فتبرئكم يهود)، فهي يمين براءة، وتكون من المسلم والكافر، لكنهم قالوا: (يا رسول الله! كيف نقبل أيمان كفار?!)، فامتنعوا من قبول يمين اليهود، فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من بيت المال بمائة من الإبل؛ لأن اليهود كانوا تحت ذمته، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وهذا دم معصوم، ولا بد من وجود قاتل، فهو مقتول من شخص إما من المسلمين وإما من اليهود، ولا نعرف بالضبط من الذي قتله، وما استطاع أولياء المقتول أن يحلفوا، فإذا كان من المسلمين، أو من غير المسلمين، ممن تحت ولاية المسلمين، فحينئذ يضمنه بيت مال المسلمين، هذا وجه، وبناءً على هذا الوجه: يجوز للقاضي الاجتهاد إذا حصل مثل هذا، فمثلاً: وجد شخص مقتول، ولا يعلم من قتله، أو في الموت الذي يحصل من الجماعات أثناء الزحام والعمية، فإنه يودى من بيت مال المسلمين، هذا الوجه الأول. الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم اضطر إلى دفع المائة من الإبل دفعاً للثارات؛ لأن الأنصار لن يسكتوا، ستأخذهم الحمية، وإن سكت الرجل فلن يسكت قريبه، وحينئذ سيحدث ضرر، وهؤلاء اليهود لهم ذمة، فلربما استطال أنصاري على يهودي، ولم يكن القاتل بعينه، فيدخلون في ثارات لا تنتهي، فمن هنا صار أشبه بدفع الضرر الأعظم عن المسلمين؛ لأنه سيؤدي إلى حدوث عواقب وخيمة، فكان من حكمته عليه الصلاة والسلام أنه قفل هذا الباب، ومن هنا لو أن القاضي رأى خصومة وقعت بين حيين، أو قبيلتين، أو جماعتين، أو فخذين من جماعة، وحدث فيها مثلما حدث في هذه القضية، فلا أيمان للإثبات، ولا أيمان للنفي، وهو يعلم أن أولياء المقتول لن يسكتوا، وسيتربصون، وستحدث أضرار، فإنه يودي من بيت مال المسلمين، حقناً لدماء المسلمين، ولا يبطل دم في الإسلام. ومن هنا حدثت القضية لـ عمر وعلي رضي الله عنهما، ففي زمان عمر الخليفة الراشد جاء رجل ووقف بعرفة فقتل من الزحام، فجاء أولياؤه إلى عمر، فقال عمر: ال

مناسبة ذكر باب القسامة بعد كتاب الجنايات والقتل والديات

مناسبة ذكر باب القسامة بعد كتاب الجنايات والقتل والديات قوله رحمه الله: [باب القسامة]. أيك في هذا الباب سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بباب القسامة. وكأن باب القسامة مرتب على باب القتل، فبعد أن بين لنا متى يكون القتل قتل عمد وقتل شبه عمد وقتل خطأ، وبين أحوال القتل ومن يقتص منه ومن لا يقتص منه، ثم تكلم على الجناية على الأطراف؛ شرع في باب القسامة؛ لأن إثبات الشيء أو طلب الإثبات -كما يسمى في القضاء- لا يكون إلا بعد وجود الجريمة، فلا نطالب بإثبات شيء غير ثابت في الأصل لا تتقدمه دعوى، فعلى هذا لابد أول شيء أن تثبت الجريمة على صفة معتبرة، ثم بعد ذلك يسأل عن إثباتها. وكان المفروض أن يؤخر باب القسامة إلى باب القضاء؛ لأنه متعلق بالحجج والبينات، ولكن نظراً لأن القسامة لا تكون في شيء غير القتل -وهي خاصة بالقتل- فمن دقة الفقهاء رحمهم الله أنهم يذكرون الخاص في بابه الخاص، ويذكرون المتعلق الخاص في بابه، ولا يذكرونه في الأبواب العامة. وباب الشهادات العام سيأتي الكلام فيه عن ضابط الشهادة عموماً في القتل، وفي الحدود والجنايات، وفي الأموال وفي الحقوق ونحوها، ولكن في باب القتل هناك نوع من الإثبات خاص به، من المناسب أن يذكره المصنف رحمه الله في بابه، ولا يذكره في الباب العام، وعلى هذا يكون ترتيب المصنف ترتيباً منطقياً راعى فيه تسلسل الأفكار، حيث بيَّن القتل والجريمة، ثم بعد ذلك بين ما يتعلق بإثباتها. يرد الإشكال أن المصنف رحمه الله ذكره بعد باب الجناية على النفس والأطراف، ولا شك أن هذا له عذره فيه، فقد ذكر الجناية على الأطراف لأنها مرتبة على الجناية على النفس؛ ولأنه قسيم مشارك، ثم بعد ذلك ذكر القسامة باختصاصها بهذا الحكم الذي بيناه، وهو متعلق بباب القضاء، فكان الأولى والأجدر أن يؤخر، ومن هنا يكون منهجه منهجاً صحيحاً راعى فيه ما ذكرناه. ثم من المعلوم أن القسامة لا تثبت إلا في قتل مخصوص وعلى صفة مخصوصة، ومثل هذا -عند الفقهاء رحمهم الله- يسمى الباب الخاص، ويؤخر عن الأبواب العامة. قال رحمه الله تعالى: [وهي أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم]. قوله: (وهي) أي: القسامة، فالضمير عائد إليها، وحقيقتها عندنا -معشر الفقهاء- أيمان، وهي جمع يمين، وأصل اليمين: الحلف، والأصل في اليمين القوة، يقال: أخذها باليمين: أي: بقوة، كما قال الشاعر: إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين يعني: بالقوة، ثم تطلق على اليد، وهذا إطلاق حقيقي وليس بمجازي، وكذلك أيضاً هنا تطلق على الحلف، وهو القسم، قالوا: سمي القسم يميناً لأنه يقوي جانب المقسم، فالشخص إذا حلف وأقسم قوي جانبه، وضعف جانب مكذبه؛ لأن كل من يخبر عن شيء فهو متردد بين أن يكون صادقاً أو يكون كاذباً، أو مخطئاً، ومن هنا إذا حلف فإنه يقوي ما يقوله، ويقوى جانبه في الخبر. وقوله رحمه الله: (أيمان) جمع، وعبر بصيغة الجمع؛ لأن القسامة خمسون يميناً يحلفها أولياء المقتول على الصفة التي سنذكرها، فنظراً لكونها أكثر من واحدة، جمعها رحمه الله، وهذا الإجمال بينته السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما قال -كما في الصحيحين- للمدعين: (تحلفون خمسين يميناً)، ولذلك قال المصنف: (أيمان)، والمراد باليمين هنا: اليمين الشرعية المعتد بها، وهي اليمين بالله سبحانه وتعالى. وهل تكون مغلظة أو غير مغلظة؟ الأصل ألا تغلظ اليمين إلا إذا دل الدليل على تغليظها، وتغليظ اليمين أن يقول: والله الذي لا إله غيره، أو والله الذي لا إله إلا هو، فإذا أضاف هذا القيد فقال: والله الذي لا إله إلا هو فقد عظّم يمينه، وإذا فجر فيها كان فجوره -والعياذ بالله- أعظم وأشد جرأة على الله سبحانه وتعالى مما لو قال: والله، فالأصل فيها أن تكون باليمين المجردة: والله. وبعضهم يقول: يضيف قوله: والله الذي لا إله إلا هو ما قتلناه، ولا نعلم من قتله. هذا بالنسبة لمن يدعى عليهم، وهي ما تسمى عند العلماء بيمين النفي.

أقسام القسامة

أقسام القسامة والقسامة -التي هي الأيمان المكررة- التي ذكرها المصنف، تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أيمان إثبات. والقسم الثاني: أيمان نفي. أما أيمان الإثبات فتكون من أصحاب الدم، وهم الذين جني عليهم وهم أولياء المقتول، فأيمانهم أيمان إثبات، لابد أن يحددوا القاتل ويصفوه بما يتميز به عن غيره، وإن كان موجوداً في مجلس الحكم والقضاء، يقولون: والله إن هذا -ويشيرون إليه- قتل مولينا أو فلان بن فلان. ويذكرونه بما يتميز به أيضاً. هذه يمين الإثبات. أما أيمان النفي: فتكون من المدعى عليهم؛ لأن الطرف الثاني وهم المدعى عليهم، إذا امتنع أولياء المقتول من الحلف طالبناهم أن يحلفوا، فيحلفون بالله خمسين يميناً أنهم ما قتلوا ولا يعلمون من قتله، فتكون اليمين على الأمرين، أما اليمين الأولى -وهي يمين الإثبات- فقد أشار إليها عليه الصلاة والسلام بقوله: (تحلفون خمسين يميناً وتستحقون بها دم صاحبكم) وفي اللفظ الآخر أيضاً في الصحيح (تحلفون خمسين يميناً على رجل منهم، فيدفع إليكم)، وفي لفظ أحمد (تحلفون خمسين يميناً) أو (تقسمون خمسين يميناً على رجل فيدفع إليكم برمّته) هذه كلها أيمان إثبات. أما أيمان النفي فقوله: (فتبرئكم يهود بخمسين يميناً)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (تبرئكم يهود) أي: يحلف المدعى عليهم -وهم الطرف الثاني الذين وقعت فيهم الجريمة، وادعي أنهم هم الذين قاموا بالجريمة، أو فيهم من قام بالجريمة- يحلفون خمسين يميناً. فقوله رحمه الله: (أيمان) يشتمل على أيمان الإثبات من المدعي، وأيمان النفي من المدعى عليه. ومن هنا كانت القسامة متضمنة للنوع الثاني من شهادة النفي، فالأصل عند العلماء أن شهادة النفي لا تعتبر حجة إلا في مسائل منها هذه المسألة؛ لأنه يحلف المدعى عليهم أنهم والله ما قتلوه، ولا يعلمون من قتله، أو يحلف الشخص الذي يدعى عليه أنه قتل، يقول: والله ما قتلته، ولا أعلم من قتله. قوله رحمه الله: (أيمان مكررة) إن كانت من شخص واحد، سواء في الطرف الأول، إذا قلنا: الطرف الأول فهم أولياء المقتول؛ لأنهم هم الذين يبدءون أولاً، وإذا قلنا: الطرف الثاني، فهم الذين يدعى أن فيهم القاتل، فأولياء الطرف الأول تكون الأيمان مكررة منهم -طبعاً- على صور، منها: ألا يوجد ولي للمقتول إلا شخص واحد، كأن يكون المقتول ليس له إلا ابن، ذكر عاصب، فحينئذ -بالإجماع- تتوجه إليه الأيمان ويحلف الخمسين كاملة. ومن حيث الأصل هناك من العلماء من قال: لا يقبل فيها أقل من شهادة اثنين، فلا يقبلون شهادة الواحد، كما هو منصوص عليه في بعض المذاهب كمذهب المالكية، لكن وعلى هذا يكون قول الجماهير على أنه يكررها. وأيضاً الصورة الثانية: تكرر الأيمان إذا كان أولياء المقتول -مثلاً- ابن وأخ شقيق فبعض العلماء يرى أنها تقسم بالميراث وبعضهم يرى أنها تقسم بالعصبة، فعلى التقسيم بالعصبة يحمل الأخ الشقيق أيضاً. لو توفي في الأيمان المكررة من الوليين مثل ابنين أو أخوين شقيقين، الابنين تقسم اليمين بينهما، فيحلف أحدهما خمساً وعشرين والثاني يحلف خمساً وعشرين، فهي مكررة من هذا الوجه.

شروط القسامة

شروط القسامة

من شروط القسامة: أن تكون في قتل

من شروط القسامة: أن تكون في قتل قال رحمه الله: [أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم] يشترط في هذه الدعوى ألا تقع القسامة حتى يدعي أولياء المجني عليه أنه قد اعتدي على وليهم، وهذه الدعوى لا تكون إلا بالقتل، ولذلك قال: (في قتله)، فلو أنهم ادعوا أن شخصاً قطع يد شخص أو قطع يد فلان من أقربائهم، أو رجله، أو فقأ عينه، فلا تقبل في الجناية على الأطراف، لماذا؟ لأنه في الجناية على الأطراف المجني عليه يتولى الخصومة عن نفسه، وحينئذ لا تكون فيها قسامة، إلا وجه شاذ عند الشافعية، ورده بعض العلماء كما أشار إليه الإمام النووي رحمه الله في الروضة، لكن من حيث الأصل فالقسامة لا تكون إلا في القتل والدماء. أيضاً لا تكون في الأموال، فلو أن شخصاً اعتدى على سيارة شخص، أو على بيته، أو على داره، وادعى أولياؤه أن فلاناً عدو فلان هو الذي صدم سيارته أو أتلفها، أو أتلف مزرعته، أو أتلف ماله، لا نقول بالقسامة، إذاً القسامة لا تكون في دعوى الأموال، ولا تكون في دعوى الجناية على الأطراف. فهي تختص بالقتل، ويشترط في الدعوى أن تكون مبينة ومحررة، وما يشترط في دعوى القتل من حيث الأصل، ولابد أن تكون الدعوى بالقتل، وهذا شرط.

من شروط القسامة: أن يكون القتل مفسرا

من شروط القسامة: أن يكون القتل مفسراً الشرط الثاني: أن يكون القتل مفسراً، يقولون مثلاً: قتله قتل عمد، فيبينون هل القتل قتل عمد، أو قتل شبه عمد، أو قتل خطأ، فإذا قالوا: قتل عمد، يقولون: إن فلاناً ابن فلان قد قتل وليَّنا بالسيف، ضربه السيف، أو حز رقبته وطعنه بخنجر، أو أطلق عليه النار، فهذا التفسير لابد منه، فلا تقبل مجملة.

من شروط القسامة: أن تكون الدعوى على مكلف

من شروط القسامة: أن تكون الدعوى على مكلف وكذلك أيضاً تكون الدعوى على شخص مكلف، فلا تقبل الدعوى على غير مكلف، فلو ادعوا أن الذي قتله صبي، أو مجنون، فإنه لا تقبل الدعوى على الصبي والمجنون، وجهاً واحداً عند الأئمة الأربعة رحمهم الله. وعلى هذا لابد أن تكون هناك دعوى، وأن تكون بالقتل، فلا تقبل في غير الدماء: كالأطراف والجناية على الأعضاء، ولا تقبل في الأموال. ويشترط في هذا القتل أن يكون لمعصوم، وهو معصوم الدم، وقد تقدم معنا هذا الأصل الشرعي في الاستحقاق للدية وللقصاص، أنه لا تستحق الدية ولا يستحق القصاص إلا إذا كان في قتل معصوم، وبينت الضوابط في ذلك، متى تستحق الدية ومتى يستحق القود والقصاص في قتل معصوم. وهذه الدعوى لابد أن تكون في مجلس الحكم والقضاء، يأتون إلى القاضي ويدعون، والأصل في هذا -يعني لماذا وصف المصنف رحمه الله بهذا الوصف- لأن الأنصار رضي الله عنهم -وهم قوم عبد الله بن سهل - جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس القضاء والحكم، وادعوا أن اليهود قد قتلوا ابن عمهم، وادعى عبد الرحمن أنهم قد قتلوا أخاهم، وبينا سبب ذلك وهو أن عبد الرحمن أخو القتيل، لم يكن موجوداً، وإنما الذي خرج إلى خيبر محيصة، وعبد الله بن سهل، قيل: إنهم كانوا يرتادون للتجارة، وقيل: إنهم كانوا يطلبون مالاً، وكان هذا لا شك أنه بعد فتح خيبر، وهذا يؤكد أن القسامة كانت بعد السنة السادسة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، نعم.

من شروط القسامة: اللوث

من شروط القسامة: اللوث قال رحمه الله: [ومن شروطها اللوث]: اللوث: وهو العداوة الظاهرة، واللطخ، وبعض العلماء يرى أن اللوث هو العلامة التي تدل على صدق الدعوة، وفي الحقيقة أن اللوث له ضوابط عند العلماء رحمهم الله، ومما يتميز به وجود العداوة، فإذا كان بين شخص وشخص عداوة، أو بين قبيلة وقبيلة عداوة، أو بين جماعة وجماعة عداوة، ووجد المقتول مقتولاً في أرض الأعداء؛ فإن هذا واضح الدلالة على أنهم هم الذين قتلوه. وبناء على ذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أنه من حيث الأصل لا تقبل القسامة في غير علامة ظاهرة، وأمارة ظاهرة. ثم اختلف العلماء في هذه العلامة والأمارة، كلهم متفقون على أنه لو وجدت عداوة، أننا نحكم بالقسامة، لماذا؟ لأن الذي كان بين الأنصار وبين اليهود عداوة، ومن هنا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا النوع من الأقضيات في حال مخصوص، على صفة مخصوصة، ووجدت هذه الصفة وهي صفة العداوة، فقالوا: العداوة تنقسم إلى قسمين: عداوة دينية، وعداوة دنيوية. والعداوة الدينية: مثل ما وقع بين الأنصار واليهود؛ لأن عداوة الأنصار لليهود، وعداوة اليهود للمسلمين أصلها عداوة ناشئة من دينهم المحرف وديننا الأصلي، فهي عداوة عقدية. كذلك أيضاً تكون العداوة عداوة دنيوية مثل: أن يكون هناك تنافس بين شخصين، أو تحصل فتنة أو خصومة بين اثنين، فحلف أحدهما أن ينتقم، فتوعده وقال: سأريك، أو سأفعل بك، أو سأقتلك، فإذا توعده بالقتل، وشهد شهود أنهم سمعوا أن زيداً قال لعمرو المقتول: سأقتلك، ووجد عمرو بعد ذلك مقتولاً، فإن التوعد السابق بالقتل قرينة وأمارة على اللوث، ومن هنا يستحق أولياء المقتول أن يحلفوا على هذا القاتل. كذلك أيضاً إذا كان هناك أشخاص معروفين بالأذية والإضرار: كأهل السوء والشر، ووجد بينهم مقتول، فإن هذا يكون علامة وأمارة على اللوث. قال رحمه الله: [ومن شروطها اللوث] قال: (من شروطها) فلها عدة شروط، وهذا من شروطها، وإذا قال العلماء: من شروطها كذا، فإن هذا لا يعني الجمع لكل الشروط. ومن هنا فائدة المتون أنها تختصر، وإذا قال: من شروطها؛ نبه القارئ على أن هناك شروطاً ينبغي عليه أن يرجع إليها زائدة عن ما ذكر. ومن هنا قلنا: أول شرط: أن تكون الدعوى في القتل. ثانيا: أن تكون الدعوى مبيّنة مفسرة لهذا القتل: قتل عمد، أو شبه عمد، أو خطأ. ثالثا: أن يكون المدعى عليه مكلفاً، إذا لم تكن الدعوى على غير مكلف. رابعاً: اللوث، وهو الذي أشار إليه رحمه الله بقوله (ومن شروطها اللوث) وهو العداوة الظاهرة. ومن هنا فائدة في قوله: (من شروطها)، بعض الأحيان ترد هذه العبارة في الفتاوى في كلام العلماء المتقدمين، وينبه على أن بعض العلماء مثلاً لما يُسأل: ما هي أسباب السعادة؟ مثلاً. فيقول: من أسبابها تقوى الله، من أسبابها كذا، ليس معنا ذلك أنه جمع كل الأسباب، وليس معنى ذلك أنه أراد استيفاء أو بيان جميع أجزاء المسئول عنه، وهذا منهج عند العلماء، أنه إذا عبر بـ (مِنْ) التي تقتضي التبعيض أنه ليس ملزماً بالإحاطة والشمول. ومن هنا فإن بعض العلماء من المتقدمين رحمهم الله يذكرون في فتاويهم بعض المسائل حينما يسألون في الفتاوى، أو يسألون في الشروط، فيذكرون بعض الشروط لأهميتها، هذا ما يسمونه بفقه الفتوى، أنهم لا يتعرضون لأشياء ظاهرة معلومة، أو يتعرضون لأشياء عظمت بها البلوى فيركزون عليها في الإجابة أكثر من غيرها، ولما يقولون: من الشروط كذا، ومن أسباب السعادة كذا، فقد حفز ونبه السامع إلى أن هناك أموراً ينبغي أن يرجع إليها، إما في كتابه أو في موضع آخر، غير الموضع الذي سئل عنه. فهذه من فوائد الإشارة في التبعيض، وهي في الحقيقة تسقط المسئولية أمام الله عز وجل، فالمسئول إذا سئل عن أمر وهو يعجز عن إحاطته لضيق الوقت، أو عدم مناسبة المكان، وأراد أن يتخلص من المسئولية أمام الله عز وجل، فيقول: من كذا من الأسباب كذا من الشروط كذا، فهذا لا يكلف فيه بالإحاطة والشمول، وهذا منهج معروف عند العلماء رحمهم الله. قال: [وهو العداوة الظاهرة]: (وهو) أي اللوث (العداوة الظاهرة) البينة الواضحة، وفي الحقيقة لا يختص الأمر بوجود العداوة فقد، بل تقع القسامة في القتل الخطأ، مثلاً: لو أن شخصاً كان في زحام، ثم سقط ميتاً، وانقشع الناس عنه وهو ميت، وكان معه قريبه، فقال: هذا مات بفعل فلان وفلان، أحدهم كان أمامه والثاني خلفه، فزحماه حتى ضاق نفسه فمات. أو أحدهما مثلاً وكزه خطأ فمات، ففي هذه الحالة يكون القتل خطأ، حيث أنه لم يقصد أن يقتله، لكن في هذه الحالة لا توجد عداوة ظاهرة، مثل أن يزدحموا على بئر -كما ذكر العلماء-، أو في رمي الجمرات في الطواف، فإذا ازدحموا في مكان ومات أحدهم، يحتمل أمرين: الأول: يحتمل أن يكون مات قضاء وقدراً، وحينئذ لا يجوز لأوليائه أن يحلفوا القسامة؛ لأنه إذا مات قضاء وقدراً لا يستحقون الدية. الثاني: يحتمل أنه مات بفعل فاعل، بإذن الله عز وجل وقدرته، فهذا الفعل تسبب في موته، وحينئذ يستحقون القسامة، فإذا استحقوا القسامة استحقوا الدية، لكن هذا يقع في صور، ويغلب على الظن فيها أن توجد الأمارات والدلائل، لكن في قوله رحمه الله (من شروطها اللوث وهو العداوة الظاهرة) طبعاً في بعض الأحيان يكون القتل عمدا، ً ونجد علامة ظاهرة بغير لوث، مثل أن نجد شخصاً حاملاً لسكين ملطخة بالدماء، وهو واقف على رأس القتيل، فلما أخذ، ما أقر، قال: ما قتلته. وإذا بثيابه ملطخة بدم القتيل قالوا: هذا أيضاً من اللوث، ومما يبيح ويحل القسامة على هذا الشخص فيحلفون خمسين يميناً، ويستحقون به. إذاً: لابد للعلماء أن يضعوا شروطاً لكي يحكم بالقسامة، فإذا لم تتوافر هذه الشروط التي منها اللوث، وما ذكرناه من الشروط؛ فإنه حينئذ تصبح الدعوى على الأصل. ما معنى على الأصل؟ معناه أن نقول للمدعي: أحضر البينة، فإذا قال: ما عندي بينة، نقول للخصم: احلف اليمين, وتنتهي القضية. والمدعي مطالب بالبينة وحالة العموم فيها بينة والمدعى عليه باليمين في عجز مدعٍ عن التبيين هذا أصل في القضاء والمدعي مطالب بالبينة وحالة العموم فيها بينة أي أن حالة العموم واضحة، فلو جاءنا أصدق الناس، وقال: فلان قتل فلاناً؛ فإننا لا نقبل منه دعواه هذه، ولو كان أصدق الناس، ما لم يقم دليلاً وحجة. ولو جاءنا أفجر الناس وأفسق الناس وقال: فلان قتل فلاناً، نقول: أحضر بينة؛ لأننا لا نحكم بكلامه، وإنما نحكم بالبينة، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (ألك بينة) للخصم لما ادعى، (لو يعطى أناس بدعواهم لادعى أقوام دماء أناس وأموالهم) وعلى هذا لابد من وجود البينة. ومن هنا قال العلماء: القسامة خرجت عن الأصل، وما معنى خرجت عن الأصل؟ معنى ذلك أنها استثنيت من الأصل العام، ليس المعنى أنها شاذة، كما يفهم البعض، أو أنها شيء عقلي خرجت عن القياس أو أصبحت خارجة عن العقل والنقل، لا إنما في الشرع أصول عامة كما ذكرنا خرجت القسامة عنها، فإذا لم يتوفر شرط اللوث رجعت المسألة إلى العرف القضائي، نقول له: أحضر بينة، فإذا عجز المدعي عن دعواه، نطالبه بيمين واحدة، ما نطالبه بخمسين يميناً، ومن هنا نفهم أن القسامة باب خاص، وله أحوال خاصة -كما ذكرنا.

من شروط القسامة: وجود أثر القتل

من شروط القسامة: وجود أثر القتل أيضاً مما يشترط إضافة إلى اللوث وجود أثر القتل عند جمهور العلماء رحمهم الله على تفصيل، قالوا: أن يكون المقتول قد وجدت به أمارة وعلامة تدل على أنه قد قتل عمدا، ً فإذا لم توجد فيه أمارة، قالوا: إنه يحتمل أنه توفي قضاء وقدراً، وليس مجنياً عليه، بمعنى أنه ليس هناك قتل عمد. وعلى هذا قالوا: لابد من وجود الأمارة بأن يكون مطعوناً بسكين، أو محزوز الرقبة، أو مضروباً في مقتل، أو مخدوشاً في موضع في مقتل، فبعض العلماء يقول: هذا لا يشترط؛ لأنه يمكن أن يقتل بالخنق. وفي عصرنا الحاضر، يوجد ما يسمى بعلم الطب الشرعي، وهذا علم خاص في كشف الجنايات والجرائم، ممكن أن يثبت هذا الأمر أو ينفيه، وحينئذ يمكن أن يعول على هذا الإثبات والنفي، في إثبات القسامة وعدمها، فمثلاً لو قال الطبيب الشرعي: هذا جاءته سكتة قلبية، أو مثلاً: حصل له عارض، فعنده نزيف داخلي، وليس له علاقة بالجناية، فحينئذ تسقط دعوى القسامة؛ لأنه ليس هناك دليل على القتل. وأما إذا وجد عن طريق البصمات أو الآثار التي تدل على الجناية، كأن لا يوجد أي أثر للقتل، لكن ثبت أنه قتل بالخنق، أو مثلاً بحقن مادة مسمومة ونحو ذلك، فالطبيب الشرعي يمكن أن يثبت هذه الأشياء بإذن الله عز وجل، فيعول عليه، ويعمل بأدلته، وتكون أيضاً قرينة أو شاهدة على اللوث. قال: [وهو العداوة الظاهرة كالقبائل التي يطلب بعضها بعضاً بالثأر]: وهذا من طبيعة البشر حيث أنه إذا وقعت بينهم ثارات، أنه يطلب كل منهم ثأره عند الآخر، من هنا قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، فبين سبحانه وتعالى أن في القصاص حياة للناس، ولعدم وجود القصاص في الجاهلية كانوا إذا قتل القتيل لربما قتلوا به المائة. ومن هنا الحروب التي وقعت في الجاهلية كحرب البسوس وغيرها، لما قتل القتيل في حرب البسوس، وكانت من أشدها ضراوة، قال ولي المقتول: لعلك قتلته بكليب، فأطفأ الثأر، فقال له: قتلته بشسع كليب، يعني -أكرمك الله- بالنعل الذي يلبسه المقتول، فكانوا يستحلون الدم، ويجعلون المقتول إذا قتل لزعيمهم أو كبيرهم مقابل لشسعه أكرمكم الله، أو نعله، وهذا يدل على ما كانوا عليه من الجرأة على الدماء والعياذ بالله. من هنا قال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن دماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أضعه دم الحارث ... ) في قصته المشهورة في قتيل هذيل، فالمقصود من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع الثارات، والإسلام قطعها، فإذا وجدت ثارات بين القبائل أو عداوة بينهم واضحة، فحصل شيء من هذا، فإنه يوجب القسامة، وهذا يرجع إلى القاضي، والقاضي هو الذي ينظر ويتحرى حتى يستطيع أن يحكم بثبوت. ما الدليل على هذا الشرط؟ طبعاً نحن ذكرنا شرط دعوى القتل، والدليل عليها أن الصحابة رضوان الله عليهم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وادعوا قتل يهود لـ عبد الله رضي الله عنه. ثانياً: أن تكون دعوى القتل مبينة، بأن يكون بالقتيل أثر القتل، وهذا يشترطه بعض العلماء رحمهم الله، وهي الأمارة. والدليل عليه: رواية الصحيح فوجد عبد الله وهو يتشحط في دمه، فلما وجده كان على صفة المقتول المعتدى عليه؛ لأن محيصة افترق عن عبد الله رضي الله عنه، ثم رجع محيصة إلى المكان الذي كان فيه، فوجد عبد الله رضي الله عنه يتشحط في دمه، فهذه أمارة. أن تكون القسامة على مكلف، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (على رجل منهم)، والأصل أن شرائع الإسلام منوطة بالمكلف لا بغير المكلف، ولأنه مستثنى عن الأصل. كذلك أيضاً أن يكون الذي يدعيها مكلف، فلا يدعيها صبي؛ لأن الصبي لا يمكن أن يحلف أيمان القسامة، ولا تقبل يمينه. وأن لا يدعيها مجنون؛ فالمجنون لا تقبل دعواه. فأيضاً يشترط في المدعي أن يكون كذلك؛ لأن الصحابة حرصوا على الاستدلال بهذه الصفة، بوجود اللوث وهو العداوة الظاهرة؛ لأنه كانت بين اليهود وبين الأنصار العداوة الظاهرة. هذه كلها شروط نبه عليها الشرع، وقوله رحمه الله: (اللوث) وهو العداوة الظاهرة، والعداوة تكون ظاهرة وتكون خفية. والمراد بالظاهرة: الواضحة الجلية، كأن يأتي شخص ويقول: وجدنا مقتولاً في موضع كذا، فقال أولياء المقتول: هم الذين قتلوه، قلنا: لماذا قتلوه؟ قالوا: لأنهم أعداؤه، فنقول: هل عندكم دليل على دعواكم؟ فلو قيل في الدليل مثلاً: هؤلاء فقراء وهذا غني، ودخل بثياب الغنى فقتلوه، نقول: هذه ليست علامة ظاهرة، هذه علامة يسمونها ظن التهم، والظن المرجوح، ومثل هذا صحيح، أن تكون هناك عداوة بين الأغنياء والفقراء، والضعفاء والأقوياء، لكن لا تصل في الغالب إلى هذا الحد، أو إلى هذه الصفة، ومن هنا لا تكون عداوة ظاهرة. فالمصنف رحمه الله قال: (اللوث وهو العداوة الظاهرة). قال: [فمن ادعي عليه القتل من غير لوث؛ حلف يميناً واحداً وبرئ]. (فمن ادعي عليه القتل من غير لوث) يعني: من غير عداوة (حلف يميناً واحدة وبرئ). هناك تفصيل كبير للعلماء رحمهم الله في مسألة دعوى القتل، فإذا ادعوا على شخص، سموه، أو على شخصين سموهما، مثلاً: إذا قالوا: قتله بنو فلان، نقول لهم: حددوا من الذي قتله منهم، وما الدليل على التحديد؟

من شروط القسامة: تحديد القاتل

من شروط القسامة: تحديد القاتل ومن شروطها: تحديد القاتل؛ لأن بعضهم أوصل الشروط إلى عشرة لكن فيها نظر، فتحديد القاتل أصل في دعوى القتل، وهو شرط معروف في دعوى القتل بأن يذكروه محدداً باسمه ونسبه، ويرفعون النسب، أو يكون حاضراً في مجلس الحكم كما ذكرنا، فيشيرون إليه. لكن لو أنهم ادعوا وقالوا: جماعة قتلته، فلا تقبل القسامة؛ حتى يحددوا، فإذا حددوا وبينوا؛ فحينئذ تقبل دعواهم. وعلى هذا قال رحمه الله: (فمن ادعي عليه القتل من غير لوث) فإذا ادعوا على شخص أنه قتل موليهم، نقول لهم: أثبتوا اللوث. كيف يثبت اللوث؟ يثبت اللوث بالعداوة بين قبيلة القاتل وقبيلة المقتول، فيشهد الشهود أن بين بني فلان وبني فلان ثارات، وقد يكون بين البيتين، فإذا ثبت بشهادة العدلين، فهو لوث. ثانيا: ً يثبت اللوث أيضاً -وهو العداوة- بأن تكون خصومة وقعت بين اثنين، كأن يكونا قد اختصما في أرض، أو في مال، فهذه عداوة ظاهرة. فإذا ادعى عليه ففي هذه الحالة نحكم، لكن لو لم يثبت اللوث، بأن قالوا: فلان قتل فلاناً، قلنا: هل هناك عداوة ظاهرة؟ هل هناك لوث؟ قالوا: لا، فحينئذ إذا كان هناك حال لاجتماعهم مثلاً: أن يكونوا في زحام على سيارة، أو في زحام على بئر، أو في زحام على طاعة أو قربة، وتفرقوا وهذا مقتول، فحينئذ هذا لا يشترط فيه اللوث، فتقبل فيه الدعوى، لكنها دعوى على قتل خطأ، وليست على قتل عمد، ونحن نتكلم على قتل العمد. ومن هنا ينبغي أن ينتبه إلى كلام المصنف؛ فقوله: (من غير لوث) ليس على إطلاقه. قد تقع القسامة في غير قتل العمد كما ذكرنا، كالقتل الخطأ، وقد يكون في زحام شديد، أو طلب لحاجة أو مصلحة، فيجتمعون ويعصر بعضهم بعضاً ويؤذي بعضهم بعضاً، ويحصل القتل، فإذا حصل القتل من هذه الجماعة، قالوا: فلان هو الذي رأيناه أو شاهدناه يفعل كذا وكذا، وحينئذ يؤخذ ويطالب فإذا ثبتت عليه الأيمان، فإننا نحكم عليه بموجب القسامة. لكن لو لم تكن هناك عداوة ظاهرة فيما هو من قتل العمد، ولم يكن هناك لوث، فإنه في هذه الحالة إذا قالوا: فلان قتل فلاناً، قلنا لهم: أحضروا البينة، قالوا: نحلف أيمان القسامة، قلنا: لا نقبل؛ لأنه ليس هناك ما يدل على شرعية القسامة في هذه القضية، فإذا قلنا لهم: لا تحلفوا، أحضروا البينة، قالوا: لا بينة عندنا، قلنا للخصم الذي ادعي عليه: احلف اليمين، فإذا حلف اليمين بالله عز وجل أنه ما قتل، ولا يعلم من قتله، فلا إشكال، لكن لو امتنع من حلف اليمين فوجهان: قال بعض العلماء: إذا امتنع من حلف اليمين كان اللوث، وأصبح نكوله عن اليمين موجباً للتهمة فيه؛ لأنه لو برئ سيحلف، ولا تضره اليمين شيئاً، فإذا نكل وامتنع، فإنه حينئذ يثبت اللوث، فيقيم القاضي القسامة، ويأذن لأولياء المقتول أن يقيموا عليه أيمان القسامة. هذا طبعاً مذهب الجمهور من حيث الأصل، حيث يذهبون إلى أنه لا تقام القسامة مجردة. وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية ثانية: أنه إذا ادعي على شخص أنه قتل شخصاً، ولم يكن هناك لوث، فعند عجز المدعي عن البينة يطالب المدعى عليه بأن يشهد خمسين يميناً بالله عز وجل أنه ما قتل ولا يعلم من الذي قتله، هذا الأصل. وعلى هذا نقول: الصحيح أنه إذا ادعي على شخص أنه قتل شخصاً لا نحكم بالقسامة إذا لم يكن هناك لوث، ما لم تكن في المسائل التي لا يشترط فيها اللوث، فإذا عجز أولياء المقتول عن إثبات اللوث، قلنا للخصم: احلف اليمين عند عجزهم عن إثبات اللوث، وعجزهم عن البينة؛ فإذا حلف اليمين برئ؛ لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولكن اليمين على المدعى عليه)، وفي لفظ: (ولكن اليمين على من أنكر) وفي حديث البيهقي وغيره: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)، وفي لفظ: (على المدعى عليه) فنحن لا نطالب المدعى عليه بأكثر من يمين واحدة، فإذا قال: ما قتلته، فإننا نقبل قوله، ونقول له: احلف اليمين أنك ما قتلت، فإذا نكل عنها، فاختار جمع من العلماء -كما نص عليه الإمام النووي رحمه الله وبعض المحققين- أنه يكون أمارة على اللوث؛ فيستحق الأولياء بعد ذلك أن يشهدوا أيمان القسامة.

الأسئلة

الأسئلة

إشكال في ضوابط اللوث ونصيحة لطالب العلم في الالتزام بآداب الطلب مع العلماء

إشكال في ضوابط اللوث ونصيحة لطالب العلم في الالتزام بآداب الطلب مع العلماء Q أحسن الله إليكم، وأجزل لكم المثوبة والأجر، فضيلة الشيخ! التوسع في ضابط اللوث، ألا يؤدي إلى الوقوع في ظلم الغير، وهل للقاضي أن يقتصر على العداوة الظاهرة، كما في حديث عبد الله بن سهل، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد الله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: كررنا النصيحة أكثر من مرة لطالب العلم بأن يكون عنده ورع، وأن يكون عنده أدب مع العلماء رحمهم الله، فكل شخص جاء ليقرأ شيئاً لم يفهمه، ولم يضبط بضوابط العلماء رحمهم الله واستغربه، وأراد حصر العلماء في شيء معين؛ فهذا من الخطأ بمكان، ولن يستطيع أن يفهم طالب العلم فهم العلماء ما دام بهذه الصفة؛ فعند أن تقول: التوسع في اللوث، من الذي قال لك أن هذه الضوابط التي ذكرها العلماء توسع، بعض طلاب العلم تعود أسلوب النقد، وإلا فضبط الشيء يمنع من التوسع فيه، فهذا تناقض من السائل أصلاً، توسع في ضابط اللوث! بالعكس العلماء حينما يضعون ضوابط للوث، يمنعون من التوسع فيه، حينما تأتي الشريعة بالعداوة الظاهرة بين اليهود والأنصار، ووجدت به القسامة. فاعلم رحمك الله أن الشريعة تنبه بالنظير على نظيره، وبالمثيل على مثيله، وإلا فقد حجّرت واسعاً؛ لأنك إذا انطلقت من هذا المنطلق فستقول: لا أقبل إلا العداوة الدينية؛ لأن الذي ثبت في النص العداوة الدينية، أثبت لي أن العداوة بين القبائل يثبت بها القسامة، أين الدليل؟ لا دليل. ومن هنا قال العلماء: اللوث العداوة، ثم وضعوا الضوابط فقالوا: العداوة الظاهرة، التي لا تكون مبنية على الشكوك والشبهات والتهم، وهذا صحيح؛ لأن الشريعة تعتبر أن العداوة الظاهرة هي التي تحمل على الضرر والأذى، وباب القسامة في باب الضرر والأذى؛ فينبغي أن تتقيد بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، شرط أن تفهم وتقعَّد وتأصَّل من خلال الفهم، أما أن يأتي شخص ويضع قواعد من عنده، فهذا توسع كما قلت، ونردها. لكن أن يفهم شخص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذا الفهم محمود غير مذموم، مأجور غير مأزور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) يعني: يزيده فهماً. فإذا كان ذلك فلماذا وضع العلماء ضوابط اللوث؟ أولاً: حكمة مشروعية القسامة؛ لها أبعاد أكثر مما يتصورها الإنسان القاصر في فهمه، فالأصل أن كل أهل محلة ومدينة ومنطقة وقرية وجماعة مسئولون عن محلتهم وقريتهم وجماعتهم؛ فإذا وجد القتيل بينهم طلبوا قضاء وألزموا اليمين، وهذا نبه عليه الإمام الكاساني رحمه الله في (بدائع الصنائع)، فله كلام جميل نفيس لو يرجع إليه! لماذا شرعت القسامة وطولب بها، يعني مثلاً في العداواة الظاهرة حينما تكون أهل محلة وأهل قرية وأهل بلدة؟ لأنهم قصروا في حفظ محلتهم وقريتهم ومدينتهم، طلبوا قضاء وألزموا اليمين، وتحملوا المسئولية ثم يلزمون بعد ذلك بأن يقوموا على محلتهم ويحفظوا دورهم. ليست القسامة فقط أن تأتي بالناس يحلفون، فهذا له أبعاد بعيدة جدا، ً فأوجدت الشريعة الدية، وصوم شهرين متتابعين، وعتق الرقبة، وصوم الشهرين المتتابعين على شخص قتل خطأ، لماذا وهو قتل خطأ؟ قالوا: تعظيماً للدماء، ولذلك فالمسلم يأخذ حذره، فإذا جاء يصيد في البر، فهو يعلم أنه لو أخطأ سلاحه، فقتل مسلماً أنه سيلزم بديته، ويلزم بعتق رقبة، وصيام شهرين متتابعين إن عجز عنها، عندئذ يعرف أين يصيب وكيف يصيب، وكيف يحافظ على أرواح المسلمين. وإذا جاء يقود سيارته، وهو يرى أنها قد تفضي بمن معه إلى الموت، بحيث قد تكون قديمة، فيتساهل في أشياء قد تفضي به إلى الموت، ثم تذكر ذلك دعاه ذلك إلى أن يتحفظ، ولذلك قالوا: إن القسامة شرعت في الدماء، ولم تشرع في الأطراف؛ تعظيماً لأمر الدماء. فإذا قلت: القسامة محصورة في العداوة الظاهرة، بمثل ما ورد في حديث عبد الله بن سهل، كيف تحجم السنن بهذا التحجيم؟ فعندما يلزمك بالنظير من نظيره، يصبح الحكم بالقياس، وعند هذا يستوي العلماء والجهلاء، وما على أحد -إذا أراد أن يصير فقيهاً- إلا أن يحفظ الأحاديث، ويطبقها مثل ما وردت على ظاهرها، ولا يعمل فكراً ولا فهماً، وعندئذ يكون من حفظ السنن وفهمها على ظاهرها أعلم الناس وأعلم الخلق، فهذا ممكن أن يكون، فلابد من الفهم، ولابد من التقعيد، ليس هناك تثريب على من فهم إذا كان فهمه من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. نحن نقول هذا؛ لأننا نعرف من خلال الطلب حينما كنا مع علمائنا ومشايخنا كانوا يمنعون الطالب من النقد المشكلة الآن في العصور الأخيرة، مسألة التربية على النقد، الآن الطالب يأتي ويقول: لماذا لا نقتصر على العداوة؟ ولو جئت أسأل الآن: ما هي الشروط التي ذكرناها؟ لم يستطع أن يرددها، نقول: قبل أن تنتقد العلماء اضبط ما يقال لك، مشكلتنا اليوم أن الشخص يجلس ويستمع، فهل يفهم هذا الشيء؟ ثم هل يتقبله أو لا يتقبله؟ هنا المحك، أما أن يأخذ شيئاً مستنبطاً من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يحاول أن يجلس ويضبط هذه الأشياء ويلخصها ويفهمها، ويقرأها المرة والمرتين والثلاث والأربع، وعندها تكون منحة الله له بعد ضبط هذه العلوم، وتقريرها وتكرارها وإتقانها والإلمام بها، بعد ذلك يأتيك فتح الله عز وجل، وتصل إلى ما وصل إليه العلماء، وتضبط كما ضبط العلماء والفقهاء، ولا تعجل رحمك الله، لا تعجل فلست الآن في إطار النقد، ولا أفتح مجالاً لطلاب العلم في بداية الطلب للنقد، ومن جاء ناقداً رجع فاقداً. أول شيء نريد ضبطه هو حفظ هذا العلم، وإتقانه، ثم بعد أن تصل إلى درجة تضبط فيها أصول الفقه، الذي يسلحك بسلاح الفهم، حتى تصل إلى درجة هؤلاء العلماء، عندها تعرف لماذا قالوا هذا الكلام. والله ثم والله، ما من طالب علم يقعد ويؤصل بتأصيل العلماء، ويفهم ويقرأ الكتاب والسنة، بحيث يحضر تفسير القرآن على يد عالم أهل لتفسير كتاب الله، ثم يحضر دروس الحديث على يد عالم أهل لتفسير حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجلس السنوات تلو السنوات وهو يضبط ويحصل ويقرر، إلا جاء اليوم الذي يستوي فيه فهمه، وينضج فيه فكره، وإنه ليقرأ كلام العلماء، فيقرأ الصفحات التي كان بالأمس يعيبها، وإذا به لا يمل ولا يسأم، ويعذر العلماء حين قعّدوا وأصّلوا. كنا في القديم نقرأ بعض المطولات، فنستغرب منها -نستغفر الله- هذا شيء عايشناه، وكان الوالد رحمه الله يمنعنا من المطولات في بداية الطلب. وأقسم بالله ما نمدح أنفسنا، لكن بعد أن قرأنا ورأينا ضوابط العلماء، أصبحنا نقرأ عشرات الصفحات، لا نمل ولا نسأم ونعرف قيمة العالم، ونتلذذ بهذه الفروع المبنية على الأصول، ثم نجد أيضاً الشوارد والتتمات والفوائد والمسائل الملحقة، حتى إذا ما قررت الأصل، جاء بعد ذلك يقرر لنا دليله ووجه دلالته، وكيف دل على المسألة؟ وهل دلالته عامة أو خاصة؟ مطلقة أو مقيدة؟ بعد أن ننتهي من هذا كله، نأتي إلى تطبيقات هذه الفهوم التي فهمها العلماء رحمهم الله على ما عايشوه، فنجد كيف أنهم يختلفون في هذه التطبيقات، وكيف أن كلاً منهم يدلي بحجته، ويبين سبيله ومحجته، ثم بعد ذلك تأتي أنت من نفسك تجد أشياء في داخل نفسك ربما أنها تلحق بما ذكره العلماء. ويمكن أن تتربى فيك ملكة هذا التأصيل والفهم، ومن هنا قالوا: لا يعرف قدر العالم إلا العالم. مثال بسيط: الشخص إذا جاء وجلس عند عالم يفتي في مسألة من المسائل، فوجد العالم يقول: لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال كذا وكذا، وهذا الحديث عام، فهذا جواب، في بعض الأحيان يقول: وهذا الحديث عام، إلا أنه يستثنى منه هذه المسألة. عامة الناس إذا سمعوا العالم يفتي بهذه الفتوى، يكون الأمر عادياً عندهم؛ لأنه مفتٍ، فما يشعرون ولا يحسون بقيمة هذا العلم. لكن لو جاء إنسان متمكن من الفقه، متمكن من هذا العلم، ينظر أول شيء إلى حكم الشيخ على المسألة. ثانياً: دليله ووجه الدلالة، ثم لا يقف عند وجه الدلالة، بل يرى ما هي العبارات التي اختارها هذا الشيخ لبيان وجه الدلالة؟ وهل هذه العبارات محتملة أو غير محتملة؟ تفيد المقصود أم لا تفيد المقصود؟ هل هذه العبارات يستطيع أحد أن يستغلها في الفتوى أم لا؟ وهل العالم لما أجاب في هذه المسألة يقصد الفتوى، أو يقصد التوجيه، أو يقصد مطلق النصيحة؟ فلا يعرف العالم إلا العالم، فهل الذي تراه من الضوابط لا يعرف قدرها إلا من اشتغل بفهم النصوص وضبطها، يا سبحان الله! إذا قعّد العلماء وأصّلوا، قالوا: بالغوا، وإذا اختصروا ولم يسهبوا، قالوا: متون معقدة، وطلاسم غير واضحة، فلا يفهم العلماء إذا فصلوا وقعّدوا، ولا يسلم الاختصار. الآن تجد بعض المعاصرين يقول لك: يا أخي! كتب المتقدمين هذه أساليبها صعبة، وغير واضحة نحتاج الآن أن نشرحها ونوضحها، ثم بعد ذلك يقول لك: نريد أن نقتصر فقط على المطلوب والأصل. والآخر يأتي ويقول: هذه المطولات كثيرة، نريد الآن أن نختصرها ونختصر فيها على المراد، دعونا من الذين يقولون: أسهبوا، ومن الذين قالوا: اختصروا، دعونا نأخذ علماً موروثاً عن العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، والذين أخذوا هذا العلم بحقه، دعونا نتعلم، دعونا نضبط، قالوا: تعلم ثم تكلم، أما إنسان بمجرد أن يجلس يشتغل بالنقد، فهذا لا نريده، ولا نعول على طلاب علم بهذه المثابة، وثقوا ثقة تامة، فمثل بعض الإجابات أسهب فيها؛ لعموم الحاجة إليها والبلاء فيها؛ تحذيراً من ذلك، وبعض الأحيان أكثر من عشرين مسألة، نحتاج إلى بيان حكمها؛ لأنه إذا لم يكن لطالب العلم منهج، وإذا لم يكن له سبيل يقوم ويسدد، فلا يستطيع أن يصل إلى المراد. فنحن نقول: إن ضوابط العلماء التي ذكروها، مبنية على أصول، وهذه الأصول ما دام أن السنة قد قررتها وبينتها؛ فلا إشكال، فإذا قلت: العداوة الظاهرة، ما تستطيع أن تضع لها ضابطاً. والعداوة الظاهرة كيف نفهمها وكيف نُفهمها للغير، هذا هو الذي اعتنى العلماء رحمهم الله بوضعه بالضوابط التي تستشكلها. وعلى كل حال، نسأل الله بعزته وجلاله أن يرزقنا الأدب، وأ

بر الوالدين مقدم على غيره من أعمال البر

بر الوالدين مقدم على غيره من أعمال البر Q فضيلة الشيخ! يقول السائل: يحتاج الوالدان إلى الولد كثيراً، خاصة أثناء العطلة، الأمر الذي قد يتعارض مع بعض الأنشطة، فما الحكم أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: أوصيك أخي بوالديك خيراً، وأن تبدأ بوالديك بعد حق الله عز وجل، وإذا كنت تبحث في الأنشطة عن مرضاة الله، ومحبة الله، فاعلم أن محبة الله في رضا الولدين، وأن الله رضي عمّن رضي عنه والداه، فمن أرضى والديه أرضاه الله في الدنيا والآخرة، وليس هناك حق قرنه الله بحقه -ونبه عليه سبحانه وتعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بعد حقه وتوحيده- مثل حق الوالدين، فاتق الله في والديك، واعلم أن الله سيفتح عليك -إن كنت تطلب العلم- بفضله ثم برضا الوالدين، وأن الله سيبارك أنشطتك، وأمورك الخيرية بعد رضا والديك، كم من بار بوالديه بكت عيناه، وتفطَّر قلبه، وعظم حزنه، حينما كان مشغولاً في دراسته، وكان يتمنى أن يكون عند رجل أمه وأبيه، وكان يتمنى ساعات رضاً من والديه، وحيل بينه وبين ذلك بأمور قاهرة أثناء تعلمه وانشغاله. هاهي العطلة سويعات ولحظات، وأيام وليال، فهل لك أن تشتري مرضاة الباري في رضا والديك، اجتهد في رضا الوالدين، وقدم والديك على الناس، الله أعلم كم قدمتك أمك على غيرك، وعلى نفسها، الله أعلم كم قدمك أبوك على نفسه وماله وأهله والناس أجمعين، فاتق الله في والديك. وأحسن كما أحسن الله إليك، فإن وجود الوالدين نعمة عظيمة من الله عز وجل، هنيئاً لبارٍ لزم والديه فقام بحقهما وحقوقهما، وأدخل السرور عليهما حتى فاز بمرضاة الله، والأنشطة والأمور التي فيها إدخال سرور على الأصدقاء أو على الملتزمين أو على من يريد الخير، هذه أمور تكون تبعاً لرضا الوالدين، فإذا جاء الوالد أو الوالدة يطلبان أمراً، وأنت خارج لأي شيء فقل: سمعاً وطاعة، واعتذر من أصدقائك، قائلاً: أعتذر لأن عندي ظرفاً، قلها بشرف، وبرضا وافتخار وقوة؛ لأنك تعلم أنه ليس هناك أحد أوجب أن تطيعه بعد الله عز وجل من والديك، فاتق الله في والديك. جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد، وتركت أبواي يبكيان، قال: أتريد الجنة، قال: نعم، قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما، وأحسن صحبتهما ولك الجنة)، فهذا الذي أوصيك به أخي في الله! ودع عنك التأويلات، ودع عنك الاجتهادات والآراء، فوالله لن تفلح إلا برضا الله ثم برضا الوالدين، ولن توفق إلا برضا الله ثم برضا الوالدين، ولن تعان على أمرك إلا برضا الله ثم برضا الوالدين. وكم من قابع عند قدم والديه، يقوم عليهما ويدخل السرور عليهما، حتى لربما مضت عليه أكثر أيام العطلة وهو في جهاده يبر والديه، ولم يفوِّت إلا أياماً معدودة لإخوانه وخلانه وأصحابه، بورك له في هذه الأيام، ما لم يبارك له في غيرها من أيام العطلة كلها، البركة في أمور الدعوة وأمور الخير، إذا نزعها الله منها فلا خير فيها، فابدأ بوالديك، ابدأ بمن أمرك الله ببرهما، الشاب يخرج إلى زيارة المسجد النبوي ويسافر الأيام، ووالدته مريضة، الشاب يخرج إلى مسافات شاسعة ويسافر إلى بلدان بعيدة، وأبوه في أشد الحاجة إليه، وقد يكون الوالد مريضاً، وقد تكون الوالدة مريضة، بل والله لو كانت لأبيك مصلحة -في بيع وشراء- وقبعت في دكانه ومتجره، تجاهد في بره ورضاه؛ ليفتحنَّ الله عليك إما عاجلاً أو آجلاً، ما ضر البر أحداً، فالبر مفتاح لكل خير (وإن البر ليهدي إلى الجنة)، ومن أعظم البر وأحبه إلى الله سبحانه وتعالى: بر الوالدين. فيا رعاك الله! احرص كل الحرص على والديك واتق الله فيهما، واعلم أن الله أعطاك نعمة بقاء الوالدين أو أحدهما، فهما من أبواب الجنة، فليحرص على هذه الأبواب، حتى ينتهي به ذلك إلى حسن خيرٍ في صلاح وهدى وصواب. نسأل الله بعزته وجلاله أن يوفقنا لذلك، أوصي كل موفق أن يحس أنه أيام الشغل كان مقطوعاً عن بره لوالديه، فليحتسب العطل والإجازات في بر والديه، في ليس للمسلم عطلة وإجازة، وإنما هو أمر نسبي، فهذه فرصة يبتلي الله فيها الصادق. بعض الناس أيام الدراسة يقول: لا أستطيع أن أقوم الليل؛ لأني إذا قمت الليل تعبت في النهار. نقول له: الآن ما عندك شيء، فإذا تعود في أيام عطلته أن يقوم الليل، وداوم عليه، ثم شغل بدراسته ومرت عليه الشهور كلها، مشغول، كتب أجر القائم لليل، لأنه أظهر لله عز وجل أنه في فراغه لا يقصر في طاعة، يصوم الاثنين والخميس، لكن إذا جاءت أيام الدراسة لا يستطيع الصيام؛ لأن والده يمنعه شفقة عليه، فيبره، ومع ذلك إذا جاءت العطلة يصومها، فالعطلة والإجازة مدرسة للخير والصلاح والبر، مدرسة وفكر للإنسان فيها في تقديم الأهم فالمهم، أولاً بر الوالدين، ثم صلة الرحم، إذا لم تصل عمك وعمتك وخالك وخالتك، , وأقرباءك وتدخل السرور عليهم في العطلة، فمتى تصلهم؟ متى تأتيهم إذا لم تأتهم في الإجازات، ليست الإجازة هملاً، ولا عبثاً، فما خلق الله الخلق سداً، وما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما باطلاً، {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27]، فالإنسان ينبغي عليه أن يتفكر وأن يتدبر أن الله أعطاه هذه الأيام امتحاناً، فإذا كنت في أيام العطلة تحرص على بر والديك، ورضاهما؛ فقد سعدت ونجحت وأفلحت، وحينئذ يجب على المربين والدعاة، والأفاضل الذين يقومون على أبناء المسلمين أن يكونوا خير عون لهم على ذلك. وللأسف أن البعض يستهزئ من بعض الطلاب ويقول: اذهب واجلس عند أمك، فقل له: نعم أجلس عند أمي، وهذا شرف لي أن أجلس عند أمي قبل أن أراك أو أجلس معك. هكذا بلغنا عن بعضهم، يقول: اذهب واجلس عند أمك! هل أصبح البار بوالديه محلاً للنقد والسخرية؟! هذا أمر عظيم. قد يخرج الإنسان تاركاً والديه وهما غضبانان عليه، ولربما يرجع ولا يلقاهما أبداً، فيموتان وهو عاق لهما والعياذ بالله، فهو مسئول أمام الله عن ذلك. الشاهد: أن يأتي إنسان إلى أمه يبلغها أنه سيسافر، فلا توافقه أمه في ذلك؛ شفقة عليه وخوفاً من أن يصيبه مكروه، هل تلام أمك لشفقتها عليك؟ يعقوب عليه السلام أبيضت عيناه من الحزن -وهو من أولي العزم من الرسل- على فراق ابنه، وهو يعلم أن ابنه سيعود إليه، ويشفق أن يرسل ولده للعب يقول: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف:13]، هو يعلم أنه نبي ولا يأكله ذئب، لكن هذا نوع من الشفقة، تذكرنا بشفقة الآباء على الأولاد، وتذكرنا بشفقة الأمهات على فلذات الأكباد، فهذا شيء لا يملكه أحد. نبي مرسل عليه الصلاة والسلام، فضله الله عز وجل وشرفه، وقد أوتي من الصبر والقوة حتى أنه يقاتل كقتال الأربعين شدة وبأساً، وحين فقد ابنه دمعت عيناه، فقيل له: ما هذا يا رسول الله؟ قال: (رحمة أسكنها الله في قلوب عباده) من هذا الذي يريد أن يدخل بين أم وفلذة كبدها، من هذا الذي يستطيع أن يقف بين يدي الله عز وجل وهو يربي أبناء المسلمين على العقوق، بل ربهم على المحبة والبر، وقل لهذا: قم لوالديك، واذهب إلى والديك وأدخل السرور عليهما، يجب أن تكون مجالسنا مع أبنائنا وإخواننا من طلبة العلم ومن كل من يلوذ بنا التربية على بر الوالدين ومحبتهما، والحرص على بر الولدين، ولو كنا في كل درس وفي كل محاضرة نؤكد هذا، والله ما ملت منه أذن يؤمن صاحبها بالله واليوم الآخر؛ لأنه يعلم أن هذا منهج القرآن وهذا منهج الكتاب والسنة. فالله عز وجل في أكثر من موضع يقرن هذا بتوحيده، ومع ذلك يؤكد عليه ويقول: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] الشخص حينما يقرأ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36] ثم بعد ذلك يعقبها ويقول: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، هل هذا كله لا يعقله الإنسان ولا يعيه، فنحن لا نربي لدعوة ولا خير ولا بر ولا ندعوا لمشاركة في دعوة وخير وبر، إلا بعد أن نرى باراً بوالديه، رضي عنه والداه، حتى إذا تكلم بارك الله في كلامه، وإذا دعا بارك الله في دعوته، وإذا نصح وفقه الله في نصحه وإرشاده أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يلهمنا البر، وأن يعيذنا من العقوق. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

باب القسامة [2]

شرح زاد المستقنع - باب القسامة [2] القسامة هي أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم، وقد بين الشرع القسامة على صفة مخصوصة لابد من وقوعها عليها، وعلى هذا فيلزم في القسامة أن يبدأ فيها بأيمان الرجال من أولياء الدم، فإن نكلوا أو بعضهم انتقلت القسامة إلى المدعى عليه وبرئ بها.

أحكام ومسائل متعلقة بالقسامة

أحكام ومسائل متعلقة بالقسامة

من يبدأ بالقسامة

من يبدأ بالقسامة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويُبدأ بأيمان الرجال من ورثة الدم]: شرع المصنف رحمه الله في بيان صفة القسامة، وكيف يجريها القاضي في مجلس الحكم والقضاء، وقد اعتنى الفقهاء رحمهم الله ببيان هذه الجملة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوقع القسامة أو بيّن القسامة على صفة مخصوصة، فلابد من وقوعها على هذه الصفة، فقال رحمه الله: (ويبدأ بأيمان الرجال). هذه المسألة الأصل فيها ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه حينما ادعى حويصة ومحيصة وعبد الرحمن بن سهل أن اليهود قتلوا عبد الله بن سهل، قال صلى الله عليه وسلم: تحلفون خمسين يميناً على رجل منهم، وتستحقون دم صاحبكم)، وفي اللفظ الآخر: (تحلفون خمسين يميناً على رجل منهم، فيدفع إليكم برمته). فهذا يدل على أنه توجه أيمان القسامة إلى المدعين أولاً قبل أن توجه إلى المدعى عليه، فلو ادعى شخص على شخص أنه قتل، أو ادعت جماعة على جماعة أنها قتلت، فالأصل أن نبدأ بالمدعين، وهذا هو مذهب الجمهور رحمهم الله، وظاهر السنة عن رسول صلى الله عليه وسلم يقوي هذا القول. وقال بعض العلماء رحمهم الله: إنه يبدأ بأيمان المدعى عليهم، واحتجوا برواية الصحيح، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عبد الرحمن وحويصة ومحيصة -أي: الأنصار الذين ادعوا الدم- عن البينة بأن اليهود قتلوه، يعني عن الشاهدين، فقالوا: لا بينة عندنا، فقال عليه الصلاة والسلام: (فتبرئكم يهود) فقالوا: لا نقبل بأيمان قوم ضالين، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بأيمان المدعى عليهم قبل أيمان المدعين. وحديثنا الذي في الصحيح أوضح وأتم وأشد بياناً، وحديثهم فيه نوع إجمال، ولا يمتنع أن يحمل على أصل القضية؛ لأن الحادثة لما وقعت وقعت على صورتين، ينبغي لطالب العلم أن يُلِم بهما حتى يستطيع أن يجمع بين الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم. الصورة الأولى: هي الأصل. والصورة الثانية: هي المستثناة التي شرعت بها القسامة. فأما صورة الأصل فهي أصل الحكومة والقضاء، أن كل من ادعى على شخص أنه قتل نطالبه بالبينة؛ إما إقرار القاتل، أو شهود عدول يثبتون الجريمة على الصفة المعتبرة في الشهود، فهذا الأصل، وهو أن نُطالب المدعي بالبينة، فجاء حديثهم الذي ذكروه على صورة الأصل، وحديثنا على الصورة الخارجة عن الأصل، وهي أيمان القسامة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل الأنصار عن البينة وقالوا: لا بينة عندهم، وجّه اليمين إلى اليهود، فإما أن نقول: إنها يمين الدعوى، وهي أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، وحينئذٍ تكون يميناً غير يمين القسامة، ومن هنا نقول: إن هذه جارية مجرى الأصل، ثم جاء حديثنا بالتفصيل للصورة المستثناة وهي صورة القسامة، فوجه رسول الهدى عليه الصلاة والسلام أيمان القسامة أولاً للمدعين، وهذا الحديث واضح الدلالة، قال لهم عليه الصلاة والسلام: (تحلفون خمسين يميناً على رجل منهم؛ فتستحقون دم صاحبكم، قالوا: يا رسول الله! كيف نحلف ولم نر ولم نشهد، فقال: فتبرئكم يهود)، فجعل أيمان المدعى عليه بعد أيمان المدعي، وهذا جار مجرى الأصل، وهذا هو الوجه الأول الذي نرجح به حديثنا على حديثهم. الوجه الثاني: أن حديثنا يقوى بالأصول الشرعية، فإن الأصول الشرعية تقتضي أن المدعي هو الذي يبدأ أولاً قبل المدعى عليه بالنسبة للحجج، فلما نوجه أيمان القسامة على المدعى عليه فكيف نوجهها على المدعي بعد ذاك، ومن هنا الأصل يقتضي رجحان رواية المذهب الذي اختاره المصنف رحمه الله؛ لأنه جار على السنن. والقاعدة أنه لو جاءت روايتان: إحداهما موافقة للأصول معتمدة ومعتضدة، فإنها مقدمة على غيرها مما خالف، وإلا قد يكون الذي خالف ناقل عن الأصل فيقدم، وقد ذكرنا أمثلة لذلك في صور من الخلاف الذي وقع بين العلماء رحمهم الله. في هذه الجملة دليل على أننا نبدأ بالمدعي، فنقول له: احلف خمسين يميناً، وهذه الخمسين يميناً تُقسم على الورثة، إما على العصبة -وهذا وجه- وإما على أقرباء الميت الذين يرثونه، وتقسم على قدر حصصهم في الميراث، فلو كان المقتول له ابن وبنت، فللذكر مثل حظ الأنثيين، فالابن له ثلثا المال، والبنت لها الثلث؛ فتقسم الأيمان بين الابن والبنت، ولو توفي عن أربعة أبناء أو خمسة أبناء تقسم الأيمان على الخمسة الأبناء؛ لأن حظوظهم متساوية، فتقسم على حسب الرءوس إن حصل كسر في الخمسين ولا تنقسم الأربعين إلا بكسر على أربعة؛ فحينئذٍ يُجبر الكسر ويتمم، فلو كانوا أربعة قلنا: يحلف كل واحد منهم ثلاثة عشر يميناً؛ لأنه جبر من كسر اثني عشر ونصف فيحلف كل واحد منهم ثلاثة عشر يميناً. يطالبهم القاضي أن يحلفوا هذه الأيمان، ويشترط في هذه الأيمان أن تكون في مجلس القضاء والحكم؛ لأن الحجج المعتبرة مكانها مجلس القضاء، والإقرار معتد به في مجلس القضاء، فإذا حلفوا هذه الأيمان، اشترط أن يكون في مجلس القضاء، وأن تكون أيمان شرعية بالله عز وجل أو بصفة من صفاته، والذي عليه العمل عند أئمة العلم رحمهم الله أن القاضي يبدأ قبل أن يحلف هؤلاء أيمانهم بتخويفهم بالله سبحانه وتعالى، وتحذيرهم من غضبه وسخطه جل وعلا؛ لأن اليمين توجب غضب الله للعبد إن كانت يميناً فاجرة، فما بالك إذا كانت أكثر من يمين. ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما وقعت بين الكندي وأخيه خصومة، قال عليه الصلاة والسلام: (ألك بينة؟ قال: ليس عندي يا رسول الله! بينة، قال: ليس لك إلا يمين، قال: يا رسول الله! الرجل فاجر، ويحلف ولا يبالي، فقال صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين وهو فيها كاذب؛ ليقتطع بها حق امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان)، وهذه يمين واحدة، وأعظم الأيمان أيمان القضاء التي تكون في مجلس الحكم، وهي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار -والعياذ بالله-، فيخوفهم بالله عز وجل، ويذكرهم بالله سبحانه وتعالى أن يصدقوا وألا يكذبوا، ولهم الحق كما ذكرنا أن يبنوا على غالب ظنهم. قال رحمه الله: (ويُبدأ بأيمان الرجال) أي: يُبدأ بأيمان الرجال من المدعين قبل النساء؛ لأنهم الأصل. قال: [ويُبدأ بأيمان الرجال من ورثة الدم، فيحلفون خمسين يميناً]: (فيحلفون خمسين يميناً) تُقسم هذه الأيمان على قدر حصصهم من الميراث، وإن كانوا عصبة كانت منقسمة على عدد الرءوس، ويشترط أن يستتم هؤلاء الأيمان، فلو أنهم كلهم حلفوا إلا واحداً؛ فإنه لا توجب القسامة الحكم بالدم، يعني: لا يُقتل حتى يحلف الجميع، فلو حلفوا الأيمان إلا يميناً واحداً لم يقبل منهم إلا أن تكون تامة كاملة، وهذا هو الأصل، ولا يُشترط الولاء المتتابع بين اليمين والأخرى، فلو حلف بعض الأيمان في مجلس، ثم أتمها في مجلس آخر -كأن يحلف خمسة أيمان، وكانت عليه عشرة أيمان، ثم تردد، ثم حلف بعدها الخمسة، أو حلف الخمسة وجاءه عذر فقضى حاجته، ثم رجع وحلف الخمسة- فهذا لا يؤثر ما دام أنه حلف العشرة الأيمان المطلوبة كاملة في مجلس القضاء والحكم.

نكول الورثة عن الحلف

نكول الورثة عن الحلف قال رحمه الله: [فإن نكل الورثة أو كانوا نساءً؛ حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ]: يحلف المدعون في الأيمان على القاتل، ويقولون: والله إن فلاناً أو إن هذا قد قتل فلان ابن فلان إذا كان القاتل في مجلس الحكم، وإذا لم يكن في مجلس الحكم يذكرونه باسمه على وجه لا يشترك معه غيره، كما ذكر العلماء بأن يرفعوا نسبه، فيذكرون اسم أبيه وجده، وما يتميز به عن غيره أنه قتل فلاناً قتل عمد أو قتل خطأ أو قتل شبه عمد، فيصفون القتل، وهذا حتى تكون اليمين معتبرة. بيّن رحمه الله أنه يبدأ بأيمانهم، ثم إذا نكل هؤلاء بأن قالوا: لا نحلف، أو نكل بعضهم فقال بعضهم: نحلف، وقال بعضهم: لا نحلف، فالنكول عن أيمان القسامة وقع بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وأقره، وهذا يدل على مشروعيته، وأن من حق الإنسان أن يتورع عن القسامة، وقد وقع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم خيار الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، فقالوا: يا رسول الله! كيف نحلف ونحن لم نشهد ولم نر؟ ولكن في حوادث من الحوادث الأخرى يأتيك شخص تثق به ثقة كاملة، أو مثلاً يقع القتل على وجه تطمئن أنت إلى صدق المخبر، ولا تعرف فيه كذب؛ فتطمئن إلى قوله، ويسبق أن هذا الرجل توعد المقتول، أو بينه وبين المقتول عداوة، أو بينه وبين المقتول ثأر، فأنت مطمئن لهذه اليمين، وإن لم تر ولم تشهد، لكنك تحلف على غالب الظن، ومن رحمة الله عز وجل وتيسيره للعباد أنه أجاز الحلف على غلبة الظن، ففي هذه الحالة لك أن تنكل وتمتنع من اليمين تورعاً، وقد امتنع عن اليمين تورعاً خيار الأمة من الصحابة. بل إن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وعن أبيه باع عبداً، فظهر في العبد عيب، وقال المشتري: به عيب، واشتكاه إلى عثمان رضي الله عنه، فقال: ما علمت فيه عيباً، فقال له: تحلف اليمين، قال: لا أحلف اليمين، ولكن يأخذ ماله ويعطيني العبد، فتورع رضي الله عنه عن حلف اليمين، وما كان في ذلك منقصة له رضي الله عنه، وشاء الله أن يبيع العبد بأضعاف قيمته بعد ذلك؛ لأنه ما عامل أحد ربه إلا غنم في دينه ودنياه وآخرته، فهو تورع عن هذه اليمين؛ لأنه يؤثر ما عند الله سبحانه وتعالى، لكن إذا تبين للإنسان أن هناك حقاً، وأن هناك دماً، وأن هناك قاتلاً ظالماً، وأراد أن يشهد اليمين ويحلف بالله على هذه اليمين شهادة حق، فإنه لا ملامة عليه ولا غضاضة. (فقالوا: يا رسول الله! كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟) وفي هذا دليل على أن الحلف ينبغي أن يكون على علم في الأصل، فتستفيد فائدة وهي: أن هناك أصلاً، وهناك مستثنى من الأصل، فالأصل في حلف اليمين: أن يكون عن علم وبينة، والدليل على ذلك أن الله تعالى قال: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف:81]، فجعل الشاهد لا يكون شاهداً بالحق إلا إذا كان بشيء يعلمه، قال: (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا)، واليمين شهادة، {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:1] فقالوا: نشهد، يحلفون بالله أنه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا المراد به من تسمية الأيمان شهادة، وكقوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور:6] فهذا كله فيه تسمية الأيمان شهادة، فدلت على أن اليمين لا تكون إلا عن علم ومعرفة، وبناءً على ذلك فالأصل أنه يحلف على شيء يعلمه، فإذا كان قد غلب على ظنه -لاحظ لم ير ولم يسمع ولم يشاهد ولكن غلب على ظنه- بأن جاءه مثلاً عشر نسوة أو عشرون امرأة قد شاهدن القتل، وجئن يشهدن ما تقبل شهادتهن في القتل، وبين الرجل وبين الرجل ثارات، أو بينه وبينه عداوة، أو سبق وأن توعد -كما ذكرنا- في فاطمئنت نفسه لهذا أن يشهد به، فحلف يمينه، فإنه في حكم ما ذكرناه؛ لأن الشهادة واليمين على غالب الظن معذور فيها صاحبها. قال: [فإن نكل الورثة]: (فإن نكل الورثة): النكول هنا يستوي فيه -كما ذكرنا- كلهم أو بعضهم، صورتها: أن يكون النكول من الورثة جميعهم بقولهم: لا نحلف، مثلما قال الأنصار، أو أن يكون النكول من بعض الورثة لا من كل الورثة، سواء كانوا أكثر أو أقل، فقال بعضهم: نحلف، وقال بعضهم: لا نحلف، وهنا ننبه على مسألة مهمة، وهي أنه إذا امتنع البعض عن الحلف لا يكره على الحلف، كما يقع بين القرابة، حيث يغضبون عليهم ويقولون لهم: أنتم ضيعتم دم قريبنا، أنتم ليس لقريبنا عندكم حق، وليس له قدر، وهذا لا يجوز، فإن الصحابة رضوان الله عليهم لم يلم بعضهم بعضاً، وتورعوا، بل إنه إذا تورع أحد يقبل منه هذا الورع، هذا بالنسبة للنكول، وهناك صورة ثالثة وهي: أن يكون النكول مِن من حلف، فيحلف بعض الأيمان ويمتنع من بعضها سواء حلف أكثر مما نكل أو أقل أو استويا -الحلف والنكول- بأن تكون عليه يمينان فحلف واحدة ونكل عن الثانية، فالحكم في جميع هذه الصور واحد. والنكول من البعض كالنكول من الكل، وإن نكول بعض الورثة كنكول جميع الورثة، وإن نكول الحالف عن بعض الأيمان كنكوله عن جميع الأيمان، ما نقول: تقسط الدية أو نقسط الحكم، أو يحكم ببعض ويترك بعض أبداً، يبقى الحكم أن يحلف الجميع أو يحكم بالنكول إذا وقع من بعضهم دون البعض.

كون الورثة نساء

كون الورثة نساء قال رحمه الله: [أو كانوا نساءً] إذا كان الذين يحلفون رجالاً ونساء فلا إشكال، ويقولون بالاندراج، ويكون النساء مع الرجال، لكن أن يتمحضوا إناثاً، فمذهب الجمهور عدم قبول شهادة النساء منفردات على الدم، وهذا له أصل؛ لأن الله عز وجل لم يجعل شهادة النساء في غير الأموال، وهذا لحكمة منه سبحانه وتعالى، فالمرأة يعتريها من الضعف والتسرع ما لا يكون في الرجل، ولذلك لا يقبل في شهادة القتل امرأة، فلا تثبت بشهادة امرأتين أو أربع نسوة، بل لابد وأن تكون شهادة القتل والزنا للرجال، وسيأتينا إن شاء الله تعالى في باب القضاء، ونبين الأدلة، ونبين وجه الحكمة في ذلك، وهذه حكمة من الله سبحانه وتعالى ولا تعقيب لأحد على الشريعة في هذا، فالله عز وجل إذا حكم لا يعقب على حكمه، وهو سبحانه وتعالى أعلم وأحكم. فالمرأة لا تستطيع أن ترى مشهد قتل أو غيره، ولو وقع أمامها منظر من المناظر المؤلمة -فضلاً عن القتل- سرعان ما تغيب وجهها، أو تضع يديها على عينيها، ولا تستطيع أن تستمر في المشاهدة والرؤية، وقد تستعجل من الخوف من رعب الحوادث، فتخطئ في تصور الحوادث وتسلسلها، بل إنك لو سألتها أن تصف شيئاً رأته، فإنك لن تستطيع أن تنتزعه إلا على أحوال متعددة: إذ يغلبها البكاء ويغلبها الضعف، وهذا شيء جبلت عليه فلا تلام عليه، فالله يخلق القوي والضعيف، وهو أعلم وأحكم سبحانه وتعالى. ولكن لا ينبغي لأحد أن يكابر في الحقائق، ولا ينبغي لأحد أن يُحملها ما لا تتحمل، وأن يظن أنه يحسن وقد أساء؛ لأنه لا أحسن من حكم الله سبحانه وتعالى، ولا أعلم بخلقه منه سبحانه، بل هو أعلم بكل شيء جل جلاله وتقدست أسماؤه {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]. فالشاهد أن أيمان النساء لا تقبل؛ لأن شهادتهن في الأصل إذا انفردن لا تقبل، لكنهم اعتضدوا بالأصل هنا، وإن كان بعض العلماء لم يقبلها مطلقاً في الأيمان، وهذا له أصل سنذكره إن شاء الله في باب الشهادات في مسألة الاعتضاد.

حلف المدعى عليه حيث لا يمين من المدعي

حلف المدعى عليه حيث لا يمين من المدعي قال رحمه الله: [حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ] قال المصنف: (ويُبدأ بأيمان الرجال)، فلو أن هذه اليمين تمت على الوجه المعتبر، هل يستحقون قتل الشخص الذي حلفوا عليه؟ قولان للعلماء رحمهم الله: جمهور العلماء على أنهم لو حلفوا على شخص الأيمان على الصفة المعتبرة شرعاً أنه يقتص من القاتل الذي حلفوا عليه، وهذا المذهب دل عليه دليل السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (تحلفون خمسين يميناً، وتستحقون دم صاحبكم)، فهذا نص واضح أنهم يستحقون بالخمسين اليمين القصاص والقود. ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحلفون خمسين يميناً -وفي رواية السنن- تقسمون خمسين يميناً على رجل منهم فيدفع إليكم برمته) ما قال: فتستحقون الدية، وما قال: فتأخذون العوض، وإنما قال: (يدفع إليكم برمته)، والقتل الذي اشتكاه الصحابة قتل العمد؛ لأن عبد الله بن سهل رضي الله عنه وجد يتشحط في دمه؛ لأنه كان معه محيصة، وكانوا على مقربة من الليل -قبل الليل بقليل- فافترقا في حي من أحياء اليهود، فذهب عبد الله رضي الله عنه في ناحية، وذهب محيصة في ناحية، فرجع إلى الناحية التي كانا قد تواعدا فيها؛ فوجد عبد الله يتشحط في دمه، وهذا قتل عمد، والنبي صلى الله عليه وسلم أثبت للأنصار في قوله: (فتستحقون به دم صاحبكم)، فلا مقابل في قوله: (تستحقون دم) إلا قتل العمد، فلا يصح تأويل هذا الحديث، أو حمله على أنهم يستحقون به الدية، وهذا المذهب هو الصحيح الذي دلت عليه السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكن هناك إشكال عند الذين قالوا: يستحقون به الدم، هل يحلفون على أكثر من رجل، منهم من قال: يحلفون على رجل واحد ولا يزيدون، كما هو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، واحتجوا بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (تحلفون على رجل منهم، فتستحقون دم صاحبكم) (تحلفون على رجل فيدفع إليكم برمته)، فعبر بالواحد ولم يعبر بالأكثر، ومنهم من قال: إنه لا يستحق أكثر من واحد؛ لأنه لا تقتل الجماعة بالواحد، وقد تقدمت معنا هذه المسألة، وبينا أن دليل الكتاب والسنة قد دل على أن الجماعة تقتل بالواحد، والذين يقولون بقتل الجماعة بالواحد ويمنعون أكثر من واحد في القسامة، يقولون: لأن القسامة خرجت عن الأصل فتقيد بالوارد. وفي الحقيقة أن القتل يصح للاثنين كما يصح للواحد، وجاءت السنة إعمالاً للأصل في الحادثة أنه يكون قتل من واحد، فلو قال: تحلفون على جماعة منهم، أو تحلفون على عدد معين لأوهم خلاف المراد، ولظن ظان العكس، أن القسامة لا تكون إلا على جماعة، وهذا ما يسميه علماء الأصول: التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كان يُقتل الواحد فدم الواحد كدم الجماعة، وقد بينا هذا في مسألة قتل الجماعة بالواحد، وعلى هذا إذا حلفوا الأيمان تامة كاملة على الصفة الشرعية يستحقون قتل أكثر من واحد. قال: [حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ]: فإذا لم يحلف ونكل المدعون أو امتنعوا أو امتنع بعضهم، حلف المدعى عليه وتطالب الجماعة الذين ادعي عليهم أن يحلفوا خمسين يميناً أو يحلف الشخص الذي ادعي عليه خمسين يميناً ويبرأ، فإذا امتنع منها، قال بعض العلماء: يحبس حتى يحلفها، وهذا فيه أصل سيأتينا إن شاء الله في باب القضاء، أنه إذا توجهت اليمين على أحد وامتنع من الحلف، هل يجبر على أن يحلف؟ وهل يُحبس حتى يكون منه حلف؛ لأن القضية لا تزال معلقة، والنبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، قال صلى الله عليه وسلم في حديث البيهقي وغيره: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)، وفي الصحيح: (لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى أناس دماء أقوام وأموالهم، ولكن اليمين على من أنكر). وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الكندي: (ليس لك إلا يمينه)، هذا يدل على أن المدعى عليه يحلف اليمين، والمدعي يطالب بالبينة، أما إذا ادعى شخص على شخص، وقلنا للمدعي: أثبت، قال: ما عندي بينة، قلنا للمدعى عليه: احلف أنك بريء، فقال: لا أحلف، فهذه المسألة التي هي القضاء بالنكول, فهل في بعض الصور ترد الدعوى، وسنبينها إن شاء الله في باب القضاء، تشكل هنا في باب القسامة وبعض العلماء يرى أنه يحبس حتى يحلف الأيمان. قال رحمه الله: (حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ) (وبرئ) يعني برئ من الدعوى ويطلق سراحه ما لم يثبت بالبينة أنه قتل، فلو قامت البينة بعد أن حلف الخمسين يميناً -والعياذ بالله- على أنه قاتل فإنه يقتل، يعني البراءة هنا فقط في مسألة القسامة، هذه قضية مستقلة، برئ من هذه الدعوى، لكن لو أقيمت عليه دعوى ثانية ووجد أولياء المقتول دليلاً من شهود عدول أو كان الشهود غائبين ثم حضروا وقالوا: رأيناه يقتل فلاناً، وشهدوا، فإن أيمانه التي حلفها أيمان فاجرة في حكم القضاء، وإلا قد يكون صادقاً بينه وبين الله، وقد يكون الشهود مخطئين فلنا حكم الظاهر، فتسقط هذه الأيمان ولا يعتد بها، فبرئ هنا المراد به من الدعوى التي هي دعوى الدم في أيمان القسامة. لو حلف المدعي الخمسين يميناً، ثم قال المدعى عليه: أريد أن أحلف الخمسين يميناً حتى تسقط الدعوى، نقول: هذه البراءة لا تكون إلا إذا نكلت أولياء الدم، يعني لا يحلف المدعى عليه إلا إذا نكل أولياء الدم، أما إذا حلف أولياء الدم، فإنه يستحق القتل إذا كان قتل عمد، وإن كانوا أكثر من واحد فيستحقون القتل، ويجري فيه ما يجري في قتل العمد، وإذا كان قتل خطأ فلا إشكال.

الأسئلة

الأسئلة

حكم قسامة القصار

حكم قسامة القصار Q إذا كان من بين ورثة الدم قصار فما الحكم، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله هل ينتظر الصبي حتى يبلغ ويطالب بالحق؟ وهذا اختاره جمع من العلماء رحمهم الله، وهو الأشبه بالأصول، ولكن إذا كان هناك من به عذر مثل الصبا يمنع، ولكن إن كان فيه ما يصعب انتظاره: كالجنون؛ فإنه لا ينتظر، ويكون وجوده وعدمه على حد سواء، فينتقل إلى غيره، فلا يحلف إلا من كانت به أهلية، والله تعالى أعلم.

حكم التمالؤ باليمين أو شهادة الزور على أحد

حكم التمالؤ باليمين أو شهادة الزور على أحد Q لو حلف المدعون أيماناً كاذبة على المدعى عليه، ولم يعلم ذلك إلا بعد إنفاذ الحكم، فهل يقتلون جميعاً، أثابكم الله؟ A أولاً: كيف يُعلم أنهم كاذبون، لابد وأن يقروا ويقولوا: إنهم كاذبون في الأيمان وإنهم تعمدوا قتله، كما سيأتينا إن شاء الله في باب شهادة الزور، أن من شهد على إنسان أنه قتل، أو شهد شهود على أن شخصاً قتل، ثم جاءوا وقالوا: تعمدنا قتله، فإنهم قتلة، وسبقت الإشارة في مسألة القتل بالسبب، ومن القتل بالسببية شهادة الزور، أن يشهد شهود زور أن فلاناً قتل فلاناً، وكانوا قاصدين لقتله، لكن لو قالوا: أخطأنا؛ فهذا قتل خطأ، فهل تقبل شهادتهم الثانية؟ لأن ثبوت خطأ في الشهادة الأولى يوجب الضعف في الضبط عندهم، ومن شرط صحة الشهادة الضبط، وسيأتي إن شاء الله الكلام عليه. لكن إذا قال الشهود، أو قال أصحاب هذه الأيمان: إنهم يعلمون علماً أكيداً أن فلاناً لم يقتل، وهذا لا يتأتى إلا لمن كانوا يعلمون من هو القاتل حقيقةً، فإذا كانوا يعلمون من هو القاتل حقيقة، وعدلوا إلى شخص آخر، وحلفوا -والعياذ بالله- الأيمان الفاجرة، فلينتظروا ما يصيبهم، فقد كان يقال: من حلف اليمين الفاجرة في أي مجلس من مجالس القضاء، لا يمر عليه الحول وهو بخير. هذه من السنن المجربة، حتى في أيمان القسامة هذه، فقد وقعت لـ عبد المطلب وجاء ولي يتيم وامتنع، فدفع المال، وهذا على سنن الجاهلية، فحلف التسعة والأربعين يميناً، فمضت السنة فلم تبق فيهم عين تطرف، كلهم ماتوا، وهذا من عجائب ما يقع، ولذلك فإن كبار السن وأهل العقول تجد الواحد منهم يدفع ماله كله ولا يحلف يميناً في مجلس القضاء، فالأيمان أمرها عظيم، خاصة في مجلس القضاء، فإنه لا يحول الحول على صاحبها بخير، وهذا مما يعلم بالسنن، ولا يشترط فيها الدليل إذا ثبتت بالتجربة، وعادة الله عز وجل وسنته لا تتخلف؛ لأنه عندنا أصل عام وهو أن الله منتقم، وينتقم من كل ظالم، ومن أظلم الظلم سفك الدماء البريئة، وأكل الأموال المحرمة، واتخاذ القضاء وسيلة للوصول إلى هذه الأغراض، ولو كان سفك الدم مباشرة أهون من أن يأتي ويكذب على القاضي، ولذلك قالوا: من كذب على القاضي بشهادة زور فقتل بها، أعظم مما لو قتل مباشرة؛ لأنه لو قتل مباشرة فهو قاتل فقط، لكن أن يستخدم القضاء وسيلة للوصول إلى غرضه -والعياذ بالله- من استباحة دماء المسلمين المحرمة وأموالهم وأعراضهم، فحينئذٍ يكون قد جنى فوق جنايته الأصلية الذنب والإثم، ثم جنى على القضاء، وذلك بكونه استغله لكي يبطل الحق ويحق الباطل، نسأل الله السلامة والعافية. فعلى كل حال إذا كانوا يعلمون من هو القاتل فذلك يقع بالصور التالية: الصورة الأولى: أن يعلموا من هو القاتل حقيقة، فيعدلون إلى غيره. الصورة الثانية: أن يعلموا أن فلاناً لم يكن موجوداً أثناء القتل، على وجه يتحققون من أنه لم يقتل. الثالثة: أن يكون بينهم وبين هذا الشخص الذي حلفوا عليه عداوة وأرادوا أن يقتلوه إشفاءً لغليلهم، لا إحقاقاً لحق، ولا وصولاً إلى حق، هذه كلها من الصور التي تكون فيها الأيمان كاذبة فاجرة -والعياذ بالله- فإذا قالوا: تعمدنا قتله؛ قتلوا به جميعاً، ولو كانوا مائة شخص، ولو كانوا مليوناً، وقد ذكرنا هذا في قتل الجماعة بالواحد، على قول عمر رضي الله عنه: (والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به)، فتقتل الجماعة بالواحد؛ لأن الله سبحانه وتعالى عصم دماء المؤمنين، ولو فتح الباب أن الجماعة لا تقتل بالواحد؛ لقامت عصابات بقتل الناس ثم يسلمون من القصاص، وفي ذلك من الشر والبلاء ما لا يخفى، والله تعالى أعلم.

بعض آداب طلب العلم

بعض آداب طلب العلم Q إن من النعم الكبيرة عليّ أن أصحب طلاب العلم، وأن أحضر هذه المجالس، وأحتاج كثيراً إلى أن تذكرنا بشيء من الآداب التي ينبغي علينا أن نراعيها خاصة في هذه المجالس المباركة، أثابكم الله؟ A بارك الله فيك، نِعم السؤال، والله إنها نعمة عظيمة من الله عز وجل أن يوفق السائل في سؤاله، وكم من أسئلة أحيا الله بها موات القلوب، وأنار الله بها البصائر، فالموفق في سؤاله عظيم أجره إذا أخلص لربه، وأراد الخير للمسلمين، وهذا من النصيحة لعامة المسلمين. السؤال المفيد ينفع من في الدرس، وينفع كل من يستمع إلى هذا الشريط، فلا شك أن المسلم يبحث عن أمور مهمة جداً، وأي خيرٍ وأي بر أعظم من أن يكون الإنسان في طاعة الله عز وجل، ومرضاته سبحانه وتعالى، وأي شيء أفضل أن يُسأل عنه، مثل طاعة الله سبحانه وتعالى، والسبيل الأمثل والمنهج الأقوم في تلمس مرضاة الله سبحانه وتعالى، وإلا فمن أعظم ما يُسأل عنه نعم الله التي تغدق على العبد صباح مساء، وإن الله إذا أراد أن يسعد عبداً من عباده جعل النعمة بين عينيه؛ فعرف حقها وعرف قدرها، فاعتقد فضل الله في قلبه، ولهج بالثناء على الله بالشكر بلسانه، واستخدمها في طاعة الله بجوارحه وأركانه، فعندها تتم نعمة الله مباركة على ذلك الولي الصالح. كم من عبد ترسل عليه النعم إرسالاً، ويتقلب فيها صباح مساء، ولكنه لم يشعر بحقها ولا بقدرها حتى عاقبه الله عز وجل بزوالها، فبكى حين لا ينفع البكاء، وندم حين لا ينفع الندم، والله لو تقلب الإنسان في العلم من أخمص قدميه إلى شعر رأسه، وهو لا يُحس بنعمة ربه؛ لم يبارك له في ذلك العلم، ولو أوتي اللسان الذي تحار العلماء والحكماء في فصاحته وبلاغته، ولم يشكر ربه؛ فلا خير في قوله. الشكر هو الذي قرن الله به الزيادة، ولو أن العبد كان أرفع ما يكون نسباً، وأعظم ما يكون طاعة لله عز وجل، وأعطي نعمة من نعم الله ولم يشكرها، لم يتأذن الله له بالمزيد؛ لأن الله يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، وعلى هذا فحري بكل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى نعم الله عز وجل، وأن يعرف حقها وحقوقها، وهل هناك نعمة أعظم من نعمة الإيمان، ثم بعدها نعمة العلم الذي يعبد العبد به ربه على نور من الله، يرجو رحمة الله ويخشى عذابه. هذا العلم حقيق بالمسلم ألا يكتب فيه حرفاً، ولا يسمعه ولا يقرأه، إلا ونعمة الله شاهدة بين عينيه، قد جرت في دمه وعروقه من كمال إخلاصه لربه، حريٌ بكل إنسان يريد أن يطلب هذا العلم أن يعرف مقدار نعمة الله عز وجل عليه، كما قال الله عز وجل لنبيه: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]، وإذا كان الله يعلم نبيه مقدار النعمة التي أنعم بها عليه، فخليق بكل مسلم أن يُذكر بذلك، وخاصة طلاب العلم، والعلماء الذين هم ورثة الأنبياء. جثا العلماء على الركب، فجرت مدامعهم، وخشعت قلوبهم، ولهجت ألسنتهم بالثناء على ربهم، أذلة صاغرين بين يدي الله رب العالمين؛ تواضعاً لنعم الله عز وجل عليهم. يا معشر طلاب العلم! إن الساعات واللحظات والمجالس التي تجمعكم في ذكر الله ومرضاته نعمة لا يمكن أن توازيها نعمة على وجه الأرض، هل هناك أحد أشرف من عبد يقرأ كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما فيهما من حكم وأحكام، قد فرغ لها قلبه، وأشغل بها وقته؛ كل ذلك طلباً لمرضاة الله سبحانه وتعالى، وهل خلق العبد إلا لهذا؟! طالب العلم الموفق السعيد الذي حين يخرج من بيته يقول: يا رب! لك الحمد أن أخرجتني لطلب العلم، ولم تخرجني أشراً ولا بطراً ولا غروراً ولا رياء ولا سمعة، ولم تخرجني إلى حرام ولا إلى فحش وآثام، يا رب! من أنا حتى تختارني لكي أجلس فأسمع كلامك وكلام نبيك عليه الصلاة والسلام، وكلام العلماء؟! فلنحمد الله عز وجل ولنشكره، كل طالب علم يريد أن يتأدب في مجلس العلم، عليه -قبل أن يجلس في مجلس العلم- أن يعرف نعمة الله عز وجل عليه بالعلم، فلا يمكن أن يتأدب في مجالس العلماء إلا من عرف مقدار نعمة الله عليه بالعلم، وكم من إنسان رزقه الله عز وجل هذا الشعور، فسعد به سعادة لم يشق بعدها أبداً، كم من طلاب علم بينهم كما بين السماء والأرض من الدرجات والحسنات والمثوبات من الله جل وعلا؛ بسبب هذا الشعور، إن الإنسان حينما يمضي إلى مجلس العلم وليس في قلبه إلا الله، معظماً لنعمة الله، لاهجاً لسانه بشكر الله، معتقداً في جنانه أن الفضل -كل الفضل- لله؛ فهو أعظم عند الله أجراً، وأعظم عند الله ثواباً، وأكثر إخلاصاً وقرباً من رجل يخرج من بيته ساه عن نفسه، غافل عن نعمة ربه، لا يشعر إلا أنه حامل لكتابه، يذهب ثم يرجع ولم يشعر أن الله قد أنعم عليه بنعمة، وعندها تكون المصيبة -بل المصيبة الأعظم- حينما يحس أنه قد بلغ مبلغاً رفيعاً حينما يجلس مجلس العلم ويسمع الحكم والأحكام، فيحس أنه يفهمها قبل أن يُفهمه ذلك العالم أو من يستمع إليه. نعم، علينا أن نتذكر أولاً مقدار نعمة الله عز وجل علينا بالعلم. ثانياً: كيف يتأدب الإنسان؟ أول شيء يجب أن تسأل عن أخلاق المسلم مع المسلم عامة، فهناك أخلاق أدبنا الله عز وجل بها: أولها: صفاء القلب، فلا يمكن للإنسان أن يجلس في مجالس العلم فيتأدب مع الصغير والكبير، إلا إذا صفا قلبه، وخلص من الشحناء والبغضاء واحتقار المسلمين، فأول ما يوصى به الإنسان أن يخرج من بيته وهو يتقي الله في قرارة قلبه، لا ينظر في الناس إلى ألوانهم، ولا إلى أحسابهم،، ولا إلى أموالهم، ولا ينظر إلى جاههم، لا ينظر إلا إلى تقوى الله جل جلاله، وعندها لو رأى رجلاً مرقع الثياب وأخلق الحال سيراه كما يرى أعظم الناس وأغناهم؛ لأنه بتقوى الله كان شيئاً كبير، فأول شيء: تطهر القلب، ولذلك لن تجد طالب علم يسيء مع طالب علم الأدب؛ إلا وجدت المسيء يحتقر أخاه، ولم يبدأ بسلوك المسلم مع أخيه المسلم بنقاء قلبه، قال صلى الله عليه وسلم -يشير إلى هذا المعنى-: (بحسب امرءٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) يجب أن نستل من قلوبنا هذه الضغائن، وهذه المعاني الرديئة التي لازمها الناس في دنياهم، وأن نحسن بطلب العلم سلوكنا، فطلب العلم أرفع وأقدس من أن نجعل الدنيا أكبر همنا، ومبلغ علمنا، وغاية رغبتنا. ثانياً: إذا جاء الإنسان إلى مجلس العلم عليه أن يحب جميع إخوانه في الله عز وجل، وأن ينظر إلى أمة اصطفاها الله واجتباها؛ لكي تحمل دينه، وتحمل شرعه إلى الأمة، أن ينظر إلى هؤلاء الذين قضوا وقتهم في ذكر الله عز وجل ومرضاته، وما يُدريك فلعل من بينهم أئمة سيُهتدى بهم غداً، وما يُدريك كم فيهم ممن سيسد الله بهم ثغور الإسلام غداً، وما يُدريك كم فيهم من شموس ستضيء أنوارها بإذن الله عز وجل في الغد القريب، وما ذلك على الله بعزيز. فكم من علماء وأئمة كانوا في أقدارهم صغاراً -وهم طلاب علم- رفع الله أقدارهم لما أخلصوا، ووطنوا أنفسهم لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، فإذا شعرت أنك تجلس بين أناس سيصطفيهم الله عز وجل، وتحسن الظن بالله؛ فإن الله ذو فضل عظيم، فتحس أنك أمام أناس لهم فضل عليك، ولهم حق عليك أن تحبهم، وأن توقرهم، وأن تجلهم، وأن تنوي لهم كل خير، وأن تعتقد لهم الفضل من الله عز وجل. ثالثاً: إذا جلست معهم فاحرص كل الحرص أن تكون خير طالب علم لأخيه، فتنافس في الخير، فإذا دخلت المسجد فادخل ولسان حالك يقول: يا رب! اجعلني خير الناس في هذا المسجد، اللهم اجعلني خير الناس في هذا المسجد، اللهم اجعلني أعظم الناس أجراً عندك في دخولي هذا؛ لأنه مكان تنافس وتسابق للخير والبر داخل المسجد، وتقول: يا رب! لا تجعلني محروماً، ولا تجعلني شقياً، اللهم لا تحرمني خير ما عندك بشر ما عندي، فإذا دخلت المسجد فادخل وأنت تطمع أن يجعلك الله خير طالب علم مع أخيه، وخير صديق لصديقه، وخير أخ لمحبه، فإن الله عز وجل يعظم أجرك، لهذا تنال الخيرات والمرضاة، حينما تدخل وعندك شعور بأنك تسمو إلى مرضاة الله عز وجل، والطمع في رحمة الله عز وجل أن يرزقك القول السديد والعمل الرشيد، وأن تكون مع أحبتك وإخوانك كأحسن وأجمل وأفضل ما يكون عليه طالب علم مع أخيه. رابعاً: أن تعلم أنك مهما جالست ومهما صاحبت، فكل من جالسك شاهد لك أو عليك، فهنيئاً ثم هنيئاً لمن جالس صفوة الله عز وجل من خلقه بعد الأنبياء والعلماء، وهم طلاب العلم، فلم يشهدوا له إلا بخير. من طلاب العلم من جلس في مجالس العلم السنين المتتابعة، ويعلم الله أنه ما آذى أخاً له في الله، من طلاب العلم من جلس في مجالس العلم، والله يشهد أنه ما أساء إلى مسلم فيها، ومنهم من جلس في مجالس العلم السنوات تلو السنوات، فما قام من مجلس إلا وقد فاز بعظيم الأجور والحسنات ورفيع الدرجات، اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين! خامساً: على الإنسان أن يسمو بنفسه ثم عليه -بعد ذلك- أن يوطن نفسه بالكلام الطيب واللين، وأن يعلم أن الناس -خاصة في هذا الزمان المليء بالفتن والمحن- قد امتلأت صدورهم من الهموم والغموم والكربات، فإذا مر عليك أخوك ولم يسلم عليك؛ فالتمس له عذراً، وإذا رأيته عابس الوجه فقل: لعل أخي نزلت به مصيبة، اللهم فرج كربه، اللهم نفس عنه، اللهم يسر له أمره، ولا تسئ به الظن. ثم النقطة السادسة: الحذر من أن ينشغل طالب العلم بغيره عن نفسه، وأن ينشغل بنفسه عن ربه، لا تشتغل بالناس عن نفسك، البعض بمجرد ما يجلس يجلس يستكشف الحال، ينظر عن يمينه وعن يساره ومن أمامه ومن خلفه، ولو وجد ما ينظر إليه إلى سابع أرض لنظر إليه، هذا ليس بطالب علم، يجلس حتى يكتب في الأسئلة، بعض طلاب علم يفعلون، وبعض طلاب علم يكتبون، يشتغل بعيوبهم، ويشتغل بمثالبهم، هل طلاب العلم الذين أمامك ملائكة وأنبياء معصومون؟ هم بشر يخطئون كما يخطئ غيرهم، ولكنهم بما فيهم من الخير -نحسبهم بما وطنوا به أنفسهم من طاعة الله ومرضاته، وبما غلب عليهم من الحرص على الخير- هم أسمى وأحب إلى قلوبنا من غيرهم، والإنسان إنما يرجى بثقل الحسنات. فإذاً لا تلتفت إلى عيوب إ

حكم قراءة يس عند المحتضر والميت

حكم قراءة يس عند المحتضر والميت Q ما حكم قراءة سورة يس عند احتضار الميت، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالحديث في هذا حسن، وجاء في ذلك أنها تُسهل خروج الروح، ولا بأس بذلك ولا حرج، وقد استحب غير واحد من الأئمة رحمهم الله حين يكون الإنسان محتضراً أن تقرأ عنده؛ لثبوت الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن قراءتها بعد الدفن هو الذي لا أصل له، وهو من البدع المحدثة، والله تعالى أعلم.

جانب من منهجية طلب العلم الصحيحة

جانب من منهجية طلب العلم الصحيحة Q في الإجازات تكثر الدروس، ويضغط بعض طلاب العلم أنفسهم إلى درجة الارتباط بأربعة أو خمسة دروس في اليوم الواحد، وكل درس منها يحتاج إلى جهد كبير حتى يضبطه طالب العلم، والبعض منهمك في جميع هذه الدروس، الأمر الذي أضعف لديه الضبط، حتى أصبحت كثرة الدروس سبباً في الترف في الطلب، فهل ارتباط طلبة العلم على هذا الوجه أصح وأصوب، أم ماذا؟ نرجو الجواب في هذه المسألة المهمة، أثابكم الله؟ A التركيز في طلب العلم مهم جداً، وطالب العلم الذي يحدد العلم الذي يتعلمه، ويحجم قدره مع طول الزمان وقوة الضبط، لا شك أنه أعظم بركة وخيراً، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نتعلمهن ونعمل بهن، ونعلمهن، ونعلم حلالهن وحرامهن، فأوتينا العلم والعمل)، فكانوا يكرسون جهودهم في العشر الآيات حفظاً وفهماً وعملاً، وهم من أقوى الناس حفظاً، وأصفاهم ذهناً، وأعرفهم بمواطن التنزيل ودلالة النصوص، وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول، ومع ذلك كانوا يحفظون عشر آيات فقط. فانظر رحمك الله كيف بورك لهم في علمهم، وكيف بورك لهم في ضبطهم، فالعلم المركز المؤصل هو الذي يقرؤه طالب العلم ويردده، ويحاول ألا يجعل للسآمة إلى قلبه سبيلاً، فلو عندك درس في الأسبوع، فتقرأ منه مثلاً سطرين، ولكن لا تتعجل وتقول: متى أنتهي من الكتاب، فهذا ليس إليك، ولا تسأل متى تنتهي، المهم أن يبارك الله لك، انظر إلى طالب علم يقرأ السطر والسطرين فلا يفتأ عن قراءتها قبل الدرس المرات والكرات، ثم إذا جاء الدرس جاء على أجمل ما يكون عليه طالب العلم، جاء وهو يُري الله عز وجل أنه أمين لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه يجلس في مجلس علم قد حضّره وضبطه، لا أن يكون عهده بالدرس حينما يفتح كتابه، بعضهم يجلس ليبحث أين انتهينا في المجلس الماضي، وهو لا عهد له بالكتاب إلا حين يفتحه، هذا ليس بطلب علم، طالب العلم لا يمكن أن يفارق كتابه، فتجده يراجع المرة والمرتين والثلاث والأربع قبل أن يجلس في مجلس العلم، ويبحث عن الكلمات وضبطها، وهل هذا فاعل أو مفعول إلى أن يرتب الجمل والعبارات، ثم يحاول أن يجد فهماً بسيطاً أو سهلاً يُسهل له مجلس العلم وضبط المسائل التي تقال فيه، حتى إذا جلس في مجلس العلم بهذا القليل؛ وعاه وفهمه، ثم رجع إلى بيته فقرأه وضبطه، وإذا أمكن أن يستمع للشريط المرة والمرتين والثلاث حتى يكاد يحفظ. نعم، لو أن كل طالب علم استشعر، كما كان بعض مشايخنا يوصينا، وهذه من أعظم نعم الله عز وجل، أنه ذات يوم قال لي شيخ من الأزهر -أسأل الله أن يتغمده برحمته، وأن يسكنه فسيح جناته، وجميع علماء المسلمين وأئمتهم، والمسلمين جميعاً- هذا العالم كان من البقية الباقية، نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله عز وجل، وكنت في الثانية من المتوسط، وشاء الله أنني جئت وسألته عن مسألة، وهو لا يدرسنا؛ لأنه كان يدرس في الكلية، ولما سألته قال لي: يا بني! أين تدرس؟ فذكرت له لأنه لا يعرفني، وهو يعرف الوالد حيث كان صديقاً له رحمه الله، فقال: يا بني! سأوصيك بوصية في هذا العلم تستفيد منها: لا تقرأ مسألة في العلم إلا وقد حصل عندك شعور في نفسك أنك ستسأل عنها يوماً من الأيام، أي مسألة، حتى ولو لغوية نحوية أو أياً كانت، قال لي: إن الله سيسألك عما تعلمت: لك وللناس، لك: هل عملت به، وللناس: هل علَّمته، فما من مسألة تعلمتها وسمعتها، إلا وقد أُلقيت على كتفك أمانة، فالعالم قد أعذر إلى الله، فكل مسألة تقرأها عن شيخك؛ فاعلم أنك قد حملتها عنه شئت أم أبيت، فلو أن كل طالب علم يهيئ نفسه لكل مسألة درسها أنه سيسأل عنها لضبط العلم. الأمر الذي يستدعي قلة القراءة مع قوة الضبط. واكتب قليلاً إن أردت تحفظ. الحروف إن أردت تلفظ فطالب العلم الذي يكتب القليل ويدمن قراءته وضبطه، هو الذي يخرج للناس غداً عالماً بإذن الله عز وجل، نحن لا نريد كمَّاً هائلاً، تجد الطالب يأتي ويقول: والله هذه المسألة بحثناها، والله هذه المسألة قرأناها، والله عندنا دورة في العقيدة، ودورة في الحديث، ودورة في الفقه، ودورة في النحو، ودورة في كذا، فما يستطيع بهذا الشتات أن يضبط. والسائل معه الحق، وهذا فيه نصيحة لنا، نحن لا نمنع أن يكون هناك أكثر من درس لطلاب العلم؛ للتنوع، لكن إن يضغط طالب العلم على نفسه بهذه الدروس كلها، قالوا: لأن العلماء ما لهم إلا درس في الأسبوع، خاصة إذا كان درساً في الزاد، والدرس هذا لا يزيد على سطر أو سطرين، قالوا: نحن نريد كل يوم درساً، وارتقى بعضهم إلى درجات الكمالات فقال: نريد في كل يوم أربعة دروس أو خمسة دروس، فلذلك هذا الكم مثل ما ذكر السائل يكون ترفاً علمياً، اجلس في هذه الدروس الأربعة، وفي نهاية العطلة أو في نهاية الإجازة انظر ماذا حصلت، واجلس في درس واحد وأعطه حقه من الضبط والإتقان، وانظر ماذا وجدت، وستجد الفرق. هؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وكل واحد منهم قد طلب العلم، وأخذه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجد أئمة التابعين ما من واحد إلا وقد لزم شيخاً منهم، فـ ابن عباس له طلابه الذين نبغوا وضبطوا علمه، وزيد بن ثابت له طلابه، وأبو هريرة له طلابه الذين أخذوا عنه، وعبد الله بن عمر له طلابه، أسانيدهم وطرقهم معروفة محفوظة. فكثرة الشتات والتنوع متعب جداً وعواقبه وخيمة على طالب العلم، فالذي أوصي به تحجيم الدروس، والاكتفاء بالدرس الذي تضبطه وتجد أنك تعطيه حقه، وهو بإذن الله عز وجل قليل مبارك، وفيه خير كثير لا تطيقه، هذا الذي أوصي به، أما أن يكون لطالب العلم أربعة أو خمسة دروس في الأسبوع الواحد، فلا أدري كيف يضبطها، ولكن اضبط علماً وأعطه وأعطيه حقه، ثم بعد ذلك انتقل إلى غيره، وسيبارك الله عز وجل لك فيه، هذا فيما أراه، وهو الذي أدركت عليه أهل العلم رحمهم الله، والذي يريد أن يجرب التنوع فليفعل ذلك، فقد تكون عنده ملكة وقوة على ذلك، والله تعالى أعلم.

حكم من قتل حمامة في مكة خطأ وهو غير محرم

حكم من قتل حمامة في مكة خطأ وهو غير محرم Q ما الحكم على من قتل حمامة في مكة بسيارته وهو غير محرم، أثابكم الله؟ A الحمامة فيها شاة، قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة؛ لأنها تعب الماء، وقتل الصيد في الحرم موجب للضمان، وهو قضاء الصحابة رضوان الله عليهم، فمن قتل حمامةً -ولو كان حلالاً- فإن عليه أن يذبح شاة بمكة، على الصفة المعتبرة، وهي: الثني من المعز، أو الجذع من الضأن، وأن تكون سالمة من العيوب، وتذبح وتكون صدقة للفقراء في الحرم، أو يكون عدلها طعام مساكين، والله تعالى أعلم.

حكم وضوء من لمس الكلب

حكم وضوء من لمس الكلب Q هل لمس الكلب ينقض الوضوء، أثابكم الله؟ A لمس الكلب لا ينقض الوضوء، ولكن إذا لمسه ففيه تفصيل: إن كان هو الطري أو الكلب؛ فقد انتقلت النجاسة، أما إذا كان لمسه وكل منهما جامد أو جاف؛ فإنه لا شيء فيه، والله تعالى أعلم.

حكم الدم الخارج من الحامل قبل الولادة بأيام

حكم الدم الخارج من الحامل قبل الولادة بأيام Q امرأة قبل ولادتها بخمسة أيام رأت بعض السوائل تخرج منها، وذهبت إلى المستشفى وبعد خمسة أيام ولدت، فتركت الصلاة في الخمسة الأيام التي قبل الولادة، فهل تقضي الصلاة الفائتة، أثابكم الله؟ A هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: فبعض العلماء يرى أن سبق الدم للولادة متصل بالولادة في حدود الثلاثة الأيام نفاس، قالوا: لأنه يسبق، وهذا القول قوي، وأما إذا كانت خمسة أيام فلا، المحفوظ أن الخلاف في ثلاثة أيام، أما إذا كانت خمسة أيام فعليها أن تقضي هذه الأيام، والله تعالى أعلم.

حكم إزالة البنت النجاسة عن عورة أبيها العاجز

حكم إزالة البنت النجاسة عن عورة أبيها العاجز Q سائلة تقول: لي والد عاجز لا يستطيع أن يقوم على شأنه من جهة إزالة الحدث، ورفضت أمي القيام على شأن والدي، وكذا إخوتي، فهل يجوز لي أن أقوم بتطهيره، وقد يؤدي ذلك إلى الكشف عن عورته والنظر إليه، أثابكم الله؟ A أولاً: لا ينبغي للأم أن تمتنع؛ لأنه لا أحد أقدر على النظر إلى عورة الرجل من زوجته، والله إنه لأمر يُقرح القلوب أن يكون العشير مع عشيره، حتى إذا ضعف بدنه وخارت قواه وشاب رأسه ورق عظمه، نسي العهود التي بينه وبينه. فعلى هذه الأم أن تتقي الله عز وجل، وعلى هذه البنت أن تذكرها الله، وأن تذكرها حق الزوج، إذا كان عندها القدرة على القيام بحقه، فأوصيها بتقوى الله عز وجل، وأن تحسن إلى بعلها، وأنه جنتها ونارها. ثانياً: إذا عجزت الزوجة، فيجب على الذكر من الأبناء أن يتولى تنظيف والده؛ لأنه لا يجوز للأنثى أن تُغسل الرجل ما لم تكن زوجة، وهذا أصل، ولذلك الميت إذا مات ولو كان عنده أخواته ولم يشهد موته إلا النسوة ييمم، تعظيماً لأمر العورة. فكون البنت تلمس عورة أبيها لا يجوز، وإنما الذكر يغسل الذكر، والأنثى تغسل الأنثى، وهذا هو الأصل المقرر عند أئمة الإسلام، وعليه العمل والفتوى، فأوصي هؤلاء الإخوان أن يتقوا الله عز وجل، وأن يتذكروا حق والدهم وأن يرحموا ضعفه وحاجته، وأن يتذكروا حينما كانوا صغاراً كيف كان يحملهم بيديه ويحسن إليهم ويتولاهم، ويقوم برعايتهم، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان. وعليهم أن يتقوا الله عز وجل حتى ولو بالتناوب، فينوب بعضهم بعضاً، وكل شخص يكون له يوم يرعى فيه والده، وأي شيء أعظم من بر الوالدين، من الناس من بر والديه فتمنى أن يقضي حاجة والده بيده حتى ينال شرف الذلة للوالد {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]، وفي ذلك قصص يعرفها الناس، وسارت بها الركبان، تبتهج بها النفوس، وتنشرح بها الصدور؛ من كمال بر الأولاد لوالديهم، فعلى الأبناء الذكور أن يتقوا الله عز وجل، وأن يقوموا برعاية هذا الوالد. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

مقدمة كتاب الحدود [1]

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الحدود [1] الحدود: هي زواجر وجوابر، فهي زاجرة عن الوقوع في المعصية، وهي جابرة ومكفرة لمن وقع فيها وأقيم عليه الحد المقدر شرعاً. وقد اهتم الشارع الحكيم ببيان هذه الحدود، لما فيها من حفظ الحقوق العباد من أن تهدر أو يتساهل بها.

الحدود الشرعية

الحدود الشرعية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [كتاب الحدود]. تقدم معنا معنى الكتاب، وأنه يطلق في لسان العرب على مادة: الجمع والضم، وأطلقه العلماء رحمهم الله على كتب العلم؛ لأنها تضم المسائل والأحكام بعضها إلى بعض، فإذا ضم بعضها إلى بعض؛ اجتمعت النظائر تحت مسمىً واحد أو أصل جامع، ولا يعبرون بهذا التعبير إلا إذا كانت المادة كبيرة، وبينا منهج العلماء رحمهم الله في ذلك، فكأن المصنف رحمه الله انتهى من شيء ودخل في شيء آخر، وقد كنا في كتاب القصاص والديات وما يتبع ذلك من أبواب، واليوم إن شاء الله نستفتح -بالاستعانة بالله عز وجل، والبراءة من الحول والقوة- بالحدود.

تعريف الحدود لغة واصطلاحا

تعريف الحدود لغة واصطلاحاً الحدود في لسان العرب: جمع حد، وأصل الحد كما ذكر الإمام ابن منظور رحمه الله في لسان العرب: الفاصل بين الشيئين، والحائل بين دخول بعضهما على بعض، فإذا فصل الشيء بين اثنين فهو حدّ، ويقال: الحد انتهاء القدر، فإذا كانت نهاية لا يمكن أن يتجاوزها الإنسان فهو حد. ومن هنا اختلف العلماء، فقالوا: سمي الباب حداداً، وسمي السجّان حداداً؛ لأنه يمنع الإنسان من الخروج، والباب أيضاً يمنع الخارج عن الداخل، فالمقصود: أن مادة الحد في الأصل: المنع. والحدود فيها وجهان: الوجه الأول: قال بعض العلماء: إن الحدود مقدّرة من الله سبحانه وتعالى، بمعنى: أن الله عز جل قد حدّها، ووضع لها قدراً معيناً، لا يمكن لنا أن نزيد على ذلك القدر ولا أن ننتقص منه، فصارت حدوداً من هذا الوجه، فالله سبحانه وتعالى أمرنا بجلد الزاني والزانية مائة جلدة، ولا يمكننا بحال أن نزيد على المائة ولا أن ننتقص منها، وأمرنا أن نجلد من قذف المحصنة المؤمنة أو قذف المحصن المؤمن ثمانين جلدة، وهي حد القذف، ولا يمكن لنا أن نزيد على هذا الحد ولا أن ننقص منه، قالوا: فلما حدّ الله عز وجل هذه الحدود بمقادير لا يمكن للمكلفين أن يزيدوا عليها ولا أن ينتقصوا منها سميت حدوداً من هذا الوجه، وبناء على هذا القول -وهو اختيار ابن قتيبة من أئمة اللغة وغيره رحمة الله عليهم- تكون الحدود راجعة إلى التقدير؛ لأنها مقدرات شرعاً، فهي عقوبات محددة من الله سبحانه وتعالى بنص الكتاب وسنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. الوجه الثاني: قالوا: إن الحدود مأخوذة من الحد، وهو: المانع الفاصل بين الشيئين، قالوا: إن هذه الحدود تمنع الشخصين المجرم الفاعل للمعصية ومن لم يفعلها، فالحدود تمنع الفاعل للجريمة إذا أقيم عليه الحد أن يعود أو يفكر مرة ثانية في العودة إلى تلك الجريمة، فمثلاً: لو أن السارق قطعت يده، فإنه غالباً -إذا كان عنده عقل يزجره ويمنعه- لن يعاود الكرة مرة ثانية؛ لأنه كلما أراد أن يعود إلى جريمته؛ نظر إلى يده، فتذكر تلك العقوبة وآلامها، فكفته وزجرته بإذن الله عز وجل ومنعته، فهي مانعة للشخص نفسه، وهي مانعة أيضاً للغير أن يفعل فعله، ومن هنا قال سبحانه وتعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]. وعلى هذا فالحدود زواجر وموانع، زواجر؛ لأنها تزجر الإنسان أن يعود مرة ثانية إلى فعل المعصية، وتزجر غيره وتمنعه من العود والتكرار للفعل، قال تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور:17]، فالخطأ يحرص الشرع على عدم تكراره، والزلة يحرص الشرع أيما حرص على عدم تكرارها من الإنسان، وفي ذلك صلاح لمن فعل المعصية، وصلاح لمن عافاه الله عز وجل من تلك المعصية. فالحدود هي: عقوبات مقدرة شرعاً للمنع من الوقوع في المعصية، وهذا التعريف تضمن المعنيين: كون الحدود مقدرة شرعاً من الله عز وجل، وكونها تمنع الغير من الوقوع فيها، فتتضمن معنيي الحد الذين أشرنا إليهما.

أنواع الحدود الشرعية

أنواع الحدود الشرعية قال المصنف رحمه الله: (كتاب الحدود)، ولم يقل: كتاب الحد، فجمعها رحمه الله لاختلاف أنواعها وتعددها، فهناك حد الزنا، وحد القذف، وحد المسكر، وحد السرقة، وحد الحرابة وقطع الطريق، وحد البغاة، وحد الردة، فهذه سبعة حدود جعل الله عز وجل لها عقوباتٍ محددة مقدرة شرعاً، وألحق العلماء رحمهم الله بهذه الحدود باب التعزير، وهو الذي لا تقدير فيه، ويرجع فيه إلى اجتهاد القاضي وولي الأمر في تحديد عقوبة لمن ارتكب ما لا يصل إلى الحدود، بما يزجره ويتناسب مع فعله، وكذلك يمنع ويزجر غيره من أن يفعل كفعله. وهذه الأبواب الثمانية هي التي سيتكلم المصنف رحمه الله عنها في كتاب الحدود، وهذه الجرائم هي: جريمة الزنا، وهي أعظم الفواحش، وجريمة القذف، وهو فاحشة اللسان، وجريمة السكر، وهو من الجرائم المتعلقة بالشرب، وجريمة السرقة، وهي: الاعتداء على أموال الناس، والجرائم الأولى التي هي: الزنا والقذف؛ اعتداء على أعراض المسلمين، وجريمة السكر اعتداء على العقل، وجريمة السرقة اعتداء على أموال الناس، وجريمة الحرابة تشمل في بعض الأحيان الاعتداء على الأعراض، وتارة الاعتداء على الأموال، وتارة الاعتداء على الأنفس، وتجمع أنواعاً مختلفة من الجرائم، ولذلك جعل الله عقوبتها أنواعاً، وجريمة البغاة هي: الخروج عن جماعة المسلمين، ومحاربتهم، والعصيان والتمرد والشذوذ عن الجماعة، وهي تتضمن الاعتداء على جماعة المسلمين، وجريمة الردة هي: جريمة في أصل الدين الذي هو العقيدة، وأما التعزيرات فهي في جرائم مختلفة، تكون تارة بالاعتداء على العرض بما لا يصل إلى الحد، وتارة بالاعتداء على الأموال بما لا يصل إلى الحد، وتكون أيضاً اعتداء بالجنايات المختلفة التي لا تقدير فيها من المشرع سبحانه وتعالى. هذه الحدود على اختلافها جمعها المصنف رحمه الله في هذا الكتاب بقوله: (كتاب الحدود). وهنا Q هل نبدأ بالأعلى والأشد ثم نتدرج على حسب الجرائم أم نبدأ بنوع خاص من هذه الجرائم؟ منهج المصنف رحمه الله أنه ابتدأ بحد الزنا، ثم أتبعه بحد القذف، ثم أتبعه ببقية الحدود، وغيره من العلماء لم يذكروا كتاب الحدود بعد الديات والقصاص، وإنما ابتدءوا بباب البغاة، ثم ذكروا باب الردة، ثم بعد ذلك باب الحدود، وقبل أن ندخل في تفاصيل أبواب العلم نذكر أنه من الأهمية بمكان معرفة المناسبات؛ لأنها تمهد لطالب العلم فهم الأبواب، وتربط المسائل الموجودة في الأبواب، وتبين علاقة بعض هذه الأبواب ببعض. أما العلماء الذين ذكروا حد البغاة؛ وحد قطع الطريق، وحد الردة عقب القصاص والديات؛ فذلك لأنها في الغالب تشتمل على القتل، فرءوا أنها أنسب بباب القتل، فجعلوها قبل الحدود، وفصلوها عن باب الحدود لمكان المجانسة في قضية القتل، لكونه قد ينتهي إلى القتل. وهذا منهج درج عليه بعض الأئمة مثل الإمام النووي رحمه الله، وغيره من الأئمة كـ البغوي، فهؤلاء رءوا قوة العقوبة، وأنها وصلت إلى حد القتل، ففي القصاص إزهاق الأنفس والأطراف، والبغي وقطع الطريق قد يوجب القتل. والذين بدءوا بحد الزنا -كما درج عليه المصنف- تدرجوا في الحدود، ولهم ما يبرر هذا المنهج، فهم يرون أن أشد الحدود التي نص عليها الكتاب والسنة هو حد الزنا، وسنذكر لماذا أن حد الزنا هو أشد هذه الحدود حينما نبين أن الجلد في الزنا أقوى من الجلد في غيره، ويظهر هذا جلياً في العقوبات المقدرة، قالوا: وكون حد البغاة وقطع الطريق يوجب القتل ليس على كل حال، فقد لا يوجب قتلاً، ومن هنا لا يتأصل في إزهاق النفس فلا يلحق بباب الديات والقصاص، فرءوا أن المفترض أن يبدءوا بحد الزنا، والدليل على قوة هذا الحد: أولاً: أن الله سبحانه وتعالى شدد في عقوبة الزنا، ومن هنا نحتاج أول شيء أن ننظر لماذا قدم باب الزنا على باب القذف ثم على باب الخمر وبقية الجرائم؟ أما تقديمه على باب القذف وباب الخمر فلا يشك أحد أن حد الزنا شدد الشرع فيه أكثر من هذه الحدود المتبقية، فالجلد في الزنا مائة جلدة، وفي القذف ثمانون جلدة، ومن هنا نعلم أن عقوبة الزنا أشد من عقوبة القذف. ثانياً: أن الله سبحانه وتعالى غلظ هذه العقوبة حتى قال: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، فشدد في إقامة حد الزنا أكثر من غيره، فلم يذكر ذلك لا في حد السكر ولا في حد القذف. ثالثاً: أن الزنا اتفقت الشرائع السماوية على تحريمه، أما الخمر فكان مباحاً في الشرائع التي قبلنا، وفي شريعتنا حرمه الله عز وجل، وجعل في تحريمه الخير والرحمة لهذه الأمة، فهديت هذه الأمة للفطرة، والخمر غواية وشر وبلاء. بالنسبة للقذف الأمر واضح، فإن القذف تبعٌ للزنا، وليس أصلاً للزنا؛ لأنه اعتداء على العرض بالمعنى، لكنه ليس اعتداءً على العرض بالحس، واعتداء المعاني دون اعتداء الحس. ومن هنا ابتدأ المصنف رحمه الله بحد الزنا، وفي هذا الباب الأول سيذكر المصنف رحمه الله أموراً تتعلق بإقامة الحد بخصوص حد الزنا، ولا يذكر أصولاً عامة للحدود، فالعلماء الذين قدموا حد الزنا -كالمصنف رحمه الله- يرون أن حد الزنا أصل وغيره ينبني عليه، ولذلك فإن عقوبة الجلد تفرعت على ما نص الله عليه في كتابه ووردت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة حد الجلد للزاني والزانية، ومن هنا قالوا: إن حد الزنا أصل انبنى عليه غيره خاصة في مسائل الجلد، وسيذكر المصنف رحمه الله في هذا الباب الأول جملة من المسائل والأحكام المتعلق بحد الزنا.

الأدلة على مشروعية الحدود

الأدلة على مشروعية الحدود الأصل في شرعية الحدود: كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر الحدود في كتابه، فنص على حد الزنا، فقال سبحانه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، ونص على حد القذف: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4]، ونص على حد السرقة: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38]، ونص على حد الحرابة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33]. كذلك أيضاً في السنة جاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جريمة الزنا: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، وصح عنه عليه الصلاة والسلام كما في حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وأرضاه في قصة ماعز بن مالك الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه أنه لما اعترف بالزنا أقام عليه النبي صلى الله عليه وسلم الحد فأمر برجمه، قال بريدة رضي الله عنه: فأمر به فرجم، وفي قصة العسيف -كما في الصحيح- والعسيف هو الأجير، فقد جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: أناشدك الله أن تقضي بيني وبين هذا الرجل بكتاب الله، فقال الآخر: وأنا أناشدك أن تقضي بيني وبينه بكتاب الله، إن ابني هذا كان عسيفاً عند هذا فزنى بامرأته، إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: (واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها)، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه رجم المرأتين اللتين اعترفتا بالزنا وأقام عليهما الحد، وهذه كلها سنن صحيحة في حد الزنا. وأما حد السرقة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع يد المخزومية كما في الصحيح، وهي التي كانت تستعير المتاع وتجحده، وقال صلى الله عليه وسلم: (والله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطعت يدها)، وهذا نص في إثبات حد السرقة، وكذلك أمر عليه الصلاة والسلام بقطع يد سارق رداء صفوان، وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن أناساً من عكل أو عرينة اجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسملوا عينيه -كما في بعض الروايات- واستاقوا الإبل، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في إثرهم، فأخذوا، فأمر بهم عليه الصلاة والسلام فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمرت أعينهم، وفي لفظ: وسملت أعينهم، ثم تركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون)، وفي الصحيح من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بجلد شارب الخمر، فكان من الصحابة الضارب بثوبه، والضارب بنعله، وهذا كله يدل على إثبات الحدود ومشروعيتها.

الحكمة من مشروعية الحدود

الحكمة من مشروعية الحدود للعلماء رحمهم الله في حكمة الحدود أوجه، فمنهم من يقول: الحدود زواجر، قصد الله عز وجل من شرعها لعباده أن يجعلها زاجرة لهم ومانعة لهم من الوقوع في هذه المحرمات العظيمة، والكبائر الموبقة والمهلكة، قالوا: إن أصل الشرع المراد به صيانة الناس عما فيه فساد دينهم ودنياهم وآخرتهم، والموجب لهذه العقوبات مفسد، ومن هنا هي زواجر تمنع الناس من الوقوع والتلبس بهذه الجرائم، قالوا: والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى أمر أن تقام علانية ولا تقام خفية، وأمر أن يشهد هذه العقوبات طائفة من المؤمنين اتعاظاً واعتباراً، فهذا يدل على أنها زواجر، وإذا أقيمت هذه الحدود أحيت قلوب الناس وانزجروا، فقل أن يرفع شخص يده راجماً لمحصن أن يقع فيما وقع فيه، وإذا رأت عيناه تألم الزاني الذي يقام عليه حد الجلد؛ فإنه يتألم لذلك، وينكف وينزجر، فهي زواجر وروادع تمنع وتزجر. ومن العلماء من قال: إن الحدود جوابر، أي: أن الله سبحانه وتعالى شرع الحد كفارة للذنب، واستدلوا بأدلة منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في خطبته أن من أقيم عليه الحد فهو كفارة له، ومن لم يقم عليه الحد -أي مات ولم يتب من ذنبه- فهو إلى مشيئة الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، إن عذبه فبعدله، وإن غفر له فبفضله، وهذا إن لم يتب، فإن تاب قبل موته تاب الله عز وجل عليه، وهذا بإجماع العلماء، والنصوص في الكتاب والسنة في هذا واضحة جلية. قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الحد كفارة، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما أقام الحد على ماعز بن مالك الأسلمي الذي اعترف بالزنا، اختلف الصحابة: هل هو في الجنة أم في النار؟ فقال قوم: إنه فعل كبيرة فهو معذب، وقال قوم: إنه قد تاب، والله يتوب على من تاب، فلما خرج عليه الصلاة والسلام وسمعهم يختلفون قال عليه الصلاة والسلام: (إنه الآن ينغمس في أنهار الجنة)، فهذا يدل على أن الحد يكفر الذنب، وكذلك لما زنت المرأة واختلفوا: هل هي معذبة أم مرحومة؟ خرج عليه الصلاة والسلام وقال: (لقد تابت توبة لو قسمت على أهل الأرض لوسعتهم)، وقال: (وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟)، لكن هذا جاء ما ينسخه، مما يدل على أن الأفضل والأكمل الأخذ بالرخصة؛ لأن ماعز بن مالك خير بين أن يتوب فيتوب الله عليه، وبين أن يقام عليه الحد، فاختار أن يقام عليه الحد، فمن أهل العلم من قال: كيف يختار إقامة الحد الشديد مع أن التوبة أخف وأرحم؟ وأجيب عن هذا بأن ماعزاً شك في قبول توبته، ورضي لنفسه ما هو عزيمة بينة، ولكن السنة دلت دلالة واضحة على أن الأفضل والأكمل أن يستتر، فصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما اعترف ماعز، واعترفت المرأتان بالزنا، وأقيم عليهم الحد؛ خطب عليه الصلاة والسلام الناس، وقال: (أيها الناس! من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله)، فهذا نص واضح صريح، وهو متأخر. وبعض الذين يتلبسون بالجرائم في زماننا يشدد بعضهم على نفسه إذا تاب أو زجر بالزواجر، فلا يرضى إلا أن يعترف أمام القاضي ويطلب أن يقام عليه الحد، فمثل هؤلاء ينبغي على طلاب العلم وعلى الأئمة والخطباء أن ينصحوهم بالسنة، وأن يبينوا لهم أن النصوص واضحة جلية في أن الأفضل والأكمل لأحدهم أن يستتر بستر الله عز وجل، وهذا هو الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتشديد على الناس في هذا الأمر ليس من السنة، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يقول: إن كثرة إيراد العذاب بالنار، والتخويف بعذاب القبر، وقرع الناس دائماً بهذا الشيء، دون ذكر الجنة وسعة رحمة الله عز وجل يفضي ببعض الناس إلى الغلو في التوبة، والغلو في الرجوع إلى الله في العبادات، والغلو في الطاعة، ومن هنا كره بعض العلماء أن يتقدم القصاص والوعاظ في الخطب والمواعظ؛ لأنهم لا يفهمون أصول الشريعة في الجمع بين الرجاء والخوف؛ لأن الواقع في الذنب يحتاج إلى نوع من الحكمة والتلطف، فالمستخف لحدود الله المنتهك لمحارم الله عز وجل يزجر بما يناسبه، ومن جاء متفطر القلب، منيباً إلى الرب، تائباً من قرارة قلبه، أو يعلم منه التوبة من دلائل حاله، لا يزاد على ما هو عليه؛ لأنه إذا زيد على حاله ذلك؛ أوجب له القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه). والذي يظهر أن الحدود زواجر وجوابر، فيها معنى الزجر وفيها معنى الجبر، فهي جابرة للكسر بإذن الله عز وجل، وأيضاً زاجرة عن حدود الله وعن محارم الله.

شروط من يقام عليه الحد

شروط من يقام عليه الحد قال رحمه الله تعالى: [لا يجب الحد إلا على بالغ]. قوله: (لا يجب الحد) أي: حد الزنا، (إلا على بالغ)، ومثله بقية الحدود، والبلوغ هو: طور ينتقل فيه الإنسان من الصبا إلى الحلم، وهو العقل، وقد تقدم معنا في مسائل متعددة من العبادات والمعاملات مثل مسائل الحجر العلامات المعتبرة للبلوغ. قال: (لا يجب الحد إلا على بالغ) ومفهوم هذا أنه إذا كان صبياً لا يجب عليه الحد، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: -وذكر منهم- الصبي حتى يحتلم)، فدل على أن الصبي مرفوع عنه القلم، فلو وقع صبي في فاحشة الزنا مثلاً؛ فإنه لا يقام عليه الحد؛ لأنه لم يثبت شرط إقامة حد الزنا وهو البلوغ، فيشترط في ثبوت حد الزنا على الزاني أن يكون بالغاً. قال المصنف رحمه الله: [عاقل]. العقل شرط تكليف، فمن كان غير عاقل -بأن كان مجنوناً- لا يقام عليه الحد، وهذان الشرطان: (البلوغ والعقل) محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، فكلهم مجمعون ومتفقون على أن الصبي لا يقام عليه الحد، والمجنون لا يقام عليه الحد، بشرط أن يكون الزنا أو الفاحشة أو الجريمة وقعت أثناء الصبا، أي: قبل البلوغ، وأثناء الجنون، فإذا كان مجنوناً فإنه غير مكلف، والأصل في ذلك الحديث المتقدم وفيه: (وعن المجنون حتى يفيق)، فإن كان يفيق تارة ويجن تارة نظرنا: فإن وقع زناه أثناء الإفاقة؛ أخذ بجريمته كما يؤاخذ المفيق والعاقل، وذلك لأنه لا موجب لإسقاط التكليف عنه، فهو مؤاخذ بفعله. ويضاف إلى البلوغ والعقل: الاختيار، وبناء على ذلك فإنه لا يقام الحد على مكره، فلو أكره على فعله ولم يكن بيده ذلك؛ فإنه لا يقام عليه؛ لأن الله تعالى أسقط بالإكراه الردة، وهي أعظم الذنوب وأشدها، وهذا خلافاً لبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمهم الله، فالمكره يسقط عنه التكليف، وقد بينا شروط الإكراه، وبينا الأدلة على أن الإكراه مؤثر. إذاً: يشترط: البلوغ والعقل والاختيار، فلا يقام الحد على مكره. قال المصنف رحمه الله: [ملتزم]. الالتزام بأحكام الشريعة معتبر، وهذه المسألة تقدمت معنا، ولكن قد يأتي لها شيء من البيان أكثر إن شاء الله في حد الزنا، وهي مسألة: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟ فإذا كان الذي زنى ملتزماً بأحكام الشريعة؛ فإننا نقيم عليه الحد، لكن لو كان غير ملتزم كالحربي والمستأمن، أو كان من أهل الذمة، فهل الذميون مؤاخذون بحيث لو أن اثنين من أهل الكتاب زنيا ورفعا إلى قاض مسلم يقيم عليهما الحد أم لا؟ الصحيح أنه يحكم بينهما بشرع الله عز وجل، كما قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49]، فأمر الله عز وجل بالرجوع إلى شرعه ودينه، والتخيير في الحكم بينهم في قوله: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42] منسوخ، أو له وجه آخر ذكرناه، وهو في بعض الأحوال التي لا تكون فيها العزيمة، وسيأتي هذا بتفصيل أكثر في كتاب القضاء. إذا ثبت هذا، فإن الملتزم تقام عليه الحدود؛ لأنه قد التزمها بإسلامه، وكذلك أهل الكتاب إذا ترافعوا إلينا فإنهم ملزمون بشريعتنا، وقد أكدت السنة ذلك كما في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أقام الحد على اليهوديين الذين زنيا، فأمر بهما فرجما، وفي هذا الحديث تفصيل سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى في موضعه. قال المصنف رحمه الله: [عالم بالتحريم]. وهو أن يكون عالماً بحرمة الجريمة التي فعلها، فإذا كان لم يعلم ولم تقم عليه الحجة؛ فإنه يسقط عنه الحد للشبهة، وذكروا من أمثلة ذلك: حديث العهد بالإسلام، فإن الوثنيين والإباحيين واللادينيين عندهم استخفاف بالمحارم، خاصة الإباحيين، فلو أن أحداً منهم أسلم، ولم يعرف شرائع الإسلام، فوقعت منه جريمة الزنا قبل أن يعلم الحكم، فحينئذٍ لم تقم عليه الحجة، وهذه مسألة من المسائل التي يعذر فيها بالجهل، ولها أصل من قضاء الصحابة والسلف رضوان الله عليهم، فإذا كان غير عالم؛ فإنه لا يقام عليه الحد حتى تقام عليه الحجة لمكان الشبهة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدرء الحدود بالشبهات.

القائمون على تنفيذ الحدود الشرعية

القائمون على تنفيذ الحدود الشرعية قال المصنف رحمه الله: [فيقيمه الإمام أو نائبه]. أي: يقيم الحد الإمام أو نائبه، والأصل أن الأئمة والحكام مطالبون شرعاً بالحكم بما أنزل الله عز وجل، ومطالبون شرعاً بالقيام بالعدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، والأصل في تنصيب الوالي في ولايته أن يطلب المصالح للمسلمين، ويدرء المفاسد عنهم، وقد أجمع العلماء والأئمة رحمهم الله على أن المعني بتنفيذ هذه الأحكام والحدود هم الحكام، وأنه ليس كل إنسان ينفذ الحد بمجرد أن يرى رجلاً يفعل جريمة فيقيم عليه الحد، بل الأصل أنهم هم المخاطبون، أو من يقيمونه مقامهم، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم تولى الأمر بإقامة الحدود، وتولى من بعده الخلفاء الراشدون الأئمة المهديون رضي الله عنهم أجمعين. ثم إنهم قد أنابوا غيرهم في إقامة الحدود، ففي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب أن ماعزاً لما أقر، قال صلى الله عليه وسلم: (أشربت خمراً؟) يعني: هل أنت سكران؟ فقام رجل فاستنكهه، أي: شم رائحة فمه، فلم يجد خمراً، ثم قال: (أبه جنون؟) حتى يتأكد من شروط الإقرار، هل هو مؤاخذ بإقراره أم لا؟ فأخبر أنه غير مجنون، قال بريدة رضي الله عنه: (فأمر به فرجم)، وهذا يدل على أن الأصل أن الوالي هو الذي يأمر بإقامة الحد، فأمر به فرجم، كذلك أيضاً أناب غيره عليه الصلاة والسلام في حديث العسيف، فقال عليه الصلاة والسلام: (واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا -لأنها لم تكن بالمدينة- فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها)، وهذا يدل على مشروعية الإنابة، فالإمام ومن يقيمه مقامه يعتد بهم، وهذا مهم جداً حتى نحكم بتمام الحد واعتباره، ولو أن شخصاً غيوراً وجد زانيين فجلدهما مائة جلدة، فهذا من حيث الأصل ليس حداً، لابد وأن يكون أول شيء عن طريق الحاكم، ويثبت عند الحاكم هذا الحد، ثم بعد ذلك يقضي به وبتنفيذه، فلا بد من وجود هذه الأشياء، وإقراره في غير مجلس القضاء والحكم ليس كإقراره فيهما، ولو أنه أقر بالجريمة وعلم به الناس، ولكنه لم يرفع إلى القاضي، فلا يأخذ حكم الإقرار الشرعي، فهناك أمور لا بد من مراعاتها في هذه الجرائم والحدود، وهذا كله يدل على عظمة هذه الشريعة، ولو أن الناس قرءوا ما ذكره أئمة أهل الإسلام في كتبهم من هذه التراتيب القضائية الإدارية لتعجبوا من حسنها ودقتها، فوالله ثم والله! ما عرف العالم كيف ينظم أمره إلا عن طريق المسلمين، ولقد مرت على أوروبا قرون مظلمة، لا تعرف كيف تدبر أمورها، حتى تعلموا ذلك في مدارس المسلمين في الأندلس، وأخذوا منهم هذه التراتيب الإدارية، والشرائع الإلهية التي جاءت مقننة محددة مرتبة من الله سبحانه وتعالى، وقد فهم المسلمون كيف يسيروا أمور دينهم ودنياهم وآخرتهم، وهذا من فضل الله عليهم، فجاء هؤلاء فنظروا إلى نعمة الله على المسلمين فاقتبسوا كثيراً من الأمور التي يصدرونها اليوم إلى المسلمين الذين ما عرفوها، فلو نظرت إلى كتب المسلمين التي ترجمت، وإلى كتبهم التي قرئت؛ لعلمت أنهم ما تعلموا هذا الانضباط، ورتبوا أمورهم الدنيوية؛ إلا عن طريق المسلمين، ولقد عاشوا حياة مظلمة لا يعلم جحيم ما كانوا فيه إلا الله وحده، ولكن كل ذلك بفضل الله ثم بفضل هذه الشريعة، والناس اليوم تنخدع بأمور الدنيا ولا تفقه، وكثير من المسلمين -إلا من رحم الله- جاهل بهذه الثروات الهائلة من الدقة والتنظيم في العبادات والمعاملات، والانضباط التام في ترتيب الأمور، وحينما كان الإسلام من مشرق الأرض إلى مغربها، وقل أن تغيب عن دولته شمس، رتبت أمور المسلمين حتى في الجرائم، وقل أن تجد أمراً صغيراً أو كبيراً إلا ووضعوا له ما يضبطه، وما يردع الناس عنه إن كان خطأ، وما يحببهم فيه إن كان صواباً، ولكن، يا ليت قومي يعلمون! ولذلك شباب المسلمين يحتاجون أن يُبَصَّروا بهذه الحقائق، فبهذا الترتيب والتنظيم لم تكن مجتمعات المسلمين فوضى، بحيث إذا وقعت الأخطاء كل يتحمس ويقيم الحد، وتجد اليوم كل يحس أنه هو وحده الذي يدافع عن الإسلام، فتجد الأمور سائرة هملاً، لكن حينما كانت الأمة الإسلامية قائمة بهذا الانضباط وهذا التأقيت الذي ذكره العلماء والأئمة في أبواب العبادات والمعاملات؛ يجد المتأمل فيها عظيم نعمة الله على هذه الأمة، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. فبين المصنف رحمه الله أن إقامة الحد للإمام أو نائبه، أي: من ينوب عن الإمام، ويحضر الإمام إقامة الحد أو يحضر نائبه؛ لأن هذا مهم جداً، فعلى سبيل المثال في حد الزنا لو أن الزاني اعترف فمن حقه أن يرجع عن اعترافه ولو أثناء تنفيذ الحد، فلو اعترف أنه زنى ثم أقيم عليه الحد، فأحس بحرارة الحد، فأراد أن يرجع عن إقراره؛ فله ذلك، والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بـ ماعز أن يرجم فرجم، جاء في الحديث: (فلما أذلقته الحجارة، ووجد حرها؛ فر إلى الحرة؛ حتى لقيه رجل فضربه بلحي جمل فقتله، فقال صلى الله عليه وسلم: هلا تركتموه يتوب؛ فيتوب الله عليه)، وهذا يدل على سماحة هذا الدين ويسره، ومن هنا إذا كان الإمام أو نائبه موجوداً؛ فإنه يستطيع أن يأمر بإيقاف الحد وبإيقاف التنفيذ، ويستطيع أن يتدارك ما يمكن تداركه من هذه الأمور، ولا يشكل على هذا ما وقع لـ ماعز؛ لأن الصحابة ما كانوا يعلمون الحكم، وكانوا يظنون أنها عزيمة ليس فيها رجعة.

حكم إقامة الحدود في المساجد

حكم إقامة الحدود في المساجد قال رحمه الله: [في غير مسجد]. تقام الحدود في غير مسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع الرجل وهو ينشد ضالته قال: (لا ردها الله عليه، فإن المساجد لم تبن لهذا)، والله عز وجل يقول: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]، والحدود ليست مجانسة لهذا. وقد يشكل على هذا أن القضاء يكون في المسجد، والقضاء تكون فيه المخاصمة والمشاجرة حتى تثبت الحدود، وقد استحب بعض العلماء أن يكون مجلس القاضي في المسجد، وفي القديم كان هذا متيسراً، ومن هنا قال الناظم: وحيث لاق للقضاء يقعد وفي البلاد يستحب المسجد فيستحب أن يكون القضاء في المسجد تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، لكن إقامة الحد شيء آخر غير القضاء، فيقام الحد في غير المسجد، وفي حديث السنن -وفيه ضعف- النهي عن إقامة الحدود في المساجد.

كيفية الجلد في الحد

كيفية الجلد في الحد

كيفية جلد الرجل

كيفية جلد الرجل قال المصنف رحمه الله: [ويضرب الرجل في الحد قائماً بسوط لا جديد ولا خلق]. شرع المصنف رحمه الله في بيان صفة الجلد، والجلد يكون في حد الزنا للبكر، والثيب أيضاً على الصحيح على تفصيل سنذكره إن شاء الله تعالى، ويكون أيضاً في حد القذف وحد المسكر، وهذه الثلاثة الحدود شرع فيها الجلد، وجاء في السنة بعض الضوابط لهذه العقوبة، منها أن يكون الجلد بالسوط، ويكون السوط متوسطاً غير جديد ولا قديم، ويعبر عن ذلك أئمة السلف بقولهم: سوط بين سوطين، ومعنى قوله: (لا جديد ولا خلق): الخلق هو: القديم والبالي؛ لأنه يتكسر ويتهشم ولا يؤلم، والجديد أكثر إيلاماً وتمزيقاً للجسد. ويضرب الرجل قائماً في الحد، وهذا شامل لحد الزنا وحد القذف وحد المسكر، والمرأة لها أحكام ستأتي إن شاء الله تعالى، فإذا كان الرجل زانياً أو شارباً للخمر أو قاذفاً؛ فإنه يضرب قائماً، وهذه المسألة فيها قولان للعلماء رحمهم الله: بعض العلماء يقول: يضرب الرجل قاعداً، وقال بعضهم: يضرب قائماً، الأول للمالكية، والثاني للجمهور، والصحيح أنه يضرب قائماً؛ لأنه يمكن الجالد من الجلد، ومن تفريق الجلد على أعضاء الجسم على القول بأنها تفرق على أعضاء الجسم؛ لأنه إذا كان قاعداً لا يفرق على كل الأعضاء بالوجه المعتبر حتى يصيب كل عضو حقه. وأما إذا قلنا بعدم التفريق، وهو أقوى؛ لأن الضرب يكون في الظهر، إما أن نقول: إن الضرب يشمل جميع البدن ما عدا الوجه والمقاتل، وسنبينها إن شاء الله تعالى، وإما أن نقول: إن الجلد يختص بالظهر، وأقوى الأقوال أن الجلد يختص بالظهر، ودليلنا على اختصاصه بالظهر حديث ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه في الصحيح أن هلال بن أمية رضي الله عنه قذف امرأته بـ شريك بن سحماء، فلما قذفها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك)، فدل على أن موضع الضرب إنما هو الظهر، وإذا قلنا: إنه يضرب في ظهره؛ فإن الجلد من قيام يكون أمكن للضرب المتوسط؛ لأنه إذا كان قاعداً والضارب قائماً زاد في الإيلام غالباً، ولكنه إذا كان قائماً والجالد قائماً؛ تمكن الجالد من الضرب بين الضربتين، وتمكن من إيلامه على الوجه المعتبر شرعاً ولم يقصر. قال المصنف رحمه الله: [ولا يمد ولا يربط]. أي: ولا يمد أثناء الضرب ولا يربط، فلا يبطح على وجهه ويضرب، ولا تشد يده؛ لأنه في حال المد يكون الضرب أشد إيلاماً وأشد وقعاً، سواءً إذا كان منبطحاً أو كان قائماً فمد كالمعلق؛ فإن هذا يؤلمه أكثر، ومن هنا كره أئمة السلف ذلك كما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه -واختلفت الألفاظ عنه- قال: (ليس في ملتنا مد ولا تجريد)، يعني: أن العقوبة لا يعاقب فيها مرتكب الحد بمده ولا بتجريده من ثيابه، واختار الأئمة هذا خاصة على القول بأن قول الصحابي حجة، والمد زيادة في الإيلام، فلابد من دليل على المد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (حد في ظهرك)، وهذا يتحقق بالضرب الذي ذكرناه. قال المصنف رحمه الله: [ولا يجرد، بل يكون عليه قميص أو قميصان]. مسألة: هل نجرده من ثيابه فيضرب على جلده مباشرة أم أننا نعطيه الخيار أن يلبس ما شاء؟ وهل له أن يلبس ثياباً ثخينة فيخف معها الجلد أم يلبس ما لا يقي الضرب قميصاً أو قميصين ثم يضرب؟ قال بعض العلماء: يجرد صيفاً وشتاءً ويضرب وهو مجرد، وذكرنا أن ابن مسعود وهو من فقهاء الصحابة لم يقل بالتجريد، وعلى هذا يترك عليه ثوبه المعتاد ويضرب، وهذا هو الصحيح، أنه لا يجرد، ولا يمكن أيضاً من لبس الثياب الثخينة التي تمنع وصول الضرب، وتمنع ألم الضرب، بل يكون عليه قميص أو قميصان على حسب نظر الإمام أو نائبه في ذلك بحسب الحاجة، ثم يأمر بضربه بما لا يمنع وصول ألم الضرب للجسد. قال المصنف رحمه الله: [ولا يبالغ بضربه بحيث يشق الجلد]. المقصود من هذا الضرب إيلام الجسد على وجه يرتدع من الرجوع إلى هذه المعصية، فلا يضرب ضرباً يشق الجلد وهو ضرب المثلة الذي بعد انتهائه تبقى آثاره واضحة بينة في البدن، فهذا ليس من مقصود الشرع، مقصود الشرع إيلامه على وجه ينكف وينزجر به، وقد أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتعزيز رجل في أمر يوجب التعزير، فقال له: والله! لأحيلنك إلى رجل لا تأخذه في الله لومة لائم، فأحاله إلى بعض التابعين رحمه الله، وكان شديداً في الحق فضربه، فشاء الله أن يأتي عمر رضي الله عنه بعد مضي ثلثا العقوبة، فوجده قد ضربه بسوط ضرباً شديداً، فبقي من العقوبة قدر العشرين سوطاً، فأسقطها عمر رضي الله عنه، وقال: إن هذا مقتص له بما كان من شدة الإيلام، ويقال: إنها في جريمة الخمر؛ لأن عمر كان يرى فيها ثمانين جلدة، وأنه ضربه حتى بلغ الستين، فجعل شدة الضرب في الستين جلدة مسقطة للعشرين الباقية، وهو خليفة راشد، وهذا يدل على أنهم كانوا لا يرون الضرب المؤلم الذي يؤثر في الجلد، وهو ما يسمونه بضرب الانتقام والتشفي، فليس هذا مقصوداً، إنما المقصود ضرب التأديب، وضرب التأديب شيء، وضرب الانتقام شيء آخر. وقال بعض العلماء: يشدد في الضرب في حد الزنا؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، وقد بينا في التفسير وجه رد هذا القول، وأن هذه الآية لا تستلزم الضرب المبرح؛ لأن المقصود منها تنفيذ الحد، وأننا لا تأخذنا الرأفة أثناء تنفيذ الحد بأن نشفق عليهم، أو نخفف مقدار العقوبة، فهذا ليس له علاقة بطريقة الضرب نفسها. قال المصنف رحمه الله: [ويفرق الضرب على بدنه]. اختلف العلماء، فبعض العلماء يقول: يضرب ظهره؛ أعلاه ووسطه وآخره، وتضرب عجيزته، ويضرب الفخذين، وتضرب العضلة في الساقين، ويضرب الرأس على القول بأنه يكون محلاً للضرب إلا الوجه، وله أن يضربه على مقدم صدره من جهة الأضلاع مما لا ينكي، ولا يضربه في المقاتل، مثل الخصيتين، لأنها مقتلة غالباً، فإذا ضربة فيها ربما يموت، ومن المقاتل الرأس من جهة الصدر، فقالوا: يتقي المقاتل، ومنهم من يرى أن الضرب يختص بالظهر، ودليلهم السنة، وهذا القول أميل إليه، وهو أشبه وأولى بالصواب إن شاء الله، وقد جاء عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما ما يفهم منه جواز الضرب في غير الظهر، وأن عمر في قصة المرأة حينما أمر بجلدها رضي الله عنه وأرضاه أشار إلى ضربها في رجلها، ويضرب الإنسان على الرجلين، ويضرب على القدمين نفسهما، والأشبه ما ذكرنا أن الضرب يكون على الظهر، وضرب القدمين قد يمنع من المشي، ويضره ويعطل مصالحه، أما ضرب الرأس فقد أثر عن أبي بكر رضي الله عنه أنه أمر بضرب الرأس في قصة الرجل الذي جاء وانتفى من أبيه، وقال: إنه ليس ولد فلان، ورفعت قضيته إلى أبي بكر رضي الله عنه فأمر بتعزيره بأن يضرب ويجلد، فلما أمر بتعزيره قال: اضرب الرأس؛ فإن فيه شيطاناً. وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه كان يعلو بالدرة ويضرب بها، ولكن الأشبه ما ذكرنا، وهو -ظاهر السنة- أن الضرب يكون على الظهر. قال المصنف رحمه الله: [ويتقي الرأس والوجه] ويتقي الرأس لما ذكرناه، ولكن جمهور أصحاب الشافعي والقاضي أبو يوسف من أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليهم يقولون: يجوز ضرب الرأس؛ للأثر الذي ذكرناه عن أبي بكر رضي الله عنه، لكن ظاهر السنة أقوى، والآثار عن الصحابة ما وجدت من جزم بصحتها وثبوتها عنهم. أما الوجه فليس فيه إشكال، فكلهم متفقون على أن الوجه لا يجوز ضربه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما في صحيح البخاري أنه نهى عن ضرب الوجه في الحدود وفي غيرها، وكذلك في الحديث الآخر: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لطم الصور)، فالوجه يتقى ولا يضرب، وإنما يكون الضرب على الأعضاء، والخلاف فيما ذكرناه. قال المصنف رحمه الله: [والفرج والمقاتل]. ولا يضرب الفرج؛ لأن ضرب الفرج خاصة في الخصيتين يؤدي إلى القتل، ولذلك يقول العلماء: إن الضرب في هذه المواضع ضرب في المقاتل، وذكرنا من صور قتل العمد وشبه العمد الضرب في المقاتل، ولو كان بشيء خفيف، فالمقاتل تتقى.

كيفية جلد المرأة

كيفية جلد المرأة قال المصنف رحمه الله: [والمرأة كالرجل فيه إلا أنها تضرب جالسة]. والمرأة كالرجل في الضرب يفرق الضرب على بدنها، ويتقى مقاتلها على القول بأنه يفرق على البدن، وتخالف الرجل أنها تجرد اتفاقاً؛ لأن الرجل اختلف فيه: هل يجرد أم لا؟ أما المرأة فاتفقوا على أنها لا تجرد، وفي مسألة تجريد الرجل ثلاثة أقوال: منهم من يقول: يجرد، وهو قول المالكية رحمهم الله، ومنهم من لا يرى التجريد وهو مذهب الجمهور، ومنهم من يقول: الأمر راجع إلى الإمام إذا رأى المصلحة أن يجرده جرده، وإذا رأى المصلحة ألا يجرده لم يجرده، وهو قول الأوزاعي فقيه الشام رحمة الله على الجميع، والصحيح ما ذكرناه. وهل تضرب المرأة قائمة أو قاعدة؟ تضرب قاعدة، لأنه أمكن للستر، وهذا قول طائفة من أئمة السلف رحمهم الله. قال المصنف رحمه الله: [وتشد عليها ثيابها]. هذا أثر عن علي رضي الله عنه، وله أصل في السنة في قصة المرأة التي اعترفت بالزنا، فأمر بها فشدت عليها ثيابها، وفي بعض الألفاظ: أمر بها فشكت عليها ثيابها؛ لأن الشوك مثل الرابط الذي يمنع من انكشاف عورتها أثناء الحركة، فإذا ضممت طرفي الرداء ووضعت الشوكة بينهما؛ انحبس الرداء وامتنع من الانكشاف، فلفظ: فشكت عليها ثيابها يعني: أنه جعل فيها الشوك بمثابة الرابط لطرفي الثوب الذي عليها ليمنعها من التكشف، وهذا واضح الدلالة على أنه يطلب سترها أثناء إقامة الحد عليها؛ لأنها تضطر إلى الحركة فتنكشف عورتها، فيؤخذ بالأسباب المانعة من انكشاف عورتها. قال المصنف رحمه الله: [وتمسك يداها لئلا تنكشف]. لأنها إذا ضربت وتحركت فإنه قد يحصل منها انكشاف، فقوله: وتمسك يداها، من درء المفاسد، فالمرأة عورة، وانكشافها مفض للوقوع في الفتنة، فيخرج الناس من الاعتبار بالنظر إلى الفتنة، وهذا خلاف مقصود الشرع، وهو أن يكون النظر موجباً للاتعاض والاعتبار.

الأسئلة

الأسئلة

وجه فصل كتاب الجنايات عن كتاب الحدود

وجه فصل كتاب الجنايات عن كتاب الحدود Q هل تعريف الحدود شرعاً يشمل القتل، وإذا كان ذلك كذلك؛ فلماذا فصلهما المصنف عن بعض؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فقوله: (عقوبة) عام؛ لأن العقوبة تكون بالقتل وغير القتل، وهذا الصحيح؛ لأن الحدود فيها قتل، فحد الحرابة يكون فيه القتل، والمرتد حده أن يضرب عنقه إذا استتيب فلم يتب، فهذا التعريف: أن العقوبة مقدرة شرعاً؛ تعريف صحيح، ودخول القتل لا يمنع صحة التعريف؛ لأن من الحدود حد القتل، وعلى هذا لا يكون تعريف المصنف فيه إشكال، ولا يمنع من وجود القتل في الحدود، وانفصالها عن باب القتل؛ لأن القتل متقدم لحقوق العباد، والقتل الذي نعنيه هنا إنما هو في الغالب في حق الله عز وجل كما في حد الردة ونحو ذلك، والله تعالى أعلم.

حكم الجلد في الحد بغير السوط

حكم الجلد في الحد بغير السوط Q هل الضرب بالسوط بالحد متعين أم يضرب بغير السوط؟ A الأشبه الضرب بالسوط، وجاء عن الصحابة رضوان الله عليهم في حد الخمر فقط أن منهم الضارب بثوبه، ومنهم الضارب بنعله، ومن هنا اختلف في حد الخمر هل هو حد أو تعزير؟ وسيأتي -إن شاء الله- الكلام على هذه المسألة، وعلى كل حال الأصل الضرب بالسوط، والله تعالى أعلم.

حكم إجزاء ركعة الوتر عن تحية المسجد

حكم إجزاء ركعة الوتر عن تحية المسجد Q إذا دخلت المسجد قبل الفجر بدقائق ولم أوتر، هل تغني ركعة الوتر عن تحية المسجد؟ A لا تغني ركعة الوتر عن تحية المسجد؛ لأن الأقل لا يجزئ عن الأكثر، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين)، والوتر ركعة واحدة، ولذلك يجب عليك أن تقوم فتأتي بتحية المسجد تامة كاملة، ولا يحصل الاندراج في هذه المسألة؛ لأنه لا يندرج الأكبر تحت الأصغر، والركعة الواحدة لا تجزئ عن الركعتين كما هو معلوم، وجلوسك في الوتر له أصل، وهو مستثنىً كجلوس الخطيب بعد تسليمه يوم الجمعة قبل أن يصلي صلاة الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل مباشرة ويسلم ويجلس، وعلى هذا فليس فيه إشكال؛ لأنه مبني على أصل شرعي؛ لأنك جلست للعبادة، وجلوس العبادة لا يؤثر، لكن إذا انتهى الوتر فيجب عليك القيام مباشرة، والإتيان بركعتي التحية، ومن هنا لا يرخص لك بالقعود بعد سلامك من الوتر، والله تعالى أعلم.

حكم المرأة التي تمنع نفسها من زوجها

حكم المرأة التي تمنع نفسها من زوجها Q زوجتي إذا منعتها من فعل شيء، أو من الذهاب إلى مكان أو من البقاء في مكان ولي الحق في ذلك المنع؛ تمنعني من نفسها، فما التوجيه أثابكم الله؟ A أولاً: أوصي هذه المرأة، أن تتقي الله عز وجل في هذه الحقوق التي فرضها الله عليها لزوجها، فلا يجوز للمرأة إذا أمرها زوجها أو نهاها عن أمر وله الحق في ذلك -بمعنى أنه مصيب في أمره ونهيه- أن تمنعه من حقه، فإذا فعلت ذلك انطبق عليها الوعيد، فلو أنها منعته من الفراش باتت تلعنها الملائكة حتى تصبح والعياذ بالله! فإذا كانت لا تبالي بذلك فلتفعل، فعلى كل امرأة مؤمنة أن تتقي الله عز وجل في حقوق زوجها، وأن تؤدي هذه الحقوق كاملة، ومنها السمع والطاعة للزوج، خاصة إذا أمر بطاعة الله عز وجل، ونهى عن معصية الله. ثانياً: على المرأة أن تحمد الله وتشكره أن رزقها زوجاً يذكرها بالله إذا غفلت، ويعينها على طاعة الله عز وجل إذا ذكرت، ولم يبتلها بزوج متهتك فاجر، عاص لله سبحانه وتعالى، يجر عليها المصائب والويلات، فكم من امرأة أقض مضجعها مهرب للمخدرات، ومدمن للمسكرات، وكم آلمها، وضيع حقوقها، ولم يبال بها من لا يرعى حدود الله عز وجل ومحارمه. فلتحمد الله المرأة المؤمنة، ولتشعر أن زوجها إذا أمرها بطاعة الله ونهاها عن معصية الله أنه يريد لها الخير، وأنه آخذ بحجزها عن نار الله، قائم بحق الله الذي فرضه عليه؛ لأن الله فرض عليه ذلك وجعله راعياً مسئولاً عن رعيته، وما يحدثه أعداء الإسلام في نساء المؤمنين من التمرد، وإشعار المرأة أن على الزوج ألا يتدخل في شئونها، وأن هذا غمط لمكانتها، وانتقاص لقدرها، فأف لهم ولما يدعون، فما هم إلا ظالمون مفترون، فإن الزوج له حق القوامة شاءت المرأة أم أبت، وهذا أمر سارت عليه هذه الأمة سلفاً وخلفاً من السلف الصالحات من الصحابيات رضي الله عنهن والتابعيات وأتباع التابعين من النساء الصالحات. وعلى المرأة أن تسمو بنفسها عن مثل هذه الدعوات التي تريد منها أن تتمرد على بعلها، وألا يتدخل في شيء من أمرها، وهذا كله خلاف الفطرة، ولا يمكن أن تستقيم بيوت المسلمين إلا بالفطرة التي فطر الله الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، فعلينا أن نرجع إلى حكم الله عز وجل، وأن نرضى بما كتب الله عز وجل لنا، وليس في هذا غضاضة أبداً، وتفضيل الرجل على المرأة لا ينقص من قدر المرأة، فإن العالم أفضل من الجاهل، لكن ليس معنى ذلك أن الجاهل قد هلك، وأنه ليس له حظ من الخير أبداً، فهذا تفضيل من الله سبحانه وتعالى، والعلماء أنفسهم بعضهم أفضل من بعض، والرسل والأنبياء بعضهم أفضل من بعض، فهذا تفضيل من الله سبحانه وتعالى، وإذا فضل ربك من يشاء؛ فلا يستطيع أحد أن يعترض، ولا أن يختلق من تصرفاته ما يشعر بالاعتراض، فبعض النساء عندهن هذا الشعور، فالمرأة التي تتمرد على زوجها لعدم استشعار قوامة الزوج عليها تكون مضادة لشرع الله عز وجل، وللسنة الثابتة في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرجل مسئول عن امرأته وأهل بيته، وأنه والٍ عليهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (الرجل راع ومسئول عن رعيته)، فعلى هذه المرأة أن تتقي الله عز وجل، وأذية الزوج خاصة في الفراش لا خير فيها، والمرأة التي تفعل ذلك ستجني العواقب الوخيمة في الدنيا والآخرة، ولو لم يكن من ذلك إلا تخويف النبي صلى الله عليه وسلم وزجره، حتى إنه صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (باتت الملائكة تلعنها حتى تصبح)، والملائكة هم الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فإذا لعنوا -والعياذ بالله- فلعنتهم مصيبة، فعليها أن تتقي الله عز وجل، وأن تعلم أن الأمر جد خطير. ثالثاً: هذا الأمر يفسد الحياة الزوجية، ويشعر الزوج بأن الزوجة لا تريده ولا ترغبه، وهناك خطوط حمراء - إن صح التعبير- بين الزوج والزوجة؛ وأخطر ما تكون إذا وصلت إلى المحبة، وأفسدت صدق المشاعر بين الزوجين، فإذا فعلت المرأة فعلاً تنبئ الزوج أنها لا تبالي بهذا الأمر الذي بينهما؛ فإن هذا يدمر حياتهما، ويعود بالعواقب الوخيمة على الزوجين، فلتتقي الله المرأة المؤمنة. وقد ذكرنا أهل المعاصي وما تعانيه زوجاتهم من الويلات والآهات، حتى تعرف المرأة المؤمنة نعمة ربها عليها، فلتحمد الله سبحانه وتعالى أن الله رزقها زوجاً غيوراً، وعلى كل امرأة أن تفهم أن غيرة زوجها من المحبة لها، ومن كمال الرجولة والفحولة فيه، وهي الفطرة التي فطر الله عز وجل عليها أتقياءه الصلحاء ومن كان على نهجهم، أما من يكون ميت القلب -والعياذ بالله- ديوثاً يصاب بلعنة الله؛ فلا خير فيه. رابعاً: نوصي الرجل ألا يستغل حق القوامة على المرأة، ويتخذ من هذا الحق ما يشعر بأنه مستبد ظالم، يريد أن يفرض آراءه وأقواله فقط، بغض النظر عن كونه مصيباً أو مخطئاً، فهنا تكون المشاكل؛ لأن الإنسان إذا كان تقياً نقياً سوياً سائراً على صراط الله عز وجل. بارك الله في قوله، ونصحه وتوجيهه، ورزقه القبول بين أقرب الناس منه فضلاً عن أبعد الناس عنه، ومن هنا على الزوج أن يتقي الله عز وجل، وأن يكون حكيماً في أمر الزوجة ونهيها، فهناك أمور قد تكون دنيوية، وليس فيها ضرر في الدين، وقد تضر منك بعض الشيء في المادة، كأن تطلب المرأة مالاً تتوسع فيه، وهذا الأمر فيه ضرر محدود، لكن قد يكون طلبها مرة أو مرتين في السنة، أو ثلاث مرات، وعندك القدرة، فإنك في هذه الحالة تستطيع أن تتنازل بحيث لا يفلت الزمام، وتكون التوسعة على الأهل، مع أنك ترى أن الأصلح والأفضل شيء آخر، لكنك تكسب من وراء هذا شيئاً كثيراً، والحكماء والعقلاء يراعون هذا خاصة في هذه الأزمنة، فالمرأة بعض الأحيان تريد أن تخرج مع أولادها خارج المدينة في نزهة أو نحو ذلك، فتطلب ذلك من زوجها، وكان المنبغي على الزوج الكريم الصالح التقي أن يبدأ الزوجة بذلك، ولا ينتظر أن تقول له المرأة: أريد أن أخرج، وهذا إذا مضت فترة طويلة، وأذكر أن الوالد رحمة الله عليه كان دقيقاً في معاملته لأهله وأولاده، ومع ذلك في بعض الأحيان كانت إذا مضت فترة -وقد كانت عنده مزرعة- يقول لي: قل لأمك تخرج معك، خذها واخرج بها؛ ويقول لي: هذه امرأة ضعيفة، محبوسة بين هذه الجدران، وأنت نفسك لو حبست في هذا الموضع لشعرت بالملل والسآمة في يوم واحد، فكان يحس ويقول: الحمد لله أننا نجد مثل هؤلاء النساء، فعلينا أن نوسع عليهن حتى يوسع الله علينا. فالإنسان لابد أن يشعر بمشاعر المرأة، المرأة ضعيفة، خاصة إذا كانت في مكان تؤذى من نظيراتها، من أخواتها، من قريباتها، من جاراتها، وقد تأتي المرأة إلى المرأة فتذكر حسنة زوجها عليها، والله يشهد أنها لا تريد أن تذكر الحسنة، وإنما تريد أن تفسدها على زوجها، ولذلك ينبغي الحذر من هذا كله، وعلى الصالح الدين أن يحس أن المرأة الصالحة محتاجة -خاصة في هذا الزمان- إلى شيء يثبت قدمها على طاعة الله، ويكف عنها الألسنة الظالمة الجائرة التي لا تتقي الله في بيوت المسلمين ونساء المسلمين، فعليه أن يوسع على أهله، ولكن بقدر، ويوسع بنية إحسان العشرة، هناك توسيع بنية الدنيا، وهناك توسيع يراد به وجه الله عز وجل، فإذا قصد به وجه الله رحمه الله، وإذا قصد به الخير آجره الله سبحانه وتعالى. فنوصي الزوج والزوجة بتقوى الله عز وجل، وجماع الخير كله في التقوى، فمن اتقى الله؛ جعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية. وأوصي الأزواج في حالة اختلاف الرأي في المسائل المباحة أن يكون هناك شيء من المرونة، الحزم مطلوب ولكن بقدر، قال الشاعر: قسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقس أحياناً على من يرحم ولكنها قسوة بقدر مبنية على شوب من الحذر، ومرضاة الله سبحانه وتعالى في السر والعلن. نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد.

مقدمة كتاب الحدود [2]

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الحدود [2] حد الزنا من أعظم وأشد الحدود الشرعية عقوبة من الله تبارك وتعالى، ويليه بعد ذلك حد القذف ثم حد السكر ثم التعزير، وقد ثبت تحريم الزنا في الكتاب والسنة، وأجمعت الشرائع كلها على ذلك؛ لما فيه من هتك للأعراض، وإفساد للذرية، وتخليط للأنساب، وقد فرق الشرع الحكيم في العقوبة بين الزاني المحصن وغيره المحصن، فأغلظ الحد في المحصن بالجلد والرجم، وجعل للمحصن شروطاً لابد من توافرها من أجل إقامة الحد عليه.

بيان أشد الحدود

بيان أشد الحدود بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وأشد الجلد جلد الزنا]. تقدم معنا أن الجلد عقوبة من عقوبات الحدود، ولما ذكر المصنف رحمه الله بعض الأحكام المتعلقة بالجلد شرع في بيان مسألة مهمة: وهي أن الجلد يقع في عقوبة الزنا، وعقوبة القذف، وعقوبة السكر، وفي التعزير أيضاً، فهل يكون الجلد كله واحداً في هذه الحدود بحيث لا يكون أشد في حدٍ دون آخر أم لا؟ اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة: فذهب طائفة من أهل العلم: إلى أن أشد الجلد يكون في حد الزنا، ثم يليه حد القذف، ثم يليه حد السكر، ثم يليه التعزير، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله. وذهب بعض العلماء رحمهم الله: إلى أن الضرب في الحدود كلها على حد سواء، وهذا قول الإمام مالك والشافعي رحمة الله على الجميع، قالوا: لأنه لم يرد في النصوص تفضيل حدٍ على آخر، أو بيان أن الجلد في حدٍ يكون أقوى من الحد الآخر. وذهب الإمام أبو حنيفة النعمان -عليه من الله شآبيب الرحمات والرضوان- إلى القول بأن أشد الضرب يكون في التعزير، ثم بعد ذلك الزنا، ثم بعد ذلك السكر. والذي يظهر أن ما اختاره المصنف هو الصحيح، وذلك لعدة أدلة: أولاً: أن الله تعالى حد الزنا بجلد مائة جلدة، ولم يسو بين الزنا والقذف، فالقذف أقلّ من الزنا عدداً، والسكر أقل من الزنا عدداً، فدل على أن عقوبة الزنا أقوى من عقوبة القذف والسكر، والتعزير أصلاً لا يصل الضرب فيه إلى الحدود، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن وصوله إلى ذلك الحد، فدل على أن: القذف والسكر والتعزير كلها دون الزنا بنص الشرع؛ لأن الشرع جعل العقوبة في الزنا أقوى. ثانياً: أن الله تعالى قال في الزنا: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، وقال في القذف: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4]، فذكر في حد الزنا الجلد مقروناً بقوله: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، ولم يذكر هذا الوصف في غيره، فدل على أن ضرب الزنا أقوى من ضرب غيره، ثم يلي الزنا القذف كما ذكر المصنف رحمه الله. وأما الذين قالوا: إن التعزير أشد -وهم الحنفية- فاحتجوا بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ضرب رجلاً في التعزير ضرباً شديداً، حتى أثر في ضربه، وهو صبيغ بن عسل، وكان رجلاً مفتوناً -والعياذ بالله- من أهل الكوفة، وكان يأخذ آيات القرآن ويضرب بعضها ببعض، وذلك من انطماس بصيرته في أول أمره -والعياذ بالله- فأزله الشيطان بالشبه، فصار يأتي بالآيات المتعارضة، فكتب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إلى عمر بخبره، فكتب له عمر: إذا أتاك كتابي فلا تبرح حتى تبعث به إلي، فمضى صبيغ إلى عمر بالمدينة، فأتاه فوقف عليه، فقال له: من أنت؟ قال: أنا صبيغ بن عسل، قال: أأنت الذي أخبرني عنه أبو موسى؟ قال: نعم، فقام إليه بالدرة، وضربه ضرباً شديداً، ثم قال له: هل تجد شيئاً مما تحسه؟ قال: لا، فعلم عمر أن الشيطان كان قد تلبس به -والعياذ بالله- فأدبه رضي الله عنه، وضربه ضرباً شديداً، فمن هنا قالوا: إن التعزير يقدم، والذي يظهر -والله أعلم- أن وصف ضرب عمر بالشدة لا يستلزم أنه أشد من الزنا؛ لأن الوصف المطلق لا يقتضي الحكم على المقيد من كل وجه، وإنما وصف هذا الضرب بكونه شديداً بالنسبة لغيره. ثم عندنا نص القرآن، وهو واضح الدلالة على أن حد الزنا أشد من غيره، فما اختاره المصنف رحمه الله من أن أشد الجلد يكون في الزنا هو الصحيح لأدلة القرآن. قال رحمه الله: [ثم القذف]. القذف هو: قذف المحصنات الغافلات المؤمنات بالزنا، ويكون للمسلم والمسلمة، كأن يقول للمسلم: يا زان! أو يقول لامرأة: يا زانية! أو فلانة زانية، أو فلان زان، فالاعتداء على أعراض المسلمين جريمة، وانظر إلى حكمة الشرع حيث عاقبه الله في بدنه، وعاقبه في لسانه، ولما ينتظره من عقوبة الله في الآخرة أشد وأبقى؛ إذا لم يتب إلى الله عز وجل، ولذلك قال سبحانه: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4]، فحكم بجلدهم ثم قطع لسانهم بعدم قبول شهادتهم؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فلما كانت هذه الألسنة لا تتقي الله في أعراض المسلمين؛ قطعها الشرع، وسنبين إن شاء الله هذا الحد. فذكر رحمه الله أن حد القذف بعد حد الزنا، وهذا صحيح؛ لأن القذف مركب على التهمة بالزنا، وكلاهما اعتداء على الأعراض، لكن الاعتداء بالزنا أشد؛ لأنه بالفعل نفسه، وأما القذف فهو التهمة بالفعل، ومن هنا ألحقت العقوبة بالأصل، لأن الباب واحد وهو الاعتداء على العرض، والله جعل حد الفرية -وهي القذف- ثمانين جلدة، ففضلت حد الخمر الذي هو أربعون جلدة، وكان أقوى من حد السكر، خلافاً لمن قال من العلماء: إن حد السكر يلي حد الزنا، وهو مذهب من يقول بالتفضيل وفاقاً للمصنف، وطائفة وهم الحنفية يرون التعزير ثم السكر ثم الزنا. قال المصنف رحمه الله: [ثم الشرب]. وهو حد المسكر، وسيأتينا إن شاء الله، فالضرب فيه دون حد القذف، ولذلك الصحابة رضوان الله عليهم لما أرادوا أن يقدروا حد الخمر؛ أوصلوه إلى حد القذف، فدل على أن حد المسكر بعد القذف، وليس مساوياً للقذف، ولا أقوى من القذف. قال المصنف رحمه الله: [ثم التعزير]. التعزير يكون في الجرائم التي ليس لها حدود مقدرة من الشرع، من الأفعال التي لا تصل إلى الحدود، كشخص مثلاً هجم على بيتٍ، يريد أن يسرق، فافتضح أمره قبل السرقة، أو كان يريد الزنا ولكن لم يفعل ذلك، أو خلا بامرأة لفعل الزنا ولكن لم يفعل، أو تجردا ولم يقع منهما الزنا، ونحو ذلك من الجرائم القاصرة والناقصة، فعقوبة التعزير لا تصل إلى الحد، فقول الحنفية أن الضرب في التعزير أشد من الضرب في الحدود ضعيف؛ لأن أصل التعزير فيما دون الحد، ولا يمكن أن يكون ما دون الحد أقوى عقوبة من الحد نفسه، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصل الضرب في التعزير إلى الحد، فمذهب المصنف رحمه الله الذي اختاره هو الصحيح إن شاء الله والأقرب إلى النص.

حكم من مات في حد الجلد

حكم من مات في حد الجلد قال المصنف رحمه الله: [ومن مات في حدٍ فالحق قتله]. لو أن شخصاً أقيم عليه الجلد في حد الزنا، وأثناء الجلد سقط ميتاً فالحق قتله، لا نقول: إن على الضارب الدية لأنه تسبب في قتله؛ لأن هذا الضرب مبنيٌ على أمر شرعي، والذي أمر به هو الشرع، فجميع ما ترتب على هذا الضرب إنما هو من الشرع، وليس منا، والله يحكم ولا معقب لحكمه، ويروى أن رجلاً مات لما جلد الحد فقال علي رضي الله عنه: الحد قتله، أي: لسنا الذين قتلناه، وإنما قتله حد الله الذي أقيم عليه، فنحن مأمورون بإقامته، وما ترتب عليه فلسنا متحملين المسئولية. لكن إذا زاد الضارب في العقوبة، وتجاوز الحد الشرعي فإنه يضمن، فلو أنه ضربه في مقتل -وقد قلنا: لا يضرب في المقاتل- فسقط ميتاً، فقد تعدى الضارب، فيتحمل المسئولية، وفي هذا تفصيل عند العلماء، ففي بعض الصور يكون من باب الخطأ، وهل يضمن بيت مال المسلمين أم يضمن الجلاد أم يضمن القاضي الذي حكم بتنفيذ الحد عليه أم تكون مسئولية مشتركة وتكون من بيت مال المسلمين؟ ثم إذا قلنا: بتضمين الجلاد، فهل الدية على عاقلته أو عليه؟ في ذلك كلام للعلماء رحمهم الله.

حكم الحفر لمن يرجم في الزنا

حكم الحفر لمن يرجم في الزنا قال المصنف رحمه الله: [ولا يحفر للمرجوم في الزنا]. الرجم عقوبة من الله عز وجل للزاني المحصن من الرجال والنساء، فإذا زنى المحصن؛ فإنه يرجم، والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب، جلد مائة والرجم). والرجم يكون بالحجارة وما في حكمها، ولذلك رجم الصحابة رضوان الله عليهم حتى بالعظام الكبيرة، وقُتِل ماعز عندما رجم بعظم بعير، ضربه به رجلٌ فقتله، وكان قد رجم بالفخار وبجلاميد الصخر رضي الله عنه وأرضاه، فالرجم عقوبة، وهذه العقوبة اختلف العلماء رحمهم الله فيها: هل يحفر للشخص الذي يراد رجمه أو لا يحفر؟ قال بعض العلماء: لا يحفر له، واحتجوا بما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه وأرضاه في قصة ماعز رضي الله عنه قال: (فوالله! ما حفرنا له، ولا أوثقناه، ولكن قام لنا حتى إذا استحر من الرجم ... ) الحديث، فقال: (ما أوثقناه) يعني: ما ربطناه، (ولا حفرنا له)، وهذا يدل على أن الحفر لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم بـ ماعز، واستدلوا أيضاً بقصة الرجل والمرأة اليهوديين الذين زنيا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالحفر لهما كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين قال: (أمر بهما فرجما -يعني الرجل والمرأة- فرأيت الرجل يجني على المرأة)، أي يعطف عليها ويميل إليها حتى لا تأتيها الحجارة، ولو حفر لهما لما وقع هذا، فالحفر لا يشرع للرجل عند جماهير العلماء، واختلفوا في المرأة: فبعض العلماء يرى أن المرأة يحفر لها، واستدلوا بقصة ماعز في رواية بريدة، ففيها أنه حفر لها، فبعض العلماء يقول: المثبت مقدم على النافي، وبريدة أثبت أنه حفر له كما في إحدى روايات أحمد ومسلم، ولذا قالوا: يحفر للمرجوم، وجُمِع بين الروايتين بأن المثبت للحفر يعني بذلك حفرة ليست بتلك التي تمنع، ومن نفى الحفر قصد الحفرة التي تمنع، ولكن عدم الحفر أقوى من ناحية الرواية، خاصة وأن رواية خالد بن اللجلاج -وهي صحيحة- نص فيها على عدم الحفر، فتقوى رواية النفي، وقالوا: لو حفر لـ ماعز لما فر عنهم، فكيف فر عنهم وهو محفور له؟ وكيف خرج من الحفرة؟ قالوا: الأقوى عدم الحفر، خاصة أن الروايتين لما تعارضتا جاء ما يرجح إحداهما على الأخرى، وبقي الخلاف في النساء، والخلاف فيهن أقوى من الخلاف في الرجال؛ لأن الحاجة إلى الحفر للنساء أشد، وفزعهن أعظم، ومن هنا اختلف في المرأتين اللتين زنتا، لكن حديث اليهودية مع اليهودي ليس فيه حفر، والرواية واحدة والسند فيها من السلسلة الذهبية: الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، فهي من أصح الروايات، فلا إشكال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر لها. ولذا اختار المصنف رحمه الله عدم الحفر، وهناك قول لبعض العلماء -وهو قولٌ جميل وفيه جمع بين النصوص- وهو: أنه يرجع إلى نظر الإمام واجتهاده، فإن رأى الحفر في بعض الأحوال أمر بالحفر، وإن لم ير الحفر لم يأمر به، فالأمر إليه، ويجمع بهذا القول، وهو أشبه إن شاء الله تعالى.

الأسئلة

الأسئلة

حكم جمع الجلد والرجم على الزاني المحصن

حكم جمع الجلد والرجم على الزاني المحصن Q هل كان في أول الأمر إذا زنا المحصن يجلد ثم يرجم؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: اختلف العلماء في المحصن هل يرجم فقط أو يرجم ويجلد؟ والذي تدل عليه الأدلة وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها غير واحد من أصحابه، وهو قول إسحاق بن راهويه والثوري، وطائفة من أئمة السلف: أنه يجمع بين الجلد والرجم، وهذا هو الصحيح؛ لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه -كما في صحيح مسلم- أنه عليه الصلاة والسلام قال: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب، جلد مائة والرجم)، فقرن بين الجلد والرجم، وطبق هذه العقوبة علي رضي الله عنه في شراحة حينما جلدها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أهل العلم رحمهم الله من فرق بين الإقرار وغيره، فمن أقر بالزنا وهو محصن، يرجم ولا يجلد، ومن قامت عليه البينة، يجلد ويرجم، وهذا القول قوي جداً، خاصة وأن النصوص التي ورد فيها الاعتراف ليس فيها إلا الرجم، كحديث (واغدُ -يا أنيس - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها)، فاعترفت فرجمها، (فأمر به فرجم)، (فأمر بها، فشكت عليها ثيابها، ثم رجمت)، وكل هذا في الاعترافات، وحديث: (الثيب بالثيب جلد مائة والرجم) لا مانع أن يخصص بمن لم يعترف؛ لأن الذي اعترف تحمل وتجشم وصدق في التوبة إلى الله عز وجل، فلا مانع أن تخفف عنه العقوبة، وهذا القول يجمع به بين الأدلة، وهو من القوة بمكان، فيفرق على حسب حال البينة، والله تعالى أعلم. أما أول الأمر فكانت العقوبة الحبس في البيوت، كما أخبر تعالى في آية النساء: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15]، فكانت العقوبة إذا عثر على الزاني والزانية أن يقفل عليهما في بيتهما، ويمنعان من الخروج، ثم جاء الحديث بالعقوبة: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً)، وهو الحكم المحكم في آخر الأمرين، والله تعالى أعلم.

حكم من أراد المعصية في مكة

حكم من أراد المعصية في مكة Q ما الدليل على أن من نوى المعصية في مكة يأثم وإن لم يصنعها؟ وهل السيئة في مكة بعشر أمثالها مع أن الله تعالى يقول: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام:160]؟ A أما القول بأن السيئة في مكة بعشرة أمثالها فهذا قولٌ باطل، ولم يقل به أحد من أهل العلم رحمهم الله؛ لأن النصوص واضحة في الكتاب والسنة أن من فعل السيئة فلا يجزى إلا مثلها، كما قال تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام:160]، وفي السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (من جاء بالحسنة؛ فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة؛ فلا أجزيه إلا مثلها أو أعفو)، فالله سبحانه وتعالى لا يجزي بالسيئة إلا سيئة أو يعفو سبحانه. لكن هناك مسألة مهمة، وهي دقيقة وترفع الإشكال في هذا الأمر، يقول بعض العلماء: يتضاعف الذنب في مكة لعظم المكان، وهذه مسألة ثانية، متعلقة بحرمة المكان وحرمة الزمان، والأصل ألا يتضاعف الذنب نفسه، وإنما يكون أصل العقوبة من الشرع، وأصل الاسم المقدر لهذه الجريمة وهذا الذنب عظيمٌ بالنسبة لغيره، فمثلاً لو كانت السيئة بالسب خارج مكة فيها ألف سيئة، ففي مكة فيها عشرة آلاف سيئة، وليست مضاعفة للسيئة نفسها ولكن الشرع جعلها عشرة آلاف لحرمة هذا المكان، وحينئذٍ لا تكون مضاعفة إنما يكون لأصل الوضع في الحكم، وأصل الوضع لا يقتضي التضعيف، وحينئذٍ لا تتعارض النصوص، أما ما ورد من النصوص أن السيئات يجزى صاحبها بمثلها، فإن السيئة بمكة ليست كالسيئة في خارج مكة، فللسيئة بمكة مثليٌ يناسبها، وللسيئة خارج مكة مثليٌ يناسبها، فإن وقع سبٌ خارج مكة وكان بألف سيئة، فإنه داخل مكة يكون بعشرة آلاف سيئة، وكثير من النصوص يظن فيها التعارض، ولكن يفرق بينها بأصل الوضع، ومن هنا يخرج طالب العلم من الإشكالات، وقد اختلف في سبب خروج ابن عباس رضي الله عنهما إلى الطائف، والصحيح ما وقع بينه وبين ابن الزبير من فتنة، ودخول الحساد بينهما، فاضطر ابن عباس رضي الله عنهما للخروج. وهناك قول ثانٍ لسبب خروجه، وهو أنه لما خرج قال: لم تبق لي إلا حسنات أخشى أن تذهبها حرمة هذه البنية، يعني الكعبة، وهذا يدل على عظم تعظيم السلف رحمهم الله لأمر مكة، فعلى كل حال لا تضاعف السيئة بمجردها. بقيت مسألة نية الذنب، والنية تختلف، وما يقع في القلب يختلف، فأول شيء يقع في القلب يسمى الهاجس، ثم بعد ذلك الخاطر، ثم بعد ذلك حديث النفس، ثم بعد ذلك الهم، ثم بعد ذلك العزم، فهذه خمس مراتب: أولها الهاجس: وهو العارض على النفس، بعض العلماء يقول: ما يلقى في النفس، فبمجرد ما يلقى الشيء بالنفس يقال له: هاجس، فإن مر في داخل النفس يعني عقله القلب وفهمه وألم به ما يلقى، وجرى في النفس ودخل إلى النفس فخاطر. وإن بدأ يتحدث: هل يقبله أو لا يقبله؟ يرده؟ يقدم عليه؟ يدبر عنه؟ فحديث نفس. فإن أخذ هذا الحديث يستحكم بين أن يقدم أو يحجم؟ يقبل أو يدبر؟ يفعل أو لا يفعل؟ وتوجهت النفس لترجيح الفعل أو عدم الفعل؛ فقد اهتم به فيسمى الهم. فإذا اهتم به واعتنى به وأراد أن ينفذه فيسمى العزم. فهذه خمس مراتب، وبالنسبة للخاطر والهاجس والهم وحديث النفس فكلها معفو عنها، والنص صحيح صريح في أنه لا يؤاخذ العبد عليها، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله عفا لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل)، فجعل حديث النفس لا تأثير له، ولو أن رجلاً حدث نفسه بمعصية فلا نحكم بمؤاخذته به؛ لأنه معفوٌ عن حديث النفس، فإن عزم وتوجه للشيء فهذا فيه إشكال عند العلماء رحمهم الله؛ لأنه إذا عزم وتوجه إليه واهتم به وعزم عليه؛ فهذا عملٌ قلبي، ولذلك قد تتوجه الإرادة إلى الشيء، وتعزم عليه وتقصده لكن لا يستطيع أن يفعله؛ لأن الظروف لم تيسر له فعله، فالعزم والتوجه الصادق فيه كلام للمحققين، فبعض العلماء يقول: حديث النفس الذي استحكم في النفس، وتوجه إليه القلب وأراده، واعتبره والتزمه يؤاخذ به، ولا يكون عازماً إلا إذا اعتنقه وعزم عليه، ما يقال: عزم على الشيء؛ إلا إذا كان قد استقر في مكنون قلبه على وجهٍ لا تردد فيه، فإن عزم عليه وتوجهت إرادته إلى الشيء قصداً، فيؤاخذ به وذكر هذا الإمام القاضي عياض في شرحه لصحيح مسلم وقال: إن المحققين من أهل العلم على هذا، واحتجوا بأدلة منها: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:19] فهم يحبون أن تشيع الفاحشة لكن ما فعلوها. وقال تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، فخطرت الظنون وهجست وتحدثت فيها النفوس لما توجه إلى سوء الظن بأخيه المسلم، وجزم بهذا التوجه: أن أخاه كذاب أو غشاش أو منافق، فلما توجه قلبه إلى هذا الظن وأراده ورضيه؛ قال تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، والظن محله القلب، فهو لم يتحدث به ولم يتكلم به، ومن هنا عُلم وجه قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها)، فالحديث ليس فيه الشيء الذي تحدث به النفس. ومع قولهم أن هناك نصوصاً أخرى تدل على أن أعمال القلوب المتوجهة معتبرة، ويؤاخذ بها العبد، إلا أن هناك مسائل دلت النصوص على أنه لا بد فيها من الظاهر، فلا يكفي مجرد التوجه ولو حصلت العزيمة، يقول تعالى عن الحرم: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] أي: بالإرادة، وصدق التوجه، كأن يريد الزنا، أو شرب الخمر، أو فعل المحرمات، أو أذية الجار، ويتوجه إلى ذلك؛ لأنه لا يكون مريداً له إلا إذا عزم عليه، وصدق في توجهه إليه، ومن هنا وقع في الذي يعتبر من أعمال القلوب المؤاخذ عليها. لكن هناك فرق -وهي نقطة دقيقة جداً- بين أن نقول: إنه مؤاخذ عليه بعملٍ قلبي، وبين أن نقول: إنه مؤاخذ على العمل بذاته، فمثلاً من حدثته نفسه أن يزني، وتوجه إلى الزنا وعزم عليه، أو حدثته نفسه بجرمٍ في مكة، وتوجه في نفسه إليه؛ فهذا خطأ قلبي، ويصبح مسيئاً بقلبه، وتلتصق به الجناية بعمل القلب، كما قال صلى الله عليه وسلم: (العينان تزنيان)، والأصل أن الجريمة ما وقعت لكنه أسند الرضا بالجريمة وفعل وعمل شيئاً مسنداً إلى العين، مثلما أن العين إذا نظرت صارت زانية، كذلك القلب إذا حدث ورضي هذا الفعل كما قال: (والقلب يهوى ويتمنى) فشركه في الحكم، فإذا حصل هذا من القلب، فهو عملٌ قلبي، والعقوبة نسبية لهذا العمل القلبي، وحينئذٍ تكون المؤاخذة على الظاهر ليست كالمؤاخذة على الباطن، والإثم على الظاهر ليس كالإثم على الباطن، وهذا الذي جعل بعض العلماء يقول: من جامع زوجته وهو يتخيل أجنبية أثم، ومن شرب عصيراً مباحاً حلالاً وهو يتخيل كأنه يشرب الخمر أثم، أي: أثم بالعمل القلبي؛ لأنه يريد هذا ويحبه كما قال صلى الله عليه وسلم: (والآخر يقول: لو أن عندي مثل مال فلان؛ لعملت مثل عمله) فجعل التمني كالفعل، فهذا كله يدل على أن التوجه للمعاصي وصدق العزيمة إليها؛ عملٌ قلبي يؤاخذ به العبد، لكنها مؤاخذة نسبية، وحينئذٍ لا تعارض بين النصوص ولا تعارض بين مسألة العمل القلبي والظاهر. ومما أنصح به طالب العلم المتمكن أن يرجع إلى الموافقات للإمام الشاطبي في مبحثه النفيس في المقاصد، وذلك أنه قسم فاعل الفعل وتاركه إلى قسمين: إما أن يكون موافقاً أو مخالفاً، فإن كان موافقاً أو مخالفاً فإما أن يوافق ظاهراً وباطناً، أو يخالف ظاهراً وباطناً، وإما أن يوافق ظاهراً ويخالف باطناً، وإما أن يخالف ظاهراً ويوافق باطناً، وهذا كله فيه تفصيل، وكلام كثير للعلماء رحمهم الله، فمسألتنا هذا من حصول المخالفة الباطنية دون وقوع المخالفة الظاهرية، وعلى كل حال فالأصل يقتضي أننا لا نؤاخذه المؤاخذة التامة الكاملة إلا باجتماع الظاهر والباطن فيما اشترط الشرع فيه الظاهر والباطن، وقولك: إن النية في مكة مؤثرة ليس على إطلاقه، والله تعالى أعلم.

كلمة توجيهية لزائري مكة للعمرة والتعبد في مسجدها

كلمة توجيهية لزائري مكة للعمرة والتعبد في مسجدها Q في أيام الإجازة يكثر الزائرون والمعتمرون، فهل من كلمة توجيهية تذكر بفضل مكة وفضل العبادة بها؟ A هناك بيتان لطيفان جمعا المراتب الخمس المذكورة، يقول الناظم: خواطر القلب خمسٌ هاجسٌ ذكروا فخاطرٌ فحديث النفس فاستمعا يليه هم فعزمٌ كلها رفعت سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أذن المؤذن تولى الشيطان وله ضراط)، أثناء الإجابة كنت أحاول أن أتذكر البيتين فما تذكرتهما إلا أثناء الأذان، وهذا من عجائب السنة. هذان البيتان يقول فيهما الناظم: (خواطر القلب خمسٌ هاجسٌ ذكروا) يعني: أولها الهاجس، (فخاطرٌ فحديث النفس فاستمعا) ثلاثة: الهاجس، الخاطر، حديث النفس، (يليه هم فعزم كلها رفعت) يعني: ما فيها مؤاخذة لا بإثم ولا بعقوبة، (سوى الأخير) الذي هو العزم، (ففيه الأخذ قد وقعا). وهذا على اختيار المحققين، قال بعض مشايخنا رحمه الله: وما عليه عزم الثواب فيه وكذا العقاب ما ذكرت -أخي السائل- أمرٌ عظيم، هنيئاً ثم هنيئاً لمن وطئ بلد الله الحرام، واستشعر حرمته، وعلم علم اليقين أن الله فضله وشرفه وكرمه، هنيئاً لمن وطئ هذه الرحاب الفاضلات الطيبات المباركات، فخشع لله قلبه، وذرفت من خشية الله عيناه. مكة وما أدراك ما مكة! البلد الأمين، الذي أقسم به رب العالمين من فوق سبع سماوات؛ تعظيماً له في الحرمات، وتذكيراً لعباده وإمائه من المؤمنين والمؤمنات، هذا البلد الأمين -الذي شرفه الله وفضله- أحب البقاع إلى الله، وجعل له الحرمة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم مكة، ولم يحرمها الناس)، حرمها من فوق سبع سماوات. في هذه الرحاب الطاهرات المباركات؛ خشعت قلوب المؤمنين والمؤمنات، ولا يستشعر عبدٌ فضلها، ولا عظيم شأنها، إلا أصابه الخير وكان من أسعد الناس. هذا البلد الأمين شعت منه أنوار الرسالة، فأضاءت بها مشارق الأرض ومغاربها، من هنا ناجى ربك عبده وخليله وحبيبه صلوات ربي وسلامه عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:1 - 5]. من هنا أعلنت مبادئ الإسلام، من هنا كانت مآثره الجليلة العظام. مكة وما أدراك ما مكة! هي مكة وبكة، بكت أعناق الجبابرة، وقصمت ظهور الأكاسرة، فكم قصدها من جبار فقصمه الله في جبروته؟ قال عبد المطلب لـ أبرهة: أما البيت فله رب يحميه، فكل من أتى هذه الرحاب، وحل بهذا النادي المبارك، واستشعر أنه في أحب البقاع إلى الله عز وجل فراعى الحرم والحرمة، وتذكر كيف أن الله سبحانه وتعالى جعله بساطاً للأمان، حتى الشجر يأمن، كما في الحديث: (لا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها)، والطير في الهواء له أمان، فما بالك بالمؤمن؟ قال صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم مكة: (أيها الناس! إن الله حرم مكة، ولم يحرمها الناس، وإنها لم تحل لأحدٍ قبلي، ولن تحل لأحدٍ بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ورجعت حرمتها اليوم كما كانت حرمتها بالأمس، لا يعضد شوكها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمنشد)، من يستشعر هذه الأمور العظيمة التي نبه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ من يدخل هذا البلد الأمين معتمراً أو زائراً أو مجاوراً ويستشعر أن الله سبحانه وتعالى اختاره من هذه الملايين المسلمة لكي يكون ضيفاً عليه في بيته؟ لو أن الإنسان وهو قادمٌ في عمرته يحس أنه ضيفٌ على الله، والضيف يكرم ولا يهان، ويعطى ولا يمنع. في هذه الرحاب الطاهرات الطيبات المباركات كم من ذنوبٍ غفرت، وكم من دعوات استجيبت، وكم من هموم فرجت، وكم من كربات نفست، وكم من درجات رفعت؟ هنا بكى المؤمنون والمؤمنات، وهنا خشع المؤمنون والمؤمنات، وهنا أناب المنيبون، وتاب التائبون، واعترف المذنبون، واستغفر المستغفرون، واسترحم المسترحمون. من هنا صدر أناسٌ جاءوا بهمومهم، فرجعوا كيوم ولدتهم أمهاتهم، بلا همٍ ولا غم ولا ذنب، منازل شرفها الله، وكرمها، وفضلها، حتى إن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ذكَّر المؤمنين بفضلها، وعظيم قدرها، فدخل يوم فتح مكة في يومٍ أعز الله فيه جنده، ونصر عبده، وصدق وعده، دخل عليه الصلاة والسلام وقد طأطأ رأسه حتى أن لحيته تمس قربوس سرجه صلوات الله وسلامه عليه تواضعاً لله، وإعظاماً لهذه الحرمة التي حرمها الله. هنيئاًَ لمن يدخل مكة يوم يدخلها وهو يستشعر أنه في مكانٍ عظيم اختاره ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض. قف أمام بيت الله عز وجل، وانظر كيف اختاره الله لأعز الأشياء وأشرفها، وقت مناجات العبد لربه في الصلاة، يتوجه إلى هذا البيت إيماناً وتسليماً موحداً لله مخلصاً، أي شرف أعظم من هذا الشرف! فيتوجه إلى هذا البيت موحداً لله، معظماً لله، سائلاً الله من فضله. يقول بعض العلماء: عجبت من قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5]، وفعلاً المال تقوم به حياة الإنسان، وهذه سنة كونية جعلها الله سبحانه مؤثرة بتأثير الله عز وجل، وقال في بيته: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة:97]، ففي هذه الكلمة (قياماً للناس) من المآثر الدينية والدنيوية والأخروية ما لا يعلمه إلا الله عز وجل. يأتي العبد محملاً بالذنوب والخطايا، تائباً إلى الله، صادقاً مع الله عز وجل في توبته، فيأتي إلى الله معتمراً، فلا يبرح أن يطوف شوطه الأول فينفض من معاصيه كيوم ولدته أمه، ويأتي العبد مهموماً مغموماً مكروباً، قد أحاطت به الهموم في أهله وولده وماله، فيأتي إلى ربه منيباً إلى الله ضيفاً على الله، يشتكي إلى ربه، قد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فلم يجد له أحداً يغيثه ولا أحداً يعينه، وقد يئس من كل أحد، لكنه لم ييأس من ملك الملوك، ومن جبار السماوات والأرض، إله الأولين والآخرين، فيأتي إلى هذا البلد الأمين مؤمناً بالله، متوكلاً على الله، واثقاً بالله، والهموم تهزه، وتضيقه، وتضعف قوته، وتذهب حوله، حتى إذا وقف أمام البيت، وطاف بالبيت، وسبح الله وكبره وهلله وعظمه، وسأل الله صادقاً من قلبه؛ فكأن لم يكن به شيء من ذلك، وإذا بتلك الهموم والغموم تحل مكانها السكينة والأمن والأمان، وإذا بالضعف قوة، وإذا بالذلة عزة، وإذا بالمهانة كرامة، وإذا بالفقر غنىً بالله سبحانه وتعالى. وكم وكم! حتى أن المرأة المكروبة أم إسماعيل ضاقت عليها الأرض بما رحبت، وهي مع طفلها وفلذة كبدها ليس لها منجٍ إلا الله وحده لا شريك له، وترقى الصفا، وتسعى بين الصفا والمروة، تسعى وتخب لنجاة ولدها، ونجاة نفسها بإذن ربها، ويجعل الله تفريج كربها في هذه البقاع الطاهرات، وفي هذه المنازل الطيبات المباركات. هنيئاً ثم هنيئاً لمن دخل البيت الحرام مؤمناً بالله كامل الإيمان، هنيئاً لمن يأتي في الحج والعمرة وهو يستشعر في كل لحظة، وكل ثانية؛ أنه ضيف على الله، يرجو رحمة الله، ويتذكر كم من أكف رفعت؟ وكم من عطايا منحت؟ وكم من دعوات استجيبت؟ وكم وكم؟ فلم تزد الله إلا كرماً وجوداً سبحانه وتعالى. فإذا استشعر الإنسان هذا الفضل الذي جعله الله لبيته ولحرمه، فعندها تطيب نفسه بالله، ويقنع بما عند الله سبحانه وتعالى، ويرجو كرم الله وفضله، وكم من قصص للسلف الصالح الأولين والآخرين! آه ثم آه لو أذن لهذه البقاع أن تتحدث، فكم من دعوات استجيبت فيها! كم من صيحات وآهات وأنات فرجها الله عن المؤمنين والمؤمنات! آه كيف لو أذن لهذه البقاع أن تتحدث بعظمته وجبروته، وعزه وملكوته، واستجابته ورحمته سبحانه وتعالى! آه لو قدر الناس قدر ربهم سبحانه، وأنى يستطيع الإنسان أن يقدر الله حق قدره! ولكننا في غفلة، طغت علينا الدنيا، فيدخل الإنسان مكة، ويخرج منها، ولا يستشعر هذه المعاني!! ولا يحس بهذه الأحاسيس!! فإنا لله وإنا إليه راجعون، وإلى الله المشتكى من هذه الغفلة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرحم ضعفنا فيها، وأن يرزقنا إياها بالتفكر والاتعاظ. إلى كل مؤمن ومؤمنة نزل بهذا الحرم أن يتقي الله في نفسه، وأن يتقي الله في بلد الله الحرام، وإذا جاء بأسرته وأولاده وعائلته فعليه التذكر أن الله سائله عنهم، وأنه جاء للحسنات، والباقيات الصالحات، وأنه جاء يرجو رحمة الله، فيحكم زمام أولاده وأسرته، ويجعلهم مستقيمين على طاعة الله وذكره وشكره، ويذكرهم في كل لحظة، ويقرع مسامعهم بحرمة البيت، وحرمة المكان، عل الله عز وجل أن يعينهم فيه على ذكره وشكره وحسن عبادته. كل من جاء ضيفاً إلى هذا المكان، عليه أن يتفقد أولاده وزوجه وإخوانه وأخواته، وهذا أمر مهم جداً. وعلى الخطباء والأئمة أن ينبهوا الناس بهذه الحرمة لا سيما في هذه الإجازات، وأن يرحبوا بمن جاء ضيفاً إلى هذا البلد، وأن يهنئوه بفضل الله عز وجل عليه، ويذكروه بالحرم والحرمة، ويذكروه بفضل هذا المكان الطيب المبارك فلا يدنسه بمعاصيه، ولا يفلت عليه أبناؤه وبناته فيرتعوا في حدود الله، فتأتيهم نكبة من الله عاجلة أو آجلة، فلا يأمن أن يرجع بهم إلى بيته وداره من عاجل نقمة ربه به وبولده. فعلى الإنسان أن يخاف من الله عز وجل، وأن يفزع من الله إلى الله عز وجل، وهناك حوادث تشيب من هولها الرءوس، أناسٌ مكروا وفجروا واستهانوا بحرمة البيت -خاصة ممن أتى من خارج مكة- فما تركهم الله، ولم يمهلهم الله عز وجل، ويحكى أن بعضهم خرج من حدود الحرم فلما نزل بعرنة وهي في آخر حد الحرم؛ حشره البول -أكرمكم الله- فنزل عن بعيره ليقضي حاجته، فجاءته حية فلسعته في ظهره، فقصم الله ظهره بما كان من فجوره، وما أمهله الله حتى يرجع إلى داره، فخر ميتاً في مكانه. هذا بلد عظيم، وحرمته عظيمة، ومن أعظم ما يكون من العقوبة لمن فجر فيه أن يحرم الإنسان العودة إلى مكة، وهناك لله سنن، وهذه أشياء قد تعرف بالحوادث؛ لأن الله عز وجل يقول: {

حكم رفع اليدين بين الأذان والإقامة للدعاء

حكم رفع اليدين بين الأذان والإقامة للدعاء Q ما حكم رفع اليدين بين الأذان والإقامة للدعاء؟ A رفع اليدين من مضان الإجابة، وفيه خمسون حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين صحيح وحسن وضعيف قابل للانجبار، وفي الصحيحين أحاديث واضحة ما فيها إشكال تدل على مشروعية رفع اليدين في الدعاء، ولكن يتوقف في العبادات التوقيفية على الوارد. أما إنسان أصابه كرب فرفع كفه إلى الله، واستغاث بالله، ونادى ربه مستغيثاً مسترحماً سائلاً له من فضله؛ فإنه لا ينكر عليه، والسنة دالة على هذا، بل نص الأئمة على أن من أسباب إجابة الدعاء رفع اليدين، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب!) يقول الحافظ ابن حجر: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أسباب؛ لأنه يريد أن يبين أن المطعم الحرام يرد الدعوة، فجاء بأبلغ أحوال العبد الداعي، حتى يبين أن الله قد لا يستجيب الدعاء مع هذا الاسترحام، ومع هذه الوقفة العظيمة التي قل أن يخيب الله فيها عبده، وهذه الأسباب هي: السبب الأول: أشعث أغبر، بمعنى: رثاثة الحال، أي: أنه ليس من أهل البذخ، ولذلك قال في الحديث الصحيح الآخر: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوعٍ على الأبواب لو أقسم على الله لأبره) ورثاثة الحال ليس المراد بها أن الإنسان ما يلبس الطيب، ولا يعتني بمنظره، لكن الإنسان قد لا يكون عنده مال، فتأتيه الرثاثة دون تكلف، ودون تنطع، ودون مبالغة في التزهد، تأتيه طبيعة وسجية، أو يكون عنده مال ولكن يلبس الحال الذي يليق به في أوساط الناس دون مبالغة. السبب الثاني: إطالة السفر، قالوا: وكلما بعد السفر كان رجاء الإجابة للدعاء أقرب، والمسافر مستجاب الدعوة حتى يعود إلى أهله، رحمة من الله؛ لأن السفر قطعة من العذاب، فالمسافر مستجاب الدعاء، فإذا طال سفره كان أرجى لإجابة دعوته. السبب الثالث لإجابة الدعاء: قوله عليه الصلاة والسلام: (يمد يديه إلى السماء) فهذا يدل على مشروعية رفع اليدين في الدعاء. وفي الصحيح في قصة عبيد بن مالك الأشعري رضي الله عنه لما أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم في سرية، ورمي بسهم فقبل أن يموت قال لـ أبي موسى الأشعري: (أقرئ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام وقل له: يدعو لي، قال أبو موسى رضي الله عنه: فلما أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم خبره، قام فاستقبل القبلة، ورفع كفيه إلى السماء وقال: اللهم! اغفر لعبيدك أبي عامر، واجعله فوق كثير من خلقك يوم القيامة)، فرفع عليه الصلاة والسلام يديه. والأحاديث في رفع اليدين كثيرة، وكما ذكرنا أنها قرابة خمسين حديثاً ما بين صحيح وحسن وضعيف ينجبر، فالسنة رفع اليدين، فإذا رفعها بين الأذان والإقامة فلا حرج، ولا بأس، ومن تحرى السنة في هذا لا ينكر عليه. لكن هل الأفضل أن يكون دعاؤه داخل صلاة النافلة والراتبة أو يكون بعد الصلاة؟ الجواب: إذا كان الإنسان يصلي الراتبة فليدعو فيها، ثم إذا خاف إقامة الصلاة فسلم، وبقي وقت، وأراد أن يدعو ورفع كفيه؛ فإنه لا بأس بذلك. ونسأل الله بعزته وجلاله ونحن في هذا الوقت المبارك بين الأذان والإقامة أن يرحم ضعفنا، وأن يجبر كسرنا، وأن يتولانا بما تولى به عباده الصالحين! اللهم! إنا نسألك بعظمتك ورحمتك ولطفك بخلقك، وقد عظمت الفتن والمحن، وأنت أعلم بما ظهر منها وما بطن. يا حي يا قيوم! نسألك بعزتك وجلالك أن ترحم غربتنا، اللهم! ارحم غربتنا في هذا الزمان، والطف بنا يا رحيم يا رحمان، اللهم! ثبتنا على الدين الذي يرضيك عنا، واختم لنا بخير. اللهم! فرج عن إخواننا المسلمين المضطهدين في كل زمان ومكان، اللهم! فرج عن إخواننا في فلسطين، اللهم! اجعل لهم من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، اللهم! ثبت أقدامهم، اللهم! سدد سهامهم، اللهم! صوب آراءهم. اللهم! عليك بأعداء الدين حيثما كانوا، اللهم! زلزل عروشهم، اللهم! صدع بنيانهم، يا حي يا قيوم! خذهم أخذ عزيزٍ مقتدر، اللهم! اسلبهم عافيتك، واشدد عليهم وطأتك، وأنزل عليهم بأسك ولعنتك، إله الحق، يا حي يا قيوم! إنهم طغوا وبغوا، اللهم! فعليك بهم فإنهم لا يعجزونك. اللهم! من لليتامى والأرامل والضعفاء المضطهدين المشردين في مشارق الأرض ومغاربها من عبادك المسلمين. اللهم أغثنا وأغثهم يا حي يا قيوم! وأغث كل مسلم ومسلمة يا حي يا قيوم! يا أرحم الرحمين! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

باب حد الزنا [1]

شرح زاد المستقنع - باب حد الزنا [1] الزنا حرمه الله في جميع الشرائع لعظم فحشه وكثرة أضراره، فهو يفسد الفرد، ويدمر المجتمعات، ومن رحمة الله بعباده أنه حرمه عليهم، وزجرهم عنه بالحدود الشديدة التي تختلف باختلاف حال الزاني، ولابد من توافر شروط حتى تقام هذه الحدود.

تعريف الزنا

تعريف الزنا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب حد الزنا] معنى الزنا في اللغة لا يختلف عن معناه في الشرع، وقال الشارح رحمه الله: الفاحشة في قبلٍ أو دبر، وعرفه بعض العلماء فقال: هو الوطء في الفرج في غير نكاحٍ ولا شبهة، وبعضهم يضيف: (الفرج المعتبر) خروجاً من وطء البهيمة، ومن وطء المرأة الميتة؛ على القول بأنه لو وطئ امرأة ميتة أجنبية فليس بزنا، فيقول: الوطء في الفرج المعتبر في غير نكاح: فخرج وطء النكاح. وبعضهم يقول: الوطء في قبل في غير نكاح ولا شبهة، فأخرج اللواط، فإن الوطء في الدبر ليس بزنا من حيث الأصل، ولا يوصف شرعاً بأنه زنا، وإن كان يأخذ حكمه على الصحيح كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى. وقوله: (ولا شبهة)، وذلك لو أن شخصاً حديث عهد بإسلام، وكان الزنا في بلده مباحاً، أو كان بين الكفار ويظن أن الزنا مباح، فلما أسلم زنى، وظن أنه مباح؛ فهذا عنده شبهة، وهي الجهل بالحكم، وقد تكون الشبهة في المكان والمحل في الموطوءة، أو في الواطئ، فلو أن رجلاً جاء إلى موضع نوم زوجته، وفيه امرأة أجنبية نائمة؛ فظنها زوجته فوطئها، فلا يقام عليه الحد؛ لأن عنده شبهة، والعكس أيضاً لو أن امرأة وطئها رجلٌ، وكانت تظنه زوجاً لها، وتبين أنه ليس بزوجها، فهذه شبهة أيضاً، وكذلك شبهة الإكراه، وهي: شبهة التكليف، على القول بأن المكره ليس مكلفاً، فلو أنها أكرهت على الزنا أو أكره الرجل على الزنا؛ فلا يقام الحد على تفصيل عند العلماء في المكره على الزنا.

أدلة تحريم الزنا

أدلة تحريم الزنا حرم الله الزنا في كتابه، فقال سبحانه وتعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]، وعند العلماء أن النهي عن القربان من صيغ التحريم، كقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151]، فالنهي عن القربان من صيغ التحريم، بل هو من أبلغ الصيغ في التحريم؛ لأن الله لم يقل: ولا تزنوا، وإنما قال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]، فنهانا عن القرب من الزنا فضلاً عن فعل الزنا، قال العلماء: وهذا من باب التنبيه بالأدنى على ما هو أعلى منه، ومن القرب من الزنا: مجالسة النساء الأجانب، ومضاحكتهن، ومغازلتهن، ولمس الأجنبية، وإغراؤها بالفاحشة، فهذا كله من قربان الزنا، وهو يوصل إلى الزنا، وأشار إلى هذا المعنى ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليد تزني وزناها اللمس، والرجل تزني وزناها المشي، والعين تزني وزناها النظر، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)، فبين عليه الصلاة والسلام أن هذه كلها وسائل للزنا، ومن هنا جعل العلماء في الزنا مقصداً وغاية، ووسيلة إلى المقصد والغاية، فالزنا هو المقصد المحرم، وهو وطء المرأة الأجنبية، والوسيلة إلى الزنا مثل أن يحادثها وهي أجنبية عنه، أو يغازلها، أو يلمسها، أو ينظر إليها وإلى مفاتنها، أو تبرز مفاتنها، وكل هذا إغراء بالفاحشة ووسيلة للحرام، وقالوا: الوسائل إلى الحرام تأخذ حكم الحرام، والوسائل إلى الكبائر كالكبائر نفسها، فالوسائل تتفاضل بتفاضل مقاصدها، فوسيلة الشرك أعظم الوسائل قبحاً وجرماً عند الله عز وجل، وما دونه من وسائل الذنوب آخذة حكمه على حسب درجات ذلك الذنب. ومن أدلة تحريم الزنا في القرآن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) [الفرقان:68]، فبين سبحانه وتعالى أن من صفات أهل الجنة أنهم لا يزنون، وهذا يدل على حرمة الزنا؛ ولذلك قرنه الله بالشرك وقتل النفس. ومن أدلة التحريم أن الله عز وجل رتب العقوبة عليه، فقال سبحانه وتعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، فرتب العقوبة على فعله، وعند العلماء قاعدة وهي: ترتيب العقوبة على الفعل أو الترك دالٌ على حرمة ذلك الفعل أو الترك، وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله، فلا تترتب العقوبة إلا على ترك واجبٍ أو فعل محرم. ومن أدلة التحريم قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3]، قيل في قوله: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ} [النور:3]: إن الضمير عائد على فعل الزنا، ولكن النفس تميل إلى أن الضمير عائد على نكاح الزانية؛ لأن سبب النزول يقوي هذا كما في حديث مرثد بن أبي مرثد الغنوي حينما أراد أن ينكح عناقاً، وكانت امرأة بغياً بمكة، وكان فقيراً، فأراد أن ينكحها، ليصيب من مالها، فحرم الله ذلك وأنزل الآية، وقد تقدم معنا أن الزنا من موانع النكاح، وهذا مذهب الإمام أحمد، ونظراً لترجيحنا لهذا التفسير؛ لم نذكر هذه الآية الكريمة في بداية استشهادنا بآيات القرآن على تحريم الزنا.

الحكمة من تحريم الزنا

الحكمة من تحريم الزنا الزنا حرمه الله عز وجل لعظيم ما فيه من المفاسد والشرور، فهو اعتداء على أعراض المسلمين، حيث أنه يفسد نساء المسلمين ورجالاتهم، فهو من أعظم الذنوب التي تفسد المجتمعات، وتدمر الأخلاق، وتدمر القيم، وما فشا في أمة إلا ذهب حياؤها، وسقطت مروءتها، وأصبحت كالبهائم -والعياذ بالله- لا ترعى حرمة، ولا تحفظ ذمة. والزنا يؤدي إلى اختلاط الأنساب -والعياذ بالله-، فالمرأة تدخل على الرجل من ليس من ولده، والرجل يدخل على الرجل من ليس من ولده، والأمة المسبية أحل الله لسيدها وطأها، ولكن لا يطؤها حتى يستبرئها ويتأكد أنها لم تحمل من زوجها الأول الكافر، وفي سبي أوطاس أراد رجل أن يهم بأمة أحبها وتعلق بها وهي حامل، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أيريد أن يلم بها! - يعني وهي حامل- لقد هممت أن ألعنة لعنة تدخل معه في قبره)، هذا والمرأة حامل وانعقد الجنين في بطنها، فكيف -والعياذ بالله- بامرأة خانت زوجها أو رجل خان أخاه المسلم في إسلامه وأخوة الإسلام، فاعتدى على عرضه، فأفسده عليه! قال العلماء: الزنا مراتب بعضها أشد جرماً وأعظم ذنباً من بعض، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا، فالزنا بذات المحرم -والعياذ بالله- أعظم، وذلك كأن يزني بأخته مثلاً، ومذهب بعض السلف أنه يقتل مطلقاً، وأثر ذلك عن بعض الصحابة أنه قتل من فعل ذلك، وفيه حديث مرفوع، وقيل: إنه قُتِل تعزيراً. والزنا بامرأة الجار أعظم من الزنا بغيرها، والنبي صلى الله عليه وسلم لما سأله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك -وليس هناك أعظم من الشرك- قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك)، فالجار له حق على جاره، فإذا زنى بحليلته، وأفسد عليه زوجته أو بناته أو أخواته؛ فقد ظلمه، ووقع منه الاعتداء في حق جاره، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) والغالب أن الجار يأمن جاره، ويطمئن إليه، ويرضى بقيامه على عرضه، خاصة إذا فوض إليه أن يقوم ببعض مصالحه. والزنا يتفاوت في العقوبة، ويتفاوت السخط والغضب من الله عز وجل على فاعله، وفيه عقوبات شديدة؛ لأن الاعتداء به متعدد؛ لأن المرأة ستحمل وتنجب، ويدخل هذا الولد الأجنبي على فراش الرجل، فيأكل من ماله، ويستبيح النظر إلى عرضه، ثم بعد ذلك يرث من ماله، ثم يأتي هذا الولد بالذرية تلو الذرية، وهذا من أعظم الجرائم، وأشدها بلاءً، وأعظمها فساداً على الناس، ومن هنا اتفقت الشرائع السماوية كلها على تحريم الزنا، وليس هناك شريعة تبيح الزنا، وهذا من مرجحات أن حد الزنا أقوى من حد المسكر؛ لأن الزنا لم تبحه الشريعة قط، وكان السكر حلالاً، وأبيح لأهل الكتاب، وهذا يدل على عظم الزنا، وتتعاظم العقوبة بعظم الذنب، ولخطورة الزنا وعظيم ضرره؛ جعلت الشريعة للزنا عقوبات دنيوية، وعقوبات أخروية، فإذا لم يتب الزاني إلى الله عز وجل، ويبرأ إلى الله من فعله؛ عاجله الله بعقوبته في الدنيا والآخرة، وقد فتح الله أبواب التوبة، ورغب عباده فيها، ويسر لهم ذلك، وبين لهم سبحانه وتعالى أنه يقبل توبة من تاب ويمحو إساءة من أساء إذا تاب صادقاً من قلبه. قال رحمه الله: [باب حد الزنا] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بحد الزنا، وقدمه المصنف مثل غيره من أهل العلم لأنهم يرون أن تذكر أحكام الزنا قبل القذف والسكر والتعزير.

رجم الزاني المحصن

رجم الزاني المحصن قال رحمه الله تعالى: [إذا زنى المحصن رجم حتى يموت] أي: إذا فعل الزنا في حالة كونه محصناً، وتوافرت فيه شروط الإحصان؛ فإنه يرجم حتى يموت، وهذه العقوبة نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في صحيح مسلم أنه قال: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم). ونص عليه الصلاة والسلام على الرجم بالفعل؛ فإن ماعزاً لما اعترف عنده قال بريدة رضي الله عنه: فأمر به فرجم، كما في صحيح مسلم، ورجم المرأتين اللتين اعترفتا بالزنا، ورجم اليهودي واليهودية، فهذا كله يدل على مشروعية الرجم، وخطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إن تطاول الزمان بالناس ليقولن أحدهم: إن الرجم ليس في كتاب الله، كما يقول ذلك الآن من يسمون أنفسهم بالقرآنيين، يقولون: ما نعمل إلا بالقرآن، ولا يعملون بالسنة! ألا ساء ما يقولون، وساء ما يزرون، فرد السنة كرد القرآن -والعياذ بالله-، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم شبعان ريان متكئاً على أريكته) -وقد وقع هذا من بعض العظماء المتأخرين من أهل الجاه، فصدقت معجزته عليه الصلاة والسلام- قال: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته شبعان ريان يبلغه الحديث مما قلته أو أمرت به فيقول: ما نجد هذا في كتاب الله، ولقد أوتيت القرآن ومثله معه)، وأنكر عمر في خطبته على من ينكر الرجم لكونه غير موجود في القرآن، حيث أن الله يقول: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] وما ذكر الرجم، فقال عمر رضي الله عنه في خطبته: إنها كانت في كتاب الله ثم نسخت، قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان نص الآية: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة؛ نكالاً من الله، والله عزيزٌ حكيم) والحديث فيها صحيح، ثم نسخت، وهذا مما نسخ تلاوة وبقي حكماً، وقد بينا أن المنسوخ أقسام: منسوخ التلاوة والحكم، ومنسوخ الحكم دون التلاوة، ومنسوخ التلاوة دون الحكم، وهذا من أمثلته، ومن أمثلته كذلك ما تقدم في الرضاعة: (كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشر رضعات يحرمن ثم نسخن بخمس رضعات معلومات). وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الرجم عقوبة شرعية، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجم من بعده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وهم الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، ورجم الأئمة في القرون المفضلة، وكلهم على اعتبار هذه العقوبة، وأنها شرعية، وشرطها الإحصان.

حقيقة الإحصان

حقيقة الإحصان قال المصنف رحمه الله: [والمحصن من وطِئ امرأته المسلمة أو الذمية في نكاح صحيح] في الزنا عقوبتان: العقوبة الأولى: للبكر، والعقوبة الثانية: للثيب، والعقوبة للبكر أخف، وهو غير المحصن، وسنبينه إن شاء الله، والعقوبة للمحصن -وهو الثيب- أشد؛ لأنه كما يقول العلماء: كفر نعمة الله عليه، فإن الله حصن فرجه بالزوجة، وحصن فرجه بالحلال، فأبى إلا أن يعتدي حدود الله عز وجل، فابتدأ المصنف رحمه الله في عقوبة الزنا بالأشد، وهي عقوبة المحصن، وبعض العلماء يبدأ بعقوبة البكر من باب التدرج بالأدنى إلى الأعلى، لكن لما كان الباب باب حدود وعقوبات؛ فالبداءة بالحد الأعظم أنسب، وفي بعض الأحيان يراعي المصنف البداءة بالأدنى تدرجاً إلى الأعلى، ولكلٍ له وجهه. قوله: (من وطئ) يعني: من جامع امرأته المسلمة، والإحصان في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بمعنى النكاح، والعفة، والحرية، والإسلام، فهذه كلها من معاني الإحصان، وأصل مادة (حصن) في لغة العرب: منع، فالإنسان الذي تتوافر فيه شروط الإحصان؛ الغالب أنها تمنعه من الوقوع في الحرام، قال: من وطئ زوجته المسلمة، ولا بد من الوطء وهو: إيلاج الحشفة، بأن يجامع زوجته، فلو عقد على امرأة ثم زنى قبل أن يدخل بها فليس بمحصن؛ لذا قال: من وطئ زوجته، فلو أن رجلاً بكراً عقد على امرأة ثم -والعياذ بالله- زنى قبل أن يدخل بها، فلا نقول: إنه محصن؛ لأنه لم يتحقق شرط الدخول والوطء، فلا بد أن يكون هناك وطء، وأن يكون الوطء لزوجته، فخرج وطء الأمة، الذي هو التسري، فلو أنه وطئ أمته ومملوكته فليس بمحصن، ثم قال: (المسلمة)، فلو تزوج من أهل الكتاب يهودية أو نصرانية فهل يحصن؟ وجهان للعلماء رحمهم الله، وظاهر حديث كعب بن مالك عند الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد كعب أن يتزوج اليهودية؛ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها لا تحصنك)، فأخذ منه أن من تزوج كتابية فلا يتحقق الإحصان بها، فلا بد وأن تكون زوجته مسلمة، لكن في الحديث كلام. واختار المصنف رحمه الله أن الذمية يتحقق بها الإحصان، ومن العلماء من قال: إن الوطء للكافرة سواءً كانت يهودية أو نصرانية لا يتحقق به الإحصان، واحتجوا بحديث الدارقطني في قصة كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد كعب أن يتزوج اليهودية قال له: (إنها لا تحصنك)، واحتج الحنابلة ومن وافقهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثيب بالثيب)، ووطء الذمية كوطء المسلمة من حيث الأصل؛ لأنه عف بوطءٍ شرعيٍ معتبر. وحديث الدارقطني فيه ابن أبي مريم، وقد ضعفه غير واحد من العلماء، ومنهم الإمام أحمد وابن معين وغيرهما، فعلى القول بضعفه يترجح المذهب الذي اختاره المصنف رحمه الله، وهو أن الذمية يتحقق بها الإحصان كالمسلمة؛ لإذن الشرع بنكاح أهل الكتاب، وعلى القول بأن الحديث حسن، فهو نص في موضع النزاع، حيث نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن الذمية لا تحصن الناكح، والأشبه أنها تحصنه، لعموم حديث: (الثيب بالثيب). وقول المصنف رحمه الله: (في نكاح صحيح)، خرج النكاح الفاسد، فلو أنه نكح بنكاح شغار، أو نكح بنكاح متعة، وكان يظن أن هذا جائزاً، لبس عليه شخص وقال له: نكاح المتعة جائز، فجاء وعقد عقد متعة، ثم لما علم أن عقد المتعة حرام؛ ترك زوجته التي استمتع بها، ثم زنى، فهل عقد المتعة الذي وقع منه يحصل به إحصانه؟ A لا؛ لأنه لا بد أن يكون الوطء في نكاح صحيح معتبر، فيخرج من هذا المختلف فيه، فلو أن حنفياً تزوج بدون ولي على مذهب الحنفية أن الولي لا يشترط، وعند الحنابلة والشافعية لا يصح النكاح بدون ولي، ولكن نحكم بصحته؛ لأنه يعتقد صحة هذا النكاح، فخرج المختلف فيه في الفروع، فالمراد: أن يكون فاسداً بحكم الشرع، فإذا كان فاسداً بحكم الشرع؛ فإن وجود هذا النكاح وعدمه على حد سواء، ونقول: ليس بمحصن فلا يرجم، وإنما يجلد.

شروط إقامة الحد على المحصن

شروط إقامة الحد على المحصن قال المصنف رحمه الله: [وهما بالغان عاقلان]. أي: لا نحكم بكونه محصناً إلا إذا تزوج بالغة، فلو أن رجلاً تزوج امرأة عمرها أربع عشرة سنة ولم تحض، فوطئها ثم زنى، فالعقد موجود، ووطء المرأة موجود، ولكنها غير بالغة؛ فإذا لم تكن بالغة فإنها لا تحصنه، وهذا مذهب جماهير العلماء رحمهم الله، وخالف بعض الشافعية رحمهم الله، لكن يقول البعض: قبل خلافه لم يكن يوجد من يخالف في هذه المسألة، فلا بد من البلوغ ولا بد من العقل؛ لأن هذا محل التكليف، قالوا: ومن الأدلة عليه أنه لو أن صبياً وصبية زنيا لم يقم عليهما الحد، فكيف نحكم بثبوت الإحصان الذي هو موجب الحد؟!! قالوا: فلا بد وأن يكون بالغاً، وأن تكون زوجته بالغة، حتى يثبت إحصانه، وإذا ثبت إحصانه يرجم، أما إذا تزوج صغيرة أو مجنونة، مثلاً كانت قريبته مبتلاة بمس من الجن فقال: أريد أن أتزوجها وأسترها، أو رجل فقير ليس عنده مال، ولم يجد إلا امرأة مجنونة، فعقد عليها وأراد أن يسترها، أو رجل أراد أن يحتسب في امرأة مسلمة مجنونة فتزوجها، فلما تزوجها زنى بعد نكاحها، فإننا لا نحكم بإحصانه، لا بد من وجود الكمال في الاثنين، في الرجل والمرأة، فيكون بالغاً وتكون بالغة، ويكون عاقلاً وتكون عاقلة، وعلى هذا؛ لا إحصان إذا كان أحدهما مجنوناً أو كانا مجنونين، فلو أن مجنوناً زوِّج أثناء جنونه، ثم أفاق من جنونه فزنى، فإننا لا نحكم بإحصانه حينما كان في حال جنونه ناقص الأهلية، ولو أن ولداً صغيراً زوجه أبوه قبل البلوغ، ثم بمجرد بلوغه وقع في الزنا، فإنه غير محصن. إذاً: يشترط أن يكون الاثنان بالغين عاقلين حتى يثبت الإحصان، فالإحصان يشترط فيه: البلوغ والعقل في الزوج والزوجة. ويقول بعض العلماء: يشترط ذلك في أحدهما، بحيث لو كان الثاني مجنوناً ثبت الإحصان لغير المجنون، ولو كان أحدهما صبياً ثبت الإحصان للبالغ، فلو أن رجلاً بالغاً تزوج صبية، ثم وطئها، ثم زنى، حكمنا بإحصانه، ولكن هذا قول ضعيف، وهو القول الذي ذكرناه عن بعض أصحاب الشافعي رحمه الله، وقد وافقهم بعض أصحاب الإمام مالك رحمة الله على الجميع. قال المصنف رحمه الله: [حرّان]. لأن الله تعالى يقول: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25]، فبين سبحانه وتعالى أن الأمة عليها نصف ما على المحصنة، فجعل الإحصان قيداً في الحرية، وهذا شبه إجماع من العلماء رحمهم الله، وهناك من يحكي قولاً شاذاً، لكن المعروف عند أهل العلم أن الرجم لا يكون للعبد ولا للأمة. قال المصنف رحمه الله: [فإن اختل شرطٌ منها في أحدهما؛ فلا إحصان لواحدٍ منهما]. إن اختل الشرط في الاثنين فلا إشكال قولاً واحداً، وإن اختل في أحدهما فالجماهير على أنه كاختلاله فيهما، وقد بينا هذا.

باب حد الزنا [2]

شرح زاد المستقنع - باب حد الزنا [2] الزنا من أعظم المحرمات، وقد شرع الله الحد فيه ليزجر العباد عن الوقوع في هذه الفاحشة، ويختلف الحد بحسب اختلاف حال الزاني: فإن كان محصناً فعقوبته الجلد ثم الرجم، وإن كان غير محصن فعقوبته الجلد ثم التغريب عاماً. واللواط من أعظم الفواحش، وقد اختلف العلماء في عقوبة من فعل ذلك.

حد الزاني غير المحصن

حد الزاني غير المحصن بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإذا زنى الحر غير المحصن، جلد مائة جلدة، وغرب عاماً] شرع المصنف رحمه الله في بيان عقوبة الزاني غير المحصن، وهو الذي وصف في السنة بالبكر، فبعد أن بيّن أعلى الحدين في الزنا -وهو حد الرجم- شرع في بيان عقوبة الزاني البكر، وهي عقوبتان دل عليهما الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فأما العقوبة الأولى فهي الجلد، وأما العقوبة الثانية فهي التغريب. وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الزاني غير المحصن يجلد مائة جلدة، واختلفوا في تغريبه، وسنبين إن شاء الله تعالى أقوال العلماء وأدلتهم والراجح منها.

عقوبة الجلد

عقوبة الجلد أما بالنسبة لعقوبة الجلد فقد نص الله عز وجل عليها في كتابه، ونص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح من سنته، وأجمع عليها العلماء رحمهم الله سلفاً وخلفاً. فأما دليل الكتاب: فإن الله عز وجل يقول: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، وهذه الآية الكريمة -كما يقول علماء الأصول- نص في وجوب الجلد على الزاني، وإذا قيل: إن الآية نص أو الحديث نص؛ فهذا أقوى أنواع الدلالة؛ لأن الدلالة على مراتب أعلاها وأقواها -كما بيّنا غير مرة- هو النص، والنص هو: الذي لا يحتمل معنى غيره، مثل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ما فيها احتمال، ولا تتردد بين معنيين فأكثر، فالآية المذكورة نص في ثبوت حد الجلد مائة جلدة على من زنى، والقاعدة عند علماء الأصول: أن الحكم إذا جاء مرتباً على وصف مشتق دلّ على أن ما اشتق منه ذلك الاسم أو الوصف هو علة الحكم، فالله عز وجل يقول: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، جاء الحكم في قوله: (فاجلدوا) مرتباً على اسم مشتق وهو اسم الفاعل: (الزانية والزاني) فدل على أن ما اشتق منه ذلك الاسم وهو الزنا علة الحكم، فكأن الله يقول: أمرتكم بجلدهما من أجل الزنا، وعلى هذا فإن الآية الكريمة نص على ثبوت هذا الحد. أيضاً الآية نص من وجه آخر وهو: أن الله جعل الحد مائة جلدة، والإجماع على أنه لا يزاد عليها ولا ينقص منها؛ لأن الله يقول: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، وعند العلماء لفظة (المائة) لا تحتمل معنى آخر، فالحكم نص، والعقوبة التي تضمنها ذلك الحكم نص أيضاً. وفي الصحيحين في قصة العسيف -وهو الأجير- الذي زنى بامرأة صاحب الغنم، فلما ترافعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما- قال صلى الله عليه وسلم: (إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام -الذي هو البكر-، وعلى امرأة هذا الرجم، واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها)، فهذا يدل على أن الجلد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي حديث عبادة في الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام). فثبت نص الكتاب والسنة على عقوبة الجلد، وأجمع العلماء سلفاً وخلفاً على أن الزاني غير المحصن الحر يجلد مائة جلدة، هذه هي العقوبة الأولى.

عقوبة التغريب

عقوبة التغريب والعقوبة الثانية في حده: التغريب، والتغريب في لغة العرب: مأخوذ من (غرب الشيء): إذا توارى وغاب عن الأنظار، ولذلك يقولون: غربت الشمس، إذا توارت عن الأنظار، وهذه المادة تطلق على الشيء البعيد، ومنه سمي الغريب غريباً؛ لأنه بعيد عن أهله، وقد غاب عن وطنه وبلده ومسكنه، فالتغريب: عقوبة شرعية تقع في الحدود وفي التعزيرات، فأما في حدود الله عز وجل فيقع في حد الزنا وحد الحرابة، ونص الله عز وجل عليه في حد الحرابة {أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33] بلفظ: النفي، والنفي هو: التغريب، ونصت السنة عليه في حد الزنا في قوله عليه الصلاة والسلام: (وتغريب عام) في حديث العسيف، وفي حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم. فثبت بهذا أن عقوبة التغريب تقع في الحدود الشرعية، في حد الزنا وفي حد الحرابة، لكنها قد تقع في غير الحدود على سبيل التعزير، كما أثر عن عمر في نفي شارب الخمر، وهذه العقوبة قد يستخدمها الإمام إذا رأى المصلحة في نفي رجل فاسد، وعليه حمل ما رواه البخاري عنه عليه الصلاة والسلام أنه نفى المخنثين، فهذا يدل على مشروعية هذه العقوبة في التعزير للإمام، فإذا رأى المصلحة في إبعاد شخص أو أشخاص عن مكان ما أو موضع ما؛ فإنه لا بأس بذلك ولا حرج، وقد يستخدمه المفتي في فتاويه تنبيهاً على استصلاح الأنفس كما في حديث أبي سعيد رضي الله عنه في قصة الرجل الذي قتل مائة نفس، فاستفتى أعلم أهل زمانه -وهو آخر الرجلين قولاً في المسألة- فدُل على هذا العالم، فقال: إني قتلت مائة نفس، آخرها نفس عابد، فهل لي من توبة؟ قال: وما يمنعك من التوبة؟ ثم قال له: إن قريتك قرية سوء، وقرية بني فلان فيها قوم صالحون، فارتحل إليها، فهذا يستخدمه أهل العلم في الفتوى، ويستخدمه الإمام، ويستخدمه القاضي للمصلحة، وهذا التغريب يسمى (التعزير)، وبابه باب التعزير. فالزاني المحصن -رجلاً كان أو امرأة- يغرب سنة كاملة إلى مسافة القصر فأكثر، وما كان دون مسافة القصر -وهو مسافة السفر- فليس بتغريب، وهذا التغريب ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديثين الصحيحين السابقين، وثبت عن أبي بكر وعمر كما في رواية نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما جلدا وغربا، وأثر عن علي رضي الله عنه أنه غرب إلى البصرة، وأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن غرب إلى خيبر، وإلى البصرة، وكل ذلك مسافة قصر فأكثر. مسألة: هل يشرع التغريب في عقوبة الزنا؟ وهل هو واجب لازم من تمام العقوبة والحد؟ قولان للعلماء رحمهم الله: القول الأول: وهو قول جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث رحمة الله على الجميع أنه يجب تغريب الزاني الحر غير المحصن سنة كاملة، وهذا من حيث الجملة، وعندهم خلاف في مسألة: هل يشمل التغريب الرجال والنساء؟ فالجمهور متفقون على أن التغريب عقوبة في الزنا من حيث الجملة، وإذا قلنا: من حيث الجملة فمعنى هذا أن الجمهور عندهم خلاف عند التفصيل، من الذي يغرب؟ ومن الذي لا يغرب؟ دائماً إذا قلنا: في الجملة؛ فمعناه أن التفصيل فيه خلاف، وقد تكون هناك شروط عند بعضهم، لا يعتبرها آخرون. القول الثاني: لا يجب التغريب، وهو إلى الإمام إن رأى المصلحة أن يغرب غرب، لكنه ليس من الحد، وليس بلازم ولا واجب، وهذا مذهب الحنفية. أما الذين قالوا بوجوب التغريب في حد الزنا فقد استدلوا بصحيح السنة في حديثي عبادة بن الصامت وأبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عن الجميع، ووجه الدلالة منهما أن في حديث أبي هريرة وزيد بن خالد قال صلى الله عليه وسلم: (وعلى ابنك جلد مائة، وتغريب عام)، وفي لفظ: (جلد مائة، ونفي سنة)، وقال في حديث عبادة: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام)، قال الجمهور: نص هذان الحديثان على ثبوت هذه العقوبة، والإلزام بها، فدل هذا على وجوبه، وأنه من تمام الحد، وأن حد الزاني البكر غير المحصن أن يجلد، ويغرب سنة كاملة. واستدلوا أيضاً بقضاء الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعلي، وحكي عن عثمان أيضاً رضي الله عن الجميع، فإنهم غربوا في حد الزنا، قالوا: فهذا كله يدل على أن التغريب سنة كاملة من الحد والعقوبة. أصحاب القول الثاني قالوا: لا يجب التغريب، وللإمام التغريب إن رأى المصلحة، لكن من حيث الأصل ليس بواجب، وليس من تمام الحد، واستدلوا بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، قالوا: إن الله عز وجل أمر بجلد الزاني والزانية مائة جلدة ولم يأمر بشيء زائد عن ذلك، وعند الحنفية قاعدة وهي: الزيادة على النص نسخ، فإن قيل لهم: إذا كانت الزيادة على النص نسخ فهذه زيادة ثابتة وصحيحة عن النبي صلى الله وعليه وسلم، قالوا: هي جاءت في خبر الآحاد، والقرآن قطعي، ولا يجوز نسخ القطعي بالظني، فعندهم أصلان: الأول: أن الزيادة على النص نسخ، والثاني: أنه لا يجوز نسخ القطعي بالظني، قالوا: إن الظني -وهو خبر الآحاد- يمكن أن يخطئ فيه الراوي، وتدخل عليه الاحتمالات، والخبر القطعي لا مجال فيه لذلك، فلا يمكننا أن نترك اليقين بالشك، هذا وجه قولهم من ناحية نظرية، والمسألة مبسوطة في الأصول. وقالوا أيضاً: التغريب فيه عقوبة من لم يذنب. واستدلوا أيضاً بأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه نفى شارب الخمر إلى خيبر، فلحق بـ هرقل فتنصر، فقال عمر: لا أغرب أحداً بعد اليوم، هذا حاصل ما استدلوا به. والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بوجوب التغريب في الحد؛ لما يلي: أولاً: لثبوت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وبهذا قال الجمهور، وهو مذهب صحيح وثابت، ولا إشكال فيه من حيث الدليل. ثانياً: استدلالهم بالآية الكريمة لا يصح، ونقول: إن الزيادة على النص ليست بنسخ، ولا نسلم لهم أنها نسخ؛ لأن النسخ فيه رفع، والزيادة على النسخ ليس فيها رفع، بل فيها إثبات، وقد تكلم الجمهور على هذه المسألة، وبينوا أن الزيادة على النص ليست نسخاً. ولو سلمنا جدلاً أنها نسخ، فما المانع أن تنسخ السنة القرآن إذا ثبتت بنص صحيح، ولقد صلى الصحابة رضوان الله عليهم بقباء، فأتاهم رجل فقال: أشهد أني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر أو العصر وقد وجه إلى الكعبة، فتحول الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال، وكان عندهم نص قطعي أن يستقبلوا بيت المقدس، وقد رءوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس عندهم فيه شك، ثم جاءهم النسخ بخبر الآحاد، وخرجوا عن قطعي ما شاهدوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو أبلغ من الدلالات المحتملة- ورجعوا إلى خبر الآحاد، والقول بأنه لا ينسخ خبر الآحاد النصوص القطعية قول مردود، فالصحابة ما قالوا: كيف نترك اليقين بهذا الخبر؟ هناك يقين، وهناك شك، وهناك درجة بين اليقين والشك ملحقة باليقين، وهي غالب الظن، فإذا جاءنا الخبر من رجل معروف بالصدق ثقة عدل؛ فإنه يغلب على ظننا أنه صادق، ولذلك أباحت الشريعة دماء الناس وأعراضهم، وأوجبت الحدود بشهادة العدلين، فالقصاص يثبت بغلبة الظن بشهادة العدلين، فالشريعة نزلت الظن الغالب منزلة اليقين، وبهذا يبطل ما استدل به الأحناف.

حكم تغريب المرأة الزانية

حكم تغريب المرأة الزانية إذا ثبت أن التغريب عقوبة شرعية ف Q هل تغرب المرأة مع الرجل أم أن التغريب يختص بالزاني دون الزانية؟ وجهان عند الجمهور الذين قالوا بثبوت التغريب: فجمهور الجمهور -وهم: الشافعية والحنابلة والظاهرية- يرون أن التغريب يشمل الرجال والنساء، وخالف المالكية رحمهم الله فقالوا: يغرب الرجل، ولا تغرب المرأة. استدل الجمهور بعموم قوله عليه الصلاة والسلام (البكر بالبكر: جلد مائة، وتغريب عام)، وهذا شامل للذكر والأنثى. واستدل المالكية بقوله عليه الصلاة والسلام -كما في حديث ابن عمر في الصحيحين-: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم)، قالوا: أنتم تقولون: إن التغريب إلى مسافة القصر، ومعنى ذلك أن المرأة إن غربناها ستسافر بدون محرم، وهذا خلاف النص، وإن غربناها مع المحرم فسنظلم المحرم الذي لا ذنب له، هذا وجه استدلالهم بالحديث. والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بثبوت التغريب للرجال والنساء على حد سواء لما يلي: أولاً: لصحة دلالة السنة على ذلك حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (البكر بالبكر: جلد مائة، وتغريب عام)، ولم يفرق بين الرجل والمرأة. ثانياً: أن ما ذكروه من الاستدلال بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة)، جوابه من وجهين: الوجه الأول: لا نسلم أننا ظلمنا المحرم، وهذا من أقوى الأجوبة، قال بعض العلماء: لأنه لا تزني المرأة إلا بتقصير من أهلها ومحارمها، وإذا علم المحرم أن زناها ووقوعها في الحرام سيجره إلى العقوبة معها، وسيتحمل شيئاً من العقوبة؛ حفظ الناس أعراضهم، فمن هنا نقول: ما ظلمنا المحرم؛ لأنه لا يقع زنا المرأة إلا بنوع من تفريط أهلها، وهذا أبلغ في تعظيم حدود الله، وزجر الناس عن التساهل فيها، وحينئذ لا يمتنع أن الشريعة تشرك المحرم في عقوبة التغريب. الوجه الثاني: نقول: لا مانع أنه يذهب بها، ثم يقفل راجعاً؛ لأن الأصل أن الإمام إذا غرب الزانية أن يضعها في مكان يؤمن فيه الفساد، كما لو سافرت لحاجتها في بلد، فتركها المحرم في البلد عند قرابتها أو نحوهم ممن يصونها، ففي حال السفر يشترط المحرم، أما إذا بقيت واستقرت في موضعها بدون محرم فرخص فيه غير واحد من العلماء، وبهذا يبطل ما ذكروه، وناظر الإمام الشافعي رحمه الله في هذه المسألة مناظرة طويلة نفيسة، مليئة بالعلم، وقوية في الحجة في كتابه النفيس (الأم)، وبين أن نصوص الشرع على هذا، وأنها دالة على ثبوت التغريب واعتباره. إذا ثبت هذا، فيغرب سنة كاملة، وهذا -كما ذكر العلماء- فيه حكم عظيمة، قالوا: إن الزاني لا يخلو من حالين: الحالة الأولى: أن يكون فاسداً في نفسه. والحالة الثانية: أن يكون الفساد من غيره. فإن كان فساده من نفسه فالمائة جلدة على ظهره أبلغ في زجره ومنعه من الزنا مرة أخرى، وإن كان زناه بسبب قرناء سوء أو نحو ذلك، قطع عنهم سنة كاملة، ويهيئ له ما يعينه على الصلاح بعد العقوبة، فتغريبه عن موضعه الذي هو فيه أبلغ في حصول التوبة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.

حكم حبس الزاني عند تغريبه

حكم حبس الزاني عند تغريبه مسأله: إذا غرب سنة كاملة، ينقل من بلد إلى بلد، ومن مدينة إلى أخرى، ولا يبقى في المدينة التي فعل فيها الزنا، وإذا كانت المدينة التي فعل فيها الزنا هي مدينته التي هو فيها، فلا إشكال أنه يغرب عنها إلى أي موضع على مسافة القصر، وإذا غرب هل يحبس أو يترك؟ وجهان للعلماء: جمهور العلماء رحمهم الله أنه يغرب إلى غير مدينته ولا يحبس، بل يترك يقضي مصالحه، ويفعل مصالحه، ويراقب فلا يرجع إلى بلده التي غرب منها، وهذا مذهب الجمهور الذين قالوا بالتغريب. ومن أهل العلم من قال: إذا غرب فإنه يسجن في مكان تغريبه سنة فيمنع من الناس، خشية أن يفر أو يرجع إلى البلد الذي زنى فيه، والأول أقوى وأظهر. وقول المصنف رحمه الله: (الحر) أخرج العبد والرقيق، والجمهور على أن الرقيق لا يغرب، وبعض العلماء يقول بالتشطير في الجلد وفي التغريب لقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25]، وستأتي هذه المسألة. قال المصنف رحمه الله: [ولو امرأة]. سبق أن قلنا: إن المصنف إذا جاء بلفظ (لو) فإنه يشير إلى خلاف مذهبي، وذكرنا أن من العلماء من يقول: إن المرأة لا تغرب، وعلى هذا فإن قوله: ولو، يشير به إلى أن في المسألة خلاف، والذي اختاره جماعة الأصحاب عن الإمام أحمد رحمه الله أن التغريب يشمل الرجال والنساء على حد سواء، لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.

حكم الرقيق الزاني

حكم الرقيق الزاني قال المصنف رحمه الله: [والرقيق خمسين جلدة ولا يغرب] هذا القول الذي أشرنا إليه؛ لأن الرقيق مرتبط بخدمة سيده، فالقول بأنه لا يغرب هو الأقوى، وقال بعضهم: بالتغريب، وبعض المتأخرين يقول: بالتشطير، والذي عليه الأكثرون أنه لا يغرب الرقيق سواء كان ذكراً أو أنثى، والدليل على أنه لا يغرب: ما ثبت في الصحيح عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا زنت أمة أحدكم؛ فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت في الثانية؛ فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت الثالثة؛ فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت الرابعة؛ فليجلدها الحد وليبعها ولو بظفير)، ولم يذكر التغريب، وهذا يدل على أن عقوبة التغريب ساقطة، فأصح القولين سقوطه خلافاً لمن قال: إنه يغرب، وأثر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه غرب أمة من إمائه.

حد اللوطي

حد اللوطي قال المصنف رحمه الله: [وحد لوطي كزانٍ] اللواط من الفواحش العظيمة، وهي من كبائر الذنوب -أعاذنا الله وإياكم منها- وهي: إتيان الرجل الرجل، وقد عاقب الله عز وجل من فعلها -وهم قوم لوط- فرفعهم إلى السماء ثم جعل عالي القرية سافلها، ثم أتبعهم بحجارة من سجيل، وهذا أبلغ ما يكون من العقوبة، وذكر بعض أئمة التفسير أنه رفعت القرية حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونهيق الدواب، وهذا من أبلغ وأشد ما يكون عقوبة نسأل الله السلامة والعافية! ولذلك شنع الله عز وجل هذه الفاحشة، ووصفها بالخبث، ووصفها بالفسق وبالسوء قال: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء:74]، فوصفهم بهذه الأوصاف، ووصفهم بالجهل، ووصفهم بالاعتداء {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:55]، فهذا كله يدل على حرمة هذا الذنب. وأجمع العلماء على التحريم، وأنه من كبائر الذنوب، لكن اختلفوا في عقوبة من فعل هذه الجريمة، والذي عليه الحنابلة والشافعية وبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة وبعض أصحاب الإمام مالك أن حد اللواط كحد الزنا، سواء بسواء، يجلد ويغرب إن كان غير محصن، ويرجم إن كان محصناً. ومذهب الحنفية أن يحبس حتى يتوب أو يموت. وقال بعضهم: يقتل، وهو اختيار بعض أصحاب الإمام مالك رحمهم الله، واختلفوا في قتله، فقال بعضهم: ينظر إلى أعلى دار فيرمى منها منكساً، كما أثر ذلك عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم، واستدلوا بأن الله عز وجل عاقب قوم لوط بهذه العقوبة، ولكن هذا ضعيف، ووجه ضعفه أننا لو قلنا بأنه يرمى من أعلى دار أو يحرق بالنار كما أثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم؛ للزم من هذا أن التاجر إذا طفف الكيل أخذ بعقوبة قوم شعيب المذكورة في القرآن، والذي يظهر أن قوم لوط كان عندهم جريمة أشد من اللواط وهي كفرهم بالأنبياء، فكفروا بنبي الله لوط عليه الصلاة والسلام، واجترءوا على حرمته، وعقوبتهم كانت جماعية، وجاءت بسبب ذنوب الجماعة، وليست كعقوبة الفرد، فالاستدلال بمثل هذا يحتاج إلى نظر؛ لأنه لو درج على هذا لانتقضت كثير من الأحكام، وما أثر عن بعض الصحابة فلا يمنع أن يكون ذلك منهم على سبيل التعزير والزجر؛ لأنه إذا وقع الشيء كأول حدث فإن الفاعل قد يعاقب بأشد العقوبة حتى لا يتتابع الناس عليه، فيكون فيه معنى زائد عن الجرائم المعتادة المألوفة. والذي يظهر -والله أعلم- أن إلحاق النظير بنظيره أقوى من إلحاقه بعقوبة الله عز وجل لقوم لوط؛ لأن قوم لوط كفروا بنبي الله عز وجل، وكذبوه، وردوا ما جاء به، ولم يقبلوا أمره لهم بالطهارة، ولم يقبلوا أمره لهم بالعفة، فهذا يضعف جعل هذه العقوبة أصلاً، وأما ما ورد في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أصل، فيلتحق اللوطي بالزاني، ويأخذ حكمه محصناً كان أو غير محصن، هذا هو الأشبه والأقعد والأقرب والأقوى دليلاً إن شاء الله تعالى. وقد بين المصنف رحمه الله تعالى أن حده كالزاني، وقد تقدم حد الزاني سواء كان رجلاً أو امرأة، فإن كان اللوطي محصناً جلد ثم رجم، وإن كان غير محصن فإنه يجلد ويغرب سنة. مسألة: السحاق هو: استمتاع المرأة بالمرأة، وهو محرم بإجماع العلماء رحمهم الله، وهل يأخذ حكم الزنا أو لا يأخذه؟ الصحيح: أنه لا يأخذ حكم الزنا؛ لأنه لم يحصل فيه الإيلاج الذي يترتب عليه الحكم، كما سيأتينا في حد الزنا، ومن هنا تكون عقوبة السحاق قاصرة، والأشبه أنه يرجع فيها إلى نظر الإمام، فيعزر بما يراه زاجراً ومانعاً عن السحاق. لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اللواط شيء، فيه أحاديث فيها الأمر بالقتل لكن في سندها ضعف، والأشبه ما ذكره أهل العلم. وهنا مسألة نحب أن ننبه عليها: المبالغة في فهم بعض النصوص أمر صعب جداً على طالب العلم وعلى من يريد أن يؤصّل تأصيلاً شرعياً صحيحاً، فبعض العلماء يقول: إن من فعل جريمة اللواط لا تقبل له توبة ولا يختم له بخير، ولا يدخل الجنة!! وقد وردت كثير من الأسئلة فيها استشكال هذا، سبحان الله العظيم!! من هذا الذي يستطيع أن يقول: إن اللواط فاق الشرك، وأصبح أعظم من الشرك والكفر بالله عز وجل!! نعم هو جريمة ممقوتة، وملعون من فعلها، لكن لا نقول: إن الله لا يقبل توبته، وإنه لو تاب لا تحسن خاتمته، وإنه لا يمكن أن يدخل الجنة، من هذا الذي يستطيع أن يذكر هذه الأمور ويقطع بها على الله عز وجل، والنصوص جاءت بخلافها!! والله تعالى يقول في محكم كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وقد مر بنا في بعض الأسئلة أن رجلاً وقع في هذا البلاء، فقال: إنه لا يريد أن يسلم، ولا يريد أن يطيع الله عز وجل بعد سماعه هذا الكلام، يأس من رحمة الله عز وجل نهائياً، حتى فُهِّم وبُيّن له بالدليل الشرعي: أن هذه المعصية من تاب منها توبة نصوحاً تاب الله عز وجل عليه، وليس هناك ذنب أعظم من الشرك بالله عز وجل، وقد تاب الله عز وجل على المشرك إذا تاب وصدق في الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى. فننبه على هذا، خاصة وأن بعض الوعّاظ ينقل من بعض هذه الكتب، وهذا الشخص الذي يأس -والعياذ بالله- من رحمة الله، وكاد أن يهلك، قال: سمعت خطيباً قالها في خطبته، وبعضهم يقولها في المحاضرات المسجلة على الأشرطة، وهذا من ضعف الفقه في وعظ الناس، ليس كل وعظ يقال ينقل للناس، بل ينبغي أن يضبط بالضوابط الشرعية. وننبه أيضاً على الأصل العام، وهو أن الوعظ فيه دخن، وينبغي الحذر منه، وكتب العلماء التي في الوعظ والرقائق وذكر العبّاد والصالحين وما كانوا عليه من الصلاح؛ قد يدخل فيها أمور تخالف النصوص الواضحة من الكتاب والسنة، والعلماء لم ينبهوا عليها؛ لأن هذه الكتب أصلاً كانت تنسخ باليد، وما كانت تقع إلا في يد عالم، وليس كزماننا الآن الكتاب يقع في يد كل شخص، كان في القديم الكتاب عزيز، ولا تجد منه في العالم كله إلا نسخة أو نسختين، فما كان يقع إلا لعالم يأتي ويقول: أريد هذا الكتاب تنسخه لي، ويجلس الناسخ سنة كاملة أو سنتين وهو ينسخ الكتاب، هذا كله لعزة الكتب، فكانت هذه الكتب لا يقرؤها إلا العلماء، وهم يعرفون غثها من سمينها، وصحيحها من سقيمها، ومن هنا يعرف الجواب على من يستشكل أن هذه الكتب كانت منشورة وتنسب لأهل العلم، فنقول: إنها كانت منشورة بين أهل العلم الذين يعرفون صحيحها من ضعيفها، وهذا الذي جعل بعض الغيورين ينبهون على بعض ما فيها من الأخطاء، مثل قولهم عن الإمام فلان: كان يصلي ثلاثة آلاف ركعة، وآخر كان يسبح ثلاثين ألف تسبيحة في اليوم، كيف ثلاثين ألف تسبيحة؟!! كيف يكون هذا؟!! في الثانية كم سيسبح؟!! هذا من المبالغات، إلا إذا كان كما يقول بعضهم: من وصل إلى مقام رفيع فإنه إذا جر سبحة فيها ألف حبه تحسب له ألف تسبيحة، سبحان الله!! قول على الله بدون علم، وجرأة، انظروا كيف الشيطان يستزل الإنسان؟ إذا يئس منه بالمعصية جاءه من باب الطاعة، فليحذر من مثل هذه الأمور، والتحذير منها مهم جداً، ومثل ذلك أيضاً ما قيل عن الإمام أبي حنيفة أنه مكث أربعين سنة يصلي الفجر بوضوء العشاء، أستغفر الله! كيف وزوجته عنده؟ لا تستطيع أن تقطع أنه صلى الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة، من هذا الذي جلس مع الإمام أبي حنيفة رحمه الله يراقبه أربعين سنة أو عشرين سنة كما يذكر بعضهم؟ هذه أشياء العاقل المنضبط الذي يعرف أصول الشرع لا يمكن أن تنطلي عليه. قال بعض العلماء: يعرف ضعف الرواية والخبر بضعف متنها، وهذا من ضعف المتن، فوجود الغرائب في المواعظ، وفي أخبار العلماء أو في الأحكام الشرعية يدل على ضعفها، فينبغي للخطيب وللواعظ وللمحاضر وللمعلم أن يحذر من نقلها، ويحذر منها نصيحة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وغيرة على هذا الدين، وبعداً عن أن يكون الإنسان حاطب ليل، ينقل ما صفا وما كدر، وعلى طلاب العلم واجب كبير في هذا الأمر. انظروا كيف الوعظ بمثل هذه الأمور أوصل الشخص إلى درجة اليأس من رحمة الله! حتى كاد -والعياذ بالله- أن يبقى على البعد عن الله عز وجل إلى أن يموت! ما فكر أن يرجع إلى الله لأنه سمع من قال له: إنه لا توبة لك، وإن تبت فإنه لا تحسن خاتمتك، وإذا تبت وندمت لا تدخل الجنة! فهذا من أبلغ ما يكون من القول على الله بدون علم. وعلى طالب العلم أن يحذر، وأن ينتبه من مثل هذه الأشياء، وأن يحذر منها، وأن يبقي الأمر على السنن الوارد في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله عليه الصلاة والسلام، ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم عامتها وخاصتها.

الأسئلة

الأسئلة

حكم جمع المرأة والرجل إذا زنيا أثناء الرجم أو الجلد

حكم جمع المرأة والرجل إذا زنيا أثناء الرجم أو الجلد Q رجم النبي صلى الله عليه وسلم الرجل والمرأة اليهوديين اللذين زنيا، فهل يفهم منه أنه ينبغي أن يقام الرجم عليهما مجتمعين وكذا الجلد أم لا حرج أن يكونا منفردين؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فيشرع أن يرجما معاً، ويشرع أن يرجم كلاً على حده، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجم الزاني منفرداً، ورجم الزاني والزانية جميعاً، ولا يجب الجمع بينهما في العقوبة؛ لأنه قد تختلف الجناية منهما كبكر مع ثيب، وثيبة مع بكر، فالجمع بينهما ليس بواجب، وليس بصفة معتبرة في الحد، ويرجع الأمر إلى القاضي، وإلى الوالي، فإذا نظر أن المصلحة أن يفرق بينهما فرق، وإذا رأى أن المصلحة أن يجمع بينهما جمع، لما فيه من زجر للناس، وما يكون أبلغ في تحقيق المقصود الشرعي، والله تعالى أعلم.

حكم المبعض إذا زنا

حكم المبعض إذا زنا Q إذا زنى المبعض فهل يقام عليه حد الرجم؟ A المبعض فيه شبهة، وهي شبهة الرق، ولا يقام عليه حد الرجم سواء كانت الحرية أكثر أو كان الرق أكثر؛ لأنه فيه شبهة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ادرءوا الحدود بالشبهات)، وأما قدر العقوبة فينظر إلى قسط الحرية وقسط الرق، ثم يشطر الحد بحسبهما، والله تعالى أعلم.

حكم سفر المرأة من غير محرم

حكم سفر المرأة من غير محرم Q إذا كان هناك بعض الأقوال على منع تغريب المرأة واختصاصه بالرجال، فما توجيهكم حفظكم الله لبعض النساء اللاتي يسافرن بالطائرات في الإجازات أو مع السائقين للعمل لمسافات أكثر من مسافة القصر؟ A هذه مسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، وإذا كان أحد من أهل العلم أفتى هؤلاء النسوة بأن يسافرن بلا محرم فهو الذي يتحمل مسئوليتهن، وهن إذا كن -فيما بينهن وبين الله عز وجل- يعتقدن علم هذا العالم، وأنه حجة لهن بين يدي الله، وعملن بقوله؛ فلا ينكر عليهن، وهذا قول طائفة من السلف رحمهم الله، إذا كانت الرفقة مأمونة، وفيها حديث عدي بن حاتم المشهور في الصحيح، ولا إنكار في المختلف فيه، هذا إذا كن يتأولن هذا القول، وأما القول الصحيح في هذه المسألة أنه لا يجوز خروج المرأة مسافة القصر بدون محرم، وفي هذا نص واضح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم)، فوجب البقاء على هذا النص، وهذا هو الصحيح من قولي العلماء رحمهم الله، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام (أنه جاءه رجل، وقال: يا رسول الله! إني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي انطلقت حاجة، فقال صلى الله عليه وسلم: انطلق فحج مع امرأتك)، وما قال له: هل الرفقة مأمونة أو غير مأمونة؟ وكانت في رفقة حج، وهم صحابة رضوان الله عنهم وأرضاهم، ومع ذلك يقول: (انطلق فحج مع امرأتك) والقاعدة الأصولية أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال. قال بعض العلماء: في قوله: اكتتبت، مسألة فقهية؛ لأنه حينما اكتتب في الغزوة، تعين عليه الغزو والجهاد، ومع ذلك أسقط عنه الواجب والفرض؛ لأنه إذا اكتتب الشخص وعينه الإمام، أو جاء متطوعاً وقبله الإمام؛ فقد تعين عليه الخروج، وهذا حدده الإمام، قال: إني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (انطلق فحج مع امرأتك) فلا يسقط هذا الواجب إلا بواجب أعظم منه؛ لأنه من باب تقديم الفرض على الفرض، فدل على أن أمره هذا فيه صيانة للعرض، وهو أعظم، وهو نوع جهاد، فإن سفر الرجل مع زوجته ليحافظ عليها، وسفر الأخ مع أخته كذلك؛ نوع جهاد. ولكن هنا ننبه على مسألة وهي: أن على كل واحد منا أن يتقي الله في قرابته ونسائه وعرضه، وألا يقصر في مساعدتهن، فإذا احتاجت أن تخرج وقالت له: أريدك أن تكون معي، أن تسافر معي، وبإمكانه ذلك؛ فليحتسب عند الله عز وجل ذلك، وهذا من صلة الرحم، ما دام أنها في غير معصية، وأنها في غير غضب الله عز وجل، وأنها لا تفعل الحرام، تكون خارجة لأمر مباح، أو مصلحة من مصالحها الدنيوية أو الأخروية، المصالح الدنيوية مثل: التجارة والعمل، والمصالح الدينية مثل: الحج والعمرة وبرها بوالديها، مثل أن تسافر بوالديها، فعلى الرجال أن يضحوا، أما أن يقول لها: ما يجوز لك أن تخرجي، ثم هو لا يوصلها، ويجلس المحرم يقول لها: ما يجوز لكي أن تفعلي هذا، ثم لا يفعل شيئاً، ولا يقدم شيئاً، فهذا من الصعوبة بمكان، ولذلك من يريد السنة أن تقبل، والحق أن يقبل، والخير أن ينتشر؛ فليضحِ وليقدم الثمن، ومن أبلغ ما يكون من مرضات الله عز وجل بر الوالدين وصلة الرحم، فهذان الأمران خيرهما عاجل وآجل، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (من أحب منكم أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره -أي: يزاد له في عمره- فليصل رحمه)، وأقرب الناس منك رحماً أختك وأخوك، فالأخت والأخ هم أحق القرابة -بعد الوالدين والولد- بالصلة والبر والإحسان. فعلينا أن نتقي الله عز وجل، وأن ننظر للأمر بهذه النظرة، وأن يحرص الإنسان على القيام على عرضه وأهله، بعض الأخيار تحتاج أخته أن تذهب لشراء بعض الأمور التي تحتاجها أو يحتاجها أولادها، فتقول له: أريدك أن تذهب معي إلى السوق، فيقول: لا، ما تذهبي إلى السوق، وما تذهبي إلى السوق إلا مرة واحدة، جزاك الله خيراً على الغيرة، ولكن حينما تكون حكيماً لبيباً محافظاً على حدود الله محسناً إلى خلق الله؛ فهذا أكمل وأفضل، قل لها: اختاري وقتاً مناسباً أبعد عن الفتنة، فيذهب بها مثلاً في الصباح الباكر، ويقضي لها حوائجها، وينتظرها حتى تشتري ما تريد، فيكون أمر ونهي؛ وهي تحس أنه يريد الخير لها، لكن يأتي ويقفل أمامها الباب، لا تخرج ولا تدخل، ولا يقضي لها حوائجها، وإن قضى لها حوائجها جاءها بكل هم وغم، وتكلم عليها، وأساء إليها، ويحاسبها، وهذا أمر ينبغي لكل إنسان منصف أن ينظر إليه في نفسه. والله! إننا لنعيب من غيرنا ما لو عبناه على أنفسنا لأهلكنا أنفسنا بأنفسنا، يشهد الإنسان على نفسه من حيث لا يشعر، فالواحد منا إذا قال له أخوه: أريد أن أذهب إلى السوق، يقول له: ماذا تفعل؟ وماذا تشتري؟ وكم تشتري؟ ما هذا التدقيق الذي يدققه مع أخيه؟ ولو نظر إلى نفسه لوجد أنه يذهب إلى السوق عشرات المرات، وأن الذي اشتراه أخوه مرة؛ يشتريه هو مئات المرات، هناك أمور ندقق فيها، وكأن الشيطان يتسلط علينا، ولذلك من سنن الله عز وجل أنه يجازي المخلوق بما يعامل إخوانه، ومن شدد على الناس؛ شدد الله عليه، ومن يسر على الناس؛ يسر الله عليه، وأولى الناس بتيسيرك أقرب الناس منك، جرب وانظر، فما من زوج ولا أخ يحسن إلى أهله وولده ورحمه وقرابته، ويلاطفهم، ويدخل السرور عليهم؛ إلا كانوا أسمع ما يكون له إذا أمر أو نهى، وهذا هو الذي تؤخذ به الحجز عن النار، فلا بد للإنسان أن ينظر للأمر نظرة عامة كاملة شاملة، وألا يحرجهم لهذا الأمر، وإذا جاء في مسألة فيها شبهة، سأل بالأفضل والأكمل، وجاء به على أحسن الأوجه وأتمها. كان بعض العلماء والفضلاء إذا احتاج أهله إلى لباس، نظر إلى أهله قبل أن يسألوه، وجاءهم بما يحتاجون إليه، ما يأتيهم بالشيء الواحد، يأتي بأربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة أصناف، من أجود وأحسن ما يكون، ويضعها بين يدي زوجته، ويقول: اختاري ما شئت، فإذا بها تحار! لو نزلت هي إلى السوق لا تجد مثل هذا، فمن يريد أن يحفظ أهله؛ فليضح. عليك أن تنظر إلى حاله عليه الصلاة والسلام مع أمهات المؤمنين ومع ولده، وإذا أردت أن تكون مثل ما كان عليه، وتأمرهم، وتنهاهم، وتلزمهم بالسنة؛ فانظر إلى حاله عليه الصلاة والسلام في إحسانه وبره لهم، تنظر إليه زوجاً يقف لزوجته من أجل أن تنظر، وتنفس عن نفسها، وتنظر إليه عليه الصلاة والسلام أباً يدخل السرور على بنته زينب رضوان الله عنها بحمل ابنتها أمامة في الصلاة التي جعلت قرة عينه، المسألة كلها مشاعر، فقد ملك عليه الصلاة والسلام القلوب ببره وإحسانه، وكان عليه الصلاة والسلام يفتح القلوب قبل أن يفتح الأسماع، فمن ينظر إلى سيرته وهديه عليه الصلاة والسلام عندما يريد أن يقيم بيتاً قائماً على السنة فينبغي أن يتفقد مداخل الشيطان على أهله وولده. بعضهم إذا أرادت زوجته أن تذهب أو تسافر يقفل أمامها الباب: لا تذهبي، ولماذا تذهبين؟ وكم تذهبين؟! جزاك الله خيراً على الغيرة، ولكن عليك أن تفكر في الأصلح والأكمل، حتى لا تجعل للشيطان عليها سبيلاً، إذا فعلت ذلك؛ اتقيت الله، وكنت أحسن ما يكون حالاً، وأمنت من الفتنة، فقل أن يجد الشيطان سبيلاً على أمثال هذه النفوس الكريمة الأبية السوية الرضية الهنية التي تبحث عن سعادة أهلها وأولادها. والعكس بالعكس، فإذا شدد الإنسان شدد الله عليه، وهكذا تجد من يكون عنيفاً في أسلوبه، ونعرف هذا من خلال فتاوى الناس وأسئلتهم، فبعضهم يأتي بمسائل معقدة تماماً حتى تتعارض عنده نصوص الشرع؛ لأنه أوصل نفسه إلى حرج وضيق بطريقته التي يسير عليها، فلما تسأل عن أمور ترتبت عليها هذه المسائل؛ تجد أنه لا يتتبع السنة، ولا يترسم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في مراعاة الأكمل والأفضل. فهذه وصية عامة: أن يحرص الإنسان كل الحرص على أن يحفظ عرضه، ولكن يقفل الوسائل أو الطرق التي تفضي إلى وقوعهن في الفتنة، وعماد الخير في تقوى الله عز وجل، ومن اتقى الله جعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل عسر يسراً، فنسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلنا من المتقين، وأن يحفظ أعراضنا وأعراض المؤمنين، إنه ولي ذلك، وهو أرحم الراحمين.

أفضلية الستر والتوبة على الاعتراف بالذنب

أفضلية الستر والتوبة على الاعتراف بالذنب Q عدة أسئلة فيها: رجل فعل فعلاً يوجب الحد وقد تاب، ولا زالت نفسه تؤنبه، فهل له أن يذهب إلى شخص من أصدقائه ليقيم عليه الحد وترتاح نفسه؟ ويقول سائل آخر: كلما قرأت قصة ماعز رضي الله عنه أصبح عندي شعور أنه لا يطهرني إلا الحد، ويقول آخر: إن كان الزاني يستغفر ويتوب فعلى من يطبق حد الزنا؟ نرجو من فضيلتكم التوجيه. A هذه الأسئلة فيها جانبان: الجانب الأول: جانب الاعتراف بالذنب، والإجماع منعقد على أن الأفضل والأكمل أن يستر نفسه، ويحسن الظن بربه عز وجل (يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني؛ لغفرتها لك ولا أبالي) يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء -يعني: ما من ذنب إلا وفعله- ثم استغفرتني لغفرتها لك ولا أبالي، (يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل)، من عظم ذنبه وعظم رجاؤه في الله؛ كان أكمل توحيداً لله عز وجل؛ لأن الذي يتوب مع عظم الذنب ما يتوب إلا عن عقيدة، فهو يعلم أن الله غفور رحيم، ولا يتوب إلا عن إيمان بأن الله لا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة الطائعين (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني). الله سبحانه وتعالى فتح أبواب التوبة والإنابة إليه سبحانه وتعالى، فمن هذا الذي يقفل رحمة الله عز وجل عليه؟! الإجماع منعقد أنه يستتر، قال صلى الله عليه وسلم: (من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله)، وهذا أمر من رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، فالشيطان يأتي إلى أمثال هؤلاء ويقول لهم: إن الله لا يقبل منكم التوبة، وييأسه من رحمة الله، ويشككه في توبته إلى الله، والله عز وجل قال قولاً -وهو أصدق القائلين، ووعد وعداً ولن يخلف وعده، وهو رب العالمين- فقال سبحانه وتعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً أذنب بذنب فقال: رب اغفرلي، فقال الله: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويعفو عن الذنب، قد غفرت لعبدي)، فالشاهد من هذا كله؛ أن الأصل يقتضي أن على الإنسان أن يستر نفسه، وأما اعترافه عند القاضي فهذا خلاف الأولى، وخلاف الأفضل والأكمل، وبقاؤه في الدنيا مطيعاً لله؛ أعظم لأجره، وأثقل في ميزانه، وأرضى لربه، وفي الحديث أن رجلاً توفي بعد أخيه بأربعين يوماً، وكانا صحابيين، فتوفي أحدهما، وبقي الآخر بعده أربعين يوماً، وهو أقل منه صلاحاً وإحساناً، فلما توفي الثاني اختصم الصحابة: أيهما أفضل؟ فخرج صلى الله عليه وسلم فقال لهم: (وما يدريكم ما الذي تبلغه صلاة أربعين يوماً)، فطول العمر في طاعة الله عز وجل غنيمة للعبد، وكم من ذنب أصلح الله به حال العبد! كم من أناس لم يتلبسوا بالذنوب فاغتروا بصلاحهم فزلت أقدامهم! وكم من أناس عرفوا السيئات فهجروها! فكلما جاءتهم لذة السيئات؛ كرهوها ومقتوها، فرفع الله درجاتهم بهذا البلاء إلى ما لم يخطر لهم على بال! حتى أن بعض العلماء يقول: من ابتلي بالذنب فتاب؛ أعظم مقاماً من الذي لم يبتلَ به؛ لأن الذي ابتلي بالمعصية وذاق لذة الشهوة وحلاوتها ثم أعرض عنها فهذا لا يكون إلا بقوة إيمان، وقوة وازع من الله عز وجل، ومع هذا كله فإن الأصول كلها دالة على هذا الأصل ولزومه. الجانب الثاني: مسألة من يقول: أذهب إلى زميلي ليقيم علي الحد، هذا لا يغنيه شيئاً؛ لأن الحدود لا تقام إلا بوالي، ويقيمها السلطان على الوجه المعتبر بعد ثبوتها شرعاً، حتى لو أقر في غير مجلس القضاء لم يؤاخذ بإقراره؛ لأن الحد لا يثبت حتى يقر به في مجلس القضاء، وهذا له أصول شرعية، فلو ذهب إلى شخص وقال له: اجلدني مائة جلدة، ما ينفعه ذلك، ولو أحضر جميع الناس لينظروا إليه، إذا لم يكن على وجهه الشرعي بقضاء شرعي، فلابد أن يكون هناك قاضٍ يستمد قضاءه من ولاية شرعية، فإذا فعل الحد غير القاضي؛ فإن هذا لا يسقط الحد، ولو قال له: ارجمني، فرجمه، فإنه لا يعتبر حداً شرعياً من حيث الأصل. القضية الأخيرة: وهي قول البعض: إذا كان من يتوب يستتر فمن الذي يقام عليه الحد؟ نقول: من الذي قال لك: لا بد أن تقام الحدود؟ ومن قال: إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يقام فيها حد إلا إذا تابوا وأنابوا إلى ربهم؟ يقام الحد إذا ثبت، لكن لا نقول للناس: لا بد كل شهر يطلع لنا واحد يعترف بذنب من أجل أن نقيم عليه الحد! رحمة الله واسعة فلا نضيقها، لو أن الأمة عاشت الدهر كله والقرون كلها وما ثبت فيها حد زنا واحد؛ فالحمد لله، ستر من الله ستر به عباده، هل تريد أن تهتك ستر الله على عباده؟ ما تستطيع؛ لأن هذه رحمة من الله عز وجل، ولا عجب أن تكون هذه الرحمة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم. كم من أناس زنوا ثم صلحت أمورهم واستقاموا إلى ربهم! ومنهم عباد صالحون من أئمة السلف، لهم قدم راسخة في العلم والعمل والصلاح وهداية الناس، تابوا وتاب الله عليهم، وهل هناك ذنب أعظم من الشرك بالله عز وجل؟ وهل رأيت مثل عمر يحمل السيف يريد أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم ثم يجعله الله إماماً من أئمة المسلمين؟ من أنت حتى تدخل بين العبد وربه؟ لا يستطيع أحد أن يدخل بين الله وبين عباده، هو ربهم، وهذا حكمه، وهذا شرعه، قال لنا: نستتر، فنستتر، لو قال لنا: نكشف أنفسنا، كشفنا أنفسنا، ونعمت أعيننا بحكم ربنا، والله! لا نقدم ولا نؤخر، رضيت أنفسنا بذلك، فهذا حكم الله، وهو يحكم ولا معقب لحكمه، ولذلك قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، ويقول عليه الصلاة والسلام: (أنا رحمة مهداة)، فهذه من سمات الرحمة في الشريعة. الشريعة وضعت الحد لمن فعل الجريمة أمام الناس، وشهد عليه الشهود، وهتك ستر نفسه، وفعل الزنا أمام أربعة شهود وشهدوا عليه؛ فهذا يقام عليه الحد حتى ولو قال: تبت، حتى ولو كان من أصلح الصالحين، وبهذا أقفلت الشريعة على الناس أبواب الفساد، لكن من وقع في الفاحشة في ستر، أو شرب الخمر في ستر، فالأفضل أن تستره. أذكر بعض الأخيار أنه جلس معنا مجلساً ذات يوم فذكرنا مسألة الستر، فقال: أعرف رجلاً كان مسرفاً في الخمر، وكان شريراً كثير الفساد، فشاء الله أن أراه يوماً سكران، قال: وبإمكاني أن أفضحه، فأخذته إلى بيتي حتى أفاق ثم كشفت له الأمر، وقلت له: والله! إني كنت قادراً على أن أوصلك للقضاء، ولكن صن نفسك، واتق الله في نفسك، وذكره بالله عز وجل، فانصرف ثم رجع له بعد نصف شهر وقد تغير حاله، وتلألأ وجهه، وقد كان من أشر عباد الله وأفسقهم فقال له: سترتني، أسأل الله أن يسترك في الدنيا والآخرة، واعلم أنني في تلك الساعة -التي كلمتني فيها بأنك كنت قادراً على فضيحتي ولم تفضحني- تفطر قلبي وتألم، حتى كرهت هذه المعصية تماماً، وتاب وصلح حاله، ثم حفظ القرآن وأصبح من خيار الدعاة إلى الخير. فنسأل الله بعزته وجلاله أن يتولانا برحمته، وأن يعفو عنا وعن المسلمين، إنه ولي ذلك، وهو أرحم الراحمين.

باب حد الزنا [3]

شرح زاد المستقنع - باب حد الزنا [3] الشريعة الإسلامية كاملة، وقد جعلت لكل حكم شرعي قدراً، ومن الأحكام التي قيدت فيها الشريعة تقييداً شديداً إثبات الزنا، إذ لابد لإثباته من توافر عدد من الشروط، حتى لا تكون أ‘راض المسلمين غرضاً لأصحاب الأغراض والنوايا السيئة.

شروط وجوب حد الزنا

شروط وجوب حد الزنا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يجب الحد إلا بثلاثة شروط]. بين المصنف رحمه الله حكم الشريعة في حد الزنا، والحدود التي فصلها دليل الكتاب والسنة بالتفريق بين البكر والثيب، ثم ذكر رحمه الله صفة الجلد وصفة الرجم اللذين ثبت بهما الدليل في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد هذا شرع في بيان الشروط التي ينبغي توافرها حتى يحكم بوجوب الحد. قوله: (ولا يجب) أي: ولا يثبت، والواجب في لغة العرب يطلق بمعنى: اللازم، ويطلق بمعنى: الثابت، وهنا يصح أن تقول: (ولا يجب) يعني: لا يلزم الحد إلا بثلاثة شروط، فحينئذٍ يكون الواجب بمعنى اللازم المحتم؛ لأنه لا يجوز تأخير الحدود، وإذا ثبتت الحدود على الصفة الشرعية؛ فيجب أن تنفذ ولا تعطل، وإما أن تقول: (ولا يجب) يعني: لا يثبت، وكلاهما صحيح، يقال: وجب، إذا ثبت، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36]، وكذلك أيضاً يقال: وجب، بمعنى لزم، كما تقول: هذا واجبٌ عليك، ومنه الواجبات الشرعية. وقوله: (إلا بثلاثة شروط) أي: لا بد من تحقق هذه الثلاثة الشروط حتى نحكم بوجوب الجلد مع التغريب أو الجلد مع الرجم على التفصيل الذي بيناه.

الشرط الأول: تغييب الحشفة

الشرط الأول: تغييب الحشفة قال المصنف رحمه الله: [أحدها: تغييب حشفته الأصلية كلها]. لا يحكم بثبوت الزنا إلا إذا غيّب رأس الذكر، وعبّر عنه المصنف رحمه الله بالحشفة، وهي: رأس الذكر، وقد فصل العلماء رحمهم الله وبينوا هذه الأمور؛ لأنه ينبغي للقاضي وللعالم وللمفتي ألا يحكم بالزنا، ولا يصف الشخص بأنه قد زنى فعلاً إلا بعد أن تتوافر هذه الشروط، ويكون هذا الأمر على وضوح لا لبس فيه، فلا بد أولاً من وجود فعل الجريمة، وتنتفي الشبهة، ثم بعد ذلك يثبت على المجرم فعله، فإذا حصل فعل الجريمة، وانتفت الشبهة، وقام الدليل على وقوعها؛ فحينئذٍ يجب تنفيذ حكم الله عز وجل، هذا من حيث الأصل. يبقى Q متى يحكم على نفسه بأنه قد زنى فعلاً؟ ومتى يحكم القاضي بأنه زان؟ كل ذلك يحتاج إلى وجود الفعل، فبيّن رحمه الله أن تغييب الحشفة -وهي رأس الذكر- يثبت به الزنا، ويترتب ما يقرب من ثمانين حكم شرعي على تغييب هذا القدر. قال رحمه الله: (تغييب حشفته الأصلية)، فإذا كان رأس الذكر مقطوعاً، فالعلماء رحمهم الله ذكروا أن العبرة بقدرها، فإذا غيّب قدرها فقد ثبت الزنا، وأما لو لم يحصل التغييب للحشفة بأن استمتع بالمرأة دون تغييب حشفته في فرجها، ولم يحصل الإيلاج؛ فإنه لا يحكم بزناه، فلا بد من وجود هذا الشرط حتى يحكم بفعل الجريمة على الوجه المعتبر. وقوله: (تغييب حشفته) أي: في الفرج المعتبر شرعاً. قال المصنف رحمه الله: [في قبل أو دبر أصليين]. قوله: (في قُبل) إذا كان زنا، وقوله: (أو دبر) إذا كان لواطاً -والعياذ بالله-. وقوله: (أصليين) أخرج مثلاً الدمى واللعب الموجودة الآن في زماننا، فإنه لو حصل تغييب لفرجه فيها -والعياذ بالله-؛ فإن هذا ليس بفرج أصلي، ولا يحكم بكونه زانياً، وهكذا لو وضعها في قماش أو قطن أو وسادة أو غير ذلك وغيّب هذا القدر؛ فلا يحكم بكونه زانياً، بل لا بد أن يغيب رأس الذكر، وأن يكون ذلك في فرج أصلي، فخرج غير الأصلي. قال المصنف رحمه الله: [حراماً محضاً]. قوله: (حراماً) أي: هذا الفرج حراماً، فخرج الفرج المباح، فلو أنه غيب حشفته في قبل امرأته؛ فإنها ليست بحرام، وقوله: (محضاً): أي: لا شبهة فيه، وفي بعض النسخ: محصناً، وهذا تصحيف، والصواب: محضاً، أي: أن هذا الفعل وقع في موضع حرمته لا شبهة فيها، فخرج الموضع الذي فيه شبهة، كأن يطأ امرأة يظنها زوجته، وسيأتي تفصيل هذا في الشرط الثاني. والمباح هو في زوجته وفي أمته، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج:29 - 30]، فجعل الاعتداء وحصول الجريمة فيما خرج عن الحلال، وذلك في قوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7]، إذاً لا بد لثبوت الزنا أن يغيب حشفته في فرج غير معتبر شرعاً، وهو الحرام المحض الخالص الذي لا شبهة فيه، والسبب في هذا أن الحدود تدرأ بالشبهات كما سيأتي.

الشرط الثاني: انتفاء الشبهة

الشرط الثاني: انتفاء الشبهة قال المصنف رحمه الله: [الثاني: انتفاء الشبهة]. أي: أن يكون وطؤه لهذا الفرج لا شبهة له فيه، ولا تأويل له فيه، فإن كانت عنده شبهة؛ فإن هذا يدرأ عنه الحد، وهذا من لطف الله سبحانه وتعالى بعباده، ومن العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، فإن الإنسان الذي التبست عليه الأمور، واختلطت عليه، أو ظن الحرام حلالاً، ووقع فيه وهو يظن أنه مباحٌ له شرعاً؛ ليس كالذي يفعل ذلك عن قصد وطلب ومحبة وعلم بحرمته. وقوله: (انتفاء الشبهة) أي: ألا توجد الشبهة بالنسبة للفاعل أو المفعول أو هما، فإذا وجدت الشبهة في أحدهما انتفى الحد عنه، وأما الآخر فإنه يبقى عليه الحد على الأصل الشرعي، وأصل المشتبه: يقال: شابه كذا، إذا كان قريباً منه في الصفات بحيث إذا نظرت إليه ظننته الآخر، ولذلك سميت الأشياء الملتبسة والمختلطة بالشبهات؛ لأن الإنسان الذي عنده شبهة يظنها حلالاً؛ لأن فيها شبه من الحلال، فمن وطئ امرأة يظنها زوجته، وتبين أنها غير زوجته؛ فإنه لا يثبت عليه الزنا، مثلاً: وجدها نائمة على فراش زوجته، فهذا يشبه الزوجة، ويجعله ظاناً حل المكان، وهذا ما يسمى بشبهة المحل، فالشاهد من هذا أن الشبهة تكون في الشيء المختلط والملتبس الذي تتقارب صفاته ونعوته بحيث يصعب على الإنسان أن يميزه عن غيره أو عن ضده. إذاً: قوله رحمه الله: (انتفاء الشبهة) يعني: ألا يكون عند الفاعل أو المفعول شبهة في فعله. قال المصنف رحمه الله: [فلا يحد بوطء أمةٍ له فيها شرك]. لو أن رجلين اشتركا في شراء جارية، فدفع كل واحد منهما نصف القيمة، فلما ملكا الجارية ظنّ أحدهما أن ملكه للنصف يحل له وطأها؛ فوطأها على أنها مملوكة ليمينه، ولم يكن يعلم أن الجارية إذا كانت في شرك بين اثنين فأكثر؛ فلا يحل لأحد هؤلاء المشتركين وطؤها، فوطئها وهو يظن -بناءً على ملك اليمين- أنها تحل له، فلا يحد لوجود الشبهة، وهذا ما يسمى بشبهة الملك؛ لأن عنده شبهة في ملكية الجارية، وظن -بناءً على وجود هذه الشبهة- أن الله أحل له وطأها، والله عز وجل لم يحل له وطأها. قال المصنف رحمه الله: [أو لولده]. لو وطئ الجارية التي فيها شركٌ لولده أو ملك لولده، وظن ذلك حلالاً له؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عند ابن ماجة وغيره: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم)، فجعل كسب الولد ككسب أبيه، وجعله تابعاً لأبيه، وقال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (إنما فاطمة بضعة مني)، فجعل الولد بضعة وقطعة من والده كالشيء الواحد، وقال صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك)؛ فإذا اشتبه عليه الأمر بهذا فلا يحد، قالوا: إذا ملك الولد جارية؛ فللوالد شبهة في وطئها؛ لأن ملك الولد يشبه ملكه هو، فلو ظن أن ملك ولده للجارية يحل له وطأها، أو كان لولده شرك فيها، وليست ملكاً محضاً لولده وإنما فيها شرك، يشترك ولده مع شخص آخر فيها؛ فوطئها؛ فحينئذٍ يندرئ عنه الحد، ولو وطئ جارية يملكها ولده فلا إشكال؛ لأن الشبهة فيها قوية، وحينما يكون هو أو ولده مشاركاً للغير؛ فإن الشبهة أيضاً مؤثرة، فمن باب أولى إذا كان هو الذي يملك أو كان الشرك له هو. قال المصنف رحمه الله: [أو وطئ امرأة ظنها زوجته]. هذا يسمى بشبهة المحل، مثلاً: رأى امرأة على صفات امرأته، وظنها زوجته؛ فوطئها، أو نامت امرأة أجنبية مكان امرأته ولم يتيسر إعلامه، نحو ما يحصل للرفقة أثناء سفرهم وارتحالهم إذا نزلوا في الأماكن؛ فربما نزل بعضهم في مكان بعض، ولربما نامت المرأة في مكان أختها، فجاء إلى فراشه ووطئ امرأةً يظنها زوجةً له، أو كانت المرأة تشبه زوجته، فظنها زوجة له فوطئها، ثم تبين أنها ليست بزوجة له، فهذا كله شبهة، والشبهة يدرأ بها الحد، ويقولون: إن الجريمة يكون فيها قصد الإجرام بالظاهر والباطن، فالشخص الذي يزني عالماً بحرمته عليه ويفعل ما حرم الله؛ فقد اجتمع فيه الأمران: الظاهر، وهو: فعل الزنا، والباطن، وهو: قصده وإرادته وطلبه ومحبته والتشوق له، وقصد فعل المعصية موجود فيه، والقصد الباطن هو النية، فعنده النية لفعل الحرام، والظاهر هو فعل الزنا. ولكن المشتبه وإن وقع في الزنا ظاهراً، فإنه في الباطن يظنه حلالاً له، فلم يجتمع فيه الأمران، وليس فيه معنى انتهاك الحرمة الذي يستحق به العقوبة، وهذا كما أشار إليه الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في قواعد الأحكام في مسألة اجتماع الظاهر والباطن في فعل المحرمات. قال المصنف رحمه الله: [أو سريته]. ظنها سرية من سراريه فوطئها، فإذا وطئ من يظنها زوجة له أو أمة له، فالحكم واحد، المهم أن يكون هناك اشتباه في المحل، فصورة المسألة: أن يكون المحل في الأصل حلالاً له، زوجته أو سريته، ثم يحصل اشتباه في هذا المحل فيظن أن ذلك المحل حلالاً، فيطأ امرأة يظنها زوجته أو يطأ امرأة يظنها سريته أو أمته. قال المصنف رحمه الله: [أو في نكاح باطل اعتقد صحته]. هذا يسمى بشبهة العقد، وتقدم معنا شبهة المحل، وشبهة الملك، وهي أقسام الشبهات، فهنا لو وطئ في عقد يظن صحته، كشخص لبس عليه في نكاح المتعة، وقيل له: إن نكاح المتعة جائز، والصواب أنه محرم، وفي أول الإسلام أحله رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم عندما اشتكوا إليه الضرر، وهم مسافرون في الغزو، فقد كانوا يحتاجون إلى من يغسل لهم، ومن يقوم على شئونهم، فأذن لهم بالمتعة، والعرب كان من عادتهم الخوف من صحبة النساء في الغزو؛ لأنهم إذا غُلبوا أُخذت النساء سبايا، فيخافون على أعراضهم، ولذلك كانوا يحرصون -في الغالب- على عدم مرافقة النساء في مثل هذه الأسفار، فاشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم صعوبة رفقة أزواجهم لهم، وحاجتهم للنساء، فأذن لهم بالمتعة، ثم نسخ هذا الإذن، وحرم النبي صلى الله عليه وسلم نكاح المتعة -كما في الحديث الصحيح- في خيبر، وحرمها في أوطاس، وحرمها عليه الصلاة والسلام في الفتح، وفي خطبة حجة الوداع، فهي حرامٌ إلى يوم القيامة، فلو أن شخصاً لبس عليه أحد من أهل البدع وخدعه حتى ظن أن هذا حلال، وعقد عقد متعة وهو يظن أنه عقد شرعي مباح له، ثم وطئ المرأة في هذا العقد المحرم، فقيل له: أصلحك الله! هذا عقدٌ باطل، والوطء فيه وطء زنا -والعقود الباطلة من اعتقد بطلانها ووطئ بها فكأنه زنى- فقال: ما علمت هذا! وكنت أظن أن هذا حلال، فهذا شبهة في العقد. كذلك إذا كان يقول بجواز عقد النكاح بدون شهود أو بدون ولي؛ فهذا ما يقام عليه الحد ولا يحكم عليه بالزنا؛ لأنه لا إنكار في المختلف فيه. فلو أن شخصاً عقد على امرأة بدون ولي، سافر إلى بلاد لا يشترط فيها الولي على مذهب الحنفية رحمهم الله وهو قول عن الإمام مالك -كما تقدم معنا في النكاح- فجاء وتزوج المرأة وتولت هي العقد، فهذا العقد لا يصح عند الشافعية والحنابلة، وإذا كان العقد غير صحيح فقد وطئ في عقدٍ غير صحيح، وهذه المرأة لا تحل له على القول الراجح؛ لأنه لا بد من وجود الولي لظاهر الكتاب والسنة، قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها؛ فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل)، فلما عقد بهذا العقد الباطل رفع إلى قاض يرى بطلان هذا العقد، وأن هذا الوطء غير شرعي، لكن لا يجوز للقاضي أن يقول: هما زانيان؛ لأن هذا عنده تأويل، وعنده شبهة، ولذلك يقول العلماء: لا إنكار في المختلف فيه، أي: أن المسائل الخلافية بين أئمة السلف التي تقرر فيها الخلاف وانتقل إلى الخلف، أو وقع الخلاف فيها بين الخلف ولم تكن موجودة في عصر السلف، وعمل إنسان بأحد القولين معتبراً لفتوى من يجيز أو من يحرم؛ فلا إنكار عليه؛ لأنه كما يحتمل أنه مخطئ في قوله، كذلك أنت يحتمل أن قولك خطأ، وهذا في المسائل المحتملة، والأدلة المحتملة قد أذن الله بالخلاف فيها، كما قال سفيان رحمه الله: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32]؛ لأن دلالتها ليست على وجه واحد، بمعنى أنها ليست نصوصاً قطعية لا تحتمل، بل جاءت محتملة توسعةً من الله على عباده. على كل حال، إذا رأى أحد العلماء أو الأئمة أو القضاة بطلان هذا النكاح المختلف فيه ورأى غيره صحته، ثم عمل أحد الناس بالقول الذي يقول بالصحة ورفع إلى القاضي الذي يرى البطلان؛ لم يحكم بأنهما زانيان، ولا يجري عليهما أحكام الزنا، ولكن له أن يبين لهما أن هذا القول مرجوح، ويبين لهما أن الصحيح خلافه، فإذا اقتنع بقوله فذاك، وإذا بقي على القول الذي بخلافه؛ فلهما العمل بذلك القول، ما دام أن له دليله من الكتاب والسنة، وهذا هو الذي استقر عليه العمل عند العلماء والأئمة رحمة الله عليهم أجمعين، هذا بالنسبة للعقود المختلف فيها. أمثلة أخرى للعقود المختلف فيها: هل ينعقد النكاح بشهادة الفاسقين؟ -إذا قلنا: إن الشهادة شرط لصحة عقد النكاح- فهل يشترط في الشهود أن يكونوا عدولاً؟ قال طائفة من العلماء: يصح، وقال بعض العلماء: لا بد أن يكون الشهود عدولاً. وهل ينعقد النكاح بولاية الولي الفاسق إذا كان الأب فاسقاً وتولى نكاح ابنته؟ وهل تشترط العدالة في الولي؟ وإذا قلنا: الولاية شرط، ثم عقد لها فاسق فهل يصح عقدها أو لا؟ كل هذه المسائل لها وجهٌ من الصحة، فيبقى العقد على ظاهره، ولكن إذا كان القول بالجواز قولاً شاذاً لا يعتد به، وتبعه أحد من باب الشذوذ دون تأويل، فهذا حكمه حكم الزاني بلا إشكال، مثلاً: شخص يفعل المتعة ويقول: والله! المتعة جائزة، وقد استبانت له النصوص والأدلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا متلاعب ومتهتك يريد انتهاك حرمات الله؛ فلا ينفعه هذا التأويل، لكن من يلبس عليه أو يخدع أو يغتر بمن يقول ذلك من أهل البدع، وظن أن عنده علماً فأفتاه بذلك فعمل به؛ فحينئذ تأويله سائغ، قال بعض مشايخنا رحمه الله: مسائل الشبهات لا يفتي ولا يقضي فيها إلا خواص المفتين والقضاة؛ لأنها تحتاج إلى نظر في الشخص

الشرط الثالث: ثبوت الزنا

الشرط الثالث: ثبوت الزنا قال المصنف رحمه الله: [الثالث: ثبوت الزنا]. هذا الشرط يرجع إلى القضاء من حيث الأصل؛ لأن الحدود تستقر وتثبت عند القاضي، وقد بينا أن إقامة الحدود للسلطان، ومن يقيم مقامه من القضاة والمعنيين بتنفيذ أحكامهم، فلا بد من ثبوت الزنا وثبوت جريمته، وذلك يفتقر إلى أحد دليلين يثبت بهما الزنا ثم يحكم بوجوب تنفيذ حده. قال المصنف رحمه الله: [ولا يثبت إلا بأحد أمرين]. ولا يثبت حد الزنا إلا بأحد أمرين، وهذا إجمال قبل البيان والتفصيل. قال المصنف رحمه الله: [أحدهما: أن يقر به أربع مرات]. أحد الأمرين اللذين يثبت بهما حد الزنا: أن يقر بالزنا أربع مرات، والإقرار هو أقوى الحجج القضائية، وأقوى الأدلة الشرعية في وسائل الإثبات في القضاء، والإقرار هو: الاعتراف، وليس هناك أصدق من شهادة الإنسان على نفسه بالضرر؛ فليس أحدٌ عاقل يشهد على نفسه بالضرر كذباً وزوراً، ولذلك سيخبر عن نفسه بالحقيقة، ولهذا قالوا: إنه سيد الأدلة، وأعلى الحجج وأقواها، وبدأ به المصنف رحمه الله مراعاة لهذا الأصل، ولكن هذا الإقرار له ضوابط شرعية، وسيأتي -إن شاء الله- في باب القضاء الكلام على وسائل الإثبات، ومنها حجة الإقرار، وقد اعتبرت الشريعة هذا الدليل في جريمة الزنا، واعتبره النبي صلى الله عليه وسلم، وحكم به، ونفذ به الجلد والرجم صلوات الله وسلامه عليه. بدأ المصنف رحمه الله بالإقرار مراعاةً للترتيب في قوة الحجج، وقوله: (أن يقر)، أي: يقر الزاني، لكن ما هي شروط من يقر؟ أولاً: أن يكون بالغاً، فلو أن صبياً أقر بالزنا لم يعتد بإقراره؛ لأن الصبي مرفوع عنه القلم ولا يؤاخذ، وإقراره ساقط؛ لأنه دون التكليف. ثانياً: أن يكون عاقلاً، فلو أن مجنوناً أقر، لم يعتبر إقراره، ولذلك حينما اعترف ماعز بن مالك بالزنا وقال: (يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، قال عليه الصلاة والسلام: أبك جنون؟)، وفي لفظ مسلم: (أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون)، فقوله: (أبك جنون)، (أبه جنون)، بحث عن هذا الشرط، وهو: شرط العقل؛ لأن الإقرار إذا كان من المجنون لا يقبل، والمجنون لا يوثق بقوله، وإنما الإقرار بمن يوثق بقوله، ومن لا يوثق بقوله من الصبيان والمجانين لا يعتد به. إذاً: يشترط أن يكون المقر بالغاً عاقلاً. وأيضاً أن يكون مختاراً، فلا يكون مكرهاً على الإقرار، فلو أن شخصاً هدده وقال له: إذا لم تقر أقتلك، أو أقتل أحد أولادك، فهدده على وجهٍ فيه ضرر على الصفة المعتبرة في الإكراه، وحمله على أن يقر، وأقر؛ فهذا إقرار ساقط، وكل إقرار بإكراه ساقط؛ لأن الإكراه -كما ذكرنا- يسقط الأحكام. واشتراط العقل يخرج أيضاً السكران، فلو أن سكران أقر بالزنا أثناء سكره وقال: إنه زنى، فلما أفاق، قيل له: إن هناك شهوداً شهدوا عليك أنك أقررت بالزنا، وارتفع الأمر إلى القاضي، فسأل الشهود فقالوا: أقر أثناء سكره، نقول: إن السكر يسقط الإكراه، ويعتبر شبهة تسقط الإقرار، والدليل على ذلك ما في الصحيح من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقر ماعز عنده أربع مرات، قال عليه الصلاة والسلام: (أبك جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون، ثم قال: أشربت خمراً؟ فقام رجل فاستنكهه، يعني: شم رائحة فمه، فأخبر أنه صاح)، فهذا يدل على أن إقرار السكران بالزنا لا يعتد به، سواءً كان سكره بمباح أو بمحرم، بمحرم كشخص شرب الخمر أو تعاطى المخدرات ثم أقر بحضور الشهود، أو بحلال مثلما يقع في العمليات الجراحية، يخدر المريض، وأثناء تخديره أو عند إفاقته يتكلم، فإذا أقر حينذاك بالزنا، أو سأله شخص عن جريمته فأقر بالزنا، فهذا كله لا يعتد الإقرار به، فيشترط في المقر أن يكون على الصفة المعتبرة شرعاً لصحة إقراره، والسكران لا يعتبر إقراره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الإكراه حال السكر. يشترط أيضاً أن يكرر الإقرار أربع مرات بأنه زنى، والأصل أنه إذا جاء إلى القاضي ليعترف بالزنا، فالسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرده، ويذكره بأن الستر أولى له، وأن الشريعة ندبت أن يستر نفسه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رغّب ماعزاً أن يستر نفسه، ففي الصحيح أن ماعزاً قال: (يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال عليه الصلاة والسلام: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد، ثم ناداه وقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال عليه الصلاة والسلام: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد، ثم قال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فرده وقال: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه)، ثلاث مرات وهو يقول له: (ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه)، ولذلك نص العلماء والأئمة على أن القاضي لا يقبل الإقرار من أول مرة، بل يذكر المقر بستر الله عز وجل عليه، ويحثه على ألا يقر، أما إذا أقر على الصفة المعتبرة -على مذهب من لا يرى تكرار الإقرار- فيؤاخذ به، لكن إذا نادى القاضي على وجه لم يبين فيه الجريمة، أو قال مثلاً: إني زنيت، ولم يستفصل منه القاضي؛ لأن قوله: زنيت، فيه نوع من الإجمال، (العين تزني، والرجل تزني)، ولربما ظن أن ما ليس بزنا زنا، ففي هذه الحالة قبل أن يطبق عليه شروط الإقرار يرده القاضي. انظروا إلى سماحة الشريعة! هنا حقوق الإنسان، وهنا الرحمة الحقيقية، وهنا المرونة الشرعية، وهذه المرونة جاءت في محلها، ولمن يستحقها، فإذا جاء من يريد أن يقر فمعنى ذلك أن عنده من الإيمان والخوف من الله عز وجل والصدق في التوبة ما ليس عند غيره، ولذلك لا يظن أحد أن هذا يشجع الناس على الجرائم، فالشريعة لا تترك الأمور هملاً، ولذلك يقول العلماء: إذا بلغت الحدود السلطان؛ فلعنة الله على الشافع والمشفع، وهذا يدل على أن الشريعة تحزم، ولكن هذه الجرائم تنهزم فيها النفوس، ويحصل فيها الضرر على الزاني وعلى قرابته وأهله وولده، وأسرته وجماعته، وهذا كله راعته الشريعة؛ لأنها تنزيل من حكيم حميد، ومن هنا فتح الله عز وجل أبواب التوبة، وضيق في مسائل الإقرار. اختار المصنف أنه يكرر الإقرار أربع مرات، وهذا مذهب الحنفية رحمهم الله، وهو الصحيح، وعند الشافعي وغيره لا يشترط تكرار الإقرار، ولو أقر مرة واحدة أخذ بإقراره. استدل العلماء الذين يقولون: إنه يشترط في الإقرار بالزنا أن يكرره أربع مرات بأن النبي صلى الله عليه وسلم ردّ ماعزاً أربع مرات، وكل مرة يقول له: (ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه)، ولم يعتبر منه المرة الأولى مع أنه قال: (إني أصبت حداً فطهرني)، واستدلوا بالقياس، فقالوا: إن جريمة الزنا تثبت بأربعة شهود، وكل إقرار قائم مقام الشاهد، وحينئذٍ لا بد من تكرار هذا الإقرار أربع مرات، وقالوا أيضاً: الأصل في هذه الجريمة إثباتاً ونفياً التكرار، ولذلك في شهادات اللعان يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، أي: أن زوجته زنت -والعياذ بالله- وأن الولد ليس بولده، فنزل الله عز وجل كل شهادة يمين في اللعان منزلة الشاهد، وجعلت هذه الوسيلة من وسائل الإثبات مبنية على البينة الأصلية في جريمة الزنا؛ لأن جريمة الزنا لا تثبت إلا بأربعة، كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4]، وهذا يدل على أنه لا بد من وجود أربعة شهداء، وهذا إجماع بين العلماء رحمهم الله، وإذا كانت البينة في جريمة الزنا لا بد فيها في الأصل من أربعة شهود؛ فالإقرار على الزنا كذلك، فنزلوا الإقرار منزلة الشهادة، وقاسوه على الشهادة وقالوا: يشترط التكرار أربع مرات بالإقرار كما يشترط في الشهود أن يكونوا أربعة، بجامع كون كل منهما بينة تثبت الحد. أما الذين قالوا: لا يشترط التكرار، فقد استدلوا بحديث الصحيحين في قصة العسيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)، فاعترفت فرجمها، فقال له: (إن اعترفت فارجمها)، وما قال له: إن اعترفت أربع مرات، وناقشوا ما استدل به الأولون وقالوا: إن الأصل في الإقرار ليس قول ماعز: إني أصبت حداً فطهرني، إنما جاء الإقرار بعد ذلك حينما صرح بالزنا، وصرح بأنه جامع المرأة، وعند ذلك لم يكرر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا قالوا: لا يشترط التكرار. وعند النظر في أصل باب الإقرار، فالأصل أنه لا يشترط التكرار؛ ولذلك لو أن شخصاً ادعى على شخص مائة ريال، وقال له القاضي: هل له عليك مائة ريال؟ قال: نعم، فيكفي بالإجماع إقراره مرة واحدة، مع أن الشهادة في الأموال لا تكفي إلا بشاهدين أو شاهد مع اليمين، أو شاهد وامرأتين، أو أربع نسوة على التفصيل الذي سيأتي إن شاء الله. إذا ثبت هذا، فالإقرار في الأصل لا يكرر، ولكن من باب مراعاة مقصود الشرع قلنا: إن القول بالتكرار هنا أقوى وأولى بالصواب، ولكن من حيث النظر في الأدلة، كصنعة أصولية فالقول بعدم التكرار له قوة؛ لأن الإقرار من ماعز وقع في الجملة اللاحقة لا في الجملة السابقة، وهذا يقوي أن التكرار ليس بشرط، وأن الإقرار يكفي مرة واحدة. قال المصنف رحمه الله: [في مجلس أو مجالس]. بعض العلماء يشترط أن يكون الإقرار في مجلس واحد، واعلم أن الإقرار لا يكون حجة إلا إذا كان في مجلس القضاء، وإذا شهد الشهود أن فلاناً جلس في مجلس واعترف على نفسه بالزنا، وشهدوا عليه بذلك؛ فهذا لا إشكال فيه، لكن نحن نتكلم عن الإقرار في مجلس القضاء، هل يشترط أن يكون في مجالس أو مجلس؟ في مجلس واحد يعتبر إقراره، ولكن لو فرق الإقرار في مجالس، فما الحكم؟ بعض العلماء يقول: إن ماعزاً قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع فاستغفر الله، فذهب ثم

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين الإكراه في القتل والإكراه في الزنا

الفرق بين الإكراه في القتل والإكراه في الزنا Q لقد أشكل عليّ كيف أن المرأة المكرهة على الزنا لا يقام عليها حد الزنا بينما يقام الحد على من قتل وهو مكره؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: لا إشكال في هذا إن شاء الله تعالى، وتوضيح ذلك: أن الإكراه شرطه أن يكون ما طلب من الشخص أقل مما يهدد به، فلو هددت المرأة أن تقتل أو تزني؛ فاختارت التوسع وزنت، فإن زناها أقل من القتل، ولو أن بعض الناس يستحب القتل على الزنا، لكن من حيث الأصل؛ جعل الله عز وجل جريمة القتل أعظم من الزنا، لكن حينما يهدد أحد ويقال له: اقتل فلاناً وإلا قتلناك، استوى الأمران؛ لأنه في هذه الحالة لو قتل فلاناً فقد قتله من أجل أن يعيش، فيكون استبقى نفسه بنفس أخيه، والنفس مع النفس حرمتهما واحدة، لكن الزنا مع القتل حرمتهما ليست بواحدة، ومرتبة الاثنان مختلفة، و {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3]، ولذلك تسقط المؤاخذة بالزنا عند الإكراه، ولا تسقط في القتل، والله تعالى أعلم.

من هو العسيف؟

من هو العسيف؟ Q قول الصحابي رضي الله عنه: (إن ابني كان عسيفاً) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (على البكر جلد مائة، وتغريب عام)، فهل يقوي هذا قول من قال بتغريب الرقيق؟ A العسيف ليس له علاقة بالرقيق، من قال لك: إن العسيف هو الرقيق! العسيف هو: الأجير، فهذا حر، كان عسيفاً أي: أجيراً، وليس المراد أنه مملوك، فطالب العلم لا يفسر العبارات من عنده ثم يركب الإشكالات!

حكم المطلق إذا زنى

حكم المطلق إذا زنى Q هل الرجل المطلق يعتبر محصناً يقام عليه حد الزنا بالرجم أم يعتبر بكراً ويجلد، وكذلك المرأة المطلقة؟ A كل من تزوج امرأة ووطئها ولو مرة واحدة، على الصفة المعتبرة في الوطء؛ فهو محصن إلى يوم القيامة، فإذا زنى بعد ذلك يطبق عليه حد المحصن. إذاً: لا يشترط أن تبقى عنده المرأة، ولا يشترط في المرأة أن يكون زوجها معها أثناء الزنا، فمن يثبت إحصانه بالوطء في نكاحٍ صحيح على الشروط التي ذكرناها في الإحصان؛ فلا يشترط بقاء زوجته عنده، ولا أيضاً أن تكون الزوجة معها زوجها، والله تعالى أعلم.

حكم رجم الزاني بحجارة البيت الذي زنى بأهله

حكم رجم الزاني بحجارة البيت الذي زنى بأهله Q ما قولكم فيمن قال: إن حكم الله بالرجم للزاني يرجع إلى أن هذا الزاني هدم بيتاً، ولذلك يرجم بحجارة هذا البيت؟ A نقول: إنه قال على الله بدون علم، هذه والله الجرأة، هل نهدم بيوت الناس من أجل أن نرجم الزناة؟ من قال: إن من زنت أو زنى نهدم بيت من زنى بها، ونأخذ حجارة البيوت للرجم؟ من قال بهذا الكلام؟ هذا قول على الله بدون علم، قوله: إنه هدم بيتاً فيرجم بحجارة البيت الذي هدمه، ما هذا؟ هل هذا علم؟ علينا أن نحذر من بعض الوعّاظ والقصاص الذين ينمقون ويرقعون، ويحاولون أن يتفيهقوا، وليس عندهم علم ولا فقه، تجد الواحد منهم يتحذلق، ويأتي بالكلمات العجيبة، وسنبين هذا في الجزئية الثانية، والجزئية الأولى أن هذا كذب، وليس له علاقة، وليس بأمر صحيح؛ لأن رجم الزاني يكون بحجارة من الأرض وليس من حجارة البيت. ورجم الزاني عقوبة من الله سبحانه وتعالى، أمر بها من فوق سبع سماوات، وهي: تعبدية، جعل الله عز وجل عقوبة من زنى وهو محصن قد استوفى الشروط المعتبرة للإحصان؛ أن يرجم حتى يموت، ألا يقتصر هذا الحد في ردع الناس من فعله؟ بلى، بل يردع الأمة التي فعل فيها أو الجماعة أو القبيلة، فهي عبرة من أشد العبر، حتى إن الشخص لو حمل حجراً يريد أن يرجم زانياً فلا يرجمه إلا وقد أخذ من العبر والعظات ما الله به عليم، يهتز قلبه، ويرجف فؤاده، ويعرف عندها ما هي جريمة الزنا، وكيف يكون عقاب من دمّر بيوت المسلمين؛ لأنه أحصن وزوج ثم بعد ذلك لم يرض بحلال الله، بل ذهب يسعى إلى نساء المسلمين ليفسد أعراضهم ويهتكها عليهم؛ فهذه عقوبته من الله عز وجل، وتكون بالرجم ولا تكون بالسيف، بل تكون بما أمر الله عز وجل به، وليس لنا إلا أن نقول: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير. الجزئية الثانية: الشخص قد يأتي لحد من حدود الله عز وجل يريد أن يبين لماذا كان هذا؟ فيقول: من أجل كذا، بلا علم، فهذا من أخطر الأشياء، لا يجوز لأحد أن يقول: إن الحكم الشرعي لعلة كذا، أو لسبب كذا، إلا بطرق معروفة عند علماء الشريعة، تعرف بطرق التعليل، ومسالك التعليل، وهي طرق شابت فيها رءوس العلماء، وحارت فيها ألباب الحكماء، ألف فيها بعض العلماء خمسمائة صفحة في منزع العلة، وبيان ما هو علة، وما هو شبه علة؛ وما هو تخييل، ككتاب: شفاء الغليل وبيان مسالك التعليل، وبيان أوجه الشبه والتعليل. هذه أمور ليست فالتة لكل أحد، وليست نهباً لكل متحذلق يأتي ويتكلم، المصيبة الآن كثرة المتعالمين، الذين يحاولون أحياناً أن يتكلموا عن محاسن الشريعة فيخوضون في شيء لم يعلموه ولم يعوه، ولا يجوز لإنسان أن يصدقهم في هذا، وإذا كان الزاني المحصن هدم البيت ليرجم الزاني المحصن بحجارته، فلو أن بكراً زنى بامرأة متزوجة وهدم البيت، لكنه ما يرجم، انظر كيف التعارض؟ هذه ما انطبقت علته، هو يقول: من هدم البيوت يرجم، هذا خطأ، لو كان عنده علم ما قال هذا؛ لأنه لو كان الأمر كما ذكر لرجم البكر؛ لأنه لو جاء إلى امرأة وأغراها وزنى بها وهي متزوجة فقد هدم بيتها، ولولا أنه زنى ما انهدم البيت، فتعبيره خاطئ، ومثل هذا لا يصدق، ولا يكشف عوارهم إلا العلماء، وينبغي على الإنسان ألا يأخذ علم كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم إلا ممن يوثق بعلمه، والحذر من القصاص والوعّاظ الذين يحاولون أن يحسنوا وهم مسيئون، زين لهم سوء عملهم، تجد الشخص منهم عجب الناس من بلاغته وفصاحته وتأثيره، فخاض في علم التعليلات، وليس عنده مسلك للعلم، وليس عنده ورع يمنعه عن القول على الله بدون علم، فالحذر من أمثال هؤلاء، والحذر من الخوض في التعليلات، علينا دائماً أن نراعي جانباً يقال له: جانب التسليم، وهذا هو أساس الإيمان والعقيدة، ما سمي الإسلام إسلاماً إلا من الاستسلام، التعليلات إذا لم تأت عن طريق عالم متمكن بصير لا تقبل. العلة تعرف بطريقين: الطريق الأول: يسمى الطريق النقلي، والطريق الثاني: الطريق العقلي. أما الطريق النقلي فهي: العلة المستنبطة بنص الكتاب أو السنة، وهو أن ينص الكتاب أو السنة على العلة، وهذه العلة المنصوصة مجمع عليها، والإجماع له مستند، وأما العلة المستنبطة بالعقل فهذه فيها كلام للعلماء رحمهم الله، ولها ضوابط وقيود. وعلى كل حال؛ أعود إلى أساس الأمر، وهو الرضا والتسليم، وعلينا دائماً أن ننتبه لمن يحاول تعليل الأحكام بلا علم، وأن نكون في الأصل مسلّمين قبل أن نكون معلمين، علينا أن نكون مسلمين مستسلمين قبل أن نكون من أهل الرأي والعقلانيين الذين يقول أحدهم متبجحاً: إذا لم أعرف شيئاً أو لم أعقل شيئاً في دين الله فلا أقبله! يعني لو جاءه نص من أصح النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء لم يبلغه عقله؛ يقول لك: لا، أنا ما أقبله! نسأل الله السلامة، ونعوذ بالله من انطماس البصائر، ونسأل الله بعزته وجلاله أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا! وعلى المسلم أن يحذر وأن يحذر غيره من هذا، والخطباء والوعاظ عليهم أن يتقوا الله عز وجل، وألا يقولوا على الله بدون علم، وأن يحذروا مسائل التعليل، ويحذروا الكتب التي فيها وعظ وترقيق، وبيان لمحاسن الشريعة التي كتبها أناس لم يضبطوا الفقه وأصوله، وهذا أمر نعرفه عنهم بالخبرة، فهم يقعون في أخطاء شنيعة، لو أن هذه العلل أخذت على ظاهرها، لكانت هدماً لأمور من الشريعة مستقرة، فالحذر من مثل هذه الأمور، الحذر منها ما أمكن. وعلى كل حال؛ جماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، ومن تقوى الله ألا يقبل العلم إلا من أهله، ومن أخذ العلم عن أهله؛ استنارت بصيرته، وحفظه الله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، من كان علمه على أيدي العلماء من السلف الصالح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، يأخذ علمه وفهمه للنصوص عن سلف وأثارة وطريق بينٍ واضح؛ فقد هُدي إلى صراط مستقيم، ومن كان علمه تتبع العبارات، وتنميق الكلمات، وتحسينها خداعاً للمؤمنين والمؤمنات؛ فليبك على نفسه، فإنه قد قال على الله بدون علم، وليقفن بين يدي الله ويسأل عما قال، فعلينا أن نحذر من ذلك، ونسأل الله بعزته وجلاله أن يعصمنا من الزلل، والله تعالى أعلم.

زكاة الرطب

زكاة الرطب Q هل في الرطب زكاة أم أن الزكاة خاصة بالتمر؟ A الرطب فيه زكاة، ولكن لا تخرج الزكاة رطباً، وإنما تخرج تمراً بعد الحصاد والجذاذ، بعد أن ييبس يقدر ما في البستان وما في النخل بالخرص عند بدو الصلاح كما تقدم معنا في كتاب الزكاة، فيأتي الخارص وينظر في النخل عند بدو صلاحه، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرص النخل عند بدو الصلاح قبل أن يصير رطباً، وقبل أن يصير تمراً، ثم يطرح منه الربع؛ لأن هناك ما تسقطه الرياح، وهناك ما يأكله سابلة الطريق، وهناك المنيحة ونحوها، فهذا يسقط، ثم ينظر لو كانت مثلاً أربعة آلاف صاع، يسقط ألف صاعٍ، ويقول: هناك ثلاثة آلاف صاع، هذه هي السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حسن أنه (وصى الخارص أن يسقط الثلث أو الربع) مراعاةً لذلك، وإذا كنا مثلاً خرصنا أربعة آلاف صاع، وأسقطنا الثلث وحددنا القدر الواجب العُشر أو نصف العشر -على حسب السقي-؛ فإن الواجب أن نخرجه تمراً، فلو أنه أخرج الثلاثمائة صاع الواجبة عليه رطباً؛ لم يجزه، لا بد أن يخرجها تمراً، والله تعالى أعلم.

حكم بيع المعيب

حكم بيع المعيب Q اشتريت سيارة فوجدتها معيبة، فهل يجوز لي بيعها بهذا العيب أم ماذا أفعل؟ A العيوب تنقسم إلى قسمين: عيوب مؤثرة، وعيوب غير مؤثرة؛ إن كانت عيوباً مؤثرة، وهي عيوب الزكاة المؤثرة، وضابطها: ما يوجب نقصان المالية نقصاناً مؤثراً، مثلاً: السيارة فيها عيب يؤثر في مشيها ويضر، وقد يقلب صاحبها أو يحدث له ضرراً، فهذا العيب مؤثر، أول شيء يشترط في العيب أن يكون مؤثراً. ثانياً: أن يكون موجوداً في السلعة أثناء العقد، أو قبل العقد، فلو طرأ في السلعة بعد العقد؛ فإنه طرأ على ملكي، ولا يجوز لي أن أرد في هذه الحالة، أي: في حالة إذا كان العيب مؤثراً وطرأ أثناء العقد أو بعده. والشرط الثالث: أن يكون المشتري لا علم له بهذا العيب، البائع لم يبين له العيب، أما لو قال له: في سيارتي عيب كذا وكذا وأعلمه به؛ فقد سقط حق المشتري، هذه الشروط لا بد من وجودها للرد بالعيب: أن يكون العيب مؤثراً، وأن يكون موجوداً في السلعة أثناء العقد أو قبل العقد؛ وإذا قلنا: أثناء العقد فمن باب أولى قبل العقد، وأن يكون المشتري لا علم له بذلك العيب، إذا ثبتت هذه الشروط؛ فمن حقك الرد، والأصل في هذا حديث أبي هريرة في الصحيح عنه رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصروا الإبل ولا الغنم، فمن ابتاعها)، وفي اللفظ الآخر (فمن اشترى شاة مصراة ثم حلبها؛ فهو بخير النظرين: إن رضي أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)، فالشاهد قوله: (إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها)، والصاع من التمر عوضاً عن الحليب الذي حلبه، وهنا السيارة إذا وجدت فيها عيباً، نقول لك: أنت بالخيار، إن شئت تبقي السيارة في ملكك، وإن شئت تردها على البائع، ولا يجوز أن تغش بها المسلمين، فإذا أردت أن تبيعها على غيرك، فإنك تقول له: فيها عيب كذا وكذا، نصيحةً وبراءةً من العيب، وإلا كان بيع غشٍ، وأنت المسئول عن ذلك العيب، والله تعالى أعلم.

وصايا لطلاب العلم

وصايا لطلاب العلم Q أنا فتاة منّ الله علي بالاستقامة ولله الحمد والمنة، ولي أكثر من ثلاث سنوات وأنا أحضر هذا الدرس المبارك دون انقطاع، والحمد لله، والمشكلة أني حتى الآن لا أجد نفسي طالبة للعلم كما ينبغي! وسؤالي: كيف أكون طالبة علم مستفيدة؟ A في هذا السؤال جانبان: الجانب الأول: أوصيك أختي في الله، وأوصي كل طالب علم، وكل من حضر أي مجلس فيه ذكر الله عز وجل على الوجه الذي يرضي الله؛ أن يلهج لسانه بالثناء على الله، وأن يحمد الله على نعمته، فلا يدري كم حاز من الأجر والثواب والدرجات العلى في جنة الله بما تعلمه! لأن الله يرفع الذين أوتوا العلم درجات، وليس درجة، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، قال بعض العلماء: من جلس مجلساً فتعلم علماً لوجه الله، وضبطه وأتقنه؛ رفع الله درجته، قال الله: (دَرَجَاتٍ)، وما قال: درجة واحدة، وقرن الله العلم بأعز الأشياء وأحبها إليه على الإطلاق وهو: الإيمان والتوحيد، فانظر إلى أي شرف وإلى أي مكان بلغ العلم وبلغ أهله! ثانياً: أن تعلمي أن العلم نعمة من الله سبحانه وتعالى يؤتيها من يشاء، وعلى الإنسان أن يدرك أنه متى جلس في مجالس العلماء وهو يريد أن يتعلم، ويريد أن يضبط العلم؛ فأجره على الله سبحانه وتعالى، قد يقوم من ذلك المجلس وقد بدلت سيئاته حسنات، وهذا من أعلى الدرجات، وقد يقوم من ذلك المجلس كيوم ولدته أمه، وقد يقوم من ذلك المجلس برحمة من الله عز وجل لا يعذب بعدها أبداً، عطايا وهبات، يقال لهم: قوموا قد بدلت سيئاتكم حسنات، وقد يقوم من ذلك المجلس بشيء نذر المسلمون والصالحون والأخيار والأبرار وصفوة الله عز وجل أرواحهم في سبيل الله من أجل أن يفوزوا به ألا وهو محبة الله، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (يقول الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ)، فالذين جلسوا في ذكر الله لله وفي الله، فقد وجبت وثبتت لهم محبة الله عز وجل، فأي شيء ثلاث سنوات! كان الصحابي يجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً واحداً يبارك له فيه، ليس من شرط النفحات والخيرات والبركات التي تكون في مجالس العلم أن الإنسان يصير عالماً، قد يُحفظ الإنسان في دينه فلا تضره فتنة، قد يحب العلماء ويحرص على مجالسهم فيعصمه الله عز وجل من البلايا في نفسه وفي عقله، يحفظ له عقله ونور قلبه، وقد يحفظه الله عز وجل في ولده، وقد يحفظه الله عز وجل في قرابته وأسرته، وقد يحفظ الله عليه ماله؛ لأن الله عز وجل لا أوفى منه لعباده، ما أحد يحب العلماء إلا نال خيراً، ولا غشي مجالسهم إلا عن محبة، ولا استمع إليهم إلا عن محبة، ولا جاء زحفاً على الركب إلا عن محبة، يترك مصالحه ويترك دنياه وراء ظهره، ويترك اللهو واللعب وهو في عز شبابه، وقد يكون عنده المال والتجارة ويترك ذلك كله من أجل أن يسمع كلمة تذكره بالله عز وجل، أو يجلس مجلساً تتنزل عليه السكينة وتغشى فيه الرحمة، ثلاث سنوات وأنت تطلبين العلم! فالهجي بحمد الله والثناء عليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعلها في هذه المجالس المباركة، وفي هذا الذكر، وفي هذا الخير، وفي هذه البركة، واحمدي الله سبحانه وتعالى على منه وكرمه، بل إني حينما أسمع ذلك والله! إن القلب يتفطر ألماً وأقول: سبحان ربي! الذي سخر لي أن أجلس للناس سنة وليس سنتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو عشراً، والله! إن الإنسان لو جلس محاضرة واحدة حفظه الله عز وجل بها، يمشي مسافة الكيلو والكيلوين والعشرة والمائة حتى يصل إلى المكان الذي يلقى فيه كلامٌ يرضي الله ورسوله، فحريٌ به أن يبكي فرحاً بنعمة الله عز وجل عليه، وحريٌ بنا ذلك ونحن في نعم قليل من يتذكرها، كم من دروس مرت علينا إلى الآن ونحن في عافية؟ قد لا يشعر إلا القليل منا كيف أن الله فرغه؟ والله قادر قبل الدرس بدقائق أو أثناء الدرس أن يسلط عليه صداعاً لا يستطيع أن يفهم معه شيئاً، والله قادر أن يسلط عليه حصى في بوله، أو يسلط عليه شغلاً في أهله وماله وولده، من الذي فرغك؟ ومن الذي أمدك بالحول والقوة ويسر لك ذلك؟ ثم لما جلس، من الذي فرغ لك هذا، وصفى لك هذه الحواس؟ ومن الذي أعطاك السمع والبصر لعلك أن تعقل ولعلك أن تشكر الله عز وجل؟ {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:9]، قليلاً ما تشكرون إي وربي! فالإنسان يوصى أول شيء بهذا، ولقد كنا أيام طلب العلم نزدري أنفسنا ونقول: ما استفدنا شيئاً، ومن يقول: جلسنا ثلاث سنوات وما شعرنا أنا طلاب علم؟ لا، بل أنتِ طالبة علم، وأنت طالب علم، إذا ما غدوت إلى مجلس علم وأنت تريد وجه الله لا رياءً ولا سمعة؛ فأنت طالب علم على قدر ما حصلت، هذا الجانب الأول. الجانب الثاني في السؤال: كيف تصير طالب علم؟ أولاً: الإخلاص لله عز وجل. ثانياً: ليس العيب في الدرس وفي العلم، العيب فينا، وليس العيب في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم -وحاشا- بل العيب فينا، كل الأمور مسهلة ميسرة، طالب العلم قبل أن يأتي إلى الدرس المفروض أن يقرأ الدرس المرة والمرتين والثلاث والأربع، فمن منا يقرأ الدرس؟ من منا يراجع قبل جلوسه في مجالس العلماء؟ ومن منا إذا راجع حرص أن تكون مراجعته في أعلى الدرجات حتى إنه ليحفظ الكلمات كما هي؟ قليل من يراجع! ثالثاً: إذا جلست في مجلس العلم، وطن نفسك على الإخلاص، واحرص كل الحرص على أن تكون كأحسن ما يكون عليه طالب العلم، وكأفضل ما يكون عليه طالب العلم من الإنصات والوعي عن الله ورسوله، ولا يمكن لأحد أن يكون بالمرتبة الطيبة في الوعي عن الله ورسوله إلا إذا قدر الوحي عن الله ورسوله حق قدره، والآية الواحدة من كتاب الله إذا فسرت له أو ذكر له الحكم الشرعي من كتاب الله عز وجل؛ طار بها فرحاً، كان الصحابي يجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمع حديثاً واحداً يضع الله له به البركة فيبلغ الآفاق، وتسير به الركبان، ويبلغ به من النفع ما الله به عليم، بورك لهم في علمهم، فلما تأتي إلى مجالس العلم عليك أن تحس أن كل كلمة لها قيمة، وكل كلمة لها معنى، وكل كلمة لها أثر؛ فيبارك الله لك في علمك. إذاً: الإخلاص ثم قراءة الدرس قبل الجلوس، ثم الانتباه أثناء الشرح والضبط لما يقال، وأي إشكال يسجله ويكتبه. رابعاً: إذا انتهى مجلس العلم يحرص ألا يشغل نفسه بعد مجلس العلم بشيء عن ذكر الله عز وجل وحمده، أي مجلس تجلسه بمجرد ما تقوم تحمد الله أولاً: {أَنِ اشْكُرْ لِي} [لقمان:14]، أمر الله بشكره، {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152]، فأي نعمة لا تشكر فإن الله ينزع منها البركة، وقرن الله العبادة بالشكر، فمن شكر زاده الله عز وجل، فأوصيك بالشكر، ولا تستطيع أن تشكر شكراً على أحسن ما يكون عليه طالب العلم في الشكر إلا إذا عرفت فضل الله عز وجل عليك أولاً، ثم فضل هذه الصفوة من علماء السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فترحمت على علماء المسلمين، وقلت: جزاهم الله عنا خير الجزاء، هذا كتاب الإمام العالم الحجاوي رحمه الله وأصله للإمام ابن قدامة، من منا لما قام قال: رحمة الله عليه، اللهم اجزه عن الإسلام خير الجزاء؟ من منا إذا جاء وجلس مجلس العلم وتعلم من هذا العالم الذي يقرأ كتابه ورأى فضله عليه ترحم عليه؟ ينبغي أن يكون الناس أوفياء لعلمائهم ولسلفهم وأن يتربوا على حب العلماء، فلما نسينا الدعاء لعلمائنا، والترحم على أمواتهم، وحفظ جميل أحيائهم؛ نزع الله شيئاً يقال له: البركة، وإذا نزعت البركة -أجارنا الله وإياكم- من الشيء فكلا شيء، والله! لو أن الشخص ملئ علماً من أخمص قدمه إلى شعر رأسه ولم يضع الله البركة في علمه؛ فكأنه لم يعلم شيئاً! البركة في العلم تكون بالشكر، ومعرفة فضل من له فضل، ولا يبارك للإنسان إلا بهذا، وجرب ذلك، كن وفياً لعلماء السلف والخلف والتابعين لهم بإحسان، وترحم على أمواتهم، واعتقد حبهم وفضلهم، وانظر كيف يبارك لك في علمك، وكيف تجلس المجلس في الأسبوع -ليس الشهر وليس السنة- وترى بركة العلم؟ قد نجلس في مجالس العلماء ولا نعرف قدر ذلك العلم الذي نتعلمه! ونقوم من تلك المجالس وقلّ أن يشعر الإنسان بنعمة الله عز وجل عليه! ثم تترك هذه النصوص دون مراجعة! فكيف نضبط العلم وكيف نراجع العلم؟! والوصية الأخيرة: إذا قرأ طالب العلم وضبط الدرس قبل مجلس العلم ثم راجع بعد مجلس العلم؛ أعد نفسه للسؤال، وهذه الوصية الأخيرة التي أختم بها، أن تهيئ نفسك أنك ستسأل عن هذا العلم، وكان من وصايا بعض مشايخنا -نسأل الله بعزته وجلاله أن يسبغ عليه شآبيب الرحمات وأن يجزيه عنا وعن المسلمين خير الجزاء- أنه كان يقول: يا بني! احرص على أي شيء تتعلمه أن تضع في نفسك أنك ستسأل عنه. كانت بعض الفوائد بسيطة نادرة ما كنت أظن أن أحداً يسأل عنها، والله سئلنا عنها على رءوس الأشهاد، فمن وضع نفسه أنه سيسأل عن هذا، وأنه سيبتلى بقضاء أو فتوى أو بتعليم أو تدريس؛ فتح الله عليه، وبارك في علمه، وحفظ هذا العلم وحافظ عليه، وحينما يقوم طالب العلم من مجالس العلم أو يتعلم العلم ولا يستشعر أنه سيسأل عن ذلك؛ فإنه لا يغبط بذلك ولا يبارك له، فإذا كان الإنسان لا يحس أنه مسئول في الدنيا، أو نظر إلى الناس وقد زهدوا في العلم والعلماء وغفلوا عن مكانة الحكمة والحكماء، وقال: من يأتي يسأل عن هذه الأنوار الربانية، والحكم الإلهية، وهذه النصوص التي شرفني الله عز وجل بالعلم بها؟ إذا ظن ذلك الظن؛ فعليه أن يتذكر أنه سيسأل بين يدي الله عن هذا العلم، إذا لم يسأله الخلق فسيسأله الخالق، فاضبط هذا العلم وراجعه وأتقنه لوجه الله، فإن الله يبلغك أجر من علم الناس، وحفظ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم دينها وشرعها. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا فيما تعلمناه وعلمناه، اللهم! اجعله خالصاً لوجهك الكريم، ونسألك اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، يا ذ

باب حد الزنا [4]

شرح زاد المستقنع - باب حد الزنا [4] جريمة الزنا لا تثبت إلا ببينة شرعية، كشهادة الشهود، ولابد فيهم من صفات يجب توافرها حتى تصح شهادتهم، وقد بينها العلماء رحمهم الله بأدلتها، وفصلوا الأحكام الشرعية التي تتعلق بالشهادة، وإذا لم تصح شهادة الشهود فيجب أن يقام عليهم حد القذف، وللقذف أحكام بينها العلماء رحمهم الله.

إثبات حد الزنا بشهادة الشهود

إثبات حد الزنا بشهادة الشهود بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: يقول المصنف رحمه لله تعالى: [الثاني: أن يشهد عليه]. تقدم معنا أن جريمة الزنا لا تثبت إلا بأدلة شرعية معينة، منها الإقرار، وهو سيد الأدلة كما يقول العلماء رحمهم الله، وهو أقوى الحجج؛ لأنه ليس هناك أقوى من شهادة الإنسان على نفسه، وليس هناك عاقل يشهد على نفسه بالضرر، ثم بعد ذلك شهادة الشهود، وهو أن يشهد الشهود المعتبرون في حد الزنا على هذه الجريمة بالصفة المعتبرة شرعاً. فبعد أن بيّن المصنف رحمه الله النوع الأول من الأدلة ووسائل الإثبات وهو الإقرار، شرع في الشهادة، وهذا من باب التدرج من الأقوى إلى ما هو دونه، فالإقرار أقوى ثم يليه بينة الشهادة، وقد نص الله عز وجل على هذه البينة كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]، فنص سبحانه وتعالى على اعتبار هذا النوع من وسائل الإثبات وهو الشهادة، وقال: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء:15]، فنص أيضاً في هذا الموضع على اعتبار هذه البينة، وهي شهادة الشهود، وبيّن تعالى أن هؤلاء الشهود لا بد أن تتوافر فيهم صفات من جهة العدد، والمصنف رحمه الله في هذا الموضع سيذكر جانبين: الجانب الأول: يتعلق بصفات الشهود. والجانب الثاني: يتعلق بمضمون الشهادة. وهذان الجانبان -عند العلماء- مهمان جداً في البينات، جانب صفة البينة التي ينبغي أن تكون عليها سواءً كانت شهادة أو إقراراً أو كتابة أو غيرها من الحجج في عموم الأشياء والإثباتات، خاصة في قضايا غير الحدود والقصاص، ثم بعد ذلك جانب مضمون البينة. وينبغي التنبيه على أمر مهم جداً، وهو أن مسألة الشهود والشهادة الأصل فيها أن تذكر في باب القضاء، وشروط الشاهد التي ينبغي توافرها فيه للحكم بشهادته في الحقوق سواءً كانت لله عز وجل أو كانت لعباده؛ محله باب الدعاوى والبينات، وأفرده العلماء رحمهم الله بالكلام والتفصيل في ذلك الموضع، لكن من عادة أهل العلم رحمهم الله أنهم يقدمون الشهادات الخاصة التي تتميز ببعض الصفات أو ببعض الشروط الخاصة، لقوتها وأهميتها ثم ينبهون على جملة من مسائلها في مواضعها، فالأصل أننا نؤخر الكلام على هذه البينة إلى باب البينات والدعاوى، ولكن هنا الشهود لابد أن تتوافر فيهم صفات معتبرة. وقبل ذكر صفات الشهود، اعلم أن الله تعالى رضي بالمسلمين بعضهم شهوداً على بعض، فدين الإسلام ووشيجة الإسلام التي بين المسلم وأخيه المسلم تفرض عليه أن يتقي الله في أخيه المسلم، وأن يقول فيه الحق، ولا يقول فيه الكذب، ولا يزور في قوله، ولا يغير ولا يبدل في شهادته، ولا يبني على التهم ولا على الظنون ولا على الأراجيف، وإنما يبني قوله على علم، وأشار الله إلى هذه الأسس في قوله: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف:81]، فبين أن الشهادة الحقة المبنية على العدل والإنصاف لا تكون إلا بعلم، ونهى عن الزور ظلماً فقال: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152]، وهذا يقتضي أن المسلم ينصف أخاه المسلم، ويعدل ولا يظلم، فرضي الله بالمسلم أن يكون حكماً على أخيه المسلم في الشهادة عليه كما قال صلى الله عليه وسلم مؤكداً لما دل عليه الكتاب: (أنتم شهداء الله في الأرض)، فمن كانت شهادته قائمة على العدل والإنصاف الذي قامت عليه السماوات والأرض؛ فهو مؤمن مسلم حقاً، ولا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا توافرت فيه الشروط المعتبرة.

الشروط المنبغي توافرها في الشهود

الشروط المنبغي توافرها في الشهود الشرط الأول: الإسلام؛ لأن الإسلام سلامة واستقامة على دين الله ومنهج الله، (فالمسلم -كما قال صلى الله عليه وسلم- من سلم المسلمون من يده ولسانه)، بمعنى أنه لا يظلم، فالإسلام شرط معتبر لقبول شهادة الشاهد على المسلم، فلا يشهد على مسلم إلا مسلم، فلا تقبل شهادة الكافر، سواءً كان ذمياً، أو كان وثنياً، أو كان مشركاً، أو كان ملحداً لا دينياً، أو كان مرتداً، فهؤلاء لا تقبل شهادتهم؛ لأن الكافر عدو للمسلم، والعدو تحمله العداوة على الأذية والكذب والضرر، وبعض الناس يرضى ديانة أن يؤذي من عاداه في الدين، ولذلك قالوا: عداوة الدين أعظم ضرراً من عداوة الدنيا؛ لأن عداوة الدين تأتي عن عقيدة، فقد يشهد اليهودي والنصراني والملحد والشيوعي والوثني على المسلم زوراً؛ لأنه يحب له الضرر، بل ربما يدعي أنه يتقرب إلى الله بأذيته. إذاً: لابد من الإسلام، ولا تقبل شهادة الكافر على المسلم؛ لأن هذا علو على المسلم، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه، قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]، ولو قبلنا شهادة الكافر بالزنا على المسلم؛ فقد جعلنا للكافر على المسلم سبيلاً، والآية خبر بمعنى الإنشاء، وقد بين تعالى عداوتهم بقوله: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء:101]، فهذه الآيات كلها تدل -بشهادة الله عز وجل- أن الكافر لا تقبل شهادته، إلا ما استثناه الله عز وجل في مسألة واحدة تقبل فيها شهادة الكافر على المسلم، وهي: الشهادة على وصية المسافر المسلم إذا لم يجد أحداً من المسلمين يشهد على وصيته، وبشروط معينة: أن يكونوا من أهل الكتاب، وأن يشهدوا شهادة الحق على الصفة التي بينتها آية المائدة، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيانها. إذا ثبت هذا، فالأصل أنه لابد أن يكون الشاهد مسلماً، لكن تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض، وهذا في مسألة أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا، وقد وقع هذا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما زنى اليهوديان ورفعت القضية إلى رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فدعا ابن صوريا وسأله فقال: نجد في التوراة أنه إذا شهد أربعة أنهم رءوه. الحديث، (فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالشهود فشهدوا)، فهذا يدل على أنه تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض، وهل هذا يختص باتحاد الملة أم نقبل شهادة الكفار إذا اختلفت مللهم؟ هذا فيه تفصيل سيأتي إن شاء الله في باب الشهادات. الشرط الثاني: العقل، فلا تقبل شهادة المجنون بالزنا؛ لأن المجنون مرفوع عنه القلم كما قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: المجنون حتى يفيق)، ولأن المجنون لا يوثق بقوله، ولا يوثق بخبره، فسقط اعتبار شهادته؛ ولأن المجنون لا يتكلم عن علم، والأصل في الشهادة أن تكون عن علم. الشرط الثالث: أن يكون بالغاً، فلا تقبل شهادة الصبي، فلو شهد الصبي -مميزاً كان أو غير مميز- لا تقبل شهادته؛ لأنه في حكم المجنون، وليس عنده عقل يردعه ويمنعه؛ ولأنه مرفوع القلم ولا يؤاخذ، فيمكن منه الكذب لذلك. الشرط الرابع: أن يكون عدلاً، فلا تقبل شهادة الفاسق، ولذلك قال الله تعالى فيمن فسق بالقول: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4]، فالفاسق ساقط القول، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، ونبأ نكرة، أي نبأ وأي خبر {فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، فلو كان الفاسق مقبول القول والشهادة لما توقفنا في قبول خبره، فأمرنا الله أن ننتظر حتى نعلم صدقه من كذبه، فدل على أن قوله المجرد ليس بحجة، وأن شهادته ليست موجبة للحكم، والفاسق لا يوصف بالفسق إلا إذا أخل بما يجب، فإذا عُلم منه الإخلال في حق الله وحق عباده؛ لم يؤمن منه أن يخل في شهادته، ومن هو العدل؟ العدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الأغلب الصغائر فلا تقبل شهادة الفساق سواءً كان فسقهم من جهة الاعتقاد أو من جهة الجوارح أو من جهة الأقوال. الشرط الخامس: أن يكون معروفاً بالضبط وعدم الغفلة، فالمغفل قد يظن شيئاً ويتوهم شيئاً ويشهد به، وخفيف الضبط قد ينسى أشياء تضر بشهادته مع الغير؛ لأن الشهود على الزنا قد يُسألون عن أشياء مهمة، فمن حق القاضي إذا شهدوا عنده أن يسألهم عن أشياء يعرف بها صدقهم من كذبهم، فمثلاً لو قال: في أي ثوب رأيته يزني؟ فلربما قال الثلاثة الشهود، مثلاً: كان ثوبه أبيض أو رأيناه بقميص، فإذا كانت عنده غفلة حرف شهادته وغير في الشهادة ووهم، فيضر بنفسه ويضر بغيره، وخفيف الضبط ليس عنده علم يوثق به، والله تعالى يقول في الشاهد المقبول الشهادة: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف:81]، فهي شهادة عن علم، وخفيف الضبط لا يعلم علماً تاماً؛ لأنه لا يضبط ضبطاً تاماً. الشرط السادس: ألا يكون عدواً للمشهود عليه، فإذا ثبت أن أحد الشهود الذين شهدوا على المتهم بالزنا بينه وبين المتهم خصومة، أو عداوة قديمة، أو بينه وبينه ثارات، أو بين بيته وبيته ثارات، أو بين أسرته وأسرته ثارات، ويغلب على الظن أنها تحمل على الضرر والأذية؛ فإنها لا تقبل الشهادة في هذه الحالة، قال صلى الله عليه وسلم -كما في حديث الحاكم وصححه غير واحد-: (لا تقبل شهادة خصم ولا ضنين)، الخصم معروف من الخصومة، والضنين هو المتهم كما قال تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24] أي: بمتهم، فالضنين هو المتهم على أحد الأقوال في تفسير الآية، فالشاهد أن الحديث أسقط شهادة الخصوم بعضهم على بعض؛ لأن العداوة تحمل على الحقد والأذية والضرر، ولذلك لا تقبل شهادة الأعداء، فإذا ثبت أن أحد الشهود أو كل الشهود بينهم وبين المتهم عداوة؛ فإنها لا تقبل شهادتهم عليه. قد نتعرض -إن شاء الله في باب الشهادات- لشهادة الديانة، وذلك إذا اختلفت الطوائف وكانت هناك عداوة بينها؛ فهل تقبل شهادة بعضهم على بعض؟ هذا فيه تفصيل عند أهل العلم رحمهم الله.

حكم الشهادة في غير مجلس القضاء والحكم

حكم الشهادة في غير مجلس القضاء والحكم قال المصنف رحمه الله: [في مجلس واحد] هو مجلس الحكم والقضاء، فلابد في الشهادة أن تكون في مجلس القضاء، فلا يحكم بشهادة في غير مجلس القضاء، وعلى هذا؛ إذا شهد الشهود الأربعة فإنهم يأتون القاضي في مجلسه ويشهدون هذه الشهادة، وإن شهد اثنان؟ وبقي اثنان، قال بعض العلماء: إذا قال المدعون: أمهلنا يوماً حتى نأتي بالشهود الباقين، يعطون المهلة التي يتمكنون في مثلها من إحضار الشهود دفعاً للضرر عنهم؛ لأنهم ربما كانوا صادقين، فيمكنون ويمهلون، وهذه من مسائل القضاء التي تحصل فيها النظرة والإمهال، ويمكن فيها القاضي المدعي والشاهد وصاحب القضية من استيفاء أدلته وجمع أدلته، بشرط ألا يكون هناك تلاعب أو ضرر. وقوله: (في مجلس واحد) قالوا: لأن الأصل أن يكون في مجلس واحد، فلو شهد ثلاثة في مجلس، أو جاء أربعة فشهد ثلاثة منهم، وامتنع الرابع؛ فحينئذٍ يقام عليهم حد القذف، وتسقط شهادتهم؛ لأنها لم تستتم العدد المعتبر، لابد أن يكونوا أربعة، ولا نفتح الباب ونقول: ننتظر يمكن يأتي رابع بدون طلب، وبدون أن يكون هناك ما يدل عليه، فهذا لا تقبل شهادته، لكن لو قالوا: عندنا من تقبل شهادته وهو فلان وسنحضره فلا بأس، لكن لو قالوا: هذا شهد وردت شهادته، فنحن يمكن أن نجد رابعاً، فحينئذٍ يقام عليهم الحد، ولا نظرة؛ لأنه لو فتح هذا الباب لتلاعب من يشهدون بالزنا ويقولون: والله! يمكن أن يأتي رابع يشهد معنا، فالأصل أن تكون الشهادة في مجلس واحد؛ والنبي صلى الله عليه وسلم قضى بشهادة يهود في مجلس واحد، وكذلك عمر رضي الله عنه في قصة المغيرة المشهورة حينما جاء الشهود وشهدوا في مجلس واحد.

مضمون الشهادة

مضمون الشهادة قال المصنف رحمه الله: [بزناً واحد] دخل المصنف رحمه الله في مسألة مضمون الشهادة، فلابد أن يشهدوا بفعل زناً واحد لا متعدد، فلو قال اثنان: رأيناه يزني العصر بالأمس، وقال اثنان: رأيناه يزني الصبح، فحينئذٍ شهادة الصبح غير شهادة العصر، فإما أن تكمل بينة أحد الموضعين وإلا جلد الجميع؛ لأن الشهادة ليست بزناً واحد، قد يقول قائل: هذا زان لأنه لو جئنا بالشهادتين ولفقناهما فمعناه أنه زانٍ، نقول: هذا غير صحيح؛ لأن الله أمر أن يشهد أربعة بأنهم رءوه يزني بفعل واحد، وليس بفعل للزنا متعدد، فإذا شهدوا بفعل متعدد فلا تلفق الشهادة، وهذا يسميه العلماء: اتفاق مضمون الشهادة، وهي: أن يتفق مضمون الشهادة زماناً ومكاناً وصفة، والصفة تكون بأمور قد يضطر القاضي إلى الاستبيان منها. لكن هنا مسألة وهي أن الأصل أن الشاهد لا يعنت، ولا يبالغ القاضي في التضييق عليه: كيف رأيته؟ وكيف كذا؟ ويدخل على الشاهد الأسئلة المحرجة؛ لأنه ربما التبس عليه الأمر، وأدخل عليه الغلط، وهذا معنى قوله تعالى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة:282]، وهذه المسألة فيها إشكال في بعض الجوانب عند الأئمة، وهي متى يحق للقاضي أن يتدخل في مضمون شهادة الشاهد فيسأله عن أمور، ويستوضح ويستبين، إبراءً للذمة وإحقاقاً للحق وصيانة للقضاء عن شهادة الزور والكذب؟ بعض العلماء يقول: من حقه أن يتدخل، وأعطوه صلاحية أكثر من غيرهم، ويقولون: نحن عندنا متهم، وعندنا مظلوم، حتى يثبت أنه ظالم وأنه مسيء، وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا بالتحري والضبط، فلابد أن نراعي جانب المشهود عليه، وبعضهم قال: إن الله تعالى نهانا عن أذية الشهود، وقال: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة:282] فلا ينبغي للقاضي أن يتدخل إلا في أحوال مخصوصة. من حيث الأصل العام نفرق بين قضيتين، فنقول: الأصل أننا نطالب الشهود أن يبينوا شهادتهم على وجه تتفق به الحادثة، هذا شيء، ومن حق القاضي أن يعرف، هل شهدوا بحادثة واحدة أو متعددة؟ وأن يسأل عن بعض الأمور المهمة لإثبات الشهادة وإثبات الجريمة، يبقى الجانب الثاني الذي شدد فيه أصحاب القول الأول وقالوا: من حقه أن يشدد على الشهود حتى يثبت ويعلم على وجه يصون به القضاء عن شهادة الزور والكذب والخطأ، وبعض المحققين من العلماء يقول: من حقه أن يفعله عند الشك والريبة، فإذا شك وارتاب؛ فإن من حقه أن يتدخل وأن يراعي حال المشهود عليه، وهل يقدم حال المشهود عليه أو الشاهد؟ المنبغي العدل، وأن تكون الأمور على السنن، وإن كان عمر رضي الله عنه أُثر عنه أنه قدم حق المشهود عليه، ولكن هذا قد يكون خاصاً في قضية المغيرة بن شعبة، حينما شهد عليه أبو بكرة وشبل وزياد ومعبد بأنه زنى، فأُحظر الشهود، وشهد أبو بكرة وشبل وزياد ومعبد، ولما أتي بـ زياد قال له عمر رضي الله عنه -كما في الرواية-: ما وراءك يا أبا عفان؟! إني لأرجو ألا يُفضح صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد شهد أبو بكرة أولاً، فقال: ذهب ربعك يا مغيرة! ثم شهد الشاهد الثاني فقال: ذهب نصفك يا مغيرة! ثم شهد الشاهد الثالث فقال: ذهب ثلاثة أرباعك يا مغيرة! ثم رجا الله عز وجل ألا تتم الشهادة؛ لأن مغيرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدقت فراسته، فلم يأت الشاهد الرابع -وهو زياد - بمضمون الشهادة على السنن، ووصف وصفاً لم يثبت فيه الإيلاج، وقال: إنه رآه على صفة -سنذكر القصة إن شاء الله- ولم ير الإيلاج، فكبر عمر رضي الله عنه وحمد الله، قال بعض العلماء: إن عمر نبه الشاهد الرابع أن يرجع عن شهادته، تعظيماً لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، واستشكله بعض العلماء وقالوا: كيف هذا فإنه في هذه الحالة سيجلد الثلاثة ويحكم بفسقهم؟ وأجيب بأن هذا أهون من قتله، فإنه إذا شُهد عليه وهو محصن؛ فسيقتل، قال بعض العلماء: إن عمر ورّى ولم يقل له: ارجع عن شهادتك، لكن جعل له الخيار أن يشهد أو يمتنع، والأصل يقتضي أنه يجب عليه أن يشهد، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقول: القضية على ما جرت عليه، وعمر رضي الله عنه لم يقصد التورية ولا التنبيه له، وإنما رجا الله عز وجل، وحقق الله رجاءه، وكان رضي الله عنه محدثاً ملهماً، فما يقول لشيء أُراه وأظنه إلا وافق الحق. فالشاهد من هذا: أنه بالإمكان أن يدقق القاضي في الشهادة عند الشك والريبة، فإذا شك وارتاب؛ ففي هذه الحالة من حقه أن يدقق حتى ننصف المشهود عليه، خاصة إذا كان محصناً والأمر سيفضي إلى قتله ورجمه. قال المصنف رحمه الله: [يصفه أربعة ممن تقبل شهادتهم فيه] يصف الزنا أربعة وصفاً خالياً من الاحتمال، خالياً من اللبس، والشريعة تراعي الأدب والكمالات والمروءة، ومن ذلك ألا يُتحدث صراحة بالأمور المستبشعة مما يحدث بين الرجل وامرأته، ومما يوصف به الفرج، ونحو ذلك، والله عز وجل يقول في كتابه: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43]، {طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة:237]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله يُكني، وهذا من أدب القرآن، حيث أن الله علم عباده الأدب، ولكن انظر إلى كمال هذه الشريعة ودقتها، فإذا جاءت الأحكام الشرعية والمسائل الشرعية، واحتاج العالم أو الفقيه أو القاضي أو المفتي أو المعلم أن يصرح بهذه الأشياء؛ فيأتي بها صريحة ولا يأتي بها محتملة؛ لأنه إذا جاء بها محتملة ربما ضاعت حقوق الناس، ولذلك لابد أن يسأله عن الجماع وعن الزنا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أدخل ذلك منك في ذلك منها؟)، (أنكتها؟) لا يكني صلوات الله وسلامه عليه، كل هذا حتى لا تذهب حقوق الناس، ولو كانت على الكنايات والاحتمالات لربما شهد الشاهد كناية حتى يخدع القاضي، ولذلك في هذا الموضع لابد من التصريح، وأن يقول: إنه رأى ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة وكالرِّشاء في البئر، ولا يشترط أن يقول: كالمرود في المكحلة وكالرشاء في البئر، فإذا قال: رأيت ذكره في فرجها والجاً أو داخلاً، فهذا يكفي، لكن بالنسبة للأصل كما جاء في قصة اليهوديين، أنه صلى الله عليه وسلم سأل ابن صوريا (ما الذي يجدونه في التوراة؟) فذكر أن فيها أن يشهد منا أربعة أنهم رءوا فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة، وهذا يدل على حصول الدخول والإيلاج، وأنه لا يكفي أن يرى امرأة تضاجع رجلاً، أو يرى امرأة مع رجل متجردين، فهذا لا يكفي؛ لأنه ربما حصل التجرد ولا يحصل الإيلاج، ولربما كان بصفة دون الوطء، فإذاً لابد أن يصفوا الزنا. ومن هنا قيل في قصة المغيرة رضي الله عنه أنه هو الذي أفحم الشاهد، وهذا قول من يقول: إن عمر لم يكنّ، وذلك أنه لما شهد الثلاثة وجاء الرابع، وأراد أن يصف قال له: يا أمير المؤمنين! سله أرآني مقبلاً أو مدبراً؟ يعني: رآني من جهة الأقدام أو من جهة الوجه، فقال: رأيته مدبراً، وهذا قيل في قضية شبل فقال: يا أمير المؤمنين! هي امرأتي وكنت أجامعها، فهذا من الأشياء التي يحصل بها التأكد من الزنا؛ لأنه ربما وطئ زوجته، وربما كان مجامعاً لأهله، وعلى هذا فإنه لا يستقيم أن تقبل الشهادة هكذا، يقول: فلان رأيناه يزني، بل لابد أن يصرح بالزنا، ويصفه وصفاً خالياً من الاحتمالات. قال المصنف رحمه الله: [سواءً أتوا الحاكم جملة أو متفرقين] عندنا مسألتان: المسألة الأولى: إتيان الشهود، والمسألة الثانية: مجلس الحكم، فالقاضي إذا جلس في الصباح مجلساً واحداً وأتاه الأول: الساعة الثامنة، والثاني: الثامنة والنصف، والثالث: جاءه التاسعة، والرابع: جاءه العاشرة، فهذه شهادة واحدة في مجلس واحد، لكنهم أتوا متفرقين، فالتفرق مع اتحاد المجلس لا يضر؛ لأن هذا لا يشكل مع ما تقدم؛ لأن الشرط اتحاد المجلس، واتحاد المجلس تكون معه شهادة المتفرقين والمجتمعين، قالوا: الشهادة المتفرقة كقضية المغيرة، وشهادة المجتمعين هي الأصل، والله عز وجل لم يفرق بين الشهود متفرقين أو مجتمعين. ولكن إذا جاءوا مجتمعين فإن أسئلة القاضي تنكشف أكثر مما لو فرقهم، فإذا جاءوا مجتمعين فللقاضي أن يفرقهم ويسأل كل واحد منهم على حدة، ويقول للأول مثلاً: متى وقع الزنا؟ قال: رأيته يزني في الصباح، فيقول: داخل المدينة أو خارج المدينة؟ قال: داخل المدينة، يقول: هل كانا متجردين أو على بعضهما بعض الثياب؟ صف ذلك، ويكون هذا الكلام بغيبة البقية، ثم يأذن للثاني ويسأله، ثم يأذن للثالث ويسأله، والرابع ويسأله، حتى يستبين من الشهادة؛ لأنه لو سألهم أمام بعضهم البعض لاتفقت كلمتهم، ولقن بعضهم بعضاً الجواب، فله إذا جاءوا مجتمعين أن يفرقهم للاستبيان والتأكد.

حكم من حملت ولا زوج لها ولا سيد

حكم من حملت ولا زوج لها ولا سيد قال المصنف رحمه الله: [وإن حملت امرأة لا زوج لها ولا سيد لم تحد بمجرد ذلك] الأصل الشرعي أن المرأة إذا كانت منكوحة وذات زوج فإن الولد للفراش، ولا يجوز اتهامها بأن هذا الولد ليس بولدها، وإن كان المتهم زوجها فيلاعن أو يقام عليه الحد، وإن كان غيره فيثبت ذلك أو يقام عليه الحد، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش)، فأثبت أن المرأة إذا كانت فراشاً لرجل أنه يلحق الولد به، وهكذا إذا كانت أمة؛ لأن أصل الحديث في قصة عبد بن زمعة، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما في يوم الفتح، والشاهد من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولد للفراش)، فجعل الأمة التي كانت لـ زمعة تابعة للفراش، ولذلك قالوا: إذا كانت أمة يطؤها سيدها؛ فالولد لذلك السيد، وكذلك إذا كانت زوجة، فالولد لذلك الزوج، لقوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش). لكن لو حملت وهي بكر، أو طلقت وبانت من زوجها ومضت مدة أكثر الحمل، يعني بعد أربع سنوات من الطلاق؛ لأنه تقدم معنا في الطلاق ومسائل الإلحاق أنها تمضي إلى أكثر مدة الحمل، فمضت إلى أكثر مدة الحمل، ثم فوجئ بها وهي حامل، فهل مجرد حمل المرأة دليل على زناها إذا لم تكن ذات زوج وثيب؟ للعلماء والأئمة رحمهم الله في ذلك قولان: القول الأول: إن الحمل ليس دليلاً على الزنا، ولا تحد المرأة بمجرد الحمل، وهذا مذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الحديث، وهو مروي عن عمر بن الخطاب في إحدى الروايتين عنه رضي الله عنه وأرضاه. القول الثاني: إن حمل المرأة غير ذات الزوج والثيب دليل على زناها، فيقام عليها الحد، فترجم إن كانت محصنة بأن طلقت ثم حملت على هذا الوجه، وتجلد وتغرب إن كانت بكراً، وهذا مذهب المالكية وطائفة من السلف رحمة الله على الجميع، وهو رواية أخرى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. روي عن عمر القولان: القول الأول: في خطبته عندما ذكر حد المرأة إذا زنت وقرأ آية: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكم) وقال: إذا كانت البينة أو الحبل، فجعل الحمل دليلاً من أدلة الإثبات في المرأة إذا لم يكن لها زوج ولا سيد. القول الثاني: في قضية امرأة كانت بمكة، وكان عمر في الموسم أو في عمرة من عمره رضي الله عنه وأرضاه، فأُتي بامرأة كانت بكراً وهي حامل، والناس يريدون جلدها، فسأل عن حالها، فأخبر أنها من بيت صالح، وأنها امرأة صالحة مستقيمة، فدعا بها وسألها وقال: ما بكِ؟ قالت: إنني كنت أصلي من الليل ما شاء الله، ثم غلبتني عيناي فلم أشعر إلا وقد اعتلاني رجل وقذف فيّ كالكوكب أو كالشهاب، فعلم عمر رضي الله عنها غفلتها مع أنها معروفة ببيت صالح وبيئة صالحة، فأسقط عنها الحد، ولم يقم عليها الحد، وكتب إلى الآفاق ألا يقتل بمجرد الحمل حتى يكتب إليه. ولكن هل هذا رجوع من عمر عن قوله الأول، أو تخصيص من عموم الأصل؟ للمسألة وجهان: إن قلنا: إن عمر رضي الله عنه ذكر البينة والحمل كدليل ما لم توجد شبهة تدرأ الحد، فحينئذٍ يبقى الحمل من أصله دليلاً وحجة، لكن إذا وجدت قرائن تدل على إسقاط الحد، مثل أن تدعي المرأة أنها غلبت أو أكرهت أو سُقيت منوماً أو نحو ذلك؛ قُبل قولها وسقط الحد عنها؛ لأن الله تعالى قال: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ} [النور:13]، فجعل الأصل قائماً على البينة، وهي الشهادة، وقال صلى الله عليه وسلم: (لو كنت راجماً أحداً من غير بينة لرجمت هذه) فجعل البينة في الأصل الشهود، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف خلافاً لبعض العلماء الذين يرون عمومها، ولكن الأصل في البينة هذا، قال صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما حينما قذف هلال بن أمية امرأته بـ شريك بن سحماء -: (البينة أو حد في ظهرك) وقد أجمع العلماء أنه لا بينة في الزنا إلا الشهود، وهذا يدل على أن الشريعة تطلق البينة عموماً وتريد الخصوص وهو شهادة الشهود. وعلى كل حال الأشبه أنه لا يقام الحد إلا بالبينة على ظاهر النص، ويقال: إذا وجدت الشبهة اندرأ الحد، وعلى هذا فقول الجمهور الذين يقولون بالبقاء على الأصل أولى وأحرى؛ لأنه لم يرد نص في الكتاب والسنة باعتبار الحمل دليلاً على ثبوت الزنا.

الأسئلة

الأسئلة

الشهادة على الزنا بآلات التصوير

الشهادة على الزنا بآلات التصوير Q هل تقوم آلات التصوير الحديث مقام الشهود في إثبات الزنا، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهذه وسيلة ناقصة، ولا تعتبر موجبة لثبوت الحد، فهذه الأشرطة وهذه الصور لا يُعمل بها ولا يعول عليها، ولا تعتبر دليلاً يثبت الجريمة، التشابه موجود، وربما يكون فعل هذه الفعلة من زمان قديم ثم تاب بعدها وأصلح، وكذلك الآلة ليس فيها تكليف يمكن أن يبنى عليه الحكم الشرعي، ومن أقوى الأدلة على رد مثل هذه القرائن ما ثبت في الصحيح في قصة المرأة في اللعان التي تلكأت، شهدت المرأة وشهد الرجل ثم قال عليه الصلاة والسلام: (الله أعلم أن أحدكما كاذب، حسابكما على الله) ثم قال: (انظروا إليه -يعني: الولد الذي ستأتي به- فإن جاءت به خدلج الساقين وكذا وكذا) وذكر صفة، فهو للرجل الذي اُتهمت به، وهي كاذبة، وزوجها صادق، وإن جاءت به على صفة كذا وكذا فهو لزوجها، وهو كاذب، فجاءت به على صفة الزاني فقال صلى الله عليه وسلم: (لو كنت راجماً أحداً من غير بينة -يعني: من غير الشهود- لرجمتها) فقطع كل الأدلة، هذا دليل واضح ما فيه إشكال؛ لأنه حتى القافة يستطيعون أن يقولوا: هذا ولد هذا، وينسبوه لأبيه، لكن الشريعة جعلت الأمر تعبدياً، وجعلته للشهود، وجعله للشهود فيه حكم عظيمة، وحتى الشاهد نفسه يندب له الستر وألا يفضح، فهناك أمور تعبدية وأحكام شرعية مُنبنية على وجود الشهادة، فهذا الحكم هو الأصل الشرعي. ممكن شخص يأتي ويرفع السلاح ويقول له: ازن بالمرأة، ولما يزني يصوره معها، ليس قضية وجود الجريمة وحدها كافياً، ممكن أن يهدد الرجل ويهدد المرأة، وممكن أن يأتي بامرأة على صفة المرأة، ويأتي برجل على صفة الرجل، ما يمتنع هذا، هذا سهل، الوسائل هذه ليست كالشهود الذين يدخلون على الرجل في حالة لا إكراه له فيها، ولا شبهة له تمنع من إقامة الحد عليه، وإذا امتنع من الاعتراف يشهدون عليه، فهذا كله على وجه واضح بين، وفيه أمر التعبد كما ذكرنا، والله تعالى أعلم.

الفرق بين شهادة الشهود والإقرار بالزنا في اعتبار المجلس الواحد

الفرق بين شهادة الشهود والإقرار بالزنا في اعتبار المجلس الواحد Q أشكل عليَّ لماذا اشترط المصنف رحمه الله في شهادة الشهود بالزنا أن تكون في مجلس واحد، ولم يشترط ذلك في الإقرار بالزنا، مع أن كلا الأمرين يثبت بهما الزنا، أثابكم الله؟ A لأنه إذا أقر على نفسه في مجلس أو مجالس متعددة، فهو قد أثبت أنه زنى، وبعبارة واضحة الشهادة كبينة تتجزأ، لكن الإقرار من الشخص نفسه ما يتجزأ، توضيح ذلك: إذا شهد شاهدان أنه زنى بعد العصر أمس، وشهد شاهدان أنه زنى الصبح أول أمس، فالزنا الأول غير الزنا الثاني، لابد أن تكتمل بينة الأول، وتكتمل بينة الثاني. إذاً: إذا أقر في مجلس واحد أو أقر في مجالس متعددة فقد شهد على نفسه بالزنا؛ لأن المرة الواحدة منه في الزنا كافية بإقراره، وهو يقصد تلك المرة، وأما إذا تعددت المجالس وفتح باب التعدد؛ لما استطعنا أن نقيم الحد على شهود نقصت شهادتهم أو ردت؛ لأنهم يقولون: سيأتي واحد، أو سنبحث عن من يعضد شهادتنا؛ لأن المجالس متعددة، ولذلك لا يعطون مهلة إلا لمجلس واحد، فإذا تيسر ذلك أو أُقيم عليهم الحد فلا إشكال. وعلى هذا نقول: إن المجلس الواحد في الشهادة غير المجلس الواحد في الإقرار؛ لأنه إذا أقر على نفسه بالزنا ولو تكرر منه الزنا مائة مرة فإقراره بالمرة الواحدة صادق على أي زنية، ولكن إذا تعدد المجلس في الشهادة فإنه يكون لأكثر من زنية ولأحوال متعددة، ولذلك لا يثبت به الحد كثبوته في الإقرار، والله تعالى أعلم.

حكم إعطاء الأم من الزكاة

حكم إعطاء الأم من الزكاة Q أريد إخراج الزكاة، فهل يجوز أن أعطيها لأمي وهي في أمس الحاجة إلى المال، أثابكم الله؟ A الأم لا تعطى الزكاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الولد مع والديه كالشيء الواحد، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (إنما فاطمة بضعة مني) فجعل فاطمة بضعة منه عليه الصلاة والسلام؛ أي: أن الولد قطعة من الوالد، فإذا أعطيت الزكاة لأمك؛ فكأنك أعطيتها لنفسك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) ولذلك لا تعطى الزكاة لا للوالدين ولا للأولاد. ولكن -أخي في الله- عليك أن تتقي الله في أمك، وأن تحسن إلى والدتك، وأن تحاول أن تتفقد مواطن النقص فيها فتكملها، وأن تجبر كسرها، وأن تكون معها كما أمرك الله {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83] كيف تكون ابناً باراً بها وعندك المال الذي تزكيه ووالدتك في أمس الحاجة إلى مالٍ قليل لا يساوي إلا اثنين ونصف من مائة من مالك؟ اتق الله في نفسك، واتق الله في والدتك، وعلى هذا لا تعطها الزكاة، ولكن أنفق عليها بالمعروف حتى تغنيها، عل الله أن يرد عليك بأضعاف، ويجزل لك الخير في مالك، والله تعالى أعلم.

توجيهات تتعلق بدروس الشيخ في شرحه لعمدة الأحكام بجدة والمدينة

توجيهات تتعلق بدروس الشيخ في شرحه لعمدة الأحكام بجدة والمدينة Q هل تنصحنا أن نأخذ مذكرات عمدة الأحكام القديمة التي في جدة، أو مذكرات عمدة الأحكام التي -حفظكم الله- تشرحونها في المدينة، أثابكم الله؟ A عمدة الأحكام التي في جدة تكمل التي في المدينة، والتي في المدينة تكمل التي في جدة، عمدة الأحكام شرح الحديث، لكن عمدة الفقه فهو في الفقه، ودرس عمدة الفقه القديم الذي في المدينة لم أسمح للتسجيلات أن تبيعه، وأحب من طلاب العلم أن ينبهوها على ذلك، ومن باع تلك الأشرطة فقد آلمني بذلك؛ لأنها قديمة، وهناك مسائل رجعت عنها، والحرم يغني عنها، فأحب أن تنبهوا التسجيلات على هذا، درس المدينة القديم هذا لم أسمح به، ونبهت أكثر من مرة على أنه لا ينشر؛ لأن هناك شرحاً ثانٍ أوسع وأكثر توضيحاً للمسائل التي رجعنا عنها، ووجه الرجوع، فينبه على ذلك، ويستغنى بدرس عمدة الفقه الموجود في الحرم، نسأل الله أن يجعله خالصاً لوجه، وأن يعين على إتمامه. أما عمدة الأحكام في المدينة وفي جدة، فأنا عندي منهج أسأل الله أن يعينني عليه، وهو أنني لا أحب تكرار المسائل أو المنهج في كتاب واحد أشرحه مرتين أو أكثر، ولا أريد طالب العلم أن يقتصر بكتاب على آخر، وأرجو من الله أن يفتح عليَّ في جدة، ويفتح عليَّ في المدينة، فالذي يريد أن يستغني بدرس المدينة أظن أنه لا يستغني عن درس جدة، في درس جدة فوائد كثيرة، وأيضاً الذي يصبح جداوي: سيفوته خير كثير من الشرح المدني، وعلى كل حال: المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وهما عينان في الرأس، لكن أظن اليمنى الذي في المدينة، وإن شاء الله يكون في كلا الشرحين خير، في درس جدة بعض المسائل توسعت فيها وأسهبت، وفيه بعض الجوانب التربوية، ودرس المدينة أيضاً فيه جوانب طيبة، وعلى كل حال: المعول كله على القبول من الله عز وجل، والمعول كله على ما خلص وأُريد به ما عند الله، نسأل الله أن يوفقنا لذلك، والله تعالى أعلم.

تحية المسجد لا تنقض الوتر

تحية المسجد لا تنقض الوتر Q هل تحية المسجد تنقض الوتر، أثابكم الله؟ A لا تنقض تحية المسجد الوتر، ولا تنقضه ركعتا الوتر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر ثم صلى ركعتين بعد الوتر، والسنة أن تجعل الوتر آخر صلاتك بالليل، ولكن إذا دخلت المسجد بعد وترك فصلِ ركعتين، أو توضأت فصلِ ركعتين، وهذا لا ينقض الوتر، والله تعالى أعلم.

حكم الاستفتاح في صلاة الجنازة

حكم الاستفتاح في صلاة الجنازة Q هل أستفتح في صلاة الجنازة؟ A السنة عدم الاستفتاح في صلاة الجنازة؛ لأنه ورد في حديث علي وابن عباس رضي الله عنهما أنه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح فيها، وأنه اقتصر على الفاتحة، ولم يذكر دعاء الاستفتاح، وبعض العلماء قال بدعاء الاستفتاح في صلاة الجنازة ولكنه قول ضعيف، واستدل بالعموم، (كان إذا استفتح الصلاة) ولكن الأقوى والأشبه أن المبين مقدم على المجمل، والمفصل مقدم على المجمل، فنأخذ بحديث ابن عباس وعلي رضي الله عنه لما اختلفت صورة الصلاتين، وهنا لا يعترض المعترض بالنافلة والفريضة بأننا دائماً نأخذ عمومات النافلة ونجعلها أصلاً للفريضة؛ لأن صورة صلاة الجنائز مختلفة عن صورة الصلاة الأصلية، ومن هنا قوي أن تخص بأحكامها، وألا يعمل بالعموم على هذا الوجه في هذه المسألة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

باب حد القذف [1]

شرح زاد المستقنع-باب حد القذف [1] من أعظم الفتن النازلة في زماننا، التكلم في أعراض العلماء والدعاة بلا علم باسم الدين، وهذه محنة عظيمة، عواقبها وخيمة، وشرورها كثيرة، وقد حرم الله ورسوله أن تنتهك الأعراض، وأعراض العلماء والدعاة والصالحين أشد حرمة، فوجب الحذر والتحذير من هتك أعراضهم.

معنى القذف

معنى القذف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب حد القذف] القذف في لغة العرب: الرمي، يقال: قذف بالشيء إذا رماه، والمراد به في الشريعة المعنى الخاص وهو الرمي بالفاحشة، وقولنا: بالفاحشة، المراد بها الزنا أو اللواط، وعلى هذا إذا اتهم شخصٌ شخصاً وقذفه بالفاحشة زناً أو لواطاً؛ فإنه قاذف، والعرب تجعل هذا المعنى الخاص من معاني الرمي، ويقال: رماه، إذا اتهمه، فالرمي هو التهمة: رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئاً ومن أجل الطوي رماني والقذف باب عظيم، وهو حد من حدود الله عز وجل، اجتمع فيه دليل الكتاب والسنة، تعظيماً لشأنه، وتحذيراً للعباد منه، ومن أعظم الورطات التي تهلك الإنسان في دينه، ودنياه، وآخرته؛ أن يكون طليق اللسان في اتهام عباد الله عز وجل، وإذا أرادت عيناك أن ترى رجلاً يتقحم نار الله على بصيرة؛ فانظر إلى ذلك الذي لا يتورع عن اتهام الناس، والوقوع في أعراضهم، ويسهل عليه القبائح والأمور التي لا تليق بالمؤمنين والمؤمنات، فإذا وجدته كذلك، وسهل عليه أن يلفق التهم في الدين والعرض؛ فاعلم أنه من أعداء الله ورسوله، ولو تقمص في ذلك ثوب النصيحة وثوب الإحسان، فإن الله لا يطاع من حيث يُعصى، وما من مؤمن يقرأ نصوص الكتاب والسنة متجرداً إلا أورثه ذلك الخوف من الخوض في أعراض المؤمنين والمؤمنات، وعلم أن اللسان يقوده إلى النار شاء أو أبى إذا لم يردعه بالخوف من الله سبحانه وتعالى. ولذلك حذر الله عباده وإماءه من الخوض في أعراض المؤمنين، وجعل المسلم الحق على لسان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم من عرف كيف يزم لسانه، فسلم المسلمون من ذلك اللسان، فلا يتهم مؤمناً أو مؤمنة بالزور والباطل، وكان السلف الصالح رحمهم الله يشددون في هذا الأمر أيما تشديد، فإذا أرادت عيناك أن ترى إنساناً مؤتسياً بالسلف؛ فانظر إلى ذلك الورع الذي يخاف الله في أعراض المؤمنين والمؤمنات، وإذا أرادت عيناك أن ترى عالماً بحق يلتزم منهج السلف في الخوف من الله ومن أعراض المؤمنين والمؤمنات؛ فانظر إلى ذلك العفيف اللسان، الذي يربي طلابه وأتباعه على ذلك.

أنواع القذف

أنواع القذف القذف قذفان: قذف في الأعراض، اعتنى القرآن ببيانه؛ لأنه يقع بين العوام كثيراً، وهناك قذف أعظم منه وأشد منه، وهو حديثنا في هذه اللحظات، ونمهد به لهذا الباب العظيم، ألا وهو قذف العلماء، خاصة سلف هذه الأمة، وقذف الصلحاء، وقذف الدعاة إلى الله عز وجل، وأهل الخير وأهل الاستقامة، والتهكم والسخرية بهم، والحط من أقدارهم وحرماتهم، وانتقاصهم، وسهولة ذلك على اللسان، حتى يصبح الإنسان صفيق الوجه -والعياذ بالله- لا يرعوي، ويأتي أمام الناس يشهر بهم، فلا عقل يردعه، ولا دين يمنعه، وعندها فليقل عن نفسه ما شاء، وليأخذ بمفاتيح الجنة مزكياً ومثنياً على نفسه، وليجعل نفسه على أمة محمد صلى الله عليه وسلم كأنه حفيظ عليها ومسيطر عليها، يبدع من شاء، ويفسق من شاء، ويضلل من شاء، ما كنا نعرف هذا بين أهل العلم رحمهم الله، ووالله! لقد رأينا علماء أجلاء، تحمر وجوههم وتصفر ألوانهم؛ إذا ذكر عوام المسلمين فضلاً عن صالحيهم، فضلاً عن علمائهم، فضلاً عن خيارهم، فضلاً عن سلفهم الصالح الذين زكتهم الأمة، علماء أجلاء أطبقت الأمة على جلالة قدرهم، وحفظ مكانتهم كالإمام أبي حنيفة رحمه الله برحمته الواسعة، تجد من لا علم عنده، ولا فضل لديه، يتطاول على أمثال هؤلاء العلماء، وكأنهم سوق للألسنة!! نقول هذا؛ لأننا نعلم أن الله سيسألنا ويحاسبنا عن عدم التنبيه على ذلك، وسنلقيها من على ظهورنا أمانة لكم ولغيركم أن تحذروا أمثال هؤلاء، من يوم مشهود ولقاء موعود تُرْهَن فيه الألسنة بما قالت، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]. كان السلف الصالح رحمهم الله يجرحون، لكن متى؟ إذا بلغت الحلقوم، وما كانوا يرون التجريح إلا عند الحاجة الماسة، وكان الرجل منهم يرعد قلبه من الخوف من الله عز وجل، جلس أحد أئمة الحديث فتكلم في الرجال، فمر عليه أحد العلماء الصالحين -والقصة مشهورة- وقال له: لعلك تجرح في أقوام قد حطوا رحالهم في الجنة منذ سبعين عاماً، فخر مغشياً عليه، ما قال: هذا عدو للسنة، هذا عدو للحديث، أبداً؛ لأنهم كانوا يتهمون أنفسهم بالخطأ، وكان الرجل إذا تكلم في أحد بما يجرحه؛ يتكلم بعبارات شديدة ولكن عند الحاجة الماسة، ولا يتكلم إلا في حدود ضيقة، وبأساليب محدودة محسوبة؛ لأنه يعلم أنه سيسأل بين يدي الله عز وجل عن قوله. إن أعراض المسلمين ليست رخيصة، وما كانت أفكارهم ولا عقائدهم مكشوفة أمام الناس حتى أن الشخص يشق عن قلب الرجل، انظر في السنة تجد فيها أدب في كف الألسنة عن الأعراض، تجد فيها وعيد شديد عن الدخول في قلوب الناس واتهام عقائدهم، قال: (يا رسول الله! ما قالها إلا فرقاً من السيف)، هذا حديث واضح، ما قال: (لا إله إلا الله) إلا لما علاه الصحابي رضي الله عنه بالسيف، وما قالها قبل ذلك، التهمة واضحة، وبساط المجلس دال على أنه قالها فرقاً من السيف، فقتله، فقال له رسول الهدى صلى الله عليه وسلم -مع هذه الدلائل كلها-: (أشققت عن قلبه؟) وهو رجل كافر أسلم، فيقول له: (أشققت عن قلبه؟) فما زال يرددها عليه، قتله ثم قال: إنه قالها فرقاً من السيف، وهكذا كل من قال هذه الكلمة في حق إنسان دون أن يستبين أو يخبره عن مكنون قلبه؛ فنقول له: أشققت عن قلبه؟ ولذلك قل أن تجد إنساناً يتهم الناس إلا ويقول لك: هو يقصد كذا، وهو يعني كذا، وإذا أراد الإنسان أن يعلم حقيقة الإسلام والالتزام فليتدبر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه).

التحذير من الخوض في أعراض العلماء والدعاة

التحذير من الخوض في أعراض العلماء والدعاة إن استطعت ألا تغيب عليك شمس يوم وأنت مرهون أمام الله بعرض مؤمن أو مؤمنة، إن استطعت ألا تغيب عليك شمس يوم وأنت مرهون بعالم من علماء المسلمين أو إمام من أئمة الدين؛ فافعل ذلك، ما لم تكن محتاجاً للجرح، لكن من الذي يحتاج؟ هل هم البسطاء وطويلبي العلم أم الأئمة والعلماء الذين يكشفون ويبينون؟ ثم إذا كشف العلماء، فكم من أخطاء كشفت وما قامت الدنيا ولا قعدت؟ فالجرح لا يلقن لعوام المسلمين الذين يحتاجون بدهيات المسائل لسلوكهم وأخلاقهم ودينهم وعقيدتهم، فقد تجد الواحد منهم لا يحسن أحكام صلاته، ولا مسائل السهو في عبادته، ولا حجه ولا عمرته؛ ومع ذلك يلوك لسانه في أعراض المسلمين: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104]، منهم من ظل يلفق الأخطأ بالدعاوي العريضة والتضخيم دون أن تجد عنده ورعاً، أئمة الجرح والتعديل عرفوا بالورع، قال الإمام النووي رحمه الله وغيره من الأئمة: إن من يتكلم في الجرح والتعديل ينبغي عليه أن يصون نفسه صيانة عظيمة خوفاً من أن يسترسل فينتقل من الجرح لله والتعديل لله إلى الجرح لهوى النفس؛ لأن النفس ضعيفة، والله يقول: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]. نقول هذا؛ لأنه من أعظم الفتن، والله عز وجل يحذر عباده من العرض، وما من أحد يرمي مسلماً أو مسلمة فيقذف المحصنات المؤمنات الغافلات إلا لعنه الله في الدنيا والآخرة، فإذا رمى مؤمنة أو مؤمناً لعنه الله في الدنيا والآخرة، وأعد له عذاباً عظيماً، وفضحه على رءوس الأشهاد، ثم يفضحه بأن يتكلم لسانه بأنه كذاب، وتتكلم عليه جوارحه، حتى رجله ويده تنطق بأنه من أهل الزور لا من أهل الصدق، ومن أهل الخيانة لا من أهل الأمانة، ولذلك ينبغي للمسلم أن يجعل هذا النص أمام عينيه، وهو هذه الآية الكريمة: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23]، وهذا عظيم والله! ما هو بالسهل، والله إذا وعد لا يخلف الميعاد، والله يعفو عن حقه لكن لا يعفو عن حقوق عباده، عجبت من رسول الهدى يمر على مقبورين يشتعل عليهما القبر ناراً وعذاباً، وهو رسول الهدى يشفع فيشفع، فقال: (أما هذا فقد كان يمشي بالنميمة!) وأُذن له أن يضع الجريد حتى ييبس فقط، ولا يمكن أن يرفع العذاب عنه؛ لأنه وقع في إخوانه المؤمنين وأفسد ما بين المؤمنين. وهنا تجد من ينقل الأحاديث للجرح والتعديل، في العلماء، وفي الصلحاء، وفي الأتقياء، هل نسكت ولا ننبه على هؤلاء؟ وإذا جاء من ينبه قال: والله! هذا عدو للكتاب والسنة، حشفاً وسوء كيلة؛ لأن اللسان إذا زل زلت توابعه، فتجده لا يرعوي، وتحذره ولا يحذر، ثم بعد ذلك يتهم من يحذره ومن ينبهه، والله الموعد، فإذا قُلِب الإنسان إلى قبره ووضع في لحده قال الله: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، في تلك الساعة تنجلي الغشاوة، وينجلي الكذب، وتنجلي التزكية للنفس، ويجازى على التهكم في حدود الله عز وجل ومحارمه. على الإنسان أن يتقي الله عز وجل، وأن يعلم أن الله يدافع عن الذين آمنوا، وأن الله يتولى عباده المؤمنين، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:196]، تصور يوماً من الأيام، جاءك شخص وقال لك: والله! سمعنا في المجلس من يقول عنك: إنك تستعجل، تقوم الدنيا عليك ولا تقعد، وتذهب إلى فراشك لكي تنام، فتجد أن مضجعك قد تغير عليك، وأن الليل القصير صار ليلاً طويلاً بكلمة: إنك عجول، فكيف إذا قيل: والله سمعت أن الداعية فلاناً يقولون عنه كذا، والداعية الفلاني يقولون عنه كذا؟ {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15]، إذا كان منامك لم يطب لك عندما يقال لك: عجول، ويقال لك: مستعجل في الأمور، فكيف يطيب لأولياء الله وقد اُتهموا في عقائدهم، وقد اُتهموا فيما بينهم وبين ربهم؟ إلى أي حد بلغت الغفلة بالإنسان أن يصل إلى درجة -والعياذ بالله- لا يعرف قيمة الكلام في عقيدة الناس؟ إلى متى يبقى الإنسان غافلاً عن أعظم الأشياء للناس فيما بينهم وبين ربهم؟ والله يقول عن النبي عليه الصلاة والسلام: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22]، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام:107]، وهذا يقيم نفسه وكيلاً على من؟ إذا كان رسول الهدى على كفار يخاطبه الله بذلك! فكيف بمن أقام نفسه على أولياء الله وعباد الله؟ ويل لمن جرح عالماً صلى الفجر في جماعة فكان في ذمة الله، فطلبه الله بذمته، فعندها: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]. وقل أن تجد قلباً خاشعاً، أو لساناً ذاكراً موفقاً مسدداً وهو جريء على أعراض المسلمين، ومن هذا المجلس اعرف ما الذي لك وما الذي عليك، واعرف من هم علماء الأمة وسلف الأمة، واعتقد فضلهم، واعتقد مكانتهم، علماء أجلاء سقطوا من أعين الناس، وعلماء عظم بلاؤهم، وقادوا هذه الأمة سنيناً وقروناً، ومع ذلك ذهبوا أدراج الرياح عند الذين انطمست بصائرهم -والعياذ بالله- وزلت أقدامهم. شيخ الإسلام له كتاب: رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وكلمة الأعلام من شيخ الإسلام ليست سهلة، وهو إمام من أئمة الجرح والتعديل، فيذكر أولهم الإمام أبا حنيفة رحمه الله برحمته الواسعة، ثم ذكر الإمام مالكاً والشافعي وأحمد، ما عاش علماء الأمة إلا على المحبة، ما عاشوا إلا على التقدير، ما عاشوا إلا على معرفة منازل أهل الفضل، وهل يعرف الفضل إلا أهله؟ وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ فهي الشهادة لي بأني كامل الإمام أبو حنيفة رحمه الله في جلالة قدره وعلو شأنه إمام عظيم، نسأل الله بعزته وجلاله أن ينور قبره، وأن يقدس روحه، وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ولنقولنّها وسنقولها إلى أن نلقى الله، بأننا وجدنا له القبول الذي وضعه الله له بين المسلمين، وإن كانت عنده مسائل اجتهد فيها وأخطأ رحمه الله، فغيره اجتهد كما اجتهد والله الموعد، سيجزي الذي أصاب بالأجرين، ويجزي الذي أخطأ أجراً واحداً، ولن نستطيع أن نقفل باب رحمة فتحه الله، ومن هذا الذي ليس عنده عقل ولا تمييز ينظر إلى هذا الإمام الذي وضع له القبول بعين الازدراء! وأئمة السلف كلهم على جلالة قدره ومعرفة فضله، لا يجوز أن تؤخذ الكلمة والكلمتان الطائرة من هذا وذاك؛ فيجرح بها، فهذا الإمام مالك يقول في ابن إسحاق: دجال من الدجاجلة! وما قُبلت كلمة مالك فيه، وقال ابن أبي ذئب في مالك في مسألة الخيار: يُستتاب مالك وإلا قتل! هذه كلمات قد يقولها بعض العلماء ولا يلتفت إليها، ولا ندري حقيقتها، ولا يستدل بها. والعجيب من هؤلاء أن يستدلوا بهذه الكلمة ونحوها، فإذا ذكرت لهم حجة عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي في مسائل وتقول لهم: قال الإمام كذا، يقول لك: هم رجال، ونحن رجال، تقولون: قال أبو بكر، وقال عمر، يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء! ما شاء الله، متى؟ إذا خالفهم، ثم يأخذون أقوال الرجال في القرن الثالث والرابع ويحتجون بها، في ماذا؟ في نقصان أهل الفضل، وتتبع عورات أهل الكمال والإحسان. ينبغي للمؤمن أن يربي نفسه على احترام العلماء والأئمة والفضلاء، عكرمة صاحب ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه حمل علم ابن عباس رضي الله عنه؛ لكن تجد الجاهل من هؤلاء المتأخرين لا يرعوي ويتكلم فيه، ويحاول أن ينقص قدره، ويتهمه بالإرجاء والبدعة، ما هذا؟! أهذه هي سوق العلم؟! وهل هذا هو سبيل المؤمنين والمحسنين؟! اللهم! أنت الله لا إله إلا أنت إليك المشتكى، ونسأل الله بعزته وجلاله أن يقوم للحق نصابه، وأن يقطع دابر أهل الفساد، فيهدي من كان راضياً هدايته، ويأخذ من كان منهم على ضلاله، وأن يريح العباد والبلاد من شرهم وكيدهم. سبحان الله! ينبغي أن نجرد أنفسنا لتربية أبناء الأمة على الكتاب والسنة، من هذا الذي يقول: إنه على الكتاب والسنة، وهو من أجهل الناس بأحكام القرآن والسنة؟ ومن هذا الذي يريد أن يربي الناس على الحقد على الأخيار والصالحين ثم يدعي أن ذلك هو منهج الكتاب والسنة؟ لا والله يأبى الله ويأبى رسوله صلى الله عليه وسلم ويأبى الصالحون، وما قلناه سنلقى الله به، ولكن هذا الذي نعلمه من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي أدركنا عليه العلماء والصلحاء والأتقياء أنهم يحببون الناس في سلف هذه الأمة علماء وصالحين، ويعتقدون فضلهم، حتى أن بعض علماء العقيدة ذكر من عقيدة أهل السنة الترضي على علماء الأمة من السلف الصالح من الصحابة والتابعين، يقول الإمام الطحاوي: أهل الخير والأثر، والفقه والنظر، هؤلاء كلهم فقهاء الأمة وعلماؤها، لهم جلالة قدرهم، ومكانتهم تحفظ ولا تُضيع، يكرمون ولا يهانون، ويذكرون بالجميل -كذا قال رحمه الله:- ومن ذكرهم بغير ذلك فهو على غير السبيل؛ لأنه شاق الله ورسوله، فالسبيل الأقوم أن تحفظ فضل أهل الفضل. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وقد يل

باب حد القذف [2]

شرح زاد المستقنع - باب حد القذف [2] القذف من أكبر الكبائر، وهو من الموبقات، وقد شرع الله عقوبات لهذه الجريمة، وحد القذف لا يثبت إلا بشروط يجب توافرها في القاذف والمقذوف، والقذف قد يكون بلفظ صريح وقد يكون بلفظ غير صريح، ولكلٍ حكمه.

عظم ذنب قذف المسلمين في أعراضهم

عظم ذنب قذف المسلمين في أعراضهم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب حد القذف]. تقدم معنا في المجلس الماضي بيان بعض المقدمات المتعلقة بهذه الترجمة، وذكر المصنف رحمه الله: (حد القذف)، وقد بينا أن بعض الأئمة رحمهم الله يرون أن أشد العقوبات بعد الزنا هو حد القذف، وهذا واضح من جهة وجود الرمي بالفاحشة -أعاذنا الله وإياكم من ذلك- واختلف العلماء رحمهم الله -بعد اتفاقهم على أن القذف من كبائر الذنوب- هل هو من أكبر الكبائر أو هو من الكبائر فقط؟ فذهب طائفة من أهل العلم رحمهم الله: إلى أن القذف يعتبر من أكبر الكبائر، واحتجوا على ذلك بأدلة: منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، ثم قال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قال الصحابة: ليته سكت)، قال العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر من أكبر الكبائر شهادة الزور، قالوا: والقذف شهادة بالزور، وهو قول زور، بل هو من أشد الزور في حقوق عباد الله؛ لأن صاحبه قد ازورّ عن الحق، أي: مال عنه، فقال قولاً خاطئاً في أعراض المسلمين. وأكدوا هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا أكثر من ستين باباً، وأهونها مثل أن يأتي الرجل أمه)، والعياذ بالله! وجاء في اللفظ الآخر: (وإن أربى الربا أن يستطيل العبد في حق أخيه المسلم)، فجعل هذا من أعظم الأمور وأشدها، وهذا يؤكده قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:23]، فجمع الله لهم بين لعنة الدنيا ولعنة الآخرة، ثم إن الله قطع ألسنتهم وشهادتهم فقال: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4]، وحكم بعد ذلك بفسقهم، قالوا: فهذه النصوص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تشدد في أمر القذف، وتبين عظم ما فيه من العقوبة الحسية والعقوبة المعنوية في الدنيا والآخرة، ويقول صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات) -قيل: إنها توبق صاحبها، بمعنى: أنها تهلكه- والعياذ بالله (قلنا: ما هي يا رسول الله؟! فذكر منها: قذف المحصنات الغافلات المؤمنات)، وهذا كله يؤكد أن القذف ليس بكبيرة فقط، بل هو من أكبر الكبائر وأشدها وأعظمها جرماً والعياذ بالله! بل وأعظمها بلاءً على العبد في دينه ودنياه وآخرته، ولذلك قلّ أن يَسْلَم دين لصاحب لسان يستطيل في أعراض المسلمين بقذفهم والطعن فيهم، وتشويه سمعتهم، وإشاعة السوء بين المؤمنين والمؤمنات، ولمزهم وهمزهم والحط من أقدارهم، ولذلك تجده منطمس البصيرة، قليل التوفيق للحق، قاسي القلب، صفيق اللسان، جريئاً على عباد الله عز وجل، يبدأ بقذف الواحد، ثم يسترسل إلى الثاني وإلى الثالث، يبدأ بالقذف بتهمة وشبهة حتى ينتهي به الأمر -والعياذ بالله- إلى القذف بدون شبهة وبدون تهمة، فبأقل عداوة يقذف ويستطيل، وهذا هو شأن أهل النفاق كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم إذا خاصموا فجروا، فهذا اللسان إذا لم يحكم بتقوى الله عز وجل؛ فإنه مهلكة لصاحبه كما أخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم -أو على مناخرهم- إلا حصائدُ ألسنتهم؟). ولذلك نؤكد ما سبق بيانه أنه ينبغي على كل من يريد أن يستقيم على طاعة الله أن يعلم أن الاستقامة استقامة قلب وقالب، والله لو زكّى نفسه وزكّاه من في الأرض جميعاً وهو لا يتقي الله في لسانه؛ فإنه سيورد نفسه الموارد، ولن يغنيه عند الله شيئاً ثناء الناس عليه إذا أظلم قلبه وأصبح لسانه سليطاً، فإذا كان بهذه المثابة؛ فليعلم أن العواقب وخيمة، وأن النهاية أليمة، والله الموعد. وعلى كل حال: فهذا الباب ذكره الأئمة والعلماء من المحدثين والفقهاء رحمهم الله برحمته الواسعة؛ لأنه تضمن جملة من الأحكام والمسائل لخطر عرض المسلم الذي قرنه النبي صلى الله عليه وسلم بدمه لما خطب خطبة حجة الوداع موصياً للأمة مبيناً لها أمورها المهمة، فقال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام). فنظراً لاشتمال هذه الجريمة على الكلام في أعراض المؤمنين والمؤمنات بالزور والباطل، ونظراً لاشتمالها على جملةٍ من الأحكام والمسائل ناسب أن يذكرها المصنف رحمه الله، وهذه الجريمة لها عقوبة ولها حد ولذلك ذكرت في باب الحدود. يقول رحمه الله: (باب حد القذف) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من المسائل والأحكام التي تتعلق بالقذف.

ما يشترط في القاذف

ما يشترط في القاذف قال رحمه الله: [إذا قذف المكلف محصناً]. هذه الجملة صدر بها رحمه الله مسائل القذف، وهي حكم الله عز وجل على من قذف المحصن -بدون بينة ولا دليل- أنه يجلد حد القذف. وقوله رحمه الله: (إذا قذف المكلف) والمكلف: تقدم معنا أنه البالغ العاقل المختار، فلا بد أن يكون بالغاً، فلو أن صبياً قال لرجل: يا زانٍ، أنت زانٍ، فرماه بالزنا، أو رمى امرأة بالزنا، فقال لها: يا زانية، نظرنا؛ فمن حيث الأصل الصبي لا يقام عليه الحد؛ لأن الله عز وجل أسقط عنه المؤاخذة، فلا يؤاخذ بقوله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: الصبي حتى يحتلم)، ولكن إذا كان هذا الصبي مميزاً، وقد بينا ضوابط التمييز من حيث السن ومن حيث المعرفة، فبعض العلماء يقول: المميز هو الذي يفهم الخطاب ويحسن الجواب، لو قلت له: ماذا فعلت؟ أين أبوك؟ ماذا فعل فلان؟ كيف فلان؟ يفهم الخطاب الذي يوجه إليه، ويحسن الجواب، فهذا مميز بأقواله، فجعلوا التمييز ضابطه بالقول، ومن أهل العلم رحمهم الله من جعل التمييز من سبع سنوات، والحقيقة أن هذا يختلف من شخصٍ إلى آخر، فإذا كان الصبي مميزاً يعلم أن هذا الكلام لا يقال، وأن هذا الكلام اتهام بالجريمة، وأن هذا الكلام سوء وشر، بل بعض الصبيان يعلم أن القاذف تقام عليه العقوبة، وقد يحذره والداه من هذا، ويعلم عواقب هذا من حيث الأصل، فإذا تجرأ على هذا الكلام وكان مميزاً؛ فإنه يعزر ويؤدب، ولا يترك هملاً بل يعزر بما يناسب سنه، وهذا له أصل في السنة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)، فعزر في حق الله عز وجل، ولذلك يعزر الصبي ولا يقام عليه الحد، فنظراً لكونه غير مكلف؛ أسقط عنه الحد، ولكن لا تسقط عنه العقوبة لنوع التمييز الموجود فيه؛ لأنه لو لم يردع بها لاعتاد ذلك، واستشرى وقوي على الفساد، وكما يقوى على ترك حق الله عز وجل؛ يقوى على ترك حق المخلوق، وذلك بالتكرار، فينشأ على ذلك والعياذ بالله! فالأصل أنه ينبغي أن يكون بالغاً. كذلك أن يكون عاقلاً، فلو أن مجنوناً سب رجلاً فقذفه، أو سب امرأة فقذفها؛ لم نقم عليه الحد؛ لأن المجنون لا يؤاخذ بقوله، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي تقدم: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: المجنون حتى يفيق)؛ لأن المجنون لا يملك لسانه فلا وجه لمؤاخذته، فإنه لا يستطيع أن يتحكم في لسانه، ولا يستطيع أن يتحكم في قوله، ومن هنا لا يؤاخذ بما يقول، ولا يقام عليه حد القذف، ويختلف عن الصبي بالتفصيل الموجود في الصبي. وأما بالنسبة للاختيار، وهو: ألا يكون مكرهاً، فلو أن شخصاً هدد شخصاً وقال له: إن لم تقذف فلاناً، أو إن لم تقذف فلانة وتتهمها بالزنا؛ سأقتلك، وتحققت فيه شروط الإكراه التي تقدمت معنا في طلاق المكره، وبينا الأمور المعتبرة لكي يحكم على الشخص بكونه مكرهاً، فأكره على أن يقذف غيره فقذفه، فإذا تبين إكراهه سقط عنه الحد، ولا يؤاخذ بقوله؛ لأن الله أسقط بالإكراه قول من تلفظ بالكفر، كما في قصة عمار بن ياسر رضي الله عنهما حينما تلفظ بالكفر وقلبه مطمئنٌ بالإيمان مكرهاً، فأنزل الله سبحانه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، قالوا: فإذا قذف مكرهاً وقلبه مطمئن لا يريد قوله، ولا يقصد قوله؛ لا يقام عليه الحد، ويعتبر الإكراه موجباً لاندراء الحد عنه، ومسقطاً للعقوبة. وقوله: (إذا قذف المكلف محصناً)، المحصن هو: الحر المسلم العفيف العاقل الملتزم، وسنبين إن شاء الله ضوابط الإحصان، وهذه اللفظة تطلق في الشريعة على معان عديدة منها: الإسلام والزواج والنكاح والعفة والحرية، فتطلق على هذه الأمور كما سيأتي.

حكم من قذف جماعة

حكم من قذف جماعة والأصل أنه إذا قذف محصناً واحداً يقام عليه الحد ثمانون جلدة، وهذا لا إشكال فيه، إذا كان حراً وانطبقت الشروط المعتبرة للحد، فالمصنف رحمه الله بين الحكم إذا كان القذف لمحصن سواء كان ذكراً أو كان أنثى، حتى ولو قذف خنثى مشكلاً فإنه يقام عليه الحد، فالمحصن يشمل هؤلاء كلهم. ولكن لو أنه خاطب اثنين، فقال: أنتما زانيان، أو فلان زنى بفلانة، أو فلان وفلانة زانيان، أو فلان وفلان وفلان زناة، فهل لكل واحد من هؤلاء حد، وله الحق أن يطالب بحده أم أنه إذا طالب به أحدهم أو طالبوا به جميعاً أقيم عليه حد واحد؟ اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، وأصح القولين -والعلم عند الله-: أن كل واحد منهم له حق، وأن مطالبة الواحد لا تسقط حق الثاني؛ لأنه خاطب الجميع واتهم الجميع بالزنا، وعلى هذا؛ فإنه إذا قذف ثلاثة، فطالب أحدهم بحقه اليوم أقمنا عليه حده، ولو طالبوا الثلاثة مع بعض أقيم لكل واحد منهم حده، هذا هو الأصل؛ لأنه وجه التهمة لكل واحدٍ منهم، ومما يقوي هذا القول: أنه لو كان في الثلاثة من لا يقام عليه الحد لم يسقط الحد عن الجميع، فلو أنه خاطب جماعة وقال: يا زناة، وفيهم واحد زانٍ فعلاً، ثبتت عليه تهمة الزنا، واتهمهم وفيهم هذا الزاني، فلو قلنا: إنه قذف واحد يأخذ حكم الواحد؛ لأسقط وجود الخلل في أحدهم حق الباقين، لكننا نقول: إنه قد خاطب الجميع، وكل واحد منهم له حق، فإذا امتنع البعض عن المطالبة بحقه، فمن حق الآخر أن يطالب بحقه، وإذا طالب أحدهم لم يسقط حق الباقين؛ لأنهم متهمون جميعاً، وكما أقيم لهذا حقه يقام للآخر حقه. وعلى هذا فإنه يتعدد الحد ويتكرر على أصح قولي العلماء رحمهم الله؛ والنظر يقوي هذا، فإنه إذا قذف ثلاثة، يكون كما لو قذف كل واحد منهم قذفاً مستقلاً، فلو أنه قال لمحمد وعلي وعبد الله: أنتم زناة، فحكمه كما لو انفرد بمحمد فقال له: أنت زانٍ، وحكمه كما لو قال لعلي مباشرة: أنت زانٍ، وكما لو قال لعبد الله: أنت زانٍ، فكما أنه لو قذف كل واحد منهم مستقلاً لا تجمع الحدود في حد واحد؛ كذلك لو قذفهم جميعاً مباشرة؛ لأن الكل وقع عليه اعتداء في عرضه سواءً كان مجتمعاً مع غيره أو منفرداً، وعلى هذا -تعظيماً لحدود الله وحرماته- فإنه يقام عليه الحد لكل واحد منهم يريد أن يطالب بحقه، فيعاقب بالحد، ويكرر عليه، على ظاهر النص أن المقذوف له حق المطالبة بإقامة الحد على من قذفه.

عقوبات القاذف

عقوبات القاذف قال المصنف رحمه الله: [جلد ثمانين جلدة إن كان حراً]. أي: جلد هذا المكلف ثمانين جلدة بشرط أن يكون حراً، وبإجماع العلماء رحمهم الله أن حد القذف ثمانون جلدة، فهم متفقون على ذلك لنص القرآن: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4]، وقد جعل الله في القذف ثلاث عقوبات: العقوبة الأولى: أنه يجلد ثمانين جلدة. العقوبة الثانية: أنه تسقط شهادته، فلو أن هذا القاذف الذي ثبت أنه قذف وأقيم عليه الحد، شهد في اليوم الثاني بأن فلاناً له عند فلان ألف ريال، أو أن فلاناً قتل فلاناً -أي شهادة كانت- ردت شهادته، لقوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4]، إلا إذا تاب، وتوبته بأن يأتي إلى القاضي ويقول: كذبت في تهمتي لفلان وهو ليس بزانٍ، فتوبته بأن يكذب نفسه. العقوبة الثالثة: أنه فاسق، ونص الله عز وجل على هذه الأحكام الثلاثة: الحكم الأول: الجلد، وقد ذكر المصنف رحمه الله -وتقدم معنا- أحكام الجلد، وصفة الجلد، وما يجلد به، وأن جلد القذف بعد جلد الزنا في القوة والشدة. الحكم الثاني: أنه لا تقبل له شهادة، ولا يشترط أن يشهد في القضاء، بل حتى لو جاءك وقال: أشهد أن فلاناً كاذب، أو يفعل كذا؛ قل له: أنت البعيد مقطوع اللسان، مردود الشهادة، ما لم تكذب نفسك، وانظر إلى تعظيم الله لحرمة المؤمن! ويدل عليه الحديث القدسي: (ما ترددت في شيءٍ أنا فاعله ترددي في قبض روح المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته)، فالله عز وجل يؤدب عباده بهذا الحد، ولذلك قطع هذا اللسان الظالم الآثم الذي يرتع في أعراض المسلمين فلا تقبل له شهادة، ثم انظر إلى نص القرآن: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4]، واختلف العلماء في هذه الآية على قولين: بعض العلماء يقول: حتى ولو تاب لا تقبل شهادته؛ لأن الله يقول: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4]، وهذا مذهب الحنفية رحمهم الله وطائفة، والجمهور على أنه لو كذب نفسه فجاء عند القاضي وقال: إنه كاذب، قبلت شهادته، وهذا البعيد لا يكفي أن يقام عليه الحد، بل لا بد أن يأتي عند القاضي ويقول: قد كذبت في تهمتي لفلان، وهذا يرد للناس حقوقهم؛ لأنه إذا أقيم عليه الحد يبقى الناس في شكوك هل هو صادق أو كاذب؟ ولكن حينما يأتي إلى مجلس القضاء ويقول: إنه كذب في شهادته على فلان، وكذب في قذفه لفلان، وإن فلاناً بريء أو إن فلانة بريئة؛ فحينئذ تقبل شهادته؛ لأن الله يقول: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:5]، فنص الله عز وجل على استثنائهم بالتوبة، ومن هنا ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا الاستثناء يشمل العقوبات السابقة، ومما يؤكد هذا أن أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، كان يقول لـ أبي بكرة: تب أقبل شهادتك، أي: إن تبت قبلت شهادتك، وهذا يدل على أنه لو تاب في الدنيا قبلت شهادته، وأنه لا يبقى على الأصل مردود الشهادة ما دام أنه قد تاب. الحكم الثالث: أنه يفسق، والفاسق ساقط الخبر، لا يقبل خبره مباشرةً، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، والمراد: تثبتوا، وهذا يدل على أنه لا يقبل خبره مباشرة. ذكر المصنف رحمه الله عقوبة من قذف أنه يجلد ثمانين جلدة، وبينا أحكام الجلد، وهذا القدر في حد القذف مجمع عليه بنص الله عز وجل في كتابه، وصفة الجلد تقدم أنها دون حد الزنا، فأشد الجلد جلد الزنا، ثم بعده جلد القذف، وهذا لوجود المجانسة بالفحش في الجريمتين.

الفرق بين الحر والعبد في الجلد للقذف

الفرق بين الحر والعبد في الجلد للقذف قال المصنف رحمه الله: [وإن كان عبداً أربعين]. مذهب جماهير السلف والخلف -ومنهم الأئمة الأربعة- على أن العبد إذا قذف غيره يقام عليه الحد أربعين جلدة، واستدلوا -أولاً- بقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25]، حيث شطر الله حد الزنا الذي هو الأصل، فمن باب أولى تشطير حد القذف، وهذا من باب التنبيه بالأعلى على ما هو دونه. واستدلوا -ثانياً- بأن الخلفاء الراشدين أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً رضي الله عنهم أجمعين كانوا يجلدون الرقيق في القذف أربعين جلدة، قال أبو بكر بن حزم: أدركت أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً والأئمة يجلدون العبد أو المولى إذا قذف أربعين جلدة، وهذا يدل على أنه سنة ثابتة، وعليها إجماع الصحابة حيث لم ينكر أحد من الصحابة تشطير عقوبة القذف على الرقيق، وعليه فإنه يجلد أربعين جلدة. قال المصنف رحمه الله: [والمعتق بعضه بحسابه]. للعلماء وجهان في المعتق والمبعض: فبعض العلماء يقول: إذا كان نصفه حراً ونصفه رقيقاً فإنه يجلد بحسابه، وعلى هذا تكون ستين جلدة، الأربعون: تشطير أصل الحرية، مراعاة للحرية، والعشرون: تشطير الرق، فإذا كان مبعضاً فإنه بحسابه على القول الذي اختاره المصنف. والقول الثاني: إذا كان مبعضاً فإنه على النصف دائماً، وهم متفقون أنه لو كان نصفه حراً ونصفه رقيقاً فإنه يجلد على النصف، ولكن إذا كان ثلثاه أو كان ثلثهُ رقيقاً والآخر حراً فعلى القول الأول: يتشطر بحسابه، وعلى القول الثاني: يتشطر على النصف، سواءً كانت الحرية أكثر أو كان الرق أكثر؛ لأن الحكم واحد عند الذين لا يفصلون، وهو اختيار أصحاب الشافعي وطائفة من العلماء رحمهم الله.

حكم قذف غير المحصن

حكم قذف غير المحصن قال المصنف رحمه الله: [وقذف غير المحصن يوجب التعزير]. مثلاً: لو قذف صغيراً، في هذه الحالة الصغير لا يتأتى منه الزنا ولا يتضرر بقذفه، لكن يجب أن يعزر، فلو اشتكى هذا الصبي أو بعد بلوغه اشتكى -وكان القذف حال صغره- فإنه يقام عليه التعزير. والتعزير: عقوبة لا حد لها، وهي تكون -في الأصل- في غير المقدرات شرعاً، والتعزير ستأتينا إن شاء الله ضوابطه: أنه يتبع حالة المجني عليه والجاني والبيئة التي فيها الاثنان، فمثلاً: يختلف التعزير لو كان الصبي يستلزم الرعاية أكثر، فقذف الصغير من القرابة ليس كقذف الصغير الغريب، وقذف الصغير من أبناء أو بنات الصالحين ليس كقذف عامة الناس؛ لأن الله جعل لكل شيء قدراً، فالناس لهم حقوق، ولهم منازل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أنزلوا الناس منازلهم)، فإذا كان القذف متعلقاً بمن لا يقام الحد بقذفه؛ فإنه لا بد من عقوبة للقاذف، وتكون العقوبة تعزيرية، ينظر القاضي فيها إلى حال المقذوف وحال القاذف، فيعزر كل قاذف بما يناسبه، وهذا أصل في التعزير.

الحد حق للمقذوف

الحد حق للمقذوف قال المصنف رحمه الله: [وهو حق للمقذوف]. قوله: (وهو) الضمير عائد إلى حد القذف (الجلد ثمانين جلدة) حقٌ للمقذوف، وهذا قول جماهير السلف والخلف رحمهم الله أنه حق للمقذوف، وإذا قلنا: إنه حق للمقذوف؛ فلا يقام إلا بطلب المقذوف، ويبقى على هذا الطلب إلى إقامة الحد. إذاً: لا بد أول شيء أن يطلب المقذوف من القاضي حقه، فيقول: فلان قذفني، فيؤتى بفلان فيقر أو يأتي بالشهود ويثبتون أنه قذفه، فإذا أقر أو قامت عليه بينة بأنه قذف، وثبت عند القاضي أنه قذف، يقول له القاضي: أنت قذفت أخاك في الإسلام، فإما أن تحضر البينة أو أقيم عليك حد القذف، فإن قال: ليس عندي بينة، يأمر القاضي حينئذ بجلده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك)، فإذا قال: لا بينة لي، أقيم عليه الحد، فإذا استمر المقذوف بالمطالبة مضى الحكم، ولو عفا عنه بعد الحكم وقبل التنفيذ، لا يقام عليه حد القذف، فلو أن القاضي حكم عليه بأنه قاذف، ثم أردنا تنفيذ الحد، فقال صاحب الحق: عفوت -ومن حقه أن يعفو- ففي هذه الحالة يسقط عنه الحد، ولا تجب العقوبة.

ما يشترط في المقذوف

ما يشترط في المقذوف قال المصنف رحمه الله: [والمحصن هنا: الحر]. أي: في باب القذف، فلا بد أن يكون المقذوف حراً كاملاً، فإذا كان رقيقاً فإن نقص الرق يؤثر، وجماهير السلف والخلف أن قذف العبيد فيه التعزير، وليس فيه الحد، ولهذا أصل؛ لأن أصل الرق الكفر، ومن هنا لم يسوِ الشرع بين المسلم والكافر، وإن كان الرقيق قد يسلم، لكن هذا في الأصل ناقص. ومن هنا اطردت أحكام الشريعة في التفريق بين المسلم والكافر، فإذا قذف عبداً فإنه لا يقام عليه الحد كاملاً، خلافاً لمن شذ، وقول جماهير السلف والخلف رحمهم الله أن فيه التعزير، والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4]، والإحصان: يطلق بمعنى الحرية، وهذا تقييد للحكم بالعقوبة، ومن هنا فهم جماهير السلف والخلف من الآية أن الإحصان يشمل الحرية، وأنه لا إحصان بدون حرية. قال المصنف رحمه الله: [المسلم العاقل]. (المسلم) فلو قذف الكافر فإنه يعزر، (العاقل) فلو قذف المجنون فإنه يعزر؛ لأن المجنون -أولاً- لا يستطيع أن يطالب بحقه، وثانياً: لوجود النقص فيه، وظن السلامة في الاعتداء على عرضه ليس كالعاقل؛ لأن المجنون قد يتأتى منه هذا ولا يضمن نفسه ولا يملك نفسه، ومن هنا نقص عن العاقل الذي يلتزم بشريعة الإسلام وهو على دينه واستقامته، فالمجنون لا يؤمن أن يقع منه الزنا وهو لا يدري، ولا يستطيع أن ينفي عن نفسه ذلك؛ لأنه مجنون ليس عنده عقل، ولذلك يعزر قاذفه، ولا يحكم بجلده الحد. قال المصنف رحمه الله: [العفيف]. فلو قذف زانياً وقال له: يا زان، فقد أصاب قوله الواقع؛ لأنه قد زنى، وحينئذ ليس بقاذف، وبعض العلماء يرى التفريق في هذا بين من أقيم عليه الحد وتاب، وبين من لم يقم عليه، ولكن حتى لو أقيم عليه الحد وتاب، وقيل له: لم قلت له: زان؟ قال: قصدت ما كان منه في السابق، فهذا يعتبر وصفاً وليس بتهمة بالزنا، ومن هنا فرق بين من يصفه بالزنا وكان قد وقع منه زنا وبين الذي هو عفيف لم يقع منه فحش. قال المصنف رحمه الله: [الملتزم]. الملتزم بشرائع الإسلام، ومن هنا يخرج الحربي فإنه لا حرمة له، واختلف في الذمي، وإن كان شرط الإسلام في الأول قد تضمن مفهومه إخراج الذمي وإخراج الكافر عموماً، وعلى هذا لو قال لحربي: يا زانٍ، أو قذف حربيةً أو قال عن أهل الحرب: إنهم زناة، أو نحو ذلك من عبارات القذف، فإنه لا يقام عليه الحد، ولكن في الذمي خلاف: فبعض أهل العلم يرى أن الذمي له حرمة المسلم، فقد حرم ماله وعرضه فلا يجوز أن يعتدى عليه؛ لأن له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، وبعض العلماء يرى أنه لا يأخذ حكم المسلم، وقاذفه يعزر ويؤدب. القول الأول: أسقط الحد لوجود الشبهة، وهو مذهب قوي، والقول الثاني: راعى الأصل في حرمة الذمي، ولكن هل هي مساوية للمسلمين من كل وجه؟ قال المصنف رحمه الله: [الذي يجامع مثله]. أي: الذي يتأتى منه الجماع، والسبب في هذا أن القذف تهمة، فإذا قال لصبي لا يتأتى منه الجماع: يا زانٍ، علم الناس كذبه، وحينئذ لا يحصل ضرر على الصبي كضرره عليه إذا كان بالغاً، قالوا: إذا قذف من لا يتأتى منه الجماع؛ سقط الحد عنه، وهذا لا ينفي أنه يعزر، بل إنه يعزر، ولكن القضية هل يقام عليه الحد أو لا يقام عليه الحد؟ وهذا إذا كان لا يتأتى من مثله الجماع، أو لا يجامع مثله، كما لو كان صغيراً لا يتأتى منه الجماع. ومن كان مجبوب الذكر هل يكون قذفه قذفاً؟ على وجهين عند العلماء رحمهم الله: فمن أهل العلم من قال: قاذف المجبوب يقام عليه الحد، واحتجوا بعموم الآية الكريمة، ولكن في الحقيقة إذا سقط القول، وظهر الدليل على كذب القاذف، ووجدت الشبهة؛ قوي القول الذي يقول: بإسقاط الحد عن القاذف، وهذا ما كان يرجحه بعض مشايخنا رحمة الله عليهم، وهو أنه إذا وجد ما يدل على كذب القاذف، وظهرت الدلالة على كذبه، كما لو قذف صغيراً لا يتأتى منه الجماع، أو المجبوب الذي عرف جبه؛ فإنه توجد شبهة تسقط عنه الحد، وكان بعض العلماء يقول: إن قاذف المجبوب يقام عليه الحد لاحتمال أن يقصد أنه زنى قبل جب ذكره، وقبل قطع عضوه، وهذا لا شك أنه يقوي مذهب من يقول بوقوع الحد، ولكن الشبهة لا تزال قائمة، إلا إذا فصل في تهمته له بالزنا على وجه تندرئ به الشبهة فيجب عليه الحد. قال المصنف رحمه الله: [ولا يشترط بلوغه]. فالصبي قد يجامع قبل البلوغ، فإذا تأتى منه أن يجامع؛ تأتى وصفه بالزنا لاحتمال أن يقع منه الزنا، فلا يشترط أن يكون بالغاً.

صريح القذف

صريح القذف قال المصنف رحمه الله: [وصريح القذف يا زاني، يا لوطي، ونحوه]. بعد أن بين رحمه الله أحكام اللفظ، وما يترتب عليه من عقوبة، ومن الذي يُعَاقبْ، ومن الذي له حق المطالبة بالقذف ممن يعتبر قذفه قذفاً مؤثراً موجباً للحد؛ شرع رحمه الله في بيان أحكام اللفظ، وهذا الركن الثالث من أركان القذف؛ لأن القذف يقوم على: قاذف، ومقذوف، ولفظ يقع ويحصل به القذف. واللفظ الذي يحصل به القذف إما أن يكون صريحاً وإما أن يكون غير صريح، وقد تقدم معنا تعريف الصريح والكناية في الطلاق، واللفظ الصريح في القذف هو: الذي لا يحتمل معنى آخر، فإذا تلفظ بهذا اللفظ الصريح الذي لا يحتمل معنى آخر؛ فإنه حينئذ يعتبر قاذفاً، وإذا ثبت عند القاضي أنه قال هذا القول، إما باعترافه أو بشهادة الشهود بأنه قال هذا اللفظ الصريح؛ فإنه لا يسأل عن نيته، وإنما يعتبره قاذفاً مباشرة -كما تقدم معنا في الطلاق- فلا يسأل عن النية في الصريح. وأما إذا كان اللفظ لفظ كناية، وهو: اللفظ المحتمل الذي يتردد بين معنيين فأكثر، فحينئذ يحتمل أن يكون مقصوده ما يدل على القذف فهو قاذف، ويحتمل أن يكون مقصوده شيئاً آخر فليس بقاذف، فلما تردد اللفظ بين الاحتمالين رجعنا إليه لكي يفسر لنا؛ لأن المبهم يفسر، والمجمل يبين، ما كان مبهماً يطلب تفسيره، وما كان مجملاً يطلب بيانه، فحينما يأتي بلفظ مشترك أو متردد بين معنيين: يحتمل أنه أراد القذف ويحتمل أنه لم يرده، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ادرءوا الحدود بالشبهات)، فحينئذ عندنا لفظ يحتمل أنه يوجب الحد ويحتمل أنه لا يوجب الحد، فعندنا أمر مشتبه نحتاج أن نعرف هل هو قصد هذا أو لم يقصد؟ فإن قصده أقمنا عليه الحد وارتفعت الكناية؛ كأن يقول له: يا خبيث، فقلنا له: ماذا قصدت بقولك: يا خبيث؟ قال: يا زان، نقول حينئذ: ارتفع الإبهام، وزال الإجمال، وأصبح كما لو قال له مباشرة: يا زان. إذاً: عندنا ألفاظ صريحة، وعندنا ألفاظ كناية، وهذا من دقة أحكام الشريعة الإسلامية، ولن تجد على وجه الأرض أتم ولا أكمل ولا أوسع من هذه الشريعة التي فصلت في كل شيء، حتى أنها قضت بين الناس في ألفاظهم وعباراتهم، وبينت الألفاظ التي هي جناية يعاقب صاحبها، وبينت الألفاظ التي هي مثوبة يجازى صاحبها ويحسن إليه، وكل هذا من كمال شريعتنا، والعلماء والأئمة رحمهم الله فصلوا في هذا، ومن هنا يجب عند بيان أحكام القذف أن نفصل في هذا الركن الذي هو ركن اللفظ؛ لأنه ينبني عليه المؤاخذة والعقوبة. قال رحمه الله: (وصريح القذف: يا زان) بدأ بالصريح، قلنا: عندنا صريح وعندنا كناية، فهل نبدأ في كتب الفقه ببيان الصريح أو ببيان الكناية؟ قالوا: نبدأ بالصريح؛ لأن الأصل في القذف أنه لا يثبت إلا بالصريح، ومن عادة العلماء في الصريح والكناية أن يبدءوا بالصريح أولاً، فإذا قال لرجل: يا زانٍ، أو لامرأة: يا زانية، فإنه قد قذف، وهذا اللفظ صريح في الدلالة على الزنا والقذف، لكن يشترط أن يكون مطلقاً عارياً عن القيد، فلو أنه قيده، فقال له: يا زاني البصر، أو يا زاني العين، أو يا زاني الرجل، أو يا زاني اليد، فهذا ليس كقوله: يا زانٍ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الزنا في هذه الأحوال كلها، فقال: (العينان تزنيان وزناهما النظر، واليد تزني وزناها اللمس، والرجل تزني وزناها الخطى والمشي، والقلب يهوى ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن العين تزني، فلو قال له: يا زاني العين؛ فهذا ليس كقوله: يا زانٍ، بلا قيد، ومن هنا لا بد أن يفرق بين المطلق والمقيد. لكن لو أنه قال له: يا زاني الفرج، أو قال لها: يا زانية الفرج -والعياذ بالله-، أو يا زاني الذكر، فإنه في هذه الحالة يعتبر من الصريح الواضح الذي لا احتمال فيه، فيستثنى المقيد بالفرج، كما أشار إليه بعض الأئمة ومنهم الإمام النووي رحمه الله وغيره، فلو صرح بالإضافة للفرج، فإنه في هذه الحالة يكون في حكم الصريح. وهكذا إذا قال: يا لوطي، فهو صريح، ومن حيث الأصل فالقذف هو: التهمة بالفاحشة إما بالزنا أو باللواط، وقد تقدم معنا حكم كلٍ منهما، وإذا قال: يا زانٍ، فهو صريح بلا إشكال عند العلماء رحمهم الله، لكن إذا قال له: يا لوطي، احتمل، فمن أهل العلم رحمهم الله من قال: إذا قال لشخص: يا لوطي، فإنه يعتبر قاذفاً قذفاً صريحاً، قالوا: لأن هذا اللفظ لا يعبر به إلا عن فاحشة اللواط، والمراد به جريمة قوم لوط، فإذا قال هذا فإننا نعتبره قد صرح بالقذف، هذا القول الأول، واختاره المصنف رحمه الله وطائفة كبيرة من أهل العلم رحمهم الله. ومن أهل العلم من قال: إن كلمة: (يا لوطي) محتملة أن تكون تهمةً بالفاحشة أو تهمةً بعمل قوم لوط دون الفحش، وهو ما كان منهم من عمل السوء من تتبع المردان، والغمز، وفعل الخنا في المجالس، فلو أنه دخل على رجل في مجلسه وهو يتعاطى أمور الرذيلة التي لا يتعاطاها إلا أهل الفحش مع المردان ونحوهم، فقال له: يا لوطي، قالوا: إن هذا ليس بقذف بالفاحشة، فلو سُئل عن هذا وقال: أردت أنه يعمل العمل الفلاني من الغمز بعينه أو الدس بيده ونحو ذلك، أو أن مجلسه مجلس الفساد، فقلت له هذه الكلمة وأقصد بها أنه يعمل عمل قوم لوط في مجالسهم، قالوا: فهذه شبهة تسقط عنه حد القذف. وفي الحقيقة التفصيل قد يراعيه القاضي في بعض المسائل، لكن من حيث الأصل أنه لو قال له: يا لوطي، فإن هذا اللفظ في الغالب لا ينصرف إلا إلى عمل قوم لوط، واختار المصنف أنه قذف صريح، وهو مذهب الجمهور. قال رحمه الله: [ونحوه]، أي: ونحو ذلك، مثل أن يقول: يا ابن الزانية -والعياذ بالله- أو قال له: يا ابن الزاني، فهذا أيضاً قذف، ونحو ذلك مما يجري مجراه في الدلالة على التهمة بالفاحشة، ومن ذلك أن يعبر بكلمة الجماع في الرجل والمرأة التي هي غير مزوجة، كأن ينسبها إلى الجماع بلفظ الجماع في كل بيئة بحسبها، فذكر العلماء رحمهم الله أن ألفاظ الجماع وما يدل عليها في كل عرف من القذف الصريح، وهذه الألفاظ تختلف من بيئة إلى بيئة ومن مجتمع إلى مجتمع، فإذا عبر بالجماع وما يدل على الجماع وفعل الجماع سواءً لرجل أو امرأة؛ فإنه من صريح القذف.

كنايات القذف

كنايات القذف قال المصنف رحمه الله: [وكنايته: يا قحبة]. وكناية قذف، أي: اللفظ المحتمل الذي نسأل من قاله عن نيته، فإذا قصد به ما يدل على الفاحشة، كأن يقول: أردت أنه زنى؛ فهو قاذف، وإذا قال: لم أرد الزنا، فهو ليس بقاذف، فإذا قال لها: يا قحبة، أو قال لرجل: يا ابن القحبة، والعياذ بالله! فإن هذا لفظٌ محتمل، فإنه يحتمل أنها زانية، ويحتمل أنها تتعاطى الأمور الرذيلة التي يتعاطاها أهل الفحش، وليس مراده أنها فعلت الفحش، وفي هذه الحالة يسأل عن قصده، ويحلف بالله إنه ما أراد الزنا، هذا إذا قلنا: إنه كناية، فالكناية ينوّى ليبين، ينوى: يعني نسأله عن نيته، فإذا لم يوافق خصمه وقال: لا، ما أراد هذا، ولم يصدقه؛ نقول له: احلف بالله إنك لم ترد الزنا. إذاً: هناك أمران: الأمر الأول: أن يصرف اللفظ عن معناه الدال على الزنا وفعل الفاحشة. الأمر الثاني: إذا لم يصدقه خصمه، نقول له: احلف بالله عز وجل إنك لم ترد هذا المعنى الموجب للحد. قال المصنف رحمه الله: [يا فاجرة]. وهكذا إذا قال للمرأة: يا فاجرة، أو قال للرجل: يا فاجر، أو يا ابن الفاجرة، أو يا ابن الفاجر، كل هذا -والعياذ بالله- من الألفاظ المستقبحة، ولكن يُسأل عن نيته: هل قصد بالفجور فعل الزنا؟ فإذا قال: قصدت أنه زانٍ، فهذا قذف، وإذا قال: ما قصدت الزنا، وصدّقه خصمه فلا إشكال، فلو قال: ما قصدت فعل الزنا، ولكن قصدت أنه يفعل أفعال أهل الفجور من التساهل أو نحو ذلك، فحينئذٍ يحلف إذا كذّبه خصمه، وفي حكم ذلك أن يقول له: يا ديوث، كما ذكر ذلك العلماء والأئمة، أو إذا قال للمرأة: يا قوادة، أو للرجل: يا قواد، ونحو ذلك من الألفاظ التي بسطها أهل العلم، وفي الحقيقة هذه الألفاظ تخضع للمجتمع، فقد تكون هناك ألفاظ قذف عند العامة وليس لها معنى في اللغة، وذكر العلماء رحمهم الله -ومنهم الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني- نحو ذلك من الألفاظ التي ليس لها أصل في اللغة، وقال أئمة اللغة: لا نعرف لها أصلاً، لكن جرت العادة بين العامة باستخدام هذا اللفظ ومن هنا يرجع القاضي إلى من عنده معرفة، فإذا وقع هذا الكلام في بيئة، فيسأل أهل تلك البيئة: ماذا يراد بهذه الكلمة؟ وماذا تقصدون من هذه الكلمة؟ فإن كانت في العرف صريحة الدلالة على التهمة بالزنا فلا إشكال، وإن كانت في العرف محتملة تطلق على معنى الزنا وعلى معنىً آخر، فحكمها حكم الكنايات كما تقدم. قال المصنف رحمه الله: [يا خبيثة]. وهكذا الوصف بالخبث، والخبث يحتمل فعل الفاحشة -والعياذ بالله- كما قال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} [الأنبياء:74]، ويحتمل خبث اللسان، ويحتمل خبث النية، ويحتمل خبث العمل، أي: أنه غشاش، لا يحسن معاملة الناس، ونحو ذلك. إذا قال: فلان خبيث، أو فلان من أهل الخبث، أو هذه خبيثة، أو فلانة خبيثة، فإنها إذا اشتكته إلى القاضي ورفعت أمره إلى القاضي، سأله القاضي: ماذا تريد بهذه الكلمة؟ فقال: أردت بها أنها زانية أو أنه زانٍ -والعياذ بالله- أقيم عليه الحد، فببيانه يرتفع الإجمال، وبتفسيره يزول الإبهام، وأما إذا قال: لم أرد هذا، إنما أردت بالخبث خبث اللسان، أي: أنها تسب الناس أو أنه يسب الناس، أو أردت خبث العمل أي: أنه ليس أميناً في معاملته أو أنه يضرب الناس، أو أردت خبث النية، أي: أنني أرى فيه الحسد، وأرى فيه احتقار الناس، وأرى فيه العصبية، وأرى فيه الغمط للناس وعدم احترامهم، فإذا فسره بغير الزنا ورضي خصمه فلا إشكال، وإلا حلف له. قال المصنف رحمه الله: [فضحت زوجك]. وهكذا إذا قال: فضحتِ زوجك، الفضيحة تحتمل فضيحة العار والزنا، وتحتمل الفضيحة التي هي دون ذلك، فيسأل عن قصده كما تقدم. قال المصنف رحمه الله: [أو نكست رأسه]. الرجل إذا ابتلي بالبلية في أهله أو في عرضه وجلس في مجلس أذلته، ومن هنا ينكس رأسه، وتنكيس الرأس في المجالس غالباً يكون لسبب، وقد يكون محمدة، وقد يكون مذمة؛ فيكون محمدة إذا كان على سبيل الخشية لله عز وجل والخوف منه، والبعد عن التشبه بأهل الكبر والغرور، ولذلك تجد العلماء والصلحاء إذا جلسوا في المجالس العامة أو جلسوا بين الناس، وأرادت الناس أن تفخر بهم؛ طأطئوا رءوسهم ذلةً لله، والدليل على مدح ذلك ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه لما دخل مكة في يوم الفتح طأطأ رأسه حتى كادت طرف لحيته تمس قربوس سرجه تواضعاً لله عز وجل)، فتنكيس الرأس قد يكون عزةً وكرامة، فهي ذلة في موضع عزة، ومهانة في مقام كرامة، وذلك إذا كان لله وتواضعاً له، إذا كان بين من يمدحه ويثني عليه وخشي على نفسه الفتنة ممن ينظر إليه أو من يهابه، فيطأطئ رأسه ذلة لله عز وجل، واعترافاً بفضله، واعترافاً بإحسانه سبحانه، والله هو المطلع على القلوب والضمائر، فهذا فخر للإنسان وشرف وعزة، خلاف أهل الكبر الذين إذا مدحوا شمخوا بأنوفهم، ورفعوا رءوسهم، وتعالوا وانتفخوا، فهذا من نفخ الشيطان فيهم والعياذ بالله! فطأطأة الرأس وتنكيس الرأس يكنى بها على أن الرجل أصيب بمصيبة، وأعظم المصيبة بعد الدين أن يصاب في عرضه، ولذلك يطأطئ رأسه، فيقال لها: نكست رأس زوجكِ، نكست رأس أهلكِ، فهذا يكنى به على أنها فعلت الفاحشة، حتى إن قريبها لا يستطيع أن يرفع رأسه في القوم، وهذه العبارات كانت موجودة، لكن قد تستبدل الناس عنها عبارات أخرى، والجنون فنون، وسب الناس -والعياذ بالله- من الجنون، والتهور فيه لا يفعله إلا إنسان انعدم عقله الذي يعقله عن سفاسف الأمور، وعن التسلط على الناس، ولذلك إذا قال لها: نكست رأس زوجكِ، وقال: قصدت أنها امرأة لم تعتني بإكرام زوجها، وقصدت أنها امرأة لم تحافظ على زوجها كما ينبغي، ولم تحافظ على وقته بحيث يتفرغ لأموره وشئونه، حتى إنه انشغل بأشياء ما كان ينبغي أن ينشغل بها، ولو كانت زوجته كاملة لحافظت عليه حتى يرتفع رأسه، وما قصدت الزنا؛ فيكون هذا موجباً لاندراء الحد عنه، أما لو قال: قصدت الزنا، فإنه يقام عليه الحد، وهو قاذف. قال المصنف رحمه الله: [أو جعلتِ له قروناً]، ونحوه جعلت له قروناً أو حتى شياطين! لا نتوقف عند لفظ معين، المتون الفقهية فيها كلمات غريبة، قد يكون هذا اللفظ (جعلت له قروناً) قذفاً في القديم، ففي كل زمان نسأل أهل الخبرة، وقد تحاشيت ذكر ألفاظ يجوز أن أذكرها في مجالس العلم، ولكن الإنسان يجل مجالس العلم من ذكرها، ذكر العلماء رحمهم الله ما يقارب خمسين لفظاً، ألفاظ بشعة جداً، تنزعج منها الآذان، وتقلق منها القلوب، ويجوز لنا أن نذكرها لأجل العلم، لكن الحمد لله ما دام أن الكتب موجودة، فمن يريد أن يتوسع في ضبطها وفهمها، فليرجع إليها، لكن الذي يهمنا هنا القاعدة والضابط، فلما كانت هذه الألفاظ التي ذكرها العلماء رحمهم الله لا يستعملها الناس كلها، وما ندري ما يستعملون الآن منها، والألفاظ القديمة المعروف منها أعداد معينة، ونحن والله! ما عندنا خبرة بهذه الألفاظ، فكثير منها نجهلها ولله الحمد، ونسأل الله أن يزيدنا بها جهلاً لا يضر بعلمنا. فهذا أمر ذكره العلماء رحمهم الله، وتتعجب منهم وهم أئمة فحول كيف أخذوها؟ أخذوها بالتلقي، إذاً: نقول لكل قاضٍ وكل مفتي وكل شيخ يريد معرفة هذه المسائل والأحكام: ارجع إلى الضابط والأساس، فالعبرة بقول أهل الخبرة، فإذا قالوا: إن هذا عندنا لا يستعمل إلا في الدلالة على الزنا، فإنه قذف، وإذا قالوا: يستعمل في معنيين فأكثر، سئل القاذف عن نيته، لماذا نرجع إلى أهل الخبرة؟ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو إمام وخليفة راشد وكان يقول: لست بخبٍ ولا الخب يخدعني، وكان يعرف أحوال الناس، مع هذا إذا جاء اللفظ المحتمل سأل عنه، ولما هجا الحطيئة الزبرقان بن بدر رضي الله عنه وأرضاه بقوله: واقعد فأنت الطاعم الكاسي، فجاء الصحابي يشتكي إلى عمر رضي الله عنه من الحطيئة وعمر يفطن ويعرف، ولكن من باب درء الشبهة، قال: ما أرى بهذا بأساً، واستدعى حسان رضي الله عنه لأنه من أهل الشعر، وما رجع إلى غيره، بل رجع إلى أهل المعرفة والخبرة، فقال له: أترى -يا حسان - في هذا هجاءً؟ قال: ما هجاه، بل سلح عليه، يعني: ألعن من الهجاء فإنه قال: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فأنت الطاعم الكاسي كان الرجل فيه بخل، فلما جاءه الحطيئة ولم يكرمه، قام وقال فيه هذه المقالة، فسأل عمر رضي الله عنه حسان فقال له حسان: ما هجاه، بل سلح عليه -أكرمكم الله- يعني: قضى حاجته عليه، وهذا أشد من الهجاء، وعمر رضي الله عنه يقول: ما أرى بهذا بأساً، يعني: ما ظهر له فيه بأس، لكن لما رجع إلى أهل الخبرة؛ قالوا له: ليس هذا بهجاء، بل ألعن وأسوأ وأشد من الهجاء، إذاً: لا بد لطالب العلم ولأهل العلم أن يرجعوا إلى أهل الخبرة والمعرفة. قوله: (ونحوه) يعني مثله. قال المصنف رحمه الله: [وإن فسره بغير القذف قُبل]. وإن فسر هذه الكناية بغير القذف قبل، أي: قبله القاضي، فصرف عنه الحد، ودرأه عنه للشبهة. قال المصنف رحمه الله: [وإن قذف أهل بلد أو جماعة لا يتصور منهم الزنا عادةً عزر]. إذا قذف الجماعة على هذا الوجه الذي ذكره المصنف؛ دل الظاهر على كذبه، وذكرنا أن من الأصول التي يندرأ بها الحد أن تقوم الدلالة على كذب القاذف، كما لو قذف من لا يتأتى منه الجماع، ولا يتأتى منه الزنا، وهذا في حكمه.

سقوط حد القذف بالعفو

سقوط حد القذف بالعفو قال المصنف رحمه الله: [ويسقط حد القذف بالعفو]. أي: عفو من جُنِيَ عليه، وهذه من الأحكام المترتبة، فبعد أن بين رحمه الله ما يثبت به الحد، شرع في بيان من يسقط الحد، وهذا من ترتيب الأفكار. قال المصنف رحمه الله: [ولا يُستوفى بدون الطلب]. أي: لا يقام الحد بعد ثبوته، ولا يستوفى إلا إذا طلب ذلك الخصم، وقال للقاضي: أطالبه بحقي، أو أقم عليه حد الله عز وجل، أو أريد أن يقام عليه حد الله، فإذا طلب ذلك فإنه يقام عليه الحد، أما إذا لم يطلب فإنه لا يقام عليه الحد. مسألة: هل يورث الحد؟ وجهان للعلماء: قال بعض العلماء: حد القذف يورث، فلو قذف أمه الميتة أو أباه الميت، فمن حقه أن يطالب بإقامة الحد، أو قذف أباه فمات أبوه، وتقدم الورثة بطلبه فإنه يورث، وهذا يختاره جمع من الأئمة رحمهم الله.

الأسئلة

الأسئلة

حكم أخذ تعويض مالي بدلا من إقامة حد القذف

حكم أخذ تعويض مالي بدلاً من إقامة حد القذف Q إذا طلب المقذوف تعويضاً مالياً بدلاً عن الجلد، فهل يعطى المقذوف التعويض؟ أثابكم الله. A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فأحكام الله لا تغير ولا تبدل، والعقوبات الشرعية توقيفية لا يزاد عليها ولا ينقص منها، فنقول له: حقك عند القاذف الجلد، وأما هذه الأحكام الجاهلية من وضع الغرامات المالية في القذف وتشويه السمعة ونحو ذلك، فهذا لا أصل له في الشرع، لكن بعض المسائل قد يقضى فيه بهذا، الذي نتكلم عنه كحكم وقضاء، لكن لو أن أهل القاذف وأهل المقذوف اتفقوا على الصلح بينهم، وجاء أهل القاذف بشيء يرضون به من صالحوه أو كافئوه على تنازله عن الحق، فهذا غير هذا، وباب الصلح ليس له علاقة بمسألة الحد، الحد الذي يحكم به القاضي حد الله عز وجل، لا يحكم بشيء آخر من العقوبات، فلا يعاقبون بالتعويضات المالية في مسائل القذف، الذي يحكم به القاضي هو شرع الله عز وجل، فإذا ثبت القذف وطالب المقذوف بالحد فإنه يقيم عليه حد الله ثمانين جلدة، لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه، لكن لو أن أهل المقذوف وأهل القاذف اصطلحوا فيما بينهم قبل أن يأتوا إلى القاضي، أو صدر الحكم من القاضي واتفقوا فيما بينهم على أنه يعفو ويعطى شيئاً، فهذا جائز من باب الصلح وتقدم معنا ذلك في مسائل الحقوق العينية، والحقوق الشخصية، والحقوق المالية، والله تعالى أعلم.

العلة في عدم إقامة حد القذف على عبد الله بن أبي

العلة في عدم إقامة حد القذف على عبد الله بن أبي Q لماذا لم يقم النبي صلى الله عليه وسلم الحد على عبد الله بن أبي وقد نص القرآن بذلك ودل عليه؟ أثابكم الله. A هذا ذكره بعض العلماء رحمهم الله في مسألة ثبوت الجناية والجريمة، أما الثلاثة الذين هم مسطح وحسان وحمنة حصل منهم القذف، وعرفوا بين المسلمين بالكلام والخوض في هذا الأمر، والذي حركهم لذلك خفية هو عبد الله بن أبي وتولى كبر القذف، فاختار الله عز وجل له ألا يظهر منه ما يوجب ثبوت الحد عليه بالكلام في الفحش، فأرجئت عقوبته إلى الله عز وجل في الآخرة، وهي أشد وأعظم من عقوبة القذف في الدنيا وهي الجلد، ولذلك أقيم الحد على الثلاثة لأنهم كانوا من أهل الإسلام، أما هذا فإنه منافق كافر بالله عز وجل، لا يشتغل بحد القذف فيه وهو كافر بالله عز وجل، ولذلك أطلع الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام على الجناية من هؤلاء الثلاثة، وأمر بعقوبتهم، ولكن عبد الله بن أبي وهو الذي تولى كبره أرجأ الله عقوبته، وتولى الله عز وجل عقوبته في الدنيا والآخرة؛ لأنه ليس بعد الكفر ذنب، والخبيث كان يثير هذه الأشياء ويحسن التخلص منها، كان يحسن ألا يكون في الصورة، وألا يكون أمام الناس، ومن هنا قالوا: من ناحية شرعية الله عز وجل على علم بأنه من أهل الكفر والنفاق، وما هو معقول أن يجلد حد القذف وهو على ما هو أخبث منه! فمن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه قبل منه الظاهر، وأجرى النبي صلى الله عليه وسلم عليه حكم الظاهر، مع أنه معلوم النفاق، ومن أهل النفاق الذين لا يألون -والعياذ بالله- جهداً في أذية الإسلام والمسلمين، وبقي امتحاناً من الله لنبيه، وسنة لعباده وأوليائه في كل زمان ومكان، فإذا كان نبي الأمة يبتلى بهذا الرأس من رءوس النفاق حتى يتكلم في عرض النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلكل عالم ولكل داعية رأس من رءوس النفاق؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، ولكل مصلح رأس من رءوس النفاق، ولذلك تجد كل عالم من علماء السنة في كل زمان له -والعياذ بالله- من يترصد به، ويؤذيه، ويتظاهر بأنه على الحق والخير، إنها سنة ماضية، ولذلك تعزى المسلمون، وتعزى الأخيار والصالحون بمثل هذا، لو أقيم عليه الحد كان أمره ليس كما لو لم يقم عليه الحد، وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدنيا، وفضوح الآخرة أعظم من فضوح الدنيا، والله سبحانه وتعالى بالمرصاد: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]، ومن كانت عقوبته إلى الآخرة فأمره إلى وبال وخسارة؛ لأن الأمور بالعواقب، ولذلك من أقيم عليه الحد طهر، حتى قال بعض العلماء رحمهم الله -وكان بعض مشايخنا يختاره في التفسير-: إن العقوبة للتطهير، ومثل هذا المنافق لا يطهر، قلبه فيه البلاء، في قلبه وليس في جسده: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145]، فهذا من أشد البيان على أنهم بلغوا -والعياذ بالله- الغاية في التمرد على الله عز وجل، ومشاقة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، والله تعالى أعلم.

حكم لعن وقذف المغنيات اللاتي يظهرن في التلفاز

حكم لعن وقذف المغنيات اللاتي يظهرن في التلفاز Q رجلٌ كلما رأى المذيعات والمغنيات في التلفاز يلعنهن، ويتهمهن بالفجور والفسق، فهل يجوز هذا؟ أثابكم الله. A الذي أراه أن الإنسان يمسك لسانه، ويحذر من الوقيعة في الناس، إن رأى ضالاً دعا له بالهداية والصلاح، وإن كان عنده أخطاء ويريد أن يبين أخطاءه، فليبين أخطاءه، ولا مانع من ذلك، أما أن يتهمهم بالعهر والفجور فهذا لا يجوز، إلا إذا كان الغناء فيه فجور، وفيه عهر، وفيه دعوة للفساد؛ حكم عليهم بقولهم، ولكن أن يتخذ ذلك سنة، كلما خرج إنسان أياً كان سواءً مغنياً أو غيره؛ يحكم عليه بذلك، ويتجرأ على عباد الله عز وجل، وقد نبهنا على أنه ينبغي للمسلم أن يحفظ لسانه ما أمكن. إذا حرص كل من فيه خير على هداية الناس ودلالة الناس على الخير، وإذا رأى عاصياً لم ييأس من نصحه وتوجيهه؛ وفقه الله عز وجل، وعظم خيره، وكثرت بركته على الناس، انظر إلى رجلين، رجل يمر على الفاسق فيسبه ويلعنه ويشتمه، ولربما ينتقل من الغيرة على الحق ومن حدود النصح، إلى نوع من العداوة الدنيوية التي خرجت من الدينية إلى الدنيوية، والرجل الآخر لا نقول: إنه يمدح، ولكن يقول له: يا أخي! اتقِ الله عز وجل، وخفِ الله سبحانه وتعالى فيما تفعله، الله عز وجل يقول لأوليائه وأهل طاعته والملتزمين بكتابه وسنة النبي عليه الصلاة والسلام: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63]، فهل السب والشتم قول بليغ؟ هل السب والشتم يقود إلى الخير؟ (قولاً بليغاً): موعظة حسنة تهز القلوب، حينما تنظر إلى العاصي الذي تسلط عليه عدوك وعدوه وهو الشيطان، وتريد أن تكثر به سواد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وتريد أن تهديه إلى الخير؛ فتح الله عليك، فتقول كلمات مؤثرة وقد يكون ذلك في موقف بسيط جداً، وتلهم فيه الكلمة المؤثرة ما دامت نيتك وطريقتك أنك تحرص على هداية الناس، وأهم شيء النية، انظر إلى أي شخص صالح نيته هداية الناس لا ييأس، ولو يقف أمام أفجر خلق الله يتمنى أن يهديه الله عز وجل؛ تجد أنه يوفق في كلام قد لا يوفق إليه غيره ممن يحضر الكلمات والخطب لحسن نيته ولصلاح طويته، وتجد الشخص ربما يتجرأ على الناس كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الرجل يقول: هلك الناس فهو (أهلَكُهُمْ) وفي لفظ: (أهلَكَهُمْ)) فهو أهلكُهُم لأنه آيسهم من رحمة الله فهو أهلكُهُم؛ لأنهم وإن كانوا هالكين فقد قطع على الله عز وجل بأنهم هالكون، مع أن الأمور بالخواتم، وقيل: فهو أهلكَهُم، أي: أهلكهم ولكن الله لم يهلكهم؛ لأنهم ربما تابوا، وهذا رسول الأمة أصلح خلق الله عز وجل، وأهداهم سبيلاً، وأقواهم طريقاً، يقول الله له حينما لعن عصية التي عصت الله ورسوله ورعل وذكوان، وقنت عليهم شهراً يدعو عليهم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]، وجاء في بعض ألفاظ السير: (يا محمد! إنا لم نبعثك صخاباً ولا لعاناً، وإنما بعثناك رحمة للعالمين). تصور أن شخصاً كان في جاهليته ومعصيته وقف عليه شخص وسبه سباً إلى أن استطال فيه، ثم اهتدى بعد ذلك، كيف يكون وجه هذا من ذاك؟ كيف يلتقيان؟ كيف يكون الأمر؟ لكن لو أنه مر عليه وقال له: اتق الله، لعل الله أن يهديك، أسأل الله أن يهديك، أسأل الله أن يتوب عليك، أسأل الله أن يأخذ بيدك إلى ما فيه الخير، لا شك أنه سيؤثر فيه، في بعض الأحيان تأخذك حمية الدين وتقول قولاً قوياً، لا نلومك، الولاء والبراء مطلوب، لكن بشرط أن يكون دافعك الخوف والخشية من الله عز وجل، رأيت المنكر فارتعدت فرائصك، لو رأيته من أقرب الناس منك كما لو رأيته من أبعد الناس منك؛ لأنها حمية لله، وليست حمية نفس، ولا عصبية، فالولاء والبراء الصادق النابع من نفس مؤمنة استنفدت كل الأسباب لهداية الناس ودلالتهم على الخير؛ خيرٌ وبركة، ولا بد للإسلام من عزة وكرامة، لا نرى فاسقاً فنمسح على رأسه ونقول: الله يهديك، ونذل له! لا يصلح هذا، هكذا سيتجرأ أهل الفساد على فسادهم، ولذلك إذا رأيتم فاسقاً فمر عليه الأول ونصحه، والثاني ونصحه، والثالث ونصحه، ثم مريت عليه، وقلت له: اتق الله،* لا تأمن أن يأخذك الله بأخذه، لا تأمن أن يسلبك عافيته، وأخذته بالقول الرادع فهذا قول بليغ؛ لأنه وقع في موقعه، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا عائشة! أميطي عنا قرامك هذا)، وكانت فيه التصاوير، فنسيت عائشة رضي الله عنها، فجاء من صلاته عليه الصلاة والسلام فوقف متغير الوجه وامتنع من الدخول، فقالت: يا رسول الله! أغضب الله من أغضبك، ما تدري رضي الله عنها لما رأت من شدته في الحق. فإذاً: كل شيء له مقامه وله مقاله، ولكن أن يأتي الشخص أمام المغنية أو المطرب ويقول: الله يفعل به كذا والملعونة والكذا، هل هي تسمع كلامه فتتأثر وتتوب؟ إذاً: هذا نوع من إضاعة الوقت، لكن شخص حمية لدينه لم يتمالك نفسه، فقال قولاً شديداً غليظاً عنيفاً في موقعه غيرة على الحق، لا يلام، لكن بشرط ألا يتعدى حدوده، وألا ينسى حق الإسلام إذا كان العاصي مسلماً، لا ينسى حق الإسلام، ولا ينزله منزلة الكافرين، شخص ارتكب ذنباً لا يوصله إلى الكفر لا ينزل منزلة الكافرين، وكأنه خرج من ربقة الإسلام من السب واللعن والشتم، وكأنه يئس من رحمة الله، لا، هذا هو الغلو، وهذا هو التنطع، ينبغي علينا أن نضبط الأمور بضوابط الشرع، وأن يتقي الإنسان ربه، وأن يعلم أن الهدف هداية الناس إلى الخير ودلالتهم على الخير. بعض الأحيان قد تعبر تعبيرات تؤثر على العاصي، ذات مرة رأيت شاباً قارب البلوغ، وقد لبس القصير إلى أنصاف فخذه، فركب معي، فقلت له: أخي! أسألك سؤالاً: هل ثوبي هذا فيه عيب؟ قال لي: ما فيه عيب، قلت: يا أخي! ما أدري أنا كأني أرى فيه عيباً، فقال: والله! ما فيه عيب يا شيخ! قلت: يا أخي! ما فهمت ما أقول، رأيتك لابساً هذا اللباس فظننت أن اللباس الذي علي لا يليق، فطأطأ رأسه من الخجل وتأثر، لو أني قلت له: فيك كذا، وأنت مثل الكفار، وأنت كذا، فعلاً هذا لباس الكفار، فهم الذين يتعرون ويتبجحون بذلك، ولا نعرف هذا من عاداتنا وأخلاقنا وشمائلنا، لكن لما قلت له ذلك طأطأ رأسه خجلاً، ودمعت عينه وقلت له: والله! -يا أخي- إنك بثوبك عندي أعز منه في هذا اللباس، أين أنت يا أخي؟ أي نقص فيك لتتبع غيرك؟ وأي مهانة فيك حتى تظن الكرامة في غيرك؟ ولباس التقوى والستر خير لك، قال: أعاهد الله ثم أعاهدك ألا ألبس هذا بعد اليوم، فلو أنني قلت له مباشرة: أنت لبست لباس الكفار، أنت كذا، لكان ربما يقول لي: أتقول: إني كافر؟! مع أنه لبس لباساً ليس من لباس المسلمين ولا من عادتهم أنهم يأتون في مجامعهم بهذا العري وهذا التفسخ. إذاً: القول البليغ أن تنصح الناس، وتوجه الناس وتأخذ بمجامع قلوبهم إلى الله عز وجل. النقطة الأخيرة: ألا تيأس، فمن خبث الشيطان أنه إذا جاء الشخص أمام أي إنسان مخطئ أول عقبة يضعها أمامه، أن يقطع رجاءه من الخير، كأن المخطئ الذي أمامه ليس براجع عن خطئه، وكأن المخطئ الذي أمامه سيموت على هذا الخطأ، ولكن الله عز وجل أحيا الأمل في النفوس وقال عن المنافقين: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63]، فإذاً: لا بد أن يحيا هذا الأمل في النفوس، وهي هداية الخلق إلى الله، ودلالتهم على الحق، لعل الله أن يأخذ بالقلوب إلى الخير. نسأل الله العظيم أن يتوب علينا في التائبين، وأن يشملنا بعفوه ورحمته، وهو أرحم الراحمين، والله تعالى أعلم.

حكم الخضاب بالسواد

حكم الخضاب بالسواد Q ما حكم الخضاب بالسواد لمن شاب وهو صغير؟ وهل النهي عنه معلل أم لا؟ أثابكم الله. A السنة تغيير الشيب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غيروا هذا الشيب)، وسواءً كان في كبير أو صغير، فإذا ابيضت لحيته وهو في شبابه؛ فإنه يغير هذا الشيب بالحناء أو الكتم، كما ورد في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتجنب السواد، هذه هي السنة، ومن قال من السلف -كما هو مذهب الحسن وطائفة من الصحابة-: إنه خاص لمن يريد الزواج أو يريد أن يغش النساء، فهذا قول مرجوح، والظاهر عموم النص، وأن المنع عام، والله تعالى أعلم.

مسألة: ضع وتعجل

مسألة: ضع وتعجل Q اشتريت محلاً، وكان الاتفاق على أن أدفع نصف ثمنه نقداً، والنصف الآخر على أقساط شهرية، كل شهر خمسة عشر ألفاًً، وبعد أن دفعت عدداً من الأقساط وبقي عليّ مائة وخمسون ألفاً؛ اتفقت أنا والبائع على أن أدفع له باقي المبلغ نقداً، بشرط: أن يجري لي خصماً قدره عشرون ألفاً، أي: أدفع مائة وثلاثين ألفاً فقط، هل هذا جائز أم لا؟ وهل يعتبر بيع دين بحاضر؟ أثابكم الله. A هذه المسألة فيها شبهة كبيرة، وهي من مسائل ضع وتعجل، ولها صور بعضها جائز، كما في قضية بني النضير حينما أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة، (وقالوا: يا محمد! أموالنا عند أصحابك، فقال: ضعوا وتعجلوا)، وهذه الصورة المذكورة في السؤال فيها شبهة قوية، ولذلك الأشبه منعها والتورع والابتعاد عنها أي: إذا قال له: بالشرط، يعني: أنا أسددك العشرة الأقساط الباقية نقداً، وتحسب الفائدة المركبة على التأخير وتسقطها وأعطيك نقداً، هذا شبهة الربا فيه قوية، وهو الذي أمنع منه، وأرى عدم جوازه. وأما إذا كان الإسقاط في أصل المبلغ، مثلاً: شخص استدان منك عشرة آلاف ريال على أساس أن يسددها في محرم، فجاءك ظرف قبل شهر محرم وقلت له: يا فلان! أنا أعطيتك عشرة آلاف ريال وظروفي ميسرة، والآن ضاقت بي الأمور، إن أعطيتني ثمانية آلاف منها؛ سامحتك في الألفين، فهذا جائز وهو إسقاط في أصل المبلغ. فرق بين مسألتنا إسقاط زيادة مركبة على الأجل وبين الإسقاط بأصل المبلغ الذي هو محض الفضل، ومن حقك أن تتنازل عن المبلغ كاملاً، ومما يفرق بين ما كان الإسقاط فيه متمحضاً لقاء الأجل بالشرط أن يقول مثلاً: والله! لا أسددك إلا لما تسقط عني، أو نفس الشركة تقول: إذا سددت الآن نسقط عنك، هذا كله فيه الشبهة التي ذكرنا، وأما إذا كان إسقاطاً في أصل المبلغ فلا بأس، وأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس واختاره الأئمة كالإمام ابن قدامة رحمه الله وغيره، فمذهب طائفة من السلف والأئمة رحمهم الله أن الإسقاط في أصل المبلغ لا بأس به، وعليه يحمل حديث: (ضعوا وتعجلوا)، والله تعالى أعلم.

حكم من رأى بولا في ثوبه بعد الصلاة

حكم من رأى بولاً في ثوبه بعد الصلاة Q وجدت قطرات من البول في الثوب عندما صليت صلاة الصبح، هل أعيد الصلاة أم لا؟ أثابكم الله. A هذا فيه ثلاث حالات: الحالة الأولى: إذا كان وجدانك لهذه القطرات فيه أمارة ودلالة تدل على أنها بعد الصلاة، فصلاتك صحيحة ولا تعيد، مثلاً: تجدها طرية، وبينك وبين الصلاة نصف ساعة، فإن طراوتها خلال نصف ساعة يدل على أنها بعد الصلاة، فلو أنها كانت قبل الصلاة لنشفت، لكن كونها طرية في هذه الحالة فالأغلب أنها بعد الصلاة، فهذه دلالة ظاهرة. الحالة الثانية: أن يكون هناك دلالة عكس تدل على أنها قبل الصلاة، مثل أن تسلم من الصلاة وتقوم فتجد القطرات يابسة ناشفة، والثوب جديد لبسته بعد وضوئك، فحينئذٍ تعلم أنها أثناء صلاتك أو قبل الصلاة مباشرة بعد الطهارة، فحينئذٍ تعيد. الحالة الثالثة: إذا لم تجد أي دلالة، ما تدري: هل هي قبل أم بعد؟ فإذا صليت ووجدت أثر البول بعد الصلاة على وجهٍ لا يدل على السبق أو اللحوق، فالقاعدة: أنه ينسب لأقرب حادث، وقولهم: ينسب لأقرب حادث، أي: هناك حادثان: حادث قبل أو أثناء الصلاة يوجب الإعادة وبطلان الصلاة، وحادث بعد الصلاة لا يوجب الإعادة بل يوجب براءة الذمة وصحة الصلاة، فينسب لأقرب حادث، فإذا كان ما بعد الصلاة فصلاتك صحيحة، ولا يحكم ببطلان الصلاة، والله تعالى أعلم.

علاج الطبع الحاد

علاج الطبع الحاد Q أنا شاب مستقيم وطالب علم فيما أحسب، إلا أنني أعاني من مشكلة تؤلمني كثيراً وهي: الطبع الحاد، والشدة في التعامل مع الناس؛ مما يسبب لي كثيراً من المشاكل والتصرفات التي سرعان ما أندم عليها، أرجو من فضيلتكم التوجيه والنصح، أثابكم الله؟ A لا يهذب أخلاق المؤمن شيء مثل كثرة الدعاء؛ لأن الأخلاق منحة من الله عز وجل، ولذلك قال: (يا رسول الله! أهو فيَّ أم شيء جبلني الله عليه؟ فقال: بل شيء جبلك الله عليه، قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحبه الله ورسوله). الأخلاق بالدعاء، ونعمة عظيمة أن يلهم الإنسان كثرة الدعاء، دائماً تقول في مظان الإجابة: اللهم! اهدني لأحسن الأخلاق والأقوال، وتسأل الله أن يهديك حسن الخلق، الدعاء أمر مهم جداً. الأمر الثاني من الأمور التي تهذب أخلاق الإنسان وتقومه: كثرة تلاوة القرآن؛ لأن القرآن مع التأثر والاتعاظ يحكم القلب، وسلطانه على القلب قوي جداً، فالقلب إذا ارتدع بالقرآن خاف، وإذا خاف راقب الأعضاء والجوارح فزمها بزمام التقوى، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، فهذا القرآن الذي أقام الناس على مشاهد الآخرة ومشاهد الحساب ومشاهد المسؤولية، فيصبح طبعك مع الناس بدل الشدة اللين، وبدل العنف الشفقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيصبح عندك تروي في الأمور بفضل الله ثم بفضل القرآن، وقلّ أن تجد رجلاً من أهل القرآن إلا وجدته معصوماً بعصمة الله عز وجل في لسانه. الأمر الثالث مما يعين على سلامة القول وسلامة الخلق وذهاب حدة الطبع: قيام الليل، فالمحافظة على قيام الليل من أعظم الأمور التي تهذب أخلاق العبد، ولذلك قال الله لنبيه: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6]، فغالباً ما تجد قائم الليل زكي الأخلاق زكي النفس، اجعل لك حظاً من كتاب الله في جوف الليل الأظلم، خاصة في الثلث الأخير من الليل، وجرب بكاء الأسحار وتلاوة القرآن في الأسحار، فإن لها أثراً بليغاً في تهذيب الأخلاق وتقويمها ودلالتها على التي هي أقوم، وهذا شيء معروف يعرفه من يعرفه، فالأخلاق تهذب بقيام الليل، فتنشرح الصدور وتطمئن، فيذهب القلق، وتذهب الحدة، ويذهب الانزعاج. الأمر الرابع: التسليم لله عز وجل، إذا كان هذا الأمر طبع فيك وما تستطيع أن تخرجه من نفسك، فهذا شيء لا تملكه، ولذلك موسى عليه السلام من أنبياء الله عز وجل لما أخذ برأس أخيه هارون وبلحيته، وألقى الألواح التي فيها كلام الله عز وجل، فإن هذا من شدة الغيرة على دين الله عز وجل، والشدة في طاعة الله عز وجل ومرضاته، ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه: {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ} [الأعراف:150]، بين له عذره، فاستغفر له ولنفسه {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ} [الأعراف:151]، فهذا طبع في الإنسان، أبو بكر رضي الله عنه كان محرماً مع النبي صلى الله عليه وسلم ويمسك خادمه ويضربه، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا ماذا يصنع المحرم!)، وهو صديق الأمة وخير الأمة بعد نبيها صلوات الله وسلامه عليه. يوجد أشياء لا تملكها، فإذا كان الخلق الحسن لا تملكه فأوصيك -وهذا الأمر الخامس- أول شيء بالرجوع إلى الحق، بمجرد ما تنتهي من أذية أحد ترجع إليه وتقول له: يا أخي! أنا أخطأت في حقك، والاعتذار يؤثر في نفسك، ويحرجك أن تعود المرة الثانية، فاعتذر مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً حتى تخجل من نفسك، وأقل ما فيها -وليس بالقليل- أنك تحملت الظلم، فإذا أخطأت فعود نفسك أنك تعتذر مباشرة. الأمر السادس: أن تبتعد عن الأمور التي تستفزك! وصية أخيرة: الحدة غالباً ما تأتي أمام الضعفاء، فدائماً إذا ابتليت بضعيف في حق من حقوقك أو في أي شيء فتصور كأنك أمام إنسان عظيم، وهذا مما يعين على الأخلاق الكريمة، خاصة لو أردت أن تعرف حقيقة الرجل فانظر إليه مع الضعفاء، وكان أئمة السلف يضربون في ذلك المثل العظيم، يقول القائل: ما كان أعز الفقراء في مجلس سفيان الثوري رحمه الله، فكان يعز الفقراء والضعفاء، فالحدة ما تشتد أكثر إلا على الضعفاء، لكن أمام الأقوياء تنزل السكينة، وينزل الهدوء، وينزل التعقل، ابتلاء من الله عز وجل. فالناس بسبب ضعف الإيمان إذا وقفوا أمام الأقوياء استضعفوا، وإذا كانوا أمام الضعفاء استقووا، فإذا وقفت أمام ضعيف تصور أنه قوي، تصور أنه من أقوى الناس، وإذا تصورت ذلك التصور فاعلم أن قوته -إذا كان مظلوماً وتريد أن تحتد عليه- من الله وليست من الناس، فهذا أقوى الأقوياء وهو الضعيف الذي تراه أمامك، من يكون مظلوماً فالله جعل له سلطاناً ونصيراً، فلا تستضعف الناس، ولا تظن أن الناس ضعفاء، فإنهم بربهم أقوياء خاصة أهل الإيمان يقول الله: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] (إن) للتحقيق، وقال: (يدافع) وما قال: يدفع، وزيادة المبنى يدل على زيادة المعنى، أي: دفاعاً عظيماً، ثم كلمة دفع في لغة العرب لها قوة ولها معنى، أي: أن كل الظلم الذي سيأتيهم والأذية سيدفعها الله عز وجل، ثم قال: (عن الذين آمنوا)، عن فقرائهم وأغنيائهم، عن ضعفائهم وأقويائهم، عن كل شخص يذل أو يهان ما دام أنه من أهل الإيمان، فقد تولى الله أمره والدفاع عنه، وإذا تولى الله الدفاع عنه ما يستطيع أحد أن يقف في وجهه، فالله سبحانه وتعالى غالبٌ على أمره، فعلى كل إنسان أن يحاول قدر المستطاع أن يأخذ بهذه الأسس التي تعينه على سلامة قلبه والتحكم فيه. ونسأل الله بعزته وجلاله أن يهدينا إلى أحسن الأخلاق والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يصرف عنا شرها وسيئها، لا يصرف عنا شرها وسيئها إلا هو، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.

باب حد المسكر [1]

شرح زاد المستقنع - باب حد المسكر [1] لقد دل دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على تحريم الخمر، حفاظاً على الدين والعقل والبدن والمال والعرض، فالخمر أم الكبائر، ومفتاح الرذائل، وباب كل شر، تنفر عنها العقول السليمة، وتستقبحها الطباع المستقيمة والفطر الكريمة.

ضابط المسكر وتعريفه

ضابط المسكر وتعريفه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب حد المسكر]، تقدم معنا تعريف الحدود، وبينا أنها العقوبات المقدرة شرعاً، وعلى هذا فإن حد المسكر هي: العقوبة التي نص عليها الشرع، إما مقدرة محددة كما اختاره جمهور العلماء رحمهم الله، وإما أن تترك لنظر الإمام فيما هو أولى في ردع الناس وزجرهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى توضيحه وبيانه. أما من حيث الأصل فالجماهير على أن للسكر والخمر حداً في شريعة الله عز وجل، وعقوبة شرعية. وقوله [المسكر] يقال: أسكر الشيء يسكر فهو مسكر، اسم فاعل، والمراد به ما خامر العقل وغطاه، سواء كان ذلك بالشراب أو بغيره، وسواء كان قليلاً أو كثيراً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وضع هذا الضابط فيما صح عنه من الأحاديث، فقال عليه الصلاة والسلام: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)، هذا عام وشامل للقليل والكثير؛ ولذلك قال: (ما أسكر كثيره فملء الكف منه حرام)، وفي لفظ: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)، وكل هذا يدل على أن العبرة بوجود الإسكار، وأنه لا فرق في هذا الذي يتعاطاه الناس بين أن يكون قليلاً أو كثيراً ما دام أنه يخامر العقل. وفرّق بعض العلماء رحمهم الله بين السكر والجنون: فجعلوا الجنون ما يذهب العقل، وجعلوا السكر ما يغطي العقل، فهم يرون أن هناك فرقاً بين السكر والجنون من هذا الوجه؛ ولذلك وصف المسكر بكونه خمراً لأنه يخامر يعني: يغطي، وعلى هذا فالعقل في الأصل يكون موجوداً، وتجد السكران تارة يفهم الأشياء وتارة لا يفهمها. واختلفت ضوابط العلماء رحمهم الله في السكر، ومن هو السكران: فقال بعض العلماء رحمهم الله: هو الذي لا يفهم الخطاب، ولا يحسن الجواب، لا يفهم ما تخاطبه به، ولا يحسن أن يجيبك، ويختلّ ذلك الكلام المعهود منه، ولذلك لما أرادوا أن يختبروا بعض العلماء -وهو علي بن داود - عندما تصدر للفتوى والعلم، سألوه: متى يكون الإنسان سكراناً؟ فقال رحمه الله: إذا اختلّ كلامه المنظوم، وأباح بسره المكتوم. فهذه من دلائل السكر أن يختل نظام كلامه، فربما تكلم بأشياء لا تفهم، وربما تكلم بأشياء تفهم، ولكنه يقدم أو يؤخر أو يدخل فيها غير المفهوم. ومن هنا قال: إذا اختلّ كلامه المنظوم، وأيضاً أباح بسره المكتوم، وهذا من عظيم رحمة الله عز وجل بالعبد أنه رزقه العقل، وما سمي العقل عقلاً إلا لأنه يعقل، فهو يحمل الإنسان على الحياء والخجل، ويحمل الإنسان على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، ويجعله ينتقي أفاضل الكلام كما ينتقى أفاضل الطعام، كل هذا بفضل الله ثم بالعقل، فإذا ذهبت هذه النعمة أو غطيت أو سترت أو حُجِّمت أو أصابها الضرر اختلت كلها، فأباح بسره المكتوم؛ لأن العقل يمنعه أن يبيح بسره، فليس هناك إنسان عاقل يبيح بأسراره أو يكشف ستر الله عز وجل عليه، أو على خلقه، أو على من يحب وعلى من يود؛ ولكن السكران ليس له عقل، ولذلك يبيح بأسراره، ويتكلم ويهذي بما يعرف وما ينكر. وقوله رحمه الله: [باب حد المسكر] أي: بيان العقوبة الشرعية لمن شرب الخمر، أو تعاطى ما يسكر العقل سواء كان بالخمر أو كان بالمخدر الموجود في زماننا. وذكر المصنف رحمه الله باب حد المسكر بعد باب القذف، وقد بيّنا أن العلماء رحمهم الله لهم نظرة في العقوبات، فقدّموا حد الزنا لقوة عقوبته، ولأنه أشد جلداً، ثم يليه حد القذف؛ لأنه من جنسه؛ فالأول اعتداء على العرض بالفعل، والثاني اعتداء على العرض بالقول، وعقوبته أخف؛ فكان بعده مباشرة، ثم بعده الخمر، والمناسبة واضحة في العقوبة؛ فإن عقوبة الثلاث كلها بالجلد، فاتفق العلماء رحمهم الله على أن عقوبة الزنا الجلد بإضافة التغريب والرجم على التفصيل إذا كان محصناً كما تقدم معنا، لكن في الأصل عقوبته الجلد، ولذلك قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور:2]، ومن هنا قال بعض العلماء: يجلد الزاني سواء كان محصناً أو ثيباً، حيث يجمع للثيب بين الجلد والرجم -كما تقدم معنا- على ظاهر حديث عبادة. إذاً: الجلد في الزنا وفي القذف، ثم اتفق حد الخمر مع هاتين العقوبتين -أعني الزنا والقذف- في كونه يحد السكران بالجلد، ولذلك ناسب أن يذكره بعد هذين النوعين، بعد حد الزنا وحد القذف. يقول رحمه الله: [باب حد المسكر] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بعقوبة شارب الخمر، أو من تعاطى المخدرات، وما في حكمها، سنبينه من كلامه رحمه الله. بعض العلماء يقول: (باب حد المسكر) وبعضهم يقول: (باب حد الشراب) وبعضهم يقول: (باب حد الخمر)، وكلها متقاربة، وبعضهم يقول: (كتاب الأشربة) كما فعل الخرقي رحمه الله، فإنه قال: كتاب الأشربة، فيتكلم عن الخمر ثم تكلم عن أحكام الأشربة، وعادة العلماء أنهم يذكرون الأحكام في مظانها؛ فمظان أحكام الأشربة أن تذكر في باب الخمر، ولذلك يذكرون الخمر وتحريمها، ثم يفرعون على ذلك شرب السموم أو شرب الأمور المحرمة، وهذا كله من بيان الأشياء في مظانها. قال رحمه الله تعالى: [كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام] وهذا أصل مستنبط من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي قاعدة انبنت عليها فروع، وأصل انبنى عليه غيره، ومنتزع من قوله عليه الصلاة والسلام: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)، و (كل) من ألفاظ العموم والشمول عند العلماء رحمهم الله؛ ولذلك عندما تقول: (كل) حكم على المجموع، وليس حكماً على فرد، ولا أفراد معينين: الكل حكمنا على المجموع ككل ذاك ليس ذا وقوع فإذا قيل: (كل)، فهذا من ألفاظ العموم كما نص على ذلك أئمة الأصول رحمهم الله، فهنا نص المصنف رحمه الله على هذا فقال: (كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام). قوله: (كل شراب) سواء كان من التمر، أو كان من الرطب، أو كان من البسر وهو البلح، أو كان من الزبيب، أو كان من العنب، أو كان من العسل، أو كان من التين، أو كان من الحنطة، أو كان من الشعير، أو كان من الذرة، فهذا عموم، وكانت الخمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما تتخذ من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير، كما ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنها كانت من خمس: فذكر هذه الخمس رضي الله عنه في خطبته المشهورة. والذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم هو العموم والشمول، فكانوا في ذلك الزمان يتخذون الخمر من هذه الأشياء، فيأخذون التمر؛ فينقع وينتبذ في الماء حتى يشتد ويقذف بالزبد، ثم بعد ذلك إذا شرب أثر في العقل، وخامر العقل والإدراك. وكذلك أيضاً بقيت الأشياء التي ذكرت، ثم توسع الناس في هذا، وما زالت الأشربة تختلف، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح عنه: (كنت قد نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا)، والنبيذ: من النبذ، وأصل النبذ في لغة العرب الطرح، وسمي هذا الشراب نبيذاً لأنهم كانوا يطرحون التمر والبسر -البلح- والرطب والتين والعسل حتى يشتدّ ويقذف بالزبد، فقال عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا، وكل مسكر حرام)، فبين عليه الصلاة والسلام أنه لا حرج في هذا الانتباذ إلا أن يكون مسكراً. قال رحمه الله: (كل شراب أسكر) العلة هي الإسكار، فإذا أثر في العقل فغطى العقل والإدراك فإنه محرم أياً كان هذه الأنواع. وقال: (كل شراب) لأن الأصل في الخمر أنها شراب، وهذا الذي كان موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والنص جاء في الشراب؛ لأنه كان هو الموجود، لكن النص نبه على العلة، وبيّن السبب الذي من أجله حرم هذا الشراب؛ لأن الله لا يحرم على عباده إلا لسبب ولأمر، فلما بين عليه الصلاة والسلام أن العلة هي الإسكار: (كنت قد نهيتكم عن الانتباذ، فانتبذوا، وكل مسكر حرام)، وقال: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)، دل على أن العلة هي مخامرة العقل وإزالة الشعور، فأي شراب أذهب الشعور أو أزال الإدراك فإنه يدخل تحت هذا التحريم؛ لأن العبرة بالمعنى، وليست العبرة أن نجمد عند الألفاظ، إنما العبرة أن ننظر إلى العلة التي من أجلها حرم الله ورسوله هذا الشراب، فتتطور الأمر حتى وجدت أشياء ليست بشراب، وتؤثر في العقل، فتارة تكون من المأكولات، وتارة تكون من المشمومات كالسموم الطيارة التي تشم فتذهب الشعور، وتارة يتعاطاها الإنسان عن طريق الحقن والعياذ بالله! يحقنها في دمه حتى تؤثر على عقله وإدراكه.

أدلة الكتاب على تحريم الخمر

أدلة الكتاب على تحريم الخمر إذاً: نحن ننظر إلى العلة، فقال المصنف رحمه الله: (كل شراب أسكر)، وهذا نص منه رحمه الله على تحريم الخمر، وأنها في الأصل كانت من الشراب، وهذا التحريم له دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة وأيضاً دليل العقل: أما دليل الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى حرم الخمر في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:90 - 91]، وهذه الآية الكريمة لما نزلت صاح عمر رضي الله عنه -كما في الصحيح-: (انتهينا! انتهينا! انتهينا!).

دلالة آية المائدة على تحريم الخمر من عدة وجوه

دلالة آية المائدة على تحريم الخمر من عدة وجوه وهذه الآية دلالتها على تحريم الخمر من وجوه، فليست دالة على تحريم الخمر من وجه واحد، ولا من وجهين؛ بل من وجوه عديدة، وهذا من أجمل وأبدع ما يكون من الأساليب، وكل أساليب القرآن جميلة بديعة؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، قال الله: {يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57]، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115]، وهذه الوجوه هي: أولا: أن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ} [المائدة:90]، فجمع الله عز وجل بين الخمر وبين الشرك؛ وذلك في قوله: (وَالأَنصَابُ) وهي جمع نصب، قيل: هي الأوثان القائمة الشاخصة وقيل: التي كانت تذبح عليها القرابين، فتنصب لذبح القرابين. فلما قرن الله الخمر بالشرك دل على عظم أمرها؛ وهذا أبلغ في التنفير أن يذكر أعظم الحدود، وأعظم الذنوب الذي لا يغفره الله لصاحبه ويقرن به شرب الخمر، فهذا يدل على عظم تحريم الخمر. ثانياً: أن الله سبحانه وتعالى وصفها بكونها رجساً: ((إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)) [المائدة:90]، والرجس: النجس الخبيث. ولذلك ذكر العلماء رحمهم الله أن في الخمر وصف النجاسة، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف، قال شيخ الإسلام رحمه الله: الخمر نجسة باتفاق الأئمة الأربعة، ولم يذكر القول المخالف -الذي هو قول ربيعة وداود الظاهري ومن وافقهما- تعظيماً لأمر حرمة الخمر ونجاستها وخبثها، فقال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة:90]، هي رجس، والله يقول: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج:30]، وهذا الوصف المستبشع -وهو الرجس- تنفر منه النفوس السليمة، فضلاً عن النفوس المؤمنة المستقيمة على طاعة الله عز وجل، وهذا يقتضي التنفير من الخمر. ثالثاً: أن الله سبحانه وتعالى جعلها من عمل الشيطان الذي لا يأتي المسلم بالخير، ولا يأتي الإنسان بخير: {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء:53]، فجعلها من عمل الشيطان، وهذا من أبلغ ما يكون من التنفير؛ لأن المؤمن لا يرتاح لشيء يكون من الشيطان، ولا يحب شيئاً من الشيطان، ومن أساليب القرآن للتنفير من المعاصي أن تصفها بأنها من عمل الشيطان: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27]، وهذا من أساليب الكتاب والسنة في التنفير من المعاصي. رابعاً: أن الله عز وجل أمر باجتناب الخمر في الآية الكريمة فقال سبحانه: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90]، فيه أمران: الأول: كونه جاء بصيغة (افْعَلْ)، وهذا يدل على الوجوب، فإن صيغة (افْعَلْ) تدل على وجوب فعل المأمور به، فالأصل عند العلماء أن صيغة (افْعَلْ) تقتضي الوجوب حتى يدل الدليل على الندب. الثاني: أن الله عبر بالاجتناب، والاجتناب من صيغ التحريم، (اجتنب)، و (دع)، و (اترك)، و (ذر)، هذه كلها من صيغ التحريم عند علماء الأصول، ويرونها من الصيغ القوية التي تدل على الحرمة، قال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج:30]. خامساً: أن الله سبحانه وتعالى بين أن الخمر طريق للعداوة والبغضاء، والوسائل تأخذ حكم مقاصدها، وما كان طريقاً إلى حرام أو سبيلاً إلى حرام فهو حرام، ثم ما كان سبيلاً إلى حرام عظيم فهو سبيل أعظم حرمة؛ ولذلك قالوا: وسائل الشرك أعظم من وسائل الذنوب الأخرى، ووسائل الكبائر ليست كوسائل الصغائر، فتفاضلت الوسائل بحسب ما تنتهي إليه، وانظر! كون القرآن يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ} [المائدة:90] فبدأ بها، وقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ} [المائدة:91] فبدأ بها؛ لأنها أساس الشر وأساس كل خبث؛ ولذلك توصف بكونها أم الخبائث كما ورد مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي تجر إلى كل شر، وإلى كل بلاء، قال الله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة:91]، هذا الوجه الخامس. الوجه السادس: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المائدة:91]، وجمع الله في التنفير بين الأمرين العام والخاص، فقال: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} [المائدة:91]، فجمع بين كونها صادة عن ذكر الله عز وجل عموما، ً فشارب الخمر لا يذكر ربه، فهو غافل عن الله سبحانه وتعالى، وكذلك أيضاً تكون الخمر طريقاً إلى ترك الصلاة. كان تحريمها تدريجياً، فنفر الله منها في قوله:: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219]، فانتهى قوم من الصحابة عند هذا الحد، ثم حرمها عند قربان وقت الصلاة، فكان الناس لا يشربونها من بعد صلاة الظهر، وبعضهم ينتهي منها من بعد الفجر؛ لأنه يذهب إلى معاشه إلى أن يصلي العشاء، فيأتي منهكاً متعباً فلا يستطيع أن يشربها، وهذا من التدريج في التحريم كما سنبينه، فعندما حرمها الله سبحانه وتعالى عند قرب وقت الصلاة؛ فمن يشربها ستضيع عليه الصلاة، لأنه منهي عن شربها عند قرب وقت الصلاة فعبر بالصلاة والمراد وقت الصلاة. الوجه السابع في الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:91]، قال بعض العلماء: إن ختم الآية الكريمة بهذه الأسلوب البلاغي الجميل البديع أبلغ في زجر النفوس من قوله: (فانتهوا)، فإنه لما قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:91] فيه ما يدل على الحث والحض على الانتهاء والابتعاد؛ لأنه سبق أمرهم بالاجتناب، فلم يكرر سبحانه ذلك، وإنما جاء بهذا الأسلوب الذي هو أبلغ في تنفير النفوس من شرب هذا الأمر المحرم. هذا هو دليل الكتاب؛ وهذه الآية الكريمة من سورة المائدة تعتبر أصلاً عند العلماء رحمهم الله في تحريم الخمر. وفي هذا التحريم الوارد في هذه الآية وقفة يحتاج كل مسلم أن يقف عندها سواء كان من طلاب العلم أو من العلماء أو من العامة؛ وذلك أن الله يقول: (فَاجْتَنِبُوهُ)، والأمر بالاجتناب أمر بالابتعاد، ما قال: فلا تشربوا الخمر ولا تفعلوا الأنصاب والأزلام، ولكن قال: (فَاجْتَنِبُوهُ)، فلما قال: (فَاجْتَنِبُوهُ) دل على أنه لا يجوز لمسلم ولا لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يشرب الخمر، ولا أن يحملها، ولا أن يبيعها، ولا أن يشتريها، ولا أن يعتصرها، ولا يطلب عصيرها فتعصر له، ولا أن يعصرها، ولا أن يتطيب بها في ثيابه. وللأسف! بعض الجهلة يظن أن التحريم للشرب فقط، ثم يأتي بعض طلبة العلم ويقول: الخمر طاهرة في أصح قولي العلماء، وهذا قول لبعض العلماء، ولكنه قولاً مرجوحاً، وجماهير السلف والخلف على أنها نجسة، لظاهر الآية الكريمة، ولحديث أبي ثعلبة الخشني في الصحيحين. لكن الإشكال أنه يقول: هي طاهرة لا تؤثر في الصلاة، فيتطيب بما فيه كحول، وبما فيه مادة (اسبيرتو) التي فيها كحول، ثم يقول: هي طاهرة! فينظر إلى قضية كونها طاهرة أو نجسة، ولا ينظر إلى أن الله أمره باجتنابها؛ فالله أمر باجتناب القليل والكثير، وحرم النبي صلى الله عليه وسلم شرب القليل منها والكثير، فنقول: حرم الله وأمر باجتنابها قليلة كانت أو كثيرة، ولو كانت نسبة (2%) ما دام أنها موجودة في هذا الطيب أو في هذا العطر، ولذلك أنت مأمور شرعاً باجتنابها، وهذا أمر يخلط فيه بعض طلبة العلم، ولذلك ينبغي على كل مسلم أن يضع هذه الآية الكريمة في دلالتها وبيانها نصب عينيه، فالأمر بالاجتناب عام شامل للشرب وشامل للتطيب، وهي ليست طيباً بل تضر ولا تنفع.

الأدلة من السنة على تحريم الخمر

الأدلة من السنة على تحريم الخمر ودل دليل السنة على تحريم الخمر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيح-: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) فهذا نص في تحريم الخمر، فكلمة (حرام) تدل على عدم جواز شرب الخمر، وعدم جواز تعاطيها. كذلك أيضاً صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لعن في الخمر عاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها، وآكل ثمنها، وشاربها، وساقيها، ومستقيها، وهذا من أبلغ ما يدل على تحريم الخمر؛ حتى قال بعض العلماء: ليست العبرة بقوله: (حاملها والمحمولة إليه، وشاربها وساقيها ومستقيها، وبائعها وآكل ثمنها، وعاصرها ومعتصرها)؛ إنما العبرة بكل من ساعد على الخمر، والأمر لا يتوقف عند هذه الأوصاف التي كانت موجودة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فكل من أعان على الخمر فهو ملعون، ومن هنا قالوا: من قال كلاماً يزينها أو يدعو إليها أو مجَّدها أو دفع أبناء المسلمين وشبابهم وأهل الفطرة من صغار السن والأحداث إليها؛ فإنه ملعون؛ لأن فعله هذا قد يكون أبلغ من فعل الذي يحمل أو يبيع أو يشتري. فهذا كله تعظيم لحرمة الخمر؛ لأنها أم الخبائث، فقفلت السنة جميع الأبواب المفضية إليها تعظيماً لأمرها. ولو ورد اللعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر جعلها العلماء من كبائر الذنوب، بل قال بعض العلماء: إنها من أكبر الكبائر، ولما روجع في هذا وقيل له: لماذا جعلتها من أكبر الكبائر؟ قال: لأنه إذا شرب الخمر لم يتورع عن أمر ولو كان من أعظم الأمور، وقد اتفق لبعضهم أنه ترك الصلاة، فدخلت عليه أمه ذات يوم وهو شارب للخمر والعياذ بالله! فأمرته بالصلاة، فما كان منه إلا أن حملها إلى تنور مسجّرٍ في البيت ورماها فيه، وهي تستنجد به وتناشده الله حتى هلكت، ثم إنه بعد شربه للخمر أغشي عليه، فلما أفاق وجد أمه -نسأل الله السلامة والعافية- في التنور فمات من ساعته، ومات والعياذ بالله! مدمناً على الخمر وشارباً لها، ومات وهو عاق لوالديه تارك للصلاة. ومن شرب الخمر استدرج إلى كل قبيحة ورذيلة، ولا يزال يهوي في الرذائل حتى يمسي أو يصبح وليس في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان والعياذ بالله! فهي باب الشر والبلاء، وما فتحت المسكرات والمخدرات على أمة إلا دمرت تماماً، فذهبت فيها الغيرة والحمية، وقتلت الفطرة، وذهبت العقول التي هي نور الله ينير بها لعباده كما قال تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35]، فالنور الأول نور الوحي (عَلَى نُورٍ) وهو نور العقل؛ ولذلك لا يمكن للإنسان أن يصيب الهدى والرشاد إلا بهذين النورين: نور العقل، ونور الوحي نسأل الله عز وجل أن يرزقنا منهما، وأن يجعلنا من أهلهما. فالخمر أساس كل شر وبلاء، قالوا: إنها من أكبر الكبائر لأنها تقود إلى كل شر، وإلى كل بلاء والعياذ بالله. واتفق لبعضهم أنه دعته امرأة إلى الزنا والعياذ بالله! فامتنع، فاستدرجته حتى دخل البيت، فقالت له: إن لم تفعل الزنا فإنني أصيح في الناس، فخاف وامتنع، فقالت له: إذاً اشرب من هذا الكأس قليلاً وأدعك تذهب، فلا أدعك تخرج حتى تشرب من هذا الكأس، فشرب من الكأس والعياذ بالله! فلما شربها زنى بها والعياذ بالله! فوقع في الخمر ووقع في الزنا، فهي تقود إلى كل شر، قالوا: الخمر من أكبر الكبائر؛ لأنه لا يتورع صاحبها، وممكن أن يشرك بالله عز وجل، وممكن والعياذ بالله! أن يدعى إلى أخبث وأشنع ما يكون من معاصي الله وحدوده ولا يرعوي، ثم إنها تخلف في الإنسان ضعف العقل والدين، وضعف الغيرة وقلة الحياء، وضعف الخجل، إلى غير ذلك مما تورثه من الأضرار الدينية والدنيوية، ومن هنا قالوا: إنها من أكبر الكبائر، والصحيح أنها من كبائر الذنوب، وأكبر الكبائر ما نص الشرع على كونه من أكبر الكبائر، كما صح عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيح من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه وأرضاه.

الإجماع على تحريم الخمر

الإجماع على تحريم الخمر أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم الخمر، وكلهم متفقون على أن الخمر محرمة، وأن من قال: إن الخمر حلال، فقد كفر بالله عز وجل؛ لأنه كذب النص القطعي في القرآن؛ لأن الله عز وجل حرم الخمر، وتحريم الخمر ثابت بدليل قطعي إلا إذا كان جاهلاً فيعلم، أما لو قال: الخمر ما فيها شيء، ولماذا تحرم الخمر؟! الخمر تبهج النفس! وهي حلال، أو قال: ليس في الشرع دليل على تحريم الخمر، وهو يعلم بنص القرآن ونص السنة؛ فهذا -كما ذكر العلماء- كافر مستحل للخمر؛ لأنه يعتقد أنها حلال.

دليل العقل على ضرر الخمر على البدن والعقل والمال

دليل العقل على ضرر الخمر على البدن والعقل والمال وكما دل دليل النقل دل دليل العقل على تحريم الخمر، قال العلماء: إنها تورث الأضرار الدينية والدنيوية، وقد جاءت الشريعة بحفظ: الدين، والعقل، والعرض، والمال، والنفس، وهي الضرورات الخمس، فمنها: العقل، ولذلك قالوا: إن النصوص كلها دالة على أن الشريعة تراعي جلب المصالح ودرء المفاسد، والخمر فيها أعظم المفاسد، ففيها مفاسد الدين، فهي تؤثر في دين الإنسان واستقامته وطاعته لله عز وجل، وقد بيّن الله عز وجل هذه المفسدة الدينية بقوله: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90]، وقال: {يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة:91]، فنص على أن فيها أضراراً دينية، وليست الأضرار على الفرد فقط، بل حتى على المجتمع {يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}، إذاً: الضرر الديني موجود فيها. وأما الضرر الدنيوي فقد تكلم الأطباء في هذا بما يشفي ويكفي، وعلى كل عاقل عنده من الوقت والسعة أن يقرأ بعض البحوث المفيدة التي تكلمت عن أضرار المسكرات والمخدرات، حتى يحصن بذلك نفسه فيزداد يقيناًً بحكم الله عز وجل بالتحريم، وأيضاً ينفع بها غيره؛ إذا وعظه وذكره وزجره عن هذا الداء الخبيث. ومما يدل على أضراره الدنيوية عظيم أثرها على الجسد، ومن هنا نص عليه الصلاة والسلام على ذلك: (فلما دخل على أم سلمة رضي الله عنها وقد نقعت النبيذ حتى قذف بالزبد، فقال: ما هذا؟ قالت رضي الله عنها: إن فلانة تشتكي بطنها، فدفعه عليه الصلاة والسلام برجله حتى انكسر الإناء وسال النبيذ على الأرض وقال: إنها داء)، أي: ليست بدواء، وجاء هذا أيضاً في حديث طارق بن سويد الجعفي رضي الله عنه أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم وغيره- أن ينقع الخمر دواء للناس، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنها ليست بدواء ولكنها داء)، فهي داء على البدن، وأثبت الطب هذا الأمر، وإن كان ثابتاً من قبل عند المسلمين، ولا يحتاجون إلى أحد يثبته بعد كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت التقارير الطبية أنها تؤثر -والعياذ بالله- على القلب، وأنها من أسباب الجلطات والسكتات القلبية والعياذ بالله، وأنها تؤثر على الدماغ، وتحدث أمراضاً مستعصية -والعياذ بالله- في التفكير والتركيز والذهن، وكذلك تؤثر على الكبد والبنكرياس وغيرها من أجهزة الإنسان، حتى إنها تؤثر على نسله وذريته والعياذ بالله فهي تؤثر في النسل، وبعضهم يظن أن الخمر تقوي الرغبة الجنسية وكذّب الأطباء ذلك، وقالوا: السبب في هذا أن الإنسان في فطرته عنده حياء وخجل، وأمور الشهوة محل الخجل والحياء، فإذا شرب الخمر انقطعت هذه الحواجز وأصبح كالبهيمة، فهو يحس أن هذا قوة في الشهوة، وأنه أصبح فحلاً، والأمر بالعكس، فإن هذا تدمير -والعياذ بالله- للحواجز التي تكبح جماح الشهوة، وتخرج عن حدودها، وكل شيء في الجسد إذا خرج عن حدوده فعواقبه وخيمة، ونهايته أليمة، فالخمر تؤثر في كل شيء حتى في النسل والتركيز، وغير ذلك مما ذكره الأطباء والحكماء. وبالمناسبة؛ في المؤتمر المشهور العالمي الأول للمسكرات والمخدرات بحوث قيمة ذكرها بعض أطباء المسلمين، وتكلموا كلاماً جيداً في الدراسات، ففيه بحوث موثقة طبياً عن الأضرار الموجودة في الخمر، والعواقب التي ينتهي إليها شارب الخمر والعياذ بالله. إضافة إلى الأضرار المادية، ولذلك تجد الدول التي ينتشر فيها شرب الخمر تكثر فيها حوادث السيارات، وتكثر فيها حوادث الجرائم والعنف والقتل والاعتداء، إلى غير ذلك من المصائب التي جعلها الله عز وجل لكل من عصاه، والمعيشة الضنكة التي وعدها الله عز وجل لكل من تنكب عن سبيله، وخرج عن شرعه ودينه، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعصمنا بعصمته، وأن يحفظنا بحفظه. كان الناس في الجاهلية يشربون الخمر، ويتفاخرون بشربها، وكان بعضهم يظن أنها ترفعه، فإذا شربها ظن أنه أصبح في أعلى المجد، وأصاب من الحظ أوفره وأعظمه، قال حسان بن ثابت رضي الله عنه في قصيدة له قبل الإسلام: عفت ذات الأصابع فالدلاء إلى عذراء منزلها خلاء ديار من بني الحسحاس قفر تعفيها الروامس والدلاء إلى أن قال: فنشربها فتتركنا ملوكاً وأسداً ما ينهنهنا اللقاء فقال: فنشربها فتتركنا ملوكاً، فيحس أنه أصبح كأن الدنيا كلها تحته، وقال شاعر: فإذا سكرت فإنني رب الخورنق والسدير وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير يعني: هو إذا شربها ظن أنه أصبح كسرى (رب الخورنق والسدير) وإذا صحا وجد أنه عند البعير والغنم التي يملكها، فهذا من بلاء الخمر، فكانوا في الجاهلية يشربونها، وكان عقلاء الناس لا يشربونها حتى في الجاهلية، وأثر عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم أنهم لم يشربوا الخمر لا في جاهلية ولا في إسلام، وهذه من عظيم نعم الله عز وجل، أن يصون الإنسان نفسه عن هذا الداء والبلاء، فكان أبو بكر رضي الله عنه يعافها في الجاهلية، كيف وهو في صحبة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وكان عثمان رضي الله عنه من أشد الناس حياء، ورأى أن الخمر تنزع الحياء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)، فالخمر تتدمر الحياء، وتجعل الإنسان صفيق الوجه والعياذ بالله! بعيداً عن المكارم والأمور المحمودة، وتغنى عقلاء الجاهلية بتركها؛ لما فيها من السوء والأذى، ولذلك عاصم بن قيس الشاعر المشهور شرب الخمر، ودخلت عليه إحدى بناته في أمر من الأمور فغمز عكنتها وهو شارب للخمر، لا يعي، فلما أفاق ندم ندماً شديداً وأقسم على نفسه -وهو في الجاهلية- ألا يشرب الخمر أبداً، لا في صحة ولا في مرض، يعني: لا للتداوي ولا غيرها، مع أنهم كان يقال لهم: إنها دواء.

تدرج الشرع في تحريم الخمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

تدرج الشرع في تحريم الخمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نعم الله عز وجل أنه حرّم الخمر، ولكن الله لطف بعباده، فكانت النفوس متعلقة بالخمر، وهي فتنة وشهوة، فالله عز وجل من حكمته -وهو الحكيم العليم- أن تدرج في تحريم هذا الداء والبلاء، وهذا يدل على عظم شرها، وسلطانها على النفوس. وأول ما نزل في الخمر قوله عز وجل: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل:67]، وهذه الآية الكريمة في سورة النحل بيّن الله عز وجل فيها أن ثمرة النخيل والأعناب يتخذ منها السكر والرزق الحسن، فبعض الصحابة كفّ عن الخمر بهذه الآية، وفهموا أن الله يلمح وينبه، على أن الخمر ليست بمحمودة،؛ لأن الله قال: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا}، فجعل هذه الثمرات رزقاً حسناً، وجعل ضد الرزق الحسن الخمر، ومن هنا فهم بعض الصحابة أن هناك تنبيهاً، حتى إن عمر رضي الله عنه كان دائماً يقول وهي حلال: (اللهم! بين لنا في الخمر)، أحس من هذه الآية أن الله عز وجل يدعو إلى أمر ما. ثم نزلت الآية الثانية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] أي: ما يكون منهما من الشر والبلاء، وإلى الآن ما جاء بيان ما يقع من الأضرار والبلاء؛ وهذا يدل على أن القرآن لا ينبغي أن يفسره إلا إنسان عنده علم وفهم، فإن الإثم معروف أنه ضد النفع، والخطيئة والسيئة ضد الحسنة، وهذا يقتضي أن شاربها يأثم، مع أن الآية لم تقتض تأثيماً، وإنما المراد: (وَإِثْمُهُمَا) أي: ما يكون منهما من الأضرار والتبعات أعظم من النفع الموجود، والدليل على أن الإثم هنا ليس المراد به السيئة: وجود المقابلة: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219]، وهذه أساليب الكتاب والسنة ما تحتاج إلى النظر في المقابلات، وهذا من صوارف الألفاظ عن ظاهرها، ولذلك يحتاج كل أحد يتعامل مع النصوص أن يفهم ألفاظ الشرع وكيفية دلالاتها. ثم نزلت الآية الثالثة: وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43]، فبين سبحانه وتعالى أنه حرم على المؤمنين شرب الخمر عند قربان وقت الصلاة، وأول الصلوات الخمس صلاة الظهر كما هو معلوم، فهي الصلاة الأولى؛ لأنها أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أصبح من ليلة الإسراء، وصلاة الظهر وقت للكسب والمعيشة، ولذلك ما كانوا يستطيعون شرب الخمر في هذا الوقت إلا إنسان خامل أو إنسان ليس عنده عمل، ففي هذه الوقت أكثر المجتمع ينهمك في الكسب. ولماذا جعلت صلاة الضحى لها الفضل العظيم، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال)؟ لأنها وقت غفلة، وهي وقت انشغال الناس في البيع والشراء والدنيا، فلا يشربون الخمر في هذا الوقت؛ لأنهم مشتغلون بالكسب، فما يأتي الظهر إلا وهو متعب منهك يريد أن يرتاح في الظهيرة من عناء النهار، وبعد الظهر لا يستطيع أن يشربها فوقت العصر قريب فيمتنع من شربها، فإذا صلى العصر فإنه لا يستطيع أن يشرب لقرب وقت المغرب، ثم إذا صلى المغرب لا يستطيع أن يشرب لقرب وقت العشاء، فأوقاتها متقاربة جداً، فامتنعوا من شربها في النهار إلى صلاة العشاء، فإذا صلى العشاء فإنه يكون مجهداً منهكاً أكثر من إنهاكه في الظهر، وحينئذ أيهما أفضل عنده: الشراب وطعامه أو نومه؟ قال بعض العلماء: إذا ازدحم الطعام والشراب والنوم فإن النوم يسبق الطعام والشراب؛ لأن النوم لذته وسلطانه أقوى من سلطان الجوع والعطش، فإنه ربما ربط على بطنه فصبر، ولكن الناعس ما يستطيع رد النوم، حتى أنه ربما يدهم عليه النوم وهو يقود سيارته، فما يستطيع أن يدفع عن نفسه وروحه الهلاك والموت من شدة سلطان النوم على النفس، فإذا صلوا العشاء فإنهم يحتاجون إلى النوم ويقدمونه على شهوة السكر. ومن هنا ضاق الأمر، حتى إذا شرب الخمر في هذا الوقت فإنه لا يجد لها لذة ولا طعماً؛ لأنه يريد أن يرتاح ويريد أن ينام فيصلي الفجر فيعود إلى حاله الأول، فصار هذا تدريجاً فكف أقوام عن شربهم في هذا الوقت. ثم إن الله عز وجل تدارك الأمة بلطفه فحرم الخمر تحريما باتاً، وسلب الخمر ما فيها من منافع بقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219]، وجاء في الحديث المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم -وحسنه بعض العلماء- (إن الله سلب الخمر ما فيها من المنافع)، فأصبحت بلاء وداء وشراً، ولا منفعة فيها ولا خير. فهذا التدريج في التحريم يدل على تأثير هذا الداء والبلاء على النفوس، وإذا كانت الخمر الموجودة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لها هذا التأثير، فإن في العصور المتأخرة والعياذ بالله! فتح على الناس شر عظيم، وبلاء وخيم، وذلك بأنواع المخدرات التي استشرت وتنوعت واختلفت، وزينها الشيطان للناس والعياذ بالله! فوقعوا في بلاء لا يعلم قدره إلا الله سبحانه وتعالى.

المخدرات واستخدام البنج في العمليات الجراحية

المخدرات واستخدام البنج في العمليات الجراحية المخدرات لم تكن موجودة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن موجودة في عصر الخلفاء الراشدين، ولم تكن موجودة في القرون المفضلة، كان يوجد (البانجو والشيكران) وهذا نبت معروف، يؤثر على العقل، ولذلك الإبل لو أكلت (الشكيران والبانجو) تهيم وتصبح سكرانة، لكن هل للإبل عقل حتى نقول: إنها فقدت عقلها؟ فهي تهيم، ولو تحمل عليها أي شيء، تمشي، لأنها تفقد التحكم، وهي ليس لها عقل، ولكن لها هداية من الله: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]، فهدى الإبل لكي تخدم الإنسان وتقوم على مصالحه، فإذا أكلت هذا النبت تهيم وتصبح بدون وعي فلا تتحكم في نفسها، وتتحكم في عواطفها، فالشيكران والبنج كان موجوداً، وذكره العلماء المتقدمون رحمهم الله في علاج قطع الأعضاء، كما قيل لـ عروة بن الزبير: ألا نسقيك خمراً؟ وذلك عند قطع رجله، فأبى رحمه الله برحمته الواسعة، وقيل: إنهم عرضوا عليه البنج كما ذكر الإمام أبو نعيم الحافظ في الحلية، فامتنع، وأمرهم أن يقطعوها وهو يذكر الله، قال الزهري: فوالله! ما تغير وجهه يعني: ما تغير من قوة الإيمان، وهكذا الذين يذكرون الله عز وجل بقلوب حاضرة تستشعر عظمة الله عز وجل، حتى إنها تقطع منه الرجل ولا يشعر، وقد وقع هذا لبعض الشهداء، فإنه كان في إحدى المعارك فانفجر به لغم، فقطع رجله وسقط كالمغشي عليه، ثم أفاق فجاءوا يحملونه وهو لا يشعر بقطع رجله، وهو معاق تماماً، فحملوه وهو يضحك ويتحدث معهم، ويقول: والله! إني بخير أشعر بسعادة، ويحدثهم في طاعة الله وذكره عز وجل، ورجله مقطوعة ينزف منها الدم، ومكث ما بين ثلاث دقائق إلى خمس دقائق، وهو يقول لهم: أحس بانشراح وسعادة عجيبة! يقولون له: ألا تشعر بألم؟ يقول: لا، أبداً! إنما أحس بشيء بسيط مثل دبيب النمل عند ركبتي؛ لأن ساقه مبتورة تماماً، حتى فاضت روحه إلى الله رحمه الله برحمته الواسعة. فالشاهد من هذا، أن الإنسان إذا كان قوي الإيمان يذكر ربه، وهو حاضر القلب؛ لا يحتاج إلى مثل هذه الأشياء، حتى إن الوالد رحمة الله عليه حصل له حادث -وهذا نذكره لأجل الاعتبار- فانقشع جلد رأسه إلى آخر الدماغ، فجاءوا به إلى المستشفى وهو ينزف، فأرادوا أن يخيطوها، يقول من حضر: قيل له: نعطيك المخدر؟ قال: لا، فبدءوا بخياطة جلده بدون مخدر، يقول الشاهد: والله! إنه يتلو القرآن، والله! لم يتألم، ولا تغير وجهه، وهو صابر متجلد، وحدثنا الطبيب الذي أشرف على علاجه فقال: كان الحادث بعد الظهر، وأتيته عند صلاة العصر، فخيطت له الأماكن، حتى إن الممرض الذي يقوم عليه سقط مغشياً عليه، نفس الممرض الذي يداويه ما تحمل هذا الشيء، صار يعيش مع المريض بآلامه أكثر مما يتألم المريض، فسقط مغشياً عليه، ثم إنه قام رحمة الله عليه فتوضأ لصلاة العصر، وهذه القصة حكاها لي الدكتور، وحكاها لي الوالد نفسه رحمة الله عليه، وكان يحكي لي فضل الطاعة وفضل ذكر الله، وفضل القرآن، وكان سني صغيراً في تلك الفترة، كنت في العاشرة أو الحادية عشرة تقريباً، فلما جئناه بعد العصر وهو في المستشفى جلس على سريره، فقال: سمعت الأذان فقمت أتوضأ، فجاء الدكتور يبحث عنه وما وجده على سريره، وهذا الخبر يحكيه لي نفس الطبيب، وما يصدق أن إنساناً فيه هذه الإصابة يقوم من مقامه قال: فوجدته يتوضأ، فقلت له: يا شيخ! والله! لولا الله ثم فضل القرآن الذي في صدرك ما تفعل هذا الفعل؛ لأنه جلس ينزف ما لا يقل عن ربع ساعة قبل أن يصل إلى المستشفى. فالشاهد من هذا، أن السلف رحمهم الله كانوا يستخدمون هذه الأدوية من البنج ونحوه، حتى كان القرن السادس الهجري وأوائل السابع فوجدت المخدرات، وأول ما وجد منها الحشيشة، وهذا الحشيش نبت جلب إلى المسلمين حينما جاء جنكيز خان، بالتتار إلى بلاد الإسلام، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، قال رحمه الله: فجلبوا معهم هذه الحشيشة الملعونة، فتعاطاها فساق المسلمين، واستمرءوها حتى أصبحت داء بين المسلمين، وما كان المسلمون يعرفون هذه المخدرات ولا يتعاطونها، ثم توسع الأمر في أواخر القرن التاسع الهجري وأوائل العاشر، فجاء الأفيون ونبت الخشخاش وغيرها من المخدرات النباتية، ثم في القرن الحادي عشر وجدت المخدرات المصنعة والمركبة كيماوياً، وفتح على الناس من باب البلاء والشر ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، وصدق رسول الهدى صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (ما من زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تقوم الساعة)، والأصل أن هذه المخدرات محرمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)، وبين أن العبرة والعلة هي الإسكار وذهاب الإدراك والشعور وتغطية العقل. وفي المخدرات من تغطية العقل والشعور ما يعدل الخمر أو قد يفوقه، ولذلك بين شيخ الإسلام ابن تيمية عندما ذكر أدلة تحريم الحشيشة أنها أشد تحريماً من الخمر، وفيها أضرار أشد من الخمر من وجوه، والخمر أشد منها من وجوه أخر، وقال: إنه يصعب فطام الإنسان عن الحشيشة، وهذا من دقة فهم علمائنا المتقدمين رحمهم الله، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قد قرأ الطب، وعرف معلومات من الطب أفاد بها أثناء فتاويه رحمة الله عليه، ولما تكلم عن الحشيشة ذكر أنها تضر الكبد، وأنها تحدث ما يسمونه بتشمع الكبد ونحوه من الأضرار، وهذا لا يعرفه إلا الأطباء في زمانه، ولكنه رحمه الله كان يلم بهذه الأشياء، ويرجع إلى أهل الخبرة في معرفتها وتقريرها. فدليل تحريم المخدرات: أولاً: عموم: (ما أسكر قليله فكثيره حرام)، وهذا شامل لكل شيء يسكر العقل، ويؤثر فيه. ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن كل مسكر ومفتر)، والمخدرات فيها المعنيان، فهي تسكر وتفتر والعياذ بالله! وتؤثر في العقل والإدراك. ثالثاً: أن الأضرار الموجودة في المخدرات كالخمر أو أشد من الخمر من وجوه، وحينئذ يجتمع دليل النقل والعقل على تحريم المخدرات، وسنتكلم إن شاء الله على بقية المسائل والأحكام المتعلقة بهذه الجملة في الدرس القادم إن شاء الله. نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يعافينا من هذا الداء ومن كل بلاء، وأن يرفع عن المسلمين هذا الداء، وأن يعيذنا وإياهم من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين الدخان والمواد الكيماوية التي تشرب وتؤكل وتستنشق

الفرق بين الدخان والمواد الكيماوية التي تشرب وتؤكل وتستنشق Q هل ما يعرف بالدخان يعتبر من المسكرات أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: هذا السؤال يحتمل أمرين: يحتمل أن السائل يسأل عن بعض المواد التي تستنشق، وتؤثر في العقل. ويحتمل أنه يقصد الدخان المعروف أنه يأخذ حكم الخمر، ما أظن واحداً عنده عقل يجعل الدخان مثل الخمر، ينبغي على الإنسان أن يكون واقعياً، وخاصة إذا تحدثنا عن الأحكام الشرعية أن نتكلم بعقل وببيان، الدخان شيء, والخمر شيء آخر، والدخان بلاء ومصيبة، ولا يمكن أبداً أن يأخذ حكم الخمر، ولا يمكن أبداً أن نقول: إن من شرب الدخان كأنه شرب الخمر، ما يجوز هذا، هذا قول على الله بغير علم، وافتراء وكذب. الدخان محرم لأضراره للموجودة فيه، ولو أن طعاماً وشراباً تضمن ضرراً وإهلاكاً للصحة كما يتضمنه الدخان لحرمناه كما حرمنا الدخان، ولكن الدخان لا يؤثر في العقل ولا يذهب الشعور، ليس هناك أحد يتعاطى الدخان فيصبح كالسكران أو كالمخمور، فالله تعالى يقول: {لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، لا بد من العدل، والعدل أن تقول الصواب والحق، فالخمر شيء والدخان شيء آخر، هذا إذا كان مراده أن يجعل الدخان مثل الخمر. والخمر كبيرة والدخان ليس بكبيرة يعني: شرب السيجارة الواحدة ليس بكبيرة بحد ذاتها، لكن المداومة عليه تنقله من كونها صغيرة إلى كبيرة، ووجود الأضرار بالدخان في نفسه، وأهله، وولده، لا تقع بسيجارة واحدة يشربها. ومن هنا ينبغي التفصيل والبيان، فالخمر شيء والدخان شيء آخر. وإذا كان المراد الأمر الأول الذي ذكرناه وهو: أنه يسأل عن الأمور التي تؤثر تأثير الخمر، ولكنها عن طريق الشم والتدخين ثم تستنشق كما في بعض المواد المخدرة، فهذا لا إشكال أننا لا نفرق في المخدرات بين المشموم وبين المحقون بالحقن وبين المشروب وبين المأكول، كل هذا يأخذ حكم المخدرات في التحريم، والأصل يقتضي عدم جوازه؛ لأن العلة واحدة وهي وجود التأثير على العقل والإدراك، والله تعالى أعلم.

حكم من فاته بعض التكبيرات في صلاة الجنازة

حكم من فاته بعض التكبيرات في صلاة الجنازة Q رجل فاتته من صلاة الجنازة تكبيرة، ثم سلم مع الإمام، فماذا يلزمه أثابكم الله؟ A هذا فيه تفصيل من فاتته تكبيرات من صلاة الجنازة ولم يمكنه أن يقضي، فإنه يكبر عدد ما فاته من التكبيرات ثم يسلم. فمثلاً: لو فاتته تكبيرتان، فبعد أن يسلم إذا سلم الإمام يقول: الله أكبر، الله أكبر، ويسلم. أن الجنازة تترك بعد تسليم الإمام ولا ترفع مباشرة حتى يتمكن الإنسان من القضاء فإنه يقضي كما نص على ذلك جمهور الأئمة رحمهم الله، فيفصل في مسألة القضاء في صلاة الجنازة بين الجنازة التي ترفع مباشرة والجنائز التي تؤخر، فإن كانت ترفع مباشرة فإنه يوالي بين التكبير، وفي هذه الحالة يسقط عنه قراءة ما فاته وصلاته صحيحة. أما لو سلّم مع الإمام مباشرة، وهو يعلم أن هناك تكبيرات قد فاتته عامداً متعمداً ولم يقض هذه التكبيرات فصلاته باطلة؛ لأنه لا بد من الإتيان بهذه التكبيرات، وهي لازمة في الصلاة، ومن تركها متعمداً وهو يعلم أنه واجب عليه قضاؤها فصلاته باطلة، والله تعالى أعلم.

حكم من أدى مناسك العمرة وترك السعي بين الصفا والمروة

حكم من أدى مناسك العمرة وترك السعي بين الصفا والمروة Q ماذا يجب على رجل أحرم بالعمرة ثم طاف بالبيت وعاد إلى داره دون أن يسعى بين الصفا والمروة، ظناً منه بأن العمرة تقتصر على الطواف فقط، أثابكم الله؟ A الجهل ليس بعذر، الجهل عذر في مسائل محدودة، ولأشخاص معينين، وفي فتاوى معينة، أما أن يأتي إنسان إلى بيت الله الحرام، والعلماء موجودون، والكتب موجودة، والأشرطة موجودة، ويمكنه أن يعرف ما هو الواجب عليه في عمرته أو على الأقل يسأل المرشدين الموجودين، ثم يأتي ويقول: والله! أنا كنت أظن أن العمرة طواف، هذا ليس بعذر، هذا تلاعب وتقصير وإهمال، ومن قصر يتحمل مسئولية تقصيره، ولذلك رأى النبي صلى الله عليه وسلم أقواماً أقدامهم تلوح بعد الوضوء، ولم ينتبهوا للأعقاب التي في أقدامهم، فلم يغسلوها فقال: (ويلٌ للأعقاب من النار)، فأخبرهم عن هذا الوعيد مع أنهم ما علموا، وهم من الصحابة، وتوعدهم بهذا الويل: (ويل للأعقاب من النار)، فويل لأصحابها من عذاب الله وعقوبته، لماذا؟ لأنهم أهملوا وقصروا في تفقد القدمين، فالله أمرهم بغسلها كاملة، وكان المنبغي أن يحتاطوا وأن يتنبهوا للفرض الذي أوجب الله عليهم. فهؤلاء الذين يؤدون مناسك العمرة والحج وأحكام العبادات دون أن يسألوا أهل العلم، ثم يأتون ويقولون: والله ما ندري، والله ما نعلم، هذا ليس بعذر لهم، هذا إهمالٌ وتفريط، ويتحمل المهمل تفريطه. أما السعي بين الصفا والمروة فهو ركن من أركان العمرة، كما هو قول جمهور العلماء رحمهم الله، وقالت عائشة رضي الله عنها: (لعمري لا أتمّ الله حج وعمرة من لم يسع بين الصفا والمروة). إذاً: لا بد عليه أن يرجع، وهناك وجهان للعلماء: فبعضهم يقول: لا يصح السعي إذا وقع الفاصل بينه وبين الطواف في العمرة، وهذا ما يسمونه بشرط الموالاة وعدم الفصل، فعلى هذا القول يلزمه أن يعيد الطواف، فيطوف ثم يسعى أي: لا يسعى إلا بعد طوافه، وهذا أحوط، فيرجع فيطوف ثم يسعى بين الصفا والمروة، والله تعالى أعلم.

دعوة القريب أعظم وجوبا من دعوة الغريب

دعوة القريب أعظم وجوباً من دعوة الغريب Q أخي يتعاطى الخمر، ومع ذلك لا يصلي، وهو متزوج وله أولاد، وهو في غالب وقته كذلك، وأنا أريد أن أدعوه، فهل يجوز لي أن آكل من طعامه، وأن أدعو له وأن أضاحكه؛ لأنه مع ذلك لين القلب، أثابكم الله؟ A نسأل الله العظيم أن يهدي قلبه، ويتوب علينا وعليه وعلى المسلمين أجمعين، وأن يرفع عن كل مبتلىً بلاءه. أخي في الله! أولاً: عليك بمناصحته، وواجب عليك أن تسعى في نجاة أخيك من النار، وهذا فرض عليك، والدعوة للأقارب أعظم وآكد من دعوة الغريب، دعوة القريب أعظم وجوباً من دعوة الغريب. ثانياً: تحرص على بذل الأسباب التي تؤثر في أخيك، وأنت تعرف النقاط التي هي نقاط ضعف فيه، فتوجد له من يؤثر عليه فيها، فتغتنم الفرص إذا -لا قدر الله- أصيب بمصيبة، فتذكره ذكرته بالله عز وجل، وإذا حدث عنده سرور ذكرته بنعمة الله، فتحاول أن تؤثر عليه، وتأخذ بالأسباب التي يكون لها وقع كبير في نفسيته وفي قلبه لعلّ الله أن يهديه. ثالثاً: عليك -أخي في الله- أن تحذر مجاراة أهل المعاصي في معاصيهم، خاصة إذا نظروا إليك على أنك على خير وبر، فإذا كانت مؤاكلتك ومشاربتك ومباسطتك له تزيده جرأة على حدود الله، واستخفافاً بمحارم الله فإياك إياك! لا يختمن الله على قلبك، خاصة إذا كان جلوسك معه أثناء المنكر، أو أثناء شربه للخمر، إلا أن تعظه وتذكره بالله عز وجل، فالأكل والشرب مع أهل المعاصي حال معاصيهم مشدد فيه؛ ولذلك جعل الله عز وجل من جارى أهل المعصية في معاصيهم -دون أن ينصحهم، ودون أن يعذر إلى الله فيهم حكمه حكمهم: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140]، يعني: لو جاء شخص ووجد شخصاً يستهزئ بالدين أو بالعلماء أو بالصالحين فلا يجوز له أن يجلس معه. افرض يوماً من الأيام أنك في مناسبة، وجاء أحد يستهزئ ويتكلم في الدين، أو يستهزئ بالعلماء، فقام له واحد في وسط الغداء فقال له: اتق الله! لا تتكلم في العلماء، أمسك لسانك أو اخرج، سيقولون لك في اليوم الأول: متشدد! اليوم الثاني: متشدد! اليوم الثالث: يمسكون هذا الذي يتكلم ويقولون له: احذر! لا تتكلم في الدين، ولا تؤذي من جلس، على الأقل حتى يجاملون أهل الحق. فإذا سكت الإنسان عن معصية الله محاباة لقريبه أو غيره؛ فإن هذا يعين أهل الباطل على باطلهم، ولا يمكن أن تقام حجة الله على العباد بهذا التخاذل، فينبغي عليك أن تنصحه. وهناك أمر أخير ننبه عليه: إذا أردت أن تكلمه أو تبين له الحق فإياك ثم إياك! أن يتسلط الشيطان على قلبك فتكون موعظتك من أجل العاطفة لا من أجل الله عز وجل! ولذلك كثيراً ما تضعف دعوة الأقارب؛ لأن الإنسان يأتي بها من منطلق العاطفة، فيقول: فضحتنا، نكست رءوسنا أمام الناس، الناس يقولون: أخوك يفعل إذا أصبح الإنسان يدعو لهذه الأشياء فهي ليست لله، وإنما هي حمية للنفس. وعلى هذا عليك أن تحرص على الإخلاص، وإرادة وجه الله عز وجل وطلب الخلاص، وأن تتفكر أنك إن أخذت بحجز أحدهم عن نار الله عز وجل عظمت مثوبتك، وجل ثوابك عند الله عز وجل في الدنيا والآخرة، فإذا كان قريباً كان الأمر أعظم، وإذا كان قريباً كان الجزاء من الله أجل، فتحرص على أن تعامل الله سبحانه وتعالى، وعلى أنك تنصحه لله وتذكره بالله. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يأخذ بنواصينا إلى كل خير وهدى، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلْى اللهُ وَسَلّمَ وَباَرَكَ على نَبِيّه وآله وَصَحْبِهِ أجْمَعِين.

باب حد المسكر [2]

شرح زاد المستقنع - باب حد المسكر [2] إن الله سبحانه وتعالى إذا حرم شيئاً حرم ثمنه وبيعه، وسلبه كل المنافع التي كانت فيه قبل تحريمه، وقد حرم الله عز وجل الخمر، ومع هذا يقول بعض الجاهلين: لا مانع من شربها لأجل التداوي، أو لأجل قطع اليد أو الرجل، ولا مانع من التدلك والتدهن بها! وكل هذا مردود بالمحكم من الآيات والأحاديث الدالة على حرمة استعمال الخمر.

حرمة شرب الخمر للذة

حرمة شرب الخمر للذة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وهو خمر من أي شيء كان]. تقدم الحديث عن ضابط الخمر، وبيّنا أنه عام شامل لكل ما أثّر في العقل، سواءً كان من المشروبات القديمة التي كانت تنتبذ من التمر والشعير والزبيب والعسل -كما ورد في أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه- أو كان شراباً يتخذ من غير ذلك. والأصل في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع القاعدة على العموم، وجعل الحكم معللاً بعلة وهي الإسكار، فكل شيء أزال العقل وأثر فيه تأثيراً بيناً واضحاً فإنه آخذ حكم الخمر، ثم بينا أن تحريم الخمر يدور حول علة الإسكار وزوال العقل، وهذا يقتضي إلحاق المخدرات بجميع أنواعها وأصنافها سواءً كانت نباتية كنبات الخشخاش الذي يستخرج منه الأفيون، أو كانت غير نباتية مثل ما يسمى بالمخدرات الكيماوية، فهذا كله محرم، والأصل في تحريمه: أن السنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم الخمر؛ لأنها مؤثرة في العقل، وكل ما أزال العقل وأثّر فيه فحكمه حكم الخمر، ولحديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن كل مسكر ومفتر)، وهو يدل دلالة واضحة على عموم الحكم، وأن المخدرات بجميع أنواعها تعتبر محرمة شرعاً، وبهذا بيّن المصنف رحمه الله هذا الأصل: وهو أننا لا نقتصر على تحريم الخمر القديمة، بل العبرة بكل شراب يؤثر في العقل، ويذهب الشعور والإدراك، وهذه هي العلة، (والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً)، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأصل فقال: (كنت قد نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا، وكل مسكر حرام)، فجعل الحكم يدور مع علته وهي الإسكار، ومن هنا نأخذ بمذهب العموم، وأن العبرة بتغير العقل أو التأثير في العقل، سواءً كان عن طريق الشراب أو كان عن طريق المواد الجامدة كالحشيشة والأفيون المستخرج من نبات الخشخاش، والبنج، والشيكران، وغير ذلك من المواد الجامدة، ويلتحق بهذا: المشمومات، فما يشم من المواد الطيّارة المؤثرة في العقل حكمه حكم المشروبات المسكرة، وكذلك ما يحقن عن طريق الإبر، فإنه آخذ حكم المسكرات أيضاً؛ لأن العلة هي التأثير على العقل سواءً كان عن طريق المشروب أو المطعوم أو المحقون أو المشموم، فكل ذلك محرم شرعاً. وإذا ثبت تحريمه فإنه محرم على الإنسان أن يتعاطاه، ومحرم على الغير أن يحقنه أو يناوله أو يعينه على ذلك، ومن هنا بين النبي صلى الله عليه وسلم حرمة الخمر، وحرمة الوسائل المفضية إلى الخمر: كصناعة الخمور وترويجها، وصناعة المخدرات وترويجها، والدعاية إلى الخمور وإلى المخدرات محرم شرعاً، والقاعدة تقول: (الوسائل تأخذ حكم مقاصدها)، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأصل وهو: تحريم الوسائل المفضية إلى الخمر، وإلى كل مضر بالعقل حينما لعن الخمر، وشاربها، وعاصرها ومعتصرها، وساقيها ومستقيها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها وآكل ثمنها، فلعن فيها هؤلاء العشرة، وإذا نظرت إلى هؤلاء العشرة وجدت فيهم من هو معين عليها، كساقي الخمر، وعاصرها، وحاملها، وبائعها، وآكل ثمنها، فكل هؤلاء أعانوا على الوصول إلى المحرم، وهكذا المخدرات يحرم تصنيعها، وترويجها، وتحبيب الناس إليها، حتى لو جلس مع أخيه وقال له: إنها تحدث النشاط، والسرور، وهي في الواقع: لا تزيد الإنسان إلا هماً إلى هم، وغماً إلى غم، فإن الله لم يجعل في محرم خيراً، ومن هنا نعلم أن الترغيب فيها ليس منحصراً أن يدعو إليها دعاية للجماعة، بل دعاية الأفراد كذلك، فلو أنه رغب شخصاً فيها، أو مدحها، أو وضعها في وسيلة إعلامية تروج إلى شربها، أو تروج إلى تعاطيها، أو تحببها إلى النفوس، فكل هؤلاء ملعونون-والعياذ بالله- بلعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد لعنه الله، ومن لعنه الله لم يبق شيء في الأرض ولا في السماء إلا لعنه، وإذا حلت اللعنة على القلب -والعياذ بالله- تنطمس البصيرة، ويضعف فيه داعي الإيمان، ولذلك قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23]، فيصبح الإنسان من هؤلاء تمر عليه المواعظ فلا تؤثر فيه، ويذكر بالله فلا يتذكر؛ لأن الله يقول: (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)، فمن أشد الذنوب ضرراً على العبد الذنوب التي ورد الوعيد عليها باللعن، ومن هنا شُدد في الخمر من هذه الوجوه كلها تعظيماً لحرمات الله، وتعظيماً لحدود الله، وزجراً للنفوس المؤمنة عن هذه المحرمات الموبقات المهلكات، حتى يكون الإنسان على السنن التي فطر الله عليها خلقه من البعد عن هذه المؤذيات والمضرات. قال المصنف رحمه الله: [ولا يباح شربه للذة]. ولا يباح شرب الخمر للذة، وهذا بإجماع العلماء، والذين يشربون الخمر يزعمون أنها تنسيهم الهموم والغموم، ويدعون أنها تحدث الهزة والنشاط، ويدعون أنها تفرح القلب، وكل ما ادعوه باطل، ومن تزيين الشيطان، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [النمل:24]، فهذا من صدود الشيطان، ويكون هذا في القلوب الضعيفة بسبب ضعف الإيمان، فيقلب الحق فيها باطلاً، والباطل حقاً، فهو يروج لهم أن فيها لذة، وهي وإن كانت لذة ساعة فهي ألم دهر، وإن كانت متعة لحظة فإنها عذاب دهر، فكم قرحت من قلوب! وأبكت من عيون! وأصابت أصحابها من الهم والغم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل! حتى أصبحوا مأسورين بها، لا يستطيعون الفكاك عنها، فأصبحت داءً تزيدهم هماً إلى همهم، وغماً إلى غمهم نسأل الله السلامة والعافية! ومن قرأ بحوث أهل النظر من الأطباء، وأهل الاختصاص، وما تعقبه الخمر من الويلات والآهات والمفاسد والشرور في دنيا الإنسان وفي جسده، وصحته الروحية، وما يعقب ذلك من الآلام؛ يجد أن هذه اللذة التي تُشرب الخمر من أجلها أحقر من أن تورد صاحبها هذه الموارد، فقد أجمع الأطباء على أنها تدمر الأعصاب، وتدمر الجهاز العصبي بآفات ومفاسد عظيمة، وتذهب تركيز الإنسان، وتفسد ذهنه وحافظته وفكره وشعوره وأحاسيسه، وإذا شربها اختل عقله؛ فأصبح أحط من البهيمة -والعياذ بالله- حتى إنه لربما اقترف الأمور العظيمة، ولذلك شربها بعضهم فزنى بأمه، ومنهم من شربها فوقع على بنته نسأل الله السلامة والعافية! فأي لذة هذه؟! أي لذة يعقبها هذا الويل، وهذا البلاء، وهذا الشقاء، وهذا العناء؟! ومن هنا: ذكر المصنف رحمه الله أن من شربها للذة -وهذا على ما يعرف عند الناس، وتحقيقاً للأصل الذي سيبني عليه عقوبة شرب الخمر- فإنه قد وقع فيما حرم الله عليه بإجماع العلماء رحمهم الله.

حكم شرب الخمر للتداوي

حكم شرب الخمر للتداوي قال المصنف رحمه الله: [ولا لتداوٍ]. ولا يجوز شربها للتداوي، وهو العلاج، والخمر كانوا في الجاهلية يعتقدون أنها تداوي وتشفي، وأنها تزيل العلل، وأنها تريح البدن من آفات تكون في شرايين القلب وفي العروق وفي المعدة، ونحو ذلك مما كانوا يظنونه، ولو كان ذلك موجوداً فإنه بعد تحريم الخمر سلبت الخمر هذه المنافع كلها، وقد جاء ذلك صريحاً في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: أنها داءٌ وليست بدواء، وأن الله لم يجعل فيها شفاءً. وعلى هذا قالوا: إن جميع ما كان فيها من المنافع التي كان يُزعم أنها موجودة سلبت منها فأصبحت داءً، وليست بدواء، وهذا صريح قوله عليه الصلاة والسلام في حديث مسلم في صحيحه: (إنها داءٌ، وليست بدواء)، وفي لفظ: (ليست بدواء، ولكنها داء)، وقد أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فيجب على المؤمن أن يعتقد ذلك. في القديم كانوا يظنون أن فيها دواءً، وفي الطب الحديث ثبت أنه لا دواء في الخمر، وأن الخمر ليست علاجاً؛ ولذلك لا تستخدم الخمر علاجاً في الطب الحديث كشراب مخصوص لعلاج مرض، سواءً كان نفسياً أو كان جسدياً، ففي الطب الحديث لا يوجد هذا.

التفصيل في استخدام المخدرات للمعالجة والعمليات الجراحية

التفصيل في استخدام المخدرات للمعالجة والعمليات الجراحية يوجد عند الأطباء مسألة: استخدام المادة المخدرة، وهي مادة الكحول المعروفة، تستخدم في جوانب من الطب، ومن أشهر هذه الجوانب جانبان: الجانب الأول: ما يعتبرونه مذيباً للمواد القلوية والدهنية. الجانب الثاني: يستعملون فيه الخمر مسيغة للطعم، حتى يكون طعم الدواء مقبولاً. وهناك جوانب أخرى اعتنى أهل الاختصاص ببيانها، وتبعه المتخصصون بطب الصيدلة، ولعلوم الصيدلة عدة ملاحظات على هذا الاستخدام أو هذه الجوانب التي ذكروها، ومنها استخدامها كمادة حافظة، وغير ذلك من الجوانب التي ذكروها. بالنسبة لهذين الجانبين: الجانب الأول: استخدامها كمسيغة للشراب، أو كما يقولون: للطعم، هذا الجانب لا إشكال في تحريمه، ولا يجوز لطبيب ولا لصيدلي أن يصرف دواءً فيه هذه المادة من الخمر؛ لأن قليل الخمر وكثيره حرام، قال صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) فهذا نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على اجتناب القليل والكثير من الخمر، فأي دواء وضعت فيه هذه المادة من الكحول التي هي من الخمر ولو كانت نسبة قليلة فإنه لا يجوز استعمالها. وفي الحقيقة هذا -بلا إشكال من حيث الأصل- لا يجوز استخدامه على هذا الوجه، وذكر بعض الأطباء المتأخرين أن هذا النوع من الأدوية وجد عند الكفار، ووضعوا هذه المادة-مادة الغول أو الكحول- في العلاج من أجل أن يستسيغوا طعم الدواء، وهم ألفوا الخمر-والعياذ بالله- فاستساغوا طعمها، فهذا هو المبرر، وهذا السبب ليس بضروري ولا حاجي، وإنما هو تكميلي في محرم، وقد أجمع العلماء على أن الأمور التحسينية والتكميلية في المحرمات لا توجب الرخصة، فمقام التحسينات والفضولات والكمالات لا يوجب استباحة المحرمات، أي: لا يوجب الرخصة بالإجماع بين العلماء رحمهم الله. أما استخدامها كمادة مذيبة للقلويات والدهنيات ففي الحقيقة أن بعض الأطباء يقول: إنه مُحتاج إليه، وهو من المختصين ممن نعرفهم بعلم الصيدلة، وأحسنوا دراسة هذا الجانب دراسة معمقة، وقدموا فيها بحوثاً جيدة في المؤتمر العالمي الأول للمسكرات والمخدرات، واجتمعت ببعضهم فبين أن هذا العذر يمكن الاستغناء عن الخمر لوجود البديل، وذكر البديل، واقترح أن تكون هناك دراسة طبية للأدوية التي فيها هذه المادة، ويمكن الاستغناء عنها بالبديل، والبحوث والدراسات موجودة، ونسأل الله أن ييسر بالقيام بما يجب القيام به تجاه هذا الأمر الذي عمت فيه البلوى بين المسلمين. إذاً: لا عذر لنا مادام أنه وجد البديل، ويمكن الاستغناء بما أحل الله، ولا شك أن الله جعل العباد في غناء عما حرم عليهم. أما الاستخدام في الجسد، فإنه يكون في علاج العمليات الجراحية، وهذا من أشهر الجوانب التي تستخدم فيها المخدرات والخمور في القديم من أجل قطع الأعضاء ونحو ذلك، والذي يظهر عند التأمل والنظر: أن استخدام المخدرات كالتخدير الجراحي من أجل العملية الجراحية ليس بعلاج في ذاته، فليس التخدير الجراحي يذهب الزائدة، وليس التخدير الجراحي يقطع البواسير، وليس التخدير الجراحي يصلح الفساد الموجود في العين أو القلب، أو غير ذلك من الأعضاء من القرحة أو نحو ذلك، إنما هو وسيلة من أجل الغاية التي يتوصل إليها في مقام: إما ضروري أو حاجي، وبناءً على ذلك لا تخلو العمليات الجراحية التي يرخص فيها من هذا التخدير نوعان: الأول: أن تكون ضرورية بمعنى: أن المريض إذا لم يقم بهذه العملية يموت، ومن أمثلة ذلك: عمليات الشرايين أو القلب المفتوح، فإنه لا يمكن أبداً أن يترك المريض بدون عملية، كانسداد الشرايين، وتبديل الشرايين والصمامات ونحوها، وهذه يجزم بأن المريض لو بقي سيموت؛ لأن هذا الانسداد يؤدي به إلى الجلطة، ثم قد يؤدي به إلى الوفاة، ولكن علاجه: تحويل مجرى الدم عن طريق وجود البديل، بتجاوز مكان الانسداد الشرياني، أو قطع هذا الموضع على حسب ما يراه الأطباء، وحسب ما يتيسر لهم، وهذا القطع وهذا العلاج لداء يعتبر مفضياً بالإنسان إلى الموت، فلو أنهم لم يعالجوا هذا الموضع من قلبه أو هذا الموضع من شرايينه فإنه سيموت لا محالة، فهو مقام ضرورة بإجماع العلماء، ومقام الضرورات يبيح استخدام هذا التخدير كما هو مقرر، وقد ذكر العلماء ونصوا على جوازه من حيث الأصل. الثاني: ما دون الخوف على النفس من الهلاك، فإذا كانت العملية الجراحية لمرض يخشى منه الموت، فهي عملية ضرورية؛ لأنه اتفق العلماء رحمهم الله أن الضرورة: هي الخوف على النفس من الهلاك، وهنا لو خشي على العضو أن يتلف، واحتيج إلى قطع شيء أو عمل عملية جراحية لقطع شيء، أو تدخل جراحي لعلاج انسداد في ذلك الموضع، دون أن يُخشى على الإنسان من الهلاك، ولكن عضوه سيذهب كما في جراحة العيون، ويغلب على الظن أنه سيعمى، وأنه سيفقد بصره في عملية الماء ونحو ذلك، ففي هذه الحالة لا نخاف فوات النفس، وإنما نخاف فوات الأعضاء، فألحق بعض العلماء بفوات النفس فوات الأعضاء، وجعل الخوف على فوات الأعضاء مثل أن يخاف الإنسان ذهاب على يده أو رجله أو عينه أو سمعه فهو في مقام الضرورة، ويُرخص له من المحرمات في حدود ما تحصل به الحاجة، فلا يزيد على ذلك. ولو كان لا يُخشى الموت، ولا ذهاب العضو، ولكنه يجد الألم والتعب الشديد، ولا يستطيع أن يتحمل هذا، بحيث يصل به إلى مقام الحرج، فهو لا يخاف أن يده ستقطع، ممكن أن يقطع رجله أو يده، ولكن هذا الألم يصل به إلى عناء ومشقة شديدة تصل إلى مقام الحرج، فإن وصل به الأمر إلى ذلك فهذا يسميه العلماء: بمقام الحاجيات. إذاً: ما يُخشى فيه فوات النفس مقام ضرورة، ويلحق بها الأعضاء، ومن يصل إلى درجة الحرج مثل قلع الضرس، فقلع الضرس قد يصعب به الألم، وقد لا يستطيع بعض الناس أن يتحمل قلع ضرسه، فيجد من المشقة والعناء ما الله به عليم، فيُحقن بمادة مخدرة موضعية. إذا ثبت هذا فإننا نقول بالرخصة في استخدام المخدرات في العمل الجراحي في موضعين: الضروري، والحاجي، وهذا إذا كانت العملية جائزة شرعاً. يبقى مسألة: إذا كانت العملية الجراحية تكميلية أو كانت العملية الجراحية محرمة في الأصل: فإذا كانت تكميلية فلا توجب الرخصة، مثل: عمليات التجميل التي تكون في الكماليات، والتي ليس فيها تغيير الخلقة، فإذا وصلت هذه العمليات التجميلية إلى تغيير الخلقة فهي من المحرمات، فجراحة تغيير الجنس، وجراحة تكبير الثدي وتصغيره والعبث في الخلقة، هذه كلها جراحات محرمة، وأهواء تُخالف فيها الخلقة، ويعترض فيها على خلقة الله عز وجل، فهي جراحة محرمة، ولا يجوز التخدير فيها؛ لأن التخدير لم يوجبه موجب شرعي، بل إن الفعل الذي يراد أن يتوصل به عن طريق التخدير محرم شرعاً، وعلى هذا لا يجوز تعاطي هذه المواد المخدرة في مثل هذه الأمور. فالخلاصة: أن المواد المخدرة تستثنى إذا كانت معونة على العلاج والدواء، وذلك في حال الضرورة والحاجة، ومن أمثلة الضرورة: عمليات القلب التي يخشى معها الهلاك، ومن أمثلة الحاجة: عمليات البواسير؛ لأنه تحدث الآلام، وتوصل إلى درجة الحرج، فحينئذ يكون مقامها مقام الحاجيات، وما عدا ذلك مما لا موجب لإجراء الجراحة فيه كتغيير الجنس، وعمليات التجميل التكميلية؛ فإنها لا تجوز شرعاً، ولا يجوز استخدام هذه المواد المخدرة، وتبقى على الأصل.

خلاف العلماء في التداوي بالخمر

خلاف العلماء في التداوي بالخمر مسألة: التداوي بالخمر: اختلف فيه العلماء المتقدمون رحمهم الله برحمته الواسعة.

قول جمهور العلماء

قول جمهور العلماء القول الأول: قول جمهور العلماء أنه لا يجوز التداوي بالخمر، وهذا هو أحد القولين عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله وأحد القولين عن الإمام الشافعي، وهو مذهب المالكية في المشهور، والحنابلة رحمة الله على الجميع، فعندهم لا يجوز للمسلم أن يتداوى بالخمر لا قليلاً ولا كثيراً، وأن الله عز وجل لم يجعل فيها شفاءً للأمة.

قول المخالفين للجمهور

قول المخالفين للجمهور القول الثاني: يجوز التداوي بالخمر، وهذا القول هو القول الثاني عن الإمام أبي حنيفة، والقول الثاني عن الإمام الشافعي، لكن جمهور أصحاب الإمام الشافعي اختاروا القول الأول المحرم مثل الحنابلة، واختار هذا القول الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله، الذين يقولون: يجوز التداوي بالخمر، ذكروا لذلك شروطاً: الشرط الأول: ألا يوجد بديل عن الخمر مما أحل الله، فقالوا: إن وجد بديل عن الخمر لم يجز التداوي بها، فهم يتفقون مع الجمهور أنه لوكانت الحالة التي يراد علاجها لها دواء مباح فإنه لا يجوز له أن يتداوى بالخمر، وتكون مسألة إجماعية. الشرط الثاني: أن يخبِره بالحاجة إلى الخمر، وأنها علاج ودواء لهذا الداء طبيب عدل يوثق بقوله وأمانته، وبعضهم يشترط إسلامه، فلو أخبر بذلك طبيب غير مسلم، قالوا: لا تقبل شهادته؛ لأنه متهم، والغالب أن العداوة الدينية تحمل على الاستهتار في أمور الشرع، فقالوا: لا نقبل قوله، ومن هنا كان الإمام أحمد رحمه الله يعالجه طبيب يهودي فيقبل قوله إلا في أمور تتعلق بالدين، فإذا قال له: أفطر، لا يفطر، وإذا أمره بأمر محرم أن يفعله لم يقبل قوله، حتى يرجع إلى أطباء المسلمين، فلم يكن يقبل شهادته في هذا؛ لأنه متهم في قوله وخبره. الشرط الثالث: أن يكون تعاطي الخمر في حدود الحاجة والضرورة، فلا يزاد عليها، فإن زاد عليها وقع في الحرام، فيكون تعاطيه للمادة المخدرة في حدود الحاجة والضرورة، وهذا راجع إلى القاعدة الشرعية: ما أبيح للحاجة والضرورة يقدر بقدرها. الشرط الرابع: أن يشربها بقصد الدواء والعلاج لا تلذذاً، بمعنى أنه أثناء شربه لها يعتقد تحريمها، ويكره هذا الشرب، ويحس كأنه مكره عليه تلافياً للاستباحة؛ لأن الاستباحة تكون بالباطن كما تكون بالظاهر، فهو وإن أُذن له في الظاهر، لكنه في الباطن إن مال قلبه إلى حبها فأحب شربها وتلذذ بذلك خرج عن كونه مسترخصاً، وأصبح يعصي باطناً، وإن كان قد أبيح له في الظاهر. فقالوا: يجوز التداوي بالخمر إذا تحققت هذه الشروط.

أدلة الجمهور القائلين بحرمة التداوي بالخمر

أدلة الجمهور القائلين بحرمة التداوي بالخمر واستدل أصحاب القول الأول بما ثبت في الحديث الصحيح عن وائل بن حجر رضي الله عنه وأرضاه: أن طارق بن سويد الجعفي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه عنها -كما في رواية مسلم - فقال: (يا رسول الله! إني أصنعها للدواء -يعني أصنعها دواءً وعلاجاً- فقال صلى الله عليه وسلم: إنها ليست بدواء، ولكنها داء) وجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن الخمر ليست بدواء، وهذا خبر مبني على الوحي الذي لا يمكن أن يأتيه الخطأ، وحكم عليه الصلاة والسلام بالوحي من السماء أنها داء، وأنه لا دواء فيها ولا علاج. ومن هنا: فدعواهم أنها دواء ليست بمسلمة، هذا الدليل الأول. الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها فرأى الجرة، وإذا بالخمر تفور منها حتى خرجت منها، فقال: (ما هذا؟! فقالت: يا رسول الله! إن فلانة تشتكي بطنها، وقد نقعت لها) -يعني: نبذت لها النبيذ- من أجل أن أعالجها بهذه الخمرة. (فضرب عليه الصلاة والسلام الجرة برجله حتى انكسرت) -أي: حتى انسكب منها الخمر- ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لم يجعل فيما حرم عليكم شفاءً) قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة في شيء حرمه عليها، والخمر مما حرم الله، وهذا الحديث نص في المسألة؛ لأنه لا يمكن أن يكون منه عليه الصلاة والسلام ذلك إلا وقد أطلعه الله عز وجل على أنه لا خير في الخمر، ولا دواء ولا علاج، فأكد هذا معنى الحديث الأول، والحديث رواه: أبو داود، وأحمد في مسنده، وكذلك رواه أبو يعلى في مسنده أيضاً، قالوا: هذا كله يؤكد أن الخمر داء، وليست بدواء. الدليل الثالث من النقل: استدلوا بالأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وقد ذكره الإمام البخاري تعليقاً في صحيحه، ووصله ابن أبي شيبة في مصنفه بسند حسن، وقال الحافظ ابن حجر: إنه على شرط الشيخين، وفيه: (إن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها) قالوا: إنه أكد الأثر السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود من أعلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أئمة الفتوى، فبين أن الله عز وجل لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها. وهذا الأثر الصحيح موقوف لفظاً مرفوع حكماً؛ لأنه يقول: (إن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها) فمثل هذا لا يقال بالرأي، حيث يجزم ويخبر عن الله أنه لم يجعل الشفاء فيما حرم، فهو: موقوف لفظاً، مرفوع حكماً، قالوا: إن هذا يؤكد ما ورد في السنة، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم يجعل شفاء ... ) خبر عن الله عز وجل أنه رفع الدواء عن الخمر، ولم يجعل شفاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم في المحرمات، ووجه الدلالة من النص تارة فيكون أعم بحيث يشمل موضع النزاع، يكون موضع النزاع سبباً في ورود النص فيشمله ويشمل غيره، فحديث: (إنها ليست بدواء، ولكنها داء) خاص بالخمر، فهو خاص بمسألتنا، لكن هذا الحديث الثاني مع الأثر يدل على أن الله عز وجل لم يجعل لهذه الأمة شفاءً فيما حرم؛ فهو أعم، ويشمل مسألة النزاع-وهي التداوي بالخمر- ومسألة التداوي بأي محرم كان، وأنه لا شفاء في المحرمات، مثل: التداوي بالسموم والنجاسات، وكل هذا يكون الأصل فيه التحريم والمنع لهذا النص، وبين أن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة في هذه الأمور المحرمة التي ثبت النص بتحريمها. كذلك أكدوا دليل النقل بدليل العقل، فقالوا: أولاً: إن تحريم الخمر قطعي؛ لأنه ثبت بنص في كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لا احتمال فيه، وكون الخمر دواءً ظني موهوم مشكوك فيه، يعني: يتوهمون أنها دواء مع أن السنة تنفي هذا، فيقولون: هو ظني متوهم، بل لو قلت: ما هو موجود أصلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليست بدواء)؛ لصح الكلام، لكن نقول: إنه متوهم، نعطيه ولو (1%) تنزلاً مع الخصم! وليس إثباتاً للحكم؛ لأننا نصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نصدق غيره ممن يخالفه، فلو قلنا: إنه موجود على ما ذكروه فهو وهم، وهذا أضعف درجات العلم، والقاعدة أنه: (لا يجوز ترك القطع لوهم وشك) لأنه يجب البقاء على اليقين، وعلى القطع. ثانياً: أن الخمر فيها مفاسد، ويترتب على استعمالها ضرر عظيم، فوجدنا أن ضرر الخمر أعظم من ضرر الداء الموجود؛ لأنها لا تقتصر على الإضرار بالبطن والأجهزة المتعلقة بالهضم، بل إنها تضر أجهزة الهضم والقلب، وتضر أجهزة الأعصاب، فضررها جسدي وروحي، فلو جئت إلى الضرر الموجود في الداء وحده، وعادلته بالضرر المترتب على تعاطي الخمور لوجدت أن الضرر المترتب على تعاطي الخمور أعظم من الضرر الموجود في بعض الأمراض، والقاعدة الشرعية أنه إذا تعارضت مفسدتان إحداهما أعظم من الأخرى فإننا لا نرتكب الكبرى، ويجب الصبر على الصغرى دفعاً لضرر الكبرى، ولا يجوز استباح المفسدة الكبرى، دفعاً للمفسدة الصغرى. فنحن نقول: إن الأطباء اتفقوا على أضرار الخمور والمسكرات، وأن لها تبعات على الجسد وعلى الروح، سواء التي يعالج بها للبطن أو التي يعالج بها لبعض الآفات، فنجد أن المضاعفات المترتبة على شرب الخمور أعظم من هذا الداء الذي يُعالج، فنتنزل معهم كمسلك جدل، فنقول: هب أن فيها دواء وعلاجاً فرضاً مع أننا لا نقول بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الدواء ليس بموجود فيها، ولكن هذا يسمى بالتنزل مع الخصم، فلو فرضنا وسلمنا-جدلاً- أن ما قاله صحيح، فنقول: الداء والضرر المترتب على استعمالها أعظم من الداء الذي يعالج، والقاعدة: أنه يرتكب أخف الضررين، وأنه إذا تعارض الشران وجب ارتكاب الأخف دفعاً للأعظم، ومن هنا نقول بتحريم التداوي بها دفعاً لما هو أعظم، ولا نجيز ذلك حتى لا يقع الأكبر من المفاسد. لماذا يذكر العلماء أدلة العقل مع النقل؟ قد نبهنا على هذا، فإن بعض الإخوة يستشكل هذا ويقول: لسنا بحاجة إلى الأدلة العقلية مع النقلية! -الواقع أن الأدلة العقلية يذكرها العلماء- لأنه ربما كان اختلاف في ثبوت الدليل النقلي فيُحتاج إلى الدليل العقلي. كذلك ربما جادلك من لا يؤمن بالشرع-والعياذ بالله- ولا يقبل دليل الكتاب والسنة، فأنت إذا تحصنت بالأدلة العقلية كان هذا أبلغ في دمغه، ورد كذبه أو زيفه، وكشف عواره؛ لأنه يكون عندك شيء يسلم به، فتقول له: إن هذا كما دل عليه النقل، كذلك دل عليه العقل، فهم يذكرون مثل هذه الحجج تأكيداً كما ذكرنا، وإلا فالأصل من لم يستغن بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فلا أغناه الله، ومن لم يحتج بهما فلا خير فيه. ذكر بعض العلماء دليلاً ثالثاً عقلياً أشار إليه الإمام ابن القيم رحمه الله، وكان من أعلم الناس بالطب، فقال: (إن النفوس لا ينفع الدواء فيها إلا إذا أحبته وقبلته، وارتاحت إليه) يعني: الدواء ما يعظم أثره ولا وقعه على المريض إلا إذا كان هناك استجابة، وهذا أمر مقرر عند الأطباء، فالارتياح للدواء، والاعتقاد أنه قد وضعه الله عز وجل علاجاً لهذا الداء يساعد كثيراً على استجابة البدن، وحصول المصالح، واندراء المفاسد، والواقع في الخمر: أن نفوس المسلمين مشمئزة منها، كارهة لها، وأنتم تشترطون - يا أصحاب القول الثاني- أن يكون في قرارة قلبه كارهاً لها، فمعنى هذا: أنه ليس هناك استجابة وتوافق من المريض مع العلاج. وهذا من أجمل ما ذكره رحمه الله في الزاد، زأكد به ما بيناه من القول بالتحريم.

أدلة القائلين بجواز التداوي بالخمر

أدلة القائلين بجواز التداوي بالخمر أما الذين قالوا بالجواز فقالوا: إننا نحتج بعدة أدلة: الدليل الأول: من الكتاب، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] قالوا: إنه إذا وجد الداء، أو المرض ولا يمكن علاجه إلا بالخمر فنحن مضطرون إلى الخمر، مدفوعون إليها بغير اختيار، ومأمورون أن نعالج أبداننا، كما في حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه وأرضاه: أن الأعراب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هاهنا، وهاهنا، وقالوا: (يارسول الله! أنتداوى؟ قال: تداووا عباد الله!) قالوا: نحن مأمورون بعلاج البدن، فإذا كنا مأمورين بعلاج البدن، وثبت أنه ما يوجد إلا هذا العلاج والدواء -وهو الخمر- فإننا مضطرون إليه، ومدفوعون إليه بغير اختيار، والله يقول: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) أي: بين لكم ما حرم، ثم قال: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} فنحن حينما اضطررنا إلى هذه الخمر انتقلت من كونها حراماً إلى كونها حلالاً. الدليل الثاني: من السنة، ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه أناس من عكل أو عرينة، فاجتووا المدينة -أي: أصابهم الجوى وهو: نوع من المرض الذي يصيب البدن لاختلاف الطعام، واختلاف البيئة- فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحّوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل) الحديث. وجه الدلالة من هذا الحديث: إن أبوال الإبل نجسة على مذهبهم، فهم يرون أن أبوال الإبل نجسة، كما هو مذهب الشافعية وطائفة، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم أن يشربوا الأبوال النجسة لوجود الضرورة وهي: العلاج، فمن هنا: يجوز شرب الخمر النجسة للضرورة والعلاج، كما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتداوي بأبوال الإبل؛ لأنها كانت علاج الداء والمرض، فيجوز شرب الخمر ولو كانت نجسة محرمة. كذلك أيضاً استدلوا بالعقل، فقالوا: يجوز شرب الخمر دواءً كما يجوز أكل الميتة عند الاضطرار؛ بجامع وجود الحاجة في كلٍ، قالوا: أليست الميتة حراماً؟ قلنا: بلى. قالوا: لو أن إنساناً اضطر إليها ألا يأكلها؟ قلنا: بلى. قالوا: فالخمر حرام شربها، فإذا اضطر إليها جاز له شربها كما جاز للمضطر أن يأكل الميتة بجامع وجود الضرورة، والحاجة في كلٍ منهما. هذا بالنسبة للأدلة التي ذكروها لجواز شرب الخمر للتداوي، والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بتحريم التداوي بالخمور والمسكرات، والمخدرات أيضاً في حكمها، وذلك لما يأتي: أولاً: لصحة دلالة العقل والنقل على ماذكره أصحاب هذا القول. ثانياً: لا يصح استدلالهم بقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، ونقول: إن دعواكم وجود الضرورة إلى الخمر مردودة؛ لأن الأطباء لم يثبتوا كونها دواءً، وجاء الشرع أيضاً مثبتاً لهذه الحقيقة، ونقول: أنت تقول: إنك مضطر إلى الخمر لأنها دواء، لكن لا نسلم لك أن الخمر دواء، فأنت تضطر إلى شيء ليس بدواء! فإذا كان ليس بدواء فلست بمضطر؛ لأن الذي ألجأك واضطرك كونها دواءً، وقد ثبت بالشرع والدليل الصحيح الذي لا يمكن أن يكذبه أحد أنها داء، وليست بدواء، فكيف تقول إنك مضطر إليها؟! إنما تكون مضطراً إذا كان فيها دواء، ولكن الواقع أنه ليس فيها دواء، وذلك بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأطباء أكدوا هذا في العصر الحديث أنه ليس فيها علاج للأسقام والعلل، بل تزيد الجسد سقماً وبلاءً وضرراً إلى ما يعانيه ويجده. إذاً: استدلالهم بقوله: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} غير مسلم، ولا يشمل هذه الحالة؛ لأن الشرع نفى الضرورة فيها. ثالثاً: استدلالهم بحديث العرنيين، الجواب عنه من وجهين: الوجه الأول: نقول: يحتمل أن هذا قبل إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله لم يجعل شفاء أمته فيما حرم عليها، لأنك ما تستطيع أن تجعل حديث العرنيين متأخراً عن هذا الحديث؛ ليكون أشبه بالناسخ، والقاعدة: أن الأخبار لا يدخلها النسخ، فهي أخبار متعلقة بالأمر الواقع: (إن الله لم يجعل)، فلا يصح أن يقول: الله جعل، وما يمكن هذا! هذا تناقض ولغو ينزه عنه الشرع، لكن على تسليم ما ذكروه، نقول: حديث العرنيين يحتمل أنه سبق حديث تحريم الخمر، وكانت رخصة أن يتداووا بهذه الأشياء، ثم سلبت المنافع من المحرمات والنجاسات، والخمر منها، وبقيت حراماً وداءً إلى يوم القيامة. الوجه الثاني وهو أقوى: نقول: لا نسلم أن بول الإبل نجس؛ وذلك أن بول الإبل ثبت ما يدل على طهارته؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على بعيره، وطاف على بعيره صلوات الله وسلامه عليه، ولو كان بوله نجساً لما لامس النجاسة عليه الصلاة والسلام، ولما صلى على الموضع النجس، فعن ابن عمر في الصحيحين: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على بعيره إلا المكتوبة) فلو كان نجساً لم يصل عليه عليه الصلاة والسلام، والأشبه أن بول البعير وروثه طاهر، وسنقرر إن شاء الله في كتاب الأطعمة أن بول وروث ما يؤكل لحمه طاهر، ويؤكد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز الصلاة في مرابض الغنم، ولم يجزها في معاطن الإبل، وعلل ذلك بالشياطين، ولم يعلله بالنجاسة، وهذا يؤكد أنها طاهرة، وليست بنجسة. إذا ثبت هذا؛ فإنه يسقط استدلالهم بالآية والحديث، ويبقى قولهم: إنه يجوز شرب الخمر كما يجوز أكل الميتة عند الضرورة، نقول لهم: إن أكل الميتة عند الضرورة حينما تصيب الإنسان المخمصة، معناه أنه سيموت، فلو لم يأكل الميتة فإنه سيموت قطعاً، فيباح له أكل الميتة، أرأيتم لو أكل إنسان جائع مشرف على الموت من الشاة الميتة ألا يحفظه ذلك بإذن الله من الموت؟ قطعاً إنه سيكون سالماً من الضرر، ومن الموت والهلاك، وهل المصلحة في أكل الميتة عند الضرورة مشكوك فيها أو مقطوع بها؟ مقطوع بها، فإذا أكل من الميتة عند الضرورة نجا، ويشهد الحس بأنه ينجو، ومن هنا فرق العلماء بين ترك التداوي وبين ترك الميتة، قالوا: لأنه إذا ترك التداوي ترك شيئاً يحتمل أن ينجح فيصيب الداء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فإذا أصاب الدواء الداء برئ بإذن الله)، فيحتمل أن يصيب الداء، ويحتمل ألا يصيبه، فنقول: التداوي محتمل، ولكنه وجدت أدلة على أنه يصيب في غالب الأمر، والواقع هنا أنه شهد الحس، وشهد الأطباء، وشهد أهل الخبرة، أن الخمر لا يصيب الداء، وإنما يزيد الداء والبلاء، ومن هنا نقول: فرق بين الأمرين: فالأمر الأول: يحقق مصلحة، ويدرأ مفسدة أعظم، والأمر الثاني: يحقق مفسدة، ويحدث مفسدة أعظم، وعلى هذا نقول: لا يستقيم الاستدلال من هذه الوجوه، والذي يترجح: أنه لا يتداوى بالخمور، ولا يتداوى بالمخدرات؛ لأن الأدلة دلت على عدم جواز ذلك.

لا يجوز شرب الخمر عند العطش

لا يجوز شرب الخمر عند العطش قال المصنف رحمه الله: [ولا عطش]. صورة المسألة: أن يكون الإنسان عاطشاً ولا يجد ماءً أو مائعاً يذهب به العطش من المباحات، نسأل الله بعزته وجلاله ألا يبتلينا بذلك، فيصيبه العطش الشديد الذي يخاف معه الهلاك، هذه صورة، أو يصيبه العطش الشديد الموجب للحرج، فالعلماء والأئمة-رحمهم الله- اختلفوا: هل يجوز شرب الخمر عند العطش الشديد؟ ذهب جمهور العلماء إلى عدم جواز شرب الخمر عند العطش، وهذا مذهب الجمهور، وبعضهم ينسبه إلى عامة العلماء، والواقع أن فيه خلافاً، فقد ذهب بعض العلماء إلى جواز إطفاء العطش بالخمر، كما هو منصوص عليه في مذهب الحنفية رحمهم الله، إذا وصل إلى مقام الحرج. وذهبت طائفة ثالثة إلى التفصيل، وقالوا: إذا كانت الخمرة مستهلكة بشيء يمكن أن يحصل به انطفاء حرارة العطش، ويحصل بها المقصود فبها ونعمت، وإلا فلا، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وطائفة من أهل العلم من أصحاب الشافعي، وغيرهم رحمة الله عليهم. أصحاب القول الأول يقولون: لا يجوز أن يطفئ العطش بالخمر؛ لأن الخمر تزيد الإنسان عطشاً إلى عطشه، فمادتها -بشهادة الأطباء- حارة، قالوا: لذلك لا يشرب أحد الخمر إلا وعنده ما يطفئ حرارتها، والغالب فيهم أن يضعوا فيها المبردات، أو يضعون بجوارها ما يبرد، فهذا يدل على أن ما يذكرونه من كونها تطفئ العطش ليست مصلحة موجودة في الخمر، فإذا شككنا في وجودها فإننا لا نستطيع أن نستبيح المحرم الواضح لمصلحة محتملة، وهناك فرق بين التداوي وبين مسألة العطش. قال أصحاب القول الثاني: يجوز إطفاء العطش بالخمر، وذلك لأنه في مقام الحرج، فإذا شرب الخمر أطفأ عطشه، وهذا يدفع عنه الحرج، ولربما يكون يخشى الموت، فإذا شرب ذهب عطشه. وفي الحقيقة: مذهب التفصيل هو أعدل الأقوال في المسألة، وكما ذكره شيخ الإسلام، ويشترط أولاً أن يغلب على ظنه أنه إن لم يشربها سيهلك، ويصل إلى درجة الخوف من الهلاك، ولا يجوز له شربها لمجرد العطش الذي لا يخاف معه الهلاك. ويشترط ثانياً: أن يغلب على ظنه أنه لو شربها أنها تطفئ عطشه، كما لو كان معها مادة مستهلكة فيها، أو عنده خبرة -كما يقع لبعض حديثي العهد بالجاهلية- أن هذا النوع يطفئ عطشه، فحدثت له هذه الحادثة، واضطر إلى شربها على هذا الوجه؛ فيرُخص له، وهذا هو القول الأعدل والأقرب إلى الصواب إن شاء الله في هذه المسألة. قال المصنف رحمه الله: [ولا غيره] يعني: غير العطش من الأمور الأخرى التي يُتذرع بها، كما يفعله البعض من الدلك بها، فيأخذ مادة الكحول ويدلك بها اليد، أو للتعقيم من الجراثيم، أو زيادة النضرة والجمال، وأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى خالد: (بلغني أنك تدلك بالخمر، وإن الله حرم الخمر ظاهراً وباطناً، فإياك! أن تفعل ذلك فإنها نجسة) وهذا يؤكد أنه لا يجوز تعاطيها في هذه الأمور ولا في غيرها؛ ولذلك عمم المصنف رحمه الله الحكم كما هو ظاهر العبارة.

الأسئلة

الأسئلة

سلبت منافع الخمر عندما حرمت

سلبت منافع الخمر عندما حرمت Q في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219] وقد أثبت الطب الحديث أنه ليس في الخمر علاج، وهذا مشكل، فما هي المنافع التي فيها؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فكون الطب الحديث الآن يثبت أنه ليس فيها منافع، لا يعارض أن يكون فيها منافع في مرحلة من مراحل التشريع؛ وقد جاء في رواية صحيحة -صححها غير واحد من العلماء- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لما حرم الخمر سلبها المنافع)، فالذي يبحثه الأطباء الآن هو بعد سلبها المنافع، أما في القديم، في المرحلة الثانية من تحريم الخمر، وهي مرحلة التنفير، قال الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219]، وهذا قبل التحريم، وبعد أن حرمت سلبت المنافع، وحينئذ لا إشكال؛ لأن محل الإشكال: لو كانت المنافع موجودة، والآية تتكلم بعد التحريم، فيصبح هناك تناقض بين نفي المنافع وإثباتها، والواقع أن نفي المنافع جاء بعد التحريم، والآية تتحدث عما قبل التحريم، وعلى هذا لا إشكال ولا تعارض؛ لأن القاعدة عند العلماء: إذا اختلف الموردان فلا يُحكم بالتعارض، والله تعالى أعلم.

الحذر من خطر دعوى التدرج في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى

الحذر من خطر دعوى التدرج في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى Q تدرج الله سبحانه وتعالى في تحريم الخمر، هل فيه دليل على أننا نتدرج أيضاً في نصيحة الناس في أي معصية من المعاصي؟ A هذه المسألة ينبغي الحذر كل الحذر منها، وأحب أن أنبه إخواني جميعاً أن يتقوا الله عز وجل في الدعوة إلى الله، وأن يعلموا أن أمور الدعوة ينبغي أن يُنتهج فيها المنهج الذي بينه الله في كتابه، وبينه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في سنته، ولا أحسن ولا أجمل ولا أكمل ولا أعلم ولا أحكم من هذا الشرع والطريق والسبيل، قال تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام:57]، والبينة: الأمر الواضح الذي لا اختلاج فيه ولا خلل، لكن بينة مِنْ مَن؟ من ربه، وبين الله تعالى أنه على هدى، وأنه على صراط مستقيم، وأنه يدعو إلى هذا الهدى، وإلى الصراط المستقيم، إذا ثبت هذا؛ فلا يجوز لمسلم أن يدخل يجتهد في مجالات الدعوة برأيه، ويتحكم في الأمور بهواه، دون أن يكون قد ورث عن أهل العلم العلم الشرعي والبصيرة، عليه أن يتقي الله عز وجل، وألا يغش أمة محمد صلى الله عليه وسلم. والأصل الشرعي يقتضي أننا إذا نزل النص بتحريم أمر أن نبلغ الناس أنه حرام، فلو أنه دخل على رجل يشرب الدخان، لا يأتي ويقول له: والله! الدخان ما هو طيب، لكي يقول له بعد ذلك: الدخان حرام، فيقول له في اليوم الأول: الدخان ما هو طيب، أو يقول له: إن الأطباء يقولون: إن الدخان فيه أضرار، فيبدأ يقنعه عقلياً، ثم يقنعه نقلياً، افعل ذلك إذا ظننت أنك تبقى إلى غد، أو يبقى هذا الشخص إلى غد، فلو مات ولم تقم حجة الله عليه، وكان بإمكانك أن تقول له الحق، فستلقى الله عز وجل به، ولذلك لا يجوز تأخير الحجج والبراهين والإعذار إلى الله عز وجل في خلقه، ومن أغرب ما ترى! التساهل في إقامة الحجج، أما من يسير على المنهج السوي، يأتي إلى الشخص ويقول له: يا أخي! دل الدليل من كتاب الله عز وجل، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على أن هذا الخمر حرام، فاتق الله عز وجل، ودع ما حرم الله يغنك الله، ويكفك بحلاله عن حرامه، يا هذا! اتق الله في نفسك، واتق الله في مالك، واتق الله عز وجل في حدود الله التي أمرك الله باجتنابها، فيعطيه الأمر واضحاً. فإذا نظرت: وجدت الداعية الذي يسير على هذه الأمور الواضحة مباركاً له في دعوته، ومن يلتزم بسببه يلتزم بقوة، ويلتزم باستجابة للحق، بخلاف الذي يرقع له، ويحاول أن يلطِّف يلطف يلطف حتى إنه لربما جاءت عزائم الإسلام فنكص على عقبيه والعياذ بالله! فهو يلتزم بين بين! إن نظر إلى مجلس فيه ضحك ولهو، وأُخذت أمورالدعوة بإضحاك الناس واللهو معهم؛ استقام على دين الله، فإن خرج إلى مجلس فيه جد، وفيه أحكام الشريعة، وفيه سنن الهدى التي تستنير بها البصائر ضعفت نفسه، ولربما قال كلمة يزل بها إلى لقاء الله عز وجل، فيقول مثلاً: هذا تعقيد! وتجد بعضهم يستحدث في الدعوة أموراً غير شرعية، ويقول: لا تدع الناس مباشرة! بل إن بعضهم-والعياذ بالله- يأخذ آلات اللهو ويضربها لمن يدعوهم حتى يجذبهم إلى الإسلام! إنا لله وإنا إليه راجعون، من الذي قال لك: إن هذا الحرام قد صار حلالاً لك؟! ومن الذي فتح لك أبواب المحرمات تستبيحها في سمتك ودلك وتستخف بدين الله عز وجل هذا الاستخفاف؟! من الذي قال لك: إن هذا الدين ضحك ولهو؟ هذا يماثل قلوب الذين: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة:67]، والهزو: الضحك، {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67]، فموسى نبي من أنبياء الله برأ رسالته التي بعث بها أن تكون بطريق الجهل، فالدين علم وبصيرة، كما قال الله: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] أي: بعزيمة، وصبر، وتحمل، ومناهج واضحة، وحجج بينة، هذا ربك، وهذا دينك، وهذا نبيك، توصيه بطاعة الله عز وجل وتقواه، وتقرعه بقوارع التنزيل إن كان مثله يقرع، أو تأخذه بمحاسن الإسلام ترغيباً، ولك في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم من الحجج الواضحة البينة ما ترق به القلوب، فليس الإسلام بهذه التأويلات وهذه التعسفات، ولا تجد هذه التأويلات عند أهل العلم والبصيرة، ولذلك تجد أهل العلم الذين عرفوا كتاب الله، وعلموا حلاله وحرامه، الراسخون في العلم؛ لا يدعون الناس بمثل هذه التهكمات، وبمثل هذه الاجتهادات، هذه تجدها عند أناس مفلوتين لا زمام لهم ولا بصيرة، تجدهم الواحد منهم يختلق في دين الله وفي دعوته ومنهجه فكراً جديداً؛ لكي يضيفه لنا، وكأن الشريعة ناقصة! الشريعة منهج واضح، ليس فيها اجتهاد ولا تأويل، فيما لا اجتهاد فيه ولا تأويل، فطرق الدعوة واضحة، ومناهج الدعوة واضحة، ومن هنا يقول الله عز وجل: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:13 - 14]، أسلوب التوكيد: (إنه) أي: إنه شرع الله الذي في القرآن، الذي هو الفصل والأساس، فالتدرج عطفاً على الناس، واستخدام الأساليب المضحكة والملهية لتأليف الناس، هذه أمور خلاف المنهج والسنن، وينبغي للإنسان أن يرتبط بمنهج الكتاب والسنة، وأن يصحح مساره، وأن يعرف كيف يدعو! وما هو الأصل! وقد عايشنا العلماء، وجالسنا أئمة من أهل الفضل، ممن فسر كتاب الله عز وجل عشرات السنين، وممن فسر السنة عشرات السنين، فيأتيهم من هو أشقى الناس، ونعرف أن من دخل عليهم من أفسق الناس فجوراً وانتهاكاً لحدود الله عز وجل، وقد كان بالإمكان أن يضحك معه أو يلهو معه، فإذا به يقف معه الموقف الواضح البين، ويقول له: هذا دين الله وشرعه. سبحان الله! حينما أدعو الناس بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فأقرأ عليهم كتاب الله، وأذكرهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وما استجابوا، وقامت عليهم الحجة، هل معنى ذلك أن الكتاب والسنة نفرة؟ لا أبداً، الخلل ليس في كتاب الله، ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، إنما في النفوس والقلوب، فهي التي تستجيب، فإن وعت وأراد الله هدايتها فالحمد لله، وقد كان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أصدق الناس مقالاً، وأوضحهم منهجاً واعتدالاً، وعلماً بالحكمة ومواضعها، ومع ذلك قال بقول الله عز وجل، وبلغ عن الله صلوات الله وسلامه عليه، ولم يأخذ الناس بالسخرية، ولا باللهو والضحك. ذُكر عن بعض هؤلاء أنه في محاضراته -والناس يحضرون من أجل أن يسمعوا منه- يمثل للمرأة: كيف تتدلل! وكيف تضحك! من أجل أن يضحك الناس! هذا انحطاط وحط لقدر الشريعة، الشريعة لها مكانة وقدر، على الإنسان أن يستبين منهج الله عز وجل، لا يقول لك شخص: قم وادع بما فتح الله عليك! فتأتي بالطوام، وبالأمور الغريبة العجيبة التي تصطدم مع الشرع تماماً. حدث لبعض هؤلاء موقفاً: استدعاه بعض مشايخنا رحمة الله عليه؛ لأنه جاء وأضحك الناس في زواج، فقال كلاماً من أجل إضحاكهم، فقال: مو يهديني! ثم استدعاه شيخنا رحمه الله وهو الوالد، وقال له: يا فلان! هل حضرت زواج فلان؟ قال: نعم، قال: هل قلت: كذا وكذا؟ قال: يا شيخ! قلت ذلك، والحمد لله، نفع الله بذلك القول، وما أريد إلا الخير، قال: أوكل مبتغ للخير مصيب له؟! يا هذا! اتق الله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم! تأتي على مرأى ومسمع من الناس لتضحكهم، وتستخف بدين الله عز وجل؛ لأنه قال كلمة عجيبة، وقال كلمة غريبة ينزه الشرع عنها، ثم قال له: أتعرف أن هذه الكلمة بعض العلماء يراها كفراً واستهزاءً بالدين؟! قال: أعوذ بالله! ما كنت أظن هذا، قال: إذن أنصحك أن تجثو على ركبتيك في مجالس العلماء؛ حتى تتأهل للعلم، والدعوة والبصيرة. وانظر إلى العلماء كيف يدعون الناس! وكيف يغضبون في مواطن من حقهم فيها أن يغضبوا! وكيف يأخذون الناس بالتي هي أحسن في مواطن يحسن فيها أخذهم بالرفق! إذاً لا بد أن نرجع إلى كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولذلك قلّ أن تجد مناهج تخرج عن هذا الأساس، ويوضع فيها البركة، ولا يمكن أن تستقيم أمور العبد بغير كتاب الله عز وجل، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153]،هذه الوصية كان ابن مسعود يقول: (من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ. } [الأنعام:151]، وآخر هذه الوصية وكلها مسك: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي) صراط الله، ما هو صراط الله؟ قيل: هو القرآن، فمن دعى بعلم بالقرآن وبصيرة بالقرآن فإن الله يبارك دعوته، ويبارك قوله وعمله، حتى لو لم يستجب لدعوته إلا عشرة؛ فإنهم خير من ملء الأرض ممن يستقيم على الترهات والضحك، والاستخفاف والعبث، ولذلك كم وجدنا، وكم سمعنا من أخبار عجيبة ممن يختلق هذه الأمور في الدعوة! فيتدرج في أمور الحكم فيها واضح، ويأتي يريد أن يختلق للناس تدرجاً في الأحكام! كم سمعنا من محق للبركة في دعوتهم! وكم وجدنا من الآثار التي لا يحمد عقباها لمن دعوهم! لأن الله يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]، قال بعض العلماء: إني لأعرف من عبث مع البعض فأدخله باللهو والضحك، حتى جلس عشر سنوات على التزام، فجاءته مصيبة فانتكس فمات شر ميتة-والعياذ بالله-، فهو يلتزم على أشياء محدودة، ومن العجيب أنك تسمع بعضهم يقول: إذا أردت أن ترى الداعية الحق فاذهب إلى فلان، فهؤلاء هم الذين يعرفون كيف يدعون! وهؤلاء هم الذين يعرفون كيف يؤثرون! إن الذي يعلم التأثير، ويعلم مواطن التأثير هو الله وحده المطلع على السرائر والضمائر، وهو سبحانه الذي يضع البركة لمن ابتع كتابه، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وليس هذا أو ذاك، الله وحده هو المطلع على السرائر والضمائر، والمطلع على عواقب هذا الوحي، وآ

حكم من فاتته ركعة رابعة ثم صلاها مع إمام زاد خامسة سهوا

حكم من فاتته ركعة رابعة ثم صلاها مع إمام زاد خامسة سهواً Q رجل فاتته ركعة في صلاة الظهر، والإمام أتى بركعة خامسة، فهل تجزئ؟ A إذا قام الإمام إلى الركعة الخامسة فإن المأمومين على قسمين: من كانت صلاته أربعاً، وحضر الصلاة تامة فلا يجوز له أن يتابع الإمام، بل يبقى، ويطيل التشهد والدعاء حتى يتم الإمام الخامسة؛ لأنه معذور في ظنه، وله أن يتعبد الله بما يظن، وأنت لست معذوراً في متابعته على الخطأ؛ لأنك مأمور باتباع الإمام فيما شرع، لا فيما لم يشرع، ومن هنا تطيل التشهد كما أطال الصحابة رضوان الله عليهم التشهد وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، فتثبت وتطيل التشهد، فإذا نبه ورجع إلى المصيبين الذين يعرفون الزيادة، وعلم أنه زاد، فرجع؛ فلا إشكال، فيسلم بالجميع، ويسجد للزيادة وتسجد معه؛ لأنك تبع للإمام في خطئه وصوابه. وأما إذا أصر على موقفه، وأتم الركعة، فله عذر، وصلاته صحيحة، وصلاتك أنت صحيحة؛ لأنها تمت لك أربع ركعات. القسم الثاني من المأمومين: الذين ورد السؤال عنهم: من جاء متأخراً، فقام الإمام لخامسة، سواءً علم أو لم يعلم أنها خامسة، فيتابع الإمام، والسبب في هذا: أنه مأمور باتباع هذا الإمام، وصلاته ناقصة، فالإمام قائم لركعة نافلة -وهي الخامسة- لعذر، فحينئذ لا وجه أن ينفصل عنه؛ لأن صلاته لم تتم، فيتابعه في هذه الركعة، ويسلم معه، وصلاته صحيحة، ولو فاتتك ركعتان، فقام الإمام إلى ركعة زائدة قضيت معه ركعة واحدة، وهذا مبني على اقتداء المفترض بالمتنفل، والأدلة دالة على جواز ذلك، كما في قضية صلاة الخوف، والله تعالى أعلم.

إذا لم يأت الخطيب يوم الجمعة

إذا لم يأتِ الخطيب يوم الجمعة Q جماعة مسجد غاب عنهم خطيبهم يوم الجمعة، فصلوا ذلك اليوم ظهراً بلا خطبة، بحجة عدم وجود من هو أهل للخطابة، هل فعلهم هذا صحيح؟ وإن لم يكن فماذا يلزمهم؟ A لا شك أنه ينبغي عدم الاستعجال، المشكلة هنا في الاستعجال، فالمؤذن بمجرد ألا يجد الإمام يخاف الإحراج، فيقول مباشرة: يا جماعة! سنصلي الظهر، ثم يصلي بهم ظهراً، فالمنبغي أن يسألهم، ويقول: هل فيكم أحد من طلبة العلم ممن يستطيع أن يصلي بنا الجمعة؟ حتى يعذر إلى الله عز وجل، فإن وجد أحداً بهذه الصفة مكنه أن يقوم ويخطب بالناس، ويؤدي لهم صلاتهم؛ لأن الأصل: أنه يجب عليهم أن يصلوا الجمعة، وأما إذا لم يوجد فحينئذ ينظر: فإن وجدت مساجد أخرى فيها الجمعة، فإنه يجب عليهم أن يخرجوا من هذا المسجد ويدركوا الجمعة في المساجد الأخرى؛ لأن الله فرض عليهم جمعة، ولم يفرض عليهم ظهراً، ولا يستقيم أن يصلوا ظهراً والمساجد الأخرى فيها جمعة، وعلى هذا ينبغي تنبيه الناس لهذا لأمر؛ أنهم لا يصلون ظهراً مع إمكان أداء الفرض-أعني الجمعة- للحاضر المقيم. أما لو تعذر، ما في في القرية إلا هذا المسجد، وليس هناك إلا إمام واحد، وليس هناك أحد يستطيع أن يخطب، وهذه مصيبة، المؤذن لو وقف وقام وقال: أيها الناس! اتقوا الله ربكم، وذكرهم بآية من كتاب الله، أو بحديث من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو حتى قال: أيها الناس! اتقوا ربكم، أمامكم الجنة! أمامكم النار! رغب ورهب، فجمعتهم صحيحة، حتى: لو خطب عشر دقائق، أو حتى سبع دقائق، أو حتى خمس دقائق، حتى لو قال: أيها الناس! اتقوا ربكم، واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، اتقوا الله في أنفسكم، في أهليكم، في أولادكم، ولو قالها من قلبه لربما كانت مغنية عن عشرات الخطب، وخير الكلام ما قل ودل، فهذا لا يؤثر في صحة الجمعة، ثم جلس، ثم قام مرة ثانية: يحمد الله، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أيها الناس! أذكركم ما ذكرتكم في الخطبة الأولى، ما يضر، هي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حولها ندندن) أي: الجنة التي نرجو من الله تعالى أن يجعلنا من أهلها، والنار التي نرجو من الله عز وجل أن ينجينا وإياكم منها، هي كلها ندور حولها، والنبي صلى الله عليه وسلم كانت صلاته أطول من خطبته، وهذا من مئنة فقه الرجل، وصلاته يقرأ فيها بسبح والغاشية، وسبح والغاشية مقدارها صفحتان، يعني: ورقة واحدة، والأئمة الآن يأتي الواحد منهم ومعه درزن من الأوراق، يريد ألا ينفض الناس إلا وقد علموا تفاصيل الشريعة من أول الإسلام إلى آخره، خير الكلام ما قل ودل، فإنه قد يقوم الرجل العامي الغيور، ويتكلم على أمر من الأمور التي يعلم حكم الله عز وجل فيه، أو يرى الناس تقصر فيه، فيقف ويقول: يا ناس! اتقوا ربكم، بأسلوب عامي، لكنها تقع في القلوب، ويقوم البلغاء والفصحاء والمتكلمون، وإن شئت قلت: الثرثارون، ولا يغني ذلك شيئاً، ويخرج الناس كما دخلوا! إذاً: قد يعظ الإنسان بالكلام القليل ويكفي، فلا تصعب الجمعة، وما ذكر من اشتراط الحمدلة، وقراءة الآية، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه شروط معروفة، لكن تكلم العلماء فيها، وأنها اجتهادية، والصحيح أن خطبة الجمعة شرطها: البشارة والنذارة، وهي رسالة الرسل؛ لأن أصل الرسالة: السفارة، أي: سفارة الرسل من الله عز وجل إلى العباد، وقد بينها الله في هاتين الكلمتين: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [النساء:165]، ومن هنا بعض الناس يقول: العلماء قصروا، وخانوا الأمة؛ لأنهم لم يبينوا دينه، ألا تعلم أنه لو وقف عالم وقال: أيها الناس! اتقوا ربكم، أنه قد أعذر إلى الله في شرائع للإسلام لا يحصيها إلا الله عز وجل؟! من هذا الذي يستطيع أن يقول: اتقوا ربكم، من قلب مخلص؛ فإذا قالها هز القلوب إلى ربها؟ ومن يستطيع أن يقول هذه الكلمة التي كثر قائلوها، وقل العاملون بها؟ ومن يستطيع أن يقولها من قرارة قلبه فلا تجاوز أذناً حتى تستقر في قلبها؟ إنما هو المخلص لله عز وجل. وأذكر الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله برحمته الواسعة كنا ذات يوم في المسجد النبوي بعد صلاة الظهر -وهذا من تواضعه رحمه الله برحمته الواسعة-، وكان هناك حريق في سوق المدينة، واستمر قرابة سبعة أيام، وكان عبرة! سوق للذهب حُرق ومكث أياماً آية من آيات الله، هذا الموضع كان فيه بعض التقصير والتساهل من بعض الناس، وكأنه ابتلاء من الله عز وجل، فلما صلى الناس الظهر، قام رجل من عامة المسلمين، ولكنه قلّ أن يغيب عن الصف الأول في الحرم، وقل أن يغيب عن مجلس الذكر في المسجد النبوي، ما يمكن أن يغيب بعد المغرب إلى العشاء، لا بد أن تراه في حلق أهل العلم، وعنده عناية بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعطش للخير، وكان غيوراً على الطاعة والخير، فقام هذا الرجل الكبير السن، ووقف موقفاً مؤثراً جداً، وقف بعد الصلاة وهو شيخ حطمة! ضعيف البدن! ضعيف الصوت! وقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه كلاماً مؤثراً، ومما قال: أين السوق بالأمس؟ أين الذهب؟ أين المجوهرات؟ انظروا كيف أن الله عز وجل يبتلي عباده! وكيف تأتي نقم الله عز وجل! تحدث قرابة عشر دقائق، لكن فيها تذكرة لمن عقلها، وله أذن واعية، فأثر فينا كثيراً، وكان الشيخ رحمه الله جالساً في الصف الثاني تقريباً في الحرم، وكان بيني وبينه شخصان، وما كنت أعلم أنه في الحلقة، وفجأة الرجل قال: الله أكبر، الشيخ ناصر موجود؟! فكان كما يقولون: خرب الذي فعل، كنا في الموعظة، وتأثرنا، فإذا بالشيخ رحمه الله ينشج من البكاء، ويرفع صوته، ويقول: أناشدك الله استمر! استمر! استمر! فتأثر بكلامه، وهو رجل من العامة، فوضع الشيخ يديه على رأسه وهو جالس وقد نشج وتأثر وبكى. فهذا الرجل من عامة المسلمين، ومع ذلك يعظ علماء، ويؤثر فيهم؛ لأن الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت كذبة منمقة محسنة -ولوكانت من أبلغ الناس إذا لم يرد بها وجه الله- لم تبلغ مبلغها أبداً؛ ولذلك وعظ أحدهم بكلام بليغ مؤثر في القلوب، فجاءه رجل بعد الخطبة، وقال له: يا فلان! إنك قلت كلاماً تندك منه الجبال، من قوته وبلاغته وفصاحته، ولكني أقسم بالله أنه ما بقي في قلبي منه شيء، فإما أن يكون فيك العيب أو فيّ العيب! يعني: إما أن تكون لا تريد وجه الله-أستغفر الله- بهذا الكلام؛ فاتق الله، وإما أن أكون أنا لا أحسن سماع المواعظ، ولا التأثر بكلام الله عز وجل وكلام رسوله؛ فأنا الذي فيّ العيب، فأعطاه موعظة قصيرة، لكنها مؤثرة. فتأثر الناس في خطبة الجمعة لا يشترط أن يأتي الإنسان بكلام كثير، وكم رأينا من أمور مؤثرة جداً؟ الشخص يجلس يخطب قرابة النصف ساعة، والناس في شدة الظهيرة، وقد يكون هذا في شدة الصيف، والناس في أحوج ما يكونون إلى من يرفق بهم، وإلى من يتألفهم. وتجد بعض الخطباء الحكما يختصرون بكلام قليل، وتجد لهم من القبول ومحبة الناس، وغشيانهم لمساجدهم وقبولهم لمواعظهم الخير الكثير؛ لأنهم حببوا الناس في دين الله عز وجل، ولم ينفروهم. فالشاهد: أن الخطبة -ويُنبه المؤذنون على هذا- تتوقف على التذكير بالله عز وجل، فإذا قام شخص وذكر بالله كفى، لكن إذا وجد مسجد تقام فيه الخطبة فأنا أنصح أنه لا يقوم أحد ليخطب إذا كان نفع الناس بالخطب الأخرى أعظم، وقد يؤم بهم عامي يلحن في الفاتحة أو يخل بها، فتبطل صلاتهم. فخلاصة القول: إذا لم يوجد مسجد آخر -وهذا الشرط الأول- فيه جمعة جاز لهم أن يصلوا الجمعة. الشرط الثاني: أن يغلب على ظنه أنه لا يوجد الخطيب إلى آخر الوقت، وهذا يغفله كثير ممن يفتي في هذه المسألة، فإن العلماء قالوا: إن الجمعة واجبة في هذا اليوم، فمنهم من شدد إلى آخر وقت الظهر، فلم يعط رخصة بصلاتها ظهراً إلا إذا ضاق عليهم الوقت, ولم يبق إلا قدر ما يصلون الظهر؛ لأنها فريضة لازمة عليهم، فإن رجوا حضور الإمام أو حضور من يقوم بالخطبة ولو بعد وقت؛ ينتظرون في المسجد، وحينئذ تكون الجمعة لازمة عليهم، فإذا تحقق الشرطان جاز لهم أن يصلوا ظهراً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

باب حد المسكر [3]

شرح زاد المستقنع - باب حد المسكر [3] تعاطي المخدرات بلاء عظيم، وإثمه كبير، وشره كثير، وما انتشر في أمة إلا فتك فيها فتك النار في الهشيم، فلا تبقى لها حرمة، ولا تقوم لها قائمة، فإذا فسدت عقول الناس فسد دينهم، وفسدت أخلاقهم، وصاروا في فتن ومحن وشرور لا يعلمها إلا الله.

جواز شرب الخمر في إزالة غصة اللقمة

جواز شرب الخمر في إزالة غصة اللقمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه من سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يباح شربه للذة ولا لتداوٍ ولا عطش ولا غيره إلا لدفع لقمة غص بها]. تقدم معنا تحريم شرب الخمر، وأن هناك بعض المسائل استثنيت من هذا التحريم، وذكرنا مسألة التداوي، وبيّنا خلاف العلماء رحمهم الله فيها، وبعد هذا ذكر المصنف رحمه الله ما يستثنى من تحريم شرب الخمر، وهي حالة الضرورة، عندما يخشى الإنسان أن يموت ويهلك، وقد ذكر الأئمة والعلماء رحمهم الله من المتقدمين والمتأخرين مثالاً على ذلك بالغصة. والغصة صورتها: أن يأكل طعاماً فيغص، فإذا لم يشرب ما يفك غصته فإنه ستتلف نفسه وتهلك روحه، وحينئذٍ تكون حالته حالة اضطرار يخشى فيها عليه الموت، وهذه المسألة تعرف بإساغة الغصة بالخمرة، وهي مسألة قديمة، وعامة أهل العلم على الترخيص، وأن المسلم يباح له في هذه الحالة أن يشرب الخمر بقدر ما يسيغ هذه الغصة، ويذهب الخطر والضرر. إذاً: يشترط أول شيء أن يكون هناك خوف على النفس، بمعنى: أن يغلب على ظنه أنه سيموت. ثانياً: ألا يجد شيئاً غير الخمر مما هو دون الخمر أو من المباحات يمكن إساغة الغصة به، فإن وجد ما دون الخمر فإنه يقدمه، فلو وجد ماءً فبالإجماع يحرم عليه أن يشرب الخمر؛ لأن الأصل أن الخمر محرمة، لكن لو أنه وجد نجاسة -أكرمكم الله- كالبول، فهل يقدم الخمر أو البول؟ كلاهما نجس، قال بعض العلماء: يقدم البول على الخمر؛ والسبب في ذلك: أن البول لا حد ولا عقوبة في شربه، ولكن الخمر فيه عقوبة، والوعيد فيه أعظم، فيقدم شربه للبول على شربه للخمر. ولو وجد ماءً متنجساً وبولاً وخمراً، فأيهما يقدم؟ قالوا: يقدم الماء المتنجس؛ لأن الأصل أنه مطعوم، لأن الله وصف الماء بكونه طعاماً فقال: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة:249]؛ ولأن الماء الأصل حِلّه، والنجاسة عارضة عليه، بخلاف البول الذي يحكم بنجاسته بقوة أقوى من الماء المتنجس. وعلى هذا: يشترط ألا يوجد بديل، وهذه قاعدة تضعها معك أنه لا يفتى بالرخص مع وجود البديل المباح، وبجميع مسائل الرخص لا يمكن لعالم أو فقيه أن يفتي فيها بالرخصة مع وجود البديل. وإذا خاف الموت ولم يجد بديلاً عن الخمر، فيُشترط الشرط الثالث: أن يكون شربه للخمر بقدر الحاجة والضرورة، فلا يزيد عن قدر حاجته، وإنما يقتصر على قدر إساغة اللقمة أو ما غص به؛ لأن القاعدة تقول: (ما جاز للضرورة يقدر بقدرها)، فلا يجوز له أن يزيد عن القدر الذي تندفع به الغصة.

المسائل المستثناة في النجاسات

المسائل المستثناة في النجاسات وهذه المسألة يعتبرها العلماء من المسائل المستثناة في النجاسات، ونظمها بعض العلماء في عشر مسائل، فقال: وجاز الانتفاع بالأنجاس في مسائل نظم بعدّها يفي في جلد ميتة إذا ما دبغ ولحمها للاضطرار سوغ وشحمها تدهن منه البكرة عظامها بها تصفّى الفضة وجاز أن تشلى عليها الغلف بوفقهم والحمل فيه الخلف ولبن الأُتُنِ للسعال والجلد للرئمان فيه جالي وغصة تزال بالرياح وبول الآدمي للجراح

حكم جلد الميتة إذا دبغ

حكم جلد الميتة إذا دبغ هذه عشر مسائل: المسألة الأولى في قوله رحمه الله: وجاز الانتفاع بالأنجاس في مسائل نظم بعدّها يفي في جلد ميتة إذا ما دبغ، هذا فيه نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أيما إهاب دبغ فقد طهر).

أكل لحم الميتة حال الاضطرار

أكل لحم الميتة حال الاضطرار (ولحمها للاضطرار سوغ)؛ لأن الله يقول: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] فاستثنى المضطر في أكل الميتة.

استعمال شحم الميتة

استعمال شحم الميتة (وشحمها تدهن منه البكرة)، وهي بكرة البئر، فإنهم لا يستطيعون أبداً أن ينزعوا من البئر إلا بوجود الشحم، والماء يكون غالباً في مقام الحاجيات، فإذا لم يتوصل إلى الماء إلا بالنزع، والنزع لا يمكن الوصول إليه إلا بشحم الميتة؛ جاز له في هذه الحالة أن ينتفع به.

استعمال عظم الميتة في تصفية المعادن والفضة

استعمال عظم الميتة في تصفية المعادن والفضة (عظامها بها تصفّى الفضة)، في بعض الأحوال تستخدم العظام في المعادن ويحتاج الصاغة إلى تصفية الفضة بعظام الميتة، ولكن الآن يستغنى عنه بوجود المواد البديلة.

تحريش الكلب على الصيد

تحريش الكلب على الصيد (وجاز أن تشلى عليها الغلف)، الغلف هي: الكلاب -أكرمكم الله- في لغة العرب، (تشلى عليها) يعني: إذا أراد أن يعلم الصيد فإنه يحرشه ويشترط -كما سيأتينا إن شاء الله في إثبات صفة التعليم للكلب وللطائر الجارح حتى يجوز أكل ميتته وصيده- أنه إذا أشلاه ينشلي، وإشلاء الصيد للعلماء فيه قولان: قيل: الإشلاء أن يدعوه فيستجيب، فإذا ناداه يأتي، وهذا كقول الشاعر: أشليت عنزي ومسحت قعبي ثم انثنيت وشربت قأبي فمعناه: أنه نادى عنزه لأجل أن يحلبها. ويطلق الإشلاء في لغة العرب على المعنى الثاني -وهو المقصود هنا- وهو: تحريش الكلب وتحريش الصقر والباز والباشق والنسور عند تعليمها للصيد، يحرشها بالفريسة فتذهب إلى الفريسة، وهذا هو المراد هنا، قال الشاعر: أتينا أبا عمرو فأشلى علينا كلابه فكدنا بين بيتيه نؤكل هذا رجل بخيل جاءوا يزورونه فأشلى عليهم الكلاب أكرمكم الله! فالإشلاء هنا بمعنى: التحريش، قالوا: لا يكون الكلب معلماً إلا إذا حرشته ثلاث مرات فيتحرش، وقد يستجيب مباشرة، وقيل: بمرتين، وسيأتي إن شاء الله الخلاف بين العلماء في ذلك. فهنا قوله: (وجاز أن تشلى عليها الغلف) يعني: تحرش الكلاب عليها، (بوفقهم) يعني: باتفاق العلماء.

حكم حمل الميتة إلى الكلب

حكم حمل الميتة إلى الكلب (والحمل فيه الخلف) يعني: حمل الميتة إلى الكلب من أجل أن يأكلها مختلف فيه؛ لأنه فرق بين أن يذهب بنفسه ويأخذ الميتة وبين أن تحمل له، ولذلك حرم بعض العلماء حملها وقالوا: لا رخصة.

استخدام لبن الأتان لعلاج السعال الديكي

استخدام لبن الأتان لعلاج السعال الديكي (ولبن الأتن للسعال) لبن الأتان للسعال الديكي عند تعذر العلاج والدواء عند من يقول بالتداوي بالنجس، فيرخص لهذا المريض أن يستعمل لبن الأتان إذا خشي الهلاك، قالوا: إنه مجرد دواء للسعال الديكي إذا أعيت فيه العلة، وهذا يقولونه من باب الضرورة، وقد قدمنا مسألة التداوي بالنجس.

وضع العلف في جلد البقرة التي ماتت لمصلحة ولدها ليأكل

وضع العلف في جلد البقرة التي ماتت لمصلحة ولدها ليأكل (والجلد للرئمات فيه جالي)، الرئمات: هن صغار البقر، إذا ماتت أمه امتنع من الأكل والشرب، فيتأثر ولا يأكل شيئاً من شدة حزنه على أمه، ووجده عليها، حتى البهائم فيها رحمة، بخلاف -نسأل الله العافية- قساة القلوب حينما يقال له: أمك مريضة يقول: اذهبوا بها إلى المستشفى! وهذا الحيوان يمتنع من الأكل؛ لأنه اعتاد أمه، ولا يمكن أن يشرب الماء ولا أن يأكل الطعام حتى يشم أمه، فماذا يفعلون؟ ماتت أمه، ويغلب على الظن أنه سيموت بعدها؛ لأنه يمتنع من الأكل والشرب، فحينئذٍ هذا تلف مال، ولذلك رخص العلماء أن يأتوا له بالطعام محفوفاً بجلد أمه بعد موتها، فلما يشم رائحة أمه يقبل على الطعام ويأكل: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]، حتى البهيمة هداها!

إنزال الغصة بالخمر

إنزال الغصة بالخمر (وغصة تزال بالرياح) الرياح: اسم من أسماء الخمر، فقوله: (غصة تزال بالرياح) يعني: إذا اضطر إلى إزالة الغصة بالخمرة فهو معذور، ولا حرج عليه ولا إثم.

استخدام البول لتجفيف الجروح النازفة

استخدام البول لتجفيف الجروح النازفة (وبول الآدمي للجراح)، أي: الجرح -أجاركم الله- إذا كان ينزف، كانوا في القديم في الحروب يتعرضون له للإصابات، فينزف الجرح فلا يرقأ، فيصب عليه البول فيتماسك، وهذا مجرب ومشهود إذا صب البول -أكرمكم الله- على الجرح يتماسك ويلتئم؛ لأنه حارق فيحرقه، وهو من طبيعة البدن، ولذلك تقول العامة: (الجرح النحس ما له إلا البول النجس)، فهم يقولون هذا بطبيعتهم، فإذا أعياهم أن يجدوا له دواء إلا هذا فلا بأس، فهذه عشر مسائل ومنها مسألة الباب: (وغصة تزال بالرياح)، وهذه يقول عنها: الإمام ابن قدامة وغيره: عامة العلماء أنه إذا حصل اضطرار إلى الخمر بأن تساغ بها الغصة فلا بأس ولا حرج، وهذا لا يدخل في التداوي بما حرم الله؛ لأنه ليس علاجاً لداء، وإنما هو مقام اضطرار، ألجئ إلى هذا الخمر، فرخص له ذلك جماهير السلف والخلف، وهو قول العامة. ويحكى عن الإمام مالك وبعض السلف أنهم شددوا في هذه المسألة، ولكن المذهب عند المالكية أنها تزال الغصة بالخمر، وأنه لا حرج ولا بأس حينئذٍ. قال المصنف رحمه الله: [ولم يحضره غيره] فهذا شرط، لم يحضره غير الخمر، فإذا وجد غير الخمر يمكن إساغة الغصة به، فإنه لا رخصة له في الخمر، بشرط ألا يكون غير الخمر متضمناً للضرر، مثل أن يجد سائلاً ساماً غير الخمر إذا شربه سيموت، فليس هناك علاج للموت بالموت، وحينئذٍ قوله: (لم يحضره غيره) يعني: مما هو أخف من الخمر، ويمكن إساغة الغصة به، وهذا مراده رحمه الله.

حد شرب الخمر

حد شرب الخمر قال المصنف رحمه الله: [وإذا شربه المسلم مختاراً عالماً أن كثيره يسكر فعليه الحد]. بين رحمه الله الشروط التي ينبغي توافرها لإقامة حد الخمر، فلابد أن يكون مسلماً، والكافر فيه تفصيل. قال بعض العلماء: إن الخمر محرمة في الأديان كلها حتى عند أهل الكتاب، لكنهم حرفوا دينهم وشربوا الخمر، فالأصل تحريمها في جميع الأديان لعظيم ما فيها من الضرر والأذية، وهذا القول قاله بعض علماء الحنفية وغيرهم. وقال بعض العلماء: إن الخمر مباح لبعض الأديان دون بعضها، ولذلك خففوا على أهل الكتاب إذا شربوها، فلا يقيموا عليهم الحد، والذي عليه بعض الأئمة أن أهل الكتاب -وقد نبهنا على هذا القول في مسألة احتكام أهل الذمة- إذا شربوا الخمر ثم رفعوا القضية إلى قاضٍ فإنه يحكم بينهم بشريعة الله عز وجل، فيقام عليهم حد الله عز وجل إذا ترافعوا إلينا، كما قال الله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] فحينئذٍ نقيم عليهم شرع الله عز وجل ويقام عليهم الحد. واستثني الحربي والمستأمن، والأصل ما ذكرناه أنهم إذا رفعوا إلينا وجب أن نحكم فيهم بحكم الله عز وجل الذي نسخ الأحكام، وبشريعة الله عز وجل وبكتاب الله الذي جعله مهيمناً على ما قبله. وعلى هذا؛ اشترط المصنف الإسلام من حيث أنه ملتزم بالأحكام. ويشترط أن يكون مسلماً مكلفاً، فلا يقام الحد على مجنون، فلو أن مجنوناً شرب الخمر لا يقام عليه الحد، ولذلك لما هم عمر رضي الله عنه أن يجلد امرأة زنت، مرَّ عليها علي رضي الله عنه فأمر بإطلاقها وقال: (يا أمير المؤمنين! أما سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: وذكر منهم المجنون حتى يفيق) ثم قال: إن هذه مجنونة آل فلان، ولعلها زنت أو غشيها الرجل حال جنونها) فعذرها بإسقاط حد الزنا، وكذلك يسقط حد الخمر على المجنون لأنه ليس بمكلف، وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على سقوط المؤاخذة عنه. وكذلك إذا كان صبياً سواء كان مميزاً أو غير مميز؛ لأنه غير مكلف، ولكن إذا كان مميزاً يعزر. ويشترط أن يكون مختاراً أي: لا يكره على شرب الخمر، فلو أن شخصاً هدده بالسلاح، وغلب على ظنه أنه إذا لم يشرب الخمر فإنه سيقتله أو هدده بشيء أعظم من الخمر حسب الشروط التي ذكرناها في الإكراه، أن فيهدده بما فيه ضرر، ويغلب على ظنه أنه يفعل به ما هدده به، ولا يمكنه الاستنجاد والخروج من هذا البلاء، ويكون ما طلب منه أخف مما هدده به أو يقع عليه من الضرر، ويكون الإكراه بظلم لا بحق، كما في مسألتنا؛ لأنه إكراه على محرم، فإذا استوفيت هذه الشروط المعتبرة للإكراه سقط الحد عمن شرب الخمر مكرهاً؛ لأن الله عز وجل أسقط عن المكره المؤاخذة، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنه: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وقوله: (وما استكرهوا عليه) يدل على أنهم متجاوز عنهم حال الإكراه؛ ولأن الله أسقط بالإكراه أعظم الأشياء وهو الردة، فقال سبحانه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فأعظم الذنوب وأشدها جرماً الكفر بالله، فإذا أسقط الإكراه الردة فمن باب أولى أن يسقط المؤاخذة بما سواها، وعلى هذا يشترط أن يكون مختاراً. وقوله رحمه الله: (عالماً أن كثيره يسكر). يشترط أن يكون عالماً بأن ما يشربه خمر، وأن كثيره يسكر، فإذا علم أنها خمر وشربها دون عذر وجب عليه الحد، لكن لو شربها وهو لا يعلم أنها خمر، كأن قيل له: هذا عصير، أو وضع له في شرابه كما يفعله -نسأل الله السلامة والعافية- أهل البطالة والفسوق لأبناء المسلمين، إذا أرادوا أن يغروهم وضعوا لهم في شرابهم المادة المخدرة، فإذا شربها وهو لا يعلم أنها مخدرة فإنه في هذه الحالة يعذر، ولا يكون مؤاخذاً ولا يقام عليه الحد، خاصة إذا أقر شخص أنه وضعها له في شرابه، أو وضعها له في حقنة حقنه بها أو نحو ذلك. فالإكراه والجهل بكونه مسكراً يسقط الحد في هذه الأحوال كلها، كذلك ألا يكون معذوراً مثل ما ذكرنا: إذا شرب الخمر لقطع عضو على القول أنه يجوز له ذلك كما في القديم كانوا يسقون الخمر لقطع الأعضاء، لمن خشي الضرر، ولم يستطع تحمل الألم، أو وضع مادة التخدير لأجل الجراح الموجودة إذا تعاطاها أو حقن بالمخدر من أجل عملية جراحية، فهذه كلها أحوال هو معذور فيها، وحينئذٍ لا يحكم بوجوب الحد عليه؛ لوجود الشبهة الموجبة لإسقاط الحد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات).

خلاف العلماء في حد شرب الخمر

خلاف العلماء في حد شرب الخمر قال المصنف رحمه الله: [ثمانون جلدة مع الحرية]. أي: الحد على الشارب (ثمانون جلدة مع الحرية) حد الخمر أجمع جماهير السلف والخلف رحمهم الله على وجوبه وثبوته، واختلفوا في تقدير حده، فمذهب الجمهور من الحنفية والمالكية وقول عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة على أنه ثمانون، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله، وهذه الثمانون لا ينقص منها شيء، يجلد ثمانين جلدة لا تنقص منها جلدة واحدة. وأصحاب هذا القول احتجوا بحديث أنس بن مالك رضي الله عنه في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد شارب الخمر بجريدتين نحواً من أربعين)، فقالوا: (بجريدتين نحواً من أربعين)، فكل جريدة أربعون، فأصبح المجموع ثمانين جلدة، وهناك أحاديث ضعيفة ترفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه جلد ثمانين جلدة، ولكن لم يصح شيء منها. واستدلوا بأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصته المشهورة، حيث كتب إليه خالد بن الوليد رضي الله عنه وهو بالشام إبان الفتوحات، وأرسل إليه أبا وبرة الكلبي، فجاء أبو وبرة إلى عمر وقال: (يا أمير المؤمنين! إن خالداً بعثني إليك أن الناس قد تحاقروا عقوبة الخمر، وانهمكوا في شربها، فقال: دونك القوم فاسألهم، وكان في القوم علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وطائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال علي رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! إنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وأرى أن يجلد حد الفرية، وحد الفرية ثمانون جلدة، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لـ أبي وبرة: أبلغ صاحبك ما قال)، أي: أنه يجلدهم ثمانين جلدة. قالوا: ولم ينكر هذا القول أحد من الصحابة، ووقع في زمان الخلفاء الراشدين، وهي سنة، وأكدوا هذا بالرواية الصحيحة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه أتي بـ الوليد وقد صلّى بالناس الصبح أربعاً، وقال لهم: أزيدكم؟! القصة المشهورة، وكان وراءه عبد الله بن مسعود، فقال: (ما زلنا اليوم معك في زيادة)؛ لأنه صلى بهم ثلاث ركعات، ثم قال: أزيدكم؟ وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه تكلم في الصلاة لأنه علم أنها باطلة باطلة، والبعض يقول: هذا يدل على جواز الكلام في الصلاة، فعلم عبد الله رضي الله عنه أن الإمام سكران، وإذا فقد الإمام عقله بطلت إمامته، وبطلت الصلاة كلها، فمادام أن الصلاة باطلة قال: (ما زلنا اليوم معك في زيادة)، وهذا لا يصلح الاحتجاج به على جواز الكلام في الصلاة، إنما يجوز لو كانت الصلاة باطلة، المهم أنه لما صلى بالناس الصبح أربعاً شهد عليه حمران مولى عثمان! وشهد آخر أنه تقيأ الخمر، فصارت شهادتان، حتى إنه لما شهد الثاني وقال: أنا رأيته يتقيأ الخمر، قال عثمان قولته المشهورة: (والله ما تقيأها إلا وقد شربها)، غير معقول أن تدخل إلى جوفه دون أن يشربها. ومن هنا أخذ طائفة من العلماء أنه إذا تقيأ الخمر فإنه دليل على الابتلاء بالمسكر وأنه شارب له. فلما تمت البينة قال عثمان رضي الله عنه كما في الصحيح: (يا علي! قم فاجلده، فقال علي: يا حسن! قم فاجلده، فقال الحسن: ولِّ حارها من تولى قارّها)، فكأنه وجد عليه، والحسن قصد أن الخليفة ليتحمل ضرب الناس، ولا نتحمل نحن، فقال له: (ولِّ حارها من تولى قارّها) فكأنه وجد عليه علي رضي الله عنه، فقال لـ عبد الله بن جعفر: (قم فاجلده، فقام عبد الله بن جعفر فجلده وعلي يعد الجلد، حتى بلغ أربعين، فقال له: أمسك، جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أربعين، وجلد عمر رضي الله عنه ثمانين، وكل سنة وهذا أحب إليّ)، يعني: إن جلد أربعين فسنة، وإن جلد ثمانين فسنة. قالوا: نص علي رضي الله عنه على أن الثمانين سنة، فإذا كانت سنة فإنه حينئذٍ يجب العمل بها؛ لأن السنة إذا سيقت في مقام الاحتجاج، وفي مقام الاحتكام فإنه يقصد بها السنة التي يجب العمل بها والرجوع إليها، فلا يقول علي رضي الله عنه هذا إلا في معرض الاحتجاج، هذا حاصل أدلة من قال بأنه يجلد ثمانين جلدة، ولا ينقص منها. أما الذين قالوا بأنه يجلد أربعين جلدة، فقالوا: الأربعون هي الحد، والزائد عن الأربعين إلى الثمانين يترك الأمر فيه للقاضي، إن رأى الناس تساهلوا وانهمكوا في شرب الخمر وعلم أنه لابد من زجرهم جعلها ثمانين، وإن كان الناس لم يصلوا إلى هذا الحد بقي على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الحد الأصلي وهو أربعون جلدة، وهذا القول هو مذهب الشافعية والظاهرية ورواية عن الإمام أحمد اختارها الإمام الموفق ابن قدامة رحمه الله، وشيخ الإسلام ابن تيمية وطائفة من المحققين. وهذا القول يحتج له بأدلة: أولاً: لا غبار أن الأربعين هي الأصل، وأنها هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الزيادة كانت من عمر، وأما الاحتجاج بحديث أنه جلد بجريدتين نحواً من أربعين، فهذا نص محتمل، يحتمل بجريدتين أي: كل جريدة أربعين، ويحتمل أنه ضرب بالأولى قدراً ثم أتم بالثانية بقية الجلد فأصبح المجموع أربعين، لأنه قال: (جلد نحواً من أربعين بجريدتين)، فهذا يحتمل أنها منفصلة، فجلد بكل واحدة منهما أربعين، ويحتمل أنها مجموعة، والظاهر أن الأربعين هو مجموع الكل، وهو ظاهر السياق، والمعنى الظاهر أقوى من المعنى الخفي المحتمل الآخر. وعلى هذا فيكون القول: بإن الأصل أنها أربعون هو الأعدل والأوفق والأقرب إلى السنة، وأما كون عمر رضي الله عنه زاد إلى الثمانين فنحن نسلم بهذا، ونقول: يزيد القاضي إلى الثمانين متى رأى المصلحة، وعمر رضي الله عنه ما زاد إلى الثمانين إلا لما اشتكى إليه خالد رضي الله عنه وأرضاه. وجاءت روايات صحيحة عن بعض التابعين وكبار التابعين أن عمر رضي الله عنه تدرج في الزيادة، والرواية صححها الحافظ ابن حجر رحمه الله، ففي مصنف ابن أبي شيبة أنه جلد أربعين، ثم جلد ستين، ثم أوصلها إلى ثمانين، وهي أقل الحدود حد الفرية، وهذا من فقهه رضي الله عنه وأرضاه.

القول الراجح في حد الخمر

القول الراجح في حد الخمر ولذلك نقول: تبقى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين جلدة، ثم يزيد القاضي والحاكم متى رأى المصلحة في ذلك، فبين المصنف رحمه الله أنه يجلد ثمانين على ما اختاره طائفة من العلماء وهو مذهب الجمهور كما ذكرنا، والصحيح أن الحد أربعون جلدة، ويجوز أن يزاد بشرط نظر الإمام، ولا يزاد هكذا، ولا يقال: إن الثمانين حد ثابت لا ينقص حد الخمر عنه، بل نقول: إن الثمانين اجتهاد من القاضي متى رأى المصلحة أن يبلغ الثمانين أبلغها، وإلا اقتصر على القدر الأصلي وهو أربعون. فيقتصر على القدر الأصلي إذا كان شارب الخمر شربها لأول مرة، أو كان في بيئة لا تعرف شرب الخمر فشربها لأول مرة، ولم ينهمكوا في شرب الخمر؛ لأنه عندنا زجر الشارب، وعندنا زجر غيره، فهي عقوبة للشارب، وزجر لغيره، فالشارب إذا كان لأول مرة ويرجى توبته ورجوعه فإنه يجلد الأربعين، وأما إذا كان يخشى منه الاسترسال أو فعلها وأصر -كما ذكر بعض العلماء- أو كرر ذلك فإنه يجلد ثمانين جلدة زجراً له، ومعونة له على نفسه أن يكف عن شرب ما حرم الله عز وجل. قال المصنف رحمه الله: فقال: [وأربعون مع الرق]. وهذا على الأصل الذي ذكرناه، أن عقوبة الأحرار ضعف عقوبة المماليك، وذكرنا دليل ذلك في حد الزنا، وأنه جرى على ذلك عمل الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فكلهم كانوا يجلدون الإماء والعبيد في الحدود نصف ما يجلدون به الأحرار.

المخدرات وضررها على الفرد والمجتمع

المخدرات وضررها على الفرد والمجتمع قبل أن نختم هذا الباب هناك جوانب نحب أن ننبه عليها، وهي عن البلاء العظيم شرب المسكرات وتعاطي المخدرات. فهذا الذنب والإثم شره كبير، وما انتشر في أمة إلا فتك فيها فتك النار في الهشيم، فلا تبقى لها حرمة، ولا تقوم لها قائمة، فإذا فسدت عقول الناس فسدت أخلاقهم، وفسد دينهم، وفتح عليهم من أبواب الفتن وشرورها ما لا يعلمه إلا الله عز وجل. ولذلك يخرج الرجل من بيته فيفاجأ بالرجل قد غاب عن عقله، فلا يأمن أن يشهر عليه سلاحه فيرديه قتيلاً في مكانه، ولربما قاد السكران والمخدور سيارة فقتل الأنفس البريئة، وأتلف الأموال، وأحدث من الأضرار ما لا يعلمه إلا الله عز وجل. وإذا غاب الرجل عن عقله وهو في بيته وأهله لا يأمن أن يصيب حتى أمه والعياذ بالله، ووردت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الخمر أم الخبائث؛ لأنها تدعو إلى كل شر، وإلى كل بلاء. أنعم الله على عبده بنعمة العقل الذي هو نور يستنير به فيعلم الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والخير من الشر، والرحمة من العذاب، ويميز به الأشياء بعضها عن بعض، ويرتقي به عن مستوى البهيمية إلى مستوى التكريم في الآدمية، ويستنير به فيعقله عما لا يليق بمثله، ولذلك سماه الله: حجراً وسماه: عقلاً؛ لأنه يحجر الإنسان فيمنعه ويعقله ويحبسه عما لا يليق. فهذا الداء والبلاء إذا فتح على أمة أهلكها الله عز وجل به، ولذلك يحرص أعداء الإسلام على خديعة أبناء المسلمين، والتغرير بشباب المسلمين من البسطاء ليتعاطوا هذا الداء حتى يفتكوا بالأمة ويدمروا أخلاقها، نسأل الله بعزته وجلاله أن يهدم عروشهم، وأن يزلزل أقدامهم، وأن يكف عن المسلمين بأسهم وشرهم، وهو على كل شيء قدير. من يعلم أو يسمع أو يرى كم من بيوت هدمت؟ وكم من نساء طلقت وشتتت؟ وكم من سعادة عادت شقاءً بسبب هذا الوباء! ومن يعلم القصص والحكايات المروعة التي أدخلت على أمة مسلمة وكانت محافظة، كانت في خير من الله عز وجل ورحمة حتى خدع شبابها، وعبث بهم الداء الفتاك الذي تسلط على الصغير والكبير؟ من علم الحوادث التي تقع والمصائب والكوارث والمآسي في الأسر التي حصلت بسبب تعاطي المخدرات خاصة، وشرب الخمور عامة؛ لاشك أنه يتفطر قلبه، ويحزن أيما حزن. ولذلك خليق بالأئمة والخطباء والوعاظ والموجهين أن ينبهوا الناس بشرها بين فترة وأخرى، فإن العدو لا ينام، والعدو لا يستريح نسأل الله بعزته وجلاله أن يسلبه عافيته، فهو يعمل ليل نهار، ثم مع ذلك يأخذ من هؤلاء البرءاء البسطاء أموالهم، يؤخذ الرجل إلى جحيم المخدرات بكأس لا يعلم أن فيها مخدر، ويخدع في ظلمة ليل أو ضياء نهار، فيعطى ذلك الكأس بريئاً جاهلاً حتى إذا شربه دب السم في جسده، ونخر في قواه، فأتلف زهرة شبابه، ودمر حياته لكي يشقيه ويرديه، والله موعد: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227] ولن تضيع عند الله هذه الجرائم والفضائع التي ظلم بها المسلمون، ودمرت بها بيوتهم وأسرهم. فإذا شرب هذا المسكين كأسه طلب مرة ثانية، فأعطي الجرعة الثانية حتى يصبح مدمناً كالآلة المسخرة في يد الإنسان، ولا يستطيع إذا جاءته ساعته أن يرقأ ولا أن يهنأ ولا أن يرتاح حتى يعطى هذا المخدر، فإذا نظر إليه في أمس الحاجة وشدة الحاجة طلب منه أن يفعل أي جريمة أو يقع في أي حرام، فلم يتورع عن ذلك، ولم ينكف عنه! فيا لله كم من أعراض انتهكت! وكم من أموال سرقت واغتصبت! وكم من أسرار أفشيت وكشفت! بسبب هذا الداء الخبيث!! ولذلك كل من لم يفكر في هذا الداء الذي يستشري في أبناء المسلمين فلا يأمن أن يأتيه يوم من الأيام قهراً وغصباً في أبنائه وذريته؛ لأنه إذا لم يحفظه عن الغريب فلا يأمن أن يتسلط على القريب والحبيب، ولذلك خليق بكل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجند نفسه من أجل تنبيه المسلمين وتذكيرهم.

الوقاية من المخدرات وعلاج من ابتلي بها

الوقاية من المخدرات وعلاج من ابتلي بها وهناك أمور لابد من ذكرها وبيانها: فالمخدرات تعالج بأمرين، أو تدرس من جانبين: الجانب الأول: جانب الوقاية، والجانب الثاني: جانب العلاج. فأما الوقاية فهي حصن حصين من الله عز وجل، حصن به من سلّمه الله من هذا البلاء، ومن عافاه الله فليحمد الله على العافية، وكل يوم تمسي وتصبح فيه وقد عافاك الله في عقلك فقل: الحمد لله، واحمد الله كما ينبغي أن يحمد سبحانه أن سلّم لك عقلك، وسلم لك أولادك وذريتك، فالجانب الأول جانب الوقاية. والجانب الثاني: جانب العلاج لمن ابتلي بهذا الداء. فأما الذين لم يقعوا في هذا الداء فعلينا أن نحرص جميعاً على غرس أمور مهمة في نفوس الناس لمواجهة هذه الحرب التي لا رحمة فيها، ولا هوادة فيها من أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فأولاً: هناك شيء ينبغي غرسه في النفوس يمكن يشكل وقاية ذاتية بإذن الله عز وجل، وهذا ما يسمى بتحصين الفرد في خاصة نفسه، ويكون المنطلق في ذلك الإيمان بالله عز وجل؛ لأن من آمن بالله فهو خير له في الدين والدنيا والآخرة، وما يجلب الإيمان للعبد إلا صلاح أمره واستقامته على رشده، سواء في خاصته أو في عامة الناس، فينبغي غرس العقيدة. ومن أعظم الجوانب التي يحصن بها الناس عن المعاصي مع الإيمان بالله غرس الخشية من الله، والخوف منه سبحانه وتعالى؛ لأن الخير كل الخير في طاعته، والشر كل الشر في معصيته، وإذا غرست العقيدة -وهي مراقبة الله سبحانه وتعالى- لم يستطع عبد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يمد يده إلى طعمة أو شربة من هذا الداء الخبيث، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) فقال: (لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) فدل على أن الإيمان سياج وأن العقيدة حفظ من الله للعبد. كذلك أيضاً العبادات لها أثر كبير في تحصين الأسرة والجماعات والأفراد من هذا الداء الخبيث: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] فأخبر الله سبحانه أنها تنهى، وأنها خير زاد للعبد، وقلّ أن تجد أباً يوقظ أبناءه للصلوات، ويراقبهم في إقامة الصلاة على وجهها إلا حفظه الله في ذريته، وكما حفظ حق الله في أهله فإن الله يحفظ له قرة العين في أهله وولده، فالله وفي ولا أوفى من الله لعبده. فلذلك فليحرص العبد كل الحرص على أن يغرس في أبنائه حب الصلوات، وأن يشعرهم أنها حرز لهم من الفواحش والمنكرات، والمصائب والمحرمات، فإذا غرس ذلك في نفوسهم واعتادوها عصمهم الله عز وجل بعصمته، وحفظهم الله عز وجل وكلأهم، حتى إن الصلاة تصعد وعليها نور، وتنتهي إلى ما شاء الله فتفتح لها أبواب السماء، ثم تنتهي إلى ما شاء الله أن تنتهي إليه وتقول: حفظك الله كما حفظتني، فأهل الصلوات في حفظ من الله عز وجل وحرز. كذلك من العبادات الصيام؛ لأنه يقوي جانب التقوى فالصائم يمنع نفسه من الشراب الحلال، فمن باب أولى أن يستطيع كبح جماحه عن الشراب الحرام، ولذلك الصوم جنة -كما أخبر صلى الله عليه وسلم- ووقاية. كذلك ذكر الله عز وجل، فيعود الأبناء والذرية على كثرة ذكر الله عز وجل، فالشيطان يسكن البيت الخرب، وهو القلب الخاوي من ذكر الله عز وجل، ويفر من البيت المعمور بذكر الله سبحانه وتعالى، فذكر الله حصن حصين، فهذه الأمور تتعلق بجانب العبادة. هناك جانب آخر يقوي هذا الجانب الديني، وإن كان الجانب الديني من حيث الأصل هو قوي، ولكن الله لحكمة قد يجعل القوة المادية معينة لقوة الدين، كما قال تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة:87] وقال: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد:25] بعد أن ذكر أنه أنزل كتبه، لكي ينبه على أن القوة الحسية قد تقوي الروح المعنوية. فكما أن الدين له سلطان هناك أشياء تمنع الإنسان من هذا الداء؛ لأن الخمر أجمعت العقول على نبذها وكراهيتها، حتى إن أناساً في الجاهلية كانوا لا يشربونها، ورأوها تورد الإنسان الموارد، وتنزل الإنسان إلى مستوى البهيمية، وكان عقلاء الناس في الجاهلية لا يشربونها ويكرهونها، ولا يضعونها في أطعمتهم ومناسباتهم، كل ذلك كراهية لها. فهي من ذاتها تنفر، وهذا يسميه العلماء: التنفير الذاتي، فالتنفير الذاتي يقوي القناعة في نفس الإنسان بكراهيتها والبعد عنها، ولذلك استخدم القرآن هذا المعنى حينما جاء تحريم الخمر بأساليب منفرة، لم يأت تحريماً مباشراً، وإنما قال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة:90]، وبمجرد ما يحس الإنسان أنها قذر ونجاسة ينفر منها، ولذلك صدر الله الآية بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:90]؛ لأنهم هم الذين يستجيبون، وهم أهل العقول والألباب المستجيبة لله عز وجل قال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90]، ثم قال بعد ذلك: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] فجعل التنفير أولاً قبل الحكم الشرعي. ومن هنا ينبغي أن يهيأ في النفوس التنفير، ومن ذلك ذكر الحوادث والقصص للأولاد الصغار تحذيراً لهم من الصغر من هذا الداء الخبيث، ذكر الحوادث المروعة التي يكون لها وقع في النفوس، حتى يكون أبلغ في زجرهم وكراهيتهم لهذا الداء، ذكر أثرها على النفس وعلى الصحة، ولا بأس أن تكون هناك بعض البحوث يقرؤها على أولاده، ويريهم بعض الصور لبعض الأعضاء المتهتكة، وأحوال بعض الذين -والعياذ بالله- ابتلوا بها، وكيف انتهت بهم إلى أحوال مؤلمة، ونهايات وعواقب سيئة. نسأل الله بعزته وجلاله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة، وأن يعيذنا وإياكم من سوء الخاتمة في الأمور كلها. كذلك أيضاً ينبغي أن تهيأ المجتمعات لحرب المخدرات عن طريق الخطب والمواعظ والمحاضرات والندوات، وليعلم كل إنسان يجند نفسه لهذا الأمر أنه مأجور من الله أجراً عظيماً، وإذا أراد أحد أن يعرف مقدار ما يكون له من ثواب من الوقوف في وجه المخدرات وأهلها فليزر المستشفيات التي آوت من ابتلي بالإدمان بالمخدرات، ولينظر إلى أحوالهم وليعتبر، وليزر المستشفيات فينظر إلى الحوادث وما حصل، كم من أرواح أزهقت! وكم من أموال أتلفت بسبب هذه المادة الخبيثة!! فيهيئ نفسه للغيرة على أبناء المسلمين، والغيرة على حدود الله ومحارمها، فيجب على كل إنسان يعلم بمروج للمخدرات أن ينصحه، ويذكره بالله عز وجل، ويتابعه فإن رآه تاب فبها ونعمت، وإن لم يتب رفع أمره، واحتسب عند الله عز وجل ذلك، ولا يجوز له أن يسكت؛ لأنه إذا سكت أعانه على تدمير أبناء المسلمين، وأعانه على أن يفتك بهذه الأمة، وترويج المخدرات لابد من بيان حكمها الشرعي، فالمروج للمخدرات لو روّج حبة فأزهقت أنفساً وقف بين يدي الله مسئولاً عن ذلك، ولو روّج حبة كانت سبباً في زناً أو في جريمة أو في فحش أو في حرام وقف بين يدي الله حافياً عارياً يسأل عن ذلك. فإدخال هذا الداء إلى مجتمعات المسلمين، وتدمير مجتمعات المسلمين ما هو إلا معونة لأعداء الإسلام على الإسلام وأهل الإسلام، فعلينا أن ندرك هذه الحقيقة، ولا يختص هذا الأمر بالرجال، بل على النساء والداعيات أن يجندن أنفسهن لذلك، وأن يكون هناك جهات تختص بمكافحة هذا الداء، ووجود هذه الجهات نعمة من الله عز وجل، ونسأل الله بعزته وجلاله أن يبارك جهودهم، وأن يعينهم وأن يبقيهم، لو يعلم الإنسان ماذا سيحدث للمجتمع -لولا الله ثم هذه العيون التي تسهر ضد هؤلاء الذين يدمرون أبناء المسلمين- لحمد الله عز وجل من قرارة قلبه، وسأل الله لهم المعونة في جوف الليل مما يعلم من عظيم بلائهم، وحسن صنعهم للإسلام والمسلمين، فكم من عصابات؟ وكم من أفراد اجتمعوا على الفتك بهذه الأمة؟ لا يراعون فيها إلاً ولا ذمة. ومنهم من تدمر في نفسه فحقد على مجتمعه فأراد أن يدمر مجتمعه. فنسأل الله عز وجل أن يهديهم ويصلحهم أو يقطع عن المسلمين دابرهم وشرهم. وعلى كل حال لابد من التعاون في هذا الأمر، ولا يمكن للداء أن ينقطع ويجتث إلا بالتعاون، وعلى النساء مسئولية، على الداعيات على المربيات على المعلمات وعلى الأمهات مسئولية وعلى الأخوات مسئولية، فعلى النساء أن ينتبهن للمجتمع، وألا ينزوي كل إنسان ويقول: نفسي نفسي! فإنه لا يأمن أن يأتيه البلاء حتى في نفسه، نسأل الله السلامة والعافية. اتفق لبعضهم والعياذ بالله! من المآسي أن أماً تساهلت مع ولدها، وكان ولدها يتعاطى المخدرات، وكان الولد يتيماً وبلغ، فتساهلت في أمره حتى وقع في يد هؤلاء الأشرار والعياذ بالله! فأعطوه المادة المخدرة، ثم شاء الله عز وجل أنها يوماً من الأيام أحست بآلام غريبة واضطرت إلى اللجوء إلى المستشفى، وإلى الذهاب إلى الأطباء، وفوجئت بالطبيب يقول لها: أنت حامل! قالت: والله! ما زنيت! ولا أذكر أني حملت بعد وفاة زوجي، أنا أرملة! ولي سنوات امتنعت من الزواج من أجل أولادي!! ثم فوجئت بأن ابنها والعياذ بالله! كان يضع لها هذا الداء في شرابها فإذا نامت وقع عليها وزنى بها! هذه أمور عظيمة، هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، وما ستر الله أعظم، فلذلك ينبغي على الأمهات وعلى الأخوات وعلى البنات وعلى المعلمات والمربيات والفاضلات والداعيات أن يقمن بالأمانة والمسئولية، وسيجدون من يدعمهم، وسيجدون من يقف معهم، وقد هيئت الأسباب لذلك، فلا عذر للإنسان في التخلي عن القيام بواجبه ومسئوليته. ونسأل الله بعزته وجلاله أن يهدي قلوبنا، وأن يصلح أحوالنا، اللهم! ارفع هذا الداء عن البلاد والعباد، اللهم! ارفع هذا الداء عن البلاد والعباد، وأنزل رحمتك علينا أجمعين، واقطع عنا دابر الفساد والمفسدين، يا رب العالمين! إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا م

الأسئلة

الأسئلة

حكم تعزير شارب الخمر بالقتل إذا شرب للمرة الرابعة

حكم تعزير شارب الخمر بالقتل إذا شرب للمرة الرابعة Q من شرب الخمر للمرة الرابعة هل يقتل أم يجلد الحد، أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فمسألة قتل شارب الخمر في الرابعة فيها حديث الترمذي المشهور، وهذا الحديث ذكر الإمام الترمذي رحمه الله أن العلماء عملوا بأحاديث جامعه إلا حديث شارب الخمر في الرابعة، ومن العلماء من قال: إنه منسوخ، وعلى القول بنسخ الحديث لا إشكال. لكن هناك من أهل العلم من يقول: إن قتل شارب الخمر في الرابعة يرد إلى القاضي وإلى الحاكم إذا رأى المصلحة فيه، فمثلاً لو وجد أن شخصاً إذا شرب الخمر فعل أفعالاً عظيمة، وتقع منه جرائم عظيمة، شربها المرة الأولى فأطلق النار على شخص وكاد أن يقتله، ثم شربها المرة الثانية فجاء إلى جماعة وكاد أن يقتلهم، ثم شربها المرة الثالثة فوقع منه مثل ذلك، ثلاث مرات ويقع منه الضرر العظيم، فبقاؤه شر, فجلده المرة الأولى فلم ينزجر، ثم جلده المرة الثانية فلم ينزجر، ثم جلد المرة الثالثة فلم ينزجر، قالوا: في هذه الحالة يسوغ للإمام أن يقتله تعزيراً، وهي مسألة التعزير بالقتل، وهذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله. ولكن في الحقيقة هذا الحديث فيه إشكال، والإمام الترمذي رحمه الله حكى الإجماع على رفع حكم الحديث، وهو رحمه الله حجة في نقل فقه العلماء، وهذا ينبغي أن ينتبه له، فالإمام الترمذي أوتي من الورع والضبط لخلافات العلماء، والإلمام بمذاهب الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة، رحمه الله برحمته الواسعة فلا يمكن أن يحكي الإجماع من فراغ، ولا نقول: إننا نرفع حكم الحديث بمجرد حكاية، لكن نقول: الإجماع إذا ثبت فإنه يرفع الحديث؛ لأنه ليس هناك إجماع إلا بمستند، يستغرب البعض ويقولون: كيف نرفع السنة بالإجماع؟ هذه مسألة نبه عليها علماء الأصول رحمهم الله والأئمة وأنه ليس رفعاً للسنة بالإجماع، وإنما أجمع العلماء -خلافاً للعنبري - من أئمة الأصول على أنه ليس هناك إجماع إلا وله مستند نقلي قد يذكر وقد لا يذكر. وبناء على ذلك فأنت حينما تنسخ الحديث بالإجماع أو ترفع حكم الحديث بالإجماع فأنت رافع للنص بالنص، ولست رافعاً للنص بأقوال الرجال وإجماعهم هذا من وجه. الوجه الثاني: أن الأصل حرمة المسلم فلا يستباح دمه إلا بدليل بيّن واضح، وقد جاءت الأدلة صريحة في هذا المعنى، وأنه: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، ونقول: إنه إذا عمل بالحديث فإننا نعمل به من باب التعزير عند من يقول: بأنه يجوز أن يكون التعزير بالقتل، وستأتي هذه المسألة إن شاء الله في باب التعزير، والله تعالى أعلم.

أهل المعاصي وضابط الستر عليهم في الشرع

أهل المعاصي وضابط الستر عليهم في الشرع Q إذا رأيت في الشارع رجلاً من الجيران سكران وهذا معتاد منه والعياذ بالله- هل أستره أم أبلغ عنه؟ A الأصل يقتضي ستر المسلم في الذنوب، وأجمع العلماء رحمهم الله أن الستر أفضل، وأعظم أجراً لصاحبه، وأن من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة. والستر في جميع الأمور ما لم يكن شيئاً يتعدى ضرره كالمخدرات وترويجها، فشخص يروج المخدرات إذا سترته فكأنما تستر ناراً تحرق عباد الله وأولياءه، وهذا لا يمكن أن يجوز. ومن هنا يستثنى ما تعدى ضرره، ومثّلوا للمرأة القوادة -التي تعين على نشر الفاحشة والعياذ بالله وتفسد المجتمع- فهذه لا تستر إذا كان شرها يتعدى إلى الغير ويستشري. فمن كان يدعو إلى الفساد وإلى جرمه فهذا يستثنى. أما لو فعل المعصية في حق نفسه وذاته فالإجماع منعقد على أن الأفضل ستره، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم لهذا فقال لـ هزال: (هلا سترته بثوبك). وإذا كان الشخص مبتلى بشرب الخمر فأنصحك أن تنصحه، وأن تكرر النصيحة له، وأن تهيئ له الأسباب فلا تبقى على مجرد الكلام، فإن وجدته يقع في الخمر بسبب قرناء السوء فاحرص رحمك الله على أن تهيئ له قرناء صالحين، وإذا وجدت أنه يقع في شرب الخمر بسبب الفقر وشدة الهموم عليه، فهو يحس أنها تنسيه همومه، فاحرص في تفريج كربته وقضاء ديونه، واحرص على أن تقف معه موقف الأخ مع أخيه، فتنظر إلى نفسيته وأحواله من أين يؤتى، وهذا هو العلاج. ولذلك الرجل الصالح والعالم الفاضل حينما جاءه الرجل الذي قتل مائة نفس وقال له: هل لي من توبة؟ قال: وما الذي يمنعك من التوبة؟! ثم قال له: إن قريتك قرية سوء، وقرية بني فلان فيها قوم صالحون فاذهب إلى هذه القرية، يعني: قرية الصالحين، وهذا الحديث أصل عند العلماء في توجيه الناس، وعلاج المدمن والمستمر في المعاصي، حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم نبهنا بفقه هذا العالم الجليل الفاهم الواعي الذي عرف كيف يؤثر في هذا الرجل حتى أنقذه الله من النار بسببه، وهذا كله بفضل الله عز وجل. أنقذ من النار قبل أن تقبض روحه مع الأشرار فيكون من الهالكين، وهذا بفضل الله ثم بالرجوع إلى العلماء، وأهل البصيرة، فإنه نظر إلى حال الشخص، وفعلاً كانت هذه النظرة علاجاً له، فإنه ارتحل من قومه إلى قوم صالحين، فأدركته المنية، فصارت هذه الوصية علاجاً له ونجاة له في الدنيا والآخرة. كذلك ينبغي عليك أن تنظر من أين يؤتى الرجل؟ ما من معصية إلا ولها ثغرة، فإن أحسنت علاج هذه الثغرة وسدها عن أخيك المسلم سد الله عنك ثغرات الفتن، والجزاء من جنس العمل. ولذلك تجد الدعاة والأخيار الصادقين الذين يحرصون على سد الفتن عن الناس في عصمة من الله عز وجل أكثر من غيرهم، وفي حفظ من الله أكثر من غيرهم، فأنت إذا حرصت على أن تسد أبواب الفتن عنه ومن أين يؤتى، وتعلم من الذي يجره إلى الخمر، فكأس الخمر ما شربت إلا بقرين سوء زين شربها، أو سوء ظن بالله عز وجل، أو سوء ظن بالناس، أو نحو ذلك من الأمور. كم من أناس فيهم من الخير الشيء الكثير وقتل هذا الخير فيهم بسبب ظروف معينة وأحوال معينة! كم من أناس فيهم شجاعة وخير وكرم وفيهم إحسان وأخلاق حميدة فمروا بوطأة ظروف قاسية أليمة، وما وجدوا أحداً يقف معهم، وما وجدوا أحداً يناصرهم ويؤازرهم، فتألمت نفوسهم حتى تسلط الشيطان عليهم! فإذا وجدوا من ينتشلهم بعد الله عز وجل من هذا الحضيض، ومن سوء الظن؛ فإن الله سبحانه وتعالى يلطف بهم. ولذلك ينبغي عليك أن تعلم من أين يؤتى هذا الجار، نعم تستره، وتحاول قدر المستطاع أن تستره، وأن تذكره بالله عز وجل، وأن تنصحه حتى يهدي الله قلبه، وحاول الدعاء له. ونذكر من العلماء والصالحين من كان حريصاً على هداية أمثال هؤلاء حتى أصلح الله أحوالهم، وكان حريصاً على سترهم، فهذا الوالد رحمه الله ابتلي بجار مبتلى بشرب الخمر، فوجدنا منه موقفاً عجيباً في ستره، ودخل عليه شارب الخمر يوماً من الأيام في ظلمة الليل، بعد منتصف الليل، وفي ليلة شديدة البرد، وإذا به تفوح منه الخمر، ولما دخل البيت كان الوالد حديث العهد بالوالدة، ما كان الوالد يعرف الخمر ولا يعرف رائحتها ويحسب أنه متضمخ بطيب، ما يدري حياته كلها جهل بهذه الأمور، نسأل الله أن يزيدنا بها جهلاً، ولا يضر. فالشاهد أنه أدخل الرجل فصار الرجل يبكي، ويقول له: زوجتي وزوجتي! ويصيح مثل الطفل، وهو رجل فيه قوة وعافية، ولما تحدث مع الوالد صار يصيح، وأخذ الوالد، يهدئه ويظن أن الرجل صاح، ما يعلم أنه مبتلى بالخمر، وأن هذا الذي يقوله ويفعله ليس بحقيقة، وأنه بسبب الخمر، فصار يتلعثم في كلامه. والحقيقة سبحان الله! الوالدة كانت فطنة؛ لأنها فوجئت بقوة الضرب للباب، ثم فوجئت بسقوطه؛ لأنه لما دخل من الباب سقط وانكب على وجهه، وفوجئت بعد ذلك برائحة البيت النتنة، وبالصراخ والعويل، والوقت وقت ليل، وفوجئت بكلام مخلط، فنادت الوالد رحمه الله وقالت له: هذا الرجل تعرفه؟ قال: نعم أعرفه، قالت: مجنون؟! قال: لا، هو صاحٍ ما فيه إلا العافية، من أصحى الناس -وهو فعلاً رجل قوي وشديد في صحته وعافيته- قالت له: انتبه! إما أنه مجنون وإما شرب بلاء، فانتبه من الرجل! وقالت له: اختبر الرجل هل هو صاح أو لا؟ فلما اختبره وجده لا يفرق بين السماء والأرض، فانطبق عليه شرط السكر بإجماع الفقهاء، لا يفهم الخطاب، ولا يحسن الجواب. والوالد في الحقيقة كان في بعض المواطن شديداً تأخذه الحدة، وإذا بطش في ذات الله لا يبالي، أدركت الوالدة هذا فنادت الوالد وقالت: أسألك بالله ألا تتعرض له، واصرفه بالتي هي أحسن؛ والوالد شق عليه أن يدخل عليه في بيته في هذه الساعة وكان سيهم به ولكن الله لطف، وللوالد رحمه الله أحوال من الستر في قصص نعرفها ستر فيها رحمه الله، ودعا الغير إلى الستر، لكنه خشي أن يتسلط لحرمة العلم أو كان يريد أن يتخذ شيئاً، وقبل أن يصنع شيئاً سألته بالله أن يستره، وهذا في ميزان حسناتها؛ لأنه كان في ساعة من سورة الغضب، وكان يريد أن يبطش به، فستره واستدعى أحد قرابته فأخذه ومضى به -وهذا الكلام قبل أربعين أو خمسين سنة- فجاء الرجل بعد أسبوع، وبكى عند الوالد، وعاهده بالله عز وجل ألا يعود إلى الخمر، من شدة هذا الموقف عنده، وستر الوالد عليه ودعاه أن يعاهده بالله ألا يعود إلى شرب الخمر، واستقام أمر الرجل على أحسن ما يكون. ومن فضل الله عز وجل أن الإنسان إذا عامل الناس بحسن نية، ووفق في معاملته أن الله سبحانه وتعالى يضع البركة في معاملته، كم من أناس -والله- ينتظرون من ينتشلهم من الضلالات! وكم من أناس من شباب الأمة في أحوال لو رأيتهم يكاد الإنسان يسب ويشتم لكن يعلم الله أن في قلوبهم خيراً كثيراً! ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً شرب الخمر، فقال رجل: (لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، ما علمته إلا أنه يحب الله ورسوله) يشرب الخمر ويشهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحب الله ورسوله، ولذلك قال الله عز وجل: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات:11]. وقد ترى الرجل لحيته إلى نصف صدره يسب العلماء والدعاة وينتقص، ويتتبع عثرات الناس ويؤذيهم، وهو مظلم القلب حسود حقود، لم ينفعه ظاهر التزامه بشيء. وتجد الرجل في حال أو شكل ليس فيه تلك اللحية الطويلة، ولا ذلك الثوب القصير، وتجده من أبر الناس بوالديه، ومن أعف الناس لساناً، ومن أحفظهم للصلوات، ومن أحفظهم لإكرام الضيف والشيمة والوفاء والمواقف الحميدة، فـ {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات:11]. بعض الناس بمجرد أن يرى عاصياً يريد أن يبلغ عنه ويؤذيه! الهدف هو الإصلاح، حتى السجون والعقوبة المراد بها الإصلاح، فينبغي أن ندرك هذا، فالشريعة ما تريد الإيذاء بقدر ما تريد من الإصلاح، فينبغي أن يرد العبد إلى الله، ويرد إلى رشده وصوابه. فليس العلاج مقتصراً على الجوانب الشكلية، بل المراد العلاج الجوهري: {و َقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63]، قولاً يبلغ إلى المقصد، ويصل إلى الهدف، وهذا لن يكون إلا لأناس ملأ الله قلوبهم بالرحمة؛ لأن الله يقول لنبيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فلما كان رحيماً بالأمة، قال الله له: {و َقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63] لا يقول القول البليغ قاسي القلب، لا يقول القول البليغ إلا من كان رحيماً رقيقاً رفيقاً بالناس، يدخل على المجرم فيتذكر أولاده وأسرته، ويحب أن يستر عباد الله كما يحب أن يستر في أهله وعرضه، ويحب الخير للمسلمين كما يحبه لنفسه. وليس معنى هذا أن يعين أهل الفساد على فسادهم، إنما المراد أن توزن الأمور بالميزان الذي جمع العقل والنقل، ولذلك قال العلماء: من رزقه الله عقلاً يميز به بين الأمور، ورزقه نور العلم والبصيرة؛ سلمت أحواله، وأصاب الرشد والسداد في رأيه، نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل! استر جارك، وذكره بالله، وخذ بناصيته إلى طاعة الله ومحبته، جارك وصّاك الله به من فوق سبع سماوات: (وما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه). فنوصيك بجارك خيراً، واحرص -بارك الله فيك- على هدايته ودلالته وستره، وتذكيره بالله، نسأل الله العظيم أن يكتب صلاحه وصلاح كل مفسد على يديك، وعلى يد كل داعية إلى الله، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

لا يجوز الجمع بين الجمعة والعصر

لا يجوز الجمع بين الجمعة والعصر Q هل يجوز للمسافر أن يقدم صلاة العصر مع الجمعة ويصليها قصراً، أثابكم الله؟ A السنة أن المسافر لا يصلي الجمعة، وهذا أمر معروف من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يثبت في أي حديث صحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى الجمعة في سفره، حتى إنه في يوم عرفة ومعه أهل مكة وهم أناس محتاجون إلى الجمعة مقيمون؛ صلى الظهر ركعتين صلوات الله وسلامه عليه، ولم يخطب خطبة الجمعة، وهذا أصل معروف عند العلماء رحمهم الله، وكلهم متفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ جمعة في سفره، حتى كان معه في بعض أسفاره عشرات الألوف؛ ومع ذلك لم يصلِّ بهم جمعة في السفر. فالجمعة ساقطة عن المسافر، وإذا كانت ساقطة عنه -وهدي النبي صلى الله عليه وسلم عدم صلاة الجمعة- فالأفضل له إذا حضر المسجد أن ينوي الصلاة ظهراً، وإذا نواها ظهراً فإنه ينال فضيلة سماع الخطبة، والانتفاع بها، ثم إذا انتهى وصلى مع الإمام الركعتين بنية الظهر قام وصلى العصر ركعتين، فجمعهما مع بعضهما، ولا إشكال في هذا الجمع. وبناء على ذلك فلا يجمع بين الجمعة والعصر؛ لأن المسافر ما يصلي جمعة، ونجد بعض المتأخرين يقول: إنه لا يصح الجمع؛ لأن العلماء يقولون الجمع بين الظهر والعصر، ولم يقولوا: الجمع بين الجمعة والعصر، وغفل أمثال هؤلاء عن أن المسافر لا جمعة له أصلاً، ولذلك لم يذكر العلماء الجمع بين الجمعة والعصر؛ لأن الجمع يقع في السفر بين الظهر والعصر. وعلى ذلك؛ لا يشكل ما ذكر، فعلى من يريد أن يجمع بين الظهر والعصر يوم الجمعة يسمع الخطبة ويستفيد، ثم بعد ذلك ينويها ظهراً وراء الإمام، ثم إذا سلم الإمام قام وصلى ركعتي العصر، ولا إشكال في هذا الجمع ولا غبار عليه، والله تعالى أعلم.

حكم من أصابته نجاسة في ثوبه وحضرت الصلاة ولا ثوب له غيره

حكم من أصابته نجاسة في ثوبه وحضرت الصلاة ولا ثوب له غيره Q إذا حضرت الجماعة وليس عند الرجل إلا ثوب يرتديه وأصابته نجاسة، ولا يتمكن من لبس غيره إلا إذا فاتت الجماعة، فهل يصلي فيه أو ينتظر حتى يجد الثوب الطاهر؟ وهل إذا كان الوقت يفوت يصلي فيه أو ينتظر حتى يجد الثوب الطاهر، أثابكم الله؟ A إذا كان عنده ثوب وهذا الثوب فيه نجاسة ولا يمكن أن يزيل النجاسة، ولا يجد غير هذا الثوب الذي فيه نجاسة يستر به عورته؛ فإنه تسقط عنه الجماعة إذا رجا أن يجد ثوباً طاهراً. فمثلاً قال: لو أني غسلت الثوب الآن لن أدرك الصلاة في المسجد، نقول: اغسل الثوب ولو فاتتك الجماعة؛ لأن هذا عذر، وصلاة الجماعة وجوبها ليس كوجوب إزالة النجاسة عن البدن؛ لأن إزالة النجاسة عن البدن والثوب والمكان شرط في صحة الصلاة، والجماعة ليست شرطاً في صحة الصلاة. ولهذا ينبه أنه تُقدم الشروط على الواجبات، فما كان شرط في صحة الصلاة يقدم على الواجب، ووجوب الجماعة منفصل عن الصلاة، وليس بشرط، وعلى هذا نقول: اغسل ثوبك -رحمك الله- وانتظر حتى ينشف، مادمت ترجو أن يجف قبل خروج الوقت. وفي هذه الحالة ما يجوز لك الخروج، ولا أن تصلي بهذا الثوب المتنجس، لأن الله يقول: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]، فلا بد أن تصلي بثوب طاهر. وأما إذا كنت تخشى خروج الوقت وما عندك إلا هذا الثوب النجس فهذه المسألة تعرف عند العلماء بازدحام الشرطين، عندنا شرط ستر العورة، وهو أن يلبس الثوب، وعندنا شرط الطهارة، فهل يصلي عارياً بناء على التقديم لشرط الطهارة على شرط الستر أم أنه يصلي مستور العورة إذا خاف خروج الوقت؟ ففي هذه الحالة يقدم ستر العورة؛ لأنه جمع بين حق المخلوق والخالق؛ لأن المخلوق يتضرر بانكشاف عورته، وحق الله عز وجل أيضاً أن يصلي مستور العورة، فإذا صلى بثوب نجس ساتراً لعورته أسقط عن نفسه الحرج، وأسقط حق الله عز وجل في ستر العورة. ولكن إذا صلى عارياً بدون هذا الثوب؛ فإنه في هذه الحالة ضيع حقه، وحصل له الحرج؛ لأنه تنكشف عورته فلا يأمن أن يدخل عليه أحد، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الله أحق أن يستحيا منه). وعلى هذا: يقدم شرط الستر للعورة، فيصلي إذا غلب على ظنه أنه لا يجد ثوباً طاهراً قبل خروج الوقت. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب التعزير [1]

شرح زاد المستقنع - باب التعزير [1] شرع الله الحدود تأديباً وتكفيراً لمن ألم بها، وزجراً لغيرهم عن الوقوع فيها، وما كان من معصية لا حد فيها فيشرع فيها التعزير، وهو تأديب أيضاً، ولكنه دون الحد، وبين التعزير والحد فروق سطرها أهل العلم.

التعزير وأحكامه

التعزير وأحكامه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب التعزير].

تعريف التعزير

تعريف التعزير التعزير في لغة العرب: مأخوذ من عزّر فلان فلاناً إذا منعه، ويقال للنصرة، فالمعزر هو الناصر، والأصل في هذه المادة أنها للمنع والحيلولة بين الشيء والشيء الآخر، ونظراً لاشتمالها على معنى المنع استعملت في التأديب؛ لأن التأديب يمنع الإنسان من العود إلى ما فعله من الأمور الممنوعة والمحظورة، ولذلك عرّفه المصنف رحمه الله: بالتأديب، وهذا أحد التعاريف التي ذكرها العلماء رحمهم الله، وبهذا التعريف -وهو التأديب- تكون المناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي: وجود المنع، وذلك أن المعنى اللغوي يدور حول الحيلولة بين الشيء والشيء، والتأديب يمنع الإنسان من الأمور التي لا تليق به والأمور التي حظرت عليه ومنع منها. يقول رحمه الله: (باب التعزير) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالعقوبة التي لا حد لها ولا تقدير في الشرع. وهذه العقوبة -عقوبة التعزير- تشرع في غير الحدود المقدرة، سواء كانت الجناية من الجنايات القولية أو الجنايات الفعلية، ولكن Q لماذا ذكر المصنف رحمه الله باب التعزير في هذا الموضع بعد الجلد؟ فهو قد ذكر عقوبة الزنا، وأعقبها بعقوبة القذف، وأعقبها بعقوبة شرب المسكر، والسؤال: لماذا ذكر التعزير بعد هذه الحدود؟ والحقيقة أنه كان ينبغي أن يؤخر باب التعزير إلى نهاية كتاب الحدود؛ لأن التعزير عقوبة غير مقدّرة شرعاً، فكان المنبغي أن ينتهي من العقوبات المقدّرة شرعاً ثم بعد ذلك يبين ما لا حد فيه ولا عقوبة معينة شرعاً، وهذا مسلكٌ درج عليه بعض الأئمة رحمهم الله؛ أنهم ذكروا أبواب وكتاب الحدود ثم أعقبوها بباب التعزير. والمصنف رحمه الله لعله لاحظ وجود التعزير في أغلب الصور أنه يقوم على الجلد، ولذلك بعدما فرغ من بيان العقوبات الشرعية المقدرة في الجلد بالأعداد المحددة شرعاً -كما ذكرنا في حد الزنا والقذف- أتبعه بحد الخمر، ثم أتبع ذلك بالتعزيرات لأنها في الغالب بالجلد. ومن هنا تكون المناسبة وجود اتفاق أو شبه مقاربة بين عقوبة الجلد بالحد وعقوبة الجلد بالتعزير، ومن هنا جاء في باب التعزير أنه لا يجلد فوق عشرة أسواط، وهذا نوع مناسبة، وإلا فالحقيقة أن الأليق به ذكره بعد كتاب الحدود، ومن العلماء والأئمة رحمهم الله من أخّر باب التعزير، وهذا أدق.

مشروعية التعزير

مشروعية التعزير يقول رحمه الله: [باب التعزير]. التعزير مشروع في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع السلف والخلف رحمهم الله من الخلفاء الراشدين وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وكذلك أئمة السلف والتابعين لهم بإحسان رحمة الله عليهم أجمعين على مشروعية التعزير. ففي كتاب الله عز وجل شرع الله تعزير المرأة الزانية قبل نزول عقوبة الزنا، فأمر سبحانه وتعالى بحبس الزانية ومنعها من الخروج حتى يتوفاها الموت أو يجعل الله لها سبيلاً، ثم جاء الحديث ببيان عقوبة الزنا، ونزلت الآيات التي تبين الجلد في الزنا، فقال عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، فقبل نزول هذه العقوبة كانت المرأة الزانية تحبس في البيت، والرجل إذا زنى فإنه يؤذى، والأذية تكون بتوبيخه وأذيته، حتى نزلت العقوبة المقدرة شرعاً، فهذا من نص الله على التعزير. كذلك شرع الله التعزير في الحق الخاص، كما في تعزير الرجل لامرأته: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء:34]، فالمرأة إذا نشزت على زوجها فإنها قد ضيعت حق الزوج؛ لأن الله جعل الرجال قوامين على النساء، وجعل المرأة تحت الرجل تقوم على أمره وترعى شأنه، فإذا استرجلت ونشزت وخرجت عن طاعته خرجت عن فطرتها، فلا بد من تأديبها وإيقافها عند حدها، فشرع الله عز وجل التعزير على هذا الوجه، وهذا يدل على مشروعية التعزير بالكتاب. كذلك أيضاً: شرع الله عز وجل التعزير على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وبسنته الصحيحة، فقد عزر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعزر الخلفاء الراشدون من بعده، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا يُجلد فوق عشرة أسواط إلا في حدٍ من حدود الله)، فلما قال: (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله)، بيّن مشروعية الجلد، وأنه يكون في غير الحدود؛ لأنه استثنى الحد في الزيادة، وأجاز العقوبة دون العشرة في غير الحدود، فدلّ على أنه يشرع التعزير بالجلد.

العقوبة بالتعزير

العقوبة بالتعزير والتعزير في الحقيقة لا يتوقف على الجلد، فكما أنه يكون بالجلد؛ يكون أيضاً بالتوبيخ، ويكون بالنفي، ويكون بالتغريب، ويكون بإتلاف المعصية التي يعصى الله عز وجل بها، وكل هذا ثبتت به النصوص. فالتعزير بالضرب: قال صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر)، فشرع أن يضرب الصبي، وهو نوع عقوبة تهيئة له لحكم الله عز وجل والقيام بأمره وما أوجب. كذلك أيضاً: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قتل وأمر بالقتل عقوبةً وتعزيراً، فثبت عنه عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم وغيره أنه قال: (من أتاكم وأمركم على رجل واحد منكم يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه)، فشرع قتله تعزيراً، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية أنه نوع من التعزير بالقتل. ومن هنا صارت عقوبة التعزير لا تتوقف على شيء معين، وإنما تكون إلى نظر القاضي والإمام، فينظر الأصلح في زجر الناس وردعهم، وحفظ حقوق الخاصة والعامة. وكذلك أيضاً يكون التعزير بالتوبيخ والتقريع والتأنيب، وقد ثبت بذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أبا ذر رضي الله عنه لما قال لـ بلال: يا ابن السوداء، غضب عليه الصلاة والسلام وقال له: (إنك امرؤٌ فيك جاهلية)، فهذا توبيخ وتأنيب لـ أبي ذر حينما قال هذه الكلمة، رضي الله عنه وأرضاه، فدلّ على مشروعية التوبيخ لمن أساء. وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه شرع العقوبة بالقول لمن أساء في قوله، فقال: (من سمعتموه يدعو بدعوى الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا)، أي: بمعنى أن يوبخ، ويقال له: امصص ذكر أبيك البعيد، إهانةً له وذلة؛ لأنه يفتح على المسلمين باب الاحتقار بالعصبيات والنعرات، وهذا باب شر، فكما أنه يستعلي على الناس؛ أذله الإسلام، وأذله رب الجِنة والناس، فجعله بهذه المثابة، فيقال له: امصص ذكر أبيك، ويذكر تصريحاً بما يعرف بالعرف توبيخاً له وزجراً، وهذا من العقوبة. أيضا يكون التعزير بالكف عن الخير ومنع الخير عن الإنسان، كما جاء: (أن رجلاً عطس فحمد الله فشمته النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عطس الآخر فلم يحمد الله عز وجل فلم يشمته النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! عطس فلان فشمته، وعطست فلم تشمتني، قال: إن هذا حمد الله فشمته، وأنت لم تحمد الله فلم أشمتك)، فهذا من العقوبة بالمنع من الخير. ويكون التعزير بالهجر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرئ مسلمٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال)، فشرع الهجر فيما دون ثلاث ليال إذا أخطأ الرجل على الرجل، أو أساء الرجل إلى الرجل، أو أساءت المرأة إلى المرأة، وأرادت أن تؤدبها في إساءتها، ورأت أن من المصلحة ذلك؛ فإنها تعرض عنها وتمتنع من بداءتها بالكلام، فلا تتبسم في وجهها، ولا يتبسم الرجل في وجه الرجل، ولا يبدأه بالكلام، وهذا في حدود ثلاثة أيام، فإذا مضت الثلاثة أيام فلا يجوز الهجر بعدها، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه العقوبة في الثلاثة الذين خلفوا، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب الله عليهم سبحانه وتعالى. فهذه كلها عقوبات تعزيرية، وهذا يدل على كمال الشريعة الإسلامية وسمو منهجها، أنها عاقبت المسيء في إساءته، ولكن جاءت العقوبة بما يتفق مع الجريمة.

الفروق بين التعزير والحد

الفروق بين التعزير والحد وهناك سؤال بالنسبة للتعزير والحد: فالحد عقوبة مقدرة شرعاً، والتعزير عقوبة غير مقدرة؛ ولذلك ذكر العلماء جملة من الفوارق بين الحد والتعزير. فالحدود تقدم معنا أنها مقدرة لا تجوز الزيادة عليها ولا النقص منها؛ لأن حق الله فيها في ذلك الحق المقدر الواجب على الحاكم وعلى القاضي أن ينفذه شرعاً، فلا يزيد عليه ولا ينقص منه على الأصل في الحدود المقدرة، فلا يزيد في جلد الزاني فوق مائة جلدة؛ لأن الله أمر بجلده مائة جلدة، فهذا حد، ولا يجوز أن ينقص من المائة، لكن التعزير قد يزيد وقد ينقص، ويختلف باختلاف الأشخاص، وباختلاف الأزمنة والأمكنة، وباختلاف الأحوال والظروف، فمثلاً: لو أن شخصاً سب شخصاً وأساء إليه، فإننا ننظر إلى الشخص الذي سَب والشخص الذي سُب ولعن، ثم ننظر هل هذا الشخص الذي وقع عليه السب استفز الذي سبه، أم أن الذي سب سَب مباشرة تهكماً واستهزاءً، فينظر إلى الظروف والأحوال والقرائن؛ ولذلك نجد أن التعزير يرتبط بنظر القاضي ونظر الوالي، ولا يتقيد بشيء معين، فالقاضي هو الذي ينظر وهو الذي يقدر وينزل الناس منازلها، سواءٌ كانوا جناةً أو مجنياً عليهم. وكذلك أيضاً من الفوارق: أن الحد لا تجوز فيه الشفاعة إذا بلغ القاضي، والتعزيرات يجوز فيها الشفاعة، وتدخل تحت عموم قوله عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء)، فلما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا بلغت الحدود السلطان فلعنة الله على الشافع والمشفِّع)، فمفهوم قوله: (الحدود)، أن غير الحدود تشرع فيه الشفاعة، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا)، فالأصل هو الشفاعة ومحاولة درء الضرر عن المسلم ما أمكن؛ لعله أن يتوب ويرجع ويصلح من بعد فساد، ولكن الحدود لا مجال للشفاعة فيها، وكذلك أيضاً يجب على القاضي إذا استبان له الحد أن ينفذه، ولا مدخل للاجتهاد فيه، فهو إذا ثبتت عنده الجريمة توجه إليه خطاب الشرع أن يأمر بتنفيذ الحكم وإيقاع العقوبة والحد، وأن لا تأخذه في ذلك لومة لائم، كائناً من كان، إنما يخاف الله ويراقب الله، وينصح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم عامها وخاصها، عالماً أنه لا يصلحهم إلا شرع الله سبحانه وتعالى. وأما بالنسبة للتعزيرات فإنه يسع القاضي والإمام أن ينظرا، فمثلاً: لو أنهما أرادا تعزير شخص، فوجداه قد انكسر وخاف وانزجر، فإنه ربما مجرد التهديد يكون تعزيراً، ومجرد التخويف قد يكتفي به القاضي، وقد يرى أن من المصلحة أن يكتفي به، بخلاف الحدود، فلو بكى الزاني أو الزانية، ولو أقسم الأيمان المغلظة أنه لا يعود، فتنفذ العقوبة عليه، فلا هوادة في ذلك ولا مجال للاجتهاد في رده. وكذلك أيضاً: التعزير يكون بمختلف العقوبات، فيكون بالأقوال والتوبيخ -كما ذكرنا- ويكون بالضرب -كما ذكرنا في الجلد- ويكون بالقتل، ويكون بالتغريم بالمال، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غرّم في ضياع حق الله، وكذلك غرم في ضياع حق المخلوق، فقد غرم في ضياع حق الله حينما امتنع رجل عن أداء الزكاة التي فرض الله عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنا آخذوها وشطر ماله عزمةٌ من عزمات ربنا)، وقد تقدم معنا هذا في باب الزكاة، فهذا تعزير بالمال. كذلك أيضاً: ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه عزر بالمال في حق المخلوق، فحكم عليه الصلاة والسلام أن من دخل الحائط فأكل من الثمر دون استئذان صاحبه، ولم يحمل في جيبه ولم يختلس ولم يأخذ من الثمر؛ فلا شيء عليه، فله أن يأكل من الثمر شريطة أن لا يفسد، ولكن إذا أخذ وانتهب من البستان فوضع في جيبه شيئاً زائداً عن حاجته نُظر: فإن كان الذي أخذه من الثمر من غير الحرز، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من قبل أن يؤويه الجرين)، فإذا أخذه بهذا القدر دون أن يؤويه إلى الجرين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فعليه مثليه والعقوبة) فقوله: (مثليه): أي: نغرمه ضعف ما أخذ، فلو أخذ مثلاً صاعاً ألزمناه أن يرد صاعين، وليس صاعاً واحداً وهذا من التعزير بالمال. والعقوبة بتعزير زائد على ذلك، فهذا كله مما يختلف فيه التعزير عن الحدود. أيضاً: التعزير يمكن أن يسقطه القاضي ويمكن أن يسقطه الإمام إلا إذا كان حقاً لمخلوق يطالب به، وهذه المسألة فيها خلاف عند العلماء، لكن من حيث الأصل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غض الطرف عن بعض الإساءات وعن بعض الأخطاء ولم يعزر فيها، مع أنه يسع فيها التعزير، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه اختصم رجل من الأنصار والزبير رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض شراج الحرة -وكان الوالد رحمه الله يقول: الأشبه أنه في شراج مهزور ومذينيب، ومهزور ومذينيب مما كان يسيح من الماء من شرقي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في الجهة التي تعرف اليوم في زماننا بالحرّة الشرقية، وكان فيها عيون وفيها بعض الأنهار تجري- فكان بستان الزبير فوق بستان الأنصاري، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسقي الزبير ثم يرسل الماء إلى الأنصاري، فقال الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه: أن كان ابن عمتك؟! وهذه كلمة عظيمة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم غض الطرف عن ذلك. فمن أهل العلم من قال: إن هذا راجع إلى أصل قررته الشريعة في العفو عن الأنصار؛ لأنهم نصروا الإسلام نصراً مؤزراً، وفدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودين الله وشرع الله بكل ما يملكون حتى بالنفس، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأنصار: (إنهم أدوا ما عليهم)، يعني: أدوا الذي عليهم، وهذه كلمة ليست بالهينة أن يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم أدوا ما عليهم من نصرة الإسلام ونصرة الدين، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنهم أدوا ما عليهم، فمن وجد منهم مسيئاً فليتجاوز عنه)، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم تجاوز عنهم لعظيم بلائهم في الإسلام، وغفر هذه الكلمة في مقابل ما كان منهم من الخير تأليفاً لقلوبهم. وعلى كل حال: فالتعزير يسع فيه العفو في بعض المسائل، وقد استدلوا لذلك بأدلة سيأتي -إن شاء الله- الكلام عليها في حكم التعزير.

حقيقة التعزير الشرعية

حقيقة التعزير الشرعية قال رحمه الله تعالى: [وهو التأديب]. قوله: (وهو التأديب) الضمير عائد إلى التعزير، والمراد بقوله: هو التأديب، بيان حقيقته الشرعية، فاستفتح المصنف رحمه الله باب التعزير بالتعريف بالتعزير، وهذا أصل تقدم معنا في مقدمات الفقه: أن العلماء رحمهم الله يعتنون بالحقائق والتعريفات اللغوية والاصطلاحية من أجل تصور الشيء قبل الحكم عليه، ومن هنا القاعدة: الحكم على الشيء فرع عن تصوره. وقد ابتدأ رحمه الله بالتعريف، فقال: وهو التأديب، وقال بعض العلماء: عقوبةٌ غير مقدرة شرعاً ثابتة في حق لله أو حق لآدمي أو هما معاً، ومنهم من يقول: تجب في حق الله أو حق الآدمي، ومنهم من يقول: تثبت في حق الله أو في حق الآدمي، والتعبير بالوجوب راجح عند من يقول بوجوب التعزير، فمن عبر بالوجوب يرى أن التعزير لازم ولابد منه، ولا يسع فيه العفو، وهذا على القول بأن حكم التعزير واجب، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

من يحق له التعزير

من يحق له التعزير قوله رحمه الله: (وهو التأديب) هذا التأديب يكون من الوالي والسلطان، ويكون من الشخص من أفراد الأمة، فقد يعزر الإمام العام، مثل أن يعزر الموظفين والعمال الذين يقومون بمصالح الأمة إذا قصّروا، وقد يعزر الإمام العام القضاة إذا قصروا في حقوق الناس، أو ماطلوا في الحكم عليهم، أو أخروا الشهود أو ظلموهم واشتكي إليه، وكذلك من حقه أن يعزر العمال عند أخذهم للرشوة أو تزويرهم، أو نحو ذلك من تضييع حقوق العامة والخاصة، فهذا التعزير للإمام. وقد يعزر القاضي فيما ذكرنا، كما إذا اشتكى إليه المظلوم أنه ضاع حقه، واعتدي عليه بإساءة لا تصل إلى حد من حدود الله، كأن يسبه سباً لا يوجب حد القذف، فحينئذٍ يعزره القاضي. ويعزر أيضاً الوالد ولده، فإن للأب أن يعزر ولده، وللزوج أن يعزر زوجته، وللعالم والشيخ أن يمتنع من إجابة السائل -تعزيراً له- إذا لاحظ عليه أن أسئلته مريبة، أو أنه يتعنت في أسئلته، أو أنه يختار الأغلوطات، فمن حقه أن يمتنع في مثل هذا، أو رأى أن من المصلحة أن يعزر الطالب الذي يشوش على إخوانه ويزعجهم، فيمنعه من الحضور إذا علم أنه لا مصلحة في حضور مثله، وغيره يغني عنه، فمن حقه أن يعزر طالبه إذا أساء فتجاوز حدود الأدب.

تعزير من أساء الأدب في مجالس العلماء والقضاة

تعزير من أساء الأدب في مجالس العلماء والقضاة بعض العلماء يرى أن مجالس القضاة ومجالس العلماء لها حرمة، وأن الغلط فيها لا يسع العفو فيه، ولذلك قال بعض العلماء: لو أساء أحد في مجلس القاضي فإنه يجب على القاضي أن يعزره، ومن هنا قال صاحب التحفة: ومن جفا القاضي فالتأديب أولى وذا لشاهد مطلوب فقول: (من جفا القاضي) مثل أن يقول له: أنت ظلمتني في حكمك، أو أنت ظالم في حكمك، أو قال له: لا أقبل حكمك، أو حكمك لا يقبل أو نحو ذلك من التهكم والسخرية بأحكامه، وكذلك إذا أساء إلى الشهود فقال لهم: أنتم كذابون ومزورون، أنتم تأخذون المال لتشهدوا عليّ فاتهمهم، وحينئذٍ إذا كان في مجلس القاضي فإنه لا يسع أن يعفو عنه، وقد يعترض معترض بقضية الصحابي حينما قال: (أن كان ابن عمتك؟!) وقد ذكرنا أن من الأجوبة عن ذلك: أن هذا خاص مراعاةً من النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار، وما كان منهم من سابقة ونصرة، ولما علم من صدق إيمانهم به عليه الصلاة والسلام، ولكن المال فتنة، فغفر للرجل هذه الكلمة لعله لما يعلم منه من سابقته في الإسلام أو حرصه على الإسلام فغفر له ذلك، ولم يجد ما يوجب العقوبة. ومن هنا قالوا: من أساء الأدب في مجلس القاضي أو العالم فليعزره، والسبب في تخصيص العلماء رحمهم الله لهذين المجلسين: مجلس القاضي -مجلس الحكم- ومجلس العالم: أنه لا يسع فيهما العفو. ومنهم من يلحق الأئمة والخطباء في مساجدهم، كأن يكون شخص يرد على الخطيب في أمر فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، ويسع الخطيب أن يختار قولاً، فيقوم ويتهجم على الخطيب ويتكلم عليه، فيعزر مثله؛ لأنه ليس من حقه، وإذا أراد أن يتبنى رأياً آخر فيفتح له مسجداً آخر ويخطب فيه بما يرى من الصواب والحق، أما في مجلس العالم ومسجد الإمام فهو أحق أن يبين ما ترجح له من الحق. قالوا: فإذا أساء الأدب في مجالس هؤلاء فإنه لا يُعفا عنه، وقد ذكر بعض الأئمة أنه لا يسلم من عقوبة الله العاجلة أو الآجلة من أساء الأدب في مجالس العلماء، وأراد التضييق عليهم، أو أساء الأدب مع الخطباء، أو مع الأئمة، فيأتي وراء الإمام من أجل أن يخطئه، وكلما انتهى من الصلاة يضيق عليه فيقول له: ألاحظ عليك كذا ألاحظ عليك كذا فيضيق عليه في إمامته. فهؤلاء الذين تقدموا للإمامة، وتقدموا لأمور شرعية ومناصب شرعية، في حال الاعتداء عليهم والتضييق عليهم في أداء أمانتهم، والتضييق عليهم في أداء رسالتهم؛ قالوا: لا يسع العفو فيه؛ بل يعزر، وإذا عفا العالم أو الإمام فلا يأمن مثل هؤلاء من بلاء الله عز وجل، وقد ذكروا عن الإمام أبي طالب رحمه الله وكان من أئمة القرآن المبرزين في القراءات، أنه كان لا يخطب خطبة إلا قام له رجلٌ يقاطعه أثناء الخطبة ويعقب عليه ويؤذيه ويشوش عليه، فأكثر الناس عليه، وقالوا: إلى متى تسكت عنه؟! وكان رحمه الله عالماً صبوراً -والعلماء منهم الصابر، ومنهم من لا يصبر- فصبر رحمه الله حتى أكثر الرجل عليه، وفي ذات يوم قام فأساء إليه إساءة بليغة في علمه، فما كان منه إلا أن قال: اللهم اكفنيه بما شئت؛ فسقط الرجل مشلولاً، ولم يعد إلى المسجد بعدها أبداً! فلا يأمن أمثال هؤلاء؛ لأن أهل الدنيا لا يرضى أحد منهم بمثل هذا، فمثلاً: لو أن تاجراً أقام رجلاً في دكانه فأسيء إليه، فهذا التاجر يحس أن الإساءة إلى العامل إساءة إليه، وهكذا المناصب العامة إذا أُسيء إلى أهلها كأنه أُسيء إلى من وضعهم، فكيف بمن وضعهم رب العالمين! وكيف بمن قدمهم الدين والشرع خلفاء للرسل وارثين للنبوة، يبلغون رسالات الله عز وجل! فمن هنا قالوا: لا يسع العفو؛ لأنه لو عفا عنه لتجرأ على حق الله عز وجل؛ لأن الانتقاص هنا ليس للقاضي ولا للعالم، وليس لشخصه، وإنما هو انتقاص للعلم والدين، ومن هنا قالوا: إنه لا يسع العفو لحرمة المجلس، ولو أن الإمام في ذاته والقاضي عفا في نفسه فإنه لا يسع العفو حرمة للمجلس.

الأداب وأنواعها

الأداب وأنواعها وقوله رحمه الله: (وهو التأديب). الأدب: رعاية الحرمة، فمن راعى حرمة الأشياء في قوله وعمله وفعله وسمته ودله فهو المؤدب، ويكون الأدب أدب المخلوق مع المخلوق، وأدب المخلوق مع الخالق، وأدب الخالق مع المخلوق، فهذه ثلاث أحوال ذكرها العلماء للأدب. فالله عز وجل يعلمنا الأدب -مع أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام- في خطابه للرسل فيقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64]، ولم يقل: (يا محمد) بالاسم المجرد؛ تشريفاً له وتكريماً، فناداه بالرسالة، وناداه بالنبوة؛ تشريفاً له وتكريماً، حتى يعلم الأمة الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان العلماء والأئمة لا يقولون: هذا قول محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يقولون: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول نبي الله صلى الله عليه وسلم؛ رعايةً للأدب، وهذا هو خطاب الله عز وجل لعبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه. ومن ذلك قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]، وهذا من أجمل ما يكون من الخطاب، أن الله قدّم العفو على التعنيف على الفعل، فقال له: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]، فلم يقل له: لِمَ أذنت لهم؟! عفا الله عنك، ولكن قال: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]، وهذا تعليم للأمة أن يراعوا حقوق من له حق، وحرمة من له حرمة. قالوا: ومن أدب الخالق مع المخلوق أيضاً قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1] * {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:2]، فإن الله لم يقل له: عبست، وإنما قال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى}، حتى إن من قرأ السورة لا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي نزلت فيه هذه السورة. وقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2]، لا يعلم من الذي عبس، وهذا من أكمل ما يكون حينما يُحكى الأمر للشخص دون أن يباشر بالخطاب، فهذا من الأدب، وكذلك تأتي إلى الشخص وتقول له: من الناس من يقول فيّ كذا وكذا، والمخاطب هو الذي قال هذا الكلام، ففرقٌ بين أن تقول: من الناس من يقول فيّ كذا وكذا، وبين أن تقول له: أنت تقول فيّ كذا وكذا. وأما أدب المخلوق مع الخالق فهو، وهو حال الأنبياء خاصة، بل وعباد الله وأوليائه الصلحاء الأتقياء السعداء، وهؤلاء هم الذين يراعون الأدب مع الله. ومن ذلك قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80]، ولم يقل: وإذا أمرضني فهو يشفيني، ولا شك أن الله هو الذي يمرضه، ولكنه تأدب: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78 - 80]، فنسب المرض إلى نفسه تأدباً مع الله سبحانه وتعالى. وهناك أدب المخلوق مع المخلوق: وأحوال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم تدل على ذلك، ومن أراد أن ينظر إلى الأدب في أبهى صوره وأجمل حلله فليقرأ قصص الأنبياء، وليقرأ التفاسير الدقيقة التي تبرز الجوانب الجميلة الجليلة لرسل الله صلوات الله وسلامه عليه، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، فهذه الصفوة التي اصطفاها الله من خلقه والخيرة التي اختارها الله من خليقته، هم الذين كانوا يراعون الأدب على أتم أحواله، فمن أدب المخلوق مع المخلوق قول يوسف عليه السلام: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف:26]، فجاء بضمير الغائب، ولم يقل للمرأة: أنت راودتيني عن نفسي، بل قال: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي}، وهذا من أدب المخلوق مع المخلوق. فالأدب: هو رعاية الحرمة، والتأديب: حمل الإنسان على أن يراعي هذه الحرمة، وهو تفعيلٌ من الأدب بمعنى: أن الإنسان يحمل على رعاية هذه الحرمة في أقواله وفي أفعاله وفي تصرفاته وشئونه. ولا شك أن الحدود كلها فيها معنى التأديب، ولكن هذا النوع من العقوبات يقصد منه أن يحمل الشخص على رعاية الحرمات؛ لأنه لا يقع التعزير إلا عند الإخلال بالحرمات، سواء كانت عامة أو كانت خاصة، فيكون التعزير في الإخلال بالحرمات العامة وبالحرمات الخاصة، فسواءٌ كان في درء المفاسد أو جلب المصالح. وقوله رحمه الله: (وهو التأديب) تعريف مختصر راعى فيه رحمه الله الاختصار، والمقصود من التعزير أن يحصل التأديب، وإلا فالأصل أن التعزير عقوبة غير مقدرة شرعاً، تثبت أو تجب لحق الله عز وجل، مثل أن يمتنع من الزكاة فيعزر ويؤخذ منه ضعف الزكاة، أو نصف ماله، ويعزر بحق المخلوق مثلما ذكرنا.

حكم التعزير

حكم التعزير قال رحمه الله: [وهو واجب]. مذهب الجمهور أن التعزير واجب، وفي الحقيقة ينبغي النظر في التعزير: فإذا كان التعزير لحق مخلوق واشتكى المخلوق، فيجب أن يعزر الجاني، فمثلاً: شخص استهزأ بشخص، أو شهّر به فتكلم في مجامع الناس وقال: فلان لا يفهم شيئاً، أو فلان ما هو أهل لكذا وكذا، فشهر به، أو كتب في صحيفة أو وسيلة إعلامية ما ينتقص به أهل الحق ويزري بهم ويشهر بهم أمام الناس، أو اتهمهم بالباطل، فاشتكى أصحاب الحقوق إلى القضاة، فإذا اشتكى إلى القاضي فيجب على القاضي أن يعزر مثل هذا؛ لأن صاحب الحق طالب بحقه، والقضاة في الأصل ما أقيموا إلا لأجل ردع الناس بعضهم عن بعض، والقيام بالحقوق الواجبة. وكذلك بعض العلماء يرى وجوبه فيقول: في بعض الأحوال التي يكون فيها تقصير ومماطلة فيجب حينئذ على القاضي أن يعزر، وهو واجب، أي: أنه يرى أن التعزير يجب لكن في حالة ما. وإذا كان متعلقاً بحق الله عز وجل فإنه يسع فيه العفو، ولذلك جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إني أصبت من امرأةٍ -وذكر أنه أصاب دون الحد، من قبلة أو نحوها- فأنزل الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]، فقال الرجل: أهي لي خاصة يا رسول الله؟ قال: بل هي عامة)، فهذا يدل على العفو والمجاوزة في التعزير في حق الله عز وجل متى وسع ذلك، والسبب: أن الرجل جاء شاكياً تائباً يسأل عما يكفر ذنبه، وهذا نوع من التوبة والرجوع، ومن هنا لاحظ عليه الصلاة والسلام أن رجوعه كاف؛ لأنه أدرك ما قام به، والتعزير نوع من التأديب لرعاية الحرمة، وهذا قد جاء نادماً على إسقاط الحرمة، وحاله يدل على أنه لن يعود بإذن الله عز وجل إلى ذلك. فمن هنا يسع العفو إذا غلب على ظن القاضي المصلحة في عفوه، ولا بأس بذلك ولا حرج، فيكون التعزير في حالة العفو غير واجب، لكن لا يستطيع القاضي أن يعفو في حقوق المخلوقين بعضهم على بعض، ولا يستطيع القاضي أن يتدخل في شخص سبه شخص فآذاه أو اتهمه بما لا يوجب القذف، ورفع هذا الرجل يتظلم إلى القاضي، فلا يأتي القاضي ويقول: اعف عنه، أو يحاول تعطيل تأديبه؛ لأنه يجب على القاضي في هذه الحالة أن ينصف المظلوم ممن ظلمه، فحينئذٍ لا يتدخل القاضي؛ لأنه يجب على القاضي أن يكون محايداً، وفي حالة تدخله بالصلح قد يسقط حق ذي الحق، ولا يجوز إسقاط هذا الحق بدون موجب. ومن هنا لا يسع العفو ولا يسع الإسقاط في التعزيرات في الحقوق التي يطالب بها أصحابها، وإنما في حق الله عز وجل، والأمر فيه إلى نظر القاضي، ويحق له في بعض الأحوال أن يعفو ولا يعزر.

المعصية الموجبة للتعزير

المعصية الموجبة للتعزير قال رحمه الله: [في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة]. قوله: (في كل معصية) المعصية تكون بترك واجب أو فعل محرم، فنعزر في ترك الواجبات، كما لو امتنع من أداء الزكاة، أو امتنع من الصلاة مع الجماعة على القول بوجوب الصلاة مع الجماعة؛ فإنه يعزر، وكذلك أيضاً في حق المخلوق، وحقوق المخلوقين بعضهم مع بعض، فمثلاً: لو أن شخصاً جاء الناس ووضعوا عنده أماناتهم، ثم امتنع من إعطاء الأمانات، وشهد الشهود عند القاضي على أنه أخذ هذه الأمانات وماطل وأخّر في دفعها لأهلها، فإذا اشتكاه أصحاب الأمانات إلى القاضي فإنه يعاقبه لظلمه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد) يعني: تأخيره ومماطلته، و (الواجد) أي: الغني الذي يقدر على السداد (ظلم يبيح عرضه وعقوبته)، فأباح النبي صلى الله عليه وسلم أن يعاقب؛ لأنه عطّل حقوق الناس الواجبة. وكذلك لو أنه اقترض من الناس أموالهم ثم لم يسددهم، أو هناك عمال يشتغلون عنده، فإذا انتهى الشهر لا يعطيهم حقوقهم ورواتبهم؛ فإنه يجب على القاضي أن يعزر أمثال هؤلاء؛ لأنه امتنع من القيام وأداء الواجب. فقد تكون المعصية بترك واجب، مثل: عدم أداء الزكاة، أو عدم أداء الأمانات، أو عدم القيام بالحقوق الواجبة كالشهادة، فلو أن شخصاً -مثلاً- عنده شهادة، فهو يشهد أن فلاناً أعطى فلاناً عشرة آلاف ريال، فأنكر الشخص، ولما قيل له: تعال واشهد معي، امتنع، ولا يوجد شاهد غيره، فاحتاج صاحب الحق أن يأتي ويشهد، ففي هذه الحالة يأثم عند العلماء رحمهم الله بالإجماع؛ لأن الشهادة تتعين إذا لم يوجد غيره، فإذا امتنع -وليس من حقه أن يمنع الشهادة لقوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282]- فقد امتنع من واجب عليه، فإذا اشتكي إلى القاضي ألزمه بالحضور وسأله القاضي: هل تشهد أن فلاناً فعل كذا وكذا؟ فإن قال: نعم أشهد، فحينئذٍ يقبل شهادته، ثم يعزره ويؤدبه للتأخير والمماطلة، وهذه صورة من التأخير في أداء الواجب. وكذلك يكون التعزير لارتكاب المعصية بفعل الحرام، فمثلاً: لو أخذ أموال الناس عن طريق التزوير، أو الرشوة، ولا يؤدي واجباً، ويأكل الرشوة والربا، أو رجل اختلى بامرأة فأصاب منها ما دون الحد، فهذا لا يجب إقامة حد الزنا عليه؛ لأنه لم يصب الزنا، فحينئذٍ يعرز، وهذه كلها من فعل المحرمات. فيكون التعزير بترك الواجبات والوقوع في المحرمات، ما لم تبلغ الحدود، فهذه لها أحكامها الخاصة. وبقي الإشكال عند العلماء في المندوبات والمكروهات، فهل المندوب مأمور به، وهل المكروه منهي عنه، بحيث يذم التارك للمندوب أو الواقع في المكروه على سبيل يقتضي التعزير؟ فيه خلاف معروف عند أئمة الأصول رحمهم الله، وهذه المسألة تبين عليها مسألة التعزير في الإخلالات العامة في الآداب، فمثلاً: لو أن شخصاً جاء إلى مجالس العلم أو مجالس السكينة والوقار ورفع صوته وشوش على طلاب العلم، ففي هذه الحالة لو رفع أمره إلى القاضي فإنه يعزر، مع أنه ليس بالأمر الذي يصل إلى فعل المحرمات، ولكن فيه نوع من الأذية التي تصل غالباً إلى الكراهة الشديدة، ولو أنه جاء بالجوال وفتحه في مجلس العلم فهل يستحق التعزير أو لا؟ خاصة إذا انبعثت منه الأصوات الموسيقية، فآذى وشوّش في بيت الله عز وجل وحرمته، أو أثناء الصلاة، وهذا أعظم، وهذا ليس بالأمر الهين: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15]، أن يأتي إلى طلاب العلم وهم في مجلس العلم في تركيزهم وحفظهم ويفتح هذه الجولات، مع أنه بإمكانه أن يجعلها على الصامت، وبإمكانه أن يقفله، وهذا من الإهمال واللامبالاة، أو يأتي في المسجد أثناء الصلاة ويفتحه على الأصوات العالية، فمثل هذا لا شك أنه من المكروه كراهةً شديدة، لكن إذا اشتمل على أصوات موسيقية فلا شك أنه في هذه الحالة يقارب الحرمة. فالمقصود من هذا: أن قوله: (في كل معصية) عموم، والمعاصي تشمل ما كان لحق الله عز وجل أو كان لحق المخلوق. وقوله: (لا حد فيها) مثل عقوبة من استمتع بامرأة بما دون الزنا. وقوله: (ولا كفارة) مثل الجماع في نهار رمضان، فإذا جامع في نهار رمضان فلا يعزر؛ لأن الشرع أوجب لهذا الجماع كفارة، ومن هنا على هذا التعريف -في أحد الأوجه عند الحنابلة، وهو مذهب المالكية- أنه يشرع التعزير فيما تقدم معنا من الجنايات التي لا قصاص فيها وفيها الدية، فلو أنه ضربه ضربة متعمداً فهشم عظامه، فإن هذه الجناية تسمى: الهاشمة، ويجب فيها خمسة عشر من الإبل. ولكن في هذه الحالة إذا كانت هاشمة لا قصاص فيها، وأخذ خمسة عشر من الإبل، فهل يكفي هذا؟ قال طائفة من السلف وهو مذهب المالكية وأيضاً عند الحنابلة وجه: أنه يعزر، أي: يعاقبه القاضي بما يمنعه من الاعتداء على الناس؛ لأن من الناس من عنده المال ولا يبالي، فيهشم عظام الناس، ثم يهشم عظم هذا وعظم هذا ولا يبالي ويسترسل؛ لأن عقوبة المال -الأرش- لا تضره، ومن هنا قال رحمه الله: (لا حد فيها ولا كفارة)، فيدخل في هذا على هذا الأصل ما ذكرناه من الجنايات التي لا قصاص فيها وفيها الديات. لكن إذا كانت خطأً فلا يعزر إلا إذا كان فيه نوع إهمال، فمثلاً: لو أن مهندساً أشرف على عمارة وأهمل وقصر، وجب عليه الضمان، وأمر بدفع المال، ويضمن الإتلافات الموجودة، وهل يقف الأمر عند هذا؟ لأنه غني وعنده المال، فيذهب ويدفع المال المفروض عليه ولا يبالي، لكن إذا رأى القاضي أن من المصلحة أن يسجنه، أو يشهر به، فيعرف الناس أنه مهمل في عمله، وأنه يعرض أموال الناس وممتلكاتهم إلى الضرر؛ فله ذلك. فهذه أحوال وأشباهها تدخل تحت قوله: (لا حد فيها ولا كفارة) وعلى هذا فما فيه الكفارات قالوا: إنه لا يشرع فيه التعزير.

معاص توجب التعزير

معاصٍ توجب التعزير قال رحمه الله: [كاستمتاع لا حد فيه]. فلو أن رجلاً استمتع بامرأة بما دون الفرج، فقبلها أو فاخذها ولم يولج -أي: لم يوجب حد الزنا على الصفة المعتبرة- فإنه في هذه الحالة يعزر. مثلاً: لو أن رجلاً وجد مختلياً بامرأة أجنبية، أو وجدا في لحاف واحد، أو وجدا متجردين، ونحو ذلك من الاستمتاع الذي هو دون الزنا ودون الحد؛ شرع تعزيره. قال رحمه الله: [وسرقة لا قطع فيها]. فلو أنه سرق وأخذ مالاً على وجه السرقة، ولكن المال لا يبلغ النصاب، أو أخذ مالاً من غير حرز، كما لو جاء إلى شخص وأمامه مال، فاستغفله فسحب المال من طاولته أو من جيبه، بشرط ألا يشق الجيب؛ فيعزر. أما الطراق الذي يشق الجيوب فسيأتي الخلاف فيه. وكذلك نباش القبور هل يوجب نبشه القطع أو لا؟ الذين يقولون: لا يوجب القطع في النباش يقولون: يعزر؛ لأنه عندهم لا يصل إلى حد القطع، فكل سرقة لا توجب القطع ففيها التعزير. قال رحمه الله: [وجناية لا قود فيها]. وهكذا الجناية التي لا قود فيها -كما ذكرنا (الهاشمة) ونحوها- وقد اختار المصنف هذا القول، وأنا أميل إليه: أنه إذا اعتدى عليه بجناية لا قصاص فيها متعمداً؛ فإنه يشرع أن يعزر، واختاره الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله وغيره. قال رحمه الله: [وإتيان المرأة المرأة]. أي: السحاق، قالوا: إن المرأة إذا أتت المرأة واستمتعت بها؛ فإن هذا لا يوجب الحد؛ لأنه ليس فيه إيلاج، وحينئذٍ تعزر المرأتان. قال رحمه الله: [والقذف بغير الزنا]. القذف بغير الزنا كسب الناس وشتمهم، ووصفهم بالكلمات المنتقصة لحقهم، كأن يقول عن عالم: إنه لا يفهم شيئاً، أو لا يعرف كيف يُعلِّم؛ يتهكم به، فهذا السب والشتم والانتقاص والعيب على غير حق وبدون حق يوجب التعزير، وحينئذ ننظر إلى الشخص الذي سُب وشُتم وأوذي، والشخص الذي تكلم بذلك فيعزر بما يناسبه. قال رحمه الله: [ونحوه]. أي: ونحو ذلك من الجنايات في ضياع حق الله أو انتهاك حرمته مما لا يصل إلى الحد ولا كفارة فيه.

الأسئلة

الأسئلة

صلح القاضي بين المتخاصمين يشرع في بعض القضايا

صلح القاضي بين المتخاصمين يشرع في بعض القضايا Q هل يبدأ القاضي بإمضاء حق الخصم المظلوم، أم يحاول الصلح بينهما، فإذا امتنع صاحب الحق أمضى الحكم؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن ولاه، أما بعد: فإن الصلح من القاضي يقع في بعض القضايا وليس في كل القضايا. وينبغي أن ينتبه لقضية مهمة جداً، وهي: أن مقام القاضي يستلزم منه أن يكون حيادياً لا يميل لأحد الطرفين، وهذه الحيادية تقتضي منه أن لا يتدخل، فيعطف على أحد الخصمين على حساب الآخر؛ ولذلك فلا يجوز له أن يدخل خصماً قبل خصمه، ولا يجوز له أن يلين قوله لأحد الخصمين دون الآخر، ولا أن يخص أحدهما بالنظر الشديد دون الآخر دون موجب، ولا يرفع مجلس أحدهما على الآخر، ونحو ذلك مما ذكره العلماء، كل هذا إقامة للعدل، ولذلك جعل الله عز وجل القضاة من أجل أن يقوموا بالعدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، وعلّم الله نبياً من أنبيائه أن يعدل بين الخصمين، فقال لداود حينما أتاه الخصمان: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26]، فأمره أن يحكم بالحق وبالعدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، فإذا تدخل القاضي بالصلح فقد عطل صاحب الحق عن حقه، وصاحب الحق ما أتى يشتكي إلى القاضي إلا وقد تمعر وتألم وضاقت به الدنيا، فإذا وجد القاضي يقول له: سامحه واعف عنه، فحينئذ ييئس الناس من القضاة؛ لأن القضاة -غالباً- لا يوصل إليهم إلا إذا استنفدت وسائل الصلح، فإذا تدخل القاضي كان هناك ميل لأحد الخصمين على حساب الآخر. وقد استثنى العلماء رحمهم الله مسائل يجوز للقاضي أن يتدخل بها في الصلح، وسيأتينا -إن شاء الله- تفصيلها في باب القضاء. منها: إذا أشكل عليه الحكم، كقضية متشعبة متشتتة وأقوالها متباينة، وصعب عليه الأمر واستشكل، فمن حقه -آنذاك- أن يصلح بين الطرفين؛ لأنه لا يستطيع الفصل، ولم يتبين له الحق، أما إذا تبين له الحق فلا يجوز له التدخل بالصلح؛ لأنه مأمور {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49]، وعليه إذا تبين له الحق أن يحكم ويمضي الحق وينفذه. ومنها: خوف الفتنة، كأن يعلم أنه لو قضى لأحد الخصمين -وهو صاحب حق- أنه فستقع فتنة، وستسيل دماء، كما لو اختصموا عند القاضي وأحدهم شرير، وله أعوان، ويغلب على ظن القاضي أنه لو قضى له بهذا الشبر من الأرض أو المتر من الأرض فستثور العصبية والحمية، فيقتلون الرجل صاحب الحق، ولذلك ففي هذه الحالة يتدخل بالصلح ولا ينفذ الحكم. فهذه المسائل استثناها العلماء، قال الناظم رحمه الله: والصلح يستدعى له إن أشكلا حكمٌ وإن تعين الحق فلا ما لم يخف بنافذ الأحكام فتنة أو شحناء للأرحام فإذا أشكل عليه الحكم فمن حقه أن يصلح، ولا يتكلف الحكم عن جهل؛ فإنه {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فإذا أشكل عليه الحكم فيقول: إن قضيتكم مشكلة ومسألتكم مستعصية، فإن شئتم أن تترافعوا إلى غيري فافعلوا، ويقول لهم: اذهبوا إلى من هو أعلم مني، اذهبوا إلى فلان أو فلان -يرشح لهم أحداً أعلى- لكن إذا قالوا: لا نريد حكماً بيننا غيرك، ولا نرضى إلا بحكمك، فحينئذٍ يقول: لقد أشكل عليّ الأمر؛ فلا تحملوني ما لا أطيق، فلا أرى أن أحدكما ظلم الآخر، أو أرى أن كلاً منكما له حق، فإن أبيتم فأرى أن تصطلحوا، ويحق له أن يتصرف هذا التصرف، وكذلك أيضاً إن خاف فتنة أو شحناء للأرحام. ما لم يخف بنافذ الأحكام فتنة أو شحناء للأرحام ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أصلح بين الأنصار واليهود في مسألة حويصة ومحيصة حينما قتل عبد الله رضي الله عنه في الرسالة وقد تقدمت معنا في القسامة، فوداه النبي صلى الله عليه وسلم بمائة من الإبل من بيت مال المسلمين درءاً للفتنة؛ لأن اليهود كان لهم حق وعهد وذمة، ذمةُ الله ورسوله، والأنصار قتل لهم قتيل، والمقتول بين اليهود، وقد وجدوه يتشحط في دمه، فعرض على اليهود القسامة فامتنعوا، وامتنع الأنصار أن يقبلوا أيمان اليهود، مع أن اليهود امتنعوا، وطلب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار أن يحلفوا على رجل منهم فلم يفعلوا، فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من بيت مال المسلمين صلحاً. وقول الناظم: (ما لم يخف فتنة أو شحناء للأرحام) فإن الأرحام إذا وقعت بينهم الشحناء فهذه مصيبة عظيمة وبلاؤها أعظم. وعليه: فلا لا يجوز أن يتدخل القاضي بالصلح في غير ما تقدم؛ لأنه لو كل من كانت له خصومة وجاء إلى القاضي فيقول له القاضي: أريد أن أصلح بينكم؛ فإن هذا يُذهب هيبة القضاء، ويذهب مكانة القضاة، فالناس ما جاءوا إلى القضاء من أجل الصلح، وإنما جاءوا للفصل في المنازعات وبيان من هو صاحب الحق فيُؤدى له حقه، ومن هو الظالم فيردع عن ظلمه، هذه هي مهمة وأمانة القاضي، فلا يتدخل في مسألة الصلح إلا في مسائل معينة محدودة على ما قرره الأئمة رحمهم الله، والله تعالى أعلم.

التعزير بالسجن

التعزير بالسجن Q هل يكون التعزير بالسجن؟ A الصحيح من أقوال العلماء أنه يجوز أن يعزر بالسجن؛ ولذلك أمر الله عز وجل بسجن الزانية حتى يتوفاها الموت أو يجعل الله لها سبيلاً قبل نزول حد الزنا فقال: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} [النساء:15]، وهذا نوع من الحبس، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حبس في تهمة، كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجة، وكذلك أيضاً حبس الخلفاء الراشدون ونفوا، والنفي نوع من الحبس، وهو أن يُخرج إلى مدينة أو إلى مكان بعيد عن أهله عند خوف الفتنة أو الشر، ولذلك نفى عمر بن الخطاب نصر بن الحجاج إلى البصرة لما افتتن به نساء المدينة، فالنفي والحبس مشروع عند وجود الحاجة والمقتضي لذلك، والله تعالى أعلم.

حكم خروج الريح من قبل المرأة

حكم خروج الريح من قُبل المرأة Q الريح الذي يخرج من قبل المرأة وهو كثير في أوقات متفرقة، فهل تتوضأ عند كل صلاة؟ A هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله مشهور، حول: هل القبل يأخذ حكم الدبر في خروج الريح؟ فمن أهل العلم رحمهم الله من قال: إن خروج الريح من القبل حكمه حكم خروجه من الدبر، وهذا من ناحية إلحاق النظير بنظيره، وهو قول قوي، ولا شك أنه من ناحية الاحتياط أولى، ولكن إذا أصبح مع المرأة على وجه يتعذر عليها أو تحصل لها المشقة والعنت، فحينئذٍ تكون في حكم المستحاضة، كما لو خرج معها الدم واسترسل في الاستحاضة فإنها تتوضأ لدخول وقت كل صلاة، ولا تبالي بعد ذلك بخروج الريح منها، كما لو كان بها سلس الريح من الدبر، فالأحوط أنها تحتاط لدينها وعبادتها بذلك، والله تعالى أعلم.

بيع الذهب بالذهب

بيع الذهب بالذهب Q قمت ببيع ذهب لزوجتي لصاحب محل ذهب، ثم اشتريت منه بمبلغ هذا البيع ذهباً آخر، فما الحكم؟ A هذا المسألة فيها تفصيل: فيجوز لك ذلك إذا بعت الذهب الأول القديم، وقبضت الثمن، وفارقت المحل فاستدبرته وخرجت منه، ثم رجعت واشتريت، فهذه صفقة ثانية، أما كونك تخرج من المحل فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، ومن هنا فينبغي أن تفصل البيعتان عن بعض، فإذا بعت الذهب القديم واشتريت ذهباً جديداً، وأنت في نفس المحل، وزدت أو نقصت في القيمة، فقد اشتريت ذهباً بذهب متفاضلين، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل)، فدل على أنه لا بد من المساواة، وقال في لفظ السنن: (فمن زاد أو استزاد فقد أربى)، فمن بدل ذهباً قديماً بذهب جديد وأخذ الفرق البائع أو أخذ الفرق المشتري؛ فإنه الربا الذي لعن الله آخذه وموكله وكاتبه وشاهديه، فلا يجوز أن تبيع قديماً بجديد إلا إذا كانا متماثلين في الوزن دون أية زيادة، وهذا في مبادلة الذهب بالذهب؛ لأنك في الحقيقة بادلت الذهب القديم بالجديد، فلا تأخذ الفضل والزيادة، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد رضي الله عنه في الصحيح: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا -أي: لا تزيدوا- بعضها على بعضها، ولا تبيعوا غائباً منها بناجز)، فبين ربا النسيئة والفضل. فلا يجوز لك أن تبادل الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، وعلى هذا فيبادل الذهب القديم بالذهب الجديد إذا كان وزنهما واحداً، عشرين غراماً بعشرين غرام، أو مائة غرام، بمائة غرام، فلو زاد أحد الذهبين غراماً فهو ربا، ولو قال له: أبادلك هذه المائة غرام القديمة بهذه المائة الجديدة، وتدفع لي فرق جودة الصنعة، مثل أن تدفع مائة أو مائتي ريال لجودة صنعة الجديد، أو لأنه موديل جديد كما يقولون؛ فإن هذا ربا أيضاً، سواء كانت الزيادة من الذهب نفسه مثل مائة غرام بمائة غرام، أو من شيء أجنبي عن الذهب، مثل أن يقول له: أستبدل الذهب القديم بالجديد وأدفع لك ألف ريال أو مائة ريال، أو ريالاً واحداً، أو نصف ريال، فأي زيادة من جنس المبيع من الأثمان أو من غيرهما فهذا الربا الذي حرم الله ورسوله. أما إذا وقع البيع مباشرة وقال له: أبادلك، وحصل أنه اشترى منه البائع الذهب القديم ولم يتشرط عليه أن يشتري منه، وخرج من عند البائع، كما لو باع القديم بخمسة آلاف ريال، فخرج من الدكان حتى تتم الصفقة الأولى؛ لأن الصفقة الأولى ما تمت إلا بالمفارقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، فالصفقة الأولى لا تلزم إلا بالمفارقة، فلابد أن يخرج من الدكان، فإذا خرج من الدكان ورجع مرة ثانية، فهي صفقة ثانية، ويجوز له حينئذ أن يبرم صفقة ثانية بذهب أغلى أو أرخص، ولا بأس عليه في ذلك ولا حرج، والله تعالى أعلم.

حكم الصيام في شهر شعبان

حكم الصيام في شهر شعبان Q هل من السنة الإكثار من الصيام في شهر شعبان؟ A ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يكثر من الصوم في شعبان، ولكن هذا الصوم المراد به التقوي على العبادة؛ لأن شهر رمضان قرب، فإذا صام من شعبان ألفت نفسه الصوم، ولذلك فإن من يصوم من شعبان الإثنين والخميس، والثلاثة الأيام البيض، ويصوم من قبل نهاية الشهر فيصوم مثلاً يومين أو ثلاثة أيام؛ فإنه يتقوى، وإذا دخل عليه رمضان فلا تجده يتعب، ولا يجد العناء في أول يوم من رمضان، بخلاف ما إذا دخل عليه رمضان ولم يصم شيئاً من شعبان، فإنك تجده في تعب وعناء، وهذا له سر لطيف ذكره العلماء والأئمة مستنبطاً من السنة، وهو: أن السنة هيأت العبد للعبادة، ولذلك شرعت السنن الراتبة قبل الفريضة لتهيئ للفريضة، وشرعت ركعتي المسجد إذا دخل المسجد حتى يتهيأ للفريضة، فتنقطع عنه الشواغل، وقد نوى أن يتهيأ الجسد فيقوى على العبادة أكثر، فأنت إذا تأملت من يصوم في شعبان وجاء عليه أول يوم من رمضان، تجده يقوم بأموره معتاداً ولا يكسله الصوم عن فرائض الله، ولا يكسله عن مصالحه، وتجده مؤمناً قوياً، ولا يوجد عنده ضعف. ولكن إذا صام أول يوم من رمضان ولم يصم من قبل، فتجده إما منهكاً أو يعتريه صداع أو آلام من أثر هذه العبادة؛ لأنها فاجأته، ولذلك شرع الصوم في شعبان. وانظر إلى حكمة الشريعة: فإنها فتحت باب التقوّي على العبادة ما لم يؤد ذلك إلى ضياع الحق، فمن كان الصوم في شعبان يضعفه في رمضان، فإنه لا يصوم بعد منتصف شعبان، ومن هنا جاء النهي في حديث العلاء رضي الله عنه، وهذا من الفقه عند الإنسان أن يعرف موارد النصوص ومقاصدها، فالصوم عبادة بدنية محضة، والصلاة عبادة بدنية محضة، وقد وجدنا الشرع في الصلاة يهيئ الإنسان للأكمل، حتى في النوافل، فليس هذا خاصاً بالفرائض، ففي النوافل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه استفتح قيام الليل بركعتين خفيفتين)، وكان يصلي عليه الصلاة والسلام بأطول الطوال، فيقرأ البقرة والنساء وآل عمران في ركعة واحدة، وقد استفتح قيام الليل بركعتين خفيفتين حتى يسهل عليه طول القيام بعد ذلك، أما لو ابتدأ بالركعتين الطويلتين مباشرة، فإن نفسه تمل أو تضعف، ومن هنا قالوا: تهيأ العبادة بالأقل والأضعف، فصوم النافلة أضعف من الفريضة، وأما حديث العلاء فالمقصود به من كان يضعفه الصوم، فلو وجدنا شخصاً يصوم في شعبان، كرجل كبير السن لا يستطيع أن يصوم رمضان إلا بقوة وجهد، فإنه إذا صام شعبان ضعف عن رمضان، وربما اضطره ذلك إلى الفطر، فحينئذٍ نقول له: لا تصم بعد منتصف شعبان، وينهى عن الصوم بعد منتصف شعبان، وهذا هو معنى حديث: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا)، فهذا على من يجهده. ومثل قولنا حديث: (ليس من البر الصيام في السفر)، مع ما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله أحد الصحابة قائلاً: (يا رسول الله! إني أطيق الصوم في السفر، قال: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر)، فهذا الفقه أننا نجمع النصوص وننظر في دلالتها وننظر في مقصود الشرع، فلا نحرم على الناس الصوم في شعبان، ولا نفتح الباب على مصراعيه حتى يضيع فرض الله عز وجل في رمضان، ولكن نقول: إن الأصل أن الإنسان يتقوى بالنافلة على الفريضة. والدليل على أنه يجوز الصوم من بعد منتصف شعبان: أن حديث العلاء: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا)، أقوى ما قيل أنه حسن، وحديث ابن عمر في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه)، فهذا في الصحيح، فهو حديث ثابت لا غبار عليه، فمن أجاز الصوم بعد منتصف شعبان يقول: (لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين)، فمعنى ذلك: أننا لو تقدمنا رمضان بثلاثة أيام أو أربعة أيام فلا حرج؛ لأن الذي مُنع هو اليوم واليومان، فدخل منتصف شعبان الأخير تحت هذا الأصل الصحيح العام، فنقول بالصوم بعد منتصف شعبان لمن يتقوى بذلك على صوم الفريضة، ونمنع من صومه لمن يضعف عن صوم الفريضة، وبهذا أُعطي لكل ذي حقٍ حقه، وحقق مقصود الشرع، والنظر إلى معاني الأدلة والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

حكم الساحة المحيطة بالمسجد

حكم الساحة المحيطة بالمسجد Q هل الساحة الموجودة أمام المسجد تأخذ حكم المسجد، وبالتالي فهل يجوز البيع فيها أم لا؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فأمام المسجد أو رواءه، وكذلك الساحات التي تحيط بالمسجد إذا كان السؤال عن الساحات التي تحيط بالمسجد فهي على صورتين: الصورة الأولى: أن تكون مغلقة مسور، مثل ساحات المسجد النبوي فإن عليها سوراً، وهي خارجة عن البناء، فاختار طائفة من أهل العلم وهو أحد الوجهين عند الحنابلة رحمهم الله: أنها من المسجد، وتأخذ حكم المسجد؛ ولذلك فلا يجوز فيها البيع، ولا يبطل الاعتكاف بالخروج إليها -وينبغي للمعتكف أن يحتاط فلا يخرج- لكن لو خرج فإن هذا لا ينقض اعتكافه، أما إذا كانت الساحة التي تحيط بالمسجد لا سور عليها ولا تحفظ ولا تصان، فجمهور العلماء على أنها لا تأخذ حكم المسجد، وأنه يجوز فيها البيع، بشرط أن لا يشوش على المصلين، ويجوز فيها الجلوس، وتأخذ حكم الأرض، ما لم يحدث منها ضرر، مثل أن يقف فيها الباعة ويرفعون أصواتهم بالنداء على وجه يشوش على المصلين في صلاتهم، والله تعالى أعلم.

حكم عقد الصفقات التجارية في المسجد وذكر حقوق المساجد

حكم عقد الصفقات التجارية في المسجد وذكر حقوق المساجد Q مما ابتلي به البعض الكلام في الدنيا في المساجد، حتى إن بعضهم يعقد صفقات البيع والشراء في بيوت الله تعالى، فما هو توجيهكم لنا ولهم؟ A على المسلم أن يتقي الله عز وجل في بيوت الله، وأن يحفظ وصية الله في كتاب الله، فإن الله عز وجل وصى عباده المؤمنين أن يرفعوا بيوته فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:36 - 37]، فمن يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه أن يحفظ حرمة المسجد، ولذلك لما رأى عمر رضي الله عنه من جلس في المسجد وتحدث في أمور الدنيا قال رضي الله عنه: (يا هذا! إن هذا سوق الآخرة، فإذا أردت سوق الدنيا فاخرج إلى البقيع)، وقد كان بجوار البقيع مكان يتبايعون فيه، أي: اخرج إلى ذلك المحل إذا أردت أن تتكلم في الدنيا، أما هنا فإنها سوق الآخرة. فعلى المسلم أن يتقي الله عز وجل في بيوت الله، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم البيع في المسجد، وأن للمسجد حرمة، ولا يجوز أن تنتهك هذه الحرمة بالبيع والشراء داخل المسجد، أو إضاعة الأوقات في أحاديث الدنيا، ويجوز أن يتحدث الإنسان بحديث الدنيا داخل المسجد في حدود، ولكن لا يتوسع؛ ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (أنه كان يصلي الفجر فيجلس فيحيط به الصحابة، فيتحدثون بما كانوا يفعلونه في الجاهلية، فيضحكون ويتبسم)، بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ولكن هذا بقدر وفي حدود، ما لم يصل إلى درجة تنتهك فيها حرمة المسجد، أو يكون الذين يجلسون في هذه الحلق يؤثرون على حلق هي آكد وأولى، مثل حلق العلم ونحو ذلك، فنوصي هؤلاء أن يتقوا الله عز وجل، وأن يخافوا الله سبحانه وتعالى برعاية هذه الحرمة لبيوت الله عز وجل، وأن يحرصوا على استنفاد الوقت في ذكر الله عز وجل. ويتصور الإنسان وهو داخل المسجد، خاصة إذا كان مسجداً مفضلاً كمسجد الكعبة أو مسجد المدينة، حينما يدخل يتصور أنه إما أن يخرج فائزاً بتجارته، أو يخرج -والعياذ بالله- خاسراً، يتصور أنه دخل منافساً لغيره راجياً رحمة ربه، وكأن لسان حاله يقول: اللهم لا تجعلني أشقى هؤلاء، وكلما دخلت مسجداً ينكسر قلبك لله عز وجل، وقل: يا رب! لا تجعلني محروماً، يا رب! لا تمنعني خير ما عندك بشر ما عندي، كأن لسان حالك يخاف أن تسقط مكانتك عند الله سبحانه وتعالى، فإن المحروم من حرم، وليس بين الله وبين عباده حسب ولا نسب ولا واسطة؛ بل إنه سبحانه وتعالى السميع المجيب الحسيب الرقيب الذي أعطى كل ذي حق حقه فضلاً منه سبحانه وكرماً، فإذا جئت تنظر كأنك في امتحان، فتحرص على أن تري الله منك خيراً، فتتمنى أن تكون أسبق الناس إلى الصف الأول، وأسبق الناس إلى عمارة هذا الجزء من الأرض المستحق للعبادة، أن تعمره بذكر الله عز وجل. وقد كان المعتكفون من طلاب العلم والمبرزين هم الذين يجلسون في الصفوف الأول، أما الذي إذا جلس في الصفوف الأول مد رجليه، فيضحك مع هذا ويمزح مع هذا؛ صار قدوة سيئة، وشَانَ المكان الذي يجلس فيه، ولكن إذا جلس خاشعاً متخشعاً متذللاً لربه، متضرعاً؛ كسر القلوب، إذ من الناس من يدعو بسمته ودله قبل أن يتكلم، وهو رحمة لمن نظر إليه يتذكر إذا رآه الآخرة، ويتذكر حرمات الدين، ويتذكر حرمة المكان الذي يصلي فيه. ولقد كنا في صغر السن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم نرى بعض المعتكفين، ووالله! إلى الآن لا زلت أرى بعض العباد الصالحين الأخيار الذين كانوا يعتكفون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، كنت أراهم في محافظتهم وأدبهم وخشوعهم وسمتهم ودلهم ولا تزال صورهم منقوشة في قلبي إلى الآن، وكلما أردت أن أعتكف التمست تلك النماذج العجيبة الكريمة، فالرجل منهم يخرج حريصاً على الصمت، حريصاً على ذكر الله عز وجل، لسانه يلهج بذكر الله، وأقسم بالله أن الرجل يخرج كأنك ترى الشمس في وجهه من نور العبادة، هذه هي النماذج الكريمة. والرجل إذا جلس في المسجد وراعى حرمة المسجد يكون قدوة لأولاده، ويكون قدوة لأبناء المسلمين، فإذا رأى أبناء المسلمين كبارهم يحرصون على الأدب في بيوت الله؛ حفظوا حرمة المساجد، وحفظوا هيبتها، وحفظوا مكانتها، والعكس بالعكس. وكذلك أيضاً ينبغي للإنسان أن يستشعر -إذا دخل المسجد- أنه أسعد الناس عند الله عز وجل حظاً وقدراً إذا خشع قلبه، وأناب إلى الله بالذكر والشكر، ولربما دخل إلى المسجد سابقاً لغيره، ففتح الله عليه باب رحمة لا يعذب بعدها أبداً، فربما تسبق إلى فريضة من فرائض الله في بيت من بيوت الله عز وجل فيغفر الله لك ذنوباً لم يخيل إليك أنها تغفر، وما يدريك ففضل الله عظيم؛ فرب عبدٍ تقطر دمعة من عينه فتغفر بها ذنوب عمره، وامرأة بغي -زانية- تسقي كلباً شربة ماء فتغفر ذنوب العمر، فالرب كريم، فهذه سوق الآخرة، سوق الذكر والشكر. وأيضاً: مما يعين على ذلك استشعار حرمة المسجد، فإذا كان يستشعر حرمة المسجد في الدخول والخروج، ويقول: ماذا أخذت من هذا المسجد؟ فإذا جاء يخرج ووجد أن وقته كله ضاع في القيل والقال والترهات والكلمات الضائعات التي لا يجني منها خيراً، فضلاً عن الغيبة والنميمة -والعياذ بالله- إذا كان قد وقع فيها؛ فإنه يبكي على نفسه ويندب حظه عند ربه، فعلى الإنسان أن يستشعر هذه الأمور المهمة والأصول التي لا يمكن أن يصلح حاله إلا بمراعاتها، فإن المساجد أمرها عظيم، وحرمتها عظيمة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من سمعتموه ينشد ضالته في المسجد فقولوا: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا)، تعظيماً لحرمة المسجد، وعلينا دائماً أن نحرص على الأسباب التي تعين على كسب الوقت في المسجد: وأولها: أن الإنسان إذا دخل لهج لسانه بذكر الله عز وجل، ولذلك شرع له أن يسمي الله، وأن يصلي على نبي الله صلى الله عليه وسلم، وأن يدعو ربه عند دخول المسجد أن يفتح له أبواب رحمته، فما معنى هذا؟ معناه: أنه يتخوض في رحمات الله عز وجل، ولذلك قلّ أن تدخل مسجداً وأنت بحضور قلب وخشوع إلا خرجت برحمة أو رحمات -وجرب هذا- ففي المساجد حِلق الذكْر، ولذلك كم من مجلس ذكر قمت منه وقد غيرت حالك، وأصلحت ما بينك وبين الله فأصلح الله مآلك، وكم من مجلس ذكر جلسته في المسجد، وكم من خطبة حضرتها يوم الجمعة فغيرت حياتك، وكم من كلمات طيبات من إمام ناصح بعد فريضة من فرائض الله دخلت إلى القلوب فأصلحت ما بينها وبين الله وما بينها وبين عباد الله، فهنا تنزل الرحمات، وهنا تغفر الذنوب والسيئات، وهنا ترفع الدرجات، وهنا كان يسر الصالحون، هنا كان الشخص المؤمن تضيق به الدنيا فإذا دخل أبواب المسجد تولت عنه الهموم والغموم كلها، كان المسلمون يوم كانوا إذا دخلوا بيوت الله نسوا الدنيا وما فيها: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]، وصف الله أهلها: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:37]، كان الرجل إذا دخل المسجد نسي همومه، حتى لربما كان مكروباً في أهله وماله وولده فينسى كربه كله إذا وطئت قدمه بيت الله عز وجل، من البركات والخيرات التي جعلها الله في هذه المنازل منازل الرحمات. تقول وأنت تدخل باب المسجد: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وأنت داخل باب المسجد، ومعنى ذلك: أن هذا المسجد محل الرحمة، وليست رحمة واحدة، وذلك أنك عندما تقول: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، فأبواب الرحمة كثيرة: باب العلم، باب العمل. ولربما تدخل المسجد فترى رجلاً يخشع في قراءته للقرآن فتتعلم الخشوع في صلاتك، ولربما ترى رجلاً ساجداً يطيل السجود فتغار على نفسك وتندب حظك وتتمنى أنك مثله، فتخرج برحمة، وهي طاعة من الطاعات، أو خير أو بر أو عمل صالح، فهذه كلها من الفضائل التي جعلها الله في بيوته، ولكن على المسلم أن يبحث عن الأسباب التي تهيؤه لهذه الفضائل، والنظر للقدوة الكاملة. والنقطة الأخيرة: أن مما ضر الناس اليوم وحرمهم من كثير من خيرات المساجد: الغرور، فإن الإنسان ربما دخل المسجد وكأنه يظن أنه أفضل من في المسجد، وما من رجل يدخل مسجداً أو منزلاً ويرى نفسه أعلى القوم إلا وقد وضعه الله أدناهم، والعكس: وما من إنسان يدخل إلى مكان ويرى أنه أحقر القوم وأنقص القوم إلا رفع الله قدره، وكمّل نقصه وجبر كسره، قال بعض السلف: والله ما جلست مجلساً أرى نفسي أعلى القوم إلا خرجت وأنا أدناهم، ولا جلست مجلساً أرى نفسي أدنى القوم إلا خرجت وأنا أعلاهم. فإذا دخلت المسجد فادخل وأنت تستشعر أنك أفقر الناس إلى رحمة الله، وأولى الناس بالانكسار، وأحق من ينكسر بين يدي الله، ولو كنت طالب علم، ولو كنت عالماً، ولو كنت من أصلح الناس، وقد كان العلماء والفضلاء على علو قدرهم ومكانتهم يتواضعون في بيوت الله عز وجل. كان الوالد رحمه الله يقال له: نجعل لك كرسياً في المسجد؟ فيقول: هل أنا وحدي في المسجد؟! -رحمه الله برحمته الواسعة- ومن أنا حتى أعطى كرسياً أُفضَّلُ به على الناس في بيت الله عز وجل؟! وهذا من شدة ورعه رحمه الله، ومن شدة خوفه من أن يتعالى على الناس في المسجد، وقد كان العلماء والفضلاء والصالحون على هذا من السمت والدل في المحافظة على حرمات المسجد. والوصية الأخيرة: نوصي كل من يحضر بيوت الله عز وجل أن ينزهها عما لا يليق، وأن يحرص على الكمالات؛ فإذا صلى بجوار أحد فيعلمه أو يتعلم منه، أو يذكره بالله عز وجل، ولو تسلم على أخيك وتقول له: يا أخي! أوصيك ونفسي بتقوى الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه، أو تراه قد أخل بسنة أو طاعة فتذكره بها، وعندها تخرج برحمات وباقيات صالحات، وأجور ومكرمات. جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل، وأحسن لنا ولكم العاقبة في الحياة والممات، إنه و

باب التعزير [2]

شرح زاد المستقنع - باب التعزير [2] التعزير عقوبة رادعة شرعت تأديباً، ولها أحكام عدة، وقد جاء بيان حدها في السنة النبوية، بيد أن العلماء استنبطوا: أن لا حد لأقلها، واختلفوا في أكثرها، فمنهم من أخذ بظاهر الحديث، ومنهم من قال: يعزر حتى بالقتل، وأنه راجع إلى القاضي؛ واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم عزر بالقتل وبما دونه. ومن الذنوب التي تستحق التعزير تلك العادة السيئة المسماة (الاستمناء) وهي مما ينبغي التحذير منه لعموم البلوى بها.

التعزير بالجلد

التعزير بالجلد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [ولا يزاد في التعزير على عشر جلدات]: ذكر رحمه الله هذه الجملة، والتي هي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متضمن النهي عن الزيادة على عشرة أسواط إلا في حدٍ من حدود الله عز وجل، وهو حديث أبي بردة رضي الله عنه وأرضاه في الصحيح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا اختلف العلماء رحمهم الله في التعزير، بعد أن اتفقوا على أنه لا حد لأقله، فاتفق العلماء رحمهم الله على أنه ليس في التعزير حد أقلي لا يجوز للإمام أن ينقص عنه إذا عزر، خلافاً لبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله الذين قالوا: أقل الجلد ثلاثة أسواط، فلا يعزر بأقل من ثلاثة أسواط، والصحيح: أنه لم يثبت دليل في الكتاب والسنة يدل على أن التعزير له حد لا يجوز النقصان منه. ومن هنا فالأمر راجع إلى القاضي أو الحاكم أو السلطان، فإذا رأى أن يعزر بالقليل عزر، وإذا رأى أن يعزر بالكثير عزر؛ لأن المقصود زجر الناس، وحملهم على تعظيم حدود الله عز وجل وحرماته، وكذلك كف بعضهم عن بعض، وهذا يختلف بحسب اختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة. وظاهر الحديث يدل على أنه لا يجلد فوق عشرة أسواط، وقد اختلف في هذا الحديث من ناحية السند، ففيه أخذ وعطاء بين العلماء رحمهم الله، وقد استقر العمل على ثبوته عند الأئمة، وأجابوا عن بعض ما ورد عليه، ونظراً لوجود بعض الكلام في السند كان معارضاً بالأصل. وقد اختلف العلماء رحمهم الله في تأويل هذا الحديث: فمنهم من يقول: لا يجوز أن يعزر أحد بضربه فوق عشرة أسواط، فيضرب العشرة ويضرب التسعة وما دون ذلك، أما ما زاد على العشرة فلا يجوز، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، وقال به إسحاق بن راهويه من أهل الحديث، وأشار المصنف رحمه الله إلى هذا القول. وذهب الجمهور إلى أن المراد بالحديث ألا يبلغ الحد في عقوبة وتعزير من وقع فيما دون الحد، فكل حدٍ من حدود الله نظر في تعزير الجرائم التي هي من جنسه إلى قدره، فمثلاً: لو أنه تعاطى أمراً دون الحد، كأن يستمتع بامرأة بما لا يحصل به الزنا، قالوا: إنه يعزر ولا يبلغ في التعزير حد الزنا، وهو مائة جلدة إذا كان غير محصن، واستدلوا بآثار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها الأثر عن النعمان بن بشير رضي الله عنه وعن أبيه: أنه جلد الرجل الذي أذنت له زوجته أن يطأ جاريتها مائة جلدة. وقد كان الأصل يقتضي أنه لو كان زانياً أن يرجم. وقالوا أيضاً: إنه إذا تعاطى أمراً من الشراب وفيه إخلال، ولا يبلغ حد المسكر؛ فإنه يعزر إذا كان من العبيد بتسع عشرة جلدة فما دون، وإذا كان من الأحرار وقلنا: إن الحد هو أربعون، فإنه يعزر بتسعٍ وثلاثين فما دون، فينظرون في كل جريمة إلى جنسها، فإن كانت من الزنا لم يوصل في ضربه إلى مائة جلدة إذا كان من الأحرار، ولا يوصل إلى خمسين إذا كان من العبيد، وهذا القول للجمهور رحمهم الله، وهناك تفصيل داخل المذاهب؛ لكن الأصل على هذا. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حدٍ من حدود الله) فقد أجابوا عن هذا الحديث، واختلفت أجوبتهم: فمنهم من يقول: إن هذا الحديث منسوخ، وأشكل على هذا أن النسخ لا يثبت بالاحتمال. ومنهم من قال: إن هذا الحديث المراد به التأديب في غير الحدود، ومرادهم بذلك تأديب الرجل لزوجته، وتأديب الرجل لولده، فلا يضرب فوق عشرة أسواط، وقالوا: قوله: (إلا في حدٍ من حدود الله) المراد به: المعاصي التي تكون عند السلطان وعند القضاة، فخرجوا الحديث على هذا، وهو من أقوى الأوجه عندهم، فأخرجوا الحديث عن كونه متعلقاً بالقضاة وبالإمام إذا عزر، وأن المراد به التأديب الذي هو دون التعزير، ويكون قوله: (إلا في حدٍ من حدود الله) كل معصية فهي حدٌ من حدود الله، ولذلك نهى الله عز وجل عن معصيته وقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] وبيّن أن الطلاق في الطهر حد من حدود الله عز وجل، وأن الطلاق في الحيض اعتداء على حد من حدود الله عز وجل، ولذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن المعاصي التي تكون عند السلطان من حدود الله عز وجل، سواء كانت متعلقة بالمصلحة العامة، أو كانت متعلقة بمصالح خاصة، كمن يسب الناس، أو يشتم الناس، أو يؤذيهم في مصالحهم ومرافقهم العامة، فيعطلها؛ فإنه قد وقع في حد من حدود الله، وحينئذ فيشرع للسلطان أن يعزره بما يراه رادعاً له ولغيره أن يفعل كفعله. وهذا من أقوى الوجوه والأجوبة؛ أن المراد بالحد مطلق المعصية، وأن المراد به التأديب فيما دون العقوبات التي عند القضاة؛ لأنها -أي: المعاصي- عند القضاة من حدود الله عز وجل.

التعزير بغير الجلد

التعزير بغير الجلد وأياً ما كان فإن ظاهر الحديث يدل على المنع من الزيادة على عشرة أسواط، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد، ولا شك أن الأحوط أن يقتصر عليه، وعلى هذا فإنه يرد السؤال عن التعزير بالعقوبات الغليظة، فقالوا في الجلد: لا يزاد على هذا الحد -على الخلاف الذي ذكرناه- لكن هل يشرع التعزير بالعقوبات المالية؟ وهل يشرع التعزير بالعقوبات البدنية غير الجلد مثل الصفع؟ وهل يشرع التعزير بالعقوبات المغلظة كالقتل؟ ذهب طائفة من العلماء رحمهم الله إلى جواز التعزير بغير الجلد، وأن التعزير أمرٌ مرده إلى القاضي، وهو يختلف بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والجرائم، فإذا نظر القاضي إلى أن هذه الجرائم لا يردع فيها إلا بعقوبة غليظة؛ غلظ العقوبة، حتى ذهب الإمام مالك رحمه الله وأصحابه إلى جواز التعزير بالقتل، وأن من وقع في حدود الله عز وجل وتكرر منه ذلك، ورأى الإمام والقاضي والسلطان أن المصلحة في قتله حتى ينقطع شره وفساده، ويكون ذلك أبلغ في ردع غيره؛ فإن له ذلك، وقد اختار هذا القول بعض المحققين والأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية وطائفة. وقالوا: إن الأمر مرده إلى القضاة وإلى الولاة أن ينظروا الأصلح للناس، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحل القتل تعزيراً في الخروج عن الجماعة؛ فقال كما في الصحيح: (من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يفرق كلمتكم وجماعتكم فاقتلوه كائناً من كان)، وهذا يدل على مشروعية التعزير بالقتل، وهو أصل عند من يقول بجوازها، واحتج به شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المسألة، وقالوا: إنه إذا وجد الشر والبلاء العام ولا ينقطع إلا باستئصال شأفة من فعل ذلك، فإنه يلجأ إلى مثل هذه العقوبات علاجاً للفساد وقطعاً لدابر أهله، وقد أثر عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم عزروا، وبالغوا في التعزير أيضاً عند حصول الموجب. ومن هنا قالوا: من تكررت منه جريمة الشرب فيعزر بالقتل، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتل شارب الخمر في الرابعة، قالوا: فهي من هذا الباب، فتكون عقوبة تعزيرية عند تكرر الجرائم، فإن من تكررت منه الجريمة وليس للجريمة عقوبة أو لها عقوبة وتكررت منه الجريمة على وجه فيه الاستخفاف والاحتقار للعقوبة، والتهتك في محارم الله عز وجل بعد أن عوقب فيرجع إليها المرة تلو المرة، ويتكرر منه ذلك؛ قالوا: إنه يشرع للإمام أن يقتله، وهذا المذهب هو من أقوى المذاهب في مسائل التعزير، ونظراً إلى المقصود العام، وهو أن المراد بالتعزير كف الناس وزجرهم عن حدود الله، وكف الناس وزجرهم عن بغي بعضهم على بعض، وأذية بعضهم لبعض. ولذلك في بعض أنواع القتل مثل القتل غيلة، وهي أن يستدرج الرجل البريء المعصوم الدم، أو تفعل الجرائم المستبشعة، مثل أن يستدرج المرأة بطريقة خبيثة ويخدعها، أو يكون له ولاية، أو يكون له مكان يؤتمن فيه على مصالح المسلمين، فيستدرج لذلك على سبيل الأذية والإضرار بالمصالح العامة، قالوا: فيشرع فيه التعزير، فإذا استدرج المقتول من المدينة وأخرجه عنها ثم قتله؛ شرع للسلطان أن يقتله لهذا، ويكون الحق للعام لا للخاص، ذلك: كونه يستدرج في الجريمة بحيث يأمن المقتول، أو يؤخذ على طريقة فيها استهتار بدماء المسلمين، أو فيها بشاعة وشناعة، ورأى السلطان أن مثل هذا لا بد أن يعاقب بعقوبة تردع غيره عن فعله؛ فإنه يشرع له أن يقتله. وما هي فائدة قولنا: إنه يقتله تعزيراً؟ إذا قلنا: للسلطان أن يقتله تعزيراً؛ فإنه لو عفا أولياء الدم فلن يسقط القتل؛ لأنه لحقٍ عام، وهذا هو الذي جعل العلماء يشددون في بعض الحقوق، حتى قال الإصطخري من أصحاب الشافعية رحمهم الله: إن من سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين، وتكرر منه احتقارهم وأذيتهم أمام أهل السنة، انتقاصاً وازدراءً بهم؛ شرع قتله، وأنه لو عفا السلطان فلا يقبل عفوه، وكل هذا تعظيماً لحرمات الدين؛ لأنه إذا طعن في الصحابة فمعناه أنهم طعنوا في الدين، وقالوا: لأننا لا نعلم عفو الصحابي عن ذلك؛ لأنه ميت. وكل هذه الأحكام التعزيرية المغلظة قصد بها ردع الناس وزجرهم، وتحقيق ما شرع القضاة من أجله، وهو تعظيم حرمات الله عز وجل وكف الناس عنها.

التعزير بغير الجلد

التعزير بغير الجلد وأياً ما كان فإن ظاهر الحديث يدل على المنع من الزيادة على عشرة أسواط، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد، ولا شك أن الأحوط أن يقتصر عليه، وعلى هذا فإنه يرد السؤال عن التعزير بالعقوبات الغليظة، فقالوا في الجلد: لا يزاد على هذا الحد -على الخلاف الذي ذكرناه- لكن هل يشرع التعزير بالعقوبات المالية؟ وهل يشرع التعزير بالعقوبات البدنية غير الجلد مثل الصفع؟ وهل يشرع التعزير بالعقوبات المغلظة كالقتل؟ ذهب طائفة من العلماء رحمهم الله إلى جواز التعزير بغير الجلد، وأن التعزير أمرٌ مرده إلى القاضي، وهو يختلف بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والجرائم، فإذا نظر القاضي إلى أن هذه الجرائم لا يردع فيها إلا بعقوبة غليظة؛ غلظ العقوبة، حتى ذهب الإمام مالك رحمه الله وأصحابه إلى جواز التعزير بالقتل، وأن من وقع في حدود الله عز وجل وتكرر منه ذلك، ورأى الإمام والقاضي والسلطان أن المصلحة في قتله حتى ينقطع شره وفساده، ويكون ذلك أبلغ في ردع غيره؛ فإن له ذلك، وقد اختار هذا القول بعض المحققين والأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية وطائفة. وقالوا: إن الأمر مرده إلى القضاة وإلى الولاة أن ينظروا الأصلح للناس، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحل القتل تعزيراً في الخروج عن الجماعة؛ فقال كما في الصحيح: (من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يفرق كلمتكم وجماعتكم فاقتلوه كائناً من كان)، وهذا يدل على مشروعية التعزير بالقتل، وهو أصل عند من يقول بجوازها، واحتج به شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المسألة، وقالوا: إنه إذا وجد الشر والبلاء العام ولا ينقطع إلا باستئصال شأفة من فعل ذلك، فإنه يلجأ إلى مثل هذه العقوبات علاجاً للفساد وقطعاً لدابر أهله، وقد أثر عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم عزروا، وبالغوا في التعزير أيضاً عند حصول الموجب. ومن هنا قالوا: من تكررت منه جريمة الشرب فيعزر بالقتل، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتل شارب الخمر في الرابعة، قالوا: فهي من هذا الباب، فتكون عقوبة تعزيرية عند تكرر الجرائم، فإن من تكررت منه الجريمة وليس للجريمة عقوبة أو لها عقوبة وتكررت منه الجريمة على وجه فيه الاستخفاف والاحتقار للعقوبة، والتهتك في محارم الله عز وجل بعد أن عوقب فيرجع إليها المرة تلو المرة، ويتكرر منه ذلك؛ قالوا: إنه يشرع للإمام أن يقتله، وهذا المذهب هو من أقوى المذاهب في مسائل التعزير، ونظراً إلى المقصود العام، وهو أن المراد بالتعزير كف الناس وزجرهم عن حدود الله، وكف الناس وزجرهم عن بغي بعضهم على بعض، وأذية بعضهم لبعض. ولذلك في بعض أنواع القتل مثل القتل غيلة، وهي أن يستدرج الرجل البريء المعصوم الدم، أو تفعل الجرائم المستبشعة، مثل أن يستدرج المرأة بطريقة خبيثة ويخدعها، أو يكون له ولاية، أو يكون له مكان يؤتمن فيه على مصالح المسلمين، فيستدرج لذلك على سبيل الأذية والإضرار بالمصالح العامة، قالوا: فيشرع فيه التعزير، فإذا استدرج المقتول من المدينة وأخرجه عنها ثم قتله؛ شرع للسلطان أن يقتله لهذا، ويكون الحق للعام لا للخاص، ذلك: كونه يستدرج في الجريمة بحيث يأمن المقتول، أو يؤخذ على طريقة فيها استهتار بدماء المسلمين، أو فيها بشاعة وشناعة، ورأى السلطان أن مثل هذا لا بد أن يعاقب بعقوبة تردع غيره عن فعله؛ فإنه يشرع له أن يقتله. وما هي فائدة قولنا: إنه يقتله تعزيراً؟ إذا قلنا: للسلطان أن يقتله تعزيراً؛ فإنه لو عفا أولياء الدم فلن يسقط القتل؛ لأنه لحقٍ عام، وهذا هو الذي جعل العلماء يشددون في بعض الحقوق، حتى قال الإصطخري من أصحاب الشافعية رحمهم الله: إن من سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين، وتكرر منه احتقارهم وأذيتهم أمام أهل السنة، انتقاصاً وازدراءً بهم؛ شرع قتله، وأنه لو عفا السلطان فلا يقبل عفوه، وكل هذا تعظيماً لحرمات الدين؛ لأنه إذا طعن في الصحابة فمعناه أنهم طعنوا في الدين، وقالوا: لأننا لا نعلم عفو الصحابي عن ذلك؛ لأنه ميت. وكل هذه الأحكام التعزيرية المغلظة قصد بها ردع الناس وزجرهم، وتحقيق ما شرع القضاة من أجله، وهو تعظيم حرمات الله عز وجل وكف الناس عنها.

الاستمناء معصية توجب التعزير

الاستمناء معصية توجب التعزير قال رحمه الله: [ومن استمنى بيده من غير حاجة عزر]: الاستمناء: استدعاء المني بالدلك باليد، أو بالغشي على الأرض، ونحو ذلك من الوسائل التي يستخرج بها المني، وهي -أي: الاستمناء- عادة مذمومة، وقد نص الأئمة رحمهم الله على تحريمها في الأصل، واستدل الإمام مالك رحمه الله وبعض أئمة السلف على تحريمها بقوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7]، فوصفهم بأنهم عادون، ولا شك أن الاستمناء وراء ذلك، فليس استدعاءً للمني بالشهوة بطريقها المعتاد عن طريق الزوجة أو ملك اليمين، ومن هنا تدخل في الاعتداء، فكانت حراماً.

أضرار الاستمناء الصحية

أضرار الاستمناء الصحية وقد ذكر الأطباء أن لها ضرراً على نفس الإنسان، وعلى مسالكه البولية -أكرمكم الله- وعلى نسله، وعلى جسده وعصبه، وأن المداومة عليها تضر بصحته، فلو لم تحرم من الشرع لحرمت بقول أهل الخبرة بوجود الضرر فيها، ولذلك قالوا: إنها محرمة.

خلاف العلماء في جواز الاستمناء عند الحاجة

خلاف العلماء في جواز الاستمناء عند الحاجة وقد اختلف العلماء رحمهم الله: هل تجوز عند الحاجة أو لا تجوز؟ وجهان للعلماء: فالجمهور على أنها لا تجوز حتى عند الحاجة، وقالوا: إنه لو خاف الزنا واستمنى فهو آثم، لكنه مرتكبٌ لأخف الضررين، وهو لا يخلو من الإثم، واستدلوا بعموم الآية الكريمة، ومن الأدلة القوية على مذهبهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)، ولم يذكر الاستمناء، وقد كان بالإمكان أن يذكره، خاصة وأنه يطفئ الشهوة ويسكن الغريزة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكره، ومن هنا قال العلماء: إن الأصل تحريمه، ولا وجه لاستثنائه عند الحاجة. واستثنى المصنف رحمه الله وجود الحاجة، ووجود الحاجة: أن يخاف على نفسه الزنا، أو يخاف الضرر فنصحه الأطباء أن يستمني، كما لو انتفخ شيء من أعضائه التناسلية جراء احتباس المني، وخشي الضرر على مسالك المني والأنثيين، فإن بعض الأطباء قد يضطر إلى نصيحة المريض أن يستمني، وقد حكوا عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم فعلوا ذلك، فيحتمل أن يكون اجتهاداً منهم، ولكن الأمر يحتاج إلى إثبات صحة ذلك عنهم رضي الله عنه وأرضاهم. وأياً ما كان فإن الأصل يقتضي تحريم الاستمناء، وأنه لا يجوز، ولكن لو خاف على نفسه الزنا ثم استمنى، فهو مرتكب لأخف الضررين، ويبقى الحكم على الأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص، ومن صبر صبره الله.

الاستمناء بواسطة الاستمتاع بالزوجة

الاستمناء بواسطة الاستمتاع بالزوجة وهذه العادة تحرم إذا فعلها الإنسان نفسه؛ إذ هو مستمتع بنفسه، والآية تحرم أن يستمتع الإنسان بغير زوجه وملك يمينه، أما لو استمنى بزوجته، أو بالدلك من زوجته فإنه جائزٌ ومشروع؛ لأن الله أحل الاستمتاع بالمرأة، وجعلها للرجل لباساً يمنعه من الحرام، ولذلك يشرع أن يستمتع بها، وإذا استمنى بها فإنه يجوز، كما نص على ذلك بعض أهل العلم رحمهم الله.

طرق الوقاية من هذه العادة السيئة

طرق الوقاية من هذه العادة السيئة والاستمناء لا شك أنه مما يدعو الشيطان إليه، وقد نصح بعض العلماء رحمهم الله في اتقاء هذه العادة بأمور مهمة، منها: أولاً -وهو أعظمها وأجلها-: الدعاء: فيدعو الإنسان ربه أن يحصن فرجه، وأن يكفيه بحلاله عن حرامه. ثانياً: الغفلة عن الشهوة: هذا من أقوى أسباب انطفاء الشهوة والبعد عن المحرمات، فإن الإنسان إذا ألهى نفسه بما أحل الله انكفت عما حرم الله، ولذلك وصف الله عز وجل أهل العفة بالغفلة، فالتفكر في أمور الزواج وأمور النساء، وأمور المردان، وأمور الفساد، وسماع مثل هذه الأشياء، أو تتبع هذه الأشياء، أو الاسترسال في هذه الأشياء، يفتح على الإنسان باب شرٍ هو في عافية منه، ومن استغفل نفسه فحاول أن يلهيها بما أحل الله عز وجل، وأوجد في نفسه شعوراً بالقوة أن الله سيعينه؛ سرعان ما يضعف سلطان الشيطان عنه، ولذلك يحاول قدر استطاعته أن لا يفكر في الأمور التي تثير الشهوة إن كان عزباً. ثالثاً: الاشتغال بطاعة الله: فإذا كان عزباً اشتغل بطاعة الله، فإنها تقوي النفوس على ترك الحدود والمحارم، وتضعف سلطان الشيطان على الإنسان، فمثلاً: لو اشتغل بطلب العلم وبمسائل العلم والتهى بذلك، فكلما حدثته نفسه عن فتنة ألهى نفسه بذلك الخير، وأحس أنه في جنة من رحمة الله عز وجل، وأنه يتخوض في رحمات الله، واستحيا من الله واستعف؛ أعفه الله سبحانه وتعالى، ومن استغنى بالله أغناه الله، ولذلك لن تجد أحداً يقع في المحرمات إلا إذا شغل نفسه بها، أو فتح على نفسه باباً من أبوابها. رابعاً: أن يجتنب الإثارة: ومن الأبواب التي تفتح أبواب الشهوة على الإنسان جلوسه مع المردان، وصحبته لأهل التهتك والفجور والعياذ بالله، أو نظره في الصور المحرمة والخليعة، أو مشيه في الأماكن التي يرتادها من لا عفة له، كل هذا يحرك كوامن النفس، ويفتح على الإنسان باب الفتنة، فقد يكون في عافية ولا شك أنه في عافية منه. فمن هنا إذا أخذ بهذا السبب القوي، وهو الالتهاء والاشتغال بطاعة الله وبما ينفع عن معصية الله؛ كان أبعد وأبعد عن الوقوع فيها. خامساً: البعد عن الخلوة: قال بعض الحكماء: إن هذه العادة لا تكون إلا عند الخلوة، فمن ابتلي بها فإنه يحرص على أن لا يأتي لخلوته إلا وهو منهك متعب، حتى إذا جاء وألهى نفسه وأضعفها عن فعل هذه العادة المذمومة والوقوع فيها هان عليه أمرها، فيكون أبعد عنها.

نصيحة وتوجيه لمن ابتلي بالاستمناء

نصيحة وتوجيه لمن ابتلي بالاستمناء وينبغي لمن ابتلي بها أنه إذا وقع في الاستمناء فعليه أن يشعر بالندم والألم، وأن يندم على ما بدر منه، وأن يعقد العزم على عدم العود، بمعنى: أن يحرك في نفسه أسباب التوبة؛ لأنه إذا تاب تاب الله عليه، ولو عاد لها ألف مرة، ما دام أنه يندم ندماً صادقاً بعد فعلها، ويستشعر من نفسه أنه ما كان له أن يفعلها؛ هيأ الله نفسه للخير، وطهره من أثر الذنب، ولربما عاد عليه الذنب بحسنات بدل السيئات؛ لأن الله يبدل سيئات من تاب حسنات، فيغيض الشيطان بهذا، ويقتل عدو الله بهذا، فيصبح فعله للمعصية جبراً له، وله أن يسترجع بعد الوقوع فيها فيقول المأثور، فيسأل الله أن يأجره في مصيبته وأن يخلف عليه؛ لأنه ليست هناك مصيبة أعظم من مصيبة الدين. فمن هنا يأخذ بالأسباب التي تبعده عن مشاهدة الأمور التي تثير الغريزة، ولذلك على المسلم أن يجرب غض البصر إذا مرت به فتنة، وإذا غض بصره غضه بقوة ويقين بالله عز وجل؛ لأن هناك من الناس من يغض بصره وقد بقيت أثر الشهوة في عينه وقلبه -نسأل الله السلامة والعافية- فهو يغض شكلاً لكنه يغض قالباً لا قلباً وجوهراً، والمنبغي أنه إذا رأى الفتن وكان هجوم الفتن عليه فإنه يستغفر، أما من تقصد رؤية الفتن، وذهب إلى أماكنها، وارتادها وطلبها، فلا يلومن إلا نفسه، ولذلك من عوفي فليحمد الله، ومن وقع في مثل هذه الفتن التي تدمر الأخلاق، خاصة بمشاهدة الصور الخليعة، والأفلام الماجنة الساقطة، وغير ذلك من الصور التي تدمر الفضائل، وتحيي في النفوس الرذائل؛ فعليه أن يستغفر الله عز وجل استغفار الصادقين. وعليه أيضاً أن لا ييأس، فإن الشيطان قعد للإنسان بكل مرصد، فبعض الناس ينهزم أمام هذه الشهوة، وأمام كل شهوة، فمن ابتلي بشهوة من الشهوات فإن الشيطان يحرص على أن يقتل في نفسه البعد عنها، ولذلك يوجد في نفسه شعوراً أنه قد استحكمت فيه العادة السرية أو الاستمناء، وأنه لا يستطيع تركها، وهذا الشعور النفسي من أخطر ما يكون على الإنسان؛ لأنه يضعف فيه العزيمة عن الرشد، ويضعفه عن التوبة الصادقة، ويحطم فيه معاني الخير. ومن خبث الشيطان أنه يوقع الإنسان في الجريمة المرة والمرتين والثلاث والأربع، فإذا تحكم عدو الله منه ربما غلبه بهذا الشعور بطريقة ملتوية عجيبة، كما يلاحظ من أسئلة الناس وفتاويهم. فمنهم من يأتيه الشيطان ويتركه فيتوب ويندم، فيعيش الأسبوع والأسبوعين لا يفعل هذه المعصية، فيجد حلاوة الإيمان، فإذا وجد حلاوة الإيمان أوجد عنده شعوراً أنه لن يعود إلى العادة السرية أو غيرها من الذنوب، فإذا ظن أنه لن يعود جاءه عدو الله وقال له: احلف العهود والمواثيق، فيحلف المسكين العهود والمواثيق على نفسه؛ لأن الخبيث يعلم أنه قد استحكم منه بالتكرار، وأن النفس متعلقة بهذه الشهوة، فيأخذ منه العهود والمواثيق، ثم يرجع به مرة ثانية إلى محارم الله، فإذا رجع به مرة ثانية إلى محارم الله استولى عدو الله على قلبه فقال له: أنت ناقضٌ للعهد، ناكثٌ للعهد، أنت كذا وكذا، حتى يدمر نفسيته، ويقطع ما بينه وبين الله. فمن الناس من أيقظ الله قلبه وأحيا روحه، فقام إلى عدو الله فكبته بذكر الله وقال له: اخسأ عدو الله، فوالله لو أني عدت إليها ملايين المرات فلا أزال أؤمل أن ربي غفورٌ رحيم، فإذا وقع رجع إلى ربه وأغاظ الشيطان، وقال: والله لو عدت المرات والكرات، ما دام أني أندم ندماً صادقاً بعد فعلها؛ فإني أرجو رحمة ربي، ولن يستطيع أحدٌ كائناً من كان أن يدخل بين العبد وربه، فإن الله ألطف بعباده وأرحم بخلقه، فإذا وجد الإنسان أنه قد استحكمت العادة بطول الاستمراء وبطول العهد سواء في العادة السرية، أو في المحرمات من النظر إلى النساء أو المردان أو غير ذلك من الشهوات والمحرمات -إذا وجد أنها قد استحكمت من قلبه، فليعلم أن المعاصي بالتكرار يكون سلطانها أقوى، كما أن الطاعات بالتكرار تكون هينة أمام الإنسان سهلة عليه، فمن اعتاد قيام الليل وكرره المرة بعد المرة، أصبح عنده ألذ من النوم والكرى ساعة التعب، وألذ من الطعام والشراب في شدة الظمأ وشدة الجوع، وهذا من رحمة الله عز وجل، فإذا علم أن المعصية بتكرارها يتسلط الشيطان على شعبة من شعب القلب في نفسية الإنسان، فالعلاج في هذا أن يفرق بين كونه مدمناً على هذا الشيء وبين كونه يقع المرة والمرتين. فالعلاج لا يكون ولن يكون إلا بتوفيق الله، فأولاً -وقبل كل شيء- يوجد في نفسه الشعور أن قدرة الله فوق كل شيء، وأنه لو عاد إلى الزنا، أو عاد إلى المحرمات، أو عاد إلى العادة السرية ملايين المرات؛ فإن يشأ الله في طرفة عين أن يقلبه كأن لم يفعل شيئاً فعل سبحانه، فإذا أحس بعظمة الله لم يستكثر على الله أن ينجيه، وهنا تكون الثقة بالله؛ لأنه ما أحسن عبدٌ ظنه بربه إلا كان الله عند حسن ظنه، قال تعالى في الحديث القدسي: (أنا عند حسن ظن عبدي بي)، ولذلك يحرص الشيطان في المعاصي دائماً على قتل هذه الروح، ومن هنا فرقوا بين العلماء والجهلاء في مسألة المعاصي، وليس المراد بالعلماء العلماء الراسخون في العلم، وإنما العالم هنا هو الذي يعلم من هو ربه بأسمائه وصفاته، فمن عرف الله في رحمته وحلمه وبره وإحسانه إلى خلقه؛ قتل عدو الله إبليس وأهانه وأذله، حتى إنه يعود إلى ربه ولو بعد السنوات الطويلة من المعاصي؛ لأنه ما خاب ظنه أن الله سيخلف عليه بخير يرده عليه. ومن هنا نقول: إن هذه العادة لما كثر سؤال الناس عنها واشتد البلاء بها، خاصة في هذه الأزمنة التي كثرت فيها الفتن والمحن، وغيرها من المعاصي، حينما اشتد بلاء المعاصي والفتن والشهوات في هذا الزمان الذي عظمت غربته، والذي لا يشتكى فيه إلا إلى الله وحده لا شريك له، فهو وحده الذي يرحم الغرباء، ويلطف بعباده الضعفاء أمام الفتن، وهذا البلاء الذي لا يكشفه أحدٌ سواه جل جلاله وتقدست أسماؤه، فيغاض عدو الله بهذا. وعلى المسلم أن يعلم أن إدمان المعاصي وتكرارها يفتح عليه باباً، ومن هنا من وقع في الشهوة مرة ليس كمن وقع فيها مرتين، ومن وقع فيها مستخفاً مستهتراً ليس كمن يقع فيها معظماً، وإذا ثبت هذا فعليه أن يعلم أن العودة والتوبة تحتاج إلى قوة، وليس هناك أقوى من العزيمة، فمن صدقت عزيمته في الله سبحانه وتعالى قوي لطف الله عز وجل به، ولذلك قص الله قصص الأنبياء فجعل تفريج الكرب عنهم، وحسن اللطف بهم من قوة الثقة بالله سبحانه وتعالى، ومن هنا قال يعقوب: {إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:96]، فلما علم من الله ما لا يعلمون رد الله عليه بصره، ورد عليه ابنه في أحسن الأحوال وأتمها وأكملها. فمن سلب شيئاً من دينه ووقع في الفتنة فاشتكى إلى الله جل جلاله، ويا ليت العبد تصور أو شعر حينما يبتلى بالفتنة أنه لن ينجيه إلا الله، وأنه لا يمكن أن يطهر منها إلا بتوفيق الله، فوثق بهذا الأساس، فالتفت يميناً وشمالاً وعلم أنه لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إلى الله، ففر إلى الله، وبحث عن أقرب الطرق إلى الله سبحانه وتعالى؛ لكي يشتكي إلى الله ولا يشتكي إلى أحدٍ سواه، فنظر فوجد أن ربه ينزل في كل ليلة في الثلث الآخر، ويسأل: هل من داعٍ فأستجيب دعوته؟ فاختار أحب الأوقات وأفضلها وأقربها وأرجاها إجابة، فتجرد لله مخلصاً من قلبه، ونادى الله في ظلمة الليل لا يسمعه إلا ربه، واشتكى إلى الله. ويا ليت أن العبد يعلم ما معنى الشكوى، فإنه ما من عبدٍ ولا أمة يقف بباب الله عز وجل ويقول: يا رب! إني أشكو إليك، إلا كانت شكواه عند الله جل جلاله. فقد سمع الله الشكوى من فوق سبع سماوات من خولة بنت ثعلبة التي جاءت تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها أوس بن الصمات، تقول عائشة: (والله! إني وراء الستر يخفى علي بعض كلامها وهي تقول: يا رسول الله! أكل شبابي، ونثرت له ما في بطني، حتى إذا كبر سني، وانقطع ولدي؛ ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك)، فسمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، وأعلم خلقه -كل من تلا الآيات البينات- أنه يسمع الشكوى، وأنه يجيب من اشتكى إليه، فإذا اشتكى العبد إلى ربه في ظلمة الليل، وقال: يا رب! إني أشكو إليك نفساً أمارة بالسوء، وضعفاً أمام معاصيك، اللهم أمدني بحول منك وقوة، اللهم أصلح لي ما ظهر وما بطن من أمري، فإن الله لن يخيب عبداً سأله جل جلاله. فإذا اختار الإنسان مثل هذه المواقف الصادقة لربما ابتلاه الله عز وجل، فمنهم من يعطيه الله الإجابة أسرع من لمح البصر حتى يقوم من مقامه كأن لم تكن به فتنة، ومنهم من يؤخر الله عنه الإجابة، فإذا تأخرت عنه الإجابة اتهم نفسه أنه مقصر اتهام عبدٍ لا يسيء الظن بالله، فإذا اتهم نفسه أنه مقصر لم يستشعر أن أبواباً غلقت دونه، ولكنه يستشعر أن الله يريد منه صدق اللجأ، وأن الله يحب منه أن يناجيه المرة بعد المرة، فكما أن البلايا تكون في الأجساد بالأمراض والأسقام والعلل فكذلك بلايا الدين، فمن قرع باب الله مرة بعد مرة، فإن الله يلطف به. وهنا وقفة عجيبة: من الناس من يقع في ذنب الزنا، ومنهم من يقع في ذنب النظر، ومنهم من يقع في فتنة الخمر، ومنهم من يقع في غير ذلك؛ فإذا اشتكى إلى الله صادقاً من قلبه لربما قفل الله عليه باباً في هذه الفتنة هو باب عقوبة، لو لم يشتكِ إلى الله لوقع في أشد مما هو فيه. إذاً: كل من أحس أن دعوته لم تستجب مباشرة فعليه أن يحسن الظن أن هناك مثوبة، وأن الله عز وجل سيعطيه، وقد يصرف عنه من السوء مثلما سأل، وقد يدخر له يوم القيامة لدرجة لا يبلغها بكثرة صلاة ولا صيام. فإذا فرج عنه في المرة الأولى فالحمد لله، وقد لا يستجاب له من أول الأمر، كما حصل لأحد الأخيار، فقد اشتكى أنه كان على صلاح واستقامة فابتلي بفتنة؛ صعد ذات يومٍ فوق بيته فرأى زوجة جاره، وكانت متهتكة، ثم لم يزل به إبليس حتى أغواه -والعياذ بالله- فوقع في الحرام معها، ثم فتح عليه باب بلاء ما كان يخطر له على بال، فبلغ به الأمر إلى شدة عظيمة حتى كاد أن ييأس من رحمة الله والعياذ بالله، وكان حافظاً للقرآن، ومن خيار الصالحين، فاشتكى إلى أحد طلبة الع

الأسئلة

الأسئلة

حكم تأديب الوالد ولده بالضرب أكثر من عشرة أسواط

حكم تأديب الوالد ولده بالضرب أكثر من عشرة أسواط Q في تأديب الوالد لولده هل تجوز الزيادة فيه على عشرة أسواط؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فأحد الأوجه عند العلماء: أنه لا يزاد على عشرة أسواط بالنسبة لتأديب الوالد لولده، وتأديب الزوج لزوجته، وهذا لا شك أنه أحوط وأبلغ في متابعة السنة، والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك الأشبه أنه لا يزاد في مثل هذه التعزيرات، والله تعالى أعلم.

حكم استمناء الزوج تجنبا للمشاكل مع زوجته

حكم استمناء الزوج تجنباً للمشاكل مع زوجته Q زوجتي تمتنع مني في أكثر الأوقات، فهل يجوز لي الاستمناء، ليس دفعاً للوقوع في الزنا، وإنما تجنباً لوقوع المشاكل بيننا؟ أرجو نصحي؛ أثابكم الله. A أوصي هذه الزوجة أن تتقي الله في نفسها، وأوصي كل امرأة -تخاف الله عز وجل وتتقيه- أن تتقي الله في زوجها، خاصة في هذا الزمان الذي كثرت فتنه، وعظمت فيه المحن، خاصة على الأخيار والصالحين، فعلى المرأة التي تخاف الله عز وجل أن تحرص على كل الأسباب التي تطفئ الفتنة، وتقفل باب الشر على زوجها من حسن التبعل، وحسن التجمل، وحسن الزينة، بأن تكون على أكمل وأفضل ما تكون عليه الزوجة لزوجها، وأن تتقي الله عز وجل في ولي الله المؤمن، فلا تضيق عليه، خاصة في شهوته؛ خوفاً من الوقوع في الحرام، ولذلك إذا امتنعت المرأة عن زوجها من غير عذر باتت الملائكة تلعنها -والعياذ بالله- في السماء حتى تصبح، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم بهذا إلى عظيم حق الزوج على زوجته، وعظيم الفتنة والبلاء الذي يترتب على التساهل في مثل هذه الأمور، فنوصي الزوجات أن يتقين الله في أزواجهن. وكذلك على الزوج أن يحسن التجمل لزوجته، وأن يصيبها خوفاً من تعرضها للحرام، ويحرص على السنة، واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فإذا حصل من الزوجين أن اتقى الله كلٌ منهما في الآخر؛ فإن الله سبحانه وتعالى سيبارك هذه العيشة. وأما مسألة: أن يستمني لخوف المشاكل؛ فالنار لا تطفأ بالنار، وما كانت معصية الله عز وجل طريقاً إلى خير أبداً، وإنما هي طريقٌ إلى كل شر، ومن هنا فقد يكون مقصوده أن يغيض زوجته بالاستمناء أمامها حتى تتحرك وتعفه، وقد يكون مقصوده مطلقاً أن يريها أنه لا يبالي، فكلاهما شر؛ لأنه إذا استمنى كان شراً، وإذا استمنى في الخفاء وأشعر زوجته أنه غير مبالٍ، دخل الشيطان على الزوجة وقال لها: إنه لا يحبك، ولا يريدك. فلا تُعالج النار بالنار، وإنما تعالج بتقوى الله عز وجل؛ فاصبر يصبرك الله، وكن رجلاً شجاعاً، وحتى تكون زوجتك كما ينبغي أن تكون عليه الزوجة فانصحها وذكرها بالله، وخذ بالأسباب ومنها: أنها إذا استمرت على حالها فإن الله أباح لك التعدد، فتزوج عليها يستقم عودها، وإن لم يستقم فيعوضك الله خيراً منها، فأيّة زوجة تلك التي لا تعف زوجها حتى يصبح زوجها يستمني؟! هذه مصيبة، فإذا أصبحت بهذه المثابة، لا تبالي بمشاعر زوجها تجاهها، ولا ترغب أن تعف زوجها عن الحرام وتمنعه عنه؛ فما عليه إلا أن يحضر استمارة التعدد، ولينظر يوماً أو يومين كيف سيكون الحال، فإن المرأة إذا كانت صادقة في محبة زوجها رجعت وأصلحت، فإن أبت وتمنعت فليتبع القول بالفعل، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]، وسينظر كيف تكون العواقب؛ لأن هذا درس لها ودرس لغيرها، أنها إذا تمردت على زوجها إلى هذا الحد، فإنه -والحمد لله- قد أحل الله له المرأة الثانية والثالثة والرابعة، هذا كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يغضب علينا النساء؛ لأن هذا إذا ظلمت المرأة زوجها. وعلى كل حال: فإن الاستمناء لا يجوز، وعليه أن يتقي الله ويصبر ويدعو لها. ثم هناك أمر أخير أحب أن أنبه عليه: وهو أنه قد يكون ظالماً لزوجته، بمعنى: أن الزوجة تقع في هذه الأمور بسبب أذية زوجها لها في أمور أخرى، فإذا قصر معها في حقوقها ربما أضرته في هذا الحق، ومن هنا نقول للزوج: اتق الله! واتهم نفسك بالتقصير، وحاول أن تنظر ما الذي يغضبها؟ وما الذي أخرجها عن رقتها، وعن حسن تبعلها؟ فقد يكون ظالماً لها في النفقة، أو أنه يهينها، ويتكلم عليها بكلمات جارحة، وقد يتكلم عليها أمام إخوانه وأخواته ووالديه ويذلها، وهنا ننصح الأزواج أن يراقبوا الله عز وجل وأن يتقوه، فإن المرأة -غالباً- تحب زوجها، فإذا قال زوجها الكلمة الجارحة لها أمام والديه أو أمام أخواته فلربما جرح قلبها جرحاً لا يمكن أن يرقأ، فعلى كل إنسان أن يتهم نفسه، وإذا قالت له: أرى فيك العيب الفلاني؛ فعليه أن يصلح هذا العيب. انظر إلى رسول الهدى صلى الله عليه وسلم حينما قالت له اثنتان من أمهات المؤمنين -تمالؤاً عليه-: إنا لنجد فيك ريح مغافير، فحلف بالله أنه لا يطعم في بيت زينب بنت جحش رضي الله عنهن العسل؛ فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1] الله أكبر! انظر إلى هذا الدرس الذي ينصف فيه النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه من نفسه، وكيف أن رسول الأمة والرحمة ما جاء يتعالى على الخلق وإنما يراعي كل شيء، فيحب أن يشم منه الرائحة الطيبة. وهذا بخلاف ما عليه بعض الأزواج، فقد يأتي إلى البيت نتن الرائحة، ويعاشر زوجته وهو نتن الرائحة، متبذل الثياب، لا يعرف كيف يأتي إلى زوجته يتحببها ويحاول أن يطفئ غريزتها، فأورثها النفرة منه، والكراهية له، والاحتقار له، وكيف يضمن ألا تقع في الحرام وهي تمسي وتصبح تذهب إلى عمل أو وظيفة، ويواجهها الرجال، فهذه أمور تهتز لها القلوب، وإلى متى يكون قلب الإنسان ميتاً، حتى ولو رأى منها إعراضاً تجمل لها وتحسن لها، وأعطها حقها، واجبر خاطرها، فهذه أمور يراها الرجل في فترة ليست بشيء، ولكن المرأة تراها شيئاً كبيراً. وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما يدني المكحلة فيكحل عينيه ويتجمل ويقول: إني أحب أن أتجمل لأهلي كما أحب أن يتجملن لي. وهذا من الإنصاف، فقد تكون المرأة تأبى على زوجها، وتمتنع عن زوجها لأسباب وجيهة؛ فليراجع نفسه. ولا ينبغي أن نسمع من طرف ونترك طرفاً آخر، وهنا أنبه على هذه القضية؛ لأن البعض يتساهل في قضية الإعفاف، وبالأخص بعض الأخيار تزهداً -وهذا زهد في غير موضعه- ووالله إن مرضاة الله عز وجل تشترى، وأبواب الله جل وعلا لا تعد ولا تحصى؛ تفضي به إلى جنته ودار كرامته، وواسع رحمته؛ لأنه يقول: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، فأبواب الجنة ثمانية، ولكن الخيرات لا تحصى، ولا يحصيها إلا الله وحده، ولو علم أنه إذا نوى لوجه الله أن يعف امرأته كم له من مثاقيل الحسنات حينما يعفها عن الحرام، ولو علمت المرأة أنها كما تتقرب إلى الله بركوعها وسجودها وصلاتها، أنها تتقرب إلى الله بعفة زوجها، فإنها تشتري رحمة الله في ذلك، قال صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟) فالحمد لله على سماحة هذا الدين وكماله. ولذلك نقول: إن زوجاً يلجأ إلى تعاطي هذا الأمر المحرم -وهو العادة السرية-؛ لا يكون إلا بتقصير من الزوجة، أو يكون هناك تقصير من الزوج دعا الزوجة إلى الوقوع في هذا التقصير، ومن هنا فعلى الجميع أن يتقي الله عز وجل، وأن يأخذ بالأسباب التي تعينه على كف النفوس عن محارم الله وحدود الله، والله تعالى أعلم.

إذا نسي المؤذن قول: (الصلاة خير من النوم) في أذان الفجر

إذا نسي المؤذن قول: (الصلاة خير من النوم) في أذان الفجر Q إذا نسي المؤذن في أذان الفجر قوله: الصلاة خير من النوم، فما الحكم؟ A يرجع ويقول: (الصلاة خيرٌ من النوم)، وهنا تفصيل: فإذا كان الفاصل يسيراً، فيرجع ويقول: الصلاة خير من النوم، ويعيد الجمل التي بعد قوله: (الصلاة خيرٌ من النوم)، فإن الأذان لا يصح إلا مرتباً وبدون وجود فاصل أجنبي من قول أو فعل، فالفاصل الأجنبي من القول: كالسب والشتم، والفاصل الأجنبي من الفعل: كالأكل والشرب المتفاحش، فإذا لم يفصل بفاصل مؤثر وأخطأ في أذانه، رجع من مكان الخطأ وأصلح، ثم أعاد الجمل التي بعد ذلك. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

باب القطع في السرقة [1]

شرح زاد المستقنع - باب القطع في السرقة [1] لقد حرم الله عز وجل السرقة، وجعل الله لقطع يد السارق حكماً عظيمة، والشفاعة في حدود الله إذا وصلت إلى القاضي لا تجوز. وهناك أصناف ممن يأخذون أموال الناس لا تقطع أيديهم لعدم اكتمال شروط السرقة فيهم، وهؤلاء هم: المختلس، والمنتهب، وجاحد العارية، والغاصب، وخائن الوديعة.

مشروعية قطع يد السارق

مشروعية قطع يد السارق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [باب القطع في السرقة]. القطع هو: الفصل بين الشيئين، وفصل الشيء عن الشيء، والمراد به هنا: قطع اليد من السارق. وقوله رحمه الله: (في السرقة) أي: في حد السرقة. والسرقة في لغة العرب مأخوذة من: سرق الشيء، إذا أخذه على وجه الخفية، وكل شيء يقع على وجه الخفية يسمى سرقة، ومنه مسارقة النظر، وهو أن ينظر إلى الشيء دون أن ينتبه الغير إليه، ومنه استراق السمع، كما يكون من الشياطين كما أخبر الله تعالى: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر:18]. والسرقة: أخذ المال المحترم شرعاً على وجه الخفية من حرز مثله بالغ النصاب من مكلف ملتزم مختار، فإذا وقعت السرقة على هذا الوجه انطبقت عليها أحكام هذا الحد الشرعي. وحد السرقة من الحدود التي أجمع العلماء رحمهم الله عليها، وثبت بها دليل الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38]، وهي من التشريع المدني. وثبت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قطع في السرقة، فقطع عليه الصلاة والسلام يد المخزومية التي كانت تسرق وتستعير المتاع ثم تجحده، كما ثبت في السنة الصحيحة عنه عليه الصلاة والسلام، وقال في خطبته المشهورة حينما سألت قريش أسامة رضي الله عنه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنها، فقال: (أتكلمني في حد من حدود الله؟)، وفي بعض الروايات: (أتشفع في حد من حدود الله؟) فاعتبر السرقة حداً من حدود الله، وقال عليه الصلاة والسلام: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم القوي -وفي لفظ: الشريف- تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) فهذا يدل على مشروعية القطع في حد السرقة. وبيّن صلى الله عليه وسلم أن هذا الحد ليس خاصاً بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من الشرائع الموجودة فيمن قبلنا، بدليل قوله: (كانوا إذا سرق فيهم القوي تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه)، وهذا يدل على أن حد السرقة ليس من الحدود التي تختص بها الأمة المحمدية. وأجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية القطع في حد السرقة، وفعل ذلك الأئمة والخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وفعله أئمة الصحابة رضي الله عن الجميع وأرضاهم، فالإجماع منعقد على هذا الحد الشرعي. وفي حد السرقة صيانة لأموال الناس، فكما أمر الله عز وجل بحفظ الدين، وبحفظ النفس من القتل، وبحفظ العرض من الانتهاك بالقول كما في القذف، وبالفعل كما في الزنا، شرع سبحانه وتعالى حد السرقة صيانة لأموال الناس من اعتداء المعتدين عليها، وهذا الحد فيه صيانة لحقوق الناس، وكبح لجماح الأنفس الدنيئة التي تعتدي على أموال الناس، وفيه زجر لأهل العقول السليمة عن الوقوع في رذيلة السرقة، ومن نظر إلى قوة هذا الحد ربما استغرب من شدة ألمه وعظيم موقعه، كيف تُقطع اليد من السارق لقاء هذا المال، مع أن حرمة الجسد أعظم من حرمة المال؟ ولكن من تأمل ما الذي يقع وما الذي يحدث للمسروق منه إذا أُخذ ماله من القهر والأذية والضرر والظلم وجد في هذا الحد حكمة عظيمة، ووجد فيه عدل الله جل وعلا الذي قامت عليه السموات والأرض. ولذلك استشكل الزنادقة والملحدون هذا الحد من حدود الله، وأوردوا الاعتراض على الشريعة، حتى قال بعضهم: إن الشريعة تناقضت، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ونسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وقهره لخلقه أن يقطع ألسنة أهل الزيغ وأهل الفساد، فقالوا: كيف إذا قطع الرجل يد الرجل وجب القصاص، وإذا قطعها خطأً وجب الضمان بنصف الدية، ثم إذا سرق ربع دينار قطعت يده؟ فكيف تضمن هذه اليد بنصف الدية ثم تقطع في ربع دينار؟ فظنوا أن هذا من التناقض قاتلهم الله! وهذا من انطماس بصائرهم حتى قال قائلهم: تناقض مالنا إلا السكوت عليه وأن نعوذ ببارينا من النار يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار فقال له القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله: قل للمعري: عار أيما عار لبس الفتى وهو عن ثوب التقى عاري عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري فلما عزت وصانت كانت كريمة، ولما هانت وسرقت واعتدت أصبحت رخيصة {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41]، فالله يضع الرحمة حيث توضع الرحمة لمن يستحقها، ويوجب العقاب والعذاب على من يستحقه، ومن هنا لا تعارض في الشريعة؛ لأنها صانت اليد وهي كريمة، وقطعتها وهي خائنة لئيمة، والحكمة تقتضي وضع الشيء في موضعه. فقوله: [باب القطع في السرقة] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بقطع يد السارق.

شروط قطع يد السارق

شروط قطع يد السارق قال المصنف رحمه الله: [إذا أخذ الملتزم] السرقة لا تكون إلا بصفة محدودة، وضبطت بالأدلة الشرعية، وهذه الصفة إذا وجدت حكم بثبوت الحد، وإذا فقدت فإنه لا يقام الحد. ومن هنا بيّن رحمه الله أن السرقة أخذ، وعلى هذا لو هجم رجل على مال يريد أن يسرقه فكشف أمره قبل أن يخرج به من حرزه ويتحقق الأخذ لم تقطع يده، فمثلاً: لو أنه كسر باب العمارة أو باب الشقة، أو دخل إلى الغرفة التي فيها النقود والأموال وكسر الباب أو عالجه فانفتح، ودخل وكسر الأقفال الموجودة على الصناديق، وقبل أن يأخذ المال ويخرج من هذا الحرز الذي هو حرز للمال أخذ، فلا تقطع يده حيث لم تتحقق السرقة. وعليه فلا بد من وجود الأخذ، حتى ولو حصل الأخذ بدون استصحاب منه، مثل: أن يكسر القفل ويأخذ ما قيمته النصاب، ثم يرميه من وراء الجدر، ثم يكشف أمره، فهنا قد حصل الأخذ؛ لأنه قد خرج المال من حرزه وهو نصاب ومال محترم شرعاً، وحينئذٍ تتحقق السرقة. إذاً: لابد من وجود الأخذ، فإذا لم يقع الأخذ لم نحكم بثبوت الحد. والسرقة تتعلق بالسارق والمسروق وفعل السرقة، هذه ثلاثة أركان تتحقق بها السرقة، ففعل السرقة في قوله: (أخذ)، وهذا الأخذ له ضوابطه، وسيبين رحمه الله الشروط المعتبرة للحكم بكون السارق قد تحقق فيه ما يوجب القطع بالأخذ المعتبر. والسارق هو الركن الثاني، والسارق يشترط فيه: أولاً: أن يكون مكلفاً، فالصبي لا تقطع يده، وكذا المجنون لا قطع عليه بإجماع العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم- الصبي حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق)، فإذا سرق وهو صبي أو مجنون فإنه غير مكلف. ثانياً: أن يكون مختاراً، فلو أكره على السرقة، كما يقع في العصابات، حينما يكره بعض أفرادها، فيهدد بالقتل أو يهدد بالضرر على الوجه والشروط التي ذكرناها في تحقق شرط الإكراه، فإذا هدد وتحقق فيه شرط الإكراه وقالوا له: إذا لم تذهب معنا وتسرق فإننا نقتلك، أو نقتل ابنك، أو نؤذيك أذية هي أعظم من السرقة، فإذا تحقق فيه شرط الإكراه فإنه لا يقطع. وعلى هذا ينبغي أن يكون مكلفاً بالبلوغ والعقل، وأن يكون مختاراً لا مكرهاً على السرقة. ثالثاً: أن يكون ملتزماً بأحكام الشريعة الإسلامية، سواءً كان من المسلمين أو من أهل الكتاب كالذميين فإنهم التزموا بالعهد بأن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وخاصة على القول بأنه يقام عليهم حكم الله عز وجل إذا تخاصموا إلينا، وأنهم مخاطبون بفروع الشريعة، فيشترط أن يكون ملتزماً مسلماً أو ذمياً، وخرج بهذا الحربي، فالحربي غير ملتزم بأحكام الشريعة، وكذلك -كما قيل-: المستأمن، فإن المستأمن إذا أخذ له الأمان فإنه في مذهب بعض العلماء غير ملتزم. ومن هنا يشترط في السارق أن يكون مكلفاً ملتزماً مختاراً، فإذا تخلف أحد هذه الشروط لم يقطع، فبيّن رحمه الله شرط الالتزام بأحكام الشريعة.

اشتراط النصاب

اشتراط النصاب قال المصنف رحمه الله: [إذا أخذ الملتزم نصاباً]. هذا يتعلق بالركن الثالث، وهو: المال المسروق، فعندنا السارق والمسروق وفعل السرقة، فلما قال رحمه الله: (نصاباً) بين الركن الثالث، وهو: أن يكون المال المسروق نصاباً، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا قطع إلا في ربع دينار) كما في الصحيح، وكذلك في حديث السنن: (لا تقطعوا إلا في ربع دينار، ولا تقطعوا فيما دون ذلك)، وهذا يدل على أنه ينبغي التقيد بالنصاب، وقال في حديث الثمر: (فإذا أواه الجرين ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن)، والمجن هو الدرع الذي كان يستر المقاتل، وكانت قيمته تساوي ربع دينار أو أكثر من ربع دينار، وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها سُئلت عن ثمن المجن فقالت: ربع دينار، ففسرت الحديث بما يتفق مع الأصل، فالنصاب ربع الدينار، وسيأتي تفصيله -إن شاء الله-، وفيه خلاف عن السلف رحمهم الله، ولكن الربع دينار هو الذي دلت عليه النصوص الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: يشترط في هذا المال المسروق: أن يكون قد بلغ النصاب، فإذا كانت قيمته دون ربع الدينار فإنه لا تقطع يد السارق، فلو أنه سرق كتاباً أو قلماً أو ثوباً أو نحو ذلك مما قيمته لا تساوي الربع الدينار أو ما يعادله من الدراهم، فإنه لا يقطع. وذهب بعض العلماء إلى عدم اشتراط النصاب وهم الظاهرية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله السارق يسرق البيضة والحبل فتقطع يده) وقد أجيب عن هذا الحديث بأن المراد به الوعيد، فلا يلتفت إلى حقيقة ما ذكر فيه، وهذا شأن أحاديث الوعيد، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عقرى حلقى)، وليس المراد: عقرها الله، حلقها الله، وقال: (ثكلتك أمك يا معاذ!)، وهو دعاء بالموت لكن لا يريد الحقيقة، وهنا أراد أن ينبه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا. وقيل: إن الحبل يساوي ربع دينار في السفن، والبيضة المراد بها: بيضة المقاتل، وهي التي تلبس في القتال، وقيمتها ربع دينار فأكثر، وليس المراد بها البيضة من نتاج الدجاج. وعلى كل حال سيأتي إن شاء الله بيان هذه المسألة، وأن الصحيح اعتبار النصاب؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص وقال: (لا قطع إلا في ربع دينار)، وهذا نص صريح، ولا يعارضه المحتمل، ولأننا لا ندري هل تأخر حديث: (لعن الله السارق) أو تقدم؟ ومن هنا لا يقوى على المعارضة من كل وجه، فيشترط في ثبوت حد السرقة: أن يكون المال المسروق نصاباً.

اشتراط الحرز

اشتراط الحرز قال المصنف رحمه الله: [من حرز مثله]. أصل الحرز: الحصن، والشيء المحفوظ فيما يحفظ فيه مثله يقال عنه: في حرز، والأحراز تكون في الأموال متفاوتة، وتتفاوت بحسب الزمان وبحسب المكان وبحسب الظروف والأشخاص، ومن هنا ينقسم الحرز إلى قسمين: الأول: ما يكون حرزاً بنفسه، مثل الدور والعمائر والشقق والبساتين، فهذه حرز بنفسها، بمعنى: أن عليها البناء والأغلاق، وفي حكمها الدكاكين، والحوانيت، والأحواش المسورة، فهذه أحراز بنفسها، ولذلك من تسور فدخلها ثم أخذ منها فقد أخذ من حرز. النوع الثاني من الحرز: حرز الحافظ، أو ما يقول العلماء عنه: حرز الغير، فهناك ما هو حرز بنفسه، وهناك ما هو حرز بغيره، والحرز بغيره هو المكان، ووضعوا ضابطاً يفرق بينه وبين الأول، فقالوا: حرز المكان هو الذي لا يدخل الشخص إلا بإذن من صاحبه، فالعمارة حرز مكان وحرز بالنفس، وهكذا الشقة والغرفة والمكتب إذا كان خاصاً بالشخص، فهذا حرز بنفسه، لا يدخله الغير إلا بإذن من صاحبه، وحرز الغير هو الذي يكون بالحافظ ويقع في الأشياء أو في الأموال أو في الأماكن العامة. فمثلاً: الأماكن العامة كالمساجد، ولو أن شخصاً سرق من مسجد فليس بسارق؛ لأن المسجد يرتاده الناس، ومفتوح للعامة، ومن هنا ليس له حرز، وليس حرزاً بنفسه، وإنما هو حرز بالحافظ، فلو نام شخص في المسجد ووضع كساءه أو ثوبه أو شنطته التي فيها النقود تحت رأسه فسرقها أحد فإنها تعتبر في حرز، ولذلك لما سُرِقَ رداء صفوان رضي الله عنه في المسجد من تحت رأسه، قطع النبي صلى الله عليه وسلم يد السارق؛ لأنه حينما وضعه تحت رأسه فقط حرزه وحفظه، صحيح أن المسجد عام لكنه حينما قام على ماله ووضعه على وجه يصان به فإنه حرز حفظ، فإذا سرقه من تحت رأسه أو جذب الفراش من تحته أو نحو ذلك فإنه يعتبر قد أخذ من حرز. وهكذا بالنسبة لحرز الغير، الإبل إذا كانت ترعى فإن حرزها بوجود الراعي معها، فإذا سرقها والراعي معها فهي سرقة من حرز، وإذا سرقها والراعي نائم فليست بسرقة من حرز، لابد من وجود الحفظ والصيانة فيما هو سائب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ليس في حريسة الجبل قطع حتى تأوي إلى المراح)، فجعل الإبل وهي بين الجبال أو في الموضع راعية سائمة ليس فيها قطع؛ لأنها ليست في حرز، فإذا حفظت بالحافظ والأمين فإنه حينئذٍ تكون في حرز.

أن يكون المال المسروق محترما

أن يكون المال المسروق محترماً قال المصنف رحمه الله: [من مال معصوم]. يشترط في السرقة أن يكون المال المأخوذ مالاً معصوماً، فخرج المال غير المعصوم، والمراد بالعصمة: عصمة الإسلام، وعبر الفقهاء بهذا المصطلح انتزاعاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله -وفي لفظ- حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم ... ) الحديث، فقوله: (قد عصموا) المراد بها: عصمة الإسلام، وعصمة الإسلام يدخل فيها الأمان والعهد للذمي، فإذا اعتدي على مال مسلم فهو اعتداء على مال معصوم، وإذا اعتدي على مال ذمي فهو اعتداء على مال معصوم؛ لأنه بموجب العهد يكون للذمي ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين. وخرج بهذا الحربي، فلو أنه مثلاً كان في القتال وتوقف مثلاً أو تقابل الزحفان ولم يحصل بينهما قتال فانسل مسلم وأخذ على وجه الخفية شيئاً منه فهي ليست بسرقة شرعية؛ لأن هذا من إغاظة الكافر بإيذائه في ماله إذا كان محارباً، ومن هنا لا تعتبر سرقة؛ لأن المال الذي أخذه مال غير معصوم.

ألا يكون في المال المسروق شبهة للسارق

ألا يكون في المال المسروق شبهة للسارق قال المصنف رحمه الله: [لا شبهة له فيه]. الشبيه: المثيل، وهذا يشبه هذا إذا كان قريباً منه في الصفات، والشبهة: أن يكون للإنسان شبهة في الملك، كما في السيد في مال عبده، والوالد في مال ولده، على تفصيل عند العلماء، وسيأتي إن شاء الله بيان ضوابط هذه الشبهة، ومتى تؤثر، ومتى لا تؤثر، والأصل في اشتراط عدم الشبهة قوله عليه الصلاة والسلام: (ادرءوا الحدود بالشبهات) فأمرنا أن نتقي الشبهات، وإذا وجدت في السارق شبهة، أو في المال المسروق شبهة توجب سقوط الحد وكانت مؤثرة فإنه لا حد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن ندرأ الحدود وندفعها بالشبهات.

أن يؤخذ المال المسروق خفية

أن يؤخذ المال المسروق خفية قال المصنف رحمه الله: [على وجه الاختفاء]. أن تكون هذه السرقة على وجه الاختفاء، وهذا أصل في السرقة، ومن هنا لو كانت السرقة عياناً بياناً أمام الناس، مثل: الغصب، فلو جاء واغتصب سيارته، أو أنزله من سيارته ثم أخذها بالغصب والقوة، فهذه ليست بسرقة، لكن لو أنه جاء إلى السيارة وهي في (كراجها) ومكان حفظها وحرزها ففتحها وأخرجها من مكان هو حرز لمثلها؛ فقد حصلت السرقة. فلا بد من وجود هذا الشرط: أن يكون على سبيل الخلسة والاختفاء، فلو كان على سبيل الظهور كما في الغاصب فإنه لا يقطع، وكما في المنتهب، والنهبة تكون بإغارة بعض القبائل على بعض، أو الجماعات على بعضهم، فهذا لا يعتبر سرقة، فقد كانوا في القديم يغيرون ويأخذون الإبل ويستاقونها، ويكون هذا على مرأى ومسمع، وهذا ليس بسرقة، إنما السرقة على وجه الخفية، ونفس مصطلح السرقة يتضمن ذلك، وهو وجود الخفية وعدم الظهور.

قطع يد السارق حد من حدود الله لا شفاعة فيه

قطع يد السارق حد من حدود الله لا شفاعة فيه قال المصنف رحمه الله: [قطع]. الحكم الشرعي أنه يجب قطع يده، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، وإذا توافرت الشروط لم يجز تعطيل حد الله عز وجل. ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (إذا بلغت الحدود السلطان فلعنة الله على الشافع والمشفع)، ولما سرق الرجل رداء صفوان ورفعه صفوان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطعه؛ ما كان يظن صفوان أن الرجل ستقطع يده، فشفع له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (ما علمت أن يده ستقطع فقال: هلا كان هذا قبل أن تأتيني به) أي: أنه كان المفروض ألا تأتيني به؛ لأنك لو أتيتني به أقمت حد الله عليه. ومن هنا قال المصنف: (قطع) أي: وجب القطع، وهو حد الله عز وجل، ومن أقام حد الله عز وجل فقد أطاع الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام، وتستقيم الأمة بتنفيذ حدود الله، وإقامة هذه الحدود، ويجب ألا تأخذ من يقيمها لومة لائم، وألا يبالي بسخرية الساخرين واستهزاء المستهزئين وإرجاف المبطلين، هذا كله لا يلتفت إليه؛ لأن الحكم لله الذي يحكم ولا معقب لحكمه سبحانه، والأمر أمر الله، والخلق خلق الله، يفعل بهم ما يريد، ويحكم فيهم ما يريد سبحانه وتعالى. أجمع العلماء رحمهم الله أنه إذا توافرت الشروط يجب على القاضي الحكم بالقطع، ويجب على السلطان تنفيذ هذا الحكم، وألا يتدخل أحد في حكم الله عز وجل، وهذا الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما ثبت عن المخزومية موجب القطع وجاءت قريش بقضها وقضيضها تشفع وتريد أن تسقط عنها العقوبة، وقدموا الأموال من أجل أن يردوا ما سرقته ويطيبوا خاطر المسروق منه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد هذه النعرات وهذه الحمية الجاهلية الممقوتة التي تعطل حدود الله عز وجل وتمنع من إقامة حق الله عز وجل، ردها بعبارة قوية شديدة، فقال: (والذي نفسي بيده -فأقسم بربه سبحانه الذي أنفس العباد بيده سبحانه- لو أن فاطمة بنت محمد -وحاشاها- سرقت لقطعت يدها) فأخرس ألسنتهم، وكف شفاعتهم، وردهم عليه الصلاة والسلام وأقام هذا الشاهد والمثال في أحب الناس إليه، الذي هو منه بضعة وقطعة، كما في الصحيح أنه قال: (إنما فاطمة بضعة مني) -أي: قطعة مني- يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها. ومع ذلك يقول: (والذي نفسي بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) وهذا يدل على ما ذكره المصنف من ثبوت الحد وهو القطع. وأجمع العلماء رحمهم الله: على أنه لا تجوز الشفاعة ولا يجوز تعطيل الحدود بالمماطلة والعبث بحق الله سبحانه وتعالى، بل الواجب تنفيذ هذا الحد. والمراد باليد: من عند مفصل الزندين مع الكف، فيجب القطع من هذا الموضع، وسيأتي إن شاء الله بيان الضوابط الشرعية المعتبرة لتنفيذ هذا الحد وهذه العقوبة.

أصناف لا تقطع أيديهم عند أخذهم مال الغير

أصناف لا تقطع أيديهم عند أخذهم مال الغير قال المصنف رحمه الله: [فلا قطع على منتهب]. يقول رحمه الله: (فلا قطع على منتهب)، وهذا ما ثبتت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا قطع على خائن، ولا مختلس، ولا منتهب)، والحديث صححه غير واحد من العلماء رحمهم الله، وأجابوا على ما أورد عليه من الانقطاع بين ابن جريج وأبي الزبير محمد بن تدرس المكي، وصحح غير واحد إسناده، واختار الشيخ الألباني رحمه الله في الإرواء تصحيحه، والحديث صحيح أنه لا يقطع المنتهب، ولا المختلس، ولا الخائن، قال صلى الله عليه وسلم: (لا قطع على منتهب، ولا مختلس، ولا خائن)، وقال الإمام الترمذي: إنه حديث حسن، وأثبت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه مما يحتج به. والمنتهب -كما ذكرنا- هو: أن يأخذ المال على سبيل النهبة، وتكون عياناً، فذكر المصنف رحمه الله المنتهب؛ لأنه سبق وأن بيّن وجه الخفية، فخرج المنتهب؛ لأنه يكون على وجه العلانية. قال رحمه الله: [ولا مختلس]. المختلس هو: الذي يتغفل الإنسان فيختلس منه الشيء دون أن يكون على علم، وغالباً المختلس يفقد فيه شرط الحرز، ومن هنا يكون الشخص غافلاً فيختلس ماله وهو على الطاولة، أو يختلس ماله وهو على المكتب، فهذا ليس بسرقة إنما هو اختلاس. فبيّن المصنف رحمه الله: أنه لا بد من شرط الحرز، والمختلس يأخذ من غير الحرز، لأنه لا يستطيع أن يختلس إلا إذا كان المال أمامه، ويكون مثلاً شخص أخرج النقود -كالصرّاف- ووضعها أمامه يريد أن يحاسب شخصاً ثم غفل أو كانت يد ذلك المختلس خفيفة فأخذ من هذا المال، هذا من غير حرز، وحينئذٍ لا تقطع يده. قال رحمه الله: [ولا غاصب]. وهو الذي يأخذ المال بالقهر والقوة، فلو أن شخصاً أخذ أرض شخصٍ بالغلبة، أو اغتصب منه شبراً من أرضه أو متراً، أو أخذ مزرعته أو أخذ بيته وعمارته فإنه لا يقطع؛ لأنه أخذ المال على غير وجه الخفية؛ لأن الغصب يكون علانية. قال رحمه الله: [ولا خائن في وديعة]. الخائن هو: الشخص الذي يؤتمن على أموال الناس، فيضيع الأمانة نسأل الله السلامة والعافية، فلو أنه وضع المال عنده لكي يحفظه وديعة، فسرق من هذا المال أو أخذ منه فإنه لا تقطع يده؛ لأنه حينما أعطي المال نزّل منزلة الوكيل، وحينئذٍ لا يتأتى فيه ما في السارق من كونه يأخذ المال على سبيل الخفية دون علم من صاحبه، والخائن لا يتوافر فيه أخذ المال من الحرز؛ لأنه هو في الأصل أعطي كحافظ للمال فهو حرز المال وهو حفظه، ومن هنا لا يعتبر شرط الحرز متحققاً في الخائن، ولو أنه أعطي وديعة ثم أنكرها وجحدها، فإنه إذا تبين أنه جاحد للوديعة لم يقطع؛ لأنه لا قطع في خيانة كما نص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عنه. قال رحمه الله: [أو عارية أو غيرها]. الوديعة: تأتي للشخص وتقول له: هذه عشرة آلاف ضعها عندك أمانة إلى نهاية السنة، وهذا محدد الوقت، أو إلى أن أطلبها منك، وهذا غير محدد الوقت، فهذه وديعة. أما العارية: كأن يأتي شخص مثلاً ويأخذ سيارتك ويقول: أريد هذه السيارة من أجل أن أسافر بها إلى المدينة، ثم أخذ السيارة وفرّ بها، ففي هذه الحالة لا نعتبرها سرقة؛ لأنه ليس على سبيل الخفية، وأنت على علم أن سيارتك عنده.

ما يجب على المسلم عندما ترد الشبهات من أعداء الله

ما يجب على المسلم عندما ترد الشبهات من أعداء الله من هنا تدرك عظيم ضرر السرقة حينما راعى الشرع فيها قضية الخفية لعظيم ضررها؛ لأنه إذا سرق المال من الشخص اتهم جميع الناس في الأصل إلا من رحم ربك، وحينئذٍ تسوء ظنون المسلمين بعضهم ببعض، وفي المغتصب يعرف من أخذ ماله، وفي الخائن يعرف من خانه، وفي الجاحد للعارية والوديعة معلوم من قام بهذا. ومن هنا: فعل السارق ليس أذية للأموال فقط بل أذية إلى نفسية الناس، فمن الناس من إذا سرق ماله فقد عقله والعياذ بالله، ومنهم من تأخذه الحمية والقهر حينما يؤخذ ماله وهو لا يدري من الذي أخذ، فيشك حتى في ولده، ويشك حتى في أقرب الناس منه، ومن هنا تراعى عظم شأن هذه الجريمة، فالبعض ينظر إلى ظاهرها من كونها متعلقة بالأموال، ولكن لا ينظر إلى ضرر المأخوذ منه. ومن هنا تجد من ينتقد الشريعة -وهو أحقر من ذلك ودون ذلك- ينظر إلى المقطوع يده وهو الجاني ولا ينظر إلى المجني عليه، ويقولون: كيف تقتصون من القاتل؟ هذه بشاعة، كيف تقتلونه؟ يأتون ويسفكون الدماء وينتهكون الأعراض ويعتدون على أموال الناس ثم يأتي أهل الحقوق ويتكلمون وينتقدون ويقولون: إنهم أهلُ حقوق، وإنهم دعاةٌ إلى الحقوق: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8]، فيرون أنهم دعاة للحق، وأنه لا يمكن أن تقطع اليد، ويقولون: ما هذه البشاعة في الإسلام؟ -قاتلهم الله- ولا ينظرون إلى الأعراض التي تنتهك، والدماء التي تسفك، والأموال التي تسرق، أبداً ما ينظرون إلى هذا، بل ينظرون إلى المجرم ويقولون: وراءه أسرة وعائلة، وهم بهذا يعينون أهل الجرائم على جرمهم. فلو كانوا أهل حقوق بحق لنظروا إلى الطرفين، وأنصفوا الطرفين، حتى حينما نقول لهم: هذا قاتل، هذا قتل غيره، فكما سلب غيره نفسه سنسلبه نفسه، وما ظلمناه، فلا يمكن أن ينظروا إلى المقتول! وهذا عين الظلم والجور، ولا شك أن الكافر كما قال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254]؛ لأن الموازين عندهم مضطربة، ولكن أهل الإسلام هم أهل العدل وأهل الحق بتوفيق الله عز وجل، بصرهم الله عز وجل فنظروا إلى الجريمة وآثارها وأضرارها، وحجم ما اكتسبت الأيدي، وأعطوا كل جريمة حقها بأمر الله سبحانه وتعالى، فالسارق ما دام أنه سرق فإنه لا يمكن أن ينزجر إلا إذا قطعت يده، فإذا قطعت يده وحدث نفسه بالسرقة مرة ثانية إذا بيده تذكره بالعقوبة وعندها يرتدع، ولو جئت بالسراق ووقفوا على سارق تقطع يده لهالهم الأمر، ولوقع ذلك في أنفسهم موقعاً بليغاً. ومن هنا: تطبيق حدود الله عز وجل ليس بمنقصة ولا بشاعة، وليس فيه ظلم ولا ضرر ولا أذية، ومن هنا ينبغي أن يعتز المسلم بهذا الدين ويعتز بأحكامه، وعليه بدل أن يكون مدافعاً عن شبهات الأعداء أن يكون مهاجماً على الأعداء، فيهجم عليهم بالعكس والضد، ويقول: نحن دعاة الحقوق للمجني عليهم، وأنتم دعاة حقوق للجاني، ونقول: نحن دعاة الحقوق للمجني عليه، والمفروض أن ينصر المجني عليه؛ لأن الجاني لا يحتاج إلى نصر إلا بكفه عن ظلمه وزجره عن أذيته للناس، فتقطع اليد حتى تذكره بالجريمة وتذكر غيره، وليتأمل الإنسان حينما يصبح المجرم مجرماً فيسرق، فإذا قطعت يده يكون بين أمرين: إما -والعياذ بالله- أن يبقى سارقاً فيذهب ويعيش بين السراق، فكلما أصبح وأمسى يذكرهم بيده، لأن من ينظر إليه يتذكر عاقبة السرقة، فهي من أبلغ المواعظ والعظات. وأما إذا رجع وتاب إلى الله زجر غيره، فإذا نظر إلى يده مقطوعة هاب السرقة وهاب أموال الناس، وفي ذلك آيات وعظات بالغات، وكفى بالله عز وجل عليماً حكيماً، ولطيفاً خبيراً، يضع الشدة في موضعها، ويضع اللين في موضعه، ولا ينبئك مثل خبير. فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كانا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق. والكلمة الأخيرة: أننا نوصي في هذا الزمان بأمر مهم جداً وخاصة في مسائل الحدود ومسائل الشبهات التي ترد على الإسلام عموماً، ألا وهي: مسألة التمسك بالحق، فما عليك من إرجاف المرجفين، وسخرية الساخرين، وانظر كيف كان السلف الصالح والأئمة رحمهم الله في زمانهم، فترد الشبهات حتى قالوا: كيف تقطع اليد بربع دينار ويجب ضمانها بنصف دية؟ وهذا من القديم، وللشر أهله؛ فهم لا يخرصون ولا يسكتون؛ لأن الله ابتلى بهم أهل الحق، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20] قال الله: (أَتَصْبِرُونَ) وهذا يقتضي أن نصبر على الحق. فأثناء إيراد الشبهات -سواءً في السرقة وغيرها- وحينما يتبجح أعداء الإسلام، وأعظم من هذا أن يتبجح من هو من بني جلدتنا بأمور فيها استخفاف بالشريعة أو استهزاء؛ فعلى كل مسلم أن تأخذه الغيرة والحمية لهذا الدين، غيرة الحق لا غيرة الباطل، وحمية الدين لا حمية الجاهلية، ومن غار لحق الله أحبه ربه، فإن الغيرة على الحق تزكي نور الإيمان في القلوب، ومن غار على حق الله عز وجل وتألم وتمعر وجهه نجي من العذاب، فإنه إذا كان الإنسان معجباً بما يقوله أهل الباطل ويدافع عنهم أو يهون من أمرهم دون أن يرد عليهم ودون أن يقارعهم الحجة فإن هذا بلاء عظيم، وشر وخيم، فيوصى الإنسان بالصبر على الحق الذي هو مؤمن به. ومن أحب الأعمال إلى الله -إذا أرجف المرجفون أو طعن الطاعنون أو شوش المشوشون- أن تكون عندك ثقة كاملة بهذا الحق، وأن تعتز به؛ ولذلك قال تعالى: {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:10 - 11]، فإذا زلزل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسيزلزل من كان على نهجهم في كل زمان بحسبه، ولكن الله تعالى يقول: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22] ثم قال الله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ} [الأحزاب:23] ليسوا كلهم! {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]؛ لأن بينك وبين الله هذا العهد من الإسلام والاستسلام، وإذا جاء حكم الله عز وجل أمعنت وسلمت ورضيت وكنت على قوة من الحق والثبات ولا تتزلزل، قال أبو بكر رضي الله عنه: (والله! لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم عليها) وهذا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والحال في شدة وضيق، وحال المدينة كان من أصعب ما يكون؛ لأن العرب ارتدت، وكان بأشد الحاجة رضي الله عنه إلى جيش أسامة الذي جهزه النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أمضى ما أمضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت على الحق رضي الله عنه وأرضاه، فكان هذا من دلائل يقينه بالله عز وجل، فكل صاحب حق يثبت على حقه ثباتاً يرضي الله عز وجل؛ لأن الله في الفتن ينظر إلى القلوب، فمن الناس من يلين مع أهل الباطل، ومنهم من تنكسر شوكته، والعياذ بالله! وقال الحكماء والعلماء والصلحاء: الفتن حصاد المنافقين {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42]، وكل فتنة وراءها فتنة، فمن صبر في الفتنة الأولى ازداد إيمانه تهيئة للفتنة التي بعدها، ثم تأتي الفتنة التي بعدها أشد من الأولى كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما انتهى مرجف جاء مرجف آخر، وقد يكون المرجف كاتباً واحداً ثم أصبحوا كتاباً، ثم أصبح إرجافاً على مستوى الدول والجماعات، حتى يعظم الإرجاف، ولكن الله غالب على أمره. الكون كون الله، والأمر أمر الله عز وجل، وكلمة الله ماضية، ولتخرص الأفواه، ولن يبقى إلا الحق الذي فيه كلمة الله جل جلاله، التي سيمضيها بعز عزيز وذل ذليل، فوالله! لقد حصل لهذه الأمة من النكبات والفجائع والأهوال ما لا يعلمه إلا الله سبحانه، وما انطفأ نور الله يوماً من الأيام، بل كلما وقعت فتنة رجع الحق أشد ضياءً ونصاعة وقوة ورهبة وهيبة؛ لأنه من الله! وتأمل قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21] أولاً: التعبير بالكتب؛ لأن التعبير به دليل على أنه لا يغير ولا يبدل، ثم ما قال: كتبت، ولكن {كَتَبَ اللَّهُ} [المجادلة:21] فالتعبير بالاسم الظاهر، فحينما تقول: كتبت، شيء، وحينما تقول: كتب محمد، وكتب فلان، فتذكر اسمك ولك مكانة أو لك قوة شيء آخر، وما قال: أن يغلب، إنما قال: {لَأَغْلِبَنَّ} [المجادلة:21]، واللام هي الموطئة للقسم، أي: والله! لأغلبن، والتعبير هنا بالغلبة، ثم قال: {لَأَغْلِبَنَّ} [المجادلة:21] توكيد {أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21] ما أحد أبداً يشك في قدرة الله على خلقه، وهذه الشنشنة وهذا الإرجاف من المبطلين أياً كانوا وبأي اسم تسموا، وتحت أي ستار استتروا؛ فليكشفن الله عوارهم وذلهم، وليلبسنهم الصغار كما ألبس من قبلهم، والله عز وجل له حكم. ومن هنا تجد في بعض الفترات المرجفين يرجفون، والكتّاب يكتبون ما فيه استهزاء بالدين أو سب لله عز وجل والعياذ بالله، فيتمعر قلب المؤمن، ويرفع الله درجاته بهذا التمعر بما لا يبلغها بكثرة صلاة ولا صيام، ولربما تسمع بمن يطعن في كتاب الله، أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو في حد من حدود الله عز وجل، فتجد ذلك السفيه المغمور المتهتك الذي لا دين عنده ولا عقل يلمز الإسلام أو يلزم الأخيار، ثم تجد أن هذه الكلمة لها أثر في قلبك فتتألم وتتغير، ومن الناس من يمنعه قول أهل الباطل النوم! وكان بعض العلماء قد يمرض! وإن كان الأمر لا ينبغي أن يبلغ هذا؛ لأن الله نهى وقال: {وَلا تَحْزَنْ عَلَ

الأسئلة

الأسئلة

حكم جاحد العارية

حكم جاحد العارية Q أشكل عليّ حديث المخزومية بأنها تستعير المتاع ثم تجحده وسماها النبي صلى الله عليه وسلم سرقة مع ما قررنا أنه لا يكون في العارية قطع؟ A تعرف هذه المسألة بمسألة قطع جاحد العارية، وفيها قولان مشهوران للعلماء رحمهم الله، والصحيح ما رجحناه أنه لا قطع على جاحد العارية، وهذه المرأة ثبت في الرواية الصحيحة أنها سرقت، ولذلك قال في نفس الحديث: (ولو أن فاطمة بنت محمد سرقت)، وقال: (أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف) وسرقت قطيفة من إحدى البيوت، وكانت هذه القطيفة تساوي النصاب وتزيد، فـ عائشة رضي الله قالت: أهم قريش شأن المخزومية التي كانت تستعير المتاع ثم تجحده؛ لأنها كانت هذه الصفة غالبة، ولا يمنع أن جريمتها في الأصل هي السرقة، والقطع لا لجحد العارية وإنما قطع عليه الصلاة والسلام؛ يدها لأنها سرقت. ولذلك لما قطع عليه الصلاة والسلام يدها لم يستفصل عن المتاع مما يدل على أن القطع إنما وقع بسبب أنها سرقت، وقد جاءت الرواية صحيحة بهذا، ومن هنا قال الجمهور: إنه لا يقطع جاحد العارية؛ لأن الأصل أنه لم ينطبق عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجود الأخذ من الحرز على سبيل الخفية، والله تعالى أعلم.

الشفاعة في الحدود

الشفاعة في الحدود Q كيف نجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا) وبين قوله: (أتشفع في حد من حدود الله؟)، فمتى تكون الشفاعة في الحد ممنوعة؟ A ( اشفعوا تؤجروا) عام، و (أتشفع في حد من حدود الله؟) خاص، والقاعدة: (لا تعارض بين عام وخاص)، والحد الذي يمنع من الشفاعة منه حد الزنا حد القتل القصاص حد الحرابة حد السرقة، هذه الحدود لا شفاعة فيها، وكذلك حد القذف، ومحل المنع أن ترفع إلى القاضي فإذا رفعت إلى القاضي لا شفاعة، أما قبل وصولها إلى القاضي فتجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به)، وقال في الرواية الأخرى في الحديث الآخر: (إذا بلغت الحدود السلطان ... ) فقال: (إذا بلغت)، وهذا يدل على أنه إذا رفع الأمر إلى الوالي أو القاضي لا تجوز الشفاعة، والله تعالى أعلم.

حكم أخذ المرأة من مال زوجها فوق حاجتها خفية

حكم أخذ المرأة من مال زوجها فوق حاجتها خفية Q هل أخذ المرأة من مال زوجها دون علمه إذا كان فوق حاجتها من السرقة؟ A هذا فيه تفصيل؛ لأنه في بعض الأحيان يكون سرقة، ويقع به القطع ويثبت به الحد، وبعض الأحيان لا يكون سرقة؛ لأن فيه شبهة، وهذا سنذكره -إن شاء الله تعالى- في ضابط الشبهات التي تدرأ حد السرقة، لكن من حيث الأصل، أنه إذا خرجت عن الأصل الشرعي أو عن الحد الشرعي أو الضابط الشرعي؛ فإنها تقطع، فمثلاً: لو كسرت قفلاً في غرفة الزوج، وكان للزوج غرفة خاصة به، أو (شنطة) خاصة به، فجاءت وكسرت أقفال هذه (الشنطة) وأخذت المال الموجود فيها، ثم خرجت ونحو ذلك، فهذا كله ظاهره سرقة، فلا يعتبر داخلاً تحت قوله: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، ولا تؤثر الشبهة في هذا؛ لأن قصد استباحة المال والاعتداء عليه موجود، ومن هنا سيفصل في هذه المسألة إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم.

اشتراط استمرار عذر جمع التقديم إلى الدخول في الصلاة الثانية

اشتراط استمرار عذر جمع التقديم إلى الدخول في الصلاة الثانية Q من جمع صلاتي الظهر والعصر جمع تقديم ثم وصل إلى بلده قبل دخول وقت العصر، فهل عليه الإعادة؟ A الجمهور على أن من جمع ثم رجع إلى بلده قبل دخول وقت الثانية فيجب عليه أن يعيد الصلاة؛ ذلك لأنه يشترط في صحة جمع الصلاة الثانية في وقت الأولى أن يدخل وقت الثانية وهو مسافر، فإذا دخل عليه وهو مقيم فقد خاطبه الله بأربع ركعات؛ لأنه إذا أذن عليه الأذان فقد خاطبه الله بأربع ركعات، وهو قد صلى ركعتين، ومن هنا تجب عليه الإعادة، ولا يستبيح بهذا الوجه الرخصة، ومن هنا قال العلماء: ويشترط في جمع التقديم أن يستمر عذر الجمع -الذي هو السفر- إلى دخول وقت الصلاة الثانية، بأن يدخل وقت الثانية وهو مسافر، مثلاً أذن الأذان قبل دخوله بلده ولو بثلاث دقائق أو بدقيقة أو بدقيقتين، فإنه في هذه الحالة قد خوطب بركعتين، ولم يخاطب بأربع فيجزيه ما صلى، والله تعالى أعلم.

حكم صلاة المفترض خلف المتنفل

حكم صلاة المفترض خلف المتنفل Q ما حكم من صلى الفرض خلف من يصلي النفل؟ A لا بأس بذلك ولا حرج؛ لأن معاذاً رضي الله عنه كان يصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يأتي قومه بقباء فيصلي بهم، وهم مفترضون وهو متنفل، وهذا يدل على صحة صلاة المفترض خلف المتنفل، والأفضل أن يخرج الناس من الخلاف في هذه المسألة فيكون الإمام هو المفترض، ولكن لو وقع ذلك فلا بأس ولا حرج؛ لثبوت السنة بالتقرير في هذا، والله تعالى أعلم.

باب القطع في السرقة [2]

شرح زاد المستقنع - باب القطع في السرقة [2] يجب قطع يد الطرّار الذي يقطع الجيوب ويأخذ منها المال، ويشترط في المال المسروق أن يكون مالاً محترماً، ولا تقطع يد من سرق آلات لهو أو خمر مع التفصيل في ذلك. ومقدار نصاب المال الذي تقطع فيه يد السارق ربع دينار من ذهب أو ثلاثة دراهم من فضة، أو ما يعادل قيمة أحدهما، مع خلاف بين أهل العلم في ذلك.

حكم قطع يد الطرار

حكم قطع يد الطرار بسم الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويقطع الطرّار الذي يبط الجيب أو نحوه ويأخذ منه]: ما زال المصنف رحمه الله يتكلم على صور يتحقق بها مفهوم السرقة، ومن ذلك قوله: (ويقطع الطرّار الذي يبط الجيب) ففي بعض صور السرقة: يقدم السارق على قطع الجيب: إما بالسكين، أو بالموس، أو بالشفرة، فالطرّار هو: الذي يسرق من الجيب، والسرق من الجيب له صورتان: الصورة الأولى: أن يدخل يده فيستلّ المال الموجود في داخل الجيب. الصورة الثانية: أن يقطع الجيب من أسفله أو من جنبه، ثم يستل المال منه. فمن أهل العلم من قال: أن الذي يبطّ الجيوب -أي: يقطع الجيوب- لا تقطع يده، ويرون أن القطع لا يكون إلا إذا كان في حرز، وكان صاحب الحرز منتبهاً -يعني: عينه على الحرز- ومن هنا قالوا: إن من نام في المسجد، ورداؤه تحته، أنه ينبغي اشتراط كون الرداء تحت الجسم، أو تحت الرأس، فإذا استله من تحت الرأس فقد استله من حافظ، وحينئذٍ قالوا: إنه إذا كان الرجل في غفلة واستل المال منه بدون أن يعلم فإن يده لا تقطع؛ لأن المال في الجيب ليس في حرز عند من يقول بعدم القطع، إلا إذا كان صاحبه عينه على الجيب، ومن هنا يرون أنه لا قطع عليه، واختار المصنف القول بالقطع. قالوا: لو استغفل صاحب المال، ثم استل المال من جيبه، وقطع الجيب فأخرج منه المال -من أسفله أو من عرضه- فإنه يعتبر سارقاً، وقالوا: إن الشخص عينه على ماله ما دام حاملاً للمال، ثم إنه قد استل المال منه خفية، فتتحقق فيه شرط السرقة، وقالوا: الطرّار في حكمه إذا كان يبط الشنطة، مثل ما يقع في (المحافظ) ونحوها يقطعها ثم يستل المال منها، فقوله: (أو نحوه) مثل: المحفظة، أو الهميان والكمر، فإذا كان (الكمر) مشدوداً على صاحبه، ثم جاء واستل المال من (الكمر) وصاحبه حامل له قطعت يده. فقوله: (الطرّار): هو الذي يبط الجيب (يبط الجيب) أي: يقطعه، سواءً كان القطع من أسفله أو من عرضه؛ لأنه لما قطع الجيب فقد أخذ المال من الحرز، وحينئذ يكون بط الجيب مثل كسر الأقفال في الصناديق، وكسر الأبواب، وهذا يعتبر أخذاً للمال من حرزه، فقالوا: إن صورة هذه السرقة -على هذا الوجه الذي اختار المصنف- توجب القطع.

اشتراط أن يكون المسروق مالا محترما

اشتراط أن يكون المسروق مالاً محترماً قال رحمه الله: [ويشترط أن يكون المسروق مالاً محترماً]. أي: لا نقطع يد السارق إلا إذا توافرت الشروط في السارق، وفي المال المسروق، وفي فعل السرقة، ومن هنا: ابتدأ رحمه الله فقال: (يشترط أن يكون المسروق مالاً) والمال عند العلماء هو: كل شيء له قيمة فيعاوَض عليه، ويشمل الذهب والفضة وهو ما يسمى بالأثمان، ويشمل المثمونات، وعلى هذا: تقع السرقة في الذهب والفضة، وتقع في المجوهرات، وتقع في المعادن، مثل: النحاس، والحديد، والرصاص، والنيكل، والزنك، وكذلك تقع في الثياب، وتقع في الأطعمة، وتقع في الأشياء التي يرتفق بها كقطع الغيار الموجود في زماننا لاستصلاح الأدوات الكهربائية، أو أدوات النقل، كل هذا يعتبر مالاً له قيمة، وسمي المال مالاً؛ لأن النفوس تميل إليه وتهواه. رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال فالنفوس تميل بطبعها إلى الذهب والفضة، وكل شيء له قيمة. لما قال رحمه الله: (أن يكون مالاً): هذا الشرط، مفهوم عكسه: أنه لو سرق شيئاً ليس بمال فلا قطع، والذي ليس بمال، مثل: أن يسرق آدمياً حراً، فالحر ليس بمال، لا يباع ولا يشترى، ومن هنا اختلف العلماء في سرقة الأطفال الصغار: فلو أنه اختطف طفلاً صغيراً؛ خدعه حتى خرج من المدينة، أو خرج به من بيت أهله، فبعد أن أخذه -كانوا في القديم يأخذونه ويبيعونه- أو اختطفه، وأصبح يستخدمه لخدمته، أو نحو ذلك. الطفل الحر من الصغار غير المميزين والمجنون الذي لا يعقل، اختلف فيهما العلماء رحمهم الله، أما الحر البالغ فلا يمكن أن تقع السرقة به -كما ذكر العلماء- أن يكون نائماً ثم يسرقه، فجماهير السلف والخلف -رحمهم الله- على أنه لو سرق حراً كبيراً لا قطع؛ لأنه ليس بمال، ولا في حكم المال، ولا يباع ولا يشترى. وأما إذا كان صغيراً مثل: الأطفال الذين لا يميزون، والمجانين الذين يُخدعون، ويسرقون إلى خارج المدن، ويقع هذا في ذوي العاهات، فبعض الأحيان يسرقهم ضعاف النفوس -نسأل الله السلامة والعافة- من أجل أن يتكسبوا بهم، أو نحو ذلك، فلو سرقه؛ هل تقطع يده أو لا؟ جمهور العلماء على أنه لا تقطع يده، فالجمهور على أنه لا تقطع يد من سرق الأطفال، ومن سرق الكبير المجنون، أو الطفل غير المميز. وذهب بعض العلماء إلى أنه تقطع يده، واحتجوا بحديث ضعيف: أن رجلاً كان يسرق الصبيان، ثم يخرجهم من المدينة، ثم يبيعهم، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت يده، وهذا الحديث ضعيف؛ لا يصلح للاحتجاج به، وأجاب العلماء عنه سنداً: بالضعف، وأجابوا عنه متناً: بأنه يحتمل أن يكونوا صغاراً وصبياناً مماليك، وحينئذ يكونون من جنس الأموال؛ لأن المملوك يباع ويشترى. وقوله: (مالاً محترماً) الشرط الأساسي: المال، ثم شرط الشرط: أن يكون محترماً؛ لأن المال منه ما هو محترم، ومنه ما ليس بمحترم، فإذا قلنا: إنه يشترط المال، هذا شرط يخرج منه: سرقة الحر كبيراً كان أو صغيراً، ومن اشتراط المال ذهب بعض العلماء إلى أن من سرق المصحف لا تقطع يده، إذا كانت قيمة المصحف تعادل النصاب؛ قالوا: لأن المصحف ليس بمال، هو كلام الله عز وجل؛ ولذلك لا يعتبر مالاً، لكن هذا ضعيف؛ لأن البيع والشراء ليس لكلام الله عز وجل، والبيع لم يقع لنفس المصحف، إنما هو قيمة الصحف، وكتابة هذه الآيات، والمعاوضة على هذا الشيء، وليس على كلام الله عز وجل؛ ولذلك جماهير السلف والخلف -رحمهم الله- أجازوا بيع المصاحف كما تقدم معنا في كتاب البيع، ومنعه الإمام أحمد -رحمه الله - في إحدى الروايات عنه، وقال ابن عمر: (وددت أن الأيدي تقطع في بيع المصاحف). والصحيح: أن المعاوضة في المصحف واقعة على الورق، وعلى ما يكتب فيه المصحف، وعلى كتابة الآيات، ويجوز أن تستأجر شخصاً في كتابة القرآن، وتكون الأجرة على تعبه في الكتابة، وحينئذ الثمن المدفوع لشيء له قيمة، وجمهور العلماء أجازوا بيعه وخالفوا الإمام أحمد، قال الناظم: ومنع بيعه لدى ابن حنبل وكرهه لدى ابن شافع جلي أي: منع بيع المصحف الإمام أحمد، وكرهه الجمهور، ومنهم الشافعي. إذا ثبت هذا؛ فإنه لو سرق المصحف، والمصحف له قيمة تعادل النصاب قطعت يده، وهكذا لو سرق كتب العلم. وهناك شرط آخر لم يذكره -رحمه الله-: أن يكون مالاً منقولاً؛ لأن المال ينقسم إلى ثابت: وهو العقار، ومنقول: وهو من غير العقار والأثمان كما بيناه في البيع، وقلنا: إن المثمونات إما أن تكون من العقارات أو من المنقولات، فالأموال تنقسم: إلى ثمن ومثمن، والمثمن ينقسم إلى: عقار ومنقول، والثمن: هو الذهب والفضة، والمثمن: هو كل شيء من غير الذهب والفضة له قيمة، ثم هذا المثمن: إما أن يكون عقاراً كالبيوت، والأراضين، والمزارع، فهذه لا تقع فيها السرقة؛ لأن شرط السرقة: النقل، وهذه لا يمكن نقلها، فيسمى اغتصاباً ولا يسمى سرقة، فلا تقع عليه ضوابط السرقة، كما سيأتي في الشروط التي دلت عليها الأدلة. ومن هنا: اشترط النبي صلى الله عليه وسلم في ثبوت السرقة: نقلها من الحرز، وثبوت الأخذ الذي هو شرط الفعل، وإذا ثبت هذا: فإن السرقة لا تتحق بالمنقولات، وعليه بنى العلماء: اشتراط أن يكون المال منقولاً؛ لكي يخرج العقار، فإن العقار لا قطع فيه، وكذلك لو أنه اغتصب عمارة، أو اغتصب مزرعة، أو اغتصب مخططاً، فإنه لا يعتبر سارقاً. إذاً: يشترط أن يكون مالاً، وأن يكون المال متقوماً منقولاً. وقوله: (محترماً)، المال ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون المال محترماً شرعاً، مثل: الذهب والفضة، والمعادن، والمجوهرات، والأكيسة، والأطعمة، ونحوها. وإما أن يكون غير محترم شرعاً، مثل: الميتة الخمر الخنزير، فهذه كلها لا قيمة لها شرعاً، فلو أن شخصاً سرق خمراً؛ فإنه لا تقطع يده، مع أن الخمر قد تباع ولها قيمة، فهي مال في الشكل، لكن الشرع أسقط عنها المالية. والدليل على أن الخمر والخنزير والميتة لا قيمة لها شرعاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله ورسوله حرما بيع الميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام) فهذا يدل على أن هذه الأشياء ليس لها قيمة في الشرع، وإذا لم يكن لها قيمة في الشرع؛ فهي غير محترمة، فلو أنه سرق خمراً، نقول: إنه لم يسرق مالاً؛ لأن الخمر ليست بمال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا قطع إلا في ربع دينار) والخمر لا تساوي ربع الدينار ولا أقل؛ لأن الشرع أسقط المالية عنها، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: أنه لما أهداه الرجل المزادتين من الخمر امتنع من قبولهما، وقام رجل وسارّ المهدي، فقال له عليه الصلاة والسلام: (بم ساررته؟ قال: أمرته أن يبيعها يا رسول الله! قال: إن الذي حرم شربها حرم ثمنها) وفي رواية: (حرم بيعها)، فلما قال: (حرم ثمنها، حرم بيعها) دل على أنه لا قيمة لها. من هنا: اشترط العلماء المالية، وأن يكون المال منقولاً ليخرج العقارات، وأن يكون متقوماً محترماً شرعاً، فيخرج آلة اللهو، ويخرج الخمر، والخنزير، والميتة، فهذه لا قيمة لها شرعاً.

حكم سرقة آلات اللهو

حكم سرقة آلات اللهو قال رحمه الله: [فلا قطع بسرقة آلة لهو]. آلة اللهو ينبغي أن يفصل في حكمها، آلة اللهو لا قيمة لها شرعاً، لكن لو كانت الآلة -مثلاً- مصنوعة من ذهب، فإنه إذا سرقها فقد سرق مالاً، إذا كانت مموهة بالذهب، مطلية بالذهب، مصنوعة من الذهب، وفيها ربع دينار من الذهب فأكثر؛ فقد سرق ربع الدينار، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً)، ومن هنا: إذا كانت مصنوعة من مادة في الأصل لها قيمة، فإنه حينئذ لا ننظر إلى كونها آلة لهو، وإنما ننظر إلى وجود المالية في عين المال المسروق، ومن هنا: لو أنها كُسّرت جاز بيعها؛ لأنها كسرت، - إذاً: لها قيمة، وإذا كانت مطلية بذهب، أو فضة، وتعادل النصاب فأكثر فقد سرق مالاً معتبراً شرعاً، فكونها آلة لهو لا يضر، وبعض العلماء يفصل، ويقول: آلات اللهو إذا كانت لها قيمة في نفسها، بحيث لو كسرت تصلح أن تباع، وتكون قيمتها في البيع تعادل النصاب فأكثر، حينئذ يثبت القطع؛ لأنه سرق المال المعتبر شرعاً، أو ما يبلغ النصاب، وأما إذا كسرت ولا قيمة لها -أي: لا تعادل النصاب- فإنه لا قطع فيها.

حكم سماع الدف

حكم سماع الدف فقوله: (آلة لهو) خرج اللهو المأذون به شرعاً، مثل: الدف، فالدف مأذون به شرعاً، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالدف) فلما قال عليه الصلاة والسلام: (الدف) دل على أن الدف من آلات اللهو المأذون بها شرعاً، والمباحة، والنص في هذا واضح؛ ولذلك ضربت الجارية على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالدف، وسمع الدف عليه الصلاة والسلام، وأذن به عليه الصلاة والسلام في النكاح. والعجيب! من البعض يقول: نعجب من الشيخ يفتي بحل جواز الدف، وكأنه منكر عظيم! يعتبرون أن هذا شيء لا يجوز، كيف يأذن النبي صلى الله عليه وسلم بضرب الدف في النكاح ويقول: (أعلنوا)؟ ولا يمكن أن يتحقق الإعلان إلا بسماع الناس له، ومن هنا: لا ينبغي للإنسان أن يحكم بالأحكام الشرعية بهواه وبالشيء الذي يألفه والذي لا يألفه، وإذا أنكر على غيره ممن بينه وبينه أخذ وعطاء، فلا يدعوه ذلك إلى ألا يتجرد للنص، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أعلنوا) وهذا خطاب عام، ومن هنا نقول: إن آلات الدف آلات محترمة شرعاً، لها قيمة، ولو أنه استأجر أمرأة لضرب الدف في العرس فبإجماع العلماء -رحمهم الله- على أنها إجارة شرعية، وذكر العلماء هذا وفرقوا بين الدف وغيره كما هو معروف في كتاب الشهادات، ففرقوا بين آلات اللهو والعزف وبين الدف، فالدف مأذون به شرعاً، وضربت الجارية على رأس النبي صلى الله عليه وسلم حينما قفل من غزوته، وكانت قد نذرت أن تضرب بذلك، ودخل عمر رضي الله عنه على المرأة وهي تغني ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع، وكان عند عائشة رضي الله عنه جاريتان تغنيانها بما كان في يوم بعاث، فالأصول الشرعية تقتضي جواز ضربه وسماعه، لكننا نقول: الإغراق في هذا الشيء والمبالغة فيه مكروهة، لكن لا نقول: إنه حرام، ولا نقول: يسمعه النساء ولا يسمعه الرجال، من أين هذا التفصيل؟! الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أعلنوا) ما قال: أعلنَّ، والنص واضح في هذا، وينبغي للإنسان أن يتجرد للنص وأن يتبع النص، وإذا سمع أحد من أهل العلم يفتي بشيء عنده دليل وعنده حجة، ويعلم أن هناك سنة وأن هناك دليلاً فإنه ربما يرد سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن رد سنة -والعياذ بالله- عن هوى ضل، فعلينا أن نتقي الله عز وجل في الأحكام الشرعية، وأن نفرق بين الدف وغيره، ونقول: إن الإغراق فيه وكثرة سماعه خلاف الأولى، أو نقول: إن هذا مكروه؛ لأنه يشغل عن ذكر الله عز وجل الذي هو أفضل، لكن لا نستطيع أن نقول: إن هذا حرام! وهل يتعبد الله عز وجل عباده أن يضربوا الدف بالنكاح بالمحرمات؟! وهل يأمر الله عز وجل بإعلان النكاح بالأمور الممقوتة شرعاً والمحرمة شرعاً؟! حاشا والله! إذا جاء النص فالإنسان يعمل به، وعليه أن يحترم أهل العلم ويحترم اجتهادهم ونظرهم؛ لأننا مأمورون بالوقوف عند النصوص، وعلينا أن نظن خيراً بأهل العلم المتقدمين الذين أجازوا، والمتأخرين مادام عندهم حجة، فنقف معهم وألا يدعو الإنسان إلى رد السنة بالهوى، وبالشيء الذي يألفه، فيرى الذي يألفه مسنوناً، والذي لا يألفه غير مسنون، ولو كان في بيئة تضرب الدف لكان شيئاً عادياً أن يقول: إنه جائز ومباح! فلذلك ينبغي لنا أن نتجرد للحق، وأن نعلم أن هناك سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا النوع من الآلات وهو الدف وأنه جائز ومشروع. وإذا كسر الدف وجب ضمانه، وإذا باع الدف واشتراه جاز ذلك؛ لأنه آلة لم يحرمها الشرع، ولم يحرم سماعها الشرع، وعلى هذا لو سرق هذه الآلة يجب القطع إن كانت تساوي نصاباً أو أكثر، وهذا على الأصل عند أهل العلم.

حكم سرقة مال محرم كالخمر

حكم سرقة مال محرم كالخمر قال رحمه الله: [ولا محرم كالخمر]. ولا تقطع اليد في محرم كالخمر، المصنف -رحمه الله- أسقط المالية عن آلة اللهو، وعن الخمر، والخمر إسقاط المالية عنها لنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (إن الله ورسوله حرما بيع الميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام) فأسقط عن الميتة والخمر والخنزير المالية، والأصنام مفصل فيها على حسب مادتها كما هو معروف في قول جماهير العلماء والأئمة رحمهم الله، ولذلك لو كانت الأصنام من ذهب وسرقها شخص، وفيها ما يعادل النصاب فأكثر؛ قطعت يده، والخمر الخنزير والميتة محرمة العين؛ ولذلك لا مالية لها. يقول رحمه الله: (فلا قطع)، هذا مفرع على اشتراط المالية، أما الخمر ليست بمال، والميتة ليست بمال، والخنزير ليس بمال، والدليل على أن هذه الأشياء ليست بمال: حديث جابر بن عبد الله في الصحيحين وهو المتقدم، وأما الخمر ففيها قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الذي حرم شربها حرم بيعها)، والخنزير فيه حديث نزول عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان كما في الحديث الصحيح: أنه ينزل حكماً عدلاً مقسطاً، وأنه يحكم بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب) فلما قال: (يقتل الخنزير) أسقط عنه المالية، ودل على أنه لا قيمة له شرعاً، ومن هنا: لو أنه سرق خنزيراً فإنه لا يجب عليه القطع. ولو سرق حيواناً محنطاً، وهذا الحيوان المحنط قيمته -مثلاً- خمسة آلاف ريال، وهذا الحيوان المحنط من الميتات، فنقول: لا قطع؛ لأنه ليس له قيمة شرعاً، ولو سرق آلة لهو، وهذه آلة اللهو من خشب فلو كسرت لا تساوي شيئاً، أو تساوي ما دون النصاب؛ فإنه لا قطع، لكن لو كسرت مادتها وفيها ربع دينار فأكثر أو ثلاثة دراهم فأكثر؛ ففيه القطع، ويفصل بهذا التفصيل.

اختلاف العلماء في اشتراط النصاب لقطع يد السارق

اختلاف العلماء في اشتراط النصاب لقطع يد السارق قال رحمه الله: [ويشترط أن يكون نصاباً، وهو: ثلاثة دراهم، أو ربع دينار. أو عرض قيمته كأحدهما، وإذا نقصت قيمته المسروق أو حكمها السارق لم يسقط القطع]. ذهب جمهور العلماء -رحمهم الله- ومنهم الأئمة الأربعة: إلى أننا لا نقطع يد السارق حتى يكون الذي سرقه قد بلغ النصاب، والأصل في ذلك: ما ثبت في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً) وجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على اعتبار النصاب فقال: (في ربع دينار فصاعداً) فدل على أن ما دون ربع الدينار ليس بمحل للقطع، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام في البستان إذا سُرق منه الثمر بعد أن يؤويه الجرين أنه قال: (فإذا سرق منه بعد أن يؤويه الجرين -الذي هو الحرز- ما يعادل ثمن المجن قطعت يده) فاشترط عليه الصلاة والسلام شرطين: الشرط الأول: أن يكون الثمر قد أواه الجرين: وهو بيت الحفظ للثمرة، وهو حرز الثمرة، أما إذا كان على النخلة وسرق فلا قطع. الشرط الثاني: أن يكون قد بلغ النصاب، فقال: (إذا بلغ ثمن المجن) وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام: أنه قطع في المجن، قالت أم المؤمنين عائشة حينما سئلت عن المجن، قالت: إنّ قيمته كانت ربع دينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم. فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط النصاب للقطع في السرقة، ومن هنا: ذهب الأئمة الأربعة إلى أننا لا نقطع في القليل والكثير، وإنما يشترط: أن يكون المال المسروق قد بلغ نصاباً، واختلف الأئمة الأربعة في قدر النصاب كما سيأتي، لكنهم متفقون على أن النصاب شرط من شروط السرقة. وذهب الظاهرية رحمهم الله إلى أنه لا يشترط النصاب، وأن من سرق أي شيء قليلاً كان أو كثيراً؛ فعليه القطع، وهذا مبني على عموم القرآن في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، قالوا: إن الله لم يشترط نصاباً، وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده) قالوا: والبيضة لا تعادل ربع الدينار، وأجيب عن الدليلين بما يلي: الدليل الأول وهو قوله تعالى: ((وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ)) عام مخصص بالسنة، والقاعدة: أنه لا تعارض بين عام وخاص، وأن العام من النصوص من الكتاب والسنة يجب حمله على الخاص، وحينئذ نقول: إن هذا النص وهو قوله تعالى: ((وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ)) قد جاء ما يبين لنا حد السرقة شرعاً في السنة، فلا نعتبر ما دون النصاب سرقة، ولكن نوجب فيه تغريم السارق ضعفي قيمته، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في حديث السنن، ولا نقطع، فإذا كان دون النصاب فإنه يغرم ضعفي القيمة ويؤدب ويعزر، ولكن لا تقطع يده. أما بالنسبة لاستدلالهم بحديث: (لعن الله السارق) فأجيب بأن البيضة هي من السلاح، وتكون غطاءً للمقاتل في قتاله، ومنها ما يعادل ثمنه الربع دينار، فمعنى قوله: (لعن الله السارق يسرق البيضة) أي: ما يعادل القطع، والحبل منهم من أجاب: بأن حبل السفن يعادل ربع الدينار، ولكن الأنسب في هذا الحديث أن يجاب عنه من أحد وجهين: الوجه الأول: أن نقول: أنه خرج مخرج المبالغة، وما خرج مخرج المبالغة لم يعتبر مفهومه، يعني: بولغ في الأمر، وليس المراد به اللفظ، مثل قوله: (الحج عرفة) ليس المراد: أنه لا يوجد حج إلا الوقوف بعرفة فقط، وإنما المراد به: المبالغة، وبيان عظم أمر عرفة، وهنا: عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم السرقة فقال: (يسرق البيضة فتقطع يده)، وهذا على سبيل المبالغة والتبشيع. الوجه الثاني: أن نقول: إن هذا الإطلاق مقيد بما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون المراد به: ما عادل قيمة السرقة. هذا بالنسبة لمسألة اشتراط النصاب، فالصحيح: أنه لا نقطع اليد إلا إذا بلغ المال المسروق نصاباً، وأن هذه الإطلاقات في الكتاب والسنة مقيدة بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه: فإننا لا نقطع إلا فيما يكون نصاباً.

قدر النصاب في مال السرقة

قدر النصاب في مال السرقة إذا كان النصاب معتبراً شرعاً؛ ف Q كم هو النصاب؟ ذهب الحنابلة، والمالكية من حيث الجملة -وعندهم تفصيل- إلى أن النصاب ما يعادل ربع الدينار من الذهب، وثلاثة دراهم من الفضة، والمالكية يرون أن الدراهم هي الأصل، والحنابلة يرون أن الدراهم والدنانير كلاهما أصل، أو ما يعادل قيمة أي واحد منهما، وهذا المذهب هو الذي اختاره المصنف -رحمه الله- ودرج عليه، وهو قول طائفة من السلف رحمهم الله، هذا القول الأول. القول الثاني: أنه لا يعتد إلا بربع دينار، وأن نصاب السرقة هو: ربع دينار، ولا ينظر إلى الفضة، وأنه لا بد من التقييم بالذهب وحده، وهذا مذهب الشافعية. القول الثالث: أن النصاب هو: ربع دينار، أو عشرة دراهم، وهو مذهب الحنفية رحمهم الله. والذين قالوا بأن العبرة بربع دينار أو بثلاثة دراهم، أو ما يعادل قيمة أحدهما استدلوا بالسنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأما ربع الدينار فالحديث ثابت في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً) إذاً: هذا أصل في الذهب، ونعتبر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا قطع إلا في ربع دينار) أن ما يساوي من الذهب ربع الدينار فأكثر نقطع به. وأما الدراهم: فعندنا حديث ابن عمر رضي الله عنهما وهو في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في دلو قيمته ثلاثة دراهم. وهذا يدل: على أن الثلاثة دراهم نصاب في السرقة. والذين قالوا: إن العبرة بربع الدينار -وهم الشافعية- احتجوا بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. والذين قالوا: إن العبرة بعشرة دراهم استدلوا بحديث الحجاج بن أرطأة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (لا قطع إلا في عشرة دراهم)، وهذا حديث ضعيف. والذي يترجح هو القول بأن العبرة بربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم من الفضة، أو يعادل أي واحد منهما. والفرق بين قول الشافعية والحنابلة: أنه لو سرق ثوباً وقيمة هذا الثوب -مثلاً- ثلاثة دراهم، ولكنها لا تعادل ربع الدينار، فحينئذ عادل نصاب الفضة، ولم يعادل نصاب الذهب، فالشافعية لا يقطعون، والحنابلة يقطعون، وهو الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في المجن وقيمته ثلاثة دراهم، وهم يجيبون عن هذا، ولكن يعادَل بالذهب أو بالفضة، أو ما هو معادل لقيمة الذهب أو قيمة الفضة، وهذا هو الصحيح، وله أصل، واحتج بعض العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة مثل الإمام ابن قدامة بأن هذا التقدير، وهذا المسلك اعتبره نفس الحنفية، والشافعية في كتاب الزكاة، واعتبروه في تقييم الأنصبة، واعتبروه في الديات في القتل كما مر معنا. إذاً: قول الحنابلة في هذه المسألة أشبه وأولى -إن شاء الله- بالترجيح وأن العبرة بربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم من الفضة، أو ما يعادل إحدى القيمتين. ويتفرع على هذا: إذا قلنا: ربع دينار؛ أنه يقطع إذا كسر الدينار، وأخذ من هذا الكسر ما يعادل الربع، أو كان فيه كسرة تعادل ربع الدينار، ويشترط في قطعه بربع الدينار: أن يكون وزنها خالصاً من الذهب، فلو كان ربع الدينار فيه غش مضروب، وفيه مادة من النحاس، بمقدار عشرة في المئة، أو عشرين في المئة، مغشوش بهذا القدر؛ فإن ربع الدينار ليس بخالص، فلا بد أن يكون مصفىً من الذهب بعدل ربع الدينار، فإذا نقص بالشوب؛ فإنه لا قطع. فيستوي في الربع الدينار أن يكون ربع دينار، أو يكون مقطعاً أجزاء، ويستوي أن يكون من الدينار نفسه، أو يكون من الذهب تبراً، أو حلياً، أو سبائك، وكل هذا إذا عادل الذهب الخالص منه ما قيمته ربع دينار؛ فإنه تقطع به اليد. كذلك قولهم: ثلاثة دراهم، فإن أي شيء من الفضة يعادل بعد التصفية من الشوب ثلاثة دراهم فإنه تقطع به اليد. يستوي أن تكون الفضة من الدراهم نفسها ثلاثة، أو تكون ثلاثة دراهم مكسرة، أو تكون قطعاً فضية وزنها وزن الثلاثة دراهم خالصة، أو تكون -مثلاً- أقلاماً، أو حديداً مطلياً بفضة ولو صفي هذا الطلاء الموجود لعادل ثلاثة دراهم؛ ففيه القطع. كذلك أيضاً: ما قيمته ربع دينار، وما قيمته ثلاثة دراهم: لو أنه سرق مجوهرات، فإننا ننظر إلى قيمة هذه المجوهرات، فلو سرق خاتماً من زبرجد، أو خاتماً من عقيق، أو خاتماً عليه أحجار كريمة، أو خاتماً من حديد، نظرنا قيمة هذه الأحجار الكريمة وقيمة الخاتم، فإن كان هذا الخاتم من حديد بنقشه وما فيه من الأحجار الكريمة وما هو مرصع به من الجواهر يعادل ربع الدينار في قيمته أو يعادل ثلاثة دراهم في قيمته؛ قطعنا يده. وهكذا لو أنه دخل إلى محل وكسر حرزه وسرق منه -مثلاً- كيس أرز أو كيس سكر نظرنا إلى قيمة هذا السكر أو الأرز، فإن كانت قيمته تعادل ربع الدينار أو تعادل قيمته ثلاثة دراهم؛ أوجبنا القطع. ولو دخل -مثلاً- مكتبة، وكسر بابها، ودخل إلى داخلها، فسرق منها كتباً أو أقلاماً أو دفاتر، أو دخل إلى محل قماش فسرق منه طاقات قماش؛ ننظر إلى عدل هذه الأشياء من غير الذهب والفضة بالذهب والفضة، فإن بلغت بالذهب ما قيمته ربع الدينار فصاعداً قطعت يده، وإن بلغت بالفضة ما قيمته ثلاثة دراهم فصاعداً قطعت يده، وهذا هو الصحيح، وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله، وأن الأمر لا يختص بنصاب الذهب، بل إنه يشمل الذهب أو الفضة أو ما يعادل إحدى القيمتين.

اعتبار قيمة المسروق عند إخراجه من الحرز

اعتبار قيمة المسروق عند إخراجه من الحرز قال رحمه الله: [وتعتبر قيمتها وقت إخراجها من الحرز]. أو عرض قيمته -أي: قيمة النصاب- وقت إخراجها من الحرز، مثل ما ذكرنا في الأطعمة والأكسية، لو أنه مثلاً: جاء إلى مستودع فيه حديد وسرق قطع حديد، أو جاء إلى قطع غيار وهي في حرزها محفوظة وكسر أقفالها ودخل إلى الحرز فأخرج حديداً قيمته تعادل النصاب فأكثر؛ فإذا وقع الأمر على هذا الوجه فهو سرقة؛ لأنه عادل النصاب. لكن Q هل العبرة في قيمة النصاب أثناء أخذ المسروق أم العبرة بعد إخراجه من الحرز؟ بعض العلماء يقول: العبرة بوقت الأخذ، وبعضهم يقول: العبرة بوقت خروجه من الحرز. قلنا: إنه يشترط أن تكون القيمة وقت الخروج؛ لأن السرقة لا تتحقق إلا بالإخراج، فلو أنه كسر القفل وأراد أن يخرج المال من الصندوق ولم يخرجه فليس بسارق؛ لأنه لم يأخذ، وكذلك لو أنه دخل إلى مستودع الحديد أو مستودع قطع الغيار، أو المكتبة، أو دخل إلى محل القماش، فهذا شروع في الجريمة، والشروع في الجريمة لا يعتبر جريمة، يعني: لا يأخذ حكم الجريمة كلها؛ لأن الله جعل لكل شيء قدره، فمن عمل مقدمات الزنا ولم يزن فليس بآخذ حكم الزاني، ومن هنا: شدد النبي صلى الله عليه وسلم في الجرائم التي لها عقوبات لمعرفة الفعل، حتى أنه سأل ماعزاً رضي الله عنه، وشدد عليه حتى يتحقق أن الجريمة وقعت، وأن هناك فرقاً بين الشروع في الجريمة وبين الجريمة نفسها، فالرجل حينما اشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه أصاب من المرأة دون الحد، فهذا شروع في الجريمة، ولكنه لم يصل إلى الجريمة نفسها، فمن دخل إلى محل فيه قطع غيار، أو دخل إلى محل فيه المال فكسر أغلاقه، ولكنه لم يخرج؛ فليس بسارق، فإذا أخرج المسروق فقد وقع فعل السرقة، حينئذ إذا أخرج وتمت صورة الإخراج المعتبرة شرعاً؛ نظرنا في قيمة المخرج، وهنا يرد السؤال عن النصاب: هل الذي أخرجه يعادل النصاب أو لا يعادله؟ فائدة المسألة: أنه لو دخل وكسر الأغلاق ووصل إلى داخل الحرز، ولكنه لم يخرج المال من الحرز فليس بسارق كما سيأتينا، فلو كانت قيمة المال الذي أخذه أثناء أخذه تعادل ربع دينار، ولكنه لما أخرجه نقصت قيمته عن ربع الدينار؛ فليس بسارق، أي: أنه لم يبلغ نصاب السرقة؛ لأن العبرة بوقت الإخراج، وليس العبرة بوقت الشروع في الجريمة، أو فعل الجريمة نفسها، ومن هنا اشترط العلماء: أن تكون القيمة وقت الإخراج. ويترتب على هذا: ما لو أفسد المال قبل إخراجه، فلو أنه جاء -مثلاً- يريد أن يسرق وعاءً من الزجاج نفيساً غالياً، وكسر الأغلاق ودخل، ثم أراد أن يحمل الوعاء فسقط من يده فانكسر، ولكنه لم يخرجه من حرز، فحينئذ لم تتحقق السرقة، ويعتبر جناية إتلاف، وفيها الضمان، فلو أخذ أجزاء هذا المكسور، وكانت أجزاء المكسور تعادل ربع الدينار فهي سرقة، ولو أخذ أجزاء المكسور وهي لا تعادل ربع الدينار فليست بسرقة؛ لأنها دون النصاب، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا أخذ -أي: من الثمر- بعد أن يؤويه الجرين ما قيمته ثمن المجن قطع) فقال: (أخذ) فاشترط عليه الصلاة والسلام الأخذ، وقال: (ما قيمته ثمن المجن) فجعله عدلاً بالنصاب، ومن هنا نعتبر قيمة النصاب وقت الإخراج، ومن هنا: لو أنه أراد أن يسرق شاة، وهذه الشاة قيمتها ربع دينار، ثم دخل إلى زريبة الغنم وأمسك بالشاة، ثم ذبحها حتى لا تصيح وتفضحه، فلما ذبحها أخرجها وهي مذبوحة نظرنا: فإذا كانت بعد الذبح تعادل ربع الدينار؛ فحينئذ ثبتت السرقة، وإذا كانت بعد الذبح ينقصها الذبح عن ربع الدينار، وعن ثلاثة دراهم فليست بسرقة؛ لأنه لم يأخذ مالاً معادلاً للنصاب. إذاً: العبرة عند العلماء -كما اختاره المصنف رحمه الله- بقيمة النصاب وقت الإخراج، ولو أنه في الساعة الثانية كسر الأغلاق، وفي الساعة الثالثة جمع المسروقات وخرج بها، فعند خروجه في الساعة الثالثة كان قيمة هذه الأشياء المسروقة لا تعادل النصاب سقط الحد مع أنه وقت الكسر للأقفال، ووقت الشروع في الجريمة كانت تعادل النصاب. هنا مسألة ذكرها بعض العلماء: يقولون: لو أنه دخل وأتلف الشيء، مثل: أن يبلعه، لو أنه مثلاً: أخذ ذهباً وبلعه حتى لا يعرف أنه سرقه، ثم خرج به، فهل هو سارق؟ A نعم، يعتبر سارقاً؛ لأنه إذا بلعه فقد حفظه في جوفه كما لو حفظه في جيبه، فالجوف مثل الجيب، وهذه حيلة لبعضهم أثناء السرقة: أنهم يبلعون بعض الأشياء المسروقة، ثم يأخذونها -أكرمكم الله- إذا خرجت من الجسم، وبعض العلماء يقول: لا، هذه شبهة: إذا بلعه فليس بسارق؛ لأنه لم يأخذه محمولاً، وهذا ضعيف؛ لأن الحمل بالجوف كالحمل باليد، ولا شك أنه إذا خرجت فضلات الجسم خرج هذا الشيء، وبعد ذلك يتحقق أنه سرق، فالذين يقولون: إنه لا يعتبر سارقاً، يقولون: لا يعتبر سارقاً إلا إذا أخرجه، فإذا أخرجه فإنه سارق، وإذا لم يخرجه فليس بسارق، لماذا؟ قالوا: لأنه إذا وضعه في جوفه ولم يخرجه احتمال أنه يموت قبل أن يخرجه، وحينئذ لا تتحقق السرقة، وهذا ضعيف؛ لأنه لا يشترط أن ينتفع به، وإنما يشترط فقط أن يتسبب في إخراجه من الحرز، كما لو أنه أخذ المال، ورماه من فوق الجدار، ثم تأخر بالخروج، وجاء سارق آخر وأخذه، ففي هذه الحالة يعتبر سارقاً؛ لأن السرقة تتحقق بالإخراج، سواءً هو الذي انتفع، أو انتفع غيره، فالجريمة وقعت، ومن هنا يقال: العبرة بوجود الأخذ، والعبرة في القيمة بوقت الإخراج، لا بوقت الأخذ. قال رحمه الله: [فلو ذبح فيه كبشاً، أو شق فيه ثوباً، فنقصت قيمته عن نصاب، ثم أخرجه، أو تلف فيه المال؛ لم يقطع]. فلو ذبح فيه كبشاً، في داخل الزريبة قبل أن يخرجه من الحرز، وكانت قيمة الكبش مذبوحاً أقل من قيمة النصاب، وقيمته حياً تعادل قيمة النصاب سقط الحد؛ لأنه لما خرج أخرج مالاً دون النصاب. وقوله: (أو شق ثوباً)، جاء إلى فستان يريد أن يسرقه، وهذا الفستان تعادل قيمته قيمة النصاب إذا كان مفصلاً، ولكنه لو قطع فإنه لا يعادل قيمة النصاب، فجاء يريد أخذ الفستان فشاء الله عز وجل أن ينشق الفستان أو أنه فسد بأي طريقة، سواءً نزعه أو أراد أن يحفظه فانشق، أو هو شقه بالقصد، فكل هذه الأحوال مادام أنه حصل الإتلاف الذي ينقص القيمة عن النصاب فإنه يؤثر. وقوله: (فنقصت قيمته عن نصاب)، يعني: أثناء الخروج. وقوله: (ثم أخرجه، أو تلف فيه المال لم يقطع)، أقول: لا تستعجبوا من الأمثلة! لأنه لا بد أن نأتي بأمثلة نطبق عليها قواعد العلماء -رحمهم الله- ومن هنا يظهر الفقه، فلو سرق شخص طبق بيض، وطبق البيض قيمته تعادل النصاب، فلما أراد أن يخرج سقط البيض من يده على الأرض وتلف قبل أن يخرج، فحينئذ لا قطع، ولو أنه أخذ خلاً في إناء من زجاج، والخل هذا قيمته ربع دينار فأكثر، أو ثلاثة دراهم فأكثر، ثم جاء يحمله فانزلق من يده فانكسر، فحينئذ تلف الخل، وتلف البيض، فهذا التلف يذهب القيمة، فلا حد ولا قطع؛ لأنه لم يسرق، والشروع في الجريمة لا يوجب ثبوت الحد كما ذكرنا.

الأسئلة

الأسئلة

لا ضمان ولا قطع في قتل أو سرقة الكلاب

لا ضمان ولا قطع في قتل أو سرقة الكلاب Q هل كلب الصيد أو الحراسة من المال المحترم؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصبحه ومن والاه. أما بعد: كلب الصيد ليس بمال محترم، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه أنه قال: (ثمن الكلب خبيث) وفي لفظ: (ثمن الكلب سحت)، وفي الصحيحين أيضاً من حديث عقبة بن عامر البدري رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب)، وفي الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه أنه سئل عن بيع الكلب والسنور فقال: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه)، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما في سنن أبو داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، وقال: (إن جاءك يريد أخذ ماله، أو أخذ ثمنه فاملأ كفه تراباً)، فهذه الأحاديث الصحيحة تدل على أن الكلب ليس بمال، وليس له قيمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاءك يريد أخذ ماله فاملأ كفه تراباً)، فأسقط المالية عن الكلب، ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الكلب المأذون باتخاذه -ككلب الصيد والحرث والماشية- وبين غيرها، ومن هنا: فالحكم عام، وعليه: فإنه لو قتل كلب صيد، فلا ضمان على من قتله، وقد تقدمت معنا في باب البيع هذه المسألة، والله تعالى أعلم.

الفرق بين سرقة الثمار من النخل وبين السرقة من مكان مسور

الفرق بين سرقة الثمار من النخل وبين السرقة من مكان مسور Q أشكل علي أنه لا قطع على من سرق من النخل، وبين من سرق من مكان مسور لا يدخله أحد إلا بإذن صاحبه، مثل مزارع النخيل؟ A الحرز لا بد من اعتباره في السرقة، والنبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الثمرة على النخلة، وبين الثمرة في حرزها، فقال: (لا قطع في ثمر ولا كثر)، والحديث في السنن عند أبي داود، وابن ماجة، والترمذي، وأحمد في مسنده، والنسائي، وهو حديث صحيح، فبين أنه لا قطع فيها، وروى النسائي -وهو حديث صحيح أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن أخذ بفيه -أكل- من غير خبنة، ولم يحمل شيئاً فلا قطع، فإن أخذ -من الثمر- وخرج به -من البستان- قبل أن يؤويه الجرين فعليه العقوبة، وضعف القيمة ... ) يعني: يعاقب بأن يدفع قيمة الثمر مرتين، ويعاقب بالتعزير كما تقدم معنا ما كان دون الحد، (ومن أخذ بعد أن يؤويه الجرين ما قيمته ثمن المجن قطع)، ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الحرز، ولم يجعل الثمرة على النخل حرزاً، ومن هنا لو قص العرجون من فوق النخلة، ولوكان يساوي ربع الدينار فإنه لا قطع عليه؛ لأنه لم يحصل الشرط وهو الدخول والأخذ من الحرز. وأما مسألة البساتين نفسها إذا كانت محاطة، فإن هذا السياج ليس وحده هو الحرز؛ لأن السنة بينت أنه يشترط في الثمر أن يؤويه الجرين؛ لأن البساتين مثل المساجد، ومثل الأماكن العامة، يدخلها الناس، فمنهم من يدخل بإذنه، ومنهم من لا يدخل بإذنه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من مر ببستان فدخله فأكل منه غير متأثل -يعني: غير متمون- وأكل على قدر كفايته فإنه ليس بسارق، وهذا مما أذن به، ولذلك الخارص إذا خرص النخلة أسقط منها هذه الأشياء المأخوذة، ولا زكاة فيها، فالشريعة فرقت بين الأخذ من البساتين من ثمارها ومما فيها من النتاج مادام أنه لم يؤوه الحرز والجرين كما في الثمر، وبين الذي قد آواه الجرين، فما كان داخل الحرز وأخذ من حرزه ففيه القطع، وهذا تفريق السنة، وليس تفريقنا نحن, فليس بمحل إشكال. وكونك تقول: لو جاء وأخذ من المستودعات المحاطة بأسورة أنه تقطع يده، فهناك فرق، فالمستودعات المعدة للحفظ أسورتها حرز لها، إذا وضعت عليها أسورة تتناسب مع المال المحفوظ، وكانت في موضع وعليها حراسها، ومن هنا: يكون الشيء الموضوع وفي الحرز، والعين الحافظة، فإذا جاء وتغفل الحافظ وسرق المال، فإنه قد سرق من حرز، بخلاف الثمر الذي على النخل، وهذا كله بتفريق الشرع، وهذا مال حرزه أن يؤوى إلى الجرين وهو الثمر، وهذا مال حرزه أن يكون محفوظاً داخل هذه الأسورة، أو داخل هذا الحائط، ونحو ذلك، وعلى هذا لا إشكال، كل مال يعتبر فيه الحرز بحسبه، والله تعالى أعلم.

عدم الفرق بين قولك: اتفق العلماء وأجمع العلماء

عدم الفرق بين قولك: اتفق العلماء وأجمع العلماء Q هل هناك فرق بين الاتفاق والإجماع؟ وهل يعتبر اتفاق العلماء إجماعاً؟ A الإجماع له صيغتان: صيغة قوية، وصيغة ضعيفة، بعض العلماء يقول: قوية وضعيفة، وبعضهم يقول: صريحة وغير صريحة، فصيغة الإجماع القوية والصريحة: أجمعوا واتفقوا، فإذا قال العالم: اتفق العلماء، أو قال: أجمع العلماء، فهو إجماع، ولا يقال: اتفقوا وأجمعوا إلا فيما فيه إجماع مثل ما نقول: اتفقوا على وجوب الصلاة، واتفقوا على وجوب الوضوء، هذا إجماع، والاتفاق بهذه الصيغة يعتبر من صيغ الإجماع القوية والصريحة. أما صيغة الإجماع الضعيفة فهي: لا خلاف، ولا نعلم مخالفاً، ولا أعلم مخالفاً، ولا يُعلم له مخالف، فهذه كلها من الصيغ الضعيفة، يحتمل ما قلنا: لا نعلم خلافاً، حسب علمنا، ولكننا لم نعلم، ولا يُعلم مخالف -هذه بصيغة البناء للمجهول- ولكن قد يوجد المخالف، لكن حينما تقول: أجمعوا، فمعنى ذلك: أنهم اعتبروا الحكم المذكور في الإجماع، والاتفاق إجماع. وبعضهم يقول: (اتفقوا) للأئمة الأربعة، و (أجمعوا) لغيرهم، وهذا غير صحيح، فالعلماء وأئمة الأصول يقولون: إنّ اتفقوا: من صيغ الإجماع الصريحة, وليست خاصة بالمذاهب الأربعة، فينبه على هذا، لكن إذا كان عالم من العلماء سار على مصطلح ففرق بين أجمعوا واتفقوا، فجعل اتفقوا في الأئمة الأربعة، وأجمعوا فيما زاد عنهم وهو الإجماع المحرر، فهذا اصطلاح خاص، ولكن الأصل عند علماء الأصول: أن صيغة أجمعوا واتفقوا واحدة، ولا فرق بينهما، والله تعالى أعلم. الإمام ابن رشد والإمام ابن قدامة من أئمة النقل للإجماع يعبران بـ (اتفقوا)، ويعبران بـ (أجمعوا)، والإمام ابن حزم رحم الله الجميع يقول في مراتب الإجماع: واتفقوا، فيعبر عن الإجماع بالاتفاق، فمسألة أن صيغة (اتفقوا) لا تدل على الإجماع، هذا ليس بصحيح، بل تدل على الإجماع، وعلى هذا تعتبر من الصيغ القوية، وعرفوا الإجماع بقولهم: هو اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم على حكم من الأحكام الشرعية في أي عصر من العصور، قالوا: الإجماع: اتفاق، فعبروا بالاتفاق عن الإجماع، فدل على أنهم يعتبرون الإجماع اتفاقاً.

متى تدرك الركعة مع الإمام

متى تدرك الركعة مع الإمام Q بمَ تدرك الركعة مع الإمام؟ A تدرك الركعة مع الإمام بإدراك التكبير للركوع والفراغ منه قبل أن يبدأ الإمام بالتسميع، فإذا وجدت الإمام قد حنى ظهره، وفرغت من الله أكبر، فكبرت للركوع قبل أن يبدأ بالسين من (سمع) فقد أدركت الركعة، وإذا أدركت الركعة أدركت الصلاة، وعلى هذا ففي يوم الجمعة، لو أنك جئت في الركعة الثانية والإمام في الركوع، وقلت: الله أكبر، وأدركت الركوع قبل أن يرفع الإمام، وقبل أن يبدأ بالسين من (سمع) فقد أدركتها جمعة، فتضيف ركعة واحدة، ولكن لو أن المأموم جاء وقال: (الله) وقبل أن يقول: (أكبر)، قال الإمام: سمع، فحينئذ لم يدرك الركوع، ويبقى واقفاً؛ لأنه أدرك ما بعد الركوع، فإذا بدأ الإمام بالسين من (سمع) انقطع الإدراك، سواءً كان ذلك قبل أن يكبر للركوع، أو أثناء تكبيره للركوع، وقبل الفراغ، فالشرط أن يفرغ من الله أكبر، قبل أن يبدأ الإمام بالسين من سمع، حتى لو رأيت رأسه مرفوعاً، ولم يتكلم وكبرت أنت بسرعة، وتكلم بعد أن كبرت فإنك قد أدركت الركوع، فالعبرة بالانتقال بالفعل وليس بالقول.

كيفية صلاة المجتهدين المختلفين في القبلة جماعة

كيفية صلاة المجتهدين المختلفين في القبلة جماعة Q رجلان اجتهدا فتخالفا في القبلة، فأحدهما يصلي إلى جهة المشرق، والآخر إلى جهة الشمال، هل من الممكن أن يصليا جماعة وهما على هذه الحالة؟ A يصلي كل واحد إلى جهته؛ لأنه يعتقد أن القبلة في غير جهته، فإذا صلى مع الآخر فقد صلى إلى غير قبلة، ومن هنا نص الجمهور على أنه: إذا اختلف مجتهدان في قبلة لم يجز لأحدهما أن يصلي وراء الآخر، وذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز أن يصلي أحدهما وراء الآخر، وجعلوا هذه المسألة من مسألة الاقتداء في المخالف في الفروع، وهي مسألة تحتاج إلى تحرير، والأول أحوط وأقوى وأولى إن شاء الله، والله تعالى أعلم.

ترك صلاة الجماعة للضرورة

ترك صلاة الجماعة للضرورة Q أنا طبيب في الطوارئ في أحد المستوصفات الطبية، هل يجوز لي الصلاة في جماعة في العمل حيث أنه توجد أحياناً حالات حرجة؟ A الأطباء تتعلق بهم أرواح الناس، ولا شك إذا كان في وقت يخشى فيه إتيان الحالات الطارئة، أو خُصص للحالات الطارئة، وهكذا من يكون في حراسة أموال الناس، أو حراسة أرواحهم كأجهزة الأمن ونحوها، أثناء تلبسهم بهذه الأعمال يرخص لهم في ترك الجماعة، ويرخص لهم في ترك الجمعة إذا حصلت ضرورة، وهذا مبني على أصول الشريعة: أنه إذا خشي على الأنفس يجوز لهم أن يصلوا جماعة في أعمالهم، خاصة وأنه يقول: أصلي جماعة في عملي، فهذا لا بأس فيه، ولا حرج، بل حتى لو أدى الأمر إلى ترك الجماعة فهو مرخص له. وتوضيح ذلك: أنه لو جاءته حالة طارئة بين الحياة والموت، وتوقف لإنقاذ هذه الجراحة على عمل جراحي، أو تدبير جراحي، فإنه في هذه الحالة مسئول أمام الله عن هذه النفس، وتعين عليه شرعاً أن ينقذها، حتى إن بعض العلماء يقول: كل طبيب قدر على إنقاذ نفس ولم ينقذها فإنه -والعياذ بالله- يعتبر قاتلاً، كما لو رأى غريقاً وهو قادر على إسعافه وإنقاذه، ولم يسعفه يعتبر قاتلاً، حتى إن الإمام ابن حزم -رحمه الله- يرى أن عليه القصاص، ويقول: لأنه كان قادراً على إنقاذه، وهذا قول مرجوح؛ لأنه بعض الأحيان لا يقصد قتله، لكن انظروا كيف يشدد العلماء في التساهل في هذا الحق! فهم يعتبرونه من الفرض العيني إذا توقف إنقاذ هذه النفس عليه، وأما الدليل: فلا يخفى أن النبي صلى الله عليه وسلم تخلف عن الجماعة للمرض، وكان معه العباس، وعلي رضي الله عنهم، ثم خرج إلى الصلاة وهو يهادى بينهما، فمعنى ذلك: أنهما لم يحضرا الجماعة، وكانا مع النبي صلى الله عليه وسلم. واستدلوا أيضاً بحديث أنس في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سقط عن فرسه فجحش شقه الأيمن، قال أنس رضي الله عنه: (فصلى في المشربة فصلينا بصلاته)، فتركوا الجماعة في المسجد، وصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في المشربة، وله أصل من فعل السلف: فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع الصارخ على ابن عمه، وهو في سكرات الموت، وهو خارج إلى صلاة الجمعة، فترك الجمعة ورجع إلى ابن عمه، وهذه أحوال خاصة إذا خشي فيها على النفس الموت والهلاك. فالأطباء عليهم مسئولية، تصور لو أن طبيباً قال: أذهب وأحضر الجمعة، وذهب وحضر الجمعة، وجاءت حالة طارئة في نفس وقت صلاة الجمعة، فمن يكون المسئول أمام الله عز وجل؟ هو خُصص من ولي الأمر، وأعطي راتبه من بيت مال المسلمين على أن يقوم بهذا الأمر، ويُكلف به، ويناط به، فقد تعين عليه أن يقوم به، لكن لو أنه أراد أن يخرج إلى موضع قريب يصلي به واحتاط، وقال لهم: بمجرد أن تروا حالة طارئة أخبروني، فهذا إذا كان يتدارك فيه الأمور لا بأس، أما لو أنه لا يتدارك الأمور، فلا يجوز التغرير بأرواح المسلمين، والمخاطرة بها، ولذلك أسقط الله عن المسلمين الجماعة عند الخوف على النفس، كما في حال المسايفة، فإنه في حال القتال في المسايفة يصلي الرجل وهو يضرب العدو، لماذا؟ لأنه لو تفرغ يصلي لقتله العدو، فحفظ الله النفس، وأسقط بحفظ النفس أفعال الصلاة كلها من الركوع والسجود، حتى إن الرجل ليضرب بسيفه، ويقول: الله أكبر! سبحان ربي العظيم، وهو لا يركع ولا يسجد ولا يستقبل القبلة، كما قال الله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة:239]، فأحل في حال المسايفة أن نصلي رجالاً، وركباناً، ولا نستقبل القبلة، ولا نركع ولا نسجد حفاظاً على الأنفس والأرواح، فإذا كان في نفس واحدة تتخلف، فما بالك بمن أنيطت به أرواح الناس! وبمن أنيطت به أجسادهم! لا شك أن هذا أولى وأحرى، ولذلك هؤلاء الأطباء ونحوهم ممن تتعلق بهم أرواح الناس وتتعلق بهم المسئولية عن هذا الأمر العظيم يرخص لهم في ترك الجمعة والجماعة، ولكن ينبغي لكل طبيب أن يرجع إلى عالم ليضع له الضوابط المعتبرة لهذا الترك، ومتى يعتبر معذوراً، ومتى لا يعتبر معذوراً، والله تعالى أعلم.

حكم من فقد الماء أثناء ركوب الطائرة

حكم من فقد الماء أثناء ركوب الطائرة Q من أدركته الصلاة على الطائرة، ولم يجد ما يتوضأ به من الماء، ولا ما يتيمم به، فكيف يؤدي صلاته؟ A هذا فيه تفصيل: إذا كان السفر يستغرق وقت الصلاة، بحيث لا يمكن أن ينزل إلى الأرض، ويجد الماء قبل خروج الوقت فإن حكمه حكم فاقد الطهورين، وفاقد الطهورين يصلي على حاله، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم حينما فقد النبي صلى الله عليه وسلم العقد لعائشة رضي الله عنها بذات الجيش، وطلبه الصحابة رضوان الله عليه، فذهبت طائفة من الصحابة، وأبعدت، فأدركتهم الصلاة، ولم يفرض التيمم بعد، فصلوا على غير وضوء وعلى غير تيمم، فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم صحح صلاتهم؛ لأن التيمم ما شرع بعد، فنزلت آية التيمم بسبب هذه الحادثة، ومن هنا: أخذ العلماء أن فاقد الطهورين يصلي ولا يقضي، والشرط في هذا: أن يستغرق وقت الرحلة وقت الصلاة، فمثلاً: يسافر وقت الفجر ويدركه وقت الفجر في الطائرة، ولا ينزل إلى الأرض إلا بعد طلوع الشمس، أما لو أنه نزل قبل طلوع الشمس بوقت يمكنه أن يدرك الصلاة في المطار ويتوضأ، فيجب عليه أن يؤخر الصلاة حتى يدرك الماء ويتطهر كما أمره الله عز وجل ويصلي. وجمع الصلاتين له نفس الحكم، فلو أنه سافر وقت الظهر، وسينزل إلى الأرض في وقت العصر، فحينئذٍ يؤخر الظهر إلى وقت العصر، فإذا نزل توضأ وصلى الظهر والعصر جمع تأخير، وهكذا المغرب والعشاء، لكن لو أن السفر في ساعات تستغرق وقت المغرب مع العشاء، ولا يصل إلا في وقت الفجر، فحكمه حكم الصورة الأولى التي تقدمت، فيشترط أن يستغرق وقت الفريضة كاملة، سواءً كانت مجموعة إلى غيرها، فينظر إلى وقت الثانية، أو كانت غير مجموعة فينظر إلى وقتها نفسها، والله تعالى أعلم.

حكم التسول في المساجد

حكم التسول في المساجد Q كثيراً ما نرى أناساً يقومون بعد انتهاء الصلاة فيقطعون على المصلين تسبيحهم، ويقومون بشرح ظروفهم المادية ويتسولون داخل المسجد، فهل هذا جائز؟ وهل يجوز منعهم؟ وما هو واجب إمام المسجد تجاه ذلك علماً أن كثيراً منهم يصطنعون الإعاقة؟ A بالنسبة للذي يكذب ويصطنع فلا إشكال أنه آذى المصلين في بيت الله عز وجل وكذب، وأخذ أموال الناس بالباطل، ومن سأل الناس تكثراً لم تزل المسألة فيه حتى يلقى الله عز وجل وليس في وجهه مزعة لحم. والسؤال لا خير فيه ما لم يضطر إليه الإنسان لدين أو نحو ذلك؛ فإنه يسأل، أما هذا الشكل الموجود بمجرد انتهاء الناس من الصلاة يقوم ويصيح ويلغط، فالحقيقة لو مُنع هؤلاء برفق وقيل لهم: اذهبوا إلى باب المسجد، وانتظروا حتى يتصدق الناس عليكم، فالمساجد ما بنيت من أجل عرض حال المرضى وحالات المديونين، ولقد كان الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يربط على بطنه الحجر، ولربما صرع في المسجد، كما كان حال أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، ومع ذلك ما جعلوا المساجد لهذا. الإشكال هو في الصياح، أما السؤال داخل المسجد لو مر على الناس وسألهم فأعطوه فجائز، لحديث علي رضي الله عنه المشهور، فيخفف فيه، ما لم يصل إلى حد الأذية. لكن الذي نشاهده بعد السلام مباشرة والصياح واللغط فهو أمر فيه إزعاج، والأشبه أن هؤلاء يُمنعون برفق حتى لا يقع في نهي السائل، وإن كان بعض العلماء يرى أن قوله تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10] أن المراد به: سائل العلم؛ لأن الله تعالى يقول: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8]، فقال: ((أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا)) ثم قال: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:9]، ولما قال: ((وَوَجَدَكَ ضَالًّا)) قال: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} ولما قال: ((وَوَجَدَكَ عَائِلًا)) قال: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]، وهذه مقابلة، والمقابلة معتبرة في نصوص الكتاب والسنة، وإذا قلنا بالمقابلة فإن السائل المقصود به سائل العلم، ولذلك لا ينهر سائل العلم، ودلت على أنه لا يجوز أذية سائل العلم؛ لأن أمره عظيم، ولذلك عاتب الله نبيه من فوق سبع سماوات بسبب الإعراض عن السائل الذي هو عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه وأرضاه. فالشاهد: أن هؤلاء يشوشون على الناس ويؤذونهم، فذكر بعض الأحوال وبعض القصص، والكشف حتى عن مواضع لا يليق كشفها أمام الناس، فهذا أمر لا شك أنه مؤذٍ جداً، وإذا ضاق الأمر اتسع، وإذا اتسع ضاق، فقد توسع الناس بشكل فظيع جداً، وأعجب من هذا الكذب! ذات مرة قام رجل في مسجد وشكى، ويعلم الله حينما تسمع شكواه يرق قلبك، وكان هذا بعد صلاة المغرب، ففوجئت لما جلس للسؤال، جاءني رجل -هو ليس من المدينة وإنما جاء من مدينة أخرى- جاءني رجل من جماعته، وقال: هذا الرجل يملك ثلاث عمائر بهذه الطريقة التي يكذب بها على الناس، قلت له: أناشد الله أن تصدق فيما تقول، لا تتهم الناس، قال: والله! إني لأعرفه وأعرف أولاده، اسمه فلان بن فلان الفلاني، ويسكن في المكان الفلاني من المدينة الفلانية، وولده الكبير اسمه فلان، اذهب إليه، وقل له: أنت فلان؟ وانظر! وقفت أنا، وليس من شأني هذا، ولكني تألمت جداً أن يكذب على الناس، ويأخذ أموال الناس، وذكر أشياء ليست صحيحة، فقلت: فلان! فالتفت، قال: نعم، قلت: أنت أبو فلان، قال: نعم، قلت: أنت فلان بن فلان، قال: نعم، قلت: تعال أريدك، فسألته قلت: عندك في بلد كذا وكذا عمائر، وأنت رجل غني، فتغير وجهه ولم ينكر، قلت له: الآن تترك هذا المال في مكانه، وتصرفنا معه بما ينبغي، لكن الشاهد: ثلاث عمائر يملكها، ويكذب على الناس، ويأكل أموالهم بالباطل، هذا أمر جد خطير! فلا شك أن هناك من يكذب، وهناك من يتصنع، فنسأل الله السلامة والعافية، فمثل هؤلاء لا يجوز معاونتهم على الباطل، ولا يجوز معاونتهم على الكذب على المسلمين، وأياً ما كان أوصي إخواني ألا يتعجلوا في أذية هؤلاء؛ لأن هناك فعلاً من عنده ظروف قاهرة، وهناك من ألجأته الحاجة، ولذلك يترفق الإنسان حتى لا يؤذي الصادق؛ لأن هناك أناساً هم صادقون، والسبب أن الناس تغيروا، وقل أن تجد من تسأله، حتى اضطر بعضهم إلى أن يقف أمام الناس ويسألهم، فنسأل الله العظيم للجميع التوفيق والهداية، والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

باب القطع في السرقة [3]

شرح زاد المستقنع - باب القطع في السرقة [3] يشترط في قطع يد السارق أن يكون السارق قد أخرج المال من حرز، ويرجع في معرفة حرز الأموال إلى العرف؛ لأن العادة محكمة، وقد بين أهل العلم أدلة ذلك كما تراه في هذه المادة.

شروط فعل السرقة

شروط فعل السرقة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وأن يخرجه من الحرز] أي: يشترط في وجوب قطع يد السارق: أن يكون الشيء المسروق قد أخرجه من الحرز، وهذا الشرط يتعلق بركن الفعل والأخذ، فقد تقدم معنا أن السرقة تقوم على: سارق، وشيء مسروق، وفعل للسرقة، فهذه ثلاثة أركان ذكرها العلماء رحمهم الله في تحقق ماهية السرقة، فلو وجد السارق، ولم يوجد المسروق، ولم يوجد الفعل؛ لم تقع السرقة؛، ولو وجد السارق، ووجد الشيء المسروق، ولم يوجد الفعل لم تقع السرقة، إذاً لا بد من الثلاثة الأشياء. فأما السارق فقد تقدمت الشروط التي ينبغي توافرها فيه حتى نحكم بقطع يده. وأما الشيء المسروق فقد تقدم أنه يشترط أن يكون قد بلغ النصاب، وأن يكون مالاً محترماً، إلى غير ذلك مما تقدمت الإشارة إليه. شرع المصنف رحمه الله بهذا الشرط في فعل السرقة، وفعل السرقة يقوم على أمرين: الأمر الأول: ما يسميه العلماء: الأخذ. والأمر الثاني: أن يكون الأخذ من الحرز. إذاً: لا بد من وجود الأخذ، والإخراج إذا كان الشيء محرزاً في مكان، وأن يكون هذا الأخذ من الحرز، وعلى هذا فإنه يتحقق بهذين الوصفين شرط فعل السرقة المعتبر. إذاً: لا بد من الأخذ، قالوا: فلو أنه جمع المتاع؛ فإنه لا يوصف بكونه آخذاً إلا إذا انتقل به، ولو أنه كما ذكرنا بلع المسروق، فإنه عند طائفة من العلماء لا يعتبر آخذاً له إلا إذا خرج، فإذاً: لا بد من وجود الفعل وهو الأخذ، وهذا الأخذ يشترط أن يكون من الحرز، فلو أنه أخذ من غير حرز فلا قطع، ومن هنا نص المصنف رحمه الله على اشتراط الحرز.

إخراج المال المسروق من حرزه

إخراج المال المسروق من حرزه وأصل الحرز في لغة العرب: الحصن، وهذا حرز للمال، أي: شيء يحفظ به، والحرز ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الحرز بالمكان. القسم الثاني: الحرز بالحافظ والمراقب. فأما حرز المكان فهو أن يكون المكان ممتنعاً، ولا يحق لأحد أن يدخل فيه إلا بالإذن، فكل مكان انطبقت عليه هذه الصفة فهو حرز، فمثلاً: البيوت تعتبر حرزاً؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يدخل بيت أحد إلا بإذنه، ولأنها تحفظ ما بداخلها، وإذا قلت: إن البيت حرز، فإنه لو دخل وأخذ شيئاً من البيت، مثل: أن يأخذ طاولة أو أواني ثم يخرج بها فهو سارق؛ لأننا نعتبر البيت حرزاً. ومن هنا حرز المكان أن يكون حافظاً لما فيه، ولا يمكن لأحد أن يدخل فيه إلا بالإذن، ويشمل هذا البيوت والشقق أو -كما يقول المتقدمون- الدور، ويشمل أيضاً في زماننا الصناديق والخزائن والأحواش المحصنة والأسوار المغلقة التي لا يستطيع أحد أن يدخلها إلا باحتيال، وكل شيء محصن محفوظ من الأبنية فإنه حرز، وعلى هذا فإن أي بناء منع الغير من الدخول فيه أو لا يتمكن الغير من الدخول فيه إلا بإذن فإنه حرز. ثم هناك أحراز يمكن نقلها مثل: الصناديق، فإنها تعتبر حرز مكان، والخزائن تعتبر حرز مكان، هذا القسم الأول من الحرز. القسم الثاني من الحرز: الحرز بالحافظ، وهو أن يكون المال له عين تراقبه، كالإبل معها الراعي، والغنم والبقر معها الراعي الذي يحفظها بإذن الله عز وجل، فحرز الحافظ يكون للشيء الذي لا يشترط في الدخول فيه إذن، مثلاً: المسجد، فلو أن شخصاً سرق من المسجد شيئاً يساوي النصاب لم نقطع يده إلا إذا كان محرزاً بحارس أو أمين أو مراقب، أو سرقه من تحت الشخص، ولذلك صفوان رضي الله عنه قطعت يد سارقه؛ لأن صفوان وضع الرداء تحته، وسرق السارق رداء صفوان من تحت رأسه، ولو أنه نام والرداء تحته ثم انقلب عنه فلم يصبح تحته وجاء السارق وأخذه لم تقطع يد السارق؛ لأن المسجد ليس بحرز مكان، إذ يدخل فيه الإنسان من دون إذن، فالأماكن العامة والحدائق والمنتزهات لا تعتبر حرزاً إلا إذا كان عليها رقيب أو حارس وتمت السرقة باستغفال هذا الرقيب والحارس وأخذت خفية، فحينئذٍ يحكم بكونها سرقة، وفرق العلماء رحمهم الله بين هذين بتفريق الشرع، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن سرق الثمر من النخل لا قطع فيه، فلو أن شخصاً أخذ من فوق النخلة عرجوناً؛ فإنه لا تقطع يده، وإنما عليه ضمان هذا العرجون بمثليه ثم يعاقب، وبين النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحكم، وقال: (من أكل منه دون أن يحمل معه شيئاً فلا قطع عليه، ومن أخذ -أي: الثمر- بعد أن يؤويه الجرين ما يعدل ثمن المجن؛ قطع) فاعتبر عليه الصلاة والسلام البستان من حيث الأصل ليس حرزاً؛ لأن الغالب أنه يمكن دخوله والأخذ منه، وجعل عليه الصلاة والسلام لمن مر ببستان فأكل منه دون أن يحمل معه شيئاً؛ أنه لا شيء عليه. إذاً: الأصل عندنا أن الحرز يكون على هذين الوجهين: الوجه الأول: إما أن يكون الحرز بالمكان، وهو الذي يكون معداً لحفظ الأشياء. الوجه الثاني: أن يكون معداً لحفظ الأشياء مثل: الصناديق والأحوشة والأسورة المغلقة على ما فيها، ولا يستطيع أحد أن يدخل فيها إلا بإذن، فإذا تحقق هذان الوصفان؛ فإنها أمكنة تعتبر حرزاً لما فيها، فمثلاً: جاء إلى دكان -الدكان يعتبر حرزاً- ثم كسر باب هذا الدكان، وأخذ ما بداخله أو احتال على قفل الدكان فكسره ثم فتح الباب ودخل، أو جاء إلى زجاج المحل فكسره أو احتال فقصه ودخل؛ فإنه قد دخل إلى مال في حرزه. وهكذا لو أنه جاء إلى بقالة وهي مغلقة وموصدة أبوابها فكسر أقفالها أو احتال على الدخول عليها من الأبواب التي تكون في الظهر وتكون بعيدة عن أعين الناس؛ فدخل منها بكسر الأغلاق، أو كسر تلك الأبواب أو الاحتيال على النوافذ برفعها والدخول فيها؛ فقد دخل إلى الحرز. إذاً: هذه الأمكنة المبنية المعدة للحفظ تعتبر حرزاً، وكذلك الأمكنة التي لا يدخل إليها إلا بإذن، تعتبر حرز مكان. يبقى Q لو كان المكان حرزاً لا يدخل فيه إلا بإذن لكن فتح بابه، فهل حكمه أثناء غلق الباب كحكمه إذا فتح بابه، والعكس؟ مثلاً: نقول: إن الشقة حرز، وإذا كان بابها مغلقاً واحتال على الباب ودخل وسرق منها فهو سارق، لكن لو أنه جاء ووجد باب الشقة مفتوحاً، فانسل خفية ودخل، فهل هو سارق؟ وجهان للعلماء رحمهم الله: الوجه الأول: منهم من اعتبر دخوله واحتياله بالدخول دون أن يشعر به أهل المحل سرقة من الحرز، ويستوي عند هؤلاء أن يكون الباب مفتوحاً أو يكون الباب مغلقاً في الأمكنة المعدة للحرز. الوجه الثاني: من أهل العلم رحمهم الله من قال: إذا كان الباب مفتوحاً؛ فالمنبغي على أهل البيت أن يراقبوا، وأن يجعلوا أحداً يراقب، ومن هنا إذا دخل لا قطع، والمذهب الذي يقول بوجوب القطع يقول: إن هذه الأماكن في الأصل -حتى ولو كانت أبوابها مفتوحة- لا يستطيع أحد أن يدخلها إلا بإذن، والعرف جارٍ بكونها حرزاً، ولا يدخل إليها إلا بإذن. النوع الثاني من الحرز: الحرز بالحافظ والمراد به الحارس، ومن يوضع لمراقبة الأموال، فالأشياء التي تحفظ بالرقيب إذا عدمنا المكان، أو كان الشيء في غير موضع حرز؛ فإنه يحفظ بالرقيب، فمثلاً: الإبل البقر الغنم تحفظ بالرقيب. فالأسواق المفتوحة تحفظ بالحراس، فلو وقعت السرقة في حال عدم وجود حارس؛ فإنها ليست بسرقة؛ لأنها ليست بحرز، فليس هناك من يحفظها، والأصل في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الحرز، وهذا أصل يدل على وجود الحفظ للمال، ونفهم من كونه عليه الصلاة والسلام يأمر بالقطع إذا وضع الثمر في الجرين، ولا يأمر بالقطع إذا أخذ من غير جرين أن هناك فرقاً بين المسألتين، وأن الأمر راجع إلى حفظ المال، وأنه متى ما كان المال سائباً أو كانت الأموال من جنس ما يكون في البراري والفيافي ونحو ذلك فحرزها بحارسها، والرقيب عليها، فإذا وجد الحارس وسرقت أثناء وجود حارس؛ فإنها سرقة. وأما إذا أخذت دون أن يوجد حافظ أو حارس؛ فإنها ليست بسرقة. وقوله: (وأن يخرجه) الضمير عائد إلى المال، (من الحرز) أي: من المكان الذي هو حرز لذلك المال، فكل مال ننظر فيه إلى حرز مثله، فالذهب والفضة -اللذان هما الأثمان- لهما حرز يناسبهما، فالذهب والفضة حرزها وهي نقود ليس كحرزها وهي حلي، فالحلي تحفظ في صناديق غير صناديق النقود، وتحفظ في الدكاكين في أماكن ليست كأماكن النقود، فمثلاً: محلات الذهب قد يضطر صاحب المحل أو الدكان أن يضعها في الزجاج، وهذا إذا جئت تضعها أمام الناس في زجاج فإنه يسهل كسره والأخذ منه، لكن نفس الدكان حرز وحفظ لها، فالذهب والفضة لهما طريقة يحفظان بها، والإبل والبقر لها طريقة تحفظ بها، والأغذية لها طريقة تحفظ بها، والأكسية كلها ينظر فيها إلى حرز مثلها. قال رحمه الله: [فإن سرقه من غير حرز فلا قطع]. الفاء للتفريع (فإن سرقه) سرق المال، (من غير حرز) فلا قطع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا قطع في ثمر ولا كثر)، ومن المعلوم أن الثمر فوق رءوس النخل , وقد يدخل السارق إلى البستان -والبستان يعتبر مثل السياج- فلما أسقط عليه الصلاة والسلام القطع في الثمر الذي هو على رءوس النخل، وفي الكثر الذي هو طلع الفحل، دل على أنه لا بد من وجود الحرز، بدليل أنه قال: (بعد أن يؤويه الجرين وقد بلغ ثمن المجن قطع) فاشترط عليه الصلاة والسلام الحرز، فدل على أنه إذا لم يكن حرز فلا قطع.

الضابط في معرفة حرز المال

الضابط في معرفة حرز المال قال رحمه الله: [وحرز المال ما العادة حفظه فيه]: أي: ما جرت العادة بحفظه في ذلك المكان، وهذه المسألة مبنية على قاعدة شرعية، تقول: (العادة محكمة)، وهذه القاعدة دلت عليها نصوص الكتاب ونصوص السنة، وأجمع العلماء رحمهم الله على حجيتها، فإن الله تعالى رد عباده إلى العرف، والعرف هو العادة، فإذا جرت العادة بشيء بين المسلمين حكمنا بهذه العادة، ويشترط دليل الكتاب، فمن أمثلة أدلة الكتاب: قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، فرد الأمر إلى العرف، وقال تعالى: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]، فأمر بمعاشرة النساء بما جرى به العرف. كذلك أيضاً السنة قال صلى الله عليه وسلم: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فردها إلى العرف. والإجماع انعقد على اعتبار القاعدة التي تقول: (العادة محكمة)، فالعلماء مجمعون على العمل بها؛ لأن الشرع أطلق في أشياء وردها إلى العرف، فمثلاً: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يقبضه، بماذا يتحقق القبض؟ يختلف في الطعام في المكيلات، والموزونات، والمعدودات، والمذروعات؛ فإذا ألحقناها بالطعام فهذا القبض يرجع فيه إلى العرف. أيضاً: قال صلى الله عليه وسلم: (من أحيا أرضاً ميتة فهي لها)، بماذا يتحقق إحياء الموات؟ نرجع إلى كل عرف بحسبه، وكل زمان بحسبه، في القديم قد يكون غرس شجرة واحدة يعتبر إحياءً، وفي القديم قد يكون وضع الحجر بعضه فوق بعض دون بناء إحياء، ولكن في زماننا: في المدن الإحياء له طريقة، وفي القرى له طريقة، وهذا يدل على أن الشريعة تعتبر العرف. ويشترط في هذا العرف: أولاً: ألا يكون مصادماً للشرع، فليس هناك عادة نحتكم إليها إذا صادمت الشرع، وذكر العلماء لهذا أمثلة: فلو جرت العادة بمحرم كشرب المحرمات، لا نقول: إن العادة محكمة، فيجوز شرب المحرمات، وكذلك: لو جرت العادة بحلق اللحية لا نقول: يجوز حلق اللحية؛ لأن العادة جرت بها، فيشترط ألا تصادم العادة الشرع، ومن هنا قالوا: وليس بالمفيد جري العيد بخلف أمر المبدئ المعيد فإذا كانت العادة تخالف الشرع رددناها وعملنا بالشرع؛ لأن الله يحكم ولا معقب لحكمه سبحانه وتعالى. ثانيا: ً أن تكون هذه العادة منضبطة، وكذلك تكون في الغالب أو الأكثر على خلاف عند العلماء فيما هو غالب أو أكثر. الشاهد: أننا نرجع في العادة إلى قول أهل الخبرة، فإذا كان المال المسروق من البهائم سألنا أهل البهائم، كيف تحفظون بهائمكم؟ فالحفظ في القرى ليس كالحفظ في المدن، فإذا قالوا: نحن عندنا في بيئتنا أننا نضعها في الأحواش، وأن من يريد حفظ غنمه يضعها في هذه الأحواش، فوجدنا السرقة تمت من هذا المكان الذي يعتبر في العادة حرزاً لمثل هذا المال؛ فحينئذٍ يقطع السارق. كذلك أيضاً: لو جرت السرقة في السوق، فسرق طعاماً من سوق الأطعمة، فنسأل أهل هذا السوق: ما هي عادتكم في حفظ هذا المال؟ فإذا قالوا: عادتنا أنه إذا جاء المزارع بهذا الطعام نفعل به كذا، ونحفظه في كذا، فحينئذٍ نعتبر الحرز الذي جرت به العادة، فيقول رحمه الله: (ما العادة بحفظه) أي: ما جرت العادة بحفظه، فالحرز نحتكم فيه إلى العرف والعادة، ومن هنا قالوا: يختلف باختلاف الزمان، والمكان واختلاف الجور والعدل في الأزمنة، فإذا كان الزمان زمان عدل فإن أقل حفظ حرز. وإذا كان الزمان زمان فساد وجور وظلم، يحتاج الناس إلى حرز أمين، ولذلك بين العلماء والأئمة رحمهم الله اختلافه باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص.

اختلاف الحرز باختلاف المال

اختلاف الحرز باختلاف المال قال رحمه الله: [ويختلف باختلاف الأموال]. أي: الشيء المحفوظ، فمثلاً: شخص يريد أن يحفظ ذهباً أو فضة ليس كالذي يريد أن يحفظ الخشب، فتاجر الخشب جرت العادة أنه يضع خشبه في داخل أحوشة مغلقة، وتاجر الحديد يضع الحديد في أحوشة مغلقة تكون حرزاً لها، فجرت العادة بهذا، لكن تاجر الذهب له طريقة أخرى، فهو له دكاكين معينة، ثم أيضاً هذه الدكاكين فيها مواضع مخصوصة يضع فيها الذهب أو طريقة معينة يضع الذهب فيها عند العرض للناس، ويضع فيها الذهب عن انتهاء عمله أو خروجه من عمله، فإذاً: نرجع إلى كل عرف بحسبه، فقال رحمه الله: (ويختلف باختلاف الأموال) يختلف بسبب اختلاف نوعية الأموال، فعندنا الذهب مال، والفضة مال، والطعام مال، والبهائم مال، والمعادن مال، وكل شيء له قيمة يعتبر مالاً. قال رحمه الله: [والبلدان]. بعض البلدان يكون الحرز فيها يحتاج إلى قوة، والإمكانات متوفرة وآلات الحرز موجودة، فحينئذ نطالبه بحرز يتناسب مع بيئته، لكن لو كان في بيئة ضعيفة لا يتيسر فيها الإمكانات لحفظ الأموال، حافظها على قدر استطاعته، ونعتبره حرزاً؛ لأن عرفه يتناسب مع هذا الحرز، فكل بلد وما جرت عادتهم بحفظ المال به. قال رحمه الله: [وعدل السلطان]. أي: إذا كان السلطان عادلاً فإن الحرز يكون خفيفاً، وذلك أن الناس إذا أخذوا بالعدل استقامت أمورهم، ويحصل عند الناس خوف من الله عز وجل، ويأمن الناس بعضهم بعضاً؛ لأنه يحس أن له مثل الذي عليه، وحينئذ يأمن الناس، ولا يلتفت بعضهم إلى مال الآخر من أجل أذيته والإضرار به، والعكس، فإنه إذا حصل الجور، وكان الزمان زمان جور تنافسوا -والعياذ بالله- في الجور، فإذا أخذ الناس بسلطان العدل الذي قامت عليه بالسماوات والأرض واستقامت عليه أمور الدنيا ولا تستقيم إلا به؛ فإن أمورهم تستتب، ولربما وضع الرجل قماشاً على باب محله وبداخله من المجوهرات والخيرات ما الله به عليم! ولكن الله عز وجل يصرف النفوس عن الفساد، ويصرفها عن الأذية والضرر، ولذلك أزمنة الفتنة تنساق النفوس -والعياذ بالله- فيها إلى الفساد والأذية والإضرار والبطش والسوء حتى إن الناس كأنهم قد سلبوا -والعياذ بالله- عقولهم، وكأن الله إذا أراد بقوم فتنة سلبهم عقولهم؛ فعاثوا وعاثت بهم الشياطين والعياذ بالله، وعندها يكون بطن الأرض خير من ظاهرها، وهذا في أزمنة الجور والظلم، ولذلك تجد أهل الجور يتنافسون في الفساد. أما إذا غلب العدل تنافس الناس في الخير، فهم تبع لهذا المؤثر بعد الله سبحانه وتعالى، فكونهم مأخوذين بالعدل أو مأخوذين بالجور له أثر، ففي أزمنة الجور يكون الحفظ أشد، والحرز أقوى، وأما في أزمنة العدل فإن الأمر يكون أخف، ولذلك جاءت كنوز كسرى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو بالمدينة، فوضعها رضي الله عنه وأرضاه في المسجد، حتى أن المسجد أضاء في ظلمة الليل من كثرة ما فيه من المجوهرات والنفائس، فلما رآها بكى رضي الله عنه وقال: (إن أناساً أدوا هذا لأمناء)، ووضعوا عليها القماش، وكان الناس في زمان عمر رضي الله عنه -وهو زمان الخلافة الراشدة- راضين مطمئنين مأخوذين بالعدل؛ ولذلك كان عمر رضي الله عنه يضعها في المسجد، فما احتاج أن يضعها في أغلاق، وكان الرجل يسافر بهذا المال حين يبعثه قائد المسلمين بالفتح، فيرسل القافلة وهي مليئة بالأموال والمجوهرات، ويستطيع الرجل منهم -وحاشاه- أن يسرق أو يخبئ أو يغل منها ما شاء، ولكن أبى الله عز وجل إلا أن يكونوا أمناء؛ لأنهم تربوا في مدرسة النبوة على يد رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، الذي عرف منذ صغره بالأمانة، بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه. زمان العدل يخف فيه الجور والتعدي على أموال الناس، ومن هنا ينظر في كل زمان بحسبه، وفي كل مكان بحسبه، وفي كل مال بحسبه. ومن مسائل الاختلاف أن يختلف الحكم باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال، فهذه منها مسألة الحرز في الأموال. قال رحمه الله: [وجوره]. إذا كان عدلاً أو كان جائراً. قال رحمه الله: [وقوته وضعفه]. إذا كان قوياً فإن الناس تهاب وتخاف، حتى بلغ ببعض الولاة -من قوته- أن الناس كانوا إذا رءوا المال المسروق في زمانه هربوا عنه، فإذا أخذ الناس بالقوة والحزم في البطش والسرقة والتعدي على أموال الناس، فإن الناس يأخذهم من الخوف والرعب الشيء العظيم، حتى إن الرجل لو رأى مالاً مسروقاً فر عنه، ولربما غير الطريق الذي يسير فيه، وجاء عن بعضهم أنه مر على كيس من الطعام ثم ذهب إلى الوالي -وكان معروفاً بالحزم- فقال له: إني وجدت كيساً من الطعام فيه كذا، قال: ما أدراك بما فيه! حللته فككته؟ قال: لا، ولكني تحسسته بأصبعي، قال: اقطعوا أصبعه! وهذا نوع من الإسراف في الحزم، لكن إذا أخذ الناس بالقوة احتاطوا لأنفسهم، فأزمنة الجور يعظم فيها الفساد، وهكذا أخذ السلطان للناس بالقوة يكفهم عن أخذ الأموال، وحينئذ يعتبر أيسر شيء حفظ للأموال، حتى إن الرجل لربما وضع أبسط الأشياء على ماله لكي يحفظه ويعتبر في العرف قد حفظه وصانه، ويعلم الناس أنه محفوظ، والعكس بالعكس، إذا أصبحت أزمنة فساد؛ فإنه لا يغني فيها الأغلاق، ولربما لا يغني فيها البناء، إلا إذا كان على صفة مخصوصة، مثلاً في بعض المدن تكثر السرقة حتى يصبح الشخص لو وضع المال داخل بناء لا يكفي، ما لم يضع عليه أجهزة تراقبه، أو يستخدم الأشياء الحديثة من أجل حفظ أي اعتداء أو الانتباه لأي داخل ومع ذلك تحدث السرقة! فإذاً: لا بد من النظر لكل عرف ولكل بيئة بحسبها.

من أمثلة حروز الأموال

من أمثلة حروز الأموال قال رحمه الله: [فحرز الأموال والجواهر والقماش في الدور والدكاكين والعمران وراء الأبواب والأغلاق الوثيقة]. فقوله: (وحرز الأموال). أي: الأثمان من الذهب والفضة لا بد أن تكون في الأغلاق، أي: داخل الصناديق المغلقة، ووراء البناء، فلو أنه وضع الذهب في صندوق وأبرزه للناس، فإنه ليس بحرز، لكن لو يدخله في بيته، أو دكانه فإنه يكون داخل الحرز، وهو الصندوق، ولذلك جرى العرف عندنا الآن أن الشخص لو دخل على بائع وعنده أموال فإنه يجد صندوقاً مخصوصاً للأموال، ويجد خزنة للدكان والبقالة وللمتجر، فهذه الأموال محفوظة وراء الدور الذي هو البناء، وداخل الأغلاق؛ فلو أنه وضع المال داخل الدكان بدون غلق، ففي هذه الحالة لا يعتبر حرزاً إذا جاء السارق وسرق، ولو أنه أخرج الأموال من الصندوق أو من الخزنة ووضعها على الطاولة؛ ثم جاء السارق وسرقها فإنه لا يعتبر آخذاً من حرز. إذاًَ: لا بد من أمرين: أن يكون في الأغلاق التي هي الصناديق المغلقة، وأن تكون وراء الجدران، أي: في الدور أو في الدكاكين. وقوله:) والجواهر) كذلك؛ لأن الأموال تدعو النفوس إلى حفظها، وجبلت النفوس على حفظها، والجواهر لربما كانت أغلى من الذهب والفضة، ومن هنا من كان عنده ألماس لا يضعها في بيته، إنما يبحث عن مكان أمين يضع فيه الألماس، ولو وضعها في بيته لا يضعها في درج مكتبه، ولا يضعها مثلاً في كيس في غرفته، إنما يضعها في خزنة تحفظ هذا المال النفيس، أو يضعها في صندوق قوي محكم يغلقه على هذا المال، فكل مال بحسبه، والجواهر تحتاج إلى صيانة أكثر من الذهب والفضة في بعض الأحوال، والذهب والفضة في بعض الأحيان يحتاج إلى صيانة أكثر، ومن هنا نبه المصنف على اختلاف الأموال واختلاف الأحوال. وقوله: (والقماش) مثلاً: تاجر عنده أقمشة؛ فإنه يضعها داخل الدكان ويغلق عليها دكانه، فلا بد أن تكون في حرز ومغلق عليها. وقوله: (في الدور) هذا الحرز الأول. وقوله: (والدكاكين) دكاكين القماش حرز للقماش الذي فيها. وقوله: (والعمران) القماش داخل المدينة ليس كالقماش خارج المدينة، فإذا كان داخل المدينة يكون داخل الدكان، وداخل البناء، وإذا كان خارج المدينة فلا بد أن يبحث عن حرز يحفظه به، فلو أنه كانت عنده (بسطة)، وليس عنده دكان، وجاء شخص وسرقها، فإنه لا تقطع يده إلا إذا كان هناك رقيب، ونحن هنا نتكلم عن الحرز بالمكان، ولا نتكلم عن الحرز بالنظر، فلو كان القماش تحت عين الرقيب، وجاء وسرق من تحت عين الرقيب؛ فإنه في هذه الحالة يعتبر سارقاً. وقوله: (وراء الأبواب) إذا كانت في بناء تكون وراء الأبواب ووراء النوافذ المغلقة. وقوله: (والأغلاق الوثيقة) هي الخزنة، فمثلاً: النقود في المحل توضع داخل خزنة، فلو أن سارقاً سرقها من غير الخزنة دون حافظ ولا رقيب لها، لم تقطع يده؛ لأن هذا إهمال وتسيب، والإهمال والتسيب ليس فيه حرز على وجه. قال رحمه الله: [وحرز البقل وقدور الباقلاء ونحوهما وراء الشرائج إذا كان في السوق حارس]. انتقل هنا إلى النوع الثاني وهو قضية الحرز بالحافظ، والحافظ هو الحارس الذي يراقب المال، فمثلاً: أكيسة فيها أطعمة، مثلاً: أسواق الفواكه أسواق الخضار أسواق التمر ونحو ذلك، فهذه حرزها إذا كانت تحت مراقبة الحارس؛ فإذا وجد حارس يراقبها وجاء السارق وسرق؛ فإنه في هذه الحالة قد أخذ من حرز، وأما إذا كانت هذه الأشياء موضوعة أو بائعها انصرف وتركها أو انشغل عنها وتركها؛ فليست في حرز، وحينئذ لا يثبت القطع. قال رحمه الله: [وحرز الحطب والخشب الحظائر]. جمع حظيرة، وأصلها تكون للحيوانات والبهائم، وجرت العادة أن الذي يبيع الحطب والفحم في القديم يضعها في الحظائر، فيأتون -مثلاً- بجريد النخل، ويكونون منه سياجاً على محل البيع، فتكون هذا السياج بمثابة السور في البناء، وجرت العادة أن مثل هذا يحفظ الحطب والفحم ونحو ذلك، وعبر به المصنف كنوع من الأنواع التي تحفظ بها الأموال، بطريقة غير الطريقة الأولى؛ لأن الطريقة الأولى بالبناء، وهذا لا بناء فيه، فعبر رحمه الله بهذا تنبيهاً على نوع من أنواع الحرز، وهذه الأشياء ضعيفة بالنسبة للبناء، أي: إذا جئت تنظر إلى الحرز بالحظائر فهو أخف من الحرز الذي بالبناء، مع أنها تكون محكمة، وتكون قوية في بعض الأحيان، ولا يستطيع أحد أن يدخل منها، لكن قد يكون الولوج عن طريق الحظائر أخف من الولوج عن طريق البناء، ومع هذا تعتبر الحظائر حرزاً، فإذا جرت العادة أنها تحفظ في مثل هذه الحظائر فهي حرز، فلو سرق كيساً من الفحم وهذا الكيس تعادل قيمته النصاب، وكان من داخل حرز مثله؛ قطع، وإلا فلا. قال رحمه الله: [وحرز المواشي الصير]. الصيرة تحفظ المواشي بإذن الله عز وجل، وهذا إذا كانت في معاطنها كالإبل والبقر والغنم فإنها توضع في الصيران وتحفظ، لكن إذا كانت سائمة وراعية؛ فإنها تكون بالراعي إذا كان معها راعيها وحافظها فإنه حرز لها، وهذا حرز الحافظ. قال رحمه الله: [وحرزها في المرعى بالراعي]. لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق في الإبل -كما في حديث السنن- بين حبيسة الجبل وبين ما أخذ منها من معطن، فما أخذ من المعاطن أخذ من الحرز إذا كانت محفوظة، وما أخذ من البراري دون أن يكون عليها رقيب فلم تؤخذ من حرز، فلا قطع. وعند العلماء تفصيل في المطولات بالنسبة للإبل والغنم والبقر، فكل هذه البهائم إذا رعت فلها طرق مختلفة، فتارة تسرق أثناء سيرها إلى المرعى، وتارة تسرق أثناء قيامها بالرعي، فالحافظ الذي معها إذا كانت عينه على مجموعها؛ فإنه حرز، سواء أخذ من أطرافها أو أخذ من وسطها إذا كانت مجتمعة في وادٍ وهو قائم عليها يراقبها. لكن إذا كانت سائرة إلى المرعى فبعض العلماء يرى القاطرة حرزاً إذا كان قد أخذ بالفحل؛ لأن الفحل تسير وراءه الإبل، أو حصلت السرقة من آخرها فهي سرقة، يعني: يعتبر بالخط الواحد للبهائم ولو كانت عشرة أو عشرين، هب أنها تسير وهي تبع لقائدها، وقائدها عينه عليها، لكنه تتناوب عينه على الأول والثاني والثالث، وأثناء تناوب عينه على أولها سرق السارق من آخرها، فيكون قد سرق من حرز؛ لأنه في هذه الحالة تحت النظر، وإذا قلنا: تحت النظر فلا يشترط أن يكون النظر محدداً للكل، إنما الكل بمثابة المال الواحد، ففي هذه الحالة تقطع يده، ويفرقون في المطولات بين كونها مسروقة من قاطرة الإبل أو قطيع الغنم أو قطيع البقر، في أثناء مشيه أو في أثناء رعيه. قال رحمه الله: [ونظره إليها غالباً]. هذا هو حرز النظر، فيكون مراقباً لهذا المال، ولا يكون أحد حارساً ولا حافظاً إلا بالمراقبة غالباً، أي: يعني في غالب الحال، لكن لربما ينصرف نظره لشيء يسير فينظر إليه، ثم فجأة ينظر أمامه حتى ينظر الطريق الذي تسير إليه، وينظر إلى الشمس، ونحو هذا، لكن الغالب أن نظره عليها. وعلى هذا: إذا وجدت مع الحارس على الصفة المعتبرة من كونه حافظاً ومراقباً عليها؛ فإنه إن وقعت السرقة قطع السارق، ونعتبر وجود الحارس حرزاً لهذا المال.

الأسئلة

الأسئلة

حرز السيارات

حرز السيارات Q كيف يكون حرز السيارات؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فنحن وضعنا الضابط، العلماء رحمهم الله في باب السرقة تكلموا كلاماً طويلاً جداً في مسألة الحرز، والسبب في هذا أنهم يتكلمون في زمانهم، والحرز يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، وبالنسبة للسيارات فيكون على حسب العرف. السيارة من حيث الأصل: إذا كانت -مثلاً- موضوعة في (كراجها) في البيت، ومغلق عليها، فجاء شخص وكسر الغلق، ثم سرقها فهو سارق، وفي هذه الحالة يكون قد أخذها من الحرز، وانطبقت عليه شروط السرقة؛ فتقطع يده. أما إذا كانت السيارة معروضة للبيع في المعرض، فننظر إلى البناء الموجود، فإذا كانت داخل حوش المعرض فجاء وتسور الحوش، أو احتال ودخل الحوش، ثم سرقها فهو سارق؛ لأن العبرة بالأخذ من الحرز، أما إذا كان المعرض مفتوحاً، والناس تدخل وتخرج فحينئذ يعتبر الحافظ والمراقب. إذاً: ينظر في الأحوال بحسب اختلافها. لكن هنا مسألة: يشترط أن تكون السيارة في الحرز، لكن إذا سرق شيئاً من السيارة فهناك فرق بين أن يسرق السيارة وبين أن يسرق من السيارة، فلو أنه كسر زجاج السيارة وأخذ المسجل منها فهو سارق؛ لأن مسجل السيارة يحفظ فيها، وقد جرت العادة أنه محفوظ بغلق باب السيارة، وقفل الزجاج، فإذا اعتدى على هذا الزجاج وكسره أو عبث في مفتاح السيارة حتى فتحها ثم دخل وأخذ المسجل؛ فإنه قد أخذه من حرزه، فالمسجل مربوط ومتصل بالسيارة، وحرزه هذا الرباط، مثل: حرز الأغلاق؛ لأنه موثق ومضبوط وموضوع في السيارة، فلو سرق مركبة السيارة وكانت تساوي نصاباً قطع، لكن لو أن صاحبها تركها مفتوحة فجاء هذا وفتحها فحينئذ نعتبره إهمالاً من صاحب السيارة، ولا يتحقق في ذلك معنى الحرز، والله تعالى أعلم.

حكم نقض الوتر بصلاة بعده

حكم نقض الوتر بصلاة بعده Q أشكل عليّ من أراد أن يصلي في الليل هل يسلم مع الإمام في التراويح حتى يكسب قيام ليله أم يشفع الوتر بركعة حتى يصلي في آخر الليل، وتكون صلاته آخر الليل وتراً؟ A الذي يظهر -والعلم عند الله- أن أقوى الأقوال في هذه المسألة أنه يسلم مع الإمام، ويصيب فضيلة من قام مع الإمام حتى ينصرف، ثم ينتظر إلى آخر الليل ويأتي بركعة ينقض بها الوتر، ولذلك أصل في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل الوتر ناقضاً للوتر، والدليل على ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: (لا وتران في ليلة)، فقوله: (لا وتران في ليلة) يدل على أنه لا يجوز للمسلم أن يقتصر على الوترين، وهذا يدل على أن الوتر الثاني ينقض الوتر الأول. ومن هنا: يجوز له أن يوتر وترين للحاجة ثم يوتر الوتر الأخير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه تأخير الوتر إلى السحر، وفعل ذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ فإنه كان إذا صلى الوتر أول الليل قام آخر الليل فصلى ركعة نقض بها الوتر الأول ثم صلى ما شاء ثم أوتر، وهذا هو الأشبه لما فيه من موافقة السنة. أما كونه بعد سلام الإمام يقوم ويأتي بركعة فهذا فيه إشكالات: أولاً: لأنه يدخل مع الإمام بنية المخالفة في العدد، وفرق بين المخالفة في النية فرضاً ونفلاً وبين المخالفة في صورة الصلاة، والمخالفة في صورة الصلاة مؤثرة؛ ولذلك جماهير العلماء والأئمة من السلف رحمهم الله -حتى على مذهب الأئمة الأربعة- لم يصححوا صلاة المغرب وراء العشاء لاختلاف صورة الصلاتين، وحينئذٍ سيدخل بثنائية وراء فردية فيضطر إلى الجلوس بالتشهد ولا يعرف في الشرع الجلوس بين ركعتين في ثنائية، إنما يكون الجلوس في آخر الثنائية أو يكون في آخر الوترية إذا كانت واحدة. ثانياً: سيستبيح الدعاء بعد الركعة الأولى وهو يعلم أنه سيصلي ركعتين، فإذا قال قائل: إن هذا كان لمكان المتابعة، فنقول له: إذاً: يتابع الإمام على الحقيقة، فيسلم مع الإمام، والقول بأنه بعد سلام الإمام يأتي بركعة، يقول به بعض العلماء، والصحيح أنه يسلم مع الإمام تحقيقاً للمتابعة وإعمالاً للأصل وخروجاً من المخالفة؛ لأنه يفعل أموراً لا تعرف في سنن الصلاة الشرعية من الجلوس بين الركعتين، وإحداث الدعاء في الركعة الأولى، وإنما عرف في الشرع القنوت في الثنائية بعد الثانية وليس بعد الأولى إذا كانت ثنائية، أو القنوت بعد الأولى كما في الوتر، الأول كما في الفجر، والثاني كما في الوتر، وحينئذ يخرج عن سنن الصلاة، فلو قال قائل: هذا للمتابعة، نقول: نعم، هذا في الفريضة حينما يلزم، ولكن هنا ليس بملزم، وبإمكانه أن يحقق الموافقة في الشرع بالتسليم مع الإمام، وخاصة وأنه يحوز على فضيلة متابعة الإمام حتى ينصرف، والله تعالى أعلم.

صلاة التراويح في البيت

صلاة التراويح في البيت Q هل إذا قمت في ليالي رمضان منفرداً في بيتي يكتب لي قيام ليلة، وإذا كان ذلك فكيف أجمع هذا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)؟ A لا يكتب للإنسان أنه قام ليلة إلا إذا استتم القيام كاملاً لليلة، هذا بالنسبة إذا كنت تريد أن تحيي الليل، مثل: العشر الأواخر إذا أحييتها بالصلاة، لكن فضيلة الصلاة مع الأئمة جاء لها استثناء، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكثر المأمومين وراء أئمتهم فقال: (من قام مع إمامه حتى ينصرف) وهذا الحديث المقصود به أن يبقى المأمومون وراء أئمتهم، فلا يأتِ إنسان ويقول: لدينا إمام أول وإمام ثانٍ، فإذا انصرف الأول انصرفنا معه. هل يعرف في زمان النبي صلى الله عليه وسلم إمامان؟ إذاً: الأصل أن ننظر ماذا قصد الشرع؟ هل قصد الصورة أم قصد المعنى؟ بل قصد المعنى وهو: أن نقوم مع الأئمة ولا ننصرف عنهم، ويقولون: استنباط المعنى من النص الذي يعود بإلغاء معنى النص باطل، فمقصود الشرع أن تقوم مع الإمام حتى ينصرف، فخرج مخرج الغالب، ففي زمان النبي صلى الله عليه وسلم الغالب فيه أن يؤم إمام واحد، وعلى هذا لو جاء يستنبط من هذا النص: أن ينصرف مع الإمام حتى في أول الصلاة فإنه سيلغي معنى النص؛ لأن معنى النص المراد به التكثير، لماذا قيل: (من قام مع إمامه)؟ هل جاء لصورة أم جاء لمعنى؟ بل جاء لمعنى وهو: الحرص على متابعة الأئمة والحرص على الصلاة معهم. فقوله: (من قام مع إمامه) المراد به: أن يقوم مع إمامه إلى أن ينصرف، فإذا ثبت هذا؛ فإن هذا المعنى موجود في الجماعة، وليس موجوداً في الفرد؛ لأن الفرد ليس له إمام، وليس هناك إمام يريد أن يتابعه فيكثر سواده؛ لأن الصلاة صلاة نافلة، ولذلك ورد الترغيب فيها بهذا المعنى، فإذا أراد قيام الليلة وكان يريد أن يحصل الفضيلة فليصلِّ مع الجماعة. لكن السؤال هل الأفضل أن يصلي مع الجماعة أول الليل أم الأفضل أن يصلي في بيته وحده ويحيي آخر الليل؟ الأشبه أن صلاته في بيته -إذا كان حافظاً للقرآن خاشعاً مخلصاً ويتأثر ويضبط القرآن، ويعطي للقرآن حقوقه- أفضل؛ ولذلك عمر رضي الله عنه ترك الجماعة، وكان يمر عليهم ويقول: (نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل)، وهو الذي أمرهم أن يجتمعوا، لكن ينقسم الناس إلى قادر وغير قادر، فعامة الناس في غالب أحوالهم لا يقدرون أن يقوموا السحر وآخر الليل، ومن هنا جعل التراويح لهم في أول الليل ولكن قال: (والتي ينامون عنها أفضل)، فهم في حال حسن، وهناك ما هو أحسن وأكمل، وأكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله: (صلوا في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، فالأفضل والأكمل أن يصلي في بيته بالصفات التي ذكرناها: أن يكون قادراً على إحياء آخر الليل بالقرآن، قادراً على القيام في آخر الليل، لأن ذلك يكون أخشع لقلبه، وأكثر تأثراً، وقد يصلي مع جماعة وإمامه يسرع في القراءة، ولا يستطيع أن يتدبر القرآن كما ينبغي، ولكن إذا خلى بربه وخلى في بيته وقرأ القرآن بورك له في قراءة القرآن في بيته، وبورك له في نفسه، وبورك له حتى في البيت الذي يقرأ فيه، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم فليجعل من صلاته في بيته، فإن الله جاعل له من صلاته في بيته خيراً)، هذا بالنسبة لمن يقدر. أما إذا كان ضعيفاً أو كان لا يستطيع أن يقوم آخر الليل، فيحرص على أن يقوم مع الجماعة، وهذا هو الأشبه. وقوله عليه الصلاة والسلام: (من قام مع الإمام حتى ينصرف) له أن ينوي في قرارة قلبه أن يحصل على الفضيلة لوحده حتى يكتب له الأجر بالنية، والله تعالى أعلم.

مدة القصر في السفر

مدة القصر في السفر Q ما هي المدة التي يقصر فيها المسافر؟ ومتى يعتبر المسافر مقيماً؟ A المدة التي يقصر فيها المسافر أن يكون ناوياً للجلوس أقل من أربعة أيام غير يوم الدخول والخروج، فإذا نوى أن يجلس أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج لزمه الإتمام من أول وصوله إلى المدينة، فلو سافر من مكة إلى الرياض وفي نيته أن يجلس السبت والأحد والإثنين والثلاثاء، ثم يسافر الأربعاء وكان سفره يوم الجمعة فمكث السبت والأحد والإثنين والثلاثاء، لزمه الإتمام عند وصوله إلى الرياض، وحكمه حكم المقيم بالوصول. وأما إذا قدم إلى الرياض وهو لا يدري كم سيجلس، ولا يدري كم المدة، فإنه يقصر مدة جلوسه ولو طال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك كان ينتظر العين، فأرسل عيونه، وكانت تبوك ماء من مياه العرب، لم تكن مدينة كحالها اليوم، ولا قرية وإنما كانت ماء من مياه العرب، ونزل عليه الصلاة والسلام فأرسل عيونه ولا يشك أحد -وهذا يعرفه أهل السير- أنه لا يدري هل سيبقى يوماً أو يومين أو ثلاثة؛ لأنه أرسل عيونه لينظروا جيش بني الأصفر -وهم الروم- هل عندهم نية لغزو النبي صلى الله عليه وسلم أو لا، وهذا أمر يستغرق وقتاً طويلاً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدري متى يرجعون، قد يكون أرسل عينه ثم يأتيه العين اليوم الثاني ويقول: هم على ماء كذا، أو هم قد خرجوا على موضع كذا، ومن المعلوم أن بين تبوك والشام مفاوز، ولذلك لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً كم سيمكث. وجمهور العلماء والأئمة كلهم يحتجون بهذا الحديث على أنه إذا لم يعلم مدة مقامه أنه يقصر، وأن حديث تبوك ليس من التحديد في الشيء؛ لأن البعض يظن أنه دليل على أنه يقصر الصلاة لو نوى سبعة عشر يوماً، وهذا ليس بصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم المدة التي سيمكثها في تبوك؛ لأنه أرسل عينه، والعين قد يأتيه بالخبر اليوم أو بعد يومين أو ثلاثة أو أربعة، فهذه الحالة الأولى للمسافر. الحالة الثانية: أن يكون ناوياً لأقل من أربعة أيام؛ فإنه يقصر ولا بأس ولا حرج أن يصلي الرباعية ثنائية ولو في منزله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في ذلك كما في الصحيح في قصة مسجد الخيف، وهذا بالنسبة للمدة التي تقصر فيها الصلاة: أن تكون أقل من أربعة أيام غير يوم الدخول والخروج أو لا يعلم المدة التي سيمكثها؛ ولذلك مكث أنس بن مالك رضي الله عنه في فتح تستر أكثر من ثلاثة أشهر وهو يقصر الصلاة؛ لأن الثلج حبسهم. والأصل عند جمهور العلماء رحمهم الله أن المدة محددة، والدليل على تحديد الأربعة الأيام: حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للمهاجرين أن يبقوا في مكة ثلاثة أيام)، فدلت هذه السنة على أن المسافر ينتقل من كونه مسافراً إلى كونه مقيماً في اليوم الرابع؛ لأنه رخص لهم ثلاثة أيام، وهم قد تركوا مكة لله، والمهاجر لا يجوز له أن يرجع إلى بلده فيقيم بها، فلما أجاز لهم ثلاثة أيام ومنعهم من اليوم الرابع دل على أنهم في اليوم الرابع يكونون في حكم المقيم. وعلى هذا؛ فإنه يحدد بهذا القدر من الأيام غير يوم الدخول والخروج، فلو سافر يوم الجمعة ووصل يوم الجمعة ويسافر يوم الأربعاء، فحينئذٍ تتحقق المدة، لكن لو كان يصل يوم السبت، ويسافر الأربعاء؛ فإنها ثلاثة أيام، فيقصر، فالعبرة بإلغاء يوم الدخول ويوم الخروج حتى تتمحض هذه المدة على ظاهر السنة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

باب القطع في السرقة [4]

شرح زاد المستقنع - باب القطع في السرقة [4] من الشروط في إقامة الحد على السارق: أن تنتفي الشبهة في المال المسروق، وهناك أصناف من الناس لا تقطع أيديهم وإن أخذوا مال غيرهم، وثبتت السرقة بشهادة عدلين، أو بإقرار السارق نفسه.

ما يمنع من قطع يد السارق

ما يمنع من قطع يد السارق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وأن تنتفي الشبهة]. يشترط لوجوب حد القطع أن تنتفي الشبهة في السارق، وقد تقدم معنا تعريف الشبهة في حد الزنا، وبينّا أن السنة وآثار الصحابة رضوان الله عليهم وردت بإسقاط الحد عند وجود الشبهة، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده، وهو منهج الأئمة الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أوسع الناس في باب الشبهة، وكان يسقط الحد عند وجود الريبة والشبهة، ولذلك استقر مذهبه على ذلك، وثبتت عنه الآثار الصحيحة لإعمال الشبهة في إسقاط حد السرقة، كما في قصة غلام الحضرمي، وهي من القصص التي اعتبرها العلماء دليلاً على إثبات أن الشبهة موجبة لسقوط حد السرقة. فيقول: (وأن تنتفي الشبهة) النفي ضد الإثبات، وإذا قلت: تنتفي الشبهة، بمعنى: ألا توجد شبهة، وهذا شرط راجع إلى الملكية. ومن هنا نجد من العلماء -رحمهم الله- من عبر في شروط السرقة بالملك التام القوي، أي: يكون المسروق منه قد ملك المال ملكاً تاماً قوياً بحيث لا تحصل منازعة بينه وبين السارق، فإذا وجدت الشبهة فإن هذا يؤثر في الملكية التامة كما في الشريك مع شريكه، وكما في الابن مع أبيه، والأب مع ابنه، ونحو ذلك من صور الشبهة، وهذه الشبهة اعتبرها أئمة الإسلام رحمهم الله -ومنهم الأئمة الأربعة- أنها موجبة لسقوط الحد، لكنها تختلف في صور، فتارة تكون الشبهة شبهة البعضية، وتارة تكون الشبهة شبهة الملك، ومن هنا فرق العلماء رحمهم الله فأعملوا صوراً من الشبهة، وأسقطوا صوراً أخرى، وقالوا: إن الشبهة لا تعتبر موجبة لسقوط الحد، والأصل الشرعي يقتضي أنه إذا توافرت شروط السرقة فإننا نقطع يد السارق، وعلى هذا لا نسقط الحد إلا إذا وجدت شبهة قوية.

السارق من مال أبيه والعكس

السارق من مال أبيه والعكس قال رحمه الله: [فلا يقطع بالسرقة من مال أبيه وإن علا]. يعني: لو سرق الابن من مال أبيه فإنه لا تقطع يد الابن، ولو سرق الابن من مال جده وإن علا لم تقطع يده، والعكس: لو سرق الأب من مال ابنه، أو سرقت الأم من مال بنتها، أو سرقت الأم من مال حفيدتها، أو الأب من مال حفيده، فإنه لا يثبت القطع، وهذه الشبهة هي شبهة البعضية، والمراد بالبعضية: أن السارق يكون بعضاً من المسروق منه، أو يكون المسروق منه بعضاً من السارق، ومعنى ذلك: أن الولد قطعة من والده، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما فاطمة بضعة مني)، وهذا في صحيح البخاري، فقال: (بضعة مني)، فكأنها قطعة منه عليه الصلاة والسلام، وإذا كانت منه عليه الصلاة والسلام صارت هي وهو كالشيء الواحد، فإذا سرق الولد من والده كأنه أخذ من ماله. وجاءت السنة تؤكد هذا فيما رواه ابن ماجة وغيره -وصححه غير واحد من العلماء- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم)، فجعل الوالد له يد على مال ولده، وإذا كانت له يدٌ على مال ولده فإنه حينئذٍ لا يقطع؛ لأنه لم يسرق، فكأنه أخذ من ماله؛ ولهذا جماهير الأئمة -حتى حُكي الإجماع في هذه المسألة- على أنه لا يقطع والد من مال ولده، ولا مولود من مال والده. هذا الحكم عند العلماء والأئمة رحمهم الله عام وشامل للأصل مع فرعه وللفرع مع أصله، وعلى هذا نحكم بسقوط الحد إذا سرق الابن من مال أبيه وجده وإن علا، وإذا سرق من مال أبيه الذي تمحض بالذكور كجده من جهة أبيه أو جده من جهة أمه كأبي أمه، فلو سرق من مال جده لأمه لم يثبت الحد، وكذلك أيضاً لو ثبت أن السرقة من الوالد لولده فإنه يستوي في ذلك الأب مع الأم، فيستوي الذكور والإناث من الولد والوالد. قال رحمه الله: [ولا من مال ولده وإن سفل]. هذا هو العكس، فهو أثبت أن الوالد لا يقطع بولده، وأيضاً الولد لا يقطع من مال ولده، والأصل في هذا السنة كما بينا، وهذه يسميها العلماء شبهة البعضية، ويستوي الذكر والأنثى في الآباء والأمهات، ويستوي الذكر والأنثى في الأولاد، ويستوي القريب والبعيد، فالأب المباشر والأب بواسطة، والابن المباشر والابن بواسطة وهو الذي يسمى بالحفيد. قال رحمه الله: [والأب والأم في هذا سواء، ويُقطع الأخ]. ويقطع الأخ إذا سرق من مال أخيه؛ لأنه لا شبهة بين الأخ وأخيه، ولذلك تصح الزكاة على الأخ، ويجوز أن يدفع زكاته لأخيه؛ لأنه ليست هناك شبهة بعضية، ومن هنا قسّم العلماء القرابة في السرقة أو شبهة السرقة إلى قسمين: القسم الأول: قرابة مؤثرة، مثل: قرابة البعضية في الوالد والولد. القسم الثاني: قرابة غير مؤثرة، وهي قرابة الأخ مع أخيه، مثل سرقة الأخت من مال أخيها، والأخ من مال أخته. قال رحمه الله: [وكل قريب بسرقة من مال قريبه]. وكل قريب يُقطع إذا سرق من مال قريبه، والدليل على ذلك: عموم قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38]، فأمرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أن نقطع يد كل سارق سواءً كان قريباً أو غريباً، فلما جاءت السنة تستثني الوالد مع ولده والولد مع والده، أبقينا الحكم على العموم، واستثنينا ما استثنته السنة.

السارق من مال زوجته والعكس

السارق من مال زوجته والعكس قال رحمه الله: [ولا يُقطع أحد من الزوجين بسرقته من مال الآخر]. إذا سرق الزوج من زوجته، أو سرقت الزوجة من مال زوجها، فهذا يأتي على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون الأخذ من حرز. الصورة الثانية: أن يكون من غير حرز. فلو أن زوجة أخذت مالها ووضعته في صندوق وقفلت عليه، فجاء الزوج خفية وكسر الصندوق وأخذ المال الموجود فيه، فهذه سرقة؛ لأنها أخذ من الحرز، وتنطبق عليها شروط السرقة. الصورة الثانية: أن يكون الأخذ من غير حرز كما لو أن الزوج دخل بيته، ووضع المال على الطاولة فجاءت الزوجة وأخذت منه خمسمائة ريال خلسة دون علم منه على صورة السرقة، ولكنه من غير حرز، والعكس لو أن الزوج فعل ذلك بزوجته. في الصورة الأولى إذا كان من حرز اختلف العلماء رحمهم الله: بعض العلماء يرى أن الزوج يُقطع إذا سرق من مال زوجته، والزوجة تقطع إذا سرقت من مال زوجها، وبعض العلماء يرى أن الزوجة لا تقطع والزوج يقطع، وبعضهم يرى أنه لا يُقطع واحد منهما بسرقته من مال الآخر. فالذين قالوا بأنه لا تُقطع يد الزوجين إذا سرق أحدهما من مال الآخر احتجوا بما ثبت عن عمر رضي الله عنه في قصة عبد الله بن عمرو الحضرمي كان له غلام، ثم إن هذا الغلام سرق من مال زوجته -غلام أي: عبد مملوك- فجاء بهذا العبد المملوك إلى عمر رضي الله عنه وقال له: يا أمير المؤمنين! إن هذا سرق فاقطع يده. قال: ماذا سرق؟ قال: سرق مرآة زوجتي وهي بستين درهماً، وهذا يعادل النصاب وزيادة، فقال عمر رضي الله عنه: (خادمكم أخذ متاعكم، لا قطع عليه)، وفي بعض الروايات: (مالك سرق مالك) أي: العبد من مالك وسرق مالك، قالوا: إن هذا يدل على أن الزوج لا يقطع إذا أخذ من مال زوجته؛ لأن العبد مع سيده كالشيء الواحد، وإذا كان العبد مع سيده كالشيء الواحد ولم تقطع يد عبده فمن باب أولى ألا تقطع يد السيد نفسه، وهذا دليلهم على إسقاط الحد عن الزوج. وقالوا: هذا قضاء من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا القضاء سنة، ولم ينكر عليه، وهذا أمر تدعو الضرورة إلى انتشاره؛ لأنه كان في خلافة عمر رضي الله عنه، ومع هذا لم ينكره أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وقالوا: إن المرأة لا تقطع إذا سرقت من زوجها لوجود الشبهة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سلط يدها على مال زوجها، وذلك عند وجود الحق لحديث هند في الصحيح أنها قالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح مسيك أفآخذ من ماله؟ قال: خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فهذا يدل على أن المرأة فيها شبهة في تسلطها على مال زوجها. فقالوا: إن كلاً منهما -أي: الزوج والزوجة- يتبسط في مال الآخر ويرتفق به، والغالب أنه لا يفعل هذا على سبيل الاعتداء وعلى سبيل السرقة، وإنما يفعل هذا غالباً لوجود نوع من الانبساط، وقالوا: هذا القضاء يدل على أنه لا قطع على أحد الزوجين إذا سرق مال الآخر. والذين قالوا: لا تقطع الزوجة ويقطع الزوج، احتجوا بحديث هند، قالوا: إنها هي التي تتوسع في مال زوجها، وليس الزوج الذي يتوسع في مالها، فبقي الزوج على الأصل. والحقيقة أن ظاهر قضاء عمر بن الخطاب -خاصة وأننا أمرنا بالعمل بسنة الخلفاء الراشدين- يقوى به الاستثناء. وأما بالنسبة لمسألة الأخذ من غير حرز فلا إشكال في سقوط الحد فيه، وبه يقول جمهور العلماء رحمهم الله، فالمصنف رحمه الله أخذ بهذا القول الذي عمل به الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وله أصل من السنة، وخاصة في حديث هند رضي الله عنها وأرضاها. قال رحمه الله: [ولو كان محرزاً عنه]. قوله: (عنه): أي: عن السارق سواءً كان الزوج أو الزوجة، ولو كان المال في حرز وقوله: [لو]: إشارة إلى خلاف مذهبي؛ لأن من العلماء من فرق بين كون المال المسروق من غير حرز، وبين كونه مسروقاً من حرز، ففرق بين المسألتين.

السارق من مال سيده والعكس

السارق من مال سيده والعكس قال رحمه الله: [وإذا سرق عبد من مال سيده]. العبد إذا سرق من مال سيده له صورتان: - الصورة الأولى: أن يحوجه السيد ويلجئه إلى السرقة، فمثلاً: يمنع عنه طعامه ويمنع عنه شرابه، فيعتدي العبد على مال السيد ويسرق منه، فهذا سبب يعتبره العلماء موجباً لسقوط الحد، وأُثر عن عمر بن الخطاب رضي الله: أن غلماناً -أي: عبيداً- كانوا لـ حاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة ونحروها ثم أكلوها، فرفعهم حاطب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأراد منه أن يقطع أيديهم بالسرقة، ثم سأل عمر رضي الله عنه فوجد أن حاطباً رضي الله عنه كان مقصراً معهم في الإطعام، فقال: (أراك قد أحوجتهم بالسرقة) وأسقط القطع عنهم. ومن هنا منع القطع في زمان المجاعة؛ لأنه إذا حصل الجوع والضيق بالناس، واضطر السارق للسرقة أو أن امرأة -مثلاً- ترملت وما عندها أحد يعول عليها ثم التجأت للسرقة وهي مضطرة إلى ذلك، فهذه الأحوال تستثنى، وهكذا مسألة العبد مع سيده: إذا كان السيد ظالماً للعبد لا ينفق عليه ولا يطعمه، وحبسه ومنعه حقه، فسرق العبد من مال سيده، فلا إشكال في سقوط الحد عنه. - الصورة الثانية: أن يكون أخذه على غير وجه ضرورة، فالأصل في هذه المسألة يدل على أن العبد من مال السيد، ولذلك جاء في أثر ابن مسعود رضي الله عنه لما رفع إليه سرقة العبد من مال سيده قال: (مالكم سرق بعضه بعضاً)، فالمملوك إذا سرق من مال سيده يحكم بكونه من المال ويسقط الحد، وهذا فيه قضاء الصحابة رضوان الله عليهم، وقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقضاء عبد الله بن مسعود، ولا يعرف لهم مخالف، ولهذا اعتد بسقوط الحد إذا سرق العبد من مال سيده، خاصة وأن العبد له حق في هذا المال. وأما سرقة السيد من مال عبده، فمن المعلوم أن السيد يملك العبد وما ملك، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع) فهذا يدل على أن العبد ليس له يد على ماله، وأن للسيد ماله، ومن هنا سقط الحد لوجود الشبهة. وهذه الصور التي ذكرها رحمه الله تسمى صور الشبهة في الملك، فالأولى -وهي صورة الوالدين- شبهة البعضية، والعبد في مال سيده شبهة الملك، وسيذكر لها صوراً أيضاً في صورة السيد مع عبده، والعبد مع سيده شبهة الملك، والشريك مع شريكه، والفقير من بيت مال المسلمين، فكل هذه من صور شبهة الملك. قال رحمه الله: [أو سيد من مال مكاتبه]: هذا على القول بأن المكاتب عبد حتى يؤدي أنجم الكتابة، وهذا هو الأصل أنه إذا عجز عن أنجم الكتابة رجع عليه الرق.

السارق المسلم الحر من بيت مال المسلمين أو من غنيمة لم تخمس

السارق المسلم الحر من بيت مال المسلمين أو من غنيمة لم تخمس قال رحمه الله: [أو مسلم حر من بيت المال]. أو سرق مسلم حر من بيت مال المسلمين، هذه المسألة ضابطها: أن يكون هناك شبهة للسارق في المال الذي سرق منه، بمعنى أن له حقاً فيه، ولكنه حق مبهم غير معين، فالمسلم له حق في بيت مال المسلمين كما قال عمر رضي الله عنه وغيره: (إنه ما من أحد إلا وله حق في بيت مال المسلمين)، وهذا أصل، لكن هذا الحق ليس معناه التسلط على أموال بيت المال وسرقتها أو أخذها، وهذا لا يمنع تعزيره، ولا يمنع عقوبته، لكن الحدود تدرأ بالشبهات، فإذا سرق من بيت مال المسلمين سقط عنه الحد؛ لأن له حقاً في بيت مال المسلمين. وقوله: (أو مسلم) اشترط أن يكون مسلماً؛ لأن الكافر ليس له حق في بيت مال المسلمين، وقوله: (حر) لأن العبد مملوك لسيده. قال رحمه الله: [أو من غنيمة لم تخمس]. أو سرق من غنيمة لم تخمس، تقدم معنا أحكام الغنائم وتخميسها، وما هو المراد بذلك، فإذا غنمت الغنيمة فقبل قسمتها يختلط حق الغزاة مع حق بيت مال المسلمين، فالغنيمة يكون فيها حق للغزاة الذين هم الأصل في حصول الغنيمة، وبيت مال المسلمين له حق، ولذلك ذكرنا كيفية تقسيم الغنيمة، وبينّا الأدلة الشرعية في ثبوت حق لبيت مال المسلمين في خمس الغنيمة. فالخمس يخرج من الغنيمة، والأربعة الأخماس تقسم بين الغانمين: للفارس سهمان، وللراجل سهم، على الأصل الذي بيناه، فإذا كانت الغنيمة لم تخمس، فإنه في هذه الحالة إذا سرق غير الغزاة منها فله حق باستحقاق بيت مال المسلمين إذا كان مسلماً حراً. لكن لو أنها خمست، وأخرج منها خمس بيت المال، فهذه الأربعة الأخماس إذا سرق السارق منها نظرنا فيه: فإن كان من الغزاة، فهذا غلول -نسأل الله السلامة والعافية-، وفيه الوعيد الشديد، ولكن له شبهة؛ لأنه من الغزاة، وله حظ في الأربعة الأخماس، وأما إذا كان من غير الغزاة فتقطع يده؛ لأنها إذا خمست وفصل حق الغزاة عن حق بيت المال وسرق من حق الغزاة؛ فقد سرق من غير ملكه، وحينئذٍ يثبت الحد، ولا شبهة له؛ لأنه ليس من الغزاة، وليس له حق في هذا المال، فيعتبر أشبه بالسرقة من سائر الأموال. لكن لو أنه كان من الغزاة وسرق من الأربعة الأخماس فلا تقطع يده لمكان الشبهة. فلو كان من الغزاة وسرق من الخمس فإن له أصلاً بكونه في بيت مال المسلمين، وله الأصل العام في كون له حق كسائر حقوق المسلمين عموماً في بيت المال.

السارق الفقير من غلة وقف على الفقراء

السارق الفقير من غلة وقف على الفقراء قال رحمه الله: [أو فقير من غلة موقوفة على الفقراء]. سرق فقير من غلة وقف على الفقراء، لو أن غلة وقف تصرف على الأيتام والأرامل والفقراء. فالفقراء -مثلاً- لهم الثلث من الغلة بحكم شرط الواقف، فجاء فقير وسرق منه، فإذا سرق من غلة الفقراء لم تقطع يده؛ لأنه سرق من مال له فيه شبهة؛ لأن له حقاً في هذا المال كالحق العام، وإذا سرق شخص من مال موقوف على طلاب العلم قُطعت يده؛ لأنه سرق من مال لا حق له فيه. هذه الصور كلها مندرجة تحت شبهة الملك.

السارق من مال له في شركة

السارق من مال له في شركة قال رحمه الله: [أو شخص من مال فيه شركة له]. أو سرق شخص من مال فيه شِركة -وشَركة وشُركة-، إذا سرق أحد الشريكين أو الشركاء من مال الشركة، فإنه في هذه الحالة توجد شبهة الملك؛ لأنه ما من جزء من هذا المال إلا وله فيه سهم ونصيب بحسب حصته من الشركة العامة، وحينئذٍ لا تقطع يده، ولكن لو ميزت حصص الشركاء، فمثلاً ربحوا مليوناً، وقسم هذا المليون بينهم أرباعاً كل واحد له ربع، وميز نصيب كل واحد، وقبضه وحازه، ثم تسلط أحدهم على نصيب شريكه قطع. إذاً: الشرط أن يكون المال لم يقسم، وأن يكون المال على صورة الشركة، وسواءً وقعت السرقة في أصل المال أو وقعت في الربح؛ لأنه يملك في أصل المال ويملك في ربحه. قال رحمه الله: [أو لأحد ممن لا يقطع بالسرقة منه]. صورة المسألة: أن يكون ولده شريكاً، فسرق الأب من شركة ولده، فمثلاً: ابنه شريك لثلاثة أجانب ليسوا بقرابة، فجاء الأب وسرق من شركة ابنه، فإن الأب مع ابنه كالشيء الواحد، فكما أننا فلا نقطع يد الابن لا نقطع يد الأب، والعكس، فلو كان الأب هو الشريك وجاء الابن وسرق من مالٍ لأبيه فيه شركة؛ لم تقطع يده؛ لأننا أثبتنا في السنة أن الابن مع أبيه والبنت مع أبيها وأمها والابن مع أبيه وأمه كالشيء الواحد. قال رحمه الله: [لم يقطع]. أي: لم يقطع في جميع هذه الصور لوجود الشبهة.

ما تثبت به السرقة

ما تثبت به السرقة

شهادة عدلين

شهادة عدلين قال رحمه الله: [ولا يقطع إلا بشهادة عدلين]. هذا الشرط معتبر لثبوت حد السرقة، فالسرقة جريمة من الجرائم لا يثبت فيها القطع إلا ببينة ودليل، والدليل ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: شهادة الإنسان على نفسه، وهو حجة الإقرار، فيقر ويعترف أنه سرق، ولذلك جاء السارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقر واعترف، فقطع النبي صلى الله عليه وسلم يده. القسم الثاني: أن يشهد الشهود على أنه سرق، فإذا ثبتت هذه الشهادة بالصفة المعتبرة في القضاء الإسلامي حكمنا بقطع اليد. إذاً: هناك دليلان: الأول: البينة، وهي: الشهود. الثاني: الإقرار، وهو: شهادة الإنسان على نفسه بالجرم. ويشترط في الشهود أن يكونوا عدولاً ذكوراً بالغين عاقلين، سالمين من التهمة، ولا تقبل شهادة الصبيان، ولا تقبل شهادة المجانين، ولا تقبل شهادة خفيف الضبط وكثير النسيان وكثير الوهم؛ لأن الله يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، ومثل هذا لا ترضى شهادته. ولا تقبل الشهادة من ذي خصومة، فلو أن عدواً شهد على عدوه أنه سرق لا نقطع يده، فمثلاً: وقعت خصومة بين أشخاص، ثم فوجئنا بهؤلاء الأشخاص الذين هم طرف في الخصومة والعداوة جاءوا شهوداً على أعدائهم أو على شخص من أعدائهم أنه سرق؛ فلا تقطع يده لأنهم متهمون في هذه الشهادة. ومن هنا ثبت الحديث عند الحاكم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين)، والظنين: هو المتهم. قال تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24] في قراءة: ظنين أي: بمتهم، فإذا كان الذي شهد على خصمه عدماً لم نقبل شهادته. كذلك يشترط في الشهود: أن يبينوا شهادتهم على وجه تنتفي به الريبة، فيبينوا المال المسروق، ويبينوا أن السرقة وقعت من حرز، ويبينوا الشخص المسروق، ويقولون: هذا. ويشيرون إليه في مجلس القضاء أو يذكرونه باسمه ويرفعون نسبه على وجه يتميز به عن غيره، واشترط بعض العلماء أن يبينوا أنهم رءوه يسرق من مال فلان، فيحددونه ويبينونه. كذلك أيضاً يشترط في الشهود: توافق شهادتهم، فلا يكون هناك اختلاف في الشهادة، فلو شهد شخص أنه سرق بالليل، والآخر شهد أنه سرق بالنهار؛ لم تقطع يده حتى تكمل شهادة الليل أو شهادة النهار؛ لأن سرقة الليل غير سرقة النهار. أو شهد أحدهما أنه سرق ذهباً والآخر شهد أنه سرق فضة؛ لم تقطع يده؛ لأن سرقة الذهب غير سرقة الفضة، ما لم يكن المسروق ذهباً وفضة، أو شهد أحدهم أنه سرق إبلاً والثاني قال: سرق غنماً، هذه شهادة وهذه شهادة، هذه سرقة وهذه سرقة، فلابد من اتحاد مضمون الشهادتين وألا تتناقض الشهادتان، حتى يكون بينهما اتفاق على وجه تستطيع أن تعتبرهما بينة واحدة. ولذلك قالوا: لو قال أحدهما: سرق ثوباً من نوع كذا. وقال الآخر: بل سرقه من نوع كذا. أي: نوع غير النوع الأول، لم تقبل شهادتهما، وهذا مذهب الجمهور خلافاً للإمام أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه قال: ربما يخطئ الشاهد في هذا ويغتفر. ويشترط في الشهود: العدد، فتقبل شهادة الاثنين، وأقل من الاثنين لا تقبل في السرقة، فإذا شهد واحد وحلف المدعي للحق أن فلاناً سرق منه؛ ثبت المال ولم يثبت القطع، بمعنى: لو قال الشاهد: فلان سرق من فلان عشرة آلاف ريال، وليس هناك شاهد آخر، فالقاضي يقول للمدعي: احلف يميناً، فإذا حلف اليمين ثبت المال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الشاهد مع اليمين في الأموال، فنوجب على الشخص المشهود عليه أن يضمن العشرة آلاف، لكن لا نقطع يده؛ لأنه لم تكمل بينة القطع. كذلك يشترط في الشهود: الذكورة، فلا تقبل شهادة النساء، فالشريعة لم تقبل شهادة النساء في الجنايات لما في النساء من ضعف في خلقتهن، ولذلك المرأة لو وقفت أمام جريمة لا تتحمل، ولذلك تجدها تصرخ وتغمض عينيها وتنفعل، وهذا الانفعال يخرجها عن التركيز، والإنسان لا يستطيع أن يغير في خلقة الله عز وجل، ولا أن يحمل المخلوق الضعيف مالا يتحمل، فهذه خلقة الله عز وجل، ومن هنا فشهادتهن قاصرة في الحدود كالسرقة والقتل وفي الجنايات على الأطراف والأعضاء، وهذه الأمور تحتاج إلى قوة من الشاهد حتى يستطيع أن يستبين، ويحتاج إلى نفس صابرة أثناء الجناية، فتستطيع أن تصبر حتى تستوعب الجريمة كاملة، وتستطيع أن تدلي بشهادة بينة واضحة، ومن هنا اشترط فيهم الذكورة والعدد والعدالة، فلا تقبل شهادة الفساق؛ لأن الله عز وجل قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، فأمرنا بالتبين من خبر الفاسق؛ فدل على أن الفاسق لا يقبل مباشرة، وهذا يدل على سقوط شهادة الفاسق، والعدل هو: الذي يجتنب الكبائر، ويتقي في أغلب أحواله الصغائر، قال الناظم: العدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الأغلب الصغائر وذو أنوثة وعدل والحجا وذو قرابة خلاف الشهداء هذه كلها من شروط الشهادة، فيجب توافر هذه الصفات حتى نحكم باعتبار الشهادة على السرقة، ولذلك لا تقبل شهادة الشهود مجملة، فلو قال الشاهد: هذا سرق مالاً. لا نقبل شهادته ما لم يبين، ولا تقبل متناقضة، بل لابد فيها من الاتفاق بين الشاهدين، وإذا اختلف المضمون في بعض الصفات -مثل: اللون- فقال أحدها: سرق ثوباً أبيض، وقال الآخر: سرق ثوباً أصفر؛ فبعض العلماء يتسامح فيه إذا تقاربت الألوان.

إقرار السارق بالسرقة

إقرار السارق بالسرقة قال رحمه الله: [أو بإقرار]. الإقرار حجة، والإجماع منعقد على أنه ليس هناك حجة أقوى من الإقرار؛ لأن الإقرار شهادة الإنسان على نفسه، وليس هناك عاقل يشهد على نفسه بالضرر، بل إنه لا يشهد على نفسه إلا وهو صادق في شهادته، ولذلك يعتبر الإقرار عند بعض العلماء -كما يعبرون- سيد الأدلة؛ لأنه ليس هناك حجة مثل الإقرار، ولذلك اختاره الله عز وجل في أعظم الأمور، وهو الشهادة على وحدانيته، وأخذ العبادة بشهادة الإقرار، فقال سبحانه: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} [آل عمران:81]، فالشاهد من هذا: أن الإقرار هو أقوى الحجج، ولكن لابد وأن يكون المقر عاقلاً؛ فلا يقبل إقرار المجنون ولا السكران على التفصيل في مسألة السكر، وسبقت معنا هذه المسألة، وسنبينها -إن شاء الله- في باب الإقرار، والأصل في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح من حديث بريدة بن الحصين رضي الله عنه وأرضاه- لما أقر عنده ماعز بن مالك بالزنا قال عليه الصلاة والسلام: (أبك جنون؟ فأخبر عليه الصلاة والسلام أنه ليس بمجنون، فقال بعد ذلك عليه الصلاة والسلام: أشربت خمراً؟ فقام رجل فاستنكهه) يعني: شم رائحة فمه، فالصحابي أقر واعترف بالجريمة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (أبك جنون؟) وهذا يدل على أن المجنون لا يقبل إقراره، ثم قال له: (أشربت خمراً؟) وهذا يدل على أن السكران لا يقبل إقراره، فإذا أقر فلابد وأن تتوافر فيه الأهلية للإقرار، ولذلك لا بد من البلوغ والعقل وسلامته من الآفات، وألا يكون متهماً في إقراره، والجمهور على أنه لو أقر بالسرقة لا يقبل إقراره مجملاً، ولذلك يزاد شرط التفصيل في الإقرار، فلابد أن يبيّن المال الذي سرقه، وقدره، حتى نستطيع أن نعرف: هل بلغ النصاب أو لم يبلغ؟ وكذا نوعه حتى نستطيع أن نعرف: هل هذا يوجب القطع أو لا يوجبه؟ فلابد من توافر هذه الشروط حتى يعتد بإقراره، وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل شروط الإقرار العامة.

اختلاف العلماء في تكرار الإقرار

اختلاف العلماء في تكرار الإقرار قال رحمه الله: [مرتين]. اختلف العلماء في السارق إذا أقر: هل يشترط تكراره؟ وقبل هذا؛ اعلم أن الإقرار لا يعتبر حجة إذا كان بإكراه، فلو أكره شخص على الإقرار فإقراره ساقط؛ لأنه لا إقرار مع الإكراه، قال عبد الله بن مسعود ويروى عن غيره من الصحابة: (إن الرجل ليس بأمين على نفسه ولا على ماله أن يقول ما لم يقل إذا ضرب أو أوذي)، فقال: ليس بأمين، والإقرار حجة إذا كان الشخص أميناً. وبالنسبة للإقرار هل يشترط فيه التكرار؟ ذهب بعض العلماء رحمهم الله إلى أن الإقرار لا يكون حجة في السرقة إلا إذا كرره مرتين، فقال: إنه سرق. ويعود مرة ثانية يقول: إنه سرق. ويبيّن ما الذي سرقه ويحدده، لاحتمال أن يظن أن الشيء الذي سرقه يوجب القطع، والواقع أنه لا يوجب القطع؛ لأن الناس تختلف ظنونهم، فلربما سرق مالاً تافهاً وظن أن هذا يوجب القطع، ولربما أخذ مالاً من غير الحرز فظن أنه سارقاً وهو ليس بسارق، فلابد أن يقر، وأن يكون إقراره مرتين بما يثبت به الحد، فإذا كرر الإقرار مرتين ثبت عليه الحد، وهذا مذهب الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، واحتجوا بحديث الحاكم والدارقطني والبيهقي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بسارق فقيل: يا رسول الله! إن هذا سرق. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما أخالك سرقت. فقال: بلى يا رسول الله! فأمر به فقطعت يده)، لما قال له: (ما أخالك سرقت) كأنه يلقنه أن يمتنع من الإقرار. وهذا يسمى عند العلماء -وتكلم عليه الأئمة-: تلقين الخصم، فإذا اتهم بالجريمة يلقن في السرقة ما يدرأ عنه الحد، وفعله بعض الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من الخلفاء الراشدين كـ علي رضي الله عنه وغيره وعمر أيضاً رضي الله عن الجميع، فقالوا: إن هذا يدل على تكرار الإقرار؛ لأنه لما أقر المرة الأولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أخالك سرقت) فرد الإقرار الأول، فرجع الرجل وقال (بلى) يعني: قد سرق، والسؤال معاد في الجواب، فلما قال له: (ما أخالك سرقت) يعني: ما أظنك سرقت، كأنه يلقنه أن يدفع عن نفسه التهمة فقال: (بلى)، فرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثبت عليه الصلاة والسلام عليه الحد. والجمهور يرون أنه لا يشترط تكرار الإقرار، وأن المرة الواحدة تكفي في ثبوت الحد عليه، واحتجوا بحديث صفوان رضي الله عنه وأرضاه، فإن السارق لما سرق رداءه أقر، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم بإقراره ولم يأمره بتكرار الإقرار، فدل على أن الإقرار مرة واحدة يوجب ثبوت الحد، والصحيح إن شاء الله أنه لا يشترط التكرار، ويجاب عن حديث التكرار بأنه في التلقين وليس في الإقرار؛ لأنهم قالوا: يا رسول الله! هذا سرق. ولم يقر الرجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة: (ما أخالك سرقت)، فليس هناك ما يدل على أنه صرح بالسرقة. فالحديث من هذا الوجه يجاب عنه متناً، والسند فيه ضعف، وفيه مجاهيل، والمتن ليس فيه تكرار؛ لأنهم قالوا: (يا رسول الله! إن هذا سرق فقال عليه الصلاة والسلام: ما أخالك سرقت)، فهي دعوى وردها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يقر الرجل، وكان ينتظر منه الجواب فقال: بلى. فصار هذا تلقيناً للخصم، وليس بتكرار للإقرار، وعلى هذا لا يقوى دليل من قال بالتكرار، والصحيح الذي يترجح -والعلم عند الله- أن المرة الواحدة كافية وإن صح الحديث فإنه يحمل على التلقين. قال رحمه الله: [ولا ينزع عن إقرار حتى يُقطع]. يشترط في الإقرار أن يبقى عليه حتى يقطع، وهناك شيء يسميه العلماء إثبات الجريمة، ثم بعدها الحكم، ثم بعدها التنفيذ، ثلاث مراحل: - الإثبات، والحكم، والتنفيذ. وعبء الإثبات يبقى على المدعي، فلابد في السرقة من وجود مدعٍ وهو صاحب المال، وإذا ثبتت السرقة بإقرار الشخص أو بالبينة فحينئذٍ يحكم القاضي بثبوت الجريمة، والقاضي سلطته سلطة تشريعية يثبت بها الجريمة، فيبقى التنفيذ، فإذا جاء التنفيذ الذي هو القطع والعمل بما أمر الله عز وجل به، فالأصل يقتضي المبادرة، فنص الأئمة رحمهم الله على أنه لا يجوز التأخير، وأنه يجب المبادرة بقطعه إحياءً لحق الله عز وجل، وإتماماً لأمره سبحانه وتعالى، والأمر يقتضي الفور؛ لأن الله أمرنا إذا ثبتت السرقة أن نقطع، والأمر يقتضي الفور في هذا. فإذا ثبت هذا؛ فإنه إذا ادعيت عليه السرقة فأقر ثبتت، فوجب على القاضي أن يحكم، فإذا حكم القاضي، فيشترط أن يبقى الرجل على هذا الإقرار إلى التنفيذ، فلو أنه قبل القطع ولو بلحظة رجع عن إقراره، فقال البعيد: كذبت، فأخبر عن نفسه أنه كذب في إقراره، أو قال: ما سرقت. أو كنت أمزح أو نحو ذلك، وقف الحد ومنع من تنفيذه. إذاً: يشترط في إتمام العمل بهذه البينة أو بهذه الحجة أن يبقى على إقراره حتى ينفذ، هذا قول الجمهور رحمهم الله. وهناك من قال: إن الرجوع لا يؤثر، وأنه لو رجع لم يسقط الحد؛ لأنه تعلق به حق الآدميين، والصحيح: أنه يسقط حد القطع، ولا يسقط الحق المالي، وخذها قاعدة في الإقرارات: إن الرجوع إن كان لحق الله أثر، وإن كان لحق المخلوق لم يؤثر. فلو أن شخصاً أقر أن عليه لفلان عشرة آلاف ريال، ثم قال: لا ليس له عشرة آلاف ريال، لم يقبل رجوعه؛ لأنه حق لمخلوق، وبإقراره ثبت في ذمته العشرة آلاف ريال التي أقر بها، لكن لو أنه قال: إنه زنى، ثم قبل التنفيذ رجع؛ عند ذلك يسقط الحد عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصة ماعز: (هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه)؛ لأنه لما فر عندما أدركته الحجارة كما في الصحيح. وقد تقدم معنا أن من أقر بالزنا وأراد أن يرجع عن إقراره فإن الشرع يرغبه في ذلك، وأنه إذا رجع يحكم باعتبار رجوعه، لكن الحق هنا لله عز وجل. أما في السرقة فقد اجتمع الحقان: حق الله وحق المخلوق، فحق المخلوق أنه يقول: سرق مالي؛ لأن من سرق يجب أمران إذا ثبتت سرقته: نطالب القاضي بإقامة الحد والحكم عليه بالقطع، ونطالب السارق برد وضمان المال المسروق، فهو إذا أقر أنه سرق مالاً فقد أقر أن في ذمته للشخص مالاً، وحينئذٍ نلزمه برد هذا المال الذي أقر به، فإذا رجع عن إقراره فقد رجع عن حق ثابت للمخلوق فلا ينفع الرجوع منه، فيجب عليه ضمان المال المسروق الذي أقر أنه سرقه، ولكن لا ينفذ الحد؛ لأن رجوعه شبهة.

اشتراط أن يطالب المسروق منه بماله

اشتراط أن يطالب المسروق منه بماله قال رحمه الله: [وأن يطالب المسروق منه بماله]. يشترط أن يطالب المسروق منه بماله؛ لأن السرقة فيها حق للمخلوق، ولذلك ما سأل النبي صلى الله عليه وسلم إلا بدعوى من صاحب الحق، وفي رداء صفوان أثبت النبي صلى الله عليه وسلم الحد بدعوى صفوان، وعلى هذا العمل أنه يشترط أن يطالب المسروق منه بماله، فإذا طالب المسروق منه بماله، وثبت أن السارق سرق أو ادعى أنه سرقه وأقر المدعى عليه فقد ثبتت الجناية، ولكن لو أنه طالب ثم رجع عن المطالبة قبل إتمام القضية فإنه يسقط الحد، فإذا رجع قبل الإثبات، وأما إذا ثبت وأقر الرجل فرجع الشخص عن المطالبة ثبت الحد ولو رجع. ولذلك صفوان رضي الله عنه وأرضاه لما سرق السارق رداءه وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يده، وصفوان رضي الله عنه ما كان يظن أن يد الرجل ستقطع، فقال: (يا رسول الله! هو له. -أي الرداء- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به)، فهذا يدل على أنه لو أسقط دعواه بعد الحكم أو قبل التنفيذ لم ينفع، وقبل الإثبات وقبل الحكم ينفع.

قطع يد السارق من مفصل الكف

قطع يد السارق من مفصل الكف قال رحمه الله: [وإذا وجب القطع قطعت يده اليمنى من مفصل الكف وحسمت]. (وجب) بمعنى: ثبت، فإذا وجب القطع وثبت فإننا نحكم بحد الله عز وجل وينفذ هذا الحد ولا يؤخر كما ذكرنا. وقوله: (قطعت يده اليمنى)، الدليل على ذلك قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، وفي قراءة ابن مسعود ((أيمانهما))، ودرج الصحابة رضوان الله عليهم وأئمة السلف والجماهير على قطع اليد اليمين؛ لأنها في الغالب التي يتعاطى بها السرقة، وهي التي فيها القوة، وهي التي فيها الأذية والضرر، فقطعها أبلغ، فتقطع يده اليمنى. وقد بين رحمه الله أنها تقطع من مفصل الكف مع الساعد، فمن طرف تشد اليد كما ذكر العلماء والأئمة رحمهم الله حتى إذا قطعت، وذلك أبلغ في انفصالها وبيانها، فتقطع من مفصل الكف مع الساعد، وهناك قول ضعيف وشاذ: إنها تقطع من المنكب. والصحيح: أنها تقطع من مفصل الكف، وعليه درج أئمة الصحابة رضوان الله عليهم في أقضيتهم، فإنهم قطعوا من مفصل الكف، وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه قدم اليمين وأن القطع يكون لليمين، وظاهر هذا أنها تقطع اليد سواءً كانت صحيحة كاملة أو كانت معيبة أو ناقصة، فلو أنه في يمينه مقطوع الأصابع أو بعضها قطعت يده ولو كانت معيبة على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله، ومن أهل العلم من فرق بين أن تكون أكثر الأصابع مقطوعة أو أقلها، ومن أهل العلم من قال: إنها تقطع من عند الأصابع، وهذا كله ضعيف. والصحيح أنه إذا كانت اليد موجودة قطعت. واختلف في اليد المشلولة هل تقطع أو لا تقطع؟ فمن أهل العلم من منع من القطع، وعلل ذلك بأنه ربما نزف وحصل الضرر وقد يموت؛ لأن اليد المشلولة لا يتحكم في دمها، ومن أهل العلم من توسط كما اختاره الإمام النووي وغيره أنه يرجع إلى قول أهل الخبرة، فإذا كان الأطباء يستطيعون حسمها فإنها تقطع. والأصل: أنها تقطع بالألم، فلا يكون القطع بالتخدير، فلا تخدر يده، والمقصود إيلامه حتى يشعر بجريمته وجنايته. والحسم المراد به: وضعها في الزيت أو الدهن المغلي؛ لأن اليد إذا قُطعت نزف الدم، وإذا نزف الدم هلك الإنسان، فلابد أن الدم يمنع ويحبس، وجاء في الحديث الذي رواه الحاكم والبيهقي والدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه الأمر بحسم اليد إذا قطعت، منعاً من النزيف، والحديث فيه كلام، ولكن العمل عليه عند جمهور العلماء؛ لأنه يعضده مراسيل وموقوفات على الصحابة رضوان الله عليهم، لكن في زماننا -والحمد لله- يوجد طرق لإيقاف الدم وإيقاف النزيف. وهنا مسألة معاصرة، وهي: أنه بإمكان الأطباء أن يعيدوا اليد بعد قطعها، فبعد تطور الطب وسهولة الجراحات الدقيقة بإمكانهم أن يعيدوا اليد بعد قطعها، والعجيب أن بعض المتأخرين أفتى بجواز ذلك! وهذا من أغرب ما يكون، فيقول: وضع التخدير إذا قطعت، ثم إذا قطعت ترد! إذاً: ماذا جرى؟ تقطع يد السارق اليوم وغداً تعود إليه! فأين العبرة؟ وأين الاتعاظ؟ والحدود شرعها الله زواجر وجوابر. (جوابر): للنقص الذي في المكلف حينما عصى الله عز وجل فيجبر الله كسره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فأقمنا عليه حد الله فهو كفارة له)، فأثبت أن الحدود كفارات، فهي جوابر لنقص العبد. (وزواجر): لأن من رأى هذه اليد المقطوعة اتعظ واعتبر وارتدع ولم تسول له نفسه ذلك، فإذا قطعت يده ورجعت لم تعد زاجرة ولا جابرة، فهو في نفسه لم يتألم، فلم يحصل له الألم الذي يعظه ويذكره؛ وأيضاً غيرة لم يره بهذه الحالة التي تزجره وتمنعه عن الوقوع في السرقة، ثم إنها إذا خدرت ولم يشعر بشيء لم يتعظ الناس، ولم يجدوا نوعاً من العبرة التي تردعهم عن حدود الله عز وجل ومحارمه، فالأصل يقتضي أن يقام حد الله عز وجل على الصفة الواردة. قال رحمه الله: [ومن سرق شيئاً من غير حرز ثمراً كان أو كثراً أو غيرهما أضعفت عليه القيمة ولا قطع]. هذه مسألة التعزير بالمال، من سرق ما هو أقل من النصاب، أو من غير حرز، يعني: أخذ، وهو قال هنا: (سرق) تجوزاً؛ لأن السرقة لا تثبت إلا إذا كانت من حرز، فقوله: (من سرق) بمعنى: من أخذ، فمن أخذ مالاً دون النصاب، أو أخذ مالاً يبلغ النصاب ولكنه من غير حرز، بمعنى: أنه ما توافرت فيه شروط السرقة، فعند ذلك يعزر، وهذا ثبتت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تضعف عليه القيمة، ويغرم قيمة الذي سرقه مرتين، ويعزر بما يليق به ويمنعه من العودة للجريمة، قال صلى الله عليه وسلم: (أضعفت عليه الغرامة وعليه العقوبة) , فأمر بأمرين في تعزيره: الأمر الأول: مضاعفة قيمة المال المسروق. الأمر الثاني: عقوبة السارق بالتعزير، فيعاقب بما يناسبه، إما بسجنه أو جلده أو توبيخه، على الأصل الذي ذكرناه في باب التعزير، فمن الناس من يعاقب بالقول ويكفيه، ومنهم من يعاقب بالضرب الذي يردعه، ومنهم من يعاقب بالسجن الذي يردعه، فكل على حسب حاله.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الخادم أو الخادمة إذا سرقا

حكم الخادم أو الخادمة إذا سرقا Q إذا سرق خادم أو سرقت خادمة من أصحابها، فهل حكمه كحكم العبد أو الأمة؟ أثابكم الله. A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالخادم والخادمة ليسا بمملوكين، ولذلك لا ينطبق عليهما ما ذكره العلماء في المملوك، وهذا يسمى عند العلماء بسرقة الأجير من مال مستأجره، فإذا تحققت شروط السرقة فتقطع يد الخادم، وتقطع يد الخادمة، على الأصل الشرعي؛ لأنهما داخلان في عموم النص الآمر بقطع يد السارق، والله تعالى أعلم.

حكم من سرق للمرة الثانية

حكم من سرق للمرة الثانية Q إذا سرق السارق مرة أخرى بعد قطع يده فما الحكم؟ A اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، والوارد في قضاء الصحابة أن تقطع رجله اليسرى، فتقطع يده اليمنى أولاً في السرقة الأولى، ثم تقطع رجله اليسرى؛ لأنه حد شرعي، ولذلك في الحرابة أمر الله عز وجل بقطع اليد والرجل من خلاف؛ لأنه إذا قطعت اليدان تعطلت المصالح، وهذا من حكمة الشريعة، وإذا قطعت يد ورجل بقيت له مصالح؛ ولأنه يحتاج أن يرتفق ويمشي. وكان علي رضي الله عنه يقول: (كيف يغتسل؟ كيف يتوضأ؟ كيف يقضي حاجته؟ كيف يصلي؟) فلما كرر السارق السرقة احتار في أمره رضي الله عنه وأرضاه. ومن أهل العلم من قال: تقطع يده الثانية، والأقوى أنها تقطع رجله، وهو قضاء الصحابة رضوان الله عليهم، فتقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، وإن تعذر قطع اليمين وقطعت اليسار في الأولى قطعت رجله اليمنى في الثانية، والله تعالى أعلم.

دفن اليد أو الرجل المقطوعة

دفن اليد أو الرجل المقطوعة Q يقول السائل: اليد التي قطعت في حد من حدود الله ماذا يفعل بها؟ هل تغسل وتكفن أم تدفن مباشرة؟ A الجزء لا يأخذ حكم الكل، وهناك مسائل يأخذ الجزء فيها حكم الكل، مثل أن يقول لزوجته: يدك طالق، رجلك طالق، يدك مني عليّ كظهر أمي، ونحو ذلك، فهذا الجزء يأخذ حكم الكل. وهناك مسائل الجزء لا يأخذ فيها حكم الكل، ومنها هذه المسألة، فإنه إذا قطعت يده أو صار عليها حادث فبترت فإنها تدفن. واستدل العلماء على مشروعية الدفن بدليلين: الدليل الأول: دفن الأظافر، وهذا فيه إشكال؛ لأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفن الأظافر هو خوف السحر، وفيه حديث حسنه بعض العلماء رحمهم الله، فالأظافر ربما -والعياذ بالله- تستعمل لأذية الإنسان بالسحر، ولذلك شرع دفنها بعد القص. الدليل الثاني وهو القوي على أنها تدفن قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21] فقوله تعالى: {فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21] يدل على قبر الإنسان بعد موته، والتعبير للكل والمراد به أيضاً الجزء، فلو قطعت يده أو رجله، أو أصاب يده مثلاً تآكل فقطعت يده فإنها تدفن، والله تعالى أعلم.

الفدية بالإطعام لمن لم يستطع صوم رمضان

الفدية بالإطعام لمن لم يستطع صوم رمضان Q والدي رجل كبير ومريض ولا يستطيع الصيام، فهل لي أن أطعم عنه في أول شهر رمضان، وهل أدفعها في مشروع تفطير الصائم أم لابد من الإطعام؟ A إذا كان الشخص مريضاً أو كبيراً في السن فهو بالخيار بين أمرين: - إما أن يخرج عن كل يوم بيومه. - أو يخرج في آخر رمضان. أما الإخراج عن كل يوم بيومه فينتظر إلى أن تغيب الشمس في قول بعض العلماء، وبعض العلماء يقول: من بداية اليوم؛ فبمجرد فطره في الصباح يطعم؛ لأنه حينئذٍ ثبت وجوب الحق عليه، وأما من بداية الشهر فإنه لم يثبت عليه استحقاق؛ لأنه ربما مات، وربما لم يكتمل الشهر، ولذلك لا يجب عليه الإطعام إلا بعد ثبوت الحق، وإذا أطعم قبل تمام المدة أو أطعم في بداية رمضان لم يجزه إلا عن اليوم الذي أطعم فيه، وذلك كما لو أخرج الزكاة قبل بلوغ النصاب، فزكى ولم يملك النصاب، فسبب الوجوب غير موجود، وعلى هذا لابد أن يكون في اليوم نفسه إذا أراد أن يطعم، أو ينتظر إلى نهاية الشهر ويجمع الأيام كلها، وكان أنس بن مالك رضي الله عنه في آخر الشهر يجمع ثلاثين مسكيناً ويطعمهم. وعلى هذا؛ فإنه إن شاء أطعم عن كل يوم بيومه، وهذا هو الأفضل والأحسن والأكمل، فإن هذا يمكنه من الفقراء، ويعينه على الإطعام على الوجه المعتبر. ثم إنه إذا أطعم المسكين في يومه، يدعوه هذا إلى أن يتحرى في المحتاج، بخلاف ما إذا جمع المساكين الثلاثين، فإنه ربما يتساهل في بعضهم، فالأولى أنه يطعم في كل يوم بحسبه.

حكم العمرة في رمضان لأهل مكة

حكم العمرة في رمضان لأهل مكة Q ما حكم العمرة في رمضان لأهل مكة؟ A العمرة في رمضان لأهل مكة وغيرهم سواء، والأصل في ذلك عموم النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ترغيباً في العمرة، وما ورد عن السلف من التشديد في العمرة إنما هو في العمر المطلقة؛ لأن المقصود من العمرة: الطواف بالبيت، وأهل مكة بمكة، فكان عطاء وغيره من السلف الصالح رحمهم الله يستحبون لأهل مكة بدل أن يخرجوا للتنعيم ويكثروا من العمر أن يطوفوا بالبيت؛ لأن المقصود من العمرة: زيارة البيت، فهم في البيت ومن أهل البيت، ومن هنا ضيق عليهم في إنشاء العمر. أما العمر المقصودة الوارد بها النص التي لم يرد فيها استثناء؛ فهي باقية على الأصل، والترغيب فيها وارد، ومن اعتمر في شهر رمضان من أهل مكة وغيرهم كانت عمرة كحجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لامرأة: (ما منعك أن تحجي معي؟ -حينما قفل عليه الصلاة والسلام من حجة الوداع_ قالت: يا رسول الله! ليس لنا إلا ناضح وقد أخذه أبو فلان، فقال صلى الله عليه وسلم -مطيباً لخاطرها وللأمة جمعاء- إذا كان رمضان فاعتمري، فعمرة في رمضان كحجة معي)، فلم يقل: إلا أهل مكة، بل قال: عمرة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولذلك لو قيل بالتخصيص لخصص النساء دون الرجال، ولو قيل بالتخصيص لخصص المعذور دون غير المعذور، ولو قيل بالتخصيص لخصصت المرأة فقط لوحدها، لكن القاعدة: العبرة بعموم اللفظ (عمرة في رمضان كحجة معي)، وما قال لها: اعتمري في رمضان القادم فإن لكي بها حجة عوضاً -مثلاً- عن الحجة، إنما خاطب بخطاب العموم، وهذا العموم ليس فيه تخصيص ولا استثناء، فيبقى على الأصل وهو الأظهر، وهذا مذهب جمهور العلماء: أن العمرة مشروعة لأهل مكة وغيرهم على حد سواء، والله تعالى أعلم.

حكم السعي إلى الصلاة

حكم السعي إلى الصلاة Q أيهما يقدم المسلم حين القدوم إلى الصلاة إذا أراد أن يدرك تكبيرة الإحرام أو الركعة، هل يسرع إسراعاً لا يخل بمقصود الصلاة من الخشوع -كأن يكون سريع المشي عادة- أم أنه يمشي بسكينة ويفوته خير بسكينته؟ A الأصل يقتضي عدم الإسراع عند سماع الإقامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)، إلا أن بعض السلف رحمهم الله خففوا في الإسراع اليسير واحتجوا بحديث قباء (لما خرج عليه الصلاة والسلام إلى قباء ثم سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع في مشيه)، وهذا الإسراع ربما يكون هو مقصود السائل؛ لأنه يوجد إسراع بسعي، ويوجد إسراع جد في السير، وكان صلى الله عليه وسلم من هديه الخلقي أنه إذا مشى مشى مشية الرجل ولم يمش مشية المتماوت. ولذلك قال الراوي: (كأنه يتحدر من صبب)، أي: كأنه نازل من جبل أو نازل من مكان عالٍ، من قوته ورجولته بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فالاشتداد بالمشي الذي لا يذهب السكينة ولا يذهب الوقار معفو عنه، وورد عن طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورخص فيه الأئمة. ولكن الإسراع الذي هو الهرولة والجري فهذا منهي عنه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكرة: (زادك الله حرصاً ولا تعد) أي: لا تعد إلى هذا الإسراع؛ لأنه سمع منه جلبة، وعلى هذا إذا كان الإسراع من الضرب الذي يوءذن به فلا بأس، وإن كان على خلافه فإنه ممنوع منه، والله تعالى أعلم.

تقديم بر الوالدين

تقديم بر الوالدين Q أبي رجل كبير في السن فهل الأفضل الاعتكاف أم بر الوالدين، مع العلم أن هناك أخوة لي يبرونه؟ A الله المستعان! ليس هناك شيء -يعدل بعد توحيد الله عز وجل وإقامة فرائض الله- بر الوالدين، ليس هناك أجمل ولا أكمل ولا أفضل من ساعة تلزم فيها رجل الأم أو رجل الأب تقضي حوائجهما وتنفس كرباتهما بعد توحيد الله عز وجل، وتفرحهما وتحسن إليهما، استجابة لأمر الله عز وجل الذي لم يقله المرة ولا المرتين، وإنما كرره وقرنه بأعظم الحقوق {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36]، وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]. من هذا الذي يستطيع أن يعدل اعتكافه ببر الوالدين؟ برك لأبيك وأمك أعظم، وإدخالك السرور على الوالدين أفضل وأجل، ولو كان ذلك لقضاء حوائجهم الدنيوية، ولو قال لك أبوك: اجلس في الدكان، فتجلس في الدكان وتبره، ويشهد الله بقرارة قلبك أنه لولا الله ثم بر الوالدين للزمت المساجد، وتحفظ دينك وتحافظ على القيام على الوالدين والإحسان إليهما، حتى إن الله تعالى يقول له: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، وعبر بالمصدر ثم اختار أعظم كلمة في العبادة وهي الإحسان، فأحب شيء لله عز وجل أن تعبد الله كأنك تراه، وهذه العبادة وصفها الله بصفة الإحسان (قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه)، وقال الله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، ما خلق الله الخلق إلا ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، فاختار الله هذه الكلمة العظيمة التي اختارها لنفسه في عبادته، واختارها أيضاً للوالدين فقال: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]. تأمل كيف يأمر ربك سبحانه وتعالى ببرك لوالديك وجلوسك معهما وقضاء حوائجها، فلا يمكن أن يعدل بركوع وسجود في اعتكاف؛ لأن بر الوالدين حق واجب، والاعتكاف نافلة؛ ولأن بر الوالدين مفضل بعد الصلاة المفروضة، يقول عبد الله بن مسعود: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها. قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) قال عبد الله رضي الله عنه: (حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني). احرص بارك الله فيك! على البر بوالديك، وخاصة في هذه المواسم الطيبة المباركة؛ مواسم النفحات والرحمات والخيرات، فيبحث الإنسان عن أقرب السبل وأقصرها مما يفضي به إلى جنة الله ورضوانه، ألا وإن من تلك السبل المحببة إلى الله: بر الوالدين. واعلم أنها ساعة سعيدة حينما تفوز برضا الوالدين، وأي ساعة تلك الساعة إذا خرجت ووراءك أب صالح يرفع كفه إلى الله لك بصالح الدعوات! وأي ساعة تلك الساعة حينما تخرج ووراء ظهرك أم جبرت كسرها وأدخلت السرور عليها، وبددت حزنها، وعالجت سقمها ومرضها وداءها، وبردت كبدها وحرها وضمأها، وقمت على حوائجها، فخرجت من عندها وهي راضية عنك، فرضي الله عنك برضاها! أي ساعة تلك الساعة حينما تحس أن والديك راضيان عنك! ولو لم يكن في بر الوالدين شرفاً وفضلاً إلا أن الله قرنه بتوحيده، وأمر به أنبياءه وصفوته من خلقه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لكفى بذلك فضلاً وشرفا، ولكن من هو الموفق؟! ومن هو السعيد؟! يا هذا! لو تعلم ما لك في برك لأبيك خاصة حينما رق عظمه وشاب شعره وخارت قواه، لو علمت ما لك في برك لأمك الحنون التي حملتك وأرضعتك وكابدت من أجلك وعانت ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، لو علمت ماذا تساوي الدقيقة من الأجور والحسنات ورفعة الدرجات، وماذا تساوي من حسن الخاتمة عند الممات، لما تركت طاعتها لحظة. فما رأينا باراً بوالديه إلا فتحت أبواب الخير في وجهه، ولا رأينا باراً بوالديه إلا سعيداً قرير العين، ولا رأينا باراً بوالديه ضاقت عليه الدنيا إلا نفس الله عنه ضيقها، ولا تكالبت عليه الأحزان والأشجان إلا بدد الله عز وجل همها وغمها، ما رأينا البر يعود إلا بالخير والفضل والبركة والإحسان. كل إنسان رزقه الله أباً وأماً فليحس أن هناك أمانة، وأن الله ائتمنه عليهما عند المشيب والكبر، فماذا يغني لك الأحباب والأصحاب والسهر معهم والأنس بهم ووالداك بحاجة إليك؟ أي محروم هذا المحروم الذي يخلف أمه وراء ظهره مريضة سقيمة محتاجة إليه تئن وتحن، ثم يذهب ويحتال حتى يأخذ منها الرضا الملفق المزور، ويعلم الله من قرارة قلبه أنه خان والديه، وأنه قد غشهما، لكي يذهب ويدعي أنه يركع ويسجد وأنه يتقرب إلى الله عز وجل؟! من هذا المحروم الذي يترك والديه وراء ظهره، وهما أحوج ما يكونان إلى علاج أو دواء أو مال أو أي حاجة من الحوائج وهو قادر عليها؟! فاتق الله في والديك، والزمهما واحرص كل الحرص على إدخال السرور عليهما، فهما طريق الجنة، وفي الحديث: قال: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد وتركت أبواي يبكيان. قال: أتريد الجنة؟ قال: نعم. قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما)، ما المراد بأن يضحكهما؟ هل بكلمة أو كلمتين؟ (أضحكهما) يعني: كن في حالة وهيئة وشأن وفي جميع أمورك تضحك بها الوالدين، حتى إن العبد الصالح قد تتكالب عليه هموم الدنيا وغمومها ويؤذى في عمله ووظيفته، ويأتي من عمله ووظيفته مكروباً محزوناً فيدخل على والديه ويكتم حزنه فيضحك معهما، والله يعلم كم في قرارة قلبه من الأشجان والأحزان، وكم من مكروب منكوب إذا دخل على والديه ضحك كأنه في جنة وفي سعادة، وهذا والله! لن يخرج إلا قرير العين برحمة ربه. فليبحث الإنسان عن رضا الوالدين، وليبحث عن كلمة تبدد أحزانهما، وليبحث عن سرور يدخله على الوالدين حتى ولو كان بالحكاية والرواية، فإن المحسن بمجرد أن يجلس عند أمه يبحث عن كلمة أو قصة أو حكاية تدخل السرور عليها التماساً لمرضاة الله ((وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)) [الإسراء:22]. وقف العبد الصالح على والدين عند مشيبهما وكبرهما وكتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم نصب عينيه لا يفتر ولا يتعب ولا ينصب، يجتهد ويجد في رضا الوالدين، هذه هي السعادة، وهذا هو طريقك إلى الجنة. فعليك أن تبدأ بحق الله أولاً من الفرائض التي فرضها عليك، كإقام الصلوات وإيتاء الزكاة والصوم والحج، ثم بعد ذلك تثني ببرك لوالديك، فالتمس رضاهما، وجد واجتهد وشمر عن ساعد الجد في ذلك. وبعض الأحيان الشيطان يدخل على الإنسان مدخلاً غريباً، يكون الوالد تاجراً، فيقول لولده: ابني! أريدك أن تجلس في الدكان. صحيح أن هناك فتناً، ولكن الفتن من تعرض لها فتن، ولكن الإنسان إذا اتقى الله ربط الله على قلبه، فيأتيه الشيطان ويقوله له: الناس في عبادة، يركعون ويسجدون وأنت جالس تبيع وتشتري! أو تأتيه والدته وتقول له: أريد أن أذهب إلى المستشفى. أو تريد أن تدخل السرور على أولادها، أو تريد أن تشتري شيئاً من السوق، فتجد الواحد يدقق ويبحث عن مآخذ، فيقول في نفسه: لا السوق فيه فتن، فيه كذا وكذا، نقول: نعم في السوق فتن، ولكن ابحث عن طريقة تستطيع أن تبر بها والديك، ولا تضيق الأمور، وتجده إذا أراد حاجة لنفسه ذهب إلى السوق في أعز أوقات الفتن، ولم يبالِ! والنفوس مجبولة على أن الشيء الذي للغير تنتقد فيه وتضيق فيه، والشيطان حريص على حرمان الإنسان من الخير. اجعل بر والديك نصب عينيك، واتق الله عز وجل في الطريق التي تبر بها والديك، وسيسهل الله عز وجل لك ذلك؛ لأن الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5 - 7]. فإذا كنت في نيتك وقرارة قلبك حريصاً على برك لوالديك، فتح الله لك أبواب الرحمة، وأدخل السرور على الوالدين بك، إن من عباد الله الأخيار الصلحاء من فاز في رمضان وغير رمضان ببره لوالديه، فلا يعلم أحد مقدار ما فاز به من الدرجات والباقيات الصالحات إلا الله وحده. فبر الوالدين هو الطريق إلى الجنة والرحمة والبركة والتوفيق، وهو الطريق إلى كل خير ورشد. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل لنا ولكم من ذلك أوفر حظ ونصيب. وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن أمشي في حاجة مكروب أو منكوب أو مسلم -يعني: في قضاء حاجة- أحب إلي أن أعتكف في هذا المسجد)، ويروى عن بعض التابعين، ويروى عن بعض السلف رحمهم الله. وهذا من باب تقديم النفع المتعدي على النفع القاصر، ونقول أولاً: بر الوالدين فرض والاعتكاف سنة، وثانياً: إنك إذا بريت الوالدين ونويت الاعتكاف كتب لك الأجران، وثالثاً: إن بر الوالدين نفعه متعدٍ، والصلاة والعبادة نفعها قاصر، والنفع المتعدي مقدم على النفع القاصر، والأمر الرابع: أن الأصل يقتضي في باب المفاضلات أن ينظر إلى حصول الضرر فـ (درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة)، فبعض الإخوان إذا غاب عن والديه تشوشا، وهنا ننصح الأساتذة الفضلاء الذين يحرصون -جزاهم الله خيراً- على أخذ بعض الشباب الصغار إلى المساجد، وبالأخص الحرمين، أن ينتبهوا لهذا، وأنا من وجهة نظري أن بعض الصغار دخولهم الحرمين يضيق على من هو أكبر وأولى بالاعتكاف، وإذا نظر إلى شدة الزحام ودخول هؤلاء الصغار الذي بعضهم قد يعبث، وبعضهم قد لا يشعر بمعنى الاعتكاف، ولا يتأثر به التأثر المحمود، فلو اقتصروا على من يتأثر وعلى من ينتفع لكان أفضل؛ لأن الناس كثرت الآن وليس كما كان في السابق، وتعليم الشباب وتعويدهم على الخير يكون في أزمنة أخرى غير رمضان، ونحن لا نشك أن هذا من باب الخير ومن باب التعاون، لكن الذي نلحظه ونجده، وقد اشتكى لنا كثير من الناس، أنهم قد يأتون بعدد كبير من صغار السن ويدخلونهم إلى الاعتكاف، وهذا يؤثر ويضر في مزاحمة من هو أكثر خشوعاً وأولى بالعبادة ممن هو قاصر. وخروج هؤلاء

باب حد قطاع الطريق [1]

شرح زاد المستقنع - باب حد قطاع الطريق [1] من حدود الله عز وجل في كتابه الكريم حد الحرابة على من تعرض معصوم محترم بسفك دمه أو أخذ ماله أو الاعتداء على عرضه، وهذا الحد قد وضعته الشريعة ردع الشذاذ المحاربين وعصابات السلب والقرصنة، وقد بين الشارع الحكيم الأمور التي تتحقق بها الحرابة، ونحو ذلك.

مشروعية حد الحرابة

مشروعية حد الحرابة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب حد قطّاع الطريق] هذا الباب يشتمل على حد من حدود الله عز وجل، التي ثبتت بدليل الكتاب والسنة، وإجماع العلماء رحمهم الله. ومناسبة هذا الباب للباب الذي قبله أن حد السرقة اعتداء على الأموال، وحد الحرابة وقطع الطريق فيه اعتداء على الأموال والدماء والأنفس والأعراض، واعتداء على أمن الناس، وذلك بتخويف السبل، فإما أن تكون المناسبة لخاص مع خاص، بأن ننظر إلى أن حد السرقة اعتداء على الأموال، وقطع الطريق الغالب فيه طلب المال، فناسب أن يذكر الحد الأكبر بعد الحد الأصغر؛ لأن الحرابة أكبر من السرقة. وإما أن يقال: إن حد الحرابة أشمل، فيصبح حد الحرابة عاماً بعد خاص، والخاص هو السرقة وهي اعتداء على الأموال، وقبلها جريمة الزنا والقذف وغيرها من الاعتداءات، فبعد أن بيّن الحدود الخاصة بالأموال بالسرقة، والجناية على العقل كحد شارب الخمر، والجناية على الأعراض من القذف وحد الزنا، شرع في بيان الحد الذي يجمع أكثر من حد وعقوبة، وهو: حد قطع الطريق أو ما يسمى: حد الحرابة. وكلتا المناسبتين صحيحة، ولا شك أن من دقة المصنف رحمه الله أن يذكر حد الحرابة بعد الحدود الخاصة، ومن دقته أن يراعي المناسبة بين حد السرقة في الجناية على الأموال وحد قطع الطريق. وقد اختلفت عبارات العلماء رحمهم الله في هذا الباب، فمنهم من يقول: باب حد قطع الطريق أو قطاع الطريق، ومنهم من يقول: باب الحرابة.

مناسبة باب الحرابة لما قبله

مناسبة باب الحرابة لما قبله

تعريف حد الحرابة

تعريف حد الحرابة والحرابة: مأخوذة من الحرب، وهي ضد السلم، ومن عبر بالحرابة راعى نص الكتاب وتأدب مع الكتاب؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة:33] فوصفهم بكونهم محاربين؛ ولأن هذه الجريمة لا يمكن أن تكون إلا وفيها صفة المحاربة لجماعة المسلمين وأفرادهم والخروج عليهم بما فيه خوف وضرر وأذية، وليس المراد به خروج البغاة. وأيضاً لا تكون جريمة إلا إذا اشتملت على صورة مخصوصة، وهذا ما سنذكره إن شاء الله من الشروط المعتبرة لكي نحكم بأنها جريمة حرابة. فالذين عبروا بالحرابة راعوا لفظ القرآن، والذين عبروا بقطع الطريق راعوا أيضاً وصف نبي الله لوط عليه السلام لقومه، قال: {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} [العنكبوت:29] فكلا التعبيرين صحيح، ولكن التعبير بالحرابة فيه نوع من العموم، وذلك إذا قلنا: إن الحرابة لا تختص بالصحراء فقط، بل تقع الحرابة داخل المدن في الجرائم والعصابات المنظمة، أو حتى الاعتداء الفردي المسلح الذي يكون جهاراً وتخويفاً للناس علانية. والصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله: أن الحرابة لا تختص بالصحراء، ولا تختص بالبحر كما في قرصنة البحار، ولكن يمكن أن تكون داخل المدن، وهذا يترتب عليه مسائل؛ لأن عقوبة الحرابة عقوبة قوية، حتى ولو سامح أهل الحقوق فإنها لا تسقط، وينفذ الإمام والسلطان الحكم وينزل العقوبة ولو سامح أهل الحقوق، وحينئذٍ فأي شيء تعطيه حق الحرابة فهو أمر عظيم، وليس من السهولة بمكان الحكم على أي جريمة أو جماعة أو أفراد بأنهم محاربون لله ورسوله. ومن هنا وضع العلماء الضوابط، فالتعبير بالحرابة فيه شمولية وعموم أكثر من التعبير بقطع الطريق؛ لأن التعبير بقطع الطريق يشعر بأن الحد متعلق بالاعتداء في الصحراء دون المصر ودون المدن، وهذا مذهب بعض العلماء رحمهم الله على تفصيل عندهم في ضابط المدن؟ ومتى تكون الجناية داخل المدن؟ منهم من يفصل في هذا ومنهم من يطلق. والشاهد عندنا: أن من عبر بالحرابة يمتاز بأمرين: الميزة الأولى: مراعاة لفظ القرآن. والميزة الثانية: أنه أشمل وأعم، إذ لا يشعر باختصاص العقوبة والحد بالجناية في الصحراء دون البنيان.

تعريف مصطلح قطاع الطريق

تعريف مصطلح قطاع الطريق قوله: (حد) تقدم معنا تعريف الحد لغة واصطلاحاً، وأن هذا المصطلح يطلق على العقوبات المقدرة شرعاً. ومن هنا لما كانت الحرابة مقدرة من الله عز وجل وجعل فيها القتل عقوبة، ومع القتل الصلب للمقتول الجاني، وجعل فيها قطع اليد والرجل من خلاف، وجعل فيها النفي من الأرض، وكلها عقوبات حددها الشرع وعينها وقصدها، ومن هنا وصفت بكونها حداً. وقوله: (قطاع) جمع قاطع، وأصل القطع ضد الوصل، قالوا: إن الناس يسافرون ويخرجون في السفر قاصدين المدن، وقاصدين أماكن مخصوصة، فإذا حصلت الحرابة قطع المحارب عليهم سفرهم وطريقهم، فوصفت بكونها قطعاً للطريق وقطعاً للسبيل. وقوله: (الطرق) جمع طريق، وسمي بذلك؛ لأن الناس يطرقونه بالنعال، أو يسمع فيه طرق النعال من الإنسان إذا سلكه، والطريق والسبيل معناهما واحد، وقيل: السبيل للمعنويات، والطريق للمحسوسات، وإن كان قد جاء في القرآن: {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} [العنكبوت:29] وهذا يدل على أنه يطلق على المحسوسات كما يطلق على المعنويات. قال تعالى في إطلاق السبيل على المعنويات: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الإنسان:3] أي: ألهمناه سبيل الخير والشر، وهذا من إطلاق السبيل إطلاقاً معنوياً. وقوله رحمه الله: [باب حد قطّاع الطريق] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بحد قطع الطريق، وما جعله الله من العقوبة لهذه الجريمة.

أدلة القرآن على عقوبة الحرابة

أدلة القرآن على عقوبة الحرابة الأصل في ذلك كتاب الله عز وجل، فإن الله سبحانه وتعالى أنزل آيتي المائدة، وهما قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:33 - 34]، وهاتان الآيتان نزلتا في إثبات عقوبة الحرابة، وإسقاطها، فالآية الأولى: إثبات لعقوبة المحاربين وقطاع الطرق، والآية الثانية: في إسقاط الحد عنهم، وذلك بتوبتهم قبل القدرة عليهم، فبيّن الله سبحانه وتعالى شرعية هذا الحد. وسيأتي إن شاء الله في معنى قوله تعالى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33] هل (أو) هنا للتخيير، وأن الأمر راجع للإمام والوالي ينظر الأصلح؟ أم أن (أو) هنا للتنويع على حسب الجرائم التي تقع من هؤلاء الذين اعتدوا على سبل المسلمين فقطعوها وأخافوها، ومنعوا الناس من مصالحهم، وأرعبوا الناس وأدخلوا الخوف عليهم؟ فهل هي عقوبة تختلف باختلاف جرائمهم فيكون القتل لمن قتل، والصلب لمن قتل وسرق؟ على تفصيل سيأتي إن شاء الله في موضعه.

أدلة السنة على عقوبة الحرابة

أدلة السنة على عقوبة الحرابة أما دليل السنة فإنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: (أن أناساً من عرينة قدموا المدينة، فاجتووها) أي: أصابهم الجوى، والجوى: نوع من الأمراض يأتي الإنسان عند اختلاف الطعام عليه، واختلاف المكان والبيئة (فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم، فأمرهم أن يلحقوا بإبل الصدقة، فخرجوا إلى إبل الصدقة، فلما صحوا ووجدوا العافية قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل، فجاء الصارخ في أمرهم إلى المدينة، فما غابت الشمس حتى أتي بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهم، فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وسملت أعينهم) أي: أمر بالمسامير فأحميت بالنار، ثم سملت بها أعينهم. قيل: إنهم سملوا عين الراعي فسمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم، وهذا هو الصحيح، والرواية في هذا صحيحة: (ثم تركوا في الحرّة) وهي من حرار المدينة، والمدينة لها حرتان، والظاهر أنها حرة الوبرة، وهي الأقرب إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأقرب في تنفيذ الحد فيها (يستسقون فلا يسقون حتى هلَكوا)، قال الراوي عن أنس رضي الله عنه: (قد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفمه من شدة العطش). هذه هي الشريعة التي وضعت الحزم في موضعه، والرفق في موضعه، والرحمة في موضعها، وحينئذٍ أعطت الناس حقوقهم، فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تثبت حد الحرابة كما أثبتها القرآن. واختلف العلماء رحمهم الله: هل نزول آية المائدة سببه هذه القصة؟ - من أهل العلم رحمهم الله من قال: إن سبب نزول هذه الآية قصة العرنيين، وحينئذٍ تكون نازلة في قوم مخصوصين، وينظر إلى عموم لفظها؛ لأن اللفظ عام: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ} [المائدة:33] وهذا فيه عموم. وبناءً على ذلك تكون نازلة في المسلمين. وقيل: إنهم ارتدوا، وهذا أحد الأوجه، فتصبح نازلة في أهل الردة وهو الوجه الثاني لسبب نزول الآية. وقيل: إنهم كانوا على الإسلام ولكنهم بطروا النعمة، وكفروا نعمة الله عز وجل عليهم، وقابلوا المعروف بالإساءة، فتكون حينئذٍ مشروعة في المسلمين. ومن أهل العلم رحمهم الله من قال: إن الآية لم تنزل في العرنيين، وإنما نزلت بعد العرنيين، وهذا يترتب عليه أمر، وهو أنا إذا قلنا: سمل العينين والتمثيل بهم لم يكن بسبب أنهم فعلوا ذلك بالراعي، فحينئذٍ تكون نسخاً للمثلة ويكون لها حكم خاص، وهذا القول يختاره جمهور العلماء، والقول بأنها نزلت في العرنيين قال به أنس بن مالك وقتادة بن دعامة السدوسي الإمام المشهور، ومذهب الجمهور على أن الآية عامة، وأن الله سبحانه وتعالى أنزلها للمسلمين تشريعاً لهذا الحد.

دليل الإجماع على عقوبة الحرابة

دليل الإجماع على عقوبة الحرابة أجمع المسلمون على اعتبار عقوبة الحرابة، وإن كانوا قد اختلفوا فيمن يمكن أن نصفه بكونه محارباً قاطعاً للسبيل؟ ومن الذي لا يمكن وصفه بذلك؟ على تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى بيان ما تيسر منه.

مسائل في حد الحرابة

مسائل في حد الحرابة إذاً: فقوله رحمه الله: (باب حد قطّاع الطريق) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بعقوبة قاطع الطريق.

صور وقوع جريمة الحرابة

صور وقوع جريمة الحرابة قال رحمه الله تعالى: [وهم الذين يعرضون للناس بالسلاح في الصحراء أو البنيان، فيغصبونهم المال مجاهرة لا سرقة]. ذكر المصنف رحمه الله شرطين هامين لا بد من توفرهما لكي نحكم بجريمة الحرابة: الشرط الأول: التعرض للناس بالسلاح، وحينئذٍ يصدق عليهم أنهم حاربوا الله ورسوله. الشرط الثاني: أن يكون هذا الفعل منهم جهرة لا سراً وخفية. فلا بد من وجود هذين الشرطين، فإذا تحقق هذان الشرطان لم يلتفت إلى كون جريمتهم داخل المدن أو خارجها، ولم يلتفت لكون الجريمة صادرة من جماعات أو أفراد، وعلى هذا فتشمل الحرابة جرائم الجماعة وجرائم الأفراد، وفي جرائم الجماعات تشمل العصابات وتشمل الاتفاق من الجماعة دون وجود تعصب. وتوضيح ذلك: أن الحرابة يمكن أن تكون بالجماعة، إذا نظمت ورتبت وخططت للاعتداء على مال أو نفس أو عرض مسلم، أو على ذي حرمة كالذمي، فإنهم إذا خططوا لذلك فهي جريمة منظمة، وبالتالي فإنه يدخل فيها من لا يدخل في فعل الأفراد، فيدخل في الجريمة المنظمة: المخطط والمنفذ والمدبر. فلو أن جماعة اجتمعوا وخططوا للهجوم على جماعة من المسلمين، أو على متاجر، أو على أسواق، أو على محلات، أو على دور فيها أعراض، وحرمات بقصد قتل من فيها أو قصد ضربه وأذيته أو قصد الاعتداء على الأعراض كما في المجموعات إذا صارت بتنظيم وتخطيط لأماكن تجمع النساء من أجل فعل الفاحشة والاعتداء على الحرمة من النساء. كل هذا يستوي فيه من يمثل ومن يخطط، فلا يختص الحكم في الجماعات المنظمة بمن ينفذ، بل إن الذي يدبر ويخطط قد يكون أشد جرماً وأعظم بلاءً من الذي ينفذ، حتى إن الجريمة لربما لم تقع ولن تقع إلا إذا وجد من يعرف بعض الأسرار وبعض والوسائل والطرق التي يمكن أن يتوصل بها المجرم إلى جريمته. ومن هنا ففي عصرنا الحاضر لو اجتمعت عصابة للهجوم على محل أو مركز تجاري داخل المدن أو الاستراحات كما في المحطات والصحاري، واحتيج مثلاً إلى فك رموز لأجهزة الكترونية أو أجهزة معقدة، فجاء إنسان عنده خبرة ومعرفة وخطط لذلك وأعانهم عليه، فهو شريك لهم ومحارب، وهم في الفعل هم الذين ينفذون. ففي الواقع لا يستطيعون أن يصلوا إلى هذه الحرمة من الدماء والأموال والأعراض لولا هذا التدبير. كذلك لو خان الخائن فتدخل في الجرائم المنظمة خيانة الخائن، مثل أن يكون قائداً لنساء وهن من حرمات المسلمين يؤتمن عليهن، كأن يوصلهن إلى مكان خارج المدن، فيتفق مع هذه العصابة أو مع هذه المجموعة، فهذه الجريمة منظمة مرتبة. ومذهب طائفة من العلماء أن هذه الجرائم للجماعات المنظمة يستوي فيها المدبر والفاعل الممثل، فكلهم سواء، ويستوي أيضاً فيها العاقر مثل من يحمل السلاح، ومن ينفذ الجريمة بالفعل، فإذا هجم هؤلاء بسلاحهم على محل، فحمل أحدهم السلاح حتى لا يتحرك أحد، وقام الآخر بفتح الخزانة أو قام الآخر بالزنا والعياذ بالله، أو قام الآخر بربط المجني عليه أو نحو ذلك من الأذية، فحامل السلاح لم يفعل فعل الجريمة، ولم يفعل الجريمة من القتل أو السرقة، ولكنه يعتبر في حكم الفاعل. وأيضاً يدخل في هذه الجماعات: العصابات المنظمة بالردء، وهو ما اختلف فيه العلماء، والجمهور على أن الردء والحماية للعصابات المنظمة حكمها حكم الجريمة نفسها، فلو كانت العصابة تتكون من مجموعتين: مجموعة تحرس وتكون قبل الجريمة، أو أثناء الجريمة، ردءاً وحفظاً لمن يفعل الجريمة، فالصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله أنهم يدخلون في ذلك، وأنهم محاربون. كذلك تكون من الجماعات غير المنظمة وهو ما يسمى بالاتفاق، وكثيراً ما يقع في أهل الشر، لو أن شخصاً خرج مع عائلته بسيارة مسافراً، ونزل في موضع في الصحراء فيه مجموعة من الأشرار، أو نزل في محطة واتفق نزوله مع وجود مجموعة من الأشرار، فجاء أحدهم فوقف أمام هذا الرجل، يريد أن يعتدي على عرضه، وجاء البقية من أصحابه الأشرار ووقفوا معه، وهجموا على هذا الرجل واعتدوا على عرضه أو دمه أو ماله، فهذه جريمة غير منظمة ولا مرتبة، لكنها في حكم الجناية الواحدة، يستوي أن يجتمعوا بتدبير وتخطيط وترتيب للهجوم وترتيب للفرار وتغطية للجريمة بعد فعلها، وبين أن يقوموا بذلك الفعل اتفاقاً، كأن يتفق رأيهم على الشر، سواء كانوا مع بعض أو كانوا متجانسين، مرّوا على هؤلاء ووجدوهم يضربون الرجل أو يعتدون على عرضه، فنزلوا وفعلوا معهم فعلتهم فهم سواء، وحكمهم حكم المحاربين سواء. هذا بالنسبة للجماعات، ويدخل فيها العصابات المنظمة كما هو موجود في الأزمنة والعصور على اختلافها، وتدخل فيها الجماعات غير المنظمة التي تحصل اتفاقاً بالتواطؤ على الشر ومحبة الشر والتشوف للشر، من أذية الناس وانتقاص حرمات المسلمين والاستخفاف وعدم المبالاة بها. كذلك أيضاً: كما تقع الحرابة من الجماعة تقع من الفرد، فلو أن رجلاً أشهر سلاحه على رجل مسافر وقال له: أعطني مالك، أو أشهر سلاحه وأخذ ما في جيبه، أو أشهر سلاحه وأخذ بضاعته من سيارته، أو أشهر سلاحه واعتدى على امرأة موجودة في السيارة، أو اعتدى على الرجل في حرمته، أو اعتدى على الأطفال تحت تهديد السلاح؛ فإنها حرابة. إذاً: لا تختص الحرابة بالفرد ولا بالجماعة، وإنما هي عامة شاملة لحمل السلاح تهديداً للوصول إلى جريمة، سواء كانت بالاعتداء على النفس، أو على الحرمات من الأعراض أو الدماء، ولو كانت مجرد إخافة.

التعرض للناس في الحرابة يشترط فيه حمل السلاح عند البعض

التعرض للناس في الحرابة يشترط فيه حمل السلاح عند البعض وقوله: [هم الذين يعرضون للناس بالسلاح] يشترط وجود السلاح في قول بعض العلماء، والجمهور على أنه لا يشترط السلاح، وأن العبرة بوجود الضغط والقوة والقهر. وقوله: (بالسلاح) يستوي أن يكون قديماً أو حديثاً، ففي زماننا حمل السلاح مثل المسدسات والرشاشات والقنابل اليدوية، ونحو ذلك من المتفجرات وتلغيم الأماكن، كل هذا يعتبر من الحرابة. وأيضاً: الأسلحة القديمة التي تسمى الأسلحة البيضاء، فلو حملوا السيوف أو الخناجر أو السواطير، فهذه كلها تعتبر من السلاح عند العلماء رحمهم الله، فإذا أخاف بها السبيل، فأرعب حافلة في سفر أو دخل على محل تجاري جهرة حاملاً للساطور أو السيف وأخذ وفعل ما فعل، فهذا كله يعتبر حرابة. إذا كان بغير سلاح فمثل الضرب واللكز واللكم، وهذا نص عليه بعض العلماء رحمهم الله، وفي زماننا لو كان يحسن بعض الأعمال الهجومية التي يخيف بها السبيل، فإنه إذا كان يحسن الضرب بيديه أو رجليه وأرعب من في الحافلة بذلك، أو أرعب من في المحل التجاري بذلك وهدده وخوفه أو خنقه، فكل هذا يعتبر من الحرابة. إذاً: يشترط المصنف وجود السلاح، وعلى هذا الشرط إذا لم يوجد السلاح فليس بحرابة. لكن من العلماء من قال: السلاح وما في حكمه، وهذا المذهب أقوى. وقوله: [بالسلاح] الأصل أن حمل السلاح لا يكون إلا في الحرب، وانظر في دقة العلماء رحمهم الله، كيف أن حمل السلاح لا يكون إلا لشخص يحارب، فإذا جاء هذا الشخص، أو جاءت هذه المجموعة حاملة للسلاح على المسلمين في أسفارهم أو بيوتهم ومساكنهم ومحلاتهم التجارية، فقد أعلنت الحرب على المسلمين، فهي محاربة وإن كانت لا تأخذ حكم الحرب العامة؛ لكن انظر كيف نزلت الشريعة! ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حمَل علينا السلاح فليس منا) فلا يمكن أن يحمل المسلم السلاح على أخيه المسلم، ولذلك بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) والعياذ بالله. إذاً: هذا أمر عظيم، ولذلك عظمت الشريعة حمل السلاح على المسلم، وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن من حمل السلاح على المسلم فليس منه، فاشترطوا لكي يكون محارباً أن يحمل السلاح على المسلمين، وهذا على التفصيل يستوي فيه القديم والجديد. والقاضي ينظر في الجريمة والحادثة ونوعية السلاح الموجود فيها، فإذا كان يشترط السلاح نظر فيه وحكم بكونه حرابة، وإلا لم يحكم بكونه حرابة. والصحيح أن التخويف بالسلاح وما في حكم السلاح له حكم واحد، ومن هنا لو حمل العصا أو الحجارة فقد نص طائفة من العلماء على أنها حرابة، فقد يفعل الحجر ما لا تفعله السكين، وقد تفعل العصا ما لا يفعله السيف، ولذلك لا يختص الحكم بالسلاح المقصود عيناً، فلو أنهم هجموا على حافلة وحمل كل واحد منهم حجراً، وهدد صاحب الحافلة أن ينزل، أو المرأة أن تنزل، أو دخل بيتاً وحمل معه حجراً فهدد رب البيت واعتدى على عرضه جهرة، أو اعتدى على ماله، أو اعتدى على حرمة من حرماته، فكل هذا يعتبر حرابة. وقد بيّن المصنف رحمه الله اشتراط السلاح، والصحيح أن السلاح وما في حكمه سواء.

حكم اغتصاب المال مجاهرة

حكم اغتصاب المال مجاهرة وقوله: [في الصحراء أو البنيان، فيغصبونهم المال مجاهرة لا سرقة]. الشرط الثاني: أن يكون هذا الاعتداء على سبيل الجهر والعلانية، لا سراً وخفية، ولذلك فمن جاء خفية وسرق من محل تجاري، أو سرق من خزينة، أو من بنك، أو من مصرف خفية؛ فهو سارق. أما الحرابة فيشترط أن تكون جهاراً، والجهر يكون تحت القهر والتهديد، فلو كان جهاراً بسرعة، بأن اختطف المال من الرجل وهرب دون تهديد بالسلاح، فهذا مختلس ومنتهب، وليس عليه قطع، وقد تقدم بيان حكمه، وانظر كيف أن الشريعة تفصل في كل جناية وجريمة بما يليق بها، وتعطيها حقها وقدرها. ومن هنا فإذا كانت الجريمة بالاعتداء على المال سراً فهي سرقة إذا تحققت فيها شروط السرقة، وإذا كانت علانية فيفصل فيها: فإن وقعت علانية تحت قهر ووطأة السلاح والتخويف فهذه حرابة، وقد بيّن المصنف رحمه الله أنها حرابة سواءً كانت داخل مدينة أو خارجها. وإن كانت جهاراً أمام الناس ولكنها ليست تحت وطأة السلاح مثل ما يقع الآن، حيث يكون الشخص سريعاً فيخطف من الرجل شنطته، أو محفظته، أو مالاً أو كتاباً أو شيئاً في يده ذا قيمة ثم يفر، فهذا ليس بسارق وإنما هو منتهب، ويأخذ حكم الانتهاب. لكن لو أنه هدده وأرعبه وخوّفه، فهذا التهديد تنتقل به الجريمة إلى الحرابة، وحينئذٍ يأخذ حكم المحارب. وقد اشترط العلماء رحمهم الله أن يكون علانية، والمصنف رحمه الله يختار أن هذه الجريمة تقع داخل المدن في البنيان كما تقع في الصحراء. والعلماء متفقون على أنها لو وقعت في الصحراء خارج المدن وكانت على مسافة بحيث لو صرخ الصارخ لا يسمعه أحد، ولا يمكن نجاته أو استغاثته؛ فإنها حرابة، سواء كانت في البر أو البحر، مثل القرصنة البحرية بالاعتداء على السفن والبواخر التجارية واختطافها، أو أخذ ما فيها تحت وطأة السلاح، فكل هذا حرابة.

لا يشترط في الحرابة أن تكون في الصحراء

لا يشترط في الحرابة أن تكون في الصحراء وظاهر كلام المصنف رحمه الله أنه لا يشترط أن تكون في الصحراء وهذا هو الصحيح؛ لأن الله سبحانه وتعالى عمم في الآية الكريمة ولم يخص الحكم بالصحراء، وإذا قيل: إن سبب نزولها في العرنيين وقد فعلوا هذا في إبل الصدقة، وإبل الصدقة كانت بعيدة، فجوابه: أولاً: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ثانياً: أن العلماء لم يتفقوا على أن المقصود بالآية هم العرنيون. ومن هنا: يقوى القول بأن الحكم لا يختص بالصحراء، وبناءً عليه فالاعتداء على الأموال في البنيان والمدن والاعتداء على الأعراض والأنفس، وتخويف الناس داخل المدن جهاراً بحمل السلاح كله حرابة. مثلاً: لو أن جماعة هجموا على محل تجاري، وأشهر أحدهم السلاح وقام الآخر بأخذ المال من الخزنة، أو أخذ الأموال من الدواليب ونحوها كما في المجوهرات ونحوها، فهي حرابة. لكن لا بد أن يكون هذا العمل أمام الناس، وذلك كما تفعل بعض العصابات التي تأتي وتدخل في وضح النهار إلى المحل وتمارس هذا العمل، فهذا حرابة، وينطبق عليها حكم المحارب، سواء كانوا جماعة أو أفراداً، يدخل الفرد المحل التجاري ويضع سلاحه على من عند الصندوق، ويقول له: أخرج لي المال، فهذا التهديد فيه إشهار السلاح، وثانياً: أنه جهرة ولم يكن سراً، فحينئذٍ نحكم بكونه حرابة مع أنه داخل المدينة؛ لأنه وقع على ملأ، وحصل به تخويف الناس، وحصل به المحاربة لجماعة المسلمين وأفرادهم، وحينئذٍ يصدق عليه أنه حرابة. كذلك أيضاً: لو أن جماعة أو عصابة هجمت على رجل في بيته بقصد الاعتداء على عرضه والعياذ بالله، فأشهر أحدهم السلاح، وقام الآخرون بفعل الجريمة، أو قام بعضهم بالزنا والعياذ بالله، أو الاعتداء على الرجال أو الأطفال القصّر، فهذه حرابة ولو كانت داخل البيت؛ فقد نص العلماء على أنه يأخذ حكم الحرابة، وهذا في الاعتداء على الأعراض. أما الاعتداء على الدماء كأن تحقد عصابة على رجل، فجاءوا جهرة أمام الناس ومعهم السلاح فهددوا الناس أن يقف أحد أو يتعرض أحد، ثم أخذوا الرجل وقتلوه، فهذه حرابة بالاعتداء على النفس. فالنوع الأول: حرابة بالاعتداء على المال. والنوع الثاني: حرابة بالاعتداء على العرض. والنوع الثالث: حرابة بالاعتداء على النفس. ويستوي في المال أن يأخذوه أو لا يأخذوه بل يتلفوه، فالعصابات التي تدخل إلى المدن في وضح النهار وتحت وطأة السلاح تكسر وتخرب وتفسد الأشياء محاربة، وهذا يسمونه الإرعاب والخوف. فهم لا يريدون مالاً ولا عرضاً ولا قتلاً، وهذا النوع يعتبر جناية على جماعة المسلمين بالتخويف والإرهاب وإدخال الرهبة والرعب، وتفعله العصابات من أجل أن يخاف الناس، يفعلونه في المدن وخارج المدن. فخارج المدن يتسلطون على أطراف المدن كالمزارع ونحوها ولا يقتلون أشخاصاً معينين مقصودين، ولكن يقتلون أشخاصاً لأجل أن يرهبوا الآخرين، فالعصابات تحدث الرعب وتحارب بإحداث الرعب، فمسألة قصدهم للمال ورغبتهم فيه ليست هي الأساس، إنما العبرة في بإشهار السلاح، وأن يكون ذلك جهرة، سواء قصدوا قتل النفس كما يحدث في قتل المعينين، أو إحداث الخوف والرعب عندهم، أو قصدوا أموالهم أو أعراضهم، فجميع ذلك يأخذ حكم الحرابة. وفي دخولهم للمدن واعتدائهم على الأعراض والأموال والأنفس، أو مجرد الإخافة في الصحراء، يقع باحتكار السبل، وقد ذكر العلماء رحمهم الله من ذلك أن يأتوا إلى الطريق التي يمشي فيها المسافرون، فيقفون أثناء الطريق ومعهم السلاح ولا يقتلون، ولكن لا يسمحون لأحد أن يمر إلا بإذنهم، أو لا يسمحون لأحد أن يمر حتى يدفع لهم ضريبة، وهذا كله يعتبر قطعاً للسبيل وحرابة، وهذا الأصل الذي ذكرناه هو الذي تدل عليه معاني الشريعة. وذكر بعض العلماء رحمهم الله أن تخصيص الحرابة بالصحراء ضعيف: أولاً: لأن الله لم يفرق بين الصحراء والبنيان، وجعل الأمر راجعاً إلى محاربة الله ورسوله. ثانياً: أن العرنيين لو فعلوا هذا في الصحراء ونزلت الآية في حقهم، فإن هذا من التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإن إخافة الناس في المدن أعظم وقعاً وأشد بلاءً وأعظم جرأةً وفساداً في الأرض؛ لأن إخافة المدن ليست كإخافة السبل، مع أن إخافة سبل المسافرين نوع لا يحتمله الناس، لكن أن يهجم على الناس في عقر دارهم، ويحدث الخوف للناس في مدنهم وقراهم، فهذا كله أشد من الذي اتفق عليه العلماء رحمهم الله، وهي الجرائم التي تكون في الصحراء خارج البنيان. وعلى هذا: لا نحد مسافة ولا مكاناً، بل نقول: العبرة بحمل السلاح على التفصيل الذي ذكرناه، وأن يكون ذلك جهرة، حتى يتحقق فيه أنه محاربة لله ورسوله. ويستوي أن يكون في البر أو البحر أو الجو، كاختطاف الطائرات بإشهار السلاح، سواء قصد أخذ مال المسافرين، أو قصد الاعتداء عليهم، أو قصد مجرد الإخافة. فالعلماء رحمهم الله قرروا أن مجرد إحداث الرعب في أمن الناس وطمأنينتهم خروج ومحاربة لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام. إذاً: لا نشترط أن يكون الأمر فيه إغراء، سواء كان الإغراء بطلب الدماء أو الأموال أو الأعراض من الشهوات ونحوها.

إلحاق الغيلة بالحرابة

إلحاق الغيلة بالحرابة وفي حكم هذا الأمر ما كان بين الجريمتين، وهي مسألة الغيلة، ومسألة الاستدراج. ففي حكم المحاربين الشخص أو الأشخاص الذين يستدرجون بفعل الجرائم من المدن، فعلى القول باشتراط الصحراء قرر بعض العلماء أنه لو استدرج امرأة بفعل الزنا بها، حتى أخرجها من المدينة ثم هددها وزنى بها، أو استدرجها أمام الناس بالقوة أو اختطفها، أو استدرج صبياً لفعل الفاحشة -والعياذ بالله- أو رجلاً لقتله، فإن هذا كله يعتبر حرابة. والفائدة إذا قلنا: جريمة، سواء جريمة قتل أو جريمة زنا أو جريمة لواط أنه يسري عليها حكم الجريمة الخاصة، لكن إذا قلنا: إنها حرابة، فيجب على ولي الأمر تنفيذ الحكم، ولو شفع فيه أهل الأرض كلهم ردت شفاعتهم، ولا يجوز لأحد أن يقف ويمنع من قتلهم وصلبهم، أو قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إذا اعتدوا على الأموال على التفصيل الذي نذكره؛ لأن الحق فيها لله عز وجل. فالاستدراج بفعل الجرائم في زماننا كاختطاف الناس جهرة، وإعطاء المخدر له حتى لا يتحرك، أو ربط المجني عليه حتى لا يتحرك، وأخذه أمام الناس واختطافه من بيته أمام جيرانه تحت وطأة السلاح، أو اختطافه من عمله أو مكتبه أمام زملائه تحت وطأة السلاح، وإخراجه من المدينة، كل هذا يعتبر من الحرابة؛ لأنه وجد فيه حمل السلاح، ووجد فيه المجاهرة وقصد به ما ذكرناه فهو في حكم الحرابة؛ لأن شرطها قد تحقق فيه.

التعرض للذميين وإخافتهم والاعتداء على أموالهم

التعرض للذميين وإخافتهم والاعتداء على أموالهم يقول رحمه الله: [وهم الذين يعرضون للناس]. الناس المراد بهم المسلمون أو من لهم حرمة كالذميين، فالذمي له حرمة المسلم، لا يجوز الاعتداء على ماله ولا على دمه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم حرب على من سواهم). فالكفار الذين يدخلون بلاد المسلمين بإذن من ولي الأمر أو من يقوم مقامه، أو دخل كافر بلاد المسلمين تحت أمان من امرأة مسلمة فإنه لا يجوز أن يتعرض له، وذمة هذه المرأة كذمة المسلمين جميعاً، ففي الصحيحين: (أن أم هانئ رضي الله عنها دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل، وفاطمة تستره بثوب يوم الفتح -فتح مكة-، فقال: من؟ قالت: أم هانئ، قال: مرحباً بـ أم هانئ فقالت: زعم أخي -وهو علي رضي الله عنه، وكانت قد أمنت أحد قرابتها من الكفار- أنه قاتل لرجل أمنته، فقال صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ) فدخل في جوار النبي صلى الله عليه وسلم وأمانه، مع أن الذي أجارته امرأة. ولذلك نص النبي عليه الصلاة والسلام على هذا المعنى، فقال: (ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم حرب على من سواهم). وقتل الكافر المؤمَّن داخل بلاد المسلمين فيه وعيد شديد عن النبي صلى الله عليه وسلم ويخشى غضب الله عز وجل على صاحبه، وإعراضه عنه يوم القيامة والعياذ بالله؛ لأنه أخفر ذمة المسلمين، ولذلك لا يجوز أن يتعرض للذمي والمؤمَّن والمعاهد، فمن له ذمة من مسلم فذمة المسلمين واحدة كما نص النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. وقوله: [يتعرضون للناس] يشترط أن تكون للناس حرمة في دمائهم، وفي الأموال على اشتراط القطع في السرقة لابد أن يكون المال له حرمة على تفصيل عند العلماء رحمهم الله. وقوله: [بالسلاح] أي: يكون هذا التعرض مصحوباً بالسلاح. وقوله: [في الصحراء أو البنيان] هذا ظرف الجريمة (والبنيان) أي: داخل المدن، وعلى هذا: يرى المصنف رحمه الله وهو مذهب طائفة من أهل العلم أن الحرابة لا تختص بالصحراء، وقدم المصنف الصحراء لأنها محل إجماع، وقوله: أو البنيان؛ لأنها تابعة لذلك على الصحيح. وقد بينا أن الاعتداء في البنيان أعظم من الاعتداء في الصحراء.

لا يشترط في الحرابة قصد المال أو النفس أو العرض بل تكفي الإخافة

لا يشترط في الحرابة قصد المال أو النفس أو العرض بل تكفي الإخافة وقوله: [فيغصبونهم المال] ذكر رحمه الله هذا؛ لأن قطع الطريق وإخافة السبل غالباً ما يقصد به أخذ أموال الناس، لكن الحكم لا يختص بغصب المال بل يشمل الاعتداء على النفس والعرض، وحينئذٍ فإن من دقة المصنف أنه ذكر الأدنى للتنبيه على الأعلى، وذكر المال وإن كان أخف من إخافة السبل، لأنه أقل ما يكون في الحدود؛ لأن فيه قطعاً لليد والرجل من خلاف في الحرابة، فذكر المال, وإلا فلو أنهم تعرضوا للناس بقصد قتلهم هناك، فمثلاً: بعض الجرائم وبعض المجرمين الذين يخرجون بالسلاح بقصد قتل الناس واستباحة دمائهم، ويكون هذا عن حقد على المجتمع أو نوع من الإرعاب للمجتمع والإرهاب والتخويف له، وهذا يدخل في الحرابة، فالمصنف رحمه الله ذكر المال لكنه لا يقصد تخصيص الحكم بالمال فقط، فينتبه لهذا. فقوله: [يغصبونهم المال] هذا على الغالب أن الاعتداء يكون من أجل الأموال، ويقع أيضاً بالاعتداء على الأعراض، فلو جاء مثلاً في منطقة يغشاها النساء، أو أماكن تجمع النساء في الأفراح، فجاء وأشهر سلاحه عليهن، فهذا يعتبر من الاعتداء على العرض وإن لم يفعل الجريمة. المقصود أن المصنف لا يقصد تخصيص الحكم بالاعتداء على المال، فإن الاعتداء على الدماء بالقتل، والاعتداء على الأجساد بالضرب، والاعتداء على السوءات والأعراض بالانتهاك وفعل الفواحش، كل هذا يعتبر من الاعتداء، ولو سلم من الاعتداء بحيث تجرد الفعل وصار محض تخويف فإنه إرهاب واعتداء على أمن الناس، وهذا يعتبر جريمة، وله عقوبة في حد الحرابة أيضاً. وقوله: [مجاهرة] هذا الشرط الثاني الذي ذكرناه، وهو أن يكون جهاراً لا خفية. وقوله: [لا سرقة] ولذلك لما كانت الجناية على المال خفية سرقة، فقال: (لا سرقة) و (لا) هنا للإضراب، أي أنه لا يشمل حد السرقة، فالسرقة لها حكم خاص، فلو أنه اعتدى على المال خفية فإنه يحكم بكونه حد سرقة، ولا يحكم بكونه حد حرابة.

اشتراك المكلف مع غير المكلف في الحرابة لا يسقط الحد

اشتراك المكلف مع غير المكلف في الحرابة لا يسقط الحد قال رحمه الله: [فمن منهم قتل مكافئاً أو غيره كالولد والعبد والذمي وأخذ المال قتل ثم صلب حتى يشتهر]. قوله: (فمن) من صيغ العموم، والمجرم في جريمة الحرابة يشترط فيه أولاً أن يكون مكلفاً، بالغاً، عاقلاً، فلو كانت جريمة الحرابة من مجنون رفع السلاح، فهذا لا يقام عليه حد الحرابة؛ لأنه مجنون وغير مؤاخذ. ولو كان صبياً فإنه أيضاً لا يقام عليه حد الحرابة, لكن لو اشترك الصبي مع البالغ، والمجنون مع المكلف العاقل، فهل هذا الاشتراك شبهة يسقط الحد عن الشريك؟ الصحيح أن اشتراك المكلف مع غير المكلف لا يسقط الحد عن المكلف، وأن هذا لو فتح بابه لاستطاع أهل الجرائم أن ينفذوا جرائمهم بواسطة غير المكلفين. وإن قيل: غير المكلف شبهة؟ نقول: غير المكلف كالآلة، فلو أن مكلفاً أمسك حيةً وأنهشها لشخص فقتلته الحية، لقلنا: إنه قاتل، فهو الذي أغرى الصبي، وهو الذي دفعه وحفزه، وربما هدد الصبي أن يخرج معه، ولربما أغراه، وهكذا بالنسبة لضحكه وعبثه بالمجنون حتى يطيعه. وقد تقدم معنا في باب القتل أن الاشتراك بين المكلف وغير المكلف لا يسقط الحد عن المكلف، ولذلك فإن الذي عليه العمل أنه لو اشترك الصبيان مع البالغ سقط الحد عن الصبيان، وأدبوا بما يتناسب مع سنهم؛ لأن فيهم المميز وغير المميز، ولا يعني هذا أن نطلقهم هكذا، وإنما ينظر فيهم، فمن كان مميزاً فله حكم، ومن كان غير مميز فله حكم آخر. وأما بالنسبة للمكلف فإن الحكم أن يقام عليه حد الحرابة، وليس عندنا دليل على إسقاط الحد عنه، فكون شريكه غير مكلف لا تأثير له في مؤاخذة الشرع لهذا النوع من المكلفين. وعلى هذا: فإنه لو اشترك من يسقط عنه الحد ومن لا يسقط عنه الحد وجب الحد.

لا تشترط الذكورة في المحاربين

لا تشترط الذكورة في المحاربين كذلك أيضاً قوله: (من) يشمل النساء، فلو أن عصابة من النساء اتفقت على جريمة الحرابة، فإن جمهور أهل العلم على أن النساء يطبق وينفذ عليهن حد الحرابة كالرجال، وخالف الإمام أبو حنيفة رحمه الله في ظاهر الرواية عنه، وإن كان بعض أصحابه قد قال بقول الجمهور كـ الطحاوي وغيره، وبينوا أن المرأة والرجل على حد سواء، وعليه فإن النساء يقام عليهن حد الحرابة كالرجال. ومن هنا قال المصنف: (فمن) وهذا يشمل الذكور والإناث المكلفين، والمراد بقوله: (من) أي: المكلف الملتزم وهو المسلم أو المعاهد أو الذمي الذي التزم بأحكام الإسلام. قال رحمه الله: [فمن منهم قتل مكافئاً] فجريمة الحرابة تختلف على حسب اختلاف الجريمة، وهذا فيه تفصيل عند العلماء رحمهم الله. أسال الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الصواب، وأن يلهمنا الحق فيما اختلفوا فيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

الفروق بين الحرابة والغصب

الفروق بين الحرابة والغصب Q ما الفرق بين الحرابة والغصب أثابكم الله؟ A كل من الحرابة والغصب فيهما مغافصة ومعافصة ومغالبة، فيشتركان في هذا المعنى، وكل منهما يقهر المجني عليه للوصول إلى جريمته من أخذ المال ونحو ذلك. لكن الفرق من وجوه: أولاً: الغصب يكون في الأموال والحرابة تكون في الأموال وغير الأموال. ثانياً: الغصب ليس فيه اعتداء على النفس، والحرابة فيها اعتداء على النفس، وهذا راجع أيضاً للفرق الأول. ثالثاً: الحرابة فيها تهديد بالسلاح، والغصب لا يشترط فيه التهديد بالسلاح. رابعاً: أن الغصب في كثير من صوره يكون فيه نوع من الشبهة، فالجار يأخذ شبراً من جاره، ويقول: هذا حقي، فيكون عنده نوع من الشبهة، ونوع من الاحتيال، قد تكون شبهة حتى بالنسبة له، فيظن أن هذا حقه، وهو في الحقيقة غاصب لمال أخيه، وهذا من أهم الفوارق. خامساً: الغصب ليس فيه عقوبة بالحد، وإنما فيه تعزير إذا ثبت، والحرابة فيها عقوبة وفيها حد مقدر، وهذا من ناحية الأثر. سادساً: الغصب يسقط بعفو المغصوب منه، والحرابة لا تسقط بعفو المجني عليه. سابعاً: يستحب العفو عن الغاصب ومسامحته لعظيم الأجر، قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]، والحرابة لا يجوز للإنسان أن يتنازل فيها عن حقه، ولذلك حكى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الإجماع على أن المحاربين لا تجوز مسامحتهم؛ لأن هذا أمر عظيم جداً، وحتى لو عفا فلا يعتد بعفوه، لكن يقولون من ناحية المكلف نفسه: لا يجوز له أن يسامح. هذه بعض الفوارق بين جريمة الغصب وجريمة الحرابة، والله تعالى أعلم.

حد الحرابة إذا كان المجني عليه مسلحا

حد الحرابة إذا كان المجني عليه مسلحاً Q إذا كان المجني عليه يملك سلاحاً، وغلبه الجاني، فهل يكون الجاني محارباً أيضاً؟ A العبرة بوجود الفعل وهو المجاهرة وحمل السلاح، بغض النظر عن كون المجني عليه عنده سلاح أو ليس عنده سلاح، فقد يكون عند المجني عليه سلاحان فضلاً عن سلاح واحد، ولكن أمامه عشرون شخصاً مسلحون، فماذا يفعل؟! وقد يوجد عنده سلاح ولكن لا يستطيع أن يتحرك؛ لأن السلاح على رأسه، إذاً: الحرابة تكون من الجاني وإن كان المجني عليه يملك سلاحاً؛ لأن الحرابة سلوك إجرامي وجريمة وانبعاث للأذية والضرر، يستوي أن يكون المجني عليه قادراً على الدفع أو غير قادر على الدفع. ومن هنا يكون حرابة ولو كان المجني عليه مسلحاً.

صور نقل الفتوى

صور نقل الفتوى Q إذا سمعنا الفتوى في الدرس، فهل يجوز لنا أن نقول: قال الشيخ فيها كذا، إذا سألنا أحد، أثابكم الله؟ A هذه المسألة تعرف عند العلماء بنقل الفتوى، ونقل الفتوى له صورتان: الصورة الأولى: النقل الحرفي للسؤال الحرفي أو المشابه، فإذا كانت المسألة التي سئل عنها الشيخ هي التي وقعت خارج الدرس، فهذا هو النقل الحرفي للسؤال. أو ينقل فتواه حرفياً وليس مجيباً عن سؤال، كأن يقول: جلست في الدرس وسمعت الشيخ يقول كذا وكذا، فهذا رخص فيه العلماء وأجازوه، ويستحب للإنسان أن ينشر العلم، ومن أراد أن يبارك له الله في علمه فليحفظ ما استطاع ويكون وعاء خير، كما مثّل النبي صلى الله عليه وسلم بالأرض التي أمسكت الماء وأنبتت الكلأ، وشرب الناس منها، وأكلت الدواب من الكلأ. فهذا حال أعظم الناس انتفاعاً، ينتفع بالعلم في نفسه، ثم يبلغه للغير، وهذا هو السنة في العلم: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:122] هذا أول شيء، ثم بعد ذلك: {وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]. فأي شخص يجلس في مجلس علم، ويسمع فيه آية أو حديثاً أو علماً ينتفع به فعليه أن ينشره، ويبين للناس، وإذا نشرت العلم أسقطت عن نفسك مسئولية عظيمة، وإذا لم تنشره فإنه لا يزال أمانة في عنقك حتى تبلغه، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب). فمن جلس في مجالس العلماء وعرف الحكم أو المسائل أو الفتاوى، فعليه أن ينشره بين الناس إبراءً وإعذاراً إلى الله عز وجل، خاصة في المحرمات والمنكرات والحقوق والواجبات، فالأمر أشد والمسئولية أعظم. فمثلاً: جلست عند الشيخ، فبين لك أنه يجب فعل كذا، أو يحرم فعل كذا، فهذا واجب على المسلم أن يبلغه. الصورة الثانية: إذا كان النقل للفتوى بالمعنى، كأن ينقل فتوى تشبه الفتوى التي قيلت للشيخ، أو لم ينقل الناقل حرفياً، ففي الحالة الأولى ينقل نقلاً مجرداً لا في مقابل فتوى، فيقول: سمعت الشيخ سئل عن مسألة كذا وكذا، فقال فيها كذا وكذا. فهو لم يجب عن سؤال ولا يحكي الفتوى جواباً للسؤال، فهذا مرخص فيه كما ذكرنا، وهو من حمل العلم، وهو مستحب. لكن أن يأخذ الإنسان فتوى في مسألة، ثم يسمع سائلاً يسأل في مسألة، فيفهم بحسب فهمه وتقديره أن المسألة التي في الدرس هي المسألة التي تشبه المسألة التي أمامه والتي يسأل عنها، فهذا شدد فيه العلماء رحمهم الله. فلابد أن يكون عالماً بالمسألتين، هل هما في حكم المسألة الواحدة أم مختلفتان؟ فإن شك وجب عليه أن يسكت، ولا ينقل الفتوى حتى لا يخلط، يقول للسائل: اذهب إلى فلان واسأله. فإن قال قائل: كيف يكتم العلم؟ قلنا: هذا ليس كتماناً للعلم، هذه مخاطرة؛ لأنه ربما كان المسئول عنه الآن غير المسئول الذي أجاب أو حصلت الفتوى عنه. فلذلك لا يجوز في هذه الحالة أن ينقل الفتوى إلا إذا كان ضابطاً للسؤالين، وبعض طلاب العلم من خلال التجربة والجلوس مع العلماء والمشايخ تصبح عنده ملكة ودرجة من الفهم والوعي، فيميز بين المسائل؛ لأن بعض طلاب العلم فتح الله عليه في الفهم والفقه، ومنهم من فتح الله عليه في فهم عبارات العلماء في المتون، لكن لا يعرف في الفتوى ولا يحسن نقلها ولا يحسن الإفتاء، ولو طلبت منه أن يدرس كتاباً لأبدع وأجاد وفتح الله عليه في ذلك. ومنهم العكس: لا يحسن شرح الكتب، ولا يحسن تحرير العبارات وبيان معانيها ودلالاتها، ولكنه ما إن يسمع سؤالاً إلا وضبطه، ولا يسمع جواباً إلا حرره، فعنده ملكة في فهم الفتاوى. وتجد بعضهم شغوفاً بسماع الفتاوى، ثم يقرأ السؤال مرتين أو ثلاثاً ويحدد عناصر السؤال، ثم يحدد عناصر الجواب، ويكثر من قراءة فتاوى المتقدمين؛ لأنهم يضبطون العبارات والفتاوى، فعندما تصبح عنده هذه الملكة التي يغلب معها في الظن السلامة، فيجوز له حينئذٍ إذا غلب على ظنه أن هذه المسألة هي المسألة التي سئل عنها، مثل لو أنه أيام طلبه سمع شيخه يسأل عن مسألة، ثم سئل عن مسألة مشابهة لها، وهو يعلم أن الجواب واحد، فإنه حينئذٍ ينقل جواب شيخه، سواء أسنده أو لم يسنده، لكنه عن علم ومعرفة، فهذا نقل للفتوى محرر، وقد وجدت عنده ملكة يفهم بها السؤال وموارد الفتوى، ويفهم الجواب والمقصود من الجواب، فحينئذٍ يغلب على الظن السلامة، فهذا يجوز فيه النقل. أما المحفوظ عن العلماء رحمهم الله فهو التشديد في نقل الفتاوى، وعدم قراءتها على الناس، خاصة إذا كانت في المسائل الدقيقة، مثل مسائل البيوع أو المسائل التي فيها تفاصيل. أما المسائل الظاهرة المحرمة التي نهى الله عنها ورسوله، وفيها فتاوى، مثل فتاوى تحريم المحرمات من الزنا والخمور ونحوها من المحرمات الظاهرة، فإن العبارات فيها واضحة، والمسائل المسئول عنها واضحة حتى لعوام الناس، فهذا لا بأس بحكايته ونشره، وهذا نشر للعلم، ويؤجر الإنسان على ذلك. وهنا ننبه على أن طالب العلم ينبغي له أن يحرص على البركة في هذا العلم، فأعظم الناس بركة في العلم أعظمهم نفعاً للمسلمين، وجمعاً له وعملاً به ودعوة إليه. ومن هنا قال الله عن نبي من الأنبياء: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} [مريم:31] فما بورك النبي إلا بالنبوة، والنبوة فيها خير، كما قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص:29] فبركة العلم نشره، ولذلك أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يبلغ ما أوحي إليه، وأن يبلغ ما أنزل إليه. وهذا كله يحتم على المسلم أن يحرص على نقل علم العلماء، ولا يشترط أن يكون في الأجوبة والفتاوى، فعلمهم لا يختص بذلك، وإنما يشمل جوانب عديدة، خاصة فيما تعظم الحاجة إليه، والله تعالى أعلم.

حكم الدعاء بغير العربية في السجود

حكم الدعاء بغير العربية في السجود Q هل يجوز أن يدعو المصلي بلغته في السجود إذا لم يعرف اللغة العربية؟ A يجوز للساجد أن يدعو بلسانه وبالعربية، وذلك لأن النصوص عامة في مشروعية الدعاء، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أما السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم) ولم يرد اشتراط أن يكون الدعاء عربياً، وإنما يكون اشتراط العربية في الأذكار الخاصة: كالتشهد، والتكبيرات والتسمية والتحميد، ونحوها مما يشترط فيه التعيين. وأما بالنسبة للدعاء، فالصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله أنه يجوز للمصلي أن يدعو بلغته ولسانه، والله تعالى أعلم.

حكم الوساوس في العبادة والغلو فيها

حكم الوساوس في العبادة والغلو فيها Q امرأة تسأل وتقول: إنها تصلي ولكنها لا تشعر بأنها تصلي، وتصوم ولكن لا تشعر أنها تصوم، فبالتالي تفطر، ولو أذنبت ذنباً فإنها تتوقف عن كل عمل صالح، نرجو التوجيه أثابكم الله؟ A هذه الأخت نوصيها بتقوى الله عز وجل، وأن تتحرى الحق والصواب، فليس من الصواب هذا الاعتقاد, والغلو في العبادة، أنها لا تعتبر نفسها في عبادة إلا إذا شعرت شعوراً تاماً كاملاً، من هذا الذي يصلي صلاة تامة كاملة؟ من هذا الذي يصوم صياماً تاماً كاملاً؟ لقد تولى الله جبر كسر عباده، وتكميل نقصهم، ورحمة ضعفهم، فعلى هذه الأمة من إماء الله أن تتقي الله في عبادتها لربها، وألا تشدد على نفسها، فإن هذا من الشيطان. صومي وصلّي فإن حضر قلبك في الصلاة ففضل من ربكِ عليكِ، وإن شغلت أو ضللت عن بعض الصلاة فلا تقطعيها، بل أتمي الصلاة، وإذا كنت في آخر الصلاة فتندمي على فوات ما فات من الخشوع، وبهذا تغيظين الشيطان، وتقهرين عدو الرحمن. فإن العبد الصالح إذا حصل منه ذنب، أو حصلت له خطيئة، وقال: أنا لست من الصالحين! سأترك طلب العلم، ومجالس الصالحين، ويأتيه الشيطان ويقول له: كيف تجلس مع الأخيار وأنت تفعل وتفعل! هذا كله من تخذيل عدو الله قاتله الله، الشيطان الذي قعد بين العبد وبين ربه، والله أرحم بعباده من أنفسهم بأنفسهم: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني). فالعابد يبحث عن مرضاة الله عز وجل، فإذا حصل منه الهم أو التقصير ندم، والندم بعد المعصية وفوات الطاعة يبلغ العبد الأجر كاملاً، وبهذا يصفع عدو الله على وجهه، ويقتله من الغيظ، حتى إنه لربما كرر هذا مرات فلا يعود الشيطان إليه، بل إنه يجده يرضخ، فعليها كلما وقعت في معصية أن تندم ندماً صادقاً وأن تشتكي إلى ربها. إن من أسعد اللحظات وأجملها أن الإنسان إذا أصابته الهنة والزلة انكسر قلبه، وذلت رقبته، وفاضت بالدمع من خشية الله عيناه, وقال: رباه رباه! اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، فيفرح الله بتوبته، وفرح الله بهذا الشعور، وبهذه الإنابة، وبهذا الإقبال، وينادي الله في ملائكة قدسه: (علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويعفو عن الذنب، قد غفرت لعبدي). ما هذا الذي تريده المرأة؟ أتريد امرأة كاملة لا نقص فيها بالعبادة، لو أن امرأة أتمت عبادتها فماذا يحدث في الدنيا؟ لو أن كل مصل يصلي صلاة تامة كاملة، وكل من يصوم يكون صيامه تاماً كاملاً، والله لتغير وجه الأرض، لو كانت العبادة تامة كاملة لرحمنا الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]. فكلنا تحت رحمة الله عز وجل، وكلنا تحت لطفه وبره وإحسانه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته). يا أمة الله! عليك أن ترفقي بنفسك، وأن تتقي ربكِ، وألا تتركي الخير ولا تزهدي، بل إن تسلط الشيطان على المطيع بعد طاعته دليل على أن فيه خيراً، وأنه يلتمس منه مواطن الضعف، فاقتل عدو الله عز وجل بغيظه، وأصبه في مقتله بالتوبة الصادقة لله عز وجل، وإن الشيطان لا أحقر منه مع العبد عند ساعة التوبة، ما من عبد يتوب إلى الله عز وجل إلا كانت ساعة حنق وغيظ على عدو الله إبليس، هذه الساعة المريرة المقاتلة حينما يجد العبد يفعل المعاصي ويذنب ثم يتوب إلى ربه، فيرجع كيوم ولدته أمه، بالتوبة الصادقة. فابذلي كل الأسباب على ألا تعصي الله عز وجل، فإذا وقع منكِ شيء من المعصية أحسنتِ الظن بالله مباشرة، وأقبلتِ على الله وصدقتِ مع الله عز وجل، وأبشري من الله بكل خير: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر:49] لكن: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:50]. لا بد من الجمع بين الرغبة والرهبة، فالرهبة لا تصل إلى درجة ترك الطاعات، فهذا خوف كاذب، وخشية كاذبة، الخشية الصادقة هي التي تحمل على كمال الطاعات، والخشية التي تحمل على حسن الظن بالله عز وجل مرفوقة بالرجاء بالله سبحانه وتعالى، فهي خشية صحيحة على منهج الكتاب والسنة: {يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57] وهما جناحا السلامة للعبد. لكن أن تكون سبباً في ترك الطاعات والإعراض عن الله عز وجل، فهذا قنوط من رحمة الله والعياذ بالله، وسوء ظن بالله، ومن أحسن الظن بالله كان الله عند حسن ظنه، بل الله كريم وأكرم سبحانه وتعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق:3] سبحانه وتعالى, وصيغة أفعل (أكرم) تدل على بالغ الكرم منه سبحانه وتعالى. فننصح هذه المرأة وننصح كل مسلم أن يحسن الظن بالله عز وجل، وأن يصدق الرجاء في الله عز وجل، ومن أحسن ظنه بربه رجي له الخير في دينه ودنياه وآخرته، والله تعالى أعلم. نسأل الله بعزته وجلاله أن يمدنا وإياكم بعونه وتوفيقه، وأن يتقبل منا ومنكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

باب حد قطاع الطريق [2]

شرح زاد المستقنع - باب حد قطاع الطريق [2] شرع الله تعالى حد الحرابة زجراً لمن تسول له نفسه قطع الطريق وترويع الآمنين، أو الاعتداء على حقوق الآخرين، والأصل في هذا الحد آيتا المائدة، ولكن العقوبة تختلف باختلاف الفعل الذي قام به المحاربون، وفق ما بينه الفقهاء وأهل العلم.

من شروط تطبيق حد قطع الطريق

من شروط تطبيق حد قطع الطريق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فمن منهم قتل مكافئاً]. تقدم بيان بعض الضوابط والمقدمات المتعلقة بحد الحرابة وقطع الطريق، وقد شرع المصنف رحمه الله في هذه العبارة في بيان العقوبة الشرعية المترتبة على جريمة قطع الطريق وإخافة السبيل. فبين المصنف رحمه الله أنه إذا أقدم المحاربون وقطاع الطريق على القتل وأخذ المال؛ فإن العقوبة تجمع أمرين: الأمر الأول: أن يقتلوا. الأمر الثاني: أن يصلبوا.

يستوي المنفذ والمخطط من المحاربين في استحقاق العقوبة

يستوي المنفذ والمخطط من المحاربين في استحقاق العقوبة فأما بالنسبة للقتل، فبين المصنف رحمه الله يقتلوا سواء حصلت المكافأة بينهم وبين المقتول أو لم تحصل، وهذه العقوبة أشار إليها الله عز وجل بقوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة:33] فجمع لهم بين القتل والصلب، وقد جاء في أثر عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، أن المحاربين إذا قتلوا وأخذوا المال فإنهم يقتلون ويصلبون، وظاهر قوله أنهم يقتلون يستوي فيه المباشر للقتل والمعين عليه. وهذه المسألة لها صور عديدة، وتختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، لكن من أشهرها قضية الحماية، وهي أن يكون قطاع الطريق على مجموعتين: مجموعة تهدد بالسلاح، ومجموعة تباشر الجريمة، فالظاهر من الأصول الشرعية والمختار من أقوال العلماء رحمهم الله أنه إذا قتل واحدٌ منهم فإنهم يستحقون القتل جميعاً، ويستوي في ذلك المباشر للقتل أو المخطط له، أو المهدد للمقتول، أو من ربطه، أو عقره، أو أغلق عليه الباب، فكل هؤلاء يجمعون في حكمٍ واحد؛ لأن الجريمة تمت بهذه الوسائل، فيستوي في ذلك المباشر والمتسبب والمعين بالرأي. ومن هنا فإن في زماننا قد توجد بعض الوسائل التي تحتاج إلى تفكير وعمل وجهد يُتوصل من خلالها إلى الجريمة، كما في بعض الأجهزة التي تحتاج إلى فك شفراتها السرية، أو بعض المخابئ أو بعض الأشياء التي تحتاج إلى خبرة ومعرفة، فهذا الخبير لو أخذه المحاربون وتواطأ معهم على الجريمة أو أعانهم على فك هذه الأمور السرية أو الشفر، ففتح أسرارها وكشف لهم طريقة الدخول، وبين لهم كيفية حماية أنفسهم من الضرر، وكيف يستطيعون أن يصلوا إلى جريمتهم؛ فهو شريكٌ لهم، بل هو رأس الداء والبلاء، فإذا دخلوا بواسطة هذا التخطيط وهذه المعونة فقتلوا ولو واحداً فقط، فإنهم يقتلون جميعاً ويقتل هذا المدبر؛ لأنه لولا الله ثم تدبيره ومعونته على ذلك بالرأي الذي توصل من خلاله إلى الجريمة ما وقع شيء. ومن هنا لا يشترط في الحكم بالقتل أن يكونوا مباشرين للقتل، بل يعطى الحكم للجميع، ووقوع القتل من البعض كوقوعه من الكل؛ لأن كل واحد منهم راضٍ بالقتل، وكونه يشهر السلاح وغيره يباشر القتل يدل على أنه راضٍ بهذا الفعل؛ لأن الإعانة بإشهار السلاح هي التي تعقر المقتول، وتمنعه من أخذ الحيلة وطلب الوسيلة للنجاة والفرار، فلذلك يستوي من يشارك بالعمل، ومن يشارك بالرأي، ومن يشارك بالحماية. يقولون: إذا اشتركوا فقد يفعلون الجريمة كلهم، فأحدهم يقتل، والثاني يسرق، والثالث يضرب، فهؤلاء كلهم يعتبرون في حكم الفاعل وهو القاتل فيقتلون جميعاً. ومن هنا لا يشترط في ثبوت القتل للجميع أن يباشر الجميع القتل، فالمعونة والحماية والتدبير والتخطيط والتهديد وإشهار السلاح، كل هؤلاء يعتبرون في حكم القاتل.

لا تشترط المكافأة لإقامة حد الحرابة

لا تشترط المكافأة لإقامة حد الحرابة كذلك يستوي أن يكون قتلهم للمكافئ أو غير المكافئ، ومثل له المصنف رحمه الله بقتل الوالد لولده، فلو كان في المحاربين أب، واشترك مع غيره في قتل ولده، فحينئذٍ يستوي أن يكون مكافئاً أو غير مكافئ؛ لأن الأصل أن الوالد لا يقتل بولده، وكذلك أيضاً لو كان المقتول عبداً والقاتل حراً. وفرق بعض العلماء في هذه المسألة، فجعل الحكم أخف إذا كان غير مكافئ، وجعله أشد إذا كان مكافئاً، والأصل يقتضي التسوية. وقوله: [ومن منهم قتل مكافئاً أو غيره كالولد والعبد والذمي] أي: كالولد إذا قتله أبوه، والعبد إذا قتله الحر، والذمي إذا قتله المسلم، لأن قتل الذمي من أشد الجرائم والعياذ بالله، ومن تتبع السنة وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد الوعيد الشديد على التعرض لمن له ذمة الله ورسوله، وأنه إذا دخل بلاد المسلمين في ذمة المسلم أو ذمة إمام المسلمين أو من يقوم مقامه، فلا يجوز لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخفر ذمة المسلمين، ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم ذمة المسلمين واحدة، كما قال: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم) أي: أدنى شخص في المسلمين؛ فلو دخل الكافر في ذمته فكأنه دخل في ذمة المسلمين جميعاً، وورد الوعيد الشديد من اشتداد غضب الله عز وجل على من خفر ذمة الله ورسوله والعياذ بالله. فالشاهد من هذا أنه لو اعتدى على مال ذمي، فإن الذمي إذا دخل بلاد المسلمين وله ذمة المسلمين فدمه وماله وعرضه حرام، له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، وكما تقدم معنا في عقد الذمة، حيث بينا كيف كان حال السلف الصالح من الخلفاء الراشدين ومن بعدهم في الوفاء بالذمم، وما هو منهج الشريعة في مسألة إعطاء الكافر الذمة، فهذه الذمة لا تخفر، فلو أخفرت فإن هذا الذمي له حرمة، والاعتداء عليه قد يوجب أن يقتل المسلم به من باب الحرابة، لا من باب المكافأة. أي أنه إذا قتل الحر العبد فلا نسوي بين الحر والعبد لأن الشريعة فرقت في ذلك، كما في أسلوب الحصر والقصر في القرآن في قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة:178] أي: لا تقتلوا الحر إلا بالحر، لكن هذا القتل ليس من باب المكافأة، وإنما هو من باب آخر، وهو أن قتل الذمي يعتبر حرابة للمسلمين، ومن حارب المسلمين فإنه يقتل، وهذا المعنى تسقط فيه المكافأة، بدليل أننا ذكرنا أن المقتول لو كان له أولياء، فقالوا: سامحنا وتنازلنا لوجب القتل، وهذا شبه إجماع بين السلف الصالح رحمهم الله؛ لأن القتل واجب لحق الله؛ لأن القضية قضية إشهار سلاح ومحاربة المسلمين، بغض النظر عن كونهم قتلوا مكافئاً أو غير مكافئ، فهذا لا يلتفت إليه، فالقضية ليست قضية مساواة أو قصاص؛ لأن القصاص له ضوابطه وشروطه. القضية هنا مبنية على محاربة جماعة المسلمين, ومن هنا ننظر إلى الأصل الذي قرره العلماء في الحرابة، وهو أن الحرابة لا تكون إلا إذا أشهروا السلاح على المسلمين، فبإشهار السلاح يكونون قد خرجوا على جماعة المسلمين، ومن هنا يستوي أن يقتلوا مكافئاً أو غير مكافئ، فالعقوبة من باب آخر، وليست من باب المؤاخذة بالجريمة.

القتل والصلب إذا اعتدوا على المال وقتلوا النفس

القتل والصلب إذا اعتدوا على المال وقتلوا النفس ومن هنا نبين أن العقوبة بالقتل والصلب والقطع لا يشترط فيها بعض الشروط المشترطة في القتل، أو السرقة ونحو ذلك. وقد بين المصنف رحمه الله أنهم إذا قتلوا وأخذوا المال فالعقوبة أن يقتلوا ويصلبوا، والقتل في أصح القولين أن تضرب أعناق المحاربين، وذهب بعض العلماء إلى أن الصلب يكون قبل القتل، بأن يصلبوا ثم يطعنوا بالحربة وهم مصلوبون، والصحيح أن يقتلوا ثم يصلبوا، وأن القتل بعد الصلب فيه مثلة وتعذيب. فأما صلبهم فبأن يربط المقتول على خشبة يقال لها: صلب، لأنها على شكل علامة الصليب توضع من وراء يديه، وهذه الخشبة المعترضة تربط فيها يداه، وأما القائمة فيربط فيها جسده على وجه لا تسقط به، ثم ترفع الخشبة بعد ربطه وإحكامه عليها، وتوضع في مكان وتثبت، فيصلب بعد قتله. وقد اختار بعض السلف أنه يصلب ثم يقتل، وراعوا في ذلك السنة، وهي (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة)، وقد قال في الحديث الصحيح: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) فهذا أصل في الشريعة؛ ولأن القصاص يكون ضربة بالسيف وهذا أرفق، فبذلك يعتبر هذا هو الأصل. وذهب بعض العلماء إلى أنه يصلب ثم يقتل، وقد استدل الذين قالوا: إنه يصلب ثم يقتل، فقالوا: إن الصلب عقوبة، والعقوبة تكون للحي لا للميت، ومن هنا نصلبه حياً ثم نقتله بعد الصلب، فلا بد أن يمس جسده الصلب، ثم بعد ذلك يقتل، أما إذا قتل ثم صلب فالصلب لا معنى له. وهذا ضعيف؛ لأن الصلب قد يكون فيه تعذيب لنفس المصلوب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كسر عظم المؤمن ميتاً ككسره حياً) أي في الإثم، وبين أن الميت يتأذى، وأثبت هذا حتى في قبره، ولذلك لا يمنع أنه إذا صلب يعذب، وأن هذا لا نعرفه نحن ولا نطلع عليه، فأمور الآخرة غيبية. ثانياً: أن الصلب لا يمنع أن الشريعة أرادت القتل لأنه قتل، وأرادت الصلب زجراً لغيره، ومن هنا فقولهم: إن الصلب لا معنى له بعد القتل ليس صحيحاً؛ لأن الحرابة فيها معنيان كسائر الحدود: أنها تعاقب الشخص وتطهره من إثمه وجرمه، وكذلك أيضاً تزجر غيره، ولذلك قال الله تعالى في الحدود الشرعية وفي العقوبات: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، وقال سبحانه وتعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] وكل هذا من أجل زجر المجتمع. ومن هنا فقولهم: إنه لا بد أن يكون الصلب عقوبة للمصلوب ليس بوارد من كل وجه، وعليه فالصحيح أنه يقتل ثم يصلب. وهذا الصلب حكمه في الشرع واجب، بمعنى أنه متصل بالعقوبة، وأنه يجب على السلطان والقاضي إذا نفذ حد الحرابة بالمحاربين وتم الشرط المعتبر للجمع بين العقوبتين أنه يقتلهم ثم يصلبهم، فهو واجب، وهو حق من حقوق الله عز وجل؛ لنص الآية الكريمة عليه.

مدة صلب المحاربين

مدة صلب المحاربين وقد اختلف العلماء في الصلب على وجهين: الوجه الأول: أنه غير محدد ولا مقدر. الوجه الثاني: أنه محددٌ مقدر. فالذين قالوا: إنه غير محدد، قالوا: يصلب حتى يشتهر أمره، وحينئذٍ لا يحدون بالزمان ولا بالصفة بأن يتغير أو يخشى تغيره أو نحو ذلك، بل يقولون: يجعل مصلوباً في داخل المدينة، وإذا كان الصلب في مكان الجريمة أبلغ في زجر الناس وتخويفهم، فيوضع في نفس مكان الجريمة، فالذي يراه القاضي أو الإمام أصلح وأمكن في زجر الناس وتخويفهم من حدود الله عز وجل والوقوع في محارمه فليفعله، فقد ورد عن الإمام أحمد أنه قال: يصلب حتى يشتهر أمره، ولم يحد في ذلك حداً، وهو قول بعض السلف. وقال بعض العلماء: يصلب ثلاثة أيام، كما اختاره الشافعي وطائفة من السلف رحمهم الله. والذين قالوا: حتى يشتهر أمره؛ قد يحصل اشتهار الأمر بنصف النهار، بأن يجتمع الناس كما في القرى الصغيرة وفي الأماكن المحدودة ويطلعوا على عقوبته ويتعظوا ويعتبروا ويتسامع الناس بذلك ويروه، فحينئذٍ إذا رأى ذلك كافياً أنزله وأعطي لأهله لكي يغسلوه ويكفنوه ويصلى عليه، فالمحارب المسلم لا زال له حق الإسلام، فبعد قتله وصلبه يعطى لأهله فيقومون بحقه من تغسيل وتكفينٍ وصلاة عليه. والذين قالوا: إنه يصلب ثلاثة أيام: أجيب عنهم ورد قولهم بأن هذا التوقيت ينبغي أن يكون فيه نص من الشرع يدل عليه، وليس هناك دليل على أن الصلب لابد وأن يكون ثلاثة أيام، والأزمنة تختلف، ولذلك قد يصلب لمدة يومين وينتن، ويؤذي الناس برائحته، فيكون فيه أذية للأحياء، مع أن المقصود قد يتحقق بأقل من ثلاثة أيام. ومن هنا فإن التوقيت بثلاثة أيام ضعيف، والصحيح ما اختاره بعض أئمة السلف رحمهم الله أن الصلب يكون حتى يشتهر أمره على الوجه الذي يردع الناس ويزجرهم، وهذا هو المقصود الشرعي من هذه العقوبة.

لا يشترط في الحرابة لتطبيق العقوبة بلوغ المال نصاب السرقة

لا يشترط في الحرابة لتطبيق العقوبة بلوغ المال نصاب السرقة بين المصنف رحمه الله أن من قتل وأخذ المال قد اختلف العلماء فيه على قولين: فمنهم من قال: يشترط أن يبلغ المال حد النصاب، وقد تقدم معنا بيان حد النصاب، والدليل الشرعي على تحديده وخلاف العلماء رحمهم الله. ومن أهل العلم من قال: إن هذا المال الذي يأخذه المحارب ويستوجب قتله أو قطع يده ورجله من خلاف -كما سيأتي- لا يشترط فيه أن يكون قد بلغ حد النصاب في السرقة، وهذا القول هو الصحيح؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى حد للسرقة نصاباً، وفي الحرابة لم يثبت في الكتاب ولا السنة تحديد للقطع فيها بالنصاب. فلو قال قائل: إننا نلحق هذا بهذا. قلنا: لا يصح ذلك، فإننا وجدنا أن عقوبة الحرابة جمعت بين قطعين: قطع اليد والرجل من خلاف، وهذا لا يكون في السرقة إلا بجريمة مكررة -أي: مرتين- فدل على أن مقصود الشرع تعظيم الجناية، وحينئذٍ فكوننا نقيسها على السرقة ليس بوارد؛ لأنها جاءت فيها عقوبة السرقة مضاعفة مرتين، فإذا قالوا بالنصاب فيلزمهم أن يقولوا: يكون النصاب مضاعفاً؛ لأنه قطع لليد والرجل من خلاف، ومن المعلوم أن السارق تقطع يده، فقطع العضوين لا يكون إلا مكرراً إلا على القول الذي تقدم أن بعض العلماء يختارون أن السارق إذا تكررت سرقته بد قطع يده أنها تقطع رجله. والشاهد من هذا أن القول بالتوقيت ضعيف، والصحيح أنه لا يحد في قطعه، وبناءً عليه فلو هجمت عصابة مسلحة على محل تجاري في الاستراحات أو في البراري على القول بأن الحرابة تكون خارج المدن، أو هجموا داخل المدن عياناً أمام الناس فأشهروا السلاح، وجاء واحد منهم وأخذ من الصندوق أو أخذ من الرفوف شيئاً لا يساوي النصاب، حتى لو أخذ علبة عصير لا تعادل النصاب وشربه واستباحه أو أخذه معه، فإنه في هذه الحالة يكون قد تحقق المقصود من الاعتداء على المال، وهذا من أبلغ ما يكون، أي أنه إذا نظر إلى حد الحرابة وجد أن قضية التهديد بالسلاح مؤثرة جداً في إثبات جريمة الحرابة، حتى يوصف بكونهم قد حاربوا الله ورسوله. ومن هنا نجد طائفة من العلماء اشترطوا أن يكون من المحاربين إشهار للسلاح، فمحور الجريمة يعود على الخروج والعصيان الظاهر، وحينئذٍ يستوي أن يكون ما أخذوا من المال يساوي النصاب أو لا يساويه، لأننا ما جئنا هنا لنطبق حد السرقة حتى نشترط ما يشترط في السرقة، ولذلك لم نشترط الحرز، فلماذا أسقطنا شرط الحرز؟ ومن المعلوم أن السرقة تكون خفية والحرابة تكون علانية، فتبين أن هذه جريمة وتلك جريمة أخرى مختلفة عنها. وبما أن جريمة الحرابة علانية فإن فيها تحدياً عظيماً للمسلمين بخلاف جريمة السرقة فهي خفية، وفيها استتار ونوع من الرعاية للحرمة والخوف والهيبة، لكن أن تكون عياناً بياناً تحت وطأة السلاح أمام الناس فإن هذا شيء آخر، والحرمة فيها أشد، فينبغي أن تكون العقوبة أبلغ، ومن هنا لا يشترط أن يكون المال الذي يأخذونه قد بلغ النصاب، وأن العبرة في اعتدائهم على المال. إذا ثبت هذا فحينئذٍ يستوي أن يأخذوا أو يتلفوا، فالعصابات المسلحة لو أنها دخلت بيوت الناس فأتلفت شيئاً من المال أثناء دخولهم كأن كسروا مثلاً زجاجات المحلات، وقتلوا ولو شخصاً واحداً، ثبت القتل وثبت الاعتداء على المال، وحينئذٍ يقتلون ويصلبون.

اشتراط قصد المال للجمع بين القتل والصلب في حد الحرابة عند بعض العلماء

اشتراط قصد المال للجمع بين القتل والصلب في حد الحرابة عند بعض العلماء أعلى ما يكون في حد الحرابة أن يجمع بين القتل والتصليب وبعض العلماء فرقوا فقالوا: لا يجمع بين القتل والصلب إلا إذا اجتمع الاعتداء على النفس والاعتداء على المال، ثم فصلوا في الاعتداء على المال، فقالوا: لا نأمر بصلبهم بعد القتل بناءً على اعتدائهم على المال إلا إذا كان السبب الباعث لهجومهم واعتدائهم إرادة وطلب المال، وعلى هذا القول يفرق بين القتل من أجل أخذ المال، وبين القتل دون قصد أخذ المال. ففي الصور التي يجمع فيها بين العقوبتين: أن يأتي إلى محل تجاري أو إلى بنك ويهجم عليه فيقتل الحارس أو يقتل أي شخص ممن هم موجودون ثم يأخذ المال، فحينئذٍ يتبين أن الجريمة من أجل أخذ المال، وأنهم قتلوا من أجل الوصول إلى المال، وفي هذا الوجه يجتمع العلماء على أنه يقتل ويصلب. الصورة الثانية: وهي محل الخلاف، وذلك أن يكون مقصودهم القتل، مثل أن يقع بين العصابة وبين شخص آخر عداوة ويريدون قتله، فيأتون إليه في منزله أو في عمله ويدخلون تحت وطأة السلاح فيقتلونه ثم يأخذون ماله، ففي هذه الحالة لم يكن أخذ المال مقصوداً، وإنما جاء تبعاً لجريمة القتل، وعلى القول الذي يشترط أن يكون القتل من أجل أخذ المال، يقولون: لا يصلبون، وإنما يقتلون. والصحيح أننا نقول: إنه يجب صلبهم سواء قتلوا من أجل أخذ المال، أو قتلوا بدون قصدٍ وأخذوا المال ولم يكن قصدهم من القتل أخذ المال وإنما إرعاب الناس، أو العداوة أو الأذية ونحو ذلك. وقوله: [وأخذ المال قتل ثم صلب حتى يشتهر] القتل وأخذ المال جريمتان، ويستوي أن تكون من الجميع أو من البعض. فمن الجميع مثلاًَ: ثلاثة أشخاص تعرضوا بسلاحهم لرجل ومعه زوجته وأخته، وكل واحد منهم قتل واحداً وأخذ المال الذي معه، حينئذٍ كل واحد منهم يصدق عليه أنه قاتل وآخذ للمال، ولا إشكال في هذه الصورة أن القتل يكون من الجميع وأخذ المال من الجميع. أما من البعض: فمثلاً: جاءت عصابة أو جاء قطاع طريق وهجموا على قرية أو مدينة، فدخلوا محلاً تجارياً، فأشهر أحدهم السلاح على من بداخل المحل، وقام الآخر بطعن شخص تعرض له، فقتله، وقام الثالث بجمع الأموال الموجودة في الخزنة. إذاً: أحدهم هدد وهو الذي رفع السلاح، والثاني باشر جريمة القتل، والثالث باشر جريمة السرقة، وفي هذه الحالة قلنا: لا يشترط، وهناك تفصيل عند بعض العلماء، ولكن الصحيح هو مذهب الجمهور أنه لا يشترط أن يكون الجميع قتلة، ولا يشترط أن يكون الجميع أخذوا المال، ولا يشترط أن يكون الجميع هم الذين يمارسون العمل، فالكل حكمهم واحد: أن يقتلوا ويصلبوا، هذا الذي نختاره، وهذا القول هو الراجح إن شاء الله تعالى.

حكم المحارب إذا قتل ولم يأخذ المال

حكم المحارب إذا قتل ولم يأخذ المال وقوله: [وإن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب] هذه الدرجة الثانية من العقوبة، وهي القتل دون الصلب، وفيها أثر ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: (إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا ثم صلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا) ففرق بين أن يكونوا قد اعتدوا على المال مع القتل، وبين كونهم قتلوا فقط، ومن هنا اختار الإمام أحمد وأصحابه وهو مذهب بعض العلماء أيضاً، أنهم إذا قتلوا ولم يأخذوا المال أنهم يقتلون ولا يصلبون، وهذه الصورة كثيراً ما تقع في حالات البغي والاستكبار، وهي العصابات التي تريد إثبات عدوانها على المجتمع بتخويف المجتمع وإرهابه، وليس لها مطمع بالمال أكثر، وإنما تريد زعزعة أمن الناس، وإقلاقهم وإشعارهم بأنهم أهل قوة وشوكة وغلبة، ويقع هذا من العصابات في العمران والصحاري. فالعصابة حينما تقدم على القتل المجرد دون أخذٍ للمال فهذا غالباً ما يكون من أشد الأذية والإضرار بالناس، لأنهم يريدون إرعاب الناس، ومن هنا قال العلماء: إن من تأمل حد الحرابة وجد أنه يضر الناس في أعظم مصالحهم بعد الدين، وهو عصب حياتهم وهي التجارة، لأن هذا النوع من الجرائم كان مؤثراً تأثيراً شديداً في أمن السبل، وأمن السبل لا يراد فيه غالباً إلا انتقال الناس؛ لأن السفر أكثر ما يقع للتجارة، وابتغاء فضل الله عز وجل، ومن هنا قال بعض الأئمة: إن الله عز وجل رحم عباده بالتجارة، وبين أن التجارة ابتغاء لفضل الله: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20]، وقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10]، وقال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15] فجعل المال من رزقه وعطائه لعباده وخلقه، فإذا وقعت الحرابة قطعت سبل الناس، وحينئذٍ تجد بعض القرى قد يموت فيها الناس ويهلكون، ولا يستطيعون أن يتوصلوا إلى طعام، ولا دواء ولا كساء؛ لأن التاجر لا يستطيع أن يخاطر بنفسه ولا بروحه. وهذه هي الميزة التي ينبغي لكل من يدرس الفقه الإسلامي خاصة فقه الجنايات أن لا ينظر إلى العقوبة مجردة، وإنما ينظر إلى الجريمة التي شرعت من أجلها العقوبة بجميع صورها، وينظر إلى آثارها، فأكثر ما تأتي العقوبة مراعية للأثر المترتب على الجريمة، حتى إنك لو تأملت شيئاً قليلاً في السرقة فقط، لو تأمل الإنسان العقوبة مجردة عن أسبابها قد يزيغ رأيه والعياذ بالله، ويعزب رشده، كيف تقطع اليد من أجل مبلغ من المال والنفس والروح أعظم، وكيف يقتلون هنا ويصلبون وتقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، من أجل مال يسير، خاصة إذا كان دون النصاب. لكن إذا نظرت إلى أن الشخص الواحد الذي يحمل سلاحه في العراء وفي الصحراء يهدد أمة، لا قافلة أو شخصاً أو شخصين. وأيضاً: فإنه يعين غيره أن يسلك مسلكه، فلو سكت عنه الناس وسكتت عنه الشريعة ولم تعاقبه، لفتحت باب الإجرام والمجرمين، فينظر الإنسان للآثار، ولذلك فإن الذين يشهرون بالإسلام ويرفعون عقيرتهم بأذية المسلمين في باب الحدود والجنايات كلهم لا يعقلون؛ لأن الذي عنده عقل ينظر إلى الجريمة من جميع الجوانب، وهؤلاء ينظرون يقولون: كيف يقتل وكيف يصلب! هذا شيء بشع، أن يؤتى بالشخص ويعلق مصلوباً أمام الناس، فينظرون إلى الجاني ويرحمونه، ولا ينظرون إلى الأمم التي تخوف في أموالها ودمائها وأعراضها ومصالحها، وكيف يضرب في عصب الحياة، ليس على سبيل القرية أو المدينة، بل قد يكون ذلك على سبيل الأمصار والأقطار، ومن هنا ففي العقوبة التي وردت في الشريعة في حد الحرابة ينبغي أن ننظر إلى الآثار المترتبة على الجريمة كاملة، ولا ننظر إلى مجرد شخص يأتي ويعتدي فقط، أو: هل المال بلغ النصاب أو لم يبلغ النصاب؟ أو كيف نعاقب بهذه العقوبة الشديدة على شيء تافه؟ فلو أنه أخذ مالاً يسيراً أو كسر زجاجاً فإننا نعتبره معتدياً على المال ونستبيح قطع يده ورجله من خلاف. وعلى هذا فإننا نقول: إن من اعتدى على الأنفس ولم يعتدِ على المال فإنه يقتل ولا يصلب، وهذا هو الذي يدل عليه أثر حبر الأمة وترجمان القرآن، وهو الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله.

جناية المحاربين على أطراف بدن الإنسان

جناية المحاربين على أطراف بدن الإنسان وقوله: [وإن جنوا بما يوجب قوداً في الطرف تحتم استيفاؤه] الجناية على الأطراف تقدم تفصيلها وضوابطها في الشريعة، ومتى يحكم بالقصاص ومتى لا يحكم بالقصاص، والجناية على الطرف بأن قطعوا يد شخص، أو ضربوه حتى أصابها الشلل، أو فقئوا عين شخص، أو قطعوا لسانه، أو قطعوا أصابعه، كل هذه الجنايات على الأطراف فيها القصاص بالضوابط التي تقدمت في باب القصاص. والمصنف رحمه الله يختار هنا القول بالتفريق بين حق الله وحق المخلوق، وأن الجناية لو وقعت منهم على أطراف الناس وأعضائهم بما يوجب قوداً. قال: تحتم استيفاؤه. ومن أهل العلم رحمهم الله من قال: إن القتل يأتي على جميع ذلك، وأنه لا يقتص في الأطراف، وأنه يحكم بحد الحرابة وخاصة على القول الذي يقول: إن الأمر إلى الإمام، فإذا كان الإمام رأى أن المصلحة بالقتل قتلهم ولو لم يقتلوا، وهذا القول الثاني الذي اختاره بعض أهل العلم رحمهم الله، وهو أنه لا يشترط في حكم القاضي بالقتل أن يكونوا قد قتلوا. وعلى هذا القول لو جنوا على الأطراف ولم يقتلوا ورأى الإمام المصلحة في قتلهم قتلهم، وهذا موجود في مذهب المالكية والظاهرية وبعض أئمة السلف، وقالوا: الإمام هو المخير، والقاضي هو الذي له النظر، فلو جاءوا ودخلوا بالسلاح على بيت رجل وهددوه، ثم قاموا فقطعوا رجل شخص، وآخر قطع يد ابنته، والثالث اعتدى على عين ففقأها، فإذا استبشع هذا القاضي، وقال: لا أريد القصاص إنما أريد قتل هؤلاء؛ لأن هذه الجريمة بهذا الشكل أرى أنه لا يردع الناس فيها إلا القتل، فقضى القاضي بالقتل، فالصحيح أن له ذلك، وأنه لا يتعين القتل بحالة قتلهم. وفي هذه الحالة إذا قلنا: إن له ذلك فإن القتل يأتي على جميع جناياتهم على الأطراف ونحوها، وأما إذا قلنا: إنه ليس من حقه أن يقتل إلا إذا قتلوا كما يختاره المصنف رحمه الله وهو مشهور في المذهب، فحينئذٍ ينظر فإذا جنوا على الأطراف بما يوجب قصاصاً تحتم استيفاؤه، فلو عفا صاحب الجناية فإنه لا يلتفت إلى عفوه، بل يؤاخذهم القاضي أو الإمام بجريرتهم، سواء عفا صاحب الحق أو لم يعف، فالأمر سيان، فيقطع ما قطعوا من الأطراف. وإذا قلنا بذلك فلو أن شخصاً من مائة شخص من المحاربين اعتدى على طرف إنسان فإنها تقطع أطراف الجميع؛ لأنهم يرون أنهم في حكم الشخص الواحد كما تقدم في القتل.

حكم المحارب إذا أخذ المال ولم يقتل

حكم المحارب إذا أخذ المال ولم يقتل وقوله: [وإن أخذ كل واحد من المال قدر ما يقطع بأخذه السارق ولم يقتلوا، قطع من كل واحدٍ يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتا، ثم خلي] هذه المرتبة الثالثة في العقوبة، أنهم لو اعتدوا على المال ولم يقتلوا وكان اعتداؤهم على المال ما يعادل نصاب السرقة فأكثر، فحينئذٍ تقطع يد المحارب ورجله من خلاف، وهذا صريح آية المائدة. وإذا قطعت يده ورجله من خلاف فإن القطع للموضعين يكون في ساعة واحدة، ولا يؤخر قطع الرجل عن قطع اليد، وتقطع يده اليمنى مع رجله اليسرى، وهذا هو ظاهر القرآن: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة:33]. فتقطع يده اليمنى بناءً على أنهم يرون أنه سرق، واشترطوا أن يكون قد أخذ ما يعادل نصاب السرقة، والتي تخالف اليد اليمنى هي الرجل اليسرى، ومن هنا تقطع اليد مع الرجل من المفصل في اليد والرجل وتحسم بالزيت المغلي بالنار، لأجل قطع النزيف، وقد تقدم معنا الحسم في حد السرقة. وبناءً على هذا لا يرى المصنف رحمه الله أنهم إذا اعتدوا على الأموال أن يقتلوا، وهذا هو القول الذي اختاره الحنفية رحمهم الله فهم يوافقون الحنابلة في أنه إذا اعتدى المحاربون على الأموال فيشترط أن تكون الأموال قد بلغت نصاب السرقة، ويشترطون حرمة المال، إلى غير ذلك مما يشترط في اعتبار المال المسروق، فإذا اختل الشرط لم تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. وعند غير الحنابلة حتى عند بعض أصحاب الإمام أحمد رحمه الله اختار أنه لا يشترط النصاب، والدليل على ذلك: أولاً: أن الآية الكريمة لم تنص على اشتراط النصاب ولم يأت في السنة ما يدل على اشتراط النصاب. وثانياً: أن القطع في الحرابة غير القطع في السرقة، فالقطع في الحرابة جاء بطريقة مخالفة للسرقة من جهة الزيادة؛ إذ لم يتقيد بقطع السرقة الذي هو قطع اليد، ومن هنا لا نشترط فيها ما يشترط في السرقة؛ بل نقول: إن للشرع مقصوداً في هذا، ونزيد على ذلك أنه لو رأى الإمام أن من المصلحة قتلهم بالاعتداء على الأموال قتلهم بذلك. مثال ذلك: لو أن عصابة من قطاع الطريق هجموا على محلات تجارية فأتلفوا وأفسدوا ما فيها، ولم يأخذوا معهم شيئاً يعادل نصاب السرقة، فإنا نقول بتعزيزهم لأجل السلاح حين أشهروه، وإن كانوا في السبل أخافوا السبيل، وخرجوا على جماعة المسلمين بهذا السلاح، وجاءوا علانية وجهرة لا خفية كطريق السرقة، فإذا قلنا باشتراط النصاب حينئذٍ لا تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. ولكن إذا لم نشترط النصاب ونظرنا إلى الأصل الذي ذكرناه أن الحرابة فيها خروج وتمرد وتحدٍ للمسلمين في دمائهم وأعراضهم وأموالهم؛ حينئذٍ لا نشترط أن يكون الذين اعتدوا عليه من المال قد بلغ نصاب السرقة، ولا نشترط أيضاً أخذهم لهذا المال، وبناءً على ما قرره المصنف يشترط فيه الأخذ، ولكن على ما نختاره لو أنهم لم يأخذوا بل أتلفوا، وأكثر ما يفعله أهل الفساد والطيش أنهم يتلفون أموال الناس ويعتدون عليها، فيأتون إلى المحلات التجارية وهي أسواق المسلمين فيها أرزاقهم ومصالحهم، ومملوكة لمسلم له حرمة، وله ذمة الإسلام، ثم يأتي عياناً بياناً ويشهر السلاح، ثم يتلف هذا المال أمام الناس من غير أن يأكله أو يشربه وإنما يفتح العلب ويهريقها على الأرض، ثم يتلف الأشياء الموجودة من الأطعمة، فمثل هؤلاء لا يردعهم أن يقال بتعزيرهم. قد يرى الإمام أن هذه عصابات قد تستشري، هذا يعلم هذا، وهذا يجر هذا، ولا يقطع دابرها بشيء مثل أن ينظر للأصلح والأوفق للمجتمع، فإن رأى أنه اعتداء معتبر على المال نظر هل يكفي قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وأن ذلك يردع الناس، ووجد له أثراً فيكتفي به، لكن إذا وجد أنهم متمردون عصاة، وأنهم يجرئون غيرهم، وأنها لا تنحسم مادة شرهم إلا باستئصالهم من المجتمع، فإذاً: لا يتقيد الأمر بالنصاب ولا بالأخذ، لأن الإتلاف اعتداء، بل إن الإتلاف أسوأ من الأخذ؛ لأن الذي يأخذ الطعام يأكله ويرتفق به فهو يراعي حرمة الطعام؛ لأنه يريده لنفسه ويرتفق به حتى لو أخذه وباعه، لكن أن يأخذ المال، أو الطعام الذي جعله الله عز وجل طعمة لخلقه فيرمي به في الأرض، ويتلفه دون أن ينتفع به الإنسان، فهذا من أبلغ ما يكون جناية وجرماً. وفي حكم هذا لو أنهم أخذوا السفينة ونهبوا ما فيها صدق عليها أنهم أخذوا، وانطبق الشرط الذي ذكره المصنف، لكن لو أنهم أغرقوا السفينة بما فيها من طعام وأرزاق، ولم يأخذوا شيئاً فهذا يكون له حكم الحرابة، ويوجب الحد الذي ذكرناه، وجعل الأمر والنظر للإمام أبلغ، وهو إن شاء الله أقرب إلى الصواب؛ لأن مقصود الشرع حسم مادة الشر، وإيقاف البلاء عن المجتمع، وعدم فتح باب الفتنة على المسلمين بالجرأة على دمائهم وأموالهم ونحو ذلك. وقوله: [قطع من كل واحدٍ يده اليمنى ورجله اليسرى]: هذا هو القطع يكون من خلاف، وبعض العلماء يفصل بين أن تكون يده هي التي يعمل بها، فمثلاً: لو أن أكثر عمله ومصالحه باليسرى قطعت اليسرى مع الرجل اليمنى؛ لكن المحفوظ عن الجماهير أنها تقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى. وقوله: [في مقام واحد] وهذا من أبلغ ما يكون عقوبة وزجراً، ولو أن قاطع طريق قطعت يده ورجله بحكم الله، لكان ذلك من أبلغ ما يكون في ردعه وردع غيره أن يسلك سبيله، فلن تسول له نفسه يوماً من الأيام أن يخرج على المسلمين ويشهر سلاحه من أجل أن يعتدي على أنفسهم أو أعراضهم أو أموالهم، إذ كلما حدثته نفسه رفع كفه التي قطعت، وجاء يقف من أجل أن يذهب أو يروح وإذا برجله المقطوعة تذكره، ما الذي سيكون له؟ وما الذي سيجنيه من فعله وتمرده على المسلمين في مصالحهم ومرافقهم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:54] فهي آيات بينات {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا} [المائدة:50] أي: لا أحد أحسن من الله حكماً ولا أتم شرعاً {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115].

حكم استخدام التخدير عند تطبيق الحدود

حكم استخدام التخدير عند تطبيق الحدود وقوله: [وحسمتا]: لأن النزيف قد يهلكه، فتحسم بالزيت حتى تنسد أفواه العروق، لأنها لو تركت من دون حسم فإنه سينزف، وإذا نزف فإنه يموت، وهكذا الرجل تحسم حتى لا ينزف، وفي زماننا يمكن إيقاف النزيف بالطرق الطبية المعروفة، فلا بأس أن توقف، ولكن لا تخدر يده أو رجله، وإنما يذوق ألمها كما آلم المسلمين جماعة وأفراداً، فيتألم ويذوق الألم، ولا يجوز شرعاً أن يخدر؛ لأن هذا لا يجعله يحس بشيء، ولا يجد مرارة الذنب وأثر الجريمة كما ينبغي، لكن إذا قطعت يده وهو تحت وطأة الألم، فصاح وتأوه وتضرر وتألم، حتى أبلغ صياحه الناس، وسمعه الخلق وتأثروا؛ وقع المقصود شرعاً. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نزلت عليه هذه العقوبة دون وجود معالم رفق؛ لأن الله يقول في الحدود: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] فليس هناك رأفة بمن يستحقها، وهذا من عدل الله الذي قامت عليه السماوات والأرض، والرحمة توضع في موضعها، لكن هناك من يرحمون القاتل الجاني! ويقولون: كيف تقتلونه؟ وهم دعاة الحقوق، يقولون: كيف ييتم أطفاله، وكيف ترمل نساؤه؟ وذلك لأن عقولهم قاصرة، ونظرتهم عمياء، ألا شاهت وجوههم، ينظرون إلى القاتل أنه سييتم أطفاله، وترمل نساؤه، ولا ينظرون إلى من قتل وأزهقت روحه بالباطل، أف لهم وما يدعون، وهذا من الباطل، والمبطلون دائماً نظرتهم قاصرة، ومعارفهم محدودة؛ لأن الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بأنه الحكيم العليم، وهؤلاء لا حكمة عندهم ولا علم، لأن من يقف في وجه شرع الله عز وجل فقد سلب البصيرة والعياذ بالله، وانطمس نورها من قلبه، وذهب فرقان الحق ونوره من صدره، فأصبح كما قال الله تعالى: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ} [الأنعام:71] فلا يدري ولا يعي ما يقول. فهؤلاء الذين ينظرون إلى الجاني دون المجني عليه لا شك أن نظرتهم قاصرة، فنحن نقول: إنها لا تخدر اليد، ولا يرأف به ولا يشفق عليه ولا يرحم، وإنما يعاقب بعقوبة الله، ويذوق ألمها ويحس بهذا الألم وبمرارته، بغض النظر عن كونه قطعاً أو غير قطع، قطعاً في الحرابة أو قطعاً في السرقة. وقوله: [ثم خلي] أي: يترك، ولا يوجد عقوبة زائدة، فإذا قيل: تقطع يده ورجله من خلاف فهذا حد الله، ولا يزاد على حدود الله المقدرة.

تطبيق حد الحرابة على استباحة الأعراض

تطبيق حد الحرابة على استباحة الأعراض من أهل العلم من أدخل في الحرابة الاعتداء على الأعراض، فإن الاعتداء على العرض أعظم من الاعتداء على المال، وقد يتمنى الإنسان أن يقتل دون عرضه، والنبي صلى الله عليه وسلم سوى بين الدم والعرض، فقال: (إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام) فالاعتداء على العرض يقع في الجرائم والعصابات المنظمة التي تختطف النساء، أو تستدرج الأطفال والقاصرين، أو تستدرج بفعل الفواحش تحت وطأة السلاح، فهذا من الاعتداء على العرض. ولذلك فالنظر في الحرابة بنظرة شمولية لا يتوقف عند مسألة الاعتداء على المال وعلى النفس فقط؛ بل ننظر إلى مقاصد الشريعة كما يقول الإمام ابن القيم، وذلك هو شرع الله. ومن نظر النظرة العامة الشاملة فإنه نظر النظرة التي ترضي الله عز وجل، لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]. فالعقوبات ينبغي أن تكون مستوفية لجميع ما يقع من الجرائم، فلقائل أن يقول: ما ورد إلا القتل وقطع اليد والرجل من خلاف والنفي. ونقول: إن الشريعة قد تنبه بالأدنى على الأعلى، فنبهت بالقتل على غاية ما يقع من الاعتداء، ونبهت بالاعتداء على المال، وهناك وسط بينهما وهو العرض، فله نفس الحكم وهذا له نظائر في الشريعة، ومن هنا لا يمكن إغفال الاعتداء على الأعراض في الجرائم المنظمة، والعصابات التي تتخصص بإشهار السلاح في الاعتداء على الأعراض داخل المدن، أو الاعتداء على العرض خارج المدن، أو الاعتداء على العرض داخل المدن استدراجاً إلى خارج المدن تحت وطأة السلاح، فهي محاربة، وحكمها حكم الحرابة. وقد بينا أن الصحيح أن القاضي له الحق أن يعاقب بالقتل إذا رأى أن حسم مادة الشر تكون بذلك، ومن هنا لو أن عصابة مرت عليها سيارة داخل المدينة، فأوقفت السيارة وأخرجت منها امرأة واختطفت هذه المرأة، فالاختطاف في داخل المدينة للنساء يكون من البيوت من السيارات من المجامع العامة من مجامع النساء كله يعتبر حرابة، وهو أشد وأعظم من أن يعتدى على المال. أين العرض من المال؟ وأي شيء أشد شناعة وفظاعة من يؤتي إلى حرمات المسلمين التي يتمنى الإنسان أن يسيل دمه ولا يرى عرضه ينتهك، ولذلك فالاعتداء على العرض يدخل في الحرابة إذا كان داخل المدن، سواء كان بالقتل لفعل الفاحشة، أو التهديد بالقتل لفعل الفاحشة، أو الإخافة، وقد تجد مجموعة يأتون إلى مجامع النساء ويشهرون السلاح ويحدثون الرعب بين النساء، أو بين من يقوم على مصالحهن ومرافقهن كمساكن النساء، كل هذا إذا تكرر ينظر فيه وتدرس كل قضية على حدة، وينبغي أن ينظر القاضي إلى ما فيه مصلحة المسلمين، وينظر الإمام إلى ما يقطع دابر أمثال هؤلاء عن المسلمين. وإذا نظرنا إلى حكمة الله وسنن الله عز وجل وجدنا أن نقم الله عز وجل في العرض أعظم من نقمه في الأموال، فقل أن يتعرض أحدٌ لأعراض المسلمين إلا أخذه الله أخذ عزيز مقتدر إذا لم يتب ويرجع عن ذلك. والشهوة قد تعمي الإنسان وتصمه، سواء كان الاعتداء بالحرابة أو غير الحرابة، فلن تجد أحداً يستبيح أن يستغوي المرأة أو يغازلها أو يستدرجها للفحش والفساد، ويزين ويحبب إليها ذلك وهي ضعيفة، ويغريها من أجل فعل الفاحشة، إلا وجدت مكر الله عز وجل به عاجلاً أو آجلاً، أو هما معاً والعياذ بالله. ومن هنا نجد أن من سنن الله عز وجل تعظيم أمر العرض؛ لأنه ليس لقمة سائغة يلوكها من شاء، بل يغص بها الإنسان، ولن يموت حتى يرى ما يسوؤه كما أساء إلى أعراض المسلمين، إن أساء إليهم في الغيبة سلط الله عليه ما يسوؤه في غيبته، وإن أساء إليهم في المشهد لن يموت ولن يخرج من الدنيا حتى يريه الله بأم عينيه ما يقرح قلبه ويبكي عينه كما قرح قلوب المسلمين وأبكى عيونهم. وأيضاً نعرف أن من مقاصد الشريعة تعظيم أمر العرض، ولذلك لا يمكن إغفال الاعتداء على الأعراض، خاصة أننا في هذا الزمان حيث تساهل الناس -إلا من رحم الله- في هذا الأمر حتى أصبح بعض الفحش والفساد عند الناس شيئاً مألوفاً، فيأتي الرجل ويعتدي على العرض فيكلم المرأة الأجنبية أو يغازلها أو يؤذي سائقها ونحو ذلك عياناً بياناً أمام الناس، بلا حياء من الله ولا حياء من خلقه {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]. فكم من عينٍ امتدت إلى أعراض المسلمين ينتظرها العمى في لقاء الله عز وجل، وكم من عينٍ تمتعت بأعراض المسلمين سيذيقها الله عز وجل عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة، ومن تاب تاب الله عليه. وكل شخص ينبغي أن يضع نصب عينيه أن أمر العرض ليس هيناً، ومقاصد الشريعة عند دراسة الاعتداء على العرض لا يمكن أن تغفل ذلك، وعليه فإننا نقول: إذا كانت هناك عصابة أو جماعة تحت وطأة السلاح اعتدوا على العرض، فهذا على مراتب: اعتداء يبلغ الغاية القصوى ويستدرج المرأة ويقتلها مثلما يقع في بعض العصابات، يفعلون الفاحشة ثم يقتلون المرأة، فلا مانع أن يجمع الإمام والقاضي لهؤلاء بين القتل والصلب، ولا يختص القتل والصلب بالقتل وأخذ المال، فلو أنهم اعتدوا على عرض من أعراض المسلمين في الأسفار، فأوقفوا السيارات في طرقها، وأنزلوا النساء منها، وفعل بعضهم الفاحشة والعياذ بالله وقتل، فإنهم يقتلون ويصلبون كما جمعنا بين الاعتداء بالقتل وأخذ الأموال بين القتل والصلب، فالعرض أولى وأشد وأعظم حرمة عند الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، وهذا هو مقصود شرع الله، أي: أن ينزجر الناس عن حدود الله ومحارمه، والعرض أشد حرمة من المال، فإذاً نقول: إذا أنزلوا وقتلوا قتلوا وصلبوا. فلو أنهم أنزلوا النساء واعتدوا بالزنا، ورأى الإمام أن هذه حادثة سابقة، وأنه يُخشى إن فتح الباب، أو أنه لو أقام عليهم الحد أن هذا لا يردعهم؛ خاصة إذا كانوا غير محصنين، فحينئذٍ إذا رأى أن المصلحة في قتلهم فله قتلهم. كذلك لو أنهم أنزلوا النساء فكشفوا ستر المرأة، واستهزءوا بها، فهذا اعتداء على العرض، لكنه دون الاعتداء الأول، وكذلك لو أنهم تكلموا. فهناك أذية باليد كأن يمد يده على غطاء المرأة، وهنا أذية باللسان كأن يتكلم بكلام فحشٍ وبذاءة ونحوها من الأذية، فهذه أخف عقوبة، فينظر القاضي والوالي ما هو الأصلح في زجر هؤلاء وعقوبتهم بفعلهم. فالشاهد من هذا أنه يدرج في مسألة الاعتداء في الحرابة الاعتداء على الأعراض، ويستوي في ذلك أن يحصل غاية الاعتداء بالقتل وفعل الجرائم، أو يكون بدون ذلك من الأذية، كما يحدث في مضايقات النساء ونحوه، فإنها إذا كانت تحت وطأة السلاح والتخويف والتهديد فهي في حكم الحرابة.

حد الحرابة بالنفي

حد الحرابة بالنفي وقوله: [فإن لم يصيبوا نفساً ولا مالاً يبلغ نصاب السرقة نفوا، بأن يشردوا، فلا يتركون يأوون إلى البلد] هذه من العقوبة في الحرابة وهي النفي، وقد اختلف العلماء في النفي على وجهين: الوجه الأول: الحبس، فيدخلون إلى السجن ويحبسون. الوجه الثاني: أن يشرد بهم فلا يستقرون في مكان إلا بعث في طلبهم من بلد إلى بلد حتى يتوبوا إلى الله عز وجل ويرجعوا قبل أن يقدر عليهم، وهذا الوجه الثاني من أقوى الأوجه، ولا مانع من الأخذ بالوجه الأول في بعض الظروف التي يصعب فيها التشريد، خاصة إذا خشي من تركهم أن يسري فسادهم إلى البلدان والأمصار والقرى التي يشردون إليها. فالصحيح التشريد، ولكن لا يمنع في بعض الظروف أن يأخذ بسجنهم وحبسهم إذا رأى الإمام ذلك ووجد فيه مصلحة لجماعة المسلمين. وهذا النفي إذا لم يكن منهم قتل ولا اعتداء على المال أو العرض، فمثلاً: جاءوا وخوفوا السبل؛ لكنهم لم يأخذوا الأموال ولا اعتدوا، كما يقع في بعض الأماكن، حيث تأتي بعض العصابات وتحتكر السبيل، فلا تدع أحداً يمشي أو يمر بهذا السبيل إلا بعد تخويف وتهديد وإرعاب؛ لكنهم لا يعتدون على الأموال ولا على الأنفس، فحينئذٍ يشرد بهم وينفوا من الأرض على ما اختاره المصنف رحمه الله وطائفة من أئمة السلف رحمة الله عليهم، وهو قول ابن عباس في الأثر المشهور عنه.

الأسئلة

الأسئلة

التوفيق بين آية المائدة وحديث العرنيين في تقديم القتل على الصلب

التوفيق بين آية المائدة وحديث العرنيين في تقديم القتل على الصلب Q جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل الذين قتلوا الراعي، بل قطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وهم قد قتلوا الراعي، فلماذا لم يقتلوا في الحال أثابكم الله؟ A قضية العرنيين فيها كلام طويل للعلماء رحمهم الله، واختلف أئمة التفسير في الجمع بين آية المائدة وبين حديث العرنيين، حتى إن بعض العلماء يرى أن الآية ناسخة لحديث العرنيين، وأن حديث العرنيين جاء على وجه خاص لأن فيه شيئاً من التمثيل، والصحيح أنه لا تعارض بين الآية والحديث، وكلٌ قد خرج من مشكاة واحدة وهو الوحي: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] عليه الصلاة والسلام {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] فأما بالنسبة للعرنيين فحصل منهم أمران: الأمر الأول: الاعتداء على بيت مال المسلمين. الأمر الثاني: الاعتداء على الراعي نفسه. وهناك أمر ثالث ورد في بعض الروايات واختاره بعض العلماء أنه حصل منهم موجب الردة، أي: أنهم ارتدوا، حتى أن بعض العلماء لما جاء في سبب نزول الآية ذكر أن أنس بن مالك رضي الله عنه كان يرى أن الآية نزلت في العرنيين، وأن قضية العرنيين هي سبب نزول آية المائدة، ولكن خالف الجمهور في هذه المسألة، وهناك قول أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب آخر من الأسباب، وهو أن الآية نزلت في قوم ارتدوا، وهو القول الثالث في سبب نزول الآية، وهذا القول الذي قيل فيه: إنها نزلت في قوم ارتدوا، يعني العرنيين، لأنه وقع منهم الردة بناءً على الرواية التي ذكرناها وأشرنا إليها. وحينئذٍ لا تستطيع أن تعطي مسألة العرنيين مسألة ما نحن فيه؛ لأن العرنيين إن جئت تنظر إلى الاعتداء على المال فهو موجود، والاعتداء على الأشخاص بتسميل عين الراعي، لأنهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم سمل أعينهم بالنار، فكان يؤخذ المرود ويُحمى بالنار ثم يوضع في عينه حتى تسيل، وهذا من أشد ما يكون مثلة، ومن هنا قالوا: هذه العقوبة لا تتأتى مع الأصل الشرعي في النهي عن المثلة، وهذا الذي جعل بعض العلماء لم ينظروا إلى رواية تسميل عين الراعي، وإنما نظروا إلى أصل الحديث؛ لأن بعضهم ينظر إلى أصل الرواية وهي أنهم اعتدوا على المال وقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن هنا قالوا: إن هذا تمثيل منهي عنه شرعاً؛ لأنه لا يجوز التمثيل بعين الجاني إلا إذا مثل بعين غيره فإنه حينئذٍ يمثل به {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]. فالشاهد من هذا أننا ننظر إلى جريمتهم في حق الراعي وجريمتهم في حق المال، وردتهم عن الإسلام، فهذه ثلاث جرائم، والنبي صلى الله عليه وسلم جمع لهم بين عقوبة المال في قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وبين عقوبة المثل في تسميل أعينهم، وبين عقوبة القتل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون، وهذا هو القتل البطيء، فهو لم يقتلهم مباشرة لكنه قتلهم قتلاً بطيئاً؛ لأنه إذا حبس الماء عنهم قتلوا، ومنع الماء عن العطشان نوع من القتل، وقد ذكرنا هذا في القتل بالسببية، وجاء في الرواية: (فلقد رأيت أحدهم يكدم بفمه الأرض -من شدة العطش - وتركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون). فهذا فيه قتل وفيه قطع، وفيه عقوبة للردة بقتلهم واستباحة دمائهم، وفيه عقوبة للمال بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وفيه عقوبة بالمثل بتسميل أعينهم، فإذا نظرنا إلى أنه لا بد أن يقتلهم مباشرة جاء على هذه كلها، وهو عليه الصلاة والسلام مشرع للأمة، فلما أعطى كل جريمة حقها وحظها كان هذا غاية العدل والقضاء وأتم ما يكون عليه القضاء والحكم، فكل جريمة وقعت منهم وجد لها علاج، ووجد لها عقوبة، وهذا ما نعنيه بالنظرة الشمولية في العقوبة، أي: أن الإنسان حينما ينظر نظرة شاملة للجريمة ويجد عقوبتها مناسبة لكل شيء وقع من الجاني؛ فهذا أبلغ في عقوبة الجاني وأبلغ في ردع الغير عن أن يسلك مسلكه، والنبي صلى الله عليه وسلم له المقام الأعظم والمنزلة الأتم في الحكم بين العباد صلوات ربي وسلامه عليه. ولما أمسك الرجل بردائه صلوات الله وسلامه عليه، قال له: اعدل يا محمد! قال: (ويحك! ومن يعدل إن لم أعدل؟)، فمن الذي يعدل إذا لم يعدل النبي صلوات ربي وسلامه عليه، فالشاهد من هذا أنه عدل، فأعطى حق الله عز وجل بقتلهم بالردة، وأعطى المخلوق حقه حينما سمل أعينهم، وأعطى بيت مال المسلمين حقه حينما قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. فلا يشكل حديث العرنيين على الآية، إنما يشكل إذا نظرنا إليه من بعض الجوانب وقيل إنه ليس فيه قتل، وقد قلنا: إنهم إذا اعتدوا على المال وقتلوا فإنهم يقتلون، فكيف لا يوجد قتل وقد قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والصحيح أنه قتل بطيء؛ لكن هذا النوع من القتل لا نستخدمه في حكم الحرابة؛ لأنها جاءت نصوص تورد الشبهة، وهي نصوص النهي عن المثلة والتعذيب، ومن هنا لما تعارض عندنا هل هذا سابق للنهي أو متأخر عنه قلنا: الاحتياط أن نأخذ بالنهي؛ لأن آخر الأمرين نهيه عليه الصلاة والسلام عن المثلة، وعلى هذا فلا إشكال ولا تعارض إذا حمل على أول الأمر، والله تعالى أعلم.

مشروعية صلاة الجماعة ثانية

مشروعية صلاة الجماعة ثانية Q هل الجماعة الثانية لمن فاتته الصلاة مشروعة؟ وهل فضلها مثل فضل الجماعة الأولى أثابكم الله؟ A يجوز للمسلم أن يحدث جماعة ثانية بعد انتهاء الجماعة الأولى على أصح قولي العلماء رحمهم الله، والذين منعوا إحداث الجماعة الثانية احتجوا بحديث ابن مسعود في صلاته عليه الصلاة والسلام حينما تأخر عن الصلاة، فصلى الصحابة رضوان الله عليهم، وكان قد تأخر بقباء عليه الصلاة والسلام، فلما أتى المسجد لم يعرج عليهم، ومضى إلى بيته، قالوا: فهذا يدل على أن الجماعة الثانية لا تجوز. والواقع أنه ينبغي لطالب العلم أن ينظر بين الدليل وبين الدعوى، فهم يقولون: لا تجوز الجماعة الثانية ويمنعون من إحداثها، وعدم الجواز والتحريم لا يؤخذ من الفعل، لأن دلالة الفعل محتملة، ولذلك تجد الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى المسجد ووجدهم قد صلوا ولم يصل في المسجد جماعة يحتمل وجوهاً: منها: أنه عليه الصلاة والسلام لم يرد الجماعة في المسجد ثانية. ومنها: أنه عليه الصلاة والسلام -وهو الأقوى- لم يرد كسر خواطر الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأنك لو نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء وأحدث الجماعة الثانية فيكون هذا حرجاً كبيراً لمن أمهم وصلى بهم، وهذا واضح جلي، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً، وهذا يجعل الصحابة مرة ثانية يتأخرون أكثر، ويؤخرون الجماعة أكثر؛ لحضوره عليه الصلاة والسلام ورغبة في الصلاة وراءه بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه. فالشاهد أننا لا نجد في الفعل ما يدل على التحريم، بل غاية ما نقول: إن السنة أن يمضي إلى منزله، لكن في النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس في غيره، ومن هنا لا يقوى هذا الحديث على صرف النصوص الواردة في الصلاة في المسجد عموماً. وثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم نبه بدليل الأولى، حينما قال: (من يتصدق على هذا؟ فقام أبو بكر فصلى معه) أولاً: كون الصحابي يقوم ويصلي في المسجد من أصدق الدلائل على أنه لا يذهب إلى بيته، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى البيت والصحابي صلى في المسجد، فلو كان الذهاب إلى البيت واجباً، لقال له: يا هذا! اقطع صلاتك واذهب إلى بيتك وصل فيه، ولا يجوز أن تصلي في المسجد، ولا يجوز أن يسكت عن تنبيهه عما هو منهي عنه ومحرم شرعاً، وأنتم تقولون: لا يحدث جماعة ثانية. ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يتصدق) أسألك بربك! لو وجد شخص لم يصل أيقول عليه الصلاة والسلام: من يتصدق؟ ثالثاً: لو لم يكن الصحابة قد عهدوا وألفوا أن يصلي المتأخر وإن وجد غيره صلى معه هل يأتي ويقوم الرجل ويصلي؟ ولذلك قال: (من يتصدق على هذا؟) كأنه وجده بدون جماعة؛ لأنه ألف أن يكونوا في جماعة، ولكنه تعذر وجود من لم يصل، فقال: (من يتصدق) فالذي صلى يعيد الصلاة مرة ثانية. رابعاً: يندب إلى إعادة الصلاة مع أنه ينهى عن إعادة الصلاة مرتين. فكله تحسين للأجر، أليس هذا أصل في تحبيب الشرع وترغيبه أن يكون المصلي الثاني مع جماعة؟ إذا قلت: نعم، نقول: نبه بالأدنى على الأعلى، فإذا صحت الجماعة الثانية بإعادة الصلاة الأولى فلأن تصح بدون إعادة من باب أولى وأحرى، فهذا هو الذي نختاره؛ وهو أن الصحيح جواز إحداث الجماعة الثانية بعد انتهاء الجماعة الأولى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

باب حد قطاع الطريق [3]

شرح زاد المستقنع - باب حد قطاع الطريق [3] توبة المحاربين لها شروط وضوابط بينها أهل العلم في مصنفاتهم، وبتوبتهم قبل القدرة عليهم تختلف الأحكام في حقهم، ولكن لتوبتهم شروط مختلف فيها، ويترتب عليها أحكام مختلف في بعضها عند أهل العلم.

حد الحرابة على من لم يصب نفسا ولا مالا

حد الحرابة على من لم يصب نفساً ولا مالاً بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فإن لم يصيبوا نفساً ولا مالاً يبلغ نصاب السرقة نفوا، بأن يشردوا فلا يتركون يأوون إلى البلد]. تقدم بيان عقوبة النفي، وبينا مذاهب العلماء رحمهم الله فيها، والأصل في النفي التغريب والإبعاد، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في حقيقة النفي، فذهبت طائفة من العلماء إلى أن المراد بنفي أهل الحرابة أن يطلبهم الإمام فلا يتركهم يأوون إلى بلد، كلما استقروا في مكان طلبهم حتى لا يكون لهم قرار في الأرض، وهذا على ما اختاره المصنف رحمه الله، وهو مذهب طائفة من السلف رحمة الله عليهم أجمعين. وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالنفي الحبس، وأنه يحبسهم الإمام، ثم اختلفوا على وجهين: فمنهم من قال: يحبسهم في بلد غير الموضع الذي كانت فيه الحرابة، فيبعدهم عن بلادهم مسافة القصر كما يختاره المالكية، ومنهم من قال: يحبسهم حيث شاء، وهذا اختيار الحنفية رحمة الله على الجميع. والأصل أن النفي عقوبة شرعية، جاءت على قسمين في الحدود والجنايات والجرائم: القسم الأول: النفي الذي هو مقدر ومنصوص عليه كحد من الحدود. والقسم الثاني: النفي الذي يقع عقوبة تعزيرية، فنفي الحرابة من النفي الذي هو حد من حدود الله عز وجل، وإذا تعين فليس للحاكم ولا لأحد أن يسقطه؛ لأنه من العقوبة، وهذا النفي يكون في حد الحرابة واجباً، ويكون أيضاًً في حد الزنا واجباً، والصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله أن النفي والتغريب ثابت في حق الزاني البكر ذكراً كان أو أنثى؛ وفي حديث عبادة في الصحيح عنه رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام)، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (تغريب عام) أثبت النفي. ولكن نفي الزنا يختلف عن نفي الحرابة، فإن نفي الزنا جاء فيه التحديد في المدة، وأما نفي الحرابة فلم يأت فيه تحديد بمدة، ومن هنا اختلف العلماء رحمهم الله، فبعض أهل العلم قال: يقاس حد الحرابة على حد الزنا، فيطلبهم الإمام وينفيهم سنة كاملة، ومن أهل العلم من قال: يطلبهم ويتابعهم ويؤذيهم ويضر بهم حتى يتوبوا ويرجعوا إلى الله عز وجل؛ لأن النص جاء مطلقاً. وأقوى القولين أن النفي في حد الحرابة لا حد له، وأنه غير مقدر بسنة ولا يمكن فيه القياس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حد عقوبة الزنا ولم يحد النص الشرعي الوارد في كتاب الله عز وجل حد الحرابة. وبناءً على ذلك: تبقى هذه العقوبة إلى صلاح المحاربين، فإن تابوا وأصلحوا ورجعوا إلى الله رفعت عنهم العقوبة، وإلا بقي طلب السلطان لهم حتى يتمكن منهم. ومن أهل العلم من قال: النفي أن يبعدوا إلى ديار الكفر، وهذا قول أنس بن مالك في طائفة من السلف في تفسير الآية الكريمة عنه رضي الله عنه. والصحيح أنهم لا يغربون إلى بلاد الكفر؛ لأن هذا أعظم وأشد بلاءً، والأشبه فيه أنه يحتمل أن أنساً رضي الله عنه نزع إلى هذا القول؛ لأن هناك قولاً أن المحاربين في الأصل مرتدون، ومن هنا ينفون عن بلاد المسلمين، بمعنى أنهم يبعدون إلى من هو مثلهم من الكفار، وحينئذٍ يستقيم هذا القول مع الأصول، وإلا لا يمكن أن نقول: إن مسلماً ينفى إلى بلاد الكفر؛ لأنه ربما ارتد -والعياذ بالله- عن دينه، أو على الأقل يكون فيه الفساد أكثر. والذي عليه العمل عند العلماء رحمهم الله أن آية المحاربين نزلت في المسلمين، وأن قضية العرنيين كانت صورة من صور الحرابة لا تقتضي تخصيص الحكم بها، والقاعدة في الأصول: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، حتى ولو كانت سبباً لنزول الآية الكريمة. والحاصل: أن النفي يفوض فيه الأمر إلى السلطان والقاضي والحاكم، فإن رأى أن المصلحة أن يسجنهم بأن قبض عليهم وأخذهم وأمر بسجنهم فله ذلك؛ لأنه مفوض للنظر في مصالح المسلمين، وإن رأى أن المصلحة أن يطلبهم فيزعجهم حتى يتوبوا ويرجعوا إلى الله عز وجل فله ذلك، ومن هنا تختلف أحوال وصور الحرابة، فيعطى لكل صورة ما يناسبها. وقد بين المصنف رحمه الله أن النفي عقوبة، وهذه العقوبة هي الثالثة، وقد نص الله عز وجل عليها بقوله في آية الحرابة: {أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33]، وعلى هذا النص قلنا: إن الصحيح أنه لا يتقدر بمدة معينة؛ لأن الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام لم يحدا هذا النفي حداً معيناً.

توبة المحاربين قبل أن يقدر عليهم

توبة المحاربين قبل أن يقدر عليهم وقوله: [ومن تاب منهم قبل أن يقدر عليه]. (ومن تاب منهم) أي: من المحاربين (قبل أن يقدر عليه): هذا شرط، أنه لا يحكم بالتوبة المؤثرة في إسقاط العقوبة التي هي لله عز وجل في حد الحرابة إلا إذا كانت قبل القدرة على المحاربين، أما لو تمكن منهم المسلمون وقدروا عليهم فيستوي أن يتوبوا أو لا يتوبوا، فيقام عليهم حق الله عز وجل. ومن أهل العلم من فصل بين حقوق الله عز وجل وحقوق عباده، والصحيح: أنه إذا قدر عليهم وجب تنفيذ حكم الله عز وجل فيهم، إذ لو فتح هذا الباب ما وسع المجرمون إلا أن يفعلوا ما شاءوا ويحاربوا المسلمين، فإذا قدر عليهم قالوا: تبنا، ومن هنا لا تقبل التوبة بعد القدرة بالنسبة للحكم القضائي، وينفعهم التوبة فيما بينهم وبين الله عز وجل، أما فيما بينهم وبين الناس، وحكم القضاء بوجوب الحد عليهم ولزوم تنفيذه على الإمام، فلا ينفع فيه إلا أن يكون قبل القدرة.

المعتبر في توبة المحاربين قبل القدرة عليهم

المعتبر في توبة المحاربين قبل القدرة عليهم والمراد بما قبل القدرة: أن يرجع هؤلاء قبل أن يتمكن منهم القاضي أو الحاكم. ومن أهل العلم من قال: إنه يجب أن تكون توبتهم بعلم الإمام، فيرجعون إلى الإمام ويسقط الإمام عنهم ذلك فتصح توبتهم، وهذا أُثر عن أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين علي بن أبي طالب، أنه جعل توبتهم مشروطة بإسقاط الوالي أو القاضي أو الإمام، كما نص عليه واختاره بعض العلماء رحمهم الله. والجمهور على أن توبتهم لا يشترط فيها أن يرفعوا أمرهم إلى الإمام، وإنما تكون توبتهم فيما بينهم وبين الله وفي ظاهر حالهم، فلو أنهم أسقطوا السلاح، ورجعوا إلى جماعة المسلمين، وظهرت عليهم أمارات الخير والاستقامة؛ فإنه يحكم بتوبتهم، ولا يشترط أن يرفعوا أمرهم، إذا ظهرت منهم التوبة والاستقامة قبل أن يتمكن منهم، وهذا هو الصحيح وهو مذهب الجمهور. ثم إذا قلنا: إن العبرة في رجوعهم وتوبتهم بصلاح حالهم، فهل تشترط مدة معينة لابد أن تمضي حتى يظهر منهم أنهم صادقون في التوبة؟ وجهان للعلماء رحمهم الله، قال بعض العلماء: لا يسقط الحد عن المحاربين إلا إذا مضت عليهم مدة من الزمان، واختلفوا في تقديرها، هل هي نصف حول؟ أو هي حول؟ قالوا: الحول يضبط حال الإنسان؛ لأن الإنسان يتحول فيه من حال إلى حال، فإذا مضى عليهم سنة كاملة حكم بتوبتهم، ومنهم من يقول حتى يمضي عليهم أكثر السنة وهو ستة أشهر فأكثر. والصحيح وهو مذهب الجمهور أنه لا يحد ذلك بزمان معين، وأن العبرة بإسقاطهم للسلاح ورجوعهم إلى جماعة المسلمين، وظهور التوبة عليهم ولو للحظة واحدة قبل أن يقدر عليهم.

ما يسقط عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم

ما يسقط عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم فإذا تابوا ورجعوا وأعلنوا توبتهم لله عز وجل ورجعوا إلى جماعة المسلمين فإنه يسقط عنهم حق الله عز وجل، ولكن حق العباد من المظالم التي ارتكبوها والأموال التي أخذوها ونحو ذلك من المظالم يطلب فيها القصاص، ويؤخذون بها كما سيبينه المصنف رحمه الله. إذاً: في حد الحرابة أمران: الأمر الأول: حق الله عز وجل وهو وجوب قتلهم إذا كان محكوماً بقتلهم وصلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وهذا الحق يسقط إذا تابوا، ولا يتعين قتلهم ما لم يكونوا قد قتلوا أحداً، فإذا قتلوا أحداً عمداً عدواناً وتمت شروط القصاص، دفع بهذا المحارب إلى ولي الدم، ويقال له: أنت بالخيار، إن شئت أخذت حقك، وإن شئت أخذت الدية، وإن شئت عفوت، فيجري عليه ما يجري على القصاص. فإن قيل: ما الفرق؟ قلنا: الفرق أنهم لو أُخذوا قبل توبتهم فإنه يجب قتلهم؛ لأنهم قتلوا، ويصلبون، ولكن إذا تابوا يُجعل الخيار لولي الدم، فهنا فرق بين الحالتين. الحالة الأولى: يتعين قتلهم ولو سامح أولياء المقتول. والحالة الثانية: إذا تابوا ورجعوا وأنابوا إلى الله عز وجل وصلحت أحوالهم نقول لهم: هذا ينفع فيما بينكم وبين الله، أما حقوق العباد فواجب عليكم أن تؤدوها وتردوها، وهذا هو أصح قولي العلماء وهو مذهب الجمهور. وعن بعض السلف وهو قول الإمام مالك رحمه الله أنها تسقط عنهم جميع الحقوق من السرقة والزنا وشرب الخمر وغيرها من الحقوق، ولكن لا يسقط عنهم الدم، فإذا قتلوا أحداً فإنهم يؤخذون بالقصاص، ومذهب مالك رحمه الله من أشد المذاهب الأربعة في الاحتياط للدماء، وهذا معروف عنه، وقد تقدمت الإشارة إلى جملة من المسائل التي كان يحتاط فيها للدماء، ويرى أن دم المقتول لا يذهب هدراً. ومن هنا قال: كل شيء يسقط عنهم من الحدود وإذا تابوا نفعتهم التوبة، وأما بالنسبة للدماء فإنه لا تنفعهم التوبة في حقوق العباد، أي: لا يسقط عنهم القصاص، وإذا قلنا: لا يسقط عنهم القصاص ولا الحقوق الواجبة عليهم فإنا نطبق شروط كل حد على حِدة، وحينئذٍ في حد الحرابة لا نعتبر المماثلة والمكافأة على التفصيل الذي ذكرناه، ولكن إذا تابوا فإنها تعتبر المماثلة والمكافأة واستيفاء الشروط المعتبرة للحكم بالقصاص. هذا الفرق بين حالة كونهم تابوا وبين كونهم أُخذوا بحد الحرابة. وقوله: [سقط عنهم ما كان لله] أي: أنه لا يجب على القاضي أن يقيم عليهم الحد، والمراد به حد القتل وما تقدم من كون الحرابة لا يسقط حدها ولو عفا فيها أولياء الحقوق عن حقوقهم، لأن هذا الحق لله عز وجل. وقوله: [من نفي] (من) بيانية، والنفي يكون حقاً واجباً في موضعين: في حد الحرابة، وفي حد الزنا، ويرجع فيه إلى نظر ولي الأمر إذا كان نفياً تعزيرياً. والنفي التعزيري أن يجتهد القاضي فيرى من المصلحة إخراج هذا الشخص من هذا البلد، فينفيه إلى بلد ما، طلباً لاستقامته أو إبعاداً له عن بيئة فاسدة تعينه على الفساد، وهذا صحيح؛ فإن النفي يعين على التوبة وعلى صلاح الحال، وهذا النوع من النفي التعزيري له أدلة صحيحة، منها: قصة التائب الذي قتل مائة نفس، فقال له العالم: (ولكن قريتك قرية سوء، وقرية بني فلان فيها قوم صالحون فاذهب إليهم) فأمره أن يترك قريته، وحينئذٍ يكون في الإبعاد عن مدينته وبيئته ما يعينه على الصلاح. ولذلك ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (لعن المخنثين من الرجال، ولعن المترجلات من النساء) كما في حديث ابن عباس في صحيح البخاري، وفي رواية: (ونفى فلاناً وفلاناً) فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم النفي. ومن هنا إذا وجد شخص فيه فساد وعهر بحيث ينشر الفساد بين الناس فإنه ينفى عن هذا الموضع؛ حتى لا يضر غيره، فما وجدنا طعاماً فاسداً بين طعام صالح يصلحه، وإنما وجدنا أنه يسري فساده إليه. وأما بالنسبة لنفي الصحابة فقد فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فنفى نصر بن حجاج حينما وقعت به الفتنة في المدينة، ونفى كذلك صبيغاً حينما تكلم في آيات القرآن في المرسلات والعاصفات، وأورد الشبه، فنفاه رضي الله عنه، وهذا يسمى النفي التعزيري. والنوع الأول نفي العقوبة، وهو نفي الحرابة ونفي الزنا، والفرق بينهما: أنهما يجتمعان في شيء ويفترقان في أشياء، فيجتمعان في كون كل منهما واجباً، فيجب النفي في عقوبة الزنا للبكر على الصحيح من أقوال العلماء، ويشمل الذكور والإناث، ويجب النفي أيضاً في عقوبة الحرابة على ظاهر القرآن من الأمر؛ لأن الله جعله جزاءً محتماً لازماً ينبغي تنفيذه. ويفترقان في أن نفي الزنا محدد ونفي الحرابة غير محدد، وعند من يقول: نفي الحرابة هو الإبعاد كما يختار المصنف أنهم أن لا يتركوا يأوون إلى بلد، يختلف عن نفي الزنا، فإن نفي الزنا يكون على مسافة القصر، ونفي الحرابة يكون إلى أبعد. وبين رحمه الله أن التوبة تنفع، وهذا ظاهر القرآن؛ لقوله سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة:34] فبين سبحانه وتعالى أن شرط التوبة عدم القدرة، فإذا كان الأشخاص المحاربون قد تابوا وأصلحوا قبل قدرة السلطان والوالي عليهم سقط حق الله عز وجل في وجوب تنفيذ حد الحرابة عليهم. وقوله: [من نفي وقطع] (من) بيانية (نفي وقطع) فلا تقطع أيديهم إذا اعتدوا على الأموال، ولكن يجب عليهم ضمان هذه الأموال التي أخذوها وردها إلى أهلها، فلو أنهم اعتدوا على قافلة وأخذوا منها مائة ألف ريال وجاءوا وقالوا: نحن تائبون، وتركنا الحرابة، وسلموا أنفسهم، نقول: نسأل الله أن يتقبل منكم توبتكم، وعليكم أن تضمنوا المال المسروق الذي أخذتموه كاملاً. وفي قرصنة البحار لو أنهم اعتدوا على سفينة أو مركب فأخذوا منه حلي الناس وجواهرهم فإنه يجب ضمانه كاملاً، ولا تسقط عنهم حقوق المخلوق، ومن هنا فإن الأصول الشرعية تقتضي أن مال المسلم له حرمة، وأن اعتداءهم على المال المحترم شرعاً وهو مال المسلم يوجب عليهم الضمان، وقد تقدم معنا بيان هذه الأصول في حد السرقة، وأن السارق يجب عليه ضمان المسروق. قوله: [وصلب] أي: أنه لا تقطع أيديهم ولا يصلبون، فمثلاً: لو أنهم قتلوا وتابوا، وكان المقتول مكافئاً للقاتل، فحينئذٍ ننظر في طريقة القتل، فالحرابة لو أن ثلاثة كلهم محاربون، أحدهم أمسك السلاح لكي يمنع الشخص من أن يتحرك فهدده، والثاني ربطه وأوثقه، والثالث ضربه في موضع فقتله، فكلهم يقتلون، ويستوي من باشر ومن كان معيناً على القتل. لكن بالنسبة لحد القصاص لو اجتمع ثلاثة، فكانت سببية ومباشرة على التفصيل الذي ذكرناه في باب القصاص، وكانت السببية لا تفضي إلى إزهاق الروح، فحينئذٍ يجب القصاص على من باشر، وتسقط السببية على الأصل الذي ذكرناه أن المباشرة تسقط حكم السببية، بشرط أن تكون السببية غير مفضية إلى الزهوق. إذاً: هناك فرق بين عقوبة الحرابة وبين عقوبتهم أو أخذهم بالحقوق بعد توبتهم، فلو أن أحدهم قطع يد شخص، ففي الحرابة نقتص من هذا القاطع، ونقطع يده على التفصيل الذي تقدم معنا في القصاص في الأطراف، ولو أنه فقأ عيناً فقأنا عينه، ولذلك يؤخذ بجريمته، ويقتص من الفاعل المباشر، ثم المشتركون في الجريمة ننظر إذا كان اشتراكهم يؤدي إلى الحكم بكونهم مجرمين كلهم، فإننا نحكم بوجوب القصاص عليهم جميعاً، وهذا تقدم معنا في القصاص في النفس والأطراف، وأن قتل الجماعة بالواحد هو الصحيح عند العلماء رحمهم الله؛ لأن كل واحد منهم يصدق عليه أنه قاتل، وبينا وجه ذلك وخلاف العلماء فيه ووجه الترجيح لهذا القول. إذا ثبت هذا فإننا نسقط عنهم الصلب والقطع، فلا تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ولا يصلبون. ففي قوله: [والصلب]: لو حكمنا بالقصاص بأن واحداً منهم قتل مكافئاً، فقلنا له: توبتك تنفعك فيما بينك وبين الله، ولكن يجب أن يقتص منك لحق المقتول، واعترف أنه قتله، فقال أولياء المقتول: لا نسامح بل نريد القصاص، فإنه إذا اقتص منه وقتل لا يصلب؛ لأنه قد تاب، والصلب حق لله عز وجل فيما إذا كان قبل التوبة، وهذا على الأصل الذي ذكرناه أن التوبة تسقط هذه العقوبات؛ لأنها حق لله عز وجل. وقوله: [وتحتم قتل] تقدم أنه إذا ثبت أنهم فعلوا موجب القتل وعفا أولياء المقتول، لم يؤثر في الحرابة وأنهم يقتلون، وقلنا: إن الحق لله عز وجل ولو عفا أولياء المقتول، ولكن لو تابوا قبل أن يقدر عليهم سقط تحتم القتل، ونقول: لكم أن تعفوا، وإذا عفوتم سقط القصاص، إذاً: يكون لهم الخيار في حال التوبة، ولا خيار في وجوب وتحتم القتل إذا لم يتوبوا. وقوله: [وأخذ بما للآدميين من نفس وطرف ومال إلا أن يعفى له عنها] أي: فلو أنه قتل يقتل. وقوله: [وأخذ بما للآدميين] هذا يجعلنا نرجع إلى باب القصاص، فإن كانت جناية الذي جنى في النفس نظرنا إلى شروط القصاص في النفس، وإن كانت جنايته على الأطراف نظرنا إلى القصاص في الأطراف، وهكذا بالنسبة لبقية الأحكام.

الأسئلة

الأسئلة

حجب الدعاء بسبب الدين

حجب الدعاء بسبب الدين Q فضيلة الشيخ: هل يحجب الدعاء بسبب الدين، أثابكم الله؟ A الدين لا يحجب الدعاء، إلا إذا ظلم الناس وأكل أموالهم، فإنه إذا أخذ الدين بنية أنه لا يرده كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) فإذا أخذ الدين وفي نيته أنه لا يرده فحينئذٍ يكون قد أشبه المغتصب، وحينئذٍ لا يكون ديناً بل يكون غصباً، ومثل هذا يحجب الدعاء؛ لأنها طعمة حرام؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) وهو الذي يأخذ الديون، ويقول: إن شاء الله أسددك وهو يعلم جازماً أنه لا يسدده، وينوي في قرارة قلبه ويقول: هذا غني شبعان لا يضره إذا أخذت منه ألفاً أو ألفين أو ثلاثة آلاف، فلو أخذ منه ريالاً واحداًَ بنية أن لا يسدده أتلفه الله -والعياذ بالله- وعلقت نفسه ورهنت بحق الناس، فالواجب الحذر من هذا، وينبغي على الإنسان قدر المستطاع أن لا يقع في الدين. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.

وجه كون الحرابة محاربة لله ورسوله

وجه كون الحرابة محاربة لله ورسوله Q ما وجه كون الحرابة محاربة لله ورسوله، أثابكم الله؟ A وصف الذين يقومون بموجب الجناية بكونهم محاربين لله ورسوله بسبب الخروج عن جماعة المسلمين وحمل السلاح عليهم، وهذا لا يفعله مسلم؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حمل علينا السلاح فليس منا) والسلاح لا يحمله الإنسان إلا إذا كان محارباً، فإذا حمله وأشهره في وجه جماعة المسلمين فإنه لم يشهره في وجه شخص، إنما هو جانٍ على جميع المسلمين بقطعه لطرقهم وإخافته لسبلهم أو جنايته على أموالهم، على التفصيل الذي ذكرناه في الحرابة، وهذا يقتضي أنهم بتشكيل هذه العصابة وخروجهم عن جماعة المسلمين ووقوفهم في وجه مصالح المسلمين محاربين لله ورسوله، إذ هذا لا يفعله إلا العدو مع عدوه، فهذا وجه كونهم محاربين لله ورسوله. وانظر عظمة هذا الدين في تعظيمه للحرمات، وليس هناك أتم ولا أكمل من شرع الله {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115] فإنه هذب مجتمعات المسلمين وقوم أفرادها، وجعل كل إنسان يعرف التصرف الذي يصدر منه، وأنه إذا شهر السلاح في وجه المسلمين فهو ليس من المسلمين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حمل علينا السلاح فليس منا) فإذا جاء يحمل السلاح طمعاً في المال أصبحت حرمة المال ومحبته عنده أعظم من حرمة المسلم، ومن هنا يعظم الدنيا أكثر من تعظيمه للدين، وصار مثل الذي يقف في وجه المسلمين. وفي الحقيقة أنه لا يفعل هذا إلا الكفار والأعداء مع المسلمين، لكن أن يأتي إنسان ينتسب إلى الإسلام ويحمل السلاح على المسلمين ويقطع طرقهم، ويؤذيهم في دمائهم، فيسفك دماءهم، وينتهك أعراضهم، ويخيف سبلهم، ويقطع التجارة عنهم، والتي فيها أقوات الناس ومصالحهم؛ فإذا جاء يحمل السلاح على هذه المصالح كلها، فما معنى هذا؟ هل هذا يوصف بكونه موالاة لله ورسوله؟ هل يوصف بكونه مصلحة للإسلام والمسلمين؟ هذه عداوة للإسلام والمسلمين، ومن هنا وصفها الله بأشنع الأوصاف: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة:33] صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يدل على أنه ينبغي على كل مسلم أن يتحفظ في معاملته لإخوانه المسلمين، وما من أحد يقرأ نصوص الكتاب والسنة إلا ويجد نصوص الشريعة كلها تدل على تعظيم الحرمات، وأن الإسلام ليس بالتشهي ولا بالتمني ولا بالتسمي ولا بالدعاوى العريضة ولا بالأشكال، ولو طالت لحية الإنسان إلى قدميه، ولو قصر ثوبه إلى أعلى جسمه، فلا ينفعه ذلك إذا لم يكن معظماً لحرمات الله عز وجل: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) وقد تجد الرجل في شكل الصلاح والخير وهو عند الله في النار؛ لأنه لا يعظم حرمة، فتجده لا يبالي أن يسب عالماً أو طالب علم أو صالحاً، فأين الإسلام؟ الإسلام هو الاستسلام لله. وقد هذب الإسلام جماعة المسلمين وأفرادهم، وانظر إنكاره على الشذوذ عن جماعة المسلمين حتى في الصلاة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس في الحج فرأى حاجين من الصحابة رضوان الله عليهم في مسجد الخيف منفردين عن الجماعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليَّ بهما، فأتي بهما ترعد فرائصهما من الخوف، قال: ما منعكما أن تصليا في القوم، ألستما بمسلمين؟) فانظر كيف تعظيم أمر الشذوذ والخروج، فقال: (ألستما بمسلمين؟) فالإسلام يهذب الجماعة والأفراد: (قالا: يا رسول الله! صلينا في رحالنا، قال: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا). وقال -كما في الصحيح-: (يا أبا ذر كيف بك إذا كان عليك أمراء يؤخرون الصلاة إلى غير وقتها، قال: فما تأمرني يا رسول الله، قال: صل الصلاة لوقتها، ثم صلها معهم ولا تقل: إني صليت) كان ممكن للشخص أن يقول: أنا إذا صليتها في وقتها فقد قمت بالحق وأصبت السنة، فلماذا لم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر على الأقل أن يقول: أنا قد صليت، حتى يحيي السنة ويبين أن الناس في خطأ؟ والجواب: حتى لا يشق ولا يحدث بين المسلمين خللاً في جماعتهم، ولأن الصلاة لها أول ولها آخر، فانظر كيف يحرص الإسلام على هذه القضية، فالذي يأتي ويشهر السلاح فهو كما قال الله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} [المائدة:33] لأنه يشهر السلاح على جماعة المسلمين، ويقطع سبلهم، حتى ولو كان في المال والتجارة. ومن هنا تعلم أن دين الإسلام ليس دين العبادة والرهبنة فحسب، نعم هو دين العبادة والطاعة والإنابة، ولكنه دين شمولي يكون مع الإنسان في متجره في بيعه في شرائه، حتى جعل التاجر وهو يسافر يبتغي من فضل الله، ومن هنا يعلم الإنسان أنه يتقرب إلى الله عز وجل حتى ولو كان في ماله ولو في تجارته. وإذا كان الأمر كذلك فمعناه أن مصالح المسلمين التي أذن الله عز وجل بها لا يجوز لأحد أن يحول بينهم وبين ذلك، {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20] أي: يطلبون فضل الله، وقد نص جماهير المفسرين على أن المراد بها أهل التجارة الذين يريدون المال ولكنهم ينفعون المسلمين ولا يضرونهم، ينفعونهم بجلب أرزاقهم وكفايتهم مئونتهم، فإذا جاء من يحمل السلاح على هؤلاء تعطلت سبل المسلمين، فقلت الأرزاق في المدن، وانقطعت عن الناس، وغلت الأسعار، هل هذا فيه مصلحة لجماعة المسلمين؟ صحيح أن القضية مادية، لكن ما هي الآثار؟ البعض قد ينظر إلى الجريمة في عقوبتها من الشرع فيستعظم العقوبة، لكنه لا ينظر إلى حقيقة الجريمة وأثرها، بغض النظر عن آحاد الصور، خذ مثلاً: السرقة، قد يقال: كيف تقطع اليد، وتسيل الدماء، ويحرم الإنسان من الانتفاع من يده؟ لكن لو تصور الإنسان أن المجني على ماله جمع مالاً أفنى فيه وقته، وأعمل فيه جهده في سهر ليل وتعب نهار، حتى إذا جمعه ويريد أن يحصل مصلحة من مصالحه؛ إذا به يفاجأ بشخص يأتيه على غرة في ظلام الليل يأخذ هذا المال ويحرمه من هذا المال، وهو لا يعرف من هذا الشخص، تصور عاقبة هذه الجريمة، أولاً: ما أثرها النفسي؟ فقد يفقد الإنسان عقله؛ لأن الله عز وجل يقول عن المال: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا} [محمد:37] والله هو رب المال وهو المنعم بالمال، لكن النفوس من الشح وتعلق النفوس بالمال تبخل، فتصور أنه قد يفقد عقله؛ لأن هذا قهر له، حيث ظل يتعب ويكدح، ثم بكل بساطة يأتيه السارق ويختله، هذه واحدة، لكن الذي أعظم منها أن تنظر إلى المسروق الذي أُخذ منه المال يشك في كل من حوله -وهنا بيت القصيد- فلا يثق في أحد، وكل من يدخل داره حتى ولو كان ابنه فهو عنده في محل التهمة. ولذلك فرقت الشريعة بين من يأخذ المال علانية وبين من يأخذه خفية؛ لأنه يجني على المسلمين جماعة وأفراداً، وهذه كلها أسرار وحكم: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] فليس هذا الحكم عبثاً {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] فكل جريمة إذا نظرت إلى آثارها النفسية، وآثارها على الأفراد، وآثارها على الجماعة ثم نظرت إلى عقوبتها وجدت أنها مناسبة تماماً للجريمة، وقد جلست مع بعض المختصين في علم الاجتماع، يقول: إني أتعجب من تقدير الشريعة لبعض العقوبات، فإني حينما أدرس آثارها وتبعاتها النفسية، إذا بالعقوبة مناسبة تماماً للجريمة، لا تستطيع أن تزيد عليها ولا تنقص منها! إنه العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض. فوصف الله قطاع الطرق بأنهم محاربون لله ورسوله؛ لأنهم يقطعون السبل، تصور أنك يوماً من الأيام تريد أن تخرج من مدينة إلى مدينة، فلا تستطيع أن تخرج؛ لأن في الطريق قاطع طريق، كيف يكون أمرك؟ الذي يريد أن يعود مريضاً لا يستطيع أن يعوده، والذي يريد أن يصل رحماً لا يستطيع أن يصل رحمه، والذي يريد أن يجلب تجارة لا يستطيع، فتتعطل بذلك مصالح المسلمين، فإذاً: وصف القرآن بأنها محاربة لله ورسوله ليس فيه مبالغة ولا هو عبث، إنما هو شيء وراءه أسرار وحكم وغايات. ومن هنا إذا أردت أن تفند شبه أعداء الإسلام فقف معهم في الجريمة نفسها، وحلل آثارها على الأفراد والمجتمعات، تجد أن الخصم يسلم لك، وإلا فإنه يدمغ بحجة الله الدامغة؛ لأنه لا يمكن أن ينظر إلى جريمة مختصة بحال أو بشخص، ومن هنا وصفهم الله بهذا الوصف {يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة:33]. قد يقول شخص كما قال السائل: كيف يوصفون بهذا الوصف العظيم؟ هم لم يقولوا: نحن نحارب الله، ولا قالوا: نحارب رسوله عليه الصلاة والسلام، مثلاً: الشخص إذا جاء وحمل السلاح وخرجت عصابة منظمة للسطو -مثلاً- على السفن في البحر، فقد تجدهم يصلون، ولكن يقولون: نحن نحب المال، وبعضهم يعد هذا شجاعة والعياذ بالله {زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [فاطر:8] ويؤدي أعمال الإسلام، لكنه يقول: أنا مغرم بالمال، تقول له: أنت محارب لله ورسوله، يقول: لا والله، أنا لم أحارب الله ولا رسوله عليه الصلاة والسلام. لكن إذا جئت تنظر إلى قاعدة الإسلام العظيمة، وأن الرجل إذا دخل على فراش الرجل ولو كان قاتلاً لابنه لا يقتله؛ لأنه دخل في حرمة بيته، وكانت العرب في جاهليتها الجهلاء وضلالتها العمياء، لو جاء الجاني ودخل على فراش الرجل وطعم من طعامه فقد أصبح في حرمته يمنعه ظالماً أو مظلوماً، فإذا كان هذا في المخلوق -ولله المثل الأعلى- فكيف بالخالق سبحانه الذي يقول في الحديث الصحيح: (ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته). المؤمن له حرمة عند الله عز وجل، فمن يحارب المؤمن فقد حارب الله، ومن والى المؤمن فقد والى الله؛ إذا كانت المحاربة والموالاة مبنية على العقيدة والإيمان، وعلى كونه ولياً من أولياء الله عز وجل، ومن هنا إذا خرجوا عن جماعة الم

كيفية التوبة من الغيبة

كيفية التوبة من الغيبة Q هل تكفي التوبة من الغيبة لمحو الذنب أم لابد من الاستسماح من صاحبها، أثابكم الله؟ A التوبة من الغيبة تنفع الإنسان فيما بينه وبين الله عز وجل، ولا يسقط حق الشخص المغتاب حتى يسامحه بطيبة نفسه، وإذا لم يسامحه فإنه سيلقى الله بذنبه ويأخذ من حسناته على قدر جرمه، حتى إذا فنيت حسناته أُخذ من سيئات المجني عليه وحملها على ظهره -والعياذ بالله- ثم طرح في النار، فهذا فيه عظة للإنسان أن يتقي الله عز وجل في الغيبة. ومن أهم ما ينبغي للمسلم أن يحذره أن ينظر إلى سبب ودافع الغيبة، خاصة في هذا الزمان الذي أصبحت الغيبة من أسهل ما يكون، حتى لربما وقع الإنسان في الغيبة وهو لا يشعر، والذي يدفع الناس اليوم، إليها سببان ما اجتمعا في إنسان إلا انتهك حدود الله عز وجل في عباد الله وأولياء الله المؤمنين، ونسأل الله عز وجل أن يعيذنا منهما. السبب الأول: الاحتقار، ولذلك يجب على المسلم دائماً ألا يمسي ولا يصبح، ولا تغيب عليه شمس يوم ولا تشرق إلا وهو يعرف من هو المسلم؟ وما هي حرمة المسلم عند الله عز وجل؟ وعندها لا يمكن أن يفرق بين الناس بألوانهم أو بأحسابهم أو أنسابهم أو مناصبهم ووظائفهم أبداً، تجده يخاف من غيبة الفقير أكثر من خوفه من غيبة الغني، ويخاف من الضعيف أكثر من خوفه من القوي، وذلك من شدة خوفه من الله سبحانه وتعالى. فعليك أن تعرف أن هذا المسلم له حرمة وحق عندك، وأن كونك مسلماً يوجب عهداً وذمة للمسلم عندك، والله يقول: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10] (الإل): القرابة، و (الذمة) العهد، وأشد ما تكون الغيبة للقرابة، قد يجلس الشخص يقول: أبي يصرف المال الكثير، فهذه غيبة يهوي بها في نار جهنم، وهذه من أسوأ أنواع الغيبة، وهي غيبة الوالدين. السبب الثاني الذي يوقع في الغيبة: النقد، فقد أولع الناس بالنقد، وحرص الناس على النقد، تجد الشخص يجلس في أي مجلس يريد أن يبدي رأيه فيه، ويشجع الصغير على أن يصبح عنده جرأة، ويعلمه كيف ينتقد، وكيف يقول الصواب والخطأ؟ وما وجدنا كيف نعلم الصغار وننشئ أبناءنا إلا على الغيبة، والعياذ بالله! فالنقد طريق الغيبة، ومن أشنع الطرق أن الإنسان إذا تعود كلما جلس مع أحد أن يراقب أخطاءه، فهذا من المحرومين -والعياذ بالله- وفي الحديث: (طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس) فالذي تجده دائماً يجلس في المجلس وينتقد، وكما انتقد الناس عندك سينتقدك عند الناس، والذي تجده طويل اللسان صفيق الوجه لا يخاف الله في حرمات المسلمين، فبعض الأحيان تجده يجلس ويتكلم عن الإمام في المسجد ويغتابه، ويتكلم عن الخطيب في المسجد ويغتابه، يبدي رأيه في كل شيء، فهذا على خطر. ثم هم يقولون: نحن في زمان الحرية، وعليه فكل شخص يتكلم، وهي حرية إلى جهنم وبئس المصير -والعياذ بالله- لأنها حرية على حساب أعراض المسلمين، حرية على التهور واحتقار الناس وعدم المبالاة. فعلينا أن نهذب أنفسنا ونهذب أخلاقنا بترك احتقار المسلمين، والاحتقار كما يقع في عامة المسلمين يقع حتى بين طلاب العلم، طالب العلم القديم يحتقر طالب العلم الجديد، ويقول: من هذا حتى يأتي هنا، حتى يفعل أو يسأل أو حتى يقترب من الشيخ؟ وفلان أنا لا أحبه لأنه يسأل كثيراً ويفعل كثيراً، وما نريد كذا! فكل شخص يريد أن يقود الناس على طريقة معينة آمن بها ورضيها، لكن لو أن كل إنسان عرف قدر نفسه واشتغل بتهذيب نفسه وتقويمها، وشغلته عيوبه عن الناس لعرف أين يضع لسانه، والله ما من إنسان يراقب نفسه مراقبة تامة كاملة إلا سلم له دينه وعرضه، فتجد الإنسان الذي يعف عن أعراض المسلمين وفيه نظرة إلى عيوبه وخلله يشتغل بها عن عيوب المسلمين؛ تجده من أسلم وأحسن الناس. النفس إذا هذبها الإنسان وقومها بالخوف من الله والورع والعفة استقامت لله عز وجل، ولذلك تجد الإنسان إذا جلس في مجلس وسمع فيه غيبة يتضايق ويتذمر، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم لا يجلس في مجلس يغتاب فيه مسلم، ويقول: أنا لا أسمح بحسناتي أن يأخذها أحد، ويقول: أنا بخيل بحسناتي، أكون كريماً في كل شيء إلا بحسناتي فلا أعطيها لأحد، لأنك إن سمعت النقد في الشيخ، أو في المحاضر، أو المدرس، أو المعلم، أو الملتزمين وغير الملتزمين، أو في فلان وعلان، فاعلم أنك ستنتقد كما انتقد غيرك، وقالوا: من جر إليك عيوب الناس جر عيوبك إلى الناس. لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن ومن هنا قالوا: من اغتاب الناس اغتابوه، ومن سب الناس سبوه، ومن أهان الناس أهانوه. فعلى الإنسان أن يعلم أن هناك رباً حكماً عدلاً، فينبغي علينا في ترك هذه الآفة، أن يُحرص على الاشتغال بعيوبنا، وأن نترك عيوب الناس، إلا إذا كان المتكلم مصلحاً هادياً يفكر كيف يقود الناس إلى الخير، أما أن تجعل لحوم المسلمين وأعراضهم رخيصة فإن من فعل ذلك سيندم، ولكن الندم في أعراض المسلمين طويل ومؤلم، حينما يجلس يكتوي ليله ونهاره يريد أن يتوب إلى الله عز وجل، فإذا به لا يسقط عنه حق أخيه المسلم ما لم يسامحه، فيأتي إلى أخيه المسلم فيصده الشيطان ويقول له: كيف تجيء تقول له: اغتبتك، فيغلبه الحياء، أو الخجل، أو يغلبه إبليس، أو النفس الأمارة بالسوء، فتأخذه الأنفة والعزة بالإثم، حتى يموت الشخص فيعجز عن طلب السماح منه -والعياذ بالله- وعندها سيقف بين يدي الله عز وجل لكي يقتص منه. فالحذر كل الحذر، ومن هنا ما من عالم ولا طالب علم ولا خطيب ولا أي إنسان يلتزم بدين الله عز وجل، ويهذب الناس ويقومهم ويقرعهم بقوارع التنزيل في حقوق المسلمين بعضهم على بعض؛ إلا نصح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فما دمرت كثير من مصالح المسلمين إلا بسبب الغيبة، وما حرص أعداء الإسلام اليوم على شيء مثل أن يربوا في الأمة قضية النقد، فتجد الشخص ولو كان صغير السن لا يرضى عن أحد، ودائماً يفكر في المثاليات وكأنه يبحث عن شيء كامل. ومن أراد أن يبحث في الناس عن إنسان كامل فلن يجده، وسيتعب ويطول تعبه ويطلب المستحيل كما ذكر الحكماء والعقلاء، لأن الكمال لله عز وجل، والله يقول: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:8]. فإذا عاشرت المسلمين رحمك الله، فكن من خيارهم: إن رأيت خيراً حمدته، وإن رأيت عيباً سترته، وإن رأيت فساداً أصلحته، وإن رأيت اعوجاجاً قومته، وشغلتك عيوبك عن عيوب الناس، تمسي وتصبح وإذا بك تريق دمعة الندم والألم كلما آواك فراشك في الليل تفكر ما الذي قلته في المسلمين؟ وما الذي عملته مع المسلمين؟ وتفكر كيف تسعى إلى الأكمل والأفضل؟ فإذا فعلت ذلك وفقك الله، وفتح لك أبواب الرحمة. فإن المسلم دائماً يوبخ نفسه ويعاتبها حتى تستقيم على طاعة الله عز وجل، والنفس إذا كثر توبيخ الإنسان لها، ومحاسبة الإنسان لها: ماذا قلتِ؟ ماذا عملتِ؟ غداً لن أعود؛ طال عمره في الخير، وحسن عمله، وصلح لله عز وجل، لكن إذا كان من الغافلين -والعياذ بالله- فإنه خاسر، والأشقى من هذا والأدهى أن يزين له سوء عمله، وأن يقال له: إن غيبة العلماء والكلام فيهم قربة وحسبة، وأن جرحهم وسلبهم وكشف عوراتهم واجب حتى لا يغتر بهم. وانظر إلى عوقب من فعلوا ذلك، ما الذي شادوا من بناء؟ وما الذي أصلحوا من فساد؟ وما الذي قوموا من اعوجاج؟ والله ما زادوا البناء إلا هدماً، ولا زادوا الأمة إلا شقاءً وفرقة، حتى إن بعضهم حينما تاب يقول: والله ما وجدت إلا قسوة القلب، والتسلط على أعراض المسلمين؛ لأنه إذا تسلط على الصلحاء فمن باب أولى أن يتسلط على غيرهم، فيجب أن يرتدع الإنسان بزواجر التنزيل. وانظروا كيف أن السائل أصبح في حيرة، لا يستطيع أن يتوب من ذنبه إلا إذا رجع إلى صاحب الحق. وآخر ما نختم به ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين، فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى إنه كبير، أما أحدهما فقد كان يمشي بالنميمة) ومعنى: (وما يعذبان في كبير) أنه ليس كبيراً عليهما تركه ولا هو شاق، وانظر حتى شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم له جاءت محدودة، وما رفع العذاب عنه، ولكن خفف، فما بالك إذا أصبح الإنسان يغتاب الناس والعلماء، وينفر من مجالسهم، فإذا كانت النميمة بين شخصين في أمور الدنيا هذه عاقبتها، ولم يستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع في رفع العذاب، إنما قال: (لعله أن يخفف عنهما ما لم تيبسا)، فقط، فكيف بمن يتكلم في العلماء!! لابد أن يتأمل الإنسان هذا، وسنقول ذلك ونعذر إلى الله عز وجل، والسعيد من وعظ بغيره، فقد رأينا من العواقب الوخيمة لغيبة الناس أينما كانوا، وبالأخص لأولياء الله وصالحيهم، فإننا وجدنا العواقب الوخيمة لمن يجرؤ على ذلك، ومن يستخف بذلك، والله يستدرج العبد من حيث لا يعلم، ومن حيث لا يحتسب، اللهم لا تجعلنا ممن استدرجته، اللهم لا تجعلنا من المستدرجين، وخذ بنواصينا إلى ما يرضيك عنا يا أرحم الراحمين، والله تعالى أعلم.

الدخول مع الإمام في التشهد الأخير

الدخول مع الإمام في التشهد الأخير Q إذا حضرت صلاة الجماعة والإمام في التشهد الأخير، فهل أصلي معه أم أنتظر جماعة أخرى، أثابكم الله؟ A في قول جماهير العلماء يجب عليك أن تدخل مع الجماعة الأولى، ولا يجوز أن يقف الشخص ينتظر جماعة ثانية، والحديث واضح في هذا وصريح، قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) ومن هنا نلحظ الشذوذ عن الجماعة، وقد كان مشايخنا يقولون في هذا: إن الإنسان إذا أتى ولو قبل السلام بلحظة فليكبر ويدرك فضيلة الجماعة الأولى؛ لأن الجماعة الأولى فضيلتها في الوقت، والجماعة الثانية فضيلتها في العدد والتكثير، ويكتب لك فضيلة الخمسة والعشرين درجة مادمت قد أدركت الإمام قبل سلامه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل في مسجده تفضل على صلاته في بيته وسوقه خمساً وعشرين ضعفاً وذلك أنه إذا توضأ فأسبغ الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا كتبت له بها حسنة، وحط عنه بها خطيئة) الحديث، هذا كما في الصحيح من حديث أبي هريرة، فجعل الخمسة والعشرين درجة للخروج. ومن هنا تدرك فضيلة الجماعة الأولى، وأحد أقوال العلماء أن السبعة والعشرين درجة لمن أدرك الجماعة كاملة، والخمسة والعشرين درجة لمن أدرك الجماعة في آخرها، وأياً ما كان فإنك إذا أدركت الجماعة الأولى أدركت فضيلة الوقت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العبد ليصلي الصلاة وما يصليها في وقتها -أي: قد يكون بين الجماعة الأولى والجماعة الثانية ربع ساعة- ولما فاته من وقتها خير له من الدنيا وما فيها) أي: يمكن لو فاتك من أول الوقت دقيقة، فهذه الدقيقة في الثواب والجزاء خير من الدنيا كلها من أولها إلى آخرها، فقوله: (ولما فاته من وقتها) إشارة إلى أقل شيء من الوقت، (خير من الدنيا وما فيها) فتحرص على فضيلة أول الوقت في الجماعة الأولى، ولا يجوز لك أن تقف؛ لأن هذا شذوذ عن الجماعة، والواجب عليك أن تدخل مع جماعة المسجد، والله تعالى أعلم.

باب أحكام الصيال

شرح زاد المستقنع - باب أحكام الصيال قد يهجم على الإنسان من يعتدي عليه في نفسه أو ماله أو عرضه، وقد يكون هذا الهاجم آدمياً أو غير آدمي، وحينئذٍ قد يتمكن الإنسان من دفعه ورده عن حرمته وقد لا يتمكن، وهذا ما يعرف بمسائل الصيال، وقد فصل أهل العلم أحكامها المختلفة بأدلتها، وبينوا طريقة الدفع الشرعية، وما يترتب على ذلك من لزوم الضمان وعدمه.

معنى الصيال ومتعلقه وأدلة مشروعية دفع الصائل

معنى الصيال ومتعلقه وأدلة مشروعية دفع الصائل الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف -رحمه الله تعالى -: [ومن صيل على نفسه، أو حرمته، أو ماله: آدمي أو بهيمة، فله الدفع عن ذلك بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه به]: هذه الجملة وما بعدها إلى نهاية الباب خصها المصنف رحمه الله بأحكام الصائل، ومناسبة أحكام الصائل للحرابة واضحة ظاهرة؛ لأن المحاربين إذا اعتدوا على الناس صالوا على أنفسهم، وأعراضهم وأموالهم، وقد بيَّن حكم المحارب الذي يصول، فبقي أن يبين لنا حكم من صيل عليه. فهل يجوز للشخص إذا اعتدى عليه غيره، وأراد قتله، أو أخذ ماله، أو الاعتداء على حرمة من حرماته كعرض ونحو ذلك؛ هل من حقه أن يدفع؟ وهل هذا الدفع واجب عليه؟ وهل الأفضل أن يدفع أم لا إذا لم يكن واجباً؟ وكذا إذا قلنا بمشروعية الدفع فالدفع له مراتب وأحوال، فهل يجوز له أن يدفع بالأقوى مع إمكان الدفع بالأخف؟ كل هذا سيفصله المصنف رحمه الله في أحكام الصائل.

المواطن التي يدفع عنها الصائل

المواطن التي يدفع عنها الصائل يقول رحمه الله: (ومن صيل على نفسه) وفي بعض النسخ: (ومن صال) وهو أوجه. الصائل: اسم فاعل من صال يصول فهو صائل، إذا وثب على الغير واستطال عليه. ويطلق الصولان على القوة والاندفاع في الشيء، وهذا الصائل على الغير: تارة يكون آدمياً، وتارة يكون من غير الآدميين، وهنا المصنف -رحمه الله- يقول: (ومن صال) وبين بعد ذلك من هو فقال: (آدمي أو بهيمة) فهذا فيه عموم حيث يشمل كل من يهجم عليك، أو يهجم على الغير. فإن كان الصائل آدمياً: فإما أن يكون مكلفاً كالمسلم البالغ العاقل يهجم على غيره يريد أن يقتله، أو ينتهك عرضه، أو يأخذ ماله، وإما أن يكون من غير المكلفين، مثل: أن يكون مجنوناً يهجم على الإنسان بالسلاح، ويفاجأ الإنسان به وقد أشهر عليه سلاحه، أو أنه سكران، أو مخدر، وقد يكون صبياً مميزاً، أو غير مميز، وكل هذا يدخل في الصائل، وكذلك قد يكون بهيمة. ثم هذا الصائل إذا هجم على الغير قد يهجم بحق، وقد يهجم بغير حق، فقد يهجم الإنسان على الغير، ويهدده بالسلاح ومعه حق في هذا التهديد، كأن يكون الذي هُجم عليه مطالباً بحق لله عز وجل أو بجريمة، أو أُمر هذا الشخص أن يأتي بهذا الشخص الذي يصال عليه من أجل معرفة حق من حقوق الله عز وجل عليه، وهذا في حالة ما إذا كان الصائل معه حق، حتى البهيمة في بعض الأحيان تصول على الإنسان بحق، مثلاً: إذا دخل اللص إلى حائط بستان، وفيه كلب للحراسة، فإن هذا الكلب إذا صال على هذا الشخص فإن هذا حق من الحقوق؛ لأن الشرع أذن باتخاذ الكلب لحراسة الزرع ولحراسة الماشية، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه أذن بكلب الصيد والحرث والماشية، فإذا هجم الكلب في هذه الحالة فهذا بحق. وقد يكون بغير حق كما إذا هاج البعير أو الثور، وهجم على الإنسان، وخاف على نفسه، أو خاف على أموال عنده، بأن هجم على دكانه أو متجره، وغلب على ظنه أنه سيتلف أمواله، فكل هذا يدخل في أحكام الصائل، لكن كلام العلماء ينصب على حالة ما إذا كان الصائل بغير حق، وليس المراد إذا كان بحق. فمن هجم على الغير وعنده حق في هذا الهجوم، وله إذن شرعي، فإنه يخرج من مسألتنا، ولذلك قد يكون الهجوم على الغير من الجهاد في سبيل الله عز وجل، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الجند والشرط إذا هجموا على قطاع الطريق، أو هجموا على المجرمين، وكان المجرمون لهم سلاح وفتك، فإنهم إذا دافعوا عن أنفسهم أو طلبوا هؤلاء المجرمين يكونون كالمجاهدين في سبيل الله؛ لأنهم يحفظون دماء الناس وأعراضهم وأموالهم، ويقومون على مصالح المسلمين العامة؛ لأنه طلب بحق، فهذا الهجوم إذا كان له مبرر شرعي فإنه لا يدخل معنا في مسألة الصول. الصول المراد به هنا أن يكون بغير حق، مثل ما يقع في الحرابة وفي مسائل العصابات إذا هجمت على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وغير ذلك. يقول رحمه الله: (ومن صال على نفسه) الصول على النفس للقتل، ويثبت هذا بالأمارة، فيكون صائلاً على نفس الإنسان إذا أشهر عليه سلاحاً يقتل غالباً، أو وضع هذا السلاح على مقتل كالرأس وقال له: افعل كذا، أو ادفع لي مالك، أو يهجم على المرأة لانتهاك عرضها، أو يريد من عدو أن يقتله فيسفك دمه. وقوله: (أو حرمته): الحرمة: كالمرأة مثلاً يصول عليها من أجل أن يزني بها والعياذ بالله. وقوله: (أو ماله): أي: يصول عليه من أجل أن يأخذه. فبين رحمه الله محل الصول، والسبب الدافع لهذه الأذية والإضرار، وهو: قتل وإزهاق النفس، والاعتداء على العرض، أو أخذ المال. وأعلى هذه الأشياء وأعظمها حرمة النفس، ثم يلي ذلك العرض، ثم يلي ذلك المال، ولذلك فإن شدد الشرع في أحكام الصائل في النفس والعرض والمال، ولم يقع خلاف في النفس والعرض، ولكن وقع الخلاف في المال، ولذلك تجد العلماء لما قالوا بوجوب دفع الصائل، لم يختلفوا في دفعه إذا كان لأجل النفس أو العرض، ولكن الخلاف في المال هل يجب أم لا يجب؟ على تفصيل عندهم رحمهم الله.

لا يشترط لدفع الصائل أن يكون مكلفا

لا يشترط لدفع الصائل أن يكون مكلفاً وقوله: (آدمي) أي: سواء كان الصائل آدمياً، ويشمل الآدمي المعصوم، لأن الآدمي إما أن يكون مكلفاً، أو يكون غير مكلف، والمكلف: هو البالغ العاقل، وغير المكلف كالصبي، والمجنون، وفي حكمه السكران على الصحيح من أقوال العلماء، وقد تقدمت معنا مسائل السكر وتأثيره، وأن السكران غير مؤاخذ بأقواله وأفعاله على التفصيل الذي بيناه في طلاق السكران. وكذلك أيضاً: إذا تعاطى المخدرات يكون في حكم المجنون إذا فقد عقله وإدراكه. والصائل يكون بعقله وإدراكه، مكلفاً مؤاخذاً، وقد يكون غير مكلف كالصبي والمجنون. وأيضاً إذا كان مكلفاً بالغاً عاقلاً: فقد يكون معصوم الدم مثل المسلم، وقد يكون غير معصوم الدم كالكافر، وهذا عام. وقوله: [أو بهيمة]: البهيمة أيضاً تشمل البهائم الهائجة أو غير الهائجة، والمراد بذلك إذا كانت بدون حق.

أدلة مشروعية دفع الصائل

أدلة مشروعية دفع الصائل وقوله: [فله الدفع عن ذلك بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه به] أي: للشخص الذي يصال عليه دفع هذا الصائل بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه به، ومشروعية دفع الصائل ثبتت بها الأدلة الشرعية، أي: يشرع للمسلم أن يدفع عن نفسه وعرضه وماله. وأجمع العلماء رحمهم الله على العكس: أي أنه لا يجوز للصائل أن يصول على دماء الناس، ولا على أعراضهم، ولا على أموالهم؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد). فحرم الاعتداء على هذه الأمور، وشرع للمسلم أن يدفع، ولذلك قال تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] وإذا سكت الإنسان عن هذا الصائل، فمعناه أنه يسلم نفسه للهلاك، والله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] أي: لا تتعاطوا أسباب قتل النفس، فإذا سكت عن هذا الصائل فإنه سيقتله، ولا يجوز للمسلم أن يسكت عن الأسباب المفضية بنفسه إلى الهلاك، بل عليه أن يتعاطى الأسباب المنجية لنفسه من هذا الهلاك؛ ولذلك شرع له أن يدفع الصائل. كذلك السنة أكدت هذا، ومن هنا قال رجل: (يا رسول الله! أرأيت إن جاء يريد أخذ مالي، قال: لا تعطه، قال: أرأيت إن قاتلني، قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: أنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار) فأهدر دمه وأسقط حرمته لمكان الاعتداء، فدل على حق دفع الصائل؛ لأنه جعل دم الصائل هدراً. وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون نفسه فهو شهيد) وهذا يدل على مشروعية دفع الصائل، وأن على المسلم نفسه أمانة أن يتقي الله عز وجل في حفظها بتعاطي أسباب صيانتها عن الهلاك.

حكم دفع الصائل

حكم دفع الصائل وقوله: (فله الدفع) هذا الدفع فيه تفصيل: هل هو واجب؟ أو غير واجب؟ والعلماء مجمعون: أن من حق الإنسان أن يدافع عن نفسه، وعرضه؛ لثبوت النصوص بهذا، ولكن هل هذا على سبيل الفرض؟ أو على سبيل التخيير، أعني: التوسعة؟ يرى المصنف رحمه الله وهو مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه أن الدفع واجب، وأن الإنسان إذا هُجم عليه من أجل أن يسفك دمه، أو ينتهك عرضه، أو يؤخذ ماله بغير حق؛ أنه يجب عليه أن يدفع، إلا في زمان الفتنة. والإمام أحمد رحمه الله له مسلك عجيب في التعامل مع النصوص، وهذا المسلك له أصل عند السلف والأئمة والصحابة رضوان الله عليهم، وهو أن يعمل كل نص في مورده، ولذلك استثنى حال الفتنة، وجعل أحاديث الفتن التي ندب فيها النبي صلى الله عليه وسلم المسلم أن يكون عبد الله المقتول ولا يكون القاتل؛ جعلها محمولة على الفتن التي فيها تأويل، وما يقع بين المسلمين من الفتن، فالإنسان يحفظ نفسه فيها، وهي وصية النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يلزم بيته، قال: (ولو دخل علي في بيتي أأحمل معهم؟ قال: إذن شاركت القوم، قال: فما أفعل. قال: الزم بيتك، قال: حتى ولو دخل علي في بيتي؟ قال: ولو دخل عليك في بيتك) فهذا كله يدل على أن الفتن مستثناة. فجعل النصوص العامة في وجوب حفظ الإنسان لنفسه وعرضه وماله على ما هي عليه، وجعل الدفع هنا على سبيل الوجوب؛ لأنها دالة على الوجوب، واستثنى أحوال الفتن. ومن دقة المصنف رحمه الله أنه جعل لكل دليل دلالته، وجعل العام على عمومه، والخاص على خصوصه، ولم يحكم بالتعارض بينها. قال رحمه الله: (فله الدفع بما يغلب على ظنه): الشريعة كلفت المسلم بغالب الظن، بمعنى: أنه يجتهد ويقدر، فإذا غلب على ظنه أن الرجل سيقتله، ولا يمكن بحال أن يخرج من هذا القتل، وينجو منه إلا إذا قتله، فحينئذٍ يقتله، وغالب الظن متعبد به شرعاً، ومن تأمل النصوص في العبادات والمعاملات لم يشك أن الشريعة تعبدت بغالب الظن، وعلى ذلك جرت النصوص، وللإمام العز بن عبد السلام في كتابه قواعد الأحكام كلام نفيس في أن الشريعة تبني أحكامها على غالب الظن، وغالب الظن: هو نظر الإنسان.

التدرج في دفع الصائل

التدرج في دفع الصائل لما قال المصنف رحمه الله: (بما يغلب على ظنه) فمعناه: أنه لو شك وتردد، فعليه أن يتوقف، ويمتنع من الإقدام على شيء لوجود الشبهة، ولا يستحل دم الصائل إلا إذا غلب على ظنه أنه سيهلك، وغلب على ظنه أنه لا يمكن دفعه إلا بهذا. فمثلاً: إذا وجه السلاح عليك إنسان، في بعض الأحيان يغلب على ظنك أن السلاح فيه حشو، وتعرف الشخص أنه يحسن استعماله، وتعلم أو يغلب على ظنك أنه سيقدم مثل الفاسق المتهتك الجريء على الفعل، أو سبق له أن فعل ذلك، فحينئذٍ يغلب على ظن الإنسان أنه سيقدم على فعل. لكن لو كان الشخص ضعيفاً، ولم يغلب على ظن الإنسان أنه سيطلق عليه سلاحاً، وقد يكون من أهل المزاح والعبث، وحينئذٍ يصبح من غلبة الظن أنه لا يقتل، فحينئذ لا يستبيح. إذاً: لابد أن يغلب على ظنه وجود استباحة النفس والدم، وأنه لا يمكن دفعه إلا بهذه الطريقة. والدفع مراتب: أقلها وأول ما ينبغي أن يفكر فيه من الدفع: الكلام، فلو هجم شخص على شخص، وأمكن أن يدفعه بالأسهل والأخف، كأن يهدده بالكلام، ويقول له: إن هذا يضرك، ويعظه، ويذكره، ويغلب على ظنه أن الوعظ والتذكير سيؤثر؛ فلا يجوز له أن يضربه فضلاً عن أن يقتله، فضلاً عن أن يعتدي عليه؛ لأنه متى ما أمكن درء المفسدة بما لا ضرر فيه على الطرفين وجب وتعين المصير إلى ذلك، فإذا كان الكلام مؤثراً لم يجز له أن يقدم على الضرب. كذلك أيضاً إذا كان بإمكانه أن يصرخ، أو يستنجد بعد الله بجيرانه، أو يتصل كما هو موجود في زماننا فيطلب نجدة، أو يتصل بالمعنيين من أجل أن ينقذوه، فهذا لا رخصة له إذا غلب على ظنه أنه سينجو، وأن هذا سينفع، وأن هذا سيحول بينه وبين أذية الغير له في نفسه أو عرضه. كذلك المرأة إذا اعتدي على عرضها، وأمكنها أن تصرخ وتستغيث، فإنه لا يجوز لها أن تقدم على القتل. أما إذا كان الكلام لا ينفع، فقد تدرج العلماء إلى مسألة الضرب، والضرب يكون على صورتين: الضرب بالجارح، والضرب بغير الجارح. الضرب بالجارح: كالطعن بالخنجر، والجرح بالسكين. والضرب بغير الجارح أيضاً على صورتين: يكون بالسوط وبالعصا، فالأشياء التي يُضرب بها، إذا أمكن دفع ضرره بالضرب نظرنا: فإن أمكن دفعه بالأسهل وهو الضرب بغير الجارح، فحينئذٍ إن ضربه بالجارح ضمن، وإذا كان قد أمكن ضربه بغير الجارح ننظر: فالسوط أخف من العصا، ثم السوط يختلف على مراتب، فالضرب بالسوط من الجلد، ليس كالضرب بأسلاك الكهرباء، ونحو ذلك، فينظر إلى الأخف؛ لأنه لا يجوز الارتقاء إلى الأعلى مع إمكان دفع الضرر بالأخف. كذلك أيضاً: إذا تعذر دفع ضرره بالضرب، كالمرأة أو الرجل إذا هُجم عليه، فأمسك العصا، وهدد الذي يهدده أنه لو أقدم عليه فسيضربه بالعصا، فلا يجوز أن يمسك السلاح ويثوره عليه، كأن يطعنه بالسكين أو يطلق عليه النار؛ لأنه يمكن دفعه بما هو أخف. ثم إذا كان جارحاً كالأسلحة الموجودة في زماننا، فالجارح الذي يستعمله الإنسان يفصل فيه: فإن كان قد صال عليه يريد قتله، وعنده سلاح يريد أن يدفع به، فهذا السلاح إذا أمكن أن يضرب الصائل في يده فيعطله عن قتله لم يجز أن يقتله، وإذا قتله ضمنه، ومن هنا: تفصل الشريعة ولا تعطي الإذن باستباحة دم الصائل إلا في حال التعذر، وأن جميع هذه الوسائل لا تنفع، ولا يمكن بحال دفع ضرره إلا بقتله. فلو أنه وضع السلاح على حرمة الإنسان، وهدده أنه سيقتلها، وغلب على ظنه أن الرجل سيفعل، ولا يمكنه أن يضربه في يده، وغلب على ظنه أنه لو ضربه في يده قد لا يصيبه، فوجه سلاحه إلى رأسه من أجل أن يقتله مباشرة حتى لا يستطيع أن يقتل من تحت يده؛ حل له ذلك، وينذره إن وجد مجال للإنذار. وكل هذا التفصيل محله ألا يشتبك الطرفان، فإذا اشتبك الطرفان، وكان الحال حال مغالبة، والرجل معه سلاح يقتل، وتصارع معه، وغلب على ظنه أنه إذا لم يقتله أنه سيصل إلى السلاح ويقتله؛ قتله، وارتفعت هذه التفصيلات كما نص عليها طائفة من المحققين من العلماء رحمهم الله. فالتفصيل إنما يكون إن وسع الوقت، وأمكن تلافي الضرر، وأمكن التفكير في هذه الوسائل، أما لو هجم عليه هجوماً مباشراً، أو باغته وهو في بيته أو حرمته، ودخل عليه فجأة، أو دخل عليه وهو في غرفته، فلم يفاجأ إلا والرجل هاجم عليه، فحينئذٍ لو أخذ السلاح وقتله فله وجه عند طائفة من العلماء فيقولون: إنه يسقط التفصيل، لأنه لا يمكن؛ فهذا داخل عليه بسلاحه، وهو لا يستطيع أن تفكر أنه يقتل أو لا يقتل، ولا يدري هل هو سيبادر بالقتل أو يتأخر؟ فالظاهر أنه إذا دخل بهذه الصورة، فقد سقطت حرمته، وهو الذي أهدر دم نفسه، وحينئذٍ لا يودى وليس له حرمة، ودمه هدر. هذا كله إذا وقعت المباغتة أو هجم على الإنسان هجوماً مباشراً، ويقع هذا في بعض الجرائم المنظمة، وقد يقع في المدن والصحاري، كل هذا التفصيل يذكره العلماء رحمهم الله متى ما أمكن للشخص أن يمعن النظر ويفكر، أما إذا لم يمكنه وباغته وهجم عليه، وغلب على ظنه أنه لا يمكن دفع هذا الضرر إلا بقتله فإنه يقتله بكل حال. وقوله: [فإن لم يندفع إلا بالقتل فله ذلك ولا ضمان عليه]. أي: فإن لم يندفع الصائل أو البهيمة: كأن هاج بعير، والبعير أو الثور إذا هاج فإنه يقتل، فإذا هجم على الإنسان، وأخذ يبطش بالناس، وأنت ترى بعينك أنه قتل هذا وقتل ذاك، أو هجم الشخص هجوماً لا يمكن دفعه إلا بالقتل، كأن يكون الشخص واقفاً في مجموعة من الناس، فهجمت عليهم عصابة، فابتدأت بقتل من أمامها، وغلب على ظنه أنه سيفضي إلى الهلاك، فإنه يقتل بكل حال، وحينئذ لا يمكن الدفع إلا بالقتل، وهذا يوجب الرخصة، سواء كان في الصائل المكلف، أو الصائل غير الكلف على أصح قولي العلماء رحمهم الله.

الضمان في دفع الصيال

الضمان في دفع الصيال إذا قُتل الصائل فدمه هدر، ومن أهل العلم من قال: كل من صال لغير حق على ذي حرمة في دمه أو ماله أو عرضه، فإن دمه هدر. ومن أهل العلم من أخرج المال، وقال: إن القتل لا يكون من أجل المال، وظاهر الحديث قال: (لا تعطه قال: أرأيت إن قاتلني، قال: قاتله. قال: أرأيت إن قتلته، قال: هو في النار، قال: أرأيت إن قتلني، قال: أنت شهيد) فظاهره العموم، وهو شامل للجناية، بل إن الشخص يطمع في المال فيقتل من أجله، وعندما يأتي لطلب المال مسلحاً، أو العصابة تهجم على التجار مسلحة، فالغالب أنها ستقتل من أجل المال، وحينئذٍ يجوز قتل من صال من أجل أن يأخذ المال. وهل يجب على الإنسان إذا هجم على ماله أو صال عليه الغير من أجل أخذ ماله؛ هل يجب عليه أن يدفع؟ أما إذا صال عليه من أجل دمه فإنه يجب في قول طائفة من العلماء رحمهم الله وهو الصحيح، ومن أهل العلم من قال: لا يجب، بل يخير، ويجوز له أن يستسلم، ولا بأس في ذلك ولا حرج، لأن الله ذكر عن قابيل وهابيل أنه قال له: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة:28] فهذا استسلم ورضي أن يقتل. ولكن رد هذا بأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، وقد قال الله عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، وقال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29] أي: لا تتعاطوا أسباب القتل، ولأن من سكت على الظالم أن يقتله فقد أعانه على الظلم والعدوان، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قال: أرأيت إن كان مظلوماً أنصره، ولكن كيف أنصره وهو ظالم؟ قال: تحجزه وتمنعه عن الظلم، فذلك نصره) فهذا يدل على أنه يجب عليه أن يدفع، ولا يجوز له أن يستسلم. إذا أراد الإنسان أن يستسلم، ويرى أن المال أحقر من أن يقتل أخاه، فهذا رخص فيه بعض العلماء، والصحيح أنه إذا أشهر السلاح لقتله من أجل المال، أنه يجوز له أن يقاتله، وظاهر الآية الكريمة في النفس، ولكنها تعارضت مع الآيات والأحاديث الواردة في شرعنا، ولذلك لا يقوى الاحتجاج بها من الوجه الذي ذكرناه.

الخلاف في ضمان الصائل غير المكلف

الخلاف في ضمان الصائل غير المكلف وقوله: [فإن قُتل فهو شهيد]: أي: فإن قتل الذي صيل عليه فهو شهيد، أما إذا قُتل الصائل فدمه هدر، وقد اختلف العلماء رحمهم الله: هل حكمنا بكون الدم هدراً يشمل الصائل عموماً أم فيه تفصيل؟ يقول بعض العلماء: يفرق بين الصائل العاقل والمجنون والصبي، فإذا كان الصائل صبياً أو مجنوناً، فإن من حقه أن يقتله، مثلاً: هاج عليه مجنون ومعه السكين، وجاء يريد أن يطعنه، وغلب على ظنه أنه لا يمكن بحال أن يدفع ضرره إلا إذا قتله، فقتله. فإذا قتل المجنون فإنه لا يُقتص من الشخص بالإجماع؛ لأن له شبهة، والنبي صلى الله عليه وسلم درء الحد بالشبهات، وله الحق في دفعه، لكن كون هذا الشخص غير مكلف ولا عاقل، هل يوجب الضمان؟ قال بعض العلماء: يجوز له قتل المجنون والصبي، ولكن يجب عليه ضمان دمه، والصحيح أنه لا يضمن دمه، فلا تجب عليه الدية؛ لأن الشرع أذن له أن يدفع، وفي هذه الحالة يستوي أن يكون مجنوناً، ويستوي أن يكون عاقلاً؛ لأنه إذا سقط القصاص بإذن الشرع، سقط ما يترتب على الدم، وحينئذ لا يجب عليه ضمان النفس، ولا يعتبر ملزماً بالدية. فبين رحمه الله: أنه إذا قتل فلا ضمان عليه، وهذا يشمل الآدمي والبهيمة. فلو أن بعيراً هاج، وأصبح يبطش بالناس، يكسر أيديهم وأرجلهم، ويعضهم، ولربما يبرك على الشخص فيقتله، وكان عند شخص أطفال، أو هجم عليه وغلب على ظنه أنه لو تركه فسيقتله، فأخذ السلاح فقتله، أو تمكن من عقره فعقره، بأن ضربه في رجله أو يده، وعلم أن هذا يعطله عن الصول على الناس فله ذلك ولا ضمان عليه. وعلى هذا يصبح الشخص الذي ظُلم وصيل عليه غير مطالب بدم، ولا بضمان دية، ولا بقيمة، لا في الإنسان، ولا في الحيوان.

مرتبة الشهادة للمقتول في الدفاع عن نفسه أو ماله أو عرضه

مرتبة الشهادة للمقتول في الدفاع عن نفسه أو ماله أو عرضه وقوله: [فهو شهيد]: أي: لنص النبي صلى الله عليه وسلم. وسمي الشهيد شهيداً، قيل: لأن الملائكة تشهده، فإذا قبضت روحه حفته الملائكة، ففي الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله: (لما قتل أبوه عبد الله بن حرام يوم أحد، فجعل جابر يكشف عن وجه أبيه ويبكي فيمنعه قومه، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم أخته تبكي، فقال: تبكيه أو لا تبكيه، فما زالت الملائكة تظله حتى صعدت به إلى السماء) فقالوا: سمي شهيداً لأن الملائكة تشهده، أي: تحضره، والشهادة تكون بمعنى: الحضور، كما قال تعالى: {وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [القصص:44] أي: من الحاضرين. وقيل في تسمية الشهيد أقوال أخرى. وقوله: (شهيد): الشهادة على مراتب، فأعلاها وأعظمها أجراً وثواباً عند الله سبحانه وتعالى: الشهادة في سبيل الله عز وجل، أن يقتل من أجل إعلاء كلمة الله، بأن يكون القتال جهاداً شرعياً ولم يقصد به الحمية، أو المقاصد الدنيوية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: (الرجل يقاتل حمية، ويقاتل للذكر، ويقاتل للمغنم، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله). أي: من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، فيكون هناك غرض شرعي واضح. فراية الجهاد الشرعية من قتل تحتها فهو في سبيل الله، وإن كانت الراية عمية، فالحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل تحت راية عمية فهو إلى نار جهنم) والعياذ بالله، فلا تكن الشهادة شهادة إلا إذا كانت منضبطة بأصول شرعية، وأعلاها أن تكون في الجهاد، ثم بعد ذلك من كان مبطوناً فهو شهيد، ومن كان غريقاً فهو شهيد، والحريق شهيد، ومن مات بالطاعون فهو شهيد، والنفساء شهيدة، ومن قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد. ثم هذه الشهادة نفسها لها مراتب، أعنى الدفاع عن النفس، ومن قتل دون عرضه أيضاً على مراتب، وكل هذا يختلف باختلاف الشهادة والقتل نفسه، وعلى هذا إذا ثبت أنه يشرع للإنسان أن يقاتل، ولو غلب على ظنه أنه سيقتل فإن هذا نوع من الشهادة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على هذا: قال: (أرأيت إن قتلني قال: أنت شهيد) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون نفسه فهو شهيد) فهذا نص على أنها شهادة في سبيل الله عز وجل، لكن الشهادة إذا أطلقت فهي الشهادة في سبيل الله، فيشترط فيها: أولاً: أن تكون لأجل كلمة الله. ثانياً: أن تكون في المعركة. فلو أنه جُرح، ثم سحب من المعركة، فأخذ يتداوى ثم مات، فهذا نوع شهادة، لكنه لا يصل إلى الشهيد الذي مات في المعركة، بل يعامل معاملة الميت: فيغسل، ويكفن؛ ولذلك فإن سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه لما انفجر عليه جرحه الذي أصيب به يوم الأحزاب، داواه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم فاضت روحه ومات، ومع ذلك غُسل وكُفن، وأخذ حكم الميت، لكنها نوع شهادة، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم (اهتز عرش الرحمن لموت سعد) رضي الله عنه وأرضاه، وذلك من عظيم بلائه في الإسلام.

حكم قتل الصائل من أجل المال

حكم قتل الصائل من أجل المال وقوله: [ويلزمه الدفع عن نفسه وحرمته دون ماله]. أي: أنه لا يجب عليه أن يقاتل من أجل المال، وهذه المسألة خلافية، وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه يجب عليه أن يدفع حتى عن ماله؛ لأن سكوته يعين الظالم على ظلمه. والذين قالوا بالوجوب فرقوا بين المال القليل والمال الكثير، وقارنوا بين مفسدة الاعتداء على المال، ومفسدة الإضرار بالصائل.

حكم قتل الصائل إذا هجم على منزل

حكم قتل الصائل إذا هجم على منزل وقوله: [ومن دخل منزل رجل متلصصاً فحكمه كذلك]. أي: من دخل منزل رجل متلصصاً للسرقة، أو دخل دار رجل لهتك العرض والفساد، أو دخل دار رجل للقتل، فكله في حكم الصائل. ولو دخل من أجل المال فهو في حكم الصائل متلصصاً، واللص إذا دخل فغالباً ما يكون معه السلاح، لكن لا يجوز للشخص إذا دخل أحد يريد أن يسرق من ماله أن يقدم على قتله إلا بالتفصيل الذي ذكرناه. ومحل قتله إذا كان معه سلاح ويطلب المال، وكان يقصد أن كل من يقف في وجهه ليمنعه من أن يصل إلى المال فإنه سيقتله؛ فهذا يقتل، وأما إذا أمكن دفعه بالأخف دون قتله فقد تقدم تفصيل ذلك. وقوله: (متلصصاً) هذا ذكره في الآدمي، وقد تدخل البهيمة متلصصة، والبهيمة غير مكلفة، فلو دخلت البهيمة إلى دار الإنسان، كأن جاء بعير إلى التجار وهم يعرضون أطعمتهم، فهجم عليها ليأكلها وهذا يحصل كثيراً، وقد كانت هذه المسألة من المشاكل التي تشغل المحتسبين في الأسواق، حيث يأتي الناس بدوابهم، وبعضهم يعرض الطعام، فما يشعر إلا والبهيمة تهجم على الطعام، وبعض الأحيان تدخل إلى الدكان أو المتجر. إذاً يحصل من الآدمي ومن غير الآدمي، لكن المكلف تستطيع أن تتكلم معه، وأما البهيمة فلا، ولذلك يشرع دفعها. وقد كان أهل العلم يذكرون بعض الطرائف في دروسهم: وقد كان معنا طالب في دراسة الابتدائي، وكان من أذكى خلق الله، وكان من بيت علم وفضل، وفيه أدب، ولا أذكر أني رأيت شيئاً يعيبه في دينه أو دنياه، وكنا في السنة الثالثة الابتدائية، وكان صغيراً غير مكلف، لكن كان فيه شيء من الذكاء، فكان يأتي بعد تحضير المدرس، فإذا انتهى التحضير يأتي إلى حارس المدرسة، ويقول له: المدير يريدك، فيذهب الحارس، وقد وضع الطالب حقيبته وراء الباب، فيأخذ الشمطة ويخرج من الباب، وكان يأتي إلى الحارس في فترات حتى لا ينتبه له، وكان الحارس كبير السن، وفيه نوع من البساطة، وفي يوم من الأيام خرج بشمطته، وفعل فعلته، وشاء الله عند خروجه أن يكون أمامه ثور هائج، ومعه شمطة حمراء، والثور قد حبس الناس في الطريق، وفوجئ أن هذا خارج من المدرسة بشمطة حمراء يجري، فما كان منه إلا أن جرى وراءه، يقول: لقد جريت جرياً ما جريته في حياتي، أي: قرابة كيلو، حتى نجاه الله عز وجل، وبعد ذلك حرم أن يخرج من المدرسة. وهذا شيء طيب! أنه كلما يخرج الشخص من محاضرة أو درس يجد ثوراً هائجاً فهو يعين على طلب العلم. وتسقط حرمة البهيمة إذا صالت بالاعتداء على النفس أو المال، وهذا شرطه إذا لم يمكن دفعها بالأخف، فلو أمكن دفعها بالصياح عليها أو بالإشارة بالعصا ونحوها دون ضربها، فلا يجوز استباحة الأعلى؛ على التفصيل الذي ذكرناه في المكلفين.

الأسئلة

الأسئلة

طلب الصائل إذا قتل ثم هرب

طلب الصائل إذا قتل ثم هرب السؤل: لو قتل الصائل أحداً من أهل المصول عليه، وهرب الصائل، فهل لصاحب الدم أن يلاحقه؟ أم لا ترد مسائل دفع الصائل في هذه الحالة؟ A إذا هجم الصائل يريد المال أو العرض أو النفس، فإنه إذا صد فهرب لم يجز ضربه ولا عقره ولا قتله؛ لأن الحاجة انتهت بكف شره بانصرافه، وأما إذا قتل وأزهق الروح، فإنه إذا قتله المصول عليه -أخو القتيل- وقصده أن يقتص لأخيه المقتول، فحينئذٍ يكون قد أخذ بحقه، ولكن يعزره السلطان؛ لأن القصاص إنما هو للقضاة والحكام، فيعزره السلطان والقاضي بعد دراسة حاله، ومعرفة السبب الذي دعاه لذلك، وقد لا يعزره، كأن يكون هذا ردعاً للناس، وإذا سمع الناس ذلك خافوا، فحينئذٍ لا يعزره، فينظر القاضي أو الإمام في الأصلح. أما من حيث الأصل: فإنه إذا لم يفعل شيئاً وهرب، فإنه لا يجوز طلبه ولا عقره بالإضرار، أما طلبه فإنه يشرع أن يطلبه من أجل أن يرفعه ليؤدب ويعزر، حتى لا يفعل مع الناس مثل فعله. أما لو قتله على أنه صائل، فهذا فيه الضمان على التفصيل الذي ذكره العلماء رحمهم الله في مسألة القتل، أما لو نوى به القصاص، فحينئذٍ يكون قد أخذ بحقه، وسقط القصاص في هذه المسألة. والله تعالى أعلم.

الفرق بين قتل الصائل والقتل بسبب العداوة

الفرق بين قتل الصائل والقتل بسبب العداوة Q أشكل علي في مسائل دفع الصائل حديث النبي صلى الله عليه وسلم (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)؟ A هذا لا علاقة له بالصائل، فقوله: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما) المراد به: أن يحصل بين الشخص والشخص عداوة، فتأخذ الإنسان الحمية والغضب فيرفع السلاح، فيرفع عدوه السلاح ويقتتلان، إما من أجل أن يثبت أنه قوي، أو أنه أشجع من الآخر. هذه أمور تقع في الخصومات والنزاعات بين الناس، فكل منهما يريد أن يثبت أنه هو الشجاع، وأنه هو الأقوى، فما حصل من الهيشات بين الناس والخصومات والنزاعات ويقصد بها إراقة الدماء على هذا الوجه؛ فالقاتل والمقتول في النار؛ لأن المراد بهذا الحمية والعلو، وكل منهما تأخذه أنفة فيقول: لماذا يقاتلني فلان؟ أنا أقوى منه! وأكثر ضرراً منه! فهذا يحمل السلاح، وهذا يحمل السلاح، فالقاتل والمقتول في النار. ثم هذا ليس غرضاً شرعياً، أما أن هذا صائل فلا، وليس له علاقة بمسألتنا ألبتة، فهذا شيء، وهذا شيء آخر، فهنا وجد الموجب الشرعي للمصول عليه أن يدفع، ووجد الوصف الشرعي للصائل بالظلم، وأما إذا التقيا بسيفيهما فهي خصومة ونزاع، وقد تكون لأتفه الأسباب، وقد تكون حتى بدون سبب، بأن ينظر إليه، فيقول له: لماذا تنظر إلي؟ فيقول: ومن أنت حتى تقول: لا أنظر؟ فحمل هذا سلاحه، وحمل هذا سلاحه، وقتل كل منهما الآخر، (قال: يا رسول الله! قد علمنا القاتل يذهب إلى النار، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) فلم يكن قتلاً لله، أو لإعلاء كلمة الله، ولا قصاصاً ولا بحق، فأصبح موجباً للدخول في النار؛ لأن من أكبر الكبائر إزهاق النفس، وقتلها بدون حق. والله تعالى أعلم.

حكم التشريك بين الأضحية والعقيقة

حكم التشريك بين الأضحية والعقيقة Q ما حكم من أشرك نية العقيقة بنية الأضحية في يوم عيد الأضحى؛ لأنه وافق الأسبوع الثاني لولادة الطفل - أي: اليوم الرابع عشر- فكانت الشاتان بنية العقيقة والأضحية؟ وماذا عليه؟ A لا يجزئ أن يجمع بين نيتين؛ لأن العقيقة مقصودة، والأضحية مقصودة، ولذلك لا يحصل الاندراج، فالأضحية مقصودة لدى الشرع، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانهاأخرى) فكل مكلف قادر مطالب أن يذبح ذبيحة خاصة، شعيرة لهذا العيد، وسنة بقصد، بمعنى أنها مقصودة. وأما العقيقة فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أنها متعلقة بالولد، فقال: (كل مولود مرهون بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه) فهذا يدل على أن الشرع قصد أن يُذبح عن الغلام، وأن يعق عنه، وهذا لا يحصل فيه الاندراج، فلم يصح الجمع بين النيتين. والله تعالى أعلم.

حكم الدخول بالمرأة المعقود عليها قبل إعلان النكاح

حكم الدخول بالمرأة المعقود عليها قبل إعلان النكاح Q ما حكم الرجل يباشر المعقود عليها - زوجته- قبل إعلان الدخول بها؟ A هذه المسألة ينبغي التنبيه عليها، وعلى ولاة أمور النساء ألا يسمحوا للأزواج بالدخول قبل إعلان النكاح؛ لأنه يترتب على هذا مفاسد عظيمة، يأتي الزوج يزور الزوجة بعد العقد وقبل الدخول، فيدخل بها في بيت أهلها، فلو فرض أنه توفي، ولم يعلم أحد أنه دخل بها، ثم فوجئ الناس أن المرأة حامل، فكيف يكون الحال؟ وكذا لو كان رجلاً فاسداً -والعياذ بالله- أو فاسقاً ودخل بها، واستمتع بها، ثم قال: لا أريدها، فإن قيل: لماذا؟ قال: اعترفت لي بالحرام، ثم فوجئوا أنها حامل، وهو فاسق متهتك! فعلى أولياء أمور النساء أن يتقوا الله عز وجل، وقد حصلت مشاكل كثيرة في هذا الأمر، وكذلك ينبغي على الزوج أن يحذر من هذا؛ لأنه في بعض الأحيان قد تكون بعض النساء فاسدات، ونحن لا نتهم النساء، لكن نعرف ذلك من تنبيهات بعض العلماء والمشايخ؛ فإذا كان فيها فساد في عرضها، وقامت واستدرجت الرجل، وأحدثت له نوعاً من المباشرة قبل الدخول لأجل أن لا ينتبه لبكارتها، ثم انسحبت كأنها خائفة، ثم تدرجت معه إلى ذلك حتى تستر ما بها من الفساد، فهذه أمور فيها أضرار على الزوج والزوجة. وعلى الناس أن يتقوا الله عز وجل، وألا يكون الدخول إلا على الوجه المعروف المشهور، حتى يكون أسلم للإنسان من الفتنة، وأبعد من الريبة، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم باتقاء ما فيه ريبة، وهذا فيه ريبة، وإن كان الأصل جوازه، لكن جرى عرف الناس على شيء، فليعمل به. ثم على الزوج أن يكون عنده حياء من الله عز وجل ثم من الناس، كيف يأتي المرأة في أهلها دون علم وإذن من أهلها، هذا أمر ممقوت لا يفعله إلا ضعاف النفوس، فالإنسان الصالح تمنعه ديانته وشيمته ويأنف من أن يأتي الزوجة عند أهلها، نعم هي زوجته ولكن ليس كل شيء مباح يباح، فمثلاً: كشف الرأس مباح، لكن إتيانه على غير الوجه المعروف مسقط للمروءة، وموجب لرد شهادة الإنسان. وعلينا أن نتقي الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت) فينبغي أن يكون عند الإنسان حياء من الله عز وجل يردعه ثم من الناس. فالذي يظهر منع هذه الأمور؛ خوفاً من ضياع الحقوق، لكن لو حصل ترتيب، وعلم أهل الزوجة، وحُفظت الحقوق، فإنها زوجته، فلو دخل عليها فليس عليه من شيء، لكن نحن نتكلم عن المفاسد والأضرار التي تنبني على الخفاء.

باب قتال أهل البغي [1]

شرح زاد المستقنع - باب قتال أهل البغي [1] من المعلوم لدينا أننا في زمن الفتن التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم، ومما يميز هذه الفتن كثرة ظهور أهل البغي، الذين يتكلمون في العلماء والسلف، وقد يؤدي بهم هذا إلى فعل الخوارج، لذا لزم معرفة من هم الذين يحكم أنهم أهل بغي وما هي شروطهم، ومتى كان أول ظهور لهم في أمة الإسلام.

قتال أهل البغي

قتال أهل البغي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

صور الخروج على الإمام وجماعة المسلمين

صور الخروج على الإمام وجماعة المسلمين فيقول المصنف رحمه الله: [باب: قتال أهل البغي]. تقدم تعريف القتال، أما البغي فأصله الاعتداء، ومجاوزة الحد والعلو والاستطالة، هذه كلها معانٍ ذكرها أئمة اللغة رحمهم الله، يقال: (بغى) إذا طغى وجاوز الحد في أذية الناس وأذية الغير، وبغى على فلان إذا استطال عليه. وقوله رحمه الله: [باب قتال أهل البغي] البغاة هم الخارجون عن إمام المسلمين وجماعته، ويوصف هذا الباب بباب قتال أهل البغي، أو باب أهل البغي، كما يعبر بذلك بعض العلماء رحمهم الله، وظاهر صنيع المصنف رحمه الله أنه ربط بين باب الحرابة وباب قتال أهل البغي، وحينئذ تكون المناسبة كالآتي: وهو أن الخروج على الإمام وجماعة المسلمين له صورتان: الصورة الأولى: أن يكون الخروج بدون تأويل سائغ، بمعنى أنه لا يكون هناك شبهة ولا تأويل، كما سيأتي تفصيله إن شاء الله. والصورة الثانية: أن يكون الخروج بتأويل وشبهة. فأما ما كان بدون تأويل وشبهة فهو خروج المحاربين، وقد بينه رحمه الله وانتهى من أحكامه التي فصلناها فيما مضى. وأما الخروج بشبهة وتأويل فهو الذي يعتني العلماء رحمهم الله ببيانه في باب قتال أهل البغي، فلما انتهى من بيان حكم الحرابة شرع في بيان قتال أهل البغي، والمناسبة من هذا الوجه واضحة، حيث يجتمع البابان في حكم الخروج، فينفرد الباب الأول بأنه خروج من دون تأويل، والباب الثاني بأنه خروج بتأويل وشبهة. ومن أهل العلم رحمهم الله من فصل بين البابين، وجعل قتال أهل البغي منفرداً عن باب الحرابة، ولكن يلاحظ أن العلماء رحمهم الله ذكروا باب قتال أهل البغي في كتاب الجنايات، وجعلوه متصلاً بالحدود والجنايات. والسبب في هذا أن البغاة والخارجين عن جماعة المسلمين قد جنوا جناية شرعية توجب عقوبتهم بالقتل، كما سيأتي إن شاء الله تفصيله؛ وذلك لورود النصوص في الكتاب والسنة بمعاقبتهم بذلك، قطعاً لدابرهم واستئصالاً لشأفتهم، ودفعاً لمفاسدهم وشرورهم عن الإسلام والمسلمين؛ فهذه العقوبة تتصل بباب الجنايات من جهة المؤاخذة على الفعل في كل منهما، ومن هنا يعتني العلماء رحمهم الله بذكر قتال أهل البغي في كتاب الجنايات من هذا الوجه. فمنهم من يقدمه كما يفعل بعض أئمة الشافعية، ومنهم من يؤخره كما يفعل أئمة الحنابلة رحمة الله على الجميع. ومما ينبغي التنبيه عليه: أن الخروج على الأئمة من حيث الأصل فيه جانبان: الجانب الأول: التقعيد والتأصيل لمسألة الإمامة وشروط الإمام والإمام العدل، والطائفة المتعلقة به وهم الذي يسمون بأهل العدل. الجانب الثاني: ما يتعلق بعقوبة الخروج عن هذه الجماعة. فأما بالنسبة للفقهاء والمحدثين رحمهم الله فقد تناولوا جانب العقوبة وهذا هو المتصل بكتاب الجنايات، وهو محل حديثنا. وأما الإمامة فهذا من شأن أئمة العقيدة، يبحثونه في مسائل العقيدة تقريراً لمنهج أهل السنة والجماعة رحمهم الله في وجوب لزوم جماعة المسلمين، وعدم الخروج على الأئمة، وتقعيد ذلك وتأصيله بنصوص الكتاب والسنة. ومن هنا نجد الفقهاء رحمهم الله يبحثون في هذا الباب عن: متى تكون العقوبة؟ وما هي الشروط التي ينبغي توفرها لمعاقبة أهل البغي؟ وماذا يجب على الإمام أن يصنع؟ وكيف تتم محاورتهم؟ ونحو ذلك من الأمور المتعلقة بمواجهة هذا البلاء، ولكن لا يبحثون في باب الإمامة لاتصاله بالعقيدة أكثر من اتصاله بالفقه. ومن هنا سيكون الحديث عن موجب وسبب الجناية، ثم بعد ذلك العقوبة المتعلقة بالخروج، وهذا شأنه شأن بقية الجنايات التي ذكرناها في الحدود والقصاص.

معالم أهل البغي

معالم أهل البغي يقول رحمه الله: [باب: قتال أهل البغي] سيذكر المصنف رحمه الله ضابط البغي، وهذا يتعلق بالتعريف الاصطلاحي، وسنؤخره إلى أن يذكره رحمة الله عليه. فالبغاة لهم ضوابط ذكرها العلماء أشبه بالتعريف لأهل البغي من جهة الاصطلاح: وهم القوم الخارجون على الإمام وجماعة المسلمين، ولهم شوكة ومنعة بتأويل وشبهة. هذه أهم المعالم التي ينبغي توفرها للحكم على من خرج بكونهم بغاة وآخذين حكم أهل البغي. قوله: [إذا خرج قوم لهم شوكة ومنعة على الإمام بتأويل سائغ فهم بغاة] ذكر أربعة شروط: الشرط الأول: الخروج على الإمام وجماعة المسلمين. الشرط الثاني: أن يكونوا قوماً وجماعة ذات عدد على تفصيل عند العلماء رحمهم الله في هذا الموضع. الشرط الثالث: أن تكون لهم شوكة ومنعة. الشرط الرابع: أن يكون عندهم تأويل سائغ، أو كما يقول بعض العلماء: عندهم شبهة. فهذه أربعة شروط لابد من توفرها للحكم بكونهم بغاة. وهناك من العلماء أو الأئمة -مذهب الشافعية وغيرهم- من ذكر اشتراط أن يبايعوا إماماً لهم، أي: ينفردوا بإمام، وهذا اختلفت فيه أنظار العلماء، فمنهم من اشترط ذلك لمقاتلتهم، ومنهم من قال: إنه ليس بشرط أصلاً، فإن مجرد خروجهم وانعزالهم عن جماعة المسلمين، وكونهم لهم شوكة ومنعة، يكفي للحكم بأنهم أهل بغي، ولا يشترط أن يكون لهم إمام، وهذا أقوى في الحقيقة.

تاريخ الإمام علي مع الخوارج

تاريخ الإمام علي مع الخوارج قوله رحمه الله: [إذا خرج قوم]: الخروج معتبر للحكم بكونهم بغاة، والأصل في ذلك أن الخوارج خرجوا على علي رضي الله عنه وجماعة المسلمين، ومن هنا ذكر العلماء رحمهم الله أن حد الحرابة وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالعرنيين، والبغي وقع في زمان علي رضي الله عنه بخروج الخوارج عليه، وإن كان من أهل العلم من يذكر بعض النماذج في حرب الردة تتعلق بطوائف كانوا في حكم أهل البغي، ولذلك يرون أن الخروج أول ما حدث في عهد أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه. ولكن خروج الخوارج على علي رضي الله عنه، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الطائفة -طائفة الخوارج- بأنها مارقة، وأنها باغية، يقتضي أنهم أول من خرج. ويعتبر هذا الأمر من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أخبر عن هذه الجماعة قبل خروجها بأكثر من عشرين سنة، أو ما يقارب ربع قرن، ووصفهم بصفات وجدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كاملة غير ناقصة، واضحة غير ملتبسة، حتى وصف منهم ذا الثدية، وقصة علي في الصحيحين معه واضحة، وأنه وجده بين القتلى، فكبر وحمد الله عز وجل.

صفات الخوارج كما جاءت بها الأحاديث

صفات الخوارج كما جاءت بها الأحاديث وقد صحت النصوص في وصفهم كما في الصحيحين من حديث علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيخرج في آخر الزمان ... ) قوله: (في آخر الزمان) فسره علي رضي الله عنه بالخوارج، وقال بعض العلماء رحمهم الله: إن هذا لا يختص بزمان علي، فإن علياً رضي الله عنه كانت عنده نصوص أخرى غير هذا الحديث. لكن لا ينبغي لطالب العلم أن يجعل هذه الصفة نصب عينيه، وأن يعلم الزمان الذي هو فيه، قال: (سيخرج في آخر الزمان أقوام حداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون بقول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) حداث الأسنان: صغار السن. سفهاء الأحلام: في عقولهم ونظرهم سفه وخفة. يقولون بقول خير البرية: أي كلهم يدعي أنه صاحب سنة وأنه صاحب حق وأنه أولى بالكتاب والسنة. يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية: في اللفظ الآخر: (يقرءون القرآن) وفي لفظ آخر: (لا يجاوز الدين حناجرهم) أي: تجده يقول لك: أنا مسلم، أنا مؤمن، أنا على مذهب أهل السنة والجماعة؛ لكن لم يدخل الإيمان في قلبه، ولا يرقب لمؤمن حرمة، ولا يرعى فيه ذمة؛ لأنه لو كان في القلب إيمان، لكان أخوف ما يخاف من حدود الله عز وجل، وأبعد ما يكون من محارم الله؛ لأنه لا يعصم الإنسان -بعد توفيق الله عز وجل- شيء مثل الإيمان، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) فبين عظيم أثر الإيمان في القلوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن إيمانهم في ألسنتهم ولكن لم يستقر في قلوبهم. واليوم -ما شاء الله- في الإنترنت -ولا نسمي أشخاصاً معينين- تجد الطفل الصغير عمره 17سنة يمسك عالماً من أئمة السلف لكي يرمي به في جهنم وبئس المصير: (حداث الأسنان، سفهاء الأحلام) لأن مثل هذا لو نظر من هذا العالم الذي يكفره أو يبدعه أو يضلله، وماذا وضع الله له من القبول، وما نفع الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم لردعه عقله، لكن لا دين ولا عقل -نسأل الله السلامة والعافية-. هذه من صفاتهم وهذا أمر بسيط، لكن أعظم من ذلك ما كانوا عليه من الجد والاجتهاد في العبادة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين من حديث علي: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وقراءتكم مع قراءتهم) فكان الخوارج من أعبد الناس، وهم من أضل خلق الله، إذا جن عليهم الليل فما ترى منهم إلا قائماً، وإذا جاء النهار لا ترى فيهم إلا صائماً، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم كما في حديث علي: (تحقرون) وفي اللفظ الآخر: (ليست قراءتكم مع قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم مع صلاتهم بشيء، ولا صيامكم مع صيامهم بشيء) نسأل الله السلامة. فلما سفهوا علياً رضي الله عنه، وأعرضوا عن علماء الصحابة، وتركوا الرجوع إلى أهل العلم، وأصبحوا يفهمون الدين بفهمهم وبأهوائهم وآرائهم؛ عندها زلت القدم، وعندها تكون العواقب الوخيمة؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يصل إلى الحق بدون عالم له بصيرة ونور. فالخوارج وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة، مع أنهم كانوا أعبد الناس، يقول ابن عباس -وهو الصحابي الجليل العابد الذي نام على فراش النبي صلى الله عليه وسلم-: لما دخلت عليهم هالني ما رأيت، رأيت وجوهاً مقرحة من كثرة السجود، وأيدي قد ذهبت من كثرة الجثية عليها في السجود، والركب تكاد تنمحي. ويقول أبو حمزة الشاري: في خطبته بقديد حينما أتى إلى مكة، وكان من الشراة وهم من أشد الخوارج، وكان يقال لهم: الشراة؛ لأنهم اشتروا الآخرة كما يزعمون، وقيل: اشتروا الجنة بقتل أنفسهم والجهاد، وقيل: لأنهم شراة من الشري بمعنى البيع؛ لأنه من الأضداد، كأنهم باعوا أنفسهم لله عز وجل؛ وكان الخوارج لا يعرفون الكذب، ويرونه كفراً؛ لأنه من الكبائر وهم يكفرون بالكبائر، فيصف أصحابه هذا الوصف العجيب الغريب، يقول: يا أهل الحجاز أتعيرونني بأصحابي، وتزعمون أنهم شباب؛ شباب مكتهلون في شبابهم، غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أرجلهم، أنضاء عبادة وأطلاح، قد نظر الله إليهم في جوف الليل منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، إذا مر أحدهم بآية فيها ذكر الجنة طار شوقاً إليها، وإذا مر بآية فيها ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم بين أذنيه، موصول كلالهم بكلالهم، كلال الليل بكلال النهار؛ حتى إذا رأوا السهام قد فوقت، والرماح قد أشرعت، والسيوف قد انتضيت؛ أقبل الشاب منهم قدماً حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه، وتخضبت بالدماء محاسن وجه، فيالله، كم من عين في منقار طائر طالما بكى صاحبها في جوف الليل من خشية الله، وكم من كف زالت عن معصمها طالما اعتمد عليها صاحبها في السجود بين يدي الله. اهـ. لقد كانوا أشد الناس عبادة وقرباً إلى الله عز وجل، وأمرهم في ذلك عجب، ومع ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) إذاً: لا بد من العلم والبصيرة؛ كما نبه العلماء والأئمة رحمهم الله أن الفتن لا يعصم منها إلا الإيمان بالله عز وجل، والرعاية لحرمات الله سبحانه وتعالى، ورعاية حرمة المسلم وذمته والخوف من الله عز وجل، وتأدية حقوق العباد، ولا يكون ذلك إلا بالعلم والبصيرة. هذه الثلاث إذا جمعها الله للعبد سلم واستقام له دينه، خاصة في الفتن، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

نقمة الخوارج على علي بن أبي طالب

نقمة الخوارج على علي بن أبي طالب أول ما ظهرت هذه الطائفة خرجت على علي رضي الله عنه، ونقمت عليه أموراً كفروه بها. وكان علي رضي الله عنه وأرضاه من السابقين للإسلام، ومن علماء الصحابة وفقهائهم، وهو أحد العشرة السابقين للإسلام، لقد تربى في بيت النبوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو تحت يده، وشهد المشاهد كلها، ومن العشرة المبشرين بالجنة، ومع ذلك يأتي من يقول له: أنت كافر. فانظروا كيف انطماس البصيرة، وتتبع الأهواء -نسأل الله السلامة والعافية- ولذلك كان أعظم شيء في الإنسان بصيرته، فإذا انطمست البصيرة صار كما أخبر الله: {صُمٌّ بُكْمٌ} [البقرة:18]، {عَمُوا وَصَمُّوا} [المائدة:71] ولذلك لما سئل علي رضي الله عنه عن كفرهم قال: (لا، ولكنهم قوم أصابتهم الفتنة فعموا وصموا)؛ تأتي للشخص تقول له: لماذا تتكلم في هذا العالم الجليل من أئمة السلف ومن دواوين العلم، فلا تجد عنده أذن صاغية، ولا بصيرة واعية، نسأل الله السلامة والعافية. من يستطيع أن يملك لأحد شيئاً! فإذاً ينبغي لكل إنسان أن يحذر هذه الفتن التي تقصم ظهور الناس، وتأخذ الإنسان أخذ عزيز مقتدر، ومن هنا قال الحكماء والعلماء: إن الفتن فيها حصاد المنافقين، ومن صفاتهم: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب:19]، فهذه البصيرة تنطمس والعياذ بالله في الفتن، ومن هنا قيل لـ علي: أكفارٌ هم؟ قال: (لا، ولكنهم قوم أصابتهم فتنة فعموا وصموا) أي: أصابهم العمى عن السبيل والصمم عن قبول الحق، نسأل الله السلامة والعافية. علي رضي الله عنه وأرضاه كان في منزلة عظيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال فيه لما استخلفه على المدينة: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى) أي: في هذه الواقعة تكون كما استخلف موسى أخاه هارون على قومه، وليس المراد به إلغاء خلافة أبي بكر كما يقول بعض أهل البدع، إنما المراد بيان منزلته رضي الله عنه ومكانته. ومع هذا كله يقال له: إنه كافر، وهنا وقفة لكل طالب علم، ولكل مؤمن يؤمن باليوم الآخر؛ أن أهل الفضل لا ينالون الفضل إلا بالله ثم بهذه الألسنة الحداد، ومن الأمور العجيبة الغريبة أن الله ما زاد أهل الحق إلا قوة مع ضعفهم بين الناس، ولا زادهم إلا عزة في إذلال الناس لهم، ولا زادهم إلا كرامة في امتهان الناس لهم، حتى كان بعض العلماء يقول: أتمنى دائماً أن يخرج من يتكلم فينا؛ لأننا ما وجدنا أحداً يتكلم فينا إلا رفعنا الله، فأصبح يحب أن يستكثر من هذا الشيء، من عظيم ما وجد؛ لأنه ما وجد في السلف الصالح ولا الأنبياء ولا المرسلين إلا من بدع وضلل، وكفر أخرج من الملة، وكأن مفاتيح الجنة بأيدي هؤلاء. يقال لـ علي رضي الله عنه إنه كافر؟ ألا شاهت الوجوه! يدخل عليه الرجل وهو يصلي في المسجد واقف بين يدي الله، فيتلو قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] قاتله الله، كأنه يقول له: تصلي أو لا تصلي فعملك قد حبط، أعوذ بالله! بكل جرأة وبكل سفه ووقاحة؛ لأن هذا هو سبيل الشيطان. والذي لا تجد فيه أدباً، ولا رعاية لحقوق الله وحدوده، فاعلم أنه على سبيل الشيطان ولذلك قصد ذلك الخارجي علياً بقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] يخاطب علياً رضي الله عنه وأرضاه وهو الذي سال دمه في سبيل الله عز وجل، وهو الذي فدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بروحه، وهو المبشر بالجنة رضي الله عنه وأرضاه، وهذا لنعلم مدى خطورة الهوى على أهله، فنسأل الله بعزته وجلاله أن يعيذنا من هذه الفتن. وفي هذا سلوة لكل طالب علم، ولكل داعية، ولكل خطيب، ولكل إمام مسجد حينما يسمع أهل حيه يتكلمون فيه أو ينتقصون، فلا يبالي بهذا، بل يستبشر؛ لأن وجود الصفات التي تبوئ الإنسان مبوأ صدق، قد تكون إن شاء الله من بشائر القبول أو من علامات القبول: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] جعلني الله وإياكم هداة مهتدين، وأعاذنا من فتن المفتونين وإرجاف المرجفين.

إرسال ابن عباس لمناظرة الخوارج

إرسال ابن عباس لمناظرة الخوارج إذاً: هم آذوا علياً وكفروه ونقموا عليه أموراً، فأرسل إليهم حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه، وناظرهم ابن عباس رضي الله عنه كما في الرواية الصحيحة فسألهم: ما ينقمون عليه؟ قالوا: حكم الرجال والله يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]. وقالوا: إنه لم يسب أهل الجمل في وقعة الجمل، فإن كانوا على حق فلم قاتلهم؟ وإن كانوا على غير حق، فلم يمنع من حق الله فيهم من سبي نسائهم وذراريهم؟ وأما الأمر الثالث قالوا له: إنه محا نفسه عن إمرة المؤمنين، فهو إما أمير المؤمنين أو أمير الكافرين. قاتلهم الله! هذه ثلاثة أمور جادلهم فيها عبد الله بن عباس رضي الله عنه! ورد عليهم فقال: أما ما قلتم من تحكيم الرجال، فإن الله تعالى يقول: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] أكان هذا كفراً؟! الله عز وجل رضي بتحكيم الرجال، فهل تحكيم الرجال على مذهبكم كفر؟! إذاً كيف يأمر الله عز وجل به. ورضي بحكم العدلين في جزاء صيد أرنبة فقال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] قال: أكان هذا كفراً؟! فما بقي على قولهم إلا أن يكفروا رب العالمين -ونعوذ بالله-! فأفحمهم بهذا ورد الأولى. أما الثانية فقال لهم: أنتم تقولون إنه كفر لأنه محا نفسه عن إمرة المؤمنين، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية قال لـ علي: (اكتب: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله، قال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، فأمر بأن تمحى من الكتاب، وامتنع علي من محوها، فمحاها النبي صلى الله عليه وسلم بيده) أكان هذا شكاً في الرسالة؟! إذا كانت محيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يطعن ذلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بما هو دون ذلك، فإن ذلك لا يستلزم أن الإنسان على ضلال. وأما الثالثة: وهي قولهم: قاتل ولم يسب، فقال لهم: إن الله تعالى يقول: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] فهذه أمكم بنص القرآن، إن سبيتموها فلن تكون أماً، بل تكون سرية وحينئذ تكفرون، وإن لم تسبوها؛ فهذا ما فعله علي رضي الله عنه. فألقمهم حجراً. بعد أن ناظرهم عبد الله بن عباس رضي الله عنه رجع منهم ألفان، وكان ذلك من قوة حجته رضي الله عنه وعلمه بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وهنا وقفة أنه ينبغي على طالب العلم وعلى كل مسلم، أن يعلم أن الفتن تأتي بأمور ملتبسة، قد تسمع الدليل والحجة، وقد تسمع من يتكلم بإيراد الشبه والأدلة، ولكن لا يكشف عوار هذه الأدلة وهذه الحجج إلا أهل البصيرة كما قال الإمام ابن القيم حينما بين أسباب الهدى: نص من كتاب وسنة وطبيب ذاك العالم الرباني إذاً: الكتاب والسنة تحتاج إلى طبيب، وليس كل من يحتج بالكتاب والسنة يقبل احتجاجه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول عنهم: (يقولون بقول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) فتبين أنه ليس كل من يحتج يقبل احتجاجه، ولا يمكن أن يكشف عوار النقص والهوى إلا أهل العلم والبصيرة، ولا يقبل الاحتجاج إلا ممن عرف منه سداد منهجه واستقامة دينه في فهم كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم فهم نصوص الكتاب والسنة على وفق هواه؛ لأن الاحتجاج بالكتاب والسنة لن يصيب أحدٌ فيه الحق إلا بالأمانة، والأمانة أن يكون تقياً نقياً ناصحاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيما يستدل به.

مقاتلة علي بن أبي طالب للخوارج

مقاتلة علي بن أبي طالب للخوارج عندما خرج الخوارج عن جماعة المسلمين وإمامهم، وكانت لهم شوكة ومنعة، وحدث فيهم أنهم قتلوا وتعرضوا لحرمات المسلمين، فإن علياً رضي الله عنه استحل قتالهم وأمر بقتالهم؛ من ذلك أنهم قتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت ابن الصحابي الجليل، وكان قد ولاه علي على النهروان، فجاءوا إلى عبد الله وسألوه عن رأيه في الشيخين، فأثنى خيراً، ثم سألوه عن رأيه في عثمان، فأثنى خيراً، ثم سألوه عن علي رضي الله عنه فأثنى عليه خيراً. ففي بعض الروايات أنهم قتلوه بعد ثنائه على علي رضي الله عنه؛ لأنهم يرون أنه كافر، وبعض الروايات أنهم قتلوه حينما مروا على خراج ظاهر النهروان، فوجدوا تمرة لمعاهد، فأراد أحدهم أن يأكلها، فقال قائل: هذه تمرة معاهد، أي: كيف تأكل تمر معاهد، والمعاهد له حرمة، فقال: ويحكم! لدمي أعظم عند الله من هذه التمرة، تتورعون عن تمرة ولا تتورعون عن دمي -نسأل الله السلامة والعافية- فغضبوا عليه وقتلوه، وهذه الرواية لـ ابن أبي شيبة في مصنفه. فالشاهد من هذا أنهم لما قتلوه آذنهم علي رضي الله عنه بحرب، وخرج لهم رضي الله عنه وأرضاه وقاتلهم، وما زال العلماء وأئمة السلف رحمهم الله على إنكار بدعتهم وخروجهم، وهذا أصل هذا الباب، وكثير من أحكام قتال أهل البغي أخذت من السنة الراشدة عن علي رضي الله عنه وأرضاه، في تعامله معهم وحكمه عليهم.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية التعامل مع كل ما يزعزع وحدة المسلمين

كيفية التعامل مع كل ما يزعزع وحدة المسلمين Q لقد حرص الإسلام على وحدة الصف، وعدم تفرق الجماعة، ولذلك شرع قتال أهل البغي، فكيف يتأتى للمسلم أن يحافظ على جماعة المسلمين، وكيف يتعامل مع كل ما يزعزع ذلك أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالنصوص في الكتاب والسنة واضحة في لزوم جماعة المسلمين، والسمع والطاعة لإمامهم، وجاءت النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي من معجزاته التي تضمنت الخبر والإنشاء، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم عما يكون بين يدي الساعة من فتن الأئمة، ومن حدوث الجور والظلم، وهضم الحقوق، ولكن أمر بالصبر ولزوم جماعة المسلمين وعدم الخروج عليهم، وهذا هو الأصل عند أهل السنة والجماعة. وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (على المرء المسلم السمع والطاعة) وقال الصحابي كما في أكثر من حديث: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، وألا ننازع الأمر أهله)، وقال صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا وإن تأمَّر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة) ولما ذكر صلى الله عليه وسلم أئمة الجور والظلم؛ قالوا: (يا رسول الله! أفلا نناجزهم بالسيوف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) وهذا نص صريح واضح في عدم الخروج. ومن نظر إلى حال السلف الصالح من الصحابة رضوان الله عليهم، والتابعين لهم بإحسان، يجد هذا جلياً واضحاً، ولا أظن أن هذا يخفى على أحد من طلبة العلم، ولكن ينبغي على طالب العلم مع هذا كله أن ينصح وأن يبين الحق، سواء كان لمن يخطئ، أو لمن يخرج عن جماعة المسلمين، فيحرص على بيان مذهب أهل السنة والجماعة له وتوضيحه. والواجب على الناس أن يلتزموا هذا الأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، وبين أن صلاح الأمة موقوف عليه، ومن نظر في تاريخ الأمة وجد أن كثيراً من الحوادث والمصائب والفتن التي وقعت كانت عواقبها وخيمة، والناس ينبغي عليهم أن يلتزموا هذا الأصل الذي أجمع عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين رحمهم الله أجمعين وألحقنا بهم غير خزايا ولا مفتونين، ولا مغيرين ولا مبدلين. أما الواجب على المسلم فهو أن يثبت على الحق، وعليه أن يدرك أن إرضاء الناس غاية لا تدرك، فإذا عرف الحق عمل به ولا عليه من أحد، وعليه أن يثبت وألا يضعف ولا يصيبه الخور، ولا ينتظر أن الناس تجتمع عليه، أو يكثر سواده، فالحق لا يكثر سواده، الحق يستمد قوته من نفسه، وعلينا أن ندرك أن هذا الكتاب المنزل على رسول الهدى صلى الله عليه وسلم كان فيه رجل واحد، كان في كهف مظلم، وأشرقت به دياجير الظُلْمِ والظُلَم من مشارق الأرض إلى مغاربها. نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء وهو وحده صلوات الله وسلامه عليه، فابتدأ بواحد وانتهى بأمم لا يحصيها إلا الله جل جلاله، فالحق لا ينصره كثرة الناس أو كثرة الأتباع والأشياع؛ لأنه يستمد قوته من ذاته، وكل من قال بالحق فقد صدق، وكل من قال به وحكم به فقد عدل، وكل من لزم سبيله فقد استقام له دينه، وعليه أن يدرك أنه ما دام على هذا الأصل الذي دل عليه نص الكتاب والسنة، وسار عليه السلف الصالح لهذه الأمة، فليس عليه بعد ذلك من شيء، بمعنى أن الفتن التي تقع والإرجاف والتشكيك والتخذيل لا يلتفت إليه، ومن المعروف دائماً أن أهل الحق لا يمكن أن يخلو لهم زمان من فتن ومحن، فإن هذه الأمة ممتحنة. فعجب والله! خليفة راشد من العشرة المبشرين بالجنة هو عثمان رضي الله عنه يقتل في الشهر الحرام، في البلد الحرام، بجوار قبر النبي صلى الله عليه وسلم، صائماً، وهو ابن ثمانين سنة، على كتاب الله! أمة ممتحنة لكنها والله قوية، ومن ظن أنها ضعيفة فهو الضعيف، ومن ظن أنها مخذولة فهو المخذول، الحق لا يقوى بالناس ولا يقوى بالشعبية ولا يقوى بالكثرة، الحق يستمد قوته من ذاته: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} [الأنبياء:18] ما قال بأهل الحق: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18]. فعلى كل طالب علم وعلى كل إنسان إذا علم مذهب أهل السنة والجماعة في لزوم جماعة المسلمين ألا يلتفت إلى إرجاف المرجفين، ولا إلى تثبيط المثبطين، عليه أن يثبت وألا يبالي بأحد، وسيأتي اليوم الذي يرى فيه عاقبة ما ألهمه الله من صواب، وما حرمه من غيره. كذلك أيضاً على المسلم أن يبذل ما عنده، إذا رأى إنساناً يحتاج إلى النصيحة نصحه، كم من شباب من أبناء المسلمين ينتظرون من يبين لهم الحق والصواب والرشد، فإذا وجد أحداً يحتاج إلى التوجيه وجه ولا يشتغل بأهل الفتن، ولا يضيع وقته معهم؛ لأن مناظرة هؤلاء وكثرة مناظرتهم إذا لم يكن عند الإنسان علم لا يأمن أن يقع في قلبه شيء، وكان السلف الصالح رحمهم الله يحذرون من أهل الأهواء والجلوس معهم وكثرة مناظرتهم؛ لأنه لا يأمن الإنسان أن يقذف في قلبه شيء. إذا عرفت الحق فتمسك به، وهذا الذي تعبدك الله به، ولا يمنعك هذا أن تنصح من يستنصح، أو تقيم الحجة على من يجهل، أو تهدي من ضل، وأهم من ذلك كله هو أن تتمسك بالحق، وألا تلتفت إلى من يخذلك أو يثبطك عنه، نسأل الله بعزته وجلاله أن يثبتنا على ذلك، وأن يلهمنا الرشد. جماعة المسلمين أمرها عظيم، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من فارق الجماعة وترك الطاعة فمات؛ فميتته ميتة جاهلية) فعلى الإنسان أن يسأل جماعة المسلمين وإمامهم، وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث أبي هريرة في الأئمة والحكام: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم) أي: هم يتحملون الأخطاء ويسألون أمام الله عز وجل، ويحاسبون عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن على الإنسان أن يؤدي الحق الذي عليه. ومن هنا فالواجب على طالب العلم أن يتمسك بمذهب أهل السنة والجماعة، وأن يلزم هذا الأصل، وألا يبالي بمن يشككه أو يوهنه، فالحق يعلو ولا يعلى عليه، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله تعالى أعلم.

حكم الصلاة على بقية الأنبياء عليهم السلام

حكم الصلاة على بقية الأنبياء عليهم السلام Q إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يصلى عليه، فهل الأنبياء المتقدمون كذلك، أثابكم الله؟ A مذهب العلماء وأئمة السلف رحمهم الله: الصلاة والتسليم على الأنبياء جميعاً، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولذلك يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويصلى على الأنبياء والرسل ويسلم عليهم، كما قال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:181 - 182]. فيسلم عليهم ويصلي عليهم، فصلوات الله وسلامه وبركاته عليهم أجمعين، ومن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم وصلى على الأنبياء كتب له الأجر المضاعف؛ لأن صلاته على النبي صلى الله عليه وسلم بعشر، وكذلك إذا صلى على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كتب له الأجر الذي جعله الله لمن صلى على الأنبياء، صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم أجمعين، والله تعالى أعلم.

حكم إعادة الأذان إذا نسي المؤذن أحد ألفاظه

حكم إعادة الأذان إذا نسي المؤذن أحد ألفاظه Q إذا نسي المؤذن قول: (الصلاة خير من النوم) في أذان الفجر، هل يلزمه إعادة الأذان؟ A يرجع إلى هذا الموضع ويقول: (الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله) بشرط ألا يطول الفاصل، طولاً متفاحشاً، أما لو أنه أذن ونسي (الصلاة خير من النوم)، ثم أطفأ المكرفون ثم تذكر مباشرة، فعليه أن يشغل المكرفون ويرجع ويعيد العبارة. وهكذا لو أنه أذن وانتهى، ثم مضى أو جلس، وتذكر بعد عشر دقائق أو سبع دقائق؛ فإنه يقوم ويقول القدر الذي نسيه سواء في الشهادتين أو الحيعلة، أو الصلاة خير من النوم، يقولها تامة كاملة، ويستدرك ما فاته، وهذا مذهب البناء، وهو مذهب الجمهور رحمهم الله. ولو احتاط بإعادة الأذان فهذا أفضل، لكن المنصوص عليه في مذهب جمهور العلماء رحمهم الله أنه يعيد الجملة التي نسيها ما دام أنه لم يقع الفاصل المؤثر، والله تعالى أعلم.

حكم الطلاق قبل الدخول

حكم الطلاق قبل الدخول Q يقول السائل: طلقت زوجتي قبل الدخول، فهل تعتبر هذه الطلقة الأولى أم هي الأخيرة، وماذا علي إذا أردت الرجوع إليها؟ A إذا طلقت المرأة قبل الدخول فهذه طلقة بائنة، والطلاق ينقسم إلى قسمين: طلاق بائن، وطلاق رجعي. الطلاق الرجعي: هو الذي يملك فيه الزوج ارتجاع زوجته بدون عقد بل وبدون رضاها، وهو الطلقة الأولى والطلقة الثانية بشرط أن تكون المرأة مدخولاً بها. فإذا طلقها الطلقة الأولى، أو طلقها الطلقة الثانية، ولم تخرج من عدتها، وكان قد دخل بها؛ فإنه يحق له أن يراجعها ما دامت في العدة، وهذا يسمى الطلاق الرجعي، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228]. وأما الطلاق البائن فينقسم إلى قسمين: البائن بينونة صغرى، والبائن بينونة كبرى. البائن بينونة صغرى: هو الذي لا يملك الزوج فيه ارتجاع زوجته إلا بعقد جديد، وهو الطلاق قبل الدخول، وطلاق الخلع على الصحيح من أقوال العلماء، لقول النبي عليه الصلاة والسلام في قصة المخالعة: (اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة)، فإذا عقد على امرأة ولم يدخل بها ثم حصل ما حصل فطلقها، فإنها تبين منه، ولا يجب عليها أن تعتد؛ لأنه ما دخل بها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] هذا طلاق قبل الدخول: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] وهذا يسمى بالطلاق البائن بينونة صغرى. والبائن بينونة كبرى: هو الذي يطلق الطلقة الثالثة، فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره. فإذا طلقت قبل الدخول فلا ترجع إليك إلا بعقد جديد وبمهر جديد، وكأنها أجنبية منك. ولكن إذا وقعت هذه الطلقة فإنها تحتسب طلقة واحدة ولا تحتسب ثلاث طلقات، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله، فقد أجمعوا على أن الطلاق قبل الدخول إذا كانت طلقة واحدة لم يطلق قبلها أنه لا يوجب الثلاث، وإنما هي طلقة واحدة تبين بها المرأة، ويجب عليه أن يعقد عليها من جديد إذا أراد أن ينكحها، والله تعالى أعلم.

حكم طاعة الوالد في تأخير زواج الولد مع حاجة الولد للزواج

حكم طاعة الوالد في تأخير زواج الولد مع حاجة الولد للزواج Q إذا كان الشاب في حاجة ماسة إلى الزواج، وقال والده: اصبر بعد سنة أو سنتين، فهل يطيعه أم أنه يقدم على الزواج؟ A بالنسبة لهذه المسألة فيها جانبان: الجانب الأول: إذا كان يخشى الفتنة، وغلب على ظنه أنه قد يقع في الحرام؛ وجب عليه أن يقنع والده، ولا يجب عليه أن يسمع ويطيع لوالده، وليس هذا بمؤثر في البر إذا غلب على ظنه أنه سيقع في الحرام، ففي هذه الحالة يتزوج، ولكن يحرص على إقناع والده، وعلى رضا والديه؛ حتى يبارك الله له في زواجه. وإذا أصر الوالد على موقفه، فعليه أن يشرح له بكل تفصيل، وإذا عجز عن إقناع والده؛ فليكلم أعقل الناس في أسرته، وأكثرهم تأثيراً على والده كإمام المسجد -مثلاً- أو يكلم رجلاً صالحاً يأتي إلى والده ويشرح له ظروفه، وأنه يخاف الفتنة، فإذا بذل كل هذا وأصر الوالد على موقفه، فإنه حينئذ يجوز له أن يتزوج. وأما الجانب الثاني: أن يمكنه الصبر وأن يتحمل، فحينئذ يصبر، وإذا كان والده طلب منه الصبر، فلعل في تأخير الزواج خيراً له من الله عز وجل، فيرضى برأي والده ووالدته، فيصبر ويتصبر. وهنا تنبيه: بالنسبة للزواج هو سنة، ولكن لو أن كل طالب علم يأتي ويقول لوالده: أخاف الفتن، فإن الوالدين لهما هدف بتأخير الزواج، خاصة وأن الوالدين هما اللذان سيتحملان مسئولية الزواج، ففي بعض الأحيان قد تقع ظروف مالية فيخشى الإحراج فيها ويخشى أن يتحمل الدين، فإذا أمكن الابن أن يرفق بوالديه، وأن يتقبل من والديه تصبيره فليصبر، وهذه الفتن التي يخاف منها ما تأتي إلا لمن يشتغل بها. طالب العلم أو الإنسان في دراسته، إذا أقبل على العلم واشتغل بالعلم وأعطى العلم كليته بارك الله له، وصرف الله همته حتى يأتي الوقت المناسب لزواجه ما دام أن والديه يريدان منه أن يؤخر الزواج، فحينئذ ينال العلم، وينال رضا والديه. وأما أن يقول دائماً: أنا في فتن، أنا في فتن ويكبر الأمر، فمن كبر الفتنة كبرت عليه، وعلى طالب العلم أن يشتغل بما يفيده قدر المستطاع، وطالب العلم إذا حرص على أن يكون في نهاره مراجعاً للعلم مذاكراً له، وفي ليله أن يكون له قسط من قيام الليل، ويستعين بعد الله بالصيام؛ كصيام الإثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر؛ فلن تبقى أمامه فتنة، وهذه الأمور إذا أعرض عنها تعرض عنه، ولكن إذا ذهب يشتغل بها ثم يقول: عندي فتن عندي فتن، أنا لا أستطيع أن أصلي، وقد يكون في المسجد الحرام! أخي اذهب وغض بصرك، واشتغل بما يفيدك، جرب واخرج من بيتك وأنت تتلو القرآن واشتغل بمعاني القرآن، وانظر هل تجد فتنة أو لا، إذا كان هذا الطريق فيه فتن فهناك طريق آخر ليس فيه فتن. والإشكال أن البعض يضخم هذا الأمر ويحاول أن يدخل أو يقحم على نفسه الفتنة، فمن المجرب أن من اشتغل بما ينفعه وبما يفيده وانصرفت كليته لله، لا يجد ألم ولا ضرر هذه الفتن، وهل تجد نفساً زاكية راضية مطمئنة لكلام الله وكلام رسوله مشتغلة بذكر الله عز وجل تصيبها فتنة، حتى لو أصابته فتنة فعليه أن يستغفر فيحفظه الله عز وجل، وأن يستعيذ فيعيذه الله عز وجل. فعلى طالب العلم أن يكون كما ينبغي أن يكون عليه طالب العلم، ولا يعني هذا التقليل من أمر الزواج أو صرف الناس عن الزواج، فالزواج خير وبركة وسنة، ولا يلتفت لمن تركه ولو كان من أعلم الناس، وعليه أن يتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قال الإمام مالك: ليس كل الناس يستطيع أن يبدي عذره، فالإنسان يبحث عن السنة ويبحث عن العفة ويبحث عما يصونه، ويحصن فرجه، ولكن لا يبالغ في قضية الفتن، فالفتن حصاد لمن اشتغل بها، ومن قرب منها. نسأل الله بعزته وجلاله أن يصرفنا عنها وأن يسلمنا منها ومن أهلها، والله تعالى أعلم.

نصيحة في كيفية استغلال العطل والإجازات

نصيحة في كيفية استغلال العطل والإجازات Q كيف يستغل المسلم على وجه العموم، وطالب العلم على وجه الخصوص وقته في العطل والإجازات؟ A أفضل ما تستغل به العطل طاعة الله عز وجل، وبالاختصار يكون له ورد من طاعة الله عز وجل يتبع فيه سنة النبي صلى الله عليه وسلم. بمعنى أنه إذا جاءت العطلة فليحرص الإنسان على عدم ترك أذكار الصباح والمساء؛ لأنه ما عنده شغل، فيحرص على ذكر الله عز وجل في صباحه ومسائه بجميع ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحرص على صيام الإثنين والخميس، ويحرص على صيام الأيام البيض، والثلاثة الأيام من كل شهر. يحرص بعد هذا على كثرة تلاوة القرآن، وعلى أداء الفرائض في أفضل أحواله، بمعنى أنه أيام الشغل تفوته الركعة والركعتان، ولربما تفوته الصلاة -نسأل الله السلامة والعافية- لكن عيب عليه في العطلة أن تفوته الصلاة، فمن الناس من لا يؤذن المؤذن إلا وهو في المسجد، ومنهم من يحرص على الصلوات الخمس في الصفوف الأول. وقد يقال: ما فائدة الحرص على الطاعة أثناء الفراغ؟ ونقول: الفائدة أنك إذا فعلت الطاعة أثناء الفراغ ثم شغلت؛ كتب لك الأجر كاملاً؛ أي أنك إذا كنت أثناء العطلة، تري الله من نفسك قيام الليل وصيام النهار والحرص على الطاعات على أكمل وجوهها، فأنت تعلم أن الصف الأول أفضل، وأن تكبيرة الإحرام أفضل، وأن الخشوع عند قراءة القرآن أكمل وأعظم أجراً، والآن أنت في فراغ، فأثناء عملك ودراستك قد تقول: عندي شغل، وإن كان والله لا ينبغي أن يشغل عبد عن طاعة الله، ولا ينبغي أن يحجب المرء عن ذكر الله عز وجل، وألا تشغله الدنيا عن الآخرة لكن نقول لك: في أثناء فراغك إذا حرصت على هذه الأعمال الصالحة، ثم جاءك شغل عنها؛ كتب لك الأجر كاملاً. ولذلك يجلس طالب العلم أو المشغول طيلة شغله وهو يتألم ويتأوه، حينما تفوته الركعة من الصلاة، بل يتأوه ويتألم إذا فاتته تكبيرة الإحرام، فإذا بالله يبلغه الأجر كاملاً. ولو أن الشاب في عُطَلِه حرص على إتمام الطاعة، ثم لا قدر الله صار له حادث، فأصابه شلل؛ كتب له الأجر مدة عمره كله، من كان في صحته على طاعة واستقامة ثم مرض؛ كتب له الأجر كاملا، ً ومن كان في شبابه على استقامة وطاعة ومداومة على الخير، ثم هرم وكبر؛ كتب له الأجر كاملاً: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:5 - 6] قال بعض أئمة العلم: هو الرجل يشيب ويكبر وقد كان في شبابه حريصاً على طاعة الله، ومعنى (غَيْرُ مَمْنُونٍ): غير مقطوع، فيكتب له أجر شبابه كاملاً؛ لأن الله علم منه لما جاءته القوة والصحة أنه ما فرط، ما ذهب يعبث بها في الفساد، إنما ذهب يستغلها في طاعة الله ومحبة الله. فالأصل العام أنه يجب أن يكون الإنسان كاملاً أو قريباً من الكمال في الاستقامة والطاعة والخير والذكر، والبر، ومحبة الله سبحانه وتعالى. وأيضاً أن يحذر من إضاعة العطل في معاصي الله عز وجل، فكما أننا ننبه على هذا الجانب من الخير ننبه على ضده من الشر، كالسفر إلى الخارج، وأعظم من ذلك أخذ الأبناء والبنات وتعويدهم على السفر إلى بلاد فيها فساد، وتعويدهم على التكشف والعري، هذا أمره خطير وشأنه عظيم، ولذلك يحمل فيه الوالد المسئولية أمام الله عز وجل، فكل خائنة عين وكل زلة قدم، وكل طيش يكتب عليه وزر ذلك: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13]. إذا ضيعوا حق الذرية في النصيحة. فحرام على الرجل أن يجر ذريته إلى الهلاك، وأن يجر عرضه وأهله إلى الفساد والدمار، فعليه أن يتقي الله عز وجل، ولذلك لا تجد العواقب الحميدة لمن أضاع وقته وفراغه في غير مرضاة الله عز وجل، وليأتين يوم يبكي فيه على هذا، حتى إن بعضهم عود أبناءه السفر في العطلة إلى الخارج، فلما كبر وشاخ أصبحوا يتركونه في البيت وحده، ثم يسافرون ولا يبالون به: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26] هذه ثمرة غرسه ونتاج فعله. فإذاً: ينبغي على الإنسان أن يحرص على المحافظة على أوقات العطلة في طاعة الله عز وجل والبعد عن محارم الله عز وجل. ومن الأمور التي يوصى بها عموماً أيضاً: أن يبارك هذه العطلة بالعمل الصالح، السفر لزيارة الوالدين، السفر إلى الأعمام والعمات والأخوال والخالات والقرابات، تجلس بينهم وتسلم عليهم، وتصل رحمك، تسأل عن أحوالهم، حتى إذا وجدت ابن عم لك مديوناً؛ تسدد دينه، أو محتاجاً تسد حاجته، أو ذا فاقه تعينه وتواسيه، ونحو ذلك من الأمور الطيبة الصالحة التي تعود عليك بالخير في دينك ودنياك وآخرتك. كذلك أشغل العطلة بالسفر إلى العمرة، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة التي يستحب للإنسان أن يعمر وقته وعمره بها. أما بالنسبة لطلاب العلم -باختصار- فليس هناك أفضل من مراجعة العلم ومذاكرته، يحاول طالب العلم أن يضع له جدولاً يراجع فيه هذا العلم، ويضبطه قدر المستطاع ليكون حافظاً للعلم. الأمر الثاني: أن يحرص على أن يشوب هذا العلم بشيء من العبادة، فطالب العلم أثناء السنة قد يكون مضغوطاً، لكن إذا جاءت العطلة فيحرص على أن يختم القرآن كل ثلاث ليال، يقرأ القرآن ويجعل له ورداً في أول النهار، أو في آخر النهار أو في وسط النهار، ويجعل له ورداً في الليل، ولأنه لا يستطيع أن يقوم في السحر في غير العطل، فيعزم وينفذ ذلك في العطل، فيقوم السحر ويحاول أن يستكثر من الخير، وأن يعود نفسه على بكاء واستغفار الأسحار، وتلاوة القرآن في جوف الليل، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة، فإذا وفق الله طالب العلم للعلم والعبادة بورك له في عطلته، ولا نستطيع أن نضع للناس منهجاً معيناً؛ لأن الناس تختلف، والقرآن والسنة فيهما الأمر بالقواعد العامة، ولم يفصل فيهما؛ لأن الناس تختلف أحوالهم وتختلف ظروفهم. وعلى طالب العلم أن يبحث عن شيء يصل به إلى هدف ضبط العلم، وأن يستشعر أنه مؤتمن على دين أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى علمه، فعليه أن يري الله من نفسه خيراً، فيراجع حفظ القرآن، ويحاول كل ثلاث ليال أن يختم، ويحاول أن يقرأ قراءة المتدبر المتأمل؛ لأنه خلال السنة لا يجد وقتاً لتدبر القرآن، فيقتطع وقتاً من يومه أو من أسبوعه لمراجعة القرآن، وإذا راجعه يراجعه ببكاء وحزن ورقة، ويقف مع القرآن، ويأخذ شيئاً من تفسير القرآن أثناء العطلة، ويضع له برنامجاً يقرأ فيه شيئاً من التفسير ليستفيد منه لنفسه، ويفيد به غيره، ويأخذ شيئاً من السنة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، المهم أن يعمر الوقت بما يتجانس مع العلم؛ لأن هذا يقويه في العلم. وآخر شيء أوصي به طالب العلم: أن يبذل ما عنده، فإذا سافر إلى قريته وإلى جماعته واحتاجوا أن يعلمهم علمهم، إذا احتاجوا إلى نصيحة نصحهم، وإذا احتاجوا إلى توجيه وجههم، ويحرص على أن يكون على أكمل حال في هذا كله، نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يبارك لنا في أعمارنا وأعمالنا. اللهم اجعل خير أعمارنا خواتمها، وخير أعمالنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك يا أرحم الراحمين، يا سميع الدعاء! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

باب قتال أهل البغي [2]

شرح زاد المستقنع - باب قتال أهل البغي [2] إن الناظر بنظرة فاحصة في أسباب الخروج على جماعة المسلمين وإمامهم يجد أن أعظم أسباب ذلك الخروج مرده إلى الهوى ومجانبة الكتاب والسنة، الأمر الذي يؤدي إلى احتقار المخالف، فيظهر ذلك أولاً بالشتم والنقد ثم بالخروج بالسلاح. وقد ذكر الفقهاء الأحكام المتعلقة بذلك، واستنبطوها، وبينوا الأحوال المختلفة لهؤلاء الخارجين، وكيف يتعامل الإمام مع كل حالة.

الخروج عن جماعة المسلمين فتنة عظيمة

الخروج عن جماعة المسلمين فتنة عظيمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: يقول المصنف -رحمه الله تعالى-: [إذا خرج قوم لهم شوكة ومنعة على الإمام بتأويل سائغ فهم بغاة]. فقد ذكر المصنف رحمه الله في هذه الجملة الضوابط التي يمكن أن يتوصل من خلالها إلى معرفة البغاة، وقد اختلفت تعاريف العلماء رحمهم الله، ولكن هذه الصفات التي ذكرها هي من أجمع الصفات في معرفة أهل البغي، وقد قسم

صفات الطائفة الباغية

صفات الطائفة الباغية العلماء رحمهم الله الطوائف في هذا الباب إلى طائفتين: طائفة عادلة، وطائفة باغية. فأهل البغي ذكرهم المصنف أربعة صفات، هذه الصفات الأربع لا بد من توفرها للحكم بكونهم بغاة: الصفة الأولى: أن يخرجوا عن جماعة المسلمين وإمامهم، فيكون فيهم خروج على جماعة المسلمين وإمامهم. الصفة الثانية: أن يكونوا جماعة. الصفة الثالثة: أن تكون لهذه الجماعة شوكة ومنعة وقوة. الصفة الرابعة: أن يكون لهم تأويل سائغ. هذه الأربع الصفات لا بد من توفرها. يقول رحمه الله: (إذا خرج قوم) الخروج على الأئمة وعلى جماعة المسلمين فتنة عظيمة، ولذلك اعتنى العلماء رحمهم الله بهذا الأمر حتى ذكروا في مسائل الاعتقاد، أن مذهب أهل السنة والجماعة أنه ينبغي لزوم جماعة المسلمين، وتلك هي وصية الله عز وجل في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ودرج عليها أئمة السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين، وجعل الله الخير للأمة في اتقاء الفتنة، والبعد عنها، ولزوم الجماعة ما أمكن. ولذلك نجد في مباحث العقيدة هذا المبحث، ويعتني العلماء فيه بالتأصيل الشرعي للإمامة، ولزوم الجماعة، والسمع والطاعة، والضوابط المعتبرة في ذلك، وكلام الفقهاء في هذا الباب من الفقه إنما هو في باب الجنايات، بمعنى: في حكم من خرج، وليس في تأصيل وتقعيد هذا الأمر والكلام عليه، ولذلك يشير العلماء رحمهم الله فقط إلى أنه مذهب أهل السنة والجماعة من حيث الأصل. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: أنه لو تغلب أحد على المسلمين بالشوكة والمنعة، وأصبح يحكم فيهم بالشرع فإنه تلزم طاعته، إذا انعقدت عليه جماعة المسلمين، ولا يشترط انعقاد الكافة عليه، بل المراد أن تنعقد كلمة أهل الحل والعقد والرأي، ولذلك جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر المسلمين كلهم في الستة الذين توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، ومن هنا قالوا: العبرة بأهل الحل والعقد، وأهل الصلاح كالعلماء والفضلاء، ومن يعرف برجاحة العقل وسداده، ونحو ذلك ممن لهم رأي، وحسن نظر، والناس تبع لأمثال هؤلاء. فإذا انعقدت الكلمة من هؤلاء؛ فإنها تكون جماعة المسلمين، والمنبغي لزوم هذه الجماعة، وبين النبي صلى الله عيه وسلم أن على المسلم السمع والطاعة وإن تأمر عليه عبد حبشي؛ ولذلك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المثل، وقد كانت العرب فيهم العصبية والأنفة أن تقبل بمثل هذا الأمر، ولكنه أراد بذلك إرغام أنف المسلم لحكم الشرع. والعجيب أنك لن تجد الأمة تسير على هذا الأصل إلا وجدت غياباً لكثير من الشرور، وإن وجدت شروراً في جماعة فإنك تجد أشر من ذلك أن يخرج الإنسان عن الجماعة، ومن هنا لم تأت هذه النصوص من فراغ، ومن تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة) يجد أمراً عجيباً، وعلى هذا كان مذهب أهل السنة والجماعة في لزوم هذا الأصل.

مظاهر الخروج عن جماعة المسلمين

مظاهر الخروج عن جماعة المسلمين يكون الخروج أول ما يكون بالرأي؛ ولذلك نجد نصوص الكتاب والسنة تأمر المسلم بعدم اتباع بالهوى، وعدم المبالغة في تخطئة الغيره، وعدم الدعوة للشذوذ، ومن تأمل أيضاً هدي السلف الصالح رحمهم الله وجد ذلك جلياً ظاهراً. فيبدأ الخروج بالاحتقار، والكلام في الولاة والحكام، ثم في العلماء والفضلاء واتهامهم في الدين والرأي، حتى تنسل ثقة الناس من هؤلاء، وإذا نزعت الثقة من العلماء فإنه ينتظر الشر العظيم، والبلاء الوخيم، وهناك كلمات يقولها العلماء قد لا يلقي الإنسان لها بالاً، ولكنه إذا تأملها وعاش حقيقتها أدرك ما يعنيه العلماء وأهل العلم حينما يتقون الفتنة، ويحرصون على جمع الكلمة ما أمكن، وليس معنى ذلك أننا سنصل إلى حال يشابه ما كان في عصر الصحابة أو الخلفاء الراشدين، إنما الشريعة تمشي على الأغلب، وتراعي في المصالح الأغلب، ومن هنا تجد أن المصالح في اتباع هذه السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأكبر من أن يجتهد الإنسان عليها، أو يحاول أن يخرج عنها باجتهاد أو برأي. الخروج من حيث هو بالأصل لا يكون إلا بالرأي، وقد ضرب الله المثل للإنسان حتى في البهائم والحيوانات فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26] فالحكيم العاقل ينتبه للأمثال، والإنسان لو أراد أن ينظر إلى جماعة المسلمين ويشذ عن رأيهم فلينظر إلى بيته، حينما يرى أنه يقوم على مصالح أولاده ورعاية أسرته، ويسهر عليهم، وفي قرارة قلبه يتمنى أن يكون أفضل بيت، وأحسن بيت، ولكنه ببشريته وضعفه تنتابه الشهوات والملهيات، حتى لربما ضيع كثيراً من حقوق أولاده، وهو في دولة صغيرة وبيئة صغيرة، لا يستطيع أن يجد فيها عشر معشار ما يجده غيره ممن هو أعظم منه مسئولية، وأكثر منه أمانة. ومن هنا: إذا أنصف الغير تمعن وتريث، ونظر إلى الأمور بأغلبها خيراً وأقلها شراً كما قرر هذا العلماء والأئمة رحمهم الله، فتجد الإنسان إذا أراد ابنه أن يشذ عنه، أو أن يتمرد عليه في بيته، أول ما يبدأ التمرد بالاحتقار، وأول ما يبدأ الابن إذا كان ابناً شاذاً عن بقية الأبناء أن يذكر مثالب أبيه، وأن يحاول أن يفسر كل خير ونصيحة، وكل ما يداوي به جراحه، وكل ما يحسن به إليه، يحملها على العكس والضد. ومن هنا لا يزال الإنسان يتألم مما يرى ويسمع، وكل يوم هذا الابن يسل محبته ومودته وتقديره من آبائه ومن بقية الأسرة، حتى لربما أصبح البيت جحيماً لا يطاق. فأول ما يبدأ الشر بالاحتقار، ولذلك تجد الأمور إذا قامت على حسن التقدير، وعدم الغلو في هذا التقدير، وعدم المبالغة في الإطراء والمدح، وأن يكون هناك نوع من التعقل، إلا في المواطن المحددة التي تجابه بضدها، فيقابل الإنسان بالضد من المدح والثناء، حتى يقطع دابر من هو ضده، أما في الشهادة فيشهد شهادة الحق، ويحاول قدر المستطاع أن يعذر وأن ينصف، وأن ينظر إلى غلبة الخير وغلبة المصالح، ووجود الشر في ضده. فالخروج على الأئمة والجماعة يكون بالاحتقار، ويكون الاحتقار للعامة والخاصة، فيحتقر أئمة المسلمين، ثم بعد ذلك لربما استرسل به الشيطان -والعياذ بالله- إلى أن يحتقر العوام. ومن نظر في أحوال الخارجين في القديم, وحتى في العصر الحديث، نجد أحدهم -في بعض البلدان الخارجية- ينتسب للإسلام ثم يكفر مجتمعه, ويرى أن هذا المجتمع كله كافر، وعندها لا يبالي أن يقتل الصغير أو الكبير أو المرأة أو الطفل، بل ويرى أن هذا حقاً، وأن هذا يطاع به الله عز وجل، ويتقى به الله عز وجل -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا كله كما أخبر الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] والشيطان له خطوات. ومن هنا يبدأ بالاحتقار، ثم بالنقد؛ لأنه إذا بدأ الاحتقار في القلب تسلط اللسان، فبدأ بالنقد، ثم بعد النقد يبدأ يضخم هذه الأمور، ثم يصل إلى قاعدة أو أساس أن الأمر منكر، ثم هذا المنكر يوجد معه منكر آخر، ثم المنكر الثالث، حتى يصل إلى التكفير، ثم يتعدى بتكفيره إلى من رضي به ومن سكت عنه ومن مدح مدحة واحدة قد يلحق بهذا، والسبب في هذا كله الجهل بحكم الله عز وجل، وعدم الرضا بما أنزل الله، وقد يقال له: قد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم المرء المسلم على السمع والطاعة، فيرد عليك قائلاً: أنت بهذه الأفكار وبهذه الرجعية تريدنا صماً بكماً. فيتعالى على النص؛ لأن عقله لا يستطيع أن يتقبل مثل هذا؛ لأن عنده هوى متبعاً. فيبدأ الخروج بالاحتقار والازدراء، وعدم المبالاة بجماعة المسلمين، وعدم المبالاة بعلمائهم، وعندها تزل القدم بعد ثبوتها، والله قد أعذر لهؤلاء، فنص الكتاب ونص السنة واضح، وجماعة المسملين أمامه وعلماؤهم أمامه، فمن احتقر هذا كله فلا يلومن إلا نفسه، وكل ما يأتي من تبعات، وكل ما ينجر إليه من ويلات وعواقب وخواتم، فلا يلومن في ذلك كله إلا نفسه، ولن يهلك على الله إلا هالك؛ ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر المنكرات، ويذكر ما سيكون من الولاة من المساوئ والمثالب، ثم قال الصحابة رضوان الله عليهم الذين هم أغير الخلق على الحق، وأغير على هذه الأمة: (أفلا نناجزهم بالسيوف؟ قال: لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة) من يستطيع أن يجتهد مع هذا، هل يستطيع أحد أن يقدم على هذا أو يؤخر؟ فما على المسلم إلا التسليم. لا يعني هذا التخاذل أو التواكل، بل يعني السمع والتسليم، وهل الإسلام إلا الاستسلام، فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقف أمام النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ويقول: (يا رسول الله! كيف نعطي الدنية في ديننا!) أي: بتلك الشروط القاسية على المسلمين، ثم هم محرمون يتحللون من إحرامهم، ويرجعون إلى ديارهم، ثم إذا أسلم أحد يرد إلى الكفار، وإذا ارتد مسلم فإنه لا يرد إلى المسلمين (أنعطي الدنية؟!). إذا جئت تنظر إلى الظاهر وجدت الذلة والصغار في الظاهر، وأموراً لا يسلم بها العقل، لكن الشريعة تأتي لكي تحكم الإنسان بالسمع والطاعة، وتأمر بالاستسلام والتسليم الذي يأتي به الفرج والمخرج، ويظن البعض أنها أوهام وأحلام، ونحن نقول له: اتبع وسترى ما يسرك، وإن كان يظن الإنسان أنه سيجد خيراً في اجتهاده، فسيجد خيراً من ذلك الخير في اتباعه للكتاب والسنة، ولن يجد أعلم من الله بخلقه، ولا أحكم ولا أعدل من الله عز وجل في شرعه ونظامه! فلا يستدرك أحد على الله عز وجل، ولذلك تجد أعداء الإسلام يدخلون السموم على المسلمين في هذا، ويحاولون تشكيكهم، ويعتبرون أن هذا ذلة، ويعتبرون أن هذا نوع من الخور والغفلة والسذاجة، نعم؛ ذلة في مقام عزة، ومهانة في مقام كرامة، وعقل وإنصاف، وبعد نظر، ومن قرأ التاريخ يجد العبر، وكم من أشياء خرجت عن جماعة المسلمين تحت دعاوى، ثم لما تمكن أصحاب تلك الدعاوى رموا وراء ظهورهم ما كانوا يقولون. هناك أمور لا يمكن للإنسان أن يدركها، فمادام أن هناك نصاً وشرعاً أمر أن يسلم به فليسلم به. فالخروج لا يكون أول ما يكون إلا بالاحتقار، ولذلك يبلغ ببعض الناس في بعض الزمان أن يقول: لم يبق عالم أثق به. وإذا قال هذه الكلمة؛ فليعلم أنه قد ضل ضلالاً مبيناً، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله) وقد زكى حملة هذا العلم، وانظر إلى نفسك حينما تريد أن تحفظ آية من كتاب الله لا تستطيع أن تحفظها، بعض السور قصيرة لا تستطيع أن تحفظها، لتدرك أن هذا الدين عطية من الله، وأنه مادام وأنه قد زكى هؤلاء العلماء فوالله إن العالم ليخاف، ولكنه يخاف على المسلمين لا على نفسه، وينصح للمسلمين لا لذاته، ولا يدخل في جعبته شيئاً، وإنما يعلم أنه إذا أصغت له الآذان، ووعت منه القلوب فإنه على شفير جهنم، وأنه إن أخذ بهم بالسلامة سلم له دينه، وإن أخذ بهم على منهج السلف الصالح ابتعد بهم عن هذه العواقب الوخيمة. بين العلماء رحمهم الله أن الشذوذ لا يكون إلا بالاحتقار، ومن هنا تجد نصوص الشريعة كلها تذم شيئين، ولو نظرت في كثير من المصائب الموجودة اليوم وجدتها بسبب هذين الشيئين: الأول: في قرارة الإنسان وقلبه. والثاني: في لسانه، في اللسان الذي يكب الناس في النار على وجوههم والعياذ بالله. أما في القلب: فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) فما بالك إذا احتقر العلماء، واحتقار العلماء -في الخروج على الأئمة والخروج على الولاة والعلماء- لا يكون بأن يقول لك: أنا أحتقر فلاناً، ولكنه كما يكون بالمقال يكون بلسان الحال. هناك نماذج، ونذكر في واقعنا ما يقوله البعض الآن عندما تقول له: الشيخ أو العالم فلان نصح بكذا، وإذا به يقول: والله ما يفقه الواقع! ولا بد من فقه الواقع! لكن ما هو فقه الواقع؟ فقه الواقع أن تعي ما تقول، والواقعة التي تتكلم فيها، وعندك فيها نص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو تجتهد وعندك أمانة وورع وإخلاص، فقد فقهت في واقعك، أما فقه الواقع أن تكون بمثابة الشهادة والتزكية تُعطى لمن يوافق رأيي، وتنزع ممن لا يوافق رأيي، فبهذا نصير علماء للعلماء، ومعلمين للعلماء، وأعرف من العلماء بدين وشرع الله عز وجل! ولذلك ينبغي الحذر، فقد يكون هناك كلمة حق يراد بها باطل، وقد بينت النصوص أنه لا يهلك على الله إلا هالك، فعلى كل إنسان أن يحتاط من هذه اللمزات، وهذا الاحتقار؛ لأنه يؤدي بالإنسان إلى العواقب الوخيمة.

بداية خروج الخوارج على علي رضي الله عنه كان بالاحتقار

بداية خروج الخوارج على علي رضي الله عنه كان بالاحتقار الخروج على الأئمة لا يكون إلا بالاحتقار، ومن نماذج ذلك في التاريخ: أن أول فتنة وقعت للخوارج حينما خرجوا على علي رضي الله عنه فاحتقروه، واحتقروا مكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتقروا مكانه من العلم والفقه، وقد أمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه بعثه إلى اليمن قاضياً ومعلماً، واستخلفه على المدينة صلوات الله وسلامه عليه وقال له:: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى) فكان بهذه هي المنزلة العظيمة، وإذا بالخوارج يحتقرونه في ذلك، فخرجوا عليه رضي الله عنه وأرضاه، بالنقمة؛ نقموا عليه أنه قبل التحكيم، وقد بينا في المجلس الماضي كيف عتبوا عليه، وكيف أنه رضي الله عنه أقام عليهم الحجة. فأصل الخروج لا يكون إلا بالاحتقار، ومن هنا أول ما قال ابن عباس رضي الله عنهما -وهذا موضع الشاهد- أنه قال لهم: ماذا تنقمون على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه؟ ماذا تنقمون منه وهو أسبق للإسلام وأعرف بشرع الله عز وجل وبهدي النبي صلى الله عليه وسلم؟ فهو يخاطب أناساً لو كان عندهم عقل وبصيرة، لرجعوا إلى أنفسهم، إذ كيف يحتقرون هذا الصحابي الجليل المبشر بالجنة والخليفة الراشد، ورموا بكل ذلك وراء ظهورهم، بل وصل الأمر إلى تكفيره رضي الله عنه وأرضاه. ومن هنا أول ما يكون الخروج بالاحتقار، وما وجدنا أئمة السلف رحمهم الله يحرصون على شيء مثل احترام المسلم لأخيه المسلم، فضلاً عن العلماء وفضلاً عمن له حق وله فضل.

صفات البغاة المستحقين للقتال

صفات البغاة المستحقين للقتال يقول رحمه الله: (إذا خرج قوم) أي: تميزوا عن جماعة المسلمين بمكان يتجمعون فيه، أو يتحزبون فيه، كما حصل للخوارج حينما اجتمعوا بحروراء، وهذا شرط عند بعض العلماء رحمهم الله، ومنهم من أخذ بمطلق الخروج. وقوله رحمه الله: (قوم) هذه العبارة تشير إلى أنه لا يكون الخروج من الأفراد، وأن خروج الأفراد لا يأخذ حكم خروج الجماعات، فلو أن شخصاً تبنى الخروج على جماعة المسلمين، ولم يكن له أتباع أو أفراد كالاثنين والثلاثة؛ فالصحيح: أنهم لا يأخذون حكم البغاة؛ وذلك لتعبير القرآن بالطائفة، والأصل في ذلك: عمل السلف الصالح رحمهم الله. والشرط الثالث: أن يكون لهم شوكة ومنعة، أما إذا كانوا لا شوكة لهم ولا منعة، وانحصروا في مكان دون أذية للمسلمين، ودون تحريض للغير أن يخرج معهم بشق عصا الطاعة والشذوذ عن الجماعة؛ فإنهم لا يأخذون حكم الخوارج في قول جماهير السلف والخلف رحمهم الله، وإنما من حق الإمام أن يعاملهم بما يقطع شرهم وبلاءهم عن المسلمين: إما بعزلهم، وإما بمنع الناس من الاتصال بهم، أو نفيهم ونحو ذلك مما يرى فيه المصلحة. والشرط الأول دليله إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على قتال الخوارج بالخروج، وهذا يدل على أنهم لا يقاتلون، ولا يستباح منهم القتال إلا بخروجهم، ويتحقق الخروج بالاعتداء على حرمات المسلمين، ومن هنا استدل العلماء بأن علياً رضي الله عنه كما في الرواية الصحيحة عنه: ما قاتل الخوارج إلا لما قتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت رحمه الله ورضي عن أبيه، فلما قتلوه آذنهم علي رضي الله عنه بالقتال، فقالوا: إنهم لا يقاتلون إلا بهذا الشرط. وهناك من العلماء -وهو رأي صحيح وأميل إليه- من يقول: إنه لا يشترط أن يبدءوا بالقتال إذا غلب على الظن أنهم سيفعلونه؛ لأنه لو اشترط هذا الشرط فمعناه: أنهم لا يقاتلون إلا إذا فعلوا الضرر بالمسلمين، والواقع أنه إذا غلب على الظن أنهم أعدوا العدة يريدون التعرض أو الأذية بالمسلمين، فحينئذ يجوز قتالهم، وهذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله، وهو أنه لا يشترط وجود القتال منهم، وأنه إذا غلب على ظن الإمام أنهم سيخرجون، وأنه سيكون منهم الضرر؛ فمن حقه أن يبدأهم دفعاً للشر، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بادر عدوه قبل أن يأتي إلى المدينة كما صح عنه في غزواته صلوات الله وسلامه عليه، وكان من شجاعته عليه الصلاة والسلام أنه لا يسمع بقوم يريدون غزوه إلا بادرهم. وقوله رحمه الله: (بتأويل سائغ) هذا الشرط الرابع هو التأويل: أن تكون عندهم شبهة، وهذه الشبهة تكون في الرأي كما اشتبه الأمر على الخوارج، وتأولوا في قتال علي رضي الله عنه وأرضاه، فإذا تحققت هذه الأربعة الشروط فحينئذ يوصف هؤلاء بكونهم بغاة أو أهل بغي.

مشروعية مراسلة أهل البغي لإزالة الشبه ورفع المظالم عنهم ليرجعوا

مشروعية مراسلة أهل البغي لإزالة الشبه ورفع المظالم عنهم ليرجعوا قال المصنف رحمه الله: [وعليه أن يراسلهم فيسألهم ما ينقمون منه]. قوله: (وعليه) أي: يجب على الإمام أن يراسلهم، فيبعث إليهم أناساً من أهل العلم ومن أهل الصلاح، أو ممن يقبلون قوله ويناقشونه ويناظرونه، وقد يكون بعض العلماء أقدر على ردهم إلى الحق، والدليل على هذه المسألة فعل علي رضي الله عنه، فإنه بعث إلى الخوارج عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما فناظرهم، ورجع معه ألفان. وانظر كيف أن الإسلام يحفظ الحقوق ويعالج الأمور بحكمة! فلا أكمل من شرع الله عز وجل، ولا أتم من هديه، فأرسل رضي الله عنه وأرضاه عبد الله بن عباس وناظرهم؛ لأنه قد يكون هناك أناس لبس عليهم، فكم من كلمات ظاهرها السلامة وباطنها الخطأ والخلل، ويغتر بعض المسلمين من الأخيار والصالحين بظاهرها من الخير؛ ولذلك لا يكشف عوارها، ولا يبين زيفها إلا من عنده علم وبصيرة، فحينئذ يوكل الأمر إلى العلماء أن يناقشوهم وأن يناظروهم ويقيموا عليهم الحجة، وقد نص عليه جماهير العلماء رحمهم الله: على أنه يجب على ولي الأمر أو الوالي أو الإمام أن يبعث إليهم من يقيم عليهم الحجة. قوله: [فإن ذكروا مظلمة أزالها]. أي: فإن ذكر البغاة مظلمة، يعني أنهم خرجوا بسبب مظلمة؛ أزالها؛ وقد ذكر بعض العلماء أنه يجب على ولي الأمر أن ينصفهم إذا ذكروا مظلمة، ويكون معهم؛ لأنهم إذا كانوا مظلومين فالواجب عليه أن يزيل عنهم الظلم, وقد تكون في الناس عصبية، أو ضعف في الدين، فإذا حصل أقل الظلم بالغوا فخرجوا، وربما حصلت فتنة وشر، فمثل هؤلاء يبين لهم أن هذه المظلمة ستزال عنهم، ويرفع ما بهم من البلاء، ويكشف عنهم الظلم؛ لأن الله أمر بالعدل، وأوجب العدل على الحكام والولاة، ولا يجوز لهم أن يظلموا رعاياهم، ول أن يكونوا سبباً للخروج عليهم بهذه المظالم. وقد يستطيل بعض العمال في عمالته، ويستغل عمله، فيظلم ويكره الناس في ولاتهم، فحينئذ يجب على الولاة أن ينصفوا المظلومين، وأن يردوا المظالم إلى أهلها، وألا يمنعهم من قبول الحق كونه أتى من هؤلاء، بل عليهم أن يقبلوا الحق، ويردوا المظالم إلى أهلها، وينصفوهم في ذلك؛ لأن الله أوجب عليهم ذلك، وما شرع الله عز وجل الإمامة إلا لهذا المقصد العظيم وهو: إقامة العدل، ومنع الظلم، وكف الظالم عن ظلمه، فإذا ذكر البغاة المظلمة فالواجب على الإمام أن ينصفهم فيها. قوله: [وإن ادعوا شبهة كشفها]. بأن يخرجوا في مدينة، ويكون سبب خروجهم في هذه المدينة كون عامل المدينة ظالماً، وبعض الأحيان يكون في البوادي فيظلمهم السعاة والجباة، وأصحاب الضرائب؛ فعلى الولاة أن يزيلوا هذه المظالم كلها، وهذا واجب عليه لتزال هذه الشبهة. قوله: [فإن فاءوا]. أي: رجعوا إلى جماعة المسلمين، كف عنهم، وقبل رجوعهم؛ ولذلك قبل علي رضي الله عنه الخوارج الذين تابوا ورجعوا وكانوا قرابة الألفين، ولم يعنف أحداً منهم ولم يلمه. فإذا تبين الحق للمسلم ورجع إليه، فهذا يدل على خيره وفضله، والمسلم الحق هو الوقاف عند حدود الله، الذي إذا استبانت له المعالم، وتبين له أن الشرع يلزمه بجماعة المسلمين، وسمع من العلماء النصيحة والتوجيه وقبله بنفس مطمئنة ورجع، فهذا يدل على فضله، وأنه إنسان يريد الخير، فيُقبل منه ذلك ولا يحاسب ولا يقرع ولا يوبخ، بل يثبت على رجوعه ويعان على ذلك.

حكم مقاتلة الخوارج ابتداء بعد إقامة الحجة بمراسلتهم

حكم مقاتلة الخوارج ابتداء بعد إقامة الحجة بمراسلتهم قوله: (وإلا قاتلهم) أي: قاتلهم وجوباً، أي: يجب عليه قتالهم، وهذا قول جماهير السلف والخلف؛ لأن الله تعالى يقول: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات:9] فأوجب الله القتال بالأمر، ولأن علياً رضي الله عنه قاتل الخوارج، وقد أجمع أئمة السلف رحمهم الله على مشروعية قتال من خرج على جماعة المسلمين، وأن على ولي الأمر أو الإمام إذا لم يرجعوا بعد أن تقام عليهم الحجة أن يقاتلهم، واختلف العلماء رحمهم الله في كيفية القتال على وجهين: فمن أهل العلم من يقول: يقاتلون تدريجياً، فيحاول بالأخف ثم بالأقوى منه، ثم بالأقوى منه، فإن رجعوا وإلا شد وطأته عليهم حتى يكسر شوكتهم، ويستأصل شأفتهم، ويقطع دابرهم عن المسلمين. ومن أهل العلم من قال: يجوز أن يبتدئهم بالقوة والعنف. المذهب الأول للشافعية والحنابلة: أعني أنه ينبغي التدرج، والمذهب الثاني: للحنفية والمالكية. والحقيقة من حيث الأصول والأدلة: أن مذهب المالكية والحنفية أقوى دليلاً؛ لأنهم قالوا: إن الله أوجب القتال وقال: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات:9] وهذا يستلزم القوة وأن يكون حكمه حكم القتال سواءً بسواء، فيُهجم عليهم ويقاتلون حتى بالمنجنيق، وبالرمي بالنار ما لم يكن فيهم نساء وأطفال، على تفصيل في هذه المسألة. قالوا: لأن المراد من هذا قطع دابرهم، وفي هذا استئصال للشر، وأيضاً ردع للغير أن يسلك مسلكهم. والمذهب الأول فيه احتياط، لكن من حيث الدليل فمذهب القائلين أنه يجوز له قتالهم مباشرة أقوى دليلاً، وقد قاتلهم علي رضي الله عنه، والقتال الذي فعله بهم رضي الله عنه كان كسائر القتال إلا في مسائل فيما يترتب على القتال، فإن أهل البغي ليس قتالهم كقتال الكفار كما هو معلوم، فلا يجهز على جريحهم إذا كان هناك جريح ينزف بل يداوى ويعالج. وأيضاً ثبت عن علي رضي الله عنه في ابن ملجم لما طعنه أنه أمر أن يسقى وأن يضاف، ولم يأمر بقتله رضي الله عنه مباشرة، وأمر بالإحسان إليه، فإذا مُكن منهم فلا يعاملون معاملة غيرهم؛ ولذلك قال علي رضي الله عنه: (إخواننا بغوا علينا)، فالأصل في هذا أنهم يقاتلون دفعاً لشرهم، وما جاز للضرورة يقدر بقدرها، فقتالهم بقدر الضرورة وبقدر الحاجة ولا يزاد عليه، ولذلك قالوا: إنه لا تسترق نساؤهم، ولا يضرب عليهم الرق، ولا يجهز على جريحهم، ولهم أحكام خاصة تفصيلها في كتب الفروع، لكن من حيث أصل الحكم الشرعي: أنه يشرع له قتالهم وابتداؤهم بالقتال إذا غلب على ظنه وجود الشر منهم. وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم يختار التفصيل: وهو أنه يرد الأمر إلى نظر الإمام، فإذا رأى أن من المصلحة أن يبادرهم بالقتال بقوة بادرهم، وإن رأى أن المصلحة أن يبدأ بالتدرج معهم فلا بأس بذلك على حسب الظروف والأحوال، ويرى أن هذا أعدل القولين وأقربهما إلى الصواب.

قتال العصبية

قتال العصبية قال المصنف رحمه الله: [وإن اقتتلت طائفتان بعصبية أو رئاسة فهما ظالمتان]. بعد أن انتهى من أحكام البغاة شرع في مسألة قتال العصبية والحمية والثارات، كما يقع بين القبائل والجماعات، ويقع في العداوات والخصومات، وهذا لا يأخذ حكم قتال أهل البغي، ولذلك إذا وصفنا الفئة المقاتلة بأنهم بغاة، فهو أهون من أن يقال: إنه قتال عصبية؛ لأن أهل البغي يعاملون معاملة خاصة, ولهم أحكام خاصة، أما إذا كان قتال عصبية فالحكم مختلف، ففي قتال أهل البغي: لا يجب على أهل البغي ضمان ما أتلفوه، فلو وقع بينهم وبين جماعة المسلمين وإمامهم قتال فقتلوا وقُتل منهم لم يجب الضمان، لا على الفئة العادلة ولا على الفئة الباغية، وهذا في قول جماهير السلف والخلف. وهناك رواية عند الشافعية وقول عند الحنابلة: أنهم يضمنون. والصحيح: أن الفئة العادلة لا تضمن، والفئة الباغية لا تضمن، فلا يجب عليهما الضمان إذا كان هناك إتلاف أو قتل أثناء القتال، لكن في قتال العصبية وما يقع في الثارات والعداوات، فإنه يجب الضمان, ويعاقب الإمام الطائفتين، ويصلح بينهما بالعدل، لكن يؤاخذ الطائفة الباغية الظالمة أكثر، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن النداء بالشعارات والثارات أنه يورد الإنسان يوم القيامة النار. وكان قد وقع بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من تلك العصبية بسبب ما أثار بينهم يهود من تذاكر قتلى يوم بعاث الت يوقعت بين الأوس والخزرج، حتى قال الأوسي: يا للأوس، وقال الخزرجي: يا للخزرج، وثارت بينهم الثائرة، حتى كادت أن تحصل مقتلة عظيمة بينهم، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100] ولما تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات بكى الصحابة رضوان الله عليهم لما تبين لهم ما كانوا فيه من عظيم الخطأ والخلل. فالعصبيات موردها وخيم وعاقبتها وخيمة، ومن قاتل تحت راية عمية حُشر في نار جهنم -والعياذ بالله- تحتها، وهي بعث النار، حتى لو كانت في الجهاد، قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! الرجل يقاتل حمية -بمعنى أن الدافع له هو بلده ووطنه ومكانه وأهله وعشيرته- والرجل يقاتل ليرى مكانه، والرجل يقاتل للمغنم؛ أي ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) فكل هذا خارج عن سبيل الله، وهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم أن يحذر من العصبيات والنعرات؛ فإنها تورد الإنسان الموارد، حتى إنه لربما استباح دماء المسلمين المحرمة. وإذا اقتتلت طائفتان وكل منهما يتعصب لطائفة فإنها ليست آخذة حكم قتال أهل البغي، فإذا انتهى القتال؛ وجب على كل طائفة أن تضمن ما أفسدته، ووجب على كل طائفة أن تضمن ما أفسدته على الأخرى، وقد قال صلى الله عليه وسلم في شأن هذا: (إذا التقى المسلمان بسيفيها؛ فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) وهذا كله يدل على خطر هذه النعرات والعصبيات. فبين المصنف رحمه الله أن القتال على هذا الوجه لا يأخذ حكم قتال أهل البغي، فقال: [فهما ظالمتان، وتضمن كل واحدة ما أتلفت على الأخرى]. (فهما ظالمتان): أي: لا يعتبر هذا من قتال أهل البغي، بل يجب على الإمام أن يوقفهما عند حدودهما، وتضمن كل طائفة ما أفسدته على الأخرى. فلو حصل إتلاف للأموال وجب عليهما ضمان هذه الأموال التي أُتلفت، كما لو أحرقت منازل، أو مزارع، أو كسرت مصالح وأتلفت؛ فإنه يجب على المتلف أن يضمن، وما وقع من الدماء يجب ضمانه، فلو عرف القاتل بعينه فإنه يقتص منه؛ إعمالاً للنصوص الشرعية التي تقدمت معنا، وهكذا من أتلف المال إذا عرف بعينه وجب عليه الضمان، إذا أقر وجب عليه الضمان، وأما إذا كان لا يعرف فإنه يجب عليهم جميعاً أن يضمنوا ما أتلفوه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم المفاضلة بين العلماء

حكم المفاضلة بين العلماء Q هل يجوز لطلبة العلم أن يفاضلوا بين العلماء؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: هذا سؤال غريب عجيب! لكن إن شاء الله تؤجر على اختياره. الحقيقة أن هذا أمر قد عمت به البلوى، فالمفاضلة بين العلماء وغير العلماء مسئولية، ومن قال: فلان أفضل من فلان؛ فقد زكاه، وتعتبر هذه شهادة، والله تعالى يقول: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19] إذا كان الشخص يتكلم في المفاضلة: أولاً: عن علم. ثانياً: عن حاجة. ثالثاً: بإخلاص. عن علم: بمعنى أن يعرف من هو العالم الذي فضله، بأن يكون قد درس عليه، قرأ عليه، ضبط العلم على يديه، ويعرف من هو العالم الآخر -المفضول- فيكون قد أدرك علم الرجلين. ووجدت حاجة للتفضيل: لأنه من اللؤم ومن نسيان المعروف والخير: أن يأتي لعالم تتلمذ على يديه ثم يجد من هو أعلم منه ليقول: فلان أعلم من فلان دون وجود حاجة، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، يقول: فلان عالم وفلان عالم، ولعل فلاناً قد أعطاه الله علماً كثيراً، فلا تقل: فلان أفضل من فلان بدون حاجة، لكن إذا وجدت الحاجة فلا بأس، كأن يأتي رجل وقال: سأمكث في مكة أو المدينة سنة، وما عندي إلا هذه السنة، وأحتاج إلى أن أضبط العلم وأتقنه في علم الحديث، علم العقيدة، علم الفقه، فسألك قائلاً: دلني هل فلان أفضل أو فلان؟ هل أدرس على فلان أو فلان؟ فهنا وجدت حاجة. وأن يكون بإخلاص، أي: مراده النصيحة للأمة، وليس مراده التحقير والانتقاص، فإذا وجدت هذه الثلاثة الضوابط فلا بأس. أيضاً: إذا فضلت أحداً على أحد فينبغي ألا يتضمن الأسلوب التحقير للمفضول؛ لأن من النصيحة لأئمة المسلمين ومنهم علماؤهم: ألا يُنتقص قدرهم، فإذا قيل: إن فلاناً أعلم من فلان على طريقة فيها تهكم بالمفضول؛ فهذا ظلم له واستباحة لعرضه، وليحذر من غيبة العلماء ومن الغيبة عموماً. ولا يلام أحد خاصة إذا كان بين طلاب العلم أن يكثر من تحذير الناس أو طلبة العلم من الوقيعة في أهل العلم، وخاصة في هذا الزمان، ولو أن كل مجلس يُستفتح ويُختم بقرع القلوب بقوارع التنزيل في الحذر من الوقوع في أولياء الله من أهل العلم من الأموات والأحياء والتفضيل بينهم، وانتقاصهم على سبيل الانتقاص والاحتقار، لكان حسناً، ولم يلم من قال ذلك. وعلى كل حال إذا وجدت هذه الثلاثة الضوابط؛ فأرجو ألا يكون في ذلك بأس، أما أن يجلس شخصان أحدهما قرأ على شيخ، والآخر قرأ على شيخ لكي يفاضلان بين شيخيهما، فلا، أو يتناظر اثنان في مسألة فيقول أحدهما: رجحه الشيخ فلان، فيقول الآخر: رجحه الشيخ فلان، فيقول: فلان أعلم من فلان، فهذه أمور عواقبها وخيمة، وبالأخص إذا كانت في المجالس العامة، أو بين عامة الناس؛ لأن ضررها عظيم. فينبغي على طلاب العلم ألا يفعلوا ذلك. والله تعالى أعلم.

حكم تأخر الإمام عن المجيء إلى المسجد إلى وقت الإقامة

حكم تأخر الإمام عن المجيء إلى المسجد إلى وقت الإقامة Q هل السنة لإمام المسجد أن يأتي بعد الأذان مباشرة أو ينتظر في بيته إلى وقت الإقامة؟ A إذا كان بيته قريباً من المسجد مثل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل وقت الصلاة، تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، يتأول السنة وحينئذ فلا بأس، وإذا كان بعيداً من المسجد، ولا يأمن زحمة الطريق، ولا يأمن التأخر عن الجماعة وإضرارهم فبكر فلا بأس بذلك ليحتاط للمسلمين. وهنا مسألة ننبه عليها: وهي أن الأئمة والمؤذنين عليهم مسئولية عظيمة، ولذلك تحد الناس في كثير من المساجد تتألم من حال الإمام في عدم دخوله إلى الصلاة إلا متأخراً، ومتعجلاً في مبادرته بالخروج، والمنبغي تحري السنة. فكون الإمام مثلاً يأتي قبل الأذان، ويتفقد أحوال مسجده، ويحس بالأمانة والمسئولية، ويجلس في المسجد ليقرأ القرآن، ويصلي، ويحيي في الناس الخير فذلك حسن. النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل وقت الصلاة، لكنه كان يجلس في المسجد، وكان يعلم الناس في المسجد، ويحرص على الجلوس في المسجد، وكثير من الأحاديث رويت عنه في مجالسه في المسجد صلوات الله وسلامه عليه، وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (إن إخواني من الأنصار كان يشغلهم الصفق في الأسواق، وكنت رجلاً أصحب النبي صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، أشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا) فالأفضل للإمام أن يكون على حال وسمت يعطي الهيبة والمكانة للإمامة، وبالأخص المؤذنين أيضاً؛ لأن بعض المؤذنين يأتي متأخراً عن الأذان، وبعد أن ينتهي من الأذان يخرج من المسجد، وبعضهم يخرج ويجلس يتحدث مثلاً في مكان قريب من المسجد، وإن تيسر دخل بيته، وإن تيسر شرب القهوة في بيته حتى يأتي الوقت! ماذا نقول للناس؟! والله إنه شيء يؤذي جداً إذا لم يشعر المسلمون بعظم هذه الشعيرة العظيمة وهي الصلاة. وهل هانت الأمة وذلت إلا لما هانت شعائرها، وحينما كان يصلي بالناس الأئمة والعلماء والفضلاء كانت الأمة في أوج عظمتها وعزها وكرامتها، وأما اليوم فيبلغ ببعض المساجد أن يحضر وقت الأذان -وقد رأيت ذلك مراراً وتكراراً- ويدخل الذي يكنس في الشارع لكي يؤذن الأذان؛ لأن المؤذن وصاه جزاه الله خيراً حتى لا يضيع الوقت، ولا تسأل عن اللحن، ولا تسأل عن الكلمات المحرفة، وقد يكون أذاناً باطلاً من اللحن الذي يحيل المعنى، وكل هذا ولا أحد يبالي! ونحن نريد عزة وكرامة للأمة، فإذا كان أعز شيء في دينها بعد العقيدة الصلاة، والأمة بهذا الحال إلى درجة أن الإنسان مؤذناً أو إماماً لا يبالي بمسئوليته وأمانته، فلما أصبحت هذه الشعائر ليس لها مكانة في القلوب ضاعت. إذا كان بيت الإمام قريباً من المسجد فينبغي أن يدخل وقت الصلاة، والأفضل أن يكون له مجالس بين الفترة والفترة لأهل الحي ينصحهم ويوجههم ويسمع ما عندهم من أحوال، يجلس معهم ويؤانسهم ويباسطهم تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان بيته بعيداً فيأتي مبكراً ليحتاط للصلاة، انظر إلى إمام يؤذن الأذان وهو في المسجد! انظر إليه قارئاً لكتاب الله، وانظر إليه متأثراً بالقرآن الذي يقرؤه، أو قائماً يصلي ويذكر! وتخيل وأنت من صغرك في مسجد ترى إمام مسجدك بهذه الصفة: تالياً لكتاب الله، مبكراً للصلوات، محسناً ومتقناً فيها، محافظاً على كمالها وعلى أفضل الأحوال فيها، وقد لا يؤذن الأذان إلا وهو في المسجد، كيف يكون حالك؟ كيف يكون نظرك لهذه الإمامة وهذا الإمام؟ سيكون الحال أنه إذا أمرك أطعته، وإذا جاء على المنبر يقول: اتقوا الله سمعت له، وإذا نصحك رضيت نصيحته, وإذا أردت أن تستشيره في أمر تباركت بعد فضل الله عز وجل به، فكونه مستقيماً على خير؛ يجعل الله الخير على لسانه، فمثل هذا الإمام المبارك هو الذي يكون إماماً بحق، أما إذا كان بعيداً عن المسجد وقال: أنا أريد أن آتي على وقت الإقامة، فلا بأس، ما دام أنه يحفظ للناس وقت صلاتهم، المهم ألا يضيع على الناس وقت صلاتهم، هذا هو المطلوب. والله تعالى أعلم.

حكم كراهية الذي أنعم الله عليه بالنعم

حكم كراهية الذي أنعم الله عليه بالنعم Q كثيراً ما أجد في نفسي -إذا تذكرت نعمة معينة في أحد- كراهية وضيقاً وهماً، ثم أبادر إلى ذكر الله سبحانه وتعالى، لأني لا أود أن يصاب في الحقيقة بأذى، لكن ما وجدته في نفسي هل هو حسد أعاقب عليه؟ وما هو العلاج؟ A هذا على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون حديث نفسٍ ليس له استقرار في القلب، فلا تلبث أن تراجع دينك وشرعك وتستغفر وتذكر الله، فهذا لا يضرك إن شاء الله، واستمر على هذه الطريقة: أن تبارك وأن تستغفر الله عز وجل وترجع إليه. الصورة الثانية: أن يستقر ذلك في قرارة قلبك، وديدن نفسك، فهذا مرض، ولا شك أنه من الحسد وضعف الإيمان، أن الإنسان إذا رأى نعمة على أخيه المسلم؛ حصل له هذا البلاء العظيم. والذي أوصيك به أولاً: الدعاء: أن تدعو الله عز وجل أن يرزقك قلباً سليماً. وثانياً: أن تبحث عن الأسباب التي لأجلها ابتلاك الله عز وجل بهذا البلاء، فقد تكون ظلمت أحداً، أو آذيته، أو هضمته حقه؛ فابتلاك الله بفتن في قلبك، وهذه تسمى فتنة الحسد، وفتن القلوب كثيراً ما تأتي بسبب الذنوب؛ فقد يكون للإنسان ذنب فيسلط الله عز وجل عليه هذه الفتنة بسببه، فإن تاب تاب الله عليه، ورفع عنه أسباب البلاء؛ لأن الله جعل البلاء في الفتن دائماً بسبب ما يكسبه الإنسان من الظلم والأذية والتعدي لحدود الله، فأوصيك بالتوبة والاستغفار وكثرة الدعاء، وليس هناك حل إلا أن تسأل ربك أن يرفع عنك هذا البلاء، فليس له من دون الله كاشفة، فعول على ربك، وأكثر من الدعاء ولا تيأس ولو استمر معك هذا البلاء سنوات، ولعل الله بدعائك أن يجعل لك فرجاً ومخرجاً بعد توفيقه ورحمته بعباده. والله تعالى أعلم.

حكم المسبوق بركعة من الرباعية وقد زاد الإمام ركعة خامسة سهوا

حكم المسبوق بركعة من الرباعية وقد زاد الإمام ركعة خامسة سهواً Q كنت مسبوقاً بركعة في الصلاة الرباعية، وكان قد سها الإمام وزاد في صلاته خامسة فماذا علي؟ هل أسلم معه؟ أم آتي بالركعة التي كنت مسبوقاً بها؟ A إذا سها الإمام وأنت في نفس المتابعة وتيقنت سهوه وأنه سيسجد بعد السلام فعليك أن تنتظر، ولا تقوم مباشرة، حتى يسلم فلا تسلم، وابق على ما أنت عليه؛ لأنك معذور بالسلام، فإذا سجد تابعته، فهو مأمور بالسلام للأصل الشرعي، وأنت غير مأمور به؛ لأنك مأمور بإتمام صلاتك، ولكنك مأمور بمتابعته، فقد سها ووقع السهو في حال متابعته، وحينئذ تنتظر إلى سلامه ثم تسجد. هذا الوجه الأول عند العلماء رحمهم الله. الوجه الثاني يقول: إنه يجوز لك أن تقوم، ثم إذا انتهيت من صلاتك سجدت قضاءً لهذه السجدة؛ لأنه لا يمكنك متابعة الإمام على هذا الوجه؛ لأنها سجدة بعدية، وصلاتك ليس فيها سجدتي السهو قبل الإتمام. وكلا الوجهين صحيح. والوجه الأول أقوى من حيث النص، والمتابعة أن تنتظر حتى يسلم، ثم بعد ذلك تسجد سجود السهو ثم تتم لنفسك. والله تعالى أعلم.

حكم قراءة الآيات الأخر من سورة آل عمران عقيب النوم

حكم قراءة الآيات الأخر من سورة آل عمران عقيب النوم Q هل يستحب استفتاح اليوم بعد النوم بآخر الآيات من سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:190] كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ A نعم؛ هذا من السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بت عند خالتي ميمونة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فبت في عرض الوسادة، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله عليها، فلما كان هويٌ من الليل، قام فمسح النوم من عينيه، ثم تلا الآيات من آخر سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ. } [آل عمران:190] ثم قال: ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن، ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن، ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن) فيقرأها الإنسان ويتعظ بها. والله تعالى أعلم.

تعطل أجر الوقف بتعطل منفعته

تعطل أجر الوقف بتعطل منفعته Q ما حكم توقف الوقف كتعطل برادة الماء، أو من أوقف كتاباً ضاع أو تمزق؟ هل أجر هذا الشخص مستمر أم منقطع؟ A من حيث الأصل: الثواب على العمل، ومن حفر بئراً، أو أجرى نهراً، أو أوقف كتاباً، فمادام الخير موجوداً والناس منتفعة؛ فله أجره على قدر انتفاع الناس، ثم إذا تعطلت مصالح هذا الوقف؛ فالواجب على ناظر الوقف أن ينصح للميت، وأن يبذل الأسباب لإعادته حتى ولو ببيعه ونقله إلى مكان آخر، وهذا عن طريق القاضي، حيث ينظر إلى الأصلح ويأمر بذلك. أما من حيث الثواب: فالثواب على حصول النفع عاماً كان أو خاصاً، فإذا أجرى نهراً وانقطع النهر؛ فالأجر موقوف على جريان النهر، فإذا انقطع النهر انقطع الأجر والثواب، فالأجر موقوف على وجود المنفعة للمسلمين ومصالحهم. والله تعالى أعلم.

حكم ترك الهرولة في الطواف لمن كان معه نسوة

حكم ترك الهرولة في الطواف لمن كان معه نسوة Q من كان معه نسوة وكان في أثناء الطواف، هل يهرول في الأشواط الثلاثة؟ أم يسير مع النسوة سيراً طبيعياً؟ A النسوة لا يهرولن، قال عبد الله بن عمر، ويروى عن عمر: (ليس على النساء رمل لا في الطواف بالبيت، ولا في السعي بين الصفا والمروة) لأنها إذا رملت تكشفت، ومن هنا فالرمل خاص بالرجال دون النساء، وهذا مما خالف سبب شرعيته تطبيقه، فإن الأصل أن الهرولة بين الصفا والمروة للنساء؛ لأن هاجر -وهي أم إسماعيل- هرولت بين الصفا والمروة، وهذا مما ذكره العلماء في اختلاف السبب عن التشريع، ومن هنا قالوا: إنه لا يشترط المطابقة في المسائل. فالحاصل أن النساء لا يهرولن، ومن كان مع نسوة فينبغي أن يتعاطى الأسباب في بعدهن عن الفتنة بأن يطفن في حاشية المطاف، وأن يطفن في وقت بعيد عن الفتنة ما أمكن، ويحرص قدر الإمكان على إبعادهن عن الزحام، ومن الأخطاء الموجودة أن البعض يدخل نساءه إلى داخل المطاف خاصة في الزحام، ثم يدفع ويؤذي الناس، وهذا لا يجوز، بل المنبغي أن يجعل النساء في أطراف المطاف، أو يختار وقتاً مناسباً لطوافهن. أما لو كان معه نسوة ويخشى عليهن الضياع، فهذا يرخص له أن يهرول، وهو وجه ثان عند العلماء عندما يشتد الزحام فيهرول بقدر ما يستطيع، وهي ما يسمونها بهرولة الواقف على القول الثاني بأن الرمل هو هز المناكب وتقارب الخطى، على هذا الوجه يحتاط به، وإن شاء الله لا بأس عليه ولا حرج. والله تعالى أعلم.

نصيحة للقائمين على المراكز الصيفية

نصيحة للقائمين على المراكز الصيفية Q ابتدأت الإجازة؛ فما توجيهكم للقائمين على المراكز الصيفية؟ A لا شك أن الإخوة الذين يقومون على هذه المراكز من الإخوة الحريصين على الخير، نحسبهم كذلك ولا نزكيهم على الله، وعليهم مسئولية عظيمة في توجيه أبناء المسلمين, وحفظ أوقاتهم واستغلالها فيما يفيد، وعلى كل معلم وموجه أن يحرص على الأمور التي لا بد من توفرها لكي يكون توجيهه وتعليمه على السنن، فأساس الخير كله في الإخلاص لله عز وجل. فعلى هؤلاء الموجهين القائمين على هذه المراكز الصيفية أولاًَ وقبل كل شيء أن يخلصوا لله سبحانه وتعالى، ومن أخلص لله بارك الله قوله، وبارك عمله، وأيده وأعانه ووفقه، ووضع له القبول وألهمه الرشد، وكل ذلك خير له في دينه ودنياه وآخرته. الأمر الثاني: الحرص على أبناء المسلمين وعلى أوقاتهم، بمعنى النصيحة؛ فإن أبناء المسلمين أمانة في أعناقهم، فينبغي تحبيب الخير إلى قلوبهم، والحرص على وضع البرامج المفيدة والأنشطة النافعة التي يستغل فيها الوقت في طاعة ومحبة ومرضاة الله، فيخرج النشأ ويخرج الابن من هذه الإجازة حافظاً لشيء من كتاب الله، أو أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُحرص على تذكيرهم بالحكم والفوائد وأقوال السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وربط خلف هذه الأمة بسلفها، فقديم الإسلام جديد وجديده قديم، ولن يستقيم أمر هذه الأمة، ولن يصلح إلا بما صلح عليه أولها، وهي الأمة المرحومة باتباع نبيها صلوات الله وسلامه عليه، والأمة المهتدية باقتفاء أثره صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فيحرص هؤلاء الأساتذة الفضلاء على ذلك، وليعلموا علم اليقين أنه ليس لهم من هذا الذي يعملونه ويقضونه من الأوقات إلا ما أرادوا به وجه الله وأصابوا به الحق والصواب. الوصية الثالثة: الصبر؛ فإن توجيه الناس يحتاج إلى صبر، والصبر في جوانب: الجانب الأول: الصبر على إسداء الخير للغير، فإن هذا يحتم على هؤلاء القائمين أن يبذلوا أوقاتهم وأن يضحوا بكثير من مصالحهم ابتغاء النجاح في توجيه أبناء المسلمين وتعليمهم، ولا شك أن الله مطلع على ذلك كله، فهم إذا استشعروا مراقبة الله لهم، وأبدى كل واحد منهم من نفسه أن يري الله خيراً، وأن يكون بأحسن الأحوال وأفضلها، وطمع من ربه أن يكون على أحسن ما يكون عليه الموجه؛ فهذا لا يكون إلا بتوفيق الله ثم بالصبر، الصبر على هذا التعليم واحتساب الأجر عند الله سبحانه وتعالى، واستشعار المثوبة منه جل وعلا. الجانب الثاني: الصبر أثناء التعليم، فإن توجيه أبناء المسلمين والتعليم عموماً يحتاج إلى صبر، لأنه يأتي الجاهل بجهله، والسفيه بسفهه، والطائش بطيشه، والضال بضلالته، فينبغي أن تكون هناك نفس طيبة زاكية كريمة سامية عالية، ترجو رحمة الله عز وجل وتمتص هذه الأخطاء والشرور، ولن تستطيع أن تكون بهذه المثابة ولا بهذه المنزلة إلا إذا تذكرت رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في صبره وتحمله لكثير من المشاق والمتاعب، فهذا يقوي هذه النفوس الأبية الصالحة على الخير. الجانب الثالث: الصبر على الأذى؛ فإنه ربما يأتي من يشكك ومن يهول ومن يخذل ومن يتهم، وعلى كل موجه ومرب أن يعلم أن الكمال لله عز وجل، وأن الرسل وأتباع الرسل، وكل من قام بهذا الدين لا بد أن يمتحن ويبتلى فيه، ومن كان أصدق في إيمانه، وأصدق في إخلاصه، وأبلغ في الصواب فامتحانه أشد؛ ولذلك ربما يربي أحد أبنائه في هذه المراكز ثم يفاجأ به بعد فترة وإذا به قد انقلب عليه، وهذه نوعيات شاذة، لكن إذا لم يكن عنده صبر فقد يضيع أجره بكثرة غيبته وكلامه وحنقه عليه، ولكن بصبره وتحمله وتذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة والتابعين، وكيف مرت عليهم الشدائد، وأن هذه الأمة أمة مبتلاة ولكنها مرحومة بإذن الله عز وجل، فالعاقبة للمربي بإذن الله إذا صبر ولم يبال، ولم يعرف العجز ولا الخور ولا التواني، بل عزيمته صادقة، ونفسه قوية؛ لأنه يعلم أنه على صواب وحق، ومتى ما علمت أنك على الحق؛ فلا تبالِ بمن اتبع ولا بمن رجع، فعليك أن تستبين الصواب وأن تعمل به، وتصبر على ما يأتيك من التهم ومن التخذيل والتشكيك ونحو ذلك. ولا مانع من الأخذ ببعض المباحات التي دلت النصوص على جوازها، ولكن ينبغي استغلال الوقت في الأهم في طاعة الله ومرضاته. والنقطة الأخيرة: نوصي الإخوان من طلبة العلم أن يشدوا من أزر هؤلاء، وأن يشيدوا بفضائلهم وأن ينصفوهم وأن يعلموهم إذا كان عندهم خطأ أو خلل، وأن يبينوا لهم الصواب، وينبغي معونتهم على ما هم فيه من توجيه أبناء المسلمين. إن الفتن قد عظمت، والمحن قد جلّت وأحاطت بأبناء المسلمين من كل حدب وصوب، وإذا رأيت أحداً يتلقف أو يأخذ ابناً من أبناء المسلمين للحظات في طاعة الله، فاعلم أنه قد أحسن ولم يسئ، كأن يجعله على طريق خير أو حلقة ذكر؛ لأن أبناء المسلمين اليوم إذا لم يأخذهم الأخيار أخذهم الأشرار، ولربما ترى الابن في عز شبابه وزهرة أيامه فيتلقفه ذو شر إلى مجلس مخدرات يدمر به حياته، وذلك بمجلس واحد، ولربما تزل قدمه في الفواحش والمنكرات والمحرمات بجلسة واحدة. فعلى كل إنسان عاقل وكل إنسان يخاف الله ويتقيه أن ينظر إلى واقع أبناء المسلمين ويتألم ويشفق عليهم مما يرى من المغريات والملهيات، ومما يرى من الكلاليب التي تتخطفهم إلى المصائب والشهوات، فإذا وجد من يدعوهم إلى الخير، أو وجد المراكز الصيفية تحرص على قضاء أوقاتهم في الخير؛ كمل نقصها، وسدد خطاها، وصوب خطأها، وحرص على أن يعين إخوانه على هذه الرسالة، ومثل هؤلاء الأساتذة الفضلاء لا شك أنهم على ثغر عظيم، ونحن والله نقدر ما يكون منهم لأبناء المسلمين. نسأل الله بعزته وجلاله أن يمدهم بعونه وتوفيقه، وأن ييسر لهم الأمر، وأن يشرح لهم الصدر، وأن يجزيهم عن أبناء المسلمين بأحسن الجزاء، وأن يكثر من أمثالهم على الصواب والحق والهدى، وأن يلهمنا وإياهم الرشد، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والله تعالى أعلم.

حكم قراءة القرآن من المصحف في قيام الليل

حكم قراءة القرآن من المصحف في قيام الليل Q إذا كان الإنسان ليس حافظاً للقرآن؛ فهل يجوز له أن يقوم الليل وهو يقرأ من المصحف مباشرة؟ A لا بأس بذلك ولا حرج، وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله أنها كانت تأمر مولاها ذكوان أن يقوم بها الليل بالمصحف، وجماهير العلماء على جواز ذلك وعلى مشروعية أن يحمل المصحف ويقرأ منه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

باب حكم المرتد [1]

شرح زاد المستقنع - باب حكم المرتد [1] الإسلام دين رحمة للعالمين، من دخل فيه فقد فاز، ومن خرج منه فهو مفسد في الأرض يستحق العقوبة، وللردة أحكام بينها أهل العلم، وقسموا خلالها الردة إلى ما تقبل التوبة منه في الشرع وما لا تقبل.

أدلة تحريم الردة من الكتاب والسنة

أدلة تحريم الردة من الكتاب والسنة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فقد ذكر الإمام المصنف رحمه الله هذا الباب، وترجم له بقوله: (باب حكم المرتد) وهذا الباب يتعلق بعقوبة جناية من الجنايات، وهي راجعة إلى أصل الدين، وهي أعظم جناية وأعظم حدٍ ينتهكه العبد فيما بينه وبين الله سبحانه وتعالى، ومناسبة هذا الباب لما قبله واضحة ظاهرة، فإنه بعد أن بين حكم الخروج عن جماعة المسلمين شرع في بيان حكم الخروج عن الإسلام والدين. وهنا يعتني الفقهاء رحمهم الله ببيان عقوبة المرتد، ومتى يحكم بردة الإنسان وما يسميه أهل العلم بالموجبات وبنواقض الإسلام، ثم ما الذي يترتب على ذلك من عقوبة، ثم يبحثون في توبة المرتد. فهذه ثلاثة عناصر يبحثها العلماء والأئمة رحمهم الله في باب الردة، ويعتنون بالجانب الفقهي العملي، وإن كان تفصيل المسائل ومباحثها يعتني به أئمة الإسلام رحمهم الله في كتب الاعتقاد. وقوله رحمه الله: (باب حكم المرتد) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالردة، فهي عقوبة شرعية يستباح بها دم الإنسان وماله، ولذلك تزول عنه عصمة الإسلام، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث -وذكر منها- التارك لدينه المفارق للجماعة) فهذا هو المرتد. والأصل أن الردة محرمة بإجماع العلماء رحمهم الله، وهي الذنب الأعظم، والخلل الذي ليس بعده خلل، ولذلك قال العلماء: ليس بعد الكفر ذنب، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217] فحرم الله الردة، وأخبر أن صاحبها قد حبط عمله في الدنيا والآخرة، وأنه قد خسر خسارة لا ربح وراءها أبداً، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15] فهذا الخسران الذي ليس بعده خسارة. وكذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بين حكم المرتد، وأنه مباح الدم كما في حديث عبد الله بن مسعود في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) فبين حرمة الردة، وأنها موجبة لزوال العصمة عن الإنسان. وأجمع العلماء رحمهم الله على حرمة الردة عن الدين، والنصوص في الكتاب والسنة في هذا المعنى كثيرة، ولكن أردنا أن نشير إلى هذا الأصل، حيث قال العلماء إنه قد اتفقت عليه نصوص الكتاب والسنة والإجماع. ومدار بحث المصنف رحمه الله في ثلاثة جوانب: الجانب الأول: في حقيقة الردة وبم تكون؟ وهذا ما يسمى بموجبات الردة، وأسباب الردة، ويعبر العلماء عنه بقولهم: نواقض الإسلام. والجانب الثاني: عقوبة المرتد، وهذا هو الذي يركز عليه الفقهاء رحمهم الله، وأما في مسائل الاعتقاد فيركز العلماء المعنيون بها على بيان أسباب الردة على سبيل التفصيل والبيان الواضح، وقد اعتنى أئمة الإسلام رحمهم الله قديماً وحديثاً بهذا الباب العظيم، ومن أنفس من كتب في ذلك من العلماء المتقدمين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى، حيث بين نواقض الإسلام، ونواقض العقيدة، وكذلك أيضاً اعتنى به أئمة الإسلام رحمهم الله في كتب الاعتقاد ومباحثها، حتى جاء شيخ الإسلام الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله برحمته الواسعة، وكان في عصره قد تفشى في الناس الكفر والشرك؛ حتى أصبح البعض ينسب الأمور المحرمة إلى الدين والشرع، وهو منها براء، فأصبح الناس يتخذون القبور والمشاهد والأولياء يطوفون بها، ويصرفون حقوق الله عز وجل إلى أصحابها، ومن دخل تلك الأماكن فنظر أو سمع أو شاهد أحوال أهلها بكى على الإسلام بكاءً من صميم قلبه، وأحس بغربة الإسلام الحقيقية، حتى إنه ليسمع الرجل ويسمع المرأة تضفي على صاحب القبر من التقديس والمهابة والإجلال والصفات ما لا يجوز صرفه إلا لله وحده لا شريك له. كما يصرف لتلك القبور ولأصحابها من السجود والطواف والذبح والنذر ما تشيب منه الرءوس، ومن هنا سلط الله على المسلمين الذلة، وأصبحوا بحالٍ -كما يشاهد الإنسان- يرثى له بسبب انهدام أصل الدين، ووجود هذه النواقض التي تضاد شرع الله عز وجل، وما أنزل الله كتبه ولا أرسل رسله إلا لكي يكون الناس عباداً لله لا عباداً لخلقه، وتكلم رحمه الله في كتبه عن نواقض الإسلام، وجاء العلماء من بعد ذلك فشرحوا وفصلوا ذلك وبينوه، وسيبين المصنف رحمه الله جملة من هذه النواقض، وهل للمرتد من توبة على اختلاف أنواع الردة؟ كل هذا ما سيفسره وسيبينه رحمه الله في هذا الموضع. فاعتنى في الباب الأول بالجزئيتين الأوليين: بيان حقيقة الردة وعقوبة المرتد، وذكر في الجزئية الثانية: ماذا ينبغي أن يفعل بالمرتد من تمام العقوبة، وهل للمرتد من توبة، أو ليست له توبة.

تعريف الردة لغة واصطلاحا

تعريف الردة لغة واصطلاحاً قال رحمه الله تعالى: [وهو الذي يكفر بعد إسلامه] قوله: (وهو) الضمير عائد إلى المرتد، والردة مأخوذة من الرجوع في لسان العرب، ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن الردة في اللغة هي الرجوع، فمصادر اللغة كلها متفقة على أن مادة الردة راجعة إلى مادة الرجوع عن الشيء. وأما في الاصطلاح: فاختلفت عبارات العلماء رحمهم الله في حقيقة الردة والمرتد: فبعض العلماء يقول: الردة هي الرجوع عن الإيمان كما يعبر فقهاء الحنفية رحمهم الله. وبعضهم يقول: كفر المسلم، كما عبر به طائفة من العلماء ومنهم فقهاء المالكية. وبعضهم يقول: قطع الإسلام، كما يعبر فقهاء الشافعية. وبعضهم يجمع بينها كما اختاره الإمام ابن قدامة رحمه الله فقال: المرتد هو الراجع عن الإسلام إلى الكفر، فجمع بين الاثنين، والمعنى واحد. ومن هنا نجد التعاريف الاصطلاحية تختلف ألفاظها وتتفق معانيها، فكلهم اتفقوا على وصف الردة بكونها رجوعاً عن الإسلام، وهذا هو ظاهر القرآن: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة:217] فظاهره أنه يرجع بعد إسلامه إلى الكفر، نعوذ بالله العظيم من ذلك، ونعوذ بوجه الله العظيم أن يسلب الإسلام منا بعد أن وضعه في قلوبنا، ونسأله أن يزيدنا ولا ينقصنا منه. فتعريف المرتد بأنه: هو الراجع عن الإسلام، أو الراجع عن الإيمان، أو الرجوع عن الإيمان، أو كفر المسلم؛ المعنى كله واحد، وهذا الرجوع له أسباب ودلائل وأمارات وعلامات، منها ما يرجع إلى الاعتقاد، ومنها ما يرجع إلى الأقوال، ومنها ما يرجع إلى الأعمال، وتكون هذه الاعتقادات والكلمات والأعمال موجبة للحكم بكفر صاحبها.

صور ومظاهر الردة

صور ومظاهر الردة

المظهر الأول: الشرك بالله

المظهر الأول: الشرك بالله قال رحمه الله: [فمن أشرك بالله]. الفاء للتفريع، والشرك أصله مأخوذ من قولهم: شرك الشيء بالشيء إذا جمعه وخلطه به، فالشِرك والشُرك والشَرك مثلثة هي الخلطة، والأصل أن تكون فيما فيه الاختصاص، فيجمع بين من اختص بالشيء وبين غيره، فحينئذٍ يكون قد شرّك أو شرك به غيره. والمشرك من جعل لله نداً، سواء كان ذلك في ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته، فالذي يعتقد أن هناك خالقاً مع الله -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- فهو يقول: الله خالق، ولكن أيضاً الطبيعة تخلق مع الله. فهذا جعل مع الله نداً، وهذا شرك في الربوبية، وهكذا إذا اعتقد أن هناك من يرزق، وأن هناك من يصور المخلوقات ويوجدها، ويقدر الأشياء، فإن هذا كله شركٌ في الربوبية. وإذا أشرك مع الله غيره في ربوبيته أشرك مع الله غيره في ألوهيته، فاستغاث بغير الله، واستجار بغير الله، واعتقد أن هناك من يصرف الكون مع الله، وأنه ينبغي الرجوع إليه والاستغاثة به، والتقرب إليه -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- كما يفعل البعض ممن يعتقد أن للجن نفوذاً وتصرفاً في الكون، ولذلك يستغيثون بهم ويستجيرون بهم ويذبحون لهم، نسأل الله السلامة والعافية. والله تعالى يقول عن خلقه الضعيف -الجن- الذين يعظمونهم ويذبحون لهم: {وَأَنَّا ظَنَنَّا} [الجن:5] أي: أيقنا، وهنا استعمال الظن بمعنى اليقين والحكاية هنا عن عظماء الجن: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} [الجن:12] فلا يستطيع أحد أن يخرج عن قهر الله سبحانه وتعالى؟! فالجن خلق الله ولا يجوز اعتقاد أن هؤلاء الجن يدبرون ويتصرفون. ويستوي في شرك الألوهية دعاء الجن أو دعاء رجل صالح أو طالح في قبره، أو دعاء وثن أو الاستغاثة به مع الله، نسأل الله السلامة والعافية. النوع الثالث: أن يكون شركاً في الأسماء والصفات، فيجعل صفات الله عز وجل لغيره، فيصرفها لغير الله عز وجل أو يثبتها لمخلوق مع الله عز وجل، كمن يعتقد في بعض الناس أنه يعلم الغيب ويعلم ما سيكون، كما وقع في أئمة طوائف الضلال حين عظموا أئمتهم، واعتقدوا أنهم يعلمون ما يكون ويحدث في الكون، والله عز وجل أخبر في كتابه ونص على أنه لا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] فعلم الغيب هذا مما استأثر الله به، وهو سبحانه موصوف بأنه عالم الغيب والشهادة، جل جلاله وتقدست أسماؤه، فإذا اعتقد أن الشيخ أو أن الولي الفلاني يعلم ما يكون وما يحدث؛ فإنه قد صرف ما لله لغير الله. قوله: (فمن أشرك) أي: بناقض من نواقض الإسلام، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72] وهي الموجبة الكبرى التي توجب لصاحبها الخلود في النار، وحلول غضب الله عز وجل عليه أبد الآبدين. ويستوي في ذلك أن يجعل لله نداً من الصالحين أو غيرهم؛ كقوم نوح الذين جعلوا أنداداً مع الله عز وجل، من ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فقد كانوا قوماً صالحين، فجاء الشيطان قومهم وقال لهم لما ماتوا: إنهم كانوا قوماً صالحين، فلو أنكم صورتم صورهم وفعلتم لهم تماثيل تذكركم عبادتهم وصلاحهم واستقامتهم، فتجتهدون إذا رأيتموهم، ففعلوا ذلك، فاجتهد الجيل الأول في العبادة، فلما انقرضوا خلف من بعدهم خلوف، فقال لهم الشيطان: إنه لم يصور آباؤكم هؤلاء إلا ليعبدوهم، فعبدوهم، فوقع الشرك -والعياذ بالله- مع أنهم قومٌ صالحون. وقد قال الله تعالى عمن يشرك الصالحين مع الله عز وجل من الأنبياء وغيرهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57] أي: هؤلاء الذين تدعونهم كعيسى حين تعبده النصارى مع الله عز وجل، وتعتقد أنه ثالث ثلاثة، وأنه ابن الله وأنه هو الله، وهو أصلاً يدعو ربه، ويستغيث بالله عز وجل، ويسأل الله سبحانه وتعالى، فعتب الله عليهم أن صرفوا حقه لهؤلاء الصالحين. فالشاهد أنه إذا صرف العبد حق الله عز وجل لغيره فقد أشرك، سواء كان الغير وثناً لصالح أو لطالح، كل ذلك يوجب الحكم بردته وخروجه عن الإسلام.

المظهر الثاني: جحد الربوبية والوحدانية لله تعالى

المظهر الثاني: جحد الربوبية والوحدانية لله تعالى قال المصنف رحمه الله: [أو جحد ربوبيته أو وحدانيته] فلو قال: إن الله ليس برب. وهذا ما يعتقده الدهريون وأهل الطبيعة الذين يقولون: لا يوجد رب لهذا الوجود! والحياة أوجدت نفسها، والطبيعة هي التي أجرت الأنهار والرياح، وهي التي أخرجت الثمار، وهي التي والتي فكل شيء للطبيعة، حتى إنك تجد من بعض المسلمين من يقول: من خيرات الطبيعة! أي طبيعة يزعمون؟ أفٍ لهم ولما يدعون. وصدق الله حيث قال: {وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء:67] يخلقه ربه ويطعمه ويسقيه، ثم يزعم أنه لا رب ولا خالق لهذا الوجود، فهؤلاء لا يريدون أن ينسبوا المخلوقات لخالقها سبحانه، والله يقول: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [فاطر:3]؟ A لا، فلا خالق إلا هو سبحانه، وهم يقولون: الطبيعة. بل انظر كيف ينزل ذلك الكفور إلى مستوى الحضيض، حيث يكرمه ربه فيهين نفسه، ويرفعه ربه فيضع نفسه، فالله عز وجل يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] ويأتيك بالحق على أجمل وأجل وأكمل ما يكون من إتيان، فيبين لك أن الله خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد لله ملائكته، فكرمه وشرفه وفضله فيقول سبحانه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] ثم يأتي الشقي التعيس المنكوس ويقول: إن الإنسان أصله قرد! أي حضيض وصل إليه؟ {وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء:67]، {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] هذه الجاهلية وهذا الهبوط من الكفران. ثم بين الله سبحانه وتعالى في نصوص الكتاب أنه خلق الخلق فأحصاهم عدداً، وأنه قسم أرزاقهم فلم ينس منهم أحداً، وأنه تولى أمورهم فرداً فرداً، جل جلاله وتقسدت أسماؤه، فإذا بهم يشرِّكون بين المخلوق والخالق، وإذا بهم يصرفون أبناء المسلمين عن هذه الفطرة إلى الكفر بأساليب شتى، وألاعيب مكذوبة وأغاليط لا تنطلي إلا على السذج، وأهواء وترهات لا تعقل، حتى إن الأرزاق التي وضعها الله عز وجل وسخرها لعباده ولإمائه ولخلقه في هذا الكون كان الأصل أن تصرفهم إلى الاعتقاد بالله، لا للاعتقاد بغير الله، وإليكم مثال بسيط على ما سبق: يقولون وهم يتحدثون عن تاريخ البترول: إنه منذ ألف مليون سنة كان هناك حيوان يقال له: الديناصور -معروف طبعاً أن الديناصور انقرض- ثم توالت عليه أطباق الأرض فمات، وبفعل الحرارة ثم بفعل الضغط. إلخ فانظر ما عندهم من قياسات، وبالإمكان أن يعطوك عدد الأطباق التي نزل إليها هذا الديناصور حتى أصبح بترولاً. إن الإنسان إذا جاء يكذب يأتي بشيء يستساغ كما يقولون، فالديناصور من ذكائه ما وجد مكاناً يموت فيه إلا في الخليج، أو في عرض البحر، هم يقولون كل شيء إلا أن يقال: إن الله خالق كل شيء، ويجوز عندهم كل شيء إلا أن يصرف حق الله لله وحده لا شريك له، هذا حتى يعلم الإنسان مدى تمرد الكافر على ربه والعياذ بالله! وانظر إلى التشريف والتكريم الذي يكرم الله عز وجل به بني آدم، وانظر كيف ينصرف المخلوق عن خالقه، يعمل مع الشياطين {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ} [الأنعام:71] فهو في الحيرة والضلال والحضيض؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18] فكل من كفر بالله، وجحد ربوبية الله عز وجل، أو جحد حقاً من حقوق الله عز وجل ليذيقنه الله الذلة والصغار، حياً وميتاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يأذن أن يصرف حقه عنه جل جلاله. فهم يقولون: لا يوجد خالق! -والعياذ بالله- وكل شيء يلقن إلى أبناء المسلمين على أن الأشياء كلها طبيعة، وأنه ليس هناك إله، ومن هنا جاءت العناية في دعوة هؤلاء، والعناية بنصوص الكتاب والسنة، ومن أعظمها نصوص الآيات الجميلة الجليلة البديعة -وكل آيات الله جميلة جليلة بديعة- التي أخذت بمجامع القلوب في القرآن، فلفتت نظر الإنسان إلى السماء فوقه، وإلى الأرض تحته، وإلى الأشجار والثمار والأنهار والرياح المرسلة التي تسبح بحمد ربها، والسحاب المسخر بين السماء والأرض، تسبح بحمد ربها وتقدس له جل جلاله {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44]. فمن جحد ربوبيته يقول: ليس هناك خالق، ولا رازق، وينفي عن الله عز وجل أنه يخلق الخلق، أو يرزقهم، فإذا جحد بالربوبية كفر بالله عز وجل، وحكم بردته.

المظهر الثالث: سب الله أو الرسول صلى الله عليه وسلم

المظهر الثالث: سب الله أو الرسول صلى الله عليه وسلم قال المصنف رحمه الله: [أو سب الله أو رسوله] السب: الانتقاص والاستخفاف، وقد تكلم العلماء في ضابط السب، وأشار إليه القاضي عياض رحمه الله في الشفا عند حكم سب النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء، وأشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول؛ لكن من أجمع ما ذكروه أن السب هو الانتقاص والاستخفاف، فمن انتقص إنساناً، أو استخف به؛ فقد سبه، وهذا هو ضابط السب، الذي به يحكم أن الكلام يعتبر سباً أو لا يعتبر. وسب الله عز وجل جريمة وجرأة عظيمة على حدود الله عز وجل، وما أحلم الله سبحانه وتعالى، وعزة ربي لو أذن الله للأرض أن تفتك بهذا الكافر الفاجر الظالم الذي يسب ربه ما أبقت منه شيئاً، لخسفت به ولتزلزل فيها، ولو أذن سبحانه للسماء لأرسلت عليه قاصفة، فأخذت عمره، وأخرست لسانه، ولكن الله حليم، ولذلك على المؤمن إذا سبه أو آذاه أو انتقصه الناس، أن يتعزى بصفوة خلقه من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم أجمعين، الذين نالهم من ذلك الشيء الكثير. فموسى عليه السلام اشتكى إلى ربه حين تكلم الناس فيه، فقال الله: يا موسى! إني أنا ربهم، أطعمهم وأرزقهم، ثم يدعون أن لي صاحبة وأن لي ولداً. فهذا عزاء لكل مسلم، أن يتعزى إذا جاءه البلاء، ومن حلم الله ورحمته أن يوفق للتوبة من فعل هذا الأمر. والسب لله موجب للكفر والردة، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله. قوله: [أو رسوله] من سب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يحكم بكفره، وحكى الإجماع غير واحد من الأئمة والمحققين منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وقبله القاضي عياض، وغيرهم رحمة الله عليهم، فأجمعوا على أن من سب الرسول صلى الله عليه وسلم كافر ومرتد، وانتقاص النبي صلى الله عليه وسلم وسبه ولعنه -بأبي وأمي هو صلوات الله وسلامه عليه- موجب للكفر؛ لأن هذا مضاد تماماً لأمر الله سبحانه وتعالى. قالوا: لأنه يتعلق بالدين، وسبه وانتقاصه عليه الصلاة والسلام انتقاص للدين، ولذلك فالعلماء رحمهم الله يدققون في هذه المسائل، وتجد أن الكلام في الأنبياء وفي رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم محرم، وحرمتهم مبنية على حرمة الشرع؛ لأنهم رسل الله، وصفوة الله من خلقه. ومن هنا ننزل الكلام في العلماء والأئمة أنه طعن في الدين، كما يفعل بعض الفساق إذا قيل لهم: إن العلماء يفتون بكذا وكذا؛ فإنه يسبهم أو يشتمهم -والعياذ بالله- وهذا أمر خطير جداً؛ لأن هؤلاء العلماء تكلموا بالشرع، ونطقوا ونصحوا به، فالكلام فيهم يعتبر كلاماً في الشرع وانتقاصاً فيه، ومن هنا قال العلماء: لو أن الخصم -وسيأتينيا إن شاء الله- سب القاضي في مجلس القضاء فإنه يؤدب ولو سامحه القاضي؛ لأن هناك حقاً للشرع، فإذا القاضي تسامح بحقه فقد بقي حق الله عز وجل في حرمة مجلس القضاء، ولأن انتقاص القضاة انتقاص للدين وحكمه، وكذلك انتقاص العلماء كما قال صاحب التحفة: ومن جفا القاضي فالتأديبُ أو لا وذا لشاهدٍ مطلوب إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم سباً مباشراً باللعن -والعياذ بالله- أو انتقصه، كأن يصف النبي صلى الله عليه وسلم وصفاً ينتقصه به، كأن يقول: إنه بدوي يرعى الغنم، وقصد به التحقير له صلوات الله وسلامه عليه، ونحو ذلك من العبارات؛ فإنه يحكم بكفره، وقد ألف في هذه المسألة وفصل فيها العلماء رحمهم الله، ويعتبر كتاب شيخ الإسلام رحمه الله (الصارم المسلول على شاتم الرسول) صلى الله عليه وسلم من أنفس هذه الكتب، حيث فصل فيها. ومما يحكى أن شيخ الإسلام رحمه الله كان في مجلس، فسب نصرانيٌ النبي صلى الله عليه وسلم فجرد سيفه وقتله، وبعض العلماء رحمهم الله بينوا هذه المسألة وممن بينها من المتقدمين القاضي عياض في الشفا، وغيره من فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية، وحكى غير واحد الإجماع على ردة من سب النبي صلى الله عليه وسلم. [فقد كفر] جاء بـ (قد) التي تدل على التحقيق، وقوله: (كفر) أي: يحكم بكفره.

المظهر الرابع: جحد ما علم من الدين بالضرورة

المظهر الرابع: جحد ما علم من الدين بالضرورة يكون الكفر بالاعتقاد كما ذكرنا في الشرك، ويكون بالأقوال: كسب الله عز وجل وسب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر هنا مسألة إنكار المعلوم من الدين بالضرورة، وتحليل الحرام، أي اعتقاد حل الحرام المجمع عليه، أو عكسه من اعتقاد حرمة الحلال المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة، أو الذي قامت الحجة بتحليله أو تحريمه. يقول رحمه الله: [ومن جحد تحريم الزنا] والزنا من الأمور المعلومة الظاهر تحريمها، وقد اتفقت الشرائع السماوية على تحريم الزنا، وليست هناك شريعة تجيز الزنا، ولذلك لو قال: إن الزنا حلال، ولا شيء فيه، وبعضهم يقال له: إن هذا الرجل زنا بالمرأة، يقول: لا بأس، هذه حرية، وليفعل ما يشاء، والمرأة حرة تفعل ما تشاء، فإن شاءت أن تزني فلها ذلك، وكذلك الرجل فهذا تحليل لما حرم الله، وإذا اعتقد حل ما حرم الله فهو يكذب الله، فإن الله يقول: هذا حرام، وهو يقول: هذا حلال! وحينئذٍ يكون قد ضاد الله في شرعه وحكمه، وتحليل الحرام كتحريم الحلال، وإن كان الشهوات تختلف في تحليل المحرم بخلاف تحريم الحلال، فإن هذا جانب إفراط والثاني جانب تفريط، فالأول يُفْرِط والثاني يفّرط. قوله: [أو شيئاً من المحرمات الظاهرة] أي: إذا كان الشيء محرماً وظاهر التحريم، ولا يكون ظاهر التحريم ولا واضح الحرمة إلا بالنصوص من الكتاب والسنة، وعند اعتقاده للضد يكون -كما ذكرنا- قد ضاد الله في شرعه، وحينئذٍ يكون موجب التكفير تكذيبه لله عز وجل، وتكذيبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنت ترى الرجل حينما تقول له: إن الله حرم الزنا، قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] وحرمه رسوله صلى الله عليه وسلم، وعاقب من فعله، فيقول: ليس فيه شيء. فما معنى هذا؟ معناه أنه يكذب الله ويكذب رسوله، لأنه يقول: ليس فيه شيء! والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32] وهو يقول: لا، ليس فيه شيء، وهذه حرية، وهذا انطلاق، أو يأتي بالعكس، فيقول: هذا حكم متحجر، هذا تخلف، لكن بشرط أن يكون معلوماً عنده، أي: لا يكون حاله يوجب العذر لوجود شبهة فيه. مثلاً: لو أن شخصاً أسلم وكان حديث الإسلام، وبيئته فيها الإباحية -والعياذ بالله- أو بيئة فيها جهل، ويقعون في المحرمات، فيشربون الخمور ويفعلون الزنا، فأسلم ثم شرب الخمر أو فعل الزنا، فقيل له: إن الزنا حرام، قال: لا، الزنا ليس فيه شيء، نقول: إن هذا معذور لجهله، فتقام عليه الحجة، ويعلَّم. قوله: [المجمع عليها] أي: كالخمر والربا، ونحو ذلك من المحرمات الظاهرة المجمع على تحريمها، فإذا قال: ليس فيها شيء، وكذب الله رسوله في حكمه وضادهما في الشرع؛ فإنه يحكم بردته والعياذ بالله. قوله: (بجهل) أي: إذا كان يجهل الحكم، فهذه من المسائل التي نص العلماء فيها على العذر بالجهل، وذلك أن يكون الشخص حديث عهد بإسلام وقد وقع هذا، ونعرف بعض الحوادث حيث أسلم الشخص وكان حديث العهد بإسلام، ثم قيل له بعض المحرمات الظاهرة، فقال: ليس فيها شيء، ثم قيل له: لا، إن الله عز وجل يقول، ورسوله عليه الصلاة والسلام يقول، والشرع يحرم هذا الشيء؛ فقال: سمعت وأطعت، فمثل هذا كان معذوراً في جهله، وحينما نطق بحكم الحل، فإنه معذور في هذا، ولا يحكم بكفره بذلك. قوله: (عُرِّف ذلك) أي: أقيمت عليه الحجة، وبُين له نص الكتاب والسنة والأدلة التي تدل على التحريم، أو التحليل إذا حرم حلالاً، كما يفعله الغلاة من الزهاد والمتنطعين والغالين في العبادة، فمن غلا في تحريم شيء ثم قيل له: هذا الشيء أحله الله، وكان حديث عهد بإسلام ولا يعلم هذا التحليل وأقيمت عليه الحجة؛ فإنه حينئذٍ إذا أقيمت عليه الحجة ورجع، لا يحكم بردته وكفره؛ سواء حلل ما حرم الله أو حرم ما أحل الله. قوله: [وإن كان مثله لا يجهله كفر] أي: حكم بكفره في الظاهر، كشخص يعيش بين المسلمين، وولد بينهم، ويعرف أحكام الإسلام وشرائعه، وفجأة جاء وقال: إن الزنا حلال! أو إن الخمر حلال، أو إن الربا حلال، فمثل هذا لا يجهل هذه الأمور، وليس بجاهل فيعلم، فإذا توفرت الدواعي وقامت الأمارات، وكان الظاهر على حاله وبيئته أنه يعلم أخذ بهذا الظاهر، وحكم بكفره ظاهراً، كما يقولون: حكم القضاء، وحكم الديانة. لكن لو أنه بين لنا شبهة واضحة يعذر بها عذرناه، لكن في الظاهر نحكم بكونه كافراً، فلو خرج رجل من بين المسلمين في بيئة إسلامية معلومة فيها شرائع الإسلام وقال: الزنا ليس فيه شيء! هل نقول: إن مثل هذا يعذر بالجهل، أو يؤخر حتى نقيم عليه الحجة؟ هذه أمور ظاهرة وواضحة، فمثل هذا يحكم بكفره في الظاهر. وأما إذا كان هناك ما يحتمل؛ فإنه ينتظر حتى تقام عليه الحجة، وإذا ثبت جهله، فإنه يعذر بالجهل.

حكم الاستهزاء بالصالحين وشعائر الدين

حكم الاستهزاء بالصالحين وشعائر الدين ذكرنا أن السب معناه: الانتقاص والاستهزاء، وهنا نحب أن ننبه على مسألة مهمة جداً وهي: مسألة الاستهزاء بشرائع الإسلام أو بالأخيار والصالحين، أو بالعلماء، وهذا لا شك أنه تفشى كثيراً خاصة في هذه الأزمنة المتأخرة، وكل من عنده ديانة واستقامة فإنه يتقرح قلبه ويتألم أشد الألم حينما يرى ويسمع من الجرأة على حدود الله عز وجل ومحارمه والاستهزاء بالدين، أو الاستهزاء بشعائر الدين، ومسألة الاستهزاء من الأمور التي يجب على طلاب العلم وعلى العلماء أن يبينوا ويكشفوا للأمة حكمها وحكم هؤلاء الذين ينتقصون الإسلام وأهله. فبعض أهل الهوى -نسأل الله بعزته وجلاله أن يهديهم ويصلحهم وإلا أن يقطع دابرهم عن الإسلام والمسلمين؛ وأن يخرس ألسنتهم- تجده إذا كتب لا يجد شيئاً يكتب فيه إلا الأخيار والصالحين، فيلمزهم في سلوكهم، وينتقصهم في ديانتهم واستقامتهم، وكأنه لا هم له في صحيفته أو مقاله أو كتابته أو توجيهه إلا هؤلاء الأخيار الصالحين، فتارة يقول: إنه دخل مسجداً فرأى شخصاً على صفة كذا وكذا، ويأتي بصفات أناس على خير واستقامة ثم يقول: وقال لي، وقلت له، والله أعلم بصدقه من كذبه، ولكنه سيقف بين يدي الله عز وجل، وسيعلم إذا كان ظالماً أي منقلب ينقلب إليه. إن هذه الكتابات المشبوهة التي تشكك الناس في ثوابتها، وتطعن في دينها، وتريد سلخ شباب الأمة من الدين ومحبته، ومن محبة الخير والصلاح، كل هذه الأقلام المشبوهة ينبغي أن تكف وأن تتقي الله عز وجل قبل أن يعاجلها الله عز وجل بعقوبته، ووالله ما من أحد يتهكم بهذا الدين، ويستخف به، إلا أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وليعلم كل أحد أن الكلمة كلمة الله، وأن الدين دين الله، وأنه سيبقى ما بقي الملوان وتعاقب الزمان، بعز عزيز وذل ذليل، وإن ظن هؤلاء أنهم يطفئون نور الله عز وجل فقد ظنوا كذباً، والشيطان قد مكر بهم بهذه الظنون، وسيوردهم الموارد كما أورد من قبلهم، إذا لم يتوبوا إلى الله ويرجعوا. إن هذه الأفعال وهذه الكتابات من أسباب الإرهاب؛ لأنها تحرض الشباب وتحرض من ينتسب إلى الإسلام على أن يخرج عن طوره، حتى يشك في مجتمعه حينما يجد شخصاً يتبجح في ذات الله عز وجل، ويكتب كتاباً أو ينشر مقالاً يطعن في الله عز وجل وفي أسمائه وصفاته، أو يعرض مسرحية، أو نحو ذلك يستخف فيها بالدين، أو يطعن بها في الدين، ولا يجد له سلعة إلا الدين، رغم كثرة الأمور التي تحتاج إلى الإصلاح والبناء، وإقامة المعوج فيها وتسديد الناس ودلالتهم على ما فيه الخير، وشباب الأمة أحوج ما يكونون إلى أيدٍ أمينة وإلى أقلام نظيفة تبني ولا تهدم، وتصلح ولا تفسد. الدين هو صلاح كل شيء، وأساس كل خير، ومنبع كل فضيلة، من لم يعرف هذا عن الدين فقد ظلمه وجهله، فعليهم أن يدركوا إدراكاً تاماً أن هذا كله سيكون وبالاً عليهم، وعليهم أن يعلموا أن هذا الدين كبيت الله عز وجل، وأن للبيت رباً يحميه، ودين الله عز وجل ماضٍ. واعلموا أن الأمة عامة وشباب الأمة خاصة أحوج ما يكونون إلى إصلاحهم في مجتمعاتهم، وإصلاحهم في سلوكهم، في أخلاقهم، في توجهاتهم، في أفكارهم، لبناء أنفسهم ولبناء مجتمعاتهم وأوطانهم وشعوبهم، ولكن للأسف أن هذه الجهود والطاقات توجه كلها ضد الدين. وليعلم هؤلاء أن الله سبحانه وتعالى له سننٌ لا تتبدل، وله سنن لا تتحول، وكم من شقي عنيد خرج عن المنهج السوي؛ فلعنه الله لعنة دخلت معه في قبره كل شيء إلا اللعب بالدين والاستهزاء به! وإن كان هناك شيء في هذا الأمر فليس هناك أعظم من حرمة الإسلام، ومن حرمة الدين، التي من أجلها أقام الله سماواته وأرضه، وأوجد هذا الكون كله شواهد على هذه الكلمة الصادقة، فكل هؤلاء إذا عبثوا بهذا الدين عليهم أن يعلموا أن الله سيأخذهم أخذ عزيز مقتدر. وعلى الآباء والأمهات، وعلى الأسر والمجتمعات، وعلى الناس أفراداً وجماعات، أن ينتبهوا من غرس أسلوب التهكم والسخرية ولو من بدايته، فكل ما يتصل بالدين يقفل باب السخرية به ما أمكن، ويقفل باب الاستهزاء؛ لأن الشيطان يستدرج، وعلى كل إنسان أن يحذر، حتى أن بعض الصالحين يشتكي من بعض إخوانه أنه يقول له كلمات قد تكون مشابهة لكلمات بعض أصحاب تلك المقالات المشبوهة، فعلينا أن نربي أولادنا وأن نربي أنفسنا على تعظيم شعائر الله {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، فالدين أشعر الله بتعظيمه، فينبغي الحذر من مثل هذا. وأذكر على سبيل المثال أن الشيخ الأمين رحمه الله كان يخرج من باب وكان يضع حذاءه عند رجل عند الباب، ويعطيه ما تيسر، وذات يوم كان الشيخ خارجاً من درسه، وكان مشغولاً بالإفتاء؛ يسأله سائل ويفتيه وهو في طريقه، فلما وقف بالباب وضع الرجل حذاءه، فانتعل الشيخ رحمه الله، فقال الرجل: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [النمل:12] يريد مالاً، فغضب الشيخ غضباً شديداً وكهره وطرده، ولم يأذن له أن يأخذ حذاءه بعد ذلك اليوم، كل هذا حتى لا يستدرج الشيطان الإنسان من حيث لا يشعر. ومن هنا ينبغي تعظيم شعائر الله من الآيات والأحاديث والنصوص وكل ما يتصل بالدين، وينبغي تربية الأبناء والبنات والأفراد والجماعات على تعظيم هذا الأمر، وعلى الخطباء وطلاب العلم دائماً أن يغرسوا هذا الأمر، خاصة في هذا الزمان الذي كثر فيه الاستخفاف بحرمات الدين. الخلاصة أن الاستهزاء ذكره العلماء، وبينوا أنه من موجبات الردة، قال بعض العلماء: إن الاستهزاء بالدين والاستهزاء بشعائر الدين وبالصالحين من أسباب سوء الخاتمة -والعياذ بالله- فالغالب أن صاحبها إذا استمرأ هذا وأصبح لا يجد له فاكهة، ولا يجد له لذة، ولا يجد له سوقاً إلا في السخرية والاستهزاء بما ذكرنا؛ فإن هذا يقود -والعياذ بالله- إلى سوء الخاتمة. ومن قال الكلمة التي تغضب الله عز وجل وتوجب لعنته؛ لعنه الله، فإذا استدرج - نسأل الله السلامة والعافية - لعنه الله لعنة دخلت معه في قبره، وختم له بخاتمة الأشقياء، ولذلك ينبغي الحذر من هذا ما أمكن، ومعلوم لديكم قصة الذين كانوا يستهزئون بالصحابة رضوان الله عليهم حينما قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أجبن عند اللقاء، فأنزل الله عز وجل: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]. وقال بعض العلماء: هناك من طوائف الضلال من يسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويستهزئ بهم، يقول: وبالاستقراء قل أن نجد منهم تائباً، وقل أن نجد منهم من يصلح حاله، وجدنا عبدة الأوثان يرجعون، ولكن هؤلاء تجدهم يتشبثون بسب ولعن الصحابة رضوان الله عليهم، ولكن قل أن تجد منهم تائباً، وهذا يدل دلالة واضحة على الحذر من الاستخفاف والاستهزاء بأولياء الله عز وجل، وبالأخص أهل العلم. وهذا مما أحببنا التنبيه عليه؛ لأنه كثر، خاصة في بعض مواقع الإنترنت ونحوه -نسأل الله السلامة والعافية- ولعل الله أن ييسر بعض الكلمات إن شاء الله في المستقبل نبين فيها ما ينبغي على طلاب العلم وعلى الأخيار من الحذر من هذه الآفات، فقد أصبحت أراضي المسلمين، وأصبح الإسلام وكرامته ومكانته وهيبته سوقاً لأمثال هؤلاء، فنسأل الله بعزته وجلاله أن يهديهم وأن يصلح من شأنهم، وأن يتوب علينا وعليهم، وإن لم يكونوا مهتدين أن يأخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر، وأن يقطع دابرهم عن الإسلام والمسلمين، إنه على كل شيء قدير.

باب حكم المرتد [2]

شرح زاد المستقنع - باب حكم المرتد [2] الحكم على الشخص بالردة بحيث يستحق عقوبتها لابد أن تتوفر فيه شروط موجبة للعقوبة، ثم إن الردة تختلف باختلاف موجبها، فهناك من أنواع الردة ما قد يحكم بعض العلماء بعدم قبول التوبة منها، كسب النبي صلى الله عليه وسلم.

اشتراط الاختيار والتكليف في المرتد

اشتراط الاختيار والتكليف في المرتد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: فمن ارتد عن الإسلام وهو مكلف مختار] بعد أن بين لنا المصنف رحمه الله أدلة تحريم الردة شرع في الجزيئة الأخيرة وهي ما يترتب على الردة، فقال رحمه الله: (فمن ارتد عن الإسلام وهو مكلف مختار). قوله: (وهو مكلف) أي: والحال أنه مكلف، والتكليف يكون بالبلوغ والعقل، فلو قال كلمة الكفر وهو صبي لم يؤاخذ، واختلف في الصبي المميز، أما إذا كان مجنوناً فلا إشكال، والنصوص تدل على سقوط المؤاخذة عن الصبي والمجنون كما في حديث علي وعائشة رضي الله عن الجميع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ) فهذا يدل على أن كلاً من المجنون والصبي غير مكلف، وأنه لو حصل منه ما يوجب الردة لم يحكم بردته وكفره. وقوله: (مختار): الاختيار ضد الإكراه، وعلى هذا يشترط أن يقول كلمة الكفر أو يقول ما يوجب الردة دون وجود إكراه، فلو أكره على أن يقول كلمة الكفر -والعياذ بالله- أو يفعل ما فيه الكفر، فإنه إذا توفرت فيه شروط الإكراه حكمنا بعذره؛ لأن الله تعالى يقول: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] فنص سبحانه وتعالى على العذر بالإكراه، وقد نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه وعن أبيه وأمه، فإنه لما أكره على كلمة الكفر قالها. وذكرنا في طلاق المكره شروط الإكراه وهي: أن يهدد الإنسان بما فيه ضرر، وأن يكون هذا الضرر أعظم مما يطلب منه، من ناحية أن يحصل به العذر للشخص في نفسه، ويدخل في ذلك أهله وعرضه، وأن يغلب على ظنه أن المهدد يفعل ما هدد به، وألا يمكنه الفرار ولا الاستغاثة، وأن يكون التهديد حالاً لا مؤجلاً ولا مؤخراً، وألا يكون الإكراه على الباطن، بمعنى أن يقول كلمة الكفر في الظاهر، ولكنه يعتقد الإيمان في الباطن لقوله تعالى: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]. وهذه الشروط إذا توفرت حكم بكون الإنسان مكرهاً، فإذا كان مكرهاً سقطت مؤاخذته، فلو وضع عليه السلاح وقيل له: إذا لم تقل كلمة الكفر قتلتك، فحينئذٍ إن غلب على ظنه أنه يفعل ذلك، فيجوز له أن يأخذ بالرخصة. واختلف العلماء على قولين: هل الأفضل أن يصبر ويحتسب نفسه عند الله عز وجل، أم الأفضل أن يأخذ برخصة الله عز وجل؟ من أهل العلم من قال: الأفضل أن يصبر، كما صبر الإمام أحمد رحمه الله برحمته الواسعة، فخلد الله ذكره في العالمين، لموقفه المشهود له في فتنة خلق القرآن، ونسي غيره، ومع أن غيره صبر، ولكن ما صبر عليه رحمه الله وعاناه كان عظيماً، فلم يأخذ بالرخصة، وجعل الله عز وجل له فيها مبوأ صدق في الدنيا، ونسأل الله أن يبوئه مبوأ صدق في الآخرة وأن يقدس روحه وأن ينور ضريحه وأن يجزيه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء. ومن أهل العلم من يفصل بين من هو قدوة، أو ليس بقدوة، أو غلب على ظنه أن يكون لها أثر في دعوته، فهذا الأفضل أن يصبر، وهذا القول هو الأولى بالصواب إن شاء الله، فإنه لو نظر إلى الأحوال وما يترتب من حسن البلاء وحسن العاقبة؛ فإن بعض البلاء يزيد في إيمان الناس وثباتهم على الحق.

لا تشترط الذكورة في المرتد

لا تشترط الذكورة في المرتد قوله: [رجل أو امرأة] يستوي في الردة الرجل والمرأة، فإذا وقعت الردة من الرجل أو المرأة؛ فإن كلاً منهما يعاقب بعقوبة المرتد، فمذهب جمهور العلماء رحمهم الله، أن الردة من المرأة توجب عقوبتها، وأن المرأة إذا ارتدت يقام عليها حد الردة كما يقام على الرجل. وخالف في هذا المسألة بعض السلف كـ ابن عباس رضي الله عنهما وبعض الصحابة، وهو مذهب الحنفية وطائفة رحمة الله على الجميع، قالوا: إن المرأة إذا ارتدت لا تقتل، وسيأتي أن النص عام في قوله عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه) فإنه من صيغ العموم التي تدل على شمول الحكم للرجال والنساء على حد سواء.

أقوال العلماء في حكم استتابة المرتد

أقوال العلماء في حكم استتابة المرتد قوله: (دعي إليه ثلاثة أيام). أي: دعي إلى الإسلام والرجوع مدة ثلاثة أيام، وهذا ما يسمى بالاستتابة، وهي أن يطلب منه الرجوع عن هذا الأمر الموجب للكفر ثلاثة أيام، فيعرض عليه أن يتوب إلى الله ويرجع. وهذه الاستتابة يتفق جميع العلماء على استحبابها، وقد وقعت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان يرغبها فيها كما في قصة معاذ رضي الله عنه، ودرج على ذلك العلماء والأئمة. ولكن Q هل يجب أن يستتاب، أم أنه يجوز لولي الأمر أن يقتله فوراً؟ فلو رفع إلى القاضي وشهد الشهود أنه مرتد وبقي على ردته ولم يرجع؛ فهل يجوز للقاضي أن يقتله ابتداءً بعد ثبوت ردته؟ أو قال كلمة الكفر أمام القاضي، فأمر القاضي بقتله فوراً؛ هل يجوز له ذلك أم يجب عليه أن ينتظر ثلاثة أيام؟ جمهور العلماء رحمهم الله على وجوب الاستتابة، وأن المرتد يستتاب ثلاثة أيام، وذهب الشافعية في قول والحنابلة في رواية، وصححها غير واحد من أصحاب الإمام أحمد رحمة الله عليه وهو قول طاوس بن كيسان رحمة الله على الجميع، أن هذا على الاستحباب وليس على الحتم والإيجاب. واستدل الذين قالوا بالوجوب بقصة عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه جاءه رجل من اليمن، فقال له: هل من مغربة خبر؟ قال: نعم، رجل ارتد عن دينه إلى دين السوء -كان يهودياً ثم أسلم، ثم رجع إلى اليهودية- فقال: ما فعلتم به؟ قال: قربناه فقتلناه، فقال: هلا حبستموه ثلاثاً، وأطعمتموه كل يوم رغيفاً؛ لعله أن يتوب، لعله أن يرجع إلى ربه، اللهم إني لم أشهد ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني. رواه مالك في الموطأ. فيقولون: هذا الأثر يدل على وجوب الاستتابة؛ لأن عمر رضي الله عنه أنكر عليهم ذلك. واستدل الذين قالوا بعدم وجوب الاستتابة بالأدلة الصحيحة الصريحة في السنة بوجوب قتل المرتد دون ذكرٍ للاستتابة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) ولم يأمر باستتابته، وهذا يدل على أنه يحكم بردته، وتزول عنه عصمة الإسلام بمجرد كفره، ولو كانت الاستتابة واجبة لبينها النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وأكد هذا قصة معاذ رضي الله عنه مع أبي موسى الأشعري، وفيها: (أن معاذاً رضي الله عنه دخل على أبي موسى، فوجد رجلاً مكبلاً بالحديد أو موثقاً، فقال: ما شأن الرجل؟ قالوا: إنه كان على اليهودية ثم أسلم ثم رجع إلى دينه، فقال معاذ رضي الله عنه عندها: لا أجلس حتى تقتلوه، قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم -قالها ثلاثاً- فقتل). قالوا: والصحابي إذا قال: قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، دل على أنه في حكم المرفوع؛ لأنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلأنه لم يسأل: هل استتبتموه أم لا، دل على عدم وجوب الاستتابة، والرواية الأصلية ليس فيها ذكر الاستتابة. لكن أجاب الجمهور عن هذا بأن الرجل كان قد أمهل شهراً، وقيل: عشرين يوماً، والروايات مختلفة في هذا، لكن قول معاذ رضي الله عنه: (لا أجلس حتى يقتل قضاء رسول صلى الله عليه وسلم، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من بدل دينه فاقتلوه)، فاحتج بالنص على ظاهره دون ذكر استتابة، وهذا يدل على أنه لا تجب الاستتابة، وإنما يجوز فعلها؛ لأنها سنة عند الخليفة الراشد، ولكن هذا ليس على سبيل الحتم والإيجاب. ومن الأدلة لهم أيضاً: حديث ابن عباس في الصحيح المتقدم الذي استدل فيه معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه) حيث نص النبي صلى الله عليه وسلم على وجوب قتل المرتد دون ذكرٍ للاستتابة، فلو كانت الاستتابة واجبة لقال: من بدل دينه فاقتلوه بعد ثلاث، أو اقتلوه بعد أن تستتيبوه، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا، فدل هذا على عدم وجوب الاستتابة، وأولى القولين بالصواب إن شاء الله تعالى أن الاستتابة مستحبة وليست بواجبة. قوله: [وضيق عليه] أي: يسجن ثم يضيق عليه حتى يرجع ويتوب إلى الله عز وجل. قوله: [فإن لم يسلم قتل بالسيف] كلهم متفقون على أنه إذا عرض عليه الإسلام بعد الثلاث ولم يقبل أنه يقتل.

توبة من سب الله أو رسوله

توبة من سب الله أو رسوله قال المصنف رحمه الله: [ولا تقبل توبة من سب الله أو رسوله]. هذا أحد القولين عند العلماء، وجمهور العلماء رحمهم الله على قبول توبته، وأنه إذا تاب توبة نصوحاً تاب الله عليه، وهذا هو الصحيح على ظاهر النصوص التي دلت على قبول توبة الكافر: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] وقد كانوا يسبون النبي صلى الله عليه وسلم ويسبون الله عز وجل، ويسبون الدين، وإذا قبلت توبة من سب الله عز وجل، فمن باب أولى أن تقبل توبة من سب ما دونه. ولكن الذين قالوا: إنه لا تقبل توبة من سب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إنه فيها حقاً لآدمي، وحقاً لله عز وجل، وحق الآدمي لا نعلم هل يسامحه النبي صلى الله عليه وسلم أو لا؟ وهذه الشبهة ضعيفة؛ لأننا أعطيناه الحرمة لحرمة النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وقد دلت النصوص في الأصل على أنه إذا تاب توبة نصوحاً أنه يتوب الله عليه، وعلى هذا فالصحيح مذهب الجمهور أنه إذا تاب توبة نصوحاً أنه تقبل توبته.

حكم من تكررت ردته

حكم من تكررت ردته قال المصنف رحمه الله: [ولا من تكررت ردته]. هذا هو الذي يعرف بالزنديق، يسلم ثم يقول كلمة الكفر، فيرتد ثم يرجع مرة ثانية، ويسلم ثم يرتد، فهذه فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، والصحيح أنها تقبل توبته. لكن لو أن القاضي أو ولي الأمر اطلع على أنه يتلاعب وقتله فله وجه، وقد يكون ذلك أنكى فيه وأقطع لدابر أهل الفساد؛ لأنه ربما يردع غيره. وهذا ما يعتبر بفقه الخلاف، فنأخذ بالقول المرجوح في أحوال خاصة إذا وجد استشراء الناس وتساهلهم بحدود الله عز وجل فأراد الإمام أن يزجرهم، فله أن يأخذ بالقول الأوثق والذي فيه النصيحة، وله أن يجتهد في ذلك طلباً للمصالح ودرءاً للمفاسد، وليس هناك مفسدة أعظم من الاستخفاف بالدين والشرع، فالزنديق هو الذي يكفر ويقول كلمة الكفر ثم يرجع ثم يكفر ثم يرجع، والذين يقولون: لا تقبل توبة الزنديق يقولون: قد شهد على نفسه بالكذب، وشهد على نفسه أنه يتلاعب بتوبته. ومن هنا أثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قصته مع بعض المرتدين أنه قبل توبتهم، ثم رأى رجلاً وقال: إنك كنت قد فعلت هذا عام أول ثم أمر بقتله، أي أنه تكررت ردته وتوبته مرتين، فلم يقبل منه ذلك وقتله واستحل دمه. وأياً ما كان فالنصوص الصريحة في أن من تاب تاب الله عليه، وأن علينا أن نأخذ بظواهر الناس، وأن نكل سرائرهم إلى الله، واستباحة دم من أظهر الإسلام أمر صعب جداً، ولذلك ينبغي الاحتياط في هذا والبقاء على الأصل، إلا أن لولي الأمر أن يجتهد في مسائل خاصة. قوله: [بل يقتل بكل حال] أي: لا تقبل منه التوبة ويقتل بكل حال، فتنفعه التوبة فيما بينه وبين الله، فلو قُتل يُقتل على الظاهر؛ لأنه ثبت كذبه، ثم لو أنه كان في المرة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة صادقاً وقتل؛ فإن العلماء متفقون أن ذلك ينفعه بينه وبين الله، ولكن الإشكال أنه إذا كانت توبته على الظاهر هل لنا أن نقبل هذا الظاهر أو لا؟ لأنه قد ثبت بالظاهر أنه تلاعب، وأنه كذب، وقصة وحشي تدل على قبول التوبة.

توبة المرتد

توبة المرتد قال المصنف رحمه الله: [وتوبة المرتد وكل كافر إسلامه، بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومن كان كفره بجحد فرض ونحوه؛ فتوبته مع شهادتين إقراراً بالمجحود به] فرق رحمه الله في التوبة إذا ارتد المرتد بالأمور التي تقدمت من الشرك وجحود الربوبية ونحو ذلك، وبين التوبة من الذنب بإنكار المعلوم من الدين بالضرورة، فأما مطلق التوبة فإنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنه إذا شهد شهادة الإسلام والتوحيد رجعت له عصمة الإسلام، ويعتبر هذا توبة ورجوعاً منه إلى الله عز وجل، ومن تاب تاب الله عليه. وأما إذا كان قد أنكر حرمة الزنا أو أنكر المعلوم من الدين بالضرورة وقال: الصلاة ليست مفروضة، وليس في الإسلام صلاة، أو ليس في الإسلام زكاة، كما قال أهل الردة ونحو ذلك، فقلنا: إذا كان جاهلاً يعلَّم، وإذا كان عنده شبهة تزال، وأما إذا كان عالماً وأنكر هذا الشيء؛ فإن توبته أن يتشهد ثم يرجع عما كان يعتقده من عدم فرضية الصلاة وعدم فرضية الزكاة؛ لأن ما شرع بسببه يزول بزواله، ويبطل بزواله، فنحن حكمنا بردته بإنكاره للمعلوم من الدين بالضرورة، فلا نحكم بإسلامه إلا إذا أقر بهذا الذي أنكره، فلو أنه قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولم يرجع عن جحوده؛ فإنه ما زال على كفره، ولا يحكم بتوبته من ردته. قوله: [أو قوله أنا بريء من كل دين يخالف الإسلام] هذا بالنسبة للتوبة العامة، والأصل الشهادة.

الأسئلة

الأسئلة

حكم السكران إذا ارتد حال سكره

حكم السكران إذا ارتد حال سكره Q هل السكران يحكم بردته إذا فعل أو قال ما يوجب الردة أثابكم الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن السكران لا يحكم بردته إذا قال أو فعل أثناء سكره وزوال عقله ما يوجب الردة، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] فبين سبحانه وتعالى أن السكران لا يعلم ما يقول، ومن لا يعلم ما يقول فلا يؤاخذ بقوله. وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن علياً رضي الله عنه كان قد أعد مهر فاطمة رضي الله عنها وجاء بشارفين وأناخهما بباب حمزة، ثم انطلق يهيئ بعض الأغراض للمهر، فشرب حمزة رضي الله عنه الخمر قبل أن تحرم، فلما شرب الخمر غنته جاريتان، فانتشى ثم قام إلى البعيرين، وجبَّ سنامهما، فجاء علي رضي الله عنه، قال: فرأيته، فهالني ما رأيت، فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكى له ما فعل حمزة، فأتاه فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة وسأله ووبخه على ما فعل، فرفع حمزة رأسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: وهل أنتم إلا عبيد لآبائي؟ فلما قال هذه الكلمة -كما في الرواية- رجع النبي صلى الله عليه وسلم القهقرى، أي: علم أنه سكران، وأنه لا يدري ما يقول، فرجع القهقرى وانصرف، ولم يأمره رضي الله عنه أن يجدد إسلامه، ولذلك قالوا: إن هذا يدل على أن السكران لا يؤاخذ بقوله، وهذا هو أصح قولي العلماء رحمهم الله، أعني أن السكران لا يعتد بقوله لا في ردة ولا في طلاق ولا غير ذلك؛ لأن النص دل على أنه لا يعلم ما يقول، وثانياً: عذر حمزة حال سكره. وهذا كما يقول العلماء في قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: (وهل أنتم إلا عبيد لآبائي؟) يقولون: إن هذا ردة؛ لأنه استخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم واستهزاء، وشراح الحديث نصوا على أن هذا اللفظ لو قاله الصاحي كان ردة، ومن هنا يجعلونه عنواناً في عذر السكران إذا قال ما يوجب الردة، وأن من تلفظ بكلمة الكفر حال السكر يعتبر معذوراً، وهذا أصح قولي العلماء، والله تعالى أعلم.

إذا أسلم المرتد بعد موت مورثه وقبل قسمة تركته

إذا أسلم المرتد بعد موت مورثه وقبل قسمة تركته Q إذا ارتد شخصٌ حكمنا أنه لا يرث من مورثه المسلم، فهل إذا أسلم بعد موت مورثه وقبل أن تقسم التركة؛ هل يكون له الحق أو لا، أثابكم الله؟ A هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء: فبعض العلماء يقول: إنه لا يرث ما دام أن الميت توفي وهو على الكفر والردة، فحينئذٍ انقطع حقه ولا حق له في التركة، وهذا هو مذهب الجمهور رحمهم الله، وقال به جمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: إن المرتد لا يرث حتى ولو أسلم قبل قسمة التركة. أما إذا أسلم قبل موت مورثه فإنه يرثه بلا خلاف، لكن الإشكال إذا أسلم بعد الموت وقبل قسمة التركة، فتبين أن له ثلاث حالات: أولاً: أن يسلم قبل الموت، فهذا يرث إجماعاً؛ لأنه مسلم. ثانياً: أن يسلم بعد الموت وبعد قسمة التركة فلا يرث إجماعاً؛ لأنه انتهت العلاقة، وانتهى السبب الموجب. ثالثاً: إذا أسلم بعد الموت وقبل قسمة التركة، ففيه خلاف: فمن أهل العلم من يقول: العبرة بالموت، لأن الإرث يثبت بموته، وهذا هو الصحيح، والأدلة دالة على ذلك؛ لأن الله تعالى نص على ذلك في كتابه، وكذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم نص على الإرث بمجرد الموت، وعلى هذا تكون العبرة بحاله عند موت الشخص، فإذا كان مسلماً حال موت المورث فهو يرث وإلا فلا. وأما الذين قالوا: إنه قبل القسمة يرث لو أسلم بعد الموت، فاستدلوا بقضاء بعض الصحابة رضوان الله عليهم، وقالوا: بحديث قسم الجاهلية وقسم الإسلام، وأنه إذا أسلم فقد أدرك القسمة، والعبرة بالقسمة، ومن هنا قالوا: إنه إذا أسلم قبل قسمة التركة فإنه يرث، والصحيح أنه لا يرث ما دام أنه توفي مورثه وهو على الكفر، وهذا هو أصح قولي العلماء رحمهم الله. وصورة المسألة لو أن رجلاً له ولد ارتد، ثم توفي هذا الرجل يوم الإثنين ولم تقسم تركته، فرجع الولد وتاب عن ردته يوم الثلاثاء وقسمت التركة يوم الأربعاء، فحينئذٍ يرد الخلاف، لكن لو قسمت الثلاثاء ورجع الولد عن ردته الأربعاء لم يرث بالإجماع، فهذه المسألة مشهورة عند العلماء رحمهم الله، وهي من مسائل الإرث.

حكم زوجة المرتد

حكم زوجة المرتد Q إذا تزوج الرجل امرأة مسلمة وهو مسلم ثم ارتد، فما حكم النكاح بينهما؟ وهل يجوز له أن يطأها في العدة إذا فسخ النكاح بينهما أثابكم الله؟ A يجب عليه فراقها، فيفرق بين المرتد والمسلمة، ولا يجوز للمسلمة أن تمكن زوجها المرتد من نفسها، ويفسخ العقد بينهما قولاً واحداً بين العلماء رحمهم الله. وهناك تفصيل في مسألة العدة، فإذا كانت في عدتها وحصل وطأ فإنه في هذه الحالة يكون وطأً لأجنبية، والأصل أنه لا يجوز لها أن تمكن نفسها منه، ومن المؤسف أن تسمع المرأة زوجها يسب الدين ويسب الرب وتعاشره، وتكون معاشرة على الزنا إذا ارتد والعياذ بالله، وينبغي عليه أن يجدد إسلامه ويتوب، ثم يجدد عقده، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له وأن ينبه عليه الناس، حتى يعرفوا ما معنى الردة. هم يعرفون أن الردة أمر عظيم وليس بالأمر السهل، ولكن المرأة تسمع زوجها كلما غضب ينتهك حدود الله عز وجل ويكفر بالإسلام، ثم بعد ذلك كأن شيئاً لم يكن، فهذا أمر في غاية الخطورة، ولذلك -نسأل السلامة والعافية- تعيش معه في الحرام، ولا يجوز له أن يطأها بعد ردته، إلا بعد تجديد العقد ورجوعه عليها على الصفة المعتبرة شرعاً، والله تعالى أعلم.

أسباب محق بركة العلم

أسباب محق بركة العلم Q ما أسباب محق بركة العلم أثابكم الله؟ A روح العلم بركته، وإذا أراد الله عز وجل بعبده خيراً بارك له في علمه، وتظهر بركة العلم إذا استجمع الإنسان أسباب البركة، وأول سبب وأول علامة على أن الإنسان أنه سيبارك له في علمه أن يجد توفيق الله له بالإخلاص، فإذا وجد أنه يذهب إلى حلق العلماء مخلصاً لوجه الله عز وجل ولا يريد شيئاً سوى ذلك، وأنه يريد به وجه الله والدار الآخرة، فهو موفق، ومن كان كذلك كان سعيه مشكوراً، والله عز وجل شكر سعيه فيضع له البركة في علمه. وكم من أناسٍ تعلموا القليل بإخلاص فرزقهم الله السداد والخلاص وفتح عليهم وبارك في أقوالهم، وبارك في علومهم، ونفع بهم الإسلام وأهله! الأمر الثاني: من الدلائل التي تدل على بركة العلم أن يحرص الإنسان على أخذ هذا العلم عن أهله، فكل علم ورث من العلماء العاملين فهو مبارك؛ لأن السلسلة متصلة، وكما بورك للعلماء السالفين ليباركن الله للعلماء اللاحقين ما داموا على نهجهم، وساروا على طريقهم. ومما يبارك الله به للعالم في علمه تقواه لله عز وجل؛ لأن التقوى سبب البركة، ومعنى ذلك: أن يكون علمه مشهوداً بالطاعات وبالأعمال الصالحة، فكل من تعلم العلم فوجد أن العلم يهذبه في أخلاقه، ويقومه في سلوكه، وأنه بهذا العلم يجد سريرة نقية تقية سوية ترضي الله عز وجل، ويجد سيرة محمودة عند الله وعند عباده، يحرص فيها على الفضائل واكتساب الأعمال الصالحة والأخلاق الحميدة الفاضلة والتواضع، وحب الخير للمسلمين، وصفاء القلب، ونقاء السريرة، والبعد عن الحسد والبغضاء، وانتقاص الناس، واحتقارهم، والابتعاد عن الغيبة والنميمة، والسب والشتم؛ فإن الله لا يبارك له في جميع أمره {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]. فطالب العلم هو الذي طلب العلم وعمل به، وظهر العلم في قوله وعمله، ففتح الله له أبواب البركات من السماء والأرض، فوجدت البركة في قوله وعمله ونفعه للمسلمين، واقرأ سيرة السلف الصالح كيف كانوا مباركين، فتجدهم إذا علموا نفع الله بعلمهم. الناس لهم آذان صاغية وقلوب واعية، وتجد من دلائل البركة أنه إذا جلس يعلم أبناء المسلمين شغلهم بما ينفع، وشغلهم بما يفيد، وشغلهم بما يعود عليهم بالخير؛ ولذلك تجد العلماء والأئمة الماضين يكررون في كتبهم أموراً واضحة، لكنها عظيمة البركة والخير، حتى أصبحت دعائم الإسلام وشرائع الإسلام من البديهيات عند المسلمين، ولكن تجد المتأخرين، وتجد بعض طلبة العلم محقت البركة من علمهم؛ لأنه إنما يدخل يريد شيئاً معيناً، وكانوا يقولون: من أسباب البركة في العلم أن الإنسان يحرص على تعلم صغار العلم وضبطه قبل كباره، والآن انظر إلى بعض طلبة العلم حينما ندخل في باب من أبواب العبادة، فيمسك الأمور الواضحة ويكررها ثم يكررها، ويستمع ويصغي ولا يناقش حتى يضبط الأصل، وبمجرد أن ينتهي من حلقته ومجلسه يقوم وعنده علم وعنده فائدة. لكن بمجرد أن يأتي فينظر إلى حلق العلم ويستمع إلى العلماء، فإذا وجد مسائل خلافية ومناقشات وردود، أحب وقال: هذا العلم، وإذا وجد غرائب المسائل حضر، وقال: هذا والله العلم، هذا والله الدرس، في الغرائب والردود والمناقشات، ثم من مسألة إلى مسألة ومن مناقشة إلى مناقشة، وإذا جلست معه بعد الشهر والشهرين تجده قد ضاع وتاه، ولا يمسك من ذلك إلا القليل. فعلى الإنسان أن يتعلم الأصول، هذه الأصول التي بدأ طالب العلم يحتقر نفسه أن يتعلمها، هي عزك هي كرامتك، إن لم تعتز بدينك وتبدأ بالألف قبل الباء، وبالباء قبل التاء، وتتهجى هذا العلم وتأخذه حرفاً حرفاً، وتضبطه مسألة مسألة حتى البديهيات، وتتواضع مع هذا العلم؛ فلن تفلح في العلم، ولا تعظم نفسك وتقول: كيف أجلس وأكرر مسائل واضحة! وانظر إلى دواوين السلف الذين كرروا الأمور البديهية، وهل العلم إلا تكرار المعلوم؛ لأن هذا التكرار له أثر على النفسية وعلى التطبيق، كم مرة تكرر الفاتحة في اليوم في صلاتك وتتقرب إلى ربك، وكم تسجد وكم تركع وأنت تكرر الصلاة، كل هذا لكي تصبح عقيدتك راسخة لا تقبل التحويل، ولذلك ما عرف في أهل دين ثبات مثلما عرف للمسلمين، وقل أن يرجع أحد من أهل الإسلام عنه إلى دين آخر بفضل الله عز وجل ثم بفضل الأمور العديدة، ومنها: تكرار هذه الأمور وضبطها. وانظر إلى طلاب العلم الذين أخذوا صغار المسائل، وكلما جلس في مجلس يلخص المسائل الصغيرة ويضبطها ويقرأها المرة تلو المرة، ويحرص على تكرارها، فيجد البركة والخير، فلا ينتهي بعد شهر أو شهرين إلا وقد حفظ ثلاثة أو أربعة أبواب؛ لأن عنده أموراً هي الأساس ثم بعد ذلك يبني عليها، أما الولع بالخلافات والردود، وأن يجلس طالب العلم في المجلس ويقرأ على الشيخ الكتاب فيقول له الشيخ: هذا كذا، فيقول: لماذا كذا؟ ولماذا لا يجعلونه كذا؟ ولماذا يقولون كذا؟ ولماذا يفعلون كذا؟ حتى يصبح معلماً للعلماء، فبدلاً من أن يأتي متعلماً إذا به قد صار معلماً! قال أحد الحكماء لطالب عنده أكثر من مناقشته: يا بني ما علمت أن مجلسك هنا. أي: كان المفروض أنك تجلس مكاني، لا أن أجلس أنا هذا المكان، بسبب كثرة الاعتراضات. فكثير من العلم نزعت بركته بسبب كثرة الاعتراضات، وقد كان في الماضي إذا أفتى العالم وجد الآذان صاغية، والقلوب واعية، والناس مستجيبة، وإذا بالبركة والخير والنفع يحل للناس، ولكن اليوم ما إن يفتي واحد فتوى إلا وخرجت مئات الفتاوى، ثم وجدت هذا يعلق على هذا، وهذا يرد على هذا، وعندها محقت بركة العلم {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:33] فالذي يريد العلم الصافي عليه أن يحرص على أخذ صغار العلم قبل كباره، وهو علم الربانيين، وعليه ألا يتعاظم نفسه أمام العلم، فهذا مما يزيد بركة العلم. وجماع الخير كله أن يسأل العبد ربه، وأن يقول: ربي إني أسألك علماً نافعاً؛ ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يرزقه علماً نافعاً، فإذا كان العلم نافعاً من الله عز وجل، فهو المبارك. نسأل الله بعزته وجلاله أن يعيذنا من علم لا ينفع، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعل علمنا حجة لنا لا حجة علينا ألهمنا الصواب، وأحسن لنا الخاتمة والمآب، وارفع بالعلم درجاتنا، وكفر به خطيئاتنا، وآمن به روعاتنا، وأصلح به أمورنا، يا حي يا قيوم، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

علاج الجريمة في الشريعة الإسلامية

شرح زاد المستقنع - علاج الجريمة في الشريعة الإسلامية شرع الله الحدود والعقوبات والزواجر التي تردع عن حدوده ومحارمه، وقد امتازت الشريعة الإسلامية في هذا المجال بميزات عظيمة تدل على سمو منهجها، وحكمة الله عز وجل العظيمة ولطفه بخلقه، ومما امتازت به الشريعة الإسلامية إلى جانب معاقبة المقترف للجريمة، أنها وضعت الحلول لمنع اقتراف الجرائم بداية وذلك بمنع أسبابها ودواعيها.

التدابير الوقائية

التدابير الوقائية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: التدابير كثيرة، لكن يمكن أن نلخص جوانب منها ونتكلم عنها، وهي تبرز القليل من الكثير، والغيض من الفيض، ومن ذا الذي يستطيع أن يكشف تلك الأسرار والعلوم والمعارف التي هي تنزيل من حكيم حميد؟! من يستطيع أن يصل إلى هذه الأسرار والحكم والفوائد التي حار فيها العلماء، وحار فيها الحكماء، وكشف كنوزها أولو العلم وأولو البصيرة والراسخون في التفاسير وشروح الأحاديث، وبينوا الحكم والأسرار والفوائد؟! لكننا نستطيع أن نجمل شيئاً منها في ثلاثة جوانب مهمة، فهناك تدابير وقائية جعلها لله عز وجل للمسلم: إما أن تكون للإنسان في نفسه. أو تكون في أقرب الناس منه، وهم أهله وذووه والداه وولده، وزوجته ومن هو مسئول عنهم. وإما أن تكون فيمن يخالط، وهي البيئة والمجتمع.

الوازع الديني

الوازع الديني هذه الثلاثة الجوانب تبدأ بنفسية الإنسان، هذه النفسية المؤمنة التي خاطبها الله عز وجل فأيقظها من منامها، ونبهها من غفلتها وأرشدها من ضلالتها، وهداها من غوايتها، هذه التدابير المتعلقة بالنفس تدور حول قضية حساسة جداً، وهي القضية التي تسمى بالوازع الديني. فليس هناك سياج أعظم ولا أكمل ولا أتم من هذا السياج الذي وضعه الله عز وجل بينه وبين عبده، إذ هو سرٌ في القلوب لا يطلع عليه إلا الله جل جلاله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. الوازع الديني هو القوة الإيمانية الرهيبة التي لو خلا العبد معها بحد من حدود الله عز وجل؛ ما استطاع أن يفكر في اقترافه فضلاً عن أن تمتد له يد، أو تلتبس جارحة من جوارحه بذلك الحد الذي حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. الوازع الديني قوة خفية في الإنسان وهي خشية الغيب، كخشية الشهادة، فخشية الغيب تظهر إذا خلا العبد بحرمة من حرمات الله عز وجل؛ فإن هذه الخشية تحمله على أن يتركها؛ كما لو أنه على رءوس الأشهاد، وخشية الغيب هي التي لم تكن معها خائنة عين. هذا الوازع الديني ما فتئت نصوص الكتاب والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحركه، وتوقظه وتنبهه، وتجعله أميناً على ولي الله المؤمن، وعلى الأمة من إماء الله عز وجل أن تخون أمانتها أو تضيع رسالتها ودينها وشرفها وعرضها وكرامتها، هذا الوازع الديني، تضافرت نصوص الكتاب والسنة على إحيائه وإذكاء جذوته، ولذلك تجد المسلمين في سائر العصور والدهور يمتازون بهذه القضية، وفي جميع العصور والدهور لن تجد أطهر ولا أنقى ولا أتقى ولا أفضل ولا أكمل من مجتمعات المسلمين، حتى ولو فسدت مجتمعات الأرض فإنك تجد أقرب المجتمعات إلى الخير وأحسنها وأفضلها -بالنسبة لغيرها- مجتمعات المسلمين. وكلما قوي باعث هذا الوازع وكلما قويت جذوته في النفوس؛ استحكم الإيمان في القلب، وكلما عظمت الهيبة للرب سبحانه أصبح الإنسان بعيداً عن مقارفة الذنب والتلبس بالعيب.

تنمية الوازع الديني

تنمية الوازع الديني الوازع الديني له روافد تغذيه، وقد غرسه الله ونماه في نفس المؤمن في كل حد من الحدود التي مضت معنا، بل في كل حرمة من حرمات الله عز وجل، لن تقرأ آية في كتاب الله، ولن تسمع بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إلا وجدت إشارة تحكي ذلك المعنى الخفي العظيم. لو بدأنا مثلاً بالنصوص في الكتاب والسنة، وكيف حركت في النفوس وازع الدين في اتقاء هذه الجرائم، والبعد عن التلبس بالجريمة، وكيف أن القرآن خاطب بأحسن الخطاب ووجه بأكمل التوجيه ووعظ بأحسن الوعظ: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء:58]، وكيف تمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً، تقيم الإنسان على هذا المنهج الذي ينفر بسببه ويبتعد عما حرم الله. ميزة هذا الوازع الديني أنه يثمر شيئاً ينتهي إلى شيء، فالوازع الديني يثمر القناعة الذاتية، والقناعة الذاتية تنشأ عنها النفرة، وهي من أعظم الأسباب التي تحول بين العبد وبين حدود الله ومحارمه، فالذي عنده وازع ديني وقويت فيه جذوة الإيمان والدين -ولا يمكن أن تقوى إلا بالإيمان ولا يقوى الإيمان إلا مع قناعة- وصحبه قناعة ذاتية؛ فعندها لا يستطيع أن يصغي بأذنه أو ينظر بعينه أو يمد يداً أو يخطو خطوة إلى شيء حرمه الله عز وجل عليه. هذه الأمور كلها اجتمعت في عبارات النصوص في الكتاب والسنة، أروع وأجمل وأجل وأكمل ما أنت راءٍ وسامع من خطاب يوجه إلى عبدٍ أو إلى أمة لكي يحال بينه وبين حرمة الله عز وجل.

التحذير من الاعتداء على النفس المحرمة

التحذير من الاعتداء على النفس المحرمة خذ -مثلاً- جريمة القتل، إذا أخذت جريمة القتل ونظرت كيف خاطب الله عز وجل عباده بتعظيم النفس المحرمة، وكيف جاءت النصوص في القرآن تربي ذلك الوازع الديني العظيم وتذكي جذوته في النفوس، علمت أنها أصدق عبارة وأصدق كلمة، وأتم بيان يكون في التوجيه وفي الوعظ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، أي مؤمن يقرأ هذه الآية ويتأمل هذا الكلام من الله سبحانه وتعالى يتعظ. ((وَمَنْ)): صيغة من صيغ العموم، أي: ولو كان أغنى الناس في الأرض، وأشرف الناس، وأعلى الناس، ولفظ: (مؤمن) نكرة، أي: ولو كان أفقر خلق الله، ((وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا))، ولم يفرق الله بين الناس، لا بأحسابهم ولا بأنسابهم ولا بصورهم ولا بأشكالهم ولا بمراتبهم ولا بوظائفهم. وعبر بالإيمان الذي هو حرمة من حرمات الله عز وجل ويجب أن تتقى. ((مُتَعَمِّدًا)) أي: قاصداً الجريمة وطالباً إزهاق نفس بدون حق. ((فَجَزَاؤُهُ)) ليس له جزاء إلا هذا الجزاء، وانظر! كيف جاء التعبير بالجزاء؛ لأنه عندما تأتي كلمة (جزاء) فالنفوس دائماً تطمع، فلما تأت العقوبة في سياق تطميع يكون هذا مثل الصدمة. ((فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ)) أي: ما له جزاء إلا هذا، وهذا فيمن استحل قتل المؤمن، {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93]، ولا يخلد إلا من استحل، فالمستحل يكفر، وعندها يكون من الخالدين أبداً، لكن لو أنه لم يستحلّ، وتعمد القتل فهو إلى مشيئة الله: إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له، كما دلت على ذلك النصوص، وهو مذهب أهل السنة والجماعة في مرتكبي الكبائر. ((فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ))، وليس هذا فحسب؛ بل ((خَالِدًا فِيهَا))، تصور مؤمناً كلما ذكر النار طار فزعاً منها، وكلما مر عليه اسم النار فزع وخاف، ما الذي أبكى عيون الصالحين، وأسهر جفونهم في جوف الليل: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا} [السجدة:16]، خوفاً من جهنم، خوفاً من النار، فإذا بالله عز وجل يأتي بها جزاءً في القتل، هذه جهنم التي وصف الله أغلالها وعذابها، وشدتها وبلاءها وكربها، فما رأت عين ولا سمعت أذن أعظم ولا أشد من عذاب الله في جهنم. قال تعالى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93]، وليس الجزاء أنه خالد فيها فقط، بل: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، الغضب: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81]، ولعنه: {وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء:52] اللهم إنا نعوذ بك من لعنتك. فإذا أصابت اللعنة قلباً خُتم عليه والعياذ بالله، إلا أن يتداركه الله برحمته. {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، قف عند قوله: ((وَأَعَدَّ))، وقف عند قوله: ((عَذَابًا)) نكرة، و ((عَظِيمًا))، والعظيم من الله عظيم! فالنفس المؤمنة التي تقرأ هذه الآية، ماذا يحدث لها؟ ثم يخاطب الله عباده في هذه الجريمة أفراداً وجماعات شباباً وشيباً؛ ذكوراً وإناثاً: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:151]، أسلوب آخر من أساليب الزجر، يقول الله تعالى: ((وَلا تَقْتُلُوا))، ما قال: لا تقتل، فما خاطب خطاب الفرد، بل خاطب خطاب الجماعة حتى يشمل طبقات المجتمع كلها ويشمل الصغير والكبير، وأن تعلم أن العزيز والذليل في حكم الله سواء. {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} [الأنعام:151]، العبد حينما يتذكر كلمة (حرمة) يعرف أنها من أعظم الأشياء والحرمة لها حرمة، قال سبحانه: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30] فهو خير له في دينه ودنياه وآخرته، فكون الله عز وجل يحرم القتل، ويجعل القتل لشيء محرم له حرمة، تنفر النفس بمجرد ما تقرأ هذا الشيء، وتحس أن بينك وبينه حواجز تنبني عليها تقوى الله والخوف منه جل وعلا، ثم يقول الله عز وجل في آية ثالثة: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، وأسلوب النهي يتضمن التحريم. (لا تقتلوا أنفسكم)، ما قال: لا تذبحوا، وإنما قال: لا تقتلوا؛ لأن القتل أعم من الذبح؛ لأن الذبح يكون بالإضجاع ولكن القتل يكون على أية صورة، سواء قتل قائماً، أو قاعداً، أو مضطجعاً، بسكين، أو برمي، أو غيره، كله يسمى قتلاً: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)). وما أبلغه من تعبير بقوله: (أنفسكم) جعل الله المؤمن مع المؤمن كالنفس الواحدة، فمن قتل مؤمناً فكأنما قتل المؤمنين، {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32]. هذا الأسلوب الرباني في النهي عن هذه الجريمة التي تتعلق بالاعتداء على النفس، من شأنه أنه إذا قرأه الإنسان متأملاً متدبراً اقتنع بالحكم، وحصل عنده وراء هذه القناعة ما نريده من النفرة مما حرم الله. وكون هذه الخطابات: تشريعاً، ووصفاً، وبيان عاقبة، فهذه الثلاث الأسس ما اكتملت في خطاب ولا توجيه؛ إلا كان له أطيب الأثر في النفوس، فجاء الحكم بالتحريم: ((وَلا تَقْتُلُوا))، فإنه نهي يقتضي التحريم، وجاء الخطاب بوصف النفس المقتولة: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} [الأنعام:151]، {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29]، وهذا يجعل عند الإنسان تعظيماً لهذه النفس المحرمة، ثم بيان العاقبة. فأنت حينما تنهى، وتصف المنهي عنه بأن له حرمة، وتصف أن اقتراف هذه الحرمة يعود بالعواقب الوخيمة والنهايات الأليمة، فإن ذلك أبلغ ما يكون تأثيراً في النفوس، إذ هو {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، فلذلك جاء الأسلوب لهذه الجريمة في هذه الآيات، وأما في السنة، فهناك أحاديث كثيرة، لكن سنقتصر على آيات القرآن في حد جريمة القتل.

التحذير من الاعتداء على العقل

التحذير من الاعتداء على العقل جريمة الاعتداء على العقل: أعز ما مع الإنسان بعد نفسه ودينه؛ عقله، الذي هو نور يميز به بين الحق والباطل، والهدى والضلال؛ الاعتداء عليه إما بشرب المسكرات والمخدرات، وإما بغيرها. فكلما هم بها العبد إذا بالقرآن يأتي بأبلغ العبارة وأصدق الإشارة ويهز القلوب هزاً؛ فتحصل الاستجابة ويعمل على التخلص من الخمور، ويسعى للإقلاع عن المسكرات وتجنب سبيلها. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:90]، فكون الآية تصدر بخطاب فيه وصف التشريف والتكريم فما ذلك إلا لأنه أدعى للاستجابة؛ لأنه لا يستجيب لربك الاستجابة التامة الكاملة إلا أهل الإيمان، ولذلك خصهم الله بندائه، وشرفهم بدعوته. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمِنُوا)): لأن المؤمن ينظر إلى الآخرة، ينظر إلى الحساب إلى العذاب إلى الجنة إلى النار. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ} [المائدة:90]: أسلوب الحصر والقصر، كأنه يقول: هذه الخمر، ما فيها إلا كذا، بخلاف أن يقول: الخمر كذا وكذا، وابتدأ بها قبل الميسر والأوثان، فقال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ} [المائدة:90]، فجعلها قبل الشرك لأنها طريق إليه؛ ولأنها أم الخبائث، ومن فقد عقله فإنه قد يشرك بالله عز وجل ويرتد ويسب الدين، وينتهك الحرمات ويسفك الدماء المحرمة، ولربما قتل أمه وأباه، والعياذ بالله. فإذاً: هي أم الخبائث، فقدمها قائلاً: ((إِنَّمَا الْخَمْرُ))، قبل الشرك بالله عز وجل والميسر، والأنصاب والأزلام: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة:90]، فجاءت نكرة، والعرب إذا جاءت بالنكرة فإنها تشير بذلك إلى استغراق الشيء في الوصف، أي: إنها الرجس كله، فعندما تقول: فلان رجل، يعني جميع صفات الرجولة فيه، فلما قال الله: الخمر رجس، فجميع صفات الأرجاس الحسية فيها، فليس هناك أخبث منها، ولا أنتن منها، والأرجاس المعنوية التي فيها الكفر بالله عز وجل وسب الدين وفيها قتل النفس المحرمة، فالأرجاس القولية والفعلية كلها في الخمر. {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} ثم يقول تعالى: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90]، والمؤمن بينه وبين الشيطان نفرة؛ لأن الله قال له: {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء:53]، وإذا علمت أن هذا من عدوك فهل ترضى به؟ {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90]، أمر باجتنابه، ولم يقل: لا تشربوا الخمر، وإنما قال: ((فَاجْتَنِبُوهُ))، ومعنى المجانبة ألا يشرب من باب أولى، فهذا نهي عن الاقتراب منها، بخلاف ما إذا قال: لا تشربها، فإنه قد يطلي بها، وقد يتعطر بها، لكن قال: ((فَاجْتَنِبُوهُ))، فجاء النهي عاماً بالترك، وعدم التلبس بهذه الخمرة التي حرمها الله ورسوله. {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90]، كونه يرتب الفلاح على ترك الخمر، فوالله ما ترك الخمر عبدٌ لله مؤمناً موقناً صادقاً مستجيباً لله عز وجل إلا أفلح وأنجح. {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:91]، وهذا من بيان الآثار السيئة للجريمة: {أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}، والله عز وجل يريد القلوب أن تجتمع وأن تأتلف، والأرواح أن تتصافى، وكل نصوص القرآن والسنة تجمع المؤمنين ولا تفرقهم، وتحبب بعضهم إلى بعض ولا تبغضهم ولا تُبغِّض المؤمن للمؤمن. {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة:91]، فما شربت الخمر إلا سَب شاربها ولعن وقذف، ووقع في حدود الله عز وجل وانتهكها، فقال الله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:91]، لما قال: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}، جاء الله عز وجل بوصفين خبيثين في الخمر: الأول: يضر بالناس، وفيه إضاعة لحقوق الناس، والثاني: يضر بحق الله وفيه إضاعة لحق الله، {أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}، {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ}، فجمع الله فيها بين الشرين، فيما بين العبد وربه وفيما بينه وبين الناس. {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ}؟! عبارة جميلة وأسلوب بلاغي رفيع، ما ملك الصحابة حينما سمعوا هذه الآية إلا أن صاحوا وصاح عمر رضي الله عنه: انتهينا انتهينا، ورد في رواية أنه جثا على ركبتيه وقال: انتهينا يا رب! انتهينا يا رب! فهذه الخمر التي كانت مفتونة بها النفوس استلت بالآيات البينات من كتاب الله عز وجل؛ فما بال الذي يقترف معصية من المعاصي ويقال: يا أخي! اتق الله واترك، فيقول: لا أقدر! كان بعض الصحابة يشرب الخمر، والخمر من أشد ما يكون فطم الإنسان عنها، ولكن قال الله: اتركها فتركها، وقال الله: اجتنبها فاجتنبها، كمال الاستجابة من كمال التوحيد وكمال الإيمان.

التحذير من الاعتداء على العرض

التحذير من الاعتداء على العرض الاعتداء على الأعراض: الله عز وجل يعظم حرمات العرض في جريمة الاعتداء على العرض القولية والفعلية.

الاعتداء الفعلي على العرض بالزنا ونحوه

الاعتداء الفعلي على العرض بالزنا ونحوه الفعلية: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2]، يستفتح بها سورة، ويجعلها أول تنبيه من الله عز وجل في سورة النور التي تعلقت بصفة من صفات الله عز وجل: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35]، إذا بها تستفتح بذكر هذا الذنب العظيم والإثم الكبير، وهو جريمة الزنا، اعتداء على الأعراض، وإذا بالله عز وجل يبين عقوبة الزنا، ولكن بأسلوب يثمر القناعة، ويحصل منه الزجر والتخويف: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]. أي: الزاني أياً كان، شريفاً أو وضيعاً، قوياً أو ضعيفاً: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}، ثم يقول تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، فجعل العقوبة ديناً لله عز وجل يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى. هذا الأسلوب في كونه أول شيء يعاقب على الذنب، وثانياً: كونه سبحانه وتعالى يمنع من الرأفة بهما، إذا به يعقب ذلك، ويقول: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، وفي ذلك التشهير، والتشهير بالعقوبة يؤثر على الفاعل للذنب، ويؤثر على من يراه، ومن رأى زانياً يجلد إذا كان بكراً أو رأى زانياً ثيباً يرجم، قلّ أن يفارقه إلا وقد اتعظ، ولن يستطيع أن يرفع حجراً يرميه إلا وزجر نفسه عن أن يفعل فعله، وخاف من الله عز وجل أن يرجم غيره وهو مثله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]. {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3]، قيل: لا ينكح: لا يطأ ولا يزني، لا يفعل الزنا إلا زانٍ أو مشرك، زانٍ من فساق المسلمين أو كافر، {وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3]، فجاء التحريم بعدها. وهذا أسلوب من أساليب التنفير من الذنب والجريمة، أعني أسلوب الخطاب بالتحريم، وإذا بالشرع يزيد على هذا في تحريم الزنا بقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]. والله ما تأمل أحدٌ هذه الآية بإيمان وصدق فيزني أبداً، فإنه قال: ((وَلا تَقْرَبُوا)): ما قال: لا تزنوا، والنهي عن القرب من الشيء أبلغ من النهي عن فعله. ثم قوله الله: ((وَلا تَقْرَبُوا)) أي: ذكوراً وإناثا، أغنياء وفقراء، شرفاء ووضعاء، خاطب الله عز وجل الأمة كلها: ((وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى)). وهل الزنا هو الفعل فقط؟ لا، بل النهي عن الزنا بجميع صوره، فكل ما سماه الله ورسوله زنا يتقى، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فزنا العين النظر، وزنا اليد اللمس، وزنا الرجل المشي، وزنا القلب بعد ذلك بأن يهوى ويتمنى والفرج يصدق ذلك أو يكذبه، حتى تنتهي الجريمة الكبيرة وهي فعل الزنا واقترافه والعياذ بالله. هذا النهي (لا تقربوا الزنا) تشريع، والتعبير بصيغة (لا تقرب) أبلغ في التحريم. ثم انظر كيف الله عز وجل يقول: ((إِنَّهُ)) بصيغة التوكيد، ونحن لا نشك في شيء يخبرنا الله عز وجل عنه أبداً، فلا أصدق من الله حديثاً ولا أصدق من الله قيلاً، فكيف إذا أكد الله ذلك بصيغة التوكيد، فهذه الصيغة تحتاج إلى تأمل! ((إِنَّهُ)) الضمير عائد إلى الزنا بجميع صوره، وإلى وسائل الزنا وفعل الزنا كله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32].

الاعتداء الفعلي على العرض بالنظر ونحوه

الاعتداء الفعلي على العرض بالنظر ونحوه الزنا فاحشة بالنظر، فاحشة بالسمع، فاحشة باللمس، فاحشة بجميع صوره. البعض يظن أن الفحش أن يفعل الزنا، نعم هذا فحش، وما علم أن الزنا فاحشة إذا نظر بعينه، ولذلك كل من تكون عنده جرأة على أن يزني بعينه يكون من أهل الفاحشة، فتجده جريئاً على حدود الله في نظره، والله تعالى يطمس من عينه نور البصيرة، ولا تزال ترتع عينه في حرمات المؤمنين، وأعراضهم حتى يرفع منها نور الفراسة، ولا يزال يرتع بعينه والعياذ بالله في حرمات المؤمنين حتى يشهد الناس عليه أنه زانٍ بعينه، فهو قد يبدأ بخيانة الأعين يسرق النظرات، ثم بعد ذلك تجد الفحش في عينه، حتى لربما نظر إلى المرأة وهي مع زوجها وأومض بعينه إشارةً إلى الخنا والفجور. ومن هنا تجد من يزني بعينه، ربما يسير في الشارع فلا يقف على عورة من عورات المسلمين إلا أرسل النظر إليها، ولا ينظر إلى بيت إلا وجدته خائناً في نظره فاحشاً متفحشاً في بصره، ينظر إلى باب البيت، ينظر إلى النافذة، ينظر إلى خلل البيت يبحث عن الأماكن الخفية، بل حتى لربما لو وقف بجوار سيارة يقلب نظره في السيارة يمنة ويسرة يريد أن ينظر إلى عورة من عورات المسلمين! وهذا فاحش! وكل النفوس تمقته، وكل الناس تزدريه وتشمئز منه، تأتيه المرأة -وهي عورة من عورات المسلمين- وهو بائع أو طبيب أو في أي عمل من الأعمال، لمصلحة من المصالح، فإذا به ينظر إليها فيومض عينه ومض الخنا والفجور، فلا تملك أمة الله إلا أن تكره ذلك الشيء الذي تريده منه، ولربما كرهت وخرجت من عنده، وإذا صبرت خرجت بقلب مجروح لما اقترف من محارم الله فيها. من هذا الفاحش الذي لا يخاف الله عز وجل حينما يرسل النظر، كلما جاء إلى عورة من عورات المسلمين تجده يسترسل في النظر إليها؟!

الاعتداء القولي على العرض بالفحش والنميمة والقذف ونحوها

الاعتداء القولي على العرض بالفحش والنميمة والقذف ونحوها ثم تجد زنا اللسان، اللسان يزني بالكلمات الفاحشة البذيئة، بالتسلط على عورات المسلمين بالمغازلة، يكلم أمة من إماء الله عز وجل يستدرجها إلى الحرام، إلى الفواحش والآثام، فتجد الفاحشة في لسانه، ولذلك قلّ أن تجد أحداً ممن يسترسل في أذية النساء بلسانه فيرزق القول السديد؛ لأن ذنب اللسان لا يجتمع معه نور القول والعمل، فنور الإيمان لا يجتمع مع معصية الله عز وجل، فتجده لا يوفق في كلامه، ولا يوفق في قوله، ولا يرزق القول السديد. وتجده فاحشاً في قوله، حتى لربما يجلس مع بعض إخوانه فتجد زلات اللسان واضحة لا يستطيع أن يتحكم: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ) [آل عمران:117]، {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج:10]، {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30]، من الفحش وغيره. كذلك يقول: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء:32]، يعني الزنا، فهو إذا تسلط على عورات المسلمين بالكلام، لا يمكن أن يحول بين نفسه وبين الفحش. وإذا تسلط على عورات المسلمين بالمشي، (وزنا الرجل المشي) كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم، فتجده يخرج في ظلمات الليل وفي مظان الريب، من أجل أن يبحث عن عورة من عورات المسلمين. والمرأة الفاسدة والعياذ بالله تجدها أفحش، ولذلك بدأ الله في الزنا بالنساء؛ لأن المرأة لو استعصمت بعصمة الله ما وقعت في الحرام ولا وقع منها الزنا، ولذلك قال: ((الزَّانِيَةُ والزاني))، فبدأ بها، ولما كانت السرقة غالباً تأتي من القوي وهو الرجل قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة:38]، فقدم النساء في الزنا وقدم الرجال في السرقة، وكل له ما يناسبه وما يشاكله. فالمرأة إذا زنت أصبحت تحب سماع الخنا والفجور، تجدها والعياذ بالله متفحشة، لا تريد أن تسمع إلا كلاماً بذيئاً ساقطاً، وتستعذب ذلك، وليأتين عليها يوم تتجرع فيه مرارة ما كسبت، إما عاجلاً أو آجلاً. يقول الله عز وجل: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء:32]، هذا في مقدمات الزنا، فكيف بفعل الزنا، والذي يقع في الزنا والعياذ بالله أفحش ويكون بلغ الفحش به غايته؛ فتجده لا يتورع عن حرام من سيئات الفرج، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (والفرج يصدق ذلك أو يكذبه). في هذه الآية يقول الله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ} [الإسراء:32]، وقع التعبير بكان التي تدل على الدوام والاستمرار، فالتصق الزنا مع الفحش ولا يمكن أن يفارق الزنا الفحش، {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32] أي: ساء طريقاً. فمن سلك طريق الزنا بكت عيناه وتقرح قلبه، وإن لم يتب إلى الله عز وجل فلربما قاده ذلك إلى سوء الخاتمة والعياذ بالله، وكما يقول: ساء سبيلاً، فمن يزني بإماء الله ويتعرض لعورات المسلمين؛ ليبكينه الله في الدنيا أو يبكينه في الآخرة أو يجمع له بين البكائين في الدنيا والآخرة، فمن تسلط على عورات المسلمين واستدرج الغافلات، واستدرج النساء، وأوقعهن في حبائله وأمنياته المكذوبة فلابد وأن يسوء سبيله وتسوء خاتمته، ولذلك تجد من يستمرئ هذه العادة في أسوء الأحوال، وما سميت السيئة سيئة إلا لأنها تسيء إلى صاحبها. ولقد رأيت بعيني رجلاً كان فاحشاً متفحشاً بذيئاً، متسلطاً على عورات المسلمين، وجاءني أكثر من شخص يشتكي منه، وكان معنا في الدراسة، ووعظته أكثر من مرة ولم أستطع أن أقول له: بلغنا عنك كذا وكذا؛ لأنني لا أستطيع أن أتهم الناس، ولكني ذكرته بالله بما ظهر لي من حال، فما كان إلا أن استهزأ واستخف، فوالله الذي لا إله غيره! ولا رب سواه! لقد رأيته في حادث فكانت خاتمته من أسوأ الخواتم، وكان جريئاً على استدراج البرآء وضعفاء الصغار ونحو ذلك إلى الفساد والعياذ بالله، فلا يحسب أحد أن الكون همل وأن عورات المؤمنين سهلة، فمنهم من يبتلى بالشرود الذهني، ومنهم من يبتلى بشتات النفس، ومنهم من يبتلى بالفقر، ومنهم من تضرب عليه الذلة والعياذ بالله، ومنهم من ينطفئ نور الإيمان في وجهه، إلخ. {وَسَاءَ سَبِيلًا}، والعاقل الحكيم لا يمكن أن يستدرج نفسه إلى عواقب السوء والعياذ بالله (وساء سبيلاً): نكرة، أي: ساء طريقاً على أيٍ كان هذا الزنا. كذلك الاعتداء على العرض كما يكون بالزنا؛ يكون بالقذف: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} تعبير بالتوكيد: إن {الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23]، وعيد شديد! كون الله سبحانه وتعالى ينظر إلى النساء الصالحات الغافلات المؤمنات، ويغار عليهن سبحانه من فوق سبع سماوات، فلا يظنن أحد أن أعراض المسلمين رخيصة، ولا يظنن أحد أن اللسان لا سلطان عليه، والله سبحانه وتعالى قد حذر من الوقوع في حقوق الناس، ولذلك تجد أن العواقب الوخيمة في إضاعة حقوق الناس أليمة في الدنيا والآخرة، وجاءت الصيغ في القرآن والسنة في المنهيات، من حقوق الناس من أبلغ ما تكون، ولذلك تجد مثلاً في النميمة، وهي نقل الحديث بين الناس: يمر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فيقول: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فقد كان يمشي بالنميمة ... )، نبي الأمة صلى الله عليه وسلم، الذي يقول الله له يوم العرض الأكبر: (ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع)، فيشفع في الأولين والآخرين، ولم يستطع أن يشفع في رفع العذاب عن نمام، إنما قال: (لعله أن يخفف عنه ما لم تيبسا)، لا يرفع العذاب وإنما يخفف فقط؛ لأن حقوق الناس أمرها عظيم. وهذا نذير من الله عز وجل؛ فإن استطعت أن تخرج من الدنيا ولم تسب مسلماً ولم تتهم مسلماً في عرضه، ولم تتهمه في فكره ومنهجه وعقيدته، وتخرج وأنت خفيف الظهر والحمل من حقوق المسلمين، فافعل ذلك رحمك الله، وإلا لتندمن وليطولن ندمك، ولتندمن حين لا ينفع الندم. فهنا في القذف يقول الله عز وجل: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:23]، فلهم لعنة الدنيا ولهم لعنة الآخرة، نسأل الله السلامة والعافية. {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23]، وصف العذاب بكونه عظيماً، وكأن سائلاً سأل: ما هو هذا العذاب العظيم يا رب؟! متى يكون؟ وأين يكون؟ فإذا به يقول: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} [النور:24]، التي كانت لا تبالي بأعراض المسلمين، هذه الألسنة التي كانت سليقة حادة: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب:19]، هذه الألسنة التي لا تبالي بحرمة، إذا به سبحانه يخبر أن هذه الألسنة التي أذنبت تشهد، {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]. ورد في بعض الآثار أن العبد يقول حينما تشهد عليه الملائكة (يا رب! لا أرضى حتى تقيم عليّ شاهداً من نفسي، فيقول: من نفسك؟ قال: نعم، فيختم الله عز وجل على فيه، ويتكلم فرجه، وتتكلم رجله، وتتكلم يده)، في يوم يسوؤه كلام ويسوؤه ما يسمعه، فإذا به يخبر الله عز وجل أنه تشهد عليهم ألسنتهم بما رتعوا في أعراض المؤمنين والمؤمنات، وما استحلوا من محارم الله. كم من أمة من إماء الله عز وجل سهرت ليلها تبكي، وأصبحت نهارها متقرحة القلب تشتكي إلى جبار السماوات والأرض من المظالم في اتهامها في عرضها، وكم من طالب علم وعالم وداعية وصالح يتهم في فكره ومنهجه، فلا يحسب أحد أن أعراض المسلمين رخيصة، وإن هذا اللسان الذي يرتع ليعاقب به العبد إذا كان يرتع في العرض؛ فكيف بالدين؟ وكيف بالفكر؟ وكيف بالمنهج؟ جعل الله عز وجل هذه الجرائم محل المقت في قلوب المسلمين، وليس هناك أحد هذب أخلاق المسلمين وقوّم سلوكهم وسدد وصوّب اتجاههم، مثل ما جاء في كتاب الله عز وجل. ومن هنا يتضح لنا كيف بيّن الله عز وجل عظم الاعتداء عن العرض، وكيف حذر من هذا الذنب.

التحذير من الاعتداء على الأموال

التحذير من الاعتداء على الأموال الاعتداء على الأموال: الله سبحانه وتعالى بيّن حد السرقة وحد الحرابة، وهذه العقوبة بقطع اليد التي هي من أبلغ ما تكون ألماً، ومن أبلغ ما تكون زجراً للفاعل وزجراً لمن يرى هذه العقوبة. قل أن تجد أحداً يرى سارقاً تقطع يده فيفكر في السرقة، يقول أحد العلماء: جاءني رجل كان مبتلى بالنصب والسرقة والعياذ بالله، بل الأسرة عنده مبتلاة بهذا ونشأ في هذا الانحراف، يقول: ولا يستطيع أن يتركه، قال له: اطلب العلم لعل الله سبحانه وتعالى أن يكسر قلبك بزواجر التنزيل وتتعلم، وكان من بيئة ضعيفة. فابتدأ طلب العلم، وصار يسرق طلاب العلم، فصارت المصيبة أكبر، ذكره بالله وخوفه بالله عز وجل، وإذا به يقول: لا أستطيع؛ لأنه مبتلى بهذا البلاء، فشاء الله يوماً من الأيام أن قال له موعظة، قال له: أنا أوصيك بوصية، وهي: أن تحرص أن ترى سارقا تقطع يده، ترى بعينك فقط وتعتبر، وشاء الله عز وجل بعد فترة وإذا به يقام حد سرقة، فجاء ووقف على السارق تقطع يده ورأى الدم ورأى اليد تفصل، ورأى حال من قطعت يده فأغمي عليه، ومن بعدها لم يمد يده إلى مال حرام، فقضاء الله عز وجل فيه زجر، والله أعلم بالنفوس، الله أعلم بما يزجر عباده وبما يصلحهم. هذه مجمل التشريعات الواردة وأسلوب النهي فيها. الأسباب التي تعين على وجود الوازع الديني، جعلها الله عز وجل في التشريعات التي تقوي الإيمان، وتسلم بها عقيدة المسلم ويصلح بها عمله. وهناك جوانب أخر، جعل الله عز وجل فيها السلامة من الجرائم، ونبه عباده على أنها علاج للجريمة، وسبب في ترك الجريمة والسلامة منها، والتي منها الإيمان بالله، وإقام الصلاة، والصوم، والذكر؛ فهذه أسباب كلها تقوي جذوة الإيمان، وينتج عنها البعد أو مقارفة الجرائم والوقوع فيها. سنتحدث إن شاء الله في الأسبوع القادم عن جوانب من التشريعات الإلهية التي أعانت الناس على اتقاء الجرائم وعدم الوقوع في هذه المحرمات التي دلت نصوص الكتاب والسنة على تعظيم أمرها وعلى وجوب تركها والبعد عنها، نسأل الله العظيم أن ييسر ذلك وأن يرزقنا القول السديد، إنه ولي ذلك وهو الحميد المجيد، والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

المعاصي علامة على ضعف الوازع الديني

المعاصي علامة على ضعف الوازع الديني Q المسلم يذنب ويرتكب المعاصي، هل هذا يدل على أنه ليس له وازعٌ ديني أو خوف من الله؟ أثابكم الله. A الناس ووقوعهم في المعاصي -وهذا سننبه عليه- على أحوال: منهم من يقع في المعصية، ولا إشكال أنه لا يقع في المعصية إلا بضعف إيمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)، فمن كمل إيمانه بالله كملت استقامته على طاعة الله بفعل ما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر. وأما من ضعف إيمانه فعلى العكس، وعلى هذا: فلا شك أن الإيمان مؤثر في هذا، وله أثر على سلوك الإنسان، ولكن بالنسبة للتلبس بالمعاصي فهو على أحوال؛ فهناك أسباب تدعو إلى المعاصي، ومنها ما يكون من الشخص نفسه، من النفس السيئة وغلبة الهوى وغلبة الشهوة، ومنها ما يكون من قرناء السوء، ومنها ما يكون في بيئته، ويدل على ذلك حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وأتم المائة فأمره العالم أن يترك بيئته وأن يخرج، وقال له: إن في قرية كذا أناساً صالحين، وأوصاه أن يترك قرية السوء، وكان في ذلك علاج له، والسنة أقرت هذا، وهذا يدل على أن المعاصي قد تكون بسبب البيئة. وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل.

مقدمة كتاب الأطعمة

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الأطعمة الأطعمة أنواع: منها النباتية، ومنها الحيوانية، ومنها الجمادات، وكل طعام الأصل فيه الحل حتى يدل الدليل على خلافه، وهذا يدل على أن الشريعة جاءت بما فيه المصلحة والتيسير لا التشديد، وهي إذا حرمت نوعاً من الأطعمة فإنما لما فيه من الضرر على الإنسان وحياته.

حقيقة الأطعمة وأحكامها

حقيقة الأطعمة وأحكامها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الأطعمة] الأطعمة جمع طعام، واختلف العلماء رحمهم الله في حقيقة الطعام شرعاً على وجهين: الوجه الأول: أن الطعام ما يؤكل ويشرب. الوجه الثاني: أن الطعام ما يؤكل مطلقاً. وفائدة هذا الخلاف: هل يدخل الماء في المطعومات أو لا يدخل؟ وهكذا بقية المائعات، فالذين قالوا: إن الشراب والمائع يدخل في الطعام، احتجوا بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة:249]، فقالوا: (ومن لم يطعمه) وقد انصرف ذلك إلى الماء، فدل على كون الماء مطعوماً، كذلك استدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم في زمزم: (إنها طعام طعم، وشفاء سقم) قالوا: فهذا يدل على أن الماء والمائع يكون طعاماً، ومن هنا قالوا: إن الحقيقة الشرعية تشمل هذا -أعني: المأكول والمشروب-. ومن فوائد ذلك: جريان الربا في الماء، فلو قلنا: إن الشريعة إذا أطلقت الطعام تقصد به المأكول والمشروب، فمعنى ذلك أنه يدخل في عموم الحديث الذي رواه معمر بن عبد الله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل)، ومن هنا لا يجوز بيع الماء بالماء إلا متماثلاً ويداً بيد، بناءً على أنه يدخل في الطعام الشرعي. وقوله رحمه الله: (كتاب الأطعمة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بما أحل الله وما حرم، وما كره للعبد أن يطعمه. وهذا الباب باب عظيم؛ لما يشتمل عليه من بيان أحكام ومسائل شرعية تعم بها البلوى، ويحتاج المسلم إليها في نفسه وفي أهله وفي الناس جميعاً، ولما في الطعام الطيب والأكل من الطعام الطيب، أو من الطيبات من الخير العظيم للإنسان؛ لأن الله يزكيه بذلك حتى تستجاب دعوته، وتقبل دعوته إذا طاب مطعمه، قال صلى الله عليه وسلم: (أطب مطعمك؛ تستجب دعوتك). وقد جمعها رحمه الله في قوله: (الأطعمة)؛ لأنها أنواع من حيث الحقيقة، فهناك أطعمة نباتية، وهناك أطعمة حيوانية، وهناك أطعمة من الجمادات، وكذلك أيضاً لاختلاف أنواعها الشرعية: فهناك طعام محرم، وهناك طعام مباح، وهناك طعام مكروه، فنظراً لتعددها قال رحمه الله: (كتاب الأطعمة).

الأصل في الأطعمة الحل

الأصل في الأطعمة الحل قال رحمه الله: [الأصل فيها الحل]: قوله رحمه الله: (الأصل فيها الحل) الضمير عائد إلى الأطعمة، أي: حكم الشريعة على الطعام أنه حلال للمسلم، وهذا الأصل دل عليه دليل الكتاب كما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13]، وهذا التسخير لبني آدم يقتضي الانتفاع، فإن كان الشيء الموجود في السماوات والأرض مطعوماً يطعمه، وإذا كان مشروباً يشربه، وإذا كان من جنس ما يركب يركبه، إذن قوله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ) يقتضي الإباحة والحل، ومن هنا: نص العلماء والأئمة على أن الأصل في الطعام: أنه حلال. وفائدة هذا: أن الفقيه، وطالب العلم، والمسلم يعلم أن أي طعام الأصل فيه أنه حلال، حتى يدل الدليل الشرعي على عدم جوازه، ومن هنا لو اختلف العلماء رحمهم الله في طعام هل يجوز أكله أو لا يجوز أكله، فإن الذي يقول بجواز الأكل يستدل بالأصل، ويقول: الأصل عندي أن الطعام حلال، ولذلك يجوز لي أن آكله حتى تعطيني دليلاً يدل على أنه لا يجوز لي أن آكل هذا, ومن هنا نجد أن العلماء والأئمة يقولون: إن حفظ الأصول هو الطريق للوصول، ولذلك قالوا: من حرم الأصول حرم الوصول، والمراد بالأصول: أصول الأبواب، وليس أصول الفقه، وإن كانت أصول الفقه مهمة، لكن المقصود أصول الأبواب: أي أنك في كل باب تعرف ما هو حكم الله، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي شرعه في كتابه، وبهدي نبيه صلى الله عليه وسلم على الشيء: هل هو حلال، أو غير حلال؟ فإذا علمت هذه الأصول تسأل عما يستثنى، وعندها تكون قد وصلت إلى خير كثير من العلم. وقوله: (الحل) أي: الجواز، بدليل الكتاب، ولإجماع العلماء رحمهم الله على أن الأصل في الطعام أنه حلال.

إباحة كل طاهر لا ضرر فيه

إباحة كل طاهر لا ضرر فيه قال رحمه الله: [فيباح كل طاهر لا مضرة فيه]: الفاء: للتفريع، أو سببية، يتفرع على ما سبق من كون الأصل في الأطعمة أنها حلال، أن نقول ونحكم بأنه يباح كل طاهر لا مضرة فيه، فيباح كل طاهر، و (كل) من صيغ العموم. قوله: [كل طاهر لا مضرة فيه] هذان الوصفان ما اجتمعا في شيء من الأطعمة إلا كان طيباً: أن يكون طاهراً، وأن يكون لا مضرة فيه، فكل ما جمع هذين الوصفين فإنه الطيب الذي عناه الله عز وجل بقوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:57]، وعتب على من حرم فقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32]، فكل طاهر لا مضرة فيه فإن الله قد طيبه، وهو حلال، هذا الأصل. قوله: (كل طاهر) هذا اللفظ له مفهوم وهو: أن من أسباب التحريم: عدم الطهارة، أو كون المأكول أو المطعوم ليس بطاهر، أي: إما نجس، أو متنجس؛ لأن المتنجس يأخذ حكم النجس، أو يكون مما فيه ضرر، وسيأتي أنه لا يجوز أكل النجس. [من حب، وثمر وغيرهما]: قوله: (فيباح كل طاهر لا مضرة فيه) هذا كما قلنا عموم، وهذا العموم يحتاج إلى بيان، ولذلك قال: (من حب، وثمر وغيرهما). الضرر: ضد النفع، وهو نوعان: إما ضرر ينتهي بالإنسان إلى الموت والهلاك. وإما ضرر دون ذلك. فأي طعام اشتمل على فوات الأنفس وهلاك الأرواح فإنه لا يجوز أكله، أو يكون فيه ضرر يتسبب في إتلاف الأعضاء، أو تعطيل منافعها، أو يُحدث للإنسان ضرراً في عقله، أو ضرراً في حاسة من حواسه، أو يشوش عليه، أو يقلقه، أو يزعجه ونحو ذلك، فإنه يحكم بعدم الجواز؛ لأن النصوص في الكتاب والسنة دلت على تحريم إضرار الإنسان بنفسه، ولذلك حرم الله على العبد أن يقتل نفسه، كما قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، وقال تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، وكل ما فيه ضرر يلقي بالإنسان إلى التهلكة، وقد يُهلك عضواً من أعضائه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله عن تعذيب هذا لنفسه لغني)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن لنفسك عليك حقاً)، ومن هنا: حرم أكل وشرب الأشياء المضرة، سواءً كانت من الجامدات، أو كانت من المائعات. قال رحمه الله: [لا مضرة فيه] فلا يجوز أكل السم؛ لأن فيه ضرراً، ولا يجوز أكل ما فيه ضرر على الإنسان في حواسه كما ذكرنا، مثل: الشاة التي فيها مرض، فإنه إذا أكلها انتقل إليه المرض ونحو ذلك، كل هذا لا يجوز، وهو مفرع عن الأصل الذي ذكرناه: أن الأصل لا يكون طيباً إلا إذا كان طاهراً لا مضرة فيه. قال رحمه الله: [من حب، وثمر وغيرهما]: قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141]، فأحل الله عز وجل أكل ثمار الأشجار، والزروع، وأباح الانتفاع منها، وكذلك أيضاً دلت الأدلة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم على إباحة أكل الحيوانات من بهيمة الأنعام من الإبل، والبقر، والغنم، وكل هذا داخل تحت العموم، فيباح كل طاهر لا مضرة فيه؛ من حب، وثمر وغيرهما، و (من) هنا بيانية.

تحريم كل نجس وضار من الأطعمة

تحريم كل نجس وضار من الأطعمة قال رحمه الله: [ولا يحل نجس] ولا يحل نجس: هذا المفهوم جاء بالمنطوق تقريراً للأصل: أنه يباح كل طاهر لا مضرة فيه، والمفهوم: يحرم كل نجس، وكل ما فيه ضرر. والنجس في لغة العرب أصله: القذر، والقذر: هو الشيء الذي تعافه النفوس؛ من المستقذرات، والأشياء الخبيثة، فإنه يحرم أكل النجاسات، والأصل في ذلك: تحريم الله للميتة، وما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: أنه لما حرم لحوم الحمر الأهلية، نادى مناديه -كما في الصحيح- قال: (إنها رجس)، والرجس: هو النجس، وهذا يدل على أنه لا يجوز أكل كل النجاسات. قوله: [كالميتة] الميتة: هي الحيوان الذي هلك حتف نفسه بغير ذكاة. والميتة لا توصف إلا في الحيوانات، فلا يمكن أن نقول للبرتقال ميتة، ولا للتفاح؛ لأنه لا توجد فيه حياة، إذن العلماء رحمهم الله إذا قالوا: ميتة، فمعناه: أنه متعلق بالحيوان، وتوضيح ذلك: أن الحيوان إما أن يذكى؛ إذا كان من جنس ما يذكى، وإما أن يموت حتف نفسه، أو بذكاة غير معتبرة شرعاً، ولذلك نجد بعض الفقهاء في تعريفه للميتة يقول: هلك حتف نفسه، أو بغير ذكاة، لأنه لما قال: هلك حتف نفسه، مثل الشاة تموت بأمر الله عز وجل، يعني: تموت فجأة، ولو أن شخصاً أمسك الشاة فخنقها، أو وضعها في ماء حتى هلكت، أو رماها من شاهق حتى تردت، فهي منخنقة، أو متردية، أو رماها بحجر على رأسها فهلكت فهذه موقوذة، فكل هذه الأنواع ميتة، ولكنها ماتت بغير ذكاة شرعية، ولذلك نجد بعض العلماء يضيف هذا القيد: هلك حتف نفسه، أو بغير ذكاة شرعية، حتى يشمل النوعين. والميتة نجسة، ولا يجوز أكلها؛ لأن الله تعالى قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]، وذلك في آية البقرة، وآية المائدة، وقال تعالى أيضاً في آية الأنعام: {قُُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام:145] فهذه النصوص تدل على حرمة أكل الميتات؛ من الإبل، والبقر، والغنم، ويقال: ميتة، لما له ذكاة، وللحيوان الذي في الأصل لا يؤكل إذا مات، لأنه يعتبر ميتة، فاجتمع فيه التحريم بالأصل، والتحريم بعدم وجود الذكاة، وهذا مبني على مسألة حله عند الاضطرار، هل يشترط فيه الذكاة أو لا؟ كما سيأتي في باب الذكاة. فالميتة لا يجوز أكلها، كلاً وجزءاً، ولا يجوز الانتفاع بها، إلا ما ورد الدليل من الانتفاع بجلدها، وهذا الأصل محل إجماع عند العلماء رحمهم الله. [والدم]: لا يجوز شرب الدماء، والدم المراد تحريمه هنا: الدم المسفوح، وهو: الدم الذي يسبق الموت، والدم الذي يكون أثناء التذكية، فلو أن شاة جرحت، فتطاير دمها على ثوب الإنسان، فإن هذا الدم دم مسفوح، والدم هو الذي يكون بغير ذكاة، سواء سبق الذكاة أو أثناء الذكاة، ولو أراد أن يذبح الشاة أو ينحر البعير، فتطاير عليه دمه فإنه نجس، وهو الذي يسمى بالدم المسفوح: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام:145]، فالدم المسفوح: هو الذي يكون في البهيمة حال حياتها إذا نزفت، أو قطع عضو من أعضائها فجرى منها الدم، أما الدم الذي يكون في الحيوان المذكى بعد ذكاته، فإنه طاهر، فلو أن شخصاً أتى عند جزار، والجزار يقطع له كتفاً من شاة مذكاة، فتطاير عليه دمها، فإنه طاهر، لكن الدم الذي يكون في الرقبة، والدم الذي يكون في السفح-الذكاة- أو أرسل سهماً، أو ببندقيته، فضرب بهيمة فتطاير دمها؛ فهذا الدم المسفوح الذي يكون أثناء الذكاة نجس. فلا يجوز شربه، ولا الائتدام به، ولذلك حرم النبي صلى الله عليه وسلم بيعه، لكن يجوز الانتفاع به في حال الاضطرار، كما لو احتاج إلى أن يتبرع بدمه لإنقاذ نفس، فهذا استثناه الله عز وجل في قوله: (إ ِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، وقوله سبحانه: {إ ِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:173]، فإذا توقفت حياة شخص على أن يُتبرع له بالدم، فإنه يجوز للإنسان أن يتبرع له، وينوي إنقاذ حياته، وهو مأجور على ذلك، ويدخل في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32]، وهذا الدم يعتبر من إنقاذ الأنفس، وتكون الحالة حالة اضطرار. [ولا ما فيه مضرة كالسم ونحوه]: لا يجوز أكل ما فيه مضرة كالسم؛ لأن السم قاتل -أعاذنا الله وإياكم منه- وهو يكون في الحيوانات، ويكون في النباتات، ويكون في الجمادات، فسم الحيوانات: مثل ما ذكر العلماء: في السمك، فهناك نوع من أنواع السمك، يقولون له: السمك المسموم، ويكون في الحيوانات كالوزغ الأبرص، فإنه من الحيوانات المسمومة -وذكروا: الزنبور، والنحل- الميت منه يقتل الإنسان غالباً إذا أكله، فهو محرم، سواءً كان من الحيوانات، أو كان من النباتات كالخردل، أو كان من الجمادات كالزرنيخ، فهذا لا يجوز أكله. إذاً: سبب تحريم السم وجود الضرر، فإن كان السم لا يشتمل على ضرر، بمعنى أن يتعاطاه الإنسان بطريقة لا تضره، ولا تأتي ببلاء عليه في عضو من أعضائه، أو في جسده، فيجوز أكله، ويجوز تعاطيه للحاجة، مثل الدواء، فبعض الأدوية توضع فيها جرعات من السم، وقد ذكر العلماء رحمهم الله تعاطي السم للوقاية، كما كان يفعله بعض الأطباء للعظماء، والسلاطين إذا خشوا أن يُسموا، فكانوا يعطونهم جرعات من السم، حتى يصبح الجسم قابلاً للسم، فكانوا يرخصون في هذا؛ لأن سبب التحريم خوف الهلاك، والعلة إذا زالت يزول الحكم المترتب عليها، وعلى هذا لو زال أو غلب على ظنه أنه لا يستضر فإنه يجوز تعاطيه. أما بالنسبة لدليل تحريم السم فقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، والسم ينتهي بالإنسان إلى الموت، وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تحسى سماً فمات منه، فهو في نار جهنم يتحساه، خالداً مخلداً فيها)، فهذا يدل على تحريم أكل السموم. وإذا ثبت أنها حرام، فإنه يحرم بيعها، إلا إذا كان على الوجه الذي استثنيناه، ولكن لو علم أن شخصاً سيأخذ السم، ويقتل به نفساً محرمة فلا يجوز وهكذا. ومما يتفرع على هذه المسألة بيع الأدوية ممن لا يحسن صرفها، كأن يبيعها الصيدلي، أو يعطيها للمريض، أو يصرفها طبيب ليس من تخصصه، والأدوية، إما أن تكون فيها سموم، أو فيها ضرر، وكلاهما موجب؛ لأن أصل تحريم أكل السموم: الضرر، فالقاعدة العامة: وجود الضرر، والمثال: السم، فإذا كانت الأدوية تصرف من شخص ليست عنده أهلية، فالغالب الضرر، وحينئذ لا يجوز أن يأكلها، ولا يجوز أن يتعاطاها.

ما يحرم من الحيوانات البرية وما يباح

ما يحرم من الحيوانات البرية وما يباح قال رحمه الله: [وحيوانات البر مباحة]: هذا أصل عام. والحيوان ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون برياً. وإما أن يكون بحرياً. فحيوان البر: يشمل ما كان في السماء، كالطيور، وما كان في الأرض؛ مثل بهيمة الأنعام، ونحو ذلك من الوحوش في البراري، وغيرها مما أحل الله عز وجل، هذا حيوان البر. وحيوان البحر: كالسمك، والحوت ونحو ذلك، والحيوان البحري: هو الذي لا يعيش إلا في البحر، أو غالب عيشه في البحر، بحيث إذا خرج يهلك، أو يقل خروجه، ونسله وتكاثره في غير البحر. حيوانات البر تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: مستأنسة: وهي التي تكون بين الناس وتأنسهم، وتألف الناس ويألفونها ولا تنفر منهم؛ كالإبل، والبقر، والغنم، ومن الطيور: كالدجاج، والإوز، والبط، هذه يسمونها: مستأنسة وداجنة. والقسم الثاني: المتوحشة، وهي بطباعها تنفر من الإنسان، كبقر الوحش، وحمار الوحش، والثيتل، والوعل، ونحو ذلك من حيوانات البر، والطيور: مثل العصافير، والحباري، والقماري وغير ذلك. فحيوانات البر: الأصل حلها، قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96] معناه: أنه حلال لكم إذا لم تكونوا محرمين، هذا بالنسبة للصيد البري، وصيد البحر. أما بالنسبة للمستأنس البري: فإن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الإبل، والبقر، والغنم، وهذا يدل على حل حيوانات البر.

حكم أكل الحمر الإنسية والوحشية

حكم أكل الحمر الإنسية والوحشية قال رحمه الله: [إلا الحمر الإنسية]: الحمر نوعان: الأول: حمر إنسية، أو أهلية: وهي التي تعيش بين الناس، الأسود منها، أو الرمادي، أو الأبيض، أو الأغبر. الثاني: حمر وحش: وهي التي تعيش في البراري، وهو الأبيض والأسود المخطط، وهو معروف إلى الآن في زماننا، وموجود. ولكن يقل وجوده في جزيرة العرب؛ لأنه كان يأتي من أفريقيا، كما حدثنا كبار السن، وقل وجوده بسبب عدم وجود الهجرة. فبالنسبة للحمر الأهلية: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها عام خيبر، ونهى عنها عليه الصلاة والسلام عام الحديبية -كما في بعض الروايات- ونهى عنها في خطبة حجة الوداع، والإجماع قائم -بعد أن وقع بعض الخلاف عن الصحابة- على تحريمها، وقد أمر صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور، كما في حديث أنس، وحديث جابر: نادى مناد: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن الحمر الأهلية) وهذا يدل على تحريم أكلها. واختلف العلماء في العلة: فقيل العلة أنها تجول، وتأكل النتن، والقذر في القرى والهجر، وهذه العلة يرتضيها الإمام البخاري، ويقويها حديث الغالب بن أبجر: (إنها جوال القرية): أي تجول في القرى. وقيل: إنها لا تخمس في الغنائم، وهي علة ضعيفة، وقد تقدم معنا أحكام الخمس. وقيل: إنه يحتاج إليها للظهر؛ أي: أن يحمل عليها، كما يشهد لذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وقيل-وهي العلة القوية-: كما في حديث أنس رضي الله عنه في الصحيح، ورجحه غير واحد من العلماء أن العلة هي: النجاسة، وذلك لحديث: (وأمر أن تكفأ القدور، وقال: إنها رجس)، والرجس هو: النجس، وهذا يدل على أن تحريم أكل الحيوانات المحرمة يؤدي إلى الحكم بنجاستها، وهذا صحيح، ولذلك حكم بنجاسة الميتة، وهذا الذي أجمع عليه العلماء، وشكك فيه بعض المتأخرين، وقال: لا يعرف دليل على نجاسة الميتة، لكن يقوي القول بنجاستها حديث الحمر؛ ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت الحمر تؤكل، ثم في اليوم الثاني عندما حرِّم أكلها قال: (إنها رجس)، فدل على أنها سلبت ما فيها من الطيب، وأصبحت نجسة، ولا يجوز أكلها من هذا الوجه.

حكم أكل ما له ناب من السباع

حكم أكل ما له ناب من السباع قال رحمه الله: [وما له ناب يفترس به]: الناب: هو السن الذي يلي الرباعيات ويفترس به؛ وهنا وصفان: أن يكون له ناب، وأن يفترس؛ أي: أن يكون من العاديات، وهذا لا يكون إلا في السباع. والأصل في تحريمه قوله صلى الله عليه وسلم: (كل ذي ناب من السباع حرام) والحديث في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره. فهذا أصل عند جمهور العلماء في تحريم أكل السباع العادية؛ كالأسد، والنمر، وكل ما له ناب، يعدو به على الناس، ولذلك لا يحل أكل لحمه. وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن العلة في هذا التحريم: أن السباع العادية فيها قوة، وفيها كلَب، وفيها نفس خبيثة في الاعتداء، وإلحاق الضرر بالغير، واللحم يؤثر في الطبائع، ولـ ابن خلدون كلام تاريخي على مسألة النباتية والحيوانية، يعني أكل النباتات والحيوانات، وتأثير ذلك على الطباع. فالسباع العادية إذا أكل لحمها تأثر الإنسان بطباعها الخبيثة من العدو والكلب، ولذلك نهي عنه، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (السكينة عند رعاة الغنم من مضر) لأن طبيعة الغنم السكينة؛ ولذلك بين أن السكينة في رعيها وأكل لحمها، ثم قال: (والجفاء عند رعاة الإبل من ربيعة) فهذا يدل على أن أكل لحم الإبل يؤثر في الطبائع، ويؤثر في نفسية الإنسان، ومن هنا قال الإمام ابن القيم: إن السباع العادية فيها نفس خبيثة، وفيها كلب وعدوان، فأكل لحمها يؤثر في طبع الإنسان، ولهذا حرمت. واختلف العلماء في مسألة كل ذي ناب من السباع: الجمهور على التحريم، والمالكية عندهم رواية بالجواز، واحتجوا بقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام:145]، قالوا: إن آية الأنعام لم تذكر السباع. ونقول لهم: إن قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}. دل على عموم التحريم، وحديث: (كل ذي ناب من السباع) دل على خصوص التحريم في السباع العادية، فلا تعارض بين هذا وهذا، حيث جاءت السنة بالزيادة، والسنة تزيد على القرآن، وهذا هو الذي عليه العمل عند جماهير السلف والخلف والأئمة. قوله: [غير الضبع]: الضبع: اختلف فيه على قولين: قيل: إنه لا يجوز أكله، كما يقول المالكية والحنفية. وقيل: بجواز أكله، كما هو مذهب الشافعية والحنابلة. والذين قالوا بالجواز أسعد بالدليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحل الضبع، فقد سأل عبد الرحمن بن عبد الله بن عمارة التابعي جابر بن عبد الله صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (الضبع صيد؟ قال: نعم، قال: آكله؟ قال: نعم، قال: أقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم). وهذا الحديث صححه الإمام البخاري، وابن خزيمة، وابن حبان، والإمام الترمذي، والعمل عند العلماء-من ذكرنا- على متنه، أنه يدل على جواز أكل لحم الضبع، وعلى هذا فقول من قال بتحريمه مرجوح. [كالأسد، والنمر. كالأسد، والنمر، والذئب، والفيل: هذا تمثيل للسباع العادية، فالأسد: يقتل، ويعدو بنابه، وله كلَب، وفيه وجهان: أولاً: الأسد، والنمر من السباع العادية، وهذا النص فيه واضح. وثانياً: اغتذاؤها بالجيف، ومن هنا تكون خبيثة، فجمعت بين الأصلين؛ لذلك التحريم فيها أقوى. [والذئب]: والذئب له ناب، ويعدو بنابه، ويقتل. [والفيل]: فيه قولان للعلماء: الجمهور على تحريم أكل الفيل؛ وذلك لأمرين: أولاً: وجود الناب فيه، حتى قال الإمام أحمد: لم أر أعظم منه ناباً، وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم كل ذي ناب. وهو يعدو؛ فإنه إذا آذاه الإنسان يفتك به، وإن كان فتكه ليس بالناب، لكنه يعدو عليه ويقتله، ففيه الكلَب. الوجه الثاني: خبث الفيل، ومن هنا قالوا: إنه جمع بين الوصفين. وهناك من يقول بجواز أكل لحم الفيل. [والفهد، والكلب، والخنزير]: أما الكلب: فاختُلف في نجاسته وطهارته: فقيل: إنه نجس، وهذا هو الصحيح، وقد تقدم هذا في الطهارة وبينا الدليل على نجاسته، وبناءً على ذلك لا يجوز أكل لحم الكلب، ومما يدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعله من الفواسق، وإن كان قد خص الكلب العقور، وقد أمر بقتل الكلاب صلوات الله وسلامه عليه، ولو كانت تؤكل لأمرهم أن يأكلوا لحمها، ولكنه عليه الصلاة والسلام أمر بقتلها، وهذا يدل على أنه لا يجوز أكل لحم الكلب. الأمر الثاني: أن الكلب يغتذي بالجيف، ففيه استخباث لحمه، وقد جمع بين الوصفين لتحريمه. قوله: (والخنزير) دل دليل الكتاب والإجماع على تحريم أكل لحم الخنزير، كما قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} [المائدة:3]، وهذا يدل على أنه لا يجوز أكل لحم الخنزير، ولا الإدهان بشحمه، ونحو ذلك من بقية أجزائه. [وابن آوى، وابن عرس، والسنور] ابن آوى: فوق الثعلب، ودون الذئب، ويكثر صياحه لبني جنسه، وصوته أشبه بصوت الصبيان فيما ذكروا من ضوابطه، وهو مستخبث، وفيه خلاف، والجمهور على تحريم أكل لحمه. (وابن عرس) كذلك مثله؛ لأن له ناباً، وكلباً. (والسنور) القط: سواء كان برياً، أو أهلياً، فله كلب، وله عدو، خاصة المتوحش منه؛ وهو البري، ولو خلا بالإنسان فإنه يقتله، والقط البري المعروف، يقال: إنه من فصيلة النمور، وهو يغتذي بالجيف والأهلي يغتذي بالحشرات، فيستخبث لحمه، فهذه الأنواع كلها لا يجوز أكلها.

حكم أكل ما له مخلب من الطير

حكم أكل ما له مخلب من الطير قال رحمه الله: [والنمس، والقرد، والدب]: الدب استخبثوه؛ لأن فيه الكلب، وفيه الاستخباث. [وما له مخلب من الطير يصيد به]: بعد أن بين رحمه الله تحريم السباع العادية، بالنسبة لما يدب على وجه الأرض، شرع في بيان النوع الثاني من البري؛ لأن البري إما طائر، وإما غير طائر، فبين غير الطائر، الذي هو ذو الناب من السباع، ثم شرع في بيان المحرم من الطير، وهو كل ذي مخلب من الطير، والمخلب: الظفر، والمراد به: ما يعدو من الجوارح؛ كالصقر، والباز، والشاهين، والباشق، ونحوها من العاديات في الطيور، فهذه محرمة. أولاًً: لوجود العدو منها، كالعدو في ذوات السباع؛ لأنها ذوات مخلب. كذلك أيضاً: خبث تناولها للجيف، وأكلها للجيف يقوي تحريمها. [كالعقاب، والبازي، والصقر، والشاهين، والباشق، والحدأة، والبومة]: هذه كلها من الطيور العادية، والعادية ورد فيها النص؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الحدأة في الحل والحرم، وهذا يدل على أنها ليست بصيد؛ لأن المحرم لا يقتل الصيد، ولو كانت مما يحل أكله لكان فيه الضمان في قتله، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنها فاسق، وأنها تقتل، فهذا يدل على أنها ليست مما يحل أكله.

حكم أكل ما يأكل الجيف

حكم أكل ما يأكل الجيف قال رحمه الله: [وما يأكل الجيف]: هذا المستخبث من الطيور. [كالنسر، والرخم]: النسر معروف، وهو يعدو على الجيف، وكثيراً ما يوجد في فضلات البهائم في البر. والرخم: وهو من أسوأ وأقذر أنواع الطيور لحماً، حتى كان بعض الأطباء إذا أعياه وجود الدود في بعض الجسم، يضع لحم الرخم على الجلد من خارج، فيترك الدود داخل البدن ويخرج إلى الرخم، وهذا من غريب ما فعله بعض الأطباء حينما أعيته الحيلة والرخم يضربون به المثل للشيء الذي يكون عديم الفائدة، لأنه لا أحد ينتفع به. [واللقلق، والعقعق، والغراب الأبقع]: أما الغراب فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتله كما في حديث الفواسق، والأبقع: هو الذي فيه البقعة البيضاء، قيل: فيه بياض. [والغداف: هو أسود صغير أغبر، والغراب الأسود الكبير]: كل هذه يحرم أكلها -أنواع الغراب- لأنها مستخبثة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الغراب، وجعله من الفواسق، ولو كان حلالاً لما أمر بقتله عليه الصلاة والسلام، ولما جعله من جنس ما لا يضمن، كما في حديث الفواسق.

حكم أكل ما يستخبث

حكم أكل ما يستخبث قال: [وما يستخبث كالقنفذ، والنيص، والفأرة، والحية، والحشرات كلها، والوطواط، وما تولد من مأكول، وغيره كالبغل] قوله: [وما يستخبث]: الأصل في تحريمه قوله تعالى: {يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157]، والأصل عند جمهور العلماء أن العبرة بالاستخباث العرب؛ لأن بيئتهم هي أوسط البيئات، وطبائعهم هي أعدل الطبائع، لما جبلهم الله عز وجل عليه من الصفات، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله اختارهم واصطفاهم. وهذا الاختيار من الله عز وجل والاصطفاء، فيما جبلوا عليه من النعم التي وضعها الله عز وجل في طبائعهم. فما استخبثته العرب فهو خبيث، وما استطابته فهو طيب، ثم ينظر: العرب فيهم بادية وحاضرة، وفيهم الغني والفقير، وفيهم أزمنة الرخاء وأزمنة الشدة، فهل نحكم في الاستخباث والطيب بضابط معين؟ أو يترك الأمر هكذا؟ الذي عليه المحققون: أن الاستخباث والطيب أمر نسبي، وأن العبرة فيه بأعدل الناس، لأن الغني يستخبث ما يستطيبه الفقير، فلو أنه جُعل الاستخباث للأغنياء لعظم التحريم، ولم يبق شيء إلا حرم؛ لأنهم لا يأكلون إلا شيئاً معيناً خاصاً، ولذا نُظر إلى الأعدل في هذا، قيل: إنه يُنظر إلى الفقراء. أما بالنسبة للمدن، والقرى، والبادية، فينظر إلى الوسط بينها؛ لأن البادية بحكم شدة الظروف فيهم من الجلد والقوة ما ليس بالحاضرة، ولذلك يقوون على بعض الأشياء، ويرون أنها مستطابة، وقد يكون العرب في الحاضرة لا يستطيبونها، فلو قيل: إن العبرة بطبائع البادية، لحصل توسع، ولذلك قالوا: ينظر إلى الطبائع المعتدلة في القرى، والهجر، ونحوها. كذلك أيضاً بالنسبة للغنى والفقر، وأزمنة الخصب والجدب، فإن العبرة بالوسط بين الحالتين، وهو الذي يعتبر فيه الاستخباث وعدمه، وليس فيه إشكال إلا قليل جداً؛ لأنه ما حدث الخلاف بين العلماء إلا في مسائل معدودة، لأن كثيراً منها وردت بها النصوص، وحُل إشكالها؛ لأنه لم يُترك الشرع إلى طبائع الناس، وإنما هو وارد في بعض المسائل المحددة، وقد اختلف فيها، مثلاً: بعض الدواب مثل القنفذ، هل هو مستخبث أو ليس بمستخبث؟ حصل الخلاف بين العلماء في هذا، لكن الأمر في الأوسط، وهو الذي عليه العمل عند المحققين رحمهم الله. [كالقنفذ، والنيص]: القنفذ معروف؛ ذو الشوك، وهو حيوان يعدو بشوكه على الأفاعي، واستخباثه من جهة مطعمه، وتستخبث النفوس أكله، وأُثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنهم حرموا أكله، ونصوا على ذلك، كما أثر عن ابن عمر رضي الله عنهما، وغيره. [والنيص]: قيل: إنه أكبر القنافذ أي: شيخ القنافذ، ويأخذ حكم التابع لما قبله، وقيل غير ذلك، ويقال له: (الدلدل) وعلى كل حال هو آخذ حكم القنافذ؛ لأن الخبث فيه من جهة أنه يعدو على الحيات والأفاعي، وهو يتكور، فتؤذيه الحية حتى يقتلها بشوكه، وقيل: إن النيص يلقي شوكه، والقنفذ لا يلقي شوكه، يعني: يرمي النيص، لكن هذا اختلف فيه بين العلماء رحمهم الله، وسواء هذا أو هذا، كلاهما شر. [والفأرة]: النص فيها واضح، وخبثها معلوم، حتى إن الأطباء -والعياذ بالله- ذكروا أنها من أسباب الطاعون. [والحية]: لا يجوز أكل الحيات؛ لما فيها من الضرر، وقد عدها النبي صلى الله عيه وسلم من الفواسق. [والحشرات كلها]: لا يجوز أكل الحشرات؛ لأنها مستخبثة، إلا الدود الذي يكون في الطعام، مما لا نفس له سائلة، كدود التمر، ودود الحب، فهذا طاهر، ويجوز أكله، والأصل في ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أحلت لنا ميتتان، ودمان، أما الميتتان: فالجراد، والحوت)، فجعل الجراد من الميتات يؤكل بغير ذكاة، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يقتلونه بالرماح، والجراد مما لا نفس له سائلة، ولذلك دود التمر، وسوس التمر، والسوس الذي يكون في الحبوب ونحوها، يجوز أكله مع أنه من الحشرات، ولا يعتبر محرماً. [والوطواط]: كذلك لاستخباثه، وقد أثر عن السلف رحمهم الله خبث لحمه. [وما تولد من مأكول وغيره، كالبغل]: البغل يتولد من الحمار ومن الخيل، فإذا غُلب الحلال، فإنه يقال بجواز أكله، وإن غُلب الحرام، فيقال بتحريم أكله، والذي عليه المحققون: أنه إذا اجتمع الحل والحرمة في الدواب، كأن يكون متولداً من حلال وحرام، سواءً كانت الأنثى الحلال، أو العكس، فالحكم في الجميع التحريم، والسبب في ذلك: أنه ليس فيه ذرة من لحمه إلا وفيها اختلاط حلال بحرام. وهذا لا يجوز أكل السنع والسيعار، والسنع من الذئب والضبع، والسيعار من الكلب والضبع، وقيل أيضاً: النعجة قد ينزو عليها الكلب-أكرمكم الله- فتأتي بنصف شبه للكلب، ونصف شبه للبهيمة، فكل هذا محرم؛ لأنه ليس فيه شيء إلا وقد اشترك فيه الحلال والحرام، ولا يشكل على هذا مسألة من كان يتعامل بالربا، إذا أردت أن تأخذ منه ديناً، أو استضافك، وقد اختلط ماله الحلال بماله الحرام، فليس من هذا، ولذلك قالوا: من اختلط ماله الحلال بماله الحرام لا يمتنع إلا إذا جزم بأن هذا المال من الحرام، وعلم أن هذا المال الذي يأكل منه من الحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من شاة اليهودية، واستضافه اليهودي كما في الحديث المسند على خبز وإهالة سخنة، وأكل صلى الله عليه وسلم، لأن عين المال لم يجزم بحرمته، فبقي على الأصل من حله.

ما يحل أكله من الحيوانات

ما يحل أكله من الحيوانات قال رحمه الله تعالى: [فصل: وما عدا ذلك فحلال] أي: سوى ما ذكر فحلال، وهذا من بديع ذكر المصنف رحمه الله؛ فإنه ذكر المحرمات، ثم أعقبها بالحلال، من هنا يدرك المسلم أن ما أحل الله من الطيبات أكثر مما حرم، ولذلك قال تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام:145] فجعل الحل عاماً، وجعل التحريم خاصاً، وهذا يدل على سماحة الشريعة ويسرها، ولا يحرم إلا لسبب؛ إما وجود الخبث، وإما وجود الضرر، وقد يكون لسبب إلهي مثل أن يكون مذبوحاً لغير الله عز وجل، كأن يكون مما ذبح على النصب، وأهل لغير الله به. [كالخيل]: اختلف في الخيل على قولين: قيل بتحريمها، وقيل بحل أكلها، والصحيح جواز أكلها، فقد حل نص صلى الله عليه وسلم على ذلك كما في حديث جابر في الصحيح أنه قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الحمر الأهلية، وأذن لنا في الخيل) وقالت أم المؤمنين: (نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً وأكلناه)، فهذا يدل على حل أكل الفرس، وقد حرم الحنفية وبعض المالكية أكل الخيل، لقوله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8] قالوا: إن الله جعل الخيل مع الحمير، وهذه تسمى: دلالة الاقتران، وهي ضعيفة؛ لأن العطف لا يقتضي المساواة في الحكم، قال تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] كلوا، وآتوا: فالأكل من الثمر ليس بواجب، وآتوا حقه-الذي هو الزكاة- واجبة، فالعطف لا يقتضي من كل وجه التشريك في الحكم، فالصحيح القول بجواز أكل لحم الخيل، وأنه لا بأس بذلك ولا حرج. [وبهيمة الأنعام، والدجاج، والوحشي من الحمر، والبقر، والظباء، والنعامة، والأرنب، وسائر الوحوش] هذا فقط مجرد تمثيل، وما سوى ذلك الأمر واضح فيه، فلو أنه عدد، لم ينته الكتاب؛ لأن ما أحل الله لا ينحصر، وذلك من سعة رحمة الله بعباده. وقوله: (بهيمة الأنعام) أي: الإبل، والبقر، والغنم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أكل الإبل، وأكل الغنم كما في حديث الشاة، وحديث الكتف، وكذلك أيضاً البقر، فقد ضحى عن نسائه بالبقر، أما الدجاج، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة) ثم الشاة، ثم الدجاجة، فدل على حل أكل الدجاج.

ما يباح من حيوان البحر وما يحرم

ما يباح من حيوان البحر وما يحرم قال رحمه الله: [ويباح حيوان البحر كله]: شرع رحمه الله في بيان حكم حيوان البحر، وقد اختلف في الأصل فيه على قولين: القول الأول: أن حل حيوان البحر لا يختص بنوع معين، أي: أن الأصل حله، لقوله عليه الصلاة والسلام: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، فقوله: (الحل ميتته) عام، فنأكل السمك، ونأكل الحوت، ونأكل سرطان البحر، ونأكل الجنبري ونحو ذلك، وذهب الحنفية رحمهم الله إلى تخصيص الحكم بالسمك والحوت، وأن ما عداه لا يؤكل، واختلفوا في نوعين: أحدهما (الجرّيث): وهو السمك الذي كالترس المدور، و (الماراماهي): وهذا أيضاً فيه خلاف لبعض أهل البدع مع أهل السنة، والصحيح جوازه، وهو مذهب جماهير العلماء، لظاهر السنة. فلا نحرم شيئاً من لحم البحر إلا إذا ثبت ضرره، كالسمك إذا تفسخ، وقال الأطباء: فإنه يضر، أو كان من النوع الذي فيه ضرر، فنقول: لا يجوز أكله. إذاً: لا نحرمه إلا إذا وجد سبب يقتضي التحريم، وإلا فالأصل جوازه. [إلا الضفدع]: لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله. [والتمساح]: وهو من العوادي، فلا يحل أكله. [والحية]: تقدم معنا أنها من الفواسق، ومراده هنا: حية الماء.

أحكام المضطر

أحكام المضطر قال رحمه الله: [ومن اضطر إلى محرم غير السم حل له منه ما يسد رمقه]: بعد أن بين أحكام الاختيار شرع رحمه الله في بيان أحكام الاضطرار. والضرورة: الإلجاء، ومن اضطر إلى الشيء احتاجه ولجأ إليه بعد الله سبحانه وتعالى، ولا تكون الضرورة إلا عند الخوف على النفس من التهلكة، أو على عضو من الأعضاء؛ كاليد والرجل أن تقطع، أو تذهب منافعها، فهذا مقام ضرورة. قوله: (من اضطر) كمن أصابته مخمصة: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} [المائدة:3] قيل: ألا يكون سفره لحرام، وقيل أن يقصد تقوى الله عز وجل، وألا يعتدي ويسرف في أكله، فإذا أصابته المجاعة ولم يجد شيئاً إلا الميتة، ينتظر حتى يغلب على ظنه أنه لو لم يأكل يهلك، فحينئذ يأكل، وقد ذكر الإمام الحافظ ابن حجر أمراً عجيباً عن بعض الأطباء، وهو: أن الجسم إذا وصل إلى درجة المخمصة الشديدة وأصبح في مجاعة شديدة، وبلغ حالة الاضطرار، تكون فيه مثل المادة السمية، مما يفرزه من شدة حرارة الجسم، وهي في حُمياته، وهذه المادة تقوى على دفع سم الميتات وضررها. وقال: هذا من البديع الحسن، وكل شرع الله عز وجل حسن، ومن هنا لو اعترض معترض بأن الميتات خبث، وأنها كذا، لا يبعد أن الله سبحانه وتعالى أحل هذا، وجعل في الإنسان ما يؤهله لذلك، ولذلك لما حرم الخمر سلبها المنافع، فالله إذا أحل وحرم، حلل وحرم لحكمة: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]. فمن اضطر -أي بلغ مقام الاضطرار- فقد أجمع العلماء رحمهم الله على حل الميتات والمحرمات له؛ لأن الله نص على ذلك، فقال سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة:173]، وقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة:3]، وقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:145]، وقال: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] فالمضطر يسقط عنه التكليف، وحينئذ ينقذ نفسه، وهذا من باب دفع الضرر الأعظم بتناول أو تعاطي الضرر الأخف، وعلى هذا أجمع العلماء والقاعدة المشهورة: (الضرر يزال) ومن فروعها: (الضرورات تبيح المحظورات). قوله: [ومن اضطر إلى محرم]: كالميتة، فيجوز للمضطر أن يأكل منها، وهل يأكل إلى حد الشبع، أو يأكل بقدر ما يدفع المخمصة؟ وجهان: أحوطهما: أن يأكل بقدر ما يدفع به المخمصة، وإذا غلب على ظنه أنه يجد ما ينقذ به نفسه فلا يجوز له أن يحمل منها، وإذا غلب على ظنه أنه لا يجد فيجوز له أن يحمل، هذا بالنسبة للأكل مما يضطر منه. فالقاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات) فُرعت عليها القاعدة: (ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها) ومن هنا يأكل بقدر ما يدفع به الضرر عن نفسه، والزائد على ذلك يبقى على الأصل. [غير السم]: لأن السم لا ضرورة فيه، فإنه إذا أكله هلك، وحينئذ لا ينقذ، بل يعجل بالوفاة، فلا يجوز تعاطي السم في الضرورات، يعني ليس بموجب لاغتذاء الجسم، وليس بموجب لاندفاع الضرر عنه، إلا فيما استثنيناه من أن يكون السم للتداوي أو ما شابه، فهذا قد استثناه بعض العلماء ولا يدخل في مسألتنا، إنما المسألة: رجل جائع ويريد أن يأكل، ولم يجد إلا سماً، أو عطشان، ولم يجد إلا سائلاً من السم، وإذا شربه يموت، فإن هذا ليس مما يؤذن له بشربه. قال رحمه الله: [حل له منه ما يسد رمقه] حل له من الميتة، أو من الطعام المحرم ما يسد رمقه؛ لأن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها. قال رحمه الله: [ومن اضطر إلى نفع مال الغير مع بقاء عينه]: بعد أن بين الاضطرار إلى الأكل شرع في الاضطرار إلى المنافع، إذا اضطر إلى المنفعة مع بقاء العين، كأن يضطر إلى ركوب سيارة، مثل أن تكون امرأته في حالة يخشى عليها الموت، أو عنده مريض يريد أن يسعفه، ولم يجد إلا هذه السيارة وعليها مفتاحها، إذن اضطر إلى نفع في مال غير، وهي السيارة، والنفع هو الركوب، مع بقاء العين: التي هي السيارة، وسيردها إلى صاحبها، فليس فيه استهلاك للمادة، وهذا يدخل في العواري، والأصل: أن المسلم يمنح أخاه المسلم ويعطيه، دل على مشروعية ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم حينما ركب على فرس أبي طلحة، وذلك عندما سمع الصحابة ذات ليلة صيحة، فخرجوا -وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشجع الناس، وهذا الحديث من السير يمثل به العلماء على شجاعته عليه الصلاة والسلام- فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قد رجع من عند الصوت، وهو يقول: (لا تراعوا)، وكان عليه الصلاة والسلام قد ركب على فرس أبي طلحة من غير سرج، وأخذوا من هذا الحديث -يقولون- ما لا يقل عن ثلاثين فائدة، منها: استعمال مال الغير عند الحاجة مع بقاء العين، وقيل في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4 - 7] قيل: الماعون: هو الإناء، وهذا قول لبعض العلماء، ولكن قول طائفة من أئمة اللغة، وهو معروف في لسان العرب، واختاره بعض أئمة التفسير، ومحفوظ عن أئمة الصحابة أن الماعون: كل ما يحتاج إليه الإنسان؛ لأنه من المعونة، والآية فيها وعيد شديد على أن للإنسان الذي يرى أخاه محتاجاً إلى شيء زائد عنه ثم لا يعطيه ذلك الفضل، وهذا هو المعنى الصحيح، وقد أشار إليه الأئمة كالإمام القرطبي وغيره من المفسرين، وعلى هذا لا يمنعه مالك الحاجة. واختلف العلماء لو رأى شخصاً بين الحياة والموت, وعلم أنه لو لم يركب معه أنه سيموت، وامتنع من إركابه؛ فـ ابن حزم يرى أنه قاتل، وأنه يقتل به، وهذا من مسائله الغريبة، لكنه سيكون عليه إثم عظيم، وهذه سببية، لكنها سببية لا تفضي للزهوق، ولم يقصد بها الزهوق، ولم يقصد بها الإتلاف؛ لأنه قد يمتنع لعارض، وليس كل من يمتنع معناه أنه يريد أن يقتل أخاه، كأن تمر على شخص في الطريق في شدة الظهيرة وهو واقف فتمتنع من إركابه، كأن تكون معك عائلة، أو تخشى على عرض، أو تخشى على شيء، وهذا شيء آخر، أو وجدت شبهة وريبة، وإلا والله الأمر عظيم في منع المسلم لأخيه المسلم ما يحتاجه. قال رحمه الله: [لدفع بردٍ، أو استسقاء ماء، ونحوه]: لدفع برد: أي من أجل دفع البرد، وإذا كان يريد منك لحافاً (بطانية)، أو استسقاء: مثل أن يريد الدلو للبئر، فحينئذ ينبغي للإنسان أن يساعده. [وجب بذله له مجاناً]: معناه: أنه يأثم إذا لم يعطه، وفي حال الاضطرار يصير واجباً عليك، وفي حال الاختيار يكون غير واجب؛ لأنه يجد مندوحة، وعنده القدرة أن يشتري، لكن شخص مضطر يريد أن يشرب ماء ولا يجد إلا دلوك من أجل أن يغرف به فتعطيه، أو رجل يرتعش من شدة البرد، والضرر سيأتيه في بدنه، وعندك مثلاً لحاف، أو بطانية، أو كوت، أو نحو ذلك، وتستطيع أن تعطيه إياه، أو في شدة الحر يمشي على الوهيج، وقد يتأذى يتضرر، وعندك حذاء-أكرمكم الله- زائد عن حاجتك، وجب بذله، قال: (وجب) يعني: يأثم إذا امتنع. قال رحمه الله: [ومن مر بثمر بستان في شجرة، أو متساقط عنه، ولا حائط عليه ولا ناظر، فله الأكل مجاناً منه، من غير حمل]: من مر بثمر داخل بستان: ينادي على صاحبه، فإذا لم يأت صاحبه حل له أن يأكل غير متمون، ولا يرمي الشجر فيسقط ما عليه، له أن يأكل ما أسقطه النخيل أو ما أسقطته الرياح من النخيل، وله أن يلتقط من الفواكه غير متمون، وفيها حديث السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (ينادي على صاحب البستان ثلاثاً، ثم يأكل بالمعروف). قال رحمه الله: [وتجب ضيافة المسلم المجتاز به في القرى يوماً وليلة]. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) فالمسلم إذا اجتاز بالقرى، فيجب على أهل القرية أن يكرموه، فإذا تبرع شخص أن يؤويه، وتبرع آخر أن يطعمه، سقط الإثم عن الجميع، وإلا أثموا، فعندما يمر الضيف أو يمر المسلم بإخوانه المسلمين ولا يجد من يضيفه، هذا من أسوأ ما يكون. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا.

باب الذكاة

شرح زاد المستقنع - باب الذكاة الذكاة أصلها الشيء الطيب، وتنقسم في الشريعة إلى قسمين: ذكاة أصلية، وذكاة بدلية، ولكل منهما شروط حتى يحكم بصحتهما، فينبغي على كل مسلم معرفة هذه الشروط يلزم توافرها ليعرف ما أحل الله له من الذبائح وما حرم عليه.

الذكاة تعريفها وأقسامها

الذكاة تعريفها وأقسامها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الذكاة]. الذكاة أصلها: الشيء الطيب، ومنه قولهم: رائحة ذكية، وقيل: الذكاة الحدة، والفراسة القوية، ولذلك وصف بها إنهار الدم؛ لأن الآلة تفري، وتنهر الدم، فكانت هناك مناسبة بين الإطلاق اللغوي والإطلاق الشرعي. قوله رحمه الله: (باب الذكاة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالذكاة الشرعية، والمناسبة: أن هذه الحيوانات المباحة، يحل أكلها إذا ذكيت وكانت من جنس ما يذكى. فإن هناك حيوانات من حيث الأصل أمر بتذكيتها، وهناك حيوانات لا تذكى، وقد بين لنا المصنف ما يحل وما يحرم، فنستبعد الذي يحرم؛ لأن الذي يحرم لا يذكى، إلا في خلاف عند العلماء في حال الضرورة، كأن يكون مثلاً جائعاً ووجد أسداً، فهل يذكيه؟ هذا إذا ما كان الأسد سيبقى إلى تذكيته! لكن بعض العلماء يرى أنه يذكى، والأقوى أنه لا تجب الذكاة؛ لأنه أصلاً ليس من جنس ما يذكى. الذكاة نوعان: منه ما أمر الله بذكاته، ومنه ما لم يأمر الله بذكاته، وهو حيوان البحر، وأيضاً ما لا نفس له سائلة؛ كالجراد، والدود، فهذا يؤكل بدون ذكاة، أما بالنسبة للذي يكون من غير حيوان البحر، ومما له نفس سائلة مما أحل الله أكله ففيه الذكاة.

أقسام الذكاة

أقسام الذكاة وتنقسم الذكاة إلى قسمين: الأول: الذكاة الأصلية. الثاني: الذكاة المنزلة منزلة الأصل، فهي بدل عنه. والذكاة الأصلية: تنقسم إلى قسمين أيضاً: الذبح والنحر، وما جمع بينهما: فهناك حيوانات تذبح؛ كالغنم، وتيس الجبل ونحو ذلك، إذا كان مستأنساً. وهناك حيوانات تنحر، كالإبل، فلا يوجد أحد يذبح الإبل وإنما ينحرها، ولذلك يقال: نحرت البعير، ولا يقال: ذبحت البعير. وما يجمع الأمرين: كالبقر، ففيه موضع للذبح، وموضع للنحر، هذا بالنسبة لما يحل أكله من الحيوان الذي يذكى الذكاة الأصلية. والذكاة البدلية: هي ذكاة الصيد، وقد نزلت منزلة هذه الذكاة الأصلية حتى نفقه عموم حكم الشريعة في الذكاة، فالحيوان الذي يكون برياً؛ إما أن يكون من جنس ما يذكى بالأصل، وهو الحيوان المستأنس، وإما أن يكون له ذكاة بدلية، وهو الصيد، وتعكس، فتقول: إذا صار الصيد مستأنساً عومل معاملة المستأنس، فلو أمسك بقر وحش، فإنه ينحره أو يذبحه، ولو أن المستأنس أصبح متوحشاً عومل معاملة الصيد. ومعاملة الصيد على إحدى النوعين من الذكاة، فكما أن المستأنس له طريقتان، فالصيد له طريقتان: الأولى: أن تكون تذكيته بالآلة، مثل: أن يرسل السهم، أو يثور السلاح كالبندقية، فتنهر الدم في أي موضع، فيحل أكله إذا وجده ميتاً، أما إذا وجده حياً فإنه يجب أن يعامله معاملة المستأنس، إذن هي بدلية، وليست أصلية. الثانية: أن تكون بالحيوان، ثم إذا كانت بالحيوان؛ فإما أن تكون بالعاديات، كالكلب، والأسد، والنمر، ونحوها من الحيوانات العادية التي تعلم الصيد، وإما أن تكون بالطيور كالباز، والصقر، والنسر، والباشق، والشواهين مما يعلم من الطيور العادية. هذا بالنسبة لمجمل نظرة الذكاة، فإما أن تكون من جنس ما يذكى، وإما أن تكون من جنس ما لا يذكى. فمما لا يذكى، حيوان البحر، وما لا نفس له سائلة. أما الذي يذكى وهو البري، فإنه غير ما ذكر، فإن الذكاة فيه إما أن تكون أصلية، وإما أن تكون بدلية قائمة مقام الأصل. هذا كله يسمى من حيث الأصل: الذكاة الاختيارية، وهناك نوع من الذكاة يسمى: الذكاة الاضطرارية: وهي مثلما ذكرنا: أن يفر المستأنس، ويعجز الإنسان عن إمساكه، فيرميه في أي موضع، فيعامله معاملة الصيد، مع أنه في الأصل يذكى الذكاة الشرعية.

وجوب الذكاة في الحيوان المقدور عليه

وجوب الذكاة في الحيوان المقدور عليه قال رحمه الله: [لا يباح شيء من الحيوان المقدور عليه بغير ذكاة]: (لا يباح، ولا يحل): من الصيغ الصريحة في التحريم؛ وذلك لأن الله تعالى قال: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3] فدل على لزوم الذكاة، وهذا في جنس ما تجب ذكاته. قال رحمه الله: [إلا الجراد، والسمك، وكل ما لا يعيش إلا في الماء]: إلا الجراد: هذا ما لا نفس له سائلة؛ ولذلك كان الصحابة يضربونه بالرماح، ويقتلونه من غير ذكاة، ثم بعد ذلك يشوى، أو يقلى، ويؤكل. والسمك والحوت: هذا لا يذكى؛ لأنه من حيوان البحر، وحيوان البحر يؤكل بدون ذكاة إلا على مذهب المدلسين، فإنهم يكتبون على بعض الكراتين: مذبوح بالطريقة الإسلامية، وهو سمك، وهذا-نسأل الله السلامة والعافية- من خداع المسلمين، والحرص على ترويج البضاعة ولو بأي شيء، ولو بالكذب في أمر الدين-نسأل الله السلامة والعافية-.

شروط الذكاة

شروط الذكاة

الشرط الأول: أهلية المذكي

الشرط الأول: أهلية المذكي قال رحمه الله: [ويشترط للذكاة أربعة شروط: الأول: أهلية المذكي]: لا تصح الذكاة إلا إذا كان المذكي أهلاً، ويكون أهلاً [بأن يكون عاقلاً، مسلماً، أو كتابياً]: قوله: (بأن يكون عاقلاً فالمجنون لا تصح ذكاته، وكذلك السكران أما المجنون: فلأنه لا يقصد الذكاة، وحكي الإجماع، لكن عند الحنفية أنه إذا كان المجنون يضبط، قالوا: تصح صلاته، أي: إذا جاء وذبح أو نحر، وضبط الذبح والنحر، تصح ذكاته، وهذا ضعيف؛ لأنه لا يوجد القصد، الذي ذكرناه في الإراقة على وجه التعبد. أما بالنسبة للسكران؛ فإن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]، فسيقول السكران: باسم الله، وهو لا يعلم ما يقول، وهذا يدل على أنه لا تصح ذكاة السكران؛ لأنه لا يعلم ما يقول، والمجنون في حكمه أيضاً، من باب أولى وأحرى، وهكذا من تعاطى المخدرات وزال شعوره، فإنه لا تصح تذكيته. قوله: [مسلماً، أو كتابياً]: سواء كان مسلماً، أو كان كتابياً من اليهود والنصارى، يقول تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة:5]، والشرط: أن يكون ذبحه ونحره وقيامه بالتذكية على المعروف في دينه، فطعام الذين أوتوا الكتاب حل لنا، وقد خص الله عز وجل من بين الكفار أهل الكتاب؛ لأن غيرهم لا يتقيد بشريعة، وهم متقيدون بشريعة، وهذا الوصف يقتضي التخصيص. وهناك من يقول: لما قال: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ): يعني ما يأكلونه من ذبائحهم، بأي طريقة ذبحوه، فكل شيء جاءنا من عندهم يؤكل، ولو كان بالآلات، يا سبحان الله! لو أن مسلماً وضع آلة، وصرعت البهيمة ودوختها، أو جاء بالآلة، وجعلها هي التي تفري الأوداج، وهي التي تقطع الرءوس، فإننا نقول: حرام، ولا يجوز، وإذا جاء كتابي -يهودي، أو نصراني- نقول: إنه يجوز؛ لأن الله يقول: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) لا يمكن هذا، (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) ما حل طعام الذين أوتوا الكتاب إلا لطيبه؛ وطيبه لأنه من شرع سماوي، ولذلك أكل النبي صلى الله عليه وسلم من شاة اليهودية. ومن أقوى الأدلة على ضعف القول بجواز أكل كل ما أكلوه: حديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إلا السن، والظفر، وأنا أنبئكم؛ أما السن فعظم-وتعرفون أن العظم زاد إخواننا من الجن، فإذا ذبح به فالدم المسفوح نجس- وأما الظفر فُمدى الحبشة) والحبشة كانوا من أهل الكتاب، وكانت الكنائس موجودة عندهم، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان، فكانوا يذكون بأظفارهم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه التذكية، أحلال لأهل الكتاب حرام علينا؟! ويأتي المسلم يذكي به، إذن معناه: أنهم خرجوا عن دينهم، قال: (مدى الحبشة)، ما قال: (مدى النصارى)، ولذلك خص به: أهل الموضع. فالذي نجده الآن في الذبائح المستوردة، نجد شيئاً خارجاً عن السنن، لا ينضبط بضوابط الشريعة الإسلامية، ولا بضوابط أهل الكتاب، فالشركة تبحث عن كثرة الإنتاج، وتبحث عن كثرة ما تصدره من الذبائح، فتقتل بأي طريقة، وتزهق بأي طريقة، وبأي وسيلة، ثم بعد ذلك لا يُسأل، ونقول: إن هذا حلال، لا، ينبغي التقيد بالوارد، وهذا الوارد هو الذي وردت النصوص باعتباره، قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:5]. ومن طرق أهل الكتاب الموجودة الآن ما يأتي: أولاً: لا نجد تقيداً من شركات الذبائح بذبيحة أهل الكتاب، بل تعمل هذه الشركات بالطرق التي يراد منها تكثير الإنتاج، بغض النظر عن كونه موافقاً أو مخالفاً، ولذلك لا يتقيد أحد من أهل الكتاب عدا اليهود في ذبائحهم، ومن هنا أكل النبي صلى الله عليه وسلم شاة اليهودية، وكان بعض مشايخنا مثل الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله عندما سافر إلى الغرب ما أكل إلا من ذبائح اليهود؛ لأنهم يتقيدون بشريعتهم، والذي يتقيد بشريعة أهل الكتاب تقيد بملة، ودين، وحينئذ يجوز أكل ذبيحتهم. لكن الذي يجري في اللحم المستورد أنه يتم قتله -بالنسبة لما يتاجر به- على مرحلتين: المرحلة الأولى: التمهيدية؛ وهي السيطرة على البهيمة. والمرحلة الثانية: مرحلة الإزهاق. والمحظور موجود في المرحلتين، فمرحلة السيطرة على البهيمة هذه أصلاً ليست من شرع أهل الكتاب، إنما هي من بقايا اليونانية, فإنهم كانوا لا يقتلون إلا بضرب البهيمة بالعصا على رأسها حتى تدوخ، ثم بعد ذلك يذكونها، وهذا الضرب قد يقتل البهيمة قبل أن تزهق روحها، ويقولون: إن هذا أرحم بالبهيمة. والمصدّر من الطعام: منه ما يكون من الدجاج، ومنه ما يكون من الغنم، ومنه ما يكون من البقر، فالنسبة للحيوانات الكبيرة، يُعتنى بصرعها وتدويخها، ومسألة التدويخ تكون بطريقة الصعق الكهربائي بالمسدس في النخاع، أو الدائرة الكروانية، وهناك طريقة للدجاج خاصة؛ لأنه لا يحتاج إلى سيطرة عليه مثل البقر والغنم، وهي التي تسمى بالطريقة الإنجليزية، وهي مشهورة: يخزعون -وحتى في البهائم البقر والغنم يفعلون هذا- ما بين العظم الرابع والخامس في عظام الصدر بالمنفاخ، ثم يضخون الهواء، عندها تتخثر البهيمة، ويضعف النفس. وهذا التدويخ من سلبياته: معارضته للشريعة، فإن الشريعة قصدت الإزهاق وإنهار الدم، قال صلى الله عليه وسلم: (ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه). قالوا: إن البهيمة تستطاب بخروج الدم منها؛ لأنه بمجرد حدوث أي نزيف يسترسل الدم، وهذا أبلغ في طهارة المذبوح كما هو معروف طبياً، وأبلغ في طهارة اللحم، واستطابته، والعملية التي يفعلونها - وهذا إذا سلمت البهيمة- الدجاج أول شيء: يقلب، ثم يحضر بالماء ويعلق من رجليه، ولا يصل إلى المكان الذي فيه الآلات إلا وشيء منه يموت أثناء حمله، وشيء منه يموت أثناء تعليقه، ثم لا يبالى أهو حي أو ميت، ثم بعد ذلك يرش بالماء لتنظيفه بطريقة معروفة، وهذه الطريقة أبدى بعض الذين حضروا ورأوا أنه قد يحصل خنق للبهيمة بسبب الماء المبرد، ثم بعد ذلك يحضر بالتدويخ، كل هذه المراحل تأتي بعد مرحلة الزهوق. وبالنسبة للبقر والغنم فإنهم يدخلونه بين نوعين: الدوار، والمثبت، وهي معروفة في الغرب، وجميع هذه الأحوال للبقر، والغنم، والدجاج، والآلة هي التي تزهق، فهذا هو التحضير كله، وهناك التدويخ الذي يأتي على نفس البهيمة، وقد تموت بفعل الخزع بالنخاع، ومعروف أن خزع النخاع قد يقضي على البهيمة، ولذلك من العلماء من قال: إذا ذبح الذابح، وأدخل السكين، وقطع النخاع قبل قوة المور في فري الأوداج، والحلقوم والمريء، أصبحت شبهة؛ لاحتمال أن البهيمة ماتت بخزع النخاع ولم تمت بفري الأوداج والحلقوم والمريء، وهذا سيأتي في فصل الرأس، ومن هنا قال بعض العلماء بعدم حلها، وإذا قطع النخاع وصبرت قبل الزهوق تذبح من الخلف، كل هذا من أجل أن يكون الفوات للنفس عن طريق النزف وإنهار الدم، وهذا كله مصادم لما في الشرع فيترك. ثم تأتي المصيبة العظمى وهي: عمل الآلة، أي: أن الذي يقتل هو الآلة؛ فليس هناك آدمي؛ لا كتابي ولا غيره، بل الآلة هي التي تذكي، إلا إذا كانت الآلة من أهل الكتاب، لا أدري!! فما العجب من أن نسأل: هل ذكوا أو لم يذكوا، أهل لأن عائشة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن أناساً يأتوننا بلحم، حديثو عهد بجاهلية، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أو لا) فهذا الحديث خارج عن مسألتنا؛ فمسألتنا: خرجت فيها الذكاة عن الصورة الشرعية المعتبرة عند الكتابيين وعند المسلمين، أما حديث عائشة: (إن أناساً حديثو عهد بجاهلية) فمعناه: أنهم أسلموا، لكن لا ندري عندما ذبحوا؛ هل ذبحوا على طريقة الإسلام، أو على الطريقة التي ألفوها. والأصل: أنهم لما أسلموا يعاملون معاملة المسلمين لا معاملة أهل الجاهلية، ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم لها: (سم الله) يعني هذا لا يسأل عنه؛ لأن الأصل في المسلم إذا ذبح أن تؤكل ذبيحته، وقال صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وذبح ذبيحتنا، فذلك المسلم). فهؤلاء الأصل فيهم: أنهم إذا أسلموا أن يعملوا بوفق شريعة الإسلام، ولذلك ألغى النبي صلى الله عليه وسلم الشك، وهذا ليس له علاقة لا من قريب ولا من بعيد بمسألتنا، فالذي معنا: إعمال الذكاة، وإنفاذ الذكاة على الأصل الذي لا يمت لا إلى الشريعة الإسلامية، ولا إلى ذبائح أهل الكتاب بصلة، فوجب العمل بالأصل الشرعي: أننا نقول: هذا ليس من طعام أهل الكتاب؛ لأنه لا يحل لهم في دينهم، وإنما هو خارج عن الأصل، فلا يحل أكله حتى يكون ذبحه من المحافظين؛ فإذا كان نصراني يذبح بذبيحة النصرانية فأقبل، ولو جئت نصرانياً، وذبح ذبيحته على طريقته أقبل وآكل، كما أكل النبي صلى الله عليه وسلم من شاة اليهودية، أما أن تذبح الآلات، وتسفك، وتنهر الدم الآلات، فهذا ليس بداخل تحت قوله:: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) والجمهور على أن العبرة في طعام أهل الكتاب: أن يكون وفق شريعتهم، وليس على كل ما فعلوه أنه يقبل منهم، خاصة وحديث مدى الحبشة يدل على أنهم إذا استطابوا شيئاً أو أكلوا شيئاً، لا يأخذ حكم الأصل من جواز أكله. وقوله: [ولو مراهقاً]: ولو: إشارة إلى الخلاف المذهبي. (مراهقاً) مثلاً: صبي قبل البلوغ؛ في الثانية عشرة أو في الثالثة عشرة، ولم يحتلم، ولكنه يعقل، وسمى الله وذبح الذبيحة، قال: تحل ذبيحته. قوله: [أو امرأة]: وكذلك المرأة، كما ثبت في صحيح البخاري في قصة المرأة عندما عدا الذئب على شاتها، فقطعت حجراً ثم ذبحتها. قوله: [أو أقلف]: وهو غير المختتن، فلا تأثير له في الذكاة، وتصح ذكاته. قوله: [أو أعمى]: جمهور العلماء على صحة تذكية الأعمى إذا ضبط ذكاته، وقال الإمام النووي

الشرط الثاني: الآلة الشرعية

الشرط الثاني: الآلة الشرعية قال رحمه الله: [الثاني: الآلة]: الشرط الثاني: الآلة. [فتباح الذكاة بكل محددٍ]. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنهر الدم)، وقال: (وليحد أحدكم شفرته)، فدل على أن المحدد من جنس ما يذكى به، مثل: السكاكين، والزجاج، فلو أنه لم يجد سكينة فله أن يذبح بالزجاج، فالزجاج له مور ونفاذ، فإذا أمسك البهيمة وذبحها بالزجاجة، أو ذبحها بنحاس له مور ونفاذ كل ذلك مؤثر ما دام أنه ينهر الدم، ولذلك لما سأل أبو ثعلبة رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن الصيد بقوسه، قال: (ما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل)، وفي بعض الروايات: (إن أصاب فخزق) وهذا يدل على اعتبار المور، والنفاذ وقد تقدم معنا في القتل العمد بيان مسألة المحدد. قوله: [ولو مغصوباً]: إشارة إلى خلاف مذهبي، قال بعض العلماء، وهو موجود في مذهب الحنابلة: أنه لو غصب سكيناً وذكى بها، لم تصح التذكية، والصحيح مذهب الجمهور: أنه لو أخذ سكيناً فذكى بها، صحت التذكية. قوله: [من حديدٍ، وحجرٍ، وقصبٍ وغيره]: (من): بيانية، من حديد: مثلما ذكرنا: محددة، كالسكاكين. [وحجرٍ]: لحديث المرأة؛ لأنها كسرت حجراً. [وقصبٍ وغيره]: القصب معروف، فإذا كان له مور ونفاذ، فإنه يذبح به وينحر. [إلا السن، والظفر]: لأن النبي صلى الله عليه وسلم استثناهما كما في الحديث الصحيح: (أما السن فعظم) والعظم زاد إخواننا من الجن، فلو أخذ ناباً ونحو ذلك من بهيمة، وأراد أن يطعن به خزقاً كما ذكر بعض العلماء وكان بعض العرب في القديم يأخذ البهيمة بسنه، كما لو صاد عصفوراً. فهذا من المخصصات لحديث: (ما أنهر الدم) لأن السن ينهر الدم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبره ذكاة. (والظفر) كذلك: وهو معروف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمدى الحبشة).

الشرط الثالث: قطع الحلقوم والمريء

الشرط الثالث: قطع الحلقوم والمريء قال رحمه الله: [الثالث: قطع الحلقوم والمريء]: الشرط الثالث: قطع الحلقوم والمريء. الحلقوم: مجرى النفس، والمريء: مجرى الطعام. وهناك أربعة أشياء ينتبه لها: الحلقوم: مجرى النفس. المريء: مجرى الطعام. ثم الجانب الأيمن والأيسر من رقبة البهيمة فيها الودجان -العرقان- وبقطعهما يكون زهوق الروح. وقد أجمع العلماء على أنه إذا قطع الحلقوم، والمريء، والودجين، أنها تحل البهيمة، وهناك من العلماء من اشترط ثلاثة من أربعة: الحلقوم، والمريء، وأحد الودجين، ومنهم من اشترط ثلاثة من أربعة دون تعيين، أن يأخذ ثلاثة من هذه الأربعة دون أن يحدد، ومنهم من اشترط الحلقوم والمريء، كما درج عليه المصنف، وبهما يتحقق الزهوق والإنهار للدم، فهذا هو القدر الذي اقتصر عليه. [فإن أبان الرأس بالذبح لم يحرم المذبوح] الذبح يكون تحت الجوزة، أو الغلصمة كما تسمى، فإذا كان من تحتها أو عليها نفسها وفصلها، فلا إشكال، لكن لو أنه ارتفع -من فوقها- فقطع من هذا الموضع؛ فالجمهور على صحة ذلك، والمالكية عندهم قول بالمنع، والصحيح مذهب الجمهور لعموم الخبر. قال رحمه الله: [وذكاة ما عُجز عنه من الصيد، والنعم المتوحشة، والواقعة في بئر ونحوها: بجرحه في أي موضع كان من بدنه] بعد أن بين رحمه الله ذكاة المقدور عليه، شرع في حكم ذكاة الصيد، وذكاة المعجوز عنه، فقال رحمه الله: [وذكاة ما عجز عنه من الصيد]: هذا النوع الأول. [والنعم المتوحشة]: سيأتي في الصيد بيان أحكامه. [وما يشرد] فمثلاً: لو أن شاة شردت، وهو في بر، وغلب على ظنه أنه لا يستطيع أن يمسكها، وأنها ستنفق في مقطعة، أو نحو ذلك، فإنه يأخذ السلاح ويرميها في أي موضع. رأى الشاة فرت منه إلى الشارع، وهو جازم بأنها ستضربها السيارة وتموت، وإذا ضربتها السيارة فإنها حينئذ تموت بالصدم، وهذا أشبه بالارتطام وبالتردية، وحينئذ أراد أن يدرك ذكاتها، فقتلها قبل أن تصدمها السيارة. أو جاءت على بئر، أو على هاوية، أو على شفير جبل، وهو يعلم أنها ستموت، فحينئذ لو ثور السلاح وقتلها، حلت، وتكون ذكاتها. والدليل على ذلك: حديث أبي رافع رضي الله عنه وأرضاه: أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فند بعير وشرد، فأهوى رجل بسهمه فعقره وقتله، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن لهذه الحيوانات أوابد كأوابد الوحش، فما ند منها فاصنعوا به هكذا) فدل على أن المستأنس إذا توحش يعامل معاملة الصيد، وهذا ما عناه المصنف رحمه الله، ولم يخالف في هذه المسألة إلا الإمام مالك، فالجمهور على أنه يقتل في أي موضع، ويرمى في أي موضع، وأنه يحل بهذه التذكية، واستدلوا بحديث أبي رافع، ولذلك كان الإمام أحمد يقول: لعل مالكاً لم يبلغه حديث أبي رافع، ما قال: أخطأ مالك، أو: هذه من أوهام مالك ومن شذوذه، لا. بل قال: لعل مالكاً هكذا وإلا فلا، هكذا يطيب العالم، ويطيب قوله، ويُطيّب بما يكون منه من حسن المعذرة لأهل العلم رحمة الله عليهم، وقد ضرب أئمة الإسلام المثل السامي في حسن الأدب رحمهم الله وفي رعاية الحرمة، وفي حفظ الحق لذي الحق، مع أن الإمام مالكاً يقول: إذا وجدتم قولي يخالف قول الرسول فاضربوا بقولي عرض الحائط، والظن به: أنه لو بلغته السنة لعمل بها، فيقول: لعل مالكاً لم يبلغه حديث أبي رافع. [والواقعة في بئر، ونحوها]: لو وقعت شاة في بئر، فإنها ستموت بأحد أمرين: إما أن ترتطم بأرض البئر إذا لم يكن فيه ماء، وحينئذ تكون متردية، وإما أن تموت بخنق الماء إذا كان هناك ماء في البئر، فحينئذ يعاجلها بضربها في أي موضع، ويزهق روحها قبل وصولها إلى الماء. يقول رحمه الله: [بجرحه في أي موضع كان من بدنه، إلا أن يكون رأسه في الماء ونحوه، فلا يباح]. قوله: [إلا -استثناء- أن يكون رأسه في الماء]: هذه مسألة اجتماع الحاضر والمبيح، فإنه إذا رمى الشاة، أو الطير، أو البط، أو الإوز وهو على النهر، وانغمس، وشُك: هل مات بالخنق، أو مات بالذكاة؟ فخذها قاعدة: الأصل في الصيد-يعني في الشيء الذي لا تمسكه، ولا تذكيه الذكاة الشرعية- أنه ميتة حتى تحله الذكاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عدي: (فإن أكل-يعني الكلب من الصيد- فلا تأكل، فإني أخاف -لم يجزم- أن يكون إنما أمسك لنفسه) لم يجزم بالتحريم، والأصل: حل الأشياء، لكنه غلّب التحريم، ومن هنا استنتج العلماء قاعدة: الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل. فالصيد بضرب البهيمة في أي موضع رخصة، وتوسعة من الله، لكن لما شككنا أنها أزهقت النفس، أو أزهقها الماء بالخنق، قدمنا الحاضر على المبيح، ومُنع من أكل الطير، وإذا رأى الشاة ساقطة من علو ورماها، وغلب على ظنه أن المرمى يزهق نفسها قبل الوصول إلى الأرض، أو تكون مستنفذة الروح، حل، لكن لو رماها -مثلاً- في رجلها، وارتطمت، وقوي وغلب على الظن أن موتها كان بقوة الارتطام، فحينئذ لا تحل له، وهذا معنى قوله: إلا أن يرى رأسه في الماء، وهذا فيه أثر عنه عليه الصلاة والسلام.

الشرط الرابع: التسمية

الشرط الرابع: التسمية قال رحمه الله: [الرابع: أن يقول عند الذبح: باسم الله]: وهذا لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:118]، ولقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:121]، وهذا يدل على لزوم التسمية، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل) وهذا شرط يدل على أنه إذا أرسله ولم يذكر اسم الله عليه لم يحل أكله، وأجمع العلماء على أن الأصل بالتذكية: أن تكون بذكر اسم الله عز وجل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (باسم الله) عند تذكيته صلوات الله وسلامه عليه كما في حديث أنس وغيره رضي الله عن الجميع. [ولا يجزيه غيرها]: لا يجزيه غير باسم الله، فلو ذكر غير اسم الله-والعياذ بالله- ولو كان نبياً، أو ملكاً، فإنها تعتبر ميتة لا يحل أكلها، فلو قال: باسم النبي، أو باسم الولي فلان، أو الشيخ فلان؛ لأن الذبح لغير الله شرك (كفر) والعياذ بالله، فالذبح لا يكون إلا لله، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، وقال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، وهذا يدل على أنه لا يجوز ذكر غير اسم الله عز وجل مع اسم الله عز وجل عند الذبح. [فإن تركها سهواً أبيحت، لا عمداً]: هذه مسألة خلافية، فمن العلماء من يرى أنه تحل الذبيحة إذا تركت البسملة نسياناً، ومنهم من يبقى على الأصل: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121] وهذا أقوى، أن العبرة بذكر اسم الله، وأنه تحل الذبيحة به، وأنه لازم في الذكر والنسيان.

مكروهات الذبح

مكروهات الذبح قال رحمه الله: [ويكره أن يذبح بآلة كالة]: شرع رحمه الله في بيان مكروهات الذبح، فيكره للمسلم أن يذبح بآلة كالة كالسكين غير المحددة، قال صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (هلمّ المدية) فجاءت بها، فقال: (اشحذيها بحجر)، فدل على أن السنة: أن تشحذ، قال صلى الله عليه وسلم: (وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)، هذه هي السنة، قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)، فإذا ذبح بآلة كالة غير مسننة وغير محددة عذب الحيوان، ولذلك أُثر في الأثر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمتها مرتين) وفيه ضعف، لكن معناه صحيح، وأثر عن بعض الصحابة: (لا تمتها مرتين). [وأن يحدها والحيوان يبصره]: وهذا فيه أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه؛ فإنه ليس من الإحسان، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان عند الذبح، فيكره أن يأتي بالبهيمة ويحد السكين أمامها؛ لأن هذا مما يؤذيها. فهذه هي الحقوق الواقعة في موقعها والواقعة في موضعها، أما أن ترى الذين لا يعقلون ولا يفقهون يريدون أن يعلموا المسلمين الحقوق! ألا شاهت الوجوه!! هذه حقوق الشريعة من قبل ألف وأربعمائة سنة، وهي تقر المبادئ السامية العادلة، أما هؤلاء فلم يعرفوا حقوق الحيوانات إلا الآن، لكنا عرفناها وعرفها أبناء المسلمين، وأطفال المسلمين وهم يمصون أصابعهم كيف يعاملون حتى الحيوان، وعلموا الحرمة حتى في الشجر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرم في مكة شجرها، وكان المسلم يعي ما الذي له وعليه، حتى الجماد، فهذه أمة سامية، ولذلك ينبغي للمسلم أن يعتز بدينه، وأن يعلم أنه ليس بحاجة لأن يعلمه أحد، وأن ما علمه الله عز وجل يكفيه عن غيره: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]: إنه فضل الله عز وجل عليه، وعلى أمته صلوات الله وسلامه عليه وعلى خلقه أجمعين، فالحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. [وأن يوجهه إلى غير القبلة] لأن النبي صلى الله عليه وسلم وجه إلى القبلة، وهذه هي السنة، وقد قال في الحديث الحسن: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً). قال رحمه الله: [وأن يكسر عنقه، أو يسلخه قبل أن يبرد]. لأن في هذا إيلاماً لها؛ لأنه إذا كانت ترفس فلا زالت فيها حياة، نعم، هي كالعدم، لكن من باب الرفق أنه ينتظر حتى تبرد، ومن الأخطاء: أن ترى بعض من يذبح يدخل السكين، أو يحاول أن يكسر الرقبة قبل أن تبرد. فتقول له: لا، افر الأوداج واقطع الحلقوم والمريء، واترك البهيمة حتى تبرد، هذا هو الرفق، وهذا هو الإحسان، وهذا الخطأ يقع من بعض الجزارين؛ لأنه يريد أن يذبح أكبر عدد فيفعل مثل هذا.

باب الصيد

شرح زاد المستقنع - باب الصيد سخر الله سبحانه وتعالى الأرض لبني آدم؛ فمنها طعامهم وشرابهم ولباسهم ومساكنهم، ومن جملة ما سخر الله سبحانه في هذه الأرض أن سخر الحيوان لبني آدم، فبه يصطادون ومنه يأكلون، ولحل هذا الصيد والأكل جاءت الشريعة الإسلامية بعدة شروط وأحكام، تطالعها -أخي القارئ الكريم- في هذه المادة.

الصيد شروط حله

الصيد شروط حله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الصيد. لا يحل الصيد المقتول في الاصطياد إلا بأربعة شروط:] باب الصيد مفرع على باب الذكاة، والصيد -كما ذكرنا في الحيوان المتوحش- وأحكامه بينتها أدلة الكتاب والسنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث عدي بن حاتم الطائي، وكان عدي رضي الله عنه يربي العاديات، حتى قالوا: إنه لما مات عكفت على قبره السباع من حبها له رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه كان مولع بالصيد بالسباع العادية، وكذلك أيضاً: حديث أبي ثعلبة الخشني في الصيد بالمعراض والصيد بالقوس. والصيد يكون واجباً إذا كان لإنقاذ نفس، ويكون مكروهاً إذا فوت الإنسان به الأفضل والأكمل؛ لأن الصيد يشغل الإنسان ويلهيه، ويكون مندوباً إذا كان الإنسان يستغني به، أو يريد أن يطعم به ضيفاً أو نحو ذلك، ويكون مباحاً في غير ذلك. ويكون محرماً إذا كان لإزهاق الأرواح، كمن يقتل البهيمة دون أن يأكلها، ويترك الطير بعد قتله، ولا يأكله، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عنه (أن يتخذ الحيوان غرضاً) يعني: هدفاً، فالصيد على هذا النوع محرم لا يجوز.

الشرط الأول: أهلية الصائد

الشرط الأول: أهلية الصائد قال رحمه الله: [أحدها: أن يكون الصائد من أهل الذكاة]. وقد تقدم هذا في شروط أهلية المذكي.

الشرط الثاني: الآلة الشرعية

الشرط الثاني: الآلة الشرعية قال رحمه الله: [الثاني: الآلة، وهي نوعان]: الصيد إما أن يكون بالسهم، وبالرمح كما في القديم، أو بالبنادق وبالرشاش كما في عصرنا الحاضر. وإما أن يكون بالحيوان. يعني: الصيد إما أن يكون بآلة، وإما أن يكون بحيوان. قال رحمه الله: [محدد يشترط فيه ما يشترط في آلة الذبح وأن يجرح]. يشترط في هذه الآلة أن تكون جارحة، فيجوز أن يصيد بالبنادق الموجودة الآن؛ لأن البندق يخزق البهيمة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن أصاب فخزق فكل). فإذا خزق البهيمة فقد أنهر الدم، فيذكر اسم الله عند ثوران السلاح، ويأكل ما صاد له، ما دام أنه أنهر الدم. لكن لو كان لا ينهر الدم مثل النبال الموجودة الآن، بأن يضع الحصى ويرمي الطائر، فهذا إذا وجد الطائر ميتاً فهو موقوذ لا يحل، فقد حرم الله الموقوذة، وإذا كانت الآلة التي يستخدمها أو السلاح الذي يقتل به البهيمة له مور ويشق ويخزق ونحو ذلك حل أكل البهيمة، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل) ومفهومه: أن الذي لا ينهر الدم لا يأكل منه، كما لو كانت عنده خشبة يضرب بها الطير فتموت الحمامة أو يموت العصفور، نقول: هذا لا يجوز؛ لأنها ميتة بالارتطام، وليس فيها خزق، لكنه لو رمى سهماً أو نحو ذلك فخزق الروح ونفذ إلى البدن فإنه يحل أكله. [فإن قتله بثقله لم يبح]. كما ذكرنا، ومنه صيد المعراض، فقد كانوا في القديم يضعون المعراض ويضعون الحجر المقلاع ويرمون به، فيجدون البهيمة ميتة، فإذا وقعت الحجرة على رأس البهيمة أو في مقتل منها فماتت، لم يحل أكلها. [وما ليس بمحدد كالبندق والعصا والشبكة والفخ لا يحل ما قتل به]. لأنه ليس بمحدد، البندق قالوا: كان الطين يجفف ويرمون به، فيدوخ البهيمة وقد يقتلها ويقضي عليها، فله قوة قريبة من قوة الحجر، فهو يأخذ حكم الوقيذ. والشبكة فيها خنق، فقد كانوا يضعون فيها أكلاً، وبعض الأحيان يضعونها في مجرى الصيد، ثم يثيرون الصيد من ناحية ويأتون إلى الشبكة -وهي غير الشبكة الموجودة الآن التي تمسك البهيمة حية- وكلما تقدم الحيوان جذب حتى ينخنق ويبرد، وهذا نوع من الخنق، ولذلك لا يحل أكله، لأن الإزهاق به ليس بإنهار الدم، وقد اشترط النبي صلى الله عليه وسلم لحل الذكاة إنهار الدم. [والنوع الثاني: الجارحة، فيباح ما قتلته إذا كانت معلمة]. الجوارح نوعان: طيور، وسباع عادية، فالسباع العادية الصحيح أنه يجوز الصيد بأي منها، فلو علمت أسداً فصد ما شئت، وهذا له طريقة، وقد بين كتاب: حياة الحيوان، ونهاية الأرب، وصبح الأعشى للقلقشندي أنواع الحيوانات التي يصاد بها، وطريقة تعليم الصيد لهذه الحيوانات، والأصل في الشريعة أن هذا السبع وهذا الطائر يعلم بطريقة مخصوصة، ويشترط فيه أن يدعوه فيجيب، وأن يشليه فينشلي، وألا ينطلق إلا بأمره. فمثلاً: السباع العادية نوعان مما يعلم: مما له كلب: إما أن يكون من السباع العادية كالأسد والنمر والفهد والكلب، فهذه كلها تعلم الصيد، فإذا علم الصيد جاز أكل صيده وميتته، وكذلك أيضاً الطيور الجارحة مثل الباز والنسر والباشق والشواهين والعقاب ونحو ذلك إذا علم جاز أكل صيده. أما كيفية تعليمه: فأولاً: يعلمه استجابة الدعاء، كأن يكون بينه وبينه صوت معين، فإذا ناداه بهذا الصوت عرفه فأتاه. ويكرر هذا ثلاث مرات، أي: يدعوه ثلاث مرات فيستجيب، ويكون هذا الصوت متعارفاً عليه، فلو علمه مرتين، ودعاه فاستجاب مرتين، فرأى الفريسة في الثالثة وانطلق بأمره وجاءه بها لم يحل أكلها، لأنه لا يصبح معلمه إلا بعد الثالثة. الشرط الثاني: أن يشليه فينشلي، والإشلاء: التحريش أتينا أبا عمرو فأشلى علينا كلابه فكدنا بين بيتيه نؤكل هذا رجل بخيل، وجاءوا يريدون أن يطعمهم، فوجدوا طعاماً لكن من نوع خاص، فالإشلاء هو التحريش، أن يحرش الكلب أو الأسد الذي يعلمه أو النمر ثلاث مرات، فبعض الأحيان يكون عنده لحم ويرميه له، فيدعوه أن يذهب ويأتي باللحم، أو يرمي له دجاجة فتفر، فيحرشه بها. ويكون ساكناً ينتظر أمره، فإذا استجاب ثلاث مرات ورأى صيداً في الرابعة فحرشه عليه فجاء بالصيد ميتاً حل أكله. إذاً: هذه الأمور لابد أن تكرر ثلاث مرات: دعوى مع الإجابة، والإشلاء؛ فينشلي بأمر سيده، ويكون انبعاثه بأمر السيد لا بنفسه. قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4]، وهذا يدل على مشروعية تعليم الجوارح، ويشمل جارحة الطير، قال أبو ثعلبة: (يا رسول الله! إني أصيد بهذه البزاة -الباز من أفضل أنواع الطيور التي يصاد بها- وأصيد بكلبي المعلم، وأصيد بكلبي غير المعلم، فما يحل لي؟ -فبين له الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يحل له إلا أكل ما صاد المعلم- إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل) فدل على اشتراط التعليم، كما هو ظاهر القرآن.

الشرط الثالث: إرسال الآلة قاصدا

الشرط الثالث: إرسال الآلة قاصداً قال رحمه الله: [الثالث: إرسال الآلة قاصداً]. يعني: لو أن البندقية ثارت من نفسها، فضربت فريسة، فهذا لا يؤثر ولا يعتد به، وإنما تكون ميتة. ثم الخلاف: هل يشترط أن يعين الصيد أم لا يشترط؟ وفائدة الخلاف: لو أنه أرسلها على حمامة معينة، ثم طارت وجاءت حمامة أخرى، فإن قلنا: يشترط التعيين، فإنها تكون ميتة، وإن قلنا: لا يشترط التعيين حلت، والأقوى أنه لا يشترط التعيين، ويتخرج عليه أنه لو ذبح الشاتين بشاة واحدة، فإنه يصح، وهكذا يتفرع عليها مسألة الرصاص المنتشر؛ لأنه إذا أرسله على الصفة الشرعية بذكر اسم الله عز وجل صار مذكياً، يستوي أن يصيب ما عينه صيداً أو ما لم يعينه، ثم إنه من الصعوبة بمكان لو قلنا بالتعيين وجاء بقطيع من تيس الجبل، فصعب جداً أن يحدد واحداً، لا يمكن هذا، فأنت عندما ترى القطيع يفر ترمي مباشرة، وقد تصيب هذه أو هذه، فهل تظل تبحث عن واحدة معينة؟!! هذه مشكلة وحرج عظيم، لذلك لا يشترط التعيين، وهو الصحيح. والسلاح الموجود الآن والذي ينتشر منه عدة طلقات إذا أصابت طلقة واحدة الفريسة فإنه يحل أكلها على الصحيح، وهو مذهب الجمهور رحمهم الله. [فإن استرسل الكلب أو غيره بنفسه لم يبح إلا أن يزجره فيزيد في عدوه بطلبه، فيحل]. إذا استرسل الكلب وأنت جالس، سواء رأيت الصيد أو لم تر، فما شعرت إلا والكلب -أكرمكم الله- قد هاج على الصيد، فهذا له صورتان: الصورة الأولى: أن يشليه -يحرشه-، أي: فبعد أن رأيته مسرعاً زدت في تحريشه، فهذه فيها خلاف بين العلماء. والصورة الثانية: أن تسكت. فأما إذا سكت فإنه قد أمسك لنفسه فلا يحل الصيد؛ لأن الله يقول: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] أي: لكم، وإذا انبعث من نفسه فهو يريد الصيد لنفسه وليس لسيده، ولذلك قال: (إذا أرسلت كلبك) ومفهوم الصفة في قوله صلى الله عليه وسلم: (أرسلت) أنه لا يحل إذا لم يرسله، فالذي يترجح مذهب من قال: أنه يستوي إذا حرشه بعد انبعاثه أو لم يحرشه، فما دام أن الكلب بنفسه انبعث فإنه لا يحل أكل صيده، وهكذا لو أن الباز بنفسه انطلق دون أن يكون هو الذي أطلقه، ودون أن يكون هو الذي أرسله لم يحل الصيد.

الشرط الرابع: التسمية

الشرط الرابع: التسمية قال رحمه الله: [الرابع: التسمية عند إرسال السهم أو الجارحة]. لأنها شرط، قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4] فدل على اشتراط التسمية، ولا بد من ذكر اسم الله عند إرساله، وهكذا قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه)، وقال: (وما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه)، فأكدت السنة ما دل عليه القرآن من اشتراط التسمية. [فإن تركها عمداً أو سهواً لم يبح]. تقدم معنا في باب الذكاة أنهم قالوا: لو نسي البسملة في الذبح والنحر صح، أي: جاز أن يأكل، وهنا -في الصيد- قالوا: لم يجز، وهذا يؤكد أن باب الصيد أضيق من باب التذكية؛ لأنه خرج عن الأصل. قال رحمه الله: [ويسن أن يقول معها: الله أكبر كالذكاة]. لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

مقدمة كتاب الأيمان [1]

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الأيمان [1] إن مسألة عن الأيمان من المسائل المهمة في الشريعة، لما يتعلق بها من أحكام عقدية وفقهية، فمن الأحكام العقدية: أن يكون الحلف بالله وأسمائه وصفاته؛ لأن الحلف بغير الله كفر وشرك كما ثبت ذلك في أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم.

بيان الأحكام المتعلقة بالأيمان

بيان الأحكام المتعلقة بالأيمان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد:

ما تنعقد به اليمين

ما تنعقد به اليمين فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الأيمان]. قال رحمه الله: [واليمين التي تجب بها الكفارة إذا حنث هي اليمين بالله] لا تكون اليمين شرعية إلا بما ذكر المصنف رحمه الله: أن تكون باسم من أسماء الله أو بصفة من صفاته، على التفصيل الذي سنذكره، فالمصنف رحمه الله بين أن اليمين التي تنعقد وتعتبر يميناً شرعياً هي التي تكون باسم الله عز وجل، أو بصفة من صفاته. والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) وسمع النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- عمر وهو يحلف بأبيه، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) وقال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) قيل: أو للتنويع، وقيل: للعطف، بمعنى: قد كفر وأشرك، كفر نعمة الله، وأشرك مع الله غيره. قوله: (تجب بها الكفارة) وهي اليمين الشرعية التي تسمى: اليمين المنعقدة؛ لأن هناك يميناً منعقدة ويميناً غير منعقدة، فاليمين المنعقدة لابد من توافر الشروط الشرعية فيها. قوله: (هي اليمين بالله) أن يقول: والله، وبالله، وأقسم بالله. أما لو قال: أقسمت. ولم يقل: بالله. فهل تكون يميناً؟ قالوا: إنها حلف ويمين. ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه أنه لما أول الرؤيا (قال: يا رسول الله! أخبرني هل أصبت أو أخطأت؟ قال: أصبت وأخطأت. قال: أقسم أن تبين لي ما أصبت به وما أخطأت، قال: لا تقسم) فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تقسم) يدل على أنها قسم. وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام:109] قالوا: إنه إذا قال: أقسمت. فهو متضمن معنى قوله: أقسمت بالله. وهذا مثل حذف المعلوم، ولذلك قالوا: إنها تكون يميناً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لا تقسم) وهذا رد له لقسمه. [أو صفة من صفاته] كأن يقول: والأول، والآخر، والظاهر، والباطن، والسميع، والعليم، وعزة الله، وقدرة الله وعظمة الله، والدليل على ذلك ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح عن النار (تقول النار: قط قط وعزتك). وكذلك أيضاً في حديث أيوب عليه السلام، قال صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح-: (اغتسل أيوب فأنزل الله عليه جراداً من ذهب، فجعل يجمع منه في ثوبه، فقال الله تعالى: أولم أكن أغنيتك؟ فقال: بلى وعزتك، ولكن لا غنى لي عن بركتك) فهو أقسم بعزة الله، فدل على أنه يمين شرعي، فيكون بالله وبأسمائه وصفاته.

حكم الحلف بالقرآن أو بالمصحف

حكم الحلف بالقرآن أو بالمصحف قال رحمه الله: [أو بالقرآن أو بالمصحف]: قوله: (بالقرآن) هو أن يقصد كلام الله عز وجل؛ لأن كلام الله صفة من صفاته ليس بمخلوق، منه بدا وإليه يعود، ولذلك استدل الأئمة رحمهم الله على قول السلف: منه بدا وإليه يعود، بقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (أن القرآن يرفع في آخر الزمان)، وابتداؤه من الله عز وجل؛ لأنه هو المتكلم به، وهو صفة من صفات الله عز وجل. ومذهب أهل السنة والجماعة: أن القرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق، فإذا حلف به فقد حلف بصفة من صفات الله. قال تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ} [الأعراف:144] فهذا يدل على أن كلام الله من صفاته، فيجوز أن يحلف به، كأن يقول: والقرآن، ويكون مراده كلام الله عز وجل، ويجوز أن يحلف بالسور وبالآيات؛ لأنها من كلام الله عز وجل، فلو قال: وسورة البقرة. ومراده كلام الله عز وجل في سورة البقرة، كما قال: والقرآن ومراده ما في القرآن، وهكذا لو أقسم بآية، فكل هذا صحيح. قوله: (أو بالمصحف) كذلك إذا حلف بالمصحف على أنه كلام الله عز وجل، ولا أعلم أحداً ضيق في مسألة الحلف بالقرآن والمصحف إلا الحنفية؛ لأصل عندهم رحمهم الله، وهو: أن اليمين لا تنعقد إلا بالشرط الأول، وشرط جريان العرف، قالوا: أن يجري العرف بكونه قسماً، ومن ثم قالوا: إن الحلف بالقرآن لم يجر به العرف وهذا مذهب المتقدمين من الحنفية، وليس مرادهم الطعن في كون القرآن صفة من صفات الله؛ لأن أهل السنة والجماعة متفقون على أنه كلام الله وصفة من صفاته سبحانه، إنما مرادهم في مسألة اليمين هل يشترط فيها جريان العرف أو لا؟! والصحيح أن هذا يمين ويعتبر قسماً وتجب به الكفارة.

حكم الحلف بغير الله

حكم الحلف بغير الله قال رحمه الله: [والحلف بغير الله محرم ولا تجب به كفارة]. الحلف بغير الله عز وجل سواءً كان هذا المحلوف به ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً لا يجوز، حتى الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجوز الإمام أحمد -وهو مذهب الحنابلة كما ذكره صاحب: الإنصاف- الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم تعظيم لله عز وجل، فلو قال: والنبي والرسول فإنه لا حرج عليه في ذلك، وتعتبر يمينه فيها الكفارة، ونص صاحب الإنصاف على أنها يمين منعقدة، ولكن هذا القول مرجوح. والصحيح أنه لا يجوز الحلف إلا بالله عز وجل، أو باسم من أسمائه، أو صفة من صفاته؛ لأن الدليل نص على هذا، (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) فهذا يدل دلالة صريحة على أنه لا تنعقد اليمين إلا اليمين الشرعية، التي تكون باسم من أسمائه أو صفة من صفاته سبحانه وتعالى.

شروط وجوب كفارة اليمين

شروط وجوب كفارة اليمين قال رحمه الله: [ويشترط لوجوب الكفارة ثلاثة شروط:]

الشرط الأول: أن يكون الحالف مختارا لا مكرها

الشرط الأول: أن يكون الحالف مختاراً لا مكرهاً قال رحمه الله: [الأول: أن تكون اليمين منعقدة، وهي التي قصد عقدها على مستقبل ممكن] خرج من هذا اليمين على الماضي، مثل قوله: والله وقع كذا، حصل كذا، فإذا كان كاذباً فإنها -والعياذ بالله! - اليمين الغموس، التي تغمس صاحبها في النار، وإن كان صادقاً فقد صدق وحلف على ما ذكر، ولكن إذا كان كاذباً فلا تجب عليه الكفارة، وهذا مراد المصنف: أن الكفارة لا تكون إلا إذا كانت اليمين على أمر مستقبل، ويكون هذا الأمر مما يمكن. قال: [فإن حلف على أمر ماض كاذباً عالماً فهي الغموس]. بمعنى: أنه لا تجب عليه الكفارة؛ لأنه قيد التي فيها الكفارة بما ذكرنا.

لغو اليمين أنواعه وحكمه

لغو اليمين أنواعه وحكمه قال رحمه الله: [ولغو اليمين الذي يجري على لسانه بغير قصد، كقوله: لا والله، وبلى والله] وهذا قول طائفة من أئمة السلف، منهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو أن قول الرجل: لا والله وبلى والله، تجيء والله تجلس والله ولا يقصد به اليمين، ليس بيمين، هذا إذا لم يقصده، أما إذا قصده وحلف قاصداً لليمين انعقدت يمينه. هذا بالنسبة للنوع الأول من لغو اليمين. النوع الثاني: أن يحلف على شيء يظنه، ويرى عليه أمارات ثم يتبين أنه أخطأ، كأن يرى رجلاً من بعيد يظنه فلاناً ثم تبيّن أنه ليس بفلان، فقال وهو يراه من بعيد: والله فلان، قالوا: ليس بفلان. قال: والله فلان. وهو على غالب ظنه ثم تبين خطؤه، فإنه حلف على غالب الظن فلا تجب عليه كفارة، ولا تعتبر يميناً منعقدة، ويعذر في هذا. هذا بالنسبة لمسألة لغو اليمين. قال بعض العلماء: إن لغو اليمين تكون في المحرمات، وهذا ضعيف عند أئمة التفسير، وقد استدلوا بقوله تعالى {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص:55] بناءً على أن اللغو في الأمر المحرم، وكل من حلف على أمر محرم فإنه لغو، والصحيح أن لغو اليمين ما ذكرناه وهو: أن يحلف الرجل على الشيء يظنه، أو جريان الكلام بدون قصد، كما يقع مع الضيف، وما يقع في السباق، يقول لصاحبه: تتقدم ويقول الآخر: والله تتقدم أنت، والله تتأخر، وهذه يجري على لسان الناس دون إرادة عقد اليمين. [وكذا يمين عقدها يظن صدق نفسه فبان بخلافه] وهذا مأثور عن بعض السلف، وعن ابن عباس رضي الله عنهما. [فلا كفارة في الجميع] لأنها من اللغو.

الشرط الثاني: انعقاد يمين من حلف مختارا لا مكرها

الشرط الثاني: انعقاد يمين من حلف مختاراً لا مكرهاً [الثاني: أن يحلف مختاراً، فإن حلف مكرهاً لم ينعقد يمينه] أن يحلف مختاراً غير مكره، وقد تقدمت معنا شروط الإكراه، فلو هدده شخص وقال له: تحلف بالله على شيء. فإنه لا تنعقد يمينه، ولا تجب عليه الكفارة إذا حنث فيها؛ لأنه مكره على قوله. والإكراه نوعان: - إكراه بحق. - وإكراه بدون حق. فإذا كان الإكراه بدون حق فحينئذٍ لا يعتبر يميناً، لكن إذا كان الإكراه بحق، فإنه يكون يميناً معتبراً شرعاً ويجب عليه أن يصدق، كأن يأبى أن يحلف وطلب منه أبوه أن يحلف وأكرهه على الحلف في القضاء، وقال له: إن هذا شيء فيه إحقاق حق وإبطال باطل، فهذه يمين شرعية مع أنه مكره ولا يريدها. وكان أئمة السلف لا يحلفون حتى يمين القضاء، فهذا ابن عمر رضي الله عنهما لما اختصم مع الرجل في عبد من عبيده قال: بعته لي بكذا بعيب. قال: ما علمته. قال: بلى قد كنت تعلمه. قال له القاضي: احلف قال: ما علمته. قال له: احلف. قال: لا أحلف. قال: إذاً ترد على الرجل ماله، قال: أرد له ماله. فرد له المال تورعاً، فباع العبد بأضعاف القيمة التي كان قد باعه بها، وذلك أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، ومن يتق الله لا يرى إلا خيراً.

حكم الحنث في اليمين من حيث الفعل والترك والإكراه والنسيان

حكم الحنث في اليمين من حيث الفعل والترك والإكراه والنسيان [الثالث: الحنث في يمينه، بأن يفعل ما حلف على تركه أو يترك ما حلف على فعله مختاراً ذاكراً] قوله: (الحنث في يمينه) هذا الشرط الثالث، فإذا حلف أن يفعل شيئاً فالحنث أن لا يفعله، وإذا حلف أن لا يفعل شيئاً فالحنث أن يفعل، فإذا قال: والله لا أدخل الدار حنث بالدخول، وإذا قال: والله سأدخل الدار ولم يدخل حنث بعدم الدخول، فإذا حنث لزمته الكفارة. قال صلى الله عليه وسلم: (إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير) بمعنى: أنه يفعل عكس ما حلف عليه، والعكس كما ذكرنا: أن ينفي ما أثبته، ويثبت ما نفاه. [فإذا حنث مكرهاً أو ناسياً فلا كفارة] قوله: (مكرها) لأن الله أسقط بالإكراه المؤاخذة، قال: والله لا أدخل الدار. فأخذوه وربطوه وحملوه وأدخلوه الدار، فهذا إكراه ملجئ تام، فلا تجب عليه كفارة؛ لأنه أسند الدخول إلى نفسه وطوعه وإرادته، ومن دخل بحمل الناس له فقد دخل بغير اختياره وبغير إرادته، فحينئذٍ لا يكون حانثاً. قوله: (أو ناسياً) اختلف العلماء رحمهم الله في الناسي، هل هو مكلف أو غير مكلف؟ وتفرع عليه هذه المسألة، فإن قلنا: إنه غير مكلف لا يجب عليه، والأقوى أنه يجب عليه الضمان في الإخلال، وهي مسألة الأصول التي كررناها أكثر من مرة، وفي الأيمان تستثنى من هذا الأصل؛ لأن المراد به الانتهاك للحرمة، ومن كان ناسياً ليس فيه معنى الانتهاك، فهذا وجه الاستثناء للناسي من الأصل الذي ذكرناه، وهو مؤاخذته للضمان بحق الله وحق المخلوق.

الاستثناء في اليمين

الاستثناء في اليمين قال رحمه الله: [ومن قال في يمين مكفرة: إن شاء الله لم يحنث]. بهذا ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الحسن، وصح عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيح في قصة سليمان عليه السلام، أنه قال: (والله لأطوفن الليلة على تسعين امرأة) الله أكبر! الأنبياء أعطوا هذه القوة، في ليلة واحدة يطوف على تسعين امرأة! (تلد كل واحدة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله) انظروا كيف الهمة وبماذا تتعلق النفوس!! أنبياء الله أعظم الناس قربة لله عز وجل، في سائر شئونهم وأمورهم، حتى عند إتيانهم الشهوة يصرفونها في طاعة الله. قال: (والله لأطوفن الليلة على تسعين امرأة) فأقسم، لكن لم يرد الله عز وجل ذلك، فألقت واحدة منهن بعض مخلوق وليس مخلوقاً كاملاً، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو أنه قال: إن شاء الله) وعلى كل حال قيل هذا: مسألة التحقيق، وقيل: مسألة التعليق، وقال من حيث الأصل: إنه أقسم، ووجدت المشيئة لتحقيق القسم والاستثناء. أما الحديث الحسن: (من حلف على يمين فقال: إن شاء الله فلا حنث عليه) فيشترط اتصالها باليمين، كأن يقول: والله تقوم إن شاء الله. أو يقول: والله إن شاء الله تقوم، والله إن شاء الله تفعل، والله إن شاء الله لا تفعل، ويشترط أن يكون قاصداً للاستثناء قبل انصراف اليمين، أما إذا طرأ عليه أن يستثني بعد انعقاد اليمين فلا، وإلا قال كل شخص بمجرد الشك أنه لا يفي إن شاء الله. هذا يدل على أنه لابد من اتصال الاستثناء، ولابد من قصده، وقد فصلنا في هذه المسألة في تعليق الطلاق بالمشيئة وبينّا ضوابط المشيئة وتأثيرها.

استحباب الحنث في اليمين وإتيان الذي هو خير

استحباب الحنث في اليمين وإتيان الذي هو خير قال رحمه الله: [ويسن الحنث في اليمين إذا كان خيراً] اليمين قد يُندب له برها ويكره له الحنث فيها، وقد يجب عليه البر ويحرم عليه الحنث، وقد يستحب له البر ويندب له الحنث، وقد يحرم عليه البر ويجب عليه الحنث، هذه أحوال لليمين، وهي: الحالة الأولى: يجب عليه البر ويحرم عليه الحنث في يمينه، كما لو قال: والله لأصلين مع الجماعة، وهو ممن تجب عليه صلاة الجماعة، فيجب عليه أن يبر ويحرم عليه أن يحنث؛ لأن هذا واجب بأصل الشرع. أو تقول له أمه: افعل كذا وأمرته به فقال: والله أفعل. فحينئذٍ يجب عليه البر ويحرم عليه الحنث؛ لأن طاعة أمه واجب مؤكد. الحالة الثانية: يحرم عليه البر ويجب عليه الحنث، كما لو أقسم أنه لا يصلي صلاة الظهر، فهذا لا يجوز؛ لأنه حلف على ترك واجب، أو حلف على فعل محرم، كأن يقول: والله لأشربن الخمر -والعياذ بالله! - فيجب عليه الحنث ويحرم عليه البر. الحالة الثالثة: يندب له الحنث ويكره له البر، كما لو حلف على أن لا يصوم الأيام البيض وقال: والله لا أصوم الأيام البيض من هذا الشهر. فيندب له أن يحنث ويكفر في يمينه ويصوم الأيام البيض، ويكره له أن يمضي في يمينه ويفوت على نفسه الخير. الحالة الرابعة: يندب له البر ويكره له الحنث، كما لو قال: والله لأصومن الخميس والإثنين. فيندب له أن يصوم وأن يبر، ويكره له أن يفوت على نفسه الخير. هذه أحوال اليمين. إذاً الإنسان إذا رأى شيئاً أفضل مما حلف عليه فالأفضل له أن يكفر، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير) وهذا يستثنى من الأصل من حفظ اليمين والبر فيها، فإن المسلم إذا مثلاً: والله لا أكلم فلاناً اليوم -وهو يجوز له أن يهجر أخاه المسلم دون الثلاث- فرأى أن الخير أن يكلمه، كأن يأمره بالمعروف أو ينهاه عن المنكر، أو وجدت مصلحة أخرى، أو قال: والله لا أزور فلاناً اليوم، ورأى من المصلحة أن يزوره، أو توفي أحد أو مرض أو جاء سبب يندب إلى الإتيان، فنقول له: الأفضل أن تكفر عن يمينك وتأتي الذي هو خير.

حكم يمين من حرم حلالا وصوره

حكم يمين من حرم حلالاً وصوره قال رحمه الله: [ومن حرم حلالاً سوى زوجته من أمة أو طعام أو لباس أو غيره لم يحرم، وتلزمه كفارة يمين إن فعله]. هذه المسألة تقدمت معنا في قول الرجل لزوجته: أنتِ عليّ حرام، وذكرنا: أن هذه المسألة فيها ما لا يقل عن عشرين قولاً، ذكرها أئمة التفسير في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1] قال بعض العلماء: إنه إذا حلف وحرم على نفسه لبس الثياب، أو حرم على نفسه لبس غطاء رأسه كالعمامة، أو حرم على نفسه أن يركب السيارة، أو حرم على نفسه أن يطعم الطعام، أو حرم على نفسه أن يتزوج، قالوا: كل هذا لغو ولا شيء عليه ولا تجب عليه كفارة، وهذا مذهب الظاهرية وأهل الحديث، قيل: مذهب جمهور أهل الحديث. وذهب الجمهور -على تفصيل عندهم- إلى أنه إذا حلف على تحريم حلال فإنه تنعقد يمينه ويجب عليه الكفارة، وهذا مبني على أصل، والأصل: أن تحريم الحلال يأتي على صورتين: الصورة الأولى: إذا قصد به التحريم فهو لغو. الصورة الثانية: إذا حلف على أن يحرم على نفسه شيئاً حلالاً، فإنه حينئذٍ يُكفِّر، وهذا معنى ما ورد في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة العسل، عندما قالت أم المؤمنين حفصة: أجد منك ريح مغافير، وهذا من باب الغيرة؛ لأنه شرب عند زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها العسل، وغارت أمهات المؤمنين وتمالأن عليها، وقمن يذكرن ذلك له عليه الصلاة والسلام، وقلن: جرست نحلة في العرفط، وهذا عندما شرب عندها عسلاً، وبين الله عز وجل ذلك لنبيه وقال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] فالنبي صلى الله عليه وسلم لما امتنع من شرب العسل، قال الله عز وجل له: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1] وهذا يدل على أنه قصد اليمين. ومن هنا من حرم على نفسه الحلال وقصد اليمين انعقدت يمينه، وأما إذا حرم الحلال معتقداً تحريمه فهذا لغو ولا يؤثر، ومنه ما فعله الصحابة حينما اجتمعوا: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعهم عثمان بن مظعون، وكان من أشد الصحابة عبادة وصلاحاً رضي الله عنه وأرضاه، ورضي الله عنهم أجمعين، وتكلموا في شأن الإسلام ثم اتفقوا على أنهم لا يتزوجون النساء وأنهم يختصون، فأدركتهم نشوة الدين ومحبة الطاعة، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال -كما في الحديث الصحيح حديث جابر -: (رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان التبتل، ولو أذن له لاختصينا). فتحريم المباحات من شأن أهل الضلال، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يحرم شيئاً أحله الله له، وذلك لقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف:32] وهذا استفهام إنكاري، يدل على أن الحلال ما أحله الله، ولو حرمه الناس، والحرام ما حرمه الله ولو أحله الناس، فلو حرم حلالاً كان لغواً. قوله: (سوى زوجته) تقدم معنا أنه إذا قال لزوجته: أنتِ عليّ حرام، أو أنتِ الحرام، أو الحرام يلزمني منك. كل هذا تقدم. والحنابلة كما ذكرنا يقولون: إنه ظهار، وقد صح عن عثمان رضي الله عنه أن من حرم زوجته فهو مظاهر، وقد بينّا أن الصحيح: أن من قال لامرأته: أنتِ عليّ حرام، نسأله عن نيته، إن قصد به اليمين فعليه الكفارة، وفيه عن ابن عباس أثر صحيح، وإن قصد به الطلاق سألناه كم ينوي؟ وإن قصد به الظهار فظهار، وإن لم يقصد شيئاً فهو لغو، مع أنها ليست بحرام وإن قال: إنها حرام، فهو أخبر بشيء مخالف للواقع، فلا يقع شيئاً ولا يعتد به ويكون لغواً. قوله: (لم يحرم) لم يحكم بتحريمه عليه، ويكون كلامه لغواً. قوله: (وتلزمه كفارة يمين إن فعله) كما ذكرنا بالتفصيل الذي بيناه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

مقدمة كتاب الأيمان [2]

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الأيمان [2] إن من تيسير الشرع على المكلفين أن جعل التخيير في كفارة اليمين لمن لزمته الكفارة، وهذا من فضل الله على عباده، كما جعل الرجوع في الأيمان إلى نية الحالف وقصده؛ لأن في الأيمان ما هو لغو يؤاخذ المرء عليه، ومنها ما هو يمين معقود يتحقق فيه لزوم الكفارة.

التخيير في كفارة اليمين بين خصال الكفارة

التخيير في كفارة اليمين بين خصال الكفارة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: يخير من لزمته كفارة يمين بين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق رقبة] الواجب في الشريعة ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الواجب المضيق المرتب، الذي لا يجوز للمسلم أن ينتقل فيه بعد ترتيب الشرع إلى أمر لاحق؛ إلا بعد العجز عن الأمر السابق، كما في كفارة الظهار، وكفارة الجماع في نهار رمضان؛ فإن هذه واجبة لازمة على من ارتكب المحظور، ولكنه لا ينتقل إلى الخصلة الثانية التي رتبها الشرع على الأولى إلا بعد العجز عن الأولى، وهذا يسميه العلماء: بالواجب المرتب. وقد نص ابن عباس رضي الله عنهما على أن ما ورد بثم، لا يجوز للمسلم أن ينتقل إلى الخصلة الثانية إلا بعد عجزه عن الخصلة الأولى. فهذا واجب مرتب يجب على المسلم أن يلتزم ترتيب الشرع فيه. القسم الثاني: الواجب المخير، وهو الذي وسع الشرع فيه على المكلف، فخيره بين خصلتين أو ثلاث أو أربع، إن فعل واحدة منها أجزأه. وفي الحقيقة كفارة اليمين جمعت بين النوعين، ففيها الواجب المرتب، وفيها الواجب المخير، فخيّر الله عز وجل بين الإطعام والكسوة والعتق، ورتب ما بين هذه الثلاثة إذا عجز عنها أن ينتقل إلى الصيام. وعلى هذا يكون الواجب في كفارة اليمين قد جمع بين الأمرين: الترتيب والتخيير، فبيّن المصنف رحمه الله: أن من لزمته كفارة -وقد قدمنا شروط الحنث، ومتى يحكم بكون الإنسان حانثاً في يمينه- فعليه الكفارة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أوجب الكفارة كما في آية المائدة: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] فهذه الآية أصل في كفارة اليمين، وقد نص الله عز وجل فيها على خصال الكفارة. فبيّن رحمه الله الواجب الأول: وهو إطعام عشرة مساكين، وإطعام عشرة مساكين على وجهين عند العلماء: الوجه الأول: أن يطعم كل مسكين ربع صاع، كما في كفارة الظهار، من حديث سلمة بن صخر البياضي، حيث أطعم ستين مسكيناً خمسة عشر صاعاً، وهذا يقتضي أن يكون لكل مسكين ربع صاع. الوجه الثاني: أن يطعم كل مسكين نصف صاع، كما في كفارة الفدية في النسك من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه الذي في الصحيح، وفيه أن من ارتكب المحظور من حلق رأس ونحو ذلك لزمته الفدية، وقد أمر الله عز وجل فيها بنصف صاع، فقالوا: هذا يدل على أن الإطعام يكون بنصف صاع. والحقيقة أنه لو اقتصر الشخص على ربع صاع أجزأه، لكن الأحوط والأحسن له أن لا ينقص عن نصف صاع، هذه الصورة الأولى. ثم يرد Q هل الكفارة في اليمين تمليك، أو يقصد منها مطلق الوقوع؟ بمعنى: أن الشخص يجب عليه أن يعطي المسكين الطعام، والمسكين يتصرف في الطعام كيف شاء، فهذا تمليك، وحينئذٍ لا يجوز أن يصنع الطعام ويدعو المسكين إليه؛ لأن التمليك يقتضي أن يكون المسكين حراً بين أن يأكله اليوم أو غداً أو بعد غد، فيملك هذا الذي ملّكه الله عز وجل إياه، وإن قلنا: إنها ليست بتمليك فيكون من حقه أن يطعمه، وأن يصنع الطعام ثم يدعو عشرة مساكين فيأكلون ذلك الطعام. ثبت عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم أطعموا، كما في قصة أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأيضاً الأصل يقتضي عموم الإطلاق، ولكن التمليك أحوط، والجمهور على أنه لو أطعم يجزيه. وإطعام عشرة مساكين يستوي فيه أن يكونوا ذكوراً أو إناثاً، أي: تمحضوا بالذكور، أو تمحضوا بالإناث، أو جمعوا بين الذكور والإناث، ويستوي أن يكونوا كباراً أو صغاراً، فلو نظر إلى أسرة فيها عشرة أفراد أجزأه، ثم يرد السؤال: هل يشترط أن يكون الصغير بعد الفطام ليأكل أكل المفطوم، أم يكون رضيعاً فيشتري له ما يرتضع به كحليب ونحو ذلك؟ وجهان للعلماء: والصحيح: أنه يجزيه سواء كان قبل الفطام أو بعده؛ وذلك لإطلاق القرآن، ولكن الأحوط أن يبرئ ذمته على الوجه الذي لا شبهة فيه. قوله: (أو كسوتهم) الكسوة فيها وجهان للعلماء: منهم من أطلق الكسوة، حتى لو ألبسه ثوباً يستر عورته أجزأه، والصحيح: أن الكسوة لابد فيها من أن تكون كسوة تصح بمثلها الصلاة، وعلى هذا لو كساه ثوباً شفافاً لم يجزه، ودليلنا على ذلك السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صنفان من أهل النار لم أرهما، نساء كاسيات عاريات) فوصفهن بالكسوة، ولكن سلبهم هذا الوصف بالعري، وقد أمر الله بكسوة المسكين، فدل على أنها كسوة خالية من العري. وعلى هذا لابد وأن تكون الكسوة التي تصح بها الصلاة في المرأة: الدرع والخمار، وفي الرجل: ما يستر به عورته، فلو أنه ستره بثوب غامق اللون يستر عورته، فيكون السروال والفنيلة فضلاً، ولو ستره بقميص وسروال أجزأه، ولو ستره بإزار ورداء كإزار الحج والعمرة وردائهما، فإنه يجزئه. إذاً: بالنسبة للثياب يشترط فيها: أن لا تكون معيبة عيباً يقدح في وجود الكسوة فيها، فلو أنه كانت عنده ثياب يلبسها هو وكساها فيجزيه ذلك، ما دام أنها نظيفة صالحة للاستعمال، وهكذا بالنسبة للثياب التي كساها للصغار من المساكين، لو أخذ كسوة أولاده فكساهم إياها وهي صالحة للاستعمال أجزأه. قوله: (أو عتق رقبة) يستوي أن تكون الرقبة صغيرة أو كبيرة، وقد بينا هذا وفصلناه في مسألة العتق في كفارات الظهار والجماع في نهار رمضان. ولكن هنا هل يشترط إيمان الرقبة أو لا يشترط؟ الأقوى أنه يشترط إيمان الرقبة؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في صحيح مسلم من حديث معاوية بين الحكم رضي الله عنه-: (أعتقها فإنها مؤمنة) وذلك بعد أن سأل الجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة) أي: أعتقها من أجل أنها مؤمنة. فالرق ضُرب من أجل الكفر، فلا يعقل أن الشريعة تأمر بضرب الرق على الكفار المحاربين، ثم بكل سهولة يعتقون، إذاً ما هي الفائدة؟ وعلى هذا لابد وأن تكون الرقبة مؤمنة، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (أعتقها فإنها مؤمنة) جملة تعليلية، أي: لأنها مؤمنة، ولم يقبل منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتق مباشرة، بل أمره أن يحضر الجارية، وسألها وامتحنها واختبرها صلى الله عليه وسلم وتكلف ذلك، فدل على أنه لا يجزئ أن يعتق كل رقبة. قال بعض العلماء: يشترط عدم العيب في الرقبة إذا كان عيباً مخلاً يمنع العجز فإنه لا يصح ولا يجزئ، والصحيح أنه قد يجزئ، إلا إذا كان على وجه يريد به التخلص من الرقبة، فهذا أمر آخر. [فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعة] وقد نص القرآن على ذلك، قال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] وفي قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب، الأولى عند عبد الرزاق بسند صحيح، والأخرى عند ابن جرير وجود إسنادها غير واحد من العلماء: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) وهذا أخذ منه الحنابلة وطائفة وجوب التتابع في صيام الكفارة في الأيمان، وهو الصحيح إن شاء الله.

حكم من لزمته أيمان متكررة قبل التكفير حال اتحاد موجبها أو اختلافه

حكم من لزمته أيمان متكررة قبل التكفير حال اتحاد موجبها أو اختلافه قال رحمه الله: [ومن لزمته أيمان قبل التكفير موجبها واحد فعليه كفارة واحدة]. قوله: (ومن لزمته أيمان) يعني: متكررة عديدة، ويكون ذلك على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون على شيء واحد، فمثلاً قال لفلان: والله ما تدخل البيت. ثم قال له: سأدخل. قال: والله ما تدخل. قال: سأدخل، فهذه يلزمه كفارة واحدة. الصورة الثانية: إذا كانت متعددة فكل واحدة منها يمين، وهذا مذهب جمهور العلماء رحمهم الله. [وإن اختلف موجبها كظهار ويمين بالله لزماه ولم يتداخلا] أي: وهكذا إذا اختلفت أجناسها كظهار ويمين ونحو ذلك، فكل ذلك يحكم بكل مقسم عليه بيمين مختصة به، إذا حنث فيها يلزمه الكفارة لكل يمين.

باب جامع الأيمان

شرح زاد المستقنع - باب جامع الأيمان من المسائل التي تواجه الناس في حياتهم اليومية مسائل الأيمان، لذا فلابد لهم من معرفة أحكام أيمانهم، وما يجب عليهم منها، وما لا يجب، وقد فصَّل العلماء في أحكام الأيمان تفصيلاً دقيقاً، فبينوا حكم نية الحالف، وسبب اليمين، وأحكام تعيين الشيء المحلوف عليه، وغير ذلك من الأحكام التي يكثر احتياج الناس إلى معرفتها؛ ليقوموا بحق الله عليهم فيها.

ما يرجع إليه في الأيمان

ما يرجع إليه في الأيمان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد:

الرجوع إلى نية الحالف إذا احتملها اللفظ

الرجوع إلى نية الحالف إذا احتملها اللفظ فيقول المصنف رحمه الله: [باب جامع الأيمان: يرجع في الأيمان إلى نية الحالف إذا احتملها اللفظ]. أي: يرجع في الأيمان إلى نية الحالف وقصده؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:225] وقال سبحانهه في الآية الأخرى: {بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة:89] فإذا كانت اليمين في الأصل لا تنعقد إلا إذا قصد الشخص عقدها، فإذا لم يقصد عقدها بأن جرت على لسانه كانت لغواً ساقطة، دل هذا على قوة تأثير النية، فإذا كانت اليمين لا تنعقد إلا عند القصد والتوجه والنية، فمن باب أولى أن لا تنعقد في الألفاظ والكلمات ما دام أن اللفظ محتمل ويرجع إلى نيته. والأصل في ذلك حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات) والأعمال شاملة للأقوال والأفعال، واليمين قول، فتدخل تحت هذا العموم، فدل على أنه لابد من الرجوع إلى نية الحالف. وصورة المسألة: لو قال: والله لا أركب السيارة. فالسيارة لفظ عام يشمل السيارة الصغيرة والكبيرة والباص وغيره، فلو قال: قصدت السيارة -أل للعهد- الفلانية أو سيارة فلان. فحينئذٍ ينتقل من العموم إلى الخصوص. والعكس، لو أن شخصاً جاراه في السيارة فقال: والله لا أشتري السيارة. فظاهر الحال أنه لا يشتري السيارة هذه، لكن قال: نيتي جميع السيارات، يعني: جنس السيارة لا أشتريها، فحينئذٍ النية تتحكم في اللفظ، بشرط أن يكون ذلك اللفظ محتملاً؛ لأن (أل) في السيارة تحتمل الجنس وهذا للعموم، وتحتمل العهد وهذا للخصوص، قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل:15 - 16] قيل: إن أل في الرسول للاستغراق؛ لأن من عصى رسولاً واحداً فكأنما عصى الرسل كلهم، والأشبه أن هذا عهد ذهني. فهناك شرط في اعتبار النية مؤثرة في اللفظ: وهو أن يكون اللفظ محتملاً، بمعنى: أن وضعه اللغوي يحتمل معنيين فأكثر، فالنية تحدد المراد، أما إذا كان اللفظ لا يحتمل ولا علاقة له بما نوى في وضع اللغة وأصلها، وليس هناك عرف جارٍ به، فنيته لغو، كأن يقول: والله لا آكل البرتقال. ولكن قصد بالبرتقال التفاح، ومعلوم أنه لا يطلق البرتقال على التفاح فحينئذٍ تسقط نيته ويعتد ويعتبر بظاهره، فما دام أنه تلفظ بهذا اللفظ يؤاخذ به، ويحكم بوجوب الكفارة عليه إن أكل ذلك المسمى. وهذا مقرر على مسألة مشهورة عند علماء الأصول، وهي: مسألة وضع اللغة، والصحيح أن الله عز وجل هو واضع اللغات، ومن هنا لو تحكم الشخص في اللغة وقال: والله لا أصعد الجبل، وقيل له: ماذا تريد بالجبل؟ قال: السيارة. لا يوجد أحد يطلق الجبل على السيارة لا لغة ولا عرفاً، ولا توجد مناسبة بين السيارة والجبل، فهو يضع دلالة من عنده لهذا اللفظ، مع أن الجبل من حيث هو موضوع على دلالة معينة، فهو فحينئذٍ يسقط اعتبار النية بشرط احتمال اللفظ، وهذا أصل صحيح مقرر عند العلماء.

الرجوع إلى سبب اليمين عند انعدام النية

الرجوع إلى سبب اليمين عند انعدام النية قال رحمه الله: [فإن عدمت النية رجع إلى سبب اليمين وما هيجها] فأول شيء النية ثم هناك السبب، وسبب اليمين يسمونه: السبب المهيج. وبعض فقهاء الحنابلة يطلق ويقول: سبب اليمين، وعند المالكية وبعض الفقهاء يسمونه: بساط اليمين. وبعضهم يعبر عنه: بموجب اليمين، والمراد من ذلك الباعث على اليمين. ونحن نمثل بأشياء موجودة الآن؛ لأن القديم موجود في كتب العلماء فإذا رجع إليه طالب العالم فإنه يفهم. مثال: لو أن شخصاً اختصم مع شخص وجرى بينهم لجاج، فقال: تركب معي سيارتي. فقال له: والله لا أركب سيارتك. فقوله: (لا أركب سيارتك) في الأصل يقتضي أن كل سيارة يملكها الشخص أنه لا يركبها، ولكن بساط اليمين، وموجب اليمين، والباعث على اليمين، والسبب المهيج لليمين، هو الخصومة عن سيارة معينة. فحينئذٍ نقول: هذا العموم ينصرف إلى خاص، فلا يحنث إذا ركب سيارة أخرى يملكها ذلك الشخص، إلا إذا نوى، فإن النية مؤثرة، لكن كلامنا هنا عن الشخص الذي قال: والله لا أركب سيارتك. قلنا له: هل نويت العموم؟ قال: لا ما نويت العموم، بل خرج مني هذا اللفظ بناءً على قوله لي: اركب معي سيارتي، فقلت: لا أريد أن أركب. فقال لي: لابد أن تركب. فأحرجني فأردت أن أقطع قوله: فقلت: والله لا أركب سيارتك. نقول له: إن ركبت أي سيارة غير هذه السيارة فإنك حينئذٍ لا تحنث؛ لأن السبب المهيج يقتضي التخصيص.

الرجوع إلى التعيين في اليمين عند انعدام النية والسبب

الرجوع إلى التعيين في اليمين عند انعدام النية والسبب قال رحمه الله: [فإن عدم ذلك رجع إلى التعيين] إذا: هناك ثلاثة أشياء: - النية. - السبب. - التعيين. والتعيين: أن يعيّن الشيء، وهو ضد الإبهام، فإذا قال: والله لا آكل هذا اللحم. والله لا ألبس هذا الثوب. والله لا أكلم هذا الرجل لا أُكلم هذا الصبي لا أُكلم هذه الجارية. فهذا تعيين، والمعين لا ينصرف إلى غيره؛ لأن مرادهم بعينه وذاته، وعين الشيء ذاته. قوله: [فإذا حلف: لا لبست هذا القميص فجعله سراويل أو رداءً أو عمامة ولبسه] أي: لو حلف على ذلك الشيء بعينه كأن يقول: لا لبست هذا القميص، ومادة القميص من القماش، إذاً انصب عليها اليمين، فلو أن هذا القميص غُيِّر وفُصِّل سروالاً حنث بلبسه؛ لأنه قال: هذا، فاختص بالتعيين وتقيد به؛ لأن اليمين بالتعيين، فمهما تغير في شكله فذاته موجودة، وانصب المنع على الذات، وحينئذٍ لو تغيرت إلى أي حال فإنه يبقى الحكم معلقاً بها، فيحنث إذا لبسه على أي صورة. وكذلك لو جعل هذا القميص رداءً أو عمامة، فإنه يحنث بلبسه، والعكس إذا جعل السروال قميصاً، فالمادة موجودة والحكم واحد في هذا. قوله: [أو لا كلمت هذا الصبي فصار شيخاً] أو صار رجلاً لأن الحكم متعلق بعين الصبي ولا يختلف. قوله: [أو زوجة فلان هذه، أو صديقه فلاناً، أو مملوكه سعيداً، فزالت الزوجية والملك والصداقة ثم كلمهم] لو قال: والله لا أكلم زوجتك. فليس كقوله: والله لا أكلم هذه الزوجة. فلو قال: لا أكلم زوجتك. فقوله: زوجتك لفظ عام، فإذا لم تكن هناك نية وأخذناه على ظاهر اللفظ، فكل زوجة يتزوجها هذا الرجل بمجرد أن يعقد عليها وتدخل في عصمته، فإنه يحنث بكلامه معها بأقل ما يصدق أنه كلام. فكل امرأة عقد عليها ذلك الشخص فإنه يحنث بكلامه لها، وبمجرد أن تخرج من عصمته وتنتقل عنها، فحينئذٍ إذا كلمها لا يحنث؛ لأن الوصف متعلق بكلام زوجة هذا الرجل، وحينئذٍ متى ما كانت زوجة لهذا الرجل حنث بكلامها، وإذا زالت هذه الصفة من الزوجة لم يحنث، أما إذا قال: لا أكلم زوجتك هذه. صار الأمر متعلقاً بالزوجة بعينها، فلو طلقها أو بانت منه، فإنه في هذه الحالة لو كلمها فإن اليمين ما زالت منعقدة فيحنث بكلامها، حتى لو تزوجت غيره فإنه لا زال اليمين متعلقاً بالعين فيحنث بكلامها. قوله: (أو مملوكه سعيداً). لو قال: لا أكلم مملوكاً لك. فهذا عام، أي: كل عبد يملكه هذا الشخص، فبمجرد ما يشتريه يحنث بكلامه بأقل ما يصدق عليه أنه كلام، لكن لو قال: لا أكلم مملوكك سعيداً وعيّن، أو مملوكك هذا وعين وخصص، فحينئذٍ كما ذكرنا، لو أنه أعتقه ما زال الحكم متعلقاً بعين المملوك، فيحنث بكلامه. قوله: (فزالت الزوجية والملك والصداقة ثم كلمهم) الأصل أنه يحنث حتى بعد زوال هذه الأشياء كما ذكرنا وفصلنا. قوله: [أو لا أكلت لحم هذا الحمل فصار كبشاً]. لأن اليمين متعلقة بلحم الحمل، فحتى إن أكله بعد أن صار كبشاً، فإنه يحنث؛ لأنه قد انصبت اليمين على لحمه. قوله: [أو هذا الرطب فصار تمراً أو دبساً أو خلاً]. لو جيء لشخص برطب فقال: والله لا آكل رطباً. فرُفِعَ هذا الرطب ثم صار تمراً بالحرارة وبالتأخر وجيء به إليه، فقيل له: كل. فأكل، فإنه لا يحنث؛ لأن الأمر متعلق بالوصف الذي هو رطب، ولو قال: والله لا آكل الرطب وقيل له: على هذه النخلة رطب اصعد وكله. قال: أنا حلفت أن لا آكل الرطب، ثم صبر حتى صار تمراً فصعد وأكل، فإنه يحنث لو صعد وهو رطب وأكل منه، ولا يحنث في الثانية؛ لأنه أكل تمراً؛ ولأنه حلف على الرطب، لكن لو قال: والله لا آكل هذا الرطب، فإنه في هذه الحالة يحنث إن أكله رطباً أو تمراً. [أو هذا اللبن فصار جبناً أو كشكاً أو نحوه ثم أكله حنث في الكل] وهكذا بالنسبة للبن، يعني يستوي أن ينتقل عن حاله بفعل المكلف أو ينتقل بطبعه، كما ذكرنا في الرطب والتمر، حنث في الكل [إلا أن ينوي ما دام على تلك الصفة] إذاً النية من أقوى ما تكون، ونحن لا نتكلم هنا على قوة السبب. وعلى هذا يحنث في الكل كما ذكرنا؛ لأنه قصد عين المحلوف عليه. وإذا كانت له نية فقال: والله لا أكلم زوجتك فلانة، وهذا لأنه رأى أن الرجل متضايق منه بسبب خصومة أو شيء، فقصد في نيته أن هذه المرأة سيئة تسبب مشاكل، فقال: والله لا أكلم هذه الزوجة، وهو يقصد مدة كونها زوجة له، فحينئذٍ هناك تعيين في السبب، ولكن النية أخص من السبب؛ لأنه لم يقصد عين المرأة، وحينئذٍ إذا زالت الزوجية يجوز له أن يكلمها ولا يحنث.

الرجوع في اليمين إلى ما يتناوله الاسم عند عدم النية والسبب والتعيين

الرجوع في اليمين إلى ما يتناوله الاسم عند عدم النية والسبب والتعيين قال رحمه الله: [فصل: فإن عدم ذلك رجع إلى ما يتناوله الاسم]. إذاً أول شيء النية، ثم السبب، أي: لابد أول شيء أن تكون هناك نية؛ لأن مقاصد المكلفين معتبرة، وقد أجمعت على ذلك نصوص الكتاب والسنة والقاعدة المشهورة: على أن الأمور بمقاصدها، ثم السبب الذي يهيج اليمين. قوله: (رجع إلى ما يتناوله الاسم) أي: هذا اللفظ يدل على ماذا؟ وهذا عين العدل في الشريعة الإسلامية، فينظر إلى دلالة اللفظ اللغوية والعرفية والشرعية، هذه ثلاثة أنواع من الدلالات، فإذا قال: والله لا أصعد الجبل، والله لا أجلس تحت السماء، والله لا أعبر نهراً ولا أركب بحراً، والله لا أصلي، والله لا أصوم، فكل هذه ألفاظ فيها دلالة لغوية وفيها دلالة شرعية وفيها دلالة عرفية، فحينئذٍ لابد من النظر في اللفظ، هذا إذا قال: ليست عندي نية في شيء معين، وليس هناك سبب هيج على اليمين، فحينئذٍ يُنْظَرُ في دلالة اللفظ.

أقسام الحقائق ومتى يرجع إليها في اليمين

أقسام الحقائق ومتى يرجع إليها في اليمين قال رحمه الله: [وهو ثلاثة: شرعي وحقيقي وعرفي]. هذه يسمونها. الحقائق، وهي: - الحقيقة اللغوية. - الحقيقة الشرعية. - الحقيقة العرفية. فالحقيقة اللغوية: مصطلح يكون في أصل التخاطب في لسان العرب، فإذا قالوا: السماء، فهم يعنون بها السماء المعروفة، وإذا قالوا: الأرض، الجبل، الشجر، فهذه أسماء على مسميات معينة وضعت في لغة ولسان العرب، فهذه يسمونها: حقيقة لغوية، وهي ما يدل عليه اللفظ في وضع اللغة. الحقيقة الشرعية: فالشرع قد ينقل هذا الاسم من عموم إلى خصوص، وقد ينقل هذا الاسم إلى دلالة ليس فيها لا عموم ولا خصوص، وإنما يكون لها معنىً جديد، فالشرع يتصرف في المسميات. الحقيقة العرفية: العرف يجمع الناس على لفظ له دلالة لغوية فيأخذه الناس، مثلاً السيارة الآن، السيارة: لها معنى في اللغة، وهي في لغة القرآن موجودة: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} [يوسف:19] {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} [يوسف:10]. لكن هل تلك السيارة التي كانت عندهم هي السيارة الموجودة عندنا الآن؟ A لا، السيارة في القديم لها معنى، والسيارة في وضع اللغة لها معنى، وفي عرفنا اليوم لها معنى. ونحن نمثل بشيء موجود: الكتابة في القديم لها معنى، ومعناها اللغوي معروف، وهو الخط باليد، لكن في زماننا الآن يضرب بأصابعه على الآلة ومع ذلك يوصف بكونه كاتباً، فلو قال شخص: والله لا أكتب على الآلة، وهو يختصم مع شخص على أن يطبع له، إذاً يوجد معنى عرفي الآن. كذلك الوضوء له معنىً لغوي، وله معنىً شرعي، والصلاة والزكاة والصوم والهبة والصدقة والإجارة كلها حقائق فيها معان لغوية وفيها معان شرعية. ولذلك لما استفتحنا أبواب العلم كنا نقول: في اللغة وفي الشرع، في اللغة: أي: حقيقة لغوية، وفي الشرع: أي حقيقة شرعية، فهذه تسمى: بالحقائق، فإذا تلفظ المكلف فإنه ينظر فيها.

الحقيقة الشرعية ومتى يرجع إليها في اليمين

الحقيقة الشرعية ومتى يرجع إليها في اليمين قال رحمه الله: [فالشرعي ما له موضوع في الشرع، وموضوع في اللغة] فالشرعي كالصلاة مثلاً، لها موضوع في اللغة، فتطلق بمعنى: الدعاء، وتطلق بمعنى: الرحمة، وتطلق بمعنى: البركة، ولكنها في الشريعة نقلت إلى العبادة، ذات القيام والركوع والسجود والذكر على الوجه المخصوص. قال رحمه الله: [فالمطلق ينصرف إلى الموضوع الشرعي الصحيح] اللفظ المطلق إذا كان له معنى لغوي ومعنى شرعي فإننا نصرفه إلى الشرعي، فلو قال: والله لا أصلي، فإنه يحنث بالصلاة نافلة أو فريضة؛ لأن الشرع يطلق الصلاة على هذه العبادة ذات الركوع والسجود، هذا هو المعنى الشرعي. والمعنى اللغوي: الدعاء، فلو أنه قال: والله لا أصلي. ثم قال: اللهم! ارحمني لم يحنث؛ لأنه عند تعارض الحقيقة اللغوية مع الحقيقة الشرعية، مع الإطلاق العام يتقيد بالشرع، فإذا قال: والله لا أصلي. فإنه يحنث بفعل الصلاة، ولا يحنث بالدعاء، ولا بالترحم. إذاً: الصلاة في هذا المعنى تنصرف إلى المعنى الشرعي، فلا يحنث إلا بفعل فريضة أو نافلة. ويشترط إذا كانت بالمعنى الشرعي أن تكون معتبرة معتداً بها شرعاً. فلو قال: والله لا أصلي هذه الساعة. ثم قال: أريد أن أكفر. فقام يريد أن يصلي، فصلى ركعتين، ثم أراد أن يكفر، فتبين له أنه محدث، سقطت عنه الكفارة تيسيراً من الله. إذاً في هذه الحالة لا يحنص إلا إذا كانت صلاة شرعية؛ لأنه قال: والله. أي: ألزم نفسه فيما بينه وبين الله أنه لا يصلي، فلا يكون حانثاً ولا تجب عليه كفارة إلا إذا حصل الإخلال، ولا يحصل الإخلال إلا بالصلاة الشرعية، فإذا صلى محدثاً لم تكن صلاته مجزئة. [فإذا حلف لا يبيع أو لا ينكح فعقد عقداً فاسداً لم يحنث] وهذا مثلما ذكرنا، لو قال: لا أصلي ثم صلى صلاة فاسدة لم يحنث؛ لأن الشرع لا يسمي هذا صلاة، ولا يسمي هذا بيعاً، قال: والله لا أبيع. ثم باع بيعاً فاسداً، كأن يبيع مجهولاً، فإنه يحكم ببطلان البيع؛ لأنه من بيوع الغرر -وقد تقدم معنا- كما لو قال له: أبيعك داراً ولم يصفها، قال: هذه الدار تشتريها مني (بمليون)، قال: قبلت. أعطاه (المليون) تمت صورة البيع، لكن انفسخ هذا البيع بحكم الشرع، قال القاضي: هذا بيع فاسد؛ لأن الدار لم تصفها ولم تبينها على وجه تزول به الجهالة ويصح به العقد، إذاً هذا عقد فاسد، وذلك لوجود الغرر. في هذه الحالة لو جاء وقال: أنا قلت: والله لا أبيعه، وقد وقع مني بيع، ولكن أفسده القاضي، أو المفتي حيث قالا: هذا بيع فاسد. نقول: إذاً وجوده وعدمه على حد سواء، ولا كفارة عليك؛ لأنك حلفت على بيع شرعي وهذا بيع فاسد. [وإن قيد يمينه بما يمنع الصحة، كأن حلف لا يبيع الخمر أو الخنزير حنث بصورة العقد] إذا قلنا: إن البيع حقيقة شرعية، ولابد أن يكون على الصفة الشرعية، فلو أنه قال: (والله لا أبيع الخمر) ثم باع الخمر هل يحنث؟ قالوا: هنا يحنث بصورة العقد؛ لأن مراده بقوله: (لا أبيع الخمر) صورة العقد؛ لأنه في الأصل يريد أن لا يبادل؛ لأن البيع حقيقته المبادلة، وكأنه يقول: التزمت فيما بيني وبين الله أن لا أبادل الخمر بشيء، فلما وقع البيع فصورة المبادلة وجدت، فحينئذٍ نقول: قد حصل الإخلال فلزمه الكفارة من هذا الوجه. وهناك من العلماء من لا يرى أنه ليس إخلالاً ولا تجب به الكفارة.

الحقيقة اللغوية ومتى يرجع إليها في اليمين

الحقيقة اللغوية ومتى يرجع إليها في اليمين قال رحمه الله: [والحقيقي هو الذي لم يغلب مجازه على حقيقته]. الحقيقي في اللغة: هو الذي لم يغلب مجازه على حقيقته اللغوية، كالسماء والأرض، فهذه حقائق تنطبق على أشياء. مثلاً: اللحم حقيقة يطلق على اللحم، ولا ينصرف إلى غيره إذا أطلق، وهذا لا إشكال في اعتباره، فلو قال: (لا آكل اللحم) حكمنا بأنه يحنث بأكل اللحم، أياً كان هذا اللحم، فيكون اللحم شاملاً للحم الأنعام ولحم الطيور ولحم الأسماك، فإذا أكله حنث، وتتقيد هذه الحقيقة بدلالتها. [كاللحلم فإن حلف لا يأكل اللحم فأكل شحماً أو مخاً أو كبداً أو نحوه لم يحنث] لأن الكبد والشحم والمخ هذه ليست بلحم؛ فإن العرب إذا قالت: اللحم، فإنه لا يشمل الكبد ولا المخ ولا الشحم، وقد يستشكل البعض هذا، ويقول: إن الله عز وجل قال في المحرمات: {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} [الأنعام:145] نقول: هذا لا إشكال فيه؛ لأنه عبر بالجزء وأراد الكل؛ لأن الذي يأكل الخنزير في الأصل إنما يأكل اللحم، وجعل ما بعده تبعاً له. فالشاهد من هذا: أن اللحم إذا أطلق فالمراد به اللحم المعروف، ولا يشمل الشحم وبقية الأجزاء التي ليست بلحم حقيقة؛ فإن اللحم له حقيقة، والشحم له حقيقة، والكبد لها حقيقة، الطحال له حقيقة، فإذا قال: لا آكل الكبد فهذه حقيقة تتقيد بالكبد، وإذا قال: والله لا آكل اللحم، فهذه حقيقة تتقيد باللحم. [وإن حلف لا يأكل أدماً حنث بأكل البيض والتمر والملح والخل والزيتون ونحوه وكل ما يصطبغ به] إذا قال: والله لا آكل ولا أطعم الإدام، والأدم هو: كل ما يؤتدم به، فإنه يحنث به إن أكله، سواء كان من المربى أو الملوخية أو اللوبيا أو الفاصوليا أو الخضار أو غيرها من المطاعم مما يؤتدم به، فكل ما يؤتدم به، تصدق عليه هذه الحقيقة اللغوية الجامعة في دلالتها على هذه الأشياء، فيحنث بها. [ولا يلبس شيئاً فلبس ثوباً أو درعاً أو جوشناً أو نعلاً حنث] لأن أصل اللبس الدخول في الشيء، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف) وجعل هذا لبساً، فلو قال شخص: والله لا ألبس، فإنه يحنث بكل شيء يكتسي به، ويضعه على بدنه ويدخل فيه، فإذا قال: والله لا ألبس الثوب. فإنه بمجرد دخوله فيه يحنث. لكن لو أنه وضع الثوب على كتفيه لم يحنث؛ لأنه لا يصدق عليه اللبس، مثله مثل المحرم، لو أن محرماً أخذ ثوباً ووضعه مثل الإحرام، لم تجب عليه الفدية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلبسوا القمص ولا العمائم) الذي يشمل أعلى البدن، ثم قال: (ولا السراويلات) الذي يشمل أسفل البدن ثم قال: (ولا البرانس) فشمل أعلى البدن وأسفله، فإذا حصل الدخول حصل الإخلال وإلا فلا. [وإن حلف لا يكلم إنساناً حنث بكلام كل إنسان] إذا قال: والله لا أكلم إنساناً. فإن هذه نكرة عامة تشمل كل إنسان، سواءً كان مجنوناً أو كان عاقلاً صغيراً أو كبيراً ذكراً أو أنثى؛ لأن الحقيقة اللغوية تشمل هذا كله. [ولا يفعل شيئاً فوكل من فَعَلَهُ حنث إلا أن ينوي مباشرته بنفسه] إذا قال: والله لا أعطي فلاناً ثم وكل شخصاً -والوكيل ينزل منزلة الأصيل، والفرع آخذ حكم أصله- وقال له: يا فلان اذهب واعط فلاناً أو قال لابنه: يا محمد اذهب وأعط فلاناً هذا المبلغ حنث؛ لأن عطاء الوكيل عطاء من الأصيل، وهو تابع للأصل فيحنث به.

الحقيقة العرفية ومتى يرجع إليها في اليمين

الحقيقة العرفية ومتى يرجع إليها في اليمين قال رحمه الله: [والعرفي ما اشتهر مجازه فغلب الحقيقة كالرواية والغائط ونحوهما] هذا النوع الثالث من الحقائق: وهي الحقيقة العرفية، فقوله: (ما غلب مجازه على الحقيقة) مثل: الغائط، والراوية، فلو قال: والله لا أذهب إلى الغائط، فالعرف أن الغائط مكان قضاء الحاجة، وذلك لقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء:43] يعني: مكان قضاء الحاجة، فقوله: والله لا أذهب إلى الغائط، أو لا أدخل الغائط، أو لا أجلس في الغائط، يحمل على الحقيقة العرفية، فيحنث بدخوله مكان قضاء الحاجة، وحينئذٍ لا يحكم بكونه حانثاً إلا إذا دخل فيه، لكن لو قصد الحقيقة اللغوية، وقال: أردت بالغائط المكان المطمئن؛ فحينئذٍ نيته تنقله من الحقيقة العرفية إلى الحقيقة اللغوية؛ لأنه نوى ذلك وقصده. لكن لو تعارضت الحقيقتان، كأن قال: والله لا أجلس في غائط، فقال بعض الفقهاء: هذه حقيقة لغوية وحقيقة عرفية، فأيها يقدم؟ يقدم العرفية على اللغوية في قول جمهور العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، وهذا ما درج عليه المصنف رحمه الله، أن العرف معتبر. إذاً الراوية والغائط تنتقل من المعنى العام إلى المعنى الخاص. [فتتعلق اليمين بالعرف] الأصل في الاحتجاج بالعرف القاعدة الشرعية التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة: (العادة محكمة)، فإذا جرى العرف بذلك فإنه يؤثر. جلس قوم في شركة أو مؤسسة وعندهم غرفة معينة اصطلحوا على تسميتها (الغرفة) فهذا عرف خاص، فإذا حلف شخص وقال: والله لا أدخل الغرفة، فالغرفة حقيقة لغوية للمكان المبني بالهيئة المعروفة، فكلمة (الغرفة) في اللغة عامة في كل غرفة، ولكن العرف والأصل أنه يريد هذه الغرفة، لاختصاص هذه الغرفة بالعرف. إذاً: لابد للفقيه إذا سئل عن الأيمان أن يكون ملماً بدلالة اللغة في هذا اللفظ الذي سُئل عنه، وأن يكون ملماً بدلالة الشريعة، فإذا قال: والله لا أتصدق، والله لا أهب، كيف يعرف أنه حنث أو لم يحنث إذا لم يعلم حقيقة الهبة، وحقيقة الصدقة، وحقيقة الوقف؟ إذاً: لابد من إدراك هذا كله حتى يحكم بكونه حانثاً أو غير حانث. [فإذا حلف على وطء زوجته أو وطء دار تعلقت يمينه بجماعها وبدخول الدار] أي: لو قال: والله لا أطأ زوجتي. تعلقت يمينه بجماعها، هذه حقيقة عرفية، ولو قال: والله لا أدخل الدار، لم يحنث إلا بدخول جرمه كاملاً فيها، والدار إذا خصها العرف بشيء معين اختصت به؛ لأن الدار في بعض الأحيان قد تطلق حتى على الخباء، يقول الشخص: هذه داري. وهي خيمة، وقد تختص بالبناء. إذاً العرف له تأثير في دلالات الألفاظ، فحينئذٍ نتقيد بهذا العرف، وإن كانت دلالة اللغة عامة كما بيّنا. [وإن حلف لا يأكل شيئاً فأكله مستهلكاً في غيره كمن حلف لا يأكل سمناً فأكل خبيصاً فيه سمن لا يظهر فيه طعمه، أو لا يأكل بيضاً فأكل ناطفاً لم يحنث] هذه المسألة تقدمت معنا في الصيد في المستهلك ومتى يحكم باستهلاكه وعدمه، في المستهلك من الممنوع أكله وطعمه مثل: الزعفران وغيره. فعلى كل حال إذا استهلكت وذهبت مادة السمن في المطبوخ فإنه لا يؤثر؛ لأنه لم يصدق عليه أنه أكله، أما لو بقي شيء من المادة فإنه يؤثر. [وإن ظهر طعم شيء من المحلوف عليه حنث] لأنه حينئذٍ يتحقق السبب الموجب للحنث، وهو وجود طعم الذي حلف أنه لا يطعمه.

حكم من أكره على فعل شيء حلف ألا يفعله

حكم من أكره على فعل شيء حلف ألا يفعله قال رحمه الله: [فصل: وإن حلف لا يفعل شيئاً ككلام زيد ودخول دار ونحوه ففعله مكرهاً لم يحنث] بين رحمه الله في هذا الفصل تأثير الإكراه، وأن الإكراه يوجب إسقاط المؤاخذة، وعلى هذا قالوا: إنه لا يحكم بالحنث مع وجود الإكراه، فلو قال: والله لا أدخل الدار، فأكره عليها بالتهديد، أو أكره عليها بأن ربط ووضع في حمالة ونقل، وهذا يسمونه: الإكراه الملجئ، وهناك الإكراه غير الملجئ، أو يقولون: الإكراه التام، والإكراه الناقص، في كلتا الصورتين لم يحنث، فلو قال: والله لا أدخل الدار فحمل إليها مكرهاً، أو لا أكلم فلاناً فأكره على تكليمه فإنه لا تلزمه كفارة؛ لأن الله أسقط بالإكراه أعظم شيء وهو الردة، فلأن يسقط موجب التكفير من باب أولى وأحرى.

حكم من حلف ألا يفعل شيئا ففعله ناسيا أو جاهلا

حكم من حلف ألا يفعل شيئاً ففعله ناسياً أو جاهلاً قال رحمه الله: [وإن حلف على نفسه أو غيره ممن يقصد منعه كالزوجة والولد أن لا يفعل شيئاً ففعله ناسياً أو جاهلاً حنث في الطلاق والعتاق فقط]. هذه المسألة ترجع إلى قضية حق الله عز وجل وحق المخلوق، فإذا كان حلف على غيره أن لا يفعل، كولده وزوجته ممن له عليه سلطان، فإنهم فرقوا بين الطلاق والعتاق الذي هو تعلق حق المخلوق بهما دون غيره، أما وجه تعلق حق المخلوق في العتق والطلاق، فلو قال له: إذا فعلت كذا فعبدي فلان حر، وهذا العتق، أو إذا فعلت كذا فزوجتي فلانة طالق، أو زوجتي طالق، أو نسائي طوالق، هذا الطلاق. في هذه الصور كلها، هذا الحلف على المنع أو الحمل على فعل الشيء في شخص له عليه سلطة وقوة، قالوا: إنه يسقط المؤاخذة بالنسيان في هذه الصور كلها إلا العتق والطلاق؛ لأن العتق تعلق به حق المخلوق، فلو أن الشخص هذا الذي قال له: والله ما تشتري من البقالة. وإن اشتريت فزوجتي فلانة طالق، هنا تعلق الطلاق بمن له عليه سلطة كولده أو زوجته. قالوا: إذا فعل هذا المحلوف عليه والمعين ناسياً فإنه لا كفارة عليه ولا يحنث، ولا يلزمه شيء، إلا في الطلاق، والعتق. فإنه إذا فعله ناسياً حكمنا بالعتق وبوقوع الطلاق؛ لأنه حق للزوجة، أنها تطلق من زوجها، وتنحلُّ العصمة، وحق للملوك؛ لأنه خرج عن الملكية، فما نستطيع أن نقول: إن النسيان مؤثر. لماذا؟ لأنه دلت النصوص على أن النسيان لا يسقط حقوق المخلوقين. فلو أن شخصاً نسي ديناً لشخص عليه، ثم رفعه إلى القاضي فقال: عليه دين لي؟ قال: ليس له عليّ شيء. وهو ناسٍ، وحكم القاضي بأنه لا شيء عليه، ثم بعد عشرين سنة تذكَّر أن عليه ديناً، فهل يسقط الحق هنا؟ A لا، ويجب عليه الضمان، ويسقط عليه الإثم مدة النسيان، فالنسيان يسقط الإثم، ولكن لا يسقط الحق من المخلوق. إذاً النسيان الذي هذا حكمه يؤثر ما لم يكن فيه التبعة، الذي هو موجب الضمانات، وقد تقدم معنا في أكثر من مسألة بيان هذا. وقد استثنى المصنف رحمه الله العتق والطلاق لتعلق حق المخلوق به، فحينئذٍ المرأة لها حق والمملوك له حق، وبعض المتأخرين من العلماء رحمهم الله قال: إن هذا ضعيف أن يسوى الطلاق بالعتق، فقبل الطلاق ولم يقبل العتق. قال: لأن المرأة قد تبكي وتقول: أريد زوجي وما تريد الطلاق، والواقع أن جمهور العلماء لما قالوا بهذا، قالوا به بوجه صحيح. وهناك أمر ينبغي على طالب العلم أن ينتبه له وهو: أن كثيراً من إيرادات المتأخرين تنحصر في صور معينة، ولذلك تجد بعض المتأخرين يأتي بصورة عاطفية، أو يأتي بشيء محدود يعيب به على كلام العلماء وينتقدهم فينبغي أن ينتبه لهذا؛ فإننا كثيراً ما نجد ضوابط العلماء شمولية أو عمومية أو غالبية لا تتقيد بصور معينة، وهذا أمر مهم جداً؛ لأن أحكام الشريعة لا تتقيد بحالة دون أخرى. المقصود أنه قال: إنه قد تبكي المرأة، نقول: أيضاً المملوك الذي حكمنا بعتقه قد يقول: أريد سيدي، لا أريد أن أعتق منه. وأذكر أيام الرق كان للجد والأسرة منهم بعض من عتق وأبوا أن يبرحوا الجد، بسبب حسن المعاملة، وقد لا يرضى الإنسان، ويحب أن يكون عند سيده؛ من حسن معاملته، وشرفه، وطيبه، وعلمه، فتجد من يبكي ويتذمر منهم. وأدركنا أناساً حدثونا عن أناس ممن كانوا لا يريدون أبداً أن يعتقوا من أسيادهم، فرجعوا إلى أسيادهم وأصروا على البقاء عندهم. إذاً المعنى في العتق هو نفس المعنى في الطلاق، ما الذي جعلهم يقولون: إن المرأة عندما تطلق عتقت من موجب العصمة؛ لأن قيام الرجل عليها تضييق في حريتها، هذا بأصل الشرع، وإن كان فيه مفسدة، لكن له مصالح أعظم، ونحن نقول: إن الطلاق يوجب لها الراحة والفكاك في غالب الصور، بغض النظر عن الآحاد، وهذا أمر ينبغي أن يتنبه إليه. وعلى هذا لا يرد ما ذكره بعض المتأخرين بالتفريق بين العتق والطلاق، والمصنف جمع بينهما وجمعه صحيح ونص عليه الأئمة رحمهم الله.

حكم من حلف على من ليس له عليه سلطان

حكم من حلف على من ليس له عليه سلطان قال رحمه الله: [أو على من لا يمتنع بيمينه من سلطان وغيره ففعله حنث مطلقاً] قوله: (من لا يمتنع بيمينه) سواءً فعله ناسياً أو غير ناس، فرقوا بين من يمتنع وبين من لا يمتنع، والأصل يقتضي التسوية.

حكم من حلف على شيء وفعل بعضه

حكم من حلف على شيء وفعل بعضه قال رحمه الله: [وإن فعل هو أو غيره ممن قصد منعه بعض ما حلف على كله لم يحنث ما لم تكن له نية] هناك فرق بين الكل والبعض، فلو قال: والله لا آكل الرغيف فإنه يحنث إذا أكل بعضه، أما لو قال: والله لا آكل كل الرغيف. فأكل نصفه، أو أكل ثلثيه أو ثلاثة أرباعه أو أكل شيئاً يسيراً لم يحنث حتى يأكل الكل، ولو قال: والله لا أدخل الدار فمد يده أو مد رجله لم يحنث حتى يدخل كله. ومن هنا قالوا: الجزء لا يأخذ حكم الكل، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام لـ عائشة: (ناوليني الخمرة -وكان معتكفاً- قالت: يا رسول الله! إني حائض) وهذا يدل على أن الحائض لا تدخل المسجد، فإنه لو كانت عائشة لا تدرك هذا -وهي الفقيهة- لقامت مباشرة وأعطته، لكن قالت: (إني حائض) ومعنى ذلك: أنه عرف عند الصحابة وتقرر أن الحائض لا تدخل المسجد، لكنهم ظنوا أن الجزء يأخذ حكم الكل؛ فإنها لو مدت يدها لناولته، فقال لها: (إن حيضتك ليست في يدك) يعني: (ناوليني) والمناولة باليد، ما قال: ائتيني أو تعالي بالخمرة إنما قال: (ناوليني) باليد، فدل هذا على أن الجزء لا يأخذ حكم الكل، وأنه لا يحنث. ومن ذلك: مسألة الأيمان والنذر في الاعتكاف، لو نذر أنه لا يخرج من المسجد فأخرج يده فإن هذا لا يوجب الحكم بانتقاضه.

باب النذر

شرح زاد المستقنع - باب النذر النذر أن يلزم المكلف نفسه بما لم يلزمه به الشرع، ولهذا الإلزام أحكام وأقسام بينها الفقهاء في كتبهم وتصانيفهم، مع بيان ما يترتب على الإخلال بالنذر من الكفارة، ومتى يكون هذا الإخلال واجباً أو محرماً أو مندوباً أو مكروهاً، وغير ذلك من الأحكام.

تعريف النذر

تعريف النذر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب النذر] علاقة النذر باليمين علاقة قوية، حتى إن الشرع سوى بينهما في حال الإخلال، وجعل كفارة النذر كفارة اليمين، وهذا يدل على قوة التلازم بين الأيمان والنذور، وكثير من العلماء ذكروا باب النذر مقروناً بباب اليمين، وهذا لشدة التلازم بينهما. والنذر هو: أن يلزم المكلف نفسه بما لم يلزمه به الشرع، ويكون في المعصية ويكون في الطاعة، ولكل حكمه، والأصل فيه الكتاب، حيث أثنى الله عز وجل على عباده فقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] والنبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك من الصحابة رضوان الله عليهم، كما في قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأجمع العلماء على مشروعيته من حيث الجملة. قال رحمه الله: [لا يصح إلا من بالغ عاقل ولو كافراً] أي: لا يصح النذر إلا من بالغ عاقل، أي: مكلف؛ لأن التكليف بالعقل والبلوغ، فلا يصح نذر الصبي ولا يصح نذر المجنون. قوله: (ولو كافراً) الكافر يصح نذره؛ لحديث عمر بن الخطاب أنه نذر أن يعتكف ليلة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يوفي بنذره، وهذا يدل على صحة نذر الكافر.

أقسام النذر الصحيح

أقسام النذر الصحيح قال رحمه الله: [والصحيح منه خمسة أقسام] إذا قلت: الصحيح. فمعنى ذلك: أنه تترتب عليه الكفارة عند الإخلال، أما إذا قلت: إنه فاسد أو لاغ. فهذا ليس له موجب وهو الكفارة. فقوله: (خمسة أقسام) هذا إجمال قبل البيان والتفصيل.

القسم الأول: النذر المطلق

القسم الأول: النذر المطلق قال رحمه الله: [المطلق: مثل أن يقول: لله عليّ نذر ولم يسم شيئاً فيلزمه كفارة يمين] قوله: (لله عليّ نذر) فيه وجهان في الانعقاد: والجمهور على أنه ينعقد. وحينئذٍ إذا لم يسم شيئاً يلزمه أن يكفر كفارة يمين، وفيها الزيادة في الحديث المشهور: (من نذر نذراً لم يسمه فكفارته كفارة يمين)، وهي زيادة على الرواية الصحيحة، وهذه الرواية موجودة في السنن، والأصل في صحيح مسلم، وهذا يدل على أنه إذا لم يسم النذر، فإن عليه كفارة يمين. ووجه ذلك أنه قال: لله عليّ فحصل الالتزام، والصيغة موجبة للالتزام، ثم لم يبين شيئاً، فحينئذٍ تعلق به النذر، فلا وجه للإسقاط؛ لأنه التزم، ثم بعد ذلك يلزم بموجب النذر وهو الكفارة.

القسم الثاني: نذر اللجاج والغضب

القسم الثاني: نذر اللجاج والغضب قال رحمه الله: [الثاني: نذر اللجاج والغضب: وهو تعليق نذره بشرط يقصد المنع منه أو الحمل عليه أو التصديق أو التكذيب] نذر اللجاج والغضب أن يكون الحامل عليه هو أن يغضب من شيء فينفر منه، لا أن حالته حالة الغضب؛ لأن الغضب الذي يسقط التكليف هو الذي يصل إلى حد الجنون، وقد بينّا أن صاحبه غير مكلف، أما هذا فيكون بالحمل على الشيء أو ترك الشيء، فيقول له: لله عليّ أن تفعل كذا أو تفعل كذا، فهذا يعتبر من نذر اللجاج؛ لأنه يحصل عند المراجعات وعند الخصومات بين الناس. [فيخير بين فعله وبين كفارة يمين] كما لو قال له: أعطني. قال: لله عليّ أن لا أعطيك. فحينئذٍ لو أنه رأى أن الخير أن يعطيه فله أن يعطيه، كما أنه لو حلف أن لا يعطيه فله أن يعطيه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير) فقال العلماء: من نذر ورأى غيره خيراً منه فإنه يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير، في الفعل أو الامتناع، سواءً حلف على أن يفعل أو أن لا يفعل.

القسم الثالث: نذر المباح والمكروه

القسم الثالث: نذر المباح والمكروه قال رحمه الله: [الثالث: نذر المباح: كلبس ثوبه وركوب دابته فحكمه كالثاني] أي: لو أنه نذر لله عز وجل في لبس ثوب أو ركوب دابة، وحصل ما يوجب الحنث، فإن هذا النذر في المباحات بالإجماع، وكذلك لو قال: لله عليّ أن لا أركب الدابة، لله عليّ أن ألبس الثوب، لله عليّ أن أفعل كذا وكذا، فهذا في المباحات وهو من نذر المباح. قال رحمه الله: [وإن نذر مكروهاً من طلاق أو غيره استحب أن يكفر ولا يفعله] وهذا ما يندب فيه الحنث ويكره فيه الفعل؛ لأن النذر إذا كان بفعل واجب فيجب الوفاء به، ويحرم الحنث فيه، ومنه ما هو مندوب، يكره فيه الحنث، ومنه ما هو مكروه يندب فيه الحنث، وهذا مما يكره ويندب فيه الحنث، فلو أنه نذر على شيء مكروه فإننا نقول له: الأفضل أن تكفر. وقد تقدم تفصيل هذا في الأيمان.

القسم الرابع: نذر المعصية

القسم الرابع: نذر المعصية قال رحمه الله: [الرابع: نذر المعصية: كشرب خمر، وصوم يوم الحيض والنحر، فلا يجوز الوفاء به ويكفر] اختلف العلماء في هذا النوع من النذر، وهو أن ينذر أن يفعل معصية أو يترك واجباً، وهذا يسمى: نذر المعصية بفعل المحرمات أو ترك الواجبات، فقال بعض العلماء: لا ينعقد أصلاً ولا كفارة فيه؛ لأنه لغو. ومن أهل العلم من قال: فيه كفارة، وهذا جار على الأصول وهو أقوى، وهو الذي درج عليه المصنف رحمه الله، ولا يجوز له أن يعمل بذلك، فالمرأة فلا يجوز أن تصوم يوم حيضها؛ لأن هذا منهي عنه شرعاً، وكذلك صوم يوم النحر، كما في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يومي العيد، فلا يجوز له أن يصوم هذين اليومين وإنما يكفر.

القسم الخامس: نذر التبرر

القسم الخامس: نذر التبرر قال رحمه الله: [الخامس: نذر التبرر مطلقاً أو معلقاً، كفعل الصلاة والصيام والحج ونحوه] كأن يقول: لله عليّ أن أصوم، لله عليّ أن أصلي، لله علي أن أعتمر، هذا نذر التبرر: وهو طلب البر والطاعة، فهذا مندوب، والرغيبة فيه والأجر فيه والمثوبة فيه، ولذلك يستحب الوفاء به والقيام به ويستحب أن لا يحنث فيه، ومن هنا هذا النوع من النذر مما يستحب فيه الوفاء ويكره فيه الحنث. وكذلك لو قال: لله عليّ أن أصوم الإثنين والخميس. وقال: ما رأيكم؟ نقول له: يا أخي! هذا النوع من النذر نذر بر وطاعة وخير فلا تحرم نفسك الأجر، وقد حملت نفسك على هذا الخير بحامل وبإلزام فابق على هذا الإلزام؛ لأنه أعظم لأجرك وأتقى لربك، فهذا النذر يعتبر الوفاء به مندوباً، وقيل: إنه هو الذي ورد الثناء عليه في قوله: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:7] وليس النذر المعلق على المكروهات. قال رحمه الله: [كقوله: إن شفى الله مريضي أو سلّم مالي الغائب فلله عليّ كذا فوجد الشرط لزمه الوفاء به] قوله: (إن شفى الله مريضي). هذا النذر فيه وجه من الكراهة، وكذلك إن قال: إن سلمت بضاعتي؛ لأنه قد يعتقد أن البضاعة ما سلمت إلا بهذا النذر، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إن النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل) بمعنى: أن النذر ليس هو الذي يؤثر في قضاء الله وقدره. فبعض الناس يظن أنه ما دامت تجارته في خطر إذاً ينذر، كأنه بهذا الفعل يجامل ربه، هذا معنى قوله: (لا يأتي بخير) إذاً: يجب أن لا يعتقد الإنسان بنذره كأنه يحمل -حاشا لله- الله عز وجل أن يسلم له بضاعته أو يشفي مريضه، فإن الله سبحانه وتعالى لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، والله الغني ونحن الفقراء، فهذا الاعتقاد قد يحصل من بعض ضعاف النفوس، وهذا وجه كراهة النذر، وهو كون المرء يظن أنه بهذا النذر حصل له المطلوب، واندفع عنه المرهوب الذي لا يحبه ولا يريده، وهذا هو المعنى المذموم شرعاً.

حكم من نذر الصدقة بماله كله أو أقل من الثلث

حكم من نذر الصدقة بماله كله أو أقل من الثلث قال رحمه الله: [إلا إذا نذر الصدقة بماله كله أو بمسمىً منه يزيد على ثلث الكل فإنه يجزئه قدر الثلث] إذا نذر أن يتصدق بماله كله فوجهان: قيل: إنه يقبل منه، كما قبل النبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر رضي الله عنه حينما خرج من ماله، وخرج بعض الصحابة من مالهم. ومن أهل العلم من قال: من نذر أن يتصدق بماله كله، فإنه يتصدق بالثلث ويجزيه، ويسقط عنه الإلزام في الكل، وأخذوا هذا من حديث: (قال: يا رسول الله! إن من توبة الله عليّ أن أتصدق بمالي. قال: أمسك عليك مالك) قالوا: إن هذا يدل على أنه لا يتصدق بالمال كله. وقبل النبي صلى الله عليه وسلم من سعد الثلث كما في حديث الوصايا فقال: (الثلث والثلث كثير) ففرقوا بين الكثير والقليل فقالوا: يخرج الثلث، وظاهر السنة يدل على قبول خروجه من المال كله، خاصة إذا كان قوي الإيمان قوي الاعتقاد فلا بأس بذلك ولا حرج، كما قبل النبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر رضي الله عنه ذلك. [وفيما عداها يلزمه المسمى] قوله: (وفيما عداها يلزمه ما سماه) أي: إذا كان أقل من الثلث كما لو سمى الربع أو سمى الثمن فإنه يلزمه أن يفي به.

حكم من نذر صوم شهر

حكم من نذر صوم شهر قال رحمه الله: [ومن نذر صوم شهر لزمه التتابع]. من نذر صوم شهر فله حالتان: الحالة الأولى: أن يسمي شهراً بعينه، فيفوت بفوات أول يوم منه، فلو أفطر في أوله فحينئذٍ انتقض نذره ولزمته الكفارة، كما لو قال: لله عليّ أن أصوم شهر ربيع الأول، فإذا هل هلال ربيع الأول لزمه أن يصوم الشهر كاملاً متتابعاً، سواءً كان ناقصاً أو كاملاً، فهذا المعين يتقيد به. الحالة الثانية: أن يطلق، فإذا أطلق يخير بين أن يصوم أثناء الشهر أو أن يصوم شهراً كاملاً، فلو أنه حلف أن يصوم شهراً فابتدأ ببداية شهر ربيع، وتبين أن ربيع ناقص أجزأه؛ لأن الشهر يكون ناقصاً وكاملاً كما قال صلى الله عليه وسلم: (الشهر هكذا وهكذا). لكن إذا أراد أن يصوم أثناء الشهر فلابد أن يعد ثلاثين يوماً، وللعلماء وجهان: منهم من قال: إنه يصوم ثلاثين يوماً ولو متفرقة، إلا إذا قصد التتابع، وهذا أقوى مما اختاره المصنف رحمه الله أنه يلزمه التتابع.

عدم لزوم التتابع لمن نذر صيام أيام معدودة

عدم لزوم التتابع لمن نذر صيام أيام معدودة قال رحمه الله: [وإن نذر أياماً معدودة لم يلزمه إلا بشرط أو نية] قال: لله عليّ أن أصوم عشرة أيام، أو لله عليّ أن أصوم عشرين يوماً، فإن شاء صامها متفرقة وإن شاء صامها متتابعة.

مقدمة كتاب القضاء

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب القضاء من رحمة الله بعباده أن شرع لهم القضاء لحل خصوماتهم، فيكف الظالم، وينصر المظلوم، وشرع سبحانه لهم شريعة يحكمون بها، وألزم الشرع الإمام بأن يختار قضاة ذوي كفاءة ودين وورع وعدالة، كل هذا لأجل أن تعم العدالة حياة المسلمين.

تعريف القضاء وحكمه

تعريف القضاء وحكمه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب القضاء].

تعريف القضاء

تعريف القضاء القضاء يطلق في اللغة على عدة معانٍ: الأول: الفراغ من الشيء، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة:200]، وقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} [النساء:103] {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة:10] أي: فرغتم منها وانتهيتم من أدائها. الثاني: الحكم والإيجاب والأمر بالشيء والتوصية، كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]. الثالث: الإعلام، كما في قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ} [الحجر:66] أي: أعلمناه. الرابع: الشيء المحتم، كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} [سبأ:14] أي: أصبح أمراً محتماً لازما ًعليه. الخامس: الخلق، ومنه قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [فصلت:12]. أما في الاصطلاح: فهو قطع النزاعات وفصل الخصومات، وقيل: (بحكم الله) إضافة قيد. وعرفه بعض العلماء بقولهم: الفصل بين خصمين بحكم الله عز وجل. وهذا من أنسب التعاريف.

مشروعية القضاء

مشروعية القضاء القضاء سنة متبعة، بها يحق الحق ويبطل الباطل، ولابد للمسلمين من قضاة يقومون بمصالحهم، يردعون الظالم عن ظلمه، ويعطون المظلوم حقه، وبذلك يتحقق العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض. وقد دلّ دليل الكتاب والسنة وانعقد الإجماع على شرعية القضاء، والعقل أيضاً يدل، قال تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42]، وقال سبحانه تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص:26]، فأمر بالقضاء. والقاضي مستخلف على مصالح المسلمين؛ ليحرص على جلب المصالح لهم، ودرء المفاسد عنهم. وأما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قضى كما في الصحيحين في قصة اختصام علي وجعفر، وكذلك قصة الزبير مع جاره، وكذلك أيضاً ولّى القضاة، كما بعث علياً رضي الله عنه إلى اليمن قاضياً، وبعث معاذاً وأبا موسى الأشعري أيضاً رضي الله عن الجميع، وتولى القضاء من بعده الخلفاء الراشدون، وولوا القضاة على الأمصار وعلى الأقاليم. وأجمع المسلمون على شرعية القضاء. والقاضي خليفة عن الإمام العام للمسلمين في هذا الأمر الذي يناط به، وهي أمانة عظيمة ومسئولية جسيمة. فمن عرف من نفسه الكفاءة والأهلية ولم يجد غيره، أو غلب على ظنه أنه يتعطّل هذا الحق إذا لم يله تعين عليه أن يطلب القضاء، وتعين عليه أن يصير قاضياً، كما قال تعالى: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، وأما إذا وُجد غيره فإن السلامة مندوب إليها، وفعلها أئمة السلف، أنه إذا غلب الفساد في الناس وغلب على ظنه أنه لا يحق حقاً ولا يبطل باطلاً فالسلامة أفضل. قيل لـ أبي قلابة الجرمي رحمه الله -الإمام الجليل فقهاً وحديثاً- عندما أكره على القضاء وفرّ، فقيل له: كيف وأنت الإمام وعندك العلم والدراية بالقضاء؟ قال: إلى متى يسبح السبّاح في البحر؟ يعني: إذا عظمت الفتن أصبحت مثل الشخص الماهر القوي في داخل بحر، يسبح يسبح حتى يتعب ثم يسقط، وهذا لمن غلب على ظنه أنه لا يقوى على الفتن. وقال أبو حنيفة حينما دعي إلى القضاء: والله! لا أصلح، إن كنتُ صادقاً فقد صدقت، وإن كنتُ كاذباً فكيف تولي من يكذب؟! وكان هو وإياس مرشحين للقضاء، قيل: امتنع إياس وامتنع أبو حنيفة، فلما قال أبو حنيفة ذلك قال إياس: يا أمير المؤمنين! أتيت بإمام أوقفته على شفير جهنم حلف عليها يميناً يفتدي منها بكفارة، قال: أما وقد عرفت فقهها لا يقضي غيرك. وكان لدى إياس رحمه الله ذكاء. وقيل: لما قيل لـ أبي حنيفة: لماذا لم تلِ القضاء وأنت أنت؟!! قال: إني لا أملك القلب الذي أقضي به عليك وعلى أمثالك. يعني: لا أملك الصرامة والقوة أن أنفذ الحق، فلذلك لا يمكن أن يكون القاضي قائماً بحق الله عز وجل إلا إذا كان حازماً، وصدق وبر واتقى الله عز وجل.

القضاء فرض كفاية

القضاء فرض كفاية قال رحمه الله: [وهو فرض كفاية]. وهو -أي: القضاء- فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين.

واجب الإمام في القضاء واختيار القضاة

واجب الإمام في القضاء واختيار القضاة قال رحمه الله: [يلزم الإمام أن ينفذ في كل إقليم قاضياً]. يجب على إمام المسلمين وولي أمرهم أن يختار القضاة للأمصار والأقاليم وفي الأماكن على حسب الحاجة، فيعين من هو أهل للقيام بهذه المصالح. والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث القضاة -وممن بعثهم علي رضي الله عنه- وكذلك الخلفاء الراشدون من بعده اختاروا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم للقضاء وأرسلوهم قضاة في الأمصار والأقاليم، وهذا يدل على أنه ينبغي اختيار القاضي، ولعظم مسئولية القضاء لا يختار له كل أحد، بل ينبغي أن تتوافر فيه الصفات المعتبرة. قال رحمه الله: [ويختار أفضل من يجده علماً]. لأن الله سيسأله عمن يختاره، وسيقف بين يدي الله ويسأل عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم وعما اختار لهم، إن نصح فقد نصح، وإن لم ينصح فإنه مسئول محاسب عن ذلك. إذاً: من واجب النصيحة أنه إذا وجد الناس على فضل بحث عن أفضلهم وأكملهم، وهذا مبالغة في النصيحة لعامة المسلمين، وكل من ولي أمراً من أمور المسلمين -حتى ولو كان مدرساً- وأراد أن يختار أحداً للقيام بمصلحة من المصالح فعليه أن يختار الأفضل، فهذه هي النصيحة التي هي الدين، يقول صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) أن ينصح لعامة المسلمين باختيار الأفضل علماً -أن يكون عنده علم ودراية-؛ لأنه لا يمكن إحقاق الحق وإبطال الباطل إلا بالبصيرة، وهي النور الذي يقذفه الله في القلوب، {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [النساء:162] فالرسوخ والبينة طريقان لاستبانة الحق ومعرفته؛ لأن الجاهل بالحق لا يمكن أن يقضي به، فلابد أن يكون لديه علم. ويعرف علم الرجل بشهادة العلماء وبشهادة من هو أعلم بأن فلاناً عنده علم، فإذا شُهد له -أو عرف بالسماع عنه- أنه مبرز في علم القضاء فإنه يختار لذلك. [وورعاً]. الورع أن يكون عنده انكفاف عن محارم الله عز وجل، فيدع ما لا بأس به خوفاً من الوقوع فيما به بأس، وإذا كان القاضي ورعاً عف عن أموال المسلمين، وكف عن أذيتهم بلسانه وعن أذيتهم بقوته وسلطانه، وكان أخوف ما يخاف من الله عز وجل أن يقف أحد منهم خصماً له بين يدي الله سبحانه وتعالى. وهذا الورع هو الذي يقف به في وجه الظالم لكي يكبحه عن ظلمه كائناً من كان، ويجد أنه بهذا الورع أقوى من القوي في قوته، ويجد أن الضعيف في عينه صار قوياً بهذا الورع، وأن القوي صار ضعيفاً.

نماذج من القضاة القدوة

نماذج من القضاة القدوة القضاة من أئمة السلف رحمهم الله ودواوين العلم والصلاح سطروا المواقف العظيمة الجليلة الكريمة. فقد أثر أن المأمون لما جاء إلى المدينة ومعه الحمالون لمتاعه ما إن نزل واستقر حتى أتوا إلى قاضي المدينة؛ فما إن دخل إلى قصر عامله بالمدينة حتى جاءه رسول القاضي يقول له: إن القاضي يدعوك إلى مجلس القضاء، حضر خصوم لك. فما كان منه إلا أن بعث حاجبه، وقال له: إذا خرجت فمر الناس ألا يقوموا؛ فإني ماض إلى مجلس القضاء. فلما مضى إلى مجلس القضاء وجاء إلى مجلس القاضي فرشت له السجادة، فقال له القاضي: يا أمير المؤمنين! لا تترفع عن خصمك، -وخصومه هم الحمالون الذين كانوا يحملون متاعه لما جاء مسافراً من دار الخلافة إلى المدينة- فإما أن تفرش لك ولهم وإلا جلست معهم على أرض المسجد. فجلس معهم على أرض المسجد، فلما جلس معهم قال: ما خصومتهم؟ قال: إنهم لم يأخذوا حقوقهم، فقال: إني قد أمرت وكيلي أن يدفع إليهم، قال: فلتدفع إليهم الساعة؟ قال: أفعل. فما كان من القاضي بعد أن انتهى هذا الأمر إلا أن ذهب وجلس وراء المأمون، فقال له: ويحك! ما الذي تفعله؟ قال: يا أمير المؤمنين! كنت في حق الله وقضيت، فالآن أبقى في حق أمير المؤمنين. وفي زمان الرشيد أثر عن أحد القضاة أنه كان من أصلح القضاة، فجاءته امرأة فقالت له: أنا بالله ثم بالقاضي من عم أمير المؤمنين عيسى بن موسى، وكان له مكانته، قال: ما شأنك؟ قالت: إن أبي خلف لي بستاناً فكان بيني وبين أخوتي، فاشترى من إخوتي نصيبهم وساومني أن يأخذ حقي فامتنعت، فما زال بي حتى كان البارحة أرسل أعوانه فهدموا الجدار فأصبحت لا أعرف حقي من حق إخواني، فأنا بالله ثم بالقاضي. فكتب إليه: إلى عم أمير المؤمنين فلان بن فلان، تحضروا إلى مجلس القضاء أنت أو وكيلك، فقد حضرت امرأة تستعدي عليك. فلما جاء الكتاب إليه أخذته العزة بالإثم فغضب غضباً شديداً فنادى أكبر العلماء في قرية كانت في ضاحية فقال له: اذهب إلى هذا القاضي وقل له: نوليك القضاء حتى تقضي علينا؟! فقال له هذا العالم الموفق: أعفني من ذلك؛ لأنه يعرف أن هذا القاضي صارم لا تأخذه في الله لومة لائم، فقال: أعفني من ذلك، قال: والله! لا يذهب غيرك. قال: أما وقد أقسمت علي فإني سأبعث بفراشي إلى سجن القاضي؛ لأنه يعرف أنه سيسجنه. فما إن جاء إلى القاضي وقال له: إن عم الخليفة يقول لك كذا وكذا، قال: بئس ما جئتني به، أوتحول دون الحق، وتعين على الباطل؟! اذهبوا به إلى السجن. قال: قد علمت، وقد سبقني فراشي. فكتب إليه مباشرة؛ لأنه رد الشرع وأهان القاضي فرد له بالإهانة: إلى فلان بن فلان حضرت امرأة تستعدي عليك، فلتحضر إلى مجلس القضاء بنفسك. بينما في المرة الأولى قال له: أنت أو وكيلك، فقال له هذه المرة: بنفسك. فما كان منه إلا أن ازداد غضبه ثم نادى تسعة من العلماء من أعيان البلد وأمرهم أن يذهبوا، فلما صلى القاضي العصر جاءوا حوله وتحلقوا لكي يساوموه في المصلحة وما تقتضيه المصلحة، فلما تكلموا قال: بئس ما جئتوني به، هل هنا أحد من فتيان الحي؟ فقالوا: أنا أنا، فقال: كل منكم يأخذ بواحد منهم ويذهب به إلى السجن. ثم كتب إليه: إما أن تحضر إلى مجلس القضاء وإلا ختمت القنطر، فوالله! لا خير فيَّ إن لم أقم الحق عليك وعلى غيرك. فلما مضى إليه الكتاب ما كان منه إلا أن غضب ولم ينظر في الكتاب ولم يقرأه ثم أمر بالباب أن يكسر وأخرج أولئك من السجن، فلما بلغ ذلك القاضي ختم القنطر، وإذا ختم القنطر لابد أن يذهب إلى هارون الرشيد، فلما صلوا المغرب إذا به قد تهيأ أن يخرج، فخرجت القرية عن بكرة أبيها؛ لأن من نصر الحق نصره الله عز وجل، فصاح الناس، وسأل هذا: ما شأن الناس وهو جالس في مزرعته؟ قالوا: إن القاضي ختم القنطر وهو يريد أن يذهب إلى أمير المؤمنين. قال: وما شأنه؟ قالوا: لأنك لم تأت إلى مجلس القضاء. وكان يعلم أن هارون الرشيد رحمه الله لا تأخذه في الله لومة لائم، كانت له حسنات جليلة، فعلم أنه لو ذهب إليه سيهينه ويرده إلى مجلس القضاء، فما كان منه إلا أن ركب دابته ووقف للقاضي في طريقه قبل أن يخرج من القرية، فقال له القاضي: لا أرضى حتى يرجع كل من أخرجته؛ لأن هذا حق لله لست أنت الذي تخرجه. فردوا إلى مجلسه، فلما ردوا قال له: تذهب الآن مع المرأة وتدخل إلى المسجد. فمضى معها كما يمضي غيره من عامة الناس، ثم لما دخل القاضي وصلى الركعتين وجلس للخصومة جاء عم أمير المؤمنين فأراد أن توضع له الطنفسة، قال: تجلس على أرض المسجد ولا تجلس على بساطك وعلى فراشك، فأنت في مجلس خصومة. فقامت المرأة ورفعت صوتها، فقال لها بعض أعوان عيسى بن موسى: اخفضي صوتك. فقال لها القاضي: انطقي؛ فإن الحق رفع صوتك قولي ما عندك، فصاحت المرأة بقضيتها، فقال: ما تقول؟ قال: أقول: قالت حقاً، قال: تبني جدارها الساعة، قال: أفعل، فقالت المرأة: جزاك الله عن الإسلام والمسلمين وعن أمة محمد خير الجزاء. هذه النماذج العظيمة القوية بها يحق الحق، ولا يمكن أن يكون القاضي إلا إذا كان صادقاً وكان أهلاً، فإذا غلب على ظنه أنه يحق الحق ويبطل الباطل فحيهلاً وإلا فلا.

ما يجب على الإمام أن يأمر به من يوليهم القضاء

ما يجب على الإمام أن يأمر به من يوليهم القضاء قال رحمه الله: [ويأمره بتقوى الله]. أي: يأمر القاضي أن يتقي الله عز وجل؛ لأن أساس الأمور وصلاحها كلها في تقوى الله، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً أو بعث سرية أمر وأوصى الأمير في خاصته ومن معه بتقوى الله عز وجل، فهي أساس ومنبع كل خير وبر. قال رحمه الله: [وأن يتحرى العدل وأن يجتهد في إقامته]. أي: يوصيه أن يتحرى العدل حتى يعذر إلى الله عز وجل، ويقول: إني وليتك هذا الأمر فاتق الله واعدل؛ لأن الحكم قوامه العدل فالقوي ضعيف عندك حتى تأخذ الحق منه، والضعيف قوي حتى ترد الحق إليه، وأن لا تأخذك في الله لومة لائم، وأن تتذكر معونة الله لك، وتأييد الله لك، وأنه لا يزال لك من الله نصير وظهير ما دمت تطلب الحق وتنشده؛ لأن القاضي إذا طلب الحق وتجرد للحق لا يزال معه من الله معين وظهير، ما لم تخن خائنة في قلبه والعياذ بالله {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، نسأل الله بعزته وجلاله ألا يزيغ قلوبنا. قال رحمه الله: [فيقول: وليتك الحكم أو قلدتك ونحوه ويكاتبه في البعد]. الأولى صيغة قولية، يقول له: وليتك قلدتك هذه من الصيغ التي يوجهها الإمام العام -ولي الأمر- لمن يوليه القضاء؛ لأن القاضي نائب عنه منفذ بالشرع بالأحكام له نيابة عن الإمام وما دام أن القاضي نائب عن الإمام، فلابد أن تكون هناك وكالة شرعية تكون باللفظ الصريح: وليتك قلدتك نصبتك، ونحو ذلك، أو أنت قاضي كذا. أو يكتب إليه ويصدر أمراً بتعيينه ونحو ذلك، فهذا يقوم مقام اللفظ.

مهام القاضي

مهام القاضي قال رحمه الله: [وتفيد ولاية الحكم العامة الفصل بين الخصوم]. إذا كان القضاء في ولايات عامة وخاصة، يكون عاماً في الولاية عاماً في المكان، كأن يقول له: أنت قاضٍ على دولتي كلها، أي: جميع ما يتعلق بالقضاء راجع إليك، فهذه ولاية عامة في عموم العمل وهذه يطلقون عليها: (عموم النظر في عموم العمل) فجميع ما يتعلق بالقضاء يرجع فيه إلى هذا المولى. ويكون أيضاً: عموم في خصوص (عموم النظر في خصوص العمل) كأن يقول له: وليتك القضاء في الأنكحة وفي الرهون وفي البيوعات وفي الحدود وفي القصاص، وفي الوصايا وفي الأيتام ونحو ذلك عامة، في مدينة كذا أو كذا؛ فهذا يسمى (عموم النظر في خصوص العمل). أو يوليه (خصوص النظر في خصوص العمل) كأن يكون هناك قضاة في الوكالات يتولون كتابة صكوك الوكالات، وهناك قضاة يتولون الحدود، وآخرون يتولون الجنايات، يقول -مثلاً-: أنت وليتك قضايا القتل في مكة، أو في المدينة (خصوص النظر في خصوص العمل). إذاً: ولاية القاضي تكون خاصة وتكون عامة، وهذه من التشريعات الإسلامية، والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) فاعترفت فرجمها، فولاه عليه الصلاة والسلام خصوص النظر في قضية خاصة معينة، وجعله قاضياً إن اعترفت، والاعتراف لا يصح إلا في مجلس القاضي وفي مجلس الحكم، (فارجمها) والرجم لا يكون إلا بحكم القاضي، فجعله قاضياً في قضية مخصوصة، وهذا من خصوص الولاية. قوله: (وتفيد ولاية الحكم العامة الفصل بين الخصوم، وأخذ الحق لبعضهم من بعض). كلما اختصم خصمان يفصل بينهما؛ لأنه مسئول عن هذا، سواء كانت الخصومات في الأموال أو كانت في الأنكحة، أو كانت في الحقوق العامة، أو كانت في الحدود ونحو ذلك، كل هذه يتولاها للعموم. قال رحمه الله: [والنظر في أموال غير المرشدين]. كل قاضٍ ينبغي عليه أن ينظر من ولاهم على الأيتام وعلى القاصرين، وهم (النظار) فيستدعيهم ويسألهم ويعرف كيف يصرفون، وكيف يقومون، حتى يعلم صدق الصادق وكذب الكاذب، وخيانة الخائن، وأمانة الأمين، ويعرف هل هو فعلاً قائم بهذه الولاية. فكل من ولي قضاء أول ما يأتي ينبغي أن يستدعي هؤلاء ويسألهم، وقد نبه على هذا الأئمة رحمهم الله في كتبهم: كأدب القاضي للإمام الماوردي، وابن أبي الدم من فقهاء الشافعية، وكذلك نبه عليه ابن فرحون في التبصرة، وغيرهم من الأئمة والفقهاء، وشيخ الإسلام أشار إلى هذا فهذه من مسئولياته وأمانته أن ينظر في أموال القصار -إذا كانت الولاية عامة- ويولي أوصياء عليهم، وكذلك يتفقد القائمين على أموال السفهاء ومن يتولى عليهم النظار، هل هم قائمون أم مقصرون؟! قال رحمه الله: [والحجر على من يستوجبه لسفه أو فلس]. يوليه هذه الولاية وتكون ولاية عامة، ولاية الحجر على السفيه. قال رحمه الله: [والنظر في وقوف عمله ليعمل بشرطها وتنفيذ الوصايا]. إذا كان في مدينة يستدعي النظار على الأوقاف، ويسألهم عن أوقافهم، وهذه الأوقاف ماذا اشترط الأموات فيها؟ وماذا اشترطوا في هذه الأوقاف؟ وهذه مسئولية عظيمة ولا يمكن أن تستقيم الأمور إلا بها، وكيف نفذوا هل نفذوا شروط الوقف أم لم ينفذوا؟ هل هم متلاعبون؟ هل هم مقصرون؟ هل هم محتاجون إلى مساعدة أو معونة؟ حتى يستجلي جميع هذه الأمور، فكلها في رقبته، وهو مسئول عنها أمام الله سبحانه وتعالى، ولذلك ينبغي عليه القيام بها كاملة. قال رحمه الله: [وتنفيذ الوصايا]. وكذلك هي. قال رحمه الله: [وتزويج من لا ولي لها]. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له). قال رحمه الله: [وإقامة الحدود وإمامة الجمعة والعيد، والنظر في مصالح عمله بكف الأذى عن الطرقات وأفنيتها ونحوه]. بالنسبة للجمعة ينصب شخصاً فهذا المسجد تصلى فيه الجمعة، والمنطقة التي هو فيها يقول: لا يصلون إلا في مسجد واحد؛ لأن الأصل أن الجمعة لا تعدد، فله النظر في مساجد الجمعات، وكذلك تنفيذ الحدود. قال رحمه الله: [ويولى عموم النظر في عموم العمل]. كما ذكرنا، قلنا: أنت المسئول عن القضاء في البلد كله، أو في الدولة كلها. قال رحمه الله: [ويولى خاصاً فيهما أو في أحدهما]. كما ذكرنا.

ما يشترط في القاضي

ما يشترط في القاضي قال رحمه الله: [ويشترط في القاضي عشر صفات].

أن يكون بالغا عاقلا ذكرا

أن يكون بالغاً عاقلاً ذكراً قال رحمه الله: [كونه بالغاً عاقلاً]. لا يصح القضاء إلا إذا كان القاضي بالغاً؛ لأن الصبي لا ولاية له على نفسه فكيف يكون والياً على الغير، ومن هنا أمر الله عز وجل بالحجر على أموال اليتامى والقاصرين الذين هم دون البلوغ، فلابد أن يكون بالغاً. وأن يكون عاقلاً، فلا يصح قضاء المجنون. ذكراً بالغاً عاقلاً وهذه يتأهل بها للتكليف وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل وتستحب فيه الجزالة وشرطه التكليف والعدالة أي: يستحب أن تكون عبارته جزلة واضحة، وأن يكون كلامه موجزاً. (وشرطه التكليف والعدالة) أي: يشترط أن يكون مكلفاً، فلا يصح أن يولي صبياً ولا مجنوناً.

أن يكون حرا

أن يكون حراً قال رحمه الله: [حراً]. لأن المملوك كما قال تعالى: {ضَرَبَ الله مَثلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل:75] هذا نص القرآن بين أن المملوك لا يقدر على شيء، والمملوك يتأثر بأحوال الناس وعظماء الناس، والغالب أنه يضعف ويجبن ويخاف، وهو مشغول بخدمة سيده، ولذلك لا يصح أن يولى القضاء، وهذا يزري بالقضاء وينقص من مكانته إذا ولي الضعفاء، فينبغي أن يولى القضاء من فيه قوة على إحقاق الحق حتى يردع السفيه عن سفهه، والظالم عن ظلمه.

أن يكون مسلما عدلا

أن يكون مسلماً عدلاً قال رحمه الله: [مسلماً]. فلا يصح أن يولى كافر، قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]، حتى لو كانوا كفاراً من أهل الكتاب، وأرادوا أن نولي عليهم قاضياً لا نولي إلا مسلماً؛ لأن الله أمرنا أن نحكم بينهم بالعدل وبشريعتنا، فلا نولي قضاتهم وإنما نولي قضاة مسلمين، لكن لو كانوا يرجعون إلى قضاة فيما بينهم فهذا قدمنا أحكامه في أحكام أهل الذمة. وقوله: [عدلاً]. ومن يجتنب الكبائرا ويتقي في الأغلب الصغائرا العدل هو: الذي لا يفعل الكبيرة ولا يصر على الصغيرة، فيشترط أن يكون القاضي عدلاً؛ لأن العدالة تحمل على إحقاق الحق وإبطال الباطل، فكما أنه يشترط في القاضي التكليف، كذلك يشترط فيه العدالة، فلا يجوز تولية الفاسق؛ لأن الفسق فيه إضاعة لحق الله عز وجل، ومن ثبتت خيانته في حق الله فإنه سيخون في حق المخلوق من باب أولى وأحرى، ومن هنا لا يولى الفاسق القضاء إلا في أزمنة خاصة يتعذر فيها وجود العدول، أو يكون فسقه خارجاً عن القضاء، يعني: لا يؤثر في قضائه، مثلاً: يشرب الخمر، لكنه من أصدق الناس، وعنده تحفظ ورعاية، لكنه مبتلى بشرب الخمر، فحينئذٍ يولى إذا كان هذا لا يؤثر في قضائه. فالشاهد من هذا: أن الفسق إذا لم يكن متعدياً للولاية فقد قرر الأئمة خاصة عند فساد الزمان أنه يجوز تولية أمثل الفساق.

أن يكون سميعا بصيرا

أن يكون سميعاً بصيراً قوله: [سميعاً]. فلا يولى الأصم القضاء إذ كيف يسمع الخصوم؟! وكيف يسمع الحجج ويصغي إليها؟! قوله: [بصيراً]. الأعمى اختلف فيه، والصحيح أنه يصح قضاء الأعمى إذا كان يميز الأصوات ولديه قدرة على القيام بحق الله عز وجل في قضائه، بل قد يكون أفضل من المبصر؛ فإن العمى عمى البصيرة، وكم من قضاة من العميان هم بكثير من غيرهم، مثل ابن عباس رضي الله عنه القضاء، فإذا كان أعمى عنده قدرة على القضاء فإنه يولى، هذا هو الصحيح، أما مذهب بعض العلماء من أنه لا يصح تولية العميان القضاء فهو قول مرجوح، وأشار إليه بعض العلماء بقوله: وأن يكون ذكراً حراً سلم من فقد رؤية وسمع وكلم فهذه من الشروط: أن يكون ذكراً فالأنثى لا تولى. حراً ألا يكون رقيقاً. سلم يعني: في عافية في سمعه فلا يكون أصم، وفي بصره فلا يكون أعمى، وفي كلامه فلا يكون أبكم.

أن يكون متكلما مجتهدا

أن يكون متكلماً مجتهداً قوله: [متكلماً]. متكلماً؛ لأنه كيف يحكم؟! قوله: [مجتهداً ولو في مذهبه]. مجتهداً اجتهاداً مطلقاً أو اجتهاداً مقيداً؛ حتى يستطيع أن يعرف الحق وأن يميزه.

القضاء الخاص في مسائل خاصة (التحكيم)

القضاء الخاص في مسائل خاصة (التحكيم) قال رحمه الله: [وإذا حكم اثنان بينهما رجل يصلح للقضاء نفذ حكمه في المال والحدود واللعان وغيرها]. بعد أن بين رحمه الله الولاية العامة شرع في ولاية القضاء الخاصة في المسائل الخاصة، كما لو اتفق شخصان على أن يحكما شخصاً بينهما فإنه ينفذ حكمه، ولذلك حكم النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، وكذلك أمر بالاحتكام إلى الحكمين في قضية نشوز المرأة، فإذا اتفقوا أن فلاناً يحكم بينهم فإنه يمضي حكمه، والأصل في ذلك ما ذكرناه من دليل الكتاب والسنة وكذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم، كما فعل علي رضي الله عنه في قضيته مع معاوية حيث حكما أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص رضي الله عن الجميع.

باب آداب القاضي

شرح زاد المستقنع - باب آداب القاضي ينبغي للقاضي أن يتحلى بجملة من الأخلاق وأن يراعيها في أقواله وأفعاله وأحواله، منها: القوة في غير عنف، واللين في غير ضعف، ليقوى الضعيف بحكمه، ويضعف الظالم بعدله، وعليه أن يراعي النزاهة في حكمه والبعد عن الشبهات والرشوة، والعدل بين المتخاصمين، ومجانبة ما يشوش عليه في حكمه، وأن يعتبر البينة، ولا وغيرها والآداب والأحكام التي يجب توافلرها في القاضي المسلم.

آداب القاضي

آداب القاضي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب آداب القاضي]. الآداب جمع أدب، والأدب من مكارم الأخلاق ومن محاسن العادات. وهذا الباب -باب آداب القاضي- باب عظيم اعتنى به العلماء رحمهم الله، وهي جملة من الأمور التي ينبغي للقاضي أن يراعيها في أقواله وأفعاله وأحواله في مجلس القضاء، والسبب في ذلك أن القضاء لابد له من هيبة، ولابد له من صيانة وتحفظ يستعان بهما بعد الله عز وجل في إيصال الحقوق إلى أهلها، فالتبذل وعدم العناية بحق القضاء شره وبلاؤه عظيم، ومن هنا اعتنى العلماء بهذا الباب. وآداب القاضي منها: آداب ظاهرة وآداب باطنة، والآداب الظاهرة: قولية، وفعلية، وكلها ينبغي أن يستجمعها القاضي في قضائه.

أن يكون قويا من غير عنف

أن يكون قوياً من غير عنف قال رحمه الله: [ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف]. فلا تأخذه في الله لومة لائم؛ لأنه إذا كان ضعيفاً لا يستطيع أن يأمر بما أمر الله به، ولا أن ينهى عما نهى الله عنه، فلابد وأن يكون قوياً من غير عنف، فالقوة إذا جاوز وأفرط فيها فإنها تصبح عنفاً، فينبغي أن تكون القوة بحدود، وهي القوة لإحقاق الحق وإبطال الباطل من غير عنف. وإذا كان قوياً من غير عنف فإنه حينئذٍ يهابه الباغي والظالم، ويطمع في عدله المظلوم؛ لأن المظلوم لما يرى القاضي ضعيفاً يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، فيفضل السكوت؛ لأنه كيف يشتكي إلى إنسان ضعيف؟ حينما فلابد أن يكون القاضي قوياً حتى يطمع الناس في الوصول إلى حقوقهم عن طريقه، وإذا كان القاضي بهذه الصفة رغب الناس في حكم الله عز وجل والعدل الذي يبينه، فإذا أفرط في القوة نفر الناس وظلم الناس وأجحف بالناس، وقد كان صلى الله عليه وسلم قوياً من دون عنف، وهو أن يضع الشدة في موضعها.

أن يكون لينا من غير ضعف

أن يكون ليناً من غير ضعف قال رحمه الله: [ليناً من غير ضعف]. ليناً رفيقاً حتى لا ينفر منه الضعيف، ولا يهابه هيبة ترده عن الشكوى إليه؛ لأن القاضي إذا كان غير لين خافه الناس وهابوه، لكنه إذا كان ليناً ألفه الضعيف واستطاع أن يبث إليه حزنه وأن يشتكي إليه وأن يبين مظلمته، فيمكن الخصوم من بيان مظالمهم وحوائجهم، لكن يشترط أن تكون هذه اللينة من دون ضعف وخور؛ لأن الضعف والخور يطمع الباغي في بغيه، ومن هنا قالوا: إنه ينبغي عليه أن يكون جامعاً لهاتين الصفتين الجامعتين بين الحسنيين أن يكون قوياً من دون عنف، ليناً من دون ضعف.

أن يكون حليما ذا فطنة وأناة

أن يكون حليماً ذا فطنة وأناة قال رحمه الله: [حليماً ذا أناة وفطنة]. لأن القاضي سيأتي إليه السفيه بسفهه، والجاهل بجهله، والناس تأتي وقد أُخذت حقوقها، وضاعت، فيصرخ الرجل وتتألم المرأة ويتضجر المظلوم، فيحتاج إلى صبر وإلى تحمل وإلى أناة، وإلى عدم استعجال وعدم تضجر من هذه الأشياء، ولذلك الأجر في هذا عظيم، فمن ابتلي بمصالح المسلمين كل الناس تأتيه على اختلاف أحوالها حتى العالم الطبيب الخطيب، فلابد أن يكون لديه من الحلم ما يسع الناس برحمته ولطفه، حتى يستطيع كل شخص أن يبدي ما عنده ما دام أنه يقدر على ذلك، أما إذا كان لا يقدر على ذلك أو كان مريضاً أو عنده فهذا أمر آخر، لكن في الأصل العام أنه يبذل ما يستطيع، حتى يستطيع أن يعلم ماذا عند الناس، ويوصلهم إلى حكم الله عز وجل ودينه وشرعه بالتي هي أحسن. والحلم خصلة يحبها الله، قال صلى الله عليه وسلم لـ أشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة)، والحلم سعة الصدر، ويلزم أن يكون القاضي حليماً؛ قد يأتي الخصم -في بعض الأحيان- بحالة متفجع، فتصدر منه عبارات، فلابد أن يكون لديه من الحلم ما يطفئ هذا الغضب، ولا ينفر منه الناس في تعاملهم معه. [ذا أناة]. أي: صاحب أناة لا يستعجل في الأمور، فإذا أتاك الخصم وقد فقئت عينه فلا تحكم عليه حتى ترى خصمه، فلعله فقئت عيناه، وقد يأتيك الشخص وهو يبكي ويشتكي وإذا بك تشعر أنه المظلوم، ثم يتبين أنه مزور أو كذاب أو غشاش، أو يكون رجلاً صالحاً وعظم الأمر عندك ولكنه فهم خطأ، فلا يمكن أن تستبين هذه الأمور إلا بالأناة والتروي وعدم الاستعجال، ولذلك من رُزق الأناة فقد رزق الخير الكثير. [وفطنة]. الفطنة هي: الكياسة والحذر والتنبه، ومن الناس من رزق الفطنة حتى إذا ولي القضاء يبلغ به الحال أنه يجلس إليه الخصمان فيعرف المحق منهما من المبطل، وهذا أثر عن بعض السلف وبعض العلماء الأجلاء الذين كانوا على درجة من الفطنة والفهم، حتى بلغ بأحدهم أنه لا يتكلم عنده الخصمان إلا شعر أيهما الظالم من المظلوم من كثرة التعامل مع الناس وتفطنه لأقوالهم وطرقهم وألاعيبهم وكذبهم وغشهم، فأصبح -غالباً- من قوة فراسته يستطيع أن يدرك كثيراً من الخلل، وليس معنى ذلك أنه يعلم الغيب، وإنما هي فراسة المؤمن. لكن ينبغي -كما يقول العلماء- في هذه الفراسة والفطنة أن لا يجاوز فيها ولا يسرف، وذلك أنه قد تكون عند إنسان فراسة -وقد تصيب- لكن لا يسرف فيها؛ فإن الشيطان -من خبثه- ربما يستدرج الإنسان إذا أصاب في التفرس مرة أو مرتين حتى يوقعه في سوء الظن بالمسلمين، وربما سدده بالفراسة المرة والمرتين حتى لربما خونه في أهله وعرضه وزوجه، فيحذر الإنسان من استدراج الشيطان له، فالفراسة لها حدود، والفطنة لها حدود، ولذلك قالوا: يكره شديد الذكاء في القضاء؛ لأنه إذا اشتد ذكاؤه ربما حمل الأمور ما لا تتحمل، وحملها على غير ما لا ينبغي أن تحمل عليه.

أن يكون مجلسه قريبا فسيحا

أن يكون مجلسه قريباً فسيحاً قال رحمه الله: [وليكن مجلسه في وسط البلد فسيحاً]. للقاضي أن يجلس في أي مكان، لكن ينبغي أن يراعي فيه الرفق بالناس، لئلا يكون فيه تعنيت للخصوم والشهود بالذهاب إليه في أماكن بعيدة، ولذلك اختاروا وسط المدينة ما أمكن، واختلفوا هل يقضي في المسجد أو لا؟ الجمهور على جواز ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه، ولأن الخلفاء الراشدين من بعده كذلك، واستحب بعض العلماء من الجمهور القضاء في المسجد، ولكن الصحيح أنه يجوز أن يجلس حيث أمكنه، ومن هنا قال بعض العلماء: وحيث لاق للقضاء يقعد وفي البلاد يستحب المسجد وحيث لاق للقضاء يقعد يعني: حيث كان المكان لائقاً يجلس، حتى لو في السوق، بلغ ببعض أئمة السلف رحمهم الله أنه إذا جاءه خضمان يقول: لا يحل لي أن تجاوز قدمي قدميهما حتى أفصل بينهما. أي: لا يجوز أن أفارقهما ولا أن أؤخرهما فلربما جاءوه وهو في السوق، فينتحي ناحية من السوق ويسمع من الخصمين ويقضي بينهما، وهذا مما وضع له من البركة. وفي البلاد يستحب المسجد فيجوز أن يكون القضاء في المسجد. وقوله: [فسيحاً] أي: أن يكون المكان فسيحاً لكن في المسجد اشترط بعض العلماء: أن لا يؤذي الناس والمصلين، فإذا كان ذلك يشوش عليهم، وحصلت المفاسد فالمصلحة أن يصرفه عنهم.

العدل بين الخصوم في التعامل معهم أثناء القضاء

العدل بين الخصوم في التعامل معهم أثناء القضاء قال رحمه الله: [ويعدل بين الخصمين في لحظه] وهذا من أدب المجلس؛ لأن عمر بن الخطاب لما كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كتاب القضاء -الذي شرحه الإمام ابن القيم رحمه الله في أعلام الموقعين، وهو يسمى كتاب السياسة الكبيرة وهو من أعظم الكتب التي اعتنى العلماء بها- قال له: (آسِ بين الخصمين في عدلك ولحظك ومجلسك) في لحظك: أي: ينبغي أن يعدل بين الخصمين في اللحظ، فلا ينظر إلى أحدهما أكثر من الآخر، ولا ينظر إلى أحدهما بشدة دون الآخر، ولا يطيل النظر على وجه الريبة؛ لأن هذا يحدث في النفوس شيئاً، فإذا نظر إلى أحدهما فلينقل النظر إلى الآخر، وإذا أجلسهما فيجلسهما في مكان واحد، فلو جلس أحدهما على شيء دون الآخر سوى بينهما في المجلس، ولا يجلس أحدهما بجواره والآخر أمامه، بل يجلسان أمامه، كل هذا من باب الحيادية في القضاء، وقد بلغ القضاء الإسلامي الأوج والعظمة وحاز أعلى المراتب وأسماها؛ لأنه من حكيم حميد، وكل هذا من أجل أن يكون العدل، حتى في الصورة والشكل. وقوله: [ولفظه]. ولفظه: يعني في كلامه، فلا يتكلم مع أحدهما أكثر من الآخر، إلا إذا وجدت حاجة أو وجد أمر، ولا يلحظ أحدهما لحظاً شديداً إلا إذا وجدت حاجة، كل هذا من باب أن يكون على حيادية، فلا يخون في مجلسه ولا في نظره ولا في قوله. [ومجلسه] كذلك مكان جلوسه، فلا يجعل أحدهما في مكان أبرد من مكان الآخر، ولا مكان أشرف من مكان الآخر، ولا يكون أحدهما في مكان فيه تكرمة والآخر في مكان لا تكرمة فيه، بل ينبغي أن يجلس الخصمان مجلساً متساوياً، ويكون دخولهما من باب واحد، وأن يكون حال القاضي بينهما حالاً واحداً، فلا يقوم لأحدهما ولا يقوم للآخر، ولا يحتفي بأحدهما دون الآخر، بل مثلما يفعل مع هذا يفعل مع هذا. وقد أثر عن بعض أهل العلم أنه كان في القضاء، فدخل عليه رجل واختصم مع آخر -وهذه مأثورة عن الإمام الشيخ: عبد الله بن حميد نسأل الله أن يقدس روحه وعلماء المسلمين أجمعين- في جنات النعيم، فلما جاء دخلا عليه قالا: يا شيخ! أتينا في خصومة، قال: أتيتما في خصومة؟ قالا: نعم -وكان أحدهما دخل من باب خاص- فقال: يا فلان! من أين دخلت؟ قال: دخلت من باب كذا، قال: اذهب وادخل مع خصمك، ثم إذا دخلتما من باب واحدٍ قضيت بينكما. وهكذا العدل، فلابد أن يكون بهذا التجرد وبهذا الصفاء والنقاء؛ لتحصل الطمأنينة لدى الناس للوصول إلى الحق.

اتخاذ المستشارين من العلماء

اتخاذ المستشارين من العلماء قال رحمه الله: [وينبغي أن يحضر مجلسه فقهاء المذاهب] فمثلاً: لو رفعت إليه حادثة عن شخص فعل فعلاً، قد يكون معتقداً لحرمة هذا الفعل، لكن غيره يعتقد جوازه، ويخفى عليه مذهب غيره، فيأتي ويعزر المسكين، ولربما قال له أحد الخصوم: هذا جائز عندنا، وهو يكذب أو يقول: عملت على مذهب كذا، وأنا أعتقد مذهب الحنفية أو المالكية أو الحنابلة، وعندنا هذا جائز، فكيف يعرف صدقه من كذبه؟ لابد من مشاورة العلماء، وهذا جرت عليه السنة، وهو أن مجلس القاضي يحضره العلماء، وبعد أن يسمع تفاصيل القضية يشاورهم فيما نزل به، هذه هي السنة التي أمر الله بها عز وجل نبيه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، فالشورى كلها خير، وإذا عجز عن ذلك فإنه يتصل بهم ويذاكرهم ويناظرهم حتى يجد الحق ويصل إليه. [ويشاورهم فيما أشكل عليه] هذا هو الأصل، والله المستعان.

يحرم القضاء إذا كان القاضي مشوش الذهن

يحرم القضاء إذا كان القاضي مشوش الذهن قال رحمه الله: [ويحرم القضاء وهو غضبان كثيراً]. ويحرم القضاء وهو غضبان- وهو غضبان: جملة حالية- لأن الغضب يمنع الإنسان من التأمل والتدبر، ولربما اشتد في قوله وتعامله؛ ولذلك لا يجوز أن يقضي وهو على هذه الصفة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. قوله: [أو حاقن أو في شدة جوع أو عطش]. أشير إلى الحاقن بوله أن احتقانه يشوش عليه فكره، أو شدة عطش كذلك يشوش عليه فكره، والنص جاء في الغضبان، وألحق به ما في معناه. [أو همّ أو ملل أو كسل أو نعاس أو برد مؤلم أو حر مزعج]. كل هذه الأمور تؤثر عليه في فكره وتأثر عليه في تركيزه، فلابد أن يكون على حالة بخلاف هذه الحالات، لكي تعينه على أن يكون أصفى ذهناً وأقدر على معرفة الحق. [وإن خالف فأصاب الحق نفذ]. وإن خالف فقضى وهو غضبان أو قضى وهو مهموم أو قضى وهو عطشان أو قضى وهو جائع شديد الجوع، نفذ قضاؤه إن أصاب حقاً، لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، والعلة هنا أنه يخشى مع هذه الحالات أن يتشوش فكره فلا يمعن النظر، لكن فإذا لم يشوش فإنه يصح قضاؤه.

تحريم الرشوة والهدايا للقضاة

تحريم الرشوة والهدايا للقضاة قال رحمه الله: [ويحرم قبوله رشوةً، وكذا هدية] ويحرم عليه أن يقبل الرشوة، وفيها اللعن -والعياذ بالله- الراشي والمرتشي، والرائش -وهو الذي يمشي بينهما- والعياذ بالله، فلا يجوز للقاضي أن يقبل الرشوة، وهي السحت الذي حرم الله ورسوله، قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة:188]، هذه الرشوة ثم انظر وتأمل قوله تعالى: (تُدْلُوا بِهَا) ذكر بعض المفسرين أن القاضي إذا قبل الرشوة نزل من المنزلة العالية السامية إلى الحضيض، ولذلك قال سبحانه: (تُدْلُوا) كالدلو ينزل إلى القاع، فإنزال الرشوة وإدلاؤها إلى القاع، (القاضي) الذي صار في الحضيض بعد أن كان في مقام يشرفه الله عز وجل به ويكرمه ويعزه فيأبى إلا أن يهين نفسه ويذلها. (وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ)، وهذا من أسرار اللغة الجميلة، ولذلك لا يمكن أن يترجم القرآن إلى أية لغة؛ لأنه لا تستطيع أن تجد فيها هذه المعاني الجميلة المتجددة. [إلا ممن كان يهاديه قبل ولايته إذا لم تكن له حكومة]. إلا أن يكون هذا الشخص يهاديه من قبل، كصديقة أو رفيقه أو ابن عمه أو قريبه، وكان بينهما مودة، فإذا هاداه بعد الولاية كان كحاله قبل الولاية؛ لكن إذا كان له عند القاضي قضية فلا يجوز للقاضي أن يقبل منه.

استحباب ألا يكون الحكم إلا بحضرة الشهود

استحباب ألا يكون الحكم إلا بحضرة الشهود قال رحمه الله: [ويستحب أن لا يحكم إلا بحضرة الشهود]. يستحب للقاضي أن لا يحكم في قضية شهد فيها الشهود إلا إذا كانوا حاضرين؛ ولهذا فوائد عظيمة، منها: أنهم إذا شهدوا على شخص بضرر، وحكم عليه فإن هذا يردع شهود الزور من شهادتهم ويوقع في قلوبهم الهيبة مما أقدموا عليه، وكذلك أيضاً الشهود يصححون خطأ القاضي، فلربما نسي شيئاً مما ذكروه، وربما قضى ببعض الكلام دون البعض، فالشاهد عندما يكون حاضراً يكون هذا موافقاً لحكمه.

لا يقبل حكم القاضي لنفسه ولا لقرابته

لا يقبل حكم القاضي لنفسه ولا لقرابته قال رحمه الله: [ولا ينفذ حكمه لنفسه ولا لمن لا تقبل شهادته له]. (لا ينفذ حكمه لنفسه)، فالقاضي لا يقضي لنفسه، وإنما يختصم إلى قاض غيره إذا حصلت خصومة بينه وبين شخص آخر، فيرفعه إلى قاضٍ غيره يحكم له أو يحكم لخصمه، وكذلك بالنسبة لمن هو معه كالشيء الواحد كابنه، فلا يقضي لابنه وإن نزل، ولا لابنته وإن نزلت، ولا لأبيه وإن علا؛ لأنه لو فعل ذلك فكأنه قاضٍ لنفسه، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما فاطمة بضعة مني)، فلا يشهد لهم ولا يقضي لهم، ولا يصح قضاؤه لهم، فإن فعل فكأنه قضى لنفسه. وفي حكم ذلك أيضاً الاستخوان، وما هو مظنة الخيانة والريبة، مثلما يقضي في قضية بين رجل وآخر شريك للقاضي في شركة، وله فيها مصلحة، وجاء صاحب الشركة أو مدير الشركة وخاصم شخصاً عند هذا القاضي، ففي هذا ملابسة، فكأنه قضى لنفسه، لأن له جزءاً من المصلحة؛ لأن هذه الشركة له فيها سهم، سواءً تمحضت من ماله أو كان له فيها شركة ونحو ذلك.

إذا كان أحد الخصمين امرأة أو مريضا

إذا كان أحد الخصمين امرأة أو مريضاً قال رحمه الله: [ومن ادعى على غير برزة لم تحضر وأمرت بالتوكيل]. (غير برزة)، أي: لا تخرج دائماً، بل هي امرأة محتشمة؛ لأن من النساء من هي (برزة) مثل المرأة التي عندها أيتام، فتخرج وتسعى لرزقها، وكان بعض النساء يتولين البيع لظروف خاصة قاهرة، وهذا النوع من النساء يقال له: البرزة، وسميت بذلك لأنها تكثر البروز والخروج؛ لأنه على مر تاريخ المسلمين ما عرف النساء إلا القرار في البيوت، تقول أم عطية: أمرنا أن نخرج العواتق وذات الخدور والحيّض. فما يعرفن الخروج إلا لصلاة العيد، وهذا هو الأصل؛ لأن المرأة خيرٌ لها أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال. ويؤثر عن عمر بن الخطاب أنه نصب الشفاء في السوق، وقد فهم بعض الجاهلين أن هذا يدل على أن المرأة كالرجل، وهذا خطأ واضح، وجهل بيّن بالحقائق؛ لأن قصة الشفاء فيها ضعف، وقد تكلم عليها العلماء، لكن على فرض ثبوتها يكون ولاها أمر سوق النساء، وهذا يفيد أن النساء لا يلي أمرهن إلا النساء. أما من ظن أنه ولاها على الرجال فهذا يأباه الله ويأباه صالح المؤمنين، ولا يظن ذلك الظن إلا ذوو الأفهام المعكوسة المنكوسة التي لا تحسن النظر، وقد نبه على هذا العلماء رحمهم الله. إذاً: البرزة هي التي تخرج للبيع والشراء، أو بعض كبيرات السن اللاتي لهن العذر فنحو هؤلاء النسوة يخرجن، فلو ادعي على مثلها دُعيت إلى مجلس القضاء؛ لأنها اعتادت الخروج، أما لو كانت محتشمة أو كانت غير برزة فلا يلزمها الحضور في مجلس القضاء، ولها أن توكل فتبعث وكيلها. قال رحمه الله: [وإذا لزمها يمين أرسل من يحلفها، وكذا المريض]. أي: وإذا لزمتها اليمين بعث إليها شخصاً يسمع منها اليمين، وكذلك المريض الذي لا يمكنه حضور مجلس القضاء.

باب طريق الحكم وصفته

شرح زاد المستقنع - باب طريق الحكم وصفته بينت الشريعة الإسلامية الطريق للقضاة والحكام ليحققوا الواجب المنوط بهم، وهو تحقيق العدالة، وردع الظالم، وإنصاف المظلوم، فبينت كيفية التعامل مع دعاوى الخصوم، واعتبار البينات، وحقيقة الدعوى، وعدالة الشهود، وغير ذلك من الأحكام.

صفة الحكم

صفة الحكم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد:

عرض الدعوى

عرض الدعوى فيقول المصنف رحمه الله: [باب طريق الحكم وصفته: إذا حضر إليه خصمان قال: أيكما المدعي؟ فإن سكت حتى يبدأ جاز]. إذا حضر إليه الخصمان قال: أيكما المدعي، يسألهما من المدعي، هذا وجه، أو يسكت حتى يتكلما، فإذا سكت وتكلم أحدهما قبل الآخر قدمه: وقدّم السابق في الخصام والمدعي للبدء بالكلام فإذا سبق أحدهما وجاء وتكلم فله ذلك، فمن سبق إلى شيء فهو أحق به، والغالب أن السابق يكون هو المدعي. ويجوز للقاضي أن يقول لهم: أيكم المدعي، ويجوز أن يسكت. [فمن سبق بالدعوى قدمه]. من سبق بالدعوى وتكلم قدمه؛ كما قلنا: وقدم السابق في الخصام والمدعي للبدء بالكلام

حكم إقرار المدعى عليه

حكم إقرار المدعى عليه مثلاً: قال أحدهما: لي عند فلان عشرة آلاف ريال بسبب قرض أو بيع دينٍ -وحرر الدعوى- ولم يقضني، قال له للآخر: ماذا تقول؟ قال: نعم، له عليّ في ذمتي عشرة آلاف ريال، قال: اقضه وأد إليه. هو هذا الإقرار، فإذا أقر أخذ بإقراره؛ لأنه لا يوجد أقوى من شهادة الإنسان على نفسه، ولذلك يقولون: الإقرار: سيد الأدلة، لأنه ليس هناك عاقل يشهد على نفسه بالضرر كذباً، ولما شهد رجل عند شريح رحمه الله وأقر -فيما لا يحكم فيه إلا بالشهود- فأخذه شريح بإقراره قال: رحمك الله! من شهد عليّ؟ وكيف تحكم عليّ بدون شهود؟ قال: شهد عليك ابن أخت خالتك، يعني أنت شهدت على نفسك، فابن أخت الخالة هو نفس الرجل، فلا أصدق من شهادة الإنسان على نفسه، ولذلك قبلها الله في أعظم الأشياء وهو توحيده سبحانه وأقام الحجة بها على عباده. وسيأتي في مسائل الإقرار.

طلب البينة من المدعي إن أنكر المدعى عليه

طلب البينة من المدعي إن أنكر المدعى عليه [وإن أنكر؛ قال للمدعي: إن كان لك بينة فأحضرها إن شئت]. لو قال المدعى عليه: ليس له عندي شيء، قال القاضي للمدعي: ألك بينة؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: (ألك بينة؟ قال: يا رسول الله! هي بئري وأنا احتفرتها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ألك بينة؟ قال: لا، قال: إذاً يحلف خصمك، قال: يا رسول الله! الرجل رجل سوء ... )، كما في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن هلال بن أمية قذف امرأته بـ شريك بن سحماء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حدٌ في ظهرك). البينة: مأخوذة من البيان وهي الوضوح، وتعريفها في الاصطلاح: ما يُظهر صدق الدعوى ويكشف وجه الحق، والبينة تشمل الإقرار، والكتاب، والأيمان، والحجج التي اعتبرتها الشريعة. وقوله: (ألك بينة؟) هذه المقولة تقال: للبر والفاجر، أي: شخص يدعي نطالبه بالبينة إذا أنكر خصمه، ولو كان من أصدق الناس؛ لأن هذا هو الأصل الذي دلت عليه السنة. والمدعي مطالب بالبينة وحالة العموم فيه بينة (والمدعي مطالب بالبينة) يعني يقال له: ألك بينة؟ (وحالة العموم فيه بينة) أي: ولو كان من أصدق الناس، ولو كان من أصلح الناس وأعلم الناس فقل له: هل لك بينة؟ كما طُلبت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حكم القاضي إذا رفض المدعى عليه الإجابة إقرارا أو إنكارا

حكم القاضي إذا رفض المدعى عليه الإجابة إقراراً أو إنكاراً فإن أبى المدعى عليه الإجابة على الدعوى إقراراً أو إنكاراً. ومن أبى إقرار أو إنكارا لخصمه كلفه إجبارا فإن تمادى فلطالب قضي بلا يمين أو بها وذا ارتضي فيلزمه القاضي بالجواب إن أبى، ويحاول أن يلزمه في ذلك، فإذا رفض الإقرار أو الإنكار كُلّف ولو بالقوة، فإذا أبى فإن القاضي يحكم عليه وهذا ما يسمى بالنكول. وقد ثبتت به الآثار وعمل به الأئمة رحمهم الله، وهو أن السكوت يدل على اعتباره؛ لأنه أعطي المجال أن ينكر فلم ينكر، فدل هذا على أنه مقر بما اتهم به فيؤاخذ على ظاهره.

اعتبار البينة وشهادة الشهود لا علم القاضي

اعتبار البينة وشهادة الشهود لا علم القاضي قال رحمه الله: [فإن أحضرها سمعها وحكم بها] أي: البينة، كشهادة شهود، ويجب على القاضي أن يسمع منهم. [ولا يحكم بعلمه]. ولا يحكم القاضي بعلمه، ولا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه إلا في مسائل، وهي تزكية الشهود وجرحهم، فلو كان يعلم أن هذا الشاهد لا تقبل شهادته، وجيء به في قضية، وقيل له: فلان يشهد فنظر فيه، فقال: هذا ما نقبل شهادته، فهذا من حقه؛ لأنه يعلم فيه جرحاً؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] ممن ترضون: يعني يكون مرضياً عنهم، ولذلك لما أتى شخص لدى القاضي إياس رحمه الله بشاهد ولم يقبله إياس، قال له: لمَ ترد شاهدي رحمك الله؟ قال: يا هذا إن الله تعالى يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}، وأنا لم أرضَ شاهدك، وفي بعض الروايات: وإن هذا ليس ممن أرضاه، فهذا يدل على أن من حق القاضي أن يقضي بعلمه: وفي الشهود يحكم القاضي بما يعلم منهم باتفاق العلماء. فإذا عرفهم بالتزكية قبلهم وزكاهم، وإذا علم أن فيهم حرجاً ردهم. وفي سواهم مالك قد شددا في حكمه بغير الشهدا وهو مذهب الجمهور، وليس خاصاً بـ مالك، فالشاهد من هذا: أن قضاء القاضي بعلمه لا يجوز، والدليل على عدم عمل القاضي بعلمه، قوله عليه الصلاة والسلام: (إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، فإنما أقضي على نحوٍ مما أسمع). وفي الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أنه لما حدث اللعان بين عويمر وامرأته، قال صلى الله عليه وسلم: (انظروا إليه فإن جاءت به على صفة كذا وكذا -كما ذكرنا في اللعان- قال: فقد كذب عليها والولد ولده، وإن جاءت به على صفة كذا وكذا فقد صدق عليها وهي زانية)، فأراد الله عز وجل أن تجيء به على صفة من اتهمت به -والعياذ بالله- فقال صلى الله عليه وسلم: (لو كنت راجماً راجماً أحداً من غير بينة لرجمت هذه)، فدل على أنه علم واطلع على ذلك، وجاء بالقرينة واستقر عنده الدليل واتضح أنها زانية، ومع ذلك لمن يقضِ بعلمه، فدل على أن القاضي لا يجوز له أن يقضي بعلمه.

اليمين حال عدم وجود البينة وعدم الإقرار

اليمين حال عدم وجود البينة وعدم الإقرار [وإن قال المدعي: ما لي بينة، أعلمه الحاكم أن له اليمين على خصمه على صفة جوابه]. قال صلى الله عليه وسلم: (ليس لك إلا يمينه)، فأعلمه أنه ليس له من الخصم إلا اليمين، هكذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. [فإن سأل أحلفه وخلى سبيله]. فلا يحلفه القاضي مباشرة، بل يقول له: ليس لك إلا يمينه، فهل أحلّفه؟ فإن قال: حلّفه، حلفه. [ولا يعتد بيمينه قبل مسألة المدعي]. ولا يعتد بيمينه قبل مسألة المدعي؛ لأن مجلس الحكم والقضاء ينبغي أن تكون خطوات الحكم فيه مرتبة على ما ذكرنا، من أنه يمكث ثم بعد ذلك يطلب من الخصم البينة فإذا تعذر وجود البينة، أو قال: لا بينة عندي، يقول له القاضي: ليس لك إلا يمينه، فإذا سبق وحلف قبل أن يطلب القاضي منه القسم فهذه يمين ريبة ترد ولا تقبل، وهي في غير موضعها؛ لأن موضعها أن يطلبها القاضي. [وإن نكل قضى عليه]. كما ذكرنا. [فيقول: إن حلفت، وإلا قضيت عليك، فإن لم يحلف قضى عليه]. ومن أبى إقرار أو إنكارا لخصمه كلفه إجبارا فإن تمادى فلطالب قضي بلا يمين أو بها وذا ارتضي

حكم وجود البينة بعد يمين المنكر

حكم وجود البينة بعد يمين المنكر قال رحمه الله: [وإن حلف المنكر ثم أحضر المدعي بينة، حكم بها، ولم تكن اليمين مزيلة للحق]. بيّن رحمه الله قوة اليمين واعتبارها في إسقاط الدعوى عن المدعى عليه، ولكن هذا الإسقاط لا يقتضي إسقاطها من كل وجه، بحيث لو وجد الشخص البينة ووجد من يشهد له، فإنه لو أقامها بعد ذلك، سمع منه، لكن ثمة إشكال عند العلماء، وهو إذا قيل له: ألك بينة؟ قال: ما عندي بينة، ثم حلف الخصم، ثم جاء المدعي بالبينة فهذا فيه شبهة معروفة عند العلماء رحمهم الله، وفيها تفصيل تكلم فيه العلماء، ولكن حاصل ما يقال: أنه إذا وجد العذر، كأن يكون ناسياً أن لديه بينة فتذكر، أو كان لا يعلم أن شاهداً حضر ثم تبين أنه حضر الموقف المختلف عليه، ونحو ذلك من الأدلة، أو قال شخص: إني أشهد بما أقر عندي فلان أنك أنت أعطيته ونحو ذلك، فهذه بينة يجهلها، فإذا كان نفيه له وجه فيه وله عذرٌ قبل وإلا فلا.

مسائل في حقيقة الدعوى

مسائل في حقيقة الدعوى

حكم الدعوى المجهولة وشرط المدعى عليه

حكم الدعوى المجهولة وشرط المدعى عليه قال رحمه الله: [فصلٌ: ولا تصح الدعوى إلا محررة معلومة المدعى به]. لا تصح الدعوى مجهولةً، ولا تصح إلا إذا استوفيت الشروط من الوضوح والبيان، وتكون بالجزم، فلا يقول: أشك أو أظن أن لي على فلان كذا، بل لابد أن يقول: لي على فلان كذا. محررة: أي: تحقق الدعوة. والمدعى فيه له شرطان: تحقق الدعوى مع البيان تكون على يقين وعلى بينة دون شك وتردد مع تبيين السبب، مثلاً: يقول المدعي: لي عليه ألف ريال ديناً، أو: لي عليه في بيع، ويصف السبب الموجب لهذا الحق. [إلا ما تصححه مجهولاً كالوصية وعبد من عبيده مهراً ونحوه]. تقدم معنا في كتاب الصداق والوصايا، أنه إذا كان المجهول من جنس ما يقبل به المجهول؛ فإنها تصح، لكن الأصل أن تكون معلومة كما ذكرنا.

دعوى عقد النكاح

دعوى عقد النكاح قال رحمه الله: [وإن ادعى عقد نكاح أو بيع أو غيرهما فلابد من ذكر شروطه]. إذا كانت المرأة ادعت أو ادعى هو عقد النكاح فلابد أن يأتي بشروطه، كل هذا صيانة للقضاء بالفاسد؛ لأنه قد يدعي عقد نكاح فاسد، وقد يدعي بيعاً فاسداً، فإذا كان عقد النكاح وعقد البيع فاسداً فلا يصح للقاضي أن يلزم المشتري بدفع الثمن، ولا يصح أن يلزم البائع بدفع المثمن إلا بعد أن يتبين من أن العقد صحيح، هذا وجه أن نلزمه ببيان الشروط التي توجب زوال الريبة في العقد. [وإن ادعت امرأة نكاح رجل لطلب نفقة أو مهر أو نحوهما سمعت دعواها]. لأن هذا كما تقدم له أصل؛ لأنها إذا ادعت ذلك سمعت دعواها، ثم بعد ذلك الرجل إذا نفى أنها امرأته وقام، تقيم الدليل على ثبوت النكاح وإلا لا يقبل منها مطلقاً ما تقوله، وإلا لصُدِّقت كل امرأة تقول: لي على فلان نفقة كذا وكذا، وليس لها شيء إلا إذا أقر وثبت عقد النكاح.

دعوى الإرث

دعوى الإرث قال رحمه الله: [وإن ادعى الإرث ذكر سببه]. كما لو قالت امرأة -مثلاً-: لي عشرة آلاف ريال نصف ميراث، وأنا أخت فلان الذي توفي، وهذا قائم على أموال فلان فأريد أن يعطيني مالي، فتبين الدعوى بياناً صحيحا وتبين الإرث وسبب الإرث، فإذا قالت -مثلاً-: أنا أخت ولي النصف، توفي أخي وما ترك إلا ابن عم، فالأخت لها النصف وابن العم له الباقي تعصيباً، فبينت سبباً صحيحا ووضحت تقبل دعواها.

عدالة الشهود

عدالة الشهود قال رحمه الله: [وتعتبر عدالة البينة ظاهراً وباطناً]. أي: لا يقبل من الشهود إلا العدول، كما قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، فقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ}، والفاسق لا يرضى، كذلك قال: {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:96]، إذاً: ينبغي أن يكون ممن يرضى، كذلك دلّ دليل آية الحجرات في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، على أن الفاسق لا تقبل شهادته؛ لأنه قال: (فَتَبَيَّنُوا): أي فتثبتوا ولا تعجلوا فلو كان خبر الفاسق مقبولاً، لحكم به مباشرة، ولما أمرنا بالتريث، فدل على أن خبر الفاسق لا يقبل مباشرةً، والفسق سواءً كان في الأقوال أو كان في الأفعال، يوجب رد الشهادة إلا في أحوال مخصوصة، التي هي شهادة أمثل الفساق، إذا لم يوجد إلا هم، وسيأتينا إن شاء الله في باب من تقبل شهادته ومن ترد. والعدالة قسمان: عدالة ظاهرة وعدالة باطنة، فإذا كان مسلماً، فهذه عدالة ظاهرة كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]، أي: عدولاً، لكن العدالة الباطنة أن يعرف حاله؛ ولذلك لا تقبل شهادة الشاهد حتى يزكى، فإذا زكي قبلت شهادته، هذا إذا كان القاضي لا يعرفه، ولذلك جاء رجل إلى عمر بن الخطاب وشهد عنده فقال له عمر: إني لا أعرفك، اذهب وائتني بمن يزكيك، فجاء برجل فقال: أتعرفه؟ قال: نعم، قال: فَبِم تعرفه؟ قال: بالخير، فقال: هل أنت جاره الذي يعرف مدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: هل سافرت معه؟ قال: لا، قال: هل عاملته بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على صدق الرجل وأمانته؟ قال: لا، قال: اذهب؛ فإنك لا تعرفه. فالتزكية -أيضاً- لا تقبل إلا ممن هو أهل. إذاً: لا تقبل العدالة إلا ظاهراً وباطنا، هذا مذهب الجمهور، أما الحنفية فعندهم أي مسلم يشهد تقبل شهادته؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (من صلى صلاتنا، وذبح ذبيحتنا، واستقبل قبلتنا ... ) وغيره من العمومات، ولكن هذا القول ضعيف. يقول شيخ الإسلام -في رد جميل-: من قال: إنهم يقولون إن الأصل في المسلم العدالة فهذا القول ضعيف؛ لأن الله تعالى يقول: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، والأصل فيه: الظلم والجهل حتى يزكى بالإسلام، ثم تأتي العدالة تزكية زائدة على التزكية الأصلية؛ ولذلك الوصف بالعدالة ليس وصفاً مطلقاً للإنسان، وإنما هو وصف يحتاج إلى تزكية، فلا تقبل إلا ظاهراً وباطنا، وهذا مذهب الجمهور، وأيضاً الإمام الماوردي ناقش استدلالهم وبين أن هذا الوصف زائد، وهو الذي قصده الشرع لقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] فخصص، والشهداء مسلمون، ولكنه قال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، وهذا يدل على أنه وصفٌ زائد.

السؤال عمن جهلت عدالته

السؤال عمن جهلت عدالته قال رحمه الله: [ومن جهلت عدالته سئل عنه]. ينبغي أن يكون للقاضي رجالاً مخصوصين يعتمد عليهم بعد الله عز وجل، فيكتب إليهم سراً باسم الشاهد ونسبه وموضعه وعمله، ثم يأمرهم أن يسألوا في عمله ويتحروا عنه حتى يعرفوا صدقه من كذبه، كل هذا صيانة للقضاء الإسلامي، وهو موجود في كتب العلماء واعتنى به الأئمة على خلاف مذاهبهم، كالإمام الخصاف من الحنفية في كتابه شرح أدب القضاء، نبه عليه وبين أصوله، وكذلك المالكية تكلم عليه الإمام ابن فرحون في التبصرة، وكذلك تكلم عليه الإمام الماوردي، وهو من أنفس الكلام في أدب القاضي في الحاوي الكبير، وتكلم عليه الإمام النووي من الشافعية في الروضة، وكذلك من الحنابلة تكلم عليه الإمام ابن قدامة في المغني وابن مفلح في المبدع. وهذه المهمة كانت مهمة أعوان القضاة، يُرسل إليهم سراً ليسألوا عن الرجل ويتحروا هل تقبل شهادته أو لا؛ فإن تعذر وجود العدول أو كثر الفسق قبل أمثل الفساق كما ذكرنا، وهذا قرره الأئمة مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن فرحون وغيرهم. [وإن علم عدالته عمل بها]. كما ذكرنا أنه يحكم على ما يعلمه في الشهود عدالة وجرحاً. [وإن جرح الخصم الشهود كلف البينة به وأنظر له ثلاثة إن طلبه]. كما لو قال شخص: عندي بينة قال: أحضر بينتك، فجاء شاهدان وشهدا أن فلاناً أعطى فلاناً ديناً عشرة آلاف ريال، فقال الخصم المشهود عليه: هذان الشاهدان عدوان لي، وأنا أجرح شهادتهما بالعداوة، يقول له القاضي: أثبت لي هذه العداوة، يقول له: أنظرني فيعطيه القاضي مهلة ثلاثة أيام ليذهب ويبحث ويأتي بشهود أنه حصلت خصومة بينه وبين الشهود الذين شهدوا عليه، فيمهله لرد الشهادة التي عليه. وكذا لو قال للقاضي: الشاهد الأول شريك لفلان في الشركة شريك لفلان في هذه الأرض وله مصلحة، فقال: أثبت ذلك، فيقول: أمهلني حتى أحضر شهوداً على ذلك وسيأتينا إن شاء الله تفصيل في القوادح وما يطعن في شهادة الشاهد، والمقصود هنا أن المشهود عليه له الحق أن يدافع عن نفسه؛ ولذلك أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا موسى أن يمهل الخصم ويعذر إليه هذا الإعذار حتى يمكنه من دفع الشهادة عنه. [وللمدعي ملازمته]. وللمدعي ملازمة الخصم، خلال مدة المهلة. [فإن لم يأت ببينة حكم عليه]. حكم عليه؛ لأن الأصل أن البينة ماضية ويحكم بها إن زُكِّيت وعُدّلت وثبتت شهادتها وصحت، فلا تعطّل، وإلا عطلت الأحكام. [وإن جهل حال البينة طلب من المدعي تزكيتهم]. وإن جهل القاضي حال البينة طلب من المدعي تزكيتهم، فلو ادعى شخص أن فلانة زنت أو قذفها بالزنا والعياذ بالله، فقال له القاضي: أحضر الشهود، فقال: أمهلني، فإنه يمهله ثلاثة أيام، وهكذا من طعن في شهود خصمه وطلب الإمهال يمهله القاضي ثلاثة أيام حتى يأتي ببينة على جرحه لهم. وكذلك تزكية الشهود. [ويكفي فيها عدلان يشهدان بعدالته]. يكفي في التزكية عدلان يشهدان بعدالة الشاهد، أو عدلان يشهدان بالجرح.

عدالة المترجم والمزكي والجارح والمعرف والرسول وعددهم

عدالة المترجم والمزكي والجارح والمعرف والرسول وعددهم [ولا يقبل في الترجمة والتزكية والجرح والتعريف والرسالة إلا قول عدلين]. هذه الشهادة على أنها شهادة كما ذكر رحمه الله. [ولا يقبل في الترجمة]، في ترجمة كلام الشهود -مثلاً- لو كانوا على لغة لا يعرفها القاضي، فإنه يأتي بمترجمين، ويشترط فيهم التعدد. ومسألة تعدد المترجمين، اختلف فيها على قولين بناءً على المسألة المشهورة: هل الترجمة شهادة أو خبر؟ فإن قلنا: خبر، كفى فيها الواحد، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وطائفة، وبناءً على ذلك لا يشترط فيها التعدد، واحتجوا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لـ زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يتعلم لغة اليهود، واكتفى به صلى الله عليه وسلم في ذلك. [والتزكية والجرح]. التزكية والجرح، أي: كون الشاهد مجروحاً أو كونه عدلاً؛ لابد أن يكونا بشهادة شاهدين على عدالته أو جرحه، وإذا كانت خبراً كما هو الظاهر يكفي فيها تعديل الواحد. [والتعريف] والتعريف: مثل أن تأتي امرأة وتدعي أن فلان ابن فلان زوجها… فهذه المرأة كيف يعرف القاضي أنها فلانة؟ يأتي أحد المحارم ويشهد أن الحاضرة في مجلس القضاء فلانة بنت فلان. [والرسالة إلا قول عدلين]. والرسالة كذلك، فإذا كتب القاضي -وسيأتي الحديث عنها- فلابد أن تكون بشهادة عدلين.

المحاكمة غيابيا (الحكم على غائب)

المحاكمة غيابياً (الحكم على غائب) [ويحكم على الغائب إذا ثبت عليه الحق]. هذه مسألة خلافية: هل يحكم القاضي على الغائب أو لا يحكم عليه، فمن قال: بأنه يحكم عليه؟ يحتج بحديث هند رضي الله عنها وأرضاها، أنها قالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجلٌ شحيحٌ مسيك، أفآخذ من ماله؟ قال: خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان وهو غائب. وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذا الحديث: هل هو فتوى أو قضاء، فإذا قلنا: إنه قضاء فهو حجة على جواز حكم القاضي على الغائب، والذين يقولون بعدم جوازه يقولون: هذه فتوى، فالنبي صلى الله عليه وسلم تارةً يكون مفتيا وتارة يكون قاضيا وتارة يتصرف بالرسالة، وهذا ما يعرف بشخصيات الرسول، ومن أنفس الكتب التي كتبت في ذلك كتاب الإمام القرافي رحمه الله: الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام وبيان تصرفات القاضي والإمام، وقد ذكر فيه هذا الحديث وخلاف العلماء فيه. [وإن ادعى على حاضر بالبلد غائب عن مجلس الحكم وأتى ببينة لم تسمع الدعوى ولا البينة]. إلا بعد طلب الخصم، لكي يجيب عنها ويقف معه ويخاصمه؛ لأنه يمكن حضوره، وحينئذٍ لا يحكم عليه -وهو في نفس المدينة حاضر- إلا إذا امتنع من الحضور وأصر وتخفى، فهذه مسألة مستثناة ولها ضوابطها عند العلماء، وقد أفتى غير واحد من أهل العلم بجواز القضاء عليه.

باب كتاب القاضي إلى القاضي

شرح زاد المستقنع - باب كتاب القاضي إلى القاضي كتاب القاضي إلى القاضي سنة متبعة معتبرة عند العلماء رحمهم الله، وهذا الكتاب له أحكام وشروط ينبغي توافرها فيه حتى يعمل به ويؤخذ بما فيه، وقد بين أهل العلم هذه المادة هذه الأحكام والشروط أتم البيان.

كتاب القاضي إلى القاضي

كتاب القاضي إلى القاضي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب كتاب القاضي إلى القاضي]. كتاب القاضي إلى القاضي، ثبتت السنة به كما في حديث ضحاك بن سفيان رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه: (أن ورث امرأة أشيم من ميراثه)، فهذا أصل عند العلماء رحمهم الله في صحة كتاب القاضي إلى القاضي، وبعضهم يحتج بكتاب سليمان، وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، ولكن هذا أعم من موضع النزاع، لكن هذا الحديث أصل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كتب بما ثبت عنده؛ لأن المرأة ادعت الميراث من زوجها، وثبت عنده فكتب إلى قاضيه، الذي هو الضحاك بن سفيان رضي الله عنه وأرضاه، وكان كما في رواية أبي داود والحديث صححه الترمذي وغيره: أن يورث امرأة أشيم الضبابي رضي الله عنها وعنه من ميراثه، فحكم بأن لها ميراثاً وأنه ينفذ بالتوريث لإعطائها ذلك الحق. فهذا مما يكتب به القاضي إلى القاضي، أو أن يكتب له بالشهود أنهم شهدوا بالقضية ويذكرهم ببينة دون عدالة أو جرح فيكتب إليه حتى ينظر في عدالته وجرحه، وإما أن يكتب له بعد شهادة الشهود وتزكيتهم مثبتاً شهادتهم ويوكل إليه النظر بالحكم، وإما أن يكتب إليه بعد شهادة الشهود وثبوت تزكيتهم والحكم عليهم لكي ينفذ حكمه، وهذه كلها أحوال على حسب الحاجة يكتب فيها. [يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في كل حق حتى القذف]. والأئمة الأربعة رحمهم الله كلهم على العمل بكتاب القاضي إلى القاضي، وأنها سنة متبعة معروفة عند العلماء رحمهم الله، وأنه لا بأس بذلك ولا حرج. [لا في حدود الله]، الحدود يتولى النظر فيها بنفسه ولا يعتمد كتاب قاضٍ إليه صيانة للدماء وعظم أمرها؛ ولذلك لا يحكم فيها بكتاب القاضي، ولا ينفذ فيها كتاب القاضي إلى القاضي حتى يقرأ القاضي الثاني ويطلع ويقوم على القضية بنفسه، هذا فقط في الحدود، وهذا مما يستثنى في حكم القاضي على القاضي، إلا القذف؛ لوجود حق المخلوق والخالق، فإنه من الحقوق المشتركة، وقد تقدم معنا في باب القضاء. [كحد الزنا ونحوه]. والقتل كذلك، لا يعمل بكتاب القاضي إلى القاضي، وهذا لعظم أمر الحدود. [ويقبل فيما حكم به لينفذه]. ويقبل فيما حكم به لينفذه، الخصم في مكة فكتب القاضي من المدينة إلى مكة أنه ثبت عندي بشهادة الشهود فلان وفلان أن فلاناً له في ذمة فلان كذا وكذا ويحرر له القضية ثم يختم الكتاب ويقرؤه على الشاهدين ثم يقوم الشاهدان بالذهاب بالكتاب إلى القاضي، فينفذ ما فيه. [وإن كانا في بلد واحد]. بعض الأحيان يكون هو القاضي الكبير والآخر تحت ولايته، قالوا: إن كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الضحاك من هذا المعنى، فقد كان الضحاك والياً على قضاء الأعراب كما في رواية الترمذي، وحينئذٍ هو تحت ولاية النبي صلى الله عليه وسلم العامة، فيستفاد منها أنه لو كان في نفس البلد فله أن يكتب ذلك. [ولا يقبل فيما ثبت عنده ليحكم به إلا أن يكون بينهما مسافة قصر]. هذا بالنسبة السفر، اشترطوا أن يكون فيه السفر وهو من مسألة مبنية على وجود الحاجة، أما إذا لم توجد فإنه يتولى القضية بنفسه وينفذها بنفسه. [ويجوز أن يكتب إلى قاض معين وإلى كل من يصل إليه كتابه من قضاة المسلمين]. أي: يجوز أن يكتب إلى قاض معين: إلى فلان ابن فلان قاضي المدينة أو قاضي مكة، أو أن يكتب إلى عموم قضاة المسلمين، وهذا يختلف باختلاف القضايا والحقوق أنه تارة يجعل كتابه عاما وتارة يجعله خاصاً. [ولا يقبل إلا أن يشهد به القاضي الكاتب شاهدين يحضرهما فيقرأه عليهما ثم يقول: اشهدا أن هذا كتابي إلى فلان بن فلان ثم يدفعه إليهما]. حجية الكتابة للعلماء فيها وجهان: منهم من يقوي حجيتها بخط القاضي إلى القاضي، وجماهير السلف على أن وجود شهادة الشهود تقوي العمل بالكتاب، ذلك بأن يقرأ الكتاب على الشهود أو يطلعهما على ما في الكتاب ثم يشهدان بما فيه، وأن هذا هو كتاب القاضي فلان ابن فلان في قضية كذا وكذا ويشهدان بما فيه، فحينئذٍ يكون الكتاب موثقاً، ويقبله القاضي الثاني، أما إذا لم يشهدا عليه فإنه لا يقبله.

باب القسمة

شرح زاد المستقنع - باب القسمة ألحق العلماء باب القسمة بكتاب القضاء؛ لأن كثيراً من القضايا تكون ناتجة عن اختلاف الشركاء في القسمة، وعلى هذا فالقسمة قد تكون يشترط فيها رضا الشركاء، أو قسمة إجبار لا يشترط فيها ذلك.

القسمة تعريفها ومشروعيتها وأنواعها

القسمة تعريفها ومشروعيتها وأنواعها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب القسمة]. القسمة مأخوذة من قولهم: قسمت الشيء أقسمه أقساماً وقسمة. وأصل القسم: النصيب والحظ من الشيء، وغالباً ما يكون في الأشياء التي لها شركة، أو يجتمع فيها شخص فأكثر. وقوله: [باب القسمة]. أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالقسمة، سواء كانت قسمة تنبني على التراضي أو كانت قسمة إجبار، هذان هما نوعا القسمة. والأصل في القسمة كتاب الله عز وجل، كما قال تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى} [النساء:8]، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وتفرفت الطرق فلا شفعة)، وهذا يدل على مشروعية قسم الأشياء من المنقولات والعقارات، فالآية في المنقولات وشاملة أيضاً للعقار من جهة التبع، وبالنسبة للحديث فإنه في العقارات.

النوع الأول: قسمة التراضي

النوع الأول: قسمة التراضي قال رحمه الله: [لا تجوز قمسة الأملاك التي لا تنقسم إلا بضرر أو إلا برد عوض]. هذا هو النوع الأول من القسمة، وهو قسمة التراضي، ولا يمكن فيها أن نجبر أحد الشركاء على القسمة، بل إذا رضي بالقسمة قسمنا وإلا فلا؛ والسبب في ذلك وجود الضرر؛ لأن القسمة شرعت لدفع الضرر، والقاعدة تقول: (الضرر لا يزال بالضرر)، إلا في مسائل مستثناة، منها مسألة: (درء المفسدة العليا بارتكاب أخف الضررين وأهون الشرين) ونحو ذلك، لكن الأصل الشرعي: أن الضرر لا يدفع بالضرر. ومثال: إذا كان هناك مزرعة وفيها بئر واحد لا يمكن قسمته، أو كان هناك عقار لا يمكن أبداً أن يؤجر إلا مجتمعاً، فإذا قسم تعطلت منافعه، ونحو ذلك من المسائل كما ذكر المصنف في الأشياء الصغيرة كالحمام والغرف الصغيرة التي لا يمكن قسمتها. فهذا النوع يسمى (قسمة التراضي) بمعنى: أننا لا نحكم بالقسمة إلا إذا رضي الطرف الثاني -وهو المتضرر- فإذا رضي بذلك قسمنا، وهذا الحكم عام، فيدخل فيه استواء الأنصبة واختلاف الأنصبة. استواء الأنصبة: أن يكون لأحدهما نصف الأرض وللآخر النصف الآخر، أو تكون الأرض منقسمة أثلاثاً لكل واحد منهم ثلث الأرض، فالنصيب متساوٍ. أو يكون الضرر بسبب اختلاف في النصيب، كأن يكون لأحدهم ثلاثة الأرباع، والآخر له الربع، فلو قُسمت فلا شك أنه ستتحسن المنافع باجتماع الثلاثة الأرباع ولكنها لا تتحسن لمن له الربع، وقد يكون هناك عقار بين اثنين، لأحدهما فيه العشر وللآخر تسعة أعشار، فالذي له العشر لا يمكنه بحال أن ينتفع من العقار، وهذا كله مبني على أن الأصل في مشروعية القسمة هو دفع الضرر، ولذلك يعتبرون هذا الباب -وهو باب القسمة- مبنياً على القاعدة الشرعية: (الضرر يزال) وهي إحدى القواعد الخمس المشهورة التي أشرنا غير مرة أنه انبنى عليها الفقه الإسلامي. وقوله: [إلا برضا الشركاء]. إلا برضا الشريك أو الشركاء، فإن كان العقار بين اثنين وطالب أحدهما بالقسمة سألنا الطرف الآخر أن يرضى، وإذا كانوا أكثر من واحد فإنه يُطْلَبْ رضا الأطراف الأخرى الذين لم يطالبوا بالقسمة، فلو اتفقوا كلهم على القسمة فلا إشكال، إنما الإشكال إذا كان أحدهما يطالب بالقسمة، والآخر يقول: أنا أتضرر بالقسمة ولا أريد القسمة. ويحصل هذا في الميراث، كأن يتوفى الرجل ويترك وارثين، فيرثا أرضاً، ومزرعة، وداراً، فالقسمة تضر بهما أو بأحدهما؛ فحينئذ لا نحكم بإجبار الطرف الآخر على القسمة. قال رحمه الله: [كالدور الصغار، والحمام والطاحون الصغيرين]. الحمام والطاحون الصغيران لا يمكن قسمتهما؛ لأن منافع الحمام ومنافع الطاحون لا يمكن قسمتها، والحمام في القديم هو مكان الاغتسال، وليس الحمام الذي هو دورة المياة -كما يعرف في زماننا- فكان عبارة عن بناء يوقد تحته النار من أجل تسخين المياه وهو معروف إلى زماننا، فهذا الحمام لا يمكن قسم منافعه، ولا يمكن أبداً أن نعطي شخصاً تسعة أعشار الحمام، أو نعطي شخصاً ثلث الحمام، أو نعطي شخصاً ربع الحمام، إلا إذا كان كبير المساحة يمكن قسمته والفصل بين الأنصبة والأجزاء. فلو كان الورثة لهذا الحمام خمسة أبناء ذكور، فإن الحمام يقسم بينهم أخماساً، فإذا وجد في القسمة ضرر على أحد الشركاء فهذه يسمونها (قسمة التراضي) بمعنى أنه لا يجبر القاضي الطرف الآخر على أن يقسم لتحصيل مصلحة الطرف الأول. قال رحمه الله: [والأرض التي لا تتعدل بأجزاء]. مثل أن يكون عنده أرض بعضها على الشارع وبعضها بعيد عن الشارع، أو بعضها يمكن الانتفاع به وبعضها لا يمكن الانتفاع به، أو بعضها جبل وبعضها غير صالح للزراعة، بعضها سبخة وبعضها صحراء ونحو ذلك، فإذا تفاوتت أجزاء الأرض ولا يمكن قسمتها لوجودالضرر، أو لا تمكن القسمة إلا برد العوض -ولذلك يضبطون هذا النوع وهو (قسمة التراضي) بأنها التي لا يمكن إعمالها إلا بوجود الضرر أو بتعديل الأجزاء بالمال- فإذا حصل ذلك وهو رد العوض فإنه يعتبر من قسمة التراضي. [ولا قيمةٍ كبناءٍ أو بئر في بعضها]. ففي هذه الحال لا يمكن قسمتها إلا بضرر أو بقيمة. [فهذه القسمة في حكم البيع] أي: تأخذ أحكام البيع، فإذا رضيا فحينئذ تجري عليهما أحكام البيع، مثلاً: يثبت فيها خيار المجلس، فلو أنه رضي ثم ندم على الرضا وهما جالسان، كان من حقه أن يقول: رجعت عن رضاي أو لا أريد القسمة؛ لأنها آخذة حكم البيع، والبيع يجوز فيه خيار المجلس، وهو ثابت بالسنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أصح قولي العلماء. ومن فوائده: أننا لو قسمنا أشياء من الربويات كحبوب وكان فيها ضرر ثم تراضوا وقسموا كأن يكون على النخل، فحينئذ لابد من التقابض؛ لأن كل قسم في مقابل القسم الآخر، فلابد أن يحصل التقابض، كما يشترط في البيع، فتجري عليه أحكام البيع. [ولا يجبر من امتنع من قسمتها]. وهذا من أحكامها التي تأخذ أحكام البيع، فمثلاً: ورثة ورثوا شيئاً واشتركوا فيه، فاشتكى أحد الورثة، وقال: أريد أن أقسم مع إخواني، ولما نظر القاضي فإذا بالعين التي يراد قسمتها لا يمكن قسمتها إلا بضرر على الأطراف الأخرى أو بعضهم، فامتنعوا، وقالوا: لا نريد، فحينئذ ليس من حق القاضي أن يجبرهم على القسمة. إذاً: قسمة التراضي لا يحصل فيها إجبار، وإذا تراضوا وتمت القسمة بينهم جرت أحكام البيع على ذلك.

النوع الثاني: قسمة الإجبار

النوع الثاني: قسمة الإجبار قال رحمه الله: [أما ما لا ضرر ولا رد عوض في قسمته، كالقرية والبستان والدار الكبيرة والأرض والدكاكين الواسعة، والمكيل والموزون من جنسٍ واحدٍ كالأدهان والألبان ونحوها، إذا طلب الشريك قسمتها أجبر الآخر عليها]. هذا هو النوع الثاني من القسمة: وهو قسمة ما لا يحصل الضرر بقسمته، فلو كانت أرضاً والأرض كلها على الشارع ويمكن قسمها إلى أجزاء على حسب الحصص، فمثلاً: أخوان وارثان كل منهما له النصف، ورثا ميتاً عصبة، فقسمت الأرض بينهم مناصفة، قالوا: نريد القسمة، فتقسم بينهم مناصفة، وبما أن كلا النصفين على الشارع وكلا المميزات الموجودة في هذا النصف موجودة في النصف الآخر؛ فحينئذ يجوز قسمتها، ولا إشكال في هذا، وهذا معنى (لا ضرر فيه). كذلك المكيلات يمكن تحديد الأجزاء فيها بالكيل، فمثلاً: لو ترك المورث خمسين صاعاً من بر، وقال أحد الوارثين: أريد أن أقسم حتى أتصرف في قسمي، وقال الآخر: لا نقسم، بل نبيعها كلها، فحينئذ يجبر القاضي الطرف الآخر على القسمة؛ لأن قسمة الخمسين صاعاً لا ضرر فيها، ويمكن العدل فيها بين الطرفين، فيجبر الرافض للقسمة منهما على هذا، وهو أكثر ما يقع في مسائل الميراث وفي الشركات بين الشركاء، ولذلك أدخله العلماء رحمهم الله -والمصنف رحمه الله- في باب القضاء؛ لحصول التنازع فيه. [وهذه القسمة إفراز لا بيع]. إفراز النصيب لكل منهما. وقد تكون القسمة في المنافع، وهي التي سميناها قسمة المهايأة، وهي أن يهيئ كل منهما للآخر نصيبه الذي يرتزق به، كما لو اتفق وارثان، أحدهما قال: أنا أسكن في الدور العلوي، والثاني قال: أنا أسكن في الدور السفلي، والدار بينهما، فحينئذ تهيأا للانتفاع من الدار، وهذه هي قسمة المهايأة.

من يقسم بين الشركاء وعلى من تكون أجرته

من يقسم بين الشركاء وعلى من تكون أجرته [ويجوز للشركاء أن يتقاسموا بأنفسهم، وبقاسم ينصبونه]. (ويجوز للشركاء أن يتقاسموا بأنفسهم) إذا حصلت القسمة بينهم برضا الأطراف، فحينئذ لا إشكال، ولا يجب عليهم أن يترافعوا إلى القاضي، ولا يجب عليهم أن يُنصبوا قاسماً يقسم بينهم، ما دام أنهم تراضوا، ورضي كل منهم بحصته. (وبقاسم ينصبونه) (يَنْصِبُوْنَه أو يُنَصِّبُوْنَه) أي: يأتون بشخص، فمثلاً: إذا كانت أرضاً وجاءوا بمهندس -كما في زماننا- ينظر إلى الأرض ويعدّلها ورضوا بقسمته، فإذا كان متبرعاً فلا إشكال، لكن لو قال: أريد أجرة على ما عملت، فحينئذ تنقسم الأجرة على قدر نصيب كل واحد منهم، فإذا كانت الأرض بين الاثنين مناصفةً، وجب على كل واحد منهما أن يدفع نصف الأجرة، وإذا كانت الأرض أرباعاً لكل واحد من الأربعة الربع، وجب على كل واحد أن يدفع ربع أجرة القاسم. فإذا قال: أجرة مثلي في هذه القسمة لهذا العقار أو هذه الأرض أو هذه المزرعة أربعمائة ريال، فإذا كانوا أربعة فحينئذٍ يدفع كل شخص مائة ريال؛ لأن هذه الأرض غنمها وغرمها على الجميع بقدر النصيب، كما أنها لو خسرت ونقصت قيمتها دخل النقص والخسارة على الجميع، كذلك لو ربحت وزاد نماؤها كان نماؤها على الجميع، وأصول الشريعة تقتضي هذا، ولذلك القاعدة الشرعية تقول: الخراج بالضمان، وتقول: الغنم بالغرم،، وبعضهم يقول: الغرم بالغنم، والمعنى واحد، وعلى كل حال الربح لمن يضمن الخسارة، وقد تقدم تقرير هذا في غير ما موضع، وأشرنا إلى حديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود وغيره في تقرير هذا الأصل. قال رحمه الله: [أو يسألوا الحاكم نصبه، وأجرته على قدر الأملاك]. قوله: (أو يسألوا الحاكم نصبه) إذا وجد عند الحاكم لجنة، أو لدى القاضي أناس من أهل الخبرة؛ لأن القضاة ينبغي عليهم أن يكون عندهم أناس لهم خبرة في شؤون الناس ومشاكل الناس وأحوالهم يرجع إليهم القاضي عند الحاجة، تارةً يكونون منصبين من قبل القاضي ويكون لهم رزق من بيت المال على خلاف بين العلماء رحمهم الله في مسألة إعطائهم أرزاقاً من بيت المال. فإذا سألوا القاضي أن ينصبه، فمذهب طائفة من العلماء أن هذه القسمة الحظ فيها للشركاء، وإذا كان الحظ للشركاء فلا تُدخل على بيت المال ضرراً، بمعنى أن بيت المال لا يتحمل أجرة القسمة، بل يتحملها الشركاء؛ لأنه لا علاقة لبيت المال في قطع خصومة ما، بحيث تحمل على بيت مال المسلمين. [وأجرته على قدر الأملاك] كما ذكرنا، من كان له النصف فيدفع نصف أجرته، ومن كان له الربع فيدفع الربع، وهكذا. قال رحمه الله: [فإذا اقتسموا أو اقترعوا لزمت القسمة]. قوله: (فإذا اقتسموا) النصيب، وجرت القسمة لزمتهم، بالأطراف، والأصل يقتضي هذا، وإلا فما هو المراد من قسمتها.

القرعة في القسمة

القرعة في القسمة قال رحمه الله: [وكيف اقترعوا جاز]. وكذلك القرعة، فمثلاً: لو قسموها قسمين، وهما شريكان، قال أحدهم: أنا آخذ اليمنى، وقال الآخر: أنا آخذ اليسرى، فلا إشكال، وكذلك لو شُق شارع وقسم الأرض قسمين، فقال أحدهما: أنا آخذ الشمالية. والآخر قال: أنا آخذ الجنوبية. أو قال أحدهما: الشرقية، وقال الآخر: الغربية. واصطلحوا على هذا؛ فلا إشكال، لكن لو قال أحدهما: أنا آخذ اليمنى، وقال الآخر: أنا آخذ اليمنى. وليس هناك تميز في إحداهما؛ لأن القسمة لا تمكن إلا بالتعديل، فإذا استوت أجزاؤها، لكن أحدهما قال: أنا أريد الشمالية، وقال الآخر: وأنا أريد الشمالية؛ فحينئذ لابد من القرعة. والقرعة لها أصل يدل على المشروعية، وهو قوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141]، والحديث الذي في قصة سليمان عليه السلام، والأصل يقتضي مشروعية القرعة وجريانها، ولها عدة صور؛ كيفما اقترعوا جاز، فمثلاً: لو أنهم وضعوا الشمالية في ورقة والجنوبية في ورقة، ثم تخلط الأوراق، وكل واحد منهما يأخذ ورقة أو يؤتى بشخص جاهل أو طفل لا يعلم -كما ذكر بعض العلماء- حتى يكون أبعد عن التهمة والريبة، وبعد خلطه للورقتين يقول أحدهما: أنا آخذ الورقة الأولى، والآخر يقول: أنا آخذ الورقة الثانية. وهكذا. وعلى كل حال أنهم: كيفما اقترعوا جاز، ما دام أنه أمر خفي، ولا تحصل فيه التهمة ولا الريبة، وليس فيه تنبيه لأحدهما على ما يريد وما يطلب، فإنه جائز.

باب الدعاوى والبينات

شرح زاد المستقنع - باب الدعاوى والبينات يختصم الناس إلى القضاء في كثير من المشاكل التي تقع بينهم، وفي هذه الخصومات يقوم كل خصم بتقديم البينات والحجج لإثبات صحة دعاواهم، وقد درج كثير من المصنفين على إلحاق باب مختص بالدعاوى والبينات بكتاب القضاء؛ لما لهذا الباب من أهمية في بيان المدعي من المدعى عليه، وما هي البينة المقبولة من المردودة، وغير ذلك من المسائل.

باب الدعاوى والبينات

باب الدعاوى والبينات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الدعاوى والبينات]. الدعاوى: جمع دعوى، ويقال: دعا إذا طلب، ودعا إذا تمنى في لغة العرب. والمراد بها إضافة الإنسان إلى نفسه استحقاق شيء في يد غيره أو في ذمته، هذا بالنسبة لحقيقتها في اصطلاح العلماء رحمهم الله، وهذه الإضافة توسّع بعض العلماء فيها، فقالوا: إنها من حيث الأصل تأتي على سبيل الإثبات وعلى سبيل النفي. وقوله رحمه الله: (والبينات) جمع بينة، وقد تقدم تعريفها. يقول رحمه الله: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من أحكام المسائل التي تتعلق بأحكام الدعاوى في القضاء وأحكام البينات والحجج التي يرفعها الخصوم لكي يثبت كل واحد منهم صحة ما يدعيه، والبينات تتعدد وتختلف، ولذلك يفرد العلماء رحمهم الله باباً يختص بالدعاوى وبالبينات ويلحقونه بكتاب القضاء.

الفرق بين المدعي والمدعى عليه

الفرق بين المدعي والمدعى عليه قال رحمه الله: [المدعي من إذا سكت تُرك]. والمدعى عليه من إذا سكت لم يترك هذه المسألة تعرف بمسألة تمييز المدعي من المدعى عليه، ولا يمكن لقاضٍ أن يقضي في قضية حتى يستطيع أن يعرف أصول الدعوى والمرافعات في القضاء، ومن أصول الدعوى والمرافعات في القضاء، أن يميز بين المدعي والمدعى عليه، إذ لا يمكن لأحد أن يفصل في قضية، حتى ولو لم تكن قضائية، حتى في العلم في مسائل العلم؛ لأن الإنسان إذا علم من هو المدعي، قال له: عليك الحجة وعليك البينة، وطالبه بالحجة والبينة، وإذا علم المدعى عليه بقي على قوله حتى يدل الدليل على خلافه، ولذلك تجد طلاب العلم الذين لا يحسنون هذا الباب، يجلس بعضهم مع بعض، ويقول كل واحد منهم: أعطني دليلاً، والآخر يقول: أعطني دليلاً، فهم لم يعرفوا الأصول ولم يثبتوا الأصول، حتى يميزوا من الذي يطالب بالدليل والحجة، ومن استطاع أن يضبط الأصول ويعرف القواعد والأسس في ضبطها، فإنه لا يشكل عليه أمرها. ومن هنا قال الإمام الجليل سعيد بن المسيب رحمه الله: من عرف المدعي من المدعى عليه، لم يلتبس عليه حكم في القضاء. إذاً لابد من معرفة حال المدعي والمدعى عليه، حتى قال بعض العلماء في نظمه: تمييز حال المدعي والمدعى عليه جملة القضاء وقعا عليه جملة القضاء وقعا: كل القضايا لا يمكن أن يبت فيها حتى يُعرف من المدعي ومن المدعى عليه. وهذه الضابط الذي ذكره المصنف رحمه الله ارتضاه كثير من أهل العلم رحمهم الله. وصححوه، وقال به فقهاء الحنفية، وقال به بعض الشافعية، ورجحه الإمام الشوكاني وغيره، وانتصر له الإمام الماوردي رحمة الله على الجميع في الحاوي: أن المدعي من إذا سكت تُرك؛ لأن الحق حقه، فلو أنه لا يريد أن يدعي لا نأتي ونقول له: طالب، ويجب عليك أن ترافع، والمدعى عليه إذا أقيمت عليه الدعوى، فإنه إذا سكت، نقول له: أجب، ولا يترك، ويطالب بالرد، لكن المدعي لا يطالب؛ لأن له الحق في أن يطالب، وإذا سكت ولم يطالب لم يفرض عليه أحد أن يتكلم، ولم يفرض عليه أحد أن يخاصم، ولكن المدعى عليه -ولا تقل: هذا مدعى عليه؛ إلا إذا ثبتت دعوى- لا يمكن أن يترك؛ بل يقال له: أجب، وقد تقدم معنا أنه يجبر على الجواب حتى ولو سكت: ومن أبى إقرار أو إنكارا لخصمه كلفه إجبارا ولذلك يطالب وإذا سكت لم يترك، أما المدعي فهو الذي إذا سكت ترك، هذا هو الضابط الذي اختاره المصنف رحمه الله. وهناك ضابط آخر -وهو صحيح وقوي جداً- وهو أن المدعي من كان قوله موافقاً للأصل، والمدعى عليه من كان قوله خلاف الأصل، فمثلاً: شخص جاء وقال: فلان زنى. فالأصل أنه غير زانٍ، فحينئذ الذي قال: فلان زنى، هذا مدعٍ، والطرف الآخر الأصل -وهو المدعى عليه- فيه البراءة من التهم، حتى يثبت أنه متهم، فإذا قال شخص: فلان ضرب فلاناً. الأصل أنه لم يضرب، فحينئذ الذي يقول: فلان ضرب فلاناً؛ مدعٍ. ويكون الطرف الآخر مدعىً عليه، هذا ضابط. وهناك ضابط آخر يضبط القضايا بألفاظها. فقال بعضهم: المدعي من يقول: حصل كذا، كان كذا، يعبرون بقولهم: كان كذا، أي: بعت، اشتريت، أجَّرْت، أخذ مني سيارةً، أخذ داري، اعتدى عليَّ، شتمني، ضربني، والمدعى عليه: هو الذي يقول: ما ضربته، ما شتمته، لم يكن كذا. فقالوا: المدعي هو الذي يقول: كان، والمدعى عليه: هو الذي يقول: لم يكن. وكذلك أيضاً يعرف المدعي إذا كان قوله خلاف الظاهر، والمدعى عليه من هو على الظاهر ويكون بالعرف، فمثلاً: عندنا بالعرف أنه إذا كان شخص يسكن في بيت، وجاء شخص وقال: البيت بيتي، أو العمارة عمارتي، أو الأرض أرضي، فحينئذ الظاهر أن الأرض لمن يعمل فيها، والبيت لمن هو ساكن فيه، فظاهر العرف يشهد بأن الإنسان ما يتصرف إلا في ماله، كذلك لو وجدنا شخصاً راكباً على بعير، والآخر غير راكب، فقال الراجل: هذا بعيري، فالظاهر يشهد وكذا العرف يشهد بأن هذا مدعٍ، والراكب مدعىً عليه، ونعود في ذلك إلى التعريف الذي ينص على أن الذي خلا قوله عن الأصل وعن العرف أو الظاهر الذي يشهد بصدق قوله فإنه حينئذ يكون مدعياً. وأما إذا اقترن قوله بالأصل واقترن قوله بالظاهر؛ فإننا نقول: إنه مدعىً عليه، وحينئذ لا نطالبه بالحجة، ونبقى على قوله حتى يدل الدليل على خلاف قوله، والبعض صاروا إلى هذا كما يقول الناظم رحمه الله: فالمدعي من قوله مجرد من أصل أو عرف بصدق يشهد (من أصل) فمثلاً قال: فلان زنى، الأصل أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. فقوله مجرد من الأصل، فنقول له: ائتِ بالبينة، وأنت مدعٍ أو (عرف بصدق يشهد) أي: عرف يشهد بصدق قوله، وقد قلنا: إن العرف يحكم بأن راكب الدابة هو صاحبها، وكذلك لو كان اثنان على دابة، فالعرف يقضي أن الذي في المقدمة مالكها، أي: لو قال كل منهما: هذه دابتي، فالذي في المقدمة مدعىً عليه والذي في الخلف مدعٍ. ولو كانا في سيارة وأحدهما يقود والآخر راكب، فإن العرف يشهد بأن الذي يقود السيارة مالكها -والآن أوراق التملك تحل القضية- فمن حيث الأصل أن المدعي من تجرد قوله من الظاهر ومن الأصل ومن العرف الذي يشهد بصدق قوله: وقيل من يقول (قد كان) ادعى و (لم يكن) لمن عليه يُدعى (وقيل) أي: من جملة الأقوال في ضابط المدعي والمدعى عليه، (من يقول: قد كان؛ ادعى أي: أنه مدعٍ، كان كذا، حصل كذا، وقع كذا، فلان ضرب، فلان شتم، فلان أخذ، فلان سرق، فلان كذا. فهذا مدعٍ. والذي قال: ما فعلت، أو ما سرقت، أو ما أخذت، أو ما تكلمت، أو ما آذيت. هذا مدعىً عليه.

عدم صحة الدعوى إلا من جائز التصرف

عدم صحة الدعوى إلا من جائز التصرف قال رحمه الله: [ولا تصح الدعوى والإنكار إلا من جائز التصرف]. وهو المكلف البالغ العاقل الحر الرشيد، وقد تقدم هذا معنا في عقود المعاملات المالية، وبينا أنه لا يصح التصرف من رجل مجنون. ولا من صبي إلا في مسائل مخصوصة، مثل الصبي المميز إذا أذن له وليه بالتجارة، ولا يصح التصرف من العبد كما أخبر الله عز وجل {ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل:75]، وبينا هذا وبينا الأصول والأدلة التي تدل عليه، وجائز التصرف يشترط أن يكون رشيداً، فالسفيه لا يصح تصرفه، فلو أقام الدعوى -في المال- من هو محجور عليه لم تقبل دعواه؛ لأنه ليس له حق في ذلك.

القول قول صاحب اليد مع يمينه إلا إذا وجدت بينة

القول قول صاحب اليد مع يمينه إلا إذا وجدت بينة قال رحمه الله: [وإن تداعيا عيناً بيد أحدهما فهي له مع يمينه إلا أن تكون له بينة فلا يحلف]. مثلاً: محمد وعبد الله اختصما على أرض، أو كتاب أو ثوب، وهذه الشيء بيد أحدهما، وليس المراد بقوله: (بيده) القبض باليد، لكن بالمعنى الشمولي العام، فتقول: (في يده) أي: تحت تصرفه أو تحت عمله أو تحت ولايته ونظره، وهو الذي يقوم عليها، وهو الذي يتصرف بها، فحينئذ فالسيارة (في يده) أي: يقودها، ومعه مفاتيحها، والبيت إذا كان ساكناً فيه، والأرض يحرثها ويزرعها، ويقوم على مصالحها، فجاء محمد ادعى عيناً بيد عبد الله، وقال: الأرض أرضي، أو السيارة سيارتي، أو القلم قلمي الثوب ثوبي الكتاب كتابي، فنظرنا فوجدنا أن الكتاب بيد عبد الله، فحينئذ نقول لمحمد: أنت مدعٍ، وحينئذ لا يمكن أن تقبل دعواك إلا إذا أقمت البينة وإلا حلف خصمك وانتهت القضية. فمن ادعى عيناً في يد آخر فحينئذ يطالب الخارج بالبينة والداخل لا يطالب إلا باليمين في حال الإنكار إذا سأل خصمه أن يحلف اليمين وإلا لم يلزمه شيء.

تعارض البينات

تعارض البينات قال رحمه الله: [وإن أقام كل واحد بينة أنها له، قضى للخارج ببينته ورفض بينة الداخل] هذه المسألة مشهورة عند العلماء، وهي مسألة تعارض البينات، فلو اختلفا في بيت أو في كتاب أو في أرض -أي: سواء كان عقاراً أو منقولاً- وعرفنا من المدعى عليه أحدهما القائم على مصالح هذا الشيء، كساكن في البيت في الداخل، وجاء الخارج وأقام بينة، ثم الداخل أقام بينة، هذا عنده شاهدان يشهدان أن البيت بيته، وأنه لن ينتقل منه إلى الآخر إلا بعوض؛ لأن البيت بيته وأنه ملك له، والآخران أيضاً شهدا بأن البيت بيت فلان وملك لفلان، فهذان شاهدان وهذان شاهدان، والشريعة اعتبرت الشهادة حجة، فماذا يفعل في هذه الحالة؟ طبعاً من العلماء من قال: تسقط البينتان، يعني بينة الداخل وبينة الخارج، أي: إذا تعارضتا سقطت هذه وسقطت هذه فألغيتا؛ لأننا لو عملنا بهذه بناء على أن الشرع يعتبرها حجة، فكذلك يجب علينا أن نعمل بالأخرى؛ لأن الشرع يعتبرها شهادة وحجة ليس عليها أي غبار ولا فيها أي مطعن، فلا يمكننا أن نفضل حجة على حجة، وإن فهم القضاء بالحياد لأحد الخصمين لكن إن وجد المجرم قال سقطت البينتان. لكن هناك أحوال بعض العلماء يستثنيها، يقول: لو كانت إحدى البينتين شهودها معروفون بالضبط وبالإتقان وبالعدالة، وهذا تغليب ظن قوة الحجتين، قالوا: فترجح، لكن هذا ضعيف؛ لأن العلم المستفاد من حيث الأصل حجية، والحجية موجودة في الاثنين، فحينئذ مثلاً إذا كان الشاهد مرضياً فلا إشكال إذا قامت الحجتان. ومن أهل العلم من قال: نقدم بينة الخارج على بينة الداخل، وهذا هو الذي رجحه المصنف رحمه الله، بمعنى أنه يقول: إذا كنت ساكناً في الدار وعندك حجة وبينة، والآخر خارج الدار وادعى عليك وجاء بحجة وبينة؛ قدمنا حجة الخارج، قال: لأن هذا الذي في داخل البيت لما أثبت لنفسه فالظاهر شاهد على حاله، وبالنسبة للخارج جاء بشيء يحتمله العرف، وهو أنه باع أو تصرف، أي أن الساكن في البيت قد باع للخارج، ومن هنا تقوى بينة الخارج وترجح على بينة الداخل، هذا تعليل بعض العلماء في ترجيح القول الذي اختاره المصنف. ولكن في الحقيقة من أقوى القرائن: زيادة العلم، وهي أن بعض العلماء قال: إن بينة الداخل -الذي هو داخل الدار- جارية على الأصل، وبينة الخارج ناقلة من الأصل، والناقل عن الأصل جاء بزيادة، وحينئذ يقدم، وهذه المسألة مثل ما ذكروا إذا تعارض الحاضر والمبيح، قالوا: يقدم الحاضر على المبيح؛ لأن المبيح جارٍ على الأصل؛ لأن الأصل في الأشياء حلها وإباحتها، فإذا جاء المحرم فمعنى ذلك أننا نقلنا عن الأصل فصارت استفادة وزيادة علم هذا وجه. فالذي يظهر -والله أعلم- أنه لا تقدم حجة الخارج، وأن بينة الخارج ساقطة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)، لأن هذا التعليل في كلتا الحالتين ضعيف، وأن الأقوى والمعتبر من جهة النص، وهو كون النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)، فنحن نقول: هذان شخصان اختلفا في البيت، فإذا جئنا نقدم بينة الداخل على بينة الخارج خالفنا النص؛ لأن الذي في الداخل مدعى عليه، والذي في الخارج مدعٍ، فحينئذ الأصل الشرعي يقتضي أن ينظر في بينة الخارج لا في بينة الداخل؛ لأن الذي في الداخل مطالب باليمين -إذا لم توجد بينة- ولا يطالب ببينة، إنما الذي يطالب بالبينة هو الخارج، ومن هنا نرجح أن هذا القول قوي من جهة النقل لا من جهة العقل والتعليل؛ لأن الذي ذكرناه في الأول تعليلات، فنرجح هذا القول الذي نص عليه المصنف رحمه الله وهو تقديم بينة الخارج على بينة الداخل، ويكون الترجيح مستفاداً من جهة أن بينة الخارج مبنية على النص، حيث إن المدعي مطالب بالبينة والمدعى عليه لا يطالب بالبينة، فحينئذ نقول: لما جاءتنا بينة الخارج لزمنا بحكم النص أن نعمل بها، ومعارضة بينة الداخل، ومثله ليس له أن يأتي بالحجة، فتُقدم حجة الخارج على الداخل، هذا بالنسبة للمسألة إجمالاً ووجه ترجيحها، وعلى كل حال لا يخلو الفقهاء من بعض المخارج، كان بعض مشايخنا يقول: فليخرج، ثم إذا خرج يقيم دعوى جديدة، ويأتي ببينة حتى يصبح الأمر على الدور، ومن هنا قالوا: إن هذا لا إشكال فيه، فإنما أسقطنا البينة الثانية؛ لأنها تؤدي إلى الدور، (وما أدى إلى باطل فهو باطل)، والفقيه يجد له مخرجاً.

مقدمة كتاب الشهادات

شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الشهادات تعتبر الشهادة من الأمور المهمة التي يحتاجها الناس لتوثيق معاملاتهم، وحل مشاكلهم وخصوماتهم ونزاعاتهم، وهي مشروعة بالكتاب والسنة، وتحملها فرض كفاية، وقد يكون فرض عين إذا لم يوجد إلا من تقوم به الشهادة، فإذا تحملها وجب عليه أداؤها إذا لم يعد عليه ذلك بالضرر. ولا يشهد أحد إلا بما يعلمه، ويلزم أن يؤدي الشهادة كما علمها بدون زيادة ولا نقصان. وهناك شروط فيمن تقبل منه الشهادة إذا توفرت قبلت منه، وإلا فلا.

تعريف الشهادة ومشروعيتها وأحكامها

تعريف الشهادة ومشروعيتها وأحكامها يقول المصنف رحمه الله: [كتاب الشهادات]. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: قوله: (كتاب الشهادات) الشهادات: جمع شهادة، تطلق الشهادة بمعنى الحضور، تقول: شهدت كذا إذا كنت حاضراً، ومنه سمي الشهيد شهيداً؛ لأن الملائكة تحضره، قال صلى الله عليه وسلم لـ جابر حينما كان يكشف الثوب عن وجه أبيه ويبكي، وقد استشهد يوم أحد، قال صلى الله عليه وسلم: (ابكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع)، ومنه قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [القصص:44] أي: من الحاضرين، وتطلق الشهادة بمعنى العلم، تقول: أشهد بكذا بمعنى: أعلم، كقولك: أشهد أن لا إله إلا الله، أي: أعلم علم اليقين أنه لا إله إلا الله، ومنه الشهادة في القضاء، فهي منتزعة من المعنى الثاني. وأما في الاصطلاح: فهي الإخبار عن حق للغير، بلفظ مخصوص، وإخبار مخصوص، عن شيء مخصوص. والأصل في مشروعيتها الكتاب والسنة، أما الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282]، وقال سبحانه: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282]، وقال سبحانه: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة:282]، وقال تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]، فهذا نص الكتاب. وأما نص السنة: فقد جاء في قصة الحضرمي كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ وائل بن حجر: (شاهداك أو يمينه) وهذا يدل على أن الشهادة حجة في القضاء، وحجة في النزاع والخصومات. وقد أجمع العلماء رحمهم الله على اعتبارها حجة من حجج الإثبات في القضاء الإسلامي. وأما في العقل: فالعقل يدل على مشروعية الشهادة؛ لأن الناس يحتاجون إلى من يوثّق معاملاتهم، خاصة في حال الخصومات والنزاعات، والشهادة طريق إلى ذلك.

حكم تحمل الشهادات في غير حق الله تعالى

حكم تحمل الشهادات في غير حق الله تعالى قال رحمه الله: [تحمل الشهادات في غير حق الله فرض كفاية]. أي: أن الشهادة فيها التحمل وفيها الأداء. والتحمل: هو أن يكون الإنسان يعلم بما يشهد به، فينظر فيما يطلب منه أن يشهده، فيحضر ويسمع ويرى، وتكون شهادته عن علم برؤية أو سماع، أما الأداء: فهو أن يؤدي ذلك في مجلس القضاء. فالعلماء يقولون: تحمل وأداء، المرحلة الأولى التحمل، والمرحلة الثانية الأداء، والتحمل مقصود من أجل الأداء، فتحمل الشهادة وأداؤها فرض على الكفاية، بمعنى: إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وهذا أصل في الأمور التي يحتاج إليها، أنه إذا قام بها البعض وسدوا الكفاية سقطت عن الباقين. وعلى هذا: لو أن شخصاً دعي إلى الشهادة، أو قال لك رجل -وأنت في إدارة أو في أي موضع-: اشهد، فحينئذٍ ننظر إذا كانت القضية يمكن أن يشهد عليها غيرك، وهذا الغير تتوفر فيه شروط الشهادة وتقبل شهادته لو شهد، فإنه حينئذٍ لا يجب عليك تحمل الشهادة، وبإمكانك أن تقول له -إذا كان عندك ظرف أو عمل أو غيره-: اعذرني يا أخي، أو كنت لا تحب أن تذهب وتتحمل بعض المصاعب والمتاعب، فلك أن تقول له: اعذرني، ولك الحق أن تتركها؛ لأنها لم تتعين عليك. قال رحمه الله: [وإن لم يوجد إلا من يكفي تعين عليه]. أي: إذا لم يوجد غيرك وشاهد آخر، والحق لا يثبت إلا بكما، فحينئذٍ لا يجوز لك أن تتخلى عن الشهادة، ويحرم عليك ذلك، قال تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282]، فإذا كانت هناك قضية وقيل لك: اشهد، ولا يوجد غيرك، أو يوجد شخص غيرك لكن لا تقبل شهادته وأنت تقبل شهادتك؛ كما لو كان هناك رجل عنده أولاده، وإذا شهد أولاده لا تثبت شهادة الولد لوالده، فحينئذٍ إذا قيل لك: اشهد، فاشهد، كما لو حدثت مشكلة أو خصومة، ولا يوجد إلا أنت وشخص آخر معك، فحينئذٍ يجب عليك ويتعين عليك أن تسمع وأن تعلم؛ لأن هذا يؤدي إلى وصول الحق إلى صاحبه، ويؤدي إلى منع الظالم من الظلم، وإنصاف الناس في حقوقهم، ويؤدي إلى معونة القضاء على ذلك؛ لأن القضاء بلاء، ولا يمكن دفع هذا البلاء بشيء مثل الشهادة، كما قال بعض أئمة السلف، وهذا مروي عن شريح: القضاء بلاء، فادفعه عنك بعودين. يعني: بشاهدين، فهذان العودان: هما الشاهدان، فإذا جاءا وشهدا انتهى الأمر، فقالا: سمعناه يقول كذا، رأيناه يفعل كذا، فحينئذٍ يعرف المحق من المبطل. أما إذا كان الأمر فيه سعة، ويوجد من يمكن أن يشهد ويتحمل فلك الخيار، والأفضل أن تشهد؛ إحقاقاً للحق، وإبطالاً للباطل، ومعونة لأخيك، وتثاب على ذلك، وأنت مأجور عليه، لكن إذا خشيت بعض التعقيد أو الضرر أو نحو ذلك، فلك الحق أن تمتنع.

حكم أداء الشهادة على من تحملها

حكم أداء الشهادة على من تحملها قال رحمه الله: [وأداؤها فرض عين على من تحملها متى دعي إليها وقدر بلا ضرر في بدنه أو عرضه أو ماله أو أهله، وكذا في التحمل] أداء هذه الشهادة فرض عين على من تحملها، مثال ذلك: لو وقع حادث أو وقعت خصومة وشهد اثنان كانا حاضرين أثناء الحادث، ورفعت القضية إلى القضاء، فجاء صاحب القضية وقال للاثنين: أريدكما أن تشهدا معي، فحينئذٍ يجب عليهما أن يحضرا إلى مجلس القضاء، وأن يشهدا بما علما، وذلك فرض عين عليهما، وإذا تعطلا أو امتنعا فإنهما آثمان شرعاً، ويتحملان المسئولية أمام الله عز وجل، وقد قال تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283]. وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الشاهد إذا دعي، خاصة إذا لم يوجد غيره، وتوقف إحقاق الحق على وجوده، فإنه إذا امتنع يتحمل الإثم -والعياذ بالله- والوزر، وهذا بإجماع العلماء، ويحكم بفسقه؛ وهذا فيه وعيد شديد، وأيضاً فيه تعطيل للحقوق، وفيه عدم صيانة للقضاء؛ لأن القاضي إذا لم يجد شهوداً سيضطر إلى قبول اليمين، وقد تكون يمينه غموساً، وحينئذٍ يحق الباطل ويبطل الحق، فتضيع حقوق الناس، فتحملها فرض عين على الإنسان، إذا لم يوجد غيره، ويجب عليه أداؤها إذا لم يكن هناك شهود غيره، فإن كان هناك شهود، فحينئذٍ ننظر إذا كانوا موجودين أحياء، ويمكنهم أن يشهدوا، وجاء صاحب الحق وقال لك: أريدك أن تشهد، فإن كان عندك قدرة أن تذهب وتشهد فاذهب، وهذا أفضل وأعظم لأجرك وأتقى لربك، أما إذا كان الإنسان عنده عذر، أو لا عذر عنده، وقال: أنا لا أريد أن أذهب، فحينئذٍ ترك الأفضل، وهناك مندوحة لأن هناك من يقوم بهذا الأمر من غيره. فإذا كان من حضروا قد ماتوا ولم يبق منهم إلا هذان الاثنان، فحينئذٍ يتعين عليهما الحضور، أو كان البقية مسافرين، وحضرت القضية فإنه يجب عليهما أن يذهبا ويشهدا. إذاً: إذا تعينت عليه صارت فرض عين، وأما إذا وجد من يقوم بها من غيره ممن تقبل شهادته، لم تصر فرض عين عليه، لا في التحمل ولا في الأداء. وقوله: (متى دعي إليها): من العلماء من قال: الشاهد إذا دعي فيجب عليه أن يجيب، سواء وجد غيره أم لم يوجد؛ لعموم قوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282]، والورع تعاطي ذلك.

حكم تحمل الشهادة وأدائها لمن خشي الضرر على نفسه

حكم تحمل الشهادة وأدائها لمن خشي الضرر على نفسه وقوله: (وقدَرَ بلا ضرر في بدنه أو عرضه أو ماله أو أهله). أي: وقدر على الأداء بلا ضرر؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر، فلو قيل له: تعال واشهد، والذي سيشهد عليه ابن عمه، وهناك شهود آخرون غيره، فحينئذٍ لو جاء ليشهد فستقع فتنة بينه وبين بني عمه، وتقطع بسببها الأرحام، وقد يكون ابن عمه شريراً فقد يقتله، وقد يؤذيه، وقد يضر به وبولده، وفي بعض الأحيان تقع النعرات والمشاكل، وربما قد لا يُنكِح ولا يُنكَح، وهذا ضرر عليه وعلى أولاده، ولربما شُمِتَ به مع أنه على حق. فإن كان به من الإيمان والقوة والصبر والجلد فلم يزده الله بذلك إلا عزاً، فمن أهان عبداً لله اتقى الله فيما اتقى فيه ربه جعل الله إهانته كرامة، وجعل الله ذله عزاً، وجعل الله منقصته كمالاً، ومن أراد أن يجرب فليفعل؛ لأنه ليس هناك أعظم من نقمة الله عز وجل ممن ظلم عبداً اتقى ربه، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، وجاءته الدنيا ذليلة صاغرة)، ومن هنا فمن حقه أن يمتنع إن خشي الضرر. ولذلك فإن العلماء رحمهم الله في مسائل الضرر يقولون: إن الضرر قد يُتحمل إذا كان عند الإنسان صبر وجلد على البلاء، وعلى الفتنة والأذية، يقولون: فيجوز له أن يؤدي الشهادة؛ لكن بشرط أن لا يخاف الفتنة على نفسه؛ لأن من الناس من إذا تضرر ندم على ما فعل، وضعف إيمانه، وحينئذٍ فلا هو حصل على الأجر فيما مضى لندمه ورجوعه عما فعل، ولا هو سلمت له نفسه بحصول الضرر بعد ذلك، قالوا: وهذا هو معنى رد النبي صلى الله عليه وسلم على الذي قال: (إن من توبة الله علي أن أنخلع من مالي) يعني: أتصدق بكل مالي، فهو فارح بتوبة الله، فربما إذا انتهى فرحه ندم على تصدقه بجميع ماله، فيذهب عليه الأجر بالندم، فلا هو بقي له ماله، ولا هو ثبت له الأجر. وهنا في الشهادة كذلك، فإذا كان الشخص يتحمل وعنده قوة إيمان وصبر وجلد فبها، وإلا فلا. وقوله: (وكذا في التحمل) أي: إذا وجد الضرر على نفسه وأهله وماله جاز له أن يمتنع، والعلماء ذكروا من الضرر: قطيعة الأرحام، والفتنة، حتى قالوا: إن القاضي من حقه أن يؤخر تنفيذ الحكم إذا خشي أن تقع مقتلة، أو تقع فتنة، ولذلك قال الناظم: ما لم يخف بنافذ الأحكام فتنة أو شحناء للأرحام فلا يجوز للحاكم أن يوقف الحكم، ولا أن يعطل الحكم، بل يجب عليه تنفيذه، وإذا أخر فإنه يأثم، فإذا تبين له الحق يجب عليه أن يحكم به، ولكن إذا خاف الفتنة أو الشحناء للأرحام، عدل إلى الصلح في القضية خوف وقوع ما هو أعظم. والصلح يستدعى له إن أشكلا حكم وإن تعين الحق فلا ما لم يخف بنافذ الأحكام فتنة أو شحناء للأرحام

حرمة كتمان الشهادة

حرمة كتمان الشهادة قال رحمه الله: [ولا يحل كتمانها] ولا يحل كتمانها؛ لقوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة:283]، وكتمانها يكون على صورتين: أن يعلم أن لفلان على فلان حقاً، وغالباً ما يكون هذا إذا كان الشخص صاحب الحق لم يعلم أنه شاهد، أو أن الذي رأى القضية أو الحادثة مع كون صاحب الحق عنده شاهداً أو شهوداً ثم توفي الشهود، أو امتنعوا من الشهادة، أو جنوا، أو تعلق بهم مانع يمنع من قبول شهادتهم؛ كأن يحصل لهم أمر يوجب ردَّ شهادتهم، ولا يعلم صاحب القضية أن فلاناً شاهد، فحينئذٍ يجب على هذا الذي يعلم أن يأتي للشخص الذي له الحق ويقول له: يا فلان! أنا أعلم بهذه القضية، وعندي لك شهادة، إن أردتني أن أشهد فسأشهد، فإنه يثاب على فعله هذا، وهذا من أعظم ما يكون؛ لأن فيه إحقاق الحق، وهذا الذي يؤدي شهادته قبل أن يُسألها قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بخير الشهود؟ هو الذي يؤدي شهادته قبل أن يستشهد)، وهذا من باب الندب والحرص على الخير.

مستند الشهادة ومستند الشاهد

مستند الشهادة ومستند الشاهد قال رحمه الله: [ولا أن يشهد إلا بما يعلمه برؤية أو سماع، أو استفاضة فيما يتعذر علمه بدونها؛ كنسب وموت وملك مطلق ونكاح ووقف ونحوها]. قوله: (ولا أن يشهد إلا بما يعلمه) هذا شروع في شيء يسميه العلماء: مستند الشهادة، ومستند الشاهد، بمعنى: شهادة الشاهد هذه من أين أخذها، وعلى أي شيء بنى؟ وذلك يكون إما بالرؤية، أو بالسماع، أي: أن يسمع بأذنه، أو استفاضة، والاستفاضة: أن ينتشر بين الناس هذا الأمر؛ كالموت والوقف والنسب، فيما تقبل فيه شهادة السماع، وهي شهادة الاستفاضة، فإذا كان الشاهد يريد أن يشهد فلابد أن يشهد بأحد أمرين: إما بشيء رآه، وإما بشيء سمعه، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف:81]، فالشاهد لا يجوز له أن يشهد إلا بشيء يعلمه ويحققه. هذا بالنسبة للحقوق والحدود، فلا يقبل فيها إلا العلم، وإذا لم يكن يعلم فلا تقبل شهادته إلا في مسألة الشهادة على الشهادة، ففيها تفصيل للعلماء رحمهم الله وستأتي. أما بالنسبة للاستفاضة كما ذكرنا في النسب ونحوه، فمثلاً: يشهد أن آل فلان من الأشراف، ومن ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، فحينئذٍ يجوز إثبات النسب بالاستفاضة، كأن يعرف أن بيت فلان من الأشراف، وانتشر في المدينة، أو انتشر في قريته، أو في جماعته: أن هذه الأسرة أو أن هذا الاسم من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يسمى: شهادة السماع، فيثبت بها النسب، وقد أجمع العلماء على قبول شهادة السماع في النسب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم شهداء الله في الأرض)، ولذلك إذا قبلت الشهادة بالسماع بالخير في تزكيته عند ربه، فأن تقبل في أمور الناس من باب أولى وأحرى. وعلى كل حال: إذا اشتهر واستفاض عند الناس أن هذا وقف بني فلان، أو أن هذا نسب من القبيلة الفلانية يرجعون إلى بني فلان، أو يرجعون إلى آل فلان، فهذا يسمى: شهادة الاستفاضة، وحينئذٍ يجوز للشهود أن يقولوا: نشهد أن فلاناً من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن فلاناً شريف، أو أن فلاناً من بني فلان، وهم من قبيلة كذا، بناء على شهادة السماع والاستفاضة.

ذكر الشروط عند الشهادة في النكاح وغيره من العقود

ذكر الشروط عند الشهادة في النكاح وغيره من العقود قال رحمه الله: [ومن شهد بنكاح أو غيره من العقود فلابد من ذكر شروطه] أي: من شهد بنكاح أو بيع أو إجارة أو نحو ذلك من العقود فلابد أن يذكر شروطه، وهذه مسألة تكلم عليها الإمام ابن قدامة رحمه الله والإمام العز بن عبد السلام كلاماً نفيساً بينا فيه: أنه ربما اختلف مذهب الشاهد مع مذهب القاضي، وحينئذٍ فلابد أن يحكم القاضي بهذا العقد على شيء يعتقد صحته، ومن هنا قرر الأئمة: أنه إذا اختلف مذهب الشاهد مع مذهب القاضي، فكان الشاهد يرى صحة العقد، والقاضي لا يرى صحته، فالعبرة بمذهب القاضي لا بمذهب الشاهد، إلا في مسائل منها: مسألة التفسيق، ومنها: مسألة التعزير، إذا فعل فعلاً يرى جوازه واعتقد حله، وكان له فيه شبهة، فحينئذٍ لا يؤاخذ ولا يأخذه القاضي بذلك.

لزوم الوصف في الشهادة على رضاع أو سرقة أو شرب

لزوم الوصف في الشهادة على رضاع أو سرقة أو شرب قال رحمه الله: [وإن شهد برضاع أو سرقة أو شرب أو قذف فإنه يصفه] أي: يلزمه أن يصف الرضاع، ويصف السرقة، مثل: عدد الرضعات، وتقبل شهادة النساء فيه، فلو قالت: أربع أو خمس رضعات مشبعات معلومات، قبلنا منها؛ لأن هذا يترتب عليه أحكام. وقد ذكر العلماء ومنهم الإمام العز بن عبد السلام، والإمام ابن قدامة: أن الشهود ربما شهدوا بالشيء يظنونه شرعياً وهو ليس بشرعي، ولربما بمجرد أن يرى الطفل التقم الثدي فهم أنه رضع رضاعة شرعية، فيأتي ويقول: فلان رضع من فلانة رضاعة شرعية، فهذا لا يقبل، ومن هنا قالوا: لا يقبل الجرح إلا مفسراً، فلو قال مثلاً: هذا الشاهد فاسق، فيقول له القاضي: بم تفسقه؟ بماذا هو فاسق؟ أو لو أن شاهداً جاء وشهد على شخص فقال المشهود عليه: أنا آتي بما يطعن في شهادته، فأتى بشخص يطعن في الشاهد، فنقول له: هل تطعن في الشاهد؟ فإذا قال: نعم، وهذا الشاهد لا يقبل منه القاضي شهادته حتى يفسر، فيقول له: بم رددت شهادته؟ وبم تطعن في شهادته؟ قال الإمام الشافعي رحمه الله: حضرت رجلاً مستهلاً يصيح ويطعن في شاهد، ومن توفيق الله للقاضي أن قال لذلك الذي يطعن في الشاهد: لا أقبل منك حتى تبين جرحك له، فقال: أنا أعلم ما الذي يجرح وما الذي لا يجرح -ما شاء الله! هناك بعض الناس يصل إلى درجة لا يسأل عما يفعل ولا يسأل عما يقول- فقال القاضي: لا أقبل طعنك ولا أقبل قدحك حتى تبين، فقال الرجل: رأيته يبول قائماً. سبحان الله! وهل إذا بال قائماً سقطت شهادته وتركت؟ والنبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث حذيفة أتى سباطة قوم فبال قائماً، فقال القاضي: وما عليه أن يبول قائماً؟ قال الرجل: إذا بال قائماً تطاير البول على ثوبه، ثم إذا تطاير على ثوبه صلى بذلك الثوب وبطلت صلاته، فهل عندك شك في بطلان الصلاة بالبول؟ فقال له القاضي -وهذا من فقهه وعلمه-: هل رأيت بوله يتطاير على ثوبه، ورأيت البول على الثوب عندما صلى؟ فأسكته. إذاً: فلا يمكن أن يقبل الطعن في الشهادة إلا مفسراً، وقد يأتي العامي فيظن شيئاً فيقبل منه، وإلا استغل القضاء بشهادة الجهال، ولذلك ينبغي صيانة القضاء، وانظر كيف أن الفقه الإسلامي دقيق في كل شيء؛ لأنه مبني على شريعة كاملة، ولن تجد مهما بحثت لا من قوانين وضعية ولا غيرها من يستطيع أن يدخل في التفصيليات من الإثبات والحجج مثلما بينته هذه الشريعة، فالحمد لله على فضله. إذاً: لابد أن يبين معاملته مع غيره، فإذا أراد أن يبيع. فعليه أن يسأل: هل باع شيئاً يملكه؟ هل البيت مباح؟ هل هو على صفة يحكم بها بصحته أو لا؟

حكم الوصف في الشهادة بالزنا وحدوده وضوابطه

حكم الوصف في الشهادة بالزنا وحدوده وضوابطه قال رحمه الله: [ويصف الزنا بذكر الزمان والمكان والمزني بها] كأن يقول: فلان زنى بفلانة، وفيه للعلماء وجهان: فبعض العلماء يقول: لا ينبغي للقاضي أن يعنت الشهود، بمعنى: أن يحرجهم بالأسئلة إلى أن يدخل في تفاصيل قد تحدث الضرر عند الشاهد، وحينئذٍ يكون هذا من التعنيت، والدليل على ذلك أن الله تعالى قال: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة:282]، فحرم علينا الإضرار بالشهداء، ولذلك تعامل العلماء مع هذه القضية بحذر، بمعنى: أنهم لا يجيزون للقاضي أن يسأل الشهود إلا في حدود معينة وبضوابط مقيدة؛ كل هذا حتى لا يعتبر من تعنيت الشهود والإضرار بهم، فالوسط الذي هو بين الإفراط والتفريط. فيسأله عن مكان الزنا، فيقول: فلان زنى بهذه في مكان كذا، أو فلان زنى بفلانة بنت فلان بنت فلان على وجه ينتفي به اللبس؛ لأنه ربما يقول: رأيته يفعل بالمرأة، وقد تكون زوجته، وحينئذٍ فلابد أن يتفق الشهود على هذا، فلو قال أحدهم: زنى بالليل، وقال الآخر: زنى بالنهار، وقال أحدهم: رأيته يزني في غرفة، وقال الآخر: رأيته يزني في العراء في البر، فحينئذٍ ثبت على أن هذه جريمة وهذه جريمة، وهذه شهادتها ناقصة وهذه شهادتها ناقصة. ومن هنا يحتاط القاضي لأعراض المسلمين، وهذا ليس من الظلم والحيف، وإنما هو من الحياد؛ حتى تكون الشهادة موثوقاً بها، مبنية على أصول صحيحة، ويظهر بها صدق الصادق وكذب الكاذب، ولذلك فإن كثيراً من المظالم وشهادات الزور انكشفت بفضل الله عز وجل ثم بفطنة القضاة وحسن تعاملهم مع الشهود، فقد استطاعوا أن يدركوا أو يبينوا كذب الشهود وزيفهم، ومما يظهر به فضل الله عز وجل على القضاة حسن استخراجهم للخلل والخطأ في الشهادة حتى ترد.

ضرورة البيان لما يعتبر في الحكم

ضرورة البيان لما يعتبر في الحكم قال رحمه الله: [ويذكر ما يعتبر للحكم ويختلف به في الكل] كما ذكرنا؛ لأن الأحكام اختلف فيها العلماء رحمهم الله، وقد يكون هناك أمر يظنه على شكل والواقع أنه على شكل آخر، ومن هنا فلا يقبل الإجمال فيما ينبغي فيه البيان، سواء كانت من الأمور الشرعية، أو من الأمور المحتملة في بعض الوقائع، ومن هنا قال المغيرة رضي الله عنه لـ عمر -لما اتهم بالزنا وجيء بالشهود، وكان يعتبر من دهاة العرب-: يا أمير المؤمنين!: أرآني مدبراً أم مقبلاً؟ فقال: رأيته من رجليه، يعني: مدبراً، فقال: ما درى أنها فلانة زوجتي، فأفحم الشاهد بهذا. وهناك أشياء لا يمكن أن تؤخذ على ظاهرها، ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التحسس، ونهى عن سوء الظن، ونهى عن المحامل التي لا تنبغي، وكم من أمور ظاهرها الخلل وهي مبنية على براءة وغفلة، ومن هنا ينبغي للشهود أن يتحروا، وأن يتأكدوا، وأن تثبت شهادتهم على وجه لا شك فيه ولا لبس.

شروط من تقبل شهادته

شروط من تقبل شهادته قال رحمه الله: [فصل: شروط من تقبل شهادته ستة]. نجملها قبل البيان والتفصيل، فقد شرع رحمه الله في شروط الشهادة؛ لأن الأصل الشرعي يقتضي أن لا نقبل كل شهادة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282] وصدر الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282]، فقال: (يا أيها الذين آمنوا. من رجالكم)، فخصص ولم يعمم؛ لأن صدر الآية مخاطب به المؤمنون، فدل على أن قوله: (من رجالكم) أي: من المؤمنين؛ لأنه قال: (يا أيها الذين آمنوا)، وقوله: (رجالكم)، الكاف كاف خطاب، إذاً لا تقبل شهادة كافر. ومفهوم ذلك أيضاً: أن الصبي لا تقبل شهادته، وأن المرأة لا تقبل شهادتها من حيث الأصل في بعض القضايا، مثل: الحدود وغيرها، ولكن استثنى الشرع قبول شهادتها في بعض القضايا. قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، فهذا استثناء، وكذلك قال: (ممن ترضون من الشهداء)، فخرج الذي لا يرضى في مضمون الشهادة، كالشخص الذي فيه غفلة وفيه ضعف في الضبط، ومن لا يرضى من ساقط العدالة، وهو الفاسق، ولا يرضى مخروم المروءة، وسنبين علته، فهذه الآية أصل في بيان أن الشهادة لا يقبل فيها كل أحد، ومن هنا يجب أن يكون الشاهد قد توفرت فيه صفات معتبرة، وهذه الصفات مقصود الشرع من اشتراطها وإلزام الناس بها: أن يتوصل إلى الشهادة الصحيحة، وأن يكون العمل بمضمونها بما تحصل به الطمأنينة، ومن هنا اعتنى الفقهاء والأئمة رحمهم الله، وجاءت السنة تؤكد هذا المعنى، فرد النبي صلى الله عليه وسلم شهادة ذي الحنة، وهو الذي بينه وبين من شهد عليه إحنة وعداوة، وأجمع العلماء رحمهم الله على رد شهادة الكفار إلا فيما استثناه الدليل، وسيأتي إن شاء الله، وأجمعوا على رد شهادة الصبي من حيث الأصل إلا في مسائل، وأجمعوا على رد شهادة المجنون وشهادة خفيف الضبط، ومن فيه غفلة وعند نسيان، ونحو ذلك.

الشرط الأول: البلوغ

الشرط الأول: البلوغ قال رحمه الله: [البلوغ، فلا تقبل شهادة الصبيان]. البلوغ: هو انتقال الصبي من طور الصبا إلى طور الحلم. وقوله: (فلا) الفاء للتفريع، أو تفصيلية، والأصل في اشتراط البلوغ قوله تعالى: {مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282]، والصبي ليس برجل هذا أولاً. وثانياً: أن الصبي لا يوثق بقوله؛ لأنه ناقص الإدراك وناقص العقل، وقد يرى أشياء لا يميزها، وقد ينتابه الخوف وينتابه الاستعجال، فحينئذٍ لا يوثق بقوله وخبره. ثالثاً: قال تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، والصبي لا ترضى شهادته للعلل التي ذكرناها، فاجتمع الدليلان: الدليل الأول: {مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282]، والصبي ليس من الرجال، وقد لفت إلى هذا الوجه ابن عباس حبر الأمة ترجمان القرآن رضي الله عنهما في دلالته على رد شهادة الصبيان. وقد استثنيت مسألة وقع فيها الخلاف بين السلف رحمهم الله والأئمة، وهي: شهادة الصبيان بعضهم على بعض، فمثلاً: لو وقعت حادثة كأن يضرب صبي صبياً، أو حصل شيء بين الصبيان وهم مع بعض، فمذهب عبد الله بن الزبير من الصحابة والمالكية وطائفة من أهل العلم رحمهم الله: أنه تقبل شهادة الصبيان في هذه المسألة خاصة، واشترطوا شروطاً: الأول: أن يكون فيما بينهم؛ لأن الغالب أن لا يحضره الرجال، وهذا ما يسمونه: شهادة الحاجة، أي: أنه وجدت حاجة لقبولها، كالحوادث التي تقع بين الأطفال. الثاني: أن لا يدخل بينهم كبير، وأن لا يختلطوا بالكبار، فيؤخذون بعد الحادث مباشرة، وتؤخذ أقوالهم بعد الحادثة، قبل أن يدخل بينهم كبير ويلقنهم، وقبل أن يختلطوا بأهليهم وبالناس، لأنه قد يحدث التخويف والترويع، فتختلف شهادتهم. والصحيح: أنه لا تقبل شهادتهم مطلقاً؛ لظاهر النص، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم-: الصبي حتى يحتلم)، فالصبي لا يوثق بقوله؛ لأنه ليس مؤاخذاً على كذب، وليس مؤاخذاً على خلل يفعله، ولو كان عمداً، ومن هنا ترد شهادته حتى ولو كانت على الصبيان.

الشرط الثاني: العقل

الشرط الثاني: العقل قال رحمه الله: [الثاني: العقل، فلا تقبل شهادة مجنون ولا معتوه] قوله: (العقل، فلا تقبل شهادة مجنون) وهذا بالإجماع؛ وذلك لأن الله تعالى يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، وفي الحديث في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقبل شهادة ذي الجنة)، وهو المجنون، فدل على اشتراط العقل في الشاهد، فلا تقبل شهادة المجانين بالإجماع. وكذلك المعتوه، والعته: ضرب من الخفة في العقل بحيث لا يضبط الأشياء ولا يميزها، وقد يلقن ويقبل التلقين، ويستعجل بالأمور، ولذلك لا يوثق بخبره. قال رحمه الله: [وتقبل ممن يخنق أحياناً في حال إفاقته] أي: تقبل الشهادة ممن يجن تارة ويفيق تارة إذا أداها في حال إفاقته؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وقد تقدم نظائر لهذه المسألة.

الشرط الثالث: الكلام

الشرط الثالث: الكلام قال رحمه الله: [الثالث: الكلام، فلا تقبل شهادة الأخرس ولو فهمت إشارته، إلا إذا أداها بخطه] أولاً: لا تقبل شهادة الأخرس؛ لأن الشهادة محتملة، والحركات محتملة، حتى ولو وجد من يفسرها، فلا تقبل شهادة الأخرس. ثانياً: يستثنى من هذا أن يكتبها؛ لأن الكتابة تنزل منزلة المقال، ودليلنا على أن الكتابة تنزل منزلة المقال: أن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67]، فأمره الله بالبلاغ، فكتب صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الأرض، ونزل الكتابة منزلة العبارة والقول، فأخذ العلماء من هذا أصلاً وهو: أن من كتب الطلاق فإنه يمضي عليه طلاقه، ومن كتب الكفر حكم بردته، ومن كتب شهادته قبلت شهادته؛ لأن كتابته تنزل منزلة العبارة، فكأنه متكلم.

الشرط الرابع: الإسلام

الشرط الرابع: الإسلام قال رحمه الله: [الرابع: الإسلام] أي: من الشروط الإسلام، فلا تقبل شهادة الكافر؛ وذلك لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة:282]، ثم قال: {مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282]، وقد قدمنا أن الكاف للخطاب، فخص به المؤمنين، فدل على أنه لا تقبل شهادة الكافرين. هذا أولاً. ثانياً: يقول الله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18]، والكفر قد أهان الله أهله، والشهادة تكريم؛ لأن الشاهد يحكم على غيره، ومن هنا فلا يمكن أن يكرم من أهانه الله عز وجل. ثالثاً: أنه لا تقبل شهادته على المسلم، وهذا ظاهر؛ لأن فيها نوعاً من العلو، وقد قال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]، فالشاهد له سلطان وله علو وله قوة على المشهود عليه؛ لأنه يضر به ويقبل قوله، والكافر ليس بأهل لهذا العلو. رابعاً: أن العداوة تحمل على الأذية والضرر، وأعظم العداوة عداوة الدين، فقد يعتقد الكافر التقرب لآلهته ومن يعبده بأذية المسلمين. ومن هنا اجتمعت الأدلة العقلية والنقلية على عدم قبول شهادة الكفار، إلا في الوصية عند حضور الموت في السفر، أي: أن تكون الوصية في السفر، فتقبل من نوع خاص من الكفار وهم أهل الكتاب، ولا تقبل من غيرهم، لا تقبل شهادة المجوس ولا الوثنيين ولا المرتدين؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة:106]، وقد عمل الصحابة الكرام بهذه الآية الكريمة، كما في قصة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أنه حينما رفعت إليه قضية في شهادة اثنين من أهل الكتاب على وصية صحابي أو تابعي في سفره لم يجد من المسلمين، فأشهدهما، وحلفا بالله عز وجل أنهما لم يغيرا ولم يبدلا، فقبل شهادتهما على الصفة المعتبرة شرعاً، ورفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فاجتمعت دلالة الكتاب والسنة على قبول شهادة الكفار، بشرط أن تكون شهادتهم على المسلمين في السفر على الوصية. إذاً: لا تقبل شهادتهم في الحضر؛ لأن القرآن نص على هذا، وكذلك أيضاً لا تقبل شهادة الكفار ولو على كافر مثله، سواءً اتحدت ملتهما، كشهادة يهودي على يهودي، ونصراني على نصراني، أو اختلفت الملة مع اتفاق الأصل، كيهودي على نصراني، أو نصراني على يهودي، في اتفاق كونهما من أهل الكتاب، أو وثني على وثني، فكل هؤلاء لا تقبل شهادتهم مطلقاً.

الشرط الخامس: الحفظ

الشرط الخامس: الحفظ قال رحمه الله: [الخامس: الحفظ]. وذلك لأن قبول الشهادة مبني على الوثوق بخبر المخبر، ولا يتأتى هذا إلا إذا كان حافظاً لا ينسى، أما إذا عرف منه النسيان والغفلة وعدم الضبط، فإنه لا تقبل شهادته، والدليل على ذلك قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، وهذا يخص قبول الشهادة إذا كانت ممن يرضى في ضبطه وتحريه ونقله، فإذا كان بهذه الصفة قبلت شهادته وإلا فلا.

الشرط السادس: العدالة

الشرط السادس: العدالة قال رحمه الله: [السادس: العدالة] فلا تقبل شهادة الفاسق، والعدل: هو الشيء الوسط الذي بين الإفراط والتفريط، وهو القسط المعتبر الذي هو بين الغلو والإجحاف، والأصل أن العدل هو الذي يجتنب الكبائر ويتقي في غالب حاله الصغائر. عدل الرواية الذي قد أوجبوا هو الذي من بعد هذا يجلب العدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الأغلب الصغائر فإذا كان مجتنباً للكبائر ولا يصر على الصغائر فإنه عدل، وتقبل شهادته والدليل على عدم قبول شهادة الفاسق بل العدل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]. فبين سبحانه وتعالى أن خبر الفاسق لا يقبل مباشرة، وهذا يدل على أنه ليس بحجة؛ فقد أمر بالتثبت والتوقف في خبر الفاسق، فدل على أنه لا يقبل، والفسق سواء كان بالأقوال كالقذف، أو كان بالأعمال كأكل الحرام، أو كشرب الخمر وتعاطي المخدرات والعياذ بالله! أو كان بالفعل كالسرقة والزنا، فكل هذا يوجب الحكم برد الشهادة. والجمهور على أنه لا تقبل شهادة الفاسق من حيث الجملة، والحنفية على قبولها بشرط أن لا يكون فسقه مؤثراً في الشهادة، وهو فسق الكذب، قالوا: لأنه قد يكون الشخص فاسقاً بشرب الخمر، وهو من أصدق الناس ولا يكذب، وقد يكون فاسقاً بخلل ولكنه يضبط الشهادة ويحفظ ويصون، ولكن الجمهور قالوا: إن خلله في شيء لا يمنع من خلله في غيره، والأصل يقتضي عدم قبول شهادته كما ذكرنا، وعلى هذا فلا تقبل شهادة الفاسق. لكن إذا فسد الزمان وقل وجود العدول وتعذر، فإنه تقبل شهادة أمثل الفساق، وهذا الأمر اختاره المحققون كشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، وابن فرحون المالكي كما قرره في كتابه: (القضاء في تبصرة الحكام)، وبين أنه تقبل شهادة أمثل الفساق عند تعذر وجود العدول ويقبلها القاضي.

ما يعتبر للعدالة من صلاح الدين والمروءة

ما يعتبر للعدالة من صلاح الدين والمروءة قال رحمه الله: [ويعتبر لها شيئان: الصلاح في الدين، وهو أداء الفرائض بسننها الراتبة، واجتناب المحارم بأن لا يأتي كبيرة ولا يدمن على صغيرة، فلا تقبل شهادة فاسق]. كل هذا قد تقدم. وقوله: (لا يأتي كبيرة) الصحيح هو مذهب جماهير السلف والخلف أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، ودليل ذلك قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32]، فدلت هاتان الآيتان الكريمتان على أن الذنوب كبائر وصغائر، ودل عليها قوله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7]، فلما قال: (الكفر) دل هذا على أن الخروج عن طاعة الله على ثلاثة أقسام: الأول: الكفر، وهو الخروج من الملة والعياذ بالله! الثاني: الصغائر، وهو اللمم والعصيان. الثالث: ما بينهما وهو الفسوق. ولذلك قال: (كره إليكم الكفر والفسوق)، وهو ارتكاب الكبائر الذي لا يخرج من الملة. وأصل الفسوق من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، قالوا: سمي الفاسق فاسقاً؛ لأنه خرج عن طاعة الله عز وجل. وقد اختلفت عبارات العلماء في ضبط الكبيرة إلى قرابة عشرين قولاً، وأصح الأقوال وأجمعها قول ابن عباس رضي الله عنهما، واختاره الإمام أحمد، والإمام ابن حزم وغيرهما من الأئمة: أن الكبيرة كل ما سماه الله ورسوله كبيرة، أو ورد عليه الوعيد في الدنيا أو الآخرة، بنفي إيمان أو غضب ونحو ذلك، أو ترتبت عليه عقوبة، هذا كله من الكبائر، وهذا من أجمع ما قيل في ضابط الكبيرة. وهناك من قال: هي ما كان فيها عقوبة، وهذا ضعيف؛ لأنه يخرج ما ورد فيه الوعيد وليست فيه عقوبة، ومنهم من يقول: عقوبة مطلقة، ومنهم من يقول: عقوبة محددة، والخمر فيه عقوبة غير محددة على الخلاف الذي ذكرناه، فالشاهد: أن الضابط الذي ذكرناه من أجمع الضوابط. قال رحمه الله: [الثاني: استعمال المروءة، وهو فعل ما يجمله ويزينه، واجتناب ما يدنسه ويشينه] المروءة: هي التي تحمل على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات والأقوال والأعمال، جعلنا الله وإياكم من أهلها، وقد قل وجودها في هذه الأزمنة، ويقل وجودها كلما تباعدت أزمنة الناس عن أزمنة النبوة، وهي حياة الإنسان، ولذلك ففيها الحياء وفيها الخجل، قال الشاعر: يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء فمن أجمع خصال المروءة: الحياء، ولذلك إذا ذهب الحياء ذهب الخير عن الإنسان، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (دعه فإن الحياء لا يأتي إلا بخير)، والمروءة تقل بفساد الزمان كما ذكر الأئمة: مررت على المروءة وهي تبكي فقلت: علام تنتحب الفتاة؟ فقالت: كيف لا أبكي وأهلي جميعاً دون خلق الله ماتوا! فذهب أهل المكرمات وأهل الحياء والخجل، والأصل فيها قوله عليه الصلاة والسلام: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، فقوله: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) دل على أن من لا مروءة عنده يفعل ما شاء، ومن هنا اختلفت تعليلات العلماء لرفض شهادة من لا مروءة له. ومن خوارم المروءة: أن يأتي السوق ويكشف رأسه، أو يجلس في وسط السوق ويأكل، أو يأخذ الأكل معه في يده وداخل سيارته ولا يبالي، إلا إذا كان في أحوال مخصوصة، مثل أن يكون مسافراً ونحو ذلك، أو جرى العرف بكشف الرأس في السوق أو في مجامع الناس، فهذا ليس فيه بأس. أو يصيح ويرفع صوته في المساجد بين الناس في مجامع الناس، أو يجتمع كبار الناس وكبار القبيلة وكبار الجماعة من أهل الحل والعقد فلا يراعي أدباً، أو يمد رجليه وهو جالس أمام أهل العلم وأهل الفضل، ويفعل ما يشاء، ويضحك بحضور أناس ينبغي الحشمة معهم، كل هذا مما يخرم المروءة. قال بعض العلماء: إن تعاطي هذه الأمور يدل على خفة العقل؛ لأن العقل يعقل الإنسان، فالذي لا يبالي ويفعل ما يشاء، كأن يرفع صوته في مجامع أو في خطابه للناس، ولا يراعي منازل الناس، فهذا دليل على أن عنده نقصاً في عقله، ومن نقص عقله لم تقبل شهادته؛ لأن هذا يؤثر في الوثوق بقوله وبخبره، وقالوا: إذا لم يتورع في الظاهر فإنه لا يتورع في الباطن، وهذه دلالة الظاهر على الباطن، هذا الوجه الأول، وحينئذٍ يكون الخلل من عدم الصيانة. وهناك وجه ثان: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس وهو من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي لا يستحيي لا يتورع عن شيء، وإذا لم يتورع عن شيء فلا يتورع عن الكذب في شهادته، ولن يتورع أن يقول: أنا متأكد مائة بالمائة، وهو ليس بمتأكد، ويبالغ ويعظم الأمور، ويبالغ في مدح نفسه وفي الوثوق بقوله، فقالوا: مثل هذا لا ترضى شهادته، فهذان وجهان، والحقيقة أنه لا مانع من اعتبار كلا الوجهين موجبين لرد شهادة من لا مروءة له. وهذا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأعراف، فهذا كله يعتبر من خوارم المروءة. ولا يعتبر من خوارم المروءة العمل بالسنة وإظهارها، والحرص على السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، كأن يأتي شخص ويفعل شيئاً من السنة أمام جماعته، أو أمام كبار السن، فلا ينبغي لأحد أن يقول له: أنت لا تستحيي، بل فعله هذا هو عين الحياء؛ لأن السنة لا تأتي إلا بخير، وجزاه الله خيراً أن أحيا سنة أميتت، فهذا لا يعتبر مذموماً، وليس عليه منقصة ولا ملامة في هذا.

قبول الشهادة عند زوال المانع من قبولها

قبول الشهادة عند زوال المانع من قبولها قال رحمه الله: [ومتى زالت الموانع فبلغ الصبي، وعقل المجنون، وأسلم الكافر، وتاب الفاسق؛ قبلت شهادتهم]. أي: متى زالت الموانع قبلت شهادتهم، فلو أن الصبي صار بالغاً قبلت شهادته، وهكذا المجنون إذا أفاق من جنونه قبلت شهادته؛ لأن ما شرع لعلة يبطل بزوالها، والسبب في رد الشهادة وجود هذه العلل، وقد زالت، فيزول الحكم برد شهادته إذا توفرت فيه شروط قبول الشهادة. أما الفاسق فإنه إذا صلح حاله قبلت شهادته، فمثلاً: لو أنه قذف شخصاً وردت شهادته بالقذف، أو فعل معصية من المعاصي وثبتت عليه وحكم بفسقه، قالوا: يترك مدة حتى تثبت فيها استقامته، واختلف العلماء في ضابطها، فمن العلماء من قال: إذا تاب توبة ظاهرة واستقام أغلب الحول، بأن تمضي عليه أكثر من ستة أشهر وهو على براءة؛ حُكِمَ بعدالته، وإلا فلا. وبناء على هذا القول: لو أنه ردت شهادته بالقذف، ثم صلح حاله وتاب ورجع عن شهادته؛ لم تقبل شهادته حتى يمضي عليه أغلب الحول. والصحيح هو مذهب الجمهور، وهو أن من قذف وأقيم عليه الحد، وتاب عن القذف ورجع عنه قبلت شهادته، قال عمر رضي الله عنه لـ أبي بكرة: تب أقبل شهادتك. وهذا يدل على أنه إذا تاب ورجع قبلت شهادته، وحينئذٍ فلا يشترط مضي مدة في المحدود بالقذف إذا قال: رجعت عن قذفي، فتقبل شهادته مباشرة، ويستثنى من هذا الأصل. لكن لو زنى -والعياذ بالله- فظهرت عليه دلائل التوبة والاستقامة والرجوع إلى الله عز وجل، وأقيم عليه الحد كما لو كان بكراً وهو حي، فإذا مضت ثلاثة أشهر وشهد لم تقبل، بناء على أنه لم تمض مدة يستبرأ بها على الاستقامة والخير.

باب موانع الشهادة وعدد الشهود [1]

شرح زاد المستقنع - باب موانع الشهادة وعدد الشهود [1] للشهادة موانع إذا وجدت فلا تقبل معها الشهادة، وهذا يدل على شدة عناية الإسلام بالشهادة والحرية فيها، ومن هذه الموانع: شهادة الوالد لولده والعكس، وشهادة أحد الزوجين لصاحبه، وشهادة العدو على عدوه، وشهادة من يجر لنفسه نفعاً أو يدفع عنها ضرراً. ولابد من شهادة أربعة شهود في الزنا، ويكفي شاهدان في بقية الحدود والقصاص، وتقبل شهادة المرأة في الأموال دون الحدود.

موانع قبول الشهادة

موانع قبول الشهادة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب موانع الشهادة وعدد الشهود].

شهادة الولد لوالده والعكس

شهادة الولد لوالده والعكس [لا تقبل شهادة عمودي النسب بعضهم لبعض] وذلك كالأب يشهد لابنه، والابن يشهد لأبيه، والأم تشهد لابنها، والجد من الآباء أو الأمهات لفروعهم وإن نزل، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، والأب مع الابن متهم، فإنه لا ترضى شهادته، وهذه يسميها العلماء: شهادة التهمة، فمن العلماء من جمع هذه العوارض تحت أصل يسمونه: التهمة، ثم قال: التهمة من جهة الضبط كما في المغفل وخفيف الضبط، الذي ذكره المصنف رحمه الله في شرط الحفظ، وجعل من أنواع التهمة: تهمة البعضية، والبعضية: هي شهادة الوالد لولده، والولد لأحد الوالدين، فهذه تهمة البعضية، أن يكون الشاهد بعضاً من المشهود له، أو يكون العكس، فحينئذٍ لا تقبل الشهادة. والدليل الأول على البضعية آية البقرة وهي في مسألة الشهادة، والدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما فاطمة بضعة مني)، والبضعة من الشيء قطعة منه، ومعناه: أن الأب إذا شهد لابنه كأنه شهد لنفسه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم)، فجعل الولد مع والده كالشيء الواحد، وهذا يدل على أن البعضية موجبة للتهمة ورد الشهادة، فلا يشهد الإنسان لنفسه. وقد اختلف العلماء رحمهم الله: هل شهادة الوالدين للولد أو الولد للوالدين مردودة بأصل الشرع على ظاهر آية البقرة، أم أنها مردودة لفساد الزمان وحصول الريبة؟ وظاهر ما ورد عن الزهري رحمه الله قوله: كان السلف يقبلون شهادة الولد لوالده والوالد لولده، ثم لما ظهر فساد الناس امتنعوا من ذلك. هذا وجه، وحينئذٍ تكون آية البقرة غير دالة إلا من جهة فساد الزمان، لا أنها في الأصل مردودة، وهذا ما يسمى: اختلاف الحكم باختلاف الزمان والمكان، والأقوى أنها رُدَّت في الأصل، ولذلك أثر عن علي رضي الله عنه أنه أعفى شريحاً من القضاء ثم رضي عنه ورده، وهذا في قصة مشهورة: حين شهد الحسن والحسين لأبيهما في قصة الدرع، فامتنع شريح رحمه الله من قبول شهادتهما، فغضب علي رضي الله عنه وقال: أترد شهادة سيدي شباب أهل الجنة؟! فمنعه علي من القضاء فترة ثم رده. فعلى هذا الوجه يكون السلف فعلاً قد ردوا هذه الشهادة، وظاهر السنة يقوي كونها مردودة بالأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الوالد مع والده كالشيء الواحد وقال: (إنما فاطمة بضعة مني)، والإنسان لا يشهد لنفسه، وهذا أقوى من جهة الدليل. وإذا شهد الأب على ولده بجريمة أو بحق، فإنه في هذه الحالة تقبل شهادته. إذاً: إذا كانت الشهادة للولد من الوالد أو العكس فإنها لا تقبل، بخلاف ما إذا كانت عليهم، فإنها تقبل؛ لأن التهمة منتفية، بل إن غالب الظن أنه صادق؛ لأنه مع العاطفة ومع المحبة ومع الشفقة ومع ذلك شهد عليه، فدل ذلك على قوة صدقه، وهذه الموانع في البعض دون الكل.

شهادة أحد الزوجين لصاحبه أو عليه

شهادة أحد الزوجين لصاحبه أو عليه قال رحمه الله: [ولا شهادة أحد الزوجين لصاحبه] الزوج لا يشهد للزوجة، والزوجة لا تشهد للزوج، حتى ولو كان الزوج في شركة أموال، والمرأة تقبل شهادتها في الأموال، فجاءت وقالت: أنا أشهد، ففي هذه الحالة إذا قالت: أنا أشهد، فإن الزوج سينفق عليها من ذلك المال إذا ثبت للزوج، فحينئذٍ هي متهمة، وهذه يسمونها: تهمة المنفعة، فإن التهمة تكون بجلب منفعة أو دفع مضرة، فترد شهادة الشاهد إذا اتهم بجلب المنفعة لنفسه، سواء كانت أساساً أو تبعاً؛ أساساً كأن يشهد الشريك لشريكه، فإن المال الذي سيثبت سيكون قسمة بينه وبين شريكه، هذا في الأساس، أو تبعاً كشهادة المرأة لزوجها؛ لأنها ستحصل على منفعة من وراء هذه الشهادة، فتستفيد المرأة من نفقة زوجها عليها. وكذلك شهادة الزوج لزوجته، ومن العلماء من فرق بين شهادة الزوجة لزوجها، وشهادة الزوج لزوجته، لكن في شهادة الزوج لزوجته لا شك أن التهمة قد تكون ضعيفة، خاصة إذا كان الزوج معروفاً بالعدالة والاستقامة. أما الدليل من حيث قبول الشهادة -من حيث الأصل العام- في الزوج لزوجته والشريك لشريكه ونحو ذلك، فحديث الحاكم في مستدركه وصححه غير واحد من أهل العلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجوز -أي: لا تقبل ولا يعمل بها- شهادة ذي الظِّنة ولا ذي الحنة)، وأيضاً في حديث المستدرك وهو عند أبي داود في السنن، وهو قوله: (رد النبي صلى الله عليه وسلم شهادة الخادم لأهل بيته)؛ لأنه يستفيد من مال سيده، ومن هنا خرّجوا مسألة الزوجة؛ لأنها تستفيد من مال زوجها، وقد أشرنا إلى الضعف؛ لأن الخادم ليس كالزوجة، فالخادم من حيث الأصل تبع لسيده يملكه وما ملك، لكن الزوجة لا يملكها وما ملكت، إلا أن شبهة النفقة موجودة في الزوجة، فإذا قيل بتعليلها في الحديث استقام ما ذكر. قال رحمه الله: [وتقبل عليهم] أي: تقبل شهادة أحد الزوجين على صاحبه لا له.

شهادة من يجر لنفسه نفعا أو يدفع عنها ضررا

شهادة من يجر لنفسه نفعاً أو يدفع عنها ضرراً قال رحمه الله: [ولا من يجر إلى نفسه نفعاً أو يدفع عنها ضرراً]. أي: لا تقبل شهادة من يجر لنفسه نفعاً؛ كالشريك لشريكه، ويدفع عنها ضرراً أيضاً، فلو أنه شهد بأن شريكه أعطى العامل أجرته، وهم شركاء في مزرعة، فحينئذٍ إذا لم تثبت هذه الشهادة سيغرم هو وشريكه أجرة العامل، كأن بنى لهما رجل بيتاً أو عمارة، فقال شريكه: أديته حقه، فقال: ما أديتني، فاختصما إلى القاضي، فقال: عندي شهود، فجاء بشريكيه، والعمارة بين ثلاثة، فجاء بالشريكين، فالشريكان إذا قبلت شهادتهما دفعا الضرر عن نفسيهما؛ لأنه يجب على الثلاثة أن يتقاسموا قيمة البناء والعمارة وأجرة العامل. والعكس: فلو ادعى مالاً، فقيل للشريك: أحضر شهودك، فجاء بشركائه، فإنه إذا ثبت له شيء ثبت للشركاء استحقاقهم على قدر حصتهم من أصل الشركة، فحينئذٍ لا تقبل لمن يجر لنفسه نفعاً ولا لمن يدفع عنها ضرراً.

شهادة العدو على عدوه وله

شهادة العدو على عدوه وله قال رحمه الله: [ولا عدو على عدوه، كمن شهد على من قذفه أو قطع الطريق عليه] فلا تقبل شهادة عدو على عدوه، فإن العداوة تحمل على الأذية والضرر، وأعظمها عداوة الدين، ومن هنا قالوا برد الشهادة بعداوة الدين، وقد ردت الشريعة شهادة الكافر على المسلم. وأما بالنسبة للعدو على عدوه من المسلمين فاختلفت عبارات العلماء: فإن العداوة يكون ظاهرها واضحاً، كأن ترى الشخص يفرح لمساءة الشخص، ويحزن ويغتم -والعياذ بالله- للنعمة تصيبه، فإذا ثبت هذا كأن يتكلم بكلام يظهر منه أنه لا يريد هذا الشيء، أو يصرح بأنه عدو، إما بإقراره أنه عدوه، أو تحدث بينهما خصومة؛ فحينئذٍ لا تقبل شهادته على عدوه. وهذا النوع من الشهادة عكس من لا تقبل شهادة من يجر لنفسه نفعاً، أو يدفع عنها ضرراً، فهنا العدو على عدوه لا تقبل، لكن شهادة العدو لعدوه تقبل عكس الوالد لولده، وتقبل شهادة الوالد على ولده، وهذا يدل على مسألة قررها الإمام أبو البركات رحمه الله من فقهاء الحنابلة، وله كلام نفيس جداً في باب الشهادات في المحرر، وأيضاً علق عليه الإمام ابن مفلح رحمه الله في النكت فذكر: أن العلماء بعضهم توسع وبعضهم حجم في مسألة التهمة، لحديث: (ذو الظنة)، والظنين: هو المتهم، وقد جاء اللفظ الآخر: (لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين)، والظنين: هو المتهم، من الظنة وهي التهمة، كما قال تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24] وفي قراءة (بظنين) أي: بمتهم، فلما قال: (لا تقبل شهادة الخصم والظنين)، والخصومة هي العداوة، فصارت أصلاً في رد شهادة العدو على عدوه، ومن هنا حصل اتفاق العلماء على عدم قبول شهادة من ثبتت عداوته على عدوه. أما بالنسبة للتهمة: فمنهم من توسع فيها، ومنهم من ضيق، ومنهم من توسط، والمطلوب هو الوسط، ولذلك نجد ممن توسع أتى بأمر غريب، حتى قال بعضهم: لا تقبل شهادة من يبيع أكفان الموتى، قال: لأنه يتمنى موت المسلمين؛ ولأنه لا يربح سوقه إلا ببيعها، وإذا ما حصل موت فلن يجد من يشتري منه، ومن هنا قالوا: لا تقبل شهادته، فيأتون بتهم باطلة، وهذا أمر ينبغي على طالب العلم المسلم الدِّين التقي النقي السوي الرضي أن ينتبه لهذه النوعيات من الناس، حتى إن بعضهم يتكلم في العلماء والدعاة والمشايخ وطلاب العلم من عقول وأفهام ضيقة يعبث بها الشيطان؛ ومن هنا فإن الذي يغسل الموتى ويأخذ أجرةً نفس الحكم، والذي عنده سيارة يحمل الموتى نفس الحكم وتدخل في شيء لا ينتهي، وهذا توسع في إعمال التهمة، وهذا لم يذكره الإمام أبو البركات، وإنما ذكر ضابطه. ولكن هذه الأمور الغريبة تجدها في كتب الفقهاء رحمهم الله، وهذه لا تنقص من قدر العلماء؛ لأن العالم فلابد أن يبين؛ لأنه إذا جرى على قاعدة وأصل لا بد أن يذكر مثل هذه الغرائب، ومن هنا تجد عنده بعض العذر، لكن ليس كل عذر يقبل، فقد يقع من عامة الناس شيء من هذا بسبب ضعف دينهم، لكن من حيث الأصل لا تعتبر التهمة موجبة للرد إلا إذا قويت، وعلى هذا فلا ترد الشهادة بمطلق التهمة؛ بل ينبغي أن تحرر التهمة وأن تكون مؤثرة في شهادة الشاهد. قال رحمه الله: [ومن سره مساءة شخص أو غمه فرحه فهو عدوه] بين رحمه الله -بعد أن ذكر أن شهادة العدو لا تقبل- ضابط العدو: وهو الذي يسر بالمساءة تصيب الرجل، ويثبت عليه بالشهود أنه سر حينما وقع حادث على فلان، أو اغتم حينما صار الخير له، فحينئذٍ يثبت أنه عدو؛ لأن هذه يسمونها: دلالة الظاهر على الباطن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أُمرت أن آخذ بظواهر الناس)، فإذا وُجِدَ رجل أصابه مكروه، فوجدنا شخصاً فرح وسرّ بهذا؛ دل على أنه عدو له، ومنهم من يسجد سجدة الشكر إذا بلغه وقوع مصيبة على عدوه نعم، له أن يفرح إذا كان الشخص يظلمه ويؤذيه ويضطهده، وكان باغياً ومعتدياً عليه، وبلغه عنه ما يسوءه وأن ذلك يعيقه عن أذيته، فسجد لله شاكراً أن قطع الله عنه دابره. ومن غير المسلمين يمكن أن تقبل، لكن من المسلمين من الصعب أن تقبل، لكن إذا جاءه ضرر من هذا الرجل ودائماً يؤذيه لسبب، فله أن يشكر الله؛ وذلك لقوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148]، فكيف إذا كان أبدا فرحه بنعمة الله عليه؟ لأن الله امتن على بني إسرائيل بذهاب البلاء والشر عنهم، وانتصارهم على عدوهم. فإذا كانت هناك عداوة عن ظلم وأذية وإضرار، وفرح الإنسان بهذا، فإنه لا ينقص من قدره ولا يؤثر فيه، وإنما يؤثر في الشهادة لو كان العدو صالحاً. ومن حقك مثلاً أن تفرح أن عدوك كبته الله عنك ولو كان مسلماً، كأن يكون لك جار سوء مؤذٍ يتهمك بالباطل يقذف عرضك، يتهمك في عقيدتك، ثم أصابه بلاء، وقطع الله دابره عنك، ففرحت أن الله سبحانه وتعالى أزاح عنك هذا الهم، فهذا لا يعتبر منقصة لك، وإنما هذا شر صرفه الله عنك، لكن لو ثبت عن الإنسان أنه فرح واغتم فيما فيه شبهة العداوة، فإنه يثبت عنه أنه عدو، ومسألة الحكم أنه يجوز أو لا يجوز هذه مسألة أخرى، لكن مسألة ما هو الضابط؟ بغض النظر عن كونه مشروعاً للإنسان أو غير مشروع، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له.

وجوب شهادة أربعة شهود في الزنا

وجوب شهادة أربعة شهود في الزنا قال رحمه الله: [فصل: ولا يقبل في الزنا والإقرار به إلا أربعة] هذا بالنسبة لمسألة العدد في الشهادة، فلا يقبل في الزنا والإقرار به أي: أن فلاناً أقر أنه زان حتى يؤاخذ بالإقرار إلا إذا شهد عليه أربعة شهود عدول؛ وذلك لنص آية النور على ذلك: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]، فنص على أن شهادة الزنا لا تقبل إلا بأربعة عدول، وقد تقدم في باب الزنا أن الشهادة في الزنا اختصت بأمرين: أولاً: اختصت شهادة الزنا بخصائص في العدد أربعة، فلا تقبل شهادة أقل من أربعة، ولذلك لما حصل رجوع الشاهد الرابع في شهادته على المغيرة عند عمر، حمد الله عمر على أن الله لم يفضح محمداً عليه الصلاة والسلام في أصحابه بعد موته، وردت شهادتهم وجُلدوا حد القذف، فهذا أصل أجمع العلماء عليه، أنه لابد من العدد. ثانياً: تنفرد أنها خاصة بالذكور، وكذلك بقية الحدود لا يقبل فيها إلا الذكور؛ من جنس الحدود، والحدود تنفرد بكونها لا يقبل فيها إلا الرجال، فلا تقبل شهادة النساء فيها، فالأربعة شهود يشهدون على الزنا ويصفونه بما ذكرناه فيما تقدم.

قبول شاهدين عدلين على من أتى بهيمة

قبول شاهدين عدلين على من أتى بهيمة قال رحمه الله: [ويكفي على من أتى بهيمة رجلان] لأنه هذا كما قلنا: ليس بحد، وإنما هو تعزير، وهل يقتل أو لا يقتل؟ هذا قد تقدم معنا، لكن إذا ثبت بشهادة رجلين أنه أتى ناقة أو أتى بقرة أو نحو ذلك، فإنه يعزره القاضي بما يراه، وإذا قلنا: إن التعزير يكون بالقتل ورأى أن المصلحة قتله، قتله؛ وإذا قيل: إن التعزير يكون بما يتناسب مع حاله إذا كان محصناً؛ قتله، هذا هو وجهه، لكن قد بينا أن إتيان البهيمة فيه التعزير، وعلى هذا فلا يجب أن تكون فيه شهادة الحد كاملة.

قبول شاهدين عدلين في بقية الحدود والقصاص

قبول شاهدين عدلين في بقية الحدود والقصاص قال رحمه الله: [ويقبل في بقية الحدود والقصاص، وما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به المال، ويطلع عليه الرجال غالباً؛ كنكاح وطلاق ورجعة وخلع ونسب وولاء وإيصاء إليه يقبل فيه رجلان]. هذا كله بالنسبة للحدود من غير الزنا حتى ولو كان قتلاً، فإذا شهد اثنان أن فلاناً قتل فلاناً، فتقبل شهادتهما بالشروط المعتبرة، وكذلك أيضاً السرقة تقبل شهادة اثنين على السرقة، وكذلك على شخص أنه شرب الخمر والعياذ بالله! هذا بالنسبة للجرائم. أما بالنسبة للحقوق فإذا شهد اثنان على بيع أو إجارة أو هبة أو صدقة أو وصية أو نكاح أو غير ذلك، فكل هذا تقبل فيه شهادة الاثنين.

قبول شهادة المرأة في الأموال دون الحدود والحكمة من ذلك

قبول شهادة المرأة في الأموال دون الحدود والحكمة من ذلك قال رحمه الله: [ويقبل في المال وما يقصد به كالبيع والأجل والخيار فيه ونحوه رجلان، أو رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي]. بالنسبة للحدود لا تقبل فيها شهادة النساء، ولا يقبل فيها شاهد ويمين، بل لا بد فيها من شهادة رجلين، كالسرقة، فإنه لا تثبت بشهادة أربع نسوة، ولا بامرأتين مع رجل، فلا تقبل فيها شهادة النساء، وهذا له حكمة، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له طلاب العلم؛ لأن كثيراً من أعداء الإسلام يتكلمون على الشريعة الإسلامية أنها تظلم المرأة، وشاهت وجوههم! فليس هناك شرع أتم ولا أكمل من شرع الله عز وجل، وهو الذي أعطى كل ذي حقٍ حقه، ولذلك لا تقبل شهادة المرأة في الحدود لسبب، وتقبل شهادتها في الأموال وغيرها لسبب، ولو كان المراد أذية المرأة لما قبلت شهادتها مطلقاً، ولكن قبلت شهادتها حيث غلب على الظن الوثوق بقولها، وردت حيث كان العكس. والمرأة في طبيعتها وجبلتها ليست كالرجل، يرضى من يرضى ويسخط من يسخط، والله تعالى يقول: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36]، فهذا شرع الله ونص الله عز وجل على أن الذكر ليس كالأنثى، لا في التكاليف ولا في القدرة والتحمل والصفات، ولذلك جعل الله من الشرائع ما يختص بالرجال دون النساء، وهذا لا ينقص المرأة أبداً؛ بل هذا جاء من العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، حيث لم يكلف ولم يحمل الإنسان إلا ما يطيق. والمرأة فيها ضعف، فقد خلقها الله ضعيفة، والله يخلق ما يشاء، يخلق القوي ويخلق الضعيف، وليس من حق الضعيف أن يقول: يا رب! لم خلقتني ضعيفاً؟ بل عليه أن يرضى ويسلِّم، فقد خلق الرجل في الأصل، وخلق المرأة من الرجل، وجعل التكريم للرجل، فلا يستطع أحد أن يقول: لماذا فضل الله الرجل على المرأة؟ فإن فضله بتفضيل الله، فقد خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته. فالأصل في الخِلقة هو الرجل، ثم جاءت المرأة تبعاً للرجل، قال تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]، وهذا يرضى به من يرضى ويسخط من يسخط؛ لأن هذا نص القرآن، وعلى الإنسان أن ينتبه وأن لا يجامل في دين الله، ولا بد أن يقول الحق، ولا يزال الإسلام غريباً، وسيأتي ما هو أغرب من ذلك، فهذا نص القرآن يبين أن الأصل في الخِلقة هو الرجل، وأن المرأة خُلقت من الرجل، وحق الرجل على المرأة عظيم. إذا ثبت هذا فالصفات الموجودة في المرأة ليست كالصفات الموجودة في الرجل، ولذلك تقدم معنا في القضاء وبيناه: أن من شروط القضاء: أن يكون رجلاًَ؛ لأن المرأة ضعيفة فلا تتحمل القضاء؛ وذلك لقوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] أي: من الذي يتحلى ويتزين؟ إنه المرأة، وهذه طبيعتها، وهكذا خلقها الله لأجل أن يسكن إليها الرجل. {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، فإذا حصلت خصومة فإنها لا تستطيع أن تبين عن نفسها، فكيف نجعلها قاضية تبين عن غيرها، وتتولى حقوق الناس وتقف فيها، وتجابه هذه المشاكل والمعضلات؟ قال تعالى: {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] انظر إلى طبيعة المرأة، إذا جاءت مشكلة، ووقفت في وجه زوجها ليس في وجه أجنبي، وأرادت أن تبين حجتها، فلا تستطيع أن تكمل كلامها، بمجرد أن تدخل في الحجة تجدها تقول: أنت ما تفهم، أنت ما تريدني، طلقني، لا أريدك، وإذا بها تدخل في أشياء خارجة عن المشكلة، فهي لا تستطيع أن تبين عن نفسها. وعندما نتكلم عن نقص المرأة قد يظن ظان أننا نريد أن نشمت بها لا؛ فإن هذه طبيعة تكوينها، وهكذا خلقت بالضعف الذي فيه رقة الأنوثة، وحنان الأنوثة؛ لكي تحتوي الرجل، وتكون للرجل كما شاء الله عز وجل بشيء يشرفها ولا يشينها؛ لأنها خلقة الله، فهي لا تلام على شيء خلقت له، ولو أن شخصاً ضعيف لا يستطيع أن يبين، وعبناه، فهل نعيب المخلوق أم الخالق؟ معناه: أننا إذا عبناه كأننا نعيب الخالق والعياذ بالله! ولذلك لا نستهزئ ولا يجوز لأحد أن يستهزئ بهذا، إنما هذا شرع الله، وهذه النصوص وهذه الحقائق من الله عز وجل. فإذا كانت المرأة لا تستطيع أن تبين عن نفسها، فكيف نقبل شهادتها في الحدود؟! فالمرأة من طبيعتها لو أنها جاءت في حادثة قتل مثلاً، فإنها بمجرد أن ترى أي شيء يزعجها تراها تصرف وجهها، وإذا لم تستطع أن تصرف وجهها وضعت يديها على وجهها، وهذا أمر واقع، ولا يستطيع أحد أن ينكر هذا، فما تستطيع المرأة أن تتحمل، قال تعالى حاكياً عن زوجة إبراهيم عليه السلام: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات:29]، وقال تعالى حاكياً عنها أيضاً: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا} [هود:72]، فقوله: (فَصَكَّتْ وَجْهَهَا) وهي سارة، ومع أنها زوجة نبي فما استطاعت أن تتحمل لا في فرح ولا في حزن، فها هي في الفرح قالت: (يَا وَيْلَتَا) فلم تستطع أن تتحمل ذلك. فالمرأة هذا تحملها وهذه طاقتها، ويأتي شخص ويقول: نريد أن نجعلها قاضية!! المرأة مكرمة في ديننا، والإسلام أعطاها حقها، وبين الله طاقتها وقدرتها، هذا هو الشيء الذي جبل الله عز وجل المرأة عليه، وهذه هي الفطرة، فإذا كانت المرأة لا تتحمل هذا الشيء، فلماذا تحملونها ما لا تطيق؟! ولذلك نجد أن من طبيعة المرأة إذا حدث شيء وبجوارها رجل فلا يمكن أن توجه ذلك الشيء لوحدها، بل مباشرة تنطلق إلى الرجل، ومن العجيب أن بعض الأطباء يقول: والله إن المرأة الطبيبة حتى في توليدها للنساء، إذا حدثت مشكلة وعندها رجل طبيب، فإنها تترك كل شيء وتذهب إلى الرجل، فلا تستطع أن تتحمل. إذاً: إذا منعت من القضاء ومنعت من الشهادة، فهذا عين العدل، وعين الحق أن تعطي المخلوق قدرته وطاقته، ثم إذا كانت الشريعة قالت: إنه لا تشهد المرأة لوجود خلل، إذا كانت المرأة لا تتحمل أن ترى الدماء، ولا تتحمل أن ترى القتل والضرب والأذية، وكذلك في الحدود، حتى في الزنا لو أنها رأت المرأة فإن فيها شدة الغيرة، حتى ولو كان من رجل أجنبي مع امرأة فإنه يحدث منها الغيرة، وهذه طبيعة الفطرة وطبيعة الخلقة، وحينئذٍ يكون هناك نوع من الاعتداء في الشهادة، ووجود الخلل في شهادتها على الدماء، وفي شهادتها على الحدود، وفي شهادتها على الزنا، وكل هذا بسبب وجود الضعف الخَلْقِي الذي لا تلام فيه. فالأصل يدل على هذا، وإذا ثبت هذا فإننا نقول: إن المرأة لا تقبل شهادتها إلا في الأموال، ثم لما قبلت في الأموال قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة:282]، فقوله: (أَنْ تَضِلَّ) أي: تنسى، قالوا: لأن المرأة لما ركبت من الشهوة في طبيعتها وفطرتها، وهذا له تأثير على العقل، والعقل نور من الله عز وجل، ومن أقوى ما يضعف العقل الشهوة، ومن تورع في الشهوات وصان نفسه عنها حفظ الله له نور عقله، ولذلك أعقل الناس هو أورعهم عن الشهوات، ومن هنا قالوا: إن الله عز وجل لما نهى عن قربان الفواحش ختم بقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151]، فهذه وصية من أجل أن يحصل العقل. فالمرأة من حيث هي مركبة من الشهوة، ووجود الشهوة فيها من طبيعتها وجبلتها، وهذا يؤثر في تركيزها وفي ضبطها، ومن هنا قالوا: لأجل هذه الجبلة وهذه الطبيعة جعل الله شهادة المرأتين بمثابة شهادة الرجل الواحد، وهذا من أصل خلقتها، فإذا ثبت هذا فلا تقبل شهادتها إلا في الأموال، أو ما يئول إلى الأموال، فيستشهد رجل وامرأتان، ولو استشهدنا النساء منفردات على المال، لجاز ذلك؛ مثاله: لو باع رجل أرضاً لابن عمه وأشهد أربع نسوة؛ صحت وقبلت الشهادة؛ لأنها مال، وهكذا بالنسبة لغير الحدود مما تقبل فيها شهادة النساء.

ما تقبل فيه شهادة النساء خاصة

ما تقبل فيه شهادة النساء خاصة قال رحمه الله: [وما لا يطلع عليه الرجال كعيوب النساء تحت الثياب والبكارة والثيوبة والحيض والولادة والرضاع والاستهلال ونحوه تقبل فيه شهادة امرأة عدل، والرجل فيه كالمرأة]. والأصل في هذا حديث في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قبل شهادة المرأة على الرضاع، وفرق عليه الصلاة والسلام بين الرجل وامرأته بهذا، فقد جاءت أمة سوداء وقالت: إنها أرضعت رجلاً وامرأته وهو عقبة رضي الله عنه، وامرأته بنت أبي إهاب بن عزيز، فقال صلى الله عليه وسلم: (كيف وقد قيل؟)، وقبل شهادة المرأة الواحدة. ومن هنا قالوا: إن الرضاع يخفى على الرجال غالباً؛ لأنه يكون بين النساء، وهذا يسمونه: الشهادة الخاصة، فتقبل شهادة النساء فيما لا يطلع عليه إلا النساء، وفيما لا يطلع عليه الرجال غالباً، كعيوب المرأة تحت الثياب، من البكارة والثيوبة، فإذا اختلف هل هي ثيب أو بكر؟ فتطلع امرأة عليها وتقبل شهادتها عند القاضي، حتى تبين للقاضي هل هي ثيب أو بكر؟ إذاً: تقبل شهادة المرأة في العيوب الموجودة في المرأة التي لا يطلع عليها إلا النساء؛ قالوا: لأن اطلاع الجنس على الجنس أخف وأقل ضرراً وفطرة من الاطلاع مع اختلاف الجنس. إذاً: المرأة لا تقبل شهادتها في غير هذه الأشياء التي ذكرها: أولاً: قوله: (ويقبل في المال) أي: ما يقصد به المال، وما يئول إلى الأموال. ثانياً: قوله: (والخيار فيه ونحوه). فيلتحق بالمال مثل الخيار، فتقبل شهادة المرأة على إثبات الخيار، كأن قال: بعتك العمارة ولم أجعل لك خياراً، فقال: بل بعتني واشترطت عليك الخيار، فقال: لم تشترط عليَّ الخيار، فقال: بل اشترطت عليك الخيار ثلاثة أيام، وعندي شهود، فجاء بنسوة، تقبل شهادة النسوة على المال وما يئول للمال. ثالثاً: قوله: (وما لا يطلع عليه الرجال). أي: ما لا يطلع عليه الرجال من الأمور الخفية، كما ذكرنا في شهادة المرأة الواحدة.

عدم ثبوت القود والدية بشهادة النساء

عدم ثبوت القود والدية بشهادة النساء قال رحمه الله: [ومن أتى برجل وامرأتين أو شاهد ويمين فيما يوجب القود؛ لم يثبت به قود ولا مال] لم يثبت فيه القود؛ لأن القود في القصاص يشترط فيه الرجال، أما النساء فلا تقبل شهادتهن في الدماء، ولا تثبت الدية على شهادتهن أيضاً؛ لأن الدية مبنية على ثبوت القود؛ لأنه قد يعترض معترض ويقول: إذاً أسقطوا القود وأثبتوا الدية، لو قال مثلاً: إنه يثبت له ضمان الجناية أو شهدوا خطأً فإنه لا تقبل؛ لأنه إذا ثبت القود بُنِيَ عليه ثبوت المال، وإذا لم يثبت القود لم يثبت استحقاق المال.

ثبوت المال دون القطع في شهادة النساء بالسرقة

ثبوت المال دون القطع في شهادة النساء بالسرقة قال رحمه الله: [وإن أتى بذلك في سرقة ثبت المال دون القطع]. هنا مسألة من صنفين، اجتماعهما على أصل واحد بأن يكون أحدهما بدلاً عن الآخر، وافتراقهما كنوعين، والقود يشترط فيه الرجال، وإذا شهدت المرأة قبلت شهادتها فيما تقبل، وهو ثبوت المال دون القطع، أي: تقبل شهادة رجل وامرأتين، وتقبل شهادة أربع نسوة على السرقة، ونضمِّن المشهود عليه المسروق، ونقول: يجب عليه الضمان، لكن لا نثبت الحد؛ لماذا؟ لأن المال ليس هو بدلاً عن السرقة، بخلاف القود، فإن الدية بدل عن القود، وحينئذٍ الفرع تابع لأصله، لكن هنا استقل ولم يصبح مندرجاً تحت الأصل، بحيث لو شهدت المرأة بأنه سرق ردت شهادتها في الحد دون المال، وكذلك لو سرقت سيارة من نوع كذا وكذا، أو أن سيارة فلان من نوع كذا وكذا سرقت، وشهد أربع نسوة أنه سرقها فلان، فحينئذٍ يثبت عليه ضمان هذه السيارة؛ لأنها مال، وفي السرقة ثبوت الحد وثبوت الضمان، فإذا لم يثبت الحد لوجود شهادة النساء بقي ثبوت الضمان. قال رحمه الله: [وإن أتى بذلك في خلع ثبت له العوض وتثبت البينونة بمجرد دعواه]. قوله: (ثبت له العوض) كما ذكرنا في الخلع، أن امرأة قالت: ما خالعتك، أنت الذي طلقتني، وافترقنا بطلاق، فقال: لا، بل افترقنا بخلع؛ لأنه إذا قال: افترقنا بخلع يستحق أن يرد له المهر، فهي تقول: أنت طلقتني وافترقنا بالطلاق، وارتفعوا إلى القاضي، فجاء بالنسوة، قبلت شهادة النسوة ليشهدن على إثبات المهر، وحينئذٍ يثبت المال وهو منفصل عن الخلع.

وصية جامعة لما ينبغي على طالب العلم تجاه العلماء

وصية جامعة لما ينبغي على طالب العلم تجاه العلماء نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجهه الكريم. وأحب أن أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، وخاصة طالب العلم الذي يجب عليه أن يتقي الله عز وجل، وأن يستشعر المسئولية والأمانة، فإن هذه المسائل وهذه الأحكام حجة للإنسان أو على الإنسان، وما من شيء أفضل ولا أعظم بعد الإيمان بالله من العلم النافع، فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذا العلم لأوليائه وصفوته من خلقه بعد أنبيائه، فما من أحد يأخذه بحقه ويقوم بحقوقه، إلا رفع الله شأنه وأعزه، ويسر أمره، وشرح صدره، وجعل له من حسن العاقبة والتوفيق ما لم يخطر له على بال. ووالله إن في العلم جنة في الدنيا قبل جنة الآخرة يعرفها من يعرفها، وهم الذين استقاموا على الطريقة، واستقاموا على طاعة الله، ووفوا بعهد الله عز وجل. واعلم رحمك الله! أن أي مجلس علم تجلسه أو تسمع فيه، أول ما يجب عليك أن تحمد الله وتشكره أن قيض لك هذا العلم. الأمر الثاني: أن تعتقد فضل أهل العلم أحياءً وأمواتاً، فتترحم على علماء المسلمين، وتترضى عليهم، وتذكرهم بالجميل، وتعلم أنه ما وقف عالم بين يديك ولا معلم بين يديك إلا بفضل الله ثم بفضل هؤلاء الأئمة من دواوين السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان، نفعاً لهذه الأمة وتعليماً لها، فاحفظ حق العلماء عليك، فإن الله سبحانه وتعالى نزع البركة ممن لا يحفظ حق من علمه، وبالأخص علماء السلف، فاعتقد حبهم وتعظيمهم وإجلالهم. وعلى المسلم أن لا يصغي بسمعه إلى من ينتقصهم ويذمهم ويتتبع عثراتهم؛ بل ينظر إلى كنوز العلم كيف تناثرت بين يديه، وكلمات هؤلاء العلماء شموس الدجى وأنوارها بفضل الله عز وجل كيف كانت بين يديك، ووالله ثم والله ما صيغت هدراً ولا عبثاً، ولو علمت كم كابدوا من المشاق، وكم عانوا من المتاعب والصعاب؛ لعلمت أن فضلهم عليك بعد فضل الله عظيم. يا هذا! أي علم ينثر بين يديك، وأي قول يقال لك فتصغي إليه بسمعك أو يعيه قلبك، لو علمت فضله وعلمت حقه وعلمت منزلته، لقمت بحقوقه، وحفظت نفسك وصنتها، وكنت كما ينبغي أن يكون عليه طالب العلم من الوفاء. فلابد أن يفي المسلم لعلماء المسلمين، وأن يعتقد فضلهم، وأن يتعود دائماً على ذكرهم بالخير، ووالله ثم والله أن من أعظم الأسباب التي وجدناها بعد توفيق الله هو فهم كلام العلماء وضبطه وإتقانه، وسأشهد بين يدي الله بتعظيم أهل العلم، فطالب العلم الذي يتعود احترام كلام العلماء، ويقرأ الكلمة أو يسمع في مجلس عالم يوثق بعلمه كلاماً، ويتلقاه بالقبول، ويبدأ بتفكيك هذا الكلام وفهمه، فإنه يفتح عليه ويبارك له، ويبدأ من منطلق القبول لا من منطلق الرفض؛ لأن الأصل أن الجاهل يتقبل، بخلاف طالب العلم بمجرد أن يجلس يقول: لماذا هذا؟ أو لماذا قال هذا؟ فأولاً: افهم ما يقال لك، وابحث عن دليله، وينبغي عليك أن تتلقى العلم بالوعي والفهم، ثم بعد ذلك يؤهلك الله إلى مرتبة المناقشة؛ لأن الجاهل يتعلم قبل أن يتكلم، فليحفظ كل طالب علم مكانته، وننبه على هذا؛ لأن من طلاب العلم من إذا تعلم شيئاً تكلم على أهل العلم، فتجده يقرأ في الكتب، ويقول: لقد حضرت زاد المستقنع، ثم بمجرد أن يقرأ شيئاً لا يعرفه ولم يقرأه على شيخه يبدأ بنقضه وهدمه، فعليه أن يتقي الله عز وجل حتى لا يكون علمه وبالاً عليه، ومن جاء ناقداً رجع فاقداً، والمحروم من حُرم، وأعظم الحرمان حرمان العلم، وأعظم النفحة والمنحة والعطية عطية العلم، ولذلك فعلى المسلم أن يعتقد فضل العلماء من السلف الصالح، فهذه الكتب لو كنت تعلم أي زمان كتبت فيه، لقد كتبت حينما كانوا يتغربون ويسافرون عن أوطانهم وبلدانهم، وهم في جوع وشدة وخوف ورهبة وضنك لا يعلمه إلا الله عز وجل. يا هذا! إن وجدت شرحاً واضحاً لعبارة فاعلم أنها ما صدرت من العالم إلا ووراء ذلك أمور، وراءها مرضات الله عز وجل، فما وضعها لك في الكتاب إلا وهو يرجو رحمة الله، وما وضعها لك في الكتاب إلا وهو ناصح لك، وما وضعها لك في الكتاب إلا لعلك أن تذكره بعد موته فتترحم عليه، وتستغفر له، لعلك أن تذكره بالجميل، فهذا الكتاب الذي تحمله لكل درس، وهذا المتن الذي نشرحه، أسألك بالله كم ترحمت على العالم الذي ألفه؟ وكم ذكرته؟! فالله الله، إن من أهل العلم من كان لا يجلس مجلساً إلا استغفر لمن كان له فضل في علمه، ولو كان كلمة أو حرفاً، ومن حفظ العهد بورك له، وإذا أردت أن ترى ذلك فافعل وسترى، وهذا شيء وصى به العلماء رحمهم الله. وهذا الذي تراه من الاحتقار لأهل العلم، وهذا الذي تراه من الغفلة في حمل الكتب إلى مجالس العلماء والجلوس بين أيديهم، إنما هي غفلة الغافلين، وسهو الساهين، فلا تكن من الذين لا يوقنون، ولا تكن من الذين لا يعلمون، بل عليك أن تحس بالحق الذي عليك، إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برد المعروف بأفضل منه: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه)، فكيف بمعروف يقود إلى جنات عدن؟! وكيف بمعروف ترقى به أعلى المنازل؟! وكيف بمعروف تتكلم به فيسكت الناس لك؟! وكيف بمعروف تتبوأ به الدرجات العلى من الجنة؟! كيف تكافئ أهله؟! أقل ما يكون بالدعاء والترحم، والذكر بالجميل، والترضي. وما أدركنا أهل العلم إلا على الأدب، ما أدركناهم إلا على حفظ العهد. ووالله ثم والله كم يتقرح قلبي وكم يتألم حينما أرى أُناساً من خيار طلبة العلم تمنيت أن لو عاشوا الأزمنة التي عشناها، ورأوا من رأينا من أهل العلم، وكيف كان أهل العلم على الترحم والترضي وذكر العلماء بالجميل، وما كنا نسمع اللمز والغمز والاحتقار ونسيان أهل الفضل، فهذه الجرأة العظيمة، والكلمات الساقطة الهابطة التي تنزع ثقة الناس من علمائها، أعرض عنها؛ لأن الله أمرك بالإعراض عن الجاهلين. وإياك ثم إياك أن تستخف بحقوق العلماء، خاصة سلف الأمة، وإياك أن تضيق عليك الدنيا حتى لا تجد إلا مثالب العلماء، ومناقص العلماء، وعيوب العلماء، ووطِّن نفسك إن أحسن الناس أن تحسن، وإن أساءوا أن تجتنب الإساءة وتترفع، وليكن هذا العلم قائداً لك إلى مرضات الله، لكن الثمن غالياً، وذلك أنك لن تكون بإذن الله على ذلك إلا بعد توفيق الله عز وجل أولاً وآخراً. وثانياً: أن تحرص على أن تستشعر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب) بهذه المشاعر نحب ولكن ليس هناك دلائل تدل على الحب، نحب السلف لكن ما الذي قدمناه؟ ولذلك ينبغي على طالب العلم أن يكون غيوراً، فلا يقبل من أحد أن ينتقص علماء الأمة، وأن يزري بهم، ولا يتقبل ذلك أبداً؛ لأن الزمان قد فسد وأصبحت هناك غربة، ولن يكون الدين غريباً إلا إذا أصبح العلماء غرباء، فطوبى للغرباء، اللهم ارحم غربتنا! اللهم ارحم غربتنا! نسأل الله بعزته وجلاله أن يتولانا برحمته، وأن يشملنا بعفوه ومنه، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت نسألك في هذه الساعة أن تسبغ رحمتك ومغفرتك التامة الكاملة على قبور من علَّمنا وأدبنا، وأحسن إلينا من مشايخنا ومن علماء المسلمين وممن استفدنا من علمه، اللهم اغفر لهم وارحمهم، اللهم اغفر لهم وارحمهم، اللهم نور قبورهم، اللهم نور قبورهم، اللهم نور قبورهم، وكفر سيئاتهم، وتجاوز عن خطيئاتهم، اللهم اجعلهم في الفردوس الأعلى في الجنة، بفضلك العظيم لا إله إلا أنت، اللهم فاجزهم عنا خير ما جزيت معلماً في تعليمه، ومؤدباً في تأديبه، ومرشداً في دلالته، يا حي يا قيوم ارفع درجاتهم، وكفر خطيئاتهم، واجعل لهم أعظم الأجر والثواب في العقبى والمآب، يا سريع الحساب، يا من لا إله إلا أنت. اللهم عظم حقهم، ولا نستطيع الوفاء بحقوقهم فأعنا ويسر لنا ذلك، اجعلنا ممن وفى وبر، اللهم اجعلنا ممن وفى وبر، اللهم اجعلنا ممن وفى وبر، اللهم أحسن الخاتمة لأحيائهم، اللهم أحسن خاتمة أحيائهم، اللهم أحسن خاتمة أحيائهم، واجعل لهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، وأجزهم عنا أحسن الجزاء يا فاطر الأرض والسماء. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم فرج كروبهم، اللهم نفس كروبهم، وفرج همومهم وغمومهم، واشرح صدورهم، ويسر أمورهم، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، نستغفر الله ونتوب إليه، نستغفر الله ونتوب إليه. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

باب موانع الشهادة وعدد الشهود [2]

شرح زاد المستقنع - باب موانع الشهادة وعدد الشهود [2] لابد من اكتمال العدد المطلوب شرعاً في الشهادة؛ فلا يقبل في الزنا إلا شهادة أربعة ذكور عدول، وفي بقية الحدود والقصاص وما ليس بعقوبة ولا مال ولا يطلع عليه إلا الرجال غالباً تقبل فيه شهادة رجلين، ومن الأموال أو ما يئول إلى الأموال تقبل شهادة رجل وامرأتين أو شهادة رجل ويمين المدعي، وتقبل شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن، ولا يثبت قود ولا مال بشهادة المرأة، وفي السرقة تقبل شهادة المرأة في المال دون الحد.

مقدمة في بيان النصاب في الشهادات ومواضع شهادة الرجل والمرأة

مقدمة في بيان النصاب في الشهادات ومواضع شهادة الرجل والمرأة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصلٌ: ولا يقبل في الزنا والإقرار به إلا أربعة]: من عادة العلماء رحمهم الله عند بيانهم لأحكام الشهادة، أن يبينوا النصاب المعتبر في شهادة الشهود، وذلك أن النصوص في الكتاب والسنة اعتنت بذلك، فبين الله سبحانه وتعالى اشتراط العدد، كما سنذكره في الآيات الكريمات في سورة البقرة، وسورة النساء، وسورة النور، وكذلك سورة الطلاق، وبينت السنة أيضاً اشتراط العدد، كما في حديث الأشعث رضي الله عنه في الصحيحين، وغيره من الأحاديث الأخر. فهذا كله يدل على أن الشهادة ينبغي أن تكون كاملة النصاب، وقد اختلفت أحكام الشريعة بحسب اختلاف مضمون الشهادة، فتارة يكون النصاب أربعة كما في شهادة الزنا، حيث نص الله سبحانه وتعالى على اشتراط أربعة شهود، وقد بينا ذلك في باب حد الزنا، وبين العلماء رحمهم الله أن الزنا مبنيٌ على الستر وعدم الحرص على الفضيحة، لما يترتب على ذلك من البلاء، فرأت الشريعة -وهي شريعة رحمة- الستر ما أمكن، ولكن في الحدود المقبولة، ومن هنا اشترط وجود الأربعة. وكذلك أيضاً ربما كان النصاب دون ذلك؛ كالشاهدين في سائر الحقوق، وسنبين مثل الحقوق المالية، والحدود التي هي من غير الزنا، فإنه يكفي فيها شهادة الشاهدين، وكذلك أيضاً هذا النصاب الذي هو المركب على العدد واختلفت فيه أحكام الشريعة: فتارة تمحض بالذكور، كما في الشهادة على القصاص والحدود أو القود والدماء، وتارة يكون بالنساء مع الرجال، كما في الشهادة على الأموال وما يئول إلى الأموال. وفي بعض الصور ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على عدم اشتراط التعدد، كما في قبوله عليه الصلاة والسلام لشهادة المرضعة، وكذلك قبوله لشهادة خزيمة بن ثابت رضي الله عنه وحده. وبناءً على هذا ونظراً للاختلاف والتعدد لا بد من وضع أصول شرعية يبني عليها القضاء الإسلامي أحكامه في الشهادات، فيشترط العدد فيما اشترطت فيه الشريعة العدد، ويتمحض هذا العدد بالذكور فيما نص الشرع على اختصاص شهادة الذكور فيه، ويتمحض بالإناث، أو يشترك الإناث والذكور فيما رخص الشرع فيه بالشهادة على هذا الوجه. أيضاً هناك شيئاً آخر وهو: انضمام حجة من غير الشهود إلى شهادة الشهود، كما في انضمام اليمين إلى شهادة الشاهد، وهنا الشريعة نزلت اليمين منزلة الشاهد، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بقضائه في الشاهد مع اليمين، وهذا نوعٌ آخر، فلما كانت الشهادة تتعدد وتختلف أفرد المصنف رحمه الله في هذه المسألة فصلاً خاصاً يبين فيها أحكام التعدد.

شهادة أربعة شهود ذكور في الزنا

شهادة أربعة شهود ذكور في الزنا قال رحمه الله: [ولا يقبل في الزنا والإقرار به إلا أربعة]. وهذا لنص الله عز وجل في آية النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]، وفي هذه الآية مسائل: المسألة الأولى: أن دعوى الزنا لا تقبل مجردة، وهذا محل إجماع، ما لم يقر المدعى عليه بدعوى الزنا أو يعترف. المسألة الثانية: أن الزنا لا يثبت حده إلا بأربعة شهود، فلو شهد ثلاثة، حتى ولو كانوا من الصحابة؛ ردت شهادتهم، وهذا يدل على عظم أمر الزنا، وقد خاطب الله بهذه الآية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ما هم فيه من العدالة وتزكية الشرع لهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني)، ومع هذا لا يُقبل إلا أربعة شهداء. المسألة الثالثة: أن هذه الشهادة خاصة بالذكور دون الإناث، والدليل على ذلك: أن الله سبحانه وتعالى قال في شهادة الأموال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة:282]، فذكر البدل عن الرجال، وهو شهادة النساء، فلو كان الزنا يقبل فيه شهادة النساء لبينه الله عز وجل، ومع ذلك لم ينص على شهادتهن في هذا الحد. المسألة الرابعة: أن الله تعالى أمر بأربعة شهداء في حد الزنا، ونصت الشريعة على أن شهادة المرأة تعدل نصف شهادة الرجل، وهذا نص آية البقرة كما في آية الدين، فإذا ثبت هذا فمعناه: أنه لا يجوز لنا أن نقبل ثمان نسوة في حد الزنا، فإن هذا خلاف ما نص عليه القرآن، ولذلك فجماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله على عدم قبول شهادتهن في الحدود وفي الدماء؛ للأصل الذي ذكرناه، وقد تقدم بيان العلة وأنها الضعف الموجود في خلقة المرأة، وقد أشار الله إلى هذا المعنى في قوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282]. والأصل في قبول شهادة الشاهد غلبة الظن بصدقه، وغلبة الظن بحفظه للقضية، فإذا كان عند الشاهد عوارض من الضعف وعدم القدرة على التحمل؛ فحينئذٍ يؤثر هذا في الشهادة، وهذا من رحمة الله بالأمة وتيسيره عليهم. كذلك أيضاً قوله تعالى: {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4]، مطلق وجاء ما يقيده بالشهداء العدول كما قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]، وقال في آية الدين: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، وقد تقدم هذا.

قبول شهادة رجلين على من أتى بهيمة

قبول شهادة رجلين على من أتى بهيمة قال رحمه الله: [ويكفي على من أتى بهيمة رجلان]: أي: يكفي في الشهادة على من أتى بهيمة رجلان، وينزل منزلة الزنا اللواط والعياذ بالله! وإن قلنا: إنه يأخذ حكم الزنا فلابد من شهادة أربعة، ومذهب جمهور العلماء رحمهم الله والأئمة على أن اللواط يثبت بشهادة شاهدين، وأما إتيان البهيمة فإنه ليس بحد، وإنما تقتل البهيمة لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتلها، وهذا الأمر بقتل البهيمة إتلاف للمال، ولذلك قبل فيه شهادة شاهدين، وبالنسبة للفاعل يعزر، فليست هناك عقوبة لمن أتى البهيمة كحد، ومن هنا لم ترتق إلى حد الزنا، فليست بحد كامل كحد الزنا، وعلى هذا خفف في نصابها، ورجعت إلى الأصل في الحدود، فيقبل فيها شاهدان، كما يقبل في السرقة وشرب الخمر ونحو ذلك من الحدود، فإذا قبل في الحدود شاهدان، فلأن يقبل في التعزير من باب أولى وأحرى، والحكم هنا تعزيري، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف رحمهم الله.

قبول شهادة رجلين في بقية الحدود دون الزنا

قبول شهادة رجلين في بقية الحدود دون الزنا قال رحمه الله: [ويقبل في بقية الحدود والقصاص، وما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به المال، ويطلع عليه الرجال غالباً؛ كنكاح وطلاق ورجعة وخلعٍ ونسب وولاءٍ وإيصاءٍ إليه يقبل فيه رجلان] قوله: (ويقبل في بقية الحدود) كحد شرب الخمر، فإذا شهد شاهدان أنهما رأيا شخصاً وهو يشرب الخمر، أو يتعاطى المخدرات، فحينئذٍ تكفي شهادتهما، وهكذا بالنسبة للسرقة، فلو رآه شخصان وهو يسرق فإن شهادة الشاهدين كافية لإثبات حد السرقة، وهذا تحديد وتأقيت من الشرع، فلا يشترط أكثر من اثنين في بقية الحدود إلا الزنا فأربعة من الشهود؛ لأن الله عز وجل قال في غير الزنا: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282]، فأصبح أصلاً عند جماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله على أن قبول الشهادة بالتعدد، وهذا ما يسميه العلماء: بالتقدير الشرعي، وفي الشريعة التقدير يكون على صور: الصورة الأولى: أن يمنع الزيادة ويجيز النقصان المقدر شرعاً. الصورة الثانية: أن يمنع النقصان ويجيز الزيادة. الصورة الثالثة: أن يمنع النقصان والزيادة. فهذه الصور الثلاث هي أصل في التقدير الشرعي، فإذا جاء التقدير الشرعي عليها فإنه يلزم المكلف بها على نفس الطريقة التي ذكرناها. فالصورة الأول: وهي أن التقدير يمنع النقصان ويجيز الزيادة فمثل: عشر رضعات معلومات يحرمن، ونسخن بخمسٍ معلومات يحرمن، فالرضاع فيه حدٌ وتقدير شرعي، بحيث لو أرضعت أكثر من خمس رضعات ثبت الرضاع، ولكن إذا أرضعت أقل من خمس رضعات فإنه لا يكفي. كذلك أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة) فحد الخمس من الإبل، فما زاد فالزكاة ثابتة فيه، ولا يمنع الزكاة ما زاد وإنما يمنع الزكاة النقص، فالزيادة لم تمنع والنقص يمنع. وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس فيما دون خمس أواقٍ من الورق صدقة) كما في الصحيح، فلا يمنع الزيادة ولكنه يمنع النقصان في إيجاد الزكاة، فهذا تقدير شرعي يمنع أن يحكم بوجوب الزكاة فيما نقص عن هذا القدر، ولكننا نجيزها فيه إذا زاد. وكذلك أيضاً قد يمنع النقص في أشياء كثيرة، كما في المقدرات الشرعية من الأنصبة في الأموال وغيرها من الوارد في الشرع تحديده. وأما الصورة الثانية: وهي أن التقدير يمنع الزيادة ويجيز النقص على عكس الأول، فمثلاً: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ثلاثاً، فحينئذٍ يجوز للمكلف أن يتوضأ مرة ومرتين وثلاثاً، ولكن لا يجوز له أن يزيد فيغسل العضو أربع مرات، قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث السنن وهو صحيح: (هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم)، فهذا التقدير بالثلاث يمنع الزيادة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدد هذه الثلاث، وكذلك لما رخص عليه الصلاة والسلام بالخمسة الأوسق في بيع الرطب بالتمر -وقد تقدم معنا في البيوع- حد عليه الصلاة والسلام في هذه المعاملة الربوية الحد بخمسة أوسق، فحينئذٍ تمنع الزيادة عن خمسة أوسق، فلا يرخص للمسلم فيما زاد على خمسة أوسق، ولكنه لو أراد أن يأخذ بالرخصة فيما دونها فلا بأس ولا حرج، فما نقص مأذونٌ به وما زاد ممتنع، وهكذا بقية المقدرات في الزيادة. والصورة الثالثة: وهي أن التقدير يمنع الزيادة والنقص، فيلزم المكلف بالعدد الوارد، ولا يجوز له أن يزيد عليه ولا يجوز أن ينقص منه، كما في حد الزنا، قال تعالى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، فالمائة جلدة هذه لا يجوز لأحد أن يزيد عليها في حد الزنا، ولا يجوز له أن ينقص منها؛ لأنها مؤقتة مقدرة، لا يجوز أن يعطل حد الله عز وجل فينقص منها سوطاً وجلدة واحدة، ولا يجوز أن يظلم المجلود فيزيده بجلدة زائدة على هذا المقدر شرعاً. وكذلك أيضاً حد القذف، قال تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]، فإنه لا يجوز لأحد أن يزيد على الثمانين جلدة، ولا يجوز أن ينقص منها. أما حد الخمر فقد تقدم معنا، فإن زيادة عمر رضي الله عنه على الأربعين أربعين أخرى ليست من الحد، وإنما هي زيادة تعزيرية جاءت بسبب خاص، وهو: انهماك الناس في الخمر، ثم إن نفس الخمر اشتبه فيه الصحابة هل هو محدد أو غير محدد؟! لأن علياً رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدده، يعني: لم يقدره بمقدار معين. وقد قال أنس: كان يؤتى بالشارب فمنا الضارب بنعله ومنا الضارب بثوبه، فهذا لا يكون داخلاً في الأصل على الوجه الذي ذكرنا، وقد تقدم شرح هذه المسألة في حد الخمر، وبينا خلاف العلماء رحمهم الله في الزيادة على الأربعين. وقد تكلم العلماء على هذه الأنواع، وممن فصل فيها الإمام السرخسي رحمه الله في المبسوط، والأصل عند العلماء في المقدرات هو هذا، فإذا قال الله {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282] دل على أنه لا يجوز لنا أن ننقص عن شاهدين، هذا هو الأصل، وإلا لما كان لذكر الشاهدين معنى وفائدة؛ لأنه لو كان يقبل أقل من الشاهدين لما ضيق الله على عباده، ولقال: استشهدوا شاهداً من رجالكم، ولكنه لما قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282] دل -كما ذكرنا في المقدرات- على أنه من المقدرات التي تجوز الزيادة فيها، أي: لك أن تُشْهِدَ على مالك خمسة أو ستة أو عشرة، كأن تخاف أن يموت بعضهم، أو أن ترد شهادة بعضهم، فتحتاط فتشهد أكثر من شاهد، ولكن أقل من اثنين لا يقبل منك من حيث الأصل العام. وهذه الآية -آية الدين التي في سورة البقرة- جاءت كأصل في الشهادة في الحقوق، ولذلك يعتمد عليها العلماء، وقد ردوا بها قول من يقول: إنها تقبل شهادة الواحد؛ ولذلك لم نجد من النبي صلى الله عليه وسلم قضاءً وحكومة وخصومة قبل فيها شهادة الواحد المجردة إلا في مسائل خاصة، منها: قبوله شهادة المرأة المرضعة، كما في حديث عقبة بن الحارث في الصحيحين مع أم يحيى بنت أبي إهاب رضي الله عن الجميع، فقد كان نكحها ثم جاءت أمة وقالت: إنها أرضعتهما، فقال عقبة: إنها كذبت، فقال صلى الله عليه وسلم: (كيف وقد قيل؟!)، و Q هل هذا حكم، أم قضاء، أم خصومة، أم أنه فتوى من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هذا هو الإشكال، ولذلك لم تجر على سنن القضاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم تارة يحكم بحكم القضاء ويفصل بحكم القضاء، وتارة يفصل بالفتوى، وقد بينا هذا وفصلناه، ولذلك لم يقوَ الدليل على معارضة النصوص الصريحة القوية في أن البينة لابد فيها من اثنين غالباً. وقد جاء من حديث الأشعث بن قيس رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (اختصمت أنا ورجل في بئر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! هي بئري وأنا احتفرتها، فقال الرجل: إنها بئري، فقال صلى الله عليه وسلم للأشعث: شاهداك أو يمينه) والحديث في الصحيح، فما قال له: ائتني بشاهد، أو ائتني بأي شيء يدل على أن البئر حقك، بل قال: (شاهداك أو يمينه) فخيره بهذا، فدل على أن العدد في الشهود مقصود، وأنه لا يقبل ما قل عن ذلك، إلا إذا كان معتضداً باليمين، فيما دل الشرع على جواز الشهادة مع اليمين، وسنبينه إن شاء الله. إذا ثبت هذا فلا بد من التعدد، وقال بعض السلف: إنه يمكن أن تقبل شهادة الواحد، واحتجوا بحديث أم يحيى الذي ذكرناه، والجواب عنه معروف، ومما احتجوا به أيضاً قبول النبي صلى الله عليه وسلم لشهادة الشاهد على رؤية الهلال، فقد قال رجل: إنه رأى الهلال، وهو من حديث بلال رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: نعم، قال: يا بلال! قم فأذن بالناس) يعني: للصوم، قالوا: وهذا يدل على أن شهادة الواحد كافية. وهنا مسألة نحب أن ننبه إليها في الجواب عن هذا الدليل: أولاً: من ناحية السند فيه ضعف. ثانياً: أن هناك شيئاً اسمه: الشهادة، وهناك شيئاً اسمه: الخبر، وهناك شيئاً اسمه: الرواية، فالرواية: معرفة النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابي، أو عمن بعدهم، وهذا لا يشترط فيه التعدد بإجماع العلماء من حيث الأصل، إلا في المسائل التي تعم بها البلوى، وقد اختلف الجمهور مع الحنفية، والمسألة معروفة في الأصول، لكن من حيث الأصل نقبل خبر الواحد إذا جاءنا بنقل العدل عن مثله فإننا نقبل روايته، ولا يشترط في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون عن أكثر من واحد، ولذلك قبل العلماء الحديث الغريب برواية الواحد، كما في حديث: (إنما الأعمال بالنيات)، والعزيز والمشهور فيما جاء من الأخبار، واعتمدوا الصحة والثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكون الراوي ممن تقبل روايته، فباب الرواية لا يشترط فيه التعدد وجهاً واحداً. الباب الثاني: باب الخبر: وهو أن يكون خارجاً عن حكم القضاء، فيأتي الإنسان ويخبر عن شيء، كأن جئت تصلي فسألت شخصاً: هل أذن لصلاة العصر أو لم يؤذن؟ فقال لك: لقد أُذن، فهنا تقبل خبر الواحد إذا وثقت بقوله، أو دخلت إلى قرية أو مدينة فيجب عليك أن تسأل أهلها عن القبلة، ولا يجوز لك أن تجتهد ولو كنت مسافراً، ما دمت قد نزلت وبإمكانك السؤال؛ لأن القدرة على اليقين تمنع من الشك، فتأتي إلى رجل ظاهره الخير، أو رجل تعرفه، أو صديق لك، وتقول له: أين جهة القبلة؟ فإنه سيقول لك: هكذا، فهذا خبر للواحد وتقبله، وتعمل به في الديانة، وتتعبد الله عز وجل به، لكنه من باب الخبر لا من باب الشهادة، فهذا يسمى: خبر، ولا يسمى: شهادة. وكذلك أيضاً لو جئت تصلي على فراش، وشككت هل هذا الفراش نجس أو طاهر؟ فقلت: يا فلان! هل هذا الفراش طاهر أو نجس؟ فقال لك: الفراش طاهر، فصدقت قوله، وتعبدت الله ع

قبول شهادة رجلين في القصاص

قبول شهادة رجلين في القصاص قوله: (والقصاص) أي: والقصاص كذلك لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين بالصفات التي ذكرناها، وأن يكونا سالمين من القوادح والموانع التي تمنع من قبول شهادتيهما، فلو أن شخصاً ادعى على شخص أنه قطع يده، فإننا نقول للمدعى عليه: أقطعت يده؟ فإن أنكر فحينئذٍ نقول للمدعي: ألك بينة؟ فإن قال: عندي بينة، وأحضر شاهدين عدلين مستوفيين للشروط، فحينئذٍ نحكم بثبوت القصاص إذا كان قطع يده عدواناً. مثال آخر: لو أن شخصاً ادعى أن أباه قتله فلان عمداً عدواناً، فأتينا بالمدعى عليه وقلنا له: هل قتلت فلاناً؟ فأنكر، فنقول للورثة أبناء القتيل: أعندكم بينة؟ فإن قالوا: نعم، وأقاموا شاهدين عدلين مستوفيين للشروط خاليين من الموانع؛ فحينئذٍ نحكم بثبوت القصاص على القاتل. إذاًَ: القصاص يثبت بشهادة رجلين مستوفيين للشروط، سواء كان القصاص في النفس مثل القتل، أو كان في الأطراف بالشروط التي ذكرناها في ثبوت القود في الأطراف.

قبول شهادة رجلين فيما ليس بعقوبة ولا مال ويطلع عليه الرجال

قبول شهادة رجلين فيما ليس بعقوبة ولا مال ويطلع عليه الرجال وقوله: (وما ليس بعقوبة ولا مال). ما ليس بعقوبة ولا مال مثل النكاح، فليس بعقوبة ولا مال، والطلاق ليس بعقوبة ولا مال، وكذلك الرجعة، كأن يقوم شخص ويطلق امرأته طلقة، وكانت الطلقة الأولى، وأراد أن يراجعها، فهذا ليس بمال وليس بعقوبة، فحينئذٍ تقبل فيه شهادة الرجلين العدلين، كما نص الله عز وجل على ذلك. وقوله: (ولا يقصد به المال). أي: لا يئول إلى المال، وسيأتي هذا النوع الثالث. وقوله: (ويطلع عليه الرجال غالباً) ما كان من هذا الصنف ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: يطلع عليه الرجال غالباً، بمعنى: أنه يقع أمام الرجال، مثل: النكاح، فإنه يجتمع ولي المرأة مع الزوج، وغالباً في محضر رجال، والطلاق نفس الشيء، وهذا يطلع عليه الرجال غالباً، فالرجل عندما يطلق امرأته غالباً يعلم صديقه وأخوه وقريبه، ولذلك إذا كانت الأمور التي يشهد بها من جنس ما يطلع عليه الرجال غالباً؛ فإنه يقبل شهادة الشاهدين من الرجال العدول على الصفة التي ذكرناها في الشهادة. وقد أراد المصنف رحمه الله أن يحترز من النوع الذي تقبل فيه شهادة النساء، وهو الذي لا يطلع عليه الرجال غالباً، فقال رحمه الله: (غالباً)، وإلا فالنساء قد يطلعن على النكاح ويطلعن على الطلاق، لكن لما قال: (غالباً)، فمعناه: أن هذا الشيء الذي ذكره قد يطلع عليه النساء. وقوله: (كنكاح). النكاح الغالب فيه أنه لا يطلع عليه إلا الرجال، وأكثر ما يوجد بين الرجال، وقد يقع بين النساء ولكن الحكم للغالب، ولماذا نقول: يطلع عليه الرجال غالباً، ويطلع عليه النساء غالباً؟ لأنه إذا كان يطلع عليه الرجال غالباً أجريته على القاعدة العامة، وجعلته تحت حكم الشريعة في الشهادة، في كون الشهادة تختص بالذكور، وتكون بالعدلين بالصفة التي ذكرناها، فإن خرج عن هذا إلى كونها تختص بالنساء، فهذا يسمونه: الخاص، والخاص لا يقدح في الأصل العام، وهذا الفقه أن تعرف ما جرى على الأصل فتطرد الدليل العام فيه، وذلك مثل قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]، فلما خص الله عز وجل الشهادة بالاثنين، وجعلها متعددة وجعلها خاصة بالرجال، ولم يذكر لها بدلاً من النساء، فعلمنا حينئذٍ أن هذا النوع يختص بالرجال، ووجدنا من صفاته الذي يكون وصفاً مناسباً للشرعية في الحكم، لما نظرنا الصفات وجدنا هذا الشيء غالباً في الرجال، ولذلك يكون جارياً على الأصل بقبول شهادة الرجلين فقط. أما إذا أصبح هذا الشيء واقعاً بين النساء، ويقل اطلاع الرجال عليه، مثل العيوب الموجودة في النساء التي لا يطلع عليها الرجال غالباً، وحينئذ إذا صارت الأمور التي تختص بالنساء كالعيوب الموجودة للمرأة ونحو ذلك مما يحتاج إلى اطلاع النساء، أو يطلع عليه النساء غالباً، فمعناه: أنها حالة خاصة؛ لأن الأمر إذا ضاق اتسع، فحينئذٍ تستثنى؛ لأنك لو قلت: لا أقبل إلا الرجال؛ لأوقعت الناس في حرجٍ عظيم، ولضاعت الحقوق، وهذا خلاف شرع الله عز وجل، ولأصبحت المرأة تتبذل حتى ينظر الرجل إلى بكارتها وثيوبتها، فلأن ينظر الجنس مع اتحاد الجنس أخف من أن ينظر الجنس مع اختلاف الجنس، وهذا هو شرع الله أن يعطي كل شيء حقه وقدره. لكن هذا الاستثناء لا يعتبر قاعدة عامة، ومن هنا ضبطوه بقولهم: أو ما لا يطلع عليه إلا النساء غالباً؛ لأنه إذا كان من جنس ما لا يطلع عليه إلا جنسٌ مخصوص، فحينئذٍ يحتاج الناس عند الإشهاد عليه إلى هذا الغالب، فإذا ألزمتهم بغير الغالب -وهو الرجل- أحرجتهم، والله يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وإذا كان هذا الشيء من جنس النساء، وأدخلت الرجال على النساء أحرجتهم، والله عز وجل يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وضيقت عليهم والله عز وجل يريد أن ييسر: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] فهذا هو وجه تفسير العلماء وتفريقهم بين ما يطلع عليه الرجال وما يطلع عليه النساء، ثم ضبط بالغالب؛ لأن الحكم للغالب، وإلا فقد يوجد اطلاع الرجال على هذه الأشياء في النادر، كالطبيب مثلاً عندما يطلع وينظر إلى بكارة المرأة وعدمها، كما لو اشتكت امرأة من ألم فاضطر أن ينظر إلى فرجها، فنظر فعلم أنها بكر، ثم بعد ذلك حدثت حادثة في نفس اليوم بعد خروجها واحتيج إلى شهادته، فقال الزوج: هي ثيب من أسبوع، وهذا قد كشف عليها بالأمس ورأى واطلع وقال: إنها لا زالت بكراً، وهذا النادر لا يناط بحكم الشهادة، فهذا وجه تخصيص العلماء رحمهم الله والفقهاء للمسألة بالغالب. وقوله: (وطلاق). كذلك الغالب فيه أنه لا يطلع عليه إلا الرجال، ولا يمتنع أن يطلع عليه النساء، فالطلاق يثبت بشاهدين من الرجال، ومثاله: قالت المرأة: إنها زوجة، وإن فلاناً توفي ولم يطلقها، وهي تستحق الميراث، فأقام ورثة الميت شهوداً على أنها مطلقة، وأنها بانت من مورثهم قبل وفاته، فنحكم بذلك ونعتبرها مطلقة، ولا حق لها في الميراث، إذاً يثبت الطلاق بشهادة الشاهدين العدلين المستوفيين للشروط، دون وجود موانع فيهما. وقوله: (ورجعة). كأن يقول: هذه زوجتي وقد راجعتها، ولذلك أطلب من القاضي أن تفسخ نكاحها من هذا الرجل، فقالت المرأة: ما راجعني، وأنا مكثت حتى خرجت من عدتي وتزوجت، وعندي شهود أني اعتددت، وأني ما تزوجت إلا بعد انتهاء العدة، فجاءت بالشهود وأثبتت أنها نكحت بعد انتهاء العدة، وجاء بالشهود على أنه راجعها في اليوم العاشر قبل حيضتها الثالثة، ما بين الثانية والثالثة، أو بين الحيضة الأولى والثانية، فحينئذٍ نحكم بالرجعة، وأنها زوجة للأول وليست زوجة للثاني، ونفسخ نكاح الثاني، إذاً تثبت الرجعة بشهادة الشاهدين. وقوله: (وخلعٍ). أي: لو قال: إنه خالع زوجته، وقد تقدم معنا أنه إذا ادعى أنه خالع المرأة، وادعت المرأة أن زوجها طلقها، فتسعى لإثبات حق لها، أو دفع ضرر عن نفسها، كأن تقول المرأة: إنك طلقتني وليس لك علي المهر، فقال: لا، بل خالعتك، فاختصم مثلاً هو وامرأته التي كانت في عصمته، وكلهم متفقون على أنه حصل فراق، لكن Q هل حصل الفراق بالخلع فيجب عليها أن ترد له المهر، أم حصل الفراق بالطلاق وليس له شيء؟ فهي تقول طلقني، وهو يقول: خالعتها، لم أطلقها، فلما اختصما جاء بشاهدين عدلين على أنه خالعها، وأن الذي وقعت به الفرقة هو الخلع وليس الطلاق، فاستحق أن يطالبها بالمهر، وحينئذٍ نحكم بثبوت حقه في ذلك بناءً على وجود شهادة شاهدين عدلين. وقوله: (ونسبٍ). كما لو قال: إنه الابن الوحيد لفلان، ويستحق ميراثه، فلما ادعى ذلك أنكر العصبة، كإخوان الميت، وقالوا: ليس له ذرية، وليس له ولد، وأنت لست ولداً له، فقام وجاء بشاهدين عدلين عند القاضي مقبولي الشهادة، فإنه لا مانع من قبول شهادتهما، ويُحكم بكونه ابناً لهذا الميت ويستحق الميراث، ويحجب بقية العصبة، إذاً يثبت النسب ويثبت ما يترتب على النسب بشهادة العدلين. وقوله: (وولاءٍ). كذلك إثبات الولاء يكون بشاهدين عدلين؛ لأن الولاء تترتب عليه أحكام شرعية، قال صلى الله عليه وسلم: (الولاء لحمته كلحمة النسب)، وهو أحد الأسباب الموجبة للإرث، فلو أن مولى أعتقه فلان من الناس، فتوفي هذا المولى، فإن مولاه يرثه إذا لم يكن له وارث لا بالفرض ولا بالتعصيب، أو مثلاً كان يعني: هذا المولى هو المسلم الوحيد، فأعتقه في حياته، وهو مثلاً سيده، فلما أعتقه أصبح ثرياً وغنياً، فتوفي هذا المولى وليس معه أحد من ورثته، فإن المال سيذهب إلى بيت مال المسلمين؛ لأن بيت المال يرث من لا يورث، ففي هذه الحالة جاء سيده وأقام دعوى على أنه مولاه، وأنه يستحق المال بحكم أنه مولى من مواليه، فنقول له: أثبت ذلك، فجاء بشاهدين عدلين، فحينئذٍ له ذلك ويحكم بذلك المال له. وقوله: (وإيصاءٍ إليه). كذلك الوصية، وقد تقدمت أحكامها، كأن يقول: أوصى لي فلان بربع التركة، أو أوصى لي بهذه المزرعة، أو أوصى لي بهذه العمارة، فكذبه الورثة وقالوا: ما أوصى له، وهو رجل أجنبي، أو رجل غريب غير وراث، فقال له القاضي: ألك بينة؟ فأحضر شاهدين وشهدا، فحينئذٍ حكم بالشاهدين له. وقوله: (يُقبل فيه رجلان). أي: نقبل الرجلين؛ وذلك لأن الله تعالى يقول: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282]، وهذا هو الأصل، وقال سبحانه وتعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]، وقال صلى الله عليه وسلم: (شاهداك أو يمينه)، وكما قلنا: لابد من كونهما شاهدين عدلين بالصفة التي تقدمت في الشهود.

ما تقبل فيه شهادة النساء مع الرجال

ما تقبل فيه شهادة النساء مع الرجال قال رحمه الله: [ويقبل في المال وما يقصد به كالبيع والأجل والخيار فيه ونحوه رجلان، أو رجلٌ وامرأتان، أو رجلٌ ويمين المدعي]. قوله: (ويقبل في المال وما يقصد به) أي: ما يقصد به من الأموال، أو ما يئول إلى المال، فبعضهم يقول: يقصد به المال، وبعضهم يقول: يئول إلى المال، فيشهد في ذلك رجلان، أو رجل وامرأتان، أو أربع نسوة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282]، هذا الأصل أن الرجل يريد أن يكتب ديناً لآخر عليه، فبين الله سبحانه وتعالى أن هذا الحق -وهو الدين- يثبت بشهادة الشاهدين، فبين كيف تكون كتابة أو توثيق هذا الدين وهذا الحق، وذلك بكتابته وصفة الكاتب وما ينبغي على الكاتب، وما ينبغي على المملي. وبعد هذا قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282] أي: أن يملي الشخص ويكون ذلك بحضور شاهدين يشهدان على ما يقر به ويكتب، وبعض العلماء يقول: الحجة في الشاهدين، تعظيماً لأمر الشهادة على الكتابة، فإن الكتابة بذاتها ليست حجة؛ لأن الخطوط تتشابه والخطوط تزور، وإنما الحجة جاءت في الشاهدين، ومن هنا كانت الآية أصلاً في قبول الشهادة، فلما كان صدر الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة:282] هذه الآية في الحقوق المالية صارت أصلاً، ومن هنا قالوا: يقبل في الأموال الشاهدان. ثم قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة:282]، فدل هذا على أن الحقوق المالية يُقبل فيها شهادة النسوة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يذكر النساء إلا في هذا النوع من الحقوق، وقد ذكر الحدود وذكر الجنايات ومع ذلك لم يثبتها إلا بشهادة الذكور، فدل على اختلاف الحكم، كما مشى على ذلك وجرت عليه جماهير السلف والخلف من حيث الجملة. إذا ثبت هذا فإن الأموال يقبل فيها الشاهدان الرجلان، أو الرجل والمرأة بنص القرآن، ثم يرد Q هل قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة:282] تنبيه على البدلية من كل وجه؟ بمعنى: أنه يمكننا أن نقبل أربع نسوة منفردات؛ لأن المراد أن شهادة النساء تحل محل الرجال، بغض النظر عن كونهن منفردات أو كونهن مجتمعات مع الرجال، وهذا هو مسلك الجمهور على أنه يمكن أن تقبل شهادة أربع نسوة في الدَّيْنِ، فلو أن رجلاً له على رجل مائة ألف ريال، وخاف أن يأتيه الموت، فأشهد اثنتين من أخواته واثنتين من زوجاته على هذا الحق الذي عليه، صح؛ لأن هذا الحق يثبت بشهادة النساء منفردات وبشهادتهن مجتمعات مع الرجال. هناك من قال: لا تقبل شهادة المرأة إلا مع الرجل، والصحيح أنها تقبل شهادة النساء، سواءً اجتمعن أو انفردن في الحقوق المالية. وقوله: (كالبيع). أي: لو باعه بيتاً فإن له أن يشهد رجلين أو يشهد رجلاً وامرأتين، أو يشهد أربع نساء. وقوله: (والأجل). كذلك أيضاً إشهاد الرجال مع النساء في التأجيل، أي: كون الدين مؤجلاً أو معجلاً في الحقوق المالية. فمثلاً قال له: بعت البيع نقداً، فقال: لا، بل بعتني إلى أجل، والأصل في البيع أن يكون نقداً، لكن إذا ادعى أنه باعه إلى أجل، وقال القاضي للبائع: أبعته إلى أجل؟ فقال: لا، أنا بعته نقداً، فحينئذٍ نقول لهذا: ألك بينة على أنه باع إلى أجل؟ فإن قال: نعم، وجاء بشاهدين من الذكور أو برجلٍ وامرأتين فإنه يصح؛ لأن التأجيل هنا المراد به إثبات حق المال، فالشهادة فيه راجعة إلى الأموال، فتثبت في البيع تأجيل البيع وعدم تأجيله. وقوله: (والخيار فيه ونحوه). أي: يجوز إشهاد الرجال والنساء في الخيار في البيع. وقوله: (رجلان أو رجل وامرأتان) هنا لم يذكر الأربع النسوة، وهذا بناءً على ما اختاره بعض العلماء: أنه لا تقبل شهادة النساء منفردات، والصحيح: أنها تقبل شهادتهن منفردات في الحقوق المالية؛ لأن الله بين أن شهادة المرأتين بمثابة شهادة الرجل الواحد، وعلى هذا فتقبل شهادة الأربع مقابل الرجلين. والدليل الثالث الذي يُقبل في شهادة الأموال وما يئول إلى المال: شهادة الشاهد مع اليمين، مثل: أن يقوم شخص ويقترض من شخص مائة ألف، وحضر هذا القرض شخصٌ واحد، ثم توفي المقترض، فجاء صاحب الدين إلى الورثة وقال: لي على أبيكم مائة ألف، فقالوا: لا نعترف لك بذلك، أعندك حجة أو كتابة فنقبل منك، فهو لم يخبرنا أن لك عليه مائة ألف؟ فاشتكى إلى القاضي، فقال له القاضي: ألك بينة؟ قال: نعم، لي رجل واحد يشهد، وهذا الشاهد مستوفٍ للشروط، حينها قال القاضي: تحلف معه اليمين، وتستحق ما ادعيت، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح: (أنه عليه الصلاة والسلام قضى بالشاهد مع اليمين)، وهذا عن أكثر من عشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت عنهم هذه السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهر ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أحمد في مسنده ومسلم وغيره رحمة الله على الجميع، فهذا يدل على ثبوت سنة الشاهد مع اليمين، ويقول جمهور العلماء رحمهم الله: إنه يقبل الشاهد مع اليمين، ونعتبر قول الشاهد مع اليمين أصلاً بقبول الشهادة، وإذا اعتبرنا جنس الشاهد فإنه يقبل شهادة المرأتين مع اليمين؛ لأن المرأتين قائمتان مقام الرجل؛ ولأن الله أنزل المرأتين منزلة الرجل، وحينئذٍ يكون جنس الشاهد مع اليمين المراد به من اعتد بشهادته، بغض النظر من كونه من الرجال أو من النساء.

قبول شهادة النساء فيما يخص النساء

قبول شهادة النساء فيما يخص النساء قال رحمه الله: [وما لا يطلع عليه الرجال غالباً كعيوب النساء تحت الثياب والبكارة والثيوبة والحيض والولادة والرضاع والاستهلال ونحوه تقبل فيه شهادة امرأة عدل]. هذا لما قدمنا من وجود الحرج، فإن أمور النساء الخاصة الغالب أنه لا يطلع عليها إلا النساء، وقد أخذوا هذا من حديث أم يحيى بنت أبي إهاب رضي الله عنها وأرضاها، وقد بينا ما في الحديث، لكنه أصل في أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل خبر المرأة، ولذلك بين رحمه الله هذه الأمور، فقال: (كعيوب النساء تحت الثياب كالبكارة والثيوبة)، فإثبات بكارة المرأة وثيوبتها يحتاج إلى اطلاع على الفرج، وهذا الاطلاع من الجنس أخف من اطلاع غيره، ولذلك فالمرأة الثقة المعروفة بالأمانة والتحفظ يمكن أن تطلع وتخبر القاضي بما اطلعت عليه. وهل هذه شهادة لها حكم أم أنها شهادة أهل الخبرة استثنيت لوجود الحاجة كما يقول العلماء؟!

حكم قبول شهادة الرجل فيما لا يطلع عليه إلا النساء غالبا

حكم قبول شهادة الرجل فيما لا يطلع عليه إلا النساء غالباً قال رحمه الله: [والرجل فيه كالمرأة]. أي: لو أن هذا الشيء الذي لا يطلع عليه إلا النساء شهد به رجل كالطبيب فتقبل شهادته، بمعنى: أننا عندما نقول: إنه لا تقبل فيه إلا شهادة امرأة، ليس على سبيل الحصر، وإنما الأصل أن يتولى هذه الأمور النساء، لكن لو حصل أن رجلاً اطلع عليه لجاز له أن يشهد.

حكم ثبوت القود والمال بشهادة النساء أو شاهد ويمين

حكم ثبوت القود والمال بشهادة النساء أو شاهد ويمين قال رحمه الله: [ومن أتى برجلٍ وامرأتين أو شاهدٍ ويمين فيما يوجب القود لم يثبت به قودٌ ولا مال]. بينا في الدرس الماضي: أن هذا مبني على أن ثبوت المال مفرع على ثبوت القود، فمثلاً: جاء بشاهد وأراد أن يحلف اليمين معه على أن فلاناً داس أباه بالسيارة عمداً عدواناً، فهذا قتل عمد لا تقبل فيه إلا شهادة رجلين عدلين، ففي هذه الحالة إذا لم يثبت القصاص لا تثبت الدية، فلا يقول قائل: نسقط الدية؛ لأن القتل قتل عمد يجب القصاص، فالشريعة تنظر إلى الدعوى، بحيث لو أن الدعوى جاءت على هذا الوجه فحينئذٍ لا نقبل إلا شهادة رجلين عدلين بالصفة المعتبرة بالشهادة، فإذا لم يقمهما لم نحكم له صحيح أن هناك مالاً، لكن هذا المال وهو الدية مفرع أو مبني على ثبوت القود؛ لأن أولياء المقتول يخيرون كما قال عليه الصلاة والسلام: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقاد وإما أن يودى)، فجعل الدية بدل القود، فإذا لم يثبت القود لا تثبت الدية، وهذا معناه: أن يأتي المال مشتركاً مع غيره لا على سبيل البدلية، فلا تقبل فيه شهادة النساء ولا يقبل فيها شهادة ويمين؛ لأنه لم يتمحض فيها قصد المال، وإنما جاءه مبني على ثبوت ما يشترط فيه شهادة الرجال وحدهم، فلا يقبل فيه الشاهد مع اليمين، ولا يُقبل فيه شهادة النسوة منفردات أو مجتمعات مع الرجال.

شهادة النساء في السرقة يوجب المال دون الحد

شهادة النساء في السرقة يوجب المال دون الحد قال رحمه الله: [وإن أتى بذلك في سرقة ثبت المال دون القطع]. إذا شهد في السرقة ثبت القطع وثبت ضمان المال، ولكن هذا الثبوت لضمان المال ليس مركباً على ثبوت القطع، ولذلك يثبت الحقان: أولاً: القطع الذي هو حقٌ الله عز وجل. ثانياً: المال الذي هو حق للمخلوق؛ فإذا كان حق الله لم يثبت؛ فإن حق المخلوق يثبت؛ لأنه إذا قال: سرق مالي، فالرجل يحتاج أن يرد له ماله، وحينئذٍ فحقه ثابت، فانفصل حق المال عن حق الحد، فإذا انفصل فإنه حينئذٍ يثبت المال، ونقول له: لا نثبت حد السرقة بشهادة النساء؛ لأن هذا النوع من الشهادات لا يثبتها، ولكن يجب عليه أن يضمن المسروق؛ لأن المال يثبت بهذه الشهادة.

ثبوت العوض في الخلع بشهادة النساء مع الرجال

ثبوت العوض في الخلع بشهادة النساء مع الرجال قال رحمه الله: [وإن أتى بذلك في خلعٍ ثبت له العوض]. قوله: (وإن أتى بذلك في خلع) الخلع يثبت فيه المهر، فإذا أثبت أنه خالع المرأة - كما تقدم معنا في المثال- فهو أثبت أنه خالعها بشهادة رجل وامرأتين، فإننا نقول: إن هذا يثبت المهر ولا يثبت الخلع.

ثبوت البينونة بمجرد دعواه الخلع

ثبوت البينونة بمجرد دعواه الخلع قال رحمه الله: [وتثبت البينونة بمجرد دعواه]. أي: إذا ادعى الرجل أنه خالع امرأته فإننا حينئذٍ نحكم بثبوت البينونة؛ لأنه اعترف بأنها ليست زوجة له، وأنه قد فارقها، والخلع طلاق، وهذا من الفوائد التي تترتب على أن الخلع طلاق.

باب موانع الشهادة وعدد الشهود [3]

شرح زاد المستقنع - باب موانع الشهادة وعدد الشهود [3] إن من نعم الله تعالى ولطفه بعباده أنه عند تعذر إقامة الشهود الأصليين، أجاز شهادة من سمع الشهود أن يشهد بها. ويشترط في الشهادة على الشهادة ما يشترط في الشهادة الأصلية، كالبلوغ والعقل والعدالة، ولا تكون الشهادة على الشهادة إلا بإذن الأصل أو إقراره عند القاضي، أو عزوه الشهادة لسبب من الأسباب. أما مسألة الرجوع في الشهادة فإنه يترتب عليها أحكام مهمة، سواءً كانت قبل الحكم أو بعده.

حكم الشهادة على الشهادة وما يشترط لها ومسائلها

حكم الشهادة على الشهادة وما يشترط لها ومسائلها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ولا تقبل الشهادة على الشهادة إلا في حق يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي]. بعد أن بين المصنف رحمه الله أصول باب الشهادة، والأمور المعتبرة في قبول الشهادة وردها؛ شرع في بيان حكم الشهادة على الشهادة، والشهادة على الشهادة مركب يكون بعد بيان المفرد، والمراد بالشهادة على الشهادة: أن يكون هناك شاهدان على حق من الحقوق، فتعذر إقامة الشاهدين في القضاء، أو مات الشاهدان، وهناك شهود شهدوا على شهادتهما، وهذا من نعم الله عز وجل ولطفه بعباده. وقد نص الأئمة رحمهم الله واتفقت المذاهب الأربعة على قبول الشهادة على الشهادة من حيث الجملة، والدليل على قبولها عموم الأدلة التي دلت على قبول الشهادة، فإن الله تعالى لم يفرق بين كونها شهادة أصل أو شهادة فرع، فإن الله أمرنا بقبول شهادة العدل والعمل بها، فإذا جاء شهود على شهود وهم عدول، أي: شهود الأصول عدول، فإننا نقبل الشهادة كالشهادة الأصلية؛ لأن الفرع آخذ حكم أصله، فالشهادة على الشهادة مركبة على أصل، فإذا كان الأصل مقبولاً فالشهادة على الشهادة مقبولة؛ لأن حفظ الحقوق مقصود شرعاً، وهو يتأتى بالشهادة على الشهادة. وقد بيّن رحمه الله: أن الشهادة على الشهادة تكون فيما يكون فيه كتاب القاضي، وقد تقدم بيانه، فلا تقبل الشهادة على الشهادة في قصاص، ولا في إثبات حد من الحدود، وذلك لما ذكرناه، ومن أهل العلم من قال بعمومها، ولكن لوجود الشبهة وخوف الخطأ والخلل استثنى الحنابلة رحمهم الله الدماء وما لا يقبل فيه كتاب القاضي. ويشترط في الشهادة على الشهادة ما يشترط في الشهادة الأصلية، ولكن لا بد أن يكون الشاهد بالغاً عاقلاً عدلاً غير متهم في شهادته، ضابطاً للشهادة، فإذا استوفى الشروط المعتبرة، فيرد Q هل تقبل فيها شهادة النساء، أو لا تقبل؟ أولاً: الشهادة على الشهادة، الأصول تقتضي قبول شهادة الرجال والنساء عموماً، وهذا مذهب طائفة من العلماء، والحنابلة عندهم لا تقبل شهادة النساء في الشهادة على الشهادة. والصحيح: أنه تقبل شهادة امرأتين وتنزل منزلة شهادة الرجل الواحد، وتتعدد بتعدد شهادة الأصول في الرجال.

متى تقبل الشهادة على الشهادة

متى تقبل الشهادة على الشهادة قال رحمه الله: [ولا يحكم بها إلا أن تتعذر شهادة الأصل بموته] إذاً: لو أن رجلاً كبيراً في السن عنده شهادة فجاء وقال: إن هذه الأرض ملك لوقف فلان، وهناك كبير سن آخر يشهد بنفس الشهادة، فيأتي شاهدان ويشهدان على شهادة الشاهد الأول الذي اسمه عبد الله في ثبوت الحق، ويسترعيهم الشهادة، وأيضاً يأتي شاهدان آخران لشهادة عبد الرحمن كبير السن الآخر، فإذا حصلت الشهادة فمعنى ذلك: أن أربعة شهود سيشهدون في مقابل شهادة الاثنين، وسينقلون شهادة الاثنين، وكلٌ منهما شاهدٌ على صاحبه، كل اثنين سيشهدان على ما شهد عليه، وحينئذٍ تقبل الشهادة إذا تعذر، إما لموت الأصل أو غيره من الأسباب، مثل أن أكون أنا وأخي سمعنا والدنا يقول كذا وكذا، ثم توفي الوالد، فأنا وأخي ملزمان شرعاً بأداء هذا الحق الذي طُلب منا، فهذا فيه حفظ للحقوق وصيانة لها. فبين رحمه الله أنه عند التعذر من موت أو مرض كأن يشهد ثم مرض، وتعذر عليه أن يأتي إلى مجلس القضاء، وعلى هذا فتقبل الشهادة عند وجود العذر، أما إذا لم يوجد العذر فللعلماء وجهان: الوجه الأول: لو كان الأصل موجوداً في المدينة أو موجوداً في مدينة أخرى، ويمكن أن يسافر ويأتي، فمن أهل العلم من قال: إنه إذا كان على مسافة القصر فإنه يسقط عنه الحضور. الوجه الثاني: إذا كان في داخل المدينة فإنه لا تقبل الشهادة على الشهادة؛ لأن القدرة على اليقين تمنع من الشك؛ ولأن نقل الشهادة على الشهادة مزلة الخطأ والخلل، فينبغي إشهاد الأصل، وهذا القول فيه احتياط، وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله، والأصول تقتضي القبول. قال رحمه الله: [أو غيبة مسافة قصر]. كما ذكرنا، كأن يكون في مدينة والقاضي في مدينة أخرى.

متى يشهد الفرع بدلا عن الأصل

متى يشهد الفرع بدلاً عن الأصل قال رحمه الله: [ولا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد إلا أن يسترعيه شاهد الأصل]. كأن يقول له: اشهد على شهادتي أن فلاناً له على فلان كذا وكذا، واشهد على شهادتي أن فلاناً أوقف داره أو أوقف أرضه، أو أن فلاناً وهب، أو أن فلاناً شارك فلاناً، أو أن فلاناً أعطى فلاناً قرضاً، فقوله: اشهد على شهادتي هذا استرعاء. قال رحمه الله: [فيقول: اشهد على شهادتي بكذا، أو يسمعه يقر بها عند الحاكم]. إذا شهد بها عند الحاكم فهي شهادة شرعية وحينئذٍ ينقل هذه الشهادة. قال رحمه الله: [أو يعزوها إلى سبب من قرض أو بيع أو نحوه]. كأن يقول: إن لفلان على فلان مائة من أصل بيع، سواء كان من قيمة أرض أو من قيمة سيارة، فيسندها إلى أصل، أما لو قال: إن له في ذمته كذا ولم يبين السبب، فلا تقبل.

مسألة الرجوع عن الشهادة وصورها

مسألة الرجوع عن الشهادة وصورها قال رحمه الله: [وإذا رجع شهود المال بعد الحكم لم ينقض]. هذه المسألة تعرف عند العلماء بمسألة الرجوع عن الشهادة، أن يشهد الشهود ثم بعد شهادتهم يقولون: رجعنا، فهذه على صورتين: الصورة الأولى: أن يقولوا: كذبنا وزورنا، ونحن قد تبنا إلى الله ورجعنا عن شهادتنا، فهذا اعتراف بالخطأ، بمعنى: أنهم تحملوا وأدوا الشهادة زوراً وكذباً. أو أن يكون منهم الرجوع لتبين خطأ، فيقولون: رجعنا، فإن الذي قتل فلاناً ليس بفلان، نحن أخطأنا وما تعمدنا شهادة الزور، وإنما تبين لنا أن الذي قتل فلاناً هو فلان، وأننا أخطأنا في الشهادة الأولى. وهذا الرجوع إما أن يكون قبل الحكم بالشهادة، وإما أن يكون بعد الحكم، فإذا كان بعد الحكم إما أن يكون قبل تنفيذ الحكم فإما أن يكون بعد تنفيذ الحكم. الحالة الأولى: أن يرجع الشهود قبل الحكم بشهادتهم: فإن القاضي لا يحكم بشهادتهم قولاً واحداً عند العلماء، مثاله: لو ادعى شخص على شخص ديناً، ثم أقام شاهدين فشهدا عند القاضي وقالا: إن فلاناً له على فلان كذا، وقد سبق أن قلنا: إنه إذا شهد الشهود فيبحث القاضي عن الشهود هل هم عدول؟ هل هم أهل للشهادة أو لا؟ فإذا قالوا بعد ذلك: رجعنا عن شهادتنا، فهذا قبل الحكم، أو قال المدعى عليه: هؤلاء الشهود فسقة لا تقبل شهادتهم، وسأُقيم البينة على فسقهم، فلما أعطى القاضي مهلة ثلاثة أيام حتى يثبت -كما تقدم معنا في أدب القاضي- رجع الشهود، إذاً شهدوا وقبل أن يحكم بشهادتهم رجعوا. فإن رجعوا وقالوا: إنهم مزورون، فحينئذٍ يترتب حكمان: الأول: رد الشهادة. الثاني: تعزيرهم من القاضي، وقد اختلفت عبارة العلماء في التعزير، حتى قال بعضهم: له أن يشوه، كأن يحلق لحى الشهود، ويمشي بهم في الأسواق، ويقال: هؤلاء كذبة وشهود زور. والصحيح: أنه لا تحلق اللحية، وإنما يطاف بهم في الأسواق إذا رأى المصلحة، ويقول: هؤلاء شهود زور وكذبة؛ لأنهم كذبوا على القاضي، وهذا يفضي إلى اختلال الأحكام الشرعية، واستغلال القضاء للسوء؛ ولأنه قد تستباح الدماء، وقد تستباح الفروج، فالطواف بهم بين الناس يردع غيرهم عن هذا الفعل الذي به قوام العدل عن هذا الفعل، الذي يؤدي إلى ضياع العدل وانتهاك الحرمات، فبعض العلماء رحمهم الله يقولون: إنهم يعزرون بالطواف، والأصل يقتضي أن الأمر إلى القاضي فيعزرهم بما يرى من المصلحة. أما إذا كان رجوعهم بالخطأ، وقالوا: نحن شهدنا وتبين لنا الخطأ، فحينئذٍ لا يعزرون، لكن يسقط شهادتهم، وإذا أسقط شهادتهم تبين أنهم أناس فيهم خلل في الشهادة؛ لأنهم اعترفوا على أنفسهم أنهم أخطئوا، فمعنى ذلك: أنهم أناس لا يضبطون الشهادة، وحينئذٍ لا تقبل شهادتهم بعد ذلك. الحالة الثانية: أن يكون رجوعهم بعد الحكم بالشهادة وقبل تنفيذ الحكم، فحينئذٍ إذا شهدوا بحق مالي، وشهدوا أن فلاناً باع سيارته، وأن فلاناً باع أرضه، فإن رجوعهم عن الشهادة بعد الحكم ساقط، ولا يؤثر في الحكم؛ لأنه إذا شهد أن لفلان على فلان ألفاً، وكانت شهادتهم مزكاة معتبرة شرعاً، فحينئذٍ ثبت عندنا أن لفلان على فلان ألفاً، فإذا قالوا: كذبنا وزورنا، فقد طعنوا في أنفسهم بالفسق، وحينئذٍ جرحوا أنفسهم، فلا يقبل رجوعهم؛ لأنهم شهدوا على أنفسهم أنه لا يقبل قولهم، ونحن قد قبلنا قولهم قبل ذلك بالتعديل، فحينئذٍ لا نرجع إذا غلب على ظننا صدقهم إلى أمرٍ تبين أنهم فسقة، وأنهم لا تقبل شهادتهم، فلو شهدوا بحق لمحمد، ثم قالوا: كذبنا وزورنا، فإن قولهم: كذبنا وزورنا إنما شهدوا على أنفسهم بالفسق، ومن شهد على نفسه بالفسق فقد أسقط شهادته، فحينما يقولون: كذبنا وزورنا، والحق إنما هو لفلان وليس لفلان، فحينئذٍ سقطت شهادتهم الثانية وبقيت شهادتهم الأولى على الأصل؛ وكذلك الحكم إذا ثبت أنهم قالوا: زورنا فإنهم يعزرون. ولو قالوا: أخطأنا، والحق ليس لفلان وإنما هو لفلان، وكان هذا بعد حكم القاضي بالحق المالي، فنقول: إذا حكم القاضي بالمال وسدد، فحينئذ لا ينقض الحكم؛ لأنه ثبت بصورة شرعية معتبرة. وقولهم: أخطأنا، فهم شهدوا على أنفسهم بسقوط شهادتهم، فهناك سقطوا بالتزوير، وهنا سقطوا بخفة الضبط؛ لأن من شرط قبول الشهادة أن يكون الشاهد ضابطاً لشهادته؛ لأن الله تعالى يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، فتسقط الشهادة الثانية وتبقى الشهادة الأولى، ويثبت الحق لصاحبه، ولا يؤثر في حكم القاضي؛ لأن الأحكام القضائية لا تنقض إلا في مسائل خاصة، وهذه ليست منها، وحينئذٍ يبقى الحكم على ما هو عليه وينفذ. الحالة الثالثة: أن يكون رجوعهم بعد الحكم، وأن يكون الحكم مشتملاً على حد أو قصاص، فحينئذ يسقط الحد ويسقط القصاص؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات. فلو قالوا: زورنا وكذبنا، فإن فلاناً ما سرق، فحينئذٍ لا تقطع اليد، أو أن فلاناً ما زنى، فإنه لا يرجم؛ ولذلك سبق أن قلنا: إنه عند الرجم يؤتى بالشهود بحيث لو كانوا كذبة فقد يرجعون عن شهادتهم، فإذا قالوا: إنهم كذبوا، فحينئذ يسقط تنفيذ الحد، وإذا كان في الحد حق مالي، مثل السرقة؛ فإنه يثبت المال لصاحبه، ولكن لا يقام الحد. والخلاصة: أنهم إذا رجعوا قبل الحكم وجهاً واحداً لا ينقض، وإذا رجعوا بعد الحكم، فإن كان بعد الحكم وقبل التنفيذ مضى الحكم ونفذ، إلا أن يكون مشتملاً على حدٍ أو قود دون قصاص، فحينئذٍ لا ينفذ؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات. ولو حكم الحاكم بشهادتهم ونفذ الحكم في القتل، وجاءوا وقالوا: رجعنا عن شهادتنا، فعلى صورتين: الصورة الأولى: إما أن يقولوا: كذبنا وتعمدنا قتله، فإنهم يقتلون؛ لأنهم تسببوا في قتله، ولولا شهادتهم لما حصل قتل، وهي السببية المفضية إلى الزهوق، وقد تقدم معنا شرحها في كتاب القصاص، وحينئذٍ قال علي رضي الله عنه كما في القصة عنه: أنه شهد عنده شهود أن فلاناً سرق فقطع يده، ثم جاءوا وقالوا: أخطأنا، فقال: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما. صحيح أن الذي قطع هو الذي أمره القاضي بالقطع، وهذه السببية يسمونها: السببية المفضية للزهوق، فالسببية المؤثرة المفضية للزهوق لا شك أنها توجب القصاص، فحينئذٍ يقتص منهم إذا تعمدوا قطع الأطراف، لكن لو قالوا: أخطأنا، فحينئذٍ لا يقتص، فيسقط القصاص، ولكن يجب عليهم الضمان. قال رحمه الله: [ويلزمهم الضمان دون من زكاهم] يرد Q هل الذين زكوا الشهود يحكم بوجوب القصاص عليهم؟ إذا قالوا: تعمدنا، ونعلم أنهم فسقة وأعنَّاهم على هذا، فحينئذٍ هم شركاء، لكن لو قالوا: نحن نعلم أنهم فسقة وزكيناهم مجاملة، ولا نعلم أن هذا سيفضي إلى الزيغ، فللعلماء أوجه: فمن أهل العلم من قال: إنه يقتص منهم، ومنهم وقال: لا يقتص منهم، من الذين يرون القصاص قالوا: إذا كان المزكون علموا أنهم ليسوا بأهل الشهادة وزكوهم، فإنه يقتص منهم. والخلاصة: أن المزكي يلزمه الضمان إذا علم أن شهادته زور؛ لأنه أعانه على الزور؛ ولأنه أعانه على الإثم، وحينئذ يكون الحكم كما ذكرنا في قتل الجماعة، وأن كل سببية تفضي وتعين على الزهوق فتأخذ حكم الاشتراك.

حكم رجوع الشاهد مع اليمين وما يجب عليه

حكم رجوع الشاهد مع اليمين وما يجب عليه قال رحمه الله: [وإن حكم بشاهد ويمين ثم رجع الشاهد غرم المال كله]. قوله: (وإن حكم بشاهد ويمين)، قال بعض العلماء: إنه يجزئ؛ لأن اليمين مقام الشاهد، والشاهد الذي أخطأ عليه ضمان نصف المال. والصحيح: أن عليه ضمان المال كله؛ لأن اليمين لا تكون إلا بعد وجود الشاهد، وحينئذٍ الشاهد هو الذي تسبب في الحكم كله، وعلى هذا يجب عليه ضمان المال كله.

باب اليمين في الدعاوى

شرح زاد المستقنع - باب اليمين في الدعاوى تشرع اليمين في الدعاوى، وقد دل على مشروعيتها دليل الكتاب والسنة، وهي حجة من حجج القضاء، وتشرع في حال الإنكار، فمن أنكر عليه اليمين، ولا تشرع في العبادات والحدود؛ لأنها حقوق لله تعالى، وهناك أمور لا يجوز فيها الاستحلاف؛ كالنكاح والطلاق والرجعة والإيلاء وأصل الرق والولاء والاستيلاء والنسب والقود والقذف.

مشروعية اليمين في الدعاوى وحجيتها وأحكامها

مشروعية اليمين في الدعاوى وحجيتها وأحكامها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب اليمين في الدعاوى]. اليمين في الدعاوى حجة من حجج القضاء؛ ولذلك دلت السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين، من حديث الأشعث رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لك إلا يمينه) أي: ليس للمدعي إذا لم تكن له بينة إلا أن يحلف خصمه، فليس له إلا ذلك، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الحاكم وغيره بسندٍ صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)، وقوله: (اليمين على من أنكر) هذا أصل يستدلون به في مسألة خاصة، وهي مسألة: شهادة أهل الكتاب على وصية المسلم في السفر، وهي التي تقدمت معنا. وفي آية المائدة في قوله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [المائدة:106]، فقوله: (فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ) أقام الله عز وجل اليمين للتوثيق في القضاء والحكم، وكذلك أيضاً أقام أيمان اللعان وقد تقدمت معنا، ودلّ على اعتدادها؛ لأنها قامت مقام الشهود، وهذا يدل على أنها يمين لها تأثير في القضاء وأنه يحكم بها. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة حويصة ومحيصة ابني مسعود، مع عبد الله بن سهل وعبد الرحمن بن سهل ابني عمهما: ذلك أن عبد الله بن سهل انطلق مع محيصة بن مسعود إلى خيبر، فافترقا في بعض أماكنها، فرجع محيصة إلى المكان الذي تواعدا فيه مع عبد الله بن سهل، فوجد عبد الله بن سهل رضي الله عنه يتشحط في دمه، والشاهد من هذا: أنه دفنه ثم رجع إلى المدينة، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لما رفعوا القضية إليه: (تحلفون خمسين يميناً على رجل منهم فتستحقون دم صاحبكم)، وقد تقدم هذا معنا في القسامة، وهذا يدل على أن اليمين حجة في القضاء. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا حينما قال للأشعث: (شاهداك أو يمينه، قال: يا رسول الله! الرجل فاجر يحلف ولا يبالي، فقال صلى الله عليه وسلم: ليس لك إلا يمينه). فدل على أنها تقبل من البر والفاجر.

عدم جواز الاستحلاف في العبادات والحدود

عدم جواز الاستحلاف في العبادات والحدود قال رحمه الله: [لا يستحلف في العبادات ولا في حد من حدود الله]. أي: لا تكون اليمين في حقوق الله عز وجل، فمثلاً: لو قال شخص: فلان ما صلى، فقال: بل صليت، فاختصما للقاضي، فالقاضي يقول للمدعي: ائت ببينة أنه ما صلى، فإذا قال: ما عندي بينة، فحينئذٍ لا نقول للشخص الذي ادعي عليه أنه ما صلى: احلف اليمين، فلا نقول بحلف اليمين في هذا الحالة؛ لأن الحق لله، ولذلك بعض العلماء يعلل بعلة وهي: أن حقوق الله له، وحينئذ تعذَّر أن يحلفه صاحب الحق، وسقط التحليف في حقوق الله الخالصة، وكذلك أيضاً لو قال: ما أدى الزكاة، وقال الآخر: بل أديتها، فترافعا إلى القاضي، فلا يقال له: احلف على أنك أديتها، فلا يحلّف ولا يستقيم تحليفه قضاءً. ومن هنا: لا يمين في حقوق الله ولا في الحدود؛ لأنه إذا أقر بالحد ملك الرجوع عنه، وقد تقدم هذا معنا في الحدود، فإذا ادعي عليه الزنا، فلا يحلَّف بالله إذا أنكر، وإنما يقال للمدعي: إما أن تقيم البينة وإلا نقيم عليك الحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث ابن عباس لما قذف هلال بن أمية امرأته بـ شريك بن سحماء، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حدٌ في ظهرك)، فهذا يدل على أنه إما أن يقيم البينة أو يقام عليه حد القذف، وكأنه من حقه لو اعترف بالزنا أن يرجع، فإن المقر لو أقر بالزنا من حقه أن يرجع، كما سنبينه إن شاء الله.

مشروعية استحلاف المنكر في حقوق الآدميين

مشروعية استحلاف المنكر في حقوق الآدميين قال رحمه الله: [ويستحلف المنكر في كل حق لآدمي]. كأن يقول له: لقد بعتني سيارتك، فيقول: ما بعتك سيارتي، فارتفعا إلى القاضي، فقيل للذي يدعي البيع: ألك بينة؟ فإذا قال: ما لي بينة، فيقال: إذاً يحلف. وهناك شروط لجواز الحلف: أولاً: أن تكون الدعوى في غير حق الله، كما ذكر المصنف رحمه الله في الحدود. ثانياً: أن ينكر الخصم. ثالثاً: عدم وجود البينة؛ لأنه إذا وجدت البينة فلا يمين. رابعاً: أن يطلب الخصم تحليف خصمه، أي: لابد أن يطلب الخصم بتحليف خصمه، ومما ذكر عن بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة: أن أحدهم عُين في القضاء، فسمع رفقاء له بذلك، فاختصم إليه اثنان من المبرزين عند الإمام في الفقه والعلم، فقال أحدهما: لي على فلان حق، وذكر حقه، فقال للمدعى عليه: هل له عليك شيء؟ قال: لا، فقال للمدعي: ألك بينة؟ قال: ليس لي بينة، فقال للمدعى عليه: إذاً احلف. وهنا وجه تخطئته. فقال المدعي: ومن قال للقاضي أن يطلب من الخصم أن يحلف وأنا ما طلبت منك أن تحلِّف خصمي؟ ثم قالا له: إنما أردنا أن نعلمك أن هناك علماً وفقهاً لعلم القضاء؛ لأنه ليس كل واحد تعلم يستطيع أنه يقضي، وليس كل إنسان تعلم يستطيع أن يعلم غيره، فهنا ثَقُلَ العلمُ، فالشاهد من هذا: أنه لابد أن يطلب الخصم تحليف خصمه؛ لأنه حق له.

أمور لا يشرع فيها الاستحلاف

أمور لا يشرع فيها الاستحلاف قال رحمه الله: [إلا النكاح والطلاق والرجعة والإيلاء وأصل الرق والولاء والاستيلاد والنسب والقود والقذف]. قوله: (إلا النكاح) أي: أنه لا يحلِّف فيه، فلو قال: نكحتها، وقالت: إنه ليس بزوجي، أو قال: تزوجتك، وقالت: ما تزوجتك، فإنه لا تطالب المرأة باليمين؛ لأن الأصل عدم النكاح. قوله: (والطلاق). أي: لو قالت: طلقتني، وقال: ما طلقتك، وحلف على نفي الطلاق، أو ادعى أنه طلقها في أول السنة، فليس لها النفقة، فقالت: بل طلقتني في جمادى فلي نفقة الستة الأشهر، فحينئذ إثبات الطلاق ونفيه من حيث أصل وجود النكاح، وقالوا: إنه لا يحلف على تطليقه لها عند نفي التأخير، وإنما تطالب المرأة بالبينة على الأصل؛ لأنه إذا قال: طلقت في محرم، فإن له ذلك، والأصل أن الزوج مطلق؛ لأنه الذي يملك العصمة، فقالوا في هذه الحالة: لا يطالب باليمين على النفي والإنكار. وعلى هذا: فإن أي أصل اعتضد بأصل آخر فإنه يكتفى به وتسقط اليمين، هذا على مذهب الحنابلة، ومن أهل العلم من قال بالعموم في الحقوق كلها، وأنه يطالب الخصم النافي بالبينة، وهذا يشهد له عموم النص. وقوله: (والرجعة). أي: لو أنه طلقها ثم ادعى أنه راجعها، فقالت: ما راجعتني، فقال: بل راجعتك وأنت زوجة لي الآن، فقالت: ما راجعتني، فنقول للزوج: هل عندك بينة على أنك راجعت المرأة قبل خروجها من عدتها؟ فإن قال: ما عندي شهود، فحينئذٍ لا نقول للمرأة: احلفي أنه ما راجعك، أي: احلفي على نفي الرجعة؛ لأنه من المعلوم أن نفي الرجعة نفي للنكاح، إذاً نفي الطلاق هذا يطالب فيه بالبينة؛ لأن الأصل معها، والأصل أنها أجنبية ما دام أنه فرط في الإشهاد على الرجعة؛ لأن الله أمره أن يشهد، قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]. وقوله: (والإيلاء). كذلك لو قالت: أَحْلِف أن لي أربعةَ أشهر ما مسني، وقال الزوج: أنا ما آليت، فالذي نفى الإيلاء -وهو الزوج- لا يطالب باليمين، وإنما نقول للمرأة: ائتي بالبينة أنه آلى منك وأنه حلف يمين الإيلاء، وقد تقدم معنا الإيلاء. وقوله: (وأصل الرق) أي: إذا ادعى أن فلاناً رقيق له، فقال: بل أنا حر، فإننا نقول للذي ادعى الرق: هات بينتك على أن هذا رقيق أو مملوك لك، فإن قال: ليس عندي بينة، فحينئذٍ لا نقول: إن هذا الشخص رقيق؛ لأن الأصل أنه حر، والأصل أنه غير رقيق حتى يدل الدليل على رقه، ولا نطالبه باليمين على نفي الرق، هذا الذي انتزعه الحنابلة من معارضة الأصل. وقوله: (والولاء). لو قال: إن فلاناً مولى لي، فقال: لست بمولى لك، فإنه يأخذ نفس الحكم على الذي ذكرنا في الرقيق؛ لأن الأصل عدم هذه الأشياء. وقوله: (والاستيلاد) أي: الاستيلاد من الأَمَةِ، كأن يقول: لي منها ولد، فقالت: ليس لك مني ولد، والعكس، فإنه لا يطالب النافي باليمين؛ لأن الأصل يشهد بصحة قوله؛ إذ أن الأصل عدم وجود الولد، وعدم وجود النسل منها حتى يثبت. وقوله: (النسب) قالوا: النسب لا يحلَّف فيه، وهذا فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، ومن أهل العلم من قال بالتحليف، فإذا قيل له: أنتسب لفلان؟ فقال: لست منه، ولست بولده، فإنه لا يطالب بالدليل؛ لأن الأصل أن يطالب المدعي بالبينة، والذي نفى فهو بنسبه المدعَى صحيح أنه فلان بن فلان، والناس مؤتمنون على أنسابهم، فإذا جاء أحد يدعي أنه ليس ابن فلان، إنما هو ابن فلان، فهذا خلاف الأصل، فهو يذكر أمثلة على ما قال في الأصل، إذا خالف قول المدعي الأصل فإنه في هذه الحالة لا يحلّف، بناءً على ما يقرره الحنابلة رحمهم الله في المسألة التي تقدمت معنا: أن المدعي من إذا سكت لم يترك، والمدعى عليه من إذا سكت ترك. وقوله: (والقود) كذلك أيضاً الأصل حرمة الدماء وعصمتها، فإنه لو قال: إن فلاناً هو الذي قطع يد فلان، فقال: ما قطعتها، أو قال: أنت الذي قطعت يد فلان، وأنت الذي قطعت رجله، وأنت الذي اعتديت على إصبع فلان عمداً عدواناً، فنقول له: ائت ببينة تثبت قولك، ولا يمين لك على خصمك؛ لأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. وقوله: (والقذف) قالوا: إن مثل هذا لا يثبت فيه اليمين، والقذف فيه إشكال؛ لأن القذف من الحقوق المشتركة، لكن ارتفع الإشكال في القذف لأنه الأصل، فلو قذف شخصٌ شخصاً فقال له: أنت زان، فقال: ما زنيت، فترافعا إلى القاضي، فإن القاضي يقول للذي يدعي الزنا: إما أن تثبت الزنا وإما أن يقام عليك حد القذف، إذا طلبه صاحبه، فإذا قذف فإنه في هذه الحالة لا يطالب الخصم بيمين الإنكار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البينة أو حدٌ في ظهرك)، وما وجه اليمين على المدعَى عليه.

بيان صفة اليمين المشروعة

بيان صفة اليمين المشروعة قال رحمه الله: [واليمين المشروعة اليمين بالله تعالى]. بعد أن بين محل اليمين شرع في بيان صفة اليمين، فقال: (اليمين المشروعة اليمين بالله عز وجل) وهو أن يقول: والله ما فعلت، والله ما بعت السيارة، والله ليس له دين عندي، ونحو ذلك على النفي والإثبات.

حكم تغليظ اليمين وأنواعه

حكم تغليظ اليمين وأنواعه قال رحمه الله: [ولا تغلظ إلا فيما له خطر]. أي: ولا تغلظ اليمين، وتغليظ اليمين بالله مثل أن يقول: والله الذي لا إله إلا هو، فهذا من تغليظ اليمين. وتغلظ بالمكان؛ كأن يحلف بين الركن والمقام، أو بين المقام والباب، كما اختار بعض العلماء، وتغلظ بالزمان: كأن تكون بعد صلاة العصر، كما في آية المائدة في الشهادة على الوصية في السفر. والصحيح: أن التغليظ فيه مذهبان مشهوران للعلماء: فمنهم من قال بشرعية التغليظ، وأن الأمر مرجوع إلى القاضي، فيغلظ متى شاء. ومنهم من قال: لا يغلظ إلا في الوارد، إذا ورد نفس التغليظ يغلظ وإلا فلا، وهذا هو الصحيح، وهو مذهب الظاهرية: أنه لا يغلظ إلا في الوارد، وأنه لا يضيق على الخصوم، بل نقول بالسنة التي وردت: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)، فنحلفه اليمين وكفى باليمين تعظيماً، فإنه: (ما حلف أحدٌ يمين القضاء كاذباً فاجراً إلا لقي الله وهو عليه غضبان)، والعياذ بالله! فعلى هذا لا نقول بالتغليظ إلا بما ورد فيه النص. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب الإقرار

شرح زاد المستقنع - كتاب الإقرار كتاب الإقرار من كتب الفقه المهمة، خاصة لمن يمارسون القضاء، وتأتي أهمية هذا الباب من حيث اعتباره من أقوى حجج القضاء؛ لأنه شهادة على النفس، لكن هذه الشهادة لها شروط لابد أن يتصف بها المقر حتى يلزم بها، ولها قوادح تسقط بها إن وجدت.

الإقرار تعريفه ومشروعيته

الإقرار تعريفه ومشروعيته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الإقرار]:

تعريف الإقرار

تعريف الإقرار الإقرار: مأخوذ من قَرَّ الشيء إذا ثبت، وفي الاصطلاح: الاعتراف بالحق، ويكون لفظاً وكتابة وإشارة مفهمة؛ فافترق الإقرار هنا عن الشهادة، والسبب في ذلك: أن الإشارة المفهمة شهادة من الإنسان على نفسه، ولكن الشهادة شهادة على الغير، ويسوغ في شهادة الإنسان على نفسه ما لا يسوغ في شهادته على غيره.

مشروعية الإقرار

مشروعية الإقرار أجمع العلماء على اعتبار الإقرار لبثبوت السنة باعتبار الإقرار، وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم إقرار ماعز والمرأة على نفسيهما بالزنا، وهذا يدل على حجية الإقرار وثبوته واستيفاء الشروط، والإجماع المنعقد على أنه حجة شرعية. قال بعض العلماء: أقوى حجج القضاء الإقرار؛ لأنه ليس هناك إنسان عاقل تتوافر فيه شروط الإقرار لقبول إقراره ويشهد على نفسه بالضرر إلا إذا كان صادقاً، ومن هنا فهو أقوى الحجج، ومن هنا أخذ الله الإقرار على أنبيائه وعباده وخلقه، وهذا يدل على عظم حجية الإقرار.

شروط من يصح منه الإقرار

شروط من يصح منه الإقرار قال رحمه الله: [يصح من مكلف] يصح الإقرار من كل مكلف بالغ عاقل، فلا يصح من مجنون، ولا سكران. أما الدليل على سقوطه عن المجنون والسكران: فلأن كل منهما لا يعلم ما يقول، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]؛ فدل على أن السكران لا يعلم ما يقول، فلربما أقرّ بأشياء لا حقيقة لها، سواء كان سكره على وجه يعذر به شرعاً، كمن أعطي المخدر لعملية جراحية وقبل الإفاقة أقرّ بأشياء، فإنه لا يُقبل إقراره، وذلك للشبهة، ولا يوثق بقوله. أو كان سكره تعمداً فإنه لا يؤاخذ بإقراره على الصحيح من أقوال العلماء. ودليلنا على سقوط إقرار السكران: ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث بريدة بن حصيب رضي الله عنه وأرضاه: أن ماعز بن مالك نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فقال: (إني أصبت حداً فطهرني، فقال صلى الله عليه وسلم: أبه جنون؟ -يسأل جماعته وقرابته ممن كان قد أسلم- فقالوا: لا) ليس به جنون ونعرفه عاقلاً. وهذا يدل على أن المجنون لا يقبل إقراره، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (أشربت خمراً؟ -لأنه قال: إني أصبت حداً فطهرني- فقام رجل فاستنكهه) يعني: شم رائحة فمه، فلم يجد رائحة خمر. وهذا يدل على أنه لا يقبل الإقرار من سكران. ومن الأدلة أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط مقالة الردة عنه كما في الصحيحين في قصة حمزة رضي الله عنه وأرضاه، وهذا يدل على أنه لا عبرة بإقرار المجنون والسكران. أيضاً: لا يُقبل إقرار الصبي؛ لأنه لا يوثق بخبره، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: -وذكر منهم- والصبي حتى يحتلم) فالصبي لا يوثق بقوله، فلا عقل عنده ولا حلم يمنعه ويردعه. قال رحمه الله: [مختار]. أي: غير مكره، فالمكره لا يُقبل إقراره، وقد بينا أدلة سقوط مؤاخذة الإكراه في أكثر مسائل الأموال والحدود، فإذا أكره فإنه لا يؤاخذ على ما يقول؛ لأن الله أسقط أحكام الردة -وهي قول من أقوال المكره بالإكراه- فدل على أن قول المكره لا يُعتد به، ولذلك لا ينفذ طلاقه ولا عتقه ولا إقراره، وقد أسقط الله عز وجل قول المكره في الردة وهي أعظم شيء؛ لأن المكره قلبه مطمئن بالإيمان، وهذا له ضابط، أولاً: أن تستوفى شروط الإكراه وقد قدمناها في مباحث الإكراه على الطلاق. ثانياً: أن يتقيد بما أُكره عليه، فإذا أُكره على أن يقر بسيارة، فأقر بسيارة ومزرعة، أُخذ بإقرار المزرعة، ولم يؤخذ بإقرار السيارة؛ لأنه يتقيد بحدود ما أُكره عليه، فما زاد فإنه يؤاخذ به في إقراره. قال رحمه الله: [غير محجور عليه] فلا يصح إقرار السفيه بالمال؛ لأن أصل الحجر عليه هو منعه من التصرف في أمواله، وهذا نص قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]، فأسقط تصرفاتهم المالية؛ فإذا جئنا نصحح إقرار السفيه بالمال فإنه حينئذٍ ربما يقول لفلان عليّ عشرة آلاف، ويضيع ماله؛ لأنه سفيه، ومن هنا حُجر على السفهاء في إقراراتهم المالية أو ما يئول إلى المال، أما لو كان إقراره بحد أو قطع فيصح إقراره؛ لأن المراد هنا إسقاط إقراره في الأموال وما يئول للمال، وهو الذي حجر عليه فيه، ولو قيده فقال: (غير محجور عليه فيما أقر به) لكان أدق؛ فإن هذا الذي عليه العمل عند العلماء، أما إقرار المحجور عليه في غير ما حجر عليه؛ فإنه عاقل ومكلف ومستوفٍ للشروط فيؤاخذ بإقراره، فلو أقر أنه قتل عمداً وعدواناً فإنه يقتص منه، وإقراره صحيح ما دام أنه مستوفٍ للشروط. قال رحمه الله: [ولا يصح من مكره، وإن أكره على وزن مال فباع ملكه لذلك صح]. ذكرنا أنه يتقيد الإكراه بما طلب منه، فالشخص يزن مثلاً الدراهم والدنانير ثم يصرفها ويبيعها، فأُكره على أن يزن فوزن ثم باع، فالبيع صحيح؛ لأن الذي أكره عليه هو الوزن لا البيع، فبيعه لم يصادف محلاً للإسقاط، والأصل إعماله، فيعمل العقد ويبقى على صحته. إذاً: شرط صحة تأثير الإكراه في الإقرار أن لا يتجاوز المحل الذي أُكره عليه أو القدر الذي طلب منه أن يقر به.

قوادح الإقرار

قوادح الإقرار قال رحمه الله: [ومن أقر في مرضه بشيء فكإقراره في صحته إلا في إقراره بالمال لوارثه فلا يُقبل]

صورة قدح المرض في الإقرار

صورة قدح المرض في الإقرار المرض نوعان: مرض مخوف، وغير مخوف. فأما المرض غير المخوف فكالزكام، فلو قال شخص مزكوم: فلان له عليّ ألف، فإن إقراره صحيح. وأما المرض المخوف، فقد تقدم تعريف ضابطه، فهذا المرض يؤثر في الإقرار إذا كان لوارث بمال، فحينئذٍ شرع المصنف رحمه الله في قوادح الإقرار في الصور الخاصة وهو: أن يكون في الأموال أو ما يئول إلى المال على الضابط الذي ذكرناه، أما لو أقر بغير ذلك كأنه يلزمه، في هذه الحالة إذا كان مريضاً مرضاً مخوفاً فعلى ضربين: الضرب الأول: أن يكون مرضه مؤثراً في عقله، كما هو الحال في الجلطات إذا أصيب بجلطة قبل موته، وكانت الجلطة مؤثرة على دماغه، فأثرت في تركيزه وحفظه، فأقر وقال: فلان له عليّ ألف، فإنه ربما كان سدد الألف فنسي بسبب الجلطة فإذا قال الأطباء: إن هذا النوع من المرض أو الأدوية التي يعطاها تؤثر في ذاكرته وضبطه فإقراره ساقط؛ لأن التهمة موجودة. الضرب الثاني: إذا كان مرضه لا يؤثر في أهليته بالإقرار وضبطه، فننظر حينئذٍ إما أن يقر في مرض الموت لوارث، وإما أن يقر لغير وارث -وهو الأجنبي- فإذا أقر لغير وارث أن في ذمته مائة ألف حكمنا بصحة الإقرار واعتباره؛ لأن الإنسان ربما كان ظالماً آكلاً لأموال الناس جاحداً لها، أو متساهلاً في رد حقوق الناس حتى إذا مرض مرض الموت أدركته رقة الآخرة، فانكسر وتاب، فيمكَّن من أن يخلص نفسه ويرد الحقوق إلى أهلها والمظالم إلى أصحابها. أما إذا كان قد أقر لوارث ففيه معارضة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصية للوارث، وحينئذ تحصل الشبهة يقولون: هذه تهمة في الإقرار، ويُشترط في صحة الإقرار أن لا يكون متهماً، فهذا وجه إدخال المصنف رحمه الله لهذه المسألة في أول كتاب الإقرار في الشروط؛ لأن من شروط صحة الإقرار أن لا يكون متهماً، فإذا كان في مرض الموت وأقر لوارث اتهم، فإنه ربما أقر له محاباة له، أو لأنه ابن بار به. يتخلص من شروط الوصية ويعطيه عن سبيل الإقرار، وهذا من باب التحفظ والصيانة، فحينئذٍ لا يقال ببطلان الإقرار؛ لأن الإقرار صحيح من حيث الأصل، لكن التهمة تمنع إعمال الإقرار إلا بإذن الورثة، فإذا رضي الورثة وأجازوه صحت الوصية، -وقد تقدم- وأما إذا قال الورثة: لا. فحينئذٍ نقول: الإقرار موقوف على الورثة، ولا يحكم ببطلانه. لكن هذا يسمونه الإقرار الموقوف ويحكم بصحته في الأصل ثم نقول لبقية الورثة: هل تجيزونه أو لا؟ فإن أجازوه صح ونفذ وإلا فلا.

صورة قدح الزوجية في الإقرار

صورة قدح الزوجية في الإقرار قال رحمه الله: [وإن أقر لامرأته بالصداق فلها مهر بالزوجية، لا بإقراره]. إذا أقر بأن للمرأة عنده صداق، فمعنى ذلك: أنه أقر أنها زوجة له؛ لأنه لا صداق إلا بنكاح، ولا نكاح يوجب الصداق إلا إذا كان نكاحاً صحيحاً شرعياً، وحينئذٍ تثبت الزوجية بإقراره، ويكون لها مهر المثل. قال رحمه الله: [ولو أقر أنه كان أبانها في صحته لم يسقط إرثها] لو أن مريضاً مرض الموت ادعى أنه طلق امرأته طلاقاً بائناً في حال صحته، فحينئذٍ يتهم، وقد سبق بيان هذا في الطلاق، حتى إن بعض الصحابة يقول: من طلق زوجته في مرض الوفاة نورثها منه، حتى لو خرجت من عدتها، بل بعض السلف يورثها ولو تزوجت رجلاً آخر، قالوا: لأنه لما أخرها إلى مرض الوفاة وطلقها دل على أنه يريد حرمانها من الإرث، وهذا ما يسميه العلماء: المعاملة بنقيض القصد.

صورة قدح الإرث في الإقرار

صورة قدح الإرث في الإقرار قال رحمه الله: [وإن أقر لوارث؛ فصار عند الموت أجنبياً لم يلزم إقراره؛ لأنه باطل] إن أقر لوارث فقال: فلان ابن عمي له عندي ألف ريال، ولم يكن حين أقر له عنده ولد، ثم شاء الله عز وجل بعد موته أن ولدت المرأة فأنجبت ذكراً، فابن العم عصبة يحجب بالابن؛ لأن مرتبة البنوة تحرم ابن العم، فعندما أقر له واعترف كان وارثاً وهذا يوجب بطلان الإقرار له إذا لم يجز الورثة -كما ذكرنا-، ثم كونه صار أجنبياً بعد ذلك لم يصادف محلاً، أي: أن بطلان الإقرار لا يعاد مرة ثانية، فيحكم بصحته بعد إلغائه؛ لأن الإبطال إلغاء، ولا يمكننا أن نعمل بعد الإلغاء، فإذا ألغي الإقرار وسقط لم يؤثر زوال المانع. وفي الشريعة موانع إذا زالت رُجع إلى الأصل، مثلاً: الفاسق الذي لا تقبل شهادته، إذا صار عدلاً قُبلت شهادته، فالفسق مانع مؤقت، فما دام أنه موجود يمنع، لكن إذا زال رجع الحكم للأصل وقبلت الشهادة. لكن هنا كونه أقر فسقط الإقرار في حال الابتداء لا يوجب أن نقول: الآن أصبح أجنبياً فنصحح الإقرار؛ لأن الإقرار بطل من أصله. ومن أهل العلم طبعاً من فصل في هذه المسألة بتفصيل أدق؛ لأنه في حال الإقرار إذا أقر وقلنا: إن الإقرار موقوف على إجازة الورثة. فهذا معناه أنه صحيح، وإذا كان صحيحاً في الأصل فإنه إذا زال الموجب للمنع رجع إلى الأصل من القبول بالإقرار. قال رحمه الله: [وإن أقر لغير وارث أو أعطاه صح، وإن صار عند الموت وارثاً] وإن أقر لغير وارث صح الإقرار، وحينئذٍ إذا صح الإقرار ثبت الحق لصاحبه، مثلاً: أقر لابن العم وعنده ابن ذكر، فابن العم لا يرث مع وجود الفرع الذكر الوارث، ثم شاء الله عند الإرث أن توفي الابن قبل وفاة الأب؛ فرجع ابن العم وارثاً، وهو في الأصل غير وارث، قالوا: لأنه بمجرد إنشاء الإقرار ثبت الحق لصاحبه واعتد به، وزوال المانع بعد ثبوت الإقرار لا يؤثر. وهذا صحيح. قال رحمه الله: [وإن أقرت امرأة على نفسها بنكاح ولم يدعه اثنان قُبل]. أي: إن أقرت امرأة على نفسها بأنها زوجة لفلان، (ولم يدعه اثنان) أي: لم توجد خصومة أو منازع قبل إقرارها.

صور لما يثبت بالإقرار

صور لما يثبت بالإقرار قال رحمه الله: [وإن أقر وليها المجبر بالنكاح، أو الذي أذنت له صح]. وهو الولي الذي ينزل منزلتها، إما بالولاية كالأب الذي له حق ولاية الإجبار على ابنته البكر، فأجبرها وقال: أقر أن فلاناً هو زوج ابنتي، وأن فلانة ابنتي زوجة لفلان، فإنه يؤاخذ بهذا الإقرار ويعتد به، وهكذا من كان قائماً مقامها. قال رحمه الله: [وإن أقر بنسب صغير أو مجنون مجهول النسب أنه ابنه ثبت نسبه] فيؤاخذ به ويرث منه إذا كان حياً، ويرثه إذا كان ميتاً؛ لأن هذا المحل قابل للإقرار بلا تهمة، فإن قال: فلان ابني وليس هناك من يدعيه، وهو صغير جاهل لا يعرف نسبه فنعم، أما إذا كان كبيراً فإنه لا يثبت إذا نفى ولم يصدق، لأن هذا من حقه. فإذا أقر بنسب ابن صغير أو مجنون أو نحو ذلك، وليس هناك أحد ينازعه في هذا الإقرار قُبل منه هذا الإقرار، وإذا قُبل ثبت به ما يثبت بالنسب من الإرث والمحرمية وغير ذلك من الأحكام المترتبة على هذا الإقرار. قال رحمه الله: [فإن كان ميتاً ورثه] إن كان هذا الصغير ميتاً ورثه الأب الذي ادعى نسبه، لأنه في هذه الحالة له حق الإرث، وهذا الآن قليل، خاصة مع وجود الوسائل من توثيق الولادة وغيره، ولكن إن حصل في لقيط أو نحو ذلك، فقال: هذا اللقيط ابني، ثبت إقراره، وينسب إليه، ويعامل معاملة الولد له إذا كان هذا اللقيط صغيراً أو مجنوناً، أما إذا كان كبيراً فالحكم واضح في مثل هذا. قال رحمه الله: [وإذا ادعى على شخص بشيء فصدقه صح]. إذا ادعى شخص عليه بمال، فقال: لي عليك ألف ريال، فقال: نعم، فحينئذ يؤاخذ بإقراره؛ لأن السؤال معاد في الجواب، أي: نعم لك علي ألف، ولو قال: أنا قصدت نعم لشيء آخر، نقول: لا يُقبل؛ لأن نعم جاءت مركبة على السؤال، والسؤال هذا لو سأله القاضي: له عليك ألف، فقال: نعم؛ فإنه يؤاخذ ويعتبر إقراراً. إذا ادعى عليه بأي شيء -من حيث الأصل- فقال: نعم، هذا حصل ووقع أو قال: نعم أنا ضربته أنا شتمته أنا كسرت بابه أنا كسرت سيارته. فحينئذٍ يؤاخذ بإقراره متى كان مستوفياً للشروط، فإذا ادعى عليه بلا شيء، فلا شيء له. قيل: خاصم رجل رجلاً عند قاضي، فقال: ما خصومتكما؟ قال: سله. فقال: هل له عليك شيء؟ قال: لا. ما له عندي شيء، قال: هذا (اللا شيء) أنا أريده منه، يعني الخصم يقول: ما دام أنه ما عنده شيء أنا أريد هذا الذي يدعي عليه، ومثل هؤلاء ممن بلغ عقله إلى هذا المستوى كيف تجيبه؟ تقول له: ما لك شيء، يقول: أريد هذا اللا شيء، قال: أنت ذو عقل، فأجبني إذا سألتك، أترى في يدي شيئاً؟ ثم فتحها، قال: ليس فيها شيء، قال: إذاً خذ من هذا ألا شيء، وقد وهبته لك في حق صاحبك، إذاً: لابد وأن يكون المدعى شيئاً، وهذا الشيء قد يكون في الحقوق المالية، وقد يكون في الحقوق الشخصية، فإذا ادعى عليه شيئاً فإنه يؤاخذ بإقراره.

ما يسقط به الإقرار

ما يسقط به الإقرار قال رحمه الله: [فصل: إذا وصل بإقراره ما يسقطه، مثل أن يقول له: عليّ ألف لا تلزمني، ونحوه؛ لزمه الألف] هذه مسألة الوصل، وهي تابعة لشروط الإقرار، وهي عدم رجوع المقر عن إقراره، وعدم إبطاله من حيث الأصل؛ لأن الرجوع يؤثر في مسائل معينة، ولا يؤثر في الحقوق المالية وحقوق الآدميين، لكنه لو رجع عن حق من حقوق الله عز وجل فإنه يؤثر، والأصل في ذلك قصة ماعز، وقد تقدمت معنا في باب الزنا. فلو وصل بإقراره ما يبطله، فحينئذٍ يكون هذا الإبطال نوعاً من الرجوع، كأنه أقر بشيء ثم رجع عنه، فهذه المسألة يبحثها العلماء هنا، وهي في الحقيقة تابعة لمسائل الرجوع، فقال رحمه الله: [إذا وصل بإقراره ما يسقطه، مثل أن يقول: له عليّ ألف لا تلزمني ونحوه] فقوله: (له عليّ ألف) هذا يثبت به الحق، وقوله: (لا تلزمني) يسقط به الحق؛ فوصل بإقراره ما يسقطه. وهذا نوع من الرجوع ونوع من الإبطال لا يعتد به ولا يُقبل، فنقول له: لما قلت: (لك عليّ ألف) ثبتت الألف لصاحبها، وقولك: (لا تلزمني) رجوع عن حق مالي، والرجوع في الإقرار عن الحقوق المالية وحقوق الآدميين لا يؤثر؛ لأنه قد ثبت بإقراره واعترافه في الحق، وحينئذٍ لا نعدل عن هذا إلا بيقين أو غالب ظن مثله، فإذا قال: ليس له عليّ شيء؛ فإنه يتهم بأنه يريد أن يسقط عن نفسه التبعات، فلا يُقبل منه قوله: لا تلزمني، فتثبت الألف. قال رحمه الله: [وإن قال: كان له عليّ وقضيته. فقوله بيمينه] هذا يسميه العلماء قبول الإقرار كلاً دون قبوله للتجزئة، وهذا مذهب بعض العلماء. فإذا قال: له عليّ ألف وقضيته، قالوا: في هذه الحالة قد جمع في إقراره بين أصلين لا يمكن إسقاطهما؛ لأنهما جاءا في إقرار واحد، فلا يمكن أن نقول: نقبل إقراره ولا نقبل قضاؤه، ومن هنا قالوا: مع يمينه؛ لأنها يمين تهمة، ويقبل منه ذلك. قال رحمه الله: [ما لم تكن بينة] ما لم تكن بينة تثبت أنه قد دينه أو أعطاه، بمعنى: أن عندنا أصلين: إقراره بالألف وقضاؤه لها، فأنت إذا فصلت في هذه القضية جاءك المقر وأقر بهما معاً، حينئذ تقول: إما أن أقبل الإقرار كلاً وإما أن نسقطه كلاً، فتقول: القول قوله بيمينه، فقبلت إقراره وأعطيته اليمين حتى يتخلص من الحق، وإما أن نقول: أن يثبت المدعي الأصل الأول، فيقول: له عليّ ألف، وقامت البينة على الألف، فحينئذ لا يقبل قوله: وقضيته، فتقبل جزء الإقرار بإثبات الألف أو يقيم بينة على السداد. قال رحمه الله: [أو يعترف بسبب الحق] كأن يقول: من بيع من هبة ونحو ذلك فيسنده إلى السبب. قال رحمه الله: [وإن قال: له عليّ مائة، ثم سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه، ثم قال: زيوفاً أو مؤجلة؛ لزمه مائة جيدة حالة]. هناك شيء يسمونه الإطلاق وشيء يسمونه التقييد، فالمطلق في عرف يتقيد بهذا العرف، فإذا قال: له عليّ مائة، فالعرف عندنا أنها الريال السعودي، فنقول له: ادفع مائة ريال، فلو أنه قال: له علي مائة. وسكت، ثم ذكر عملة منحطة قيمتها لا تساوي الريال فإننا نلزمه بالأغلى؛ لأنه المنصرف عرفاً وهو الأصل، فكونه سكت سكوتاً يمكنه أن يصف ولم يصف ثبت به الأول، وكان بإمكانه أن يستدرك، لكنه لم يستدرك لنفسه، ويثبت كون المائة جيدة صحيحة غير مزيفة، وكون العملة أعلى، ولو كان هناك عملة في البلد وعلمت أن غيرها أعلى، فالمعروف أنه عند الإطلاق تنصرف إلى الجيدة الصحاح فلا يقبل قوله: مكسرة؛ لأن قوله مكسرة يقع هروباً مما أقر به، فكما أن قوله: لا تلزمني، يسقط كل المقر به، فهنا يسقط جزء المقر به، لكنه إسقاط بنوع من التلاعب والتحايل، ولو فتح هذا الباب سقطت حقوق الناس. ومن أهل العلم من قال: إنه يقبل منه، حتى ولو مضى وقت، إذا سأل وبين. وهذا مبني ومقيس على مسألة استثناء البعض من الكل. قال رحمه الله: [وإن أقر بدين مؤجل فأنكر المقر له الأجل؛ فقول المقر مع يمينه] مثاله: أقر محمد لعبد الله بألف، قال: ولكنها دين مؤجل، فقال المقر له: لا. بل إني أعطيته الألف وديعة آخذها منه حينما أريد، فحينئذٍ يلزمه الدفع فوراً؛ لأن الأصل في الحقوق أنها تدفع فوراً، وبناء على ذلك نقول: إقراره بالألف أو بالحق يوجب عليه دفعه لصاحبه، ما لم يثبت ما خالف الأصل وهو التأجيل. وهذا راجع إلى الأصل وما خالف الأصل، فالمطلق يقيد به، فعندنا الذهب المغشوش والذهب الخالص، والصحاح والمزيفة والمكسرة، والصحاح والمكسرة والزيوف والخالصة والعملة الغالية، كلها تنصرف إلى المعروف عرفاً حتى يثبت خلافها؛ لأنها الأصل. قال رحمه الله: [وإن أقر أنه وهب أو رهن وأقبض، أو أقر بقبض ثمن أو غيره، ثم أنكر القبض ولم يجحد الإقرار، وسأل إحلاف خصمه؛ فله ذلك] هذه المسألة قد تشكل على البعض وصورتها: أن كون شخصاً يقول: وهبت فلاناً وأقبضته، فحينما يعترف أنه وهب فلاناً وأقبضه معناه أنه يعترف أنه ملّكه؛ لأن الهبة تملك بالقبض -وقد بينا هذا في باب الهبة- إذاً ما الذي يجعل المقر له ينكر أنه قبض؟ ما الذي يجعل المقر يعدل عن الإقباض؟ هذا يتأتى في مسائل الخصومات إذا حصل ضرر من الشيء الموهوب، فمثلاً: أعطاه عمارة هبة ثم سقطت العمارة على أربعة أشخاص وقتلتهم، فالدية لأربعة أشخاص أعظم من قيمة العمارة، فحينئذ إذا أثبت أنه وهبه وأقبضه. فهذا من مصلحة المقر، والمقر له من مصلحته أن يقول: وهب ولكن ما أقبضني، وحينئذ يرد الإشكال: هل قبض أو لم يقبض؟ وانتقال اليد موقوف على القبض؛ لأن الهبة بالإجماع تثبت بالقبض لقصة أبي بكر رضي الله عنه مع ابنته عائشة: (إني كنت قد نحلتك ثلاثمائة وسقاً جاداً من نخل نخلي بالغابة، فلو أنك احتجتيه وقبضتيه لكان ملكاً لك، أما إنك لم تفعلي ذلك فأنت اليوم وإخوتك فيه سواء) وهذا يدل على اشتراط القبول في الهبة، فحينئذ إذا ادعى أنه أقبضه، وقال الموهوب له: ما أقبضه، فإنه أول شيء يقر أنه وهبه، ثم يقر أنه أقبضه، فالمقر له يتهرب من قضية الإقباض، فإذا قال: ما أقبضني، يقول: أنا أسأل القاضي أن يحلفه أني ما أقبضته؛ كان له ذلك المراد، ولذلك بعض الشراح يقول: كيف يقر الخصم أنه أعطاه ثم نقول له: يحلف؟! ولا يتأتى إلا في مسائل فيها الخصومة والنزاع التي يخشى الإنسان فيها من بقاء الملكية واليد، خاصة إذا حدث الضرر من العين ونحو ذلك. قال رحمه الله: [وإن باع شيئاً أو وهبه أو أعتقه، ثم أقر]. كإقراره في الرقيق والعبيد، كأن يجني عبداً جناية، فمن المصلحة أن لا يكون العبد في ملكه، وحينئذ يرد النزاع في الإقباض وعدمه؛ لأن الملكية تنتقل بالقبض. قال رحمه الله: [وإن باع شيئاً أو وهبه أو أعتقه، ثم أقر أن ذلك كان لغيره لم يقبل قوله، ولم ينفسخ البيع ولا غيره ولزمته غرامته] الصورة الأولى: إذا قال له: بعتك هذا الكتاب، فأخذ الكتاب بعشرة، ثم بعد البيع ادعى البائع أن الكتاب ليس له، فحينئذ عقد البيع ثابت على وجه لا إشكال فيه، وهو عقد شرعي أمرنا الله بالوفاء به فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فإذا جاء البائع يدعي أنه ملك لغيره، ففي هذه الحالة الأصل أن هذا الكتاب انتقل إلى المشتري، فإقراره بعد البيع لم يصادف شيئاً يملكه، فقد تم عقد شرعي وهو البيع ثم جاء إقرار لم يصادف محلاً، فهو يقر بشيء لم يعد له عليه يد؛ لأن البيع قد تم وانتهى، فمن هنا سقط إقراره بعد ثبوت البيع، لكنه بهذا الإقرار قد أقر أنه تصرف في مال الغير، فاشتمل إقراره على أمرين: الأول: أنه أراد أن يسقط البيع، والقاعدة الشرعية تقول: الإعمال أولى من الإهمال، الأصل إعمال العقود لا إهمالها ولا إلغاؤها؛ فنبقي البيع سارياً في إعماله، فتثبت به الملكية، ثم جاء إقراره بهذا المال للغير أشبه بالشهادة، فهو ليس إقراراً يوجب ثبوته؛ لأنه لم يملكه، وشرط صحة الإقرار: أن يقر بشيء يملكه وبشيء له حق أن يقر فيه. لكن الجانب الثاني: وهو كونه يقول: هذا الكتاب لزيد وليس لعمرو الذي اشترى مني، فحينئذ قد أثبت بنفسه جناية على مال زيد، يعني أنه باع مال زيد، وحينئذ نقول له: تغرم لزيد المال، ويصحح البيع إعمالاً له على الظاهر. الصورة الثانية: يقول: أنا لم أكن مالكاً له، فإذا قال: لم أكن مالكاً له؛ فحينئذ جاء بشرط يؤثر في البيع، ويورد الشبهة في العقد، أما أن يقول: هذا الكتاب ليس لعمرو الذي اشتراه وإنما هو لزيد فهذا إقرار لم يصادف محلاً. هذا هو وجه التفريق بين الإقرارين، حينما ينفي أنه ملكه فحينئذ لا إشكال؛ لأن من شرط صحة العقد أن يكون مالكاً له، وحينما يقول: هو لفلان وليس لفلان فقد جاء إقراره غير مصادف للمحل المعتبر، فيسقط في الثاني ويعتد به في الأول. قال رحمه الله: [وإن قال: لم يكن ملكي ثم ملكته بعد، وأقام بينة قبلت] إذا قال: لم يكن ملكي وبعته وأنا لا أملكه؛ لأن الإنسان قد يسهو ويأخذ كتاب صاحبه يظنه كتابه فيبيعه، ثم لما باعه قال: هذا الكتاب ليس ملكاً لي، بل ملكاً لغيري، وأقام بينة على أن فلاناً جاء بكتابه ووضعه عنده وكلا الكتابين يشبه أحدهما الآخر فأخطأ وباع، فحينئذ يقبل قوله ويحكم بانفساخ البيع؛ لأنه باع ما لا يملكه، ومن شرط صحة البيع أن يكون لما يملكه. قال رحمه الله: [إلا أن يكون قد أقر أنه ملكه أو أنه قبض ثمن ملكه لم يقبل] هذا يسمونه التناقض: أن يكون عنده إقرار سابق ثم يأتي بإقرار لاحق، يقصد به إلغاء الإقرار السابق وإبقاء الإقرار اللاحق، يقول: يا فلان! بكم هذا الكتاب؟ قال: بعشرة، قال: هو ملك لك؟ قال: نعم، هو ملك لي، وأقر بملكيته، ثم جاء وقال: ليس بملك لي، فحينئذ يريد إبطال البيع، فلا نقبل منه إقراره بأنه غير مالك. إذاً شرط قبول إقراره بأنه غير مالك: أن لا تكون هناك تهمة في مناقضته لإقرار سابق، أما لو ثبت أنه أقر سابقاً فإنه يسقط الثاني ويبقى الحكم الأول.

الإقرار المجمل

الإقرار المجمل قال رحمه الله: [فصل: إذا قال: له عليّ شيء، أو كذا، قيل له: فسره] هذا يسمونه الإقرار بالمجمل، والمجمل هو الذي يتردد بين معنيين فأكثر لا مزية لأحدها على الآخر، أو بين معنيين فأكثر بالسوية. والمجملات تحتاج إلى بيان وتفسير، ولذلك من شرط قبول الإقرار: أن يكون بيناً، وبعض العلماء يقول بعدم قبول الإقرار المجمل نهائياً، ومنهم من يقول: نقبل الإقرار المجمل ولكن نطلب تفسيره ممن أقر به. وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمه الله، وهو مذهب طائفة من أهل العلم. فقوله: له عليّ شيء (شيء) هذه نكرة يحتمل أنه غالي ويحتمل أنه رخيص يحتمل أنه من العقارات ويحتمل أنه من المنقولات يحتمل أنه حق من الحقوق العامة مثل الشفعة يحتمل أنه حق في القذف أو عرض أو نحو ذلك، فيطالب ببيان وتفسير ما أجمل، فإذا أراد أن يفسر ينبغي أن يفسر بشيء له قيمة يصدق على أنه شيء، ولو قال: علي مال، ينبغي أن يكون الشيء الذي يقر به مالاً محترماً شرعاً، وعلى هذا لو قال: له عليّ مال، ثم قيل له: ما هذا المال؟ قال: ميتة، أو خمر، أو خنزير، نقول: هذا التفسير ساقط، ونلزمه بدفع أقل ما يصدق عليه أنه مال، وإذا لم يبين ولم يفسر الأصل يقتضي أنه يحبس حتى يبين ويفسر ما أجمله؛ لأن فيه حقاً للغير، وهو الخصم الذي أقر له. قال رحمه الله: [فإن أبى حبس حتى يفسره] هذا مذهب من يرى الحبس في الحقوق المبهمة والمجملة، والحبس ينبغي أن لا يكون إلا بدليل واضح بين. قال رحمه الله: [فإن فسره بحق شفعة، أو بأقل مال قبل] (فإن فسره بحق شفعة) قال: له عليّ حق أن أشفع له في عقار بينه وبين أقاربي، وفعلاً كان بينه وبينهم عقار فيقبل منه؛ لأنه يصدق عليه بأنه شيء، وله حق أيضاً. (أو بأقل مال) قال: له عليّ مال، ثم قيل: كم المال؟ قال: ريال ونصف، الريال والنصف يصدق عليه أنه مال، فنقبل منه، لكن لو قال: له عليّ شيء، قال: فسر، قال: حبة شعير، هذه لا يمكن أن تقبل ولا يصدق عليها أنها مال عرفاً. قال رحمه الله: [وإن فسره بميتة أو خمر أو كقشر جوزة لم يقبل] هذا مفهوم العبارة السابقة، قال: له عليّ مال، قال: ما هو المال؟ قال: ثعلب محنط -مثلما يحنطون الآن- هذا ليس بمال؛ لأنه لا يجوز بيع الثعالب المحنطة، نقول: هذا ميتة وليس بمال، إنما يقبل أن يكون مالاً محترماً شرعاً، وهكذا لو فسره بالخمر وبالخنزير كله لا يقبل؛ لأنه لما قال: له عليّ مال، ثم ذكر شيئاً لا قيمة له في الشرع ولا يعتد به شرعاً فكأنه تهرب من الإقرار، كما ذكرنا عند قوله: (له عليّ ألف لا تلزمني) وهو التهرب الصريح والتهرب الضمني. قال رحمه الله: [ويقبل بكلب مباح نفعه، أو حد قذف] (ويقبل بكلب مباح نفعه) وهو كلب الحراسة وكلب الصيد المعلم، فإذا فسره فقال: له عليّ كلب معلم قُبل تفسيره. والنفع المباح هو الصيد والماشية، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم استثناء الكلب للصيد وحراسة الغنم والدواب والبهائم، هذه ثلاثة أنواع من الكلاب: (من اتخذ كلباً إلا كلب صيد أو حرث أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان)، وهذا يدل على أنه له قيمة شرعاً ومنفعته مباحة. ومذهب بعض العلماء أنه إذا أتلف كلب الصيد المعلم الذي خسر على تعليمه فعليه ضمانه، وهو مذهب ضعيف، لكن له وجه مما ذكرناه. قال رحمه الله: [وإن قال: له عليّ ألف، رجع في تفسير جنسه إليه] (وإن قال: له عليّ ألف) هذه الألف ما ندري دولارات أو ريالات أو دنانير أو دراهم. نقول له: فسر، هل هي ألف دولار أو دينار، فإذا فسره بالدولار قبل، وإذا فسره بالريال قبل؛ لأنه يحتمل، ولو فسر المحتمل بأي تفسير قبل منه؛ إذا كان اللفظ يحتمله. قال رحمه الله: [فإن فسره بجنس واحد أو بأجناس قبل منه] قال: هذه الألف دولارات؛ فأخذ بالقيمة الغالية قبل منه، هذه الألف ريالات؛ فأخذ بالقيمة الدنيا قبل؛ له ألف؛ خمسمائة دولارات وخمسمائة ريالات -مشترك- قبل، قال بأي شيء؛ سواء أجناس أو جنس واحد. قال رحمه الله: [وإذا قال: له عليّ ما بين درهم وعشرة؛ لزمه ثمانية] لأن التسعة تسقط بالبينية، ويوافق في هذا بعض فقهاء المالكية الحنابلة رحمهم الله، فما بين درهم وعشرة يلزمه أن يدفع ثمانية؛ لأن هذا يقتضي البينية. ومن أهل العلم من قال: يلزمه تسعة، لوجود المقاربة، فيدفع تسعة دراهم، والقول الأول يختاره المصنف رحمه الله لوجود البينية، لكن ما الذي يبين له البينية من ناحية ما بين التسعة وما بين الدرهم وبين العشرة؛ لأن التسعة مقاربة للعشرة وما قارب الشيء أخذ حكمه. قال رحمه الله: [وإن قال: ما بين درهم إلى عشرة، أو من درهم إلى عشرة؛ لزمه تسعة]. هذا للمقاربة لا إلى الغاية، وحينئذ تكون الغاية إلى العشرة وما دونها غير منفية، فتكون تسعة، وما بين درهم وعشرة نفس الحكم، قالوا: لأن هذا يقتضي البينية وقد بيناها في اللفظ وفي المعنى. قال رحمه الله: [وإن قال: له علي درهم أو دينار؛ لزمه أحدهما]. الدينار أغلى من الدرهم، مثل: له عليّ دولار وريال والدولار أغلى من الريال، نقول له: فسر. وهذا مراد المصنف: أنه إذا تردد بين الغالي والرخيص طلب منه أن يبين؛ لأن هذا محتمل. قال رحمه الله: [وإن قال: له عليّ تمر في جراب، أو سكين في قراب، أو فص في خاتم ونحوه؛ فهو مقر بالأول]. (له عليّ تمر في جراب) قالوا: مقر بالتمر وغير مقر بالجراب؛ لأنه قال: تمر في جراب، وما قال: تمر وجراب، وبعض الأحيان الشخص يقول: له عليّ كيس في الثلاجة، فليس معنى ذلك أن نأتي نأخذ الكيس والثلاجة؛ لأن بعضهم يقر بهذا ويقصد أن الذي عليه موضوع في جراب أو في ثلاجة، هذا وجهه، وحينئذ المقر به الأول، وليس المحل تبعاً لما أقر به، والتمر في الجراب. (أو سكين في قراب) كذلك هو في هذه الحالة لا يقصد؛ لأن كثيراً من الناس يعبر بهذا التعبير ولا يقصد مجموع الأمرين؛ لأنه لو قصد هذا لعبر بالمشاركة، أو قال مثلاً: له عليّ جراب فيه تمر، فهذا واضح بأنه يقصد الجراب مع التمر، لكن إذا قال: تمر في جراب، أو سكين في قراب أو سيف في غمده ونحو ذلك فإنه يقصد به الأول دون الثاني، وهكذا لو قال: فص في خاتم. فهو مقر (بالأول) بالتمر وبالسكين وبالفص، ولا يلزمه الجراب ولا القراب ولا الخاتم؛ لأنه لم يقر بالثاني. قال رحمه الله تعالى: [والله سبحانه وتعالى أعلم]. والله أعلم وأحكم سبحانه، سبحان من علم آدم وعلم الأنبياء والعلماء. ونسأل الله بعزته وجلاله أن يجعله علماً نافعاً وعملاً صالحاً، ونسأله بعزته وجلاله أن يجعله شافعاً نافعاً يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.

خاتمة وصايا لطلاب العلم

خاتمة شرح زاد المستقنع - وصايا لطلاب العلم كل من وفقه الله وأكرمه بطلب العلم فقد تحمل مسئولية عظمى، ألا وهي حفظ هذا العلم عن كل ما يشوبه من سمعة ورياء وعجب، وعليه أن يشكر نعمة الله عليه، وأن يضبط علمه بالمتون، ويمتثل أخلاق طالب العلم المخلص لله عز وجل في طلبه وتبليغه، ويعمر وقته بهذا العلم الجليل وبذكر الله تعالى، وأن يعلم أن دعاء الله والاستعانة به خير معين على ما هو مقدم عليه من أيامه.

وصايا لطلاب العلم

وصايا لطلاب العلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فهذه أمور مهمة أحب أن أوصي بها طلبة العلم.

الشعور بالمسئولية أمام العلم

الشعور بالمسئولية أمام العلم أحب أن أوصي الجميع ونفسي بتقوى الله عز وجل، وهذه الوصية كثير قائلها قليل من يعمل بها، وهي التي جمعت خير الدين والدنيا والآخرة، ومن وصى غيره بتقوى الله فقد جمع له الإسلام كله، فأوصي الجميع ونفسي بتقوى الله عز وجل. ثم هناك أمر ينبغي التنبيه عليه بالنسبة لطلاب العلم الذين حضروا هذه الدروس وأتموا قراءة هذا الكتاب: كل طالب علم وفقه الله عز وجل لقراءة كتاب كامل على شيخه فينبغي عليه أن ينتبه للضوابط الشرعية التي يلزم بالتقيد بها، وكل من ابتلي بهذا العلم فعليه أن يدرك حقيقة لا شك فيها ولا مرية: أن هذا العلم سلاح ذو حدين، فوالله الذي لا إله غيره ولا رب سواه أن هذا العلم إما أن يرفع صاحبه إلى خير وبر ورحمة في الدين والدنيا والآخرة لم تخطر له على بال، وإما أن يمحق له بركة دينه ودنياه وآخرته، فيصبح من أشقى العباد -نسأل الله السلامة والعافية- فليس بين العلم تردد، فإما إلى العلا وإما إلى الحضيض، ومن تعلم العلم لغير الله مكر الله به، ومن تعلم العلم ولم يعرف ماذا يراد بهذا العلم، وماذا يراد منه؛ فقد ذبح بغير السكين، وسيورد نفسه الموارد، فكل طالب علم عليه أن يستشعر المسئولية تجاه ما تعلمه. ومن حيث الأصل نحن ملزمون بقراءة هذا المتن، وبشرح الكلمة ومعرفة معناها، وذكر المثال والحكم المستنبط منه، ثم ذكر الأمثلة والدليل على الحكم، هذا هو الأصل الذي ينبغي في قراءة الجملة الفقهية، أما الخلافات والردود والمناقشات، فهذه ليس ملزماً بها طالب العلم، ولسنا ملزمين بالخوض فيها، ولكن لوجود الحاجة وكثرة الاعتراضات والأقوال المخالفة مما قد يشكل على طلاب العلم احتجنا إلى هذا البيان، ولوجود نوعية من طلاب العلم تريد التوسع، إذاً الأصل أنك ملزم بالرجوع لهذا الكتاب.

تلخيص ما فهم من كل كتاب

تلخيص ما فهم من كل كتاب وأوصي طلاب العلم الذين قرءوا هذا الكتاب أن يرجعوا إلى أوله، ويكتبوا معنى كل عبارة وحكمها ودليلها، وذكر أمثلة قديمة أو حديثة حتى تلم به، وهذا ما يسمى: اختصار الشرح، وأما الخلافات والردود والمناقشات والتوسعات فتترك جانباً؛ لأن طالب العلم لا ينبغي له أن يتناول هذه الخلافات إلا بعد التأهل وضبط العلم، وبعد وجود الحاجة، فتبدأ -رحمك الله- بمراجعته بهذه الطريقة، فالذين أتموا حضور الكتاب أوصيهم إذا تيسر للإنسان أن يراجع في خاصة نفسه؛ فهذا من أقوى وأفضل ما يكون لطالب العلم، أن يعتمد على الله ثم على نفسه بعيداً عن الرياء والانشغال بالناس، ويكيف نفسه ووقته قدر ما يستطيع. ففي هذه الحالة إذا كنت تريد أن تضبط بالمراجعة فهناك محاذير منها: كثرة السآمة والملل، وتسلط عدو الله إبليس الرجيم بالوسوسة والتثبيط عن هذا العلم؛ فوالله إنك في جنة الدنيا قبل جنة الآخرة، والله إن هذه الجنة قد حفت بالمكاره التي لم تخطر لك على بال، وليأتينك عدو الله من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك في كل صغير وكبير ما لم يتداركك الله برحمته، فتلجأ إلى الله سبحانه وتعالى إن استطعت أن تختار أفضل الأوقات لهذا العلم؛ لأنه أشرف شيء، وتستشعر عندما تقوم بك الهمة أنك مسئول أمام الله سبحانه وتعالى، فكل من حضر شرحاً أو بين له حكم؛ فإن العالم أو من شرح أو من علم قد أعذر إلى الله، ونقل الأمانة منه إلى غيره، وحينئذ لما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة أشهد الله عليهم، فكل من حضر وسمع المسألة بدليلها فقد برئت ذمة العالم وأعذر إلى ربه، والأمل في الله ثم فيكم، وكل طالب علم إذا استشعر أنه مسئول أمام هذه الأحكام شحذت همته، وقويت عزيمته، وأصبح يشعر أن كل مسألة أمانة في رقبته أمام أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأما أن يخيب ظن مشايخه وعلمائه ومن تعب وجد في تعليمه فلا، نسأل الله أن لا يخيب ظننا ولا ظنهم. ففي هذه الحالة إذا استشعر أنه مسئول أمام الله عز وجل راجع العلم، وستجد نوعاً من السآمة والملل والتثبيط، ولكن والله ما إن تصبر إلا ويفتح الله عليك من واسع رحماته، وكلما عظمت المشاغل والضيق والسآمة والملل كلما عظم فتح الله عليك، فيا هذا! انتبه لنفسك واحرص على وقتك، إذا كنت تريد أن تراجع لوحدك فالأمر يحتاج إلى عزم، ومن أفضل الأشياء التي تعين على الصبر على العلم وقوة النفس على العلم: قيام الليل، فتستعين بالله عز وجل عند قيام الليل أن يعينك على مراجعة هذا العلم، وعلى ضبطه وإتقانه في الدعاء والصلاة.

شكر الله على نعمة العلم

شكر الله على نعمة العلم ومما يحتاجه طالب العلم: استشعار عظيم ما يدخره الله فيكمل الفضل إن أنت أتقنت تذكر أن الله سبحانه وتعالى اختارك واصطفاك، وقد كنا والله في طلب العلم لا نزال نحس بنعمة الله عز وجل علينا في قلوبنا، ونقول: سبحان الله! كيف أن الله اختارني أجلس بين يدي الوالد رحمة الله عليه وبين يدي كل من يبث لي درراً من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأقول: يا رب! لك الحمد أن اخترتني، وما مرت علي حلقة عالم ولا سمعت عالماً يذكر حديثاً أو حكما ًمن كتاب الله أو سنة إلا قلت: الحمد لله أن شرفني الله أن أنقل هذا العلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)، فإذا وفقك الله ويسر لك هذه الرحمة فاستشعر عظيم نعمة الله عز وجل عليك. ومن استشعار المسئولية: ترتيب الوقت وتنظيمه، ومن العلم الذي سيعان صاحبه أن يكون في كل لحظة مستشعراً أنه مسئول عن هذا العلم، والله إن من طلاب العلم من كان ينشغل بحقوق أهله وإخوانه والناس وهو يفكر في مسائل علم وينقل ويفعل… حتى المصالح الدنيوية تكون عنده وهو يذاكر مسائل العلم في عقله؛ هذه هي الهمة العالية في الطلب، فكن ذلك رحمك الله، وهذا كله بتوفيق الله.

اختيار طالب علم لمراجعة الدروس

اختيار طالب علم لمراجعة الدروس واجتهد ما تستطيع في اختيار طالب علم تذاكر معه في هذه الحالة، وأوصي بطلاب العلم الصادقين، وهنا وقفة: ينبغي على اللاحق أن يعترف بفضل السابق، ووالله لا بركة لطالب العلم إلا أن يحفظ حق إخوانه، فإذا تتلمذ على شيخ يعرف أن هناك من سبقه، وأن السابق له حق وحرمة، فيحترمه ويقدره، ويرجع إليه إذا مرت عليه مسألة ما قرأها، ويعرف أن فلاناً ربما قرأها وهو أعلم بها، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم ينصحون بالتابعين، فيقول له: اذهب إلى فلان، وعائشة رضي الله عنها تقول: (سل عبد الله بن عمر)؛ لأنه كان أعلم، وكانوا يسألون أمهات المؤمنين. وهذا من النصيحة، والدين النصيحة. وهنا ننبه: أن الأفضل أن يجتمع الإنسان بالأكثر، وهذا يختلف إذا ما كان عندك نوعية جدية ممتازة، ثلاثة أو أربعة أو خمسة، لكن في حدود الخمسة أحسن، إذا كانت منضبطة في نفس يوم الدرس، فبدلاً من أن تحضر الدرس يمكن أن تحدد الوقت الذي يناسب للمراجعة، ثم كل منكم يتقي الله في أخيه، إن وجده مجداً شحذ همته وثبته، وإن وجده متقاعساً قواه، وإذا وجد أنه لا يصلح لهذا تخلى عنه، لكن بعد أن يعذر منه، فإن هذا العلم لا ينبغي أن يؤتمن عليه الكسول ولا الخمول، بل ينبغي أن يختار له أفضل وأحسن الناس جداً واجتهاداً واستشعاراً بالمسئولية، فإذا رأيتم الخمول، والكسلان غداً سيتعلم العلم ثم يقعد في بيته {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]. فهذا العلم لا ينال إلا بالجد والاجتهاد، من يريد أن يسابق ويتغرب من يحمل هذا العلم وليس عنده أي مانع أن يسافر إلى أقصى الشرق والغرب من أجل أن يبلغ رسالة الله عز وجل، إما همة صادقة ورجل علم صادق وإلا فلا، وتبحث عن رفيق صادق في طلبه للعلم وجده واجتهاده، فالأفضل أن الاثنين والثلاثة يأتون لمن هو أقدم منهم، ويقرءون عليه ويراجعون معه من البداية؛ لأن من درس ثلاثة أو أربعة كتب استبان له بعض الشيء في المنهج، فحينئذ إذا جلس مع طالب علم متمكن فيمكن أن يسد الثغرات الموجودة عنده، ويكمل نقصه فيما فيه النقص. وهنا أمر ينبغي أن ينتبه له الطالب الذي يأتي إلى من هو أقدم، فينبغي أن يترفق به، وإذا اعتذر له فلا يحمله على المحمل السيئ، فإن المشكلة الآن في طلاب العلم أنهم يريدون من يعلمهم كما يريدون، وتجد طالباً يأتي ويقول: يا شيخ! أنا أريد أن تعطيني درساً في كتاب كذا وكذا، وهو الذي يختار الدرس، وهو الذي يختار الوقت، ولو قدر له أن يختار كيف أشرح لفعل، وأيضاً يقول: لا تتسرع إذا أتيت إلى شخص وقال لك: لا أستطيع. فيجب أن تحسن الظن به، ولا تحمله على أنه لا يريد أن يعلمك؛ بل تحسن به الظن، وتقول له: بارك الله فيك وأعانك الله، فإن تيسر له وقت احرص على هذا الوقت ولو كان قليلاً، فربما هذه الساعة التي تراها قليلة فيها خير كثير وفيها بركة. ثم أوصي طالب العلم الجيد أن لا يرد أحداً قادراً عليه، ومن تعلم منا علماً فإننا نناشده الله أن لا يبخل به على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يتقي الله عز وجل، فليس لنا من هذا العلم إلا بقاؤه في الناس، أما وقد تحملنا ما تحملناه رجاء أن يبقى علمنا في الناس، فينصح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، خاصة في هذا الزمان، فكل يحتاج فيه إلى من يعلمه.

وصايا للمتميزين من طلبة العلم

وصايا للمتميزين من طلبة العلم ثم أوصي هؤلاء الطلبة المميزين، أولاً بتقوى الله عز وجل، وبأن يحمدوا الله سبحانه وتعالى أن اختارهم فحضروا الدروس كلها، والله إن الإنسان يقف بعد مرور سنوات فيقول: سبحان الله! الله قادر أن يبتلي عبده بالمرض أو بالنسيان، أو بالشواغل الله قادر على كل شيء، مَن الذي يسر وسهل لنا هذا؟ الفضل لله وحده لا شريك له. وأوصي هؤلاء أن يستشعروا نعمة الله عليهم حتى يبارك لهم في النعمة التي أوتوها، فيحرص كل الحرص على التضحية والصبر والتحمل والتجمل، وتبليغ رسالة الله عز وجل ما أمكن، وأسأل الله أن يمدهم بعونه وتوفيقه وتيسيره، وأن يفتح لهم من أبواب فضله ما لم يخطر لهم على بال، وهذا رجاؤنا وأملنا في الله، ونرجو الله أن لا يخيب رجاءنا فيه. ويحرص هؤلاء الطلاب الجيدون الممتازون على ما يلي: أولاً: أن يوطنوا أنفسهم بضبط العلم، وأسألهم بالله عز وجل أن لا يقولوا علينا إلا ما قلناه، وأن يفرقوا بين العبارة التي نقول ونقلهم عنا بالمعنى، فلا يأتي شخص ويقول: قال الشيخ كذا وكذا، وهو قد نقل بالمعنى، ولكن يقول: الذي أفهم من كلام الشيخ كذا، والذي أفهم من فتواه كذا، أما أن يحفظ نص كلام الشيخ ويقول: قال الشيخ كذا وكذا، فهذه أمانة ستسأل عنها أمام الله عز وجل. ثانياً: أوصي بالتقيد بالعبارات، وهو من أفضل ما وجدناه بركة للعلم، أنك لا تجلس عند عالم ولا تقرأ كتاباً إلا وتحرص أن تنقل نفس العبارة والكلمة، ولذلك قال الله: {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف:4]، والإنسان يأتي بالأثر والشيء كما هو وكما حفظه وكما رآه، قال أبو شريح الوليد بن عمرو بن خزاعة رضي الله عنه: (أبصرته عيناي، وسمعته أذناي، ووعاه قلبي)، يقصد النبي صلوات الله وسلامه عليه، وذلك من شدة التحري والضبط أبصرته عيناي إذ يتكلم، وسمعته أذناي إذ نطق صلوات الله وسلامه عليه، ووعاه قلبي لما قال، وهذه هي الرحمة، يقول صلى الله عليه وسلم: (نضَّر الله امرأً -وفي رواية: رحم الله امرأً- سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها) والعلم ربما نقل بالمعنى فيحدث أموراً كثيرة، وكذلك أيضاً التقيد بما سمع، وأن لا يحمل العبارات ما لا تتحمل. ثالثاً: الدقة في ضبط المسائل ونقلها، فالمسائل تحتاج إلى نوع من التركيز والدقة، خاصة مسائل الفقه والأحكام، وخاصة إذا كان الذي يفهم من العوام، فينتبه الإنسان في العبارات التي يقولها، فمن الناس من يقرأ الفقه فيتحدث بكلام العامة، فإذا جاء يشرح كتاباً كأنه يتكلم كلاماً عاماً، فيأتي بعبارات هزيلة، ولربما يأتي بأمثلة من الأسواق، وهذا لا ينبغي، بل ينبغي عليك أن تصون نفسك، وأن تحفظ قولك، وإذا جلس معك طلاب العلم فتتقي الله عز وجل وتشرف العلم، وتتكلم كلام العلماء، ولا تتشدد ولا تبالغ في العبارات، فإذا كان الذي يقرأ عليك عامياً يكون تركيزه وضبطه وسطاً بين الإفراط والتفريط، فلا تبالغ في تنميق العبارات، إنما تأتي بعبارة علمية صحيحة، تعلم أن هناك شيئاً وهو شرح الكتاب، وأن هناك فتاوى، وعلم الكتاب له طريقة، وعلم الفتاوى له طريقة، وليس كل من حضر كتاباً يستطيع أن يقرأه، وليس كل من استطاع أن يشرح كتاباً يستطيع أن يفتي في المسائل، وليس كل من استطاع أن يعلم ويفتي يستطيع أن يقضي. فهذه كلها تحتاج إلى أهلية وضبط وتمكن، لكن إذا كنت تريد أن تذاكر مع إخوانك وخاصتك فحينئذ تحرص على أن تتقيد بالعبارات ما أمكن، هذا الذي أفضل أن يكون عليه طالب العلم.

تحذير طالب العلم من العجب

تحذير طالب العلم من العجب ومما أحذر منه: العجب، فإذا فتح الله عز وجل عليك، وأصبح طلاب العلم يجلسون بين يديك، فخف على نفسك ولا تعجب، ولا تبالغ في الغرور، فإن الغرور هلاك للإنسان، والعبد قد يفتن في علمه، ثم إذا بلغ يمتحن حتى يبلغ مبلغ العلماء، ثم إذا بلغ مبلغ العلماء امتحن في التواضع لله عز وجل وعدم الغرور، فإياك أن تغتر، والله قد ذكر الذين تكبروا وسماهم فقال: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [غافر:83]، فطالب العلم والعالم الموفق السعيد هو الذي يزيده علمه تواضعاً، ولا ينبل الرجل حتى يأخذ عمن فوقه، وعمن دونه، وعمن هو مثله، والحكمة ضالتك، وبغيتك، ومطلبك، ومقصدك، فابحث عن الحكمة، وإذا وجدتها تتواضع لها، ولا تغتر، فيجلس الإنسان ويقول: أنا من طلاب فلان، وقد حضرنا درس فلان، وقرأنا على فلان، وقال شيخنا، والبعض يحضر للشيخ درسين أو ثلاثة، ثم يقول: قال شيخنا! وهذا نوع من التدليس، وهذا لا يصح إلا إذا كان الإنسان قرأ عليه كتاباً كاملاً، فيقول: قال شيخنا في العبارة التي سمعتها، لكن أنك تأتي في باب لم تقرأه على الشيخ، ثم بعد ذلك تسمع أحداً يقول، ثم تقول: قال شيخنا، وتوهم من يسمعك أنك قرأت عليه، فهذا لا يجوز، وهو غش، فينبغي التقيد بالأمانة والإنصاف، حتى إن البعض يدّعي أنه من طلاب الشيخ فلان وعلان، وهو ما تتلمذ إلا على كتبه، وعلى هذا فيمكن أن يقول شخص: قال شيخنا شيخ الإسلام، وهذا تدليس للأمة، فلا ينبغي أن يقول شخص: قال شيخنا؛ لأن هذه العبارة إذا سمعها طلاب العلم، يتبادر إلى ذهنهم أنه قد قرأ على هذا الشيخ، فالناس لا تغني لك من الله شيئاً رحمك الله، مدح الناس وثناء الناس لا شيء، سواء تتلمذت على يد الشيخ فلان وعلان، فلن يقدم لك شيئاً أخّره الله عنك، ولن يؤخر عنك شيئاً قدمك الله إليك. فعلى كل إنسان أن يوطن نفسه بتقوى الله عز وجل، والبعد عن الغرور والعجب، ومن حقك أن تقول: تتلمذت على الشيخ فلان، وقرأنا على الشيخ فلان؛ ليعرف الناس قدرك، وليعرف الناس قدر العلم الذي تعلمته، ومن حق طالب العلم أن يقول: أنا من طلاب الشيخ فلان، وقرأنا عليه كتاب كذا، وقرأنا عليه كتاب كذا، كما قال يوسف: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، وقد نص العلماء على جواز هذا إذا قصد به الثقة بما يقول، والعمل بعلمه، وإنزاله منزلة تليق به، فهذا منصوص عليه عند العلماء، ولا حرج ولا بأس، لكن الحرج هو الغرور.

الاعتراف بنعمة الله

الاعتراف بنعمة الله وهنا أقول كلمة: والله ثم والله! ليس هناك أبرك من طالب العلم، ولا أعظم خيراً ولا أحسن عاقبة من معاملته لله عز وجل، فعليه أن يعلم أن عزته في الله وحده، وأن علمه من الله وفهمه، فإن الله هو الذي علمه ما لم يكن يعلم، وأن فضل الله عليه عظيم، فيعترف بفضل الله سبحانه وتعالى، ولا يبحث عن القشور التي عند الناس. من حقك أن تعترف بفضل غيرك عليك تبعاً لفضل الله، والمخلوق ليس له فضل كفضل الخالق، إنما فضله تبع، ولذلك تشكر الناس، لكن شكرهم تبع لشكر الله سبحانه وتعالى، فهو الذي علمك وفهمك، ولذلك فلا يغتر الواحد بمشايخه وبعلمائه؛ لأن هذا الغرور سيدعوه أن يرد أقوال العلماء وانتقاص الآخرين، والحط من فتاوى العلماء. ولهذا أوصي طلابي أن يتقوا الله عز وجل في أنفسهم، وعليهم أن يستندوا إلى الحق؛ لأن الحق يستمد قوته من ذاته، ويبينوا للناس ما ترجح عند شيخهم، أو عند من قرءوا عليه، ولكن لا يحطموا أهل العلم، ولا ينتقصوا قدر العلماء، وما وجدنا أهل العلم يؤلفون الكتب أو يفتون أو يعلمون من أجل الحط من أقدار العلماء الآخرين، وإنما زادهم العلم اعترافاً لأهل العلم بفضلهم، واعترافاً لكل ذي حق بحقه. وأوصي طلابي أن يتقوا الله عز وجل، وأن لا يتخذوا من تعلمهم وسيلة للعجب إلى درجة نسيان حقوق العلماء الآخرين، وإذا جاءك أحد بقول مخالف لقولك الذي قرأته، فاعلم أنك إذا اعتقدت حكماً شرعياً، وعندك فيه دليل من كتاب وسنة، ممن يوثق بعلمه في فهم هذا الحديث؛ فقد أعذرت إلى الله.

التقيد في مرحلة الطلب بما درس على المشايخ

التقيد في مرحلة الطلب بما درس على المشايخ وبعد هذا تتقيد بهذا العالم، وهذا ما يسميه العلماء بمرحلة الاتباع، فتتقيد به حتى تدرس أصول الفقه، وتعرف الذي خالفه، وما دليله، وهل الحجة مع شيخك؟ أو مع من خالفه؟ فقبل أن تصل إلى هذه المرحلة تلزمك مرحلة التتبع، ويلزمك هذا الأصل؛ لأنك تسير على أصول وضوابط، ولو أنك انتقلت إلى غيرك فقد نفّقت، فقد يكون هذا الشيخ أعمل دلالة أسقطتها أنت في العبادة والمعاملة، وحينئذ تعمل بدليل الاضطراب، وهذا ما يعنيه العلماء بالاتباع، وإذا أخذت قول شيخ بدليل تقول: هذا الذي تعلمته، وهذا الذي أعرفه، وهذا الذي تذكره قول لبعض العلماء، لكن هذا الذي درسناه، وهذا تعلمناه، وانتهى الإشكال، قولكم خطأ، وقولنا صواب، وكذا، وإقامة الدنيا. ومما أوصي به طالب العلم، وهذا من نعم الله عز وجل عليك: ترك الجدال والمناقشة، كثير من طلاب العلم الآن-إلا من رحم الله- محقت منه البركة، وضاع عليه وقت كبير من وقته وعمره بسبب المناظرة، كل شخص يبحث مسألة يريد الأقوال فيها، والردود، والمناقشات؛ لأنه مولع، ويريد من يناقشه حتى يرد عليه، وهذه هي آفة العلم، فعليك-رحمك الله- أن تقرأ، والحكم بدليله، وتتقيد بهذا الحكم والدليل، حتى تصل إلى مرتبة أهل العلم الذين يجتهدون، فإذا سرت على هذا الطريق جمع لك من العلم ما لا يحصى، ولذلك كان الإمام شيخ الإسلام محمد بن إبراهيم رحمه الله برحمته الواسعة معروفاً عنه أنه لا يمكن أن يجادل أحداً، وهو على درجة من التثبت والرسوخ في العلم، وكان معروفاً عنه أنه إذا جلس في مجلسه، وسأله أحد سؤالاً، ثم فتحوا باب المناقشات، لماذا؟ وكيف؟ هذا ليس من باب الاستفادة، باب الاستفادة -هذا نقله إلي الوالد رحمه الله- بمجرد أن يأتي ويقول: لماذا؟ ويقوم هذا ويقول: لا، قال فلان، قال علان، يتركه، ويقوم من المجلس، ولا يمكن أن يجلس مجلساً فيه هذا اللجاج والمناظرة؛ لأن القلوب تفسد، ويحدث نوع من الغرور للمتكلم أو للسامع أو للمعترض عليه، وقد تحط من قدر العالم، ولذلك فالسلامة غنيمة، من عنده علم عمل بالدليل: ما علمت فقد كفاني وما جهلت فجنبوني مادام أني أخذت هذا العلم عمن يوثق بعلمه ودينه، فيجب أن أضبط هذا العلم، وأعكف عليه، وستضبط كتب العبادة والمعاملة بهذه الطريقة التي لا تشويش فيها، وليس عندك أحد يدخل عليك الشبه حتى تضبط، وبعد ما تضبط يفتح الله عز وجل عليك، وتتوسع في أصول الفقه، وضوابط العلماء في الاستدلال، ووجه الدلالة، ثم تنكشف لك الأدلة، ثم تبحث، وهذا من أفضل ما يكون.

طريقة الشرح لكتب الفقه

طريقة الشرح لكتب الفقه وهناك تنبهيات، منها: أننا في شرح الزاد ربما تركنا أبواباً ما أسهبنا فيها، وأسهبنا في أماكن أخرى، فمثلاً: في العبادات والمعاملات المالية في شرح بلوغ المرام إذا وجدت أني قلت قولاً ورجحته باختصار، ولم أسهب في المسألة، فتجدها في الشروح الأخرى مطولة، وهذا يعرفه الطلاب، والأفضل أنك تجمع الشروح كلها، وتحاول أن تعرف قسط هذه المسائل، فتضع عندك مثل الفهارس، تلخص به الشرح، ثم تجعل إحالات للتوسع في الأقوال والردود. بالنسبة لهذه الرسالة فقد كان بالإمكان أن ننتهي منها في شهرين أو ثلاثة، ولكن قد لا يضبط إلا طالب العلم المتمكن، أما إذا طالت المدة فإنه يتضح المنهج لطالب العلم، ولذلك تجد طلاب العلم الذين يقرءون السنة والسنتين والثلاث يسيرون على منهج واضح، وطريقة واضحة، وترسخ عندهم الطريقة، وأما الاستعجال فلربما تأتي آفات لطالب العلم، وتبقى فيه كثير من الأدران، والتنبيهات، فيستعجل ويخرج دون نضوج، ثم يوجد من يستعجل من غير أولئك وله عذره، وجزاه الله خيراً عن أمة محمد، ولا نقلل من شأنه، لكن هذا الذي اخترته لأجل مصلحة العلم، وأسأل الله بعزته وجلاله أن يجعل العلم لنا فيما اخترناه، وهذا من ناحية إطالة المدة، المهم أن تعرف العبارة والحكم والمثال والدليل، هذه هي قراءة الفقه، فلا يقال: الأبواب الأخيرة ما شرحت؛ لأن هذا نوع من الفضل غير واجب لك، الأصل أننا نبين معنى العبارة ومثالها والدليل، هذا هو الأصل، وهذه طريقة قراءة الفقه. فتعود إلى هذا الأصل، وتضبطه، وتحرر المسائل الناقصة من غيرها، أما الأبواب الأخيرة: الأطعمة، الذكاة، الصيد، الأيمان، النذور، كل هذه قد تكون فيها دورات مستقلة-إن شاء الله- نبين فيها ونفصل، سواء في المدينة، أو في جدة، أو في مكة، وطلاب العلم عليهم أن يكونوا على اتصال بالدروس العلمية، ويحاولوا أن يستدركوا بعض التفصيلات والتفريعات الموجودة فيها إذا احتاجوا إلى هذا التفصيل والتفريع.

أخلاق طالب العلم

أخلاق طالب العلم كذلك هناك أمور ينبغي التنبيه عليها بالنسبة لطلاب العلم فيما بينهم، وهي: أخلاق الإسلام؛ أن يحرص طالب العلم على أن ينفع أخاه ما أمكنه، والتضحية والإيثار من خلق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أدب الله بذلك بنيه صلوات الله وسلامه عليه، فيحرص طالب العلم على أن يؤثر أخاه إلا فيما فيه الخير من استثنائه للعلم، ويحرص طلاب العلم مع بعضهم على المحبة، والصفاء، والنقاء، والمودة، وليعلم كل طالب منتسب إلى شيخه أن عليه حرمة أن يزين هذه النسبة، وألا يشينها، فيكون عفيفاً عن أهل العلم، وعن حدود الله عز وجل ومحارمه، وعن العلماء. وأوصيه بتقوى الله في أهل العلم من السابقين والباقين -نفع الله بعلمهم- ممن قضوا ومضوا رحمة الله على الجميع، أوصي باحترامهم، وتوقيرهم، وحفظ حقوقهم، وأن لا يشين أحداً من طلابنا، وكل إنسان محسوب على نفسه، وعندما يقال: هو من طلاب فلان، فلا يؤذي شيخه بل لا يؤذي حتى طلابه ويشينهم. وهذا أمر أحب أن أوصي به؛ لأن الزمان كثرت فيه الفتن، وإن شاء الله طلاب العلم هم أرفع من هذا كله، لكن كثرة الفتن والمحن توجب التنبيه على مثل هذه الأمور.

تعليم الناس العلم

تعليم الناس العلم وكذلك أيضاً مما أحب أن أوصي به: الحرص على اختيار الأوقات المناسبة في تعليم الناس، فطالب العلم الذي وفقه الله لضبط هذه المسائل، وقراءة هذا الكتاب، له أن يُقرئه ويدرسه في حدود ما علم، وهذه إجازة لمن اتقى الله عز وجل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وحفظ حق التعليم, وقرأ في منهج العلماء رحمهم الله، أو جالس أهل العلم، واستفاد من سمتهم ودلهم، أن ينفع أبناء المسلمين ما أمكنه، وأن يبذل ما يستطيع، إذا استطاع أن يفتح درساً في مسجد حيه ولو بعد الصلاة يتحدث فيه عن أحكام الطهارة، وإذا جاءته أسئلة يقول: أنا لست أهلاً للفتوى، أما إذا ضبط الأسئلة والإجابة عنها، وعلم أن السؤال والجواب موجود؛ لأنه قرأ على أيدي العلماء. فعلى كل حال: الحرص على فتح درس، أو الجلوس مع الإخوة في الطلعات والنزه فيقول: هلموا نتذاكر صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم هلموا نتذاكر أحكام الزكاة، والبيع، فيعمر وقته بذكر الله، وطاعة الله.

عمارة الوقت بالذكر والورع من الدنيا

عمارة الوقت بالذكر والورع من الدنيا ومن الأمور التي أوصي بها كل من يريد أن يبارك الله عز وجل له في علمه: أن يستغرق وقته في طاعة الله؛ لأن العالم وطالب العلم إذا حفظ وقته في طاعة الله يبارك له، ويفتح عليه، ويقال: إنه ما حُرص على أمرين إلا نال الإنسان فتحاً في هذا العلم، فسيفتح الله عليه، ويبارك له في الفهم: الأمر الأول: استنفاد الوقت في ذكر الله وطاعته، فأولى الناس بالفهم والوعي عن الله ورسوله، وحسن التعليم للناس، والقبول؛ من رزقه الله عمارة وقته بذكر الله عز وجل، وهذه وصية علمائنا ومشايخنا، أن يحرص طالب العلم على عمارة وقته بذكر الله عز وجل. الأمر الثاني: التورع، والتحفظ من الدنيا ما أمكنه، خاصة إذا قُصد بها المطامع، وأراد من تلك الدنيا أن يذلك، فالله أعزك، وأراد غيره أن يذلك، فارض بعزة الله، وكرامته لك، إن هذا العلم أمانة في رقبتك، ولذلك صن هذا العلم، فبمجرد أن تحس أن الشخص يريد أن يذلك بهذه العطية، أو بهذا المال، فابتعد، قال سفيان الثوري رحمه الله: (أوتيت فهم القرآن، ولما قبلت الصرة نزع مني)، فحينما يتورع الإنسان عن أموال الناس ومطامع الدنيا يرتفع قد تجد الإنسان من أهل الدنيا يأتي ويضعك في صدر مجلسه، أو في مكان أعلى مما أنت تستحقه، ويريد أن يستدرجك، فتربأ بنفسك، ولا ترضى لنفسك إلا بتقديم ربك، والله ليرفعنك الله ولو وضعك الناس، وليضعن الله من عصاه ولو رفعه الناس، لو أطبق من في الدنيا على أن يرفعوك على منزلتك شعرة وهم راضون ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. فعامل الله، واحذر من هذه الدنيا، والدنيا لا تختص بالمال، حتى ولو أتى ليشرفك، ويريد أن يضعك في مكان فيه نوع من المجاملة والمحاباة، وترى من هو أعلم منك وأفضل فتأخر، وقل: فلان أعلم مني؛ لأنك تعلم أن هذا يرضي ربك، وفلان أولى مني، وإذا سئلت عن علم، وهناك من هو أعلم منك، فقل: اذهبوا إلى فلان، فلان أكثر ملازمة للشيخ مني، فلان كذا، وهكذا، وإلا فلا. فإذا حرصت على هذين الأمرين: عمارة الوقت، والتعفف عن الدنيا، فإن الله سيفتح عليك من فواتح رحمته، وما من عبد يترك شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه. وعليك أن تحرص في تعليمك لطلابك على غرس أخلاق ومبادئ الإسلام، فالأدب قبل الطلب، والعمل الذي يرضي الله عز وجل يزين العلم فتحرص على أن يتأدب طلابك بآداب الإسلام، وهذا يحتم على طالب العلم أو على من يريد أن يعلم الناس أن يعلمهم السكينة والوقار، والأدب في مجلس العلم؛ لأن هناك ملائكة تغشى حلق الذكر، فتجمل، ولا تري الله من نفسك إلا كل خير من السمت، والوقار، وحسن الصمت، وإياك واللغو، وأخلاق الجاهلية، فهذه مما تشين الإنسان.

الاعتزاز بالعلم ورفعه

الاعتزاز بالعلم ورفعه عليك أن تربو بهذا العلم، وكذلك أيضاً من عزتك بالعلم أن لا تنزله في المواضع التي يمتهن فيها، فتأتي إلى الناس وهم جالسون في لهو، وتريد أن تفتح درساً، أو تتكلم في شيء يكون فيه امتهان للعلم، أو يأتي أحدهم ويتهكم بك، يقول: حدثنا عن كذا، على سبيل التهكم؛ بل ارفع هذا العلم، فإن رفعته رفعك الله عز وجل، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه لـ عكرمة: (إياك أن تأتي الناس في مجالسهم تحدثهم)؛ لأن العلم إذا جاء بالقهر والقسر امتهن، ولذلك دعهم حتى يسألوا، ثم قال له من وصاياه أيضاً رضي الله عنه وأرضاه: (لا تفت الناس إلا فيما احتاجوا إليه، فإنك إن أفتيتهم فيما احتاجوا إليه طرحت عنك تبعة العلم)، فإن كثيراً من أسئلة الناس فيها فضول، فلا تجبهم إلا فيما يحتاجونه الناس يأتون يتكلمون في الفضول، والواحد منهم لا يعرف كيف يتوضأ، ولا يعرف ماذا يفعل لو سها في صلاته، فإذا جئت لمجلس وقالوا: حدثنا، بدل أن يحدثنا إنسان في بعض الأمور، يقولون: تحدث عن بعض الأمور التي مصلحتها قليلة، فتقول لهم: يا إخوة! أنتم الآن مسلمون، لو أن ميتاً مات، وأنتم في سفر، كيف ستغسلونه؟ وتبدأ تصف لهم غسل الميت، وأحكام السهو في الصلاة؛ فإن هذه أمور تحتاجها العامة، وهذا من النصيحة، وتختار لهم أفضل ما يختار، فتختار لهم أطيب الكلام، ولذلك قالوا: إن الحكيم والأديب هو الذي يكتب أحسن ما يقرأ، ويحفظ أحسن ما يكتب، ثم يملي بأحسن ما حفظ. يصفي الشيء تلو الشيء، ثم لا يتكلم إلا بأحسن أحسن الشيء، فليس منفلت الزمام، يحدث ويتكلم بكل شيء. ثم إن جماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، وكل الأمر يعود إلى شيء واحد، وهو: المعاملة مع الله، مهما تكلم الإنسان أو سكت، فالقليل المبارك خير من الكثير المنزوع البركة، فعامل الله وأبشر بكل خير، فوالله ثم والله ما رأينا من ربنا بهذا العلم إلا كل خير، وجدناه سبحانه وتعالى عظيماً، حليماً، كريماً، براً، رحيماً، ما وجدنا أوفى من ربنا، ولا أكرم منه سبحانه وتعالى علَّمنا وكنا جاهلين، وهدانا وكنا تائهين حائرين، ورفعنا وكنا وضعاء، ولن نزل وضعاء فقراء حتى يرحمنا وهو رب العالمين، به استغنينا عمن سواه، واستكفينا عمن عداه، وهو حسبنا ونعم الوكيل. فعامل الله وأبشر بكل خير، واعلم أن الله سبحانه وتعالى لن يضيع عبده، ولن يخذل من والاه، فكن لله يكن الله عز وجل لك، واعلم أن الله سبحانه وتعالى يحب الصادقين والمخلصين فكن منهم، واعلم أن الله سبحانه وتعالى يحسن الجزاء لعبده، ويجزي المحسن، فإذا عاملت الله فلتكن معاملتك في قولك وفعلك على أحسن وأجمل وأتم وأكمل ما تكون المعاملة لله، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً لا يقبل الله النفاق، ولا الرياء، ولا التصنع، ولا التكلف، ولكن ما وقر في القلب من إرادة وجهه، وصدقه العمل المبني على شرعه، فمن كان كذلك بورك له في قوله وعمله، وبينك وبين هذا العلم الذي تتعلمه الأيام، فإنه صدقت مع الله ليصدقن الله معك حياً وميتاً، وليطيبنك بهذا العلم حياً وميتاً، قائماً وقاعداً، نائماً ومستيقظاً، ولتجدن البركة والخير من الله عز وجل ما لم يخطر لك على بال، فاستغن بالله، واعلم أنه ليس هناك أسعد منك وأنت تقرأ، وليس هناك أحد أسعد منك وأنت تفهم كلام الله، وتتفقه في دين الله، وليس هناك أحد أسعد منك وأنت تعلم الناس، ولذلك عاش أئمة السلف مرقعة ثيابهم، حافية أقدامهم، ولكنهم أغنى الناس بهذا العلم؛ لأنهم شعروا بغنى الله عز وجل الذي أغناهم به، فاعرف قدر هذا العلم.

دعاء

دعاء أسأل الله بعزته وعظمته وكماله، في هذه الساعة المباركة بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا: أن يتقبل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم إنا نسألك أن تعفو عن أخطائنا، وما كان منا في كل ما علمناه وتعلمناه، اللهم اجبر كسرنا، اللهم اجبر كسرنا، اللهم اغفر ذنوبنا في ذلك كله، ما علمناه وما لم نعلمه، ومما تعنتناه ومما أخطأنا فيه، اللهم اغفر لنا جميع ذلك يا حي يا قيوم، اللهم ارحمنا بمغفرة ذلك كله يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل هذا العلم خالصاً لوجهك، موجباً لرضوانك، اللهم أعظم لنا فيه الجزاء، اللهم أعظم لنا فيه الجزاء، اللهم أعظم لنا فيه الجزاء في الدنيا والآخرة، بارك لنا فيما جزيتنا فيه، اللهم أعطنا فيه خير ما أعطيت من تعلمه وعلمه خالصاً لوجهك، وابتغاء مرضاتك، يا أرحم الراحمين! يا أرحم الراحمين! اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، نسألك في هذه الساعة المباركة أن تسبغ شآبيب رحماتك ومغفراتك على قبور علماء المسلمين، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، اللهم ارفع درجاتهم بوجهك العظيم إلى الفردوس الأعلى في الجنة، اللهم اجزهم عنا خير ما جزيت عالماً عن علمه، اللهم اجزهم عنا خير الجزاء وأعظمه وأوفاه، اللهم قدس أرواحهم في جنات النعيم، وتفضل عليهم بأفضل الخير والتكريم يا أرحم الراحمين! اللهم اغفر لمشايخنا خاصة، اللهم نور على الأموات منهم قبورهم، اللهم نور عليهم قبورهم، وافسح لهم فيها، وارفع درجاتهم إلى أعلى عليين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واجزهم عنا خير ما جزيت شيخاً عن طالبه، ومعلماً عن تعليمه، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين! اللهم اجزهم فيما اجتهدوا فيه لنا في تعليمنا، ودلالتنا إلى الخير بأحسن الجزاء يا أرحم الراحمين! يا أرحم الراحمين! اللهم عجزنا عن مكافأتهم، وأحلناه عليك يا كريم يا رحيم، أعظم جزاءهم، وثقل في موازين الحسنات ثوابهم، اللهم سر ناظريهم بعظيم الأجر فيما علمونا، اللهم لا تخيب ظنهم فينا، اللهم لا تخيب ظنهم فينا، اللهم لا تخيب ظنهم فينا. اللهم بارك لأحيائهم في أعمارهم، وأحسن خاتمتهم، ويسر أمروهم، واشرح صدورهم، وفرج كروبهم، يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم! اللهم إنا نسألك العلم والعمل، اللهم إنا نسألك العلم والعمل، والإخلاص والقبول، اللهم إنا نسألك علماً يرضيك عنا، اللهم إنا نسألك علماً يرضيك عنا، اللهم اجبر كسرنا، وارحم ضعفنا، واستر عيبنا، فأنت ربنا لا إله إلا أنت، اللهم ارحم ضعفنا، اللهم ارحم ضعفنا، اللهم ارحم ضعفنا في هذا العلم، وارحم تقصيرنا يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تبارك لنا فيما تعلمناه وعلمناه، وأن تعيننا على العمل والبلاغ يا أرحم الراحمين! اللهم أعنا على الإخلاص لوجهك، واتبغاء ما عندك، اللهم أعنا على الإخلاص في ذلك لوجهك، وابتغاء مرضاتك، وبارك لنا في هذه العلوم، واجعلها شافعة نافعة لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتاك بقلب سليم، اللهم اغفر لنا، ولمن أحبنا فيك، ولمن حضر مجالسنا، اللهم اغفر لنا، ولمن أحبنا فيك، ولمن حضر مجالسنا، وأعاننا على تبليغ رسالتنا، اللهم اغفر لنا أجمعين، وهب المسيئين منا للمحسنين، يا أرحم الراحمين! يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت أن تعيذنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نسألك أن تبارك لنا فيما بقي لنا من أعمارنا، اللهم إنا نسألك أن تبارك لنا فيما بقي لنا من أعمارنا، اللهم بارك في أعمارنا، اللهم بارك لنا فيما بقي من أعمارنا، واجعلها فيما يرضيك عنا، يا أرحم الرحمين! يا أرحم الرحمين! اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم نور على أهل القبور قبورهم، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغلسهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم جازهم بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وصفحاً ومغفرة ورضواناً، اللهم فرج هم المهمومين، ونفس الكرب عن المكروبين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتاهم أجمعين، يا أرحم الراحمين! يا أرحم الرحمين! اللهم إنا نعوذ بك من درك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، وعضال الداء، وخيبة الرجاء، يا أرحم الرحمين! اللهم إنا نسألك النصر على الأعداء، اللهم إنا نسألك النصر على الأعداء، اللهم إنا نسألك النصر على الأعداء، لا إله إلا أنت، نسألك مرافقة الأنبياء، وعيشة السعداء، لا إله إلا أنت، يا أرحم الرحمين! ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

§1/1